الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ١٩
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى
* (وهو الذى مد الارض وجعل فيها رواسى وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى اليل النهار إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) *
اعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال: * (وهو الذي مد الأرض) *.
واعلم أن الاستدلال بخلقه الأرض وأحوالها من وجوه: الأول: أن الشيء إذا تزايد حجمه ومقداره صار كأن ذلك الحجم وذلك المقدار يمتد فقوله: * (وهو الذي مد الأرض) * إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي جعل الأرض مختصة بذلك المقدار المعين الحاصل له لا أزيد ولا أنقص والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقدارا مما هو الآن وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه فاختصاصه بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص وتقدير. الثاني: قال أبو بكر الأصم المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله: * (وهو الذي مد الأرض) * يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجما عظيما لا يقع البصر على منتهاه، لأن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به. والثالث: قال قوم كانت الأرض مدورة فمدها ودحا من مكة من تحت البيت فذهبت كذا وكذا. وقال آخرون: كانت مجتمعة عند البيت المقدس فقال لها: اذهبي كذا وكذا.
اعلم أن هذا القول إنما يتم إذا قلنا الأرض مسطحة لا كرة وأصحاب هذا القول احتجوا عليه بقوله: * (والأرض بعد ذلك دحاها) * (النازعات: 30) وهذا القول مشكل من وجهين. الأول: أنه ثبت بالدلائل
2

أن الأرض كرة فكيف يمكن المكابرة فيه؟
فإن قالوا: وقوله: * (مد الأرض) * ينافي كونها كرة فكيف يمكن مدها؟
قلنا: لا نسلم أن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح، والتفاوت الحاصل بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله ألا ترى أنه قال: * (والجبال أوتادا) * (النبأ: 7) فجعلها أوتادا مع أن العالم من الناس يستقرون عليها فكذلك ههنا. والثاني: أن هذه الآية إنما ذكرت ليستدل بها على وجود الصانع، والشرط فيه أن يكون ذلك أمرا مشاهدا معلوما حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع، فثبت أن التأويل الحق هو ما ذكرناه.
والنوع الثاني: من الدلائل الاستدلال بأحوال الجبال وإليه الإشارة بقوله: * (وجعل فيها رواسي) * من فوقها ثابتة باقية في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها يقال: رسا هذا الوتد وأرسيته والمراد ما ذكرنا.
واعلم أن الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم من وجوه، الأول: أن طبيعة الأرض واحدة فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعض لا بد وأن يكون بتخليق القادر الحكيم. قالت الفلاسفة: هذه الجبال إنما تولدت لأن البحار كانت في هذا الجانب من العالم فكانت تتولد في البحر طينا لزجا. ثم يقوي تأثير الشمس فيها فينقلب حجرا كما يشاهد في كوز الفقاع ثم إن الماء كان يغور ويقل فيتحجر البقية، فلهذا السبب تولدت هذه الجبال قالوا: وإنما كانت البحار حاصلة في هذا الجانب من العالم لأن أوج الشمس وحضيضها متحركان، ففي الدهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض فكان التسخين أقوى وشدة السخونة توجب انجذاب الرطوبات، فحين كان الحضيض في جانب الشمال كانت البحار في جانب الشمال، والآن لما انتقل الأوج إلى جانب الشمال والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبال في جانب الشمال، هذا حاصل كلام القوم في هذا الباب وهو ضعيف من وجوه الأول: أن حصول الطين في البحر أمر عام ووقوع الشمس عليها أمر عام فلم وصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون البعض. والثاني: وهو أنا نشاهد في بعض الجبال كأن تلك الأحجار موضوعة سافا فسافا فكأن البناء لبنات كثيرة موضوع بعضها على بعض ويبعد حصول مثل هذا التركيب من السبب الذي ذكروه. والثالث: أن أوج الشمس الآن قريب من أول السرطان فعلى هذا من الوقت الذي انتقل أوج الشمس إلى الجانب الشمالي مضى
3

قريب من تسعة آلاف سنة، وبهذا التقدير أن الجبال في هذه المدة الطويلة كانت في التفتت فوجب أن لا يبقى من الأحجار شيء، لكن ليس الأمر كذلك، فعلمنا أن السبب الذي ذكروه ضعيف.
والوجه الثاني: من الاستدلال بأحوال الجبال على وجود الصانع ذي الجلال ما يحصل فيها من معادن الفلزات السبعة ومواضع الجواهر النفيسة وقد يحصل فيها معادن الزاجات والأملاح وقد يحصل فيها معادن النفط والقير والكبريت، فكون الأرض واحدة في الطبيعة، وكون الجبل واحدا في الطبع، وكون تأثير الشمس واحدا في الكل يدل دليلا ظاهرا على أن الكل بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات والممكنات.
والوجه الثالث: من الاستدلال بأحوال الجبال أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض، وذلك أن الحجر جسم صلب فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل، فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة، ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض، فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه، ولهذا السبب ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال قرن بها ذكر الأنهار مثل ما في هذه الآية، ومثل قوله: * (وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا) * (المرسلات: 27).
والنوع الثالث: من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بعجائب خلقة النبات، وإليه الإشارة بقوله: * (ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن الحبة إذا وضعت في الأرض وأثرت فيها نداوة الأرض ربت وكبرت وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة في الهواء، ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في أسفل الأرض وهذا من العجائب، لأن طبيعة تلك الحبة واحدة وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد ثم إنه خرج من الجانب الأعلى من تلك الحبة جرم صاعد إلى الهواء من الجانب الأسفل منه جرم غائص في الأرض، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم، والمقدر القديم لا بسبب الطبع والخاصية، ثم إن الشجرة الثابتة من تلك الحبة بعضها يكون خشبا وبعضها يكون نورا وبعضها يكون ثمرة، ثم إن تلك الثمرة أيضا يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع، فالجوز له أربعة أنواع من القشور، فالقشر الأعلى وتحته القشرة الخشبة وتحته القشرة المحيطة باللبنة، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرقة تمتاز عما فوقها حال كون الجوز رطبا وأيضا فقد يحصل
4

في الثمرة الواحدة الطباع المختلفة، فالأترج قشره حار يابس ولحمه حار رطب وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس ونوره حار يابس، وكذلك العنب قشره وعجمه باردان يابسان ولحمه وماؤه حاران رطبان فتولد هذه للطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع وتأثيرات الأنجم والأفلاك لا بد وأن يكون لأجل تدبير الحكيم القادر القديم.
المسألة الثانية: المراد بزوجين اثنين صنفين اثنين والاختلاف إما من حيث الطعم كالحلو والحامض أو الطبيعة كالحار والبارد أو اللون كالأبيض والأسود.
فإن قيل: الزوجان لا بد وأن يكون اثنين، فما الفائدة في قوله: * (زوجين اثنين) *.
قلنا: قيل إنه تعالى أول ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط، فلو قال: خلق زوجين لم يعلم أن المراد النوع أو الشخص. أما لما قال اثنين علمنا أن الله تعالى أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد. والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة إلا أنهم لما ابتدؤا من زوجين اثنين بالشخص هما آدم وحواء، فكذلك القول في جميع الأشجار والزرع والله أعلم.
النوع الرابع: من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بأحوال الليل والنهار وإليه الإشارة بقوله: * (يغشي الليل النهار) * والمقصود أنم الإنعام لا يكمل إلا بالليل والنهار وتعاقبهما كما قال: * (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) * (الإسراء: 12) ومنه قوله: * (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا) * (الأعراف: 54) وقد سبق الاستقصاء في تقريره فيما سلف من هذا الكتاب، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: * (يغشي) * بالتشديد وفتح الغين والباقون بالتخفيف، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة قال: * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) *.
واعلم أنه تعالى في أكثر الأمر حيث يذكر الدلائل الموجودة في العالم السفلي يذكر عقبها: * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) * أو ما يقرب منه بحسب المعنى، والسبب فيه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية، فما لم تقم الدلالة على دفع هذا السؤال لا يتم المقصود، فلهذا المعنى قال: * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) * كأنه تعالى يقول مجال الفكر باق بعد ولا بد بعد هذا المقام من التفكر والتأمل ليتم الاستدلال.
واعلم أن الجواب عن هذا السؤال من وجهين: الأول: أن نقول هب أنكم أسندتم حوادث العالم السفلي إلى الأحوال الفلكية والاتصالات الكوكبية إلا أنا أقمنا الدليل القاطع على أن اختصاص كل واحد من الأجرام الفلكية وطبعه ووضعه وخاصيته لا بد أن يكون بتخصيص المقدر القديم
5

والمدبر الحكيم، فقد سقط هذا السؤال وهذا الجواب قد قرره الله تعالى في هذا المقام، لأنه تعالى ابتدأ بذكر الدلائل السماوية وقد بينا أنها كيف تدل على وجود الصانع. ثم إنه تعالى أتبعها بالدلائل الأرضية.
فإن قال قائل: لم لا يجوز أن تكون هذه الحوادث الأرضية لأجل الأحوال الفلكية، كان جوابنا أن نقول فهب أن الأمر كذلك إلا أنا دللنا فيما تقدم على افتقار الأجرام الفلكية إلى الصانع الحكيم فحينئذ لا يكون هذا السؤال قادحا في غرضنا.
والوجه الثاني: من الجواب أن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث السفلية لأجل الاتصالات الفلكية، وذلك هو المذكور في الآية التي تأتي بعد هذه الآية، ومن تأمل في هذه اللطائف ووقف عليها علم أن هذا الكتاب اشتمل على علوم الأولين والآخرين.
* (وفى الارض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بمآء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الاكل إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية، والحركات الكوكبية، وتقريره من وجهين، الأول: أنه حصل في الأرض قطع مختلفة بالطبيعة والماهية وهي مع ذلك متجاورة، فبعضها تكون سبخية، وبعضها تكون رخوة، وبعضها تكون صلبة، وبعضها تكون منبتة، وبعضها تكون حجرية أو رملية وبعضها يكون طينا لزجا، ثم إنها متجاورة وتأثير الشمس وسائر الكواكب في تلك القطع على السوية فدل هذا على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير. والثاني: أن القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماء واحد فيكون تأثير الشمس فيها متساويا، ثم إن تلك الثمار تجيء مختلفة في الطعم واللون والطبيعة والخاصية حتى أنك قد تأخذ عنقودا من العنب فيكون جميع حباته حلوة نضيجة إلا حبة واحدة فإنها بقيت حامضة يابسة، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة
6

الطباع والأفلاك للكل على السوية، بل نقول: ههنا ما هو أعجب منه، وهو أنه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون أحد وجهيه في غاية الحمرة، والوجه الثاني في
غاية السواد مع أن ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنعومة فيستحيل أن يقال: وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني، وهذا يدل دلالة قطعية على أن الكل بتدبير الفاعل المختار، لا بسبب الاتصالات الفلكية وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى: * (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل) * فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الحجة وتفسيرها وبيانها.
واعلم أن بذكر هذا الجواب قد تمت الحجة فإن هذه الحوادث السفلية لا بد لها من مؤثر وبينا أن ذلك المؤثر ليس هو الكواكب والأفلاك والطبائع فعند هذا يجب القطع بأنه لا بد من فاعل آخر سوى هذه الأشياء، وعندها يتم الدليل، ولا يبقى بعده للفكر مقام البتة، فلهذا السبب قال ههنا: * (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) * لأنه لا دافع لهذه الحجة إلا أن يقال: إن هذه الحوادث السفلية حدثت لا لمؤثر البتة وذلك يقدح في كمال العقل، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث لما كان علما ضروريا كان عدم حصول هذا العلم قادحا في كمال العقل فلهذا قال: * (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) * وقال في الآية المتقدمة: * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) * (الزمر: 42) (الجاثية: 13) فهذه اللطائف نفيسة من أسرار علم القرآن ونسأل الله العظيم أن يجعل الوقوف عليها سببا للفوز بالرحمة والغفران.
المسألة الثانية: قوله: * (وفي الأرض قطع متجاورات) * قال أبو بكر الأصم: أرض قريبة من أرض أخرى واحدة طيبة، وأخرى سبخة، وأخرى حرة، وأخرى رملة، وأخرى تكون حصباء، وأخرى تكون حمراء، وأخرى تكون سوداء. وبالجملة فاختلاف بقاع الأرض في الارتفاع والانخفاض والطباع والخاصية أمر معلوم، وفي بعض المصاحف (قطعا متجاورات) والتقدير: وجعل فيها رواسي وجعل في الأرض قطعا متجاورات. وأما قوله: * (وجنات من أعناب وزرع ونخيل) * فنقول: الجنة البستان الذي يحصل فيه النخل والكرم والزرع وتحفه تلك الأشجار والدليل عليه قوله تعالى: * (جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا) * (الكهف: 32) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم: * (وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) * كلها بالرفع عطفا على قوله (وجنات) والباقون بالجر عطفا على الأعناب. وقرأ حفص عن عاصم في رواية القواس: (صنوان) بضم الصاد والباقون بكسر الصاد وهما لغتان، والصنوان جمع صنو مثل قنوان وقنو ويجمع على أصناء مثل اسم وأسماء. فإذا كثرت فهو الصني، والصني بكسر الصاد وفتحها، والصنو أن يكون الأصل واحدا وتنبت فيه النخلتان والثلاثة فأكثر فكل واحدة صنو. وذكر ثعلب عن ابن الأعرابي:
7

الصنو المثل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا إن عم الرجل صنو أبيه " أي مثله.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا فسرنا الصنو بالتفسير الأول كان المعنى: أن النخيل منها ما ينبت من أصل واحد شجرتان وأكثر ومنها ما لا يكون كذلك، وإذا فسرناه بالتفسير الثاني كان المعنى: أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة متشابهة، وقد لا تكون كذلك.
ثم قال تعالى: * (تسقى بماء واحد) * قرأ عاصم وابن عامر (يسقى) بالياء على تقدير يسقى كله أو لتغليب المذكر على المؤنث، والباقون بالتاء لقوله: (جنات) قال أبو عمرو: ومما يشهد للتأنيث قوله تعالى: * (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) * قرأ حمزة والكسائي (يفضل) بالياء عطفا على قوله: * (يدبر، ويفضل، ويغشي) * والباقون بالنون على تقدير: ونحن نفضل، و (في الأكل) قولان: حكاهما الواحدي حكي عن الزجاج أن الأكل الثمر الذي يؤكل، وحكى عن غيره أن الأكل المهيأ للأكل، وأقول هذا أولى لقوله تعالى في صفة الجنة: * (أكلها دائم) * (الرعد: 35) وهو عام في جميع المطعومات وابن كثير ونافع يقرآن الأكل ساكنة الكاف في جميع القرآن، والباقون بضم الكاف وهما لغتان.
* (وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفى خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الاغلال فى أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل القاهرة على ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ ذكر بعده مسألة المعاد فقال: * (وإن تعجب فعجب قولهم) * وفيه أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا قد حكموا عليك أنك من الصادقين فهذا عجب. والثاني: إن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم نفعا ولا ضرا بعد ما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد فهذا عجب. والثالث: تقدير الكلام إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبر السماوات والأرض
8

وخالق الخلائق أجمعين، وأنه هو الذي رفع السماوات بغير عمد، وهو الذي سخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد، وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب والغرائب، فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته، لأن القادر على الأقوى الأكمل فإن يكون قادرا على الأقل الأضعف أولى، فهذا تقرير موضع التعجب.
ثم إنه تعالى لما حكى هذا الكلام حكم عليهم بثلاثة أشياء: أولها: قوله: * (أولئك الذين كفروا بربهم) * وهذا يدل على أن كل من أنكر البعث والقيامة فهو كافر، وإنما لزم من إنكار البعث الكفر بربهم من حيث إن إنكار البعث لا يتم إلا بإنكار القدرة والعلم والصدق أما إنكار القدرة فكما إذا قيل: إن إله العالم موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فلا يقدر على الإعادة. أو قيل: إنه وإن كان قادرا لكنه ليس تام القدرة، فلا يمكنه إيجاد الحيوان إلا بواسطة الأبوين وتأثيرات الطبائع والأفلاك، وأما إنكار العلم فكما إذا قيل: إنه تعالى غير عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تمييز هذا المطيع عن العاصي وأما إنكار الصدق فكما إذا قيل: إنه وإن أخبر عنه لكنه لا يفعل لأن الكذب جائز عليه ولما كان كل هذه الأشياء كفرا ثبت أن إنكار البعث كفر بالله.
الصفة الثانية: قوله: * (وأولئك الأغلال في أعناقهم) * وفيه قولان: الأول: قال أبو بكر الأصم: المراد بالأغلال: كفرهم وذلتهم وانقيادهم للأصنام، ونظيره قوله
تعالى: * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) * (يس: 8) قال الشاعر: لهم عن الرشد أغلال وأقياد
ويقال للرجل: هذا غل في عنقك للعمل الردئ معناه: أنه لازم لك وأنك مجازى عليه بالعذاب. قال القاضي: هذا وإن كان محتملا إلا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى، وأقول: يمكن نصرة قول الأصم بأن ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحال وذلك غير حاصل وأنتم تحملون اللفظ على أنه سيحصل هذا المعنى ونحن نحمله على أنه حاصل في الحال إلا أن المراد بالأغلال ما ذكرناه، فكل واحد منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه فلم كان قولكم أولى من قولنا.
والقول الثاني: المراد أنه تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة، والدليل عليه قوله تعالى: * (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون) * (غافر: 71، 72).
والصفة الثالثة: قوله تعالى: * (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * والمراد منه التهديد بالعذاب المخلد المؤبد، واحتج أصحابنا رحمهم الله تعالى على أن العذاب المخلد ليس إلا للكفار بهذه الآية فقالوا قوله: * (هم فيها خالدون) * يفيد أنهم هم الموصوفون بالخلود لا غيرهم، وذلك يدل على أن أهل
9

الكبائر لا يخلدون في النار.
المسألة الثانية: قال المتكلمون العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حق الله تعالى محال، فكان المراد وإن تعجب فعجب عندك.
ولقائل أن يقول: قرأ بعضهم في الآية الأخرى بإضافة العجب إلى نفسه تعالى فحينئذ يجب تأويله وقد بينا أن أمثال هذه الألفاظ يجب تنزيهها عن مبادئ الأعراض، ويجب حملها على نهايات الأعراض فإن الإنسان إذا تعجب من الشيء أنكره فكان هذا محمولا على الإنكار.
المسألة الثالثة: اختلف القراء في قوله: * (أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد) * وأمثاله إذا كان على صورة الاستفهام في الأول والثاني فمنهم من يجمع بين الاستفهامين في الحرفين وهم ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة، ثم اختلف هؤلاء فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة إلا أنه لا يمد، وأبو عمرو يستفهم بهمزة مطولة يمد فيها وحمزة وعاصم بهمزتين في كل القرآن، ومنهم من لا يجمع بين الاستفهامين، ثم اختلفوا فنافع وابن عامر والكسائي يستفهم في الأول ويقرأ على الخبر في الثاني وابن عامر على الخبر في الأول والاستفهام في الثاني ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر فنافع بهمزة غير مطولة وابن عامر والكسائي بهمزتين أما نافع فكذلك إلا في الصافات وكذلك ابن عامر إلا في الواقعة، وكذلك الكسائي إلا في العنكبوت والصافات.
المسألة الرابعة: قال الزجاج: العامل في * (أئذا كنا ترابا) * محذوف تقديره: أئذا كنا ترابا نبعث ودل ما بعده على المحذوف.
* (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب) *
اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب القيامة وتارة بعذاب الدنيا، والقوم كلما هددهم بعذاب القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر وهو الذي تقدم ذكره في الآية الأولى وكلما هددهم بعذاب الدنيا قالوا له: فجئنا بهذا العذاب وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن فيه، وإظهار أن الذي يقوله كلام لا أصل له فلهذا السبب حكى الله عنهم أنهم يستعجلون الرسول
10

بالسيئة قبل الحسنة والمراد بالسيئة ههنا نزول العذاب عليهم كما قال الله تعالى عنهم في قوله: * (فأمطر علينا حجارة) * (الأنفال: 32) وفي قوله: * (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90) إلى قوله: * (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) * (الإسراء: 92) وإنما قالوا ذلك طعنا منهم فيما ذكره الرسول، وكان صلى الله عليه وسلم يعدهم على الإيمان بالثواب في الآخرة وبحصول النصر والظفر في الدنيا فالقوم طلبوا منه نزول العذاب ولم يطلبوا منه حصول النصر والظفر فهذا هو المراد بقوله: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) * ومنهم من فسر الحسنة ههنا بالإمهال والتأخير وإنما سموا العذاب سيئة لأنه يسوءهم ويؤذيهم.
أما قوله: * (وقد خلت من قبلهم المثلات) * فاعلم أن العرب يقولون: العقوبة مثلة ومثلة صدقة وصدقة، فالأولى لغة الحجاز، والثانية لغة تميم، فمن قال مثلة فجمعه مثلات، ومن قال مثلة فجمعه مثلات ومثلاث بإسكان التاء هكذا حكاه الفراء والزجاج، وقال ابن الأنباري رحمه الله: المثلة العقوبة المبينة في المعاقب شيئا، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة، وهو من قولهم، مثل فلان بفلان إذا قبح صورته إما بقطع أذنه أو أنفه أو سمل عينيه أو بقر بطنه فهذا هو الأصل، ثم يقال للعار الباقي، والخزي اللازم مثلة. قال الواحدي: وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابها للمعاقب ومماثلا له لا جرم سمي بهذا الاسم. قال صاحب " الكشاف ": قرىء (المثلات) بضمتين لاتباع الفاء العين، (والمثلات) بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال: السمرة، والمثلات، بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المثلات بضمتين، والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات. إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية: ويستعجلونك بالعذاب الذي لم نعاجلهم به، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية فلم يعتبروا بها، وكان ينبغي أن يردعهم خوف ذلك عن الكفر اعتبارا بحال من سلف.
أما قوله: * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * فاعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة، ووجه الاستدلال به أن قوله تعالى: * (لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * أي حال اشتغالهم بالظلم كما أنه يقال: رأيت الأمير على أكله أي حال اشتغاله بالأكل فهذا يقتضي كونه تعالى غافرا للناس حال اشتغالهم بالظلم، ومعلوم أن حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائبا فدل هذا على أنه تعالى قد يغفر الذنب قبل الاشتغال بالتوبة. ثم نقول: ترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر، فوجب أن يبقى معمولا به في حق أهل الكبيرة وهو المطلوب، أو نقول: إنه تعالى لم يقتصر على قوله: * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * بل ذكر معه قوله
11

* (وإن ربك لشديد العقاب) * فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر، وأن يحمل الثاني على أحوال الكفار.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد: لذو مغفرة لأهل الصغائر لأجل أن عقوبتهم مكفرة ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد: إن ربك لذو مغفرة إذا تابوا وأنه تعالى إنما لا يعجل العقاب إمهالا لهم في الإتيان بالتوبة، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ويكون من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة بل نقول: يجب حمل اللفظ عليه لأن القوم لما طلبوا تعجيل العقاب، فالجواب المذكور فيه يجب أن يكون محمولا على تأخير العقاب حتى ينطبق الجواب على السؤال ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد: وإن ربك لذو مغفرة أنه تعالى إنما لا يعجل العقوبة إمهالا لهم في الإتيان بالتوبة، فإن تابوا فهو ذو مغفرة، وإن عظم ظلمهم ولم يتوبوا فهو شديد العقاب.
والجواب عن الأول أن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة، وإلا لوجب أن يقال: الكفار كلهم مغفور لهم لأجل أن الله تعالى أخر عقابهم إلى الآخرة، وعن الثاني: أنه تعالى تمدح بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل. أما بأداء الواجب فلا تمدح فيه وعندكم يجب غفران الصغائر وعن الثالث: أنا بينا أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة حال الظلم، وبينا أن حال حصول الظلم يمنع حصول التوبة، فسقطت هذه الأسئلة وصح ما ذكرناه.
* (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنمآ أنت منذر ولكل قوم هاد) *
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في الحشر والنشر أولا، ثم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانيا، ثم طعنوا في نبوته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة ثالثا، وهو المذكور في هذه الآية.
واعلم أن السبب فيه أنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات وقالوا: هذا كتاب مثل سائر الكتب وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزة البتة، وإنما المعجز ما يكون مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام.
واعلم أن من الناس من زعم أنه لم يظهر معجز في صدق محمد عليه الصلاة والسلام سوى القرآن. قالوا:
12

إن هذا الكلام، إنما يصح إذا طعنوا في كون القرآن معجزا، مع أنه ما ظهر عليه نوع آخر من المعجزات، لأن بتقدير أن يكون قد ظهر على يده نوع آخر من المعجزات لامتنع أن يقولوا: * (لولا أنزل عليه آية من ربه) * فهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان له معجز سوى القرآن.
واعلم أن الجواب عنه من وجهين: الأول: لعل المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوا منه صلى الله عليه وسلم كحنين الجذع ونبوع الماء من بين أصابعه وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، فطلبوا منه معجزات قاهرة غير هذه الأمور: مثل فلق البحر بالعصا، وقلب العصا ثعبانا.
فإن قيل: فما السبب في أن الله تعالى منعهم وما أعطاهم؟
قلنا إنه لما أظهر المعجزة الواحدة فقد تم الغرض فيكون طلب الباقي تحكما وظهور القرآن معجزة، فما كان مع ذلك حاجة إلى سائر المعجزات، وأيضا فلعله تعالى علم أنهم يصرون على العناد بعد ظهور تلك المعجزات الملتمسة، وكانوا يصيرون حينئذ مستوجبين لعذاب الاستئصال، فلهذا السبب ما أعطاهم الله تعالى مطلوبهم، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله: * (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) * (الأنفال: 23) بين أنه لم يعطهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنهم لا ينتفعون به، وأيضا ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له. وهو أنه كلما أتى بمعجزة جاء واحد آخر، فطلب منه معجزة أخرى، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم السلام، وأنه باطل.
الوجه الثاني: وفي الجواب لعل الكفار ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات. ثم إنه تعالى لما حكى عن الكفار ذلك قال: * (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اتفق القراء على التنوين في قوله: * (هاد) * وحذف الياء في الوصل، واختلفوا في الوقف، فقرأ ابن كثير: بالوقف على الياء، والباقون: بغير الياء، وهو رواية ابن فليح عن ابن كثير للتخفيف.
المسألة الثانية: في تفسير هذه الآية وجوه. الأول: المراد أن الرسول عليه السلام منذر لقومه مبين لهم، ولكل قوم من قبله هاد ومنذر وداع، وأنه تعالى سوى بين الكل في إظهار المعجزة إلا أنه كان لكل قوم طريق مخصوص لأجله استحق التخصيص بتلك المعجزة المخصوصة، فلما كان الغالب في زمان موسى عليه السلام هو السحر جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم، ولما كان الغالب في أيام عيسى عليه السلام الطب، جعل معجزته ما كان من جنس تلك الطريقة وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ولما كان الغالب في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم
13

الفصاحة والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقا بذلك الزمان وهو فصاحة القرآن فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أليق بطباعهم فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى فهذا هو الذي قرره القاضي وهو الوجه الصحيح الذي يبقى الكلام معه منتظما.
والوجه الثاني: وهو أن المعنى أنهم لا يجحدون كون القرآن معجزا فلا يضيق قلبك بسببه إنما أنت منذر فما عليك إلا أن تنذر إلى أن يحصل الإيمان في صدورهم ولست بقادر عليهم ولكل قوم هاد، قادر على هدايتهم بالتخليق وهو الله سبحانه وتعالى فيكون المعنى ليس لك إلا الإنذار، وأما الهداية فمن الله تعالى.
واعلم أن أهل الظاهر من المفسرين ذكروا ههنا أقوالا: الأول: المنذر والهادي شيء واحد والتقدير: إنما أنت منذر ولكل قوم منذر على حدة ومعجزة كل واحد منهم غير معجزة الآخر. الثاني: المنذر محمد صلى الله عليه وسلم والهادي هو الله تعالى روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك. والثالث: المنذر النبي. والهادي علي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: " أنا المنذر " ثم أومأ إلى منكب
علي رضي الله عنه وقال: " أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي ".
* (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شىء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال * سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في وجه النظم وجوه، الأول: أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم طلبوا آيات أخرى غير ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم بين أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فيعلم من حالهم أنهم هل طلبوا الآية الأخرى للاسترشاد وطلب البيان أو لأجل التعنت والعناد، وهل ينتفعون
14

بظهور تلك الآيات، أو يزداد إصرارهم واستكبارهم، فلو علم تعالى أنهم طلبوا ذلك لأجل الاسترشاد وطلب البيان ومزيد الفائدة، لأظهره الله تعالى وما منعهم عنه، لكنه تعالى لما علم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لأجل محض العناد لا جرم أنه تعالى منعهم عن ذلك وهو كقوله تعالى: * (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا) * (يونس: 20) وقوله: * (قل إنما الآيات عند الله) *. (العنكبوت: 50) والثاني: أن وجه النظم أنه تعالى لما قال: * (وإن تعجب فعجب قولهم) * (الرعد: 5) في إنكار البعث وذلك لأنهم أنكروا البعث بسبب أن أجزاء أبدان الحيوانات عند تفرقها وتفتتها يختلط بعضها ببعض ولا يبقى الامتياز فبين تعالى أنه إنما لا يبقى الامتياز في حق من لا يكون عالما بجميع المعلومات، أما في حق من كان عالما بجميع المعلومات، فإنه يبقى تلك الأجزاء بحيث يمتاز بعضها عن البعض، ثم احتج على كونه تعالى عالما بجميع المعلومات بأنه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام. الثالث: أن هذا متصل بقوله: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) * (الرعد: 6) والمعنى: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه فيه مصلحة والله أعلم.
المسألة الثانية: لفظ " ما " في قوله: * (ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد) * إما أن تكون موصولة وإما أن تكون مصدرية، فإن كانت موصولة، فالمعنى أنه يعلم ما تحمله من الولد أنه من أي الأقسام أهو ذكر أم أنثى وتام أو ناقص وحسن أو قبيح وطويل أو قصير وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة فيه.
ثم قال: * (وما تغيض الأرحام) * والغيض هو النقصان سواء كان لازما أو متعديا يقال: غاض الماء وغضته أنا ومنه قوله تعالى: * (وغيض الماء) * (هود: 44) والمراد من الآية وما تغيضه الأرحام إلا أنه حذف الضمير الراجع وقوله: * (وما تزداد) * أي تأخذه زيادة تقول: أخذت منه حقي وازددت منه كذا، ومنه قوله تعالى: * (وازدادوا تسعا) * (الكهف: 25) ثم اختلفوا فيما تغيضه الرحم وتزداده على وجوه. الأول: عدد الولد فإن الرحم قد يشتمل على واحد واثنين وعلى ثلاثة وأربعة يروي أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه. الثاني: الولد قد يكون مخدجا، وقد يكون تاما. الثالث: مدة ولادته قد تكون تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وإلى أربعة عند الشافعي وإلى خمس عند مالك، وقيل: إن الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حيان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرما. الرابع: الدم فإنه تارة يقل وتارة يكثر. الخامس: ما ينقص بالسقط من غير أن يتم وما يزداد بالتمام. السادس: ما ينقص بظهور دم الحيض، وذلك لأنه إذا سال الدم في وقت الحمل ضعف الولد ونقص. وبمقدار حصول ذلك النقصان يزداد أيام الحمل لتصير هذه الزيادة
15

