الكتاب: تفسير السمعاني
المؤلف: السمعاني
الجزء: ١
الوفاة: ٤٨٩
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: ياسر بن إبراهيم و غنيم بن عباس بن غنيم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨ - ١٩٩٧م
المطبعة: السعودية - دار الوطن - الرياض
الناشر: دار الوطن - الرياض
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة على رسوله محمد وآله أجمعين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم بارك ووفق.
القول في تفسير فاتحة الكتاب
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد جمال الأئمة، أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني رحمه الله تعالى: اعلم أن لهذه السورة أربعة أسامي: فاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني، والسبع من المثاني، برواية عبد خير، عن علي رضي الله عنه.
أما فاتحة الكتاب فلأن بها افتتح الكتاب وهو القرآن.
وأما أم القرآن لأنها أصل القرآن، منها بدئ القرآن. وأم الشيء: أصله، ومنه يقال لمكة: أم القرى؛ لأنه أصل البلاد.
وأما السبع المثاني لأنها سبع آيات باتفاق الأئمة؛ إلا في رواية شاذة أنها ثمان آيات. وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة.
وقال مجاهد: إنما سميت مثاني؛ لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة، كأنه أوحى بها لهم، ولم يعطها أحدا من الأمم.
وأما السبع من المثاني ففيه قولان: أحدهما: أنها سبع آيات مخصوصة من المثاني وهو القرآن، قال الله تعالى: * (كتابا متشابها مثاني).
وإنما سمى القرآن مثاني؛ لاشتماله على علوم مثناة من الوعد والوعيد، والأمر والنهى، ونحوها.
والثاني: أن السبع من المثاني هو السبع المثاني؛ و ' من ' فيه للصلة، وإنما نشأ هذا الخلاف من قوله تعالى: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني).
ثم اعلم أن هذه السورة مكية على قول ابن عباس، وقال مجاهد: هي مدنية.
وقيل: نزلت مرتين مرة بمكة، ومرة بالمدينة؛ ولذلك سميت مثاني؛ لأنها ثنيت في التنزيل، وهذه رواية غريبة.
31

* (بسم الله) * *
قوله: * (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من الفاتحة على قول بعض العلماء، وهو مروى عن ابن عباس وأم سلمة.
وليس بآية منها على قول البعض. وهذا مذكور بدليله في الفقه. ثم اعلم أن الباء في قوله: * (بسم الله) أداة يخفض ما بعدها من الكلام، مثل: من، عن، وفي، وعلى، وأمثالها.
والمعنى المتعلق بالباء لدلالة الكلام عليه، وتقديره: ' أبدأ بسم الله '، أو: ' بدأت بسم الله '.
وقوله: * (بسم الله) أصله باسم الله، كقوله: * (اقرأ باسم ربك)، وإنما حذف الألف في الكتابة؛ لأنه (لا يظهر) في اللفظ.
وقيل: إنما حذفت لكثرة الاستعمال تخفيفا؛ ولأنه كثر استعمالها؛ فاستخفوا حذفها، بخلاف قوله: * (اقرأ باسم ربك)، ونظائره لأن هناك لم يكثر الاستعمال.
ثم اختلفوا في اشتقاق الاسم. قال المبرد وجماعة البصريين: الاسم مشتق من السمو، وهو العلو والظهور، فكأنه ظهر على معناه وعلا عليه، وصار معناه تحته.
وقال ثعلب من الكوفيين: هو مشتق من الوسم والسمة، فكأنه علامة لمعناه. والأول أولى؛ لأن الاسم يصغر على المسمى. ولو كان مشتقا من السعة، لكان يصغر على الوسم، كما يقال في الوصل: وصيل، وفي الوعد: وعيد.
وأما قوله: * (الله) تعالى فقد اختلفوا فيه، فقال الخليل، وابن كيسان هو اسم علم خاص لله تعالى لا اشتقاق له، وهو كأسماء الأعلام للعباد، مثل:
32

* (الرحمن الرحيم (1)) * *
زيد، وعمرو، ونحوه. وهو اختيار القفال الشاشي، وجماعة من أهل العلم.
وقال الباقون: هو اسم مشتق، [و] في موضع الاشتقاق قولان: أحدهما: أنه مشتق من قولهم: أله إلاهة، أي: عبد عبادة. وقرأ ابن عباس: ' ويذرك وإلاهتك ' أي: عبادتك.
ويقال للناسك المتعبد مثأله، ومنه قول القائل:
(سبحن واسترجعن من تأله
*)
أي: تعبد، فيكون معناه أنه المستحق للعبادة، إليه توجه كل العبادات، وأنه المعبود فلا يعبد غيره.
وقيل: الإله من يكون خالقا للخلق، رازقا لهم، مدبرا لأمورهم، مقتدرا عليهم.
والثاني: أن ' الله ' أصله إله، وأصل الإله: ولاه؛ إلا أن الواو أبدلت بالهمزة. كقولهم: وشاح وإشاح.
واشتقاقه من الوله، وكأن العباد يولهون الله، ويفزعون إليه ويتضرعون ويلجأون إليه في الشدائد.
وأما قوله: * (الرحمن الرحيم) قال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر.
وحكى عنه أيضا أنه قال: ' الرحمن ': الرفيق بالعباد، و ' الرحيم ' العاطف عليهم. ثم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: ' الرحمن ' غير ' الرحيم ' ولكل واحد منهما معنى
33

* * غير معنى صاحبه. وقال بعضهم: هما واحد.
فأما من قال: ' الرحمن ' غير ' الرحيم '، قال: للرحمن معنى العموم، وللرحيم معنى الخصوص، فعلى هذا ' الرحمن ' بمعنى الرازق في الدنيا، والرزق على العموم للكافر والمؤمن، و ' الرحيم ' بمعنى العافي في الآخرة، والعفو في الآخرة على الخصوص للمؤمنين دون الكافرين. ولذلك قيل في الدعاء: ' يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة '. ' فالرحمن ' من تصل رحمته إلى الخلق على العموم، و ' الرحيم ' من تصل رحمته إلى الخلق على الخصوص؛ ولذلك يدعى غير الله رحيما، ولا يدعى رحمانا؛ لأن الله تعالى هو الذي تصل رحمته إلى الخلق، كأنه كما قال تعالى: * (ورحمتي وسعت كل شيء). وأما غير الله قد يخص شيئا بالرحمة؛ فيكون بذلك رحيما.
وأما من قال: إن معناهما واحد؛ فقد قال قطرب: هما اسمان، ذكر أحدهما
34

* (الحمد لله) * * تأكيدا للآخر، مثل: لهفان، ولهيف، وندمان، ونديم.
وقال المبرد: (هذا تمام بعد إتمام)، وتفضل بعد تفضل، وتطميع لقلوب الراغبين، ووعد لا يخيب آمله، ومعناه: ذو الرحمة، والرحمة [هي] الإنعام والتفضل.
قوله: * (الحمد لله) اعلم أن الحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة، ويكون بمعنى التحميد والثناء على الأوصاف المحمودة. يقال: حمدت فلانا على ما أسدى إلي من النعمة. ويقال: حمدت فلانا على شجاعته وعلمه. وأما الشكر لا يكون إلا على النعمة؛ فللحمد معنى عام، وللشكر معنى خاص. فكل حامد شاكر، وليس كل شاكر حامدا.
يقال: حمدت فلانا على شجاعته. ولا يقال: شكرت فلانا على شجاعته.
ثم أعلم أن حمد الله تعالى لنفسه حسن لا كحمد المخلوقين لأنفسهم؛ لأن [حمد] المخلوقين لا يخلو عن نقص؛ فلا يخلو مدحه نفسه عن كذب؛ فيقبح منه أن يمدح نفسه. وأما الله - جل جلاله - بريء عن النقص والعيب؛ فكان مدحه نفسه حسنا.
وقوله: * (الحمد لله) هاهنا يحتمل معنيين: الإخبار، والتعليم. أما الإخبار كأنه يخبر أن المستوجب للحمد هو الله، وأن المحامد كلها لله تعالى.
وأما التعليم كأنه حمد نفسه وعلم العباد حمده، وتقديره: ' قولوا: الحمد لله '.
وقوله: * (لله) فاللام تكون للإضافة، وتكون للاستحقاق، يقال: أكل للدابة،
35

* (رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3) مالك يوم الدين (4)) * * والدار لزيد، فاللام هاهنا بمعنى الاستحقاق، كأنه يقول: المستحق للحمد هو الله تعالى، وقد فرغنا عن تفسير قوله: * (لله).
* (رب العالمين) وأما الرب يكون بمعنى التربية والإصلاح، ويكون بمعنى المالك. يقال: رب الضيعة يربيها، أي: أتمها وأصلحها. ويقال: رب الدار لمالك الدار. فالرب هاهنا يحمل كلا المعنيين؛ لأن الله تعالى مربى العالمين، ومالك العالمين.
وأما * (العالمون) قال ابن عباس: هم الجن والأنس. وقال الحسن وقتادة، وأبو عبيدة: هم جميع المخلوقين. وقيل: الأول أولى؛ لأن الخطاب مع المكلفين الذين هم المقصودون بالخليفة وهم الجن والإنس. وقيل الإنس عالم، والجن عالم. والله تعالى وراءه أربع زوايا، في كل زاوية ألف وخمسمائة عالم.
وقد فرغنا عن تفسير * (الرحمن الرحيم) وإنما ذكره ثانيا لفائدة التوكيد.
قوله: * (مالك يوم الدين) يقرأ بقراءتين: ' مالك، وملك '. قال أبو حاتم السجستاني: ' مالك ' بالألف أولى؛ لأنه أوسع وأجمع، يقال: مالك الدار، ومالك الطير، ومالك العبد، ولا يستعمل منها اسم الملك.
وقال أبو عبيد، والمبرد: ' وملك '، أولى؛ لأنه أتم، فإن ' الملك ' يجمع معنى ' المالك '، والمالك لا يجمع معنى الملك، فإن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، ولأنه أوفق لألفاظ القرآن، مثل قوله - تعالى -: * (فتعالى الله الملك الحق)، وقوله: * (لمن الملك اليوم) ونحو ذلك فمالك: من الملك و الملكة، وملك من الملك
36

* (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) * * والملكة، والله - تعالى - مالك، وملك.
وأما * (اليوم) اسم لزمان معلوم، والمراد بيوم الدين: يوم القيامة، ومعناه: يوم الحساب، ويوم الجزاء. وقد يكون الدين بمعنى الطاعة وبمعانشتي، ولكنه هاهنا على أحد المعنيين. فإن قال قائل: لم خص يوم الدين بالذكر، والله - تعالى - مالك الأيام كلها؟ يقال: إنما خصه لأن الأمر في القيامة يخلص له، كما قال: * (والأمر يومئذ لله). وأما في الدنيا للملوك أمر، وللمسلمين أمر، وللأنبياء أمر.
قوله: * (إياك نعبد وإياك نستعين)، قوله: * (إياك نعبد) بمعنى نحن نعبدك، والعبادة: هي الطاعة مع التذلل والخضوع، يقال: طريق معبد: أي مذلل، ومعناه: نعبدك خاضعين.
* (وإياك نستعين) أي: نطلب منك المعونة، فإن قيل: لم قدم ذكر العبادة على الاستعانة؛ تكون قبل العبادة؟ ولم ذكر قوله: إياك مرتين، وكان يكفى أن يقول: إياك نعبد ونستعين؛ فإنه أوجز وألخص؟ يقال: أما الأول فإنما يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل، ونحن بحمد الله نجعل الاستعانة والتوفيق مع الفعل، سواء قرنه به أم أخره جاز.
أو يقال: لأن الاستعانة نوع تعبد، فكأنه ذكر جملة العبادة، ثم ذكر ما هو من تفاصيلها.
وأما قوله: * (وإياك نستعين) إنما كرره لأنه لو اقتصر على قوله: إياك نعبد ونستعين؛ ليعلم أنه المعبود، وأنه المستعان، وعلى أن العرب قد تتكلم بمثل هذا، قد
يدخل الكلام تجريدا أو تفخيما وتعظيما. ولا يعد ذلك عيبا، كما تقول العرب: ' هذا المالك بين زيد، وبين عمرو '، وإن كان يفيد قولهم: ' المال بين زيد، وعمرو '. ما يفيد الأول، ولا يعد ذلك عيبا في الكلام؛ بل عد تفخيما وتجزيلا في الكلام.
37

(اهدنا الصراط المستقيم (6)) * *
قوله: (اهدنا الصراط المستقيم) يعنى: أرشدنا، وثبتنا.
والهداية في القرآن على معان، فتكون الهداية بمعنى الإلهام، وتكون بمعنى الإرشاد، وتكون بمعنى البيان، وتكون بمعنى الدعاء.
أما الإلهام، قال الله تعالى: * (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) أي: ألهم.
وأما الإرشاد، قوله تعالى: * (واهدنا إلى سواء الصراط).
وأما البيان قوله: * (وأما ثمود فهديناهم) أي: بينا لهم.
وأما الدعاء، مثل قوله تعالى: * (ولكل قوم هاد) أي: داع فهو بمعنى الاسترشاد هاهنا.
فإن قال قائل: أي معنى للاسترشاد، وكل مؤمن مهتد، فما معنى قوله * (اهدنا)؟ قلنا: هذا سؤال من يقول بتناهي الألطاف من الله تعالى. ومذهب أهل السنة أن الألطاف والهدايات من الله تعالى لا تتناهى، فيكون ذلك بمعنى طلب مزيد الهداية، ويكون بمعنى سؤال للتثبيت، اهدنا بمعنى ثبتنا، كما يقال للقائم: ' قم حتى أعود إليك '. أي: أثبت قائما.
وأما * (الصراط المستقيم) قال علي، وابن مسعود: هو الإسلام. وقال جابر: هو القرآن وأصله في اللغة: هو الطريق الواضح، والإسلام طريق واضح، والقرآن طريق واضح.
38

* (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)) * * وقد قال القائل:
(أمير المؤمنين على صراط
* إذا اعوج الموارد مستقيم)
قوله * (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، قد قرأ عمر رضي الله عنه: ' صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين ' ولكنه في الشواذ، والمعروف هو القراءة المعهودة.
وقيل: ' الذين أنعمت عليهم ' هم الأنبياء. وقيل: كل من ثبته الله على الإيمان من النبيين والمؤمنين كافة.
وقال أبو العالية الرياحي: هم الرسول، وأبو بكر، وعمر.
وأما قوله: * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين). آمين. فالمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى.
وروى عن عدي بن حاتم أنه جاء إلى النبي ليسلم، وقال: ' يا رسول الله، من المغضوب عليهم؟ فقال: اليهود. وقال: فمن الضالون؟ فقال النصارى. قال عدي: أشهد أني حنيف مسلم. قال عدي: فرأيت وجه رسول الله يتهلل، ويبتسم؛ فرحا بإسلامي '.
وأما ' آمين ' فليس من القرآن. والسنة للقارئ أن يقف وقفة، ثم يقول: آمين.
وفيه لغتان: آمين بالمد، وأمين بالقصر. ومعناه: اللهم استجب. وقيل: إنه طابع الدعاء.
39

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تفسير سورة البقرة
اعلم أن سورة البقرة مدنية باتفاق الأئمة، وحكى عن بعض العلماء أنه قال: يكره، تسميتها بسورة البقرة، والأولى أن يقال: السورة التي يذكر فيها البقرة، وكذا في سائر السور من أمثالها. والأصح أنه يجوز؛ لما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رمى جمرة العقبة من بطن الوادي ثم قال: هذا والله مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة.
وروى عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي أنه قال: ' تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة ' أي: السحرة. وفي هذا دليل على فضيلة هذه السورة، وعلى جواز تسميتها سورة البقرة، وسمى بعض المتقدمين هذه السورة: فسطاط القرآن؛ لشرفها وفضلها.
40

* (آلم (1))
قوله تعالى: * (آلم) قال الشعبي وجماعة من المتقدمين، في هذا وسائر حروف التهجي في فواتح السور: والفائدة في أوائل السور لا (يعلم) معناها، وهي سر القرآن، ولكل كتاب سر، وسر القرآن حروف التهجي من فواتح السور، والفائدة من ذكرها طلب الإيمان بها، وأن يعلم أنها من عند الله تعالى.
وقال غيرهم: هي معلومة المعاني. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معنى قوله: * (آلم) أنا الله أعلم، وكل حرف يدل على معنى، والألف دليل قوله: ' أنا '، واللام دليل قوله: ' الله '، والميم دليل قوله: ' أعلم '.
وكذا قال في أمثاله، فقال في * (آلمص): معناه: أنا الله أعلم وأفصل. وفي * (آلمر): أنا ' الله ' أعلم وأرى. وفي * (آلر): أنا الله أرى.
قال الزجاج: هذا حسن، وبمثله قالت العرب في قولها. فإن العرب قد تأتي في كلامها بحرف وتريد به معنى، كما قال القائل:
(قلت لها قفي فقالت قاف
* لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف)
ومعنى قولها قاف، أي: وقفت. فدل الحرف على معنى، كذا هذا.
وقال قتادة في حروف التهجي: إنها اسم للقرآن.
وقال مجاهد: إنها أسماء للسور وقال غيرهم: هو قسم، أقسم الله تعالى بهذه الحروف؛ لشرفها وفضلها؛ لأنها مباني كتبه المنزلة.
قوله عز وجل: * (ذلك الكتاب لا ريب فيه)، أما قوله: * (ذلك الكتاب) أي: هذا الكتاب، كما قال القائل:
41

* (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)) * *
(أقول له والرمح يأطر متنه
* تأمل خفافا إنني أنا ذلكا)
[أي]: أنني أنا هذا. وقيل: هذا مضمر فيه، ومعناه: هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك يا محمد أن أنزله عليك على لسان الذين قبلك، و ' هذا ' للتقريب و ' ذلك ' للتبعيد.
فأما * (الكتاب) هو القرآن، والكتاب بمعنى المكتوب كما يقال: ' ضرب الأمير ' أي: مضروبه.
* (لا ريب فيه) أي: لا شك فيه. فإن قال قائل: كيف أخبر قال: ' لا ريب فيه ' وقد ارتاب فيه كثير من الناس، وخبر الله تعالى لا يكون بخلاف مخبره؟ يقال: معناه أنه الحق والصدق لا شك فيه.
وقيل: هو خبر بمعنى النهى، أي: لا ترتابوا فيه.
قوله تعالى: * (هدى للمتقين) والهدى بمعنى الرشد والبيان.
وأما المتقون مأخوذ من الاتقاء والتقوى. وأصله الحجز بين شيئين، ومنه يقال: اتقى بترسه، أي: جعله حاجزا بين نفسه وبين ما قصد به من المكروه. وفي الخبر ' كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله '. أي: ' اشتدت الحرب ' جعلناه حاجزا بيننا وبين العدو.
فكأن المتقى يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عن نهيه حاجزا بينه وبين العذاب فيتحرز بطاعة الله عن عقوبة الله.
فإن قال قائل: لم خص المتقين بالذكر وهو هدى لجميع المؤمنين؟ قيل: إنما خصهم بالذكر تشريفا، أو لأنهم هم المنتفعون بالهدى، حيث نزلوا منزل التقوى دون غيرهم،
42

* (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3)) * * فلهذا خصهم به.
قوله تعالى: * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة)
قوله: * (الذين) نعت المتقين * (يؤمنون) من الإيمان. وهو التصديق، قال الله تعالى: * (وما أنت بمؤمن لنا) أي: بمصدق لنا.
والإيمان في الشريعة يشتمل على الاعتقاد بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان. وقيل: الإيمان مأخوذ من الأمان، فسعي المؤمن مؤمنا؛ لأنه يؤمن نفسه من عذاب الله. والله مؤمن؛ لأنه يؤمن العباد من عذابه.
* (بالغيب) قال ابن عباس: الغيب كل ما أمرت بالإيمان به مما غاب عن بصرك، وذلك مثل الملائكة، والجنة، والنار، والصراط، والميزان، ونحوها.
وقال غيره: الغيب هاهنا هو الله تعالى.
وقال ابن كيسان: أراد به القدر. * (يؤمنون بالغيب)، أي: بالقدر.
* (ويقيمون الصلاة) أي: يديمون الصلاة. وحقيقة إقامة الصلاة المحافظة على أدائها بأركانها وسننها وهيئاتها.
فالصلاة في اللغة: الدعاء، وقد ورد في الخبر: ' من دعى إلى الطعام فليجب، فإن كان مفطرا فليأكل، وإن كان صائما فليصل '. أي: فليدع. وقد قال الشاعر:
(تقول بنتي وقد [قربت] مرتحلا
* يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا)
43

* (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)) * *
(عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
* عينا فإن بجنب المرء مضطجعا)
معنى قوله: صليت أي: مثل الذي دعوت.
وقيل: الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء، وهي في الشريعة تشتمل على أفعال مخصوصة وعلى الثناء والدعاء.
قوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) أما الرزق اسم لكل ما ينتفع به الخلق، فيدخل فيه الولد والعبد.
* (ينفقون) من الإنفاق، وأصله الإخراج، ومنه نفاق السوق؛ لأنه تخرج فيه السلعة ويقال: نفقت الدابة إذا خرجت روحها، فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب.
قوله تعالى: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)
وهذه الآية في المؤمنين من أهل الكتاب؛ لأنهم هم الذين آمنوا بالقرآن وسائر الكتب قبله، وقد روى في حديث صحيح عن النبي أنه قال: ' من آمن بالكتب المتقدمة وآمن بالقرآن يؤتى أجره مرتين '. وعليه دل نص القرآن * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين).
وقوله: * (وبالآخرة هم يوقنون) فالآخرة هي دار الآخرة. وسميت الدنيا دنيا؛ لدنوها من الخلق، وسميت الآخرة آخرة؛ لتأخرها عن الخلق.
44

* (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5) إن الذين كفروا)
* (هم يوقنون) من الإيقان وهو العلم، وقيل: الإيقان واليقين: علم عن استدلال، ولذلك لا يسمي الله تعالى موقنا إذ ليس علمه عن استدلال.
قوله تعالى: * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)
فقوله * (أولئك) يعني الذين وصفهم * (على هدى) أي: على رشد وبيان من ربهم. فإن قيل: لم ذكر الهدى ثانيا وقد وصفهم بالهدى مرة؟ قيل: كرره لفائدة التأكيد أو يقال: الهدى الأول من القرآن، والهدى الثاني من الله، وفيه بيان أن الهداية من الله تعالى ومن كلامه كما هو مذهب أهل السنة.
وأما * (المفلحون) من الفلاح، والفلاح يكون بمعنى البقاء. يقال: أفلح بما شئت. أي: أبق بما شئت. وقد يكون بمعنى الفوز والنجاة. وأصل الفلاح القطع والشق، ومنه سمى [الزارع] فلاحا؛ لأنه يشق الأرض. وفي المثل: ' الحديد بالحديد يفلح '، أي: يشق. قال الشاعر:
(قد علمت يا ابن أم صحصح
* أن الحديد بالحديد يفلح)
أي: يشق. فمعنى المفلحين أنهم الباقون في نعيم الأبد، والفائزون به، والمقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: * (إن الذين كفروا) فالكفر مأخوذ من الكفر وهو الستر والتغطية، ومنه يقال لليل: كافر؛ لأنه يستر الأشياء بظلمته، وسمى الزارع كافرا؛ لأنه يستر الحب بالتراب، ويسمى الكافر كافرا؛ لأنه يستر نعم الله تعالى بكفره ويصير في غطاء من دلائل الإسلام وبراهينه.
وقيل: الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحد، وكفر عناد، وكفر نفاق.
45

* (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7)) * *
فكفر الإنكار هو أن لا يعرف الله أصلا، أو لا يعترف به.
وكفر الجحد: هو أن يعرف الله تعالى، ولكن يجحده، ككفر إبليس.
وكفر العناد: هو أن يعرف الله تعالى بقلبه، ويعترف بلسانه، ولكن لا يتدين به ولا يتخذه دينا، ككفر أبي طالب؛ فإنه عرف الله ورسوله بقلبه وأقر بلسانه حتى قال:
(ولقد علمت بأن دين محمد
* من خير أديان البرية دينا)
(لولا الملامة أو حذار مسبة
* لوجدتني سمحا بذاك مبينا)
وأما كفر النفاق: أن يعترف باللسان ولا يعتقد بالقلب؛ فهذه أنواع الكفر؛ فمن لقى الله تعالى بنوع منها لم يعف.
قوله تعالى: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)
* (سواء عليهم) أي: مستو عليهم. (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) أي: خوفتهم أم لم تخوفهم. والإنذار: تخويف مع الإعلام.
وقيل: هو أشد التخويف. يعني: سواء خوفتهم أم لم تخوفهم لا يؤمنون. وردت هذه الآية في قوم بأعيانهم علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون.
قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)
ذكر في الآية الأولى أنهم لا يؤمنون، وذكر في هذه الآية علته، فقال: * (ختم الله على قلوبهم) والختم: هو الطبع، وحقيقته: الاستيثاق من الشيء؛ كيلا يدخله ما هو خارج منه، ولا يخرج عنه ما هو داخل فيه، ومنه الختم على الباب.
فقوله: * (ختم الله على قلوبهم) ذكر ابن كيسان أقوالا في معناه: أحدها: أي: جازاهم على كفرهم بأن أختم على قلوبهم.
46

* (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) * *
والثاني وهو قول أهل السنة أي: ختم على قلبهم بالكفر؛ لما سبق من علمه الأزلي فيهم.
وحكى قول ثالث: أن معناه: جعل على قلوبهم علامة تعرفهم الملائكة بها، وهذا تأويل أهل الاعتزال، نبرأ إلى الله منه.
وحكى أبو عمر غلام ثعلب، عن ثعلب، عن إبراهيم الأعرابي: أن الختم هو منع القلب من الإيمان، ذكره في كتاب الياء.
قوله: * (وعلى سمعهم) أي: أسماعهم، ذكر الجمع بلفظ (الواحد)، ومثله كثير في القرآن. معناه: على موضع سمعهم، فختم على قلوبهم؛ كيلا يقبلوا الحق، وعلى سمعهم؛ كيلا يسمعو الحق.
قول تعالى: * (وعلى أبصارهم غشاوة) هذا ابتداء الكلام ومعناه: على أبصارهم غطاء.
* (ولهم عذاب عظيم) أي: كبير، وصف عذاب الآخرة بالعظم ولا شك أنه عظيم.
قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) قال الكلبي: ورد هذا في شأن اليهود. وأكثر المفسرين على أنه في شأن المنافقين. ومعناه: ومن الناس ناس تقول آمنا بالله وباليوم الآخر يعني: القيامة. * (وما هم بمؤمنين) نفي الإيمان عنهم؛ حيث أظهروا الإسلام باللسان ولم يعتقدوا بالجنان. وهذا دليل على من يخرج الاعتقاد من جملة الإيمان.
قوله تعالى: * (يخادعون الله والذين آمنوا) الآية: المخادعة، والخدع بمعنى واحد وحقيقة المخادعة: أن يظهر شيئا ويبطن خلافه.
47

(* (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) * * وقال ابن الأعرابي في كتاب الياء: قوله: المخادعة منع القلب من الحق، قاله في حق المنافقين حيث أظهروا الإسلام باللسان وأبطنوا خلافه.
فإن قال قائل: ما معنى قوله: * (يخادعون الله) وهذا يوهم الشركة في المخادعة، وقد جل الله تعالى عن المشاركة في المخادعة؟! الجواب: قال الحسن البصري: معناه يخادعون نبي الله.
وقال غيره من المفسرين معناه: يعاملون الله معاملة المخادعين.
فأما قوله: * (وما يخادعون إلا أنفسهم) يقرأ بقراءتين: ' يخادعون، ويخدعون '. فمن قرأ: ' يخادعون ' فهو على المشاكلة؛ لأنه ذكر الأول بلفظ المخادعة، وهذا شكله فذكره بلفظه.
ومن قرأ: ' يخدعون ' فهو على الأصل، وعلى أن لفظ المخادعة لا يقتضي المشاركة، بين اثنتين، ومثله: طرقت النعل، وطارقت النعل، ومثله كثير في ألفاظ المفاعلة.
فمعنى قوله * (وما يخادعون إلا أنفسهم) أي: وبال خديعتهم راجع إليهم * (وما يشعرون) أي: لا يعلمون ذلك. يقال: شعرت بمعنى علمت، ومنه قولهم: ليت شعري؛ أي: ليت أعلم.
قوله تعالى: * (في قلوبهم مرض) الآية، أراد بالمرض الشك والنفاق، بإجماع المفسرين. ويوصف القلب والدين بالمرض والصحة كما يوصف البدن به.
* (فزادهم الله مرضا) أي: شكا ونفاقا؛ فإنه لما نزلت الآيات آية بعد آية فكلما كفروا بآية ازدادوا كفروا ونفاقا، وذلك معنى قوله تعالى: * (وأما الذين في قلوبهم
48

* (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون) * * مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم).
قوله تعالى: * (ولهم عذاب أليم) أي: مؤلم. فعيل: بمعنى: مفعل؛ كما قال القائل:
(أمن ريحانة الداعي السميع
* يؤرقني وأصحابي هجوع خفية)
وأراد بالسميع المسمع.
قوله تعالى: * (بما كانوا يكذبون) قرىء بقراءتين: مخفف ومعناه: يكذبون بما أظهروا من الإسلام وأبطنوا خلافه، وهو مثل قوله: * (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون).
وقرئ: ' يكذبون ' مشددا، ومعناه: يكذبون الرسول.
قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) معناه: لا تكفروا، والكفر أشد فسادا في الأرض.
* (قالوا إنما نحن مصلحون) يعنى: أن الذي أظهرنا من الإسلام واستفدنا به من العز و الأمان مصلحة لنا ونحن مصلحون به.
* (ألا إنهم هم المفسدون) هذا ابتدأ كلام من الله. وقوله: (ألا) للتنبيه؛ قال الشاعر:
(ألا إن هذا الدهر يوم وليلة
* وليس على شيء قديم بمستمر)
يقول الله تعالى: * (ألا إنهم هم المفسدون) يعني: بما أظهروا من الإسلام وأبطنوا خلافه، فهو فساد؛ وإن ظنوه صلاحا، وأظهروا خلاف ما أبطنوا.
* (ولكن لا يشعرون) أي: لا يعلمون.
49

* (ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13)) * *
فإن قيل: كيف يلزمهم الحجة إذا كانوا لا يعلمون؟
قيل: يلزمهم الحجة بما أوضح من السبيل، ونصب من الدلائل، وجهلهم لا يكون عذرا لهم.
قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس...) الآية. كما آمن الناس يعنى: المهاجرين والأنصار.
* (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) سموهم سفهاء فأجابهم الله تعالى بقوله: * (ألا إنهم هم السفهاء)
والسفيه خفيف العقل رقيق الحلم؛ من قولهم: ثوب سفيه، أي: رقيق بال
يقول: هم الذين خفت عقولهم، ورقت أحلامهم * (ولكن لا يعلمون).
قوله تعالى: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا...) الآية، معناه: وإذا لقوا المهاجرين والأنصار قالوا: آمنا. أظهروا الإسلام باللسان.
* (وإذا خلوا إلى شياطينهم) أي: بشياطينهم، يذكر ' إلى ' بمعنى ' الباء ' لأن الصلات يقوم بعضها مقام البعض. والشيطان: كل عات متمرد من الجن والإنس، وأصله: البعد والامتداد. يقال: بئر شطون، أي: بعيد العمق والقعر. ويقال للحبل: شطن؛ لامتداده. وسمى الشيطان شيطانا؛ لامتداده في الشر وبعده عن الخير.
فأراد بالشياطين هاهنا عتاتهم ورؤساءهم في الكفر. يقول: إذا خلوا برءوسهم، قالوا: إنا معكم في دينكم * (إنما نحن مستهزئون) بما أظهرنا من الإسلام مع المهاجرين والأنصار.
50

* (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن نحن مستهزئون (14) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم) * *
وقوله تعالى: * (الله يستهزئ بهم...) الآية. فإن قال قائل: ما معنى الاستهزاء من الله تعالى؟ قلنا فيه أقوال: قال بعضهم: معناه يجازيهم على صنيعهم، إلا أنه سماه الله استهزاء؛ لأنه جزاء الاستهزاء؛ كما قال: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وإن لم يكن الجزاء سيئة حقيقة.
وقال بعضهم: يستهزئ بهم أي يعيبهم، ومنه قوله تعالى: * (يكفر بها ويستهزأ بها) أي: يعاب كذلك هذا.
وقال أهل الرواية معناه: الله يستهزئ بهم في الآخرة، والاستهزاء بهم في الآخرة يحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يضرب للمؤمنين على الصراط نورا يمشون به، وإذا وصل المنافقون إليه حال بينهم وبين المؤمنين، فذلك الاستهزاء بهم؛ كما قال: * (فضرب بينهم بسور له باب).
والثاني: أنه يقربهم من الجنة، حتى إذا رأو زهرتها وحسنها وبهجتها، واستنشقوا رائحتها صرفهم عنها إلى النار، فذلك الاستهزاء بهم، وقد نطق عنه - عليه الصلاة والسلام بمعناه حديث في الصحاح.
قوله: * (ويمدهم) أي، يمهلهم حتى يستدرجهم. * (في طغيانهم) أي: ضلالتهم. * (يعمهون) أي: يتحيرون، قال الشاعر:
(ومهمة أطرافها في مهمة
* أعمى الهدى بالجاهلين العمة)
قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) لأن معناه: اختاروا الكفر على الإيمان؛ لأنهم لما آثروا أشياء على شيء فكأنهم استبدلوا هذا بذلك * (فما
51

* (يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16) مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما) * * ربحت تجارتهم) أي: فما ربحوا في تجارتهم. * (وما كانوا مهتدين).
قوله تعالى: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) الآية. المثل: قول سائر في عرف الناس، يعرف به معنى الشيء من الشيء. وهذا أحد أقسام القرآن؛ فإن القرآن على سبعة أقسام.
وقيل مثلهم، أي: صفتهم. * (كمثل الذي استوقد نارا...) أوقد النار، واستوقد بمعنى واحد، كما يقال: أجاب، واستجاب.
وقيل: أوقد إذا فعل بنفسه، واستوقد إذا طلب الإيقاد من غيره. * (فما أضاءت ما حوله) يعنى: أضاءت النار الموقدة حول المستوقد. ضربه مثلا للمنافقين ومعنى هذا المثل قوله تعالى: * (كمثل الذي استوقد نارا) ضربه مثلا لما أظهروا باللسان من الإسلام.
* (فلما أضاءت ما حوله) يعنى: ما استفادوا بذلك الإسلام الظاهر من التجمل والعز والأمان في الدنيا.
* (ذهب الله بنورهم) قيل: فيه معان: أحدها: ذهب الله بما أظهروا من الإسلام بإظهار عقيدتهم على لسان النبي وقيل: معناه ذهب الله بنورهم، يعنى في القبر. وقيل: في القيامة؛ يعنى أن ما استفادوا به في الدنيا لا ينفعهم في الآخرة إذا كان مصيرهم إلى النار.
فإن قال قائل: كيف قال: * (ذهب الله بنورهم) ولا نور لهم، وقال في موضع آخر: * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) ولا نور لهم؟ قيل: أراد به نور ما أظهروا من الإسلام؛ وذلك نوع نور.
وقيل: قد يذكر مثله على معنى الحرمان كما يقال: أخرجتني من صلتك، وإن لم
52

* (حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (18) أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد) * * يكن داخلا في صلته. بمعنى: أنك حرمتني صلتك، كذلك قوله تعالى: * (ذهب الله بنورهم) أي: حرمهم ذلك النور. (وتركهم في ظلمات) أي: شدائد * (لا يبصرون) الحق.
قوله: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) فالصم: جمع الأصم، وهو الذي لا يسمع، والبكم: جمع الأبكم، وهو الذي لا ينطق، وولد على الخرس.
والعمي: جمع الأعمى، وهو الذي لا يبصر؛ فمعناه أنهم صم لا يبصرون الحق، ولا يعرفونه كأنهم لم يسمعوا؛ وهو مثل قول الشاعر:
(أصم عما ساءه سميع
*)
أي: لا يسمع ما ساءه مع كونه سميعا.
* (بكم) يعني: أنهم لما أبطنوا خلاف ما أظهروا؛ فكأنهم لم ينطقوا بالحق.
* (عمي) أي: لا بصائر لهم، ومن لا بصيرة له كمن لا بصر له.
* (فهم لا يرجعون) عما هم عليه من الضلالة.
قوله تعالى * (أو كعيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق...) الآية. فالصيب: المطر، وكل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل فهو صيب، من قولهم: صاب يصوب، إذا نزل.
وقيل: الأهل مضمر فيه، أي: كأهل الصيب؛ كقوله * (واسأل القرية) أي: أهل القرية.
* (من السماء) كل ما علا فهو سماء. فالسقف سماء، والسحاب سماء، وما فوقه سماء، وأراد به السحاب ههنا.
* (فيه ظلمات) يعنى: في السحاب؛ لأنه لا يخلو عن ظلمة، ألا تراه يغشى وجه
53

* (وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19)) * * الشمس * (ورعد وبرق) قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين: إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب، والبرق لمعان سوط في يد ملك يضرب به السحاب يسوقه إلى حيث قدره الله تعالى.
وفي الخبر أن النبي قال: ' إذا سمعتم صوت الرعد فاذكروا الله فإنه لا يصيب ذاكرا '. وكان إذا سمع صوت الرعد يقول: ' اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك '.
وقيل: الرعد اسم الملك. وقيل: صوت [اختناق] الريح إلى السحاب. و الأول أصح.
* (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق) يعني: من الصوت العذاب، حذر الموت. وقيل: الصاعقة قطعة من العذاب ينزلها الله تعالى على من يشاء وعليه دل قوله تعالى * (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) * (والله محيط بالكافرين) أي جامعهم. قال مجاهد: يجمعهم فيعذبهم. والإحاطة بالشيء جمعه بحيث لا يشذ منه شئ، والإحاطة من الله تعالى تكون بالقهر والاقتدار والعلم.
ومعنى المثل في هذا: أما قوله: * (أو كصيب من السماء) يعني: إن شئت مثلهم بالمستوقد وإن شئت مثلهم بالصيب، أي بأهل الصيب. ضرب الصيب مثلا لما أظهروا
54

* (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء لله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير (20)) * * باللسان من الإسلام.
* (فيه ظلمات) مثل لما في الإسلام من البلايا والمحن والشدائد * (ورعد) مثل لما فيه من المخاوف في الآخرة.
(وبرق) لما فيه من الوعد والوعيد.
وقيل: ضرب الصيب مثلا للقرآن الذي كانوا يقرءونه باللسان؛ لأن في القرآن حياة الباطن كما في الماء حياة الظاهر. * (فيه ظلمات) مثل لما ذكرنا في القرآن من أنواع الكفر والنفاق، * (ورعد) مثل لما ذكرنا فيه من الوعيد * (وبرق) مثل لما فيه من البيان.
* (يجعلون أصابعهم في آذانهم) يعنى: أن المنافقين إذا رأوا في الإسلام بلاء وشدة هربوا وتأخروا؛ حذرا من الهلاك.
* (والله محيط بالكافرين) يعنى: لا ينفعهم حذرهم؛ لأن الله تعالى من ورائهم يجمعهم فيعذبهم.
قوله تعالى: * (يكاد البرق يخطف أبصارهم...) الآية * (يكاد) كلمة القرب، يكاد يفعل، أي: قرب يفعل * (يخطف أبصارهم) والخطف: استلاب بسرعة. وهذا من تمام المثل، ومعناه على القول الأول: تكاد دلائل الإسلام تزعجهم إلى النظر لولا ما سبق لهم من الشقاوة.
ومعناه على القول الآخر: يكاد القرآن يبهر قلوبهم.
كلما أضاء لهم مشوا فيه) معناه: كلما نالوا غنيمة وراحة ثبتوا على الإسلام. * (وإذا أظلم عليهم قاموا) يعني: كلما رأوا شدة وبلاء تأخرا. وقاموا، أي: وقفوا. * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) يحتمل معنيين: أحدهما: لو شاء
55

* (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21)) * *
الله لذهب بما استفادوا من العز والأمان الذي لهم بمنزله السمع والبصر.
والثاني معناه: ولو شاء الله لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة؛ كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة. * (إن الله على كل شيء قدير) يعني: قادر.
قوله تعالى: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم...) الآية، قال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن من قوله * (يا أيها الناس) فإنما نزل بمكة، وكل ما ورد من قوله: * (يا أيها الذين آمنوا) فإنما نزل بالمدينة.
وقوله: * (يا أيها الناس) يعنى: يا هؤلاء الناس. وهذا وإن عمت صيغته ولكن دخله الخصوص؛ فإنه لا يتناول الصغار والمجانين. * (اعبدوا) أي: وحدوا.
قال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن من العبادة فهو بمعنى التوحيد، وكل ما ورد في القرآن من التسبيح والسبحة فهو بمعنى الصلاة.
وقوله: * (اعبدوا ربكم الذي خلقكم) أي: وحدوا الله الذي خلقكم. وإنما خاطبهم به؛ لأن الكفار مقرون أن الله خالقهم، والخلق: هو اختراع الشيء على غير مثال سبق. * (والذين من قبلكم) أي: وخلق الذين من قبلكم. فإن قيل: أي فائدة في قوله: * (والذين من قبلكم) فإن من عرف أن الله خالقه فقد عرف أنه خالق غيره من قبله؟ قيل: فائدته المبالغة في البيان، أو يقال: فائدته المبالغة في الدعوة، يعنى: إذا كان الله خالقكم وخالق من قبلكم فلا تعبدوا إلا إياه. وفيه إشارة لأنه خلق الأولين وأماتهم وابتلاهم في الدنيا والآخرة؛ فأشار بهذا إلى أنى أفعل بكم ما فعلت بهم.
* (لعلكم تتقون) قيل معناه: لكي تتقوا، قاله أبو عبيدة، وقيل معناه: كونوا
56

* (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)) * * على رجاء التقوى. فإن قال قائل: التقوى [هي] (1) العبادة، فأي شيء معنى قوله: اعبدوا لكي تعبدوا؟ قلنا معناه: اعبدوه وكونوا على حذر منه، وهذا دأب العابد أن يعبد الله ويكون على حذر منه. وقيل معناه: اعبدوه وكونوا على رجاء التقوى؛ بأن تصيروا في ستر ووقاية من عذاب الله تعالى، وحكم الله من ورائكم يفعل بكم ما يشاء؛ وهذا مثل قوله تعالى: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) أي: ادعواه إلى الحق وكونا على رجاء التذكر والخشية منه. وحكم الله وراءه يفعل به ما يشاء.
قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا) الآية. هذا راجع إلى ما تقدم يعني: اعبدوا الذي جعل لكم الأرض فراشا، والجعل هاهنا بمعنى: الخلق * (فراشا) أي: بساطا، وقيل: وطاء. وقيل: مقاما. يعنى لكم الأرض قرارا لتكونوا عليها * (والسماء بناء) أي: سقفا * (وأنزل من السماء ماء) إنما أضافه إلى السماء وإن كان ينزل من السحاب؛ لأنه ينزل من جهة السماء.
* (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) قيل: الرزق هو كل ما يؤكل. وقيل: كل ما ينتفع به. * (فلا تجعلوا لله أندادا) قال قتادة: الند: هو المثل. وقال أبو عبيدة: الند هو الضد. وهذا من الأضداد، والله تعالى بريء عن المثل والضد. قال حسان بن ثابت في مدح رسول الله:
(أتهجوه ولست له بند
* فشركما لخيركما الفداء)
يعنى: ولست له بمثل؛ قال لبيد:
(أحمد الله فلا ند له
* بيديه الخير ما شاء فعل)
57

* (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23))
أي: لا مثل له. ومعنى قوله * (فلا تجعلوا لله أندادا) أي: لا تتخذوا من دونه أربابا تعبدونهم كعبادة الله، وتطيعونهم كطاعة الله لا أن له مثلا، أو لا مثل لله تعالى.
* (وأنتم تعلمون) أي: فلا تعبدوا غيره وأنتم تعلمون أنه خالقكم وخالق السماوات والأرض. وقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب) أي: شك. فإن قيل: كيف ذكره على التشكيك وهم في ريب على التحقيق؟ قيل: مثله جائز في كلام العرب؛ كما يقول الرجل لغيره: إن كنت رجلا فافعل كذا؛ وإن عرف أنه رجل على التحقيق. قيل: أراد به ' وإذ كنتم ' فيكون على التحقيق، * (مما نزلنا) من القرآن * (على عبدنا) يعني: على الرسول.
* (فأتوا بسورة) السورة: اسم للمنزلة الرفيعة؛ ومنه سورة البناء؛ لارتفاعه. قال الشاعر:
(ألم تر أن الله أعطاك سورة
* ترى كل شيء دونها يتذبذب)
أي: أعطاك سورة منزلة، أي: منزلة رفيعة. وسميت سورة القرآن سورة؛ لأن القارئ ينال بقراءة كل سورة منزلة؛ حتى يستكمل جميع المنازل باستكمال القرآن، وقيل: السورة اسم لقطعة من القرآن معلوم الأول والآخر، ومنه سؤر الطعام لما بقي منه. وفي الخبر ' إذا أكلتم فاسأروا ' أي: أبقوا بقية. وإنما نزل القرآن سورة سورة حتى [أن] القارئ كلما قرأ سورة وافتتح أخرى ازداد نشاطا، فيكون أنشط في القراءة، أو لأنه ربما لا يمكنه حفظ جميع القرآن فيحفظ بعض السور.
* (فأتوا بسورة من مثله) وقوله: * (من مثله) فيه معنيان: أحدهما قاله ابن
58

* (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)) * * عباس وجماعة: أراد به من مثل القرآن. فإن قيل: كيف قال: من مثل القرآن، ولا مثل له؟ قيل: أراد به من مثله على زعمهم.
وفيه قول آخر: أنه أراد به من مثل محمد؛ لأنهم كانوا يقولون: إنه مفتري فقال: فأتوا بسورة من مفترى مثله.
* (وادعوا شهداءكم من دون الله) أي: استعينوا بأعوانكم وأربابكم من دون الله * (إن كنتم صادقين) فيما تزعمون. وفائدته: أنهم إذا اجتمعوا وأحضروا أربابهم
فعجزوا كان أبلغ في إلزام الحجة. وقوله تعالى: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا...) الآية يعنى: فإن لم تفعلوا ذلك، ولن تفعلوه أبدا على طريق الإخبار. ' وتم ' للماضي، ' ولن ' للمستقبل. وإنما قال هذا لبيان المعجزة؛ لأن القرآن كان معجزة للنبي حيث عجز الكل عن الإتيان بمثله.
* (فاتقوا النار) أي: فآمنوا؛ لكي تتقوا النار بالإيمان * (التي وقودها الناس) الوقود يعني: الإيقاد، والوقود بفتح الواو الحطب. * (والناس) أهل جهنم * (والحجارة) قال علي وابن مسعود: هي حجارة الكبريت؛ لأنها أكثر توقدا والتهابا، وقال الباقون: هي جميع الحجارة. وهذا دليل على عظم تلك النار، و * (أعدت للكافرين) أي: هيئت للكافرين، وهذا دليل على أن النار مخلوقة، لا كما قال أهل البدعة. ودليل على أنها مخلوقة للكافرين، وإن دخلها بعض المؤمنين تأديبا وتعريكا.
قوله تعالى: * (وبشر الذين آمنوا...) الآية، البشارة: اسم لكل خبر صدق تتغير به بشرة الوجه ويظهر عليها، وقد تكون في الخبر السوء. كما قال: * (فبشرهم بعذاب أليم) إلا أنه في الخبر السار أغلب. * (الذين آمنوا عملوا الصالحات)
59

* (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به)
يعني: المؤمنين من أهل الطاعة * (أن لهم جنات) الجنات: جمع جنة وهو اسم للبستان الذي فيه أشجار مثمرة، فإذا لم تكن الأشجار مثمرة لا تكون جنة وقيل: الجنة ما فيه النخيل. والفردوس ما فيه الكرم، وإنما سميت جنة من الاجتنان؛ لأنها تستر الأرض بالتفافها وأرواقها. وقيل: الجنان سبع، وقيل: ثمان، والكل في القرآن.
* (تجري من تحتها الأنهار) أي: من تحت أشجارها تجري المياه من الأنهار، وفي الحديث: ' إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود ' أي: في غير شق.
* (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا) أي: كلما رزقوا شيئا من ثمار الجنة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل. وفيه قولان: أحدهما معناه: رزقنا من قبل في الدنيا، والثاني: أن الثمار في الجنة متشابهة في اللون مختلفة في الطعم، فإذا رزقوا منها ثمرة ثم رزقوا أخرى ظنوا أنها الأولى لاستوائهما في اللون ف (* (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) * وأتوا به متشابها) قال مجاهد: أي متشابها في اللون. كما ذكرنا، وقال الحسن البصري: معناه كلها خيار ليس فيها رذال. قال ابن عباس: ليس في الدنيا من ثمار الجنة إلا الأسامي * (ولهم فيها أزواج) قيل: من الحور العين، ويحتمل من أزواج الدنيا: * (مطهرة) من الأدناس؛ لا يتمخطن، ولا يتغوطن، ولا يحضن. وقيل: مطهرة الأخلاق، فيكن مطهرات خلقا وخلقا. * (وهم فيها خالدون) أي: مقيمون لا يظعنون.
قوله تعالى: * (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) وسبب نزول الآية: أن الله تعالى لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت، قال المشركون: إنا
60

* (متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (25) إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه) * * لا نعبد إلها يذكر الذباب والعنكبوت، فنزل قوله تعالى: * (إن الله لا يستحيي) أي: لا يمتنع ولا يترك * (أن يضرب مثلا) أي: يذكر مثلا * (ما بعوضة) (ما) للصلة هاهنا، أي: مثلا بالبعوضة. قال الشاعر:
(قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا
* إلى حمامتنا أو نصفه فقد)
معناه أي: ليت هذا الحمام لنا. والبعوض: صغار البق، سميت بعوضة لأنها بعض البق. * (فما فوقها) معناه: فما دونها؛ كما يقال: فلان جاهل، فيقال: وفوق ذلك. يعني: أجهل من ذلك، فكذلك قوله تعالى: * (فما فوقها) يعني: في الصغر، وأصغر من ذلك، وقيل: فما فوقها على الحقيقة؛ لأنه ضرب المثل بالذباب، والعنكبوت. قال الربيع بن أنس: مثل البعوضة مثل صاحب الدنيا؛ لأن دأب البعوضة أنها إذا شبعت هلكت، وإذا جاعت عاشت؛ كذلك صاحب الدنيا إذا استكثر من الدنيا هلك، وإذا استقل منها فاز ونجا. وقيل: إن حكم الله تعالى في صغار خلقه أكثر من حكمه في كبار خلقه. قوله تعالى: * (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) يعني: أنه الصدق من ربهم.
* (وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) أي شيء أراد الله بهذا المثل؟ يقول الله تعالى: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) أي: أراد هذا، والإضلال: هو الصرف عن الحق إلى الباطل. وقيل: الإضلال هو الإهلاك؛ يقال: ضل اللبن في الماء أي: هلك.
* (ويهدي به كثيرا) أي: ويرشد به كثيرا. * (وما يضل به إلا الفاسقين) يعني: الكافرين. والفسق: هو الخروج عن طاعة الرب؛ يقال: فسقت (الرطبة) إذا خرجت
61

* (الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين (26) الذين ينقضون) * * عن قشرها، ومعنى إضلالهم بالمثل أنه لما ضرب المثل فكفروا به ازدادوا ضلالا.
وقوله تعالى: * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) أي: يخالفون أمر الله. والميثاق: مفعال من التوثقة وهو العهد المؤكد. وفي معناه قولان: أحدهما: أنه أراد نقض الميثاق الأول الذي أخذه على آدم وذريته بقوله * (ألست بربكم قالوا بلى).
وقيل: أراد به نقض الميثاق الذي أخذه على النبيين وسائر الأمم أن [يؤمنوا] بمحمد بقوله: * (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين...) الآية.
* (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) فيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنهم يقطعون ما أمروا بوصله من الإيمان بمحمد وبسائر الرسل. وقيل: أراد به قطع الرحم. والأول أولى؛ لأنه أعم، وقيل: أراد به قطع العمل عن القبول؛ فإنهم لم يعملوا بما قبلوا.
* (ويفسدون في الأرض) بالمعاصي * (أولئك هم الخاسرون) المغبونون.
قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله) قاله تعجبا، تكفرون بالله بعد نصب الدلائل ووضوح البراهين؟! ثم ذكر الدليل فقال: * (وكنتم أمواتا) هذا دليل، أي: كنتم نطفا في أصلاب الآباء.
(فأحياكم) أي: خلقكم * (ثم يميتكم) عند انتهاء الأجل. * (ثم يحييكم) للبعث * (ثم إليه ترجعون) إلى الله مصيركم. وقيل: أراد بالموت الأول: الموت المعهود * (وكنتم أمواتا) أي: تصيرون أمواتا. فأحياكم أي: يحييكم في القبر للسؤال، ثم يميتكم بعده في القبر ثم يحييكم للبعث. ثم إليه ترجعون.
قوله تعالى: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) لكي تعتبروا
62

(عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28) هو الذي خلق) * * وتستدلوا، وقيل: لكي تنتفعوا.
* (ثم استوى إلى السماء) قال ابن عباس وأكثر المفسرين من السلف: أي ارتفع وعلا إلى السماء.
وقال الفراء وابن كيسان وجماعة من النحويين معناه: أقبل على خلق السماء؛ لأنه خلق الأرض أولا، ثم أقبل على خلق السماء، كما ذكر في ' حم السجدة '. * (فسواهن سبع سماوات) أي: خلقهن مستويات؛ لا فطر فيها، ولا صدع، ولا شق.
* (وهو بكل شيء عليم) أي: عالم بصغار خلقه وكبارهم.
قوله تعالى * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) معناه: وقال ربك. ' إذ ' زائدة فيه.
وقيل، معناه: واذكر إذ قال ربك. والملائكة: جمع الملك، وأصل الملك مالك، فقبلت الهمزة فصار مالك ثم اسقط الهمزة فصار ملك، واشتقاقه من الألوكة، وهي: الرسالة، ومثلها المالكة، والمالكة؛ قال الشاعر:
(ألكنى إليها (وخير) الرسول
* أعلمهم بنواحي الخبر)
يعنى: أرسلني إليها.
* (إني جاعل في الأرض خليفة) اتفقوا على أن المراد بهذا الخليفة آدم صلوات الله عليه والخليفة، والخليف بمعنى واحد، وجمع الخليف خلفاء. وجمع الخليفة خلائف.
واختلفوا في أنه لما سمى خليفة؟ منهم من قال: لأنه خليفة الجن؛ فإن الله تعالى لما خلق الأرض أسكنها الجن، ولما خلق السماء أسكنها الملائكة، ثم لما خلق
63

* (لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم (29) وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض) * * آدم أزعج الجن إلى أطراف الأرض؛ فهو الخليفة الجن في الأرض.
وقيل: إنما سماه خليفة؛ لأنه يخلفه غيره. فيكون الخليفة بمعنى أنه يخلف غيره. ويكون الخليفة أنه يخلفه غيره.
وقيل: إنما سمى خليفة لأنه خليفة الله في الأرض؛ لإقامة أحكامه، وتنفيذ قضاياه، وهذا هو الأصح.
قوله تعالى: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها...) الآية قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟! فإن قيل: من أين عملوا ذلك؟ قيل: إن الله تعالى أعلمهم بذلك. وقيل: اطلعوا عليه في اللوح المحفوظ.
* (ونحن نسبح بحمدك) هو التنزيه عن السوء. ومعناه: ونحن ننزهك عن الأنداد والشركاء.
وقال الحسن: معنى قوله: * (ونحن نسبح بحمدك) هو قولهم: سبحان الله وبحمده. * (ونقدس لك) يعني: نثنى عليك بالقدس والطهارة.
وقيل: معناه نطهر أنفسنا بطاعتك والثناء عليك.
فإن قيل: قولهم * (أتجعل فيها). يشبه الاعتراض عليه. وقولهم نحن * (نسبح بحمدك) يشبه التفاخر بالعمل؛ وكلاهما لا يجوز على الملائكة. فما معنى هذا الكلام؟
قلنا: أما قولهم: * (أتجعل فيها) معناه: أنت جاعل فيها على سبيل التقدير، ومثله قول الشاعر:
(ألستم خير من ركب المطايا
* وأندى العالمين بطون راح)
يعني أنهم بهذه الصفة.
وقالوا: إنما قالوه على سبيل التعجب طلبا لوجه الحكمة فيه.
64

* (خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس) * *
وأما قوله: * (ونحن نسبح بحمدك) ليس على سبيل التفاخر بل معناه: أنه إذا أفسدوا وسفكوا الدماء فنحن نبقى على هيئة التسبيح والتقديس أم لا؟ قال: * (إني أعلم مالا تعلمون) له معنيان:
أحدهما: إني أعلم فيهم من يعبدني ويطيعني من الأنبياء والأولياء والصلحاء.
والثاني معناه: إني أعلم فيكم أيها الملائكة من يعصيني يعني إبليس.
قوله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها) أما آدم إنما سمى آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض، ولما خلقه الله تعالى علمه أسماء الأشياء بأجمعها.
قال ابن عباس: علمه أسماء الأشياء حتى القصعة والقصيعة، والفسوة والفسية.
وإنما علمه ذلك تكريما وتشريفا له. وذلك دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلا كما ذهب إليه أهل السنة.
* (ثم عرضهم) قرأ أبي بن كعب: ' ثم عرضها ' [وهي] في الشواذ. ورجع [الكناية] إلى المسميات التي لا تعقل. والقراءة المعروفة: ' ثم عرضهم ' فإن المسميات لما جمعت من يعقل ومن لا يعقل؛ كنى بلفظ من يعقل تغليبا له.
وإنما عرضهم على الملائكة لإظهار فضيلته عليهم، فإنهم كانوا قد قالوا: لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا، فقال: * (أنبئوني) أخبروني * (بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) فيما زعمتم.
قوله تعالى: * (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) قد ذكرنا معنى التسبيح. ومعنى الآية: أنك أجل من أن نحيط بشيء من علمك؛ إلا الذي علمتنا منه.
* (إنك أنت العليم) أي: العالم * (الحكيم) له معنيان أحدها: الحاكم، وهو
65

* (لك قال إني أعلم ما لا تعملون (30) وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا) * * القاضي بالعدل.
والثاني: معنى الحكيم: المحكم للأمر كيلا يتطرق إليه الفساد، ومنه: أحكمت الدابة لأنها (تمنعها) من الفساد.
قوله تعالى: * (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم) لما عرضهم على الملائكة فعجزوا؛ يقول الله تعالى لآدم: أخبرهم بأسمائهم * (فلما أنباهم بأسمائهم) فأخبرهم آدم بأسماء تلك المسميات، والحكمة التي لأجلها خلقوا، فلما أخبرهم بها * (قال الله) تعالى للملائكة: * (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض) فإنه قد قال لهم: * (إني أعلم مالا تعملون) وغيب السماوات والأرض كل ما غاب وخفي عن الأبصار.
(وأعلم ما تبدون) أي قولكم: أتجعل فيها من يفسد فيها.
* (وما كنتم تكتمون) فيه قولان: أحدهما: ما كتموا من قولهم: لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا.
والثاني: معناه ما كتمه إبليس فيهم حين خلق آدم؛ فإنه قد قال: إن سلطت عليه لأهلكنه وإن سلط علي لا أطيعه.
قوله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) اختلفوا في أن هذا الخطاب مع أي الملائكة؟ فقال بعضهم: هو خطاب مع ملائكة الأرض خاصة.
وقيل: هو خطاب لجميع الملائكة. هو الأصح لقوله تعالى * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون).
والسجود عبادة مع التواضع والخشوع والخضوع، ومنه شجرة ساجدة إذا ماتت من
66

* (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب) * * كثرة حملها.
وفي قوله: * (اسجدوا لآدم) قولان أحدهما: أن معناه اسجدوا إلى آدم، فيكون آدم كالقبلة. والسجود لله تعالى.
والأصح: أن السجود كان لآدم على الحقيقة. وتضمن معنى الطاعة لله تعالى بامتثال أمره فيه. فعلى هذا يكون السجود لآدم على سبيل التحية له. وهو كسجود إخوة يوسف ليوسف بمعنى التحية له. ثم نقل ذلك إلى السلام بين المسلمين.
* (فسجدوا إلا إبليس) قال بعضهم: إبليس مشتق من الإبلاس. وهو اليأس من الخير، قال الشاعر:
(يا صاح هل تعرف (رسما) مكرسا
* قال: نعم أعرفه وأبلسا)
وقيل: هو اسم أعجمي معرب لا اشتقاق له ولذلك لا ينصرف.
واختلفوا في إبليس، والذي قاله ابن عباس وأكثر المفسرين: أنه كان من الملائكة.
وقال الحس: كان من الجن لقوله تعالى * (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) ولأنه خلق من النار، والملائكة خلقوا من النور، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة.
والأصح أنه كان من الملائكة لأن خطاب السجود كان مع الملائكة.
وأما قوله: * (كان من الجن) قيل: إن فرقة من الملائكة سموا جنا خلقهم الله تعالى من النار. وعليه دل قوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا).
حيث قالوا الملائكة بنات الله. فسماهم جنة. وإنما سموا جنا لاستتارهم عن الأعين.
وإبليس كان من ذلك القبيل. وإنما كان له ذرية؛ لأنه أخرجه من الملائكة ثم جعل
67

* (السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من) * * له ذرية.
وقيل: إن الله تعالى لما خلق إبليس أعطاه ملك الأرض، وملك السماء الدنيا، وجعله خازن الجنة.
قوله تعالى: * (أبى) امتنع * (واستكبر) أي: أنف؛ حيث ظن أنه خير من آدم * (وكان من الكافرين) فيه قولان: أحدهما: معناه وصار من الكافرين في علم الله تعالى.
قال مجاهد: علم الله في أزله أنه تكون منه المعصية فخلقه للمعصية.
قوله تعالى: * (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) أراد بزوجه حواء، فإن قيل: [لم] أمرهما بدخول الجنة، وقد وعد أن من دخلها يكون خالدا فيها فكيف أخرجهما من الجنة؟
قلنا: إنما ذلك الوعد في حق من يدخلها للثواب والجزاء، وآدم إنما دخل الجنة بالكرامة دون الثواب.
* (وكلا منها رغدا حيث شئتما) الرغد: الواسع من العيش. وهو أن يأكل ما شاء إذا شاء كيف شاء. * (ولا تقربا هذه الشجرة) يعني: للأكل.
والشجرة: اسم لما يقوم على الساق، والنجم اسم لما (لا) يقوم على ساق.
قال الله تعالى: * (والنجم والشجر يسجدان) وفي تلك الشجرة ثلاثة أقوال: قال ابن مسعود: كانت شجرة العنب. وقال ابن عباس: كانت شجرة السنبلة. وقال ابن جريج: كانت شجرة التين. وقيل: إنها شجرة العليم.
* (فتكونا من الظالمين) الظلم وضع الشيء في غير موضعه وفيه يقال: ' من أشبه
68

* (الكافرين (34) وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35) فأزلهما) * *
باه فما ظلم ' أي: فما وضع الشبه في غير موضعه.
قوله تعالى: * (فأزلهما الشيطان عنها) قرأ حمزة: ' فأزالهما ' ومعناه: نحاهما وبعدهما عن الجنة.
وقوله: (فأزلهما) إلى الزلة * (فأخرجهما مما كانا فيه) يعني من نعيم الجنة. وإنما نسب الإخراج إليه؛ لأنه كان السبب فيه.
(وقلنا اهبطوا) الهبوط هو النزول من الأعلى إلى الأسفل، والخطاب مع آدم، وإبليس، وحواء، والحية، وهي الحية [التي] كانت من خزان الجنة فخدعها إبليس حتى أدخلته (الجنة).
* (بعضكم لبعض عدو) العدو: اسم للواحد والجمع، معناه أعداء.
* (ولكم في الأرض مستقر) أي: قرار * (ومتاع) متعة تتغذون بها * (إلى حين) إلى منتهى الآجال.
قوله تعالى: * (فتلقى آدم من ربه كلمات) التلقي: هو قبول عن فطنة وفهم دليل: فتلقى هو [أي: تعلم]: * (ظلمنا أنفسنا) إلى آخره.
وقال عبيد بن عمير: هي كلمات قالها آدم حين ابتلاه الله بالمعصية.
* (من ربه كلمات) قال ابن عباس والأكثرون: الكلمات هي قوله: ربنا أي: تعلم بالمعصية يا رب هذا شيء كتبته علي [أم] ابتدعته من تلقاء نفسي؟ فقال: بل شيء كتبته عليك. فقال آدم: (فكما) كتبته علي فاغفره.
69

* (الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (36) فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37) قلنا اهبطوا منها جميعا فإما) * * (فتاب عليه) فقبل توبته * (إنه هو التواب الرحيم) هو القابل للتوبة من العباد؛ الرحيم بهم.
قوله تعالى: * (قلنا اهبطوا منها جميعا) الهبوط الأول كان من الجنة إلى السماء الدنيا، والهبوط الثاني كان من السماء الدنيا إلى الأرض.
(فإما يأتينكم مني هدى) أي: رشد [و] بيان شريعة.
* (فمن تبع هداي) أي: ذلك الرشد والشريعة.
* (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) في الآخرة.
قوله تعالى: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) أي: كفروا بالله وبالرسل وكذبوا بآياته * (أولئك أصحاب النار) يعني يوم القيامة * (هم فيها خالدون).
قوله تعالى: * (يا بني إسرائيل) إسرائيل اسم يعقوب. وله في القرآن اسمان: يعقوب وإسرائيل. ومعنى إسرائيل عبد الله، ' إسر ' مثل قولنا ' عبد '، و ' إيل ' مثل قولنا ' الله ' * (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) الذكر يكون بالقلب، ويكون باللسان، وهو ضد النسيان. وقوله: * (نعمتي) أي: نعمي، ذكر الجمع بلفظ الوحدان، ومثله كثير في القرآن.
واختلفوا في تلك النعم. قال قتادة: هي النعم التي خصت بها بنو إسرائيل من
70

* (يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون (38) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39) يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي) * *
إنجائهم من فرعون بتغريقه، وإرسال موسى إليهم، وإنزال التوراة عليهم، ونحو ذلك.
وقال غيره: هي جميع النعم التي لله على عباده.
فإن قال قائل: لم أمرهم بالذكر وهم كانوا ذاكرين لتلك النعم؟
قلنا: الذكر بمعنى الشكر، ومعناه: اشكروا نعمتي. وإنما ذكر بلفظ الذكر؛ لأن في الشكر ذكرا، وفي الكفر نسيانا. * (وأوفوا بعهدي) أوفي يوفى، ووفى يفي، بمعنى واحد. وقد جمعها الشاعر في بيت واحد فقال:
(أما ابن عوف فقد أوفى بذمته
* كما وفى بقلاص النجم حاويها)
والعهد: هو الأمر المؤكد. ومعناه: ' أوفوا بعهدي ' بامتثال أمري. * (أوف بعهدكم) بالقبول والثواب. وقال مجاهد: أراد بهذا العهد ما ذكر في سورة المائدة * (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) إلى آخر الآية. * (وإياي فارهبون) فخافوني.
قوله تعالى * (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم) بما أنزلت في القرآن مصدقا لما معكم من التوراة. يعني أن القرآن مصدق لما في التوراة من التوحيد ونعت محمد
71

* (أوف بعهدكم وإياي فارهبون (40) وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون (41) ولا) * * (ولا تكونوا أول كافر به) يعني أول من كفر به. وقيل: أول فريق كافر به. وهما في المعنى سواء. فإن قيل: قد كفر به مشركو العرب قبلهم، فكيف قال: ولا تكونوا أول كافر به؟ قلنا: أراد به من أهل الكتاب؛ لأن الخطاب مع أهل الكتاب.
* (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) ولا تستبدلوا؛ ذلك أن علماءهم وأحبارهم كانت لهم مأكلة على أغنيائهم وجهالهم؛ فخافوا أن تذهب مأكلتهم إن آمنوا بمحمد فغيروا نعته، وكتموا اسمه، فهذا معنى بيع الآيات بالثمن القليل.
* (وإياي فاتقون) فاحذرون.
قوله تعالى: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل) اللبس: هو الخلط والتعمية.
يقال: لبس يلبس لبسا، من اللباس. ولبس يلبس لبسا، من التلبيس. قال الله تعالى * (وللبسنا عليهم ما يلبسون) أي: خلطنا عليهم كما خلطوا. وقال علي رضي الله عنه للحارث: لا يكن ملبوسا عليك، الحق لا يعرف بالرجال، أعرف الحق تعرف أهله.
فمعنى قوله: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل) أي: الإسلام باليهودية والنصرانية، كذا قال الأكثرون. وقيل: هو لبس التوراة بما غيروا من نعت محمد.
* (وتكتموا الحق) يعني نعت محمد. * (وأنتم تعلمون) أنه حق. قال محمد ابن سيرين: هذا الخطاب مع قوم من اليهود كانوا بالشام رأوا في كتبهم اسم محمد ونعته، وأنه يبعث من القرى العربية، فخرجوا في طلبه ونزلوا بالمدينة فلما بعث محمد حسدوه، وغيروا اسمه ونعته؛ خوفا من ذهاب مأكلتهم.
قوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أما الصلاة فقد ذكرنا. وأما
72

* (تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (42) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (43) أتأمرون الناس بالبر وتنسون) * * الزكاة: فمأخوذ من زكا الزرع، إذا كثر ونما.
وقيل: هي من تزكى. أي: تطهر، وكلا المعنيين موجود في الزكاة المفروضة؛ لأن فيها تنمية المال وتطهيره.
(واركعوا مع الراكعين) أي: صلوا مع المصلين. وأصل الركوع: عبادة مع انحناء. يقال: ركعت النخلة إذا انحنت، ومنه قول الشاعر:
(أخبر أخبار القرون التي مضت
* أدب كأني كلما قمت راكع)
وإنما ذكره بلفظ الركوع؛ لأن صلاة اليهود ما كان فيها ركوع؛ فكأنه قال: وصلوا صلاة ذات ركوع.
فإن قيل: قد أمرهم في أول الآية بإقامة الصلاة، فأي شيء معنى هذا الأمر الثاني: قلنا: الأول مطلق في حق الكل، وهذا الثاني خطاب لقوم مخصوصين، قال لهم: صلوا مع الذين [سبقوكم] بالإيمان والصلاة.
قوله تعالى: * (أتأمرون الناس بالبر) أي: بالطاعة * (وتنسون أنفسكم) أي: تتركون أنفسكم * (وأنتم تتلون الكتاب) التوراة.
* (أفلا تعقلون) العقل: مأخوذ من عقال البعير، وهو ما يشد به ركبة البعير، سمى به لأن يمنعه من الشرود، كذلك العقل يمنع صاحبه من التمرد والخروج عن طاعته. وفي معنى الآية قولان، أحدهما: أنه خطاب لأحبارهم، حيث أمروا أتباعهم بالتمسك بالتوراة، ثم خالفوا وغيروا نعت محمد.
والقول الثاني: أن أهل المدينة كانوا يشاورون علماءهم في اتباع محمد فأشاروا عليهم باتباعه ثم خالفوه وكفروا به.
في الحديث: (روى أنس) عن النبي أنه قال ' رأيت ليلة أسرى بي في السماء أقواما تقرض شفاهم بمقاريض من نار، فسألت من هؤلاء؟ فقالوا: هؤلاء
73

* (أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (45) الذين يظنون أنهم) * * الخطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم '.
قوله تعالى * (واستعينوا بالصبر والصلاة) الاستعانة طلب المعونة. وأما الصبر فالأكثرون على أنه حبس النفس عن المعاصي.
ومنه الدابة المصبورة وهي أن تمسك لترمي كالهدف.
وفي الحديث: ' أنة نهى عن الدابة المصبورة '. وقال في الذي يمسك غيره حتى يقتل: ' اصبروا الصابر واقتلوا القاتل ' أي: احبسوا الممسك واقتلوا المباشر.
وقال الحسن البصري: هو الصوم. ومنه سمى شهر رمضان شهر الصبر. فإن قيل: ما معنى الاستعانة بالصوم والصلاة؟ قيل: لأن الصوم يزهده في الدنيا. (وكذلك) في الصلاة يقرأ ما يحثه على الزهد في الدنيا. فكأنه قال: استعينوا بهذين على الدين؛ لتقووا على الإقبال على الآخرة والإعراض عن الدنيا.
* (وإنها لكبيرة) لثقيلة. وفي قوله: * (وإنها) قولان: أحدهما: أن (لكناية)
74

* (ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون (46) يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (47) واتقوا يوما لا تجزي نفس) * * راجعة إلى الصوم والصلاة جميعا. إلا أنه اكتفى بأحد المذكورين والكناية عنه. وهو كما قال القائل:
(ومن يك أمسى بالمدينة رحله
* فإني وقيار بها لغريب)
أي: لغريبان إلا أنه اكتفى بأحدهما. وأورد الأزهري في كتاب التقريب قولا حسنا، فقال: تقديره: واستعينوا بالصبر وإنه لكبير، وبالصلاة وإنها لكبيرة، إلا أنه حذف أحدهما واختصر المعنى اختصارا.
(إلا على الخاشعين) الخاشع: هو المطيع المتواضع.
* (الذين يظنون) يستيقنون. والظن يكون بمعنى الشك، ويكون بمعنى اليقين، قال الله تعالى: * (إني ظننت أني ملاق حسابيه) أي: استيقنت، وقال الشاعر:
(فقلت لهم ظنوا بألفي مقنع
* سراتهم في الفارسي المسرد)
وقوله تعالى: * (أنهم ملاقوا ربهم) أي صائرون إلى ربهم. وكل ما ورد في القرآن من اللقاء فهو بمعنى الصيرورة إليه، كذا قال المفسرون.
وقيل: هو اللقاء الموعود، وهو رؤية الله تعالى.
وقوله تعالى: * (وأنهم إليه راجعون) أي: صائرون.
وقوله تعالى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) معناه ما سبق. * (وأني فضلتكم على العالمين) التفضيل نقيض التسوية. وأراد به التفضيل بتلك النعم التي سبق ذكرها. وذلك التفضيل وإن كان في حق الآباء ولكن يحصل به الشرف للأبناء، فصح الخطاب معهم.
* (على العالمين) على عالمي زمانهم.
قوله تعالى * (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) معناه: واحذروا
75

* (عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولاهم ينصرون (48) وإذ نجيناكم من آل فرعون) * * عذاب يوم القيامة. * (لا تجزى نفس عن نفس شيئا) قال الأخفش: معناه لا تقوم نفس مقام نفس. وقال غيره: معناه لا تقضى نفس عن نفس حقا لزمها.
* (ولا يقبل منها شفاعة) يقرأ بقراءتين بالتاء والياء والكل جائز لأن الشفع والشفاعة بمعنى واحد كالوعظ والموعظة والصوت والصيحة بمعنى واحد. ثم يذكر تارة بالتذكير على المعنى. وتارة بالتأنيث على اللفظ. قال الله تعالى: * (قد جاءتكم موعظة من ربكم) وقال في موضع آخر * (فمن جاءه موعظة من ربه) قال * (وأخذت الذين ظلموا الصيحة) وقال في موضع آخر: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) كذا هذا.
* (ولا يؤخذ منها عدل) العدل والعدل هو المثل، قال الله تعالى * (أو عدل ذلك صياما) أي: مثله.
والمراد بالعدل هاهنا الفدية، وسميت عدلا، لأنها مثل المفدي به. وأما قولهم: لا يقبل منه صرف ولا عدل قيل: الصرف النافلة، والعدل الفريضة. وقيل: الصرف الحيلة، والعدل الفدية.
(ولاهم ينصرون) يمنعون العذاب.
قوله تعالى: * (وإذا نجيناكم من آل فرعون) الإنجاء والتنجية واحد. هو الإنقاذ من المكروه. وآل فرعون: أتباعه الذين اقتدوا به وبفعله. وكذلك آل النبي أتباعه.
76

* (يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (49) وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا) * *
وروى أنس عن النبي أنه قال: ' آلى كل مؤمن تقي '، فأما آل القرابة فهم قوم مخصوصون [لا] تجري عليهم الصدقة. وقد ذكروا في الفقه.
* (يسومونكم سوء العذاب) أي: يجشمونكم ويولونكم. وقيل: يصرفونكم في العذاب مرة هكذا ومرة هكذا، كالإبل السائمة في البرية.
* (سوء العذاب) أشد العذاب * (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) مذكور على وجه البدل عن قوله * (يسومونكم) ومثله قول الشاعر:
(متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
* تجد حطبا جزلا ونارا تأججا)
وقوله: ' تلمم بنا في ديارنا ' بدل عن قوله: ' متى تأتنا '.
ومعنى قوله: * (يذبحون أبناءكم) أي: يقتلون. الذبح والذبيح بمعنى واحد.
وسبب ذلك أن فرعون رأى في المنام نارا جاءت من نحو بيت المقدس، وأحاطت بمصر، وأحرقت كل قبطي هنالك، ولم تتعرض لبني إسرائيل، فعلم بذلك أن نبيا
يخرج من بني إسرائيل؛ يكون هلاكهم على يديه، فأمر بقتل الأبناء، وترك البنات، حتى قيل: إنه قتل في طلب موسى اثني عشر ألف صبيا.
* (ويستحيون نساءكم) أي: يتركون ويستبقون، وهو استفعال من الحياة، ومنه
77

* (آل فرعون وأنتم تنظرون (50) وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم) * * قول النبي: ' اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم ' أي: شبابهم، وأراد به الذرية والنساء.
* (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) البلاء: يكون بمعنى النعمة ويكون بالشدة، لأنه من الابتلاء. والله تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر وقد يختبر على الشدة بالصبر. قال الله تعالى: * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) قال الشاعر:
(جزى الله إحسانا بما فعلا به
* وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو)
وقوله - تعالى -: * (وفي ذلكم بلاء) يحتمل هذا المعنيين، أحدهما: فيما لحقكم من فرعون من الأذى والشدة بلاء عظيم.
ويحتمل أنه أراد: فيما حصل لكم من النجاة بغرق فرعون بلاء غظيم، أي: نعمة عظيمة.
قوله - تعالى - * (وإذ فرقنا بكم البحر) قيل: فرقنا لكم البحر. وقيل: الباء في موضعها، ومعناه: فرقنا البحر بدخولكم إياه فرقا فرقا فوق الرأس وفرقا من تحت القدم أو فرقا من ذلك الجانب، وفرقا من ذلك الجانب، والبحر سمى بحرا، لاتساعه. ومنه يقال للفرس: بحر إذا اتسع في جريه، وللجواد: بحر إذا اتسع كفه للجود.
وقوله تعالى * (فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون) قيل في القصص: إن عدد المنجين منهم كانوا ستمائة ألف [وعشرين] ألفا، لا يعد فيهم ابن عشرين لصغره،
78

* (العجل من بعده وأنتم ظالمون (51) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون (52) وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم) * *
ولا ابن ستين لكبره. وأما عدد المغرقين فالله بهم عليم.
وقيل: كان على مقدمته هامان مع ألف ألف وسبعمائة ألف نفر حين غرقوا، والله أعلم بمن كان على المؤخرة.
* (وأنتم تنظرون) إلى غرقهم وهلاكهم. وقيل: تعلمون.
قوله - تعالى -: * (وإذا واعدنا) وقرأ: ' وإذ وعدنا ' معناهما واحد، فإن قال قائل: المواعدة على وزن المفاعلة، فتقتضي اثنين يتواعدان، فكيف تكون المواعدة من الله مع موسى؟
قلنا: المواعدة من الله تعالى بالأمر، ومن موسى صلوات الله عليه بالقبول وكذلك الوعد.
وأما موسى، اسم عبري، و ' مو ' بلغة العبرية هو الماء و ' شى ' هو الشجر، فسمى ' موشى ' لأنه أخذ من الماء والشجر ثم قلب الشين سنا في العربية فصار موسى.
وقوله: * (أربعين ليلة) أي: انقضاء أربعين ليلة. أمره الله تعالى أن يصوم أربعين يوما لإعطائه التوراة، وكان قد وعده ثلاثين؛ إلا أن الله تعالى كان قد نهاه أن يتناول شيئا في هذه الثلاثين، فلما أتم الثلاثين مر بشجرة، فتناول من ورقها، أمره الله تعالى أن يصوم عشرة أيام بسبب ذلك. وعليه دل قوله تعالى في سورة الأعراف * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر...) الآية.
وقوله تعالى * (ثم اتخذتم العجل من بعده) يعني: إلها، وله قصة معروفة ستأتي في سورة طه.
79

* (تهتدون (53) وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب)
* (وأنتم ظالمون) باتخاذ العجل إلها.
قوله تعالى: * (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك). العفو: محو الآثار. ويقال: عفت الرياح كذا، إذا محت الآثار. يقول: عفونا عنكم من بعد اتخاذكم العجل إلها. * (لعلكم تشكرون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وإذ آتينا موسى الكتاب) يعني: التوراة. * (والفرقان) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أراد به التوراة أيضا. إلا أنه ذكرها باسمين، ومثله قول الشاعر:
(ألا حبذا هند وأرض بها هند
* وهند أتى من دونها النأي والبعد)
والنأي والبعد اسمان بمعنى واحد.
والقول الثاني: أراد به الفرقان بين الحق والباطل. وقد أعطى الله موسى ذلك. ومنه سمى يوم بدر: يوم الفرقان؛ لأنه فرق فيه بين الحق والباطل.
والقول الثالث: أراد به انفراق البحر كما سبق. * (لعلكم تهتدون) بالتوراة.
قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه) معناه: اذكره إذ قال موسى لقومه * (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) إلها. * (فتوبوا إلى بارئكم) خالقكم * (
فاقتلوا أنفسكم) ليقتل بعضكم بعضا. وقيل معناه: استسلموا للقتل.
* (ذلكم خير لكم عند بارئكم) خالقكم * (فتاب عليكم) بالقبول * (إنه هو التواب الرحيم) القابل للتوبة.
وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: كان عدد القتلى منهم [سبعين] ألفا فلما بلغوا ذلك، أوحى الله تعالى إلى موسى: إني رفعت القتل عنهم،
80

* (عليكم إنه هو التواب الرحيم (54) وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد موتكم) * * ورحمت من مضى منهم، وعفوت عمن بقي، وتبت عليهم. وحكى أن يوشع بن نون خرج عليهم حين تأهبوا للقتل واحتبوا له، فقال: إن الله رحم من حل حبوته. ثم إن الذين لم يعبدوا العجل سلوا سيوفهم، وأقبلوا على قتل الذين عبدوا العجل، حتى كان الابن يقتل أباه والأب يقتل ابنه، حتى أتوا على سبعين ألفا؛ ثم نزل الوحي كما وصفنا.
قوله تعالى: * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) هو خطاب للسبعين الذين حملهم موسى إلى الطور ليسمعوا كلام الله؛ فإنهم لما سمعوا كلام الله قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. أي: عيانا.
وقيل: فيه تقديم وتأخير يعني قلتم: يا موسى جهرة لن (نؤمن) (لك) حتى نرى الله (جهرة).
* (فأخذتكم الصاعقة) قرأ عمرو: ' فأخذتكم الصعقة ' وهو في الشواذ: وقد سبق تفسير الصاعقة. والمراد بها الموت ها هنا، أي: أخذكم * (وأنتم تنظرون).
فإن قيل: إذا ماتوا كيف نظروا؟ قيل: معناه: ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت. قيل: معناه: تعلمون ويكون النظر معنى العلم.
وقوله تعالى: * (ثم بعثناكم من بعد موتكم) يعني أحييناكم بعد تلك الموتة بالطور.
قال قتادة: أحياهم ليستوفوا آجالهم * (لعلكم تشكرون).
81

* (لعلكم تشكرون (56) وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمن (57)) * * قوله تعالى * (وظللنا عليكم الغمام) الغمام: من الغم. وأصله: التغطية والستر ومنه يقال للقلب الحزين: مغموم. لأن الحزن غطى قلبه. وللسحاب: غمام لأنه يغطى وجه الشمس. ومنه قوله تعالى: * (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) أي: ملبوسا عليكم.
ومعنى الآية: قال مجاهد: أراد بتظليل الغمام عليهم ما ذكر في قوله * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) وسيأتي شرحه.
وقال قتادة: إن قوما من بني إسرائيل بقوا في التيه فعطشوا، وتأذوا بحر الشمس، وظلل الله عليهم غماما، كيلا يتأذوا.
* (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) الأكثرون: على أن المن هو الترنجبين. وقال قتادة: هو صمغة تقع على الشجر. وقال وهب: هو الخبز الرقاق.
وأما السلوى: قيل: إنه طائر يشبه السماني بعينه. وفيه قول غريب: أنه العسل.
وفي القصص: أن الله تعالى كان ينزل عليهم ذلك كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس قدر ما يكفي ليومهم؛ إلا يوم الجمعة فإنه كان ينزل صباح الجمعة والسبت جميعا، وما كان للجمعة ينزل عليهم يوم السبت.
وأما قوله عليه السلام: ' الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين ' فليس ذلك من هذا المن وإنما معناه: أنها من عطاء الله من غير كلفة ولا مشقة.
82

* (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58) فبدل الذين ظلموا) * * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي: من حلال ما رزقناكم.
* (وما ظلمونا) وما بخسوا بحقنا * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
فالظلم: بمعنى البخس والنقص، وأصله ما بينا.
قوله تعالى: * (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) سميت القرية قرية؛ لأنها تجمع أهلها. ومنه المقرآة للحوض؛ لأنه مجمع الماء. ومنه قرية النمل؛ لأنها تجمع النمل، والمراد بالقرية هاهنا البيت المقدس. وقيل: هي أريحا موضع هنالك.
* (فكلوا منها حيث شئتم رغدا) ومعنى الرغد ما سبق، وقيل: هو الرزق الواسع الذي لا يضيق (ولا يعني) طالبه.
* (وادخلوا الباب سجدا) أراد بالباب: باب القرية. وقيل: هو باب حطة، وهو باب إيلياء.
* (سجدا) أي: ركعا خضعا. وأصل السجود الخضوع وفي الركوع خضوع، وقال الشاعر
(بجمع تضل البلق في حجراته
* ترى الأكم فيه سجدا للحوافر)
أي: ركعا خضعا.
* (وقولوا حطة) قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه قولوا: حط ذنوبنا، وقال الزجاج: تقديره: قولوا: مسألتنا حطة. وقال عكرمة: هو قول: لا إله إلا الله.
* (نغفر لكم) تقرأ بقراءتين: ' نغفر لكم ' بالنون، و ' يغفر لكم ' بالياء وهما
83

* (قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (59) وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر) * * واحد.
وهو من الغفر، وهو الستر. ومنه المغفرة؛ لأنه يستر الرأس. كذلك المغفرة تستر الذنوب.
* (خطاياكم) جمع الخطيئة وتجمع على الخطيئات أيضا، وهي الذنوب. يقال: خطئ يخطئ خطأ وخطيئة، إذا أذنب متعمدا.
وأخطأ يخطئ إخطاء إذا أذنب خاطئا.
* (وسنزيد المحسنين) من فضلنا.
قوله تعالى: * (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) أجمعوا على أنهم بدلوا قول الحطة بالحنطة، وقالوا بلسانهم: هطا سمقاثا. أي: حنطة حمراء. وقيل: إنهم دخلوا الباب يزحفون على استاههم، وكان قد طوطىء لهم الباب، فما استطاعوا أن يدخلوا قياما، وأبوا أن يدخلوا سجدا، فدخلوا يزحفون على استاههم مخالفة في الفعل كما بدلوا القول.
قوله تعالى: * (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون).
الرجز. العذاب. والرجس: النتن. والرجز (بضم الراء) صنم على قول من قرأ * (والرجز فاهجر) وقيل: أنزل الله عليهم إذ فعلوا ذاك طاعونا أهلك منهم أربعة وعشرين ألفا في ساعة واحدة.
* (بما كانوا يفسقون) من المخالفة فعلا وقولا.
قوله تعالى: * (وإذا استسقى موسى لقومه) الاستسقاء طلب السقيا. والسبب في ذلك: أن بني إسرائيل بقوا في التيه فعطشوا، فسألوا موسى أن يستسقي لهم، ففعل.
84

* (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60) وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على) * *
قوله تعالى: * (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) اختلفوا في ذلك الحجر، منهم من قال: كان حجرا معينا على قدر رأس الرجل.
وقيل: كان ذراعا في ذراع. وقيل: كان حجرا من الأحجار لا يعنيه، أي حجر كان.
* (فانفجرت منه) يعني: فضرب (وتفجرت). هكذا تقديره: منه * (اثنتا عشرة عينا) على عدد الأسباط. * (قد علم كل أناس مشربهم) عرف كل سبط منهم مشربهم.
وقيل: كان يظهر فيه بضرب موسى [اثنتي عشرة] حفرة، يعرف كل سبط منهم حفرته.
وقيل: كان يحمل الحجر مع نفسه في وعاء؛ فكلما احتاجوا إلى الماء ضرب موسى على الحجر. * (كلوا) مما أنزلنا عليكم من المن والسلوى * (واشربوا) من هذه المشارب. [* (من رزق الله)].
* (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) العيث: أشد الفساد. وقيل: معناه: ولا تسعوا في الأرض مفسدين.
قوله تعالى: * (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) كأنهم أجمعوا وسئموا من أكل المن والسلوى، فسألوا موسى أن يسأل لهم غيره من الطعام.
فإن قيل: كان لهم المن والسلوى، فلم سماهما واحدا؟! قيل: كانوا يأكلون أحدهما بالآخر (فكان) كطعام واحد.
85

* (طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا)
وقيل: إنه كان أبدا على نسق واحد، وكان من حيث اتساقه كطعام واحد.
* (فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها) سألوا هذه الأطعمة.
وقوله تعالى: * (وفومها) اختلفوا فيه. اختلفوا فيه. قال ابن عباس، والأكثرون: إنه الحنطة. وقيل: الخبز. وحكى أن بعض الأعراب قال لامرأته: ' فومى لنا ' أي: أجزي لنا.
وقال الضحاك بن مزاحم: أراد به الثوم. فأبدل الثاء بالفاء. ومنه قول الشاعر:
(كانت ديارهم إذ ذاك بارزة
* فيها الفراديس والفومان والبصل)
وقد قرأ أبي بن كعب وابن مسعود: ' ونومها ' بالثاء * (وعدسها وبصلها).
قوله تعالى: * (قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) يعني: أتختارون الأدنى على ما هو خير. فإن قيل: أليس فيما سألوا الحنطة والخبز، وهي خير من المن والسلوى فلم سماه أدنى؟ قيل: أراد به أدنى في القيمة، أو أراد به أسهل وجودا على العادة.
* (اهبطوا مصرا) أي: انزلوا واذهبوا إلى مصر. واختلفوا فيه، فالأكثرون على أنه المصر المعروف. وقد قرأ ابن مسعود: ' اهبطوا مصر ' غير منصرف. ومن صرفه كان لقلة الحروف.
وقال الأعمش: أراد به مصر الذي عليه صالح بن علي، وهو المصر المعروف. وقيل: كان مصرا من الأمصار لا بعينه يقول: أنزلوا مصرا * (فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة) قيل: أراد به الجزية، وقال عطاء بن السائب: هو الكستيج والزنار.
وقال ابن عباس: أصحاب القبالات ممن ضربت عليهم الذلة.
86

* (فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61) إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى) * * (والمسكنة) والفقر، يقال: تمسكن الرجل أي صار فقيرا، وسمى الفقير مسكينا لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة.
* (وباءوا بغضب من الله) أي: رجعوا واحتملوا غضب الله.
* (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) والآية: العلامة. والآية: الجماعة. يقال: خرج القوم بآيهم أي: بجماعتهم. والآية من القرآن مجمع كلمات معلوم الأول والآخر.
قوله تعالى: * (ويقتلون النبيين). قرأ نافع بالهمز والمد. والباقون بالتليين، وأصله الإنباء، فمن همزه كان على الأصل. ومن لينه فلكثرة الاستعمال.
وقيل: هو مأخوذ من النبوة وهي المكان المرتفع، فعلى هذا يكون التليين على الأصل.
وفي الحديث: ' أن رجلا قال: يا نبيء الله بالهمز والمد فقال: لست بنبي الله إنما أنا نبي الله '.
قوله تعالى: * (ويقتلون النبيين بغير الحق) فإن قال قائل: لم قال: ' بغير الحق ' وقتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق؟! قلنا: ذكره وصفا للقتل، والقتل يوصف تارة بالحق، وتارة بغير الحق وهو مثل قوله تعالى * (قال رب احكم بالحق). ذكر الحق وصفا للحكم لا أن حكمه ينقسم إلى الجور والحق.
87

* (والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) * * (ذلك بما عصوا) من المعاصي * (وكانوا يعتدون) يتجاوزون الحد.
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا) أراد بالذين هادوا اليهود، وإنما سموا يهودا؛ لأنهم قالوا * (إنا هدنا إليك) أي: ملنا إليك.
وقيل: لأنهم من أولاد يهودا بن يعقوب. والنصارى قوم يعرفون. وإنما سمعوا نصارى؛ لأنهم نزلوا قرية تسمى ناصرة. وقيل: لقول عيسى: من أنصاري إلى الله قالوا: نحن أنصار الله.
* (والصابئين) قرأ نافع باللين وقرأ الباقون بالهمز. وأصله الصبو وهو الميل والخروج.
يقال: صبأ ناب البعير إذا خرج. وصبا قلبه إلى فلان أي: مال. قال الشاعر:
(صبا قلبي إلى هند
* وهند مثلها (يصبي))
أي: مال قلبي إليها ومثلها تميل القلب.
اختلوا في معناه؛ قال ابن عباس: هم قوم من اليهود والنصارى.
وقال قتادة: هم قوم يقرءون الزبور، ويعبدون الملائكة، ويصلون إلى الكعبة (من آمن بالله). فإن قيل: قد ذكر في الجملة * (إن الذين آمنوا) فكيف يستقيم قوله * (من آمن بالله)؟.
قيل: هذا في سلمان وأتباعه الذين آمنوا بمحمد قبل البعث. ثم أقروا به بعد البعث.
وقيل: أراد به: من ثبت على الإيمان. وقيل: أراد بالذين آمنوا: المنافقين الذين آمنوا باللسان.
88

