الكتاب: معاني القرآن
المؤلف: النحاس
الجزء: ٢
الوفاة: ٣٣٨
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الشيخ محمد علي الصابوني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٠٩
المطبعة:
الناشر: جامعة أم القرى - المملكة العربية السعودية
ردمك:
ملاحظات:

معاني القرآن الكريم
للإمام أبي جعفر النحاس
المتوفى سنة 338 ه‍
تحقيق
الشيخ محمد علي الصابوني
الأستاذ بجامعة أم القرى
الجزء الثاني
1

الطبعة الأولى
1409 ه - 1988 م
حقوق الطبع محفوظة
لجامعة أم القرى
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

إني لأعجب ممن يقرأ القرآن، كيف
يلتذ بتلاوته ولم يفهم معناه
" الإمام الطبري "
4

تفسير سورة النساء
مدنية وآياتها 176 آية
5

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء وهي مكية
1 - من ذلك قوله عز وجل: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي
خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها...) * [آية 1].
قال مجاهد: خلقت حواء من قصيرى آدم.
وفي الحديث: " خلقت المرأة من ضلع عوجاء ".
7

وقيل * (منها) * من جنسها.
2 - ثم قال تعالى * (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء...) * [آية 1].
يقال: بثثت الشئ وأبثثته، إذ نشرته. ومنه:
* (كالفراش المبثوث) *.
3 - وقوله عز وجل: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله
كان عليكم رقيبا) * [آية 1].
قال عكرمة: المعنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها.
وقال إبراهيم: هو من قولهم: [أسألك بالله] والرحم.
قال أبو جعفر: وهذا على قراءة من قرأ بالخفض.
8

4 - وقوله عز وجل * (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث
بالطيب) *.
قال الضحاك: لا تعطوهم زيوفا بجياد.
وقال غيره: لا تتبدلوا الحرام بالحلال.
5 - ثم قال تعالى * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم...) * [آية 2].
قيل: المعنى [مع أموالكم. والأجود أن تكون * (إلى) *
في موضعها ويكون المعنى] ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم.
9

6 - ثم قال عز وجل * (إنه كان حوبا كبيرا) *. [آية 2].
قال قتادة: الحوب: الإثم.
وروي أن أبا أيوب طلق امرأته، أو عزم على أن يطلقها،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن طلاق أم أيوب لحوب ".
7 - وقوله عز وجل: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * [آية 3]
يقال: أقسط الرجل: إذا عدل، وقسط: إذا جار.
فكأن " أقسط " أزال القسوط.
فأما معنى * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما
طاب لكم من النساء) * [آية 3].
ففيه قولان:
أحدهما: أن ابن عباس قال فيما روي عنه: قصر الرجل على
أربع من أجل اليتامى.
10

وروي عن جماعة من التابعين شرح هذا القول.
وروي عن مجاهد والضحاك وقتادة، وهذا معنى قولهم:
" إن المسلمين كانوا يسألون عن أمر اليتامى لما شدد في
ذلك، فقال جل وعز: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) *
أي فكما تخافون في أمر اليتامى، فخافوا في أمر النساء إذا
اجتمعن، أن تعجزوا عن العدل بينهن.
والقول الآخر: رواه الزهري عن عروة عن عائشة قال:
سألت عائشة عن قول الله جل وعز: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في
اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * فقالت: يا ابن أختي
هي اليتيمة تكون في حجر وليها، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد
تزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها
غيره.
11

فنهوا أن ينكحوا اليتامى إذا خافوا هذا، وأبيح لهم من النساء
أربع، قالت عائشة: [ثم] إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد هذه الآية فأنزل الله عز وجل: * (ويستفتونك في النساء قل الله
يفتيكم فيهن) * إلى قوله: * (وترغبون أن تنكحوهن) *. قالت:
والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي فيها
* (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * قالت: وقوله: * (وترغبون
أن تنكحوهن) * رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره، حين
تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها
وجمالها، من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهن.
وأهل النظر على [هذا] القول.
12

قال " أبو العباس " محمد بن يزيد: التقدير: وإن خفتم
ألا تقسطوا في نكاح اليتامى، ثم حذف هذا، ودل عليه
* (فانكحوا) *.
وقد قال بالقول الأول جماعة من أهل اللغة، منهم " الفراء "
و " ابن قتيبة ".
والقول الثاني أعلى إسنادا، وأجود عند أهل النظر.
وأما من قال معنى * (مثنى وثلاث ورباع) * تسع، فلا
13

يلتفت إلى قوله، ولا يصح في اللغة، لأن معنى (مثنى) عند أهل
العربية: اثنتين، اثنتين، وليس معناه اثنتين فقط.
وأيضا فإن من كلام العرب الاختصار، ولا يجوز أن يكون
معناه تسعا، لأنه لو كان معناه تسعا لم يكن اختصارا أن يقال:
انكحوا اثنتين، وثلاثا، وأربعا، لأن تسعا أخصر من هذا.
وأيضا فلو كان على هذا القول: لما حل لأحد أن يتزوج إلا
تسعا أو واحدة، فقد تبين بطلان هذا.
8 - وقوله عز وجل: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) * [آية 3].
* (أدنى) * بمعنى أقرب.
وروى عمر بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله عز وجل: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) *
قال: " أن لا تجوروا ".
14

وقال ابن عباس والحسن وأبو مالك ومجاهد وعكرمة وقتادة
والضحاك: معنى * (أن لا تعولوا) * أن لا تميلو.
وقال أبو العباس - في قول من قال: * (أن لا تعولوا) *
من العيال -: هذا باطل وخطأ، لأنه قد أحل له مما ملكت
اليمين، ما كان من العدد، وهن مما يعال.
15

وأيضا فإنه إنما ذكر النساء وما يحل منهن، والعدل بينهن
والجور، فليس ل‍ " أن لا تعولوا " من العيال ههنا معنى، وهو على
قول أهل التفسير: أن لا تميلوا ولا تجوروا. ومنه: عالت الفريضة، إذا
زادت السهام فنقص من له الفرض، ومنه: معولتي على فلان، أي
أنا أميل إليه وأتجاوز في ذلك، ومنه: " عالني الشيء " إذا تجاوز
المقدار، ومنه: فلان يعول، والعويل: إنما هو المجاوزة.
وأيضا فإنه إنما يقال: أعال الرجل يعيل: إذا كثر
عياله.
9 - وقوله عز وجل: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة..) * [آية 4].
قيل: يعنى به الأزواج.
ويروى أن الولي كان يأخذ الصدقة لنفسه، فأمر الله عز
وجل أن يدفع إلى النساء، هذا قول أبي صالح.
16

وقال أبو العباس: معنى * (نخلة) * أنه كان يجوز أن
لا يعطين من ذلك شيئا، فنحلهن رسول الله عز وجل إياه.
وقيل: معنى (نحلة) دينا، من قولهم: فلان ينتحل
كذا، أي تعبدا من الله جل وعز.
وقيل: فرضا، والمعنى واحد، لأن الفرض متعبد به.
وقيل: لا يكون (نحلة) إلا ما طابت به النفس، فأما ما
أكره عليه فلا يكون (نحلة).
10 - وقوله عز وجل * (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه
هنيئا مريئا) * [آية 4].
17

يعني: الصداق.
أي لا كدر فيه.
يقال: أمرأني الشيء: بالألف، فإذا قلت: هنأني
ومرأني - هذا مذهب [أكثر] أهل اللغة - قالوا للاتباع.
وأما أبو العباس فقال: لا يقال في الخير إلا أمرأني،
ليفرق بينه وبين الدعاء.
والمروءة من هذا، لأن صاحبها يتجشم أمورا يستمرئ
عاقبتها.
11 - وقوله عز وجل: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله
لكم قياما) * [آية 5].
قال عبد الله بن عمر، وجماعة من التابعين: السفهاء:
النساء، والصبيان.
18

وإنما قالوا هذا لأن السفه في هؤلاء أكثر.
والسفه: الجهل، وأصله: الخفة، يقال: ثوب سفيه إذا
كان خفيفا، وقيل للفاسق: سفيه، لأنه لا قدر له عند المؤمنين،
وهو خفيف في أعينهم، هين عليهم.
والمعنى: ولا تؤتوا السفهاء فوق ما يحتاجون إليه
فيفسدوه.
والدليل على هذا قوله بعد: * (وارزقوهم فيها واكسوهم
وقولوا لهم قولا معروفا) أي علموهم أمر دينهم.
12 - وقوله عز وجل: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح...) * [آية 6].
قال الحسن: أي اختبروهم.
19

13 - وقوله تعالى: * (فإن آنستم منهم رشدا..) * [آية 6]
" آنستم " بمعنى: علمتم وأحسستم، ومنه قول الشاعر:
آنست نبأة وأفزعها القنا
ص عصرا وقد دنا الإمساء
والرشد: الطريقة المستقيمة.
قال مجاهد: العقل.
وقال سفيان: العقل، والحفظ للمال.
قال أبو جعفر: وهذا من أحسن ما قيل فيه، لأنه أجمع
أهل العلم على أنه إذا كان عاقلا، مصلحا، لم يكن ممن يستحق
الحجر عليه في ماله.
20

14 - ثم قال تعالى: * (فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا
وبدارا أن يكبروا...) * [آية 6].
أي مبادرة أن يكبروا فيأخذوها حدثنا منكم.
15 - وقوله عز وجل: * (ومن كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا
فليأكل بالمعروف...) * [آية 6].
في هذه الآية أقوال:
أجودها أن لولي اليتيم ما للولي أن يأخذ منه إن كان فقيرا
بمقدار ما يقوم به.
وكذلك روي عن عمر أنه قال: أنا في هذا المال بمنزلة ولي
اليتيم، يأخذ منه ما يصلحه إذا احتاج.
21

وروى القاسم بن محمد أن أعرابيا سأل ابن عباس ما يحل لي
من مال يتيمي؟ فرخص له أن يأخذ منه، إذا كان يخدمه ما لم
يسرف.
وقال عبيدة، والشعبي، وأبو العالية: ليس له أن يأخذ
شيئا إلا قرضا.
وحدثنا عمر بن إسماعيل بن أبي غيلان قال: حدثنا داود
الضبي قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن عاصم عن أبي العالية:
* (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: قرضا، ثم تلا هذه
الآية: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) *.
وقال أبو يحيى عن مجاهد: ليس له أن يأخذ قرضا ولا غير
ذلك.
22

وقال بهذا القول من الفقهاء أبو يوسف، وذهب إلى [أن]
الآية منسوخة، نسخها قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة) * وليس بتجارة.
16 - وقوله عز وجل: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون
وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) * [آية 7].
يروى أنهم كانوا لا يورثون النساء، وقالوا: لا يرث إلا من
طاعن بالرمح، وقاتل بالسيف، فأنزل الله * (وللنساء نصيب مما
ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) *.
17 - وقوله عز وجل: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى
والمساكين) * [آية 8].
23

في هذه الآية أقوال:
أحدهما: أنها منسوخة.
قال سعيد بن المسيب: نسختها الميراث والوصية.
والإجماع من أكثر العلماء في هذا الوقت أنه لا يجب
إعطاؤهم، وإنما هذا على جهة الندبة إلى الخير.
أي إذا حضروا فأعطوهم كما كان المتوفى يؤمر بإعطائهم.
وقال عبيدة والشعبي والزهري والحسن: هي محكمة.
قال ابن أبي نجيح: يجب أن يعطوا ما طابت به
الأنفس.
24

قال أبو جعفر: وأن يكون ذلك شكرا على ما رزقهم الله
دونه.
18 - ثم قال تعالى: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * [آية 8].
قال سعيد بن جبير: يقال لهم: خذوا بورك لكم.
19 - وقوله عز وجل: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية
ضعافا خافوا عليهم...) * [آية 9].
قال سعيد بن جبير ومجاهد: في الرجل يحضر عند المريض
فيقول له: قدم خيرا أو تصدق على أقربائك، فأمروا أن يشفقوا على
ورثة المريض، كما يشفقون على ورثتهم.
وقال مقسم: يقول له من حضره: اتق الله، وأمسك
عليك مالك، فليس أحد أحق بمالك من ولدك - ولو كانوا ذوي
25

قرابة من الذي أوصى - لأحبوا أن يوصي لأولادهم.
وقول سعيد بن جبير أشبه بمعنى الآية، والله أعلم.
لأن المعنى خافوا عليهم الفقر، فالخوف واقع على ذرية
الموتى.
20 - وقوله عز وجل * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما...) *
[آية 10].
اليتيم في اللغة: المنفرد، فقيل لمن مات أبوه من بني آدم:
يتيم، وهو في البهائم الذي ماتت أمه.
26

21 - وقوله تعالى: * (إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) *
[آية 10].
هذا مجاز في اللفظ، وحقيقته في اللغة: أنه لما كان ما
يأكلون يؤديهم إلى النار، كانوا بمنزلة من يأكل النار، وإن كانوا
يأكلون الطيبات.
22 - وقوله عز وجل: * (يوصيكم الله في أولادكم...) * [آية 11].
أي يفرض عليكم، كما قال: * (ولا تقتلوا النفس التي
حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به) *.
23 - ثم قال تعالى * (للذكر مثل حظ الأنثيين...) * [آية 11].
27

خلافا على أهل الجاهلية، لأنهم كانوا لا يورثون الإناث.
24 - وقوله عز وجل: * (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما
ترك...) * [آية 11].
ولم يسم للاثنتين شيئا، ففي هذا أقوال:
أ - منها أنه قيل: إن فوقا ههنا زائدة، وأن المعنى: فإن
كن نساء اثنتين، كما قال: * (فاضربوا فوق الأعناق) *
ب - وقيل: أعطي الاثنتان الثلثين، بدليل لا بنص،
28

لأن الله عز وجل جعل هذه الأشياء يدل بعضها على بعض، ليتفقه
لها المسلمون.
والدليل: أنه جعل فرض الأخوات والأخوة للأم، إذا كن
اثنتين أو أكثر واحدا، فقال عز وجل: * (وإن كان رجل يورث
كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن
كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) *.
ج‍ - ودليل آخر: أنه جعل فرض الأخت كفرض
البنت، فلذلك يجب أن يكون فرض البنتين كفرض الأختين.
29

قال الله عز وجل: * (يستفتونك، قل الله يفتيكم في
الكلالة، إن امرؤ هلك ليس له ولد، وله أخت فلها نصف ما
ترك...) *.
وقال أبو العباس " محمد بن يزيد ": في الآية نفسها دليل
على أن للبنتين الثلثين، لأنه قال: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) *
وأقل العدد ذكر وأنثى، فإذا كان للواحدة الثلث، دل ذلك على أن
للاثنتين الثلثين، فهذه أقاويل أهل اللغة.
وقد قيل: ليس للبنات إلا النصف، والثلثان، فلما وجب
أن لا يكون للابنتين، وجب أن يكون لهما الثلثان
على أن ابن عباس قال: لهما النصف.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى البنتين الثلثين.
وروى جابر بن عبد الله أن امرأة " سعد بن الربيع " أتت
النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت يا رسول الله: إن زوجي قتل معك، وإنما
30

يتزوج النساء للمال، وقد خلفني وخلف ابنتين وأخا، وأخذ الأخ
المال، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ادفع إليها الثمن، وإلى
البنتين الثلثين، ولك ما بقي ".
25 - وقوله عز وجل: * (فإن كان له إخوة فلأمه السدس...) *
[آية 11] أجمعت الفقهاء أن الإخوة اثنان فصاعدا، إلا ابن
عباس فإنه قال: لا يكون الإخوة أقل من ثلاثة.
والدليل على أن الاثنين يقال لهما إخوة: قوله: * (وإن
كانوا إخوة رجالا ونساء...) * فلا اختلاف بين أهل العلم أن
هذا يكون للاثنين فصاعدا، والاثنان جماعة لأنه واحد جمعته إلى
آخر.
31

وقال: * (وأطراف النهار) * يعني طرفيه، والله أعلم.
وصلاة الاثنين جماعة.
26 - وقوله عز وجل: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين...) *
[آية 11].
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إنكم
تقرؤون * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قضى بالدين قبل الوصية.
قال أبو جعفر: كأن هذا على التقديم والتأخير، وليست
" أو " ههنا بمعنى الواو، وإنما هي للإباحة.
والفرق بينها وبين الواو أنه لو قال: " من بعد وصية يوصي
بها ودين " جاز أن يتوهم السامع بأن هذا إذا اجتمعا، فلما جاء
32

بأو جاز أن يجتمعا، وأن يكون واحد منهما.
27 - وقوله عز وجل: * (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم
نفعا...) * [آية 11].
قال ابن عباس: في الدنيا.
وقال غيره: إذا كان الابن أرفع درجة من الأب سأل الله أن
يلحقه به، وكذلك الأب إذا كان أرفع درجة منه.
28 - ثم قال تعالى * (فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما) *
[آية 11].
أي عليم بما فرض، حكيم به.
ومعنى * (كان) * ههنا فيه أقوال:
أحدهما: أن معناه: لم يزل، كأن القوم عاينوا حكمة
33

وعلما، فأعلمهم الله عز وجل، أنه لم يزل كذلك.
وقيل: الإخبار من الله في الماضي، والمستقبل، واحد لأنه
عنده معلوم.
29 - وقوله تعالى: * (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة..) *
[آية 12].
في الكلالة أقوال:
قال البصريون: الكلالة: الميت الذي لا ولد له،
ولا والد و
واحتجوا بأنه روي عن أبي بكر باختلاف، وعن علي، وزيد
ابن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس، وجابر بن زيد، أنهم قالوا:
34

الكلالة من لا ولد له، ولا والد.
وقال البصريون: هذا مثل قولك: " رجل عقيم " إذا لم يولد
[له]، وهو مشتق من الإكليل، فكأن الورثة قد أحاطوا به
وليس له ولد ولا والد، فيحوز المال.
وقال أهل المدينة وأهل الكوفة: الكلالة: الورثة الذين
لا والد فيهم ولا ولد.
وروي عن عمر قولان:
أحدهما: أن الكلالة من لا ولد له، ولا والد.
والآخر: أنها من لا ولد له.
35

قال أبو جعفر: روي عن عطاء قول شاذ، قال: الكلالة:
المال.
وقال ابن زيد: الكلالة الميت الذي لا والد له ولا ولد،
والحي كلهم كلالة، هذا يرث بالكلالة، وهذا يورث
بالكلالة.
وقال محمد بن جرير: الصواب أن الكلالة الذين يرثون
الميت، من عدا ولده ووالده، لصحة خبر جابر - يعني ابن
عبد الله - أنه قال: قلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة، فكيف
بالميراث؟ فنزلت.
30 - ثم قال تعالى * (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) *
[آية 12].
36

وإنما يعني ههنا الإخوة والأخوات للأم.
وكذلك روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قرأ: * (وله أخ
أو أخت " من أمه " فلكل واحد منهما السدس) *.
وقرأ الحسن وأبو رجاء: * (يورث كلالة) *.
وقال هارون القارئ: قرأ بعض أهل الكوفة: * (يورث
كلالة) *.
فعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالة إلا الورثة، أو المال.
31 - وقوله عز وجل * (من بعد وصية يوصي بها أو دين غير
مضار...) *
وروي عن الحسن أنه قرأ: * (غير مضار وصية من
الله) *، مضاف. وقد زعم بعض أهل اللغة أن هذا لحن، لأن
اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر.
37

والقراءة حسنة على حذف، والمعنى غير مضار ذي وصية،
أي غير مضار بها ورثته في ميراثهم.
32 - وقوله عز وجل: * (تلك حدود الله) * [آية 13].
أي ما منع أن يجاوز... وحددت: منعت.
33 - ثم قال تعالى * (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من
تحتها الأنهار) * [آية 13].
أي من يطعه فيما فرض وحد.
34 - ثم قال تعالى * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله
نارا...) * [آية 14].
معنى " يتعدى " يتجاوز، أي يتجاوز ما حد له.
38

35 - وقوله عز وجل: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم
فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في
البيوت...) * [آية 15].
هذه الآية منسوخة.
قال ابن عباس: كان الأمر كذا حتى نزلت الآية:
* (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *.
فأما معنى الآية المنسوخة، فإن سفيان، والسدي قالا: " كان
الثيب إذا زنا حبس حتى يموت، وكان البكر إذا زنا سب
بالقول ".
إلا أن الفائدة في الآية كان لا يقبل في الزنا إلا أربعة.
39

وزعم مجاهد أن قوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة من
نسائكم) * أنها كانت خاصة على النساء دون الرجال، والتي بعدها
على الرجال خاصة، وهي * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) *
بالسب، ثم نسختا بالحد المفروض، هذا معنى قوله.
قال أبو جعفر: وهذا الصحيح في اللغة الذي هو
حقيقة، فلا يغلب المذكر على المؤنث إلا بدليل.
فأما معنى * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * فإن عبادة بن
الصامت روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خذوا عني، قد جعل الله لهن
40

سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد
مائة والرجم ".
قيل: هذا الحديث منسوخ، وهو أن الثيب لا جلد عليه
وإنما عليه الرجم، ونسخ هذا الحديث حديث الزهري عن عبيد الله
[بن عبد الله] عن أبي هريرة وزيد بن خالد " أن رجلا أتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن ابني كان عسيفا لهذا، وإنه فسق
بامرأته، فافتديت منه، ثم خبرت أن على ابني جلد مائة وتغريب
عام، وعلى امرأته الرجم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه ما
أخذ منه، وأن يجلد ابنه مائة ويغرب عاما، وترجم المرأة، ولم يأمر
بجلدها ".
41

ويقال: إن حديث عبادة كان في الابتداء، وإن التغريب
لا يجب، إلا أن يراه السلطان، لأنه يجوز أن يكون التغريب منه
صلى الله عليه وسلم لشيء علمه من المجلود.
وقول [علي] بن أبي طالب رضي الله عنه إن على الثيب
الجلد والرجم، هو قول أهل النظر، لأنه لم يتبين نسخ الجلد مع
الرجم، فالجلد ثابت وعليه غير دليل.
36 - وقوله عز وجل: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء
بجهالة) * [آية 17].
قال قتادة: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل
من عصى الله عز وجل فهو جاهل.
42

37 - وقوله عز وجل: * (ثم يتوبون من قريب) * [آية 17].
روي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان دون الموت فهو
قريب.
38 - وقوله عز وجل: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى
إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) * [آية 18].
روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: ما حضور الموت
إلا السوق، يعني أنه إذا عاين تبين له الحق، ولا تنفعه التوبة عند
ذلك، كما قال جل وعز عن فرعون: * (آمنت) *.
39 - وقوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا
النساء كرها...) * [آية 19].
43

قال الزهري وأبو مجلز: كان هذا في حي من الأنصار،
كان الرجل إذا توفي وخلف امرأة، ألقى عليها وليه رداء فلا تقدر أن
تتزوج، هذا معنى كلامهما، وزاد غيرهما: ويتزوجها بغير مهر،
وربما ضارها، ولا تقدر أن تتزوج حتى تفتدي منه، فأنزل الله
عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء
كرها...) * الآية.
فيكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا
أزواجا لهن.
ويجوز أن يكون المعنى: لا تتزوجوهن لترثوهن كرها،
فيكون الميراث وقع منهن، بالكراهة منهن للعقد الموجب للميراث.
44

ويقرأ * (كرها) *.
والفراء يذهب إلى أن معنى * (كرها) * أن تكره على
الشيء، والكره من قبله يذهب إلى أنه بمعنى المشقة.
قال الكسائي: الكره والكره واحد.
وهو عند البصريين كما قال الكسائي، وهما لغتان.
40 - وقوله عز وجل: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما
آتيتموهن...) * [آية 19].
قال مجاهد: هو مثل الذي في البقرة.
يذهب إلى أن معناه ولا تحبسوهن.
45

ويروى أن الرجل كان يتزوج المرأة فلا تعجبه، فيحبسها
ويضارها حتى تفتدي منه.
41 - ثم قال عز وجل: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * [آية 19].
قال الحسن والشعبي: يعني الزنا.
قال الشعبي: فإن فعلت ذلك صلح الخلع وكان له أن
يطالبها به.
وقال مقسم: هذا إذا عصتك وآذتك.
وقال عطاء الخراساني: كان الرجل إذا تزوج المرأة فأتت
بفاحشة كان له أن يأخذ منها كلما ساقه إليها. فنسخ ذلك
46

بالحدود.
42 - وقوله عز وجل: * (وعاشروهن بالمعروف...) * [آية 19].
أي في المبيت، والنفقة، والكلام.
43 - وقوله جل وعز: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج...) *
[آية 20].
أي تطليقا وتزوجا.
47

ثم قال: * (وآتيتم إحداهن قنطارا) * القنطار المال الكثير.
وقد ذكرناه في سورة آل عمران.
44 - وقوله عز وجل * (أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) *؟ [آية 20].
والبهتان في اللغة: الباطل الذي يتحير من بطلانه، ومنه
بهت الرجل إذا تحير.
45 - وقوله عز وجل: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى
بعض) *؟ [آية 21].
قال ابن عباس: الإفضاء الغشيان.
وأصل الإفضاء في اللغة: المخالطة، ويقال للشيء المختلط:
فضا.
48

قال الشاعر:
فقلت لها يا عمتا لك ناقتي
وتمر فضا في عيبتي وزبيب
ويقال: القوم فوضى فضا، أي مختلطون، لا أمير عليهم.
46 - وقوله عز وجل: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * [آية 21].
قال ابن عباس والحسن: هو قوله: * (فأمسكوهن
بمعروف أو سرحوهن بمعروف) *.
وجعله بمنزلة الميثاق المغلظ، أي اليمين، مجازا.
وقال مجاهد وعكرمة: استحللتموهن بأمانة الله،
وملكتموهن بكلمة الله عز وجل.
49

47 - وقوله عز وجل * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما
قد سلف) * [آية 22].
يقال: كيف استثنى * (ما قد سلف) * مما لم يكن بعد؟
فالجواب: أن هذا استثناء ليس من الأول، والعرب
تقول: ما زاد إلا ما نقص.
و [سيبويه] يجعل " إلا " بمعنى " لكن " المعنى لكن ما
قد سلف فإنه مغفور، أو فدعوه.
48 - ثم قال عز وجل: * (إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) *
[آية 22].
يقال: لم جيء ب‍ (كان) وهو بكل حال فاحشة؟
ففي هذا جوابان:
50

قال أبو إسحاق: قال أبو العباس محمد بن يزيد:
" كان " ههنا زائدة، والمعنى: إنه فاحشة، وأنشد:
فكيف إذا رأيت ديار قوم
وجيران لنا كانوا كرام
قال أبو جعفر: قال أبو إسحاق: وهذا عندي خطأ، لأن
" كان " لو كانت زائدة، وجب أن يكون " إنه كان فاحشة
ومقت ".
والجواب: أن هذا كان مستقبحا عندهم في الجاهلية،
يسمونه فاحشة ومقتا.
51

والمقت أشد البغض، ويسمون المولود منه المقتي، فأعلم
الله جل وعز أن هذا الذي حرمه كان قبيحا في الجاهلية ممقوتا.
49 - وقوله جل وعز: * (حرمت عليكم أمهاتكم، وبناتكم،
وأخواتكم، وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الأخ، وبنات
الأخت، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة،
وأمهات نسائكم...) * [آية 23].
هذه المحرمات تسمى المبهمات، لأنها لا تحل بوجه،
ولا سبب، إلا قوله: * (وأمهات نسائكم) * فإن أكثر الفقهاء
يجعله من الأول.
52

وقال بعضهم: إذا تزوجها ولم يدخل بها لم تحرم عليه
أمها.
وهذا القول على مذهب أهل اللغة بعيد، لأن الشرط لمن يقع
عليه، ولأن قوله: * (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * متعلق
بقوله: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم) *، ولا يجوز أن يكون
قوله (اللاتي) من نعتهما جميعا، لأن الخبرين مختلفان، ولكنه
يجوز على معنى أعني.
وأنشد الخليل وسيبويه:
إن بها أكتل أورزاما إلى * خويربين ينفقان الهاما
53

خويربين بمعنى أعني.
والربيبة: بنت امرأة الرجل، وسميت " ربيبة " لأن زوج
أمها يربيها، ويجوز أن تسمى ربيبة، وإن لم يربها، لأنها ممن
يربيها، كما يقال: أضحية، من قبل أن يضحى بها، وكذلك حلوبة
أي يحلب، قال الشاعر:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سودا كخافية الغراب الأسحم
50 - وقوله جل وعز: * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم...) *
[آية 23].
حليلة الرجل: امرأته، والرجل حليل، لأن كل واحد منهما
يحل على صاحبه.
54

وقيل: حليلة بمعنى محلة، من الحلال والحرام، قال
الشاعر:
وحليل غانية تركت مجدلا * تمكو فريصته كشدق الأعلم
فأما الفائدة في قوله: * (من أصلابكم) * فهي على إخراج الحليلات
بنات الأدعياء المتبنين من هذا، غير أن (في حجوركم) يدل على
التربية.
51 - وقوله جل وعز: * (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد
سلف...) * [آية 23].
فهذا استثناء ليس من الأول، والمعنى لكن ما قد سلف
فإنه مغفور.
55

52 - وقوله جل وعز: * (والمحصنات من النساء) * [آية 24].
قال علي وابن عباس وأبو سعيد الخدري: هن ذوات الأزواج
لا تحل واحدة منهن إلا أن تسبى.
قال عبد الله بن عباس: نكاح ذوات الأزواج زنا إلا أن
تسبى، وقد كان لها زوج فتحل بملك اليمين.
وقول آخر: أنهن الإماء ذوات الأزواج، إذا استؤنف عليهن
الملك، كان فاسخا لنكاحهن.
روي هذا عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وجابر،
وأنس.
56

وقول ثالث: قال أبو عبيده: * (إلا ما ملكت أيمانكم) *
الأربع.
وأحسنها الأول، لحديث أبي سعيد الخدري: " أصبنا سبيا
يوم أوطاس، ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن، فسألنا رسول
الله، فنزلت هذه الآية، فاستحللناهن ".
53 - وقوله جل وعز: * (كتاب الله عليكم..) * [آية 24].
أي فرض الله عليكم.
وقرئ: * (كتب الله عليكم) * أي فرض الله تحريم
هؤلاء:
ولم يقل: إنه لا يحرم عليكم سواهن.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تنكح المرأة على
عمتها، ولا على خالتها ".
57

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يحرم من الرضاعة ما يحرم من
النسب ".
54 - وقوله جل وعز: * (أن تبتغوا بأموالكم محصنين...) *
[آية 24].
* (محصنين) * أي ناكحين.
* (غير مسافحين) *.
قال مجاهد: أي غير زانين.
وأصله من سفح، إذا صب، كما قال الشاعر:
وإن شفائي عبرة إن سفحتها
فهل عند رسم دارس من معول
58

فسمي الزنا " سفاحا " لأنه بمنزلة الماء المصبوب.
55 - وقوله جل وعز: * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن
فريضة...) * [آية 25].
في معنى هذه الآية قولان:
أحدهما: أنها منسوخة.
وروي عن سعيد بن المسيب ذلك.
وروى عكرمة بن عمار عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله جل وعز حرم أو أهدر المتعة
بالطلاق، والنكاح، والعدة، والميراث ".
59

وروى مالك عن الزهري أن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي
طالب - رحمة الله عليهم - والحسن بن محمد بن علي، أخبراه أن
أباهما أخبرهما أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول لابن
عباس: " إنك رجل تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
المتعة ".
وقالت عائشة: حرم الله المتعة بقوله: * (والذين هم
لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) *.
والدليل على أن " المستمتع بها " غير زوجة، أنها لو كانت زوجة
للحقها الطلاق، وكان عليها عدة الوفاة، ولحق ولدها بأبيه،
ولتوارثا.
60

ومعنى * (فآتوهن أجورهن) * المهر.
والدليل على ذلك أن بعده * (فانكحوهن بإذن أهلهن
وآتوهن أجورهن) *.
فهذا بإجماع، المهر.
وروي عن أبي بن كعب وابن عباس أنهما قراء: * (فما
استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) *.
والقول الآخر: أن هذا ليس من المتعة.
وقال الحسن ومجاهد: هو من النكاح.
فالمعنى * (فما استمتعتم به منهن) * من النكاح.
61

أي إن دخلتم بها فلها المهر، ومن لم يدخل كان عليه
نصف المهر.
والدليل على أن هذا هو القول الصحيح قوله: * (ولا جناح
عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) * [آية 24].
أي إن وهب لها النصف الآخر [فلا جناح] وإن وهبت
له النصف فلا جناح.
56 - ثم قال عز وجل: * (إن الله كان عليما حكيما) * [آية 24].
أي هو عليم بما فرض عليكم في النكاح.
57 - وقوله عز وجل: * (ومن لم يستطع منكم طولا) * [آية 25].
أي قدرة على المهر.
والطول في اللغة: الفضل، ومنه تطول الله علينا.
والطول في القامة فضل، والطول: الحبل، ويقال: لا
أكلمه طوال الدهر.
62

58 - وفي قوله عز وجل: * (أن ينكح المحصنات) * قولان:
أحدهما: أنهن العفائف.
والآخر: أنهن الحرائر.
والأشبه أن يكن الحرائر [لقوله]: * (فمن ما ملكت
أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * يعني المملوكات.
والعرب تقول للمملوك فتى، وللمملوكة فتاة.
59 - ثم قال عز وجل: * (بعضكم من بعض) * [آية 25].
63

في معنى هذا قولان:
أحدهما: بنو آدم.
والقول الآخر: إنكم مؤمنون فأنتم إخوة.
وإنما قيل لهم [هذا] فيما روي لأنهم في الجاهلية كانوا
يعيرون بالهجنة، ويسمون ابن الأمة هجينا، فقال عز وجل:
* (بعضكم من بعض) *.
60 - وقوله جل وعز: * (وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات) * أي
متزوجات * (غير مسافحات) *.
أي غير زانيات * (ولا متخذات أخدان) * [آية 25].
الخدن: الصديق، أي غير زانيات بواحد،
ولا مبذولات.
64

61 - ثم قال جل وعز * (فإذا أحصن...) * [آية 25].
قال الشعبي: معناه فإذا أسلمن.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الإحصان:
الإسلام.
ويقرأ " فإذا أحصن ".
قال ابن عباس: تزوجن، إذا كانت غير متزوجة.
وقال الزهري: معناه فإذا تزوجن، قال الزهري: تحد
الأمة إذا زنت وهي متزوجة بالكتاب، وتحد إذا زنت ولم تتزوج
بالسنة.
65

والاختيار عند أهل النظر " فإذا أحصن " بالضم، لأنه
قد تقدم ذكر إسلامهن في قوله عز وجل * (ومن لم يستطع
منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات) *.
فدل ذلك على أن الإحصان الثاني غير الإسلام، فالاختيار
على هذا * (أحصن) * بالضم، أي تزوجن.
وقيل: * (أحصن) * تزوجن، وذا أولى لأنه قال:
* (من فتياتكم المؤمنات) * فيبعد أن يقول: فإذا أسلمن.
62 - ثم قال جل وعز: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من
العذاب...) * [آية 25].
يعني نصف الحد، ويعني بالمحصنات ههنا الأبكار الحراير
66

لأن الثيب عليها الرجم ولا يتبعض.
قيل: وإنما قيل للبكر محصنة، وإن لم تكن متزوجة، لأن
الإحصان يكون لها، كما يقال: أضحية قبل أن يضحى بها، وكما
يقال للبقرة: مثيرة قبل أن تثير.
وقيل: " المحصنات " المتزوجات، لأن عليهن الضرب والرجم
في الحديث، والرجم لا يتبعض، فصار عليهن نصف الضرب.
63 - ثم قال جل وعز: * (ذلك لمن خشي العنت منكم...) *
[آية 25].
قال الشعبي: يعني الزنا.
والعنت في اللغة: المشقة، يقال: أكمة عنوت، إذا كانت
شاقة.
67

64 - ثم قال جل وعز: * (وأن تصبروا خير لكم...) * [آية 25].
أي وأن تصبروا عن نكاح الإماء خير لكم، وإنما شدد في
الإماء، لأن ولد الرجل منها يكون مملوكا، وهي تمتهن في
الخدمة، وهذا شاق على الزوج.
65 - وقوله عز وجل: * (ويهديكم سنن الذين من قبلكم...) *
[آية 26].
أي طرق الأنبياء والصالحين قبلكم لتتبعوها.
68

66 - وقوله جل وعز: * (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا
عظيما) * [آية 27].
أي يريدون أن تعدلوا عن القصد والحق.
67 - وقوله جل وعز * (يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان
ضعيفا) * [آية 28].
قال طاووس: خلق ضعيفا في أمر النساء خاصة.
وروي عن ابن عباس أنه قرأ: * (وخلق الإنسان
ضعيفا) * أي خلق الله الإنسان ضعيفا.
68 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل) * [آية 29].
أي لا يحل لكم إلا على ما تقدم، من هبة، أو مهر،
69

أو صدقة، أو بيع، أو شراء، وما أشبه ذلك.
69 - وقوله جل وعز: * (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم
رحيما) * [آية 29].
قال عطاء: أي لا يقتل بعضكم بعضا.
وذلك معروف في اللغة، لأن المؤمن من المؤمن بمنزلة
نفسه.
70

وقرأ الحسن: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * على التكثير.
70 - ثم قال جل وعز: * (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف
نصليه نارا) * [آية 30].
العدوان في اللغة: المجاوزة للحق.
والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
71 - ثم قال جل وعز: * (وكان ذلك على الله يسيرا) * [آية 30].
أي سهلا، يقال: يسر الشيء فهو يسير، إذا سهل.
72 - وقوله جل وعز: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه..) *
[آية 31].
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الكبائر: الشرك
بالله، والسحر، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم
والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين.
71

وقال عبد الله بن مسعود: الكبائر: الشرك بالله،
والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح (الله)، وأمن مكر
الله.
وقال طاووس: قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟
قال: هي إلى السبعين أقرب.
وحقيقة الكبيرة في اللغة: أنها ما كبر وعظم مما وعد الله
جل وعز عليه النار، أو أمر بعقوبة فيه، فما كان على غير هذين
جاز أن يكون كبيرة وأن يكون صغيرة.
72

73 - ثم قال تعالى * (نكفر عنكم سيئاتكم) * [آية 31]
قال أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يصيبه
هم، أو نصب، إلا كفر عنه به ".
74 - ثم قال جل وعز: * (وندخلكم مدخلا كريما) * [آية 31].
قيل: يعني به الجنة، والله أعلم.
75 - وقوله جل وعز: * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على
بعض) * [آية 32].
روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله فضل الله الرجال على
النساء بالغزو، وفي الميراث، فأنزل الله: * (ولا تتمنوا ما فضل
الله به بعضكم على بعض) *.
وقيل: إنما نهي عن الحسد.
والحسد عند أهل اللغة أن يتمنى الإنسان ما غيره بأن يزول
73

عنه، فإن تمنى ما لغيره، ولم يرد أن يزول عنه سمي ذلك غبطة.
المعنى: ولا تتمنوا " تلف " ما، ثم حذف.
وقال قتادة: كان " أهل " الجاهلية لا يورثون النساء،
ولا الصبيان فلما ورثوا، وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، تمنى
النساء أن لو جعل أنصباؤهن كأنصباء الرجال، وقال الرجال: إنا
لنرجوا أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة، كما فضلنا عليهن
في الميراث، فنزلت: * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على
بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا، وللنساء نصيب مما
اكتسبن) *. أي المرأة تجزى بحسنتها عشر أمثالها، كما يجزى
الرجال.
وقال سعيد بن جبير: * (واسألوا الله من فضله) *
74

العبادة، ليس من أمر الدنيا.
وقيل: سلوه التوفيق للعمل لما يرضيه.
* (إن الله كان بكل شيء عليما) * أي بما يصلح عباده.
176 - وقوله جل وعز: * (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان
والأقربون...) * [آية 33].
قال مجاهد: هم بنو العم.
وقال قتادة: هم الأقرباء، منهم الأب، والأخ.
وقال الضحاك: يعني الأقرباء.
وهذا قول أكثر أهل اللغة.
75