جابرة لذلك النقصان قال ابن عباس رضي الله عنهما: كلما سال الحيض في وقت الحمل يوما زاد في مدة الحمل يوما ليحصل به الجبر ويعتدل الأمر. السابع: أن دم الحيض فضلة تجتمع في بطن المرأة فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات فاضت وخرجت، وسالت من دواخل تلك العروق، ثم إذا سالت تلك المواد امتلأت تلك العروق مرة أخرى هذا كله إذا قلنا إن كلمة " ما " موصولة. أما إذا قلنا: إنها مصدرية فالمعنى: أنه تعالى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا من أوقاته وأحواله.
وأما قوله تعالى: * (وكل شيء عنده بمقدار) * فمعناه: بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، كقوله: * (إنا كل شيء خلقناه بقدر) * (القمر: 49) وقوله في أول الفرقان: * (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) * (الفرقان: 2).
واعلم أن قوله: * (كل شيء عنده بمقدار) * يحتمل أن يكون المراد من العندية العلم ومعناه: أنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات ويحتمل أن يكون المراد من العندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية، وعند حكماء الإسلام أنه تعالى وضع أشياء كلية وأودع فيها قوى وخواص، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات مخصوصة مقدرة، ويدخل في هذه الآية أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم، وهو من أدل الدلائل على بطلان قول المعتزلة.
ثم قال تعالى: * (عالم الغيب والشهادة) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد علم ما غاب عن خلقه وما شهدوه. قال الواحدي: فعلى هذا (الغيب) مصدر يريد به الغائب، (والشهادة) أراد بها الشاهد. واختلفوا في المراد بالغائب والشاهد. قال بعضهم: الغائب هو المعلوم، والشاهد هو الموجود، وقال آخرون: الغائب ما غاب عن الحس، والشاهد ما حضر، وقال آخرون: الغائب ما لا يعرفه الخلق، والشاهد ما يعرفه الخلق. ونقول: المعلومات قسمان: المعلومات والموجودات، والمعدومات منها معدومات يمتنع وجودها ومنها معدومات لا يمتنع وجودها، والموجودات أيضا قسمان: موجودات يمتنع عدمها، وموجودات لا يمتنع عدمها، وكل واحد من هذه الأقسام الأربعة له أحكام وخواص، والكل معلوم لله تعالى، وحكى الشيخ الإمام الوالد عن أبي القاسم الأنصاري عن إمام الحرمين رحمهم الله تعالى أنه كان يقول لله تعالى معلومات لا نهاية لها، وله في كل واحد من تلك المعلومات، معلومات أخرى لا نهاية لها، لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل وموصوفا بصفات لا نهاية لها على البدل، وهو تعالى عالم بكل الأحوال على التفصيل، وكل هذه الأقسام داخل تحت قوله تعالى
: * (عالم الغيب والشهادة) *.
16

ثم إنه تعالى ذكر عقيبه قوله: * (الكبير) * وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيرا بحسب الجثة والحجم والمقدار، فوجب أن يكون كبيرا بحسب القدرة والمقادير الإلهية ثم وصف تعالى نفسه بأنه المتعال وهو المتنزه عن كل ما لا يجوز عليه وذلك يدل على كونه منزها في ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الآية دالة على كونه تعالى موصوفا بالعلم الكامل والقدرة التامة، ومنزها عن كل ما لا ينبغي، وذلك يدل على كونه تعالى قادرا على البعث الذي أنكروه وعلى الآيات التي اقترحوها وعلى العذاب الذي استعجلوه، وأنه إنما يؤخر ذلك بحسب المشيئة الإلهية عند قوم وبحسب المصلحة عند آخرين، وقرأ ابن كثير (المتعالي) بإثبات الياء في الوقف والوصل على الأصل. والباقون بحذف الياء في الحالتين للتخفيف ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالما بكل المعلومات فقال: * (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لفظ (سواء) يطلب اثنين تقول سواء زيد وعمرو ثم فيه وجهان. الأول: أن سواء مصدر والمعنى: ذو سواء كما تقول: عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل. الثاني: أن يكون سواء بمعنى مستو وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى الإضمار إلا أن سيبويه يستقبح أن يقول مستو زيد وعمرو لأن أسماء الفاعلين إذا كانت نكرات لا يبدأ بها.
ولقائل أن يقول: بل هذا الوجه أولى لأن حمل الكلام عليه يغني عن التزام الإضمار الذي هو خلاف الأصل.
المسألة الثانية: في المستخفي والسارب قولان:
القول الأول: يقال: أخفيت الشيء أخفيه إخفاء فخفي واستخفى فلان من فلان أي توارى واستتر. وقوله: * (وسارب بالنهار) * قال الفراء والزجاج: ظاهر بالنهار في سربه أي طريقه. يقال: خلا له سربه، أي طريقه. وقال الأزهري: تقول العرب سربت الإبل تسرب سربا، أي مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت، فإذا عرفت ذلك فمعنى الآية سواء كان الإنسان مستخفيا في الظلمات أو كان ظاهرا في الطرقات، فعلم الله تعالى محيط بالكل. قال ابن عباس رضي الله عنهما: سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة. وقال مجاهد: سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي، ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي.
والقول الثاني: نقله الواحدي عن الأخفش وقطرب أنه قال: المستخفي الظاهر والسارب المتواري ومنه يقال: خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته. واختفيت الشيء استخرجته ويسمى النباش المستخفي والسارب المتواري ومنه يقال: للداخل سربا، والسرب الوحش إذا
17

دخل في السرب أي في كناسة. قال الواحدي: وهذا الوجه صحيح في اللغة، إلا أن الاختيار هو الوجه الأول لاطباق أكثر المفسرين عليه، وأيضا فالليل يدل على الاستتار، والنهار على الظهور والانتشار.
قوله تعالى
* (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذآ أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) *
اعلم أن الضمير من " له " إلى " من " في قوله: * (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) * (الرعد: 10) وقيل على اسم الله في عالم الغيب والشهادة، والمعنى: لله معقبات، وأما المعقبات فيجوز أن يكون أصل هذه الكلمة معتقبات فأدغمت التاء في القاف كقوله: * (وجاء المعذرون من الأعراب) * (التوبة: 90) والمراد المعتذرون ويجوز أن يكون من عقبه إذا جاء على عقبه فاسم المعقب من كل شيء ما خلف يعقب ما قبله، والمعنى في كلا الوجهين واحد. إذا عرفت هذا فنقول: في المراد بالمعقبات قولان. الأول: وهو المشهور الذي عليه الجمهور أن المراد منه الملائكة الحفظة وإنما صح وصفهم بالمعقبات، إما لأجل أن ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار وبالعكس، وإما لأجل أنهم يتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والكتب، وكل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب، فعلى هذا المراد من المعقبات ملائكة الليل وملائكة النهار. روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك فقال عليه السلام: " ملك عن يمينك يكتب الحسنات وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين أكتب؟ فيقول لا لعله يتوب فإذا قال ثلاثا قال نعم أكتب أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله تعالى واستحياءه منا، وملكان من بين يديك ومن خلفك فهو قوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) * وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لربك رفعك وإن تجبرت قصمك، وملكان على شفتك يحفظان عليك الصلاة علي، وملك علي فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي تبدل ملائكة
18

الليل بملائكة النهار فهم عشرون ملكا على كل آدمي ". وعن صلى الله عليه وسلم: " يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ". وهو المراد من قوله: * (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) * (الإسراء: 78) قيل: تصعد ملائكة الليل وهي عشرة وتنزل ملائكة النهار، وقال ابن جريج: هو مثل قوله تعالى: * (عن اليمين وعن الشمال قعيد) * (ق: 17) صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات. وقال مجاهد: ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته. وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: الملائكة ذكور، فلم ذكر في جمعها جمع الإناث وهو المعقبات؟
والجواب: فيه قولان. الأول: قال الفراء: المعقبات ذكران جمع ملائكة معقبة، ثم جمعت معقبة بمعقبات، كما قيل: ابناوات سعد ورجالات بكر جمع رجال، والذي
يدل على التذكير قوله: * (يحفظونه) *. والثاني: وهو قول الأخفش: إنما أنثت لكثرة ذلك منها، نحو: نسابة، وعلامة، وهو ذكر.
السؤال الثاني: ما المراد من كون أولئك المعقبات من بين يديه ومن خلفه؟
والجواب: أن المستخفي بالليل والسارب بالنهار قد أحاط به هؤلاء المعقبات فيعدون عليه أعماله وأقواله بتمامها، ولا يشذ من تلك الأعمال والأقوال من حفظهم شيء أصلا، وقال بعضهم: بل المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه، لأن السارب بالنهار إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من بين يديه ومن خلفه.
السؤال الثالث: ما المراد من قوله: * (من أمر الله) *.
والجواب: ذكر الفراء فيه قولين:
القول الأول: أنه على التقديم والتأخير والتقدير: له معقبات من أمر الله يحفظونه.
القول الثاني: أن فيه إضمارا أي ذلك الحفظ من أمر الله أي مما أمر الله به فحذف الاسم وأبقى خبره كما يكتب على الكيس، ألفان والمراد الذي فيه ألفان.
والقول الثالث: ذكره ابن الأنباري أن كلمة " من " معناها الباء والتقدير: يحفظونه بأمر الله وباعانته، والدليل على أنه لا بد من المصير إليه أنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحدا من أمر الله ومما قضاه عليه.
السؤال الرابع: ما الفائدة في جعل هؤلاء الملائكة موكلين علينا؟
والجواب: أن هذا الكلام غير مستبعد، وذلك لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا
19

القول في كل ليلة، ولا شك أن تلك الكواكب لها أرواح عندهم، فتلك التدبيرات المختلفة في الحقيقة لتلك الأرواح، وكذا القول في تدبير القمر والهيلاج والكدخدا على ما يقوله المنجمون. وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور في ألسنتهم ولذلك تراهم يقولون: أخبرني الطباعي التام. ومرادهم بالطباعي التام أن لكل إنسان روحا فلكية يتولى إصلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته، وإذا كان هذا متفقا عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئه من الشرع؟ وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خيرة، وبعضها شريرة، وبعضها معزة، وبعضها مذلة، وبعضها قوية القهر والسلطان، وبعضها ضعيفة سخيفة. وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك، فكذا القول في الأرواح الفلكية، ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وكل صفة أقوى من الأرواح البشرية وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة، لما أنها تكون في تربية روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية، وتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروح الفلكي. ومتى كان الأمر كذلك كان ذلك الروح الفلكي معينا لها على مهماتها ومرشدا لها إلى مصالحها وعاصما لها عن صنوف الآفات، فهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن الذي وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل، فكيف يمكن استنكاره من الشريعة؟ ثم في اختصاص هؤلاء الملائكة وتسلطهم على بني آدم فوائد كثيرة سوى التي مر ذكرها من قبل. الأول: أن الشياطين يدعون إلى الشرور والمعاصي، وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات. والثاني: قال مجاهد: ما من عبد إلا ومعه ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته. الثالث: أنا نرى أن الإنسان قد يقع في قلبه داع قوي من غير سبب ثم يظهر بالآخرة أن وقوع تلك الداعية في قلبه كان سببا من أسباب مصالحه وخيراته، وقد ينكشف أيضا بالآخرة أنه كان سببا لوقوعه في آفة أو في معصية، فيظهر أن الداعي إلى الأمر الأول كان مريدا للخير والراحة وإلى الأمر الثاني كان مريدا للفساد والمحنة، والأول هو الملك الهادي والثاني هو الشيطان المغوي. الرابع: أن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب، لأن من آمن يعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها كما يزجره عنها إذا حضره من يعطيه من البشر. وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال كان ذلك أيضا رادعا له عنها وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل.
20

السؤال الخامس: ما الفائدة في كتبة أعمال العباد؟ قلنا ههنا مقامات:
المقام الأول: أن تفسير الكتبة بالمعنى المشهور من الكتبة. قال المتكلمون: الفائدة في تلك الصحف وزنها ليعرف رجحان إحدى الكفتين على الأخرى، فإنه إذا رجحت كفة الطاعات ظهر للخلائق أنه من أهل الجنة، وإن كان بالضد فبالضد. قال القاضي: هذا بعيد لأن الأدلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الأشقياء فلا يتوقف حصول تلك المعرفة على الميزان، ثم أجاب القاضي عن هذا الكلام وقال: لا يمتنع أيضا ما روينا لأمر يرجع إلى حصول سروره عند الخلق العظيم أنه من أولياء الله في الجنة وبالضد من ذلك في أعداء الله.
والمقام الثاني: وهو قول حكماء الإسلام أن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني لأعيانها وذواتها كانت تلك الكتبة أقوى وأكمل.
إذا ثبت هذا فنقول: إن الإنسان إذا أتى بعمل من الأعمال مرات وكرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب تكررها ملكة قوية راسخة، فإن كانت تلك الملكة ملكة سارة بالأعمال النافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بها بعد الموت؛ وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الأحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد الموت.
إذا ثبت هذا فنقول: إن التكرير الكثير لما كان سببا لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من الأعمال المتكررة أثر في حصول تلك الملكة الراسخة، وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة. وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون، إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة، أو آثار الشقاوة قل أو كثر، فهذا هو المراد من كتبة الأعمال عند هؤلاء والله أعلم بحقائق الأمور وهذا كله إذا فسرنا قوله تعالى: * (له معقبات من بين
يديه ومن خلفه) * بالملائكة.
القول الثاني: وهو أيضا منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره أبو مسلم الأصفهاني المراد: أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر، والمستخفي بظلمة الليل، والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين والأنصار وهم الملوك والأمراء، فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره، ومن سار نهارا بالمعقبات وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه أحراسه من الله تعالى، والمعقب العون، لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلا بد أن يبصر ذاك هذا، فتصير بصيرة كل
21

واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخرة، فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره، وهم إن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه فإنهم لا يقدرون على ذلك البتة، والمقصود من هذا الكلام بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره عن حفظ الله وعصمته ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار، ولذلك قال تعالى بعده: * (وإذا أراد الله بقوم سوأ فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) *.
أما قوله تعالى: * (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * فكلام جميع المفسرين يدل على أن المراد لا يغير ما هم فيه من النعم بإنزال الانتقام إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد. قال القاضي: والظاهر لا يحتمل إلا هذا المعنى لأنه لا شيء مما يفعله تعالى سوى العقاب لا وقد يبتدئ به في الدنيا من دون تغيير يصدر من العبد فيما تقدم لأنه تعالى ابتدأ بالنعم دينا ودنيا ويفضل في ذلك من شاء على من يشاء، فالمراد مما ذكره الله تعالى التغيير بالهلاك والعقاب، ثم اختلفوا فبعضهم قال هذا الكلام راجع إلى قوله: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) * (الرعد: 6) فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعصية، حتى قالوا: إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في عقبه من يؤمن فإنه تعالى لا ينزل عليهم عذاب الاستئصال وقال بعضهم: بل الكلام يجري على إطلاقه، والمراد منه أن كل قوم بالغوا في الفساد وغيروا طريقتهم في إظهار عبودية الله تعالى فإن الله يزيل عنهم النعم وينزل عليهم أنواعا من العذاب، وقال بعضهم: إن المؤمن الذي يكون مختلطا بأولئك الأقوام فربما دخل في ذلك العذاب. روي عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب " واحتج أبو علي الجبائي والقاضي بهذه الآية في مسألتين:
المسألة الأولى: أنه تعالى لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله حالهم من النعمة إلى العذاب.
المسألة الثانية: قالوا: الآية تدل على بطلان قول المجبرة إنه تعالى يبتدئ العبد بالضلال والخذلان أول ما يبلغ وذلك أعظم من العقاب، مع أنه ما كان منه تغيير.
والجواب: أن ظاهر هذه الآية يدل على أن فعل الله في التغيير مؤخر عن فعل العبد، إلا أن قوله تعالى: * (وما يشاؤون إلا أن يشاء الله) * (الإنسان: 30) يدل على أن فعل العبد مؤخر عن فعل الله تعالى، فوقع التعارض.
22

وأما قوله: * (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له) * فقد احتج أصحابنا به على أن العبد غير مستقل في الفعل. قالوا: وذلك لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى يحكم بكونه مستحقا للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، فلو كان العبد مستقلا بتحصيل الإيمان لكان قادرا على رد ما أراده الله تعالى، وحينئذ يبطل قوله: * (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له) * فثبت أن الآية السابقة وإن أشعرت بمذهبهم، إلا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على مذهبنا. قال الضحاك عن ابن عباس: لم تغن المعقبات شيئا، وقال عطاء عنه: لا راد لعذابي ولا ناقض لحكمي: * (وما لهم من دونه من وال) * أي ليس لهم من دون الله من يتولاهم، ويمنع قضاء الله عنهم، والمعنى: ما لهم وال يلي أمرهم، ويمنع العذاب عنهم.
* (هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال * ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشآء وهم يجادلون فى الله وهو شديد المحال) *
اعلم أنه تعالى لما خوف العباد بإنزال ما لا مرد له أتبعه بذكر هذه الآيات وهي مشتملة على أمور ثلاثة، وذلك لأنها دلائل على قدرة الله تعالى وحكمته، وأنها تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه، وتشبه العذاب والقهر من بعض الوجوه.
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أمورا أربعة. الأول: البرق وهو قوله تعالى: * (يريكم البرق خوفا وطمعا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف " في انتصاب قوله: * (خوفا وطمعا) * وجوه. الأول: لا يصح أن يكونا مفعولا لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع أو على معنى إخافة وإطماعا. الثاني: يجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير: ذا خوف وذا طمع أو على معنى إيخافا وإطماعا. الثالث: أن يكونا حالا من المخاطبين أي خائفين وطامعين.
23

المسألة الثانية: في كون البرق خوفا وطمعا وجوه. الأول: أن عند لمعان البرق يخاف وقوع الصواعق ويطمع في نزول الغيث قال المتنبي:
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى * يرجى الحيا منها ويخشى الصواعق
الثاني: أنه يخاف المطر من له فيه ضرر كالمسافر وكمن في جرابه التمر والزبيب ويطمع فيه من له فيه نفع. الثالث: أن كل شيء يحصل في الدنيا فهو خير بالنسبة إلى قوم، وشر بالنسبة إلى آخرين، فكذلك المطر خير في حق من يحتاج إليه في أوانه، وشر في حق من يضره ذلك، إما بحسب المكان أو بحسب الزمان.
المسألة الثالثة: اعلم أن حدوث البرق دليل عجيب على قدرة الله تعالى وبيانه أن السحاب لا شك أنه جسم مركب في أجزاء رطبة مائية، ومن أجزاء هوائية ونارية ولا شك أن الغالب عليه الأجزاء المائية والماء جسم بارد رطب، والنار جسم يابس وظهور الضد من الضد التام على خلاف العقل فلا بد من صانع مختار يظهر الضد من الضد.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن الريح احتقن في داخل جرم السحاب واستولى البرد على ظاهره فانجمد السطح الظاهر منه، ثم إن ذلك الريح يمزقه تمزيقا عنيفا فيتولد من ذلك التمزيق الشديد حركة عنيفة، والحركة العنيفة موجبة للسخونة وهي البرق؟
والجواب: أن كل ما ذكرتموه على خلاف المعقول وبيانه من وجوه. الأول: أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال: أينما يحصل البرق فلا بد وأن يحصل الرعد وهو الصوت الحادث من تمزق السحاب ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك فإنه كثيرا ما يحدث البرق القوي من غير حدوث الرعد. الثاني: أن السخونة الحاصلة بسبب قوة الحركة مقابلة للطبيعة المائية الموجبة للبرد، وعند حصول هذا العارض القوي كيف تحدث النارية؟ بل نقول: النيران العظيمة تنطفئ بصب الماء عليها، والسحاب كله ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية؟ الثالث: من مذهبكم أن النار الصرفة لا لون لها البتة، فهب أنه حصلت النارية بسبب قوة المحاكة الحاصلة بأجزاء السحاب لكن من أين حدث ذلك اللون الأحمر؟ فثبت أن السبب الذي ذكروه ضعيف وأن حدوث النار الحاصلة في جرم السحاب مع كونه ماء خالصا لا يمكن إلا بقدرة القادر الحكيم.
النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: * (وينشئ السحاب الثقال) * قال صاحب " الكشاف ": السحاب اسم جنس والواحدة سحابة والثقال جمع ثقيلة لأنك تقول سحابة ثقيلة وسحاب ثقال كما تقول امرأة كريمة ونساء كرام وهي الثقال بالماء.
24

واعلم أن هذا أيضا من دلائل القدرة والحكمة، وذلك لأن هذه الأجزاء المائية إما أن يقال إنها حدثت في جو الهواء أو يقال إنها تصاعدت من وجه الأرض، فإن كان الأول وجب أن يكون حدوثها باحداث محدث حكيم قادر وهو المطلوب، وإن كان الثاني، وهو أن يقال إن تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض فلما وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت فرجعت إلى الأرض فنقول هذا باطل، وذلك لأن الأمطار مختلفة فتارة تكون القطرات كبيرة وتارة تكون صغيرة وتارة تكون متقاربة، وأخرى تكون متباعدة وتارة تدوم مدة نزول المطر زمانا طويلا وتارة قليلا فاختلاف الأمطار في هذه الصفات مع أن طبيعة الأرض واحدة، وطبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة لا بد وأن يكون بتخصيص الفاعل المختار وأيضا فالتجربة دلت على أن للدعاء والتضرع في نزول الغيث أثرا عظيما ولذلك كانت صلاة الاستسقاء مشروعة، فعلمنا أن المؤثر فيه هو قدرة الفاعل لا الطبيعة والخاصية.
النوع الثالث: من الدلائل المذكورة في هذه الآية الرعد وهو قوله: * (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) * وفيه أقوال:
القول الأول: إن الرعد اسم ملك من الملائكة وهذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك بالتسبيح والتهليل عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ فقال: " ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ". قالوا: فما الصوت الذي نسمع؟ قال: " زجره السحاب " وعن الحسن أنه خلق من خلق الله ليس بملك فعلى هذا القول الرعد هو الملك الموكل بالسحاب وصوته تسبيح لله تعالى وذلك الصوت أيضا يسمى بالرعد ويؤكد هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله ينشئ السحاب الثقال فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق ".
واعلم أن هذا القول غير مستبعد وذلك لأن عند أهل السنة البنية ليست شرطا لحصول الحياة فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة والعلم والقدرة والنطق في أجزاء السحاب فيكون هذا الصوت المسموع فعلا له وكيف يستبعد ذلك ونحن نرى أن السمندل يتولد في النار، والضفادع تتولد في الماء البارد، والدودة العظيمة ربما تتولد في الثلوج القديمة، وأيضا فإذا لم يبعد تسبيح الجبال في زمن داود عليه السلام، ولا تسبيح الحصى في زمان محمد صلى الله عليه وسلم " فكيف يستبعد تسبيح السحاب " وعلى هذا القول فهذا الشيء المسمى بالرعد ملك أو ليس
25

بملك فيه قولان: أحدهما: أنه ليس بملك لأنه عطف عليه الملائكة، فقال: * (والملائكة من خيفته) * والمعطوف عليه مغاير للمعطوف. والثاني: وهو أنه لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة وإنما إفراده بالذكر على سبيل التشريف كما في قوله: * (وملائكته ورسله وجبريل وميكايل) * (البقرة: 98) وفي قوله: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك من نوح) * (الأحزاب: 70).
القول الثاني: أن الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص، ومع ذلك فإن الرعد يسبح الله سبحانه، لأن التسبيح والتقديس وما يجري مجراهما ليس إلا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى، فلما كان حدوث هذا الصوت دليلا على وجود موجود متعال عن النقص والإمكان، كان ذلك في الحقيقة تسبيحا، وهو معنى قوله تعالى: * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44).
القول الثالث: أن المراد من كون الرعد مسبحا أن من يسمع الرعد فإنه يسبح الله تعالى، فلهذا المعنى أضيف هذا التسبيح إليه.
القول الرابع: من كلمات الصوفية الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم، والمطر بكاؤهم.
فإن قيل: وما حقيقة الرعد؟
قلنا: استقصينا القول في سورة " البقرة " في قوله: * (فيه ظلمات ورعد وبرق) * (البقرة: 19).
أما قوله: * (والملائكة من خيفته) * فاعلم أن من المفسرين من يقول: عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد، فإنه سبحانه جعل له أعوانا، ومعنى قوله: * (والملائكة من خيفته) * أي وتسبح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم، فإن أحدهم لا يعرف من على يمينه ومن على يساره، ولا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء. واعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية،
فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره، وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية، وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون عن الحكماء، فكيف يليق بالعاقل الإنكار؟
النوع الرابع: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله: * (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) * واعلم أنا قد ذكرنا معنى الصواعق في سورة البقرة. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في عامر
26

بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمانه ويجادلانه، ويريدان الفتك به، فقال أربد بن ربيعة أخو لبيد بن ربيعة: أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد، ثم إنه لما رجع أربد أرسل عليه صاعقة فأحرقته، ورمى عامرا بغدة كغدة البعير، ومات في بيت سلولية.
واعلم أن أمر الصاعقة عجيب جدا وذلك لأنها تارة تتولد من السحاب، وإذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان في لجة البحر، والحكماء بالغوا في وصف قوتها، ووجه الاستدلال أن النار حارة يابسة وطبيعتها ضد طبيعة السحاب، فوجب أن تكون طبيعتها في الحرارة واليبوسة أضعف من طبيعة النيران الحادثة عندنا على العادة، لكنه ليس الأمر كذلك، فإنها أقوى نيران هذا العالم، فثبت أن اختصاصها بمزيد تلك القوة لا بد وأن يكون بسبب تخصيص الفاعل المختار.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل الأربعة قال: * (وهم يجادلون في الله) * والمراد أنه تعالى بين دلائل كمال علمه في قوله: * (يعلم ما تحمل كل أنثى) * (الرعد: 8) وبين دلائل كمال القدرة في هذه الآيات.
ثم قال: * (وهم يجادلون في الله) * يعني هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله وهو يحتمل وجوها: أحدها: أن يكون المراد الرد على الكافر الذي قال: أخبرنا عن ربنا أمن نحاس أم من حديد. وثانيها: أن يكون المراد الرد على جدالهم في إنكار البعث وإبطال الحشر والنشر. وثالثها: أن يكون المراد الرد عليهم في طلب سائر المعجزات. ورابعها: أن يكون المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال. وفي هذه الواو قولان: الأول: أنه للحال، والمعنى: فيصيب بالصاعقة من يشاء في حال جداله في الله، وذلك أن أربد لما جادل في الله أحرقته الصاعقة. والثاني: أنها واو الاستئناف كأنه تعالى لما تمم ذكر هذه الدلائل قال بعد ذلك: * (وهم يجادلون في الله) *.
ثم قال تعالى: * (وهو شديد المحال) * وفي لفظ المحال أقوال: قال ابن قتيبة: الميم زائدة وهو من الحول، ونحوه ميم مكان، وقال الأزهري: هذا غلط، فإن الكلمة إذا كانت على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية، نحو مهاد ومداس ومداد، واختلفوا مم أخذ على وجوه: الأول: قيل من قولهم محل فلان بفلان إذا سعى به إلى السلطان وعرضه للهلاك، وتمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه، فكان المعنى: أنه سبحانه شديد المكر لأعدائه يهلكهم بطريق لا يتوقعونه. الثاني: أن المحال عبارة عن الشدة، ومنه تسمى السنة الصعبة سنة المحل وما حلت فلانا محالا. أي قاومته أينا أشد، قال أبو مسلم: ومحال فعال من المحل وهو الشدة ولفظ فعال يقع على المجازاة
27

والمقابلة، فكأن المعنى: أنه تعالى شديد المغالبة، وللمفسرين ههنا عبارات فقال مجاهد وقتادة: شديد القوة، وقال أبو عبيدة: شديد العقوبة، وقال الحسن: شديد النقمة، وقال ابن عباس: شديد الحول. الثالث: قال ابن عرفة: يقال ماحل عن أمره أي جادل، فقوله: * (شديد المحال) * أي شديد الجدال. الرابع: روي عن بعضهم: * (شديد المحال) * أي شديد الحقد. قالوا: هذا لا يصح، لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى، إلا أنا قد ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه الألفاظ إذا وردت في حق الله تعالى فإنها تحصل على نهايات الأعراض لا على مبادئ الأعراض، فالمراد بالحقد ههنا هو أنه تعالى يريد إيصال الشر إليه مع أنه يخفي عنه تلك الإرادة.
* (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشىء إلا كباسط كفيه إلى المآء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعآء الكافرين إلا فى ضلال) *
اعلم أن قوله: * (له دعوة الحق) * أي لله دعوة الحق، وفيه بحثان:
البحث الأول: في أقوال المفسرين وهي أمور: أحدها: ما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: * (دعوة الحق) * قول لا إله إلا الله. وثانيها: قول الحسن: إن الله هو الحق، فدعاؤه هو الحق، كأنه يومئ إلى أن الانقطاع إليه في الدعاء هو الحق. وثالثها: أن عبادته هي الحق والصدق.
واعلم أن الحق هو الموجود، والموجود قسمان: قسم يقبل العدم وهو حق يمكن أن يصير باطلا وقسم لا يقبل العدم فلا يمكن أن يصير باطلا وذلك هو الحق الحقيقي، وإذا كان واجب الوجود لذاته موجودا لا يقبل العدم كان أحق الموجودات بأن يكون حقا هو هو وكان أحق الاعتقادات وأحق الأذكار بأن يكون حقا هو اعتقاد ثبوته وذكر وجوده، فثبت بهذا أن وجوده هو الحق في الموجودات واعتقاد وجوده هو الحق في الاعتقادات. وذكره بالثناء والإلهية والكمال هو الحق في الأذكار فلهذا قال: * (له دعوة الحق) *.
28

البحث الثاني: قال صاحب " الكشاف " * (دعوة الحق) * فيه وجهان: أحدهما: أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف إليه الكلمة في قوله: * (كلمة الحق) * والمقصود منه الدلالة على كون هذه الدعوة مختصة بكونها حقة وكونها خالية عن أمارات كونه باطلا، وهذا من باب إضافة الشيء إلى صفته. والثاني: أن تضاف إلى الحق الذي هو الله سبحانه على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب، وعن الحسن: الحق هو الله وكل دعاء إليه فهو دعوة الحق.
ثم قال تعالى: * (والذين يدعون من دونه) * يعني الآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله: * (لا يستجيبون لهم بشيء) * مما يطلبونه إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، فكذلك ما يدعونه جماد، لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم وقيل شبهوا في قلة فائد دعائهم لآلهتهم، بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطها ناشرا أصابعه ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء ولم يبلغ
مطلوبه من شربه، وقرئ * (تدعون) * بالتاء * (كباسط كفيه) * بالتنوين، ثم قال: * (وما دعاء الكافرين إلى في ضلال) * أي إلا في ضياع لا منفعة فيه، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.
* (ولله يسجد من فى السماوات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والاصال) *
اعلم أن في المراد بهذا السجود قولين:
القول الأول: أن المراد منه السجود بمعنى وضع الجبهة على الأرض، وعلى هذا الوجه ففيه وجهان: أحدهما: أن اللفظ وإن كان عاما إلا أن المراد به الخصوص وهم المؤمنون، فبعض المؤمنين يسجدون لله طوعا بسهولة ونشاط، ومن المسلمين من يسجد لله كرها لصعوبة ذلك عليه مع أنه يحمل نفسه على أداء تلك الطاعة شاء أم أبى. والثاني: أن اللفظ عام والمراد منه أيضا العام وعلى هذا ففي الآية إشكال، لأنه ليس كل من في السماوات والأرض يسجد لله بل الملائكة يسجدون لله، والمؤمنون من الجن والإنس يسجدون لله تعالى، وأما الكافرون فلا يسجدون.
الجواب عنه من وجهين: الأول: أن المراد من قوله: * (ولله يسجد من في السماوات والأرض) *
29