* (خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين (64) ولقد علمتم) * *
وقوله تعالى: * (من آمن بالله) يعني بالقلب مع اللسان * (بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) في الآخرة.
قوله تعالى: * ([وإذ] أخذنا ميثاقكم) أي: عهدكم * (ورفعنا فوقكم الطور) قيل: أراد به طور سيناء.
وقيل: كل جبل طور. وفي القصص: أن الله تعالى قلع جبل طور ورفع فوق رأسهم وقال لهم: إن لم تقبلوا التوراة أرسلت هذا الجبل عليكم، فقبلوا التوراة. وعليه دل قوله تعالى: * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم) الآية.
* (خذوا ما آتيناكم) من التوراة * (بقوة) بجد واجتهاد * (واذكروا ما فيه) وادرسوا ما فيه. * (لعلكم تتقون) النار في الآخرة.
قوله تعالى: * (ثم توليتم من بعد ذلك) أعرضتم من بعد ما قبلتم التوراة * (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) يعني: بالإمهال والإدراج * (لكنتم من الخاسرين) لمن المعذبين في الحال؛ كأنه رحمهم بالإمهال.
قوله تعالى: * (ولقد علمتم الذين اعتدوا) أي: جاوزوا الحد، ويقال: تعدى طوره. أي: جاوز حده.
* (منكم في السبت) وأصل السبت: القطع، وسمى يوم السبت بذلك؛ لأن اليهود أمروا فيه يقطع الأعمال أراد به قوم أيله، وهي قرية على شط البحر وترك الاصطياد في يوم السبت؛ فخالفوا واصطادوا. وقصتهم تأتي مشروحة في سورة
89

* (الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65) فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين (66)) * * الأعراف.
* (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) وهذا أمر تكوين ليس للعبد فيه صنع ولا اختيار.
* (خاسئين) مبعدين. ومنه يقال: [أخسا] أي: أبعد. فإن قيل: لم قال: ' قردة خاسئين ' وإنما تنعت القردة بالخاسئات؟ قيل: فيه تقديم وتأخير. وتقديره. خاسئين قردة.
قوله تعالى: * (فجعلناها نكالا لما بين يديها) أي: فجعلنا عقوبتهم بالمسخ نكالا. والنكال: اسم لكل عقوبة تنكل الناظر من فعل ما جعلت العقوبة جزاء عليه. ومنه النكول من اليمين، وهو منع اليمين.
* (لما بين يديها) فإن قيل: كيف يكون نكالا لما بين يديها وهم قد مضوا؟ قيل: أراد به الذين حضروا في ذلك الزمان.
* (وما خلفها) الذين يأتون من بعد ' وما ' هاهنا: بمعنى ' من ' وفيه قول آخر: أراد ' لما بين يديها ': ما سبقت من الذنوب * (وما خلفها) ما حضرت من الذنوب التي أخذوا بها.
وفيه قول ثالث: أراد ' بما بين يديها ' القرى التي كانت مبنية في الحال. وما خلفها: بالحدث من القرى من بعد.
* (وموعظة للمتقين) من أمة محمد.
90

* (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال) * *
قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه) واذكر إذ قال موسى لقومه: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) البقرة: الأنثى من البقر. وهي مأخوذة من البقر، وهو الشق. سميت بذلك لأنها تشق الأرض بالحراثة.
وفي الخبر: ' أن النبي نهى عن التبقر في الأهل والمال ' أي: التوسع. والقصة في ذلك: أنه كان في بني إسرائيل رجل غني، وله ابن عم فقير، فاستطال حياته فقتله، وحمله إلى حي آخر، وطرحه بفنائهم، ثم أصبح يطلب دمه. فسألوا موسى أن يسأل ربه من القاتل؟ فسأل فأوحى الله تعالى [إليه] أن يأمرهم بذبح البقرة.
فقال: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة * (قالوا أتتخذنا هزوا) لأنهم لما سألوه أن يسأل ربه من القاتل؟ فقال: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فلبعد ما بين السؤال والجواب، قالوا: أتتخذنا هزوا. وذلك من شدة جهلهم، وتبسطهم في الكلام نسبوا نبيهم إلى الاستهزاء.
* (قال أعوذ بالله) أعتصم وأمتنع بالله. * (أن أكون من الجاهلين) بالجواب، لا على وفق السؤال. لأن كل من سئل عن شيء فأجاب لا على وفق السؤال يكون جاهلا.
91

* (إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها) * *
قوله تعالى: * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) هذا استيصاف السن * (قال إنه يقول) يعني: فسأل فقال: إنه يقول: * (إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) قيل: الفارض الكبيرة المسنة، والبكر: الفتى، والعوان ما بين ذلك.
ومنه يقال: عونت المرأة، إذا زادت على الثلاثين. ويقال: في المثل ' العوان لا تعلم الخمرة ' أي: الاختمار.
وقيل: الفارض التي ولدت بطونا، والبكر: التي لم تلد أصلا، والعوان: التي ولدت بطنا أو بطنين. * (فافعلوا ما تؤمرون) من الذبح.
قوله تعالى: * (ادع لنا ربك) سل لنا ربك. * (يبين لنا ما لونها) هذا اسيتصاف اللون. * (قال إنه يقول إنها بقرة صفراء) قال الحسن: الصفراء: السوداء.
ومنه قول الشاعر:
(تلك خيلي منه وتلك ركاب
* هن صفر ألوانها كالزبيب)
يعني سود، والصحيح: أنه أراد به الصفراء المعهودة بدليل قوله: * (فاقع لونها) وإنما يقال: أصفر فاقع، وأسود حالك، وأحمر قان، وأبيض يقق. ويقال: ذلك للمبالغة.
وقال سعيد بن جبير: كانت صفراء القرون والظلف. والصحيح: أنه كانت صفراء بجميعها.
* (تسر الناظرين) أي تعجبهم وتدخل السرور في قلبهم من حسنها وهذا دأب كل حسن قد يرى. وقد قال النبي ' من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور حتى ينزعها '.
92

* (تسر الناظرين (69) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض) * *
قوله تعالى: * (قالوا ادع لنا ربك) سل لنا ربك. * (يبين لنا ما هي) وهذا استيصاف العمل أنها من العوامل أم لا؟ * (إن البقر تشابه علينا) أي: اشتبه. * (وإنا إن شاء الله لمهتدون) وفي الخبر ' أنهم لو لم يقولوا: إن شاء الله ما اهتدوا أبدا '.
قوله تعالى: * (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض) الذلول: بين الذلة، والذليل بين الذل، والبقرة الذلول التي أذلها العمل بإثارة الأرض.
* (ولا تسقى الحرث) ليست بساقية * (مسلمة) عن العيوب. * (لا شية فيها) قال الزجاج: ليس فيها لون يخالف معظم لونها.
* (قالوا الآن جئت بالحق) فإن قيل: قد كان جاء بالحق في كل مرة. فما معنى قوله * (الآن جئت بالحق)؟! قيل: معناه: الآن أتيت بالبيان التام الشافي الذي لم يبق معه لبس ولا إشكال.
* (فذبحوها وما كادوا يفعلون) يعني: من غلاء ثمنها، لأنه روى أنهم اشتروها بملء مسكها ذهبا.
وحكى عن عكرمة أنه قال: ما اشتروها بذلك، إنما اشتروها بثلاثة دنانير.
وقيل: معناه وما كادوا يفعلون من شدة اضطرابهم واختلافهم فيها، والأول أصح. وفي الحديث أن النبي قال: * (شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم. ولو
93

* (ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71) وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم * * اعترضوا بقرة فذبحوها؛ حصل مرادهم '.
قوله تعالى: * (وإذ قتلتم نفسا) هذا في التلاوة مؤخر، وفي المعنى مقدم؛ لأنه أول القصة. * (فادارأتم فيها) أي: اعوججتم ومنه قول الشاعر:
(فنكب عنهم درء الأعادي
* وداووا بالجنون من الجنون)
أي: اعوجاجهم.
وقيل: معناه: تدافعتم إذا كان يحيل بعضهم على بعض وأصل [الدرء] الدفع.
قوله تعالى: * (والله مخرج ما كنتم تكتمون) أي: مظهر ما كنتم تكتمون؛ فإن القاتل كان يكتم القتل.
قوله تعالى: * (فقلنا اضربوه ببعضها) أمر الله تعالى أن يضرب المقتول بعض البقرة. واختلفوا في ذلك البعض؛ قال ابن عباس وأكثر المفسرين: كان ذلك من الغضروف إلى الكتف. قال مجاهد: وهو عجب الذنب. وقال غيره: هو الفخذ. وقال بعضهم: اللسان.
وقيل: بعض منها لا بعينه؛ أي بعض: كان.
* (كذلك يحيى الله الموتى) لأنه أراهم إحياء المقتول حين ضرب ببعض البقرة. وفي القصة: أنه لما ضرب ببعضها قام حيا وقال: ' قاتلي فلان '، ثم سقط ميتا؛ فحرم قاتله الميراث.
وفي الخبر: أن النبي قال: ' ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة '.
94

* (تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73) ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد) * * (ويريكم آياته لعلكم تعقلون) تمنعون أنفسكم من المعاصي.
وقيل: إنما خص البقرة بذلك الذبح؛ لأنهم كانوا قد عبدوا العجل، فأراد أن يريهم هوانها، وأنها تعجز عن دفع القتل عن نفسها.
أو ابتلاهم بالأمر بذبحها حتى [يراهم] هل يقتلون أم لا.
قوله تعالى: * (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) يعني يبست وجفت، وجفاف القلب بخروج الرحمة والرقة عنه. * (من بعد ذلك) من بعد ما ظهر لكم من تلك الآيات. * (فهي كالحجارة) يعني في الصلابة * (أو أشد قسوة).
فإن قيل: لم قال: أو أشد قسوة و ' أو ' كلمة التشكيك؟ ولم شبه بالحجارة والحديد أصلب من الحجارة؟.
قلنا: أما الأول معناه وأشد قسوة. وقيل: بل أشد قسوة، وهو مثل قوله تعالى: * (إلى مائة ألف أو يزيدون) أو بل يزيدون.
وقال جماعة النحويين: معناه إن شئت مثلهم بالحجارة؛ وإن شئت مثلهم بما هو أشد من الحجارة، فأنت مصيب في الكل. وهذا قول حسن.
وإنما لم يشبه بالحديد؛ لأنه قابل للين، فإنه يلين بالنار، وقد لان لداود عليه السلام، والحجارة لا تلين قط.
قوله تعالى: * (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) قيل: أراد به جميع الحجارة. وقيل: أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط.
* (وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) أراد به عيونا دون الأنهار، وتكون في بعض
95

* (قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)) * * الأحجار * (وإن منها لما يهبط من خشية الله) أي ينزل من مخافة الله.
فإن قيل: الحجر جماد لا يفهم؛ فكيف يخشى؟! قلنا: قد قال أهل السنة: إن لله تعالى علما في الموات لا يعلمه غيره.
وقيل: إن الله تعالى يفهمهم ويلهمهم ذلك فيخشون بإلهامه، وبمثل هذا وردت الأخبار.
فإنه روى: ' أن النبي كان علي ' ثبير ' والكفار يطلبونه، فقال الجبل: أنزل عني فإني أخاف أن تؤخذ على فيعاقبني الله بذلك. فقال له جبل حراء: إلى يا رسول الله '.
وروى عن النبي أنه قال: ' كان حجر يسلم على بمكة قبل أن أبعث، وأنا أعرفه الآن ' الخبر صحيح.
وفي الباب حديث أنس وسهل بن سعد، ' أن رسول الله كان يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فلما اتخذ له المنبر تحول إليه فلما رقاه حن الجذع '.
ويروي: ' أنه خار كما يخور الثور، حتى ارتج المسجد؛ فنزل رسول الله من المنبر وكان الجذع يخور حتى التزمه فسكن. فخيره النبي بين أن يكون شجرة في الدنيا أو شجرة في الجنة، فاختار الجنة، فأمر به فدفن '.
96

* (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا) * *
وقد قال مجاهد: لا ينزل حجر من [الأعلى] إلى الأسفل إلا من خشية الله.
ويشهد لكل ما قلنا. قوله تعالى: * (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله).
* (وما الله بغافل عما تعملون) أي: يشاهد ما تصنعون.
قوله تعالى: * (أفتطمعون) أي: ترجون * (أن يؤمنوا لكم) أي: يصدقونكم بما تخبرونهم به. * (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه) وفيه قولان: أحدهما: أنهم سمعوا التوراة ثم حرفوا ما فيها من الأحكام ونعت محمد.
القول الثاني: أنه أراد به السبعين الذين حملهم موسى إلى الطور حين قالوا: إن كنت ترى الله فينبغي أن نرى الله، وإن كنت تسمع كلام الله؛ فينبغي أن نسمع كلام الله. فقال موسى: أما أنا فلا أرى الله، ولكني أسمع كلامه، ثم سأل موسى ربه تعالى أن يسمعهم كلامه فقال الله تعالى: مرهم فليصوموا كذا وليغسلوا أو ليلبسوا ثيابا جددا نظيفة، ثم ليحضروا ففعلوا ذلك. وسمعوا كلام الله.
وفي التفسير: أنه قال لهم: أنا الله لا إله إلا أنا، أخرجتكم من مصر بيد شديدة فاعبدوني ولا تشركوا بي شيئا، وافعلوا كذا، وكذا فلما سمعوا كلامه، خرجت أرواحهم وماتوا فأحياهم الله تعالى فقالوا لموسى: إنا لا نطيق أن نسمع كلامه، فاسمع أنت، وبلغنا إياه. ثم رجعوا إلى قومهم قالوا: قد سمعنا كلام الله، وقد أمرنا أن نفعل كذا وكذا، لكنه قال: افعلوا إن شئتم أو إن استطعتم.
وفي رواية قال: لا ترتكبوا كذا وكذا إلا أن يكون لكم بد؛ فارتكبوا، فهذا معنى
97

* (بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76) أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) * * قوله * (يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه) أي: فهموه (وهم يعلمون) أنه الحق.
قوله تعالى * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) أنزل في قوم من اليهود آمنوا فنافقوا. * (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) والفتح بمعنى القضاء. قال الله تعالى: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) أي: قضينا لك قضاء بينا.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: تعال إلى الفتاح. وفي معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قالوا لأهل المدينة حين شاوروهم في اتباع محمد: آمنوا به فإنه حق. ثم قال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليكون لهم الحجة عليكم عند ربكم أي: يأخذونكم.
والقول الثاني: أنهم أخبروهم بما عذبهم الله به على الجنايات؛ فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب * (ليحاجوكم به عند ربكم) ليروا الكرمة لأنفسهم عليكم الله.
والقول الثالث: أن النبي لما فتح خيبر حاصر بني قريظة قال لهم: ' يا إخوة القردة والخنازير. فقال بعضهم لبعض: هذه الكلمة ما خرجت إلا منكم، يعني: أنتم حدثتموه بذلك ' * (أفلا تعقلون).
قوله تعالى: * (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) يعني: أنه عالم بما أسروا (وأعلنوا).
98

* (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78)) * *
قوله تعالى: * (ومنهم أميون) الأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب. وفي اشتاقه قولان:
أحدهما: أنه من الأم، فالأمي باق على ما انفصل من الأم.
والثاني: من الأمة 0 وهي الخليقة، ومنه قول الشاعر:
(وإن معاوية الأكرمين
* حسان الوجوه طوال الأمم)
يعني بني معاوية. وطوال الأمم أي الخلق. فالأمي: باق على ما كان عليه من أصل الخلقة.
* (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: قال مجاهد: الأماني الأكاذيب.
ومنه قول عثمان رضي الله عنه: منذ أسلمت ما تمنيت ولا تغنيت أي: ما كذبت. وقال ابن دأب لرجل ذكر شيئا: هذا شيء رويته أم شيء تمنيته. أي: اختلقته واخترعته من تلقائك.
والقول الثاني: أنه التلاوة، أي: لا يعلمون الكتاب إلا التلاوة ومثله وقوله: * (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) أي: تلاوته. وقيل في عثمان رضي الله عنه:
(تمنى كتاب الله أول ليله
* [فياليته] ما لاقى حمام المقادر)
أي: تلا كتاب الله
والقول الثالث: قال الفراء والكسائي: هو من التمني، وذلك هي أمانيهم الباطلة من قولهم * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ومن قولهم: * (لن يدخل الجنة إلا
99

* (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79) وقالوا) * * من كان هودا أو نصارى) ومن قولهم: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) فعلى قوله هذا ' إلا ' بمعنى ' لكن ' يعنى: لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أشياء لا تحصل لهم.
* (وإن هم إلا يظنون) قال مجاهد: يكذبون. ولم يعرف أهل البصرة الظن بمعنى الكذب؛ فقالوا: معناه: إلا يخرصون.
قوله تعالى: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) فيه قولان:
أحدهما: أنهم كانوا يكتبون من عندهم أشياء، ثم يقولون للأعراب: هذا من عند الله، يبتغونها منهم. وقيل: أراد به ما غيروا بأيديهم من نعت محمد في التوراة؛ فإنه كان فيها أنه أكحل أعين، ربعة، سبط الشعر، فكتبوا فيها أنه أشقر، أزرق طويل القامة، جعد الشعر.
* (ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم ما كتبت أيديهم) اختلفوا في الويل؛ قال أبو سعيد الخدري ويروي ذلك مرفوعا عن النبي أيضا ' إن الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر سبعين خريفا '.
وقال عثمان: هو جبل من نار. وأصل الويل: الهلاك ودعاء العذاب، فإن قيل: ما
100

* (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون (80) بلى من كسب سيئة وأحاطت) * * معنى قوله: * (مما كتبت أيديهم) والكتب لا يكون إلا باليد؟ قيل: ذكره مبالغة في التحقيق. وقيل: معناه أنهم كتبوا بأنفسهم اختراعا.
* (وويل لهم مما يكسبون) من المعاصي.
قوله تعالى: * (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) اختلفوا فيه، منهم من قال: أرادوا به أربعين يوما عدد ما عبدنا العجل.
ومنهم من قال: سبعة أيام. لأن مقدار زمان العالم سبعة آلاف سنة فقالوا: نعذب بكل ألف سنة يوما.
وقيل: إنهم قالوا: سمعنا أنبياءنا أنهم قالوا: ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة فنحن نقطع في كل يوم مسيرة سنة فتبقى مسيرة جهنم في أربعين يوما وننجو منها.
* (قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده) معناه: أني لكم بهذا؛ قول من الله؟ فلا يخالف قوله. قوله: * (أم تقولون على الله مالا تعلمون).
قوله تعالى: * (بلى من كسب سيئة) ' بلى ' تذكر في جواب النفي. ' ونعم ' تذكر في جواب الإيجاب. قال الله تعالى: * (ألست بربكم قالوا بلى).
وقال: * (ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى). وقال: * (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم). * (بلى من كسب سيئة) السيئة: الشرك. * (وأحاطت به خطيئته) أي: مات على الشرك.
وقيل: أراد بالسيئة: الكبيرة. * (وأحاطت به خطيئته) أي: أصر عليها، ومات
101

* (به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (81) والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (82) وإذ أخذنا ميثاق) * * غير تائب. وقال ابن السراج النحوي: معناه: انسدت عليه مسالك النجاة. * (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) إلى آخر الآية، ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) قرأ أبي بن كعب وابن مسعود: ' لا تعبدوا إلا الله ' على الأمر، والقراءة المعهودة ' لا تعبدون '.
وتقرأ بالياء والتاء ومعناها واحد؛ فإن العرب قد تذكر المخاطبة في (موضع) المغايبة، والمغايبة في موضع المخاطبة. وفي هذا الميثاق عهد وقسم، وتقديره: والله لا تعبدون إلا الله.
* (وبالوالدين إحسانا) أي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. والإحسان بهما البر والعطف والتحنن، والنزول عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله تعالى. * (وذي القربى) أي: أهل القرابات. * (واليتامى) اليتيم: اسم لمن لا أب له من الآدميين. ولمن لا أم له من البهائم، وهو اسم للفقير منهم.
وقال علي رضي الله عنه: ' حفظت لكم عن رسول الله ستا: لا طلاق قبل النكاح، ولا عتاق في غير الملك، ولا نذر في معصية الله، ولا يتم بعد الحلم، ولا صمت يوم إلى الليل. ولا صوم وصال '. * (والمساكين) هم الفقراء كما سبق.
102

* (بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83) وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا) * * (وقولوا للناس حسنا) تقرأ بقراءتين حسنا وحسنا.
وتقديره: وقولوا للناس قولا حسنا، أو وقولوا للناس قولا ذا حسن. وفي معناه ثلاثة أقوال، أحدها: قال سفيان الثوري: القول الحسن هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والقول الثاني: أنه اللين في القول، والمعاشرة بحسن الخلق.
والقول الثالث: أنه خطاب لأهل التوراة يعني: وقولوا للناس صدقا في نعت محمد في التوراة.
* (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) سبق تفسيره.
* (ثم توليتم) أعرضتم * (إلا قليلا منكم) وذلك أن فريقا منهم قد آمنوا * (وأنتم معرضون) كإعراض آبائكم.
قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) أي: لا يسفك بعضكم دماء بعض.
وقيل: لا تسفكوا دماء غيركم فتسفك دماؤكم؛ فكأنكم سفكتم دماء أنفسكم.
* (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) أي: لا يخرج بعضكم بعضا.
وقيل: معناه: لا تسيئوا جوار من جاوركم؛ فتلجئوهم إلى الخروج؛ بسوء الجوار.
* (ثم أقررتم) أي: قبلتم * (وأنتم تشهدون) تعترفون بالقبول.
قوله تعالى: * (ثم أنتم هؤلاء) يعني: يا هؤلاء * (تقتلون أنفسكم) (بقتل) بعضكم بعضا.
103

* (تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون (84) ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم) * * (وتخرجون فريقا منكم من دياركم تظاهرون) يقرأ بالتشديد والتخفيف وأصله: تتظاهرون. فأدغمت التاء في الظاء. فصار مشددا ومعناه: تعاونون.
* (عليهم بالإثم والعدوان) فالإثم والعدوان: المبالغة في الظلم. وقد روى: ' أن النواس بن سمعان سأل رسول الله ما البر؟ فقال: ما اطمأنت إليه نفسك، قال: ما الإثم؟ فقال: ما حاك في صدرك '.
قوله تعالى * (وإن يأتوكم أسارى) يقرأ بقرائتين ' أسرى، وأسارى ' وفرق أبو عمرو بينهما في المعنى، فقال: الأسارى لمن كان في اليد مع الوثاق. والأسرى: لمن كان في اليد من غير وثاق، ولم يرضوا منه بهذا الفرق، والصحيح: أنهما واحد.
* (تفدوهم) و * (تفادوهم) قراءتان. قيل: هما في المعنى واحد، وقيل: (تفادوهم) تقال في فداء الأسرى بالأسرى. وتفدوهم في الفداء بالمال.
* (وهو محرم عليكم إخراجهم) فيه تقدير وتأخير. وتقديره: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم؛ وهو محرم عليكم إخراجهم؛ تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان.
* (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) لأنهم خالفوا في البعض وامتثلوا في البعض.
104

* (والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) * *
قال السدى في كشف معنى الآية: إنهم أمروا بأربعة أشياء: أن لا يقتل بعضهم بعضا. وأن لا يخرج بعضهم بعضا. وأن لا يتعاونوا على الإثم والعدوان. وأن يفادوا الأسارى. فخالفوا في الثلاث وامتثلوا في المفاداة.
والقصة فيه: أن بني قريظة كانوا حلفاء الأوس، وبنو النضير كانوا حلفاء الخزرج وكانت بين القبيلتين مقاتلة، فوقعت المقاتلة بين حلفاء القبيلتين، ثم إذا وقع أسير من حلفاء إحدى القبيلتين في يد أخرى القبيلتين فأداه حلفاء القبيلة الأخرى، مع كون الأسير من عدوهم، فإذا قيل لهم: لم تفادون؟ قالوا: أمرنا بالمفاداة. فإذا قيل لهم: لم تقاتلون؟ قالوا: نحن حلفاؤهم فلابد لنا من القتال معهم فهذا معنى الآية.
وقوله تعالى: * (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا) يقال: خزي يخزى خزيا، من الذل والهوان. وخزي يخزي خزاية. من الخجل والاستحياء والافتضاح. ومنه قول الشاعر:
(والموت خزيان ينظر خزيان
*)
أي: مستحي.
* (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعلمون).
* (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) اختاروا الدنيا على الآخرة.
* (فلا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينصرون) يمنعون العذاب.
قوله تعالى: * (ولقد آتينا) أعطينا * (موسى الكتاب) التوراة * (وقفينا من بعده بالرسل) أتبعنا. أي: يقفو رسول رسولا.
* (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) فيه قولان؛ أحدهما: أنها المعجزات التي أوتى
105

(* (85) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينصرون (86) ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما) * * عيسى من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ونحو ذلك.
والقول الثاني: أنها الإنجيل. * (وأيدناه) قويناه من الأيد. وهو القوة.
* (بروح القدس) اختلفوا في الروح، قال الحسن وقتادة وهو إحدى الروايتين
عن ابن عباس أنه أراد به جبريل. وقيل: إنه أمر أن يسير معه حيث سار حتى صعد به إلى السماء. وقيل: إن الروح هو الاسم الأعظم الذي كان يحيى به الموتى. وقيل هو الإنجيل.
وإنما سمى روحا؛ لأنه كان سببا لحياة القلوب؛ ولذلك سمى القرآن روحا.
وسمى عيسى روحا؛ لأنه حصل بتكوين الله من غير توليد والد.
وأما جبريل: فإنما سمى روحا؛ للطافته، أو لمكانه من الوحي الذي هو سبب لحياة القلوب.
وأما القدس: قيل: إنه نعت جبريل. وأصل القدس: الطهارة. ومنه القدوس: وهو الطهارة. والأرض المقدسة: المطهرة؛ وإنما وصف جبريل بالقدس لأنه لم يقترف ذنبا قط. وكان طاهرا من الذنوب.
وقيل: القدس هو الله تعالى.
قوله تعالى: * (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم) لا تريد قلوبكم * (استكبرتم) أنفتم وتعظمتم * (ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون).
فالمكذبون: مثل عيسى ومحمد. والمقتولون: مثل زكريا ويحيى صلوات الله عليهم أجمعين.
قوله تعالى: * (وقالوا قلوبنا غلف) قرأ ابن عباس: غلف بضم اللام، وهو قراءة الأعرج وابن محيض؛ وهو من الشواذ.
106

* (لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88) ولما جاءهم كتاب) * * والقراءة المعهودة بجزم اللام، وهم جمع الأغلف، ومعناه: قلوبنا في أوعية مما تقول لا نفهم شيئا من ذلك وهذا مثل قوله تعالى: * (وقالوا قلوبنا في أكنة).
وأما الغلف: بضم اللام: جمع الغلاف. ومعناه: قلوبنا أوعية العلم، وليس فيها مما تقول شيء. أي: ما تقوله فليس بشيء.
* (بل لعنهم الله بكفرهم) طردهم الله عن الفهم والرحمة. وأصل اللعن: الطرد والأبعاد وقال الشاعر:
(ذغرق به القطا ونفيت عنه
* مقام الذئب كالرجل اللعين)
أي: مقام الذئب اللعين، يعني: المطرود.
(فقليلا ما تؤمنون) قيل: أراد به المشركين ومعناه: قليل إيمانهم والمراد [به] إيمانهم بأن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض.
وقيل: أراد به أهل الكتاب؛ لأن الذين آمنوا منهم أقل من الذين آمنوا من المشركين.
وقيل: معناه: فلا يؤمنون أصلا.
وحكى الكسائي عن العرب: قل ما تنبت هذه الأرض إلا الكراث والبصل. أي: لا تنبت إلا الكراث والبصل.
قوله تعالى: * (ولما جاءهم كتاب من عند الله) يعنى القرآن. * (مصدق لما معهم) من التوراة والإنجيل.
* (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) يستنصرون؛ ومنه قول الشاعر:
107

* (من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين (89) بئسما اشتروا به) * *
(ألا أبلغ بني عصم رسولا
* فإني عن قباحتكم غنى)
أي: عن نصرتكم.
وفي الخبر: ' أن النبي كان يستفتح بصعاليك المهاجرين '. أي يستنصر بهم في الدعاء للغزوات.
ومعنى الآية: أن المشركين من قبل كانوا يؤذون اليهود فربما تكون الغلبة لهم على اليهود في القتال؛ فقالت اليهود -: اللهم انصرنا بالنبي الأمي الذي تبعثه في آخر الزمان، فكانوا ينصرون به، فلما بعث كفروا به. فهذا معنى قوله * (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
قوله تعالى: * (بئسما اشتروا) بئس: اسم مستوف لكل ذم. ونعم: اسم مستوف لكل حمد. * (اشتروا به أنفسهم) اختاروا لأنفسهم * (أن يكفروا بما أنزل الله) من القرآن (بغيا) حسدا. والبغي: الظلم. وأصله الطلب؛ فالباغي طالب للظلم. والحاسد: ظالم لأنه يريد زوال النعمة عن المحسود من غير جناية منه. * (أن ينزل الله من فضله) من النبوة: * (على من يشاء من عباده) من الأنبياء.
* (فباءوا) أي: رجعوا * (بغضب على غضب) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الغضب الأول عبادة العجل. والغضب الثاني الكفر بمحمد.
والقول الثاني: أن الغضب الأول تكذيب عيسى. والغضب الثاني تكذيب محمد.
والقول الثالث: أن الغضب الأول الكفر بالإنجيل. والغضب الثاني الكفر بالقرآن.
* (وللكافرين عذاب مهين) أي: مخز.
108

* (أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين (90) وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق) * *
قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) من القرآن. * (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) يكفينا ما أنزل علينا من التوراة.
* (ويكفرون بما وراءه) قال أبو عبيدة: بما بعده. قال الفراء: بما سواه من الكتب. وهو الأصح. * (وهو الحق) يعني: القرآن * (مصدقا لما معهم) من التوراة
. * (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) فإن قال قائل: القتل كان من آبائهم فكيف خاطب الأبناء به؟
الجواب قلنا: قتل الأنبياء وإن وجد من الآباء لكن الأبناء رضوا به، ووالوهم عليه؛ فلهذا خاطب الأبناء به. وأيضا فإنه قال: * (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) على صيغة الاستقبال، فكان اللائق بالحال أن يقول فلم قلتم؟
وأما قوله: * (فلم تقتلون) معناه: فلم قتلتم، لكن العرب قد تضع الماضي في موضع المستقبل، والمستقبل في موضع الماضي، والدليل عليه قوله: * (من قبل إن كنتم مؤمنين) يعني في زعمكم.
وقيل: معناه: ما كنتم مؤمنين على النفي. كقوله تعالى: * (قل إن كان للرحمن ولد) أي: ما كان للرحمن ولد. وفيه قول آخر سيأتي.
قوله تعالى: * (ولقد جاءكم موسى بالبينات) بالمعجزات. * (ثم اتخذتم العجل من بعده) في الهاء قولان: أحدهما: أنه عائد إلى موسى والثاني: عائد إلى المجيء. * (وأنتم ظالمون) بذلك.
قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة) قد ذكرناه. * (واسمعوا) واقبلوا * (قالوا سمعنا وعصينا) يعني: سمعنا بالآذان
109

* (مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91) ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا) * *
وعصينا بالقلوب.
وقيل: إنهم لما سمعوا وخالفوا بالعمل؛ فكأنهم قالوا: سمعنا وعصينا. وإن لم يقولوا ذلك ومثله قول الشاعر:
(امتلأ الحوض وقال قطني
* مهلا رويدا قد ملأت بطني)
فقدر القول من الحوض وإن لم يقل شيئا.
* (وأشربوا) أي: خلطوا، ومنه فلان مشرب اللون إذا اختلط بياضه بالحمرة. * (في قلوبهم العجل) أي: حب العجل. فحذف المضاف، واكتفى بالمضاف إليه، ومثله قول الشاعر:
(وكيف تواصل من أصبحت
* خلالته كأبي مرحب)
أي كخلالة أبي مرحب.
وفي القصص: أن موسى صلوات الله عليه أمر أن يبرد العجل بالمبرد، ثم أمر أن يذر في النهر، وأمرهم بالشرب منه، فكل من بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه. * (قل بئسما يأمركم به إيمانكم) أي: بئس إيمان يأمر بهذا. * (إن كنتم مؤمنين).
قوله تعالى: * (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس) لأنهم قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى؛ فعيرهم بذلك.
* (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) لأن من علم بدخول الجنة إذا مات يتمنى الموت ولا يشق عليه أن يموت.
قوله تعالى: * (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم) أخبر أنهم لن يتمنوا ذلك،
110

* (سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (93) قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (94) ولن يتمنوه أبدا بما) * * كأن الله صرفهم عن تمني الموت؛ تصديقا للرسول، وتحقيقا لمعجزته، إذ كان يمكن أن يتمنى بعضهم ذلك تكذيبا للرسول.
وفي الخبر قال: ' لو تمنوا ذلك لأخذهم الموت في الحال '.
* (والله عليم بالظالمين) منهم. قوله: * (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) يعني اليهود. * (ومن الذين أشركوا) أي: وأحرص من الذين أشركوا. وهو مثل قولهم: ' فلان أسخى الناس ومن هرم ' أي: وأسخى من هرم.
يريدون به هرم بن سنان. كان رجلا معروفا بالسخاوة، وله شاعر يقال له: ' زهير بن أبي سلمى '.
والمراد بالذين أشركوا ها هنا: المجوس وذلك أنهم يقول بعضهم لبعض: عش ألف سنة ' بزء هزا رسال ' فأخبر الله تعالى أن اليهود أحرص الناس على حب الحياة ومن المجوس الذين يقولون ذلك.
* (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) كما وصفنا * (وما هو بمزحزحه) بمبعده * (من العذاب أن يعمر) يعني لا يبعدهم طول العمر من العذاب.
* (والله بصير بما يعملون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (قل من كان عدوا لجبريل) في سبب نزول الآية قولان:
111

* (قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين (95) ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر
والله بصير بما يعملون (96) قل من كان عدوا لجبريل فإنه) * *
أحدهما: أن عمر رضي الله عنه قال لليهود: أنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم؟ فسكتوا. ثم عاودهم ثانيا، فقالوا: نعم. قال عمر: فلم لم تؤمنوا به؟ قالوا: لأنه ينزل عليه جبريل؛ وهو عدونا؛ وهو الذي يأتي بالعذاب، ولو نزل عليه ميكائيل لآمنا به. فقال عمر: أشهد أن من كان عدوا لجبريل فهو عدو لميكائيل، ومن كان عدوا لهما فالله عدو له، فنزلت الآية على وفق قول عمر.
وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ' وافقت ربي في ثلاث '.
ويروى: وافقني ربي في ثلاث '. أحدها: هذا والثاني: آية الحجاب؛ وذلك قوله تعالى: * (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب).
والثالثة: الصلاة خلف مقام إبراهيم، وذلك قوله تعالى: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).
والقول الثاني: في سبب نزول الآية: * (أن ابن صوريا الأعور وكان أعلم اليهود أتى النبي وقال: إني سائلك مسائل لا يعرفها إلا نبي، فإن أجبتني عرفتك صادقا. فقال: سل. قال ابن صوريا: ما علامة النبي؟ قال: أن تنام عيناه ولا ينام قلبه. قال: صدقت. ثم قال: كيف خلق الولد من الماءين؟ قال: إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكر بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنث بإذن الله.
وقال: ومن ينزل عليك من الملائكة؟ قال جبريل فقال: لو نزل عليك ميكائيل لآمنا
112

* (نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97) من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) * * بك؛ فإنه عدونا فنزل قوله تعالى * (قل من كان عدوا لجبريل).
(وفيه أربع قراءات: ' جبريل ' على الكسر واللين، ' وجبريل ' على الفتح واللين، ' وجبريل ' على الفتح والهمزة والإشباع ' وجبرئيل ' على الفتح والهمز من غير إشباع.
و ' جبر ' بمعنى العبد، و ' ئيل ' اسم الله، وكذلك ميكائيل، ومعناه: ' عبد الله '، أو ' عبد الرحمن '. كذا قال ابن عباس، والحسن بن علي.
فجبريل على وزن قنديل وبرطيل وزنبيل، وجبرئيل على وزن عندليب، وجبريل لا مثال له.
* (فإنه نزله على قلبك) يعني: قلب محمد * (بإذن الله مصدقا لما بين يديه) من التوراة والإنجيل * (وهدى وبشرى للمؤمنين).
قوله تعالى: * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل. [وميكال] فإن الله عدو للكافرين). هذا الذي نزل على وفق قول عمر رضي الله عنه وقوله: * (وجبريل و (ميكال)) وإن دخل في جملة الملائكة الرسل؛ لكن خصهما بالذكر تشريفا.
قوله تعالى: * (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات) يعني القرآن وآياته. * (وما يكفر بها إلا الفاسقون) أي: الكافرون.
قوله تعالى: * (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم) قيل: أراد به العهد الذي
113

* (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون (99) أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (100) ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب) * * أخذه الله على اليهود أن يؤمنوا بمحمد؛ فخالفوا ونبذوا.
وقيل: هو العهد الذي أخذه رسول الله على بني قريظة والنضير أن لا يعاونوا المشركين على قتاله. فخالفوا ونبذوا. والنبذ. الطرح، ومنه قول الشاعر:
(نظرت إلى عنوانه فنبذته
* كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا)
* (بل أكثرهم لا يؤمنون) وقد آمن قليل منهم.
قوله تعالى: * (ولما جاءهم رسول من عند الله) يعني: محمدا.
* (مصدق لما معهم) من الكتب * (نبذ فريق من الذين أتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم) أراد به التوراة.
قال الشعبي: كانوا يقرءون التوراة ولا يعملون بها. فكذلك نبذهم.
وقال سفيان الثوري: أدرجوها في الحرير والديباج، وحلوها بالذهب والفضة، ثم لم يعملوا بها، فهم نابذون.
وقيل: أراد بالكتاب القرآن * (كأنهم لا يعلمون) أي: لما خالفوا ما علموا كأنهم لا يعلمون.
قوله تعالى: * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) يعني: اليهود * (ما تتلوا الشياطين) أي: ما تلت، مستقبل بمعنى الماضي. قال الحطيئة:
(شهد الحطيئة حين يلقي ربه
* أن الوليد أحق بالغدر)
يعني: يشهد.
ومعنى قوله: * (تتلوا) أي: تحكي وتقص * (على ملك سليمان) على عهد
114

* (الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101) واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما) * * ملك
سليمان. وقيل: في ملك سليمان. والقصة في ذلك: ما روى أن في زمن سليمان صلوات الله عليه كانت سحرة، ولهم في ذلك كتب، فانتزع سلمان كتب السحر من أيديهم ودفنها في صندوق تحت كرسيه، فلما توفي قالت الشياطين للإنس: ألا ندلكم على كنز كان سليمان يفعل به ما كان: فاستخرجوا تلك الكتب. وقال الجهال منهم: به كان يفعل سليمان ما يفعل.
وقيل: لما لم نزع الله الملك من سليمان، كتب الشياطين كتب السحر، ودفنوها تحت الكرسي، فلما رد الله الملك إليه. بقي ذلك السحر مدفونا كما كان، فلما توفي سليمان استخرجوا تلك الكتب وقالوا إن سليمان كان يفعل به ما يفعل. وقيل: إن الشيطان تمثل في صورة النبي وقال لهم ذلك. وقيل: إنه وسوس إليه ذلك، فهذا الذي تلت الشياطين على ملك سليمان. * (وما كفر سليمان) أي: وما سحر سليمان. وقيل: أراد به الكفر المعهود.
* (ولكن الشياطين كفروا) يقرأ مخففا ومشددا فإذا شدد عمل في نصب الشياطين. وإذا خفف بقي على الرفع * (كفروا) سحروا. ويحتمل الكفر المعهود * (يعلمون الناس السحر) والسحر في اللغة عبارة عن تمويهات وتخييلات وخدع، قال امرؤ القيس:
* (أرانا موضعين (لحتم) غيب
* ونسحر بالطعام وبالشراب)
أي: نخدع.
وقال الفراء: السحر: قول يقوله إنسان يأخذ به الرجل عن امرأته.
115

* (أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما) * *
وحكى عن الشافعي أنه قال: السحر يحيل ويمرض وقد يقتل. والسحر يتحقق وجوده على مذهب أهل السنة ويؤثر، ولكن العمل به كفر، وتأثيره ما ذكرنا، وقيل: إنه يؤثر في قلب الأعيان؛ فيجعل الآدمي على صورة الحمار، والحمار على صورة الكلب. والأصح أنه يخيل ذلك كما بينا.
وقد سحر رسول الله فأثر فيه؛ روى: ' أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبي حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، فأطلعه الله عليه، فأمر به فاستخرج منه بئر ذي [أروان] وكان عليه إحدى عشرة عقدة؛ فأنزل الله تعالى عليه المعوذتين؛ إحدى عشرة آية، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى إذا انحلت العقد فكأنما أنشط من عقال '.
قوله تعالى: * (وما أنزل على الملكين) قرىء على النفي وهو محكي عن عطية بن عوف، فعلى هذا في الآية تقديم وتأخير، تقديره: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر، وما يعلمان من أحد وهذا قول غريب.
والصحيح: أن ' ما ' بمعنى ' الذي '، يعني: والذي أنزل على الملكين.
وقرأ ابن عباس على ' الملكين ' بكسر اللام وهو في الشواذ. قال الحسن البصري: هما كانا علجين من علوج بابل، ولم يكونا ملكين.
والصحيح أنهما كانا ملكين وهو القراءة المعهودة.
والقصة في ذلك ما حكى ابن عمر عن كعب الأحبار؛ وهو قول عطاء بن أبي رباح، وجماعة من المفسرين قالوا: إن الملائكة تعجبوا من كثرة معاصي بني آدم، فقال
116

* (نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم) * * لهم الله تعالى: لو أنزلتكم إلى الأرض. وركبت فيهم ما ركبت فيكم؛ لفعلتم مثل ما فعلوا. فاختاروا من خيارهم ملكين؛ هاروت وماروت؛ فأنزلهما الله تعالى إلى الأرض، وأخذ عليهما أن ألا يشركا ولا يقتلا، ولا يزنيا. قال كعب: فما مضى عليهما اليوم إلا (وفعلا) الكل.
وفي القصة: أن المزني بها كانت زهرة؛ فمسخت شهابا، ورفعت إلى السماء، فكان ابن عمر كلما رآها لعنها.
وفي القصة: أنهما لما ارتكبا ذلك خيرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؛ فاختارا عذاب الدنيا؛ فعلقا بأرجلهما.
قال عطاء بن أبي رباح رؤوسهما [مطوية] تحت أجنحتهما.
وأما بابل: قال ابن مسعود: هي أرض الكوفة. وقيل: هو جبل دماوند. وقيل: هو من نصيبين إلى رأس العين. وإنما سمي بابل لأنه تبلبلت فيه الألسن. أي: تفرقت وانتشرت في البلاد.
* (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) والفتنة: الابتلاء. ومنه يقال: فتنت الذهب في النار. أي: اختبرته، ليتبين الجيد من الرديء.
فإن قيل: ما معنى إنزال السحر على الملكين، وما معنى تعليم السحر من الملكين، وكلاهما مستبعد؟!
قيل: أما إنزال السحر: بمعنى التعليم والإلهام يعني علما وألهما السحر.
وقيل: هو حقيقة الإنزال، وهو إنزال هيئة السحر وكيفيته؛ لينتهوا عنه، وأما تعليم السحر من الملكين: بمعنى الإعلام. ومثله قول الشاعر:
117

* (بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا) * *
(تعلم أن بعد [الغي رشدا]
* وأن لهذه الغبر انقشاعا)
يعنى: اعلم.
وقيل: هو على حقيقة التعليم، ثم فيه قولان: أحدهما: أنهما يعلمان كيفية السحر لينتهوا) عنه كان الرجل يأتيهما فيقول: ما الذي نهى الله عنه؟ فيقولان: الشرك. فيقول: وما الشرك؟ فيقولان: كذا وكذا.
ويأتيهما آخر فيقول: ما الذي نهى الله عنه؟ فيقولان: السحر. فيقول: وما السحر [فيعلمانه] كيفية السحر لينتهي عنه، وكذا في كل المعاصي.
والقول الثاني: أنه تعليم ابتلاء، سلطهما الله على تعليم السحر ابتلاء للناس حتى أن كل من تعلم واعتقد وعمل به كفر
ومن لم يتعلم ولم يعمل به؛ لم يكفر. والدليل عليه قوله تعالى: * (إنما نحن فتنة) أي: بلية * (فلا تكفر) أي: لا تتعلم السحر. فتعمل به؛ فتكفر.
وقوله تعالى: * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) يعني السحر الذي يؤخذ به الرجل عن امرأته كما وصفنا.
* (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) معناه: إلا بتكوين الله، فالساحر يسحر، والله يكون.
قال سفيان الثوري: معناه: إلا بقضاء الله وقدره.
* (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) يعني: السحر يضرهم ولا ينفعهم.
(ولقد علموا لمن اشتراه) اختاره * (ماله في الآخرة من خلاق) من نصيب.
118

(يعلمون (102) ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103) يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين) * * (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) بئس اختيار اختاروه لأنفسهم.
فإن قيل: أليس قد قال: * (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق) فما معنى قوله: * (لو كانوا يعلمون) وقد أخبر أنهم قد علموا؟
قيل: أراد بقوله: * (ولقد علموا) الشياطين. وبقوله: * (لو كانوا يعلمون) اليهود.
وقيل: كلاهما في اليهود؛ لكنهم لما لم يعملوا بما علموا؛ فكأنهم لم يعلموا.
قوله تعالى: * (ولو أنهم آمنوا واتقوا) آمنوا بك يا محمد * (واتقوا) الكفر والسحر * (لمثوبة) لثواب * (من عند الله خير لو كانوا يعلمون).
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا). معناه: أرعنا سمعك واسمع منا وحقيقته (فرغ) سمعك لكلامنا.
* (وقولوا أنظرنا) أي: انتظرنا، وقيل: انظر إلينا.
وقرأ الأعمش: ' أنظرنا ' أي: أمهلنا. وقال الشاعر:
* (أبا هند فلا تعجل علينا
* وأنظرنا نخبرك اليقينا)
أي: أمهلنا.
* (واسمعوا) أي: أطيعوا. * (وللكافرين عذاب أليم) أي: عذاب مؤلم. وفي سبب نزول الآية قولان:
أحدهما: أن الصحابة كانوا يقولون للنبي: ' راعنا ' ويريدون به ما ذكرنا، فسمعه اليهود. وكان ذلك عندهم سبا وهو بمعنى يا أحمق.
وقد قرأ الأعمش: ' راعنا ' منونا، وقرأ الحسن: ' راعونا ' وهما لغتان من الرعونة،
119

* (عذاب أليم (104) ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل) * * فلما سمعه اليهود فرحوا به؛ حيث رأوهم يسبونه ولا يعلمون، وكانوا يقولون ذلك للنبي موافقة للمسلمين في الظاهر، ويضحكون فيما بينهم، إنا نسبه وهم لا يعلمون؛ فنزل قوله تعالى: * (لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا)
والقول الثاني: أن قولهم ' راعنا ' كان فيه جفوة وخشونة؛ لأن حقيقته فرغ سمعك لكلامنا حتى تفهم، وفي هذا نوع جفاء؛ فنزل قوله: * (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) حتى يقولوا ما يقولوا على طريق التبجيل والمسألة. ويختاروا من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أحكمها.
قوله تعالى: * (ما يود الذين كفروا) أي: ما يحب، والود: الحب.
ومعنى الآية: أن الأنبياء قبله بعثوا من ولد إسحاق، فلما بعث النبي من ولد إسماعيل؛ لم يقع ذلك بود اليهود ومحبتهم. وأما المشركون فإنما لم تقع نبوته بودهم، لأنه جاء بتضليلهم، وعيب آلهتهم، فهذا معنى قوله تعالى: * (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم) يعني عليك يا محمد. ذكر الواحد بخطاب الجمع على ما هو عادة العرب * (من خير من ربكم) يعني النبوة. * (والله يختص برحمته من يشاء) قال ابن عباس وأكثر المفسرين: الرحمة بمعنى النبوة هاهنا. وقيل: بمعنى الإسلام. والهداية إليه. * (والله ذو الفضل العظيم) الفضل [ابتداء] إحسان بلا علة.
قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية) قرأ ابن عامر ' ما ننسخ ' بضم النون وكسر السين ومعناه ما تجده منسوخا وهو مثل قولهم: أحمدت فلانا. أي: وجدته محمودا، وأبخلت فلانا. أي. وجدته بخيلا.
القراءة المعروفة * (ما ننسخ) على الفتح.
120

* (العظيم (105) ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106)) * *
والنسخ في اللغة: رفع الشيء وإقامة غيره مقامه. يقال: نسخت الشمس الظل. أي رفعته وأقامت الضياء مقامه.
وقد يكون بمعنى رفع الشيء من غير إقامة غيره مقامه.
يقال: نسخت الرياح الآثار إذا رفعتها من أصلها من غير شيء يقوم مقامها. والنسخ جائز في الجملة باتفاق الأمة. ونسخ القرآن على وجوه:
منها نسخ يوجب رفع التلاوة والحكم جميعا. وذلك مثل ما روى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ' أن قوما من الصحابة قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها إلا قوله: * (بسم الله الرحمن الرحيم) فغدوا على النبي وأخبروه بذلك فقال عليه السلام: ' تلك سورة رفعت بتلاوتها وأحكامها '.
وقيل إن سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة؛ فرفع أكثرها تلاوة وحكما.
ومن النسخ ما يوجب رفع التلاوة دون الحكم وذلك مثل آية ' الرجم ' رفعت تلاوتها وبقي حكمها.
ومنه ما يوجب رفع الحكم دون التلاوة. مثل آية ' \ الوصية للوالدين والأقربين ' وآية ' عدة الوفاة بالحول ' ومثلها آية ' التخفيف في القتال ' وآية ' الممتحنة ' ونحو ذلك.
ومن وجوه النسخ ما يوجب رفع الحكم وإقامة غيره مقامه، وذلك مثل القبلة نسخت إلى الكعبة، والوصية نسخت إلى الميراث، وعدة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشرا، ومقاومة الواحد العشرة في القتال نسخت إلى مقاومة الواحد الاثنين. ونحو ذلك.
121

* (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا) * *
ومنها: رفع الحكم من غير إقامة شيء مقامه؛ وذلك مثل امتحان النساء، نسخ من غير خلف. وكذلك أمثال هذا.
رجعنا إلى تفسير الآية فقوله: * (ما ننسخ من آية) أي: نرفع من آية. فأما قوله: * (أو ننسها) اختلفوا في معناه. وقال ابن عباس معناه: أو نتركها فلا ننسخ. وهو مثل قوله: * (نسو الله فنسيهم) أي تركوا الله فتركهم. ومنه قول الشاعر:
(إن علي عقبة أقضيها
* لست بناسيها ولا منسيها)
أي: لست بناسيها ولا تاركها. فعلى هذا يرجع قوله: * (نأت بخير منها أو مثلها) إلى قوله: * (ما ننسخ من آية).
وقيل: معنى قوله: * (أو ننسها) يعنى ننسيها على قلبك يا محمد. وذلك مثل ما روينا في حديث أبي أمامة.
وروت عائشة ' أن رسول الله سمع رجلا يقرأ سورة، فقال: إن هذا الرجل ذكرني آية كنت نسيتها '. وهو نظير قوله تعالى * (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) وقرأ ابن مسعود: ' ما ننسك من آية أو ننسخها ' وهذا يؤيد هذا القول؛ فعلى هذا يكون الإنساء على القلب في معنى النسخ.
وفيه قول ثالث: معنى قوله أو ' ننسها ' أي: نأمر بتركها، ونبيح تركها، وذلك مثل نسخ آية الممتحنة ونحوها.
فإن قال قائل: إذا كان الإنساء بمعنى إباحة الترك. فأي فرق بينه وبين النسخ.
قلنا: هما وجهان من النسخ إلا أنه أراد بالنسخ الأول: رفع الحكم وإقامة غيره مقامه، وأراد بالثاني: نسخ الحكم، من غير إقامة غيره مقامه. كما ذكرنا.
122

* (نصير (107) أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن * *
وقرأ أبو عمرو. وابن كثير ' أو ننسأها ' على الفتح والهمز وحكى أبو عبيد القاسم بن سلام، عن أبي نعيم القارئ. أنه قال: رأيت رسول الله في المنام، فقرأت عليه بحرف أبي عمرو فغير على شيئين: فقوله: ' وأرنا ' فقال: ' قل وأرنا ' بكسر الراء قال أبو عبيدة: وأحسبه قال الحرف الثاني: قوله: أو ' ننسأها ' فقال: قل: ' أو ننسها ' النساء والإنساء: بمعنى التأخير، تقول العرب: أنسأ الله أجلك ونسأ الله في أجلك. في معناه قولان:
أحدهما: أن معنى قوله: ' أو ننساها ' أي: نرفع تلاوتها، ونؤخر حكمهما، كما فعل في آية ' الرجم '. ويكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم جميعا.
والقول الثاني: أن معنى قوله: ' أو ننسأها ' أي نؤخر إنزالها، ونتركها في اللوح المحفوظ، فلا تنزل.
وقوله: ' ما ننسخ من آية ' يعني: ما ينزل، أو ' ننسأها ' فلا ينزل، نأتي بخير منها أو مثلها.
فإن قيل: أيش معنى قوله: * (نأت بخير [منها]) وآيات القرآن سواء، لا فضل لبعضها على بعض. وإن أراد به الخير في السهولة، فقد نسخ الأسهل بالأشق، مثل الصوم كان على التخيير بينه وبين الفدية، فنسخه بصوم رمضان على الحتم. فما معنى الخيرية؟
قلنا: قد قيل، تقديره: نأت منها بخير، أي: نرفع آية ونأت بآية.
والصحيح: أنه أراد بالخير الأفضل، يعني في النفع والسهولة. ومعناه: نأت بخير منها، أي: أنفع وأسهل.
123

* (يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل (108) ود كثير من أهل الكتاب * * (أو مثلها) في النفع والسهولة. وإن نسخ الأسهل بالأشق فمعنى الخير فيه بالثواب. فإن ثواب الأشق أكثر. فإن قيل: هما سواء في (امتثال) الأمر فكيف يختلفان في الثواب؟ والجواب: أن الله تعالى يجوز أن يثيب على الأشق أكثر مما يثيب على الأسهل، وقد وعد الثواب على صوم رمضان ما لم يعد على الصوم المخير فيه أولا.
وفيه قول آخر: أنه أراد بقوله: * (نأت بخير منها) في نسخ القبلة خاصة.
وبقوله: * (أو مثلها) على العموم، وذلك أن التوجه إلى الكعبة كان خيرا للعرب وأدعى لهم إلى الإسلام؛ إذ كانت في قلوبهم نفرة عن التوجه إلى البيت المقدس؛ لأنه قبله اليهود.
وفيه قول ثالث: أن المراد بقوله: * (نأت بخير منها) يعنى: في حال نسخ الأول فإن الثاني - الذي نزل جديدا ويعمل به - خير من الأول المنسوخ الذي لا يعمل به، وهذا قول بعيد.
قوله تعالى: * (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) فقوله: * (ألم تعلم) وإن كان على صيغة الاستفهام، لكن المراد به التقرير. ومعناه: أنك تعلم أن الله على كل شيء قدير. وكذلك قوله: * (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) وأما الملك: هو القدرة التامة. ومنه الملك. وهو السلطان التام القدرة.
* (وما لكم من دون الله) قال أبو عبيدة: من بعد الله. وقال غيره: بما سوى الله. * (من ولى) أي: وال وهو القيم بالأمور * (ولا نصير) ولا مانع من العذاب.
قوله: * (أم تريدون أن تسألوا رسولكم) ' أم ' ترد في اللغة على وجوه.
124

* (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم) * *
فتكون بمعنى التقرير وهو المراد هاهنا. ومعناه: أنتم تريدون.
وقد ترد بمعنى التشكيك، يقال: رأيت زيدا أم عمرا؟
وقد ترد ' أم ' بمعنى بل، قال الشاعر:
(بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
* وصورتها أم أنت في العين أملح)
أي: بل أنت في العين أملح.
* (أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) وفى معناه قولان: أحدهما: أنهم سألوا الرسول فقالوا: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا كما قال قوم موسى لموسى: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة).
والثاني: أنهم سألوا الرسول أن يجعل الصفا ذهبا؛ كما سأل قوم عيسى من عيسى المائدة. والأول أظهر. والمراد بالآية: منعهم عن السؤالات المفتوحة بعد ظهور البراهين.
* (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) أي: يستبدل الكفر بالإيمان. وذلك أن مثل ذلك السؤال بعد ظهور البرهان كفر.
* (فقد ضل سواء السبيل) أي: وسط السبيل.
وقيل: قصد السبيل. وهما سواء، وحكى عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي أي: وسطي.
قوله تعالى: * (ود كثير من أهل الكتاب) يعني: أحب وتمنى كثير من أهل
125

* (الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير (109) * * الكتاب * (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا) قيل: نزل ذلك في عمار وحذيفة؛ فإن اليهود دعوهم إلى دينهم فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد. قال عمار: فقد عاهدت الله ألا أكفر بمحمد. فقالوا لحذيفة: ما تقول أنت؟ قال: الله ربى ومحمد نبيي، والقرآن إمامي. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل: هو في حق الكفار والمسلمين على العموم؛ لأنهم ما زالوا يودون عود المسلمين إلى الكفر.
* (حسدا) وذلك أنهم عرفوا أن محمدا نبيي حق، وأنهم باتباعه نالوا من الإسلام ما لم ينالوه؛ فحسدوهم على دينهم.
فإن قيل: ما معنى قوله * (حسدا من عند أنفسهم) ولا يكون الحسد من عند الغير؟ قيل: معناه: من تلقائهم لم ينزل به كتاب ولا ورد به أمر.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير، وتقديرها: ود كثير من أهل الكتاب من عند أنفسهم لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا.
* (من بعد ما تبين لهم الحق) من بعد ما ظهر أنه حق.
قوله تعالى: * (فاعفوا واصفحوا) العفو: المحو، والصفح: الإعراض، وإنما نزل هذا قبل آية القتال، ثم نسخ بآية القتال.
* (حتى يأتي الله بأمره) يعني: بشرع القتال. وقال ابن عباس معناه: حتى يأتي الله بأمر: من فتح قسطنطينية، ورومية، وعمورية.
وقيل: حتى يأتي الله بأمره: من فتح قرى اليهود، مثل خبير، وفدك، وإجلاء بني النضير، ومثل بني قريظة.
* (إن الله على كل شيء قدير) أي قادر.
126

* (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (110) وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو * * قوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) معلوم.
* (وما تقدموا لأنفسكم من خير) من طاعة * (تجدوه عند الله) ذخيرة لا تضيع * (إن الله بما تعملون بصير).
قوله تعالى: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) تقديره: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا
من كان نصرانيا؛ فاختصر اختصارا.
نزلت الآية في وفد نجران، وكانوا نصارى، اجتمعوا في مجلس رسول الله مع اليهود، فتنازعوا وكفر بعضهم بعضا، وكذب بعضهم بعضا؛ فأنزل الله تعالى هذه الآيات '.
* (تلك أمانيهم) يعنى: تمنيهم الباطل * (قل هاتوا برهانكم) ائتوا بالحجة على ما زعمتم * (إن كنتم صادقين بلى من أسلم) يعني: ليس الأمر على تمنوا بل الحكم للإسلام * (من أسلم وجهه) أخلص عبادته لله * (وهو محسن) مؤمن * (فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
قوله تعالى: * (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) وهو ما جرى في مجلس رسول الله من منازعة اليهود مع النصارى. فأما قوله: * (وهم يتلون الكتاب) يعني: أنه يكذب بعضهم بعضا ويضلل بعضهم بعضا وهم يتلون الكتاب، وليس في كتابهم هذا الاختلاف، فدلت تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم ما في الكتاب على كونهم على الباطل.
* (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) قيل: أراد به المشركين. قاله ابن عباس وقال مجاهد: أراد به عوام النصارى.
* (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) يريهم دخول المسلمين
127

* (محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112) وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما * * الجنة ودخولهم النار.
قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) قال ابن عباس، وقتادة، وجماعة من المفسرين: أراد بالآية النصارى الذي عاونوا بختنصر المجوسي على تخريب بيت المقدس.
* (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) وذلك أن بيت المقدس موضع حج النصارى، وموضع زيارتهم، فلا يدخله نصراني إلا خائفا، من ذلك الوقت إلى يوم القيامة * (لهم في الدنيا خزي) أي: جزية لذميهم وقتل لحربيهم * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) أي: عذاب النار.
وفيه قول آخر: أن الآية نزلت في المشركين الذين منعوا رسول الله من دخول مكة عام الحديبية.
وقوله تعالى: * (وسعى في خرابها) لأنهم منعوا المسلمين من دخول المسجد. ولم يسلموا حتى دخلوا؛ فكأنهم سعوا في خرابها.
* (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) وهذا شرعنا ألا يمكن مشرك من دخول الحرم. ولا يدخله أحد منهم إلا خائفا.
* (لهم في الدنيا خزي) هوان * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم).
قوله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) فيه أربعة أقوال:
أحدهما: أنها نزلت في نسخ القبلة أي: الكعبة؛ فإنها لما حولت إلى الكعبة عير اليهود المسلمين، وقالوا: ليست لهم قبلة معلومة، فتارة يستقبلون هكذا، وتارة هكذا، فنزلت الآية ردا لقولهم.
128

* (كانوا فيه يختلفون (113) ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي) * *
والقول الثاني: ما روى عمر ' أن رسول الله كان يصلي على راحلته أينما توجهت به راحلته؛ فنزلت الآية في إباحة النافلة على الراحلة أينما توجهت به الراحلة '.
والقول الثالث: روى جابر أنه قال: ' كنا في سفر، فاشتبهت علينا القبلة، فصلى كل واحد منا إلى جهة، وخط بين يديه خطا، فلما أصبحنا فإذا الخطوط إلى غير القبلة، فسألنا عن ذلك رسول الله، فلم يأمرنا بالإعادة، ونزلت الآية في معناه '.
والقول الرابع: أنه نزلت في ابتداء الإسلام، حين لم تكن القبلة معلومة، وجازت الصلاة إلى أي جهة شاءوا. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية القبلة، وهذا قول غريب.
وأما قوله: * (فثم وجه الله) قال مجاهد: قبلة الله. الوجه: بمعنى القبلة، وكذلك الوجهة والجهة: هي القبلة. وقيل: معناه رضا الله، وقيل: معناه قصد الله، ومنه قول الشاعر:
(استغفر الله ذنبا لست أحصيه
* رب العباد إليه الوجه والعمل)
يعني: إليه القصد والعمل.
وقد ذكر الله تعالى الوجه في كتابه في أحد عشر موضعا، وهو صفة لله تعالى وتفسيره: قراءته والإيمان به. وسيأتي.
129

* (ولهم في الآخرة عذاب عظيم (114) ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم (115) وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون (116) بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا) * * (إن الله واسع) أي: غني يعطي من السعة * (عليم) أي: عالم بالأمور.
قوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الله ولدا) يعني: النصارى * (سبحانه) تنزيه * (بل له ما في السماوات والأرض) ملكا وملكا * (كل له قانتون) القانت: المطيع، وأصل القنوت: القيام. وفي الخبر: ' أن النبي سئل عن أفضل الصلاة، فقال: طول القنوت ' أي: طول القيام.
وقوله: * (كل له قانتون) أي: قائمون بالعبودية. وفي معناه أقوال:
أحدها: قال ابن عباس: هو عام بمعنى الخصوص. والمراد به المسلمون، وبه قال الفراء. ولم يرضه من الفراء نحاة البصرة، وقالوا: الكل يقتضي الإحاطة بالشيء، بحيث لا يشذ منه شيء ومعناه: كل العباد قانتون. فالمسلم يسجد طوعا. والكافر يسجد ظله كرها، كما قال الله تعالى: * (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال).
والقول الثاني: معناه: * (كل له قانتون) مذللون مسخرون لما خلقوا له.
والقول الثالث: * (كل له قانتون) يعني: في القيامة.
قوله تعالى: * (بديع السماوات والأرض) أي: مبدعها، قال ابن عباس: هو الخالق لا على مثال سبق. ومنه المبتدع؛ لأنه أحدث ما لم يسبق إليه.
* (وإذا قضى أمرا) أي: أحكم وأتقن. وأصل القضاء: الفراغ ومنه يقال لمن مات قضى نحبه لفراغه من الدنيا ومنه قضاء القاضي. لأنه فرغ عن فصل الحكومة. ومنه قضاء الله وقدره. لأنه فرغ عنه تقديرا وتدبيرا. وقال الشاعر:
130

* (فإنما يقول له كن فيكون (117) وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم) * *
(وعليهما (مسرودتان) قضاهما
* داود وصنع السوابغ تبع)
أي: صناع السوابغ، وقوله: قضاهما داود، أي: أحكمهما، فكذلك قوله: * (وإذا قضى أمرا) أي: أحكم وأتقن * (فإنما يقول له كن فيكون) فإن قال قائل: كيف قال: فإنما يقول له، والمعدوم لا يخاطب؟ قيل: قد قال ابن الأنباري: معناه: فإنما يقول له أي: لأجل تكوينه، فعلى هذا ذهب معنى الخطاب.
وقيل: هو وإن كان معدوما، لكنه لما قدر وجوده، وهو كائن لا محالة، كان كالموجود: فصح الخطاب.
وفيه قول ثالث: أنه خرج على ما يفهمه الناس في العادة؛ فإن كل من يريد فعلا فإما أن يقول قولا، أو يفعل فعلا. ومعناه: التكوين فحسب إلا أنه قال: * (فإنما يقول له) لأنه كذا يفهمه الناس.
فأما قوله تعالى: * (فيكون) قرأ ابن عامر. ' فيكون ' بنصب النون، وهو أظهر على النحو؛ لأنه جواب الأمر بالفاء. فيكون على النصب.
والقراءة المعروفة: ' فيكون ' بالرفع. ومعناه: فهو يكون.
قوله تعالى: * (وقال الذين لا يعلمون) قال ابن عباس: أراد به اليهود.
وقال مجاهد: أراد به النصارى.
(لولا يكلمنا الله) أي: هلا يكلمنا الله، ' ولولا ' في كل القرآن بمعنى ' هلا ' إلا في موضع واحد؛ وذلك في قوله تعالى: * (فلولا أنه كان من المسبحين) معناه: فلو لم يكن من المسبحين.
131

* (يوقنون (118) إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم (119) ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو * * (أو تأتينا آية) أي: آية نقترحها، كما اقترحوا من الآيات. * (كذلك قال الذين من قبلهم) من الكفار في القرون الماضية. * (مثل قولهم تشابهت قلوبهم) أي: أشبه بعضها بعضا في القسوة وطلب المحال. * (قد بينا الآيات لقوم يوقنون).
قوله تعالى: * (إنا أرسلناك بالحق) أي: مع الحق، والصلات تتعاقب، ومثله قوله تعالى * (فادخلي في عبادي) أي: مع عبادي.
والمراد بالحق: القرآن. وقيل: شريعة الإسلام.
* (بشيرا ونذيرا) أي: مبشرا ومنذرا (ولا تسئل عن أصحاب الجحيم) قرئ بقراءتين. ' ولا تسأل '. ' ولا تسأل '. فأما قوله * (ولا تسأل): يعني: أرسلناك غير مسؤول عن حال الكفار. وذلك مثل قوله: * (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب).
وقرأ ابن مسعود ' وما تسأل ' وقرأ أبي بن كعب. ' ولن تسأل ' ومعنى الكل واحد، وأما قوله: ' ولا تسأل ' له معنيان: أحدهما: أنه على معنى قولهم: لا تسأل عن شر فلان؛ فإنه فوق ما تحسب.
وقيل: هو على النهى، وسببه ما روى محمد بن كعب القرظي: ' أن رسول الله قال: ليت شعري ما فعل أبواي. فنزل قوله تعالى: (ولا تسئل عن أصحاب الجحيم) والجحيم: اسم للنار الشديدة الالتهاب.
132

* (الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير (120) الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر * *
قوله تعالى: * (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) معناه: ولن ترضى عنك اليهود إلا باليهودية، ولا النصارى إلا بالنصرانية.
* (حتى تتبع ملتهم) والملة: الطريقة، ومنه خبز الملة. سمى الرماد الذي جعل فيه الخبز: ملة؛ لأنه يظهر فيه آثار وخطوط.
* (قل إن هدى الله هو الهدى) يعني: دين الله: هو الدين الذي أنت عليه.
* (ولئن اتبعت أهواءهم) قيل: إنه خطاب للنبي، والمراد به الأمة لأنه كان معصوما من اتباع الأهواء، ومثله قوله تعالى: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (بعد
الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير) معلوم.
وقيل معنى الآية: أن اليهود طلبوا من النبي المهادنة وقالوا: لا تحاربنا ولا تقتلنا، وأمهلنا؛ فربما نسلم. فنزل قوله تعالى: * (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) يعني: إنك إن هادنتهم فلن يرضون بها. وإنما يطلبون ذلك تعللا وافتعالا، ولا يرضون عنك إلا باتباع ملتهم.
قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب) قيل: أراد به قوما من اليهود أسلموا.
وقيل: أراد به قوما من النصارى جاءوا مع جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة فأسلموا.
* (يتلونه حق تلاوته) قال ابن عباس، وابن مسعود: يحللون حلاله، ويحرمون حرامه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه.
وقال الحسن: يعملون بأوامره، ويؤمنون بمحكمه، ويكلون المتشابه إلى الله تعالى. وقال عكرمة: يتبعونه حق اتباعه من قولهم: تلا أي تبع ومنه قوله تعالى: * (والقمر إذا تلاها).
133

* (به فأولئك هم الخاسرون (121) يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (122) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا)
* (أولئك يؤمنون به) يعني: ما ذكرنا * (ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) أي: الغالبون أنفسهم.
قوله - تعالى - * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم واني فضلتكم على العالمين) أعاده تأكيدا لما سبق.
قوله تعالى: * (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا) قد ذكرنا معناه.
* (ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) إن قيل: أليس قد جعل الشفاعة للأنبياء وغيرهم، حيث قال: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وقال النبي: ' شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي '؟ قيل: أراد بقوله: * (ولا تنفعها شفاعة) في قوم مخصوصين، وهم اليهود والكفار.
قوله تعالى: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه) أي: اختبر، ومعنى ابتلاء العباد، ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء لأنه عالم بهم وبما يملكون منهم ولكن ليعلم العباد أحوالهم، حتى يعرف بعضهم بعضا. * (بكلمات) وأما الكلمات: قيل: هي التي وردت في الخبر في قوله ' عشر من الفطرة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. والخمس التي في الرأس المضمضة والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، وفرق الرأس. وأما اللواتي في الجسد مثل قلم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء في رواية وغسل البراجم '.
134

* (يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون (123) وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي) * *
وفي الخبر أن الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم أن تطهر لي، فتمضمض، ثم بعث إليه أن تطهر لي، فاستنشق هكذا إلى العشر، فلما أمره في المرة العاشرة: أن تظهر لي. فنظر إلى بدنه، فلم يجد شيئا ينظفه فتنبه على الختان فاختتن.
وفي الخبر: ' أنه اختتن بعد ثمانين سنة بالقدوم '. وهو اسم موضع، وعاش بعده ثمانين.
وفي الأخبار: ' أن إبراهيم صلوات الله عليه. أول من قص الشارب، وأول من اختتن وأول من قلم الأظفار، وأول من رأى الشيب، فلما رآه قال يا رب ما هذا؟ فقال: الوقار فقال يا رب زدني وقارا '.
* (فأتمهن) أي فأداهن به تامة، قال ابن عباس: ما أتى أحد بسهام الإسلام كما أتى بها الخليل إبراهيم صلوات الله عليه.
وفيه قولان آخران: أن معنى الكلمات: هو أن الله تعالى ابتلاه بالكوكب فرضى عنه، وابتلاه بالقمر فرضى عنه، وابتلاه بالشمس فرضى عنه. وابتلاه بنار نمروذ فرضى عنه. وابتلاه بذبح الولد فرضى عنه. وابتلاه بالختان فرضى عنه.
وقوله تعالى: * (قال إني جاعلك للناس إماما) يعني في الخير، وقد يكون الإمام في الشر؛ على طريق المجاز. كما قال تعالى: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) وحقيقة الإمام: أن يقصد، من فعله ما يقصد وهو من الأم: وهو القصد.
135

* (الظالمين (124) وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وآمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع * * (قال ومن ذريتي) أي: اجعل من ذريتي أئمة.
* (قال لا ينال عهدي الظالمين) أي: لا يناله من كان فيهم ظالما. واختلفوا في هذا العهد، قال ابن عباس: هو النبوة. وقال مجاهد: أراد به الإمامة. وهو الأليق بظاهر النسق، وفيه قول آخر: أنه الأمان من النار.
والظالم: الفاسق، وقيل: أراد به المشرك هاهنا. وهو مثل قوله تعالى: * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أي: بشرك * (أولئك لهم الأمن) فجعل الأمن لمن لا يشرك به، فكذلك قوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) أي: أن أماني لا يناله المشركون منهم.
قوله تعالى: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) قال عطاء: مثابة أي: مجمعا.
وقال غيره: مثابة أي: مرجعا، وهو مأخوذ من ثاب، أي: رجع، والبيت مثابة؛ لأنهم يعودون إليه مرة بعد أخرى.
قال الضحاك: لا يقضون منه وطرا، أي: لا يملون منه. والمثاب والمثابة بمعنى واحد، قال الشاعر:
(مثاب لأفناء القبائل كلها
* تخب إليه اليعملات الذوامل)
وأما قوله: * (وأمنا) أي: ذا أمن. قال ابن عباس: أمنه أن يدخله الجاني فيأمن ولا يستوفي منه حتى يخرج، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم.
وقال غيره: معناه: أنه مأمن من أيدي المشركين؛ فإنهم ما كانوا يتعرضون لأهل مكة ويقولون: إنهم أهل الله وخاصته. وإنما كانوا يتعرضون لمن حوله. كما قال الله تعالى: * (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) فأما قول
136

* (السجود (125) وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات) * * ابن عباس فمحمول على الاستحباب. وذلك الأولى عندنا؛ أن لا يتعرض له حتى يخرج، لكن مع هذا أجاز الاستيفاء؛ لأن الحرم لا يمنع استيفاء الحقوق.
قوله تعالى: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قرىء بقراءتين: ' واتخذوا ' على الخبر، ' واتخذوا ' على الأمر. وأما المقام بالفتح: موضع الإقامة. والمقام بالضم: فعل الإقامة. ومعناه على القول الصحيح: أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي في المسجد، يصلي إليه الأئمة وذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند بناء البيت، وبذلك سمى مقام إبراهيم.
وقيل: كان أثر أصابع رجله بينة فيه، واندرس من كثرة مسح الأيدي.
وفي الخبر: ' أن الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة. ولولا ما مسته أيدي المشركين. لأضاءا ما بين المشرق والمغرب '.
وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: وافقني ربي في ثلاث:
قلت لرسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزل قوله تعالى: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).
وفيه قول آخر: أنه أراد بمقام إبراهيم: جميع مشاهد الحج، مثل عرفة والمزدلفة، وسائر المشاهد.
137

* (من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا) * *
وقوله: * (مصلى) أي: مدعا؛ أمرهم أن يتخذوها مواضع للدعاء.
وقوله تعالى: * (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) أي: أمرنا، والعهد هاهنا بمعنى الأمر.
وأما إسماعيل: أصله: اسمع إيل، وذلك أن إبراهيم صلوات الله عليه كان يدعو الله أن يرزقه ولدا، ويقول: اسمع إيل. فلما رزقه [الله] الولد سماه إسماعيل.
وقوله تعالى: * (أن طهرا بيتي) يعني من الشرك والأوثان * (للطائفين) الدائرتين حول الكعبة. * (والعاكفين) المقيمين المجاورين * (والركع السجود) المصلين. ركع: جمع راكع، والسجود جمع ساجد. قال الكلبي ومقاتل: الطائفين: هم الغرباء. والعاكفين: أهل مكة.
قال عطاء ومجاهد: الطواف للغرباء أفضل؛ لأنه يفوتهم، والصلاة لأهل مكة أفضل؛ لأنه لا يفوتهم.
قوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا) أي: اجعل الحرم ذا أمن * (وارزق أهله من الثمرات) وإنما دعا بذلك لأنه كان بواد غير ذي زرع.
وفي القصص: أن الطائف كانت مدينة من مدائن الشام بأردن، فلما دعا إبراهيم هذا الدعاء، أمر الله تعالى جبريل حتى قلعها من أصلها، وأدارها حول البيت سبعا، ثم وضعها موضعها الذي هي الآن فيه، فمن تلك ثمرات أهل مكة.
* (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) دعا إبراهيم أن يرزق من الثمرات المؤمنين خاصة.
* (قال ومن كفر) يقول الله تعالى: والكافرين أيضا؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى وعد الرزق للخلق كافة، مؤمنهم وكافرهم.
138

* (تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128) ربنا وابعث * * (فأمتعه قليلا) يقرأ مخففا ومشددا ومعناهما واحد يعني: أبقيه في النعمة قليلا.
وإنما ذكر القليل؛ لأن الإمتاع أصله الطول والكثرة. يقال: متع النهار. أي: طال وارتفع. ونخلة ماتعة. أي: طويلة. وإنما أراد به الإمتاع في الدنيا وهو قليل؛ لانقطاعه.
* (ثم اضطره) ألجئه * (إلى عذاب النار وبئس المصير) أي: المرجع.
قوله تعالى: * (وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت) قال الفراء: القواعد: أسس البيت.
وقال الكسائي: هي جدر البيت، وحكى أن ابن الزبير لما هدم البيت ليبنيه؛ ظهرت أحجار بيض كبار فقال: هذه هي القواعد التي بنى عليها إبراهيم البيت.
وقال ابن عباس: إنما بنى البيت من خمسة أجبل: طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان وهو جبل بالشام والجودي، وهو جبل بالجزيرة، وحراء وهو جبل بمكة.
وفي الأخبار: أن الله تعالى بنى في السماء بيتا وهو البيت المعمور، ويسمى صراح وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحذائه، على قدره ومثاله.
وقيل: أول من بنى الكعبة آدم صلوات الله عليه - فاندرس ذلك زمان الطوفان، ثم أظهره الله تعالى لإبراهيم حتى بناه.
قال: * (وإسماعيل ربنا تقبل منا) قرأ أبي بن كعب ' يقولان ربنا تقبل منا ' وهو في الشواذ، وهذا هو المعنى. * (إنك أنت السميع العليم)
قوله تعالى: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) يقول: مستسلمين، خاضعين، منقادين.
139

* (فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129) ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد) * * (ومن ذريتنا أمة) والأمة: أتباع الأنبياء * (مسلمة لك) خاضعة لك * (وأرنا) قرأ أبو عمرو ' مختلسا '، وقرأ غيره بكسر الراء * (مناسكنا) أي: متعبداتنا.
والنسك: العبادة، ومنه يقال للعابد: ناسك، معناه: مواضع حجنا * (وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم).
قوله تعالى: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) يعني محمدا، وفي الخبر، أن النبي قال: ' أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ' وأراد بدعوة إبراهيم هذا؛ فإنه دعا أن يبعث في بني إسماعيل رسولا منهم.
قال ابن عباس: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين.
وفي القصص: أن لكل نبي ممن مضى [اسما واحدا] في القرآن إلا نبين يعقوب وعيسى. أما يعقوب له اسمان: يعقوب، وإسرائيل، وأما عيسى له اسمان:
140

* (اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131) ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله) * * عيسى، والمسيح.
* (يتلو عليهم آياتك) يعني من القرآن * (ويعلمهم الكتاب) القرآن * (والحكمة) فيها أقوال:
قيل: الحكمة فهم القرآن، وقال أبو بكر بن دريد صاحب الجمهرة: الحكمة كل كلمة زجرتك ووعظتك ونهتك عن قبيح، ودعتك إلى حسن، وقيل: الحكمة الفقه. وهذا قول حسن.
* (ويزكيهم) أي: يطهرهم، ويجعلهم أزكياء طهرة. وفيه قول آخر: أنه بمعنى التزكية. يشهد الرسل بالنبوة من سائر الأمم وذلك أن مؤمني سائر الأمم شهدوا للرسل بالنبوة وتبليغ الرسالة فهذه الأمة تزكى أولئك الشهود.
* (إنك أنت العزيز) قيل: هو الممتنع، والله ممتنع لا تناله الأيدي، ولا يصل إليه شيء. وقيل: هو القوي الغالب. ومنه قوله تعالى: * (وعزني في الخطاب) أي: غلبني.
ويقال في المثل: ' من عز بز ' أي: من غلب سلب * (الحكيم) معلوم.
قوله تعالى: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) أي: طريقة إبراهيم * (إلا من سفه نفسه) حكى أبو عبيد عن أبي عبيدة: معناه: أهلك نفسه.
وقال الزجاج: معناه جهل نفسه، وكل سفيه جاهل، وذلك أن من جهل نفسه لم يعرف الله.
وفي الأخبار: أن الله تعالى أوحى إلى داود: اعرف نفسك واعرفني. فقال
141

* (اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك) * *
يا رب كيف أعرف نفسي، وكيف أعرفك؟ فأوحى الله إليه: اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء، واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء.
وقيل: معناه سفه نفسه وجعله سفيها، وفيه قول رابع: معناه سفه في نفسه، فحذف كلمة ' في ' فصار: سفه نفسه.
* (ولقد اصطفيناه) اخترناه * (في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) من الأنبياء.
قوله تعالى: * (إذ قال له ربه أسلم) يعني أي: استسلم وأخلص عبادتك لله.
* (قال أسلمت لرب العالمين) أخلصت وفوضت إليه.
قال ابن عباس: وقد حقق التفويض إليه، ولم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقى في النار.
قوله تعالى: * (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) قرىء ' وأوصى ' من الإيصاء. ' ووصى ' من التوصية وهي للمبالغة والتكثير، يعني أوصى إبراهيم بنيه. وأوصى يعقوب بنيه. * (يا بني إن الله اصطفى لكم الدين) اختار لكم دين الإسلام * (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) فإن قيل: كيف قال: فلا تموتمن إلا وأنتم مسلمون وليس بيدهم أن لا يموتوا إلا مسلمين؟
قيل معناه: داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت. إلا وأنتم مسلمون، وهذا كقول القائل: لا أريتك تفعل كذا معناه: لا تفعل كذا، حتى لا أراك وأنت فاعل له.
142

* (إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (134) وقالوا) * *
قوله تعالى: * (أم كنتم شهداء) بمعنى: أكنتم شهداء والمراد به ما كنتم شهداء.
* (إذا حضر يعقوب الموت) أي: ما كنتم حضورا حين قرب يعقوب من الموت.
* (إذ قال لبنيه) وهم اثنا عشر سبطا. على ما سيأتي * (ما تعبدون من بعدي) أي: أيش تعبدون من بعدي * (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب إلها واحدا ونحن له مسلمون) وقرأ الحسن البصري وعاصم الجحدري. ' وإله أبيك ' كأنه على هذه القراءة لم يجعل العم ولا الجد أبا.
والقراءة المعروفة ' وإله آبائك ' فجعل الجد والعم أباء.
وإبراهيم هو الجد وإسماعيل هو العم. وقد سمى رسول الله عمه العباس أبا حيث قال: ' إنه من بقية آبائي '. وقال: ' ردوا على أبي كيلا تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود ' وذلك أنهم قتلوه.
قوله تعالى: * (تلك أمة قد خلت) أي: مضت * (لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعلمون) معناه: يجازي كل بكسبه، ويسأل كل عن عمله. والله أعلم.
قوله تعالى: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى) هود جمع هائد، وهو مثل حائل وحول. وقيل: كان أصله كونوا يهودا فحذفت الياء فصار: هودا.
وقيل: هود مصدرها يهود هودا، فهو مصدر بمعنى الجمع كما يقال: قوم صوم
143

* (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135) قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) * * وقوم فطر.
ومعناه: قالت اليهود: كونوا يهودا وقالت النصارى كونوا نصارى فهذا معنى قوله تعالى * (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا).
* (قل بل ملة إبراهيم حنيفا) قرأ الأعرج ' بل ملة ' بالرفع. ومعناه بل ملتنا ملة إبراهيم.
والقراءة المعروفة: * (بل ملة إبراهيم) أي: بل نتبع ملة إبراهيم.
وقيل: معناه: بل نكون على ملة إبراهيم، فحذف ' على ' فصار منصوبا.
قال الكسائي: هو نصب على الإغراء كأنه يقول: اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، وأما الحنيف: هو المسلم، وأصله الميل، ومنه الأحنف وهو: المائل القدم، والمسلم مائل من سائر الأديان إلى ملة الإسلام.
وقيل: معناه المستقيم، فسماه حنيفا على الضد كما يقال للمهلكة: مفازة وللديغ سليم.
وقيل: الحنيف هو الحاج المختتن؛ وذلك أنه لم يبق مع العرب من ملة إبراهيم إلا الحج والختان، وكانوا يعرفون كل من حج واختتن على ملة إبراهيم، وعرفوا الرجل بذلك حنيفا. فقال: بل ملة إبراهيم حنيفا على وفق ما عرفوا * (وما كان من المشركين).
قوله تعالى: * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم).
قال الضحاك: علموا أولادكم أسماء الأنبياء المذكورين في القرآن كي يؤمنوا بهم، ولا تظنوا أن الإيمان بمحمد يكفي عن الإيمان بسائر الأنبياء.
144

* (ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به فقد اهتدوا وإن) * *
وفي الخبر: ' أن النبي قرأ في الركعة الأولى من ركعتي الفجر هذه الآية قوله تعالى * (آمنا بالله) إلى آخرها. وقرأ في الركعة الثانية * (قل آمنا بالله وما أنزل علينا...) إلى آخرها '. أخرجه مسلم في الصحيح.
حكى عن السلف أنهم كانوا إذا قيل للرجل منهم: [أمؤمن أنت]؟ قرأ * (آمنا بالله وما أنزل إلينا...) الآية.
وأما الأسباط: هم اثنا عشر سبطا وهم أولاد يعقوب والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في [العرب].
وقيل: السبط: الشجر، سمى بذلك لكثرة فروعه.
* (لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) أي: نؤمن بالكل، ولا نفضل البعض عن البعض.
قوله تعالى: * (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به) قرأ ابن عباس ' بالذي آمنتم به ' وهو المعنى. فقيل معناه: بما أمنتم به.
والمثل: ضد كما في قوله: * (ليس كمثله شيء) ومعناه: ليس كهو شيء.
قال الشاعر:
(يا عاذلي دعني عن عذلكا
* مثلي لا يقبل من مثلكا)
145

* (تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137) صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138)) * *
أي: لا يقبل منك.
وقال الزجاج: معناه فإن أتوا بإيمان كإيمانكم، وتصديق كتصديقكم، وتوحيد كتوحيدكم، وقال أبو معاذ النحوي: معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم.
* (فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق) أي: منازعة؛ لأن كل منازع يكون في شق آخر عند المنازعة.
* (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) وعده أن يكفيه شرهم، وقد كفى بإجلاء بني النضير وقتل بني قريظة، وضرب الجزية على اليهود والنصارى، وقتل المشركين.
(وهو السميع العليم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (صبغة الله) قال ابن عباس في رواية الكلبي وقتادة، والحسن، وعكرمة، والسدي: معناه: دين الله. وإنما سماه صبغة؛ لأنه يظهر أثر الدين على
المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب.
وقال مجاهد: معناه: فطرة الله. وهذا يقرب من الأول.
وقيل: أراد به الختان. وقوله (صبغة الله) أي: تطهير الله بالختان، وإنما سماه صبغة؛ لأنه أقامه مقام فعل النصارى، وذلك أنهم كانوا يصبغون الولد في ماء أصفر بدل الختان في زي اليهود. ويعدونه تطهيرا للولد فالله تعالى أقام التطهير بالختان في حق المسلمين مقام ما صبغوا.
قال الكسائي: هو نصب على الإغراء وتقديره: ألزموه دين الله. ومن أحسن من الله دينا، أو ألزموا تطهير الله * (ومن أحسن من الله صبغة) أي: تطهيرا * (ونحن له عابدون).
146

* (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139) أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط * *
قوله تعالى: * (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم) والمحاجة: المجادلة بالحجة لإظهار الحق.
نزلت في اليهود ونصارى نجران حيث حاجوا رسول الله وقالوا: ديننا أقدم من دينكم وكتابنا أقدم من كتابكم، فنحن أولى بالله منكم، فنزل قوله: قل يا محمد * (أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم) أي: نحن وأنتم سواء في الله فإنه ربنا وربكم.
(ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) أي: نجازي بأعمالنا وتجازون بأعمالكم (ونحن له مخلصون) يعني: كيف تدعون أنكم أولى بالله ونحن له مخلصون وأنتم به مشركون؟
قوله تعالى * (أم تقولون) يعني: أتقولون؟ والصيغة صيغة الاستفهام، ومعناه التوبيخ يعني أتقولون (إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى). وذلك أنهم ادعوا أن هؤلاء الأنبياء كانوا يهودا أو نصارى.
* (قل أأنتم أعلم أم الله) وذلك أن الله تعالى قد أعلم المسلمين أنهم كانوا على الدين الحنيفية وما كان يهودا ولا نصارى، كما قال تعالى: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما).
* (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) فيه قولان:
أحدهما: أنه أراد به أن الله تعالى قد أشهدهم في كتبهم علي أن إبراهيم كان على الدين الحنيفية، ولم يكن يهوديا ولا نصرانيا؛ فكتموا تلك الشهادة.
وقيل أراد بالشهادة على نعت محمد.
* (وما الله بغافل عما تعملون) أي: لا يخفى عليه شيء مما تعملون.
قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت) أي: مضت * (لها ما كسبت ولكم ما
147

* (كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون (140) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (141) سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم) * * (كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) يعني: أنكم غير مسؤولين عن أعمالهم بل هم المسؤولون.
فإن قيل: هذا تكرار؛ فإنه قد ذكره مرة.
قلنا: أما الأول: كان في الأنبياء الذين سبق ذكرهم. وهذا الثاني: في اليهود والنصارى الذي سبق ذكرهم في هذه الآيات. أو كرره تأكيدا.
وحكى عن بعض العلماء أنه سئل عما وقع من الفتن بين علي ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة رضوان الله عليهم - فقرأ * (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم...) الآية وهذا جواب حسن في مثل هذا السؤال.
قوله تعالى: * (سيقول السفهاء من الناس) أي: يقول السفهاء الجهال، والسفيه: خفيف الحلم والعقل. ومنه الثوب يعني السفيه ويقال: رمح سفيه، أي: سريع النفوذ.
* (ما ولاهم) ما عدلهم وحرفهم * (عن قبلتهم التي كانوا عليها) يعني: بيت المقدس * (قل لله المشرق والمغرب) يوجه العباد إلى أيهما شاء * (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) أي: طريق مستقيم. والطريق المستقيم: هو الموصل إلى المقصود.
ونزلت الآية في اليهود؛ حيث عيروا المسلمين على تحويلهم من بيت المقدس إلى الكعبة.
قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم) يعني: كما اخترنا الأنبياء واخترنا بني إسرائيل من الخلق فكذلك اخترناكم من الأمم. (أمة وسطا) أي: عدلا خيارا. قال الشاعر:
148

* (عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (142) وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون) * *
(هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
* إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم)
وفي الخبر أن النبي قال: ' إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأعدلها '
وقد ورد في الخبر عنه أنه قال: ' خير الدين النمط الأوسط ' يعني الذي ليس فيه غلو ولا تقصير. وذلك دين الإسلام؛ لأن النصارى غلوا في دينهم، واليهود قصروا. وأما المسلمون أخذوا بالنمط الأوسط.
(لتكونوا شهداء على الناس) وذلك يوم القيامة، حين يسأل الأمم عن إبلاغ الرسل، فينكرون تبليغهم الرسالة. فيسأل الرسل فيقولون: بلغنا، فيقال لهم: ومن يشهد لكم؟ فيأتون بهذه الأمة فيشهدون لهم بالبلاغ. فتقول الأمم: إنهم أتوا بعدنا فكيف يشهدون بذلك؟ فيسأل هذه الأمة. فيقولون: أرسلت إلينا رسولا، وأنزلت علينا كتابا، وأخبرتنا فيه ببلاغ الرسل، وأنت صادق فيما أخبرت، فبذلك نشهد لهم بالبلاغ.
(ويكون الرسول عليكم شهيدا) على أعمالكم.
وقيل: معناه مزكيا مصدقا علي شهادتكم.
قوله تعالى: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) أي: ما حولنا القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة * (إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) فإن قال قائل: ما معنى قوله: * (إلا لنعلم) وهو عالم بالأشياء قبل كونها؟
149