77 - وقوله جل وعز: * (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم
نصيبهم...) * [آية 33].
هذه الآية منسوخة.
قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية يجيء الرجل إلى الرجل
فيقول له: أرثك وترثني، فيكون ذلك بينهما حلفا، فنسخ الله
ذلك بقوله: * (وأولوا الأرحام، بعضهم أولى ببعض في كتاب
الله) *.
وكذلك روي عن الحسن وعكرمة وقتادة أن الآية منسوخة.
وقال سعيد بن المسيب: كان الرجل يتبنى الرجل فيتوارثان
على ذلك [فنسخه] الله جل وعز.
76

78 - وقوله جل وعز: * (الرجال قوامون على النساء..) *
[آية 34].
قيل: لأن منهم الحكام والأمراء ومن يغزو.
79 - ثم قال جل وعز: * (بما فضل الله بعضهم على بعض وبما
أنفقوا من أموالهم) * [آية 34].
أي من المهور.
80 - ثم قال جل وعز: * (فالصالحات قانتات) * [آية 34].
قال قتادة: أي مطيعات.
وقال غيره: أي قيمات لأزواجهن بما يجب من حقهن.
81 - ثم قال عز وجل: * (حافظات للغيب) * [آية 34].
77

قال قتادة: أي لغيب أزواجهن.
* (بما حفظ الله) * أي بما حفظهن الله به في مهورهن
والإنفاق عليهن.
وقرأ أبو جعفر المدني: * (بما حفظ الله) *.
ومعناه بأن حفظن الله في الطاعة، وتقديره بحفظ الله.
82 - وقوله جل وعز: * (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن...) *
[آية 34].
قال أهل التفسير: النشوز: العداوة.
والنشوز في اللغة: الارتفاع، ويقال لما ارتفع من الأرض:
نشز، ونشز.
78

والعداوة: هي ارتفاع عما يجب، وزوال عنه.
قال سفيان: معنى * (فعظوهن) * أي فعظوهن بالله.
* (واهجروهن في المضاجع) *.
قال سفيان: من غير ترك الجماع.
* (واضربوهن) *.
قال عطاء: ضربا غير مبرح.
79

83 - ثم قال جل وعز: * (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) *
[آية 34].
قال ابن جريج: أي لا تطلبوا عليهن طريق عنت.
84 - ثم قال جل وعز: * (إن الله كان عليا كبيرا) * [آية 34].
أي هو متعال عن أن يكلف إلا الحق ومقدار الطاقة.
80

85 - وقوله جل وعز * (وإن خفتم شقاق بينهما...) * [آية 35].
قال أبو عبيدة: معنى * (خفتم) * أيقنتم.
قال أبو جعفر: قال أبو إسحاق: هذا عندي خطأ، لأنا
لو أيقنا لم يحتج إلى الحكمين، و " خفتم " ههنا على بابها.
والشقاق: العداوة، وحقيقته أن كل واحد من المعاديين في
شق خلاف شق صاحبه.
86 - ثم قال جل وعز: * (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) *.
قال مجاهد: يعني الحكمين.
قال أبو جعفر: وهذا قول حسن، لأنهما إذا اجتمعت
كلمتهما قبل منهما، على أن في ذلك اختلافا.
روي عن سعيد بن جبير أنه قال: للحكمين أن يطلقا على
الرجل إذا اجتمعا على ذلك، وهذا قول مالك.
وفيه قول آخر: وهو أنهما لا يطلقان عليه حتى يرضى
بحكمهما.
81

وروى هذا القول أيوب وهشام عن محمد بن سيرين عن عبيدة
عن علي رحمه الله أنه قال للحكمين: " لكما أن تجمعا عليه وأن تفرقا
فقال الزوج: أما التفرقة فلا، قال علي: والله لترضين بكتاب
الله ".
87 - ثم قال جل وعز: * (إن الله كان عليما خبيرا) * [آية 35].
أي هو عليم بما فيه الصلاح، خبير بذلك.
88 - وقوله جل وعز: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا..) *
[آية 36].
أي لا تعبدوا معه غيره، فتبطل عبادتكم.
89 - ثم قال جل وعز: * (وبالوالدين إحسانا) * [آية 36].
82

أي وصاكم بهذا، والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
90 - وقوله جل وعز: * (والجار ذي القربى...) * [آية 36].
هو الذي بينك وبينه قرابة.
91 - ثم قال جل وعز: * (والجار الجنب..) * [آية 36].
قال ابن عباس: هو الغريب، وكذلك هو في اللغة، ومنه
فلان أجنبي، وكذلك الجنابة: البعد.
وأنشد أهل اللغة:
فلا تحرمني نائلا عن جنابة
فإني امرؤ وسط القباب غريب
83

92 - ثم قال جل وعز: * (والصاحب بالجنب...) * [آية 36].
روي عن علي وعبد الله بن مسعود وابن أبي ليلى أنهم قالوا
الصاحب بالجنب: المرأة.
وقال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك: الصاحب
بالجنب: الرفيق في السفر.
93 - ثم قال جل وعز: * (وابن السبيل) * [آية 36].
قال قتادة ومجاهد والضحاك: هو الضيف.
والسبيل في اللغة: الطريق، فنسب إليها لأنه إليها يأوي.
84

94 - وقوله عز وجل * (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) *
[آية 36].
المختال في اللغة: ذو الخيلاء.
فإن قيل: فكيف ذكر المختال ههنا، وكيف يشبه هذا
الكلام الأول؟.
فالجواب أن من الناس من تكبر على أقربائه إذا كانوا فقراء،
فأعلم الله عز وجل أنه لا يحب من كان كذا.
95 - وقوله عز وجل * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل،
ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) *
[آية 37].
85

قال إبراهيم ومجاهد وقتادة: نزل هذا في اليهود.
وهو قول حسن عند أهل اللغة، لأن اليهود بخلوا أن يخبروا
بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي عندهم في التوراة، وكتموا ما آتاهم الله من
فضله، أي ما أعطاهم.
والدليل على هذا قوله: * (وأعتدنا للكافرين عذابا
مهينا) *.
96 - ثم قال عز وجل: * (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس...) *
[آية 38].
قال إبراهيم: يعني به اليهود أيضا.
86

وقال غيره: يعني به المنافقين.
97 - ثم قال جل وعز: * (ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن
الشيطان له قرينا فساء قرينا) * [آية 38].
أي من يقبل ما سول له الشيطان، فساء عملا عمله.
98 - وقوله جل وعز: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة...) * [آية 40].
أي وزن ذرة. يقال: هذا مثقال هذا، أي وزن هذا.
ومثقال: مفعال، من الثقل.
والذرة: النملة الصغيرة.
87

وروى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من ايمان ". ثم
قال أبو سعيد: إن شككتم فاقرؤوا: * (إن الله لا يظلم مثقال
ذرة) *.
99 - ثم قال جل وعز: * (وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه
أجرا عظيما) * [آية 40].
قال سعيد بن جبير: يعني الجنة.
ومعنى * (يضاعفها) * يجعلها أضعافا.
وقرأ أبو رجاء العطاردي: * (يضعفها) *.
88

ومعنى * (من لدنه) * من قبله.
100 - وقوله جل وعز: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا
بك على هؤلاء شهيدا) * [آية 41].
في الكلام حذف لعلم السامع، والمعنى: فكيف تكون
حالهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد؟ وفي الكلام معنى التوبيخ.
قال عبد الله بن مسعود: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " اقرأ علي "
فقلت: آقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: " نعم " فقرأت عليه من
أول النساء حتى بلغت إلى قوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * فرأيت عينيه تذرفان ".
89

وقال: (شهيدا عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت
أنت الرقيب عليهم).
101 - وقوله جل وعز: * (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول
لو تسوى بهم الأرض) * [آية 42].
وقرأ مجاهد وأبو عمرو: * (لو تسوى بهم الأرض) *.
فمن قرأ: * (تسوى فمعناه على ما روي عن قتادة: لو
تخرقت بهم الأرض فساخوا فيها.
وقيل - وهو أبين -: إن المعنى أنهم تمنوا أن يكونوا ترابا
كالأرض، فيستوون هم وهي، ويدل على هذا * (يا ليتني كنت
ترابا) *.
90

وكذلك " تسوى " لو سواهم الله عز وجل، فصاروا ترابا
مثلها.
والقراءة الأولى موافقة لقولهم " كنت " ولم يقولوا: كونت.
وروي عن الحسن في قوله: * (تسوى بهم الأرض) * قال:
تنشق فتسوى عليهم.
يذهب إلى أن معنى " بهم " عليهم، فتكون " الباء " بمعنى
" على " كما تكون " في " بمعنى " على " في قوله عز وجل:
* (ولأصلبنكم في جذوع النخل) *.
202 - ثم قال عز وجل: * (ولا يكتمون الله حديثا) * [آية 42].
91

فيقال: أليس قد قالوا: * (والله ربنا ما كنا
مشركين) *؟
ففي هذا أجوبة.
منها: أن يكون داخلا في التمني، فيكون المعنى: أنهم
يتمنون ألا يكتموا الله حديثا، فيكون مثل قولك: ليتني ألقى فلانا
وأكلمه.
وقال قتادة: هي مواطن في القيامة، يقع هذا في
بعضها.
وقال بعض أهل اللغة: هم لا يقدرون على أن يكتموا، لأن
الله عالم بما يسرون.
92

وقيل قولهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * عندهم أنهم
قد صدقوا في هذا، فيكون على هذا * (ولا يكتمون الله حديثا) *
مستأنفا.
103 - وقوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى حتى تعلموا ما تقولون...) * [آية 43].
قال الضحاك: أي سكارى من النوم.
وقال عكرمة وقتادة: هذا منسوخ.
وقال قتادة: نسخه تحريم الخمر.
93

يذهب إلى أن معنى سكارى من الشراب.
والدليل على أن هذا القول هو الصحيح أن عمر بن الخطاب
رحمه الله قال: أقيمت الصلاة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يقربن الصلاة سكران ".
وروي أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بقوم فقرأ:
* (قل يا أيها الكافرون) *، فخلط فيها فنزلت: * (يا أيها الذين آمنوا
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * [آية 43].
ثم نسخ هذا بتحريم الخمر.
94

104 - ثم قال جل وعز * (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا...) *
[آية 43].
قال عبد الله بن عباس وأنس: إلا أن تمر، ولا تجلس.
وروي عن ابن عباس: هو المسافر يمر بالمسجد
مجتازا.
وروي عن عائشة رحمها الله أنها حاضت وهي محرمة فقال
لها النبي صلى الله عليه وسلم: " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي
بالبيت ".
105 - ثم قال جل وعز: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد
منكم من الغائط...) * [آية 43].
95

قال بعض الفقهاء: المعنى وجاء أحد منكم من الغائط.
وهذا لا يجوز عند أهل النظر من النحويين، لأن ل‍ " أو "
معناها، وللواو معناها، وهذا عندهم على الحذف.
والمعنى: وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مس
الماء، أو على سفر ولم تجدوا ماء، واحتجتم إلى الماء.
106 - ثم قال جل وعز: * (أو لامستم النساء) * [آية 43].
قال ابن عباس: * (لامستم) * جامعتم.
96

ويقرأ: * (أو لمستم) *.
قال محمد بن يزيد: من ذهب إلى أنه الجماع فالأحسن أن
يقول: (لمستم) مثل: غشيتم، وهذا الفعل إنما نسب إلى الرجل،
ومن ذهب إلى أنه دون الجماع فالأحسن أن يقول:
(لامستم).
107 - ثم قال جل وعز: * (فتيمموا صعيدا طيبا...) * [آية 43].
معنى (تيمموا) تعمدوا واقصدوا. يقال: تيممت كذا
وتأممته: إذا قصدته.
97

والصعيد في اللغة: وجه الأرض كان عليه تراب أو لم
يكن.
والدليل على هذا قوله عز وجل: * (فتصبح صعيدا
زلقا) *.
وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض.
والطيب: النظيف.
ثم قال تعالى * (إن الله كان عفوا غفورا) * [آية 43]
لأنه قد عفا جل وعز، وسهل في التيمم.
98

108 - وقوله جل وعز: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من
الكتاب...) * [آية 44].
قال أهل التفسير: يعني به اليهود، لأن عندهم صفة
النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى * (يشترون الضلالة) * يلزمونها، وقد صاروا بمنزلة
المشتري لها، والعرب تقول لكل من رغب في شيء: قد اشتراه.
ومعنى * (ويريدون أن تضلوا السبيل) * [آية 44].
أي يريدون أن تضلوا طريق الحق.
109 - ثم قال جل وعز: * (والله أعلم بأعدائكم...) * [آية 45].
99

أي فهو يكفيكموهم.
110 - ثم قال جل وعز: * (وكفى بالله وليا، وكفى بالله نصيرا) *
[آية 45].
قال أبو إسحاق: إنما دخلت الباء في * (وكفى بالله) *
لأن في الكلام معنى الأمر، والمعنى: اكتفوا بالله وليا، واكتفوا بالله
نصيرا.
111 - ثم قال جل وعز: * (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن
مواضعه...) * [آية 46].
يجوز أن يكون المعنى: ألم تر إلى [. الذين] أوتوا نصيبا
من الكتاب من الذين هادوا. وهو الأولى بالصواب، لأن الخبرين
100

والمعنيين من صفة نوع واحد من الناس وهم اليهود، وبهذا جاء
التفسير.
ويجوز أن يكون المعنى وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا.
ويجوز أن يكون المعنى على مذهب سيبويه من الذين هادوا
يحرفون الكلم عن مواضعه، ثم حذف.
وأنشد النحويون:
لو قلت ما في قومها لم تيثم
يفضلها في حسب ومبسم
101

قالوا: المعنى: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها. ثم
حذف.
ومعنى * (يحرفون) * يغيرون، ومنه: تحرفت عن فلان
أي عدلت عنه. فمعنى * (يحرفون) * يعدلون عن الحق.
112 - وقوله جل وعز: * (ويقولون سمعنا وعصينا، واسمع غير
مسمع...) * [آية 46]..
روي عن ابن عباس أنه قال: أي يقولون: اسمع
لا سمعت.
102

وقال الحسن: أي اسمع غير مسمع منك، أي غير مقبول
منك.
ولو كان كذا لكان " غير مسموع "!.
وقوله عز وجل * (وراعنا) *
نهي المسلمون أن يقولوها، وأمروا أن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم
بالإجلال والإعظام.
وقرأ الحسن: * (وراعنا) *، منونا، جعله من
الرعونة.
وقد استقصينا شرحه في سورة البقرة.
103

113 - ثم قال جل وعز: * (ليا بألسنتهم، وطعنا في الدين...) *
[آية 46].
أي يلوون ألسنتهم ويعدلون عن الحق.
114 - ثم قال جل وعز: * (ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع
وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم...) * [آية 46].
ومعنى * (انظرنا) * انتظرنا.
ومعنى * (سمعنا) * قبلنا.
* (لكان خيرا لهم) * أي عند الله جل وعز.
* (وأقوم) * أي وأصوب في الرأي، والاستقامة منه.
115 - ثم قال جل وعز * (ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون
إلا قليلا) * [آية 47].
ويجوز أن يكون المعنى: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يستحقون
اسم الإيمان.
104

ويجوز أن يكون المعنى: فلا يؤمنون إلا قليلا منهم.
116 - وقوله عز وجل: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا
مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على
أدبارها...) * [آية 47].
روي عن أبي بن كعب أنه قال: من قبل أن نضلكم
إضلالا لا تهتدون بعده.
يذهب إلى أنه تمثيل، وأنه إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة.
وقال مجاهد: في الضلالة.
وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء.
105

ومعنى * (من قبل أن نطمس وجوها) * عند أهل اللغة:
نذهب بالأنف، والشفاه، والأعين، والحواجب * (فنردها على
أدبارها) * نجعلها أقفاء.
فإن قيل: فلم [لم] يفعل بهم هذا؟
ففي هذا جوابان.
أحدهما: أنه إنما خوطب بهذا رؤساؤهم، وهم ممن آمن.
روي هذا القول عن ابن عباس.
والقول الآخر: أنهم حذروا أن يفعل [هذا] بهم في
القيامة.
وقال محمد بن جرير: ولم يكن هذا، لأنه قد آمن منهم
جماعة.
117 - ثم قال جل وعز: * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت...) *
[آية 47].
106

قال قتادة: أو نمسخهم قردة وخنازير.
118 - وقوله عز وجل: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) *
[آية 48].
وقد قال: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * فهذا
معروف.
والمعنى أن يقال: أنا أغفر لك كل ذنب، ولا يستثنى ما
يعلم أنك لا تغفر.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: * (إن الله يغفر الذنوب
107

جميعا) * فقال له رجل: يا رسول الله، والشرك؟ فنزلت: * (إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *
[آية 48].
قال بعض أهل اللغة: معناه إلا الكبائر.
وقيل: معناه بعد التوبة.
119 - وقوله عز وجل: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله
يزكي من يشاء...) * [آية 49].
أصل الزكاء: النماء في الصلاح.
108

قال قتادة: يعني اليهود، لأنهم زكوا أنفسهم، فقالوا: نحن
أبناء الله وأحباؤه.
وكذلك قال الضحاك.
120 - ثم قال جل وعز: * (ولا يظلمون فتيلا) * [آية 49].
قال ابن عباس: الفتيل: ما فتلته بأصبعيك.
وقال غيره: الفتيل: ما في بطن النواة.
والنقير النقرة التي فيها والتي تنبت منها النخلة.
والقطمير: القشرة الملفوفة عليها من خارج.
109

والمعنى: لا يظلمون مقدار هذا.
121 - ثم قال جل وعز: * (أنظر كيف يفترون على الله الكذب...) *
[آية 50].
معنى * (يفترون) *: يختلقون، ويكذبون.
122 - وقوله عز وجل: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب،
يؤمنون بالجبت والطاغوت...) * [آية 51].
روي عن عمر رحمه الله أنه قال: الجبت: السحر،
والطاغوت: الشيطان.
وكذلك روي عن الشعبي.
وقال قتادة: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن.
110

وروي عن ابن عباس: أن الجبت، والطاغوت: رجلان
من اليهود، وهما " كعب بن الأشرف " و " حيي بن أخطب ".
والجبت والطاغوت عند أهل اللغة كل ما عبد من دون
الله، أو أطيع طاعة فيها معصية، أو خضع له.
فهذه الأقوال متقاربة، لأنهم إذا أطاعوهما في معصية الله،
والكفر بأنبيائه، كانوا بمنزلة من عبدهما، كما قال جل وعز:
* (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) *.
حدثني من أثق به عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن
مالك قال: الطاغوت ما عبد من دون الله.
111

ومنه * (واجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) * فقلت لمالك: ما
الجبت؟ فقال: سمعت من يقول: هو الشيطان.
ويدل على هذا ما حدثناه أحمد بن محمد الأزدي قال:
حدثنا ابن أبي داود قال حدثنا الحماني قال: حدثنا مروان بن معاوية
وابن المبارك عن عوف عن حيان بن قطن عن قبيصة بن مخارق
قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " العيافة، والطيرة، والطرق، من
الجبت ".
123 - ثم قال جل وعز: * (ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من
الذين آمنوا سبيلا) * [آية 51].
قال قتادة: هم اليهود.
وقال غيره: يبين بهذا أنهم عاندوا، لأنهم قالوا لمن عبد
112

الأصنام ولم يقر بكتاب: هؤلاء أهدى من [المؤمنين] الذين
صدقوا بالكتب.
124 - وقوله جل وعز: * (أولئك الذين لعنهم الله...) * [آية 52].
اللعنة: الإبعاد، أي باعدهم من توفيقه ورحمته.
125 وقوله جل وعز * (أم لهم نصيب من الملك...) * [آية 53].
قيل: إنهم كانوا أصحاب بساتين ومال، وكانوا مع ذلك
بخلاء.
وقيل: إنهم لو ملكوا لبخلوا.
113

126 - وقوله جل وعز: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من
فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة) * [آية 54].
قال الضحاك: قالت اليهود: يزعم محمد أنه قد أحل له من
النساء [ما شاء] فأنزل الله عز وجل: * (أم يحسدون الناس
على ما آتاهم الله من فضله) * فالمعنى: بل يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على
ما أحل له من النساء.
قال السدي: وقد كانت لداود صلى الله عليه وسلم مائة
امرأة، ولسليمان أكثر من ذلك.
وقال قتادة: أولئك اليهود حسدوا هذا الحي من العرب حين
بعث فيهم نبي، فيكون الفضل ههنا النبوة.
114

وقد شرف بالنبي صلى الله عليه وسلم العرب، أي فكيف لا يحسدون إبراهيم
صلى الله عليه وسلم، وغيره من الأنبياء، وقد أوتي سليمان الملك؟
127 - ثم قال جل وعز: * (وآتيناهم ملكا عظيما...) * [آية 54].
قال مجاهد: يعني النبوة.
وقال همام بن الحارث: أيدوا بالملائكة والجنود.
128 - ثم قال جل وعز: * (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه...) *
[آية 55].
قال مجاهد: يعني بالقرآن.
وقيل: بالنبي صلى الله عليه وسلم.
115

ويجوز أن يكون المعنى * (فمنهم من آمن) * بهذا الخبر.
* (ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) * والسعير:
شدة توقد النار.
129 - وقوله جل وعز: * (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم
نارا...) * [آية 56].
المعنى: نلقيهم فيها، يقال: أصليته إصلاء، إذا ألقيته في
النار إلقاء، كأنك تريد الإحراق.
وصليت اللحم، إذا شويته، أصليه صليا.
وصليت بالأمر أصلى، إذا قاسيت شدته.
116

وفي الحديث: أن يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية،
أي مشوية.
130 - ثم قال جل وعز: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا
غيرها...) * [آية 56].
في هذا قولان:
أحدهما: أن الألم إنما يقع على النفوس، والجلود وإن بدلت
فالألم يقع على الإنسان.
والقول الآخر: أن يكون الجلد الأول أعيد جديدا، كما
تقول: صغت الخاتم.
117

131 - ثم قال جل وعز: * (ليذوقوا العذاب...) * [آية 56].
أي لينالهم ألم العذاب.
ثم قال تعالى * (إن الله كان عزيزا حكيما) * [آية 56].
أي هو حكيم فيما عاقب به من العذاب.
132 - وقوله جل وعز: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم
جنات تجري من تحتها الأنهار...) * [آية 57].
أي ماء الأنهار.
133 - ثم قال جل وعز * (خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج
مطهرة...) * [آية 57].
أي من الأدناس والحيض.
118

ثم قال تعالى * (وندخلهم ظلا ظليلا) * [آية 57].
أي يظل من الحر، والبرد، وليس كذا كل ظل.
134 - وقوله جل وعز * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها) * [آية 58].
قيل عن ابن عباس: هذا عام.
وروي عن شريح أنه قال لأحد خصمين: أعطه حقه،
فإن الله عز وجل يقول: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها) *.
119

ثم قال شريح: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى
ميسرة) * فإنما هذا في الربا خاصة.
وقيل: إنه نزلت * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها) * لما أخذت مفاتح البيت من " شيبة بن عثمان ".
وقال ابن زيد: هم الولاة.
واستحسن هذا القول، أن يكون خطابا لولاة أمور الناس،
أمروا بأداء الأمانة إلى من ولوا أمره فيهم، وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه
من أمورهم، وبالعدل منهم، فأوصوا بالرعية.
120

ثم أوصى الرعية بالطاعة فقال جل وعز بعده: * (يا أيها الذين
آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) *.
إلا أن ابن عباس قال: * (وأولوا الأمر منكم) * وأولوا الفقه
والدين.
وقال مجاهد: أصحاب محمد.
وقال أبو هريرة: هم الأمراء.
وهذا من أحسنها، إلا أنه في ما وافق الحق، كما صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أمر بمعصية فلا طاعة.
121

135 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا
الرسول، وأولي الأمر منكم...) * [آية 59].
قال جابر بن عبد الله: أولوا [الأمر أولوا الفقه و]
العلم.
وقال بهذا القول من التابعين الحسن، ومجاهد، وعطاء.
وقال أبو هريرة يعني به أمراء السرايا.
وقال بهذا القول السدي.
ويقويه أن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أطاعني
فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد
عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني "
وقال عكرمة: أولوا الأمر: أبو بكر، وعمر.
وهذه الأقوال كلها ترجع إلى شيء واحد، لأن أمراء السرايا
122

من العلماء، لأنه كان لا يولى إلا من يعلم.
وكذلك أبو بكر و [عمر من] العلماء.
136 - ثم قال جل وعز: * (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
والرسول...) * [آية 59].
اشتقاق المنازعة: أن كل واحد من الخصمين ينتزع الحجة
لنفسه.
137 - وفي قوله جل وعز: * (فردوه إلى الله والرسول) * قولان:
أحدهما: قاله مجاهد وقتادة: فردوه إلى كتاب الله وسنة
رسوله [وكذلك قال عمرو بن ميمون: فردوه إلى كتاب الله
ورسوله] فإذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فردوه إلى سنته.
123

والقول الآخر: فقولوا: الله ورسوله أعلم.
وهذا تغليظ في الاختلاف لقوله: * (إن كنتم تؤمنون بالله
واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) *.
قال قتادة: * (وأحسن تأويلا) * وأحسن عاقبة.
124

وهذا أحسن في اللغة، ويكون من آل إلى كذا.
ويجوز أن يكون المعنى: وأحسن من تأويلكم.
138 - وقوله جل وعز: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما
أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى
الطاغوت...) * [آية 60].
قال الضحاك: نزل هذا في رجلين اختصما، أحدهما
يهودي والآخر منافق، فقال اليهودي: بيني وبينك محمد، وقال
المنافق: بيني وبينك " كعب بن الأشرف ".
139 - وقوله عز وجل: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى
الرسول، رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) * [آية 61].
أي يصدون عن حكمك.
140 - وقوله عز وجل: * (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت
أيديهم...) * [آية 62].
125

المعنى * (فكيف) * حالهم * (إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت
أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) *.
يروى أن عمر قتل المنافق الذي قال لليهودي: امض بنا إلى
" كعب بن الأشرف " يقض بيننا، فجاء أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
يحلفون بالله إن أردنا بطلب الدم إلا إحسانا، وموافقة للحق.
وقيل: المعنى إذا نزلت بهم عقوبة لم تردعهم، وحلفوا
كاذبين أنهم ما أرادوا باحتكامهم إليه إلا الإحسان من بعضهم إلى
126

بعض، والصواب فيه.
141 - ثم قال جل وعز: * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم...) *
[آية 63].
وهو عالم بكل شيء، والفائدة أنه قد علم أنهم منافقون،
فأعلموا ذلك.
142 - ثم قال جل وعز: * (فأعرض عنهم وعظهم، وقل لهم في
أنفسهم قولا بليغا) * [آية 63].
أي قل لهم: من خالف حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وكفر به، وجب
عليه القتل.
127

143 - وقوله جل وعز: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن
الله...) * [آية 64].
(من) زائدة للتوكيد، ويدل على معنى الجنس.
ومعنى * (إلا بإذن الله) * إلا بأنه أذن الله.
وقيل: يجوز أن يكون معناه إلا بعلم الله.
144 - وقوله عز وجل: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما
شجر بينهم...) * [آية 65].
128

أي فيما اختلفوا فيه، ومنه تشاجر القوم.
وأصل هذا من الشجر، لاختلاف أغصانه، ومنه شجره
بالرمح، أي جعله فيه بمنزلة الغصن في الشجرة، ومنه اشتجر
القوم، قال زهير:
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم
هم بيننا فهم رضى، وهم عدل
145 - وقوله جل وعز: * (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما
قضيت...) * [آية 65].
أي شكا وضيقا.
وأصل الحرج: الضيق.
146 - ثم قال جل وعز: * (ويسلموا تسليما) *. [آية 65].
أي ويسلموا لأمرك، وقوله " تسليما " مؤكد.
129

147 - وقوله جل وعز * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم
الله عليهم...) * [آية 69].
يروى أن قوما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله:
أنت معنا في الدنيا، وترفع يوم القيامة لفضلك، فأنزل الله عز وجل
* (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك
رفيقا) *.
فعرفهم أن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم،
فيجتمعون ليذكروا ما أنعم الله عليهم به.
148 وقوله جل وعز * (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات
أو انفروا جميعا) * [آية 71].
130

قال قتادة: الثبات: الفرق.
وقال الضحاك: الثبات: العصب، والجميع:
المجتمعون.
وقال أهل اللغة: الثبات: الجماعات في تفرقة.
والمعنى: انفروا جماعة بعد جماعة، أو انفروا بأجمعكم.
وواحد الثبات: ثبة، وهي مشتقة من قولهم: ثبيت الرجل
إذا أثنيت عليه في حياته، لأنك كأنك جمعت محاسنه.
149 - وقوله جل وعز: * (وإن منكم لمن ليبطئن، فإن أصابتكم مصيبة
قال قد أنعم الله علي...) * [آية 72].
أي يبطئ عن القتال، و " يبطئ " على التكثير، يعنى به
المنافقون.
* (فإن أصابتكم مصيبة) * أي هزيمة.
131

* (ولئن أصابكم فضل من الله) * أي غنيمة.
* (ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) * لله.
وقرأ الحسن: " ليقولن " بضم اللام، وهو محمول على
المعنى، لأن " من " لجماعة، فهذا معترض.
والمعنى هو: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا
* (كأن لم يكن بينكم وبينه مودة) * أي كأن لم يعاقدكم على الجهاد.
ويجوز أن يكون المعنى: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا
عظيما، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة.
150 - وقوله جل وعز: * (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة
الدنيا بالآخرة...) * [آية 74].
معنى " يشرون ": يبيعون، يقال: شريت الشيء: إذا
132

بعته، وإذا اشتريته.
151 - ثم قال جل وعز * (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب
فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * [آية 74].
وقرأ محمد بن اليماني: " فيقتل أو يغلب ".
152 - وقوله جل وعز * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين
من الرجال والنساء والولدان...) * [آية 75].
قال الزهري: المعنى في سبيل الله، وفي سبيل
المستضعفين.
قال أبو جعفر: قال أبو العباس: يجوز أن يكون المعنى:
وفي المستضعفين.
ويجوز أن يكون المعنى: وفي سبيل المستضعفين.
وقال الضحاك: هؤلاء قوم أسلموا، ولم يقدروا على الهجرة،
وأقاموا بمكة، فعذرهم الله جل وعز.
133

153 - ثم قال جل وعز * (الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية
الظالم أهلها...) * [آية 76].
يعنى مكة.
154 - وقوله جل وعز * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج
مشيدة...) * [آية 78].
[قال قتادة: البروج: القصور المحصنة، ومعروف في اللغة
أن] البروج الحصون، والمشيدة تحتمل معنيين:
1 - أن تكون مطولة.
2 - والآخر أن تكون مشيدة بالشيد وهو الجص، وكذلك قال
عكرمة.
وقال السدي: هي قصور بيض في السماء الدنيا مبنية.
وقيل: المشيدة: المطولة، والمشيدة مخففة: المعمولة
بالشيد.
وقيل: المشيدة على التكثير، يقع للجميع.
155 - وقوله جل وعز: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله،
134

وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) * [آية 78].
الحسنة ههنا: الخصب، والسيئة: الجدب.
156 - وقوله جل وعز: * (ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك
من سيئة فمن نفسك...) * [آية 79].
* (من حسنة) * أي خصب، وقيل: هذا للنبي صلى الله عليه وسلم لأن
المخاطبة له بمنزلة المخاطبة لجميع الناس.
والمعنى: * (ما أصابك من حسنة فمن الله) * أي من
خصب ورخاء.
135

* (وما أصابك من سيئة) * أي من جدب وشدة.
* (فمن نفسك) * أي فبذنبك عقوبة، قاله قتادة.
ويروى أن اليهود قالوا لما قدم المسلمون إلى المدينة:
أصابنا الجدب، وقل الخصب.
فأعلم الله جل وعز أن ذلك بذنوبهم.
وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس أنه
قرأ: * (وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وأنا كتبتها
عليك) *.
وقيل: القول محذوف، أي يقولون هذا.
136

157 - وقوله جل وعز: * (ويقولون طاعة...) * [آية 81].
والمعنى: ويقولون: أمرنا طاعة، ومنا طاعة.
وفي الكلام حذف، والمعنى: ويقولون إذا كانوا عندك
طاعة.
ودل على هذا قوله تعالى * (فإذا برزوا من عندك بيت
طائفة منهم غير الذي تقول) * [آية 81].
معنى (بيت) عند أهل اللغة: أحكم الأمر بليل، وفكر
فيه.
أي أظهر المعصية في بيته، والعرب تقول: أمر بيت بليل،
إذا أحكم. وإنما خص الليل بذلك لأنه وقت يتفرغ فيه.
قال الشاعر:
أجمعوا أمرهم بليل فلما
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
137

ومن هذا: بيت الصيام.
وقال أبو رزين: معنى (بيت) ألف.
وليس هذا بخارج عن قول أهل اللغة، لأنه يجوز أن يكون
التأليف بالليل.
وقيل: معنى (بيت) بدل.
ولا يصح هذا.
158 - ثم قال جل وعز: * (والله يكتب ما يبيتون...) * [آية 81].
يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه ينزله في كتابه ويخبر به.
138

وفي ذلك أعظم الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يخبر بما
يسرونه.
ويحتمل أن يكون المعنى: والله يعلم ويحصي ما يبيتون.
159 - ثم قال جل وعز: * (فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله
وكيلا) * [آية 81].
قال الضحاك: يعنى به المنافقون.
والمعنى لا تخبر بأسمائهم. 160 -
وقوله جل وعز: * (أفلا يتدبرون القرآن...) *؟ [آية 82].
معنى تدبرت الشيء فكرت في عاقبته، ويقال: أدبر
139

القوم، إذا تولى أمرهم إلى آخره. وفي الحديث: " لا تدابروا "
أي لا تعادوا، أي لا يولي أحدكم صاحبه دبره من العداوة.
161 - ثم قال جل وعز: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا) * [آية 82].
أي لو كان ما يخبرون به - مما يسرونه - من عند غير الله
لاختلف.
ومذهب قتادة وابن زيد أن المعنى: لو كان القرآن [من
عند غير الله لوجدوا فيه تفاوتا وتناقضا] لأن كلام الناس يختلف
ويتناقض.
140

162 - وقوله عز وجل: * (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا
به) * [آية 83].
قال الضحاك: أفشوه وسعوا به، وهم المنافقون.
وقال غيره: هم ضعفة المسلمين، كانوا إذا سمعوا المنافقين
يفشون أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، توهموا أنه ليس عليهم في ذلك شيء،
فأفشوه، فعاتبهم الله على ذلك، فقال: * (ولو ردوه إلى الرسول
وإلى أولي الأمر منهم) * أي أولي العلم * (لعلمه الذين يستنبطونه
منهم) * أي يستخرجونه.
يقال: نبطت البئر، إذا أخرجت منها النبط، وهو ما
يخرج منها، ومن هذا سمي النبط، لأنهم يخرجون ماء في الأرض.
فالمعنى: لعلموا ما ينبغي أن يفشى، وما ينبغي أن يكتم.
141

163 - وقوله جل وعز: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم
الشيطان إلا قليلا) * [آية 83].
في هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: ولولا ما تفضل الله به، مما بين وأمر
لاتبعتم الشيطان إلا قليلا.
والقول الآخر: أن المعنى أذاعوا به إلا قليلا.
وهذا القول للكسائي، وهو صحيح، عن ابن عباس.
والقول الآخر: قول قتادة، وابن جريج، وهو الذي كان
يختاره أبو إسحق، أن المعنى: لعلمه الذين يستنبطونه منهم
إلا قليلا.
* (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان) *
142

قيل: هو استثناء من * (لا تبعتم الشيطان) *.
يعنى به قوم لم يكونوا هموا بما هم به الآخرون، من اتباع
الشيطان، كما قال الضحاك: هم أصحاب النبي عليه السلام
(إلا قليلا) إلا طائفة منهم.
وقيل: معنى (إلا قليلا) كلكم.
قال أبو جعفر: وهذا غير معروف في اللغة.
143

ومن أحسن هذه الأقوال، قول من قال: أذاعوا به
إلا قليلا، لأنه يبعد أن يكون المعنى يعلمونه الذين يستنبطونه منهم
إلا قليلا، لأنه إذا بين استوى الكل في علمه، فبعد استثناء بعض
المستنبطين منه.
164 - ثم قال جل وعز: * (فقاتل في سبيل الله لا تكلف
إلا نفسك...) * [آية 48].
وهذا متصل بقوله: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) *
فأمره الله جل وعز بالقتال، ولو كان وحده، لأنه قد وعده
النصر.
165 - ثم قال جل وعز * (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا...) *
[آية 84].
والبأس: الشدة.
144

و * (عسى) * من الله واجبة، لأنها للترجي، فإذا أمر أن
يترجى شيء كان.
166 - وقوله جل وعز: * (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب
منها...) * [آية 85].
قال الحسن: من شفع أثيب وإن لم يشفع، لأنه قال
جل وعز: * (من يشفع) * ولم يقل: من يشفع.
وقال أبو موسى الأشعري رحمه الله: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم،
فجاء سائل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على
لسان نبيه ما شاء ".
145

146 - ثم قال جل وعز: * (ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل
منها...) * [آية 85].
روي عن أبي موسى أنه قال: الكفل: النصيب، أو قال:
الحظ، كذا في الحديث.
وقال قتادة: الكفل: الإثم.
والمعروف عند أهل اللغة أن الكفل النصيب، ويقال:
اكتفلت البعير، إذا جعلت على موضع منه كساء أو غيره
لتركبه.
وهذا مأخوذ من ذاك، لأنك إنما تجعله على نصيب مثله.
147 - وقوله جل وعز * (وكان الله على كل شيء مقيتا) * [آية 85].
في معناه قولان:
روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس: * (مقيتا) *.
146

يقول: حفيظا.
وبإسناده * (مقيتا) * يقول: قديرا.
وحكى الكسائي أنه قال: أقات يقيت، إذا قدر.
وقال الشاعر:
وذي ضغن كففت النفس عنه
وكنت على مساءته مقيتا
والقول أن المقيت: الحفيظ.
قال أبو إسحق: وهذا القول عندي أصح من ذاك، لأنه
مأخوذ من القوت، والقوت مقدار ما يحفظ الإنسان.
147

وقال الشاعر:
ألي الفضل أم علي إذا حو
سبت إني على الحساب مقيت
وفي الحديث: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت ".
أي يحفظ.
ويروى " يقوت ".
148 - وقوله جل وعز: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها
أو ردوها) * [آية 86].
قيل: هذا في السلام، إذا قال: سلام عليك رد عليه:
وعليك السلام ورحمة الله. وإذا قال: السلام عليك [ورحمة
الله]
148

قيل: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
قال الشيخ أبو بكر: وجدت في غير نسختي وإذا قال:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته رد عليه: وعليك.
يروى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي عن الحسن أنه قال: السلام سنة، ورده فريضة.
149

149 - ثم قال جل وعز: * (إن الله كان على كل شيء حسيبا) *
[آية 86].
قال مجاهد: أي حفيظا.
والحسيب عند [بعض] أهل اللغة البصريين: الكافي.
يقال: أحسبه، إذا كفاه، ومنه: * (عطاء حسابا) *.
ومنه: حسبك.
150

وهذا عندي غلط، لأنه لا يقال في هذا أحسب على الشيء
فهو حسيب عليه، إنما يقال بغير على.
والقول أنه من الحساب، يقال حاسب فلانا على كذا،
وهو محاسبه عليه، وحسيبه أي صاحب حسابه.
150 - وقوله جل وعز: * (الله لا إله إلا هو، ليجمعنكم إلى يوم
القيامة لا ريب فيه...) * [آية 87].
قيل: إنما سميت القيامة لأن الناس يقومون لرب العالمين،
أي يوم القيام، ثم زيدت الهاء للمبالغة.
وقيل: إنما ذلك لأن الناس يقومون من قبورهم، كما قال جل
وعز: * (يخرجون من الأجداث سراعا) * والأجداث: القبور.
151