أي ويجب على كل من في السماوات والأرض أن يسجد لله فعبر عن الوجوب بالوقوع والحصول. والثاني: وهو أن المراد من السجود التعظيم والاعتراف بالعبودية، وكل من في السماوات ومن في الأرض يعترفون بعبودية الله تعالى على ما قال: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25).
وأما القول الثاني في تفسير الآية فهو أن السجود عبارة عن الانقياد والخضوع وعدم الامتناع وكل من في السماوات والأرض ساجد لله بهذا المعنى، لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل وتحقيق القول فيه أن ما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته هو الذي تكون ماهيته قابلة للعدم والوجود على السوية وكل من كان كذلك امتنع رجحان وجوده على عدمه أو بالعكس، إلا بتأثير موجود ومؤثر فيكون وجود كل ما سوى الحق سبحانه بإيجاده وعدم كل ما سواه بإعدامه، فتأثيره نافذ في جميع الممكنات في طرفي الإيجاد والإعدام، وذلك هو السجود وهو التواضع والخضوع والانقياد، ونظير هذه الآية: * (بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون) * وقوله: * (وله أسلم من في السماوات والأرض) * (آل عمران: 83).
وأما قوله تعالى: * (طوعا وكرها) * فالمراد: أن بعض الحوادث مما يميل الطبع إلى حصوله كالحياة والغنى، وبعضها مما ينفر الطبع عنه كالموت والفقر والعمى والحزن والزمانة وجميع أصناف المكروهات، والكل حاصل بقضائه وقدره وتكوينه وإيجاده، ولا قدرة لأحد على الامتناع والمدافعة.
ثم قال تعالى: * (وظلالهم بالغدو والآصال) * وفيه قولان:
القول الأول: قال المفسرون، كل شخص سواء كان مؤمنا أو كافرا فإن ظله يسجد لله. قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله كرها وهو كاره، وقال الزجاج: جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله، وعند هذا قال ابن الأنباري: لا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولا وأفهاما تسجد بها وتخشع كما جعل الله للجبال أفهاما حتى اشتغلت بتسبيح الله تعالى وحتى ظهر أثر التجلي فيها كما قال: * (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) * (الأعراف: 143).
والقول الثاني: وهو أن المراد من سجود الظلال ميلانها من جانب إلى جانب وطولها بسبب انحطاط الشمس وقصرها بسبب ارتفاع الشمس، فهي منقادة مستسلمة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب وإنما خصص الغدو والآصال بالذكر، لأن الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين.
30

قوله تعالى
* (قل من رب السماوات والارض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أوليآء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوى الاعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار) *
اعلم أنه تعالى لما بين أن كل من في السماوات والأرض ساجد له بمعنى كونه خاضعا له، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام فقال: * (قل من رب السماوات والأرض قل الله) * ولما كان هذا الجواب جوابا يقر به المسؤول ويعترف به ولا ينكره أمره صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيها على أنهم لا ينكرونه البتة ولما بين أنه سبحانه هو الرب لكل الكائنات قال: قل لهم فلم اتخذتهم من دون الله أولياء وهي جمادات وهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة لأنفسها ودفع المضرة عن أنفسها، فبأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة لغيرها ودفع المضرة عن غيرها كان ذلك أولى، فإذا لم تكن قادرة على ذلك كانت عبادتها محض العبث والسفه، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أن الجاهل بمثل هذه الحجة يكون كالأعمى والعالم بها كالبصير، والجهل بمثل هذه الحجة كالظلمات، والعلم بها كالنور، وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير، والظلمة لا تساوي النور كذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالم بها. قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وعمرو عن عاصم * (يستوي الظلمات والنور) * بالياء، لأنها مقدمة على اسم الجمع والباقون بالتاء، واختاره أبو عبيدة ثم أكد هذا البيان فقال: * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) * يعني هذه الأشياء التي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتى يقولوا إنها تشارك الله في الخالقية، فوجب أن تشاركه في الإلهية، بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أن هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل البتة، ولا خلق
31

ولا أثر، وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهية محض السفه والجهل. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن أصحابنا استدلوا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال من وجوه. الأول: أن المعتزلة زعموا أن الحيوانات تخلق حركات وسكنات مثل الحركات
والسكنات التي يخلقها الله تعالى، وعلى هذا التقدير فقد جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذم والإنكار. فدلت هذه الآية على أن العبد لا يخلق فعل نفسه. قال القاضي: نحن وإن قلنا: إن العبد يفعل ويحدث، إلا أنا لا نطلق القول بأنه يخلق ولو أطلقناه لم نقل إنه يخلق كخلق الله، لأن أحدنا يفعل بقدرة الله، وإنما يفعل لجلب منفعة ودفع مضرة، والله تعالى منزه عن ذلك كله، فثبت أن بتقدير كون العبد خالقا، إلا أنه لا يكون خلقه كخلق الله تعالى، وأيضا فهذا الإلزام لازم للمجبرة، لأنهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسب العبد وفعل له، وهذا عين الشرك لأن الإله والعبد في خلق تلك الأفعال بمنزلة الشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه حق. وأيضا فهو تعالى إنما ذكر هذا الكلام عيبا للكفار وذما لطريقتهم، ولو كان فعل العبد خلقا لله تعالى لما بقي لهذا الذم فائدة، لأن للكفار أن يقولوا على هذا التقدير إن الله سبحانه وتعالى لما خلق هذا الكفر فينا فلم يذمنا عليه ولا ينسبنا إلى الجهل والتقصير مع أنه قد حصل فينا لا بفعلنا ولا باختيارنا.
والجواب عن السؤال الأول: أن لفظ الخلق إما أن يكون عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود، أو يكون عبارة عن التقدير، وعلى الوجهين فبتقدير أن يكون العبد محدثا فإنه لا بد وأن يكون حادثا. أما قوله: والعبد وإن كان خالقا إلا أنه ليس خلقه كخلق الله.
قلنا: الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين والإخراج من العدم إلى الوجود، ومعلوم أن الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلا للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى، كان أحد المخلوقين مثلا للمخلوق الثاني، وحينئذ يصح أن يقال: إن هذا الذي هو مخلوق العبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى بل لا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات، إلا أن حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في حصول المماثلة من هذا الوجه وهذا القدر يكفي في الاستدلال. وأما قوله هذا لازم على المجبرة حيث قالوا: إن فعل العبد مخلوق لله تعالى، فنقول هذا غير لازم، لأن هذه الآية دالة على أنه لا يجوز أن يكون خلق العبد مثلا لخلق الله تعالى، ونحن لا نثبت للعبد خلقا البتة، فكيف يلزمنا ذلك؟ وأما قوله: لو كان فعل العبد خلقا لله تعالى، لما حسن ذم الكفار على هذا المذهب.
32

قلنا: حاصله يرجع إلى أنه لما حصل المدح والذم وجب أن يكون العبد مستقلا بالفعل، وهو منقوض، لأنه تعالى ذم أبا لهب على كفره مع أنه عالم منه أنه يموت على الكفر، وقد ذكرنا أن خلاف المعلوم محال الوقوع، فهذا تقرير هذا الوجه في هذه الآية.
وأما الوجه الثاني: في التمسك بهذه الآية قوله: * (قل الله خالق كل شيء) * ولا شك أن فعل العبد شيء فوجب أن يكون خالقه هو الله وسؤالهم عليه ما تقدم.
والوجه الثالث: في التمسك بهذه الآية وقوله: * (وهو الواحد القهار) * وليس يقال فيه أنه تعالى واحد في أي المعاني، ولما كان المذكور السابق هو الخالقية وجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية، القهار لكل ما سواه، وحينئذ يكون دليلا أيضا على صحة قولنا.
المسألة الثانية: زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء. اعلم أن هذا النزاع ليس إلا في اللفظ وهو أن هذا الاسم هل يقع عليه أم لا، وزعم أنه لا يقع هذا الاسم على الله تعالى واحتج عليه بأنه لو كان شيئا لوجب كونه خالقا لنفسه، لقوله تعالى: * (الله خالق كل شيء) * ولما كان ذلك محالا، وجب أن لا يقع عليه اسم الشيء، ولا يقال: هذا عام دخله التخصيص، لأن العام المخصوص إنما يحسن إذا كان المخصوص أقل من الباقي وأخس منه كما إذا قال: أكلت هذ الرمانة مع أنه سقطت منها حبات ما أكلها، وههنا ذات الله تعالى أعلى الموجودات وأشرفها، فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصا في حقه؟
والحجة الثانية: تمسك بقوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) والمعنى: ليس مثل مثله شيء، ومعلوم أن كل حقيقة فإنها مثل مثل نفسها، فالباري تعالى مثل مثل نفسه، مع أنه تعالى نبه على أن مثل مثله ليس بشيء، فهذا تنصيص على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيء.
والحجة الثالثة: قوله تعالى: * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) * (الأعراف: 180) دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى، ولفظ الشيء يتناول أخس الموجودات، فلا يكون هذا اللفظ مشعرا بمعنى حسن، فوجب أن لا يكون هذا اللفظ من الأسماء الحسنى، فوجب أن لا يجوز دعاء الله تعالى بهذا اللفظ، والأصحاب تمسكوا في إطلاق هذا الاسم عليه تعالى بقوله: * (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم) * (الأنعام: 19).
وأجاب الخصم عنه: بأن قوله: * (قل أي شيء أكبر شهادة) * سؤال متروك الجواب، وقوله: * (قل الله شهيد بيني وبينكم) * كلام مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله.
المسألة الثالثة: تمسك المعتزلة بهذه الآية في أنه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة.
33

قالوا: لأنه لو حصل لله تعالى علم وقدرة وحياة، لكانت هذه الصفات إما أن تحصل بخلق الله أو لا بخلقه، والأول باطل وإلا لزم التسلسل، والثاني: باطل لأن قوله: * (الله خالق كل شيء) * يتناول الذات والصفات حكمنا بدخول التخصيص فيه في حق ذات الله تعالى فوجب أن يبقى فيما سوى الذات على الأصل. وهو أن يكون تعالى خالقا لكل شيء سوى ذاته تعالى، فلو كان لله علم وقدرة لوجب كونه تعالى خالقا لهما وهو محال، وأيضا تمسكوا بهذه الآية في خلق القرآن. قالوا: الآية دالة على أنه تعالى خالق لكل الأشياء، والقرآن ليس هو الله تعالى، فوجب أن يكون مخلوقا وأن يكون داخلا تحت هذا العموم.
والجواب: أقصى ما في الباب أن الصيغة عامة، إلا أنا نخصصها في حق صفات الله تعالى بسبب الدلائل العقلية.
قوله تعالى
* (أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغآء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الارض كذلك يضرب الله الامثال * للذين ستجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما فى الارض جميعا ومثله
معه لافتدوا به أولئك لهم سوء
34

الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد * أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب) *
اعلم أنه تعالى لما شبه المؤمن والكافر والإيمان والكفر بالأعمى والبصير والظلمات والنور ضرب للإيمان والكفر مثلا آخر فقال: * (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) * ومن حق الماء أن يستقر في الأودية المنخفضة عن الجبال والتلال بمقدار سعة تلك الأودية وصغرها، من حق الماء إذا زاد على قدر الأودية أن ينبسط على الأرض ومن حق الزبد الذي يحتمله الماء فيطفو ويربو عليه أن يتبدد في الأطراف ويبطل، سواء كان ذلك الزبد ما يجري مجرى الغليان من البياض أو ما يحفظ بالماء من الأجسام الخفيفة، ولما ذكر تعالى هذا الزبد الذي لا يظهر إلا عند اشتداد جري الماء ذكر الزبد الذي لا يظهر إلا بالنار، وذلك لأن كل واحد من الأجساد السبعة إذا أذيب بالنار لابتغاء حلية أو متاع آخر من الأمتعة التي يحتاج إليها في مصالح البيت، فإنه ينفصل عنها نوع من الزبد والخبث، ولا ينتفع به بل يضيع ويبطل ويبقى الخالص. فالحاصل: أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد، وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء. والأجساد السبعة إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو لأجل اتخاذ سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به، فكذا ههنا أنزل من سماء الكبرياء والجلالة والإحسان ماء وهو القرآن، والأودية قلوب العباد وشبه القلوب بالأودية، لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن، كما أن الأودية تستقر فيها المياه النازلة من السماء، وكما أن كل واحد فإنما يحصل فيه من مياه الأمطار ما يليق بسعته أو ضيقه، فكذا ههنا كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علوم القرآن ما يليق بذلك القلب من طهارته وخبثه وقوة فهمه وقصور فهمه، وكما أن الماء يعلوه زبد الأجساد السبعة المذابة يخالطها خبث، ثم إن ذلك الزبد والخبث يذهب ويضيع ويبقى جوهر الماء وجوهر الأجساد السبعة، كذا ههنا بيانات القرآن تختلط بها شكوك وشبهات، ثم إنها بالآخرة تزول وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة والمكاشفة في العاقبة، فهذا هو تقرير هذا المثل ووجه انطباق المثل على الممثل به، وأكثر المفسرين سكتوا عن بيان كيفية التمثيل والتشبيه.
المسألة الثانية: في المباحث اللفظية التي في هذه الآية في لفظ الأودية أبحاث:
البحث الأول: الأودية جمع واد وفي الوادي قولان:
القول الأول: أنه عبارة عن الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل، هذا قول عامة أهل اللغة.
35

والقول الثاني: قال السهروردي يسمى الماء واديا إذا سال قال: ومنه سمي الودي وديا لخروجه وسيلانه، وعلى هذا القول فالوادي اسم للماء السائل كالمسيل. والأول هو القول المشهور إلا أن على هذا التقدير يكون قوله: * (سالت أودية) * مجازا فكان التقدير: سالت مياه الأودية إلا أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
البحث الثاني: قال أبو علي الفارسي رحمه الله: الأودية جمع واد ولا نعلم فاعلا جمع على أفعلة قال: ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم، وشاهد وشهيد، وناصر ونصير، ثم إن وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب، وطائر وأطيار، ووزن فعيل يجمع على أفعلة، كجريب وأجربة ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع الفعيل. فيقال: واد وأودية ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال: يتيم وأيتام وشريف وأشراف هذا ما قاله أبو علي الفارسي رحمه الله. وقال غيره: نظير واد وأودية، ناد وأندية للمجالس.
البحث الثالث: إنما ذكر لفظ أودية على سبيل التنكير، لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فتسيل بعض أودية الأرض دون بعض. أما قوله تعالى: * (بقدرها) * ففيه بحثان:
البحث الأول: قال الواحدي: القدر والقدر مبلغ الشيء يقال كم قدر هذه الدراهم وكم قدرها ومقدارها؟ أي كم تبلغ في الوزن، فما يكون مساويا لها في الوزن فهو قدرها.
البحث الثاني: * (سالت أودية بقدرها) * أي من الماء، فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتسع الوادي كثر الماء.
أما قوله: * (فاحتمل السيل زبدا رابيا) * ففيه بحثان:
البحث الأول: قال الفراء: يقال أزبد الوادي إزبادا، والزبد الاسم، وقوله: * (رابيا) * قال الزجاج: طافيا عاليا فوق الماء. وقال غيره: زائدا بسبب انتفاخه، يقال: ربا يربو إذا زاد.
أما قوله تعالى: * (ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله) * فاعلم أنه تعالى لما ضرب المثل بالزبد الحاصل من الماء، أتبعه بضرب المثل بالزبد الحاصل من النار، وفيه مباحث:
البحث الأول: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (يوقدون) * بالياء، واختاره أبو عبيدة لقوله: * (ينفع الناس) * وأيضا فليس ههنا مخاطب. والباقون بالتاء على الخطاب، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان. الأول: أنه خطاب للمذكورين في قوله: * (قل أفاتخذتم من دونه أولياء) *. (الرعد: 16) والثاني: أنه يجوز أن يكون خطابا عاما يراد به الكافة، كأنه قال: ومما توقدون عليه في النار أيها الموقدون.
البحث الثاني: الإيقاد على الشيء على قسمين: أحدهما: أن لا يكون ذلك الشيء في النار،
36

وهو كقوله تعالى) * (فأوقد لي يا هامان على الطين) * (القصص: 38) والثاني: أن يوقد على الشيء ويكون ذلك الشيء في النار فإن من أراد تذويب الأجساد السبعة جعلها في النار، فلهذا السبب قال ههنا: * (ومما يوقدون عليه في النار) *.
البحث الثالث: في قوله: * (ابتغاء حلية) * قال أهل المعاني: الذي يوقد عليه لابتغاء حلية الذهب والفضة، والذي يوقد عليه لابتغاء الأمتعة الحديد والنحاس والرصاص، والأسرب يتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها، والمتاع كل ما يتمتع به وقوله: * (زبد مثله) * أي زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل.
ثم قال تعالى: * (وكذلك يضرب الله الحق والباطل) * والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للحق والباطل. ثم قال: * (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس) * قال الفراء: الجفاء الرمي والاطراح يقال: جفا الوادي غثاءه يجفوه جفاء إذا رماه، والجفاء اسم للمجتمع منه المنضم بعضه إلى بعض وموضع جفاء نصب على الحال، والمعنى: أن الزبد قد يعلو على وجه الماء ويربو وينتفخ إلا أنه بالآخرة يضمحل ويبقى الجوهر الصافي من الماء ومن الأجساد السبعة، فكذلك الشبهات والخيالات قد تقوى وتعظم إلا أنها بالآخرة تبطل وتضمحل وتزول ويبقى الحق ظاهرا لا يشوبه شيء من الشبهات، وفي قراءة رؤبة بن العجاج جفالا، وعن أبي حاتم لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفار.
أما قوله تعالى: * (للذين استجابوا لربهم الحسنى) * ففيه وجهان: الأول: أنه تم الكلام عند قوله: * (كذلك يضرب الله الأمثال) * ثم استأنف الكلام بقوله: * (للذين استجابوا لربهم الحسنى) * ومحله الرفع بالابتداء وللذين خبره وتقديره لهم الخصلة الحسنى والحالة الحسنى. الثاني: أنه متصل بما قبله والتقدير: كأنه قال الذي يبقى هو مثل المستجيب والذي يذهب جفاء مثل من لا يستجيب ثم بين الوجه في كونه مثلا وهو أنه لمن يستجيب الحسنى وهو الجنة، ولمن لا يستجيب أنواع الحسرة والعقوبة، وفيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير: كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الاستجابة الحسنى، فيكون الحسنى صفة لمصدر محذوف.
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، أما أحوال السعداء فهي قوله: * (للذين استجابوا لربهم الحسنى) * والمعنى أن الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوة وبعث الرسل والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله فلهم الحسنى. قال ابن عباس: الجنة، وقال أهل المعاني: الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرة
37

الدائمة الخالية عن الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال. ولم يذكر الزيادة ههنا لأنه تعالى قد ذكرها في سورة أخرى، وهو قوله: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * (يونس: 206) وأما أحوال الأشقياء، فهي قوله: * (والذين لم يستجيبوا له) * فلهم أنواع أربعة من العذاب والعقوبة.
فالنوع الأول؛ قوله: * (لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به) * والافتداء جعل أحد الشيئين بدلا من الآخر، ومفعول لافتدوا به محذوف تقديره: لافتدوا به أنفسهم أي جعلوه فداء أنفسهم من العذاب، والكناية في " به " عائدة إلى " ما " في قوله: * (ما في الأرض) *.
واعلم أن هذا المعنى حق، لأن المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته، وكل ما سواه فإنما يحبه لكونه وسيله إلى مصالح ذاته، فإذا كانت النفس في الضرر والألم والتعب وكان مالكا لما يساوي عالم الأجساد والأرواح فإنه يرضى بأن يجعله فداء لنفسه، لأن المحبوب بالعرض لا بد وأن يكون فداء لما يكون محبوبا بالذات.
والنوع الثاني: من أنواع العذاب الذي أعده الله لهم هو قوله: * (أولئك لهم سوء الحساب) * قال الزجاج: ذاك لأن كفرهم أحبط أعمالهم. وأقول ههنا حالتان: فكل ما شغلك بالله وعبوديته ومحبته فهي الحالة السعيدة الشريفة العلوية القدسية، وكل ما شغلك بغير الله فهي الحالة الضارة المؤذية الخسيسة، ولا شك أن هاتين الحالتين يقبلان الأشد والأضعف والأقل والأزيد، ولا شك أن المواظبة على الأعمال المناسبة لهذه الأحوال توجب قوتها ورسوخها لما ثبت في المعقولات أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة، ولا شك أنه لما كانت كثرة الأفعال توجب حصول تلك الملكات الراسخة وكل واحدة من تلك الأفعال حتى اللمحة واللحظة والخطور بالبال والالتفات الضعيف فإنه يوجب أثرا ما في حصول تلك الحالة في النفس فهذا هو الحساب، وعند التأمل في هذه الفصول يتبين للإنسان صدق قوله: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7، 8).
إذا ثبت هذا فالسعداء هم الذين استجابوا لربهم في الإعراض عما سوى الله وفي الإقبال بالكلية على عبودية الله تعالى ولا جرم حصل لهم الحسنى.
وأما الأشقياء فهم الذين لم يستجيبوا لربهم، فلهذا السبب وجب أن يحصل لهم سوء الحساب، والمراد بسوء الحساب أنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين عن الفوز بخدمة حضرة المولى.
والنوع الثالث: قوله تعالى: * (ومأواهم جهنم) * وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاستسعاد
38

بخدمة حضرة المولى عاكفين على لذات الدنيا، فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم فيحترقون على مفارقتها وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة، فلذلك قال: * (مأواهم جهنم) * ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى فقال: * (وبئس المهاد) * ولا شك أن الأمر كذلك.
ثم قال تعالى: * (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) * فهذا إشارة إلى المثل المتقدم ذكره وهو أن العالم بالشيء كالبصير، والجاهل به كالأعمى، وليس أحدهما كالآخر، لأن الأعمى إذا أخذ يمشي من غير قائد، فالظاهر أنه يقع في البئر وفي المهالك، وربما أفسد ما كان على طريقه من الأمتعة النافعة، أما البصير فإنه يكون آمنا من الهلاك والإهلاك.
ثم قال: * (إنما يتذكر أولوا الألباب) * والمراد أنه لا ينتفع بهذه الأمثلة إلا أرباب الألباب الذين يطلبون من كل صورة معناها، ويأخذون من كل قشرة لبابها ويعبرون بظاهر كل حديث إلى سره ولبابه.
قوله تعالى
* (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون مآ أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا
الصلوة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار * جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) *
39

اعلم أن هذه الآية هل هي متعلقة بما قبلها أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: إنها متعلقة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: أنه يجوز أن يكون قوله: * (الذين يوفون بعهد الله) * صفة لأولي الألباب. والثاني: أن يكون ذلك صفة لقوله: * (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق) * (الرعد: 19).
والقول الثاني: أن يكون قوله: * (الذين يوفون بعهد الله) * مبتدأ: * (وأولئك لهم عقبى الدار) * خبره كقوله: * (والذين ينقضون عهد الله... أولئك لهم اللعنة) * (الرعد: 25) واعلم أن هذه الآية من أولها إلى آخرها جملة واحدة شرط وجزاء، وشرطها مشتمل على قيود، وجزاؤها يشتمل أيضا على قيود. أما القيود المعتبرة في الشرط فهي تسعة:
القيد الأول: قوله: * (الذين يوفون بعهد الله) * وفيه وجوه: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الذي عاهدهم عليه حين كانوا في صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم: * (ألست بربكم قالوا بلى) *. والثاني: أن المراد بعهد الله كل أمر قام الدليل على صحته وهو من وجهين: أحدهما: الأشياء التي أقام الله عليها دلائل عقلية قاطعة لا تقبل النسخ والتغيير. والآخر: التي أقام الله عليها الدلائل السمعية وبين لهم تلك الأحكام، والحاصل أنه دخل تحت قوله: * (يوفون بعهد الله) * كل ما قام الدليل عليه. ويصح إطلاق لفظ العهد على الحجة بل الحق أنه لا عهد أوكد من الحجة والدلالة على ذلك أن من حلف على الشيء فإنما يلزمه الوفاء به، إذا ثبت بالدليل وجوبه لا بمجرد اليمين ولذلك ربما يلزمه أن يحدث نفسه إذا كان ذلك خيرا له فلا عهد أوكد من إلزام الله تعالى إياه ذلك بدليل العقل أو بدليل السمع. ولا يكون العبد موفيا للعهد إلا بأن يأتي بكل تلك الأشياء كما أن الحالف على أشياء كثيرة لا يكون بارا في يمينه إلا إذا فعل الكل، ويدخل فيه الاتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن كل المنهيات ويدخل فيه الوفاء بالعقود في المعاملات، ويدخل فيه أداء الأمانات، وهذا القول هو المختار الصحيح في تأويل الآية.
القيد الثاني: قوله: * (ولا ينقضون الميثاق) * وفيه أقوال:
القول الأول: وهو قول الأكثرين إن هذا الكلام قريب من الوفاء بالعهد، فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق والعهد، وهذا مثل أن يقول: إنه لما وجب وجوده لزم أن يمتنع عدمه، فهذان المفهومان متغايران إلا أنهما متلازمان فكذلك الوفاء بالعهد يلزمه أن لا ينقض الميثاق.
واعلم أن الوفاء بالعهد من أجل مراتب السعادة. قال عليه السلام: " لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن عهد له " والآيات الواردة في هذا الباب كثيرة في القرآن.
40

والقول الثاني: أن الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه، فالحاصل: أن قوله: * (الذين يوفون بعهد الله) * إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء. وقوله: * (ولا ينقضون الميثاق) * إشارة إلى ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختياره نفسه كالنذر بالطاعات والخيرات.
والقول الثالث: أن المراد بالوفاء بالعهد: عهد الربوبية والعبودية، والمراد بالميثاق: المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند ظهوره.
واعلم أن الوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع، قال عليه السلام: " من عاهد الله فغدر، كانت فيه خصلة من النفاق " وعنه عليه السلام: " ثلاثة أنا خصمهم يوم القيام ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى عهدا ثم غدر، ورجل استأجر أجيرا استوفى عمله وظلمه أجره، ورجل باع حرا فاسترق الحر وأكل ثمنه " وقيل: كان بين معاوية وملك الروم عهد فأراد أن يذهب إليهم وينقض العهد فإذا رجل على فرس يقول: وفاء بالعهد لا غدر. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذن إليهم عهده ولا يحلها حتى ينقضي الأمد وينبذ إليهم على سواء " قال من هذا؟ قالوا: عمرو بن عيينة فرجع معاوية.
القيد الثالث: * (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) * وههنا سؤال: وهو أن الوفاء بالعهد وترك نقض الميثاق اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات فما الفائدة في ذكر هذه القيود المذكورة بعدهما؟
والجواب من وجهين: الأول: أنه ذكر لئلا يظن ظان أن ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فلا جرم أفرد ما بينه وبين العباد بالذكر. والثاني: أنه تأكيد.
إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في تفسيره وجوها: الأول: أن المراد منه صلة الرحم قال عليه السلام: " ثلاث يأتين يوم القيامة لها ذلق الرحم تقول: أي رب قطعت، والأمانة تقول: أي رب تركت، والنعمة تقول: أي رب كفرت ".
والقول الثاني: أن المراد صلة محمد صلى الله عليه وسلم ومؤازرته ونصرته في الجهاد.
والقول الثالث: رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه صلة الرحم وصلة القرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان كما قال: * (إنما المؤمنون أخوة) * (الحجرات: 10) ويدخل في هذه الصلة امدادهم بإيصال الخيرات ودفع الآفات بقدر الإمكان وعيادة المريض وشهود الجنائز وإفشاء السلام على الناس والتبسم في وجوههم وكف الأذى عنهم ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة والدجاجة، وعن
41

الفضيل بن عياض رحمه الله أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ قالوا: من خراسان. فقال: اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أن العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين، وأقول حاصل الكلام: أن قوله: * (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) * إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله: * (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) * إشارة إلى الشفقة على خلق الله.
القيد الرابع: قوله: * (ويخشون ربهم) * والمعنى: أنه وإن أتى بكل ما قدر عليه في تعظيم أمر الله، وفي الشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد وأن تكون الخشية من الله والخوف منه مستوليا على قلبه وهذه الخشية نوعان: أحدهما: أن يكون خائفا من أن يقع زيادة أو نقصان أو خلل في عباداته وطاعاته، بحيث يوجب فساد العبادة أو يوجب نقصان ثوابها. والثاني: وهو خوف الجلال وذلك لأن العبد إذا حضر عند السلطان المهيب القاهر فإنه وإن كان في غير طاعته إلا أنه لا يزول عن قلبه مهابة الجلالة والرفعة والعظمة.
القيد الخامس: قوله: * (ويخافون سوء الحساب) * اعلم أن القيد الرابع إشارة إلى الخشية من الله وهذا القيد الخامس إشارة إلى الخوف والخشية وسوء الحساب، وهذا يدل على أن المراد من الخشية من الله ما ذكرناه من خوف الجلال والمهابة والعظمة وإلا لزم التكرار.
القيد السادس: قوله تعالى: * (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم) * فيدخل فيه الصبر على فعل العبادات والصبر على ثقل الأمراض والمضار، والغموم والأحزان، والصبر على ترك المشتهيات وبالجملة الصبر على ترك المعاصي وعلى أداء الطاعات. ثم إن الإنسان قد يقدم على الصبر لوجوه: أحدها: أن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل. وثانيها: أن يصبر لئلا يعاب بسبب الجزع. وثالثها: أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء. ورابعها: أن يصبر لعلمه بأن لا فائدة في الجزع فالإنسان إذا أتى بالصبر لأحد هذه الوجوه لم يكن ذلك داخلا في كمال النفس وسعادة القلب، أما إذا صبر على البلاء لعلمه بأن ذلك البلاء قسمة حكم بها القسام العلام المنزه عن العيب والباطل والسفه، بل لا بد أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة ومصلحة راجحة ورضي بذلك، لأنه تصرف المالك في ملكه ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملكه أو يصبر لأنه صار مستغرقا في مشاهدة المبلى فكان استغراقه في تجلي نور المبلى أذهله على التألم بالبلاء وهذا أعلى مقامات الصديقين، فهذه الوجوه الثلاثة هي التي يصدق عليها أنه صبر ابتغاء وجه ربه ومعناه أنه صبر لمجرد ثوابه، وطلب رضا الله تعالى.
42

