الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٣
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (وقلنا ياءادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) *
المسألة الأولى: اختلفوا في أن قوله * (أسكن) * أمر تكليف أو إباحة فالمروي عن قتادة أنه قال: إن الله تعالى ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود وذلك لأنه كلفه بأن يكون في الجنة يأكل منها حيث شاء ونهاه عن شجرة واحدة إن يأكل منها فما زالت به البلايا حتى وقع فيم نهى عنه فبدت سوأته عند ذلك وأهبط من الجنة وأسكن موضعا يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع أن منعه من تناوله من أشد التكاليف. وقال آخرون: إن ذلك إباحة لأن الاستقرار في المواضع الطيبة النزهة التي يتمتع فيها يدخل تحت التعبد كما أن أكل الطيبات لا يدخل تحت التعبد ولا يكون قوله: * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) * (الأعراف: 16) أمرا وتكليفا بل إباحة، والأصح أن ذلك الإسكان مشتمل على ما هو إباحة، وعلى ما هو تكليف، أما الإباحة فهو أنه عليه الصلاة والسلام كان مأذونا في الانتفاع بجميع نعم الجنة، وأما التكليف فهو أن المنهي عنه كان حاضرا وهو كان ممنوعا عن تناوله، قال بعضهم: لو قال رجل لغيره أسكنتك داري لا تصير الدار ملكا له، فههنا لم يقل الله تعالى: وهبت منك الجنة بل قال أسكنتك الجنة وإنما لم يقل ذلك لأنه خلقه لخلافة الأرض فكان إسكان الجنة كالتقدمة على ذلك.
المسألة الثانية: أن الله تعالى لما أمر الكل بالسجود لآدم وأبى إبليس السجود صيره الله ملعونا ثم أمر آدم بأن يسكنها مع زوجته. واختلفوا في الوقت الذي خلقت زوجته فيه، فذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فبقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألقى الله تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحما وخلق حواء منه، فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة فسألها من أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي، فقالت الملائكة:
2

ما اسمها؟ قالوا: حواء، ولم سميت حواء، قال: لأنها خلقت من شيء حي، وعن عمر وابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث الله جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ وعلى آدم منطقة مكللة بالدر والياقوت حتى أدخلا الجنة. فهذا الخبر يدل على أن حواء خلقت قبل إدخال آدم الجنة والخبر الأول يدل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بالحقيقة.
المسألة الثالثة: أجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة وفي سائر القرآن ما يدل على ذلك وأنها مخلوقة منه كما قال الله تعالى في سورة النساء: * (الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) * (النساء: 1) وفي الأعراف: * (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) * (الأعراف: 189)، وروى الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن المرأة خلقت من ضلع الرجل فإن أردت أن تقيمها كسرتها وإن تركتها انتفعت بها واستقامت ".
المسألة الرابعة: اختلفوا في الجنة المذكورة في هذه الآية، هل كانت في الأرض أو في السماء؟ وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب أو جنة الخلد أو جنة أخرى؟ فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني: هذه الجنة كانت في الأرض، وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى: * (اهبطوا مصرا) * (البقرة: 61) واحتجا عليه بوجوه أحدها: أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله: * (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) * (طه: 120)، ولما صح قوله: * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) * (الأعراف: 20). وثانيها: أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى: * (وما هم منها بمخرجين) * (الحجر: 48). وثالثها: أن إبليس لما امتنع عن السجود لعن فما كان يقدر مع غضب الله على أن يصل إلى جنة الخلد. ورابعها: أن الجنة التي هي دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله تعالى: * (أكلها دائم وظلها) * (الرعد: 35) ولقوله تعالى: * (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها) * إلى أن قال: * (عطاء غير مجذوذ) * (هود: 108) أي غير مقطوع، فهذه الجنة لو كانت هي التي دخلها آدم عليه السلام لما فنيت، لكنها تفنى لقوله تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) ولما خرج منها آدم عليه السلام لكنه خرج منها وانقطعت تلك الراحات. وخامسها: أنه لا يجوز في حكمته تعالى أن يبتدئ الخلق في جنة يخلدهم فيها ولا تكليف لأنه تعالى لا يعطي جزاء العاملين من ليس بعامل ولأنه لا يهمل عباده بل لا بد من ترغيب وترهيب ووعد ووعيد، وسادسها: لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان ذلك أولى بالذكر لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم، فدل ذلك على أنه لم يحصل، وذلك يوجب أن المراد من الجنة التي قال الله تعالى له: * (أسكن أنت وزوجك الجنة) * جنة أخرى غير جنة الخلد. القول الثاني: وهو قول الجبائي: أن تلك الجنة كانت في السماء السابعة والدليل
3

عليه قوله تعالى: * (اهبطوا منها) * (البقرة: 38)، ثم إن الإهباط الأول كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى، والإهباط الثاني كان من السماء إلى الأرض. القول الثالث: وهو قول جمهور أصحابنا: أن هذه الجنة هي دار الثواب والدليل عليه أن الألف واللام في لفظ الجنة لا يفيدان العموم لأن سكنى جميع الجنان محال، فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق والجنة التي هي المعهودة المعلومة بين المسلمين هي دار الثواب، فوجب صرف اللفظ إليها، والقول الرابع: أن الكل ممكن والأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع والله أعلم.
المسألة الخامسة: قال صاحب الكشاف: السكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار و " أنت " تأكيد للمستكن في " أسكن " ليصح العطف عليه و " رغدا " وصف للمصدر أي أكلا رغدا واسعا رافها و " حيث " للمكان المبهم أي أي مكان من الجنة شئتما، فالمراد من الآية إطلاق الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة حيث لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة من بين أشجارها الكثيرة.
المسألة السادسة: لقائل أن يقول: إنه تعالى قال ههنا: * (وكلا منها رغدا) * وقال في الأعراف: * (فكلا من حيث شئتما) * (الأعراف: 19) فعطف * (كلا
) * على قوله: * (أسكن) * في سورة البقرة بالواو وفي سورة الأعراف بالفاء فما الحكمة؟ والجواب: كل فعل عطف عليه شيء وكان الفعل بمنزلة الشرط، وذلك الشيء بمنزلة الجزء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو كقوله تعالى: * (وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا) * (البقرة: 58) فعطف كلوا على ادخلوا بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها فكأنه قال إن أدخلتموها أكلتم منها، فالدخول موصل إلى الأكل، والأكل متعلق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة الأعراف: * (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم) * (الأعراف: 161)، فعطف كلوا على قوله اسكنوا بالواو دون الفاء لأن اسكنوا من السكنى وهي المقام مع طول اللبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من دخل بستانا قد يأكل منه وإن كان مجتازا فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء، إذا ثبت هذا فنقول: إن * (أسكن) * يقال لمن دخل مكانا فيراد منه الزم المكان الذي دخلته ولا تنتقل عنه، ويقال أيضا لمن لم يدخل أسكن هذا المكان يعني ادخله واسكن فيه، ففي سورة البقرة هذه الأمر إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنة فكان المراد منه اللبث والاستقرار، وقد بينا أن الأكل لا يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الواو. وفي سورة الأعراف هذا الأمر إنما ورد قيل: أن دخل الجنة فكان المراد منه دخول الجنة وقد بينا أن الأكل يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الفاء والله أعلم.
المسألة السابعة: قوله: * (ولا تقربا هذه الشجرة) * لا شبهة في أنه نهى ولكن فيه بحثان. الأول: أن هذا نهي تحريم أو نهي تنزيه فيه خلاف، فقال قائلون: هذه الصيغة لنهي
4

التنزيه، وذلك لأن هذه الصيغة وردت تارة في التنزيه وأخرى في التحريم، والأصل عدم الاشتراك فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين القسمين، وما ذلك إلا أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل أو على الإطلاق فيه، لكن الإطلاق فيه كان ثابتا بحكم الأصل، فإن الأصل في المنافع الإباحة، فإذا ضممنا مدلول اللفظ إلى هذا الأصل صار المجموع دليلا على التنزيه، قالوا: وهذا هو الأولى بهذا المقام لأن على هذا التقدير يرجع حاصل معصية آدم عليه السلام إلى ترك الأولى ومعلوم أن كل مذهب كان أفضى إلى عصمة الأنبياء عليهم السلام كان أولى بالقبول، وقال آخرون: بل هذا النهي نهي تحريم واحتجوا عليه بأمور. أحدها: أن قوله تعالى: * (ولا تقربا هذه الشجرة) * كقوله: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * (البقرة: 222) وقوله: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * (الأنعام: 152) فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول. وثانيها: أنه قال: * (فتكونا من الظالمين) * (البقرة: 35) معناه إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما ألا تراهما لما أكلا * (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) * (الأعراف: 23). وثالثها: أن هذا النهي لو كان نهي تنزيه لما استحق آدم بفعله الإخراج من الجنة ولما وجبت التوبة عليه، والجواب عن الأول نقول: إن النهي وإن كان في الأصل للتنزيه ولكنه قد يحمل على التحريم لدلالة منفصلة، وعن الثاني: أن قوله: * (فتكونا من الظالمين) * أي فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنة التي لا تظمآن فيها ولا تجوعان ولا تضحيان ولا تعريان إلى موضع ليس لكما فيه شيء من هذا، وعن الثالث: أنا لا نسلم أن الإخراج من الجنة كان لهذا السبب وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
البحث الثاني: قال قائلون قوله: * (ولا تقربا هذه الشجرة) * يفيد بفحواه النهي عن الأكل، وهذا ضعيف لأن النهي عن القرب لا يفيد النهي عن الأكل إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع أنه لو حمل إليه لجاز له أكله، بل هذا الظاهر يتناول النهي عن القرب. وأما النهي عن الأكل فإنما عرف بدلائل أخرى وهي قوله تعالى في غير هذا الموضع: * (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما) * (الأعراف: 22) ولأنه صدر الكلام في باب الإباحة بالأكل فقال: * (وكلا منها رغدا حيث شئتما) * فصار ذلك كالدلالة على أنه تعالى نهاهما عن أكل ثمرة تلك الشجرة لكن النهي عن ذلك بهذا القول يعم الأكل وسائر الانتفاعات ولو نص على الأكل ما كان يعم كل ذلك ففيه مزيد فائدة: المسألة الثامنة: اختلفوا في الشجرة ما هي، فروى مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها البر والسنبلة. وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشجرة فقال: هي الشجرة المباركة السنبلة. وروى السدي عن ابن عباس وابن مسعود أنها الكرم، وعن مجاهد وقتادة أنها التين، وقال الربيع بن أنس: كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث. واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين فلا حاجة أيضا إلى بيانه لأنه ليس المقصود من هذا الكلام أن يعرفنا عين تلك الشجرة وما لا يكون مقصودا في
5

الكلام، لا يجب على الحكيم أن يبينه بل ربما كان بيانه عبثا لأن أحدنا لو أراد أن يقيم العذر لغيره في التأخر فقال: شغلت بضرب علماني لإساءتهم الأدب لكان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين هذا الغلام ويذكر اسمه وصفته، فليس لأحد أن يظن أنه وقع ههنا تقصير في البيان، ثم قال بعضهم الأقرب في لفظ الشجرة أن يتناول ماله ساق وأغصان، وقيل لا حاجة إلى ذلك لقوله تعالى: * (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) * (الصافات: 146) مع أنها كالزرع والبطيخ فلم يخرجه ذهابه على وجه الأرض من أن يكون شجرا، قال المبرد: وأحسب أن كل ما تفرعت له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجرا في وقت تشعبه وأصل هذا أنه كل ما شجر أي أخذ يمنه ويسرة يقال: رأيت فلانا في شجرته الرماح. وقال تعالى: * (حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * (النساء: 65) وتشاجر الرجلان في أمر كذا.
المسألة التاسعة: اتفقوا على أن المراد بقوله تعالى: * (فتكونا من الظالمين) * هو أنكما إن أكلتما فقد ظلمتما أنفسكما لأن الأكل من الشجرة ظلم الغير، وقد يكون ظالما بأن يظلم نفسه وبأن يظلم غيره، فظلم النفس أعم وأعظم. ثم اختلف الناس ههنا على ثلاثة أقوال: الأول: قول الحشوية الذين قالوا: إنه أقدم على الكبيرة فلا جرم كان فعله ظلما، الثاني: قوله المعتزلة الذين قالوا: إنه أقدم على الصغيرة ثم لهؤلاء قولان: أحدهما: قول أبي علي الجبائي وهو أنه ظلم نفسه بأن ألزمها ما يشق عليه من التوبة والتلافي، وثانيهما: قول أبي هاشم وهو أنه ظلم نفسه من حيث أحبط بعض ثوابه الحاصل فصار ذلك نقصا فيما قد استحقه، الثالث: قول من ينكر صدور المعصية منهم مطلقا وحمل هذا الظلم على أنه فعل ما الأولى له أن لا يفعله. ومثاله إنسان طلب الوزارة ثم إنه تركها واشتغل بالحياكة، فإنه يقال له: يا ظالم نفسه لم
فعلت ذلك؟ فإن قيل: هل يجوز وصف الأنبياء عليهم السلام بأنهم كانوا ظالمين أو بأنهم كانوا ظالمي أنفسهم؟ والجواب أن الأولى أنه لا يطلق ذلك لما فيه من إيهام الذم.
* (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين) *
قال صاحب الكشاف: * (فأزلهما الشيطان عنها) * تحقيقه، فأصدر الشيطان زلتهما عنها ولفظة * (عن) * في هذه الآية كهي في قوله تعالى: * (وما فعلته عن أمري) * (الكهف: 82) قال القفال رحمه الله: هو من الزلل يكون الإنسان ثابت القدم على الشيء، فيزل عنه ويصير متحولا عن ذلك الموضع، ومن قرأ * (فأزالهما) * فهو من الزوال عن المكان، وحكي عن أبي معاذ أنه قال: يقال أزلتك عن كذا
6

حتى زلت عنه وأزللتك حتى زللت ومعناهما واحد، أي: حولتك عنه، وقال بعض العلماء: أزلهما الشيطان أي استنزلهما، فهو من قولك زل في دينه إذا أخطأ وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه. واعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلف الناس في عصمة الأنبياء عليهم السلام وضبط القول فيه أن يقال: الاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة: أحدها: ما يقع في باب الاعتقاد، وثانيها: ما يقع في باب التبليغ، وثالثها: ما يقع في باب الأحكام والفتيا، ورابعها: ما يقع في أفعالهم وسيرتهم. أما اعتقادهم الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عند أكثر الأمة. وقالت الفضيلية من الخوارج: إنهم قد وقعت منهم الذنوب، والذنب عندهم كفر وشرك، فلا جرم. قالوا بوقوع الكفر منهم، وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية.
أما النوع الثاني: وهو ما يتعلق بالتبليغ، فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب والتحريف، فيما يتعلق بالتبليغ، وإلا لارتفع الوثوق بالأداء، واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا كما لا يجوز أيضا سهوا، ومن الناس من جوز ذلك سهوا، قالوا: لأن الاحتراز عنه غير ممكن.
وأما النوع الثالث: وهو ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيه على سبيل التعمد، وأما على سبيل السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون.
وأما النوع الرابع: وهو الذي يقع في أفعالهم، فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال. أحدها: قول من جوز عليهم الكبائر على جهة العمد وهو قول الحشوية. والثاني: قول من لا يجوز عليهم الكبائر لكنه يجوز عليهم الصغائر على جهة العمد إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف وهذا قول أكثر المعتزلة. القول الثالث: أنه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا بكبيرة على جهة العمد البتة، بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي. القول الرابع: أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ ولكنهم مأخوذون بما يقع منهم على هذه الجهة وإن كان ذلك موضوعا عن أمتهم وذلك لأن معرفتهم أقوى ودلائلهم أكثر، وأنهم يقدرون من التحفظ على ما لا يقدر عليه غيرهم. القول الخامس: أنه لا يقع منهم الذنب لا الكبيرة ولا الصغيرة لا على سبيل القصد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل والخطأ، وهو مذهب الرافضة، واختلف الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال: أحدها: قول من ذهب إلى أنهم معصومون من وقت مولدهم وهو قول الرافضة، وثانيها: قول من ذهب إلى أن وقت عصمتهم وقت بلوغهم ولم يجوزوا منهم ارتكاب الكفر والكبيرة قبل النبوة، وهو قول كثير من المعتزلة، وثالثها: قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز وقت النبوة، أما قبل النبوة فجائز، وهو قول أكثر أصحابنا وقول أبي الهذيل وأبي علي من المعتزلة
7

والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة البتة لا الكبيرة ولا الصغيرة، ويدل عليه وجوه: أحدها: لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة وذلك غير جائز، بيان الملازمة أن درجة الأنبياء كانت في غاية الجلال والشرف، وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش ألا ترى إلى قوله تعالى: * (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) *، (الأحزاب: 30) والمحصن يرجم وغيره يحد، وحد العبد نصف حد الحر، وأما أنه لا يجوز أن يكون النبي أقل حالا من الأمة فذاك بالإجماع. وثانيها: أن بتقدير إقدامه على الفسق وجب أن لا يكون مقبول الشهادة لقوله تعالى: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) * (الحجرات: 6) لكنه مقبول الشهادة، وإلا كان أقل حالا من عدول الأمة، وكيف لا نقول ذلك وأنه لا معنى للنبوة والرسالة إلا أنه يشهد على الله تعالى بأنه شرع هذا الحكم وذاك، وأيضا فهو يوم القيامة شاهد على الكل لقوله: * (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143). وثالثها: أن بتقدير إقدامه على الكبيرة يجب زجره عنها، فلم يكن إيذاؤه محرما لكنه محرم لقوله تعالى: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) * (الأحزاب: 57). ورابعها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم لو أتى بالمعصية لوجب علينا الاقتداء به فيها لقوله تعالى: * (فاتبعوني) * فيفضي إلى الجمع بين الحرمة والوجوب وهو محال، وإذا ثبت ذلك حق محمد صلى الله عليه وسلم ثبت أيضا في سائر الأنبياء، ضرورة أنه لا قائل بالفرق. وخامسها: أنا نعلم ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفة في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه: لا تفعل كذا فيقدم عليه ترجيحا للذته غير ملتفت إلى نهي ربه ولا منزجر بوعيده. هذا معلوم القبح بالضرورة. وسادسها: أنه لو صدرت المعصية من الأنبياء لكانوا مستحقين للعذاب لقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها) * (الجن: 23) ولا استحقوا اللعن لقوله: * (ألا لعنة الله على الظالمين) * (هود: 18) وأجمعت الأمة على أن أحدا من الأنبياء لم يكن مستحقا للعن ولا للعذاب فثبت أنه ما صدرت المعصية عنه. وسابعها: أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه لدخلوا تحت قوله: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) * (البقرة: 44). وقال: * (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) * (هود: 88)، فما لا يلق بواحد من وعاظ الأمة كيف يجوز أن ينسب إلى الأنبياء عليهم السلام. وثامنها: قوله تعالى: * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) * (الأنبياء: 90)، ولفظ الخيرات للعموم فيتناول الكل ويدخل فيه فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي، فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل ما ينبغي فعله وتاركين كل ما ينبغي تركه، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. وتاسعها:
قوله تعالى: * (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) * (ص: 47)، وهذا يتناول جميع الأفعال والتروك بدليل جواز الاستثناء فيقال: فلانا من المصطفين الأخيار إلا في الفعلة الفلانية والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته، فثبت أنهم كانوا أخيارا في كل الأمور، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. وقال: * (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) * (الحج: 75)، * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل
8

إبراهيم وآل عمران على العالمين) * (آل عمران: 33). وقال في إبراهيم: * (ولقد اصطفيناه في الدنيا) * (البقرة: 130). وقال في موسى: * (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) * (الأعراف: 144). وقال: * (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) * (ص: 45 - 47). فكل هذه الآيات دالة على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرية، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. عاشرها: أنه تعالى حكى عن إبليس قوله: * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) * (ص: 82 - 83)، فاستثنى من جملة من يغويهم المخلصين وهم الأنبياء عليهم السلام. قال تعالى في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب: * (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) * (ص: 46) وقال في يوسف: * (إنه من عبادنا المخلصين) * (يوسف: 24)، وإذا ثبت وجوب العصمة في حق البعض ثبت وجوبها في حق الكل لأنه لا قائل بالفرق. والحادي عشر: قوله تعالى: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) * (سبأ: 20)، فأولئك الذين ما اتبعوه وجب أن يقال: إنه ما صدر الذنب عنهم إلا فقد كانوا متبعين له، وإذا ثبت في ذلك الفريق أنهم ما أذنبوا فذلك الفريق إما الأنبياء أو غيرهم، فإن كانوا هم الأنبياء فقد ثبت في النبي أنه لا يذنب وإن كانوا غير الأنبياء فلو ثبت في الأنبياء أنهم أذنبوا لكانوا أقل درجة عند الله من ذلك الفريق، فيكون غير النبي أفضل من النبي، وذلك باطل بالاتفاق فثبت أن الذنب ما صدر عنهم. الثاني عشر: أنه تعالى قسم الخلق قسمين فقال: * (أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) * وقال في الصنف الآخر، * (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) * (المجادلة: 22) ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يرتضيه الشيطان، والذي يرتضيه الشيطان هو المعصية، فكل من عصى الله تعالى كان من حزب الشيطان، فلو صدرت المعصية من الرسول لصدق عليه أنه من حزب الشيطان ولصدق عليه أنه من الخاسرين ولصدق على زهاد الأمة أنهم من حزب الله وأنهم من المفلحين، فحينئذ يكون ذلك الواحد من الأمة أفضل بكثير عند الله من ذلك الرسول، وهذا لا يقوله مسلم. الثالث عشر: أن الرسول أفضل من الملك فوجب أن لا يصدر الذنب من الرسول، وإنما قلنا أنه أفضل لقوله تعالى: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * (آل عمران: 33)، ووجه الاستدلال به قد تقدم في مسألة فضل الملك على البشر وإنما قلنا إنه لما كان كذلك وجب أن لا يصدر الذنب عن الرسول لأنه تعالى وصف الملائكة بترك الذنب فقال: * (لا يسبقونه بالقول) * (الأنبياء: 27). وقال: * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * (التحريم: 6)، فلو صدرت المعصية عن الرسول لامتنع كونه أفضل من الملك لقوله تعالى: * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) * (ص: 28).
الرابع عشر: روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق دعواه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف شهدت لي " فقال: يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سماوات أفلا أصدقك في هذا القدر؟ فصدقه رسول الله صلى الله عليه
9

وسلم وسماه بذي الشهادتين ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة. الخامس عشر: قال في حق إبراهيم عليه السلام: * (إني جاعلك للناس إماما) * والإمام من يؤتم به فأوجب على كل الناس أن يأتموا به فلو صدر الذنب عنه لوجب عليهم أن يأتموا به في ذلك الذنب وذلك يفضي إلى التناقض.
السادس عشر: قوله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) والمراد بهذا العهد إما عهد النبوة أو عهد الإمامة، فإن كان المراد عهد النبوة وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين، وإن كان المراد عهد الإمامة وجب أن لا نثبت الإمامة للظالمين وإذا لم تثبت الإمامة للظالمين وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين، لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماما يؤتم به ويقتدى به. والآية على جميع التقديرات تدل على أن النبي لا يكون مذنبا، أما المخالف فقد تمسك في كل واحد من المواضع الأربعة التي ذكرناه بآيات ونحن نشير إلى معاقدها ونحيل بالاستقصاء على ما سيأتي في هذا التفسير إن شاء الله تعالى: أما الآيات التي تمسكوا بها في باب الاعتقاد فثلاثة، أولها: تمسكوا بالطعن في اعتقاد آدم عليه السلام بقوله: * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) * (الأعراف: 189) إلى آخر الآية. قالوا: لا شك أن النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء، فهذه الكنايات بأسرها عائدة إليهما فقوله: * (جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون * ((الأعراف: 190) يقتضي صدور الشرك عنهما، والجواب: لا نسلم أن النفس الواحدة هي آدم وليس في الآية ما يدل عليه بل نقول: الخطاب لقريش وهم آل قصي والمعنى خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي، والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما فهذا الجواب هو المعتمد، وثانيها: قالوا إن إبراهيم عليه السلام لم يكن عالما بالله ولا باليوم الآخر. أما الأول فلأنه قال في الكواكب * (هذا ربي) *، وأما الثاني فقوله: * (أرني كيف تحيي الموتى قال: أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * (البقرة: 260)، والجواب: أما قوله: * (هذا ربي) * فهو استفهام على سبيل الإنكار، وأما قوله: * (ولكن ليطمئن قلبي) *، فالمراد أنه ليس الخبر كالمعاينة، وثالثها: تمسكوا بقوله تعالى: * (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) * (يونس: 94)، فدلت الآية على أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان في شك مما أوحى إليه والجواب: أن القلب في دار الدنيا لا ينفك عن الأفكار المستعقبة للشبهات إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يزيلها بالدلائل.
أما الآيات التي تمسكوا بها في باب التبليغ فثلاثة: أحدها: قوله: * (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) * (الأعلى: 6، 8) فهذا الاستثناء يدل على وقوع النسيان
في الوحي، الجواب: ليس النهي عن النسيان الذي هو ضد الذكر، لأن ذاك غير داخل في الوسع بل عن النسيان بمعنى الترك فنحمله على ترك الأولى. وثانيها: قوله: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * (الحج: 52)،
10

والكلام عليه مذكور في سورة الحج على الاستقصاء، وثالثها: قوله تعالى: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) * (الجن: 26 - 28). قالوا: فلولا الخوف من وقوع التخليط في تبليغ الوحي من جهة الأنبياء لم يكن في الاستظهار بالرصد المرسل معهم فائدة، والجواب: لم لا يجوز أن تكون الفائدة أن يدفع ذلك الرصد الشياطين عن إلقاء الوسوسة. أما الآيات التي تمسكوا بها في الفتيا فثلاثة، أحدها: قوله: * (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) * (الأنبياء: 78)، وقد تكلمنا عليه في سورة الأنبياء. وثانيها: (قوله في أسارى بدر حين فاداهم النبي صلى الله عليه وسلم * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) * (الأنفال: 67)، فلولا أنه أخطأ في هذه الحكومة وإلا لما عوتب، وثالثها: قوله تعالى: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * (التوبة: 43)، والجواب عن الكل: أنا نحمله على ترك الأولى. أما الآيات التي تمسكوا بها في الأفعال فكثيرة، أولها: قصة آدم عليه السلام، تمسكوا بها من سبعة أوجه، الأول: أنه كان عاصيا والعاصي لا بد وأن يكون صاحب الكبيرة، وإنما قلنا إنه كان عاصيا لقوله تعالى: * (وعصى آدم ربه فغوى) * (طه: 121) وإنما قلنا أن العاصي صاحب الكبيرة لوجهين: الأول: أن النص يقتضي كونه معاقبا لقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) * (الجن: 23) فلا معنى لصاحب الكبيرة إلا ذلك، الثاني: أن صاحب الكبيرة، الوجه الثاني في التمسك بقصة آدم أنه كان غاويا لقوله تعالى * (فغوى) * العاصي اسم ذم فوجب أن لا يتناول إلا والغي ضد الرشد، لقوله تعالى: * (قد تبين الرشد من الغي) * (البقرة: 256)، فجعل الغي مقابلا للرشد، الوجه الثالث: أنه تائب والتائب مذنب، وإنما قلنا إنه تائب لقوله تعالى: * (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) * (البقرة: 37) وقال: * (ثم اجتباه ربه فتاب عليه) * (طه: 122) وإنما قلنا: التائب مذنب لأن التائب هو النادم على فعل الذنب، والنادم على فعل الذنب مخبر عن كونه فاعلا الذنب، فإن كذب في ذلك الإخبار فهو مذنب بالكذب، وإن صدق فيه فهو المطلوب. الوجه الرابع: أنه ارتكب المنهي عنه في قوله: * (ألم أنهكما عن تلكما الشجرة) * (الأعراف: 22)، * (ولا تقربا هذه الشجرة) * (الأعراف: 19)، وارتكاب المنهي عنه عين الذنب. الوجه الخامس: سماه ظالما في قوله: * (فتكونا من الظالمين) * (البقرة: 35) وهو سمى نفسه ظالما في قوله: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * (الأعراف: 23) والظالم ملعون لقوله تعالى: * (ألا لعنة الله على الظالمين) * (هود: 18) ومن استحق اللعن كان صاحب الكبيرة. الوجه السادس: أنه اعترف بأنه لولا مغفرة الله إياه وإلا لكان خاسرا في قوله: * (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * (الأعراف: 23)، وذلك يقتضي كونه صاحب الكبيرة. وسابعها: أنه أخرج من الجنة بسبب وسوسة الشيطان وإزلاله جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان، وذلك يدل على كونه صاحب الكبيرة، ثم قالوا: هب أن كل واحد من هذه الوجوه لا يدل على كونه فاعلا للكبيرة، لكن مجموعها لا شك في كونه قاطعا في الدلالة عليه، ويجوز أن يكون كل واحد من هذه الوجوه وإن لم يدل على الشيء
11

لكن مجموع تلك الوجوه يكون دالا على الشيء. والجواب المعتمد عن الوجوه السبعة عندنا أن نقول: كلامكم إنما يتم لو أتيتم بالدلالة على أن ذلك كان حال النبوة، وذلك ممنوع فلم لا يجوز أن يقال: إن آدم عليه السلام حالما صدرت عنه هذه الزلة ما كان نبيا؛ ثم بعد ذلك صار نبيا ونحن قد بينا أنه لا دليل على هذا المقام. وأما الاستقصاء في الجواب عن كل واحد من الوجوه المفصلة فسيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات. ولنذكر ههنا كيفية تلك الزلة ليظهر مراد الله تعالى من قوله: * (فأزلهما الشيطان) * (البقرة: 36) فنقول لنفرض أنه صدر ذلك الفعل عن آدم عليه السلام بعد النبوة فإقدامه على ذلك الفعل إما أن يكون حال كونه ناسيا أو حال كونه ذاكرا، أما الأول: وهو أنه فعله ناسيا فهو قول طائفة من المتكلمين واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (ولم نجد له عزما) * (طه: 115) ومثلوه بالصائم يشتغل بأمر يستغرقه ويغلب عليه فيصير ساهيا عن الصوم ويأكل في أثناء ذلك السهو (لا) عن قصد، لا يقال هذا باطل من وجهين. الأول: أن قوله تعالى: * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين) *، وقوله: * (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) * (الأعراف: 20 - 21) يدل على أنه ما نسي النهي حال الإقدام. وروى عن ابن عباس ما يدل على أن آدم عليه السلام تعمد لأنه قال لما أكلا منها فبدت لهما سوآتهما خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة، فحبسته فناداه الله تعالى أفرارا مني، فقال: بل حياء منك، فقال له: أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك؟ قال: بلى يا رب ولكني وعزتك ما كنت أرى أن أحدا يحلف بك كاذبا، فقال: وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا كدا. الثاني: وهو أنه لو كان ناسيا لما عوتب على ذلك الفعل، أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل، فلا يكون مكلفا به لقوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 276) وأما من حيث النقل فلقوله عليه الصلاة والسلام " رفع القلم عن ثلاث "، فلما عوتب عليه دل على أن ذلك لم يكن على سبيل النسيان. لأنا نقول: أما الجواب عن الأول فهو أنا لا نسلم أن آدم وحواء قبلا من إبليس ذلك الكلام ولا صدقاه فيه، لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في هذا التصديق أعظم من أكل الشجرة، لأن إبليس لما قال لهما: * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) *. فقد ألقى إليهما سوء الظن بالله ودعاهما إلى ترك التسليم لأمره والرضا بحكمه وإلى أن يعتقدا فيه كون إبليس ناصحا لهما وأن الرب تعالى قد غشهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة، فوجب أن تكون المعاتبة في ذلك أشد وأيضا كان آدم عليه السلام عالما بتمرد إبليس عن السجود وكونه مبغضا له وحاسدا له على ما آتاه الله من النعم، فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوه مع هذه القرائن وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام أو بعده، ويدل على أن آدم كان عالما بعداوته لقوله تعالى: * (إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * (طه: 117). وأما ما روي عن ابن عباس فهو أثر مروي بالآحاد، فكيف يعارض القرآن؟ وأما الجواب عن الثاني: فهو أن العتاب إنما حصل على ترك
12

التحفظ من أسباب النسيان، وهذا الضرب من السهو موضوع عن المسلمين وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به، وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خطرهم ومثلوه بقوله تعالى: * (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) * (الأحزاب: 32)، ثم قال: * (من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) * (الأحزاب: 30). وقال عليه الصلاة والسلام: " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ". وقال أيضا: " إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم "، فإن قيل كيف يجوز أن يؤثر عظم حالهم وعلو منزلتهم في حصول شرط في تكليفهم دون تكليف غيرهم؟ قلنا أما سمعت: " حسنات الأبرار سيئات المقربين "، ولقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم من التشديدات في التكليف ما لم يكن على غيره. فهذا في تقرير أنه صدر ذلك عن آدم عليه السلام على جهة السهو والنسيان. ورأيت في بعض التفاسير أن حواء سقته الخمر حتى سكر ثم في أثناء السكر فعل ذلك. قالوا: وهذا ليس ببعيد لأنه عليه السلام كان مأذونا له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة، فإذا حملنا الشجرة على البر، كان مأذونا في تناول الخمر، ولقائل أن يقول: إن خمر الجنة لا يسكر، لقوله تعالى في صفة خمر الجنة: * (لا فيها غول) * (الصافات: 47). أما القول الثاني: وهو أنه عليه السلام فعله عامدا فههنا أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم، وقد تقدم الكلام في هذا القول وعلته. الثاني: أنه كان ذلك عمدا من آدم عليه السلام وكان ذلك كبيرة مع أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت نبيا، وقد عرفت فساد هذا القول. الثالث: أنه عليه السلام فعله عمدا، لكن كان معه من الوجل والفزع والإشفاق ما صير ذلك في حكم الصغيرة، وهذا القول أيضا باطل بالدلائل المتقدمة لأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمدا وإن فعله مع الخوف إلا أنه يكون مع ذلك عاصيا مستحقا للعن والذم والخلود في النار، ولا يصح وصف الأنبياء عليهم السلام بذلك، ولأنه تعالى وصفه بالنسيان في قوله: * (فنسي ولم نجد له عزما) * (طه: 115)، وذلك ينافي العمدية. القول الرابع: وهو اختيار أكثر المعتزلة: أنه عليه السلام أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة، بيان الاجتهاد الخطأ أنه لما قيل له: * (ولا تقربا هذه الشجرة) * فلفظ * (هذه) * قد يشار به إلى الشخص، وقد يشار به إلى النوع، وروي أنه عليه السلام أخذ حريرا وذهبا بيده وقال: " هذان حل لإناث أمتي حرام على ذكورهم "، وأراد به نوعهما، وروي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة وقال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "، وأراد نوعه، فلما سمع آدم عليه السلام قوله تعالى: * (ولا تقربا هذه الشجرة) * (البقرة: 35) (الأعراف: 19) ظن أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة، فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع، إلا أنه كان مخطئا في ذلك الاجتهاد لأن مراد الله تعالى من كلمة * (هذه) * كان النوع لا الشخص والاجتهاد في الفروع، إذا كان خطأ لا يوجب استحقاق العقاب واللعن لاحتمال كونه صغيرة مغفورة كما في شرعنا، فإن قيل: الكلام على هذا القول من وجوه: أحدها: أن كلمة * (هذا) * في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء الحاضر. والشيء الحاضر لا يكون إلا شيئا معينا، فكلمة هذا في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء
13

المعين فأما أن يراد بها الإشارة إلى النوع، فذاك على خلاف الأصل، وأيضا فلأنه تعالى لا تجوز الإشارة عليه فوجب أن يكون أمر بعض الملائكة بالإشارة إلى ذلك الشخص، فكان ما عداه خارجا عن النهي لا محالة، إذا ثبت هذا فنقول: المجتهد مكلف بحمل اللفظ على حقيقته، فآدم عليه السلام لما حمل لفظ * (هذا) * على المعين كان قد فعل الواجب ولا يجوز له حمله على النوع، واعلم أن هذا الكلام متأيد بأمرين آخرين. أحدهما: أن قوله: * (وكلا منها رغدا حيث شئتما) * (البقرة: 35) أفاد الإذن في تناول كل ما في الجنة إلا ما خصه الدليل. والثاني: أن العقل يقتضي حل الانتفاع بجميع المنافع إلا ما خصه الدليل، والدليل المخصص لم يدل إلا على ذلك المعين، فثبت أن آدم عليه السلام كان مأذونا له في الانتفاع بسائر الأشجار، وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحق بسبب هذا عتابا وأن يحكم عليه بكونه مخطئا فثبت أن حمل القصة على هذا الوجه، يوجب أن يحكم عليه بأنه كان مصيبا لا مخطئا، وإذا كان كذلك ثبت فساد هذا التأويل. الوجه الثاني: في الاعتراض على هذا التأويل. هب أن لفظ * (هذا) * متردد بين الشخص والنوع، ولكن هل قرن الله تعالى بهذا اللفظ ما يدل على أن المراد منه النوع دون الشخص أو ما فعل ذلك؟ فإن كان الأول فأما أن يقال إن آدم عليه السلام قصر في معرفة ذلك البيان، فحينئذ يكون قد أتى بالذنب، وإن لم يقصر في معرفته بل عرفه فقد عرف حينئذ أن المراد هو النوع، فإقدامه على التناول من شجرة من ذلك النوع يكون إقداما على الذنب قصدا. الوجه الثالث: أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظن، وذلك إنما يجوز في حق من لا يتمكن من تحصيل العلم، أما الأنبياء فإنهم قادرون على تحصيل اليقين، فوجب أن لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلا وشرعا، وإذا ثبت ذلك ثبت أن الإقدام على الاجتهاد معصية. الوجه الرابع: هذه المسألة إما أن تكون من المسائل القطعية أو الظنية، فإن كانت من القطعيات كان الخطأ فيها كبيرا وحينئذ يعود الإشكال، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقق الخطأ فيها أصلا، وإن قلنا المصيب فيها واحد والمخطئ فيها معذور بالاتفاق فكيف صار هذا القدر من الخطأ سببا لأن نزع عن آدم عليه السلام لباسه وأخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض؟ والجواب عن الأول: أن لفظ هذا وإن كان في الأصل للإشارة إلى الشخص لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه، وأنه سبحانه وتعالى كان قد قرن به ما دل على أن المراد هو النوع. والجواب عن الثاني: هو أن آدم عليه السلام لعله قصر في معرفة ذلك الدليل لأنه ظن أنه لا يلزمه ذلك في الحال، أو يقال: إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله تعالى عن عين الشجرة، فلما طالت المدة غفل عنه لأن في الخبر أن آدم عليه السلام بقي في الجنة الدهر الطويل ثم أخرج. والجواب عن الثالث: أنه لا حاجة ههنا إلى إثبات أن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بالاجتهاد، فأنا بينا أنه عليه السلام قصر في معرفة تلك الدلالة أو أنه كان قد عرفها
14

لكنه قد نسيها، وهو المراد من قوله تعالى: * (فنسي ولم نجد له عزما) *، والجواب عن الرابع: يمكن أن يقال: كانت الدلالة قطعية إلا أنه عليه السلام لما نسيها صار النسيان عذرا في أن لا يصير الذنب كبيرا أو يقال: كانت ظنية إلا أنه ترتب عليه من التشديدات ما لم يترتب على خطأ سائر المجتهدين لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص، وكما أن الرسول عليه الصلاة والسلام مخصوص بأمور كثيرة في باب التشديدات والتخفيفات بما لا يثبت في حق الأمة، فكذا ههنا. واعلم أنه
يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال: * (ولا تقربا هذه الشجرة) * ونهاهما معا فظن آدم عليه السلام أنه يجوز لكل واحد منهما وحده أن يقرب من الشجرة وأن يتناول منها، لأن قوله: * (ولا تقربا) * نهي لهما على الجمع ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الإنفراد، فلعل الخطأ في هذا الاجتهاد إنما وقع من هذا الوجه، فهذا جملة ما يقال في هذا الباب والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلفوا في أنه كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم عليه السلام مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم كان في الجنة، وذكروا فيه وجوها. أحدها: قول القصاص وهو الذي رووه عن وهب بن منبه اليماني والسدي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: أنه لما أراد إبليس أن يدخل الجنة منعته الخزنة فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البختية، وهي كأحسن الدواب بعدما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد منها فابتلعته الحية وأدخلته الجنة خفية من الخزنة، فلما دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فمها واشتغل بالوسوسة. فلا جرم لعنت الحية وسقطت قوائمها وصارت تمشي على بطنها، وجعل رزقها في التراب، وصارت عدوا لبني آدم، واعلم أن هذا وأمثاله مما يجب أن لا يلتفت إليه لأن إبليس لو قدر على الدخول في فم الحية فلم لم يقدر على أن يجعل نفسه حية ثم يدخل الجنة، ولأنه لما فعل ذلك بالحية فلم عوقبت الحية مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة. وثانيها: أن إبليس دخل الجنة في صورة دابة، وهذا القول أقل فسادا من الأول. وثالثها: قال بعض أهل الأصول: إن آدم وحواء عليهما السلام لعلهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان بقرب الباب ويوسوس إليهما، ورابعها: هو قول الحسن: أن إبليس كان في الأرض وأوصل الوسوسة إليهما في الجنة. قال بعضهم: هذا بعيد لأن الوسوسة كلام خفي والكلام الخفي لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السماء، واختلفوا من وجه آخر وهو أن إبليس هل باشر خطابهما أو يقال إنه أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه. حجة القول الأول: قوله تعالى: * (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) * (الأعراف: 21)، وذلك يقتضي المشافهة، وكذا قوله: * (فدلاهما بغرور) * (الأعراف: 22). وحجة القول الثاني: أن آدم وحواء عليهما السلام كانا يعرفانه ويعرفان ما عنده من الحسد والعداوة، فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله وأن يلتفتا إليه، فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة من بعض أتباع إبليس. بقي ههنا سؤالان، السؤال الأول:
15

أن الله تعالى قد أضاف هذا الإزلال إلى إبليس فلم عاتبهما على ذلك الفعل؟ قلنا معنى قوله: * (فأزلهما) * أنهما عند وسوسته أتيا بذلك الفعل فأضيف ذلك إلى إبليس كما في قوله تعالى: * (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) * (نوح: 6). فقال تعالى حاكيا عن إبليس: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22)، هذا ما قاله المعتزلة. والتحقيق في هذه الإضافة ما قررناه مرارا أن الإنسان قادر على الفعل والترك ومع التساوي يستحيل أن يصير مصدرا لأحد هذين الأمرين إلا عند انضمام الداعي إليه، والداعي عبارة في حق العبد عن علم أو ظن أو اعتقاد بكون الفعل مشتملا على مصلحة، فإذا حصل ذلك العلم أو الظن بسبب منبه نبه عليه كان الفعل مضافا إلى ذلك لما لأجله صار الفاعل بالقوة فاعلا بالفعل، فلهذا المعنى انضاف الفعل ههنا إلى الوسوسة، وما أحسن ما قال بعض العارفين إن زلة آدم عليه السلام هب أنها كانت بسبب وسوسة إبليس، فمعصية إبليس حصلت بوسوسة من! وهذا ينبهك على أنه ما لم يحصل الداعي لا يحصل الفعل وأن الدواعي وإن ترتب بعضها على بعض، فلا بد من انتهائها إلى ما يخلقه الله تعالى ابتداء، وهو الذي صرح به موسى عليه السلام في قوله: * (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) * (الأعراف: 155). السؤال الثاني: كيف كانت تلك الوسوسة، الجواب: أنها هي التي حكى الله تعالى عنها في قوله: * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) * (الأعراف: 20)، فلم يقبلا ذلك منه، فلما أيس من ذلك عدل إلى اليمين على ما قال: * (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) * (الأعراف: 21)، فلم يصدقاه أيضا، والظاهر أنه بعد ذلك عدل إلى شيء آخر وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات المباحة حتى صارا مستغرقين فيه فحصل بسبب استغراقهما فيه نسيان النهي فعند ذلك حصل ما حصل، والله أعلم بحقائق الأمور كيف كانت.
أما قوله تعالى: * (وقلنا اهبطوا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: من قال إن جنة آدم كانت في السماء فسر الهبوط بالنزول من العلو إلى السفل، ومن قال إنها كانت في الأرض فسره بالتحول من موضع إلى غيره، كقوله: * (اهبطوا مصرا) * (البقرة: 61).
المسألة الثانية: اختلفوا في المخاطبين بهذا الخطاب بعد الاتفاق على أن آدم وحواء عليهما السلام كانا مخاطبين به وذكروا فيه وجوها: الأول: وهو قول الأكثرين: أن إبليس داخل فيه أيضا قالوا لأن إبليس قد جرى ذكره في قوله: * (فأزلهما الشيطان عنها) * أي فأزلهما وقلنا لهم اهبطوا.
وأما قوله تعالى: * (بعضكم لبعض عدو) * فهذا تعريف لآدم وحواء عليهما السلام أن إبليس عدو لهما ولذريتهما كما عرفهما ذلك قبل الأكل من الشجرة فقال: * (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * (طه: 117)، فإن قيل: إن إبليس لما أبى من السجود صار كافرا
16

وأخرج من الجنة وقيل له: * (فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها) * (الأعراف: 13)، وقال أيضا: * (فاخرج منها فإنك رجيم) * (ص: 77 (الحجر: 34)، وإنما اهبط منها لأجل تكبره، فزلة آدم عليه السلام إنما وقعت بعد ذلك بمدة طويلة، ثم أمر بالهبوط بسبب الزلة، فلما حصل هبوط إبليس قبل ذلك كيف يكون قوله: * (اهبطوا) *، متناولا له؟ قلنا: إن الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض فلعله عاد إلى السماء مر أخرى لأجل أن يوسوس إلى آدم وحواء فحين كان آدم وحواء في الجنة قال الله تعالى لهما: * (اهبطا) *، فلما خرجا من الجنة واجتمع إبليس معهما خارج الجنة أمر الكل فقال: * (اهبطوا) * ومن الناس من قال ليس معنى قوله: * (اهبطوا) * أنه قال ذلك لهم دفعة واحدة، بل قال ذلك لكل واحد منهم على حدة في وقت. الوجه الثاني: أن المراد آدم وحواء والحية وهذا ضعيف لأنه ثبت بالإجماع أن المكلفين هم الملائكة والجن والإنس، ولقائل أن يمنع هذا الإجماع فإن من الناس من يقول قد يحصل في غيرهم جمع من المكلفين على ما قال تعالى: * (
كل قد علم صلاته وتسبيحه) * (النور: 41)، وقال سليمان للهدهد: * (لأعذبنه عذابا شديدا) * (النمل: 21). الثالث: المراد آدم وحواء وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم، والدليل عليه قوله: * (اهبطوا بعضكم لبعض عدو... اهبطوا منها جميعا) * (البقرة: 36، 38)، ويدل عليه أيضا قوله: * (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * (البقرة: 38، 39). وهذا حكم يعم الناس كلهم ومعنى: * (بعضكم لبعض عدو) * ما عليه الناس من التعادي والتباغض وتضليل بعضهم لبعض، واعلم أن هذا القول ضعيف لأن الذرية ما كانوا موجودين في ذلك الوقت فكيف يتناولهم الخطاب؟ أما من زعم أن أقل الجمع اثنان فالسؤال زائل على قوله:
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن قوله: * (اهبطوا) * أمر أو إباحة، والأشبه أنه أمر لأن فيه مشقة شديدة لأن مفارقة ما كانا فيه من الجنة إلى موضع لا تحصل المعيشة فيه إلا بالمشقة والكد من أشق التكاليف، وإذا ثبت هذا بطل ما يظن أن ذلك عقوبة، لأن التشديد في التكليف سبب للثواب، فكيف يكون عقابا مع ما فيه من النفع العظيم؟ فإن قيل: ألستم تقولون في الحدود وكثير من الكفارات إنها عقوبات وإن كانت من باب التكاليف، قلنا: أما الحدود فهي واقعة بالمحدود من فعل الغير، فيجوز أن تكون عقابا إذا كان الرجل مصرا، وأما الكفارات فإنما يقال في بعضها إنه يجري مجرى العقوبات لأنها لا تثبت إلا مع المأثم. فأما أن تكون عقوبة مع كونها تعريضات للثواب العظيم فلا.
المسألة الرابعة: أن قوله تعالى: * (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) *، أمر بالهبوط وليس أمرا بالعداوة، لأن عداوة إبليس لآدم وحواء عليهما السلام بسبب الحسد والاستكبار عن السجود واختداعه إياهما حتى أخرجهما من الجنة وعداوته لذريتهما بإلقاء الوسوسة والدعوة إلى الكفر والمعصية، وشئ من ذلك لا يجوز أن يكون مأمورا به، فأما عداوة آدم لإبليس
17

فإنها مأمور بها لقوله تعالى: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) * (فاطر: 6) وقال تعالى: * (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) * (الأعراف: 27) إذا ثبت هذا ظهر أن المراد من الآية اهبطوا من السماء وأنتم بعضكم لبعض عدو.
المسألة الخامسة: المستقر قد يكون بمعنى الاستقرار كقوله تعالى: * (إلى ربك يومئذ المستقر) * (القيامة: 12)، وقد يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه كقوله تعالى: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) * (الفرقان: 24)، وقال تعالى: * (فمستقر ومستودع) * (الأنعام: 98) إذا عرفت هذا فنقول: الأكثرون حملوا قوله تعالى: * (ولكم في الأرض مستقر) * (البقرة: 36) (الأعراف: 24)، على المكان، والمعنى أنها مستقركم حالتي الحياة والموت، وروى السدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المستقر هو القبر، أي قبوركم تكونون فيها. والأول أولى لأنه تعالى قدر المتاع وذلك لا يليق إلا بحال الحياة، ولأنه تعالى خاطبهم بذلك عند الإهباط وذلك يقتضي حال الحياة، واعلم أنه تعالى قال في سورة الأعراف في هذه القصة: * (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) * (الأعراف: 24، 25)، فيجوز أن يكون قوله: * (فيها تحيون) *، إلى آخر الكلام بيانا لقوله: * (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) *، ويجوز أن يكون زيادة على الأول.
المسألة السادسة: اختلفوا في معنى الحين بعد اتفاقهم على أنه اسم للزمان والأولى أن يراد به الممتد من الزمان لأن الرجل يقول لصاحبه: ما رأيتك منذ حين إذا بعدت مشاهدته له ولا يقال ذلك مع قرب المشاهدة، فلما كانت أعمار الناس طويلة وآجالهم عن أوائل حدوثهم متباعدة جاز أن يقول: * (ومتاع إلى حين) *:
المسألة السابعة: اعلم أن في هذه الآيات تحذيرا عظيما عن كل المعاصي من وجوه: أحدها: أن من تصور ما جرى على آدم عليه السلام بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة، كان على وجل شديد من المعاصي، قال الشاعر:
يا ناظرا يرنو بعيني راقد * ومشاهدا للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى * درك الجنان ونيل فوز العابد
أنسيت أن الله أخرج آدما * منها إلى الدنيا بذنب واحد
وعن فتح الموصلي أنه قال: كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها، وثانيها: التحذير عن الاستكبار والحسد والحرص، عن قتادة في قوله تعالى: * (أبى واستكبر) * (البقرة: 34)، قال حسد عدو الله إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناري وهذا طيني ثم ألقى الحرص في قلب آدم حتى حمله على ارتكاب المنهي عنه ثم ألقى الحسد في قلب قابيل حتى قتل هابيل. وثالثها: أنه سبحانه وتعالى بين العداوة الشديدة بين ذرية آدم وإبليس، وهذا تنبيه عظيم على وجوب الحذر.
18

* (فتلقى ءادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) *
المسألة الأولى: قال القفال: أصل التلقي هو التعرض للقاء ثم يوضع في موضع الاستقبال للشيء الجائي ثم يوضع موضع القبول والأخذ. قال الله تعالى: * (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) * (النمل: 6)، أي تلقنه. ويقال: تلقينا الحجاج أي استقبلناهم. ويقال: تلقيت هذه الكلمة من فلان أي أخذتها منه. وإذا كان هذا أصل الكلمة وكان من تلقى رجلا فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه فأضيف الاجتماع إليهما معا صلح أن يشتركا في الوصف بذلك، فيقال: كل ما تلقيته فقد تلقاك فجاز أن يقال: تلقى آدم كلمات أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول، وجاز أن يقال: تلقى كلمات بالرفع على معنى جاءته عن الله كلمات ومثله قوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) وفي قراءة ابن مسعود (الظالمون).
المسألة الثانية: أعلن أنه لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لا بد وأن يعرف ماهية التوبة ويتمكن بفعلها من تدارك الذنوب ويميزها عن غيرها فضلا عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل يجب حمله على أحد الأمور. أحدها: التنبيه على المعصية الواقعة منه على وجه صار آدم عليه السلام عند ذلك من التائبين المنيبين. وثانيها: أنه تعالى عرفه وجوب التوبة وكونها مقبولة لا محالة على معنى أن من أذنب ذنبا صغيرا أو كبيرا ثم ندم على ما صنع وعزم على أن لا يعود فإني أتوب عليه. قال الله تعالى: * (فتلقى آدم من ربه كلمات) *، أي أخذها وقبلها وعمل بها. وثالثها: أنه تعالى ذكره بنعمه العظيمة عليه فصار ذلك من الدواعي القوية إلى التوبة. ورابعها: أنه تعالى علمه كلاما لو حصلت التوبة معه لكان ذلك سببا لكمال حال التوبة.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن تلك الكلمات ما هي؟ فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن آدم عليه السلام قال: يا رب ألم تخلقني بيدك بلا واسطة؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى. قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى. قال: يا رب إن تبت وأصلحت تردني إلى الجنة؟ قال: بلى فهو قوله: * (فتلقى آدم من ربه كلمات) * وزاد السدي فيه: يا رب هل كنت كتبت علي ذنبا؟ قال: نعم. وثانيها: قال النخعي: أتيت ابن عباس فقلت: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه. قال: علم الله آدم وحواء أمر الحج فحجا وهي الكلمات التي تقال في الحج، فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما بأني قبلت توبتكما. وثالثها: قال مجاهد وقتادة في إحدى الروايتين عنهما هي قوله: * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * (الأعراف: 23). ورابعها: قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم: إنها قوله لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين. لا إله إلا أنت سبحانك
19

وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وخامسها: قالت عائشة لما أراد الله تعالى أن يتوب على آدم طاف بالبيت سبعا، والبيت يومئذ ربوة حمراء، فلما صلى ركعتين استقبل البيت وقال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي. اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي وأرضى بما قسمت لي. فأوحى الله تعالى إلى آدم: يا آدم قد غفرت لك ذنبك ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بهذا الدعاء الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من بين عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها.
المسألة الرابعة: قال الغزالي رحمه الله: التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة، علم وحال وعمل، فالعلم أول والحال ثان والعمل ثالث، والأول موجب للثاني، والثاني موجب للثالث إيجابا اقتضته سنة الله في الملك والملكوت، أما العلم فهو معرفة ما في الذنب من الضرر وكونه حجابا بين العبد ورحمة الرب، فإذا عرف ذلك معرفة محققة حصل من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات المحبوب، فإن القلب مهما شعر بفوات المحبوب تألم، فإذا كان فواته يفعل من جهته تأسف بسبب فوات المحبوب على الفعل الذي كان سببا لذلك الفوات فسمي ذلك التأسف ندما، ثم إن ذلك الألم إذا تأكد حصلت منه إرادة جازمة ولها تعلق بالحال وبالمستقبل وبالماضي، أما تعلقها بالحال فبترك الذنب الذي كان ملابسا له وأما بالمستقبل فالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر. وأما بالماضي فبتلا في ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر، فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني به اليقين التام بأن هذه الذنوب سموم مهلكة، فهذا اليقين نور وهذا النور يوجب نار الندم فيتألم به القلب حيث أبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوبا عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فيطلع النور عليه بانقشاع السحاب، فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فتنبعث من تلك النيران إرادته للانتهاض للتدارك، فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مترتبة في الحصول (على التوبة). ويطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ويجعل العلم السابق كالمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر. وبهذا الاعتبار قال عليه السلام: " الندم توبة "، إذ لا ينفك الندم عن علم أوجبه وعن عزم يتبعه فيكون الندم محفوفا بطرفيه، أعني مثمرة وثمرته، فهذا هو الذي لخصه الشيخ الغزالي في حقيقة التوبة وهو كلام حسن. وقال القفال: لا بد في التوبة من ترك ذلك الذنب ومن الندم على ما سبق ومن العزم على أن لا يعود إلى مثله ومن الاشفاق فيما بين ذلك كله، أما أنه لا بد من الترك فلأنه لو لم يترك لكان فاعلا له فلا يكون تائبا، وأما الندم فلأنه لو لم يندم لكان راضيا بكونه فاعلا له والراضي بالشيء قد يفعله والفاعل للشيء لا يكون تائبا عنه، وأما العزم على أن لا يعود إلى مثله فلأن فعله معصية والعزم على المعصية
20

معصية، وأما الإشفاق فلأنه مأمور بالتوبة ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بالتوبة كما لزمه فيكون خائفا، ولهذا قال تعالى: * (يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه) * (الزمر: 9) وقال عليه السلام: " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا "، واعلم أن كلام الغزالي رحمه الله أبين وأدخل في التحقيق، إلا أنه يتوجه عليه إشكال وهو أن العلم بكون الفعل الفلاني ضررا مع العلم بأن ذلك الفعل صدر منه يوجب تألم القلب وذلك التألم يوجب إرادة الترك في الحال والاستقبال وإرادة تلافي ما حصل منه في الماضي وإذا كان بعض هذه الأشياء مرتبا على البعض ترتبا ضروريا لم يكن ذلك داخلا تحت قدرته فاستحال أن يكون مأمورا به. والحاصل أن الداخل في الوسع ليس إلا تحصيل العلم، فأما ما عداه فليس للاختيار إليه سبيل، لكن لقائل أن يقول: تحصيل العلم ليس أيضا في الوسع لأن تحصيل العلم ببعض المجهولات لا يمكن إلا بواسطة معلومات متقدمة على ذلك المجهول؛ فتلك العلوم الحاضرة المتوسل بها إلى اكتساب ذلك المجهول، إما أن تكون مستلزمة للعلم بذلك المجهول أو لم تكن مستلزمة. فإن كان الأول كان ترتب المتوسل إليه على المتوسل به ضروريا، فلا يكون ذلك داخلا في القدرة والاختيار، وإن كان الثاني لم يكن استنتاج المطلوب المجهول عن تلك المعلومات الحاضرة لأن المقدمات القريبة لا بد وأن تكون بحال يلزم من تسليمها في الذهن تسليم المطلوب، فإذا لم تكن كذلك لم تكن تلك المقدمات منتجة لتلك النتيجة. فإن قيل لم لا يجوز أن يقال: تلك المقدمات وإن كانت حاضرة في الذهن إلا أن كيفية التوصل بها إلى تلك النتيجة غير حاضرة في الذهن، فلا جرم لا يلزم من العلم بتلك المقدمات العلم بتلك النتيجة لا محالة. قلنا: العلم بكيفية التوصل بها إلى تلك النتيجة إما أن يكون من البديهيات أو من الكسبيات، فإن كان من
البديهيات لم يكن في وسعه؛ وإن كان من الكسبيات كان القول في كيفية اكتسابه كما في الأول، فإما أن يفضي إلى التسلسل وهو محال أو يفضي إلى أن يصير من لوازمه فيعود المحذور المذكور والله أعلم.
المسألة الخامسة: سأل القاضي عبد الجبار نفسه فقال: إذا كانت هذه المعصية صغيرة فكيف تلزم التوبة؟ وأجاب بأن أبا علي قال: إنها تلزمه لأن المكلف متى علم أنه قد عصى لم يحد فيما بعد وهو مختار ولا مانع من أن يكون نادما أو مصرا لكن الإصرار قبيح فلا تتم مفارقته لهذا القبيح إلا بالتوبة، فهي إذن لازمة سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة وسواء ذكرها وقد تاب عنها من قبل أو لم يتب.
أما أبو هاشم فإنه يجوز أن يخلو العاصي من التوبة والإصرار ويقول: لا يصح أن تكون التوبة واجبة على الأنبياء لهذا الوجه بل يجب أن تكون واجبة لإحدى خلال، فإما أن تجب لأن بالصغيرة قد نقص ثوابهم فيعود ذلك النقصان بالتوبة، وإما لأن التوبة نازلة منزلة الترك، فإذا كان الترك واجبا عند الإمكان فلا بد من وجوب التوبة مع عدم الإمكان، وربما قال: تجب التوبة عليهم من جهة السمع وهذا هو الأصح على قوله: لأن التوبة
21

لا يجوز أن تجب لعود الثواب الذي هو المنافع فقط لأن الفعل لا يجوز أن يجب لأجل جلب المنافع كما لا تجب النوافل بل الأنبياء عليهم السلام لما عصمهم الله تعالى صار أحد أسباب عصمتهم التشديد عليهم في التوبة حالا بعد حال وإن كانت معاصيهم صغيرة.
المسألة السادسة: قال القفال: أصل التوبة الرجوع كالأوبة. يقال: توب كما يقال أوب. قال الله تعالى: * (قابل التوب) * فقولهم تاب يتوب توبا وتوبة ومتابا فهو تائب وتواب كقولهم آب يؤوب أوبا وأوبة فهو آيب وأواب، والتوبة لفظة يشترك فيها الرب والعبد، فإذا وصف بها العبد فالمعنى رجع إلى ربه لأن كل عاص فهو في معنى الهارب من ربه فإذا تاب فقد رجع عن هربه إلى ربه فيقال: تاب إلى ربه والرب في هذه الحالة كالمعرض عن عبده وإذا وصف بها الرب تعالى فالمعنى أنه رجع على عبده برحمته وفضله ولهذا السبب وقع الاختلاف في الصلة، فقيل في العبد: تاب إلى ربه. وفي الرب على عبده وقد يفارق الرجل خدمة رئيس فيقطع الرئيس معروفه عنده، ثم يراجع خدمته، فيقال: فلان عاد إلى الأمير والأمير عاد عليه بإحسانه ومعروفه، إذا عرفت هذا فنقول: قبول التوبة يكون بوجهين، أحدهما: أن يثيب عليها الثواب العظيم كما أن قبول الطاعة يراد به ذلك، والثاني: أنه تعالى يغفر ذنوبه بسبب التوبة.
المسألة السابعة: المراد من وصف الله تعالى بالتواب المبالغة في قبول التوبة وذلك من وجهين، الأول: أن واحدا من ملوك الدنيا متى جنى عليه إنسان ثم اعتذر إليه فإنه يقبل الاعتذار، ثم إذا عاد إلى الجناية وإلى الاعتذار مرة أخرى فإنه لا يقبله لأن طبعه يمنعه من قبول العذر، أما الله سبحانه وتعالى فإنه بخلاف ذلك، فإنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع إلى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضرر بل إنما يقبلها لمحض الإحسان والتفضل. فلو عصى المكلف كل ساعة ثم تاب وبقي على هذه الحالة العمر الطويل لكان الله تعالى يغفر له ما قد سلف ويقبل توبته، فصار تعالى مستحقا للمبالغة في قبول التوبة فوصف بأنه تعالى تواب. الثاني: أن الذين يتوبون إلى الله تعالى فإنه يكثر عددهم فإذا قبل توبة الجميع استحق المبالغة في ذلك، ولما كان قبول التوبة مع إزالة العقاب يقتضي حصول الثواب وكان الثواب من جهته نعمة ورحمة وصف نفسه مع كونه توابا بأنه رحيم.
المسألة الثامنة: في هذه الآية فوائد: إحداها: أنه لا بد وأن يكون العبد مشتغلا بالتوبة في كل حين وأوان، لما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار، أما الأحاديث (أ) روي أن رجلا سأل أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه عن الرجل يذنب ثم يستغفر ثم يذنب ثم يستغفر ثم يذنب ثم يستغفر فقال أمير المؤمنين: يستغفر أبدا حتى يكون الشيطان هو الخاسر فيقول لا طاقة لي معه، وقال علي: كلما قدرت أن تطرحه في ورطة وتتخلص منها فافعل. (ب) وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يصر من استغفر
22

وإن عاد في اليوم سبعين مرة. (ج) وعن ابن عمر قال عليه الصلاة والسلام: توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في كل يوم مائة مرة. (د) وأبو هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام حين أنزل عليه: * (وانذر عشيرتك الأقربين) * (الشعراء: 214) " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئا " أخرجاه في الصحيح. (ه) وقال عليه الصلاة والسلام: " إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم مائة مرة ".
واعلم أن الغين شيء يغشى القلب فيغطيه بعض التغطية وهو كالغيم الرقيق الذي يعرض في الجو فلا يحجب عن الشمس ولكن يمنع كمال ضوئها، ثم ذكروا لهذا الحديث تأويلات أحدها: أن الله تعالى أطلع نبيه على ما يكون في أمته من بعده من الخلاف وما يصيبهم فكان إذا ذكر ذلك وجد غيما في قلبه فاستغفر لأمته. وثانيها: أنه عليه الصلاة والسلام كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى، فكان الاستغفار لذلك. وثالثها: أن الغيم عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانيا عن نفسه بالكلية، فإذا عاد إلى الصحو كان الاستغفار من ذلك الصحو وهو تأويل أرباب الحقيقة، ورابعها: وهو تأويل أهل الظاهر أن القلب لا ينفك عن الخطرات والخواطر والشهوات وأنواع الميل والإرادات فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر (و) أبو هريرة قال: قال عمر رضي الله عنه في قوله تعالى: * (توبوا إلى الله توبة نصوحا) * (التحريم: 8) إنه هو الرجل يعمل الذنب ثم يتوب ولا يريد أن يعمل به ولا يعود، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: هو أن يهجر الذنب ويعزم على أن لا يعود إليه أبدا. (ز) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله تعالى: يقول لملائكته: " إذا هم عبدي بالحسنة فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها وإذا هم بالسيئة فعملها فاكتبوها سيئة واحدة فإن تركها فاكتبوها له حسنة " رواه مسلم. (ح) روي أن جبريل عليه السلام سمع إبراهيم عليه السلام وهو يقول: يا كريم العفو، فقال جبريل: أو تدري ما كريم العفو؟ فقال: لا يا جبريل. قال: أن يعفو عن السيئة ويكتبها حسنة. (ط) أبو هريرة عنه عليه الصلاة
والسلام: " من استفتح أول نهاره بالخير وختمه بالخير قال الله تعالى للملائكة لا تكتبوا على عبدي ما بين ذلك من الذنوب ".
(ي) عن أبي سعيد الخدري قال: قال عليه الصلاة والسلام: " كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فأتاه فقال: إنه قد قتل تسعة وتسعين نفسا فهل للقاتل من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل المائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فأتاه فقال: إنه قتل مائة نفس فهل من توبة؟ فقال: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناسا يعبدون الله تعالى فاعبده معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى أتى نصف الطريق فأتاه الموت فاختصمت
23

فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي وتوسط بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد بشبر فقبضته ملائكة الرحمة ". رواه مسلم (يا) ثابت البناني: بلغنا أن إبليس قال: يا رب إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه وعلى ولده، فقال الله سبحانه وتعالى: (جعلت صدورهم مساكن لك)، فقال: رب زدني، فقال: لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة. قال: رب زدني. قال: تجري منه مجرى الدم. قال: رب زدني. قال: * (واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد) * (الإسراء: 6)، قال: فعندها شكا آدم إبليس إلى ربه تعالى فقال: يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطه علي وعلى ذريتي وأنا لا أطيقه إلا بك، فقال الله تعالى: لا يولد لك ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء. قال: رب زدني. قال: الحسنة بعشر أمثالها. قال: رب زدني. قال: لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر ". (يب) أبو موسى الأشعري قال: قال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار وبالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه مسلم. (يج) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، فإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين فيستغفر الله تعالى إلا غفر له ". ثم قرأ: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) * إلى قوله: * (فاستغفروا لذنوبهم) * (البقرة: 135). (يد) أبو إمامة قال: بينا أنا قاعد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي. قال: فأعرض عنه ثم عاد فقال مثل ذلك، وأقيمت الصلاة فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم خرج قال أبو أمامة: فكنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجل يتبعه ويقول: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي، فقال عليه السلام: " أليس حين خرجت من بيتك توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى يا رسول، قال: وشهدت معنا هذه الصلاة؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فإن الله قد غفر لك حدك أو قال ذنبك " رواه مسلم. (يه) عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إني عالجت امرأة من أقصى المدينة وإني أصبت ماء دون أن أمسها فها أنا ذا فاقض في ما شئت، فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فقام الرجل فانطلق فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وتلا عليه هذه الآية: * (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) * (هود: 114). فقال واحد من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة، قال: بل للناس عامة. رواه مسلم. (يو) أبو هريرة قال: قال عليه
24

السلام: " إن عبدا أصاب ذنبا فقال يا رب إني أذنبت ذنبا فاغفر لي فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا آخر. فقال: يا رب إني أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي، فقال ربه: إن عبدي علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا آخر فقال: يا رب أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فقال له ربه: غفرت لعبدي فليعمل ما شاء ". أخرجاه في الصحيح. (يز) أبو بكر قال: قال عليه الصلاة والسلام: " لم يصر من استغفر الله ولو عاد في اليوم سبعين مرة. (يح) أبو أيوب قال: قد كنت كتمتكم شيئا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لولا أنكم تذنبون فتستغفرون لخلق الله تعالى خلقا يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم " رواه مسلم. (يط) قال عبد الله: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد التف عليه فقال: يا رسول الله إني مررت بغيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فوضعتهن في كسائي فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن أمهن فلففتهن جميعا في كسائي فهن معي، فقال عليه الصلاة والسلام: ضعهن عنك فوضعتهن فأبت أمهن إلا لزومهن، فقال عليه السلام: أتعجبون لرحمة أم الأفراخ بفراخها، قالوا: نعم يا رسول الله، فقال: والذي نفس محمد بيده أو قال فوالذي بعثني بالحق نبيا لله عز وجل أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن وأمهن معهن فرجع بهن ". (ك) عن أبي مسلم الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن الله سبحانه وتعالى قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظالموا. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أتقى رجل منكم لم يزد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم لم ينقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منكم ما سأل لم ينقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). قال وكان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه إعظاما له: وأما الآثار فسئل ذو النون عن التوبة فقال: إنها اسم جامع لمعان ستة. أولهن: الندم على ما مضى، الثاني: العزم على ترك الذنوب في المستقبل. الثالث: أداء كل فريضة ضيعتها فيما
بينك وبين الله تعالى. الرابع: أداء المظالم إلى المخلوقين في
أموالهم وأعراضهم.
الخامس: إذابة كل لحم ودم نبت من الحرم.
25

السادس: إذاقة البدن ألم الطاعات كما ذاق حلاوة المعصية. وكان أحمد بن حارس يقول: يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب، يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب، يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب، يا صاحب الذنوب أنت غدا بالذنوب مطلوب.
الفائدة الثانية: من فوائد الآية: أن آدم عليه السلام لما لم يستغن عن التوبة مع علو شأنه فالواحد منا أولى بذلك.
الفائدة الثالثة: أن ما ظهر من آدم عليه السلام من البكاء على زلته تنبيه لنا أيضا لأنا أحق بالبكاء من آدم عليه السلام. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح عليهما السلام إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر ".
المسألة التاسعة: إنما اكتفى الله تعالى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعا له كما طوى ذكر النساء في القرآن والسنة لذلك، وقد ذكرها في قوله: * (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) * (الأعراف: 23).
* (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
المسألة الأولى: ذكروا في فائدة تكرير الأمر بالهبوط وجهين: الأول: قال الجبائي: الهبوط الأول غير الثاني فالأول من الجنة إلى سماء الدنيا والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض وهذا ضعيف من وجهين: أحدهما: أنه قال في الهبوط الأول: * (ولكم في الأرض مستقر) * فلو كان الاستقرار في الأرض إنما حصل بالهبوط الثاني لكان ذكر قوله: * (ولكم في الأرض مستقر ومتاع) * (البقرة: 36) عقيب الهبوط الثاني أولى. وثانيهما: أنه قال في الهبوط الثاني: * (اهبطوا منها) * والضمير في (منها) عائد إلى الجنة. وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنة. الوجه الثاني: أن التكرير لأجل التأكيد وعندي فيه وجه ثالث أقوى من هذين الوجهين وهو أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط ووقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط لما كان بسبب الزلة فبعد التوبة وجب أن لا يبقى الأمر بالهبوط فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة لأن الأمر به كان تحقيقا للوعد المتقدم في قوله: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (البقرة: 30) فإن قيل
26

ما جواب الشرط الأول؟ قلنا: الشرط الثاني مع جوابه، كقولك: إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك.
المسألة الثانية: روي في الأخبار أن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء بجدة وإبليس بموضع من البصرة على أميال والحية بأصفهان.
المسألة الثالثة: في " الهدي " وجوه: أحدها: المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي، وفيه تنبيه على عظم نعمة الله تعالى على آدم وحواء فكأنه قال: وإن أهبطنكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع. قال الحسن: لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه يا آدم أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك. واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين الناس، أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك فإذا عملت نلت أجرتك، وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فإن تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به. وثانيها: ما روي عن أبي العالية أن المراد من الهدى الأنبياء وهذا إنما يتم لو كان المخاطب بقوله: * (فإما يأتينكم مني هدى) * غير آدم وهم ذريته وبالجملة فهذا التأويل يوجب تخصيص المخاطبين بذرية آدم وتخصيص الهدي بنوع معين وهو الأنبياء من غير دليل دل على هذا التخصيص.
المسألة الرابعة: أنه تعالى بين أن من اتبع هداه بحقه علما وعملا بالإقدام على ما يلزم والاحجام عما يحرم فإنه يصير إلى حال لا خوف فيها ولا حزن، وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئا كثيرا من المعاني لأن قوله: * (فإما يأتينكم مني هدى) * (البقرة: 38) (طه: 123) دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادات البيان وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكن، وجميع قوله: * (فمن تبع هداي) * (البقرة: 38) تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ويجمع ذلك كل التكاليف وجمع قوله: * (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (البقرة: 38) جميع ما أعد الله تعالى لأولياءه لأن زوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات وقدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على طلب ما ينبغي، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف في القبر ولا عند البعث ولا عند حضور الموقف ولا عند تطاير الكتب ولا عند نصب الموازين ولا عند الصراط كما قال الله تعالى: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) * (الأنبياء: 103) وقال قوم من المتكلمين: إن أهوال القيامة كما تصل إلى الكفار والفساق تصل أيضا إلى المؤمنين لقوله تعالى: * (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) * (الحج: 2) وأيضا فإذا انكشفت تلك الأهوال وصاروا إلى الجنة ورضوان الله صار ما تقدم كأن لم يمكن، بل ربما كان زائدا في الالتذاذ بما يجده من
27

النعيم وهذا ضعيف لأن قوله: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * أخص من قوله: * (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) * والخاص مقدم على العام. وقال ابن زيد: لا خوف عليهم أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فأمنهم الله تعالى منه. ثم سلاهم عن الدنيا فقال: * (ولا هم يحزنون) * على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا فإن قيل قوله: * (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * يقتضي نفي الخوف والحزن مطلقا في الدنيا والآخرة وليس الأمر
كذلك لأنهما حصلا في الدنيا للمؤمنين أكثر من حصولهما لغير المؤمنين، قال عليه الصلاة والسلام: " خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل "، وأيضا فالمؤمن لا يمكنه القطع أنه أتى بالعبادات كما ينبغي فخوف التقصير حاصل وأيضا فخوف سوء العاقبة حاصل، قلنا قرائن الكلام تدل على أن المراد نفيهما في الآخرة لا في الدنيا. ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا حين دخلوا الجنة: * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور) * (فاطر: 43) أي أذهب عنا ما كنا فيه من الخوف والإشفاق في الدنيا من أن تفوتنا كرامة الله تعالى التي نلناها الآن.
المسألة الخامسة: قال القاضي: قوله تعالى: * (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * يدل على أمور. أحدها: أن الهدى قد يثبت ولا اهتداء فلذلك قال: * (فمن تبع هداي) *. وثانيها: بطلان القول بأن المعارف ضرورية، وثالثها: أن باتباع الهدى تستحق الجنة، ورابعها: إبطال التقليد لأن المقلد لا يكون متبعا للهدى.
* (والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *
قوله تبارك وتعالى: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * لما وعد الله متبع الهدى بالأمن من العذاب والحزن عقبه بذكر من أعد له العذاب الدائم فقال: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) * سواء كانوا من الإنس أو من الجن فهم أصحاب العذاب الدائم.
وأما الكلام في أن العذاب هل يحسن أم لا وبتقدير حسنه فهل يحسن دائما أم لا؟ فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله: * (وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) * (البقرة: 7) وههنا آخر الآيات الدالة على النعم التي أنعم الله بها على جميع بني آدم وهي دالة على التوحيد من حيث إن هذه النعم أمور حادثة فلا بد لها من محدث وعلى النبوة من حيث إن محمدا صلى الله عليه وسلم أخبر عنها موافقا لما كان موجودا في التوراة والإنجيل من غير تعلم ولا تلمذة لأحد قدر وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلق هذه الأشياء ابتداء على خلقها إعادة وبالله التوفيق.
28

القول في النعم الخاصة ببني إسرائيل
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولا ثم عقبها بذكر الإنعامات العامة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصة على أسلاف اليهود كسرا لعنادهم ولجاجهم بتذكير النعم السالفة واستمالة لقلوبهم بسببها وتنبيها على ما يدل على نوبة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث كونها إخبارا عن الغيب. واعلم أنه سبحانه ذكرهم تلك النعم أولا على سبيل الإجمال فقال: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * وفرع على تذكيرها الأمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: * (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم) * ثم عقبها بذكر الأمور التي تمنعهم عن الإيمان به، ثم ذكرهم تلك النعم على سبيل الإجمال ثانيا بقوله مرة أخرى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * تنبيها على شدة غفلتهم، ثم أردف هذا التذكير بالترغيب البالغ بقوله: * (وأني فضلتكم على العالمين) * (البقرة: 41) مقرونا بالترهيب البالغ بقوله: * (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا) * (البقرة: 48) إلى آخر الآية. ثم شرع بعد ذلك في تعديد تلك النعم على سبيل التفصيل ومن تأمل وأنصف علم أن هذا هو النهاية في حسن الترتيب لمن يريد الدعوة وتحصيل الاعتقاد في قلب المستمع. وإذ قد حققنا هذه المقدمة فلنتكلم الآن في التفسير بعون الله.
* (يا بنى إسرءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم وإياي فرهبون) *
المسألة الأولى: اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ويقولون إن معنى إسرائيل عبد الله لأن " إسرا " في لغتهم هو العبد و " إيل " هو الله وكذلك جبريل وهو عبد الله وميكائيل عبد الله. قال القفال: قيل إن " إسرا " بالعبرانية في معنى إنسان فكأنه قيل رجل الله فقوله: * (يا بني إسرائيل) * خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب عليه السلام في أيام محمد صلى الله عليه وسلم. المسألة الثانية: حد النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، قالوا: وإنما زدنا هذا لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه
29

يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذم والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر بإنعامه والذم بمعصيته فلم لا يجوز ههنا أن يكون الأمر كذلك؟ ولنرجع إلى تفسير الحد فنقول: أما قولنا: المنفعة فلأن المضرة المحضة لا يجوز أن تكون نعمة، وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان فلأنه لو كان نفعا وقصد الفاعل نفع نفسه لا نفع المفعول به كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها أو أراد استدراجه إلى ضرر واختداعه كمن أطعم خبيصا مسموما ليهلكه لم يكن ذلك، نعمة فأما إذا كانت المنفعة مفعولة على قصد الإحسان إلى الغير كانت نعمة. إذا عرفت حد النعمة فلنفرع عليه فروعا: الفرع الأول: اعلم أن كل ما يصل إلينا آناء الليل والنهار في الدنيا والآخرة من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى: * (وما بكم من نعمة فمن الله) * (النحل: 53)، ثم إن النعمة على ثلاثة أوجه: أحدها: نعمة تفرد الله بها نحو أن خلق ورزق، وثانيها: نعمة وصلت إلينا من جهة غيره بأن خلقها وخلق المنعم ومكنه من الإنعام وخلق فيه قدرة الأنعام وداعيته ووفقه عليه وهداه إليه، فهذه النعمة في الحقيقة أيضا من الله تعالى، إلا أنه تعالى لما أجراها على يد عبده كان ذلك العبد مشكورا، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى، ولهذا قال: * (أن أشكر لي ولوالديك) * (لقمان: 14) فبدأ بنفسه، وقال عليه السلام: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس ". وثالثها: نعمة وصلت إلينا من الله تعالى بواسطة طاعاتنا وهي أيضا من الله تعالى لأنه لولا أنه سبحانه وتعالى وفقنا على الطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار وإلا لما وصلنا إلى شيء منها، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم من الله تعالى على ما قال سبحانه وتعالى: * (وما بكم من نعمة فمن
الله) *. الفرع الثاني: أن نعم الله تعالى على عبيده مما لا يمكن عدها وحصرها على ما قال: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (النحل: 18) وإنما لا يمكن ذلك لأن كل ما أودع فينا من المنافع واللذات التي ننتفع بها والجوارح والأعضاء التي نستعملها في جلب المنافع ودفع المضار وما خلق الله تعالى في العالم مما يلتذ به ويستدل على وجود الصانع وما وجد في العالم مما يحصل الانزجار برؤيته عن المعاصي مما لا يحصى عدده وكل ذلك منافع لأن المنفعة هي اللذة أو ما يكون وسيلة إلى اللذة وجميع ما خلق الله تعالى كذلك لأن كل ما يلتذ به نعمة وكل ما يلتذ به وهو وسيلة إلى دفع الضرر فهو كذلك والذي لا يكون جالبا للنفع الحاضر ولا دافعا للضرر الحاضر فهو صالح لأن يستدل به على الصانع الحكيم فيقع ذلك وسيلة إلى معرفته وطاعته وهما وسيلتان إلى اللذات الأبدية فثبت أن جميع مخلوقاته سبحانه نعم على العبيد، ولما كانت العقول قاصرة عن تعديد ما في أقل الأشياء من المنافع والحكم فكيف يمكن الإحاطة بكل ما في العالم من المنافع والحكم، فصح بهذا معنى قوله تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * فإن قيل: فإذا كانت النعم غير متناهية وما لا يتناهى لا يحصل العلم به في حق العبد فكيف أمر بتذكرها في قوله: * (اذكروا نعمتي التي أنعمت
30

عليكم) * والجواب أنها غير متناهية بحسب الأنواع والأشخاص إلا أنها متناهية بحسب الأجناس، وذلك يكفي في التذكير الذي يفيد العلم بوجود الصانع الحكيم. واعلم أنه لما ثبت أن استحقاق الحمد والثناء والطاعة لا يتحقق إلا على إيصال النعمة ثبت أنه سبحانه وتعالى هو المستحق لحمد الحامدين. ولهذا قال في ذم الأصنام: * (هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون) * (الشعراء: 72، 73) وقال تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم) * (الفرقان: 55) وقال: * (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى) * (يونس: 35). الفرع الثالث: أن أول ما أنعم الله به على عبيده هو أن خلقهم أحياء والدليل عليه قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون، هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (البقرة: 28، 29) إلى آخر الآية، وهذا صريح في أن أصل النعم الحياة لأنه تعالى أول ما ذكر من النعم فإنما ذكر الحياة ثم إنه تعالى ذكر عقيبها سائر النعم وأنه تعالى إنما ذكر المؤمنين ليبين أن المقصود من حياة الدنيا حياة الآخرة والثواب. وبين أن جميع ما خلق قسمان منتفع ومنتفع به، هذا قول المعتزلة. وقال أهل السنة: إنه سبحانه كما خلق المنافع خلق المضار ولا اعتراض لأحد عليه، ولهذا سمى نفسه " النافع الضار " ولا يسأل عما يفعل. الفرع الرابع: قالت المعتزلة: إن الله تعالى قد أنعم على المكلفين بنعمة الدنيا ونعمة الدين، وسوى بين الجميع في النعم الدينية والدنيوية، أما في النعم الدينية فلأن كل ما كان في المقدور من الألطاف فقد فعل بهم والذي لم يفعله فغير داخل في القدرة إذ لو قدر على لطف لم يفعله بالمكلف لبقي عذر المكلف، وأما في الدنيا فعلى قول البغداديين خاصة لأن عندهم يجب رعاية الأصلح في الدنيا وعند البصريين لا يجب. وقال أهل السنة: إن الله تعالى خلق الكافر للنار ولعذاب الآخرة ثم اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا؟ فمنهم من قال: هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدية إلى الضرر الدائم في الآخرة لم يكن ذلك نعمة على الكافر في الدنيا، فإن من جعل السم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما كان ذلك سبيلا إلى الضرر العظيم، ولهذا قال تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * (آل عمران: 178) ومنهم من قال: إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدين فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله، وهذا القول أصوب ويدل عليه وجوه. أحدها: قوله تعالى: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون، الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) * (البقرة: 21، 22) فنبه على أنه يجب على الكل طاعته لمكان هذه النعم وهي نعمة الخلق والرزق. ثانيها: قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) * (البقرة: 28) إلى آخره وذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم ولو لم يصل إليهم من الله تعالى شيء من النعم لما صح ذلك. وثالثها: قوله: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) * (البقرة: 47) وهذا نص صريح في أن الله تعالى أنعم على الكافر إذ المخاطب بذلك هم أهل الكتاب وكانوا من الكفار وكذا قوله: * (يا بني إسرائيل
31