* (الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله) * *
قلنا بلى كان عالما به علم الغيب، وإنما أراد بهذا: العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب، وهو العلم بوجود الأتباع؛ فإن كونه موجودا إنما يعلم بعد الوجود.
وقيل: معناه إلا لنرى، وهو قريب من الأول.
وقيل: الابتلاء مضمر فيه، وتقديره: إلا لنبتلي فيظهر المتبع من المنقلب، وفي الخبر: ' أن القبلة لما حولت إلى الكعبة، ارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية، وقالوا: إن محمدا رجع إلى دين آبائه '. فهذا معنى قوله: * (ممن ينقلب على عقبيه) وقوله تعالى: * (وإن كانت لكبيرة) لثقيلة.
قيل: معناه: وإن كانت القبلة لكبيرة. قال الزجاج: وإن كانت التحويلة لكبيرة.
* (إلا على الذين هدى الله) أي: هداهم الله. * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) نزل هذا في قوم معينين. ذلك ما روى: ' أن القبلة لما حولت سأل قوم رسول الله فقالوا: إن قوما منا كانوا قد صلوا إلى بيت المقدس، وماتوا، فما شأنهم؟ منهم أسعد بن زرارة، وأبو أمامة والبراء بن معرور فنزل قوله تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي: صلاتكم فجعل الصلاة إيمانا، وهذا دليل على المرجئة؛ حيث لم يجعلوا الصلاة من الإيمان. وإنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العلم عن الإيمان.
وحكى: أن أبا يوسف شهد عند شريك بن عبد الله القاضي فرد شهادته، قيل له أترد شهادة يعقوب؟ فقال: كيف أقبل شهادة من يقول: إن الصلاة ليست من الإيمان؟!.
وقيل: معنى قوله: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) بالتحويل.
* (إن الله بالناس لرءوف رحيم) والرأفة: أشد الرحمة.
قوله تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) هذه الآية وإن كانت
150

* (ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143) قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم) * * متأخرة في التلاوة لكنها متقدمة في المعنى؛ فإنها رأس القصة.
وسبب نزول الآية ما روى جابر: ' أن النبي بعد ما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يود أن يحوله الله إلى الكعبة فكان يقول لجبريل: وددت لو حولني الله إلى الكعبة؛ فإنها قبلة أبي إبراهيم، وكان يقول لجبريل: سل ربك فقال له جبريل: سل أنت فإنك عند الله بمكان، وكان كلما نزل جبريل تردد وجهه في السماء؛ رجاء أن ينزل بالنسخ '.
قال السدى: إنه كلما افتتح صلاة، كان يردد وجهه في السماء رجاء أن يحوله الله إلى الكعبة، فأقامه الله عليه ستة عشر شهرا، ثم نزل قوله تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) أي: تودها وتهواها؛ لأن القبلة الأولى كانت [ترضيه] أيضا.
* (فول وجهك شطر المسجد الحرام) أي نحو البيت.
* (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) أي: نحوه. وفي الخبر أن النبي قال: ' هذه القبلة وأشار إلى البيت '.
* (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم) يعني التحويل إلى الكعبة * (وما الله بغافل عما تعملون) قال ابن عباس: أول ما نسخ بعدما قدم المدينة هو القبلة.
151

* (فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (144) ولئن آتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا) * *
وقيل: أول صلاة صليت إلى الكعبة كانت صلاة العصر. وروى ' أنها حولت إلى الكعبة وكانوا في الصلاة. والصحيح: أن التحويل كان خارج الصلاة. وإنما كان ذلك في حق أهل قباء؛ فإنهم شرعوا في صلاة العصر، وكانت صلاة العصر نحو بيت المقدس، فأتاهم آت وقال: ' أشهد أني صليت هذه الصلاة مع رسول الله إلى الكعبة؛ فاستداروا إلى الكعبة وبنوا على صلاتهم '.
قوله تعالى: * (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك) معناه: لو أتيتهم بكل معجزة ما تبعوك في الكعبة. * (وما أنت بتابع قبلتهم) يعني: قبلة اليهود والنصارى (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) يعني: اليهود والنصارى، وذلك أن قبلة اليهود بيت المقدس وهو المغرب، وقبلة النصارى المشرق، وأما قبلة المسلمين هي الكعبة.
وقد روى ابن عمر عن النبي أنه قال: ' ما بين المشرق والمغرب قبلة ' قال ابن عمر: يعني لأهل المشرق. وصورته أن يجعل مشرق الشتاء في أقصر يوم من السنة على يساره. ومغرب الصيف في أطول يوم من السنة عن يمينه، فيكون وجهه إلى الكعبة وذلك بأن يتوجه إلى مسقط قلب العقرب حين يسقط. فهذا معنى قوله: ' ما بين المشرق والمغرب قبله.. '.
* (ولئن اتبعت أهواءهم) وإن كان الخطاب مع الرسول، ولكن المراد به الأمة كما سبق.
152

* (قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين (145) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146) الحق من) * * (من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين) معلوم التفسير.
قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) قيل: أراد به القبلة. وقيل: أراد به محمدا.
وروى أن عبد الله بن سلام قال: معرفتي بهذا النبي أشد من معرفتي بابني. قال له عمر: وكيف ذاك؟ قال: لأني لا أعرف ما أحدثت النساء، وأعرف أنه نبي حق. فقال عمر: لله درك.
* (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) أي: الشاكين.
قوله تعالى: * (ولكل وجهة هو موليها) قال مجاهد: هو موليها وجهة. يعني: القبلة. وقال أبو حاتم، عن الأخفش معناه: الله موليها.
فقوله: ' هو ' كناية عن الله تعالى يعني: الله مولي الأمم إلى قبلتهم. وقرأ ابن عامر: ' هو مولاها ' أي: المستقبل مصروف إليها.
* (فاستبقوا الخيرات) أي: بادروا، والمراد هاهنا: المبادرة إلى القبول من الله * (أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير).
قوله تعالى: * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) أي: نحوه.
* (وإنه للحق من ربك) ذكره تأكيدا للأول * (وما الله بغافل عما تعملون).
153

* (ربك فلا تكونن من الممترين (147) ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير (148) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما) * *
قوله تعالى: * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة) يعني: اليهود؛ وذلك أنهم قالوا: إن محمدا اتبع قبلتنا، فسيعود إلى ملتنا.
* (إلا الذين ظلموا) وهم المشركون. وقيل: ' إلا ' بمعنى ' ولا ' الذين ظلموا ومثله: قول الشاعر:
(وكل أخ مفارقه أخوه
* لعمرو أبيك إلا الفرقدان)
يعني: ولا الفرقدان.
والصحيح: أنه استثناء منقطع، ' وإلا ' بمعنى ' لكن ' الذين ظلموا يخاصمونكم ويحاجونكم بالحجة الباطلة، وذلك أن المشركين قالوا حين تحولت القبلة إلى الكعبة: إنه رجع إلى قبلتنا فسيعود إلى ملتنا، والحجة الباطلة قد تسمى حجة، كما قال الله تعالى: * (حجتهم داحضة) فكأنه أبطل حجة اليهود بالتحويل إلى الكعبة: ثم أبطل حجة المشركين بدليل سواه.
* (إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون) قال سعيد بن جبير: لا تتم نعمته على المسلم إلا بأن يدخله الجنة.
وفي الخبر: ' أن النبي سمع رجلا يقول الحمد لله على الإسلام، فقال: لقد حمدت الله على نعمة عظيمة '.
قوله تعالى: * (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم) فإن قال قائل: الكاف للتشبيه فأين المشبه به؟ قلنا: قال علي رضي الله: عنه تقديره: فاذكره لي، كما
154

* (تعملون (149) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150) كما أرسلنا) * * أرسلنا فيكم رسولا فيكون الذكر على هذا القول بمعنى الشكر.
وقيل: تقديره: ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، وذلك أن إبراهيم صلوات الله عليه كان قد دعا دعوتين: دعا أن يبعث فيهم رسولا منهم، ودعا إتمام النعمة على ذريته بالرزق من الثمرات، فأجاب إحدى الدعوتين بأن بعث فيهم رسلا، ثم أجاب الدعوة الثانية فقال: ولأتم نعمتي عليكم، كما أرسلنا فيكم رسولا منكم.
* (يتلو عليكم آياتنا) يعني: القرآن * (ويزكيكم) كما بينا * (ويعلمكم الكتاب والحكمة) وقد ذكرنا. وقيل: الحكمة السنة، وقيل: مواعظ القرآن.
* (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم) قيل: ذكر الله هاهنا بمعنى المدح والثناء عليه.
وفي الخبر عن النبي ' أن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا وإن أتاني يمش أتيته هرولة ' أخرجه مسلم في الصحيح.
وقيل: معناه: فاذكروني كما أرسلنا، وهذا قريب من قول علي.
وقيل: الذكر من العبد الطاعة، ومن الله المغفرة والرحمة. ومعناه: فاذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة والرحمة.
* (واشكروا لي ولا تكفرون) يعني واشكروا لي بالطاعة ولا تكفروني بالمعصية. فإن من أطاع الله فقد شكره، ومن عصاه فقد كفره.
155

* (فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151) فاذكرني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (152) يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) * *
وحكى أن موسى صلوات الله عليه سأل ربه فقال: ما الشكر الذي ينبغي لك؟ فقال أن لا يزال لسانك رطبا بذكرى.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة) فالاستعانة: طلب المعونة. وفي الصبر قولان: أحدهما: الثبات على الدين، والآخر: الصوم. ووجه الاستعانة بهما ما سبق.
(إن لله مع الصابرين) قال عطاء، عن ابن عباس: بالحفظ والنصر.
قوله تعالى: * (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) نزلت الآية في قوم معينين، استشهدوا يوم بدر، وكان يقول المسلمون: مات فلان، فلم يرض الله تعالى ذلك منهم، وأنزل الله هذه الآية.
(بل أحياء ولكن لا تشعرون) أي: شهداء؛ لأن الشهيد حي.
وقيل: معناه ما ورد في الخبر: ' أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلف من ثمار الجنة أي تأكل وتأوى إلى قناديل معلقة تحت العرش '. فذلك قوله: * (بل أحياء عند ربهم).
وقيل: معناه أحياء بالثواب والثناء الحسن، وليسوا بأموات بالذكر السيء وعدم الثواب.
قوله تعالى: * (ولنبلونكم بشيء من الخوف) واللام فيه لجواب القسم. وتقديره: والله لنبلونكم. وحكمة الابتلاء لإظهار المطيع من العاصي، لا ليعلم شيئا
156

(* (153) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون (154) ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس * * لم يكن عالما به، واختلفوا فيمن نزلت الآية فيه، منهم من قال: نزلت في اليهود وقيل: نزلت في المسلمين.
* (بشيء من الخوف) خوف العدو * (والجوع) بالقحط والجدب (ونقص من الأموال) بالخسران والهلاك * (والأنفس) بالمرض والشيب والموت * (والثمرات) بالجوائح، وقيل: بالأولاد؛ وذلك أنهم ثمرات القلوب، وحكمة الابتلاء بهذه الأشياء: حتى إذا صبروا عليه فكل من سمع به بعدهم؛ علم أنهم أنما صبروا عليه لما عرفوا من الحق.
* (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون). قال سعيد بن جبير: كلمة الاسترجاع لم تعط [لأحد] من الأمم سوى هذه الأمة. ألا ترى أن يعقوب صلوات الله عليه لما ابتلي بفراق يوسف قال: * (يا أسفي على يوسف) ولم يقل: إنا لله وإنا إليه راجعون؟ ومعناه: إنا لله ملكا وعبودية، وإنا إليه راجعون في القيامة، وإنما قيد بهذا لأن الأمر في القيامة يخلص لله تعالى.
وروي: ' أن رسول الله طفيء سراجه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقيل له في ذلك، فقال: كل ما أذى المؤمن فهو مصيبة له '.
قوله تعالى: * (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) ومعنى الصلوات هاهنا الرحمة بعد الرحمة؛ لأن الصلاة من الله: الرحمة. ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الناس الدعاء. قال الشاعر:
157

* (والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون * *
(صلي على يحي وأشياعه
* رب كريم وشفيع مطاع)
يعني: ترحم عليه.
قوله: (ورحمة) ذكرها تأكيدا للأول * (وأولئك هم المهتدون) قال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعمت العلاوة، والعدلان: الصلوات والرحمة، والعلاوة: الهداية.
وقد ورد في ثواب المصيبة أخبار كثيرة، منها: ما روى عن رسول الله أنه قال: ' ما أصيب العبد المؤمن بمصيبة إلا كفر عنه، حتى الشوكة يشاكها '.
قوله تعالى: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الصفا: جبل بأحد طرفي المسعى. والمروة: جبل بالطرف الثاني، والصفا: الحجر الصلب، والمروة: الحجر الرخو.
قوله تعالى * (من شعائر الله) فالشعائر: جمع الشعيرة، وهي: الأعلام التي على مناسك الحج. ومثله المشاعر، فالموقف شعيرة، والمطاف شعيرة، والمنحر شعيرة، والمشعر شعيرة.
* (فمن حج البيت أو اعتمر) فأصل الحج: القصد. قال الشاعر:
(وأشهد من عوف حلولا كثيرة
* يحجون سب الزبرقان المزعفرا) أي: يقصدون. وأصل العمرة: الزيارة. قال الشاعر:
(وجاشت النفس لما جاء فلهم
* وراكب جاء من تثليث معتمر) أي زائرا وفي الحج والعمرة قصد وزيارة.
158

(* (157) إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158) إن الذين يكتمون ما) * *
وقوله تعالى: * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) قرأ ابن عباس: ' فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما '. وهي قراءة أنس، وكذلك كان في مصحف أبي بن كعب، وابن مسعود. والقراءة المعروفة: * (أن يطوف بهما).
وقد روى عن عروة بن الزبير: أنه قال لعائشة: ' أنا لا أرى جناحا على من لا يطوف بين الصفا والمروة، وقرأ هذه الآية.
فقالت عائشة: بئسما رأيت يا ابن أختي وذكرت القصة في سبب نزول الآية '.
والقصة في ذلك أنه كان في الجاهلية على الصفا والمروة صنمان: إساف ونائلة، وكان إساف على الصفا، ونائلة على المروة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيما للصنمين، فلما فتح النبي مكة، وكسر الأصنام. وكان المسلمون يتحرجون عن السعي بين الصفا والمروة لمكان الصنمين اللذين كانا عليهم؛ فنزلت الآية في رفع ذلك الحرج.
ثم وجوب السعي بالخبر؛ وهو قوله: ' إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا '.
159

* (أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم أنا) * *
فأما تلك القراءة ' أن لا يطوف بهما ' فهي قراءة مهجورة فلا تترك بها القراءة المعهودة.
وقيل: ' لا ' فيه صلة. والمراد: أن يطوف. قال الشاعر:
(لا ألوم البيض ألا تسخرا
* لما رأين الشمط القفندرا)
أي: أن تسخر.
قوله تعالى: * (ومن تطوع خيرا) قرأ حمزة: ' ومن يطوع ' مشدد. ومعناه يتطوع والمعروف * (ومن تطوع). ثم من قال: إن السعي ليس بركن صرف قوله: * (ومن تطوع) إلى السعي.
ومن قال: إنه ركن صرفه إلى أصل الحج والعمرة.
ويحتمل أنه أراد التطوع بسائر الأعمال.
* (فإن الله شاكر عليم) والشكر من الله: أن يعطي فوق ما يستحق العبد.
قوله تعالى: * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) نزلت الآية في اليهود.
* (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) قال ابن عباس: اللاعنون: هم كل الخلائق سوى الجن والإنس.
وفي الأخبار: ' أن الأرض إذا أجدبت يلعن كل شيء عصاة بني آدم؛ حتى الخنافس يقولون: اللهم العن عصاة بني آدم؛ فإنا حرمنا الرزق بشؤم معاصيهم '.
وقال قتادة: اللاعنون: هم الملائكة والمؤمنون. وقيل: هم الجن والإنس.
160

* (التواب الرحيم (160) إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (161) خالدين فيها لا يخف عنهم العذاب ولا هم) * *
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ما تلاعن اثنان ولم يكونا مستحقين إلا رجعت اللعنة على اليهود.
قوله تعالى: * (إلا الذين تابوا) أي: أسلموا * (وأصلحوا) أي: داموا على التوبة * (وبينوا) ما كتموا * (فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم).
قوله تعالى: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) فإن قال قائل: قد قال: * (الناس أجمعين) والملعون من جملة الناس؛ فكيف يلعن نفسه؟ قيل: يلعن نفسه في القيامة. قال الله تعالى: * (ويلعن بعضكم بعضا).
وقوله: * (خالدين فيها) يعني في اللعنة، ويحتمل في النار وإن لم تكن مذكورة في الآية * (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) معلوم التفسير.
قوله تعالى: * (وإلهكم إله واحد) وسبب نزول [هذه] الآية ما روى أن المشركين قالوا لرسول الله أنسب لنا ربك، أوصف لنا ربك؛ فنزل قوله تعالى * (وإلهكم إله واحد) وسورة الإخلاص.
قال الأزهري: الواحد: الذي لا نظير له، يقال: فلان واحد العالم أي: لا نظير له في العالم. وحقيقة الواحد: هو المنفرد الذي لا نظير له ولا شريك. * (لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) روى شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد النهشلية عن النبي أنه قال: ' اسم الله الأعظم في آيتين من سورة البقرة: آية الكرسي، وهذه الآية * (وإلهكم إله واحد) '.
قوله تعالى: * (إن في خلق السماوات والأرض) روى أنه لما نزل قوله:
161

* (ينظرون (162) وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163) إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع) * * (وإلهكم إله واحد) قال المشركون لرسول الله: ما الدليل على أنه واحد؛ فنزل قوله: * (إن في خلق السماوات والأرض) والخلق: هو ابتداع الشيء وتقديره، ومنه قول الشاعر:
(ولأنت تفري ما خلقت وبعض
* القوم يخلق ثم لا يفري)
أي: يقطع ما قدرت.
والسماوات: جمع سماء، وهي سبع سماوات، وكذلك الأرضون سبع، على الصحيح.
وإنما ذكر السماوات بلفظ الجمع، والأرض يلفظ الواحد؛ لأن كل سماء من جنس آخر. والأرضون كلها من جنس واحد. وهو التراب، والآية في السماوات: سمكها [وسعته] وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة، وما ترى فيها من الشمس والقمر والنجوم.
والآية في الأرض: مدها وبسطها وسعتها وما يرى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات.
وقوله تعالى: * (واختلاف الليل والنهار) وذلك [ذهابهما ومجيئهم] ومنه قولهم: فلان يختلف إلى فلان. أي: يذهب ويجيء مرة بعد أخرى. ومثله قوله تعالى: * (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) أي: يخلف أحدهما الآخر، والآية في الليل والنهار نقصانهما وزيادتهما وأن يذهب ضوء النهار فلا يدري أين ذهب، ويذهب سواد الليل فلا يدري أين ذهب.
162

* (الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم) * *
وقوله تعالى: * (والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) والفلك: اسم للجمع والواحدان فإذا أريد به الجمع يؤنث، وإذا أريد به الواحد يذكر، وقد ورد بالصيغتين في القرآن، والمراد ها هنا الجمع.
والآية في الفلك تسخيره [وجريها] على وجه الماء. وهي موفرة مثقلة لا ترسب تحت الماء بل تعلو على وجه الماء.
قوله تعالى: * (وما أنزل الله من السماء من ماء) قيل: إن الله تعالى يخلق الماء في السحاب، فعلى هذا؛ السماء ها هنا بمعنى السحاب. وقيل: بل يخلق الماء في السماء، ومن السماء ينزل إلى السحاب ثم من السحاب ينزل إلى الأرض.
وقوله تعالى: * (فأحيا به الأرض بعد موتها) أي: بعد يبسها وجدوبتها. فإن الأرض إذا أجدبت فقد ماتت. وإذا أخصبت فقد حييت.
وقوله تعالى: * (وبث فيها من كل دابة) أي: فرق فيها. وقوله: * (وتصريف الرياح) قيل: تصريفها أن الرياح تارة تكون شمالا وتارة تكون جنوبا، وتارة تكون قبولا، وتارة تكون دبورا، وتارة نكباء، والنكباء: فهي التي لا تعرف لها جهة.
وقيل: تصريفها: أن الريح تارة تكون لينا، وتارة عاصفا، وتارة حارة، وتارة باردة.
قال ابن عباس: أعظم جنود الله الريح والماء. وقال ابن المبارك: للريح جناحان، والسحاب: غلاف مملوء نت الماء.
وفي مصحف حفصة (وتصريف الأرواح) وهو قريب من الرياح. وسميت الريح ريحا؛ لأنها تريح النفس.
قال شريح القاضي: ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح.
وقوله تعالى: * (والسحاب المسخر) أي: المذلل * (بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
163

* (يعقلون (164) ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله) * *
قال وهب بن منبه: ثلاثة لا يدري من أين تجيء: الرعد، والبرق، والسحاب.
قوله تعالى: * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) كأنه عاب المشركين حيث اتخذوا من دونه أندادا بعدما أظهر الدلائل، ونصب البراهين، على الوحدانية * (أندادا) أي: أصناما.
قوله تعالى: * (يحبونهم كحب الله) قال أبو العباس المبرد النحوي: معنى قوله: * (يحبونهم كحب الله) أي: يحبون آلهتهم كحب المؤمنين لله.
وقيل معناه: يحبون الأصنام كما يحبون الله؛ لأنهم أشركوها مع الله.
* (والذين آمنوا أشد حبا لله) لأنهم لا يختارون على الله ما سوى الله. والمشركون إذا اتخذوا صنما ثم رأوا أحسن منه، طرحوا الأول واختاروا الثاني.
وقوله تعالى: * (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب) قرىء هذا بقراءتين. ' ولو يرى ' بالياء. ' ولو ترى ' بالتاء.
والمعنى: اعلم أولا أن جواب ' لو ' هاهنا محذوف، ومثله كثير في القرآن.
قال الله تعالى: * (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم) وقال: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) ثم حذف الجواب اختصار السبقه إلى الإفهام.
164

* (جميعا وأن الله شديد العذاب (165) إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا) * *
ثم من قرأ ' ولو يرى ' بالياء، فتقديره: ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وعقوبته حين يرون العذاب لعرفوا أن ما اتخذوا من الأصنام لا يضرهم ولا ينفعهم.
ومن قرأ ' ولو ترى ' بالتاء ففي معناه قولان: أحدهما: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في شدة العذاب حين رأوا العذاب لرأيت أمرا عجيبا.
والثاني: معناه: قل يا محمد: أيها الظالم، ولو ترى الذين ظلموا في شدة العذاب لتعجبت منه ولرأيت أمرا فظيعا.
وقوله تعالى: * (أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب) قوله: ' أن القوة ' يقرأ بكسر الألف، وفتحها، فمن قرأ بالكسر، كان على الابتداء بعد تمام الأول، ومن قرأ بالفتح كان تمام الأول، ومعناه: لأن القوة لله.
قوله تعالى: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) هذا في القيامة، حين يجمع الله القادة وأتباعهم، يبرأ بعضهم من بعض.
* (ورأوا العذاب وتقطعت [بهم] الأسباب) أي: الوصلات في الدنيا من [القرابات] والصداقات.
قال مجاهد: يعني الوصل وهو قريب من الأول.
وقيل الأسباب: الأعمال. وقد ترد بمعنى: أبواب السماوات والأرض.
165

* (العذاب وتقطعت بهم الأسباب (166) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار (167)) * *
وذلك في قوله تعالى: * (لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات) أي: أبوابها. قال الشاعر:
(ومن هاب أسباب المنايا [يتلقها]
* وإن رام أسباب السماء بسلم)
وأصل السبب: ما يوصل. ومنه يقال: للحبل سبب، وقوله تعالى: * (وتقطعت بهم) أي: عنهم، ومثله قوله تعالى: * (فاسأل به خبيرا) أي: عنه خبيرا.
وقوله تعالى: * (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة) أي: رجعة إلى الدنيا. * (فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار).
وفيه قولان: أحدهما: أنه يريهم ما ارتكبوا من السيئات؛ فتلك الحسرات.
والثاني: أنه يريهم ما تركوا من الخيرات والحسنات؛ ليكون عليهم حسرات.
166

* (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (168) إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون (169) وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان) * *
قوله تعالى: * (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض) حكى عن أبي محمد سفيان بن عيينة الهلالي أنه سئل عن أكل الطين فقال: لا تأكل لأن الله تعالى قال: * (كلوا مما في الأرض) ولم يقل: كلوا من الأرض * (حلالا طيبا) فالحلال: كل ما أحله الشرع.
وفي الطيب قولان:
أحدهما: كل ما يستطاب ويستلذ فهو طيب. والمسلم يستطيب الحلال ويعاف الحرام.
وقيل: الطيب: الطاهر.
وقوله تعالى: * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها قال مجاهد: هي خطايا الشيطان. وقال أبو مجلز لاحق بن حميد السدوسي: هي النذور في المعاصي. والقول الثالث: هي كل أعمال الشيطان. واشتقاقها من الخطوة؛ لأن للخطا آثارا تبقى * (إنه لكم عدو مبين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء) فالسوء: المعصية.
والفحشاء فيه قولان: أحدهما: أنه أراد به الزنا. وقيل: البخل، ومنه قول الشاعر:
(عقيلة مال الفاحش المتشدد
*)
أي: البخيل المتشدد
* (وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا) أي: وجدنا.
* (عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) معناه: كيف يتبعون
167

* (آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170) ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون (171) يا أيها الذين آمنوا) * * آباءهم وآباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟! وفي هذا نهي عن تقليد الآباء في الدين.
قوله تعالى: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء) النعق: صوت الراعي بالغنم قال الأخطل.
(فانعق بضأنك يا جرير فإنما
* منتك نفسك في الخلاء ضلالا)
وفي الآية محذوف مقدره. وتقديرها: مثل الكفار ومثلك يا محمد في دعائهم كمثل الراعي ينعق بالغنم وهي لا تسمع إلا صوتا ولا تفهم إلا دعاء.
* (ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) وقيل: معناه: مثل الكفار في دعاء الأصنام.
على هذا القول إشكال لأن؛ الأصنام لا يسمعون النداء ولا الدعاء. وكيف يكون مثلا أن يسمع ذلك كمثل الذي ينعق بما لا يسمع كما بينا؟
قال ابن الأنباري: أراد بالذي ينعق: الصائح في الجبل يصيح فيسمع صوتا؛ وهو الصدى. وليس هناك معقول ولا مفهوم. وضرب المثل به للكفار في قلة الفهم والعقل.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) وفي الخبر عن النبي أنه قال: ' أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) وقال للمؤمنين * (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله) ' وقد ذكرنا معنى الطيبات.
168

* (كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا) * * (واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) يعني: أنكم كما تعبدونه على الإلهية، فاشكروه على الإحسان. قوله تعالى: * (إنما حرم عليكم الميتة) ' إنما ' لنفي والإثبات؛ لأنها مركبة من حرفي النفي والإثبات ' فإن ' للإثبات ' وما ' للنفي.
تقول: إن في الدار زيدا. يفهم منه وجود زيد في الدار. فإذا قلت: ' إنما زيد في الدار ' يفهم منه أنه لا أحد في الدار إلا زيد.
وأما الميتة: اسم لما خرج روحه من غير ذكاة * (والدم) معروف وفيهما تخصيص؛ فإن الشرع أباح من الميتة: السمك والجراد، ومن الدماء: الكبد والطحال.
وقوله تعالى: * (ولحم الخنزير) أي: الخنزير بلحمه وشحمه وجميع أجزائه.
* (وما أهل به لغير الله) أي: ذبح على اسم الأصنام، وأصل الإهلال: رفع الصوت، وكانوا يرفعون أصواتهم على الذبائح، قال ابن أحمر:
(يهل بالفرقد ركبانها
* كما يهل الراكب المعتمر)
قوله تعالى: * (فمن اضطر) يقرأ بقراءتين: بكسر النون، ورفعها، فمن قرأ بالكسر فهو على الأصل ومن قرأ بالضم فلا تباع ضمة الطاء، والاضطرار إلى أكل الميتة * (غير باغ ولا عاد) قال ابن عباس ومجاهد: غير باغ أي: غير خارج على السلطان. * (ولا عاد) ولا متعد، عاص في سفره. ففي هذا دليل على أن العاصي في سفره لا يترخص بأكل الميتة.
وقال الحسن وقتادة: * (غير باغ) أي: غير طالب للميتة على الشبع؛ فيأكله تلذذا. * (ولا عاد) ولا مجاوزا بأكله حد الحاجة.
* (فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) ظاهر المعنى.
169

* (عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173) إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم) * *
قوله تعالى: * (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا) قد سبق تفسيره.
وقوله تعالى: * (أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار) فيه قولان: أحدهما: أن الذين أكلوا من الرشوة فالمأكلة تصير في بطونهم نارا.
وقيل: معناه أن ذلك الأكل لما كان يفضي بهم إلى النار؛ فكأنهم يأكلون في بطونهم نارا.
ومثله قول الشاعر:
(وأم سليم فلا تجزعن
* فللموت ما تلد الوالدة)
وقال آخر:
(لدوا للموت وابنوا للخراب
* فكلكم يصير إلى الفوات)
ومعلوم أن الولد لا يولد للموت، ولكن لما كان يؤول إلى الموت لا محالة أضافه إليه.
وقوله تعالى: * (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) فيه قولان: أحدهما: أنه لا يكلمهم ولكن يكلمهم بالتهديد والتوبيخ.
وقيل: في معناه: أنه غضبان عليهم؛ كما يقال: فلان لا يكلم فلانا؛ إذا كان عليه غضبان.
170

* (الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار (175) ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (176) ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة) * * (ولا يزكيهم) أي: لا يطهرهم من الذنوب * (ولهم عذاب أليم). قوله تعالى: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار) قال
ابن عباس: معناه: أي شيء صبرهم على النار؟!
وقال الكسائي والفراء: معناه: فما أجرأهم على النار، وحكى الكسائي: أن أعرابيين اختصما إلى قاض، فحلف المنكر، فقال له المدعي: ما أصبرك على النار، أي: ما أجرأك على النار.
وقال بعض النحويين: معناه: فما أبقاهم في النار، يقال: فلان ما أصبره على الحبس، أي: ما أبقاه في الحبس، ' وما ' للتعجب هاهنا.
قال الكسائي: التعجب من الله بمعنى: التعجب للخلق * (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق) وهم منكرون لذلك.
* (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) أي: خلاف طويل.
وإنما سمى الخلاف: شقاقا؛ لأن المخالف يكون في شق، وصاحبه في شق آخر.
قوله تعالى: * (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) فالبر: كل عمل خير، يفضي بصاحبه إلى الجنة.
وفي معناه قولان: أحدهما: أن الخطاب مع المسلمين، فإنهم كانوا في الابتداء يأتون بالشهادتين، والصلوات إلى أي جهة شاءوا.
فقال: ليس كل البر أن تصلوا قبل المشرق والمغرب * (ولكن البر من آمن بالله) فأمرهم بسائر الشرائع المذكورة في الآية.
171

* (والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا) * *
وقيل: هو خطاب لليهود والنصارى إذ كان قبلة اليهود المغرب، وقبلة النصارى المشرق.
فقال: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق أيها النصارى، وقبل المغرب أيها اليهود، ولكن البر من آمن بالله.
وفي تقديره قولان: أحدهما: أن تقديره ولكن ذا البر من آمن بالله، والثاني: أن تقديره: ولكن البر من آمن بالله * (واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه) أي: حب المال.
قال ابن مسعود: هو أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل البقاء، وتخشى الفقر * (ذوي القربى) أهل القرابات. * (واليتامى والمساكين) قد ذكرناهم.
* (وابن السبيل) هو المنقطع. وقيل: أراد به الضيف * (والسائلين) معلوم * (وفي الرقاب) يعني: المكاتبين.
* (وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدم إذا عاهدوا) فإن قال قائل: لم قال: ' والموفون ' على الرفع؟ قيل: فيه قولان. أصحهما: أنه معطوف على خبر لكن، وتقديره: ولكن ذا البر المؤمنون بالله والموفون.
وقيل تقديره: وهم الموفون كأنه عد أصنافا، ثم قال: هم والموفون كذا وكذا.
وفيه قول ثالث: أن الكلام إذا طال فالعرب قد تخالف في الأعراب.
* (والصابرين) نصب على المدح. وقيل تقديره: أعني الصابرين. قال الشاعر:
(لا يبعدن قومي الذين هم
* سم العداة وآفة الجزر)
(النازلين بكل معترك
* والطيبين معاقد الأرز)
وقوله تعالى: * (في البأساء) هو الجوع * (والضراء) المرض والضرر.
172

* (عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء) * * (وحين البأس) وحين القتال * (أولئك الذين صدقوا) وفوا بالعهد، وقيل: صدقت أفعالهم أقوالهم * (وأولئك هم المتقون).
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) أي: فرض عليكم. * (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) قال ابن عباس: كان هذا في ابتداء الإسلام، وكان القصاص بين الحر والحر، والعبد مع العبد، والأنثى مع الأنثى، وما كان يقتل الحر بالعبد، ولا العبد بالحر، ولا الذكر بالأنثى، ولا الأنثى بالذكر: ثم نسخ ذلك بقوله: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) فجرى القصاص بين الكل.
وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال في الحر إذا قتل عبدا: يقتل الحر به، ثم سيد العبد يغرم لولى القاتل الحر، ما بين ديته وقيمة العبد، وإذا قتل العبد حرا، يقتل العبد به، ثم يغرم سيد العبد القاتل لولى الحر المقتول ما بين ديته وقيمة العبد.
وفيه قول آخر محكي عن ابن عباس: أن الآية نزلت في قبيلتين، كان لأحديهما على الأخرى فضل. فقالت القبيلة الفاضلة: يقتل الحر منكم بالعبد منا، والذكر منكم بالأنثى منا؛ فنزلت الآية ردا لقولهم.
وقوله تعالى: * (فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وأصل العفو: الترك. وأظهر الأقوال فيه: مذهب عامة الصحابة والتابعين؛ أن من عفا عن القصاص فله أخذ الدية، فهذا يتبع بالمعروف، يعني: لا يطلب المزيد على قدر حقه. ويؤدي ذلك بالإحسان، أي: لا يماطل في الأداء.
173

* (إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178) ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179) كتب عليكم) * * قال الأزهري: في الآية تقدير: ومعناه: فمن جعل له من مال أخيه يعني القاتل أو فمن جعل له من بدل دم أخيه يعني المقتول عفو أي: فضل، فليتبع الطالب بالمعروف، وليؤد المطلوب بالإحسان.
وظاهره يقتضي أن أخوة الدين لا تنقطع بين القاتل والمقتول، حيث قال: من أخيه، وهو الذي نقول به. وقيل: معناه أخوة النسب.
وقيل: إنما سماه أخا حال إنزال الآية، وحال نزول الآية كان أخا له قبل حصول القتل، لا أنه يبقى أخا له، فإن القتل يقطع الموالاة بين القاتل والمقتول، ويوجب البراءة [منه]؛ لفسقه وقتله.
* (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) ومعناه: أن الدية كانت في شرع النصارى حتما، والقصاص في شرع اليهود حتما، وخيرت هذه الأمة بين القصاص والدية، [فذلك] التخفيف.
* (فمن اعتدى بعد ذلك) أي: قتل بعد العفو. * (فله عذاب أليم) أي: القصاص.
قال ابن جريج: إن القصاص حتم عليه، بحيث لا يقبل العفو.
قوله تعالى: * (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) ومعنى الحياة: أنه إذا فكر أنه لو قتل قتل، لم يقتل؛ فيبقى والمقتول حيين. * (لعلكم تتقون) ترتدعون عن القتل.
قوله تعالى: * (كتب عليكم) أي: فرض عليكم * (إذا حضر أحدكم
174

* (إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (180) فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله) * * الموت) إذا قارب أوان الموت. * (إن ترك خيرا) أي: مالا وسعة، والخير في كل القرآن بمعنى المال.
* (الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) وذلك أن الوصية كانت واجبة في ابتداء الإسلام للوالدين والأقربين، ثم صار منسوخا بآية الميراث.
قال النبي: ' إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث '.
وقال الحسن، وطاوس، وقتادة والضحاك،: إن النسخ في الوالدين دون الأقربين.
ثم اختلفوا فيمن أوصى بثلث ماله للأجنبي، فقال بعضهم: ثلث ما أوصى به للأقربين، وثلثاه للأجنبي.
وقال بعضهم: ثلثاه للأقربين، وثلثه للأجنبي.
وقال بعضهم: كل الثلث للأقربين، ولا شيء للأجنبي، والأصح: أنه صار منسوخا في حق الكل، وبقي الاستحباب في حق الأقربين الذين لا يرثون.
وقيل: هو في ابتداء الإسلام كان على الندب، والمندوب في الوصية: بما دون الثلث.
وحكى عن بعض السلف أنه قال: الخمس معروف، والربع جهد، والثلث غاية تنفذها القضاة.
قوله تعالى: * (فمن بدله بعد ما سمعه) فإن قال قائل: لم قال: * (فمن
175

* (سميع عليم (181) فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (182) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على) * * بدله) بعلامة التذكير، والمذكور مؤنث، وهي: الوصية؟ قيل معناه: فمن بدل أمر الوصية.
وقيل: معناه: فمن بدل قول الموصي؛ لأن الوصية تصدر عن قول الموصي؛ فرجع إلى المعنى دون اللفظ، وهذا مثل قوله تعالى: * (فمن جاءه موعظة) أي: جاءه وعظ، فرجع إلى المعنى، كذا وأراد بالتبديل: تبديل الشهداء والأوصياء والأولياء.
* (فإنما إثمه على الذين يبدلونه) لا على الموصي. * (إن الله سميع) لما أوصى به الموصي * (عليم) بتبديل المبدلين.
قوله تعالى: * (فمن خاف من موص جنفا أو إثما) الخوف ها هنا بمعنى العلم.
وهو مثل قوله - تعالى -: * (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله) وقوله: * (وإن خفتم شقاق بينهما). أي: علمتم، وإنما عبر بالخوف عن العلم؛ لأن الخوف طرف إلى العلم فإنه إنما يخاف الوقوع في الشيء؛ للعلم به.
وقوله تعالى: * (من موص) قرىء بالتخفيف والتشديد، يقال: أوصى ووصى بمعنى واحد.
وأما الجنف: الميل، والإثم: الظلم، وأنشد سيبويه:
(تجانف عن جو اليمامة ناقتي
* وما كان قصدي أهلها لسوائكا)
176

* (الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183) أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع) * *
وقال السدى: الجنف: الخطأ، والإثم: العمد.
ومعنى الآية على قول ابن عباس ومجاهد: أن الرجل إذا حضر وصية الموصي فرآه يميل، إما بتقصير، أو بإسراف، أو وضع الوصية في غير موضعها؛ فأرشده،
ورده إلى الحق فهو مباح له، وهذا معنى قوله تعالى: * (فأصلح بينهم فلا إثم عليه).
وقيل: هذا في الوصية للأقربين حين كانت واجبة، فإذا رآه يوصي لغير الأقربين، يرده إلى الوصية للأقربين.
وقيل: أراد به الإمام يصلح بين الموصي لهم والورثة، فيردهم إلى الحق.
* (فلا إثم عليه) أي: فلا حرج عليه * (إن الله غفور رحيم).
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) أي: فرض عليكم الصيام.
والصيام في اللغة: هو الإمساك. يقال: صامت الخيل: إذا أمسكت عن العلف، والسير، ومنه قول الشاعر:
(خيل صيام وخيل غير صائمة
* تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما)
ومنه يقال: صام النهار: إذا ارتفعت الشمس وصارت في إبطاء السير كالواقفة؛ وذلك في وقت الهاجرة، ومنه قول الشاعر:
(فدعها وسل النفس عنك بجسرة
* [ذمول] إذا صام النهار وهجرا)
ومنه قوله تعالى: * (إني نذرت للرحمن صوما) أي: صمتا، وفي الصمت إمساك عن الكلام.
177

* (خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184) شهر رمضان الذي أنزل) * *
وأما الصوم في الشريعة: هو الإمساك عن الأكل، والشرب، والوطء، مع النية، في وقت مخصوص.
* (كما كتب على الذين من قبلكم) اختلفوا في هذا التشبيه.
قال سعيد بن جبير: كان الصوم في ابتداء الإسلام واجبا من العتمة إلى الليلة القابلة، وكذا كان واجبا على من قبلنا.
وقيل: أراد به: صوم رمضان كتب على المسلمين كما كتب على الذين من قبلهم، يعني: النصارى.
قال دغفل بن حنظلة: كان الصوم واجبا على النصارى ثلاثين يوما، ثم إن ملكا منهم مرض، فقال: إن شفاني الله أزيد عشرة، فشفاه الله فزاد عشرة، ثم إن ملكا آخر منهم مرض وقال: إن شفاني الله أزيد فيه سبعة أيام، فشفاه الله فزاد سبعة. قالوا: ما هذا النقصان؟! أكملوه بخمسين. وقالوا: نصومه في وقت لا حر ولا قر. فكانوا يصومون الخمسين في وقت الربيع، فهذا أصل صوم الخمسين في حق النصارى.
وقيل: أراد به: صوم ثلاثة أيام من كل شهر: كان واجبا في ابتداء الإسلام، كما كتب على اليهود.
روى معاذ بن جبل: ' أن النبي لما هاجر إلى المدينة، رأى اليهود يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء، ففرضه الله عليه كذلك '.
وكان يصومها سبعة وثلاثين يوما، من الربيع إلى الربيع، ثم نسخ ذلك بصوم
178

* (فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * * رمضان.
وقيل: كان يصوم الثلاث في أيام البيض.
قال ابن عباس: أول ما نسخ بعد الهجرة: أمر القبلة، والصوم.
قوله تعالى: * (لعلكم تتقون) يعني: بالصوم؛ لأن الصوم وصلة إلى التقوى بما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات.
وقيل: معناه لعلكم تخترزون عن الشهوات من الأكل، والشرب، والوطء.
قوله تعالى: * (أياما معدودات) فإن قلنا بنسخ الآية فهو صوم كان واجبا ثم نسخ.
وإن قلنا: الآية غير منسوخة فالمراد بقوله: * (أياما معدودات) أيام رمضان، وفيه إشارة إلى التيسير، حيث لم يوجب صوم كل السنة، وإنما أوجبه أياما معدودات * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) قال داود وأهل الظاهر: يجب على المسافر صوم عدة من أيام أخر وإن صام رمضان قولا بظاهر الآية.
والجمهور على أن فيه إضمارا وتقديره: فأفطر، فعدة من أيام أخر.
ثم اختلفوا في حد المرض الذي يبيح الفطر، فقال داود وأهل الظاهر: هو ما ينطلق عليه اسم المرض. وهو قول ابن سيرين من السلف. وقال الحسن: هو المرض الذي تجوز معه الصلاة قاعدا.
ومذهب الشافعي: هو المرض الذي يخاف من الصوم معه الزيادة في المرض.
فأما حد السفر الذي يبيح الفطر اختلفوا فيه، فقال داود ومن تابعه: هو ما ينطلق عليه اسم السفر. ومذهب الشافعي أنه مسافة القصر، ستة عشر فرسخا.
179

* (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم)
ومذهب أبي حنيفة رضي الله [عنه] أنه مسيرة ثلاثة أيام، كما قال في القصر.
قوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) في الآية قراءات: فالقراءة المعروفة: هذا.
وقرأ ابن عباس وعباس وعائشة وهو صحيح، عن ابن عباس: و ' على الذين يطوقونه ' وقرأ مجاهد: ' وعلى الذين يطوقونه '، وهما من الشواذ.
فأما قراءة: ' فدية طعام مسكين ' فيه قراءتان معروفتان: أحدهما هذه،
والثانية: قراءة أهل المدينة والشام ' فدية طعام مساكين ' بالألف.
وأما القراءة المعروفة * (وعلى الذين يطيقونه فدية) أراد به: في ابتداء الإسلام كانوا مخيرين بين الصوم والفدية، فقال: وعلى الذين يطيقونه فدية؛ إن اختاروا الفدية.
وقيل معناه: وعلى الذين يطيقونه في حال الشباب، وعجزوا عنه في الكبر الفدية إذا أفطروا، وهو مروى عن علي، فعلى هذا لا تكون الآية منسوخة.
فأما قراءة ابن عباس معناه: وعلى الذين يطوقونه فلا يطيقونه الفدية.
180

* (العسر ولتكلموا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (185)) * *
وأما قراءة مجاهد يطوقونه أي: يتطوقونه ويكلفونه فلا يطيقونه.
وأما قوله: * (فدية طعام مساكين) إنما أضاف الفدية إلى الطعام لأن الفدية قدر من الطعام، والطعام اسم الجنس، وهو كما يقال خاتم فضة، وثوب خز، ونحو ذلك.
وأما القراءة الثانية * (فدية) رفع على الابتداء * (طعام مسكين) تفسير له وبدل عنه، وإنما قال: ' مسكين؛ لأن كل يوم يطعم مسكينا.
ومن قرأ: ' مساكين ' لأن جملة طعام أيام الصوم تكون لمساكين.
وقوله تعالى: * (فمن تطوع خيرا فهو خيرا له) قال ابن عباس: أراد به: من أطعم مسكينين وعليه طعام مسكين واحد، أو أطعم صاعا وعليه مد، فهو خير له.
قوله تعالى: * (وأن تصوموا خير لكم) إن قلنا بقول النسخ، معناه: وأن تصوموا خير لكم من الفدية.
وإن قلنا: الآية غير منسوخة فمعناه: وأن تصوموا في حال الشباب خير لكم من الفدية في حال الكبر والعجز.
وقيل: هذا في حق الشيخ الهرم، أن يتكلف الصوم خير له من أن يفدي. والصحيح: أحد القولين الأولين * (إن كنتم تعلمون).
قوله تعالى: * (شهر رمضان) سمى الشهر بذلك لشهرته.
وأما رمضان كان في الجاهلية يسمى شهر رمضان ناتقا.
قال أبو علي قطرب: إنما سمى: رمضان؛ لأنهم كانوا يصومون في الحر الشديد، ومنه الرمضاء: للرمل الذي حمى بالشمس.
وقال مجاهد: هو اسم من أسماء الله، ولذلك لا يجمع على رمضانات، ويروى هذا
181

عن النبي غريبا، والصحيح أنه اسم الشهر.
وقد ورد في فضل الشهر والصوم أخبار، منها ما روى مرفوعا: ' سيد الشهور شهر رمضان '.
وصح عن رسول الله أنه قال: ' إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين ' أخرجه مسلم في الصحيح.
وقال: يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به.. ' الخبر.
واختلفوا في تخصيص الصوم، منهم من قال: لأنه أشد العبادات في كسر
182

الشهوات وقمع النفس. ومنهم من قال: لأنه سر بين العبد وبين ربه.
وقوله تعالى: * (الذي أنزل فيه القرآن) فإن قال قائل: إنما أنزل القرآن في ثلاث وعشرين سنة فكيف قال: أنزل فيه القرآن؟ والجواب: قال ابن عباس: أنزل الله تعالى القرآن جملة في رمضان إلى بيت في السماء الدنيا يسمى ببيت العزة، ثم منه أنزل إلى الأرض إرسالا.
روى وائله بن الأسقع عن النبي أنه قال: ' أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة في الليلة السادسة من رمضان، وأنزل الإنجيل في ليلة الثالث عشر من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان '.
وفيه قول ثالث معناه: أنزل فيه القرآن بفريضة صوم رمضان.
وإنما سمى القرآن قرآنا؛ لأنه يجمع السور والآي، والحروف، وأصل القرآن: الجمع، ومنه قول الشاعر:
(ذراعي عيطل أدماء بكر
* هجان اللون لم تقرأ جنينا)
وقوله تعالى * (هدى للناس) رشاد وبيان. وقوله تعالى: * (وبينات من الهدى والفرقان) أي: دلالات واضحات من الحلال والحرام، والفرقان: المفرق بين الحق والباطل.
وقوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: معناه فمن كان منكم مقيما في الحضر فأدرك الشهر فليصمه.
ثم اختلفت الصحابة فيمن أدرك الشهر وهو مقيم، ثم سافر على قولين: فقال علي رضي الله عنه: لا يجوز له أن يفطر. وأكثر الصحابة على أنه يجوز الفطر،
183

وهو الأصح؛ لما صح عن رسول الله برواية جابر ' أنه سافر في رمضان فلما بلغ كراع الغميم أفطر وأفطر الناس '.
وقوله تعالى: * (فليصمه) أي بقدر ما أدرك وهو مقيم * (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) إنما أعاد هذا ليعلم أن هذا الحكم في الناسخ مثل ما كان في المنسوخ.
وقوله تعالى: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) يعني في إباحة الفطر بالمرض والسفر، وتأخير الصوم إلى أيام أخر.
وحكى عن الشعبي أنه قال: ما خير رجل بين أمرين فاختار أيسرهما؛ إلا كان ذلك أحبهما إلى الله.
وروى محجن بن أدرع: ' أن النبي أخبر برجل كان يطيل الصلاة في المسجد طول النهار فجاء إليه وأخذ بمنكبيه وهزهما هزا، ثم قال: إن الله تعالى رضي لهذه الأمة باليسير، وكره لهم العسر، وإن هذا الرجل رضي بالعسر ويكره اليسر '.
ومشهور عن رسول الله: ' أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه '.
184

(* (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي) * ولتكملوا العدة) أي: عدة الشهر بقضاء ما أفطر في المرض أو السفر. * (ولتكبروا الله على ما هداكم) أي: لتعظموه على ما أرشدكم إلى ما رضى به من صوم رمضان. قال ابن عباس: هو تكبيرات ليلة الفطر وهو مروي عن ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهما. وقال: حق على كل مسلم أن يكبر ليلة الفطر إلى أن يفرغ من صلاة العيد * (ولعلكم تشكرون).
قوله تعالى: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) في سبب نزول الآية قولان: أحدهما: أن الصحابة قالوا: يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت الآية '.
والثاني: أنه لما نزل قوله تعالى: * (ادعوني استجب لكم) قالوا: يا رسول الله كيف ندعوه ومتى ندعوه؛ فنزلت الآية.
وقول: * (فإني قريب) أي: لا يخفى على شيء، وهو أقرب إلى العباد من حبل الوريد، وأقرب إلى القلب من ذي القلب.
وقوله تعالى: * (أجيب دعوة الداع إذا دعان) فيه حذف. وتقديره: أجيب دعوة الداع إن شئت. وهذا مثل قوله تعالى: * (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء).
قال ابن الأنباري: معناه: أسمع دعوة الداعي، تقول العرب: فلان يدعو من لا يجيب، أي من لا يسمع، وهذا لأنه قد يدعى فلا يجيب، فدل أنه أراد بالإجابة السماع.
وقيل: هو على حقيقة الإجابة، ومعناه: أنه لا يخيب من دعاه، فإنه إن دعاه بما قدر
185

* (وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186) أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا * * له أعطى، وإن دعاه بما لم يقدر له يدخر له الثواب في الآخرة فلا يخيب دعاءه.
وقد ورد عن رسول الله أنه قال: ' ما من عبد يقول [يا رب] إلا قال الله تعالى: لبيك عبدي، فيعجل ما شاء، ويدخر ما شاء '.
قوله تعالى: * (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي) قيل: الاستجابة هاهنا بمعنى الإجابة، وعليه يدل قول الشاعر:
(وداع دعايا من يجيب إلى الندى
* فلم يستجبه عند ذاك مجيب)
أي: فلم يجبه، وقال أبو عبيدة: معناه فليستدعوا مني الإجابة.
وحقيقته فليطيعوا لي. * (وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (أحل لكم) أي: أبيح لكم (ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم).
قيل: والرفث: كل ما يريده الرجل من امرأته، وهو بمعنى الوطء هاهنا.
قال ابن عباس: إن الله حيي كريم، يكنى بالحسن عن القبيح.
* (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) قيل: معناه: هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن. وقيل: لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر. وقيل: أراد به حقيقة اللباس، فإن أحدهما يصير لباسا لصاحبه عند المباشرة، قال
186

* (عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم) * * الشاعر:
(إذا ما الضجيع ثنى جيده
* تثنت فصارت عليه لباسا)
قال الربيع بن أنس: معناه: هن فرش لكم، وأنت لحف لهن.
وقوله تعالى: (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) هو افتعال: من الخيانة، أي: تخونون أنفسكم بمخالفة الأمر، وترك الوقاية. وقوله تعالى: * (فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن) قيل: أراد به الوطء. وقيل: ما دون الوطء. وقوله تعالى: * (وابتغوا ما كتب الله لكم) قال أنس بن مالك: أراد به طلب الولد.
وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس: أراد به ابتغاء ليلة القدر.
وقال قتادة وهو أحسن الأقوال: يعني: وابتغوا ما كتب الله لكم من الرخصة بإباحة الأكل، والشرب، والوطء، في اللوح المحفوظ.
وقرأ ابن عباس في الشواذ: ' واتبعوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا '.
وسبب نزول الآية: أن الله تعالى كان قد أوجب الصوم في الابتداء من العتمة إلى الليلة القابلة، وكان كل من نام أو صلى العشاء حرم عليه الأكل، والشرب، والوطء ' فروى أن رجلا يقال له: صرمة أبو قيس ظل يعمل جميع النهار، ثم آوى إلى منزله، وطلب من امرأته طعاما، فأبطأت، فغلبه النوم، فلما استيقظ كان قد حرم الطعام والشراب فأصبح وقد جهد جهدا شديدا، حتى خر مغشيا عليه، فأخبر به
187

* (الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) * * رسول الله؛ فنزلت الآية بإباحة الأكل والشرب بالليل.
وسبب إباحة المباشرة: ما روى أن عمر رضي الله عنه قال: ' يا رسول الله إني أصبت امرأتي بعد ما نمت، فقال: ما كنت جديرا بهذا يا عمر '.
' وروى أن رجلا من الصحابة أخبر النبي بمثل ذلك، فنزلت الآية بإباحة المباشرة ' وذلك معنى قوله: * (كنتم تختانون أنفسكم).
فأما قوله: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: أراد بالخيط: اللون، ومعناه: بياض النهار من سواد الليل.
وقوله تعالى: * (من الفجر) سبب نزوله ما روى ' أنه لما نزلت هذه الآية أخذ عدي ابن حاتم عقالين، أحدهما أبيض، والآخر أسود، ووضعهما تحت وسادته فلما أصبح كان ينظر إليهما، ويتسحر، حتى يتبين الأبيض من الأسود، فأخبر به النبي فقال: إنك لعريض الوساد '.
وفي رواية: ' إنك لعريض القفا، إنما هو بياض النهار من سواد الليل ' وهي كلمة لهم يكنون بها عن قلة الفهم؛ فنزل قوله * (من الفجر) والفجر فجران:
188

* (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك) * * أحدهما فجر مستطيل كذنب السرحان، يطاع صاعدا، ثم يغيب، ويغلب الظلام، وهو الفجر الكاذب.
والثاني بعده: فجر مستطير، ينتشر في الأفق سريعا، وقيل: يختلط به الحمرة، وهو الفجر الصادق الذي يحرم الطعام ويبيح الصيام.
وتقول العرب: الفجر (بشير) الشمس.
ويحكى عن حذيفة بن اليمان خلافا غريبا، وهو معروف عنه، أنه قال: أراد بالفجر طلوع الشمس، وكان يبيح التسحر بعد طلوع الفجر.
وقوله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) وهذا يقتضي حرمة الصوم بالليل لأنه قد جعله حدا.
وقد قال: ' من صام بالليل فقد تعب ولا أجر له '.
وقال أيضا: ' إذ أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم '.
قوله تعالى: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) والعكوف: هو المقام في الموضع.
وقيل: نزلت الآية في قوم من المسلمين كانوا يخرجون من الاعتكاف، ويباشرون الأهل، ثم يعودون إلى المعتكف، فحرم الله تعالى المباشرة في الاعتكاف.
189

* (يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187) ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون (188) يسألونك) * *
والاعتكاف جائز في كل المساجد، وحكى عن حذيفة بن اليمان خلافا شاذا فيه فقال: لا يجوز الاعتكاف إلا في ثلاثة مساجد: في المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد المدينة وكان يعيب على عبد الله بن مسعود اعتكافه في غيرها من المساجد، وكان عبد الله ينكره ويرد عليه قوله، والأمة على قول عبد الله.
وقوله تعالى: * (تلك حدود الله) وهي ما منع الله تعالى عنها من المعاصي.
وأصل الحد: المنع. ومنه الحداد للبواب؛ لأنه يمنع الناس، ومنه الحديد؛ لأنه يحتمي به للامتناع من الأعادي.
وقوله تعالى: * (فلا تقربوها) أي: فلا ترتكبوها.
وقوله تعالى: * (كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) أي: لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل. والأكل بالباطل نوعان:
أحدهما: أن يكون بطريق الغصب والنهب والظلم.
والآخر: بطريق اللهو مثل القمار والرهان وأجرة المغني ونحو ذلك.
وقوله تعالى: * (وتدلوا بها إلى الحكام) قيل: معناه: ولا تدلوا بها إلى الحكام، أي لا ترشوهم وتصانعوهم فيحكموا لكم بالجور.
وقيل: معناه: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتنسبونه إلى قول الحكام وتتخذون قولهم حجة.
* (وأنتم تعلمون) خلافة، هذا دليل على من يقول بنفوذ القضاء ظاهرا وباطنا. والإدلاء: الإلقاء يقال: أدلى دلوه، إذا أرسل، ودلى إذا أخرج.
190

* (عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189)) * *
وقوله تعالى: * (لتأكلوا فريقا) أي: طائفة * (من أموال الناس بالإثم) بالظلم * (وأنتم تعلمون).
قوله تعالى: * (يسألونك عن الأهلة) وهي جمع الهلال، وهو اسم للقمر أول ما يبدو دقيقا وإنما سمى هلالا؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته. يقال: استهل الصبي: إذا صاح بالبكاء، والعرب تسمى كل ثلاثة من الشهر باسم خاص، فتقول للثلاثة الأولى: غرر، ثم يليه، نفل، ثم يليه، تسع، ثم يليه، عشر، ثم يليه،
بيض، ثم يليه، ربع، والأصح روع، ثم يليه، ظلم، ثم يليه، حناوس، ثم يليه، وادي، ثم يليه محاق.
وسبب نزول الآية: ما روى أن معاذ بن جبل، وثعلبة بن عثيمة، قالا: ' يا رسول الله، ما بال حال القمر يبدو دقيقا؛ ثم يمتلئ فورا ثم يعود دقيقا؛ فنزل قوله تعالى: * (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج).
يعني: فعلت ما فعلت؛ ليكون مواقيت لصومكم، وفطركم، وحجكم، وآجال ديونكم '.
وقوله تعالى: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) قال البراء بن عازب: نزلت الآية فينا معشر الأنصار، كان الرجل منا إذا خرج إلى الحج ثم عاد، لا يدخل داره من الباب، ولكن ينقب نقبا في مؤخر البيت، فيدخل منه، ويعد الدخول من باب البيت فجورا؛ فنزل قوله تعالى: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) أي: بآخرها.
* (ولكن البر من اتقى) أي: بر من اتقى * (وأتوا البيوت من أبوابها) ردهم إلى الأبواب * (واتقوا الله لعلكم تفلحون).
قوله تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) قيل: كان في ابتداء
191

* (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل) * * الإسلام، أمر الله تعالى نبيه بالكف عن قتال المشركين ثم لما هاجر إلى المدينة أمره بقتالهم إذا قاتلوا؛ بقوله تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) [ثم] أمره بقتالهم قاتلوا أو لو يقاتلوا.
وقوله تعالى: * (ولا تعتدوا) أي: لا تبدءوهم بالقتال.
وقيل: ولا تعتدوا أي: لا تقتلوا المعاهدين منهم * (إن الله لا يحب المعتدين).
قوله تعالى: * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) قيل: نسخت الآية الأولى بهذه كما بينا. وقيل: بل نسخت بقوله تعالى: * (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم).
وقالوا: نسخت بها قريبا من سبعين آية.
* (حيث ثقفتموهم) أي: وجدتموهم.
وقوله تعالى * (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) وذلك أنهم أخرجوا المسلمين من مكة؛ فقال: أخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم من دياركم.
* (والفتنة أشد من القتل) يعني بالفتنة: الكفر، وسبب ذلك: أن الله تعالى لما حرم بدايتهم بالقتال في الشهر الحرام، بادر إلى قتالهم بعض المسلمين، فعيرهم الكفار عليه، فقال الله تعالى * (والفتنة أشد من القتل) يعني: الشرك الذي أنتم عليه أشد من قتالهم الذي بدءوا به.
وقوله تعالى: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) كذا كان في الابتداء حراما بدايتهم بقتال في البلد الحرام، ثم صار منسوخا.
192

* (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193) الشهر) * *
قال عطاء: لم يصر هذا منسوخا. والأصح أن الآية منسوخة.
وقوله تعالى: * (فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين)
* (فإن انتهوا) يعني فإن أسلموا. * (فإن الله غفور رحيم) لما سلف.
قوله تعالى: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي: شرك * (ويكون الدين لله) أي: قاتلوهم حتى يسلموا لله. وقيل: حتى لا تكون سجدة إلا لله.
وقوله تعالى: * (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) أي: فإن أسلموا فلا نهب، ولا أسر، ولا قتل، إلا على الذين بقوا على الشرك.
قوله تعالى: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص) في معنى الآية قولان:
أحدهما: أنه أراد به في أمر العمرة، وذلك ما روى ' أن النبي خرج معتمرا في ذي القعدة، فلما بلغ الحديبية صده المشركون، فصالحهم على أن يعود في العام المقبل، ثم عاد معتمرا في العام المقبل في ذي القعدة فأقضاه الله تعالى ما فات في العام الأول بما فعله في العام الثاني ' فهذا معنى قوله: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام) يعني ذا القعدة. * (والحرمات قصاص) يعني: حرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام.
والقول الثاني: أنه وارد في أمر القتال، ومعناه فإن بدءوكم بالقتال في الشهر الحرام، وانتهكوا حرمته فقاتلهم فيه ولا تبالوا بحرمته؛ فإنه قصاص بما فعلوا.
* (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) والاعتداء: الظلم،
193

* (الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194) وأنفقوا في سبيل * * وإنما سمى الجزاء على الظلم: اعتداء، على ازدواج الكلام، ومثله قوله تعالى * (وجزاء سيئة سيئة مثلها).
وتقول العرب: ظلمني فلان فظلمته، أي: جازيته على الظلم. ويقال: جهل فلان على فجهلت عليه، قال الشاعر:
(ألا لا يجهلهن أحد علينا
* فنجهل فوق جهل الجاهلينا)
وقال آخر:
(ولي فرس للحلم بالحلم ملجم
* ولي فرس للجهل بالجهل مسرج)
(واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين)
قوله تعالى: * (وأنفقوا في سبيل الله) أراد به: الإنفاق في الجهاد، وكل خير سبيل الله، ولكن إذا أطلق سبيل الله، ينصرف إلى الجهاد.
* (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) قيل: الباء زائدة، وتقديره: ولا تلقوا أيديكم، وعبر بالأيدي عن الأنفس، كما قال الله تعالى: * (بما كسبت أيديكم) أي: بما كسبتم. وقيل الباء في موضعها، وفيه حذف، وتقديره: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة.
والتهلكة والهلاك: واحد. وقيل: بينهما فرق، فالتهلكة: ما يمكن الاحتراز عنه، والهلاك: ما لا يمكن الاحتراز عنه. وفي معناه قولان: أحدهما: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بترك الإنفاق في سبيل الله.
والثاني: قال النعمان بن بشير، والبراء بن عازب: إن المراد به: أن يذنب الرجل
194

* (الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195) وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى) * * ذنبا ثم يقول: لا توبة لي، فيقنط من رحمة الله ونعوذ بالله.
والأول أصح. لما روى عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: نزلت الآية فينا معشر الأنصار فإن الله تعالى لما نصر دنيه، وأعز نبيه، قلنا: لو أقمنا في أموالنا نصلحها، ونترك الجهاد، فإنها تضيع، فنزلت الآية: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) يعني: بترك الإنفاق في الجهاد، والإقامة على الأموال، حتى روى: أنه لما نزلت الآية ما زال أبو أيوب يغزو حتى آخر غزوة غزاها بقسطنطينية، في بعث بعثة معاوية وتوفي (هنالك) ودفن في أصل سور قسطنطينية وهم يستسقون به.
وقوله تعالى: * (وأحسنوا) يعني: بالإنفاق في سبيل الله.
وقال عكرمة: معناه: أحسنوا الظن بالله.
وقيل معناه: أدوا فرائض الله * (إن الله يحب المحسنين) قال فضيل بن عياض: من كانت تحت يده دجاجة فلم يحسن إليها لم يكن من المحسنين.
قوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) وقرأ ابن مسعود: في الشواذ: ' وأتموا الحج والعمرة إلى البيت ' من غير قوله: ' لله ' وقرأ الشعبي: وأتموا الحج والعمرة لله على الابتداء.
واختلفوا معنى الإتمام، قال عمر: إتمامهما أن لا ينسخ إذ كان جائزا نسخه في الابتداء. وقال علي، وابن مسعود: إتمامهما أن يحرم بهما من دويرة الأهل. وقيل: إتمامهما أن يكون الزاد والنفقة من الحلال. وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن يقصد
195

* (يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو) * * الحج ولا يقصد التجارة.
وقيل: إتمامهما أن لا يعصي الله فيه، ويأتي به على وجهه كما أمر.
ثم اعلم أن العمرة واجبة، وهو قول ابن عمر، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه سنة، وهو مروى عن جابر.
والدليل على وجوبها: ظاهر الآية، وهو قوله: * (وأتموا الحج والعمرة لله) وظاهر الأمر للوجوب.
وقد ورد في فضل الحج والعمرة أخبار، منها: ما روى عن رسول الله أنه قال: ' العمرتان تكفران ما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة '.
وقوله تعالى: * (فإن أحصرتم) قال ابن عمر: الإحصار: من العدو. (وقال ابن مسعود: الإحصار: من العدو) والمرض كلاهما معتبر. وعن ابن عباس فيه روايتان. والإحصار والحصر بمعنى واحد.
وقال الفراء: الإحصار: بالحبس، والحصر: منع العدو. والصحيح أنه من العدو دون المرض لقوله: * (فإذا أمنتم) والأمن: من العدو. ومن قال: بالأول قال فيه حذف، وتقديره. فإذا أمنتم من العدو، وبرأتم من المرض.
وقول تعالى: * (فما استيسر من الهدى) وأقل ما يجب منه: ذبح الشاة، والأعلى: نحر بدنة، والأوسط: ذبح بقرة، والهدى والتهدية والهدى بمعنى واحد؛ وهو ما يهدي إلى موضع، أو إلى شخص. قال الشاعر: (حلفت برب مكة والمصلى
* وأعناق الهدى مقلدات)
وقوله تعالى: * (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله) أي: حتى
196

* (صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن) * * يذبح في موضعه، وموضع الذبح عندنا: حيث أحصر وتحلل.
وقال أبو حنيفة: موضعه: مكة. وما قلناه أصح؛ لأن رسول الله ' لما بلغ الحديبية معتمرا، فصده المشركون، تحلل وذبح هنالك '.
قوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أبو به أذى من رأسه) نزل هذا في كعب بن عجرة. روى عبد الرحمن بن أبي ليلى. عن كعب بن عجرة أنه قال: ' كنت مع رسول الله بالحديبية، وكنت أنفخ تحت القدر والقمل يتهافت على وجهي، فقال عليه السلام: ما هذا؟! احلق رأسك، واذبح شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة
مساكين '. فهذا معنى قوله: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) يعني: ذبح الشاة.
وذلك المذهب عندنا، أن يذبح في فدية الأذى: شاة، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يتصدق بفرق من طعام، والفرق: ثلاثة أصوع، كل صاع أربعة أمداد، فيتصدق على كل مسكين بمدين.
وقال عطاء: يطعم عشرة مساكين.
وقوله تعالى: * (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) قال ابن الزبير: يختص التمتع بالمحصر؛ لقوله تعالى: * (فإذا أمنتم) وعامة الصحابة على أنه جائز على العموم للكافة.
ثم مذهب المدنيين، والكوفيين: أن التمتع هو: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج،
197

* (لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) * * ثم يقيم بمكة، ويحج من عامه ذلك.
وسمى تمتعا؛ لأنه يستمتع بالمحظورات إذا تحلل عن العمرة إلى أن يحرم بالحج.
وقال طاوس: لا يختص التمتع بأشهر الحج، بل إذا أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج يكون متمتعا.
وقوله تعالى: * (فما استيسر من الهدى) أي: ذبح الشاة.
وقوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) وذلك بأن يصوم يوما قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، ويجوز أن يصوم الثلاثة متفرقة.
وقال ابن عمر، وعائشة: يصوم ثلاثة أيام منى، وذلك التشريق وهو قول الشافعي في القديم. وقوله تعالى: * (وسبعة إذا رجعتم) قال ابن عمر: معناه إذا رجعتم إلى الأهل.
والصحيح: أنه إذا أراد الرجوع عن الحج حتى لو صام السبع في الطريق جاز ويجوز متفرقا أيضا.
وقوله تعالى: * (تلك عشرة كاملة) فإن قال قائل: لا يشكل أن الثلاثة والسبع عشرة، فلم قال: تلك عشرة كاملة؟ قلنا: قيل: إنما قاله تأكيدا، ومثله قول الفرزدق:
(ثلاث واثنتان فهن خمس
* وسادسة تميل إلى شمام)
وهذا لأن العرب ما كانوا يهتدون إلى الحساب، وكانوا يحتاجون إلى فضل شرح وزيادة بيان.
198

(* (196) الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال) * *
وقد صح عن رسول الله أنه قال: ' الشهر هكذا وهكذا وهكذا حبس إبهامه في الكرة الثالثة '. فأشار إليهم بأصابعه ليعرفوا الحساب.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، يعني: فصيام عشرة أيام: ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم، وقيل: إنما قال ذلك؛ لقطع توهم الزيادة، فإن قوله: فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم. يوهم وخمسة إذا فعلتم كذا، ونحو ذلك، فقال: تلك عشرة ليقطع توهم الزيادة.
وقوله: * (كاملة) أي: كاملة في الأجر. وقيل: كاملة فيما أريد به وإقامة الصوم مقام الهدى.
قوله تعالى: * (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) قال بعض الصحابة: أراد بحاضري المسجد الحرام: أهل مكة، وكان ابن عباس يقول: يا أهل مكة لا تمتع لكم. إنما التمتع للغرباء.
وقيل: هم جميع أهل الحرم. وقال الشافعي: كل من كان من مكة على ما دون مسافة القصر؛ فهو من حاضري المسجد الحرام.
* (واتقوا الله) أي: في أداء الأوامر * (واعلموا أن الله شديد العقاب) على ارتكاب المناهي.
قوله تعالى: * (الحج أشهر معلومات) الأكثرون على أن المراد به: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
وقال مالك: كل ذي الحجة وقوله تعالى: * (فمن فرض فيهن الحج) قال ابن عمر، وابن مسعود: أراد به: فمن فرض فيهن الحج بالتلبية. أي: فمن لبى.
199

* (في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا) * *
وعندنا يختص إحرام الحج بأشهر الحج، وعند أبي حنيفة يجوز في جميع السنة. وفيه خلاف الصحابة، وهو مذكور في الفقه.
وقوله تعالى: * (فلا رفث) قيل: هو الوطء. وقيل: الرفث: الإفحاش في القول.
وقيل: هو أن يتعرض لأمر الوطء مع النساء، وذلك بأن يقول: إذا حللنا فعلنا كذا. وعن ابن عباس أنه كان محرما فأنشد:
(فهن يمشين بنا هميسا
* إن تصدق الطير ننك لميسا)
فقيل له: أترفث وأنت محرم؟ فقال: الرفث: هو ما روجع به النساء، أي: يذكر في مشاهدتهن.
وقوله تعالى: * (ولا فسوق) الفسوق: السباب. وقيل: هو كل المعاصي.
وقوله: * (ولا جدال في الحج) قال ابن مسعود: الجدال: أن يمارى الرجل صاحبه حتى يغضبه.
وقيل: أراد به ما كان عليه أهل الجاهلية من الاختلاف في أمر الحج، حتى كان بعضهم يقف بعرفة، وبعضهم بالمزدلفة، وكان يحج بعضهم في ذي القعدة، وبعضهم في ذي الحجة، وكل يقول: ما فعلته فهو صواب، فقال: * (ولا جدال في الحج) أي: استقر أمر الحج على ما فعله الرسول، فلا خلاف فيه من بعد وذلك معنى قوله ' ألا إن الزمان قد استدار كهيئته... ' الحديث.
وقوله تعالى: * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) أي: لا يخفى عليه ولا يضيعه، بل يثيب عليه.
200

* (أولي الألباب (197) ليس عليكم جناح أن يبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله) * * وقوله تعالى: * (وتزودوا) نزل في قوم من اليمن، كانوا يخرجون إلى الحج من غير زاد ويسألون الناس الزاد، وربما يفضي الحال بهم في السلب والنهب، فقال: * (وتزودوا) أي: اخرجوا مع الزاد.
وقوله: * (فإن خير الزاد التقوى) يعني: من السلب والسؤال.
وقال سعيد بن جبير: تزودوا بالكعك والسويق.
وقال غيره: وتزودوا بالخشكنانج، والسويق. وقوله تعالى: * (واتقون يا أولي الألباب) معلوم المعنى.
قوله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) في سبب نزول هذا قولان: أحدهما: ما روى عن أبي أمامة التيمي أنه قال: قلت لابن عمر: إنا نكرى في هذا الوجه يعني إلى مكة والناس يقولون: لا حج لكم، فقال ابن عمر: ألست تقف؟ ألست تسعى؟ ألست تطوف؟ قلت: نعم. فقال: لك حج. وروى ابن عمر ' أن رسول الله سئل عن ذلك، فلم يجب بشيء حتى نزل جبريل بهذه الآية '.
والثاني: قال ابن عباس: كان في الجاهلية أسواق يقال لها عكاظ، والمجنة، وذو المجاز، وكان أهل الجاهلية يتجرون منها، فلما جاء الإسلام كان المسلمون يتحرجون عن التجارة في تلك الأسواق، فنزل قوله: * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) يعني: بالتجارة في تلك الأسواق.
وقرأ ابن الزبير: فضلا من ربكم في مواسم الحج.
وقوله تعالى: * (فإذا أفضتم من عرفات) أما عرفات: سمى بذلك؛ لأن
201

* (لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور) * * جبريل لما وقف بإبراهيم، كان يقول له: عرفت. فيقول: عرفت.
والإفاضة: الدفع بكثرة، يقال: فاض الإناء. إذا امتلأ حتى سال من الجوانب، ومنه: رجل فياض، إذا كان كثير العطاء، قال الشاعر:
(وأبيض فياض يداه غمامة
* على معتقيه ما تغب نوافله)
وإنما قال: * (فإذا أفضتم) لأنه يدفع بعضهم بعضا بكثرة عند الرجوع.
وقوله تعالى: * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) والمشعر الحرام، والمزدلفة، والجمع أسامي موضع واحد. فالمشعر: المعلم فإن المزدلفة معلم للمبيت، والوقوف، والدعاء، والجمع بين الصلاتين. وإنما سمى: جمعا؛ لأنه يجمع هنالك بين المغرب والعشاء.
وسمى: مزدلفة، من الازدلاف وهو: الاجتماع، والمزدلفة: موضع بين جبلين، يسمى أحدهما: قزح يقف عليه الإمام، وهو من جملة الحرم ولذلك سمى المشعر الحرام.
وقوله تعالى: * (واذكروه كما هداكم) أي: واذكروه بالتوحيد والتعظيم، كما ذكركم بالهداية.
وقوله تعالى: * (وإن كنتم من قبله لمن الضالين) قيل: ما كنتم من قبله إلا من الضالين، وقيل: معناه: قد كنتم من قبله لمن الضالين.
قوله تعالى: * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) يعني: من عرفات.
فإن قيل: كيف قال: ثم أفيضوا بكلمة التعقيب والإفاضة من عرفات إنما تكون قبل الوصول إلى المزدلفة؟ قلنا: ' ثم ' بمعنى ' الواو ' ههنا، يعني: وأفيضوا. وهو مثل قوله: * (ثم كان من الذين آمنوا) أي: وكان من الذين آمنوا، فيكون
202

* (رحيم (199) فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) * * جمعا بين الحكمين.
وقيل: تقديره: ثم أمركم أن تفيضوا من عرفات. وهذا مثل قوله تعالى: * (ثم آتينا موسى الكتاب) (وإنما آتاه الكتاب قبل محمد لكن معناه ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب)، كذلك هاهنا، فيكون عمل ' ثم ' في الأمر لا في الإفاضة.
وأما الكلام في المعنى: قيل: إن قريشا وأحلافهم كانوا يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج من حرم الله. لأن عرفات كانت في الحل، وأما سائر العرب كانوا يقفون بعرفات.
فقوله: * (ثم أفيضوا) خطاب لقريش، يعني: قفوا بعرفات، وأفيضوا منها * (من حيث أفاض الناس) يعني: سائر العرب.
وقيل أراد بالناس في قوله: * (من حيث أفاض الناس) إبراهيم، وقد يسمى الواحد ناسا، كما قال الله تعالى: * (الذين قال لهم الناس) وأراد به: نعيم ابن مسعود
الأشجعي وحده.
وقرأ الضحاك، وسعيد بن جبير * (من حيث أفاض الناس) يعني: آدم عليه السلام.
وقوله تعالى: * (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم).
قوله تعالى: * (فإذا قضيتم مناسككم) يعني: فرغتم من المناسك، وذلك عند رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى، وقوله: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم)
203

* (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201)) * * يعني: فاذكروا الله بالتكبير والتمجيد والثناء عليه.
وفي قوله: * (كذكركم آباءكم) قولان، قال عطاء: هو أن الصبي أول ما يتكلم فإنما يلهج بذكر أبيه، فيقول: يا أبة. لا يذكر غيره، فقال تعالى: * (فاذكروا الله) لا غيره * (كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا).
والثاني: هو أن العرب كانوا إذا فرغوا من الحج، ذكروا مفاخر آبائهم، فقال تعالى: * (فاذكروا الله بدل ذكركم آباءكم أو أشد ذكرا.
وقوله تعالى: * (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا) أراد به: المشركين، كانوا لا يسألون الله في الحج إلا الدنيا، وكان الرجل منهم يقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة كبير الجفنة، كثير المال، اللهم فاعطني مثل ما أعطيته.
وقوله تعالى: * (وما له في الآخرة من خلاق) من نصيب.
قوله تعالى: * (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) أراد به المسلمين، واختلفوا في معناه.
قال الحسن البصري: * (في الدنيا حسنة) يعني: العلم والعبادة، * (وفي الآخرة حسنة) يعني: الجنة.
وحكى عن علي رضي الله عنه أنه قال * (في الدنيا حسنة) المرأة الصالحة، * (وفي الآخرة حسنة) الجنة.
وقد ورد في الحديث مرفوعا: ' من أوتي قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وامرأة صالحة تعينه على أمر دينه، فقد جمع له خير الدنيا والآخرة '.
204

* (أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (202)) * *
وقال قتادة: * (في الدنيا حسنة) يعني: العافية، * (وفي الآخرة حسنة) يعني: العاقبة.
وروى أنس عن النبي: ' أنه عاد مريضا قد أنهكه المرض حتى صار كالفرخ، فقال له عليه السلام بم كنت تدعو؟ فقال الرجل: قلت: اللهم إن كنت معاقبي بشيء في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال: سبحان الله، ما تطيق ذلك، هلا قلت: * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) '. وقيل: كان هذا أكثر دعاء رسول الله.
وقوله تعالى: * (وقنا عذاب النار) أي: اصرف عنا عذاب النار.
قوله تعالى: * (أولئك لهم نصيب) أي: الاستجابة * (مما كسبوا) من الدعاء. * (والله سريع الحساب) قال أهل التفسير: يحاسب العباد أسرع من لمح البصر.
وقال أهل المعاني: يحاسب العباد من غير تدبير ولا رؤية؛ لكونه عالما بما للعباد، وما على العباد فلا يحتاج إلى رؤية.
وقال ابن الأنباري: معناه: أن الله آت بالقيامة عن قريب، فإن ما هو كائن لا محالة فهو قريب، ففيه إشارة إلى قرب القيامة.
205

* (في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله اعلموا أنكم إليه تحشرون (203) ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد) * *
قوله تعالى: * (واذكروا الله في أيام معدودات) يعني: أيام منى، وهي أيام التشريق. قال ابن عمر: الأيام المعلومات والأيام المعدودات في أربعة أيام، فيوم النحر ويومان بعده هي الأيام المعلومات، وثلاثة أيام بعد يوم النحر هي الأيام المعدودات.
والمعدودات المحصيات، وإنما قال ذلك لقلتهن، والمراد بالذكر منها ههنا هو التكبيرات أدبار الصلوات.
وقوله تعالى: * (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) أراد به: النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق، يعني: فمن تعجل بالنفر بالرجوع من منى فيه فلا حرج عليه.
وقوله تعالى: * (ومن تأخر فلا إثم عليه) يعني: من تأخر بالنفر الثاني في اليوم الثالث من أيام التشريق فلا حرج عليه.
فإن قيل: الآية فيمن رجع على إتمام المناسك، فكيف نفى الحرج عنه وهو بمحل استحقاق الثواب لا بمحل الحرج؟ قلنا: قال ابن مسعود: أراد به: من [نفى] الحرج: أنه رجع مغفورا له. وهذا مؤيد بالحديث، وما روى مرفوعا ' من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه '.
وقال النخعي معناه: فمن تعجل فلا إثم عليه بالتعجيل، ومن تأخر فلا إثم عليه بالتأخير.
وفيه قول ثالث: إنما قال ذلك، لأن بعضهم كان يزيد في المقام بمنى على الثلاث تبررا وتقربا؛ فقال الله تعالى: من رجع في اليوم الثاني أو الثالث ولم يزد على الثلاث فلا حرج عليه. يعني: في ترك الزيادة.
206

* (الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (204) وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك) * *
وفيه قول رابع: حسن، معناه: من ترخص بالتعجيل فلا إثم عليه بالترخص، ومن تأخر فلا إثم عليه بترك الترخص؛ وذلك أن النبي كان قد ندب إلى الرخصة بقوله: ' إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه '.
قوله تعالى: * (لمن اتقى) قال أبو العالية: معناه: لمن اتقى الله بعد الحج في جميع عمره.
وقال الآخرون: معناه: لمن اتقى المعاصي في الحج، وقوله تعالى: * (واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) نزلت الآية في الأخنس بن شريق حليف بني زهرة فإنه أتى النبي عليه السلام وقال: ' إني أحبك، وأريد أن أؤمن بك، والله يعلم ما في قلبي، وكان يبطن بغضه، وكان عليه السلام يعجبه قوله (ويسر به) فنزلت الآية: * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) ' يعني في العلانية.
وأما قوله: * (ويشهد الله على ما في قلبه) قرأ ابن مسعود: وشهيد الله على ما في قلبه. وقرأ ابن محيصن: ويشهد الله على ما في قلبه، وهما في الشواذ، والمعروف هو الأول.
وقوله تعالى: * (وهو ألد الخصام) أي: شديد الخصومة قال الشاعر:
(إن تحت (التراب) حزما وجودا
* وخصيما ألد ذا معلاق)
207

* (الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد (206) ومن الناس، من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف) * *
وقال مجاهد: * (ألد الخصام) أي: الظالم في الخصومة.
وقوله تعالى: * (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) فيه نزلت الآية أيضا؛ فإنه خرج من عند النبي فرأى حمارا فعقره، ومر بزرع فأحرقه فهذا معنى قوله: * (سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) فالحرث: الزرع. والنسل: ولد كل دابة.
* (والله لا يحب الفساد) أي: لا يرضى الفساد، وقيل: من الفساد: كسر الدرهم، وشق الثوب من غير مصلحة.
قوله تعالى: * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) فيه نزلت الآية أيضا. * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة) أي: حمية الجاهلية * (بالإثم) أي: بالظلم، والعزة: التكبر والمنعة، ومنه قوله تعالى: * (في عزة وشقاق).
وعن ابن مسعود قال: كفى بالمرء إثمان أن يقال له: اتق الله، فيقول: أنت الذي تأمرني بالتقوى.
وروى أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: اتق الله. فوضع خده على الأرض تواضعا لله.
وفي رواية قيل لعمر: اتق الله: فأنكر المغيرة بن شعبة على قائله، فقال عمر: إنكم لا تزالون بخير ما قالوا ذلك لنا، وقبلنا منهم.
وقوله تعالى: * (فحسبه جهنم) أي: كافيه. قال امرؤ القيس.
(وتملأ بيتنا أقطا وسمنا
* وحسبك من غنى شبع وروى)
وقوله تعالى: * (ولبئس المهاد) المهاد: كل فراش يستقر المرء عليه.
208

* (بالعباد (207) يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (208) فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم (209) هل) * *
قوله تعالى: * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) قال سعيد ابن المسيب: ' نزلت الآية في صهيب بن سنان، وذلك أنه خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة فتبعه المشركون ولحقوه، فنثر كنانته وقال: إنكم تعلمون أني من أرماكم، والله لا تصلون إلي حتى أرمي جميع ما بكنانتي ثم أخذ سيفي وأضرب حتى أعجز أو ترجعوا عني ومالكم مالي ثمة، فقالوا: أين مالك؟ فدلهم عليه، فرجعوا عنه، فلما سمع ذلك رسول الله قال: ربح البيع يا أبا يحيى '. فهذا معنى قوله: و * (ومن الناس من يشري نفسه) أي: يبيع.
والشراء: البيع، ومنه قول الشاعر:
(وشريت بردا ليتني
* من بعد برد [صرت هامه])
قال رجل كان له غلام يسمى بردا، وكان مفتونا به، فباعه فندم عليه.
وقوله تعالى: * (والله رؤوف بالعباد) أي: شديد الرحمة بهم.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) آمنوا: أي صدقوا.
ادخلوا في السلم كافة، أي: ادخلوا جميعا في الإسلام.
قال الأزهري السلم الصلح، والسلم: الانقياد، والمراد به: الإسلام ههنا.
209

* (ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور (210) سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله) * *
وقال الأزهري أيضا: معناه: ادخلوا في الإسلام وشرائعه كافة.
وفيه قول ثالث، معناه: ادخلوا في الإسلام إلى منتهى شرائعه، كافين عن المجاوزة إلى غيره، من الكف.
قال ابن عباس: نزلت الآية في عبد الله بن سلام، وقوم من اليهود أسلموا، وأرادوا أن يجمعوا بين الإسلام واليهودية، فقالوا: نلزم السبت فلا نأكل لحوم الإبل ونحو ذلك، فنزلت الآية. أي: كونوا للإسلام خاصة، ولا تجمعوا بينه وبين اليهودية، وكفوا عن المجاوزة إلى غيره.
فإن قال قائل: كيف خاطب المؤمنين بالدخول في الإسلام؟ قيل: يحتمل معناه: الثبات على الإسلام، ويحتمل أنه خطاب للذين آمنوا باللسان ولم يؤمنوا بالقلب.
وقوله تعالى: * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) أي: آثار الشيطان، وهي جمع الخطوة. والخطوة: ما بين القدمين * (إنه لكم عدو مبين).
قوله تعالى: * (فإن زللتم) زل يزل: إذا ضل وتنحى عن الطريق، وأزل يزل: إذا أسدى نعمة إلى غيره. ومنه قوله: ' من أزلت إليه نعمة فليشكرها '.
وقوله تعالى: * (من بعد ما جاءتكم البينات) الدلالات الواضحات.
* (فاعلموا أن الله عزيز حكيم) فالعزيز: الغالب الذي لا يفوته شيء، والحكيم: ذو الإصابة في الأمر.
قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) والآية من المتشابهات.
210

* (شديد العقاب (211) زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا) * *
وروى أصحاب الحديث عن أبي بن كعب ومجاهد، أنهما قالا في تفسير الآية: يأتي الله يوم القيامة في ظلل من الغمام.
وأما أبو بكر محمد بن الحسن النقاش المفسر فلم يتعرض للآية بشيء، وقال الزجاج: يحتمل معنى الآية من حيث اللغة: يأتي الله بما وعدهم من العقاب.
قال الشيخ الإمام: والأولى في هذه الآية وما يشاكلها أن نؤمن بظاهره ونكل علمه إلى الله تعالى وننزه الله سبحانه وتعالى عن سمات الحدث والنقص.
وأما قوله: * (في ظلل) فهو جمع الظلة وهو السترة من الغمام. قد ذكرنا معنى الغمام.
* (والملائكة) قرئ بالرفع والخفض. فإذا قرئ بالرفع، فهو منسوق على الله، وإذا قرئ بالخفض فهو منسوق على الظلل.
* (وقضى الأمر) أي: فرغ من الأمر، وذلك فصل الله القضاء بالحق بين الخلق.
* (وإلى الله ترجع الأمور) قال قطرب: إنما خص به يوم القيامة؛ لأن الأمر يخلص يومئذ لله تعالى.
قوله تعالى: * (سل بني إسرائيل) هو خطاب للرسول، يعني: سل الذين أسلموا منهم * (كم آتيناهم من آية بينة) أي: من دلالة واضحة على نبوة موسى.
وقيل: معناه: الدلالات التي آتاهم في التوراة والإنجيل على نبوة محمد * (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب) في معناه قولان:
أحدهما: ومن يغير عهد الله.
والثاني معناه: ومن ينكر الدلالة التي على نبوة محمد.
211

* (فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب (212) كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما) * *
قوله تعالى: * (زين للذين كفروا الحياة الدنيا). قال الزجاج: المزين هو الشيطان. فإن الله تعالى قد زهد الخلق في الدنيا، ورغبهم في الآخرة. وقال الأكثرون: المزين هو الله تعالى والتزيين من الله هو أنه خلق الأشياء الحسنة والمناظر المعجبة، فنظر الخلق إليها بأكثر من قدرها، فأعجبهم ذلك، ففتنوا به؛ [فلذلك] التزيين من الله.
* (ويسخرون من الذين آمنوا) أي: يستهزئون. وهم رؤساء قريش كأبي جهل وغيره، وكانوا يسخرون من الفقراء.
قال ابن عباس: أراد بالذين آمنوا: عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وخباب بن الأرت، وأبا ذر.
* (والذين اتقوا) أي هؤلاء الفقراء * (فوقهم يوم القيامة) لأنهم في أعلى عليين، وأولئك في أسفل السافلين.
* (والله يرزق من يشاء بغير حساب) فيه أقوال، أحدها: أنه يوسع على من يشاء من غير مضايقة ولا تقتير.
والقول الثاني: معناه: أنه لا يأخذ شيئا من شيء مقدر، كالعبد يأخذ ألفا من ألفين، فيعطى قدرا من مقره فيخاف الإجحاف على ماله؛ ولكن الله يرزق العباد من خزائنه التي لا تنفذ.
والثالث: معناه: أنه يقتر على من يشاء، ويبسط على من يشاء، ولا يعطي كل أحد على قدر حاجته؛ بل يعطي الكثير من لا يحتاج إليه، ولا يعطي القليل من يحتاج إليه.
والقول الرابع: قال ابن عباس: هذا فيما سهل الله تعالى على رسوله من
212

* (اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما) * * الاستيلاء على بني قريظة والنضير، على أسهل وجه من غير قتال ولا
تعب.
وقوله تعالى: * (كان الناس أمة واحدة) فالأمة في اللغة: على وجوه، منها: الأمة بمعنى الدين، ومنه قول النابغة:
(حلفت، فلم أترك لنفسك ريبة
* وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع)
أي ذو دين.
والأمة: الفرقة من الناس وغيرهم، فالترك أمة، والروم أمة، والفرس أمة، ومن الطير أمة، قال الله تعالى: * (ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم).
والأمة: الحين، وقال الله تعالى: * (وادكر بعد أمة) أي: بعد حين.
والأمة: الإمام الذي يقتدي به ومنه قوله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة).
والأمة: المعلم للخير. والأمة: القامة، ومنه قول الشاعر:
(وإن معاوية الأكرمين
* حسان الوجوه طوال الأمم)
والأمة بكسر الألف: النعمة، والمراد بالأمة ههنا الدين.
يعني: كان الناس على دين واحد ثم اختلفوا في معناه.
وقال بعضهم وهو قول مجاهد أراد به آدم، كان أمة واحدة.
وقيل وهو قول قتادة وسعيد بن جبير: أراد به عشرين قرنا من بني آدم ونوح كانوا على الإسلام.
213

* (اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (213) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى) * *
وقيل: أراد به الناس في زمن إبراهيم كانوا على ملة الكفر.
* (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه).
فإن قال قائل: كيف يحكم الكتاب؟ قيل قرأ عاصم الجحدري: ' ليحكم بين الناس ' بضم الياء فيكون الحكم من الأنبياء.
وأما قوله: * (ليحكم بين الناس) يعني: ليحكم الذين أوتوا الكتاب من النبيين.
وقوله تعالى: * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه) يعني: أوتوا الكتاب. * (من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) أي: حسدا وظلما. * (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) قال زيد بن أسلم: اختلفوا في القبلة، فهدانا الله إلى الكعبة، واختلفوا في الأيام، فاختار اليهود السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدانا الله للجمعة، واختلفوا في عيسى، فقال بعضهم: كذاب. وقال بعضهم: ابن الله فهدانا الله لكونه نبيا عبدا، واختلفوا في إبراهيم، فادعاه كل فرقة فهدانا الله لكونه حنيفا مسلما.
وروى عن رسول الله أنه قال: ' نحن الآخرون السابقون، وأول الناس دخولا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا وأوتيناه من بعدهم، الناس لنا تبع، فاليوم لنا، يعني: الجمعة وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى '.
* (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
214