151 - وقوله جل وعز: * (فمالكم في المنافقين فئتين...) * [آية 88].
أي فرقتين مختلفتين.
قال زيد بن ثابت: تخلف قوم عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد،
فصار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فقال بعضهم: اقتلهم،
وقال بعضهم: اعف عنهم، فأنزل الله عز وجل: * (فما لكم
في المنافقين فئتين) *.
قال مجاهد: هم قوم أسلموا ثم استأذنوا النبي صلى الله عليه
وسلم أن يخرجوا إلى مكة فيأخذوا بضائع لهم، فصار أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: قوم يقولون: هم منافقون، وقوم
يقولون: هم مؤمنون، حتى نتبين أمرهم أنهم منافقون، فأنزل الله
عز وجل: * (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم
بما كسبوا) *.
152

وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ: (ركسهم)، بغير
ألف، يقال: أركسهم، وركسهم: إذا ردهم.
والمعنى: ردهم إلى حكم الكفار.
152 - ثم قال جل وعز: * (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) *؟ [آية 88].
أي إنهم قد ضلوا.
* (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * [آية 88]
153

أي طريقا مستقيما.
153 - وقوله عز وجل: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم
ميثاق...) * [آية 90].
قال مجاهد: صاروا إلى " هلال بن عويمر " وكان بينه وبين
النبي حلف.
وقال غيره: كان قوم يوادعون الله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقاتلونه،
فأمر المسلمون أن لا يقاتلوا من صار إليهم، واتصل بهم، ووداع كما
وادعوا.
وقال أبو عبيدة: معنى * (يصلون) * ينتسبون.
154

وهذا خطأ لان النبي صلى الله عليه وسلم قاتل قريشا وهم أنسباء المهاجرين
الأولين.
154 - ثم قال جل وعز: * (أو جاءوكم حصرت صدورهم...) *
[آية 90].
أي أو يصلون إلى قوم جاؤوكم حصرت صدروهم.
قال الكسائي: معنى (حصرت) ضاقت.
قال مجاهد: وهو " هلال بن عويمر " الذي حصر أن يقاتل
المسلمين أو يقاتل قومه فدفع عنهم.
قال أبو العباس محمد بن يزيد: المعنى على الدعاء، أي
أحصر الله صدورهم.
وقال أبو إسحق: يجوز أن يكون خبرا بعد خبر، فالمعنى
155

* (أو جاؤوكم) *، ثم خبر بعد فقال: * (حصرت
صدورهم) *، كما قال جل وعز: * (إن مثل عيسى عند الله
كمثل آدم خلقه من تراب) *.
وقيل: المعنى: أو جاؤوكم قد حصرت صدورهم، ثم حذف
قد.
وقد قرأ الحسن: * (حصرة صدورهم) *.
وروي عن أبي بن كعب أنه قرأ: * (إلا الذين يصلون إلى
قوم [بينكم وبينهم ميثاق وحصرت صدورهم] فالمعنى على هذه
القراءة * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وحصرت
صدورهم) *.
156

أي قوم حصرة صدورهم، أي ضيقة.
155 - وقوله جل وعز: * (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم...) * [آية 90].
أي كفوا عن قتالكم.
* (وألقوا إليكم السلم) * [آية 90].
أي الانقياد.
* (فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * [آية 90].
قال قتادة: هذه الآية منسوخة، نسخها: * (فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم) * في براءة.
156 - وقوله جل وعز: * (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا
قومهم، كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها...) * [آية 91].
قال مجاهد: هؤلاء قوم من أهل مكة، كانوا يأتون النبي
صلى الله عليه وسلم فيسلمون، ثم يرجعون إلى الكفار فيرتكسون في الأوثان.
157

157 - ثم قال جل وعز: * (فإن لم يعتزلوكم، ويلقوا إليكم السلم،
ويكفوا أيديهم، فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم...) *
[آية 91].
ومعنى * (ثقفتموهم) * و " وجدتموهم " واحد.
* (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) * [آية 91].
أي حجة بينة بأنهم غدرة، لا يوفون بعهد ولا هدنة.
158 - وقوله جل وعز: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا
إلا خطأ...) * [آية 92].
فهذا استثناء ليس من الأول.
قال أبو إسحق: المعنى ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا
158

البتة، ثم قال: * (إلا خطأ) * [أي] لكن إن قتله خطأ.
ومن قال: إن * (إلا) * بمعنى الواو فقوله خطأ من جهتين:
إحداهما: أنه لا يعرف أن تكون (إلا) بمعنى حرف
عاطف.
والجهة الأخرى: أن الخطأ لا يحصر، لأنه ليس بشيء
يقصد، ولو كان يقصد لكان عمدا.
وذكر سيبويه أن (إلا) تأتي بمعنى (لكن) كثير، وأنشد:
من كان أسرع في تفرق فالج
فلبونه جربت معا وأغدت
159

إلا كنا شرة الذي ضيعتم
كالغصن في غلوائه المتنبت
وكان سبب نزول هذه الآية فيما روى ابن أبي نجيح عن
مجاهد أن " عياش بن أبي ربيعة " أخا أبي جهل لأمه، قتل رجلا
مؤمنا كان يعذبه مع أبي جهل في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فحسب أنه
كافر كما هو فقتله.
160

159 - وقوله جل وعز: * (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة،
ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا...) * [آية 92].
وإنما غلظ في قتل الخطأ ليتحرز من القتل.
والمعنى إلا أن يتصدقوا عليكم بالدية.
وروي عن أبي بن كعب أنه قرأ: * (إلا أن
يتصدقوا) *.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: * (إلا أن تصدقوا) *.
والمعنى: إلا أن تتصدقوا، ثم أدغم التاء في الصاد.
ويجوز على هذه القراءة: إلا أن تصدقوا، بحذف إحدى
التاءين.
160 - وقوله جل وعز: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن
فتحرير رقبة مؤمنة...) * [آية 92].
معنى * (عدو) * كمعنى أعداء.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن المعنى: وإن كان مؤمنا
161

وقومه كفار، فلا تدفعوا إليهم الدية، وعليكم عتق رقبة.
فمعنى هذا إذا قتل مسلم خطأ، وليس له قوم مسلمون، فلا
دية على قاتله، كان قتله في دار المسلمين أو في دار الحرب.
وروى عطاء بن السائب، عن أبي عياض: قال: كان
الرجل يجيء يسلم، ثم يأتي قومه، وهم مشركون، فيقيم معهم،
فيفرون، فيقتل فيمن يقتل، فنزلت: * (وإن كان من قوم عدو
لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) *. قال: وليس له دية ".
فمعنى هذا أن يقتل في دار الحرب خاصة.
وقال قوم: وإن قتل في دار الإسلام فحكمه حكم
المسلمين.
161 - ثم قال جل وعز: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فدية
مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة) * [آية 92].
162

قال الزهري: الميثاق: العهد.
فالمعنى: إن كان المقتول من قوم بينكم وبينهم عهد، فادفعوا
إليهم الدية، لئلا توغروا صدروهم.
162 - ثم قال جل وعز: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) *
[آية 92].
أي فمن لم يجد الدية وعتق رقبة فعليه هذا.
* (توبة من الله) *.
أي فعل هذا ليتوبوا توبة.
163 - وقوله جل وعز: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا
فيها...) * [آية 93].
روى شعبة عن منصور عن سعيد بن جبير قال: " أمرني
163

ابن أبزى أن [أسأل] ابن عباس عن هذه الآية * (ومن يقتل
مؤمنا متعمدا) * فسألته فقال: ما نسخها شيء ".
وروي عن زيد بن ثابت: نزلت الشديدة بعد الهينة لستة
أشهر * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * بعد التي في
الفرقان * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) * إلى قوله جل
وعز: * (إلا من تاب) *.
164

وذهب قوم إلى أن هذا على المجازاة، إن جازاه بذلك،
وأن العفو مرجو له مع التوبة.
165

وهذا لا يحتاج أن يقال فيه: إن جازاه، ولكن القول فيه عند
العلماء - أهل النظر - أنه محكم، وأنه يجازيه إذا لم يتب، فإن
تاب فقد بين أمره، لقوله عز وجل: * (وإني لغفار لمن تاب) *
فهذا لا يخرج عنه شيء.
164 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله
فتبينوا...) * [آية 94].
وتقرأ: * (فتثبتوا) *.
قال أبو عبيد: وإحداهما قريبة من الأخرى.
وقال غيره: قد يتثبت ولا يتبين، فالاختيار " فتبينوا ".
ومعنى * (ضربتم) * سافرتم.
165 - ثم قال جل وعز: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست
مؤمنا) * [آية 94].
166

وقرأ ابن عباس: (لمن ألقى إليكم السلام) *.
فمن قرأ: * (السلم) * فمعناه عنده الانقياد
والاستسلام.
ومن قرأ: * (السلام) * فتحتمل قراءته معنيين:
أحدهما: أن يكون بمعنى السلم.
والآخر: أن يكون من التسليم.
وروى عطاء وعكرمة عن ابن عباس " أن قوما من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، مروا براع، فقال: السلام عليكم، فقالوا: إنما
تعوذ، فقتلوه، وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:
* (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض
الحياة الدنيا) *.
167

قال ابن عباس: يعني الغنيمة.
وروي عن أبي جعفر أنه قرأ: * (مؤمنا) * بفتح الميم
الثانية، من أمنته إذا أجرته، فهو مؤمن.
166 - وقوله جل وعز: * (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم...) *
[آية 94].
قال سعيد بن جبير: أي (كذلك كنتم) تخفون إيمانكم
(فمن الله عليكم) أي فمن الله عليكم بالغزو، وإظهار
الدين.
168

واختار أبو عبيد " القاسم بن سلام " * (ولا تقولوا لمن
ألقى إليكم السلام) *.
وخالفه أهل النظر فقالوا: (السلم) ههنا أشبه، لأنه
بمعنى الانقياد والتسلم، كما قال جل وعز: * (فألقوا السلم ما كنا
نعمل من سوء) *.
167 - وقوله تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين...) *
[آية 95].
قال ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر، والخارجون
إليها.
169

168 - ثم قال جل وعز: * (غير أولي الضرر...) * [آية 95].
الضرر: الزمانة.
وتقرأ (غير) رفعا ونصبا.
قال أبو إسحاق: ويجوز الخفض.
فمن رفع فالمعنى (لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر).
أي لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر.
والمعنى: لا يستوي القاعدون الأصحاء.
ومن قرأ (غير) نصبا فهو يحتمل معنيين:
أحدهما: الاستثناء، ويكون المعنى: إلا أولي الضرر، فإنهم
170

يستوون مع المجاهدين.
والمعنى الآخر: أن يكون (غير) في موضع الحال، أي
لا يستوي القاعدون أصحاء.
والمعنى على النصب، لأنه روى زيد بن ثابت والبراء بن عازب
أنه لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) *
قام ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله أنا ضرير، فنزلت * (غير
أولي الضرر) * فألحقت بها، هذا معنى الحديث.
ومن قرأ بالخفض، فالمعنى عنده: من المؤمنين الذين هم
غير أولي الضرر، أي من المؤمنين الأصحاء.
169 - وقوله جل وعز: * (وكلا وعد الله الحسنى...) * [آية 95].
المجاهدين، وأولي الضرر، وعد الله الحسنى.
171

قال أهل التفسير: يعني بالحسنى الجنة.
170 - ثم قال جل وعز: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين) *
الذين ليس لهم ضرر * (أجرا عظيما. درجات منه) * [آية 95].
وروي عن ابن محيريز أنه قال: " تلك سبعون درجة، ما بين
الدرجتين حضر الفرس، الجواد المضمر سبعين سنة ".
171 - وقوله جل وعز: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي
أنفسهم...) * [آية 97].
وقرأ عيسى وهو ابن عمر * (إن الذين يتوفاهم
الملائكة) *.
هذا على تذكير الجمع.
172

ومن قرأ * (توفاهم) * فهو يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون فعلا ماضيا، ويكون على تذكير الجمع
أيضا.
والآخر: أن يكون مستقبلا، ويكون على تأنيث الجماعة.
والمعنى: تتوفاهم، ثم حذف إحدى التاءين.
قال عكرمة والضحاك: هؤلاء قوم أظهروا الإسلام، ثم لم
يهاجروا إلى بدر مع المشركين فقتلوا، فأنزل الله جل وعز فيهم:
* (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم [قالوا فيم
كنتم) * أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أم كنتم مشركين؟ هذا
سؤال توبيخ]
172 - ثم قال جل وعز: * (إلا المستضعفين من الرجال والنساء
والولدان...) * [آية 98]..
173

قال مجاهد: هؤلاء قوم أسلموا وثبتوا على الإسلام، ولم تكن
لهم حيلة في الهجرة، فعذرهم الله فقال: * (فأولئك عسى الله أن
يعفو عنهم) *.
وعسى ترج، وإذا أمر الله جل وعز أن يترجى شيء فهو
واجب، كذلك الظن به.
173 - وقوله عز وجل: * (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض
مراغما كثيرا وسعة...) * [آية 100].
المراغم عند أهل اللغة والمهاجر واحد، يقال: راغمت
فلانا إذا هجرته وعاديته، كأنك لا تباليه، وإن لصق أنفه بالرغام،
وهو التراب.
174

وقيل: إنما سمي مهاجرا ومراغما لأن الرجل كان إذا أسلم،
عادى قومه وهجرهم، فسمي خروجه مراغما، وسمي مصيره إلى
النبي صلى الله عليه وسلم هجرة.
وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس * (مراغما) * يقول: متحولا من أرض إلى أرض. قال:
* (وسعة) * يقول: في الرزق.
وقال قتادة: من الضلالة إلى الهدى، أي سعة من تضييق
ما كان فيه، من أنه لا يقدر على إظهار دينه.
175

واللفظة تحتمل المعنيين، لأنه لا خصوص فيها.
174 - وقوله جل وعز: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله
ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله...) * [آية 100].
قال سعيد بن جبير: نزلت في رجل يقال له " ضمرة "
من خزاعة، كان مصابا ببصره، فقال: أخرجوني، فلما صاروا به
إلى التنعيم مات فنزلت هذه الآية فيه.
175 - وقوله جل وعز: * (وإذ ضربتم في الأرض، فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة...) * [آية 101].
176

قال يعلى بن أمية: سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فقلت: إنما كان هذا وقت الخوف، وقد زال اليوم!! فقال: عجبت
مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صدقة تصدق
الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ".
ومعنى * (ضربتم في الأرض) * سافرتم، كما قال:
* (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) *.
وفي معنى قوله جل وعز: * (فليس عليكم جناح أن
تقصروا من الصلاة) * قولان:
أحدهما: أنه إباحة، لا حتم، كما قال: * (فلا جناح
عليهما أن يتراجعا) *.
والقول الآخر: أن هذا فرض المسافر، كما روت عائشة
177

" فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت [في السفر، وزيد في]
صلاة الحضر " ويكون مثل قوله: * (فلا جناح عليه أن
يطوف بهما) *، والطواف حتم.
وروي عن أبي بن كعب أنه قرأ: * (فليس عليكم جناح
أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا) * وليس فيه
* (إن خفتم) *.
فالمعنى على قراءته: كراهة أن يفتنكم الذين كفروا، ثم
حذف، مثل (واسأل القرية).
يقال: قصر الصلاة، وقصرها، وأقصرها.
178

176 - ثم قال جل وعز: * (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) *
[آية 101].
عدو ههنا بمعنى أعداء.
177 - وقوله عز وجل: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة...) *
[آية 102].
روى سفيان عن منصور عن مجاهد عن أبي عياش الزرقي
قال: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، والمشركون بينه وبين القتال،
فيهم أو عليهم خالد بن الوليد، فقال المشركون: لقد كانوا في
صلاة، لو أصبنا منهم لكانت الغنيمة، فقال المشركون: إنها
ستجيء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم، وأبنائهم، قال: ونزل
جبريل بالآيات فيما بين الظهر والعصر " وذكر الحديث.
وسنذكر حديث " صالح بن خوات " الذي يذهب أهل المدينة
179

إليه، وكرهنا الإطالة في ذلك.
وحديث صالح فيه قضاء كل طائفة صلاتها، قبل انصرافها
من القبلة، وليس كذا غيره.
والمعنى: وإذا كنت فيهم وثم خوف.
178 - ثم قال جل وعز: * (فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا
أسلحتهم...) * [آية 102].
والمعنى: وليأخذ الباقون أسلحتهم.
179 - ثم قال جل وعز: * (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) *
[آية 102].
180

وأهل المدينة يذهبون في صلاة الخوف إلى حديث يحيى بن
سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات الأنصاري
أن سهل بن أبي حثمة حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام
مستقبل القبلة، ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو،
فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه، ثم يقوم، فإذا استوى قائما
ثبت [وأتموا] لأنفسهم الركعة الثانية، ثم سلموا وانصرفوا والإمام
قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا
فيكبرون مع الإمام، فيركع بهم ركعة، ويسجد ثم يسلم، فيقومون
فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون.
180 - وقوله جل وعز: * (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم...) *
[آية 102].
يجوز أن يكون هذا للجميع، لأنه وإن كان الذين في
181

الصلاة لا يحاربون، فإنهم إذا كان معهم السلاح، كان ذلك
أهيب للعدو.
ويجوز أن يكون الذين أمروا بأخذ السلاح الذين ليسوا في
الصلاة، لأن المصلي لا يحارب.
181 - وقوله عز وجل: * (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما
وقعودا وعلى جنوبكم...) * [آية 103].
أي فاذكروه بالشكر، والتسبيح، وما يقرب منه.
182 - ثم قال جل وعز: * (فإذا اطمأننتم...) * [آية 103].
قال مجاهد: فإذا صرتم في الأهل والدور.
والمعروف في اللغة أنه يقال: اطمأن: إذا سكن، فيكون
182

المعنى: فإذا سكن عنكم الخوف، وصرتم إلى منازلكم * (فأقيموا
الصلاة) *.
قال مجاهد: أي فأتموها.
183 - ثم قال جل وعز: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا
موقوتا) * [آية 103].
وروى ليث عن مجاهد أن الموقوت المفروض.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (موقوتا) واجبا.
وقال زيد بن أسلم: (موقوتا) منجما، أي تؤدونها في
أنجمها.
والمعنى عند أهل اللغة: مفروض لوقت بعينه. يقال:
[وقته فهو موقوت] ووقته فهو موقت. وهذا قول زيد بن أسلم
بعينه.
183

184 - وقوله جل وعز: * (ولا تهنوا في ابتغاء القوم...) * [آية 104].
أي لا تضعفوا يقال: وهن يهن وهنا ووهونا.
185 - ثم قال جل وعز: * (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما
تألمون...) * [آية 104].
قال الضحاك: أي تشكون.
* (وترجون من الله ما لا يرجون) * [آية 104].
قال الضحاك: أي في جراحاتكم، يعني من الأجر.
وقال غيره: ترجون من النصر والعافية ما لا يرجون.
وقيل: * (ترجون) * تخافون.
184

186 - وقوله عز وجل: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين
الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) * [آية 105].
قال مجاهد: كان رجل من الأنصار يقال له " ابن أبيرق "
واسمه " طعمة " سرق درعا، فلما فطن به استودعها عند رجل من
اليهود، وادعى أن اليهودي أخذها، فجاء قومه يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن
يعذره، فأنزل الله عز وجل: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) *
إلى قوله: * (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) *.
185

والجدال في اللغة: أشد الخصومة، ويقال: رجل
أجدل، إذا كان شديدا، ويقال للصقر: أجدل، لأنه من أقوى
الطير.
187 - ثم قال جل وعز: * (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله،
وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) * [آية 108].
أي يحكمونه ليلا.
188 - وقوله جل وعز: * (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة
الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة) *؟ [آية 109].
أي يوم تظهر الحقائق، وإنما يحكم في الدنيا بما يظهر.
قال أبو جعفر: قال أبو إسحق: المعنى " ها أنتم
الذين ".
يذهب إلى أن " هؤلاء " بمعنى " الذين ".
186

189 - ثم قال جل وعز: * (ومن يعمل سوءا، أو يظلم نفسه، ثم
يستغفر الله، يجد الله غفورا رحيما) * [آية 110].
أي استغفار غير عائد، لأنه إذا عزم على العودة فليس
بتائب.
190 - ثم قال جل وعز: * (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على
نفسه...) * [آية 111].
أي عقابه يرجع عليه.
* (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا...) *
[آية 112].
قال سعيد بن جبير: نزلت في ابن أبيرق لما رمى اليهودي
بالدرع التي سرقها.
187

191 - ثم قال جل وعز: * (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) *
[آية 112].
البهتان: الكذب الذي يتحير من عظمه.
192 - ثم قال جل وعز: * (ولولا فضل الله عليك ورحمته) *
[آية 113].
أي بأنه أوحي إليك ما فعله ابن أبيرق.
* (لهمت طائفة منهم أن يضلوك) *.
أي يخطئوك في الحكم.
* (وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء...) *
[آية 113].
أي لأنك معصوم.
193 - ثم قال جل وعز: * (وأنزل الله عليك الكتاب
188

والحكمة.) *
(آية 113).
أي أنزل عليك الكتاب بالحكمة في أمر ابن أبيرق.
194 - وقوله جل وعز: * (لا خير في كثير من نجواهم...) *
[آية 114].
النجوي: كل كلام ينفرد به جماعة، سرا كان أو جهرا.
195 - ثم قال جل وعز: * (إلا من أمر بصدقة...) * [آية 114].
يجوز أن يكون المعنى إلا نجوى من أمر بصدقة، ثم حذف.
ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول، ويكون المعنى: لكن
من أمر بصدقة في نجواه خيرا.
189

196 - وقوله جل وعز: * (ومن يشاقق الرسول) * [آية 115].
أي يخالف، كأنه يصير في شق خلاف شقة، أي في
ناحية.
قال سعيد بن جبير لما أطلع الله النبي على أمر " ابن
أبيرق " هرب إلى المشركين، فارتد، فأنزل الله: * (ومن يشاقق
الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما
تولى) *.
قال مجاهد: أي نتركه وما يعبد.
وكذلك هو في اللغة، يقال: وليته ما تولى: إذا تركته في
اختياره.
قال سعيد بن جبير: لما صار إلى مكة، نقب بيتا بمكة،
190

فلحقه المشركون فقتلوه، فأنزل الله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك
به) *... إلى قوله: * (فقد ضل ضلالا بعيدا) *.
197 - وقوله عز وجل: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا...) *
[آية 117].
قال مجاهد: يعني الأوثان.
وعن أبي: مع كل صنم جنية.
وقال أهل اللغة: إنما سميت إناثا لأنهم سموها " اللات،
والعزى، ومناة " وهذا عندهم إناث.
وقال الحسن: أي ما يعبدون إلا حجارة وخشبا.
191

قال: وكان لكل حي صنم يعبدونه، فيقال: أنثى بني فلان، فأنزل
الله هذا.
وهذا قول حسن في اللغة، لأن هذه الأشياء يخبر عنها بالتأنيث.
يقال: الحجارة يعجبنه، ولا يقال: يعجبونه.
وروي عن ابن عباس أنه قرأ: * (إن يدعون من دونه إلا
اثنا) *. وهذا جمع الجمع، كأنه جمع وثنا على وثان، كما تقول: مثال
ومثل، ثم أبدل من الواو همزة لما انضمت، كما قال جل وعز: * (وإذا
الرسل أقتت) * من الوقت.
وقرئ: * (إن يدعون من دونه إلا أنثا) *، وهو جمع إناث.
192

198 - ثم قال جل وعز: * (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا. لعنه الله) *
[آية 117].
فالمريد: [الخارج] من الخير، المتجرد منه،
و " أمرد " من هذا.
وقيل: المريد: الممتد في الشر، من قولهم: بيت ممرد،
أي مطول.
ومعنى * (لعنه) * باعده من رحمته.
199 - ثم قال جل وعز: * (وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) *
[آية 118].
أي موقتا، وهو من فرضت، أي قطعت.
200 - ثم قال جل وعز: * (ولأضلنهم ولأمنينهم...) * [آية 118].
193

أي ولأوهمنهم أن لهم حظا في المخالفة.
201 - ثم قال جل وعز: * (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام...) *
[آية 118].
يقال: بتك، إذا قطع.
قال قتادة: يعني البحيرة.
والبحيرة: الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكرا
شقوا آذانها، ولم ينتفعوا بها.
194

والتقدير في العربية: ولآمرنهم بتبتيك آذان الأنعام
202 - ثم قال جل وعز: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله...) *
[آية 119].
عن ابن عباس: دين الله.
وعنه أيضا: الخصاء.
وكذلك روي عن أنس.
وقال سعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم والضحاك وقتادة:
يعني دين الله.
وزاد مجاهد: يعني الفطرة. أي أنهم ولدوا على الإسلام،
وأمرهم الشيطان بتغييره.
195

وروي عن عكرمة قولان:
أحدهما: أنه الخصاء.
والآخر: أنه دين الله.
وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأنها ترجع إلى الأفعال.
فأما قوله: * (لا تبديل لخلق الله) * وقال ههنا:
* (فليغيرن خلق الله) * فإن التبديل هو بطلان عين الشيء، فهو
ههنا مخالف للتغيير.
وقال محمد بن جرير: أولاهما أنه دين الله. وإذا كان ذلك
معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه، من خصاء ووشم وغير
ذلك من المعاصي، لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي، أي
196

فليغيرن ما خلق الله من دينه.
203 - وقوله جل وعز: * (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها
محيصا) *.
المحيص في اللغة: المعدل والملجأ.
يقال: حصت، وجضت، وعدلت، بمعنى واحد.
204 - وقوله جل وعز: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب...) *
[آية 123].
المعنى: ليس الثواب بأمانيكم.
ودل على [أن هذا هو] المعنى قوله جل وعز: * (والذين
أمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها
الأنهار) *.
197

205 - وقوله جل وعز: * (من يعمل سوءا يجز به...) * [آية 123].
روي عن أبي هريرة أنه قال: " لما نزلت * (من يعمل سوء
يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) * بكينا وحزنا
وقلنا: يا رسول الله: ما أبقت هذه الآية من شيء!! قال: أما
والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت، ولكن أبشروا، وقاربوا،
وسددوا، فإنه لا تصيب أحدا منكم مصيبة إلا كفر الله عنه بها
خطيئة، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه ".
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس * (من يعمل سوء
يجز به) *.
يقول: " من يشرك به - وهو السوء - إلا أن يتوب قبل
موته فيتوب الله عليه ".
حدثنا عبد السلام بن سهل السكري قال: حدثنا عبيد الله،
198

قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا عاصم، عن الحسن
* (من يعمل سوء يجز به) * قال: ذلك لمن أراد الله جل وعز
[هوانه] فأما من أراد كرامته فلا، قد ذكر الله قوما وقال:
* (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في
أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) *.
والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه عام.
روى عنه أبو هريرة أنه قال - لما نزلت هذه الآية " كل
ما يصاب به العبد كفارة ".
199

ولفظ الآية عام لكل من عمل سوءا، من مؤمن وكافر،
كان الذنب صغيرا أو كبيرا، وهذا موافق ل‍ " نكفر "، لأن معنى
" نكفر " نغطي عليها في القيامة، فلا نفضحكم بها.
206 - وقوله جل وعز * (ولا يظلمون نقيرا) * [آية 124].
المعنى: لا يظلمون مقدار نقير، والنقير: النقطة التي تكون
في النواة، يقال: إن النخلة تنبت منها.
207 وقوله - جل وعز: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * [آية 125].
الخليل في اللغة يكون بمعان:
أحدها: الفقير، كأنه به الاختلال، كما قال زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسألة * يقول لا غائب مالي ولا حرم.
200

والخليل: المحب.
وقيل في قول الله جل وعز: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) *
أي محتاجا فقيرا إليه.
والقول الآخر، هو الذي عليه أصحاب الحديث: أنه
المحب المنقطع إلى الله، الذي ليس في انقطاعه اختلال.
والقول الثالث: أنه يقال: فلان خليل فلان، أي هو
يختصه.
ومنه الحديث: " لو كنت متخذا خليلا، لاتخذت أبا بكر
خليلا ".
201

فدل بهذا على أنه صلى الله عليه وسلم لا يختص أحدا بشيء من العلم دون
غيره.
208 - وقوله جل وعز: * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن،
وما يتلى عليكم في الكتاب) * [آية 127].
و (ما) في موضع رفع، والمعنى: قل الله يفتيكم فيهن،
والقرآن يفتيكم فيهن.
والذي يفتيكم من القرآن في النساء قوله عز وجل:
* (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) *.
209 - ثم قال جل وعز: * (في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب
لهن وترغبون أن تنكحوهن...) * [آية 127].
قالت عائشة رحمها الله: هذا في اليتيمه، تكون عند الرجل
* (وترغبون أن تنكحوهن) * رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في
حجره، حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا
في مالها وجمالها، من يتامى النساء إلا بالقسط ".
202

وفي بعض الروايات عنها: هذا في اليتيمة، لعلها تكون
شريكته في المال، ولا يريد أن ينكحها، ولا يحب أن تتزوج غيره،
لئلا يأخذ مالها، قال الله جل اسمه: (وترغبون أن
تنكحوهن).
قال سعيد بن جبير ومجاهد: ويرغب في نكاحها إذا كانت
كثيرة المال.
ولأهل اللغة في هذا تقديران:
أحدهما: أن المعنى وترغبون [عن] أن تنكحوهن، ثم
حذفت عن.
203

وحديث عائشة يقوي هذا القول.
والقول الآخر: وترغبون في أن تنكحوهن، ثم حذفت
" في ".
وإذا تدبرت قول " سعيد بن جبير " تبينت أنه قد جاء
بالمعنيين.
210 - ثم قال جل وعز: * (والمستضعفين من الولدان) * [آية 127].
قال سعيد بن جبير: كانوا لا يورثون الصغير، فنزلت:
* (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) *.
فعلى قول سعيد بن جبير أفتاهم في المستضعفين قوله:
* (يوصيكم الله في أولادكم) *.
204

211 - ثم قال جل وعز: * (وأن تقوموا لليتامى بالقسط...) *
[آية 127].
والقسط العدل، وأفتاهم في اليتامى قوله جل وعز:
* (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) *.
212 - وقوله جل وعز: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا
أو إعراضا...) * [آية 128].
[النشوز من الزوج: أن يسيء عشرتها، ويمنعها نفسه
ونفقته].
213 - ثم قال جل وعز: * (فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما
صلحا...) * [آية 128].
وقرأ أكثر الكوفيين: * (أن يصلحا) *.
205

وقرأ الجحدري وعثمان البتي: * (أن يصلحا) *.
والمعنى: يصطلحا ثم أدغم.
فأما تفسير الآية فروى سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " هي المرأة تكون عند
الرجل، وهي دميمة أو عجوز، تكره مفارقته، فيصطلحا على أن
يجيئها كل ثلاثة أيام، أو أربعة ".
وقالت عائشة: هو الرجل تكون عنده المرأة، لعله لا يكون
له منها ولد [ولا يحبها] فيريد تخليتها، فتصالحه فتقول:
لا تطلقني وأنت في حل من شأني.
وروى الزهري عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن
هذه الآية نزلت في " رافع بن خديج " طلق امرأته تطليقة وتزوج
شابة، فلما قاربت انقضاء العدة، قالت له: أنا أصالحك على
بعض الأيام، فراجعها، ثم لم تصبره، فطلقها أخرى، ثم سألته
206

ذلك، فراجعها، فنزلت هذه الآية.
وفي حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن
سودة وهبت يومها لعائشة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة
يومها، ويوم سودة، ابتغت سودة بذلك رضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
214 - ثم قال جل وعز: * (والصلح خير) * [آية 128].
والمعنى: والصلح خير من الفرقة، ثم حذف هذا لعلم
السامع.
207

وقيل في معنى " الله أكبر ": الله أكبر من كل شيء.
215 - ثم قال جل وعز * (وأحضرت الأنفس الشح...) * [آية 128].
قال عطاء: يعني الشح في الأيام والنفقة.
ومعنى هذا أن المرأة تشح بالنفقة على ضرايرها وايثارهن.
وقال سعيد بن جبير: هذا في المرأة تشح بالمال والنفس.
216 - وقوله جل وعز: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء
ولو حرصتم...) * [آية 129].
208

قال عبيدة: في الحب والجماع.
217 - ثم قال جل وعز: * (فلا تميلوا كل الميل...) * [آية 129].
قال عبيدة: يعنى بالأنفس.
وقال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة.
والمعنى اقسموا بينهن بالسوية.
وروي عن عائشة رحمها الله أنها قالت: " كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه بالعدل ثم يقول: اللهم هذا ما أملك،
فلا تؤاخذني بما تملكه ولا أملكه ".
209

218 - ثم قال جل وعز: * (فتذروها كالمعلقة...) * [آية 129].
قال الحسن: هي التي ليس [لها] زوج ولا هي
مطلقة.
وقال قتادة: كالمحبوسة وكالمسجونة.
219 - وقوله جل وعز * (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب
الدنيا والآخرة) * [آية 134].
روي أن أكثر المشركين كانوا لا يؤمنون بالقيامة، وإنما
يتقربون إلى الله، ليوسع عليهم في الدنيا، ويدفع عنهم مكروهها،
فأنزل الله: * (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا
والآخرة) *.
210

220 - وقوله جل وعز * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط...) *
[آية 135].
القسط والإقساط: العدل، يقال: أقسط يقسط إقساطا،
إذا عدل، وقسط يقسط، إذا جار.
221 - ثم قال جل وعز * (شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين
والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما...) *
[آية 135].
المعنى: إن يكن المشهود له غنيا، فلا يمنعكم ذلك من أن
تشهدوا، وإن يكن المشهود عليه فقيرا، فلا يمنعكم ذلك من أن
211

تشهدوا عليه.
فإن قيل: كيف يقوم بالشهادة على نفسه؟ وهل يشهد على
نفسه؟.
قيل: يكون عليه حق لغيره فيقر له به، فذلك قيامه
بالشهادة على نفسه.
أدب الله عز وجل [بهذا] المؤمنين، كما قال ابن عباس
رحمه الله: أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم.
212

222 - ثم قال عز وجل: * (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا...) *
[آية 135].
المعنى: فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا، وأدوا ما عندكم من
الشهادة.
فهذا قول أكثر أهل اللغة.
ويجوز أن يكون المعنى فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا،
لأنه إذا خالف الحق، فكأنه كره العدل.
223 - ثم قال تعالى: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * [آية 135].
روى قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس
قال: " هو في الخصمين، يتقدمان إلى القاضي، فيكون ليه
لأحدهما، وإعراضه عن الآخر "
وقال مجاهد: * (وإن تلووا) * أي تبدلوا * (أو تعرضوا) *
تتركوا.
213

فمذهب ابن عباس أن اللي من الحاكم، ومذهب مجاهد أنه
من الشاهد.
وكذلك قال الضحاك: هو أن يلوي لسانه عن الحق في
الشهادة، أو يعرض فيكتمها.
وأصل لوى في اللغة: مطل.
وأنشد سيبويه:
قد كنت داينت بها حسانا
مخافة الإفلاس والليانا
214

وقرئ: * (وإن تلوا أو تعرضوا) *. وفيه قولان:
أحدهما للكسائي، قال: والمعنى من الولاية، وإن تلوا شيئا
أو تدعوه.
وقال أبو إسحاق: من قرأ: (وإن تلوا) فالمعنى على
قراءته وإن تلووا، ثم همز الواو الأولى فصارت تلؤوا. كما قال:
يقال: أدؤر في جمع دار، ثم ألقى حركة الهمزة على اللام، وحذف
الهمزة فصارت تلوا، كما يقال: آدر في جمع دار.
224 - وقوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله...) *
[آية 136].
في معنى هذا قولان:
أحدهما: أثبتوا على الإيمان، كما يقال للقائم: قف حتى
أجيء.
215

أي أثبت قائما.
والقول الآخر: أنه خطاب للمنافقين، فالمعنى على
هذا: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر، أخلصوا لله.
225 - وقوله جل وعز: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم
كفروا، ثم ازدادوا كفرا، لم يكن الله ليغفر لهم، ولا ليهديهم
سبيلا) * - [آية 137].
قال مجاهد: يعنى به المنافقون.
قال: ومعنى (ثم ازدادوا كفرا)
ماتوا على ذلك.
216

وهذا القول ليس يبعد في اللغة، لأنهم إذا ماتوا على الكفر
فقد هلكوا، فهم بمنزلة من ازداد.
وقال أبو العالية: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا) * اليهود
والنصارى كفروا * (ثم ازدادوا كفرا) * بذنوب عملوها.
وقال قتادة: (الذين آمنوا ثم كفروا) اليهود والنصارى،
آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت يعني بالإنجيل، ثم آمنوا بعزير، ثم
كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا، بكفرهم بمحمد صلى الله عليه
وسلم.
وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت، وكفرهم به تركهم إياه
ثم ازدادوا كفرا بالقرآن وبمحمد عليه السلام.
217

226 - وقوله جل وعز: * (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) *
[آية 138].
[المعنى] اجعل ما يقوم لهم مقام البشارة العذاب.
وأنشد سيبويه:
وخيل قد دلفت لها بخيل
تحية بينهم ضرب وجيع
أي الذي يقوم مقام التحية ضرب وجيع.
227 - وقوله جل وعز: * (أيبتغون عندهم العزة) *؟ [آية 139]
أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزة؟ أي المنعة.
قال الأصمعي: يقال: أرض عزاز، بالفتح والكسر، إذا
كانت صلبة شديدة. وقولهم: يعز علي، أي يشتد علي
218

ومنه قوله تعالى * (وعزني في الخطاب) * أي قهرني لأنه
أعز مني.
ومنه قولهم: " من عز بز " أي من غلب استلب.
ومنه قوله " فعزته يداه وكاهله ".
228 - وقوله جل وعز: * (قالوا ألم نستحوذ عليكم...) * [آية 141].
يقال: استحوذ [عليه] إذا استولى عليه.
فالمعنى: قال المنافقون للكافرين: ألم نغلب عليكم بموالاتنا
إياكم، ونمنعكم من المؤمنين، أي أخبرناكم بأخبارهم لتحذروا
ما يكون منهم.
219

229 - وقوله جل وعز: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا) * [آية 141].
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ذلك في الآخرة.
وقال ابن عباس: ذاك يوم القيامة.
وقال السدي: السبيل: الحجة.
220

وقيل: إن المعنى إن الله ناصر المؤمنين بالحجة والغلبة،
ليظهر دينهم على الدين كله.
230 - وقوله جل وعز: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو
خادعهم...) * [آية 142].
قال أهل اللغة: سمي الثاني خداعا، لأنه مجازاة للأول
فسمي خداعا على الازدواج، كما قال جل وعز: * (وجزاء سيئة
سيئة مثلها) *.
وقال الحسن: إذا كان يوم القيامة أعطي المؤمنون والمنافقون
نورا، فإذا انتهوا إلى الصراط، طفيء نور المنافقين، فيشفق المؤمنون
فيقولون " ربنا أتمم لنا نورنا " فيمضي المؤمنون بنورهم، فينادونهم:
* (انظرونا نقتبس من نوركم) * الآية.
قال الحسن: فتلك خديعة الله إياهم.
وهذا القول ليس بخارج من قول أهل اللغة، لأنه قد سماه
221

خداعا، لأنه مجازاة لهم.
231 - ثم قال جل وعز: * (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى
يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) * [آية 142].
قال الحسن: إنما قل لأنه لغير الله.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
" ما قل عمل مع تقى، وكيف يقل ما يتقبل "؟!.
232 - ثم قال جل وعز: * (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى
هؤلاء) * [آية 143].
قال قتادة: ولا يكونون مخلصين بالإيمان، ولا مصرحين
بالكفر.
222

وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، إذا
جاءت إلى هذه نطحتها، وإذا جاءت إلى هذه نطحتها فلا نتبع
هذه ولا هذه ".
وأصل التذبذب في اللغة التحرك والاضطراب، كما قال:
ألم تر أن الله أعطاك سورة
ترى كل ملك دونها يتذبذب
فالمعنى: إن المنافقين متحيرون في دينهم، لا يرجعون إلى
اعتقاد شيء على صحة، ليسوا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع
المشركين على جهالة، فهم حيارى بين ذلك.
223