اذكروا نعمتي) * إلى قوله: * (وإذ أنجيناكم) * وقوله: * (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) * (البقرة: 53). وكل ذلك عد للنعم على العبيد. ورابعها: قوله: * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) * (الأنعام: 6). وخامسها: قوله: * (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه) * (الأنعام: 63) إلى قوله: * (ثم أنتم تشركون) *. وسادسها: قوله: * (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون) * (الأعراف: 10) وقال في قصة إبليس: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * (الأعراف: 17)، ولو لم يكن عليهم من الله نعمة لما كان لهذا القول فائدة. وسابعها: قوله: * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض) * (الأعراف: 86) الآية، وقال حاكيا عن شعيب: * (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) * وقال حاكيا عن موسى: * (قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين) * (الأعراف: 140). وثامنها: قوله: * (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم) * (الأنفال: 53) وهذا صريح. وتاسعها: قوله: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق) * (يونس: 5). وعاشرها: قوله تعالى: * (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) *. الحادي عشر: قوله: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها) * إلى قوله: * (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) * (يونس: 21 - 23). الثاني عشر: قوله: * (وهو الذي جعل لكم الليل لباسا) * (الفرقان: 47). وقوله: * (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) * (يونس: 67). الثالث عشر: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار) * (إبراهيم: 28 - 29). الرابع عشر: * (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) * (إبراهيم: 32).
الخامس عشر: قوله تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) * (إبراهيم: 34) وهذا صريح في إثبات النعمة في حق الكفار.
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى العبارة. وذلك لأنه لا نزاع في أن هذه الأشياء أعني الحياة والعقل والسمع والبصر وأنواع الرزق والمنافع من الله تعالى إنما الخلاف في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المضار الأبدية هل يطلق في العرف عليها اسم النعمة أم لا؟ ومعلوم أن ذلك نزاع في مجرد عبارة، وأما الذي يدل على أن ما لا يلتذ به المكلف فهو تعالى إنما خلقه لينتفع به في الاستدلال على الصانع وعلى لطفه وإحسانه فأمور. أحدها: قوله تعالى في سورة أتى أمر الله: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) * فيبين تعالى أنه إنما بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولأجل الدعوة إلى وحدانيته والإيمان بتوحيده وعدله، ثم إنه تعالى قال: * (خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون، خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) * (النحل: 2 - 4) فبين أن حدوث العبد مع ما فيه من الكفر من أعظم الدلائل على وجود الصانع وهو انقلابه من حال إلى حال، من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن ينتهي من أخس أحواله
32

وهو كونه نطفة إلى أشرف أحواله وهو كونه خصيما مبينا، ثم ذكر بعد ذلك وجوه إنعامه فقال: * (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) * إلى قوله: * (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) * (النحل: 10) بين بذلك الرد على الدهرية وأصحاب الطبائع لأنه تعالى بين أن الماء واحد والتراب واحد ومع ذلك اختلفت الألوان والطعوم والروائح، ثم قال: * (وسخر لكم الليل والنهار) * (إبراهيم: 33) بين به الرد على المنجمين وأصحاب الأفلاك حيث استدل بحركاتها وبكونها مسخرة على طريقة واحدة على حدوثها فأثبت سبحانه وتعالى بهذه الآيات أن كل ما في العالم مخلوق لأجل المكلفين لأن كل ما في العالم مما يغاير ذات المكلف ليس يخلو من أن يلتذ به المكلف ويستروح إليه فيحصل له به سرور أو يتحمل عنه كلفة أو يحصل له به اعتبار نحو الأجسام المؤذية كالحيات والعقارب فيتذكر بالنظر إليها أنواع العقاب في الآخرة فيحترز منها ويستدل بها على المنعم الأعظم، فثبت أنه لا يخرج شيء من مخلوقاته عن هذه المنافع، ثم إنه سبحانه وتعالى نبه على عظم إنعامه بهذه الأشياء في آخر هذه الآيات فقال: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34). وثانيها: قوله تعالى: * (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله) * (النحل: 112) فنبه بذلك على أن كون النعمة واصلة إليهم يوجب أن يكون كفرانها سببا للتبديل، وثالثها: قوله في قصة قارون: * (وأحسن كما أحسن الله إليك) * (القصص: 77) وقال: * (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) * (لقمان: 20) وقال: * (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) * (الواقعة: 58) وقال: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * (يس: 14) (الرحمن: 16) على سبيل التكرير وكل ما في هذه السورة فهو من النعم، إما في الدين أو في الدنيا فهذا ما يتعلق بهذا الباب.
المسألة الثالثة: في النعم المخصوصة ببني إسرائيل قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكر بني إسرائيل بنعمه عليهم ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم بالمنعم فقال: * (فاذكروني أذكركم) * فدل ذلك على فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم.
واعلم أن نعم الله تعالى على بني إسرائيل كثيرة (أ) استنقذهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه وأبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض وتخليصهم من العبودية كما قال: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) * (القصص: 5، 6). (ب) جعلهم أنبياء وملوكا بعد أن كانوا عبيدا للقبط فأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم كما قال: * (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) * (الشعراء: 59) (ج) أنزل عليهم الكتب العظيمة التي ما أنزلها على أمة سواهم كما قال: * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) * (المائدة: 20). (د) روى هشام عن ابن عباس أنه قال: من نعمة الله تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون وظلل عليهم في التيه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه وأعطاهم الحجر الذي
33

كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاؤوا من الماء متى أرادوا فإذا استغنوا عن الماء رفعوه فاحتبس الماء عنهم وأعطاهم عمودا من النور ليضيء لهم بالليل وكانت رؤوسهم لا تتشعث وثيابهم لا تبلى. واعلم أنه سبحانه وتعالى إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه: أحدها: أن في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل والزبور. وثانيها: أن كثرة النعم توجب عظم المعصية فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. وثالثها: أن تذكير النعم الكثيرة يوجب الحياء عن إظهار المخالفة. ورابعها: أن تذكير النعم الكثيرة يفيد أن المنعم خصهم من بين سائر الناس بها ومن خص أحدا بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم لما قيل: إتمام المعروف خير من ابتدائه فكأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الآتية، وذلك الطمع مانع من إظهار المخالفة والمخاصمة. فإن قيل: هذه النعم ما كانت على المخاطبين بل كانت على آبائهم فكيف تكون نعما عليهم وسببا لعظم معصيتهم؟ والجواب من وجوه: أحدها: لولا هذه النعم على آبائهم لما بقوا فما كان يحصل هذا النسل فصارت النعم على الآباء كأنها نعم على الأبناء. وثانيها: أن الانتساب إلى الآباء وقد خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد. وثالثها: الأولاد متى سمعوا أن الله خص آباءهم بهذه النعم لمكان طاعتهم وإعراضهم عن الكفر والجحود رغب الولد في هذه الطريقة لأن الولد مجبول على التشبه بالأب في أفعال الخير فيصير هذا التذكير داعيا إلى الاشتغال بالخيرات والإعراض عن الشرور.
أما قوله تعالى: * (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * فاعلم أن العهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعا وذكروا في هذا العهد قولين: الأول: أن المراد منه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ببعض التكاليف دون بعض ثم فيه روايات. إحداها: أنه تعالى جعل تعريفه إياهم نعمه عهدا له عليهم من حيث يلزمهم القايم بشكرها كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق، وقوله: * (أوف بعهدكم) * أراد به الثواب والمغفرة. فجعل الوعد بالثواب شبيها بالعهد من حيث اشتراكهما في أنه لا يجوز الإخلال به. ثانيها: قال الحسن: المراد منه العهد الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل في قوله تعالى: * (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا، وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة
وآتيتم الزكاة) * إلى قوله: * (ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار) * (المائدة: 12) فمن وفى لله بعهده وفى الله له بعهده، وثالثها: وهو قول جمهور المفسرين أن المراد أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات ونهيتكم عنه من المعاصي أوف بعهدكم، أي أرضى عنكم وأدخلكم الجنة وهو الذي حكاه الضحاك عن ابن عباس وتحقيقه ما جاء في قوله تعالى: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) * إلى قوله تعالى: * (ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) * (التوبة: 111). القول الثاني: أن المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من وصف محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيبعثه على ما صرح بذلك في سورة المائدة بقوله: * (ولقد أخذ الله ميثاق بني
34

إسرائيل) * إلى قوله: * (لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار) * (المائدة: 12) وقال في سورة الأعراف: * (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) * (الأعراف: 156) وأما عهد الله معهم فهو أن ينجز لهم ما وعدهم من وضع ما كان عليهم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقهم، وقال: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق) * (آل عمران: 81) الآية. وقال: * (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) * (الصف: 6). وقال ابن عباس: إن الله تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به - أي بالقرآن - غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين، أجرا باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل، وأجرا باتباع ما جاء به محمد النبي الأمي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) * (القصص: 52) إلى قوله: * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) * (القصص: 54) وكان علي بن عيسى يقول تصديق ذلك في قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) * (الحديد: 28) وتصديقه أيضا فيما روى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران، ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران " بقي ههنا سؤالان:
السؤال الأول: لو كان الأمر كما قلتم فكيف يجوز من جماعتهم جحده؟ والجواب من وجهين: الأول: أن هذا العلم كان حاصلا عند العلماء بكتبهم لكن لم يكن لهم العدد الكثير فجاز منهم كتمانه. الثاني: أن ذلك النص كان نصا خفيا لا جليا فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه. السؤال الثاني: الشخص المبشر به في هذه الكتب إما أن يكون قد ذكر في هذه الكتب وقت خروجه ومكان خروجه وسائر التفاصيل المتعلقة بذلك أو لم يذكر شيء من ذلك، فإن كان ذلك النص نصا جليا واردا في كتب منقولة إلى أهل العلم بالتواتر فكان يمتنع قدرتهم على الكتمان وكان يلزم أن يكون ذلك معلوما بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين. وإن كان الثاني لم يدل ذلك النص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لاحتمال أن يقولوا: إن ذلك المبشر به سيجيء بعد ذلك على ما هو قول جمهور اليهود. والجواب أن الذين حملوا قوله تعالى: * (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * على الأمر بالتأمل في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة على ما شرحناه في القول الأول إنما اختاروه لقوة هذا السؤال، فأما من أراد أن ينصر القول الثاني فإنه يجيب عنه بأن تعيين الزمان والمكان لم يكن منصوصا عليه نصا جليا يعرفه كل أحد بل كان منصوصا
35

عليه نصا خفيا فلا جرم لم يلزم أن يعلم ذلك بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين عليهم السلام ولنذكر الآن بعض ما جاء في كتب الأنبياء المتقدمين من البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم، فالأول: جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك (من قبل) الله فقال لها يا هاجر أين تريدين ومن أين أقبلت؟ قالت: أهرب من سيدتي سارة فقال لها: ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن الله سيكثر زرعك وذريتك وستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه إسماعيل من أجل أن الله سمع تبتلك وخشوعك وهو يكون عين الناس وتكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع وهو يشكر على رغم جميع إخوته.
واعلم أن الاستدلال بهذا الكلام أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة وليس يجوز أن يبشر الملك من قبل الله بالظلم والجور وبأمر لا يتم إلا بالكذب على الله تعالى ومعلوم أن إسماعيل وولده لم يكونوا متصرفين في الكل أعني في معظم الدنيا ومعظم الأمم ولا كانوا مخالطين للكل على سبيل الاستيلاء إلا بالإسلام لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف، فلما جاء الإسلام استولوا على الشرق والغرب بالإسلام ومازجوا الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة، فلو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم صادقا لكانت هذه المخالطة منهم للأمم ومن الأمم لهم معصية لله تعالى وخروجا عن طاعته إلى طاعة الشيطان والله يتعالى عن أن يبشر بما هذا سبيله. والثاني: جاء في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: " إن الرب إلهكم يقيم لكم نبيا مثلي من بينكم ومن إخوانكم "، وفي هذا الفصل أن الرب تعالى قال لموسى: " إني مقيم لهم نبيا مثلك من بين إخوانهم وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي أنا أنتقم منه ". وهذا الكلام يدل على أن النبي الذي يقيمه الله تعالى ليس من بني إسرائيل كما أن من قال لبني هاشم: إنه سيكون من إخوانكم إمام، عقل أنه لا يكون من بني هاشم، ثم إن يعقوب عليه السلام هو إسرائيل ولم يكن له أخ إلا العيص ولم يكن للعيص ولد من الأنبياء سوى أيوب وإنه كان قبل موسى عليه السلام فلا يجوز أن يكون موسى عليه السلام مبشرا به، وأما إسماعيل فإنه كان أخا لإسحاق والد يعقوب ثم إن كل نبي بعث بعد موسى كان من بني إسرائيل، فالنبي عليه السلام ما كان منهم لكنه كان من إخوانهم لأنه من ولد إسماعيل الذي هو أخو إسحق عليهم السلام. فإن قيل قوله: " من بينكم " يمنع من أن يكون المراد محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقم من بين بني إسرائيل. قلنا: بل قد قام من بينهم لأنه عليه السلام ظهر بالحجاز فبعث بمكة وهاجر إلى المدينة وبها تكامل أمره. وقد كان حول المدينة بلاد اليهود كخيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم، وأيضا فإن الحجاز يقارب الشام وجمهور اليهود كانوا إذ ذاك بالشام، فإذا قام محمد
بالحجاز فقد قام من بينهم، وأيضا فإنه إذا كان من إخوانهم فقد قام من بينهم فإنه ليس ببعيد منهم. والثالث: قال في الفصل العشرين من هذا السفر: " إن
36

الرب تعالى جاء في طور سيناء وطلع لنا من ساعير وظهر من جبال فاران وصف عن يمينه عنوان القديسين فمنحهم العز وحببهم إلى الشعوب ودعا لجميع قديسيه بالبركة، وجه الاستدلال: أن جبل فاران هو بالحجاز لأن في التوراة أن إسماعيل تعلم الرمي في برية فاران، ومعلوم أنه إنما سكن بمكة. إذا ثبت هذا فنقول: إن قوله: " فمنحهم العز " لا يجوز أن يكون المراد إسماعيل عليه السلام لأنه لم يحصل عقيب سكنى إسماعيل عليه السلام هناك عز ولا اجتمع هناك ربوات القديسين فوجب حمله على محمد عليه السلام. قالت اليهود: المراد أن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير نار أيضا ومن جبل فاران أيضا فانتشرت في هذه المواضع قلنا هذا لا يصح لأن الله تعالى لو خلق نارا في موضع فإنه لا يقال جاء الله من ذلك إذا تابع ذلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة وما أشبه ذلك. وعندكم أنه لم يتبع ظهور النار وحي ولا كلام إلا من طور سيناء فما كان ينبغي إلا أن يقال ظهر من ساعير ومن جبل فاران فلا يجوز وروده كما لا يقال جاء الله من الغمام إذا ظهر في الغمام احتراق ونيران كما يتفق ذلك في أيام الربيع، وأيضا ففي كتاب حقوق بيان ما قلنا وهو جاء الله من طور سيناء والقدس من جبل فاران، وانكشفت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده. يكون شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعزه تسير المنايا أمامه ويصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض وتأمل الأمم وبحث عنها فتضعضعت الجبال القديمة واتضعت الروابي والدهرية، وتزعزعت ستور أهل مدين وركبت الخيول، وعلوت مراكب الانقياد والغوث وستنزع في قسيك إغراقا ونزعا وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء وتخور الأرض بالأنهار، ولقد رأتك الجبال فارتاعت وانحرف عنك شؤبوب السيل ونفرت المهاري نفيرا ورعبا ورفعت أيديها وجلا وفرقا وتوقفت الشمس والقمر عن مجراهما وسارت العساكر في برق سهامك ولمعان بيانك تدوخ الأرض غضبا وتدوس الأمم زجرا لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ تراب آبائك ". هكذا نقل عن ابن رزين الطبري. أما النصارى فقال أبو الحسين رحمه الله في كتاب الغرر قد رأيت في نقولهم: " وظهر من جبال فاران لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود وترتوي السهام بأمرك المحمود لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ مسيحك "، فظهر بما ذكرنا أن قوله تعالى في التوراة: " ظهر الرب من جبال فاران " ليس معناه ظهور النار منه بل معناه ظهور شخص موصوف بهذه الصفات وما ذاك إلا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قالوا المراد مجيء الله تعالى ولهذا قال في آخر الكلام: " وإنقاذ مسيحك " قلنا لا يجوز وصف الله تعالى بأنه يركب الخيول وبأن شعاع منظره مثل النور وبأنه جاز المشاعر القديمة، أما قوله: (وإنقاذ مسيحك) فإن محمدا عليه السلام أنقذ المسيح من كذب اليهود والنصارى. والرابع: ما جاء في كتاب أشعياء في الفصل الثاني والعشرين منه: " قومي فأزهري مصباحك، يريد مكة، فقد دنا وقتك وكرامة الله تعالى طالعة عليك فقد تجلل الأرض الظلام وغطى على الأمم الضباب والرب يشرق عليك إشراقا ويظهر كرامته
37

عليك تسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك وارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم مستجمعون عندك ويحجونك ويأتيك ولدك من بلد بعيد لأنك أم القرى فأولاد سائر البلاد كأنهم أولاد مكة وتتزين ثيابك على الأرائك والسرر حين ترين ذلك تسرين وتبتهجين من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر ويحج إليك عساكر الأمم ويساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ ويتحدثون بنعم الله ويمجدونه وتسير إليك أغنام فاران ويرفع إلى مذبحي ما يرضيني وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمدا ". فوجه الاستدلال أن هذه الصفات كلها موجودة لمكة فإنه قد حج إليها عساكر الأمم ومال إليها ذخائر البحر وقوله: " وأحدث لبيت محمدتي حمدا " معناه أن العرب كانت تلبي قبل الإسلام فتقول لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكة وما ملك، ثم صار في الإسلام: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، فهذا هو الحمد الذي جدده الله لبيت محمدته. فإن قيل المراد: بذلك بيت المقدس وسيكون ذلك فيما بعد. قلنا لا يجوز أن يقول الحكيم: " قد دنا وقتك " مع أنه ما دنا بل الذي دنا أمر لا يوافق رضاه ومع ذلك لا يحذر منه وأيضا فإن كتاب أشعياء مملوء من ذكر البادية وصفتها، وذلك يبطل قولهم. والخامس: روى السمان في تفسيره في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام قال: " قد أجبت دعاك في إسماعيل وباركت عليه فكبرته وعظمته جدا جدا وسيلد اثني عشر عظيما واجعله لأمة عظيمة " والاستدلال به أنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان كان لأمة عظيمة غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأما دعاء إبراهيم عليه السلام وإسماعيل فكان لرسولنا عليه الصلاة والسلام لما فرغا من بناء الكعبة وهو قوله: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) * (البقرة: 129) ولهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام: " أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى " وهو قوله: * (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) * (الصف: 6) فإنه مشتق من الحمد والاسم المشتق من الحمد ليس إلا لنبينا فإن اسمه محمد وأحمد ومحمود. قيل إن صفته في التوراة أن مولده بمكة ومسكنه بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون. والسادس: قال المسيح للحواريين: " أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول كما يقال له " وتصديق ذلك: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * (الأنعام: 50) وقوله: * (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحي إلي) * (يونس: 15) أما " الفارقليط " ففي تفسيره وجهان: أحدهما أنه الشافع المشفع وهذا أيضا صفته عليه الصلاة والسلام، الثاني: قال بعض النصارى: الفارقليط هو الذي يفرق بين الحق والباطل وكان في الأصل فاروق كما يقال راووق للذي يروق به وأما " ليط " فهو التحقيق في الأمر كما يقال شيب أشيب ذو شيب وهذا أيضا صفة شرعنا لأنه هو الذي يفرق بين الحق والباطل. والسابع: قال دانيال لبختنصر حين سأله عن الرؤيا التي كان رآها من غير أن قصها عليه: رأيت أيها الملك منظرا هائلا رأسه من الذهب الأبريز وساعده من الفضة وبطنه وفخذاه من نحاس وساقاه من حديد وبعضها
38

من خزف ورأيت حجرا يقطع من غير قاطع وصك رجل ذلك الصنم ودقها دقا شديدا فتفتت الصنم كله حديده ونحاسه وفضته وذهبه وصارت رفاتا وعصفت بها الرياح فلم يوجد لها أثر وصار ذلك الحجر الذي صك ذلك الرجل من ذلك الصنم جبلا عاليا امتلأت به الأرض فهذا رؤياك أيها الملك. وأما تفسيرها فأنت الرأس الذي رأيته من
الذهب ويقوم بعدك مملكة أخرى دونك والمملكة الثالثة التي تشبه النحاس تنبسط على الأرض كلها، والمملكة الرابعة تكون قوتها مثل الحديد، وأما الرجل التي كان بعضها من خزف فإن بعض المملكة يكون عزيزا وبعضها يكون ذليلا وتكون كلمة الملك متفرقة ويقيم إله السماء في تلك الأيام مملكة أبدية لا تتغير ولا تزول وإنها تزيل جميع الممالك وسلطانها يبطل جميع السلاطين وتقوم هي إلى الدهر الداهر فهذا تفسير الحجر الذي رأيت أنه يقطع من جبل بلا قاطع حتى دق الحديد والنحاس والخزف والله أعلم بما يكون في آخر الزمان. فهذه هي البشارات الواردة في الكتب المتقدمة بمبعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
أما قوله تعالى: * (أوف بعهدكم) * فقالت المعتزلة: ذلك العهد هو ما دل العقل عليه من أن الله تعالى يجب عليه إيصال الثواب إلى المطيع وصح وصف ذلك الوجوب بالعهد لأنه بحيث يجب الوفاء به فكان ذلك أوكد من العهد بالإيجاب بالنذر واليمين: وقال أصحابنا: إنه لا يجب للعبد على الله شيء، وفي هذه الآية ما يدل على ذلك لأنه تعالى لما قدم ذكر النعم، ثم رتب عليه الأمر بالوفاء بالعهد دل على أن تلك النعم السالفة توجب عهد العبودية، وإذا كان كذلك كان أداء العبادات أداء لما وجب بسبب النعم السالفة وأداء الواجب لا يكون سببا لواجب آخر، فثبت أن أداء التكاليف لا يوجب الثواب فبطل قول المعتزلة بل التفسير الحق من وجهين: الأول: أنه تعالى لما وعد بالثواب وكل ما وعد به استحال أن لا يوجد، لأنه لو لم يوجد لانقلب خبره الصدق كذبا والكذب عليه محال، والمفضي إلى المحال محال فكان ذلك واجب الوقوع فكان ذلك آكد مما ثبت باليمين والنذر، الثاني: أن يقال العهد هو الأمر والعبد يجوز أن يكون مأمورا إلا أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مأمورا لكنه سبحانه وتعالى جرى في ذلك على موافقة اللفظ كقوله: * (يخادعون الله وهو خادعهم) * (النساء: 142)، * (ومكروا ومكر الله) * (آل عمران: 54) وأما قوله: * (وإياي فارهبون) * فاعلم أن الرهبة هي الخوف قال المتكلمون: الخوف منه تعالى هو الخوف من عقابه وقد يقال في المكلف إنه خائف على وجهين: أحدهما: مع العلم والآخر مع الظن، أما العلم فإذا كان على يقين من أنه أتى بكل ما أمر به واحترز عن كل ما نهى عنه فإن خوفه إنما يكون عن المستقبل وعلى هذا نصف الملائكة والأنبياء عليهم السلام بالخوف والرهبة. قال تعالى: * (يخافون ربهم من فوقهم) * (النحل: 50) وأما الظن فإذا لم يقطع بأنه فعل المأمورات واحترز عن المنهيات فحينئذ يخاف أن لا يكون من أهل الثواب، واعلم أن كل من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس. روى: " أنه ينادي مناد يوم القيامة وعزتي وجلالي إني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ومن خافني في الدنيا أمنته يوم
39

القيامة " وقال العارفون: الخوف خوفان خوف العقاب وخوف الجلال، والأول: نصيب أهل الظاهر، والثاني: نصيب أهل القلب، والأول: يزول، والثاني: لا يزول. واعلم أن في الآية دلالة على أن كثرة النعم تعظم المعصية، ودلالة على ما تقدم العهد يعظم المخالفة ودلالة على أن الرسول كما كان مبعوثا إلى العرب كان مبعوثا إلى بني إسرائيل. وقوله: * (وإياي فارهبون) * يدل على أن المرء يجب أن لا يخاف أحدا إلا الله تعالى، وكما يجب ذلك في الخوف فكذا في الرجاء والأمل وذلك يدل على أن الكل بقضاء الله وقدره إذ لو كان العبد مستقلا بالفعل لوجب أن يخاف منه كما يخاف من الله تعالى وحينئذ يبطل الحصر الذي دل عليه قوله تعالى: * (وإياي فارهبون) * بل كان يجب أن لا يرهب إلا نفسه، لأن مفاتيح الثواب والعقاب بيده لا بيد الله تعالى فوجب أن لا يخاف إلا نفسه وأن لا يخاف إلا نفسه وأن لا يخاف الله البتة، وفيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء وأن ذلك لا بد منه في صحتها والله أعلم.
* (وءامنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياى فتقون) *
اعلم أن المخاطبين بقوله: * (وآمنوا) * هم بنوا إسرائيل ويدل عليه وجهان. الأول: أنه معطوف على قوله: * (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * كأنه قيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي وآمنوا بما أنزلت. الثاني: أن قوله تعالى: * (مصدقا لما معكم) * يدل على ذلك.
أما قوله: * (بما أنزلت) * ففيه قولان، الأقوى أنه القرآن وعليه دليلان. أحدهما: أنه وصفه بكونه منزلا وذلك هو القرآن لأنه تعالى قال:
* (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) * (آل عمران: 3). والثاني: وصفه بكونه مصدقا لما معهم من الكتب وذلك هو القرآن. وقال قتادة: المراد * (آمنوا بما أنزلت) * من كتاب ورسول تجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل. أما قوله: * (مصدقا لما معكم) * ففيه تفسيران: أحدهما: أن في القرآن أن موسى وعيسى حق وأن التوراة والإنجيل حق وأن التوراة أنزلت على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام فكان الإيمان بالقرآن مؤكدا للإيمان بالتوراة والإنجيل فكأنه قيل لهم: إن كنتم تريدون المبالغة في الإيمان بالتوراة والإنجيل فآمنوا بالقرآن فإن الإيمان به يؤكد الإيمان بالتوراة والإنجيل. والثاني: أنه حصلت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن في التوراة والإنجيل فكأن الإيمان بمحمد وبالقرآن تصديقا للتوراة والإنجيل، وتكذيب محمد والقرآن تكذيبا للتوراة
40

والإنجيل، وهذا التفسير أولى لأن على التفسير الأول لا يلزم الإيمان بمحمد عليه السلام لأنه بمجرد كونه مخبرا عن كون التوراة والإنجيل حقا لا يجب الإيمان بنبوته: أما على التفسير الثاني يلزم الإيمان به لأن التوراة والإنجيل إذا اشتملا على كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقا فالإيمان بالتوراة والإنجيل يوجب الإيمان بكون محمد صادقا لا محالة، ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة عليهم في وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فثبت أن هذا التفسير أولى. واعلم أن هذا التفسير الثاني يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من وجهين: الأول: أن شهادة كتب الأنبياء عليهم السلام لا تكون إلا حقا، والثاني: أنه عليه السلام أخبر عن كتبهم ولم يكن له معرفة بذلك إلا من قبل الوحي. أما قوله: * (ولا تكونوا أول كافر به) * فمعناه أول من كفر به أو أول فريق أو فوج كافر به أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به. ثم فيه سؤالان: الأول: كيف جعلوا أول من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب؟ والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ولأنهم كانوا هم المبشرون بزمان محمد صلى الله عليه وسلم والمستفتحون على الذين كفروا به فلما بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) *. (البقرة: 89). وثانيها: يجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من
أهل مكة، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة والإنجيل مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له. وثالثها: ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل وإن كانت قريش كفروا به قبل ذلك. ورابعها: ولا تكونوا أول كافر به، يعني بكتابكم يقول ذلك ولعلمائهم: أي كذب لا تكونوا أول أحد من أمتكم كذلك كتابكم لأن تكذيبكم بمحمد صلى الله عليه وسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم. وخامسها: أن المراد منه بيان تغليظ كفرهم وذلك لأنهم لما شاهدوا المعجزات الدالة على صدقه عرفوا البشارات الواردة في التوراة والإنجيل بمقدمه فكان كفرهم أشد من كفر من لم يعرف إلا نوعا واحدا من الدليل والسابق إلى الكفر يكون أعظم ذنبا ممن بعده لقوله عليه السلام: " من سن سيئة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها " فلما كان كفرهم عظيما وكفر من كان سابقا في الكفر عظيما فقد اشتركا من هذا الوجه فصح إطلاق اسم أحدهما على الآخر على سبيل الاستعارة. وسادسها: المعنى ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة لأن كفر قريش كان مع الجهل لا مع المعرفة. وسابعها: أول كافر به من اليهود لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبها قريظة والنضير فكفروا به ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر فكأنه قيل: أول من كفر به من أهل الكتاب وهو كقوله: * (وأني فضلتكم على العالمين) * (البقرة: 47، 122) أي على عالمي زمانهم. وثامنها: ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم بذكره بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه، وتاسعها: أن لفظ: " أول " صلة والمعنى ولا تكونوا كافرين به، وهذا ضعيف، السؤال
41

الثاني: أنه كان يجوز لهم الكفر إذ لم يكونوا أولا، والجواب من وجوه: أحدها: أنه ليس في ذكر تلك الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه، وثانيها: أن في قوله: * (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم) * دلالة على أن كفرهم أولا وآخرا محظور، وثالثها: أن قوله: * (رفع السماوات بغير عمد ترونها) * (الرعد: 2) لا يدل على وجود عمد لا يرونها. وقوله: * (وقتلهم الأنبياء بغير حق) * (النساء: 155) لا يدل على وقوع قتل الأنبياء بحق. وقوله: عقيب هذه الآية: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير، فكذا ههنا، بل المقصود من هذه السياقة استعظام وقوع الجحد والإنكار ممن قرأ في الكتب نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم صفته. ورابعها: قال المبرد: هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم فقيل لهم لا تكفروا بمحمد فإنه سيكون بعدكم الكفار فلا تكونوا أنتم أول الكفار لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإثم وذلك لأنهم إذا سبقوا إلى الكفر فإما أن يقتدي بهم غيرهم في ذلك الكفر أو لا يكون كذلك. فإن اقتدى بهم غيرهم في ذلك الكفر كان لهم وزر ذلك الكفر ووزر كل من كفر إلى يوم القيامة، وإن لم يقتد بهم غيرهم اجتمع عليهم أمران، أحدهما: السبق إلى الكفر، والثاني: التفرد به، ولا شك في أنه منقصة عظيمة، فقوله: * (ولا تكونوا أول كافر به) * إشارة إلى هذا المعنى.
أما قوله: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * فقد بينا في قوله: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * (البقرة: 16)، أن الاشتراء يوضع موضع الاستبدال فكذا الثمن يوضع موضع البدل عن الشيء، والعوض عنه، فإذا اختير على ثواب الله شيء من الدنيا فقد جعل ذلك الشيء ثمنا عند فاعله. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا وعلموا أنهم لو اتبعوا محمدا لانقطعت عنهم تلك الهدايا، فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقر، وذلك لأن الدنيا كلها بالنسبة إلى الدين قليلة جدا فنسبتها إليه نسبة المتناهي إلى غير المتناهي، ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلة بالنسبة إلى الدنيا، فالقليل جدا من القليل جدا أي نسبة له إلى الكثير الذي لا يتناهى؟ واعلم أن هذا النهي صحيح سواء كان فيهم من فعل ذلك أو لم يكن، بل لو ثبت أن علماءهم كانوا يأخذون الرشا على كتمان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتحريف ما يدل على ذلك من التوراة كان الكلام أبين، وأما قوله: * (وإياي فاتقون) * فيقرب معناه مما تقدم من قوله: * (وإياي فارهبون) * والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف، وأما الاتقاء فإنما يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقي منه فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم.
* (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) *
42

أعلم أن قوله سبحانه * (وآمنوا بما أنزلت) * أمر بترك الكفر والضلال وقوله: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل) * أمر بترك الإغراء والإضلال، واعلم أن إضلال الغير لا يحصل إلا بطريقين، وذلك لأن ذلك الغير إن كان قد سمع دلائل الحق فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش تلك الدلائل عليه وإن كان ما سمعها فإضلاله إنما يمكن بإخفاء تلك الدلائل عنه ومنعه من الوصول إليها. فقوله: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل) * إشارة إلى القسم الأول وهو تشويش الدلائل عليه وقوله: * (وتكتموا الحق) * إشارة إلى القسم الثاني وهو منعه من الوصول إلى الدلائل، واعلم أن الأظهر في الباء التي في قوله: * (بالباطل) * أنها باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم والمعنى ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد عليكم كانت نصوصا خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات، فهذا هو المراد بقوله: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل) * فهو المذكور في قوله: * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) * (غافر: 5). أما قوله: * (وأنتم تعلمون) * أي تعلمون ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة، وذلك لأن ذلك التلبيس صار صارفا للخلق عن قبول الحق إلى يوم القيامة وداعيا لهم إلى الاستمرار على الباطل إلى يوم القيامة ولا شك في أن موقعه عظيم، وهذا الخطاب وإن ورد فيهم، فهو تنبيه لسائر الخلق وتحذير من مثله فصار الخطاب وإن كان خاصا في الصورة لكنه عام في المعنى، ثم ههنا بحثان:
البحث الأول: قوله: * (وتكتموا الحق) * جزم داخل تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا أو منصوب بإضمار أن.
البحث الثاني: أن النهي عن اللبس والكتمان وإن تقيد بالعلم فلا يدل على جوازهما حال عدم العلم، وذلك لأنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أ وباطل، وما لا يعرف كونه حقا أو باطلا لا يجوز الإقدام عليه بالنفي ولا بالإثبات، بل يجب التوقف فيه، وسبب ذلك التقييد أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه
ضارا أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضارا، فلما كانوا عالمين بما في التلبيس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح، والآية دالة على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه والله أعلم.
* (وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واركعوا مع الراكعين * أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون * واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه رجعون * يا بنى إسرءيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين) *
اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما أمرهم بالإيمان أولا ثم نهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمان دلائل النبوة ثانيا، ذكر بعد ذلك بيان ما لزمهم من الشرائع وذكر من جملة الشرائع ما كان كالمقدم
43

والأصل فيها وهو الصلاة التي هي أعظم العبادات البدنية والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية وههنا مسائل:
المسألة الأولى: القائلون بأنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قالوا إنما جاء الخطاب في قوله: * (وأقيموا الصلاة) * بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم وصف لهم أركان الصلاة وشرائطها فكأنه تعالى قال: وأقيموا الصلاة التي عرفتموها والقائلون بجواز التأخير قالوا: يجوز أن يراد الأمر بالصلاة وإن كانوا لا يعرفون أن الصلاة ما هي ويكون المقصود أن يوطن السامع نفسه على الامتثال وإن كان لا يعلم أن المأمور به ما هو كما أنه لا نزاع في أن يحسن من السيد أن يقول لعبده: إني آمرك غدا بشيء فلا بد وأن تفعله ويكون غرضه منه بأن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني.
المسألة الثانية؛ قالت المعتزلة: الصلاة من الأسماء الشرعية قالوا: لأنها أمر حدث في الشرع فاستحال أن يكون الاسم الموضوع قد كان حاصلا قبل الشرع، ثم اختلفوا في وجه التشبيه فقال بعضهم: أصلها في اللغة الدعاء قال الأعشى:
عليك مثل الذي صليت فاعتصمي * عينا فإن لجنب المرء مضطجعا
وقال آخر: وقابلها الريح في دنها * وصلى على دنها وارتسم
وقال بعضهم: الأصل فيها اللزوم قال الشاعر:
لم أكن من جناتها علم الله * وإني بحرها اليوم صالي
أي ملازم، وقال آخرون: بل هي مأخوذة من المصلي وهو الفرس الذي يتبع غيره. والأقرب أنها مأخوذة من الدعاء إذ لا صلاة إلا ويقع فيها الدعاء أو ما يجري مجراه، وقد تكون صلاة ولا يحصل فيها متابعة الغير وإذا حصل في وجه التشبيه ما عم كل الصور كان أولى أن يجعل وجه التشبيه شيئا يختص ببعض الصور. وقال أصحابنا من المجازات المشهورة في اللغة إطلاق اسم الجزء على الكل ولما كانت الصلاة الشرعية مشتملة على الدعاء لا جرم أطلق اسم الدعاء عليها على سبيل المجاز، فإن كان مراد المعتزلة من كونها اسما شرعيا هذا. فذلك حق وإن كان المراد أن الشرع ارتجل هذه اللفظة ابتداء لهذا المسمى فهو باطل وإلا لما كانت هذه اللفظة عربية، وذلك ينافي قوله تعالى: * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) * (يوسف: 20) أما الزكاة فهي في اللغة عبارة عن النماء، يقال: زكا الزرع إذا نما، وعن التطهير قال الله تعالى: * (أقتلت نفسا زكية) * (الكهف: 74) أي طاهرة. وقال: * (قد أفلح من تزكى) * (الأعلى: 14) أي تطهر وقال: * (ولولا فضل الله علكيم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) * (النور: 21) وقال: * (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه) * (فاطر: 18) أي تطهر بطاعة الله، ولعل إخراج نصف دينار من عشرين دينارا سمي بالزكاة تشبيها بهذين الوجهين، لأن في إخراج ذلك القدر تنمية للبقية من حيث البركة فإن الله يرفع البلاء عن ذلك المال بسبب تزكية
44

تلك العطية فصار ذلك الإعطاء نماء في المعنى وإن كان نقصانا في الصورة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالصدقة فإن فيها ست خصال، ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة، فأما التي في الدنيا فتزيد في الرزق وتكثر المال وتعمر الديار، وأما التي في الآخرة فتستر العورة وتصير ظلا فوق الرأس وتكون سترا في النار ". ويجوز أن تسمى الزكاة بالوجه الثاني من حيث إنها تطهر
مخرج الزكاة عن كل الذنوب، ولهذا قال تعالى لنبيه: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)
(المسألة الثالثة) قوله تعالى ((أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) خطاب مع اليهود وذلك يدل
على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. أما قوله تعالى (واركعوا مع الراكعين) ففيه
وجوه أحدها: أن اليهود لا ركوع في صلاتهم فخص الله الركوع بالذكر تحريضا لهم على الاتيان
بصلاة المسلمين، وثانيها: أن المراد صلوا مع المصلين، وعلى هذا يزول التكرار لأن في الأول
أمر الامر بالخضوع لان الركوع والخضوع في اللغة سواء. فيكون نهيا عن الاستكبار المذموم
وأمرا بالتذلل كما قال للمؤمنين (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزه على
الكافرين) وكقوله تأديبا لرسوله عليه السلام (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) وكمدحه
له بقوله (فيما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) وهكذا
في قوله تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون) فكأنه تعالى لما أمرهم بالصلاة والزكاة أمرهم بعد ذلك بالانقياد والخضوع وترك
التمرد. وحكى الأصم عن بعضهم أنه إنما أمر الله تعالى بني إسرائيل بالزكاة لانهم كانوا لا يؤتون
الزكاة وهو المراد بقوله تعالى (وأكلهم السحت) وبقوله (وأكلهم الربا وأكلهم أموال الناس
بالباطل) فأظهر الله تعالى في هذا الموضع ما كان مكتوما ليحذروا أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)
اعلم أن الهمزة في أتأمرون الناس بالبر للتقرير مع التقريع والتعجب من حالهم، وأما البر
فهو اسم جامع الأعمال الخير، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما، ومنه عمل مبرور، أي قد
رضيه الله تعالى وقد يكون بمعنى الصدق كما يقال بر في يمينه أي صدق ولم يحنث، ويقال صدقت
وبررت، وقال تعالى (ولكن البر من اتقى) فأخبر أن البر جامع للتقوى، واعلم أنه سبحانه
مآخذ آخر، وهو أن التغافل عن اعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول، إذ
45

المقصود من أمر الناس بذلك إما النصيحة أو الشفقة، وليس من العقل أن يشفق الانسان على
غيره أو أن ينصح غيره ويهمل نفسه فحذرهم الله تعالى من ذلك بأن قرعهم بهذا الكلام.
واختلفوا في المراد بالبر في هذا الموضع على وجوه، أحدها: وهو قول السدى أنهم كانوا
يأمرون الناس بطاعته الله ويهونهم عن معصية الله، وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على
المعصية، وثانيها: قول ابن جريج أنهم كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة وهم كانوا يتركونهما
وثالثهما: أنه إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد صلى الله عليه وسلم قالوا هو صادق فيما
يقول وأمره حق فاتبعوه، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهدايا والصلات التي كانت تصل إليهم
من أتباعهم، ورابعها: أن جماعة من اليهود كانوا قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرون
مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق وكانوا يرغبونهم في اتباعه فلما بعث الله
محمدا حسدوه وكفروا به، فبكتهم الله تعالى بسبب أنهم كانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره
فلما ظهر تركوه وأعرضوا عن دينه، وهذا اختيار أبى مسلم، وخامسها: وهو قول الزجاج أنهم
كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة، وكانوا يشحون بها لان الله تعالى وصفهم بقساوة القلوب
وأكل الربا والسحت، وسادسها: لعل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباع محمد صلى الله
عليه وسلم في الظاهر، ثم إنهم كانوا في قلوبهم منكرين له فوبخهم الله تعالى عليه، وسابعها. أن
اليهود صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم ما آمنوا به، أما قوله (وتنسون أنفسكم) فالنسيان عبارة عن
السهو الحادث بعد حصول العلم والناسي غير مكلف ومن لا يكون مكلفا لا يجوز أن يذمه الله
تعالى على ما صدر منه فالمراد بقوله (وتنسون أنفسكم) أنكم تغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون
عما لها فيه من النفع، أما قوله (وأنتم تتلون أنفسكم) فمعناه تقرأون التوراة وتدرسونها
وتعلمون بما فيها من الحث على أفعال البر والاعراض عن أفعال الاثم. وأما قوله (أفلا
تعقلون) فهو تعجب للعقلاء من أفعالهم ونظيره قوله تعالى (أف لكم ولما تعبدون من دون
تعقلون) وسبب التعجب وجوه، الأول: أن المقصود من الامر بالمعروف والنهى عن
المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة، والاحسان إلى النفس أولى
من الاحسان إلى الغير وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل
متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال (أفلا تعقلون) الثاني: أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم
يتعظ صار ذلك الوعظ سببا لرغبة الناس في المعصية لان الناس يقولون إنه مع هذا العلم لولا أنه
مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات وإلا لما أقدم على المعصية فيصير هذا داعيا لهم إلى
التهاون بالدين والجراءة على المعصية فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية ثم أتى بفعل
يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء، فلهذا قال
46

(أفلا تعقلون) (الثالث) أن من وعظ فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذا في القلوب. والاقدام
على المعصية مما ينفر القلوب عن القبول، فمن وعظ كان غرضه أن يصير وعظه مؤثرا في القلوب،
ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثرا في القلوب فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء،
ولهذا قال على رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك. وبقى ههنا مسائل:
(المسألة الأولى) قال بعضهم: ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر واحتجوا
بالآية والمعقول، أما الآية فقوله (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) ولا شك أنه تعالى ذكر
ذلك في معرض الذم، وقال أيضا (لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)
وأما المعقول فهو أن ذلك مستنكر. والجواب: أن المكلف مأمور بشين، أحدهما: ترك المعصية
والثاني: منع الغير عن فعل المعصية والاخلال بأحد التكليفين لا يقتضى الاخلال بالآخر أما قوله
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) فهو نهى عن الجمع بينهما والنهى عن الجمع بين الشيئين
يصح حمله على وجهين (أحدهما) أن يكون المراد هو النهى عن نسيان النفس مطلقا (والآخر)
الآية هو الأول لا الثاني. وعلى هذا التقدير يسقط قول هذا الخصم، وأما المعقول الذي
ذكره في لؤمهم.
(المسألة الثانية) احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن فعل العبد غير مخلوق لله عز وجل فقالوا:
قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) إنما يصح ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم،
فأما إذا كان مخلوقا فيهم على سبيل الاضطرار فان ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود: لم
لا تبيض؟ لما كان السواد مخلوقا فيه. والجواب: أن قدرته لما صلحت للضدين فإن حصل أحد الضدين
دون الآخر لا لمرجح كان ذلك محض الاتفاق، والامر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه. وإن حصل
المرجح فان كان ذلك المرجح منه عاد البحث فيه، وإن حصل من الله تعالى فعند حصوله يصير ذلك
الطرف راجحا والآخر مرجوحا والمرجوح ممتنع الوقوع لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع
فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر وحينئذ
يعود عليكم كل ما أوردتموه علينا، ثم الجواب الحقيق عن الكل: أنه (لا يسأل عما يفعل).
(المسألة الثالثة) (أ) عن أنس رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام مررت ليلة
أسرى بي على قوم تقرض شفاهم بمقاريض من النار فقلت يا أخي يا جبريل من هؤلاء؟ فقال
هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم (ب) وقال عليه الصلاة
والسلام إن في النار رجلا يتأذى أهل النار بريحه فقيل من هويا رسول الله؟ قال عالم لا ينتفع بعلمه
(ج) وقال عليه الصلاة والسلام مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضئ للناس
47

واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها كبيرة إلا على الخاشعين
الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أنهم إليه راجعون (45)
ويحرق نفسه (د) وعن الشعبي: يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار فيقولون لم دخلتهم
النار ونحن إنما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم؟ فقالوا إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله. كما قيل: من
من وعظ بقوله ضاع كلامه. ومن وعظ بفعله نفذت سهامه. وقال الشاعر:
(يا أيها الرجل المعلم غيره... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدوا لذي السقام وذي الضنا... كيما يصح به وأنت سقيم)
ابدأ بنفسك فإنهما عن غيا... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى... بالرأي منك وينفع التعليم
قيل: عمل رجل في الف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل، وأما من وعظ واتعظ فمحله
عند الله عظيم.
روى أن يزيد بن هارون مات وكان واعظا زاهدا فرؤى في المنام فقيل له ما فعل الله بك؟
فقال غفر لي وأول ما سألني منكر ونكير فقالا من ربك فقلت أما تستحيان من شيخ دعا الناس
إلى الله تعالى كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك؟ وقيل للشبلي عند النزع قل لا إله إلا الله فقال:
إن بيتا أنت ساكنه... غير محتاج إلى السرج
قوله سبحانه وتعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، الذين
يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) في الآية مسائل:
(المسألة الأولى) اختلفوا في المخاطبين بقوله سبحانه وتعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة)
فقال قوم: هم المؤمنين بالرسول قال لان من ينكر الصلاة أصلا والصبر على دين محمد صلى الله عليه وسلم لا يكاد
يقال له استعن بالصبر والصلاة، فلا جرم وجب صرفه إلى من صدق بمحمد صلى لله عليه وسلم
ولا يمتنع أن يكون الخطاب أولا في بني إسرائيل ثم يقع بعد ذلك خطابا للمؤمنين بمحمد صلى الله
عليه وسلم، والأقرب أن المخاطبين هم بنو إسرائيل لان صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك
النظم. فان قيل كيف يؤمرون بالصبر والصلاة مع كونهم منكرين لهما؟ قلنا لا نسلم كونهم منكرين
لهما. وذلك لان كل أحد يعلم أن الصبر على ما يجب الصبر عليه حسن وأن الصلاة التي هي تواضع
للخالق الاشتغال بذكر الله تعالى يسلي عن محن الدنيا وآفاتها. إنما الاختلاف في الكيفية فان صلاة
اليهود واقعة على كيفية وصلاة المسلمين على كيفية أخرى. وإذا كان متعلق الامر هو الماهية التي
هي القدر المشترك زال الاشكال المذكور وعلى هذا نقول: إنه تعالى لما أمرهم بالايمان وبترك
الاضلال وبالتزام الشرائع وهي الصلاة والزكاة، وكان ذلك شاقا عليهم لما فيه من ترك الرياسات
48

والاعراض عن المال والجاه لا جرم عالج الله تعالى المرض فقال (واستعينوا بالصبر والصلاة)
(المسألة الثانية) ذكروا في الصبر والصلاة وجوها، أحدها: كأنه قيل واستعينوا على ترك
ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر أي
بحبس النفس عن اللذات فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها ثم إذا ضممتم الصلاة
إلى ذلك تم المر. لان المشتغل بالصلاة لابد وأن يكون مشتغلا بذكر الله عز وجل وذكر جلاله
وقهره وذكر رحمته وفضله، فإذا تذكر رحمته صار مائلا إلى طاعته وإذا تذكر عقابه ترك معصيته
فيسهل عند ذلك اشتغاله بالطاعة وتركه للمعصية، وثانيها: المراد من الصبر ههنا هو الصوم لان
كدورات حب الدنيا، فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله تعالى وإنما قدم
الصوم على الصلاة لان تأثير الصوم في إزالة مالا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي والنفي
مقدم على الاثبات، ولأنه عليه الصلاة والسلام قال (الصوم جنة من النار وقال الله تعالى (إن
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) لان الصلاة تمنع عن الاشتغال بالدنيا وتخشع القلب ويحصل
بسببها تلاوة الكتاب والوقوف على ما فيه من الوعد والوعيد والمواعظ والآداب الجميلة وذكر
مصير الخلق إلى دار الثواب أو دار العقاب رغبة في الآخرة ونفرة عن الدنيا فيهون على الانسان
حينئذ ترك الرياسة، ومقطعة عن المخلوقين إلى قبلة خدمة الخالق ونظير هذه الآية قوله تعالى (يا أيها
الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) أما قوله تعالى (وإنها) ففي هذا الضمير
وجوه أحدها: الضمير عائد إلى الصلاة أي الصلاة ثقيلة إلا على الخاشعين، وثانيها: الضمير عائد
إلى الاستعانة التي يدل عليها قوله (واستعينوا) وثالثها: أنه عائد إلى جميع الأمور التي أمر بها بنوا
إسرائيل ونهوا عنها من قوله (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) إلى قوله (واستعينوا) والعرب
قد تضمر الشئ اختصارا أو تقتصر فيه على الايماء إذا وثقت بعلم المخاطب فيقول القائل: ما عليها
أفضل من فلان يعنى الأرض، ويقولون: ما بين لابتيها أكرم من فلان يعنون المدينة قال تعالى
(ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة) ولا ذكر للأرض، أما قوله (لكبيرة) أي
لشاقة ثقيلة على هؤلاء سهلة على الخاشعين فيجب أن يكون ثوابهم أكثر مما يلحق الخاشع وكيف
يكون ذلك والخاشع يستعمل عند الصلاة جوارحه وقلبه وسمعه وبصره ولا يغفل عن تدبر ما يأتي
به من الذكر والتذلل والخشوع، وإذا تذكر الوعيد لم يخل من حسرة وغم، وإذا ذكر الوعد فكمثل
ذلك، وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثقل عليه بفعل الصلاة أعظم، وإنما المراد بقوله: وإنها ثقيلة
على من لم يخشع أنه م حيث لا يعتقد في فعلها ثوابا ولا في تركها عقابا فيعصب عليه فعلها.
فالحاصل أن الحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة ثقل عليه فعلها لان الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل
49

على الطبع أما الموحد فلما اعتقد في فعلها أعظم المنافع وفى تركها أعظم المضار لم يثقل ذلك عليه لما
يعتقد في فعله من الثواب والفوز العظيم بالنعيم والخلاص من العذاب الأليم، ألا ترى إلى
قوله (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي يتوقعون نيل ثوابه والخلاص من عقابه. مثاله إذا
قيل للمريض كل هذا الشئ المر فإن اعتقد أن له فيه شفاء سهل ذلك عليه. وإن لم يعتقد ذلك فيه
صعب الامر عليه، وعليه يحمل قوله عليه الصلاة والسلام وجعلت قرة عيني في الصلاة وصف
الصلاة بذلك للوجوه التي ذكرناها لا لأنها كانت لا تثقل عليه، وكيف وكان عليه الصلاة والسلام
يصلى حتى تو رمت قدماه، وأما الخشوع فهو التذلل والخضوع. أما قوله (الذين يظنون أنهم
ملاقوا ربهم) فللمفسرين فيه قولان، الأول: أن الظن بمعنى العلم قالوا لان الظن وهو الاعتقاد
الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضى أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة وذلك كفر والله تعالى
مدح على هذا الظن والمدح على الكفر غير جائز فوجب أن يكون المراد من الظن ههنا العلم، وسبب
هذا المجاز أن العلم والظن يشتركون في كون كل واحد منهما اعتقادا راجحا إلا أن العلم راجح
مانع من النقيض والظن راجح غير مانع من النقيض فلما اشتبها من هذا الوجه صح إطلاق اسم
أحدهما على الآخر، قال أوس بن حجر:
فأرسلته مستيقن الظن أنه... مخالط ما بين الشراسيف خائف
وقال تعالى (إني ظننت أنى ملاق حسابيه) وقال (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون) ذكر
الله تعالى ذلك إنكارا عليهم وبعثا على الظن ولا يجوز أن يبعثهم على الاعتقاد المجوز للنقيض فثبت
أن المراد بالظن ههنا العلم.
(القول الثاني) أن يحمل اللفظ على ظاهره وهو الظن الحقيقي، ثم ههنا وجوه (الأول)
أن تجعل ملاقاة الرب مجازا عن الموت، وذلك لان ملاقاة الرب مسبب عن الموت فأطلق المسبب
والمراد منه السبب، وهذا مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات إنه لقى ربه. إذا ثبت هذا فنقول: وإنها
لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون الموت في كل لحظة، وذلك لان كل من كان متوقعا للموت
في كل لحظة فإنه لا يفارق قلبه الخشوع فهم يبادرون إلى التوبة، لان خوف الموت مما يقوى
دواعي التوبة ولأنه مع خشوعه لابد في كل حال من أن لا يأمن تقصيرا جرى منه فيلزمه التلافي،
بملاقاة ثواب الرب وذلك مظنون لا معلوم فان الزاهد العابد لا يقطع بكونه ملاقيا لثواب الله
بل يظن إلا أن ذلك الظن مما يحمله على كمال الخشوع. الثالث: المعنى: الذين يظنون أنهم ملاقوا
ربهم بذنوبهم فإن الانسان الخاشع قد يسئ ظنه بنفسه وبأعماله فيغلب على ظنه أنه يلقى الله تعالى
بذنوبه فعند ذلك يسارع إلى التوبة وذلك من صفات المدح. بقى هنا مسألتان:
(المسألة الأولى) استدل بعض الأصحاب بقوله (ملاقوا ربهم) على جواز رؤية الله تعالى
50

وقالت المعتزلة: لفظ اللقاء لا يفيد الرؤية الدليل عليه الآية والخبر والعرف. أما الآية فقوله
تعالى (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) والمنافق لا يرى ربه، وقال (ومن يفعل ذلك
يلق أثاما) وقال تعالى معرض التهديد (واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه) فهذا يتناول الكافر
والمؤمن، والرؤية لا تثبت للكافر فعلمنا أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية. وأما الخبر فقوله
عليه السلام من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضان وليس
المراد رأى الله تعالى لان ذلك وصف أهل النار، وأما العرف فهو قول المسلمين فيمن مات:
لقى الله، ولا يعنون أنه رأى الله عز وجل، وأيضا فاللقاء يراد به القرب ممن يلقاه على وجه
يزول الحجاب بينهما، ولذلك يقول الرجل إذا حجب عن الأمير: ما لفيته بعد وإن كان قد
رآه، وإذا أذن له في الدخول عليه يقول لقيته، وإن كان ضريرا، ويقال لقى فلان جهدا شديدا.
ولقيت من فلان الداهية، ولاقى فلان حمامه، وكل ذلك يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن
الرؤية ويدل عليه أيضا قوله تعالى (فالتقى الماء على أمر قد قدر) وهذا إنما يصح في حق
الجسم ولا يصح على الله تعالى. قال الأصحاب: اللقاء في أصل اللغة عبارة عن وصول أحد
الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه بمسطحه يقال: لقى هذا ذاك إذا ماسه واتصل به، ولما كانت
الملاقاة بين الجنسين المدركين سببا لحصول الادراك فحيث يمتنع إجزاء اللفظ على الماسة وجب
حمله على الادراك لان إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز، فثبت أنه يجب
حمل لفظ اللقاء على الادراك أكثر ما في الباب أنه ترك هذا المعنى في بعض الصور لدليل يخصه
فوجب إجراؤه على الادراك في البواقي، وعلى هذا التقرير زالت السؤالات. أما قوله:
(فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) والمنافق لا يرى ربه، قلنا: فلأجل هذه الضرورة
المراد إلى يوم يلقون حسابه وحكمه إلا أن هذا الاضمار على خلاف الدليل وانما يصار إليه
عند الضرورة ففي هذا الموضع لما اضطررنا إليه اعتبرناه، وأما في قوله تعالى (أنهم ملاقوا
ربهم) لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره ولا في إضمار هذه الزيادة فلا جرم وجب
تعليق اللقاء بالله تعالى لا يحكم الله، فان اشتغلوا بذكر الدلائل العقلية التي تمنع من جواز الرؤية
بينا ضعفها وحينئذ يستقيم التمسك بالظاهر من هذا الوجه.
(المسألة الثانية) المراد من الرجوع إلى الله تعالى الرجوع إلى لا يكون لهم مالك
سواه وأن لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا غيره كما كانوا كذلك في أول الخلق فجعل مصيرهم
إلى مثل كانوا عليه أولا رجوعا إلى الله من حيث كانوا في سائر أيام حياتهم قد يملك غيره
الحكم عليهم ويملك أن يضرهم وينفعهم وإن كان الله تعالى مالكا لهم في جميع أحوالهم، وقد
احتج بهذه الآية فريقان من المبطلين: الأول: المجسمة فإنهم قالوا الرجوع إلى غير الجسم محال
فلما ثبت الرجوع إلى الله وجب كون الله جسما، الثاني: التناسخية فإنهم قالوا الرجوع إلى الشئ
51

يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين
مسبوق بالكون عنده، فدلت هذه الآية على كون الأرواح قديمة وأنها كانت موجودة في عالم
الروحانيات والجواب عنها قد حصل بناء على ما تقدم.
قوله تبارك وتعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنى فضلتكم
على العالمين).
اعلم أنه تعالى إنما أعاد هذا الكلام مرة أخرى توكيد للحجة عليهم وتحذيرا من ترك
اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ثم قرنه بالوعيد، وهو قوله (واتقوا يوما) كأنه قال إن لم تطيعوني
لأجل سوالف نعمتي عليكم فأطيعوني للخوف من عقابي في المستقبل. أما قوله (وأنى فضلتكم
على العالمين) ففيه سؤال وهو أنه يلزم أن يكونوا أفضل من محمد عليه السلام وذلك باطل
بالاتفاق. والجواب عنه من وجوه أحدها: قال قوم: العالم عبارة عن الجمع الكثير من الناس
كقولك رأيت عالما من الناس، والمراد منه الكثير لا الكل، وهذا ضعيف لان لفظ العالم
مشتق من العلم وهو الدليل فكل ما كان دليلا على الله تعالى كان عالما فكان من العالم، وهذا
تحقيق قول المتكلمين: العالم كل موجود سرى الله، وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم
ببعض المحدثات، وثانيها: المراد فضلتكم على عالمي زمانكم وذلك لان الشخص الذي سيوجد
بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود لم يكن ذلك الشخص من جملة العالمين حال عدمه لان شرط
العالم أن يكون موجودا والشئ حال عدمه لا يكون موجودا فالشئ حال عدمه لا يكون من
العالمين، وأن محمدا عليه السلام ما كان موجودا في ذلك الوقت، فما كان ذلك الوقت من
العالمين فلا يلزم من كون بني إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت كونهم أفضل من محمد صلى
الله عليه وسلم في ذلك الوقت، وهذا هو الجواب أيضا عن قوله تعالى (إذ جعل فيكم أنبياء
وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) وقال (ولقد اخترناهم على علم على
العالمين) وأراد به عالمي ذلك الزمان. وإنما كانوا أفضل من غيرهم بما أعطوا من الملك
والرسالة والكتب الإلهية، وثالثها: أن قوله (وأنى فضلتكم على العالمين) عام في العالمين،
لكنه مطلق في الفضل والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة فالآية تدل على أن بني إسرائيل
فضلوا على العالمين في أمر ما وهذا لا يقتضى أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور
بل لعلهم وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الامر
وعند ذلك يظهر أنه لا يصح الاستدلال بقوله تعالى (ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم
وآل عمران على العالمين) على أن الأنبياء أفضل من الملائكة. بقى ههنا أبحاث:
البحث الأول: قال ابن زيد: أراد به المؤمنين منهم لان عصاتهم مسخوا قردة وخنازير على
52

(التوبة: 103).
* (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) *
ما قال تعالى (وجعل منهم القرادة والخنازير) وقال (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل).
(البحث الثاني) أن جميع ما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل تنبيه للعرب لان الفضيلة
بالنبي قد لحقتهم، وجميع أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد قال الله تعالى (الذين يستمعون القول
فيتبعون أحسنه) وقال (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) وقال (لقد كان في قصصهم عبرة
لاولى الألباب) ولذلك روى قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول قد مضى والله
بنو إسرائيل وما يغنى ما تسمعون عن غيركم.
(البحث الثالث) قال القفال النعمة بكسر النون المنة وما ينعم به الرجل على صاحبه
قال تعالى (وتلك نعمة تمنها على) وأما النعمة بفتح النون فهو ما يتنعم به في العيش، قال تعالى
(ونعمة كانوا فيها فاكهين).
(البحث الرابع) قوله تعالى (وأنى فضلتكم على العالمين) يدل على أن رعاية الأصلح
لا تجب على الله لا في الدنيا ولا في الدين لان قوله (وأنى فضلتكم على العالمين) يتناول جميع
نعم الدنيا والدين، فذلك التفضيل إما أن يكون واجبا أو لا يكون واجبا فان كان واجبا لم يجز
جعله منة عليهم لان من أدى واجبا فلا منة له على أحد وإن كان غير واجب مع أنه تعالى خصص
البعض بذلك دون البعض فهذا يدل عن أن رعاية الأصلح غير واجبة لا في الدنيا ولا في الدين.
فإن قيل لما خصهم بالنعم العظيمة في الدنيا فهذا يناسب أن يخصهم أيضا بالنعم العظيمة في الآخرة
كما قيل: إتمام المعروف خير من ابتدائه، فلم أردف ذلك بالتخويف الشديد في قوله (واتقوا
يوما) والجواب: لان المعصية مع عظيم النعمة تكون أقبح وأفحش فلهذا حذرهم عنها.
(البحث الخامس) في بيان ان أي فرق العالم أفضل يعنى أن أيهم أكثر استجماعا لخصال
الخير؟ اعلم أن هذا مما وقع فيه النزاع الشديد بين سكان النواحي فكل طائفة تدعى أنها أفضل وأكثر
استجماعا لصفات الكمال ونحن نشير إلى معاقد الكلام في هذا الباب بتوفيق الله تعالى وعونه (1).
قوله تعالى (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ
منها عدل ولا هم ينصرون)
اعلم أن اتقاء اليوم اتقاء لما يحصل في ذلك اليوم من العقاب والشدائد لأن نفس اليوم لا يتقي ولا بد من أن يرده أهل الجنة والنار جميعا. فالمراد ما ذكرناه ثم إنه تعالى وصف اليوم

(1) لم يذكر في الأصول التي بأيدينا في هذا الموضع شئ مما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى
53

بأشد الصفات وأعظمها تهويلا، وذلك لأن العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة وحاولت أعوانه دفاع ذلك عنه بذلت ما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية فذبت عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوته، فإن رأى من لا طاقة له بمانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم تغن عنه الحالتان من الخشونة والليان لم يبق بعده إلا فداء الشيء بمثله. إما مال أو غيره وإن لم تغن عنه هذه الثلاثة تعلل بما يرجوه من نصر الأخلاء والأخوان فأخبر الله سبحانه أنه لا يغني شيء من هذه الأمور عن المجرمين في الآخرة. بقي على هذا الترتيب سؤالان:
السؤال الأول: الفائدة من قوله: * (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * هي الفائدة من قوله: * (ولا هم ينصرون) * فما المقصود من هذا التكرار؟ والجواب: المراد من قوله: * (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * أنه لا يتحمل عنه غيره ما يلزمه من الجزاء، وأما النصرة فهي أن يحاول تخليصه عن حكم المعاقب وسنذكر فرقا آخر إن شاء الله تعالى.
السؤال الثاني: أن الله تعالى قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية وذكر هذه الآية في هذه السورة بعد العشرين والمائة وقدم قبول الفدية على ذكر الشفاعة فما الحكمة فيه؟ الجواب: أن من كان ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة، ففائدة تغيير الترتيب، الإشارة إلى هذين الصنفين: ولنذكر الآن تفسير الألفاظ: أما قوله تعالى: * (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * فقال القفال: الأصل في جزي هذا عند أهل اللغة قضي ومنه الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بردة بن يسار: " تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك "، هكذا يرويه أهل العربية: " تجزيك " بفتح التاء غير مهموز أي تقضي عن أضحيتك وتنوب، ومعنى الآية أن يوم القيامة لا تنوب نفس عن نفس شيئا ولا تحمل عنها شيئا مما أصابها، بل يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه ومعنى هذه النيابة أن طاعة المطيع لا تقضي على العاصي ما كان واجبا عليه. وقد تقع هذه النيابة في الدنيا كالرجل يقضي عن قريبه وصديقه دينه ويتحمل عنه، فأما يوم القيامة فإن قضاء الحقوق إنما يقع فيه من الحسنات. روى أبو هريرة قال: قال عليه السلام: " رحم الله عبدا كان عنده لأخيه مظلمة في عرض أو مال أو جاه فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثم دينار ولا درهم فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته وإن لم يكن له حسنات حمل من سيئاته ". قال صاحب الكشاف: و (شيئا) مفعول به ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي قليلا من الجزاء كقوله تعالى: * (ولا يظلمون شيئا) * (مريم: 60). ومن قرأ: " لا يجزي " من أجزأ عنه إذا أغنى عنه فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئا من الإجزاء وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ليوما. فإن قيل: فأين العائد منها إلى الموصوف؟ قلنا: هو محذوف تقديره لا تجزي فيه ومعنى التنكير أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس غيرها شيئا من الأشياء وهو الإقناط الكلي القطاع للمطامع. أما قوله تعالى: * (ولا يقبل منها شفاعة) * فالشفاعة
54

أن يستوهب أحد لأحد شيئا ويطلب له حاجة وأصلها من الشفع الذي هو ضد الوتر، كأن صاحب الحاجة كان فردا فصار الشفيع له شفعا أي صارا زوجا. واعلم أن الضمير في قوله: * (ولا يقبل منها) * راجع إلى النفس الثانية العاصية وهي التي لا يؤخذ منها عدل، ومعنى لا يقبل منها شفاعة إنها إن جاءت بشفاعة شفيع لا يقبل منها، ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى، على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها كما لا تجزي عنها شيئا. أما قوله تعالى: * (ولا يؤخذ منها عدل) * أي فدية، وأصل الكلمة من معادلة الشيء تقول: ما أعدل بفلان أحدا، أي لا أرى له نظيرا. قال تعالى: * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) * (المائدة: 36) ونظيره هذه الآية قوله تعالى: * (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم) * (المائدة: 36) وقال تعالى: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) * (آل عمران: 91) وقال: * (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) * (الأنعام: 70).
أما قوله تعالى: * (ولا هم ينصرون) * فاعلم أن التناصر إنما يكون في الدنيا بالمخالطة والقرابة وقد أخير الله تعالى أنه ليس يومئذ خلة ولا شفاعة وأنه لا أنساب بينهم، وإنما المرء يفر من أخيه وأمه وأبيه وقرابته، قال القفال: والنصر يراد به المعونة كقوله: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما "، ومنه معنى الإغاثة: تقول العرب: أرض منصورة أي ممطورة، والغيث ينصر البلاد إذا أنبتها فكأنه أغاث أهلها وقيل في قوله تعالى: * (من كان يظن أن لن ينصره الله) * (الحج: 15) أي أن لن يرزقه كما يرزق الغيث البلاد، ويسمى الانتقام نصرة وانتصارا، قال تعالى: * (ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا) * (الأنبياء: 77) قالوا معناه: فانتقمنا له، فقوله تعالى: * (ولا هم ينصرون) * يحتمل هذه الوجوه فإنهم يوم القيامة لا يغاثون، ويحتمل أنهم إذا عذبوا لم يجدوا من ينتقم لهم من الله، وفي الجملة كأن النصر هو دفع الشدائد، فأخبر الله تعالى أنه لا دافع هناك من عذابه، بقي في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: أن في الآية أعظم تحذير عن المعاصي وأقوى ترغيب في تلافي الإنسان ما يكون منه من المعصية بالتوبة لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية علم أنه لا خلاص له إلا بالطاعة، فإذا كان لا يأمن كل ساعة من التقصير في العبادة، ومن فوت التوبة من حيث إنه لا يقين له في البقاء صار حذرا خائفا في كل حال، والآية وإن كانت في بني إسرائيل فهي في المعنى مخاطبة للكل لأن الوصف الذي ذكر فيها وصف لليوم وذلك يعم كل من يحضر في ذلك اليوم.
(المسألة الثانية) أجمعت الأمة على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم شفاعة في الآخرة وحمل
على ذلك قوله تعالى (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) وقوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك
فترضى) ثم اختلفوا بعد هذا في أن شفاعته عليه السلام لمن تكون أتكون للمؤمنين المستحقين
55

للثواب، أم تكون لأهل الكبائر المستحقين للعقاب؟ فذهبت المعتزلة على أنها للمستحقين
للثواب، وتأثير الشفاعة في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه، وقال أصحابنا
تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب، إما بأن يشفع لهم في عرضة القيامة حتى
لا يدخلوا النار وإن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة واتفقوا على أنها
ليست للكفار، واستدلت المعتزلة على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر بوجوه أحدها: هذه الآية
قالوا إنها تدل على نفى الشفاعة من ثلاثة أوجه، الأول: قوله تعالى (لا تجزي نفس عن نفس
شيئا) ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكان قد أجزت نفس عن نفس شيئا، الثاني،
قوله تعالى (ولا يقبل منها شفاعة) وهذه نكرة في سياق النفي فنعم جميع أنواع الشفاعة،
والثالث: قوله تعالى (ولا هم ينصرون) ولو كان محمد شفيعا لأحد من العصاة لكان ناصرا له
وذلك على خلاف الآية. لا يقال الكلام على الآية من وجهين، الأول: أن اليهود كانوا
يزعمون أن آباءهم يشفعون لهم فأيسوا من ذلك فالآية نزلت فيهم الثاني. أن ظاهر الآية يقتضى
نفى الشفاعة مطلقا إلا أنا أجمعنا على تطرق التخصيص إليه في حق زيادة الثواب لأهل الطاعة،
فنحن أيضا نخصه في حق المسلم صاحب الكبيرة بالدلائل الت نذكرها، لأنا نجيب عن الأول
بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعن الثاني أنه لا يجوز أن يكون المراد من الآية
نفى الشفاعة في زيادة المنافع لأنه تعالى حذر من ذلك اليوم بأنه لا تنفع فيه شفاعة، وليس يحصل
التحذير إذا رجع نفى الشفاعة إلى تحصيل زيادة النفع لان عدم حصول زيادة النفع ليس فيه
خطر ولا ضرر يبين ذلك أنه تعالى لو قال: اتقوا يما لا أزيد فيه منافع المستحق للثواب
بشفاعة أحد لم يحصل بذلك زجر عن المعاصي، ولو قال: اتقوا يوما لا أسقط فيه عقاب المستحق
للعقاب بشفاعة شفيع كان ذلك زجرا عن المعاصي، فثبت أن المقصود من الآية نفى تأثير الشفاعة
في إسقاط العقاب لا نفى تأثيرها في زيادة المنافع، وثانيها: قوله تعالى (ما للظالمين من حميم ولا
شفيع يطاع) والظالم هو الآتي بالظلم وذلك يتناول الكافر وغيره لا يقال إنه تعالى نفي أن يكون
للظالمين شفيع يطاع ولم ينف شفيعا يجاب. ونحن نقول بموجبه فإنه لا يكون في الآخرة شفيع
يطاع، لان المطاع يكون فوق المطيع، وليس فوقه تعالى أحد يطيعه الله تعالى، لأنا نقول
لا يجوز حمل الآية على ما قلتم من وجهين، الأول: أن العلم بأنه ليس فوقه تعالى أحد
يطيعه، متفق عليه بين العقلاء. أما من أثبته سبحانه فقد اعترف أنه لا يطيع أحدا، وأما من
نفاه فمع القول بالنفي استحال أن يعتقد فيه كونه مطيعا لغيره، فإذا ثبت هذا كان حمل الآية
على ما ذكرتم حملا لها على معنى لا يفيد. الثاني: أنه تعالى نفى شفيعا يطاع، والشفيع
لا يكون إلا دون المشفوع إليه لان من فوقه يكون آمرا له وحاكما عليه ومثله لا يسمى شفيعا
فأقاد قوله شفيع كونه دون الله تعالى فلم يمكن حمل قوله (يطاع) على من فوقه فوجب حمله
56

على أن المراد به أنه لا يكون لهم شفيع يجاب (وثالثها) قوله تعالى (من قبل أن يأتي يوم لا بيع
فيه ولا خلة ولا شفاعة) ظاهر الآية يقتضى نفى الشفاعات بأسرها (ورابعها) قوله تعالى (وما
للظالمين من أنصار) ولو كان الرسول يشفع للفاسق من أمته لو صفوا بأنهم منصورون لأنه إذا
تخلص بسبب شفاعة الرسول عن العذاب فقد بلغ الرسول النهاية في نصرته (وخامسها) قوله
تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) أخبر تعالى عن ملائكته أنهم لا يشفعون لأحد إلا أن
يرتضيه الله عز وجل والفاسق ليس بمرتضى عند الله تعالى وإذا لم تشفع الملائكة له فكذا الأنبياء
عليهم السلام لأنه لا قائل بالفرق (وسادسها) قوله تعالى (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) ولو أثرت
الشفاعة في إسقاط العقاب لكانت الشفاعة قد تنفعهم وذلك ضد الآية (وسابعها) أن الأمة
مجمعة أدعيتهم: واجعلنا من أهل شفاعته، فلو كان المستحق للشفاعة هو الذي خرج من الدنيا مصرا
على الكبائر لكانوا قد رغبوا إلى الله تعالى في أن يجعلهم من أهل شفاعته إذا خرجوا مصرين لا أنهم
يرغبون في أن يختم لهم مصرين كما أنهم يقولون في دعائهم: اجعلنا من التوابين وليسوا يرغبون
في أن يذنبوا ثم يتوبوا وإنما يرغبون في أن يوفقهم للتوبة إذا كانوا مذنبين وكلتا الرغبتين مشروطة
بشرط وهو تقدم الاصرار وتقدم الذنب، لأنا نقول: الجواب عنه من وجهين (الأول) ليس
يجب إذا شرطنا شرطا في قولنا: اللهم اجعلنا من التوابين، أن نريد شرطا في قولنا أجعلنا من أهل
الشفاعة (الثاني) أن الأمة في كلتا الرغبتين إلى الله تعالى يسألون منه تعالى أن يفعل بهم ما يوصلهم
إلى المرغوب فيه نفى قولهم: اجعلنا من التوابين، يرغبون في أن يوفقهم للتوبة من الذنوب، وفى
الثاني يرغبون في أن يفعل بهم ما يكونون عنده أهلا لشفاعته عليه السلام، فلو لم تحصل أهلية
الشفاعة إلا بالخروج من الدنيا مصرا على الكبائر لكان سؤال أهلية الشفاعة حسنا فظهر الفرق (وثانيها)
أن قوله تعالى (وإن الفجار لفي جحيم، يصلونها يوم الدين، وما هم عنها بغائبين) يدل على أن
كل الفجار يدخلون النار وأنهم لا يغيبون عنها وإذا ثبت أنهم لا يغيبون عنها ثبت أنهم لا يخرجون
منها، وإذا كان كذلك لم يكن للشفاعة أثر لا في العفو عن العقاب ولا في الاخراج من النار بعد
الادخال فيها (وتاسعها) قوله تعالى (يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه) فنفى الشفاعة
عمن لم يأذن في شفاعته وكذا قوله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وكذا قوله تعالى
(لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) وإنه تعالى لم يأذن في الشفاعة في حقو أصحاب
الكبائر هذا الاذن لو عرف لعرف إما بالعقل أو بالنقل، أما العقل فلا مجال له فيه، وأما النقل
57

فأما بالتواتر أو بالآحاد والآحاد لا مجال له فيه لان رواية الآحاد لا تفيد إلا الظن والمسألة علمية
والتمسك في المطالب العلمية بالدلائل الظنية غير جائز. وأما بالتواتر فباطل لأنه لو حصل ذلك لعرفه
جمهور المسلمين ولو كان كذلك لما أنكروا هذه الشفاعة. فحيث أطبق الأكثرون على الانكار
علمنا أنه لم يوجد هذا الاذن (وعاشره) قوله تعالى (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون
بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون الذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين
تابوا واتبعوا سبيلك) ولو كانت الشفاعة حاصله للفاسق لم يكن لتقييدها بالتوبة ومتابعة السبيل
معنى (الحادي عشر) الأخبار الدالة على أنه لا توجد الشفاعة في حق أصحاب الكبائر وهي أربعة
(الأول) ما روى العلا. بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام دخل
المقبرة فقال (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنى قد رأيت
إخواننا. قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك قال بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا
يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال أرأيت إن كان لرجل خيل غر محجلة
في خيل دهم فهل لا يعرف خيله؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين
من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض. ألا فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم
ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول فسحقا فسحقا والاستدلال بهذا الخبر على نفى
الشفاعة أنه لو كان شفيعا لهم لم يكن يقول فسحقا فسحقا لان الشفيع لا يقول ذلك، وكيف يجوز
أن يكون شفيعا لهم في الخلاص من العقاب الدائم وهو يمنعهم شربة ماء (الثاني) روى عبد الرحمن
ابن ساباط عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة (يا كعب بن عجرة أعيذك بالله
من إمارة السفهاء إنه سيكون أمراء من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس منى
ولست منه ولن يرد على الحوض ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم
فهو منى وأنا منه وسيرد على الحوض، يا كعب بن عجرة الصلاة قربان والصوم جنة والصدقة
تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، يا كعب بن عجرة لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت) والاستدلال
بهذا الحديث من ثلاثة أوجه (أحدها) أنه إذا لم يكن من النبي ولا النبي منه فكيف يشفع له،
(وثانيها) قوله لم يرد على الحوض دليل على نفى الشفاعة لأنه إذا منع من الوصول إلى الرسول
حتى يرد عليه الحوض فبأن يمتنع الرسول من خلاصة من العقاب أولى (وثالثها) أن قوله
لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت صريح في أنه لا أثر للشفاعة في حق صاحب الكبيرة،
(الثالث) عن أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام لا ألفين أحد كم يوم القيامة على رقبته شاة
لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثى فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك هذا صريح في
المطلوب لأنه إذا لم يملك له من الله شيئا فليس له في الشفاعة نصيب (الرابع) عن أبي هريرة قال
قال عليه الصلاة والسلام (ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة ومن كنت خصيمه خصمته، رجل
58

أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه. ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجرته
والاستدلال به أنه عليه الصلاة والسلام لما كان خصيما لهؤلاء استحال أن يكون شفيعا لهم فهذا
مجموع وجوه المعتزلة في هذا الباب. أما أصحابنا فقد تمسكوا فيه بوجوه (أحدها) قوله سبحانه وتعالى
حكاية عن عيسى عليه السلام (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)
وجه الاستدلال أن هذه الشفاعة من عيسى عليه السلام إما أن يقال إنها كانت في حق الكفار
أو في حق المسلم المطيع أو في حق المسلم صاحب الصغيرة أو المسلم صاحب الكبيرة بعد التوبة أو
المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة، والقسم الأول باطل لان قوله تعالى (وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم) لا يليق بالكفار، والقسم الثاني والثالث والرابع باطل لان المسلم المطيع والمسلم
صاحب الصغيرة والمسلم صاحب الكبيرة لا يجوز بعد التوبة تعذيبه عقلا عند الخصم، وإذا كان
كذلك لم يكن قوله (إن تعذبهم فإنهم عبادك) لائقا بهم وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال إن
هذه الشفاعة إنما وردت في حق المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة وإذا صح القول بهذه الشفاعة
في حق عيسى عليه السلام صح القول بها حق محمد صلى الله عليه وسلم ضرورة أنه لا قائل غفور رحيم)
فقوله (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) لا يجوز حمله على الكافر لأنه ليس أهلا للمغفرة بالاجماع
ولا حمله على صاحب الصغيرة ولا على صاحب الكبيرة بعد التوبة لان غفرانه لهم واجب عقلا
عند الخصم فلا حاجة له إلى الشفاعة فلم يبق إلا حمله على صاحب الكبيرة قبل التوبة، ومما يؤكد
دلالة هاتين الآتين على ما قلناه ما رواه البيهقي في كتاب شعب الايمان أنه عليه الصلاة والسلام
تلا قوله تعالى في إبراهيم (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) وقول عيسى عليه السلام (إن تعذبهم
فإنهم عبادك) الآية ثم رفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى
محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فاتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله عز
وجل يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك رواه مسلم في الصحيح
(وثالثها) قوله تعالى في سورة مريم (يوم الحشر المتقين إلى الرحمن وفدا. ونسوق المجرمين إلى
جنهم وردا، لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) فنقول ليس في ظاهر الآية أن
المقصودين من الآية أن المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم أو أنهم لا يملكون شفاعة غيرهم لهم لان
المصدر كما يجوز ويحسن إضافته إلى الفاعل يجوز ويحسن إضافته إلى المفعول إلا أنا نقول حمل الآية
على الوجه الثاني أولى لان حملها على الوجه الأول يجرى مجرى ايضاح الواضحات فان كل أحد يعلم أن
المجرمين الذين يساقون إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة لأهل الكبائر لأنه قال عقيبه (إلا من اتخذ عند
الرحمن عهدا) والتقدير أن المجرمين لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا اتخذوا عند
59

الرحمن عهدا، فكل من اتخذ عند الرحمن عهدا وجب دخوله فيه وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن
عهدا وهو التوحيد والاسلام، فوجب أن يكون داخلا تحته أقصى ما في الباب أن يقال: واليهودي
اتخذ عند الرحمن عهدا وهو الايمان بالله فوجب دخوله تحته لكنا نقول ترك العمل به في حقه
لضرورة الاجماع فوجب أن يكون معمولا به فيما وراءه (ورابعها) قوله تعالى في صفة الملائكة
(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وجه الاستدلال به أن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله تعالى
وكل من كان مرتضى عند الله تعالى وجب أن يكون من أهل الشفاعة إنما قلنا إن صاحب
الكبيرة مرتضى عند الله تعالى لأنه مرتضى عند الله بحسب إيمانه وتوحيده وكل من صدق عليه
أنه مرتضى عند الله بحسب هذا الوصف يصدق عليه أنه مرتضى عند الله تعالى لان المرتضى
عند الله جزء من مفهوم قولنا: مرتضى عند الله بحسب إيمانه، ومتى صدق المركب صدق المفرد
فثبت أن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون من أهل الشفاعة
لقوله تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) نفى الشفاعة إلا لمن كان مرتضى والاستثناء عن النفي
إثبات فوجب أن يكون المرتضى أهلا لشفاعتهم، وإذا ثبت أن صاحب الكبيرة داخل في شفاعة
الملائكة وجب دخوله في شفاعة الأنبياء. وشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ضرورة أنه لا قائل
بالفرق. فإن قيل: الكلام على هذا الاستدلال من وجهين (الأول) أن الفاسق ليس بمرتضى
فوجب أن لا يكون أهلا لشفاعة الملائكة، وإذا لم يكن أهلا لشفاعة الملائكة وجب أن
لا يكون أهلا لشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إنما قلنا: إنه ليس بمرتضى لأنه ليس بمرتضى
بحسب فسقه وفجوره ومن صدق عليه أنه ليس بمرتضى وجب أن لا يكون أهلا لشفاعة الملائكة
لان قوله تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) يدل على نفى الشفاعة عن الكل إلا في حق المرتضى
فإذا كان صاحب الكبيرة غير مرتضى وجب أن يكون داخلا في النفي (الوجه الثاني) أن
الاستدلال بالآية إنما يتم لو كان قوله (ولا يشفعون إلا لم ارتضى) محمولا على أن المراد منه
ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله، أما لو حملناه على أن المراد منه ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الله
منه شفاعته فحينئذ لا تدل الآية إلا إذا ثبت أن الله تعالى ارتضى شفاعة صاحب الكبيرة، وهذا
أول المسألة.
والجواب عن الأول: أنه ثبت في العلوم المنطقية أن المهملتين لا يتناقضان، فقولنا زيد
عالم زيد ليس بعالم لا يتناقضان لاحتمال أن يكون المراد زيد عالم بالفقه زيد ليس بعالم بالكلام،
وإذا ثبت هذا فكذا قولنا صاحب الكبيرة مرتضى صاحب الكبيرة ليس بمرتضى لا يتناقضان
لاحتمال أن يقال إنه مرتضى بحسب دينه ليس بمرتضى بحسب فسقه، وأيضا فمتى ثبت أنه مرتضى
بحسب إسلامه ثبت مسمى كونه مرتضى وإذا كان المستثنى هو مجرد كونه مرتضى، ومجرد كونه
60