* (يقول الرسول والذين آمنوا معه حتى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214) يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا)
قوله تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة).
نزل في المهاجرين إلى المدينة حين أصابهم حر شديد وفاقة عظيمة فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ تطييبا لقلوبهم وتسلية لهم.
فقوله: (أم) كلمة للخروج من كلام إلى كلام، ونكون بمعنى: بل يقول الله تعالى لهم: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) يعني: ولم يصبكم ما أصابهم، وقوله تعالى: * (مثل الذين خلوا) أي: صفة الذين خلوا. * (من قبلكم مستهم البأساء) الفقر * (والضراء) المرض * (وزلزلوا) حركوا بشدة وخوفوا. * (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) حتى استبطئوا نصر الله. * (ألا إن نصر الله قريب).
قوله تعالى: * (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين) قيل: المراد به الوصية التي كانت واجبة في الابتداء للوالدين والأقربين.
وقيل: أراد به التطوعات والصدقات جعلها للوالدين، والأقربين، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
وقيل: إنه كان في الابتداء، ثم نسخت بآية الزكاة.
* (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) أي: يحصي ويجازي عليه. وهذا مثل قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) أي: يرى الجزاء على العمل؛ لأن
العمل فائت فلا يراه.
قوله تعالى: * (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) أي: شاق عليكم.
واعلم أن أكثر العلماء على أن الجهاد فرض على الكفاية، وقال عطاء وهو قول الثوري: أنه تطوع قالوا: والآية في الذين أمروا بالقتال من الصحابة.
215

* * (من خير فإن الله به عليم (215) كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرا لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216) يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به) * * (وعسى أن تكرهوا شيئا) يعني: القتال * (وهو خير لكم) بإصابة الشهادة، وحيازة الغنيمة، والظفر بالعدو.
(وعسى أن تحبوا شيئا) يعني: القعود عن القتال * (وهو شر لكم) بفوت المنازل. قال ابن عباس: ' كنت رديف رسول الله فقال لي: يا غلام ارض بما قدر الله لك؛ فعسى أن تكره شيئا وهو خير لك، وعسى أن تحب شيئا وهو شر لك، وتلا هذه الآية: * (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) '.
قوله تعالى: * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) أي: عن قتال فيه، خفض على البدل * (قل قتال فيه كبير) عظيم. ثم ابتدأ فقال: * (وصد عن سبيل الله) يعني: صدكم المسلمين عن الإسلام.
* (وكفر به) أي: كفركم بالله. * (والمسجد الحرام) أي: وصدكم المسلمين عن المسجد الحرام.
* (وإخراج أهله منه) أي: إخراج أهل مكة من مكة * (أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل) أي: والكفر الذي أنتم عليه، وأفعالكم تلك، أكبر عند الله، وأشد من قتال المسلمين في الشهر الحرام.
قال عروة بن الزبير: سبب نزول الآية: ما روى ' أن النبي بعث عبد الله بن جحش مع ثمانية نفر قبل مكة، ودفع إليهم كتابا وقال: لا تفكوه إلا بعد يومين، فلما مضى يومان فكوا الكتاب، فإذا فيه: امضوا إلى بطن النخل وذلك موضع بين مكة والطائف وفيه استعلموا أخبار قريش، فنزلوا هنالك، وكانوا يستعلمون خفية، فمر بهم عير من الطائف عليهم عمرو بن الحضرمي مع زبيب وأدم، فرماه واحد من
216

* (والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217) إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم) * * المسلمين فقتله وقادوا العير إلى رسول الله. وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخر، أو في أول يوم من رجب وكانوا شاكين فيه فعيرهم المشركون بقتلهم ابن الحضرمي في الشهر الحرام فنزلت الآية '.
يعني الذي فعلتم أنتم من تلك الأفعال أكبر وأشد من قتلهم في الشهر الحرام.
وفي الخبر: ' أن النبي لم يمد يده إلى شيء من ذلك العير حتى نزلت الآية، ثم قسمها بين المسلمين '.
* (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) يعني: المشركين كانوا يقاتلون المسلمين ويعيرونهم على الإسلام.
* (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وألئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
قال تعالى: * (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله) هذه الآية متصلة بالأولى في المعنى وذلك أن عبد الله بن جحش لما مر بالسرية وقتل ابن الحضرمي من قتله قال: المشركون إن لم يصيبوا وزرا فلا ينالون خيرا فنزلت هذه الآية * (إن الذين آمنوا) يعني عبد الله بن جحش وقومه * (والذين وهاجروا) من أوطانهم * (وجاهدوا) يعني بالغزو في سبيل الله * (أولئك يرجون رحمة الله) أخبر أنهم على رجاء الرحمة، وإنما لم يقطعوا لأنفسهم بالرحمة؛ لأن الإنسان يعرف من نفسه أنه لا يمكنه تأدية حق الله تعالى على وجهه فلا يأمن تقصيرا؛ فلا يمكنه القطع لنفسه بالرحمة.
217

(* (218) يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من)
ولأنه ربما يرتكب في المستقبل ما يستوجب به العقاب.
* (والله غفور رحيم) فالغفور: الستور. والرحيم: العطوف.
قوله تعالى: * (يسألونك عن الخمر والميسر) فالخمر: كل شراب مسكر، وسمى المسكر: خمرا؛ لأنه يخامر العقل ويستره.
وأصل الخمر: الستر والتغطية. ومنه الخمار؛ لأنه يستر الرأس. ويقال: دخل فلان في خمار الناس، أي تستر فيهم.
وقال عمر رضي الله عنه: الخمر ما خامر العقل. وهو حجة أصحاب الحديث على أن كل مسكر خمر، ومنه يقال للسكران من أي شراب: كان مخمورا.
والميسر: القمار. وقال ابن مسعود: دعوا الكعاب فإنه من الميسر.
وقال ابن سيرين: كل ما يعلب به فهو ميسر، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان. ثم اختلفوا في تحريم الخمر أنه بأي آية كان؟.
قال بعضهم: هو بهذه الآية، فإنه قال: (قل فيهما إثم كبير) ' ولفظ الإثم ' يدل على التحريم؛ فإنه حرم الخمر بلفظ الإثم في آية أخرى، حيث قال: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم) وأراد به: الخمر. ومنه قول الشاعر:
(شربت الإثم حتى ضل عقلي
* كذاك الإثم يذهب بالعقول)
وقال ابن عباس، وأكثر المفسرين: إن تحريم الخمر بالآية التي في سورة المائدة. بأنه لما نزلت هذه الآية: * (قل فيهما إثم كبير) فانتهى بعضهم، ولم ينته البعض. فنزل قوله: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فكانوا يتحينون للشرب حتى كان
218

الرجل يشرب بعد العشاء الأخيرة فيصبح وقد زال السكر، ثم يشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر، فنزلت آية المائدة. قال ابن عمر: حرمت الخمر بآية المائة، وروى هو عن رسول الله أنه قال: ' تحريم الخمر بآية المائدة '.
وعن عمر رضي الله عنه أنه لما سمع قوله: * (فهل أنتم منتهون) قال: انتهينا ربنا.
* (قل فيهما إثم كبير) قرأ حمزة والكسائي: بالثاء وقرأ الباقون كبير بالباء، فالكبير: بمعنى العظيم، والكثير: لكثرة عدد الآثام في الخمر التي ذكرها في آية المائدة * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء) الآية.
وقوله تعالى: * (ومنافع للناس) فالإثم في الخمر: هو ما يقع فيه من العداوة و البغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
وأما المنافع في الخمر: اللذة، والفرح، واستمراء الطعام، والربح في التجارة فيه.
وقد قال حسان بن ثابت: في الخمر ونفعها:
(ونشربها فتتركنا أسودا
* ولبوثا ما ينهنهنا اللقاء)
وقال آخر:
(وإذا سكرت فإنني
* رب (الخورنق) والسدير)
(وإذا صحوت فإنني
* رب الشويهة والبعير)
وأما المنافع للناس في الميسر: فهو إصابة المال فيه من غير كد وتعب.
والإثم فيه: أنه إذا ذهب ماله من غير عوض يأخذه يسوءه ذلك؛ فيعادى صاحبه، ويقصده بالسوء.
219

* (نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219)) * *
وقوله * (وإثمهما أكبر من نفعهما) قيل: معناه: إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم.
وقيل: إثمهما أكبر من نفعهما قبل التحريم، يعني: الإثم الذي يصير الخمر سببا فيه من العداوة والعربدة أكبر من نفعهما.
قوله تعالى: * (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) قرأ أبو عمرو وحده بضم الواو، وقرأ الباقون بفتحها، فمن قرأ بالضم؛ فتقديره ما الذي ينفقون، فقال: قل الذي ينفقون العفو؛ ومن قرأ بالفتح فتقديره: ماذا ينفقون؟ فقال: قل: ينفقون العفو. واختلفوا في معنى العفو، فقال طاوس: هو اليسير من كل شيء، وقال أكثر المفسرين: العفو: الفضل، وذلك أن الصدقة إنما تجب في الفاضل عن الحاجة، وكانت الصحابة يكتسبون المال، ويمسكون قدر النفقة، ويتصدقون بالفضل، بحكم هذه الآية، ثم نسخ ذلك بآية الزكاة.
وقيل معناه: [التصدق] عن ظهر الغنى؛ وذلك أن يتصدق وهو غني، ولا يتصدق وهو فقير. فيبقى كلا على الناس. وهو معنى قوله: ' أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى '.
وحقيقة العفو: الميسور. ومنه قوله: * (خذ العفو) أي: ما تيسر من أخلاق الرجال.
220

* (في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم (220)) * * (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) فيه تقديم وتأخير، وتقديره: يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة؛ فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا. فتزهدون في الدنيا، وتنفقون رغبة في الآخرة.
وقوله تعالى: * (ويسألونك عن اليتامى) روى أنه لما نزل قوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) تحرج المسلمون من أموال اليتامى تحرجا شديدا، حتى عزلوا أموال اليتامى عن أموالهم في المرعى، والطعام، والإدام، فنزلت هذه الآية بإباحة المخالطة في ذلك كله؛ لكن بشرط أنه إن استخدم غلام اليتيم يخدمه، وإن أكل بطعامه يبدله.
قال مجاهد: يوسع عليه من طعام نفسه لا يتوسع من طعام اليتيم.
وقوله تعالى: * (قل إصلاح لهم خير) قرأ الضحاك: قل إصلاح إليهم خير، والمتلو: قل إصلاح لهم. ومعناه: إصلاح لهم خير لكم في الدين. * (وإن تخالطوهم فإخوانكم) هو إباحة المخالطة.
* (والله يعلم المفسد) يعني: الذي يخالط فيخون * (من المصلح) وهو الذي يخالط فلا يقصد الخيانة. * (ولو شاء الله لأعنتكم) قال أبو عبيدة: لأهلككم. وقال ابن عباس: يجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا لكم. وقيل: معناه: ولو شاء الله لما أباح لكم المخالطة.
وقال أهل اللغة: العنت: المشقة. ومعناه: * (ولو شاء الله لأعنتكم) أي: كلفكم في كل شيء ما يشق عليكم.
* (إن الله عزيز حكيم) فالعزيز: هو الذي يأمر بعزة؛ سهل على العباد، أو لم يسهل، والحكيم، قد ذكرنا معناه.
221

* (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) * *
قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) قال ابن عباس: لا يجوز نكاح الكوافر أبدا إلى يوم القيامة؛ بحكم هذه الآية.
وسائر المفسرين والعلماء من الصحابة وغيرهم، على أن الآية منسوخة في الكتابيات، بقوله: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب).
وروى عن عثمان رضي الله عنه أنه تزوج بنائلة بنت فرافصة وكانت نصرانية فأسلمت تحته. وعن طلحة بن عبيد الله: أنه تزوج بنصرانية. وعن حذيفة: أنه تزوج يهودية. وقال قتادة وسعيد بن جبير: أراد بالمشركات: الوثنيات.
فإن قال قائل: الكفار عندكم مشركون كلهم، فمن لا ينكر إلا نبوة محمد كيف يكون مشركا بالله؟
قلنا: قال أبو الحسين بن فارس صاحب المجمل: هو مشرك؛ لأنه يقول: القرآن الذي أتى به محمد كلام غير الله، وهذا القرآن معجز لا يقوله إلا من كان إلها، فإذا هو كلام غير الله. وكأنهم أشركوا بالله غير الله.
وأما سبب نزول الآية: ما روى ' أن أبا مرثد الغنوي كانت له حبيبة بمكة، وكان يصيبها بالفجور وتسمى عناقا فلما هاجر إلى المدينة وأسلم، تمنت له حاجة، فرجع إلى مكة، فتزينت له، فقال أبو مرثد: إني قد دخلت في دين الإسلام، وإن الزنا حرام في ديني، فحتى أرجع فاستأذن رسول الله أن أتزوج بك، فرجع واستأذن؛ فنزل قوله تعالى: * (و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) '.
وقوله: * (ولأمة مؤمنة خير من مشركة) نزل هذا في عبد الله بن رواحة. ' كانت له أمة سوداء فلطمها، ثم أخبر رسول الله بذلك فسأله عنها، فقال:
222

* (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون (221) ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في) * * إنها مؤمنة، تؤمن بالله والرسل، وتحسن الوضوء، والصلاة. فقال عليه السلام: بئسما صنعت. فقال: والله لأتزوجن بها، فأعتقها، وتزوج بها. وكان قد عرضت عليه حرة مشركة، فعيره المشركون على نكاح الأمة السوداء؛ فنزل قوله: * (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) '.
* (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) في هذا إجماع، أن المسلمة لا تنكح من المشركين أجمع * (ولعبد مؤن خير من مشرك ولو أعجبكم)، فإن قال قائل: كيف قال: * (خير من مشرك) ولا خير في المشرك؟ قيل: يجوز مثله كما قال الله تعالى: * (ءآلله خير أما يشركون) ويقال: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
* (أولئك يدعون إلى النار) أي: إلى أسباب النار * (والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه) أي: بقضائه وإرادته * (ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون)
قوله تعالى: * (ويسألونك عن المحيض) أما السائل عنه: هو أسيد بن حضير، وعباد بن بشير. وأما المحيض: مفعل من الحيض. والمراد به: نفس الحيض.
قال الأزهري: يقال: حاضت المرأة حيضا، ومحيضا: إذا نزل بها الدم من الرحم في وقت معلوم.
ويقال: استحيضت المرأة: إذا نزل بها الدم من عرق لا من الرحم لا في وقت معلوم.
223

* (المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)) * * (قل هو أذى) أي: قذر. وقال الكلبي: الأذى: هو الدم.
* (فاعتزلوا النساء في المحيض) وسبب نزول الآية ما روى عن أنس: أن اليهود كانوا يعتزلون المرأة في حالة الحيض أشد الاعتزال، وكانوا لا يؤاكلونها، ولا يشاربونها، ويخرجونها من البيت، فسألوا رسول الله عن ذلك فنزلت الآية.
ولم يرد بهذا الاعتزال ما كانوا يفعلونه، وإنما أراد به الاعتزال بترك الوطء حتى تحل المضاجعة، وسائر أنواع المباشرة.
وقد روى عن النبي أنه قال: ' اصنعوا كل شيء إلا الوطء '.
وفيه قول آخر: أنه يفعل كل شيء ويجتنب ما تحت الإزار، وذلك ما بين السرة والركبة وهو قول الشافعي.
* (ولا تقربوهن) أراد به القربان: بالوطء؛ فإن قربانها بغير الوطء مباح. * (حتى يطهرن) يقرأ مخففا. والمراد به حتى يطهرن من المحيض. وقرأ أهل الكوفة غير حفص ' حتى يطهرن ' مشدد.
وقرأ أبي بن كعب، وابن مسعود رضي الله عنهما: ' حتى يتطهرن ' في الشواذ.
وقوله: * (يطهرن) بمعنى: يتطهرن؛ إلا أنه أدغم التاء في الطاء. ومعناه: حتى
224

* (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أني شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا) * * يغتسلن.
قال أبو جعفر النحاس: قوله: * (يطهرن) على التخفيف قد يكون بمعنى الاغتسال، من فعل الطهارة.
والكل حجة الشافعي في وجوب الاغتسال (لإباحة الوطء فإنه) مد التحريم إليه.
وقوله: * (فإذا تطهرن) أي: اغتسلن * (فأتوهن من حيث أمركم الله) فيه قولان: أحدهما معناه: من حيث أمركم الله بالاجتناب في حال الحيض.
والثاني وهو قول محمد بن الحنفية معناه: من حيث أباح الله، وذلك بطريق النكاح.
* (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) قيل: معناه: التوابين من الذنوب. والمتطهرين من العيوب.
والقول الثاني: معنى التوابين الرجاعين إلى الله بالتوبة والاستغفار، ومعنى المتطهرين: المتبرئين من حول أنفسهم وقوتهم.
وفيه قول ثالث: أن التوابين: من التوبة، والمتطهرين يعني: بالاستنجاء بالماء.
وهذا مثل قوله تعالى: * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين) يعني: المتطهرين بالاستنجاء بالماء بعد الحجر.
قوله تعالى: * (نساؤكم حرث لكم) أي: موضع حرث لكم ومزدرع، وقد قال الشاعر:
(إذا أكل الجراد حروث قوم
* فحرثي همه أكل الجراد)
225

سمى العيال: حرثا، أنشده المبرد.
* (فأتوا حرثكم أنى شئتم) وسبب نزول هذا: ما روى جابر: أن اليهود قالوا من أتى امرأته مولية جاء ولده أحول؛ فنزلت الآية.
* (فأتوا حرثكم أني شئتم) أي: (مقبلة ومدبرة) وقائمة وقاعدة، وكيف شئتم.
وقيل: معناه: متى شئتم.
قال ابن عباس: معنى قوله: * (أنى شئتم) أي: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا.
قال الشيخ: واعلم أن الآية لا تدل على إباحة إتيان النساء في غير المأتي؛ لأنه قال: * (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم) فخص الإتيان بموضع الحرث، وهو القبل.
وروى نافع، عن ابن عمر. أنه كان يبيح إتيان المرأة في الدبر، وأنكروا هذا على نافع. وقالوا: كذب العبد على سيده عبد الله بن عمر فإنه ما كان يبيحه قط، وحكى ذلك عن مالك أيضا، وأنكره أصحابه.
وقد ورد عن رسول الله أنه قال: ' إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن '.
وعن ابن عباس أنه قال: هي اللوطية الكبرى. وقال في العزل: هي الموؤودة الصغرى.
وقوله تعالى: * (وقدموا لأنفسكم) قال ابن عباس: هو التسمية على الوطء. وقيل: هو طلب الولد. وقيل: سائر أفعال الخير.
226

* (أنكم ملاقوه وبشير المؤمنين (223) ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم (224) لا يؤاخذكم الله باللغو في) * * (واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه) صائرون إليه * (وبشر المؤمنين) يا محمد.
قوله تعالى: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) نزلت الآية في عبد الله بن رواحة، كان له ختن على ابنته، فحلف أن لا يبره فإذا قيل له: ألا تصل ختنك؟ فقال: حلفت وكان من أقربائه فنزلت الآية. * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا)
والعرضة: كل ما يعترض فيمنع من الشيء. ومعناه: ولا تجعلوا الحلف بالله سببا يمنعكم عن البر والتقوى.
وقيل: معناه: لا تستكثروا من الإيمان؛ فإن من كثر يمينه فقد جعل اسم الله عرضة للهتك.
وفيه قول آخر: معناه: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن لا تبروا، ' ولا ' محذوفة، وهذا كما قال الشاعر:
(فقالت يمين الله أبرح قاعدا
* وإن قطعت رأسي لديك وأوصالي)
أي: لا أبرح قاعدا.
* (وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم) قوله تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم) اللغو: كل مطرح (من) الكلام وفي معناه هاهنا خمسة أقوال:
أحدها: وهو قول عائشة رضي الله عنها قالت: يمين اللغو: قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وإي والله. وهذا قول الشافعي.
والثاني: وهو قول أبي هريرة، وابن عباس: وهو أن يحلف الرجل على شيء أنه فعله ولم يفعله، أو على عكسه وهذا قول أبي حنيفة. وقال الشعبي: هو اليمين في
227

* (أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم (225) للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا) * * حال الغضب. وقال سعيد بن جبير: هو الحلف بتحريم الحلال.
وقال زيد بن أسلم: هو أن يقول الرجل: أعمى الله بصري، أو أتلف مالي، إن لم أفعل كذا؛ فهذا يمين اللغو، والله لا يؤاخذ به، ولو يؤاخذ به الناس لعجل عقوبتهم.
والأصح: ما قالت عائشة؛ لأن الله تعالى يقول: * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) وكسب القلب: هو القصد بالقلب إلى اليمين؛ فدل أن يمين اللغو: ما لم يقصد
بالقلب.
* (والله غفور) أي: ستور * (حليم) وهو الذي لا يعجل بالعقوبة.
قوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة اشهر) الألية: اليمين. وكذلك الإيلاء قال الشاعر:
(قليل الألايا حافظ ليمينه
* وإن بدرت منه الألية برت)
فقوله: * (للذين يؤلون) أي: يحلفون. قال ابن عباس: إنما ينعقد الإيلاء إذا حلف على ترك الوطء أبدا ومطلقا. ومذهب أبي حنيفة أنه ينعقد الإيلاء بالحلف على أربعة أشهر. ومذهب الشافعي أنه إنما يصير موليا بالحلف على أربعة أشهر، وهي * (تربص أربعة اشهر) أي: انتظار أربعة أشهر.
* (فإن فاءوا) أي: فإن رجعوا عن اليمين بالوطء في حق من يقدر على الوطء، أو بالقول في حق من لا يقدر على الوطء * (فإن الله غفور رحيم) وقرأ أبي بن كعب: ' فإن فاءوا فيهن ' يعني في المدة، وهذا يوافق قول أبي حنيفة.
* (وإن عزموا الطلاق) يعني: بالإيقاع * (فإن الله سميع عليم) لقول الزوج، عليم بما يضمره.
ومذهب الشافعي أنه تجوز الفيئة بعد المدة بوقف حتى يفيء أي: يطلق، وهو
228

* (الطلاق فإن الله سميع عليم (227 والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا) * * مروى عن عمر، وعلى، وأبي الدرداء رضي الله عنهم.
وذهب أبو حنيفة إلى أنها تطلق طلقة بائنة بانقضاء المدة. وهو مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود، وعلي، في رواية ضعيفة، والمسألة في الخلافيات.
قوله تعالى: * (والمطلقات) يعني المخليات يقال: أطلق الأسير وأطلق البعير إذا خلاه.
* (يتربصن بأنفسهن) ينتظرن * (ثلاثة قروء) والقرء: الطهر، وهو قول أهل الحجاز.
قال الزهري: لم يقل أحد من أهل الحجاز: أن الأقراء الحيض؛ إلا سعيد بن المسيب.
ومذهب أبي حنيفة. أن الأقراء الحيض وهو مروى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وهو قول أهل الكوفة.
وقال أبو عمر بن العلاء: القرء اسم ينطلق على الحيض، وينطلق على الطهر، ويذكر بمعناهما أيضا.
وأصل القرء: الجمع. وقيل: هو مأخوذ من القرء بمعنى الوقت، يقال: أقرأت الرياح إذا هبت لوقتها.
وقرأت النجوم إذا أفلت. ويكون بمعنى طلعت لوقت معلوم.
وأنشدوا في الأقراء بمعنى الأطهار قول الأعشى: (أفي كل عام أنت جاشم غزوة
* تشد لأقصاها عزيم عزائكا)
(مورثة مالا وفي الحي رفعة
* لما ضاع فيها من قروء نسائكا)
229

* (يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم (228) الطلاق مرتان فإمساك) * *
وإنما يضيع في السفر زمان الأطهار لا زمان الحيض؛ لأنهما مضيعة.
وقوله تعالى: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) يعني: من الحيض، والحبل.
قال قتادة: علم الله تعالى أن يكون في النساء لوائم، تقول المرأة: حضت، ولم تحض، وطهرت ولم تطهر، وحبلت ولم تحبل.
قوله تعالى: * (إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) فإن قيل: ما معنى قوله: * (إن كن يؤمن بالله) والحكم في الكافرة مثل الحكم في المؤمنة؟ قيل: معناه: أن هذا من فعل المؤمنات، كما يقال: إن كنت مؤمنا فأد حقي. يعني: من فعل المؤمنين أداء الحقوق. وقوله * (وبعولتهن) أي: أزواجهن * (أحق بردهن) أي: برجعتهن * (في ذلك) يعني: في تلك المدة. * (إن أرادوا إصلاحا) معناه: إن أرادوا بالرجعة الصلاح، وحسن العشرة، ولم يكن قصده الإضرار، كما كانوا يفعلون في الجاهلية. كان الرجل منهم يطلق امرأته، ثم يراجعها إذا أشرفت العدة على الانقضاء. ثم يطلقها، ثم يراجعها كذلك، يقصد به تطويل العدة عليها.
* (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) قال ابن عباس: في معناه: إني أحب أن أتزين لامرأتي كما تحب امرأتي أن تتزين لي؛ لأن الله تعالى يقول: * (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وفيه قول آخر، معناه: على الرجل أن يتقي لحقها كما على المرأة أن تتقي لحقه يعني: من الحرام.
* (وللرجال عليهن درجة) قال مجاهد: بالجهاد والميراث. وقيل: يعني: في الطلاق؛ لأن الطلاق بيد الرجال. وقال حميد: باللحية. * (والله عزيز) أي: منيع
230

(* (بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما) * حكيم).
قوله تعالى: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان). قال عروة بن الزبير: كان الناس في الابتداء يطلقون من غير حصر ولا عدد، فيطلق الرجل امرأته فلما قاربت انقضاء العدة راجعها، ثم طلقها كذلك، ثم راجعها، وقال: لا أخليك تتزوجين أبدا، فنزلت الآية * (الطلاق مرتان) ' ويعني: الطلاق الذي يملك عقيبه الرجعة مرتان.
* (فإمساك بمعروف) هو الرجعة، وقيل: هو الإمساك بعد الرجعة للصحبة. وقوله: * (بمعروف) هو كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح، وحسن الصحبة. * (أو تسريح بإحسان) هو أن يتركها بعد الطلاق حتى تنقضي عدتها.
' وسئل رسول الله أين الطلقة الثالثة؟ فقال: أو تسريح بإحسان '.
ولفظ السراح والفراق صريحان مثل الطلاق عند الشافعي.
وقال أبو حنيفة: الصريح لفظ واحد وهو الطلاق.
وقوله تعالى: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) يعني: غصبا وظلما، وذلك مثل قوله في سورة النساء: * (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا).
وقوله تعالى: * (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) يعني: إنما يحل الأخذ عند
231

إرادة الخلع، ووجود الخوف.
وقوله: * (إلا أن يخافا) يقرأ بفتح الياء وهو المعروف. وقرأ الأعمش وحمزة: ' إلا أن يخافا ' بضم الياء. وقرأ ابن مسعود: ' إلا أن تخافوا '.
أما الأول: راجع إلى الزوجين. وأما قراءة ابن مسعود: فهي خطاب للولاة والقضاة.
وأما قراءة حمزة: قيل: إنه قصد اعتبار معنى قراءة ابن مسعود، ومعناه: إلا أن يخاف الزوجان؛ [فيعلم] الولاة والقضاة. وقالوا: إنه لم يصب.
واختلفوا في معنى هذا الخوف، قال أبو عبيدة إمام اللغة: الخوف بمعنى العلم.
قال أبو إسحاق الزجاج: هو على حقيقة الخوف، معناه إلا أن يغلب على الظن خوف أن لا يقيما حدود الله.
وفيه قول ثالث: أن الخوف بمعنى الظن، قال الشاعر:
(أتاني كلام من نصيب (يقوله
* وما خفت يا سلام أنك [عائبي])
أي: ما ظننت.
وقوله تعالى: * (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) أي: فيما اختلعت به. واختلفوا في الخلع،
قال طاوس، والربيع بن أنس: يختص جواز الخلع بحال خوف النشوز؛ تمسكا بظاهر الآية.
وقال الزهري: يختص جواز الخلع بقدر ما ساق إليها من المهر، حتى لا يجوز بالزيادة. وقال الحسن: الخلع إنما يجوز للولاة والقضاة؛ تمسكا بظاهر الآية.
232

* (افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229) فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح) * *
والأكثرون على أن الخلع يجوز بكل حال، وبكل قدر تراضيا عليه من الزوجين وغيرهما.
وإنما الآية خرجت على وفق العادة في أن الخلع إنما يكون في حال خوف النشوز، وهو الأولى أن يؤتى بالخلع في حال النشوز، وبقدر المهر.
وقوله تعالى: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) أي: فلا تجاوزوها، وحدود الله: كل ما منع الشرع من المجاوزة عنه.
وقوله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد) هو الطلقة الثالثة. وحكمها تحريم العقد إلى أن يوجد الزوج الثاني. ثم التحليل للزوج الأول إنما يحصل بالعقد والوطء جميعا، على قول أكثر العلماء.
وحكى عن سعيد بن المسيب وقيل: عن سعيد بن جبير أنه يحصل بمجرد النكاح. بظاهرة الآية. وقد عد هذا من شواذ الخلاف.
والدليل على صحة القول الأول: ما روى ' أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله، وقالت: إن رفاعة بت طلاقي، وتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب. فقال عليه السلام: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك '. فدلت السنة على اشتراط الوطء وهذا خبر صحيح.
وقوله تعالى: * (حتى تنكح زوجا غيره) فالنكاح بمعنى الوطء، ويكون بمعنى
233

* (عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230) وإذ طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب) * * العقد. * (فإن طلقها) يعني: الزوج الثاني * (فلا جناح عليهما أن يتراجعا) وأراد بالرجعة هاهنا: إنشاء النكاح مع الزوج الأول.
وقوله تعالى: * (إن ظنا أن يقيما حدود الله) يعني: إن علما أن يكون بينهما الصلاح، وحسن الصحبة.
وقوله: * (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) أي: يعلمون ما أمر الله به
قوله تعالى: * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) أي: قاربن بلوغ الأجل كما يقال: بلغت المنزل، إذا قاربه.
وقوله: * (فأمسكوهن بمعروف) أي: راجعوهن بالمعروف.
* (أو سرحوهن بمعروف) أو اتركوهن حتى تنقضي العدة.
* (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) أي: لا تقصدوا بالرجعة الضرار بالمرأة، كما كانوا يفعلونه. * (ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه) أي: أضر بنفسه لا بغيره.
(ولا تتخذوا آيات الله هزوا) قالت عائشة وهو الأصح: هو النهي عن قصد الإضرار (بالرجعة) فإن كل من خالف أمر الشرع فهو متخذ آيات الله هزوا. وقال أبو الدرداء وهو قول الحسن: هو أن الرجل منهم كان يطلق، ثم يقول: ما كنت جادا، ويعتق، ثم يقول: ما كنت جادا، كنت لاعبا.
وفيه قول ثالث: أنه نهى عن الزيادة على قدر الطلاق الثلاث.
234

* (والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم (231) وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم) * *
وقوله تعالى: * (واذكروا نعمة الله عليكم) قال عطاء: أراد به نعمة الإسلام.
* (وما أنزل عليكم من الكتاب) يعني: القرآن * (والحكمة) يعني: السنة.
* (يعظكم به) يرشدكم به * (واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم).
قوله تعالى: * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) أراد ببلوغ الأجل في هذه الآية: تمام انقضاء العدة.
قوله تعالى: * (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) والعضل: المنع.
قال الخليل: يقال: دجاج معضل، إذا نشبت فيها البيضة وامتنعت من الخروج؛ لضيق المخرج. ومنه الداء العضال، وهو الذي لا يطاق علاجه.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: أعضل بي أهل الكوفة. أي: ضيقوا علي، وأوقعوا بي في أمر شديد.
وأكثر العلماء والمفسرين على أنه خطاب للأولياء، نهاهم عن الامتناع من التزويج.
وقد قال الشافعي: هذا بين، أنه دليل على أن المرأة لا تلي عقد النكاح.
ونزلت الآية في معقل بن يسار المزني؛ فإنه زوج أخته من رجل فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم جاء يخطبها مع الخطاب، ورغبت المرأة فيه، فقال معقل: زوجتك أختي دون غيرك، وخطبها أشراف قومي فاخترتك! أطلقتها، لا أنكحتكها أبدا؛ فنزلت الآية.
وفيه قول آخر: أنه خطاب للأزواج؛ لأن ابتداء الآية خطاب لهم.
ومنع الأزواج هو ما ذكرنا من أن يطلقن، ثم يراجع، ثم يطلق. والأول أصح.
وقوله تعالى: * (إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم
235

* (بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232) والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا) * * يؤمن بالله واليوم الآخر) إنما خصهم لأن الوعظ إنما يؤثر في المؤمنين.
وقوله تعالى: * (ذلكم أزكى لكم وأطهر) أزكى لكم أي: خير لكم، وأطهر أي: أصلح. * (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن) هذا خبر بمعنى الأمر.
* (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة).
فالحولان: (مدة) الرضاع، فإن قال قائل: لم قال: كاملين؟
قيل: لأن الحولين قد ينطلق على الحول وبعض الحول الثاني، كما في قوله: * (الحج أشهر معلومات) أطلق الأشهر على شهرين وبعض الثالث، فقال: كاملين ليعرف أنه أراد تمام الحولين. وقيل: إنما قاله تأكيدا.
وروى أن امرأة أتت بولد لستة أشهر من وقت النكاح، فجاء زوجها إلى عثمان في ذلك. فهم عثمان رضي الله عنه برجمها، فقال علي: لا سبيل لك عليها؛ لأن الله تعالى يقول: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وقال: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) فإذا ذهب الفصال حولين، بقي للحمل ستة أشهر، فتركها عثمان، ودرأ الحد.
وقوله تعالى: * (وعلى المولود له) يعني: الزوج أبو الولد. * (رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وذلك نفقة مدة الرضاع. * (لا تكلف نفس إلا وسعها) إلا طاقتها،
236

* (تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أراد فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن) * * يعني: على الموسع بقدر وسعه، وعلى المقتر بقدر طاقته.
وقوله تعالى: * (لا تضار والدة بولدها) بفتح الراء. وقرأ أبو عمرو وغيره بضم الراء. وقرأ أبان [عن] عاصم: ' لا تضارر ' وفي الشواذ. فمن قرأ بفتح الراء
فمعناه: لا تضار المرأة بولدها. يعني: لا ينتزع الأب ولدها منها، فيسلمه إلى غيرها وهي راغبة في الإرضاع.
ويحتمل أن معناه: أن المرأة لا تضار بولدها فتتركه (لغيرها)، وتمتنع من الإرضاع. ومن قرأ بالرفع فهذا أيضا معناه، وهو معنى القراءة الثالثة.
وقوله تعالى: * (ولا مولود له بولده) يعني الأب لا يضر بولده فيسلم إلى غير الأم.
وقوله تعالى: * (وعلى الوراث مثل ذلك) قال عمر: أراد به على غير الوالدين مثل ذلك النفقة، وهذا قول أبي حنيفة، فإنه يوجب نفقة القرابة على الإخوة والأعمام.
والقول الثاني: أراد بمثل ذلك: ترك المضارة. وهو قول ابن عباس، ولم ير النفقة على غير الوالدين. وهذا مذهب مالك والشافعي.
وفيه قول ثالث: أراد بالوارث هذا: الولد، عليه نفقته من ماله إن كان له مال.
وقوله تعالى: * (فإن أرادا فصالا) أي: فيما دون الحولين. * (عن تراض منهما) يعني: من الوالدين * (وتشاور) أي: يشاور أهل العلم به حتى يخبروا أن الفصال في ذلك الوقت لا يضر بالولد. والمشاورة: استخراج الرأي.
237

* (تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير (233) والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن) * *
وقيل: إن عمر ركب فرسا يشوره، أي: يستخرج سيره، فعطب تحته، فحكم شريحا؛ فقضي عليه بالضمان. وقال: إنما ركبته سوما؛ فولاه القضاء، فقضى بعد ذلك سبعين سنة.
وقوله: * (فلا جناح عليهما) أي: فلا حرج في الفصال قبل تمام الحولين.
وقوله: * (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) أي: تستأجروا مرضعة لأولادكم، واللام محذوفة. ومعناه: أن تسترضعوا لأولادكم.
وقوله: * (فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف).
يقرأ: ' آتيتم ' ممدودا، ويقرأ: ' أتيتم ' مقصورا ومعنى الأول: إذا سلمتم إلى الأم، وما آتيتم أي: ما سميتم لها من أجر الرضاع بقدر ما أرضعت. ويحتمل التسليم إلى المستأجرة أجرتها إلى الرضاع.
ومن قرأ ' أتيتم ' فمعناه: إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف، يعني: إذا سلمتم لأمره وانقدتم لحكمه فيما فعلتم من المعروف. * (واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير).
قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم) قرأ علي: ' يتوفون ' بفتح الياء، ومعناه: يستوفون أعمارهم. والمعروف بضم الياء، ومعناه: والذين يموتون ويتوفى آجالهم * (ويذرون أزواجا) أي: ويتركون أزواجا والمراد بالأزواج: الزوجات.
* (يتربصن) ينتظرن * (بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) الآية في عدة الوفاة، وهي مقدرة بأربعة أشهر وعشر باتفاق الأمة لنص الكتاب.
238

* (في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير (234) ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكنتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن) * *
وقيل: إنما قدر بتلك المدة لحكمة، وهي أن الولد يرتكض في بطن الحامل لنصف مدة الحمل وأربعة أشهر وعشر قريب من نصف مدة الحمل.
والارتكاض: بمعنى التحرك، ويقال: امرأة مركضة إذا تحرك [في] بطنها، قال الشاعر:
(ومركضة صريحي أبوها
* يهان لها الغلامة والغلام)
وأما قوله: * (وعشرا) فهي ليال، يقال: عشرة أيام وعشر ليال، وإنما خص الليالي لأن كل أجل يبتدئ من الليل.
وقال المبرد: أراد به: عشر مدد، كل مدة يوم وليلة.
وقوله تعالى: * (فإذا بلغن أجلهن) أي: انقضت عدتهن.
* (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) يعني: فيما فعلن من اختيار الأزواج دون العقد، والعقد إلى الولي.
وقيل: معناه فيما (تزين) للأزواج زينة لا ينكرها الشرع. * (واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون خبير).
قوله تعالى: * (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) التعريض بالخطبة في أوان العدة جائز. والخطبة: خطبة العقد، يقال: خطب يخطب خطبة إذا خطب العقد. وخطب يخطب خطبة إذا خطب الناس بكلام معلوم الأول والآخر.
وصورة التعريض بالخطبة: أن يقول للمرأة: إنك لجميلة، وإنك علي لكريمة، وإني لراغب في النساء، أو ما قضى الله يكون، ونحو ذلك. فهذا لا بأس به في حق المعتدة. ولا يجوز التصريح بالخطبة.
وقال مجاهد: وذلك أن يقول: لا تسبقيني بالنكاح، أو يقول: لا تفوتي على نفسك، أو أخطبك حتى إذا حللت أتزوجك، ونحو هذا.
239

* (ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله) * *
وقيل: إن ذلك يجوز مع الولي بأن يقول له: لا تسبقني بالنكاح ونحو ذلك.
وإنما لا يجوز التصريح معها. والدليل على جواز التعريض بالخطبة: ما روى أن سكينة بنت حنظلة تأيمت عن زوجها، فدخل عليها أبو جعفر محمد بن علي الباقر، وقال: تعلمين قرابتي من رسول الله، وقرابتي من علي، وحقي في الإسلام، وشرفي في العرب. فقال سكينة: أتخطبني وأنا معتدة وأنت أنت يعني: منك يؤخذ العلم؟! فقال: ما خطبتك، ولكن ذكرت منزلتي.
ثم روى ' أن رسول الله دخل على أم سلمة وكانت في عدة زوجها أبي سلمة، فذكر عليه السلام كرامته على الله، ومنزلته عند الله، وكان يذكر من ذلك ويعتمد على يديه حتى أثر الحصير في يديه '. فهذا كله من التعريض بالخطبة، ودل الحديث على جوازه.
وقوله تعالى: * (أو أكننتم في أنفسكم) أي: أضمرتم في أنفسكم أمر النكاح * (علم الله أنكم ستذكرونهن) يعني: في أنفسكم. * (ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا) في معنى هذا السر أقوال، أصحها: أنه أخذ ميثاق النكاح مما، نهى الشرع عنه في حال العدة.
وقيل: السر: الزنا. وقيل: هو الوطء. قال امرؤ القيس:
(ألا زعمت بسباسة اليوم أنني
* كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي)
يعني: الجماع. قال الشافعي قوله: * (لا تواعدهن سرا) هو أن يصف نفسه بكثرة الجماع؛ ليرغبها في نكاحه.
وقوله تعالى: * (إلا أن تقولوا قولا معروفا) هو ما ذكرنا من التعريض المباح.
قوله: * (ولا تعزموا عقدة النكاح) أي: لا تحققوا العزم على عقد النكاح في العدة * (حتى يبلغ الكتاب أجله) أي: فرض الكتاب؛ لأن العدة من فرض الكتاب.
* (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) هذا في التحذير عما نهاهم عنه. * (واعلموا أن الله غفور حليم).
240

* (غفور حليم (235) لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين (236) وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة) * *
قوله تعالى: * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) تقديره: ولم تمسوهن، ولم تفرضوا لهن فريضة.
هذه الآية في المطلقة قبل الفرض والمسيس. وفي الآية دليل على جواز إخلاء النكاح عن تسمية المهر. وفيها دليل على وجوب المتعة في الجملة؛ فإنه قال: * (ومتعوهن).
قال ابن عباس في المتعة: أعلاها خادم، وأوسطها الورق، وأدناها ثوب للكسوة. قال الشافعي: واستحسن في المتعة أن تكون من عشرين درهما إلى ثلاثين، وفي الجملة هي مفوضة إلى اجتهاد الحكام، فيوجب على كل واحد تقدير ما يرى * (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين).
قال شرح: هذا إرشاد وندب إلى الإمتاع، ولم ير وجوب المتعة، وسائر العلماء ذهبوا إلى وجوب المتعة، فمذهب علي رضي الله عنه أن لكل مطلقة متعة.
وقال ابن عمر: لكل مطلقة متعة؛ إلا التي فرض لها زوجها، وطلقها قبل الدخول، حسبها نصف المسمى، وهذا أحد قولي الشافعي.
وفيه قول ثالث: أنها لا تجب إلا للتي لم يفرض لها، وطلقت قبل الدخول.
وقوله تعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) هذه الآية في المطلقة بعد الفرض قبل المسيس، وجب لها نصف المسمى عند الطلاق قبل الدخول.
* (إلا أن يعفون) هذا في الزوجات، يقال: تعفو، تعفوان، يعفون. ومعنى عفو المرأة: هو الفضل بترك النصف الذي وجب لها.
* (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) قال علي وهو مذهب شريح، والشعبي:
241

* (فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير (237) حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (238) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * * إن المراد به: الزوج، وعفوه: الفضل بإعطاء تمام المهر.
وقال ابن عباس: أراد به الولي وهو الأليق بنظم الآية ورأى جواز إبراء الولي عن مهر المرأة.
وفيه قول ثالث: أنه في أب البكر خاصة، وله العفو عن مهر ابنته ما دامت بكرا.
والفتوى على أن ليس إلى الولي من العفو شيء. وإنما الآية في الزوج، كما قال علي رضي الله عنه.
* (وأن تعفو أقرب للتقوى) الخطاب مع الكل. * (ولا تنسوا الفضل بينكم) أي: أفضال بعضكم على بعض. * (إن الله بما تعملون بصير).
قوله تعالى: * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) أمر بالمحافظة على جميع الأوقات.
وأما الصلاة الوسطى ففيها سبعة أقوال: أحدها: قال عمر، وعلي، وأبو هريرة، وأبو أيوب، وعائشة رضي الله عنهم هي صلاة العصر، لأنها وسط (صلاتي) الليل وصلاتي النهار.
وعن حفصة أنها قالت لكاتب مصحفها: إذا بلغت قوله: * (حافظوا على الصلوات) فأعلمني، فلما بلغه أعلمها، فقالت: اكتب: والصلاة الوسطى صلاة العصر.
وقد صح الخبر عن رسول الله أنه قال يوم الخندق: ' شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا '.
والقول الثاني وهو قول زيد بن ثابت: أنها صلاة الظهر، لأنها وسط النهار.
242

والقول الثالث وهو قول ابن عباس، وابن عمر، وجابر: أنها صلاة الصبح. وهو [اختيار] الشافعي لأنها وسط صلاتي الليل وصلاتي النهار.
ووراء هذا فيه أربع أقوال غريبة: أحدها قاله قبيصة بن ذؤيب: أنها صلاة المغرب؛ لأنها وسط في عدد الركعات.
والقول الثاني وهو قول سعيد بن المسيب، والربيع بن خثيم: أنها كل صلاة من الصلوات الخمس؛ لأن كل صلاة من الصلوات الخمس: وسطى بين الأربع. وإنما خصه بعد ذكر الصلوات تأكيدا وتحريضا على المحافظة على جميع الصلوات.
والقول الثالث: أنها الجمعة.
والقول الرابع: أنها الجماعة.
واختلفوا في صلاة الصبح أنها من صلاة الليل، أو من صلاة النهار.
فأكثر العلماء على أنها من صلاة النهار.
وقال بعضهم: أنها [من] صلاة الليل. وهذا الخلاف يرجع إلى أن النهار من وقت طلوع الفجر أو [من] وقت طلوع الشمس.
فمن قال: إنه من وقت طلوع الفجر؛ جعل صلاة الصبح من صلاة النهار.
ومن قال: إن النهار من وقت طلوع الشمس؛ جعلها من صلاة الليل. واستدل قائل هذا القول بقول أمية بن الصلت.
(والشمس تطلع كل آخر ليلة
* حمراء يصبح لونها يتورد)
وقال ابن الأنباري: ليل محض، ونهار محض، ومشترك بين الليل، والنهار فصلاة المغرب والعشاء الآخرة في محض الليل.
وصلاة الظهر والعصر في محض النهار، وصلاة الصبح مشترك بين الليل والنهار.
243

* (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (239) والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا)
وفيه قول آخر هو المختار: أنه ليل لغة ونهار شرعا.
وقوله: * (وقوموا لله قانتين) أي: مطيعين ساكتين.
وذلك أن الكلام كان مباحا في الصلاة في الابتداء، فلما نزلت هذه الآية؛ سكتوا.
والقارئ في الصلاة ساكت عن الكلام. ومذهب الشافعي أنه [لو] حلف لا يتكلم فقرأ القرآن لم يحنث؛ لأنه كلام الله لا كلامه.
خلافا لأبي حنيفة قال: يحنث.
قوله تعالى: * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) هذه في صلاة الخوف، يصلون مشاة وفرسانا.
وقوله: * (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) يعني: كما علمكم من أصل الصلاة في حال الأمن.
قوله تعالى: * (والذين يثوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم). يقرأ بالفتح، وتقديره: أوصوا وصية. ويقرأ بالضم: وتقديره: عليكم وصية، وهذا ورد في ابتداء الإسلام حين كانت (العدة للوفاة) حولا كاملا، وكانت نفقة جميع الحول على الزوج واجبة، وكان يجب عليه الوصية بالإنفاق إذا مات، فهذا معنى قوله: * (وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول) أي: نفقة الحول.
وقوله: * (غير إخراج) وحرم على الوارث إخراج المعتدة من البيت قبل تمام الحول، لكن إذا خرجت بنفسها سقطت نفقتها. فنسخ ذلك بآية عدة الوفاة كما سبق، وتلك
244

* (جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم (240) وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين (241) كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون (242) ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) * * الآية وإن كانت متقدمة في التلاوة ولكنها متأخرة في المعنى، وهي ناسخة لهذه الآية.
وقيل لعثمان: ألا تضع تلك الآية مكان هذه الآية، وهذه مكان تلك؟ فقال: أكره أن أغير القرآن عن موضعه.
وقوله تعالى: * (فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف) هو ما ذكرنا بعد الفراغ من العدة.
وقوله تعالى: * (والله عزيز حكيم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وللمطلقات متاع بالمعروف) أعاد ذكر المتعة تأكيدا.
وسبب نزول الآية: ما روى أنهم لما سمعوا قوله تعالى: * (متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) قالوا: إن شئنا نمتع، وإن شئنا لا نمتع، فنزلت هذه الآية.
* (وللمطلقات متاع بالمعروف) أي: المتعة لهن ملكا، جعلها لهن بلام التمليك. وقوله: * (حقا على المتقين) يعني: واجبا على المؤمنين.
قوله تعالى: * (كذلك يبين الله لكم آياته) لأنه ذكر فيما قبل كثيرا من الآيات، والأحكام، فأراد به ذلك. وقوله: * (لعلكم تعقلون) أي: تفهمون وتفقهون.
قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف) قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف، وقال غيره: كانوا ثمانية آلاف، وقال السدي: كانوا [بضعة]
245

فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (243) وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم (244) من ذا) * * وثلاثين ألفا وفي رواية ابن جريج: أربعين ألفا، وقال ابن دريد: ألوف، أي: مؤتلفة قلوبهم، والصحيح أن المراد به: العدد كما بينا.
وقوله: * (حذر الموت فقال لهم الله موتوا) أي: أماتهم الله * (ثم أحياهم) هذا [في] قوم من بني إسرائيل هربوا من الطاعون، وقالوا: نذهب إلى أرض ليس بها طاعون، فذهبوا فأماتهم اله تعالى هنالك وبقوا سبعة أيام كذلك، فمر بهم نبي يقال له: حزقيل، فدعا الله تعالى فأحياهم. قال الحسن البصري: أماتهم الله تعالى قبل آجالهم؛ عقوبة لهم، ثم أحياهم ليستوفوا آجالهم.
وفي القصص: أنه بعد ما أحياهم كان يوجد منهم ريح الموت، وكذلك من أولادهم. وقوله تعالى: * (إن الله لذو فضل على الناس) قيل: هو على العموم في حق الكافة في الدنيا، وقيل: هو على الخصوص في حق المؤمنين. وقوله تعالى: * (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) أما الكفار فلا يشكرون.
وأما [المؤمنون] فلم يبلغوا غاية الشكر.
قوله تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) قيل الخطاب مع الصحابة. والمعنى فيه: أن أولئك القوم لما هربوا من الموت لم ينفعهم الهرب حتى أدركهم الموت، فلا تقعدوا وأنتم عن القتال خوفا من الموت؛ بل جاهدوا وقاتلوا في سبيل الله.
وقيل: الخطاب مع أولئك القوم من بني إسرائيل، فإنهم إنما قعدوا عن القتال؛ فأماتهم الله ثم أحياهم، وأمرهم بالقتال.
246

* (الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه) * *
قوله تعالى: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) القرض: هو القطع. ومنه المقراض، وسمى القرض قرضا؛ لأنه يقطع شيئا من ماله ليكافأ عليه. أو يرد عليه مثله.
قال لبيد:
(وإذا جوزيت قرضا فأجزه
* إنما يجزي الفتى ليس الإبل)
فإن قيل: كيف يكون الإقراض من الله تعالى؟ قيل معناه: يقرض أنبياء الله. فقال الضحاك: معناه: يتصدق لله، وسماه قرضا لأن الله تعالى قد وعد الثواب عليه.
وقوله تعالى: * (قرضا حسنا) يعني: حلالا، وقيل: حسنا أي: طيبة نفسه به.
وقوله: * (فيضاعفه له أضعافا كثيرة) يقرأ بقراءات: فيضاعفه ' بضم الفاء على اتباع قوله: * (يقرض).
وقرئ: ' فيضاعفه '. بفتح الفاء نصبا على جواب الاستفهام. ويقرأ: ' فيضعفه ' بالياء ويقرأ بالنون: ' فنضعفه '.
ولتضعيف والمضاعفة بمعنى واحد. والضعف كل ما زاد على المثل.
وقوله: * (أضعافا كثيرة) قال السدي: كثيرة لا يعلم عددها إلا الله.
وقال غيره: سبعمائة ضعف.
وقوله: * (والله يقبض ويبسط) فيه أربعة أقوال:
247

* (ترجعون (245) ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لبني لهم)
[أحدهما]: قال الحسن: يقبض بالتقتير، ويبسط بالتوسيع.
وقال الزجاج: يقبض بقبول الصدقة، ويبسط بإعطاء الثواب عليه.
والقول الثالث: يقبض بتقليل الأعمار، ويبسط بتكثير الأعمار.
والقول الرابع: يقبض بالتحريم، ويبسط بالإباحة.
وقوله تعالى: * (وإليه ترجعون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى) الملأ: أشراف كل قوم. وفي الخبر: ' أنه لما قتل رؤوس المشركين مثل أبي جهل، وعتبة، وغيرهما يوم بدر قال رجل من الأنصار: ما قتلنا إلا عجائز صلعا أي: أواخر القوم شيوخا فكره ذلك رسول الله وقال: أولئك الملأ من قريش؛ لو رأيتهم هبتهم، وإن أمروك أطعتهم، واحتقرت فعلك مع فعلهم '.
وقوله: * (إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله) قيل: ذلك النبي كان اشمويل، وقيل: كان يوشع بن النون، وقيل: هو شمعون، وسى بذلك؛ لأن الله تعالى دعاه فسمعه. والقصة في ذلك: أن بني إسرائيل [ظهر] عليهم العدو، وسبوا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين نفرا وكانوا قد قعدوا عن القتال أربع سنين فجاءوا إلى نبيهم ذلك، وقالوا له: ابعث لنا ملكا يجتمع أمرنا عليه
248

* (ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال
تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين (246) وقال لهم نبيهم إن الله قد) * * فنقاتل في سبيل الله.
وقوله تعالى: * (قال هل عسيتم) القراءة المعروفة: بفتح السين. وقرئ: ' هل عسيتم ' بكسر السين وهما في المعنى سواء. وبالفتح أصوب.
وقوله: * (إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا) ومعنى الآية: لعلكم أن تجبنوا عن القتال فلا تقاتلوا.
وقوله: * (قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله) أي: ما يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله. * (وقد أخرجنا من ديارنا) لأنهم كانوا أخرجوا من بيت المقدس.
* (وأبنائنا) أي: أخرجنا من أبنائنا بالسبي، والسبي فيه مضمر، ومثله قول الشاعر: (ورأيت زوجك في الوغى
* متقلدا سيفا ورمحا)
أي: وحاملا رمحا.
وقوله تعالى: * (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليهم بالظالمين) وأراد بالقليل: أولئك الذين اقتصروا على الغرفة، وجاوزوا مع طالوت وسيأتي.
قوله تعالى: * (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) قيل: إنه كان سقاء يستسقي على الحمار.
وسمى طالوت؛ لطوله لأنه كان أطول من كل أحد برأسه ومنكبه.
وقيل: كان الرجل منهم إذا رفع يديه وصل إلى رأسه، يعني: رأس طالوت.
249

بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم (247) وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن) * *
وقوله: * (قالوا أني يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه) أي: كيف يكون له الملك علينا، وليس هو من سبط النبوة، والملك؟
وذلك أن سبط النبوة كان سبط لاوي بن يعقوب، وهو سبط موسى بن عمران، وسبط الملك كان سبط يهوذا، وكان طالوت من سبط بنيامين، ولم يكن سبط ملك و لا نبوة؛ وذلك أنهم كانوا قد عصوا الله معصية عظيمة؛ فنزع الله منهم النبوة والملك وكانوا يسمون سبط الإثم.
وقوله: * (ولم يؤت سعة من المال) لأنه كان سقاء كما بينا.
قوله تعالى: * (قال إن الله اصطفاه عليكم) أي: اختاره عليكم.
وقوله: * (وزاده بسطة في العلم والجسم) أما الزيادة بالجسم: معلوم.
وأما العلم: قيل أراد به علم الحرب وكان طالوت أعلمهم بأمر الحرب وقيل: أراد به علم الدين، والأول أصح.
وقوله: * (والله يؤتى ملكه من يشاء والله واسع عليم) فالواسع: ذو السعة، وهو الذي يعطى عن غني.
وأما العليم: فقيل: العليم والعالم بمعنى واحد، ومنهم من فرق بين العليم والعالم، فقال: العالم: بما كان، والعليم: بما يكون.
قوله تعالى: * (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت) طلبوا منه آية على الملك، فأخبرهم نبيهم بآية ملكه، وذلك إتيان التابوت.
قيل: هو التابوت الذي كان مع موسى وهارون، كانت بنو إسرائيل يخرجون به إلى الغزوات ويستنصرون به.
250

* (يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله) * *
وقيل: كان من شجر الشمشاذ، وكان ثلاثة أذرع في ذراعين.
وفيه قول آخر: أنه التابوت الذي أنزله الله تعالى على آدم مع الركن، وكان فيه صور الأنبياء.
وقوله: * (فيه سكينة من ربكم) قال علي رضي الله عنه: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، وهي بعد ريح هفافة.
وقال ابن عباس: هو طست من ذهب كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وقيل: هي شيء يشبه الهر له عينان لهما شعاع، وله جناحان من الزمرد والزبرجد، وكانوا إذا سمعوا صوته تيقنوا بالنصر، وكانوا إذا خرجوا بالتابوت إلى الحرب يضعونه قدامهم، فإن سار ساروا، وإن وقف وقفوا.
وقال مجاهد: السكينة آية كانوا يسكنون إليها.
وقوله تعالى: * (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) وذلك عصى موسى، ونعلاه، وعمامة هارون، ورضاض الألواح التي تكسرت، وقفيز من المن الذي أنزل على بني إسرائيل.
وقيل: أراد به التوراة، كانت في التابوت. * (مما ترك آل موسى وآل هارون) يعني: موسى وهارون، ومثله قول الشاعر:
(فلا تبك ميتا بعد ميت أجنه
* علي وعباس وآل أبي بكر)
أي: دفنه يعني: وأبو بكر.
وقوله تعالى: * (تحمله الملائكة) قال الحسن: كان التابوت مع الملائكة في السماء، فلما تولى طالوت الملك، حملت الملائكة التابوت ووضعوه بينهم.
وقيل: إن العمالقة غلبوا على التابوت، ودفنوه، فأمر الله تعالى الملائكة حتى استخرجوه، وحملوه إليهم.
251

* (الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (248) فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من) * *
قال ابن عباس: إن العمالقة لما غلبوا على التابوت أخذهم الباسور، فعلموه أن ذلك عقوبة عليهم من أجل التابوت، فشدوه على عجلة وحملوه على ثورين، وساقوهما إلى المفازة وتركوه فجاءت الملائكة وساقوا ذلك إلى بني إسرائيل.
وقوله تعالى: * (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فلما فصل طالوت بالجنود) قال ابن عباس: كان عدد الجنود ثمانين ألفا.
وقوله تعالى: * (قال إن الله مبتليكم بنهر) وذلك نهر كان بين أردن وفلسطين، ومعناه: أن الله ممتحنكم بذلك النهر؛ ليظهر من له نية وقصد في القتال، ممن لا نية له.
وقوله: * (فمن شرب منه فليس منى) قاله طالوت، يعني: ليس من أهل ولايتي وصحابتي.
* (ومن لم يطعمه فإنه مني) أي: من لم يذقه، قال الشاعر:
(فإن شئت حرمت النساء سواكم
* وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا)
أي: لم أذق ماء ولا نوما. يقال: منع البرد البرد أي: منع البرد النوم.
وقوله تعالى: * (إلا من اغترف غرفة بيده) يقرأ بقراءتين، بفتح الغين وضمها.
والغرفة بفتح الغين: المرة. والغرفة بضم الغين: ملء الكف.
وقوله: * (فشربوا منه إلا قليلا منهم) قال عكرمة: كان عدد القليل الذين اقتصروا على الغرفة: أربعة آلاف.
252

* (اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين (249) ولما برزوا لجالوت)
وأكثر المفسرين وهو الأصح على أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرا.
قال البراء بن عازب: كنا نتحدث أن عدد أصحاب رسول الله، ورضى عنهم يوم بدر كانوا على عدة الذين جاوزا مع طالوت، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرا '. قال البراء بن عازب: ولم يجاوز إلا مؤمن.
وفي القصص: أنهم لما وصلوا إلى النهر، كان قد ألقى الله عليهم العطش، فشرب الكل إلا هذا العدد القليل. وكل من شرب منهم اسودت شفتاه، ولم يرو، وبقي على الشط، وكل من اقتصر على الغرفة روى وجاوز.
وقيل: إن الكل جاوزا، ولكن حضر بعضهم القتال، ولم يحضر البعض.
وقوله: * (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)
قال ابن عباس والسدي: إنما قاله الذين انخذلوا ولم يجاوزا، وقيل: إنما قاله من الذين جاوزوا؛ من قلت بصيرته في الدين دون من قويت بصيرته.
وقوله تعالى: * (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله) يعني: الذين قويت بصيرتهم.
* (يظنون) يستيقنون أنهم ملاقو الله، وقد ذكرنا الظن بمعنى اليقين وقيل: هو على حقيقة الظن يعني: الذين يظنون إصابة الشهادة في الوقعة.
وقوله: * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) بقضائه وإدارته.
* (والله مع الصابرين) بالنصر والعونة.
وقوله: * (ولما برزوا لجالوت وجنوده) كان جالوت رئيس تلك العمالقة.
253

* (وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (250) فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل) * *
وقوله: * (قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا) معناه: أصبب علينا.
وقوله: * (وثبت أقدامنا) أي: في القتال * (وانصرنا على القوم الكافرين).
قوله تعالى: * (فهزموهم بإذن الله) أي: كسروهم، يقال: سقاء مهزم، ومنهزم أي: متكسر متثن بعضه على بعض.
وقوله * (بإذن الله) أي: بقضائه وإرادته.
وقوله: * (وقتل داود جالوت) وفي القصة: أن أبا داود حضر الحرب مع ثلاثة عشر نفرا من أولاده كان أصغرهم سنا داود، و كان [أصاب] معه مقلاع وقذافة، فبرز جالوت وطلب البراز وخرج إليه داود، ورماه بالمقلاع الحجر بين عينيه وخرج من قفاه، وأصاب قوما آخرين وقتلهم.
وقوله: * (وآتاه الله الملك والحكمة) جمع لدواد بين الملك والحكمة، يعني: النبوة. قيل: بعده بسبع سنين، ولم يكن من قبل مجتمعا، بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط، وقيل: الملك والحكمة: هو العلم مع العمل.
وقوله: * (وعلمه مما يشاء) قيل: صنعة الدروع، وأصوات الطيور، والزبور.
وقوله: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) قرأ نافع: ' ولولا دفاع الله ' والمعنى واحد.
قال ابن عباس ومجاهد: معناه: لولا دفع الله الكفار بالمؤمنين؛ لكثر الكفر، ونزلت السخطة، واستؤصلت الأرض.
254

* (على العالمين (251) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين (252) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات)
وقال علي، وعامة المفسرين: إن الله يدفع بالمتقي عن غير المتقي، وبالصالح عن الفاجر، وبالمصلح عن غير المصلح، وبالمؤمن عن الكافر، وهو معنى قول النبي ' لولا مشايخ ركع، وبهائم رتع، وصبيان رضع، لصب عليكم العذاب صبا '.
وقال رسول الله ' أن الله يدفع البلاء بالرجل الصالح عن مائة بيت من أهله وجيرانه '.
وقوله: * (ولكن الله ذو فضل على العالمين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) وهي ما ذكر من الآيات.
قوله تعالى: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) هذه الآية في بيان فضل الرسل بعضهم على بعض مع استوائهم في أصل الرسالة.
وقوله: * (منهم من كلم الله) يعني: موسى وقوله: * (ورفع بعضهم درجات) يعني: محمدا قال الزجاج: ما أوتى نبي آية إلا أوتى نبينا مثل تلك الآية، وقد أوتى انشقاق
255

* (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (253) يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم) * * القمر، وحنين الجذع، وكلام الشجر، ونبع الماء من بين الأصابع، والقرآن العظيم، وبعث إلى الأحمر والأسود، وغيره من الأنبياء بعث إلى قوم مخصوصين.
وقوله: * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) قد سبق ذكره.
وقوله: * (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات) هذا دليل على القدرية حيث أحالوا الاقتتال على المشيئة.
وقوله: * (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) منهم من تفضل عليه الله فآمن، ومنهم من خذله الله فكفر.
وقوله: * (ولو شاء الله ما اقتتلوا) أعاده ثانيا تأكيدا. وقوله: * (ولكن الله يفعل ما يريد) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم) قال السدى: أراد به الزكاة المفروضة. وقال غيره: أراد به الإنفاق في سبيل الله وقوله: * (من قبل أن يأتي يوم) يعني: يوم القيامة.
وقوله: * (لا بيع فيه) أي: لا فدية فيه، وسماها بيعا، لأن في الفدية شراء نفسه.
وقوله: * (ولا خلة) فإن قال قائل: قد نفى الخلة هاهنا في القيامة، وقد قال في آية أخرى: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو) فأثبت الخلة.
وقيل: تقديره: الأخلاء في الدنيا بعضهم لبعض عدو يوم القيامة، وإنما قال * (ولا خلة ولا شفاعة) وذلك أن الكفار كانوا يقولون: إن الملائكة أخلاؤنا والأصنام
256

* (الظالمون (254) الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في) * * شفعاؤنا فقال: لا تنفع خلتهم ولا شفاعتهم.
وقوله: * (والكافرون هم الظالمون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (الله لا إله إلا هو) ذكره مبالغة في الثناء، وهو مثل قولهم: لا كريم إلا فلان. أبلغ من قولهم: فلان كريم.
وقوله: * (الحي القيوم) قرأ عمر: ' القيام '. وقرأ علقمة: ' القيم ' والمعروف: * (القيوم). فالحي هو الباقي الدائم على الأبد، وهو من الحياة.
والحياة: صفة الله تعالى وأما القيوم: قيل: هو القائم على كل أحد بتدبيره في الدنيا.
وقيل: هو القائم على كل نفس بما كسبت للمجازاة في الآخرة.
وقيل: هو القائم بالأمور.
وقوله: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) قال المفضل الضبي: السنة في الرأس، والنوم في القلب، فالسنة أول النوم، وهو النعاس.
ومنهم من فرق بين السنة والنعاس، فقال: السنة في الرأس والنعاس في العين، والنوم في القلب.
والنوم: غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع من المعرفة بالأشياء.
وفي الأخبار أن ' موسى عليه السلام قال يا رب ألك نوم؟ فأوحى الله إليه يا موسى انظر ما تقول، خذ قارورتين فأخذهما بيديه فألقى الله عليه النوم، فوقعت إحداهما على الأخرى وانكسرتا، قال الله تعالى: لو كان لي نوم ما قامت سماء ولا أرض '.
وقوله: * (له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)
257

* (السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض) * *
لأنهم زعموا أن الملائكة والأصنام يشفعون لهم فقال: * (من ذا الذي) يمكنه الشفاعة إلا برضاه.
وقوله: * (يعلم ما بين أيديهم) يعني: الآخرة * (وما خلفهم) يعني: الدنيا، وقيل: * (ما بين أيديهم) ما قدموا * (وما خلفهم) ما خلفوا.
وقوله: * (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)
الإحاطة: العلم بالشيء بجميع جهاته وأنواعه، ومعناه: ولا يحيطون بشيء من علم الغيب إلا بما شاء، يعني: إلا بما أخبر به الرسل، وهو مثل قوله في سورة الجن: * (فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول).
وقوله: * (وسع كرسيه السماوات والأرض) قرأ يعقوب الحضرمي: ' وسع كرسيه السماوات والأرض ' والمعروف هو الأول.
واختلفوا في الكرسي، قال الحسن: هو العرش نفسه. وقال أبو هريرة: الكرسي موضوع قدام العرش.
ومعنى قوله: * (وسع كرسيه السماوات والأرض) أي: سعته مثل سعة السماوات والأرض وأوسع منه، وهو ظاهر في قراءة الحضرمي، وفي الأخبار ' أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة '.
وفي رواية عطاء عن ابن عباس: أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كدراهم سبعة على الترس.
258

* (ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم (255) لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من) * * وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه أراد بالكرسي علمه. ومثله قول الشاعر: (مالي بأمرك كرسي أكاتمه
* ولا بكرسي علم الله مخلوقه).
ومعناه: العلم. وقيل: هو ملكه وسلطانه. قال الزجاج: وفي الجملة هو أمر عظيم يدل على كمال قدرته.
وقوله: * (ولا يؤده حفظهما) قيل: هو راجع إلى الله تعالى. يعني: ولا يثقل عليه حفظ السماوات والأرض.
وقيل: هو راجع إلى الكرسي، وقيل على هذا: إن الكرسي تحت الأرض كالعرش فوق السماوات، والسماوات والأرض على الكرسي. وقيل: معلقة بالكرسي.
* (ولا يؤده) أي: لا يثقل على الكرسي حفظ السماوات والأرض.
* (وهو العلي العظيم) يعني بالعلى: المتعالي عن الأشياء والأنداد.
وقيل: العلى بالملك والسلطنة. والعظيم: الكبير.
وقد ورد في فضل آية الكرسي أخبار منها:
ما روى عن رسول الله أنه قال لأبي بن كعب: ' أي أعظم في القرآن؟ فقال: آية الكرسي. فقال عليه السلام: ليهنئك العلم أبا المنذر '.
قوله: * (لا إكراه في الدين) قيل: سبب نزول الآية أن المرأة من أهل المدينة كان لا يعيش لها ولدا؛ فكانت تنذر وتقول: إن عاش لي ولد لأهودنه، فإذا عاش لها ولد جعلته بين اليهود، فلما جاء الإسلام وأجلى رسول الله بني النضير إلى الشام بقي بينهم عدد من أولاد الأنصار قد هودوا فاستأذنوا رسول الله في استردادهم؛
259

* (الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم (256) الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) * * فنزلت الآية '. * (لا إكراه في الدين) فمن شاء منهم أن يدخل في الإسلام، فليدخل ومن لم يشأ فلا إكراه في الدين.
وقال الشعبي: هذا في أهل الكتاب لا يجبرون على الإسلام إذا بذلوا الجزية.
وفيه قول ثالث: أنه كان في الابتداء، ثم صار منسوخا بآية القتال.
وقوله: * (قد تبين الرشد من الغي) أي: الحق من الباطل، والإيمان من الكفر.
وقوله: * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) الطاغوت: هو الشيطان، وينطلق على الواحد والعدد. وقيل: كل ما يعبد من دون الله فهو طاغوت.
وأما الطاغوت في قوله: * (يريدون أن يتحكموا إلى الطاغوت) هو كعب بن الأشرف خاصة.
وقوله: * (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) العروة: الكوز والدلو. والمراد هاهنا بالعروة الوثقى: العقد الوثيق المحكم في الدين.
قال ابن عباس: أراد به كلمة لا إله إلا الله. قال مجاهد: أراد به الإسلام. وقيل: هو القرآن ومعناه: فقد تمسك بتمسك.
* (لا انفصام لها) أي: لا انقطاع لها * (والله سميع) بدعائك إياهم إلى الإسلام * (عليم) بحرصك على إسلامهم.
قوله تعالى: * (الله ولي الذين آمنوا) يعني: القيم عليهم بالنصر والمعونة والمثوبة.
وقوله: * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) يعني: من الكفر إلى الإسلام، وإنما سمى الكفر ظلمات؛ لأن طريق الكفر مشتبه ملتبس. وإنما سمى الإسلام نورا لأن طريقه بين واضح.
260

* (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (257) ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله
الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال) * *
وقوله: * (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) أي: من الإسلام إلى الكفر.
فإن قال قائل: كيف يخرجونهم من الإسلام ولم يدخلوا فيه؟ قيل: هو في قوم من المرتدين خاصة.
وقيل: هو على العموم؛ وذلك أنهم لما عدلوا وصرفوا عن الإسلام؛ فكأنهم أخرجوا عنه، يقول الرجل لغيره: أخرجتني عن صلتك، أي: لم تعطني، ولم تصلني.
وقوله: * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) معناه: هل انتهى إليك خبر الذي حاج إبراهيم وهو نمروذ؟ قاله قتادة.
وهو أول من تجبر في الأرض وادعى الربوبية. والمحاجة: المجادلة، ثم بين المحاجة في سياق الآية.
قوله: * (أن آتاه الله الملك) أي: كانت تلك المحاجة في الربوبية من نظر الملك وطغيانه.
وقوله تعالى: * (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت) وفي القصص: أن الناس قحطوا على عهد نمروذ، وكانوا يتمارون من عنده الطعام، وكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام يسأله من ربك؟ فإذا قال: أنت، باع منه الطعام، فجاء إليه إبراهيم فيمن جاء يمتار الطعام، فقال له نمروذ: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت، فأشغل بالمحاجة ولم يعطه شيئا، فانصرف عنه إبراهيم، ومر بكثيب من الرمل، فملأ منه الجواليق تطييبا لقلوب أهله، فلما بلغ منزله فإذا فيه الدقيق.
261

* (إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (258) أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على) * *
وقوله تعالى: * (قال أنا أحيي وأميت) هذا قول نمروذ حين قال له إبراهيم: ربى الذي يحيى ويميت.
قال سفيان: إنه دعا برجلين وجب القتل عليهما، فقتل أحدهما ولم يقتل الآخر، فهذا إحياؤه وإماتته.
وقوله: * (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) فإن قال قائل: لم انتقل إبراهيم من حجة إلى حجة، وهذا يكون عجزا؟ قيل: كانت الحجة الأولى لازمة، ومعارضة نمروذ إياه كانت فاسدة؛ لأنه أراد به الحياة والموت اختراعا، ولم يعارضه بمثله لكنه خاف أن يشتبه على السامعين، فأتى بحجة أوضح من الأولى؛ مبالغة في الإلزام، وقطعا لشغب.
وقوله: * (فبهت الذي كفر) أي: تحير بغلبة الحجة عليه. ومنه قول الشاعر:
(وما هو إلا أن أراها فجأة
* فأبهت حتى ما أكاد أجيب)
فإن قال قائل: كيف بهت وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له: سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب؟ قلنا: إنما لم يقله؛ لأنه خاف أن لو سأله ذلك دعا، فأتى بها من المغرب؛ فكان زيادة في فضيحته وانقطاعه.
والصحيح أن الله صرفه عن تلك المعارضة إظهار للحجة عليه، ولتكون معجزة لإبراهيم.
وقوله: * (والله لا يهدي القوم الظالمين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (أو كالذي مر على قرية) تقديره: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، وإلى الذي مر على قرية؟
وقيل: تقديره: هل رأيت كالذي حاج إبراهيم، وكالذي مر على قرية؟.
262

* (عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم) * *
واختلفوا في الذي مر على قرية، فقال قتادة: هو عزيز النبي. وقال وهب: هو إرمياء النبي. وقال محمد بن إسحاق: هو الخضر عليهم السلام.
والصحيح: أنه كان عزيز النبي مر على قرية، يعني: على بيت المقدس.
وقوله: * (وهي خاوية على عروشها) قيل: كانت السقوف ساقطة على الأرض، وكانت الجدران متساقطة على السقوف، فهي الخاوية على عروشها. ومعناه: أنها كانت خالية، وكان قد خربها، بختنصر الملك البابلي.
وقوله: * (قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها) وفي القصة: أن عزيزا مر [بها] وهو على حمار ومعه التين والعصير فقال: إني يحيي هذه الله بعد موتها؟!
فإن قال قائل: كيف قال: أنى يحيى هذه الله بعد موتها، وهذا يكون سببه الشك في قدرته؟ قيل: لم يكن شاكا فيه؛ وإنما قال ذلك استبعادا على ما يقال في العادة، أي: لا يحي هذه الله بعد خرابها.
قال عطاء: دخل في قلبه ما يدخل في قلوب الناس.
وقوله: * (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) أي: أحياه، وإنما سمى الإحياء بعثا؛ لأنه إذا أحيي يبتعث للأمور.
وفي القصة: أنه لما قال تلك المقالة غلبة النوم، فقبض الله روحه مئة عام، وبعث ملكا عمر بيت المقدس في تلك الأعوام، ثم لما أحياه بعث إليه ملكا فسأله: كم لبثت؟
فهذا معنى قوله: * (قال كم لبثت) وقوله: * (قال لبثت يوما أبو بعض يوم) لأن الله تعالى إنما أماته في أول النهار وبعثه في آخر النهار وقبل غروب الشمس، فقال
:
263

* (لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف) * * لبثت يوما، ثم نظر إلى الشمس لم تغرب بعد، فقال: أو بعض يوم * (قال) يعني الملك: * (بل لبثت مئة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) أي: لم يتغير؛ فإن التين الذي كان معه لم يتغير؛ كأنه قطف من ساعته، وكذلك العصير كأنه عصر من ساعته.
قال الكسائي: لم يتسنه، معناه: كأنه لم تأت عليه السنون، وقطف من ساعته.
وقال مجاهد: معناه لم ينتن، ومنه قوله تعالى * (من حمأ مسنون).
وقيل: أصله لم يتسنن، فقلبت إحدى النونين هاء ومثله في كلام العرب كثير، مثل: يتمطى كان في الأصل (يتمطط)، فقلبت إحدى الطائين ياء. وقال الشاعر: (يقضي البازي إذا البازي انكسر
*)
وكان في الأصل: (يقضض البازي).
وقوله: * (وانظر إلى حمارك) قيل: فنظر إليه، فإذا عظام بيض تلوح نخرة فركب الله تعالى العظام بعضها على بعض، وجعله حمارا من عظام، ثم أدخل فيه الدم، ثم كساه الجلد، ثم نفخ فيه الروح، فقام الحمار ونهق، وهو ينظر إليه، فهذا معنى قوله: * (ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها) يقرأ بقرائتين بالراء: نحييها، وبالزاي: يركب بعضها على بعض، من النشز، وهو الارتفاع.
وقوله: * (ثم نكسوها لحما) في الآية تقديم وتأخير، وتقديرها: وانظر إلى حمارك، وانظر إلى العظام كيف ننشزها، ثم نكسوها لحما لنحييها.
264

* (ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير (259) وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن) * *
وقوله: * (ولنجعلك آية للناس) وبيان الآية فيه: أنه بعث شابا، وابنه شيخ.
قال علي رضي الله عنه: أماته الله وهو ابن خمسين سنة وامرأته حامل، ثم بعث بعد مئة سنة وهو ابن خمسين، وابنه [ابن] مئة سنة.
وقوله: * (فلما تبين له قال أعلم) فلما ظهرت له قدرة الله تعالى على عمارة بيت المقدس، وإحياء الموتى * (قال أعلم) يقرأ بقراءتين: على الخبر، وعلى الأمر، أما على الخبر فمعناه: علمت أن الله على كل شيء قدير، وأما على الأمر قال لنفسه: * (أعلم أن الله على كل شيء قدير).
قوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى) قيل: سبب سؤاله ذلك: أن إبراهيم مر على حيوان على شط البحر مزقته السباع والوحش، وكان يأكل منه حيتان البحر، فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى.
وفيه قول آخر: أنه لما حجه نمروذ في إحياء الموتى؛ أراد أن يعرف بالعيان ما آمن به بالخبر والاستدلال.
وقوله تعالى: * (قال أو لم تؤمن) يعني: قد آمنت فلم تسأل؟ وهذا مثل قول الشاعر:
(ألستم خير من ركب المطايا
*)
يعني: أنتم كذلك.
وقوله: * (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) فإن قال قائل: أكان إبراهيم شاكا فيه
265

* (ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن) * * حتى احتاج إلى السؤال، وما معنى قوله عليه السلام: ' نحن أحق بالشك من إبراهيم '؟ والجواب: أنه لم يكن شاكا فيه، ولكنه إنما آمن بالخبر والاستدلال، فأراد أن يعرفه عيانا.
قال عكرمة: ليزداد يقينا على يقين؛ لأن العيان فوق الخبر في ارتفاع العلم. وقد قال عليه السلام: ' ليس الخبر كالمعاينة '.
وأما قوله: * (ولكن ليطمئن قلبي)؛ وذلك أنه لما سأل ذلك تعلق به قلبه، فقال: ولكن ليطمئن قلبي عن ذلك التعلق.
وقيل: إنما قال ذلك لأن الله تعالى لما اتخذه خليلا، قال ملك الموت: يا رب، ائذن لي حتى أبشره؛ فبشره بأن الله اتخذك خليلا فأراد أن يريه الله إحياء الموتى تخصيصا له بكرامته؛ ليطمئن قلبه بالخلة.
وقيل معناه: ولكن ليطمئن قلبي، فأعرف أني إذا سألتك أعطيتني، وإذا دعوتك أجبتني. وأما قوله: ' نحن أحق بالشك من إبراهيم ' إنما قاله على سبيل التواضع، يعني: نحن دونه، وأحق بالشك منه، فإذا لمن نشك نحن فكيف يشك إبراهيم؟
وقوله تعالى: * (قال فخذ أربعة من الطير) قيل: هي الطاووس، والديك، والحمامة، والغراب.
266

* (جزاءا ثم أدعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260) مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله) * *
وقوله تعالى: * (فصرهن إليك) أي: فضمهن إليك. وقرأ حمزة بكسر الصاد.
وفيه تقديم وتأخير، وتقديره: فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن، أي: فقطعن،
وقوله: * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) قيل: جعلها على أربعة أجبل.
وقال السدى: على سبعة أجبل، وقال ابن عباس: على أربعة أرباع العالم، جزءا على جبل بجانب الشرق، وجزءا على جبل جانب الغرب، وجزءا على الشمال، وجزءا على الجنوب.
وفيه قول آخر: أنه أراد بقوله: * (اجعل على كل جبل منهن جزءا) أي: عشرا، وكان على عشرة أجبل؛ حتى ذهب بعض العلماء من هذا إلى أنه لو أوصى الإنسان بجزء من ماله ينصرف إلى العشر.
وقوله: * (ثم أدعهن يأتينك سعيا) وفي القصة: أنه جزء تلك الطيور الأربعة، وخلط اللحم باللحم، والريش بالريش، والعظم بالعظم، وجعلها على الأجبل.
وقيل: دقه بالهاون وأخذ رؤوسهن بين أصابعه، وقيل: مناقيرهن، ثم دعاهن؛ فكان يطير الريش إلى الريش، واللحم إلى اللحم، والدم إلى الدم، ويركب بعضها على بعض، وأتين ساعيات إلى رؤوسهن.
وقوله تعالى: * (واعلم أن الله عزيز حكيم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) قيل: سبيل الله: الجهاد.
267

* (يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم (261) الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم) * *
وقيل: جميع أبواب الخير سبيل الله.
وقوله: * (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة) ضربه مثلا للمتقين وما وعد من الثواب على الإنفاق.
فإن قال قائل: كيف ضرب المثل به، وهل يتصور في كل سنبلة مئة حبة؟
قيل: لما كان ذلك متصورا في الجملة، صح ضرب المثل به وإن لم يعرف، ومثله ما قاله امرؤ القيس:
(ومسنونة زرق كأنياب أغوال
*)
وناب الغول لا يعرف، ولكن لما تصور وجوده بالجملة مثل به. وقيل: هو يتصور في سنبلة الدخن ونحوه.
وقوله: * (والله يضاعف لمن يشاء) قيل: معناه: يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء. وقيل: معناه يضاعف على هذا ويزيد لمن يشاء.
وقوله: * (والله واسع) أي: واسع الفضل والرحمة والقدرة، يعطي عن سعة.
وقوله: * (عليم) أي: عليم بنية من يعطي.
قوله تعالى: * (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) أما المن: فهو أن يقول للفقير: أعطيتك كذا، وصنعت بك كذا، فيعدد عليه نعمه، وأما الأذى: فهو أن يعير الفقير، فيقول له: إلى كم تسأل، وكم تؤذيني فلا زلت فقيرا ونحو ذلك.
وقيل: من الأذى: أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يريد أن يعرف.
وقوله: * (لهم أجرهم عند ربهم) أي: ثوابهم، وقوله: * (ولا خوف عليهم)
268

* (يحزنون (262) قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم (263) يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل) * * ولا يخافون فوات الثواب، وقوله: * (ولا هم يحزنون) أي: على ما أنفقوا إذا رأوا الثواب.
قوله تعالى: * (قول معروف) قال الحسن: هو القول الجميل.
وقيل: هو أن يعطيه ويبرك له، فيقول: بارك الله لك فيه، أو يمنعه ويدعو له.
وقوله: * (ومغفرة) هو: أن تستر خلته، ولا تهتك ستره.
وقيل: هو أن تعفو عن الفقير إن بدرت منه مساءة أو أذى.
وقوله: * (خير من صدقة يتبعها أذى) يقول: ذلك القول المعروف، وتلك المغفرة، خير من صدقة يتبعها أذى.
وقوله: * (والله غني) أي: مستغن عن صدقاتكم. وقوله: * (حليم) أي: لا يعجل بالعقوبة إذا منعتم الصدقة.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) قد ذكرنا معناهما.
وقيل: المن في الصدقة بمنزلة الحدث في الصلاة، يبطلها ويحبطها.
وقوله: * (كالذي ينفق ماله رئاء الناس) أي: كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس؛ لأن الرياء يبطل الصدقة ويحبطها.
وقوله: * (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) يعني: النفقة مع الرياء ليس من فعل المؤمنين.
وفي الجملة كل من أتى بالصدقة تقربا إلى مخلوق فلا يكون مؤمنا.
269

* (فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين (264) ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة) * *
وقوله: * (فمثله كمثل صفوان عليه تراب) الصفوان: الحجر الصلد الأملس.
وقوله: * (فأصابه وابل) الوابل: المطر الشديد العظام القطر.
وقوله: * (فتركه صلدا) أي: أملس * (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) ومعنى هذا المثل: أن الذي يرائي بالإنفاق يفرق نفقته، ولا يفوز بشيء من الثواب، كالتراب الذي يكون على الحجر فيصيبه الوابل؛ فيفوت الذي عليه، ويبقى أملس، بحيث لا يقدر على شيء منه.
وقوله: * (والله لا يهدي القوم الكافرين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله) أي: خالصا لوجه الله.
وقوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) قال قتادة: هو أن يكون محتسبا بالإنفاق.
وقال الحسن: هو أن يثبت من نفسه حتى إن كانت نيته أن يتصدق لله يفعل، وإن كانت نيته غيره يمسك، وقال الكلبي، والشعبي: هو أن يتصدق على يقين بالثواب، وتصديق بوعد الله فيه.
وقوله: * (كمثل جنة بربوة) الجنة: البستان. والربوة: المكان المرتفع.
وقوله: * (أصابها وابل) كما ذكرنا. وقوله: * (فآتت أكلها ضعفين) أي: ثمرها ضعف ما تؤتى غيرها. قوله: * (فإن لم يصبها وابل فطل) الطل: المطر الخفيف الصغار القطر، ويكون دائما.
ومعنى هذا المثل: أن الذي ينفق خالصا لوجه الله تعالى لا تخلف نفقته، بل تنمو وتزكو بكل حال: كما أن الجنة التي على الربوة لا تخلف، بل تنمو وتزكوا بكل حال سواء أصابها الوابل، أو أصابها الطل؛ وذلك أن الطل إذا كان يدوم يعمل عمل
270

* (بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير (265) أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (266) يا أيها الذين) * *
الوابل الشديد.
وقوله: * (والله بما تعملون بصير) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء) أي صغارا.
* (فأصابها إعصارا فيه نار فاحترقت) الإعصار: ريح ترتفع كالعمود نحو السماء، تسميه العرب، وسائر الناس: زوبعة، ومنه قول الشاعر:
(إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا
*)
وأما معنى الآية: روى أن عمر - رضي الله عنه - سأل الصحابة عن معنى هذه الآية، فقالوا: الله أعلم، فغضب عمر، وقال: قولوا: نعلم، أو لا نعلم، ونحن نعلم أن الله يعلم؛ فسكتوا، وكان ابن عباس فيهم فقال: في قلبي شيء، فقال له عمر: قل، ولا تحقر نفسك، ضرب مثلا لعمل. وروى تمام الكلام فيه. - ثم اختلفوا، منهم من قال: تمام الكلام من عمر، ومنهم من قال: تمام الكلام من ابن عباس -
وتمامه: أن الله تعالى ضرب هذا مثلا للذي يعمل طول عمره عملا، ثم يحبطه برياء أو بشيء في آخر عمره، فيفوته ذلك، ولا ينفعه في أحوج حال يكون إليه؛ كالذي له بستان ذات أشجار، وثمار وأنهار، فيدركه الكبر، وله عيلة كبيرة وأولاده صغار، فلما قرب إدراكه واحتاج إليه، أصابته نار فأحرقته، فيفوته ذلك (ولا ينفق) في أحوج حال يكون إليه.
271

* (آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد (267)) * *
قوله: * (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون). ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) أي: من حلال ما كسبتم، وفي هذا دلالة على أن الكسب يتنوع إلى الطيب، والخبيث.
وقوله: * (ومما أخرجنا لكم من الأرض) قيل: هو الأمر بإخراج العشور.
وقيل: هو أمر بإخراج الحقوق التي كانت واجبة في نبات الأرض في الابتداء، ثم صارت منسوخة بآيات الزكاة.
وقيل: هو في صدقات التطوع.
وقوله: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) أم، وتيمم: إذا قصد. وأراد بالخبيث: الرديء هاهنا، أي: ولا تقصدوا الرديء منه تنفقون.
وسبب نزول الآية: ' ما روى أن أصحاب النخيل على عهد رسول الله كانوا يأتون بقنو فيعلقونه في المسجد؛ ليأكله الفقراء، فجاء رجل بقنو حشف أراد ما يكون، وعلقه، فلم يرضه رسول الله ونزلت الآية: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) '.
وقوله: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) إلا أن تسامحوا وتساهلوا في أخذه، ومعناه: أن الحق لو كان لكم على غيركم، فجاء به رديئا لا تأخذونه إلا بإغماض فيه، فتعتقدون أنكم تركتم بعض حقكم وأغمصتم.
وقوله: * (وأعلموا أن الله غني) يعطي عن غنى (حميد) محمود الغنى، وفيه دليل على أن الغنى لغير الله مذموم.
وقيل: الحميد: المستحق للحمد.
272

* (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم (268) يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا) * *
قوله تعالى: * (الشيطان يعدكم الفقر) يخوفكم بالفقر، و الباء محذوفة.
وقوله: * (ويأمركم بالفحشاء) أي: بأن لا تتصدقوا وتبخلوا، ومنه قول طرفة:
(عقيلة مال الفاحش المتشدد
*)
أي: البخيل المتشدد.
والبخل داء عظيم، قال ' ولا داء أدوى من البخل '.
وقوله: * (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) مغفرة، أي: عفو الله، وفضلا: بالثواب.
وقوله: * (والله واسع عليم) وقد ذكرنا معناهما.
وقوله تعالى: * (يؤتي الحكمة من يشاء) قال ابن عباس: وهو حكمة القرآن، وهو أن يعرف ناسخه ومنسوخه، ومقدمه ومؤخره، ومحكمه ومتشابهه، وحرامه وحلاله، وأمثاله.
وقيل: هو الفقه في الدين.
وقال إبراهيم النخعي: هو معرفة معاني الأشياء وفهمها.
وفيه قول رابع: هو الإصابة، فعلا وقولا.
وقوله: * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب).
قرأ يعقوب: ' ومن يؤت ' بكسر التاء يعني: ومن يؤته الله الحكمة.
273

* (كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب (269) وما أنفقتم من نفقة أو أنذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار (270) إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها) * *
قيل: هذه الحكمة: هي الكتابة، ومعرفة الخط.
وقيل: هي العقل. وقيل الأمانة.
* (وما يذكر إلا أولوا الألباب) أي: وما يتفكر إلا أولوا العقول.
قوله تعالى: * (وما أنفقتم من نفقة أو أنذرتم) فيه قولان: أحدهما: أن المراد بالنفقة: الزكاة المفروضة، وأما النذر: هو أن ينوي عمل الخير، وصدقة التطوع.
والقول الثاني: أن النفقة هي صدقة التطوع، وأما النذر هو ما عرف من نذر اللسان؛ وهو أن يوجب التصدق على نفسه.
وقوله: * (فإن الله يعلمه) أي: يجازي. وقال مجاهد: يحصيه.
وقوله: * (وما للظالمين) أي: الذين يتصدقون من الغصب والنهب. * (من أنصار) جمع النصير، أي: ما لهم من ينصر ويمنع من العذاب.
قوله تعالى: * (أن تبدوا الصدقات) معناه: إن تظهروا. * (فنعما هي) يقرأ بالقراءات بفتح النون، وكسر العين، ويقرأ: بكسرهما، وقرأ أبو عمرو: بكسر النون وجزم العين، ولم يرض ذلك منه نحاة البصرة، وقالوا فيه التقاء الساكنين، واستشهد أبو عمرو بقوله لعمرو بن العاص: ' نعم المال الصالح للرجل الصالح ' والكل في المعنى سواء، ومعناه: نعم خلة، هي أو نعم شيء هو.
قوله: * (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) قيل: هذا في صدقات
274