والنفاق مأخوذ من النافقاء، وهو أحد جحور اليربوع، إذا
أخذت عليه المواضع، خرج منه ولا يفطن إليه.
وكذلك المنافق يظهر الإسلام، ويخرج منه سرا.
وفي الحديث: " للمنافق ثلاث علامات: إذا حدث
كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ".
233 - وقوله جل وعز: * (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا
مبينا) *؟ [آية 144].
قال قتادة: السلطان: الحجة.
وكذلك هو عند أهل اللغة:
234 - وقوله جل وعز: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من
النار...) * [آية 145].
224

قال عبد الله بن مسعود: " يجعلون في توابيت من حديد
تغلق عليهم " وفي بعض الحديث: من نار، ثم تطبق عليهم.
والأدراك في اللغة: المنازل والطبقات.
235 - وقوله جل وعز: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم
وكان الله شاكرا عليما. لا يحب الله الجهر بالسوء من القول
إلا من ظلم...) * [آية 147 - 148].
وقرأ زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق: * (إلا من ظلم) *.
وعلى هذه القراءة فيه ثلاثة أقوال:
قال الضحاك: المعنى: ما يفعل الله بعذابكم إلا من
ظلم.
225

وقيل: المعنى: لا يجهر أحد بالسوء، إلا من ظلم فإنه
يجهر به اعتداء.
وقال أبو إسحاق الزجاج: يجوز أن يكون المعنى إلا من
ظلم فقال سوء فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه، ويكون استثناء ليس
من الأول.
وعلى الجوابين الأولين يكون استثناء ليس من الأول أيضا.
ومن قرأ: * (إلا من ظلم) * ففيه أقوال:
أحدها: روي عن مجاهد أنه قال: * (نزلت هذه الآية في
رجل ضاف قوما فلم يحسنوا إليه، فذكرهم بما فعلوا، فعابوه
بذلك، فنزلت: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من
ظلم) *.
226

فالمعنى على هذا: لكن من ظلم فله أن يذكر ما فعل به.
قال الحسن: " هذا في الرجل يظلم فلا ينبغي أن يدعو
على من ظلمه، ولكن ليقل: اللهم أعني عليه، واستخرج لي حقي
منه، ونحو ذلك ".
وقال قطرب: * (إلا من ظلم) * إنما يريد المكره، لأنه
مظلوم، وذلك موضوع عنه وإن كفر.
قال: ويجوز أن يكون المعنى (إلا من ظلم) على البدل،
كأنه لا يحب الله إلا من ظلم، أي لا يحب الظالم، وكأنه يقول:
يحب من ظلم. أي يأجر من ظلم.
والتقدير على هذا القول: لا يحب الله ذا الجهر بالسوء إلا من
ظلم، على البدل.
227

236 - وقوله جل وعز: * (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن
يفرقوا بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر
ببعض...) * [آية 150].
قال قتادة: هم اليهود والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة
والإنجيل، وكفرت بعيسى والإنجيل، وآمنت النصارى بعيسى
والإنجيل، وكفرت بمحمد والقرآن.
237 - ثم قال جل وعز: * (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا) *
[آية 150].
قال قتادة: اتخذوا اليهودية والنصرانية وابتدعوهما، وتركوا دين
الله الإسلام، الذي لم يرسل نبي إلا به.
238 - وقوله جل وعز: * (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا
الله جهرة...) * [آية 153].
قال قتادة: أي عيانا.
وقال أبو عبيدة: هو من صفة القول، والمعنى: فقالوا
228

جهرة أرنا الله.
والقول عند أهل النظر قول قتادة.
والمعنى: فقالوا أرنا الله رؤية منكشفة، لأن من عرف الله
فقد رآه علما.
239 - وقوله جل وعز: * (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم...) *
[آية 154].
الطور: الجبل.
240 - ثم قال جل وعز: * (وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا...) *
[آية 154].
229

قال قتاد: كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت
المقدس.
241 - ثم قال جل وعز: * (وقلنا لهم لا تعدوا في السبت...) *
[آية 154].
قال قتادة: نهوا عن صيد الحيتان في يوم السبت.
ويقال: عدا، يعدو، عدوا، وعدوانا، وعداء وعدوا:
إذا جاوز الحق.
ويقرأ: * (تعدوا) * بمعنى تعتدوا.
242 - وقوله جل وعز: * (فبما نقضهم ميثاقهم...) * [آية 155].
230

(ما) زايدة للتوكيد، يؤدي عن معنى قولك: حقا.
وفي معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن قتادة قال: المعنى: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم
فعلى قول قتادة حذف هذا لعلم السامع.
وقال الكسائي: هو متعلق بما قبله. والمعنى فأخذتهم
الصاعقة بظلمهم، ثم عطف على ذلك إلى قوله: * (فبما نقضهم
ميثاقهم) *.
فزعم أنه فسر " ظلمهم " الذي أخذتهم الصاعقة من أجله
بما بعده، من نقضهم ميثاقهم، وقتلهم الأنبياء، وسائر ما بين من
أمورهم التي ظلموا فيها أنفسهم.
231

وهذا خطأ وغلط، لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على
عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء، ورموا مريم بالبهتان، كانوا بعد
موسى عليه السلام بدهر طويل، فليس الذين أخذتهم الصاعقة
أخذتهم برميهم مريم بالبهتان.
وقول قتادة أولاها بالصواب.
قال أبو جعفر: قال أبو إسحاق: المعنى فبما نقضهم
[ميثاقهم] حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، ونقضهم الميثاق
أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم فنقضوا ذلك وكتموها.
243 - وقوله جل وعز: * (وقولهم قلوبنا غلف، بل طبع الله عليها
بكفرهم...) * [آية 155].
232

قال قتادة: * (غلف) * أي لا تفهم.
ومعنى * (بل طبع الله عليها) * ختمها مجازاة على كفرهم.
وهو تمثيل يقال: طبع السيف يطبع طبعا: إذا غطاه
الصدأ.
244 - وقوله جل وعز: * (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم...)
[آية 157].
قال مجاهد: قتلوا رجلا توهموا أنه عيسى صلى الله عليه وسلم، ورفع الله
عيسى حيا.
وقال قتادة: قال عيسى: أيكم يقذف عليه شبهي فيقتل
ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا، فقتل.
233

وقال غيره: يعذبون على أنهم قتلوا نبيا، لأن تلك نياتهم.
245 - ثم قال جل وعز: * (وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه...) *
[آية 157].
لأن مقالتهم فيه مختلفة - وهم في شك منه.
246 - وقوله جل وعز: * (وما قتلوه يقينا...) * [آية 157].
المعنى عند أهل اللغة: وما قتلوا العلم يقينا.
كما يقول: قتلته علما، وقتلته يقينا: إذا علمته علما تاما.
قال أبو عبيد: ولو كان المعنى: وما قتلوا عيسى يقينا
لقال: " وما قتلوه " فقط.
234

247 - وقوله جل وعز: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته...) * [آية 159].
في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لينزلن ابن مريم حكما عدلا،
فليقتلن الدجال، وليقتلن الخنزير، وليكسرن الصليب، وتكون
السجدة واحدة لله رب العالمين ".
ثم قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: * (وإن من أهل الكتاب
إلا ليؤمنن به قبل موته) *، قال أبو هريرة:
قبل موت عيسى، يعيدها ثلاث مرات.
وقال قتادة: * (قبل موته) * قبل موت عيسى.
235

ب - وقال ابن عباس: * (قبل موته) * قبل موت الذي من أهل
الكتاب.
وقال بهذا القول: الحسن، وعكرمة.
وهذا القول رواه عن ابن عباس عكرمة.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن معنى * (قبل
موته) * قبل موت عيسى صلى الله عليه وسلم.
ج‍ - وقال غير هؤلاء: المعنى وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بمحمد
صلى الله عليه وسلم قبل موته.
236

وهذه الأقوال غير متناقضة، لأنه يتبين عند موته الحق، فيؤمن حين
لا ينفعه الإيمان.
قال محمد بن جرير: أولى هذه الأقوال بالصواب والصحة قول من
قال: تأويل ذلك، إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وأن ذلك في خاص
من أهل الكتاب، ومعني به أهل زمان منهم، دون أهل كل الأزمنة التي كانت
بعد عيسى، وإن ذلك عند نزوله، ولم يجر لمحمد في الآيات التي قبل ذلك
ذكر، فيجوز صرف الهاء التي في (ليؤمنن به) إلى أنها من ذكره، وإنما
* (ليؤمنن به) * في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود.
248 - وقوله جل وعز: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات
أحلت لهم...) * [آية 160].
237

يبين هذا قوله عز وجل: * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل
ذي ظفر...) * إلى آخر الآية.
249 - وقوله جل وعز: * (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون
يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك...) * [آية 162].
الراسخ: الثابت، و " منهم " يعني أهل الكتاب.
250 - ثم قال جل وعز * (والمقيمين الصلاة...) * [آية 162].
وفيه [معنى المدح. أي واذكروا المقيمين الصلاة].
251 - وقوله جل وعز: * (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين
من بعده...) * [آية 163].
238

هذا متصل بقوله: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم
كتابا من السماء) *
فأعلم الله أن أمره كأمر النبيين الذين قبله، يوحى إليه كما
يوحى إليهم.
252 - وقوله جل وعز: * (وآتينا داود زبورا) * [آية 163].
ويقرأ: * (زبورا) *، بضم الزاي.
قال الكسائي: من قرأ: * (زبورا) * فهو عنده واحد مثل
التوراة والإنجيل.
وقال غيره: [هو فعول] بمعنى مفعول، كما يقال:
حلوب، بمعنى محلوب، يقال: زبرته فهو مزبور، أي كتبته،
و " زبور " بمعنى مزبور.
ومن قرأ " زبورا " فهو عنده جمع زبر.
253 - وقوله جل وعز: * (وكلم الله موسى تكليما) * [آية 164].
239

مؤكد، يدل على معنى الكلام المعروف، لأنك إذا قلت:
كلمت فلانا، جاز أن يكون أوصلت إليه كلامك، وإذا قلت:
كلمته تكليما، لم تكن إلا من الكلام الذي يعرف.
فأخبر الله بخصيصاء الأنبياء، ثم أخبر بما خص به موسى
صلى الله عليه وسلم.
254 - وقوله جل وعز * (لكن الله يشهد بما أنزل إليك، أنزله
بعلمه...) * [آية 166].
قال القتبي: و " لكن " لا تكون إلا بعد نفي، قال: فهي
محمولة على المعنى، لأنهم لما كذبوا فقد نفوا، فقال جل وعز
* (لكن الله يشهد بما أنزل إليك) *.
قال أبو جعفر: وهذا غلط، لأن " لكن " عند النحويين
إذا كانت بعدها جملة، وقعت بعد النفي، والإيجاب، وبعدها ههنا
جملة، وإنما يقول النحويون، لا تكون إلا بعد نفي، إذا كان بعدها
مفرد.
240

وقوله " أنزله بعلمه " أي أنزله وفيه علمه، كما تقول:
جاء فلان بالسيف أي وهو معه، وكما قال جل وعز * (تنبت
بالدهن) *.
255 - وقوله جل وعز * (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله
ولا الملائكة المقربون...) * [آية 172].
قال قتادة: " لن يستنكف ": لن يحتشم.
والاستنكاف عند أهل اللغة: الأنفة، وهو من نكف ينكف
إذا نحى الدمعة عن خده بيده.
241

256 - وقوله جل وعز * (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم...) *
[آية 174].
قال مجاهد: حجة.
وقال سفيان: يعني بالبرهان النبي صلى الله عليه
وسلم.
257 - ثم قال جل وعز: * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * [آية 174].
قال قتادة: هو القرآن.
وهو عند أهل اللغة " تمثيل " لأن أصل النور، هو الذي يبين
الأشياء، فمثل ما يعلم بالقلب بما يرى عيانا.
258 - وقوله جل وعز: * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة...) *
[آية 176].
الكلالة: من لا والد له ولا ولد، وقد شرحنا معناه في أول
السورة.
242

قال البراء بن عازب: آخر آية نزلت * (يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة) *.
259 - وقوله جل وعز: * (يبين الله لكم أن تضلوا، والله بكل شيء
عليم) * [آية 176].
قال الكسائي: المعنى: يبين الله لكم لئلا تضلوا.
قال أبو عبيد: فحدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر عن
النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال: (لا يدعون أحدكم على ولده، أن يوافق من
الله إجابة) فاستحسنه.
243

والمعنى عند أبي عبيد: لئلا يوافق من الله إجابة.
وهذا القول عند البصريين خطأ، لا يجيزون إضمار " لا ".
والمعنى عندهم: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، ثم
حذف،
كما قال تعالى * (واسأل القرية) * وكذا معنى حديث النبي
صلى الله عليه وسلم أي كراهة أن يوافق من الله إجابة.
وقول ثالث أن المعنى: يبين لكم الضلالة، لأن معنى
" أن تفعلوا " فعلكم، كما تقول: يعجبني أن تقوم أي قيامك.
انتهت سورة النساء
* * *
244

تفسير سورة المائدة
مدنية وآياتها 120 آية
245

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة وهى مدنية
روي عن علقمة أنه قال: " كل ما كان في القرآن * (يا أيها الذين
أمنوا) * فنزل بالمدينة، وكل ما كان في القرآن * (يا أيها الناس) * فنزل
بمكة ".
1 - من ذلك قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) * [آية 1].
قال مجاهد: العقود: العهود.
وذلك معروف في اللغة، يقال: عهدت إليه إذا أمرته بأمر،
وعقدت عليه، وعاقدته: إذا أمرته واستوثقت منه.
247

وقيل: يراد بالعقود ها هنا الفرائض.
2 - ثم قال جل وعز: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى
عليكم) * [آية 1].
قال الحسن: الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم.
وروى عوف عن الحسن * (بهيمة الأنعام) *: الشاة:
والبعير، والبقرة.
وروى زهير بن معاوية عن قابوس بن أبي ظبيان قال: " ذبحنا
بقرة، فأخذ الغلمان من بطنها ولدا ضخما، قد أشعر، فشووه ثم
أتوا به أبا ظبيان، فقال: حدثنا عبد الله بن عباس أن هذا بهيمة
248

الأنعام ".
قال أبو جعفر: الأول أولى لأن بعده (إلا ما يتلى عليكم)
وليس في الأجنة ما يستثنى.
وقيل لها " بهيمة الأنعام " لأنها أبهمت عن التمييز.
3 - ثم قال جل وعز: * (غير محلي الصيد وأنتم حرم، إن الله
يحكم ما يريد) * [آية 1].
واحد الحرم حرام، وحرام بمعنى محرم، قيل له محرم وحرام لما
حرم عليه من النكاح وغيره.
يقال: أحرم إذا دخل في الحرم، كما يقال: أشتى إذا دخل
249

في الشتاء، وأشهر: إذا دخل في الشهر.
4 - وقوله جل وعز * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) *
[آية 2].
قال أبو عبيدة: الشعائر: الهدايا، الواحدة شعيرة.
وقال غيره: شعيرة بمعنى مشعرة.
وقال الأصمعي: أشعرتها: أعلمتها.
وروى الأسود بن يزيد عن عائشة قالت: إنما أشعرت ليعلم
أنها بدنة.
وقال مجاهد: " شعائر الله " الصفا، والمروة، والحرم.
والمعنى على هذا القول: لا تحلوا الصيد في الحرم، والتقدير:
لا تحلوا لأنفسكم شعائر الله.
250

ومن قال بأنها البدن، فالآية عنده منسوخة.
قال الشعبي: ليس في المائدة آية منسوخة إلا (يا أيها
الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) وكذلك قال قتادة.
وقال نسختها (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وكانوا قبل
قد منعوا من قتالهم في الشهر، إذا كانوا آمين البيت الحرام.
5 - ثم قال جل وعز: * (ولا الشهر الحرام) * وهو رجب.
6 - ثم قال جل وعز: * (ولا الهدي) * واحد الهدي هدية.
7 - ثم قال جل وعز: * (ولا القلائد) *.
قال الضحاك وعطاء: كانوا يأخذون من شجر الحرم، فلا
يقربون إذا رئي عليهم.
8 - ثم قال جل وعز: * (ولا آمين البيت الحرام) * الأم: القصد،
251

أي لا تستحلوا منع القاصدين البيت الحرام.
ويجوز أن يكون المعنى لا تحلوا قصد الآمين ثم حذف.
9 - ثم قال جل وعز * (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا) * [آية 2].
قال ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: يبتغون الأجر،
والتجارة.
10 - ثم قال جل وعز: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * [آية 2].
وهذا إباحة بعد حظر، وليس بحتم.
11 - ثم قال تعالى: * (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن
المسجد الحرام أن تعتدوا) *. [آية 2].
252

قال أبو عبيدة 6 * (ولا يجرمنكم) * لا يكسبنكم، وأنشد:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وقال الأخفش: ولا يحقنكم.
وقال الفراء: ولا يحملنكم.
وهذه المعاني متقاربة لأن من حمل رجلا على إبغاض رجل فقد
أكسبه إبغاضه، فإذا كان الأمر كذلك، فالذي هو أحسن أن يقال
ما قاله ابن عباس وقتادة، قالا: أي لا يحملنكم شنآن قوم على
العدوان.
253

وقرأ الأعمش * (ولا يجرمنكم) * بضم الياء.
قال الكسائي: جرم يجرم، وأجرم يجرم، بمعنى واحد،
الفتح في هذا أكثر، والضم في الجناية أكثر.
والشنآن: الإبغاض، ويقرأ " شنئان " بإسكان النون وليس
بالحسن، لأن المصادر لا تكاد تكون على " فعلان ".
وقرأ أبو عمرو (إن صدوكم) بكسر الهمزة بمعنى
الشرط.
وروي عن الأعمش أنه قرأ (إن يصدوكم).
وهو لحن عند النحويين لأن " إن " إذا جزمت لم يتقدم
254

جوابها. والمعنى على قراءة من فتح * (ولا يجرمنكم شنآن قوم) * لأن
صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا.
ومن كسر فالمعنى عنده إن فعلوا هذا.
والمعنى على الفتح لأنه يروى (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة،
قتل رجل من أصحابه رجلا من أهل مكة، كان يقتل حلفاء النبي
صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية).
12 - وقوله جل وعز * (حرمت عليكم الميتة، والدم، ولحم
الخنزير) * [آية 3].
يقال: ميتة وميتة بمعنى واحد، هذا قول من يوثق به من أهل
اللغة.
وقيل: الميتة ما لم تمت بعد، والميتة التي قد ماتت.
وروي أنهم كانوا يجعلون الدم في المباعر ثم يشوونها ويأكلونها،
فحرم الله جل وعز الدم المسفوح، وهو المصبوب.
13 - ثم قال جل وعز: * (وما أهل لغير الله به) * [آية 3].
255

أي ذبح لغير الله، وذكر عليه غير اسمه.
وأصل الإهلال: الصوت، ومنه سمي الإهلال بالحج، وهو
الصوت بالتلبية، وإيجاب الحج، ومنه استهلال المولود، ومنه أهل
الهلال، لأن الناس إذا رأوه أومأوا إليه بأصواتهم.
14 - ثم قال جل وعز: * (المنخنقة) * [آية 3].
قال قتادة: هي التي تموت في خناقها.
15 - ثم قال جل وعز: * (والموقوذة) * [آية 3].
قال الضحاك: كانوا يأخذون الشاة أو غيرها من البهائم فيضربونها
عند آلهتم حتى تموت ثم يأكلونها.
ويقال: وقذه، وأقذه، فهو موقوذ وموقذ، إذا ضربه حتى
يشفى على الهلاك، ومنه قيل: فلان وقيذ.
16 - ثم قال جل وعز: * (والمتردية) * [آية 3]
256

قال الضحاك: المتردية: أن تتردى في ركية أو من جبل،
ويقال: تردى إذا سقط، ومنه (وما يغني عنه ماله إذا
تردى)؟.
والنطيحة: المنطوحة.
17 - ثم قال جل وعز: * (وما أكل السبع) * [آية 3].
أي ما افترسه فأكل بعضه.
وقرأ الحسن: السبع، وهو مسكن استثقالا للضمة.
18 - ثم قال جل وعز: * (إلا ما ذكيتم) * [آية 3].
والتذكية: أن تشخب الأوداج دما، ويضطرب اضطراب
المذبوح.
وأصل التذكية في اللغة: التمام، وقال زهير:
257

يفضله إذا اجتهدا عليه
تمام السن منه والذكاء
ومنه لفلان ذكاء أي هو تام الفهم، وذكيت النار: أي
أتممت إيقادها.
وذكيت الذبيحة: أتممت ذبحها على ما يجب.
19 - ثم قال جل وعز: * (وما ذبح على النصب) * [آية؟؟؟]
وقرأ طلحة (على النصب).
قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها،
وربما استبدلوا منها.
ويجوز أن يكون جمع نصاب.
20 - ثم قال جل وعز: * (وأن تستقسموا بالأزلام) * [آية 3].
قال قتادة: كان أحدهم إذا أراد أن يخرج، كتب على
قدح يعني السهم " تأمرني بالخروج " وعلى الآخر " لا تأمرني بالخروج "
وجعل بينهما سهما منيحا لم يكتب عليه شيئا، فيجيلها فإن خرج
258

الذي عليه تأمرني بالخروج خرج، وإن خرج الذي عليه لا تأمرني
بالخروج لم يخرج، وإن خرج المنيح رجع فأجالها.
وإنما قيل لهذا الفعل استقسام، لأنهم كانوا يستقسمون به
الرزق وما يريدون، كما يقال الاستسقاء في الاستدعاء للسقي.
ونظير هذا الذي حرمه الله قول المنجم: لا تخرج من أجل
نجم كذا، أو اخرج من أجل نجم كذا.
وقال جل وعز: * (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما
تدري نفس بأي أرض تموت) *.
قال أبو جعفر: وذكر محمد بن جرير أن ابن وكيع حدثهم
عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الأزلام
259

حصى بيض كانوا يضربون بها.
قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع هي الشطرنج
21 - ثم قال جل وعز: * (ذلكم فسق) * [آية 3].
والفسق: الخروج، أي الخروج من الحلال إلى الحرام.
وقوله جل وعز: * (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) *
[آية 3].
قال ابن عباس: * (يئس الذين كفروا من دينكم) *.
المعنى: يئس الذين كفروا أن تعود الجاهلية.
وقال ورقاء: المعنى: ألآن يئس الذين كفروا من دينكم.
وهذا معروف عند أهل اللغة كما تقول: أنا اليوم قد كبرت عن
هذا.
260

22 - وقوله جل وعز * (اليوم أكملت لكم دينكم) * [آية 3].
روي أن أناسا من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآية علينا،
لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال عمر رضي الله عنه: نزلت في يوم
جمعة، يوم عرفة.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: " نزلت يوم عرفة
أو عشية عرفة ".
وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: الآن أكملت لكم دينكم، بأن أهلكت عدوكم، وأظهرت
دينكم على الدين كله، كما تقول: قد تم لنا ما نريد، إذا كفيت
عدوك.
ويجوز أن يكون المعنى: اليوم أكملت لكم دينكم فوق ما
تحتاجون إليه من الحلال والحرام في أمر دينكم.
261

وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة أنه قال: في
المائدة ثماني عشرة فريضة ليست في غيرها " تحريم الميتة، والدم، ولحم
الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية،
والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب، والاستقسام
بالأزلام، وتحليل طعام الذين أوتوا الكتاب، والمحصنات من الذين أوتوا
الكتاب، والجوارح مكلبين، وتمام الطهور * (إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم) * وقوله تعالى * (والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما) * وقوله تعالى * (ما جعل الله من بحيرة، ولا سائبة،
ولا وصيلة، ولا حام) *.
ويروى أنها آخر سورة أنزلت.
23 - وقوله جل وعز: * (فمن اضطر في مخمصة) * [آية 3].
المخمصة: ضمور البطن من الجوع.
262

24 - ثم قال جل وعز: * (غير متجانف لإثم) * [آية 3].
قال قتادة: الإثم: ها هنا أن تأكل منها فوق الشبع.
25 - ثم قال جل وعز: * (فإن الله غفور رحيم) * [آية 3].
أي رحمكم فأباح لكم هذه الأشياء عند الضرورة.
26 - وقوله عز وجل: * (يسئلونك ماذا أحل لهم؟ قل أحل لكم
الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين) *. [آية 4].
وقرأ عبد الله بن مسعود والحسن وأبو رزين * (مكلبين) *
ومعنى مكلبين: أصحاب كلاب، يقال كلب فهو
مكلب، وكلاب، ويقال: أكلب فهو مكلب إذا كثرت عنده
الكلاب، كما يقال: أمشى فهو ممش، إذا كثرت ماشيته.
وأنشد الأصمعي:
263

وكل فتى وإن أمشى فأثرى
ستخلجه يكون عن الدنيا منون
وروي عن أبي رافع أنه قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل
الكلاب، سألوه ما يحل من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت
* (يسئلونك ماذا أحل لهم) *؟ وقرأ إلى آخر الآية.
والجوارح في اللغة: الكواسب، يقال ما لفلانة جارح أي
كاسب.
وقال مجاهد في قول الله عز وجل: (ويعلم ما جرحتم
بالنهار). قال: ما كسبتم.
264

وقال مجاهد في معنى * (الجوارح) * إنها الكلاب،
والطير.
وقال طاووس: يحل صيد الطير، لقوله تعالى
* (مكلبين) *.
وليس في الآية دليل على تحريم صيد سوى الكلاب، لأن معنى
" مكلبين " محرشون.
والإجماع يقوي قول طاووس على تحليل صيد الطير.
27 وقوله جل وعز: * (فكلوا مما أمسكن عليكم) * [آية 4].
قال سعد بن أبي وقاص وسلمان وعبد الله بن عمر وأبو
هريرة: " إذا أمسك عليك فكل، وإن أكل " وهذا قول أهل المدينة.
265

وروي عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أمسك
عليك ولم يأكل فكل، وهذا قول أهل الكوفة.
28 - وقوله جل وعز * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * [آية 5].
قال مجاهد وإبراهيم: يعني الذبائح.
29 - وقوله جل وعز * (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من
الذين أتوا الكتاب من قبلكم) * [آية 5].
روي عن ابن عباس أنه قال: المحصنات: العفيفات
العاقلات.
وقال الشعبي: هو أن تحصن فرجها فلا تزني، وتغتسل من
الجنابة.
266

والقراءة على قول الشعبي (والمحصنات) بكسر الصاد،
وبه قرأ الكسائي.
والمحصنة تكون العفيفة، والمتزوجة، والحرة، فالحرة ها هنا
أولى، ولو أريد العفيفة لما جاز أن تتزوج امرأة حتى يوقف على
عفتها.
وقال مجاهد: المحصنات: الحرائر.
قال أبو عبيد: نذهب إلى أنه لا يحل نكاح إماء أهل
الكتاب لقوله جل وعز: (فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم
المؤمنات).
267

وهذا القول الذي عليه جلة العلماء
ويدل على أنهن الحرائر قوله جل ثناه (ومن لم يستطع منكم
طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من
فتياتكم المؤمنات).
قال الحسن والزهري ويحيى بن سعيد وإبراهيم ومكحول
وقتادة:
لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب لقوله تعالى (من فتياتكم
المؤمنات)
30 - وقوله جل وعز * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) * [آية 5].
قال مجاهد وعطاء: أي ومن يكفر بالله.
31 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) *.
المعنى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وفي الكلام دليل على
هذا.
268

ومثله * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان
الرجيم) *.
المعنى: وإذا أردت أن تقرأ.
وفي قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى
الصلاة) * [آية 6].
أقوال:
أحدها: إذا توضأ من حدث ثم دخل عليه وقت الصلاة
وهو على طهارة فليس عليه التوضؤ، وهذا الذي عليه أكثر الناس،
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمس صلوات بوضوء واحد.
وقال زيد بن أسلم: أي إذا قمتم من المضاجع.
269

والقول الثاني: إن الوضوء قد كان واجبا بهذه الآية على كل
مريد للقيام إلى الصلاة، ثم نسخ ذلك سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
والقول الثالث: إن على كل قائم إلى الصلاة مكتوبة
الوضوء، كما روى شعبة عن مسعود بن علي قال: كان علي رضي الله
عنه يتوضأ لكل صلاة ويتلو (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم).
32 - ثم قال جل وعز: * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى
المرافق) * [آية 6].
قال بعض أهل اللغة: المعنى مع المرافق، كما قال (من
أنصاري إلى الله).
270

أي مع الله.
وهذا القول خطأ، لأن اليد عند العرب من الأصابع إلى
الكتف، وإنما فرض غسل بعضها، فلو كانت " إلى " بمعنى
" مع " لوجب غسل اليد كلها، ولم يحتج إلى ذكر المرافق.
والمرفق، ويقال مرفق: ما بعد الأيدي مما يرتفق عليه أي
يتكأ.
ومعنى " إلى " ههنا الغاية، هي على بابها، إلا أن أبا
العباس قال: إذا كان الثاني من الأول فما بعد " إلى " داخل فيما
قبله، نحو قوله تعالى: (إلى المرافق).
فالمرافق داخلة في الغسل، وإذا كان ما بعدها ليس من الأول
فليس بداخل فيه نحو (ثم أتموا الصيام إلى الليل).
وقال غيره: ما بعد " إلى " ليس بداخل فيما قبلها، إلا
271

أن المرافق غسلت اتباعا.
33 - ثم قال جل وعز: * (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين) *.
والمعنى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم على التقديم
والتأخير.
ومن قرأ (وأرجلكم) ففي قراءته أقوال:
أحدها: إن المسح والغسل واحد، قال ذلك أبو زيد.
272

ومنه قولهم: تمسحت للصلاة، والتقدير وأرجلكم غسلا.
ودل على هذا قوله (إلى الكعبين) فحددها كما قال في اليدين
(إلى المرافق).
ودل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم " ويل للأعقاب من النار ".
فلو كان المسح كافيا لجاز المسح على البعض.
وروي عن الشعبي أنه قال: (نزل جبريل عليه السلام
بالمسح، والغسل) سنة.
والقول الثالث روي عن علي رضي الله عنه أنه أجاز
المسح.
قال أبو جعفر: إلا أن عاصم بن كليب روى عن ابن عبد الرحمن
قال: قرأ الحسن والحسين رحمة الله عليهما وعلى علي (وأرجلكم)
فسمع علي ذلك، وكان يقضي بين الناس، فقال * (وأرجلكم) *
273

هذا من المقدم والمؤخر من الكلام.
وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال:
اغسلوا الأقدام أي الكعبين، وكذا روي عن ابن مسعود، وابن عباس
رحمهما الله أنهما قرأ * (وأرجلكم) * بالنصب.
والكعب: العظم الناتئ في آخر الساق عند القدم، وكل
مفصل عند العرب كعب، إلا أنه لم يحتج أن يقال: الكعب الذي
من قصته كذا لأنه ظاهر بين.
34 - وقوله جل وعز: * (أو جاء أحد منكم من الغائط...) * [آية 6].
كناية.
والغائط في الأصل: ما انخفض من الأرض.
274

35 - ثم قال جل ذكره: * (أو لامستم النساء) * [آية 6].
في معناه قولان:
أحدهما: رواه عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال:
" القبلة من المس، وكل ما دون الجماع لمس " وكذلك قال ابن
عمر.
ومحمد بن يزيد يميل إلى هذا القول، قال: لأنه قد ذكر في
أول هذه السورة ما يجب على من جامع في قوله ((وان كنتم جنبا
فاطهروا).
وقال عبد الله بن عباس: اللمس، والمس، والغشيان:
الجماع، ولكنه جل وعز كنى.
وقال مجاهد في قول الله عز وجل: * (وإذا مروا باللغو مروا
كراما) *.
قال: إذا ذكروا النكاح كنوا عنه.
275

36 - وقوله عز وجل: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * [آية 6].
أي فاقصدوا.
والصعيد: وجه الأرض.
قال ابن عباس: أطيب الصعيد الحرث.
37 - وقوله جل وعز: * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج...) *.
[آية 6].
قال مجاهد: أي من ضيق.
38 - ثم قال جل وعز: * (ولكن يريد ليطهركم) * [آية 6].
وقرأ سعيد بن المسيب * (ليطهركم) * والمعنى واحد، كما
يقال: نجاه وأنجاه.
39 - وقوله جل وعز: * (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي
واثقكم به) * [آية 7].
276

مذهب ابن عباس أنه قال: الميثاق الذي واثق به المؤمنين
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على: السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا.
قال مجاهد: الميثاق الذي أخذه على بني آدم يعني قوله
* (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) *
40 - وقوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء
بالقسط) * [آية 8].
القسط: العدل.
41 - ثم قال جل وعز: * (ولا يجرمنكم شنآن قوم) * [آية 8].
أي لا يحملنكم، وقد بيناه فيما تقدم.
وقرئ * (ولا يجرمنكم) *.
قال الكسائي: هما لغتان.
قال أبو جعفر: قال أبو إسحاق: معنى
* (لا يجرمنكم) * لا يدخلنكم في الجرم، كما تقول:
آثمني أي أدخلني في الإثم.
277

والشنآن: البغض.
42 - وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم
قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم) * [آية 11].
قال مجاهد: " هذا في اليهود جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في
دية، فهموا بقتله، فوقاه الله جل وعز منهم ".
وروي عن الحسن أنه قال: نزل هذا في رجل من أعداء
النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فاستقبل القبلة ليصلي صلاة الخوف
فجاء هذا ليقتله، فمنعه الله منه.
278

43 - وقوله جل وعز: * (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) * [آية 12].
النقيب في اللغة: الأمين الذي يعرف مداخل القوم، كأنه
يعرف ما ينقب عليه من أمرهم.
وروى سعيد عن قتادة قال: * (وبعثنا منهم اثني عشر
نقيبا) * من كل سبط رجلا شاهدا على سبطه * (وقال الله إني
معكم لئن أقمتم الصلاة) * إلى آخر القصة.
44 - وقوله جل وعز: * (وآمنتم برسلي وعزرتموهم) * [آية 12].
قال أبو عبيد * (عزرتموهم) * عظمتموهم.
وقال يونس: أثنيتم عليها.
وأحسن من هذين القولين قول ابن أبي نجيح عن مجاهد أن
معنى * (عزرتموهم) * نصرتموهم، والتعظيم داخل في النصرة.
279

والدليل على هذا قوله تعالى: * (وتعزروه وتوقروه) *.
وأصل التعزير في اللغة: المنع، ومنه عزرت فلانا أي أنزلت به
ما يمتنع من أجله من المعاودة كما تقول: نكلت به أي أنزلت به
ما ينكل به عن العودة.
وروي عن سعد أنه قال: " لقد رأيتني سابع سبعة مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا الحبلة والسمر، ثم أصبحت بنو أسد
تعزرني على الإسلام أي تؤدبني ".
وهو يرجع إلى ما تقدم أي يمنعونني سعيد عما أنا عليه.
45 - وقوله جل وعز: * (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم
قاسية...) * [آية 13].
280

وتقرأ " قسية ".
والقاسية كما تقول: علية، وعالية، وعلي، وعال، بمعنى
واحد.
والقول الآخر: معنى " قسية " ليست بخالصة الإيمان، أي
فيها نفاق.
قال أبو جعفر: وهذا قول حسن لأنه يقال: درهم قسي إذا
كان مغشوشا بنحاس أو غيره.
قال أبو جعفر: وأولى ما فيه أن تكون " قسية " بمعنى
قاسية، مثل زكية وزاكية، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة، فالمعنى:
جعلنا قلوبهم غليظة، نابية عن الإيمان، والتوفيق لطاعتي، لأن
القوم لم يوصفوا بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة، فإن إيمانها
خالطه كفر، كالدراهم القسية التي خالطها غش.
47 - ثم قال جل وعز * (يحرفون الكلم عن مواضعه) *
281

يجوز أن يكون معناه: يبدلون حروفه.
ويجوز أن يكون معناه: يتناولونه على غير معناه.
48 - وقوله جل وعز: * (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) * [آية 13].
فيه قولان:
أحدهما: قاله قتادة: قال: على خيانة.
وهذا جائز في اللغة، ويكون مثل قولهم: " قائلة " بمعنى
قيلولة.
والقول الآخر: قاله ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو أن هذا
يراد به اليهود الذين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون التقدير على هذا
القول: على فرقة خائنة، ثم أقام الصفة مقام الموصوف.
282

49 - وقوله جل وعز: * (فنسوا حظا مما ذكروا به) * [آية 14].
أي تركوا، ومنه (نسوا الله فنسيهم) أي تركهم.
50 - ثم قال جل وعز * (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم
القيامة) * [آية 14].
ومعنى " أغرينا " في اللغة: ألصقنا، ومنه قيل: الغراء
للذي يغرى به.
قال ابن أبي نجيح: يعني اليهود والنصارى.
وقال الربيع بن أنس: يعني به النصارى خاصة، أغريت
بينهم العداوة والبغضاء، أي مجازاة على كفرهم، فافترقوا فرقا:
منهم النسطورية، واليعقوبية، والملكية، وكل فرقة تعادي الأخرى.
283

51 - وقوله جل وعز: * (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم
كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) * [آية 15].
روي عن ابن عباس أنه قال: " زنى رجل من اليهود،
فجاءوا يستفتون النبي صلى الله عليه وسلم، ليدرؤا عنه الرجم، والرجم عندهم في
التوراة، فأطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
52 - ثم قال جل وعز: * (قد جاءكم من الله نور) * [آية 15].
قيل: " نور " يعني به النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو تمثيل لأن النور هو الذي تتبين به الأشياء.
53 - ثم قال جل وعز: * (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل
السلام) * [آية 16].
284

السبل: الطرق، والسلام: يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون السلام بمعنى السلامة، كما يقال: اللذاذ
واللذاذة.
والمعنى الآخر: أن السلام اسم من أسماء الله جل وعز:
فالمعنى على هذا: يهدي به الله سبله أي من اتبعها نجاه.
54 - وقوله عز وجل: * (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم
على فترة من الرسل) * [آية 19].
قال قتادة: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال: وبلغنا أن الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله
عليهما وسلم، ست مائة عام.
والمعنى عند أهل اللغة: على انقطاع من الرسل، لأن الرسل
285

كانوا متواترين بين موسى وعيسى صلى الله عليهما، ثم انقطع ذلك إلى
أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
55 - ثم قال جل وعز: * (أن تقولوا ما جاءنا من بشر ولا نذير) *.
[آية 19].
قال الكوفيون: المعنى أن لا تقولوا، ثم حذفت " لا " كما قال
جل وعز: * (يبين الله لكم أن تضلوا) *.
ولا يجوز حذف " لا " عند البصريين، لأنها تدل على
النفي.
والمعنى عندهم: كراهة أن تقولوا.
56 - وقوله جل وعز: * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله
عليكم إذ جعل فيكم أنبياء، وجعلكم ملوكا) * [آية 20].
روي عن ابن عباس أنه قال: يعني الخادم، والمنزل.
286

قال قتادة: لم يملك أحد قبلهم خادما.
وقال الحكم بن عتيبة ومجاهد وعكرمة: * (وجعلكم
ملوكا) * المنزل والخادم والزوجة.
وكذلك قال زيد بن أسلم، إلا أنه قال: فيما يعلم عن النبي
صلى الله عليه وسلم: " من كان له بيت، أو قال منزل يأوي إليه،
وزوجة، وخادم يخدمه، فهو ملك ".
57 - ثم قال جل وعز: * (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) *.
قال مجاهد: يعني المن، والسلوى، وانفراق البحر، وانفجار
الحجر، والتظليل بالغمام.
58 - ثم قال جل وعز: * (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب
الله لكم) * [آية 21].
287

قال قتادة: يعني الشام.
والمقدسة في اللغة: المطهرة، ومنه سمي بيت المقدس،
أي الموضع الذي يتطهر فيه من الذنوب.
59 - ثم قال جل وعز: * (قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين) *
[آية 22].
الجبار عند أهل اللغة: المتعظم، الذي يمتنع من الذل
والقهر.
60 - وقوله جل وعز: * (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله
عليهما) * [آية 23].
روي عن مجاهد أنه قال: الرجلان من الاثني عشر نقيبا
الذين بعثوا، وهما " يوشع بن نون " و " كلاب بن قاينا " ويقال:
يوقنا.
وقال الضحاك: هما رجلان مؤمنان كانا في مدينة الجبارين.
والدليل على هذا أنهما قالا * (ادخلوا عليهم الباب، فإذا
288