واعلم أن قوله: * (ابتغاء وجه ربهم) * فيه دقيقة، وهي أن العاشق إذا ضربه معشوقه، فربما نظر العاشق لذلك الضارب وفرح به فقوله: * (ابتغاء وجه ربهم) * محمول على هذا المجاز، يعني كما أن العاشق يرضى بذلك الضرب لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه، فكذلك العبد يصبر على البلاء والمحنة، ويرضى به لاستغراقه في معرفة نور الحق وهذه دقيقة لطيفة.
القيد السابع: قوله: * (وأقاموا الصلاة) *.
واعلم أن الصلاة والزكاة وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى إلا أنه تعالى أفردها بالذكر تنبيها على كونها أشرف من سائر العبادات وقد سبق في هذا الكتاب تفسير إقامة الصلاة ولا يمتنع إدخال النوافل فيه أيضا.
القيد الثامن: قوله تعالى: * (وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الحسن: المراد الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سرا وإن اتهم بترك الزكاة فالأولى أداؤها في العلانية. وقيل السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الأمام، وقال آخرون: بل المراد الزكاة الواجبة والصدقة التي يؤتى بها على صفة التطوع فقوله: * (سرا) * يرجع إلى التطوع وقوله: * (علانية) * يرجع إلى الزكاة الواجبة.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة إنه تعالى رغب في الانفاق من كل ما كان رزقا، وذلك يدل على أنه لا رزق إلا الحلال إذ لو كان الحرام رزقا لكان قد رغب تعالى في إنفاق الحرام وأنه لا يجوز.
القيد التاسع: قوله: * (ويدرؤن بالحسنة السيئة) * وفيه وجهان: الأول: أنهم إذا أتوا بمعصية درؤها ودفعوها بالتوبة كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: " إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ". والثاني: أن المراد أنهم لا يقابلون الشر بالشر بل يقابلون الشر بالخير كما قال تعالى: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72) وعن ابن عمر رضي الله عنهما ليس الوصول من وصل ثم وصل تلك المجازاة لكنه من قطع ثم وصل وعطف على من لم يصله، وليس الحليم من ظلم ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج، لكن الحليم من قدر ثم عفا. وعن الحسن: هم الذين إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا، ويروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متنكرا، فقال من أين أنت؟ فقال: من بلخ، فقال: وهل تعرف شقيقا قال نعم، فقال: كيف طريقة أصحابه؟ فقال: إذا منعوا صبروا وإن أعطوا شكروا، فقال عبد الله: طريقة كلابنا هكذا. فقال: وكيف ينبغي أن يكون فقال الكاملون: هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا.
43

واعلم أن جملة هذه القيود التسعة هي القيود المذكورة في الشرط. أما القيود المذكورة في الجزاء فهي أربعة:
القيد الأول: قوله: * (أولئك لهم عقبى الدار) * أي عاقبة الدار وهي الجنة، لأنها هي التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها. قال الواحدي: العقبى كالعاقبة، ويجوز أن تكون مصدرا كالشورى والقربى والرجعي، وقد يجيء مثل هذا أيضا على فعلى كالنجوى والدعوى، وعلى فعلى كالذكرى والضيزى، ويجوز أن يكون اسما وهو ههنا مصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى: أولئك لهم أن تعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة.
القيد الثاني: قوله: * (جنات عدن يدخلونها) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قال الزجاج: جنات عدن بدل من عقبى والكلام في جنات عدن ذكرناه مستقصى عند قوله تعالى: * (ومساكن طيبة في جنات عدن) * وذكرنا هناك مذهب المفسرين، ومذهب أهل اللغة.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (يدخلونها) * بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله والباقون بفتح الياء وضم الخاء على إسناد الدخول إليهم.
القيد الثالث: * (ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن علية (صلح) بضم اللام قال صاحب الكشاف: والفتح أفصح.
المسألة الثانية: قال الزجاج: موضع من رفع لأجل العطف على الواو في قوله * (يدخلونها) * ويجوز أن يكون نصبا كما تقول قد دخلوا وزيدا أي مع زيد.
المسألة الثالثة: في قوله: * (ومن صلح) * قولان: الأول: قال ابن عباس: يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم وقال الزجاج: بين تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة. قال الواحدي: والصحيح ما قال ابن عباس، لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة، ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به، إذ كل من كان مصلحا في عمله فهو يدخل الجنة.
واعلم أن هذه الحجة ضعيفة، لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سرورا وبهجة فإذا بشر الله المكلف بأنه إذا دخل الجنة فإنه يحضر معه آباؤه وأزواجه وأولاده فلا شك أنه يعظم سرور المكلف بذلك وتقوى بهجته به، ويقال: إن من أعظم موجبات سروره هم أن يجتمعوا فيتذاكروا
44

أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون الله على الخلاص منها والفوز بالجنة ولذلك قال تعالى في صفة أهل الجنة إنهم يقولون: * (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) * (يس: 26، 27).
المسألة الرابعة: قوله: * (وأزواجهم) * ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه، وما روي عن سودة أنه لما هم الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاقها قالت: دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك، كالدليل على ما ذكرناه.
والقيد الرابع: قوله: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: لهم خيمة من درة مجوفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها ألف باب مصاريعها من ذهب يدخلون عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم: * (سلام عليكم بما صبرتم) * على أمر الله. وقال أبو بكر الأصم: من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون: ونعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى.
واعلم أن دخول الملائكة إن حملناه على الوجه الأول فهو مرتبة عظيمة، وذلك لأن الله تعالى أخبر عن هؤلاء المطيعين أنهم يدخلون جنة الخلد، ويجتمعون بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم على أحسن وجه، ثم إن الملائكة مع جلالة مراتبهم يدخلون عليهم لأجل التحية والإكرام عند الدخول عليهم يكرمونهم بالتحية والسلام ويبشرونهم بقوله: * (فنعم عقبى الدار) * ولا شك أن هذا غير ما يذكره المتكلمون من أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قبور الشهداء رأس كل حول فيقول: " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " والخلفاء الأربعة هكذا كانوا يفعلون، وأما إن حملناه على الوجه الثاني فتفسير الآية أن الملائكة طوائف، منهم روحانيون ومنهم كروبيون. فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الراضيات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة، ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يختص بتلك الصفة مزيد اختصاص؛ فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السماوية ما يناسبها من الصفة المخصوصة بها فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر وهكذا القول في جميع المراتب.
المسألة الثانية: تمسك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال: إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والعظيم فكانوا به أجل
45

مرتبة من البشر ولو كانوا أقل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجبا علو درجاتهم وشرف مراتبهم، ألا ترى أن من عاد من سفره إلى بيته فإذا قيل في معرض كمال مرتبته أنه يزوره الأمير والوزير والقاضي والمفتي، فهذا يدل على أن درجة ذلك المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذلك ههنا.
المسألة الثالثة: قال الزجاج: ههنا محذوف تقديره الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون سلام عليكم فأضمر القول ههنا لأن في الكلام دليلا عليه، وأما قوله: * (بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * ففيه وجهان: أحدهما: أنه متعلق بالسلام. والمعنى أنه إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات، وترك المحرمات. والثاني: أنه متعلق بمحذوف، والتقدير: أن هذه الكرامات التي ترونها، وهذه الخيرات التي تشاهدونها إنما حصلت بواسطة ذلك الصبر.
قوله تعالى (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاق ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل
ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار)
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفات السعداء وذكر ما ترتب عليها من الأحوال الشريفة العالية أتبعها
بذكر حال الأشقياء، وذكر ما يترتب عليها من الأحوال المخزية المكروهة، وأتبع الوعد بالوعيد
والثواب بالعقاب، ليكون البيان كاملا فقال (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) وقد بينا أن
عهد الله ما ألزم عباده بواسطة الدلائل العقلية والسمعية لأنها أو كد من كل عهد وكل يمين إذ الايمان
انما تقيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على أنها توجب الوفاء بمقتضاها، والمراد من نقض هذه
العهود أن لا ينظر المرء في الأدلة أصلا، فحينئذ لا يمكنه العمل بموجبها أو بأن ينظر فيها ويعلم صحتها
ثم يعاند فلا يعمل بعلمه أو بأن ينظر في الشبهة فيعتقد خلاف الحق والمرد من قوله (من بعد ميثاقه)
أي من بعد أن وثق الله تلك الأدلة وأحكمها، لأنه لا شئ أقوى مما دل الله على وجوبه في أنه ينفع
فعله ويضر تركه.
فان قيل: إذا كان العهد لا يكون إلا مع الميثاق فما فائدة اشتراطه تعالى بقوله (من بعد ميثاقه)
قلنا: لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف الله العبد، والمراد بالميثاق الأدلة المؤكدة
46

* (الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر وفرحوا بالحيوة الدنيا وما الحيوة الدنيا فى الاخرة إلا متاع) *
لأنه تعالى قد يؤكد إليك العهد بدلائل أخرى سواء كانت تلك المؤكدة دلائل عقيلة أو سميعة.
ثم قال تعالى (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) وذلك في مقابلة قوله (والذين يصلون
ما أمر الله به أن يوصل) فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل، والمراد به قطع
كل ما أوجب الله وصله ويدخل فيه وصل الرسول بالموالاة والمعاونة ووصل المؤمنين، ووصل
الأرحام، ووصل سائر من له حق، ثم قال (ويفسدون في الأرض) وذلك الفساد هو الدعاء إلى
غير دين الله وقد يكون بالظلم في النفوس والأموال وتخريب البلاد، ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه
الصفات قال (أولئك لهم اللعنة) واللعنة من الله الابعاد من خيري الدنيا والآخرة إلى ضدهما من
عذاب ونقمة (ولهم سوء الدار) لان المراد جهنم، وليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها.
قوله تعالى (الله يسبط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا
في الآخرة إلا متاع).
اعلم أنه تعالى لما حكم على من نقض عهد الله في قبول التوحيد والنبوة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل: لو كانوا أعداء الله لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا، فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه يبسط الرزق على البعض ويضيقه على البعض ولا تعلق له بالكفر والإيمان، فقد يوجد الكافر موسعا عليه دون المؤمن، ويوجد المؤمن مضيقا عليه دون الكافر، فالدنيا دار امتحان. قال الواحدي: معنى القدر في اللغة قطع الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان. وقال المفسرون: معنى (يقدر) ههنا يضيق، ومثله قوله تعالى: * (ومن قدر عليه رزقه) * (الطلاق: 7) أي ضيق، ومعناه: أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء.
وأما قوله: * (وفرحوا بالحياة الدنيا) * فهو راجع إلى من بسط الله له رزقه، وبين تعالى أن ذلك لا يوجب الفرح، لأن الحياة العاجلة بالنسبة إلى الآخرة كالحقير القليل بالنسبة إلى ما لا نهاية له.
47

ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من
يشاء ويهدى إليه من أناب (27) الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا
بذكر الله تطمئن القلوب (28)
قوله تعالى (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدى
إليه من أناب الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)
اعلم أن الكفار قالوا: يا محمد إن كنت رسولا فأتنا بآية ومعجزة قاهرة مثل معجزات
موسى وعيسى عليهما السلام
فأجاب عن هذا السؤال بقوله (قل إن الله يضل من يشاء ويهدى إليه من أناب) وبيان كيفية
هذا الجواب من وجوه: أحدها: كأنه تعالى يقول: إن الله أنزل عليه آيات ظاهره ومعجزات
قاهرة، وكلن الاضلال والهداية من الله، فأضلكم عن تلك الآيات القاهرة الباهرة: وهدى
أقواما آخرين إليها، حتى عرفوا بها صدق صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة، وإذا كان
كذلك فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات، وثانيها: أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم
وذلك لان الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أكثر
من أن تصير مشتبهة على العاقل، فلما طلبوا بعدها آيات أخرى كان موضعا للتعجب
والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم (إن الله يضل من يشاء) من كان على صفتكم من
التصميم وشدة الشكيمة على الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية (ويهدى) من كان على
خلاف صفتكم. وثالثها: أنهم لما طلبوا سائر الآيات والمعجزات فكأنه قيل لهم لا فائدة في ظهور
الآيات والمعجزات، فان الاضلال والهداية من الله فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية
فإنه لم يحصل الانتفاع بها. ولو حصلت آية واحدة فقط وحصلت الهداية من الله فإنه يحصل الانتفاع
بها فلا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضر عوا إلى الله في طلب الهدايات. ورابعها: قال أبو على
الجبائي: المعنى إن الله يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى
إلى ما يسأل لاستحقاقكم العذاب والاضلال عن الثواب (ويهدى إليه من أناب) أي يهدى إلى جنته
من تاب وأمن قال وهذا بين أن الهدي هو الثواب من حيث أنه عقبه بقوله (من أناب) أي تاب
48

الذين آمنوا وعلموا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب (29)
والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب، لأنه يستحقه على إيمانه، وذلك يدل على أنه تعالى
إنما يضل عن الثواب بالعقاب، لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا. هذا تمام كلام
أبى على وقوله (أناب) أي أقبل إلى الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير.
قوله تعالى (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا
وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب)
اعلم أن قوله (الذين آمنوا) بدل من قوله (من أناب) قال ابن عباس: يريد إذا سمعوا القرآن
خشعت قلوبهم واطمأنت.
فان قيل: أليس أنه تعالى قال في سورة الأنفال (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت
قلوبهم) والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم ههنا بالاطمئنان؟
والجواب من وجوه: الأول: أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا من أن يقدموا على المعاصي
فهناك وصفهم بالوجل، وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة، سكنت قلوبهم إلى ذلك، وأحد الامرين
لا ينافي الآخر، لان الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب، ويوجد الوجل في حال
فكرهم في المعاصي، وتوحيد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات. الثاني: أن المراد أن علمهم بكون
القرآن معجزا يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلى الله عليه وسلم نبيا حقا من عند الله.
أما شكهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم، الثالث
أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده، وأن محمدا صلى الله
عليه وسلم صادق في كل ما أخبر عنه، إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم أنهم هل أتوا
بالطاعة الموجبة للثواب أم لا، وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا.
واعلم أن لنا في قوله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) أبحاثا دقيقة غامضة وهي من وجوه:
(الوجه الأول) أن الموجودات على ثلاثة أقسام: مؤثر لا يتأثر: لا يؤثر، وموجود
يؤثر في شئ ويتأثر عن شئ فالمؤثر الذي لا يتأثر هو الله سبحانه وتعالى، والمتأثر الذي لا يؤثر هو
الجسم، فإنه ذات قابلة للصفات المختلفة والآثار المتنافية، وليس له خاصية إلا القبول فقط. وأما الموجود
الذي يؤثر تارة ويتأثر أخرى، فهي الموجودات الروحانية. وذلك لأنها إذا توجهت إلي الحضرة الإلهية
صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة الله تعالى وقدرته وتكوينه وإيجاده. وإذا توجهت إلى عالم
49

الأجسام اشتاقت إلى التصرف فيها، لان عالم الأرواح مدبر العالم الأجسام.
وإذا عرفت هذا: فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق
والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرف فيها، أما إذا توجه القلب إلى مطالعة الحضرة الإلهية
حصل فيه أنوار الصمدية الأضواء الإلهية، فهناك يكون ساكنا فلهذا السبب قال (إلا
بذكر الله تطمئن القلوب)
(الوجه الثاني) أن القلب كلما وصل إلى شئ فإنه يطلب الانتقال منه إلى حالة أخرى أشرف
عنها، لأنه لا سعادة في عالم الأجسام إلا وفوقها مرتبة أخرى في اللذة والغبطة. أما إذا انتهى القلب
والعقل إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهية والأضواء الصمدية بقى واستقر فلم يقدر على الانتقال منه
البتة، لأنه ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منها وأكمل: فلهذا السبب قال (ألا
بذكر الله تطمئن القلوب)
(والوجه الثالث) في تفسيره هذه الكلمة أن الا كسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي
انقلب ذهبا باقيا على كر الدهور والأزمان. صابرا على الذوبان الحاصل بالنار فإكسير جلال الله
تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا باقيا صافيا نورانيا لا يقبل التغير والتبدل، فلهذا قال
(ألا بذكر الله تطمئن القلوب)
ثم قال تعالى (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) في تفسير كلمة (طوبى ثلاثة أقوال:
(القول الأول) أنها أسم شجرة في الجنة، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وأن أعضائها لترى من وراء سور
الجنة وحكى أبو بكر الأصم رضي الله عنه: أن أصل هذه الشجرة في دار النبي صلى الله عليه
وسلم وفى دار كل مؤمن منها غصن.
(والقول الثاني) وهو قول أهل اللغة إن طوبى مصدر من طاب، كبشرى وزلفى. ومعنى طوبى
لك، أصبت طيبا، ثم اختلفوا على وجوه: فقيل: فرح وقرة عين لهم. عن ابن عباس رضي الله عنهما
وقيل: نعم مالهم عن عكرمة. وقيل غبطة لهم عن الضحاك. وقيل: حسنى لهم عن قتادة. وقيل: خير
وكرامة عن أبي بكر الأصم، وقيل: العيش الطيب لهم عن الزجاج.
واعلم أن المعاني متقاربة والتفاوت يقرب من أن يكون في اللفظ. والحاصل أنه مبالغة في نيل
الطيبات. ويدخل فيه جميع اللذات. وتفسيره أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم.
50

كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمهم لتتلوا عليهم الذي أوحينا
إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربى لا اله إلا هو عليه توكلت
وإليه متاب (30)
(والقول الثالث) أن هذه اللفظة ليست عربية، ثم اختلفوا فقال بعضهم: طوبى اسم الجنة
بالحبشية، وقيل اسم الجنة بالهندية. وقيل البستان بالهندية، وهذا القول ضعيف، لأنه ليس في القرآن
إلا العربي لا سيما واشتقاق هذا اللفظ من اللغة العربية ظاهر،
(المسألة الثانية) قال صاحب الكشاف: (الذين آمنوا) مبتدأ و (طوبى لهم) خبره، ومعنى
طوبى لك أي أصبت طيبا، ومحلها النصب أو الرفع. كقولك طيبا لك وطيب لك وسلاما لك
وسلام لك، والقراءة في قوله (وحسن مآب) بالرفع والنصب تدلك على محلها، وقرأ مكوزة
الأعرابي (طيبي لهم)
أما قوله (وحسن مآب) فالمراد حسن المرجع والمقر. وكل ذلك وعد من الله بأعظم النعيم
ترغيبا في طاعته وتحذيرا عن المعصية.
قوله تعالى (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم
يكفرون بالرحمن قل هو ربى لا إله إلا هو عليه توكلت واليه متاب)
اعلم أن الكاف في (كذلك) للتشبه فقيل وجه التشبيه أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك في أمة
قد خلت من قبلها أمم، وهو قوله ابن عباس والحسن وقتادة، وقيل كما أرسلنا إلى أمم وأعطيناهم
كتبا تتلى عليهم، كذلك أعطيناك هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فلماذا اقترحوا غيره، وقال
صاحب الكشاف (كذلك أرسلناك) أي مثل ذلك الارسال (أرسلناك) يعنى أرسلناك إرسالا له
شأن وفضل على سائر الارسالات. ثم فسر كيف أرسله فقال (في أمة قد خلت من قبلها أمم) أي
أرسلناك في أم قد تقدمتها أمم فهي آخر الأمم وأنت آخر الأنبياء.
أما قوله (لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك) فالمراد: لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا
إليك (وهم يكفرون بالرحمن) أي وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن الذي رحمته وسعت كل شئ
وما بهم من نعمة فمنه. وكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز عليهم
51

ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى
بل لله الامر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا
ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم
حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد (31)
(قل هو ربى) الواحد المتعالى عن الشركاء (لا إله إلا هو عليه توكلت) في نصرتي عليكم (واليه متاب) فيعينني
على مصابرتكم ومجاهدتكم قيل: نزل قوله (وهم يكفرون بالرحمن) في عبد الله بن أمية المخزومي.
وكان يقول أما الله فنعرفه، وأما الرحمن فلا نعرفه، إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب
فقال تعالى (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) وكقوله وإذا قيل لهم
اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) وقيل إنه عليه السلام حين صالح قريشا من الحديبية كتب هذا
ما صالح عليه محمد رسول الله فقال المشركون: إن كنت رسول الله وقد قاتلناك فقد ظلمنا، ولكن
اكتب، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، فكتب كذلك، ولما كتب في الكتاب (بسم الله
الرحمن الرحيم) قالوا أما الرحمن فلا نعرفه، وكانوا يكتبون باسمك اللهم، فقال عليه السلام
اكتبوا كما تريدون
واعلم أن قوله (وهم يكفرون بالرحمن) إذا حملناه على هاتين الروايتين كان معناه أنهم كفروا باطلاق
هذا الاسم على الله تعالى. لا أنهم كفروا بالله تعالى. وقال آخرون: بل كفروا بالله إما جحدا له وإما
لاثباتهم الشركاء معه. قال القاضي: وهذا القول أليق بالظاهر، لان قوله تعالى (وهم يكفرون بالرحمن)
يقتضى أنهم كفروا بالله، وهو المفهوم من الرحمن، وليس المفهوم منه الاسم كما لو قال قائل:
كفروا بمحمد وكذبوا به لكان المفهوم هو، دون اسمه.
قوله تعالى (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الامر
جميعا أفلم يبأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما
صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد)
اعلم أنه روى أن أهل مكة قعدوا في فناء مكة، فأتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وعرض
الاسلام عليهم، فقال له عبد الله بن أمية المخزومي: سير لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا واجعل لنا
52

فيها أنهارا نزرع فيها. أو أحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحق ما تقول أو باطل، فقد كان عيسى يحي
الموتى، أو سخر لنا الريح حتى نركبها ونسير في البلاد فقد كانت الريح مسخرة لسليمان فلست بأهون
على ربك من سليمان، فنزل قوله (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) أي من أما كنها (أو قطعت به
الأرض) أي شققت فجلعت أنهارا وعيونا (أو كلم به الموتى) لكان هو هذا القرآن الذي أنزلناه
عليكم. وحذف جواب لو لكونه معلوما، وقال الزجاج: المحذوف هو أنه (لو أن قرآنا سيرت به
الجبال) وكذا وكذا لما آمنوا به كقوله (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى)
ثم قال تعالى (بل لله الامر جميعا) يعنى إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وليس لأحد أن
يتحكم عليه في أفعاله وأحكامه
ثم قال تعالى (أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جمعيا) وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى) في قوله (أفلم ييأس) قولان:
(القول الأول) أفلم يعلموا وعلى هذا التقدير ففيه وجهان:
(الوجه الأول) (ييأس) يعلم في لغة النخع وهذا قول أكثر المفسرين مثل مجاهد والحسن
وقتادة. واحتجوا عليه بقول الشاعر:
ألم ييأس الأقوام أنى أنا ابنه... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وأنشده أبو عبيدة:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني... ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم
أي ألم تعلموا. وقال الكسائي: ما وجدت العرب تقول يئست بمعنى علمت البتة.
(والوجه الثاني) ما روى أن عليا وابن عباس كانا يقرآن (أفلم يأس الذين آمنوا) فقيل لابن عباس
أفلم ييأس فقال: أظن أن الكاتب كتبها وهو ناعس أنه كان في الخط يأس فزاد الكاتب سنة واحدة فصار
يسأس فقرئ ييأس وهذا القول بعيد جدا لان يقتضى كون القرآن محلا للتحريف والتصحيف.
وذلك يخرجه عن كونه حجة قال صاحب الكشاف: ما هذا القول والله إلا فرية بلا مرتبة.
(والقول الثاني) قال الزجاج: المعنى أو يئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء لان الله لو شاء
لهدى الناس جمعيا. وتقريره أن العلم بأن الشئ لا يكون يوجب اليأس من كونه والملازمة توجب
حسن المجاز، فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ اليأس لإرادة العلم.
(والمسألة الثانية) احتج أصحابنا بقوله (أن لو يشاء الله الهدى الناس جميعا) وكلمة لو تفيد انتفاء
الشئ انتفاء غيره، والمعنى: أنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس، والمعتزلة تارة يحملون هذه المشيئة
53

ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف
على مشيئته الالجاء، وتارة يحلمون الهداية على الهداية إلى طريق الجنة، وفيهم من يجرى الكلام على
الظاهر، ويقول إنه تعالى ما شاء الله هداية جميع الناس لأنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين فلا يكون شائيا
لهداية جميع الناس. والكلام في هذه المسألة قد سبق مرارا.
أما قوله تعالى (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم)
ففيه مسألتان:
(المسألة الأولى) قوله (الذين كفروا) فيه قولان:
(القول الأول) قيل: أراد به جميع الكفار لان الوقائع الشديدة التي وقعت لبعض الكفار
من القتل والسبي أوجب حصول الغم في قلب الكل، وقيل: أراد بعض الكفار وهم جماعة
معينون والألف واللام في لفظ الكفار للمعود السابق وهو ذلك الجمع المعين.
(المسألة الثانية) في الآية وجهان: الأول: ولا يزال كفروا تصيبهم بما صنعوا من
كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب
في نفوسهم وأولادهم وأموالهم، أو تحل القارعة قريبا منهم، فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم
شرارها ويتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم أو القيامة.
(والقول الثاني) ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من
العداوة والتكذيب قارعة، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول
مكة وتختطف منهم وتصيب مواشيهم، أو تحل أنت يا محمد قريبان من دارهم بجيشك كما حل بالحديبية
حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك.
ثم قال (إن الله لا يخلف الميعاد) والغرض منه تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وإزالة
الحزن عنه. قال القاضي: وهذا يدل على بطلان قول من يجوز الخلف على الله تعالى ميعاده، وهذه
الآية وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ بعمومه
يتناول وكل وعيد ورد في حق الفساق.
وجوابنا: أن الخلف غير، وتخصيص العموم غير، ونحن لا نقول بالخلف، ولكنا نخصص
عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو.
قوله تعالى (ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان
54

كان عقاب (32) أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل
سمعوهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين
كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يظل الله فما له من هاد (33)
لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق ومالهم من الله واق (34)
عقاب أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أو تنبئونه بما لا يعلم
في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يظل الله
فما له من هاد لهم عذاب في الحياة الدنيا والعذاب الآخرة أشق ومالهم من الله من واق)
اعلم أن القوم لما طلبوا سائر المعجزات من الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء
والسخرية وكان ذلك يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتأذى من تلك الكلمات فالله
تعالى أنزل هذه الآية تسلية له وتصبيرا له على سفاهة قومه فقال له إن أقوام سائر الأنبياء استهزؤا
بهم كما أن قومك يستهزئون بك (فأمليت للذين كفروا) أي أطلت لهم المدة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم
فكيف كان عقابي لهم.
واعلم أنى سأنتقم من هؤلاء الكفار كما انتقمت من أولئك المتقدمين والاملاء الامهال وأن
يتركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى، وهذا وعيد لهم وجواب عن
اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء، ثم إنه تعالى أورد على
المشركين ما يجرى مجرى الحجاج وما يكون توبيخا لهم وتعجيبا من عقولهم فقال (أفمن هو قائم على
كل نفس بما كسبت) والمعنى: أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات من الجزئيات
والكليات وإذا كان كذلك كان عالما بجميع أحوال النفوس، وقادرا على تحصيل مطالبها من
تحصيل المنافع ودفع المضار ومن إيصال الثواب إليها على كل الطاعات، وإيصال العقاب إليها على
كل المعاصي. وهذا هو المراد من قوله (قائم على كل نفس بما كسبت) وما ذاك إلا الحق سبحانه
ونظيره قوله تعالى (قائما بالقسط)
واعلم أنه لا بد لهذا الكلام من جواب. واختلفوا فيه على وجوه:
(الوجه الأول) التقدير (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) كمن ليس بهذه الصفة؟
55

وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، وهذا الجواب مضمر في قوله تعالى (وجعلوا لله شركاء)
والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم التي لا تضر ولا تنفع، ونظيره قوله
تعالى (أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه) وما جاء جوابه لأنه مضمر في قوله
(فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) فكذا ههنا، قال صاحب الكشاف: يجوز أن يقدر ما يقع
خبر للمبتدأ، أو يعطف عليه قوله (وجعلوا) والتقدير: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه ولم يمجدوه
وجعلوا له شركاء.
(الوجه الثاني) وهو الذي ذكره السيد صاحب حل العقد فقال: نجعل الواو في قوله (وجعلوا)
واو الحال ونضمر للمبتدأ خبرا يكون المبتدا معه جملة مقررة لامكان ما يقارنها من الحال، والتقدير
(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) موجود. والحال أنهم جعلوا له شركاء ثم أقيم الظاهر
وهو قوله (لله) مقام المضمر تقريرا للإلهية وتصريحا بها، وهذا كما تقول: جواد يعطى الناس ويغنيهم
موجود ويحرم مثلي.
واعلم أنه لما قرر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال (قل سموهم) وإنما يقال ذلك في الامر
المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال: سمه إن شئت.
يعنى أنه أحسن من أن يسمى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل، فكأنه تعالى قال:
سموهم بالآلهة على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سميتموهم بهذا الاسم أولم تسموهم به، فإنها في الحقارة
بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها، ثم زاد في الحجاج فقال (أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض)
والمراد: أتقدرون على أن تخبروه وتعلموه بأمر تعلمونه وهو لا يعلمه، وإنما خص الأرض بنفي
الشريك عنها، وإن لم يكن شريك البتة، لانهم ادعوا أن له شركاء في الأرض في غيرها (أم بظاهر من
القول) يعنى تموهون باظهار قول لا حقيقة له، وهو كقوله تعالى (ذلك قولهم بأفواهم) ثم إنه تعالى
بين بعد هذا الحجاج سوء طريقتهم فقال على وجه التحقير لما هم عليه (بل زين للذين كفروا مكرهم)
قال الواحدي: معنى (بل) ههنا كأنه يقول: دع ذكر ما كنا فيه زين لهم مكرهم، وذلك لأنه تعالى
لما ذكر الدلائل على فساد قولهم، فكأنه يقول: دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه، لأنه زين لهم كفرهم
ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل. قال القاضي: لا شبهة في أنه تعالى إنما ذكر ذلك لأجل
أن يذمهم به، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله، بل لابد وأن يكون إما شياطين
الانس وإما شياطين الجن.
واعلم أن هذا التأويل ضعيف لوجوه: الأول: أنه لو كان المزين أحد شياطين الجن أو الانس
56