* (وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) * *
التطوع، والإخفاء فيها أفضل، وقد روى عن النبي ' أنه قال: صدقة السر تفضل صدقة العلانية بسبعين ضعفا '.
وإما الزكاة المفروضة: فالإظهار فيها أفضل، وقد قال ' صدقة العلانية تفضل صدقة السر بخمس وعشرين '، وهذا في الزكاة، والأول في التطوعات.
وقيل: الآية في الزكاة المفروضة، وكان الإخفاء خيرا في الكل على عهد رسول الله فأما في زمننا فالإظهار خير في الزكاة لسوء الزمان، كيلا يساء الظن به.
وقوله: * (ويكفر عنكم) يقرأ: بالنون، والياء: ويقرأ: بالرفع، والجزم * (من سيئاتكم) قيل: من صلة فيه. وتقديره: ويكفر عنكم سيئاتكم، فعلى هذا يكون شاملا للصغائر، والكبائر.
وفيه قول آخر: أن ' من ' على التحقيق، والتفكير بالصدقات يكون من الصغائر فأما الكبائر فإنما تكفرها التوبة.
والأول أقرب إلى أهل السنة، وقد قال النبي: ' صدقة السر تطفئ غضب الرب '.
وقوله: * (والله بما تعملون خبير) هذا ظاهر المعنى.
275

(* (271) ليس عليكم هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (272) للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في) * *
قوله تعالى: * (ليس عليكم هداهم) ليس المراد به: هداية الدعوة، فإنها عليه حتم، وإنما المراد به: هداية التوفيق.
قال سعيد بن جبير: ' سبب نزول الآية ما روى: أن النبي نهى عن التصديق على المشتركين، وإنما كان نهى عنه، كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزلت الآية فأمر النبي - - بالتصدق على أهل الأديان كلها '.
ومعناه: ليس عليك هداهم، بأن تلجئهم وتحملهم على الدخول في الإسلام، * (ولكن الله يهدي من يشاء) أي يوفق من يشاء، ويخذل من يشاء.
قوله: * (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) أي: تعلمونه لأنفسكم.
قوله: * (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) هذا خبر بمعنى الأمر، أي: أنفقوا لوجه الله، ومعناه: ابتغاء مرضاة الله.
وقيل: هو على المبالغة، فإن قول الرجل: عملت لوجه فلان. أبلغ وأشرف من قوله: عملت لفلان، فذكرنا شرف اللفظين.
وقوله: * (وما تنفقوا من خير يوف إليكم) أي: يوفر عليكم ثوابه.
* (وأنتم لا تظلمون) ظاهر.
قوله تعالى: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) يعني: تلك الصدقات التي سبق ذكرها للفقراء.
قال مجاهد: أراد به فقراء المهاجرين من مكة.
وأما قوله: * (أحصروا في سبيل الله) فيه ثلاثة أقوال:
[أحدها]: قال ابن عباس: يعني: حبسهم العدو والفقر عن سبيل الله والجهاد، فصاروا محصورين عنه.
276

* (الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) * *
وقال سعيد بن المسيب: أراد به: أنهم خرجوا إلى الحرب، فأصابتهم جراحات، فصاروا محصرين عن الجهاد بسبب الجراحات.
وقال قتادة - وهو أحسن الأقوال -: معناه: أنهم حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، وتركوا الخروج للتجارة والمعاش، ووقفوا أنفسهم على الحرب.
وقد ورد ذلك في أهل الصفة، كانوا قريبا من أربعمائة نفر، اجتمعوا في مسجد رسول الله وكانوا لا يأوون إلى أهل ولا إلى مال، وكان يبعث الناس إليهم بفضل قوتهم، وكانوا وقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، وقالوا: لا تخرج سرية إلا ونخرج معها، فهذا معنى قوله: * (أحصروا في سبيل الله).
وقوله: * (لا يستطيعون ضربا في الأرض) هذا على القولين الأولين يرجع إلى الضرب في الأرض للجهاد.
وعلى القول الثالث: هو الضرب في الأرض للمعاش والتجارة.
وقوله: * (يحسبهم الجاهل) قال قال مجاهد: ليس المراد بهذا الجاهل خلاف العالم وإنما هو الذي لا خبرة له ولا معرفة بحالهم.
وقوله: * (أغنياء من التعفف) يعني: من القناعة التي لهم يظنهم من لم يعرفهم أغنياء.
قوله: * (تعرفهم بسيماهم) قيل: بالتخشع الذي كان لهم.
وقال الضحاك: بصفرة الألوان.
وقال ابن زيد: برثاثة الثياب.
وقيل: أثر الجوع والجهد.
وقوله: (لا يسألون الناس إلحافا) أي: إلحاحا.
277

* (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم (273) الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا) * *
وقيل: أصله من إلحاف؛ فالإلحاف: السؤال على العموم، كأنه يسأل كل من يلقى.
وفيه قول آخر: أنه أراد به ترك السؤال أصلا؛ فإنه إذا سأل فقد ألحف، يعنى: لا يسألون أصلا.
والدليل عليه أنه قال: * (أغنياء من التعفف) وإذا سأل لا يكون متعففا، وقد روى عن النبي أنه قال: ' من سأل وعنده أوقية فقد ألحف '. يعني: عنده أربعون درهما.
وروى عن النبي أنه قال: ' لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من يسأل الناس أعطى أو منع '.
وقوله: * (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: * (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية).
قال ابن عباس: هذا في علي ابن أبي طالب، كانت له أربعة دراهم، فتصدق بدرهم بالليل، ودرهم بالنهار، ودرهم في السر، ودرهم في (العلن)؛ فنزلت الآية رضا بفعله، وثناء عليه.
وقيل: أراد بالنفقة هاهنا: النفقة على الخيل في سبيل الله؛ فإنها تعتلف من تلك النفقة ليلا ونهارا، وسرا وعلانية؛ والنفقة على الخيل في سبيل الله باب عظيم في
278

* (وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (274) الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) * *
الخير. وقد ورد في الحديث: ' أنه يؤجر بأوراثها وأبوالها '.
وقوله تعالى: * (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (الذين يأكلون الربا) أي: يأخذون، فعبر بالأكل عن الأخذ؛ لأنه يؤخذ ليؤكل.
وقوله: * (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس).
الخبط: ضرب على غير استواء، يقال: فلان يخبط خبط عشواء، إذا كان يسلك طريقا لا يهتدي إليه. ومنه قول الشاعر:
(رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
* تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم)
ومعناه: أن آكل الربا يحشر يوم القيامة كمثل السكران، يقوم تارة، ويقع أخرى.
وقيل: هو من تخبط الشيطان، وذلك [أن] يدخل الإنسان فيصرعه.
والمس: الجنون، والخبط: أول الجنون، ومعناه: أنه يحشر يوم القيامة كمثل المصروع؛ وذلك علامة أكلة الربا يوم القيامة.
وقوله: * (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا). أراد بهم ثقيف؛ فإنهم قالوا إنما البيع مثل الربا.
279

* (وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (275) يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم (276) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (277) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن) * * (وأحل الله البيع وحرم الربا) هذا جوابهم.
وقوله: * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى) يعني من أكل الربا.
* (فله ما سلف) أي: مغفورا له ما سلف منه * (وأمره إلى الله ومن عاد) إلى أكل الربا * (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
قوله تعالى: * (يمحق الله الربا) أي: يذهب بركة المال؛ فإن للحلال بركة، وليست للحرام بركة.
وقيل: معناه: يبطل الصدقة من الربا * (ويربي الصدقات) ويكثر الصدقات * (والله لا يحب كل كفار أثيم) فالكفار: عظيم الكفران، والأثيم: كثير الإثم.
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وقد سبق تفسيره.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين). نزل هذا في ثقيف وبنى مخزوم تنازعوا إلى عتاب بن أسيد قاضي مكة فقالت ثقيف إنما أسلمنا على أن ما علينا من الربا موضوع وما لنا باقي فكتب بذلك عتاب إلى رسول الله فنزلت الآية، فبعث رسول الله بالآية إلى عتاب ليقرأ عليهم '.
وقوله: * (إن كنتم مؤمنين) يعني: ترك الربا من فعل المؤمنين '.
280

* (لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279) وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم) * *
وقيل: معناه: إذا كنتم مؤمنين.
والآية في إبطال ربا الجاهلية؛ وذلك أنهم كانوا يدينون الناس بشرط أن يزيدوا في الدين عند الأداء، وكان يقرض الرجل غيره، ويضرب له أجلا، ثم عند حلول الأجل يقول له: زدني في الدين حتى أزيدك في الأجل، فهذا كان ربا الجاهلية وهو حرام.
وقوله تعالى: * (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) أي: فأيقنوا به.
ويقرأ ممدودا: ' فآذنوا بحرب من الله ' أي: أعلموا غيركم أن يتركوا الربا، إنكم حرب الله ورسوله، فإذا علمتم فقد علمتم.
* (وإن تبتم) أي: تركتم استحلال الربا، ورجعتم عنه * (فلكم رؤوس أموالكم) أبطال الزيادة، وجعل لهم أصل المال.
وإنما قال: * (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) لأنهم ما داموا على استحلال الربا كان ما لهم فيئا ليس لهم أصله ولا فرعه.
* (لا تظلمون ولا تظلمون) أي: لا تظلمون بطلب الزيادة، ولا تظلمون بنقصان حقكم في أصل المال.
قوله تعالى: * (وإن كان ذو عسرة فنظر إلى ميسرة) قرأ: أبي بن كعب: ' وإن كان من عليه الدين ذا عسرة '. وقرأ عطاء: ' فناظرة إلى ميسرة '.
والمعروف: * (وإن كان ذو عسرة) أي: وإن وقع ذو عسرة، أو وإن كان ذو عسرة غريما لكم، فنظر إلى ميسرة، أي: فأنظروه إلى اليسار.
وقرأ نافع: ' إلى ميسرة ' بضم السين، وهو مثل الأول في المعنى.
281

* (تعلمون (280) واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (281) يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب) * *
وروى أبو اليسر عن النبي - عليه السلام - أنه قال: ' من أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله '.
وروى أبو هريرة عن النبي أنه قال: ' كان فيمن قبلكم رجل يداين الناس فقال لفتاه: إذا كان معسرا فتجاوز عنه؛ لعل الله يتجاوز عنا، فلقى الله فتجاوز عنه '.
والخبر في الصحاح.
* (وإن تصدقوا) يعني بترك أصل المال الذي أعطيتموه قرضا. * (خير لكم إن كنتم تعلمون).
قوله - تعالى: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله). قال ابن عباس: هذه آخر آية نزلت على رسول الله.
قال ابن جريج: إنما عاش بعدها سبع ليال، وفي رواية تسع ليال.
ويروى أن جبريل - صلوات الله عليه - لما نزل بهذه الآية قال: ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة، وهذه الآية مسجلة سجلها الله على الخلق كافة.
* (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) وهو ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين) قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون المؤجل في كتاب الله، قد أنزل فيه أطول آية، وتلا هذه الآية.
وقوله: * (تداينتم بدين) أي: تعاملتم بالدين، يقال: داينته، إذا عاملته بالدين.
فإن قيل: قوله: * (تداينتم) يغني عن المعاملة بالدين، فلم قال: تداينتم بدين؟ قيل: لأن العرب تقول: تداينا - أي: تعاطينا وتجازينا، وإن لم يكن في الدين؛ فقال:
282

(* (بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا) * تداينتم بدين) ليعرف المعنى المراد من اللفظ، ويحتمل أنه قاله تأكيدا. * (إلى أجل مسمى) الأجل: مدة معلومة الأول والآخر، وهذا يشتمل على الأجل في السلم، والأجل في الثمن، والأجل في القرض، ولم يجوز أكثر العلماء الأجل في القرض، وجوزه بعضهم.
* (فاكتبوه) قيل: هو على الوجوب، وهو قول مجاهد.
وقال الشعبي: إنما يجب الكتب إذا وجد ممن يكتب، والأصح أنه على الندب.
وقال أبو سعيد الخدري: هذا الأمر منسوخ بقوله تعالى: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته).
وقوله: * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل). الكتابة بالعدل هو: أن يكتب من غير زيادة ولا نقصان، ولا تقديم في الأجل ولا تأخير.
* (ولا يأب كاتب أن يكتب) قيل: الكتابة واجبة على الكتبة لظاهر الآية، والأصح أنه على الندب.
* (كما علمه الله فليكتب) أي: كما شرعه الله، فليكتب.
* (وليملل الذي عليه الحق) الإملال والإملاء بمعنى واحد.
والإملال لغة قريش وبني أسد، والإملاء: لغة قيس وتميم، وهما مذكوران في القرآن. فالإملال ها هنا والإملاء في قوله: * (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا).
* (وليتق الله ربه) يعنى المملى * (ولا يبخس منه شيئا)، ولا ينقص من الحق شيئا.
وقوله: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا) أما السفيه: قال مجاهد:
283

* (يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تظل إحداهما فتذكر إحداهما) * *
الجاهل.
وقال الزجاج: هو خفيف العقل، ويشتمل هذا على: المرأة، والصغير ونحوه، ومنه قول الشاعر:
(مشين كما اهتزت رماح تسفهت
* أعاليها مر الرياح النواسم)
وقيل: السفيه: الصغير ومذهب الشافعي: أنه المبذر المفسد لماله.
وأما الضعيف: هو ضعيف العقل من عته، أو جنون.
* (أو لا يستطيع أن يمل هو) أي: لا يقدر على الإملال من خرس، أو عمى.
* (فليملل وليه بالعدل) يعنى: ولى هؤلاء.
أما من لم يجوز الحجر على السفيه - كالنخعي، وابن سرين، وغيرهما - قالوا: أراد بالولي: صاحب الحق، يعني: إن عجز من عليه الحق من الإملال فليملل الذي
له الحق.
* (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) أي: وأشهدوا.
* (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) يعني: فإن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان.
* (ممن ترضون من الشهداء) وهم أهل الفضل والدين، قاله ابن عباس. * (أن تضل إحداهما) أن تنسى وتغفل إحداهما، وذلك بأن يغيب حفظها عن الشهادة، أو تغيب الشهادة عن الحفظ.
* (فتذكر إحداهما الأخرى) وذلك بأن تقول: ألسنا حضرنا مجلس كذا؟ ألم نسمع كيت وكيت؟
284

* (الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة) * *
وقرأ حمزة: ' إن تضل فتذكر إحداهما الأخرى ' على الشرط.
قال سفيان بن عيينة: فتذكر إحداهما الأخرى، معناه: تجعل إحداهما الأخرى ذكرا، أي: يقومان مقام الذكر، والأول أصح.
* (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) قيل: أراد به: إذا ما دعوا للتحمل، وإنما سماهم شهداء على معنى أنهم يكونوا شهداء. وقيل: هو الدعاء إلى الشهادة.
* (ولا تسأموا) أي: لا تملوا * (أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) يعنى: الذي قل أو كثر.
* (ذلكم أقسط عند الله) أعدل عند الله * (وأقوم للشهادة) لأن الكتبة تذكر الشهود.
* (وأدنى ألا ترتابوا) أي: أن لا تشكوا * (إلا أن تكون تجارة حاضرة) قرأ: بضم التاء على اسم كان، وقرأ بفتح التاء، يعني: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة، ومثله قول الشاعر:
(فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي
* إذا كان يوما ذا كواكب أشهبا)
يعني: إذا كان اليوم يوما.
* (تديرونها بينكم) يعني: إذا كانت التجارة يدا بيد.
285

* (تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم (282) وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن آمن بعضكم بعضا) * * (فليس عليكم جناح ألا تكتبوا وأشهدوا إذا تبايعتم) أمر به استحبابا.
* (ولا يضار كاتب ولا شهيد) قرأ عمر: ' ولا يضارر ' وقرأ ابن مسعود ' ولا يضارر ' والمعروف: * (ولا يضار)، وهذا يحتمل أن يكون نهيا للكاتب والشاهد عن الإضرار، ويحتمل أن يكون نهيا للمملى والداعي.
فأما إضرار الشهود والكاتب: أن يأبى الكتابة و الشهادة إذا دعي إليها. وأما الإضرار بالكاتب والشهود: أن يدعوه وهو مشغول، فيمنعه من شغله.
قوله تعالى: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) أي: معصية منكم (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم).
قوله تعالى: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا). قرأ عطاء: ' ولم تجدوا كتابا ' وهو جمع الكاتب، كما يقال: قائم وقيام، ونائم ونيام.
* (فرهن مقبوضة) ويقرأ: ' فرهان ' مقبوضة والمعنى واحد.
وحكم الرهن معلوم، وليس ذكر السفر، وعدم الكاتب على سبيل الشرط في جواز الرهن؛ وإنما خرج الكلام على الأعم الأغلب.
* (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) يعني: إن ائتمنه في الدين فليقضه على الأمانة.
* (وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة) نهى الشهود عن كتمان الشهادة، وهو
286

* (فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم (283) لله ما في السماوات ما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل) * *
حرام.
* (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) قيل: ما أوعد الله تعالى على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة، فإنه قال: * (فإنه آثم قلبه) وأراد به مسخ القلب، ونعوذ بالله * (والله بما تعملون عليم)
قوله تعالى: * (لله ما في السماوات وما في الأرض) ملكا وملكا. * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) هذا منسوخ؛ فإنه روى: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وقالوا: يحاسبنا الله بما نحدث به أنفسنا؟! وبقوا في ذلك حولا كاملا؛ فنزل قوله تعالى: ' لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) فصار هذا منسوخا به.
هذا قول أبي هريرة، وابن مسعود، (وابن عمر)، وفي إحدى الروايتين عن أبن عباس.
وقد قال النبي: ' إن الله تعالى عفى عن أمتي ما حدثت به أنفسها؛ ما لم تعمل أو تكلم به ' أي: تتكلم به '.
وقال أهل الأصول: هذا ليس بمنسوخ؛ لأن قوله: * (يحاسبكم به الله) خبر، والنسخ لا يرد على الأخبار، وإنما يرد على الأوامر و النواهي.
وقد روى الوالبي، عن ابن عباس - في الرواية الثانية - أن معنى قوله: * (يحاسبكم به الله) أي: يعلمكم به، أي: لا يخفي عليه شيء من ذلك.
287

* (شيء قدير (284) أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285) لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * * (فيغفر لمن يشاء) أي: يغفر للمؤمنين * (ويعذب من يشاء) يعني: الكافرين * (والله على كل شيء قدير).
قوله تعالى: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) لأنه ذكر الآيات والأحكام، ثم قال: آمن الرسول بذلك كله.
* (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) وقرأ يعقوب: ' لا يفرق ' بالياء، أي لا يفرق الرسول بين أحد من رسله.
* (وقالوا سمعنا وأطعنا) أي: قبلنا * (غفرانك ربنا) أي: اغفر غفرانك، أو أعطنا غفرانك ربنا * (و إليك المصير) أي: المرجع.
قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) أي: طاقتها.
وقيل: ما (يشق) عليها. وهو مثل قول الرجل: لا أستطيع أن أنظر إلى فلان، أي: يشق علي أن أنظر إليه، فكذلك ذكر الوسع بمعنى: السهولة، أي: لا يكلف الله نفسا إلا ما يسهل عليها.
وهذه الآية هي الناسخة لما بينا.
* (لها ما كسبت) أي: من الخير * (وعليها ما اكتسبت) أي: من الشر.
* (ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا) أي: تركنا، وقيل: هي على حقيقة النسيان.
* (أو أخطأنا) الخطأ: يكون بمعنى: العمد، ويكون على حقيقة الخطأ، يقال: أخطأ يخطئ و خطأ يخطأ [والمراد] بقوله ها هنا (أو أخطأنا) أي: تعمدنا.
288

* (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا وأغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)) * * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا)
قيل: هو العهد الثقيل الذي حمل من قبلنا.
وقيل: لا تحمل علينا ما يشق علينا.
وقيل: الإصر: هو ذنب لا توبة له، أي: اعصمنا من ذنب لا تقبل له توبة.
* (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) في هذا دليل على أن الله تعالى يجوز أن يحمل العباد مالا يطيقونه؛ لكنه إنما حمل الكفار ما لا يطيقونه ولم يحمل المؤمنين. * (واعف عنا) أي: امح عنا * (واغفر لنا) أي: استر علينا. * (وارحمنا) أي: ارحم علينا.
* (أنت مولانا) أنت ناصرنا والقيم بأمورنا. * (فانصرنا على القوم الكافرين) وقد ورد في فضل الآيتين أخبار، منها: ما روى عن النبي أنه قال: ' من قرأ في ليلة بآيتين من آخر سورة البقرة كفتاة '.
وروى أنه قال - عليه السلام -: ' هما آيتان أنزلتا على من كنز تحت العرش '.
و [وآله أجمعين].
289

تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام الأجل - رضي الله عنه - لقد ورد في فضل هذه السورة وسورة البقرة أخبار منها: ما روي عن رسول الله [أنه] قال: ' تعملوا البقرة وآل عمران فإنهما الزهروان تظلان صاحبهما يوم القيامة '.
وروى عنه أنه قال: ' تجيء البقرة و آل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف '.
290

* (ألم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن) * *
قوله تعالى: * (آلم الله)
فالألف: هو الله، واللام: جبريل، والميم: محمد، وفيه إشارة لما أنزل الله، على لسان جبريل، على محمد.
وقد ذكرنا الأقوال في حروف التهجي.
وإنما فتح الميم عند الوصل، وإن كان الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر؛ لأنهم استثقلوا الكسرة بعد [الجزم، والياء فيه جزم].
* (لا إله إلا هو) لا معبود سواه. * (الحي القيوم) فالحي: الدائم الذي لا يزل..
وأما القيوم فقد سبق تفسيره، وقيل: هو الذي لا يزول ولا يحول. وقال جعفر بن محمد [بن] الزبير: هو دائم الوجود. وقرأ عمر، وابن مسعود * (الحي القيام) وهو في الشواذ.
قوله تعالى: * (نزل عليك الكتاب بالحق) الكتاب: القرآن، وسمى كتابا؛ لأنه يجمع الآي والحروف، وهو من الكتب وهو: الجمع، ومنه: الكتيبة و [هي] السرية لاجتماعهم.
ومنه يقال: كتبت البغلة، إذا جمع بين شفريها بحلقة. وقوله: * (بالحق) أي: بالصدق في الدلالات و الإخبارات، والوعد و الوعيد.
وقوله: * (مصدقا لما بين يديه) يعني: القرآن مصدق لما قبله من التوراة والإنجيل.
وإنما قال: * (لما بين يديه)؛ لأنه في تصديق ما قبله، وإظهار صدقه، كالشئ الحاضر بين يديه.
* (وأنزل التوراة و الإنجيل من قبل هدى للناس)
291

* (الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4) إن الله لا) * *
فذكر ها هنا * (أنزل) وذكر في الابتداء * (نزل الكتاب)، لأنه أنزل التوراة جملة والإنجيل جملة، ونزل القرآن مفصلا.
وأما التوراة أصلها وورية من الورى، من قولهم ورى الزند إذا أضاء، وخرجت ناره، ويقال: ورى زندي عند فلان؛ إذا أضاء أمره عنده.
فسمى وورية؛ لضيائها وكونها نورا، وقلبت الواو تاء فصارت تورية. وأما الإنجيل من ' النجل ' وهو الأصل فسمى به؛ لأنه كان أصلا من الأصول في العلم.
* (وأنزل الفرقان) قيل: هو القرآن، وهو المفرق بين الحلال والحرام، وقيل: كل ما أنزل الله فهو فرقان؛ لكونه مفرقا بين الحلال والحرام، وفي الآية تقديم وتأخير، وتقديره وأنزل التوراة و الإنجيل من قبل، وأنزل الفرقان هدى للناس.
قوله تعالى: * (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد) ' نزلت في وفد نجران من النصارى، قدموا على رسول الله، وفيهم السيد والعاقب: كانا رجلين منهم، وهم ستون راكبا، وقيل قريبا من عشرين راكبا، فدخلوا المسجد، والنبي قد صلى العصر، فوقفوا يصلون نحو المشرق صلاتهم، فلما فرغوا سألهم رسول الله عن عيسى، فاختلفوا فيه، فقال بعضهم: الله. وقال بعضهم: ابن الله، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة، فقال: أسلموا، فقالوا نحن مسلمون، فقال: كذبتم؛ يمنعكم من ذلك قولكم عيسى ولد الله. فأنزل الله تعالى فيهم بضع وثمانين آية، من أول سورة آل عمران في الحجاج، والدلالة عليهم، ورد قولهم، وهذه الآية من جملها نزلت فيهم '.
* (والله عزيز ذو انتقام) فالعزيز: المنيع الذي لا يقدر عليه، ومنه: الأرض العزاء،
292

* (يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (5) هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم (6) هو الذي أنزل عليك الكتاب منه * *
وهي الصلبة الشاقة المسلك، وقيل: العزيز: الغالب الذي لا يفوته شيء، ومنه: يقال: من عز بز أي من غلب سلب، والمنتقم المعاقب على (الجناية)، والنقمة: العقوبة.
قوله تعالى: * (إن الله لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء) وهذا لا شك فيه.
* (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) هذا في الرد على وفد نجران؛ حيث قالوا: عيسى ولد الله، فكأنه يقول: هو الذي صوره في الرحم، (فكيف يكون ولد له)؟!
وقد روى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إن النطفة إذا وقعت في الرحم تكون أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة، ثم يبعث الله تعالى ملكا يأخذ ترابا بين أصبعيه فيخلطه بالمضغة، ثم يصوره بإذن الله كيف (شاء)، أحمر أو أسود أو أبيض، طويلا أو قصيرا، حسنا أو قبيحا، ثم يكتب رزقه وعمله وأثره وأجله وشقى أو سعيد، ثم إذا مات يدفن في التربة التي أخذ منها التراب. (6 لا إله إلا هو العزيز) في أمره * (الحكيم) في سلطانه.
قوله تعالى * (هو الذي أنزل عليكم الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) اختلفوا في المحكمات و المتشابهات، قال ابن عباس: المحكمات هي الآيات الثلاث التي في آخر سورة الأنعام، وذلك قوله: * (قل تعالوا) إلى
293

* (آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون) * *
آخر الآيات الثلاث، وأما المتشابهات: حروف التهجي في أوائل السور. وقال عكرمة ومجاهد: المحكمات: الحلال والحرام، وما سواه كله من المتشابهات؛ لأنه يشبه بعضها بعضا في الحق، والتصديق، يصدق بعضه بعضها.
وقال الضحاك: المحكمات: الناسخات، و المتشابهات: المنسوخات.
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: المحكمات ما أوقف الله تعالى الخلق على معناها، والمتشابهات ما لا يعقل معناها، ولا يعلمها إلا الله. وفيه قولان آخران: أحدهما: أن المحكمات ما لا يشتبه معناها، و المتشابهات ما يشتبه ويلتبس معناها. والقول الثاني: أن المحكمات ما يستقل بنفسه في المعنى، [والمتشابهات] ما لا يستقل بنفسه في المعنى إلا بنوع استدلال، أو رد إلى غيره؛ وإنما سميت محكمات من الإحكام؛ (كأنه) أحكمها؛ فمنع الخلق من التصرف فيها؛ لظهورها (ووضوح) معناها.
* (هن أم الكتاب) أي: أصل الكتاب، فإن قال قائل: لم لم يقل: هن أمهات الكتاب؟ قيل: قال الفراء: تقديره: هن الشيء الذي هو أصل الكتاب. وقال غيره:
معناه: كل واحدة منهن أصل الكتاب، كما يقال: القوم أسد على، أي: كل واحد منهم أسد على، ومعناه: هن أصل الكتاب؛ لأن الخلق يفزعون إليه، كما تفزع الفروع إلى الأصول، فإن قال قائل: كيف فرق ها هنا بين المحكمات والمتشابهات، وسمى كل القرآن متشابها في قوله تعالى * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها). وسمى الكل محكما حيث قال: * (الر. كتاب أحكمت آياته)؟ قلنا: لما ذكر هنالك * (كتابا متشابه) على معنى: أنه يشبه بعضه بعضا في الحق والصدق، وإنما ذكر في الموضع الآخر * (أحكمت آياته) على معنى أن الكل حق وجد، ليس فيه
294

عبث ولا هزل، ثم ذكر تفصيلا آخر بعده، فجعل البعض محكما و البعض متشابها.
* (فأما الذين في قلوبهم زيغ) قال مجاهد: الزيغ: اللبس. وقيل: هو الشرك، وقيل: هو الشبهات التي تتعلق بالقلب * (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) يعني: أن الذين في قلوبهم زيغ يغلون في طلب التأويل للمتشابه؛ فيقعون على التأويل المظلم؛ فذلك ابتغاء الفتنة؛ لأن من غلا في الدين، وطلب تأويل ما لا يعلمه إلا الله، يقع في الفتنة، ويكون مفتونا، وخير الدين: النمط الأوسط الذي ليس فيه غلو ولا تقصير.
ثم اختلفوا في الذين يتبعون ما تشابه من هم؟ قيل: هم اليهود الذين قالوا: مدة أمة محمد على حروف التهجي، وقيل: هم النصارى من وفد نجران، حيث قالوا لرسول الله: ما تقول في عيسى؟ فقال: عبد الله ورسوله، قالوا: فهل تقول: أنه كلمة الله وروح منه؟ فقال: نعم، قالوا: حسبنا الله. واتبعوا ما تشابه من قوله: كلمة الله وروح منه. وقيل: هم الغالون في طلب التأويل واتباع المتشابه، وروت عائشة ' أن النبي قرأ هذه الآية، ثم قال: إذا رأيتم الذين يجادلون في الآيات فاحذروهم فهم هم '.
قوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله) استأثر الله تعالى بعلم التأويل، وقطع أفهام العباد عنه، والفرق بين التأويل والتفسير: أن التفسير: هو ذكر المعنى الواضح، كما تقول في قوله: * (لا ريب فيه) أي: لا شك فيه، وأما التأويل: هو ما يؤول المعنى إليه، ويستقر عليه. ثم الكلام في الوقف، فاعلم: أن أبي بن كعب وعائشة
295

* (ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب (7) ربنا لا تزغ) * *
وابن عباس - في رواية طاوس عنه - (رأو) الوقف على قول * (إلا الله)، وهو قول الحسن، وأكثر التابعين، وبه قال الكسائي، والفراء، و الأخفش، وأبو عبيد، وأبو حاتم، قالوا: إن الواو في قوله: * (والراسخون) واو الابتداء؛ و الدليل على صحته قراءة ابن عباس ' ويقول الراسخون في العلم آمنا به ' وروى ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس - في رواية أخرى -: الواو للنسق، ولا وقف (على قوله) * (إلا الله) (وأن الراسخون) في العلم يعلمون التأويل، قال ابن عباس: وأنا ممن يعلم تأويله، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل '، قالوا: والصحيح رواية طاوس، عن ابن عباس، كما ذكرنا، وعليه إجماع القراء؛ ولأن على قضية قول مجاهد لا يستقيم.
قوله: * (والراسخون في العلم يقولون) قال النحاة: وإنما يستقيم أن تقول: وما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم قائلين * (أمنا به) (و) لأنه قال: * (و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)؛ ولو علموا التأويل لم يكن لقولهم هذا معنى، وقد روى عن ابن عباس أنه قال: ' أنزل القرآن على أربعة أوجه ' الحلال والحرام، وعربية تعرفها العرب، ومما يعلم العباد تأويله، وما لا يعلم تأويله إلا الله ' وهذا يشهد لما قلنا؛ فدل أن الوقف على قوله: * (إلا الله). والواو: واو الابتداء في قول * (و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) قالوا: ومن رسوخهم في العلم يقولون ذلك * (وما يذكر إلا أولوا الألباب).
قوله تعالى: * (ربنا لا تزغ قلوبنا) أي: لا تمل قلوبنا * (بعد إذ هديتنا) وهذا
296

* (قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (8) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (9) إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار (10) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد) * *
دعاء للتثبيت والإدامة عليه، وقد روت أم سلمة عن النبي أنه كان يقول: ' يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ' * (وهب لنا من لدنك رحمة) نصرة ومعونة * (إنك أنت الوهاب).
قوله تعالى: * (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) أي: لا شك فيه عند أهل الحق، وقيل: أراد لا ريب فيه: يوم القيامة إذا قامت وظهرت.
* (إن الله لا يخلف الميعاد) فلا تزغ قلوبنا، وارحمنا، ولكنه أوجزه ولم يذكر تمام الدعاء.
قوله تعالى * (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) هو قول الكافرين يوم القيامة: شغلتنا عن الحق أموالنا وأهلونا، يقول لا عذر لهم فيه، ولا يغنيهم ذلك * (وأولئك هم وقود النار).
قوله تعالى: * (كدأب آل فرعون) الدأب: الشأن، والدأب: العادة، ومعنى الآية: أن هؤلاء الكفار في تكذيب الرسول، وجحد الحق، والتظاهر على الكفر؛ كعادة آل فرعون، وآل فرعون: فرعون وقومه.
* (والذين من قبلهم) يعني: عادا وثمود * (كذبوا بآيتنا فأخذهم الله بذنوبهم)، عاقبهم بجرائمهم، * (والله شديد العقاب) لأنه دائم، عقابه لا ينقطع؛ وكل دائم شديد.
قوله تعالى: * (قل للذين كفروا) قال ابن عباس: وسبب نزول الآية ما روى: ' أنه لما فرغ رسول الله من قتال المشركين يوم بدر جمع اليهود بقينقاع، وقال
297

* (العقاب (11) قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12) قد كان لكم آية في فئتين التقيا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة) * *
لهم: أسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بالمشركين من بأس الله، فقالوا: إنك لقيت قوما أغمارا لا يعرفون القتال، فلو قاتلتنا لوليت ' فنزل قوله تعالى: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) يعني: ستغلبون في الدنيا، وتحشرون في الآخرة إلى جهنم، * (وبئس المهاد) وقال مقاتل وجماعة: هو خطاب لأولئك المشركين يوم بدر، يقول الله: قا للمشركين: ستغلبون، وتحشرون إلى جهنم، وقد غلبوا وحشروا إلى جهنم، ويقرأ: ' سيغلبون ويحشرون ' بالياء - وهو بمعنى الأول، قال الفراء: وهو مثل قول الرجل: قل لزيد: إنك قائم. هو بمعنى قوله: قل لزيد: إنه قائم؛ فهما في المعنى سواء، ويحتمل أن يكون هذا خطاب لليهود، يعني: قل للذين كفروا من اليهود: سيغلب المشركون، ويحشرون إلى جهنم، وبئس المهاد، أي: بئسما مهدوا لأنفسهم، أو بئسما مهد لهم.
قوله تعالى: * (قد كان لكم آية) أي: معجزة وعلامة، * (في فئتين) في فرقتين * (التقتا) أجتمعتا، من الالتقاء: وهو الاجتماع، ومنه: ' يوم التلاق '؛ لأنه يجتمع فيه أهل السماء وأهل الأرض * (فئة تقاتل في سبيل الله) يعني: المسلمين يوم بدر * (وأخرى كافرة) يعني المشركين * (يرونهم مثليهم رأى العين) يعني المسلمين رأو المشركين مثلي عددهم، وكانوا ثلاثة أمثالهم؛ لأن عدد المسلمين يوم بدر كان ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرا أو أربعة عشر نفرا، وكان عدد المشركين تسعمائة وخمسين
298

* (يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي * *
نفرا، وعن علي وابن مسعود: أن عدد المشركين كانوا ألفا، فرآهم المسلمون نيفا وستمائة. قال ابن مسعود: رأيناهم ضعفي عددنا، ثم رأيناهم مثل عددنا؛ رجل [برجل] وهذا معنى قوله تعالى في سورة الأنفال * (وإذا يريكهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا) فرآهم المسلمون أقل من عددهم، وكذلك المشركون رأوا المسلمين أقل من عددهم، وكانت الحكمة فيه إذا رأوهم أقل مما كانوا لا يحجمون، ولا يفترون عن القتال؛ لأن الله تعالى قد أخبرهم أن الواحد منهم يقاوم اثنين من المشركين، وكذلك المشركون إذا رأوا المسلمين أقل مما كانوا لا يمتنعون عن القتال؛ * (ليقضي الله أمرا كان مفعولا)، وذلك من قتل رؤسائهم وقادتهم، بإذن الله تعالى.
قال الفراء: إنما رأوهم على عددهم كما كانوا، وإنما قال: * (يرونهم مثليهم) يعني: مثليهم سوى عددهم، وهذا مثل قول الرجل - وعنده درهم -: أنا أحتاج إلى مثلي هذا الدرهم، يعني إلى مثليه سواه. والأول أصح.
وقرئ: ' ترونهم ' بالتاء فيكون خطابا لليهود، وكان جماعة منهم حضروا قتال بدر؛ لينظروا على من الدبرة، فرأو المشركين مثلي عدد المسلمين، ورأو النصرة مع ذلك للمسلمين، وكان ذلك معجزة، وآية للرسول في أعينهم. وعلى القراءة الأولى يكون الخطاب مع المسلمين في قوله: (* (قد كان لكم آية في فئتين) * والله يؤيد بنصره من يشاء)؛ لأنه نصر المؤمنين يومئذ.
* (إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار) أي: علامة لأولى البصائر في الدين، ولذوي العقول أجمعين.
299

* (الأبصار (13) زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات) * *
قوله تعالى: * (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين) قال الحسن: المزين: هو الشيطان؛ لأن الله تعالى ذم الدنيا بأبلغ ذم، فلا يزينه في الأعين. وقال عامة المفسرين: المزين: هو الله تعالى، وتزيينه: أنه حبب في قلوبهم شهوة النساء والبنين * (والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة)، فالقناطير: جمع القنطار، وهو مال كثير، ثم اختلفوا؛ قال معاذ وأبي بن كعب: القنطار: ألف ومائتا أوقية، وقال ابن عباس والضحاك: هو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم. وقال سعيد بن المسيب: هو ثمانون ألف درهم. وقال مجاهد: هو سبعون ألف دينار. وقال قتادة: هو مائة رطل من ذهب أو فضة. وقال أبو نضرة: هو ملء مسك ثور من ذهب أو فضة. وسمى قنطارا؛ من الأحكام والتوثيق، وأما المقنطرة: فهي المجموعة المملكة. قال الفراء: القناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة.
قوله: * (والخيل المسمومة) قال مجاهد: هي الحسان المطهمة، وقال سعيد ابن جبير: المسومة: الراعية. يقال: أسام الخيل من الرعى. وفيه قول ثالث، المسومة: المعلمة من السيما، وهي العلامة. منهم من قال: سيماها: الشبه. ومنهم من قال: سيماها الكي * (والأنعام): هي الإبل والبقر والغنم * (والحرث): هي الأراضي المهيأة للزراعة * (ذلك متاع الحياة الدنيا) فيه إشارة إلى أنه متاع يفنى.
* (والله عنده حسن المآب) فيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة، ثم أكده بقوله تعالى: * (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله) وقرئ ' رضوان ' بضم الراء، وهما في المعنى سواء يقال: رضى يرضى رضاء ورضوانا. ورضوانا،
300

* (تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار (17) شهد الله) * *
وفي الخبر عن النبي: ' أن أهل الجنة؛ إذا دخلوا الجنة يقول الله تعالى: إن لكم عندي موعدا، وأنا منجزكموه، فيقولون: قد أعطيتنا كل ما نتمنى، فما هو يا رب؟ فيقول: أنزل عليكم رضواني ولا أسخط عليكم أبدا '.
قوله تعالى: * (والله بصير بالعباد الذين يقولون) فقوله: * (الذين يقولون) يحتمل أن يكون في موضع الخفض، وتقديره: بالعباد الذين يقولون، ويحتمل أن يكون
في موضع الرفع، وتقديره: يقولون على الابتداء، ويحتمل أن يكون في موضع النصب، وتقديره: أعنى: الذين يقولون: * (ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار).
* (الصابرين) يحتمل أن يكون في موضع الخفض، ويحتمل في موضع النصب، يعني: الصابرين على الشدائد والمصائب، وعلى الطاعات، وعن المعاصي * (والصادقين) الذين استقامت أحوالهم وأفعالهم * (والقانتين): المقيمين على الطاعة، المداومين عليها * (والمنفقين) يعني: المتصدقين، قيل في الجهاد، وقيل: في كل أبواب البر * (والمستغفرين بالأسحار) قال ابن عباس: هم المصلون بالليل. وقال أنس: هم السائلون بالمغفرة. وقال زيد بن أسلم: المصلون صلاة الصبح في الجماعة، وإنما قيده * (بالأسحار) لقرب صلاة الصبح من السحر.
قوله تعالى: * (شهد الله) أي: بين وأعلم؛ وكل شاهد مبين ومعلم * (أنه لا إله إلا هو) لنفسه بالوحدانية؛ وذلك أن وفد نجران قد أنكروا وحدانيته، وهذه الآية من الآيات التي نزلت في شأنهم، والحجاج عليهم * (والملائكة) أي: وشهدت الملائكة، * (وأولوا العلم) قيل: هم علماء بني إسرائيل، وذلك مثل: عبد الله بن سلام، ومن
301

* (أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين) * *
آمن معه، وقيل: هم المهاجرون والأنصار، وقيل: هم جميع علماء الأمة.
* (قائما) نصب على الحال، فهو الله تعالى قائم بتدبير الخلق * (بالقسط): بالعدل، يقال: قسط يقسط إذا جار. وأقسط يقسط؛ إذا عدل، فالقاسط: الجائر، ومنه قوله تعالى * (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) والمقسط: العادل، ومنه قوله تعالى: (* (إن الله يحب المقسطين) * لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * (إن الدين عند الله الإسلام) ويقرأ: ' أن الدين ' بفتح الألف، فمن قرأ بكسر الألف؛ فهو على الابتداء وقرأ الكسائي بالنصب، وتقديره: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام؛ فإنه لا إله إلا هو والإسلام: هو الانقياد والاستسلام، وقد يكون مجرد الاستسلام من غير العقيدة فرقا بينه وبين الإيمان على ما سيأتي.
والإسلام المعروف في الشرع: هو الإتيان بالشهادتين مع سائر الأركان الخمس، وفي الأخبار: ' أنه يؤتى بالأعمال يوم القيامة، فيؤتى بالصلاة على صورة، فتقول: يا رب، إني الصلاة، فيقول الله تعالى: إنك بخير، ويؤتى بالزكاة على صورة، فتقول: يا رب، إني الزكاة، فيقول الله: إنك بخير، وهكذا الصوم والحج، ثم يؤتى بالإسلام على أحسن الصور، فيقول يا رب، إني الإسلام، فيقول الله تعالى: إنك إلى خير، بك أخذ اليوم وبك أعطي '.
وحكي عن غالب القطان أنه قال: أتيت الكوفة للتجارة فنزلت قريبا من الأعمش، فكنت أختلف إليه وأسمع منه الحديث، فقصدت منه ليلة أن أنحدر منه إلى البصرة، فوجدته يتجهد في المسجد، فمر بهذه الآية * (شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة
302

* (إن الدين عند الله الإسلام وما أختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (19) فإن) * * (وألوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ثم قال: وأشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة؛ لتكون وديعة لي عنده، ثم قال: * (إن الدين عند الله الإسلام) كرره مرارا، فقلت في نفسي: لقد سمع فيه شيئا، فمكث، وصليت معه الصبح، ثم قلت له: مررت بهذه الآية، وكنت تكررها! فقال: أما بلغك ما ورد فيها؟!
قلت: أنا عندك منذ سنتين ولم تحدثني، وقد قصدت الإنحدار إلى البصرة، فقال: والله لا أحدثك سنة، فمكثت بالكوفة وكتبت على بابه ذلك اليوم، فلما تمت السنة أتيته، فقلت: يا أبا محمد، قد تمت السنة. فقال: حدثني أبو وائل، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - - أنه قال: ' يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله تعالى: إن لعبدي هذا عندي عهدا (وأنا) أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة '.
قوله تعالى: * (وما أختلف الذين أوتوا الكتاب) يعني: اليهود والنصارى * (إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) أي: حسدا بينهم. * (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فإن حاجوك) أي: فإن جادلوك * (فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعن) أي: قصدت بعبادتي الله تعالى * (وقل للذين أوتوا الكتاب) يعني: اليهود والنصارى * (والأميين) يعني: المشركين.
303

* (أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20) إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبين بغير حق ويقتلون الذين) * * (أأسلمتم يعني: أسلموا، وقيل: ذكره على التهديد؛ كما يقال: أقبلت هذا مني؟ على وجه التهديد * (فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) أي: عليك تبليغ الرسالة وليس عليك الهداية (والله بصير بالعباد) بالضال منهم والمهتدي.
وتلخيص معنى الآية: أن الله تعالى يقول: ' فإن جادلوك بالباطل، فقل: أسلمت وجهي لله، أي: أخلصت عملي لله، أو قصدت بعبادتي إلى الله الذي لا تقرون له بالخلق والتربية؛ فإنهم كانوا مقرين بأن الله خالقهم ومربيهم، فأنا أقصد إليه بعبادي ولا أتبع هواي كما تتبعون أهواءكم.
ثم قال: * (وقل للذين أوتو الكتاب والأميين أأسلمتم) أي: أسلموا. كما قال: * (فهل أنتم منتهون) أي: انتهوا، وإنما سمى المشركين أميين؛ لأنهم لم يكونوا قراء، وقيل: نسبهم إلى أم القرى وهي مكة لسكونهم فيها.
قوله تعالى: * (إن الذين يكفرون بآيات الله) أراد به اليهود م بني إسرائيل. * (ويقتلون النبيين بغير حق) إنما قال: بغير حق تأكيدا، لأن قتل النبيين لا ينقسم إلى
الحق والباطل.
وروى أبو عبيدة بن الجراح، عن النبي أنه قال: ' أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي '. ثم روى في هذا الخبر أنه قال: ' قتلت بنو إسرائيل اثنين وأربعين نبيا في ساعة واحدة، فقام إليهم مائة واثنا عشر رجلا من زهادهم وعبادهم، وأمروا بالمعروف، فقتلوهم ' فهذا قوله تعالى: (ويقتلون الذين
304

* (يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (21) أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (22) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم) * *
يأمرون بالقسط من الناس) أي: بالعدل * (فبشرهم بعذاب أليم) وإنما خاطب أبناءهم به، مع أن (الجناية) وجدت من آبائهم؛ (لأنهم) رضوا بفعلهم، ودانوا بدينهم، فاستوجبوا هذا (العذاب).
قوله تعالى: * (أولئك الذين حبطت أعمالهم) أي: بطلت، والحبوط والبطلان، في الدنيا والآخرة، وبطلان العمل في الدنيا: ألا يقبل، وفي الآخرة: أنه لا يجازى عليه بالثواب، * (وما لهم من ناصرين) من يمنع عنهم العذاب.
قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) قيل: ورد هذا في يهود بني قريظة والنضير؛ ' فإن النبي أتى بيت مدارسهم، فقال له نعيم بن عمرو الحارث بن يزيد: على أي ملة أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم. فقال نعيم: إن إبراهيم كان يهوديا. فقال: بيني وبينكم التوراة، أخرجوا التوراة. فأبوا أن يخرجوها '، فهذا هو قوله * (يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم) يعني: التوراة.
وفيه قول آخر: أن الآية في نصارى وفد نجران، وقوله * (يدعون إلى كتاب الله) يعني: القرآن ليحكم بينهم.
* (ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) وذلك أن بعضهم قد أسلموا.
قوله - تعالى -: * (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) يرجع هذا
305

* (معرضون (23) ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24) فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (25) قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وننزع الملك ممن يشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على) * *
إلى اليهود، وقد ذكرناه من قبل. * (وغرهم في دينهم) الغرور: هو الإطماع فيما لا يحصل منه شيء، والغرور: الشيطان، وغر الثوب: طيه، فيقال: أعد الثوب إلى غره، أي: إلى طيه، والغرور: ركوب الخطر. * (ما كانوا يفترون) الافتراء: اختلاق الكذب؛ ومنه الفرية: تسوية الكذب، قال الشاعر:
(ولا أنت تفري ما خلقت
* وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى)
أي: لا يكذب ولا يسوى.
قوله تعالى: * (فكيف إذا جمعناهم) أي: فكيف حالهم * (إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت) من الجزاء * (وهم لا يظلمون).
قوله تعالى: * (قل اللهم مالك الملك) في سبب نزول الآية قولان: أحدهما: أنه لما فتح مكة وعد أصحابه ملك الفرس: فسمعه اليهود، وقالوا: هيهات الفرس والروم أعز وأمنع جانبا مما تظنون؛ فنزلت هذه الآية.
وقال الحسن: إنه سأل ربه لأصحابه ملك فارس والروم.
فأما قوله: * (قل اللهم) فأصله: يا الله؛ فلما حذف حرف النداء زيدت الميم في آخره، قال الفراء: للميم فيه معنى، ومعناه: يا الله، أعنا بالمغفرة أي: اقصدنا.
* (مالك الملك) تقديره يا مالك الملك، ومعناه: مالك العباد؛ وما ملكوه، وقيل: أراد بالملك: النبوة، وقيل: ملك السماوات والأرض. * (تؤتي الملك من تشاء) أي: من تشاء أن تؤتيه من المسلمين. * (وتنزع الملك ممن تشاء) أي: ممن تشاء أن تنزعه، وهم فارس والروم. * (وتعز من تشاء وتذل من تشاء) فيه ثلاثة أقوال:
306

* (كل شيء قدير (26) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من) * *
أحدهما: تعز من تشاء بالنصر، وتذل من تشاء بالقهر. والثاني: تعز من تشاء بالغنى، وتذل من تشاء بالفقر.
والثالث: تعز من تشاء بالهداية، وتذل من تشاء بالضلالة.
* (بيدك الخير) أي بيدك الخير والشر، كما قال: * (سرابيل تقيكم الحر) أي: تقيكم الحر والبرد، فاكتفى بأحد المذكورين عن الآخر.
* (إنك على كل شيء قدير)، وقد ورد في فضل هذه الآية من الأخبار: ما روى عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن علي، عن النبي أنه قال: ' فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، وآيتان من آل عمران - شهد الله، وهذه الآية - متشفعات لمن قرأها يوم القيامة، ليس بينهما وبين الله حجاب '. وروى في هذا الخبر: أنه قال: ' لما أنزل الله تعالى هذه الآيات تعلقن بالعرش، وقلن: يا رب، تهبطنا إلى أرضك وعبادك، فقال الله تعالى: ' وعزتي وجلالي ما قرأكن عبد من عبادي إلا أسكنته جنتي؛ على ما كان عليه، وقضيت له كل يوم سبعين حاجة، أدناها المغفرة '.
قوله تعالى: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) الإيلاج: الإدخال، ومعناه: تنقص من أحدهما وتزيد في الآخر، وقيل معناه: تغطي الليل بالنهار،
والنهار بالليل.
* (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) قال الحسن: معناه: تخرج
307

* (الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب (27) لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) * *
الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر، والقول الثاني: تخرج النطفة من الحي، والحي من النطفة، وفيه قول غريب: تخرج الفطن الكيس من البليد الفاجر، والبليد من الفطن؛ لأن البليد ميت فهما؛ والفطن حي فهما. ويقرأ * (من الميت): مخففا ومشددا، وفرق نحاة الكوفة بين الميت والميت، فقالوا: الميت - بالتشديد -: هو الحي الذي لا يموت، والميت مخففا: هو الذي مات؛ واستدلوا بقوله تعالى * (إنك ميت وأنهم ميتون) وأنكر ذلك نحاة البصرة وقالوا: هما بمعنى واحد.
وأنشد المبرد لبعض الشعراء:
(ليس من مات فاستراح بميت
* إنما الميت ميت الأحياء)
(إنما الميت من يعيش كئيبا
* كاسفا باله قليل الرجاء)
فجمع بين الميت والميت على معنى واحد.
* (وترزق من تشاء بغير حساب): من غير تضييق ولا تقتير.
قوله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) هذا في قوم مخصوصين، أسلموا على موالاة اليهود والمشركين، فنهاهم الله عن ذلك، وهو معنى قوله: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله).
* (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) أي: ليس من حزب الله * (إلا أن
308

* (إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28) قل إن تخفوا) وقرئ: تقية، ومعناهما واحد، يعني: إلا أن يقع في أيديهم، فيخافهم، فيوافقهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا بأس به، ولكن لو صبر حتى قتل، فله من الأجر العظيم، ما الله به عليم.
وقد روى: ' أن مسيلمة الكذاب - لعنة الله - أخذ رجلين من أصحاب رسول الله وقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، تقية منه، فخلى سبيله. ثم قال للآخر: أتشهد أن محمد رسول الله فقال: نعم نعم نعم، قال أتشهد أني رسول الله، فقال: أنا أصم، فقتله؛ فبلغ ذلك رسول الله، فذكر درجة الذي صبر على القتل، وقال: إن الأول أخذ برخصة الله '.
وقد صح عن رسول الله: أنه قال: ' أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر '. وقال: ' إن فضل الشهداء بعد شهداء أحد: من قام إلى سلطان جائر وأمره بالمعروف، فقتله عليه '.
قوله - تعالى -: * (ويحذركم الله نفسه) أي: يخوفكم إياه * (وإلى الله
309

* (أما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير (29) يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد (30) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) * *
لمصير) أي: المرجع.
قوله تعالى: * (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) أي: يجازى عليه * (ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) أي: محضر لها ما عملت من الخير والشر، فتسر بما عملت من الخير.
* (وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) أي: غاية مديدة، قال السدي: ما بين المشرق والمغرب. وفي الأخبار: أن الأعمال يؤتى بها يوم القيامة على صور فما كان منها حسنا، فعلى الصورة الحسنة، وما كان قبيحا، فعلى الصورة القبيحة.
* (ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) ومن رأفته أن حذرهم، ورغبهم ورهبهم، ووعدهم وأوعدهم.
قوله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) في سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما: أنه خطاب لليهود والنصارى من وفد نجران، وذلك أنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، فنزل قوله: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبكم) والثاني: أنه خطاب لمشركي قريش؛ فإنه رآهم يعبدون الأصنام؛ فقال لهم: ' خالفتم ملة أبيكم إبراهيم، فقالوا: إنما نعبدهم تقربا إلى الله؛ فإنا نحبه؛ فنزل قوله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم
310

* (والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32) إن الله أصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33)) * *
والله غفور رحيم) '.
واعلم أن محبة الله العبد، ومحبة العبد الله لا يكون بلذة شهوة، ولكن محبة العبد في حق الله: هو إتيان طاعته، وابتغاء مرضاته، واتباع أمره، ومحبة الله في حق العبد: هو العفو عنه، والمغفرة، والثناء الحسن، وأكده قوله تعالى: * (قل أطيعوا الله والرسول)؛ بين أن محبته في طاعته وطاعة رسوله.
* (فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين)، فإن قال قائل: لم كرر اسم الله مرارا، وكان يكفيه: أن يقول فإنه لا يحب الكافرين؟ قيل: هو على عادة العرب؛ فإن من عادتهم أنهم إذا عظموا شيئا كرروا ذكره، وأنشد سيبويه في مثل ذلك:
(لا أرى الموت سبق الموت شيء
* نغص الموت زلته الغني والفقير)
وقوله تعالى: * (إن الله أصطفى آدم ونوحا) الاصطفاء: الاختيار. والصفوة: الخيرة: ولم اختار آدم؟ اختلفوا؛ فمنهم من قال: اختاره للدين، ومنهم من قال: اختاره للنبوة. فإن قال قائل: إلى من كان مبعوثا؟ قيل: الملائكة؛ حتى علمهم الأسماء، وإلى أولاده. قال: وآل إبراهيم: هم إسماعيل وإسحاق ويعقوب.
وآل عمران: موسى وهارون، وآل عمران من آل إبراهيم، وقيل: أراد به عيسى؛ لأنه ابن مريم بنت عمران * (على العالمين) على عالمي أهل زمانهم.
قوله تعالى: * (ذرية بعضها من بعض) قيل: هو مشتق من ذرأ بمعنى: خلق، وقيل: هو من الذر، لأنه خلقهم؛ واستخرجهم من صلب آدم كالذر، والأبناء يسمون ذرية، وكذلك الأباء، قال الله تعالى * (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في
311

(* (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34) إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم (35) فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36) فتقبلها ربها بقبول حسن) * *
الفلك المشحون) يعني: آباءهم، والأبناء: ذرية، لأنه ذرأهم، والآباء ذرية؛ لأنه ذرأ الأبناء منهم، (بعضها من بعض) في التفاضل، وقيل: في التناسل. * (والله سميع) بما قالوا * (عليم) بما اضمروا.
قوله تعالى: * (إذ قالت امرأة عمران) وهي: حنة زوجة عمران، وكانت أختها تحت زكريا * (رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) قال الشعبي: معناه مخلصا لعبادة الله تعالى. وقال مجاهد معناه: مسمى لخدمة البيت، مفرغا لها عن سائر الأشغال. * (فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى) وذلك أن زوجها عمران كان قد (عاتبها). على ما نذرت، وقال لها: لا تدرين أنه يخلق ولدك ذكرا أو أنثى، وقد نذرت مطلقا.
* (والله أعلم بما وضعت) هذا إخبار من الله تعالى عن علمه ويقرأ ' والله أعلم بما وضعت ' على الخبر؛ وذلك من قول المرأة * (وليس الذكر كالأنثى) فإن الذكر أقوم وأقوى لخدمة البيعة من الأنثى، وقيل: لأنه أبعد عن الموانع من العبادة بخلاف الأنثى، يمنعها الحيض والنفاس.
* (وإني سميتها مريم)، فإن قال قائل: ما معنى قولها: وإني سميتها مريم؟ قيل: حتى تعرف هل وقع ذلك الاسم برضا الله تعالى حتى يغير أو يقرر.
312

* (وأنبتها نباتا حسنا وكلفها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال) * * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) فالشيطان: المطرود، والرجيم: المرجوم بالشهب، وروى أبو هريرة عن النبي أنه قال: ' ما من ولد يولد إلا ويطعن الشيطان في خاصرته؛ فيستهل صارخا إلا مريم وابنها، فإنه ضربهما فوقع الضرب في الحجاب، وقرأ قوله تعالى * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) '.
قوله تعالى: * (فتقبلها ربها بقبول حسن) أي: رضى بها وقبلها * (وأنبتها نباتا حسنا)، أي وأنبتها فنبتت نباتا حسنا.
قال أبو العباس بن عطاء الصوفي: لما أنبتها الله نباتا حسنا، فانظروا إلى ثمرته كيف أثمر النبات؟ يعني: عيسى صلوات الله عليه.
* (وكفلها) - مشدد - * (زكريا) بنصب الألف، وتقرأ مخففا ' وكفلها زكريا ' بضم الألف، ومعنى الكفالة: الضم، يعني: وضمها زكرياء إلى نفسه، ومن قرأ بالتشديد، معناه: ضمها الله إلى زكريا، وقال النبي: ' أنا وكافل اليتيم كهاتين '.
ومن الأسباب التي خص بها زكريا بكفالة مريم؛ أن خالتها كانت تحته، وهي أخت حنة امرأة عمران، ولكفالة زكريا مريم قصة معروفة ستأتي في سورة مريم إن شاء الله تعالى.
* (كلما دخل عليها زكريا المحراب) يقرأ ' زكريا ' بالمد والقصر، والمحراب:
313

* (يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب (37) هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك أنت سميع الدعاء (38)) * *
غرفة يرتقي إليها بالسلم، وكان زكريا قد اتخذ لمريم مثل تلك الغرفة، وكان يرقى إليها بالسلم، قال الشاعر في معناه:
(ربة محراب إذا جئتها
* لم ألقها أو أرتقى سلما)
إي: ربة غرفة، وقيل: المحراب: أشرف المجالس، وقيل: هو المحراب المعروف.
* (وجد عندها رزقا) والرزق: ما يؤكل، قال قتادة: فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، كان قد رآها عندها، قال الحسن: حين ولدت مريم لم تلقم ثديا، وكان يأتيها الله تعالى برزقها.
* (قال يا مريم أنى لك هذا) قال أبو عبيدة: معناه: من أين لك هذا؟! وأنكرت النحاة هذا، وقالوا: هذا تساهل من أبي عبيدة، وبينهما فرق، ف ' أنى ' للسؤال عن الجهة، و ' أين ' للسؤال عن المكان، وأنشد المبرد لبعضهم.
(أنى ومن أين آنك الطرب
*)
فرق بينهما، قوله: * (أني لك هذا) أي: من أي جهة لك هذا؟! * (قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب).
قوله تعالى: * (هنالك دعا زكريا ربه) وذلك أن زكريا لما رأى مريم يأتيها رزقها في غير حينه نحو فاكهة الصيف في الشتاء - طمع أن يرزق الولد في غير حينه - على الكبر - فدعا الله أن يرزقه ولدا، وكان قد بلغ مائة وعشرين سنة، وبلغت امرأته ثمان وتسعين سنة.
* (قال رب هب لي من لدنك) من عندك * (ذرية طيبة) أي: ولدا صالحا تقيا نقيا، والذرية تشتمل على الذكر والأنثى، وإنما قال: * (طيبة) بنعت المؤنث على لفظ
314

* (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من) * *
الذرية.
* (إنك سميع الدعاء) * (فنادته الملائكة)، ويقرأ: ' فناداه الملائكة ' بالألف واختلفوا في المنادى، منهم من قال: كان جبريل. ومنهم من قال: جمع من الملائكة * (وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك) يقرأ ' أن ' بكسر الألف وفتحها، فمن قرأ بالكسر، فتقديره: فنادته الملائكة وقالوا: إن الله يبشرك، ومن قرأ بالفتح، فهو على النسق، * (يبشرك) يقرأ مخففا ومشددا، وهما في المعنى سواء.
والبشارة: خبر سار يظهر أثره على بشرة الوجه، * (يبشرك بيحيى) سماه يحيى قبل أن يولد، * (مصدقا بكلمة من الله) قيل: مصدقا بكتاب الله وكلامه. وقيل: معناه مصدقا بعيسى، وهو كلمة الله فإن قال قائل: ' كلمة الله ' لا يكون مخلوقا، وقد أنكرنا على النصارى قولهم: ' المسيح ابن الله '، وقولهم: ' إن الله ثالث ثلاثة '، فكيف نعرف أن عيسى كلمة الله؟ قيل: فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنه كلمة الله على معنى: أنه يكون بكلمة من الله حيث قال له: ' كن فكان '، من غير سبب ولا علة، وصنع بشر وإلقاء نطفة.
الثاني: أنه كلمة الله على معنى: أنه يهتدى به، كما يهتدى بكلام الله.
والثالث: أن الله تعالى كان قد أخبر سائر الأنبياء، ووعدهم في كتبه أنه يخلق نبيا بلا أب، ووعد مريم أنه يولد لها ولد بلا أب، فلما تكون عيسى سماه كلمة؛ لأنه حصل بتلك الكلمة، وذلك الوعد، وهو كما تقول العرب: أنشدني كلمتك، أي: قصيدتك، وقيل لحسان: إن الحوديرة أنشأ قصيدة، فقال: لعن الله كلمته، أي:
315

* (الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين (39) قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء (40) قال رب اجعل لي آية قال) * *
قصيدته، فلما حصلت القصيدة بكلمته سمى ذلك كلمة.
قوله: * (وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) أما السيد: قال سعيد بن جبير: السيد: التقي، وقال مجاهد: هو الكريم، وقيل: هو العليم الذي لا يغضبه شيء، وقيل: هو الذي يفوق قومه في جميع خصال الخير.
والحصور: قال سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك وعطاء وجماعة: هو الذي لا يأتي النساء، والحصور بمعنى: المحصور، وكان ممنوعا من النساء، وهو مثل قول الشاعر
(فيها اثنتان وأربعون حلوبة
* سودا كخافية الغراب الأسحم)
فالحلوبة بمعنى: المحلوب، وقال سعيد بن المسيب: كان له مثل هدبة الثوب، وقد تزوج مع ذلك؛ ليكون أغض لبصره، وقال الشعبي: الحصور العنين، وفيه قول آخر: الحصور: هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه، وهذا يوافق قول الشافعي في مسألة التخلي لعبادة الله.
واختاروا هذا القول لوجهين: أحدهما: أنه يكون أقرب إلى استحقاق الثناء، لأن الكلام خرج مخرج الثناء.
والثاني: أنه يكون أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء؛ لبعدهم عن الآفات.
قوله تعالى: * (قال ربي أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) وإنما قال: * (بلغني الكبر)؛ لأن الكبر في طلب الإنسان، فإذا أصابه فقد بلغه.
وأما العاقر: فهي التي عقم رحمها من الكبر، فإن قيل: كان شاكا في وعد الله تعالى حين قال: * (رب أنى يكون لي غلام) قيل: إنما قاله على سبيل التواضع، يعني: مثلي على هذا الكبر من مثل هذه العجوز يكون له الولد، وقيل معناه: كيف يكون لي هذا الغلام؟ أتردني لحالة الشباب، أم يكون الغلام على حال الكبر؟.
* (قال كذلك يفعل الله ما يشاء).
316

* (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبكار (41) وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء) * *
قوله تعالى: * (قال ربي اجعل لي آية) أي: علامة. قيل: إنما سأل العلامة؛ لأن إبليس وسوس إليه أن الذي ناداك هو الشيطان، دون الملك وكان يديم عليه وسوسته، فسأل العلامة؛ دفعا لتلك الوسوسة. وقيل: إنما سأل العلامة؛ لمعرفة وقت الولادة حتى يزداد لله شكرا.
* (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام) وقيل: [إن الله أمسك] لسانه وحبس عنه الكلام ثلاثة أيام، وهو سوى صحيح؛ وعليه دل قوله تعالى في سورة مريم * (ثلاث ليال سويا).
* (إلا رمزا) أي: إشارة، والإشارة تكون باللسان، وتكون باليد، وتكون بالعين والمراد ها هنا: الإشارة بالإصبع المسبحة، قال قتادة: إنما أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له على ما سأل من الآية بعدما أوحى الله تعالى إليه، وشافهته الملائكة بالبشارة.
* (واذكر ربك كثيرا) قيل: إنما أمسك لسانه عن الكلام مع الناس، ولم يمسكه عن ذكر الله تعالى، فأمره بالذكر.
* (وسبح بالعشى والإبكار) المراد بالتسبيح: الصلاة، وأما العشى: ما بين زوال الشمس إلى غروب الشمس، ومنه صلاة الظهر والعصر صلاتي العشى، وأما الإبكار: ما بين طلوع الفجر إلى الضحى الأعلى.
قوله تعالى: * (وإذ قالت الملائكة يا مريم) أي: واذكر إذ قالت الملائكة: * (يا مريم إن الله اصطفاك) اختارك وطهرك من الحيض والنفاس، وقيل: من الذنوب. * (وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) منهم من قال: على نساء عالمي زمانها، ومنهم من قال:
317

* (العالمين (42) يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت) * *
على (جميع نساء) العالمين؛ في أنها ولدت بلا أب، ولم يكن ذلك لأحد من نساء العالم.
قوله تعالى: * (يا مريم اقتني لربك) أي: أطيعي ربك، وقومي لطاعته. والقنوت: طول القيام، قال مجاهد: معناه أطيلي القيام لربك، وقيل: إنها قامت حتى انتفخت قدماها وتورمت. وسمى القنوت في الصلاة؛ لأنه في حال القيام، وعن النبي ' أنه سئل عن أفضل الصلاة، فقال: طول القنوت ' أي: طول القيام.
* (واسجدي واركعي مع الراكعين) قيل: إنما قدم السجود على الركوع؛ لأنه كان كذلك في شريعتهم، وقيل لا، بل الركوع قبل السجود في جميع الشرائع، وليست الواو للترتيب، بل للجمع، ويجوز أن يقول الرجل: رأيت زيدا وعمرا، وإن كان قد رأى عمرا قبل زيد، ويجوز أن نقول: رأيت عمرا وزيدا أي زيدا وعمرا، قال الشاعر:
(ألا يا نخلة من ذات عرق
* عليك ورحمة الله والسلام)
أي: عليك السلام ورحمة الله، فكذلك قوله: * (واسجدي واركعي) أي: واركعي واسجدي، وإنما قال: مع الراكعين، ولم يقل مع الراكعات؛ ليكون أعم وأشمل، وقيل معناه: مع المصلين في الجماعة.
قوله - تعالى -: * (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) يقول لمحمد: ذلك من أخبار الغيب نوحيه إليك * (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) فالأقلام: السهام، وإنما سمى قلما؛ لأنه يقطع ويبرى. وأصل القلم: القطع، ومنه قلم الظفر.
318

* (لديهم إذ يختصمون (44) إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس) * *
والقصة في ذلك: أنهم تشاحنوا واختصموا في كفالة مريم، فقال زكريا: أنا أولى بكفالتها منكم، لأن خالتها عندي، وقال أحبارهم - وقيل أولياؤهم -: نحن أولى بكفالتها؛ لأن أباها كان إمامنا وحبرنا، فاقترعوا واستهموا، على أن من يثبت قلمه في الماء وصعد، فهو أولى بكفالتها، فألقوا الأقلام على الماء وعلى كل قلم اسم واحد منهم، فانحدرت أقلامهم تجري في الماء، وجرى قلم زكريا مصعدا إلى أعلى الماء، قيل: غرقت أقلامهم، وارتد قلم زكريا، وبقي فوق الماء، وقيل إنما اختصموا في كفالتها؛ لأنه كان قد أصابهم قحط وأزمة، وكانت تضيق بهم النفقة؛ فاستهموا على كفالتها تدافعا حتى أن من خرج سهمه هو الذي يعولها، وينفق عليها، والأول أصح وأشهر.
قوله تعالى: * (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) قيل: أن الملائكة قالوا لها ذلك مشافهة وعيانا.
* (أسمه المسيح عيسى ابن مريم) قال ابن عباس: إنما سمي مسيحا؛ لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برئ، وقال الحسن وقتادة: سمي مسيحا؛ لأنه مسح بالبركة، وقيل: المسيح: الصديق، ويكون المسيح بمعنى: الكذاب، وهو من الأضداد، وقيل: سمى مسيحا؛ لأنه كان يمسح وجه الأرض، ويسيح فيها، وقيل: إنما سمى مسيحا؛ لأنه ممسوح القدم لأخمص قدميه، ومنه قول الشاعر:
(بات يقاسيها غلام كالزلم
* خديج الساقين ممسوح القدم)
ومن ذلك سمى الدجال مسيحا؛ لأنه مسح أحد شقى وجهه، لا عين له.
* (وجيها في الدنيا والآخرة) أي: رفيعا ذا جاه عند الله (* (ومن المقربين) * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين) أما كلامه في المهد هو قوله في سورة
319

* (في المهد وكهلا ومن الصالحين (46) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوارة والإنجيل (48) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية) * *
مريم * (إني عبد الله) وأنكر النصارى كلامه في المهد سيأتي بيانه، وأما كلامه وهو كهل، قيل: هو إخباره عن الأشياء المعجزة، وقيل: هو كلامه بعد نزوله من السماء.
والكهل: قيل: هو ما فوق الغلام، ودون الشيخ، وهو ابن أربع وثلاثين سنة، وأصله: الطول، ومنه: اكتهل النبات إذا طال.
قوله تعالى: * (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) قالت ذلك تعجبا؛ إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد ولد بلا أب * (قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن، فيكون) أي: لا يعسر عليه شيء، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
قوله تعالى: * (ويعلمه الكتاب) يقرأ: بالياء والنون، والكتاب: الخط * (والحكمة): العلم والفقه، * (والتوراة والإنجيل) علمه الله التوراة والإنجيل، * (ورسولا إلى بني إسرائيل). منهم من قال: كان رسولا في حالة الصبا، ومنهم من قال: إنما كان رسولا بعد البلوغ.
* (أني قد جئتكم بآية من ربكم) معناه: بآيات من ربكم، وإنما اكتفى بذكر الآية؛ لأن الكل دال على شيء واحد.
* (أني أخلق لكم من الطين) أي: أقدر وأصور * (كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله) قيل: إن عيسى قال لهم: أي شيء أشد خلقا؟ قالوا: الخفاش، فقدر من الطين خفاشا وصوره، ونفخ فيه؛ فقام يطير بإذن الله.
320

(* (من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * وأبرىء الأكمه) قال أبو عبيد: الأكمه الذي ولد أعمى، وقيل: هو الأعمش الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل * (والأبرص): الذي به وضح * (وأحيى الموتى بإذن الله) قال ابن عباس: قد أحيا أربعة: عازر وابن العجوز وبنت العاشر وسام بن نوح عليه السلام.
فأما عازر: فكان صديقا لعيسى، فأخبر بموته، فدعا الله تعالى فأحياه [الله]، وأما ابن العجوز: كان على السرير يحمل إلى المقبرة، فرآه عيسى، فأمر بوضع السرير، ودعا فأحياه، فأخذ كفانه، ولبسها ورجع إلى البيت، وأما بنت العاشر: فقد كان رجل يأخذ العشور، ماتت له ابنة فدعا الله فأحياها، وأما سام بن نوح فإن عيسى جاء إلى قبره ودعا (الله فأحياه)، فقام إليه وقال: أقامت القيامة؟! وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة.
فقال: لا، أنا عيسى بن مريم؛ فكلمه؛ ومات من ساعته، وأما الثلاثة الذين أحياهم عاشوا، وولد لهم.
* (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) كان عيسى يخبر الرجل بما أكل في بيته البارحة، وما يأكل اليوم، وما أدخره للعشاء، وقيل أنه كان في المكتب يخبر الصبي بما أكل، وما خبأت له أمه من الطعام، حتى كان الصبي يأتي إلى أمه، فيبكي حتى تعطيه الطعام، فيحمله إلى عيسى، فحبسوا الصبيان عن المكتب، فجاء عيسى في طلبهم، وكانوا في دار، فقال: من هؤلاء الذين في الدار؟ فقيل: خنازير، فقال عيسى: يكونون كذلك؛ فصاروا خنازير بأمر الله - تعالى - * (إن في ذلك لآية
321

* (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (499 ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50) إن الله ربي وربكم فاعبدواه هذا صراط مستقيم (51) فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من) * *
لكم إن كنتم مؤمنين).
قوله تعالى: * (ومصدقا لما بين يدي من التوراة) يعني: وأكون مصدقا، * (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) قال أبو عبيدة: أراد بالبعض: الكل، يعني: كل الذي حرم عليكم، ومثله قول الشاعر:
(أو يرتبط بعض النفوس حمامها
*)
أي: كل النفوس، وقيل: هو على حقيقته، وقد كان أحل لهم بعض ما حرم عليهم في التوراة من لحوم الإبل وثروبها.
* (وجئتكم بآية من ربكم) يعني: بآيات كما بينا، * (فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) أي: طريق واضح.
قوله تعالى: * (فلما أحس عيسى منهم الكفر) أي: أبصر ووجد منهم الكفر؛ قال: * (قال من أنصارى إلى الله) قيل معناه: من أنصارى مع الله، وقال النحويون: ' إلى ' في موضعها، وليست بمعنى ' مع '، وإنما معناه: من يضم نصرته إلى نصرة الله لي * (قال الحواريون نحن أنصار الله) قال ابن أبي نجيح: الحواريون: كانوا قوما قصارين، سموا بذلك لأنهم كانوا يقصرون الثياب.
وقيل: كانوا صيادين يصطادون السمك. والصحيح أن الحوارى: صفوة كل شيء وخالصته ومنه قوله في الزبير: ' هو ابن عمتي وحواريي من أمتي '، أي:
322

* (أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52) ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين (53) ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (54) إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين) * *
صفوتي وخالصتي.
وأصل الحوارى: النقاء والنظافة؛ فسموا حواريين؛ لنقاء قلوبهم، ومنه يقال لنساء الأمصار: حواريات. قال الشاعر:
(فقل للحواريات يبكين غيرنا
* ولا تبكينا إلا الكلاب النوابح)
ومنه الخبز الحوارى؛ لنقاوته وبياضه.
وأما قوله: * (نحن أنصار الله) لأنهم إذا نصروا عيسى، فكأنهم نصروا الله * (آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون).
قوله تعالى: * (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) قيل: مع الشاهدين من أمة محمد؛ لأنهم يشهدون للرسل بالبلاغ، وقيل: من الشاهدين على نبوة عيسى.
قوله تعالى: * (ومكروا ومكر الله) المكر من العبد: الخبث والخداع، ومن الله تعالى: أن يأخذ العبد بغتة من حيث لا يعلم، وإنما سماه مكرا - على المقابلة - لأنه جزاء مكرهم: كما قال: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) والمراد بمكرهم ها هنا: أنهم احتالوا لقتل عيسى، فقال رجل: ألا أدلكم على البيت الذي فيه عيسى، فجاءوا معه البيت الذي كان فيه عيسى، فرفعه الله إلى السماء، وألقى شبه عيسى على من دلهم عليه، فأخذوه، وهو يصيح: لست بعيسى، فقتلوه، وقيل: إن الدال كان واحد من الحواريين؛ فذلك مكر الله * (والله خير الماكرين).
قوله تعالى: * (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك) أي: واذكر قول الله لعيسى: إني متوفيك * (ورافعك إلي). فإن قال قائل: ما معنى التوفي، وعيسى في الأحياء
323

* (كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم) * *
على زعمكم؟ قلنا: فيه أقوال، قال الحسن البصري: معناه: إني قابضك من الأرض، وهو صحيح عند أهل اللغة، فيقال: توفيت حقي من فلان. أي: قبضت.
قال الأزهري: كأنه يقول: إني متوفى عدد آبائك في الأرض، وكل شيء تم فهو متوفى، ومستوفى، وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، وتقديره: إني رافعك إلى ومتوفيك ' أي: بعد النزول من السماء.
وقد ثبت عن رسول الله أنه قال: ' ليهبطن عيسى بن مريم حكما مقسطا يكسر الصليب ويقتل الخنزير '، وفي رواية: ' أنه يقتل الدجال بباب لد ' من دمشق، وفي الأخبار: أنه يعيش بعد ذلك في الأرض سبع سنين، ويتزوج، ويولد له. ثم يموت، ويصلوا عليه المؤمنون من هذه الأمة.
وهذا التقديم والتأخير الذي ذكرنا في الآية محكى عن ابن عباس وله قول آخر: أن الآية على حقيقة الموت، وأن عيسى قد مات، ثم أحياه الله تعالى ورفعه إلى السماء.
قال وهب بن منبه: أماته الله ثلاث ساعات من النهار، ثم أحياه الله، ورفعه إليه، وقال الربيع ابن أنس: التوفي: هو النوم، وكان عيسى قد نام، فرفعه الله نائما إلى السماء، والمعروف: القولان الأولان.
وقد روى عن رسول الله أنه قال: ' رأيت ابني الخالة: عيسى، ويحيى في السماء الثانية ليلة المعراج '، وروى أيضا: ' أنه رآهما في السماء الدنيا ' والأول
324

* (بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55) فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (56) وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم) * *
أصح، وقال عليه الصلاة والسلام: ' رأيت المسيح بن مريم يطوف بالبيت ' فدل على أن الصحيح أنه في الأحياء، وفي أخبار المعراج: ' أن النبي لقى آدم في السماء الأولى وعيسى في السماء الثانية ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في السماء الرابعة وهارون في السماء الخامسة وموسى في السماء السادسة، - وفي رواية السماء السابعة - وإبراهيم في السماء السابعة '.
قوله: * (ومطهرك من الذين كفروا) أي: مخرجك من أرجاسهم وأنجاسهم، * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة).
وقيل: أراد به النصارى، وهم فوق اليهود إلى يوم القيامة، واليهود أذل الفريقين؛ قد ذهب ملكهم، فلا يعود أبدا، وملك النصارى دائم إلى قريب من قيام الساعة، وقيل: أراد بالذين اتبعوه: أمة محمد؛ حيث صدقوه ووافقوه على دين التوحيد، فهم فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.
وفيه قولان: أحدهما: أنهم فوقهم بالحجة.
والثاني: بالعز والغلبة، وقد قال: ' أنا أولى بعيسى بن مريم، ليس بيني وبينه نبي '.
* (ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون).
قوله تعالى: * (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة)
325

* (أجورهم والله لا يحب الظالمين (57) ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم (58) إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)
) * *
والعذاب في الدنيا: القتل والأسر والجزية، والعذاب في الآخرة: عذاب النار.
قوله تعالى: * (وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم) أي: جزاء أعمالهم * (والله لا يحب الظالمين) أي: لا يرحم الكافرين، ولا يثني عليهم بالجميل.
قوله تعالى: * (ذلك نتلوه عليك من الآيات) يعني: القرآن * (والذكر الحكيم) أي: الذكر ذي الحكمة، وقيل: الذكر المحكم الذي لا يتخلله الفساد.
قوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم)؛ سبب نزول الآية ما روى: أن وفد نجران لما قدموا على النبي قال لهم: ' أسلموا، فقالوا: نحن مسلمون، قال: كذبتم؛ يمنعكم من ذلك ثلاث: قولكم إن الله اتخذ ولدا، وسجودكم للصليب، وأكلكم الخنزير، فقالوا: من أبو عيسى؟ فنزلت هذه الآية '، وفي الآية دليل عليهم، ورد لقولهم، فقوله: * (إن مثل عيسى) أي: صفة عيسى * (عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)، يعني: إن خلق عيسى بلا أب مثل خلق آدم بلا أب، ولا أم، وخلق عيسى بلا أب ليس بأبدع من خلق آدم بلا أب ولا أم.
فأما قوله: * (ثم قال له كن فيكون) راجع إلى آدم، فإن قال قائل: لما ذكر أنه خلقه من تراب، فما معنى قوله بعده * (ثم قال له كن فيكون) بعد الخلق؟ قيل: معناه: خلقه من تراب، ثم أخبركم أني قلت له: كن، فكان من غير ترتيب في الخلق: كما يكون في أولاده، وهو مثل قول الرجل: أعطيتك اليوم درهما، ثم أعطيتك أمس درهما، أي: ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهما.
قوله تعالى: * (الحق من ربك فلا تكن من الممترين)، فإن قيل: أكان شاكا في الحق حتى نهاه عن الشك؟ قيل: الخطاب مع النبي، والمراد به: الأمة، وقيل معناه: قل للشاك فيه: الحق من ربك فلا تكن من الشاكين.
326

* (الحق من ربك فلا تكن من الممترين (60) (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من) * *
واعلم أن فيما سبق من التمثيل على جواز القياس دليل، على أن القياس هو رد فرع إلى أصل بنوع شبه، وقد رد الله تعالى عيسى إلى آدم بنوع؛ فدل على جواز القياس. والمثل: هو ذكر سائر يستدل به على غيره في معناه.
قوله تعالى: * (فمن حاجك فيه) أي: جادلك في الحق * (من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكافرين).
هذا في دعاء النبي بني نجران إلى المباهلة، روى سعد بن أبي وقاص: ' أن النبي أخذ بيد الحسن والحسين وفاطمة وعلى، ثم دعاهم إلى المباهلة '.
فقوله: * (ندع أبناءنا) أراد به: الحسن والحسين، وقوله: * (ونساءنا) يعني: فاطمة، وأنفسنا يعني: نفسه وعلى، فإن قال قائل: كيف قال: * (وأنفسنا) وعلي - رضي الله عنه - غيره؟ قيل: العرب تسمى ابن عم الرجل نفسه، وعلي كان ابن عمه، وقيل: ذكره على العموم لجماعة أهل الدين. والابتهال: الإلتعان، ومنه البهلة: وهي اللعنة، يقال:
عليك بهلة الله، أي: لعنة الله، والابتهال: الاجتهاد في دعاء اللعنة.
واللعنة: الإبعاد والطرد عن الرحمة بطريق العقوبة، قال لبيد:
(وكهول سادة من عامر
* نظر الدهر إليهم فابتهل)
أي: نظر الدهر إليهم بالهلاك فأفناهم باجتهاد فيه.
وفي القصة وكهول ' أن النبي لما دعاهم إلى الابتهال، وجعل اللعنة على
327

* (العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا نساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين (61) إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62) فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين (63) قل يا أهل) * *
الكاذب من الفريقين، فقال الأسقف لهم: لا تباهلوا؛ فإنكم لو ابتهلتهم؛ لاضطرم عليكم الوادي نارا، فقالوا للنبي: وهل غير المباهلة؟ قال الإسلام أو الحرب أو الجزية، فقبلوا الجزية، وانصرفوا '، وقال النبي: ' لو تلاعنوا لصاروا قردة وخنازير ' وفي رواية ' لو تلاعنوا لم يبق في الدنيا نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة '.
قوله تعالى: * (إن هذا لهو القصص الحق) أي: النبأ الحق * (وما من إله إلا الله) ' من ' صلة، وتقديره: وما إله إلا الله * (وإن الله لهو العزيز الحكيم).
* (فإن تولوا) أي: أعرضوا * (فإن الله عليم بالمفسدين) أي: بمن يفسد منهم.
قوله تعالى: * (قل يا أهل الكتاب) الخطاب مع اليهود والنصارى * (تعالوا إلى كلمة) العرب تسمى كل قصة لها شرح: كلمة، ومنه سميت القصيد: كلمة.
* (سواء بيننا وبينكم) أي: عدل، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
328

* (الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64) يا
أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) * *
(أروني خطة لا ضيم فيها
* يسوى بيننا فيها السواء)
(فإن ترك السواء فليس بيني
* وبينكم بني عمرو لقاء)
وأراد بالسواء: العدل.
* (ألا نعبد إلا الله) سبب هذا: أن اليهود قالوا: لا يريد محمد منا إلا أن نعبده، وكذلك قالت النصارى؛ فنزلت الآية * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم)، معناه: تعالوا إلى أمر نستوي فيه: وهو أن لا نعبد إلا الله، ولنتفق جميعا على عبادته * (ولا نشرك به شيئا).
* (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) قال عكرمة: أي: لا يسجد بعضنا لبعض؛ فإن من سجد لغيره فقد اتخذه ربا.
وقيل: هو طاعة الخلق في معصية الخالق * (فإن تولوا) أي: فإن أعرضوا * (فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) أي: بهذه الكلمة وهذا الأمر.
قوله تعالى: * (قل يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم) سبب نزول الآية: أن اليهود والنصارى اختصموا [إلى] النبي في إبراهيم، فقالت اليهود: هو منا، وقالت النصارى: لا، بل منا؛ فنزل قوله: * (لم تحاجون) لم تجادلون * (في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون)، معناه أن اليهودية محرفة من التوراة، والنصرانية محرفة من الإنجيل، والتوراة والإنجيل أنزلتا بعد إبراهيم.
فكيف تدعون أنه على اليهودية أو على النصرانية؟ وأما التوراة والإنجيل فقد ذكرنا
329

(* (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي) * *
اشتقاقها، وقيل ليس لهما اشتقاق، وهما اسمان بالسريانية.
قوله تعالى: * (ها أنتم هؤلاء) ' ها ' للتنبيه، ومعناه: يا هؤلاء، أنتم * (حاججتم) جادلتم * (فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) أي: جادلتم في أمر موسى وعيسى، وادعيتم أنا على دين موسى وعيسى، وقد أنزلت أمره عليكم، فلم تجادلون في أمر إبراهيم، ولم أنزله عليكم، ولا علم لكم به؟! * (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
قوله تعالى: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) أخبر الله تعالى أنه ليس على ما ادعوا من اليهودية و [لا] النصرانية، * (ولكن كان حنيفا مسلما).
والحنيف: هو المائل إلى الدين، والمستقيم عليه، ومنه: الأحنف: وهو المائل القدم، وقال مجاهد: الحنيف: المتبع، وقال الضحاك: الحنيف: الحاج. فإن قال قائل: لم قال * (حنيفا مسلما) والمسلم: هو الذي يكون على جميع ما أتى به محمد رسول الله، وإبراهيم لم يكن على جملة شريعته؟
قيل: قد كان على بعض شريعته؛ فيكون بذلك مسلما؛ كمن مات من هذه الأمة في بدء الأمر، كان مسلما ببعض شريعته؛ فإنها إنما تمت، واستقرت في آخر الأمر، ويحتمل أن يكون قوله: * (مسلما) بمعنى: الانقياد من قوله: * (أسلم قال أسلمت لرب العالمين)؛ فلذلك قال: * (حنيفا مسلما وما كان من المشركين).
قوله تعالى: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه): من اتبعه في زمانه. * (وهذا النبي) يعني محمدا (والذين آمنوا) يعني: من هذه الأمة * (والله ولي المؤمنين).
قوله تعالى: * (ودت طائفة من أهل الكتاب) أي: تمنت طائفة من أهل
330

* (والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68) ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون (69) يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون (70) يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) * *
الكتاب. * (لو يضلونكم) لو يردونكم إلى الضلالة، وما هم عليه من اليهودية والنصرانية * (وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون).
قوله تعالى: * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) فيه قولان: أحدهما: معناه: لم تكفرون بنعت محمد وصفته، وأنتم تشاهدونه في التوراة والإنجيل؟!.
والثاني معناه: لم تكفرون بما يأتي [به] محمد من الدلالات والمعجزات، وأنتم تقرون بمثلها مما اتى به موسى وعيسى؟!
قوله - تعالى -: * (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) معناه: لم تخلطون الإيمان بعيسى - وهو الحق - بالكفر بمحمد - وهو الباطل -؟ وقيل معناه: لم تغطون ' الحق ' من نعت محمد بالتغيير ' الباطل '؟!.
قوله تعالى: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار، واكفروا آخره لعلهم يرجعون) أما وجه النهار: أوله، ومنه قول الشاعر:
(من كان مسرورا بمقتل مالك
* فليأت نسوتنا بوجه نهار)
أي: أول النهار، وهذا في اليهود، قالوا: نؤمن بمحمد في أول النهار، ثم نكفر به آخر النهار؛ حتى (يتهمه) الناس (ويقولوا): قد ظهر منه شيء؛ حتى كفروا به، وقيل: إنهم قالوا: نصدقه في البعض، ونكذبه في البعض؛ حتى يقول الناس: صدقوه فيما كان صادقا، وكذبوه فيما كان كاذبا (فيستريبون) بحاله.
331

* (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار وأكفروا آخره لعلهم يرجعون (72) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من) * * (لعلهم يرجعون) أي: من تبعه في دينه، ويكون وجه النهار وآخره بمعنى: البعض على القول الثاني.
قوله - تعالى -: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) أي: لا تصدقوا إلا من تبع دينكم، ' واللام ' فيه زائدة كما قال: * (قال عسى أن يكون ردف لكم) أي: ردفكم. وهذا في اليهود أيضا، قالوا: لا تصدقوا إلا من وافقكم في ملتكم.
ثم ابتدأ الله تعالى فقال: * (قل إن الهدى هدى الله) أي: إن البيان بيان الله.
* (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) أي: ولا يحاجونكم عند ربكم؛ فإن الحجة لكم عليهم، وليست لهم عليكم عند الله.
وقتا محمد بن يزيد المبرد: في الآية تقديم وتأخير: قوله: * (ولا تؤمنوا) أي: لا تصدقوا * (أن يؤتى أحد مثل مل أوتيتم) من الدلالات والآيات من المن والسلوى ونحوه.
* (إلا لمن تبع دينكم) إلا لمن وافقكم في اليهودية * (أو يحاجوكم عند ربكم) أي إن صدقتموهم، يحاجونكم يوم القيامة عند ربكم، فيقولون: نحن مثلكم، أو خير منكم، فلا تصدقوهم حتى لا يحاجوكم عند ربكم. إلى ها هنا كلام اليهود ثم ابتدأ الله تعالى فقال: * (قل: أن الهدى هدى الله) وقيل: معناه * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) أي: ولا تصدقوا أن النبوة في غير بني إسحاق، وأنها في بني إسماعيل.
[قوله تعالى] * (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص
332

* (يشاء والله واسع عليم (73) يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (74) ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75)) * *
برحمته من يشاء) قال ابن عباس: هو الدين. وقال مجاهد: هو النبوة. وقال ابن جريج: هو القرآن والإسلام (والله ذو الفضل العظيم).
قوله تعالى: * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) قد ذكرنا الأقوال في القنطار، وقال عطاء بن أبي رباح: هو ست آلاف دينار.
وهذا في عبد الله بن سلام؛ أودعه رجل ألفين ومأتي أوقية من الذهب فأدى الأمانة فيه.
* (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) هذا في فنحاص بن عازوراء اليهودي؛ أودعه رجل دينارا فخان فيه.
* (إلا ما دمت عليه قائما) أي: لا يؤده إليك إلا ما دمت على رأسه قائما تطالبه. وقيل: أراد بالقيام: الإلحاح والمطالبة.
* (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) قالت اليهود: ليس علينا في أخذ أموال العرب حرج، كأنهم استحلوا أموال الأميين: وهم العرب، محمد وأصحابه.
* (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * (بلى) عليهم سبيل؛ ذكره جوابا لقولهم.
قالت النحاة: وهو وقف تام، ثم ابتدأ، فقال: * (من أوفى بعهده واتقى) قال ابن عباس: واتقى الشرك * (فإن الله يحب المتقين) الموحدين.
قوله تعالى: * (إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا) روى أبو وأئل - وهو شقيق بن سلمة - عن ابن مسعود، عن رسول الله أنه قال: ' من حلف على يمين كاذبة؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان،
333

* (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين (76) إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم) * *
وتلا هذه الآية قال: وكان الأشعث بن قيس حاضرا، فقال: في نزلت الآية، وذكر قصة ' وهذا حديث في الصحيحين، ورواه مسلم في صحيحه برواية أخرى، وزاد فيه أنه: ' قيل: يا رسول الله، وإن كان في شيء يسير؟ قال: وإن كان في قضيب من أراك '.
وروى مسلم أيضا في كتابه برواية ثالثة عن النبي أنه قال: ' ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم [ولهم عذاب أليم]: المنان بما أعطى والمسبل إزاره، والمنفق سلعته باليمن الكاذبة '.
فقوله: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) أي: شيء قليل من حطام الدنيا * (أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) أي: لاحظ لهم فيها.
* (ولا يكلمهم الله) أي: ولا يكلمهم كما يكلم المؤمنين؛ وقد صح أنه جل جلاله - يكلم المؤمنين يوم القيامة من غير ترجمان، وقيل: هو بمعنى: الغضب، كما يقال: أنا لا أكلم فلانا، إذا كان غضبانا عليه * (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) يعني: لا ينظر إليهم بالرحمة.
* (ولا يزكيهم) لا يثني عليهم بالجميل، ولا يطهرهم من الذنوب * (ولهم عذاب أليم).
334