مرتضى حاصل عند كونه مرتضى بحسب إيمانه وجب دخوله تحت الاستثناء وخروجه عن
المستثنى منه، ومتى كان كذلك ثبت أنه من أهل الشفاعة، وأما السؤال الثاني: فجوابه أن حمل
الآية على أن يكون معناها ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله أولى من حملها على أن المراد ولا
يشفعون إلا لمن ارتضى الله بشفاعته، لان على التقدير الأول تفيج الآية الترغيب والتحريض
على طلب مرضاة الله عز وجل والاحتراز عن معاصيه، وعلى التقدير الثاني لا تفيد الآية ذلك
ولا شك أن تفسير كلام الله تعالى بما كان أكثر فائدة أولى، وخامسها: قوله تعالى في صفة
الكفار (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) خصهم بذلك فوجب أن يكون حال المسلم بخلافه بناء
على مسالة دليل الخطاب، وسادسها: قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم (واستغفر لذنبك
وللمؤمنين والمؤمنات) دلت الآية على أنه تعالى أمر محمدا بأن يستغفر لكل المؤمنين والمؤمنات
وقد بينا في تفسير قوله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب) أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإذا كان
كذلك ثبت أن محمدا صلى الله عليه وسلم استغفر لهم، وإذا كان كذلك ثبت أن الله تعالى قد
غفر لهم وإلا لكان الله تعالى قد أمره بالدعاء ليرد دعاه فيصير ذلك محض التحقير والإيذاء
وهو غير لائق بالله تعالى ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم فدل على أن الله تعالى لما أمر محمدا
بالاستغفار لكل العصاة فقد استجاب دعاه، وذلك إنما يتم لو غفر لهم ولا معنى للشفاعة
إلا هذا، وسابعها: قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو بأن يردوها، ثم أمرنا
بتحية محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) والصلاة
من الله رحمة ولا شك أن هذا تحية. فلما طلبنا من الله الرحمة لمحمد عليه الصلاة والسلام وجب
بمقتضى قوله (فحيوا بأحسن منها أو ردوها) أن يفعل محمد مثله وهو أن يطلب لكل المسلمين
الرحمة من الله تعالى. وهذا هو معنى الشفاعة في الكل وهو المطلوب. وثامنها: قوله تعالى (ولو
أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاء, ك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما)
وليس في الآية ذكر التوبة، والآية تدل على أن الرسول متى استغفر للعصاة والظالمين فإن الله
يغفر لهم، وهذا يدل على أن شفاعة الرسول في حق أهل الكبائر مقبولة في الدنيا، فوجب أن
صلى الله عليه وسلم فتأثيرها إما أن يكون في زيادة المنافع أو في إسقاط المضار والأول باطل
وإلا لكنا شافعين للرسول عليه الصلاة والسلام إذا طلبنا من الله تعالى أن يزيد في فضله عند
ما نقول: اللهم صل على محمد وعلى أل محمد. وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني وهو المطلوب،
فان قيل: إنما لا يطلق علينا كوننا شافعين لمحمد صلى الله عليه وسلم لوجهين، الأول: أن
61

الشفيع لابد أن يكون أعلى رتبة من المشفوع له، ونحن وإن كنا نطلب الخير له عليه الصلاة
والسلام ولكن لما كنا أدنى رتبة منه عليه الصلاة والسلام لم يصح أن نوصف بكوننا شافعين
له. الثاني: قال أبو الحسين: سؤال المنافع للغير إنما يكون شفاعة إذا كان فعل تلك المنافع
لأجل سؤاله لولاه لم تفعل أو كان لسؤاله تأثير في فعلها، فأما إذا كانت تفعل سواء سألها أو لم
يسألها، وكان غرض المسائل التقرب بذلك إلى المسؤول وإن لم يستحق المسؤول له بذلك السؤال
منفعة زائدة فان ذلك لا يكون شفاعة له، ألا ترى أن السلطان إذا عزم على أن يعقد لابنه
ولاية فحثه بعض أوليائه على ذلك وكا يفعل ذلك لا محالة سواء حثه عليه أو لم يحثه، وقصد
بذلك التقرب إلى السلطان ليحصل له بذلك منزله عنده فإنه لا يقال إنه يشفع لابن السلطان.
وهذه حالتنا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما نسأله له من الله تعالى فلم يصح أن نكون
شافعين، والجواب على الأول، لا نسلم أن الرتبة معتبرة في الشفاعة، والدليل عليه أن الشفيع
إنما سمى شفيعا مأخوذا من الشفع، وهذا المعنى لا تعتبر فيه الرتبة، فسقط قولهم، وبهذا الوجه
يسقط السؤال الثاني، وأيضا فنقول في الجواب عن السؤال الثاني: إنا وإن كنا نقطع بأن الله
تعالى يكرم رسوله ويعظمه سواء سالت الأمة ذلك أو لم تسأل، ولكنا لانقطع بأنه لا يجوز
أن يزيد في إكرامه بسبب سؤال الأمة ذلك على وجه لولا سؤال الأمة لما حصلت تلك
الزيادة وإذا كان هذا الاحتمال يجوز، وجب أن يبقى تجويز كوننا شافعين للرسول صلى الله
عليه وسلم ولما بطل باتفاق الأمة بطل قولهم، وعاشرها: قوله تعالى في صفة الملائكة
(الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا)
وصاحب الكبيرة من جملة المؤمنين فوجب دخوله في جملة من تستغفر الملائكة لهم، أقصى
ما في الباب أنه ورد بعد ذلك قوله (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) إلا أن هذا لا يقتضى
تخصيص ذلك العام لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ العام إذا ذكر بعده بعض أقسامه فان
ذلك لا يوجب تخصيص ذلك العام بذلك الخاص، الحادي عشر: الأخبار الدالة على حصول
الشفاعة لأهل الكبائر، ولنذكر منها ثلاثة أوجه الأول: قوله عليه الصلاة والسلام شفاعتي
لأهل الكبائر من أمتي قالت المعتزلة: الاعتراض عليه من ثلاثة وجوه: أحدها: أنه خبر واحد
ورد على مضادة القرآن فإنا بينا أن كثيرا من الآيات يدل على نفى هذه الشفاعة وخبر الواحد إذا
غير جائز لان شفاعته منصب عظيم فتخصيصه بأهل الكبائر فقط يقتضى حرمان أهل الثواب عنه
عنه وذلك غير جائز لأنه لا أقل من التسوية، وثالثها: أن هذه المسألة ليست من المسائل العملية
فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظن وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلا يجوز التمسك في هذه المسألة بهذا
الخبر. ثم إن سلمنا صحة الخبر لكن فيه احتمالات أحدها: أن يكون المراد منه الاستفهام بمعنى
62

الانكار يفنى أشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي كما أن المراد من قوله (هذا ربى) أي أهذا ربى،
وثانيها: أن لفظ الكبيرة غير مختص لا في أصل اللغة ولا في عرف الشرع بالمعصية بل كما يتناول
المعصية يتناول الطاعة قال تعالى في صفة الصلاة (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) وإذا كان كذلك
فقوله لأهل الكبائر لا يجب أن يكون المراد منه أهل المعاصي الكبيرة بل لعل المراد منه أهل الطاعات
الكبيرة. فان قيل: هب أن لفظ الكبيرة يتناول الطاعات والمعاصي ولكن قوله أهل الكبائر صيغة
جمع مقرونة بالألف واللام فيفيد العموم فوجب أن يدل الخبر على ثبوت الشفاعة لكل من كان
من أهل الكبائر سواء كان من أهل الطاعات الكبيرة أو المعاصي الكبيرة قلنا: لفظ الكبائر وإن
كان العموم إلا أن لفظ أهل مفرد فلا يفيد العموم فيكفي في صدق الخبر شخص واحد من أهل
الكبائر فنحمله على الشخص الآتي بكل الطاعات فإنه يكفي في العمل بمقتضى الحديث حمله عليه، وثالثها:
هب أنه يجب حمل أهل الكبائر على أهل المعاصي الكبيرة لكن أهل المعاصي الكبيرة أعم من أهل
المعاصي الكبيرة بعد التوبة أو قبل التوبة فنحن نحمل الخبر على أهل المعاصي الكبيرة بعد التوبة،
ويكون تأثير الشفاعة في أن يتفضل الله عليه بما انحبط من ثواب طاعته المتقدمة على فسقه سلمنا دلالة
الخبر على قولكم لكنه معارض بما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال أشفاعتي لأهل الكبائر
من أمتي ذكره مع همزى الاستفهام على سبيل الانكار، وروى الحسن عنه عليه الصلاة والسلام أنه
قال ما ادخرت شفاعتي إلا لأهل الكبائر من أمتي واعلم أن الانصاف أنه لا يمكن التمسك في مثل
هذه المسألة بهذا الخبر وحده ولكن بمجموع الأخبار الواردة في باب الشفاعة وإن سائر الأخبار
دالة على سقوط كل هذه التأويلات، الثاني: روي أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل
نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة
إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا رواه مسلم في الصحيح والاستدلال به أن
الحديث صريح في أن شفاعته صلى الله عليه وسلم تنال كل مات من أمته لا يشرك بالله شيئا وصاحب
الكبيرة كذلك فوجب أن تناله الشفاعة، والثالث: عن أبي هريرة قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوما بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة هل
تدرون لم ذلك؟ قالوا لا يا رسول الله قال يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم
الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون فيقول
بعض الناس لبعض ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم ألا تذهبون إلى من يشفع لكم
إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فيأتون آدم. فيقولون يا آدم أنت أبو البشر
خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى
ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لهم: إن ربى قد غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قبله ولن
يضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته: نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى
63

نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسماك الله عبدا شكورا
اشفع لنا إلى ربك الا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربى قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله
مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي اذهبوا إلى غيري اذهبوا
إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم عليه السلام فيقولون أنت إبراهيم نبي الله وخليله من أهل الأرض
اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى من نحن فيه فيقول له إبراهيم إن ربى قد غضب اليوم غضبا لم
يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا
إلي موسى، فيأتون موسى ويقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وبكلامه على
الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم موسى إن ربى قد غضب اليوم غضبا
لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي اذهبوا
إلى غيري اذهبوا إلى عيسى بن مريم، فيأتون عيسى فيقولون أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى
مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم
عيسى إن ربى قد غضب اليوم غضا لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله ولم يذكر له
ذنبا، نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد. فيأتوني فيقولون يا محمد أنت رسول
الله وخاتم النبيين وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك،
ألا ترى ما نحن فيه؟ فأنطلق وأتسأذن على ربى فيؤذن لي فإذا رأيت ربى وقعت ساجدا
فيدعني ما شاء الله أن يدعنى ثم يقول لي: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع
تشفع فأحمد ربى بمحامد علمنيها: ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم ارجع فإذا رأيت
ربى تبارك وتعالى وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعنى، ثم يقول ارفع رأسك وقل
تسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأحمد ربى بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم
الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربى وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعنى، ثم يقول يا محمد
ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأحمد ربى بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد
لي حدا فأدخلهم الجنة. ثم أرجع فأقول يا رب ما بقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب
عليه الخلود وأكثر هذا الخبر مخرج بلفظه في الصحيحين. قالت المعتزلة الكلام على هذا
الخبر وأمثاله من وجوه أحدها: أن هذه الأخبار أخبار طويلة فلا يمكن ضبطها بلفظ الرسول
صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أن الراوي إنما رواها بلفظ نفسه، وعلى هذا التقدير لا يكون
شئ منها حجة، وثانيها: أنها خبر عن واقعة واحدة وأنها رويت على وجوه مختلفة مع الزيادات
والنقصانات، وذلك أيضا مما يطرق التهمة إليها. وثالثها: أنها مشتملة على التشبيه وذلك باطل
أيضا يطرق التهمة إليها، ورابعها: أنها وردت على خلاف ظاهر القرآن. وذلك أيضا يطرق
التهمة إليها، وخامسها: أنها خبر عن واقعة عظيمة تتوافر الدواعي على نقلها، فلو كان صحيحا لو جب
64

بلوغه إلى التواتر وحيث لم يكن كذلك فقد تطرقت التهمة إليها، وسادسها: أن الاعتماد على
خبر الواحد الذي لا يفيد إلا الظن في المسائل القطعية غير جائز. أجاب أصحابنا عن هذه
المطاعن بأن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان مرويا بالآحاد إلا أنها كثيرة جدا وبينها
قدر مشترك واحد وهو خروج أهل العقاب من النار بسبب الشفاعة فيصير هذا المعنى مرويا
على سبيل التواتر فيكون حجة والله أعلم. والجواب على جميع أدلة المعتزلة بحرف واحد وهو
أن أدلتهم على نفى الشفاعة تفيد نفى جميع أقسام الشفاعات، وأدلتنا على إثبات الشفاعة تفيد
إثبات شفاعة خاصة والعام والخاص إذا تعارضا قدم الخاص على العام فكانت دلائلنا مقدمة
على دلائلهم، ثم إنا نخص كل واحد من الوجوه التي ذكروها بجواب على حدة:
أما (الوجه الأول) وهو التمسك بقوله تعالى (ولا يقبل منها شفاعة) فهب أن العبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن تخصيص مثل هذا العام بذلك السبب الخصوص يكفي فيه
أدنى دليل، فإذا قامت الدلائل الدالة على وجود الشفاعة وجب المصير إلى تخصيصها.
وأما (الوجه الثاني) وهو قوله تعالى (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) فالجواب عنه
أن قوله (ما للظالمين من حميم ولا شفيع) نقيض لقولنا: للظالمين حميم وشفيع، لكن قولنا
للظالمين حميم وشفيع موجبة كلية، ونقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية، والسالبة الجزئية يكفي
في صدقها تحقق ذلك السلب في بعض الصور، ولا يحتاج فيه إلى تحقق ذلك السلب في جميع
الصور، وعلى هذا فنحن نقول بموجبه لان عندنا أنه ليس لبعض الظالمين حميم ولا شفيع يجاب
وهم الكفار، فأما أن يحكم على كل واحد منهم بسلب الحميم والشفيع فلا.
وأما (الوجه الثالث) وهو قوله (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة
فالجواب عنه ما تقدم في الوجه الأول.
وأما (الوجه الرابع) وهو قوله (وما للظالمين من أنصار) فالجواب عنه أنه نقيض لقولنا:)
للظالمين أنصار وهذه موجبة كلية فقوله (وما للظالمين من أنصار) سالبة جزئية فيكون مدلوله
سلب العموم وسلب العموم لا يفيد عموم السلب.
وأما (الوجه السادس) وهو قوله (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) فهذا وارد في حق الكفار
وهو يدل بسبب التخصيص على ضد هذا الحكم في حق المؤمنين.
وأما (الوجه السابع) وهو قول المسلمين: اللهم اجعلنا من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فالجواب عنه
أن عندنا تأثير الشفاعة في جلب أمر مطلوب وأعنى به القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على
قدر الاستحقاق ودفع المضار المستحقة على المعاصي، وذلك القدر المشترك لا يتوقف على كون
العبد عاصيا فاندفع السؤال.
65

وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم
ويستحيون نسآءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم
وأما (الوجه الثاني) وهو التمسك بقوله (وإن الفجار لفي جحيم) فالكلام عليه سيأتي إن
الله تعالى في مسألة الوعيد.
وأما (الوجه التاسع) وهو قوله لم يوجد ما يدل على إذن الله عز وجل في الشفاعة لأصحاب
الكبائر، فجوابه أن هذا ممنوع والدليل عليه ما أوردناه من الدلائل الدالة على حصول هذه الشفاعة.
وأما (الوجه العاشر) وهو قوله في حق الملائكة (فاغفر للذين تابوا) فجوابه ما بينا أن خصوص
آخر هذه الآية لا يقدح في عموم أولها.
وأما الأحاديث فهي دالة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يشفع لبعض الناس ولا يشفع في بعض مواطن
القيامة، وذلك لا يدل على أنه لا يشفع لأحد البتة من أصحاب الكبائر ولا أنه يمتنع من الشفاعة
في جميع المواطن. والذي تحققه أنه تعالى بين أن أحدا من الشافعين لا يشفع إلا بإذن الله فلعل
الرسول لم يكن مأذونا في بعض المواضع وبعض الأوقات فلا يشفع في ذلك المكان ولا في ذلك
الزمان ثم يصير مأذونا في موضع آخر وفى وقت آخر في الشفاعة فيشفع هناك والله أعلم.
قالت الفلاسفة في تأويل الشفاعة: إن واجب الوجود عام الفيض تام الجود فحيث لا يحصل
فإنما لا يحصل لعدم كون القابل مستعدا، ومن الجائز أن لا يكون الشئ مستعدا لقبول الفيض
عن واجب الوجود إلا أن يكون مستعدا لقبول ذلك الفيض من شئ قبله عن واجب الوجود،
فيكون ذلك الشئ كالمتوسط بين واجب الوجود وبين ذلك الشئ الأول، ومثاله في المحسوس أن
الشمس لا تضئ إلا للقابل المقابل وسقف البيت لما لم يكن مقابلا لجرم الشمس لا جرم لم يكن
فيه استعداد لقبول النور عن الشمس إلا أنه إذا وضع طست مملوء من الماء الصافي ووقع عليه
ضوء الشمس انعكس ذلك الضوء من ذلك الماء إلى السقف فيكون ذلك الماء الصافي متوسطا في
وصول النور من قرص الشمس إلى السقف الذي هو غير مقابل للشمس، وأرواح الأنبياء
كالوسائط بين واجب الوجود وبين أرواح عوام الخلق في وصول فيض واجب الوجود إلى
أرواح العامة، فهذا ما قالوه في الشفاعة تفريعا على أصولهم.
قوله تعالى (* (وإذ نجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم ويستحيون
نسآءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم) *
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر نعمه على بني إسرائيل إجمالا بين بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة، فكأنه قال: اذكروا نعمتي واذكروا إذ نجيناكم
66

واذكروا إذ فرقنا بكم البحر وهي إنعامات، والمذكور في هذه الآية هو الإنعام الأول. أما قوله: * (وإذ نجيناكم) * فقرئ أيضا أنجيناكم ونجيتكم، قال القفال: أصل الإنجاء والتنجية التخليص، وأن بيان الشيء من الشيء حتى لا يتصلا وهما لغتان نجى وأنجى ونجا بنفسه، وقالوا لمكان العالي: نجوة لأن من صار إليه نجا، أي تخلص ولأن الموضع المرتفع بائن عما انحط عنه فكأنه متخلص منه. قال صاحب الكشاف: أصل آل أهل ولذلك يصغر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفا وخص استعماله بأولى الخطر والشأن، كالملوك وأشباههم ولا يقال: آل الحجام والإسكاف، قال عيسى: الأهل أعم من الآل، يقال: أهل الكوفة وأهل البلد وأهل العلم ولا يقال: آل الكوفة وآل البلد وآل العلم، فكأنه قال: الأهل هم خاصة الشيء من جهة تغليبه عليهم، والآل خاصة الرجل من جهة قرابة أو صحبة. وحكى عن أبي عبيدة أنه سمع فصيحا يقول: أهل مكة آل الله. أما فرعون فهو علم لمن ملك مصر من العمالقة كقيصر وهرقل لملك الروم وكسرى لملك الفرس وتبع لملك اليمن وخاقان لملك الترك، واختلفوا في فرعون من وجهين، أحدهما: أنهم اختلفوا في اسمه فحكى ابن جريج عن قوم أنهم قالوا: مصعب بن ريان، وقال ابن إسحاق: هو الوليد ابن مصعب، ولم يكن من الفراعنة أحد أشد غلظة ولا أقسى قلبا منه، وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا: إن اسم فرعون كان قابوس وكان من القبط، الثاني: قال ابن وهب: إن فرعون يوسف عليه السلام هو فرعون موسى وهذا غير صحيح، إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين أن دخلها موسى أكثر من أربعمائة سنة، وقال محمد بن إسحاق: هو غير فرعون يوسف وأن فرعون يوسف كان اسمه الريان بن الوليد، أما آل فرعون فلا شك أن المراد منه ههنا من كان من قوم فرعون وهم الذين عزموا على إهلاك بني إسرائيل ليكون تعالى منجيا لهم منهم بما تفضل به من الأحوال التي توجب بقاءهم وهلاك فرعون وقومه. أما قوله تعالى: * (يسومونكم) * فهو من
سامه خسفا إذا أولاه ظلما، قال عمرو بن كلثوم: إذا ما الملك سام الناس خسفا * أبينا أن نقر الخسف فينا
وأصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونه بكم، والسوء مصدر ساء بمعنى السيئ، يقال: أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل يراد قبحهما، ومعنى سوء العذاب والعذاب كله سئ أشده وأصعبه كأن قبحه (زاد) بالإضافة إلى ساء، واختلف المفسرون في المراد من " سوء العذاب " فقال محمد بن إسحاق: إنه جعلهم خولا وخدما له وصنفهم في أعماله أصنافا، فصنف كانوا يبنون له، وصنف كانوا يحرثون له، وصنف كانوا يزرعون له، فهم كانوا في أعماله ومن لم يكن في نوع من أعماله كان يأمر بأن يوضع عليه جزية يؤديها، وقال السدي: كان قد جعلهم في الأعمال القذرة الصعبة مثل لنس المبرز وعمل الطين ونحت الجبال، وحكى الله تعالى عن بني إسرائيل أنهم قالوا لموسى: * (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) * (الأعراف: 129). وقال موسى لفرعون: (وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل)، واعلم أن كون الإنسان
67

تحت يد الغير بحيث يتصرف فيه كما يشاء لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة الصعبة القذرة، فإن ذلك يكون من أشد أنواع العذاب، حتى أن من هذه حالته ربما تمنى الموت فبين الله تعالى عظيم نعمه عليهم بأن نجاهم من ذلك، ثم إنه تعالى أتبع ذلك بنعمة أخرى أعظم منها، فقال: * (يذبحون أبناءكم) * ومعناه يقتلون الذكورة من الأولاد دون الإناث. وههنا أبحاث.
البحث الأول: أن ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه، أحدها: أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال، وذلك يقتضي انقطاع النسل، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك، وذلك يقضي آخر الآمر إلى هلاك الرجال والنساء، وثانيها: أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة، فإن المرأة لتتمنى وقد انقطع عنها تعهد الرجال وقيامهم بأمرها الموت، لما قد يقع إليها من نكد العيش بالانفراد فصارت هذه الخصلة عظيمة في المحن، والنجاة منها في العظم تكون بحسبها، وثالثها: أن قتل الولد عقيب الحمل الطويل وتحمل الكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب، لأن قتله والحالة هذه أشد من قتل من بقي المدة الطويلة مستمتعا به مسرورا بأحواله، فنعمة الله من التخليص لهم من ذلك بحسب شدة المحنة فيه، ورابعها: أن الأبناء أحب إلى الوالدين من البنات، ولذلك فإن أكثر الناس يستثقلون البنات ويكرهونهن وإن كثر ذكرانهم، ولذلك قال تعالى: * (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به) * (النحل: 58) الآية، ولذلك نهى العرب عن الوأد بقوله: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * (الإسراء: 31) وإنما كانوا يئدون الإناث دون الذكور، وخامسها: أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان.
البحث الثاني: ذكر في هذه السورة * (يذبحون) * بلا واو وفي سورة إبراهيم ذكره مع الواو، والوجه فيه أنه إذا جعل قوله: * (يسومونكم سوء العذاب) * مفسرا بقوله: * (يذبحون أبناءكم) * لم يحتج إلى الواو، وأما إذا جعل قوله: * (يسومونكم سوء العذاب) * مفسرا بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح وجعل الذبح شيئا آخر سوى سوء العذاب، احتيج فيه إلى الواو، وفي الموضعين يحتمل الوجهين، إلا أن الفائدة التي يجوز أن تكون هي المقصودة من ذكر حرف العطف في سورة إبراهيم أن يقال: إنه تعالى قال قبل تلك الآية: * (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن اخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله) * (إبراهيم:) والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا بتعديد نعم الله تعالى، فوجب أن يكون المراد من قوله: * (يسومونكم سوء العذاب) * نوعا من العذاب، والمراد من قوله: * (ويذبحون أبناءكم) * نوعا آخر ليكون التخلص منهما نوعين من النعمة. فلهذا وجب ذكر العطف هناك، وأما في هذه الآية لم يرد الأمر إلا بتذكير جنس النعمة وهي قوله: * (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * (البقرة: 40، 47، 122) فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذبح أو غيره كان تذكير جنس النعمة حاصلا فظهر الفرق.
البحث الثالث: قال بعضهم: أراد بقوله: * (يذبحون أبناءكم) * الرجال دون الأطفال ليكون
68

في مقابلة النساء إذ النساء هن البالغات، وكذا المراد من الأبناء هم الرجال البالغون، قالوا: إنه كان يأمر بقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه والتجمع لإفساد أمره. وأكثر المفسرين على أن المراد بالآية الأطفال دون البالغين، وهذا هو الأولى لوجوه:
الأول: حملا للفظ الأبناء على ظاهره. الثاني: أنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم. الثالث: أنهم كانوا محتاجين إليهم في استعمالهم في الصنائع الشاقة. الرابع: أنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى عليه السلام في التابوت حال صغره معنى، أما قوله وجب حمله على الرجال ليكون في مقابلة النساء ففيه جوابان: الأول: أن الأبناء لما قتلوا حال الطفولية لم يصيروا رجالا، فلم يجز إطلاق اسم الرجال عليهم، أما البنات لما لم يقتلن بل وصلن إلى حد النساء جاز إطلاق اسم النساء عليهن. الثاني: قال بعضهم: المراد بقوله: * (ويستحيون نساءكم) *، أي يفتشون حياء المرأة أي فرجها هل بها حمل أم لا، وأبطل ذلك بأن ما في بطونهن إذا لم يكن للعيون ظاهرا لم يعلم بالتفتيش ولم يوصل إلى استخراجه باليد.
البحث الرابع: في سبب قتل الأبناء ذكروا فيه وجوها. أحدها: قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا فخافوا ذلك واتفقت كلمتهم على إعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، فلما رأوا كبارهم يموتون وصغارهم يذبحون خافوا الفناء فحينئذ لا يجدون من يباشر الأعمال الشاقة، فصاروا يقتلون عاما دون عام. وثانيها: قول السدي: إن فرعون رأى نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده، وثالثها: أن المنجمين أخبروا فرعون بذلك وعينوا له السنة فلهذا كان يقتل أبناءهم في تلك السنة والأقرب هو الأول، لأن الذي يستفاد من علم التعبير وعلم النجوم لا يكون أمرا مفصلا وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغيب معجزا بل يكون أمرا مجملا والظاهر من حال العاقل أن لا يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه، فإن قيل:
إن فرعون كان كافرا بالله فكان بأن يكون كافرا بالرسل أولى، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقدم على هذا الأمر العظيم بسبب إخبار إبراهيم عليه السلام عنه. قلنا: لعل فرعون كان عارفا بالله وبصدق الأنبياء إلا أنه كان كافرا كفر الجحود والعناد أو يقال: إنه كان شاكا متحيرا في دينه وكان يجوز صدق إبراهيم عليه السلام فأقدم على ذلك الفعل احتياطا.
البحث الخامس: اعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة من وجوه، أحدها: أن هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة صار تخليص الله إياهم من هذه المحن من أعظم النعم وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم ولا شك في أن ذلك من أعظم النعم وتعظيم النعمة يوجب الانقياد والطاعة، ويقتضي نهاية قبح المخالفة والمعاندة، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه النعمة العظيمة مبالغة في إلزام الحجة عليهم وقطعا لعذرهم. وثانيها: أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل وكان خصمهم في نهاية
69

العز إلا أنهم كانوا محقين وكان خصمهم مبطلا لا جرم زال ذل المحقين وبطل عز المبطلين، فكأنه تعالى قال: لا تغتروا بفقر محمد وقلة أنصاره في الحال، فإنه محق لا بد وأن ينقلب العز إلى جانبه والذل إلى جانب أعدائه، وثالثها: أن الله تعالى نبه بذلك على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء، فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا بل عليه السعي في طلب عز الآخرة. أما قوله تعالى: * (وفي ذالكم بلاء من ربكم عظيم) * قال القفال: أصل الكلمة من الابتلاء وهو الاختيار والامتحان قال تعالى: * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) * (الأنبياء: 35) وقال: * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) * (الأعراف: 168) والبلوى واقعة على النوعين، فيقال للنعمة بلاء وللمحنة الشديدة بلاء والأكثر أن يقال في الخير إبلاء وفي الشر بلاء وقد يدخل أحدهما على الآخر. قال زهير:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم * وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
إذ عرفت هذا فنقول: البلاء ههنا هو المحنة إن أشير بلفظ: " ذلكم " إلى صنع فرعون والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء وحمله على النعمة أولى لأنها هي التي صدرت من الرب تعالى، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم.
* (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون) *
هذا هو النعمة الثانية، وقوله: * (فرقنا) * أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم وقرئ: * (فرقنا) * بالتشديد بمعنى فصلنا. يقال: فرق بين الشيئين وفرق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثنتي عشرة على عدد الأسباط، فإن قلت: ما معنى: (بكم)؟ قلنا: فيها وجهان، أحدهما: أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما، الثاني: فرقناه بسببكم وبسبب إنجائكم ثم ههنا أبحاث:
البحث الأول: روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط، وذلك لغرضين. أحدهما: ليخرجوا خلفهم لأجل المال، والثاني: أن تبقى أموالهم في أيديهم ثم نزل جبريل عليه السلام بالعشي وقال لموسى: أخرج قومك ليلا، وهو المراد من قوله: * (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) * (طه: 77) وكانوا ستمائة ألف نفس لأنهم كانوا اثني عشر سبطا كل سبط خمسون ألفا، فلما خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون، فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. قال الراوي: فوالله ما صاح ليلته ديك فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال: لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط، وقال قتادة: اجتمع إليه ألف ألف
70

ومائتا ألف نفس كل واحد منهم على فرس حصان فتبعوهم نهارا. وهو قوله تعالى: * (فأتبعوهم مشرقين) * (الشعراء: 60) أي بعد طلوع الشمس. * (فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون) * (الشعراء: 61) فقال موسى: * (كلا إن معي ربي سيهدين) * (الشعراء: 62) فلما سار بهم موسى وأتى البحر قال له يوشع بن نون: أين أمرك ربك؟ فقال موسى: إلى أمامك وأشار إلى البحر فأقحم يوشع بن نون فرسه في البحر فكان يمشي في الماء حتى بلغ الغمر، فسبح الفرس وهو عليه ثم رجع وقال له: يا موسى أين أمرك ربك؟ فقال البحر، فقال: والله ما كذبت، ففعل ذلك ثلاث مرات، فأوحى الله إليه: * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) * (الشعراء: 67)، فانشق البحر اثني عشر جبلا في كل واحد منها طريق، فقال له: ادخل فكان فيه وحل فهبت الصبا فجف البحر، وكل طريق فيه حتى صار طريقا يابسا كما قال تعالى: * (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) * (طه: 77)، فأخذ كل سبط منهم طريقا ودخلوا فيه فقالوا لموسى: إن بعضنا لا يرى صاحبه، فضرب موسى عصاه على البحر فصار بين الطرق منافذ وكوى فرأى بعضهم بعضا، ثم أتبعهم فرعون، فلما بلغ شاطئ البحر رأى إبليس واقفا فنهاه عن الدخول فهم بأن لا يدخل البحر فجاء جبريل عليه السلام على حجرة فتقدم فرعون وهو كان على فحل فتبعه فرس فرعون ودخل البحر، فلما دخل فرعون البحر صاح ميكائيل بهم الحقوا آخركم بأولكم، فلما دخلوا البحر بالكلية أمر الله الماء حتى نزل عليهم في ذلك قوله تعالى: * (وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون) * وقيل كان ذلك اليوم يوم عاشوراء، فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكرا لله تعالى.
البحث الثاني: اعلم أن هذه الواقعة تضمنت نعما كثيرة في الدين والدنيا، أما نعم الدنيا في حق موسى عليه السلام فهي من وجوه، أحدها: أنهم لما وقعوا في ذلك المضيق الذي من ورائهم فرعون وجنوده وقدامهم البحر، فإن توقفوا أدركهم العدو وأهلكهم بأشد العذاب وإن ساروا غرقوا فلا خوف أعظم من ذلك، ثم إن الله نجاهم بفلق البحر فلا فرج أشد من ذلك. وثانيها: أن الله تعالى خصهم بهذه النعمة العظيمة والمعجزة الباهرة، وذلك سبب لظهور كرامتهم على الله تعالى. وثالثها: أنهم شاهدوا أن الله تعالى أهلك أعداءهم ومعلوم أن الخلاص من مثل هذا البلاء من أعظم النعم، فكيف إذا حصل معه ذلك الإكرام العظيم وإهلاك العدو. ورابعها: أن أورثهم أرضهم وديارهم ونعمهم وأموالهم. وخامسها: أنه تعالى لما أغرق آل فرعون فقد خلص بني إسرائيل منهم، وذلك نعمة عظيمة لأنه كان خائفا منهم، ولو أنه تعالى
خلص موسى وقومه من تلك الورطة وما أهلك فرعون وقومه لكان الخوف باقيا من حيث إنه ربما اجتمعوا واحتالوا بحيلة وقصدوا إيذاء موسى عليه السلام وقومه، ولكن الله تعالى لما أغرقهم فقد حسم مادة الخوف بالكلية. وسادسها: أنه وقع ذلك الإغراق بمحضر من بني إسرائيل وهو المراد من قوله تعالى: * (وأنتم تنظرون) * وأما نعم الدين في حق موسى عليه السلام فمن وجوه، أحدها: أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات، فإن دلالة مثل هذا المعجز
71

على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى عليه السلام تقرب من العلم الضروري، فكأنه تعالى رفع عنهم تحمل النظر الدقيق والاستدلال الشاق. وثانيها: أنهم لما عاينوا ذلك صار داعيا لهم إلى الثبات على تصديق موسى والانقياد له وصار ذلك داعيا لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى عليه السلام والإقدام على تكذيب فرعون. وثالثها: أنهم عرفوا أن الأمور بيد الله فإنه لا عز في الدنيا أكمل مما كان لفرعون ولا شدة أشد مما كانت ببني إسرائيل، ثم إن الله تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلا والذليل عزيزا، وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا والإقبال بالكلية على خدمة الخالق والتوكل عليه في كل الأمور، وأما النعم الحاصلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ذكر هذه القصة فكثيرة، أحدها: أنه كالحجة لمحمد صلى الله عليه وسلم على أهل الكتاب لأنه كان معلوما من حال محمد عليه الصلاة والسلام أنه كان أميا لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط أهل الكتاب فإذا أورد عليهم من أخبارهم المفصلة ما لا يعلم إلا من الكتب علموا أنه أخبر عن الوحي وأنه صادق، فصار ذلك حجة له عليه السلام على اليهود وحجة لنا في تصديقه. وثانيها: أنا إذا تصورنا ما جرى لهم وعليهم من هذه الأمور العظيمة علمنا أن من خالف الله شقي في الدنيا والآخرة ومن أطاعه فقد سعد في الدنيا والآخرة، فصار ذلك مرغبا لنا في الطاعة ومنفرا عن المعصية. وثالثها: أن أمة موسى عليه السلام مع أنهم خصوا بهذه المعجزات الظاهرة والبراهين الباهرة، فقد خالفوا موسى عليه السلام في أمور حتى قالوا: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) *، وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمع أن معجزتهم هي القرآن الذي لا يعرف كونه معجزا إلا بالدلائل الدقيقة انقادوا لمحمد صلى الله عليه وسلم وما خالفوه في أمر البتة، وهذا يدل على أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من أمة موسى عليه السلام. وبقي على الآية سؤالان: السؤال الأول: أن فلق البحر في الدلالة على وجود الصانع القادر وفي الدلالة على صدق موسى كالأمر الضروري، فكيف يجوز فعله في زمان التكليف؟ والجواب: أما على قولنا فظاهر، وأما المعتزلة فقد أجاب الكعبي الجواب الكلي بأن في المكلفين من يبعد عن الفطنة والذكاء ويختص بالبلادة وعامة بني إسرائيل كانوا كذلك، فاحتاجوا في التنبيه إلى معاينة الآيات العظام كفلق البحر ورفع الطور وإحياء الموتى، ألا ترى أنهم بعد ذلك مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: (يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)، وأما العرب فحالهم بخلاف ذلك، لأنهم كانوا في نهاية الكمال في العقول، فلا جرم، اقتصر الله تعالى معهم على الدلائل الدقيقة والمعجزات اللطيفة.
السؤال الثاني: أن فرعون لما شاهد فلق البحر وكان عاقلا فلا بد وأن يعلم أن ذلك ما كان من فعله بل لا بد من قادر عالم مخالف لسائر القادرين، فكيف بقي على الكفر مع ذلك؟ فإن قلت: إنه كان عارفا بربه إلا أنه كان كافرا على سبيل العناد والجحود. قلت: فإذا عرف ذلك بقلبه فكيف استخار توريط نفسه في المهلكة ودخول البحر مع أنه كان في تلك الساعة كالمضطر
72

إلى العلم بوجود الصانع وصدق موسى عليه السلام، والجواب: حب الشيء يعمي ويصم فحبه الجاه والتلبيس حمله على اقتحام تلك المهلكة.
وأما قوله تعالى: * (وأنتم تنظرون) * ففيه وجوه. أحدها: أنكم ترون التطام أمواج البحر بفرعون وقومه. وثانيها: أن قوم موسى عليه السلام سألوه أن يريهم الله تعالى حالهم فسأل موسى عليه السلام ربه أن يريهم إياهم فلفظهم البحر ألف ألف ومائتي ألف نفس وفرعون معهم، فنظروا إليهم طافين وإن البحر لم يقبل واحدا منهم لشؤم كفرهم فهو قوله تعالى: * (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) * (يونس: 92) أي نخرجك من مضيق البحر إلى سعة الفضاء ليراك الناس، وتكون عبرة لهم. وثالثها: أن المراد وأنتم بالقرب منهم حيث توجهونهم وتقابلونهم وإن كانوا لا يرونهم بأبصارهم، قال الفراء وهو مثل قولك: لقد ضربتك وأهلك ينظرون إليك فما أغاثوك تقول ذلك إذا قرب أهله منه وإن كانوا لا يرونه ومعناه راجع إلى العلم.
* (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون) *
اعلم أن هذا هو الإنعام الثالث. فأما قوله تعالى: * (وإذ واعدنا) * فقرأ أبو عمرو ويعقوب وإذ وعدنا موسى بغير ألف في هذه السورة وفي الأعراف وطه وقرأ الباقون واعدنا بالألف في المواضع الثلاثة، فأما بغير ألف فوجهه ظاهر لأن الوعد كان من الله تعالى، والمواعدة مفاعلة ولا بد من اثنين، وأما بالألف فله وجوه، أحدها: أن الوعد وإن كان من الله تعالى فقبوله كان من موسى عليه السلام وقبول الوعد يشبه الوعد، لأن القابل للوعد لا بد وأن يقول أفعل ذلك، وثانيها: قال القفال: لا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله ويكون معناه يعاهد الله. وثالثها: أنه أمر جرى بين اثنين فجاز أن يقال واعدنا. ورابعها: وهو الأقوى أن الله تعالى وعده الوحي وهو وعد الله المجيء للميقات إلى الطور، أما موسى ففيه وجوه، أحدها: وزنه فعلي والميم فيه أصلية أخذت من ماس يميس إذا تبختر في مشيته وكان موسى عليه السلام كذلك. وثانيها: وزنه مفعل فالميم فيه زائدة وهو من أوسيت الشجرة إذا أخذت ما عليها من الورق وكأنه سمي بذلك لصلعه، وثالثها: أنها كلمة مركبة من كلمتين بالعبرانية فمو هو الماء بلسانهم، وسى هو الشجر، وإنما سمي بذلك لأن أمه جعلته في التابوت حين خافت عليه من فرعون فألقته في البحر فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون، فخرجت جواري آسية
73

امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأخذنه
فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه وهو الماء والشجر. واعلم أن الوجهين الأولين فاسدان جدا، أما الأول: فلأن بني إسرائيل والقبط ما كانوا يتكلمون بلغة العرب فلا
يجوز أن يكون مرادهم ذلك، وأما الثاني: فلأن هذه اللفظة اسم علم واسم العلم لا يفيد معنى في الذات والأقرب هو الوجه الثالث وهو أمر معتاد بين الناس، فأما نسبه صلى الله عليه وسلم فهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. أما قوله تعالى: * (أربعين ليلة) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: إن خرجنا من البحر سالمين أتيتكم من عند الله بكتاب بين لكم فيه ما يجب عليكم من الفعل والترك، فلما جاوز موسى البحر ببني إسرائيل وأغرق الله فرعون قالوا: يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود فذهب إلى ربه ووعدهم أربعين ليلة وذلك قوله تعالى: * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) * (الأعراف: 142) واستخلف عليهم هارون ومكث على الطور أربعين ليلة وأنزل الله التوراة عليه في الألواح، وكانت الألواح من زبرجد فقربه الرب نجيا وكلمه من غير واسطة وأسمعه صرير القلم، قال أبو العالية وبلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور: البحث الثاني: إنما قال أربعين ليلة لأن الشهور تبدأ من الليالي.
البحث الثالث: قوله تعالى: * (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) * معناه واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة كقولهم: اليوم أربعون يوما منذ خرج فلان، أي تمام الأربعين، والحاصل أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) وأيضا فليس المراد انقضاء أي أربعين كان، بل أربعين معينا وهو الثلاثون من ذي القعدة والعشر الأول من ذي الحجة لأن موسى عليه السلام كان عالما بأن المراد هو هذه الأربعون، وأيضا فقوله تعالى: * (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) * يحتمل أن يكون المراد أنه وعد قبل هذه الأربعين أن يجيء إلى الجبل هذه الأربعين حتى تنزل عليه التوراة، ويحتمل أن يكون المراد أنه أمر بأن يجيء إلى الجبل هذه الأربعين ووعد بأنه ستنزل عليه بعد ذلك التوراة، وهذا الاحتمال الثاني هو المتأيد بالأخبار.
البحث الرابع: قوله ههنا: * (وإذا واعدنا موسى أربعين ليلة) * يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين، وقوله في الأعراف * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) * يفيد أن المواعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين فكيف التوفيق بينهما؟ أجاب الحسن البصري فقال: ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة ثم بعد ذلك وعده بعشر لكنه وعده أربعين ليلة جميعا، وهو كقوله: * (ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) * (البقرة: 196).
أما قوله تعالى: * (ثم اتخذتم العجل من بعده) * ففيه أبحاث:
74

البحث الأول: إنما ذكر لفظه (ثم) لأنه تعالى وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين. وأظهر في ذلك درجة موسى عليه السلام وفضيلة بني إسرائيل ليكون ذلك تنبيها للحاضرين على علو درجتهم وتعريفا للغائبين وتكملة للدين، كان ذلك من أعظم النعم فلما أتوا عقيب ذلك بأقبح أنواع الجهل والكفر كان ذلك في محل التعجب فهو كمن يقول إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا، ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء.
البحث الثاني: قال أهل السير إن الله تعالى لما أغرق فرعون ووعد موسى عليه السلام إنزال التوراة عليه قال موسى لأخيه هارون: * (أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) * (الأعراف: 142)، فلما ذهب موسى إلى الطور، وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي الذي استعاروه من القبط قال لهم هارون إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فأحرقوها فجمعوا نارا وأحرقوها، وكان السامري في مسيره مع موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل عليه السلام حين تقدم على فرعون في دخول البحر فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة، ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب والفضة وصور منه عجلا وألقى ذلك التراب فيه فخرج منه صوت كأنه الخوار، فقال للقوم: * (هذا إلهكم وإله موسى) * (طه: 88)، فاتخذه القوم إلها لأنفسهم فهذا ما في الرواية ولقائل أن يقول: الجمع العظيم من العقلاء لا يجوز أن يتفقوا على ما يعلم فساده ببديهة العقل وهذه الحكاية كذلك لوجوه: أحدها: أن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم المتخذ من الذهب الذي لا يتحرك ولا يحس ولا يعقل يستحيل أن يكون إله السماوات والأرض، وهب أنه ظهر من خوار ولكن هذا القدر لا يصلح أن يكون شبهة في قلب أحد من العقلاء في كونه إلها، وثانيها: أن القوم كانوا قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات القاهرة التي تكون قريبة من حد الإلجاء في الدلالة على الصانع وصدق موسى عليه السلام، فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حد الضرورة ومع أن صدور الخوار من ذلك العجل المتخذ من الذهب يستحيل أن يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلها. والجواب: هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلا على وجه واحد، وهو أن يقال: إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى عليه السلام إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية وكان يقدر بواسطتها على هذه المعجزات، فقال السامري للقوم: وأنا أتخذ لكم طلسما مثل طلسمه وروح عليهم ذلك بأن جعله بحث خرج منه صوت عجيب فأطمعهم في أن يصيروا مثل موسى عليه السلام في الإتيان بالخوارق، أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام فلذلك وقعوا في تلك الشبهة.
البحث الثالث: هذه القصة فيها فوائد: أحدها: أنها تدل على أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم، لأن أولئك اليهود مع أنهم شاهدوا تلك البراهين القاهرة اغتروا بهذه الشبهة الركيكة جدا، وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم مع أنهم محتاجون في معرفة كون القرآن
75

معجزا إلى الدلائل الدقيقة لم يعتروا بالشبهات القوية العظيمة، وذلك يدل على أن هذه الأمة خير من أولئك وأكمل عقلا وأزكى خاطرا منهم. وثانيها: أنه عليه الصلاة والسلام ذكر هذه الحكاية مع أنه لم يتعلم علما، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام استفادها من الوحي. وثالثها: فيه تحذير عظيم من التقليد والجهل بالدلائل فإن أولئك الأقوام لو أنهم عرفوا الله بالدليل معرفة تامة لما وقعوا في شبهة السامري. ورابعها: في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى بالخلاف عليه وكأنه تعالى أمره بالصبر على ذلك كما صبر موسى عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة النكدة فإنهم بعد أن خلصهم الله من فرعون
وأراهم المعجزات العجيبة من أول ظهور موسى إلى ذلك الوقت اغتروا بتلك الشبهة الركيكة، ثم إن موسى عليه السلام صبر على ذلك فلأن يصبر محمد عليه الصلاة والسلام على أذية قومه كان ذلك أولى. وخامسها: أن أشد الناس مجادلة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وعداوة له هم اليهود فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد فكيف هؤلاء الأخلاف.
أما قوله تعالى: * (وأنتم ظالمون) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: في تفسير الظلم وفيه وجهان. الأول: قال أبو مسلم الظلم في أصل اللغة هو النقص، قال الله تعالى: * (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) * (الكهف: 33)، والمعنى أنهم لما تركوا عبادة الخالق المحيي المميت واشتغلوا بعبادة العجل فقد صاروا ناقصين في خيرات الدين والدنيا. والثاني: أن الظلم في عرف الشرع عبارة عن الضرر الخالي من نفع يزيد عليه ودفع مضرة أعظم منه والاستحقاق عن الغير في علمه أو ظنه، فإذا كان الفعل بهذه الصفة كان فاعله ظالما ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤديه إلى العقاب والنار قيل: إنه ظالم نفسه وإن كان في الحال نفعا ولذة كما قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13)، وقال: * (فمنهم ظالم لنفسه) * (فاطر: 32) ولما كانت عبادتهم لغير الله شركا (وكان الشرك مؤديا إلى النار سمي ظلما.
البحث الثاني: استدلت المعتزلة بقوله: * (وأنتم ظالمون) * على أن المعاصي ليست بخلق الله تعالى من وجوه، أحدها: أنه تعالى ذمهم عليها ولو كانت مخلوقة لله تعالى لما استحق الذم إلا من فعلها. وثانيها: أنها لو كانت بإرادة الله تعالى لكانوا مطيعين لله تعالى بفعلها لأن الطاعة عبارة عن فعل المراد. وثالثها: لو كان العصيان مخلوقا لله تعالى لكان الذم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أسود وأبيض وطويلا وقصيرا، والجواب: هذا تمسك بفعل المدح والذم وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ذلك مرارا.
البحث الثالث: في الآية تنبيه على أن ضرر الكفر لا يعود إلا عليهم لأنهم ما استفادوا بذلك إلا أنهم ظلموا أنفسهم، وذلك يدل على أن جلال الله منزه عن الاستكمال بطاعة الأتقياء والانتقاص بمعصية الأشقياء.
76

أما قوله تعالى: * (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك) * فقالت المعتزلة: المراد ثم عفونا عنكم بسبب إتيانكم بالتوبة وهي قتل بعضهم بعضا، وهذا ضعيف من وجهين، الأول: أن قبول التوبة واجب عقلا فلو كان المراد ذلك لما جاز عده في معرض الأنعام لأن أداء الواجب لا يعد من باب الأنعام والمقصود من هذه الآيات تعديد نعم الله تعالى عليهم. الثاني: أن العفو اسم لإسقاط العقاب المستحق فأما إسقاط ما يجب إسقاطه فذاك لا يسمى عفوا ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم، فإذا ترك ذلك العذاب لا يسمى ذلك الترك عفوا فكذا ههنا، وإذا ثبت هذا فنقول لا شك في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) * وإذا كان كذلك دلت هذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب عقلا، وإذا ثبت ذلك ثبت أيضا أنه تعالى قد أسقط عقاب من يجوز عقابه عقلا وشرعا، وذلك أيضا خلاف قول المعتزلة، وإذا ثبت أنه تعالى عفا عن كفار قوم موسى فلأن يعفو عن فساق أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم: (خير أمة أخرجت للناس) كان أولى.
أما قوله تعالى: * (لعلكم تشكرون) * فاعلم أن الكلام في تفسير " لعل " قد تقدم في قوله: * (لعلكم تتقون) * (الأنعام: 153) (الأعراف: 17) (البقرة: 21، 33) وأما الكلام في حقيقة الشكر وماهيته فطويل وسيجئ إن شاء الله تعالى، ثم قالت المعتزلة: إنه تعالى بين أنه إنما عفا عنهم ولم يؤاخذهم لكي يشكروا، وذلك يدل على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر، والجواب: لو أراد الله تعالى منهم الشكر لأراد ذلك إما بشرط أن يحصل للشاكر داعية الشكر أولا بهذا الشرط فإن كان هذا الشرط من العبد لزم افتقار الداعية إلى داعية أخرى، وإن كان من الله فحيث خلق الله الداعي حصل الشكر لا محالة وحيث لم يخلق الداعي استحال حصول الشكر، وذلك ضد قول المعتزلة وإن أراد حصول الشكر منه من غير هذه الداعية فقد أراد منه المحال لأن الفعل بدون الداعي محال فثبت أن الإشكال وارد عليهم أيضا والله أعلم.
* (وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) *
اعلم أن هذا هو الإنعام الرابع والمراد من الفرقان يحتمل أن يكون هو التوراة وأن يكون شيئا داخلا في التوراة وأن يكون شيئا خارجا عن التوراة فهذه أقسام ثلاثة لا مزيد عليها وتقرير الاحتمال الأول أن التوراة لها صفتان كونها كتابا منزلا وكونها فرقانا تفرق بين الحق والباطل فهو كقولك: رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة ونظيره قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا) * (الأنبياء: 48) وأما تقرير الاحتمال الثاني فهو أن يكون المراد من الفرقان ما في التوراة من بيان الدين لأنه إذا أبان ظهر الحق متميزا من
77

الباطل، فالمراد من الفرقان بعض ما في التوراة وهو بيان أصول الدين وفروعه. وأما تقرير الاحتمال الثالث فمن وجوه، أحدها: أن يكون المراد من الفرقان ما أوتي موسى عليه السلام من اليد والعصا وسائر الآيات وسميت بالفرقان لأنها فرقت بين الحق والباطل. وثانيها: أن يكون المراد من الفرقان النصر والفرج الذي آتاه الله بني إسرائيل على قوم فرعون، قال تعالى: * (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) * (الأنفال: 41) والمراد النصر الذي آتاه الله يوم بدر، وذلك لأن قبل ظهور النصر يتوقع كل واحد من الخصمين في أن يكون هو المستولي وصاحبه هو المقهور، فإذا ظهر النصر تميز الراجح من المرجوح وانفرق الطمع الصادق من الطمع الكاذب، وثالثها: قال قطرب الفرقان هو انفراق البحر لموسى عليه السلام. فإن قلت: فهذا قد صار مذكورا في قوله تعالى: * (وإذا فرقنا بكم البحر) * (البقرة: 50) وأيضا فقوله تعالى بعد ذلك: * (لعلكم تهتدون) * لا يليق إلا بالكتاب لأن ذلك لا يذكر إلا عقيب الهدى. قلت: الجواب عن الأول أنه تعالى لم يبين في قوله تعالى: * (وإذ فرقنا بكم البحر) * أن ذلك كان لأجل موسى عليه السلام، وفي هذه الآية بين ذلك التخصيص على سبيل التنصيص، وعن الثاني أن فرق البحر
كان من الدلائل فلعل المراد أنا لما آتينا موسى فرقان البحر استدلوا بذلك على وجود الصانع، وصدق موسى عليه السلام وذلك هو الهداية وأيضا فالهدى قد يراد به الفوز والنجاة كما يراد به الدلالة، فكأنه تعالى بين أنه آتاهم الكتاب نعمة في الدين والفرقان الذي حصل به خلاصهم من الخصم نعمة عاجلة. واعلم أن من الناس من غلط فظن أن الفرقان هو القرآن، وأنه أنزل على موسى عليه السلام وذلك باطل لأن الفرقان هو الذي يفرق بين الحق والباطل وكل دليل كذلك فلا وجه لتخصيص هذا اللفظ بالقرآن. وقال آخرون: المعنى: * (وإذ آتينا موسى الكتاب) * يعني التوراة وآتينا محمدا صلى الله عليه وسلم الفرقان لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب. وقد مال إلى هذا القول من علماء النحو الفراء وثعلب وقطرب وهذا تعسف شديد من غير حاجة البتة إليه.
وأما قوله تعالى: * (لعلكم تهتدون) * فقد تقدم تفسير لعل وتفسير الاهتداء، واستدلت المعتزلة بقوله: * (لعلكم تهتدون) * على أن الله تعالى أراد الاهتداء من الكل وذلك يبطل قول من قال: أراد الكفر من الكافر، وأيضا فإذا كان عندهم أنه تعالى: يخلق الاهتداء، فيمن يهتدي والضلال فيمن يضل، فما الفائدة في أن ينزل الكتاب والفرقان ويقول: * (لعلكم تهتدون) * ومعلوم أن الاهتداء إذا كان يخلقه، فلا تأثير لإنزال الكتب فيه لو خلق الاهتداء ولا كتاب لحصل الاهتداء، ولو أنزل بدلا من الكتاب الواحد ألف كتاب ولم يخلق الاهتداء فيهم لما حصل الاهتداء، فكيف يجوز أن يقول أنزلت الكتاب لكي تهتدوا؟ واعلم أن هذا الكلام قد تقدم مرارا لا تحصى مع الجواب والله أعلم.
78

* (وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) *
اعلم أن هذا الإنعام الخامس قال بعض المفسرين: هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم وذلك، لأنها أمر بالقتل لا يكون نعمة وهذا ضعيف من وجوه، أحدها: أن الله تعالى نبههم على عظم ذنبهم، ثم نبههم على ما به يتخلصون عن ذلك الذنب العظيم وذلك من أعظم النعم في الدين، وإذا كان الله تعالى قد عدد عليهم النعم الدنيوية فبأن يعدد عليهم هذه النعمة الدينية أولى، ثم إن هذه النعمة وهي كيفية هذه التوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضا في تمام النعمة. فصار كل ما تضمنته هذه الآية معدودا في نعم الله فجاز التذكير بها. وثانيها: أن الله تعالى لما أمرهم بالقتل رفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية فكان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين. وفي حق الذين كانوا موجودين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه تعالى لولا أنه رفع القتل عن آبائهم لما وجد أولئك الأبناء فحسن إيراده في معرض الامتنان على الحاضرين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام، وثالثها: أنه تعالى لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل مع أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يقول لهم: لا حاجة بكم الآن في التوبة إلى القتل بل إن رجعتم عن كفركم وآمنتم قبل الله إيمانكم منكم فكان بيان التشديد في تلك التوبة تنبيها على الإنعام العظيم بقبول مثل هذه التوبة السهلة الهينة. ورابعها: أن فيه ترغيبا شديدا لأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه في التوبة، فإن أمة موسى عليه السلام لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس فلأن يرغب الواحد منا في التوبة التي هي مجرد الندم كان أولى. ومعلوم أن ترغيب الإنسان فيما هو المصلحة المهمة من أعظم النعم.
وأما قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه) * أي واذكروا إذ قال موسى لقومه بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد اتخذوا العجل يا قوم: * (إنكم ظلمتم أنفسكم) * وللمفسرين في الظلم قولان: أحدهما: أنكم نقصتم أنفسكم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى عليه السلام، والثاني: أن الظلم هو الإصرار الذي ليس بمستحق ولا فيه نفع ولا دفع مضرة لا علما ولا
79

طبا، فلما عبدوا العجل كانوا قد أضروا بأنفسهم لأن ما يؤدي إلى ضرر الأبد من أعظم الظلم، ولذلك قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) لكن هذا الظلم من حقه أن يقيد لئلا يوهم إطلاقه إنه ظلم الغير لأن الأصل في الظلم ما يتعدى، فلذلك قال: * (إنكم ظلمتم أنفسكم) *.
أما قوله تعالى: * (باتخاذكم العجل) * ففيه حذف لأنهم لم يظلموا أنفسهم بهذا القدر لأنهم لو اتخذوه ولم يجعلوه إلها لم يكن فعلهم ظلما، فالمراد باتخاذكم العجل إلها، لكن لما دلت مقدمة الآية على هذا المحذوف حسن الحذف.
أما قوله تعالى: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) * ففيه سؤالات.
السؤال الأول: قوله تعالى: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) * يقتضي كون التوبة مفسرة بقتل النفس كما أن قوله عليه السلام: " لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ثم يديه "، يقتضي أن وضع الطهور مواضعه مفسر بغسل الوجه واليدين ولكن ذلك باطل لأن التوبة عبارة عن الندم على الفعل القبيح الذي مضى والعزم على أن لا يأتي بمثله بعد ذلك وذلك مغاير لقتل النفس وغير مستلزم له فكيف يجوز تفسيره به؟ والجواب ليس المراد تفسير التوبة بقتل النفس بل بيان أن توبتهم لا تتم ولا تحصل إلا بقتل النفس وإنما كان كذلك لأن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن شرط توبتهم قتل النفس كما أن القاتل عمدا لا تتم توبته إلا بتسليم النفس حتى يرضى أولياء المقتول أو يقتلوه فلا يمتنع أن يكون من شرع موسى عليه السلام أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل. إذا ثبت هذا فنقول شرط الشيء قد يطلق عليه اسم ذلك الشيء مجازا كما يقال للغاصب إذا قصد التوبة أن توبتك ردما غصبت يعني أن توبتك لا تتم إلا به فكذا ههنا.
السؤال الثاني: ما معنى قوله تعالى: * (فتوبوا إلى بارئكم) * والتوبة لا تكون إلا للبارئ، والجواب: المراد منه النهي عن الرياء في التوبة كأنه قال لهم: لو أظهرتم التوبة لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى الله الذي هو مطلع على ضميركم، وإنما تبتم إلى الناس وذلك مما لا فائدة فيه، فإنكم إذا أذنبتم إلى الله.
السؤال الثالث: كيف اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ والجواب: البارئ هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * (الملك: 3) ومتميزا بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة فكان ذلك تنبيها على أن من كان كذلك فهو أحق بالعبادة من البقر الذي يضرب به المثل في الغباوة.
السؤال الرابع: ما الفرق بين الفاء في قوله: * (فتوبوا) * والفاء في قوله: * (فاقتلوا) *؟ الجواب: أن الفاء الأولى للسبب لأن الظلم سبب التوبة والثانية للتعقيب لأن القتل من تمام التوبة فمعنى قوله: * (فتوبوا) * أي فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم. السؤال الخامس: ما المراد بقوله: * (فاقتلوا أنفسكم) * أهو ما يقتضيه ظاهره من أن يقتل كل
80

واحد نفسه أو المراد غير ذلك؟ الجواب: اختلف الناس فيه فقال قوم من المفسرين. لا يجوز أن يكون المراد أمر كل واحد من التائبين بقتل نفسه وهو اختيار القاضي عبد الجبار، واحتجوا عليه بوجهين. الأول: وهو الذي عول عليه أهل التفسير أن المفسرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ولو كانوا مأمورين بذلك لصاروا عصاة بترك ذلك، الثاني: وهو الذي عول عليه القاضي عبد الجبار أن القتل هو نقض البنية التي عندها يجب أن يخرج من أن يكون حيا وما عدا ذلك مما يؤدي إلى أن يموت قريبا أو بعيدا إنما سمي قتلا على طريق المجاز. إذا عرفت حقيقة القتل فنقول: إنه لا يجوز أن يأمر الله تعالى به لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح لذلك المكلف ولا تكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه وهذا بخلاف ما يفعله الله تعالى من الإماتة لأن ذلك من فعل الله فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحا لمكلف آخر ويعوض ذلك المكلف بالعوض العظيم وبخلاف أن يأمر الله تعالى بأن يجرح نفسه أو يقطع عضوا من أعضائه ولا يحصل الموت عقبه لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حيا لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحا في الأفعال المستقبلة. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن القتل اسم للفعل المزهق للروح في الحال بل هو عبارة عن الفعل المؤدي إلى الزهوق إما في الحال أو بعده والدليل عليه أنه لو حلف أن لا يقتل إنسانا فجرحه جراحة عظيمة وبقي بعد تلك الجراحة حيا لحظة واحدة ثم مات فإنه يحنث في يمينه وتسميه كل أهل هذه اللغة قاتلا والأصل في الاستعمال الحقيقة فدل على أن اسم القتل اسم الفعل المؤدي إلى الزهوق سواء أدى إليه في الحال أو بعد ذلك وأنت سلمت جواز ورود الأمر بالجراحة التي لا تستعقب الزهوق في الحال وإذا كان كذلك ثبت جواز أن يراد الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه، سلمنا أن القتل اسم الفعل المزهق للروح في الحال فلم لا يجوز ورود الأمر به؟ قوله: لا بد في ورود الأمر به من مصلحة استقبالية، قلنا: أولا لا نسلم أنه لا بد فيه من مصلحة، والدليل عليه أنه أمر من يعلم كفره بالإيمان ولا مصلحة في ذلك إذ لا فائدة من ذلك التكليف إلا حصول العقاب، سلمنا أنه لا بد من مصلحة ولكن لم قلت إنه لا بد من عود تلك المصلحة إليه، ولم لا يجوز أن قتله نفسه مصلحة لغيره فالله تعالى أمره بذلك لينتفع به ذلك الغير، ثم إنه تعالى يوصل العوض العظيم إليه. سلمنا أنه لا بد من عود المصلحة إليه، لكن لم لا يجوز أن يقال إن علمه بكونه مأمورا بذلك الفعل مصلحة له، مثل أنه لما أمر بأن يقتل نفسه غدا فإن علمه بذلك يصير داعيا له إلى ترك القبائح من ذلك الزمان إلى ورود الغد، وإذا كانت هذه الاحتمالات ممكنة سقط ما قال القاضي، بل الوجه الأول الذي عول عليه المفسرون أقوى، وعلى هذا يجب صرف الآية عن ظاهرها، ثم فيه وجهان، الأول: أن يقال أمر كل واحد من أولئك التائبين بأن يقتل بعضهم بعضا فقوله: * (اقتلوا أنفسكم) * معناه ليقتل بعضكم بعضا وهو كقوله في موضع آخر: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * (النساء: 29) ومعناه لا يقتل بعضكم بعضا
81

وتحقيقه أن المؤمنين كالنفس الوحدة، وقيل
في قوله تعالى: * (ولا تلمزوا أنفسكم) * (الحجرات: 11) أي إخوانكم من المؤمنين، وفي قوله: * (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) * (النور: 12) أي بأمثالهم من المسلمين، وكقوله: * (فسلموا على أنفسكم) * (النور: 61) أي ليسلم بعضكم على بعض. ثم قال المفسرون: أولئك التائبون برزوا صفين فضرب بعضهم بعضا إلى الليل. الوجه الثاني: أن الله تعالى أمر غير أولئك التائبين بقتل أولئك التائبين فيكون المراد من قوله: * (اقتلوا أنفسكم) * أي استسلموا للقتل، وهذا الوجه الثاني أقرب لأن في الوجه الأول تزداد المشقة لأن الجماعة إذا اشتركت في الذنب كان بعضهم أشد عطفا على البعض من غيرهم عليهم فإذا كلفوا بأن يقتل بعضهم بعضا عظمت المشقة في ذلك ثم اختلفت الروايات، فالأول: أنه أمر من لم يعبد العجل من السبعين المختارين لحضور الميقات أن يقتل من عبد العجل منهم، وكان المقتولون سبعين ألفا فما تحركوا حتى قتلوا على ثلاثة أيام، وهذا لقول ذكره محمد بن إسحاق. الثاني: أنه لما أمرهم موسى عليه السلام بالقتل أجابوا فأخذ عليهم المواثيق ليصبروا على القتل فأصبحوا مجتمعين كل قبيلة على حدة وأتاهم هارون بالاثني عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل البتة وبأيديهم السيوف، فقال التائبون: إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف فاتقوا الله واصبروا فلعن الله رجلا قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو رجل يقولون أمين، فجعلوا يقتلونهم إلى المساء وقام موسى وهارون عليهما السلام يدعوان الله ويقولان البقية البقية يا إلهنا فأوحى الله تعالى إليهما، قد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي، قال: وكان القتلى سبعين ألفا، هذه رواية الكلبي. الثالث: أن بني إسرائيل كانوا قسمين: منهم من عبد العجل ومنهم من لم يعبده ولكن لم ينكر على من عبده، فأمر من لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة، ثم قال المفسرون: إن الرجل كان يبصر والده وولده وجاره فلم يمكنه المضي لأمر الله فأرسل الله تعالى سحابة سوداء، ثم أمر بالقتل فقتلوا إلى المساء حتى دعا موسى وهارون عليهما السلام وقالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فانكشفت السحابة ونزلت التوراة وسقطت الشفار من أيديهم.
السؤال السادس: كيف استحقوا القتل وهم قد تابوا من الردة والتائب من الردة لا يقتل؟ الجواب: ذلك مما يختلف بالشرائع فلعل شرع موسى عليه السلام كان يقتضي قتل التائب عن الردة إما عاما في حق الكل أو كان خاصا بذلك القوم.
السؤال السابع: هل يصح ما روي أن منهم من لم يقتل ممن قبل الله توبته؟ الجواب: لا يمتنع ذلك لأن قوله تعالى: * (إنكم ظلمتم أنفسكم) * خطاب مشافهة فلعله كان مع البعض أو إنه كان عاما فالعام قد يتطرق إليه التخصيص.
أما قوله تعالى: * (ذلكم خير لكم عند بارئكم) * ففيه تنبيه على ما لأجله يمكن تحمل هذه المشقة وذلك لأن حالتهم كانت دائرة بين ضرر الدنيا وضرر الآخرة، والأول
أولى بالتحمل لأنه
82

متناه، وضرر الآخرة غير متناه، ولأن الموت لا بد واقع فليس في تحمل القتل إلا التقدم والتأخير، وأما الخلاص من العقاب والفوز بالثواب فذاك هو الغرض الأعظم.
أما قوله تعالى: * (فتاب عليكم) * ففيه محذوف تم فيه وجهان: أحدهما: أن يقدر من قول موسى عليه السلام كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم، والآخر: أن يكون خطابا من الله لهم على طريقة الالتفات فيكون التقدير ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم.
وأما معنى قوله تعالى: * (فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) *، فقد تقدم في قوله: * (فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) *.
* (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) *
اعلم أن هذا هو الإنعام السادس، بيانه من وجوه، أحدها: كأنه تعالى قال: اذكروا نعمتي حين قلتم لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة ثم أحييتكم لتتوبوا عن بغيكم وتتخلصوا عن العقاب وتفوزوا بالثواب، وثانيها: أن فيها تحذيرا لمن كان في زمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن فعل ما يستحق بسببه أن يفعل به ما فعل بأولئك. وثالثها: تشبيههم في جحودهم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بأسلافهم في جحود نبوة موسى عليه السلام مع مشاهدتهم لعظم تلك الآيات الظاهرة وتنبيها على أنه تعالى إنما لا يظهر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحودها ولو جحدوها لاستحقوا العقاب مثل ما استحقه أسلافهم، ورابعها: فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يلاقي منهم وتثبيت لقلبه على الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل. وخامسها: فيه إزالة شبهة من يقول: إن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لو صحت لكان أولى الناس بالإيمان به أهل الكتاب لما أنهم عرفوا خبره، وذلك لأنه تعالى بين أن أسلافهم مع مشاهدتهم تلك الآيات الباهرة على نبوة موسى عليه السلام كانوا يرتدون كل وقت ويتحكمون عليه ويخالفونه فلا يتعجب من مخالفتهم لمحمد عليه الصلاة والسلام وإن وجدوا في كتبهم الأخبار عن نبوته. وسادسها: لما أخبر محمد عليه الصلاة والسلام عن هذه القصص مع أنه كان أميا لم يشتغل بالتعلم البتة وجب أن يكون ذلك عن الوحي.
البحث الثاني: للمفسرين في هذه الواقعة قولان، الأول: أن هذه الواقعة كانت بعد أن كلف الله عبدة العجل بالقتل، قال محمد بن إسحاق: لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه
83

فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال. وحرق العجل وألقاه في البحر، اختار من قومه سبعين رجلا من خيارهم فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى: سل ربك حتى يسمعنا كلامه، فسأل موسى عليه السلام ذلك فأجابه الله إليه ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه فقال للقوم: ادخلوا وعوا، وكان موسى عليه السلام متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه، وسمع القوم كلام الله مع موسى عليه السلام يقول له: افعل ولا تفعل، فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه فقال القوم بعد ذلك: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة وماتوا جميعا وقام موسى رافعا يديه إلى السماء يدعو ويقول: يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودي بقبول توبتهم، فارجع إليهم وليس معي منهم واحد، فما الذي يقولون في، فلم يزل موسى مشتغلا بالدعاء حتى رد الله إليهم أرواحهم وطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم.
القول الثاني: أن هذه الواقعة كانت بعد القتل، قال السدي: لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله تعالى أن يأتيهم موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلا، فلما أتوا الطور قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة وماتوا فقام موسى يبكي ويقول: يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل، فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بقيتهم هؤلاء، فإذا رجعت إليهم ولا يكون معي منهم أحد فماذا أقول لهم؟ فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل إلها فقال موسى: * (إن هي إلا فتنتك) * (الأعراف: 155) إلى قوله: * (إنا هدنا إليك) * (الأعراف: 56) ثم إنه تعالى أحياهم فقاموا ونظر كل واحد منهم إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى، فقالوا: يا موسى إنك لا تسأل الله شيئا إلا أعطاك فادعه يجعلنا أنبياء، فدعاه بذلك فأجاب الله دعوته. واعلم أنه ليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر وكذلك ليس فيها ما يدل على أن الذين سألوا الرؤية هم الذين عبدوا العجل أو غيرهم.
أما قوله تعالى: * (لن نؤمن لك) * فمعناه لا نصدقك ولا نعترف بنبوتك حتى نرى الله جهرة (أي) عيانا. قال صاحب الكشاف: وهي مصدر من قولك: جهرت بالقراءة وبالدعاء كأن الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية والذي يرى بالقلب مخافت بها وانتصار بها على المصدر لأنها نوع من الرؤية، فنصبت بفعلها كما ينصب القرفصاء بفعل الجلوس أو على الحال بمعنى ذوي جهرة وقرئ جهرة بفتح الهاء وهي إما مصدر كالغلبة وإما جمع جاهر، وقال القفال أصل الجهرة من الظهور يقال جهرت الشيء (إذا) كشفته وجهرت البئر إذا كان ماؤها مغطى بالطين فنقيته حتى ظهر ماؤه ويقال صوت جهير ورجل جهوري الصوت، إذا كان صوته عاليا، ويقال: وجه جهير إذا كان ظاهر الوضاءة، وإنما قالوا: جهرة تأكيدا لئلا يتوهم متوهم أن المراد بالرؤية العلم أو التخيل على (نحو) ما يراد النائم.
84

أما قوله تعالى: * (فأخذتكم الصاعقة) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: استدلت المعتزلة بذلك على أن رؤية الله ممتنعة، قال القاضي عبد الجبار: إنها لو كانت جائزة لكانوا قد التمسوا أمرا مجوزا فوجب أن لا تنزل بهم العقوبة كما لم تنزل بهم العقوبة لما التمسوا النقل من قوت إلى قوت وطعام إلى طعام في قوله تعالى: * (لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض) * (البقرة: 61)، وقال أبو الحسين في كتاب التصفح: إن الله تعالى ما ذكر سؤال الرؤية إلا استعظمه، وذلك في آيات. أحدها: هذه الآية فإن الرؤية لو
كانت جائزة لكان قولهم: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) كقول الأمم لأنبيائهم: لن نؤمن إلا باحياء ميت في أنه لا يستعظم ولا تأخذهم الصاعقة. وثانيها: قوله تعالى: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا: أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) * (النساء: 153)، فسمي ذلك ظلما وعاقبهم في الحال، فلو كانت الرؤية جائزة لجرى سؤالهم لها مجرى من يسأل معجزة زائدة. فإن قلت أليس إنه سبحانه وتعالى قد أجرى إنزال الكتاب من السماء مجرى الرؤية في كون كل واحد منهما عتوا، فكما أن إنزال الكتاب غير ممتنع في نفسه فكذا سؤال الرؤية. قلت: الظاهر يقتضي كون كل واحد منهما ممتنعا ترك العمل به في إنزال الكتاب فيبقى معمولا به في الرؤية. وثالثها: قوله تعالى: * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) * (الفرقان: 21) فالرؤية لو كانت جائزة وهي عند مجزيها من أعظم المنافع لم يكن التماسها عتوا لأن من سأل الله تعالى نعمة في الدين أو الدنيا لم يكن عاتيا وجرى ذلك مجرى ما يقال: لن نؤمن لك حتى يحيي الله بدعائك هذا الميت.
واعلم أن هذه الوجوه مشتركة في حرف واحد وهو أن الرؤية لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتوا ومنكرا، وذلك ممنوع. (و) قوله: إن طلب سائر المنافع من النقل من طعام إلى طعام لما كان ممكنا لم يكن طالبه عاتيا وكذا القول في طلب سائر المعجزات. قلنا: ولم قلت إنه لما كان طالب ذلك الممكن ليس بعات وجب أن يكون طالب كل ممكن غير عات والاعتماد في مثل هذا الموضع على ضروب الأمثلة لا يليق بأهل العلم وكيف وأن الله تعالى ما ذكر الرؤية إلا وذكر معها شيئا ممكنا حكمنا بجوازه بالاتفاق وهو إما نزول الكتاب من السماء أو نزول الملائكة. وأثبت صفة العتو على مجموع الأمرين، وذلك كالدلالة القاطعة في أن صفة العتو ما حصلت لأجل كون المطلوب ممتنعا. أما قوله أبي الحسين: الظاهر يقتضي كون الكل ممتنعا ترك العمل به في البعض فيبقى معمولا به في الباقي. قلنا: إنك ما أقمت دليلا على أن الاستعظام لا يتحقق إلا إذا كان المطلوب ممتنعا وإنما عولت فيه على ضروب الأمثلة، والمثال لا ينفع في هذا الباب، فبطل قولك: الظاهر يقتضي كون الكل ممتنعا. فظهر بما قلنا سقوط كلام المعتزلة. فإن قال قائل: فما السبب في استعظام سؤال الرؤية؟ الجواب في ذلك يحتمل وجوها. أحدها: أن رؤية الله تعالى لا تحصل إلا في الآخرة،
85

فكان طلبها في الدنيا
مستنكرا. وثانيها: أن حكم الله تعالى أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يرى الله فكان طلب الرؤية طلبا لإزالة التكليف وهذا على قول المعتزلة أولى، لأن الرؤية تتضمن العلم الضروري والعلم الضروري ينافي التكليف، وثالثها: أنه لما تمت الدلائل على صدق المدعي كان طلب الدلائل الزائدة تعنتا والمتعنت يستوجب التعنيف، ورابعها: لا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن في منع الخلق عن رؤيته سبحانه في الدنيا ضربا من المصلحة المهمة، فلذلك استنكر طلب الرؤية في الدنيا كما علم أن في إنزال الكتاب من السماء وإنزال الملائكة من السماء مفسدة عظيمة فلذلك استنكر طلب ذلك والله أعلم.
البحث الثاني: للمفسرين في الصاعقة قولان. الأول: أنها هي الموت وهو قول الحسن وقتادة واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) * (الزمر: 68)، وهذا ضعيف لوجوه. أحدها: قوله تعالى: * (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) * ولو كانت الصاعقة هي الموت لامتنع كونهم ناظرين إلى الصاعقة، وثانيها: أنه تعالى قال في حق موسى: * (وخر موسى صعقا) * (الأعراف: 143) أثبت الصاعقة في حقه مع أنه لم يكن ميتا لأنه قال: * (فلما أفاق) * والإفاقة لا تكون عن الموت بل عن الغشي، وثالثها: أن الصاعقة وهي التي تصعق وذلك إشارة إلى سبب الموت. ورابعها: أن ورودها وهم مشاهدون لها أعظم في باب العقوبة منها إذا وردت بغتة وهم لا يعلمون. ولذلك قال: * (وأنتم تنظرون) * منبها على عظم العقوبة، القول الثاني: وهو قول المحققين: إن الصاعقة هي سبب الموت ولذلك قال في سورة الأعراف: * (فلما أخذتهم الرجفة) * واختلفوا في أن ذلك السبب أي شيء كان على ثلاثة أوجه. أحدها: أنها نار وقعت من السماء فأحرقتهم. وثانيها: صيحة جاءت من السماء، وثالثها: أرسل الله تعالى جنودا سمعوا بخسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة.
أما قوله تعالى: * (ثم بعثناكم من بعد موتكم) * لأن البعث قد (لا) يكون إلا بعد الموت، كقوله تعالى: * (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا، ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) * (الكهف: 11، 12). فإن قلت: هل دخل موسى عليه السلام في هذا الكلام؟ قلت: لا، لوجهين. الأول: أنه خطاب مشافهة فلا يحب أن يتناول موسى عليه السلام. الثاني: أنه لو تناول موسى لوجب تخصيصه بقوله تعالى في حق موسى: * (فلما أفاق) * مع أن لفظة الإفاقة لا تستعمل في الموت، وقال ابن قتيبة: إن موسى عليه السلام قد مات وهو خطأ لما بيناه. أما قوله تعالى: * (لعلكم تشكرون) * فالمراد أنه تعالى إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم، أما أنه كلفهم فلقوله تعالى: * (لعلكم تشكرون) * ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله تعالى: * (اعملوا آل داود شكرا) * (سبأ: 13)، فإن قيل: كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثهم بعد الموت؟ قلنا: الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحياء، وإنما يمنع من ذلك أنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته وإلى معرفة ما في الجنة من اللذات
86

وما في النار من الآلام وبعد العلم الضروري لا تكليف فإذا كان المانع هو هذا لم يمتنع في هؤلاء الذين أماتهم الله بالصاعقة أن لا يكون قد اضطرهم، وإذا كان كذلك صح أن يكلفوا من بعد ويكون موتهم ثم الأحياء بمنزلة النوم أو بمنزلة الإغماء. ونقل عن الحسن البصري أنه تعالى قطع آجالهم بهذه الإماتة ثم أعادهم كما أحيا الذي أماته حين مر على قرية وهي خاوية على عروشها وأحيا الذين أماتهم بعدما خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وهذا ضعيف لأنه تعالى ما أماتهم بالصاعقة إلا وقد كتب وأخبر بذلك فصار ذلك الوقت أجلا لموتهم الأول ثم الوقت الآخر أجلا لحياتهم.
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: * (لعلكم تشكرون) * على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل فجوابنا عنه قد تقدم مرارا فلا حاجة إلى الإعادة.
* (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *
اعلم أن هذا هو الإنعام السابع الذي ذكره الله تعالى وقد ذكر الله تعالى هذه الآية بهذه الألفاظ في سورة الأعراف، وظاهر هذه الآية يدل على أن هذا الإظلال كان بعد أن بعثهم لأنه تعالى قال: * (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون، وظللنا عليكم الغمام) * بعضه معطوف على بعض وإن كان لا يمتنع خلاف ذلك، لأن الغرض تعريف النعم التي خصهم الله تعالى بها.
قال المفسرون، * (وظللنا) * وجعلن الغمام تظلكم، وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع ويبعث الله إليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه * (كلوا) * على إرادة القول: * (وما ظلمونا) * يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم أو بأن أخذوا أزيد مما أطلق لهم في أخذه أو بأن سألوا غير ذلك الجنس وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه لدلالة * (وما ظلمونا) * عليه.
* (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطايكم وسنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي
87

قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السمآء بما كانوا يفسقون) *
اعلم أن هذا هو الإنعام الثامن، وهذه الآية معطوفة على النعم المتقدمة لأنه تعالى كما بين نعمه عليهم بأن ظلل لهم من الغمام وأنزل (عليهم) من المن والسلوى وهو من النعم العاجلة أتبعه بنعمه عليهم في باب الدين حيث أمرهم بما يمحو ذنوبهم وبين لهم طريق المخلص مما استوجبوه من العقوبة.
واعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين:
النوع الأول: ما يتعلق بالتفسير فنقول: أما قوله تعالى: * (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) * (البقرة: 58) فاعلم أنه أمر تكليف، ويدل عليه وجهان: الأول: أنه تعالى أمر بدخول الباب سجدا، وذلك فعل شاق فكان الأمر به تكليفا ودخول الباب سجدا مشروط بدخول القرية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فثبت أن الأمر بدخول القرية أمر تكليف لا أمر إباحة. الثاني: أن قوله: * (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم) * (المائدة: 21) دليل على ما ذكرناه. أما القرية فظاهر القرآن لا يدل على عينها، وإنما يرجع في ذلك إلى الأخبار، وفيه أقوال: أحدها: وهو اختيار قتادة والربيع وأبي مسلم الأصفهاني أنها بيت المقدس، واستدلوا عليه بقوله تعالى في سورة المائدة: * (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) *، ولا شك أن المراد بالقرية في الآيتين واحد، وثانيها: أنها نفس مصر، وثالثها: وهو قول ابن عباس وأبي زيد إنها أريحاء وهي قريبة من بيت المقدس، واحتج هؤلاء على أنه لا يجوز أن تكون تلك القرية بيت المقدس لأن الفاء في قوله تعالى: * (فبدل الذين ظلموا) * تقتضي التعقيب فوجب أن يكون ذلك التبديل وقع منهم عقيب هذا الأمر في حياة موسى، لكن موسى مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس، فثبت أنه ليس المراد من هذه القرية بيت المقدس. وأجاب الأولون بأنه ليس في هذه الآية: أنا قلنا ادخلوا هذه القرية على لسان موسى أو على لسان يوشع، وإذا حملناه على لسان يوشع زال الإشكال. وأما قوله تعالى: * (فكلوا منها حيث شئتم رغدا) * فقد مر تفسيره في قصة آدم عليه السلام وهو أمر إباحة.
أما قوله تعالى: * (وادخلوا الباب سجدا) * ففيه بحثان.
الأول: اختلفوا في الباب على وجهين: أحدهما: وهو قول ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة إنه باب يدعى باب الحطة من بيت المقدس، وثانيهما: حكى الأصم عن بعضهم أنه عني بالباب جهة من جهات القرية ومدخلا إليها.
الثاني: اختلفوا في المراد بالسجود فقال الحسن أراد به نفس السجود الذي هو الصاق
الوجه بالأرض وهذا بعيد لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود فلو حملنا السجود على
88