فالمزين في قلب ذلك الشيطان إن كان شيطانا أخر لزم التسلسل، وإن كان هو الله فقد زال السؤال،
والثاني أن يقال: القلوب لا يقدر عليها إلا الله، والثالث: أنا قد دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل
إلا من الله تعالى وعند حصوله يجب الفعل.
أما قوله (وصدوا عن السبيل) فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة الكسائي (وصدوا) بضم الصاد
وفى حم (وصدوا عن السبيل) على ما لم يسم فاعله بمعنى أن الكفار صدهم غيرهم، وعند أهل السنة أن الله
صدهم. وللمعتزلة فيه وجهان: قيل الشطان، وقيل أنفسهم وبعضه لبعض كما يقال: فلان معجب
وإن لم يكن ثمة غيره وهو قول أبى مسلم والباقون، وصدوا بفتح الصاد في السورتين يعنى أن
الكفار صدوا عن سبيل الله، أي أعرضوا وقيل: صرفوا غيرهم، وهو لازم ومتعد، وحجة
القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول، وحجة القراءة الثانية قوله (الذين كفروا
وصدوا عن سبيل الله)
ثم قال (ومن يضلل الله له له من هاد) اعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية من وجوه: أولها
قوله (بل زين الدين كفروا مكرهم) وقد بينا بالدليل أن ذلك المزين هو الله. وثانيها: قوله (وصدوا
عن السبيل) بضم الصاد، وقد بينا أن ذلك الصاد هو الله. وثالثها: قوله (ومن يضلل الله فما له
من هاد) وهو صريح في المقصود وتصريح بأن ذلك المزين وذلك الصاد ليس إلا الله. ورابعها:
قوله تعالى (لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق) أخبر عنهم أنهم سيقعون في عقاب
الآخرة وإخبار الله ممتنع التغير. وإذا امتنع وقوع التغير في هذا الخبر، امتنع صدور الايمان منه
وكل هذه الوجوه قد لخصناها في هذا الكتاب مرارا، قال القاضي (من يضلل الله) أي عن ثواب
الجنة لكفره وقوله (فما له من هاد) منبئ بذلك أن الثواب لا ينال إلا بالطاعة خاصة فمن زاغ
عنها لم يجد إليها سبيلا، وقيل: المراد بذلك من حكم بأنه ضال وسماه ضالا، وقيل المراد من يضلله
الله عن الايمان بأن يجده كذلك، ثم قال والوجه الأول أقوى.
واعلم أن الوجه الأول ضعيف جدا لان الكلام إنما وقع في شرح إيمانهم وكفرهم في الدنيا
ولم يجر ذكرها بهم إلى الجنة البتة فصرف الكلام عن المذكور إلى غير المذكور بعيد، وأيضا فهب
أنا نساعد على أن الامر كما ذكروه، إلا أن تعالى لما أخبر أنهم لا يدخلون الجنة فقد حصل المقصود
لان خلاف معلوم الله ومخبره محال ممتنع الوقوع.
واعلم أنه تعالى لما أخبر عنهم بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا، وبين
عذاب الآخرة الذي هو أشق، وأنه لا دافع لهم عنه لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما عذاب الدنيا
8 - فخر - 19
57

مثل الجنة التي وعد المتقون تجرى من تحتها الانهار أكلها دائم وظلها
تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار (35)
فبالقتل، والقتال، واللعن، والذم، والإهانة، وهل يدخل المصائب والأمراض في ذلك أم لا؟
اختلفوا فيه، قال بعضهم: إنها تدخل فيه، وقال بعضه: إنها لا تكون عقابا، لان كل أحد
نزلت به مصيبة فإنه مأمور بالصبر عليها، ولو كا عقابا لم يجب ذلك، فالمراد على هذا القول:
من الآية القتل، والسبي، واغتنام الأموال، واللعن، وإنما قال (ولعذاب الآخرة أشق) لأنه
أزيد إن شئت بسبب القوة والشدة، وإن شئت بسبب كثرة الأنواع، وإن شئت بسبب أنه
لا يختلط بها شئ من موجبات الراحة، وإن شئت بسبب الدوام وعدم الانقطاع، ثم بين بقوله
(وما لهم من الله من واق) أي أن أحد لا يقيهم ما نزل بهم من عذاب الله. قال الواحدي: أكثر
القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء في قوله (واق) وكذلك في قوله (ومن يضلل الله فما له من هاد)
وكذلك في قوله (وال) وهو الوجه لأنك تقول في الوصل: هذا هاد. ووال. وواق، فتحذف الياء
لسكونها والتقائها مع التنوين، فإذا وقفت انحذف التنوين في الوقف في الرفع والجر، والياء كانت انحذفت
فيصادف الوقف الحركة التي هي كسرة في غير فاعل فتحذفها كما تحذف سائر الحركات التي تقف
عليها فيصير هاد. ووال. وواق. وكان ابن كثير يقف الياء في هادي. ووالى. وواقى. ووجهه
ما حكى سيبويه أن بعض من يوثق به من العرب يقول: هذا داعي فيقفون بالياء.
قوله تعالى (مثل الجنة التي وعد المتقون تجرى من تحتها الانهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى
الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار)
وفى الآية مسائل:
(المسألة الأولى) اعلم أنه تعالى لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة، أتبعه بذكر
ثواب المتقين وفى قوله (مثل الجنة) أقوال: الأول: قال سيبويه (مثل الجنة) مبتدأ وخبره
محذوف والتقدير: فيما قصصنا عليكم مثل الجنة. والثاني: قال الزجاج: مثل الجنة جنة من صفتها
كذا وكذا. والثالث: مثل الجنة مبتدأ وخبره تجرى من تحتها الانهار، كما تقول صفة زيد اسم.
والرابع: الخبر هو قوله (أكلها دائم) لأنه الخارج عن العادة كأنه قال (مثل الجنة التي وعد المتقون
تجرى من تحتها الانهار) كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه أكلها دائم.
58

* (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بمآ أنزل إليك ومن الاحزاب من ينكر بعضه قل إنمآ أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) *
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث: أولها: تجري من تحتها الأنهار. وثانيها: أن أكلها دائم. والمعنى: أن جنات الدنيا لا يدوم ورقها وثمرها ومنافعها. أما جنات الآخرة فثمارها دائمة غير منقطعة. وثالثها: أن ظلها دائم أيضا، والمراد أنه ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ونظيره قوله تعالى: * (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) * (الإنسان: 13) ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بين أن ذلك عقبى الذين اتقوا يعني عاقبة أهل التقوى هي الجنة، وعاقبة الكافرين النار. وحاصل الكلام من هذه الآية أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب موصوفة بصفة الدوام.
واعلم أن قوله: * (أكلها دائم) * فيه مسائل ثلاث:
المسألة الأولى: أنه يدل على أن أكل الجنة لا تفنى كما يحكى عن جهم وأتباعه.
المسألة الثانية: أنه يدل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم، كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه.
المسألة الثالثة: قال القاضي: هذه الآية تدل على أن الجنة لم تخلق بعد، لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وأن ينقطع أكلها لقوله تعالى: * (كل من عليها فان) * (الرحمن: 26). و * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) لكن لا ينقطع أكلها لقوله تعالى: * (أكلها دائم) * فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة. ثم قال: فلا ننكر أن يحصل الآن في السماوات جنات كثيرة يتمتع بها الملائكة ومن يعد حيا من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ما روي في ذلك، إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة.
والجواب: أن دليلهم مركب من آيتين: أحدهما: قوله: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * والأخرى قوله: * (أكلها دائم وظلها) * فإذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمومين سقط دليلهم فنحن نخصص أحد هذين العمومين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة، وهو قوله تعالى: * (وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين) * (آل عمران: 133).
قوله تعالى
* (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بمآ أنزل إليك ومن الاحزاب من ينكر بعضه قل إنمآ أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) *
59

اعلم أن في المراد بالكتاب قولين: الأول: أنه القرآن والمراد أن أهل القرآن يفرحون بما أنزل على محمد من أنواع التوحيد والعدل والنبوة والبعث والأحكام والقصص
ومن الأحزاب الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار من ينكر بعضه وهو قول الحسن وقتادة.
فإن قيل: الأحزاب ينكرون كل القرآن.
قلنا: الأحزاب لا ينكرون كل ما في القرآن، لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء، والأحزاب ما كانوا ينكرون كل هذه الأشياء.
والقول الثاني: إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، وعلى هذا التقدير ففي الآية قولان: الأول: قال ابن عباس: الذين آتيناهم الكتاب هم الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بأرض الحبشة وفرحوا بالقرآن، لأنهم آمنوا به وصدقوه والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين قال القاضي: وهذا الوجه أولى من الأول لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن، أما إذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة ويمكن أن يقال: إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة، فلهذا السبب حكى الله تعالى فرحهم به. والثاني: والذين آتيناهم الكتاب اليهود أعطوا التوارة، والنصارى أعطوا الإنجيل، يفرحون بما أنزل في هذا القرآن، لأنه مصدق لما معهم ومن الأحزاب من سائر الكفار من ينكر بعضه، وهو قول مجاهد. قال القاضي: وهذا لا يصح، لأن قوله: * (يفرحون بما أنزل إليك) * يعم جميع ما أنزل إليه، ومعلوم أنهم لا يفرحون بكل ما أنزل إليه ويمكن أن يجاب فيقال إن قوله: * (بما أنزل إليك) * لا يفيد العموم بدليل جواز ادخال لفظتي الكل والبعض عليه، ولو كانت كلمة " ما " للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريرا وإدخال لفظ البعض عليه نقصا. ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة منه فقال: * (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) * وهذا الكلام جامع لكل ما ورد التكليف به، وفيه فوائد: أولها: أن كلمة " إنما " للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى، وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك. وثانيها: أن العبادة غاية التعظيم، وذلك يدل على أن المرء مكلف بذلك. وثالثها: أن عبادة الله تعالى لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل، فهذا يدل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته، وما يجب ويجوز ويستحيل عليه. ورابعها: أن عبادة الله واجبة، وهو
60

يبطل قول نفاة التكليف، ويبطل القول بالجبر المحض. وخامسها: قوله: * (ولا أشرك به) * وهذا يدل على نفي الشركاء والأنداد والأضداد بالكلية، ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبودا سوى الله تعالى سواء قال: إن ذلك المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب أو الأصنام والأوثان والأرواح العلوية أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية. وسادسها: قوله: * (إليه أدعوا) * والمراد منه أنه كما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات فكذلك يجب عليه الدعوة إلى عبودية الله تعالى وهو إشارة إلى نبوته. وسابعها: قوله: * (وإليه مآب) * وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة ووقف عليها عرف أنها محتوية على جميع المطالب المعتبرة في الدين.
* (وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن تبعت أهواءهم بعد ما جآءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا واق) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى شبه إنزاله حكما عربيا بما أنزل إلى ما تقدم من الأنبياء، أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم، كذلك أنزلنا عليك القرآن. والكناية في قوله: * (أنزلناه) * تعود إلى " ما " في قوله: * (يفرحون بما أنزل إليك) * يعني القرآن.
المسألة الثانية: قوله: * (أنزلناه حكما عربيا) * فيه وجوه: الأول: حكمة عربية مترجمة بلسان العرب. الثاني: القرآن مشتمل على جميع أقسام التكاليف، فالحكم لا يمكن إلا بالقرآن، فلما كان القرآن سببا للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة. الثالث: أنه تعالى حكم على جميع المكلفين بقبول القرآن والعمل به فلما حكم على الخلق بوجوب قبوله جعله حكما.
واعلم أن قوله: * (حكما عربيا) * نصب على الحال، والمعنى: أنزلناه حال كونه حكما عربيا.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: الآية دالة على حدوث القرآن من وجوه: الأول: أنه تعالى وصفه بكونه منزلا وذلك لا يليق إلا بالمحدث. الثاني: أنه وصفه بكونه عربيا والعربي هو الذي حصل بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثا. الثالث: أن الآية دالة على أنه إنما
61

كان حكما عربيا، لأن الله تعالى جعله كذلك ووصفه بهذه الصفة، وكل ما كان كذلك فهو محدث.
والجواب: أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه والله أعلم.
المسألة الرابعة: روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائه فتوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد أن حوله الله عنها. قال ابن عباس: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وقيل: بل الغرض منه حث الرسول عليه السلام على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها، ويتضمن ذلك أيضا تحذير جميع المكلفين، لأن من هو أرفع منزلة إذا حذر هذا التحذير فهم أحق بذلك وأولى.
* (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان الرسول أن يأتى باية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب * يمحو الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب) *
اعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعا من الشبهات في إبطال نبوته.
فالشبهة الأولى قولهم: * (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) * (الفرقان: 7) وهذه الشبهة إنما ذكرها الله تعالى في سورة أخرى.
والشبهة الثانية: قولهم: الرسول الذي يرسله الله إلى الخلق لا بد وأن يكون من جنس الملائكة كما حكى الله عنهم في قوله: * (لو ما تأتينا بالملائكة) * (الحجر: 7) وقوله: * (لولا أنزل عليه ملك) * (الأنعام: 8).
فأجاب الله تعالى عنه ههنا بقوله: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) * يعني أن الأنبياء الذين كانوا قبله كانوا من جنس البشر لا من جنس الملائكة فإذا جاز ذلك في حقهم فلم لا يجوز أيضا مثله في حقه.
الشبهة الثالثة: عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة الزوجات وقالوا: لو كان رسولا من عند الله لما كان مشتغلا بأمر النساء بل كان معرضا عنهن مشتغلا بالنسك والزهد، فأجاب الله
62

تعالى عنه بقوله: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) * وبالجملة فهذا الكلام يصلح أن يكون جوابا عن الشبهة المتقدمة ويصلح أن يكون جوابا عن هذه الشبهة، فقد كان لسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة مهيرة وسبعمائة سرية ولداود مائة امرأة.
والشبهة الرابعة: قالوا لو كان رسولا من عند الله لكان أي شيء طلبنا منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس برسول، فأجاب الله عنه بقوله: * (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) * وتقريره: أن المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر والعلة، وفي إظهار الحجة والبينة، فأما الزائد عليها فهو مفوض إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها ولا اعتراض لأحد عليه في ذلك.
الشبهة الخامسة: أنه عليه السلام كان يخوفهم بنزول العذاب وظهور النصرة له ولقومه. ثم إن ذلك الموعود كان يتأخر فلما لم يشاهدوا تلك الأمور احتجوا بها على الطعن في نبوته، وقالوا: لو كان نبيا صادقا لما ظهر كذبه.
فأجاب الله عنه بقوله: * (لكل أجل كتاب) * يعني نزول العذاب على الكفار وظهور الفتح والنصر للأولياء قضى الله بحصولها في أوقات معينة مخصوصة، ولكل حادث وقت معين * (ولكل أجل كتاب) * فقبل حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث فتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كاذبا.
الشبهة السادسة: قالوا: لو كان في دعوى الرسالة محقا لما نسخ الأحكام التي نص الله تعالى على ثوبتها في الشرائع المتقدمة نحو التوراة والإنجيل، لكنه نسخها وحرفها نحو تحريف القبلة، ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل، فوجب أن لا يكون نبيا حقا.
فأجاب الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: * (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * ويمكن أيضا أن يكون قوله: * (لكل أجل كتاب) * كالمقدمة لتقرير هذا الجواب، وذلك لأنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيوانا عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة ثم يبقيه مدة مخصوصة ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه فلما لم يمتنع أن يحيي أولا، ثم يميت ثانيا فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات، ثم ينسخه في سائر الأوقات فكان المراد من قوله: * (لكل أجل كتاب) * ما ذكرناه، ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال: * (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * والمعنى: أنه يوجد تارة ويعدم أخرى، ويحيي تارة ويميت أخرى، ويغني تارة ويفقر أخرى فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما اقتضته المشيئة الإلهية عند أهل السنة أو بحسب ما اقتضته
63

رعاية المصالح عند المعتزلة فهذا اتمام التحقيق في تفسير هذه الآية، ثم ههنا مسائل: المسألة الأولى: قوله تعالى: * (لكل أجل كتاب) * فيه أقوال. الأول: أن لكل شيء وقتا مقدرا فالآيات التي سألوها لها وقت معين حكم الله به وكتبه في اللوح المحفوظ فلا يتغير عن ذلك الحكم بسبب تحكماتهم الفاسدة ولو أن الله أعطاهم ما التمسوا لكان فيه أعظم الفساد. الثاني: أن لكل حادث وقتا معينا قضى الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة، ولا يتغير البتة عن ذلك الوقت. والثالث: أن هذا من المقلوب والمعنى: أن لكل كتاب منزل من السماء أجلا ينزله فيه، أي لكل كتاب وقت يعمل به، فوقت العمل بالتوراة والإنجيل قد انقضى ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر. والرابع: لكل أجل معين كتاب عند الملائكة الحفظة فللانسان أحوال أولها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يصير شابا ثم شيخا، وكذا القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحسن والقبح. الخامس: كل وقت معين مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعلمها إلا الله تعالى، فإذا جاء ذلك الوقت حدث ذلك الحادث ولا يجوز حدوثه في غيره. واعلم أن هذه الآية صريحة في أن الكل بقضاء الله وبقدره وأن الأمور مرهونة بأوقاتها، لأن قوله: * (لكل أجل كتاب) * معناه أن تحت كل أجل حادث معين، ويستحيل أن يكون ذلك التعيين لأجل خاصية الوقت فإن ذلك محال، لأن الأجزاء المعروضة في الأوقات المتعاقبة متساوية، فوجب أن يكون اختصاص كل وقت بالحادث الذي يحدث فيه بفعل الله تعالى واختياره وذلك يدل على أن الكل من الله تعالى وهو نظير قوله عليه السلام: " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ".
المسألة الثانية: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) * قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم * (ويثبت) * ساكنة الثاء خفيفة الباء من أثبت يثبت، والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء من التثبيت، وحجة من خفف أن ضد المحو الإثبات لا التثبت. ولأن التشديد للتكثير، وليس القصد بالمحو التكثير، فكذلك ما يكون في مقابلته، ومن شدد احتج بقوله: * (وأشد تثبيتا) * (النساء: 66) وقوله: * (فثبتوا) * (الأنفال: 12).
المسألة الثالثة: المحو ذهاب أثر الكتابة، يقال: محاه يمحوه محوا إذا أذهب أثره، وقوله: * (ويثبت) * قال النحويون: أراد ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية للفعل الأول عن تعدية الثاني، وهو كقوله تعالى: * (والحافظين فروجهم والحافظات) * (الأحزاب: 35).
المسألة الرابعة: في هذه الآية قولان:
القول الأول: إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ. قالوا: إن الله يمحو من الرزق
64

ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر، وهو مذهب عمر وابن مسعود. والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء، وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: أن هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض، وعلى هذا التقرير ففي الآية وجوه: الأول: المراد من المحو والإثبات: نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر بدلا عن الأول. الثاني: أنه تعالى يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتابة كل قول وفعل ويثبت غيره، وطعن أبو بكر الأصم فيه فقال: إنه تعالى وصف الكتاب بقوله: * (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * (الكهف: 49) وقال أيضا: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7، 8).
أجاب القاضي عنه: بأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الذنوب والمباح لا صغيرة ولا كبيرة، وللأصم أن يجيب عن هذا الجواب فيقول: إنكم باصطلاحكم خصصتم الصغيرة بالذنب الصغير، والكبيرة بالذنب الكبير، وهذا مجرد اصطلاح المتكلمين. أما في أصل اللغة فالصغير والكبير يتناولان كل فعل وعرض، لأنه إن كان حقيرا فهو صغير، وإن كان غير ذلك فهو كبير، وعلى هذا التقرير فقوله: * (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * (الكهف: 49) يتناول المباحات أيضا. الثالث: أنه تعالى أراد بالمحو أن من أذنب أثبت ذلك الذنب في ديوانه، فإذا تاب عنه محى من ديوانه. الرابع: * (يمحو الله ما يشاء) * وهو من جاء أجله. ويدع من لم يجيء أجله ويثبته. الخامس: أنه تعالى يثبت في أول السنة حكم تلك السنة فإذا مضت السنة محيت، وأثبت كتاب آخر للمستقبل. السادس: يمحو نور القمر، ويثبت نور الشمس. السابع: يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. الثامن: أنه في الأرزاق والمحن والمصائب يثبتها في الكتاب ثم يزيلها بالدعاء والصدقة، وفيه حث على الانقطاع إلى الله تعالى. التاسع: تغير أحوال العبد فما مضى منها فهو المحو، وما حصل وحضر فهو الإثبات. العاشر: يزيل ما يشاء ويثبت ما يشاء من حكمه لا يطلع على غيبه أحدا فهو المنفرد بالحكم كما يشاء، وهو المستقل بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار بحيث لا يطلع على تلك الغيوب أحد من خلقه.
واعلم أن هذا الباب فيه مجال عظيم.
فإن قال قائل: ألستم تزعمون أن المقادير سابقة قد جف بها القلم وليس الأمر بأنف، فكيف يستقيم مع هذا المعنى المحو والإثبات؟
65

قلنا: ذلك المحو والإثبات أيضا مما جف به القلم فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه.
المسألة الخامسة: قالت الرافضة: البداء جائز على الله تعالى، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده، وتمسكوا فيه بقوله: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) *.
واعلم أن هذا باطل لأن علم الله من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغير والتبدل فيه محالا.
المسألة السادسة: أما * (أم الكتاب) * فالمراد أصل الكتاب، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أما له ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى، فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب، وفيه قولان:
القول الأول: أن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ، وجميع حوادث العالم العلوي والعالم السفلي مثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان الله ولا شيء معه ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة " قال المتكلمون: الحكمة فيه أن يظهر للملائكة كونه تعالى عالما بجميع المعلومات على سبيل التفصيل، وعلى هذا التقدير: فعند الله كتابان: أحدهما: الكتاب الذي يكتبه الملائكة على الخلق وذلك الكتاب محل المحو والإثبات. والكتاب الثاني: هو اللوح المحفوظ، وهو الكتاب المشتمل على تعين جميع الأحوال العلوية والسفلية، وهو الباقية. روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن الله سبحانه وتعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وللحكماء في تفسير هذين الكتابين كلمات عجيبة وأسرار غامضة.
والقول الثاني: إن أم الكتاب هو علم الله تعالى، فإنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الموجودات والمعدومات وإن تغيرت، إلا أن علم الله تعالى بها باق منزه عن التغير، فالمراد بأم الكتاب هو ذاك. والله أعلم.
* (وإن ما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) *
اعلم أن المعنى: * (وإما نرينك بعض الذي نعدهم) * من العذاب: * (أو نتوفينك) * قبل ذلك، والمعنى:
66

سواء أريناك ذلك أو توفيناك قبل ظهوره، فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء أمانته ورسالته وعلينا الحساب. والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ كالسراج والأداء.
قوله تعالى
* (أو لم يروا أنا نأتى الارض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب * وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) *
اعلم أنه تعالى لما وعد رسوله بأن يريه بعض ما وعدوه أو يتوفاه قبل ذلك، بين في هذه الآية أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت. وقوله: * (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) * فيه أقوال:
القول الأول: المراد أنا نأتي أرض الكفرة ننقصها من أطرافها وذلك لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الكفرة قهرا وجبرا فانتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات والأمارات على أن الله تعالى ينجز وعده. ونظيره قوله تعالى: * (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم
الغالبون) * (الأنبياء: 44) وقوله: * (سنريهم آياتنا في الآفاق) * (فصلت: 53).
والقول الثاني: وهو أيضا منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله: * (ننقصها من أطرافها) * المراد: موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصلحاء والأخيار، وقال الواحدي: وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول. ويمكن أن يقال هذا الوجه أيضا لا يليق بهذا الموضع، وتقريره أن يقال: أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة فيجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين، ويجعلهم مقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وعلى هذا الوجه فيحسن اتصال هذا الكلام بما قبله، وقيل: * (ننقصها من أطرافها) * بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم فهؤلاء الكفرة
67

كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع؟
ثم قال تعالى مؤكدا لهذا المعنى: * (والله يحكم لا معقب لحكمه) * معناه: لا راد لحكمه، والمعقب هو الذي يعقبه بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب.
فإن قيل: ما محل قوله: * (لا معقب لحكمه) *.
قلنا: هو جملة محلها النصب على الحال كأنه قيل: والله يحكم نافذا حكمه خاليا عن المدافع والمعارض والمنازع.
ثم قال: * (وهو سريع الحساب) * قال ابن عباس: يريد سريع الانتقام يعني أن حسابه للمجازاة بالخير والشر يكون سريعا قريبا لا يدفعه دافع.
أما قوله: * (وقد مكر الذين من قبلهم) * يعني أن كفار الأمم الماضية قد مكروا برسلهم وأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى، واليهود مكروا بعيسى.
ثم قال: * (فلله المكر جميعا) * قال الواحدي: معناه أن مكر جميع الماكرين له ومنه، أي هو حاصل بتخليقه وإرادته، لأنه ثبت أن الله تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد، وأيضا فذلك المكر لا يضر إلا بإذن الله تعالى ولا يؤثر إلى بتقديره، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأمان له من مكرهم، كأنه قيل له: إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره من الممكور به أيضا من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى وأن لا يكون الرجاء إلا من الله تعالى، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى: فلله جزاء المكر، وذلك لأنهم لما مكروا بالمؤمنين بين الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم. قال الواحدي: والأول أظهر لقولين بدليل قوله: * (يعلم ما تكسب كل نفس) * يريد أن أكساب العباد بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع، وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله تعالى. قالت المعتزلة: الآية الأولى إن دلت على قولكم فالآية الثانية وهي قوله: * (يعلم ما تكسب كل نفس) * دلت على قولنا، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة، ولو كان حدوث الفعل بخلق الله تعالى لم يكن لقدرة العبد فيه أثر، فوجب أن لا يكون للعبد كسب.
وجوابه: أن مذهبنا أن مجموع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد. ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال: * (وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار) * وفيه مسألتان:
68

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: * (وسيعلم الكافر) * على لفظ المفرد والباقون على الجمع قال صاحب " الكشاف " قرىء: (الكفار، والكافرون، والذين كفروا، والكفر) أي أهله قرأ جناح بن حبيش: (وسيعلم الكافر) من أعلمه أي سيخبر.
المسألة الثانية: المراد بالكافر الجنس كقوله تعالى: * (إن الإنسان لفي خسر) * (العصر: 2) والمعنى: إنهم وإن كانوا جهالا بالعواقب فسيعلمون لمن العاقبة الحميدة، وذلك كالزجر والتهديد.
والقول الثاني: وهو قول عطاء يريد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون.
والقول الثالث: وهو قول ابن عباس يريد أبا الجهل. والقول الأول هو الصواب.
* (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) *
اعلم أنه تعالى حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولا من عند الله. ثم إنه تعالى احتج عليهم بأمرين: الأول: شهادة الله على نبوته، والمراد من تلك الشهادة أنه تعالى أظهر المعجزات الدالة على كونه صادقا في ادعاء الرسالة، وهذا أعلى مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كذلك. أما المعجز فإنه فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولا من عند الله تعالى، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة. والثاني: قوله: * (ومن عنده علم الكتاب) * وفيه قراءتان: إحداهما: القراءة المشهورة: * (ومن عنده) * يعني والذي عنده علم الكتاب. والثانية: * (ومن عنده علم الكتاب) * وكلمة " من " ههنا لابتداء الغاية أي ومن عند الله حصل علم الكتاب. أما على القراءة الأولى ففي تفسير الآية أقوال:
القول الأول: أن المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري. ويروى عن سعيد بن جبير: أنه كان يبطل هذا الوجه ويقول: السورة مكية فلا يجوز أن يراد به ابن سلام وأصحابه، لأنهم آمنوا في المدينة بعد الهجرة. وأجيب عن هذا السؤال بأن قيل: هذه السورة وإن كانت مكية إلا أن هذه الآية
69

مدنية، وأيضا فإثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين عن الكذب لا يجوز، وهذا السؤال واقع.
القول الثاني؛ أراد بالكتاب القرآن، أي أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر وبرهان باهر، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزا إلا لمن علم ما في هذا الكتاب من الفصاحة والبلاغة، واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة. فمن عرف هذا الكتاب على هذا الوجه علم كونه معجزا. فقوله: * (ومن عنده علم الكتاب) * أي ومن عنده علم القرآن وهو قول الأصم.
القول الثالث: ومن عنده علم الكتاب المراد به: الذي حصل عنده علم التوراة والإنجيل، يعني: أن كل من كان عالما بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذب كان شاهدا على أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول حق من عند الله تعالى.
القول الرابع: ومن عنده علم الكتاب هو الله تعالى، وهو قول الحسن، وسعيد بن جبير، والزجاج قال الحسن: لا والله ما يعني إلا الله، والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيدا بيني وبينكم، وقال الزجاج: الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره، وهذا القول مشكل، لأن عطف الصفة على الموصوف وإن كان جائزا في الجملة إلا أنه خلاف الأصل. لا يقال: شهد بهذا زيد والفقيه، بل يقال: شهد به زيد الفقيه، وأما قوله إن الله تعالى لا يستشهد بغيره على صدق حكمه فبعيد، لأنه لما جاز أن يقسم الله تعالى على صدق قوله بقوله: * (والتين والزيتون) * (التين: 1) فأي امتناع فيما ذكره الزجاج.
وأما القراءة الثانية: وهي قوله: * (ومن عنده علم الكتاب) * على من الجارة فالمعنى: ومن لدنه علم الكتاب، لأن أحدا لا يعلم الكتاب إلا من فضله وإحسانه وتعليمه، ثم على هذه القراءة ففيه أيضا قراءتان: ومن عنده علم الكتاب، والمراد العلم الذي هو ضد الجهل، أي هذا العلم إنما حصل من عند الله.
والقراءة الثانية: ومن عنده علم الكتاب بضم العين وبكسر اللام وفتح الميم على ما لم يسم فاعله، والمعنى: أنه تعالى لما أمر نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله تعالى على ما ذكرناه، وكان لا معنى لشهادة الله تعالى على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه، ولا يعلم كون القرآن معجزا إلا بعد الإحاطة بما في القرآن وأسراره، بين تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله، والمعنى: أن الوقوف على كون القرآن معجزا لا يحصل إلا إذا شرف الله تعالى ذلك العبد بأن يعلمه علم القرآن. والله تعالى أعلم بالصواب.
70

تم تفسير هذه السورة يوم الأحد الثامن عشر من شعبان سنة إحدى وستمائة. وأنا ألتمس من كل من نظر في كتابي هذا وانتفع به أن يخص ولدي محمدا بالرحمة والغفران، وأن يذكرني بالدعاء. وأقول في مرثية ذلك الولد شعرا: أرى معالم هذا العالم الفاني * ممزوجة بمخافات وأحزان
خيراته مثل أحلام مفزعة * وشره في البرايا دائم داني
71

سورة إبراهيم
مكية إلا آيتي 28 و 29 فمدنيتان وآياتها 52 نزلت بعد سورة نوح
بسم الله الرحمن الرحيم
* (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) *
سورة إبراهيم عليه السلام خمسون وآيتان مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أن الكلام في أن هذه السورة مكية أو مدنية طريقه الآحاد. ومتى لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام الشرعية فنزولها بمكة والمدينة سواء، وإنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل فيه ناسخ ومنسوخ فيكون فيه فائدة عظيمة وقوله: * (الر كتاب) * معناه أن السورة المسماة بالر كتاب أنزلناه إليك لغرض كذا وكذا فقوله: * (الر) * مبتدأ وقوله: * (كتاب) * خبره وقوله: * (أنزلناه إليك) * صفة لذلك الخبر وفيه مسائل:
المسألة الأولى: دلت هذه الآية على أن القرآن موصوف بكونه منزلا من عند الله تعالى. قالت المعتزلة: النازل والمنزل لا يكون قديما.
72