* (القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (77) وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله
ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (78) ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم) * *
قوله تعالى: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب) أي: يغيرون، ويحرفون الكتاب بألسنتهم. وقيل: يعدلون بألسنتهم عن الكتاب * (لتحسبوه) لتظنوه * (من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).
قوله تعالى: * (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة) سبب نزول الآية: ' أن اليهود والنصارى اجتمعوا عند النبي واختصموا في إبراهيم، فقالت كل فرقة: هو منا، فقال: كذبتم؛ فغضبوا، وقالوا: يا محمد، لا تريد منا إلا أن نتخذك ربا؛ فنزلت الآية '.
* (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب) يعني: القرآن، * (والحكم) الأحكام، والحكمة: السنة * (والنبوة) المنزلة الرفيعة بالأنبياء.
* (ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) أي: عبيدا لي من دون الله وقيل: أراد بالبشر: عيسى - صلوات الله عليه - لأنهم كانوا يدعون أن عيسى أمرهم أن يعبدوه، ويتخذوه ربا، فقال: * (ما كان لبشر) يعني: عيسى.
* (أن يؤتيه الله الكتاب) يعني: الإنجيل * (والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب).
قال سعيد بن جبير: الرباني: الفقيه العالم الذي يعمل بعلمه. وقال الضحاك: الرباني: العالم الحكيم. وفي الخبر: ' كونوا علماء حلماء '.
والرباني من طريق المعني: هو أن يكون على دين الرب وعلى طريق الرب.
335

* (والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم) * *
وقيل هو من التربية، فالرباني هو الذي ربي بصغار العلم حتى بلغ كباره، وروى: أن ابن عباس لما توفي، قام محمد بن الحنفية على قبره، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة.
وقال مجاهد: الربانيون فوق الأحبار؛ فالأحبار: العلماء، والربانيون: الذين جمعوا مع العلم البصيرة بسياسة الناس.
* (بما كنتم تعلمون) - بالتشديد - من تعليم القرآن، وبالتخفيف من العلم.
* (وبما كنتم تدرسون) تقرءون.
قوله تعالى: * (ولا يأمركم) يقرأ بالرفع على الابتداء، أي: ولا يأمركم الله، ويقرأ بنصب الراء على النسق، أي: ولا يأمركم ذلك البشر * (أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا) فالنصارى: هم الذين اتخذوا النبيين أربابا، والصائبون: هم الذين اتخذوا الملائكة أربابا.
* (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) أي: لا يأمركم بالكفر بعد الإسلام.
قوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) قرأ ابن مسعود: ' وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ' * (لما آتيتكم من كتاب وحكمة): هو أحد القولين في معنى القراءة المعروفة، قال ابن عباس: معنى الآية: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب مع النبيين. قال ابن عباس: لما استخرج الله الذرية من صلب آدم كالذر،
336

* (بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80) وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81) فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (82) أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها) * *
والأنبياء كانوا فيهم كالمصابيح والسرج، أخذ الميثاق على النبيين أن يؤمنوا بمحمد وأن يصدقوه، وينصروه إن أدركوه. فهذا معنى قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة)، وقرأ حمزة ' لما آتيتكم ' مخففا بكسر اللام، وقرأ غيره: ' لما آتيتكم ' بفتح اللام مشددا، والقراءة المعروفة: بفتح اللام مخففا، ومعناه: للذي آتيتكم بمعنى الخبر.
وقيل: معناه: لئن آتيتكم بمعنى: الشرط، * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) يعني: محمدا.
* (قال أأقررتم) أي: أقروا * (وأخذتم على ذلكم إصري) أي: عهدي. والإصر: العهد الثقيل * (قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).
وقال الضحاك: إنما أخذ الميثاق على النبيين خاصة كما نطقت به الآية، فأخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن بالذي يأتي بعده من الأنبياء وينصره، فأخذ الميثاق على موسى - صلوات الله عليه وسلم - أن يؤمن بعيسى، وعلى عيسى أن يؤمن بمحمد ونحو ذلك.
ثم قال: * (فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله يبغون) يطلبون، يقرأ بالياء والتاء.
* (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها) قال ابن عباس: لما خاطبهم بقوله: * (ألست بربكم) أسلم الكل، وقالوا: بلى، ولكن بعضهم قالوا: بلى،
337

* (وإليه يرجعون (83) قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85) كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات) طوعا وبعضهم كرها. وقيل: أسلم من في السماوات طوعا، وأسلم من في الأرض كرها وطوعا، وبعضهم طوعا، وبعضهم كرها؛ لخوف السيف * (وإليه ترجعون).
قوله تعالى: * (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) لما ذكر الملك والأديان، واضطراب الناس فيها، أمر رسوله أن يقول: * (آمنا بالله) الآية، وقد ذكرنا معنى الأسباط وما قيل فيه * (وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).
قوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وحق لمن يبتغي غير دين الإسلام أن يصبح غدا من الخاسرين.
قوله تعالى: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات) يعني: لا يهديهم الله، وهو مثل قول عبد الله بن قيس الرقيات:
(كيف نومي على الفراش
* ولما تشتمل السآم غارة شعواء؟)
أي: لا نوم لي على الفراش.
والآية نزلت في الحارث بن أوس بن الصامت؛ فإنه ارتد عن الإسلام، ولحق بمكة، وأقام مدة، ثم أرسل إلى المسلمين في أن يرجع إلى الإسلام؛ فنزلت الآية * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم).
قال الزجاج: يعني: أنهم يستحقون الضلالة، ولا يستحقون الهداية * (والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
338

* (والله لا يهدي القوم الظالمين (86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (87) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (89) إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون (90) إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل) * *
فإن قال قائل: لم قال: * (والناس أجمعين) فكذلك يتناول نفسه أيضا، فكيف يلعن على نفسه؟ قيل: أراد في القيامة يلعن بعضهم بعضا، ويلعنون أنفسهم. وقيل: إنهم يلعنون الظالمين والكافرين؛ فذلك لعنهم على أنفسهم؛ لأن من لعن الظالمين والكافرين، وهو ظالم وكافر فقد لعن نفسه.
* (خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) يعني بهذا: الحارث بن أوس؛ فإنه تاب وأسلم فقبلت توبته.
قوله - تعالى -: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم) هذا في قوم كانوا مع الحارث بن أوس وارتدوا، فلما رجع هو إلى الإسلام أمسكوا عن الإسلام أولئك القوم، وقالوا: نتربص الدهر بمحمد، فإن ساعده الزمان، ونفذ أمره نرجع إلى دينه؛ فنزلت الآية.
* (إن الذين كفروا بعد إيمانهم) أي: ارتدوا عن الإسلام بعد إيمانهم * (ثم ازدادوا كفرا) بقولهم: إنا نتربص بمحمد ريب المنون * (لن تقبل توبتهم) قال أبوالعالية: لأنهم لم يكونوا محققين للتوبة، بل كانوا متربصين * (وأولئك هم الظالون) وقيل: أراد به: الذين كفروا بعد إيمانهم بعيسى؛ ازدادوا كفرا بمحمد * (لن تقبل توبتهم) عند الناس * (وأولئك هم الظالون).
قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) يعني: لو افتدى به، و ' الواو ' زائدة مقحمة، وقيل: تقدير الآية: فلن يقبل من أحدهم أن يتبرع بملء الأرض ذهبا، ولو افتدى به أيضا لا يقبل * (أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين).
قوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قال ابن مسعود وعمرو بن ميمون
339

* (من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين (91) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم (92) كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا) * *
ومسروق بن الأجدع أبو عائشة: البر: الجنة ها هنا. وقيل: هو العمل الصالح. وقيل: هو الثواب، وفي الخبر: ' عليكم بالصدق؛ فإنه يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار '.
* (حتى تنفقوا مما تحبون) قيل: أراد بالإنفاق: أداء الزكاة. وقيل: أداء جميع الصدقات. وقيل: كل إنفاق يبتغي به مرضات الله تعالى ينال به هذا البر.
وروى أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة: ' يا رسول الله، إني أرى الله يسألنا أموالنا، فأشهدك أني جعلت حائط كذا لله تعالى فقال: اقسمه بين الفقراء قرابتك، فقسمه بين أبي وحسان '.
وروى أن ابن عمر - رضي الله عنه - اشترى جارية كان قد هويها، فلما نظر إليها أعتقها، وزوجها رجلا، وتلا قوله تعالى (* (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) أي: يعلمه، أي: يجازى عليه.
قوله تعالى: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) سبب نزول الآية: أن اليهود قالوا لرسول الله: إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم، وكان لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها، فلست على ملة إبراهيم؛. فنزلت الآية * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة) يعني: ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإبل وألبانها على إبراهيم، بل كان (الكل)
340

* (بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين (93) فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون (94) قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95) إن أول بيت وضع للناس ببكة مباركا وهدى للعالمين (96) فيه آيات بينات مقام إبراهيم) * *
حلالا له ولبني إسرائيل، وإنما حرمها يعقوب على نفسه قبل نزول التوراة، يعني: أن حرمتها ليست في التوراة، ولا في شرع إبراهيم، وإنما هو شيء حرمه إسرائيل على نفسه، وسبب تحريمه ذلك على نفسه: أنه أشتكى عرق النسا، وكان له من ذلك زقاء - أي صياح - فقال: إن شفاني الله منه لأحرمن أحب الطعام إلي لحوم الإبل وألبانها، فشفاه الله؛ فحرمها على نفسه.
* (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) طالبهم بالإتيان بالتوراة حجة على ما ادعوا فلم يأتوا بها؛ إذ لم يكن تحريمها في التوراة، فعجزوا عن الإتيان بالتوراة وكان ذلك كالمعجزة للرسول عليهم.
قوله تعالى: * (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون) وقد ذكرنا معنى الافتراء والظلم.
قوله تعالى: * (قل صدق الله) يعني: فيما أخبر وأنزل * (فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا) وإنما دعاهم إلى اتباع ملة إبراهيم؛ لأن في اتباع ملته اتباعه، وفي اتباعه اتباع ملته، * (وما كان من المشركين).
قوله تعالى: * (إن أول بيت وضع للناس ببكة مباركا) روى أبو ذر: ' أنه سأل رسول الله أي المساجد وضع أولا؟ فقال: المسجد الحرام. (قلت): ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاما، ثم قال: أينما أدركتك الصلاة، فصل؛ فإنه لك مسجد '.
وروى خالد بن عرعرة عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: أراد به: أن أول بيت وضع للناس مباركا مع الرحمة والبركة، والآيات البينات للذي ببكة.
وقيل: أول ما خلق الله تعالى من الأرض موضع البيت، ثم منه خلق جميع الأرض،
341

* (ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني) * *
وأول ما خلق من الجبال جبل أبي قبيس.
وفي القصص: أن الله تعالى أمر الملائكة ببناء البيت قبل خلق آدم بألفي عام، وكانت الملائكة يحجونه، فلما حجه آدم، قالت الملائكة: بر حجك، حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وأما بكة فالصحيح: أن بكة و مكة بمعنى واحد، وهو قول ابن عباس، ومثله: طين لازب ولازم، وسمل رأسه وسبل بمعنى واحد.
وقيل: (أنه) موضع البيت، ومكة جميع القرية. وقيل: إنما سميت ببكة، لأن الناس يتباكون فيها، أي: يزدحمون، ومنه قول الشاعر:
(إذا الشريب أخذته أكه
* فخله حتى يبك بكة)
وقوله: * (مباركا وهدى للعالمين) أي: وضع ذلك البيت ذا بركة وهدى للعالمين.
* (فيه آيات بينات مقام إبراهيم) قرىء: ' فيه آية بينة ' على الوحدان، وهي مقام إبراهيم، والمعروف: * (فيه آيات بينات مقام إبراهيم).
من تلك الآيات: مقام إبراهيم: وهو الحجر الذي فيه أثر أصابع قدم إبراهيم، وكان قد بقي أثره فيه، فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، وقيل مقام إبراهيم: جميع الحرم.
ومن الآيات في البيت أيضا: أن الطير يطير فلا يعلو فوقه، كذا قيل، ومنها: أن الجارحة إذا قصدت صيدا، فإذا دخل الصيد الحرم كفت عنه، ومنها: أنه ما قصده جبار إلا قصمه الله - تعالى -، ومنها: أن المطر إذا أصاب الركن اليماني؛ (كان الخصب باليمن، وإن أصاب جانب الشام)؛ كان الخصب بالشام، وإن أصاب جميع الجوانب كان الخصب جميع الجوانب.
وسبب هذا أن اليهود قالوا: قبلتنا أولى من قبلتكم؛ فبين الله تعالى للمسلمين شرف قبلتهم؛ فإنها خصت بأشياء ليست تلك لقبلتهم، وأن بيت المقدس قد حرق وهدم، وأما الكعبة فما قصدها جبار إلا قصمه الله تعالى. * (ومن دخله كان آمنا) قال ابن عباس: هو (الجاني) يدخله، فيصير آمنا عن القتل فيه، ولكنه لا يؤاكل
342

* (عن العالمين (97) قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون) * *
ولا يشارب، ولا يباع ولا يشاري حتى يخرج فيقتل.
وقال الحسن وقتادة وعامة المفسرين - وهو الأصح -: إنه أراد الأمن عن تخطف الكفار بالقتل والغارة. وقيل: أراد به: ومن دخله كان آمنا في القيامة من العذاب.
قوله - تعالى -: * (ولله على الناس حج البيت) قد ذكرنا معنى الحج.
* (من استطاع إليه سبيلا) روى الحسن مرسلا عن النبي ' أنه سئل عن الاستطاعة، فقال: الزاد والراحلة '، وروى ابن عمر ' أنه سئل أي الحاج أفضل؟ فقال: الشعث، التفل. فقيل: أي الحج أفضل؟ العج، والثج. قيل: ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة '.
وقال مالك: الاستطاعة بقوة البدن، فمتى وجد الزاد، وقوى على المشي لزمه الحج، والأصح أن الاستطاعة: هي القدرة على ما يوصله إلى الحج، فمنها: الزاد، والراحلة، ومنها: أمن الطريق، ونفقة الأهل، ونحو ذلك.
* (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) الأصح: أنه أراد بالكفر: إنكار وجوب الحج، وقيل: ' إنه لما نزل (قوله: * (ولله) على الناس حج البيت) جمع رسول الله
343

((98) * قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون (99) يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين
أوتوا الكتاب) * *
من جمع الأديان، وقال: إن الله كتب عليكم الحج أيها الناس فحجوا، فصدقه المؤمنون، وكذبه الكافرون؛ فنزل قوله: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) '.
قوله تعالى: * (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون) أي: لا يخفي عليه ما تعملون، ويجازيكم عليه.
قوله تعالى: * (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن) أي: (لم تمنعون من آمن عن سبيل الله) بكتمان نعت محمد * (تبغونها عوجا) أي: تطلبون الزيغ عن السبيل، والعدول عنها بتغيير صفة محمد * (وأنتم شهداء) يعني: أنتم عالمون أنه حق؛ على ما ورد نعته وصفته * (وما الله بغافل عما تعملون).
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) يعني: يردونكم إلى اليهودية والنصرانية.
قوله تعالى: * (وكيف تكفرون) قال الأخفش سعيد بن مسعدة: على أي حال تكفرون؟! * (وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله).
فإن قال قائل: منعه إياهم عن الكفر؛ يكون الرسول فيهم، يوهم إباحة الكفر في حال لا يكون الرسول فيهم، قيل: ولا يخلو حال من كون الرسول فيهم، فإنه اليوم وإن كان خارجا من بينهم، فشرعه قائم بينهم، فيكون كأنه فيهم.
* (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم) أي: ومن يمتنع بالله، قيل: ومن يثق بالله، فقد أرشد إلى طريق مستقيم.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) قال ابن مسعود: هو أن
344

* (يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100) وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم (101) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * *
يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وقال قتادة: (الآية) منسوخة بقوله: * (فاتقوا الله ما استطعتم) قال أهل المعاني: لا يستقيم النسخ فيه، وقوله * (فاتقوا الله ما استطعتم) تفسير لهذه الآية؛ لأن من أطاع الله في وقت وجوب الطاعة، وذكره في وقت وجوب الذكر، وشكره في موضع وجوب الشكر، فقد اتقى الله حق تقاته.
وهذا لم يصر منسوخا، وقوله: * (فاتقوا الله ما استطعتم) موافق له؛ لأن التقوى إن كان في موضع الأمر والوجوب، والأوامر والواجبات على قدر الاستطاعة، فتكون إحدى الآيتين موافقة للأخرى، فلا يستقيم فيه النسخ.
* (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، فإن قال قائل: كيف نهاهم عن الموت على الكفر، والموت لا يدخل تحت الأمر والنهي؟! قيل: معناه: دوموا على الإسلام، حتى إذا وافاكم الموت ألفاكم على الإسلام، هذا كما يقول الرجل لغيره: لا أريتك تفعل كذا. معناه: لا تفعل كذا، حتى إذا رأيتك (لا) أراك على فعله.
قوله تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) قال ابن عباس: حبل الله: هو العهد. وقال قتادة (والسدي): حبل الله: القرآن. وفي الخبر ' القرآن: حبل ممدود (طرف) بيد الله وطرف بأيديكم ' وقيل: الحبل: الطريق، حبل الله: طريق الله، وأنشدوا في ذكر الناقة قول الشاعر:
345

* (حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103) ولتكن) * *
(وإذا أجوزها حبال قبيلة
* نزلت من الأخرى إليك حبالها)
أي: طريقها. وأصل الحبل كل ما يوصلك إلى الشيء، فتفوز به، والعهد: حبل، والقرآن: حبل، (ومنه) الحبل المعروف؛ لأنه يوصل إلى المقصود.
* (ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم) سبب نزول الآية ما روى ' أن رجلين: أحدهما من الأوس، والآخر من الخزرج تسابا، فدعا كل واحد منهما قبيلته؛ فثار الحيان، وضربوا بأيديهم إلى السيوف، وكاد يكون بينهم قتال، فبلغ ذلك رسول الله فخرج عليهم وهو على حمار، وقام بينهم؛ فنزلت الآية، وتلا عليهم، فبكوا، ومشى كل واحد إلى صاحبه وتعانقوا، واصطلحوا وكفوا عن القتال '، قال جابر: ما كان يوما أقبح أولا من ذلك اليوم، ولا أحسن آخر من ذلك اليوم. فقوله: * (ولا تفرقوا) الخطاب معهم (واذكروا نعمة الله عليكم) يعني: بالإسلام وبعث الرسول وإنزال الكتاب.
* (إذ كنتم أعداء) لأن الأوس والخزرج كان بينهم قتال [دام] مائة وعشرين سنة * (فألف بين قلوبكم) يعني: بالإسلام * (فأصبحتم بنعمته إخوانا) (أي: في الدين).
* (وكنتم على شفا حفرة) أي: طرف حفرة * (من النار فأنقذكم منها).
وقيل: نزلت الآية في مشركي العرب، والأول [أصح وهو] قول عكرمة. * (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) أي: ترشدون، وتسلكون طريق الحق.
346

* (منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد) * *
قوله تعالى: * (ولتكن منكم أمة) أي: كونوا أمة، وكلمة ' من ' - فيه - للجنس، لا للتبعيض، وهو مثل قوله: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) والمراد به الاجتناب من جنس الأوثان كلها لا من بعض الأوثان، كذلك قوله: * (ولتكن منكم أمة) أي: كونوا أمة * (يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
وأولئك هم المفلحون) أي: وأنتم المفلحون.
قوله تعالى: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) يعني: اليهود والنصارى.
* (من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه) يعني: وأولئك لهم عذاب عظيم يوم القيامة، ثم وصف ذلك اليوم، فقال: * (يوم تبيض وجوه) يعني: بالتوحيد * (وتسود وجوه) بالشرك. وقيل: تبيض وجوه بالسنة، وتسود وجوه بالبدعة. وقيل: أراد به: في الدنيا تبيض وجوه بالقناعة، وتسود وجوه بالطمع. والأول أصح، ويشهد لذلك قوله تعالى: * (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة) الآية.
وفي رواية أبي أمامة عن النبي ' تسود وجوه الخوارج '. * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) أي: يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟! فإن قال قائل: كيف كفروا بعد الإيمان ولم يكونوا مؤمنين قط؟ قيل أراد به إيمان يوم الميثاق، وكفروا بعده.
347

* (إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (107) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين (108) ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور (109) كنتم خير أمة أخرجت) * *
وقيل: أراد به: اليهود؛ آمنوا بما كان في التوراة من نعت محمد، ثم كفروا، وغيروا. * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).
قوله تعالى: * (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله) أي: في ثواب الله * (هم فيها خالدون).
* (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين) لأنه يعاقب من يعاقب عن استحقاق بالعدل * (ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور).
قوله تعالى: * (كنتم خير أمة) فإن قال قائل: ما معنى قوله: * (كنتم خير أمة) ومتى كانوا بتلك الصفة؟ قيل: أراد به: كنتم خير أمة في اللوح المحفوظ. وقيل: أراد به صرتم خير أمة إذا آمنتم. وقيل: يقال لهم يوم القيامة: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) فالمعروف: ما عرفه الشرع، والمنكر: ما أنكره الشرع. وفي الحديث: ' لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو يوشك أن يعمكم الله بعقابه '، وقال: ' أفضل الشهداء بعد شهداء أحد: رجل قام إلى إمام جائر، فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله عليه '.
قوله: * (وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم) وهذا لاشك فيه. * (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) لأنه آمن بعضهم، وكفر أكثرهم.
348

* (للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضرركم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون (111) ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112) ليسوا سواء من أهل الكتاب) * * (لن يضروكم إلا أذى) يعني: لا يضرونكم بأكثر من أذى وهو إضرار يسير، وأذى توقيعه باللسان.
* (وإن يقاتلونكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) أي: يهزمون وتكون النصرة لكم عليهم.
قوله تعالى: * (ضربت عليهم الذلة) يعني: ذل الكفر: بالقتل، والسبي، والاغتنام * (أين ما ثقفوا) أي: وجدوا.
* (إلا بحبل من الله) يعني: عهد الذمة * (وحبل من الناس) وهو عهد الأمان، يعني: أنهم يقتلون، ويؤسرون، إلا أن تكون لهم ذمة أو أمان.
* (وباءوا بغضب من الله) رجعوا واحتملوا غضب الله، (وقيل: لزمهم غضب الله) من قولهم تبوأ مكان كذا أي: لزمه * (وضربت عليهم المسكنة) أي: ذل الكفر، بزي الفقر، وذلك على اليهود، حتى لا يرى يهودي إلا على زي الفقر، وإن كان غنيا * (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
* (ليسوا سواء) يعني: (المؤمنين والكافرين) ليسوا سواء، وهذا وقف تام، ثم ابتداء * (من أهل الكتاب أمة قائمة) أي: عادلة، وقيل قائمة: مستقيمة على الحق، وقيل الأمة الطريقة المستقيمة، وهي طريقة الحق، وتقديره: من أهل الكتاب ذو أمة قائمة، ومنه قول النابغة:
(أكفلتني ذنب امرئ وتركته
* وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع)
349

* (أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (114) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين (115) إن الذين كفروا لن تغني عنهم) * *
أي: ذو دين وطريقة. * (يتلون آيات الله آناء الليل): ساعات الليل، وأحدها: إنا، وأنا * (وهم يسجدون) قال ابن مسعود: يعني: يصلون صلاة العتمة، وقيل أراد به الصلاة ما بين المغرب والعشاء وهو في آناء الليل.
* (يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين) وصفهم الله تعالى وشكرهم * (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) أي: يجازون عليه. والله تعالى إذا جازى العبد على صنيعه، فقد شكره * (والله عليم بالمتقين).
قوله تعالى: * (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) أي: لا تدفع أموالهم بالفدية، ولا أولادهم بالنصرة من عذاب الله؛ وذلك أن الإنسان
يدفع عن نفسه بفداء المال، وتارة بالاستعانة بالأولاد * (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
(قوله): * (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر) الصر في الريح: البرد، وقول الشاعر:
(أوقد فإن الليل ليل قر
* والريح يا واقد ريح صر)
(عسى [ما] نرى نارا لمن يمر
* إن جلبت ضيفا فأنت حر)
* (أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) شبه إنفاقهم بزرع اجتاحته جائحة أو أصابته ريح باردة فأهلكته.
واختلفوا في تلك النفقة: قال بعضهم: أراد به: إنفاق أبي سفيان يوم بدر وأحد على المشركين في قتال المسلمين، وقيل أراد به: إنفاق المرء الذي ينفق ماله رياء
350

* (أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (116) مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (117) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يأولونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118) ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب) * *
وسمعة، لا يبتغي وجه الله * (وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون).
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) أي: خواص من غير أهل ملتكم، وبطانة الرجل: خاصته، والذين يستنبطون أمره، ومنه: البطانة في الثوب؛ لأنه يلي البطن والباطن، وهذا في النهي عن موالاة الكفار * (لا يأولونكم خبالا) أي: يقصرون في (أمركم)، فيفسدون عليكم أمركم، والخبال: الفساد * (ودوا ما عنتم) أي: يودون ما يشق عليكم، والعنت: المشقة، ومنه الأكمه العنوت وهي الشاقة الصعود، قال السدي: أراد به: أنهم يودون ردكم إلى الكفر والضلالة.
* (قد بدت البغضاء من أفواههم) يعني: الوقيعة باللسان، * (وما تخفي صدورهم أكبر) (يعني: الذي: في صدورهم) من الغيظ أعظم من الوقيعة باللسان * (قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون).
قوله تعالى: * (ها أنتم أولاء) يعني: أنتم يا هؤلاء، * (تحبونهم) أي: تحبون إيمانهم، * (ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا) يعني: باللسان.
* (وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم) وهو عبارة عن شدة الغيظ * (إن الله عليم بذات الصدور).
قوله تعالى: * (إن تمسسكم حسنة) أبي: خصب ونصرة (تسؤهم) * (وإن تصبكم سيئة) أي: قحط وبلاء * (يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا) يعني: على
351

* (كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور (119) إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا أن الله بما يعملون محيط (120) وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم (121) إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون (122) ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله) * * الشدة والبلاء * (لا يضركم كيدهم شيئا) ويقرأ ' لا يضركم ' بكسر الضاد مخففا، والمعنى واحد * (إن الله بما يعملون محيط).
قوله تعالى: * (وإذ غدوت من أهلك) يعني: واذكر إذ غدوت، ومعناه: خرجت غدوة من أهلك)، أي: من بيت عائشة * (تبوئ المؤمنين) أي: تنزل المؤمنين * (مقاعد للقتال) يعني: تنزلهم في مواضع القتال ومراكزه، يقال: بوأ فلانا مكان كذا، إذا أنزله فيه، قال ابن عباس: كان النبي يسمى لكل واحد من المسلمين مكانا من [القتال]، ويقيمه '.
وهذا كان في حرب أحد، وهذه الآية إلى قريب من آخر السورة في حرب أحد * (والله سميع عليم) أي: سميع بما قاله المنافقون، عليم بما أضمروا؛ فيكون على وجه التهديد، وقيل: معناه: * (والله سميع) بما قال المؤمنون، عليهم بما أضمروا؛ فيكون على وجه المدح.
قوله تعالى: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) يعني: أرادت، وقصدت، والهم: القصد، وأما الطائفتان، فقد صح عن جابر أنه قال: أراد به: بني سلمة، وبني حارثة. والقصة في ذلك: ما روى ' أن رسول الله شاور أصحابه في الخروج إلى حرب أحد، فأشار بعضهم بالخروج، وبعضهم بالمكث بالمدينة، فاختار الخروج، وكان جيش المسلمين ألفا، فانخذل عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش فهمت هاتان
352

* (لعلكم تشكرون (123) إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين (124) بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة) * *
الطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة أن يرجعوا معهم، فثبتهما الله تعالى على المضي معه، فلم يرجعوا '، فهذا معنى قوله: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) أي: أن تضعفا: وتجبنا * (والله وليهما) أي: ناصرهما ومثبتهما على الحرب.
قال جابر: ما وددنا أن تفشلا، وقال الله: * (والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
قوله تعالى: * (ولقد نصركم الله ببدر) يذكر عليهم منته بالنصرة يوم بدر، وهو موضع بين مكة والمدينة، وسمى بدرا باسم الموضع، وقيل: سمى بدرا باسم رجل، وقيل باسم بئر * (وأنتم ذلة) أي: قليل العدد؛ لأنهم كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرا، قال علي: ولم يكن فينا فارس إلى المقداد، وكان منهم سبعة وسبعون من المهاجرين والباقون من الأنصار، وكان صاحب راية المهاجرين أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، وصاحب راية الأنصار قيس بن سعد بن عبادة.
وكان لهم يومئذ قليل سلاح، فمن الله عليهم بالنصرة لهم؛ مع قلة عددهم وعدتهم، * (فاتقوا الله لعلكم تشكرون).
قوله تعالى: * (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم) قيل: أراد به: في يوم بدر، وقيل: في يوم أحد، قال ابن عباس: ما قاتلت الملائكة في المعركة إلا يوم بدر.
أي: يكفيكم * (أن يمدكم ربكم) الإمداد: هو إعانة الجيش بالجيش، ومنه: المدد * (بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين).
قوله تعالى: * (بلى إن تصبروا) يعني: بلى وعدكم إن تصبروا على لقاء العدو، * (وتتقوا) أي: وتحذروا مخالفة الرسول * (ويأتوكم من فورهم هذا) قال ابن عباس والحسن وأكثر المفسرين: معناه: ويأتوكم من وجوههم هذا، وقيل معناه: من غضبهم هذا؛ لأنهم إنما رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر.
353

* (آلاف من الملائكة مسومين (125) وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم (126) ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا) * * (يمددكم ربكم بخمسة آلاف) لم يرد به خمسة آلاف سوى ما ذكر من ثلاثة آلاف؛ لأنهم أجمعوا على أن عدد الملائكة يومئذ خمسة آلاف، وهذا نظير قوله تعالى: * (بالذي خلق الأرض في يومين)، ثم قال بعده: * (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) ولم يرد به أربعة أيام سوى ذلك اليومين؛ لأنه قال بعده: * (فقضاهن سبع سماوات في يومين) وأجمعوا على أن خلق الكل كان في ستة أيام لا في ثمانية أيام، بل أراد به أربعة أيام مع ذلك اليومين كذا هذا.
* (من الملائكة مسومين) يقرأ بفتح الواو، والمراد به المعلمين، ويقرأ بكسر الواو فيكون فعل التسويم: من الملائكة، والتسويم الإعلام بالعلامة، وهو من السومة، والسماء: وهو العلامة، واختلفوا في علامة الملائكة يومئذ كيف كانت؟ قال عروة بن الزبير: كانت الملائكة على خيل يلق عليهم عمائم صفر.
وقال الحسن: كانت عمائم بيض مرسلة خلف الظهور. وقال مجاهد: كانوا قد أعلموا من الصوف على أذناب الخيل ونواصيها؛ وذلك سنة في خلق الشجعان، وقد قال: ' سوموا فإن الملائكة قد سومت '.
قوله تعالى: * (وما جعله الله إلا بشرى لكم) أي: بشارة لكم * (ولتطمئن قلوبكم به ' أي: بوعده النصرة * (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) يعني: (لا) تختلوا بالنصرة عن الملائكة والجند، واعرفوا [أن] النصر من عند الله.
354

* (خائبين (127) ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون (128) ولله) * * (ليقطع طرفا من الذين كفروا) أي: قطعة منهم، ومنه أطراف الإنسان؛ لأنها قطع النفس، ثم من حمل الآية على حرب بدر، فقد كان ذلك القطع منهم يوم بدر؛ فإنه قتل منهم سبعون وأسر سبعون؛ أكثرهم رؤساؤهم، ومن حمل الآية على حرب أحد، فقد قتل منهم ستة عشر فيهم أصحاب الرايات، فكانت النصرة للمسلمين مالم يخالفوا أمر رسول الله، فلما خالفوا أمره ذهبت النصرة عنهم.
قوله: * (أو يكبتهم) قال أبو عبيدة: أي: يهلكهم، وقيل معناه: يخزيهم، وهو أصح، وقيل معناه: أو يصرعنهم، والكب والكبت: الصرع على الوجه، وفيه قول رابع: يكبتهم بمعنى: يكبدهم، وذلك أن يحزنهم حتى وصل الحزن إلى أكبادهم؛ والعرب تسمي الحزين: أسود الكبد من تأثير الحزن فيه [ومنه] قول الشاعر:
(الأعداء والأكباد سود
*)
* (فينقلبوا خائبين) أي: لا يدركون ما أملوا، يقال: رجع فلان من الغيبة بالخيبة، إذا لم يدرك أمله.
قوله تعالى: * (ليس لك من الأمر شيء) روى الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر: ' * (ليس لك من الأمر شيء) فترك اللعن في القنوت '، وروى أنس ' أنه شج رأسه يوم أحد، وكسرت رباعيته، وأدمي وجهه، وكان يأخذ الدم بكفه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم؟! فنزل قوله: * (ليس لك من الأمر
355

* (ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم (129) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130) واتقوا النار) * *
شيء) وقيل: أراد رسول الله أن يدعوا عليهم بدعاء الاستئصال؛ فنزل قوله: * (ليس لك من الأمر شيء) وذلك أنه تعالى علم أن فيهم من يسلم [أو يتوب] * (أو يتوب عليهم أو يعذبهم) إنما نصبه على نصب قوله: * (ليقطع طرفا) ومعناه: ليس لك من الأمر شيء؛ فإن تبت عليهم، أو عذبتهم، فأمرك متابع لأمري، أي: إن تبت عليهم، فبرحمتي، وإن عذبتهم، فبظلمهم.
فإن قال قائل: أي اتصال لقوله: * (أو يتوب عليهم) بقوله * (ليس لك من الأمر شيء)؟ قيل: معناه: ليس لك من الأمر شيء، حتى يتوب عليهم، أو إلى أن يتوب عليهم، ومثله قول امرئ القيس:
(فقلت لها لا تبك عينك إنما
* نحاول ملكا أو نموت فنعذرا)
أي: حتى نموت، فنعذرا، ويحتمل أنه على نسق قوله: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ليس لك من الأمر شيء.
والأمر أمري في ذلك كله.
قوله تعالى: * (ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم).
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) قد ذكر الربا في سورة البقرة، وأعاد ذكره ها هنا تأكيدا، والأضعاف المضاعفة: هو ما كانوا يفعلونه من تبعيد الأجل بزيادة الدين.
* (واتقوا الله لعلكم تفلحون) أي: كونوا على رجاء الفلاح، يعني: من ترك الربا
356

* (التي أعدت للكافرين (131) وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132) وسارعوا إلى) * *
وفيه الفلاح، وفي عطاء الربا الهلاك.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ' ما هلك قوم إلا وقد فشا فيهم الربا والزنا '، [و] عنه أيضا: ' [كثير] الربا إلى قلة '.
قوله تعالى: * (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) وهي معدة للكافرين؛ فإنها دار الخلود لهم * (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) أي: كونوا على رجاء الرحمة.
قوله تعالى: * (وسارعوا إلى المغفرة) أي: بادروا إلى مغفرة * (من ربكم)، قال ابن عباس: معناه: بادروا إلى التوبة التي هي سبب المغفرة. وقيل: أراد به: سؤال المغفرة. وفيه قول غريب أنه التكبيرة الأولى.
* (وجنة عرضها السماوات والأرض) أي: سعتها كسعة السماوات والأرض.
[وفي الخبر: ' أن النبي: سئل إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض] فأين النار؟ قال - عليه الصلاة السلام -: فإذا جاء الليل، فأين يذهب النهار؟ [وإذا] جاء النهار فأين يذهب الليل؟ ' ومعناه - والله أعلم - أنه حيث يشاء الله.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: * (وفي السماء رزقكم وما توعدون)، وأراد بالذي وعدنا الجنة، فإذا كانت في السماء، فكيف يكون عرضها السماوات والأرض؟ قيل: إن باب الجنة في السماء وعرضها السماوات والأرض كما أخبر.
357

* (مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134) والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله) * *
وقيل: أراد به في القيامة، فإن الله يزيد فيها، فيصير عرضها السماوات والأرض إذا (وصلت السماوات والأرض) بعضها ببعض، وأما طولها [فلا يعلمه] إلا الله.
* (أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء) أي: في (اليسر والعسر) * (والكاظمين الغيظ) كظم الغيظ: هو أن يمتلئ غيظا؛ فيمنع نفوذه، من قولهم: كظم البعير بجرته إذا ردها إلى جوفه، وفي الخبر: ' من امتلأ غيظا، وكظمه خيره الله في الحور العين '.
* (والعافين عن الناس) قيل: عن المماليك سوء الأدب، وقيل: على العموم عن كافة الناس، * (والله يحب المحسنين).
قوله تعالى: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) ما دون الزنا من القبلة، والمعانقة، واللمس، والضم، ونحوه * (ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) سبب نزول الآية ما روى: أن رجلا بالمدينة - يقال له: نبهان - كان تمارا فجاءته امرأة تشتري منه التمر، فأعجبه جمالها فقبلها، فذكر الله، وندم واستغفر؛ فنزلت الآية.
* (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله) أي: ذكروا وعيد الله * (فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا) الإصرار هو المقام على المعصية من غير توبة، فقوله: * (ولم يصروا) أي: ولم يقيموا، ولم يمضوا * (على ما فعلوا وهم يعلمون) أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنب، وإن أكثر
358

* (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات) * *
الذنب، وقد روى عن معبد بن صبيحة أنه قال: صليت خلف عثمان، فلما أنصرف من صلاته قال: إن الله تعالى يقول: * (ولم يصروا على ما فعلوا) وأنا قد صليت من غير طهارة ناسيا، وها أنا أتوضأ، فذهب (وتوضأ) وأعاد الصلاة.
* (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العالمين) ذكر في هذه الآية جزاء الذاكرين، والمستغفرين، وقد ورد في الاستغفار أخبار: منها ما روى مرفوعا: ' ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة '.
وروى أسماء بن الحكم الفزازي عن علي أنه قال: إذا سمعت من رسول الله حديثا، ينفعني الله به ما شاء، وإذا سمعت من غيره (حلفته) عليه، فإذا حلف صدقته وحدثني أبو بكر - وهو صادق -: أن رسول الله قال ' ما من عبد يذنب ذنبا، فيتوضأ، وصلى ركعتين واستغفر (الله) إلا غفر الله له '.
واعلم أن الاستغفار تسهيل للأمر على هذه الأمة، فإن الذين قبلنا كان الواحد منهم إذا أذنب ذنبا يطهر على بابه (أن اقطع) من نفسك عضو كذا، وكان لا بد له منه، وقد أخرج الله - تعالى - هذه الأمة عن الذنوب بالاستغفار؛ كرامة لهم؛ وتيسيرا عليهم.
359

* (تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (136) قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137) هذا بيان
للناس وهدى) * *
وسئل ابن المعتز: إذا كان الله - تعالى - واسع المغفرة، وسعت رحمته كل شيء فما يمنعه أن يرحم الكافر؟ فقال: إن رحمته لا تغلب حكمته. قوله تعالى: * (قد خلت من قبلكم سنن) قرأ ابن مسعود: ' قد مضت '، وهو بمعنى خلت. السنة: هي الطريقة المتبعة في الخير والشر.
وقد قال في المجوس: ' سنوا بهم سنة أهل الكتاب ' وكانت شرا لهم. وقال الشاعر:
(وإن الآلى بالطف من آل هاشم
* تأسوا فسنوا للكرام التأسيا)
قال ابن عباس: سنن [الذين] من قبلكم، وهي وقائع الله على الكفار. وقال غيره: هي الأعلام والآثار التي كانت. وحقيقة المعنى: أنها طرائق الله في الكفار، وبقتلهم، وسبيهم وتخريب ديارهم، ونحوه، قال الزجاج: * (قد خلت من قبلكم سنن) أي: أهل سنن. * (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
قوله تعالى: * (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) قال الشعبي: بيان من العمى، وهدى من الضلالة، وموعظة من الجهل؛ فالبيان: هو إظهار معنى الكلام، والموعظة: هي الدعاء إلى الحق بالترغيب والترهيب.
قوله تعالى: * (ولا تنهوا ولا تحزنوا) أي: ولا تضعفوا، ولا تجبنوا، ولا تحزنوا، * (وأنتم الأعلون) أي: تكون لكم العاقبة والنصرة.
وقيل: إنما قال * (وأنتم الأعلون)؛ لأن المسلمين كانوا على الجبل، والمشركين في
360

* (وموعظة للمتقين (138) ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139) إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله) * *
أسفل الجبل، وقوله: * (إن كنتم مؤمنين) أي: لا تهنوا إن كنتم مؤمنين؛ لأن الإيمان يزيد القوة فلا يورث الوهن.
قوله - تعالى -: * (إن يمسسكم قرح) تقرأ: بفتح القاف، وضمنها، وقال الفراء: القرح - بالفتح -: الجراحة، والقرح: الألم، وقال الكسائي: هما عبارتان عن معنى واحد. والأكثرون على القول الأول، وقوله: * (إن يمسسكم قرح) خطاب للمسلمين فيما مسهم يوم أحد * (فقد مس القوم قرح مثله) أي: مس الكفار يوم بدر (قرح) مثل ما مسكم يوم أحد.
* (وتلك الأيام نداولها بين الناس) فتارة تكوم الدولة للمسلمين على الكفار، وتارة للكفار على المسلمين، قال الزجاج: الدولة تكون للمسلمين على الكفار، وقد كانت الدولة للكفار على المسلمين؛ لما خالفوا أمر الرسول، فإن لم يخالفوا أمره كانت الدولة للمسلمين أبدا؛ لقوله تعالى: * (وإن جندنا لهم الغالبون)؛ وقوله تعالى: * (فإن حزب الله هم الغالبون).
* (وليعلم الله الذين آمنوا) قرأ ابن مسعود: ' وليبلي الله الذين آمنوا '، والقراءة المعروفة: * (وليعلم)، فإن قال قائل: ما معنى قوله: * (وليعلم الله الذين آمنوا)، وهو عالم بهم أبدا؟ قيل: معناه: وليعلم الصابرين على الجهاد في مواطن الجهاد ليعاملهم معاملة من يبتليهم؛ فيعلمهم، والعلم بالجهاد في مواطن الجهاد إنما يقع بعد وقوع الجهاد، وقيل: العلم الأول: علم الغيب، وقوله: * (وليعلم) يعني: علم المشاهدة، والوقوع والمجازة على علم الوقوع لا على علم الغيب.
* (ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) يعني: أنه ما جعل اليد للكفار يوم أحد لحبه إياهم؛ ولكن ليبتليكم، ويجعلكم شهداء.
361

* (الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140) وليحمص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (141) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا) * *
قوله تعالى: * (وليحمص الله الذين آمنوا) وكل هذا على نسق قوله: * (ليقطع طرفا) (وكذلك) قوله: * (وليعلم الله الذين آمنوا) وأما التمحيص: قيل: هو [التخليص] وهو قول الحسن، وقال مجاهد: هو بمعنى: الابتلاء، وحقيقة معنى التمحيص: التطهير من الذنوب، تقول العرب: محص عنا ذنوبنا أي: طهرنا من الذنوب.
* (ويمحق الكافرين) [معنى] الآية: أنهم إن قتلوكم؛ فذلك تطهير لكم، وإن قتلتموهم فذلك محق لهم واستئصال.
قوله تعالى: * (أم حسبتم) أي: [أحسبتم] * (أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) أي: ولم يعلم الله الذين وقع منهم الجهاد، * (ويعلم الصابرين).
قوله تعالى: * (ولقد كنتم تمنون الموت) سبب نزول الآية أن الذين تخلفوا من حرب بدر من المسلمين قالوا لما انقضت حرب بدر: لو كان لنا يوم مثله فنقاتل ونقتل ونستشهد، فلما كان يوم أحد انهزموا، وهربوا؛ فنزلت الآية.
* (ولقد كنتم تمنون الموت) أي: سبب الموت وهو الجهاد؛ إذ لا يجوز أن يتمنى الموت بقتل الكافر إياه * (من قبل أن تلقوه) أي: تلقون سببه من الجهاد * (فقد رأيتموه وأنتم تنظرون)، فإن قيل: ما معنى قوله: * (وأنتم تنظرون)، وقد قال: * (فقد رأيتموه)؟ (قيل): يحتمل [أن تكون] الرؤية بمعنى العلم؛ فقال:
362

* (منكم ويعلم الصابرين (142) ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143) وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144) وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته) * * (وأنتم تنظرون) ليعلم أن المراد بالرؤية ها هنا: التفكر، قاله الأخفش، وقيل: إنما قاله تأكيدا، وقيل: معناه: وأنتم تنظرون إلى محمد.
قوله تعالى: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) سبب نزول الآية أن المسلمين يوم أحد لما وقعت الهزيمة عليهم، ووقع القتل فيهم؛ صاح الشيطان - عليه ما يستحق -: ألا إن محمدا [قد] قتل، فقال المسلمون: خذوا لنا الأمان من أبي سفيان، وقال من كان في قلبه نفاق: ارجعوا إلى دينكم الأول، فإن محمدا قد قتل؛ فنزل قوله: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) يعني: هو على رسالته ونبوته مات أو قتل، فلم انقلبتم على أعقابكم؟! * (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) أي: إنما ضر نفسه، * (وسيجري الله الشاكرين).
وروى: أن [أنس بن النضر] ' لما سمع قول الشيطان: إن محمدا قتل، اخترط سيفه وتوجه إلى الكفار، وقال: إن قاتل محمد وقتل، ووصل إلى ما وصل، فأنا أقاتل حتى أقتل، وأصل إلى ما وصل إليه، فقاتل حتى قتل '.
وقال كعب بن مالك: أنا أول من رأى رسول الله يوم أحد بعد صياح الشيطان، عرفته بعينيه تحت المغفر، فقلت: هذا رسول الله حي، فأشار إلى أن اسكت '. @ 364 @ * (منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين (145) و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في) * *
قوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) تقديره: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله بقضائه وقدره * (كتابا مؤجلا) تقديره: كتب كتابا مؤجلا.
(ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها) فإن قيل: نحن نرى من يريد الدنيا، فلا يؤتى؟ قيل: معناه: لا يمنع عنه ما قدر له من ثواب الدنيا بسبب كفره.
* (ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) فإن قيل: وهل يؤتى ثواب الآخرة بمجرد الإرادة؟ قيل معناه: ومن يرد بالعمل، وهذا كما يقال: فلان يريد الجنة، أي: يعمل للجنة * (وسنجزي الشاكرين) يعني: المؤمنين، قال علي - رضي الله عنه -: أبو بكر إمام الشاكرين. أي: إمام المؤمنين، رضي الله عنه.
قوله تعالى: * (وكأين من نبي [قاتل] معه ربيون كثير) أي: وكم من نبي قتل قال جرير:
(وكأين بالأباطح من صديق
* يراني إن أصبت هو المصابا)
قال عكرمة: هذا وقف تام، ومعناه: كم نبي قتل ومعه أصحابه.
* (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) أي: ما جبنوا * (وما ضعفوا وما استكانوا) أي: ما ذلوا، وما خضعوا، وقال الحسن: ما قتل نبي في معركة قط، وإنما معنى الآية: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير، وأما القراءة الأخرى: ' قاتل معه فمعناه ظاهر، وأما الربيون قال ابن مسعود: هم ألوف، وقيل: هم عشرة آلاف. قال الحسن: الربيون من العلماء مأخوذ من الرب؛ لأنهم على دين الرب وطريقه.
قوله تعالى: * (والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا أغفر لنا ذنوبنا) أي: الصغائر * (وإسرافنا في أمرنا) أي: الكبائر، * (وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).
363

* (أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين (148) يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) بل الله مولاكم وهو خير الناصرين (150) سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) * *
قوله تعالى: * (فآتاهم الله ثواب الدنيا) يعني: (النصرة) والغنيمة.
* (وحسن ثواب الآخرة) قال ابن عباس: هو أن الله ينزل النبي وأصحابه في قباب من در وياقوت حتى يفصل بين الخلق، وقيل، حسن ثواب الآخرة: أن يجازيهم على عملهم ويزيدهم من فضله * (والله يحب المحسنين).
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) يعني: اليهود والنصارى * (يردوكم على أعقابكم) يعني: إلى اليهودية والنصرانية.
وقيل: أراد به المنافقين الذين قالوا يوم أحد: ارجعوا إلى دينكم الأول؛ فإن محمدا قد قتل، فهذا معنى قوله تعالى: * (يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) أي: مغبونين. * (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين).
قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) يعني: الخوف، قال: ' نصرت بالرعب مسيرة شهر ' * (بما أشركوا بالله) أي: بشركهم بالله * (ما لم ينزل به سلطانا) أي: الذي لم ينزل به حجة، والسلطان: الحجة، قال الله تعالى (هلك عني سلطانيه) أي: حجتي.
* (ومأواهم النار) مكانهم النار * (وبئس مثوى الظالمين) سبب نزول الآية: أن الهزيمة لما وقعت على المسلمين يوم أحد، ووقع القتل فيهم، تشاور المشركون فيما بينهم، وأجمعوا على أن يعودوا للقتال، فيستأصلوا محمدا وأصحابه فألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم، فمروا على وجوههم لا يلوون على شيء حتى بلغوا مكة، فذلك قوله تعالى: * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب).
365

* (ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين (151) ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد) * *
قوله تعالى: * (ولقد صدقكم الله وعده) أي: وعده صدقكم بالظفر والنصرة؛ وقد كانت النصرة في الابتداء للمسلمين يوم أحد * (إذ تحسونهم بإذنه) أي: تقتلونهم
بقضاء الله وقدره، وألحس: القتل، ومنه قول الشاعر:
(تحسهم السيوف كما تسامى
* لهيب النار في أجم الحصيد)
* (حتى إذا فشلتم) أي: جبنتم، * (وتنازعتم في الأمر) تقديره: حتى إذا فشلتم، تنازعتم في الأمر، و ' الواو ' زائدة قاله الفراء، وقيل: فيه تقديم وتأخير وتقديره: حتى إذا تنازعتم في الأمر، فشلتم * (وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) يعني: من الظفر والغنيمة.
* (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)؛ لأنهم اختلفوا على ما سنذكر * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) أي: [كف] أيديكم عنهم؛ ليمتحنكم، وقيل: لينزل البلاء عليكم، * (ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين)، والقصة في ذلك: ' أن رسول الله رأى في منامه: أنه لبس درعا حصينة حين نزل المشركون بأحد؛ فأولها على المدينة، وشاور أصحابه في الخروج إلى أحد، فقالوا: إن هذه بلدة ما دخل علينا فيها أحد، ولا تبع حتى قدم وحتى يخرج إليهم، فلبس رسول الله درعين، ووضع المغفر على رأسه، وخرج؛ فندموا وعلموا أنه كان مراده أن يقيم، فقالوا: يا رسول الله، (إنا) تبع لرأيك، وطلبوا منه أن يرجع إن شاء، فقال: ما كان لنبي إذا لبس لامته أن ينزعها حتى يقاتل، أو يحكم الله.
ومضى معه ألف نفر، فانخذل عبد الله بن أبي بن سلول [وأصحابه] بثلث الجيش ثلاثمائة نفر، وبقي سبعمائة، فلما وصل إلى أحد بعث قوما من الرماة، وأجلسهم على موضع من جبل يخاف منه الكمين، وأمر عليهم عبد الله بن جبير الأنصاري.
366

* (الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل) * *
ثم ابتدأ القتال مع المشركين، فظفر عليهم، وقتل جماعة من رؤسائهم، وانهزموا، ولاح الظفر للمسلمين، وساروا في أثرهم للغنيمة، فلما رآه الرماة، فقالوا: إن المشركين قد انهزموا، ولاح الظفر حتى نسير على أثرهم؛ ونغنم، فقال عبد الله بن جبير: لا تفارقوا هذا المكان؛ فإن رسول الله أمركم أن تلزموا هذا المكان، فالزموه، فاختلفوا عليه، وذهب أكثرهم، وبقي عبد الله بن جبير مع نفر قليل من أصحابه.
فلما عرى موضع الكمين عن الرماة، خرج عليهم خالد بن الوليد من الكمين، وحمل عليهم بالقتل، فاستشهد عبد الله بن جبير، ومن بقي معه، وعاد المشركون للقتال، ووقع القتل في المسلمين، وقتل منهم سبعون نفرا، وانهزم الباقون، وبقي مع رسول الله نفر قليل، فذلك قوله * (ولقد صدقكم الله وعده) أي: في الابتداء بالظفر والنصرة * (إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر) يعني: أولئك الرماة الذين اختلفوا، * (وعصيتم) يعني: عصيتم الرسول، وخالفتم أمره * (من بعد ما أراكم) يعني: من بعد أن أراكم الله تعالى * (ما تحبون) من الظفر * (منكم من يريد الدنيا) هم الذين ذهبوا للغنيمة، * (ومنكم من يريد الآخرة): الذين صبروا مع عبد الله بن جبير.
قال ابن مسعود: ما علمنا أن أحدا منا يريد الدنيا حتى أنزل الله هذه الآية.
* (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) يعني: في الوقعة الثانية حين عاد المشركون، وهذا دليل لأهل السنة على: أن أفعال العباد مخلوقة؛ حيث نسب الله تعالى هزيمة المسلمين إلى نفسه مع وقوع الفعل منهم، فقال: * (ثم صرفكم عنهم).
قوله تعالى: * (إذ تصعدون) ويقرأ: بفتح التاء والعين. فالإصعاد: هو المشي في مستو من الأرض، والصعود: المشي في مرتفع من الأرض.
367

* (على المؤمنين (152) إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون) * *
والخطاب مع المسلمين الذين انهزموا، بقوله: * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) أي: لا تعرجون، ولا تلتفتون إلى أحد، ثم منهم من قال: * (أراد بالأحد): الرسول، ومنهم من قال: معناه: لا تلوون على أحد من الناس.
* (والرسول يدعوكم في أخراكم) يعني: في آخر الجيش، وكان يدعوهم: ' عباد الله، إلي إلي، أنا رسول الله، فلم يلتفتوا إليه، ومضوا '.
* (فأثابكم غما بغم) أي: جازاكم، ثم اختلفوا، منهم من قال: الغم الأول: هو القتل، والهزيمة التي وقعت على المسلمين، والغم الثاني: هو الإرجاف من قول الشيطان: إن محمدا قد قتل. وقيل: [إن] الغم الأول: هو القتل والهزيمة، والغم الثاني: هو فوات الظفر على العدو.
وقال الزجاج: معناه: أنهم غموا الرسول بمخافة أمره؛ فجازاهم الله تعالى بذلك الغم غم القتل والهزيمة؛ وإنما سماه ثوابا؛ لأنه وضعه موضع الثواب، كما قال: * (فبشرهم بعذاب أليم) سمى العذاب: بشارة؛ لأنه وضعه موضع البشارة * (ليكلا تحزنوا على مل فاتكم ولا ما أصابكم) من القتل والهزيمة، منعهم الله تعالى من الحزن على شيء ابتلاهم الله به، ووعد الثواب عليه * (والله خبير بما تعملون).
قوله تعالى: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة) قيل: الأمن والأمنة بمعنى
368

(* (153) ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي) * *
واحد، وقيل: يكون مع (زوال سبب الخوف)، فأما ها هنا فقال: * (أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم) قيل: فيه تقديم وتأخير، وتقديره: نعاسا أمنة، وقيل: هو على نظمه مستقيم، ومعنى الآية: أن الله تعالى أراد تميز المؤمنين من المنافقين، فأوقع النعاس على المؤمنين أمنة لهم، حتى أمنوا، ولم يوقع على المنافقين فبقوا على الخوف.
قال أبو طلحة: أوقع الله تعالى علينا النعاس ونحن تحت الحجر.
وقيل: أوقع النعاس عليهم حتى كان يسقط السيوف من أيديهم، وكذلك عبد الرحمن بن عوف والزبير أخبرا عن ذلك النعاس، كما أخبر أبو طلحة.
وعن الزبير أنه قال: لما أوقع الله النعاس علينا، سمعنا معتب بن قشير يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، وكنت كأني في النوم أسمع، فذلك قوله: * (يغشى طائفة منكم) يعني: المؤمنين * (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) يعني: المنافقين * (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء) قال: * (قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك).
ثم فسر ذلك فقال: * (يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم).
أي: خرج الذين كتب عليهم القتال إلى مصارعهم للموت، وفي هذا دليل على أن الأجل في القتل والموت واحد، كما قال أهل السنة.
قوله تعالى: (وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور).
369

* (الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (154) إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما لستزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا).
قوله تعالى: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان). يعني: الذين انهزموا من المسلمين يوم أحد؛ فإنه لما وقعت الهزيمة على المسلمين انهزم أكثرهم، ولم يبقى مع رسول الله إلا أربعة عشر نفرا: سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار، وقيل: ثلاثة عشر، ستة من المهاجرين وهم أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
وفي الرواية الأولى: كان السابع الزبير، وكان طلحة أشد نكاية في الكفار يومئذ.
وقيل: إن يوم أحد لطلحة، وقيل: إنه كان وقاية رسول الله وكان قد ضرب على يده فشلت وبقيت كذلك.
وأما سعد وهو رامية، وكان يرمي بين يديه، ويقول له رسول الله: ' ارم، فداك أبي وأمي '
وأما الذين انهزموا، فقد لحق بعضهم بالمدينة منهم عثمان، ورجع بعضهم على الطريق منهم عمر؛ فذلك قوله: * (إنما استزلهم الشيطان) أي: طلب زلتهم، يقال: استعجل فلانا، أي: طلب عجلته، ومعناه: أن الشيطان استزلهم حتى انهزموا.
وقوله * (ببعض ما كسبوا) يعني: من مخالفة الرسول * (ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم) قال الزجاج: كان سبب انهزامهم: أن الشيطان وسوس إليهم: إن عليكم ذنوبا؛ فكرهوا القتل قبل أن يتوبوا من الذنوب؛ فذلك قوله: * (إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم).
370

* (الله عنهم إن الله غفور حليم (155) يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل) * *
روى: ' أن رجلا جاء إلى ابن عمر - وقيل: إلى ابن عباس، [و] الأصح إلى ابن عباس، وقال: أليس عثمان لم يشهد بدرا؟ قال: نعم. فقال: أليس لم يشهد بيعة الرضوان؟ قال: نعم، قال: أليس انهزم يوم أحد؟ قال: نعم.
فقال الرجل الله أكبر.
فعرف ابن عباس أنه أراد النقص؛ فدعاه، قال: أما يوم بدر؛ فإن النبي كان قد خلفه على ابنته، وكانت مريضة وقال له: لك أجر واحد ممن شهد، وسهم واحد مما شهد، وهو بدري بقول الرسول.
وأما بيعة الرضوان، فقد كان الرسول بعث عثمان إلى مكة رسولا، ولو كان بينهم في الوادي أعز منه لبعثه، ولما بايعهم ضرب رسول الله بشماله على يمينه، وقال: هذه يد عثمان، وهذه يدي، أما انهزامه يوم أحد، فقد عفا الله عنه، ولا عيب في شيء عفا الله عنه '.
فصل
' وأما ما أصاب رسول الله يوم أحد، فإنه كان قد هشمت البيضة التي كانت على رأسه، وأدمي وجهه، وكسر [ثنيته]؛ فجاء إلى المدينة فكانت فاطمة تغسل وجهه، وعلي - رضي الله عنه - يأتي بالماء في المجن، وكان يغلب الدم، حتى أحرقت حصيرا، فلما صار رمادا، جعلوه في الجراحة فاستمسك الدم '.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا) يعني: المنافقين
371

* (الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير (156) ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (157) ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون (158) فبما رحمة من الله لنت لهم ولوا كنت فظا غليظ القلب لنفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل) * * (وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض) أراد: إخوانهم في النسب، لا في الدين * (ضربوا في الأرض) أي: سافروا * (أو كانوا غزى) جمع
غاز * (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) وهذا قول المعتب بن قشير، وعبد الله بن أبي بن سلول، وجد بن قيس؛ * (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير).
قوله تعالى: * (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم) أي: لئن خرجتم، فقتلتم، أو لم تخرجوا، فمتم * (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) من الدنيا ويطلبون الحياة لأجله.
قوله تعالى: * (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) يعني: كيفما خرجتم من الدنيا، فحشركم إلى الله تعالى.
قوله تعالى: * (فبما رحمة من الله) أي: فبرحمة، و ' ما ' للصلة، * (لنت لهم) وهذه صفة المؤمنين، وقد قال: ' المؤمنون هينون لينون، كالجمل الأنف، إن قيد انقاد، وإن أنخ على صخرة استناخ '.
* (ولو كنت فظا) وهو الجافي * (غليظ القلب) أي: قاسي القلب * (لا نفضوا) لتفرقوا * (من حولك).
372

* (على الله إن الله يحب المتوكلين (159) إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (160) وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * * (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) المشاورة هي استخراج الرأي، وكانت المشاورة جائزة للنبي في أمور الدنيا، فأما في أمور الدين فعلى التفصيل إن كان في شيئين يجوز كلاهما، جازت المشاورة، كما شاورهم في أسارى بدر، حيث كان يجوز القتل والفداء.
والثاني: في أمور ثبتت نصا، كالصوم والصلاة، لا تجوز فيها المشاورة.
والثالث: في شيء لا نص فيه، فهو بناء على أن اجتهاده هل كان سائغا أم لا؟ فإن ساغ اجتهاده، جازت مشاورته، وإلا فلا.
ولأي كان يشاور؟ قال الضحاك: ليقتدى به، وليستن بسنته، وهو قول سفيان الثوري، وقال قتادة: تطييبا لقلوبهم.
* (فإذا عزمت فتوكل على الله) أي: لا تتوكل على المشاورة، وإنما توكل على الله * (إن الله يحب المتوكلين).
* (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) الخذلان: الامتناع عن النصرة عند الحاجة * (وعلى الله فليتوكل المؤمنين).
قوله تعالى: * (وما كان لنبي أن يغل) يقرأ بقراءتين، فمن قرأه: بفتح الياء وضم الغين، فمعناه: أن يخون.
قال ابن عباس: سبب نزول الآية: أنه يوم بدر فقدت قطيفة حمراء، فقال بعض أصحاب رسول الله: الرسول أخذها؛ فنزل قوله: * (وما كان لنبي أن يغل).
وقال محمد بن كعب القرظي: معناه: وما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي، ويخون فيه.
وفيه قول ثالث: ' أن النبي كان قد بعث طلائع، فهم ألايعطيهم من الغنائم
373

(* (161) أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) * *
شيئا؛ فنزل قوله: * (وما كان لنبي أن يغل) ' قال قتادة: أن يخان منه، أي: لا تخونوه، وقيل معناه: أن ينسب إلى الغلول، وقيل معناه: أن يلقى غلا، وهذا غريب من معنى القراءة الأولى. والغلول: الخيانة، والغل: الحقد، والغلل: الماء الذي يجري بين الشجر، ومنه قول الشاعر:
(لعب [السيول] به فأصبح ماؤه
* غللا [يخلل] في أصول الخروع)
وفي الخبر: أن النبي قال: ' ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، ونصيحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم '.
* (ومن يغلل) أي: ومن يخن * (يأت بما غل يوم القيامة) قيل: يأتي ما غل بعينه يوم القيامة، وذلك معنى قوله فيما روى عنه: ' لألقين أحدكم يوم القيامة، وعلى رقبته فرس له حمحمة قد غله، فيقول: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أغني عنك من الله شيئا، ألا قد بلغت، ولألقين أحدكم يأتي يوم القيامة، وعلى رقبته شاة لها ثغاء، قد غلها، فيقول يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أغني عنك من الله شيئا، ألا قد بلغت، ولألقين أحدكم يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء، قد غله، فيقول: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أغني عنك من الله شيئا ألا قد بلغت '.
374

((162) * هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون (163) لقد من الله على المؤمنين إذ) * *
والقول الثاني: أنه أراد به: يأتي بإثم ما غل يوم القيامة، وفي الخبر: ' أن رجلا كان على ثقل رسول الله، فاستشهد فقال الناس هو في الجنة، فقال النبي هو في النار؛ فطلب، فإذا هو قد غل عباءة عن المغنم '.
* (ثم توفى كل نفس ما كسبت) أي: جزاء ما كسبت، فالجزاء مضمر فيه * (وهم لا يظلمون).
قوله تعالى: * (أفمن اتبع رضوان الله) يعني: ترك الغلول * (كمن باء بسخط من الله) يعني: بالغلول، وقيل معناه: أفمن اتبع رضوان الله بموافقة الرسول، كمن باء بسخط من الله بمخالفة الرسول * (ومأواه جهنم وبئس المصير).
قوله تعالى: * (هم درجات عند الله) قال مجاهد: لهم درجات عند الله، يعني: المؤمنين، وقال غيره: تقديره: هم ذووا درجات عند الله، يعني: المؤمنين والمنافقين
، فالمؤمنون ذووا الدرجات الرفيعة، والمنافقون ذووا الدرجات الخسيسة، ومثله قول الشاعر:
(أنصب للمنية تعتريهم
* رجالي، أم همو درج السيول)
أي: ذووا درج السيول. * (والله بصير بما يعملون)
قوله - تعالى -: * (لقد من الله على المؤمنين) أي: أنعم، والمنه: النعمة، والمن: القطع؛ ومنه قوله - تعالى -: * (لهم أجر غير ممنون) أي: غير مقطوع، وسميت النعمة منة، لأنها مقطوعة عن المحن والشدائد.
وقوله تعالى: * (إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) قيل: هذا في العرب خاصة؛
375

* (بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164) أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (165) وما أصابكم يوم التقى) * *
لأن الرسول بعث من بني إسماعيل إلى العرب، وقيل: هو على العموم في حق الكافة؛ فإنه بعث بشر مثلهم.
وموضع المنة في بعثه من أنفسهم للعرب: أنه كان شرفا لهم، حيث بعث الرسول منهم، وأيضا فإن القرآن نزل بلسان العرب؛ إذ كان الرسول عربيا، وكان التعلم أسهل عليهم؛ لكونه أقرب إلى أفهامهم، فالمنة في السهولة عليهم، ولأنه لما نشأ فيهم، وعرفوا صدقة وأمانته، وكان أميا مثلهم ما كان يحسن الخط، ولا يعلم شيئا، ولا سافر، ثم أتى بكتاب يخبر عن القرون الماضية وقصص الأولين، ووافق الكتب المنزلة قبله، كان أقرب إلى قلوبهم، فكان يسهل طريق الإيمان عليهم.
وقوله: * (يتلو عليهم آياته ويزكيهم) أي: يشهد بتزكية سائر الأمم، ويجعلهم أزكياء، وقيل: يطهرهم من الذنوب * (ويعلمهم الكتاب) يعني: القرآن * (والحكمة)، قال ابن عباس: الفقه والشرائع، وقال غيره: الحكمة: السنة. * (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) أي: ما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين.
قوله تعالى: * (أو لما أصابتكم مصيبة) يعني: يوم أحد * (قد أصبتم مثليها) يعني: يوم بدر: نزلت الآية في تسلية المؤمنين، وذلك: أن يوم أحد قتل من المسلمون سبعون، وقد أصاب المسلمون منهم يوم بدر سبعين بالقتل، وسبعين بالأسر، فذلك مثليهم، فجعل الأسر مثل القتل؛ حيث جعل القتلى والأسرى يوم بدر مثلي قتلى أحد.
* (قلتم أنى هذا) من أين هذا؟ * (قل هو من عند أنفسكم) أي: بمخالفة الرسول منكم '. وعن عمر - رضي الله عنه - أنه قال في تفسير قوله تعالى: * (قل هو من عند أنفسكم) أي: باختياركم الفداء؛ وذلك أن النبي خير المسلمين يوم بدر في الأسارى بين القتل والفداء، وقال لهم: ' إن اخترتم الفداء أصيب
376

* (الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لأتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) * *
منكم بعدتهم في العام القابل، فاختاروا الفداء، وقالوا: نتقوى به على العدو، ويستشهد منا ' فذلك قوله: * (قل هو من عند أنفسكم) أي: باختياركم، وهو قول علي - رضي الله عنه - * (إن الله على كل شيء قدير).
قوله تعالى: * (وما أصابكم يوم التقى الجمعان) يعني: يوم أحد * (فبإذن الله) أي: بعلم الله، وروى ' أنه - لما نزل المشركون بأحد رأى في منامه أن بقرا ينحر، فأوله على أن يستشهد بعض أصحابه. ورأى أن سيفه ذا الفقار انقصم فأوله على قتل حمزة، ورأى كأن كبشا أغبر قتل فأوله على قتل مبارز الكفار، فقتل يوم أحد مبارزهم عثمان بن طلحة العبدري من بني عبد الدار '.
* (وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا) يعني: علم المشاهدة، وإن كان علمهم علم الغيب.
* (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) قائل ذلك القول: عبد الله بن حرام أبو جابر، قال للمنافقين: قاتلوا في سبيل الله، وإن لم تقاتلوا لأجل الدين، فادفعوا عن الأهل والحريم.
* (قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم) فرجعوا وهم يقولون: لا قتال، لا قتال، حتى يفشل المسلمون * (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) يعني: بعد رجوعهم ومقالتهم تلك؛ لأنهم كانوا من قبل من المؤمنين في الظاهر؛ وإن كانوا منافقين في الباطن، فلما فارقوا المؤمنين صاروا أقرب إلى الكفر منهم للإيمان.
377

* (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (167) الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (168) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169)) * * (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون).
قوله تعالى: * (الذين قالوا لإخوانهم) يعني: في النسب لا في الدين، وهم المنافقون، قالوا للمسلمين: لو قعدوا قتلوا)، كما لم نقتل، فذلك قوله: * (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) يعني: إن قدرتم على دفع القتل، وتقدرون على دفع الموت، فادفعوا الموت عن أنفسكم. والدرء: الدفع، ومنه قول الشاعر:
(أقول وقد درأت لها وضيني
* أهذا دينكم أبدا وديني؟)
قوله تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) سبب نزول الآية: أن أصحاب رسول الله لما استشهدوا يوم أحد، كان الناس يقولون: مات فلان؛ ومات فلان، فنزل قوله تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم) قيل معناه: يؤولون أحياء يوم القيامة. إلا أن هذا ضعيف؛ لأنه لا يبقى لهم فيه تخصيص، والأصح: أنه على معنى ما روى عن رسول الله أنه قال: ' إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلف من ثمار الجنة - وفي رواية: تأكل، وفي رواية: تسرح في الجنة فترد مياهها - ثم تأوى إلى قناديل من ذهب معلقة من العرش ' ورواه مسلم في صحيحه، وزاد ' إن الله تعالى اطلع عليهم اطلاعة، فيقول: تمنوا علي، فيقولون: ماذا نتمنى وقد أعطيتنا هذا؟! فيقول: تمنوا على، فيقولون: وماذا نتمنى وقد أعطيتنا هذا؟! فيقول: تمنوا على، فيقولون: نتمنى أن نرد إلى الدنيا ونقتل في سبيلك ثانيا ' الحديث.
378

* (فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر) * *
وفي رواية ثالثة: ' أن النبي رأى جابرا حزينا، وقتل أبوه عبد الله بن حرام يوم أحد، فقال: ما لي أراك حزينا، إن الله تعالى لم يكلم أحدا، إلا من وراء حجاب، وقد كلم أباك كفاحا، فقال: تمن علي ' الحديث.
وروى: ' أن شهداء أحد قالوا: من يبلغ نبينا وإخواننا ما وصلنا إليه؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم - وفي رواية: أنا رسولكم - وأنزل هذه الآية '.
* (بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) قيل معناه: أنه يدفع إليهم كتاب فيه أسماء إخوانهم الذين يستشهدون من بعدهم، فيستبشرون بهم.
وقوله: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) وقدر عليهم أن يلحقوا بهم. فيه قول آخر، أن الشهداء يقولون: يا ليت إخواننا أصيبوا مثل ما أصابنا؛ فيصلون إلى ما وصلنا؛ فذلك قوله: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أي: بأن لا خوف عليهم * (ولاهم يحزنون).
* (يستبشرون بنعمة من الله وفضل) وقيل: أراد بالنعمة: قدر الكفاية، وبالفضل: ما زاد على الكفاية، ومعناه: لا يضيق عليهم، بل يوسع في العطاء، وقيل: ذكر الفضل تأكيدا للنعمة، * (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) قرأ ابن مسعود:
' والله لا يضيع أجر المؤمنين '.
قوله تعالى: * (الذين استجابوا لله والرسول) قيل: سبب نزول الآية: أن أبا سفيان
379

* (المؤمنين (171) الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172) الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) * *
لما رجع إلى مكة يوم أحد، قال الكفار بعضهم لبعض في الطريق: نرجع؛ فنستأصل محمدا وأصحابه، فبلغ ذلك رسول الله، فقال: من ينتدب إلى الخروج، فانتدب سبعون نفرا فيهم أبو بكر والزبير.
وقد قالت عائشة لعروة: إن أبويك من الذين استجابوا لله والرسول، وأرادت أن أبا بكر والزبير كانا في السبعين، فخرجوا إلى حمراء الأسد [وهم] على ثمانية أميال من المدينة، فلما وصلوا (فإذا الله كان قد ألقى) الرعب في قلوب المشركين، وكانوا مضوا إلى مكة '.
وقال ابن عباس (قولا آخر): أن أبا سفيان لما أراد أن يرجع يوم أحد، قال: موعدنا وموعدكم العام القابل ببدر، ثم لم يتفق له الخروج في العام القابل، وخرج رسول الله لموعده إلى بدر مع أصحابه، فأولئك الذين استجابوا لله والرسول '.
* (من بعد ما أصابهم القرح) يعني: الألم يوم أحد، * (للذين أحسنوا منهم) باستجابة الرسول، * (واتقوا) يعني مخالفة الرسول * (أجر عظيم).
قوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) هذا قول نعيم بن مسعود الأشجعي، والقصة في ذلك: ' أن أبا سفيان لما لم يتفق له الخروج لموعده ببدر بعث بنعيم بن مسعود الأشجعي إلى المدينة، وقال له: ثبط
380

* (فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174) إنما ذلكم الشيطان) * *
أصحاب محمد عن الخروج؛ كيلا يظنوا أن بنا فشلا ولك عشر من الإبل، فجاء إليهم، وكان النبي وصاحبته يتهيئون للخروج، فقال لهم: تخرجون إليهم! قد خرجوا إليكم في العام الماضي، وفعلوا بكم ما فعلوا في بيوتكم، والله لو خرجتم إليهم لا يعود أحد منكم، فقال وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل، ولم يمتنعوا من الخروج '.
فقوله: * (الذين قال لهم الناس) هو نعيم بن مسعود وحده، هذا قول عكرمة ومجاهد ومقاتل والكلبي، وقال ابن عباس: هو قول نفر قليل من عبد القيس، وقوله: * (فزادهم إيمانا) منهم من قال معناه: زادهم إيمانا بتفويضهم، وقولهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، وقيل معناه: زادهم يقينا بما وعدهم الله من النصر، * (وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)، قال ابن عباس: وهذا قول إبراهيم حين ألقى في النار، فإنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قوله تعالى: * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) معنى الآية: ' أن النبي وأصحابه خرجوا لموعد أبي سفيان إلى بدر، وهو مجمع سوق العرب، فلم يلقوا هنالك (أحدا) إذ لم يتفق (خروجهم)، فاتجروا هنالك، وربحوا، وانصرفوا ' فذلك قوله: * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) فالنعمة: العافية، والفضل: ربح التجارة * (لم
يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم). قوله تعالى: * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) فالشيطان: كل عات متمرد من الجن والإنس، والمراد بالشيطان ها هنا: نعيم بن مسعود، وقيل: هو الشيطان
381

* (يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175) ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم (176) إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم (177) ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم) * *
المعروف؛ فإنه وسوس إليهم: أن لا تخرجوا لذلك الوعد.
وقوله: * (يخوف أولياءه) قال إبراهيم النخعي: تقديره: يخوفكم أولياءه أي: من أولياءه، وهم الكفار، وقال أهل المعاني: هو قول حسن.
وقال الفراء: معناه: يخوفكم بأوليائه، وكذا قرأ أبي بن كعب. (ومثله) قوله تعالى: * (لينذر بأسا شديدا) أي: ببأس شديد، وقال الشاعر:
(أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
* فقد تركتك ذا مال وذا نسب)
أي: أمرتك بالخير، فنزع الباء * (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) قوله تعالى: * (ولا يحزنك) ويقرأ: ' ولا يحزنك) بضم الياء، ومعناهما واحد.
* (الذين يسارعون في الكفر) يعني: قول الذين يسارعون في الكفر.
* (إنهم لن يضروا الله شيئا) أي: لن ينقصوا الله شيئا * (يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة) أي: نصيبا في الآخرة * (ولهم عذاب عظيم).
قوله تعالى: * (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان) أي: استبدلوا وكل شراء استبدال، وليس كل استبدال شراء * (لن يضروا الله شيئا) أي: لن ينقصوا الله شيئا * (ولهم عذاب أليم).
قوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا) أي: لا يظنن، من الحسبان: الظن * (أنما نملي لهم خير لأنفسهم) الإملاء: إطالة العمر، والإمهال: التأخير، ويقال لليل والنهار: ملوان.
382

* (ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين (178) ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم (197) ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا) * * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) أي: إنما نطيل عمرهم ليزدادوا إثما. روى الأسود عن أبن مسعود: ' ما من أحد إلا والموت خير له؛ برا كان أو فاجرا: أما البر، لقوله تعالى -: * (وما عند الله خير للأبرار) وأما الفاجر؛ لقوله تعالى: * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما)؛ وذلك أنه إذا ازداد إثما اشتدت عقوبته ' * (ولهم عذاب مهين).
قوله تعالى: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه) يعني: على اختلاط المنافقين بكم؛ فإنهم كانوا مختلطين بالمؤمنين * (حتى يميز الخبيث من الطيب) قال مجاهد: حتى يميز الكافر من المؤمن، وقال قتادة: حتى يميز، المنافق من المؤمن، ويقرأ: حتى ' يميز ' مشددا يقال: ماز يميز، وميز يميز، بمعنى واحد. وفي الحديث: ' من ماز أذى من الطريق، فهو له صدقة ' * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) سبب نزوله: أن أصحاب رسول الله قالوا: يا رسول الله، أخبرنا بمن يموت على الإيمان، ومن يموت على الكفر؛ فنزل قوله: * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) يعني: فيطلعه على الغيب بما شاء، وهذا كما قال في آخر سورة الجن: * (فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) * (فآمنوا بالله ورسوله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم).
قوله تعالى: * (ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم) يعني: هو يكون خيرا لهم * (بل هو شرا لهم) في معنى الآية قولان: أحدهما: أنه في اليهود، حيث كتموا نعت محمد، وبخلوا به؛ فعلى هذا معنى قوله: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) أي: إثم ما بخلوا به يوم القيامة، والقول الثاني: أن الآية في
383

* (به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير (180) لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق) * *
ما نعى الزكاة، وقوله: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) على حقيقته، وهو معنى ما روى عن رسول الله أنه قال: ' من منع الزكاة جاء يوم القيامة، فيمثل له ماله شجاعا أقرع فيطوق في رقبته، [فينهسه] من قرنه إلى قدميه ثم قرأ هذه الآية '. * (ولله ميراث السماوات والأرض) فإن قال قائل: كيف يكون له ميراث السماوات والأرض؟ قيل: العرب تسمى كل ما انتقل من أحد إلى غيره ميراثا بأي سبب كان، فلما خلصت السماوات والأرض لله تعالى بعد هلاك العباد، سماه ميراثا، كأنه انتقل منهم إليه * (والله بما تعملون خبير).
قوله تعالى: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) قيل: سبب نزول الآية: أنه لما نزل قوله تعالى: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) قالت اليهود: إن الله يستقرض منا أموالنا؛ فإذن هو فقير ونحن أغنياء وما قالوا ذلك عن اعتقاد، ولكن تمويها على المسلمين، وتشكيكا لهم فيما جاء به محمد رسول الله، فنزل قوله: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) وفيه قول آخر: أنه عليه [الصلاة و] السلام لما استعان بيهود بني قينقاع في الحرب، قالوا
: إن الله فقير إذن؛ حيث يستعين بنا في نصرة دينه، ونحن أغنياء؛ فنزلت الآية.
* (سنكتب ما قالوا): هو الكتابة في صحائف الأعمال، وقيل: معناه: نحصي ما قالوا نجازى عليه، ويقرأ: ' سيكتب ما قالوا ' بضم الياء. * (وقتلهم الأنبياء) بالرفع أي: ويكتب قتلهم الأنبياء * (بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) أي:
384

* (ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182) الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183) فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير (184) كل) * *
بعذاب النار؛ لأن عذاب النار محرق.
* (ذلك بما قدمت أيديكم) يعني: بما قدمتم، وذكر أيديكم تأكيدا.
* (وأن الله ليس بظلام للعبيد) يعني: أنه يفعل ما يفعل بهم؛ مجازاة لهم على أعمالهم.
قوله تعالى: * (الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار) الآية في اليهود، قال السدي: كان الله تعالى عهد إلى اليهود: أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار سوى عيسى ومحمد، فإنه أمرهم أن يؤمنوا بهما من غير هذه الشريطة.
وقال غيره: كانوا يتقربون بالقربان، ثم يأخذون أطايب لحمه، فيضعونها في بيت، ثم يقوم نبيهم في ذلك البيت يناجي ربه، فتأتي نار بيضاء لها حفيف من السماء، فتأكله، ويكون ذلك علامة قبول القربان.
* (قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات) أي: بالدلالات والمعجزات * (وبالذي قلتم) يعني: من الإتيان بقربان تأكله النار.
* (فلم قتلتموهم) أي: فلم كذبتموهم، وقتلتموهم * (إن كنتم صادقين) في دعوتكم ذلك العهد.
قوله تعالى: * (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات) أي: بالدلالات والمعجزات * (والزبر): جمع الزبور وهو كتاب فيه الحكمة، وبه سمى كتاب داود: زبورا، وفي مصحف أهل الشام ' وبالزبر '.
فإن قال قائل: أي فرق بين الزبر والكتاب؟ وقد قال: * (والزبر والكتاب المنير)
385

* (نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (185) لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا) * *
قيل: الكتاب اسم لما كتب، وضم بعض الكلمات فيه إلى بعض من الكتب (وهو) الضم، وأما الزبر: مأخوذ من الزبر وهو الزجر، فالزبور: كتاب فيه مزاجر.
قوله تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت) والذوق في الموت مجاز، وحقيقة الذوق: هو الإحساس بالشيء؛ فلما كان يحس بالموت، سماه ذوقا مجازا، قال الشاعر:
(من لم يمت عبطة يمت هرما
* الموت كأس وكل الناس ذائقها)
فإن قال قائل: لا يخفي أن كل نفس تموت، فأيش الفائدة في قوله: * (كل نفس ذائقة الموت)؟ قيل: أراد به: التزهيد بالدنيا، يعني: أن النفوس إلى الفناء؛ فتزهدوا بالدنيا، * (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة).
* (فمن زحزح عن النار) أي: نجى، وبعد عن النار * (وأدخل الجنة فقد فاز) أي: نجا * (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) لأنها تغر الإنسان، وهي الانقطاع.
قوله تعالى: * (لتبلون) أي: لتختبرن، وقيل: لتصابن * (في أموالكم وأنفسكم) في أموالكم بالإنفاق، وأنفسكم بالجهاد، وقيل: في أموالكم (وأنفسكم بالمصائب والأمراض، وقال بعض أصحاب الخواطر: في أموالكم) بالمنع عن الحق، وأنفسكم باتباع الهوى.
* (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) قال الزهري: هذا في كعب بن الأشرف، كان يهجو النبي ويسمع المسلمين هجاه '، وقيل: هو قول اليهود: عزيز ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، وقيل: هو قول أولئك الذين قالوا: إن الله فقير.
386

* (فإن ذلك من عزم الأمور (186) وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون (187) لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم (188) ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء) * * (وإن تصبروا) يعني: على الأذى * (وتتقوا) يعني: من مخالفة الرسول * (فإن ذلك من عزم الأمور) أي: من حقائق الأمور، وشدائدها.
قوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا يكتمونه. وقيل: هو في جميع العلماء، أخذ الله ميثاق العلماء: أن يبينوا العلم للناس ولا يكتمونه، وفي الحديث: ' من سئل عن علم، فكتمه، ألجم بلجام من نار '.
* (فنبذوه وراء ظهورهم) أي: تركوه وراء ظهورهم (واشتروا به ثمنا قليلا) يعني: الرشاء * (فبئس ما يشترون).
قوله تعالى: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا) يعني: اليهود، بما أوتوا أي: العلم والكتاب، ولم يقوموا بموجبه وما يقتضيه، وقيل: هو في المنافقين يفرحون
بما أتوا من التخلف عن رسول الله.
* (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) (يعني): بالأعذار الكاذبة، * (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) أي: بمنجاة من العذاب * (ولهم عذاب أليم).
وروى أن مروان بعث إلى عائشة: هلكنا إذن؛ فإنا نفرح بما نأتي، ونحب أن نحمد بما لم نفعل؛ والله تعالى يقول: * (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) فذكرت عائشة أن الآية في اليهود
387

* (قدير (189) إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (191) ربنا إنك) * *
قوله تعالى: * (ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير) ذكر هذا رد لقولهم: إن الله فقير ونحن أغنياء.
قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) يعني: أن فيها دلالات على وحدانيته لذوي العقول.
قوله تعالى: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) روى ابن مسعود وعمران بن الحصين أن النبي قال: ' صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك تومىء إيماء ' فهذا معنى الآية.
وقيل: معناه: الذين يوحدون الله على كل حال.
* (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) فيستدلون به على وحدانيته، وفي الحديث: ' تفكروا في الخلق، ولا تتفكروا في الخالق '.
* (ربنا ما خلقت هذا باطلا) أي: عبثا، وقيل: (باطلا) أي: بباطل.
* (سبحانك): هو للتنزيه عن كل سوء * (فقنا عذاب النار) روى عن ابن عباس: أنه قال: ' بيت عند خالتي ميمونة، فنام رسول الله وأهله على عرض الوسادة، وأنا
388

* (من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار (192) ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (193) ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) * *
على طولها، ثم قام من الليل، وقرأ هذه الآيات العشر ' وفي رواية قال: ' سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح، وقرأ هذه الآيات العشر إلى آخر السورة '.
قوله تعالى: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) أي: أهلكته. فإن قال قائل: ألستم تقولون: إن المؤمنين يخلدون النار، ولا يدخلون فيها، فكيف يكون ذلك إهلاكا؟ قيل: قال قتادة: معنى الآية: إنك من تدخل النار للخلود فقد أخزيته أي: أهلكته، وقال الضحاك: معنى الآية * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) أي: فضحته، وهتكت ستره؛ فعلى هذا يستوي فيه كل من دخل النار وإن لم يخلد فيها * (وما للظالمين من أنصار).
* (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) أكثر المفسرين على أن المنادي: هو الرسول، وقيل: هو القرآن قاله محمد بن كعب القرظي. لأن كثيرا من الناس لم ير الرسول ولم يسمعه.
* (ربنا فاغفر لنا ذنوبنا) أي: كبائرنا * (وكفر عنا سيئاتنا) أي: صغائرنا، وقيل: الذنوب: المعاصي، والسيئات: التقصير في الطاعات.
* (وتوفنا مع الأبرار) البر المطيع، وفي الآثار: إن البر لا يؤذي الذر. يعني: النمل الصغار الحمر.
* (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) أي: على ألسنة رسلك * (ولا تخزنا يوم القيامة) أي: لا تفضحنا، ولا تهلكنا.
* (إنك لا تخلف الميعاد) وهو على سبيل المدح له؛ لأنا على القطع نعلم أنك لا تخلف الميعاد.
389

(* (194) فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب (195) لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد (197) لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار (198) وإن من أهل) * *
قوله تعالى: * (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) روى أن أم سلمة قالت لرسول الله: إني أرى الله لا يذكر النساء في القرآن، فنزل قوله: (* (من ذكر أو أنثى) * بعضكم من بعض) أي: كلكم كنفس واحدة، فلا أضيع عمل واحد منكم.
* (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا) وقرأ حمزة والكسائي: ' وقتلوا وقاتلوا ' * (لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله) أي: جزاء من عند الله، * (والله عنده حسن الثواب).
قوله تعالى: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) يعني: على مرادهم، فإن مصيرهم إلى النار * (متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) وفيه دليل على أن أقل القليل من الجنة خير من الدنيا، وفي الحديث: ' لموضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها '.
قوله تعالى: * (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله) النزل هو ما يعد للضيف من النعمة؛ فسمى الله تعالى ما
390

* (الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199) يا أيها
الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (200)) * *
أعده للمؤمنين من نعيم الجنة: نزلا من عند الله * (وما عند الله خير للأبرار)
قوله تعالى: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) قيل: أراد النجاشي، وروى أنه لما مات قال النبي لأصحابه: ' صلوا على أخ لكم مات، وهو أصحمة النجاشي ' فقال المنافقون: انظروا يصلي على علج من النصارى ويدعوا له؛ فنزلت الآية.
وقيل: هو في عبد الله بن سلام، ومن أسلم معه؛ فذلك قوله: * (لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله) أي: متواضعين لله * (لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب).
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا) يعني: على الجهاد، * (وصابروا) أي: مع الأعداء * (ورابطوا) أي: في الثغور بالملازمة، وقيل: اصبروا على دينكم، وصابروا مع الأعداء، ورابطوا بالمحافظة على الصلوات، وفي الحديث: قال رسول الله: ' ألا أدلكم على ما يمحو الله به السيئات، ويرفع الله به الدرجات، قيل: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم، الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط '.
* (واتقوا الله لعلكم تفلحون) أي: كونوا على رجاء الفلاح.
391

تفسير سوره النساء
بسم الله الرحمن الرحيم
قال: اعلم أن هذه السورة تسمى: سورة النساء، وتسمى سورة الأحكام، وهي مدنية على قول أكثر المفسرين، إلا قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)؛ فإن هذه الآية نزلت بمكة في مفاتيح الكعبة، وأورد النحاس أن السورة مكية.
وفي الحديث: ' من قرأ سورة البقرة، وآل عمران، والنساء في ليلة؛ كتب من القانتين '، وعن عمر - رضي الله عنه - قال: تعلموا سورة البقرة، والنساء، والمائدة، وسورة النور، والأحزاب؛ فإن فيهن الفرائض.
392

* (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحده وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا) * *
قوله - تعالى -: * (يا أيها الناس) قال علقمة: كل ما نزل في القرآن: * (يا أيها الناس) فإنما نزل بمكة، وكل ما ورد في القرآن: * (يا أيها الذين آمنوا) فإنما نزل بالمدينة.
وقوله: * (يا أيها) ' يا ' للنداء، و ' أي ' للإشارة، و ' ها ' للتنبيه * (اتقوا ربكم) وقرأ ابن مسعود: ' اتقوا (الله) ربكم '.
بدأ من السورة بالوعظ والتحذير، فقال: * (اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة)، وأراد بالنفس الواحدة آدم - صلوات الله عليه - وإنما قال: * (واحدة) على التأنيث؛ لأجل اللفظ؛ لأن النفس مؤنثة، وهذا مثل قول الشاعر:
(أبوك خليفة ولدته أخرى
* وأنت خليفة ذاك الكمال)
وإنما قال: ولدته للفظ الخليفة، وإن كان معناه الذكر * (وخلق منها زوجها) يعني: حواء، وسميت حواء؛ لأنها خلقت من حي، وفي القصص: أن الله تعالى خلق حواء من ضلع لآدم في جنبه الأيسر يسمى: ' القصيراء ' وفي الخبر المعروف ' أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن أردت أن تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها على اعوجاج ' وقيل: إن حواء خلقت من التراب.
وقوله: * (وخلق منها زوجها) معناه: وخلق من جنسها زوجها، يعني: التراب، والأصح الأول. وفي الخبر: أن الله تعالى لما خلق آدم ألقى عليه النوم، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه، وخلق منه حواء، فجلست بجنبه، فلما انتبه رآها جالسه بجنبه، وقيل: إنه لم يؤذه أخذ الضلع شيئا، ولو آذاه لما عطف رجل على امرأة أبدا.
وعن ابن عباس: أن الله تعالى خلق الرجل من التراب؛ فهمه في التراب، وخلق
393

* (ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1) وآتوا اليتامى أموالهم) * * المرأة من الرجل، فهمها في الرجل؛ فاحبسوا نساءكم.
* (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) ذكر هذا كله لبيان القدرة؛ وإظهار المنة * (واتقوا الله الذي تساءلون به) أي: تسألون به، وذلك مثل قول الرجل: أسألك بالله، ونشدتك بالله، وقيل: معناه: واتقوا الله الذي تعاهدون به، وذلك أن تقول: عليك عهد الله، وعلي عهد الله، ونحو ذلك.
وأما قوله: * (والأرحام) قرأ حمزة: ' الأرحام ' بكسر الميم وتقديره: تساءلون به وبالأرحام، قال إبراهيم النخعي: تقول العرب: نشدتك بالله وبالرحم. وضعفوا هذه القراءة، والقراءة المعروفة: بنصب الميم، وتقديره: واتقوا الأرحام أن تقطعوها.
وفي الخبر: يقول الله تعالى: ' أنا الرحمن، وخلقت الرحم، واشتققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته '.
وروى عن رسول الله أنه قال: ' إن الله تعالى يعمر الكفار، ويكثر أموالهم، ولم ينظر إليهم منذ خلقهم؛ بغضا لهم، فقيل: مم ذاك يا رسول الله؟ قال: بصلة الأرحام '.
* (إن الله كان عليكم رقيبا) أي: حفيظا.
قوله تعالى: * (وآتوا اليتامى أموالهم) أراد به: دفع المال إليهم بعد البلوغ،
394