ظاهره لامتنع ذلك، ومنهم من حمله على غير السجود، وهؤلاء ذكروا وجهين: الأول: رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المراد هو الركوع، لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء، وهذا بعيد لأنه لو كان ضيقا لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعا فما كان يحتاج فيه إلى الأمر. الثاني: أراد به الخضوع وهو الأقرب، لأنه لما تعذر حمله على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع، لأنهم إذا أخذوا في التوبة فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاضعا مستكينا. أما قوله تعالى: * (وقولوا حطة) * ففيه وجوه. أحدها: وهو قول القاضي: المعنى أنه تعالى بعد أن أمرهم بدخول الباب على وجه الخضوع أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة، وذلك لأن التوبة صفة القلب، فلا يطلع الغير عليها، فإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب، لأن التوبة لا تتم إلا به، إذ الأخرس تصح توبته وإن لم يوجد منه الكلام بل لأجل تعريف الغير عدوله عن الذنب إلى التوبة، ولإزالة التهمة عن نفسه، وكذلك من عرف بمذهب خطأ، ثم تبين له الحق فإنه يلزمه أن يعرف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ عدوله عنه، لتزول عنه التهمة في الثبات على الباطل وليعودوا إلى موالاته بعد معاداته، فلهذا السبب ألزم الله تعالى بني إسرائيل مع الخضوع الذي هو صفة القلب أن يذكروا اللفظ الدال على تلك التوبة وهو قوله: * (وقولوا حطة) * (البقرة: 58)، فالحاصل أنه أمر القوم بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح والاستغفار باللسان، وهذا الوجه أحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق. ثانيها: قول الأصم: إن هذه اللفظة من ألفاظ أهل الكتاب أي لا يعرف معناها في العربية. وثالثها: قال صاحب الكشاف (حطة)
فعلة من الحط كالجلسة والركبة وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرك حطة والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله: صبر جميل فكلانا مبتلي
والأصل صبرا على تقدير اصبر صبرا، وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب. ورابعها: قول أبي مسلم الأصفهاني معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها، وزيف القاضي ذلك بأن قال: لو كان المراد ذلك لم يكن غفران خطاياهم متعلقا به ولكن قوله: * (وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم) * (البقرة: 58)، يدل على أن غفران الخطايا كان لأجل قولهم حطة، ويمكن الجواب عنه بأنهم لما حطوا في تلك القرية حتى يدخلوا سجدا مع التواضع كان الغفران متعلقا به. وخامسها قول القفال: معناه اللهم حط عنا ذنوبنا فإنا إنما انحططنا لوجهك وإرادة التذلل لك، فحط عنا ذنوبنا. فإن قال قائل: هل كان التكليف واردا بذكر هذه اللفظة بعينها أم لا؟ قلنا روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها وهذا محتمل ولكن الأقرب خلافه لوجهين. أحدهما: أن هذه اللفظة عربية وهم
89

ما كانوا يتكلمون بالعربية، وثانيهما: وهو الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولا دالا على لتوبة والندم والخضوع حتى أنهم لو قالوا مكان قولهم: * (حطة) * اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا، لأن المقصود من التوبة، إما القلب وإما اللسان، أما القلب فالندم، وأما اللسان فذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها. أما قوله تعالى: * (نغفر لكم) * فالكلام في المغفرة قد تقدم. ثم ههنا بحثان:
الأول: أن قوله: * (نغفر لكم) * ذكره الله تعالى في معرض الامتنان، ولو كان قبول التوبة واجبا عقلا على ما تقوله المعتزلة لما كان الأمر كذلك، بل كان أداء للواجب وأداء الواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان.
الثاني: ههنا قراءات. أحدها: قرأ أبو عمرو وابن المنادي بالنون وكسر الفاء. وثانيها: قرأ نافع بالياء وفتحها. وثالثها: قرأ الباقون من أهل المدينة وجبلة عن المفضل بالتاء وضمها وفتح الفاء، ورابعها: قرأ الحسن وقتادة وأبو حياة والجحدري بالياء وضمها وفتح الفاء. قال القفال: والمعنى في هذه القراءات كلها واحد، لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت وإذا غفرت فإنما يغفرها الله، والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث كقوله: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) * (هود: 67) والمراد من الخطيئة الجنس لا الخطيئة الواحدة بالعدد. أما قوله تعالى: * (خطاياكم) * ففيه قراءات، أحدها: قرأ الجحدري " خطيئتكم " بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة على واحدة. وثانيها: الأعمش " خطيئاتكم " بمدة وهمزة وألف بعد الهمزة قبل التاء وكسر التاء. وثالثها: الحسن كذلك إلا أنه يرفع التاء، ورابعها: الكسائي خطاياكم بهمزة ساكنة بعد الطاء قبل الياء، وخامسها: ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الياء وقبل الكاف. وسادسها: الكسائي بكسر الطاء والتاء، والباقون بإمالة الياء فقط.
أما قوله تعالى: * (وسنزيد المحسنين) * فإما أن يكون المراد من المحسن من كان محسنا بالطاعة في هذا التكليف أو من كان محسنا بطاعات أخرى في سائر التكاليف. أما على التقدير الأول: فالزيادة الموعودة يمكن أن تكون من منافع الدنيا وأن تكون من منافع الدين. أما الاحتمال الأول: وهو أن تكون من منافع الدنيا، فالمعنى أن من كان محسنا بهذه الطاعة فإنا نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية، وأما الاحتمال الثاني: وهو أن تكون من منافع الآخرة، فالمعنى أن من كان محسنا بهذه الطاعة والتوبة فإنا نغفر له خطاياه ونزيده على غفران الذنوب إعطاء الثواب الجزيل كما قال: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * (يونس: 26)، أي نجازيهم بالإحسان إحسانا وزيادة كما جعل الثواب للحسنة الواحدة عشرا، وأكثر من ذلك، وأما إن كان المراد من " المحسنين " من كان محسنا بطاعات أخرى بعد هذه التوبة، فيكون المعنى أنا نجعل دخولكم الباب سجدا وقولكم حطة مؤثرا في غفران الذنوب، ثم إذا أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى أعطيناكم
90

الثواب على تلك الطاعات الزائدة، وفي الآية تأويل آخر، وهو أن المعنى من كان خاطئا غفرنا له ذنبه بهذا الفعل، ومن لم يكن خاطئا بل كان محسنا زدنا في إحسانه، أي كتبنا تلك الطاعة في حسناته وزدناه زيادة منا فيها فتكون المغفرة للمؤمنين والزيادة للمطيعين.
أما قوله تعالى: * (فبدل الذين ظلموا) * ففيه قولان. الأول: قال أبو مسلم قوله تعالى: * (فبدل) * يدل على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به، لا على أنهم أتوا له ببدل، والدليل عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة، قال تعالى: * (سيقول المخلفون من الأعراب) * (الفتح: 11) إلى قوله: * (يريدون أن يبدلوا كلام الله) * (الفتح: 15) ولم يكن تبديلهم إلا الخلاف في الفعل لا في القول فكذا ههنا، فيكون المعنى أنهم لما أمروا بالتواضع وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله ولم يلتفتوا إليه. الثاني: وهو قول جمهور المفسرين: إن المراد من التبديل أنهم أتوا ببدل له لأن التبديل مشتق من البدل، فلا بد من حصول البدل، وهذا كما يقال: فلان بدل دينه، يفيد أنه انتقل من دين إلى دين آخر، ويؤكد ذلك قوله تعالى: * (قولا غير الذي قيل لهم) * ثم اختلفوا في أن ذلك القول والفعل أي شيء كان؟ فروي عن ابن عباس أنهم دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا زاحفين على أستاههم، قائلين حنطة من شعيرة، وعن مجاهد أنهم دخلوا على أدبارهم وقالوا: حنطة استهزاء، وقال ابن زيد: استهزاء بموسى. وقالوا: ما شاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا حطة حطة أي شيء حطة.
أما قوله تعالى: * (الذين ظلموا) * فإنما وصفهم الله بذلك إما لأنهم سعوا في نقصان خيراتهم في الدنيا والدين أو لأنهم أضروا بأنفسهم، وذلك ظلم على ما تقدم.
أما قوله تعالى: * (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) * ففيه بحثان:
الأول: أن في تكرير: * (الذين ظلموا) * زيادة في تقبيح أمرهم وإيذانا بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم. الثاني: أن الرجز هو العذاب والدليل عليه قوله تعالى: * (ولما وقع عليهم الرجز) * أي العقوبة، وكذا قوله تعالى: * (لئن كشفت عنا الرجز) * (الأعراف: 134) وذكر الزجاج أن الرجز والرجس معناهما واحد وهو العذاب.
وأما قوله: * (ويذهب عنكم رجز الشيطان) * (الأنفال: 11) فمعناه لطخه وما يدعوا إليه من الكفر، ثم إن تلك العقوبة أي شيء كانت لا دلالة في الآية عليه، فقال ابن عباس: مات منهم بالفجأة أربعة وعشرون ألفا في ساعة واحدة، وقال ابن زيد: بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي خمس وعشرون ألفا، ولم يبق منهم أحد.
أما قوله تعالى: * (بما كانوا يفسقون) *، فالفسق من الخروج المضر، يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وفي الشرع عبارة عن الخروج من طاعة الله إلى معصيته، قال أبو مسلم: هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله تعالى: * (على الذين ظلموا) * وفائدة التكرار التأكيد والحق أنه غير مكرر لوجهين. الأول: أن الظلم قد يكون من الصغائر، وقد يكون من الكبائر، ولذلك وصف الله الأنبياء بالظلم
91

في قوله تعالى: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * (الأعراف: 23) ولأنه تعالى قال: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) ولو لم يكن الظلم إلا عظيما لكان ذكر العظيم تكريرا والفسق لا بد وأن يكون من الكبائر فلما وصفهم الله بالظلم أولا: وصفهم بالفسق، ثانيا: ليعرف أن ظلمهم كان من الكبائر لا من الصغائر. الثاني: يحتمل أنهم استحقوا اسم الظالم بسبب ذلك التبديل فنزل الرجز عليهم من السماء بسبب ذلك التبديل بل للفسق الذي كانوا فعلوه قبل ذلك التبديل وعلى هذا الوجه يزول التكرار. النوع الثاني من الكلام في هذه الآية: اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة الأعراف وهو قوله: * (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين، فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون) * (الأعراف: 161، 162) واعلم أن من الناس من يحتج بقوله تعالى: * (فبدل الذين ظلموا) * على أن ما ورد به التوقيف من الأذكار أنه غير جائز تغييرها ولا تبديلها بغيرها، وربما احتج أصحاب الشافعي رضي الله عنه في أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح ولا تجوز القراءة بالفارسية وأجاب أبو بكر الرازي بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول، فلا جرم استوجبوا الذم، فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك والجواب أن ظاهر قوله: * (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) * يتناول كل من بدل قولا بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أو لم يتفقا، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: لم قال في سورة البقرة: * (وإذ قلنا) * وقال في الأعراف: * (وإذ قيل لهم) * الجواب أن الله تعالى صرح في أول القرآن بأن قائل هذا القول هو الله تعالى إزالة للإبهام ولأنه ذكر في أول الكلام: * (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * (البقرة: 40) ثم أخذ يعدد (نعمه) نعمة نعمة فاللائق بهذا المقام أن يقول: * (وإذ قلنا) * أما في سورة الأعراف فلا يبقى في قوله تعالى: * (وإذ قيل لهم) * إبهام بعد تقديم التصريح به في سورة البقرة.
السؤال الثاني: لم قال في البقرة: * (وإذ قلنا ادخلوا) * وفي الأعراف: * (اسكنوا) *؟ الجواب: الدخول مقدم على السكون ولا بد منهما فلا جرم ذكر الدخول في السورة المتقدمة والسكون في السورة المتأخرة.
السؤال الثالث: لم قال في البقرة: * (فكلوا) * بالفاء وفي الأعراف: * (وكلوا) * بالواو؟ والجواب ههنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة: * (وكلا منها رغدا) * وفي الأعراف: * (فكلا) *.
السؤال الرابع: لم قال في البقرة: * (نغفر لكم خطاياكم) * وفي الأعراف: * (نغفر لكم خطيئاتكم) *، الجواب: الخطايا جمع الكثرة والخطيئات جمع السلامة فهو للقلة، وفي سورة البقرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه فقال: * (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) * لا جرم قرن به ما يليق جوده وكرمه وهو غفران الذنوب الكثيرة، فذكر بلفظ الجمع الدال على الكثرة، وفي الأعراف
92

لما لم يضف ذلك إلى نفسه بل قال: * (وإذ قيل لهم) * لا جرم ذكر ذلك بجمع القلة، فالحاصل أنه لما ذكر الفاعل ذكر ما يليق بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة (ة) وفي الأعراف لما لم يسم الفاعل لم يذكر اللفظ الدال على الكثرة.
السؤال الخامس: لم ذكر قوله: * (رغدا) * في البقرة وحذفه في الأعراف؟ الجواب عن هذا السؤال كالجواب في الخطايا والخطيئات لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغدا، وفي الأعراف لما لم يسند الفعل إلى نفسه لم يذكر الإنعام الأعظم فيه.
السؤال السادس: لم ذكر في البقرة: * (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) * وفي الأعراف قدم المؤخر؟ الجواب: الواو للجمع المطلق وأيضا فالمخاطبون بقوله: * (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) *، يحتمل أن يقال: إن بعضهم كانوا مذنبين والبعض الآخر ما كانوا مذنبين، فالمذنب لا بد أن يكون اشتغاله بحط الذنوب مقدما على الاشتغال بالعبادة لأن التوبة عن الذنب مقدمة على الاشتغال بالعبادات المستقبلة لا محالة، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا أولا " حطة " ثم يدخلوا الباب سجدا، وأما الذي لا يكون مذنبا فالأولى به أن يشتغل أولا بالعبادة ثم يذكر التوبة، ثانيا: على سبيل هضم النفس وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فهؤلاء يجب أن يدخلوا الباب سجدا أولا ثم يقولوا حطة ثانيا، فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى هذين القسمين لا جرم ذكر الله تعالى حكم كل واحد منهما في سورة أخرى.
السؤال السابع: لم قال: * (وسنزيد المحسنين) * في البقرة مع الواو وفي الأعراف: * (سنزيد المحسنين) * من غير الواو؟ الجواب: أما في الأعراف فذكر فيه أمرين: أحدهما: قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة، وثانيها: دخول الباب سجدا وهو إشارة إلى العبادة، ثم ذكر جزأين: أحدهما: قوله تعالى: * (نغفر لكم خطاياكم) * وهو واقع في مقابلة قول الحطة. والآخر: قوله: * (سنزيد المحسنين) * وهو واقع في مقابلة دخول الباب سجدا فترك الواو يفيد توزع كل واحد من الجزأين على كل واحد من الشرطين. وأما في سورة البقرة فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين أعني دخول الباب وقول الحطة.
السؤال الثامن: قال الله تعالى في سورة البقرة: * (فبدل الذين ظلموا قولا) * وفي الأعراف: * (فبدل الذين ظلموا منهم قولا) * فما الفائدة في زيادة كلمة " منهم "
في الأعراف؟ الجواب: سبب زيادة هذه اللفظة في سورة الأعراف أن أول القصة ههنا مبني على التخصيص بلفظ " من " لأنه تعالى قال: * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * (الأعراف: 159) فذكر أن منهم من يفعل ذلك ثم عدد صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم، فلما انتهت القصة قال الله تعالى: * (فبدل الذين ظلموا منهم) * فذكر لفظة: * (منهم) * في آخر القصة كما ذكرها في أول القصة ليكون آخر الكلام مطابقا لأوله فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم فهناك ذكر أمة عادلة، وههنا ذكر
93

أمة جابرة وكلتاهما من قوم
موسى فهذا هو السبب في ذكر هذه الكلمة في سورة الأعراف، وأما في سورة البقرة فإنه لم يذكر في الآيات التي قبل قوله: * (فبدل الذين ظلموا) * تمييزا وتخصيصا حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص فظهر الفرق.
السؤال التاسع: لم قال في البقرة: * (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا) * وقال في الأعراف: * (فأرسلنا) * الجواب: الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصاله لهم بالكلية، وذلك إنما يحدث بالآخرة.
السؤال العاشر: لم قال في البقرة: * (بما كانوا يفسقون) * وفي الأعراف: * (بما كانوا يظلمون) *، الجواب: أنه تعالى لما بين في سورة البقرة كون ذلك الظلم فسقا اكتفى بلفظ الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان في سورة البقرة والله أعلم.
* (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا فى الارض مفسدين) *
قراءة العامة اثنتا عشرة بسكون الشين على التخفيف وقراءة أبي جعفر بكسر الشين، وعن بعضهم بفتح الشين، والوجه هو الأول لأنه أخف وعليه أكثر القراء، واعلم أن هذا هو الإنعام التاسع من الإنعامات المعدودة على بني إسرائيل، وهو جامع لنعم الدنيا والدين، أما في الدنيا فلأنه تعالى أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء ولولاه لهلكوا في التيه، كما لولا إنزاله المن والسلوى لهلكوا، فقد قال تعالى: * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) * (الأنبياء: 8) وقال: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) * (الأنبياء: 30) بل الإنعام بالماء في التيه أعظم من الإنعام بالماء المعتاد لأن الإنسان إذا اشتدت حاجته إلى الماء في المفازة وقد انسدت عليه أبواب الرجاء لكونه في مكان لا ماء فيه ولا نبات، فإذا رزقه الله الماء من حجر ضرب بالعصا فانشق واستقى منه علم أن هذه النعمة لا يكاد يعدلها شيء من النعم، وأما كونه من نعم الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه ومن أصدق الدلائل على صدق موسى عليه السلام، وههنا مسائل: المسألة الأولى: جمهور المفسرين أجمعوا على أن هذا الاستسقاء كان في التيه، لأن الله تعالى لما ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل ثيابهم بحيث لا تبلى ولا تتسخ خافوا
94

العطش فأعطاهم الله الماء من ذلك الحجر، وأنكر أبو مسلم حمل هذه المعجزة على أيام مسيرهم إلى التيه فقال: بل هو كلام مفرد بذاته، ومعنى الاستسقاء طلب السقيا من المطر على عادة الناس إذا أقحطوا ويكون ما فعله الله من تفجير الحجر بالماء فوق الإجابة بالسقيا وإنزال الغيث والحق أنه ليس في الآية ما يدل على أن الحق هذا أو ذاك وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التيه، ويدل عليه وجهان. أحدهما: أن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النادر، الثاني: ما روي أنهم كانوا يحملون الحجر مع أنفسهم لأنه صار معدا لذلك فكما كان المن والسلوى ينزلان عليهم في كل غداة فكذلك الماء ينفجر لهم في كل وقت وذلك لا يليق إلا بأيامهم في التيه.
المسألة الثانية: اختلفوا في العصا، فقال الحسن: كانت عصا أخذها من بعض الأشجار، وقيل كانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة والذي يدل عليه القرآن أن مقدارها كان مقدارا يصح أن يتوكأ عليها وأن تنقلب حية عظيمة ولا تكون كذلك إلا ولها قدر من الطول والغلظ وما زاد على ذلك فلا دلالة عليه.
واعلم أن السكوت عن أمثال هذه المباحث واجب لأنه ليس فيها نص متواتر قاطع ولا يتعلق بها عمل حتى يكتفي فيها بالظن المستفاد من أخبار الآحاد فالأولى تركها.
المسألة الثالثة: اللام في " الحجر " إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم، فروي أنه حجر طوري حمله معه وكان مربعا له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السبط، وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا، وقيل اهبط مع آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا، وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة ففر به، فقال له جبريل: يقول الله تعالى: ارفع هذا الحجر فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته، وإما للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، وعن الحسن: لم يأمروه أن يضرب حجرا بعينه. قال: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة، وروي أنهم قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة فحمل حجرا في مخلاته فحينما نزلوا ألقاه وقيل: كان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس، فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا. فأوحى الله إليه لا تقرع الحجارة، وكلمها تطعك، واختلفوا في صفة الحجر فقيل: كان من رخام وكان ذراعا في ذراع، وقيل: مثل رأس الإنسان. والمختار عندنا تفويض علمه إلى الله تعالى.
المسألة الرابعة؛ الفاء في قوله: * (فانفجرت) * متعلقة بمحذوف أي فضرب فانفجرت أو فإن ضربت فقد انفجرت. بقي هنا سؤالات:
السؤال الأول: هل يجوز أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر فينفجر من غير ضرب حتى يستغني عن تقدير هذا المحذوف؟ الجواب: لا يمتنع في القدرة أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر ومن قبل أن يضرب ينفجر على قدر الحاجة لأن ذلك لو قيل إنه أبلغ في
95

قيل: إنه أبلغ في الإعجاز لكان أقرب، لكن الصحيح أنه ضرب فانفجرت لأنه تعالى لو أمر رسوله بشيء، ثم إن الرسول لا يفعله لصار الرسول عاصيا، ولأنه إذا
انفجر من غير ضرب صار الأمر بالضرب بالعصا عبثا، كأنه لا معنى له ولأن المروي في الأخبار أن تقديره: فضرب فانفجرت كما في قوله تعالى: * (فانفلق) * (الشعراء: 63) من أن المراد فضرب فانفلق.
السؤال الثاني: أنه تعالى ذكر ههنا: * (فانفجرت) * وفي الأعراف: * (فانبجست) * (الأعراف: 16) وبينهما تناقض لأن الانفجار خروج الماء بكثرة والانبجاس خروجه قليلا. الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: الفجر الشق في الأصل، والانفجار الانشقاق، ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بخروجه إلى الفسق، والانبجاس اسم للشق الضيق القليل، فهما مختلفان اختلاف العام والخاص، فلا يتناقضان، وثانيها: لعله انبجس أولا، ثم انفجر ثانيا، وكذا العيون: يظهر الماء منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه. وثالثها: لا يمتنع أن حاجتهم كانت تشتد إلى الماء فينفجر، أي يخرج الماء كثيرا ثم كانت تقل فكان الماء ينبجس أي يخرج قليلا.
السؤال الثالث: كيف يعقل خروج المياه العظيمة من الحجر الصغير؟ الجواب: هذا السائل إما أن يسلم وجود الفاعل المختار أو ينكره، فإن سلم فقد زال السؤال، لأنه قادر على أن يخلق الجسم كيف شاء كما خلق البحار وغيرها، وإن نازع فلا فائدة له في البحث عن معنى القرآن والنظر في تفسيره، وهذا هو الجواب عن كل ما يستبعدونه من المعجزات التي حكاها الله تعالى في القرآن من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وأيضا فالفلاسفة لا يمكنهم القطع بفساد ذلك لأن العناصر الأربعة لها هيولي مشتركة عندهم، وقالوا: إنه يصح الكون والفساد عليها، وإنه يصح انقلاب الهواء ماء وبالعكس وكذلك قالوا: (الهواء) إذا وضع في الكوز الفضة جمد فإنه يجتمع على أطراف الكوز قطرات الماء، فقالوا: تلك القطرات إنما حصلت لأن الهواء انقلب ماء فثبت أن ذلك ممكن في الجملة والحوادث السفلية مطيعة للاتصالات الفلكية، فلم يكن مستبعدا أن يحدث اتصال فلكي يقتضي وقوع هذا الأمر الغريب في هذا العالم. فثبت أن الفلاسفة لا يمكنهم الجزم بفساد ذلك.
أما المعتزلة فإنهم لما اعتقدوا كون العبد موجدا لأفعاله لا جرم قلنا لهم: لم لا يجوز أن يقدر العبد على خلق الجسم؟ فذكروا في ذلك طريقين ضعيفين جدا سنذكرهما إن شاء الله تعالى في تفسير آية السحر، ونذكر وجه ضعفهما وسقوطهما. وإذا كان كذلك فلا يمكنهم القطع بأن ذلك من فعل الله تعالى فتنسد عليهم أبواب المعجزات والنبوات، أما أصحابنا فإنهم لما اعتقدوا أنه لا موجد إلا الله تعالى لا جرم جزموا أن المحدث لهذه الأفعال الخارقة للعادات هو الله تعالى، فلا جرم أمكنهم الاستدلال بظهورها على يد المدعي على كونه صادقا.
السؤال الرابع: أتقولون إن ذلك الماء كان مستكنا في الحجر ثم ظهر أو قلب الله الهواء ماء أو خلق الماء ابتداء؟ والجواب: أما الأول فباطل لأن الظرف الصغير لا يحوي الجسم العظيم
96

إلا على سبيل التداخل وهو محال. أما الوجهان الأخيران فكل واحد منهما محتمل، فإن كان على الوجه الأول فقد أزال الله تعالى اليبوسة عن أجزاء الهواء وخلق الرطوبة فيها وإن كان على الوجه الثاني فقد خلق تلك الأجزاء وخلق الرطوبة فيها. واعلم أن الكلام في هذا الباب كالكلام فيما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات وقد ضاق بهم الماء فوضع يده في متوضئه ففار الماء من بين أصابعه حتى استكفوا.
السؤال الخامس: معجزة موسى في هذا المعنى أعظم أم معجزة محمد عليه السلام؟ الجواب: كل واحدة منهما معجزة باهرة قاهرة، لكن التي لمحمد صلى الله عليه وسلم أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة، أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد البتة فكان ذلك أقوى.
السؤال السادس: ما الحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عينا؟ والجواب: أنه كان في قوم موسى كثرة والكثير من الناس إذا اشتدت بهم الحاجة إلى الماء ثم وجدوه فإنه يقع بينهم تشاجر وتنازع وربما أفضى ذلك إلى الفتن العظيمة فأكمل الله تعالى هذه النعمة بأن عين لكل سبط منهم ماء معينا لا يختلط بغيره والعادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين.
السؤال السابع: من كم وجه يدل هذا الانفجار على الإعجاز؟ والجواب: من وجوه: أحدها: أن نفس ظهور الماء معجز، وثانيها: خروج الماء العظيم من الحجر الصغير، وثالثها: خروج الماء بقدر حاجتهم، ورابعها: خروج الماء عند ضرب الحجر بالعصا، وخامسها: انقطاع الماء عند الاستغناء عنه، فهذه الوجوه الخمسة لا يمكن تحصيلها إلا بقدرة تامة نافذة في كل الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات وحكمة عالية على الدهر والزمان، وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى.
أما قوله تعالى: * (قد علم كل أناس مشربهم) * فنقول: إنما علموا ذلك لأنه أمر كل إنسان أن لا يشرب إلا من جدول معين كيلا يختلفوا عند الحاجة إلى الماء، وأما إضافة المشرب إليهم فلأنه تعالى لما أباح لكل سبط من الأسباط ذلك الماء الذي ظهر من ذلك الشق الذي يليه صار ذلك كالملك لهم وجازت إضافته إليهم.
أما قوله تعالى: * (كلوا واشربوا من رزق الله) * ففيه حذف، والمعنى: فقلنا لهم أو قال لهم موسى: كلوا واشربوا، وإنما قال: كلوا لوجهين، أحدهما: لما تقدم من ذكر المن والسلوى، فكأنه قال: كلوا من المن والسلوى الذي رزقكم الله بلا تعب ولا نصب واشربوا من هذا الماء. والثاني: أن الأغذية لا تكون إلا بالماء، فلما أعطاهم الماء فكأنه تعالى أعطاهم المأكول والمشروب. واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال، قالوا: لأن أقل درجات قوله: * (كلوا واشربوا) * الإباحة، وهذا يقتضي كون الرزق مباحا، فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحا وحراما وإنه
97

غير جائز.
أما قوله تعالى: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * فالعثي أشد الفساد، فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حالة إفسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه، والمقصود منه ما جرت العادة بين الناس من التشاجر والتنازع في الماء عند اشتداد الحاجة إليه، فكأنه تعالى قال: إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع والله أعلم.
* (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام وحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو
خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وبآءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) *
اعلم أن القراءة المعروفة يخرج لنا بضم الياء وكسر الراء، تنبت بضم التاء وكسر التاء، وقرأ زيد بن علي بفتح الياء وضم الراء، تنبت بفتح التاء وضم الباء، ثم اعلم أن أكثر الظاهريين من المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية، وعندنا أنه ليس الأمر كذلك، والدليل عليه أن قوله تعالى: * (كلوا واشربوا) * من قبل هذه الآية عند إنزال المن والسلوى ليس بإيجاب بل هو إباحة، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم: * (لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك) * معصية لأن من أبيح له ضرب من الطعام يحسن منه أن يسأل غير ذلك إما بنفسه أو على لسان الرسول، فلما كان عندهم أنهم إذا سألوا موسى أن يسأل ذلك من ربه كان الدعاء أقرب إلى الإجابة جاز لهم ذلك ولم يكن فيه معصية.
واعلم أن سؤال النوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض: الأول: أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنة ملوه فاشتهوا غيره، الثاني: لعلهم في أصل الخلقة ما تعودوا ذلك النوع وإنما تعودوا سائر الأنواع ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان
98

خسيسا فوق رغبته فيما لم يعتده وإن كان شريفا. الثالث: لعلهم ملوا من البقاء في التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس تلك الأطعمة. الرابع: أن المواظبة على الطعام الواحد سبب لنقصان الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة والاستكثار من الأنواع يعين على تقوية الشهوة وكثرة الالتذاذ، فثبت أن تبديل النوع بالنوع يصلح أن يكون مقصود العقلاء، وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه، فثبت أن هذا القدر لا يجوز أن يكون معصية، ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى: * (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) * كالإجابة لما طلبوا ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية وهي غير جائزة على الأنبياء، لا يقال: إنهم لما أبوا شيئا اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال: * (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) * (الشورى: 20) لأنا نقول هذا خلاف الظاهر، واحتجوا على أن ذلك السؤال كان معصية بوجوه. الأول: أن قولهم: * (لن نصبر على طعام واحد) * دلالة على أنهم كرهوا إنزال المن والسلوى وتلك الكراهة معصية، الثاني: أن قول موسى عليه السلام: * (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) * استفهام على سبيل الإنكار، وذلك يدل على كونه معصية. الثالث: أن موسى عليه السلام وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير وذلك يدل على ما قلناه، والجواب عن الأول: أنه ليس تحت قولهم: * (لن نصبر على طعام واحد) * دلالة على أنهم ما كانوا راضين به فقط، بل اشتهوا شيئا آخر، ولأن قولهم: * (لن نصبر) * إشارة إلى المستقبل لأن كلمة لن للنفي في المستقبل فلا يدل على أنهم سخطوا الواقع، وعن الثاني: أن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا وقد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الآخرة، وعن الثالث: بقريب من ذلك، فإن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث كان الانتفاع به حاضرا متيقنا ومن حيث إنه يحصل عفوا بلا كد كما يقال ذلك في الحاضر، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه: إنه أدنى من حيث لا يتيقن ومن حيث لا يوصل إليه إلا بالكد، فلا يمتنع أن يكون مراده: * (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) * هذا المعنى أو بعضه فثبت بما ذكرنا أن ذلك السؤال ما كان معصية بل كان سؤالا مباحا، وإذا كان كذلك فقوله تعالى: * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) *، لا يجوز أن يكون لما تقدم بل لما ذكره الله تعالى بعد ذلك وهو قوله تعالى: * (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق) * فبين أنه إنما ضرب الذلة والمسكنة عليهم وجعلهم محل الغضب والعقاب من حيث كانوا يكفرون لا لأنهم سألوا ذلك.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (لن نصبر على طعام واحد) * ليس المراد أنه واحد في النوع بل أنه واحد في النهج وهو كما يقال: إن طعام فلان على مائدته طعام واحد إذا كان لا يتغير عن نهجه.
المسألة الثالثة: القراءة المعروفة: * (وقثائها) * بكسر القاف، وقرأ الأعمش وطلحة وقثائها بضم القاف والقراءة المعروفة: * (وفومها) * بالفاء وعن علقمة عن ابن مسعود وثومها وهي قراءة
99

ابن عباس قالوا: وهذا أوفق لذكر البصل واختلفوا في الفوم فعن ابن عباس أنه الحنطة، وعنه أيضا أن الفوم هو الخبز وهو أيضا المروي عن مجاهد وعطاء وابن زيد وحكي عن بعض العرب: فوموا لنا أي اخبزوا لنا وقيل هو الثوم وهو مروي أيضا عن ابن عباس ومجاهد واختيار الكسائي واحتجوا عليه بوجوه. الأول: أنه في حرف عبد الله بن مسعود وثومها. الثاني: أن المراد لو كان هو الحنطة لما جاز أن يقال: * (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) * لأن الحنطة أشرف الأطعمة. الثالث: أن الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة.
المسألة الرابعة: القراءة المعروفة: * (أتستبدلون) * وفي حرف أبي بن كعب: (أتبدلون) بإسكان الباء وعن زهير الفرقبي: (أدنأ) بالهمزة من الدناءة. واختلفوا في المراد بالأدنى وضبط القول فيه أن المراد إما أن يكون أدنى في المصلحة في الدين أو في المنفعة في الدنيا، والأول غير مراد لأن الذي كانوا عليه لو كان أنفع في باب الدين من الذي طلبوه لما جاز أن يجيبهم إليه، لكنه قد أجابهم إليه بقوله: * (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) *، فبقي أن يكون المراد منه المنفعة في الدنيا ثم لا يجوز أن يكون المراد أن هذا النوع الذي أنتم عليه أفضل من الذي تطلبونه لما بينا أن الطعام الذي يكون ألذ الأطعمة عند قوم قد يكون أخسها عند آخرين، بل المراد ما بينا أن المن والسلوى متيقن الحصول وما يطلبونه مشكوك الحصول والمتيقن خير من المشكوك أو لأن هذا يحصل من غير كد ولا تعب، وذلك لا يحصل إلا مع الكد والتعب، فيكون الأول أولى. فإن قيل: كان لهم أن يقولوا هذا الذي يحصل عفوا صفوا لما كرهناه بطباعنا كان تناوله أشق من الذي لا يحصل إلا مع الكد إذا اشتهته طباعنا. قلنا: هب أنه وقع التعارض من هذه الجهة لكنه وقع الترجيح بما أن الحاضر المتيقن راجع على الغائب المشكوك.
المسألة الخامسة: القراءة المعروفة: * (اهبطوا) * بكسر الباء وقرئ بضم الباء، القراءة المشهورة: * (مصرا) * بالتنوين وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث لسكون وسطه كقوله: * (ونوحا هدينا. ولوطا) * (الأنعام: 84، 86) وفيهما العجمة والتعريف وإن أريد به البلد، فما فيه إلا سبب واحد، وفي مصحف عبد الله وقرأ به الأعمش: * (اهبطوا مصرا) * بغير تنوين كقوله: * (ادخلوا مصرا) * واختلف المفسرون في قوله: * (اهبطوا مصرا) * روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب ترك التنوين، وقال الحسن: الألف في مصرا زيادة من الكاتب فحينئذ تكون معرفة فيجب أن تحمل على ما هو المختص بهذا الاسم وهو البلد الذي كان فيه فرعون وهو مروي عن أبي العالية والربيع، وأما الذين قرؤوا بالتنوين وهي القراءة المشهورة فقد اختلفوا، فمنهم من قال: المراد البلد الذي كان فيه فرعون ودخول التنوين فيه كدخوله في نوح ولوط، وقال آخرون:
المراد الأمر بدخول أي بلد كان كأنه قيل لهم ادخلوا بلدا أي بلد كان لتجدوا فيه هذه الأشياء، وبالجملة فالمفسرون قد اختلفوا في أن المراد من مصر هو البلد الذي كانوا فيه أولا أو بلد آخر، فقال كثير من المفسرين: لا يجوز
100

أن يكون هو البلد الذي كانوا فيه مع فرعون واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم) * (المائدة: 21) والاستدلال بهذه الآية من ثلاثة أوجه. الأول: أن قوله تعالى: * (ادخلوا الأرض المقدسة) * إيجاب لدخول تلك الأرض، وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى. والثاني: أن قوله: * (كتب الله) * يقتضي دوام كونهم فيه. والثالث: أن قوله: * (ولا ترتدوا على أدباركم) * صريح في المنع من الرجوع عن بيت المقدس. الرابع: أنه تعالى بعد أن أمر بدخول الأرض المقدسة قال: * (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) * فإذا تقدم هذا الأمر ثم بين تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المدة فعند زوال العذر وجب أن يلزمهم دخولها، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المراد من مصر سواها. فإن قيل: هذه الوجوه ضعيفة. أما الأول: فلأن قوله: * (ادخلوا الأرض المقدسة) * أمر والأمر للندب فلعلهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة مع أنهم ما منعوا من دخول مصر، أما الثاني: فهو كقوله: * (كتب الله لكم) * فذلك يدل على دوام تلك الندبية. وأما الثالث: وهو قوله تعالى: * (ولا ترتدوا على أدباركم) * فلا نسلم أن معناه ولا ترجعوا إلى مصر بل فيه وجهان آخران. الأول: المراد لا تعصوا فيما أمرتم به إذ العرب تقول لمن عصى فيما يؤمر به: ارتد على عقبه. والمراد من هذا العصيان أن ينكر أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى. الثاني: أن يخصص ذلك النهي بوقت معين فقط. قلنا: ثبت في أصول الفقه أن ظاهر الأمر للوجوب فيتم دليلنا بناء على هذا الأصل، وأيضا فهب أنه للندب ولكن الإذن في تركه يكون إذنا في ترك المندوب، وذلك لا يليق بالأنبياء. قوله: لا نسلم أن المراد من قوله: * (ولا ترتدوا) * لا ترجعوا. قلنا: الدليل عليه أنه لما أمر بدخول الأرض المقدسة، ثم قال بعده: * (ولا ترتدوا على أدباركم) * تبادر إلى الفهم أن هذا النهي يرجع إلى ما تعلق به ذلك الأمر. قوله: أن يخصص ذلك النهي بوقت معين، قلنا: التخصيص خلاف الظاهر، أما أبو مسلم الأصفهاني فإنه جوز أن يكون المراد مصر فرعون واحتج عليه بوجهين. الأول: أنا إن قرأنا: * (اهبطوا مصر) * بغير تنوين كان لا محالة علما لبلد معين وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سوى هذه البلدة المعينة فوجب حمل اللفظ عليه ولأن اللفظ إذا دار بين كونه علما وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى من حمله على الصفة مثل ظالم وحادث، فإنهما لما جاءا علمين كان حملهما على العلمية أولى. أما إن قرأناه بالتنوين فإما أن نجعله مع ذلك اسم علم ونقول: إنه إنما دخل فيه التنوين لسكون وسطه كما في نوح ولوط فيكون التقرير أيضا ما تقدم بعينه، وأما إن جعلناه اسم جنس فقوله تعالى: * (اهبطوا مصرا) * يقتضي التخيير كما إذ قال: أعتق رقبة فإنه يقتضي التخيير بين جميع رقاب الدنيا. الوجه الثاني: أن الله تعالى ورث بني إسرائيل أرض مصر وإذا كانت موروثة لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها بيان أنها موروثة لهم، قوله تعالى: * (فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم) * إلى قوله: * (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) * (الشعراء: 57 - 59) ولما ثبت أنها
101

موروثة لهم وجب أن لا يكونوا ممنوعين من دخولها لأن الإرث يفيد الملك والملك مطلق للتصرف. فإن قيل: الرجل قد يكون مالكا للدار وإن كان ممنوعا عن دخولها بوجه آخر، كحال من أوجب على نفسه اعتكاف أيام في المسجد، فإن داره وإن كانت مملوكة له لكنه يحرم عليه دخولها، فلم لا يجوز أن يقال: إن الله ورثهم مصر بمعنى الولاية والتصرف فيها، ثم إنه تعالى حرم عليهم دخولها من حيث أوجب عليهم أن يسكنوا الأرض المقدسة بقوله: * (ادخلوا الأرض المقدسة) * قلنا الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل، أجاب الفريق الأول عن هاتين الحجتين اللتين ذكرهما أبو مسلم فقالوا: أما الوجه الأول فالجواب عنه أنا نتمسك بالقراءة المشهورة وهي التي فيها التنوين. قوله: هذه القراءة تقتضي التخيير، قلنا: نعم لكنا نخصص العموم في حق هذه البلدة المعينة بما ذكرناه من الدليل.
أما الوجه الثاني: فالجواب عنه أنا لا ننازع في أن الملك مطلق للتصرف ولكن قد يترك هذا الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر، فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمناه من الدلالة.
أما قوله تعالى: * (وضربت عليهم الذلة) * فالمعنى جعلت الذلة محيطة بهم حتى مشتملة عليهم فهم فيها كمن يكون في القبة المضروبة أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازم كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه والأقرب في الذلة أن يكون المراد منها ما يجري مجرى الاستحقاق كقوله تعالى فيمن يحارب ويفسد: * (ذلك لهم خزي في الدنيا) * فأما من يقول المراد به الجزية خاصة على ما قال تعالى: * (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * (التوبة: 29) فقوله بعيد لأن الجزية ما كانت مضروبة عليهم من أول الأمر.
أما قوله تعالى: * (والمسكنة) * فالمراد به الفقر والفاقة وتشديد المحنة، فهذا الجنس يجوز أن يكون كالعقوبة، ومن العلماء من عد هذا من باب المعجزات لأنه عليه السلام أخبر عن ضرب الذلة والمسكنة عليهم ووقع الأمر كذلك فكان هذا إخبارا عن الغيب فيكون معجزا. أما قوله تعالى: * (وباءوا) * ففيه وجوه. أحدها: البوء
الرجوع، فقوله: * (باءوا) * أي رجعوا وانصرفوا بذلك ولا يقال باء إلا بشر. وثانيها: البوء التسوية. فقوله: * (باءوا) * أي استوى عليهم غضب الله. قال الزجاج. وثالثها: باؤا أي استحقوا، ومنه قوله تعالى: * (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) * (المائدة: 29) أي تستحق الإثمين جميعا. وأما غضب الله فهو إرادة الانتقام.
أما قوله تعالى: * (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) * فهو علة لما تقدم ذكره من ضرب الذلة والمسكنة عليهم وإلحاق الغضب بهم. قالت المعتزلة: لو كان الكفر حصل فيهم بخلق الله تعالى كما حصلت الذلة والمسكنة فيهم بخلقه لما كان جعل أحدهما جزاء الثاني أولى من العكس، وجوابه المعارضة بالعلم والداعي، وأما حقيقة الكفر فقد تقدم القول فيها.
أما قوله تعالى: * (ويقتلون النبيين بغير الحق) * فالمعنى أنهم يستحقون ما تقدم لأجل هذه الأفعال أيضا وفيه سؤالات.
102

السؤال الأول: أن قوله تعالى: * (يكفرون) * دخل تحته قتل الأنبياء فلم أعاد ذكره مرة أخرى؟ الجواب: المذكور ههنا الكفر بآيات الله، وذلك هو الجهل والجحد بآياته فلا يدخل تحته قتل الأنبياء.
السؤال الثاني: لم قال: * (بغير الحق) * وقتل الأنبياء لا يكون إلا على هذا الوجه؟ الجواب من وجهين: الأول: أن الإتيان بالباطل قد يكون حقا لأن الآتي به اعتقده حقا لشبهة وقعت في قلبه وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلا، ولا شك أن الثاني أقبح فقوله: * (ويقتلون النبيين بغير الحق) * أي أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقا في اعتقادهم وخيالهم بل كانوا عالمين بقبحه ومع ذلك فقد فعلوه. وثانيها: أن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى: * (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) * (المؤمنون: 117) ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان. وثالثها: أن الله تعالى لو ذمهم على مجرد القتل لقالوا: أليس أن الله يقتلهم ولكنه تعالى قال: القتل الصادر من الله قتل بحق ومن غير الله قتل بغير حق.
وأما قوله تعالى: * (ذلك بما عصوا) * فهو تأكيد بتكرير الشيء بغير اللفظ الأول وهو بمنزلة أن يقول الرجل لعبده وقد احتمل منه ذنوبا سلفت منه فعاقبه عند آخرها: هذا بما عصيتني وخالفت أمري، هذا بما تجرأت علي واغتررت بحلمي، هذا بكذا فيعد عليه ذنوبه بألفاظ مختلفة تبكيتا. أما قوله تعالى: * (وكانوا يعتدون) * فالمراد منه الظلم: أي تجاوزوا الحق إلى الباطل. واعلم أنه تعالى لما ذكر إنزال العقوبة بهم بين علة ذلك فبدأ أولا بما فعلوه في حق الله تعالى وهو جهلهم به وجحدهم لنعمه ثم ثناه بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء ثم ثلثه بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم ثم ربع بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير مثل الاعتداء والظلم، وذلك في نهاية حسن الترتيب. فإن قيل: قال ههنا: * (ويقتلون النبيين بغير الحق) * ذكر الحق بالألف واللام معرفة، وقال في آل عمران: * (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق) * (آل عمران: 21) نكرة، وكذلك في هذه السورة: * (ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ليسوا سواء) * (آل عمران: 112، 113) فما الفرق؟ الجواب: الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل، قال عليه السلام، لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث، " كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق "، فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة.
* (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم
103

الاخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
اعلم أن القراءة المشهورة: * (هادوا) * بضم الدال وعن الضحاك ومجاهد بفتح الدال وإسكان الواو والقراءة المعروفة الصابئين والصابئون بالهمزة فيهما حيث كانا وعن نافع وشيبة والزهري والصابين بياء ساكنة من غير همز، والصابون بباء مضمومة وحذف الهمزة، وعن العمري يجعل الهمزة فيهما، وعن أبي جعفر بياءين خالصتين فهما بدل الهمزة، فأما ترك الهمزة فيحتمل وجهين. أحدهما: أن يكون من صبا يصبو إذا مال إلى الشيء فأحبه، والآخر: قلب الهمزة فنقول: الصابيين والصابيون والاختيار الهمز لأنه قراءة الأكثر وإلى معنى التفسير أقرب لأن أهل العلم قالوا: هو الخارج من دين إلى دين، واعلم أن عادة الله إذا ذكر وعدا أو وعيدا عقبه بما يضاده ليكون الكلام تاما فههنا لما ذكر حكم الكفرة من أهل الكتاب وما حل بهم من العقوبة أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم والثواب الكريم دالا على أنه سبحانه وتعالى يجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته كما قال: * (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * (النجم: 31) فقال: * (إن الذين آمنوا) * واختلف المفسرون في المراد منه، وسبب هذا الاختلاف قوله تعالى في آخر الآية: * (من آمن بالله واليوم الآخر) * فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من الإيمان في قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا) * غير المراد منه في قوله تعالى: * (من آمن بالله) * ونظيره في الإشكال قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) * (النساء: 136) فلأجل هذا الإشكال ذكروا وجوها، أحدها: وهو قول ابن عباس. المراد الذين آمنوا قبل مبعث محمد بعيسى عليهما السلام مع البراءة عن أباطيل اليهود والنصارى مثل قس بن ساعدة، وبحيرى الراهب وحبيب النجار وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري ووفد النجاشي فكأنه تعالى قال: إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد والذين كانوا على الدين الباطل الذي لليهود والذين كانوا على الدين الباطل الذي للنصارى كل من آمن منهم بعد مبعث محمد عليه السلام بالله واليوم الآخر وبمحمد فلهم أجرهم عند ربهم، وثانيها: أنه تعالى ذكر في أول هذه السورة طريقة المنافقين ثم طريقة اليهود، فالمراد من قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا) * هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب وهم المنافقون، فذكر المنافقين ثم اليهود والنصارى والصابئين فكأنه تعالى قال: هؤلاء المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله وهو قول سفيان الثوري، وثالثها: المراد من قوله: * (إن الذين آمنوا) * هم المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام
في الحقيقة وهو عائد إلى
104

الماضي، ثم قوله تعالى: * (من آمن بالله) * يقتضي المستقبل فالمراد الذين آمنوا في الماضي وثبتوا على ذلك واستمروا عليه في المستقبل وهو قول المتكلمين.
أما قوله تعالى: * (والذين هادوا) * فقد اختلفوا في اشتقاقه على وجوه. أحدها: إنما سموا به حين تابوا من عبادة العجل وقالوا: * (إنا هدنا إليك) * (الأعراف: 156) أي تبنا ورجعنا، وهو عن ابن عباس. وثانيها: سموا به لأنهم نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب وإنما قالت العرب بالدال للتعريب، فإن العرب إذا نقلوا أسماء من العجمية إلى لغتهم غيروا بعض حروفها. وثالثها: قال أبو عمرو بن العلاء: سموا بذلك لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة، وأما النصارى ففي اشتقاق هذا الاسم وجوه. أحدها: أن القرية التي كان ينزلها عيسى عليه السلام تسمى ناصرة فنسبوا إليها وهو قول ابن عباس وقتادة وابن جريج، وثانيها: لتناصر هم فيما بينهم أي لنصرة بعضهم بعضا. وثالثها: لأن عيسى عليه السلام قال للحواريين من أنصاري إلى الله، قال صاحب الكشاف: النصارى جمع نصران يقال رجل نصران، وامرأة نصرانة والياء في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري لأنهم نصروا المسيح.
أما قوله تعالى: * (والصابئين) * فهو من صبأ إذا خرج من دينه إلى دين آخر، وكذلك كانت العرب يسمون النبي عليه السلام صابئا لأنه أظهر دينا بخلاف أديانهم وصبأت النجوم إذا أخرجت من مطلعها. وصبأنا به إذا خرجنا به، وللمفسرين في تفسير مذهبهم أقوال، أحدها: قال مجاهد والحسن: هم طائفة من المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، وثانيها: قال قتاد: هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات. وقال أيضا: الأديان خمسة منها للشيطان أربعة وواحد للرحمن: الصابئون وهم يعبدون الملائكة، والمجوس وهم يعبدون النار، والذين أشركوا يعبدون الأوثان، واليهود والنصارى. وثالثها: وهو الأقرب أنهم قوم يعبدون الكواكب، ثم لهم قولان. الأول: أن خالق العالم هو الله سبحانه، إلا أنه سبحانه أمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذه قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم. والثاني: أن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، والخالقة لها فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ثم إنها تعبد الله سبحانه، وهذا المذهب هو القول المنسوب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام رادا عليهم ومبطلا لقولهم، ثم إنه سبحانه بين في هذه الفرق الأربعة أنهم إذا آمنوا بالله فلهم الثواب في الآخرة ليعرف أن جميع أرباب الضلال إذا رجعوا عن ضلالهم وآمنوا بالدين الحق فإن الله سبحانه وتعالى يقبل إيمانهم وطاعتهم ولا يردهم عن حضرته البتة، واعلم أنه قد دخل في الإيمان بالله الإيمان بما أوجبه، أعني الإيمان برسله ودخل في الإيمان باليوم الآخر جميع أحكام الآخرة، فهذان القولان قد جمعا كل ما يتصل بالأديان في حال التكليف وفي حال الآخرة من ثواب وعقاب.
أما قوله تعالى: * (عند ربهم) * فليس المراد العندية المكانية، فإن ذلك محال في حق الله تعالى ولا
105

الحفظ كالودائع بل المراد أن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند ربهم.
وأما قوله تعالى: * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * فقيل: أراد زوال الخوف والحزن عنهم في الدنيا ومنهم من قال في الآخرة في حال الثواب، وهذا أصح لأن قوله: * (ولا خوف عليهم) * عام في النفي، وكذلك: * (ولا هم يحزنون) * وهذه الصفة لا تحصل في الدنيا وخصوصا في المكلفين لأنهم في كل وقت لا ينفكون من خوف وحزن، إما في أسباب الدنيا وإما في أمور الآخرة، فكأنه سبحانه وعدهم في الآخرة بالأجر، ثم بين أن من صفة ذلك الأجر أن يكون خاليا عن الخوف والحزن، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائما لأنهم لو جوزوا كونه منقطعا لاعتراهم الحزن العظيم. فإن قال قائل: إن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة المائدة هكذا: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (المائدة: 69) وفي سورة الحج: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) * (الحج: 17) فهل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الصنوف وتأخيرها ورفع " الصابئين " في آية ونصبها في أخرى فائدة تقتضي ذلك؟ والجواب: لما كان المتكلم أحكم الحاكمين فلا بد لهذه التغييرات من حكم وفوائد، فإن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال وإن عجزنا أحلنا القصور على عقولنا لا على كلام الحكيم والله أعلم.
* (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون * ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) *
اعلم أن هذا هو الإنعام العاشر وذلك لأنه تعالى إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم فصار ذلك من إنعامه عليهم:
أما قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاقكم) * ففيه بحثان:
الأول: اعلم أن الميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة، والمفسرون ذكروا في تفسير الميثاق وجوها، أحدها: ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته والدلائل الدالة على صدق أنبيائه ورسله، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق
106

والعهود لأنها لا تحتمل الخلف والتبديل بوجه البتة وهو قول الأصم، وثانيها: ما روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام لما رجع من عند ربه بالألواح قال لهم: إن فيها كتاب الله فقالوا: لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول: هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم ثم قال لهم بعد ذلك: خذوا كتاب الله فأبوا فرفع فوقهم الطور وقيل لهم: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، فأخذوه فرفع الطور هو الميثاق، وذلك لأن رفع الطور آية باهرة عجيبة تبهر العقول وترد المكذب إلى التصديق والشاك إلى اليقين، فلما رأوا ذلك وعرفوا أنه من قبله تعالى علما لموسى عليه السلام علما مضافا إلى سائر الآيات أقروا له بالصدق فيما جاء به وأظهروا التوبة وأعطوا العهد والميثاق أن لا يعودوا إلى ما كان منهم من عبادة العجل وأن يقوموا بالتوراة فكان هذا عهدا موثقا جعلوه لله على أنفسهم، وهذا هو اختيار أبي مسلم. وثالثها: أن لله ميثاقين، فالأول: حين أخرجهم من صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم، والثاني: أنه ألزم الناس متابعة الأنبياء والمراد ههنا هو هذا
العهد. هذا قول ابن عباس وهو ضعيف. الثاني: قال القفال رحمه الله: إنما قال: (ميثاقكم) ولم يقل مواثيقكم لوجهين، أحدهما: أراد به الدلالة على أن كل واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال: * (ثم يخرجكم طفلا) * (غافر: 67) أي كل واحد منكم. والثاني: أنه كان شيئا واحدا أخذ من كل واحد منهم كما أخذ على غيره فلا جرم كان كله ميثاقا واحدا ولو قيل مواثيقكم لأشبه أن يكون هناك مواثيق أخذت عليهم لا ميثاق واحد والله أعلم.
وأما قوله تعالى: * (ورفعنا فوقكم الطور) * فنظيره قوله تعالى: * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) * (الأعراف: 171) وفيه أبحاث:
البحث الأول: الواو في قوله تعالى: * (ورفعنا) * واو عطف على تفسير ابن عباس والمعنى أن أخذ الميثاق كان متقدما فلما نقضوه بالامتناع عن قبول الكتاب رفع عليهم الجبل، وأما على تفسير أبي مسلم فليست واو عطف ولكنها واو الحال كما يقال: فعلت ذلك والزمان زمان فكأنه قال: وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطور فوقكم. الثاني: قيل: إن الطور كل جبل قال العجاج:
داني جناحيه من الطور فمر * تقضي البازي إذا البازي كسر
أما الخليل فقال في كتابه: إن الطور اسم جبل معلوم وهذا هو الأقرب لأن لام التعريف فيه تقتضي حمله على جبل معهود عرف كونه مسمى بهذا الاسم، والمعهود هو الجبل الذي وقعت المناجاة عليه وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم وإن كان بعيدا منهم لأن القادر أن يسكن الجبل في الهواء قادر أيضا على أن يقلعه وينقله إليهم من المكان البعيد، وقال ابن عباس: أمر تعالى جبلا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظلة وكان المعسكر فرسخا في فرسخ فأوحى الله إليهم أن اقبلوا التوراة وإلا رميت الجبل عليكم، فلما رأوا أن لا مهرب قبلوا التوراة بما فيها وسجدوا للفزع سجودا يلاحظون الجبل، فلذلك سجدت اليهود على أنصاف
107

وجوههم.
الثالث: من الملاحدة من أنكر إمكان وقوف الثقيل في الهواء بلا عماد وأما الأرض فقالوا إنما وقفت لأنها بطبعها طالبة للمركز فلا جرم وقفت في المركز، ودليلنا على فساد قولهم أنه سبحانه قادر على كل الممكنات ووقوف الثقيل في الهواء من الممكنات فوجب أن يكون الله قادرا عليه وتمام تقرير هاتين المقدمتين معلوم في كتب الأصول. الرابع: قال بعضهم: إظلال الجبل غير جائز لأن ذلك لو وقع لكان يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان وهو ينافي التكليف. أجاب القاضي بأنه لا يلجئ لأن أكثر ما فيه خوف السقوط عليهم، فإذا استمر في مكانه مدة وقد شاهدوا السماوات مرفوعة فوقهم بلا عماد جاز ههنا أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف.
أما قوله تعالى: * (خذوا ما آتيناكم بقوة) * أي بجد وعزيمة كاملة وعدول عن التغافل والتكاسل، قال الجبائي: هذا يدل على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنه لا يجوز أن يقال: خذ هذا بقوة ولا قوة حاصلة كما لا يقال: اكتب بالقلم ولا قلم، وأجاب أصحابنا بأن المراد: خذوا ما آتيناكم بجد وعزيمة وعندنا العزيمة قد تكون متقدمة على الفعل.
وأما قوله تعالى: * (واذكروا ما فيه) * أي احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه. فإن قيل: هلا حملتموه على نفس الذكر؟ قلنا: لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله تعالى فكيف يجوز الأمر به. فأما إذا حملناه على المدارسة فلا إشكال.
أما قوله تعالى: * (لعلكم تتقون) * أي لكي تتقوا، واحتج الجبائي بذلك على أنه تعالى أراد فعل الطاعة من الكل، وجوابه ما تقدم.
واعلم أن المفهوم من قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة) * أنهم فعلوا ذلك وإلا لم يكن ذلك أخذا للميثاق ولا صح قوله من بعد: * (ثم توليتم) * فدل ذلك منهم على القبول والالتزام.
أما قوله تعالى: * (ثم توليتم من بعد ذلك) * أي ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به، قال القفال رحمه الله: قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة، فحرفوا التوراة وتركوا العمل بها وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم ولعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا ونهارا يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس وكفروا بالمسيح وهموا بقتله. والقرآن وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة فالجملة معروفة وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه
108

الصلاة والسلام من الكتاب وجحودهم لحقه وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) * ففيه بحثان:
الأول: ذكر القفال في تفسيره وجهين. الأول: لولا ما تفضل الله به عليكم من إمهالكم وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم، فدل هذا القول على أنهم إنما خرجوا عن هذا الخسران لأن الله تعالى تفضل عليهم بالإمهال حتى تابوا. الثاني: أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله تعالى: * (ثم توليتم من بعد ذلك) * ثم قيل: * (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) * رجوعا بالكلام إلى أوله، أي لولا لطف الله بكم برفع الجبل فوقكم لدمتم على ردكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم فلطف بكم بذلك حتى تبتم.
البحث الثاني: أن لقائل أن يقول كلمة * (لولا) * تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، فهذا يقتضي أن انتفاء الخسران من لوازم حصول فضل الله تعالى فحيث حصل الخسران وجب أن لا يحصل هناك لطف الله تعالى. وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يفعل بالكافر شيئا من الألطاف الدينية وذلك خلاف قول المعتزلة: أجاب الكعبي بأنه
تعالى سوى بين الكل في الفضل لكن انتفع بعضهم دون بعض، فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم: لولا أن أباك فضلك لكنت فقيرا، وهذا الجواب ضعيف لأن أهل اللغة نصوا على أن: " لولا " تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره وبعد ثبوت هذه المقدمة فكلام الكعبي ساقط جدا.
* (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين * فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) *
اعلم أنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولا ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات، وهذا هو النوع الأول وفيه مسائل: المسألة الأولى: روي عن ابن عباس أن هؤلاء القوم كانوا في زمان داود عليه السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة وهي القرية المذكورة في قوله: * (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت) * (الأعراف: 163) فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم، ثم إنهم أخذوا السمك واستغنوا بذلك وهم خائفون من
109

العقوبة فلما طال
العهد استسن الأبناء بسنة الآباء واتخذوا الأموال فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد يوم السبت ونهوهم فلم ينتهوا وقالوا: نحن في هذا العمل منذ زمان فما زادنا الله به إلا خيرا، فقيل لهم: لا تغتروا فربما نزل بكم العذاب والهلاك فأصبح القوم وهم قردة خاسئون فمكثوا كذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا.
المسألة الثانية: المقصود من ذكر هذه القصة أمران. الأول: إظهار معجزة محمد عليه السلام فإن قوله: * (ولقد علمتم) * كالخطاب لليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه السلام فلما أخبرهم محمد عليه السلام عن هذه الواقعة مع أنه كان أميا لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط القوم دل ذلك على أنه عليه السلام إنما عرفه من الوحي. الثاني: أنه تعالى لما أخبرهم بما عامل به أصحاب السبت فكأنه يقول لهم أما تخافون أن ينزل عليكم بسبب تمردكم ما نزل عليهم من العذاب فلا تغتروا بالإمهال الممدود لكم ونظيره قوله تعالى: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) * (النساء: 47).
المسألة الثالثة: الكلام فيه حذف كأنه قال: ولقد علمتم اعتداء من اعتدى منكم في السبت لكي يكون المذكور من العقوبة جزاء لذلك، ولفظ الاعتداء يدل على أن الذي فعلوه في السبت كان محرما عليهم وتفصيل ذلك غير مذكور في هذه الآية لكنه مذكور في قوله: * (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) * ثم يحتمل أن يقال: إنهم إنما تعدوا في ذلك الاصطياد فقط، وأن يقال: إنما تعدوا لأنهم اصطادوا مع أنهم استحلوا ذلك الاصطياد.
المسألة الرابعة: قال صاحب الكشاف: السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت. فإن قيل: لما كان الله نهاهم عن الإصطياد يوم السبت فما الحكمة في أن أكثر الحيتان يوم السبت دون سائر الأيام كما قال: * (تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم) * (الأعراف: 163) وهل هذا إلا إثارة الفتنة وإرادة الاضلال. قلنا: أما على مذهب أهل السنة فإرادة الإضلال جائزة من الله تعالى وأما على مذهب المعتزلة فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازدياد الثواب.
أما قوله تعالى: * (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: (قردة خاسئين) خبر: أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء، وهو الصغار والطرد.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (كونوا قردة خاسئين) * ليس بأمر لأنهم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم على صورة القردة بل المراد منه سرعة التكوين كقوله تعالى: * (إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 4) وكقوله تعالى: * (قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11) والمعنى أنه تعالى لم يعجزه ما أراد إنزاله من العقوبة بهؤلاء بل لما قال لهم؛ * (كونوا قردة خاسئين صاروا) * كذلك أي لما أراد
110

ذلك بهم صاروا كما أراد وهو كقوله: * (كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) * (النساء: 47) ولا يمتنع أيضا أن يتكلم الله بذلك عند هذا التكوين إلا أن المؤثر في هذا التكوين هو القدرة والإرادة. فإن قيل: لما لم يكن لهذا القول أثر في التكوين فأي فائدة فيه؟ قلنا: أما عندنا فأحكام الله تعالى وأفعاله لا تتوقف على رعاية المصالح البتة، وأما عند المعتزلة فلعل هذا القول يكون لفظا لبعض الملائكة أو لغيرهم.
المسألة الثالثة: المروي عن مجاهد أنه سبحانه وتعالى مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم لا أنه مسخ صورهم وهو مثل قوله تعالى: * (كمثل الحمار يحمل أسفارا) * (الجمعة: 5) ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجح في تعليمه: كن حمارا. واحتج على امتناعه بأمرين. الأول: أن الإنسان هو هذا الهيكل المشاهد والبنية المحسوسة فإذا أبطلها وخلق في تلك الأجسام تركيب القرد وشكله كان ذلك إعداما للإنسان وإيجادا للقرد فيرجع حاصل المسخ على هذا القول إلى أنه تعالى أعدم الأعراض التي باعتبارها كانت تلك الأجسام إنسانا وخلق فيها الأعراض التي باعتبارها كانت قردا فهذا يكون إعداما وإيجادا لا أنه يكون مسخا. والثاني: إن جوزنا ذلك لما آمنا في كل ما نراه قردا وكلبا أنه كان إنسانا عاقلا، وذلك يفضي إلى الشك في المشاهدات. وأجيب عن الأول بأن الإنسان ليس هو تمام هذا الهيكل، وذلك لأن هذا الإنسان قد يصير سمينا بعد أن كان هزيلا، وبالعكس فالأجزاء متبدلة والإنسان المعين هو الذي كان موجودا والباقي غير الزائل، فالإنسان أمر وراء هذا الهيكل المحسوس، وذلك الأمر إما أن يكون جسما ساريا في البدن أو جزءا في بعض جوانب البدن كقلب أو دماغ أو موجودا مجردا على ما يقوله الفلاسفة وعلى جميع التقديرات فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل وهذا هو المسخ وبهذا التقدير يجوز في المالك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول عليه السلام. وعن الثاني أن الأمان يحصل بإجماع الأمة، ولما ثبت بما قررنا جواز المسخ أمكن إجراء الآية على ظاهرها، ولم يكن بنا حاجة إلى التأويل الذي ذكره مجاهد رحمه الله وإن كان ما ذكره غير مستبعد جدا، لأن الإنسان إذا أصر على جهالته بعد ظهور الآيات وجلاء البينات فقد يقال في العرف الظاهر إنه حمار
وقرد، وإذا كان هذا المجاز من المجازات الظاهرة المشهورة لم يكن في المصير إليه محذور البتة. بقي ههنا سؤالان.
السؤال الأول: أنه بعد أن يصير قردا لا يبقى له فهم ولا عقل ولا علم فلا يعلم ما نزل به من العذاب ومجرد القردية غير مؤلم بدليل أن القرود حال سلامتها غير متألمة فمن أين يحصل العذاب بسببه؟ الجواب: لم لا يجوز أن يقال أن الأمر الذي به يكون الإنسان إنسانا عاقلا فاهما كان باقيا إلا أنه لما تغيرت الخلقة والصورة لا جرم أنها ما كانت تقدر على النطق والأفعال الإنسانية إلا أنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخلقة بسبب شؤم المعصية وكانت في نهاية الخوف
111

والخجالة، فربما كانت متألمة بسبب تغير تلك الأعضاء ولا يلزم من عدم تألم القرود الأصلية بتلك الصورة عدم تألم الإنسان بتلك الصورة الغريبة العرضية.
السؤال الثاني: أولئك القردة بقوا أو أفناهم الله، وإن قلنا إنهم بقوا فهذه القردة التي في زماننا هل يجوز أن يقال إنها من نسل أولئك الممسوخين أم لا؟ الجواب: الكل جائز عقلا إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا.
المسألة الرابعة: قال أهل اللغة: الخاسئ الصاغر المبعد المطرود كالكلب إذا دنا من الناس قيل له اخسأ، أي تباعد وانطرد صاغرا فليس هذا الموضع من مواضعك، قال الله تعالى: * (ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) * (الملك: 4) يحتمل صاغرا ذليلا ممنوعا عن معاودة النظر لأنه تعالى قال: * (فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) *، فكأنه قال: ردد البصر في السماء ترديد من يطلب فطورا فإنك وإن أكثرت من ذلك لم تجد فطورا فيرتد إليك طرفك ذليلا كما يرتد الخائب بعد طول سعيه في طلب شيء ولا يظفر به فإنه يرجع خائبا صاغرا مطرودا من حيث كان يقصده من أن يعاوده.
أما قوله: * (فجعلناها) * فقد اختلفوا في أن هذا الضمير إلى أي شيء يعود على وجوه. أحدها: قال الفراء: (جعلناها) يعني المسخة التي مسخوها، وثانيها: قال الأخفش: أي جعلنا القردة نكالا. وثالثها: جعلنا قرية أصحاب السبت نكالا. رابعها: جعلنا هذه الأمة نكالا لأن قوله تعالى: * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) * يدل على الأمة والجماعة أو نحوها والأقرب هو الوجهان الأولان لأنه إذا أمكن رد الكناية إلى مذكور متقدم فلا وجه لردها إلى غيره، فليس في الآية المتقدمة إلا ذكرهم وذكر عقوبتهم، أما النكال فقال القفال رحمه الله: إنه العقوبة الغليظة الرادعة للناس عن الإقدام على مثل تلك المعصية وأصله من المنع والحبس ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع منها، ويقال للقيد النكل، وللجام الثقيل أيضا نكل لما فيهما من المنع والحبس، ونظيره قوله تعالى: * (إن لدينا أنكالا وجحيما) * (المزمل: 12) وقال الله تعالى: * (والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) * (النساء: 84) والمعنى: أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء القوم عقوبة رادعة لغيرهم أي لم نقصد بذلك ما يقصده الآدميون من التشفي لأن ذلك إنما يكون ممن تضره المعاصي وتنقص من ملكه وتؤثر فيه، وأما نحن فإنما نعاقب لمصالح العباد فعقابنا زجر وموعظة، قال القاضي: اليسير من الذم لا يوصف بأنه نكال حتى إذ عظم وكثر واشتهر، يوصف به وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في السارق المصر القطع جزاء ونكالا وأراد به أن يفعل على وجه الإهانة والاستخفاف فهو بمنزلة الخزي الذي لا يكاد يستعمل إلا في الذم العظيم، فكأنه تعالى لما بين ما أنزله بهؤلاء القوم الذين اعتدوا في السبت واستحلوا من اصطياد الحيتان وغيره ما حرمه عليهم ابتغاء الدنيا ونقضوا ما كان منهم من المواثيق، فبين أنه تعالى أنزل بهم عقوبة لا على وجه المصلحة لأنه كان لا يمتنع أن يقلل مقدار مسخهم ويغير صورهم بمنزلة ما ينزل بالمكلف من الأمراض المغيرة للصورة، ويكون
112

محنة لا عقوبة فبين تعالى بقوله: * (فجعلناها نكالا) * أنه تعالى فعلها عقوبة على ما كان منهم.
أما قوله تعالى: * (لما بين يديها وما خلفها) * ففيه وجوه. أحدها: لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسخهم ذكر في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغ إليه خبر هذه الواقعة من الآخرين، وثانيها: أريد بما بين يديها ما يحضرها من القرون والأمم، وثالثها: المراد أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من هذا الفعل وما بعده وهو قول الحسن.
أما قوله تعالى: * (وموعظة للمتقين) * ففيه وجهان. أحدهما: أن من عرف الأمر الذي نزل بهم يتعظ به ويخاف إن فعل مثل فعلهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم، وإن لم ينزل عاجلا فلا بد من أن يخاف من العقاب الآجل الذي هو أعظم وأدوم. وأما تخصيصه المتقين بالذكر فكمثل ما بيناه في أول السورة عند قوله: * (هدى للمتقين) * لأنهم إذا اختصموا بالاتعاظ والانزجار والانتفاع بذلك صلح أن يخصوا به، لأنه ليس بمنفعة لغيرهم. الثاني: أن يكون معنى قوله: * (وموعظة للمتقين) * أن يعظ المتقون بعضهم بعضا أي جعلناها نكالا وليعظ به بعض المتقين بعضا فتكون الموعظة مضافة إلى المتقين على معنى أنهم يتعظون بها، وهذا خاص لهم دون غير المتقين والله أعلم.
* (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقاع لونها تسر الناظرين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى
113

إن البقر تشابه علينا وإنآ إن شآء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون * وإذ قتلتم نفسا فادرأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) *
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التشديدات. روي عن ابن عباس وسائر المفسرين أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبا لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام فاجتهد موسى في تعرف القاتل، فلما لم يظهر قالوا له: سل لنا ربك حتى يبينه، فسأله فأوحى الله إليه: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * فتعجبوا من ذلك ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال واستقصوا في طلب الوصف فلما تعينت لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسان معين ولم يبعها إلا بأضعاف
ثمنها، فاشتروها وذبحوها وأمرهم موسى أن يأخذوا عضوا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا فصار المقتول حيا وسمي لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قودا، ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: أن الإيلام والذبح حسن وإلا لما أمر الله به، ثم عندنا وجه الحسن فيه أنه تعالى مالك الملك فلا اعتراض لأحد عليه، وعند المعتزلة إنما يحسن لأجل الأعواض.
المسألة الثانية: أنه تعالى أمر بذبح بقرة من بقر الدنيا وهذا هو الواجب المخير فدل ذلك على صحة قولنا بالواجب المخير. المسألة الثالثة: القائلون بالعموم اتفقوا على أن قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * معناه اذبحوا أي بقرة شئتم فهذه الصيغة تفيد هذا العموم، وقال منكروا العموم: إن هذا لا يدل على العموم واحتجوا عليه بوجوه: الأول: أن المفهوم من قول القائل اذبح بقرة. يمكن تقسيمه إلى قسمين، فإنه يصح أن يقال: اذبح بقرة معينة من شأنها كيت وكيت ويصح أيضا
114

أن يقال اذبح بقرة أي بقرة شئت، فأذن المفهوم من قولك " اذبح " معنى مشترك بين هذين القسمين والمشترك بين القسمين لا يستلزم واحدا منهما، فأذن قوله اذبحوا بقرة لا يستلزم معناه معنى قوله: اذبحوا بقرة، أي بقرة شئتم، فثبت أنه لا يفيد العموم لأنه لو أفاد العموم لكان قوله: اذبحوا بقرة أي بقرة شئتم تكريرا ولكان قوله: اذبحوا بقرة معينة نقضا، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القول. الثاني: أن قوله تعالى: * (اذبحوا بقرة) * كالنقيض لقولنا لا تذبحوا بقرة، وقولنا لا تذبحوا بقرة يفيد النفي العام فوجب أن يكون قولنا اذبحوا بقرة يرفع عموم النفي ويكفي في ارتفاع عموم النفي خصوص الثبوت على وجه واحد، فأذن قوله: اذبحوا بقرة يفيد الأمر بذبح بقرة واحدة فقط، أما الإطلاق في ذبح أي بقرة شاءوا فذلك لا حاجة إليه في ارتفاع ذلك النفي فوجب أن لا يكون مستفادا من اللفظ، الثالث: أن قوله تعالى: * (بقرة) * لفظة مفردة منكرة والمفرد المنكر إنما يفيد فردا معينا في نفسه غير معين بحسب القول الدال عليه ولا يجوز أن يفيد فردا أي فرد كان بدليل أنه إذا قال: رأيت رجلا فإنه لا يفيد إلا ما ذكرناه فإذا ثبت أنه في الخبر كذلك وجب أن يكون في الأمر كذلك، واحتج القائلون بالعموم بأنه لو ذبح أي بقرة كانت فإنه يخرج عن العهدة فوجب أن يفيد العموم. والجواب: أن هذا مصادرة على المطلوب الأول، فإن هذا إنما يثبت لو ثبت أن قوله: اذبح بقرة معناه اذبح أي بقرة شئت، وهذا هو عين المتنازع فيه. فهذا هو الكلام في هذه المسألة. إذا عرفت هذا فنقول: اختلف الناس في أن قوله تعالى: * (اذبحوا بقرة) * هل هو أمر بذبح بقرة معينة مبينة أو هو أمر بذبح بقرة أي بقرة كانت، فالذين يجوزون تأخير البيان عن وقت الخطاب قالوا: إنه كان أمرا بذبح بقرة معينة ولكنها ما كانت مبينة، وقال المانعون منه: هو وإن كان أمرا بذبح أي بقرة كانت إلا أن القوم لما سألوا تغير التكليف عند ذلك، وذلك لأن التكليف الأول كان كافيا لو أطاعوا وكان التخيير في جنس البقر إذ ذاك هو الصلاح، فلما عصوا ولم يمتثلوا ورجعوا بالمسألة لم يمتنع تغير المصلحة وذلك معلوم في المشاهد، لأن المدبر لولده قد يأمره بالسهل اختيارا، فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب فكذا ههنا. واحتج الفريق الأول بوجوه. الأول: قوله تعالى: * (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) * و * (ما لونها) * وقول الله تعالى: * (إنه يقول إنها بقرة لا فارض، إنها بقرة صفراء، إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض) * منصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة أي بقرة كانت، بل كان المأمور به ذبح بقرة معينة. الثاني: أن الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني إما أن يقال: إنها صفات البقرة التي أمروا بذبحها أولا أو صفات بقرة وجبت عليهم عند ذلك السؤال وانتسخ ما كان واجبا عليهم قبل ذلك، والأول هو المطلوب، والثاني: يقتضي أن يقع الاكتفاء بالصفات المذكورة آخرا، وأن لا يجب حصول الصفات المذكورة قبل ذلك، ولما أجمع المسلمون
115

على أن تلك الصفات بأسرها كانت معتبرة علمنا فساد هذا القسم. فإن قيل أما الكنايات فلا نسلم عودها إلى البقرة فلم لا يجوز أن يقال: إنها كنايات عن القصة والشأن، وهذه طريقة مشهورة عند العرب؟ قلنا: هذا باطل لوجوه. أحدها: أن هذه الكنايات لو كانت عائدة إلى القصة والشأن لبقي ما بعد هذه الكنايات غير مفيد، لأنه لا فائدة في قوله: * (بقرة صفراء) * بل لا بد من إضمار شيء آخر وذلك خلاف الأصل، أما إذا جعلنا الكنايات عائدة إلى المأمور به أولا لم يلزم هذا المحذور. وثانيها: أن الحكم برجوع الكناية إلى القصة والشأن خلاف الأصل، لأن الكناية يجب عودها إلى شيء جرى ذكره والقصة والشأن لم يجر ذكرهما فلا يجوز عود الكناية إليهما لكنا خالفنا هذا الدليل للضرورة في بعض المواضع فبقي ما عداه على الأصل. وثالثها: أن الضمير في قوله: * (ما لونها، وما هي) * لا شك أنه عائد إلى البقرة المأمور بها فوجب أن يكون الضمير في قوله: * (إنها بقرة صفراء) * عائدا إلى تلك البقرة وإلا لم يكن الجواب مطابقا للسؤال. الثالث: أنهم لو كانوا سائلين معاندين لم يكن في مقدار ما أمرهم به موسى ما يزيل الاحتمال لأن مقدار ما ذكره موسى أن تكون بقرة صفراء متوسطة في السن كاملة في القوة، وهذا القدر موضع للاحتمالات الكثيرة، فلما سكتوا ههنا واكتفوا به علمنا أنهم ما كانوا معاندين. واحتج الفريق الثاني بوجوه. أحدها: أن قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * معناه يأمركم أن تذبحوا بقرة أي بقرة كانت، وذلك يقتضي العموم، وذلك يقتضي أن يكون اعتبار الصفة بعد ذلك تكليفا جديدا، وثانيها: لو كان المراد ذبح بقرة معينة لما استحقوا التعنيف على طلب البيان بل كانوا يستحقون المدح عليه، فلما عنفهم الله تعالى في قوله: * (فافعلوا ما تؤمرون) *، وفي قوله: * (فذبحوها وما كادوا يفعلون) * علمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولا وذلك إنما يكون لو كان المأمور به أولا ذبح بقرة معينة. الثالث: ما روي عن ابن عباس أنه قال: لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأت منهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. ورابعها: أن الوقت الذي فيه أمروا بذبح البقرة كانوا محتاجين إلى ذبحها، فلو كان المأمور به ذبح بقرة معينة مع أن الله تعالى ما بينها لكان ذلك تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة وإنه غير جائز، والجواب: عن الأول ما بينا في أول المسألة أن قوله: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * لا يدل على أن المأمور به ذبح بقرة، أي بقرة كانت، وعن الثاني: أن قوله تعالى: * (وما كادوا يفعلون) * ليس فيه دلالة على أنهم فرطوا في أول القصة وأنهم كادوا يفرطون بعد استكمال البيان، بل اللفظ محتمل لكل واحد منهما فنحمله على الأخير وهو أنهم لما وقفوا على تمام البيان توقفوا عند ذلك وما كادوا
يفعلونه، وعن الثالث: أن هذه الرواية عن ابن عباس من باب الآحاد وبتقدير الصحة، فلا تصلح أن تكون معارضة لكتاب الله تعالى، وعن الرابع: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة إنما يلزم أن لو دل الأمر على الفور وذلك عندنا ممنوع.
116

واعلم أنا إذا فرعنا على القول بأن المأمور به بقرة أي بقرة كانت، فلا بد وأن نقول: التكاليف مغايرة فكلفوا في الأول: أي بقرة كانت، وثانيا: أن تكون لا فارضا ولا بكرا بل عوانا، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون مع ذلك لا ذلولا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. ثم اختلف القائلون بهذا المذهب، منهم من قال في التكليف الواقع أخيرا يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارض ولا بكر وصفراء فاقع، ومنهم من يقول: إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط، وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفا بعد تكليف وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند تردد الامتثال، وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر فلا بد من كونه تكليفا بعد تكليف، وذلك يدل على أن الأسهل قد ينسخ بالأشق ويدل على جواز النسخ قبل الفعل ولكنه لا يدل على جواز النسخ قبل وقت الفعل، ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام، وله أيضا تعلق بمسألة أن الزيادة على النسخ هل هو نسخ أم لا، ويدل على حسن وقوع التكليف ثانيا لمن عصى ولم يفعل ما كلف أولا.
أما قوله تعالى: * (قالوا أتتخذنا هزوا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء: * (هزوا) * بالضم وهزؤا بسكون الزاي نحو كفؤا وكفء وقرأ حفص: (هزوا) بالضمتين والواو وكذلك كفوا.
المسألة الثانية: قال القفال قوله تعالى: * (قالوا أتتخذنا هزؤا) * استفهام على معنى الانكار والهزء يجوز أن يكون في معنى المهزوء به كما يقال: كان هذا في علم الله أي في معلومه والله رجاؤنا أي مرجونا ونظيره قوله تعالى: * (فاتخذتموهم سخريا) * (المؤمنون: 110) قال صاحب " الكشاف ": (أتتخذنا هزؤا) أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوأ بنا والهزء نفسه فرط الاستهزاء.
المسألة الثالثة: القوم إنما قالوا ذلك لأنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال موسى: اذبحوا بقرة لم يعرفوا بين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة، فظنوا أنه عليه السلام يلاعبهم، لأنه من المحتمل أن موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة ضربوا القتيل ببعضها فيصير حيا فلا جرم، وقع هذا القول منهم موقع الهزء، ويحتمل أنه عليه السلام وإن كان قد بين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يصير حيا بأن يضربوه ببعض أجزاء البقرة فظنوا أن ذلك يجزي مجرى الاستهزاء.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: إن أولئك القوم كفروا بقولهم لموسى عليه السلام: أتتخذنا هزؤا لأنهم إن قالوا ذلك وشكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الميت، فهو كفر وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله تعالى، فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي، وذلك أيضا كفر. ومن الناس من قال: إنه لا يوجب الكفر وبيانه من وجهين.
117

الأول: أن الملاعبة على الأنبياء جائزة فلعلهم ظنوا به عليه السلام أنه يلاعبهم ملاعبة حقة، وذلك لا يوجب الكفر. الثاني: أن معنى قوله تعالى: * (أتتخذنا هزؤا) * أي ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزئ بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء.
أما قوله تعالى: * (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * ففيه وجوه. أحدها: أن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل ومنصب النبوة لا يحتمل الإقدام على الاستهزاء، فلم يستعذ موسى عليه السلام من نفس الشيء الذي نسبوه إليه، لكنه استعاذ من السبب الموجب له كما قد يقول الرجل عند مثل ذلك: أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى، والحاصل أنه أطلق اسم السبب على المسبب مجازا هذا هو الوجه الأقوى. وثانيها: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد والوعيد العظيم، فإني متى علمت ذلك امتنع إقدامي على الاستهزاء. وثالثها: قال بعضهم: إن نفس الهزء قد يسمى جهلا وجهالة، فقد روي عن بعض أهل اللغة: إن الجهل ضد الحلم كما قال بعضهم إنه ضد العلم.
واعلم أن هذا القول من موسى عليه السلام يدل على أن الاستهزاء من الكبائر العظام وقد سبق تمام القول فيه في قوله تعالى: * (قالوا: إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم) * (البقرة: 14 - 15).
واعلم أن القوم سألوا موسى عليه السلام عن أمور ثلاثة مما يتعلق بالبقرة:
السؤال الأول: ما حكى الله تعالى عنهم أنهم: * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) * فأجاب موسى عليه السلام بقوله: * (إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون) * واعلم أن في الآية أبحاثا:
الأول: أنا إذا قلنا إن قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * يدل على الأمر بذبح بقرة معينة في نفسها غير مبين التعيين حسن موقع سؤالهم، لأن المأمور به لما كان مجملا حسن الاستفسار والاستعلام. أما على قول من يقول: إنه في أصل اللغة للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار؟ وفيه وجوه. أحدها: أن موسى عليه السلام لما أخبرهم بأنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حيا تعجبوا من أمر تلك البقرة، وظنوا أن تلك البقرة التي يكون لها مثل هذه الخاصة لا تكون إلا بقرة معينة، فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من بين سائر العصي بتلك الخواص، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك، لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصية البقرة، بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عليه السلام. وثانيها: لعل القوم أرادوا بقرة، أي بقرة كانت، إلا أن القاتل خاف من الفضيحة، فألقى الشبهة في التبيين وقال المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة، لما وقعت المنازعة فيه، رجعوا عند ذلك إلى موسى
. وثالثها: أن الخطاب الأول وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فيه، فسألوا طلبا لمزيد البيان وإزالة لسائر الاحتمالات، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة.
118