دخلتموه فإنكم غالبون) * وقد علمنا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب
كان لهم الغلب.
وقرأ سعيد بن جبير: * (من الذين يخافون) * بضم
الياء.
يذهب إلى أنهما كانا من الجبارين، وأنعم الله عليهما
بالإسلام
61 - ثم قال جل وعز: * (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا
فيها) * [آية 24]
أي ليس نقبل مشورة. فأعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل
الكتاب لم يزالوا يعصون الأنبياء، وأن له في ذلك أسوة.
289

قال أبو عبيدة: معنى * (فاذهب أنت وربك فقاتلا) * أي
اذهب فقاتل، وليعنك ربك.
62 - ثم قال جل وعز: * (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) *
[آية 25].
ويجوز أن يكون المعنى: وأخي لا يملك إلا نفسه.
ويجوز أن يكون المعنى: وأملك أخي، لأنه إذا كان يطيعه
فهو مالك في الطاعة.
63 - ثم قال جل وعز: * (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) *
[آية 25].
قال الضحاك: المعنى فاقض بيننا وبين القوم الفاسقين.
64 - وقوله جل وعز: * (قال فإنها محرمة عليهم) * [آية 25].
أي هم ممنوعون من دخولها.
ويروى أنه حرم عليهم دخولها أبدا.
290

فالتمام على هذا عند قوله * (عليهم) * ثم قال تعالى
* (أربعين سنة يتيهون في الأرض) *.
وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى أن المعنى * (فإنها محرمة
عليهم أربعين سنة) *
ثم ابتدأ فقال: * (يتيهون في الأرض) *.
65 - ثم قال جل وعز: * (فلا تأس على القوم الفاسقين) * [آية 26]
يجوز أن يكون هذا خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم، أي فلا تأس على
قوم هذه صفتهم.
ويجوز أن يكون الخطاب لموسى صلى الله عليه وسلم.
291

يقال: أسي، يأسى، أسى: إذا حزن، ويقال: أسى
الشئ يأسو، أسوا، إذا أصلحته، والمعنى: أنه أزال ما يقع الغم
من أجله.
ولك في فلان أسوة، وأسوة، أي إذا رأيته مثلك نفض عنك
الغم.
66 - وقوله جل وعز: * (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق) * [آية 27].
قال مجاهد: هما ابنا آدم لصلبه، " هابيل "
و " قابيل "، و كان من علامة قربانهم إذا تقبل أن يسجد
أحدهم، ثم تنزل نار من السماء فتأكل القربان.
والقربان عند أهل اللغة: فعلان مما يتقرب به إلى الله جل
وعز.
292

وقال الحسن: هما من بني إسرائيل لأن القربان كان
فيهم.
67 - ثم قال عز وجل: * (قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من
المتقين) * [آية 27].
المعنى: قال الذي لم يتقبل منه للذي تقبل منه
* (لأقتلنك) * ثم حذف هذا لعلم السامع.
ويروى أن القتل كان ممنوعا في ذلك الوقت، كما كان ممنوعا
حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ووقت عيسى عليه السلام، فلذلك
قال: * (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب
العالمين) *.
293

68 - وقوله جل وعز: * (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من
أصحاب النار) * [آية 29].
قال الكسائي: يقال: باء بالشيء، يبوء به، بوء،
وبواء: إذا انصرف به.
قال البصريون: يقال باء بالشيء: إذا أقر به، واحتمله،
ولزمه.
ومنه تبوأ فلان الدار، أي لزمها وأقام بها.
يقال: البواء التكافؤ، والقتل بواء: وأنشد:
فإن تكن القتلى بواء، فإنكم
فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر
قال " أبو العباس " محمد بن يزيد في قوله تعالى: * (إني
أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) * وهو مؤمن، لما كان المؤمن يريد
الثواب، ولا يبسط يده إليه بالقتل، كان بمنزلة من يريد هذا.
294

وسئل أبو الحسن بن كيسان: كيف يريد المؤمن أن يأثم
أخوه، وأن يدخل النار؟
فقال: إنما وقعت الإرادة بعدما بسط يده بالقتل.
فالمعنى: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني، لأمتنعن من ذلك
مريدا الثواب.
فقيل له: فكيف قال " بإثمي وإثمك " وأي إثم له إذا قتل؟
فقال: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تبوء بإثم قتلي وإثم ذنبك، الذي من أجله لم
يتقبل من أجله قربانك، ويروى هذا الوجه عن مجاهد.
والوجه الآخر: أن تبوء بإثم قتلي وإثم اعتدائك علي، لأنه
قد يأثم في الاعتداء، وإن لم يقتل.
والوجه الثالث: أنه لو بسط يده إليه أثم، فرأى أنه إذا
295

أمسك عن ذلك، فإنه يرجع على صاحبه، وصار هذا مثل قولك:
المال بينه وبين زيد أي المال بينهما.
فالمعنى: أن تبوء بإثمنا.
قال أبو جعفر: ومن أجل ما روي فيه عن ابن مسعود وابن
عباس أن المعنى: بإثم قتلي، وإثمك فيما تقدم من معاصيك.
فإن قيل: أفليس القتل معصية وكيف يريده؟ قيل: لم يقل
أن تبوء بقتلي، فإنما المعنى بإثم قتلي إن قتلتني، فإنما أراد الحق.
69 - ثم قال جل وعز: * (وذلك جزاء الظالمين) * [آية 29].
يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله عن ابن آدم أنه قال
هذا.
296

ويجوز أن يكون منقطعا مما قبله.
70 - وقول جل وعز * (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله) * [آية 30]
قال قتادة: أي زينت.
وقال مجاهد: أي شجعته، يريد أنها ساعدته على ذلك.
وقال أبو العباس: طوعت: فعلت من الطوع والطواعية
وهي الإجابة إلى الشيء.
71 - ثم قال جل وعز: * (فأصبح من الخاسرين) * [آية 30].
أي ممن خسر حسناته، والخسران: النقصان.
72 - ثم قال جل وعز: * (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض، ليريه
كيف يواري سوأة أخيه) * [آية 31].
297

قال مجاهد: بعث الله جل وعز غرابين، فاقتتلا حتى قتل
أحدهما صاحبه، ثم حفر فدفنه، وكان ابن آدم هذا أول من
قتل.
ويروى " أنه لا يقتل مؤمن إلى يوم القيامة، إلا كان عليه كفل
من ذنب من قتله ".
73 - وقوله جل وعز: * (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، أنه
من قتل نفسا بغير نفس، أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس
جميعا) * [آية 32].
وقرأ الحسن: * (أو فسادا في الأرض فكأنما قتل الناس
جميعا) *
والمعنى على قراءته: أو عمل فسادا.
298

وقال ابن عباس في قوله جل وعز: * (فكأنما قتل الناس
جميعا) * أوبق نفسه، فصار بمنزلة من قتل الناس جميعا، أي في
استحقاقه العذاب.
ويستحق المقتول النصر، وطلب الثأر من القاتل، على
المؤمنين جميعا.
قال ابن عباس: إحياؤها: ألا يقتل نفسا حرمها الله عز
وجل.
وقال قتادة: عظم الله أمره، فألحقه من الإثم هذا.
وقيل: هو تمثيل، أي الناس جميعا له خصماء.
ومعنى * (أو فساد في الأرض) * وفساده: الحرب، وإخافة
السبيل.
299

وفي حديث حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن
سهل بن حنيف قال: سمعت عثمان بن عفان رحمه الله يقول سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل دم امرئ مسلم
إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل
نفس بغير نفس ".
ومعنى * (فكأنما أحيا الناس جميعا) * على قول قتادة: أنه
يعطى من الثواب على قدر ذلك.
وقيل: وجب شكره على الناس جميعا، فكأنما من عليهم
جميعا، يروى هذا عن مكحول.
وقول ابن عباس أولاها وأصحها.
74 - وقوله جل وعلا: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله
ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم
وأرجلهم من خلاف...) * إلى آخر الآية [آية 33].
قال الحسن: السلطان مخير أي هذه الأشياء شاء فعل،
وكذلك روى ابن نجيح عن عطاء، وهو قول مجاهد وإبراهيم
والضحاك، وهو حسن في اللغة لأن " أو " تقع للتخيير كثيرا.
300

وقال أبو مجلز: الآية على الترتيب، فمن حارب فقتل وأخذ
المال صلب، ومن قتل قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده
ورجله من خلاف، ومن لم يقتل ولم يأخذ المال نفي.
وروى هذا القول حجاج بن أرطاة عن عطية عن ابن عباس
مثله، غير أنه قال في أوله، فمن حارب وقتل وأخذ المال قطعت يده
ورجله من خلاف، ثم صلب، وليس في قول أبي مجلز قبل الصلب
ذكر شيء.
واحتج أصحاب هذا القول بحديث رواه عثمان، وعائشة
وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحل دم امرئ مسلم
إلا بإحدى ثلاث... " وذكر الحديث، قالوا: فقد امتنع قتله
إلا أن يقتل، فوجب أن تكون الآية على المراتب.
301

وقال الزهري في قوله تعالى: * (أو ينفوا من الأرض) *
كلما علم أنه في موضع قوتل حتى يخرج منه.
وقال أهل الكوفة: النفي ها هنا الحبس.
وروي هذا عن ابن عباس بإسناد ضعيف.
وقال سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز: ينفى من بلدته
إلى بلدة أخرى غيرها.
75 - وقوله جل وعز: * (ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الآخرة
عذاب عظيم) * [آية 33].
يقال: خزي يخزى خزيا: إذا افتضح وتحير، وخزي يخزى
خزاية: إذا استحيا، كأنه تحير كراهة أن يفعل القبيح.
302

76 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه
الوسيلة) * [آية 35].
قال ابن عباس: يعني القربة، وكذلك قال الحسن.
وروى موسى بن وردان عن أبي سعيد الخدري قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الوسيلة: درجة عند الله جل وعز، وليس فوقها
درجة ".
77 - وقوله جل وعز: * (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين
منها) * [آية 37].
قال يزيد الفقير: قيل لجابر بن عبد الله: أنتم يا أصحاب
محمد تقولون: إن قوما يخرجون من النار، والله يقول * (وما هم
303

بخارجين منها) *؟ فقال جابر: إنكم تجعلون العام خاصا، والخاص
عاما، إنما هذا في الكفار خاصة، فقرأت الآية من أولها إلى آخرها،
فإذا هي في الكفار خاصة.
78 - وقوله جل وعز: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * [آية 38].
قال سيبويه: المعنى: وفيما فرض عليكم السارق
والسارقة
79 - ثم قال جل وعز: * (جزاء بما كسبا نكالا من الله) * [آية 38].
يقال: نكلت به، إذا فعلت به ما يجب أن ينكل به عن
ذلك الفعل.
80 - وقوله جل وعز: * (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله
يتوب عليه إن الله غفور رحيم) * [آية 39].
304

المعنى: غفور له، وجعل الله توبة الكافرين تدرأ عنهم الحدود، لأن
ذلك أدعى إلى الإسلام، وجعل توبة المسلمين عن السرقة والزنا،
لا تدرأ عنهم الحدود، لأن ذلك أعظم لأجورهم في الآخرة، وأمنع
لمن هم أن يفعل مثل فعلهم.
وقال مجاهد والشعبي: قرأ عبد الله بن مسعود: * (والسارق
والسارقة فاقطعوا أيمانهما) *.
81 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في
الكفر) * [آية 41].
أي لا يحزنك مسارعتهم إلى الكفر، لأن الله جل وعز قد
وعدك النصر.
305

82 - ثم قال جل وعز: * (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن
قلوبهم) * [آية 41].
قال مجاهد يعني المنافقين.
83 - ثم قال جل وعز: * (ومن الذين هادوا سماعون
للكذب) * [آية 41].
قال مجاهد: يعني اليهود.
فأما معنى (سماعون للكذب) والإنسان يسمع الخير
والشر، ففيه قولان:
أحدهما: أن المعنى قابلون للكذب، وهذا معروف في اللغة
أن يقال: لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه، ومنه " سمع الله لمن
حمده " معناه قبل، لأن الله جل وعز سامع لكل شيء.
306

والقول الآخر: أنهم سماعون من أجل الكذب، كما تقول:
أنا أكرم فلانا لك أي من أجلك.
84 - ثم قال جل وعز: * (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) * [آية 41].
أي هم عيون لقوم آخرين لم يأتوك.
85 - ثم قال جل وعز: * (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) * [آية 41].
أي من بعد أن وضعه الله مواضعه، فأحل حلاله، وحرم
حرامه.
86 - ثم قال جل وعز * (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه
فاحذروا) * [آية 41]..
أي تقول اليهود: إن أوتيتم هذا الحكم المحرف فخذوه، وإن لم
تؤتوه فاحذروا أن تعملوا به.
ومعنى هذا أن رجلا منهم زنى وهو محصن، وقد كتب الرجم
على من زنى وهو محصن في التوراة، فقال بعضهم: أئتوا محمدا لعله
307

يفتيكم بخلاف الرجم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر
بالرجم، بعد أن أحضرت التوراة، ووجد فيها فرض الرجم، وكانوا
قد أنكروا ذلك.
87 - ثم قال جل وعز: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله
شيئا) * [آية 41].
قيل: معنى الفتنة ها هنا الاختبار،
وقيل: معناها العذاب.
88 - ثم قال جل وعز: * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم
لهم في الدنيا خزي) * [آية 41].
أي فضيحة وذل، حين أحضرت التوراة، فتبين كذبهم.
وقيل: خزيهم في الدنيا: أخذ الجزية، والذل.
308

89 - ثم قال جل وعز: * (سماعون للكذب أكالون للسحت) *
[آية 42].
روى زر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: السحت:
الرشوة.
وقال مسروق: سألت عبد الله عن الجور في الحكم،
قال: ذلك الكفر، قلت: فما السحت؟ قال أن يقضي الرجل
لأخيه حاجة، فيهدي إليه هدية فيقبلها.
والسحت في كلام العرب على ضروب، يجمعها أنه ما
يسحت دين الإنسان،
يقال: سحته وأسحته: إذا استأصله، ومنه
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلف
309

90 - وقوله جل وعز: * (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض
عنهم...) * [آية 42].
في هذا قولان:
أحدهما: روي عن ابن عباس أنه قال: هي منسوخة،
نسخها * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * وكذا قال مجاهد
وعكرمة.
قال الشعبي: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم، وكذلك
قال إبراهيم.
وقال الحسن: ليس في المائدة شيء منسوخ.
والاختيار عند أهل النظر القول الأول، لأنه قول ابن
عباس، ولا يخلو قوله عز وجل * (وأن احكم بينهم بما أنزل
الله) * من أن يكون ناسخا لهذه الآية.
أو يكون معناه وأن احكم بينهم بما أنزل الله، إن حكمت،
فقد صار مصيبا أن حكم بينهم بإجماع.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقويه.
310

روي عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب (أن يهوديا
مر به على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حمم وجهه، فسأل
عن شأنه، فقيل: زنى وهو محصن...) وذكر الحديث، وقال في
آخره: فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أنا أول من أحيا ما
أماتوا من أمر الله، فأمر به فرجم ".
ويبين لك أن القول هذا، قوله جل وعز: * (يا أيها الذين
آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) *.
91 - وقوله جل وعز: * (فاحكم بينهم بالقسط) * [آية 42].
أي بالعدل.
311

92 - وقوله جل وعز: * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) * [آية 44]
أي فيها بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاءوا
يستفتون فيه.
93 - ثم قال جل وعز: * (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين
هادوا) * [آية 44].
يجوز أن يكون المعنى: فيها هدى ونور للذين هادوا، يحكم
بها النبيون،
ويجوز أن يكون المعنى: يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين
هادوا وعليهم، ثم حذف.
وقد قيل: إن " لهم " بمعنى " عليهم " وتأول حديث النبي
صلى الله عليه وسلم في أمر بريرة، حين قال " اشترطي لهم
312

الولاء " أن معناه " عليهم " لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمرها
بشيء لا يجب، وقال الله جل ذكره: * (وإن أسأتم فلها) *.
و " الذين أسلموا " ههنا نعت فيه معنى المدح، مثل " بسم
الله الرحمن الرحيم ".
94 - ثم قال جل وعز: * (والربانيون والأحبار...) * [آية 44].
قال أبو رزين: الربانيون: العلماء، الحكماء.
والرباني عند أهل اللغة: معناه رب العلم أي صاحب العلم،
وجئ بالألف والنون للمبالغة.
ويقوي هذا أنه يروى أن ابن الحنفية - رحمة الله عليه - قال لما
مات ابن عباس: " مات رباني العلم ".
313

وقال مجاهد: الربانيون فوق الأحبار، والأحبار: العلماء.
لأنهم يحبرون لشيء، وهو في صدورهم محبر.
وقال ابن عباس: سمي الحبر الذي يكتب به حبرا، لأنه
يحبر به أي يحقق به.
وقال الثوري: سألت الفراء لم سمي الحبر حبرا؟ فقال:
يقال للعالم حبر، وحبر، والمعنى: مداد حبر، ثم حذف كما قال
تعالى * (واسأل القرية) * فسألت الأصمعي فقال: ليس هذا
بشيء، إنما سمي حبرا لتأثيره، يقال: على أسنانه حبرة أي صفرة،
أو سواد.
95 - ثم قال جل وعز: * (بما استحفظوا من كتاب الله) * [آية 44].
أي استودعوا.
314

96 - وقوله جل وعز: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون) * [آية 44].
قال ابن عباس: هو به كافر، لا كفرا بالله، وملائكته،
وكتبه.
وقال الشعبي: الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود،
والثالثة في النصارى.
وقال غيره: من رد حكما من أحكام الله فقد كفر.
قلت: وقد أجمعت الفقهاء على أنه من قال لا يجب الرجم
على من زنى وهو محصن أنه كافر، لأنه رد حكما من أحكام الله
جل وعز.
ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات، أهي في بني
إسرائيل؟ فقال: نعم، هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل
بالنعل.
315

وقال الحسن: أخذ الله جل وعز على الحكام ثلاثة أشياء:
أن لا يتبعوا الهوى، وأن لا يخشوا الناس ويخشوه، وأن لا يشتروا
بآياته ثمنا قليلا.
وأحسن ما قيل في هذا ما رواه الأعمش عن عبد الله بن مرة،
عن البراء قال: هي في الكفار كلها يعني * (فأولئك هم الكافرون) *
* (فأولئك هم الظالمون) * * (فأولئك هم الفاسقون) *.
[والتقدير على هذا القول: والذين لم يحكموا بما أنزل الله،
فأولئك هم الكافرون].
316

97 - وقوله جل وعز: * (فمن تصدق به فهو كفارة له) * [آية 45].
قال ابن عباس: فهو كفارة للجارح، وكذلك قال
عكرمة.
والمعنى: فمن تصدق بحقه.
وقال عبد الله بن عمرو: فهو كفارة للمجروح أي يكفر
عنه من ذنوبه مثل ذلك، وكذلك قال ابن مسعود وجابر بن زيد
رحمهما الله.
98 - وقوله جل وعز: * (ومهيمنا عليه) * [آية 48].
قال ابن عباس: أي مؤتمنا عليه.
وقال سعيد بن جبير: القرآن مؤتمن على ما قبله من
الكتب.
وقال قتادة: أي شاهد
317

وقال أبو العباس: محمد بن يزيد: الأصل مؤيمن عليه أي
أمين، فأبدل من الهمزة هاء، كما يقال: هرمت الماء، وأرمت الماء.
وقال أبو عبيد: يقال: هيمن على الشيء، يهيمن، إذا
كان له حافظا.
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعاني، لأنه إذا كان حافظا
للشيء، فهو مؤتمن عليه، وشاهد
وقرأ مجاهد وابن محيصن * (ومهيمنا عليه) * بفتح الميم.
وقال مجاهد: أي محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمن على
القرآن.
99 - وقوله جل وعز: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * [آية 48]
قال ابن عباس: سبيلا، وسنة.
318

وقال قتادة: الدين كله واحد، والشرائع مختلفة.
وشرعة، وشريعة عند أهل اللغة بمعنى واحد، وهو ما بان
ووضح.
ومنه: طريق " للشارع "، أي ظاهر بين، ومنه " هما في الأمر شرع "
أي ظهورهما فيه واحد.
والمنهاج في اللغة: الطريق البين.
وقال أبو العباس " محمد بن يزيد ": الشريعة: ابتداء
الطريق، والمنهاج: الطريق المستمر.
319

100 - وقوله جل وعز: * (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) * [آية 48]
قال ابن عباس: على دين واحد.
101 - ثم قال جل وعز: * (ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) * [آية 48].
أي ليختبركم.
102 - وقوله جل وعز: * (أفحكم الجاهية يبغون) *؟ [آية 50].
روي عن الحسن، وقتادة، والأعرج، والأعمش أنهم قرءوا
* (أفحكم الجاهلية يبغون) *؟
الحكم والحاكم في اللغة واحد، وكأنهم يريدون الكاهن وما
أشبهه، من حكام الجاهلية، وهذا في قراءة من قرأ " أفحكم " ومعنى
* (يبغون) * يطلبون.
وقال مجاهد: يراد بهذا اليهود، يعني في أمر الزانيين حين
جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يتوهمون أنه يحكم عليهما
بخلاف الرجم.
320

103 - ثم قال جل وعز: * (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) *
أي من أيقن تبين أن حكم الله جل وعز هو الحق.
104 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود
والنصارى أولياء) * [آية 50].
هذا في المنافقين، لأنهم كانوا يمالئون المشركين ويخبرونهم
بأسرار المؤمنين.
105 - وقوله جل وعز: * (فترى الذين في قلوبهم مرض) * [آية 51]
أي نفاق * (يسارعون فيهم) *.
المعنى: يسارعون في معاونتهم، ثم حذف، كما قال جل وعز
(واسأل القرية).
106 - ثم قال جل وعز: * (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) * [آية 52]
في معناه قولان:
321

أحدهما: روي عن ابن عباس قال: يقولون نخشى أن لا يدوم
الأمر لمحمد.
والقول الآخر: نخشى أن يصيبنا قحط فلا يفضلوا
علينا.
والقول الأول أشبه بالمعنى، كأنه من دارت تدور، أي
نخشى أن يدور أمر.
ويدل عليه قوله جل وعز: * (فعسى الله أن يأتي بالفتح، أو
أمر من عنده) * لأن الفتح: النصر.
قال ابن عباس: فأتى الله بالفتح، فقتلت مقاتلة بني
قريظة، وسبيت ذراريهم، وأجلي بنو النضير.
وقيل معنى * (أو أمر من عنده) * أي بأمر النبي عليه
السلام أن يخبر بأسماء المنافقين، * (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم
322

نادمين) *.
107 - ثم قال جل وعز: * (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله
جهد أيمانهم إنهم لمعكم) * [آية 53].
أي أهؤلاء الذين اجتهدوا في الأيمان، أنهم لا يوالون
المشركين؟
ثم قال تعالى: * (حبطت أعمالهم) * وهذا مثل قوله تعالى:
* (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) *.
108 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) * [آية 54].
في معنى هذا قولان:
قال الحسن: هو والله أبو بكر رضي الله عنه وأصحابه.
323

حدثنا أبو جعفر قال: نا الحسن بن عمر بن أبي الأحوص
الكوفي، قال: نا أحمد بن يونس السري يعني ابن يحيى قال: قرأ
الحسن هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) * حتى قرأ الآية فقال
الحسن: فولاها الله والله أبا بكر وأصحابه.
وروى شعبة عن سماك بن حرب، عن عياض الأشعري
قال: لما نزلت: * (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) * أومأ
النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله فقال:
هم قوم هذا.
109 - ثم قال جل وعز: * (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * [آية
54].
قال أبو جعفر: سمعت أبا إسحاق وسئل عن معنى هذا
فقال: ليس يريد " أذلة " من الهوان، وإنما يريد أن جانبهم لين
للمؤمنين، وخشن على الكافرين.
110 - ثم قال جل وعز: * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) * [آية 54].
أي ذلك اللين للمؤمنين، والتشديد على الكافرين، تفضل
324

من الله جل وعز، منحهم إياه.
111 - وقوله تبارك اسمه: * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) *
[آية 55].
قال أبو عبيد: أخبرنا هشيم ويزيد عن عبد الملك بن
سليمان عن أبي جعفر محمد بن علي في قوله جل وعز: * (إنما
وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) * قال: يعني المؤمنين، فقلت له
بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: علي من
المؤمنين.
قال أبو عبيد: وهذا يبين لك قول النبي صلى الله عليه وسلم " من كنت
مولاه، فعلي مولاه " فالمولى والولي واحد، والدليل على هذا قوله
جل وعز * (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى
النور) *.
325

ثم قال في موضع آخر * (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا
وأن الكافرين لا مولى لهم) *.
فمعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ولاية الدين، وهي أجل
الولايات.
وقال غير أبي عبيد: من كنت ناصره فعلي ناصره.
112 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا
دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار
أولياء) * [آية 57].
وقرأ الكسائي: (والكفار أولياء).
والمعنى: من الذين أوتوا الكتاب، ومن الكفار.
قال الكسائي: في حرف " أبي " رحمه الله: ومن
الكفار.
وروي عن ابن عباس رحمه الله، أن قوما من اليهود
والمشركين، ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم، فأنزل الله تعالى
326

* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا) * إلى
آخر الآيات.
113 - وقوله جل وعز: * (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند
الله) * [آية 60].
وفي هذا قولان:
روي عن ابن عباس أنه قال: قالت اليهود في أمة محمد صلى الله عليه وسلم
: هم أقل الناس حظا في الدنيا والآخرة، فأنزل الله جل وعز:
* (قل هل أنبئكم بشر من ذلك...) * الآية.
327

والقول الآخر: وهو المعروف الصحيح، أن المعنى: قل هل
أنبئكم بشر من نقومكم علينا ثوابا؟ لأن قبله * (هل تنقمون منا
إلا أن آمنا بالله) *!!
قال الكسائي: يقال نقمت على الرجل أنقم، نقوما،
ونقمة.
وقد حكي نقمت أنقم: إذا كرهت الشيء أشد الكراهية.
114 - ثم قال جل وعز: * (من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم
القردة والخنازير) * [آية 60].
قال مجاهد: يعني اليهود، مسخ منهم.
328

115 - ثم قال جل وعز: * (وعبد الطاغوت) * وهذه قراءة أهل المدينة،
وأبي عمرو والكسائي.
وقرأ أبو جعفر (وعبد) مثل ضرب، ولا وجه لهذا.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ: * (وعبدوا
الطاغوت) *.
وروي عن أبي بن كعب وعن ابن مسعود من طريق آخر أنهما
قرءا * (وعبدت الطاغوت) *.
وقرأ ابن عباس: * (وعبد الطاغوت) *.
وروي عن [عكرمة عن ابن عباس أنه يجوز
" وعابد الطاغوت " وروي عن] الأعمش ويحيى بن وثاب * (وعبد
الطاغوت) *.
وقرأ أبو واقد الأعرابي: * (وعباد الطاغوت) *.
وقرأ حمزة: * (وعبد الطاغوت) *.
329

فمن قرأ: * (وعبد الطاغوت) * فالمعنى عنده: من لعنه الله،
ومن عبد الطاغوت.
وحمل الفعل على لفظ " من ".
ومن قرأ: * (وعبدوا الطاغوت) * فهو عنده بذلك المعنى،
إلا أنه حمله على معنى " من " كما قال جل وعز: * (ومنهم من
يستمعون إليك) ".
ومن قرأ: * (وعبدت الطاغوت) * حمله على تأنيث الجماعة
كما قال جل وعز: * (قالت الأعراب) *.
ومن قرأ: * (وعبد الطاغوت) * فهو عنده جمع عابد كما
يقال: شاهد وشهد، وغائب وغيب.
ومن قرأ: * (وعابد) * فهو عنده واحد يؤدي عن جماعة
330

ومن قرأ: (وعبد) فهو عنده جمع عباد أو عبيد كما يقال
مثال ومثل، ورغيف ورغف.
وقال بعض النحويين: هو جمع عبد كما يقال رهن ورهن
وسقف وسقف.
ومن قرأ (وعباد) فهو جمع عابد كما يقال عامل وعمال.
ومن قرأ: * (وعبد الطاغوت) * فأكثر أهل اللغة يذهب إلى
أنه لحن، وهي تجوز على حيلة، وذلك أن يجعل " عبدا " واحدا
يدل على جماعة، كما يقال: رجل حذر، وفطن، وندس، فيكون
المعنى: وخادم الطاغوت، وعلى هذا تتأول هذه القراءة.
يقال: عبده، يعبده، إذ ذل له أشد الذل، ومنه بعير معبد
أي مذلل بالقطران، ومنه طريق معبد، ومنه يقال: عبدت أعبد:
إذا أنفت، كما قال:
331

" وأعبد أن تهجى تميم بدارم "
والمعنى: على هذا: وخادم الطاغوت.
وقد قيل: الفرد بمعنى الفرد، وينشد النابغة:
من وحش وجرة موشي أكارعه
طاوي المصير، كسيف الصيقل الفرد
ويروى الفرد.
وقيل: الطاغوت ها هنا: يعنى به الشيطان، وكذا روي
عن بريدة الأسلمي أنه قرأ * (وعابد الشيطان) *.
وأجاز: بعض العلماء * (وعبد الطاغوت) * بالخفض على
معنى: عبدة مثل: كاتب، وكتبة، والهاء تحذف من مثل هذا في
الإضافة.
116 - وقوله عز وجل: * (وإذا جاؤكم قالوا آمنا، وقد دخلوا بالكفر،
وهم قد خرجوا به...) * [آية 61].
332

أي لم ينتفعوا بشيء مما سمعوا، فخرجوا بكفرهم.
117 - وقوله جل وعز * (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار...) *
وقرأ أبو الجراح: (لولا ينهاهم الربيون) [آية 63]
قال مجاهد: (الربانيون والأحبار): العلماء، والفقهاء، والربانيون فوق الأحبار.
قال أبو جعفر: والربيون: الجماعات، وهو مأخوذ من الربة،
والربة: الجماعة فنسب إليها، فقيل: ربي، ثم جمع فقيل:
ربيون.
قال أبو جعفر: والمعنى: بئس الصنع ما يصنع هؤلاء
الربانيون والأحبار، في تركهم نهي هؤلاء.
333

قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، أننا
لا ننهى
وفي هذه الآية حكم في أمر العلماء في النهي عن المنكر.
118 - وقوله عز وجل: * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت
أيديهم) * [آية 64].
في هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحسنها ما روي عن ابن عباس أنه قال: قالت اليهود إن الله
عز وجل بخيل.
والمعنى عند أهل اللغة على التمثيل: أي قالوا هو ممسك عنا لم
يوسع علينا حين أجدبوا، كما قال تعالى: * (ولا تجعل يدك مغلولة
إلى عنقك) * فهذا نظير ذاك، والله أعلم.
334

وقيل: اليد ها هنا النعمة.
وقيل: هذا القول غلط لقوله * (بل يداه مبسوطتان) * فنعم
الله جل وعز أكثر من أن تحصى، فكيف يكون بل نعمتاه
مبسوطتان؟
فقال من احتج لمن قال: إنهما نعمتان، بأن المعنى النعمة
الظاهرة، والباطنة.
والقول الثالث: أن المعنى أنه لا يعذبنا، أي مغلولة عن
عذابنا.
119 - وقوله عز وجل: * (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم
القيامة) * [آية 64].
أي جعل بأسهم بينهم، فهم متباغضون غير متفقين، فهم
أبغض خلق الله إلى الناس.
335

وقال مجاهد: هم اليهود والنصارى.
والذي قال حسن، ويكون راجعا إلى * (لا تتخذوا اليهود
والنصارى أولياء) *.
120 - ثم قال جل وعز * (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) * [آية
64].
هذا تمثيل: أي كلما تجمعوا شتت الله أمرهم.
وقال قتادة: أذلهم الله جل وعز بمعاصيهم، فلقد بعث
النبي صلى الله عليه وسلم وهم تحت أيدي المجوس.
121 - ثم قال جل وعز: * (ويسعون في الأرض فسادا) * [آية 64].
336

أي يسعون في إبطال الإسلام.
122 - وقوله جل وعز * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل) * [آية 66].
أي لو أظهروا ما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
* (وما أنزل إليهم من ربهم) * يعني به القرآن، والله
أعلم.
123 - ثم قال جل وعز: * (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) *
فهذا يدل على أنهم كانوا في جدب.
* (ومن فوقهم) * على قول ابن عباس ومجاهد والسدي يعني:
المطر، * (ومن تحت أرجلهم) * يعني: النبات.
وقيل: يجوز أن يكون تمثيلا: أي لوسعنا عليهم كما يقال:
337

فلان في خير من قرنه إلى قدمه، أي قد شمله الخير.
والأول قول أهل التأويل،
124 - وقوله عز وجل * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن
لم تفعل فما بلغت رسالاته) * [آية 67].
في معناه قولان:
أحدهما: بلغ كل ما أنزل إليك، ويقوي هذا أن مسروقا
روى عن عائشة أنها قالت: " من حدثك أن محمدا صلى الله عليه
وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب، والله يقول: * (يا أيها
الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت
رسالته) *.
والقول الآخر: وعليه أكثر أهل اللغة إن المعنى: أظهر ما
أنزل إليك من ربك، أي بلغه ظاهرا.
338

ودل على هذا قوله تعالى: * (والله يعصمك من الناس) * أي
يمنعك منهم أن ينالوك بسوء.
مشتق من عصام القربة، وهو ما تشد به.
وقوله جل وعز * (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك طغيانا
وكفرا) *
أي يكفرون به فيزدادون كفرا على كفرهم.
125 - ثم قال جل وعز * (فلا تأس على القوم الكافرين) * [آية 68].
أي فلا تحزن عليهم.
126 - وقوله جل وعز: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون
والنصارى) * [آية 69].
في هذا قولان:
أحدهما: أنه يعني بالذين آمنوا ها هنا " المنافقون ".
339

والتقدير: إن الذين آمنوا بألسنتهم، ودل على هذا قوله تعالى
* (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم
ولم تؤمن قلوبهم) *
127 - ثم قال جل اسمه * (من آمن بالله) * [آية 69].
فالمعنى على هذا القول: من حقق الإيمان بقلبه.
والقول الآخر: إن معنى " من آمن بالله " من ثبت على
إيمانه كما قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله
ورسوله) *.
128 - وقوله جل وعز * (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا
كذبوا وفريقا يقتلون) * [آية 70].
قال: اليهود والنصارى يشتركون في التكذيب، واليهود تنفرد
بالقتل خاصة.
وكانت الرسل منها من يأتي بالشرائع، والكتب، والأحكام،
نحو محمد صلى الله عليه وسلم، وموسى، وعيسى، وهؤلاء
340

معصومون.
ومنهم من يأتي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتمسك
بالدين، نحو يحيى، وزكريا عليهما السلام.
129 - وقوله عز وجل * (وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا) *
[آية 71].
قال الحسن: يعني بالفتنة: البلاء.
وقال غيره: معنى * (فعموا وصموا) * تمثيل: أي لم يعملوا بما
سمعوا ولا [انتفعوا] بما رأوا، فهم بمنزلة العمي الصم.
130 - ثم قال جل وعز * (ثم تاب الله عليهم) * [آية 71].
أي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله عز وجل يتوب عليهم إن
تركوا الكفر.
341

* (ثم عمو وصموا) * أي بعد وضوح الحجة.
131 - وقوله عز وجل * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن
مريم) * [آية 72].
قال إبراهيم النخعي: المسيح: الصديق.
قال أبو جعفر: ووجدنا للعلماء في تفسير معناه ستة أقوال
سوى هذا:
روي عن ابن عباس: سمي مسيحا لأنه كان أمسح الرجل،
لا أخمص له.
وروى غيره عنه: إنما سمي مسيحا لأنه كان لا يمسح بيده
ذا عاهة إلا برأ، ولا يضع يده على شيء إلا أعطي فيه مراده.
وقال ثعلب: لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها.
وقيل: لسياحته في الأرض.
وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن.
342

وقال أبو عبيد: أحسب أصله بالعبرانية مشيحا.
قال: وأما قولهم " المسيح الدجال " فإنما سمي مسيحا لأنه
ممسوح إحدى العينين، فهو مسيح بمعنى ممسوح، كما يقال: قتيل
بمعنى مقتول.
132 - وقوله جل وعز * (وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) * [آية 75].
من الصدق، و " فعيل " في كلام العرب للتكثير، كما يقال:
سكيت.
وقال جل وعز * (وصدقت بكلمات ربها وكتبه) *.
ومن هذا قيل لأبي بكر رضي الله عنه: صديق.
343

ويروى أنه إنما قيل له: صديق، لأنه لما أخبر أن النبي صلى
الله عليه وسلم أسري به إلى بيت المقدس، فقال: إن كان قال فقد
صدق.
133 - وقوله جل وعز * (كانا يأكلان الطعام) * [آية 75].
في معناه قولان:
أحدهما: كناية عن إتيان الحاجة، كما يكنى عن الجماع
بالغشيان وما أشبهه.
وقيل: كانا يتغذيان كما يتغذى سائر الناس، فكيف يكون
إلها من لا يعيش إلا بأكل الطعام؟
134 - ثم قال جل وعز ذكره * (انظر كيف نبين لهم الآيات، ثم انظر
أنى يؤفكون) * [آية 75].
أي: قد بينا لهم العلامات، وأوضحنا الأمر، فمن أين
يصرفون؟
344

يقال: أفكه، يأفكه: إذا صرفه.
135 - وقوله جل وعز * (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير
الحق) * [آية 77].
الغلو: التجاوز.
قال أبو عبيد: كما فعلت الخوارج، أخرجهم الغلو إلى أن
كفروا [أهل] الذنوب.
قال: ويبين لك هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيهم:
(يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) والمروق هو الغلو
بعينه، لأن السهم يتجاوز الرمية.
136 - ثم قال جل وعز * (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا
كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل) * [آية 77].
345

قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: يعني اليهود.
وقال غيره: لأنهم اتبعوا شهواتهم، وطلبوا دوام رياستهم،
وآثروا ذلك على الحق.
والهوى في القرآن مذموم، والعرب لا تستعمله إلا في الشر،
فأما في الخير فيستعملون الشهوة، والنية، والمحبة.
137 - ثم قال جل وعز: * (وأضلوا كثيرا) * [آية 77].
قال ابن أبي نجيح: يعني المنافقين.
وقال غيره: ضلوا باتباعهم إياهم.
138 - ثم قال جل وعز: * (وضلوا عن سواء السبيل) * [آية 77].
أي قصده.
139 - وقوله جل وعز: * (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان
داود وعيسى ابن مريم) * [آية 78].
قال أبو مالك: الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة،
346

والذين لعنوا على لسان عيسى صلى الله عليه وسلم مسخوا
خنازير.
وروي عن ابن عباس أنه قال: الذين لعنوا على لسان داود
أصحاب السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين كفروا بعد
نزول المائدة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول ما وقع
[النقص] في بني إسرائيل أن أحدهم كان يرى أخاه على المعصية
فينهاه، ثم لا يمنعه ذلك من الغد أن يكون أكيله، وشريبه، فضرب
الله قلوب بعضهم ببعض، وأنزل فيهم القرآن: * (لعن الذين كفروا
من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا
وكانوا يعتدون) *
ثم قال صلى الله عليه وسلم " كلا والذي نفسي بيده، حتى
347

تأخذوا على يدي الظالم، فتأطروه على الحق أطرا ".
140 - وقوله جل وعز: * (ترى كثيرا منهم يتولون الذين
كفروا) * [آية 80].
قال مجاهد: يعني المنافقين.
141 - وقوله جل وعز: * (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود
والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا
نصارى) * [آية 82].
قال سعيد بن جبير: هم سبعون رجلا وجه بهم النجاشي،
وكانوا أجل من عنده، فقها وسنا، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه
وسلم " يس " فبكوا، وقالوا: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين.
348