* (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا (2) وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا) * * وسماهم بعد البلوغ يتامى؛ لقرب عهدهم باليتيم، وكانت قريش تسمي رسول الله يتيم أبي طالب لذلك.
* (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) وفي قراءة شاذة: ' ولا تشتروا الخبيث بالطيب ' فالخبيث: الحرام، والطيب الحلال، ومعنى الكلام: ولا تأكلوا أموال اليتامى حراما، وتدعوا أموالكم الحلال، وقال مجاهد: معناه: لا تستعجلوا أكل الحرام؛ فإن الحلال يأتيكم.
* (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) قال الفراء: معناه: مع أموالكم، وقال غيره: ' إلى ' لا تكون بمعنى ' مع '، وهي على حقيقتها، ومعناه: ولا تأكلوا أموالهم مضافة إلى أموالكم.
* (إنه كان حوبا كبيرا) فالحوب: الإثم، وفي الخبر: ' أن أبا أيوب الأنصاري أراد أن يطلق امرأته أم أيوب، فقال النبي: إن طلاق أم أيوب لحوب '
قوله تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) أي: ألا تعدلوا، يقال: أقسط، إذا عدل، وقسط، إذا جار، وفي معنى الآية قولان: أحدهما أورده البخاري في الصحيح، وهو ما روى الزهري عن عروة أنه سأل عائشة عن شأن هذه الآية، فقالت: يا ابن أختي، نزلت الآية في يتيمة تكون في حجر وليها، ويرغب في مالها وجمالها، ولا يقسط في صداقها؛ فنهوا عن نكاحهن، وأمروا أن ينكحوا غيرهن '
فعلى هذا تقدير الآية: وإن خفتم ألا تقسطوا في نكاح اليتامى؛ * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع).
وقال ابن عباس: قصر نكاح النساء على الأربع من أجل أموال اليتامى، فإن قيل:
395

* (فواحده أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3) وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4) ولا تؤتوا) * * كيف يعرف هذا، وكيف يلتئم بذاك هذا؟ قيل: معناه: أن الله تعالى لما شدد في أموال اليتامى، تحرج المسلمون عنها غاية التحرج، وشرعوا في نكاح النساء، واستهانوا به؛ فنزلت الآية، وأراد: إنكم كما تحرجتم عن أموال اليتامى؛ خوفا من الجور، فتحرجوا عن الزيادة على الأربع أيضا؛ خوفا من الجور والميل، فهذا معنى قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم) أي: ما حل لكم * (من النساء مثنى وثلاث ورباع) أي: لا تجاوزوا الأربع.
وذهب بعض الناس إلى أن نكاح التسع جائز بظاهر هذه الآية؛ لأن الاثنين والثلاث والأربع يكون تسعا ليس بصحيح، بل فيه قولان: أحدهما: قال الزجاج: مثنى مثنى، ثلاث ثلاث، رباع رباع، يعني: لكل الناس، وقيل: ' الواو ' بمعنى: ' أو ' يعني: مثنى، أو ثلاث، أو رباع؛ ولأن على التقدير الذي ذكروا [عي] في الكلام؛ لأن من أراد أن يذكر التسع فيقول: مثنى وثلاث ورباع، عد ذلك عيبا في الكلام وقد قال: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)؛ لأنه أخف مؤنه * (أو ما ملكت أيمانكم) لأن حقوق ملك اليمين أدنى من حقوق ملك النكاح، وهو معنى قوله: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) أي: ذلك أقرب أن لا تجوروا، يقال: عال، يعول إذا جار، وأعال يعيل إذا كثر عياله، قال الشاعر:
(إنا اتبعنا الرسول واطرحوا
* أمر الرسول وعالوا في الموازين)
أي جاروا، وروى: أن أهل الكوفة عتبوا على عثمان في شيء، فقال: لست بقسطاء، فلا أعول، أي لست بقسطاس؛ فلا أجور.
وقال الشافعي: معناه: ذلك أدنى ألا تكثر عيالكم. وحكى الأزهري عن الكسائي
396

* (السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها وأكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (5) وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها) * * إنه حكى عن العرب: عال يعول: إذا كثر عياله، وهذا يؤيد قول الشافعي.
* (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) الصدقة والصداق واحد * (نحلة) أي: تدينا، وقال ابن عباس: معناه: فريضة، والخطاب مع الأزواج على الأصح وقيل: هو خطاب مع الأولياء، وكان أهل الجاهلية لا يعطون المرأة صداقها، وإنما يأخذ الأولياء؛ فخطاب الأولياء بإعطاء المرأة صداقها نحلة، أي: هو عطية لها من الله.
* (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا) أي: فإن أعطين عن طيب نفس من الصداق شيئا. و ' من ' للتخيير هاهنا، لا للتبعيض؛ حتى يجوز للمرأة هبة كل الصداق، * (فكلوه هنيئا مريئا) الهنيء: ما أكلت من غير تنغيص، والمريء: هو المحمود العاقبة؛ وذلك ألا يورث تخمة. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: إذا مرض أحدكم، فليستقرض من امرأته ثلاثة دراهم من صداقها، وليشتري بها عسلا، وليخلطه بماء السماء، ثم ليأكل؛ فإنه الشفاء المبارك والهنيء المريء.
قوله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) أكثر المفسرين على أن المراد بالسفهاء: الصبيان والنساء هاهنا، وقال الشعبي: المرأة أسفه من كل سفيه.
قال سعيد بن جبير: معنى الآية: أن لا تجعلوا المرأة قيمة البيت في المعاش، بل كونوا أنتم قوامين على النساء في المعاش، وقوله: * (التي جعل الله لكم قياما) فالقيام والقوام واحد، يعني: أموالكم التي جعلها الله قواما لمعاشكم، وقال الزجاج: تقديره: الأموال التي تقيمكم فتقومون به قياما * (وارزقوهم فيها وأكسوهم) قيل: معناه: وارزقوهم منها، وقيل كلمة في حقيقتهما، ومعناه: اجعلوا وظائفهم من الرزق والكسوة فيها.
* (وقولوا لهم قولا معروفا) قيل: معناه: تعليم الدين والشرائع، وقيل: أراد به: وعد الجميل؛ وذلك أن تقول لهم: إن سافرت وربحت، أعطيكم كذا، وإن غزوت
397

* (إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيب (6) للرجال نصيب مما
ترك الوالدان) * * فغنمت، أعطيكم كذا، فهذا هو القول المعروف.
قوله تعالى: * (وابتلوا اليتامى) يعني: واختبروا اليتامى، ثم منهم من قال: إنما نختبرهم بعد البلوغ، وسماهم يتامى؛ لقرب عهدهم باليتيم، والصحيح أنه أراد به: الاختبار قبل البلوغ، ثم اختلفوا، فأما الفقهاء قالوا: يدفع إليه شيئا يسيرا، ويبعثه إلى السوق، حتى يستام السلعة، ثم إذا آل الأمر إلى العقد يعقد الولي، ومنهم من قال: يعقد الصبي، ويجوز ذلك في الشيء اليسير؛ لأجل الاختبار.
وأما الذي قاله المفسرون: أنه يدفع إليه مالا، ويجعل إليه نفقة البيت، ويختبره فيها، * (حتى إذا بلغوا النكاح) أي: أوان الحلم * (فإن آنستم) أي: أحسستم، ووجدتم * (منهم رشدا) قال مجاهد: عقلا، وقال سفيان الثوري: عقلا وإصلاحا في المال. ومذهب الشافعي: أن الرشد: هو الصلاح في الدين، والإصلاح في المال.
* (فادفعوا إليهم أموالهم) أمر الأولياء بدفع المال إليهم عند البلوغ والرشد. * (ولا تأكلوها إسرافا) أي: لا تأكلوها مسرفين * (وبدارا أن يكبروا) أي: لا تبادروا إلى أكل أموال اليتامى، خوفا من أن يكبروا؛ فيأخذوا أموالهم.
* (ومن كان غنيا فليستعفف) أي: فليستعفف بماله عن مال اليتيم * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) قال عمر رضي الله عنه إذا كان الولي فقيرا، يأكل من مال اليتيم بقدر الحاجة، وقال أيضا: أنا في هذا المال: كولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت أكلت. وإلى هذا ذهب قوم من العلماء، أن له أن يأكل بقدر ما يسد به الخلة، وقال بعضهم: عباءا غليظا، وخبز الشعير، وقال الشعبي وجماعة: يأكل من مال اليتيم على سبيل القرض، وقال مجاهد: لا يأكل أصلا، لا قرضا، ولا غير قرض، قال: والآية منسوخة بقوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)
398

* (والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (7) وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا (8)) * * (إلا أن تكون تجارة عن تراضي) وإلى هذا ذهب أكثر العلماء، وعليه الفتوى، أنه لا يأكل أصلا، ومن قال: إنه يأكل، يقول: يأخذ بقدر أجرته على القيام، وقد روى أن رجلا (جاء) إلى ابن عباس، وقال: (إن) لي يتيما وله إبل، فماذا أصيب منها؟ فقال: أتلوط حوضها وتهنأ جرباها؟ قال: نعم، فقال ابن عباس: أصب من رسلها غير مضر بنسل، ولا ناهك في حلب.
وفيه قول رابع: أن معنى قوله: * (فليأكل بالمعروف) يعني: يأكل الفقير من قوت نفسه بالمعروف، ولا يستكثر منه حتى ينفذ ماله؛ فيحتاج إلى مال اليتيم.
* (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) ندب إلى الإشهاد؛ كيلا يجحدوا.
* (وكفى بالله حسيبا) أي: شهيدا. قوله - تعالى -: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) سبب نزول الآية أن أوس بن ثابت الأنصاري مات وخلف ثلاث بنات وامرأة يقال لها: أم كجة وابني عم: عرفجة، وسويد، فجاء ابنا عمه وأخذا جميع المال، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء من الميت، ويقولون: لا يرث أموالنا إلا من طاعن بالرماح، وضارب بالسيوف؛ فنزلت الآية، وهذه أول آية نزلت في توريث النساء المال.
* (مما قل منه أو كثر نصيب مفروضا) وقد بين الأنصبة المفروضة في آيات المواريث.
قوله تعالى: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) يعني: قسمة التركة في مواريث إذا حضرها من لا يرث الميت من أقاربه، أو اليتامى، والمساكين * (فارزقوهم منه) فأعطوهم شيئا * (وقولوا لهم قولا معروفا) أي: قولوا لهم: بورك فيكم.
399

* (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (10) يوصيكم) * *
ثم اختلفوا، فقال بعضهم: الآية منسوخة، فيجوز أن يعطوا، ويجوز أن لا يعطوا، وقيل: هو على الندب، ويستحب أن يعطيهم شيئا، ومنهم من قال: إن قسموا العين والورق ونحوه يوضح لهم، وإن قسموا الدور والعقار، والعبيد، والثياب، ونحوها، يقول لهم: بورك فيكم.
قوله تعالى: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله) سبب نزول الآية: أن أصحاب رسول الله كان الرجل منهم إذا حضره الموت، يأتون إليه، ويقولون له: انظر لنفسك أيها الرجل، وأوصي بمالك، وإن ورثتك لا يغنون عنك من الله شيئا، وربما يحملونه على أن يوصي بجميع المال فنزلت الآية * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم) أي: إن تركوا من خلفهم * (ذرية ضعافا) أي: أولاد صغارا * (خافوا عليهم) أو على أولادهم؛ فليخافوا على أولاد الناس كما يخافون على أولادهم؛ فإن أولاد الميت أحق بماله من الأجانب، فهذا معنى قوله: * (فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) أي: عدلا.
قوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) نزلت الآية في حنظلة ابن الشمردل، كان قد ولى يتيما، فأكل جميع ماله، وقيل: الآية نزلت ابتداء في حق الكافر * (إنما يأكلون في بطونهم نارا) لأنه لما كان أكلهم ذلك يؤدي إلى النار، سماهم آكلين للنار، وهذا كقول النبي ': الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم '. وفى الحديث: ' يخرج لهيب النار من جوفهم يوم القيامة '. وفى رواية: ' أن الملك يأتيهم، فيفتح أفواههم، ويلقمهم الجمر،
400

* (الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد) * * ويقول: هذا بأكلكم مال اليتيم '
وقال: ' من أبكى يتيما، فحق على الله أن يبكى عينيه يوم القيامة '.
* (وسيصلون سعيرا) أي: سيدخلون جهنم، وقيل: يعاينون سعيرا، والسعير: النار المستعرة، وهو اسم من أسماء جهنم.
قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم) معناه: يفرض الله عليكم في أولادكم، وذلك مثل قوله - تعالى -: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به) أي: فرض عليكم * (للذكر مثل حظ الأنثيين).
سبب نزول الآية: ' أن سعد بن الربيع لما استشهد يوم أحد خلف ابنتين وامرأة وأخا، فجاء الأخ وأخذ جميع المال، فجاءت المرأة تشكوا إلى رسول الله؛ فنزلت الآية '. فدعا رسول الله الأخ، وقال: اعط الابنتين الثلثين والمرأة الثمن، وخذ الباقي '.
وقوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) يعني: إذا خلف ابنا وابنه، فالمال من ثلاثة أسهم: سهمان للابن، وسهم للبنت * (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) أكثر الصحابة والعلماء على أن للابنتين، والثلاث: الثلثين.
وقال ابن عباس: للابنتين النصف، وإنما الثلثان للثلاث وما زاد؛ تمسكا بظاهر الآية. والأول أصح.
401

* (وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما (11) ولكم) * *
ومعنى قوله: * (فإن كن نساء فوق اثنتين) يعني: كن نساء اثنتين فما فوقهما، وهذا كقوله: * (فاضربوا فوق الأعناق) أي: فاضربوا الأعناق فما فوقها، وقيل: ' فوق ' فيه صلة، وتقديره: فإن كن نساء اثنتين، واسم الجمع ينطلق على الاثنين؛ لأن الجمع عبارة عن جمع الشيء، ويستوي فيه الاثنان والثلاث، ولأنا أجمعنا على أن الأختين ترثان الثلثين، وهما ابنتا أب الميت، فالابنتان لأن يرثا الثلثين أولى، وهما ابنتاه للصلب.
* (وإن كانت واحدة فلها النصف) وفيه إجماع * (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك وإن كان له ولد) يعني: للميت، * (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) وهذا لا خلاف فيه.
* (فإن كان له إخوه فلأمه السدس) أكثر الصحابة والعلماء على أن الأخوين والثلاثة يردون الأم من الثلث إلى السدس.
وقال ابن عباس: الثلاثة يردون، فأما الأخوان فلا يردان، لأنه ذكر بلفظ الجمع وأقله ثلاثة.
وقد بينا أن اسم الجمع ينطلق على اثنين والثلاثة.
وقرأ حمزة والكسائي: ' فلأمه السدس ' بكسر الهمزة، وهو لغة في الأم، والمعروف بالضم * (من بعد وصية يوصى بها أو دين) يقرأ بقرآتين ' يوصى ' بكسر الصاد على معنى: يوصيها الموصى، ويقرأ: ' يوصى ' بفتح الصاد، على ما لم يسم فاعله.
402

* (نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لها ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما) * *
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: إنكم تقرءون الوصية قبل الدين، والدين قبل الوصية، يعني: في القضاء، ثم اختلفوا، منهم من قال: ' أو ' بمعنى ' الواو ' والمراد الجمع بينهما، وبيان أن الإرث مؤخرا عنهما جميعا، ومنهم من قال ' أو ' على حقيقته، ومعناه: من بعد وصية، إن كانت وصية، أو دين إن كان دين، فالإرث مؤخر عن كل واحد منهما؛ من ذلك عرف تأخيره عنهما إذا اجتمعنا بطريق الأولى.
وقوله: * (آباؤكم وأبناؤكم) يعني: الذين يرثونكم آباؤكم وأبناؤكم * (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) أي: لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا.
فمنهم من يظن أن الآباء تنفع فتكون الأبناء أنفع، ومنهم من يظن أن الأبناء أنفع، فتكون الأباء أنفع، وأنتم لا تعلمون، وأنا أعلم بمن هو أنفع لكم؛ وقد دبرت أمركم على ما فيه الحكمة والمصلحة، فخذوه، واتبعوه. وفي الأخبار ' أن في الجنة يكون الأب على الدرجة العالية، والابن في الدرجة السافلة، فيسأل الابن الله تعالى فيرفعه إلى درجة أبيه. ويكون الابن على الدرجة العالية، والأب في الدرجة السافلة، فيسأل الأب الله تعالى فيرفعه إلى درجة الابن ' فهذا معنى الآية لا تدرون أيهم أنفع لكم في الآخرة، وأرفع درجة، فتصلون إلى درجته.
* (فريضة من الله) يعني: ما قدر من المواريث * (إن الله كان عليما) بأمر العباد * (حكيما) بنصب الأحكام.
403

* (تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين) * *
قوله تعالى: * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين) هذا في ميراث الأزواج، وفيه إجماع * (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين) وهذا في ميراث الزوجات، ولا خلاف فيه.
قوله تعالى: * (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة) يعنى: أو امرأة تورث كلالة، قال بعض العلماء: الكلالة لا يعلم معناها، وعن عمر - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله من الدنيا ولم يبين لنا ثلاثة: الكلالة، والخلافة، والربا.
والصحيح أنها معلومة المعنى، ثم اختلفوا، قال ابن عباس في رواية وهي إحدى الروايتين عن عمر: إن الكلالة اسم لميت لا ولد له، وورث الاخوة مع الأب.
وقال الحكم بن عتيبة: والكلالة: اسم لميت لا ولد له، وورث الاخوة مع الوالد، وهما قولان في شواذ الخلاف، والصحيح فيه قولان:
أحدهما قول لأهل المدينة والكوفة أن الكلالة اسم لورثة ليس فيهم ولد ولا والد؛ مأخوذ من الإكليل، وهو الذي على جانبي الوجه، فالكلالة اسم لمن يحيط بجانبي الميت من الاخوة والأخوات، والأعمام، ونحوهم، ولم يكن أعلى ولا أسفل.
واستدلوا عليه بحديث جابر ' كان مريضا؛ فدخل عليه رسول الله يعوده، فقال: إنما يرثني كلالة '. ولم يكن في ورثته ولد ولا والد، وجعل الكلالة اسما للوارث، ويشهد لهذا ما قرئ في الشواذ: ' وإن كان رجل يورث كلالة ' مشددا بكسر الراء.
404

* (غير مضار وصية من الله والله عليم حليم (12) تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13) ومن يعص الله ورسوله ويتعد) * *
وقال البصريون: وهو قول أبى بكر، وعلي، وابن مسعود، وزيد، وفى أصح الروايتين عن ابن عباس: أن الكلالة: اسم للميت الذي ليس له ولد ولا والد، وهو ظاهر الآية، وتشهد له القراءة الأخرى في الشواذ: ' وإن كان رجل يورث كلالة ' مشددا بفتح الراء. قال الشاعر:
(وإن أبا المرء أحمى له
* ومولى الكلالة لا يغضب)
فيجعل الكلالة اسما للميت.
وفيه قول آخر: أن الكلالة اسم للتركة، قاله عطاء. وقوله: * (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) أجمعوا على أن المراد بالأخ والأخت هاهنا أولاد الأم، وفرض لكل واحد منهم السدس ذكرا كان أو أنثى.
* (فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) وفيه إجماع، أن فرضهم الثلث إذا تعددوا، وإن كثروا * (من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار) يعني: الموصي لا يضر بالورثة بمجاوزة الثلث، ونحوه * (وصية من الله) أي: فريضة من الله * (والله عليم حليم) * (تلك حدود الله) يعني: ما ذكر من الفروض المحدودة، (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) ذكر ثواب من أطاعه، ولم يجاوز حدوده * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) ذكر عقاب من عصاه، وجاوز حدوده.
قوله - تعالى -: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) اللاتي، والتي،
405

* (حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14) واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله) * * واللواتي: اسم لجماعة النساء، قال الشاعر:
(هن اللواتي والتي واللاتي
* زعمن أنى قد كبرت لداتي)
ومثله: اللائي أيضا، قال الشاعر:
(من اللائي لم يحججن تبغين حسبة
* ولكن ليقتلن البريء المغفلا)
وقوله: * (يأتين الفاحشة) أراد بالفاحشة هاهنا الزنا: * (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) هو خطاب للحكام، يعني: فاطلبوا عليهن أربعة من الشهود، وهذه الآية هي الحجة على أن شهود الزنا أربعة * (فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) وكان هذا هو الحكم في ابتداء الإسلام، وأن المرأة إذا زنت حبست في البيت إلى أن تموت. ثم نسخ ذلك في حق البكر بالجلد والتغريب، وفي حق الثيب بالجلد والرجم، وهو بيان السبيل المذكور في الآية، والحجة عليه: حديث عبادة: ' خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام؛ والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة '.
ثم نسخ الجلد في حق الثيب، واستقر أمرها على الرجم.
وقال بعض العلماء: الجلد مع الرجم باق على الحكم، والأول أصح.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: التغريب أيضا منسوخ في حق البكر، والخلوف مذكور في الفقه.
واختلفوا في أن ذلك الإمساك في البيت كان على سبيل الحد أم كان حبسا؛ ليظهر الحد؟ على قولين: أحدهما: أنه كان حدا، والثاني: أنه كان حبسا ليظهر الحد.
406

* (لهن سبيلا (15) واللذان يأتيانها منكم فأذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما (16) إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب) * *
قوله تعالى: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) اختلفوا في المراد من الآيتين، قال مجاهد: الآية الأولى في النساء، وهذه الآية في الرجال إذا زنوا.
وقال غيره: الأولى في الثيب، وهذه الآية في الأبكار.
وفيه قول ثالث: أن الآية الأولى في المرأة إذا أتت المرأة سحقا، والآية الثانية في الرجل إذا أتى الرجل.
وقد قال: ' إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان؛ وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان '.
والمراد بالإيذاء في هذه الآية: هو السب باللسان، وإسماع المكروه، والتعبير، والضرب بالنعال.
فإن قيل: ذكر الحبس في الآية الأولى، والإيذاء في الآية الثانية، فكيف وجه الجمع؟ قيل: أما على قول من قال: إن الآية الأولى في صنف، والآية الثانية في صنف آخر، يستقيم الكلام.
وقال بعضهم: أراد به: الجمع بين الإيذاء والحبس في حق الزاني فيؤذى أولا، ثم
407

يحبس، والآية الثانية وإن كانت في التلاوة متأخرة، فهي في المعنى متقدمة، كأنه قال: واللذان يأتيان الفاحشة منكم فآذوهما وأمسكوهما في البيت * (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) أي: أعرضوا عن الإيذاء * (إن الله كان توابا رحيما).
قوله - تعالى -: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) قال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله على أن من عصى الله فهو جاهل، وقيل: أراد به: الجهال بكنه عقوبة الله، وقيل: الجهالة في المعصية: أنه اختار اللذة الفانية على اللذة الباقية.
* (ثم يتوبون من قريب) يعني: قبل الموت، قال الضحاك: كل ما بينك وبين الموت فهو قريب، وقيل: أراد به: التوبة قبل أن يعاين ملك الموت، وقيل: أراد به: ثم يتوبون قبل أن يغرغروا.
وفي الخبر: أن النبي قال: ' من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال: إن السنة (لكثيرة)، ثم قال: من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثم قال: إن الشهر لكثير، ثم قال: من تاب قبل موته بجمعة، تاب الله عليه، ثم قال: إن الجمعة (لكثيرة)، ثم قال: من تاب قبل موته بيوم، تاب الله عليه، ثم قال: إن اليوم لكثير، (من تاب قبل موته بنصف يوم تاب الله عليه، ثم قال: إن نصف اليوم لكثير) من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثم قال: إن الساعة لكثيرة، من تاب قبل أن يغرغر تاب الله عليه '. رواه عبادة بن الصامت، فهذا معنى قوله: * (ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما).
قوله - تعالى -: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) قيل: أراد
408

* (الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر) * * بالسيئات: الشرك، وقال ابن عباس: هو النفاق، وقيل: كل المعاصي.
* (حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) يعني: حالة الموت، يتوب حين يساق، ووجه ذلك: مثل توبة فرعون حين أدركه الغرق، قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، يقول الله تعالى ليس لهؤلاء توبة.
* (ولا الذين يموتون وهم كفار) يعني: ولا الذين يموتون كفارا لهم توبة * (أولئك اعتدنا لهم) أي: أعددنا لهم (* (عذابا أليما) * يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) نزلت الآية في الأنصار، كان الرجل منهم إذا مات أبوه؛ ورث امرأة أبيه، ثم إن شاء أمسكها لنفسه زوجة، وإن شاء زوجها من غيره، وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها عن الأزواج، حتى تضجر [فتفدي] نفسها بمال، حتى مات أبو قيس بن الأسلت الأنصاري عن امرأته كبيشة بنت معن الأنصاري، فجاء [ابنه] حصن وورث المرأة؛ فجاءت المرأة تشكو إلى النبي فنزل قوله - تعالى -: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) ويقرأ: ' كرها ' بضم الكاف، فالكره بالفتح: الإكراه، والكره بالضم المشقة. * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) أي: تمنعوهن من الأزواج حتى يضجرن؛ فيفتدين ببعض مالهن، فيكون خطابا لأولياء الميت.
والصحيح أنه خطاب للأزواج، يعني: إذا لم تكن الزوجة بموافقة، فلا تمسكها
409

* (أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما (18)) * * ضرارا؛ لتفتدى ببعض مالها * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) قال ابن عباس: هو النشوز، وقيل: هو الزنا، يعني: إذا نشزت أو زنت، فحينئذ يحل أن يفاديها، ويأخذ مالها، وكان في ابتداء الإسلام إذا زنت المرأة أخذ الزوج جميع صداقها منها ثم نسخ * (وعاشروهن بالمعروف) أي: الإجمال في المبيت، والقول، والنفقة * (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا).
قوله تعالى: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) أراد بالزوج هاهنا: الزوجة، وهو اسم للرجل والمرأة * (وآتيتم إحداهن قنطارا) يعني: من الصداق، * (فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا) أي: ظلما * (وإثما مبينا).
* (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) أي: وصل بعضكم إلى بعض بالدخول، وحكى عن الزجاج: أنه الخلوة، والأول أصح.
* (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) هو قول الولي: زوجتكها على أن تمسكها بمعروف، أو تسرحها بإحسان، وقيل: هو معنى ما روى: ' اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ' فهذا هو الميثاق الغليظ.
قوله - تعالى -: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) كان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم؛ فورد الشرع بالنهى عنه * (إلا ما قد سلف) يعنى: بعدما سلف، وقال المبرد: ومعناه: لكن ما سلف في الجاهلية؛ فهو مغفور.
* (إنه كان فاحشة ومقتا) قيل ' كان ': فيه صلة، وتقديره: إنه فاحشة، وهذا كما
410

* (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا) * * يقول الشاعر:
(فكيف إذا رأيت ديار قومي
* وجيران لنا كانوا كرام)
وقيل: ' كان ' في موضعه، ومعناه: أنه كان في الجاهلية يعدونه فاحشة ومقتا، وكانوا يسمون ولد امرأة الأب: مقيتا، والفاحشة: أقبح معصية، وأما المقت: قال أبو عبيدة هو المبغضة من الله، وقال ابن عباس: أراد به المقت من الملائكة * (وساء سبيلا) أي: بئس المسلك.
قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) قال ابن عباس: حرم الله تعالى سبعا بالنسب، وسبعا بالمهر، وقال الفقهاء: سبعا بالنسب، وسبعا بالسبب.
أما السبع بالنسب: منهن الأمهات: وهي كل امرأة تنسب إليها بالولادة، سواء قربت أو بعدت، سواء كان بينك وبينها ذكر أو أنثى، أو لم يكن أحد، فالكل حرام.
قال: * (وبناتكم) ومنها البنات: وهى كل امرأة تنسب إليكم بالولادة، سواء قربت أو سلفت، سواء كان بينك وبينها ذكر أو أنثى، أو لم يكن أحد، فالكل حرام.
قال * (وأخواتكم) ومنها الأخوات: وهي كل امرأة تنسب إلى من تنسب إليه بالولادة، فالكل حرام. قال: * (وعماتكم) ومنها العمات، والعمة: أخت كل ذكر تنسب إليه بالولادة، فالكل حرام، قرب أم بعد، قال: * (وخالاتكم) ومنها الخالات، والخالة: أخت كل امرأة تنسب إليها بالولادة، قربت أم بعدت.
411

* * (أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19) وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * *
قال: * (وبنات الأخ وبنات الأخت) ومنها بنات الأخ وبنات الأخت: وهي بنت كل من تنسب إلى من تنسب إليه، فهذه السبعة بالنسب.
وأما السبع بالسبب: فإحداهن مذكورة قبل هذه الآية في قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء)، والثانية في قوله: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)، والثالثة: * (وأخواتكم من الرضاعة)، ولا خلاف أن الأم والأخت من الرضاعة حرام على الرجل نكاحها، فأما ما عدا الأمهات والأخوات من الرضاعة حرام أيضا عند أكثر العلماء؛ لقوله ' يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب '.
قال داود، وأهل الظاهر: لا يحرم ما عدا الأمهات والأخوات بالرضاع؛ تمسكا بظاهر القرآن.
قال * (وأمهات نسائكم) الرابعة: أم الزوجة، تحرم على الإطلاق بنفس العقد على قول الأكثرين، وحكى خلاس عن علي رضي الله عنه أنه قال: ' لا تحرم أم الزوجة إلا بعد الدخول بالزوجة لقوله تعالى: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) قال: فقوله: * (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) ينصرف إليهما جميعا. والأول أصح.
قال ابن عباس: أبهموا ما أبهمه الله، أي: أطلقوا ما أطلقه الله، ولأن قوله: * (وأمهات نسائكم) مستقل بنفسه، معتد بحكمه، فيستغني عن الإظهار؛ ولأن قوله: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن على هذا التقدير يكون عيا في الكلام، فلا يليق بكلام الله تعالى الذي هو أفصح أنواع الكلام.
قال: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن).
412

* (أتأخذونه بهتانا وأثما مبينا (20) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا (21) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا) * *
الخامسة: الربيبة؛ وهي ابنة الزوجة، وسميت ربيبة؛ لأن الزوج يربها في حجره على الأغلب، فهي حرام بعد الدخول بالزوجة، وسواء كانت في حجره، أو في حجر غيره.
وقال داود: يختص التحريم بالتي في حجره؛ لقوله: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم)، وهذا لا يصح؛ لأن الكلام خرج على لأغلب.
* (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) يعني: في نكاحهن.
وقال: * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) السادسة: حليلة الابن، وهي حرام، وسميت حليلة؛ لأنها مع الابن يحلان فراشا واحدا، وقيل: لأنها تحل إزار الابن، والابن يحل إزارها، وقيل: سميت حليلة؛ لأنها تحل له.
وقوله * (الذين من أصلابكم) إنما قيد بالصلب، وإن كان حليلة ولد الولد حراما، ليبين أن حليلة ولد التبني حلال. وقد تزوج رسول الله زينب بنت جحش امرأة زيد بن حارثة، وكان قد تبنى زيدا، حتى قال عبد الله بن أبي بن سلول: انظروا إلى هذا الرجل، كيف وثب على امرأة ابنه وتزوجها: فقال الله تعالى: * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) بذلك السبب.
* (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) السابعة: الجمع بين الأختين حرام بالنكاح، وكذلك بالوطء في ملك اليمين؛ وقال أهل الظاهر: لا يحرم الجمع بينهما إلا في النكاح؛ لأن الآية في التحريم بالنكاح، قال عثمان: حرمتها آية وأحلتها آية، فآية التحريم هذه؛ وآية التحليل قوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * (إلا ما قد سلف) أي: بعدما سلف وقد [بينا لك] * (إن الله كان غفورا رحيما).
قوله تعالى: * (والمحصنات من النساء) أراد به: ذوات الأزواج * (إلا ما ملكت أيمانكم) اختلفوا فيه، فقال علي، وابن عباس: أراد به: إلا ما ملكت أيمانكم من
413

* (وساء سبيلا (22) حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات
نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل) * * سبايا أو طاس، وفيه نزلت الآية، قال أبو سعيد الخدري: ' لما سبا رسول الله سبايا أو طاس، هرب الرجال؛ فتحرج المسلمون من وطء النساء بمكان الأزواج؛ فنزلت الآية، وأذن رسول الله في وطئهن '.
وقال ابن مسعود، وأبي بن كعب: إن قوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) هو أن يبيع الجارية المزوجة، فتقع الفرقة بينها وبين زوجها، ويحل للمشترى وطأها، ويكون بيعها طلاقا لها.
وقيل: معنى الآية * (والمحصنات من النساء) يعني: ذوات الأزواج يحرم الاستمتاع بهن، * (إلا ما ملكت أيمانكم) من مهرهن، فيحل الاستمتاع به، فكأنه حرم الاستمتاع ببعضهن وأباح الاستمتاع بمهرهن.
* (كتاب الله عليكم) أي: فرض الله عليكم، ويقرأ: ' كتب الله عليكم ' أي: فرض الله عليكم * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) يعني: أحل لله لكم، ويقرأ: ' أحل لكم ' - بضم الألف - على نظم قوله: (* (حرمت عليكم أمهاتكم) * أن تبتغوا بأموالكم) قيل: الإحلال: بالابتغاء بالأموال، وفيه دليل على أن استحلال البضع لا يخلو عن عوض * (محصنين) أي: متزوجين متعففين * (غير مسافحين) غير زانين، مأخوذ من سفح الماء، وهو الصب، ومنه قول امرئ القيس:
(وإن شفائي عبرة إن سفحتها
* فهل عند رسم دارس من معول)
414

* (أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (23) والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) * *
أي: صببتها * (فما استمتعتم به منهن) قيل: أراد به: فما استمتعتم به بالنكاح منهن، * (فأتوهن أجورهن فريضة) أي: مهورهن، وقال ابن عباس: هو المتعة المعروفة.
وكانت المتعة حلالا في ابتداء الإسلام، وصورتها: أن يقول الرجل للمرأة: أجرتك أو عقدت عليك لأستمتع بك عشرة أيام بكذا، وكان هذا حلالا، ثم نسخ، وكان ابن عباس يفتى بإباحتها، والصحيح أنه منسوخ.
وروى علي، والربيع عن سبرة، عن النبي ': أنه نهى عن نكاح المتعة '
وقال علي لابن عباس: إنك رجل تائه نهى رسول الله عن نكاح المتعة. وقيل: إن ابن عباس رجع عن إباحة المتعة، وتاب. وقال بعض السلف: لولا أن عمر نهى عن المتعة؛ مازنى أحد في العالم.
* (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) فمن حمل ما قبله على المتعة، قال: المراد بهذا: أن يزيد الرجل في المهر، وتزيد المرأة في الأجل، ومن حمل ذلك على الاستمتاع بالنكاح؛ فالمراد بقوله: * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به) يعنى: من الإبراء، والاعتياض عن المهر * (إن الله كان عليما حكيما).
قوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) قال مجاهد: الطول: السعة، والغنى.
وأصل الطول الفضل، ومنه الطول؛ لفضل القامة، ويقال: لا طائل تحته أي، لا معنى تحته.
415

* (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما (24) ومن لم يستطيع منكم طولا أن ينكح المحصنات) * *
ومعنى الآية: ومن لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة؛ فليتزوج بالأمة المؤمنة، وفيه دليل على أن نكاح الأمة الكتابية باطل.
قال الشعبي: نكاح الأمة مع القدرة على مهر الحرة حرام، كالميتة والدم، وقال عطاء: الطول الهوى، ومعنى الآية: ومن لم يستطيع من هواه أن ينكح الحرة؛ بأن كان يهوى الأمة دون الحرة، فليتزوج بالأمة؛ فعلى هذا يجوز نكاح الأمة، وإن كان قادرا على مهر الحرة، والفتى: العبد، والفتاة الجارية، فمعنى قوله تعالى: * (من فتياتكم المؤمنات) أي: من جواريكم.
* (والله أعلم بإيمانكم) أي: لا تتعرضوا للباطن في الإيمان، وخذوا بالإيمان الظاهر؛ فإن الله أعلم بإيمانكم * (بعضكم من بعض) أي: كلكم من نفس واحدة؛ فلا تستنكفوا من نكاح الإماء، وقيل: معناه بعضكم أخوة لبعض.
* (فانكحوهن) أي: الإماء * (بإذن أهلهن) أي: إذن مواليهن * (وآتوهن أجورهن) أي: مهورهن * (بالمعروف محصنات) يعني: عفائف بالتزويج * (غير مسافحات) أي: غير زانيات * (ولا متخذات أخدان) فالمسافحة: هي أن تمكن منها كل أحد، قال الحسن: المسافحة: هي امرأة كل من أوى إليها تبعته، و ذات الخدن: هي أن تختص بصديق، والعرب كانت تحرم الأولى وتستبيح الثانية.
قوله تعالى: * (فإذا أحصن) قال ابن مسعود: فإذا أسلمن. وقال ابن عباس: فإذا تزوجن، ويقرأ فإذا ' أحصن ' بضم الآلف، ومعناه: زوجن.
* (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) ومعنى الآية على قول ابن عباس، وهو الأصح: أن الإماء إذا تزوجن وصرن ثيبا * (فعليهن نصف)
416

(* (المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات
ولا متخذات) * ما على المحصنات) يعني: الحرائر * (من العذاب) أي: من عذاب الحد، وحد الحرائر: يكون بالجلد؛ ويكون بالرجم، والرجم لا ينتصف؛ فكان المراد تنصيف الجلد. وذهب بعض العلماء إلى أن الأمة البكر إذا زنت، لا حد عليها؛ لظاهر هذه الآية، وهذا لا يصح.
قال الزهري: حد الأمة الثيب ثابت بهذه الآية، وحد الأمة البكر ثابت بالسنة، والسنة المعروفة فيه: قوله: ' إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ' * (ذلك لمن خشي العنت منكم) العنت: الزنا، وقد يكون بمعنى المشقة، كما بينا * (وأن تصبروا) يعني: عن نكاح الإماء * (خير لكم) كيلا يخلق الولد رقيقا * (والله غفور رحيم).
قوله تعالى: * (يريد الله ليبين لكم) يعني: أن يبين لكم، ومثله قول الشاعر:
(أريد لأنسى ذكرها فكأنما
* تمثل لي ليلى بكل سبيل)
يعني: أريد أن أنسى ذكرها.
قوله: * (ليبين لكم) أي: يوضح لكم الأحكام * (ويهديكم) أي: يرشدكم * (سنن الذين من قبلكم) أي: طرائق الذين من قبلكم من النبين، والصالحين، وقيل: من قوم موسى، وعيسى، الذين هدوا بالحق؛ وذلك أنه حرم عليهم ما حرم على المسلمين من المحارم المذكورات، وقيل: معناه: ويهديكم إلى الملة الحنيفية، ملة إبراهيم، * (ويتوب عليكم) قال ابن عباس: بداء من الله، ومعناه: يوفقكم للتوبة، وقيل: يرشدكم إلى السبيل الذي يدعوكم إلى التوبة * (والله عليم) بمصالح أمركم
417

* (أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم (25) يريد الله ليبين لكم) * * (حكيم) فيما دبر.
قوله تعالى: * (والله يريد أن يتوب عليكم) هو ما ذكرنا. * (ويريد الذين يتبعون الشهوات) قال مجاهد: هم الزناة، وقيل: أراد به: اليهود، والنصارى، قال مقاتل بن حيان: اليهود خاصة؛ لأنهم استحلوا نكاح الأخت من الأب * (أن تميلوا ميلا عظيما) الميل العظيم: هو أن يفعل فعلا لا يخاف الله فيه، ولا يرقب الناس، وقيل: الميل العظيم باتباع الشهوات.
قوله تعالى: * (يريد الله أن يخفف عنكم) أي: يسهل عليكم، وقد سهل هذا الدين؛ قال: ' بعثت بالسمحة السهلة الحنيفية '، وروى: ' بالحنيفية السمحة السهلة ' وقال الله تعالى: (* (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) * وخلق الإنسان ضعيفا) قال طاوس، ومجاهد: وخلق ضعيفا في أمر النساء؛ لا يصبر عنهن، وقال وكيع: يذهب عقله عندهن؛ فهو ضعيف، وقال الزجاج: يستميله هواه وشهوته.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) قال السدى: هو القمار، والربا، ونحوه، وقال غيره: كل العقود الباطلة * (إلا أن تكون تجارة) يقرأ: بالضم والفتح، قد ذكرنا وجه القرائتين في سورة البقرة.
* (عن تراض منكم) أي: بطيبة نفس منكم * (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: لا يقتل بعضكم بعضا، وقرأ الحسن: * (ولا تقتلوا أنفسكم) مشددا على التكثير.
418

* (ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) يريد الله أن يخفف عنكم) * *
وقيل: معناه: ولا تقتلوا أنفسكم بأكل المال الباطل، وقيل: أراد به: قتل الرجل نفسه على الحقيقة * (إن الله كان بكم رحيما).
قوله تعالى: * (ومن يفعل ذلك) يعني: ما سبق من الحرام * (عدوانا وظلما) فالعدوان: مجاوزة الحد، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
* (فسوف نصليه نارا): ندخله نارا، يصلى بها * (وكان ذلك على الله يسيرا) أي هينا، وروى عن ابن عمر أنه قال: كنا نشهد لمن ارتكب الكبائر بالنار بهذه الآيات؛ حتى نزل قوله تعالى * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فتوقفنا.
قوله تعالى * (إن تجتنبوا كبائر ماتنهون عنه) سئل رسول الله فقيل له: ' أي الكبائر أكبر؟ فقال: أن تدعو لله ندا وهو خلقك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك، ثم قرأ * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) ' وروى عن رسول الله أنه قال: ' أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وكان متكئا فاستوى جالسا، وقال: وشهادة الزور، وشهادة الزور، فما زال يردده حتى قلنا: ليته سكت '.
وقال ابن مسعود: الكبائر: ما ذكر الله تعالى في هذه السورة إلى هذه الآية: * (إن تجتنبوا كبائر).
419

* (وخلق الإنسان ضعيفا (28) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29) ومن يفعل ذلك) * *
وعن ابن مسعود أيضا أنه قال: الكبائر أربعة: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله.
وقال ابن عباس: الكبائر سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس بغير نفس، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، يعني: إلى دار الحرب.
وقال ابن عمر: الكبائر تسع فذكر هذه السبع وزاد شيئين أحدهما: السحر، والثاني: الإلحاد في الحرم بالميل والظلم.
وسئل ابن عباس، فقيل له: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، وقال المغيرة بن مقسم الضبي: شتم أبي بكر، وعمر من الكبائر.
والجملة أن الكبائر: كل جريمة أوعد الله تعالى عليها النار، وقال أبو صالح: الكبيرة كل ما أوجب الحد؛ غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
وقوله: * (نكفر عنكم سيئاتكم) قال السدى: أراد بالسيئات: الصغائر * (نكفر عنكم سيئاتكم) إن شئت؛ فالمشيئة مضمرة فيه، وروى عن رسول الله أنه قال: ' الجمعة إلى الجمعة، والصلوات الخمس، كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر '.
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله قال: ' ما من مسلم يصيبه وصب، أو نصب، إلا كفر عنه خطاياه حتى الشوكة يشاكها '
420

* (عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31) ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم) * *
وقيل: باجتناب الكبائر، تقع الصغائر مكفرة، ومذهب أهل السنة: أن تكفير الصغائر معلقة بالمشيئة؛ فيجوز أن يعفو الله عن الكبائر، ويأخذ بالصغائر، ويجوز أن يجتنب الرجل الكبائر، فيؤخذ بالصغائر.
* (وندخلكم مدخلا كريما) وتقرأ: ' مدخلا ' - بفتح الميم فالمدخل: الجنة والمدخل بضم الميم: الإدخال، يعني: إدخالا كريما.
قوله تعالى: * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) سبب نزول الآية: ما روى عن أم سلمة، قالت: يا رسول الله: إن الرجال يغزون ولا نغزوا، ولهم ضعف مالنا من الميراث، فلو كنا رجالا غزونا كما غزوا، وأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا؛ فنزل قوله: * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) وقيل: سبب نزول الآية: أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء؛ فلما نزلت الآية بتوريث النساء، وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، قالت النساء: لو كنا رجالا لأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا، وقال الرجال: كما فضلنا عليكن في الدنيا، نفضل عليكن في الآخرة؛ فنزلت الآية.
قال الفراء: هذا نهي تأديب وتهذيب، وقال غيره: إنه نهي تحريم * (للرجال نصيب مما اكتسبوا) يعني: من الأجر * (وللنساء نصيب مما اكتسبن) يعني: من الأجر، ومعنى الآية: أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء، وإن فضل الرجال على النساء في الدنيا، فالحسنة بعشر أمثالها يستوي فيها الرجل والمرأة، وقيل: معناه: للرجال نصيب مما اكتسبوا من أمر الجهاد، وللنساء نصيب مما اكتسبن من طاعة الأزواج، وحفظ الفروج، يعني: إن كان للرجل فضل الجهاد، فللنساء فضل طاعة الأزواج، وحفظ الفروج.
421

* (على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما (32) ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين) * * (واسألوا الله من فضله) وفي هذا دليل على أن الحسد حرام؛ والحسد: هو أن يتمنى زوال النعمة عن صاحبه، ويتمناها لنفسه، والغبطة: هو أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه، فالحسد حرام، والغبطة لا بأس بها، ثم اختلفوا في معنى الفضل هاهنا، قال ابن عباس: واسألوا الله من فضله، أي: من رزقه.
وقال سعيد بن جبير: معناه: * (واسألوا الله من فضله) أي: من عبادته، وقيل: هو سؤال التوفيق على الطاعة * (إن الله كان بكل شئ عليما).
قوله تعالى: * (ولكل جعلنا موالى) ولكل من الرجال والنساء جعلنا ورثة، قال مجاهد: الموالى هاهنا: بنو الأعمام، وقال الشاعر:
(مهلا بني عمنا مهلا موالينا
* لا تنشبوا بيننا ما كان مدفونا)
وقيل: هم جميع الأقارب، ومعنى الآية: ولكل جعلنا موالي يعطون * (مما ترك الوالدان والأقربون) * (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) عاقدت، وعقدت، وحالفت بمعنى واحد، وهو من الحلف والعهد: وهو أن يقول الرجل لصاحبه: دمي دمك، ومالي مالك، وترثني وأرثك، وكان في الجاهلية يورث بالحلف، وأقر عليه في الإسلام، وكان للحليف السدس، ثم نسخ ذلك بقوله تعالي: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) وقيل: هذا في التوريث بالتبني، وكان ثابتا، ثم نسخ * (إن الله كان على كل شئ شهيدا).
قوله تعالى: * (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض) سبب نزول الآية: أن امرأة سعد بن الربيع جاءت إلى النبي وقالت: ' إن زوجي
422

* (عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا (33) الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات) * * لطمني على وجهي، وهذا أثره، فقال: اذهبي فاقتصي منه؛ فنزل قوله تعالى: * (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله) يعني: بالتأديب.
قال الحسن: لما قال لها: اذهبي فاقتصي منه؛ نزل قوله: * (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أي: لا تحكم قبل أن ينزل حكم الله.
والقوام والقيم بمعنى واحد، والقوام أبلغ: وهو القائم بالمصالح والتدبير، قال الشاعر:
(الله بيني وبين قيمها
* يفر مني وأتبع)
* (بما فضل الله بعضهم على بعض) يعني: الرجال على النساء بالعقل، والعلم، والحلم. * (وبما أنفقوا من أموالهم) يعني: بإعطاء المهر، والنفقة.
* (فالصالحات قانتات) يعني: مطيعات، وقيل: مصليات * (حافظات للغيب) أي: حافظات للفروج في غيبة الأزواج * (بما حفظ الله) يعني: بما حفظهن الله من
إيصاء الأزواج بأداء حقهن من المهر والنفقة، وقيل: معناه: حافظات للغيب بحفظ الله، وقرأ أبو جعفر المدني ' بما حفظ الله ' بفتح الهاء يعني: بما حفظ الله من طاعتهن وعبادتهن.
* (واللاتي تخافون نشوزهن) النشوز: هو الشقاق (فعظوهن) أي: بالتخويف من الله، والوعظ بالقول، * (واهجروهن في المضاجع) قال ابن عباس: ومعناه: ولوهن ظهوركم في المضاجع؛ وذلك بأن يوليها ظهره في الفراش، ولا يكلمها، وقيل: معناه: أن يعتزل عنها في فراش آخر.
423

* (للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34) وإن خفتم شقاق بينهما) * * (واضربوهن) يعنى: ضربا غير مبرح، وذلك ضرب، ليس فيه جرح ولا كسر، قال عطاء: ضرب بالسواك ونحوه. * (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) يعني: بالتعلل، والتجني، وقيل: فلا تكلفوهن محبتكم؛ فإن القلب ليس بأيديهن * (إن الله كان عليا كبيرا) أي: متعاليا عن أن يكلف العباد ما لا يطيقونه، وفي الخبر: ' لو جاز أن يسجد أحد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها؛ لما له عليها من الحقوق '.
وروى مرفوعا: ' خير النساء من إذا دخلت عليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك '.
* (وإن خفتم شقاق بينهما): هو النشوز، قال أبو عبيدة: أراد به: إن تيقنتم شقاق بينهما، فالخوف بمعنى: اليقين، ومنه قول الشاعر:
(إذا مت فارميني إلى جنب كرمة
* أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها) أي: أتيقن.
424

* (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا (35) واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت) * * وأنكر الزجاج ذلك عليه، وقال: إذا تيقن الشقاق، فلا معنى لبعث الحكمين، بل الخوف بمعنى الظن، يعني: إن ظننتم شقاق بينهما * (فابعثوا حكما من أهله) يعني من أهل الزوج، * (وحكما من أهلها) يعني: من أهل الزوجة. * (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا) وهل يجوز للحكمين التفريق؟ فللسلف فيه قولان: أحدهما: أنه يجوز التفريق، كما يجوز الجمع من غير رضا الزوج، وروى عن علي: أنه بعث الحكمين، فقال الزوج: أما الفرقة فلا، فقال علي: لا حتى ترضى بكتاب الله تعالى؛ فعلى هذا معنى قوله: * (يوفق الله بينهما) يعني: يوفق الله بين الحكمين بما فيه الصلاح من الفرقة أو الجمع، والصحيح وعليه الفتوى: أنه لا يجوز التفريق، وهو ظاهر الآية.
قوله - تعالى -: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) روى عن معاذ أنه قال: ' كنت رديف رسول الله، فقال لي: يا معاذ. فقلت: لبيك وسعديك. فقال: أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم. فقال: حق الله على العباد: أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، ثم قال: يا معاذ، قلت: لبيك وسعديك، قال: أتدري ما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. فقال: حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة، ولا يعذبهم '.
* (وبالوالدين إحسانا) أي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، ومن الإحسان بالوالدين: لين الجانب، وألا يرفع صوته فوق صوتهما، ولا يجبه بالرد، ويكون لهما كالعبد الذليل لسيده * (وبذي القربى) أي: أحسنوا بذي القربى * (واليتامى والمساكين
425

* (أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا (37) والذين ينفقون أموالهم) * * (والجار ذي القربى) فيه قولان: أحدهما: انه الجار الذي له قرابة. والثاني: أنه الجار الذي بقرب داره، وهو الملاصق، * (والجار الجنب) فيه قولان: أحدهما: أنه الجار الغريب الأجنبي، والثاني: أنه الجار الذي يبعد داره.
وقد ورد في حق الجار أخبار، منها: ما روى عن النبي أنه قال: ' ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه ' وقال: ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره '، وقال لمناديه حتى نادى: ' ألا إن الجيران أربعون دارا، ولم يؤمن بالله من آذى جاره '.
وقالت عائشة لرسول الله: ' إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ فقال: إلى أقربهما بابا ' فحق الجار القريب المسلم ثلاثة حقوق: حق القرابة، وحق الإسلام، وحق الجوار، وللجار الغريب المسلم حقان: حق الإسلام، وحق الجوار، وللجار الذمي حق واحد، وهو حق الجوار.
قوله تعالى: * (والصاحب بالجنب) قال علي، وابن مسعود: هي المرأة، وقال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وجماعة: هو الرفيق في السفر، * (وابن السبيل) فيه
426

* (رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا (38)) * * قولان: أحدهما: أنه الملازم للطريق، قاله ابن عباس، وقال غيره: هو الضيف، وقال ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ' وقال ' الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة '.
* (وما ملكت أيمانكم) يعني: أحسنوا إلى المماليك، وآخر ما حفظ عن رسول الله أنه قال: ' الصلاة، وما ملكت أيمانكم ' أي: الزموا الصلاة، وحق ما ملكت أيمانكم.
* (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) المختال: المتكبر، والفخور: الذي يفخر بنفسه تكبرا، قال الشاعر:
(وإن كنت سيدنا سدتنا
* وإن كنت للخال فاذهب فخل)
يعنى: إن كنت للخيلاء فاذهب فخل، فإن قيل: أي معنى لهذا بعد هذه الأحكام؟ قيل: لأن الآدمي قد يقصر في أداء الحقوق تكبرا؛ فنهى عنه، وفي الخبر: ' أن
رجلا كان يتبختر في حلة له، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة '.
قوله تعالى: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) قيل: هو عام في كل
427

* (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما (39) إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (40) فكيف) * * بخيل في العالم، وقيل أراد به: اليهود والنصارى بخلوا بنعت محمد، وأمروا سفلتهم بذلك، * (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله اعتدنا) أي: أعددنا * (للكافرين عذابا مهينا).
قوله تعالى: * (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) قال إبراهيم النخعي: هم اليهود والنصارى، وقال غيره: هم المنافقون.
* (ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا) أي: فبئس القرين، قال الشاعر:
(عن المرء لا تسأل وبصر قرينه
* فكل قرين بالمقارن يقتدي)
قوله تعالى: * (وماذا عليهم) أي: وأي شئ عليهم * (لو آمنوا بالله) وهو مثل ما يحاسب الرجل نفسه، فينظر فيما له، وفيما عليه؛ يقول الله تعالى أي: شئ عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر * (وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما).
قوله - تعالى -: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) قرأ ابن مسعود: ' مثقال نملة ' والذرة: هي النملة الحمراء، * (وإن تك حسنة يضاعفها) وقرئ: ' يضعفها ' وهما في المعنى سواء. * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما).
قوله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) معناه: فكيف الحال إذا جئنا من كل أمة بشهيد؟ وأراد بالشهيد من كل أمة نبيها، وشهيد هذه الأمة: نبينا.
واختلفوا على أن شهادتهم على ماذا؟ منهم من قال: يشهدون على تبليغ الرسالة، ومنهم من قال: يشهدون على الأمة بالأعمال.
428

* (إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا (42) يا أيها الذين آمنوا لا) * *
واختلفوا في أن النبي هل يشهد على من لم يره؟ منهم من قال: إنما يشهد على من رآه، والصحيح: أنه يشهد على الكل، على من رأى، وعلى من لم ير.
وروى عن ابن مسعود: ' أن النبي قال لي: اقرأ علي القرآن ' فقلت: كيف أقرأ عليك القرآن، وعليك أنزل؟! فقال: أريد أن أسمعه من غيري. قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء، فلما بلغت قوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) غمزني رسول الله بيده، وقال: حسبك، فنظرت إليه، فإذا عيناه تذرفان '، وفي رواية: ' لما قرأت هذه الآية، قرأ رسول الله: * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) ' وفي رواية ثالثة: ' هذا يا رب فيمن رأيته، فكيف بمن لم أره؟ ' وأصل الحديث صحيح.
قوله تعالى: * (يومئذ) يعني: يوم القيامة * (يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض) ويقرأ: ' لو تسوى بهم الأرض ' أي: تستوي، يعني: يودون أن يصيروا ترابا، وهذا مثل قوله تعالى: * (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا)، وذلك حين تحشر البهائم ثم يقول الله تعالى لهم: كونوا ترابا، فيكونون ترابا؛ فيود الكفار هنالك أن يصيروا مثل البهائم ترابا، وقيل: يودون أن
429

* (تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء) * * تنخرق الأرض؛ فساخوا فيها وهلكوا، وتسوى بهم الأرض، أي: عليهم الأرض.
* (ولا يكتمون الله حديثا) فإن قيل: قد أخبر هاهنا أنهم لا يكتمون الله حديثا، وذكر في موضع آخر قولهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) فقد كتموا، فكيف وجه الجمع؟ قيل: قال الحسن البصري: وهذا في موطن وذاك في موطن، آخر، وفي القيامة مواطن، وهذا جواب معروف أورده القتيبي في مشكل القرآن. وقيل: معناه: يودون أن لا يكتمون الله حديثا، وذلك أنهم يقولون: * (والله ربنا ما كنا مشركين) ونحو ذلك، فيختم الله على أفواههم، وينطق جوارحهم؛ فيودون أنهم لم يكتموا الله حديثا فهو راجع إلى قوله: * (يود الذين كفروا) وقيل: معناه: لا يقدرون أن يكتموا الله حديثا.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) يعني: لا تقربوا موضع الصلاة، * (وأنتم سكارى) فالأصح وعليه أكثر المفسرين أنه أراد به: السكر من الشراب، وهو قول ابن عباس. وقال الضحاك: أراد به: السكر من النوم.
والسكر من السكر فهو أشد، فالسكر يسد العقل والمعرفة، والصحيح أنه في السكر من الشراب.
وسبب نزول الآية ما روى: أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما، واتخذ شرابا، ودعا رهطا من أصحاب رسول الله، فأكلوا، وشربوا حتى ثملوا، فدخل وقت المغرب، فقاموا إلى الصلاة، وقدموا واحدا منهم، فقرأ سورة * (قل يا أيها الكافرون) وقرأ: أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، قرأ هكذا إلى آخر السورة بطرح ' لا '؛
430

* (فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا (43) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل (
44) والله أعلم) * * فنزل قوله: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) ' أي: حتى تميزوا، وتعرفوا ما تقولون.
فإن قيل: كيف خاطب السكارى، والسكران لا يخاطب؟ قيل أراد به لا تتعرضوا للسكر في أوقات الصلاة، فكانوا يشربون بعد ذلك بعد صلاة الصبح، ويصحون عند الظهر، ويشربون بعد العشاء الآخرة، ويصحون عند الصبح.
* (ولا جنبا إلا عابري سبيل) يعني: ولا تقربوا المسجد موضع الصلاة جنبا، إلا عابري سبيل، اختلفوا فيه: قال جماعة من التابعين وهو قول الشافعي: إنه أراد به عبور: الجنب في المسجد من غير أن يجلس؛ فرخص فيه، وقال بعضهم إنه يتيمم للعبور، ثم يعبر إذا لم يكن له بد من العبور، والآية في قوم من الأنصار كانت أبواب بيوتهم في المسجد: فرخص لهم في العبور بالتيمم، فهذا معنى قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا).
* (وإن كنتم مرضى) أراد به: المرضى من القروح والجروح، وفيه تفاصيل تذكر في الفقه، * (أو على سفر) وحد السفر: مسيرة يوم وليلة، وقال أصحاب الرأي: مسيرة ثلاثة أيام * (أو جاء أحد منكم من الغائط) قال الفراء: معناه: وجاء أحد منكم من الغائط؛ حتى يستقيم الكلام، والغائط: اسم للمطمئن من الأرض؛ فلما جرت عادة العرب بإتيان الغائط للحدث؛ سمى الحدث غائطا باسم المكان.
* (أو لمستم النساء) ويقرأ: ' أو لامستم النساء ' قال علي، وابن عباس: أراد به الجماع، قال ابن عباس: إن الله حيى كريم، يكنى بالحسن عن القبيح؛ فكنى باللمس عن الجماع، وقال ابن مسعود، وابن عمر: هو اللمس باليد، وهو قول الشافعي، فمن قال بالأول قال: إن التيمم للجنب ثابت بنص الكتاب، ومن قال
431

* (بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45) من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو) * * بالثاني قال: إن التيمم للمحدث ثابت بالكتاب، وللجنب ثابت بالسنة.
وقال عمر، وابن مسعود: ليس للجنب أن يتيمم أصلا، وحملوا الآية على اللمس باليد، وتمسكوا بظاهر الآية.
والأصح أن اللمس والملامسة واحد، وقال بعضهم: ومن قرأ: * (أو لامستم) ففيه دليل على انتقاض طهارة اللامس والملموس جميعا. ومن قرأ (أو لمستم) ففيه دلالة على انتقاض طهارة اللامس فحسب.
* (فلم تجدوا ماء فتيمموا) أي: اقصدوا، وتعمدوا، والتيمم: القصد، قال الشاعر:
(تيممت قيسا وكم دونه
* من الأرض من مهمة ذي شزن)
* (صعيدا) قال أبو عبيدة: الصعيد: التراب، وهو قول الشافعي، وقال ابن الأعرابي: الصعيد: ما يصعد من وجه الأرض، وهو اختيار الزجاج، وقال الزجاج: لو ضرب يده على صخرة صماء حصل التيمم، وإن لم يعلق به شئ، واستدلوا بقوله: * (صعيدا زلقا) وأراد به: وجه الأرض، والأول أصح؛ لأنه قال في آية أخرى: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) يعني: من الصعيد؛ فدل أنه التراب حتى يكون التيمم منه وقوله: * (طيبا) أي: طاهرا، وقال بعضهم: حلالا (فامسحوا بوجهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) فالعفو المسهل والغفور: الساتر. قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) فإن قال قائل: كيف يسمي اليهود والنصارى: ' أهل الكتاب '، وهو اسم مدح، وهم يستحقون الذم؟
قيل: قال ذلك لإلزام الحجة، وقيل: سماهم بذلك على زعمهم أنهم أهل الكتاب.
432

* (أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46) يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن) * * (يشترون الضلالة) لأنهم لما استبدلوا الضلالة بالهدى، فكأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وكل مشتر مستبدل.
* (ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) قال الزجاج: معناه: اكتفوا بالله وليا واكتفوا به نصيرا؛ لتكون ' الباء ' في موضعها، وقال غيره: الباء صلة، وتقديره: وكفى الله وليا وكفى الله نصيرا.
قوله تعالى: * (من الذين هادوا يحرفون) قيل تقديره: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا يحرفون، وقيل معناه: من الذين هادوا فريق يحرفون * (الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا) لأنهم لما سمعوا ولم يطيعوا، فكأنهم قالوا: سمعنا وعصينا.
* (واسمع غير مسمع) قال ابن عباس: كانوا يقولون لرسول الله: اسمع، ثم يقولون في أنفسهم: لا سمعت، فهذا معناه، وقال الحسن: اسمع غير مسمع منك، يعني: اسمع منا، ولا نسمع منك * (وراعنا) كانوا يقولون ذلك، ويريدون به: النسبة إلى الرعونة، فذلك معنى قوله: * (ليا بألسنتهم وطعنا في الدين)؛ لأن قولهم: راعنا من المراعاة، فلما حرفوه إلى الرعونة، فذلك معنى قوله: (* (ليا بألسنتهم) * ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا) أي: انظر إلينا * (لكان خيرا لهم وأقوم) أي: أعدل (ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) فيه قولان: أحدهما فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، لا يستحقون به اسم الإيمان؛ وذلك أنهم يؤمنون بالله، والآخرة، وموسى، وقيل: معناه: فلا يؤمنون إلا نفر قليل منهم، وأراد به: عبد الله بن سلام، وقوما منهم أسلموا.
* (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا) يعني: من القرآن (مصدقا لما
433

* (نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى) * * (معكم) من التوراة والإنجيل * (من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) الطمس: المحو، ومعناه: من قبل أن نطمس الوجه،
ونرده إلى القفا، وقيل: معناه: نبات الشعر عليه، حتى يصير كالقردة، وقيل: يجعل عينيه على القفا ليمشي بقهقرى، وروى: أن عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية، جاء إلى النبي ويده على وجهه، فأسلم، وقال: خفت أن يطمس وجهي قبل أن أصل إليك، وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله عنه.
فإن قال قائل: قد أوعد اليهود بالطمس إن لم يسلموا، ولم يطمس وجوههم، فكيف ذلك؟ قيل: هذا كان في قوم معدودين أسلموا، وذلك: عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعيد، وأوس بن سعيد، والمحيريق، وجماعة، ولو لم يسلموا لطمسوا.
وقيل: أراد به: الطمس في القيامة، قال مجاهد: أراد بقوله * (نطمس وجوها) أي: نتركهم في الضلالة؛ فيكون المراد طمس القلب * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) أي: نجعلهم قردة كما جعلنا أصحاب السبت قردة * (وكان أمر الله مفعولا).
قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) قيل: هذه أرجى آية في القرآن، قال ابن عمر: كنا نطلق القول فيمن ارتكب الكبائر بالخلود في النار، حتى نزلت هذه الآية، فتوقفنا * (ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) أي: اختلق إثما عظيما، فإن قال قائل: قد قال الله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) وقال في موضع آخر: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) فكيف وجه الجمع؟
قيل أراد به: يغفر الذنوب جميعا سوى الشرك.
434

* (إثما عظيما (48) ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا (49) انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا (50) ألم تر إلى الذين أوتوا) * *
وفي الخبر: ' أنه لما قرأ قوله تعالى: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) فقال رجل: والشرك يا رسول الله؟ فنزل قوله تعالى * (إن الله لا يغفر أن يشرك به).
قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) نزلت الآية في رحبي بن عمرو، ومرحب بن زيد، جاءا إلى النبي بأطفالهما، وقالا: هل على هؤلاء ذنب؟، فقال: لا. فقالا: نحن مثلهم؛ ما فعلنا بالليل يكفر عنا بالنهار، وما فعلنا بالنهار يكفر عنا بالليل، فنزل قوله: (* (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * بل الله يزكي من يشاء) ' يطهر من يشاء.
* (ولا يظلمون فتيلا) أي: لا ينقص من أجورهم شئ إن أسلموا، ولا من أوزارهم إن لم يسلموا. والفتيل والقطمير والنقير: ثلاثة أسامي مذكورة في القرآن فالفتيل: اسم لما يكون في شق النواة، والقطمير: اسم للقشرة التي تكون على النواة، والنقير: اسم للنقطة التي تكون على ظهر النواة، هذا قول ابن عباس، وقال غيره: الفتيل من الفتل، وهو اسم لما يحصل من الوسخ بين الإصبعين عند الفتل، قال الشاعر:
(تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو
* ثم لا ترزأ العدو فتيلا)
قاله النابغة، وأنشده الأزهري. قوله تعالى: * (أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به) أي: بالكذب (* (إثما مبينا) * ألم تر إلي الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) قال عمر رضي الله عنه: الجبت: السحر والطاغوت: الشيطان، وبه قال الشعبي، وقال
435

* (نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52) أم لهم) * * قتادة: الجبت: الشيطان والطاغوت: الكاهن، وعن ابن عباس في رواية الكلبي عنه أنه قال: هما اسما رجلين من اليهود، فالجبت: حيى بن أخطب والطاغوت: كعب بن الأشرف، وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن الجبت: الساحر بلغة الحبشة فعرب، وذكر عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس رحمة الله أنه قال: الطاغوت: كل ما يعبد من دون الله، وقرأ قوله تعالى: * (واجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) فقيل له: ما ' الجبت '؟، فقال سمعت أنه الكاهن.
* (ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) هذا قول جماعة من اليهود وحضروا موسم الحج، فقال لهم المشركون: نحن أحسن طريقة أم محمد وأصحابه؟ فقالوا: أنتم. وهذا دليل على شدة معاندة اليهود؛ حيث فضلوا المشركين على المسلمين، مع علمهم أنهم لم يؤمنوا بشيء من الكتب، وأن المسلمين آمنوا بالكتب المتقدمة.
* (أولئك الذين لعنهم الله) هم اليهود * (ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا). قوله تعالى: * (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) فالنقير: اسم تلك النقطة على ظهر النواة، ومنها تنبت النخلة، وفي الآية قولان: أحدهما: أنه: استفهام بمعنى الإنكار والنفي، يعنى: ليس لهم نصيب من الملك؛ إذ لو كان الملك لهم، فإذا لا يؤتون الناس نقيرا، وقد ذكرنا نزع الملك من اليهود، والقول الثاني: إنه بمعنى الإثبات، يعني: لهم نصيب من الملك: وأراد بالملك المال، ثم هم إذا لا يؤتون الناس نقيرا، وصفهم بشدة البخل، وهذا على طريق ضرب المثل؛ إذ من اليهود من يؤتي المال.
قوله تعالى: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) أي: بل يحسدون، واختلفوا في الناس هاهنا، من المراد به؟ قال ابن عباس، والحسن،
436

* (نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54) فمنهم من آمن به) * * ومجاهد، وجماعة: أراد به: محمدا وحده، وقال قتادة: أراد به العرب؛ حسدهم اليهود ببعث النبي منهم، وفيه قول ثالث: أراد به: محمدا وأصحابه، وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: نحن الناس؛ وذلك أنهم حسدوا، فإذا قلنا بالقول الأول: أنه محمد وحده؛ فاختلفوا في الفضل المذكور في الآية ما هو
؟ قال بعضهم: هو النبوة حسد الرسول بها، وقال بعضهم: هو تحليل الزوجات فيما زاد على الأربع، حسده اليهود عليه؛ فقالوا: ما بال هذا الرجل همه في النكاح، ينكح، وينكح. * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة) أراد بآل إبراهيم: داود، وسليمان، والكتاب: هو الكتاب الذي أنزل عليهم، وأما الحكمة: قيل: هي النبوة، وقيل هي السنة.
ومعنى الآية: أنهم إن حسدوا الرسول بما أوتى من الفضل، فليحسدوا آل إبراهيم؛ فإنهم قد أوتوا الكتاب والحكمة * (وآتيناهم ملكا عظيما) اختلفوا في الملك العظيم: فمن فسر الفضل بتحليل الزوجات، فسر الملك العظيم به أيضا، وقد كان لداود تسع وتسعون امرأة، ولسليمان مائة امرأة، وقيل: كان لسليمان سبعمائة امرأة، وثلاثمائة سرية، وقيل: أعطى نبينا صلوات الله عليه قوة سبعين شابا في المباضعة.
وقيل: الملك العظيم: ملك سليمان، وقيل: المراد به تأييدهم بالجنود من الملائكة.
قوله تعالى: * (فمنهم من آمن به) يعنى: بالكتاب * (ومنهم من صد عنه) أي: أعرض عنه، وقيل: معناه: فمنهم من آمن بمحمد، ومنهم من صد عنه * (وكفى بجهنم سعيرا) والسعير: هي النار المسعرة.
437

* (ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (55) إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما) * *
قوله تعالى * (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا) أي نلقيهم في النار، ويقال: صلى النار، إذا قرب منها، قال الشاعر يصف امرأة:
(تجعل المسك واليلنجوج والند
* صلاء لها على الكانون)
* (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) قيل: قرئت هذه الآية عند عمر رضي الله عنه وكان عنده معاذ بن جبل، فقال: تبدل جلودهم في كل ساعة سبعين مرة، قال عمر: كذا سمعت رسول الله '.
وقال الحسن: في كل يوم سبعين ألف مرة.
فإن قيل: إذا بدلت جلودهم، فكيف يعذب غير الجلد الذي كان في الدنيا؟ قيل: إنما يعذب الشخص في الجلد دون الجلد، وقيل: يعاد الجلد الأول في كل مرة، إلا أنه سماه جلدا غيره، ومثله جائز، تقول العرب: صغت من خاتمي خاتما غيره، وإن كان الثاني إعادة للأول، وفي الخبر: ' أن بصر جلد الكافر في النار أربعون ذراعا يعني: غلظه وضرسه مثل جبل أحد، وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام '.
438

* (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57) إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى) * *
وفي الأخبار: ' يكون عليه مائة جلد، بين كل جلدين لون من العذاب ' * (إن الله كان عزيزا حكيما) عزيزا: غالبا. حكيما: فيما دبر، قوله: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة) وقد ذكرنا معنى الجميع، * (وندخلهم ظلا ظليلا) وهو الكن الذي يقي من الحر والبرد.
قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المراد منه: جميع الأمانات، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يجاء بالذي خان في الأمانة يوم القيامة، فيقال له: رد الأمانة. فيقول: ذهبت الدنيا أنى لي الأمانة، فتمثل له الأمانة في النار، ويقال له: خذ الأمانة وردها، فيأتي ليأخذ الأمانة؛ فيهوي في النار، ثم يعود ليأخذ فيهوي فيها أبدا.
وفي الخبر أنه قال: ' أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك '. وروى عن ابن عباس، عن النبي أن قال: ' لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له
439

* (أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم) * * والقول الثاني: أنه أراد به: تفويض الأمر إلى الولاة بالطاعة لهم، والقول الثالث - وهو قول عامة المفسرين -: أن المراد منه رد مفاتيح الكعبة.
وسبب نزول الآية ما روى: ' أن رسول الله لما فتح مكة، أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، وفتح الباب، ودخل الكعبة، فلما خرج، قال العباس: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اجمع لي بين السدانة والسقاية فهم رسول الله أن يدفع المفتاح إليه؛ فنزل قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)، فدعا رسول الله عثمان بن طلحة، ودفع إليه المفتاح، وقال: خذوها يا بني طلحة، خالدة تالدة، لا ينزعها عنكم إلا ظالم ' وكان مع عثمان حياته، فلما توفي دفعه إلى أخيه شيبة، فهو في بني شيبة إلى قيام الساعة.
* (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) أي: بالقسط * (إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا).
قوله - تعالى -: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) اختلفوا في أولي الأمر، قال ابن عباس، وجابر - وهو قول جماعة -: هم العلماء والفقهاء، وقال أبو هريرة: هم الولاة والسلاطين، وقيل: هم أمراء السرايا الذين بعثهم رسول الله في الحروب، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: ' من عصى أميري فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله '.
440

* (في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59) ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون) * *
وقال عكرمة: أراد به: أبا بكر وعمر.
* (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) التنازع: هو التشاجر، سمى تنازعا؛ لأن كل واحد من الخصمين ينزع بحجة وآية.
وقوله: * (فردوه إلى الله) يعنى: إلى الكتاب، وإلى الرسول إن كان حيا، وإلى سنته إن كان ميتا.
والرد إلى الكتاب والسنة واجب، ما دام في الحادثة شئ من الكتاب والسنة، فإن لم يكن فالسبيل فيه الاجتهاد، وروى أن مسلمة بن عبد الملك قال لرجل: إنكم أمرتم أن تطيعونا، فقال الرجل: قد نزعها الله منكم؛ حيث قال: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) وقد تنازعتم، فقال مسلمة: أين الله؟ فقال: الكتاب، وقال: أين الرسول؟ فقال: السنة.
وقيل: الرد إلى الله والرسول: أن يقول الرجل فيما لا يدرى: الله ورسوله أعلم، وهذا قول حسن * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) أي: أحسن مآل وعاقبة.
قوله - تعالى -: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا).
في الآية قولان: أحدهما: أنه في جماعة من المنافقين منهم خلاس بن الصامت، كانت لهم خصومة مع جماعة من المسلمين، فقال المسلمون: نتحاكم إلى الرسول، وقال المنافقون: نتحاكم إلى الكهنة.
والقول الثاني - وهو الأصح: ' أن رجلا من اليهود خاصم رجلا من المنافقين،
441

* (أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن) * * فقال اليهودي: نتحاكم إلى أبي القاسم إذ عرف أنه لا يأخذ الرشوة على الحكم فيحكم بالحق، وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف، فتحاكما إلى النبي فحكم لليهودي، وكان الحكم له، فقال المنافق: لا أرضى بحكمه، نتحاكم إلى أبي بكر، فتحاكما إلى أبي بكر، فحكم لليهودي بمثل ما حكم رسول الله فقال المنافق: لا أرضى بحكمه، نتحاكم إلى عمر، فتحاكما إلى عمر، فقال عمر: هل تحاكمتما إلى أحد؟ فقال اليهودي: نعم إلى أبي القاسم، وإلى أبي بكر، وقد حكما لي، وهو لا يرضى، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، واشتمل على السيف، ثم خرج، وضرب عنق المنافق، فبلغ ذلك رسول الله، فقال: أنت الفاروق '.
قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) هو ما ذكرنا، أن المنافقين دعوا إلى التحاكم إلى الرسول، فأعرضوا عنه، وتحاكموا إلى الطاغوت.
قوله تعالى * (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) قيل: هذا في المنافقين الذين تحاكموا إلى الطاغوت، وقوله: * (أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) قيل: هو قتل عمر رضي الله عنه ذلك المنافق؛ فإنهم جاءوا يطلبون دمه، وقيل: هو في جميع المنافقين، والمصيبة: كل مصيبة تصيبهم في الدنيا والعقبى.
يقول الله تعالى: فكيف الحال إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم * (ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) قيل: هو إحسان بعضهم إلى بعض، وقيل أرادوا بالإحسان: تقريب الأمر من الحق، لا القضاء على مر الحكم.
442

* (أردنا إلا إحسانا وتوفيقا (62) أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا (63) وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) * *
وأما التوفيق: موافقة الحق، وقيل: هو التأليف والجمع بين الخصمين. ومعنى الآية: أن المنافقين يحلفون ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك إلا إحسانا وتوفيقا.
وقي الآية قول آخر: أنها في المنافقين، حلفوا في المسجد الذي بنوا ضرارا على ما هو مذكور قي سورة التوبة * (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى).
قوله تعالى: * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) خلاف ما على ألسنتهم * (فأعرض عنهم وعظهم) فإن قال قائل: كيف يتصور الجمع بين الإعراض والوعظ وقد أمر الله تعالى بهما؟
قيل معناه: فأعرض عن عقوبتهم، وعظهم.
وقيل: معناه: فأعرض عن قبول عذرهم، وعظهم * (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) القول البليغ: هو ما يبلغ الإنسان بلسانه كنه ما في قلبه، وقيل: هو التخويف بالله تعالى وقيل: هو أن يقول: إن رجعتم إلى هذا، فأمركم القتل.
قوله تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) قال أهل المعاني: قوله * (إلا ليطاع) كلام كاف مفيد بنفسه، وقوله: * (بإذن الله) كلام آخر ومعناه بعلم الله وقضاء الله يعنى: أن طاعته تقع بإذن الله.
* (ولو أنهم) يعني: المنافقين * (إذا ظلموا أنفسهم) يعنى: بالتحاكم إلى الطاغوت * (جاءوك فاستغفروا الله) لأنهم ما جاءوا مستغفرين، وإنما جاءوا معتذرين
بالأعذار الكاذبة.
قوله: * (فاستغفروا الله) أي: سألوا مغفرة الله، * (واستغفر لهم الرسول) أي: دعا لهم الرسول بالاستغفار * (لوجدوا الله توابا رحيما).
443

* (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا قي أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65) ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) * *
قوله تعالى: * (فلا ربك لا يؤمنون) قوله: * (فلا): رد لقول المنافقين وعذرهم، ثم ابتداء بقوله: * (وربك لا يؤمنون) والمراد به: الإيمان الكامل، أي: لا يكمل إيمانهم، * (حتى يحكموك فيما شجر بينهم) أي: اختلف، والاشتجار: الاختلاف، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها على بعض، قال الشاعر:
(هم الحكام أرباب الندي
* وسراة الناس إذ الأمر شجر) أي: اختلف، (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) أي: ضيقا، ومنه الحرجة، روى أن عمر - رضي الله عنه - قال لبعض العرب: ما الحرجة عندكم؟ قال: هي شجرة ملتفة، لا يصل الماء إليها.
ومن ذلك قوله - تعالى -: * (يجعل صدره ضيقا حرجا) أي: يضيق مسلكه بحيث لا تصل إليه الهداية * (ويسلموا تسليما) ومعنى الآية: لا يكمل إيمانهم حتى يرضوا بحكمك، وينقادوا لك، قيل: هذه أبلغ آية في كتاب الله - تعالى - في الوعيد.
واختلفوا في سبب نزول الآية، قال عطاء، ومجاهد: الآية في المنافقين الذين تحاكموا إلى الطاغوت، وقال عبد الله بن الزبير، وعروة بن الزبير، وجماعة: ' الآية نزلت في رجل من الأنصار يقال له: حاطب بن أبي بلتعة - وكان من أهل بدر - خاصم الزبير بن العوام في ماء أرض عند النبي، فقال - عليه الصلاة والسلام - للزبير: اسق أرضك الماء ثم أرسله إلى جارك، وكانت أرض الأنصاري دون أرضه؛ فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك، فتلون وجه النبي، وقال للزبير: اسق أرضك، واحبس الماء حتى يبلغ الجدر ' - وفي رواية - حتى يبلغ الكعبين ثم سرحه يمر '
444

* (ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68) ومن يطع الله) * *
كان النبي ساهل في حق الزبير في ابتداء الأمر، فلما أغضبه الأنصاري استوعب جميع حقه، وكلا الحكمين كان حقا، وفي الخبر: قال الزبير: ' احسب أن قوله: * (فلا وربك لا يؤمنون) نزل في هذا.
وروى أن اليهود لما بلغهم ذلك، قالوا: انظروا إلى أصحاب محمد كيف يخالفونه، وإن موسى عتب علينا، فأمرنا بقتل أنفسنا، فقتلنا أنفسنا حتى بلغ القتلى سبعين ألفا.
قوله - تعالى -: * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) معناه: لو كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم، أو اخرجوا من دياركم، بدل ما أمرناهم به من طاعة الرسول، والانقياد لحكمه * (ما فعلوه إلا قليل منهم) قال ثابت بن قيس بن شماس: لو أمرني رسول الله بقتل نفسي لقتلت، وفي الخبر: أن ابن مسعود وعمار بن ياسر، وثابت بن قيس بن شماس، من ذلك القليل، وروى أن النبي أشار إلى عبد الله بن رواحه، فقال له: ' أنت من ذلك القليل '.
ويقرأ ' إلا قليلا منهم ' فمن قرأ بالرفع؛ فلأنه معطوف على قوله: * (ما فعلوه) وذلك في محل الرفع، وتقديره: ما فعلوه إلا نفر قليل منهم فعلوه. ومن قرأ بالنصب، فعلى الاستثناء.
* (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) يعنى: من طاعة الرسول، والرضا لحكمه (لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) أي: تصديقا (وإذ لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما) هو الجنة * (ولهديناهم صراطا مستقيما) قيل: هو القرآن، وقيل: الإسلام.
445

* (والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (70) يا أيها الذين آمنوا) * *
قوله - تعالى -: * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) سبب نزول الآية، ما روى: أن بعض أصحاب رسول الله قالوا: يا رسول الله، كيف يكون الحال في الجنة، وأنت في الدرجات العلي، ونحن أسفل منك، وكيف نراك؟ فنزلت الآية. وذكر النقاش في تفسيره: أن ذلك القائل كان عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري.
وروى: أن رجلا قال: لرسول الله أنت أحب إلى من أهلي ومالي وولدي، وإذا غبت عنى يصيبني شبه الجنون، حبا لك، فكيف حالي معك في الجنة؟ فنزلت الآية ' * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) قيل: ذلك بأن ينزل إليهم النبيون؛ حتى يروهم، لا أن يرفعوا إلى درجاتهم، وقيل: معناه: أنهم لا يفوتهم رؤية النبيين ومجالستهم، وقوله: * (والصديقين) يعنى: أصحاب رسول الله، والصديق المبالغ في الصدق، * (والشهداء) الذين استشهدوا يوم أحد.
واختلفوا في أنهم لم سموا شهداء؟ قال بعضهم: لأنهم قاموا بشهادة الحق حتى قتلوا، وقيل: لأن أرواحهم تشهد الجنة عقيب القتل، * (والصالحين) الصالح: من استوت سريرتيه علانيته * (وحسن أولئك رفيقا) الرفيق: الواحد، وهو بمعنى الجمع هاهنا * (ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما).
قوله - تعالى -: * (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) أي: عدتكم، والحذر: ما يتقى به من العدو، نحو العدة والسلاح، (فانفروا ثبات) جمع ' ثبة ' قال ابن عباس: ' الثبة ': ما فوق العشرة، وقال أبو عمرو بن العلاء: ' الثبة ' النفر، ومعناه: انفروا جماعات، نفرا نفرا (أو انفروا جميعا).
وهذا دليل على أن الجهاد فرض على الكفاية، وقيل إن الآية صارت منسوخة؛
446

* (خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71) وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا (72) ولئن أصابكم فضل من الله) * * لقوله - تعالى -: * (وما كان المؤمنين لينفروا كافة).
قوله - تعالى -: * (وإن منكم لمن ليبطئن) أي: ليتأخرن، والبطء: التأخير.
وقيل: هذا في عبد الله بن أبي بن سلول * (فإن أصابتكم مصيبة) يعنى: بالقتل والجرح في الجهاد * (قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا) أي: حاضرا * (ولئن أصابكم فضل من الله) أي: الغنيمة (ليقولن) - بنصب اللام - ويقرأ في الشواذ: برفع اللام والمعنى واحد * (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) قيل: في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: فإن أصابتكم مصيبة، قال: قد أنعم الله على؛ إذ لم أكن معهم شهيدا، كأن لم تكن بينكم وبينه مودة، أي: معاقدة ومعاهدة على الجهاد، وقيل: أراد به: مودة الصحبة. ثم ابتدأ * (ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما).
قوله - تعالى -: * (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا) أي: يبيعون * (بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) وهو معنى قوله في سورة التوبة: * (فيقتلون ويقتلون).
قوله - تعالى -: * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) عتب على أصحاب رسول الله بترك القتال * (والمستضعفين) وهم الذين أسلموا بمكة وسكنوا بأعذار، وبعضهم منعوا من الهجرة، قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
قال الأزهري: معنى الآية: لا تقاتلون في سبيل الله، وفي سبيل المستضعفين؛ بتخليصهم من أيدي المشركين * (من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية) وهي مكة باتفاق المفسرين * (الظالم أهلها) أي: المشرك أهلها * (واجعل لنا من لدنك وليا) أي: من يلي أمرنا * (واجعل لنا من لدنك
447

* (ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (73) فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب) * * (نصيرا) أي: من يمنع العدو عنا؛ فاستجاب الله دعوتهم، حتى فتح رسول الله مكة، وولى عليها عتاب بن أسيد، فكان ينصف المظلوم، وينتصف من الظالم.
قوله - تعالى -: * (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) قد بينا معنى الطاغوت * (فقاتلوا أولياء الشيطان) أي: الكفار * (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) قيل كان ضعيفا بمعنى: أنه لا يرد أحدا عن الإسلام والهداية، وقيل: أراد به أن كيده كان ضعيفا يوم بدر، حين رأى الملائكة، وخاف أن يأخذوه، فهرب، فكيده ضعيف بأحد هذين المعنيين.
قوله - تعالى -: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) قيل: هذا في قوم أسلموا بمكة فآذاهم المشركون؛ ' فقالوا: يا رسول الله، ائذن لنا نقاتلهم، فقال لهم: * (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)؛ فإني لم أؤمر بالقتال، ثم لما هاجر إلى المدينة، فأمر بالقتال، فكرهوا القتال ' قيل: أولئك الذين أسلموا وقالوا ذلك، منهم: عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وقدامة بن مظعون، والمقداد بن الأسود الكندي، وجماعة.
* (فلما كتب عليهم القتال) يعنى: بعد الهجرة * (إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) أي: يخشون الناس كخشيتهم من الله، أو أشد خشية، قال الحسن البصري: ما كانوا يخشون أمر الله بالقتال، وإنما ذلك: خشية طبع البشرية.
* (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) أي: هلا أخرتنا إلى أجل قريب؛ فنموت بآجالنا، قيل: هذا قول المنافقين، وقيل: كان ذلك قول بعض
448

* (فسوف نؤتيه أجرا عظيما (74) وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك) * * أصحاب رسول الله: قالوا ذلك خوفا و (جبنا) لا اعتقادا. وقال بعضهم: هو قول طلحة بن عبيد الله؛ قال ذلك خوفا ثم تاب عنه.
* (قل متاع الدنيا قليل) يعنى: أن ما تستمتعون به من الدنيا فهو قليل، وفي الخبر المعروف: ' ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم المخيط في البحر، فلينظر بم يرجع؟! ' * (والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) أي: لا ينقص من أجرهم شئ، ولا مقدار الفتيل.
قوله - تعالى -: * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) معناه: أينما كنتم يأتيكم الموت، وإن كنتم في بروج مشيدة، والبروج: الحصون، قال السدي: وهي قصور بيض في السماء، قوله: * (مشيدة) قال ابن عباس - في القول المعروف -: هي المعروفة المطولة، وقال عكرمة: المشيدة: المجصصة، والشيد: الجص. وقال بعضهم: المشيد: المجصص، والمشيدة: المرفوعة، وفيه قول آخر عن ابن عباس: أنه أراد: في بروج من حديد.
* (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) فالحسنة: الخصب، والسيئة: الجدب، وقيل الحسنة: النصر، والظفر يوم بدر، والسيئة: الهزيمة والقتل يوم أحد، ومعنى الآية: أن المسلمين إذا أصابتهم حسنة، فقال الكفار: هذا من عند الله وإن تصبهم سيئة قالوا هذا من عندك أي: بشؤمك؛ وذلك أن النبي لما قدم المدينة أصاب أهلها نوع سوء؛ فقالت اليهود: ما رأينا أشأم
449

* (وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75) الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا (76) ألم تر) * * من هذا الرجل؛ منذ دخل ديارنا، قد غلت أسعارنا، ونقصت ثمارنا؛ وذلك بلية للمسلمين، وهذا نحو ما قالوا لصالح عليه السلام * (اطيرنا بك
وبمن معك) وفي قصة موسى: * (يطيروا بموسى ومن معه) وفي سورة ' يس ': * (إنا تطيرنا بكم).
* (قل كل من عند الله) أي: الخصب، والجدب، والنصر، والهزيمة، كل من عند الله، * (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) أي: ما لهم لا يعلمون حديثا. والحديث: القرآن هاهنا، أي: لا يعلمون معاني القرآن.
قوله - تعالى -: * (ما أصابك من حسنة فمن الله) يعني: ما أصابك من خصب، فمن فضل الله، * (وما أصابك من سيئة) أي: من جدب * (فمن نفسك) أي: بذنبك.
والخطاب وإن كان مع الرسول، فالمراد به: الأمة؛ وذلك معنى قوله - تعالى -: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) قيل معناه: وما أصابك من حسنة أيها الإنسان فمن الله، وما أصابك من سيئة، فمن نفسك؛ فيكون الخطاب مع كل أحد من الناس، وقيل: معناه * (ما أصابك من حسنة) أي: من النصر، والظفر فمن فضل الله * (وما أصابك من سيئة) أي: من هزيمة، وقتل يوم أحد * (فمن نفسك) أي: بذنب نفسك من مخالفة النبي كما سبق.
فإن قيل: كيف وجه الجمع بين الآيتين، فإنه قد قال - في الآية الأولى -: * (قل كل من عند الله) قيل: معنى الآية الأولى: أن الخصب والجدب والنصر والهزيمة
450

* (إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا) * * كلها تقع من عند الله، ومعنى الآية الثانية * (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) أي: ما أصابك من سيئة من الله، فبذنب نفسك؛ عقوبة لك.
واعلم أنه ليس في الآية متعلق لأهل القدر أصلا؛ فإن الآية فيما يصيب الناس من النعم والمحن، لا في الطاعات والمعاصي؛ إذ لو كان المراد ما توهموا، لقال: ما أصبت من حسنة، فمن الله وما أصبت من سيئة؛ فلما قال: ما أصابك من حسنة وما أصابك من سيئة؛ دل أنه أراد: ما يصيب العباد من النعم والمحن، لا في الطاعات والمعاصي، وحكى عبد الوهاب بن مجاهد، عن مجاهد، أن ابن عباس قرأ: ' وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك ' وكذا حكى عن ابن مسعود أنه قرأ كذلك، وهو معروف عن ابن عباس، وهو يؤيد قولنا: إن المراد: بذنب نفسك.
وفي الآية قول آخر: مضمر فيه، وتقديره: فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؛ يقولون: ما أصابك من حسنة، فمن الله، وما أصابك من سيئة، فمن نفسك فيكون حكاية لقول الكفار * (وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا).
قوله تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) روى: ' أن النبي قال: ' من أطاعني فقد أطاع الله تعالى ومن أحبني فقد أحب الله، فقالت اليهود: إن هذا الرجل يريد أن نتخذه ربا وحنانا، كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية على وفاق قول الرسول ' * (ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) أي: كل أمره إلى.
قوله تعالى: * (ويقولون طاعة) يعني: المنافقين يقولون باللسان: مرنا، فإن أمرك طاعة * (فإذا برزوا) أي: خرجوا * (من عندك بيت طائفة منهم غير الذي
451