البحث الثاني: أن سؤال " ما هي " طلب لتعريف الماهية والحقيقة، لأن " ما " سؤال، و " هي " إشارة إلى الحقيقة، فما هي لا بد وأن يكون طلبا للحقيقة وتعريف الماهية والحقيقة لا يكون إلا بذكر أجزائها ومقدماتها لا بذكر صفاتها الخارجة عن ماهيتها، ومعلوم أن وصف السن من الأمور الخارجة عن الماهية فوجب أن لا يكون هذا الجواب مطابقا لهذا السؤال: والجواب عنه: أن الأمر وإن كان كما ذكرتم لكن قرينة الحال تدل على أنه ما كان مقصودهم من قولهم: ما البقر طلب ماهيته وشرح حقيقته بل كان مقصودهم طلب الصفات التي بسببها يتميز بعض البقر عن بعض، فلهذا حسن ذكر الصفات الخارجة جوابا عن هذا السؤال.
البحث الثالث: قال صاحب " الكشاف ": الفارض المسنة وسميت فارضا لأنها فرضت سنها، أي قطعتها وبلغت آخرها، والبكر: الفتية والعوان النصف، قال القاضي: أما البكر، فقيل: إنها الصغيرة وقيل ما لم تلد، وقيل: إنها التي ولدت مرة واحدة، قال المفضل بن سلمة (الضبي): إنه ذكر في الفارض أنها المسنة وفي البكر أنها الشابة وهي من النساء التي لم توطأ ومن الإبل التي وضعت بطنا واحدا.
قال القفال: البكر يدل على الأول ومنه الباكورة لأول الثمر ومنه بكرة النهار ويقال: بكرت عليهما البارحة إذا جاء في أول الليل، وكأن الأظهر أنها هي التي لم تلد لأن المعروف من اسم البكر من الإناث في بني آدم ما لم ينز عليها الفحل، وقال بعضهم: العوان التي ولدت بطنا بعد بطن. وحرب عوان: إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة، وحاجة عوان: إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة. البحث الرابع: احتج العلماء بقوله تعالى: * (عوان بين ذلك) * على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا من طريق الاجتهاد وههنا سؤالان:
الأول: لفظة " بين " تقتضي شيئين فصاعدا فمن أين جاز دخوله على ذلك؟ الجواب: لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر.
السؤال الثاني: كيف جاز أن يشار بلفظه: (ذلك) إلى مؤنثين مع أنه للإشارة إلى واحد مذكر؟ الجواب: جاز ذكر ذلك على تأويل ما ذكر أو ما تقدم للاختصار في الكلام.
أما قوله تعالى: * (فافعلوا ما تؤمرون) * ففيه تأويلان: الأول: فافعلوا ما تؤمرون به من قولك: أمرتك الخير. والثاني: أن يكون المراد فافعلوا أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير. واعلم أن المقصود الأصلي من هذا الجواب كون البقرة في أكمل أحوالها، وذلك لأن الصغيرة تكون ناقصة لأنها بعدما وصلت إلى حالة الكمال، والمسنة كأنها صارت ناقصة وتجاوزت عن حد الكمال، فأما المتوسطة فهي التي تكوى في حالة الكمال. ثم إنه تعالى حكى سؤالهم الثاني وهو قوله تعالى: * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) * واعلم أنهم لما عرفوا حال السن شرعوا بعده في تعرف حال اللون فأجابهم الله تعالى بأنها: * (صفراء فاقع لونها) *، والفقوع
119

أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، يقال في التوكيد أصفر فاقع وأسود حالك وأبيض يقق وأحمر قان وأخضر ناضر، وههنا سؤالان:
الأول: " فاقع " ههنا واقع خبرا عن اللون فكيف يقع تأكيدا لصفراء؟ الجواب: لم يقع خبرا عن اللون إنما وقع تأكيدا لصفراء إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل واللون سببها وملتبس بها، فلم يكن فرق بين قولك: صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها.
السؤال الثاني: فهلا قيل صفراء فاقعة وأي فائدة في ذكر اللون؟ الجواب: الفائدة فيه التوكيد لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة، فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك: جد جده وجنون مجنون. وعن وهب: إذ نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
أما قوله تعالى: * (تسر الناظرين) * فالمعنى أن هذه البقرة لحسن لونها تسر من نظر إليها، قال الحسن: الصفراء ههنا بمعنى السوداء، لأن العرب تسمي الأسود أصفر، نظيره قوله تعالى في صفة الدخان: * (كأنه جمالات صفر) * (المرسلات: 33) أي سود، واعترضوا على هذا التأويل بأن الأصفر لا يفهم منه الأسود البتة، فلم يكن حقيقة فيه، وأيضا السواد لا ينعت بالفقوع، إنما يقال: أصفر فاقع وأسود حالك والله أعلم، وأما السرور فإنه حالة نفسانية تعرض عند حصول اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع، ثم إنه تعالى حكى سؤالهم الثالث وهو قوله تعالى: * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبدا "، واعلم أن ذلك يدل على أن التلفظ بهذه الكلمة مندوب في كل عمل يراد تحصيله، ولذلك قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) * (الكهف: 23)، وفيه استعانة بالله وتفويض الأمر إليه، والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذا على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى فإن عند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك فقد أراد اهتداءهم لا محالة، وحينئذ لا يبقى لقولهم إن شاء الله فائدة. أما على قول أصحابنا فإنه تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولنا إن شاء الله فائدة.
المسألة الثالثة: احتجت المعتزلة على أن مشيئة الله تعالى محدثة بقوله: * (إن شاء الله) * من وجهين: الأول: أن دخول كلمة " أن " عليه يقتضي الحدوث. والثاني: وهو أنه تعالى علق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء، فلما لم يكن حصول الاهتداء أزليا وجب أن لا تكون مشيئة الاهتداء أزلية. ولنرجع إلى التفسير، فأما قوله تعالى: * (يبين لنا ما هي) * ففيه السؤال المذكور وهو أن قولنا: ما هو طلب بيان الحقيقة، والمذكور ههنا في الجواب الصفات العرضية المفارقة فكيف
يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال؟ وقد تقدم جوابه.
120

أما قوله تعالى: * (إن البقر تشابه علينا) * فالمعنى أن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح، وقرئ تشابه بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين و (قرىء) تشابهت ومتشابهة ومتشابه.
أما قوله تعالى: * (وإنا إن شاء الله لمهتدون) * ففيه وجوه ذكرها القفال. أحدها: وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عدها. وثانيها: وإنا إن شاء الله تعريفها إيانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها. وثالثها: وإنا إن شاء الله على هدى في استقصائنا في السؤال عن أوصاف البقرة أي نرجوا أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث. ورابعها: إنا بمشيئة الله نهتدي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما به تمتاز هي عما سواها ثم أجاب الله تعالى عن سؤالهم بقوله تعالى: * (إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض) * وقوله: * (لا ذلول) * صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول بمعنى لم تذلل للكراب وإثارة الأرض ولا هي من البقر التي يسقى عليها فتسقى الحرث و " لا " الأولى للنفي والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقى على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية، وجملة القول أن الذلول بالعمل لا بد من أن تكون ناقصة فبين تعالى أنها لا تثير الأرض ولا تسقى الحرث لأن هذين العملين يظهر بهما النقص.
أما قوله تعالى: * (مسلمة) * ففيه وجوه. أحدها: من العيوب مطلقا. وثانيها: من آثار العمل المذكور. وثالثها: مسلمة أي وحشية مرسلة عن الحبس. ورابعها: مسلمة من الشية التي هي خلاف لونها أي خلصت صفرتها عن اختلاط سائر الألوان بها، وهذا الرابع ضعيف وإلا لكان قوله: * (لاشية فيها) * تكرارا غير مفيد، بل الأولى حمله على السلامة من العيوب واللفظ يقتضي ذلك لأن ذلك يفيد السلامة الكاملة عن العلل والمعايب، واحتج العلماء به على جواز استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون الباطن بخلافه لأن قوله: * (مسلمة) * إذا فسرناها بأنها مسلمة من العيوب فذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة إنما نعلمه من طريق الظاهر: أما قوله تعالى: * (لاشية فيها) * فالمراد أن صفرتها خالصة غير ممتزجة بسائر الألوان لأن البقرة الصفراء قد توصف بذلك إذا حصلت الصفرة في أكثرها فأراد تعالى أن يبين عموم ذلك بقوله: * (لاشية فيها) * روي أنها كانت صفراء الأظلاف صفراء القرون، والوشي خلط لون بلون. ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم وقفوا عند هذا البيان واقتصروا عليه فقالوا: * (الآن جئت بالحق) * أي الآن بانت هذه البقرة عن غيرها لأنها بقرة عوان صفراء غير مذللة بالعمل، قال القاضي: قوله تعالى: * (الآن جئت بالحق) * كفر من قبلهم لا محالة لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقه، وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفرا.
121

أما قوله تعالى: * (فذبحوها وما كادوا يفعلون) * فالمعنى فذبحوا البقرة وما كادوا يذبحونها، وههنا بحث: وهو أن النحويين ذكروا " لكاد " تفسيرين. الأول: قالوا: إن نفيه إثبات وإثباته نفي. فقولنا: كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه ما فعله وقولنا: ما كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه فعله. والثاني: وهو اختيار الشيخ عبد القاهر (الجرجاني) النحوي أن كاد معناه المقاربة فقولنا كاد يفعل معناه قرب من الفعل وقولنا ما كاد يفعل معناه ما قرب منه وللأولين أن يحتجوا على فساد هذا الثاني بهذه الآية لأن قوله تعالى: * (وما كادوا يفعلون) * معناه وما قاربوا الفعل ونفي المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل، فلو كان كاد للمقاربة لزم وقوع التناقض في هذه الآية. وههنا أبحاث:
البحث الأول: روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال: اللهم إني استودعتكها لابني حتى تكبر وكان برا بوالديه فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنها فتساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة.
البحث الثاني: روي عن الحسن أن البقرة تذبح ولا تنحر وعن عطاء أنها تنحر، قال: فتلوت الآية عليه فقال: الذبح والنحر سواء، وحكي عن قتادة والزهري إن شئت نحرت وإن شئت ذبحت وظاهر الآية يدل على أنهم أمروا بالذبح وأنهم فعلوا ما يسمى ذبحا والنحر وإن أجزأ عن الذبح فصورته مخالفة لصورة الذبح، فالظاهر يقتضي ما قلناه حتى لو نحروا ولا دليل يدل على قيامه مقام الذبح لكان لا يجزي.
البحث الثالث: اختلفوا في السبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون، فعن بعضهم لأجل غلاء ثمنها وعن آخرين أنهم خافوا الشهرة والفضيحة، وعلى كلا الوجهين، فالاحجام عن المأمور به غير جائز، أما الأول: فلأنهم لما أمروا بذبح البقرة المعينة، وذلك الفعل ما كان يتم إلا بالثمن الكثير وجب عليهم أداؤه لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب إلا أن يدل الدليل على خلافه، وإنما لا يلزم المصلي أن يتطهر بالماء إذا لم يجده إلا بغلاء من حيث الشرع، ولولاه للزم ذلك إذا وجب التطهر مطلقا. وأما الثاني: وهو خوف الفضيحة فذاك لا يرفع التكليف، فإن القود إذا كان واجبا عليه لزمه تسليم النفس من ولي الدم إذا طالب وربما لزمه التعريف ليزول الشر والفتنة وربما لزمه ذلك لتزول التهمة في القتل عن القوم الذين طرح القتيل بالقرب منهم، لأنه الذي عرضهم للتهمة فيلزمه إزالتها فكيف يجوز جعله سببا للتثاقل في هذا الفعل.
122

البحث الرابع: احتج القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية، وذلك لأنه لم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر، ثم إنه تعالى ذم التثاقل فيه والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه، وذلك يدل على أن الأمر للوجوب. قال القاضي: إذا كان الغرض من المأمور إزالة شر وفتنة دل ذلك على وجوبه وإنما أمر تعالى بذبحها لكي يظهر القاتل فتزول الفتنة والشر المخوف فيهم، والتحرز عن هذا الجنس الضار واجب، فلما كان العلاج إزالته بهذا الفعل صار واجبا وأيضا فغير ممتنع أن في تلك الشريعة أن التعبد بالقربان لا يكون إلا سبيل الوجوب، فلما تقدم علمهم بذلك كفاهم مجرد الأمر. وأقول: حاصل هذين السؤالين يرجع إلى حرف واحد وهو أنا وإنا كنا لا نقول إن الأمر يقتضي الوجوب فلا نقول: إنه ينافي الوجوب أيضا فلعله فهم الوجوب ههنا بسبب آخر سوى الأمر، وذلك السبب المنفصل إما قرينة حالية وهي العلم بأن دفع المضار واجب، أو مقالية وهي ما تقدم بيانه من أن القربان لا يكون مشروعا إلا على وجه الوجوب. والجواب: أن المذكور مجرد قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن
تذبحوا بقرة) * فلما ذكر الذم والتوبيخ على ترك الذبح المأمور به علمنا إن منشأ ذلك هو مجرد ورود الأمر به لما ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم.
البحث الخامس: احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية، قالوا: لأنه ورد التعنيف على ترك المأمور به عند ورود الأمر المجرد فدل على أنه للفور.
أما قوله تعالى: * (وإذ قتلتم نفسا فادرأتم فيها) * فاعلم أن وقوع ذلك القتل لا بد وأن يكون متقدما لأمره تعالى بالذبح. أما الإخبار عن وقوع ذلك القتل وعن أنه لا بد وأن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فلا يجب أن يكون متقدما على الإخبار عن قصة البقرة، فقول من يقول: هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة على الأولى خطأ، لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأول في الوجود، فأما التقدم في الذكر فغير واجب لأنه تارة يتقدم ذكر السبب على ذكر الحكم وأخرى على العكس من ذلك، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال: وإذ قتلتم نفسا من قبل واختلفتم وتنازعتم فإني مظهر لكم القاتل الذي سترتموه بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة، وذلك مستقيم. فإن قيل: هب أنه لا خلل في هذا النظم، ولكن النظم الآخر كان مستحسنا فما الفائدة في ترجيح هذا النظم؟ قلنا: إنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من بينية التفريع.
أما قوله تعالى: * (فادارأتم فيها) * ففيه وجوه. أحدها: اختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدافعه ويزاحمه. وثانيها: " أدارأتم " أي يلغي كل واحد منكم القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره. وثالثها: دفع بعضكم بعضا عن البراءة والتهمة، وجملة القول
123

فيه أن الدرء هو الدفع. فالمتخاصمون إذا تخاصموا فقد دفع كل واحد منهم عن نفسه تلك التهمة، ودفع كل واحد منهم حجة صاحبه عن تلك الفعلة، ودفع كل واحد منهم حجة صاحبه في إسناد تلك التهمة إلى غيره وحجة صاحبه في براءته عنه، قال القفال: والكناية في (فيها) للنفس، أي فاختلفتم في النفس ويحتمل في القتلة لأن قوله: * (قتلتم) * يدل على المصدر.
أما قوله تعالى: * (والله مخرج ما كنتم تكتمون) * أي مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل. فإن قيل: كيف اعمل " مخرج " وهو في معنى المضي؟ قلنا: قد حكى ما كان مستقبلا في وقت التدارء كما حكى الحاضر في قوله: * (باسط ذراعيه) * (الكهف: 18) وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما " ادارأتم، فقلنا " ثم فيه مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة قوله: * (والله مخرج ما كنتم تكتمون) * أي لا بد وأن يفعل ذلك وإنما حكم بأنه لا بد وأن يفعل ذلك، لأن الاختلاف والتنازع في باب القتل يكون سببا للفتن والفساد والله لا يحب الفساد فلأجل هذا قال: لا بد وأن يزيل هذا الكتمان ليزول ذلك الفساد، فدل ذلك على أنه سبحانه لا يريد الفساد ولا يرضى به ولا يخلقه.
المسألة الثانية: الآية تدل على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات وإلا لما قدر على إظهار ما كتموه.
المسألة الثالثة: تدل الآية على أن ما يسره العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فإن الله سيظهره. قال عليه الصلاة والسلام: " إن عبدا لو أطاع الله من وراء سبعين حجابا لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس " وكذلك المعصية. وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: " قل لبني إسرائيل يخفون إلى أعمالهم وعلي أن أظهرها لهم ".
المسألة الرابعة: دلت الآية على أنه يجوز ورود العام لإرادة الخاص لأن قوله: * (ما كنتم تكتمون) * يتناول كل المكتومات ثم إن الله تعالى أراد هذه الواقعة.
أما قوله تعالى: * (فقلنا اضربوه ببعضها) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المروي عن ابن عباس أن صاحب بقرة بني إسرائيل طلبها أربعين سنة حتى وجدها، ثم ذبحت إلا أن هذه الرواية على خلاف ظاهر القرآن لأن الفاء في قوله تعالى: * (فقلنا اضربوه ببعضها) * للتعقيب، وذلك يدل على أن قوله: * (اضربوه ببعضها) * حصل عقيب قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) *.
المسألة الثانية: الهاء في قوله تعالى: * (اضربوه) * ضمير وهو إما أن يرجع إلى النفس وحينئذ يكون التذكير على تأويل الشخص والإنسان وإما إلى القتيل وهو الذي دل عليه قوله: * (ما كنتم تكتمون) *.
المسألة الثالثة: يجوز أن يكون الله تعالى إنما أمر بذبح البقرة، لأنه تعلق بذبحها مصلحة
124

لا تحصل إلا بذبحها ويجوز أن يكون الحال فيها وفي غيرها على السوية والأقرب هو الأول، لأنه لو قام غيرها مقامها لما وجبت على التعيين، بل على التخير بينها وبين غيرها وههنا سؤالان:
السؤال الأول: ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء؟ الجواب: الفائدة فيه لتكون الحجة أوكد وعن الحيلة أبعد فقد كان يجوز لملحد أن يوهم أن موسى عليه السلام إنما أحياه بضرب من السحر والحيلة، فإنه إذا حيي عندما يضرب بقطعة من البقرة المذبوحة انتفت الشبهة في أنه لم يحي بشيء انتقل إليه من الجسم الذي ضرب به، إذا كان ذلك إنما حيي بفعل فعلوه هم، فدل ذلك على أن إعلام الأنبياء إنما يكون من عند الله لا بتمويه من العباد وأيضا فتقديم القربان مما يعظم أمر القربان.
السؤال الثاني: هلا أمر بذبح غير البقرة، وأجابوا بأن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيه، ثم ذكروا فيها فوائد، منها التقرب بالقربان الذي كانت العادة به جارية
ولأن هذا القربان كان عندهم من أعظم القرابين ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكلفة في تحصيل هذه البقرة على غلاء ثمنها، ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن ذلك البعض الذي ضربوا القتيل به ما هو؟ والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به، فإنهم كانوا ممتثلين لمقتضى قوله: * (اضربوه ببعضها) * والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العهدة على ما ثبت في أصول الفقه، وذلك يقتضي التخيير. واختلفوا في البعض الذي ضرب به القتيل فقيل: لسانها وقيل: فخذها اليمنى وقيل: ذنبها وقيل: العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الآذان، وقيل: البضعة بين الكتفين، ولا شك أن القرآن لا يدل عليه فإن ورد خبر صحيح قبل وإلا وجب السكوت عنه.
المسألة الخامسة: في الكلام محذوف والتقدير، فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله تعالى: * (كذلك يحيي الله الموتى) * وعليه هو كقوله تعالى: * (اضرب بعصاك الحجر فانفجرت) * (البقرة: 60) أي فضرب فانفجرت، روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما، وقال قتلني فلان، وفلان لابني عمه ثم سقط ميتا: وقتلا.
أما قوله تعالى: * (كذلك يحيي الله الموتى) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في هذه الآية وجهان: أحدهما: أن يكون إشارة إلى نفس ذلك الميت. والثاني: أنه احتجاج في صحة الإعادة، ثم هذا الاحتجاج أهو على المشركين أو على غيرهم؟ فيه وجهان. الأول: قال الأصم: إنه على المشركين لأنه إن ظهر لهم بالتواتر أن هذا الإحياء قد كان على هذا الوجه علموا صحة الإعادة، وإن لم يظهر ذلك بالتواتر فإنه يكون داعية لهم إلى التفكر. قال القاضي: وهذا هو الأقرب لأنه تقدم منه تعالى ذكر الأمر بالضرب وأنه سبب إحياء ذلك
125

الميت، ثم قال: * (كذلك يحيي الله الموتى) * فجمع * (الموتى) * ولو كان المراد ذلك القتيل لما جمع في القول فكأنه قال: دل بذلك على أن الإعادة كالابتداء في قدرته. الثاني: قال القفال: ظاهر الكلام يدل على أن الله تعالى قال لبني إسرائيل: إحياء الله تعالى لسائر الموتى يكون مثل هذا الإحياء الذي شاهدتم، لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا به إلا من طريق الاستدلال ولم يشاهدوا شيئا منه، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم وانتفت عنهم الشبهة التي لا يخلو منها المستدل، وقد قال إبراهيم عليه السلام: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) * إلى قوله: * (ليطمئن قلبي) * (البقرة: 26) فأحيا الله تعالى لبني إسرائيل القتيل عيانا، ثم قال لهم: * (كذلك يحيي الله الموتى) * أي كالذي أحياه في الدنيا يحيي في الآخرة من غير احتياج في ذلك الإيجاد إلى مادة ومدة ومثال وآلة.
المسألة الثانية: من الناس من استدل بقوله تعالى: * (كذلك يحيي الله الموت) * على أن المقتول ميت وهو ضعيف لأنه تعالى قاس على إحياء ذلك القتيل إحياء الموتى، فلا يلزم من هذا كون القتيل ميتا.
أما قوله تعالى: * (ويريكم آياته) * فلقائل أن يقول: إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات؟ والجواب: أنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات.
العالم بكل المعلومات، المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى عليه السلام، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا. وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل، فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لما دلت على هذه المدلولات الكثيرة لا جرم جرت مجرى الآيات الكثيرة.
أما قوله تعالى: * (لعلكم تعقلون) * ففيه بحثان:
الأول: أن كلمة " لعل " قد تقدم تفسيرها في قوله تعالى: * (لعلكم تتقون) *.
الثاني: أن القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآيات عليهم وإذا كان العقل حاصلا امتنع أن يقال: إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلا، فإذن لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها بل لا بد من التأويل وهو أن يكون المراد لعلكم تعملون على قضية عقولكم وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص، حتى لا ينكروا البعث، هذا آخر الكلام في تفسير الآية. واعلم أن كثيرا من المتقدمين ذكر أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا؟ قالوا: لا. لأنه روي عن عبيدة السلماني أن الرجل الذي كان قاتلا في هذه الواقعة حرم من الميراث لأجل كونه قاتلا. قال القاضي: لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية لأنه ليس في الظاهر أن القاتل هل كان وارثا لقتيله أم لا؟ وبتقدير أن يكون وارثا له فهل حرم الميراث أم لا؟ وليس يجب إذا روي عن أبي عبيدة أن القاتل حرم لمكان قتله الميراث أن يعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدل عليه لا مجملا ولا مفصلا، وإذا كان لم يثبت أن شرعهم كشرعنا وأنه لا يلزم الاقتداء بهم، فإدخال هذا الكلام في أحكام القرآن تعسف.
126

واعلم أن الذي قاله القاضي حق، ومع ذلك فلنذكر هذه المسألة فنقول: اختلف المجتهدون في أن القاتل هل يرث أم لا، فعند الشافعي رضي الله عنه لا يرث سواء كان القتل غير مستحق عمدا كان أو خطأ أو كان مستحقا كالعادل إذا قتل الباغي، وعند أبي حنيفة رحمه الله، لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا قتل الباغي فإنه يرثه، وكذا القاتل إذا كان صبيا أو مجنونا يرثه لا من ديته ولا من سائر أمواله، وهو قول علي وعمر وابن عباس وسعيد بن المسيب، وقال عثمان البتي: قاتل الخطأ يرث وقاتل العمد لا يرث، وقال مالك: لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله وهو قول الحسن ومجاهد والزهري والأوزاعي. واحتج الشافعي رضي الله عنه بعموم الخبر المشهور المستفيض أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ليس للقاتل من الميراث شيء " إلا أن الاستدلال بهذا الخبر إنما يصح لو جوزنا تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه، ثم ههنا دقيقة وهي أن تطرق التخصيص إلى العام يفيد نوع ضعف فلو خصصنا هذا الخبر ببعض الصور فحينئذ يتوالى عليه أسباب الضعف، فإن كونه خبر واحد يوجب الضعف وكونه على مصادمة الكتاب سبب آخر وكونه مخصوصا سبب آخر، فلو خصصنا عموم الكتاب به لكنا قد رجحنا
الضعيف جدا على القوي جدا. أما إذا لم يخصص هذا الخبر البتة اندفع عنه بعض أسباب الضعف فحينئذ لا يبعد تخصيص عموم الكتاب به. واحتج أبو بكر الرازي على أن العادل إذا قتل الباغي فإنه لا يصير محروما عن الميراث بأنا لا نعلم خلافا أن من وجب له القود على إنسان فقتله قودا أنه لا يحرم من الميراث، واعلم أن الشافعية يمنعون هذه الصورة والله أعلم.
* (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون) *
اعلم أن قوله تعالى: * (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: الشيء الذي من شأنه بأصل ذاته أن يقبل الأثر عن شيء آخر ثم إنه عرض لذلك القابل ما لأجله صار بحيث لا يقبل الأثر فيقال لذلك القابل: إنه صار صلبا غليظا قاسيا، فالجسم من حيث إنه جسم يقبل الأثر عن الغير إلا أن صفة الحجرية لما عرضت للجسم صار
127

جسم الحجر غير قابل وكذلك القلب من شأنه أن يتأثر عن مطالعة الدلائل والآيات والعبر وتأثره عبارة عن ترك التمرد والعتو والاستكبار وإظهار الطاعة والخضوع لله والخوف من الله تعالى، فإذا عرض للقلب عارض أخرجه عن هذه الصفة صار في عدم التأثر شبيها بالحجر فيقال: قسا القلب وغلظ، ولذلك كان الله تعالى وصف المؤمنين بالرقة فقال: * (كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) * (الزمر: 23).
المسألة الثانية: قال القفال: يجوز أن يكون المخاطبون بقوله: * (قلوبكم) * أهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، أي اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم والأمور التي جرت عليهم والعقاب الذي نزل بمن أصر على المعصية منهم والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم، فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب، وهذا أولى لأن قوله تعالى: * (ثم قست قلوبكم) * خطاب مشافهة، فحمله على الحاضرين أولى، ويحتمل أيضا أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصا، ويجوز أن يريد من قبلهم من سلفهم.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (من بعد ذلك) * يحتمل أن يكون المراد من بعد ما أظهره الله تعالى من إحياء ذلك القتيل عند ضربه ببعض البقرة المذبوحة حتى عين القاتل، فإنه روي أن ذلك القتيل لما عين القاتل نسبه القاتل إلى الكذب وما ترك الإنكار، بل طلب الفتنة وساعده عليه جمع، فعنده قال تعالى واصفا لهم: إنهم بعد ظهور مثل هذه الآية قست قلوبهم، أي صارت قلوبهم بعد ظهور مثل هذه الآية في القسوة كالحجارة ويحتمل أن يكون قوله: * (من بعد ذلك) * إشارة إلى جميع ما عدد الله سبحانه من النعم العظيمة والآيات الباهرة التي أظهرها على يد موسى عليه السلام، فإن أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتهم لها ما خلوا من العناد والاعتراض على موسى عليه السلام وذلك بين في أخبارهم في التيه لمن نظر فيها.
أما قوله تعالى: * (أو أشد قسوة) * فيه مسائل. المسألة الأولى: كلمة " أو " للترديد وهي لا تليق بعلام الغيوب، فلا بد من التأويل وهو وجوه. أحدها: أنها بمعنى الواو كقوله تعالى: * (إلى مائة ألف أو يزيدون) * (الصافات: 147) بمعنى ويزيدون، وكقوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن) * (النور: 31) والمعنى وآبائهن وكقوله: * (أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم) * (النور: 61) يعني وبيوت آبائكم. ومن نظائره قوله تعالى: * (لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44)، فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا) * (المرسلات: 5، 6). وثانيها: أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد فقال ذلك كما يقول المرء لغيره: أكلت خبزا أو تمرا وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن يبينه لصاحبه. وثالثها: أن يكون المراد فهي كالحجارة، ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة، ورابعها: أن الآدميين إذا
128

اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا: إنها كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة وهو المراد في قوله: * (فكان قاب قوسين أو أدنى) * (النجم: 9) أي في نظركم واعتقادكم. وخامسها: أن كلمة " أو " بمعنى بل وأنشدوا: فوالله ما أدري أسلمى تغولت * أم القوم أو كل إلي حبيب
قالوا: أراد بل كل. وسادسها: أنه على حد قولك ما آكل إلا حلوا أو حامضا أي طعامي لا يخرج عن هذين، بل يتردد عليهما، وبالجملة: فليس الغرض إيقاع التردد بينهما، بل نفي غيرهما. وسابعها: أن " أو " حرف إباحة كأنه قيل بأي هذين شبهت قلوبهم كان صدقا كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين أي أيهما جالست كنت مصيبا ولو جالستهما معا كنت مصيبا أيضا.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": " أشد " معطوف على الكاف، إما على معنى أو مثل: " أشد قسوة " فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وإما على أو هي أنفسها أشد قسوة.
المسألة الثالثة: إنما وصفها بأنها أشد قسوة لوجوه. أحدها: أن الحجارة لو كانت عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلتها كما قال: * (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) * (الحشر: 21). وثانيها: أن الحجارة ليس فيها امتناع مما يحدث فيها بأمر الله تعالى وإن كانت قاسية بل هي منصرفة على مراد الله غير ممتنعة من تسخيره، وهؤلاء مع ما وصفنا من أحوالهم في اتصال الآيات عندهم وتتابع النعم من الله عليهم يمتنعون من طاعته ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه وهو كقوله تعالى: * (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) * (الأنعام: 38) إلى قوله تعالى: * (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات) * (الأنعام: 39) كأن المعنى أن الحيوانات من غير بني آدم أمم سخر كل واحد منها لشيء وهو منقاد لما أريد منه وهؤلاء الكفار يمتنعون عما أراد الله منهم. وثالثها: أو أشد قسوة
، لأن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه، ويظهر منها الماء في بعض الأحوال، أما قلوب هؤلاء فلا نفع فيها البتة ولا تلين لطاعة الله بوجه من الوجوه.
المسألة الرابعة: قال القاضي: إن كان تعالى هو الخالق فيهم الدوام على ما هم عليه من الكفر، فكيف يحسن ذمهم بهذه الطريقة ولو أن موسى عليه السلام خاطبهم فقالوا له: إن الذي خلق الصلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القسوة والخالق في الحجارة انفجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكفر بخلق الإيمان فينا، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجتهم عليه أوكد من حجته عليهم، وهذا النمط من الكلام قد تقدم تقريرا وتفريعا مرارا وأطوارا.
المسألة الخامسة: إنما قال: * (أشد قسوة) * ولم يقل أقسى، لأن ذلك أدل على فرط القسوة ووجه آخر وهو أن لا يقصد معنى الأقسى، ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة، وقرئ " قساوة " وترك ضمير المفضل عليه لعدم الإلباس
129

كقولك: زيد كريم وعمرو أكرم. ثم إنه سبحانه وتعالى فضل الحجارة على قلوبهم بأن بين أن الحجارة قد يحصل منها ثلاثة أنواع من المنافع، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع. فأولها: قوله تعالى: * (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء: " وإن " بالتخفيف وهي إن المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة، ومنها قوله تعالى: * (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) * (يس: 32).
المسألة الثانية: التفجر التفتح بالسعة والكثرة، يقال: انفجرت قرحة فلان، أي انشقت بالمدة ومنه الفجر والفجور. وقرأ مالك بن دينار " ينفجر " بمعنى وإن من الحجارة ما ينشق فيخرج منه الماء الذي يجري حتى تكون منه الأنهار. قالت الحكماء: إن الأنهار إنما تتولد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض، فإن كان ظاهر الأرض رخوا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض صلبا حجريا اجتمعت تلك الأبخرة، ولا يزال يتصل تواليها بسوابقها حتى تكثر كثرة عظيمة فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مدها أن تنشق الأرض وتسيل تلك المياه أودية وأنهارا. وثانيها: قوله تعالى: * (وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) *، أي من الحجارة لما ينصدع فيخرج منه الماء فيكون عينا لا نهرا جاريا، أي أن الحجارة قد تندى بالماء الكثير وبالماء القليل، وفي ذلك دليل تفاوت الرطوبة فيها، وأنها قد تكثر في حال حتى يخرج منها ما يجري منه الأنهار، وقد تقل، وهؤلاء قلوبهم في نهاية الصلابة لا تندى بقبول شيء من المواعظ ولا تنشرح لذلك ولا تتوجه إلى الاهتداء وقوله تعالى: * (يشقق) * أي يتشقق، فأدغم التاء كقوله: * (يذكر) * أي يتذكر وقوله: * (يا أيها المزمل) * (المزمل: 1)، يا أيها المدثر) * (المدثر: 1). وثالثها: قوله تعالى: * (وإن منها لما يهبط من خشية الله) *.
واعلم أن فيه إشكالا وهو أن الهبوط من خشية الله صفة الأحياء العقلاء، والحجر جماد فلا يتحقق ذلك فيه، فلهذا الإشكال ذكروا في هذه الآية وجوها. أحدها: قول أبي مسلم خاصة وهو أن الضمير في قوله تعالى: * (وإن منها) * راجع إلى القلوب، فإنه يجوز عليها الخشية والحجارة لا يجوز عليها الخشية: وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة، أقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين، إلا أن هذا الوصف لما كان لائقا بالقلوب دون الحجارة وجب رجوع هذا الضمير إلى القلوب دون الحجارة، واعترضوا عليه من وجهين. الأول: أن قوله تعالى: * (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) * جملة تامة، ثم ابتدأ تعالى فذكر حال الحجارة بقوله: * (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) * فيجب في قوله تعالى: * (وإن منها لما يهبط من خشية الله) * أن يكون راجعا إليها، الثاني: أن الهبوط يليق بالحجارة لا بالقلوب، فليس تأويل الهبوط أولى من تأويل الخشية، وثانيها: قول جمع من المفسرين: إن الضمير عائد إلى الحجارة، لكن لا نسلم أن الحجارة ليست حية عاملة، بيانه أن المراد من ذلك جبل موسى عليه السلام حين تقطع وتجلى
130

له ربه، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك، وهذا غير مستبعد في قدرة الله، ونظيره قوله تعالى: * (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا، قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) * (فصلت: 21)، فكما جعل الجلد ينطق ويسمع ويعقل، فكذلك الجبل وصفه بالخشية، وقال أيضا: * (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) * (الحشر: 21)، والتقدير أنه تعالى لو جعل فيه العقل والفهم لصار كذلك، وروي أنه حن الجزع لصعود رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أتاه الوحي في أول المبعث وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله سلمت عليه الأحجار والأشجار، فكلها كانت تقول: السلام عليك يا رسول الله، قالوا: فغير ممتنع أن يخلق في بعض الأحجار عقل وفهم حتى تحصل الخشية فيه، وأنكرت المعتزلة هذا التأويل لما أن عندهم البنية واعتدال المزاج شرط قبول الحياة والعقل، ولا دلالة لهم على اشتراط البنية إلا مجرد الاستبعاد، فوجب أن لا يلتفت إليهم. وثالثها: قول أكثر المفسرين وهو أن الضمير عائد إلى الحجارة، وأن الحجارة لا تعقل ولا تفهم، وذكروا على هذا القول أنواعا من التأويل. الأول: أن من الحجارة ما يتردى من الموضع العالي الذي يكون فيه فينزل إلى أسفل وهؤلاء الكفار مصرون على العناد والتكبر، فكأن الهبوط من العلو جعل مثلا للانقياد، وقوله: * (من خشية الله) *، أي ذلك الهبوط لو وجد من العاقل المختار لكان به خاشيا لله وهو كقوله: * (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه) * (الكهف: 77)، أي جدارا قد ظهر فيه الميلان ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حي مختار لكان مريدا للانقضاض، ونحو هذا قول بعضهم: بخيل تضل البلق من حجراته * ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
وقول جرير: لما أتى خبر الزبير تضعضعت * سور المدينة والجبال الخشع
فجعل الأول ما ظهر في الأكم من أثر الحوافر مع عدم امتناعها من دفع ذلك عن نفسها كالسجود منها للحوافر، وكذلك الثاني: جعل ما ظهر في أهل المدينة من آثار الجزع كالخشوع. وعلى هذا الوجه تأول أهل النظر قوله تعالى: * (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44
)، وقوله تعالى: * (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض) * (النحل: 49) الآية، وقوله تعالى: * (والنجم والشجر يسجدان) * (الرحمن: 6). الوجه الثاني: في التأويل: أن قوله تعالى: * (من خشية الله) * أي ومن الحجارة ما ينزل وما ينشق ويتزايل بعضه عن بعض، عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خشية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة. وتحقيقه أنه لما كان المقصود الأصلي من إهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل خشية الله تعالى في قلوب العباد صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في حصول ذلك الهبوط، فكلمة " من " لابتداء الغاية فقوله: * (من خشية الله) *، أي بسبب أن تحصل خشية الله في القلوب، الوجه الثالث: ما ذكره الجبائي وهو أنه فسر الحجارة بالبرد الذي يهبط من السحاب تخويفا من الله تعالى لعباده ليزجرهم به. قال وقوله تعالى:
131

* (من خشية الله) * أي خشية الله، أي ينزل بالتخويف للعباد أو بما يوجب الخشية لله كما يقال: نزل القرآن بتحريم كذا وتحليل كذا أي بإيجاب ذلك على الناس، قال القاضي: هذا التأويل ترك للظاهر من غير ضرورة لأن البرد لا يوصف بالحجارة، لأنه وإن اشتد عند النزول فهو ماء في الحقيقة ولأنه لا يليق ذلك بالتسمية. أما قوله تعالى: * (وما الله بغافل عما تعملون) * فالمعنى أن الله تعالى بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم محصي لها فهو يجازيهم بها في الدنيا والآخرة وهو كقوله تعالى: * (وما كان ربك نسيا) * وفي هذا وعيد لهم وتخويف كبير لينزجروا. فإن قيل: هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل؟ قلنا: قال القاضي: لا يصح لأنه يوهم جواز الغفلة عليه وليس الأمر كذلك لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها عليه، بدليل قوله تعالى: * (لا تأخذه سنة ولا نوم. وهو يطعم ولا يطعم) * والله أعلم.
* (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) *
اعلم أنه سبحانه لما ذكر قبائح أفعال أسلاف اليهود إلى ههنا، شرح من هنا قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، قال القفال رحمه الله: إن فيما ذكره الله تعالى في هذه السورة من أقاصيص بني إسرائيل وجوها من المقصد، أحدها:
الدلالة بها على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عنها من غير تعلم، وذلك لا يمكن أن يكون إلا بالوحي ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب، أما أهل الكتاب فلأنهم كانوا يعلمون هذه القصص فلما سمعوها من محمد من غير تفاوت أصلا، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوحي. وأما العرب فلما يشاهدون من أن أهل الكتاب يصدقون محمدا في هذه الأخبار. وثانيها: تعديد النعم على بني إسرائيل وما من الله تعالى به على أسلافهم من أنواع الكرامة والفضل كالإنجاء من آل فرعون بعدما كانوا مقهورين مستعبدين ونصره إياهم وجعلهم أنبياء وملوكا وتمكينه لهم في الأرض وفرقه بهم البحر وإهلاكه عدوهم وإنزاله النور والبيان عليهم بواسطة إنزال التوراة والصفح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل ونقض المواثيق ومسألة النظر إلى الله جهرة، ثم ما أخرجه لهم في التيه من الماء العذب من الحجر وإنزاله عليهم المن والسلوى ووقايتهم من حر الشمس بتظليل الغمام، فذكرهم الله هذه النعم القديمة والحديثة، وثالثها: إخبار النبي عليه السلام
132

بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاقهم وتعنتهم مع الأنبياء ومعاندتهم لهم وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم، وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة عبدوا العجل بعد مفارقة موسى عليه السلام إياهم بالمدة اليسيرة، فدل على بلادتهم، ثم لما أمروا بدخول الباب سجدا وأن يقولوا حطة ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ويزيد في ثواب محسنهم بدلوا القول وفسقوا، ثم سألوا الفوم والبصل بدل المن والسلوى، ثم امتنعوا من قبول التوراة بعد إيمانهم بموسى وضمانهم له بالمواثيق أن يؤمنوا به وينقادوا لما يأتي به حتى رفع فوقهم الجبل ثم استحلوا الصيد في السبت واعتدوا، ثم لما أمروا بذبح البقرة شافهوا موسى عليه السلام بقولهم: * (أتتخذنا هزوا) * (البقرة: 67)، ثم لما شاهدوا إحياء الموتى ازدادوا قسوة، فكأن الله تعالى يقول: إذا كانت هذه أفعالهم فيما بينهم ومعاملاتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به وأنقذهم من الرق والآفة بسببه، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمدا عليه السلام، فليهن عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم وإعراضهم عن الحق. ورابعها: تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من نزول العذاب عليهم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة. وخامسها: تحذير مشركي العرب أن ينزل العذاب عليهم كما نزل على أولئك اليهود، وسادسها: أنه احتجاج على مشركي العرب المنكرين للإعادة مع إقرارهم بالابتداء، وهو المراد من قوله تعالى: * (كذلك يحيي الله الموتى) * (البقرة: 73) إذا عرفت هذا فنقول: إنه عليه السلام كان شديد الحرص على الدعاء إلى الحق وقبولهم الإيمان منه، وكان يضيق صدره بسبب عنادهم وتمردهم، فقص الله تعالى عليه أخبار بني إسرائيل في العناد العظيم مع مشاهدة الآيات الباهرة تسلية لرسوله فيما يظهر من أهل الكتاب في زمانه من قلة القبول والاستجابة، فقال تعالى: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: في قوله تعالى: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) * وجهان: الأول: وهو قول ابن عباس أنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لأنه هو الداعي وهو المقصود بالاستجابة واللفظ وإن كان للعموم، لكنا حملناه على الخصوص لهذه القرينة، روي أنه عليه السلام حين دخل المدينة ودعا اليهود إلى كتاب الله وكذبوه فأنزل الله تعالى هذه الآية. الثاني: وهو قول الحسن أنه خطاب مع الرسول والمؤمنين. قال القاضي: وهذا أليق بالظاهر لأنه عليه السلام وإن كان الأصل في الدعاء فقد كان في الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان ويظهر لهم الدلائل وينبههم عليها، فصح أن يقول تعالى: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) * ويريد به الرسول ومن هذا حاله من أصحابه وإذا كان ذلك صحيحا فلا وجه لترك الظاهر.
المسألة الثانية: المراد بقوله: * (أن يؤمنوا لكم) * هم اليهود الذين كانوا في زمن الرسول عليه السلام لأنهم الذين يصح فيهم الطمع في أن يؤمنوا وخلافه لأن الطمع إنما يصح في المستقبل لا في الواقع.
133

المسألة الثالثة: ذكروا في سبب الاستبعاد وجوها. أحدها: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم مع أنهم ما آمنوا بموسى عليه السلام، وكان هو السبب في أن الله خلصهم من الذل
وفضلهم على الكل، ومع ظهور المعجزات المتوالية على يده وظهور أنواع العذاب على المتمردين. الثاني: أفتطمعون أن يؤمنوا ويظهروا التصديق ومن علم منهم الحق لم يعترف بذلك، بل غيره وبدله. الثالث: أفتطمعون أن يؤمن لكم هؤلاء من طريق النظر والاستدلال وكيف وقد كان فريق من أسلافهم يسمعون كلام الله ويعلمون أنه حق ثم يعاندونه.
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: القوم مكلفون بأن يؤمنوا بالله. فما الفائدة في قوله: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) *؟ الجواب: أنه يكون إقرارا لهم بما دعوا إليه ولو كان الإيمان لله كما قال تعالى: * (فآمن له لوط) * لما أقر بنبوته وبتصديقه، ويجوز أن يراد بذلك أن يؤمنوا لأجلكم ولأجل تشددكم في دعائهم إليه فيكون هذا معنى الإضافة.
أما قوله تعالى: * (وقد كان فريق منهم) * فقد اختلفوا في ذلك الفريق، منهم من قال: المراد بالفريق من كان في أيام موسى عليه السلام لأنه تعالى وصف هذا الفريق بأنهم يسمعون كلام الله. والذين سمعوا كلام الله هم أهل الميقات، ومنهم من قال: بل المراد بالفريق من كان في زمن محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا أقرب لأن الضمير في قوله تعالى: * (وقد كان فريق منهم) * راجع إلى ما تقدم وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) * وقد بينا أن الذين تعلق الطمع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام. فإن قيل: الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا الميقات، قلنا: لا نسلم بل قد يجوز فيمن سمع التوراة أن يقال: إنه سمع كلام الله كما يقال لأحدنا سمع كلام الله إذا قرىء عليه القرآن. أما قوله تعالى: * (ثم يحرفونه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال القفال: التحريف التغيير والتبديل وأصله من الانحراف عن الشيء والتحريف عنه، قال تعالى: * (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) * (الأنفال: 16) والتحريف هو إمالة الشيء عن حقه، يقال: قلم محرف إذا كان رأسه قط مائلا غير مستقيم.
المسألة الثانية؛ قال القاضي: إن التحريف إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى، وحمل التحريف على تغيير اللفظ أولى من حمله على تغيير المعنى، لأن كلام الله تعالى إذا كان باقيا على جهته وغيروا تأويله فإنما يكونون مغيرين لمعناه لا لنفس الكلام المسموع، فإن أمكن أن يحمل على ذلك كما روي عن ابن عباس من أنهم زادوا فيه ونقصوا فهو أولى، وإن لم يمكن ذلك فيجب أن يحمل على تغيير تأويله وإن كان التنزيل ثابتا، وإنما يمتنع ذلك إذا ظهر كلام الله ظهورا متواترا كظهور القرآن، فأما قبل أن يصير كذلك فغير ممتنع تحريف نفس كلامه، لكن ذلك ينظر فيه، فإن كان تغييرهم له يؤثر في قيام الحجة به فلا بد من أن يمنع الله تعالى منه وإن لم يؤثر في ذلك صح
134

وقوعه فالتحريف الذي يصح في الكلام يجب أن يقسم على ما ذكرناه، فأما تحريف المعنى فقد يصح على وجه ما، لم يعلم قصد الرسول باضطرار فإنه متى علم ذلك امتنع منهم التحريف لما تقدم من علمهم بخلافه كما يمتنع الآن أن يتأول متأول تحريم لحم الخنزير والميتة والدم على غيرها.
المسألة الثالثة: اعلم أنا إن قلنا بأن المحرفين هم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، فالأقرب أنهم حرفوا ما لا يتصل بأمر محمد صلى الله عليه وسلم. روي أن قوما من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به موسى وما نهى عنه، ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس، وأما إن قلنا: المحرفون هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام فالأقرب أن المراد تحريف أمر محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك إما أنهم حرفوا نعت الرسول وصفته أو لأنهم حرفوا الشرائع كما حرفوا آية الرجم وظاهر القرآن لا يدل على أنهم أي شيء حرفوا.
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين؟ أجاب القفال عنه فقال: يحتمل أن يكون المعنى كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عنادا، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ولا يلتفتون إلى قول أهل الحق وهو كقولك للرجل: كيف تفلح وأستاذك فلان! أي وأنت عنه تأخذ ولا تأخذ عن غيره. المسألة الخامسة: اختلفوا في قوله: * (أفتطمعون) * فقال قائلون: آيسهم الله تعالى من إيمان هذه الفرقة وهم جماعة بأعيانهم. وقال آخرون: لم يؤيسهم من ذلك إلا من جهة الاستبعاد له منهم مع ما هم عليه من التحريف والتبديل والعناد، قالوا: وهو كما لا نطمع لعبيدنا وخدمنا أن يملكوا بلادنا. ثم إنا لا نقطع بأنهم لا يملكون بل نستبعد ذلك. ولقائل أن يقول: إن قوله تعالى: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) * استفهام على سبيل الإنكار، فكان ذلك جزما بأنهم لا يؤمنون البتة فإيمان من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن ممتنع، فحينئذ تعود الوجوه المقررة للخبر على ما تقدم.
أما قوله تعالى: * (من بعد ما عقلوه) *، فالمراد أنهم علموا بصحته وفساد ما خلقوه فكانوا معاندين مقدمين على ذلك بالعمد، فلأجل ذلك يجب أن يحمل الكلام على أنهم العلماء منهم وأنهم فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى من بعد في قوله تعالى: * (واشتروا به ثمنا قليلا) * (آل عمران: 187) وقال تعالى: * (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) * (البقرة: 146) (الأنعام: 20) ويجب أن يكون في عددهم قلة لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم كتمان ما يعتقدون لأنا إن جوزنا ذلك لم يعلم المحق من المبطل وإن كثر العدد.
أما قوله تعالى: * (وهم يعلمون) * فلقائل أن يقول: قوله تعالى: * (عقلوه وهم يعلمون) * تكرار
135

لا فائدة فيه: أجاب القفال عنه من وجهين، الأول: من بعد ما عقلوه مراد الله فأولوه تأويلا فاسدا يعلمون أنه غير مراد الله تعالى. الثاني: أنهم عقلوا مراد الله تعالى، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم الوزر والعقوبة من الله تعالى، ومتى تعمدوا التحريف مع العلم بما فيه من الوزر كانت قسوتهم أشد وجراءتهم أعظم، ولما كان المقصود من ذلك تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى، وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى: قال القاضي قوله تعالى: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) * على ما تقدم تفسيره، يدل على أن إيمانهم من قبلهم لأنه لو كان بخلق الله تعالى فيهم لكان لا يتغير حال الطمع فيهم بصفة الفريق الذي تقدم ذكرهم، ولما صح كون ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين لأن على هذا القول أمرهم في الإيمان موقوف على خلقه تعالى ذلك، وزواله موقوف على أن لا يخلقه فيهم ومن وجه آخر وهو إعظامه تعالى لذنبهم في التحريف من حيث فعلوه وهم يعلمون صحته، ولو كان ذلك من خلقه لكان بأن يعلموا أو لا يعلموا لا يتغير ذلك وإضافته تعالى التحريف إليهم على وجه الذم تدل على ذلك، واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مرارا وأطوارا فلا فائدة في الإعادة.
المسألة الثانية: قال أبو بكر الرازي: تدل الآية على أن العالم المعاند فيه أبعد من الرشد وأقرب إلى اليأس من الجاهل، لأن قوله تعالى: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) * يفيد زوال الطمع في رشدهم لمكابرتهم الحق بعد العلم به.
* (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحآجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) *
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد صلى الله عليه وسلم والمروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا لهم: آمنا بالذي آمنتم به ونشهد أن صاحبكم صادق وأن قوله حق ونجده بنعته وصفته في كتابنا، ثم إذا خلا بعضهم إلى بعض قال الرؤساء لهم: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نعته وصفته ليحاجوكم به، فإن المخالف إذا اعترف بصحة التوراة واعترف
136

بشهادة التوراة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا حجة أقوى من ذلك، فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضا من الاعتراف بذلك عند محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال القفال: قوله: * (فتح الله عليكم) * مأخوذ من قولهم قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه.
أما قوله: * (عند ربكم) * ففيه وجوه. أحدها: أنهم جعلوا محاجتهم به وقوله هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله، ألا تراك تقول هو في كتاب الله هكذا وهو عند الله هكذا بمعنى واحد. وثانيها: قال الحسن: أي ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم الله تعالى من اتباع الرسل تصح أن توصف بأنها محاجة فيه لأنها محاجة في دينه. وثالثها: قال الأصم: المراد يحاجوكم يوم القيامة وعند التساؤل فيكون ذلك زائدا في توبيخكم وظهور فضيحتكم على رؤوس الخلائق في الموقف لأنه ليس من اعتراف بالحق ثم كتم كمن ثبت على الإنكار فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك مما يزيد في انكشاف فضيحتهم في الآخرة. ورابعها: قال القاضي أبو بكر: إن المحتج بالشيء قد يحتج ويكون غرضه من إظهار تلك الحجة حصول السرور بسبب غلبة الخصم وقد يكون غرضه منه الديانة والنصيحة، فقط ليقطع عذر خصمه ويقرر حجة الله عليه فقال القوم عند الخلوة قد حدثتموهم بما فتح الله عليكم من حجتهم في التوراة فصاروا يتمكنون من الاحتجاج به على وجه الديانة والنصيحة، لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه قد أوجبت عليك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي فإن قبلت أحسنت إلى نفسك وإن جحدت كنت الخاسر الخائب. وخامسها: قال القفال: يقال: فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي، وهذا عند الشافعي حلال وعند أبي حنيفة حرام، أي في حكمهما وقوله: * (ليحاجوكم به عند ربكم) * أي لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله. وتأول بعض العلماء قوله تعالى: * (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) * (النور: 13) أي في حكم الله وقضائه لأن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقا.
أما قوله: * (أفلا تعقلون) * ففيه وجوه. أحدها: أنه يرجع إلى المؤمنين فكأنه تعالى قال: أفلا تعقلون لما ذكرته لكم من صفتهم أن الأمر لا مطمع لكم في إيمانهم. وهو قول الحسن. وثانيها: أنه راجع إليهم فكأن عندما خلا بعضهم ببعض قالوا لهم أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم وتصيرون محجوجين به، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه. وهذا الوجه أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم فلا وجه لصرفه عنهم إلى غيرهم.
أما قوله تعالى: * (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) * ففيه قولان، الأول: وهو قول الأكثرين إن اليهود كانوا يعرفون الله ويعرفون أنه تعالى يعلم السر والعلانية فخوفهم الله به. الثاني: أنهم ما علموا بذلك فرغبهم بهذا القول في أن يتفكروا فيعرفوا أن لهم ربا يعلم سرهم وعلانيتهم وأنهم لا يأمنون حلول العقاب بسبب نفاقهم، وعلى القولين جميعا، فهذا الكلام زجر
137

لهم عن النفاق، وعن وصية بعضهم بعضا بكتمان دلائل نبوة محمد. والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك، لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر: أولا يعلم كيت وكيت إلا وهو عالم بذلك الشيء، ويكون ذلك الشيء زاجرا له عن ذلك الفعل، وقال بعضهم: هؤلاء اليهود كيف يستجيزون أن يسر إلى إخوانهم النهي عن إظهار دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم ليسوا كالمنافقين الذين لا يعلمون الله ولا يعلمون كونه عالما بالسر والعلانية، فشأنهم من هذه الجهة أعجب. قال القاضي: الآية تدل على أمور. أحدها: أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال. وثانيها: أنها تدل على صحة الحجاج والنظر وأن ذلك كان طريقة الصحابة والمؤمنين وأن ذلك كان ظاهرا عند اليهود حتى قال بعضهم لبعض ما قالوه، وثالثها: أنها تدل على أن الحجة قد تكون إلزامية لأنهم لما اعترفوا بصحة التوراة وباشتمالها على ما يدل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا جرم لزمهم الاعتراف بالنبوة ولو منعوا إحدى تينك المقدمتين لما تمت الدلالة. ورابعها: أنها تدل على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرما ووزرا والله أعلم.
* (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانى وإن هم إلا يظنون * فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) *
اعلم أن المراد بقوله: * (ومنهم أميون) * اليهود لأنه تعالى لما وصفهم بالعناد وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم، فالفرقة الأولى هي الفرقة الضالة المضلة، وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. والفرقة الثانية: المنافقون، والفرقة الثالثة: الذين يجادلون المنافقين، والفرقة الرابعة: هم المذكورون في هذه الآية وهم العامة الأميون الذين لا معرفة عندهم بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد وقبول ما يقال لهم، فبين الله تعالى أن الذين يمتنعون عن قبول الإيمان ليس سبب ذلك الامتناع واحدا بل لكل قسم منهم سبب آخر ومن تأمل ما ذكره الله تعالى في هذه الآية من شرح فرق اليهود وجد ذلك بعينه في فرق هذه الأمة، فإن فيهم من يعاند الحق ويسعى في إضلال الغير وفيهم من يكون متوسطا، وفيهم من يكون عاميا محضا مقلدا، وههنا مسائل:
138

المسألة الأولى: اختلفوا في الأمي فقال بعضهم هو من لا يقر بكتاب ولا برسول. وقال آخرون: من لا يحسن الكتابة والقراءة وهذا الثاني أصوب لأن الآية في اليهود وكانوا مقرين بالكتاب والرسول ولأنه عليه الصلاة والسلام قال: " نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " وذلك يدل على هذا القول، ولأن قوله: * (لا يعلمون الكتاب) * لا يليق إلا بذلك.
المسألة الثانية: " الأماني " جمع أمنية ولها معان مشتركة في أصل واحد، أحدها: ما تخيله الإنسان فيقدر في نفسه وقوعه ويحدثها بكونه، ومن هذا قولهم: فلان يعد فلانا ويمنيه ومنه قوله تعالى: * (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * (النساء: 12) فإن فسرنا الأماني بهذا كان قوله: (إلا أماني إلا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله تعالى لا يؤاخذهم بخطاياهم) وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة. وثانيها: * (إلا أماني) * إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد، قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به: أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته. وثالثها: * (إلا أماني) * أي إلا ما يقرأون من قوله: تمنى كتاب الله أول ليلة. قال صاحب " الكشاف " والاشتقاق منى من، إذا قدر لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوز ما يتمناه، وكذلك المختلق والقارئ يقدر أن كلمة كذا بعد كذا، قال أبو مسلم: حمله على تمنى القلب أولى بدليل قوله تعالى: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم) * (البقرة: 111) أي تمنيهم. وقال الله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * (النساء: 123) وقال: * (تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم) * (البقرة: 111) وقال تعالى: * (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) * (الجاثية: 24) بمعنى يقدرون ويخرصون. وقال الأكثرون: حمله على القراءة أولى كقوله تعالى: * (إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * (الحج: 52) ولأن حمله على القراءة أليق بطريقة الاستثناء لأنا إذا حملناه على ذلك كان له به تعلق فكأنه قال: لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه، ثم إنهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادرا.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (إلا أماني) * من الاستثناء المنقطع، قال النابغة:
حلفت يمينا غير ذي مثنوية * ولا علم إلا حسن ظن بغائب
وقرئ " إلا أماني " بالتخفيف. أما قوله تعالى: * (وإن هم إلا يظنون) * فكالمحقق لما قلناه لأن الأماني إن أريد بها التقدير والفكر لأمور لا حقيقة لها، فهي ظن ويكون ذلك تكرارا. ولقائل أن يقول: حديث النفس غير والظن غير فلا يلزم التكرار وإذا حملناه على التلاوة عليهم يحسن معناه، فكأنه تعالى قال: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا بأن يتلى عليهم فيسمعوه وإلا بأن يذكرهم تأويله كما يراد فيظنون، وبين تعالى أن هذه الطريقة لا توصل إلى الحق، وفي الآية مسائل. أحدها: أن المعارف كسبية لا ضرورية فلذلك ذم من لا يعلم ويظن. وثانيها: بطلان التقليد مطلقا وهو مشكل لأن
139

التقليد في الفروع جائز عندنا. وثالثها: أن المضل وإن كان مذموما فالمغتر بإضلال المضل أيضا مذموم لأنه تعالى ذمهم وإن كانوا بهذه الصفة، ورابعها: أن الاكتفاء بالظن في أصول الدين غير جائز والله أعلم. أما قوله تعالى: * (فويل) * فقالوا: الويل كلمة يقولها كل مكروب، وقال ابن عباس: إنه العذاب الأليم. وعن سفيان الثوري: إنه مسيل صديد أهل جهنم، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ". قال القاضي: " ويل " يتضمن نهاية الوعيد والتهديد فهذا القدر لا شبهة فيه سواء كان الويل عبارة عن واد في جهنم أو عن العذاب العظيم.
أما قوله تعالى: * (يكتبون الكتاب بأيديهم) * ففيه وجهان. الأول: أن الرجل قد يقول كتبت إذا أمر بذلك ففائدة قوله: * (بأيديهم) * أنه لم يقع منهم إلا على هذا الوجه. الثاني: أنه تأكيد وهذا الموضع مما يحسن فيه التأكيد كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه: يا هذا كتبته بيمينك. أما قوله تعالى: * (ثم يقولون هذا من عند الله) * فالمراد أن من يكتب هذه الكتابة ويكسب هذا الكسب في غاية الرداءة لأنهم ضلوا عن الدين وأضلوا وباعوا آخرتهم بدنياهم، فذنبهم أعظم من ذنب غيرهم، فإن المعلوم أن الكذب على الغير بما يضر يعظم إثمه فكيف بمن يكذب على الله ويضم إلى الكذب الإضلال ويضم إليهما حب الدنيا والاحتيال في تحصيلها ويضم إليها أنه مهد طريقا في الإضلال باقيا على وجه الدهر، فلذلك عظم تعالى ما فعلوه. فإن قيل: إنه تعالى حكى عنهم أمرين. أحدهما: كتبة الكتاب والآخر: إسناده إلى الله تعالى على سبيل الكذب، فهذا الوعيد مرتب على الكتبة أو على إسناد المكتوب إلى الله أو عليهما معا؟ قلنا: لا شك أن كتبة الأشياء الباطلة لقصد الإضلال من المنكرات والكذب على الله تعالى أيضا كذلك والجمع بينهما منكر عظيم جدا. أما قوله تعالى: * (ليشتروا به ثمنا قليلا) * فهو تنبيه على أمرين. الأول: أنه تنبيه على نهاية شقاوتهم لأن العاقل يجب أن لا يرضى بالوزر القليل في الآخرة لأجل الأجر العظيم في الدنيا، فكيف يليق به أن يرضى بالعقاب العظيم في الآخرة لأجل النفع الحقير في الدنيا، الثاني: أنه يدل على أنهم ما فعلوا ذلك التحريف ديانة بل إنما فعلوه طلبا للمال والجاه، وهذا يدل على أن أخذ المال على الباطل وإن كان بالتراضي فهو محرم، لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان على محبة ورضا، ومع ذلك فقد نبه تعالى على تحريمه.
أما قوله تعالى: * (فويل لهم مما كتبت أيديهم) * فالمراد أن كتبتهم لما كتبوه ذنب عظيم بانفراده، وكذلك أخذهم المال عليه، فلذلك أعاد ذكر الويل في الكسب، ولو لم يعد ذكره كان يجوز أن يقال: إن مجموعهما يقتضي الوعيد العظيم دون كل واحد منهما، فأزال الله تعالى هذه الشبهة واختلفوا في قوله تعالى: * (مما يكسبون) * هل المراد ما كانوا يأخذون على هذه الكتابة والتحريف فقط أو المراد بذلك سائر معاصيهم والأقرب في نظام الكلام أنه راجع إلى المذكور من المال المأخوذ على هذا الوجه وإن كان الأقرب من حيث العموم أنه يشمل الكل، لكن الذي يرجح الأول أنه متى لم يقيد كسبهم بهذا القيد لم يحسن الوعيد عليه لأن الكسب يدخل فيه الحلال والحرام، فلا بد من تقييده وأولى ما يقيد
140

به ما تقدم ذكره. قال القاضي: دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقا لله تعالى، لأنها لو كانت خلقا لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم: * (هو من عند الله) * ذلك حقيقة لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فهب أن العبد مكتسب إلا أن انتساب الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب فكان اسناد تلك الكتبة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العبد، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها. إنها من عند الله ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتبة ليست مخلوقة لله تعالى. والجواب: أن الداعية الموجبة لها من خلق الله تعالى بالدلائل المذكورة فهي أيضا تكون كذلك والله أعلم.
* (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) *
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أقوالهم وأفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياما قليلة، وهذا الجزم لا سبيل إليه بالعقل البتة أما على قولنا، فلأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه في فعله، فلا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي، وأما على قول المعتزلة فلأن العقل يدل عندهم على أن المعاصي يستحق بها من الله العقاب الدائم، فلما دل العقل على ذلك احتج في تقدير العقاب مدة ثم في زواله بعدها إلى سمع يبين ذلك، فثبت أن على المذهبين لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي، وحيث توجد الدلالة السمعية لم يجز الجزم بذلك، وههنا مسألتان:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير الأيام المعدودة وجهين. الأول: أن لفظ الأيام لا تضاف إلا إلى العشرة فما دونها، ولا تضاف إلى ما فوقها. فيقال: أيام خمسة وأيام عشرة ولا يقال أيام أحد عشر إلا أن هذا يشكل بقوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات) * (البقرة: 183، 184) هي أيام الشهر كله، وهي أزيد من العشرة. ثم قال القاضي: إذا ثبت أن الأيام محمولة على العشرة فما دونها فالأشبه أن يقال: إنه الأقل أو الأكثر لأن من يقول ثلاثة يقول أحمله على أقل الحقيقة فله وجه، ومن يقول عشرة يقول أحمله على الأكثر وله وجه، فأما حمله على الواسطة أعني على ما هو أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له، لأنه ليس عدد أولى من عدد اللهم إلا إذا جاءت في تقديرها رواية صحيحة فحينئذ يجب القول بها، وجماعة من المفسرين قدروها بسبعة أيام، قال مجاهد: إن اليهود كانت تقول: الدنيا سبعة آلاف سنة فالله تعالى يعذبهم مكان كل ألف سنة يوما، فكانوا يقولون: إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام. وحكى الأصم عن بعض اليهود أنهم عبدوا العجل سبعة أيام فكانوا يقولون إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام وهذان الوجهان ضعيفان. أما الأول: فلأنه
141

ليس بين كون الدنيا سبعة آلاف سنة وبين كون العذاب سبعة أيام مناسبة وملازمة البتة. وأما الثاني: فلأنه لا يلزم من كون المعصية مقدرة بسبعة أيام أن يكون عذابها كذلك. أما على قولنا فلأنه يحسن من الله كل شيء بحكم المالكية، وأما عند المعتزلة فلأن العاصي يستحق على عصيانه العقاب الدائم ما لم توجد التوبة أو العفو، فإن قيل: أليس أنه تعالى منع من استيفاء الزيادة فقال: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) فوجب أن لا يزيد العقاب على المعصية؟ قلنا: إن المعصية تزداد بقدر النعمة. فلما كانت نعم الله على العباد خارجة عن الحصر والحد لا جرم كانت معصيتهم عظيمة جدا.
الوجه الثاني: روي عن ابن عباس أنه فسر هذه الأيام بالأربعين، وهو عدد الأيام التي عبدوا العجل فيها، والكلام عليه أيضا كالكلام على السبعة.
الوجه الثالث: قيل في معنى " معدودة " قليلة، كقوله تعالى: * (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) * (يوسف: 20) والله أعلم.
المسألة الثانية؛ ذهبت الحنفية إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة، واحتجوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام أقرائك "، فمدة الحيض ما يسمى أياما وأقل عدد يسمى أياما ثلاثة وأكثره عشرة على ما بيناه، فوجب أن يكون أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة، والإشكال عليه ما تقدم.
المسألة الثالثة: ذكر ههنا: * (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * وفي آل عمران: * (إلا أياما معدودات) * (آل عمران: 24) ولقائل أن يقول: لم كانت الأولى معدودة والثانية معدودات والموصوف في المكانين موصوف واحد وهو " أياما "؟ والجواب: أن الاسم إن كان مذكرا فالأصل في صفة جمعه التاء. يقال: كوز وكيزان مكسورة وثياب مقطوعة وإن كان مؤنثا كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء، يقال: جرة وجرار مكسورات وخابية وخوابي مكسورات. إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكر في بعض الصور نادرا نحو حمام وحمامات وجمل سبطر وسبطرات وعلى هذا ورد قوله تعالى: * (في أيام معدودات) * و * (في أيام معلومات) * فالله تعالى تكلم في سورة البقرة بما هو الأصل وهو قوله: * (أياما معدودة) * وفي آل عمران بما هو الفرع.
أما قوله تعالى: * (قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد والخبر، وإنما سمي خبره سبحانه عهدا لأن خبره سبحانه أوكد من العهود المؤكدة منا بالقسم والنذر، فالعهد من الله لا يكون إلا بهذا الوجه.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": " فلن يخلف الله " متعلق بمحذوف وتقديره إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (أتخذتم) * ليس باستفهام، بل هو إنكار لأنه لا يجوز أن يجعل تعالى حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهمهم، بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال وهي أنه لا سبيل
142

إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع، فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (فلن يخلف الله عهده) * يدل على أنه سبحانه وتعالى منزه عن الكذب وعده ووعيده. قال أصحابنا: لأن الكذب صفة نقص، والنقص على الله محال، وقالت المعتزلة: لأنه سبحانه عالم بقبح القبيح وعالم بكونه غنيا عنه، والكذب قبيح لأنه كذب والعالم بقبح القبيح وبكونه غنيا عنه يستحيل أن يفعله، فدل على أن الكذب منه محال، فلهذا قال: * (فلن يخلف الله عهده) *، فإن قيل: العهد هو الوعد وتخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي ما عداه، فلما خص الوعد بأنه لا يخلفه علمنا أن الخلف في الوعيد جائز، ثم العقل يطابق ذلك، لأن الخلف في الوعد لؤم وفي الوعيد كرم. قلنا: الدلالة المذكورة قائمة في جميع أنواع الكذب.
المسألة الخامسة: قال الجبائي: دلت الآية على أنه تعالى لم يكن وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده على أنه تعالى يخرج أهل المعاصي والكبائر من النار بعد التكذيب، لأنه لو وعدهم بذلك لما جاز أن ينكر على اليهود هذا القول، وإذا ثبت أنه تعالى ما دلهم على ذلك وثبت أنه تعالى دلهم على وعيد العصاة إذا كان بذلك زجرهم عن الذنوب، فقد وجب أن يكون عذابهم دائما على ما هو قول الوعيدية، وإذا ثبت ذلك في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة، لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم، إذ كان قدر المعصية من الجميع لا يختلف، واعلم أن هذا الوجه في نهاية التعسف فنقول: لا نسلم أنه تعالى ما وعد موسى أنه يخرج أهل الكبائر من النار، قوله: لو وعدهم بذلك لما أنكر على اليهود قولهم، قلنا: لم قلت إنه تعالى لو وعدهم ذلك لما أنكر على اليهود ذلك، وما الدليل على هذه الملازمة؟ ثم إنا نبين شرعا أن ذلك غير لازم من وجوه. أحدها: لعل الله تعالى إنما أنكر عليهم لأنهم قللوا أيام العذاب، فإن قولهم: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *، يدل على أيام قليلة جدا، فالله تعالى أنكر عليهم جزمهم بهذه القلة لا أنه تعالى أنكر عليهم انقطاع العذاب. وثانيها: أن المرجئة يقطعون في الجملة بالعفو، فأما في حق الشخص المعين فلا سبيل إلى القطع، فلما حكموا في حق أنفسهم بالتخفيف على سبيل الجزم لا جرم أنكر الله عليهم ذلك. وثالثها: أنهم كانوا كافرين وعندنا عذاب الكافر دائم لا ينقطع، سلمنا أنه تعالى ما وعد موسى عليه السلام أنه يخرج أهل الكبائر من النار، فلم قلت أنه لا يخرجهم من النار؟ بيانه أنه فرق بين أن يقال إنه تعالى ما وعده إخراجهم من النار وبين أن يقال: إنه أخبره أنه لا يخرجهم من النار والأول لا مضرة فيه، فإنه تعالى ربما لم يقل ذلك لموسى إلا أنه سيفعله يوم القيامة، وإنما رد على اليهود وذلك لأنهم جزموا به من غير دليل، فكان يلزمهم أن يتوقفوا فيه وأن لا يقطعوا لا بالنفي ولا بالإثبات، سلمنا أنه تعالى لا يخرج عصاة قوم موسى من النار، فلم قلت: إنه لا يخرج عصاة هذه الأمة من النار، وأما قول الجبائي: لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم. فهو تحكم محض، فإن العقاب حق الله تعالى، فله أن يتفضل على البعض بالإسقاط وأن لا يتفضل بذلك على الباقين، فثبت أن هذا الاستدلال
143

ضعيف. أما قوله تعالى: * (أم تقولون على الله ما لا تعلمون) * فهو بيان لتمام الحجة المذكورة، فإنه إذا كان لا طريق إلى التقدير المذكور إلا السمع وثبت أنه لم يوجد السمع، كان الجزم بذلك التقدير قولا على الله تعالى بما لا يكون معلوما لا محالة، وهذه الآية تدل على فوائد. أحدها: أنه تعالى لما عاب عليهم القول الذي قالوه لا عن دليل علمنا أن القول بغير دليل باطل. وثانيها: أن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلا لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي. وثالثها: أن منكري القياس وخبر الواحد يتمسكون بهذه الآية. قالوا: لأن القياس وخبر الواحد لا يفيد العلم، فوجب أن لا يكون التمسك به جائزا لقوله تعالى: * (أم تقولون على الله ما لا تعلمون) * ذكر ذلك في معرض الإنكار. والجواب: أنه لما دلت الدلالة على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد كان وجوب العمل معلوما، فكان القول به قولا بالمعلوم لا بغير المعلوم.
* (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *
قال صاحب الكشاف: " بلى " إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله تعالى: * (لن تمسنا النار) *، أي بلى تمسكم أبدا بدليل قوله: * (هم فيها خالدون) *. أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي. قال تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40)، * (من يعمل سوءا يجز به) * (النساء: 123) ولما كان من الجائز أن يظن أن كل سيئة صغرت أو كبرت فحالها سواء في أن فاعلها يخلد في النار لا جرم بين تعالى أن الذي يستحق به الخلود أن يكون سيئة محيطة به، ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السور بالبلد والكوز بالماء وذلك ههنا ممتنع فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين. أحدهما: أن المحيط يستر المحاط به والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالساترة لتلك الطاعات، فكانت المشابهة حاصلة من هذه الجهة، والثاني: أن الكبيرة إذا أحبطت ثواب الطاعات فكأنها استولت على تلك الطاعات وأحاطت بها كما يحيط عسكر العدو بالإنسان، بحيث لا يتمكن الإنسان من التخلص منه، فكأنه تعالى قال: بلى من كسب كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فإن قيل: هذه الآية وردت في حق اليهود، قلنا: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، هذا هو الوجه الذي استدلت المعتزلة به في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر.
واعلم أن هذه المسألة من معظمات المسائل، ولنذكرها ههنا فنقول: اختلف أهل القبلة في وعيد أصحاب الكبائر، فمن الناس من قطع بوعيدهم وهم فريقان، منهم من أثبت الوعيد المؤبد وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج. ومنهم من أثبت وعيدا منقطعا وهو قول بشر المريسي
144

والخالدي، ومن الناس من قطع بأنه لا وعيد لهم وهو قول شاذ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر، والقول الثالث: أنا نقطع بأنه سبحانه وتعالى يعفو عن بعض المعاصي ولكنا نتوقف في حق كل أحد على التعيين أنه هل يعفو عنه أم لا، ونقطع بأنه تعالى إذا عذب أحدا منهم مدة فإنه لا يعذبه أبدا، بل يقطع عذابه، وهذا قول أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والجماعة وأكثر الإمامية، فيشتمل هذا البحث على مسألتين. إحداهما: في القطع بالوعيد، والأخرى: في أنه لو ثبت الوعيد فهل يكون ذلك على نعت الدوام أم لا؟
المسألة الأولى: في الوعيد ولنذكر دلائل المعتزلة أولا. ثم دلائل المرجئة الخالصة ثم دلائل أصحابنا رحمهم الله. أما المعتزلة فإنهم عولوا على العمومات الواردة في هذا الباب وتلك العمومات على جهتين. بعضها وردت بصيغة " من " في معرض الشرط وبعضها وردت بصيغة الجمع، أما النوع الأول فآيات، إحداها: قوله تعالى في آية المواريث: * (تلك حدود الله) * (البقرة: 187) إلى قوله: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) * (النساء: 14)، وقد علمنا أن من ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وارتكب شرب الخمر والزنا وقتل النفس المحرمة فهو متعد لحدود الله، فيجب أن يكون من أهل العقاب، وذلك لأن كلمة " من " في معرض الشرط تفيد العموم على ما ثبت في أصول الفقه، فمتى حمل الخصم هذه الآية على الكافر دون المؤمن كان ذلك على خلاف الدليل ثم الذي يبطل قوله وجهان. أحدهما: أنه تعالى بين حدوده في المواريث ثم وعد من يطيعه في تلك الحدود وتوعد من يعصيه فيها، ومن تمسك بالإيمان والتصديق به تعالى فهو أقرب إليها إلى الطاعة فيها ممن يكون منكرا لربوبيته ومكذبا لرسله وشرائعه، فترغيبه في الطاعة فيها أخص ممن هو أقرب إلى الطاعة فيها وهو المؤمن، ومتى كان المؤمن مرادا بأول الآية فكذلك بآخرها، الثاني: أنه قال: * (تلك حدود الله) * ولا شبهة في أن المراد به الحدود المذكورة، ثم علق بالطاعة فيها الوعد وبالمعصية فيها الوعيد، فاقتضى سياق الآية أن الوعيد متعلق بالمعصية في هذه الحدود فقط دون أن يضم إلى ذلك تعدي حدود أخر، ولهذا كان مزجورا بهذا الوعيد في تعدي هذه الحدود فقط ولو لم يكن مرادا بهذا الوعيد لما كان مزجورا به، وإذا ثبت أن المؤمن مراد بها كالكافر بطل قول من يخصها بالكافر، فإن قيل: إن قوله تعالى: * (ويتعد حدوده) * (النساء: 14) جمع مضاف والجمع المضاف عندكم يفيد العموم، كما لو قيل: ضربت عبيدي، فإنه يكون ذلك شاملا لجميع عبيده، وإذا ثبت ذلك اختصت هذه الآية بمن تعدى جميع حدود الله وذلك هو الكافر لا محالة دون المؤمن، قلنا: الأمر وإن كان كما ذكرتم نظرا إلى اللفظ لكنه وجدت قرائن تدل على أنه ليس المراد ههنا تعدي جميع الحدود، أحدها: أنه تعالى قدم على قوله: * (ويتعد حدوده) * قوله تعالى: * (تلك حدود الله) * فانصرف قوله: * (ويتعد حدوده) * إلى تلك الحدود، وثانيها: أن الأمة متفقون على أن المؤمن مزجور بهذه الآية عن المعاصي، ولو صح ما ذكرتم
145

لكان المؤمن غير مزجور بها، وثالثها: أنا لو حملنا الآية على تعدي جميع الحدود لم يكن للوعيد بها فائدة لأن أحدا من المكلفين لا يتعدى جميع حدود الله، لأن في الحدود ما لا يمكن الجمع بينها في التعدي لتضادها، فإنه لا يتمكن أحد من أن يعتقد في حالة واحدة مذهب الثنوية والنصرانية وليس يوجد في المكلفين من يعصي الله بجميع المعاصي، ورابعها: قوله تعالى في قاتل المؤمن عمدا: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * (النساء: 93)، دلت الآية على أن ذلك جزاؤه، فوجب أن يحصل له هذا الجزاء لقوله تعالى: * (من يعمل سوءا يجز به) * (النساء: 123). وخامسها: قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا) * إلى قوله: * (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) * (الأنفال: 15، 16). وسادسها: قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7، 8). وسابعها: قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * إلى قوله تعالى: * (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا) * (النساء: 29، 30). وثامنها: قوله تعالى: * (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) * (طه: 74، 75) فبين تعالى أن الكافر والفاسق من أهل العقاب الدائم كما أن المؤمن من أهل الثواب. وتاسعها: قوله تعالى: * (وقد خاب من حمل ظلما) * (طه: 111) وهذا يوجب أن يكون الظالم من أهل الصلاة داخلا تحت هذا الوعيد، وعاشرها: قوله تعالى بعد تعداد المعاصي: * (ومن يفعل ذلك يلق آثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا) * (الفرقان: 68، 69) بين أن الفاسق كالكافر في أنه من أهل الخلود، إلا من تاب من الفساق أو آمن من الكفار، والحادية عشرة: قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون، ومن جاء بالسيئة) * (النمل: 89، 90) الآية، وهذا يدل على أن المعاصي كلها متوعد عليها كما أن الطاعات كلها موعود عليها، والثانية عشرة: قوله تعالى: * (فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى) * (النازعات: 37). والثالثة عشرة: قوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) * (الجن: 23) الآية ولم يفصل بين الكافر والفاسق، والرابعة عشرة: قوله تعالى: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) * الآية، فحكي في أول الآية قول المرجئة من اليهود فقال: * (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * (البقرة: 80) ثم إن الله كذبهم فيه، ثم قال: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * فهذه هي الآيات التي تمسكوا بها في المسألة لاشتمالها على صيغة " من " في معرض الشرط واستدلوا على أن هذه اللفظة تفيد العموم بوجوه. أحدها: أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص أو مشتركة بينهما والقسمان باطلان، فوجب كونها موضوعة للعموم، أما أنه لا يجوز أن تكون موضوعة للخصوص فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلم أن يعطي الجزاء لكل من أتى بالشرط، لأن على هذا التقدير لا يكون ذلك الجزاء مرتبا على ذلك الشرط، لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال: من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كل من دخل داره فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص، وأما أنه لا يجوز أن
146

تكون موضوعة للاشتراك، أما أولا: فلأن الاشتراك خلاف الأصل، وأما ثانيا: فلأنه لو كان كذلك لما عرف كيفية ترتيب الجزاء على الشرط إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال: من دخل داري أكرمته، فيقال له: أردت الرجال أو النساء، فإذا قال: أردت الرجال يقال له: أردت العرب أو العجم، فإذا قال: أردت العرب يقال له: أردت ربيعة أو مضر وهلم جرا إلى أن يأتي على جميع التقسيمات الممكنة، ولما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قبح ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل. وثانيها: أنه إذا قال: من دخل داري أكرمته حسن استثناء كل واحد من العقلاء منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه لأنه لا نزاع في أن المستثنى من الجنس لا بد وأن يكون بحيث يصح دخوله تحت المستثنى منه، فإما أن يعتبر مع الصحة الوجوب أو لا يعتبر والأول باطل، أما أولا: فلأنه
يلزم أن لا يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر كقوله: جاءني الفقهاء إلا زيدا وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقوله: جاءني الفقهاء إلا زيدا فرق لصحة دخول زيد في الكلامين، لكن الفرق بينهما معلوم بالضرورة. وأما ثانيا: فلأن الاستثناء من العدد يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحته فوجب أن يكون هذا فائدة الاستثناء في جميع المواضع لأن أحدا من أهل اللغة لم يفصل بين الاستثناء الداخل على العدد وبين الداخل على غيره من الألفاظ، فثبت بما ذكرنا أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك يدل على أن صيغة " من " في معرض الشرط للعموم، وثالثها: أنه تعالى لما أنزل قوله: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * (الأنبياء: 98) الآية قال ابن الزبعري: لأخصمن محمدا ثم قال: يا محمد أليس قد عبدت الملائكة أليس قد عبد عيسى ابن مريم فتمسك بعموم اللفظ والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليه ذلك، فدل على أن هذه الصيغة تفيد العموم. النوع الثاني: من دلائل المعتزلة: التمسك في الوعيد بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام وهي في آيات. إحداها: قوله تعالى: * (وإن الفجار لفي جحيم) * (الإنفطار: 14) واعلم أن القاضي والجبائي وأبا الحسن يقولون: إن هذه الصيغة تفيد العموم، وأبو هاشم يقول: إنها لا تفيد العموم، فنقول: الذي يدل على أنها للعموم وجوه. أحدها: أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: " الأئمة من قريش " والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة، لأن قولنا: بعض الأئمة من قريش لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين. أما كون كل الأئمة من قريش ينافي كون بعض الأئمة من غيرهم، وروي أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر لما هم بقتال مانعي الزكاة: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " احتج على أبي بكر بعموم اللفظ ثم لم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة: إن اللفظ لا يفيده بل عدل إلى الاستثناء، فقال إنه عليه الصلاة والسلام قال: " إلا بحقها " وإن كان الزكاة من حقها، وثانيها:
147

أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق، فوجب أن يفيد الاستغراق، أما أنه يؤكد فلقوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * (ص: 73) وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق، فبالاجماع، وأما أنه متى كان كذلك وجب كون المؤكد في أصله للاستغراق لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد إجماعا، والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتا في الأصل، فلو لم يكن الاستغراق حاصلا في الأصل، وإنما حصل بهذه الألفاظ ابتداء لم يكن تأثير هذه الألفاظ في تقوية الحكم، بل في إعطاء حكم جديد، وكانت مبينة للمجمل لا مؤكدة، وحيث أجمعوا على أنها مؤكدة علمنا أن اقتضاء الاستغراق كان حاصلا في الأصل. وثالثها: أن الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار الاسم معرفة، كذا نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة، وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بصرفه إلى الكل، لأنه معلوم للمخاطب، وأما صرفه إلى ما دون الكل فإنه لا يفيد المعرفة، لأنه ليس بعض الجمع أولى من بعض، فكان يبقى مجهولا. فإن قلت: إذا أفاد جمعا مخصوصا من ذلك الجنس فقد أفاد تعريف ذلك الجنس، قلت: هذه الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام، لأنه لو قال: رأيت رجالا، أفاد تعريف ذلك الجنس وتميزه عن غيره، فدل على أن للألف واللام فائدة زائدة وما هي إلا الاستغراق. ورابعها: أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم. وخامسها: الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر، لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف ولا ينعكس فإنه يجوز أن يقال: رأيت رجالا من الرجال، ولا يقال رأيت الرجال من رجال، ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع، إذا ثبت هذا، فنقول: إن المفهوم من الجمع المعرف، إما الكل أو ما دونه، والثاني: باطل لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعه من الجمع المعرف، وقد علمت أن المنتزع منه أكثر فوجب أن يكون الجمع المعرف مفيدا للكل والله أعلم. أما على طريقة أبي هاشم، وهي أن الجمع المعرف لا يفيد العموم فيمكن التمسك بالآية من وجهين آخرين. الأول: أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فقوله: * (وإن الفجار لفي جحيم) * يقتضي أن الفجور هي العلة، وإذا ثبت ذلك لزم عموم الحكم لعموم علته وهو المطلوب، وفي هذا الباب طريقة ثالثة يذكرها النحويون وهي أن اللام في قوله: * (وإن الفجار) * ليست لام تعريف، بل هي بمعنى الذي، ويدل عليه وجهان. أحدهما: أنها تجاب بالفاء كقوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * (المائدة: 38)، وكما تقول الذي يلقاني فله درهم. الثاني: أنه يصح عطف الفعل على الشيء الذي دخلت هذه اللام عليه قال تعالى: * (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا) * (الحديد: 18) فلولا أن قوله: * (إن المصدقين) * بمعنى: إن الذين أصدقوا لما صح أن يعطف عليه قوله: * (وأقرضوا الله) * وإذا ثبت ذلك كان قوله: * (وإن الفجار لفي جحيم) * معناه: إن الذين فجروا فهم في الجحيم، وذلك يفيد العموم. الآية الثانية في هذا الباب: قوله تعالى: * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * (مريم: 85، 86) ولفظ المجرمين صيغة جمع معرفة بالألف واللام
148

وثالثها: قوله تعالى: * (ونذر الظالمين فيها جثيا) * (مريم: 72) ورابعها: قوله تعالى: * (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم) * (النحل: 61) بين أنه يؤخر عقابهم إلى يوم آخر وذلك إنما يصدق أن لو حصل عقابهم في ذلك اليوم.
النوع الثالث: من العمومات: صيغ الجموع المقرونة بحرف الذي، فأحدها: قوله تعالى: * (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) * (المطففين: 1، 2). وثانيها: قوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (النساء: 10). وثالثها: قوله تعالى: * (إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * (النحل: 28) فبين ما يستحق على ترك الهجرة وترك النصرة وإن كان معترفا بالله ورسوله. ورابعها: قوله تعالى: * (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة) * (يونس: 27) ولم يفصل في الوعيد بين الكافر وغيره، وخامسها: قوله تعالى: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) * (التوبة: 34). وسادسها؛ قوله تعالى: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) * (النساء: 18) ولو لم يكن الفاسق من أهل الوعيد والعذاب لم يكن لهذا القول معنى، بل لم يكن به إلى التوبة حاجة، وسابعها: قوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا) * (المائدة: 33) فبين ما على الفاسق من العذاب في الدنيا والآخرة، وثامنها: قوله تعالى: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك
لا خلاق لهم في الآخرة) * (آل عمران: 77).
النوع الرابع: من العمومات، قوله تعالى: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * (آل عمران: 180) توعد على منع الزكاة.
النوع الخامس من العمومات: لفظة " كل " وهو قوله تعالى: * (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به) * (يونس: 54) فبين ما يستحق الظالم على ظلمه.
النوع السادس: ما يدل على أنه سبحانه لا بد وأن يفعل ما توعدهم به وهو قوله تعالى: * (قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) * (ق: 28، 29) بين أنه لا يبدل قوله في الوعيد والاستدلال بالآية من وجهين. أحدهما: أنه تعالى جعل العلة في إزاحة العذر تقديم الوعيد، أي بعد تقديم الوعيد لم يبق لأحد علة ولا مخلص من عذابه، والثاني: قوله تعالى: * (ما يبدل القول لدي) * وهذا صريح في أنه تعالى لا بد وأن يفعل ما دل اللفظ عليه، فهذا مجموع ما تمسكوا به من عمومات القرآن. أما عمومات الأخبار فكثيرة.
فالنوع الأول: المذكور بصيغة " من " أحدها: ما روى وقاص بن ربيعة عن المسور بن شداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أكل بأخيه أكلة أطعمه الله من نار جهنم، ومن أخذ بأخيه كسوة كساه الله من نار جهنم ومن قام مقام رياء وسمعة أقامه الله يوم القيامة مقام رياء وسمعة "، وهذا نص في وعيد الفاسق، ومعنى أقامه: أي جازاه على ذلك، وثانيها: قال عليه السلام: " من كان ذا لسانين وذا وجهين كان في النار ذا لسانين وذا وجهين " ولم يفصل بين المنافق وبين غيره في هذا الباب، وثالثها: عن سعيد بن زيد قال عليه السلام: " من ظلم قيد شبر من
149

أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين، ورابعها: عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن من أمنه الناس والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هاجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه ". وهذا الخبر يدل على وعيد الفاسق الظالم ويدل على أنه غير مؤمن ولا مسلم على ما يقوله المعتزلة من المنزلة بين المنزلتين. وخامسها: عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جاء يوم القيامة بريئا من ثلاثة، دخل الجنة: الكبر والغلول والدين "، وهذا يدل على أن صاحب هذه الثلاثة لا يدخل الجنة وإلا لم يكن لهذا الكلام معنى، والمراد من الدين من مات عاصيا مانعا ولم يرد التوبة ولم يتب عنه. وسادسها: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا من طرق الجنة، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ". وهذا نص في أن الثواب لا يكون إلا بالطاعة، والخلاص من النار لا يكون إلا بالعمل الصالح، وسابعها: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر خمر وكل خمر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة "، وهو صريح في وعيد الفاسق وأنه من أهل الخلود، لأنه إذا لم يشربها لم يدخل الجنة لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وثامنها: عن أم سلمة قالت: قال عليه السلام: " إنما أنا بشر مثلكم ولعلكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه فإنما قطعت له قطعة من النار ". وتاسعها: عن ثابت بن الضحاك قال: قال عليه السلام: " من حلف بملة سوى الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء يعذب به في نار جهنم ". وعاشرها: عن عبد الله بن عمر قال: قال عليه الصلاة والسلام في الصلاة: " من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة ولا ثوابا وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي بن خلف ". وهذا نص في أن ترك الصلاة يحبط العمل ويوجب وعيد الأبد، الحادي عشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عليه السلام: " من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن "، ولما ثبت أنه لا يكفر علمنا أن المراد منه إحباط العمل، الثاني عشر: عن أبي هريرة قال: قال عليه السلام: " من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يهوي في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل متعمدا فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا "، الثالث عشر: عن أبي ذر قال عليه السلام: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قلت يا رسول الله من هم خابوا وخسروا؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف كاذبا "، يعني بالمسبل المتكبر الذي يسبل إزاره، ومعلوم أن من لم يكلمه الله ولم يرحمه وله عذاب أليم فهو من أهل النار، ووروده في الفاسق نص في الباب، الرابع عشر: عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: " من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من
150

الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة، ومن لم يجد عرف الجنة فلا شك أنه في النار لأن المكلف لا بد وأن يكون في الجنة أو في النار ". الخامس عشر: عن أبي هريرة قال: قال عليه السلام: " من كتم علما ألجم بلجام من نار يوم القيامة ". السادس عشر: عن ابن مسعود قال: قال عليه السلام: " من حلف على يمين كاذبا ليقطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان "، وذلك لأن الله تعالى يقول: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * (آل عمران: 77) إلى آخر الآية، وهذا نص في الوعيد ونص في أن الآية واردة في الفساق كورودها في الكفار، السابع عشر: عن أبي أمامة قال: قال عليه السلام: " من حلف على يمين فاجرة ليقطع بها مال امرئ مسلم بغير حقه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار، قيل يا رسول الله: وإن كان شيئا يسيرا، قال: وإن كان قضيبا من أراك ". الثامن عشر: عن سعيد بن جبير قال: كنت عند ابن عباس فأتاه رجل وقال: إني رجل معيشتي من هذه التصاوير، فقال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من صور فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيه الروح وليس بنافخ، ومن استمع إلى حديث قوم يفرون منه صب في أذنيه الآنك ومن يرى عينيه في المنام ما لم يره كلف أن يعقد بين شعرتين ". التاسع عشر: عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت، وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ". العشرون: عن ابن عمر في مناظرته مع عثمان حين أراد أن يوليه القضاء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من كان قاضيا يقضي
بالجهل كان من أهل النار، ومن كان قاضيا يقضي بالجور كان من أهل النار ". الحادي والعشرون: قال عليه السلام: " من ادعى أبا في الإسلام وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ". الثاني والعشرون: عن الحسن عن أبي بكرة قال عليه السلام: " من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة "، وإذا كان في قتل الكفار هكذا فما ظنك بقتل أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الثالث والعشرون: عن أبي سعيد الخدري قال: قال عليه السلام: " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " وإذا لم يلبسه في الآخرة وجب أن لا يكون من أهل الجنة لقوله تعالى: * (وفيها ما تشتهيه الأنفس) * (الزخرف: 71).
النوع الثاني: من العمومات الإخبارية الواردة لا بصيغة " من " وهي كثيرة جدا، الأول: عن نافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال عليه السلام: " لا يدخل الجنة مسكين متكبر ولا شيخ زان ولا منان على الله بعمله، ومن لم يدخل الجنة من المكلفين فهو من أهل النار بالإجماع ". الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه السلام: " ثلاثة يدخلون الجنة: الشهيد، وعبد نصح سيده وأحسن عبادة ربه، وعفيف متعفف، وثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله، وفقير فخور ". الثالث: عن أبي هريرة قال: قال عليه السلام: " إن الله خلق الرحم، فلما فرغ من خلقه قامت الرحم، فقالت هذا مقام العائذ من
151

القطيعة، قال: نعم ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فهو ذاك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فاقرؤوا إن شئتم "، فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، * (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) * (محمد: 33)، وهذا نص في وعيد قاطع الرحم وتفسير الآية، وفي حديث عبد الرحمن بن عوف قال الله تعالى: (أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته). وفي حديث أبي بكرة أنه عليه السلام قال: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ". الرابع: عن معاذ بن جبل قال: قال عليه السلام لبعض الحاضرين: " ما حق الله على العباد؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. قال: فما حقهم على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: أن يغفر لهم ولا يعذبهم ". ومعلوم أن المعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط فيلزم أن لا يغفر لهم إذا لم يعبدوه. الخامس: عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا اقتتل المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار، فقال: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه " رواه مسلم. السادس: عن أم سلمة قالت: قال عليه السلام: " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ". السابع: عن أبي سعيد الخدري قال: قال عليه السلام: " والذي نفسي بيده لا يبغض أهل البيت رجل إلا أدخله الله النار "، وإذا استحقوا النار ببعضهم فلأن يستحقوها بقتلهم أولى. الثامن: في حديث أبي هريرة: أنا خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام خيبر إلى أن كنا بوادي القرى، فبينما يحفظ رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم وقتله فقال الناس هنيئا له الجنة، قال رسول الله: " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم حنين من الغنائم لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ". فلما سمع الناس بذلك جاء رجل بشراك أو بشراكين إلى رسول الله فقال عليه السلام: شراك من نار أو شراكين من النار. التاسع: عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق السحر ". العاشر: عن أبي هريرة قال عليه السلام: " ما من عبد له مال لا يؤدي زكاته إلا جمع الله له يوم القيامة عليه صفائح من نار جهنم يكوي بها جبهته وظهره حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ". هذا مجموع استدلال المعتزلة بعمومات القرآن والأخبار. أجاب أصحابنا عنها من وجوه. أولها: أنا لا نسلم أن صيغة " من " في معرض الشرط للعموم، ولا نسلم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة باللام للعموم والذي يدل عليه أمور. الأول: أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللفظتين، كل من دخل داري أكرمته وبعض من دخل داري أكرمته، ويقال أيضا: كل الناس كذا، وبعض الناس كذا، ولو كانت لفظة " من " للشرط تفيد الاستغراق لكان إدخال لفظ الكل عليه
152

تكريرا وإدخال لفظ البعض عليه نقضا، وكذلك في لفظ الجمع المعرف، فثبت أن هذه الصيغ لا تفيد العموم. الثاني: وهو أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله، والمراد منها تارة الاستغراق وأخرى البعض، فإن أكثر عمومات القرآن مخصوصة، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أنه يفيد الاستغراق أو لا يفيد. الثالث: وهو أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها، لأنها تحصيل الحاصل محال فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا محالة، سلما أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية؟ الأول: ممنوع وباطل قطعا لأن من المعلوم بالضرورة أن الناس كثيرا ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل والجميع على سبيل المبالغة كقوله تعالى: * (وأوتيت من كل شيء) * (النمل: 23) فإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية لم يجز التمسك فيها بهذه العمومات، سلمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية ولكن لا بد من اشتراط أن لا يوجد شيء من المخصصات، فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام، فلم قلتم: إنه لم يوجد شيء من المخصصات؟ أقصى ما في الباب أن يقال: بحثنا فلم نجد شيئا من المخصصات لكنك تعلم أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ لمعنى الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات، وهذا الشرط غير معلوم كانت الدلالة موقوفة على شرط غير معلوم، فوجب أن لا تحصل الدلالة، ومما يؤكد هذا المقام قوله تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6) حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون، ثم إنا شاهدنا قوما منهم قد آمنوا فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين: إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى إلا أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون لأجلها أن مراد الله تعالى من هذا العموم هو الخصوص. وأما ما كان هناك فلم يجوز مثله ههنا؟ سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص، لكن آيات العفو مخصصة لها والرجحان معنا لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام والخاص، مقدم على العام لا محالة، سلمنا
أنه لم يوجد المخصص ولكن عمومات الوعيد معارضة بعمومات الوعد، ولا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه، الأول: أن الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد، والثاني: أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه فكان ترجيح عمومات الوعد أولى. الثالث: وهو أن الوعيد حق الله تعالى والوعد حق العبد، وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى، سلمنا أنه لم يوجد المعارض ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكفار، فلا تكون قاطعة في العمومات، فإن قيل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قلنا: هب أنه كذلك، ولكن لما رأينا كثيرا من الألفاظ العامة وردت في الأسباب الخاصة، والمراد تلك
153

الأسباب الخاصة فقط علمنا أن إفادتها للعموم لا يكون قويا والله أعلم.
أما الذين قطعوا بنفي العقاب عن أهل الكبائر فقد احتجوا بوجوه. الأول: قوله تعالى: * (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) * (النحل: 27) وقوله تعالى: * (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) * (طه: 48) دلت هذه الآية على أن ماهية الخزي والسوء والعذاب مختصة بالكافر، فوجب أن لا يحصل فرد من أفراد هذه الماهية لأحد سوى الكافرين. الثاني: قوله تعالى: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) * (الزمر: 53)، حكم تعالى بأنه يغفر كل الذنوب ولم يعتبر التوبة ولا غيرها، وهذا يفيد القطع بغفران كل الذنوب. الثالث: قوله تعالى: * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * (الرعد: 6) وكلمة " على " تفيد الحال كقولك: رأيت الملك على أكله، أي رأيته حال اشتغاله بالأكل، فكذا ههنا وجب أن يغفر لهم الله حال اشتغالهم بالظلم وحال الاشتغال بالظلم يستحيل حصول التوبة منهم، فعلمنا أنه يحصل الغفران بدون التوبة ومقتضى هذه الآية أن يغفر للكافر لقوله تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) إلا أنه ترك العمل به هناك فبقي معمولا به في الباقي. والفرق أن الكفر أعظم حالا من المعصية. الرابع: قوله تعالى: * (فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى) * (الليل: 14 - 16)، وكل نار فإنها متلظية لا محالة، فكأنه تعالى قال إن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي هو المكذب المتولي. الخامس: قوله تعالى: * (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير، فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير) * (الملك: 8، 9)، دلت الآية على أن جميع أهل النار مكذب لا يقال هذه الآية خاصة في الكفار، ألا ترى أنه يقول قبله: * (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير، إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ) *. وهذا يدل على أنها مخصوصة في بعض الكفار وهم الذين قالوا: * (بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء) * (الملك: 6 - 9)، وليس هذا من قول جميع الكفار لأنا نقول: دلالة ما قبل هذه الآية على الكفار لا تمنع من عموم ما بعدها. أما قوله: إن هذا ليس من قول الكفار قلنا: لا نسلم، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون: ما نزل الله من شيء على محمد، وإذا كان كذلك فقد صدق عليهم أنهم كانوا يقولون ما نزل الله من شيء. السادس: قوله تعالى: * (وهل يجازي إلا الكفور) * (سبأ: 17) وهذا بناء المبالغة فوجب أن يختص بالكفر الأصلي. السابع: أنه تعالى بعدما أخبر أن الناس صنفان: بيض الوجوه وسودهم قال: * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب) * (آل عمران: 106) فذكر أنهم الكفار. والثامن: أنه تعالى بعدما جعل الناس ثلاثة أصناف، السابقون وأصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، بين أن السابقين وأصحاب الميمنة في الجنة وأصحاب المشأمة في النار، ثم بين أنهم كفار بقوله: * (وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) * (الواقعة: 47). التاسع: إن صاحب الكبيرة لا يخزى وكل من أدخل النار فإنه يخزى فإذن صاحب الكبيرة لا يدخل النار وإنما قلنا إن صاحب الكبيرة
154

لا يخزى لأن صاحب الكبيرة مؤمن والمؤمن لا يخزى، وإنما قلنا: إنه مؤمن لما سبق بيانه في تفسير قوله: * (الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3) من أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإنما قلنا: إن المؤمن لا يخزى لوجوه. أحدها: قوله تعالى: * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * (التحريم: 8). وثانيها: قوله: * (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) * (النحل: 27). وثالثها: قوله تعالى: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * (آل عمران: 191) إلى أن حكى عنهم أنهم قالوا: * (ولا تخزنا يوم القيامة) * (آل عمران: 194)، ثم إنه تعالى قال: * (فاستجاب لهم ربهم) * (آل عمران: 195) ومعلوم أن الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض يدخل فيه العاصي والزاني وشارب الخمر، فلما حكى الله عنهم أنهم قالوا: * (ولا تخزنا يوم القيامة) * ثم بين أنه تعالى استجاب لهم في ذلك ثبت أنه تعالى لا يخزيهم، فثبت بما ذكرنا أنه تعالى لا يخزي عصاة أهل القبلة، وإنما قلنا: إن كل من أدخل النار فقد أخزي لقوله تعالى: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * (آل عمران: 192)، فثبت بمجموع هاتين المقدمتين أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار. العاشر: العمومات الكثيرة الواردة في الوعد نحو قوله: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * (البقرة: 4 - 5)، فحكم بالفلاح على كل من آمن، وقال: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (البقرة: 62). فقوله: * (وعمل صالحا) * نكرة في الإثبات فيكفي فيه الإثبات بعمل واحد وقال: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة) * (النساء: 124) وإنها كثيرة جدا، ولنا فيه رسالة مفردة من أرادها فليطالع تلك الرسالة. والجواب عن هذه الوجوه: أنها معارضة بعمومات الوعيد، والكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات يجيء في موضعه إن شاء الله تعالى، أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض وتوقفوا في البعض فقد احتجوا من القرآن بآيات. الحجة الأولى: الآيات الدالة على كون الله تعالى عفوا غفورا كقوله تعالى: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون) * (الشورى: 25) وقوله تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) * (الشورى: 30) وقوله: * (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) * (الشورى: 32) إلى قوله: * (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير) * (الشورى: 34) وأيضا أجمعت الأمة على أن الله يعفو عن عباده وأجمعوا على أن من جملة أسمائه العفو فنقول: العفو إما أن يكون عبارة عن إسقاط العقاب عمن
يحسن عقابه أو عمن لا يحسن عقابه، وهذا القسم الثاني باطل، لأن عقاب من لا يحسن عقابه قبيح، ومن ترك مثل هذا الفعل لا يقال: إنه عفا، ألا ترى أن الإنسان إذا لم يظلم أحدا لا يقال: أنه عفا عنه، إنما يقال له: عفا إذا كان له أن يعذبه فتركه ولهذا قال: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (البقرة: 237) ولأنه تعالى قال: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات) * (الشورى: 25)، فلو كان العفو عبارة عن إسقاط العقاب عن التائب لكان ذلك تكريرا
155

من غير فائدة، فعلمنا أن العفو عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه وذلك هو مذهبنا. الحجة الثانية: الآيات الدالة على كونه تعالى غافرا وغفورا وغفارا، قال تعالى: * (غافر الذنب وقابل التوب) * (غافر: 3) وقال: * (وربك الغفور ذو الرحمة) * (الكهف: 58) وقال: * (وإني لغفار لمن تاب) * (طه: 82) وقال: * (غفرانك ربنا وإليك المصير) * (البقرة: 285). والمغفرة ليست عبارة عن إسقاط العقاب عمن لا يحسن عقابه فوجب أن يكون ذلك عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه، وإنما قلنا: إن الوجه الأول باطل لأنه تعالى يذكر صفة المغفرة في معرض الامتنان على العباد ولو حملناه على الأول لم يبق هذا المعنى لأن ترك القبيح لا يكون منة على العبد بل كأنه أحسن إلى نفسه فإنه لو فعله لاستحق الذم واللوم والخروج عن حد الإلهية فهو بترك القبائح لا يستحق الثناء من العبد، ولما بطل ذلك تعين حمله على الوجه الثاني وهو المطلوب. فإن قيل: لم يجوز حمل العفو والمغفرة على تأخير العقاب من الدنيا إلى الآخرة والدليل على أن العفو مستعمل في تأخير العذاب عن الدنيا قوله تعالى في قصة اليهود: * (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك) * (البقرة: 52) والمراد ليس إسقاط العقاب، بل تأخيره إلى الآخرة وكذلك قوله تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) * أي ما يعجل الله تعالى من مصائب عقابه إما على جهة المحنة أو على جهة العقوبة المعجلة فبذنوبكم ولا يعجل المحنة والعقاب على كثير منها، وكذا قوله تعالى: * (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) * إلى قوله: * (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير) * أي لو شاء إهلاكهن لأهلكهن ولا يهلك على كثير من الذنوب. والجواب: العفو أصله من عفا أثره أي أزاله، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المسمى من العفو الإزالة لهذا قال تعالى: * (فمن عفي له من أخيه شيء) * (البقرة: 178) وليس المراد منه التأخير، بل الإزالة وكذا قوله: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم، بل الإسقاط المطلق، ومما يدل على أن العفو لا يتناول التأخير أن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال: إنه عفا عنه ولو أسقطه يقال: إنه عفا عنه فثبت أن العفو لا يمكن تفسيره بالتأخير. الحجة الثالثة: الآيات الدالة على كونه تعالى رحمانا رحيما والاستدلال بها أن رحمته سبحانه إما أن تظهر بالنسبة إلى المطيعين الذين يستحقون الثواب أو إلى العصاة الذين يستحقون العقاب، والأول: باطل لأن رحمته في حقهم إما أن تحصل لأنه تعالى أعطاهم الثواب الذي هو حقهم أو لأنه تفضل عليهم بما هو أزيد من حقهم. والأول: باطل لأن أداء الواجب لا يسمى رحمة، ألا ترى أن من كان له على إنسان مائة دينار فأخذها منه قهرا وتكليفا لا يقال في المعطي إنه أعطى الآخذ ذلك القدر رحمة، والثاني: باطل لأن المكلف صار بما أخذ من الثواب الذي هو حقه كالمستغني عن ذلك التفضل فتلك الزيادة تسمى زيادة في الإنعام ولا تسمى البتة رحمة، ألا ترى أن السلطان المعظم إذا كان في خدمته أمير له ثروة عظيمة ومملكة كاملة، ثم إن السلطان ضم إلى ماله من الملك مملكة أخرى، فإنه لا يقال: إن السلطان رحمه بل يقال: زاد في الإنعام عليه فكذا
156

ههنا. أما القسم الثاني: وهو أن رحمته إنما تظهر بالنسبة إلى من يستحق العقاب، فإما أن تكون رحمته لأنه تعالى ترك العذاب الزائد على العذاب المستحق، وهذا باطل لأن ترك ذلك واجب والواجب لا يسمى رحمة ولأنه يلزم أن يكون كل كافر وظالم رحيما علينا لأجل أنه ما ظلمنا، فبقي أنه إنما يكون رحيما لأنه ترك العقاب المستحق وذلك لا يتحقق في حق صاحب الصغيرة ولا في حق صاحب الكبيرة بعد التوبة، لأن ترك عقابهم واجب، فدل على أن رحمته إنما حصلت لأنه ترك عقاب صاحب الكبيرة قبل التوبة، فإن قيل: لم لا يجوز أن تكون رحمته لأجل أن الخلق والتكليف والرزق كلها تفضل، ولأنه تعالى يخفف عن عقاب صاحب الكبيرة؟ قلنا: أما الأول فإنه يفيد كونه رحيما في الدنيا فأين رحمته في الآخرة مع أن الأمة مجتمعة على أن رحمته في الآخرة أعظم من رحمته في الدنيا. وأما الثاني: فلأن عندكم التخفيف عن العقاب غير جائز هكذا قول المعتزلة الوعيدية، إذا ثبت حصول التخفيف بمقتضى هذه الآية ثبت جواز العفو لأن كل من قال بأحدهما قال بالآخر.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48)، فنقول: " لمن يشاء " لا يجوز أن يتناول صاحب الصغيرة ولا صاحب الكبيرة بعد التوبة، فوجب أن يكون المراد منه صاحب الكبيرة قبل التوبة، وإنما قلنا: لا يجوز حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة لوجوه. أحدها: أن قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) *، معناه أنه لا يغفره تفضلا لا أنه لا يغفره استحقاقا دل عليه العقل والسمع وإذا كان كذلك لزم أن يكون معنى قوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * أي ويتفضل بغفران ما دون ذلك الشرك حتى يكون النفي والإثبات متوجهين إلى شيء واحد، ألا ترى أنه لو قال: فلان لا يتفضل بمائة دينار ويعطي ما دونها لمن استحق لم يكن كلاما منتظما، ولما كان غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة مستحقا امتنع كونهما مرادين بالآية.
وثانيها: أنه لو كان قوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * أنه يغفر المستحقين كالتائبين وأصحاب الصغائر لم يبق لتمييز الشرك مما دون الشرك معنى لأنه تعالى كما يغفر ما دون الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق فكذلك يغفر الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق، فلا يبقى للفصل والتمييز فائدة، وثالثها: أن غفران التائبين وأصحاب الصغائر واجب والواجب غير معلق على المشيئة، لأن المعلق على المشيئة هو الذي إن شاء فاعله فعله يفعله وإن شاء تركه يتركه فالواجب هو الذي لا بد من فعله شاء أو أبى، والمغفرة المذكورة في الآية معلقة على المشيئة فلا يجوز أن تكون للمغفرة المذكورة في الآية مغفرة التائبين وأصحاب الصغائر، واعلم أن هذه الوجوه بأسرها مبينة على قول المعتزلة من أنه يجب غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة، وأما نحن فلا نقول ذلك. ورابعها: أن قوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * يفيد القطع بأنه يغفر كل ما سوى
157

الشرك وذلك يندرج فيه الصغيرة والكبيرة بعد التوبة وقبل التوبة إلا أن غفران كل هذه الثلاثة يحمل قسمين، لأنه يحتمل أن يغفر كلها لكل أحد وأن يغفر كلها للبعض دون البعض فقوله: * (ويغفر ما دون ذلك) * يدل على أنه تعالى يغفر كل هذه الثلاثة، ثم قوله: * (لمن يشاء) * يدل على أنه تعالى يغفر كل تلك الأشياء لا للكل بل للبعض. وهذا الوجه هو اللائق بأصولنا، فإن قيل: لا نسلم أن المغفرة تدل على أنه تعالى لا يعذب العصاة في الآخرة بيانه أن المغفرة إسقاط العقاب وإسقاط العقاب أعم من إسقاط العقاب دائما أو لا دائما واللفظ الموضوع بإزاء القدر المشترك لا إشعار له بكل واحد من ذينك القيدين، فإذن لفظ المغفرة لا دلالة فيه على الإسقاط الدائم. إذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك عن الدنيا ويؤخر عقوبة ما دون الشرك عن الدنيا لمن يشاء، لا يقال: كيف يصح هذا ونحن لا نرى مزيدا للكفار في عقاب الدنيا على المؤمنين لأنا نقول: تقدير الآية أن الله لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء ويؤخر عقاب ما دون الشرك في الدنيا لمن يشاء فحصل بذلك تخويف كلا الفريقين بتعجيل العقاب للكفار والفساق لتجويز كل واحد من هؤلاء أن يعجل عقابه، وإن كان لا يفعل ذلك بكثير منهم. سلمنا أن الغفران عبارة عن الإسقاط على سبيل الدوام فلم قلتم إنه لا يمكن حمله على مغفرة التائب ومغفرة صاحب الصغيرة؟ أما الوجوه الثلاثة الأول: فهي مبنية على أصول لا يقولون بها وهي وجوب مغفرة صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة، وأما الوجه الرابع: فلا نسلم أن قوله: * (ما دون ذلك) * يفيد العموم، والدليل عليه أنه يصح إدخال لفظ " كل " و " بعض " على البدل عليه مثل أن يقال: ويغفر كل ما دون ذلك. ويغفر بعض ما دون ذلك ولو كان قوله: * (ما دون ذلك) * يفيد العموم لما صح ذلك، سلمنا أنه للعموم ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة، وذلك لأن الآيات الواردة في الوعيد كل واحد منها مختص بنوع واحد من الكبائر مثل القتل والزنا، وهذه الآية متناولة لجميع المعاصي والخاص مقدم على العام، فآيات الوعيد يجب أن تكون مقدمة على هذه الآية. والجواب عن الأول: أنا إذا حملنا المغفرة على تأخير العقاب وجب بحكم الآية أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر من عقاب المؤمنين وإلا لم يكن في هذا التفصيل فائدة، ومعلوم أنه ليس كذلك بدليل قوله تعالى: * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) * (النساء: 48، 116) الآية. قوله: لم قلتم إن قوله: * (ما دون ذلك) * يفيد العموم؟ قلنا: لأن قوله: " ما " تفيد الإشارة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك، وهذه الماهية ماهية واحدة، وقد حكم قطعا بأنه يغفرها، ففي كل صورة تتحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران، فثبت أنه للعموم ولأنه يصح استثناء أي معصية كانت منها وعند الوعيدية صحة الاستثناء تدل على العموم، أما قوله: آيات الوعيد أخص من هذه الآية، قلنا: لكن هذه الآية أخص منها لأنها تفيد العفو عن البعض دون البعض
158

وما ذكرتموه يفيد الوعيد للكل، ولأن ترجيح آيات العفو أولى لكثرة ما جاء في القرآن والأخبار من الترغيب في العفو.
الحجة الخامسة: أن نتمسك بعمومات الوعد وهي كثيرة في القرآن، ثم نقول: لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح أو من التوفيق، والترجيح معناه من وجوه. أحدها: أن عمومات الوعد أكثر والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع، وقد دللنا على صحته في أصول الفقه، وثانيها: أن قوله تعالى: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * (هود: 114) يدل على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة على ما ثبت في أصول الفقه، فوجب بحكم هذا الإيماء أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة ترك العمل به في حق الحسنات الصادرة من الكفار، فإنها لا تذهب سيئاتهم فيبقى معمولا به في الباقي. وثالثها: قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) * (الأنعام: 165)، ثم إنه تعالى زاد على العشرة فقال: * (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) * ثم زاد عليه فقال: * (والله يضاعف لمن يشاء) * (البقرة: 261) وأما في جانب السيئة فقال: * (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) *، وهذا في غاية الدلالة على أن جانب الحسنة راجع عند الله تعالى على جانب السيئة. ورابعها: أنه تعالى قال في آية الوعد في سورة النساء: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا) * فقوله: * (وعد الله حقا) * (النساء: 122) إنما ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقا.
أما قوله تعالى: * (ما يبدل القول لدي) * (ق: 29) الآية، يتناول الوعد والوعيد. وخامسها: قوله تعالى: * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما، ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما) * (النساء: 110 - 111) والاستغفار طلب المغفرة وهو غير التوبة، فصرح ههنا بأنه سواء تاب أو لم يتب فإذا استغفر غفر الله له، ولم يقل ومن يكسب إثما فإنه يجد الله معذبا معاقبا، بل قال: * (فإنما يكسبه على نفسه) * فدل هذا على أن جانب الحسنة راجح ونظيره قوله تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) ولم يقل: وإن أسأتم أسأتم لها فكأنها تعالى أظهر إحسانه بأن أعاده مرتين وستر عليه إساءته بأن لم يذكرها إلا مرة واحدة، وكل ذلك يدل على أن جانب الحسنة راجح. وسادسها: أنا قد دللنا على أن قوله تعالى: * (ويغفر ما دون لمن يشاء) * (النساء: 48) لا يتناول إلا العفو عن صاحب الكبيرة ثم إنه تعالى أعاد هذه الآية في السورة الواحدة مرتين والإعادة لا تحسن إلا للتأكيد، ولم يذكر شيئا من آيات الوعيد على وجه الإعادة بلفظ واحد، لا في سورة واحدة ولا في سورتين، فدل على أن عناية الله بجانب الوعد على الحسنات والعفو عن السيئات أتم. وسابعها: أن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضت فلا بد من صرف التأويل إلى أحد الجانبين وصرف التأويل إلى الوعيد أحسن من صرفه إلى الوعد لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف وإهمال الوعد مستقبح في العرف، فكان صرف التأويل إلى الوعيد أولى من صرفه إلى الوعد. وثامنها:
159

أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافرا غفورا غفارا وأن له الغفران والمغفرة، وأنه تعالى رحيم كريم، وأن له العفو والإحسان والفضل والإفضال، والأخبار الدالة على هذه الأشياء قد بلغت مبلغ التواتر وكل ذلك مما يؤكد جانب الوعد وليس في القرآن ما يدل على أنه تعالى بعيد عن الرحمة والكرم والعفو، وكل ذلك يوجب رجحان جانب الوعد على جانب الوعيد. وتاسعها: أن هذا الإنسان أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر، بل أتى بالشر الذي هو في
طبقة القبائح ليس في الغاية والسيد الذي له عبد ثم أتى عبده بأعظم الطاعات وأتى بمعصية متوسطة فلو رجع المولى تلك المعصية المتوسطة على الطاعة العظيمة لعد ذلك السيد لئيما مؤذيا فكذا ههنا، فلما لم يجز ذلك على الله ثبت أن الرجحان لجانب الوعد. وعاشرها: قال يحيى بن معاذ الرازي: إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة! إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي وإلا فالكفر أعظم من الإيمان! فإن يكن كذلك فلا أقل من رجاء العفو. وهو كلام حسن، الحادي عشر: أنا قد بينا بالدليل أن قوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * لا يمكن حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة، فلو لم تحمله على الكبيرة قبل التوبة لزم تعطيل الآية، أما لو خصصنا عمومات الوعيد بمن يستحلها لم يلزم منه إلا تخصيص العموم، ومعلوم أن التخصيص أهون من التعطيل، قالت المعتزلة: ترجيح جانب الوعيد أولى من وجوه. أولها: هو أن الأمة اتفقت على أن الفاسق يلعن ويحد على سبيل التنكيل والعذاب وأنه أهل الخزي وذلك يدل على أنه مستحق للعقاب وإذا كان مستحقا للعقاب استحال أن يبقى في تلك الحالة مستحقا للثواب، وإذا ثبت هذا كان جانب الوعيد راجحا على جانب الوعد. أما بيان أنه يلعن، فالقرآن والإجماع، أما القرآن فقوله تعالى في قاتل المؤمن: * (وغضب الله عليه ولعنه) * (النساء: 93) وكذا قوله: * (ألا لعنة الله على الظالمين) * (الأعراف: 44) وأما الإجماع فظاهر، وأما أنه يحد على سبيل التنكيل فلقوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله) * (المائدة: 38) وأما أنه يحد على سبيل العذاب فلقوله تعالى في الزاني: * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) * (النور: 2)، وأما أنهم أهل الخزي فلقوله تعالى في قطاع الطريق: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * إلى قوله تعالى: * (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * (المائدة: 33). وإذا ثبت كون الفاسق موصوفا بهذه الصفات ثبت أنه مستحق للعذاب والذم، ومن كان مستحقا لهما دائما ومتى استحقهما دائما امتنع أن يبقى مستحقا للثواب، لأن الثواب والعقاب متنافيان، فالجمع بين استحقاقهما محال، وإذا لم يبق مستحقا للثواب ثبت أن جانب الوعيد راجح على جانب الوعد، وثانيها: أن آيات الوعد عامة وآيات الوعيد خاصة والخاص مقدم على العام. وثالثها: أن الناس جبلوا على الفساد والظلم فكانت الحاجة إلى الزجر أشد، فكان جانب الوعيد أولى، قلنا: الجواب عن الأول من
160

وجوه: الأول: كما وجدت آيات دالة على أنهم يلعنون ويعذبون في الدنيا بسبب معاصيهم كذلك أيضا وجدت آيات دالة على أنهم يعظمون ويكرمون في الدنيا بسبب إيمانهم. قال الله تعالى: * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) * (الأنعام: 54)، فليس ترجيح آيات الوعيد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يذمون ويعذبون في الدنيا بأولى من ترجيح آيات الوعد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يعظمون بسبب إيمانهم في الدنيا. الثاني: فكما أن آيات الوعد معارضة لآيات الوعيد في الآخرة فهي معارضة لآيات الوعيد والنكال في الدنيا، فلم كان ترجيح آيات وعيد الدنيا على آيات وعيد الآخرة أولى من العكس. الثالث: أنا أجمعنا على أن السارق وإن تاب إلا أنه تقطع يده لا نكالا ولكن امتحانا، فثبت أن قوله: * (جزاء بما كسبا نكالا) * (المائدة: 38) مشروط بعدم التوبة، فلم لا يجوز أيضا أن يكون مشروطا بعدم العفو. والرابع: أن الجزاء ما يجزي ويكفي وإذا كان كافيا وجب أن لا يجوز العقاب في الآخرة وإلا قدح ذلك في كونه مجزيا وكافيا، فثبت أن هذا ينافي العذاب في الآخرة، وإذا ثبت فساد قولهم في ترجيح جانب الوعيد فنقول: الآيتان الدالتان على الوعد والوعيد موجودتان فلا بد من التوفيق بينهما، فأما أن يقال: العبد يصل إليه الثواب ثم ينقل إلى دار العقاب وهو قول باطل بإجماع الأمة، أو يقال: العبد يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب. أما الترجيح الثاني فهو ضعيف لأن قوله: * (ويغفر ما دون ذلك) * لا يتناول الكفر وقوله: * (ومن يعص الله ورسوله) * (النساء: 14) (الأحزاب: 36) يتناول الكل فكان قولنا هو الخاص والله أعلم.
الحجة السادسة: أنا قد دللنا على أن تأثير شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في إسقاط العقاب وذلك يدل على مذهبنا في هذه المسألة.
الحجة السابعة: قوله تعالى: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * (الزمر: 53) وهو نص في المسألة. فإن قيل: هذه الآية إن دلت فإنما تدل على القطع بالمغفرة لكل العصاة، وأنتم لا تقولون بهذا المذهب، فما تدل الآية عليه لا تقولون به وما تقولون به لا تدل الآية عليه؟ سلمنا ذلك، لكن المراد بها أنه تعالى يغفر جميع الذنوب مع التوبة وحمل الآية على هذا المحمل أولى لوجهين: أحدهما: أنا إذا حملناها على هذا الوجه فقد حملناها على جميع الذنوب من غير تخصيص، الثاني: أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قوله تعالى: * (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب) * (الزمر: 54) والإنابة هي التوبة. فدل على أن التوبة شرط فيه، والجواب عن الأول. أن قوله: * (يغفر الذنوب جميعا) * وعد منه بأنه تعالى سيسقطها في المستقبل، ونحن نقطع بأنه سيفعل في المستقبل ذلك، فإنا نقطع بأنه تعالى سيخرج المؤمنين من النار لا محالة، فيكون هذا قطعا بالغفران لا محالة، وبهذا ثبت أنه لا حاجة في إجراء الآية على ظاهرها على قيد التوبة، فهذا تمام الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق. ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول: إن المعتزلة فسروا كون الخطيئة محبطة بكونها كبيرة محبطة لثواب فاعلها، والاعتراض عليه
161

من وجوه، الأول: أنه كما أن من شرط كون السيئة محيطة بالإنسان كونها كبيرة فكذلك شرط هذه الإحاطة عدم العفو، لأنه لو تحقق العفو لما تحققت إحاطة السيئة بالإنسان، فإذن لا يثبت كون السيئة محيطة بالإنسان إلا إذا ثبت عدم العفو، وهذا أول المسألة ويتوقف الاستدلال بهذه الآية على ثبوت المطلوب وهو باطل. الثاني: أنا لا نفسر إحاطة الخطيئة بكونها كبيرة، بل نفسرها بأن يكون ظاهره وباطنه موصوفا بالمعصية، وذلك إنما يتحقق في حق الكافر الذي يكون عاصيا لله بقلبه ولسانه وجوارحه، فأما المسلم الذي يكون مطيعا لله بقلبه ولسانه ويكون عاصيا لله تعالى ببعض أعضائه دون البعض فههنا لا تتحق إحاطة الخطيئة بالعبد، ولا شك أن تفسير الإحاطة بما ذكرناه أولى، لأن الجسم إذا مس بعض أجزاء جسم آخر دون بعض لا يقال: إنه محيط به، وعند هذا يظهر أنه لا تتحقق إحاطة الخطيئة بالعبد إلا إذا كان كافرا. إذا ثبت هذا فنقول قوله: * (فأولئك أصحاب النار) * يقتضي أن أصحاب النار ليسوا إلا هم وذلك يقتضي أن لا يكون صاحب الكبيرة من أهل النار، الثالث:
أن قوله تعالى: * (فأولئك أصحاب النار) * يقتضي كونهم في النار في الحال وذلك باطل، فوجب حمله على أنهم يستحقون النار. ونحن نقول بموجبه: لكن لا نزاع في أنه تعالى هل يعفو عن هذا الحق وهذا أول المسألة، ولنختم الكلام في هذه الآية بقاعدة فقهية: وهي أن الشرط ههنا أمران، أحدهما: اكتساب السيئة، والثاني: إحاطة تلك السيئة بالعبد والجزاء المعلق على وجود الشرطين لا يوجد عند حصل أحدهما. وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو إعتاق أنه لا يحنث بوجود أحدهما والله أعلم.
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) *
اعلم أنه سبحانه وتعالى ما ذكر في القرآن آية في الوعيد إلا وذكر بجنبها آية في الوعد، وذلك لفوائد: أحدها: ليظهر بذلك عدله سبحانه، لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرين على الإيمان، وثانيها: أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عليه الصلاة والسلام: " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا "، وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق، وثالثها: أنه يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كمال حكمته فيصير ذلك سببا للعرفان، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان لأنه تعالى قال: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) * فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكرارا
162

أجاب القاضي بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة، إلا أن قوله: آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلا واحدا من أفعال الإيمان، فلهذا حسن أن يقول: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) *. والجواب: أن فعل الماضي يدل على حصول المصدر في زمان مضى والإيمان هو المصدر، فلو دل ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله: آمن دليلا على صدور كل تلك الأعمال منه والله أعلم.
المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة لأنا نتكلم فيمن أتى بالإيمان وبالأعمال الصالحة، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ولم يتب عنها، فهذا الشخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت، ومن صدق عليه ذلك صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات وإذا صدق عليه ذلك وجب اندراجه تحت قوله: * (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) *، فإن قيل قوله تعالى: * (وعملوا الصالحات) * لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع الصالحات ومن جملة الصالحات التوبة، فإذا لم يأت بها لم يكن آتيا بالصالحات، فلا يندرج تحت الآية. قلنا: قد بينا أنه قبل الإتيان بالكبيرة صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت وإذا صدق عليه ذلك فقد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت وإذا صدق عليه ذلك فقد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات، لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد، بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في كل الأوقات، لكن قولنا: آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا: إنه كذلك في كل الأوقات أو في بعض الأوقات، والمعتبر في الآية هو القدر المشترك، فثبت أنه مندرج تحت حكم الوعد. بقي قولهم: إن الفاسق أحبط عقاب معصيته ثواب طاعته فيكون الترجيح لجانب الوعيد إلا أن الكلام عليه قد تقدم.
المسألة الثالثة: احتج الجبائي بهذه الآية على أن من يدخل الجنة لا يدخلها تفضلا، لأن قوله: * (أولئك أصحاب الجنة) * للحصر، فدل على أنه ليس للجنة أصحاب إلا هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قلنا: لم لا يجوز أن يكون المراد أنهم هم الذين يستحقونها فمن أعطى الجنة تفضلا لم يدخل تحت هذا الحكم والله أعلم.
* (وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرءيل لا تعبدون إلا الله وبالولدين إحسانا وذى القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) *
163

اعلم أن هذا نوع آخر من أنواع النعم التي خصهم الله بها، وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم وهو الجنة، والموصل إلى النعمة نعمة، فهذا التكليف لا محالة من النعم، ثم إنه تعالى بين ههنا أنه كلفهم بأشياء: التكليف الأول: قوله تعالى: * (لا تعبدون إلا الله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " يعبدون " بالياء والباقون بالتاء، ووجه الياء أنهم غيب أخبر عنهم، ووجه التاء أنهم كانوا مخاطبين والاختيار التاء، قال أبو عمرو: ألا ترى أنه جل ذكره قال: * (وقولوا للناس حسنا) * فدلت المخاطبة على التاء.
المسألة الثانية: اختلفوا في موضع " يعبدون " من الأعراب على خمسة أقوال:
القول الأول: قال الكسائي: رفعه على أن لا يعبدوا كأنه قيل: أخذنا ميثاقهم بأن لا يعبدوا إلا أنه لما أسقطت " أن " رفع الفعل كما قال طرفة:
ألا أيهذا اللاثمي أحضر الوغى * وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد أن أحضر ولذلك عطف عليه " أن " وأجاز هذا الوجه الأخفش والفراء والزجاج وقطرب وعلي بن عيسى وأبو مسلم.
القول الثاني: موضعه رفع على أنه جواب القسم، كأنه قيل: وإذا أقسمنا عليهم لا يعبدون، وأجاز هذا الوجه المبرد والكسائي والفراء والزجاج وهو أحد قولي الأخفش.
القول الثالث: قول قطرب: أنه يكون في موضع الحال فيكون موضعه نصبا كأنه قال: أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله.
القول الرابع: قول الفراء أن موضع " لا تعبدون " على النهي إلا أنه جاء على لفظ الخبر كقوله تعالى: * (لا تضار والدة بولدها) * (البقرة: 233) بالرفع والمعنى على النهي، والذي يؤكد كونه نهيا أمور. أحدها: قوله: * (أقيموا) *، وثانيها؛ أنه ينصره قراءة عبد الله وأبي: * (لا تعبدوا) *. وثالثها: أن الإخبار في
معنى الأمر والنهي آكد وأبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه.
القول الخامس: التقدير أن لا تعبدوا تكون " أن " مع الفعل بدلا عن الميثاق، كأنه قيل: أخذنا ميثاق بني إسرائيل بتوحيدهم.
المسألة الثالثة: هذا الميثاق يدل على تمام ما لا بد منه في الدين لأنه تعالى لما أمر بعبادة الله تعالى ونهى عن عبادة غيره، ولا شك أن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد والبراءة عن الصاحبة والأولاد، ومسبوق أيضا بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة، فقوله: * (لا تعبدون إلا الله) * يتضمن كل ما اشتمل عليه علم الكلام وعلم الفقه والأحكام لأن العبادة لا تتأتى إلا معها.
164

التكليف الثاني: قوله تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يقال: بم يتصل الباء في قوله تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) * وعلام انتصب؟ قلنا فيه ثلاثة أقوال: الأول: قال الزجاج: انتصب على معنى أحسنوا بالوالدين إحسانا. والثاني: قيل على معنى وصيناهم بالوالدين إحسانا لأن اتصال الباء به أحسن على هذا الوجه ولو كان على الأول لكان. وإلى الوالدين كأنه قيل: وأحسنوا إلى الوالدين. الثالث: قيل: بل هو على الخبر المعطوف على المعنى الأول يعني أن تعبدوا وتحسنوا.
المسألة الثانية: إنما أردف عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه. أحدها: أن نعمة الله تعالى على العبد أعظم، فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعم النعم، وذلك لأن الوالدين هما الأصل والسبب في كون الولد ووجوده كما أنهما منعمان عليه بالتربية، وأما غير الوالدين فلا يصدر عنه الإنعام بأصل الوجود، بل بالتربية فقط، فثبت أن إنعامهما أعظم وجوه الإنعام بعد إنعام الله تعالى. وثانيها: أن الله سبحانه هو المؤثر في وجود الإنسان في الحقيقة والوالدان هما المؤثران في وجوده بحسب العرف الظاهر، فلما ذكر المؤثر الحقيقي أردفه بالمؤثر بحسب العرف الظاهر. وثالثها: أن الله تعالى لا يطلب بإنعامه على العبد عوضا البتة بل المقصود إنما هو محض الإنعام والوالدان كذلك، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضا ماليا ولا ثوابا، فإن من ينكر الميعاد يحسن إلى ولده ويربيه، فمن هذا الوجه أشبه إنعامهما إنعام الله تعالى. الرابع: أن الله تعالى لا يمل من الإنعام على العبد ولو أتى العبد بأعظم الجرائم، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه وروادف كرمه، وكذا الوالدان لا يملان الولد ولا يقطعان عنه مواد منحهما وكرمهما، وإن كان الولد مسيئا إلى الوالدين. الخامس: كما أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان، فكذا الحق سبحانه وتعالى متصرف في طاعة العبد فيصونها عن الضياع ثم إنه سبحانه يجعل أعماله التي لا تبقى كالشئ الباقي أبد الآباد كما قال: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) * (البقرة: 261). السادس: أن نعمة الله وإن كانت أعظم من نعمة الوالدين ولكن نعمة الله معلومة بالاستدلال ونعمة الوالدين معلومة بالضرورة، إلا أنها قليلة بالنسبة إلى نعم الله فاعتدلا من هذه الجهة والرجحان لنعم الله فلا جرم جعلنا نعم الوالدين كالتالية لنعم الله تعالى.
المسألة الثالثة: اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين، ويدل عليه وجوه. أحدها: أن قوله في هذه الآية: * (وبالوالدين إحسانا) * غير مقيد بكونهما مؤمنين أم لا، ولأنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف مشعر بعلية الوصف، فدلت هذه الآية على أن الأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما والدين وذلك يقتضي العموم، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) *. وثانيها: قوله تعالى: * (فلا تقل لهما
165

أف ولا تنهرهما) * الآية، وهذا نهاية المبالغة في المنع من إياذئهما، ثم إنه تعالى قال في آخر الآية: * (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) * (الإسراء: 23، 24) فصرح ببيان السبب في وجوب هذا التعظيم. وثالثها: أن الله تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه كيف تلطف في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله: * (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * (مريم: 42) ثم إن أباه كان يؤذيه ويذكر الجواب الغليظ وهو عليه السلام كان يتحمل ذلك، وإذا ثبت ذلك في حق إبراهيم عليه السلام ثبت مثله في حق هذه الأمة لقوله تعالى: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * (النحل: 123).
المسألة الرابعة: اعلم أن الإحسان إليهما هو ألا يؤذيهما البتة ويوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجان إليه، فيدخل فيه دعوتهما إلى الإيمان إن كانا كافرين وأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين.
التكليف الثالث: قوله تعالى: * (وذي القربى) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الشافعي رضي الله عنه: لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المحرم وغير المحرم، ولا يدخل الأب والابن لأنهما لا يعرفان بالقريب، ويدخل الأحفاد والأجداد، وقيل: لا يدخل الأصول والفروع وقيل بدخول الكل. وههنا دقيقة، وهي أن العرب يحفظون الأجداد العالية فيتسع نسلهم وكلهم أقارب، فلو ترقينا إلى الجد العالي وحسبنا أولاده كثروا، فلهذا قال الشافعي رضي الله عنه: يرتقي إلى أقرب جد ينتسب هو إليه ويعرف به وإن كان كافرا، وذكر الأصحاب في مثاله: أنه لو أوصى لأقارب الشافعي رضي الله عنه فإنا نصرفه إلى بني شافع دون بني المطلب وبني عبد مناف وإن كانوا أقارب، لأن الشافعي ينتسب في المشهور إلى شافع دون عبد مناف. قال الشيخ الغزالي: وهذا في زمان الشافعي، أما في زماننا فلا ينصرف إلا إلى أولاد الشافعي رضي الله عنه ولا يرتقي إلى بني شافع لأنه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا، أما قرابة الأم فإنها تدخل في وصية العجم ولا تدخل في وصية العرب على الأظهر، لأنهم لا يعدون ذلك قرابة، أما لو قال لأرحام فلان دخل فيه قرابة الأب والأم.
المسألة الثانية: اعلم أن حق ذي القربى كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين والاتصال بالوالدين مقدم على الاتصال بذي القربى، فلهذا أخر الله ذكره عن الوالدين، وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إن الرحم سجنة من الرحمن فإذا كان يوم القيامة يقول: أي رب إني ظلمت
، إني أسيء إلي، إني قطعت. قال فيجيبها ربها: ألا ترضين أني أقطع من قطعك وأصل من وصلك، ثم قرأ * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) *، والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة، فلو لم يحصل شيء من ذلك لكان ذلك أشق على القلب وأبلغ في الإيلام والإيحاش والضرورة، وكلما كان أقوى كان دفعه أوجب، فلهذا وجبت رعاية حقوق الأقارب.
166

التكليف الرابع: قوله تعالى: * (واليتامى) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اليتيم الذي مات أبوه حتى يبلغ الحلم وجمعه أيتام ويتامى، كقولهم: نديم وندامى، ولا يقال لمن ماتت أمه إنه يتيم. قال الزجاج: هذا في الإنسان، أما في غير الإنسان فيتمه من قبل أمه.
المسألة الثانية: اليتيم كالتالي لرعاية حقوق الأقارب وذلك لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به، يحتاج إلى من ينفعه والإنسان قلما يرغب في صحبة مثل هذا، وإذا كان هذا التكليف شاقا على النفس لا جرم كانت درجته عظيمة في الدين.
التكليف الخامس: قوله تعالى: * (والمساكين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: " والمساكين " واحدها مسكين، أخذ من السكون كأن الفقر قد سكنه وهو أشد فقرا من الفقير عند أكثر أهل اللغة وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه واحتجوا بقوله تعالى: * (أو مسكينا ذا متربة) * (البلد: 16) وعند الشافعي رضي الله عنه: الفقير أسوأ حالا، لأن الفقير اشتقاقه من فقار الظهر كأن فقاره انكسر لشدة حاجته وهو قول ابن الأنباري. واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) * (الكهف: 79) جعلهم مساكين مع أن السفينة كانت ملكا لهم.
المسألة الثانية؛ إنما تأخرت درجتهم عن اليتامى لأن المسكين قد يكون بحيث ينتفع به في الاستخدام فكان الميل إلى مخالطته أكثر من الميل إلى مخالطة اليتامى، ولأن المسكين أيضا يمكنه الاشتغال بتعهد نفسه ومصالح معيشته، واليتيم ليس كذلك فلا جرم قدم الله ذكر اليتيم على المسكين.
المسألة الثالثة: الإحسان إلى ذي القربى واليتامى، لا بد وأن يكون مغايرا للزكاة لأن العطف يقتضي التغاير.
التكليف السادس: قوله تعالى: * (وقولوا للناس حسنا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: (حسنا) بفتح الحاء والسين على معنى الوصف للقول، كأنه قال: قولوا للناس قولا حسنا، والباقون بضم الحاء وسكون السين، واستشهدوا بقوله تعالى: * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) * (العنكبوت: 8) وبقوله: * (ثم بدل حسنا بعد سوء) * (النحل: 11) وفيه أوجه، الأول: قال الأخفش: معناه قولا ذا حسن. الثاني: يجوز أن يكون حسنا في موضع حسنا كما تقول: رجل عدل. الثالث: أن يكون معنى قوله: * (وقولوا للناس حسنا) * أي ليحسن قولكم نصب على مصدر الفعل الذي دل عليه الكلام الأول. الرابع: حسنا أي قول هو حسن في نفسه لإفراط حسنه.
المسألة الثانية: يقال: لم خوطبوا بقولوا بعد الإخبار؟ والجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه على طريقة الالتفات كقوله تعالى: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) * (يونس: 22). وثانيها: فيه حذف أي قلنا لهم قولوا. وثالثها: الميثاق لا يكون إلا كلاما كأنه قيل: قلت لا تعبدوا وقولوا.
167

المسألة الثالثة: اختلفوا في أن المخاطب بقوله: * (وقولوا للناس حسنا) * من هو؟ فيحتمل أن يقال: إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله وعلى أن يقولوا للناس حسنا ويحتمل أن يقال: إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله ثم قال لموسى وأمته: قولوا للناس حسنا والكل ممكن بحسب اللفظ وإن كان الأول أقرب حتى تكون القصة قصة واحدة مشتملة على محاسن العادات ومكارم الأخلاق من كل الوجوه.
المسألة الرابعة: منهم من قال: إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين، أما مع الكفار والفساق فلا، والدليل عليه وجهان، الأول: أنه يجب لعنهم وذمهم والمحاربة معهم، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسنا، والثاني: قوله تعالى: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * (النساء: 148) فأباح الجهر بالسوء لمن ظلم، ثم إن القائلين بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخا بآية القتال، ومنهم من قال: إنه دخله التخصيص، وعلى هذا التقدير يحصل ههنا احتمالان، أحدهما: أن يكون التخصيص واقعا بحسب المخاطب وهو أن يكون المراد وقولوا للمؤمنين حسنا. والثاني: أن يقع بحسب المخاطب وهو أن يكون المراد قولوا للناس حسنا في الدعاء إلى الله تعالى. وفي الأمر المعروف، فعلى الوجه الأول: يتطرق التخصيص إلى المخاطب دون الخطاب وعلى الثاني: يتطرق إلى الخطاب دون المخاطب، وزعم أبو جعفر محمد بن علي الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره وأنه لا حاجة إلى التخصيص، وهذا هو الأقوى والدليل عليه أن موسى وهارون مع جلال منصبهما أمرا بالرفق واللين مع فرعون، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم مأمور بالرفق وترك الغلظة وكذلك قوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * (النحل: 125) وقال تعالى: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) * (الأنعام: 108) وقوله: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72) وقوله: * (وأعرض عن الجاهلين) * (الأعراف: 199) أما الذي تمسكوا به أولا من أنه يجب لعنهم وذمهم فلا يمكنهم القول الحسن معهم، قلنا: أولا لا نسلم أنه يجب لعنهم وسبهم والدليل عليه قوله تعالى: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) * (الأنعام: 108) سلمنا أنه يجب لعنهم لكن لا نسلم أن اللعن ليس قولا حسنا بيانه: أن القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يشتهونه ويحبونه، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به ونحن إذا لعناهم وذممناهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك المعنى نافعا في حقهم فكان ذلك اللعن قولا حسنا ونافعا، كما أن تغليظ الوالد في القول قد يكون حسنا ونافعا من حيث إنه يرتدع به عن الفعل القبيح، سلمنا أن لعنهم ليس قولا حسنا ولكن لا نسلم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن، بيانه أنه لا منافاة بين كون الشخص مستحقا
للتعظيم بسبب إحسانه إلينا ومستحقا للتحقير بسبب كفره، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يكون وجوب القول الحسن معهم، وأما الذي تمسكوا به ثانيا وهو قوله تعالى: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * (النساء: 148) فالجواب لم لا يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم
168

ليحترز الناس عنه؟ وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: " اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس ".
المسألة الخامسة: قال أهل التحقيق: كلام الناس مع الناس إما أن يكون في الأمور الدينية أو في الأمور الدنيوية، فإن كان في الأمور الدينية فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان وهو مع الكفار أو في الدعوة إلى الطاعة وهو مع الفاسق، أما الدعوة إلى الإيمان فلا بد وأن تكون بالقول الحسن كما قال تعالى لموسى وهارون: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتوه على الله تعالى، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) * (آل عمران: 159) الآية، وأما دعوة الفساق فالقول الحسن فيه معتبر، قال تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * (النحل: 125) وقال: * (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) * (فصلت: 34) وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى: * (وقولوا للناس حسنا) *.
المسألة السادسة: ظاهر الآية يدل على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجبا عليهم في دينهم، وكذا القول الحسن للناس كان واجبا عليهم، لأن أخذ الميثاق يدل على الوجوب، وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب ولأنه تعالى ذمهم على التولي عنه وذلك يفيد الوجوب والأمر في شرعنا أيضا، كذلك من بعض الوجوه، وروي عن ابن عباس أنه قال: إن الزكاة نسخت كل حق، وهذا ضعيف لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة وشاهدناه بهذه الصفة فإنه يلزمنا التصدق عليه، وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزكاة كان التصدق واجبا ولا شك في وجوب مكالمة الناس بطريق لا يتضررون به.
التكليف السابع والثامن: قوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * وقد تقدم تفسيرهما.
واعلم أنه تعالى لما شرح أنه أخذ الميثاق عليهم في هذه التكاليف الثمانية، بين أنه مع إنعامه عليهم بأخذ الميثاق عليهم بكل ذلك ليقبلوا فتحصل لهم المنزلة العظمى عند ربهم، تولوا وأساءوا إلى أنفسهم ولم يتلقوا نعم ربهم بالقبول مع توكيد الدلائل والمواثيق عليهم، وذلك يزيد في قبح ما هم عليه من الإعراض والتولي، لأن الإقدام على مخالفة الله تعالى بعد أن بلغ الغاية في البيان والتوثق يكون أعظم من المخالفة مع الجهالة، واختلفوا فيمن المراد بقوله: * (ثم توليتم) * على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه من تقدم من بني إسرائيل، وثانيها: أنه خطاب لمن كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود، يعني أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم، وثالثها: المراد بقوله: * (ثم توليتم) * من تقدم بقوله: * (وأنتم معرضون) * ومن تأخر. أما وجه القول الأول أنه إذا كان الكلام الأول في المتقدمين منهم فظاهر الخطاب يقتضي أن آخره فيهم أيضا إلا بدليل يوجب
169

الانصراف عن
هذا الظاهر، يبين ذلك أنه تعالى ساق الكلام الأول سياقة إظهار النعم بإقامة الحجج عليهم، ثم بين من بعد أنهم تولوا إلا قليلا منهم فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه. أما وجه القول الثاني أن قوله: * (ثم توليتم) * خطاب مشافهة وهو بالحاضرين أليق وما تقدم حكاية، وهو بسلفهم الغائبين أليق، فكأنه تعالى بين أن تلك العهود والمواثيق كما لزمهم التمسك بها فذلك هو لازم لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من حال محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته، فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم وأنتم مع ذلك قد توليتم وأعرضتم عن ذلك إلا قليلا منكم وهم الذين آمنوا وأسلموا، فهذا محتمل، وأما وجه القول الثالث فهو أنه تعالى لما بين أنه أنعم عليهم بتلك النعم، ثم إنهم تولوا عنها كان ذلك دالا على نهاية قبح أفعالهم ويكون قوله: * (وأنتم معرضون) * مختصا بمن في زمان محمد صلى الله عليه وسلم أي أنكم بمنزلة المتقدمين الذين تولوا بعد أخذ هذه المواثيق فإنكم بعد اطلاعكم على دلائل صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعرضتم عنه وكفرتم به، فكنتم في هذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين في ذلك التولي والله أعلم.
* (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) *
اعلم أن هذه الآية تدل على نوع آخر من نعم الله عليهم وهو أنه تعالى كلفهم هذا التكليف وأنهم أقروا بصحته ثم خالفوا العهد فيه.
وأما قوله: * (وإذ أخذنا ميثاقكم) * ففيه وجوه. أحدها: أنه خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيها: أنه خطاب مع أسلافهم، وتقديره وإذ أخذنا ميثاق آبائكم. وثالثها: أنه خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف ومعنى: * (أخذنا ميثاقكم) * أمرناكم وأكدنا الأمر وقبلتم وأقررتم بلزومه ووجوبه.
أما قوله تعالى: * (لا تسفكون دماءكم) * ففيه إشكال، وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه، وإذا كان كذلك فلا فائدة في النهي عنه. والجواب عنه من أوجه، أحدها: أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور والصلاح أو كثير ممن صعب عليه الزمان، وثقل عليه أمر من الأمور، فيقتل نفسه، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صح كونه مكلفا به، وثانيها: المراد لا يقتل بعضكم بعضا، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به نسبا ودينا وهو كقوله تعالى: * (فاقتلوا أنفسكم) * (البقرة: 54)
170

وثالثها: أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه، ورابعها: لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم، وخامسها: لا تسفكون دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا بهم فتكونون مهلكين لأنفسكم.
أما قوله تعالى: * (ولا تخرجون أنفسكم) * ففيه وجهان، الأول: لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم، الثاني: المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضا من ديارهم لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة والشدة حتى يقرب من الهلاك.
أما قوله تعالى: * (ثم أقررتم وأنتم تشهدون) * ففيه وجوه، أحدها: وهو الأقوى، أي: ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها كقولك فلان مقر على نفسه بكذا أي شاهد عليها، وثانيها: اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك لأنه كان شائعا فيما بينهم مشهورا. وثالثها: وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق، ورابعها: الإقرار الذي هو الرضاء بالأمر والصبر عليه كأن يقال: فلان لا يقر على الضيم فيكون المعنى أنه تعالى يأمركم بذلك ورضيتم به فأقمتم عليه وشهدتم بوجوبه وصحته، فإن قيل: لم قال: * (أقررتم وأنتم تشهدون) * والمعنى واحد، قلنا فيه ثلاثة أقوال: الأول: أقررتم يعني أسلافكم وأنتم تشهدون الآن يعني على إقرارهم، الثاني: أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى وأنتم بعد ذلك تشهدون، الثالث: أنه للتأكيد.
* (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزآء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحيوة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) *
171

أما قوله تعالى: * (ثم أنتم هؤلاء) * ففيه إشكال لأن قوله: * (أنتم) * للحاضرين و * (هؤلاء) * للغائبين فكيف يكون الحاضر نفس الغائب، وجوابه من وجوه، أحدها: تقديره ثم أنتم يا هؤلاء، وثانيها: تقديره ثم أنتم أعني هؤلاء الحاضرين، وثالثها: أنه بمعنى الذي وصلته " تقتلون " وموضع تقتلون رفع إذا كان خبرا ولا موضع له إذا كان صلة. قال الزجاج: ومثله في الصلة قوله تعالى: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * (طه: 17) يعني وما تلك التي بيمينك، ورابعها: هؤلاء تأكيد لأنتم، والخبر " تقتلون "، وأما قوله تعالى: * (تقتلون أنفسكم) * فقد ذكرنا فيه الوجوه، وأصحها أن المراد يقتل بعضكم بعضا، وقتل البعض للبعض قد يقال فيه إنه قتل للنفس إذ كان الكل بمنزلة النفس الواحدة وبينا المراد بالإخراج من الديار ما هو.
أما قوله تعالى: * (تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي " تظاهرون " بتخفيف الظاء، والباقون بالتشديد فوجه التخفيف الحذف لإحدى التاءين كقوله: * (ولا تعاونوا) * ووجه التشديد إدغام التاء في الظاء، كقوله تعالى: * (أثاقلتم) * (التوبة: 38) والحذف أخف والادغام أدل على الأصل.
المسألة الثانية: اعلم أن التظاهر هو التعاون، ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضا مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة بين الله تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان.
المسألة الثالثة: الآية تدل على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة، فإن قيل: أليس أن الله تعالى لما أقدر الظالم على الظلم وأزال العوائق والموانع وسلط عليه الشهوة الداعية إلى الظلم كان قد أعانه على الظلم، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحة لوجب أن لا يوجد ذلك من الله تعالى، والجواب: أنه تعالى وإن مكن الظالم من ذلك فقد زجره عن الظلم بالتهديد والزجر، بخلاف المعين للظالم على ظلمه فإنه يرغبه فيه ويحسنه في عينه ويدعوه إليه فظهر الفرق.
المسألة الرابعة: الآية لا تدل على أن قدر ذنب المعين مثل قدر ذنب المباشر، بل الدليل دل على أنه دونه لأن الإعانة لو حصلت بدون المباشرة لما أثرت في حصول الظلم ولو حصلت المباشرة بدون الإعانة لحصل الضرر والظلم، فعلمنا أن المباشرة أدخل في الحرمة من الإعانة.
أما قوله تعالى: * (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وعاصم والكسائي: (أسارى تفادوهم) بالألف فيهما، وقرأ حمزة وحده بغير ألف فيهما والباقون: " أسارى " بالألف و " تفدوهم " بغير ألف و " الأسرى " جمع أسير كجريح وجرحى، وفي أسارى قولان: أحدهما: أنه جمع أسرى كسكرى وسكارى، والثاني: جمع أسير، وفرق أبو عمرو بين الأسرى والأسارى، وقال: الأسارى الذين في وثاق، والأسرى الذين في اليد، كأنه يذهب إلى أن أسارى أشد مبالغة، وأنكر ثعلب ذلك، وقال
172

علي ابن عيسى: الاختيار أسارى بالألف لأن عليه أكثر الأئمة ولأنه أدل على معنى الجمع إذ كان يقال بكثرة فيه، وهو قليل في الواحد نحو شكاعى ولأنها لغة أهل الحجاز.
المسألة الثانية: تفدوهم وتفادوهم لغتان مشهورتان تفدوهم من الفداء وهو العوض من الشيء صيانة له، يقال: فداه فدية وتفادوهم من المفاداة.
المسألة الثالثة: جمهور المفسرين قالوا: المراد من قوله: * (تفادوهم) * وصف لهم بما هو طاعة وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ليعودوا إلى كفرهم، وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك، والمراد أنكم مع القتل والإخراج إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال، وإن كان ذلك محرما عليكم ثم عنده تخرجونه من الأسر، قال أبو مسلم والمفسرون: إنما أتوا من جهة قوله تعالى: * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) *، وهذا ضعيف لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليهم، والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض، وكلا القولين يحتمل لفظ المفادة لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فأداه والأخذ منه للتخليص يوصف أيضا بذلك، إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب، لأن عود قوله: * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) * إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: الذين أخرجوا والذين فودوا فريق واحد، وذلك أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج، فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج وقريظة مع الأوس. فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فعيرتهم العرب وقالوا:
كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم فيقولون: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا، وقال آخرون: ليس الذين أخرجوهم فودوا ولكنهم قوم آخرون فعابهم الله عليه.
أما قوله تعالى: * (وهو محرم عليكم إخراجهم) * ففي قوله: * (وهو) * وجهان، الأول: أنه ضمير القصة والشأن كأنه قيل والقصة محرم عليكم إخراجهم، الثاني: أنه كناية عن الإخراج أعيد ذكره توكيدا لأنه فصل بينهما بكلام فموضعه على هذا رفع كأنه قيل وإخراجهم محرم عليكم، ثم أعيد ذكر إخراجهم مبينا للأول.
أما قوله: * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) * فقد اختلف العلماء فيه على وجهين. أحدهما: إخراجهم كفر، وفداؤهم إيمان، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وابن جريج، ولم يذمهم على الفداء، وإنما ذمهم على المناقضة إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض، وقد تكون المناقضة أدخل في الذم لا يقال هب أن ذلك الإخراج معصية، فلم سماها كفرا مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر، لأنا نقول لعلهم صرحوا أن ذلك الإخراج
173

غير واجب
مع أن صريح التوراة كان دالا على وجوبه. وثالثهما: المراد منه التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوة موسى عليه السلام مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن الحجة في أمرهما على سواء يجري مجرى طريقة السلف منهم في أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض والكل في الميثاق سواء.
أما قوله تعالى: * (إلا خزي في الحياة الدنيا) * فأصل الخزي الذل والمقت. يقال: أخزاه الله، إذا مقته وأبعده، وقيل: أصله الاستحياء، فإذا قيل: أخزاه الله كأنه قيل: أوقعه موقعا يستحيا منه، وبالجملة فالمراد منه الذم العظيم، واختلفوا في هذا الخزي على وجوه. أحدها: قال الحسن: المراد الجزية والصغار، وهو ضعيف لأنه لا دلالة على أن الجزية كانت ثابتة في شريعتهم، بل إن حملنا الآية على الذين كانوا في زمان محمد صلى الله عليه وسلم صح هذا الوجه، لأن من جملة الخزي الواقع بأهل الذمة أخذ الجزية منهم. وثانيها: إخراج بني النضير من ديارهم، وقتل بني قريظة وسبي ذراريهم، وهذا إنما يصح لو حملنا الآية على الحاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، وثالثها: وهو الأولى أن المراد منه الذم العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض والتنكير في قوله: " خزي " يدل على أن الذم واقع في النهاية العظمى.
أما قوله: * (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) * ففيه سؤال وهو أن عذاب الدهرية الذين ينكرون الصانع يجب أن يكون أشد من عذاب اليهود، فكيف قال في حق اليهود: * (يردون إلى أشد العذاب) * والجواب: المراد منه أنه أشد من الخزي الحاصل في الدنيا، فلفظ " الأشد " وإن كان مطلقا إلا أن المراد أشد من هذه الجهة.
أما قوله تعالى: * (وما الله بغافل عما تعملون) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وعاصم بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبية، وجه الأول: البناء على أول الكلام، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، ووجه الثاني: البناء على أنه آخر الكلام واختيار الخطاب لأن عليه الأكثر ولأنه أدل على المعنى لتغليب الخطاب على الغيبة إذا اجتمعا.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (وما الله بغافل عما تعملون) * تهديد شديد وزجر عظيم عن المعصية وبشارة عظيمة على الطاعة، لأن الغفلة إذا كانت ممتنعة عليه سبحانه مع أنه أقدر القادرين وصلت الحقوق لا محالة إلى مستحقيها.
* (أولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا بالاخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) *
174

اعلم أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا ولذات الآخرة ممتنع غير ممكن والله سبحانه مكن المكلف من تحصيل أيهما شاء وأراد، فإذا اشتغل بتحصيل أحدهما فقد فوت الآخر على نفسه، فجعل الله ما أعرض اليهود عنه من الإيمان بما في كتبهم وما حصل في أيديهم من الكفر ولذات الدنيا كالبيع والشراء، وذلك من الله تعالى في نهاية الذم لهم لأن المغبون في البيع والشراء في الدنيا مذموم حتى يوصف بأنه تغير في عقله فبأن يذم مشتري متاع الدنيا بالآخرة أولى.
أما قوله تعالى: * (فلا تخفف عنهم العذاب) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في دخول الفاء في قوله: * (فلا يخفف) * قولان، أحدهما: العطف على * (اشتروا) * والقول الآخر بمعنى جواب الأمر، كقولك أولئك الضلال انتبه فلا خير فيهم والأول أوجه لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار.
المسألة الثانية: بعضهم حمل التخفيف على أنه لا ينقطع بل يدوم، لأنه لو انقطع لكان قد خف، وحمله آخرون على شدته لا على دوامه والأولى أن يقال: إن العذاب قد يخف بالانقطاع وقد يخف بالقلة في كل وقت أو في بعض الأوقات، فإذا وصف تعالى عذابهم بأنه لا يخفف اقتضى ذلك نفي جميع ما ذكرناه.
أما قوله تعالى: * (ولا هم ينصرون) * ففيه وجهان: الأكثرون حملوه على نفي النصرة في الآخرة يعني أن أحدا لا يدفع هذا العذاب عنهم ولا هم ينصرون على من يريد عذابهم ومنهم من حمله على نفي النصرة في الدنيا، والأول أولى لأنه تعالى جعل ذلك جزاء على صنيعهم، ولذلك قال: * (فلا يخفف عنهم العذاب) * وهذه الصفة لا تليق إلا بالآخرة، لأن عذاب الدنيا وإن حصل فيصير كالحدود التي تقام على المقصر ولأن الكفار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات.
* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جآءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) *
اعلم أن هذا نوع آخر من النعم التي أفاضها الله عليهم ثم إنهم قابلوه بالكفر والأفعال القبيحة، وذلك لأنه تعالى لما وصف حال اليهود من قبل بأنهم يخالفون أمر الله تعالى في قتل
175

أنفسهم وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وبين أنهم بهذا الصنيع اشتروا الدنيا بالآخرة، زاد في تبكيتهم بما ذكره في هذه الآية. أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله إياها جملة واحدة، روي عن ابن عباس أن التوراة لما نزلت أمر الله تعالى موسى بحملها فلم يطق ذلك، فبعث الله لكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها فخففها الله على موسى فحملها.
وأما قوله تعالى: * (وقفينا من بعده الرسل) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قفينا، أتبعنا مأخوذ من الشيء يأتي في قفاه الشيء، أي بعد نحو ذنبه من الذنب، ونظيره قوله: * (ثم أرسلنا رسلنا تترى) * (المؤمنون: 44).
المسألة الثانية: روي أن بعد موسى عليه السلام إلى أيام عيسى عليه السلام كانت الرسل تتواتر ويظهر بعضهم في أثر بعض، والشريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام، فإنه صلوات الله عليه جاء بشريعة مجددة، واستدلوا على صحة ذلك بقوله تعالى: * (وقفينا من بعده بالرسل) * فإنه يقتضي أنهم على حد واحد في الشريعة يتبع بعضهم بعضا فيها، قال القاضي: إن الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شريعة الأول حتى لا يؤدي إلى تلك الشريعة بعينها من غير زيادة ولا نقصان، مع أن تلك الشريعة محفوظة يمكن معرفتها بالتواتر عن الأول، لأن الرسول إذا كان هذا حاله لم يمكن أن يعلم من جهة إلا ما كان قد علم من قبل أو يمكن أن يعلم من قبل، فكما لا يجوز أن يبعث الله تعالى رسولا لا شريعة معه أصلا، تبين العقليات لهذه العلة، فكذا القول في مسألتنا: فثبت أنه لا بد في الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى عليه السلام أن يكونوا قد أتوا بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظة أو محيية لبعض ما اندرس من الشريعة الأولى. والجواب: لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل تنفيذ تلك الشريعة السالفة على الأمة أو نوع آخر من الألطاف لا يعلمها إلا الله، وبالجملة، فالقاضي ما أتى في هذه الدلالة إلا بإعادة الدعوى، فلم قال: إنه لا يجوز بعث هؤلاء الرسل إلا لشريعة جديدة أو لإحياء شريعة اندرست وهل النزاع وقع إلا في هذا؟
المسألة الثالثة: هؤلاء الرسل هم: يوشع، وشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان وشعياء، وأرمياء، وعزيز، وحزقيل، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم.
أما قوله تعالى: * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: السبب في أن الله تعالى أجمل ذكر الرسول ثم فصل ذكر عيسى لأن من قبله من الرسل جاءوا بشريعة موسى فكانوا متبعين له، وليس كذلك عيسى، لأن شرعة نسخ أكثر شرع موسى عليه السلام.
المسألة الثانية: قيل عيسى بالسريانية أيشوع، ومريم بمعنى الخادم، وقيل: مريم بالعبرانية من النساء كزير من الرجال، وبه فسر قول رؤبة:
176

قلت لزير لم تصله مريمة (c)
المسألة الثالثة: في البينات وجوه. أحدها: المعجزات من إحياء الموتى ونحوها عن ابن عباس، وثانيها: أنها الإنجيل. وثالثها: وهو الأقوى أن الكل يدخل فيه، لأن المعجز يبين صحة نبوته كما أن الإنجيل يبين كيفية شريعته فلا يكون للتخصيص معنى.
أما قوله تعالى تعالى: * (وأيدناه بروح القدس) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء وأيدناه قرأ ابن كثير " القدس " بالتخفيف والباقون بالتثقيل وهما لغتان مثل رعب ورعب.
المسألة الثانية: اختلفوا في الروح على وجوه. أحدها: أنه جبريل عليه السلام وإنما سمي بذلك لوجوه. الأول: أن المراد من روح القدس الروح المقدسة كما يقال: حاتم الجود ورجل صدق فوصف جبريل بذلك تشريفا له وبيانا لعلو مرتبته عند الله تعالى. الثاني: سمي جبريل عليه السلام بذلك لأنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح فإنه هو المتولي لإنزال الوحي إلى الأنبياء والمكلفون في ذلك يحيون في دينهم. الثالث: أن الغالب عليه الروحانية وكذلك سائر الملائكة غير أن روحانيته أتم وأكمل. الرابع: سمي جبريل عليه السلام روحا، لأنه ما ضمته أصلاب الفحول وأرحام الأمهات، وثانيها: المراد بروح القدس الإنجيل، كما قال في القرآن: * (روحا من أمرنا) * (الشورى: 52) وسمي به لأن الدين يحيا به ومصالح الدنيا تنتظم لأجله. وثالثها: أنه الاسم الذي كان يحيي به عليه السلام الموتى، عن ابن عباس وسعيد بن جبير، ورابعها: أنه الروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى فنسب روح عيسى عليه السلام إلى نفسه تعظيما له وتشريفا، كما يقال: بيت الله وناقة الله، عن الربيع، وعلى هذاب المراد به الروح الذي يحيا به الإنسان.
واعلم أن اطلاق اسم الروح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى الاسم الأعظم مجاز لأن الروح هو الريح المتردد في مخلوق الإنسان ومنافذه ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك إلا أنه سمي كل واحد من هذه الثلاثة بالروح على سبيل التشبيه من حيث أن الروح كما أنه سبب لحياة الرجل، فكذلك جبريل عليه السلام سبب لحياة القلوب بالعلوم، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها، والاسم الأعظم سبب لأن يتوسل به إلى تحصيل الأغراض إلا أن المشابهة بين مسمى الروح وبين جبريل أتم لوجوه. أحدها: لأن جبريل عليه السلام مخلوق من هواء نورا، لطيف فكانت المشابهة أتم، فكان إطلاق اسم الروح على جبريل أولى. وثانيها: أن هذه التسمية فيه أظهر منها فيما عداه، وثالثها: أن قوله تعالى: * (وأيدناه بروح القدس) * يعني قويناه، والمراد من هذه التقوية الإعانة وإسناد الإعانة إلى جبريل عليه السلام حقيقة وإسنادها إلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز، فكان ذلك أولى، ورابعها: وهو أن اختصاص عيسى بجبريل عليهما السلام من آكد وجوه الاختصاص بحيث لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم السلام مثل ذلك لأنه هو الذي بشر مريم
177

بولادتها وإنما ولد عيسى عليه السلام من نفخة جبريل عليه السلام وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء. أما
قوله تعالى: * (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم) * فهو نهاية الذم لهم، لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم الرسول بخلاف ما يهوون كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه. وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الرفعة في الدنيا وطلبهم لذاتها والترؤس على عامتهم وأخذ أموالهم بغير حق، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك فيكذبونهم لأجل ذلك ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم.
أما قوله تعالى: * (ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) * فلقائل أن يقول: هلا قيل وفريقا قتلتم؟ وجوابه من وجهين: أحدهما: أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب. الثاني: أن يراد فريقا تقتلونهم بعد لأنكم حاولتم قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة. وقال عليه السلام عند موته: " ما زالت أكلة خيبر تعاودني. فهذا أوان انقطاع أبهري " والله أعلم.
* (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون) *
أما الغلف ففيه ثلاثة أوجه. أحدها: أنه جمع أغلف والأغلف هو ما في غلاف أي قلوبنا مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها، وثانيها: روى الأصم عن بعضهم أن قلوبهم غلف بالعلم ومملوءة بالحكمة فلا حاجة معها بهم إلى شرع محمد عليه السلام، وثالثها: غلف أي كالغلاف الخالي لا شيء فيه مما يدل على صحة قولك. أما المعتزلة فإنهم اختاروا الوجه الأول، ثم قالوا: هذه الآية تدل على أنه ليس في قلوب الكفار ما لا يمكنهم معه الإيمان، لا غلاف ولا كن ولا سد على ما يقوله المجبرة لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صادقين في هذا القول، فكان لا يكذبهم الله بقوله: * (بل لعنهم الله بكفرهم) * لأنه تعالى إنما يذم الكاذب المبطل لا الصادق المحق المعذور، قالوا: وهذا يدل على أن معنى قوله: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) * (الكهف: 57) وقوله: * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) * وقوله: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا) * (يس: 8، 9) ليس المراد كونهم ممنوعين من الإيمان، بل المراد إما منع الألطاف أو تشبيه حالهم في إصرارهم على الكفر بمنزلة المجبور على الكفر. قالوا: ونظير ذم الله تعالى اليهود على هذه المقالة ذمه تعالى الكافرين على مثل هذه المقالة وهو قوله تعالى: * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) * (فصلت: 5) ولو كان الأمر على ما يقوله المجبرة لكان هؤلاء القوم صادقين في ذلك، ولو كانوا
178