وأنزل الله فيهم أيضا: * (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم
به يؤمنون) * إلى قوله * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) * إلى آخر
الآية.
وروي عن ابن عباس أنه قال: هم قوم من الحبشة جاءوا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وكان معهم رهبان من رهبان الشام فآمنوا
ولم يرجعوا.
142 - وقوله جل وعز: * (فاكتبنا مع الشاهدين) * [آية 83].
روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال:
يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويبين لك صحة هذا القول
قوله جل وعز: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على
الناس) *
143 - وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله
لكم) * [آية 87].
349

قال الضحاك: هؤلاء قوم من المسلمين قالوا: نقطع
مذاكيرنا ونلبس المسوح.
وقال قتادة: نزلت في جماعة من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون قالوا
نخصي أنفسنا ونترهب.
وقال مجاهد: نزلت في عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو
بن العاص وغيرهما.
قالوا: نترهب غير ونلبس المسوح.
144 - وقوله جل وعز: * (ولا تعتدوا إن الله لا يحب
المعتدين) * [آية 87].
الاعتداء في اللغة: تجاوز ما له إلى ما ليس له.
قال الحسن: معناه: ألا تأتوا ما نهيتم عنه.
145 - وقوله جل وعز: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) * [آية 89].
فيه قولان:
350

أحدهما: أنه قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وروي هذا
القول عن عائشة.
قال الشافعي: وذلك عند اللجاج، والغضب، والعجلة.
والقول الآخر: أن يحلف الرجل على الشيء هو عنده على
ما حلف، ثم يكون على خلاف ذلك، يروى هذا القول عن ابن
عباس وأبي هريرة.
واللغو في اللغة: المطرح، فقيل لما لا حقيقة له من الأيمان:
لغو.
قال الكسائي: يقال: لغا، يلغو، لغوا، أو لغي، يلغى،
لغا.
146 - وقوله جل وعز: * (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) * [آية 89]
قال الكسائي: معنى * (عقدتم) * أوجبتم.
351

قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما معنى * (عقدتم) *؟
قال: والله الذي لا إليه إلا هو
وقرأ أبو عمرو: * (عقدتم) * قال معناه: وكدتم.
وروى نافع أن ابن عمر كان إذا حنث من غير أن يؤكد
اليمين أطعم عشرة مساكين، لكل مسكين مدا، فإذا وكد اليمين أعتق
رقبة.
قيل لنافع: ما معنى وكد اليمين؟ قال: أن يحلف على
الشيء مرارا.
147 - وقوله جل وعز: * (فكفارته إطعام عشرة مساكين) * [آية 89].
المعنى: فكفارة إثمه أي الذي يغطي على إثمه.
قال أبو جعفر: والهاء التي في * (فكفارته) * عائدة على
(ما) التي في (بما عقدتم الإيمان).
352

وهذا مذهب الحسن والشعبي، لأن المعنى عندهما: فكفارة
ما عقدتم منها.
وقيل: الهاء عائدة على اللغو، والأول أولى.
148 - ثم قال جل وعز: * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) * [آية 89]
قال عبد الله بن عمر: * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) *
الخبز والتمر، والخبز والزيت.
وأفضل ما تطعمونهم: الخبز واللحم.
وقال الأسود: أوسط ما تطعمون أهليكم: الخبز والتمر.
قال أبو إسحاق: يحتمل هذا ثلاثة معان في اللغة:
يجوز أن يكون معنى: * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) * من
أعدل ما تطعمونهم.
قال عز وجل: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * أي عدلا.
353

ويحتمل أن يكون في القيمة.
ويحتمل أن يكون في الشبع.
وقرأ سعيد بن جبير: * (من أوسط ما تطعمون أهليكم أو
كإسوتهم) * أي كإسوة أهليكم.
وروي أن رجلا قرأ على مجاهد: * (أو كإسوتهم) * فقال
له: لا تقرأ إلا * (أو كسوتهم) *، وقال: أرى ذلك ثوبا.
وفي قراءة عبد الله بن أبي بن كعب: * (فمن لم يجد فصيام
ثلاثة أيام متتابعات) *.
149 - ثم قال جل وعز: * (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) * [آية 89].
أي ذلك كفارة إثم أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم، ثم حذف.
قال أبو جعفر: وكان " محمد بن جرير " يختار في
" أوسط " أن تكون بمعنى أعدل في القلة والكثرة، قال: فأعدل
أقوات الموسع مدان، وذلك أعلاه، وأعدل أقوات المقتر مد، وذلك
ربع صاع، و " ما " مصدر. فأما الكسوة:
354

فقال الحسن وطاووس وعطاء: ثوب، ثوب.
وقال سعيد بن المسيب: عباءة، وعمامة.
وقال مجاهد: كل ما كسا فهو مجزئ.
وهذا أشبه باللغة أن يكون كل ما وقع اسم كسوة، مما يكون
ثوبا فصاعدا، لأن ما دون الثوب لا خلاف في أنه لا يجوز.
150 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر
والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان) * [آية 90].
روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: الميسر:
القمار.
وقال عبيد الله بن عمر: سئل القاسم بن محمد عن
الشطرنج: أهي ميسر؟ وعن النرد أهو ميسر؟ فقال: كل ما صد
عن ذكر الله، وعن الصلاة، فهو ميسر.
355

قال أبو عبيد: تأول قول الله عز وجل: * (ويصدكم عن
ذكر الله وعن الصلاة) *
وزعم الأصمعي أن الميسر كان في الجزور خاصة، كانوا
يقتسمونها على ثمانية وعشرين سهما.
وقال أبو عمرو الشيباني: كانوا يقتسمونها على عشرة
أسهم، ثم يلقون القداح ويتقامرون على مقاديرهم، وهذا القول ليس
بناقض لما تقدم، لأن الميسر إذا كان في الجزور خاصة فهو قمار.
ثم قيل ما كان مثله من القمار ميسر، كما أن الخمر لشيء
بعينه، ثم قيل لكل مسكر: خمر، لأنه بمنزلتها.
وقد ذكرنا في أول السورة " الأنصاب، والأزلام ".
والرجس: النتن.
151 - ثم قال جل وعز: * (فاجتنبوه لعلكم تفلحون) * [آية 90].
أي كونوا في جانب غير جانبه.
356

ويروى أن عمر رضي الله عنه لم يزل يقول " اللهم بين لنا في
الخمر " حتى نزلت * (فهل أنتم منتهون) *؟ فقال: قد انتهينا.
152 ي وقوله جل وعز: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات
جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) * [آية 93]
قال ابن عباس والبراء: لما حرمت الخمر، قال
المسلمون: يا رسول الله. فكيف بإخواننا المؤمنين الذين ماتوا وهم
يشربونها؟ فأنزل الله جل وعز: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جناح فيما طعموا) * إلى آخر الآية.
وروى الزهري عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر لما أراد
حد " قدامة بن مظعون " قال قدامة: ما كان لكم أن تجلدوني؟
قال الله جل وعز: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات
جناح فيما طعموا) * الآية، فقال عمر: أخطأت التأويل، إنك إذا
أيقنت اجتنبت ما حرم الله عليك، ثم أمر به فجلد.
357

قيل: هذا أحسن من الأول لأن فيها * (إذا ما اتقوا
وآمنوا) * و " إذا " لا تكون للماضي، فالمعنى على هذا - والله
أعلم - للمؤمنين قبل وبعد، على العموم.
وقد روي هذا أيضا عن ابن عباس.
قال أبو جعفر: قيل * (إذا ما اتقوا) * الشرك * (وآمنوا) *
وصدقوا * (ثم اتقوا وآمنوا) * ازدادوا إيمانا * (ثم اتقوا) * الصغائر
حذرا * (وأحسنوا) * تنفلوا.
وقال محمد بن جرير: الإتقاء الأول هو الإتقاء بتلقي أمر
الله بالقبول والتصديق، والدينونة به، والعمل.
والإتقاء الثاني: الإتقاء بالثبات على التصديق.
والثالث: الإتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل.
153 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من
الصيد) * [آية 94].
المعنى: ليختبرن طاعتكم من معصيتكم.
358

154 - ثم قال جل وعز: * (تناله أيديكم ورماحكم) * [آية 94].
قال مجاهد: الذي " تناله أيديكم " البيض والفراخ، والذي
تناله الرماح ما كان كبيرا.
155 - وقوله جل وعز: * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * [آية 59].
روى شريك عن سالم [عن سعيد بن جبير: * (يا أيها الذين
آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *]
قال: قتله حرام في هذه الآية.
قال بعض العلماء: أي إنه لما حرم قتل الصيد على المحرم،
كان قتله إياه غير تذكية.
156 - وقوله جل وعز: * (ومن قتله منكم متعمدا) * [آية 95].
أكثر الفقهاء على أن عليه الجزاء، سواء كان متعمدا
أو مخطئا.
359

وذهبوا إلى قوله تعالى: * (ومن قتله منكم متعمدا) * مردود
إلى قوله جل وعز: * (ومن عاد فينتقم الله منه) *.
واحتجوا في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم " سئل عن
الضبع فقال: هي صيد "، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم
يقل: عمدا ولا خطأ.
قال الزهري: هو في الخطأ سنة.
وقال بعض أهل العلم: إنما عليه الجزاء إذا قتله متعمدا،
واحتجوا بظاهر الآية.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام نا محمد بن يحيى نا أبو
الوليد نا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله جل وعز
* (ومن قتله منكم متعمدا) * قال: ليس عليه في الخطأ شيء، إنما هو
في العمد، يعني الصيد.
360

157 - وقوله جل وعز: * (فجزاء مثل ما قتل من النعم) * [آية 95].
قيل: النعم في اللغة " الإبل، والبقر، والغنم " وإن انفردت
الإبل قيل لها نعم، وإن انفردت " البقر والغنم " لم يقل لها:
نعم.
وقرأ الأعمش: * (فجزاؤه مثل ما) * والمعنى: فعليه جزاؤه، ثم أبدل
" مثلا " من جزائه.
158 - وقوله جل وعز: * (أو كفارة طعام مساكين) * [آية 95].
" أو " هنا للتخيير.
وفي معناه أقوال:
وقيل: الحاكم مخير.
وقيل: أنه يعمل بالأول فالأول.
والقول الأول أحسن، لأن قاتل الصيد هو المخاطب، ولأن
361

المعروف أن " أو " للتخيير.
وقرأ طلحة والجحدري * (أو عدل ذلك صياما) * وأنكره
جماعة من أهل اللغة وقالوا: العدل: الحمل.
وقال الكسائي: العدل، والعدل لغتان بمعنى واحد.
وقال الفراء: عدل الشيء: مثله من غير جنسه، وعدله:
مثله من جنسه.
وأنكر البصريون هذا التفريق وقالوا: العدل والعدل: المثل،
كان من الجنس، أو من غير الجنس لا يختلف، كما أن المثل
لا يختلف.
وفي الحديث " لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا "
فالصرف: التوبة، والعدل: الفدية،
362

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو حاتم: ولا يعرف قول من قال إنهما " الفريضة،
والنافلة " والذي أنكره أبو حاتم قاله المازري.
159 - ثم قال جل وعز: * (ليذوق وبال أمره) * [آية 95].
أي شدته، ومنه طعام وبيل، إذا كان ثقيلا، ومنه قوله:
" عقيلة شيخ كالوبيل يلندد ".
160 - ثم قال جل وعز: * (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله
منه) * [آية 95].
قال عطاء: عفا الله عما سلف في الجاهلية.
وقال شريح وسعيد بن جبير: يحكم عليه في أول مرة، فإذا
عاد لم يحكم عليه، وقيل له: اذهب ينتقم الله منك، أي ذنبك
أعظم من أن يكفر.
363

كما أن اليمين الفاجرة لا كفارة لها عند أكثر أهل العلم لعظم إثمها.
قلت: قول عطاء في هذا أشبه، والمعنى: ومن عاد بعد
الذي سلف في الجاهلية، فينتقم الله منه بأشياء تصيبه من
العقوبة، أو يكون مثل قوله * (ليذوق وبال أمره) *.
161 - وقوله جل وعز: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم
وللسيارة) * [آية 96].
روى عمر بن أبي سلمة [عن أبيه] عن أبي هريرة عن
عمر قال:
" صيد البحر ما صيد منه، وطعامه ما قذف ".
وكذلك روى سعيد بن جبير عن ابن عباس:
364

وقيل: طعامه: ما زرع لأنه به ينبت.
وقال سعيد بن جبير: طعامه: المليح منه، وصيده: ما
كان طريا.
البين أن صيده أن تصيدوا، وطعامه أن تأكلوا الصيد.
قال مجاهد: * (لكم) * لأهل القرى * (وللسيارة) * لأهل
الأمصار.
وقيل: السيارة: المسافرون، وهذا أولى.
162 - وقوله جل وعز * (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) * [آية 97].
فيه قولان:
أحدهما: وهو أشبه بالمعنى، أنهم يقومون بها ويأمنون.
قال سعيد بن جبير: شدة للدين.
365

والقول الآخر: أنهم يقومون بشرائعها.
فأما قوله جل وعز بعد هذا: * (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما
في السماوات وما في الأرض) * ومجانسة هذا الأول، فقال أبو
العباس محمد بن يزيد: كانوا في الجاهلية يعظمون البيت الحرام،
والأشهر الحرم، حتى إنهم كانوا يسمون رجبا - وهو من الأشهر
الحرم - الأصم، لأنه لا يسمع فيه وقع السلاح، فعلم الله عز وجل
ما يكون منهم من إغارة بعضهم على بعض، فألهمهم أن لا يقاتلوا في
الأشهر الحرم، ولا عند البيت الحرام، ولا من كان معه القلائد،
فالذي ألهمهم هذا، يعلم ما في السماوات وما في الأرض.
وقال أبو إسحاق: وقد أخبر الله جل وعز النبي صلى الله
عليه وسلم في هذه السورة بأشياء، مما يسره المنافقون، واليهود،
فقال جل وعز:
366

* (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) *
وما كان من أمر الزانيين، وقوله جل وعز عن ذلك * (لتعلموا
أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض) * متعلق بهذه
الأشياء، أي الذي أخبركم بها، يعلم ما في السماوات وما في
الأرض.
والدليل على صحة هذا القول قوله تعالى * (ما على الرسول
إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) *.
163 - وقوله جل وعز * (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد
لكم تسؤكم) * [آية 101].
معنى * (إن تبد لكم) *: إن تظهر.
قال شعبة: أخبرني موسى بن أنس بن مالك أن
رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله من أبي؟ فقال:
أبوك فلان، فأنزل الله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن
367

أشياء إن تبد لكم تسؤكم) *
روى إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة أن رجلا
قال: يا رسول الله: أفرض الحج في كل سنة؟ فقال: لو قلتها
لوجبت، ولو وجبت فتركتموها لكفرتم.
وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه
وسلم: لا يسألني إنسان في مجلسي هذا عن شيء إلا أنبأته به، فقال
رجل يا رسول الله: من أبي؟ فأخبره، ونزلت * (لا تسألوا عن
أشياء إن تبد لكم تسؤكم) *.
368

وأن لا يكلفهم طلب حقائق الأشياء من عنده جل وعز.
وقيل: إنما ينهى عن هذا لأن الله جل وعز أحب الستر على
عباده، رحمة منه لهم، وأحب أن لا يقترحوا المسائل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اتركوني ما تركتكم، فإنما
هلك من كان قبلكم لكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم ".
وروى عبد الكريم عن سعيد بن جبير قال: نزلت (لا تسألوا
عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) في الذين سألوا عن البحيرة،
والسائبة، والوصيلة.
ألا ترى أن بعده (ما جعل الله من بحيرة، ولا سائبة،
ولا وصيلة ولا حام)
قلت: أحسن هذه الأقوال الثاني، وأن الله جل وعز أحب
الستر على عباده، ورد أحكامهم إلى الظاهر، الذي يقدرون عليه،
369

163 - ودل على أن هذا الصحيح قوله جل وعز * (قد سألها قوم من قبلكم
ثم أصبحوا بها كافرين) *
قال مقسم: فيما سألت الأمم أنبياءهم صلى الله عليهم
وسلم من الآيات أي فأروهم إياها، ثم كفر قومهم بها بعد.
واختلف أهل التفسير في " البحيرة، والسائبة، والوصيلة،
والحام ".
قال أبو جعفر: ونذكر من قولهم ما وافقه قول أهل اللغة.
وهو معنى قول ابن عباس والضحاك: البحيرة: الناقة إذ
نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا، شقوا أذنها وخلوها، لا تمنع
من مرعى، ولا يركبها أحد.
وفي رواية ابن عباس: وعمدوا إلى الخامس فنحروه، وكان
لحمه للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى استحيوها وتركوها ترعى
مع أمها، بعد شقهم أذن الأم، وتركهم الانتفاع بها، وإن كانت ميتة
370

اشترك فيها الرجال والنساء.
وفي اشتقاقه قولان:
أحدهما: أن يقال: بحره إذا شقه.
والقول الآخر: إنه من الاتساع في الشيء، مشبه بالبحر.
والسائبة: أن ينذر أحدهم إن برأ من مرضه ليسيبن ناقة،
أو ما أشبه ذلك، وإذا أعتق عبدا فقال: هو سائبة، لم يكن عليه
ولاء.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " رأيت عمرو
بن لحيي يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب ".
371

والوصيلة في الغنم خاصة، إذا ولدت الشاة سبعة أبطن،
فإن كان السابع ذكرا ذبحوه، وكان لحمه للرجال دون النساء، وإذا
ولدت أنثى لم يذبحوها، وقالوا وصلت أخاها.
وفي الرواية عن ابن عباس: قالوا وصلت أخاها، ولم يشرب
من لبنها إلا الذكور خاصة، وان كانت ميتة أكلها الرجال والنساء،
وتلا ابن عباس * (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا
ومحرم على أزواجنا) * الآية.
والحامي: البعير إذا ولد له من صلبة عشرة أولاد، قالوا: قد
حمى ظهره، فلم يركب، وخلي، وكان بمنزلة البحيرة.
وفي الرواية عن ابن عباس: " إنه البعير إذا ركب أولاد
أولاده، قالوا: قد حمى ظهره ".
372

فأعلم الله أن هذا افتراء منهم. فقال: * (ولكن الذين
كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون) *.
قال الشعبي: " الذين لا يعقلون " الأتباع، والذين افتروا
فعقلوا أنهم افتروا.
164 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) * [آية 105].
أي الزموا أنفسكم، فأصلحوها وخلصوها من العقاب.
165 - ثم قال جل وعز: * (لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) * [آية 105].
ليس في هذا دليل على الرخصة، في ترك الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، والله عز وجل قد أمر بذلك، وإنما المعنى: لا تؤاخذون
بكفر من كفر، وقد بين هذا في الحديث.
قال قيس بن أبي حازم: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله
عنه على المنبر يقول: إنكم تأولون * (يا أيها الذين آمنوا عليكم
أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) * فإني سمعت رسول الله
373

صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي، ثم
لم يغيروا: أوشك الله جل وعز أن يعمهم بعقابه ".
وقال ابن مسعود في هذه الآية: " قولوها ما قبلت منكم،
فإذا ردت عليكم، فعليكم أنفسكم ".
وقال سعيد بن جبير: هي في أهل الكتاب.
وقال مجاهد: هي في اليهود والنصارى ومن كان مثلهم.
يذهبان إلى أن المعنى: لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا
الجزية.
وهذا تفسير حديث أبي بكر.
فأما حديث ابن مسعود فعلى أن تأويل الآية على وقتين: ففي
أوقات من آخر الزمان يعمل بها، كما قال أبو أمية الشعباني: قلت
لأبي ثعلبة الخشني: كيف أصنع بهذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا
عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) *؟
374

فقال: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
" ائتمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا،
وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه [ورأيت
الأمر لا يدي لك به، أو لا يد لك به] فعليك بنفسك، ودع
العوام ".
166 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر
أحدكم الموت) * [آية 106].
وقرأ الأعرج: (شهادة بينكم).
وقرأ أبو عبد الرحمن: (شهادة بينكم).
فمن قرأ (شهادة بينكم) و (شهادة بينكم) فالمعنى عنده
شهادة اثنين، ثم حذف شهادة وأقام اثنين مقامها في الإعراب.
ويجوز أن يكون المعنى: ليكن أن يشهد اثنان.
ومن قرأ: (شهادة بينكم) فهو عنده بغير حذف، والمعنى
أن يشهد اثنان.
375

167 - فأما قوله تعالى: * (اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم) *
[آية 106].
ففي هذا اختلاف كبير.
قال أبو موسى الأشعري وابن عباس: * (ذو عدل منكم) * من
أهل دينكم.
* (أو آخران من غيركم) * من أهل الكتاب.
وقال بهذا القول من التابعين: عبيدة، وسعيد بن
المسيب، وسعيد بن جبير، وشريح، وابن سيرين، والشعبي.
376

وقال الحسن والزهري: (ذوا عدل منكم) من أقربائكم،
لأنهم أعلم بأموركم من غيرهم (أو آخران من غيركم) من غير
أقربائكم من المسلمين.
وقال من احتج لهذا القول: قد أجمع المسلمون على أن شهادة
أهل الكتاب لا تجوز على المسلمين في غير الوصية، وإجماعهم يقضي
على اختلافهم.
وقال جل وعز: * (ممن ترضون من الشهداء) * فدل هذا
على أن أحدا منهم ممن لا يرضى، فالكافر يجب أن لا يرضى به أيضا،
فإنه قال جل وعز: * (تحبسونهما من بعد الصلاة) * فكيف يعظم
الكافر الصلاة؟.
وقال إبراهيم النخعي: الآية منسوخة، نسخها (وأشهدوا
377

ذوي عدل منكم).
وقال زيد بن أسلم: كان ذلك والأرض حرب، والناس يتوارثون
بالوصية. وتوفي رجل وليس عنده أحد من أهل الإسلام، فنزلت
هذه الآية ثم نسخت الوصية، وفرضت الفرائض.
ومعنى * (تحبسونهما من بعد الصلاة) * من بعد صلاة
العصر.
ومعنى * (لا نشتري به ثمنا) * بما شهدنا عليه.
168 - ثم قال جل وعز: * (ولو كان ذا قربى) * [آية 106].
معناه: وإن كان ذا قربى، كما قال سبحانه * (ولو افتدى
به) *.
169 - ثم قال جل وعز: * (ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن
الآثمين) * [آية 106].
378

وقرأ عبد الله بن مسلم (ولا نكتم شهادة الله)، وهو
يحتمل معنيين:
أحدهما: أن المعنى: ولا نكتم الله شهادة.
والمعنى الآخر: ولا نكتم شهادة والله، ثم حذف الواو
ونصب.
وقرأ الشعبي * (ولا نكتم شهادة الله) * هذا عند أكثر أهل
العربية لحن، وإن كان سيبويه قد أجاز حذف القسم والخفض.
وقرأ أبو عبد الرحمن * (ولا نكتم شهادة الله) * على
الاستفهام.
170 - وقوله جل وعز: * (فإن عثر على أنهما استحقا إثما) *
قال إبراهيم النخعي: المعنى: فإن اطلع.
171 - ثم قال جل وعز: * (فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق
عليهم الأوليان) * [آية 107].
379

إن اطلع عليهما بخيانة، فأمر اثنان من أولياء الميت، فحلفا
واستحقا.
وقال أبو إسحاق: وهذا موضع مشكل من الإعراب والمعنى.
وقد قيل فيه أقوال منها:
أن المعنى: من الذين استحق فيهم الأوليان، فقامت (على)
مقام (في) كما قامت (في) مقام (على) في قوله تعالى
* (ولأصلبنكم في جذوع النخل) *.
وقيل المعنى: من الذين استحق منهم الأوليان، وقامت
(على) مقام (من) كما قال تعالى * (الذين إذا اكتالوا على الناس
يستوفون) * أي من الناس.
قال: والقول المختار أن المعنى عندي ليقم الأولى بالميت.
فالأوليان بدل من الألف في (يقومان) والمعنى: من الذين
استحق عليهم الإيصاء.
380

[وأنكر ابن عباس هذه القراءة، وقرأ (من الذين]
استحق عليهم الأولين)، وقال: أرأيت إن كان الأوليان صغيرين؟
172 - وقوله جل وعز * (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم) *؟
[آية 109].
هذا السؤال على جهة التوبيخ لمن كذبهم.
وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: أنهم لما سئلوا فزعوا، فزال وهمهم، فقالوا: لا علم
لنا.
قال مجاهد: لما قيل لهم: ماذا أجبتم؟ فزعوا، فقالوا:
لا علم لنا، فلما ثابت عقولهم خبروا بما علموا.
والقول الآخر: أن المعنى: لا علم لنا بما غاب عنا.
وقيل: يدل على صحة هذا القول * (إنك أنت علام
الغيوب) *.
381

وهذا مذهب ابن جريج.
وروى حجاج عن ابن جريج في قوله عز وجل: * (يوم
يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا) * قال: قيل
لهم: ما علمتم من الأمم بعدكم؟
قالوا: لا علم لنا.
قال أبو عبيد: ويشبه هذا حديث النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: " يرد الحوض أقوام فيختلجون، فأقول: أمتي،
فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
173 - وقوله عز وجل * (إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي
عليك وعلى والدتك) * [آية 110].
نعمته على مريم: أنه جل وعز اصطفاها وطهرها.
382

وقال جل وعز: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد
عندها رزقا) *
174 - وقوله جل وعز * (إذ أيدتك بروح القدس) * [آية 110].
أيدتك: قويتك، وروح القدس: جبريل صلى الله عليه
وسلم.
قيل: قواه به حين هموا بقتله، وقواه به في الحجة.
175 - وقوله جل وعز * (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي
وبرسولي) * [آية 111].
قيل: معنى " أوحيت " ههنا: ألهمت، كما قال تعالى
* (وأوحى ربك إلى النحل) *.
وقيل: معناه أمرت كما قال الشاعر:
وحى لها القرار فاستقرت
383

وقيل: معنى أوحيت ههنا: بينت، ودللت بالآيات
والبراهين.
176 - وقوله جل وعز * (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل
يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء) *؟ [آية 112]
روى شيبة بن نصاح المقري، عن القاسم بن محمد، عن
عائشة أنها قالت:
كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا * (هل يستطيع
ربك) * ولكن قالوا: هل تستطيع ربك؟
وقرأ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، ومعاذ وابن عباس
* (هل تستطيع ربك) * وكذلك قرأ سعيد بن جبير.
384

وقال سعيد: إنما هو هل تستطيع أن تسأل ربك، والتقدير
عند أهل العربية على هذه القراءة: هل تستطيع سؤال ربك؟ ثم
حذف، كما قال * (واسأل القرية) *.
و * (هل يستطيع ربك) * حسن بغير حذف، معروف في
كلام العرب أن يقال: هل يستطيع أن يقوم؟ بمعنى هل يستطيع أن
يفعل ذلك بمسألتي؟ وأنت تعرف أنه يستطيعه.
وفي سؤال الحواريين تنزيل المائدة قولان:
أحدهما: أنهم سألوا ذلك ليتبينوا، كما قال إبراهيم عليه
السلام: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) *
والقول الآخر: أن يكون سؤالهم هذا، من قبل أن يعلموا
أن عيسى يبرئ الأكمه والأبرص.
385

فأما قول عيسى لهم: * (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) *
فيعني: أن لا تقترحوا الآيات، ولا تسألوا ما لم يسأل غيركم من
الأمم.
قال أبو عبيدة: " مائدة " من الطعام، وهي فاعلة بمعنى
مفعولة، كما قال جل وعز: * (في عيشة راضية) *
وقال أبو إسحق: " مائدة " عندي من ماد يميد: إذا
تحرك.
وقرأ عاصم الجحدري: * (تكون لنا عيدا لأولانا
وآخرانا) *.
وقرأ الأعمش: (تكن لنا عيدا)
386

وقيل: إنها أنزلت، وقيل: إنها لم تنزل،
والصواب أن يقال: إنها أنزلت، لقوله جل وعز * (قال الله
إني منزلها عليكم) *
وروى قتادة عن خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر،
وبعضهم يرفعه قال: " أنزلت المائدة خبزا ولحما، وأمروا أن لا يخزنوا،
ولا يدخروا لغد، فخانوا، وادخروا، ورفعوا، فمسخوا خنازير.
حدثنا القاسم بن زكريا المطرز نا الحسين بن قرعة قال نا ابن
حبيب عن سعيد بن قتادة عن خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنزلت المائدة خبزا،
ولحما، فأمروا أن لا يدخروا، ولا يرفعوا، فادخروا ورفعوا، فمسخوا
قردة وخنازير ".
387

[ويروى أن هذه محنة أمر الله جل وعز امتحانهم بها].
قال عبد الله بن مسعود: أشد الناس عذابا أصحاب
المائدة، وآل فرعون، والمنافقون.
وقال الحسن: لما أو عدوا بالعذاب إن هم عصوا، قالوا: لا
حاجة لنا بها، فلم تنزل.
وقال مجاهد: لما قيل لهم: * (فمن يكفر بعد منكم فإني
أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) * امتنعوا من نزولها فلم
تنزل.
وقيل: إن هذا العذاب في الآخرة.
177 - وقوله جل وعز: * (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت
388

للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله، قال سبحانك) *
[آية 116].
في معنى هذا قولان:
أحدهما: أن هذا يقال له في الآخرة.
قال قتادة: يقال له هذا يوم القيامة، قال ألا ترى أنه قال:
* (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) *!! لا يكون إلا يوم القيامة.
وقال السدي: إنه قال هذا حين رفعه، لأنه قال:
* (إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز
الحكيم) *
فإنما هذا على أنهم في الدنيا، أي ان تغفر لهم بعد التوبة.
واحتج لصاحب هذا القول بأن (إذ) في كلام العرب لما
مضى.
389

والقول الأول عليه أكثر أهل التفسير.
فأما حجة صاحب هذا القول الثاني، بأن (إذ) لما مضى،
فلا تجب، لأن إخبار الله جل وعز عما يكون بمنزلة ما كان، فعلى
هذا يصح أنه للمستقبل، وسنذكر قولهم في * (إن تعذبهم فإنهم
عبادك) *.
178 - وقوله جل وعز * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) *
[آية 116].
قال أبو إسحاق: النفس عند أهل اللغة على معنيين:
أحدهما: أن يراد بها بعض الشيء.
والآخر: أن يراد بها الشيء كله، نحو قولك: قتل فلان
نفسه.
فقوله عز وجل * (تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في
نفسك) * معناه: تعلم حقيقتي وما عندي.
390

والدليل على هذا قوله * (إنك أنت علام الغيوب) *
وقال غيره: المعنى: تعلم غيبي، ولا أعلم غيبك.
179 - وقوله جل وعز: * (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) *
[آية 116].
قال قتادة: الرقيب: الحافظ، وكذلك هو عند أهل اللغة.
180 - وقوله جل وعز: * (إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم
فإنك أنت العزيز الحكيم) * [آية 118].
في هذا أقوال:
فمن أحسنها أن هذا على التسليم لله جل وعز، وقد علم أنه
لا يغفر لكافر، ولا يدرى أكفروا بعد أم آمنوا؟.
ومن الدليل على صحة هذا القول أن سعيد بن جبير روى عن
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحشر الناس يوم
القيامة عراة، حفاة عزلا، وقرأ صلى الله عليه وسلم * (كما بدأكم
تعودون) * فيؤمر بأمتي ذات اليمين وذات الشمال، فأقول أصحابي،
391

فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم بعدك، فأقول كما قال العبد
الصالح: * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) * وقرأ إلى قوله
* (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) *.
وروى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة يردد
* (إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز
الحكيم) *
وقيل: إنه معطوف على قوله: * (ما قلت لهم إلا ما
أمرتني به) *
والمعنى على هذا القول: ما قلت في الدنيا إلا هذا.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد: لا يراد بهذا مغفرة الكفر،
392

وإنما المعنى: ولأن تغفر لهم كذبهم علي، وحكايتهم عني ما لم أقل.
وقال أبو إسحق: قد علم عيسى صلى الله عليه وسلم أن
منهم من آمن، فالمعنى عندي - والله أعلم - إن تعذبهم على
فريتهم وكفرهم، فقد استحقوا ذلك، وإن تغفر لمن تاب منهم بعد
الافتراء العظيم والكفر، وقد كان لك أن لا تقبل توبته بعد اجترائه
عليك، فإنك أنت العزيز الحكيم.
وأما قول من قال: إن عيسى صلى الله عليه وسلم لم يعلم
أن الكافر لا يغفر له، فقول مجترء على كتاب الله جل وعز، لأن
الإخبار من الله جل وعز لا ينسخ.
وقيل: كان عند عيسى صلى الله عليه وسلم، أنهم
أحدثوا معاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به، إلا أنهم على عمود
دينه، فقال * (وإن تغفر لهم) * ما أحدثوا بعدي من المعاصي.
393

وقوله جل وعز: * (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) *
[آية 119].
سئل بعض أهل النظر عن معنى هذا فقيل له: لو صدق
الكافر، وقال: أسأت لم ينفعه ذلك؟.
والجواب عن هذا: أن يوم القيامة يوم مجازاة وليس بيوم عمل
فإنما المعنى هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم في الدنيا، وتركهم الافتراء
على الله جل اسمه، وعلى رسله.
وقيل: ينفعهم صدقهم في العمل، والله أعلم بما أراد.
" انتهت سورة المائدة بعونه تعالى "
* * *
394

تفسير سورة الأنعام
مكية وآياتها 165 آية
395

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام وهي مكية
قال: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس، قال:
حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى، حدثنا " أبو حاتم " روح بن الفرج، مولى
الحضارمة قال: حدثنا أحمد بن محمد " أبو بكر العمري " قال: حدثنا ابن
أبي فديك، قال: حدثني عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص، عن نافع
أبي سهيل بن مالك، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين، لهم زجل
بالتسبيح، والأرض لهم ترتج، ورسول الله يقول: " سبحان ربي العظيم "
ثلاث مرات.
397

1 - قوله جل وعز: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض
وجعل الظلمات والنور) *.
قال قتادة: خلق الله السماء قبل الأرض، والليل قبل
النهار، والجنة قبل النار.
فأما قوله * (والأرض بعد ذلك دحاها) * فمعناه:
بسطها.
2 - وقوله جل وعز: * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) *.
قال مجاهد: أي يشركون.
قال الكسائي: يقال: عدلت الشيء بالشيء عدولا: إذا
ساويته به.
وهذا القول يرجع إلى قول مجاهد، لأنهم إذا عبدوا مع الله
غيره، فقد ساووه به وأشركوا.
398

3 - وقوله جل وعز: * (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا،
وأجل مسمى عنده) * [آية 2].
قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وخصيف، وقتادة، وهذا
لفظ الحسن -: قضى أجل الدنيا من يوم خلقك إلى أن تموت،
* (وأجل مسمى عنده) * يعني الآخرة.
* (ثم أنتم تمترون) * أي: تشكون، وتعبدون معه غيره.
4 - وقوله جل وعز: * (وهو الله في السماوات وفي الأرض) * [آية 3].
قيل: المعنى: وهو إله في السماوات، وفي الأرض.
والألف واللام في أحد قولي سيبويه: مبدلة من همزة، والأصل
عنده: إله.
399

فالمعنى على هذا: هو المعبود في السماوات وفي الأرض.
ويجوز أن يكون المعنى: وهو الله المنفرد بالتأليه في
السماوات وفي الأرض، كما تقول: هو في حاجات الناس، وفي
الصلاة.
ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، ويكون المعنى: وهو الله
في السماوات، وهو الله في الأرض.
5 - وقوله جل وعز: * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) *
[آية 6].
قيل: القرن: ستون عاما، وقيل: سبعون، فيكون التقدير
على هذا: من أهل قرن.
وأصح من هذا القول: القرن: كل عالم في عصر لأنه مأخوذ
من الاقتران، أي: عالم مقترن بعضهم إلى بعض.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " خير الناس القرن
400

الذي أنا فيه - يعني أصحابه - ثم الذين
يلونهم ".
وأكثر أصحاب الحديث على أن القرن: مائة سنة، واحتجوا
بأن النبي قال لعبد الله بن بسر: " تعيش قرنا "، فعاش مائة
سنة.
6 - وقوله جل وعز: * (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) * [آية 6].
أي تدر عليهم، ومدرار على التكثير، كما يقال امرأة مذكار،
إذا كثرت ولادتها للذكور، ومئناث.
7 - وقوله جل وعز: * (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه
بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) * [آية 7].
401

أي: قد جعلوا في أنفسهم الكفر والعناد، فإذا رأوا آية
قالوا: سحر، كما أنهم سألوا انشقاق القمر، فلما انشق قالوا:
* (هذا سحر مستمر) * كذلك أيضا: لو نزل الله عليهم كتابا
من السماء، لقالوا: إن هذا إلا سحر مبين.
8 - وقوله جل وعز: * (وقالوا لولا أنزل عليه ملك، ولو أنزلنا ملكا
لقضي الأمر) * [آية 8].
قال ابن أبي نجيح: عن مجاهد أي لقامت القيامة.
والمعنى عند أهل اللغة: لحتم بهلاكهم، وهو يرجع إلى
ذلك القول.
9 - وقوله جل وعز: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * [آية 9]
قال قتادة: أي في صورة بني آدم.
402

10 - ثم قال تعالى: * (وللبسنا عليهم ما يلبسون) * [آية 9].
قال الضحاك: يعني أهل الكتاب، لأنهم غيروا صفة
النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم وعصوا ما أمروا به.
قال الكسائي: يقال: لبست عليهم الأمر: ألبسه لبسا،
إذا خلطته أي أشكلته.
11 - وقوله جل وعز: * (فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به
يستهزءون) * [آية 10].
الحيق في اللغة: ما يعود على الإنسان من مكروه فعله
ومنه * (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) *.
403

12 - وقوله جل وعز: * (قل لمن ما في السماوات والأرض؟ قل
لله) * [آية 12].
هذا احتجاج عليهم، لأنهم مقرون أن ما في السماوات
والأرض لله، فأمر الله النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحتج عليهم بأن الذي
خلق ما في السماوات والأرض، قادر على أن يحييهم بعد الموت.
13 - ثم قال جل وعز: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * [آية 12].
لأنه أمهلهم إلى يوم القيامة.
ويجوز أن يكون هذا تمام الكلام. ويجوز أن تكون (ما) هذه تبيينا، لأن قوله: * (ليجمعنكم
إلى يوم القيامة لا ريب فيه) * معناه يمهلكم، فهذا من رحمته جل
وعز.
404

14 - وقوله جل وعلا: * (وله ما سكن في الليل والنهار) * [آية 13].
أي: ثبت، وهذا احتجاج عليهم أيضا.
15 - وقوله جل وعز: * (وهو يطعم ولا يطعم) * [آية 14].
كما تقول: هو يرزق ولا يرزق، ويعول ولا يعال.
وروي عن الأعمش أنه قرأ: وهو " يطعم ولا يطعم " وهي
قراءة حسنة. أي: ولا يأكل.
16 - وقوله جل وعز: * (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه) * [آية 16].
المعنى: من يصرف عنه العذاب، ثم حذف لعلم
405

السامع، وكذلك معنى " من يصرف ".
17 - وقوله جل وعز: * (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن
بلغ) * [آية 19].
المعنى: ومن بلغه القرآن، ثم حذفت الهاء لطول الاسم.
وقال مجاهد: ومن أسلم من فصيح وأعجم.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " بلغوا القرآن عن الله
جل وعز، ومن بلغته آية من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله ".
وقيل: المعنى ومن بلغ الحلم، كما يقال: قد بلغ
فلان.
406

18 - وقوله جل وعز: * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم) * [آية 20].
ويجوز أن يكون المعنى القرآن.
والحديث يدل أن المعنى: يعرفون النبي صلى الله عليه
وسلم.
وروي أن عمر قال لعبد الله بن سلام: " أتعرف محمدا -
صلى الله عليه وسلم - كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث
الله أمينه في سمائه، إلى أمينه في أرضه، بنعته فعرفته، وابني لا أدري
ما كان من أمه ".
19 - وقوله جل وعز: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما
كنا مشركين) * [آية 23].
قال أبو إسحاق: تأويل هذه الآية لطيف جدا، أخبر
الله جل وعز بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم، ثم أخبر أن فتنتهم
407

لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في
اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا، فإذا وقع في هلكة تبرأ منه، فيقول
له: ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه.
فأما معنى قولهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * وقال في
موضع آخر: * (ولا يكتمون الله حديثا) * معطوف على ما قبله،
والمعنى: وودوا أن لا يكتموا النبي الله حديثا. والدليل على صحة هذا
القول أنه:
روي عن سعيد بن جبير في قوله: * (والله ربنا ما كنا
مشركين) * قال: اعتذروا وحلفوا، وكذلك قال ابن أبي نجيح
وقتادة.
وروي عن مجاهد أنه قال: لما رأوا الذنوب تغفر إلا
الشرك، والناس يخرجون من النار إلا المشركين، قالوا: * (والله ربنا
ما كنا مشركين) *.
408

وقول بعض أهل اللغة: إنما قالوا هذا على أنهم صادقون عند
أنفسهم، ولم يكونوا ليكذبوا وقد عاينوا ما عاينوا، وقطرب يذهب إلى
هذا القول، وهو قول مردود، لأنه قال: لم يكونوا ليكذبوا، وبعدها
* (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) *. ويبين لك الغلط في هذا
القول قوله جل وعز: * (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له) *
الآية.
قال مجاهد: كذبهم الله.
وقيل: معنى * (ولا يكتمون الله حديثا) *: أنه ظاهر
عنده.
20 - وقوله جل وعز: * (ومنهم من يستمع إليك، وجعلنا على
قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرأ) * [آية 25].
409

قيل: فعل بهم هذا مجازاة على كفرهم، وليس المعنى أنهم
لا يسمعون ولا يفقهون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون ولا
ينقادون إلى الحق كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم.
ثم خبر بعنادهم فقال: * (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا
بها) *، لأنهم لما رأوا القمر منشقا قالوا: سحر، فأخبر الله عز
وجل بردهم الآيات بغير حجة، وقال: * (حتى إذا جاءوك
يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) * فخبر أن
هذا مقدار احتجاجهم.
21 - وقوله جل وعز: * (وهم ينهون عنه وينأون عنه) * [آية 26].
أكثر أهل التفسير يذهب إلى أن المعنى للكفار أي: ينهون
410

عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ويبعدون عنه.
قال مجاهد: يعني به قريش.
وكذلك قال قتادة والضحاك، يعني به الكفار.
وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت قال: أخبرني من
سمع ابن عباس يقول: نزلت في " أبي طالب " كان ينهي عن أذى
النبي صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عنه.
والقول الأول أشبه، لأنه متصل بأخبار الكفار وقولهم.
411

22 - وقوله جل وعز: * (وإن يهلكون إلا أنفسهم) * [آية 26].
أي: وبال ذلك يرجع عليهم، لأن الله جل وعز يبدد
جموعهم، [وينصره عليهم].
23 - ثم قال جل وعز: * (وما يشعرون) * [آية 26].
أي: وما يشعرون أن وبال ذلك يرجع عليهم.
24 - وقوله جل وعز: * (ولو ترى إذ وقفوا على النار) * [آية 27].
في معناه ثلاثة أقوال:
1 - منها أن معنى * (وقفوا على النار) * أدخلوها، كما
يقال: وقفت على ما عند فلان، أي: عرفت حقيقته.
2 - وقيل: معناه رأوها.
3 - وقيل: جازوا عليها وهي من تحتهم.
412

25 - ثم قال جل وعز: * (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا
ونكون من المؤمنين) * [آية 27].
المعنى: ونحن لا نكذب بآيات ربنا، رددنا أو لم نرد.
قال سيبويه: ومثله: دعني ولا أعود، أي ولا أعود تركتني أو
لم تتركني.
ومن قرأ: * (ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من
المؤمنين) *. فمعناه عنده: يا ليتنا وقع لنا الرد وأن لا نكذب.
قال أبو إسحاق: وفيه معنى: إن رددنا لم نكذب.
وقرأ ابن عامر: * (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا
ونكون من المؤمنين) * بالنصب.
وقرأ عبد الله بن مسعود: * (ولا نكذب بآيات ربنا ونكون
من المؤمنين) *.
413

وقرأ أبي بن كعب: * (ولا نكذب بآيات ربنا أبدا) *.
26 - وقال جل وعز: * (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من
قبل) * [آية 28].
المعنى: بل ظهر للذين اتبعوا الغواة، ما كان الغواة يخفون عنهم من
أمر البعث والقيامة، لأن بعده: * (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا
وما نحن بمبعوثين) *.
وقال بعض أهل اللغة: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، فيه
شيء محذوف، والمعنى: ولو ردوا قبل أن يعاينوا العذاب، لأنهم
لا يكفرون بعدما عاينوا.
وهذا القول مردود، لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم أنهم يقولون
414

هذا يوم القيامة، وقد خبر جل وعز عن إبليس أنه كفر بعدما رأى،
وعنهم أنهم كفروا عنادا وإيثارا للرئاسة.
27 - وقوله جل وعز: * (جاءتهم الساعة بغتة) * [آية 31].
البغتة: الفجاءة.
يقال: بغتهم الأمر يبغتهم بغتا وبغتة.
28 - ثم قال جل وعز: * (قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) * [آية 31].
الفائدة في نداء الحسرة وما كان مثلها مما لا يجيب أن العرب
إذا أرادت تعظيم الشيء، والتنبيه عليه، نادته، ومنه قولهم: يا
عجباه.
قال سيبويه: إذا قلت: يا عجباه فمعناه أحضر وتعال يا
415

عجب، فإن هذا من أزمانك، فهذا أبلغ من قولك: تعجبت،
ومنه قول الشاعر:
فيا عجبا من رحلها المتحمل
29 - وقوله جل وعز: * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) * [آية 31].
واحد الأوزار: وزر، والفعل منه وزر يزر، يراد به الإثم،
وهو تمثيل، وأصله الوزر، وهو الجبل.
ومنه الحديث في النساء اللواتي خرجن في جنازة، فقال لهن:
" ارجعن موزورات غير مأجورات ".
قال أبو عبيد: والعامة تقول: " مأزورات " كأنه لا وجه
له عنده، لأنه من الوزر، ومنه قيل: وزير، كأنه يحمل الثقل عن صاحبه.
416

30 - وقوله جل وعز: * (فإنهم لا يكذبونك) * [آية 33].
هكذا روي عن علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - أنه
قرأ، وهو اختيار أبي عبيد، واحتج بأنه روي أن أبا جهل قال
للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذبك، ولكنا نكذب ما
جئت به، فأنزل الله عز وجل: * (فإنهم لا يكذبونك) *.
وقد خولف أبو عبيد في هذا، وروي " لا نكذبك " فأنزل الله
جل وعز * (فإنهم لا يكذبونك) *، ويقوي هذا أنه روي أن رجلا
قرأ على ابن عباس * (فإنهم لا يكذبونك) *، فقال له ابن عباس:
417

* (فإنهم لا يكذبونك) *، لأنهم كانوا يسمون النبي - صلى الله عليه وسلم -
الأمين.
ومعنى (يكذبونك) عند أهل اللغة: ينسبونك إلى الكذب،
ويروون عليك ما قلت.
ومعنى (لا يكذبونك): لا يجدونك كاذبا، كما تقول:
أحمدته، إذا وجدته محمودا.
ويجوز أن يكون معنى المخففة: لا يبينون عليك أنك كاذب،
لأنه يقال: أكذبته، إذا احتججت عليه وبينت أنه كاذب.
حدثنا محمد بن جعفر الأنباري حدثنا شعيب بن أيوب
الواسطي عن معاوية بن هشام عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن
ناجية بن كعب عن علي قال: قال أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله عز وجل
418

* (فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله
يجحدون) *.
والقول في هذا مذهب أبي عبيد، واحتجاجه لازم، لأن
عليا - رحمة الله عليه - هو الذي روى الحديث، وقد صح عنه أنه
قرأ بالتخفيف.
وحكى الكسائي عن العرب: أكذبت الرجل، أخبرت أنه
جاء بالكذب ورواه، وكذبته: أخبرت أنه كاذب.
31 - وقوله جل وعز: * (فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو
سلما في السماء) * [آية 35].
قال قتادة: النفق: الشرب في الأرض، والسلم: الدرج.
وكذلك هو في اللغة، ومنه النافقاء: أحد جحر اليربوع.
419

قال أبو إسحاق: والسلم: مشتق من السلامة، كأنه
يسلمك إلى الموضع الذي تريد.
والمعنى: إن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في
السماء فتأتيهم بآية فافعل. ثم حذف هذا لعلم السامع، أي ليس
لك من الأمر شيء.
32 - ثم قال جل وعز: * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) * [آية 35].
أي: لأراهم آية تضطرهم إلى الإيمان، ولكنه أراد جل وعز أن
يثيب من آمن منهم ومن أحسن.
ويجوز أن يكون المعنى لطبعهم على الإيمان.
33 - ثم قال جل وعز: * (إنما يستجيب الذين يسمعون) * [آية 36].
قال الحسن ومجاهد: يراد به المؤمنون، والمعنى: الذين
420

يسمعون سماع قبول.
34 - ثم قال جل وعز: * (والموتى يبعثهم الله) * [آية 36].
قال الحسن ومجاهد: يراد به الكفار.
وقال غيرهما: يراد به كل ميت.
35 - وقوله جل جلاله: * (وما من دابة في الأرض، ولا طائر يطير
بجناحيه، إلا أمم أمثالكم) * [آية 38].
وأكثر أهل التفسير يذهب إلى أن المعنى: أنهم يخلقون كما
يخلقون، ويبعثون كما يبعثون.
وكذلك قال أبو هريرة: يحشر الله جل وعز يوم القيامة،
الطير، والبهائم، فيبلغ من عدله أن يأخذ من القرناء للجماء، ثم
421

يقول: كوني ترابا، فعند ذلك يقول الكافر: * (يا ليتني كنت
ترابا) *.
وقال مجاهد في قوله جل وعز: * (إلا أمم أمثالكم) * قال:
أصناف، لهن أسماء تعرف بها كما تعرفون.
ومعنى * (يطير بجناحيه) * على التوكيد، لأنك قد تقول: طرت في
حاجتي.
36 - وقوله جل وعز: * (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم
الساعة) * [آية 40].
والمعنى: أو أتتكم الساعة التي تبعثون فيها.
37 - ثم قال جل وعز: * (أغير الله تدعون إن كنتم صادقين) *.
[آية 40].
422

في هذا أعظم الاحتجاج عليهم، لأنهم كانوا يعبدون
الأصنام، فإذا وقعوا في شدة دعوا الله.
38 - وقال جل وعز: * (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن
شاء) * [آية 41].
هذا مجاز، والمعنى: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتموه،
وهو مثل: * (واسأل القرية) * في المجاز.
39 - وقوله جل وعز: * (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فأخذناهم
بالبأساء والضراء) * [آية 42].
قيل: البأساء: الجوع والفقر، والضراء: نقص الأموال،
والأنفس بالمرض، والثمرات.
40 - ثم قال جل وعز: * (لعلهم يتضرعون) * [آية 42].
423

أي ليكون العباد على رجاء من التضرع.
41 - ثم قال تعالى: * (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) * [آية 43].
أي: فهلا؟.
وأعلم الله النبي أنه قد أرسل قبله رسولا إلى قوم، بلغ من
قسوتهم أن أخذوا بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا.
42 - وقوله جل وعز: * (فلما نسوا ما ذكروا به، فتحنا عليهم أبواب
كل شيء) * [آية 44].
قال مجاهد: من رخاء الدنيا ويسرها.
والتقدير عند أهل اللغة: فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان
424

مغلقا عنهم.
43 - وقوله جل وعز: * (فإذا هم مبلسون) * [آية 44].
قال أبو عبيدة: المبلس: الحزين النادم.
قال الفراء: المبلس: المنقطع الحجة.
44 - وقوله جل وعز: * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) * [آية 45].
الدابر في اللغة: الآخر، يقال: دبرهم يدبرهم، إذا جاء
آخرهم.
وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود: " من الناس من لا يأتي
الصلاة إلا دبريا " أي في آخر الوقت.
425

45 - وقوله جل وعز: * (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم،
وأبصاركم، وختم على قلوبكم، من إله غير الله يأتيكم به) *؟ [آية 46].
المعنى: من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم؟ والهاء كناية
عن المصدر، فلذلك وحدت.
ويجوز أن يكون تعود على السمع مثل * (والله ورسوله أحق أن
يرضوه) *.
46 - ثم قال تعالى: * (انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون) *.
[آية 46].
قال قتادة: أي يصدفون عنها.
47 - وقوله جل وعز: * (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو
جهرة) * [آية 47].
قال مجاهد: البغتة: أن يأتيهم فجاءة آمنين، والجهرة: أن
يأتيهم وهم ينظرون.
426

48 - ثم قال جل وعز: * (هل يهلك إلا القوم الظالمون) * [آية 47]
أي هل يهلك إلا أنتم، لأنهم كفروا وعاندوا.
49 - وقوله جل ثناؤه: * (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين
ومنذرين) * [آية 48].
أي لم نرسلهم ليأتوا بالآيات المقترحات، وإنما يأتون من
الآيات بما تظهر معه براهينهم، وإنما مذهبهم التبشير والإنذار.
50 - وقوله جل وعز: * (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم
الغيب) * [آية 50].
هذا متصل بقوله جل وعز: * (لولا نزل عليه آية من
ربه) * أي لا أقول لكم عندي خزائن الله، التي يرزق منها
ويعطي، ولا أعلم الغيب فأخبركم بما غاب عنكم إلا بوحي
* (ولا أقول لكم إني ملك) *، لأن الملك يشاهد من أمر الله جل
وعلا ما لا يشاهد البشر.
427

51 - وقوله جل وعز: * (قل هل يستوي الأعمى والبصير) * [آية 50].
قال مجاهد: يعني المسلم، والكافر.
52 - وقوله جل وعز: * (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى
ربهم) * [آية 51].
أي بالقرآن، وخص من يخاف الحشر، لأن الحجة عليهم
أوكد، فإن كان مسلما أنذر ليترك المعاصي، وإن كان من أهل
الكتاب أنذر ليتبع الحق.
53 - ثم قال جل وعز: * (ليس لهم من دونه من ولي ولا شفيع) *
[آية 51].
لأن اليهود والنصارى قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
428

54 - وقوله جل وعز: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي، يريدون وجهه) * [آية 52].
قال سعد: نزلت في ستة: أنا وعبد الله بن مسعود
وأربعة، قال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنا نستحيي أن نكون
تبعا لهؤلاء، فأنزل الله عز وجل: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم
بالغداة والعشي يريدون وجهه) * إلى قوله: * (أليس الله بأعلم
بالشاكرين) *.
قال مجاهد: نزلت في بلال، وعبد الله بن مسعود.
وقال غيره: إنما أراد المشركون بهذا أن يحتجوا على النبي -
صلى الله عليه وسلم -، لأن أتباع الأنبياء الفقراء، فطلبوا أن يطردهم فيحتجوا
429

عليه بذلك، فعصمه الله مما أرادوا منه.
55 - وقوله جل وعز: * (وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم
فتكون من الظالمين) * [آية 52].
المعنى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين، وما
من حسابك من شيء فتطردهم، على التقديم والتأخير.
56 - ثم قال جل وعز: * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) * [آية 53].
أي اختبرنا وابتلينا، لأن الفقراء صبروا على الجهد مع فقرهم،
فكان ذلك أوكد على الأغنياء في الحجة.
57 - ثم قال جل وعز: * (ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) *
[آية 53].
أي: ليقول الأغنياء.
58 - وقوله جل وعز: * (فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه
الرحمة) * [آية 54].
430

السلام والسلامة بمعنى واحد، ومعنى " سلام عليكم "
سلمكم الله في دينكم وأنفسكم، والسلام اسم من أسماء الله جل
وعز، معناه ذو السلامة.
وقرأ الحسن وعاصم وعيسى: * (كتب ربكم على نفسه
الرحمة، أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده
وأصلح، فإنه غفور رحيم) * بفتحهما جميعا فالأولى بدل من
الرحمة، والثانية مؤكدة مكررة لطول الكلام.
هذا مذهب سيبويه.
وقرأ أبو عمر، والكسائي، والأعمش، وابن كثير، وشبل
بكسرهما جميعا.
والمعنى في الأولى: قال إنه، وكسر الثانية، لأنها مبتدأة بعد
الفاء.
431

وقرأ أهل المدينة بفتح الأولى، لأنها تبيين للرحمة، وكسروا
الثانية لما تقدم.
59 - وقوله جل وعز: * (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل
المجرمين) *.
المعنى على هذه القراءة: ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين.
فإن قيل: فقد كان صلى الله عليه وسلم يستبينها؟
فالجواب عند الزجاج: أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب
لأمته، فالمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين.
فإن قيل: فلم لم تذكر سبيل المؤمنين؟.
ففي هذا جوابان:
432

أحدهما: أنه إذا استبينت سبيل المجرمين فقد استبينت سبيل
المؤمنين.
والجواب الآخر: أن يكون مثل قوله: * (سرابيل تقيكم
الحر) *.
فالمعنى: وتقيكم البرد ثم حذف، وكذلك هذا يكون المعنى،
ولتستبين سبيل المؤمنين، ثم حذف.
60 - وقوله جل وعز: * (قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما
تستعجلون به) * [آية 57].
أي ما تستعجلون من اقتراح الآيات، ويجوز أن يكون
المعنى: ما تستعجلون به من العذاب.
433

61 - ثم قال جل وعز * (إن الحكم إلا لله يقضي الحق) * [آية 57].
كذلك قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن
السلمي وسعيد بن المسيب.
واحتج بعض من قرأ هذه القراءة بأن بعده * (وهو خير
الفاصلين) * والفصل لا يكون إلا في القضاء والحكم.
وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والأعرج (يقص الحق).
قال ابن عباس: كما قال جل وعز * (نحن نقص عليك
أحسن القصص) *.
واحتج بعض من قرأ هذه القراءة، بأنه في السواد بلا
ياء.
قال: ولو كانت يقضي لكانت بالحق.
وهذا الاحتجاج لا يلزم، لأن مثل هذه الياء تحذف
434

كثيرا.
وأما قوله: لو كانت يقضي لكانت بالحق، فلا يلزم أيضا،
لأن معنى يقضي يأتي ويصنع، فالمعنى: يأتي الحق.
ويجوز أن يكون المعنى يقضي القضاء الحق.
62 - وقوله جل وعز: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) *.
[آية 59].
[جمع مفتح مفاتح، وجمع مفتاح مفاتيح].
أي الوصلة إلى علم الغيب.
435

حدثنا محمد بن الحسن - يعرف بابن بدينا - قال: حدثنا
أبو مصعب الزهري قال: حدثنا صالح بن قدامة الجمحي، عن
عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" مفاتح الغيب خمسة، لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض
الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر
إلا الله، ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي
أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله جل وعز ".
63 - وقوله تعالى: * (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) * [آية 59].
المعنى: أنه يعلمها سقطت أو لم تسقط، كما تقول ما
يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، فليس أنك لا تعرفه إلا في حال مجيئه.
و (من) للتوكيد، والدليل على أنها للتوكيد أن الحسن قرأ
436

* (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) * أي إلا يعلمه علما
يقينا.
ويجوز أن يكون المعنى: إلا قد كتبه قبل أن يخلقه.
والله أعلم بما أراد.
فإن قيل: ما الفائدة على هذا الجواب في كتبه، وهو
يعلمه؟
فالجواب عن هذا أنه لتعظيم الأمر، أي اعلموا أن هذا الذي
ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف بما فيه ثواب وعقاب؟
64 - وقوله جل وعز: * (وهو الذي يتوفاكم بالليل) * [آية 61].
أي ينيمكم، فيتوفى الأنفس التي تميزون بها، كما قال الله عز
وجل: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في
منامها) *.
437

65 - ثم قال جل وعز: * (ويعلم ما جرحتم بالنهار) * [آية 60].
قال ابن أبي نجيح: أي كسبتم.
ومعروف في اللغة أنه يقال: جرح إذا كسب، ومنه
* (وما علمتم من الجوارح مكلبين) *.
66 - ثم قال جل وعز: * (ثم يبعثكم فيه) * [آية 60].
قال ابن أبي نجيح: أي في النهار.
67 - ثم قال جل عز: * (ليقضى أجل مسمى) * [آية 60].
أي لتستوفوا أجلكم.
68 - وقوله جل وعز: * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته
رسلنا) * [آية 61].
قال إبراهيم النخعي: يعني أعوان ملك الموت، يتوفون
438

الأرواح، ويدفعونها إلى ملك الموت، أو يرفعونها. كذا في
الحديث.
69 - ثم قال جل وعز: * (وهم لا يفرطون) * [آية 61].
قال أبو عبيدة: لا يتوانون.
وقال غيره: معنى فرطت: قدمت العجز.
70 - وقوله جل وعز: * (قل من ينجيكم من ظلمات البر
والبحر) *؟ [آية 63].
الظلمات ها هنا: الشدائد، والعرب تقول: يوم مظلم إذا
كان شديدا، فإذا عظمت ذلك، قالت: يوم ذو كواكب،
وأنشد سيبويه:
439

بني أسد لو تعلمون بلاءنا
إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
71 - ثم قال جل وعز: * (تدعونه تضرعا وخفية) * [آية 63].
أي تظهرون التضرع، وهو أشد الفقر إلى الشيء والحاجة إليه.
* (وخفية) * أي وتبطنون مثل ذلك.
فأمر الله النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوبخهم، إذ كانوا يدعون الله
تبارك وتعالى في الشدائد، ثم يدعون معه في غير الشدائد الأصنام،
وهي لا تضر ولا تنفع.
72 - وقوله جل وعز: * (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من
فوقكم أو من تحت أرجلكم) * [آية 65].
قال عامر بن عبد الله كان ابن عباس يقول: أما العذاب
(من فوقكم) فأئمة السوء، وأما العذاب * (من تحت أرجلكم) *
فخدم السوء.
وقال الضحاك: * (من فوقكم) * من كباركم * (أو من تحت
أرجلكم) * من سفلتكم.
440

قال أبو العباس: * (من فوقكم) * يعني الرجم * (أو من تحت
أرجلكم) * يعني الخسف.
73 - ثم قال جل وعز: * (أو يلبسكم شيعا) * [آية 65]
الشيع: الفرق.
والمعنى: شيعا متفرقة، مختلفة لا متفقة، ولبست:
خلطت، ويبينه قوله جل وعز: * (ويذيق بعضكم بأس بعض) *.
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: يعني الفتن والاختلاف.
74 - وقوله عز وجل: * (وكذب به قومك وهو الحق، قل لست
عليكم بوكيل) * [آية 66].
هذا من قبل أن يؤمر بالحرب، أي لست أحاربكم حتى
441

تؤمنوا، أي لست بمنزلة الموكل بكم حتى تؤمنوا.
75 - ثم قال جل وعز: * (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) * [آية 67].
وهذا تهديد، إما بعذاب يوم القيامة، وإما بالأمر بالحرب.
76 - وقوله جل وعز: * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض
عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) * [آية 68].
روى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هم الذين
يستهزئون بكتاب الله، نهاه الله أن يجلس معهم إلا أن ينسى، فإذا
ذكر قام، قال تعالى: * (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم
الظالمين) *.
وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هم الذين
يقولون في القرآن غير الحق.
442

77 - ثم قال جل وعز: * (وما على الذين يتقون من حسابهم من
شيء) * [آية 69].
قال مجاهد: أي لو جلسوا، ولكن لا يجلسوا.
أي لأن الله قد نهاهم.
79 - وقوله عز وجل: * (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا،
وغرتهم الحياة الدنيا) * [آية 70].
قال قتادة: هذا منسوخ، نسخة قوله تعالى: * (فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم) *.
80 - ثم قال جل وعز * (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت) * [آية 70].
قال مجاهد: تسلم.
وقال الكسائي والأخفش: أي تجزى.
443

وقال الفراء: أي ترتهن.
وهذه المعاني متقاربة، وقول مجاهد حسن أي تسلم بعملها، لا تقدر
على التخلص، لأنه يقال: استبسل فلان للموت، أي رأى ما لا
يقدر على دفعه، وينشد:
وإبسالي بني بغير جرم
بعوناه ولا بدم مراق
[قال أبو جعفر: بعوناه: أي جنيناه].
81 - وقوله جل وعز: * (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) * [آية 70].
444

قال قتادة: العدل: الفدية، وقد بيناه فيما تقدم.
82 - وقوله جل وعز: * (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا
ولا يضرنا) * [آية 71].
قال مجاهد: يعني الأوثان.
83 - ثم قال جل وعز: * (ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا
الله) * [آية 71].
أي إلى الكفر.
قال أبو عبيدة: يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها: قد
رد على عقبيه.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد: معناه يعقب بالشر بعد
الخير، وأصله من العاقبة والعقبى، وهما ما كان تاليا للشيء راجيا أن
يتبعه، ومنه * (والعاقبة للمتقين) ومنه عقب الرجل، ومنه
العقوبة، لأنها تالية للذنب، وعنه تكون.
445

84 - وقوله جل وعز: * (كالذي استهوته الشياطين في الأرض
حيران) * [آية 71].
معنى استهوته: زينت له هواه.
85 - ثم قال جل وعز: * (له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا) *.
[آية 71].
86 - وقوله جل وعز: * (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق
ويوم يقول كن فيكون) * [آية 73].
والمعنى: اتقوا يوم يقول كن فيكون. ويجوز أن يكون
معطوفا على قوله تعالى: * (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق) *
فإن قيل: ما معنى وخلق يوم يقول كن فيكون؟
فالجواب: أن ما أخبر الله جل وعز أنه كائن، فهو بمنزلة ما
قد كان، ويجوز أن يكون المعنى واذكروا، وهذا أحسن الأجوبة، لأن
بعده * (وإذ قال إبراهيم) *.
446

وقيل: المعنى ويوم يقول كن فيكون للصور.
وقيل: المعنى فيكون ما أراد من موت الخلائق وبعثهم.
والتمام على هذين الجوابين عند قوله * (فيكون) *.
وقيل: المعنى فيكون قوله أي فيكون يأمر به، ويكون التمام
على هذا * (فيكون قوله الحق) *.
قال أبو عبيدة: الصور جمع صورة، وهذا القول مما رد
عليه، لأن عبد الله بن مسعود قال: الصور: قرن.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
" لم يزل صاحب الصور ملتقمه منذ خلقه الله، ينتظر متى يؤمر
بالنفخ فيه ".
447

وقال عمرو بن عبيد: قرأ عياض: * (يوم ينفخ في
الصور) *، وهذا يعني به الخلق، والله أعلم.
87 - وقوله جل وعز: * (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما
آلهة) *؟ [آية: 74].
فقرأ الحسن: " آزر " بالرفع.
وفي حرف أبي: يا آزر.
قال الحسن: هو اسم أبيه، وذهب الحسن إلى أنه نداء.
وقال سليمان التيمي: معنى آزر: يا أعوج.
وقيل: كان لأبيه اسمان، كان يقال له: تارح، وآزر.
وقيل: آزر اسم صنم، والمعنى على هذا القول: أتتخذ
آزر أي أتتخذ أصناما؟!
448

88 - وقوله جل وعز: * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات
والأرض) * [آية 75].
ملكوت في اللغة: بمعنى ملك، إلا أن فيه معنى المبالغة.
وروى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: يعني
الآيات.
وروى ابن جريج عن القاسم عن إبراهيم النخعي قال: فرجت
له السماوات السبع، فنظر إليهن حتى انتهى إلى العرش وفرجت له
الأرضون، فنظر إليهن.
89 - وقوله جل وعز: * (فلما جن عليه الليل) * [آية 76].
جن عليه وأجنة: إذا ستره بظلمته.
90 - ثم قال جل وعز: * (رأى كوكبا) * [آية 76].
449

قال قتادة: كنا نحدث أنه الزهرة.
قال السدي: هو المشتري.
91 - ثم قال جل وعز: * (هذا ربي) * [آية 76].
في هذا أجوبة:
قال قطرب: يجوز أن يكون على الاستفهام.
وهذا خطأ، لأن الاستفهام لا يكون إلا بحرف، أو يكون في
الكلام (أم).
وقال بعض أهل النظر: إنما قال لهم هذا من قبل أن يوحى
إليه. واستشهد صاحب هذا القول بقوله تعالى: * (لئن لم يهدني
ربي لأكونن من القوم الضالين) *.
قال أبو إسحاق: هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن
قاله.
450

وقد أخبر الله جل وعز عن إبراهيم أنه قال: * (واجنبني وبني
أن نعبد الأصنام) *.
وقال جل وعز: * (بقلب سليم) * أي لم يشرك قط.
قال: والجواب عندي أنه قال: هذا ربي على قولكم، لأنهم
كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر، ونظير هذا قول الله جل وعز
* (أين شركائي) * وهو جل وعز لا شريك له، والمعنى: أين شركائي
على قولكم؟
ويجوز أن يكون المعنى فلما جن عليه الليل رأى كوكبا:
يقولون هذا ربي، ثم حذف القول كما قال جل وعز: * (والملائكة
يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) * فحذف القول.
451

92 - وقوله جل وعز: * (فلما أفل) * [آية 76].
قال قتادة: أي ذهب.
قال الكسائي: يقال: أفل النجم أفولا إذا غاب.
93 - وقوله جل وعز: * (فلما رأى القمر بازغا) * [آية 77].
يقال: بزغ القمر: إذا ابتدأ في الطلوع.
94 - وقوله جل وعز: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض حنيفا) * [آية 79].
فطر: خلق، والحنيف: المائل إلى الإسلام كل الميل.
95 - وقوله جل وعز * (وحاجه قومه) * [آية 80].
المعنى: وحاجه قومه أي في توحيد الله.
96 - وقوله جل وعز: * (ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي
شيئا) * [آية 80].
452

المعنى: إلا أن يشاء ربي أن يلحقني شيئا بذنب عملته، وهذا
استثناء ليس من الأول.
97 - وقوله جل وعز: * (فأي الفريقين أحق بالأمن) * [آية 81].
المعنى: المؤمن أحق بالأمن أم المشرك؟
98 - ثم قال جل وعز: * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) *.
[آية 82].
يجوز أن يكون هذا إخبارا عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه
قاله.
ويجوز أن يكون مستأنفا من قول الله جل وعز.
وفي بعض الروايات عن مجاهد ما يدل أنه إخبار عن إبراهيم
وروي عن مجاهد أنه قال في قول الله جل وعز * (وتلك
453

حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) * قال: هو قوله: * (فأي
الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم) *.
قال أبو بكر وعلي - رضي الله عنهما - وسلمان وحذيفة
في قوله تعالى: * (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * أي بشرك.
وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود لما نزلت * (الذين
آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * اشتد ذلك على أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم؟! فقال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان: * (إن الشرك
لظلم عظيم) *.
99 - وقوله جل وعز: * (ومن ذريته داود وسليمان) * [آية 84].
454

ويجوز أن يكون المعنى: وهدينا داود وسليمان، ويكون
معطوفا على (كل).
ويجوز أن يكون المعنى: ووهبنا له داود وسليمان.
100 - وقوله جل وعز: * (واجتبيناهم) * [آية 87].
قال مجاهد: أخلصناهم.
وهو عند أهل اللغة بمعنى اخترناهم.
101 - وقوله تعالى: * (فإن يكفر بها هؤلاء) * [آية 89].
قال مجاهد: يعني أهل مكة.
وقال قتادة: يعني قوم محمد عليه السلام.
102 - (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) * [آية 89].
قال مجاهد: يعني أهل المدينة.
وقال قتادة: يعني النبيين الذين قص الله عز وجل.
455

وهذا القول أشبه بالمعنى، لأنه قال بعد: * (أولئك الذين
هدى الله فبهداهم اقتده) *
وحدثني محمد بن إدريس قال حدثنا إبراهيم حدثنا عثمان المؤذن
عن عوف عن أبي رجاء في قول الله جل وعز: * (فقد وكلنا بها
قوما ليسوا بها بكافرين) * قال: هم الملائكة.
103 - وقوله جل وعز: * (وما قدروا الله حق قدره) * [آية 91].
قال أبو عبيدة: أي ما عرفوا الله حق معرفته.
هذا قول حسن، لأن معنى قدرت الشيء، وقدرته: عرفت
مقداره.
ويدل عليه قوله جل وعلا: * (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر
من شيء) * أي لم يعرفوه حق معرفته، إذ أنكروا أن يرسل رسولا.
وقال غير أبي عبيدة: المعنى وما عظموا الله حق
عظمته. ومن هذا: لفلان قدر.
456

والمعنيان متقاربان.
ويروى أن هذا نزل في بعض اليهود، ممن كان يظهر العبادة،
ويتنعم في السر، فقيل له: إن في الكتاب أن الله لا يحب الحبر
السمين، فقال: " ما أنزل الله على بشر من شيء ".
104 - وقوله جل وعز: * (ولتنذر أم القرى ومن حولها) * [آية 92].
المعنى: ولتنذر أهل أم القرى.
قال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة، لأن الأرض منها
دحيت.
457

وقيل: إنما سميت أم القرى، لأنها تقصد من كل
قرية.
105 - وقوله جل وعز: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا،
أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومن قال سأنزل مثل ما
أنزل الله) *؟ [آية 93].
قال قتادة: بلغنا أن هذا أنزل في مسيلمة.
قال أبو إسحاق: وهذا جواب لقولهم: * (لو نشاء لقلنا
مثل هذا) *.
وروي عن ابن عباس: الذي افترى على الله كذبا
" مسيلمة "، والذي قال * (سأنزل مثل ما أنزل الله) * " عبد الله
ابن سعد بن أبي سرح ".
458

وروى حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان عن عكرمة:
أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث، لأنه عارض القرآن،
فقال: " والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، فالخابزات خبزا،
فاللاقمات لقما ".
106 - ثم قال جل وعز: * (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات
الموت) * أي شدائده * (والملائكة باسطوا أيديهم) * [آية 93].
أي باسطوا أيديهم بالعذاب.
107 - وقوله جل وعز: * (لقد تقطع بينكم) * [آية 94].
قال مجاهد: أي تواصلكم.
ومن قرأ (بينكم) فالمعنى: لقد تقطع الأمر بينكم.
459

108 - وقوله جل وعز: * (إن الله فالق الحب والنوى) *
قال مجاهد: يعني الشق فيها.
وقال الضحاك: فالق: خالق.
109 - وقوله جل وعز: * (فالق الإصباح) * [آية 96].
ويقرأ (الأصباح) وقرأ به الحسن وعيسى، وهو جمع
صبح، والإصباح كما تقول الإمساء.
وقرأ النخعي * (فلق الإصباح) *.
110 - ثم قال جل وعز: * (وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر
حسبانا) * [آية 96].
460

والحسبان والحساب واحد، أي ذوي حساب، يعني
دورانهما.
وقال ابن عباس في قوله جل وعز * (الشمس والقمر
بحسبان) *: أي بحساب.
111 - وقوله جل وعز: * (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة،
فمستقر ومستودع) * [آية 98].
قال عطاء ومجاهد وقتادة والضحاك - وألفاظهم متقاربة -:
فمستقر في الرحم، ومستودع في الصلب.
وقرأ جماعة: بالفتح.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: المستقر: الرحم،
والمستودع: الأرض التي تموت بها.
461

والفتح على معنى: ولكم في الأرحام مستقر، وفي الأصلاب
مستودع.
والكسر بمعنى فمنكم مستقر.
وقال سعيد بن جبير: قال ابن عباس: هل تزوجت؟
فقلت: لا،.
فقال: إن الله جل وعز يستخرج من ظهرك ما استودعه
فيه.
وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما * (فمستقر) *
بالكسر، * (ومستودع) *.
وقال إبراهيم النخعي: المعنى فمستقر في الرحم، ومستودع في
الصلب.
وقال الحسن: فمستقر في القبر، ومستودع في الدنيا، يوشك
أن يلحق بصاحبه.
حدثني محمد بن إدريس قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق
462

قال: حدثنا أبو داود عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس في قوله جل وعز: * (فمستقر ومستودع) * قال:
المستقر: ما كان في الرحم، والمستودع: الصلب.
112 - ثم قال جل وعز: * (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) *.
[آية 98].
قال قتادة: فصلنا بمعنى بينا.
113 - وقوله عز وجل * (وهو الذي أنزل من السماء ماء، فأخرجنا به
نبات كل شيء، فأخرجنا منه خضرا) * [آية 99].
* (خضرا) * بمعنى: أخضر.
114 - وقوله عز وجل: * (ومن النخل من طلعها قنوان دانية) *.
[آية 99].
قال قتادة: القنوان: العذوق، وكذلك هو عند أكثر أهل
اللغة.
463

يقال: عذق، وقنو بمعنى واحد، فأما العذق فالنخلة.
وقيل: القنوان. الجمار.
وقال البراء بن عازب: دانية: قريبة.
والمعنى: ومنها قنوان بعيدة كما قال تعالى: * (سرابيل تقيكم
الحر) *.
115 - وقوله جل وعز: * (والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه) *
[آية 99].
[أي مشتبها في المنظر، وغير متشابه في الطعم].
116 - ثم قال جل وعز: * (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) * [آية 99].
أي ونضجه.
يقال: ينع وينع، وأينع وينع: إذا نضج وأدرك.
464

وقال الحجاج في خطبته: " أرى رؤوسا قد أينعت وحان
قطافها ".
117 - وقوله جل وعز: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * [آية 100].
قيل: معناه إنهم أطاعوهم كطاعة الله.
وقيل: معناه نسبوا إليهم الأفاعيل التي لا تكون إلا لله جل
وعز، أي فكيف يكون الشريك لله المحدث الذي لم يكن ثم كان؟
118 - وقوله جل وعز: * (وخلقهم) * [آية 100].
يجوز أن يكون المعنى: وخلق الشركاء، ويجوز أن يكون
المعنى: وخلق الذين جعلوا.
وقرأ يحيى بن يعمر: (وخلقهم) بإسكان اللام، قال:
ومعناه: وجعلوا خلقهم لله شركاء.
465

وسئل الحسن عن معنى (وخرقوا له بنين وبنات)
بالتشديد، فقال: إنما هو * (وخرقوا) * بالتخفيف، كلمة
عربية، كان الرجل إذا كذب في النادي قيل: خرقها ورب الكعبة.
وقال أهل اللغة: معنى " خرقوا " اختلفوا وافتعلوا،
" خرقوا " على التكثير.
119 - وقوله جل وعز: * (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) *.
[آية 101].
أي من أين يكون له ولد، والولد لا يكون له إلا من صاحبة؟
* (وخلق كل شيء) * أي فليس شيء مثله، فكيف يكون له
ولد؟
120 - وقوله جل وعز: * (لا تدركه الابصار) * [آية 103].
قيل: معناه في الدنيا.
466

وقال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته، كما تقول: أدركت
كذا وكذا، لأنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
الأحاديث في الرؤية يوم القيامة.
121 - وقوله جل وعز: * (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر
فلنفسه) * [آية 104].
المعنى: فلنفسه نفع ذلك.
* (ومن عمي فعليها) * أي فعليها ضرر ذلك.
122 - وقوله جل وعز: * (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست) *.
[آية 105].
هذه قراءة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وابن الزبير،
ومعناها: تلوت، وقرأت.
467

وقرأ علي بن أبي طالب * (دارست) * وهو الصحيح من
قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وأبي عمرو،
وأهل مكة.
قال ابن عباس: معنى دارست: تاليت.
قال سعيد بن جبير: أي دارست أهل الكتاب.
وقرأ قتادة * (درست) * أي قرئت.
وقرأ الحسن * (درست) * أي امحت وقدمت.
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قرأ
* (دارست) *.
وكان أبو حاتم يذهب إلى أن هذه القراءة لا تجوز، قال:
لأن الآيات لا تدارس.
468