* (أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77) أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من) * * (تقول) قال أبو رزين: بيت أي: ألف. وقال غيره: بيت، أي: بدل؛ والأصح أنه من التبييت، وهو فعل الشيء ليلا، يقال: هذا أمر بيت ليلا، قيل: أي: فعل بالليل، ويجوز أن يقال لما فعل بالنهار: تبييتا؛ لأن الفعل بالليل إنما سمى تبييتا؛ لأن الإنسان بالليل يكون أفرغ لتدبير أمره، فعلى هذا المعنى يجوز أن يقال لما فعل بالنهار: تبييتا، قال الشاعر:
(بيتوا أمرهم بليل فلما
* أصبحوا أصبحوا على ضوضاء)
ومعنى * (بيت طائفة منهم غير الذي تقول) أي: خالفوا بالليل ما قالوا بالنهار * (والله يكتب ما يبيتون) أي: يحصى ويحفظ؛ ليجازى عليه، وقيل: يأمر الكتبة حتى يكتبوا (فأعرض عنهم) قال الضحاك: معناه: لا تخبر بأسمائهم، وكان - عليه الصلاة والسلام - يعرف المنافقين، وما كان يخبر بأسمائهم * (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) أي: اتخذه وكيلا.
قوله - تعالى -: * (أفلا يتدبرون القرآن) التدبر: النظر في الأمر إلى آخره، وهو من دبر الشيء: آخره، وفي الخبر: ' من أشراط الساعة: ولا يأتون الصلاة إلا دبرا ' أي: آخرا ومنه قوله: ' لا تدابروا ' أي: لا يول بعضكم ظهره إلى بعض عداوة.
452

* (عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * * فقوله * (أفلا يتدبرون القرآن) أي: أفلا يتفكرون في القرآن * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) قال ابن عباس: ليس في القرآن تناقض ولا تفاوت؛ فهذا معنى الآية.
وقال الزجاج: ما أخبر عن الغيب فكله صدق، ليس بعضه صدقا، وبعضه كذبا، وقيل: معناه: أن كله بليغ صحيح، ليس فيه مرذول ولا فاسد.
قوله تعالى: * (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) يعني: المنافقين إذا جاءهم أمر وخبر من أمر السرايا الذين بعثهم رسول الله، فإن كان بالأمن والنصر، كتموا، وقصروا في الأخبار، وإن كان بالخوف والهزيمة أذاعوا به، وزادوا.
وفي الآية إضمار، وتقديرها: وإذا جاءهم أمر من الأمن قصروا في الإخبار به، وكتموا، [وإذا] جاءهم أمر من الخوف أذاعوا به * (ولو روده إلى الرسول) قيل
أراد بقوله: * (ولو ردوه) يعني: ضعفة المسلمين الذين سمعوا تلك الأخبار من المنافقين قالوا مثل قولهم؛ فقال الله تعالى: * (ولو ردوه إلى الرسول) ويحتمل أن يكون المراد به في الكلام المؤمنين والمنافقين، لو ردوه إلى الرسول.
* (وإلى أولي الأمر منهم) يعني: إلى أمراء السرايا * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) يعني: لو طلبوا تلك الأخبار من عند أمراء السرايا، ووكلوا الإخبار بها إليهم؛ لعلمه الذين يحبون أن يعلموه على حقيقته كما هو، والاستنباط: هو استخراج العلم ومنه النبط، وهم قوم يستخرجون الماء، وقيل: أراد به العلماء يعني: ولو ردوه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم لعلم الذين يستنبطونه منهم ما ينبغي أن
453

* (وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا (79) من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80) ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير) * * يكتم، ويعلمون ما ينبغي أن يفشي، يعني: العلماء.
* (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) فإن قال قائل: كيف استثنى القليل، ولولا فضله لاتبع الكل الشيطان؟ قيل: اختلفوا فيه، قال الفراء: هذا الاستثناء راجع إلى قوله: * (أذاعوا به) إلا قليلا، وقوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان)، كلام تام، وقيل: هو راجع إلى قوله: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) ثم قال: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان) وقيل: هو على نظمه، ومعناه: ولولا ما تفضل الله عليكم به من البيان لما ينبغي أن يفعل وما ينبغي أن يجتنب * (لاتبعتم الشيطان إلا قليلا).
وفيه قول رابع: أنه أراد بالقليل: قوما اهتدوا بالحق قبل بعث الرسول، وإنزال القرآن، وأقروا بالتوحيد، وذلك مثل: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وجماعة، وقد قال في زيد بن عمرو بن نفيل: ' إنه يبعث أمة على حدة '.
قوله تعالى * (فقاتل في سبيل الله) كذا يتصل بما سبق من قوله: * (وما لكم لا تقاتلون) لما عاتبهم على ترك القتال، قال للرسول: إن لم يقاتل هؤلاء، فقاتل أنت وحدك * (لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) يعني: عذاب الذين كفروا، وعسى من الله واجب، والمراد به: تطميع المؤمنين، * (والله أشد بأسا) أي: أشد عذابا * (وأشد تنكيلا) التنكيل من النكل، وهو المنع، ومنه النكال: وهو ما يفعل بالإنسان، فيمنع غيره عن فعله.
قوله تعالى: * (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع)
454

* (الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (81) أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82) وإذا جاءهم) * * (شفاعة سيئة يكن له كفل منها) قال ابن عباس: الشفاعة الحسنة: هي الإصلاح بين الناس، والشفاعة السيئة: هي المشي بالنميمة بين الناس، وقيل: هو في كل الشفاعات، فالشفاعة الحسنة: هي أن يقول قولا حسنا؛ ينال به الخير، والشفاعة السيئة: هي أن يقول قولا قبيحا؛ يلحق به سوء.
قوله: * (يكن له نصيب منها) أي: من أجرها، وقوله: * (يكن له كفل منها) أي: من وزرها، والكفل: النصيب، قال الله تعالى: * (يؤتكم كفلين من رحمته) أي نصيبين.
واعلم أن الإنسان يؤجر على الشفاعة، وإن لم يشفع؛ لأن الله تعالى يقول: * (من يشفع)، ولم يقل: من يشفع، وقد روى أبو موسى الأشعري عن رسول الله أنه قال: ' اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء '.
واعلم أن الشفاعة مستحبة في كل الحقوق إلا في حدود الله تعالى؛ فإنه لا يجوز فيها الشفاعة ليترك الحد، وقد قال: ' من شفع في حد من حدود من الله تعالى فقد ضاد الله في ملكه ' أي: نازعه في ملكه.
* (وكان الله على كل شيء مقيتا) قال ابن عباس: المقيت: المقتدر، قال الشاعر:
(وذي ضغن كففت النفس عنه
* وكنت على مساءته مقيتا)
والقول الثاني عن ابن عباس: المقيت: الحافظ، وفي الخبر: ' كفى بالمرء إثما أن
455

* (أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا (83) فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفرا والله) * * يضيع من يقوته ' أي: من قوته، وفي رواية: ' من يقيت ' أي: من في حفظه، وفيه قول ثالث: أن الله تعالى على كل حيوان مقيت، أي: يوصل القوت إليه؛ فهذا معنى قوله: * (وكان الله على كل شيء) أي: حيوان * (مقيتا).
قوله - تعالى -: * (وإذا حييتم بتحية) أكثر المفسرين على أن المراد بالتحية هاهنا: السلام، وأصل التحية: هو دعاء بالحياة، وهو في الشريعة عبارة عن السلام، والسلام: دعاء السلامة، وقد تكون التحية بمعنى: الملك والبقاء، ومنه: التحيات لله، وقال الشاعر:
(ولكل ما نال الفتى
* قد نلته إلا التحية)
يعني: إلا الملك، وعلى معنى السلام أنشدوا قول الشاعر:
(إنا محيوك يا سلمى فحيينا
* وإن سقيت كرام الناس فاسقينا)
* (فحيوا بأحسن منها أو ردوها) أراد به: رد السلام بأحسن مما سلم، أو ترد كما سلم، فإذا قال: السلام عليك، فالمستحب أن تقول: وعليك السلام ورحمة الله، وإذا قال: السلام عليك ورحمة الله، تقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وهو الأحسن.
وفي الخبر: ' أن رجلا جاء، فسلم على النبي، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله، فدخل آخر وقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله
456

* (أشد بأسا وأشد تنكيلا (84) من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة) * * وبركاته، فدخل ثالث، وقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليكم؛ فقيل له في ذلك، فقال - عليه السلام - إن الأول والثاني تركا من التحية شيئا؛ فأجبت بأحسن، وإن الثالث لم يترك من التحية شيئا فرددت عليه '.
واعلم أن السلام، سنة ورد السلام فريضة، لكنه فرض على الكفاية، حتى إذا سلم على جماعة فرد أحدهم؛ سقط الفرض عن الباقين، وكذلك السلام سنة على الكفاية، حتى إذا كانت جماعة، فسلم أحدهم كفى في السنة. وروى الحسن مرسلا عن النبي أنه قال: ' السلام سنة ورده فريضة '.
وقال بعض المفسرين: أراد بالتحية: الهبات والهدايا، وقوله: * (فحيوا بأحسن منها) أراد به: الثواب على الهدية، وهو سنة، ' وكان عليه السلام يقبل الهدية، ويثيب عليها '، والأصح هو القول الأول.
* (إن الله كان على شئ حسيبا) أي: محاسبا، وقيل كافيا، ومنه قوله تعالى: * (جزاء من ربك عطاء حسابا) أي: كافيا.
457

* (سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شئ مقيتا (85) وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شئ حسيبا (86) الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم) * *
قوله تعالى: * (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) ' اللام ' لام القسم، وتقديره: والله ليجمعنكم الله إلى يوم القيامة، واختلفوا: أنه فيم يجمعهم؟ قال بعضهم: يجمعهم في الإهلاك والموت إلى القيامة، وقال بعضهم: يجمعهم في القبور إلى القيامة.
واختلفوا: لم سميت القيامة قيامة؟ قال بعضهم: لأن الناس يقومون فيها إلى رب العالمين، كما قال الله تعالى: * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) وقيل: إن الناس يقومون فيها إلى الحساب. * (ومن أصدق من الله حديثا) أي: قولا وخبرا.
قوله - تعالى -: * (فما لكم في المنافقين فئتين) اختلفوا في سبب نزول الآية على ثلاثة أقوال: قال زيد بن ثابت: هذا في الذين تخلفوا عن رسول الله يوم أحد، فقال بعض الصحابة لرسول الله: اعف عنهم؛ فإنهم تكلموا بالإسلام. وقال بعضهم: اقتلهم؛ فإنهم منافقون؛ فنزلت الآية * (فما لكم في المنافقين فئتين) ' أي: ما لكم افترقتم فيهم فرقتين؟ عتب عليهم بالاختلاف بينهم، وحكم بنفاقهم.
وقال مجاهد: الآية في جماعة من أهل مكة هاجروا إلى المدينة، وأسلموا، ثم استأذنوا رسول الله في الرجوع إلى مكة، بعلة أن لهم بها بضائع؛ فرجعوا، وارتدوا فقال بعض أصحابه: هم مسلمون؛ لأنهم تكلموا بالإسلام، وقال بعضهم: هم قد نافقوا؛ فنزل قوله تعالى: * (فما لكم في المنافقين فئتين) وحكى مجاهد هذا عن ابن عباس.
والقول الثالث وهو الرواية الثانية عن ابن عباس: أن الآية في قوم من المشركين أسلموا بمكة، وكانوا يعاونون المشركين، ويظاهرونهم؛ فاختلف الصحابة فيهم
458

* (القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (87) فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88)) * * فرقتين؛ فنزل قوله - تعالى -: * (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) أركسهم وركسهم بمعنى واحد.
وقرأ ابن مسعود * (والله ركسهم) قال الزجاج: معناه: نكسهم، وقال النضر بن شميل: معناه: أعادهم، يعنى: إلى الكفر بما كسبوا، ومنه: الركس؛ لأنه كان طعاما فصار رجيعا.
* (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) يعنى: أتريدون أن ترشدوا من أضله الله * (ومن يضلل الله) يعنى: ومن يضلله * (فلن تجد له سبيلا) أي: طريقا إلى الحق. قوله - تعالى -: * (ودوا لو تكفرون كما كفروا) يعنى: الذين عادوا إلى الكفر ودوا أن تعودوا إلى الكفر * (فتكونون سواء) يعنى: في الكفر.
* (فلا تتخذوا منهم أولياء) منعهم من الموالاة معهم * (حتى يهاجروا في سبيل الله) أي: حتى يسلموا * (فإن تولوا) يعنى: في الكفر * (فخذوهم) أي: فأسروهم، والأخذ هاهنا: الأسر، ويقال للأسير: أخيذ * (واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا).
قوله - تعالى -: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) قال أبو عبيده: معناه إلا الذين ينتسبون إلى قوم، وأنشد فيه قول الشاعر:
(إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل
* وبكر سباها والأنوف رواغم)
يعنى: إذا انتسبت تلك القبيلة.
وأنكر أهل المعاني هذا على أبى عبيده، وقالوا: هذا لا يستقيم في معنى هذا الاستثناء المنع من القتل، وما كان المنع لأجل النسبة، فإن النبي كان يقاتل المشركين من قريش، وإن كانوا من نسبه، بل معنى قوله: * (إلا الذين يصلون) أي:
459

* (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89)) * * يخالطون، ويتصلون بقوم كان بينهم وبين النبي موادعة وعهد.
وذلك هلال بن عويمر الأسلمي، وقومه، وكان الله - تعالى - منع من قتل أولئك ممن اتصل بهم، وفي ذمامهم * (أو جاءوكم) أو يصلون بقوم جاءوكم للمعاهدة والموادعة، * (حصرت صدورهم) ضاقت، فضاقت صدورهم من القتال معكم، ومن معاونتكم على القتال مع قومهم؛ لأجل الرعب الذي ألقى الله - تعالى - في قلوبهم، وقرأ الحسن - وهو قراءة يعقوب وسهل - ' حصرة صدورهم ' على الحال، أي: ضيقة صدورهم، قال المبرد: حصرت صدورهم على سبيل الدعاء، كقوله: * (قاتلهم الله) كأن الله - تعالى - يقول: * (حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) على سبيل الدعاء.
* (ولو شاء الله لسلطهم عليكم) معنى هذا: أن الله - تعالى - هو الذي ألقى الرعب في قلوبهم، وكفهم عن قتالكم، حتى جاءوا معاهدين، ولو شاء الله لسلطهم عليكم * (فلقاتلوكم)؛ فإذا لا تقاتلوهم ومن اتصل بهم * (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) يعنى: الصلح فانقادوا، واستسلموا * (فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) أي: طريقا عليهم بالقتل والقتال.
قوله - تعالى -: * (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم) قال ابن عباس: أراد به: أسد وغطفان، جاءوا إلى النبي وأسلموا؛ فلما رجعوا إلى قومهم قالوا: إنا آمنا بالعقرب والخنفساء ورجعوا إلى الكفر.
وقال قتادة: أراد به: سراقة بن مالك بن جعشم، لما جاء إلى النبي، وقال: أنا منكم، ثم رجع إلى قومه، فقال أنا منكم.
460

* (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا) * * (يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم) أي: يريدون أن يأمنوا منكم، ومن قومهم. * (كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) أي كلما دعوا إلى الشرك دخلوا فيه.
* (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم) يعني: القيادة والاستسلام * (ويكفوا أيديهم فخذوهم) أي: فأسروهم * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) وجدتموهم، * (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) حجة بينة بالقتل والقتال.
قوله تعالى: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) سبب نزول الآية: ما روى أن عياش بن أبي ربيعة قتل الحارث بن يزيد، وكان الحارث يؤذي عياشا في الجاهلية، حتى أسلم عياش؛ فنذر أن يقتله متى ظفر به، فظفر بالحارث وقد أسلم الحارث، ولم يعلم هو بإسلامه، فنزلت الآية: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا) وهذا نهى عن قتل المؤمن على الإطلاق، وقوله: * (إلا خطأ) استثناء منقطع، ومعناه: لكن إن وقع خطأ. وقال بعضهم: ' إلا ' بمعنى ' ولا ' يعنى: ولا خطأ، ولا يعرف في كلام العرب ' إلا ' بمعنى ' ولا '؛ ولأنه يقتضي النهي عن قتل الخطأ، والخطأ لا يدخل تحت النهي والأمر، والأول أصح، ثم ذكر حكم القتل الخطأ، فقال: * (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) أي: فاعتقوا رقبة مؤمنة، ثم اختلف العلماء، فقال الحسن، والشعبي، والنخعي: أراد به: رقبة بالغة ولا تجزئ الرقبة الصغيرة، وإن كانت مؤمنة، وقال عطاء وهو الذي أخذ به الفقهاء: إنه تجزئ الصغيرة.
* (ودية مسلمة إلى أهله) يعني: سلموا الدية إلى أهله، وظاهر الآية يقتضي أن تكون الدية قي قتل الخطأ في مال القاتل، كالكفارة، لكن عرفنا بالسنة أن الكفارة في مال القاتل والدية على العاقلة.
وقوله: * (إلا أن يصدقوا) يعني: أن يتصدقوا، وقرأ أبي بن كعب كذلك، ومعنى التصدق: العفو عن الدية * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة)
461

* (إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90) ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم) * * (مؤمنة) أكثر المفسرين وهو قول الحسن، وقتادة، ومجاهد وجماعة: أن المراد به: وإن كان من [نسب] قوم عدو لكم وهو مؤمن، ومعناه المؤمن يكون في دار الإسلام، وقرابته في دار الحرب، فيقتل خطأ، قالواجب بقتله الكفارة، ولا دية؛ لأنها إذا سلمت إلى قرابته يقووا بها على المسلمين، والأصح والذي عرفه الفقهاء أن المراد به: المؤمن الذي أسلم في دار الحرب، فيقتله من لم يعلم إسلامه، فالواجب فيه الكفارة، دون الدية.
* (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) هذا في أهل الذمة والمعاهدين * (فدية مسلمة إلى أهله) يعني: على القدر الذي اختلف فيه * (وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله) يعني: ليتوبوا إلى الله * (وكان الله عليما حكيما).
قوله تعالى * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) نزلت الآية في مقيس بن ضبابة الليثي، أسلم وأخوه هشام، ثم وجد أخاه مقتولا في بني النجار؛ فجاء إلى النبي في ذلك، فبعث معه رجلا فهربا إلى بني النجار، وأمرهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه، أو يسلموا الدية، فجاءا إليهم، وبلغا الرسالة فقالوا: سمعا وطاعة لرسول الله، والله ما نعرف القاتل، وساقوا الدية إليه مائة من الإبل؛ فلما رجعا أقبل مقيس وقتل الفهري، واستاق الإبل، ولحق بمكة وارتد، وقال الشعر:
(قتلت به فهرا وحملت عقله
* سراة بني النجار أرباب فارع)
(فأدركت ثأري واضطجعت موسرا
* وكنت إلى الأوثان أول راجع)
فنزلت الآية فيه، وهو الذي أمر النبي بقتله؛ فجاء الجماعة الذين عينهم
462

* (ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولائكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا (91) وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية) * * للقتل يوم فتح مكة؛ فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة فقوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) فالقتل المتعمد عند أكثر العلماء: هو الذي يحصل بكل ما يقصد به القتل، وقال سعيد بن المسيب، وطاوس: القتل العمد لا يكون إلا بالحديد * (فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه) أي: طرده عن الرحمة * (وأعد له عذابا عظيما) وقال ابن عباس: الآية مدنية لم ينسخها شئ؛ فكان يقول: ليس لقاتل المؤمن توبة، وسئل عن توبته؛ فقال: أنى تكون له التوبة، فقيل له: أليس قد قال الله تعالى: * (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب) فقال ابن عباس: تلك آية مكية، وهذه آية مدنية لم تنسخ بشيء حتى قبض رسول الله.
وقال زيد بن ثابت: الشديدة بعد الهينة بستة أشهر، يعني بالهينة آية الفرقان، وبالشديدة هذه الآية.
وروى حميد، عن أنس، عن النبي أنه قال: ' أبى الله تعالى أن يكون لقاتل المؤمن توبة ' وفي الخبر عن النبي: ' لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا '.
والأصح، والذي عليه الأكثرون وهو مذهب أهل السنة: أن لقاتل المؤمن عمدا توبة، والدليل عليه قوله تعالى: * (وإني لغفار لمن تاب وآمن) وقوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ولأن القتل العمد ليس بأشد من الكفر، ومن
463

* (مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد) * * الكفر توبة؛ فمن القتل أولى، وأما الذي روى عن ابن عباس، فعلى سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل، وهو مثل ما روى عن سفيان بن عيينة أنه قال: إن لم يقتل يقال له: لا توبة لك، منعا له عن القتل، وإن قتل يقال له: لك توبة، حتى يتوب. وروى أن رجلا جاء إلى ابن عباس وسأله: هل لقاتل المؤمن توبة، قال: لا، فجاءه آخر، وسأله عن ذلك، فقال: نعم، له توبة، فقيل له في ذلك، فقال: إن الأول لم يكن قتل؛ فمنعته عن القتل، وإن الثاني؛ قتل؛ فأرشدته إلى التوبة.
واعلم أن لا متعلق في هذه الآية لمن يقول بالتخليد في النار لأهل الكبائر من المسلمين؛ لأنا إن نظرنا إلى سبب نزول الآية، فالآية نزلت في قاتل كافر كما بينا، وقيل: إنه فيمن يقتل مستحلا، والأولى أن تقول فيه ما قاله أبو صالح: إن معنى قوله: * (فجزاؤه جهنم خالدا فيها) إن جازى، وبه نقول: إن الله تعالى إن جازاه ذلك خالدا، فهو جزاؤه، ولكنه ربما لا يجازي، وقد وعد أن لا يجازى ويغفر لمن يشاء، وهو لا يخلف الميعاد، وحكى عن قريش بن أنس رحمه الله أنه قال: كنت في مجلس فيه عمرو بن عبيد، فقال: لو قال الله لي يوم القيامة: لم قلت بتخليد القاتل المتعمد في النار؟ فأقول له: أنت الذي قلت: * (فجزاؤه جهنم خالدا فيها) قال قريش: وكنت أصغر القوم، فقلت له: أرأيت لو قال الله تعالى لك: ألست قلت * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فمن أين علمت أنى لم أشأ مغفرة القاتل؟ فسكت ولم يستطع الجواب.
وحكى أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء رحمه الله وقال له: هل يخلف الله وعده؟ فقال: لا، فقال: أليس قد قال الله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) فأنا على هذا؛ لأنه لا يخلف وعده، فقال أبو عمرو: ومن العجمة أتيت يا أبا عثمان؛ إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفا
464

* (فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما (92) ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93) يا أيها الذين) * * وذما، وإنما ذلك في الخلف في الوعد، وأنشد له قول القائل فيه:
(إني إذا أوعدته وعدته
* لمخلف إيعادي ومنجز موعدي)
فقد تمدح بالخلف في الوعيد، وقال آخر:
(وإذا وعد السراء أنجز وعده
* وإن وعد الضراء فالعفو مانعه)
فالله تعالى يجوز أن يخلف في الوعيد، وإنما لا يخلف الميعاد.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله) أي: سافرتم في سبيل الله، يعني: الغزو * (فتبينوا) ويقرأ: ' فتثبتوا ' ومعناهما: ترك العجلة.
وفي الخبر: ' التأني من الله، والعجلة من الشيطان ' * (فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) يقرأ ' إليكم السلام ' ويقرأ ' إليكم السلم '، فالسلام: هو التسليم المعهود، والسلم: المقادة والاستسلام، والسلم: الصلح، وقرأ أبو جعفر المدني يزيد بن القعقاع: ' لست مؤمنا ' من الأمان * (تبتغون عرض الحياة الدنيا) يعني: تبتغون الدنيا، وفي الآثار: ' الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يقضي فيها ملك قادر '.
465

(* (آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله) * فعند الله مغانم كثيرة) أي: غنائم كثيرة. * (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم) أي: تفضل الله عليكم، وفيه قولان: قال سعيد بن جبير: معناه كذلك كنتم من قبل تكتمون الإيمان، فمن الله عليكم، وفيه قولان بالإظهار، وقال قتادة: معناه: كذلك كنتم من قبل ضلالا، فمن الله عليكم بالهداية * (فتبينوا) إعادة تأكيد *
(إن الله كان بما تعملون خبيرا) وسبب نزول الآية ما روى: ' أن النبي بعث سرية، فلقوا رجلا يقال له: مرداس بن عمرو من فدك، له غنيمات، فانحاز بها إلى الجبل لما أحس بالسرية، ثم تقدم إليهم، فقال: السلام عليكم أنا مؤمن، فبادر إليه أسامة بن زيد وهو يقول: لا إله إلا الله، وقتله، وأخذ سلبه، والغنيمات التي له، فلما رجعوا إلى النبي قال لأسامة: أقتلت رجلا يقول: لا إله إلا الله، فقال: إنه إنما أسلم متعوذا، وقال: إنما أسلم، ليحرز نفسه وماله، فقال عليه الصلاة والسلام: هلا شققت عن قلبه؟ فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فقال كيف لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ فقال: استغفر لي يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: كيف بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ هكذا حتى أعاده ثلاثا - فنزلت الآية فيه. * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام) ' ولأن ذلك الرجل كان قد سلم عليهم، وأسلم لهم * (لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) يعنى: تبتغون بقتله غنيمات كانت له.
وفي رواية أن النبي استغفر لأسامة، وأمره بإعتاق رقبة وكان أسامة من علية الصحابة، وعاش إلى زمان على - رضي الله عنه - فدعاه على إلى المقاتلة معه في الحروب، فقال لعلى: أنت أعز على من كل أحد، ولو قاتلت المسلمين مع أحد لقاتلت معك، ولكني منذ سمعت رسول الله قال لي: كيف بلا إله إلا الله يوم القيامة، امتنعت من القتال، فإن أعطيتني سيفا يميز المسلم من الكافر حتى أقاتل فتركه على.
466

* (كان بما تعملون خبيرا (94) لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على) * *
وكان ممن اعتزل الفريقين هو وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
وقيل: إن قاتل صاحب الغنيمات، كان المقداد بن عمرو الكندي - هو ابن الأسود - هذا هو القول المعروف في سبب نزول الآية، وفي الآية قول آخر: ' أنها نزلت في محلم بن جثامة الليثي، قتل رجلا وهو يقول: لا إله إلا الله، ثم جاء إلى النبي، وقال: يا رسول الله، استغفر لي، فقال: لا غفر الله لك، فقام يبكي، وانصرف، فلما مات دفن في الأرض، فلفظته الأرض، ثم دفن فلفظته الأرض، ثم دفن فلفظته الأرض - هكذا ثلاثا - فأمر النبي حتى ألقي عليه الحجارة، قال: إن الأرض لتنطبق على من هو شر منه - يعنى من محلم -، ولكن الله - تعالى - أراد أن يريكم الآية '.
قوله - تعالى -: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر) اعلم أن الذي نزل في الابتداء من هذه الآية قوله: ' لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ' قال زيد بن ثابت: ' كان النبي يملى على هذه الآية، وفخذه على فخذي، فدخل عبد الله بن أم مكتوم، وقال يا رسول الله، أنا رجل ضرير، ولو استطعت أن أقاتل لقاتلت معك؛ فتغشى رسول الله الوحي؛ فثقل فخذه على فخذي حتى كاد يرضه؛ فلما سرى عنه، قال لي: اكتب * (غير أولى الضرر) فنزل هذا القدر في ابن أم مكتوم، وكان ضريرا من أولى الضرر، وقوله:
467

* (القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (95) درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما (96) إن الذين توفاهم الملائكة) * * (غير أولي الضرر) يقرأ على وجوه: ' غير ' - برفع الراء - وتقديره: لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر، ويقرأ: بفتح الراء، على الاستثناء، يعنى: إلا أولي الضرر، وقيل: هو نصب على الحال، يعنى: في حال الصحة، وانتفاء الضرر، كأنه قال: لا يستوي القاعدون من المؤمنين أصحاء، وهذا أشهر القراءتين، وكذلك قرأ النبي ' غير أولي الضرر ' - بكسر الراء يعنى -، من المؤمنين غير أولي الضرر، * (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) أراد بالقاعدين هاهنا: أولى الضرر، فضل المجاهدين عليهم بدرجة؛ لأن المجاهدين باشروا الجهاد مع النية، وأولوا الضرر كانت لهم نية الجهاد، ولكن لم يباشروا؛ فنزلوا عنهم بدرجة * (وكلا وعد الله الحسنى) يعنى: الجنة * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) وأراد بالقاعدين هنا: غير أولي الضرر، فضل الله المجاهدين عليهم أجرا عظيما * (درجات منه ومغفرة ورحمة) قال ابن محيريز: هي سبعون درجة، ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة، وفي الخبر ' في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله '، وقيل: أراد بالدرجات: الإسلام، والهجرة، والجهاد، والشهادة في الجهاد، وفاز بتلك الدرجات المجاهدون * (وكان الله غفورا رحيما).
قوله - تعالى -: * (إن الذين توفاهم الملائكة) قرأ عيسى بن عمر النحوي: ' تتوفاهم ' - بالتائين - والمعروف ' توفاهم ' وأصله: تتوفاهم، فأدغمت إحدى التائين تخفيفا، على القراءة المشهورة، فإن قال قائل: لم قال: تتوفاهم الملائكة والمتوفى ملك واحد، كما قال: * (قل يتوفاكم ملك الموت)؟ قيل: ذكره بلفظ
468

* (ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من الرجال) * *
الجمع، والمراد به الواحد، ومثله شائع في كلام العرب، وقيل: إن لملك الموت أعوانا، فلعله أراده مع أعوانه؛ فلذلك ذكر بلفظ الجمع.
قال عكرمة والضحاك: الآية في قوم أسلموا بمكة قبل الهجرة، فلما هاجر النبي إلى المدينة، تخلفوا عن الهجرة، فلما كان يوم بدر حملهم الكفار مع أنفسهم إلى بدر كرها، فقتلوا بين الكفار.
وقوله * (ظالمي أنفسهم) يعنى: بالشرك؛ فإنهم قتلوا مشركين؛ إذ ما كان يقبل الإسلام بعد هجرة النبي إلا بالهجرة، ثم أبيح ذلك بقوله - عليه الصلاة والسلام -: ' لا هجرة بعد الفتح '.
* (قالوا فيم كنتم) يعنى: الملائكة قالوا لأولئك الذين أسلموا ولم يهاجروا: * (فيم كنتم) يعنى: في أي الفريقين كنتم، في المسلمين أم المشركين؟ وهذا سؤال توبيخ
، لا سؤال استعلام * (قالوا كنا مستضعفين في الأرض) يعنى: كنا بمكة مستضعفين بين المشركين * (قالوا) يعنى: الملائكة * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) يعنى: إلى المدينة * (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) حكم لهم بالنار؛ لأنهم ماتوا مشركين * (إلا المستضعفين) وهم أصحاب الأعذار * (من الرجال والنساء والولدان) منهم الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة.
قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين بمكة، وهم الذين دعا لهم النبي في القنوت، فقال: ' اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة، وأشدد وطأتك على مضر، هكذا كان يدعوا لهم
469

* (والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا (99) ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا) * * شهرا، حتى نجوا، وقدموا؛ فترك ذلك الدعاء، فقيل له في ذلك فقال: ألا ترونهم قد قدموا '. * (لا يستطيعون حيلة) يعنى: للخروج * (ولا يهتدون سبيلا) أي: طريقا إلى المدينة * (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) ' وعسى ' من الله واجب؛ لأنه للإطماع، والله - تعالى - إذا أطمع عبدا أوجب له وأوصله إليه.
* (وكان الله عفوا غفورا) روى: أنه لما نزلت هذه الآية، كتب بها أصحاب رسول الله إلى المستضعفين بمكة، وكان فيهم شيخ كبير يقال له: جندع بن ضمرة ويقال له حبيب بن ضمرة فقال: لست من المستضعفين، وأنا أعرف طريق المدينة، وقال لبنيه: احملوني إلى المدينة، فحملوه يأتون به، فلما بلغ التنعيم؛ أدركه الموت، فبلغ ذلك أصحاب رسول الله فقالوا: لو وصل إلى المدينة لأتمم الله أجره؛ فنزل قوله تعالى: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) يعنى: تم أجره.
وقوله: * (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعه) والمراغمة: المهاجرة، المهاجر، قال أبو عمر بن العلاء: وإنما سميت المهاجرة مراغمة؛ لأنه من هاجر مراغم قومه وقرابته، وقال الشاعر:
(كطود يلوذ بأركانه
* عزيز المراغم والمهرب)
وقال ابن عباس: مراغما، أي: متحولا يتحول إليه، وقال مجاهد: مراغما، أي: متزحزحا، وقوله: * (وسعة) قال ابن عباس: معناه: وسعة في الرزق، قال قتادة:
470

* (وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما (100) وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من) * * ومعناه: وسعة من الضلالة إلى الهدي.
* (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) قد ذكرنا أنه فيم نزل * (وكان الله غفورا رحيما).
قوله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض) أي: سافرتم * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا).
قصر الصلاة في السفر لا خلاف في جوازه في حال الخوف، وأما في حال الأمن: قال سعد بن أبي وقاص: إنه لا يجوز، وبه قال داود، وأهل الظاهر؛ تمسكا بظاهر القرآن، وقال جمهور العلماء وهو قول أكثر الأمة -: إنه يجوز القصر في حال الأمن؛ لما روى عن يعلي بن أمية أنه قال لعمر - رضي الله عنه -: ' ما بالنا نقصر، وقد أمنا، والله - تعالى - يقول في كتابه: * (أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) قال عمر: عجبت مما تعجبت أنت، فسألت النبي، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ' وروى ' أن رسول الله سافر من مكة إلى المدينة - لا يخاف إلا الله - وقصر الصلاة ' وكان - عليه السلام - يقصر الصلاة في جميع أسفاره، ولم ينقل أنه أتم في سفر ما؛ ولذلك قال الشافعي: القصر أولى؛ وإن جاز الإتمام.
وروى عن جابر، والحسن - وهو قول ابن عباس -: أن صلاة الحضر أربع ركعات، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الخوف ركعة، وروى عن ابن عباس أنه قال: ' فرض الله - تعالى - الصلاة على لسان نبيه في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي
471

* (الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبنيا (101) وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا) * * الخوف ركعة ' وأكثر الأمة على أن القصر في الخوف ركعتان، مثل قصر السفر، ثم اختلفوا في القصر على قولين: أنه إباحة، أم واجب، قال بعضهم: هو إباحة، وهو اختيار الشافعي، وهو أصح؛ لقوله عز ذكره: * (فليس عليكم جناح) وهو مثل قوله: * (فلا جناح عليهما أن يتراجعا).
وقال بعضهم: هو واجب. والخلاف بين السلف مشهور فيه.
وقوله: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) أي: يقتلكم، والفتنة بمعنى: القتل هاهنا، وقرأ أبي بن كعب: ' أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا ' - من غير قوله: * (إن خفتم) - ويروى عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: نزل قوله: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) هذا القدر فحسب، ثم مضى حول، ولم ينزل شئ؛ فسئل رسول الله عن صلاة الخوف، ثم نزل قوله: (* (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) * وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) فأشار إلى أنه راجع إلى صلاة الخوف، لا إلى صلاة السفر.
قوله - تعالى -: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) بين في هذه الآية كيفية صلاة الخوف، وأعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد رسول الله على قول أكثر العلماء،
وقال بعضهم: صلاة الخوف لا تجوز لأحد بعده، وهو قول أبى يوسف؛ تمسكا بظاهر الآية، قوله: * (وإذا كنت فيهم) فشرط كونه فيهم، والأصح هو الأول. وقوله: * (وإذا كنتم فيهم) ليس على سبيل الشرط، وإنما خرج الكلام على وفق الحال، وقد ورد أن أصحاب رسول الله صلوا بعده صلاة الخوف.
472

(* (من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم) * فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم) وسبب نزول الآية: ما روى أبو عياش الزرقي: ' أن رسول الله نزل بعسفان، وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد، فصلى النبي مع أصحابه صلاة الظهر، فقال المشركون: قد وجدنا منهم غرة إن قصدناهم، وحملنا عليهم، فقال بعضهم: ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من أولادهم، وأهاليهم - يعنون صلاة العصر - فنزل جبريل، وأخبره بمقالتهم، وأمر بصلاة الخوف '.
وقد روى عن رسول الله صلاة الخوف بروايات شتى، وأخذ الشافعي برواية صالح بن خوات بن جبير عن أبيه عن النبي: ' أنه صلى صلاة الخوف، فجعل أصحابه فرقتين، وصلى بإحدى الطائفتين ركعة، فقاموا، وأتموا ركعتين، وذهبوا إلى وجه العدو؛ وجاءت الطائفة الثانية والنبي ينتظرهم، فصلى بهم الركعة الثانية وانتظرهم جالسا حتى قاموا وأتموا ركعتين، ثم سلم بهم ' فهذا معنى قوله: * (فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم).
واختلفوا في أنهم متى يأخذون أسلحتهم؟ قال بعضهم: يأخذونه في الصلاة؛ ليكونوا أهيب في عين العدو؛ فعلى هذا يأخذون من السلاح ما لا يمنعهم من الإتيان بأركان الصلاة، وقال آخرون: يأخذون السلاح إذا ذهبوا إلى وجه العدو.
* (فإذا سجدوا) يعنى: فإذا صلوا * (فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم
473

* (إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا (102) فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا) * * يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) والحذر: ما يتقى به للحذر من العدو * (ود الذين كفروا لو تغفلون) لو وجدوكم غافلين * (عن أسلحتكم وأمتعتكم) يعني: بالصلاة * (فيميلون عليكم ميلة واحدة) أي: فيحملون عليكم حملة واحدة.
* (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم) رخص لهم في وضع السلاح في حال المطر، والمرض؛ لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين. * (وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا).
قوله تعالى: * (فإذا قضيتم الصلاة) يعني: صلاة الخوف، * (فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) يعني: الذكر بالتسبيح والتهليل، والتحميد، والتمجيد. * (فإذا إطمأننتم) يعني: فإذا سكنتم وأقمتم وأمنتم * (فأقيموا الصلاة) يعني على أركانها وهيئتها كما عرفتم * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) قال مجاهد: أي: فرضا مؤقتا يؤدى (في) أوقاته، وقال زيد بن أسلم: أراد به: فرضا منجما يأتي نجم بعد نجم. قوله تعالى: * (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون) سبب نزول الآية: ' أن الكفار يوم أحد لما انهزموا، بعث النبي طائفة من أصحابه على إثرهم، فشكوا ألم الجراحات؛ فنزلت الآية ' * (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) أي: لا تضعفوا في طلب القوم. * (إن تكونوا تألمون) أي: توجعون وتشكون الألم، فإنهم يألمون، أي: يوجعون ويشكون الألم كما تألمون، قال الشاعر في معناه:
(قاتل القوم يا خزاع ولا يدخلنكم
*)
474

* (اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (103) ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان) * *
(من قتالهم، فشد القوم أمثالكم لهم
* شعر في الرأس لا ينشرون إن قتلوا)
* (وترجون من الله ما لا يبرجون) أي: وتأملون من الله مالا يأملون، من الظفر في الدنيا، والثواب في الآخرة، وقال الفراء والكسائي: الرجاء بمعنى الخوف، وكل راج خائف؛ لأنه يخاف ألا يدرك المأمول، ومنه قوله تعالى: * (ما لكم لا ترجون لله وقارا) وأجمعوا على أن معناه: لا تخافون لله عظمة، قال الشاعر:
(لا ترتجي إذا تلاقى الزائدا
* أسبعة تلقى معا أم واحدا)
* (وكان الله عليما حكيما)
قوله تعالى: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) سبب نزول الآية: ما روى ' أن طعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعا، فلما أتاهم به ألقاه في دار يهودي، وقال: إنه سرق وفي رواية: أودعه عند يهودي فلما ظهر، قال: إن اليهودي سرقه؛ فجاء قومه إلى النبي وهم بنو ظفر بن الحارث؛ ليدافعوا عنه، وهم النبي بدفع السرقة عنه، وقطع يد اليهودي، وكان عند قومه أنه السارق؛ فنزل قوله: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) أي: لتحكم بالحق. * (لتحكم بين الناس بما أراك الله) أي: بما علمك، وحكى عن ابن عباس أنه قال: إياك والرأي فإن
475

* (الله عليما حكيما (104) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106
) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا) * * الله تعالى يقول: * (بما أراك الله) ولم يقل: بما رأيت، * (ولا تكن للخائنين خصيما) يعني: طعمة من الخائنين، فلا تكن مدافعا عنه * (واستغفر الله) أمره بالاستغفار؛ لأنه كان قد هم أن يدافع عنه * (إن الله كان غفورا رحيما).
قوله تعالى: * (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) أي: يخونون أنفسهم والاختيان: افتعال من الخيانة * (إن الله لا يحب) قال أهل التفسير: معناه: إن الله لا يقرب * (من كان خوانا أثيما) الخوان: الخائن والأثيم: ذو الإثم.
قوله تعالى: * (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم) بشكوى بني ظفر بن الحارث، معناه: يستترون من الناس، ولا يستترون من الله، وهو معهم * (إذ يبيتون مالا يرضى من القول) قد بينا أن التبييت: تدبير الفعل ليلا؛ وذلك التبييت منهم أن قوم طعمة قالوا: ندفع أمره إلى النبي؛ فإنه يسمع يمينه، وقوله؛ لأنه مسلم، ولا يسمع من اليهودي؛ لأنه كافر، فلم يرض الله تعالى قولهم * (وكان الله بما تعملون محيطا).
قوله تعالى: * (ها أنتم هؤلاء) يعني: أنتم يا هؤلاء، قال الزجاج: معناه: ها أنتم الذين * (جادلتهم عنهم في الحياة الدنيا) أي: خاصمتم، وأصل الجدال: الجدل، وهو الفتل، ويقال: شخص أجدل، إذا كان وثيق الخلق، ويقال للصقر: أجدل؛ لأنه أقوى الطيور على الصيد.
* (فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا) يعني: من الذي يتولى أمرهم، ويذب عنهم يوم القيامة؟
قوله تعالى: * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) عرض التوبة على طعمة وقومه في هذه الآية، وأمرهم بالاستغفار.
476

(* (108) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا (109) ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (110) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (111) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا (112) ولولا فضل الله) * *
قوله تعالى: * (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه) سبب هذا أن قومه قالوا له: تب إلى الله، فحلف أنى ما سرقته، وإنما سرقه اليهودي؛ فذلك الذي يقول الله - تعالى - ومن كسبه الإثم * (وكان الله عليما حكيما).
قوله - تعالى -: * (ومن يكسب خطيئة أو إثما) هو سرقته التي ذكرنا، * (ثم يرم به بريئا) هو نسبته السرقة إلى اليهودي الذي كان بريئا عنها * (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) فالبهتان: الكذب الذي يتحير منه الإنسان، وهو البهت، وأراد بالإثم المبين: اليمين الفاجرة.
قوله - تعالى -: * (ولولا فضل الله عليك ورحمته) هذا خطاب للرسول * (لهمت طائفة منهم أن يضلوك) يعنى: قوم طعمه، هموا أن يلبسوا عليك؛ لتدافع عنه * (وما يضلون إلا أنفسهم) أي: يرجع وباله عليهم * (وما يضرونك من شئ) يعنى: ضرره عائد عليهم، ولا يضرك؛ لأنك معصوم * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) قيل: أراد به: وأنزل الله عليك الكتاب بالحكمة، وقيل: أراد بالكتاب: القرآن، وبالحكمة: السنة * (وعلمك ما لم تكن تعلم) يعنى: من أحكام القرآن، وقيل: من علم الغيب، وقيل: علمك قدرك، ولم تكن تعلمه * (وكان فضل الله عليك عظيما).
قوله - تعالى -: * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة). النجوى: السرائر في التدبير، قال الزجاج: كل ما انفرد بتدبيره قوم يخوضون فيه؛ فهو نجوى: سرا كان أو علانية، وأراد هاهنا: نجوى قوم طعمه وتدبيرهم، وقيل: هو في جميع الحوادث.
* (إلا من أمر بصدقة) قيل: أراد به إلا نجوى من أمر بصدقة، وقيل: هو استثناء منقطع، يعنى: لكن من أمر بصدقة * (أو معروف) وهو كل ما عرفه الشرع * (أو
477

* (عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (113) لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114) ومن يشاقق الرسول من بعد) * * إصلاح بين الناس) وفي الخبر: ' كل كلام ابن آدم عليه إلا ثلاثة: أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، أو ذكر الله ' وقيل لسفيان بن عيينة - حين روى هذا الحديث؛ فقالوا -: ما أشد هذا الحديث؟! فقال: اقرءوا قوله - تعالى -: * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقه) الآية.
وروى: أن رسول الله قال لأبى أيوب الأنصاري: ' ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم - أي: من الصدقة بحمر النعم؟ - قال: بلى يا رسول الله، فقال: أن تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، وأن تقرب بينهم إذا تباعدوا '.
* (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما).
قوله - تعالى -: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين) أراد به: طعمه، جادل النبي، ثم لحق بمكة، وارتد حين ظهر عليه الحكم بالقطع.
قال سعيد بن جبير: إنه لما لحق بمكة سرق هنالك، فوجد في نقب يسرق، فقتل.
478

* (ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (115) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك
بالله فقد ضل ضلالا بعيدا (116) إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا (117) لعنه الله وقال) * *
وفي بعض القصص: أنه حين لحق بمكة نزل على الحجاج بن غلاط الأسلمي، فقام في بعض الليل يسرق، فأحسوا به، فأخذوه واجتمعوا عليه، وقالوا: إنه ضيف، وتركوه؛ فلحق بحرة بني سليم، وكان يعبد الأصنام، ومات عليه؛ ففيه نزلت الآية * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين) لأنه لما ارتد، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين.
واستدل أهل العلم بهذه الآية على أن الإجماع حجة.
قوله: * (نوله ما تولى) أي: نوله ما اختاره، وقيل: نكله إلى (من) تولاه * (ونصله جهنم وساءت مصيرا).
قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقد ذكرنا معنى الآية فيما سبق * (ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) روى أبو عيسى الترمذي بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال: هذه أحب آية إلي في القرآن.
قوله تعالى: * (إن يدعون من دونه) أي: ما يدعون من دونه * (إلا إناثا) قيل: معناه الأوثان، وإنما سميت الأوثان إناثا؛ لأنهم كانوا يسمونها باسم الإناث، فيقولون: اللات، والعزى، ومناة، وكانوا يقولون لصنم كل قبيلة: أنثى بني فلان، قال أبي بن كعب: كان مع كل صنم جنية من الشياطين، وقيل: معناه: الموات وإنما سمي الموات إناثا؛ لأن الإناث أرذل الجنسين، وأدونهما، فكذلك الموات أرذل من الحيوان، وكانت أصنامهم من الموات والجماد.
قال الضحاك: أراد به: الملائكة، وكانوا يقولون: الملائكة إناث، وكان بعضهم
479

* (لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا (118) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا) * * يعبدون الملائكة، ويصورون الأصنام على صور الملائكة، وقرأ ابن عباس: ' إلا أنثا ' جمع الأوثان، وقرأ في الشواذ أيضا ' إلا أنثا ' جمع الإناث؛ فيكون على جمع الجمع كالمثل. * (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا)؛ لأنهم إذا عبدوا الأصنام، فقد أطاعوا الشيطان، وأراد به: إبليس، والمريد العاتي المتمرد، وحقيقته: العاري من كل خير، ومنه الأمرد، ويقال: شجرة مرداء، إذا تساقطت أغصانها.
* (لعنه الله) أي: أبعده الله من الرحمة؛ معاقبة، ولذلك لا يجوز لعن البهائم؛ لأنها لا تستوجب العقوبة، والطرد عن الرحمة. * (وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) أي: مقدارا معلوما، قيل في التفسير: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون للشيطان وواحد لله. وأصل الفرض: الحز والقطع، ومنه فرض القوس: وهو الشق الذي يجعل فيه الوتر. ومنه فرض السواك: وهو الموضع الذي يجعل فيه الخيط، ومنه فرضة البحر: وهو المشرع الذي توقف إليه السفينة، والفرض: نوع من التمر يكون بعمان، قال الشاعر:
(إذا أكلت سمكا وفرضا
* ذهبت طولا وذهبت عرضا)
قوله تعالى: * (ولأضلنهم) أي: لأغوينهم، فإن قال قائل: كيف نسب إليه الإضلال، وليس إليه الضلالة؟ قلنا: معناه: التزيين والدعوة إلى الضلالة، وقد قال: ' بعثت داعيا، وليس إلى من الهداية شئ، وبعث الشيطان مزينا، وليس إليه من الضلالة شئ '. * (ولأمنينهم) قيل: معناه: أمنينهم ركوب الأهواء، وقيل
480

* (مبينا (119) يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (120) أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا (121) والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من) * * معناه: أمنينهم طول العمر في النعيم؛ ليؤثروا الدنيا على الآخرة، وقال الزجاج: معناه: أمنيهم إدراك الآخرة مع ركوب المعاصي.
* (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام) أراد به: البحيرة التي تأتي في سورة المائدة، والبتك: القطع، والمراد به: شق الآذان، * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) قال ابن عباس في إحدى الروايتين، وهو قول مجاهد: معناه: فليغيرن دين الله، أي: وضع الله في الدين: بتحليل الحرام، وتحريم الحلال، ونحو ذلك، والرواية الثانية عن ابن عباس وهو قول أنس، وعكرمة: أراد به: إخصاء الأنعام، وكان أنس يكره إخصاء البهائم من أجل هذا، وكان يجيزه الحسن، وقال ابن مسعود: أراد به الوشم، ويحتمل أن يكون المراد به تغير الأنساب؛ وذلك أن ينتقل من نسب إلى نسب، ويحتمل أن يكون المراد به: الخضاب بالسواد، وهو منهي عنه، وإنما الخضاب المباح بالحمرة، والصفرة * (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله) أي: يواليه باتباعه * (فقد خسر خسرانا مبينا).
قوله تعالى: * (يعدهم) وعده قد يكون بالتخويف كما قال الله تعالى * (الشيطان يعدكم الفقر) وقيل: أنه يتمثل في صورة الآدمي، فيعد، ويمنى، وكان قد ظهر يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وظهر في اليوم الذي اجتمعت فيه قريش، وتشاوروا في إخراج النبي، في صورة شيخ من نجد.
وقوله * (ويمنيهم) قد ذكرنا، ومن ذلك تمنى الإنسان قضاء الشهوات.
واعلم أن الإنسان لا يؤاخذ بغلبة الشهوة، واشتهاء الشهوات؛ لأن ذلك شئ جبل عليه، ويؤاخذ بالتمني، وذلك أن يتمنى خمرا ليشربه، أو امرأة؛ ليزني بها، فذلك من المعصية، ويؤاخذ به * (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) الغرور: إيهام الوصول إلى النفع من موضع الضر * (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) أي: معدلا.
481

* (تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا (122) ليس بأمانيكم) * *
قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا) فإن قيل: ما الفائدة في تكرار الوعد والوعيد في
القرآن؟ قيل: فائدته: التوكيد، قطعا من سواء التأويل، وقيل إنما كرر الوعد على تفاصيل الإيمان، وكرر الوعيد على تفاصيل الكفر، * (ومن أصدق من الله قيلا) أي: قولا.
قوله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) قال مسروق هو أبو عائشة مسروق بن الأجدع الهمداني: أراد به: ليس بأمانيكم أيها المسلمون، ولا أماني أهل الكتاب، وهم اليهود، والنصارى.
وقال مجاهد: أراد بقوله: * (ليس بأمانيكم) مشركي العرب، * (ولا أماني أهل الكتاب) يعني: اليهود، والنصارى، فعلى القول الأول معنى الآية: أن اليهود قالوا: نحن أولى؛ لأن ديننا أقدم وكتابنا أقدم.
وقالت النصارى: نحن أولى؛ لأنا على دين عيسى، وهو روح الله، وكلمته، وكان يحيي الموتى.
وقال المسلمون: نحن أولى؛ لأن نبينا خاتم النبيين، وكتابنا ناسخ للكتب، وقد آمنا بكتابكم، ولم تؤمنوا بكتابنا؛ قال الله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) يعني: ليس الأمر بالأماني، وإنما الأمر بالعمل الصالح، وقد قال: ' ليس الدين بالتمني، ولا بالتحلي.. ' الخبر.
وأما على القول الثاني: معنى الآية: أن اليهود والنصارى قالوا: نحن أهل الجنة،
482

* (ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون) * * وذلك قول الله تعالى: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) وقال المشركون: لا جنة، ولا نار، ولا بعث؛ قال الله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) أي: ليس كما قال المشركون، ولا كما قال اليهود والنصارى.
* (من يعمل سوءا يجز به) قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتاده، وجماعة المفسرين: إن الآية على العموم في حق كل عامل. وقال الحسن: أراد به: أهل الشرك.
وفي حديث أبي هريرة: ' أن هذه الآية لما نزلت، قالت الصحابة: أينا لم يعمل سوءا؟ وشقت عليهم الآية، فرجعوا إلى رسول الله في ذلك، فقال: ما منكم من أحد تصيبه مصيبة، إلا كفر عنه، حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها '.
وروى: ' أن أبا بكر دخل على رسول الله، فقال له رسول الله: ' ألا أقرئك آية أنزلت علي؟ قال: بلى فقرأ: * (من يعمل سوءا يحز به) قال أبو بكر: فوجدت انقصاما في ظهري، فقال - عليه السلام -: مالك يا أبا بكر؟ فقلت: كيف النجاة بعد هذه الآية، هلكنا، وأينا لم يعمل سوءا؟ فقال: أما أنت يا أبا بكر، والمؤمنون تجزون به في الدنيا، فتلقون الله تعالى وما عليكم ذنب، وأما الكافرون يجمع عليهم، ثم يجزون به في الآخرة ' وفي رواية قال له عليه السلام:
483

* (نقيرا (124) ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء) * * ' ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تمرض؟ أليس تصيبك اللأواء؟ فذلك الذي تجزون به ' فهذا معنى قوله تعالى: * (من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا).
قوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) أي: مقدار النقير، وذلك أن الله تعالى لما أحال الخلق على العمل بين العمل في هذه الآيات، وجزاء العمل.
قوله تعالى: * (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله) أي: أخلص عبادته لله، وقيل: توجه عبادته إلى الله، والوجه يذكر بمعنى: الدين والعبادة، ومنه قول المصلى: وجهت وجهي، أي: ديني وهو الصلاة.
* (وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا) وإنما خص إبراهيم؛ لأنه كان مقبول الأمم أجمع، وقيل: لأنه بعث على ملة إبراهيم؛ وزيد له أشياء.
* (واتخذ الله إبراهيم خليلا) يعني: حبيبا، لا خلل في حبه، والخلة: صفاوة المودة، فمعناه: أنه اتخذه حبيبا، وجعله صفيه، وخاص نفسه، كما يكون الحبيب مع الحبيب، قال الشاعر:
(قد تخللت مسلك الروح منى
* وبذا سمى الخليل خليلا)
وقيل: المحتاج من الخلة، وهي الحاجة، يعني: جعل حاجته إلى نفسه، دون غيره، وقال الشاعر:
(وإن أتاه خليل يوم مسألة
* فقال لا غائب مالي ولا حرم)
484

* (محيطا (126) ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما (127) وإن) * * يعني: وإن أتاه محتاج، والأول أصح؛ لأن قوله * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) يقتضي الخلة من الجانبين. ولا يتصور الحاجة من الجانبين. وفي الخبر قال: ' إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا خليلا، لاتخذت أبا بكر؛ ولكن ود وإخاء إيمان، وإن صاحبكم خليل الله '.
قوله تعالى: * (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شئ محيطا) المحيط: هو العالم بالشيء بجميع ما يتصور العلم به.
قوله تعالى: * (ويستفتونك في النساء) أي: يطلبون فتواك في النساء، قيل: هذا في أم كجة وقد بينا قصتها، وأن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء والصبيان.
* (قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) قال الزجاج: يعنى: ويفتيكم كما يتلى عليكم في الكتاب * (في يتامى النساء) هذا إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأنه أراد باليتامى: النساء * (اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن) قال الحسن، وجماعة: أراد به: لا تؤتونهن حقهن من الميراث * (وترغبون أن تنكحوهن) به، بمعنى: عن أن تنكحوهن لدمامتهن، وحملوا الآية على الميراث.
وقالت عائشة: أراد به: لا تؤتونهن ما كتب لهن من الصداق. وقوله: * (وترغبون أن تنكحوهن) يعني: في أن تنكحوهن، * (والمستضعفين من الولدان) يعني:
485

* (امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (128) ولن) * * ويفتيكم في المستضعفين من الوالدان، وهم الصغار * (وأن تقوموا لليتامى بالقسط) أي: بالعدل * (وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما).
قوله تعالى: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا) النشوز: هو الارتفاع، والمراد به، ارتفاع الزوج، والتكبر بنفسه على الزوجة، ومنه النشز. * (أو إعراضا) يعنى: أو خافت إعراضا من الزوج * (فلا جناح عليهما أن يصلحا) وقرئ: ' أن يصالحا بينهما صلحا ' يعني: بين الزوجين، واختلفوا فيمن نزلت الآية، قال بعضهم: نزلت في امرأة رافع بن خديج، فإنها كبرت، وتزوج رافع عليها شابة وخافت أن يعرض عنها؛ فنزلت الآية.
وقوله: * (أن يصلحا بينهما صلحا) يعني: أن يترك شيئا من القسم، وترضى بأن يكون القسم للشابة أكثر، وقيل: هو الصلح عن المهر بالإبراء، ونحوه، والقول الثاني: أن الآية نزلت في سودة بنت زمعة؛ أراد النبي أن يطلقها؛ فقالت: لا تطلقني، قد وهبت ليلتي لعائشة، فلا تطلقني حتى أحشر يوم القيامة في زمرة نسائك.
* (والصلح خير) قيل: أراد به: الصلح خير من الفرقة، وقيل: أراد به: الصلح خير من النشوز، والإعراض * (وأحضرت الأنفس الشح) والشح: البخل، وقيل: هو أقبح البخل، وحقيقته: الحرص على منع الخير، وأراد به: شح الزوجين على حقيهما * (وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا).
486

* (تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما (129) وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما (130) ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب) * *
قوله تعالى: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) قال عمر، وعلي، وابن عباس، أراد بالعدل: المحبة في القلب * (فلا تميلوا كل الميل) يعنى: إن ملتم في المحبة، فلا تميلوا في القسم، وقد قال: ' اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذاني فيما لا أملك ' * (فتذروها كالمعلقة) يعني لا أيما ولا ذات بعل، وقيل: كالمحبوسة * (وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما). قوله - تعالى -: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) يعني: الزوجين إذا تفرقا، فالزوج يجد الزوجة، والزوجة تجد الزوج * (وكان الله واسعا حكيما) أي: واسع الفضل والرحمة والقدرة.
قوله تعالى: * (ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) هذه وصية الله العباد بالتقوى، (* (وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا) * ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) فإن قيل: أي فائدة في تكرار قوله: * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) قيل: لكل واحد منها وجه: أما الأول: فمعناه: ولله ما في السماوات وما في الأرض، وهو يوصيكم بالتقوى، فاتقوه، واقبلوا وصيته.
487

* (من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا (131) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (132) إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا (133) من كان يريد ثواب) * *
وأما الثاني: يقول: فإن لله ما في السماوات وما في الأرض، وكان الله غنيا حميدا؛ فاطلبوا منه ما تطلبون.
وأما الثالث يقول: ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا، أي: اتخذوه وكيلا ولا تتكلوا على غيره.
قوله تعالى: * (إن يشاء يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين) روى: ' أن النبي كان يضرب بيده كتف سلمان، ويقرأ: * (ويأت بآخرين) ويقول: سلمان وأصحابه ' * (وكان الله على ذلك قديرا).
قوله تعالى: * (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) أراد به: الكفار؛ فإنهم يعملون ابتغاء ثواب الدنيا، وطلبا لنعيمها، ولا يطلبون ثواب الآخرة، ولا يؤمنون بها؛ فقال الله تعالى: * (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا).
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط) القوام: مبالغة من القائم، والقسط: العدل، ومعناه: كونوا قائلين بالعدل * (شهداء لله) لأنهم إذا شهدوا بالحق وقاموا بالعدل، كانوا شهداء لله * (ولو على أنفسكم) فإن قيل: كيف يشهد على نفسه؟ قيل: شهادته على نفسه: هو الإقرار، وهو معنى ما روى عن ابن عباس: ' قولوا الحق ولو على أنفسكم '.
* (أو الوالدين والأقربين) أي: قولوا الحق، ولو على الوالدين والأقربين، قيل: نزلت الآية في رجل كانت عنده شهادة على أبيه، فهم أن يمتنع عنها؛ فنزل قوله:
488

* (الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا (134) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن
غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * * (أو الوالدين والأقربين)، * (إن يكن غنيا أو فقيرا) قال السدي: نزل ذلك في رجلين اختصما إلى النبي، أحدهما غني، والآخر فقير، وكان ضلع النبي عليه السلام إلى الفقير، وكان عنده أن الفقير لا يخاصم بالباطل، وكان الحق للغني في الباطن؛ فنزلت الآية * (إن يكن غنيا أو فقير).
قال ابن عباس: معناه: لا تجادلوا الغني لغناه، ولا ترحموا الفقير لفقره، وقال عطاء: لا تحيفوا على الفقير، ولا تعظموا الغني؛ فهذا معنى الآية، وحقيقة المعنى: قوموا بالشهادة، سواء كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا، وسواء كان المشهود له غنيا أو فقيرا، ولا تمتنعوا عن الشهادة للغني لغناه، ولا عن الشهادة على الفقير لفقره.
وقوله: * (إن يكن غنيا أو فقيرا): يعني: إن يكن المشهود عليه غنيا، أو فقيرا * (فالله أولى بهما) أي: كلوا أمرهما إلى الله، قال الحسن: معناه: فالله أعلم بهما. * (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) قيل: معناه: فلا تتبعوا الهوى بأن تعدلوا، أي: لتكونوا عادلين، كما يقال: لا تعص فترضى ربك، وقيل: معناه: لا تتبعوا الهوى لتميلوا من الحق إلى الباطل * (وإن تلووا) وهي من اللي قال الشاعر:
(وكنت داينت به حسانا
* مخافة الإفلاس والليانا)
وفي معناه قولان: أحدهما: أنه خطاب للحكام، ومعنى * (وإن تلووا) أي: تميلوا إلى أحد الخصمين، أو تعرضوا عنه.
والثاني وهو قول أكثر المفسرين أنه خطاب للشهود، واللي منهم: تحريف الشهادة ' والإعراض: كتمان الشهادة والأول: قول ابن عباس، وأما القراءة الثانية: ' وإن تلوا ' فيه قولان: أحدهما: أن أصله: ' وإن تلووا ' فإدخلت إحدى الواوين
489

(* (135) يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا (136) إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم) * * في الأخرى تخفيفا، والمعنى ما بينا، والثاني: أنه من الولاية، يعني: وإن تلوا القيام بأداء الشهادة * (أو تعرضوا) فتتركوا أداء الشهادة * (فإن الله كان بما تعملون خبيرا).
قول تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) أكثر المفسرين علي أنه في المؤمنين، ومعناه: يا أيها الذين آمنوا آمنوا، أي اثبتوا على الإيمان، كما يقال: قف حتى أرجع إليك للرجل الواقف أي: أثبت واقفا.
وقال مجاهد: هو خطاب للمنافقين، ومعناه: يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب، وقال الضحاك وهو رواية الكلبي عن ابن عباس: هو خطاب لأهل الكتاب، ومعناه: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد * (والكتاب الذي نزل على رسوله) يعني: القرآن * (والكتاب الذي أنزل من قبل) يعني: الكتب المنزلة من قبل القرآن.
* (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) أي: بعيدا عن الحق.
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) قال قتادة: هذا في اليهود، آمنوا بموسى، ثم كفروا به بعبادة العجل، ثم آمنوا بموسى بالتوبة، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفروا بمحمد، وقيل: هو في جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ آمنوا بنبيهم، ثم كفروا به، وآمنوا بكتابهم، ثم كفروا به ثم ازدادوا كفرا بمحمد. وقال مجاهد: هو في قوم مرتدين آمنوا، ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم ارتدوا.
ومثل هذا هل تقبل توبته؟
قال علي: لا تقبل توبته؛ فإنه إذا آمن، ثم كفر، ثم آمن، ثم كفر، فلو أراد أن يؤمن
490

* (ولا ليهديهم سبيلا (137) بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما (138) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا (139) وقد نزل عليكم في) * * لا يقبل منه، ويقتل؛ لقوله - تعالى -: * (لم يكن الله ليغفر لهم).
وأكثر أهل العلم على أنه: تقبل توبته، ويحتمل أن تكون الآية في المنافقين، وقوم من أهل الكتاب، كانوا يؤمنون باللسان، ثم يرجعون إلى الكفر، ثم يأتون، فيؤمنون، ثم يرجعون إلى الكفر.
* (لم يكن الله ليغفر لهم) فإن قيل: أيش معنى قوله - تعالى -: * (لم يكن الله ليغفر لهم)، ومعلوم أن الله لا يغفر الكفر؟ قيل: أجاب النقاش في تفسيره أن معناه: أن الكافر إذا أسلم، يغفر له كفره السابق، فهذا الذي أسلم، ثم كفر ثم أسلم، ثم كفر، لا يغفر كفره السابق الذي كان يغفر لو ثبت على الإسلام * (ولا يهديهم سبيلا) أي: طريقا إلى الحق.
قوله - تعالى -: * (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) فإن قيل: ما معنى البشارة بالعذاب الأليم؟ قيل: أصل البشارة: كل خبر تتغير به بشرة الوجه، سارا كان أم مكروها، لكنه في الغالب إنما يستعمل في الخبر السار، فإذا استعمل في الخبر السيء كان على الأصل، وقيل: أراد به: ضع هذا موضع البشارة، كما تقول العرب: تحيتك السوط، وعقابك السيف.
يعنى: وضعت السوط مع التحية، قال الشاعر:
(وخيل قد دلفت بها لخيل
* تحية بينهم ضرب وجيع)
قوله - تعالى -: * (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) هذا في المنافقين، كانوا يوالون الكفار، ويظنون أن النصرة والغلبة لهم * (أيبتغون عندهم العزة) يعنى: أيطلبون عندهم القوة والغلبة * (فإن العزة لله جميعا) أي: القوة والغلبة كلها لله - تعالى -.
* (الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا (140) الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا) * * فإن قال قائل: قد نرى في بعض الأحوال الغلبة للكفار؛ فما معنى قوله: * (فإن العزة لله جميعا)؟ قيل: معناه: أن المقوى هو الله - تعالى - في الأحوال كلها.
وقيل: معناه: الغلبة بالحجة لله جميعا.
قوله - تعالى -: * (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم).
هذا إشارة إلى ما أنزل في سورة الأنعام * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم....) الآية. نهى عن القعود معهم، وما حكم القعود معهم؟ أما إذا قعد معهم... ورضى بما يخوضون فيه، فهو كافر مثلهم، وهو معنى قوله: * (إنكم إذا مثلهم). وإن قعد، ولم يرض بما يخوضون فيه، فالأولى أن لا يقعد، ولكن لو قعد كارها، فلا يكفر، وهذا هو الحكم في كل بدعة يخاض فيها، فلو تركوا الخوض فيه وخاضوا في حديث غيره، فلا بأس بالقعود معهم وإن كره؛ لقوله * (حتى يخوضوا في حديث غيره) قال الحسن: وإن خاضوا في حديث غيره لا يجوز القعود معهم؛ لقوله في سورة الأنعام: * (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) والأكثرون على أنه يجوز، وآية الأنعام مكية وهذه الآية مدنية، والمتأخر أولى.
* (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا الذين يتربصون بكم) يعنى: المنافقين ينتظرون أمركم (فإن كان لكم فتح من الله) يعنى: ظفر * (قالوا ألم نكن معكم) يعنى: كنا معكم، فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة * (وإن كان للكافرين نصيب) يعنى: وإن كانت القوة للكافرين * (قالوا ألم نستحوذ عليكم
492

* (ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141) إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا (142) مذبذبين بين ذلك لا إلى) * * ونمنعكم من المؤمنين) الاستحواذ: الاستيلاء والغلبة ومنه قوله - تعالى -: * (استحوذ عليهم الشيطان) قال المبرد: معنى هذا: قالوا: ألم نغلبكم على رأيكم، ونمنعكم من المؤمنين، والدخول في جملتهم، وتخذيل المؤمنين عنكم.
وقال غيره: معناه: ألم نستول عليكم بالنصرة لكم من جهة مراسلتنا إياكم بأخبار المؤمنين، وأمورهم، وتخذيلنا إياهم عنكم. (* (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) * ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) قال على، وابن عباس: أراد به: في القيامة، وقيل: هو سبيل الحجة، أي: لا تكون الحجة للكافرين على المؤمنين أبدا. قوله - تعالى -: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) يخادعون الله، أي: يعاملون الله معاملة المخادعين حيث أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، وهو خادعهم، أي: يعاملهم معاملة المخادعين، وذلك على وجهين: أحدهما: أنه حكم بإيمانهم في الظاهر، وكفرهم في الباطن، كما فعلوا هم والثاني: أنه في القيامة يعطيهم نورا، كما يعطى المؤمنين، ثم إذا كانوا على الصراط طفئ نورهم، وذهب المؤمنون بنورهم، وهذا معنى قوله: * (وهو خادعهم) وقيل: معناه: يخادعون رسول الله، وهو خادعهم، أي: يجازيهم على مخادعتهم الرسول، وسمى الثاني خداعا على الازدواج، كما قال: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وفي حديث عدى بن حاتم أن النبي قال: ' يؤتى بناس من الناس يوم القيامة إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها، واستنشقوا رائحتها، ورأوا فيها من النعيم، يأمر الله - تعالى - بصرفهم عنها، فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها، فيقولون: يا رب، لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا، فيقول الله - تعالى -: ذاك أردت لكم،
493

* (هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (143) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا (144) إن) * * وكنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس، لقيتموهم مخبتين، هبتم الناس ولم تهابوني، أجللتم الناس، ولم تجلوني، تركتم للناس، ولم تتركوا لي؛ فاليوم أذيقكم العذاب، مع ما حرمتم من الثواب '.
وقوله: * (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) يعنى: متثاقلين، وهذا دأب المنافقين؛ لقلة الدواعي لهم، وأما المؤمنين ينشطون إلى القيام إلى الصلاة؛ لكثرة الدواعي لهم، * (يراءون الناس) أي: يعملون ما يعملون، مراءه للناس، لا اتباعا لأمر الله.
واعلم أن الرياء لا يوجب الكفر، وهو عيب عظيم، وأما النفاق كفر محض.
* (ولا يذكرون الله إلا قليلا) قال الحسن: لأنه لما لم يتقبل عملهم، كان قليلا * (مذبذبين بين ذلك) أي: متذبذبين وكذلك قرأ أبي بن كعب، ومعناه: مضطربين متحيرين * (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)، يعنى: لا إلى الكفار بالتصريح بالشرك، ولا إلى المؤمنين باعتقاد الإيمان.
وروى ابن عمر عن النبي أنه قال: ' مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين ربيضين، إن جاءت إلى هذه، نطحتها، وإن جاءت إلى هذه نطحتها ' * (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) أي: ومن يضلله الله، فلن تجد له طريقا إلى الحق.
قوله - تعالى -: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون
494

* (المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله
المؤمنين أجرا) * * المؤمنين) في الآية نهى عن موالاة المؤمنين مع الكفار * (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) السلطان: الحجة، ومنه يقال: للأمير سلطان؛ لأنه ذو الحجة، ومعناه: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة في عذابكم، بحيث لا يبقى لكم عذر عنده؟!.
قوله - تعالى -: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) ويقرأ: ' في الدرك ' بجزم الراء - قال أبو عبيده، والأخفش: النار دركات، والجنة درجات، قال أهل العلم: يجوز أن يكون فرعون وهامان أشد عذابا من المنافقين، وإن كان المنافقون في الدرك الأسفل. قال ابن مسعود: الدرك الأسفل: تابوت من حديد مقفل عليهم، وقيل: تابوت من النار. قال أبو هريرة: والدرك الأسفل: بيت مطبق عليهم، تتوقد النار فيه من فوقهم، ومن تحتهم * (ولن تجد لهم نصيرا) مانعا من العذاب.
قوله - تعالى -: * (إلا الذين تابوا) أي: أسلموا * (وأصلحوا) أي: داموا على التوبة * (واعتصموا بالله) الاعتصام: هو الامتناع بالشيء مما يخاف، فالاعتصام بالله: هو الامتناع بطاعته من كل ما يخاف عاجلا، وآجلا * (وأخلصوا دينهم لله) شرط الإخلاص بالقلب؛ لأن الآية في المنافقين، والنفاق: كفر القلب، فزواله بالإخلاص * (فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما)، وإنما لم يقل: فأولئك هم المؤمنون، وسوف يؤتيهم الله أجرا عظيما؛ غيظا على المنافقين.
قوله - تعالى -: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) هذا استفهام بمعنى التقرير، ومعناه: لا يعذب الله المؤمن الشاكر، وتقدير قوله: * (إن شكرتم وآمنتم) أي: إن آمنتم وشكرتم، والشكر ضد الكفر، والكفر: ستر النعمة والشكر: إظهار النعمة * (وكان الله شاكرا عليما) الشكر من الله قبول العمل، ومعناه: وكان
495

* (عظيما (146) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما (147) لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148) إن تبدوا خيرا أو) * * الله قابلا للطاعات، عليما بالنيات.
قوله - تعالى -: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) قال ابن عباس: معناه: إلا من ظلم، فيجوز له أن يجهر بالسوء بالإخبار عن ظلم الظالم، والدعاء عليه، قال الحسن: دعاؤه عليه: أن يقول: اللهم اعني عليه، اللهم استخرج حقي منه.
وقيل: يجوز له أن يشتم، ولكن بمثل ما شتم، لا يزيد عليه، بما لم يكن قذفا، وقد ورد في الحديث: ' السبتان بالسبة ربا ' قال مجاهد: هو في الضيف يأتي قوما، فلم يقروه، ولم يحسنوا ضيافته، يجوز له أن يجهر بالسوء لهم.
ويقرأ: ' إلا من ظلم ' بفتح الظاء واللام.
قال الزجاج: معناه: إلا من ظلم، فأجهر قوله بالسوء، وقيل: هو راجع إلى الآية المتقدمة، وتقديره: ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم إلا من ظلم وقيل: هو استثناء منقطع، يعنى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، لكن يجهر بالسوء من ظلم * (وكان الله سميعا عليما) سميعا لأقوالكم: عليما بنياتكم.
قوله - تعالى -: * (إن تبدوا خيرا أو تخفوه) معناه: إن تبدوا شيئا من الصدقات؛ ليقتدي بكم، أو تخفوه؛ مخافة الرياء * (أو تعفوا عن سوء) تصابون به * (فإن الله كان عفوا قديرا).
قوله - تعالى -: * (إن الذين يكفرون بالله ورسله) أراد به اليهود لما كفروا بمحمد فكأنهم كفروا بالله * (ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) يريدون أن يؤمنوا بالله، ويكفروا بالرسول * (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) يؤمنون بموسى، ويكفرون بعيسى، ومحمد * (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا) أي: مذهبا يذهبون إليه.
496

* (تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا (149) إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا واعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151) والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما (153) يسئلك عن أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من) * * (أولئك هم الكافرون حقا) إنما حقق كفرهم، ليعلم أنهم كفار مطلقا لئلا يظن ظان أنهم لما آمنوا بالله وبعض الرسل لا يكون كفرهم مطلقا * (اعتدنا للكافرين عذابا مهينا).
قوله - تعالى -: * (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم) إنما سماه أجرا مجازا؛ لأنه ذكره بإزاء العمل، لأن العمل يوجبه، وهذا نحو قوله - تعالى - في قصة موسى: * (إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) سماه أجرا على مقابلة العمل؛ لأن موسى عمل؛ ليؤجر عليه * (وكان الله غفورا رحيما).
قوله - تعالى -: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) هم اليهود، قالوا للنبي لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء جملة، كما أنزلت التوراة على موسى جملة.
قال الحسن: ولم يكن ذلك سؤال انقياد، وإنما ذلك سؤال تحكم، واقتراح؛ فإنهم لو أنزل عليهم الكتاب جملة، كما سألوا؛ لم يؤمنوا، والله - تعالى - لا ينزل الآيات على اقتراح العباد، وإنما ينزلها على مشيئته * (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) أي: أعظم من ذلك * (فقالوا أرنا الله جهرة) أي: عيانا، وذلك أن العرب كانت تعد العلم بالقلب رؤية؛ فقال: * (جهرة) ليعلم أنه أراد العيان، وقال أبو عبيده: معناه:
497

* (السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا (153) ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (154) فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات
الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا) * *
فقالوا جهرة: أرنا الله * (فأخذتهم الصاعقة بظلمهم)، * (ثم اتخذوا العجل) يعنى: إلها * (من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك) فيه استدعاء للتوبة، ومعناه: أن أولئك الذين اجترموا ذلك الإجرام، عفونا عنهم؛ فتوبوا أنتم، حتى نعفو عنكم * (وآتينا موسى سلطانا مبينا) حجة بينة من المعجزات.
قوله - تعالى -: * (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم) الطور: جبل الطور، وقيل: كل جبل ينبت شيئا، فهو طور، فإن لم ينبت، لا يسمى طورا، والميثاق: العهد المؤكد باليمين.
* (وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا) قيل: إنهم سجدوا على أنصاف وجوههم، حتى دخلوا الباب، وفي القصة: أنهم قالوا: بهذا السجود رفع العذاب عنا، فلا نترك هذا السجود، وكانوا يسجدون بعد ذلك على أنصاف وجوههم.
* (وقلنا لهم لا تعدوا في السبت) وقرأ نافع - برواية قالوا -: * (لا تعدوا) - بجزم العين، مشددة الدال وفي رواية ورش عنه * (لا تعدوا) - بفتح العين مشددة الدال ومعنى الكل: لا يتعدوا في السبت * (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا).
قوله - تعالى -: * (فبما نقضهم ميثاقهم) وما للصلة، وإنما تدخل في الكلام؛ لتفخيمه، وتجزيله * (وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف) قد ذكرنا كل هذا * (بل طبع الله عليها بكفرهم) الطبع: الختم، وقال
498

* (اقليلا (155) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه) * * لزجاج: جعل قلوبهم، كالمطبوع لا يفلح، ولا يصلح أبدا، ولا يدخلها خير؛ فلا يؤمنون إلا قليلا * (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) أراد به: نسبتهم مريم إلى الزنا.
قوله - تعالى -: * (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم).
قيل: إن الله - تعالى - ألقى شبه عيسى على الذي دلهم عليه؛ فقتلوه وقيل: إنهم كانوا حبسوا عيسى في بيت، وجعلوا عليه رقيبا، فألقى الله تعالى شبه عيسى على الرقيب؛ فقتلوه، وقيل: إنهم ما كانوا يعرفون عيسى بعينه، وكانوا يعرفونه باسمه، وكانوا يطلبونه؛ فقال لهم يهوذا - وهو واحد من أصحاب عيسى -: أعطوني شيئا، أدلكم على عيسى؛ فأعطوه ثلاثين درهما؛ فدلهم على غيره، فقتلوا ذلك الغير؛ فهذا قوله: * (ولكن شبه لهم)، * (وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه) وذلك أن الرجل الذي قتلوه على ظن أنه عيسى، كان يشبهه بوجهه، ولا يشبهه بجسده، فوقع فيهم الاختلاف، فقال بعضهم: الذي قتلناه كان عيسى، وقال بعضهم: لم يكن عيسى. وقيل: هو الاختلاف بين علمائهم، وأغتامهم؛ فإن علماءهم كانوا يعلمون أنهم لم يصلبوا عيسى وكان عند جهالهم وأغتامهم أنهم قتلوا عيسى، * (وما لهم به من علم) يعنى: من حقيقة علم * (إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا) قال ابن الأنباري: قوله: * (وما قتلوه) كلام تام، وقوله: * (يقينا) راجع إلى ما بعد، وتقديره: ' بل رفعه الله إليه يقينا، قال الفراء: معناه: وما قتلوا
499

* (وكان الله عزيزا حكيما (158) وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (159) فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160) وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس) * * الذي ظنوا أنه عيسى يقينا أنه عيسى، وقيل: الهاء كناية عن عيسى، أي: وما قتلوا عيسى يقينا * (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما).
قوله - تعالى -: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) معناه: وأن من أهل الكتاب أحدا إلا ليؤمن به، وهو مثل قوله: * (وإن منكم إلا واردها) أي: وأن منكم أحد.
واختلفوا في قوله: * (قبل موته) قال الحسن - وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس -: إنه كناية عن الكتابي، وقال: ما من كتابي من اليهود، إلا وهو يؤمن بعيسى قبل موته في وقت اليأس، حين لا ينفعه، حتى قيل لابن عباس: وإن مات حرقا أو غرقا أو هدما؟ قال: نعم.
وقال قتادة - وهو رواية أخرى عن ابن عباس -: إن ' الهاء ' كناية عن عيسى، يعنى: ما من كتابي إلا يؤمن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك حين ينزل من السماء، وقال عكرمة: هذا في محمد ما من كتابي إلا ويؤمن به قبل الموت، وهذا قول ضعيف؛ لأنه لم يجر ذكر محمد في الآية * (ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) يعنى: عيسى.
قوله - تعالى -: * (فبظلم من الذين هادوا) يعنى: ما ذكر من إجرامهم * (حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) هو ما ذكرنا في سورة الأنعام * (وعلى الذين هادوا حرمنا
500

* (بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما (161) لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما (163) إنا أوحينا) * * كل ذي ظفر...) الآية على ما سيأتي * (وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) يعنى: الرشا * (اعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما).
قوله - تعالى -: * (ولكن الراسخون في العلم منهم) لكن للإضراب عن كلام، والدخول في كلام آخر، * (والراسخون): المبالغون في العلم أولوا البصائر فيه، وأراد به: الذين أسلموا من علماء اليهود: مثل عبد الله بن سلام، ويمين بن يمين، وأسد وأسيد ابني كعب، وجماعة * (والمؤمنون) أراد به: المهاجرين، والأنصار
* (يؤمنون بما أنزل إليك) يعنى: القرآن * (وما أنزل من قبلك) يعنى: سائر الكتب المنزلة * (والمقيمين الصلاة) في هذا إشكال من حيث النحو، قيل: إن هذا ذكر لعائشة، وأبان بن عثمان، فادعيا الغلط على الكاتب، وقالا: ينبغي أن يكتب: ' والمقيمون الصلاة ' وليس هكذا؛ بل هو صحيح في النحو، وهو نصب على المدح، وتقديره: واذكروا المقيمين الصلاة، أو أعنى: المقيمين الصلاة، وهم المؤتون الزكاة، ومثله قول الشاعر:
(النازلين بكل معترك
* والطيبون [معاقد] الأزر)
أي: أعنى النازلين بكل معترك، وهم الطيبون معاقد الأزر؛ فيكون نصبا على المدح، وقيل تقديره: وما أنزل على المقيمين الصلاة، قوله: * (والمؤتون الزكاة) رجوع إلى نسق الأول * (والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما).
501

* (إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى) * *
قوله - تعالى -: * (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) هذا بناء على ما [سبق] من قوله * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) يقول الله - تعالى -: قد جعلناك رسولا بالطريق الذي [قد] جعلنا سائر الأنبياء رسلا، وهو الوحي، * (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان) ذكر عدة من الرسل الذين أوحى إليهم.
فإن قال قائل: لم قدم ذكر عيسى، وهو متأخر؟ قيل: ' الواو ' لا توجب الترتيب، وإنما هي للجمع، وقيل: ذكره اهتماما بأمره، وكان أمر عيسى أهم * (وآتينا داود زبورا) قرأ حمزة: ' زبورا ' - بضم الزاي - فالزبور: فعول بمعنى المفعول، وهو الكتاب الذي أنزل الله - تعالى - على داود، فيه التحميد، والتمجيد، وثناء الله - تعالى -، والزبور: الكتابة، والزبرة قطعة الحديد، ويقال: ما له زبر أي: ما له عقل، وأما الزبور: جمع الزبر.
قوله - تعالى -: * (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل) وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل * (ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) إنما كلمه بنفسه من غير واسطة، ولا وحي، وفيه دليل على من قال: إن الله خلق كلاما في الشجرة؛ فسمعه موسى؛ وذلك لأنه قال: * (وكلم الله موسى تكليما)
502

* (تكليما (164) رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165) لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون) * *
قال الفراء، وثعلب: إن العرب تسمى ما توصل إلى الإنسان: كلاما، بأي طريق وصل إليه، ولكن لا تحققه بالمصدر، فإذا حقق الكلام بالمصدر، لم تكن إلا حقيقة الكلام، وهذا كالإرادة، يقال: أراد فلان إرادة، فيكون حقيقة الإرادة، ولا يقال: أراد الجدار أن يسقط إرادة، وإنما يقال: أراد الجدار، من غير ذكر المصدر؛ لأنه مجاز، فلما حقق الله كلامه موسى بالتكليم، عرف أنه حقيقة الكلام من غير واسطة، قال ثعلب: وهذا دليل من قول الفراء أنه ما كان يقول بخلق القرآن.
فإن قال قائل: بأي شئ عرف موسى أنه كلام الله؟ قيل: بتعريف الله - تعالى - إياه، وإنزال آية عرف موسى بتلك الآية أنه كلام الله - تعالى -، وهذا مذهب أهل السنة أنه سمع كلام الله حقيقة، بلا كيف، وقال وائل بن داود: معنى قوله: * (وكلم الله موسى تكليما) أي: مرارا، كلاما بعد كلام.
قوله - تعالى -: * (رسلا مبشرين ومنذرين) أي: أرسلنا رسلا * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وهذا دليل على أن الله - تعالى - لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسل، وهذا معنى قوله: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقال - تعالى - * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى).
* (وكان الله عزيزا) أي: مقتدرا على معاونة الخلق (حكيما) ببعث الرسل. وفي حديث أبي الدرداء أنه قال: ' سألت رسول الله عن عدد الأنبياء فقال: مائة وأربعة وعشرون ألفا، فقلت: كم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وخمسة عشر [جما غفيرا] '.
503

* (وكفى بالله شهيدا (166) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا (167) إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا (168) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا (169) يا أيها الناس قد جاءكم) * *
قوله - تعالى - * (لكن الله يشهد بما أنزل إليك) سبب نزول الآية: أن قوما من علماء اليهود حضروا عند النبي، فقال لهم: ' أنتم تعلمون أنى رسول الله؟ فقالوا: لا نعلم ذلك؛ فنزل قوله: * (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه) ' أي: مع علمه، كما يقال: جاءني فلان بسيفه، أي: مع سيفه، وفيه دليل على أن لله علما، هو صفته، خلاف قول المعتزلة خذلهم الله.
* (والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) فإن قيل: إذا شهد الله له بالرسالة، فأي حاجة إلى شهادة الملائكة؟ قيل: لأن الذين حضروا عند النبي، كان عندهم أنهم علماء الأرض؛ فقالوا: نحن علماء الأرض، ونحن ننكر رسالتك، فقال الله تعالى: إن أنكره علماء الأرض، يشهد به علماء السماء، وهم الملائكة، على مقابلة زعمهم وظنهم؛ لا للحاجة إلى شهادتهم؛ فإنه قال: * (وكفى بالله شهيدا).
قوله - تعالى -: * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) صدهم عن سبيل الله كان بكتمان نعت محمد * (قد ضلوا ضلالا بعيدا) أي: هلكوا، والضلال: الهلاك. قوله - تعالى -: * (إن الذين كفروا وظلموا) فإن قال قائل: أي معنى لقوله: * (وظلموا) وقد قال: * (كفروا) وظلمهم كفرهم؟ قيل: معناه: كفروا بالله،
وظلموا محمدا بكتمان نعته.
وقيل: ذكره تأكيدا * (لم يكن الله ليغفر لهم) في هذا إشارة إلى أن الله - تعالى - لو غفر للكافرين أجمع، كان يسع ذلك رحمته، لكنه قطع القول بأن لا يغفر لهم،
504

* (الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (170) يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا) * * (ولا ليهديهم طريقا) يعنى: الإسلام * (إلا طريق جهنم) يعنى: اليهودية * (خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا).
قوله - تعالى -: * (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم) تقديره: يكن الإيمان خيرا لكم * (وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما).
قوله - تعالى -: * (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) الغلو: مجاوزة الحد، والآية في النصارى، قال الحسن: يجوز أن تكون في اليهود والنصارى؛ فإنهم غلوا في أمر عيسى، أما اليهود بالتقصير في حقه، وأما النصارى بمجاوزة الحد فيه.
الغلو غير محمود في الدين، روى ابن عباس عن النبي أنه قال: ' إياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو '.
* (ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته) وقد بينا أقوال العلماء في كونه ' كلمة ' وجملته ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه بكلمته، وهي قوله: كن، فكان، والثاني: أنه يهتدي به، كما يهتدي بكلمة الله، الثالث: كلمته: بشارته التي بشر بها في الكتب ' يكون عيسى ' فهذا معنى قوله: (* (وكلمته) * ألقاها إلى مريم وروح منه) وفي تسميته ' روحا ' ثلاثة أقاويل:
505

* (بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر) * * أحدها: أنه كان له روح كسائر الأرواح، إلا أن الله - تعالى - أضافه إلى نفسه تشريفا.
والثاني: أنه تحيا به القلوب، كما تحيا الأبدان بالروح.
الثالث: أن الروح: هو النفخ الذي نفخ في مريم جبريل بإذن الله؛ فسمى ذلك النفخ روحا.
(فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة) وكانت النصارى يقولون بالثلاثة، كانوا يقولون: ابن، وآب، وروح القدس، وهذا معنى قوله - تعالى -: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وقوله: * (انتهوا خيرا لكم) تقديره: يكن الانتهاء خيرا لكم.
* (إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد) واعلم أن الله - تعالى - كما لا يجوز له أن يتخذ ولدا، لا يجوز عليه التبني؛ فإن التبني إنما يكون حيث يكون به الولد، فإذا لم يتصور لله ولد ولم يجز عليه التبني * (له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا).
قوله - تعالى -: * (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله) الاستنكاف: التكبر مع الأنفة، ومعناه: لن يأنف المسيح أن يكون عبدا * (ولا الملائكة المقربون) واستدل بهذه الآية من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر؛ لأن الله تعالى ارتقى من عيسى إلى الملائكة، وليس في الآية مستدل، وإنما قال: (ولا الملائكة المقربون) [لا] لامتناع مكانهم ومقامهم على مقام البشر، وإنما قال ذلك على ما عند النصارى،
506

* (فسيحشرهم إليه جميعا (172) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (173) يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (175) يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) * * ولعله كان عندهم أن الملائكة أفضل من البشر، فقال ذلك على ما في زعمهم.
وقوله: * (ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) الفرق بين الاستنكاف والاستكبار: أن الاستنكاف هو التكبر مع الأنفة، والاستكبار: هو الغلو، والتكبر من غير أنفة.
* (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) قيل: زيادة فضله: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقيل: هو الشفاعة، وفي الحديث: ' يشفع الصالحون يوم القيامة لمن يعرفون '.
* (وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا).
قوله - تعالى -: * (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) قيل: هو محمد، على هذا أكثر المفسرين. وقيل: هو القرآن.
والبرهان في اللغة: هو الحجة * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) هو القرآن.
قوله تعالى: * (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل) يعنى الجنة * (ويهديهم إليه صراطا مستقيما).
قوله - تعالى -: * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) روى عن البراء بن عازب أنه قال: آخر سورة أنزلت كاملة: سورة براءة، وآخر آية أنزلت هذه الآية.
507

* (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وأن كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ) * *
وسبب نزول الآية ما روى: ' أن النبي دخل على جابر وهو مريض، وكان قد أغمي عليه، فدعا بماء وتوضأ، ثم رشه عليه، فأفاق، فقال جابر: يا رسول الله، ماذا أصنع في مالي، وإنما ترثني كلالة؟ فنزلت الآية '، وقد سبق الكلام في الكلالة.
وتلك الآية في توريث الاخوة والأخوات من الأم، وهذه الآية في توريث الاخوة والأخوات من الأب والأم، ومن الأب * (إن امرؤ هلك ليس له ولد) تقديره: ليس له ولد، ولا والد، وعلى هذا أكثر العلماء، أن الكلالة: هذا، وأن الأخوة والأخوات لا يرثون مع الأب، إلا ما يحكى عن عمر - رضي الله عنه -: أنه ورثهم مع الأب، وقد سبق.
قوله - تعالى -: * (ليس له ولد) أراد به: الذكر، وعلى هذا أكثر العلماء: أن الاخوة والأخوات إنما لا يرثون مع الابن، ويرثون مع البنت، وحكى عن ابن عباس، وبه قال داود وأهل الظاهر -: أن الإخوة والأخوات لا يرثون مع البنت، تمسكا بظاهر الآية، وقد بينا أن المراد به: الابن، والآية في نفي الفرض مع الولد وعندنا: إنما يرثون بالتعصيب، فإن الأخوات مع البنات عصبة.
قوله - تعالى -: * (وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا).
قال الفراء: معناه: يبين الله لكم أن لا تضلوا، وهو قول أبي عبيده، قال أبو عبيده: وذكر الكسائي حديثا في معناه؛ فأعجبه ذلك، وذلك ما روى عن النبي أنه قال: ' لا يدعون أحدكم على ابنه أن يوافق قدرا ' أي: أن لا يوافق قدرا.
508

* (الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيئا عليم (176)) * *
وقال البصريون: معناه: يبين الله لكم كراهية أن تضلوا * (والله بكل شئ عليم).
والله أعلم، صدق الله وصدق رسول الله وعلى آله أجمعين.
509