وجوابنا: أن الموصوف بالنازل والمنزل هو هذه الحروف وهي محدثة بلا نزاع.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: اللام في قوله: * (لتخرج الناس) * لام الغرض والحكمة، وهذا يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض، وذلك يدل على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة برعاية المصالح.
أجاب أصحابنا عنه بأن من فعل فعلا لأجل شيء آخر فهذا إنما يفعله لو كان عاجزا عن تحصيل هذا المقصود إلا بهذه الواسطة وذلك في حق الله تعالى محال، وإذا ثبت بالدليل أن يمتنع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل ثبت أن كل ظاهر أشعر به فإنه مؤول محمول على معنى آخر.
المسألة الثالثة: إنما شبه الكفر بالظلمات لأنه نهاية ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية وشبه الإيمان بالنور لأنه نهاية ما ينجلي به طريق هدايته.
المسألة الرابعة: قال القاضي: هذه الآية فيها دلالة على إبطال القول بالجبر من جهات: أحدها: أنه تعالى لو كان يخلق الكفر في الكافر فكيف يصح إخراجه منه بالكتاب. وثانيها: أنه تعالى أضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإن كان خالق ذلك الكفر هو الله تعالى فكيف يصح من الرسول عليه الصلاة والسلام إخراجهم منه وكان للكافر أن يقول: إنك تقول: إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصح منك أن تخرجنا منه فإن قال لهم: أنا أخرجكم من الظلمات التي هي كفر مستقبل لا واقع، فلهم أن يقولوا: إن كان تعالى سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج وإن لم يخلقه فنحن خارجون منه بلا إخراج. وثالثها: أنه صلى الله عليه
وسلم إنما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليهم ليتدبروه وينظروا فيه فيعلموا بالنظر والاستدلال كونه تعالى عالما قادرا حكيما ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحينئذ يقبلوا منه كل ما أداه إليهم من الشرائع، وذلك لا يصح إلا إذا كان الفعل لهم ويقع باختيارهم، ويصح منهم أن يقدموا عليه ويتصرفوا فيه.
والجواب عن الكل أن نقول: الفعل الصادر من العبد إما أن يصدر عنه حال استواء الداعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر، والأول: باطل، لأن صدور الفعل رجحان لجانب الوجود على جانب العدم، وحصول الرجحان حال حصول الاستواء محال. والثاني: عين قولنا لأنه يمتنع صدور الفعل عنه إلا بعد حصول الرجحان، فإن كان ذلك الرجحان منه عاد السؤال، وإن لم يكن منه بل من الله تعالى، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وذلك هو المطلوب والله أعلم.
73

المسألة الخامسة: احتج أصحابنا على صحة قولهم في أن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله تعالى: * (بإذن ربهم) * فإن معنى الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بإذن ربهم، والمراد بهذا الإذن إما الأمر، وإما العلم، وإما المشيئة والخلق. وحمل الإذن على الأمر محال، لأن الإخراج من الجهل إلى العلم لا يتوقف على الأمر، فإنه سواء حصل الأمر أو لم يحصل، فإن الجهل متميز عن العلم والباطل متميز عن الحق، وأيضا حمل الإذن على العلم محال، لأن العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه فالعلم بالخروج من الظلمات إلى النور تابع لذلك الخروج ويمتنع أن يقال إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج ولما بطل هذان القسمان لم يبق إلا أن يكون المراد من الإذن المشيئة والتخليق، وذلك يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف.
قلنا: لفظ اللطف لفظ مجمل ونحن نفصل القول فيه فنقول: المراد بالإذن إما أن يكون أمرا يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم أو لا يقتضي ذلك، فإن كان الثاني لم يكن فيه أمر البتة، فامتنع أن يقال: إنه مما حصل بسببه ولأجله فبقي الأول وهو أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم. وقد دللنا في " الكتب العقلية " على أنه متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو عين قولنا والله أعلم.
المسألة السادسة: القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام، احتجوا عليه بهذه الآية وقالوا: إنه تعالى صرح في هذه الآية بأن الرسول هو الذي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وذلك يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم.
وجوابنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون كالمنبه، وأما المعرفة فهي إنما تحصل بالدليل والله أعلم.
المسألة السابعة: الآية دالة على أن طرق الكفر والبدعة كثيرة وأن طريق الخير ليس إلا الواحد، لأنه تعالى قال: * (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) * فعبر عن الجهل والكفر بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهداية بالنور وهو لفظ مفرد، وذلك يدل على أن طرق الجهل كثيرة، وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا الواحد.
المسألة الثامنة: في قوله تعالى: * (إلى صراط العزيز الحميد) * وجهان الأول: أنه بدل من قوله
74

إلى النور بتكرير العامل كقوله: * (للذين استضعفوا لمن آمن منهم) *. (الأعراف: 75) الثاني: يجوز أن يكون على وجه الاستئناف كأنه قيل: إلى أي نور فقيل: * (إلى صراط العزيز الحميد) *.
المسألة التاسعة: قالت المعتزلة: الفاعل إنما يكون آتيا بالصواب والصلاح، تاركا للقبيح والعبث إذا كان قادرا على كل المقدورات عالما بجميع المعلومات غنيا عن كل الحاجات، فإنه إن لم يكن قادرا على الكل فربما فعل القبيح بسبب العجز، وإن لم يكن عالما بكل المعلومات فربما فعل القبيح بسبب الجهل، وإن لم يكن غنيا عن كل الحاجات فربما فعل القبيح بسبب الحاجة، أما إذا كان قادرا على الكل عالما الكل غنيا عن الكل امتنع منه الإقدام على فعل القبيح، فقوله: * (العزيز) * إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: * (الحميد) * إشارة إلى كونه مستحقا للحمد في كل أفعاله، وذلك إنما يحصل إذا كان عالما بالكل غنيا عن الكل فثبت بما ذكرنا أن صراط الله إنما كان موصوفا بكونه شريفا رفيعا عاليا لكونه صراطا مستقيما للإله الموصوف بكونه عزيزا حميدا، فلهذا المعنى: وصف الله نفسه بهذين الوصفين في هذا المقام.
المسألة العاشرة: إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد، لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادرا، ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما، ثم بعد ذلك العلم بكونه غنيا عن الحاجات، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني، فلما كان العلم بكونه تعالى قادرا متقدما على العلم بكونه عالما بالكل غنيا عن الكل لا جرم قدم الله ذكر العزيز على ذكر الحميد والله أعلم.
* (الله الذى له ما فى السماوات وما فى الارض وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحيوة الدنيا على الاخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك فى ضلال بعيد) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر * (الله) * مرفوعا بالابتداء وخبره ما بعده، وقيل التقدير هو الله والباقون بالجر عطفا على قوله: * (العزيز الحميد) * وههنا بحث، وهو أن جماعة من المحققين ذهبوا إلى أن قولنا: الله جار مجرى الاسم العلم لذات الله تعالى وذهب قوم آخرون إلى أن لفظ مشتق
75

والحق عندنا هو الأول. ويدل عليه وجوه: الأول: أن الاسم المشتق عبارة عن شيء ما حصل له المشتق منه، فالأسود مفهومه شيء ما حصل له السواد، والناطق
مفهومه شيء ما حصل له النطق، فلو كان قولنا الله اسما مشتقا من معنى لكان المفهوم منه أنه شيء ما حصل له ذلك المشتق منه، وهذا المفهوم كلي لا يمتنع من حيث هو هو عن وقوع الشركة فيه، فلو كان قولنا الله لفظا مشتقا لكان مفهومه صالحا لوقوع الشركة فيه، ولو كان الأمر كذلك لما كان قولنا لا إله إلا الله موجبا للتوحيد، لأن المستثنى هو قولنا الله وهو غير مانع من وقوع الشركة فيه ولما اجتمعت الأمة على أن قولنا لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا الله جار مجرى الاسم العلم. الثاني: أنه كلما أردنا أن نذكر سائر الصفات والأسماء ذكرنا أولا قولنا الله ثم وصفناه بسائر الصفات كقولنا هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس ولا يمكننا أن نعكس الأمر فنقول الرحمن الرحيم الله فعلمنا أن الله هو اسم علم للذات المخصوصة وسائر الألفاظ دالة على الصفات والنعوت. الثالث: أن ما سوى قولنا الله كلها دالة، إما على الصفات السلبية، كقولنا: القدوس السلام، أو على الصفات الإضافية، كقولنا الخالق الرازق أو على الصفات الحقيقية كقولنا: العالم القادر، أو على ما يتركب من هذه الثلاثة، فلو لم يكن قولنا: الله اسما للذات المخصوصة لكان جميع أسماء الله تعالى ألفاظا دالة على صفاته، ولم يحصل فيها ما يدل على ذاته المخصوصة وذلك بعيد، لأنه يبعد أن لا يكون له من حيث إنه هو اسم مخصوص. والرابع: قوله تعالى: * (هل تعلم له سميا) * (مريم: 65) والمراد هل تعلم من اسمه الله غير الله، وذلك يدل على أن قولنا: الله اسم لذاته المخصوصة، وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن أن يذكر عقيبه الصفات كقوله تعالى: * (هو الله الخالق البارئ المصور) * (الحشر: 24) فإما أن يعكس فيقال: هو الخالق المصور البارئ الله، فذلك غير جائز.
وإذا ثبت هذا فنقول: الذين قرؤا: * (الله الذي له ما في السماوات) * بالرفع أرادوا أن يجعلوا قوله: * (الله) * مبتدأ ويجعلوا ما بعده خبرا عنه وهذا هو الحق الصحيح، فأما الذين قرؤا: * (الله) * بالجر عطفا على: * (العزيز الحميد) * فهو مشكل لما بينا أن الترتيب الحسن أن يقال: الله الخالق. وإما أن يقال: الخالق الله فهذا لا يحسن، وعند هذا اختلفوا في الجواب على وجوه: الأول: قال أبو عمرو بن العلاء: القراءة بالخفض على التقديم والتأخير، والتقدير: صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السماوات. والثاني: أنه لا يبعد أن يذكر الصفة أولا ثم يذكر الاسم ثم يذكر الصفة مرة أخرى كما يقال: مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه وهو بعينه نظير قوله: * (صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات) * وتحقيق القول فيه: أنا بينا أن الصراط إنما يكون ممدوحا محمودا إذا كان صراطا للعالم القادر الغني، والله تعالى عبر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله: * (العزيز الحميد) * ثم لما ذكر هذا المعنى وقعت
76

الشبهة في أن ذلك العزيز من هو؟ فعطف عليها قوله: * (الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * إزالة لتلك الشبهة. الثالث: قال صاحب " الكشاف ": الله عطف بيان للعزيز الحميد، وتحقيق هذا القول ما قررناه فيما تقدم. الرابع: قد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن قولنا الله في أصل الوضع مشتق إلا أنه بالعرف صار جاريا مجرى الاسم العلم فحيث يبدأ بذكره ويعطف عليه سائر الصفات فذلك لأجل أنه جعل اسم علم، وأما في هذه الآية حيث جعل وصفا للعزيز الحميد، فذاك لأجل أنه حمل على كونه لفظا مشتقا فلا جرم بقي صفة. الخامس: أن الكفار ربما وصفوا الوثن بكونه عزيزا حميدا فلما قال: * (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) * بقي في خاطر عبدة الأوثان أنه ربما كان ذلك العزيز الحميد هو الوثن، فأزال الله تعالى هذه الشبهة وقال: * (الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * أي المراد من ذلك العزيز الحميد هو الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض.
المسألة الثانية: قوله: * (الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو البتة، وذلك لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء، فلو حصل ذات الله تعالى في جهة فوق، لكان حاصلا في السماء، وهذه الآية دالة على أن كل ما في السماوات فهو ملكه، فلزم كونه ملكا لنفسه وهو محال، فدلت هذه الآية على أنه منزه عن الحصول في جهة فوق.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خالق لأعمال العباد لأنه قال: * (له ما في السماوات وما في الأرض) * وأعمال العباد حاصلة في السماوات والأرض فوجب القول بأن أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله تعالى، وإذا ثبت أنها مقدورة لله تعالى وجب وقوعها بقدرة الله تعالى، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره وذلك محال.
واعلم أن قوله تعالى: * (له ما في السماوات وما في الأرض) * يفيد الحصر والمعنى أن ما في السماوات وما في الأرض له لا لغيره وذلك يدل على أنه لا مالك إلا الله ولا حاكم إلا الله ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال: * (وويل للكافرين من عذاب شديد) * والمعنى: أنهم لما تركوا عبادة الله تعالى الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما إلى عبادة ما لا يملك ضرا ولا نفعا ويخلق ولا يخلق، ولا إدراك لها ولا فعل، فالويل ثم الويل لمن كان كذلك، وإنما خص هؤلاء بالويل، لأن المعنى يولولون من عذاب شديد ويصيحون منه ويقولون يا ويلاه. ونظيره قوله تعالى: * (دعوا هنالك ثبورا) * (الفرقان: 13) ثم بين تعالى صفة هؤلاء الكافرين الذين توعدهم بالويل الذي
77

يفيد أعظم العذاب وذكر من صفاتهم ثلاثة أنواع: الأول: قوله: * (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إن شئت جعلت " الذين " صفة الكافرين في الآية المتقدمة وإن شئت جعلته مبتدأ وجعلت الخبر قوله: * (أولئك) * وإن شئت نصبته على الذم.
المسألة الثانية: الاستحباب طلب محبة الشيء، وأقول إن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه لا يحب كونه محبا لذلك الشيء، مثل من يميل طبعه إلى الفسق والفجور ولكنه يكره كونه محبا لهما، أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محبا له، وأحب تلك المحبة فهذا هو نهاية المحبة فقوله: * (الذين يستحبون الحياة الدنيا) * يدل على كونهم في نهاية المحبة للحياة الدنيوية، ولا يكون الإنسان كذلك إلا إذا كان غافلا عن الحياة الأخروية، وعن معايب هذه الحياة العاجلة، ومن كان كذلك كان في نهاية الصفات المذمومة، وذلك لأن هذه الحياة موصوفة بأنواع كثيرة من العيوب. فأحدها: أن بسبب هذه الحياة انفتحت أبواب الآلام والأسقام والغموم والهموم والمخاوف والأحزان.
وثانيها: أن هذه اللذات في الحقيقة لا حاصل لها إلا دفع الآلام، بخلاف اللذات الروحانية فإنها في أنفسها لذات وسعادات. وثالثها: أن سعادات هذه الحياة منغصة بسبب الانقطاع والإنقراض والانقضاء. ورابعها: أنها حقيرة قليلة، وبالجملة فلا يحب هذه الحياة إلا من كان غافلا عن معايبها وكان غافلا عن فضائل الحياة الروحانية الأخروية، ولذلك قال تعالى: * (والآخرة خير وأبقى) * (الأعلى: 17) فهذه الكلمة جامعة لكل ما ذكرناه.
المسألة الثالثة: إنما قال: * (يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) * لأن فيه إضمارا، والتقدير: يستحبون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة، فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليتبين بذلك أن الاستحباب للدنيا وحده لا يكون مذموما إلا بعد أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، فأما من أحبها ليصل بها إلى منافع النفس وإلى خيرات الآخرة فإن ذلك لا يكون مذموما حتى إذا آثرها على آخرته بأن اختار منها ما يضره في آخرته فهذه المحبة هي المحبة المذمومة.
النوع الثاني: من الصفات التي وصف الله الكفار بها قوله تعالى: * (ويصدون عن سبيل الله) *.
واعلم أن من كان موصوفا باستحباب الدنيا فهو ضال، ومن منع الغير من الوصول إلى سبيل الله ودينه فهو مضل، فالمرتبة الأولى إشارة إلى كونهم ضالين، وهذه المرتبة الثانية وهي كونهم صادين عن سبيل الله إشارة إلى كونهم مضلين.
والنوع الثالث: من تلك الصفات قوله: * (ويبغونها عوجا) * واعلم أن الإضلال على مرتبتين:
المرتبة الأولى: أنه يسعى في صد الغير ومنعه من الوصول إلى المنهج القويم والصراط المستقيم.
78

والمرتبة الثانية: أن يسعى في إلقاء الشكوك والشبهات في المذهب الحق ويحاول تقبيح صفته بكل ما يقدر عليه من الحيل، وهذا هو النهاية في الضلال والإضلال، وإليه الإشارة بقوله: * (ويبغونها عوجا) * قال صاحب " الكشاف " الأصل في الكلام أن يقال: ويبغون لها عوجا، فحذف الجار وأوصل الفعل، ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب الثلاثة لأحوال هؤلاء الكفار قال في صفتهم: * (أولئك في ضلال بعيد) * وإنما وصف هذا الضلال بالبعد لوجوه:
الوجه الأول: أنا بينا أن أقصى مراتب الضلال هو الذي وصفه الله تعالى في هذه المرتبة فهذه المرتبة في غاية البعد عن طريق الحق، فإن شرط الضدين أن يكونا في غاية التباعد، مثل السواد والبياض، فكذا ههنا الضلال الذي يكون واقعا على هذا الوجه يكون في غاية البعد عن الحق فإنه لا يعقل ضلال أقوى وأكمل من هذا الضلال.
والوجه الثاني: أن يكون المراد أنه يبعد ردهم عن طريقة الضلال إلى الهدى، لأنه قد تمكن ذلك في نفوسهم.
والوجه الثالث: أن يكون المراد من الضلال الهلاك، والتقدير: أولئك في هلاك يطول عليهم فلا ينقطع، وأراد بالبعد امتداده وزوال انقطاعه.
قوله تعالى
* (ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدى من يشآء وهو العزيز الحكيم) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة: * (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) * (إبراهيم: 1) كان هذا إنعاما على الرسول من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم، وإنعاما أيضا على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر وأرشدهم إلى نور الإيمان، فذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين. أما بالنسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فلأنه تعالى بين أن سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة الخلق، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولا إلى قوم إلا بلسان أولئك القوم، فإنه متى
79

كان الأمر كذلك، كان فهمهم لأسرار تلك الشريعة ووقوفهم على حقائقها أسهل، وعن الغلط والخطأ أبعد. فهذا هو وجه النظم.
المسألة الثانية: احتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توفيقية. قال لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل، وقد دلت هذه الآية على أن إرسال جميع الرسل لا يكون إلا بلغة قومهم، وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف، فوجب حصولها بالإصطلاح.
المسألة الثالثة: زعم طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أن محمدا رسول الله لكن إلى العرب لا إلى سائر الطوائف، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين: الأول: أن القرآن لما كان نازلا بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا على العرب، ومن لا يكون عربيا لم يكن القرآن حجة عليه. الثاني: قالوا: إن قوله: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) * (إبراهيم: 4) المراد بذلك اللسان لسان العرب، وذلك يقتضي أن يقال: إنه ليس له قوم سوى العرب، وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط.
والجواب: لم لا يجوز أن يكون المراد من * (قومه) * أهل بلده، وليس المراد من * (قومه) * أهل دعوته. والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى: * (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) * (الأعراف: 158) بل إلى الثقلين، لأن التحدي كما وقع مع الإنس فقد وقع مع الجن بدليل قوله تعالى: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (الإسراء: 88).
المسألة الرابعة: تمسك أصحابنا بقوله تعالى: * (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) * على أن الضلال والهداية من الله تعالى، والآية صريحة في هذا المعنى. قال الأصحاب: ومما يؤكد هذا المعنى ما روي: أن أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس وقد ارتفعت أصواتهما، فقال عليه السلام " ما هذا " فقال بعضهم: يا
رسول الله يقول أبو بكر الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا، ويقول: عمر كلاهما من الله، وتبع بعضهم أبا بكر وبعضهم عمر، فتعرف الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر، وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه، ثم أقبل على عمر فتعرف ما قاله وعرف البشر في وجهه ثم قال: " أقضي بينكما كما قضى به إسرافيل بين جبريل وميكائيل، قال جبريل مثل مقالتك يا عمر وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر فقضاء إسرافيل أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما " قالت المعتزلة: هذه الآية لا يمكن اجراؤها على ظاهرها وبيانه من وجوه: الأول: أنه تعالى قال: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) * والمعنى: أنا إنما أرسلنا كل رسول بلسان قومه ليبين لهم تلك التكاليف بلسانهم، فيكون إدراكهم لذلك البيان أسهل ووقوفهم
80

على المقصود والغرض أكمل، وهذا الكلام إنما يصح لو كان مقصود الله تعالى من إرسال الرسل حصول الإيمان للمكلفين، فأما لو كان مقصوده الإضلال وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائما لهذا المقصود. والثاني: أنه عليه السلام إذا قال لهم إن الله يخلق الكفر والضلال فيكم، فلهم أن يقولوا له فما الفائدة في بيانك، وما المقصود من إرسالك، وهل يمكننا أن نزيل كفرا خلقه الله تعالى فينا عن أنفسنا وحينئذ تبطل دعوة النبوة وتفسد بعثة الرسل. الثالث: أنه إذا كان الكفر حاصلا بتخليق الله تعالى ومشيئته، وجب أن يكون الرضا به واجبا لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، وذلك لا يقوله عاقل. والرابع: أنا قد دللنا على أن مقدمة هذه الآية وهو قوله: * (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) * (إبراهيم: 1) يدل على مذهب العدل، وأيضا مؤخرة الآية يدل عليه، وهو قوله: * (وهو العزيز الحكيم) * فكيف يكون حكيما من كان خالقا للكفر والقبائح ومريدا لها، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل قوله: * (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) * على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد، فوجب المصير إلى التأويل، وقد استقصينا ما في هذه التأويلات في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) * (البقرة: 26) ولا بأس بإعادة بعضها، فالأول: أن المراد بالإضلال: هو الحكم بكونه كافرا ضالا كما يقال: فلان يكفر فلانا ويضلله، أي يحكم بكونه كافرا ضالا، والثاني: أن يكون الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار، والهداية عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة. والثالث: أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ولم يتعرض له صار كأنه أضله، والمهتدي لما أعانه بالألطاف صار كأنه هو الذي هداه. قال صاحب " الكشاف ": المراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف وبالهداية التوفيق واللطف.
والجواب عن قولهم أولا أن قوله تعالى: * (ليبين لهم) * لا يليق به أن يضلهم. قلنا: قال الفراء: إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر، فإن كان الفعل الثاني مشاكلا للأول نسقته عليه، وإن لم يكن مشاكلا له استأنفته ورفعته. ونظيره قوله تعالى: * (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله) * (التوبة: 32) فقوله: * (ويأبى الله) * في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك، لأنه لا يحسن أن يقال: يريدون أن يأبى الله، فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف، ونظيره أيضا قوله: * (لنبين لكم ونقر في الأرحام) * (الحج: 5) ومن ذلك قولهم: أردت أن أزورك فيمنعني المطر بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه، ومثله قول الشاعر:
يريد أن يعربه فيعجمه
إذا عرفت هذا فنقول: ههنا قال تعالى: * (ليبين لهم) * ثم قال: * (فيضل الله من يشاء) * ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله، وأقول تقرير هذا
81

الكلام من حيث المعنى، كأنه تعالى قال: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه، ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء، والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية، وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى. أما قوله ثانيا: لو كان الضلال حاصلا بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له: ما الفائدة في بيانك ودعوتك؟ فنقول: يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات أخبار عن كونه ضالا فيقول له الكافر: لما أخبر إلهك عن كوني كافرا فإن آمنت صار إلهك كاذبا فهل أقدر على جعل إلهك كاذبا، وهل أقدر على جعل علمه جهلا. وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضا وارد عليه. وأما قوله ثالثا: يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجبا، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قلنا: ويلزمك أيضا على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله، وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا، لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا. وأما قوله رابعا: إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى: * (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) * (إبراهيم: 1) يدل على صحة الاعتزال فنقول: قد ذكرنا أن قوله: * (بإذن ربهم) * يدل على صحة مذهب أهل السنة. وأما قوله خامسا: أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيما وذلك ينافي كونه تعالى خالقا للكفر مريدا له. فنقول: وقد وصف نفسه بكونه عزيزا والعزيز هو الغالب القاهر فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم، وقد حصل لما بقي عزيزا غالبا. فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة، وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مرارا فلا فائدة في الإعادة.
قوله تعالى
* (ولقد أرسلنا موسى باياتنآ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن فى ذلك لآيات لكل صبار شكور * وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم
82

إذ أنجاكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم) *
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة، أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم وكيفية معاملة أقوامهم معهم تصبيرا للرسول عليه السلام على أذى قومه وإرشادا له إلى كيفية مكالمتهم ومعاملتهم فذكر تعالى على العادة المألوفة قصص بعض الأنبياء عليهم السلام فبدأ بذكر قصة موسى عليه السلام، فقال: * (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) * قال الأصم: آيات موسى عليه السلام هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وانفجار العيون من الحجر وإظلال الجبل وإنزال المن والسلوى. وقال الجبائي: أرسل الله تعالى موسى عليه السلام إلى قومه من بني إسرائيل بآياته وهي دلالاته وكتبه المنزلة عليه، وأمره أن يبين لهم الدين. وقال أبو مسلم الأصفهاني: إنه تعالى قال في صفة محمد صلى الله عليه وسلم: * (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) * (إبراهيم: 1) وقال في حق موسى عليه السلام: * (أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) * والمقصود: بيان أن المقصود من البعثة واحد في حق جميع الأنبياء عليهم السلام، وهو أن يسعوا في إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات.
المسألة الثانية: قال الزجاج: قوله: * (أن أخرج قومك) * أي بأن أخرج قومك. ثم قال: * (أن) * ههنا تصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي، ويكون المعنى: ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أي أخرج قومك، كأن المعنى قلنا له: أخرج قومك. ومثله قوله: * (وانطلق الملأ منهم أن أمشوا) * (ص: 6) أي أمشوا، والتأويل قيل لهم: امشوا، وتصلح أيضا أن تكون المخففة التي هي للخبر، والمعنى: أرسلناه بأن يخرج قومه إلا أن الجار حذف ووصلت (أن) بلفظ الأمر، ونظيره قولك: كتبت إليه أن قم وأمرته أن قم، ثم إن الزجاج حكى هذين القولين عن سيبويه.
83

أما قوله: * (وذكرهم بأيام الله) * فاعلم أنه تعالى أمر موسى عليه السلام في هذا المقام بشيئين: أحدهما: أن يخرجهم من ظلمات الكفر، والثاني: أن يذكرهم بأيام الله، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الواحدي: أيام جمع يوم، واليوم هو مقدار المدة من طلوع الشمس إلى غروبها، وكانت الأيام في الأصل أيوام فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون، فأدغمت إحداهما في الأخرى وغلبت الياء.
المسألة الثانية: أنه يعبر بالأيام عن الوقائع العظيمة التي وقعت فيها. يقال: فلان عالم بأيام العرب ويريد وقائعها وفي المثل من ير يوما ير له معناه من رؤي في يوم مسرورا بمصرع غيره ير في يوم آخر حزينا بمصرع نفسه وقال تعالى: * (وتلك الأيام نداولها بين الناس) * (آل عمران: 140).
إذا عرفت هذا، فالمعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد، فالترغيب والوعد أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل في سائر ما سلف من الأيام، والترهيب والوعيد: أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل ممن سلف من الأمم فيما سلف من الأيام، مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب، ليرغبوا في الوعد فيصدقوا ويجذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب.
واعلم أن أيام الله في حق موسى عليه السلام منها ما كان أيام المحنة والبلاء وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل فيها تحت قهر فرعون ومنها ما كان أيام الراحة والنعماء مثل إنزال المن والسلوى وانفلاق البحر وتظليل الغمام.
ثم قال تعالى: * (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) * والمعنى أن في ذلك التذكير والتنبيه دلائل لمن كان صبارا شكورا، لأن الحال إما أن يكون حال محنة وبلية أو حال منحة وعطية فإن كان الأول، كان المؤمن صبارا، وإن كان الثاني كان شكورا. وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه ويوافق إرادته كان مشغولا بالشكر، وإن جرى ما لا يلائم طبعه كان مشغولا بالصبر.
فإن قيل: إن ذلك التذكيرات آيات للكل فلماذا خص الصبار الشكور بها؟
قلنا: فيه وجوه: الأول: أنهم لما كانوا هم المنتفعون بتلك الآيات صارت كأنها ليست آيات إلا لهم كما في قوله: * (هدى للمتقين) * وقوله: * (إنما أنت منذر من يخشاه) *. والثاني: لا يبعد أن يقال: الانتفاع بهذا النوع من التذكير لا يمكن حصوله إلا لمن كان صابرا أو شاكرا، أما الذي لا يكون كذلك لم ينتفع بهذه الآيات.
84

واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أمر موسى عليه السلام بأن يذكرهم بأيام الله تعالى، حكى عن موسى عليه السلام أنه ذكرهم بها فقال: * (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) * فقوله: * (إذ أنجاكم) * ظرف للنعمة بمعنى الأنعام، أي اذكروا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت. بقي في الآية سؤالات:
السؤال الأول: ذكر في سورة البقرة: * (يذبحون) * (البقرة: 49) وفي سورة الأعراف: * (يقتلون) * (الأعراف: 41) وههنا * (ويذبحون) * مع الواو فما الفرق؟
والجواب: قال تعالى في سورة البقرة: * (يذبحون) * بغير واو لأنه تفسير لقوله: * (سوء العذاب) * وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو تقول: أتاني القوم زيد وعمرو. لأنك أردت أن تفسر القوم بهما ومثله قوله تعالى: * (ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب) * (الفرقان: 68، 69) فالآثام لما صار مفسرا بمضاعفة العذاب لا جرم حذف عنه الواو، أما في هذه السورة فقد أدخل الواو فيه، لأن المعنى أنهم يعذبونهم بغير التذبيح وبالتذبيح أيضا فقوله: * (ويذبحون) * نوع آخر من العذاب لا أنه تفسير لما قبله.
السؤال الثاني: كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟
والجواب من وجهين: أحدهما: أن تمكين الله إياهم حتى فعلوا ما فعلوا كان بلاء من الله. والثاني: وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء، وهو بلاء عظيم، والبلاء هو الابتلاء، وذلك قد يكون بالنعمة تارة، وبالمحنة أخرى، قال تعالى: * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) * (الأنبياء: 35) وهذا الوجه أولى لأنه يوافق صدر الآية وهو قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم) *.
السؤال الثالث: هب أن تذبيح الأبناء كان بلاء، أما استحياء النساء كيف يكون بلاء.
الجواب: كانوا يستخدمونهن بالاستحياء في الخلاص منه نعمة، وأيضا إبقاؤهن منفردات عن الرجال فيه أعظم المضار.
* (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد) *
اعلم أن قوله: * (وإذ تأذن ربكم) * من جملة ما قال موسى لقومه كأنه قيل: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم، ومعنى * (تأذن) * أذن ربكم. ونظير تأذن وآذن توعد وأوعد وتفضل وأفضل، ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل: وإذ آذن ربكم إيذانا بليغا ينتفي عنده الشكوك، وتنزاح الشبهة، والمعنى: وإذ تأذن ربكم. فقال: * (لئن شكرتم) *
85