وقال غيره: القراءة بهذا تجوز، وليس المعنى على ما ذهب
إليه أبو حاتم، ولكن معناه: دارست أمتك أي دارستك أمتك،
فإن كان لم يتقدم لها ذكر، فإنه يكون مثل قوله تعالى * (حتى
توارت بالحجاب) *.
وحكى الأخفش: (وليقولوا درست)، وهو بمعنى
درست، إلا أنه أبلغ.
وحكى أبو العباس أنه يقرأ (وليقولوا درست) بإسكان
اللام على الأمر، وفيه معنى التهديد، أي فليقولوا ما شاءوا، فإن الحق
بين كما قال جل وعز: * (فليضحكوا قليلا، وليبكوا كثيرا) *.
فأما من كسر اللام فإنها عنده لام " كي ".
قال أبو إسحاق: وأهل اللغة يسمونها لام الصيرورة، أي
469

صار إلى هذا، كما قال جل وعز: * (ربنا ليضلوا عن سبيلك) *،
وكما تقول: كتب فلان هذا الكتاب لحتفه، أي فصار أمره إلى
ذلك.
وهذه القراءات كلها يرجع اشتقاقها إلى شيء واحد إلى التليين
والتذليل.
ودرست: قرأت وذللت، ودرست الدار: ذلت وأمحقت، وقال
ودرس الحنطة: أي داسها.
123 - وقوله جل وعز: * (ولو شاء الله ما أشركوا) * [آية 107].
قيل: معنا لو شاء الله لاستأصلهم، والله أعلم بما
أراد.
470

124 - ثم قال جل وعز: * (وما جعلناك عليهم حفيظا، وما أنت
عليهم بوكيل) * [آية 107].
وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.
125 - وقوله جل وعز: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا
الله عدوا بغير علم) * [آية 108].
قال قتادة: كان المسلمون يسبون الأصنام، فيسب المشركون
الله عدوا بغير علم.
وروي أن في قراءة أهل مكة (عدوا بغير علم)، والقراءة
حسنة ومعنى " عدوا " بمعنى أعداء، كما قال تعالى: * (إن الكافرين
كانوا لكم عدوا مبينا) *.
وتقرأ (عدوا)، يقال إذا تجاوز في الظلم: عدا يعدو،
471

عدوا، وعدوا، وعدوانا، وعداء.
126 - ثم قال جل وعز: * (كذلك زينا لكل أمة عملهم) * [آية 108].
قيل: معناه مجازاة على كفرهم.
وقيل: أعمالهم يعني الأعمال التي يجب أن يعملوا بها وهي
الإيمان والطاعة، والله أعلم بحقيقة ذلك.
127 - وقوله جل وعز: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) * [آية 109].
أي اجتهدوا في الحلف * (لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) *.
يعنون آية مما يقترحون.
128 - وقوله جل وعز: * (وما يشعركم أنها إذا جاءت
لا يؤمنون) *؟ [آية 109].
472

قال مجاهد: معناه: وما يدريكم؟ قال: ثم ابتدأ
فقال، * (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) *.
وقرأ أهل المدينة: * (أنها إذا جاءت) *.
قال الكسائي: (لا) ها هنا زائدة، والمعنى وما يشعركم أنها
إذا جاءت يؤمنون!!
وشبهه بقوله جل وعز: * (قال ما منعك ألا تسجد إذ
أمرتك) *؟
وهذا عند البصريين غلط، لأن (لا) لا تكون زائدة في موضع
تكون فيه نافيه.
قال الخليل: المعنى لعلها، وشبهه بقول العرب: إيت
السوق أنك تشتري لنا شيئا، بمعنى لعلك.
473

وروي أنها في قراءة أبي * (وما يشعركم لعلها إذا جاءت
لا يؤمنون) *؟!
وأنشد أهل اللغة في (أن) بمعنى (لعل):
أريني جوادا مات هزلا لأنني
أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: وما يشعركم أنها إذا
جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون؟ ثم حذف هذا لعلم السامع.
ويروى أن المشركين قالوا: ادع الله أن ينزل علينا الآية التي
قال فيها: * (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها
خاضعين) * ونحن - والله - نؤمن!! فقال المسلمون: يا رسول الله
474

ادع الله أن ينزلها!. فأنزل الله عز وجل * (وما يشعركم أنها إذا
جاءت لا يؤمنون) *.
129 - ثم قال جل وعز * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * [آية 110].
و " أفئدة " جمع فؤاد.
130 - وقوله جل وعز: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة، وكلمهم
الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن
يشاء الله) * [آية 111].
ويروى أنهم سألوا هذه الأشياء فنزل هذا.
قال مجاهد: * (قبلا) * أفواجا أي قبيلا قبيلا.
يذهب إلى أنه جمع قبيل، وهو الفرقة.
وقيل: هو جمع قبيل: و " وقبيل " بمعنى كفيل، أي لو
475

كفل لهم الملائكة وغيرهم بصحة هذا لم يؤمنوا، كما قال تعالى:
* (أو تأتي بالله والملائكة قبيلا) *.
ويجوز أن يكون معنى * (قبلا) * كمعنى مقابلة، كما قال
تعالى: * (إن كان قميصه قد من قبل) *.
ومن قرأ (قبلا) فمعناه عنده معاينة.
131 - وقوله جل وعز: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا) * [آية 112].
أي كما جعلنا لك ولأمتك أعداء، وعدو بمعنى أعداء.
132 - ثم قال جل وعز: * (شياطين الإنس والجن) * [آية 112].
وقرأ الأعمش * (شياطين الجن والإنس) * والمعنى واحد.
476

133 - ثم قال تعالى: * (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول
غرورا) * [آية 112].
قال مجاهد: أي يزينون لهم ذاك، أي يزينون لهم العمل
القبيح.
وكذلك الزخرف في اللغة هو التزيين، ومنه قيل للذهب:
زخرف.
134 - ثم قال جل وعز: * (ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) *
[آية 112].
أي لو شاء لمنعهم من وسوستهم الإنس، ولكنه يبتلي بما
شاء، ليجزل الثواب.
135 - وقوله جل وعز: * (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون
بالآخرة) * [آية 113].
يقال: صغى يصغى، وصغا يصغو، وأصغى يصغي إذا
مال، كما قال الشاعر:
477

تصغي إذا شدها بالرحل جانحة
حتى إذا ما استوى في غرزها تثب
136 - ثم قال جل وعز: * (وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) *
[آية 113].
أي: وليكتسبوا، ويقال: قرفت الجلد إذا قلعته.
ويقرأ (وليقترفوا) وفيه معنى التهديد.
قال قتادة: صدقا فيما وعد، وعدلا فيما حكم.
137 - وقوله جل وعز: * (إن يتبعون إلا الظن) * [آية 116].
أعلم جل وعز أنهم ليسوا على بصائر ولا يقين، وأنهم لا يتبعون
الحق.
ويقرأ * (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله) *
478

وهذا على حذف المفعول، وفتح الياء أحسن، لأن بعده:
* (وهو أعلم بالمهتدين) *.
138 - وقوله جل وعز: * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * [آية 118].
أي مما أخلص لله، وتحريم الميتة داخل في هذا.
139 - ثم قال جل وعز: * (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله
عليه) *؟ [آية 119].
وروى عكرمة عن ابن عباس أن المشركين قالوا للمسلمين:
لم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله لكم؟ فأنزل الله جل
وعز: * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) *.
479

140 - وقوله جل وعز: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما
اضطررتم إليه) * [آية 119].
قال قتادة: فصل: بين.
وقرأ عطية العوفي (وقد فصل لكم) خفيفة.
ومعناه: أبان، وظهر، كما قرئ (آلر. كتاب أحكمت
آياته ثم فصلت) أي استبانت.
141 - وقوله جل وعز: * (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) * [آية 120].
قال قتادة: أي علانيته، وسره
وقال غيره: ظاهر الإثم: " الزنا "، وباطنه: " اتخاذ
الأخدان ".
والأشبه باللغة قول قتادة.
142 - ثم قال جل وعز: * (إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا
يقترفون) * [آية 120].
480

أي يكسبون ويعملون، ويقال: قرفت الجلد، أي قلعته.
قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم في معنى * (ولا تأكلوا
مما لم يذكر اسم الله عليه) * فكان مذهب ابن عباس أن هذا
جواب للمشركين حين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وتخاصموا، فقالوا:
كيف لا نأكل مما قتل ربك، ونأكل مما قتلنا؟ فأنزل الله عز
وجل: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *.
ورواه عنه سعيد بن جبير وعكرمة، فالمعنى على هذا:
ولا تأكلوا من الميتة.
وقال الشعبي ومحمد بن سيرين: لا يؤكل من الذبائح التي لم
يسم الله جل وعز عليها كان ذلك عمدا أو نسيانا.
وقال سعيد بن جبير وعطاء: إذا ترك التسمية عمدا لم
يؤكل، وإذا نسي أكل، وهذا حسن، لأنه لا يسمى فاسقا إذا
كان ناسيا.
481

143 - ومعنى * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * [آية 121].
مما لم يخلص لله.
* (وإنه لفسق) * أي خروج من الطاعة، ويقال: فسقت
الرطبة إذا خرجت من قشرها.
144 - ثم قال جل وعز: * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم
ليجادلوكم) * [آية 121].
أي يوسوسون إليهم.
وقد ذكرت معنى ليجادلوكم.
145 - ثم قال جل وعز: * (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * [آية 121].
وقال أهل النظر: في هذا دليل على أنه من أحل ما حرم
الله، أو حرم ما أحل الله فقد أشرك.
482

وقيل له: مشرك لأنه اتبع غير الله، فأشرك به غيره جل
وعز.
146 - وقوله جل وعز: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * [آية 122].
قال مجاهد: المعنى أو من كان ضالا فهديناه * (وجعلنا له
نورا يمشي به في الناس) * أي هدى * (كمن مثله في الظلمات
ليس بخارج منها) *؟
قال مجاهد: أي في الضلالة.
قال السدي: هذا نزل في " عمر بن الخطاب " - رحمة
الله عليه - وأبي جهل.
والذي يوجب المعنى أن يكون عاما إلا أن تصح فيه رواية.
483

147 - وقوله جل وعز: * (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر
مجرميها) * [آية 123].
قال مجاهد: أي عظماءهم.
وقال غيره: وخص العظماء والرؤساء، لأنهم أقدر على
الفساد.
148 - ثم قال تعالى: * (وما يمكرون إلا بأنفسهم) * [آية 123].
أي إن وبال ذلك يرجع عليهم.
149 - وقوله جل وعز: * (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله) *.
[آية 124].
وإن كانوا أعزاء في الدنيا، فستلحقهم الذلة يوم القيامة.
وفي الآية ثلاثة أقوال:
أحدهما: أن المعنى: سيصيب الذين أجرموا عند الله
صغار، على التقديم والتأخير.
والقول الثاني: أن المعنى: سيصيب الذين أجرموا صغار
ثابت عند الله.
484

وهذا أحسن الأقوال، لأن (عند) في موضعها.
والقول الثالث: ذكره الفراء أنه يجوز أن يكون المعنى:
سيصيب الذين أجرموا صغار من عند الله.
وهذا خطأ عند البصريين، لأن (من) لا تحذف في مثل
هذا.
150 - وقوله جل وعز: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره
للإسلام) [آية 125].
روي أن عبد الله بن مسعود قال: يا رسول الله هل ينشرح
الصدر؟! فقال: نعم، يدخل القلب نور، فقال وهل لذلك من
علامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " التجافي عن دار الغرور،
والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل الموت ".
485

151 - ثم قال جل وعز: * (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا
حرجا) * [آية 125].
أي شديد الضيق.
وقرأ عمر وابن عباس (ضيقا حرجا).
وروي أن عمر أحضر أعرابيا من كنانة من بني مدلج، فقال
له: ما الحرجة؟ فقال: شجرة لا تصل إليها وحشية ولا راعية..
فقال: كذلك قلب الكافر، لا يصل إليه شيء من الإيمان والخير.
152 - ثم قال جل وعز: * (كأنما يصعد في السماء) * [آية 125].
وقرأ ابن محيص وابن كثير وشبل: * (كأنما يصعد في
السماء) *.
وقرأ ابن عبد الرحمن المقرئ وإبراهيم النخعي: * (كأنما
يصاعد) *.
486

وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ: * (كأنما
يتصعد) *.
ومعنى هذه القراءة وقراءة من قرأ يصعد ويصاعد واحد.
والمعنى فيها أن الكافر من ضيق صدره، كأنه يريد أن يصعد.
إلى السماء، وهو لا يقدر على ذلك، كأنه يستدعي ذلك.
ومن قرأ " يصعد " فمعناه أنه من ضيق صدره كأنه في حال
صعود قد كلفه.
وقال أبو عبيد: من هذا قول عمر: " ما تصعدتني
خطبة، ما تصعدتني خطبة النكاح ".
وقد أنكر هذا على أبي عبيد، وقيل: إنما هذا من الصعود،
487

وهي العقبة الشاقة، قال الله جل وعز: * (سأرهقه صعودا) *
153 - ثم قال جل وعز: * (كذلك يجعل الله الرجس على الذين
لا يؤمنون) * [آية 125].
قال مجاهد: الرجس: ما لا خير فيه.
وكذلك الرجس عند أهل اللغة هو النتن. فمعنى الآية -
والله أعلم - ويجعل اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة على الذين
لا يؤمنون.
154 - وقوله جل وعز: * (قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) * [آية 125]
أي بينا.
155 - ثم قال جل وعز: * (لهم دار السلام عند ربهم) * [آية 127].
ويجوز أن يكون المعنى: دار السلامة، أي التي يسلم فيها من
الآفات.
ويجوز أن يكون المعنى دار الله جل وعز، وهو السلام.
488

156 - وقوله جل وعز: * (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد
استكثرتم من الإنس) * [آية 128].
المعنى فيما يقال لهم: يا معشر الجن قد استكثرتم من
الإنس، أي كثر من أغويتم.
157 - ثم قال جل وعز: * (وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع
بعضنا ببعض) * [آية 128].
ففي هذا قولان:
أحدهما: إن الجن أغوت الإنس، وقبلت الإنس منهم.
والقول الآخر: أن الرجل كان إذا سافر في الجاهلية
489

فخاف، قال: أعوذ بصاحب هذا الوادي من شر ما أحذر،
فهذا استمتاع الإنس بالجن.
واستمتاع الجن بالإنس أنهم يعترفون أن الجن يقدرون أن يدفعوا
عنهم ما يجدون.
والقول الأول أحسن، ويدل عليه * (يا معشر الجن قد
استكثرتم من الإنس) *
158 - وقوله جل وعز: * (قال النار مثواكم) * [آية 128].
المثوى: المقام.
159 - ثم قال جل وعز: * (خالدين فيها إلا ما شاء الله) * [آية 128].
في هذا قولان:
أحدهما: أنه استثناء ليس من الأول، والمعنى على هذا إلا
ما شاء الله من الزيادة في عذابهم.
490

وسيبويه يمثل هذا بمعنى (لكن).
والفراء يمثله بمعنى (سوى) كما تقول: لأسكننك هذه
الدار حولا، إلا ما شئت، أي سوى ما شئت من الزيادة، ومثله
* (خالدين فيه ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) *
أي سوى ما شاء ربك من الزيادة.
قال أبو جعفر: وقال أبو إسحاق: معنى الاستثناء عندي
ها هنا - والله أعلم - إنما هو من يوم القيامة. أي إلا ما شاء
ربك من مقدار محشرهم ومحاسبتهم.
ويدل على هذا الجواب: * (ويوم يحشرهم جميعا) *، لأن
هذا يراد به يوم القيامة، ويجوز أن يكون معنى ما شاء الله عز وجل
أن يعذبهم من أصناف العذاب.
491

160 - وقوله جل وعز: * (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل
منكم) * [آية 130].
والرسل من الإنس؟ ففي هذا جوابان:
أحدهما أنه روي عن ابن عباس أنه قال: رسل الجن الذين
لقوا قومهم فبلغوهم.
يعني ابن عباس الذين قالوا: * (إنا سمعنا قرآنا
عجبا) *. وهم بمنزلة الرسل إلى قومهم لأنهم قد بلغوهم.
وكذلك قال مجاهد: الرسل في الإنس، والنذارة في الجن.
والقول الآخر: أنه لما كانت الإنس والجن، ممن يخاطب
ويعقل قيل: ألم يأتكم رسل منكم، وإن كانت الرسل من الإنس
خاصة.
161 - وقوله جل وعز: * (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) * [آية 133].
الإنشاء: ابتداء الخلق.
492

162 - وقوله جل عز: * (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) * [آية 135]
فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى على تمكنكم.
والقول الآخر: أنه كما تقول: أثبت مكانك، أي أثبت على
ما أنت عليه.
فإن قيل: كيف يجوز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه
وهم كفار؟
فالجواب: أن هذا تهدد، كما قال جل وعز: * (فليضحكوا
قليلا وليبكوا كثيرا) *.
ودل عليه قوله * (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة
الدار) *.
والمعنى على هذا: اثبتوا على ما أنتم عليه إن رضيتم بالنار.
163 - وقوله جل وعز: * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام
نصيبا) * [آية 136].
493

في الكلام حذف، والمعنى: وجعلوا لأصنامهم نصيبا ودل
عليه * (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) *.
قال مجاهد: كانوا يجعلون لله جزء ولشركائهم جزء، فإذا
ذهب ما لشركائهم عوضوا منه مما لله، وإذا ذهب ما لله لم يعوضوا
منه شيئا.
قال: الأنعام: البحيرة، والسائبة.
وقال قتادة: كانوا يجعلون لله نصيبا ولشركائهم نصيبا، فإذا
هلك بعير لشركائهم، أخذوا مما لله فجعلوه لشركائهم، وإذا
هلك بعير مما لله، جل وعز تركوه، وقالوا: الله مستغن عن هذا،
وإذا أصابهم سنة أخذوا ما لله جل وعز فنحروه وأكلوه.
494

164 - وقال الله عز وجل: * (ساء ما يحكمون) * [آية 136].
فذم الله ذلك من فعلهم.
ويقال: ذرأ، يذرأ، ذرء: أي خلق.
165 - وقوله جل وعز: * (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل
أولادهم شركاؤهم) * [آية 137].
يعني: المؤودة.
قال مجاهد: زين لهم الشياطين قتل البنات، وخوفوهم
العيلة.
قال غير مجاهد: " شركاؤهم " ههنا: الذين يخدمون
الأصنام.
166 - وقوله عز وجل: * (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر) * [آية 138].
قال قتادة: الحجر: الحرام.
495

وقيل: هذه أشياء كانوا يجعلونها لأصنامهم، لا يأكل منها إلا
من يشاؤهم خدم الأصنام.
والحرث: هو الذي يجعلونه لنفقة أوثانهم، ويحرمونها على
الناس إلا خدمها.
167 - ثم قال جل وعز * (وأنعام حرمت ظهورها) * [آية 138].
قال قتادة: يعني السائبة والوصيلة.
168 - وقوله جل وعز * (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) * [آية 138]
أي يذبحونها لآلهتهم، ولا يذكرون عليها اسم الله، فأعلم الله
جل وعز أنه لم يأمرهم بهذا، ولا جاءهم به نبي، فقال تعالى:
* (افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون) *.
وقيل: معنى * (وأنعام حرمت ظهورها) *.
هو الحامي الذي ذكره الله جل وعز في قوله: * (ولا وصيلة
ولا حام) *.
496

وقيل معنى * (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) *
السائبة، لأنها لا تركب، فيذكر اسم الله عليها.
وقيل: يذبحونها لأصنامهم فلا يذكرون اسم الله عليها.
والمحرمة ظهورها " السائبة، والحامي، والبحيرة " وأصحها
ما بدأنا به.
170 - وقوله جل وعز * (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة
لذكورنا) * [آية 139].
قال مجاهد: يعني البحيرة والسائبة.
قال غيره: كانوا إذا جعلوا لأصنامهم شيئا مما في بطون
الأنعام، فولدت مولودا حيا ذكرا، كان للذكران دون الإناث، وإذا
ولدت ميتا ذكرا اشترك فيه الذكران والإناث، فذلك قوله تعالى:
* (وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء) *.
497

وقال قطرب: إذا أتأمت عشرا، فما ولدت بعد ذلك
فهو للذكور، إلا أن يموت، فيشترك فيه أكله الذكر والأنثى.
وقرأ الأعمش: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالص
لذكورنا) *.
قال الكسائي: معنى خالص، وخالصة واحد، إلا أن الهاء
للمبالغة، كما يقال: رجل داهية، وعلامة.
وقال الفراء: الخاء لتأنيث الأنعام، لأن ما في بطون الأنعام
مثلها.
وقرئ * (خالصه لذكورنا) *.
والمعنى على هذه القراءة: ما خلص منه حيا لذكورنا.
* (ومحرم على أزواجنا) * أي الإناث.
قال مجاهد: معنى * (سيجزيهم وصفهم) * أي سيجزيهم
كذبهم.
498

والتقدير عند النحويين: سيجزيهم جزاء وصفهم الذي هو
كذب.
170 - وقوله جل وعز: * (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير
علم) * [آية 140].
يعني: قتلهم البنات جهلا.
171 - ثم قال جل وعز: * (وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا
وما كانوا مهتدين) * [آية 140].
قال أبو رزين: ولم يكونوا مهتدين قبل ذلك.
172 - وقوله جل وعز: * (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير
معروشات) * [آية 141].
أنشأ: خلق وابتدع. والجنات: البساتين.
499

وقيل: المعروشات الكروم.
* (والنخل والزرع مختلفا أكله) * أي ثمره، لأنه مما
يؤكل.
* (والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه) *.
قيل: مشتبه في المنظر، ومختلف في المطعم، فيه حلو،
وحامض.
وقيل: يشبه بعضه بعضا في الطعم، ومنه مالا يشبه بعضه
بعضا في الطعم.
173 - ثم قال جل وعز: * (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم
حصاده، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) * [آية 141].
في هذه الآية ثلاثة أقوال:
500

فمذهب ابن عمر، وأبي الدرداء، وسعيد بن جبير، وأبي
العالية، ومجاهد، وعطاء: أن عليه أن يصدق منه سوى الزكاة
المفروضة.
والقول الثاني: أن الآية منسوخة.
قال إبراهيم النخعي: نسخها العشر، ونصف العشر.
وروى عن الحسن قولان:
روى سفيان، عن يونس، عن الحسن، قال: نسختها الزكاة
المفروضة.
والقول الآخر - وهو القول الثالث في الآية - رواه شعبة
عن أبي الرجاء قال: سألت الحسن عن قوله جل وعز: * (وآتوا
حقه يوم حصاده) * فقال: الزكاة المفروضة.
501

وكذلك قال ابن عباس، وأنس بن مالك، وابن الحنفية،
وجابر بن زيد، وسعيد ابن المسيب وطاووس وقتادة والضحاك.
وراه ابن وهب عن مالك قال: هي الصدقة المفروضة.
والقول الأول أولاها، لأنه يبعد أن يعني به الزكاة المفروة، لأن
الأنعام مكية، والزكاة إنما فرضت بعد مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى
المدينة.
ويقوي القول الأول حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن
جذاذ الليل.
قال سفيان: كي يحضر المساكين.
قال سعيد بن المسيب: ومعنى * (ولا تسرفوا) * ولا تمتنعوا
502

من الصدقة فتهلكوا.
وقال غيره: معنى * (ولا تسرفوا) * لا تدفعوا كل ما لكم
إلى الغرباء، وتتركوا عيالكم، كما روي " إبدأ بمن تعول ".
السرف في اللغة: المجاوزة إلى ما لا يحل، وهو اسم ذم، أي
لا تنفقوا في الوجوه المحرمة، حتى لا يجد السائل شيئا.
وقيل: معنى * (ولا تسرفوا) * لا تنفقوا أموالكم فيما
لا يحل، لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: * (وهذا لشركائنا) *.
174 - وقوله جل وعز: * (ومن الأنعام حمولة وفرشا) * [آية 142].
وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود أنه قال:
" الحمولة ": ما أطاق الحمل من الإبل، والفرش: ما لم يطق
الحمل، وكان صغيرا ".
503

قال أبو جعفر: وهذا المعروف عند أكثر أهل اللغة.
وقال الضحاك: الحمولة: من الإبل، والبقر، والفرش:
الغنم.
واستشهد لصاحب هذا القول بقوله * (ثمانية أزواج) *
قال: فثمانية بدل من قوله * (حمولة وفرشا) * [آية 142].
قال الحسن: الحمولة: الإبل، والفرش: الغنم.
175 - ثم قال جل وعز: * (كلوا مما رزقكم الله) * [آية 142].
وهو أمر على الإباحة.
176 - ثم قال تعالى: * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) * [آية 142].
يعني: طرقه، أي طريقه الذي يحسنه لكم.
504

وقيل: تخطيه الحلال إلى الحرام.
وقيل: يعني آثاره.
177 - وقوله جل وعز: * (ثمانية أزواج) * [آية 143].
كل فرد يحتاج إلى آخر عند العرب: زوج.
178 - ثم قال تعالى: * (من الضأن اثنين) * [آية 143].
وهو جمع ضائن، كما يقال: راكب وركب.
179 - ثم قال جل وعز: * (ومن المعز اثنين) * [آية 143].
وهذا احتجاج عليهم، أي إن كان حرم الذكور، فكل ذكر
حرام، وإن كان حرم الإناث، فكل أنثى حرام، واحتج عليهم بهذا
لأنهم أحلوا ما ولد حيا - ذكرا - للذكور، وحرموه على الإناث إن
كان أنثى.
قال قتادة: أمره الله جل وعز أن يقول لهم: * (آلذكرين
حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) * إن كان ما
اشتملت عليه أرحام الأنثيين حراما، فكل
مولود منها حرام، وكلها
مولود، فكلها إذا حرام، وإن كان التحريم من جهة الذكور من
505

الضأن والمعز فكل ذكر حرام عليكم، وإن كان من جهة الإناث
فكل أنثى حرام عليكم، وكانوا يحرمون الوصيلة وأخاها على الرجال
والنساء.
180 - ثم قال جل وعز * (نبئوني بعلم إن كنتم صادقين) * [آية 143].
أي ليس عندكم علم لأنهم لا يؤمنون بكتاب.
181 - ثم قال جل وعز: * (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا) *.
[آية 144].
أي لستم تؤمنون بكتاب، فهل شهدتم الله عز وجل حرم
هذا؟.
182 - ثم بين ظلمهم فقال: * (فمن أظلم ممن افترى على الله
كذبا) *؟ [آية 144].
506

ثم بين أنه لا يحرم الله شيئا إلا بوحي فقال: * (قل لا أجد
فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه) * [آية 145].
روي عن عائشة - رحمة الله عليها - (على طاعم
طعمه).
وعن أبي جعفر محمد بن علي * (طاعم يطعمه) *.
184 - ثم قال جل وعز * (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) * [آية 145].
قال قتادة: المسفوح: المصبوب، فحرم ما كان مصبوبا
خاصة، فأما ما كان مختلطا باللحم فهو حلال.
184 - ثم قال جل وعز: * (فإنه رجس، أو فسقا أهل لغير الله به) *.
[آية 145].
أي ذبح لغير الله، وذكر عليه غير اسم الله، وسماه
" فسقا " لأنه خارج عن الدين.
507

والمعنى: أو دما مسفوحا، أو لحم خنزير، أو فسقا أهل
لغير الله به، فإنه رجس.
والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، داخلة في هذه الآية عند
قوم، لأنها أصناف الميتة.
فأما ما لم يدخل في هذه الآية عند قوم ففيه قولان:
أحدهما: أنه روي عن عائشة وابن عباس أن الآية جامعة
لجميع ما حرم من الحيوان خاصة، وأنه ليس في الحيوان محرم
إلا ما ذكر فيها.
والقول الآخر: أن هذه الآية محكمة جامعة للحيوان
وغيره.
وثم أشياء قد حرمها الله سوى هذه، وقد صح عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه (نهى عن لحوم الحمر الأهلية، وعن
508

كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير،.
فقيل: هذا قول قوي في اللغة، لأن " ما " مبهمة، فقوله
جل وعز: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) * يجب أن يكون
عاما، للحيوان وغيره، والله أعلم بما أراد.
185 - ثم قال جل وعز: * (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) * [آية 145].
أحسن ما قيل في الباغي: الذي يأكل مضطرا لا متلذذا.
والعادي: الذي يجاوز ما يقيم رمقه.
509

186 - وقوله جل وعز: * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) *.
[آية 146].
قال مجاهد وقتادة والضحاك: * (كل ذي ظفر) * الإبل
والنعام.
قال قتادة: وهو من الطير ما لم يكن مشقوق الظفر، نحو
البط وما أشبهه، وهو عند أهل اللغة من الطير ما كان ذا مخلب،
ودخل في ذا ما يصطاد بظفره من الطير، وجميع أنواع السباع،
والكلاب، والسنانير.
187 - ثم قال جل وعز: * (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما
إلا ما حملت ظهورهما) * [آية 146].
قال قتادة: هي شحوم الثروب خاصة.
ومذهب ابن جريج: أنه كل شحم لم يكن مختلطا بعظم،
ولا على عظم.
510

وهذا أولى لعموم الآية، وللحديث المسند: " قاتل الله
اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها، وأكلوا
أثمانها ".
* (إلا ما حملت ظهورهما) * أي إلا شحوم الجنب، وما
علق بالظهر، فإنها لم تحرم عليهم.
* (أو الحوايا) *.
قال مجاهد وقتادة: الحوايا: المباعر.
قال أبو عبيدة: هي عندي ما تحوى من البطن أي
استدار.
قال الكسائي: واحدها حاوية وحوية.
511

وحكى سيبويه: حاوياء، قيل: المعنى حرمنا عليهم
شحومهما، ثم استثنى فقال: * (إلا ما حملت ظهورهما) * ثم
عطف على الاستثناء فقال: * (أو الحوايا أو ما اختلط بعظم) * أي
إلا هذه الأشياء فإنها حلال.
وقيل: المعنى: حرمنا عليهم شحومهما، أو الحوايا، أو
ما اختلط بعظم، إلا ما حملت ظهورهما، فيكون ما بعد (إلا)
استثناء على هذا القول، داخلا في التحريم، ويكون مثل قوله تعالى:
* (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) * و (أو) ها هنا بخلاف معنى
الواو، أي لا تطع هذا الضرب.
وقال الكسائي: * (إلا ما حملت ظهورهما) * (ما) في
موضع نصب على الاستثناء، والحوايا في موضع رفع، بمعنى: وما
حملت الحوايا، فعطف الحوايا على الظهور.
188 - ثم قال جل وعز: * (أو ما اختلط بعظم) * [آية 146].
512

قال: فعطفه على المستثنى، وهذا أحد قولي الفراء، وهذا
أصح هذه الأقوال. والله أعلم.
189 - ثم قال جل وعز: * (ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) * [آية 146].
قال قتادة: حرمت عليهم هذه الأشياء، عقوبة لهم على
بغيهم.
190 - وقوله جل وعز: * (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) * [آية 147].
قال مجاهد: يعني اليهود.
191 - وقوله جل وعز: * (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا
ولا آباؤنا، ولا حرمنا من شيء) * [آية 148].
قال مجاهد: يعني كفار قريش، أي لو شاء الله ما حرمنا
البحيرة، ولا السائبة.
513

وقال غيره: فأنكر الله جل وعز عليهم هذا القول،
وقال: * (كذلك كذب الذين من قبلهم) * لأنه ليس لهم أن يحتجوا
بأنه من كان على معصية قد شاء الله أن تكون فهو له عذر، لأنه
لو كان هكذا، لكان لمن خالفهم في دينهم عذر، لأن الله لو شاء أن
يهديه هداه.
192 - ثم قال جل وعز: * (قل فلله الحجة البالغة) * [آية 149].
أي بإرساله الرسل، وإظهاره البينات.
193 - وقوله جل وعز: * (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله
حرم هذا) * [آية 150].
والأصل عند الخليل: (ها) ضمت إليها (لم)، ثم
حذفت الألف لكثرة الاستعمال.
وقال غيره: الأصل (هل) زيدت عليها (لم).
514

وقيل: هي على لفظها تدل على معنى (هات).
وأهل الحجاز يقولون للواحد والاثنين والجماعة: هلم، وأهل
نجد يأتون بالعلامة كما تكون في سائر الأفعال.
194 - وقوله جل وعز: * (وهم بربهم يعدلون) * [آية 150].
أي يجعلون له عدلا فيعبدون غيره جل وعز.
195 - وقوله عز وجل: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم
ألا تشركوا به شيئا) * [آية 151].
قيل: الذي تلاه عليهم: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي
محرما على طاعم يطعمه) * إلى آخر الآية.
ويكون معنى * (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من
قبلنا) * [كذا هذا] أن تقولوا.
515

وبعض النحويين يقول المعنى: لئلا تقولوا.
ولا يجوز عند البصريين حذف (لا).
وقيل: المعنى: وصاكم أن لا تشركوا.
وقيل: المعنى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أنه بين ما
حرم فقال ألا تشركوا به شيئا.
197 - ثم قال جل وعز: * (وبالوالدين إحسانا) * [آية 151].
أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
قال ابن عباس: الآيات المحكمات * (قل تعالوا أتل ما
حرم ربكم عليكم) * إلى آخر ثلاث آيات.
197 - وقوله جل وعز: * (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) * [آية 151].
516

قال قتادة: الإملاق: الفاقة.
وقال الضحاك: " كان أحدهم إذا ولدت له ابنة، دفنها
حية مخافة الفقر ".
198 - وقوله جل وعز: * (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما
بطن) * [آية 151].
قال قتادة: يعني سرها وعلانيتها. قال: وكانوا يسرون الزنا
بالحرة، ويظهرونه بالأمة.
قال مجاهد: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي
أحسن) * التجارة فيه.
ولا تشتر منه شيئا، ولا تستقرض.
199 - وقوله جل وعز: * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) *
[آية 153].
517

وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب: * (وأن هذا صراطي
مستقيما) * بتخفيف (أن). وتقرأ (إن) بكسر الهمزة.
فمن قرأ (وأن هذا) فهو عنده بمعنى: واتل عليهم أن هذا.
ويجوز أن يكون المعنى: ووصاكم بأن هذا.
ومن قرأ بتخفيف (أن) فيجوز أن يكون معناه على هذا،
ويجوز أن تكون (أن) زائدة للتوكيد كما قال جل وعز: * (فلما أن
جاء البشير) *.
ومن قرأ: * (وإن هذا) قطعه مما قبله.
وروي عن عبد الله بن مسعود - رحمه الله - أنه خط خطا
في الأرض فقال: هكذا الصراط المستقيم، والسبل حواليه مع كل
سبيل شيطان
518

قال مجاهد: السبل: البدع والشبهات.
200 - وقوله جل وعز: * (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي
أحسن) * [آية 154].
قال مجاهد: المعنى: على المؤمن المحسن.
وقال الحسن: كان فيهم محسن، وغير محسن، وأنزل
الكتاب تماما على الذي أحسن.
والدليل على صحة هذا القول أن ابن مسعود قرأ: * (تماما
على الذين أحسنوا) *.
وقيل: المعنى * (تماما على الذي أحسن) * موسى، من طاعة
الله، واتباع أمره.
519

وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق * (على الذي
أحسن) *.
والمعنى: على الذي هو أحسن الأشياء.
فأما معنى (ثم) وهي تدل على أن الثاني بعد الأول.
وقصة موسى - صلى الله عليه وسلم وإيتائه الكتاب قبل هذا؟
فإن القول أنه إخبار من الله جل وعز. والمعنى: قل تعالوا
أتل ما حرم ربكم عليكم، ثم أتل ما آتينا موسى.
201 - وقوله جل وعز: * (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من
قبلنا) * [آية 156].
520

أحسن ما قيل في هذا: كراهة أن تقولوا.
قال أبو جعفر: قد بينا ما قيل فيه.
قال قتادة: يعني بالطائفتين: اليهود، والنصارى.
وقال: يعني بالدراسة: التلاوة.
202 - ثم قال جل وعز: * (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى
منهم...) * [آية 157]..
* (أهدى منهم) * أفهم منهم، لأنهم يحفظون أشعارهم
وأخبارهم، وهم أميون.
203 - وقوله عز وجل: * (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف
عنها...) * [آية 157].
521

قال قتادة في قوله: * (وصدف عنها) *: أي أعرض.
204 - وقوله جل وعز: * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة...) * [آية 158].
قال قتادة: أي بالموت.
* (أو يأت ربك) * قال قتادة: يعنى يوم القيامة.
وقال غيره: المعنى: إهلاك ربك إياهم.
205 - ثم قال جل وعز: * (أو يأتي بعض آيات ربك، يوم يأتي بعض
آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل،
أو كسبت في إيمانها خيرا...) *.
روى وكيع عن ابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد الخدري
عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل * (يوم يأتي بعض آيات
ربك) * قال: طلوع الشمس من مغربها.
522

لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا...) *.
وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو
قال: " الآية التي لا ينفع نفسا إيمانها عندها: إذا طلعت الشمس
من مغربها مع القمر في وقت واحد ".
206 - وقوله عز وجل: * (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم
في شيء...) * [آية 159].
الشيع: الفرق * ومعنى شايعت في اللغة: تابعت.
ومعنى * (وكانوا شيعا) *: وكانوا فرقا، كل فرقة يتبع
بعضها بعضا، إلا أن الشيع كلها متفقة.
208 - ثم قال جل وعز: * (لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى
الله...) * [آية 159].
523

قيل: هذا قبل الأمر بالقتال.
وروى أبو غالب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى
* (فرقوا دينهم وكانوا شيعا) * قال: هم الخوارج.
وقيل: إن الآية تدل على أن من ابتدع من خارجي وغيره،
فليس النبي صلى الله عليه وسلم منهم في شيء، لأنهم إذا ابتدعوا تخاصموا وتفرقوا،
وكانوا شيعا.
208 - وقوله جل وعز: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن
جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها...) * [آية 160].
روى الأعمش عن أبي صالح قال: " الحسنة: لا إله إلا
الله، والسيئة: الشرك ".
524

والمعنى: إن ما كان عنده هو النهاية في المجازاة، أعطى عشرة
أمثاله.
209 - وقوله جل وعز: * (قل إنني هداني ربي إلى صراط
مستقيم) * [آية 161].
الصراط: الطريق، والمعنى: عرفني الدين الذي هو الحق.
210 - ثم قال جل وعز: * (دينا قيما ملة إبراهيم
حنيفا...) * [آية 162].
والقيم: المستقيم، ومن قرأ " قيما " فهو مصدر مثل
الصغر، والكبر.
211 - وقوله جل وعز: * (قل إن صلاتي، ونسكي، ومحياي،
ومماتي لله رب العالمين) * [آية 162].
النسك: جمع النسيكة وهي الذبيحة، وأصل هذا من التقرب
لله جل وعز، ومنه [قيل: رجل] ناسك.
525

وإنما قيل هذا، لأنهم كانوا يذبحون لغير الله جل وعز.
213 - وقوله جل وعز: * (قل أغير الله أبغي ربا، وهو رب كل
شيء...) *؟ [آية 164].
معنى " أبغي ": أريد وأطلب.
213 - وقوله جل وعز: * (وهو الذي جعلكم خلائف
الأرض...) * [آية 165].
يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: لأنهم آخر الأمم، فقد خلفوا من كان قبلهم.
وقيل: لأن بعضهم يخلف بعضا، حتى تقوم الساعة
عليهم، والحديث يقوي هذا القول.
526

214 - ثم قال جل وعز: * (ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم
فيما آتاكم...) * [آية 165].
أي فضل بعضكم على بعض في الرزق.
* (ليبلوكم فيما آتاكم) * أي ليختبركم فيما أعطاكم، فينظر
كيف شكركم؟ وقد علم ما يكون علم غيب، وإنما تقع المجازاة على
الشهادة.
215 - ثم قال جل وعز: * (إن ربك سريع العقاب، وإنه لغفور
رحيم) * [آية 165].
فعقابه جل وعز، وإن كان أكثره يوم القيامة، فإن كل آت
قريب.
527

وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت سورة الأنعام بمكة جملة
واحدة، إلا ثلاث آيات منها، فإنهن أنزلن بالمدينة، وهو قوله جل
وعز * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به
شيئا...) * إلى آخر الآيات.
" تم بعونه تعالى تفسير سورة الأنعام "
* * *
528