صادقين لما ذمهم بل كان الذي حكاه عنهم إظهارا لعذرهم ومسقطا للومهم.
واعلم أنا بينا في تفسير الغلف وجوها ثلاثة فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل. سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلت إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم؟
أما قوله تعالى: * (بل لعنهم الله بكفرهم) * ففيه أجوبة. أحدها: هذا يدل على أنه تعالى لعنهم بسبب كفرهم، أما لم قلتم بأنه إنما لعنهم بسبب هذه المقالة فلعله تعالى حكى عنهم قولا ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم. وثانيها: المراد من قوله: * (وقالوا قلوبنا غلف) * أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار يعني ليست قلوبنا في أغلاف ولا في أغطية، بل قوية وخواطرنا منيرة ثم إنا بهذه الخواطر والأفهام تأملنا في دلائلك يا محمد، فلم يجد منها شيئا قويا. فلما ذكروا هذا التصلف الكاذب لا جرم لعنهم الله على كفرهم الحاصل بسبب هذا القول، وثالثها؛ لعل قلوبهم ما كانت في الأغطية بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قال تعالى: * (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) * (الأنعام: 20) (البقرة: 146) إلا أنهم أنكروا تلك المعرفة وادعوا أن قلوبهم غلف وغير واقفة على ذلك فكان كفرهم كفر العناد فلا جرم لعنهم الله على ذلك الكفر.
أما قوله تعالى: * (فقليلا ما يؤمنون) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسيره ثلاثة أوجه. أحدها: أن القليل صفة المؤمن، أي لا يؤمن منهم إلا القليل عن قتادة والأصم وأبي مسلم. وثانيها: أنه صفة الإيمان، أي لا يؤمنون إلا بقليل مما كلفوا به لأنهم كانوا يؤمنون بالله، إلا أنهم كانوا يكفرن بالرسل. وثالثها: معناه لا يؤمنون أصلا لا قليلا ولا كثيرا كما يقال: قليلا ما يفعل بمعنى لا يفعل البتة. قال الكسائي: تقول العرب: مررنا بأرض قليلا ما تنبت، يريدون ولا تنبت شيئا. والوجه الأول أولى لأنه نظير قوله: * (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) * (النساء: 155) ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها ذكر القوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم.
المسألة الثانية: في انتصاب " قليلا " وجوه. أحدها: فإيمانا قليلا ما يؤمنون " وما " مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب، وثانيها: انتصب بنزع الخافض أي بقليل يؤمنون. وثالثها: فصاروا قليلا ما يؤمنون.
* (ولما جآءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جآءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) *
179

اعلم أن هذا نوع من قبائح اليهود. أما قوله تعالى: * (كتاب) * فقد اتفقوا على أن هذا الكتاب هو القرآن لأن قوله تعالى: * (مصدق لما معهم) * يدل على أن هذا الكتاب غير ما معهم وما ذاك إلا القرآن. أما قوله تعالى: * (مصدق لما معهم) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لا شبهة في أن القرآن مصدق لما معهم في أمر يتعلق بتكليفهم بصديق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة واللائق بذلك هو كونه موافقا لما معهم في دلالة نبوته إذ قد عرفوا أنه ليس بموافق لما معهم في سائر الشرائع وعرفنا أنه لم يرد الموافقة في باب أدلة القرآن، لأن جميع كتب الله كذلك ولما بطل الكل ثبت أن المراد موافقته لكتبهم فيما يختص بالنبوة وما يدل عليها من العلامات والنعوت والصفات.
المسألة الثانية: قرىء: * (مصدقا) * على الحال، فإن قيل: كيف جاز نصبها عن النكرة؟ قلنا: إذا وصفت النكرة تخصصت فصح انتصاب الحال عنها وقد وصف
* (كتاب) * بقوله: * (من عند الله) *.
المسألة الثالثة: في جواب " لما " ثلاثة أوجه، أحدها: أنه محذوف كقوله تعالى: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) * (الرعد: 31) فإن جوابه محذوف وهو. لكان هذا القرآن، عن الأخفش والزجاج، وثانيها: أنه على التكرير لطول الكلام والجواب: كفروا به كقوله تعالى: * (أيعدكم أنكم) * إلى قوله تعالى: * (أنكم مخرجون) * (المؤمنون: 35) عن المبرد، وثالثها: أن تكون الفاء جوابا للما الأولى * (وكفروا به) * جوابا للما الثانية وهو كقوله: * (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم) * (البقرة: 38) (طه: 133) الآية عن الفراء.
أما قوله تعالى: * (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) * ففي سبب النزول وجوه. أحدها: أن اليهود من قبل مبعث محمد عليه السلام ونزول القرآن كانوا يستفتحون، أي يسألون الفتح والنصرة وكانوا يقولون: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي. وثانيها؛ كانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال: هذا نبي قد أظل زمانه ينصرنا عليكم، عن ابن عباس. وثالثها: كانوا يسألون العرب عن مولده ويصفونه بأنه نبي من صفته كذا وكذا، ويتفحصون عنه على الذين كفروا أي على مشركي العرب، عن أبي مسلم. ورابعها: نزلت في بني قريظة والنضير، كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل المبعث. عن ابن عباس وقتادة والسدي. وخامسها: نزلت في أحبار اليهود كانوا إذا قرؤوا وذكروا محمدا في التوراة وأنه مبعوث وأنه من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث.
أما قوله تعالى: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: تدل الآية على أنهم كانوا عارفين بنبوته وفيه سؤال: وهو أن التوراة
نقلت نقلا متواترا، فأما أن يقال: إنه حصل فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل التفصيل، أعني بيان أن
180

الشخص الموصوف بالصورة الفلانية والسيرة الفلانية سيظهره في السنة الفلانية في المكان الفلاني، أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه، فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شهادة التوراة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا، فكيف قال الله تعالى: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) *؟ والجواب: أن الوصف المذكور في التوراة كان وصفا إجماليا وأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف، بل بظهور المعجزات صارت تلك الأوصاف كالمؤكدة، فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار.
المسألة الثانية: يحتمل أن يقال: كفروا به لوجوه. أحدها: أنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل وكانوا يرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه، فلما بعث الله تعالى محمدا من العرب من نسل إسماعيل صلوات الله عليه، عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب وخالفوا طريقهم الأول. وثانيها: اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم وأموالهم فأبوا وأصروا على الإنكار. وثالثها: لعلهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصة فلا جرم كفروا به.
المسألة الثالثة: أنه تعالى كفرهم بعد ما بين كونهم عالمين بنبوته، وهذا يدل على أن الكفر ليس هو الجهل بالله تعالى فقط. أما قوله تعالى: * (فلعنة الله على الكافرين) * فالمراد الإبعاد من خيرات الآخرة، لأن المبعد من خيرات الدنيا لا يكون ملعونا. فإن قيل: أليس أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة: * (وقولوا للناس حسنا) * (البقرة: 83) وقال: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) * (الأنعام: 108) قلنا: العام قد يتطرق إليه التخصيص على أنا بينا فيما قبل أن لعن من يستحق اللعن من القول الحسن والله أعلم.
* (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) *
اعلم أن البحث عن حقيقة بئسما لا يحصل إلا في مسائل:
181

المسألة الأولى: أصل نعم وبئس نعم وبئس بفتح الأول وكسر الثاني كقولنا: " علم " إلا أن ما كان ثانيه حرف حلق وهو مكسور يجوز فيه أربع لغات، الأول: على الأصل أعني بفتح الأول وكسر الثاني. والثاني: اتباع الأول للثاني وهو أن يكون بكسر النون والعين، وكذا يقال: فخذ بكسر الفاء والخاء، وهم وإن كانوا يفرون من الجمع بين الكسرتين إلا أنهم جوزوه ههنا لكون الحرف الحلقي مستتبعا لما يجاوره. الثالث: إسكان الحرف الحلقي المكسور وترك ما قبله على ما كان فيقال: نعم وبئس بفتح الأول وإسكان الثاني كما يقال: فخذ بفتح الفاء وإسكان الخاء. الرابع: أن يسكن الحرف الحلقي وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال: نعم بكسر النون وإسكان العين كما يقال: فخذ بكسر الفاء وإسكان الخاء.
واعلم أن هذا التغيير الأخير وإن كان في حد الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين إلا أنهم جعلوه لازما لهما لخروجهما عما وضعت له الأفعال الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان الماضي وصيرورتهما كلمتي مدح وذم ويراد بهما المبالغة في المدح والذم، ليدل هذا التغيير اللازم في اللفظ على التغيير عن الأصل في المعنى فيقولون: نعم الرجل زيد ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشعر كما أنشد المبرد:
ففداء لبني قيس على * ما أصاب الناس من شر وضر
ما أقلت قدماي إنهم * نعم الساعون في الأمر المبر
المسألة الثانية: أنهما فعلان من نعم ينعم وبئس ويبأس والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما، فيقال: نعمت وبئست، والفراء يجعلهما بمنزلة الأسماء ويحتج بقول حسان ابن ثابت رضي الله عنه.
ألسنا بنعم الجار يؤلف بيته * من الناس ذا مال كثير ومعدما
وبما روي أن أعرابيا بشر بمولودة فقيل له: نعم المولود مولودتك، فقال: والله ما هي بنعم المولودة والبصريون يجيبون عنه بأن ذلك بطريق الحكاية.
المسألة الثالثة: اعلم أن " نعم وبئس " أصلان للصلاح والرداءة ويكون فاعلهما اسما يستغرق الجنس إما مظهرا وإما مضمرا، والمظهر على وجهين، الأول: نحو قولك، نعم الرجل زيد لا تريد رجلا دون الرجل وإنما تقصد الرجل على الإطلاق. والثاني: نحو قولك نعم غلام الرجل زيد، أما قوله: فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم * وصاحب الركب عثمان بن عفانا
فنادر وقيل: كان ذلك لأجل أن قوله: " وصاحب الركب " قد يدل على المقصود إذ المراد واحد فإذا أتى في الركب بالألف واللام فكأنه قد أتى به في القوم، وأما المضمر فكقولك: نعم رجلا زيد، الأصل: نعم الرجل رجلا زيد ثم ترك ذكر الأول لأن النكرة المنصوبة تدل عليه
182

ورجلا نصب على التمييز، مثله في قولك: عشرون رجلا والمميز لا يكون إلا نكرة، ألا ترى أن أحدا لا يقول عشرون الدرهم ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا: نعم الرجل بالنصب لكان نقضا للغرض، إذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا وقالوا نعم الرجل وكفوا أنفسهم مؤنة الإضمار وإنما أضمروا الفاعل قصدا للاختصار، إذ كان " نعم رجلا " يدل على الجنس الذي فضل عليه.
المسألة الرابعة: إذا قلت نعم الرجل زيد فهو على وجهين: أحدهما: أن يكون مبتدأ مؤخرا كأنه قيل: زيد نعم الرجل، أخرت زيدا والنية به التقديم، كما تقول: مررت به المسكين تريد المسكين مررت به، فأما الراجع إلى المبتدأ فإن الرجل لما كان شائعا ينتظم فيه الجنس كان زيد داخلا تحته فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه، والوجه الآخر: أن يكون زيد في قولك: نعم الرجل زيد خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قيل: نعم الرجل، قيل: من هذا الذي أثنى عليه؟ فقيل: زيد أي هو زيد.
المسألة الخامسة: المخصوص بالمدح والذم لا يكون إلا من جنس المذكور بعد نعم وبئس كزيد من الرجال وإذا كان كذلك كان المضاف إلى القوم في قوله تعالى: * (ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا) * (الأعراف: 177) محذوفا وتقديره ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، وإذ قد لخصنا هذه المسائل فلنرجع إلى التفسير.
أما قوله تعالى: * (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: " ما " نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس الشيء شيئا اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم " أن يكفروا ".
المسألة الثانية: في الشراء ههنا قولان، أحدهما: أنه بمعنى البيع، وبيانه أنه تعالى لما مكن المكلف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة والكفر الذي يؤدي به إلى النار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار تملك سلعة على سلعة فإذا اختار الإيمان الذي فيه فوزه ونجاته. قيل: نعم ما اشترى، ولما كان الغرض بالبيع والشراء هو إبدال ملك يملك صلح أن يوصف كل واحد منهما بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما فصح تأويل قوله تعالى: * (بئسما اشتروا به أنفسهم) * بأن المراد باعوا أنفسهم بكفرهم لأن الذي حصلوه على منافع أنفسهم لما كان هو الكفر صاروا بائعين أنفسهم بذلك، الوجه الثاني: وهو الأصح عندي أن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله يأتي بأعمال يظن أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنها تخلصهم من العقاب، وتوصلهم إلى الثواب فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم بها، فذمهم الله تعالى، وقال: * (بئسما اشتروا به أنفسهم) * وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول، ثم إنه تعالى بين تفسير
183

ما اشتروا به أنفسهم بقوله
تعالى: * (أن يكفروا بما أنزل الله) * ولا شبهة أن المراد بذلك كفرهم بالقرآن لأن الخطاب في اليهود وكانوا مؤمنين بغيره، ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر بما أنزل الله فقال: * (بغيا) * وأشار بذلك إلى غرضهم بالكفر كما يقال يعادي فلان فلانا حسدا تنبيها بذلك على غرضه ولولا هذا القول لجوزنا أن يكفروا جهلا لا بغيا.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الحسد حرام. ولما كان البغي قد يكون لوجوه شتى بين تعالى غرضهم من هذا البغي بقوله: * (أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) * والقصة لا تليق إلا بما حكيناه من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد.
أما قوله تعالى: * (فباؤ بغضب على غضب) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير الغضبين وجوه، أحدها: أنه لا بد من إثبات سببين للغضبين. أحدهما: ما تقدم وهو تكذيبهم عيسى عليه السلام وما أنزل عليه والآخر تكذيبهم محمد عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه فصار ذلك دخولا في غضب بعد غضب وسخط بعد سخط من قبله تعالى لأجل أنهم دخلوا في سبب بعد سبب، وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة، الثاني: ليس المراد إثبات غضبين فقط بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم: * (عزيز ابن الله) * (التوبة: 30). * (يد الله مغلولة) * (المائدة: 64). * (إن الله فقير ونحن أغنياء) * (آل عمران: 181) وغير ذلك من أنواع كفرهم، وهو قول عطاء وعبيد بن عمير، الثالث: أن المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحدا إلا أنه عظم، وهو قول أبي مسلم. الرابع: الأول بعبادتهم العجل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجحدهم نبوته عن السدي.
المسألة الثانية: الغضب عبارة عن التغير الذي يعرض للإنسان في مزاجه عند غليان دم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه وذلك محال في حق الله تعالى، فهو محمول على إرادته لمن عصاه الإضرار من جهة اللعن والأمر بذلك.
المسألة الثالثة: أنه يصح وصفه تعالى بالغضب وأن غضبه يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته من العذاب فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة كغضبه على من كفر بخصال كثيرة.
أما قوله تعالى: * (وللكافرين عذاب مهين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وللكافرين عذاب مهين) * له مزية على قوله ولهم عذاب مهين لأن العبارة الأولى يدخل فيها أولئك الكفار وغيرهم والعبارة الثانية لا يدخل فيها إلا هم.
المسألة الثانية: العذاب في الحقيقة لا يكون مهينا لأن معنى ذلك أنه أهان غيره وذلك مما لا يتأتى إلا فيما يعقل، فالله تعالى هو المهين للمعذبين بالعذاب الكثير إلا أن الإهانة لما
184

حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه، فإن قيل: العذاب لا يكون إلا مع الإهانة فما الفائدة في هذا الوصف؟ قلنا: كون العذاب مقرونا بالإهانة أمر لا بد فيه من الدليل، فالله تعالى ذكر ذلك ليكون دليلا عليه.
المسألة الثالثة: قال قوم: قوله تعالى: * (وللكافرين عذاب مهين) * يدل على أنه لا عذاب إلا للكافرين، ثم بعد تقرير هذه المقدمة احتج بهذه الآية فريقان، أحدهما: الخوارج قالوا: ثبت بسائر الآيات أن الفاسق يعذب، وثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر فيلزم أن يقال الفاسق كافر. وثانيها: المرجئة قالوا: ثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر وثبت أن الفاسق ليس بكافر، فوجب القطع بأنه لا يعذب وفساد هذين القولين لا يخفى.
* (وإذا قيل لهم ءامنوا بمآ أنزل الله قالوا نؤمن بمآ أنزل علينا ويكفرون بما ورآءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبيآء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) *
اعلم أن هذا النوع أيضا من قبائح أفعالهم: * (وإذا قيل لهم) * يعني به اليهود: * (آمنوا بما أنزل الله) * أي بكل ما أنزل الله، والقائلون بالعموم احتجوا بهذه الآية على أن لفظة " ما " بمعنى الذي تفيد العموم، قالوا: لأن الله تعالى أمرهم بأن يؤمنوا بما أنزل الله فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك ولولا أن لفظة " ما " تفيد العموم لما حسن هذا الذم، ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أمروا بذلك: * (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) * يعني بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم يكفرون بما وراءه وهو الإنجيل والقرآن. وأورده هذه الحكاية عنهم على سبيل الذم لهم وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم آمنوا بما أنزل الله إلا ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلا من عند الله وإلا كان ذلك تكليف ما لا يطاق وإذا دل الدليل على كونه منزلا من عند الله وجب الإيمان به، فثبت أن الإيمان ببعض ما أنزل الله دون البعض تناقض.
أما قوله تعالى: * (وهو الحق مصدقا لما معهم) * فهو كالإشارة إلى ما يدل على وجوب الإيمان
185

بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبيانه من وجهين: الأول: ما دل عليه قوله تعالى: * (وهو الحق) * أنه لما ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات التي ظهرت عليه، إنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى وأنه أمر المكلفين بالإيمان به وكان الإيمان به واجبا لا محالة، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعض الأنبياء وبعض الكتب محال. الثاني: ما دل عليه قوله: * (مصدقا لما معهم) * وتقريره من وجهين، الأول: أن محمدا صلوات الله وسلامه عليه لم يتعلم علما ولا استفاد من أستاذ، فلما أتى بالحكايات والقصص موافقة لما في التوراة من غير تفاوت أصلا علمنا أنه عليه الصلاة والسلام إنما استفادها من الوحي والتنزيل. الثاني: أن القرآن يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة وجب اشتمال التوراة على الإخبار عن نبوته، وإلا لم يكن القرآن مصدقا للتوراة بل مكذبا لها وإذا كانت التوراة مشتملة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وهم قد اعترفوا بوجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
أما قوله تعالى: * (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه سبحانه وتعالى بين من جهة أخرى أن دعواهم كونهم مؤمنين بالتوراة متناقضة من وجوه أخر، وذلك لأن التوراة دلت على أن المعجزة تدل على الصدق ودلت على أن من كان صادقا في ادعاء النبوة فإن قتله كفر، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام كفرا فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة.
المسألة الثانية: هذه الآية دالة على أن المجادلة في الدين من حرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز.
المسألة الثالثة: قوله: * (فلم تقتلون) * وإن كان خطاب مشافهة لكن المراد من تقدم من سلفهم ويدل عليه وجوه، أحدها: أن الأنبياء في ذلك الزمان ما كانوا موجودين. وثانيها: أنهم ما أقدموا على ذلك، وثالثها: أنه لا يتأتى فيه من قبل. فأما المراد به الماضي فظاهر لأن القرينة دالة عليه. فإن قيل قوله: * (آمنوا) * خطاب لهؤلاء الموجودين: * (ولم تقتلون) * حكاية فعل أسلافهم فكيف وجه الجمع بينهما؟ قلنا معناه: أنكم بهذا التكذيب خرجتم من الإيمان بما آمنتم كما خرج أسلافكم بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بالباقين.
المسألة الرابعة: يقال كيف جاز قوله: لم تقتلون من قبل ولا يجوز أن يقال: أنا أضربك أمس؟ والجواب فيه قولان. أحدهما: أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصفة
اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله: ويحك لم تكذب؟ كأنك قلت: لم يكن هذا من شأنك. قال الله تعالى: * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) * (البقرة: 102) ولم يقل ما تلت لأنه أراد من شأنها التلاوة. والثاني: كأنه قال: لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم آمنتم بالتوراة والله أعلم.
186

* (ولقد جآءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) *
اعلم أن تكرير هذه الآية يغني عن تفسيرها والسبب في تكريرها أنه تعالى لما حكى طريقة اليهود في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ووصفهم بالعناد والتكذيب ومثلهم بسلفهم في قتلهم الأنبياء الذي يناسب التكذيب لهم بل يزيد عليه، أعاد ذكر موسى عليه السلام وما جاء به من البينات وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذوا العجل إلها وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه والتمسك بدينه وشرعه فكذلك القول في حالي معكم وإن بالغتم في التكذيب والإنكار.
* (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا فى قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) *
اعلم أن في الإعادة وجوها: أحدها: أن التكرار في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب، وثانيها: أنه إنما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم: * (سمعنا وعصينا) * وذلك يدل على نهاية لجاجهم.
أما قوله تعالى: * (قالوا سمعنا وعصينا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أن إظلال الجبل لا شك أنه من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم وصرحوا بقولهم * (سمعنا وعصينا) * وهذا يدل على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد.
المسألة الثانية: الأكثرون من المفسرين اعترفوا بأنهم قالوا هذا القول، قال أبو مسلم: وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه كقوله تعالى: * (أن يقول له كن فيكون) * (البقرة: 177) وكقوله: * (قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11) والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز.
أما قوله تعالى: * (واشربوا في قلوبهم العجل) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: واشربوا في قلوبهم حب العجل، وفي وجه هذا الاستعارة وجهان، الأول: معناه داخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب، وقوله: * (في قلوبهم) *
187

بيان
لمكان الإشراب كقوله: * (وإنما يأكلون في بطونهم نارا) * (النساء: 10). الثاني: كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.
المسألة الثانية: قوله: * (واشربوا) * يدل على أن فاعلا غيرهم فعل بهم ذلك، ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله، أجابت المعتزلة عنه من وجهين: الأول: ما أراد الله أن غيرهم فعل بهم ذلك لكنهم لفرط ولوعهم وإلفهم بعبادته أشربوا قلوبهم حبه فذكر ذلك على ما لم يسم فاعله كما يقال فلان: معجب بنفسه، الثاني: أن المراد من أشرب أي زينة عندهم ودعاهم إليه كالسامري وإبليس وشياطين الإنس والجن. أجاب الأصحاب عن الوجهين بأن كلا الوجهين صرف اللفظ عن ظاهره وذلك لا يجوز المصير إليه إلا لدليل منفصل، ولما أقمنا الدلائل العقلية القطعية على أن محدث كل الأشياء هو الله لم يكن بنا حاجة إلى ترك هذا الظاهر.
أما قوله تعالى: * (بكفرهم) * فالمراد باعتقادهم التشبيه على الله وتجويزهم العبادة لغيره سبحانه وتعالى.
أما قوله: * (قل بئسما يأمركم به إيمانكم) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد بئسما يأمركم به إيمانكم بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال في قصة شعيب: * (أصلاتك تأمرك) * (هود: 87) وكذلك إضافة الإيمان إليهم.
المسألة الثانية: الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي لكن الداعي إلى الفعل قد يشبه بالآمر كقوله تعالى: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (العنكبوت: 45).
أما قوله تعالى: * (إن كنتم مؤمنين) * فالمراد التشكيك في إيمانهم والقدح في صحة دعواهم.
* (قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) *
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ويدل عليه وجوه. أحدها: أنه لا يجوز أن يقال على طريق الاستدلال على الخصم إن كان كذا وكذا فافعل كذا إلا والأول مذهبه ليصح الزام الثاني عليه. وثانيها: ما حكى الله عنهم في قوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * (البقرة: 111) وفي قوله: * (نحن أبناء الله
وأحباؤه) * (المائدة: 18) وفي قوله: * (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * (البقرة: 89). وثالثها: اعتقادهم في أنفسهم أنهم هم المحقون لأن النسخ غير جائز في شرعهم، وأن سائر الفرق مبطلون، ورابعها: اعتقادهم أن
188

انتسابهم إلى أكابر الأنبياء عليهم السلام أعني يعقوب وإسحاق وإبراهيم يخلصهم من عقاب الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه، ثم إنهم لهذه الأشياء عظموا شأن أنفسهم فكانوا يفتخرون على العرب وربما جعلوه كالحجة في أن النبي المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إن الله احتج على فساد قولهم بقوله: * (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت) * وبيان هذه الملازمة أن نعم الدنيا قليلة حقيرة بالقياس إلى نعم الآخرة، ثم إن نعم الدنيا على قلتها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ومنازعته معهم بالجدال والقتال، ومن كان في النعم القليلة المنغصة، ثم إن تيقن أنه بعد الموت لا بد وأن ينتقل إلى تلك النعم العظيمة فإنه لا بد وأن يكون راغبا في الموت لأن تلك النعم العظيمة مطلوبة ولا سبيل إليها إلا بالموت وما يتوقف عليه المطلوب وجب أن يكون مطلوبا فوجب أن يكون هذا الإنسان راضيا بالموت متمنيا له، فثبت أن الدار الآخرة لو كانت لهم خالصة لوجب أن يتمنوا الموت. ثم إن الله تعالى أخبر أنهم ما تمنوا الموت بل لن يتمنوه أبدا، وحينئذ يلزم قطعا بطلان ادعائهم في قولهم إن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس.
فإن قيل لا نسلم أنه لو كانت لهم الدار الآخرة خالصة لوجب أن يتمنوا الموت، قوله لأن نعيم الآخرة مطلوب ولا سبيل إليه إلا بالموت والذي يتوقف عليه المطلوب، لا بد وأن يكون مطلوبا. قلنا: قلنا الذي يتوقف عليه المطلوب يجوز أن يكون مطلوبا نظرا إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب إلا أنه يكون مكروها نظرا إلى ذاته والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة وما كانوا يطيقونها فلا جرم ما تمنوا الموت.
السؤال الثاني: أنه كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صلى الله عليه وسلم فيقولوا: إنك تدعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر فإن كان الأمر كذلك فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك، فإنا نراك ونرى أمتك في الضر الشديد والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال وبعد الموت فإنكم تتخلصون إلى نعيم الجنة فوجب أن ترضوا بقتلكم! السؤال الثالث: لعلهم كانوا يقولون الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم لكن بشرط الاحتراز عن الكبائر، فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلدا في النار أبدا لأنهم كانوا وعيدية أو لأنهم جوزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذبا فلأجل هذا ما تمنوا الموت وليس لأحد أن يدفع هذا السؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسهم النار إلا أياما معدودة لأن كل يوم من أيام القيامة / كألف سنة مما تعدون فكانت هذه الأيام وإن كانت قليلة بحسب العدد لكنها طويلة بحسب المدة فلا جرم ما تمنوا الموت بسبب هذا الخوف.
189

السؤال الرابع: أنه عليه الصلاة والسلام نهي عن تمني الموت فقال: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللهم أحيني إن كانت الحياة خيرا لي وتوفني إن كانت الوفاة خيرا لي " وأيضا قال الله تعالى في كتابه: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها) * (الشورى: 18) فكيف يجوز أن ينهي عن الاستعجال، ثم إنه يتحدى القوم بذلك.
السؤال الخامس: أن لفظ التمني مشترك بين التمني الذي هو المعنى القائم بالقلب وبين اللفظ الدال على ذلك المعنى وهو قول القائل: ليتني مت، لليهود أن يقولوا إنك طلبت منا التمني والتمني لفظ مشترك، فإن ذكرناه باللسان فله أن يقول: ما أردت به هذا اللفظ، وإنما أردت به المعنى الذي في القلب وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقلب فله أن يقول: كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه.
السؤال السادس: هب أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنوا الموت فلم قلتم إنهم ما تمنوا الموت والاستدلال بقوله تعالى: * (ولن يتمنوه أبدا) * ضعيف لأن الاستدلال بهذا إنما يصح لو ثبت كون القرآن حقا، والنزاع ليس إلا فيه. الجواب: قوله (أولا) كون الموت متضمنا للألم يكون كالصارف عن تمنيه، قلنا كما أن الألم الحاصل عند الحجامة لا يصرف عن الحجامة للعلم الحاصل بأن المنفعة الحاصلة بسبب الحجامة عظيمة وجب أن يكون الأمر ههنا كذلك. قوله ثانيا: إنهم لو قلبوا الكلام على محمد صلى الله عليه وسلم لزمه أن يرضى بالقتل، قلنا: الفرق بين محمد عليه السلام وبينهم أن محمدا كان يقول إني بعثت لتبليغ الشرائع إلى أهل التواتر، وهذا المقصود لم يحصل بعد فلأجل هذا لا أرضى بالقتل وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق، قوله ثالثا: كانوا خائفين من عقاب الكبائر، قلنا: القوم ادعوا كون الآخرة خالصة لهم وذلك يؤمنهم من امتزاج ثوابها بالعقاب قوله رابعا: نهى عن تمني الموت قلنا هذا النهي طريقة الشرع فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات، روي أن عليا رضي الله عنه كان يطوف بين الصفين في غلالة فقال له ابنه الحسن رضي الله عنه ما هذا بزي المحاربين فقال يا بني لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط أم عليه يسقط الموت، وقال عمار رضي الله عنه بصفين:
الآن ألاقي الأحبة * محمدا وحزبه
وقد ظهر عن الأنبياء في كثير من الأوقات تمنى الموت على أن هذا النهي مختص بسبب مخصوص فإنه عليه الصلاة والسلام حرم أن يتمنى الإنسان الموت عند الشدائد لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضاء بما قسم الله، فأين هذا من التمني الذي يدل على صحة النبوة. قوله خامسا: إنهم ما عرفوا أن المراد هو التمني باللسان أو بالقلب، قلنا: التمني في لغة العرب لا يعرف إلا
ما يظهر (منه) كما أن الخبر لا يعرف إلا ما يظهر بالقول والذي في القلب من ذلك لا يسمى بهذا الاسم
190

وأيضا فمن المحال أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام لهم تمنوا الموت ويريد بذلك ما لا يمكن الوقوف عليه مع أن الغرض بذلك لا يتم إلا بظهوره، قوله سادسا: ما الدليل على أنه ما وجد التمني، قلنا من وجوه، أحدها: أنه لو حصل ذلك لنقل نقلا متواترا لأنه أمر عظيم فإن بتقدير عدمه يثبت القول بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبتقدير حصول هذا التمني يبطل القول بنبوته وما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة، فوجب أن ينقل نقلا متواترا، ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد، وثانيها: أنه
عليه الصلاة والسلام مع تقدمه في الرأي والحزم وحسن النظر في العاقبة والوصول إلى المنصب الذي وصل إليه في الدنيا والدين والوصول إلى الرياسة العظيمة التي انقاد لها المخالف قهرا والموافق طوعا لا يجوز وهو غير واثق من جهة ربه بالوحي النازل عليه أن يتحداهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجة لأن العاقل الذي لم يجرب الأمور لا يكاد يرضى بذلك فكيف الحال في أعقل العقلاء فيثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما أقدم على تحرير هذه الأدلة إلا وقد أوحى الله تعالى إليه بأنهم لا يتمنونه. وثالثها: ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا "، وقال ابن عباس: لو تمنوا الموت لشرقوا به ولماتوا، وبالجملة فالأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا بلغت مبلغ التواتر فحصلت الحجة، فهذا آخر الكلام في تقرير هذا الاستدلال، ولنرجع إلى التفسير.
أما قوله تعالى: * (قل إن كانت لكم الدار الآخرة) * فالمراد الجنة لأنها هي المطلوبة من دار الآخرة دون النار لأنهم كانوا يزعمون أن لهم الجنة.
وأما قوله تعالى: * (عند الله) * فليس المراد المكان بل المنزلة ولا بعد أيضا في حمله على المكان فلعل اليهود كانوا مشبهة فاعتقدوا العندية المكانية فأبطل الله كل ذلك بالدلالة التي ذكرها.
وأما قوله تعالى: * (خالصة) * فنصب على الحال من الدار الآخرة، أي سالمة لكم خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق، يعني إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى و (الناس) للجنس، وقيل: للعهد وهم المسلمون والجنس أولى لقوله إلا من كان هودا أو نصارى ولأنه لم يوجد ههنا معهود.
وأما قوله: * (من دون الناس) * فالمراد به سوى لا معنى المكان كما يقول القائل لمن وهب منه ملكا: هذا لك من دون الناس.
وأما قوله تعالى: * (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا أمر معلق على شرط مفقود وهو كونهم صادقين فلا يكون الأمر موجودا والغرض منه التحدي وإظهار كذبهم في دعواهم:
المسألة الثانية: في هذا التمني قولان، أحدهما: قول ابن عباس إنهم يتحدوا بأن يدعو الفريقان بالموت على أي فريق كان أكذب. والثاني: أن يقولوا ليتنا نموت وهذا الثاني أولى لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ.
191

أما قوله تعالى: * (ولن يتمنوه) * فخبر قاطع عن أن ذلك لا يقع في المستقبل وهذا إخبار عن الغيب لأن مع توفر الدواعي على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وسهولة الإتيان بهذه الكلمة، أخبر بأنهم لا يأتون بذلك فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضده فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي.
وأما قوله تعالى: * (أبدا) * فهو غيب آخر لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد ولا في شيء من الأزمنة الآتية في المستقبل ولا شك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات فهما غيبان.
وأما قوله تعالى: * (بما قدمت أيديهم) * فبيان للعلة التي لها لا يتمنون (الموت) لأنهم إذا علموا سوء طريقتهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى أن لا يتمنوا الموت.
وأما قوله تعالى: * (والله عليه بالظالمين) * فهو كالزجر والتهديد لأنه إذا كان عالما بالسر والنجوى ولم يمكن إخفاء شيء عنه صار تصور المكلف لذلك من أعظم الصوارف عن المعاصي، وإنما ذكر الظالمين لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافرا فلما كان ذلك أعم كان أولى بالذكر فإن قيل: إنه تعالى قال ههنا: * (ولن يتمنوه أبدا) * وقال في سورة الجمعة: * (ولا يتمنونه أبدا) * فلم ذكر ههنا (لن) وفي سورة الجمعة " لا " قلنا: إنهم في هذه السورة، ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس وادعوا في سورة الجمعة أنهم أولياء لله من دون الناس والله تعالى أبطل هذين الأمرين بأنه لو كان كذلك لوجب أن يتمنوا الموت والدعوى الأولى أعظم من الثانية إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب، وأما مرتبة الولاية فهي وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة فلما كانت الدعوة الأولى أعظم لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ: " لن " لأنه أقوى الألفاظ النافية ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة لا جرم اكتفى في إبطالها بلفظ " لا " لأنه ليس في نهاية القوة في إفادة معنى النفي والله أعلم.
* (ولتجدنهم أحرص الناس على الحيوة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون) *
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت أخبر في هذه الآية أنهم في غاية الحرص على الحياة لأن ههنا قسما ثالثا وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنى الموت ولا يتمنى الحياة فقال: * (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) *.
192

أما قوله تعالى: * (ولتجدنهم) * فهو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى المفعولين في قوله: وجدت زيدا ذا حفاظ، ومفعولاه " هم " و " أحرص " وإنما قال: * (على حياة) * بالتنكير لأنه حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي " على الحياة " أما الواو في قوله: * (ومن الذين أشركوا) * ففيه (ثلاثة أقول):
أحدها: أنها واو عطف والمعنى أن اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا كقولك: هو أسخى الناس ومن حاتم. هذا قول الفراء والأصم. فإن قيل: ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس؟ قلنا: بلى ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا ألا يؤمنون بالمعاد وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقيا بأعظم التوبيخ، فإن قيل: ولم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلنا: لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك.
القول الثاني: أن هذه الواو واو استئناف وقد تم الكلام عند قوله: " على حياة " (و) تقديره ومن الذين أشركوا أناس يود أحدهم على حذف الموصوف كقوله: * (وما
منا إلا لا مقام معلوم) * (الصافات: 164).
القول الثالث: أن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره. ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، ثم فسر هذه المحبة بقوله: * (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) * وهو قول أبي مسلم، والقول الأول أولى لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر أن يكون المراد: ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم. إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله تعالى: * (ومن الذين أشركوا) * على ثلاثة أقوال قيل المجوس: لأنهم كانوا يقولون لملكهم: عش ألف نيروز وألف مهرجان، وعن ابن عباس هو قول الأعاجم: زي هزار سال، وقيل: المراد مشركوا العرب وقيل: كل مشرك لا يؤمن بالمعاد، لأنا بينا أن حرص هؤلاء على الدنيا ينبغي أن يكون أكثر وليس المراد من ذكر ألف سنة قول الأعاجم عش ألف سنة، بل المراد به التكثير وهو معروف في كلام العرب.
أما قوله تعالى: * (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) * فالمراد أنه تعالى بين بعدهم عن تمني الموت من حيث إنهم يتمنون هذا البقاء ويحرصون عليه هذا الحرص الشديد، ومن هذا حاله كيف يتصور منه تمني الموت؟
أما قوله تعالى: * (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في أن قوله: * (وما هو) * كناية عماذا؟ فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه كناية عن " أحدهم " الذي جرى ذكره أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره، وثانيها: أنه ضمير لما دل عليه " يعمر " من مصدره و (أن يعمر) بدل منه، وثالثها: أن يكون مبهما و (أن يعمر) موضحه.
193

المسألة الثانية: الزحزحة التبعيد والإنحاء، قال القاضي: والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ولو قال تعالى: وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول.
وأما قوله تعالى: * (والله بصير بما يعملون) * فاعلم أن البصر قد يراد به العلم، يقال: إن لفلان بصرا بهذا الأمر، أي معرفة، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها وكلا الوصفين يصحان عليه سبحانه إلا أن من قال: إن في الأعمال ما لا يصح أن يرى هذا البصر على العلم لا محالة والله أعلم.
* (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين * من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) *
اعلم أن هذا النوع أيضا من أنواع قبائح اليهود ومنكرات أقوالهم وأفعالهم وفيه مسائل: المسألة الأولى: أن قوله تعالى: * (قل من كان عدوا لجبريل) * لا بد له من سبب وأمر قد ظهر من اليهود حتى يأمره تعالى بأن يخاطبهم بذلك لأنه يجري مجرى المحاجة، فإذا لم يثبت منهم في ذلك أمر لا يجوز أن يأمره الله تعالى بذلك والمفسرون ذكروا أمورا، أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا فقال: يا محمد كيف نومك، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال عليه السلام: " تنام عيناي ولا ينام قلبي " قال: صدقت يا محمد، فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال: أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل، وأما اللحم والدم والظفر والشعر، فمن المرأة فقال صدقت. فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال: أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له، قال: صدقت فقال: أخبرني أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه؟ فقال عليه السلام: " أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب، وهو لحمان الإبل وألبانها؟ فقالوا: نعم. فقال له: بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك، أي ملك يأتيك بما تقول عن الله؟ قال جبريل: قال إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك، فقال عمر: وما مبدأ هذه العداوة؟ فقال ابن صوريا
194

مبدأ هذه العداوة أن الله تعالى أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب في زمان رجل يقال له: بختنصر ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالا فدفع عنه جبريل وقال: إن سلطكم الله على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب بيت المقدس، فلا فائدة في قتله، ثم إنه كبر وقوى وملك وغزانا وخرب بيت المقدس وقتلنا، فلذلك نتخذه عدوا، وأما ميكائيل فإنه عدو جبريل فقال عمر؛ فإني أشهد أن من كان عدوا لجبريل فهو عدو لميكائيل وهما عدوان لمن عداهما فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين. وثانيها: روي أنه كان لعمر أرض بأعلى المدينة وكان ممره على مدراس اليهود وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا: يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال: والله ما أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم، ثم سألهم عن جبريل فقالوا: ذاك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلم فقال لهم: وما منزلتهما من الله؟ قالوا: أقرب منزلة، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وميكائيل عدوا لجبريل فقال عمر: لئن كان كما تقولون فما هما بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير، ومن كان عدو لأحدهما كان عدوا للآخر ومن كان عدوا لهما كان عدوا الله، ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه السلام قد سبقه بالوحي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد وافقك ربك يا عمر " قال عمر: لقد رأيتني في دين بعد ذلك أصلب من الحجر، وثالثها: قال مقاتل زعمت اليهود أن جبريل عليه السلام عدونا، أمر أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا فأنزل الله هذه الآيات.
واعلم أن الأقرب أن يكون سبب عداوتهم له أنه كان ينزل القرآن على محمد عليه السلام لأن قوله: * (من كان عدوا لجبريل، فإنه نزله على قلبك بإذن الله) * مشعر بأن هذا التنزيل لا ينبغي أن يكون سببا للعداوة لأنه إنما فعل ذلك بأمر الله فلا ينبغي أن يكون سببا للعداوة وتقرير هذا من وجوه، أولها: أن الذي نزله جبريل من القرآن
بشارة المطيعين بالثواب وإنذار العصاة بالعقاب والأمر بالمحاربة والمقاتلة لما لم يكن ذلك باختياره بل بأمر الله الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره ولا سبيل إلى مخالفته فعداوة من هذا سبيله توجب عداوة الله وعداوة الله كفر، فيلزم أن عداوة من هذا سبيله كفر، وثانيها: أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب فإما أن يقال: إنه كان يتمرد أو يأبى عن قبول أمر الله وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين أو كان يقبله ويأتي به على وفق أمر الله فحينئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل عليهما السلام فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟ وثالثها: أن إنزال القرآن على محمد كما شق على اليهود فإنزال التوراة على موسى شق على قوم آخرين، فإن اقتضت نفرة بعض الناس لإنزال القرآن قبحه فلتقتض نقرة أولئك المتقدمين إنزال التوراة على موسى عليه السلام قبحه ومعلوم أن كل ذلك باطل فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه.
195

المسألة الثانية: من الناس من استبعد أن يقول قوم من اليهود: إن جبريل عدوهم قالوا: لأنا نرى اليهود في زماننا هذا مطبقين على إنكار ذلك مصرين على أن أحدا من سلفهم لم يقل بذلك، واعلم أن هذا باطل لأن حكاية الله أصدق، ولأن جهلهم كان شديدا وهم الذين قالوا؛ * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * (الأعراف: 138).
المسألة الثالثة: قرأ ابن كثير: " جبريل " بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بفتح الجيم والراء مهموزا والباقون بكسر الجيم والراء غير مهموز بوزن قنديل وفيه سبع لغات ثلاث منها ذكرناها، وجبرائيل على وزن جبراعل وجرائيل على وزن جبراعيل وجبرايل على وزن جبراعل وجبرين بالنون ومنع الصرف للتعريف والعجمة.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: جبريل معناه عبد الله، ف " جبر " عبد و " إيل " الله: وميكائيل عبد الله وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم، قال: أبو علي السوسي: هذا لا يصح لوجهين: أحدهما: أنه لا يعرف من أسماء الله " أيل " والثاني: أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجرورا.
أما قوله تعالى: * (فإنه نزله على قلبك) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: الهاء في قوله تعالى: " فإنه " وفي قوله: " نزله " إلى ماذا يعود؟ الجواب فيه قولان: أحدهما: أن الهاء الأولى تعود على جبريل والثانية: على القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم كقوله: * (ما ترك على ظهرها من دابة) * (فاطر: 45) يعني على الأرض وهذا قول ابن عباس وأكثر أهل العلم. أي إن كانت عداوتهم لأن جبريل ينزل القرآن فإنما ينزله بإذن الله. قال صاحب " الكشاف ": إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته، وثانيهما: المعنى فإن الله نزل جبريل عليه السلام لا أنه نزل نفسه.
السؤال الثاني: القرآن: إنما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فما السبب في قوله نزله على قلبك؟ الجواب: هذه المسألة ذكرناها في سورة الشعراء في قوله: * (نزل به الروح الأمين، على قلبك) * (الشعراء: 193) وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظا حتى أداه إلى أمته، فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظا جاز أن يقال: نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه.
السؤال الثالث: كان حق الكلام أن يقال على قلبي، والجواب: جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل: قل ما تكلمت به من قولي، من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك. السؤال الرابع: كيف استقام قوله: * (فإنه نزله) * جزاء للشرط؟ والجواب فيه وجهان: الأول: أنه سبحانه وتعالى بين أن هذه العداوة فاسدة لأنه ما أتى إلا أنه أمر بإنزال كتاب فيه الهداية والبشارة فأنزله، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذورا، ومن حيث إنه أتى
196

بالهداية والبشارة يجب أن يكون مشكورا فكيف تليق به العداوة، والثاني: أنه تعالى بين أن اليهود إن كانوا يعادونه فيحق لهم ذاك، لأنه نزل عليك الكتاب برهانا على نبوتك، ومصداقا لصدقك وهم يكرهون ذلك فكيف لا يبغضون من أكد عليهم الأمر الذي يكرهونه:
أما قوله تعالى: * (بإذن الله) * فالأظهر بأمر الله وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه. أولها؛ أن الإذن حقيقة في الأمر مجاز في العلم واللفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن. وثانيها: أن إنزاله كان من الواجبات والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم. وثالثها: أن ذلك الإنزال إذا كان عن أمر لازم كان أوكد في الحجة.
أما قوله تعالى: * (مصدقا لما بين يديه) * فمحمول على ما أجمع عليه أكثر المفسرين من أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ولا معنى لتخصيص كتاب، ومنهم من خصه بالتوراة وزعم أنه أشار إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب، فلم صار بأن يكون مصدقا لها لكونها متوافقة في الدلالة على التوحيد ونبوة محمد أولى بأن يكون غير مصدق لها؟ قلنا: الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بتلك الأوقات ومنتهية في هذا الوقت بناء على أن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة، وحينئذ لا يكون بين القرآن وبين سائر الكتب اختلاف في الشرائع.
أما قوله تعالى: * (وهدى) * فالمراد به أن القرآن مشتمل على أمرين. أحدهما: بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى. وثانيهما: بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى، ولما كان الأول مقدما على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى، فإن قيل: ولم خص كونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل؟ الجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى إنما خصهم بذلك، لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى: * (هدى للمتقين) *. والثاني: أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين، وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين، فلهذا خصهم الله به.
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: * (من كان عدوا لله وملائكته) * فاعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى: * (من كان عدوا لجبريل) * لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد، وجب أن يكون عدوا لله تعالى، بين في هذه الآية أن من كان عدوا لله كان عدوا له، فبين أن في مقابلة عداوتهم ما يعظم ضرر الله عليهم وهو عداوة الله
لهم، لأن عداوتهم لا تؤثر ولا تنفع ولا تضر، وعداوته تعالى تؤدي إلى العذاب الدائم الأليم الذي لا ضرر أعظم منه، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: كيف يجوز أن يكونوا أعداء الله ومن حق العداوة الإضرار بالعدو، وذلك محال على الله تعالى؟ والجواب: أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلا فينا لأن العدو
197

للغير هو الذي يريد إنزال المضار به، وذلك محال على الله تعالى، بل المراد منه أحد وجهين، إما أن يعادوا أولياء الله فيكون ذلك عداوة لله كقوله: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * (المائدة: 33) وكقوله: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله) * (الأحزاب: 57) لأن المراد بالآيتين أولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذية عليه، وإما أن يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وعبادته وبعدهم عن التمسك بذلك فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة، فأما عداوتهم لجبريل والرسل فصحيحة لأن الإضرار جائز عليهم لكن عداوتهم لا تؤثر فيهم لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم، وعداوتهم مؤثرة في اليهود لأنها في العاجل تقتضي الذلة والمسكنة، وفي الآجل تقتضي العذاب الدائم.
السؤال الثاني: لما ذكر الملائكة فلم أعاد ذكر جبريل وميكائيل مع اندراجهما في الملائكة؟ الجواب لوجهين، الأول: أفردهما بالذكر لفضلهما كأنهما لكمال فضلهما صارا جنسا آخر سوى جنس الملائكة، الثاني: أن الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جرم نص على أسميهما، واعلم أن هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة وإلا لم يصح هذا التأويل، وإذا ثبت هذا فنقول: يجب أن يكون جبريل عليه السلام أفضل من ميكائيل لوجوه، أحدها: أنه تعالى قدم جبريل عليه السلام في الذكر، وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفا فوجب أن يكون مستقبحا شرعا لقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن "، وثانيها: أن جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن والوحي والعلم وهو مادة بقاء الأرواح، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار وهي مادة بقاء الأبدان، ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل، وثالثها: قوله تعالى في صفة جبريل: * (مطاع ثم أمين) * ذكره يوصف المطاع على الإطلاق، وظاهره يقتضي كونه مطاعا بالنسبة إلى ميكائيل فوجب أن يكون أفضل منه.
المسألة الثانية: قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ميكال بوزن قنطار، ونافع ميكائل مختلسة ليس بعد الهمزة ياء على وزن ميكاعل، وقرأ الباقون ميكائيل على وزن ميكاعيل، وفيه لغة أخرى ميكئيل على وزن ميكعيل، وميكئيل كميكعيل، قال ابن جنى: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه.
المسألة الثالثة: الواو في جبريل وميكال، قيل: واو العطف، وقيل: بمعنى أو يعني من كان عدوا لأحد من هؤلاء فإن الله عدو لجميع الكافرين.
المسألة الرابعة: * (عدو للكافرين) * أراد عدو لهم إلا أنه جاء بالظاهر ليدل على أن الله تعالى إنما عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة كفر.
198

* (ولقد أنزلنآ إليك ءايات بينات وما يكفر بهآ إلا الفاسقون) *
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم قال ابن عباس: إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه فلما بعث من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه: فقال لهم معاذ بن جبل يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته، فقال بعضهم ما جاءنا بشيء من البينات وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية وههنا مسائل:
المسألة الأولى: الأظهر أن المراد من الآيات البينات القرآن الذي لا يأتي بمثله الجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وقال بعضهم: لا يمتنع أن يكون المراد من الآيات البينات القرآن مع سائر الدلائل نحو امتناعهم من المباهلة ومن تمنى الموت وسائر المعجزات نحو إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ونبوع الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر. قال القاضي: الأولى تخصيص ذلك بالقرآن لأن الآيات إذا قرنت إلى التنزيل كانت أخص بالقرآن والله أعلم.
المسألة الثانية: الوجه في تسمية القرآن بالآيات وجوه، أحدها: أن الآية هي الدالة وإذا كانت أبعاض القرآن دالة بفصاحتها على صدق المدعي كانت آيات، وثانيها: أن منها ما يدل على الإخبار عن الغيوب فهي دالة على تلك الغيوب، وثالثها: أنها دالة على دلائل التوحيد والنبوة والشرائع فهي آيات من هذه الجهة، فإن قيل: الدليل لا يكون إلا بينا فما معنى وصف الآيات بكونها بينة، وليس لأحد أن يقول المراد كون بعضها أبين من بعض لأن هذا إنما يصح لو أمكن في العلوم أن يكون بعضها أقوى من بعض وذلك محال، وذلك لأن العالم بالشيء إما أن يحصل معه تجويز نقيض ما اعتقده أو لا يحصل، فإن حصل معه ذلك التجويز لم يكن ذلك الاعتقاد علما وإن لم يحصل استحال أن يكون شيء آخر آكد منه. قلنا: التفاوت لا يقع في نفس العلم بل في طريقه؛ فإن العلوم تنقسم إلى ما يكون طريق تحصيله والدليل الدال عليه أكثر مقدمات فيكون الوصول إليه أصعب، وإلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب، وهذا هو الآية البينة.
المسألة الثالثة: الإنزال عبارة عن تحريك الشيء من الأعلى إلى الأسفل وذاك لا يتحقق إلا في الجسمي فهو على هذا الكلام محال لكن جبريل لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالا.
أما قوله: * (وما يكفر بها إلا الفاسقون) * ففيه مسائل:
199

المسألة الأولى: الكفر بها من وجهين. أحدهما: جحودها مع العلم بصحتها. والثاني: جحودها مع الجهل وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه.
المسألة الثانية: الفسق في اللغة خروج الإنسان عما حد له قال الله تعالى: * (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) * (الكهف: 50) وتقول العرب للنواة: إذا خرجت من الرطبة عند سقوطها فسقت النواة، وقد يقرب من معناه الفجور لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد (إذا
صار إليه) فشبه تعدي الإنسان ما حد له إلى الفساد بالذي فجر السد حتى صار إلى حيث يفسد. فإن قيل: أليس أن صاحب الصغيرة تجاوز أمر الله ولا يوصف بالفسق والفجور؟ قلنا: إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا لأن من فتح من النهر نقبا يسيرا لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر وكذلك الفسق إنما يقال: إذا عظم التعدي. إذا ثبت هذا فنقول في قوله: * (إلا الفاسقون) * وجهان، أحدهما: أن كل كافر فاسق ولا ينعكس فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره فكان أولى. الثاني: أن يكون المراد ما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره والمعنى أن هذه الآيات لما كانت بينة ظاهرة لم يكفر بها إلا الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى وتجاوز عن كل حد مستحسن في العقل والشرع.
* (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) *
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (أو كلما عاهدوا عهدا) * واو عطف دخلت عليه همزة الاستفهام وقيل الواو زائدة وليس بصحيح لأنه مع صحة معناه لا يجوز أن يحكم بالزيادة.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": الواو للعطف على محذوف معناه: أكفروا بالآيات والبينات وكلما عاهدوا، وقرأ أبو السماك بسكون الواو على أن الفاسقون بمعنى الذين فسقوا فكأنه قيل وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهد الله مرارا كثيرة وقرئ عوهدوا وعهدوا.
المسألة الثالثة: المقصود من هذا الاستفهام، الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه لأن مثل ذلك إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت ودل بقول: * (أو كلما عاهدوا) * على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه، بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم على ما بينه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالا بعد حال لأن من يعتاد
200

منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك.
المسألة الرابعة: في العهد وجوه، أحدها: أن الله تعالى لما أظهر الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى، وثانيها: أن العهد هو الذي كانوا يقولون قبل مبعثه عليه السلام لئن خرج النبي لنؤمنن به ولنخرجن المشركين من ديارهم، وثالثها: أنهم كانوا يعاهدون الله كثيرا وينقضونه، ورابعها: أن اليهود كانوا قد عاهدوه على أن لا يعينوا عليه أحدا من الكافرين فنقضوا ذلك وأعانوا عليه قريشا يوم الخندق، قال القاضي: إن صحت هذه الرواية لم يمتنع دخوله تحت الآية لكن لا يجوز قصر الآية عليه بل الأقرب أن يكون المراد ما له تعلق بما تقدم ذكره من كفرهم بآيات الله، وإذا كان كذلك فحمله على نقض العهد فيما تضمنته الكتب المتقدمة والدلائل العقلية من صحة القول ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم أقوى.
المسألة الخامسة: إنما قال: * (نبذه فريق) * لأن في جملة من عاهد من آمن أو يجوز أن يؤمن فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر، ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلون بين أنهم الأكثرون فقال: * (بل أكثرهم لا يؤمنون) * وفيه قولان، الأول: أكثر أولئك الفساق لا يصدقون بك أبدا لحسدهم وبغيهم، والثاني: لا يؤمنون: أي لا يصدقون بكتابهم لأنهم كانوا في قومهم كالمنافقين مع الرسول يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه.
* (ولما جآءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله ورآء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) *
اعلم أن معنى كون الرسول مصدقا لما معهم هو أنه كان معترفا بنبوة موسى عليه السلام وبصحة التوراة أو مصدقا لما معهم من حيث إن التوراة بشرت بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم فإذا أتى محمد كان مجرد مجيئه مصدقا للتوراة.
أما قوله تعالى: * (نبذ فريق) * فهو مثل لتركهم وإعراضهم عنه بمثل ما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه.
أما قوله تعالى: * (من الذين أوتوا الكتاب) * ففيه قولان، أحدهما: أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه، قال هذا القائل: الدليل عليه أنه تعالى وصف هذا الفريق بالعلم
201

عند قوله تعالى: * (كأنهم لا يعلمون) *، الثاني: المراد من يدعي التمسك بالكتاب سواء علمه أو لم يعلمه، وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل القرآن لا يراد بذلك من يختص بمعرفة علومه، بل المراد من يؤمن به ويتمسك بموجبه.
أما قوله تعالى: * (كتاب الله وراء ظهورهم) * فقيل: إنه التوراة، وقيل: إنه القرآن، وهذا هو الأقرب لوجهين، الأول: أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولا وأما إذا لم يلتفتوا إليه لا يقال إنهم نبذوه، الثاني: أنه قال: * (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) * ولو كان المراد به القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى لأن جميعهم لا يصدقون بالقرآن، فإن قيل: كيف يصح نبذهم التوراة وهم يتمسكون به؟ قلنا: إذا كان يدل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لما فيه من النعت والصفة وفيه وجوب الإيمان ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتوراة.
أما قوله تعالى: * (كأنهم لا يعلمون) * فدلالة على أنهم نبذوه عن علم ومعرفة لأنه لا يقال ذلك إلا فيمن يعلم، فدلت الآية من هذه الجهة على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون، وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلة بحيث تجوز المكابرة عليهم.
* (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ومآ أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من
أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الاخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) *
202

اعلم أن هذا هو نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو اشتغالهم بالسحر وإقبالهم عليه ودعاؤهم الناس إليه.
أما قوله تعالى: * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (واتبعوا) * حكاية عمن تقدم ذكره وهم اليهود، ثم فيه أقوال، أحدها: أنهم اليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام، وثانيها: أنهم الذين تقدموا من اليهود، وثالثها: أنهم الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان عليه السلام ويعدونه من جملة الملوك في الدنيا، فالذين كانوا منهم في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر، ورابعها: أنه يتناول الكل وهذا أولى لأنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره، إذ لا دليل على التخصيص. قال السدي: لما جاءهم محمد عليه الصلاة والسلام عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن، فهذا قوله تعالى: * (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم) * (البقرة: 101) ثم أخبر عنهم بأنهم اتبعوا كتب السحر.
المسألة الثانية: ذكروا في تفسير: * (تتلوا) * وجوها، أحدها: أن المراد منه التلاوة والإخبار، وثانيها: قال أبو مسلم (تتلوا) أي تكذب على ملك سليمان. يقال: تلا عليه إذا كذب وتلا عنه، إذا صدق وإذا أبهم جاز الأمران. والأقرب هو الأول لأن التلاوة حقيقة في الخبر، إلا أن المخبر يقال في خبره إذا كان كذبا إنه تلا فلان وإنه قد تلا على فلان ليميز بينه وبين الصدق الذي لا يقال فيه، روي عن فلان، بل يقال: روي عن فلان وأخبر عن فلان وتلا عن فلان وذلك لا يليق إلا بالأخبار والتلاوة، ولا يمتنع أن يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف.
المسألة الثالثة: اختلفوا في الشياطين فقيل: المراد شياطين الجن وهو قول الأكثرين، وقيل: شياطين الإنس وهو قول المتكلمين من المعتزلة، وقيل: هم شياطين الإنس والجن معا. أما الذين حملوه على شياطين الجن قالوا: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرؤونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون: هذا علم سليمان وما تم له ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الجن والإنس والريح التي تجري بأمره. وأما الذين حملوه على شياطين الإنس قالوا: روي في الخبر أن سليمان عليه السلام كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصا على أنه إن هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب
203

تلك الأشياء من بعض الوجوه، ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلا بسبب هذه الأشياء فهذا معنى: " ما تتلوا الشياطين "، واحتج القائلون بهذا الوجه على فساد القول الأول بأن شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء وشرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف محققا فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع وذلك يفضي إلى الطعن في كل الأديان. فإن قيل: إذا جوزتم ذلك على شياطين الإنس فلم لا يجوز مثله على شياطين الجن؟ قلنا: الفرق أن الذي يفعله الإنسان لا بد وأن يظهر من بعض الوجوه، أما لو جوزنا هذا الافتعال من الجن وهو أن نزيد في كتب سليمان بخط مثل خط سليمان فإنه لا يظهر ذلك ويبقى مخفيا فيفضي إلى الطعن في جميع الأديان.
المسألة الرابعة: أما قوله: * (على ملك سليمان) * فقيل في ملك سليمان، عن ابن جريج، وقيل على عهد ملك سليمان والأقرب أن يكون المراد واتبعوا ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان لأنهم كانوا يقرءون من كتب السحر ويقولون إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم، فكانت تلاوتهم لتلك الكتب كالافتراء على ملك سليمان.
المسألة الخامسة: اختلفوا في المراد بملك سليمان، فقال القاضي: إن ملك سليمان هو النبوة، أو يدخل فيه النبوة وتحت النبوة الكتاب المنزل عليه والشريعة. وإذا صح ذلك ثم أخرج القوم صحيفة فيها ضروب السحر وقد دفنوها تحت سرير ملكه ثم أخرجوها بعد موته وأوهموا أنها من جهته صار ذلك منهم تقولا على ملكه في الحقيقة. والأصح عندي أن يقال: إن القوم لما ادعوا أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان.
المسألة السادسة: السبب في أنهم أضافوا السحر إلى سليمان عليه السلام وجوه. أحدها: أنهم أضافوا السحر إلى سليمان تفخيما لشأنه وتعظيما لأمره وترغيبا للقوم في قبول ذلك منهم، وثانيها: أن اليهود ما كانوا يقرون بنبوة سليمان بل كانوا يقولون إنما وجد ذلك الملك بسبب السحر. وثالثها: أن الله تعالى لما سخر الجن لسليمان فكان يخالطهم ويستفيد منهم أسرارا عجيبة فغلب على الظنون أنه عليه الصلاة والسلام استفاد السحر منهم. أما قوله تعالى: * (وما كفر سليمان) * فهذا تنزيه له عليه السلام عن الكفر، وذلك يدل على أن القوم نسبوه إلى الكفر والسحر: قيل فيه أشياء، أحدها: ما روي عن بعض أخبار اليهود أنهم قالوا: ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا وما كان إلا ساحرا، فأنزل الله هذه الآية. وثانيها: أن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فنزهه الله تعالى منه. وثالثها: أن قوما زعموا أن قوام ملكه كان بالسحر فبرأه الله منه لأن كونه نبيا ينافي كونه ساحرا كافرا، ثم بين تعالى أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال: * (ولكن الشياطين كفروا) * يشير
204

به إلى ما تقدم ذكره ممن اتخذ السحر كالحرفة لنفسه وينسبه إلى سليمان، ثم بين تعالى ما به كفروا فقد كان يجوز أن يتوهم أنهم ما كفروا أولا بالسحر فقال تعالى: * (
يعلمون الناس السحر) * واعلم أن الكلام في السحر يقع من وجوه.
المسألة الأولى: في البحث عنه بحسب اللغة فنقول: ذكر أهل اللغة أنه في الأصل عبارة عما لطف وخفي سببه والسحر بالنصب هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه، قال لبيد: ونسحر بالطعام وبالشراب
قيل فيه وجهان، أحدهما: أنا نعلل ونخدع كالمسحور المخدوع، والآخر: نغذي وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء وقال: فإن تسألينا فيم نحن فإننا * عصافير من هذا الأنام المسحر
وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول، ويحتمل أيضا أن يريد بالمسحر أنه ذو سحر، والسحر هو الرئة، وما تعلق بالحلقوم وهذا أيضا يرجع إلى معنى الخفاء ومنه قول عائشة رضي الله عنها: " توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري "، وقوله تعالى: * (إنما أنت من المسحرين) * (الشعراء: 153)، يعني من المخلوقين الذي يطعم ويشرب يدل عليه قولهم: * (ما أنت إلا بشرا مثلنا) * (الشعراء: 154) ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا، وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال للسحرة: * (ما جئتم به السحر إن الله سيبطله) * (يونس: 81) وقال: * (فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم) * (الأعراف: 116) فهذا هو معنى السحر في أصل اللغة.
المسألة الثانية: اعلم أن لفظ السحر في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع، ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله. قال تعالى: * (سحروا أعين الناس) * (الأعراف: 66) يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى وقال تعالى: * (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * (طه: 66) وقد يستعمل مقيدا فيما يمدح ويحمد. روي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، فقال لعمرو: خبرني عن الزبرقان، فقال: مطاع في ناديه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره، فقال الزبرقان: هو والله يعلم أني أفضل منه، فقال عمرو: إنه زمن المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله صدقت فيهما، أرضاني فقلت: أحسن ما علمت وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحرا " فسمى النبي صلى الله عليه وسلم بعض البيان سحرا لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه وبليغ عبارته، فإن قيل: كيف يجوز أن يسمى ما يوضح الحق وينبئ عنه سحرا؟ وهذا القائل إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر ولفظ السحر إنما يفيد إخفاء الظاهر؟ قلنا: إنما سماه سحرا لوجهين، الأول: أن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب فأشبه السحر الذي يستميل القلوب، فمن هذا الوجه سمي سحرا، لا من الوجه الذي ظننت
205

. الثاني: أن المقتدر على البيان يكون قادرا على تحسين ما يكون قبيحا وتقبيح ما يكون حسنا فذلك يشبه السحر من هذا الوجه.
المسألة الثالثة: في أقسام السحر: اعلم أن السحر على أقسام. الأول: سحر الكلدانيين والكسدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلا لمقالتهم ورادا عليهم في مذهبهم. أما المعتزلة فقد اتفقت كلمتهم على أن غير الله تعالى لا يقدر على خلق الجسم والحياة واللون والطعم، واحتجوا بوجوه ذكرها القاضي ولخصها في تفسيره وفي سائر كتبه ونحن ننقل تلك الوجوه وننظر فيها. أولها: وهو النكتة العقلية التي عليها يعولون أن كل ما سوى الله إما متحيز وإما قائم بالمتحيز، فلو كان غير الله فاعلا للجسم والحياة لكان ذلك الغير متحيزا، وذلك المتحيز لا بد وأن يكون قادرا بالقدرة، إذ لو كان قادرا لذاته لكان كل جسم كذلك بناء على أن الأجسام متماثلة لكن القادر بالقدرة لا يصح منه فعل الجسم والحياة، ويدل عليه وجهان. الأول: أن العلم الضروري حاصل بأن الواحد منا لا يقدر على خلق الجسم والحياة ابتداء، فقدرتنا مشتركة في امتناع ذلك عليها، فهذا الامتناع حكم مشترك فلا بد له من علة مشتركة ولا مشترك ههنا إلا كوننا قادرين بالقدرة، وإذا ثبت هذا وجب فيمن كان قادرا بالقدرة أن يتعذر عليه فعل الجسم والحياة. الثاني: أن هذه القدرة التي لنا لا شك أن بعضها يخالف بعضا، فلو قدرنا قدرة صالحة لخلق الجسم والحياة لم تكن مخالفتها لهذه القدرة أشد من مخالفة بعض هذه القدرة للبعض، فلو كفى ذلك القدر من المخالفة في صلاحيتها لخلق الجسم والحياة لوجب في هذه القدرة أن يخالف بعضها بعضا، وأن تكون صالحة لخلق الجسم والحياة، ولما لم يكن كذلك علمنا أن القادر بالقدرة لا يقدر على خلق الجسم والحياة. وثانيها: أنا لو جوزنا ذلك لتعذر الاستدلال بالمعجزات على النبوات لأنا لو جوزنا استحداث الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية لم يمكنا القطع بأن هذه الخوارق التي ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم السلام صدرت عن الله تعالى، بل يجوز فيها أنهم أتوا بها من طريق السحر، وحينئذ يبطل القول بالنبوات من كل الوجوه. وثالثها: أنا لو جوزنا أن يكون في الناس من يقدر على خلق الجسم والحياة والألوان لقدر ذلك الإنسان على تحصيل الأموال العظيمة من غير تعب، لكنا نرى من يدعي السحر متوصلا إلى اكتساب الحقير من المال بجهد جهيد، فعلمنا كذبه وبهذا الطريق نعلم فساد ما يدعيه قوم من الكيمياء، لأنا نقول: لو أمكنهم ببعض الأدوية أن يقلبوا غير الذهب ذهبا لكان إما أن يمكنهم ذلك بالقليل من الأموال، فكان ينبغي أن يغنوا أنفسهم بذلك عن المشقة والذلة أو لا يمكنهم إلا بالآلات العظام والأموال الخطيرة، فكان يجب أن يظهروا ذلك للملوك المتمكنين من ذلك، بل كان يجب أن يفطن الملوك لذلك لأنه أنفع لهم من فتح البلاد
206

الذي لا يتم إلا بإخراج الأموال والكنوز، وفي علمنا بانصراف النفوس والهمم عن ذلك دلالة على فساد هذا القول، قال القاضي: فثبت بهذه الجملة أن الساحر لا يصح أن يكون فاعلا لشيء من ذلك. واعلم أن هذه الدلائل ضعيفة جدا. أما الوجه الأول: فنقول: ما الدليل على أن كل ما سوى الله، إما أن يكون متحيزا، وإما قائما بالمتحيز، أما علمتم أن الفلاسفة مصرون على إثبات العقول والنفوس الفلكية والنفوس الناطقة، وزعموا أنها في أنفسها ليست بمتحيزة ولا قائمة بالمتحيز، فما الدليل على فساد القول بهذا؟ فإن قالوا: لو وجد موجود هكذا لزم أن يكون مثلا لله تعالى، قلنا: لا نسلم ذلك لأن الاشتراك في الأسلوب لا يقتضي الاشتراك في الماهية،
سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون بعض الأجسام يقدر على ذلك لذاته؟ قوله: الأجسام متماثلة. فلو كان جسم كذلك لكان كل جسم كذلك، قلنا: ما الدليل على تماثل الأجسام، فإن قالوا: إنه لا معنى للجسم إلا الممتد في الجهات، الشاغل للأحياز ولا تفاوت بينها في هذا المعنى، قلنا: الامتداد في الجهات والشغل للأحياز صفة من صفاتها ولازم من لوازمها، ولا يبعد أن تكون الأشياء المختلفة في الماهية مشتركة في بعض اللوازم، سلمنا أنه يجب أن يكون قادرا بالقدرة، فلم قلتم إن القادر بالقدرة لا يصح منه خلق الجسم والحياة؟ قوله: لأن القدرة التي لنا مشتركة في هذا الامتناع وهذا الامتناع حكم مشترك، فلا بد له من علة مشتركة ولا مشترك سوى كوننا قادرين بالقدرة، قلنا: هذه المقدمات بأسرها ممنوعة فلا نسلم أن الامتناع حكم معلل وذلك لأن الامتناع عدمي والعدم لا يعلل، سلمنا أنه أمر وجودي، ولكن من مذهبهم أن كثيرا من الأحكام لا يعلل، فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك، سلمنا أنه معلل، فلم قلتم: إن الحكم المشترك لا بد له من علة مشتركة، أليس أن القبح حصل في الظلم معللا بكونه ظلما وفي الكذب بكونه كذبا، وفي الجهل بكونه جهلا؟ سلمنا أنه لا بد من علة مشتركة، لكن لا نسلم أنه لا مشترك إلا كوننا قادرين بالقدرة، فلم لا يجوز أن تكون هذه القدرة التي لنا مشتركة في وصف معين وتلك القدرة التي تصلح لخلق الجسم تكون خارجة عن ذلك الوصف، فما الدليل على أن الأمر ليس كذلك؟ وأما الوجه الأول: وهو أنه ليست مخالفة تلك القدرة لبعض القدر أشد من مخالفة بعض هذه القدر للبعض، فنقول: هذا ضعيف، لأنا لا نعلل صلاحيتها لخلق الجسم بكونها مخالفة لهذه القدر، بل لخصوصيتها المعينة التي لأجلها خالفت سائر القدر وتلك الخصوصية معلوم أنها غير حاصلة في سائر القدر. ونظير ما ذكروه أن يقال: ليست مخالفة الصوت للبياض بأشد من مخالفة السواد للبياض، فلو كانت تلك المخالفة مانعة للصوت من صحة أن يرى لوجب لكون السواد مخالفا للبياض أن يمتنع رؤيته. ولما كان هذا الكلام فاسدا فكذا ما قالوه، والعجب من القاضي أنه لما حكى هذه الوجوه عن الأشعرية في مسألة الرؤية وزيفها بهذه الأسئلة، ثم إنه نفسه تمسك بها في هذه المسألة التي هي الأصل في إثبات النبوة والرد على من أثبت متوسطا بين الله وبيننا. أما الوجه الثاني وهو أن
207

القول بصحة النبوات لا يبقى مع تجويز هذا الأصل فنقول: إما أن يكون القول بصحة النبوات متفرعا على فساد هذه القاعدة أو لا يكون. فإن كان الأول امتنع فساد هذا الأصل بالبناء على صحة النبوات، وإلا وقع الدور، وإن كان الثاني فقد سقط هذا الكلام بالكلية. وأما الوجه الثالث: فلقائل أن يقول الكلام في الإمكان غير، ونحن لا نقول بأن هذه الحالة حاصلة لكل أحد بل هذه الحالة لا تحصل للبشر إلا في الأعصار المتباعدة فكيف يلزمنا ما ذكرتموه؟ فهذا هو الكلام في النوع الأول من السحر.
النوع الثاني من السحر: سحر أصحاب الأوهام والنفس القوية، قالوا: اختلف الناس في أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله: " أنا " ما هو؟ فمن الناس من يقول: إنه هو هذه البنية، ومنهم من يقول: إنه جسم صار في هذه البنية، ومنهم من يقول: بأنه موجود وليس بجسم ولا بجسماني. أما إذا قلنا إن الإنسان هو هذه البنية، فلا شك أن هذه البنية مركبة من الأخلاط الأربعة، فلم لا يجوز أن يتفق في بعض الأعصار الباردة أن يكون مزاجه مزاجا من الأمزجة في ناحية من النواحي يقتضي القدرة على خلق الجسم والعلم بالأمور الغائبة عنا والمتعذرة، وهكذا الكلام إذا قلنا الإنسان جسم سار في هذه البنية، أما إذا قلنا: إن الإنسان هو النفس فلم لا يجوز أن يقال: النفوس مختلفة فيتفق في بعض النفوس إن كانت لذاتها قادرة على هذه الحوادث الغريبة مطلعة على الأسرار الغائبة، فهذا الاحتمال مما لم تقم دلالة على فساده سوى الوجوه المتقدمة، وقد بان بطلانها، ثم الذي يؤكد هذا الاحتمال وجوه. أولها: أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه لو كان موضوعا على الأرض لا يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر على هاوية تحته، وما ذاك إلا أن تخيل السقوط متى قوي أوجبه، وثانيها: اجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان والدوران، وما ذاك إلا أن النفوس خلقت مطيعة للأوهام، وثالثها: حكى صاحب الشفاء عن " أرسطو " أن طبائع الحيوان: أن الدجاجة إذ تشبهت كثيرا بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة نبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك، ثم قال صاحب الشفاء: وهذا يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية، ورابعها: أجمعت الأمم على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل العمل عديم الأثر، فدل ذلك على أن للهمم والنفوس آثارا وهذا الاتفاق غير مختص بمسألة معينة وحكمة مخصوصة، وخامسها: أنك لو أنصفت لعلمت أن المبادىء القريبة للأفعال الحيوانية ليست إلا التصورات النفسانية لأن القوة المحركة المغروزة في العضلات صالحة للفعل وتركه أو ضده، ولن يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح وما ذاك إلا تصور كون الفعل جميلا أو لذيذا أو تصور كونه قبيحا أو مؤلما فتلك التصورات هي المبادىء لصيرورة القوى العضلية مبادئ للفعل لوجود الأفعال بعد أن كانت كذلك بالقوة، وإذا كانت هذه التصورات هي المبادىء لمبادئ هذه الأفعال فأي استبعاد في
208

كونها مبادئ لأفعال أنفسها وإلغاء الواسطة عن درجة الاعتبار، وسادسها: التجربة والعيان شاهدان بأن هذه التصورات مبادئ قريبة لحدوث الكيفيات في الأبدان فإن الغضبان تشتد سخونة مزاجه حتى أنه يفيده سخونة قوية.
يحكى أن بعض الملوك عرض له فالج فأعيا الأطباء مزاولة علاجه، فدخل عليه بعض الحذاق منهم على حين غفلة منه وشافهه بالشتم والقدح في العرض، فاشتد غضب الملك وقفز من مرقده قفزة اضطرارية لما ناله من شدة ذلك الكلام فزالت تلك العلة المزمنة والمرضة المهلكة. وإذا جاز كون التصورات مبادئ لحدوث الحوادث في البدن فأي استبعاد من كونها مبادئ لحدوث الحوادث خارج البدن. وسابعها؛ أن الإصابة بالعين أمر قد اتفق عليه العقلاء وذلك أيضا يحقق إمكان ما قلناه. إذا عرفت هذا فنقول: النفوس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدا فتستغني في هذه الأفعال عن الاستعانة بالآلات والأدوات وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات. وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم (السماء) كانت كأنها روح من الأرواح السماوية، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم، أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف البتة إلا في هذه البدن، فإذا أراد هذا الإنسان صيرورتها بحيث يتعدى تأثير من بدنها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس واشتغل الحس به فيتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة عليه فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية،
ولذلك أجمعت الأمم على أنه لا بد لمزاولة هذه الأعمال من انقطاع المألوفات والمشتهيات وتقليل الغذاء والانقطاع عن مخالطة الخلق. وكلما كانت هذه الأمور أتم كان ذلك التأثير أقوى، فإذا اتفق أن كانت النفس مناسبة لهذا الأمر نظرا إلى ماهيتها وخاصيتها عظم التأثير، والسبب المتعين فيه أن النفس إذا أشعلت بالجانب الأول اشتغلت جميع قوتها في ذلك الفعل وإذا اشتغلت بالأفعال الكثيرة تفرقت قوتها وتوزعت على تلك الأفعال تتصل إلى كل واحد من تلك الأفعال شعبة من تلك القوة وجدول من ذلك النهر. ولذلك نرى أن إنسانين يستويان في قوة الخاطر إذا اشتغل أحدهما بصناعة واحدة واشتغل الآخر بصناعتين. فإن (ذا الفن) الواحد يكون أقوى من ذي الفنين، ومن حاول الوقوف على حقيقة مسألة من المسائل فإنه حال تفكره فيها لا بد وأن يفرغ خاطره عما عداها، فإنه عند تفريغ الخاطر يتوجه الخاطر بكليته إليه فيكون الفعل أسهل وأحسن، وإذا كان كذلك فإذا كان الإنسان مشغول الهم والهمة بقضاء اللذات وتحصيل الشهوات كانت القوة النفسانية مشغولة بها مستغرقة فيها، فلا يكون انجذابها إلى تحصيل الفعل الغريب الذي يحاوله انجذابا قويا لا سيما وههنا آفة أخرى وهي أن مثل هذه النفس قد اعتادت الاشتغال باللذات من أول أمرها إلى آخره، ولم تشتغل قط باستحداث هذه الأفعال الغريبة، فهي بالطبع حنون إلى الأول عزوف إلى الثاني، فإذا وجدت مطلوبها من النمط الأول فإني تلتفت
209

إلى الجانب الآخر؟ فقد ظهر من هذا أن مزاولة هذه الأعمال لا تتأتى إلا مع التجرد عن الأحوال الجسمانية وترك مخالطة الخلق والاقبال بالكلية على عالم الصفاء والأرواح. وأما الرقي فإن كانت معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حس البصر كما شغلناه بالأمور المناسبة، لذلك الغرض فحس السمع نشغله أيضا بالأمور المناسبة لذلك الغرض، فإن الحواس متى تطابقت على التوجه إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه حينئذ أقوى، وأما إن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة، فإن الإنسان إذا اعتقد أن هذه الكلمات إنما تقرأ للاستعانة بشيء من الأمور الروحانية ولا يدري كيفية تلك الاستعانة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة، ويحصل للنفس في أثناء ذلك انقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل وجد عظيم، فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض، وهكذا القول في الدخن، قالوا: فقد ثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مشتغل بالتأثير، فإن انضم إليه النوع الأول من السحر وهو الاستعانة بالكواكب وتأثيراتها عظم التأثير، بل ههنا نوعان آخران، الأول: أن النفوس التي فارقت الأبدان قد يكون فيها ما هو شديد المشابهة لهذه النفوس في قوتها وفي تأثيراتها، فإذا صارت تلك النفوس صافية لم يبعد أن ينجذب إليها ما يتشابهها من النفوس المفارقة ويحصل لتلك النفوس نوع ما من التعلق بهذا البدن فتتعاضد النفوس الكثيرة على ذلك الفعل، وإذا كملت القوة وتزايدت قوى التأثير، الثاني: أن هذه النفوس الناطقة إذا صارت صافية عن الكدورات البدنية صارت قابلة للأنوار الفائضة من الأرواح السماوية والنفوس الفلكية، فتقوى هذه النفوس بأنوار تلك الأرواح، فتقوى على أمور غريبة خارقة للعادة فهذا شرح سحر أصحاب الأوهام والرقى.
النوع الثالث من السحر: الاستعانة بالأرواح الأرضية، واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة، أما أكابر الفلاسفة فإنهم ما أنكروا القول به إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة ومنها شريرة، فالخيرة هم مؤمنوا الجن والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم، ثم قال الخلف منهم: هذه الأرواح جواهر قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا حالة في المتحيز وهي قادرة عالمة مدركة للجزئيات، واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية، إلا أن القوة الحاصلة للنفوس الناطقة بسبب اتصالها بهذه الأرواح الأرضية أضعف من القوة الحاصلة إليها بسبب اتصالها بتلك الأرواح السماوية، أما أن الاتصال أسهل فلأن المناسبة بين نفوسنا وبين هذه الأرواح الأرضية أسهل، ولأن المشابهة والمشاكلة بينهما أتم وأشد من المشاكلة بين نفوسنا وبين الأرواح السماوية، وأما أن القوة بسبب الاتصال بالأرواح السماوية أقوى فلأن الأرواح السماوية هي بالنسبة إلى الأرواح الأرضية كالشمس بالنسبة إلى الشعلة، والبحر بالنسبة إلى القطرة، والسلطان بالنسبة إلى الرعية. قالوا: وهذه الأشياء وإن لم يقم على وجودها برهان قاهر فلا أقل من الاحتمال والإمكان، ثم إن
210

أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقي والدخن والتجريد، فهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل تسخير الجن. النوع الرابع من السحر: التخيلات والأخذ بالعيون، وهذا الأخذ مبني على مقدمات: إحداها: أن أغلاط البصر كثيرة، فإن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركا. وذلك يدل على أن الساكن يرى متحركا والمتحرك يرى ساكنا، والقطرة النازلة ترى خطا مستقيما، والذبالة التي تدار بسرعة ترى دائرة، والعنبة ترى في الماء كبيرة كالإجاصة، والشخص الصغير يرى في الضباب عظيما، وكبخار الأرض الذي يريك قرص الشمس عند طلوعها عظيما، فإذا فارقته وارتفعت عنه صغرت، وأما رؤية العظيم من البعيد صغيرا فظاهر، فهذه الأشياء قد هدت العقول إلى أن القوة الباصرة قد تبصر الشيء على خلاف ما هو عليه في الجملة لبعض الأسباب العارضة، وثانيها: أن القوة الباصرة إنما تقف على المحسوسات وقوفا تاما إذا أدركت المحسوس في زمان له مقدار ما، فأما إذا أدركت المحسوس في زمان صغير جدا ثم أدركت بعده محسوسا آخر وهكذا فإنه يختلط البعض بالبعض ولا يتميز بعض المحسوسات عن البعض، وذلك فإن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوطا كثيرة بألوان مختلفة ثم استدارات، فإن الحس يرى لونا واحدا كأنه مركب من كل تلك الألوان، وثالثها: أن النفس إذا كانت مشغولة بشيء، فربما حضر عند الحس شيء آخر ولا يشعر الحس به البتة كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان آخر ويتكلم معه، فلا يعرفه ولا يفهم كلامه، لما أن قلبه مشغول بشيء آخر، وكذا الناظر في المرآة فإنه ربما قصد أن يرى قذاة في عينه فيراها ولا يرى ما هو أكبر منها، إن كان بوجهه أثر أو بجبهته أو بسائر أعضائه التي تقابل المرآة، وربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستو أم لا فلا يرى شيئا مما في المرآة، إذا عرفت هذه المقدمات سهل عند ذلك تصور كيفية هذا النوع من السحر، وذلك لأن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه عمل شيئا آخر عملا بسرعة شديدة، فيبقى ذلك العمل خفيا لتفاوت الشيئين، أحدهما: اشتغالهم بالأمر الأول، والثاني: سرعة الإتيان بهذا العمل الثاني وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدا، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد
إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله، فهذا هو المراد من قولهم: إن المشعبذ يأخذ بالعيون لأنه بالحقيقة يأخذ العيون إلى غير الجهة التي يحتال فيها وكلما كان أخذه للعيون والخواطر وجذبه لها إلى سوى مقصوده أقوى كان أحذق في عمله، وكلما كانت الأحوال التي تفيد حس البصر نوعا من أنواع الخلل أشد كان هذا العمل أحسن، مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدا، فإن البصر يفيد البصر كلالا واختلالا، وكذا الظلمة الشديدة
211