فأجرى * (تأذن) * مجرى قال لأنه ضرب من القول، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: * (وإذ قال ربك لئن شكرتم) *.
واعلم أن المقصود من الآية بيان أن من اشتغل بشكر نعم الله زاده الله من نعمه، ولا بد ههنا من معرفة حقيقة الشكر ومن البحث عن تلك النعم الزائدة الحاصلة عن الاشتغال بالشكر، أما الشكر فهو عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة، وأما الزيادة في النعم فهي أقسام: منها النعم الروحانية، ومنها النعم الجسمانية، أما النعم الروحانية فهي أن الشاكر يكون أبدا في مطالعة أقسام نعم الله تعالى وأنواع فضله وكرمه، ومن كثر إحسانه إلى الرجل أحبه الرجل لا محالة، فشغل النفس بمطالعة أنواع فضل الله وإحسانه يوجب تأكد محبة العبد لله تعالى، ومقام المحبة أعلى مقامات الصديقين، ثم قد يترقى العبد من تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلا له عن الالتفات إلى النعمة، ولا شك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة الله تعالى ومعرفته، فثبت أن الاشتغال بالشكر يوجب مزيد النعم الروحانية، وأما مزيد النعم الجسمانية، فلأن الاستقراء دل على أن من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر، كان وصول نعم الله إليه أكثر، وبالجملة فالشكر إنما حسن موقعه، لأنه اشتغال بمعرفة المعبود وكل مقام حرك العبد من عالم الغرور إلى عالم القدس، فهو المقام الشريف العالي الذي يوجب السعادة في الدين والدنيا.
وأما قوله: * (ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) * فالمراد منه الكفران، لا الكفر، لأن الكفر المذكور في مقابلة الشكر ليس إلا الكفران، والسبب فيه أن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة نعمة من الله، والجاهل بها جاهل بالله، والجهل بالله من أعظم أنواع العقاب والعذاب وأيضا فههنا دقيقة أخرى وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فوجوده إنما يحصل بإيجاد الواجب لذاته، وعدمه إنما يحصل بإعدام الواجب لذاته، وإذا كان كذلك فكل ما سوى الحق فهو منقاد للحق مطواع له، وإذا كانت الممكنات بأسرها منقادة للحق سبحانه فكل قلب حضر فيه نور معرفة الحق وشرف جلاله، انقاد لصاحب ذلك القلب ما سواه، لأن حضور ذلك النور في قلبه يستخدم كل ما سواه بالطبع، وإذا خلا القلب عن ذلك النور ضعف وصار خسيسا فيستخدمه كل ما سواه ويستحقره كل ما يغايره فبهذا الطريق الذوقي يحصل العلم بأن الاشتغال بمعرفة الحق يوجب انفتاح أبواب الخيرات في الدنيا والآخرة، وأما الإعراض عن معرفة الحق بالاشتغال بمجرد الجسمانيات يوجب انفتاح أبواب الآفات والمخافات في الدنيا والآخرة.
86

قوله تعالى
* (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن فى الارض جميعا فإن الله لغنى حميد * ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جآءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم فى أفواههم وقالوا إنا كفرنا بمآ أرسلتم به وإنا لفى شك مما تدعوننآ إليه مريب) *
اعلم أن موسى عليه السلام لما بين أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا وفي الآخرة، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد، وحصول الآفات في الدنيا والآخرة، بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران أما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران، فلا جرم قال تعالى: * (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) * والغرض منه بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا لمنافع عائدة إلى المعبود، والذي يدل على أن الأمر كذلك ما ذكره الله في قوله: * (إن الله لغني) * وتفسيره أنه واجب الوجود لذاته واجب الوجود بحسب جميع صفاته واعتباراته، فإنه لو لم يكن واجب الوجود لذاته، لافتقر رجحان وجوده على عدمه إلى مرجح فلم يكن غنيا، وقد فرضناه غنيا هذا خلف، فثبت أن كونه غنيا يوجب كونه واجب الوجود في ذاته، وإذا ثبت أنه واجب الوجود لذاته، كان أيضا واجب الوجود بحسب جميع كمالاته، إذ لو لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك الكمال، لافتقر في حصول ذلك الكمال إلى سبب منفصل، فحينئذ لا يكون غنيا، وقد فرضناه غنيا هذا خلف، فثبت أن ذاته كافية في حصول جميع كمالاته، وإذا كان الأمر كذلك كان حميدا لذاته، لأنه لا معنى للحميد إلا الذي استحق الحمد، فثبت بهذا التقرير الذي ذكرناه أن كونه غنيا حميدا يقتضي أن لا يزداد بشكر الشاكرين، ولا ينتقص بكفران الكافرين، فلهذا المعنى قال: * (إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) * وهذه المعاني من لطائف الأسرار.
87

واعلم أن قولنا: * (إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا) * سواء حمل على الكفر الذي يقابل الإيمان أو على الكفران الذي يقابل الشكر، فالمعنى لا يتفاوت البتة، فإنه تعالى غني عن العالمين في كمالاته وفي جميع نعوت كبريائه وجلاله.
ثم إنه تعالى قال: * (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود) * وذكر أبو مسلم الأصفهاني أنه يحتمل أن يكون ذلك خطابا من موسى عليه السلام لقومه والمقصود منه أنه عليه السلام كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعالى على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى، والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين، وهذا المقصود حاصل على التقديرين إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى الله عليه وسلم.
واعلم أنه تعالى ذكر أقواما ثلاثة، وهم: قوم نوح وعاد وثمود.
ثم قال تعالى: * (والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) * وذكر صاحب " الكشاف " فيه احتمالين: الأول: أن يكون قوله: * (والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) * جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضا. والثاني: أن يقال قوله: * (والذين من بعدهم) * معطوف على قوم نوح وعاد وثمود وقوله: * (لا يعلمهم إلا الله) * فيه قولان:
القول الأول: أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله، لأن المذكور في القرآن جملة فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل.
والقول الثاني: أن المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلا كذبوا رسلا لم نعرفهم أصلا، ولا يعلمهم إلا الله والقائلون بهذا القول الثاني طعنوا في قول من يصل الأنساب إلى آدم عليه السلام كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد، وعن ابن عباس: بين عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (وقرونا بين ذلك كثيرا) * (الفرقان: 38) وقوله: * (منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك) * (عافر: 78) وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان في انتسابه لا يجاوز معد بن عدنان بن أدد. وقال: " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق " قال القاضي: وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع على مقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت، لأنه إن أمكن ذلك لم يبعد أيضا تحصيل العلم بالأنساب الموصولة.
فإن قيل: أي القولين أولى؟
قلنا: القول الثاني عندي أقرب، لأن قوله تعالى: * (لا يعلمهم إلا الله) * نفى العلم بهم، وذلك يقتضي
88

نفي العلم بذواتهم إذ لو كانت ذواتهم معلومة، وكان المجهول هو مدد أعمارهم وكيفية صفاتهم لما صح نفي العلم بذواتهم، ولما كان ظاهر الآية دليلا على نفي العلم بذواتهم لا جرم كان الأقرب هو القول الثاني، ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم أنه لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات أتوا بأمور: أولها: قوله: * (فردوا أيديهم في أفواههم) * وفي معناه قولان: الأول: أن المراد باليد والفم الخارجتان المعلومتان، والثاني: أن المراد بهما شيء غير هاتين الجارحتين وإنما ذكرهما مجازا وتوسعا. أما من قال بالقول الأول ففيه ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يكون الضمير في * (أيديهم) * و * (أفواههم) * عائدا إلى الكفار، وعلى هذا ففيه احتمالات: الأول: أن الكفار ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها من الغيظ والضجر من شدة نفرتهم عن رؤية الرسل واستماع كلامهم، ونظيره قوله تعالى: * (عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) * (آل عمران: 119) وهذا القول مروي عن ابن عباس وابن مسعود رحمهما الله تعالى، وهو اختيار القاضي. والثاني: أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية، فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبة الضحك فوضع يده على فيه، والثالث: أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث، وهذا مروي عن الكلبي. والرابع: أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به، أي هذا هو الجواب عندنا عما ذكرتموه، وليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق ألا ترى إلى قوله: * (فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به) *.
الوجه الثاني: أن يكون الضميران راجعين إلى الرسل عليهم السلام وفيه وجهان: الأول: أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم. الثاني: أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم فإن من ذكر كلاما عند قوم وأنكروه وخافهم، فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه وغرضه أن يعرفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكرم البتة.
الوجه الثالث: أن يكون الضمير في أيديهم يرجع إلى الكفار وفي الأفواه إلى الرسل وفيه وجهان: الأول: أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء عليهم السلام ونصائحهم وكلامهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيبا لهم وردا عليهم. والثاني: أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء عليهم السلام منعا لهم من الكلام، ومن بالغ في منع غيره من الكلام فقد يفعل به ذلك. أما على القول الثاني: وهو أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز ففيه وجوه:
89

الوجه الأول: قال أبو مسلم الأصفهاني: المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج وذلك لأن اسماع الحجة انعام عظيم والإنعام يسمى يدا. يقال لفلان عندي يد إذا أولاه معروفا، وقد يذكر اليد. المراد منها صفقة البيع والعقد كقوله تعالى: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) * (الفتح: 10) فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد، وأيضا العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أيادي وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي وفي العدد الكثير هو الأيادي، فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي، وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت، ونظيره قوله تعالى: * (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) * (النور: 15) فلما كان القبول تلقيا بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردا في الأفواه، فهذا تمام كلام أبي مسلم في تقرير هذا الوجه.
الوجه الثاني: نقل محمد بن جرير عن بعضهم أن معنى قوله: * (فردوا أيديهم في أفواههم) * أنهم سكتوا عن الجواب يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب، رد يده في
فيه وتقول العرب كلمت فلانا في حاجة فرد يده في فيه إذا سكت عنه فلم يجب، ثم إنه زيف هذا الوجه وقال: إنهم أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا: * (إنا كفرنا بما أرسلتم به) *.
الوجه الثالث: المراد من الأيدي نعم الله تعالى على ظاهرهم وباطنهم ولما كذبوا الأنبياء فقد عرضوا تلك النعم للإزالة والإبطال فقوله: * (ردوا أيديهم في أفواههم) * أي ردوا نعم الله تعالى عن أنفسهم بالكلمات التي صدرت عن أفواههم ولا يبعد حمل " في " على معنى الباء لأن حروف الجر لا يمتنع إقامة بعضها مقام بعض.
النوع الثاني: من الأشياء التي حكاها الله تعالى عن الكفار قولهم: * (إنا كفرنا بما أرسلتم به) * والمعنى: إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم فيه لأنهم ما أقروا بأنهم أرسلوا.
واعلم أن المرتبة الأولى هو أنهم سكتوا عن قبول قول الأنبياء عليهم السلام وحاولوا اسكات الأنبياء عن تلك الدعوى، وهذه المرتبة الثانية أنهم صرحوا بكونهم كافرين بتلك البعثة.
والنوع الثالث: قولهم: * (وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب) * قال صاحب " الكشاف ": وقرئ * (تدعونا) * بادغام النون * (مريب) * موقع في الريبة أو ذي ريبة من أرابه، والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر.
فإن قيل: لما ذكروا في المرتبة الثانية أنهم كافرون برسالتهم كيف ذكروا بعد ذلك كونهم شاكين مرتابين في صحة قولهم؟
90

قلنا: كأنهم قالوا إما أن نكون كافرين برسالتكم أو أن ندع هذا الجزم واليقين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم والله أعلم.
قوله تعالى
* (قالت رسلهم أفى الله شك فاطر السماوات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءابآؤنا فأتونا بسلطان مبين) *
اعلم أن أولئك الكفار لما قالوا للرسل * (وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب) * (إبراهيم: 9). قالت رسلهم: وهل تشكون في الله، وفي كونه فاطر السماوات والأرض وفاطرا لأنفسنا وأرواحنا وأرزاقنا وجميع مصالحنا وإنا لا ندعوكم إلا إلى عبادة هذا الإله المنعم ولا نمنعكم إلا عن عبادة غيره وهذه المعاني يشهد صريح العقل بصحتها، فكيف قلتم: وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب؟ وهذا النظم في غاية الحسن. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (أفي الله شك) * استفهام على سبيل الإنكار، فلما ذكر هذا المعنى أردفه بالدلالة الدالة على وجود الصانع المختار، وهو قوله: * (فاطر السماوات والأرض) * وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن وجود السماوات والأرض كيف يدل على احتياجه إلى الصانع المختار الحكيم مرارا وأطوارا فلا نعيدها ههنا.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": أدخلت همزة الإنكار على الظرف، لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في أن وجود الله تعالى لا يحتمل الشك، وأقول من الناس من ذهب إلى أنه قبل الوقوف على الدلائل الدقيقة فالفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار، ويدل على أن الفطرة الأولية شاهدة بذلك وجوه:
الوجه الأول: قال بعض العقلاء: إن من لطم على وجه صبي لطمة فتلك اللطمة تدل على
91

وجود الصانع المختار، فلأن الصبي العاقل إذا وقعت اللطمة على وجهه يصيح ويقول: من الذي ضربني وما ذاك إلا أن شهادة فطرته تدل على أن اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل فعلها، ولأجل مختار أدخلها في الوجود فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار ذلك الحادث مع قلته وحقارته إلى الفاعل فبأن تشهد بافتقار جميع حوادث العالم إلى الفاعل كان أولى، وأما دلالتها على وجوب التكليف، فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول: لم ضربني ذلك الضارب؟ وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ومندرجة تحت التكليف، وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي فعل شاء واشتهى، وأما دلالتها على وجوب حصول دار الجزاء فهو أن ذلك الصبي يطلب الجزاء على تلك اللطمة وما دام يمكنه طلب ذلك الجزاء فإنه لا يتركه فلما شهدت الفطرة الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع الأعمال كان أولى، وأما دلالتها على وجوب النبوة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي يقدر هذه الأمور ويبين لهم هذه الأحكام، فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأمور الأربعة.
الوجه الثاني: في التنبيه على أن الإقرار بوجود الصانع بديهي هو أن الفطرة شاهد بأن حدوث دار منقوشة بالنقوش العجيبة، مبنية على التركيبات اللطيفة الموافقة للحكم والمصلحة يستحيل إلا عند وجود نقاش عالم، وبان حكيم، ومعلوم أن آثار الحكمة في العالم العلوي والسفلي أكثر من آثار الحكمة في تلك الدار المختصرة فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار النقش إلى النقاش، والبناء إلى الباني، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم كان أولى.
الوجه الثالث: أن الإنسان إذا وقع في محنة شديدة وبلية قوية لا يبقى في ظنه رجاء المعاونة من أحد، فكأنه بأصل خلفته ومقتضى جبلته يتضرع إلى من يخلصه منها ويخرجه عن علائقها وحبائلها وما ذاك إلا شهادة الفطرة بالإفتقار إلى الصانع المدبر.
الوجه الرابع: أن الموجود إما أن يكون غنيا عن المؤثر أو لا يكون، فإن كان غنيا عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته، فإنه لا معنى للواجب لذاته إلا الموجود الذي لا حاجة به إلى غيره. وإن لم يكن غنيا عن المؤثر فهو محتاج، والمحتاج لا بد له من المحتاج إليه وذلك هو الصانع المختار.
92

الوجه الخامس: أن الاعتراف بوجود الإله المختار المكلف، وبوجود المعاد أحوط، فوجب المصير إليه فهذه مراتب أربعة: أولها: أن الإقرار بوجود الإله أحوط، لأنه لو لم يكن موجودا فلا ضرر في الإقرار بوجوده وإن كان موجودا ففي إنكاره أعظم المضار. وثانيها: الإقرار بكونه فاعلا مختارا لأنه لو كان موجبا فلا ضرر في الإقرار بكونه مختارا. أما لو كان مختارا ففي إنكار كونه مختارا أعظم المضار. وثالثها: الإقرار بأنه كلف عباده، لأنه لو لم يكلف أحدا من عبيده شيئا فلا ضرر في اعتقاد أنه كلف العباد، أما إنه لو كلف ففي إنكار تلك التكاليف أعظم المضار. ورابعها: الإقرار بوجود المعاد فإنه إن كان الحق أنه لا معاد فلا ضرر في الإقرار بوجوده، لأنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجسمانية وهي حقيرة ومنقوصة وإن كان الحق هو وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المصير إليه، لأن بديهة العقل حاكمة بأنه يجب دفع الضرر عن النفس بقدر الإمكان.
المسألة الثالثة: لما أقام الدلالة على وجود الإله بدليل كونه فاطر السماوات والأرض وصفه بكمال الرحمة والكرم والجود وبين ذلك من وجهين، الأول: قوله: * (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) * قال صاحب " الكشاف ": لو قال قائل ما معنى التبعيض في قوله من ذنوبكم، ثم أجاب فقال: ما جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله: * (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون * يغفر لكم من ذنوبكم) * (نوح: 3، 4). * (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم) * (الأحقاف: 31) وقال في خطاب المؤمنين: * (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) * (الصف: 10) إلى أن قال: * (يغفر لكم ذنوبكم) * (آل عمران: 31) والاستقراء يدل على صحة ما ذكرناه، ثم قال: وكأن ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوي بين الفريقين في المعاد، وقيل: إنه أراد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم. هذا كلام هذا الرجل، وقال الواحدي في " البسيط "، قال أبو عبيدة (من) زائدة، وأنكر سيبويه زيادتها في الواجب، وإذا قلنا إنها ليست زائدة فههنا وجهان: أحدهما: أنه ذكر البعض ههنا وأريد به الجميع توسعا. والثاني: أن (من) ههنا للبدل والمعنى لتكون المغفرة بدلا من الذنوب فدخلت من لتضمن المغفرة معنى البدل من السيئة، وقال القاضي: ذكر الأصم أن كلمة (من) ههنا تفيد التبعيض، والمعنى أنكم إذا تبتم فإنه يغفر لكم الذنوب التي هي من الكبائر، فأما التي تكون من باب الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في أنفسها مغفورة، قال القاضي: وقد أبعد في هذا التأويل، لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر إلا بالتوبة وإنما تكون الصغيرة مغفورة من المؤمنين الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابها فأما من لا ثواب له أصلا فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرا ولا يكون شيء
93

منها مغفورا. ثم قال وفيه وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإنابته فلا يكون المغفور منها إلا ما ذكره وتاب منه فهذا جملة أقوال الناس في هذه الكلمة.
المسألة الرابعة: أقول هذه الآية تدل على أنه تعالى قد يغفر الذنوب من غير توبة في حق أهل الإيمان والدليل عليه أنه قال: * (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) * وعد بغفران بعض الذنوب مطلقا من غير اشتراط التوبة، فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقا من غير التوبة وذلك البعض ليس هو الكفر لإنعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان فوجب أن يكون البعض الذي يغفر له من غير التوبة هو ما عد الكفر من الذنوب.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال كلمة (من) صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول: المراد من البعض ههنا هو الكل على ما قاله الواحدي. أو نقول: المراد منها إبدال السيئة بالحسنة على ما قاله الواحدي أيضا أو نقول: المراد منه تمييز المؤمن عن الكافر في الخطاب على ما قاله صاحب " الكشاف " أو نقول: المراد منه تخصيص هذا الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم. أو نقول: المراد منه الذنوب التي يذكرها الكافر عند الدخول في الإيمان على ما قاله القاضي، فنقول: هذه الوجوه بأسرها ضعيفة أما قوله: إنها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله تعالى بأنها حشو ضائع فاسد، والعاقل لا يجوز المصير إليه من غير ضرورة، فأما قول الواحدي: المراد من كلمة (من) ههنا هو الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة لأن حاصله أن قوله: * (يغفر لكم من ذنوبكم) * هو أنه يغفر لكم ذنوبكم وهذا عين ما نقله عن أبي عبيدة، وحكي عن سيبويه إنكاره، وأما قوله: المراد منه إبدال السيئة بالحسنة فليس في اللغة أن كلمة من تفيد الإبدال، وأما قول صاحب " الكشاف ": المراد تمييز خطاب المؤمن عن خطاب الكافر بمزيد التشريف فهو من باب الطامات، لأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب، وإن لم يحصل كان هذا الجواب فاسدا، وأما قول الأصم فقد سبق إبطاله، وأما قول القاضي فجوابه: أن الكافر إذا أسلم صارت ذنوبه بأسرها مغفورة لقوله عليه السلام: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " فثبت أن جميع ما ذكروه من التأويلات تعسف ساقط بل المراد ما ذكرنا أنه تعالى يغفر بعض ذنوبه من غير توبة وهو ما عدا الكفر، وأما الكفر فهو أيضا من الذنوب وأنه تعالى لا يغفره إلا بالتوبة، وإذا ثبت أنه تعالى يغفر كبائر كافر من غير توبة بشرط أن يأتي بالإيمان فبأن تحصل هذه الحالة للمؤمن كان أولى، هذا ما خطر بالبال على سبيل الارتجال والله أعلم بحقيقة الحال.
النوع الثاني: مما وعد الله تعالى به في هذه الآية قوله: * (ويؤخركم إلى أجل مسمى) * وفيه
94

وجهان: الأول: المعنى أنكم إن آمنتم أخر الله موتكم إلى أجل مسمى وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال. الثاني: قال ابن عباس: المعنى يمتعكم في الدنيا بالطيبات واللذات إلى الموت.
فإن قيل: أليس إنه تعالى قال: * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * (الأعراف: 34) فكيف قال ههنا: * (ويؤخركم إلى أجل مسمى) *.
قلنا: قد تكلمنا في هذه المسألة في سورة الأنعام في قوله: * (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) * (الأنعام: 2) ثم حكى تعالى أن الرسل لما ذكروا هذه الأشياء لأولئك الكفار قالوا: * (إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين) *.
واعلم أن هذا الكلام مشتمل على ثلاثة أنوع من الشبه:
فالشبهة الأولى: أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية، فيمتنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد، وهو أن يكون الواحد منهم رسولا من عند الله مطلعا على الغيب مخالطا لزمرة الملائكة، والباقون يكونون غافلين عن كل هذه الأحوال أيضا كانوا يقولون: إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة، وجب أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة، وفي الحاجة إلى الأكل والشرب والحدث والوقاع، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم: * (إن أنتم إلا بشر مثلنا) *.
والشبهة الثانية: التمسك بطريقة التقليد، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم مطبقين متفقين على عبادة الأوثان. قالوا ويبعد أن يقال: إن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خواطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين، وأن الرجل الواحد عرف فساده ووقف على بطلانه، والعوام ربما زادوا في هذا الباب كلاما آخر، وذلك أن الرجل العالم إذا بين ضعف كلام بعض المتقدمين قالوا له إن كلامك إنما يظهر صحته لو كان المتقدمون حاضرين، أما المناظرة مع الميت فسهلة، فهذا كلام يذكره الحمقى والرعاع وأولئك الكفار أيضا ذكروه، وهذه الشبهة هي المراد من قوله: * (تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا) *.
والشبهة الثالثة: أن قالوا المعجز لا يدل على الصدق أصلا، وإن كانوا سلموا على أن المعجز يدل على الصدق، إلا أن الذي جاء به أولئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنها أمور معتادة، وأنها ليست من باب المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، وإلى هذا النوع من الشبهة الإشارة بقوله: * (فأتونا بسلطان مبين) * فهذا تفسير هذه الآية بحسب الوسع والله أعلم.
95

قوله تعالى
* (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون * وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) *
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوة، حكى عن الأنبياء عليهم السلام جوابهم عنها.
أما الشبهة الأولى: وهي قولهم: * (إن أنتم إلا بشر مثلنا) * فجوابه: أن الأنبياء سلموا أن الأمر كذلك، لكنهم بينوا أن التماثل في البشرية والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة لأن هذا المنصب منصب يمن الله به على من يشاء من عباده، فإذا كان الأمر كذلك فقد سقطت هذه الشبهة.
واعلم أن هذا المقام فيه بحث شريف دقيق، وهو أن جماعة من حكماء الإسلام قالوا: إن الإنسان ما لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصا بخواص شريفة علوية قدسية، فإنه يمتنع عقلا حصول صفة النبوة له. وأما الظاهريون من أهل السنة والجماعة، فقد زعموا أن حصول النبوة عطية من الله تعالى يهبها لكل من يشاء من عباده، ولا يتوقف حصولها على امتياز ذلك الإنسان عن سائر الناس بمزيد إشراق نفساني وقوة قدسية، وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية، فإنه تعالى بين أن حصول النبوة ليس إلا بمحض المنة من الله تعالى والعطية منه، والكلام من هذا الباب غامض غائص دقيق، والأولون أجابوا عنه بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسدانية تواضعا منهم، واقتصروا على قولهم: * (ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) * بالنبوة، لأنه قد علم أنه تعالى لا يخصهم بتلك الكرامات إلا وهم موصوفون بالفضائل التي لأجلها استوجبوا ذلك التخصيص، كما قال تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124).
96

وأما الشبهة الثانية: وهي قولهم: إطباق السلف على ذلك الدين يدل على كونه حقا، لأنه يبعد أن يظهر للرجل الواحد ما لم يظهر للخلق العظيم، فجوابه: عين الجواب المذكور عن الشبهة الأولى، لأن التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب عطية من الله تعالى وفضل منه، ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية وأن يحرم الجمع العظيم منها.
وأما الشبهة الثالثة: وهي قولهم: إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة قوية. فالجواب عنها: قوله تعالى: * (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله) * وشرح هذا الجواب أن المعجزة التي جئنا بها وتمسكنا بها حجة قاطعة وبينة قاهرة ودليل تام، فأما الأشياء التي طلبتموها فهي أمور زائدة والحكم فيها لله تعالى فإن خلقها وأظهرها فله الفضل وإن لم يخلقها فله العدل ولا يحكم عليه بعد ظهور قدر الكفاية. ثم إنه تعالى حكى عن الأنبياء والرسل عليهم السلام أنهم قالوا بعد ذلك: * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بذلك الجواب فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف والوعيد، وعند هذا قالت الأنبياء عليهم السلام: لا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على الله واعتمادنا على فضل الله ولعل الله سبحانه كان قد أوحى إليهم أن أولئك الكفرة لا يقدرون على إيصال الشر والآفة إليهم وإن لم يكن حصل هذا الوحي، فلا يبعد منهم أن لا يلتفتوا إلى سفاهتهم لما أن أرواحهم كانت مشرقة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء عالم الغيب والروح متى كانت موصوفة بهذه الصفات فقلما يبالي بالأحوال الجسمانية وقلما يقيم لها وزنا في حالتي السراء والضراء وطوري الشدة والرخاء، فلهذا السبب توكلوا على الله وعولوا على فضل الله وقطعوا أطماعهم عما سوى الله، والذي يدل على أن المراد ما ذكرناه قوله تعالى حكاية عنهم: * (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا) * يعني أنه تعالى لما خصنا بهذه الدرجات الروحانية، والمعارف الإلهية الربانية فكيف يليق بنا أن لا نتوكل على الله، بل اللائق بنا أن لا نتوكل إلا عليه ولا نعول في تحصيل المهمات إلا عليه، فإن من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مكان الإخلاص والمكاشفة يقبح به أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق سواء كان ملكا له أو ملكا أو روحا أو جسما، وهذه الآية دالة على أنه تعالى يعصم أولياءه المخلصين في عبوديته من كيد أعدائهم ومكرهم، ثم قالوا: * (ولنصبرن على ما آذيتمونا) * فإن الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والحق لا بد وأن يصير غالبا قاهرا، والباطل لا بد وأن يصير مغلوبا
مقهورا، ثم أعادوا قولهم: * (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) * والفائدة فيه أنهم أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله
97

* (وما لنا أن لا نتوكل على الله) * ثم لما فرغوا من أنفسهم أمروا أتباعهم بذلك وقالوا: * (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) * وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولا، ورأيت في كلام الشيخ أبي حامد الغزالي رحمه الله فصلا حسنا وحاصله: أن الإنسان إما أن يكون ناقصا أو كاملا أو خاليا عن الوصفين، أما الناقص فإما أن يكون ناقصا في ذاته ولكنه لا يسعى في تنقيص حال غيره، وإما أن يكون ناقصا ويكون مع ذلك ساعيا في تنقيص حال الغير، فالأول: هو الضال، والثاني: هو الضال المضل، وأما الكامل فإما أن يكون كاملا ولا يقدر على تكميل الغير وهم الأولياء، وإما أن يكون كاملا ويقدر على تكميل الناقصين وهم الأنبياء ولذلك قال عليه السلام: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " ولما كانت مراتب النقصان والكمال ومراتب الإكمال والإضلال غير متناهية بحسب الكمية والكيفية، لا جرم كانت مراتب الولاية والحياة غير متناهية بحسب الكمال والنقصان، فالولي هو الإنسان الكامل الذي لا يقوى على التكميل، والنبي هو الإنسان الكامل المكمل، ثم قد تكون قوته الروحانية النفسانية وافية بتكميل إنسانين ناقصين وقد تكون أقوى من ذلك فيفي بتكميل عشرة ومائة وقد تكون تلك القوة قاهرة قوية تؤثر تأثير الشمس في العالم فيقلب أرواح أكثر أهل العلم من مقام الجهل إلى مقام المعرفة ومن طلب الدنيا إلى طلب الآخرة، وذلك مثل روح محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وقت ظهوره كان العالم مملوءا من اليهود وأكثرهم كانوا مشبهة ومن النصارى وهم حلولية ومن المجوس وقبح مذاهبهم ظاهر ومن عبدة الأوثان وسخف دينهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان فلما ظهرت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم سرت قوة روحه في الأرواح فقلب أكثر أهل العالم من الشرك إلى التوحيد، ومن التجسيم إلى التنزيه، ومن الاستغراق في طلب الدنيا إلى التوجه إلى عالم الآخرة، فمن هذا المقام ينكشف للإنسان مقام النبوة والرسالة.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (وما لنا أن لا نتوكل على الله) * إشارة إلى ما كانت حاصلة لهم من كمالات نفوسهم، وقولهم في آخر الأمر، وعلى الله فليتوكل المتوكلون، إشارة إلى تأثير أرواحهم الكاملة في تكميل الأرواح الناقصة فهذه أسرار عالية مخزونة في ألفاظ القرآن، فمن نظر في علم القرآن وكان غافلا عنها كان محروما من أسرار علوم القرآن والله أعلم، وفي الآية وجه آخر وهو أن قوله: * (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * المراد منه أن الذين يطلبون سائر المعجزات وجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله تعالى لا عليها، فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها.
98

وأما قوله في آخر الآية: * (ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) * المراد منه الأمر بالتوكل على الله في دفع شر الناس الكفار وسفاهتهم، وعلى هذا التقدير فالتكرار غير حاصل لأن قوله: * (وعلى الله فليتوكل) * وارد في موضعين مختلفين بحسب مقصودين متغايرين، وقيل أيضا: الأول: ذكر لاستحداث التوكل. والثاني: للسعي في إبقائه وإدامته والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن فى ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامى وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد * من ورآئه جهنم ويسقى من مآء صديد * يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورآئه عذاب غليظ) *
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأنبياء عليهم السلام، أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته، حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا: * (لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) * والمعنى: ليكونن أحد الأمرين لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى ملتنا. والسبب فيه أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين وأهل الباطل يكونون كثيرين والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين، فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة.
فإن قيل: هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها.
قلنا: الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن أولئك الأنبياء عليهم السلام إنما نشأوا في تلك البلاد وكانوا من تلك
99