وكذلك الألوان المشرقة القوية تفيد البصر كلالا واختلالا، والألوان المظلمة قلما تقف القوة الباصرة على أحوالها، فهذا مجامع القول في هذا النوع من السحر.
النوع الخامس من السحر: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية تارة وعلى ضروب الخيلاء أخرى، مثل: فارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر، وكفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب البوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصورونها ضاحكة وباكية، حتى يفرق فيها ضحك السرور وبين ضحك الخجل، وضحك الشامت، فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل، وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب، ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال وهو أن يجر ثقيلا عظيما بآلة خفيفة سهلة، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسبابا معلومة نفيسة من اطلع عليها قدر عليها، إلا أن الاطلاع عليها لما كان عسيرا شديدا لا يصل إليه إلا الفرد بعد الفرد، لا جرم عد أهل الظاهر ذلك من باب السحر، ومن هذا الباب عمل " أرجعيانوس " الموسيقار في هيكل أورشليم العتيق عند تجديده إياه وذلك أنه اتفق له أنه كان مجتازا بفلاة من الأرض فوجد فيها فرخا من فراخ البراصل، والبراصل هو طائر عطوف وكان يضمر صغيرا حزينا بخلاف سائر البراصل وكانت البراصل تجيئه بلطائف الزيتون فتطرحها عنده فيأكل بعضها عند حاجته ويفضل بعضها عن حاجته فوقف هذا الموسيقار هناك وتأمل حال ذلك الفرخ وعلم أن في صفيره المخالف لصفير البراصل ضربا من التوجع والاستعطاف حتى رقت له الطيور وجاءته بما يأكله فتلطف بعمل آلة تشبه الصفارة إذا استقبل الريح بها أدت ذلك الصفير ولم يزل يجرب ذلك حتى وثق بها وجاءته البراصل بالزيتون كما كانت تجيء إلى ذلك الفرخ لأنها تظن أن هناك فرخا من جنسها، فلما صح له ما أراد أظهر النسك وعمد إلى هيكل أورشليم وسأل عن الليلة التي دفن فيها " أسطرخس " الناسك القيم بعمارة ذلك الهيكل فأخبر أنه دفن في أول ليلة من آب فاتخذ صورة من زجاج مجوف على هيئة البرصلة ونصبها فوق ذلك الهيكل، وجعل فوق تلك الصورة قبة وأمرهم بفتحها في أول آب وكان يظهر صوت البرصلة بسبب نفوذ الريح في تلك الصورة وكانت البراصل تجيء بالزيتون حتى كانت تمتلئ تلك القبة كل يوم من ذلك الزيتون والناس اعتقدوا أنه من كرامات ذلك المدفون ويدخل في الباب أنواع كثيرة لا يليق شرحها في هذا الموضع.
النوع السادس من السحر: الاستعانة بخواص الأدوية مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية البلدة المزيلة للعقل والدخن المسكرة نحو دماغ الحمار إذا تناوله الإنسان تبلد عقله وقلت فطنته. واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن أثر المغناطيس مشاهد إلا أن الناس قد أكثروا فيه وخلطوا الصدق بالكذب والباطل بالحق.
212

النوع السابع من السحر: تعليق القلب وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن كان السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه، بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة، وإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل حينئذ ما يشاء وإن من جرب الأمور وعرف أحوال أهل العلم علم أن لتعلق القلب أثرا عظيما في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار.
النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس، فهذا جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه والله أعلم.
المسألة الرابعة: في أقوال المسلمين في أن هذه الأنواع هل هي ممكنة أم لا؟ أما المعتزلة فقد اتفقوا على إنكارها إلا النوع المنسوب إلى التخيل والمنسوب إلى إطعام بعض الأدوية المبلدة والمنسوب إلى التضريب والنميمة، فأما الأقسام الخمسة الأول فقد أنكروها ولعلهم كفروا من قال بها وجوز وجودها، وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر على أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حمارا والحمار إنسانا، إلا أنهم قالوا: إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر رقى مخصوصة وكلمات معينة. فأما أن يكون المؤثر في ذلك الفلك والنجوم فلا. وأما الفلاسفة والمنجمون والصابئة فقولهم على ما سلف تقريره، واحتج أصحابنا على فساد قول الصابئة إنه قد ثبت أن العالم محدث فوجب أن يكون موجده قادرا والشيء الذي حكم العقل بأنه مقدور إنما يصح أن يكون مقدورا لكونه ممكنا والإمكان قدر مشترك بين كل الممكنات، فأذن كل الممكنات مقدور لله تعالى ولو وجد شيء من تلك المقدورات بسبب آخر يلزم أن يكون ذلك السبب مزيلا لتعلق قدرة الله تعالى بذلك المقدور فيكون الحادث سببا لعجز الله وهو محال، فثبت أنه يستحيل وقوع شيء من الممكنات إلا بقدرة الله وعنده يبطل كل ما قاله الصابئة، قالوا: إذا ثبت هذا فندعي أنه يمتنع وقوع هذه الخوارق بإجراء العادة عند سحر السحرة فقد احتجوا على وقوع هذا النوع من السحر بالقرآن والخبر. أما القرآن فقوله تعالى في هذه الآية: * (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) *، والاستثناء يدل على حصول الآثار بسببه، وأما الأخبار فهي واردة عنه صلى الله عليه وسلم متواترة وآحادا، أحدها ما روي أنه عليه السلام سحر، وأن السحر عمل فيه حتى قال: " إنه ليخيل إلى أني أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله " وأن امرأة يهودية سحرته وجعلت ذلك السحر تحت راعوفة البئر، فلما استخرج ذلك زال عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك العارض وأنزل المعوذتان بسببه، وثانيها: أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها فقالت لها: إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت: وما سحرك؟ فقالت: صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا: لي يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت، فقالا لي: اذهبي فبولي على ذلك الرماد، فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعل وجئت إليهما فقلت: قد فعلت، فقالا لي: ما رأيت لما فعلت؟ فقلت
213

ما رأيت شيئا، فقالا لي: أنت على رأس أمر فاتقي الله ولا تفعلي، فأبيت فقالا لي: اذهبي فافعلي، فذهبت ففعلت، فرأيت كأن فارسا مقنعا بالحديد قد خرج من فرجي
فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا: إيمانك قد خرج عنك وقد أحسنت السحر، فقلت: وما هو؟ قالا: ما تريدين شيئا فتصوريه في وهمك، إلا كان فصورت في نفسي حبا من حنطة، فإذا أنا بحب، فقلت: أنزرع فانزرع فخرج من ساعته سنبلا فقلت: انطحن فانطحن من ساعته، فقلت: انخبز فانخبز وأنا لا أريد شيئا أصوره في نفسي إلا حصل، فقالت عائشة: ليس لك توبة، وثالثها: ما يذكرونه من الحكايات الكثيرة في هذا الباب وهي مشهورة. أما المعتزلة فقد احتجوا على إنكاره بوجوه، أحدها: قوله تعالى: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) * (الفرقان: 8)، وثانيها: قوله تعالى في وصف محمد صلى الله عليه وسلم: * (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * ولو صار عليه السلام مسحورا لما استحقوا الذم بسبب هذا القول، وثالثها: أنه لو جاز ذلك من السحر فكيف يتميز المعجز عن السحر ثم قالوا: هذه الدلائل يقينية والأخبار التي ذكرتموها من باب الآحاد فلا تصلح معارضة لهذه الدلائل.
المسألة الخامسة: في أن العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور: اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف وأيضا لعموم قوله تعالى: * (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (الزمر: 9) ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز، والعلم بكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا.
المسألة السادسة: في أن الساحر قد يكفر أم لا، اختلف الفقهاء في أن الساحر هل يكفر أم لا؟ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقهما بقول فقد كفر بما أنزل على محمد) * عليه السلام واعلم أنه لا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور، فإنه يكون كافرا على الاطلاق وهذا هو النوع الأول من السحر.
أما النوع الثاني: وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البنية والشكل، فالأظهر إجماع الأمة أيضا على تكفيره.
أما النوع الثالث: وهو أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقي وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل فههنا المعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل، وهذا ركيك من القول. فإن لقائل أن يقول إن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذبا في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار هذه الأشياء على يده لئلا يحصل التلبيس، أما إذا لم يدع النبوة وأظهر هذه الأشياء على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس فإن المحق يتميز عن
214

المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة. وأما سائر الأنواع التي عددناها من السحر فلا شك أنه ليس بكفر. فإن قيل: إن اليهود لما أضافوا السحر إلى سليمان قال الله تعالى تنزيها له عنه: * (وما كفر سليمان) * وهذا يدل على أن السحر كفر على الإطلاق وأيضا قال: * (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) * وهذا أيضا يقتضي أن يكون السحر على الإطلاق كفرا. وحكي عن الملكين أنهما لا يعلمان أحدا السحر حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر وهو يدل على أن السحر كفر على الإطلاق، قلنا: حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة فتحملها على سحر من يعتقد إلهية النجوم.
المسألة السابعة: في أنه هل يجب قتلهم أم لا؟ أما النوع الأول: وهو أن يعتقد في الكواكب كونها آلهة مدبرة. والنوع الثاني: وهو أن يعتقد أن الساحر قد يصير موصوفا بالقدرة على خلق الأجسام وخلق الحياة والقدرة والعقل وتركيب الأشكال، فلا شك في كفرهما، فالمسلم إذا أتى بهذا الاعتقاد كان كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل. وروي عن مالك وأبي حنيفة أنه لا تقبل توبته، لنا أنه أسلم فيقبل إسلامه لقوله عليه السلام: " نحن نحكم بالظاهر "، أما النوع الثالث: وهو أن يعتقد أن الله تعالى أجرى عادته بخلق الأجسام والحياة وتغيير الشكل والهيئة عند قراءة بعض الرقي وتدخين بعض الأدوية، فالساحر يعتقد أنه يمكن الوصول إلى استحداث الأجسام والحياة وتغيير الخلقة بهذا الطريق، وقد ذكرنا عن المعتزلة أنه كفر قالوا: لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه الاستدلال بالمعجز على صدق الأنبياء، وهذا ركيك لأنه يقال: الفرق هو أن مدعي النبوة إن كان صادقا في دعواه أمكنه الإتيان بهذه الأشياء وإن كان كاذبا تعذر عليه ذلك فبهذا يظهر الفرق. إذا ثبت أنه ليس بكافر وثبت أنه ممكن الوقوع فإذا أتى الساحر بشيء من ذلك فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر، لأنه حكم على المحظور بكونه مباحا، وإن اعتقد حرمته فعند الشافعي رضي الله عنه أن حكمه حكم الجناية، إن قال: إني سحرته وسحري يقتل غالبا، يجب عليه القود، وإن قال: سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد وإن قال سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ تجب الدية مخففة في ماله لأنه ثبت بإقراره إلا أن تصدقه الكاملة فحينئذ العاقلة تجب عليهم هذا تفصيل مذهب الشافعي رضي الله عنه، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله: إني أترك السحر وأتوب منه، فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه وإن شهد شاهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يستتاب وإن أقر بأني كنت أسحر مرة وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل، وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال: سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة في الساحر: يقتل ولا يستتاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد، فقال: الساحر جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد ومن كان كذلك إذا قتل قتل، واحتج أصحابنا بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر فهو فسق
215

فإن لم يكن جناية على حق الغير كان الحق هو التفصيل الذي ذكرناه. الثاني: أن ساحر اليهود لا يقتل لأنه عليه الصلاة والسلام سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن أعصم وامرأة من يهود خيبر يقال لها زينب، فلم يقتلهما فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: " لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ". واحتج أبو حنيفة رحمه الله على قوله بأخبار، أحدها: ما روى نافع عن ابن عمر أن جارية لحفصة سحرتها وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها فبلغ
عثمان فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك لأنها قتلت بغير إذنه، وثانيها: ما روى عمرو بن دينار أنه ورد كتاب عمر رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر، وثالثها: قال علي بن أبي طالب: إن هؤلاء العرافين كهان العجم، فمن أتى كاهنا يؤمن له بما يقول: فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم. والجواب: لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة فإن حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة، وأما سائر أنواع السحر أعني الإتيان بضروب الشعبذة والآلات العجيبة المبنية على ضروب الخيلاء، والمبنية على النسب الهندسية وكذلك القول فيمن يوهم ضروبا من التخويف والتقريع حتى يصير من به السوداء محكم الاعتقاد فيه ويتمشى بالتضريب والنميمة ويحتال في إيقاع الفرقة بعد الوصلة، ويوهم أن ذلك بكتابة يكتبها من الاسم الأعظم فكل ذلك ليس بكفر، وكذلك القول في دفن الأشياء الوسخة في دور الناس، وكذا القول في إيهام أن الجن يفعلون ذلك، وكذا القول فيمن يدس الأدوية المبلدة في الأطعمة فإن شيئا من ذلك لا يبلغ حد الكفر ولا يوجب القتل البتة، فهذا هو الكلام الكلي في السحر والله الكافي والواقي ولنرجع إلى التفسير.
أما قوله تعالى: * (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) * فظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون الناس السحر، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وتعليم ما لا يكون كفرا لا يوجب الكفر، فصارت الآية دالة على أن تعليم السحر كفر، وعلى أن السحر أيضا كفر، ولمن منع ذلك أن يقول: لا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، بل المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون الناس السحر، فإن قيل: هذا مشكل لأن الله تعالى أخبر في آخر الآية أن الملكين يعلمان الناس السحر، فلو كان تعليم السحر كفرا لزم تكفير الملكين، وإنه غير جائز لما ثبت أن الملائكة بأسرهم معصومون وأيضا فلأنكم قد دللتم على أنه ليس كل ما يسمى سحرا فهو كفر. قلنا: اللفظ المشترك لا يكون عاما في جميع مسمياته، فنحن نحمل هذا السحر الذي هو كفر على النوع الأول من الأشياء المسماة بالسحر، وهو اعتقاد إلهية الكواكب والاستعانة بها في إظهار المعجزات وخوارق العادات، فهذا السحر كفر، والشياطين إنما كفروا لإتيانهم بهذا السحر لا بسائر الأقسام.
وأما الملكان فلا نسلم أنهما علما هذا النوع من السحر، بل لعلهم يعلمان سائر الأنواع على
216

ما قال تعالى: * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) * وأيضا فبتقدير أن يقال: إنهما علما هذا النوع لكن تعليم هذا النوع إنما يكون كفرا إذا قصد المعلم أن يعتقد حقيقته وكونه صوابا، فأما أن يعلمه ليحترز عنه فهذا التعليم لا يكون كفرا، وتعليم الملائكة كان لأجل أن يصير المكلف محترزا عنه على ما قال تعالى حكاية عنهما: * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) * وأما الشياطين الذين علموا الناس السحر فكان مقصودهم اعتقاد حقية هذه الأشياء فظهر الفرق.
المسألة الثامنة: قرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو بتشديد " لكن " و " الشياطين " بالنصب على أنه اسم " لكن " والباقون " لكن " بالتخفيف و " الشياطين " بالرفع والمعنى واحد، وكذلك في الأنفال: * (ولكن الله رمى) *. * (ولكن الله قتلهم) * (الأنفال: 17) والاختيار أنه إذا كان بالواو كان التشديد أحسن، وإذا كان بغير الواو فالتخفيف أحسن، والوجه فيه أن " لكن " بالتخفيف يكون عطفا فلا يحتاج إلى الواو لاتصال الكلام، والمشددة لا تكون عطفا لأنها تعمل عمل " إن ".
أما قوله تعالى: * (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: " ما " في قوله: * (وما أنزل) * فيه وجهان. الأول: أنه بمعنى الذي ثم هؤلاء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال. الأول: أنه عطف على (السحر) أي يعلمون الناس السحر ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أيضا. وثانيها: أنه عطف على قوله: * (ما تتلوا الشياطين) * أي واتبعوا الذي تلته الشياطين، ومنه ما تأثيره في التفريق بين المرء وزوجه وهو الذي أنزل على الملكين فكأنه تعالى أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا كلا الأمرين ولم يقتصروا على أحدهما، وثالثها: أن موضعه جر عطفا على (ملك سليمان) وتقديره ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله، وأنكر في الملكين أن يكون السحر نازلا عليهما واحتج عليه بوجوه. الأول: أن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله تعالى، وذلك غير جائز لأن السحر كفر وعبث ولا يليق بالله إنزال ذلك، الثاني: أن قوله: * (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) * يدل على أن تعليم السحر كفر، فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر، وذلك باطل. الثالث: كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى، الرابع: أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب؟ وهل السحر إلا الباطل المموه وقد جرت عادة الله تعالى بإبطاله كما قال في قصة موسى عليه السلام: * (ما جئتم به السحر إن الله سيبطله) * (يونس: 81) ثم إنه رحمه الله سلك في تفسير الآية نهجا آخر يخالف قول أكثر المفسرين، فقال: كما أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ
217

عنه، فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر مع أن المنزل عليهما كان مبرأ عن السحر، وذلك لأن المنزل عليهما كان هو الشرع والدين والدعاء إلى الخير، وإنما كانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما: * (إنما نحن فتنة فلا تكفر) * توكيدا لبعثهم على القبول والتمسك، وكانت طائفة تتمسك وأخرى تخالف وتعدل عن ذلك ويتعلمون منهما أي من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه، فهذا تقرير مذهب أبي مسلم. الوجه الثاني: أن يكون " ما " بمعنى الجحد ويكون معطوفا على قوله تعالى: * (وما كفر سليمان) * كأنه قال: لم يكفر سليمان ولم ينزل على الملكين سحر لأن السحرة كانت تضيف السحر إلى سليمان وتزعم أنه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، فرد الله عليهم في القولين قوله: * (وما يعلمان من أحد) * جحد أيضا أي لا يعلمان أحدا بل ينهيان عنه أشد النهي.
أما قوله تعالى: * (حتى يقولا إنما نحن فتنة) * أي ابتلاء وامتحان فلا تكفر وهو كقولك ما أمرت فلانا بكذا حتى قلت له إن فعلت كذا نالك كذا، أي ما أمرت به بل حذرته عنه.
وأعلم أن هذه الأقوال وإن كانت حسنة إلا أن القول الأول أحسن منها، وذلك لأن عطف قوله: * (وما أنزل) * على ما يليه أولى من عطفه على ما بعد عنه إلا لدليل منفصل، أما قوله: لو نزل السحر عليهما لكان منزل ذلك السحر هو الله تعالى. قلنا: تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب في إدخاله في الوجود وقد يكون
لأجل أن يقع الاحتراز عنه كما قال الشاعر: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
قوله ثانيا: إن تعليم السحر كفر لقوله تعالى: * (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) *، فالجواب: أنا بينا أنه واقعة حال فيكفي في صدقها صورة واحدة وهي ما إذا اشتغل بتعليم سحر من يقول بإلهية الكواكب ويكون قصده من ذلك التعليم إثبات أن ذلك المذهب حق. قوله ثالثا: إنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليم السحر فكذا الملائكة. قلنا: لا نسلم أنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليمه بحيث يكون الغرض من ذلك التعليم التنبيه على إبطاله. قوله رابعا: إنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه؟ قلنا: فرق بين العمل وبين التعليم فلم لا يجوز أن يكون العمل منهيا عنه؟ وأما تعليمه لغرض التنبيه على فساده فإنه يكون مأمورا به.
المسألة الثانية: قرأ الحسن: (ملكين) بكسر اللام وهو مروي عن الضحاك وابن عباس ثم اختلفوا، فقال الحسن: كانا علجين أقلفين ببابل يعلمان الناس السحر، وقيل: كانا رجلين صالحين من الملوك. والقراءة المشهورة بفتح اللام وهما كانا ملكين نزلا من السماء، وهاروت وماروت اسمان لهما، وقيل: هما جبريل وميكائيل عليهما السلام، وقيل غيرهما: أما الذين كسروا اللام فقد احتجوا بوجوه، أحدها: أنه لا يليق بالملائكة تعليم السحر، وثانيها: كيف يجوز إنزال
218

الملكين مع قوله: * (ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون) * (الأنعام: 8)، وثالثها: لو أنزل الملكين لكان إما أن يجعلهما في صورة الرجلين أو لا يجعلهما كذلك، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلا وتلبيسا على الناس وهو غير جائز، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذين نشاهدهم لا يكون في الحقيقة إنسانا، بل ملكا من الملائكة؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * (الأنعام: 9) والجواب في الأصل أنا سنبين وجه الحكمة في إنزال الملائكة لتعليم السحر، وعن الثاني: أن هذه الآية عامة وقراءة الملكين بفتح اللام متواترة وخاصة والخاص مقدم على العام، وعن الثالث: أن الله تعالى أنزلهما في صورة رجلين وكان الواجب على المكلفين في زمان الأنبياء أن لا يقطعوا على من صورته صورة الإنسان بكونه إنسانا، كما أنه في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام كان الواجب على من شاهد دحية الكلبي أن لا يقطع بكونه من البشر بل الواجب التوقف فيه.
المسألة الثالثة: إذا قلنا بأنهما كانا من الملائكة فقد اختلفوا في سبب نزولهما فروي عن ابن عباس أن الملائكة لما أعلمهم الله بآدم وقالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * فأجابهم الله تعالى بقوله: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * (البقرة: 30) ثم إن الله تعالى وكل عليهم جمعا من الملائكة وهم الكرام الكاتبون فكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح، ثم أضافوا إليهما عمل السحر فازداد تعجب الملائكة فأراد الله تعالى أن يبتلي الملائكة، فقال لهم: اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علما وزهدا وديانة لأنزلهما إلى الأرض فأختبرهما، فاختاروا هاروت وماروت، وركب فيهما شهوة الإنس وأنزلهما ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا والشرب، فنزلا فذهبت إليهما امرأة من أحسن النساء وهي الزهرة فراوداها عن نفسها فأبت أن تطيعهما إلا بعد أن يعبدا الصنم، وإلا بعد أن يشربا الخمر، فامتنعا أولا، ثم غلبت الشهوة عليهما فأطاعاها في كل ذلك، فعند إقدامهما على الشرب وعبادة الصنم دخل سائل عليهم فقالت: إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا، فإن أردتما الوصول إلي فاقتلا هذا الرجل، فامتنعا منه ثم اشتغلا بقتله فلما فرغا من القتل وطلبا المرأة فلم يجداها، ثم إن الملكين عند ذلك ندما وتحسرا وتضرعا إلى الله تعالى فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا وهما يعذبان ببابل معلقان بين السماء والأرض يعلمان الناس السحر، ثم لهم في الزهرة قولان، أحدهما: أن الله تعالى لما ابتلى الملكين بشهوة بني آدم أمر الله الكوكب الذي يقال له الزهرة وفلكها أن اهبطا إلى الأرض إلى أن كان ما كان، فحينئذ ارتفعت الزهرة وفلكها إلى موضعهما من السماء موبخين لهما على ما شاهداه منهما. والقول الثاني: أن المرأة فاجرة من أهل الأرض وواقعاها بعد شرب الخمر وقتل النفس وعبادة الصنم، ثم علماها الاسم الذي كانا به يعرجان إلى السماء فتكلمت به وعرجت إلى السماء وكان اسمها " بيدخت " فمسخها الله وجعلها هي الزهرة، واعلم أن هذه الرواية فاسدة مردودة
219

غير مقبولة لأنه ليس في كتاب الله ما يدل على ذلك، بل فيه ما يبطلها من وجوه، الأول: ما تقدم من الدلائل الدالة على عصمة الملائكة عن كل المعاصي، وثانيها: أن قولهم إنهما خيرا بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة فاسد، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة والعذاب لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره، فكيف يبخل عليهما بذلك؟ وثالثها: أن من أعجب الأمور قولهم: إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما يعاقبان ولما ظهر فساد هذا القول فنقول: السبب في إنزالهما وجوه. أحدها: أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبوابا غريبة في السحر، وكانوا يدعون النبوة ويتحدون الناس بها، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأجل أن يعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذبا، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد، وثانيها: أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسحر متوقف على العلم بماهية المعجزة وبماهية السحر، والناس كانوا جاهلين بماهية السحر، فلا جرم هذا تعذرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة، فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض، وثالثها: لا يمتنع أن يقال: السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أولياء الله كان مباحا عندهم أو مندوبا، فالله تعالى بعث الملكين لتعليم السحر لهذا الغرض، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما واستعملوه في الشر وإيقاع الفرقة بين أولياء الله والألفة بين أعداء الله، ورابعها: أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ولما كان السحر منهيا عنه وجب أن يكون متصورا معلوما لأن الذي لا يكون متصورا امتنع النهي عنه، وخامسها: لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أمورا يقدرون بها على معارضة الجن، وسادسها: يجوز أن يكون ذلك تشديدا في التكليف من حيث أنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب به الثواب الزائد كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال: * (فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني) * (البقرة: 249) فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى
إنزال الملكين لتعليم السحر والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه السلام لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له، ولا يجوز كونهما رسولين لأنه ثبت أنه تعالى لا يبعث الرسول إلى الإنس ملكا.
المسألة الخامسة: " هاروت وماروت " عطف بيان للملكين، علمان لهما وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا، وقرأ الزهري: هاروت وماروت بالرفع على: هما هاروت وماروت.
أما قوله تعالى: * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) * فاعلم أنه تعالى شرح حالهما فقال: وهذان الملكان لا يعلمان السحر إلا بعد التحذير الشديد من العمل به وهو قولهما:
220

* (إنما نحن فتنة فلا تكفر) * والمراد ههنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي، كقولهم: فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخالص عن المشوب، وقد بينا الوجوه في أنه كيف يحسن بعثة الملكين لتعليم السحر فالمراد أنهما لا يعلمان أحدا السحر ولا يصفانه لأحد ولا يكشفان له وجوه الاحتيال حتى يبذلا له النصيحة، فيقولا له: " إنما نحن فتنة " أي هذا الذي نصفه لك وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر وبين المعجز، ولكنه يمكنك أن تتوصل إلى المفاسد والمعاصي، فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة.
أما قوله تعالى: * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير هذا التفريق وجهين. الأول: أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد أن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق فيصير كافرا، وإذا صار كافرا بانت منه امرأته فيحصل تفرق بينهما، الثاني: أنه يفرق بينهما بالتمويه والحيل والتضريب وسائر الوجوه المذكورة.
المسألة الثانية: أنه تعالى لم يذكر ذلك لأن الذي يتعلمون منهما ليس إلا هذا القدر، لكن ذكر هذه الصورة تنبيها على سائر الصور، فإن استكانة المرء إلى زوجته وركونه إليها معروف زائد على كل مودة، فنبه الله تعالى بذكر ذلك على أن السحر إذا أمكن به هذا الأمر على شدته فغيره به أولى.
أما قوله تعالى: * (وما هم بضارين به من أحد) * فإنه يدل على ما ذكرناه لأنه أطلق الضرر، ولم يقصره على التفريق بين المرء وزوجه، فدل ذلك على أنه تعالى إنما ذكره لأنه من أعلى مراتبه.
أما قوله تعالى: * (إلا بإذن الله) * فاعلم أن الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر ولأنه تعالى أراد عيبهم وذمهم، ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه فلا بد من التأويل وفيه وجوه، أحدها: قال الحسن: المراد منه التخلية، يعني السحر إذا سحر إنسانا فإن شاء الله منعه منه وإن شاء خلى بينه وبين ضرر السحر، وثانيها: قال الأصم: المراد إلا بعلم الله وإنما سمي الأذان أذانا لأنه إعلام للناس بوقت الصلاة وسمي الأذان إذنا لأن بالحاسة القائمة به يدرك الأذن، وكذلك قوله تعالى: * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج) * (التوبة: 3) أي إعلام، وقوله: * (فأذنوا بحرب من الله) * (البقرة: 279) معناه: فاعلموا وقوله: * (آذنتكم على سواه) * (الأنبياء: 109) يعني أعلمتكم، وثالثها: أن الضرر الحاصل عند فعل السحر إنما يحصل بخلق الله وإيجاده وإبداعه وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى إذن الله تعالى كما قال: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40). ورابعها: أن يكون المراد بالإذن الأمر وهذا الوجه لا يليق إلا بأن يفسر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافرا والكفر يقتضي التفريق، فإن هذا حكم شرعي، وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى.
221

أما قوله تعالى: * (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إنما ذكر لفظ الشراء على سبيل الاستعارة لوجوه، أحدها: أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلوا الشياطين فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله، وثانيها؛ أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة فلما استعمل السحر فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا. وثالثها: أنه لما استعمل السحر علمنا أنه إنما تحمل المشقة ليتمكن من ذلك الاستعمال فكأنه اشترى بالمحن التي تحملها قدرته على ذلك الاستعمال.
المسألة الثانية: قال الأكثرون: " الخلاق " النصيب، قال القفال: يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق ومعناه التقدير ومنه خلق الأديم، ومنه يقال: قدر للرجل كذا درهما رزقا على عمل كذا. وقال آخرون: الخلاق الخلاص ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
يدعون بالويل فيها لأخلاق لهم * إلا سرابيل قطران وأغلال
بقي في الآية سؤال: وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله: * (ولقد علموا) * ثم نفاه عنهم في قوله: * (لو كانوا يعلمون) * والجواب من وجوه، أحدها: أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا، فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه وهم الذين قال الله في حقهم: * (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) * وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر فهم الذين لا يعلمون، وهذا جواب الأخفش وقطرب. وثانيها: لو سلمنا كون القوم واحدا ولكنهم علموا شيئا وجهلوا شيئا آخر، علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق ولكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة، وما حصل لهم من مضارها وعقوباتها. وثالثها: لو سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ولكنهم لم ينتفعوا بعلمهم بل أعرضوا عنه فصار ذلك العلم كالعدم كما سمى الله تعالى الكفار: * (صما وبكا وعميا) * إذ لم ينتفعوا بهذه الحواس. ويقال للرجل في شيء يفعله لكنه لا يضعه موضعه: صنعت ولم تصنع.
* (ولو أنهم ءامنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) *
اعلم أن الضمير عائد إلى اليهود الذين تقدم ذكرهم، فإنه تعالى لما بين فيهم الوعيد بقوله: * (ولبئس ما شروا به) * (البقرة: 102) أتبعه بالوعد جامعا بين الترهيب والترغيب لأن الجمع بينهما أدعى إلى الطاعة والعدول عن المعصية.
أما قوله تعالى: * (آمنوا) * فاعلم أنه تعالى لما قال: * (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب
222

الله وراء ظهورهم) * (البقرة: 101) ثم وصفهم بأنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين وأنهم تمسكوا بالسحر. قال من بعد: * (ولو أنهم آمنوا) * يعني بما نبذوه من كتاب الله. فإن حملت ذلك على القرآن جاز، وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز؛ وإن حملته على الأمرين جاز، والمراد من التقوى الاحتراز عن فعل المنهيات وترك المأمورات.
أما قوله تعالى: * (لمثوبة من عند الله خير) * ففيه وجوه، أحدها: أن الجواب محذوف وتقديره ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا إلا أنه تركت الجملة الفعلية إلى هذه الإسمية لما في الجملة الإسمية من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها. فإن قيل: هلا قيل لمثوبة الله خير؟ قلنا: لأن المراد لشيء من ثواب الله خير لهم. وثانيها: يجوز أن يكون قوله: * (ولو أنهم آمنوا) * تمنيا لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم كأنه قيل: وليتهم آمنوا، ثم ابتدأ. لمثوبة من عند الله خير.
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) *
اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد عليه الصلاة والسلام أراد من ههنا أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وجدهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه وهذا هو النوع الأول من هذا الباب وههنا مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) * في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن. قال ابن عباس: وكان يخاطب في التوراة بقوله: يا أيها المساكين فكأنه سبحانه وتعالى لما خاطبهم أولا بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخرا حيث قال: * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) * (البقرة: 61)، وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أولا فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب في النيران يوم القيامة، وأيضا فاسم المؤمن أشرف الأسماء والصفات، فإذا كان يخاطبنا في الدنيا بأشرف الأسماء والصفات فنرجو من فضله أن يعاملنا في الآخرة بأحسن المعاملات. المسألة الثانية: أنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من أحدهما ويأذن في الأخرى، ولذلك فإن عند الشافعي رضي الله عنه لا تصلح الصلاة بترجمة الفاتحة سواء كانت بالعبرية أو بالفارسية، فلا يبعد أن يمنع الله من قوله: * (راعنا) * ويأذن في قوله: * (انظرنا) * وإن كانتا مترادفتين ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قوله: * (راعنا) * لاشتمالها على نوع مفسدة ثم ذكروا فيه وجوها، أحدها: كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا عليهم
223

شيئا من العلم: راعنا يا رسول الله، واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي " راعينا " ومعناها: اسمع لا سمعت، فلما سمعوا المؤمنين يقولون: راعنا إفترضوه وخاطبوا به النبي وهم يعنون تلك المسبة، فنهى المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي قوله: * (انظرنا) *، ويدل على صحة هذه التأويل قوله تعالى في سورة النساء: * (ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين) * (النساء: 46)، وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت هذه الآية، وثانيها: قال قطرب: هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز ما كانوا يقولونها إلا عند الهزؤ والسخرية، فلا جرم نهى الله عنها، وثالثها: أن اليهود كانوا يقولون: راعينا أي أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها، ورابعها: أن قوله: " راعنا " مفاعلة من الرعي بين اثنين، فكان هذا اللفظ موهما للمساواة بين المخاطبين كأنهم قالوا: أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا، فنهاهم الله تعالى عنه وبين أن لا بد من تعظيم الرسول عليه السلام في المخاطبة على ما قال: * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) * (النور: 63). وخامسها: أن قوله: " راعنا " خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول: راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره، وليس في " انظرنا " إلا سؤال الانتظار كأنهم قالوا له توقف في كلامك وبيانك مقدار ما نصل إلى فهمه، وسادسها: أن قوله: " راعنا " على وزن عاطنا من المعاطاة، ورامنا من المراماة، ثم إنهم قلبوا هذه النون إلى النون الأصلية وجعلوها كلمة مشتقة من الرعونة وهي الحق، فالراعن اسم فاعل من الرعونة، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر. كقولهم: عياذا بك، أي أعوذ عياذا بك، فقولهم: راعنا: أي فعلت رعونة. ويحتمل أنهم أرادوا به: صرت راعنا، أي صرت ذا رعونة، فلما قصدوا هذه الوجوه الفاسدة لا جرم نهى الله تعالى عن هذه الكلمة. وسابعها: أن يكون المراد لا تقولوا قولا: راعنا أي: قولا منسوبا إلى الرعونة بمعنى راعن: كتامر ولابن.
أما قوله تعالى: * (وقولوا انظرنا) * ففيه وجوه. أحدها: أنه من نظره أي أنظره، قال تعالى: * (انظرونا نقتبس من نوركم) * (الحديد: 13) فأمرهم تعالى بأن يسألوه الإمهال لينقلوا عنه، فلا يحتاجون إلى الاستعاذة. فإن قيل: أفكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجل عليهم حق يقولون هذا؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثه: اسمع أو سمعت. الثاني: أنهم فسروا قوله تعالى: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * أنه عليه السلام كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل عليه السلام حرصا على تحصيل الوحي وأخذ القرآن، فقيل له: لا تحرك به لسانك لتعجل به فلا يبعد أن يعجل فيما يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصا على تعجيل أفهامهم فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام، وثانيها: " انظرنا " معناه " انظر " إلينا إلا أنه حذف
224

حرف " إلى " كما في قوله: * (واختار موسى قومه) * (الأعراف: 155) والمعنى من قومه، والمقصود منه أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كان إيراده للكلام على نعت الإفهام والتعريف أظهر وأقوى. وثالثها: قرأ أبي بن كعب " أنظرنا " من النظرة أي أمهلنا.
أما قوله تعالى: * (واسمعوا) * فحصول السماع عند سلامة الحاسة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر، فلا يجوز وقوع الأمر به، فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة، أحدها: فرغوا أسماعكم لما يقول النبي عليه السلام حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة، وثانيها: اسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم سماع اليهود حيث قالوا: سمعنا وعصينا، وثالثها: اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيدا عليهم، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطريقة من الإعظام والتبجيل والإصغاء إلى ما يقول والتفكر فيما يقول، ومعنى " العذاب الأليم " قد تقدم.
* (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشآء والله ذوالفضل العظيم) *
واعلم أنه تعالى لما بين حال اليهود والكفار في العداوة والمعاندة حذر المؤمنين منهم فقال: * (ما يود الذين كفروا) * فنفى عن قلوبهم الود والمحبة لكل ما يظهر به فضل المؤمنين وههنا مسألتان:
المسألة الأولى: " من " الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان: أهل الكتاب والمشركون، والدليل عليه قوله تعالى: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * (البينة: 1) والثانية: مزيدة لاستغراق الخير، والثالثة: لابتداء الغاية.
المسألة الثانية: الخير الوحي وكذلك الرحمة، يدل عليه قوله تعالى: * (أهم يقسمون رحمة ربك) * (الزخرف: 32) المعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحي إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي.
ثم بين سبحانه أن ذلك الحسد لا يؤثر في زوال ذلك، فإنه سبحانه يختص برحمته وإحسانه من يشاء.
* (ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن ا الله على كل شيء قدير) *
225

اعلم أن هذا هو النوع الثاني من طعن اليهود في الإسلام، فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا وغدا يرجع عنه، فنزلت هذه الآية، والكلام في الآية مرتب على مسائل:
المسألة الأولى: النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشيء، وقال القفال: إنه للنقل والتحويل لنا أنه يقال: نسخت الريح آثار القوم إذا عدمت، ونسخت الشمس الظل إذا عدم، لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه، وقال تعالى: * (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان) * (الحج: 52) أي يزيله ويبطله، والأصل في الكلام الحقيقة. وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب أن لا يكون حقيقة في النقل دفعا للاشتراك. فإن قيل: وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار، والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز، لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى، وإذا كان ذلك مجازا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول: بل النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنه ينقله إليه أو ينقل حكايته، ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون قرنا بعد قرن، وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلا عن الأول، وقال تعالى: * (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) * (الجاثية: 29) فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإبطال دفعا للاشتراك، والجواب عن الأول من وجهين. أحدهما: أنه لا يمتنع أن يكون الله هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل الشمس والريح المؤثرتين في تلك الإزالة ويكونان أيضا ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير. والثاني: أن أهل اللغة إنما أخطأوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح، فهب أنه كذلك، لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لاسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس، وعن الثاني: أن النقل أخص من الإبطال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة وحصل عقيبها صفة أخرى، فإن مطلق العدم أهم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر، وإذا دار اللفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ ابن عامر: (ما ننسخ) بضم النون وكسر السين والباقون بفتحهما، أما قراءة ابن عامر ففيها وجهان. أحدهما: أن يكون نسخ وأنسخ بمعنى واحد. والثاني: أنسخته جعلته ذا نسخ كما قال قوم للحجاج وقد صلب رجلا. أقبروا فلانا، أي اجعلوه ذا قبر، قال تعالى: * (ثم أماته فأقبره) * (عبس: 21)، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ننسأها) بفتح النون والهمزة وهو جزم بالشرط ولا يدع أبو عمرو الهمزة في مثل هذا، لأن سكونها علامة للجزم وهو من النسء وهو التأخير. ومنه: * (إنما النسيء زيادة في الكفر) * (التوبة: 37) ومنه سمي بيع الأجل نسيئة، وقال أهل اللغة: أنسأ الله أجله ونسأ في أجله، أي أخر وزاد، وقال عليه الصلاة والسلام: " من سره النسء في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه ". والباقون بضم النون وكسر السين وهو من النسيان، ثم
226

الأكثرون حملوه على النسيان الذي هو ضد الذكر، ومنهم من حمل النسيان على الترك على حد قوله تعالى: * (فنسي ولم نجد له عزما) * (طه: 155) أي فترك وقال: * (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) * (الأعراف: 51) أي نتركهم كما تركوا، والأظهر أن حمل النسيان على الترك مجاز، لأن المنسي يكون متروكا، فلما كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم وقرئ ننسها وننسها بالتشديد، وتنسها وتنسها على خطاب الرسول، وقرأ عبد الله: ما ننسك من آية أو ننسخها، وقرأ حذيفة: ما ننسخ من آية أو ننسكها.
المسألة الثالثة: " ما " في هذه الآية جزائية كقولك: ما تصنع أصنع وعملها الجزم في الشرط والجزاء إذا كانا مضارعين فقوله: (ننسخ) شرط وقوله: (نأت) جزاء وكلاهما مجزومان.
المسألة الرابعة: اعلم أن التناسخ في اصطلاح العلماء عبارة عن طريق شرعي يدل على أن الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا، فقولنا: طريق شرعي نعني به القدر المشترك بين القول الصادر عن الله تعالى وعن رسوله، والفعل المنقول عنهما، ويخرج عنه إجماع الأمة
على أحد القولين، لأن ذلك ليس بطريق شرعي على هذا التفسير، ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخا لحكم العقل، لأن العقل ليس طريقا شرعيا. ولا يلزم أن يكون المعجز ناسخا للحكم الشرعي لأن المعجز ليس طريقا شرعيا ولا يلزم تقيد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء، لأن ذلك غير متراخ، ولا يلزم ما إذا أمرنا الله بفعل واحد ثم نهانا عن مثله لأنه لو لم يكن مثل هذا النهي ناسخا لم يكن مثل حكم الأمر ثابتا.
المسألة الخامسة: النسخ عندنا جائز عقلا واقع سمعا خلافا لليهود، فإن منهم من أنكره عقلا ومنهم من جوزه عقلا، لكنه منع منه سمعا، ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ، واحتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه، لأن الدلائل دلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله، فوجب القطع بالنسخ، وأيضا قلنا: على اليهود إلزامان. الأول: جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من الفلك: " إني جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه) *، ثم إنه تعالى حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان، الثاني: كان آدم عليه السلام يزوج الأخت من الأخ وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه السلام. قال منكرو النسخ: لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال: إن موسى وعيسى عليهما السلام أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع محمد عليه الصلاة والسلام فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرعهما وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة والسلام، لكنه لا يكون ذلك نسخا، بل جاريا مجرى قوله: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * (البقرة: 187) والمسلمون الذين أنكروا وقوع النسخ أصلا
227

بنوا مذهبهم على هذا الحرف وقالوا: قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما السلام قد بشرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام، وأن عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه، وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بوقوع النسخ وهذا هو الاعتراض على الإلزامين المذكورين، واحتج منكروا النسخ بأن قالوا: إن الله تعالى لما بين شرع عيسى عليه السلام، فاللفظ الدال على تلك الشريعة، إما أن يقال: إنها دالة على دوامها أو لا على دوامها أو ما كان فيها دلالة على الدوام ولا على اللادوام، فإن بين فيها ثبوتها على الدوام، ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذبا وإنه غير جائز على الشرع، وأيضا، فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخا، لأن أقصى ما في الباب أن يقول الشرع: هذه الشريعة دائمة ولا تصير منسوخة قط البتة، ولكنا إذا رأينا مثل هذا الكلام حاصلا في شرع موسى وعيسى عليهما السلام مع أنهما لم يدوما زال الوثوق عنه في كل الصور. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: ذكر اللفظ الدال على الدوام، ثم قرن به ما يدل على أنه سينسخه أو ما قرن به إلا أنه نص على ذلك إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة؟ قلنا: هذا ضعيف لوجوه. أحدها: أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين، وإنه سفه وعبث، وثانيها: على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخا، فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضا، لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضا، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر فيها الدواعي على نقله، وما كان كذلك وجب اشتهاره وبلوغه إلى حد التواتر، وإلا فلعل القرآن عورض، ولم تنقل معارضته ولعل محمدا صلى الله عليه وسلم غير هذا الشرع عن هذا الوضع ولم ينقل، وإذا ثبت وجوب أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر فنقول: لو أن الله تعالى نص في زمان موسى وعيسى عليهما السلام على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهورا لأهل التواتر، ومعلوما لهم بالضرورة، ولو كان كذلك لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه، فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمنا أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخين.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: إن الله تعالى نص على شرع موسى عليه السلام وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم. فهذا باطل لما ثبت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوما بالضرورة لأهل التواتر، وأيضا فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخا، بل يكون ذلك انتهاء للغاية.
وأما القسم الثالث: وهو أنه تعالى نص على شرع موسى عليه السلام ولم يبين فيه كونه دائما أو كونه غير دائم فنقول: قد ثبت في أصول الفقه أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار وإنما يفيد
228

المرة الواحدة، فإذا أتى المكلف بالمرة الواحدة فقد خرج عن عهدة الأمر، فورود أمر آخر بعد ذلك لا يكون نسخا للأمر الأول، فثبت بهذا التقسيم أن القول بالنسخ محال.
واعلم أنا بعد أن قررنا هذه الجملة في كتاب المحصول في أصول الفقه تمسكنا في وقوع النسخ بقوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها) *، والاستدلال به أيضا ضعيف، لأن " ما " ههنا تفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك: ومن جاءك فأكرمه لا يدل على حصول المجيء، بل على أنه متى جاء وجب الإكرام، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه، فالأقوى أن نعول في الإثبات على قوله تعالى: * (وإذا بدلنا آية مكان آية) * (النحل: 101) وقوله: * (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * (الرعد: 39) والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن، وقال أبو مسلم بن بحر: إنه لم يقع، واحتج الجمهور على وقوعه في القرآن بوجوه. أحدها: هذه الآية وهي قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) *، أجاب أبو مسلم عنه بوجوه. الأول: أن المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل، كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى عنا وتعبدنا بغيره، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية، الوجه الثاني: المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب وهو كما يقال نسخت الكتاب. الوجه الثالث: أنا بينا أن هذه الآية لا تدل على وقوع النسخ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير منه، ومن الناس من أجاب عن الاعتراض الأول بأن الآيات إذا
أطلقت فالمراد بها آيات القرآن لأنه هو المعهود عندنا، وعن الثاني: بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختص ببعض القرآن وهذا النسخ مختص ببعضه، ولقائل أن يقول على الأول: لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن، بل هو عام في جميع الدلائل، وعلى الثاني: لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن، بل التقدير والله أعلم ما ننسخ من اللوح المحفوظ فإنا نأتي بعده بما هو خير منه.
الحجة الثانية للقائلين بوقوع النسخ في القرآن: أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا كاملا وذلك في قوله: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول) * (البقرة: 240) ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * (البقرة: 234) قال أبو مسلم: الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا ناسخا، والجواب: أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر فجعل السنة العدة يكون زائلا بالكلية.
الحجة الثالثة: أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا
229

إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) * (المجادلة: 12) ثم نسخ ذلك، قال أبو مسلم: إنما زال ذلك لزوال سببه لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين، فلما حصل هذا الغرض سقط التعبد. والجواب: لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقا وهو باطل لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي رضي الله عنه ويدل عليه قوله تعالى: * (فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم) * (المجادلة: 13).
الحجة الرابعة: أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى: * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) * ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: * (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) * (الأنفال: 65، 66).
الحجة الخامسة: قوله تعالى: * (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) * (البقرة: 142) ثم إنه تعالى أزالهم عنها بقوله: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * (البقرة: 144). قال أبو مسلم: حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليها عند الإشكال أو مع العلم إذا كان هناك عذر. الجواب: أن على ما ذكرته لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات، فالخصوصية التي بها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد زالت بالكلية فكان نسخا.
الحجة السادسة: قوله تعالى: * (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر) * (النحل: 101) والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم، فكيف كان فهو رفع ونسخ، وإنما أطنبنا في هذه الدلائل لأن كل واحد منها يدل على وقوع النسخ في الجملة واحتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل. والجواب: أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ولا يأتيه من بعده أيضا ما يبطله. المسألة السابعة: المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط أو التلاوة فقط أو هما معا، أما الذي يكون المنسوخ هو الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات التي عددناها، وأما الذي يكون المنسوخ هو التلاوة فقط فكما يروى عن عمر أنه قال: كنا نقرأ آية الرجم: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " وروي: " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب "، وأما الذي يكون منسوخ الحكم والتلاوة معا، فهو ما روت عائشة رضي الله عنها أن القرآن قد نزل في الرضاع بعشر معلومات ثم نسخن بخمس معلومات، فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعا والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم. ويروى أيضا أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان فيه.
المسألة الثامنة: اختلف المفسرون في قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها) * فمنهم من
230

فسر النسخ بالإزالة ومنهم من فسره بالنسخ بمعنى نسخت الكتاب وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب، ومن قال بالقول الأول ذكروا فيه وجوها، أحدها: ما ننسخ من آية وأنتم تقرأونه أو ننسها أي من القرآن ما قرىء بينكم ثم نسيتم وهو قول الحسن والأصم وأكثر المتكلمين فحملوه على نسخ الحكم دون التلاوة، وننسها على نسخ الحكم والتلاوة معا، فإن قيل: وقوع هذا النسيان ممنوع عقلا وشرعا. أما العقل فلأن القرآن لا بد من إيصاله إلى أهل التواتر، والنسيان على أهل التواتر بأجمعهم ممتنع. وأما النقل فلقوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9) والجواب عن الأول من وجهين. الأول: أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن وإخراجه من جملة ما يتلى ويؤتى به في الصلاة أو يحتج به، فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي أو إن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد فيصير لهذا الوجه منسيا عن الصدور، الجواب الثاني: أن ذلك يكون معجزة للرسول عليه الصلاة والسلام، ويروى فيه خبر: أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها، والجواب عن الثاني: أنه معارض بقوله تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) * (الأعلى: 6) وبقوله: * (واذكر ربك إذا نسيت) * (الكهف: 24).
القول الثاني: ما ننسخ من آية أي نبدلها، إما بأن نبدل حكمها فقط أو تلاوتها فقط أو نبدلهما، أما قوله تعالى: * (أو ننسها) * فالمراد نتركها كما كانت فلا نبدلها، وقد بينا أن النسيان بمعنى الترك قد جاء، فيصير حاصل الآية أن الذي نبدله فإنا نأتي بخير منه أو مثله.
القول الثالث: ما ننسخ من آية، أي ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها على قراءة الهمزة أي نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ، أو يكون المراد نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال، فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة.
القول الرابع: ما ننسخ من آية، وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم والتلاوة معا، أو ننسها، أي نتركها وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم ولكنها غير
منسوخة في التلاوة، بل هي باقية في التلاوة، فأما من قال بالقول الثاني: ما ننسخ من آية، أي ننسخها من اللوح المحفوظ أو ننسأها، نؤخرها. وأما قراءة " ننسها " فالمعنى نتركها يعني نترك نسخها فلا ننسخها.
وأما قوله: * (من آية) * فكل المفسرين حملوه على الآية من القرآن غير أبي مسلم فإنه حمل ذلك على التوراة والإنجيل وقد تقدم القول فيه.
أما قوله تعالى: * (نأت بخير منها أو مثلها) * ففيه قولان. أحدهما: أنه الأخف، والثاني: أنه الأصلح، وهذا أولى لأنه تعالى يصرف المكلف على مصالحه لا على ما هو أخف على طباعه. فإن قيل: لو كان الثاني أصلح من الأول لكان الأول ناقص الصلاح فكيف أمر الله به؟ قلنا: الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول، والثاني بالعكس منه فزال السؤال. واعلم أن الناس استنبطوا من هذه الآية أكثر مسائل النسخ.
231

المسألة الأولى: قال قوم: لا يجوز نسخ الحكم إلا إلى بدل، واحتجوا بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إذا نسخ لا بد وأن يأتي بعده بما هو خير منه أو بما يكون مثله، وذلك صريح في وجوب البدل. والجواب: لم لا يجوز أن يقال: المراد أن نفي ذلك الحكم وإسقاط التبعد به خير من ثبوته في ذلك الوقت، ثم الذي يدل على وقوع النسخ لا إلى بدل أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لا إلى البدل.
المسألة الثانية: قال قوم: لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه واحتجوا بأن قوله: * (نأت بخير منها أو مثلها) * ينافي كونه أثقل، لأن الأثقل لا يكون خيرا منه ولا مثله. والجواب: لم لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثوابا في الآخرة، ثم إن الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر. إذا عرفت هذا فنقول: أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الصور المذكورة، وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها. وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رضي الله عنه: الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة واستدل عليه بهذه الآية من وجوه. أحدها: أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منها وذلك يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه، كما إذا قال الإنسان: ما آخذ منك من ثواب آتيك بخير منه، يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه، وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن، وثانيها: أن قوله تعالى: * (نأتي بخير منها) * يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بذلك الخير، وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله دون السنة التي يأتي بها الرسول عليه السلام، وثالثها: أن قوله: * (نأت بخير منها) * يفيد أن المأتي به خير من الآية، والسنة لا تكون خيرا من القرآن، ورابعها: أنه قال: * (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) * دل على أن الآتي بذلك الخير هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات وذلك هو الله تعالى. والجواب عن الوجوه الأربعة بأسرها: أن قوله تعالى: * (نأت بخير منها) * ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخا، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئا مغايرا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ، والذي يدل على تحقيق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى، فلو كان نسخ تلك الآية مرتبا على الإتيان بهذا الخير لزم الدور وهو باطل، ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة لأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله عليه الصلاة والسلام: " ألا لا وصية لوارث " وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم. قال الشافعي رضي الله عنه: أما الأول: فضعيف لأن كون الميراث حقا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية، وأما الثاني:
232

فضعيف أيضا لأن عمر رضي الله عنه روى أن قوله: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " كان قرآنا فلعل النسخ إنما وقع به، وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) * فتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته، وأنه لا دافع لما أراد ولا مانع لما اختار.
المسألة التاسعة: استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن القرآن مخلوق من وجوه، أحدها: أن كلام الله تعالى لو كان قديما لكان الناسخ والمنسوخ قديمين، لكن ذلك محال، لأن الناسخ يجب أن يكون متأخرا عن المنسوخ، والمتأخر عن الشيء يستحيل أن يكون قديما، وأما المنسوخ فلأنه يجب أن يزول ويرتفع، وما ثبت زواله استحال قدمه بالإتفاق، وثانيها: أن الآية دلت على أن بعض القرآن خير من بعض، وما كان كذلك لا يكون قديما، وثالثها: أن قوله: * (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) * يدل على أن المراد أنه تعالى هو القادر على نسخ بعضها والإتيان بشيء آخر بدلا من الأول، وما كان داخلا تحت القدرة وكان فعلا كان محدثا، أجاب الأصحاب عنه: بأن كونه ناسخا ومنسوخا إنما هو من عوارض الألفاظ والعبارات واللغات ولا نزاع في حدوثها، فلم قلتم إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث؟ قالت المعتزلة: ذلك المعنى الذي هو مدلول العبارات واللغات لا شك أن تعلقه الأول قد زال وحدث له تعلق آخر، فالتعلق الأول محدث لأنه زال والقديم لا يزول، والتعلق الثاني حادث لأنه حصل بعدما لم يكن، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات، وما لا ينفك عن هذه التعلقات (محدث) وما لا ينفك عن المحدث محدث والكلام الذي تعلقت به يلزم أن يكون محدثا. أجاب الأصحاب: أن قدرة الله كانت في الأزل متعلقة بإيجاد العالم، فعند دخول العالم في الوجود هل بقي ذلك التعلق أو لم يبق؟ فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادرا على إيجاد الموجود وهو محال، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق فيلزمكم حدوث قدرة الله على الوجه الذي ذكرتموه، وكذلك علم الله كان متعلقا بأن العالم سيوجد، فعند دخول العالم في الوجود إن بقي التعلق الأول كان جهلا، وإن لم يبق فيلزمكم كون التعلق الأول حادثا، لأنه لو كان قديما لما زال، وبكون التعلق الذي حصل بعد ذلك حادثا فإذن عالمية الله تعالى لا تنفك عن التعلقات الحادثة، وما لا ينفك عن المحدث محدث فعالمية الله محدثة. فكل ما
تجعلونه جوابا عن العالمية والقادرية فهو جوابنا عن الكلام.
المسألة العاشرة: احتجوا بقوله تعالى: * (إن الله على كل شيء قدير) * على أن المعدوم شيء وقد تقدم وجه تقريره فلا نعيده، والقدير فعيل بمعنى الفاعل وهو بناء المبالغة.
233

* (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكم بجواز النسخ عقبه ببيان أن ملك السماوات والأرض له لا لغيره، وهذا هو التنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما حسن منه الأمر والنهي لكونه مالكا للخلق وهذا هو مذهب أصحابنا وإنه إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكا للخلق مستوليا عليهم لا لثواب يحصل، أو لعقاب يندفع. قال القفال: ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمر القبلة، فإنه تعالى أخبرهم بأنه مالك السماوات والأرض وأن الأمكنة والجهات كلها له وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض إلا من حيث يجعلها هو تعالى له، وإذا كان كذلك وكان الأمر باستقبال القبلة إنما هو محض التخصيص بالتشريف، فلا مانع يمنع من تغيره من جهة إلى جهة، وأما الولي والنصير فكلاهما فعيل بمعنى فاعل على وجه المبالغة، ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن الملك غير القدرة، فقال: إنه تعالى قال أولا: * (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) * ثم قال بعده: * (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) * فلو كان الملك عبارة عن القدرة لكان هذا تكريرا من غير فائدة، والكلام في حقيقة الملك والقدرة قد تقدم في قوله: * (مالك يوم الدين) * (الفاتحة: 4).
* (أم تريدون أن تسالوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سوآء السبيل) *
المسألة الأولى: " أم " على ضربين متصلة ومنقطعة، فالمتصلة عديلة الألف وهي مفرقة لما جمعته أي، كما أن " أو " مفرقة لما جمعته تقول: اضرب أيهم شئت زيدا أم عمرا، فإذا قلت: اضرب أحدهم قلت: اضرب زيدا أو عمرا، والمنقطعة لا تكون إلا بعد كلام تام، لأنها بمعنى بل والألف، كقول العرب: إنها الإبل أم شاء، كأنه قال: بل هي شاء، ومنه قوله تعالى: * (أم يقولون افتراه) * (الأحقاف: 8) أي: بل يقولون، قال الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا
234

المسألة الثانية: اختلفوا في المخاطب به على وجوه. أحدها: أنهم المسلمون وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم، واستدلوا عليه بوجوه. الأول: أنه قال في آخر الآية: * (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) * وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمنين. الثاني: أن قوله: * (أم تريدون) * يقتضي معطوفا عليه وهو قوله: * (لا تقولوا راعنا) * (البقرة: 104) فكأنه قال: وقولوا انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم؟ الثالث: أن المسلمين كانوا يسألون محمدا صلى الله عليه وسلم عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى عليه السلام ما لم يكن لهم فيه خير عن البحث عنه، الرابع: سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط، وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب، كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة. القول الثاني: أنه خطاب لأهل مكة وهو قول ابن عباس ومجاهد. قال: إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قريش فقال: يا محمد والله ما أؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء بأن تصعد، ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتابا من الله إلى عبد الله بن أمية أن محمدا رسول الله فاتبعوه. وقال له بقية الرهط: فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كل ذلك، فنؤمن بك عند ذلك. فأنزل الله تعالى: أم تريدون أن تسألوا رسولكم محمدا أن يأتيكم الآيات من عند الله كما سأل السبعون فقالوا: أرنا الله جهرة. وعن مجاهد أن قريشا سألت محمدا عليه السلام أن يجعل لهم الصفا ذهبا وفضة، فقال: نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا.
القول الثالث: المراد اليهود، وهذا القول أصح لأن هذه السورة من أول قوله: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي) * (البقرة: 40، 47) حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأن الآية مدنية ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله فإذا سأله كان متبدلا كفرا بالإيمان.
المسألة الثالثة: ليس في ظاهر قوله: * (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) * أنهم أتوا بالسؤال فضلا عن كيفية السؤال، بل المرجع فيه إلى الروايات التي ذكرناها في أنهم سألوا والله أعلم.
المسألة الرابعة: اعلم أن السؤال الذي ذكروه إن كان ذلك طلبا للمعجزات فمن أين أنه كفر؟ ومعلوم أن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفرا، وإن كان ذلك طلبا لوجه الحكمة المفصلة في نسخ الأحكام، فهذا أيضا لا يكون كفرا؛ فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلقة البشر ولم يكن ذلك كفرا، فلعل الأولى حمل الآية على أنهم طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة، وإن كانوا طلبوا المعجزات فإنهم يطلبونها على سبيل التعنت واللجاج فلهذا كفروا بسبب هذا السؤال.
235

المسألة الخامسة: ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها، أحدها: أنه تعالى لما حكم بجواز النسخ في الشرائع فلعلهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم فمنعهم الله تعالى عنها وبين أنهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة كما أنه ما كان لقوم موسى أن يذكروا أسئلتهم الفاسدة. وثانيها: لما تقدم من الأوامر والنواهي قال لهم: إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمردتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى ما ليس له أن يسأله، عن أبي مسلم، وثالثها: لما أمر ونهى قال: أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى؟
المسألة السادسة: * (سواء السبيل) * وسطه قال تعالى: * (فاطلع فرآه في سواء الجحيم) * أي وسط الجحيم، والغرض التشبيه دون نفس الحقيقة، ووجه التشبيه
في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان فهو جار على الاستقامة المؤدية إلى الفوز والظفر بالطلبة من الثواب والنعيم، فالمبدل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه إنه ضل سواء السبيل.
* (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره إن الله على كل شىء قدير) *
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من كيد اليهود مع المسلمين، وذلك لأنه روي أن فنحاص ابن عازوراء، وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم، ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا، فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد، قال: فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد ما عشت، فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ، وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال: أصبتما خيرا وأفلحتما، فنزلت هذه الآية، واعلم أنا نتكلم أولا في الحسد ثم نرجع إلى التفسير.
المسألة الأولى: في ذم الحسد ويدل عليه أخبار كثيرة، الأول: قوله عليه السلام: " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ". الثاني: قال أنس: " كنا يوما جالسين عند النبي
236

صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار ينظف لحيته من وضوئه وقد علق نعليه في شماله فسلم، فلما كان الغد قال عليه السلام مثل ذلك فطلع ذلك الرجل، وقال في اليوم الثالث مثل ذلك فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي عليه السلام تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني تأذيت من أبي فأقسمت لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تذهب بي إلى دارك فعلت، قال: نعم، فبات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله ولا يقوم حتى يقوم لصلاة الفجر، غير أني لم أسمعه يقول: إلا خيرا، فلما مرت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجر، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، فأردت أن أعرف عملك، فلم أرك تعمل عملا كثيرا، فما الذي بلغ بك ذاك؟ قال: ما هو إلا ما رأيت. فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لم أجد على أحد من المسلمين في نفسي عيبا ولا حسدا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هي التي بلغت بك وهي التي لا تطاق ". الثالث: قال عليه السلام: " دب إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء والبغضة هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين ". الرابع: قال: " إنه سيصيب أمتي داء الأمم، قالوا: ما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج ". الخامس: أن موسى عليه السلام لما ذهب إلى ربه رأى في ظل العرش رجلا يغبط بمكانه وقال: إن هذا لكريم على ربه فسأل ربه أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال: أحدثك من عمله ثلاثا: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وكان لا يعق والديه ولا يمشي بالنميمة. السادس: قال عليه السلام: " إن لنعم الله أعداء، قيل: وما أولئك؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ". السابع: قال عليه السلام: " ستة يدخلون النار قبل الحساب، الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية والدهاقين بالتكبر، والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهالة، والعلماء بالحسد ".
أما الآثار، فالأول: حكي أن عوف بن عبد الله دخل على الفضل بن المهلب وكان يومئذ على واسط، فقال: إني أريد أن أعظك بشيء، إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس، ثم قرأ: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر) * (البقرة: 34) وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة. أسكنه الله في جنة عرضها السماوات والأرض فأكل منها، فأخرجه الله، ثم قرأ: * (اهبطا منها) * (طه: 123) وإياك والحسد فإنه قتل ابن آدم أخاه حين حسده، ثم قرأ: * (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق) * (المائدة: 27). الثاني: قال ابن الزبير: ما حسدت أحدا على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة، وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار. الثالث: قال رجل للحسن: هل يحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب إلا أنه لا يضرك ما لم تعد به يدا ولسانا. الرابع: قال معاوية: كل الناس أقدر على
237

رضاه إلا الحاسد فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة. الخامس: قيل: الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلا، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضا، ولا ينال من الخلق إلا جزعا وغما، ولا ينال عند الفزع إلا شدة وهولا، وعند الموقف إلا فضيحة ونكالا. المسألة الثانية: في حقيقة الحسد: إذا أنعم الله على أخيك فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد، وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة، أما الأول: فحرام بكل حال، إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر يستعين بها على الشر والفساد فلا يضرك محبتك لزوالها فإنك ما تحب زوالها من حيث إنها نعمة، بل من حيث إنها يتوسل بها إلى الفساد والشر والأذى. والذي يدل على أن الحسد ما ذكرنا آيات. أحدها: هذه الآية وهي قوله تعالى: * (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم) * فأخبر أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد. وثانيها: قوله تعالى: * (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) * (النساء: 89). وثالثها: قوله تعالى: * (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) * (آل عمران: 120) وهذا الفرح شماتة، والحسد والشماتة متلازمان. ورابعها: ذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف وعبر عما في قلوبهم بقوله: * (قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين، اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم) * (يوسف: 8، 9) فبين تعالى أن حسدهم له عبارة عن كراهتهم حصول تلك النعمة له. وخامسها: قوله تعالى: * (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) * (الحشر: 9) أي لا تضيق به صدورهم ولا يغتمون، فأثنى الله عليهم بعدم الحسد. وسادسها: قال تعالى في معرض الإنكار: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * (النساء: 54). وسابعها: قال الله تعالى: * (
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين) * (البقرة: 213) إلى قوله: * (إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) * (الشورى: 14) قيل في التفسير: حسدا. وثامنها: قوله تعالى: * (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) * فأنزل الله العلم ليؤلف بينهم على طاعته فتحاسدوا واختلفوا، إذ أراد كل واحد أن ينفرد بالرياسة وقبول القول. وتاسعها: قال ابن عباس: كانت اليهود قبل مبعث النبي عليه السلام إذا قاتلوا قوما قالوا: نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله وبالكتاب الذي تنزله إلا تنصرنا، فكانوا ينصرون، فلما جاء النبي عليه السلام من ولد إسماعيل عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه فقال تعالى: * (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) * (البقرة: 19) إلى قوله: * (أن يكفروا بما أنزل الله بغيا) * (البقرة: 90) أي حسدا. وقالت صفية بنت حيي للنبي عليه السلام: جاء أبي وعمي من عندك فقال أبي لعمي ما تقول فيه؟ قال: أقول: إنه النبي الذي بشر به موسى عليه السلام، قال: فما ترى؟ قال: أرى معاداته أيام الحياة، فهذا حكم الحسد. أما المنافسة فليست بحرام وهي مشتقة من النفاسة، والذي يدل على أنها ليست بحرام وجوه. أولها: قوله تعالى: * (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) * (المطففين: 26). وثانيها: قوله تعالى: * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم) * وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة
238

مولاهما إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها. وثالثها: قوله عليه السلام: " لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا فأنفقه في سبيل الله، ورجل آتاه الله علما فهو يعمل به ويعلمه الناس ". وهذا الحديث يدل على أن لفظ الحسد قد يطلق على المنافسة، ثم نقول: المنافسة قد تكون واجبة ومندوبة ومباحة، أما الواجبة فكما إذا كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة، فههنا يجب عليه أن يكون له مثل ذلك، لأنه إن لم يحب ذلك كان راضيا بالمعصية وذلك حرام، وأما إن كانت تلك النعمة من الفضائل المندوبة كالإنفاق في سبيل الله والتشمير لتعليم الناس كانت المنافسة فيها مندوبة، وأما إن كانت تلك النعمة من المباحات كانت المنافسة فيها من المباحات، وبالجملة فالمذموم أن يحب زوالها عن الغير، فأما أن يحب حصولها له وزوال النقصان عنه فهذا غير مذموم، لكن ههنا دقيقة وهي أن زوال النقصان عنه بالنسبة إلى الغير له طريقان. أحدهما: أن يحصل له مثل ما حصل للغير. والثاني: أن يزول عن الغير ما لم يحصل له فإذا حصل اليأس عن أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر، فههنا إن وجد قلبه بحيث لو قدر على إزالة تلك الفضيلة عن تلك الشخص لأزالها، فهو صاحب الحسد المذموم وإن كان يجد قلبه بحيث تردعه التقوى عن إزالة تلك النعمة عن الغير فالمرجو من الله تعالى أن يعفو عن ذلك، ولعل هذا هو المراد من قوله عليه السلام: " ثلاث لا ينفك المؤمن منهن، الحسد والظن والطيرة، ثم قال: وله منهم مخرج إذا حسدت فلا تبغ "، أي إن وجدت في قلبك شيئا فلا تعمل به، فهذا هو الكلام في حقيقة الحسد وكله من كلام الشيخ الغزالي رحمة الله عليه.
المسألة الثالثة: في مراتب الحسد، قال الغزالي رحمه الله هي أربعة. الأولى: أن يحب زوال تلك النعمة وإن كان ذلك لا يحصل له وهذا غاية الحسد. والثانية: أن يحب زوال تلك النعمة عنه إلا وذلك مثل رغبته في دار حسنة أو امرأة جملة أو ولاية نافذة نالها غيره وهو يحب أن تكون له، فالمطلوب بالذات حصوله له، فأما زواله عن غيره فمطلوب بالعرض.
الثالثة: أن لا يشتهي عنها بل يشتهي لنفسه مثلها، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها لكي لا يظهر التفاوت بينهما. الرابعة: أن يشتهي لنفسه مثلها، فإن لم يحصل فلا يحب زوالها، وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا والمندوب إليه إن كان في الدين، والثالثة: منها مذمومة وغير مذمومة، والثانية: أخف من الثالثة، والأول: مذموم محض قال تعالى: * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) * (النساء: 32) فتمنيه لمثل ذلك غير مذموم وأما تمنيه عين ذلك فهو مذموم.
المسألة الرابعة: ذكر الشيخ الغزالي رحمة الله عليه للحسد سبعة أسباب:
السبب الأول: العداوة والبغضاء، فإن من آذاه إنسان أبغضه قلبه وغضب عليه، وذلك
239

الغضب يولد الحقد والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن التشفي بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، فمهما أصاب عدوه آفة وبلاء فرح، ومهما أصابته نعمة ساءته، وذلك لأنه ضد مراده، فالحسد من لوازم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وأقصى الإمكان في هذا الباب أن لا يظهر تلك العداوة من نفسه وأن يكره تلك الحالة من نفسه، فأما أن يبغض إنسانا ثم تستوي عنده مسرته ومساءته فهذا غير ممكن، وهذا النوع من الحسد هو الذي وصف الله الكفار به، إذ قال: * (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) * (آل عمران: 119، 120) وكذا قال: * (ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم) * (آل عمران: 118). واعلم أن الحسد ربما أفضى إلى التنازع والتقاتل.
السبب الثاني: التعزز، فإن واحدا من أمثاله إذا نال منصبا عاليا ترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك، فيريد زوال ذلك المنصب عنه وليس من غرضه أن يتكبر، بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد يرضى بمساواته ولكنه لا يرضى بترفعه عليه.
السبب الثالث: أن يكون في طبيعته أن يستخدم غيره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض، ومن هذا الباب كان حسد أكثر الكفار للرسول عليه الصلاة والسلام إذ قالوا: كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطئ له رؤوسنا؟ فقالوا: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) وقال تعالى يصف قول قريش: * (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) * (الأنعام: 53) كالاستحقار بهم والأنفة منهم.
السبب الرابع: التعجب كما أخبر الله عن الأمم الماضية إذ قالوا: * (ما أنتم إلا بشرا مثلنا) * (إبراهيم: 10)، وقالوا: * (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) * (المؤمنون: 47)، * (ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) * (المؤمنون: 34) وقالوا متعجبين: * (أبعث الله بشرا رسولا) * (الإسراء: 94) وقالوا: * (لولا نزل علينا الملائكة) * (الفرقان: 21) وقال: * (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم) * (الأعراف: 63، 69).
السبب الخامس: الخوف من فوت المقاصد وذلك يختص بالمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كل واحد منهما يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عونا له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الباب تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلوب الأبوين للتوصل إلى مقاصد المال والكرامة، وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة، إذ كان غرضهما نيل المال والقبول عندهم.
السبب السادس: حب الرياسة وطلب الجاه نفسه من غير توسل به إلى مقصوده، وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته وزوال النعمة التي بها يشاركه في المنزلة من شجاعة أو علم أو زهد أو ثروة ويفرح بسبب تفرده.
240

السبب السابع: شح النفس بالخير على عباد الله، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا بكبر ولا بطلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك، وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم وتنغص عيشهم فرح به فهو أبدا يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته، ويقال: البخيل من بخل بمال غيره، فهذا يبخل بنعمة الله على عباده الذين ليس بينهم وبينه لا عداوة ولا رابطة وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث النفس ورذالة جبلته في الطبع، لأن سائر أنواع الحسد يرجى زواله لإزالة سببه، وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته. فهذه هي أسباب الحسد، وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد فيعظم فيه الحسد ويقوى قوة لا يقوى صاحبها معها على الإخفاء والمجاملة بل يهتك حجاب المجاملة ويظهر العداوة بالمكاشفة وأكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب وقلما يتجرد واحد منها.
المسألة الخامسة: في سبب كثرة الحسد وقلته وقوته وضعفه. اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر فيهم الأسباب التي ذكرناها، إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه يمتنع من قول المتكبر ولأنه يتكبر ولأنه عدو لغير ذلك من الأسباب وهذه الأسباب إنما تكثر بين قوم تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض والمنازعة مظنة المنافرة، والمنافرة مؤدية إلى الحسد فحيث لا مخالطة فليس هناك محاسدة، ولما لم توجد الرابطة بين شخصين في بلدين لا جرم لم يكن بينهما محاسدة، فلذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، بل الإسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز، ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته، لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد، ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق وبالجملة فأصل الحسد العداوة وأصل العداوة التزاحم على غرض واحد والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل لا يجمع إلا متناسبين، فلذلك يكثر الحسد بينهم، نعم من اشتد حرصه على الجاه العريض والصيت في أطراف العالم فإنه يحسد كل من في العالم ممن يشاركه في الخصلة التي يتفاخر بها، أقول: والسبب الحقيقي فيه أن الكمال محبوب بالذات وضد المحبوب مكروه ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال، فلا جرم كان الشريك في الكمال مبغضا لكونه منازعا في الفردانية التي هي من أعظم أبواب الكمال، إلا أن هذا النوع من الكمال لما امتنع حصوله إلا الله سبحانه ووقع اليأس عنه فاختص الحسد بالأمور الدنيوية، وذلك لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، وإنما مثال الآخرة نعمة العلم، فلا جرم من يحب معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته فلا يحسد غيره إذا عرف ذلك، لأن المعرفة لا تضيق على العارفين بل المعلوم الواحد يعرفه ألف
241

ألف ويفرح بمعرفته ويلتذ به ولا تنقص لذة أحد بسبب غيره، بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس، فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأن مقصدهم معرفة الله، وهي بحر واسع لا ضيق فيها وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق فيها، نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه، تحاسدوا لأن المال أعيان إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر، ومعنى الجاه ملء القلوب، ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر، أما إذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله لم يمنع ذلك أن يمتلئ قلب غيره وأن يفرح به فلذلك وصفهم الله تعالى بعدم الحسد فقال: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) * (الحجر: 47).
المسألة السادسة: في الدواء المزيل للحسد وهو أمران: العلم والعمل. أما العلم ففيه مقامان إجمالي وتفصيلي، أما الإجمالي فهو أن يعلم أن كل ما دخل في الوجود فقد كان ذلك من لوازم قضاء الله وقدره، لأن الممكن ما لم ينته إلى الواجب لم يقف، ومتى كان كذلك فلا فائدة في النفرة عنه، وإذا حصل الرضا بالقضاء زال الحسد. وأما التفصيلي فهو أن تعلم أن الحسد ضرر عليك في الدين والدنيا، وأنه ليس فيه على المحسود ضرر في الدين والدنيا، بل ينتفع به في الدين والدنيا، أما أنه ضرر عليك في الدين فمن وجوه. أحدها: أنك بالحسد كرهت حكم الله ونازعته في قسمته التي قسمها لعباده وعدله الذي أقامه في خلقه بخفي حكمته، وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان. وثانيها: أنك إن غششت رجلا من المؤمنين فارقت أولياء الله في حبهم الخير لعباد الله وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا، وثالثها: العقاب العظيم المرتب عليه في الآخرة، وأما كونه ضررا عليك في الدنيا فهو أنك بسبب الحسد لا تزال تكون في الغم والكمد وأعداؤك لا يخليهم الله من أنواع النعم فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم فتبقى أبدا مغموما مهموما، فقد حصل لك ما أردت حصوله لأعدائك وأراد أعداؤك حصوله لك فقد كنت تريد المحنة لعدوك فسعيت في تحصيل المحنة لنفسك. ثم إن ذلك الغم إذا استولى عليك أمرض بدنك وأزال الصحة عنك وأوقعك في الوساوس ونغص عليك لذة المطعم والمشرب. وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدره الله من إقبال ونعمة فلا بد وأن يدوم إلى أجل قدرة الله، فإن كان كل شيء عنده بمقدار ولكل أجل كتاب، ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ولا عليه إثم في الآخرة، ولعلك تقول: ليت النعمة كانت لي وتزول عن المحسود بحسدي وهذا غاية الجهل فإنه بلاء تشتهيه أولا لنفسك فإنك أيضا لا تخلو عن عدو يحسدك، فلو زالت النعمة بالحسد لم يبق لله عليك نعمة لا في الدين ولا في الدنيا، وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا أيضا جهل، فإن كل واحد من حمقى الحساد يشتهي أن يختص بهذه الخاصية، ولست أولى بذلك من الغير، فنعمة الله عليك في أن لم يزل النعمة بالحسد
242

مما يجب شكرها عليك وأنت بجهلك تكرهها. وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح، أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكر مساوئه، فهي هدايا يهديها الله إليه، أعني أنك تهدي إليه حسناتك فإنك كلما ذكرته بسوء نقل إلى ديوانه حسناتك وازدادت سيئاتك، فكأنك اشتهيت زوال نعم الله عنه إليك فأزيلت نعم الله عنك إليه، ولم تزل في كل حين وأوان تزداد شقاوة، وأما منفعته في الدنيا فمن وجوه. الأول: أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وكونهم مغمومين معذبين ولا عذاب أعظم مما أنت فيه من ألم الحسد، بل العاقل لا يشتهي موت عدوه بل يريد طول حياته ليكون في عذاب الحسد لينظر في كل حين وأوان إلى نعم الله عليه فيتقطع قلبه بذلك، ولذلك قيل:
لا مات أعداؤك بل خلدوا * حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسودا على نعمة * فإنما الكامل من يحسد
الثاني: أن الناس يعلمون أن المحسود لا بد وأن يكون ذا نعمة فيستدلون بحسد الحاسد على كونه مخصوصا من عند الله بأنواع الفضائل والمناقب، وأعظم الفضائل مما لا يستطاع دفعه وهو الذي يورث الحسد فصار الحسد من أقوى الدلائل على اتصاف المحسود بأنواع الفضائل والمناقب. الثالث: أن الحاسد يصير مذموما بين الخلق ملعونا عند الخالق وهذا من أعظم المقاصد للمحسود. الرابع: وهو أنه سبب لازدياد مسرة إبليس وذلك لأن الحاسد لما خلا عن الفضائل التي اختص المحسود بها فإن رضي بذلك استوجب الثواب العظيم فخاف إبليس من أن يرضى بذلك فيصير مستوجبا لذلك الثواب، فلما لم يرض به بل أظهر الحسد فاته ذلك الثواب واستوجب العقاب فيصير ذلك سببا لفرح إبليس وغضب الله تعالى. الخامس: أنك عساك تحسد رجلا من أهل العلم وتحب أن يخطئ في دين الله وتكشف خطأه ليفتضح وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم وأي إثم يزيد على ذلك، وأي مرتبة أخس من هذه. وقد ظهر من هذه الوجوه أيها الحاسد أنك بمثابة من يرمي حجرا إلى عدوه ليصيب به مقتله فلا يصيبه، بل يرجع إلى حدقته اليمنى فيقلعها فيزداد غضبه فيعود ويرميه ثانيا أشد من الأول فيرجع الحجر على عينه الأخرى فيعميه فيزداد غيظه ويعود ثالثا فيعود على رأسه فيشجه وعدوه سالم في كل الأحوال، والوبال راجع إليه دائما وأعداؤه حواليه يفرحون به ويضحكون عليه، بل حال الحاسد أقبح من هذا لأن الحجر العائد لم يفوت إلا العين ولو بقيت لفاتت بالموت، وأما حسده فإنه يسوق إلى غضب الله وإلى النار، فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن يبقى له عين ويدخل بها النار فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود فما أزالها عنه ثم أزال نعمة الحاسد تصديقا لقوله تعالى: * (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) * (فاطر: 43) فهذه الأدوية العلمية
243

فمهما تفكر
الإنسان فيها بذهن صاف وقلب حاضر انطفأ من قلبه نار الحسد، وأما العمل النافع فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له وإن حمله على قطع أسباب الخير عنه كلف نفسه السعي في إيصال الخيرات إليه، فمهما عرف المحسود ذلك طاب قلبه وأحب الحاسد وذلك يفضي آخر الأمر إلى زوال الحسد من وجهين. الأول: أن المحسود إذا أحب الحاسد فعل ما يحبه الحاسد فحينئذ يصير الحاسد محبا للمحسود ويزول الحسد حينئذ. الثاني: أن الحاسد إذا أتى بضد موجبات الحسد على سبيل التكلف يصير ذلك بالآخرة طبعا له فيزول الحسد عنه.
المسألة السابعة: اعلم أن النفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه، فكيف يعاقب عليه؟ وأما الذي في وسعه أمران، أحدهما: كونه راضيا بتلك النفرة، والثاني: إظهار آثار تلك النفرة من القدح فيه والقصد إلى إزالة تلك النعمة عنه وجر أسباب المحبة إليه، فهذا هو الداخل تحت التكليف، ولنرجع إلى التفسير:
أما قوله تعالى: * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا) * فالمراد أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق، والعالم بأن غيره على حق لا يجوز أن يريد رده عنه إلا بشبهة يلقيها إليه، لأن المحق لا يعدل عن الحق إلا بشبهة والشبهة ضربان، أحدهما: ما يتصل بالدنيا وهو أن يقال لهم: قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وضيق الأمر عليكم واستمرار المخافة بكم، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء، والثاني: في باب الدين: بطرح الشبه في المعجزات أو تحريف ما في التوراة.
أما قوله تعالى: * (حسدا من عند أنفسهم) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى بين أن حبهم لأن يرجعوا عن الإيمان إنما كان لأجل الحسد. قال الجبائي: عني بقوله: * (كفار h حسد h من عند أنفسهم) * أنهم لم يؤتوا ذلك من قبله تعالى وإن كفرهم هو فعلهم لا من خلق الله فيهم، والجواب أن قوله: * (من عند أنفسهم) * فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب " ود " على معنى أنهم أحبوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق فكيف يكون تمنيهم من قبل طلب الحق؟ الثاني: أنه متعلق بحسد h أي حسد h عظيم h منبعث h من عند أنفسهم. أما قوله تعالى: * (فاعفوا واصفحوا) * فهذا يدل على أن اليهود بعدما أرادوا صرف المؤمنين عن الإيمان احتالوا في ذلك بإلقاء الشبه على ما بيناه، ولا يجوز أن يأمرهم تعالى بالعفو والصفح على وجه الرضا بما فعلوا، لأن ذلك كفر، فوجب حمله على أحد أمرين، الأول: أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجواب، لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة في الوقت، فكأنه تعالى أمر الرسول بالعفو والصفح عن اليهود فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله
244

تعالى: * (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) * (الجاثية: 14) وقوله: * (واهجرهم هجرا جميلا) * (المزمل: 10) ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام بل علقه بغاية فقال: * (حتى يأتي الله بأمره) * وذكروا فيه وجوه h، أحدها: أنه المجازاة يوم القيامة عن الحسن، وثانيها: أنه قوة الرسول وكثرة أمته.
وثالثها: وهو قول أكثر الصحابة والتابعين، إنه الأمر بالقتال لأن عنده يتعين أحد أمرين: إما الإسلام، وإما الخضوع لدفع الجزية وتحمل الذل والصغار، فلهذا قال العلماء: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) * (التوبة: 29) وعن الباقر رضي الله عنه أنه لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال حتى نزل جبريل عليه السلام بقوله: * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) * (الحج: 39) وقلده سيف h فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر، وههنا سؤالان: السؤال الأول: كيف يكون منسوخا وهو معلق بغاية كقوله: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * (البقرة: 187) وإن لم يكن ورود الليل ناسخا فكذا ههنا، الجواب: أن الغاية التي يعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج ذلك الوارد شرعا عن أن يكون ناسخا ويحل محل قوله: * (فاعفوا واصفحوا) * إلى أن أنسخه عنكم. السؤال الثاني: كيف يعفون ويصفحون والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟ والجواب: أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عدوه عن نفسه وأن يستعين بأصحابه، فأمر الله تعالى عند ذلك بالعفو والصفح كي لا يهيجوا شرا وقتالا.
القول الثاني: في التفسير قوله: * (فاعفوا واصفحوا) * حسن الاستدعاء، واستعمل ما يلزم فيه من النصح والإشفاق والتشدد فيه، وعلى هذا التفسير لا يجوز نسخه وإنما يجوز نسخه على التفسير الأول.
أما قوله تعالى: * (إن الله على كل شيء قدير) * فهو تحذير لهم بالوعيد سواء حمل على الأمر بالقتال
أو غيره.
245