القبائل في أول الأمر ما أظهروا المخالفة مع أولئك الكفار، بل كانوا في ظاهر الأمر معهم من غير إظهار مخالفة فالقوم ظنوا لهذا السبب أنهم كانوا في أول الأمر على دينهم فلهذا السبب قالوا: * (أو لتعودن في ملتنا) *.
الوجه الثاني: أن هذا حكاية كلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين فيه فلعلهم توهموا ذلك مع أنه ما كان الأمر كما توهموه.
الوجه الثالث: لعل الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أن المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ولا بأس أن يقال: إنهم كانوا قبل ذلك لوقت على دين أولئك الكفار.
الوجه الرابع: قال صاحب " الكشاف ": العود بمعنى الصيرورة كثير في كلام العرب.
الوجه الخامس: لعل أولئك الأنبياء كانوا قبل إرسالهم على ملة من الملل، ثم إنه تعالى أوحى إليهم بنسخ تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي الأقوام على تلك الشريعة التي صارت منسوخة مصرين على سبيل الكفر، وعلى هذا التقدير فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء أن يعودوا إلى تلك الملة.
الوجه السادس: لا يبعد أن يكون المعنى: أو لتعودن في ملتنا، أي إلى ما كنتم عليه قبل ادعاء الرسالة من السكوت عن ذكر معايبة ديننا وعدم التعرض له بالطعن والقدح وعلى جميع هذه الوجوه فالسؤال زائل والله أعلم.
واعلم أن الكفار لما ذكروا هذا الكلام قال تعالى: * (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم) * قال صاحب " الكشاف ": * (لنهلكن الظالمين) * حكاية تقتضي إضمار القول أو إجراء الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه، وقرأ أبو حياة: * (ليهلكن الظالمين وليسكننكم) * بالياء اعتبارا لأوحى فإن هذا اللفظ لفظ الغيبة ونظيره قولك أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن، والمراد بالأرض * (أرض الظالمين وديارهم) * ونظيره قوله: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) * (الأعراف: 137). * (وأورثكم أرضهم وديارهم) * (الأحزاب: 27) وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " من آذى جاره أورثه الله داره " واعلم أن هذه الآية تدل على أن من توكل على ربه في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه.
ثم قال تعالى: * (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) * فقوله ذلك إشارة إلى أن ما قضى الله تعالى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أثر ذلك الأمر حق لمن خاف مقامي وفيه وجوه: الأول: المراد موقفي وهو موقف الحساب، لأن ذلك الموقف موقف الله تعالى الذي يقف فيه عباده يوم القيامة، ونظيره قوله: * (وأما من خاف مقام ربه) * (النازعات: 40) وقوله: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (الرحمن: 46)
100

الثاني: أن المقام مصدر كالقيامة، يقال: قام قياما ومقاما، قال الفراء: ذلك لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي إياه كقوله: * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) * (الرعد: 33). الثالث: * (ذلك لمن خاف مقامي) * أي إقامتي على العدل والصواب فإنه تعالى لا يقضي إلا بالحق ولا يحكم إلا بالعدل وهو تعالى مقيم على العدل لا يميل عنه ولا ينحرف البتة. الرابع: * (ذلك لمن خاف مقامي) * أي مقام العائذ عندي وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول، الخامس: * (ذلك لمن خاف مقامي) * أي لم خافني، وذكر المقام ههنا مثل ما يقال: سلام الله على المجلس الفلاني العالي والمراد: سلام الله على فلان فكذا ههنا.
ثم قال تعالى: * (وخاف وعيد) * قال الواحدي: الوعيد اسم من أوعد إيعادا وهو التهديد. قال ابن عباس: خاف ما أوعدت من العذاب.
واعلم أنه تعالى ذكر أولا قوله: * (ذلك لمن خاف مقامي) * ثم عطف عليه قوله: * (وخاف وعيد) * فهذا يقتضي أن يكون الخوف من الله تعالى مغايرا للخوف من وعيد الله، ونظيره: أن حب الله تعالى مغاير لحب ثواب الله، وهذا مقام شريف عال في أسرار الحكمة والتصديق.
ثم قال: * (واستفتحوا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: للاستفتاح ههنا معنيان: أحدهما: طلب الفتح بالنصرة، فقوله: * (واستفتحوا) * أي واستنصروا الله على أعدائهم، فهو كقوله: * (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) * (الأنفال: 19). والثاني: الفتح الحكم والقضاء، فقول ربنا: * (واستفتحوا) * أي واستحكموا وسألوه القضاء بينهم، وهو مأخوذ من الفتاحة وهي الحكومة كقوله: * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * (الأعراف: 19).
إذا عرفت هذا فنقول: كلا القولين ذكره المفسرون. أما على القول الأول فالمستفتحون هم الرسل، وذلك لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم: * (قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * (نوح: 26) وقال موسى: * (ربنا اطمس) * (يونس: 88) الآية. وقال لوط: * (رب انصرني على القوم المفسدين) * (العنكبوت: 30) وأما على القول الثالث: وهو طلب الحكمة والقضاء فالأولى أن يكون المستفتحون هم الأمم وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا، ومنه قول كفار قريش: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) * (الأنفال: 32). وكقول آخرين * (أئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) * (العنكبوت: 29).
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": قوله: * (واستفتحوا) * معطوف على قوله: * (فأوحى إليهم) * وقرئ واستفتحوا بلفظ الأمر وعطفه على قوله: * (لنهلكن) * أي أوحى إليهم ربهم، وقال لهم: * (لنهلكن) * وقال لهم * (استفتحوا) *.
101

ثم قال تعالى: * (وخاب كل جبار عنيد) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إن قلنا: المستفتحون هم الرسل، كان المعنى أن الرسل استفتحوا فنصروا وظفروا بمقصودهم وفازوا * (وخاب كل جبار عنيد) * وهم قومهم؛ وإن قلنا: المستفتحون هم الكفرة، فكان المعنى: أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل * (وخاب كل جبار عنيد) * منهم وما أفلح بسبب استفتاحه على الرسل.
المسألة الثانية: الجبار ههنا المتكبر على طاعة الله وعبادته. ومنه قوله تعالى: * (ولم يكن جبارا عصيا) * (مريم: 14) قال أبو عبيدة عن الأحمر: يقال فيه جبرية وجبروة وجبروت وجبورة، وحكى الزجاج: الجبرية والجبر بكسر الجيم والباء والنجبار والجبرياء. قال الواحدي: فهي ثمان لغات في مصدر الجبار، وفي الحديث أن امرأة حضرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أمرا فأبت عليه فقال: " دعوها فإنها جبارة " أي مستكبرة، وأما العنيد فقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقه، قال النضر بن شميل: العنود الخلاف والتباعد والترك، وقال غيره: أصله من العند وهو الناحية يقال: فلان يمشي عندا، أي ناحية، فمعنى عاند وعند. أخذ في ناحية معرضا، وعاند فلان فلانا إذا جانبه وكان منه على ناحية.
إذا عرفت هذا فنقول: كونه جبارا متكبرا إشارة إلى الخلق النفساني وكونه عنيدا إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق، وهو كونه مجانبا عن الحق منحرفا عنه، ولا شك أن الإنسان الذي يكون خلقه هو التجبر والتكبر وفعله هو العنود وهو الانحراف عن الحق والصدق، كان خائبا عن كل الخيرات خاسرا عن جميع أقسام السعادات.
واعلم أنه تعالى لما حكم عليه بالخيبة ووصفه بكونه جبارا عنيدا، وصف كيفية عذابه بأمور: الأول: قوله: * (من ورائه جهنم) * وفيه إشكال وهو أن المراد: أمامه جهنم، فكيف أطلق لفظ الوراء على القدام والأمام؟
وأجابوا عنه من وجوه: الأول: أن لفظ " وراء " اسم لما يوارى عنك، وقدام وخلف متوار عنك، فصح إطلاق لفظ " وراء " على كل واحد منهما. قال الشاعر: عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب
ويقال أيضا: الموت وراء كل أحد. الثاني: قال أبو عبيدة وابن السكيت: الوراء من الأضداد يقع على الخلف والقدام، والسبب فيه أن كل ما كان خلفا فإنه يجوز أن ينقلب قداما وبالعكس، فلا جرم جاز وقوع لفظ الوراء على القدام، ومنه قوله تعالى: * (وكان وراءهم ملك يأخذ) * (الكهف: 79) أي أمامهم،
102

ويقال: الموت من وراء الإنسان. الثاني: قال ابن الأنباري " وراء " بمعنى بعد. قال الشاعر: وليس وراء الله للمرء مذهب
أي وليس بعد الله مذهب.
إذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى حكم عليه بالخيبة في قوله: * (وخاب كل جبار عنيد) *.
ثم قال: * (ومن ورائه جهنم) * أي ومن بعده الخيبة يدخل جهنم.
النوع الثاني: مما ذكره الله تعالى من أحوال هذا الكافر قوله: * (ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه) * وفيه سؤالات:
السؤال الأول: علام عطف * (ويسقى) *.
الجواب: على محذوف تقديره: من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى من ماء صديد.
السؤال الثاني: عذاب أهل النار من وجوه كثيرة، فلم خص هذه الحالة بالذكر؟
الجواب: يشبه أن تكون هذه الحالة أشد أنواع العذاب فخصص بالذكر مع قوله: * (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) *.
السؤال الثالث: ما وجه قوله: * (من ماء صديد) *.
الجواب: أنه عطف بيان والتقدير: أنه لما قال: * (ويسقى من ماء) * فكأنه قيل: وما ذلك الماء فقال: * (صديد) * والصديد ما يسيل جلود أهل النار. وقيل: التقدير ويسقى من ماء كالصديد. وذلك بأن يخلق الله تعالى في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة، وهو أيضا يكون في نفسه صديدا، لأن كراهته تصد عن تناوله وهو كقوله: * (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم) * (محمد: 15). * (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب) * (الكهف: 29).
السؤال الرابع: ما معنى يتجرعه ولا يكاد يسيغه.
الجواب: التجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار، ويقال: ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا وأساغه إساغة. واعلم أن (يكاد) فيه قولان:
القول الأول: أن نفيه إثبات، وإثباته نفي، فقوله: * (ولا يكاد يسيغه) * أي ويسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول: ما كدت أقوم، أي قمت بعد إبطاء قال تعالى: * (فذبحوها وما كادوا يفعلون) * (البقرة: 7) يعني فعلوا بعد إبطاء، والدليل على حصول الإساغة قوله تعالى: * (يصهر به ما في بطونهم والجلود) * (الحج: 20) ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة، وأيضا فإن قوله: * (يتجرعه) * يدل على أنهم أساغوا الشيء بعد الشيء فكيف يصح أن يقال بعده إنه يسيغه البتة.
103

والقول الثاني: أن كاد للمقاربة فقول: * (لا يكاد) * لنفي المقاربة يعني: ولم يقارب أن يسيغه فكيف يحصل الإساغة كقوله تعالى: * (لم يكد يراها) * (النور: 40) أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها.
فإن قيل: فقد ذكرتم الدليل على حصول الإساغة، فكيف الجمع بينه وبين هذا الوجه.
قلنا عنه جوابان: أحدهما: أن المعنى: لا يسيغ جميعه كأنه يجرع البعض وما ساغ الجميع. الثاني: أن الدليل الذي ذكرتم إنما دل على وصول بعض ذلك الشراب إلى جوف الكافر، إلا أن ذلك ليس بإساغة، لأن الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق بقبول النفس واستطابة المشروب والكافر يتجرع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه، أي لا يستطيبه ولا يشربه شربا بمرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة والله أعلم.
النوع الثالث: مما ذكره الله تعالى في وعيد هذا الكافر قوله: * (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) * (إبراهيم: 17) والمعنى: أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات، ومع ذلك فإنه لا يموت وقيل من كل جزء من أجزاء جسده.
النوع الرابع: قوله: * (ومن ورائه عذاب غليظ) * وفيه وجهان: الأول: أن المراد من العذاب الغليظ كونه دائما غير منقطع. الثاني: أنه في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشد مما قبله. قال المفضل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد، والله أعلم.
* (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شىء ذلك هو الضلال البعيد * ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع عذابهم في الآية المتقدمة بين في هذه الآية أن أعمالهم بأسرها تصير ضائعة باطلة لا ينتفعون بشيء منها وعند هذا يظهر كمال خسرانهم لأنهم لا يجدون في القيامة
104

إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعا باطلا، وذلك هو الخسران الشديد. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في ارتفاع قوله: * (مثل الذين) * وجوه: الأول: قال سيبويه: التقدير: وفيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، أو مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم، وقوله: * (كرماد) * جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم فقيل: أعمالهم كرماد. الثاني: قال الفراء: التقدير مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد
فحذف المضاف اعتمادا على ذكره بعد المضاف إليه وهو قوله: * (أعمالهم) * ومثله قوله تعالى: * (الذي أحسن كل شيء خلقه) * (السجدة: 7) أي خلق كل شيء، وكذا قوله: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) * (الزمر: 60) المعنى ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة. الثالث: أن يكون التقدير صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك صفة زيد عرضه مصون، وماله مبذول. الرابع: أن تكون أعمالهم بدلا من قوله: * (مثل الذين كفروا) * والتقدير: مثل أعمالهم وقوله: * (كرماد) * هو الخبر. الخامس: أن يكون المثل صلة وتقديره: الذين كفروا أعمالهم.
المسألة الثانية: اعلم أن وجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال، هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ولا خبر، فكذا ههنا أن كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لم يبق من تلك الأعمال معهم خبر ولا أثر، ثم اختلفوا في المراد بهذه الأعمال على وجوه:
الوجه الأول: أن المراد منها ما عملوه من أعمال البر كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين وإطعام الجائع، وذلك لأنها تصير محبطة باطلة بسبب كفرهم، ولولا كفرهم لانتفعوا بها. والوجه الثاني: أن المراد من تلك الأعمال عبادتهم للأصنام وما تكلفوه من كفرهم الذي ظنوه إيمانا وطريقا إلى الخلاص، والوجه في خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالا عليهم.
والوجه الثالث: أن المراد من هذه الأعمال كلا القسمين، لأنهم إذا رأوا الأعمال التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت، والأعمال التي ظنوها خيرات وأفنوا فيها أعمارهم قد بطلت أيضا وصارت من أعظم الموجبات لعذابهم فلا شك أنه تعظم حسرتهم وندامتهم فلذلك قال تعالى: * (وذلك هو الضلال البعيد) *.
المسألة الثالثة: قرىء الرياح في يوم عاصف جعل العصف لليوم، وهو لما فيه وهو الريح أو الرياح كقولك: يوم ماطر وليلة ساكرة، وإنما السكور لريحها قال الفراء: وإن شئت قلت
105

في يوم ذي عصوف، وإن شئت قلت: في يوم عاصف الريح فحذف ذكر الريح لكونه مذكورا قبل ذلك، وقرئ في يوم عاصف بالإضافة.
المسألة الرابعة: قوله: * (لا يقدرون مما كسبوا على شيء) * أي لا يقدرون مما كسبوا على شيء منتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة وذلك لأنه ضاع بالكلية وفسد، وهذه الآية دالة على كون العبد مكتسبا لأفعاله.
واعلم أنه تعالى لما تمم هذا المثال قال: * (ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: وجه النظم أنه تعالى لما بين أن أعمالهم تصير باطلة ضائعة، بين أن ذلك البطلان والإحباط إنما جاء بسبب صدر منهم وهو كفرهم بالله وإعراضهم عن العبودية فإن الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداء، وكيف يليق بحكمته أن يفعل ذلك وأنه تعالى ما خلق كل هذا العالم إلا لداعية الحكمة والصواب.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي: * (خالق السماوات والأرض) * على اسم الفاعل على أنه خبر أن والسماوات والأرض على الإضافة كقوله: * (فاطر السماوات والأرض) * (إبراهيم: 10). * (فالق الإصباح) * (الأنعام: 95). و * (جعل الليل سكنا) * (الأنعام: 96) والباقون خلق على فعل الماضي: * (والسماوات والأرض) * بالنصب لأنه مفعول.
المسألة الثالثة: قوله: * (بالحق) * نظير لقوله في سورة يونس: * (وما خلق الله ذلك إلا بالحق) * (يونس: 5) ولقوله في آل عمران: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا) * (آل عمران: 191) ولقوله في ص: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) * (ص: 27) أما أهل السنة فيقولون إلا بالحق وهو دلالتهما على وجود الصانع وعلمه وقدرته، وأما المعتزلة فيقولون: إلا بالحق، أي لم يخلق ذلك عبثا بل لغرض صحيح.
ثم قال تعالى: * (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) * والمعنى: أن من كان قادرا على خلق السماوات والأرض بالحق، فبأن يقدر على إفناء قوم وإماتتهم وعلى إيجاد آخرين وإحيائهم كان أولى، لأن القادر على الأصعب الأعظم بأن يكون قادرا على الأسهل الأضعف أولى. قال ابن عباس: هذا الخطاب مع كفار مكة، يريد أميتكم يا معشر الكفار، وأخلق قوما خيرا منكم وأطوع منكم.
ثم قال: * (وما ذلك على الله بعزيز) * أي ممتنع لما ذكرنا أن القادر على إفناء كل العالم وإيجاده بأن يكون قادرا على إفناء أشخاص مخصوصين وإيجاده أمثالهم أولى وأحرى، والله أعلم.
106

قوله تعالى
* (وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شىء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر أصناف عذاب هؤلاء الكفار ثم ذكر عقيبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة، ذكر في هذه الآية كيفية خجالتهم عند تمسك أتباعهم وكيفية افتضاحهم عندهم. وهذا إشارة إلى العذاب الروحاني الحاصل بسبب الفضيحة والخجالة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: برز معناه في اللغة ظهر بعد الخفاء. ومنه يقال للمكان الواسع: البراز لظهوره، وقيل في قوله: * (وترى الأرض بارزة) * (الكهف: 47) أي ظاهرة لا يسترها شيء، وامرأة برزة إذا كانت تظهر للناس. ويقال: برز فلان على أقرانه إذا فاقهم وسبقهم، وأصله في الخيل إذا سبق أحدها. قيل: برز عليها كأنه خرج من غمارها فظهر.
إذا عرفت هذا فنقول: ههنا أبحاث:
البحث الأول: قوله: * (وبرزوا) * ورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال، لأن كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدق وحق، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود ونظيره قوله: * (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) * (الأعراف: 50).
البحث الثاني: قد ذكرنا أن البروز في اللغة عبارة عن الظهور بعد الاستتار وهذا في حق الله تعالى محال، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجوه: الأول: أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله تعالى، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية. الثاني: أنهم خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه. الثالث: وهو تأويل الحكماء أن النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء والوطاء وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله.
107

البحث الثالث: قال أبو بكر الأصم قوله: * (وبرزوا لله) * هو المراد من قوله في الآية السابقة: * (ومن ورائه عذاب غليظ) * (إبراهيم: 17).
واعلم أن قوله: * (وبرزوا لله) * قريب من قوله: * (يوم تبلى السرائر * فما له من قوة ولا ناصر) * (الطارق: 9، 10) وذلك لأن البواطن تظهر في ذلك اليوم والأحوال الكامنة تنكشف فإن كانوا من السعداء برزوا للحاكم الحكيم بصفاتهم القدسية، وأحوالهم العلوية، ووجوههم المشرقة، وأرواحهم الصافية المستنيرة فيتجلى لها نور الجلال؛ ويعظم فيها إشراق عالم القدس، فما أجل تلك الأحوال وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف العظمة، ومنازل الكبرياء ذليلين مهينين خاضعين خاشعين واقعين في خزي الخجالة، ومذلة الفضيحة، وموقف المهانة والفزع، نعوذ بالله منها. ثم حكى الله تعالى أن الضعفاء يقولون للرؤساء: هل تقدرون على دفع عذاب الله عنا؟ والمعنى: أنه إنما اتبعناكم لهذا اليوم، ثم إن الرؤساء يعترفون بالخزي والعجز والذل. قالوا: * (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص) * ومن المعلوم أن اعتراف الرؤساء والسادة والمتبوعين بمثل هذا العجز والخزي والنكال يوجب الخجالة العظيمة والخزي الكامل التام، فكان المقصود من ذكر هذه الآية: استيلاء عذاب الفضيحة والخجالة والخزي عليهم مع ما تقدم ذكره من سائر وجوه أنواع العذاب والعقاب نعوذ بالله منها. والله أعلم.
المسألة الثانية: كتبوا الضعفاء بواو قبل الهمزة في بعض المصاحف، والسبب فيه أنه كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو، ونظيره علماء بني إسرائيل.
المسألة الثالثة: الضعفاء الأتباع والعوام، والذين استكبروا هم السادة والكبراء. قال ابن عباس: المراد أكابرهم الذين استكبروا عن عبادة الله تعالى: * (إنا كنا لكم تبعا) * أي في الدنيا. قال الفراء وأكثر أهل اللغة: التبع تابع مثل خادم وخدم وباقر وبقر وحارس وحرس وراصد ورصد قال الزجاج: وجائز أن يكون مصدرا سمي به، أي كنا ذوي تبع.
واعلم أن هذه التبعية يحتمل أن يقال: المراد منها التبعية في الكفر، ويحتمل أن يكون المراد منها التبعية في أحوال الدنيا: * (فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء) * أي هل يمكنكم دفع عذاب الله عنا.
فإن قيل: فما الفرق بين من في قوله: * (من عذاب الله) * وبينه في قوله: * (من شيء) *.
قلنا: كلاهما للتبعيض بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو عذاب الله أي بعض عذاب الله وعند هذا حكى الله تعالى عن الذين استكبروا أنهم قالوا: * (لو هدانا الله لهديناكم) * وفيه وجوه
108

الأول: قال ابن عباس: معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم، قال الواحدي: معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال، لأن الله تعالى أضلهم ولم يهدهم فدعوا أتباعهم إلى الضلال ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى قال صاحب " الكشاف ": لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين: * (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم) * (المجادلة: 18).
واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب عن أهل القيامة فكان هذا القول منه مخالفا لأصول مشايخه فلا يقبل منه، الثاني: قال صاحب " الكشاف ": يجوز أن يكون المعنى لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال: لا يجوز حمل هذا على اللطف، لأن ذلك قد فعله الله تعالى. والثالث: أن يكون المعنى لو خلصنا الله من العقاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم، والدليل على أن المراد من الهدى هذا الذي ذكرناه أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه فوجب أن يكون المراد من الهداية هذا المعنى.
ثم قال: * (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا) * أي مستو علينا الجزع والصبر والهمزة وأم للتسوية ونظيره: * (اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم) * (الطور: 16) ثم قالوا: ما لنا من محيص، أي منجي ومهرب، والمحيص قد يكون مصدرا كالمغيب والمشيب، ومكانا كالمبيت والمضيق، ويقال حاص عنه وحاض بمعنى واحد، والله أعلم.
* (وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخى إنى كفرت بمآ أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع من كفرة الإنس، أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه من الإنس فقال تعالى: * (وقال الشيطان لما قضى الأمر) * وفي المراد بقوله: * (لما قضى الأمر) * وجوه:
109

القول الأول: قال المفسرون: إذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه فيقوم في النار فيما بينهم خطيبا ويقول ما
أخبر الله عنه بقوله: * (وقال الشيطان لما قضى الأمر) *.
القول الثاني: أن المراد من قوله: * (قضى الأمر) * لما انقضت المحاسبة، والقول الأول أولى، لأن آخر أمر أهل القيامة استقرار المطيعين في الجنة واستقرار الكافرين في النار، ثم يدوم الأمر بعد ذلك.
والقول الثالث: وهو أن مذهبنا أن الفساق من أهل الصلاة يخرجون من النار ويدخلون الجنة فلا يبعد أن يكون المراد من قوله: * (لما قضي الأمر) * ذلك الوقت، لأن في ذلك الوقت تنقطع الأحوال المعتبرة، ولا يحصل بعده إلا دوام ما حصل فيه قبل ذلك، وأما الشيطان فالمراد به إبليس لأن لفظ الشيطان لفظ مفرد فيتناول الواحد وإبليس رأس الشياطين ورئيسهم، فحمل اللفظ عليه أولى، لا سيما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافر قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول ".
أما قوله: * (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) * ففيه مباحث:
البحث الأول: المراد أن الله تعالى وعدكم وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم، وتقرير الكلام أن النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية ولا تتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها ويرغب فيها كما قال: * (والآخرة خير وأبقى) * (الأعلى: 17).
البحث الثاني: قوله: * (وعد الحق) * من باب إضافة الشيء إلى نفسه كقوله: * (حب الحصيد) * (ق: 9) ومسجد الجامع على قول الكوفيين، والمعنى: وعدكم الوعد الحق، وعلى مذهب البصريين يكون التقدير وعد اليوم الحق أو الأمر الحق أو يكون التقدير وعدكم الحق. ثم ذكر المصدر تأكيدا.
البحث الثالث: في الآية إضمار من وجهين: الأول: أن التقدير إن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد، لأنهم كانوا يشاهدونها وليس وراء العيان بيان ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى. الثاني: أن في قوله: * (ووعدتكم فأخلفتكم) * الوعد يقتضي مفعولا ثانيا وحذف ههنا للعلم به، والتقدير: ووعدتكم أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب.
أما قوله: * (وما كان لي عليكم من سلطان) * أي قدرة ومكنة وتسلط وقهر فاقهركم على الكفر
110

والمعاصي وألجئكم إليها، إلا أن دعوتكم أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني قال النحويون: ليس الدعاء من جنس السلطان فقوله: * (إلا أن دعوتكم) * من جنس قولهم ما تحيتهم إلا الضرب، وقال الواحدي: إنه استثناء منقطع، أي لكن دعوتكم وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة " إلا " ههنا استثناء حقيقي، لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة يكون بالقهر والقسر، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه، فهذا نوع من أنواع التسلط، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وجوارحه، وعلى إزالة العقل عنه كما يقوله العوام والحشوية، ثم قال: * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * يعني ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة، وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله تعالى فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إلي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب. وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أشياء: الأول: أنه لو كان الكفر والمعصية من الله لوجب أن يقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه. الثاني: ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وعلى إزالة العقل عنه كما تقول الحشوية والعوام. الثالث: أن هذه الآية تدل على أن الإنسان لا يجوز ذمه ولومه وعقابه بسبب فعل الغير، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم.
أجاب بعض الأصحاب عن هذه الوجوه بأن هذا قول الشيطان فلا يجوز التمسك به.
وأجاب الخصم عنه: بأنه لو كان هذا القول منه باطلا لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره، وأيضا فلا فائدة في ذلك اليوم في ذكر هذا الكلام الباطل والقول الفاسد. ألا ترى أن قوله: * (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) * كلام حق وقوله: * (وما كان لي عليكم من سلطان) * قول حق بدليل قوله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) * (الحجر: 42).
المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أن الشيطان الأصلي هو النفس، وذلك لأن الشيطان بين أنه ما أتى إلا بالوسوسة، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال لم يكن لوسوسته تأثير البتة، فدل هذا على أن الشيطان الأصلي هو النفس.
فإن قال قائل: بينوا لنا حقيقة الوسوسة.
قلنا: الفعل إنما يصدر عن الإنسان عند حصول أمور أربعة يترتب بعضها على البعض ترتيبا
111

لازما طبيعيا وبيانه أن أعضاء الإنسان بحكم السلامة الأصلية والصلاحية الطبيعية صالحة للفعل والترك، والإقدام والإحجام، فما لم يحصل في القلب ميل إلى ترجيح الفعل على الترك أو بالعكس فإنه يمتنع صدور الفعل، وذلك الميل هو الإرادة الجازمة، والقصد الجازم. ثم إن تلك الإرادة الجازمة لا تحصل إلا عند حصول علم أو اعتقاد أو ظن بأن ذلك الفعل سبب للنفع أو سبب للضرر فإن لم يحصل فيه هذا الإعتقاد لم يحصل الميل لا إلى الفعل ولا إلى الترك، فالحاصل أن الإنسان إذا أحس بشيء ترتب عليه شعوره بكونه ملائما له أو بكونه منافرا له أو بكونه غير ملائم ولا منافر، فإن حصل الشعور بكونه ملائما له ترتب عليه الميل الجازم إلى الفعل وإن حصل الشعور بكونه منافرا له ترتب عليه الميل الجازم إلى الترك، وإن لم يحصل لا هذا ولا ذاك لم يحصل الميل لا إلى ذلك الشيء ولا إلى ضده، بل بقي الإنسان كما
كان، وعند حصول ذلك الميل الجازم تصير القدرة مع ذلك الميل موجبة للفعل.
إذا عرفت هذا فنقول: صدور الفعل عن مجموع القدرة والداعي الحاصل أمر واجب فلا يكون للشيطان مدخل فيه وصدور الميل عن تصور كونه خيرا أو تصور كونه شرا أمر واجب فلا يكون للشيطان فيه مدخل وحصول كونه خيرا أو تصورا كونه شرا عن مطلق الشعور بذاته أمر لازم فلا مدخل للشيطان فيه، فلم يبق للشيطان مدخل في شيء من هذه المقامات إلا في أن يذكره شيئا بأن يلقي إليه حديثه مثل أن الإنسان كان غافلا عن صورة امرأة فيلقي الشيطان حديثها في خاطره فالشيطان لا قدرة له إلا في هذا المقام، وهو عين ما حكى الله تعالى عنه أنه قال: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني) * يعني ما كان مني إلا مجرد هذه الدعوة فأما بقية المراتب فما صدرت مني وما كان لي فيها أثر البتة. بقي في هذا المقام سؤالان:
السؤال الأول: كيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه.
والجواب: للناس في الملائكة والشياطين قولان:
القول الأول: أن ما سوى الله بحسب القسمة العقلية على أقسام ثلاثة: المتحيز، والحال في المتحيز، والذي لا يكون متحيزا ولا حالا فيه، وهذا القسم الثالث لم يقم الدليل البتة على فساد القول به بل الدلائل الكثيرة قامت على صحة القول به، وهذا هو المسمى بالأرواح فهذه الأرواح إن كانت طاهرة مقدسة من عالم الروحانيات القدسية فهم الملائكة وإن كانت خبيثة داعية إلى الشرور وعالم الأجساد ومنازل الظلمات فهم الشياطين.
112

إذا عرفت هذا فنقول: فعلى هذا التقدير الشيطان لا يكون جسما يحتاج إلى الولوج في داخل البدن بل هو جوهر روحاني خبيث الفعل مجبول على الشر، والنفس الإنسانية أيضا كذلك فلا يبعد على هذا التقدير في أن يلقى شيء من تلك الأرواح أنواعا من الوساوس والأباطيل إلى جوهر النفس الإنسانية، وذكر بعض العلماء في هذا الباب احتمالا ثانيا، وهو أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالنوع، فهي طوائف، وكل طائفة منها في تدبير روح من الأرواح السماوية بعينها، فنوع من النفوس البشرية تكون حسنة الأخلاق كريمة الأفعال موصوفة بالفرح والبشر وسهولة الأمر، وهي تكون منتسبة إلى روح معين من الأرواح السماوية، وطائفة أخرى منها تكون موصوفة بالحدة والقوة والغلظة، وعدم المبالاة بأمر من الأمور، وهي تكون منتسبة إلى روح آخر من الأرواح السماوية وهذه الأرواح البشرية كالأولاد لذلك الروح السماوي وكالنتائج الحاصلة، وكالفروع المتفرعة عليها، وذلك الروح السماوي هو الذي يتولى إرشادها إلى مصالحها، وهو الذي يخصها بالإلهامات حالتي النوم واليقظة. والقدماء كانوا يسمون ذلك الروح السماوي بالطباع التام ولا شك أن لذلك الروح السماوي الذي هو الأصل والينبوع شعبا كثيرة ونتائج كثيرة وهي بأسرها تكون من جنس روح هذا الإنسان وهي لأجل مشاكلتها ومجانستها يعين بعضها بعضا على الأعمال اللائقة بها والأفعال المناسبة لطبائعها، ثم إنها إن كانت خيرة طاهرة طيبة كانت ملائكة وكانت تلك الإعانة مسماة بالإلهام. وإن كانت شريرة خبيثة قبيحة الأعمال كانت شياطين وكانت تلك الإعانة مسماة بالوسوسة، وذكر بعض العلماء أيضا فيه احتمالا ثالثا، وهو أن النفوس البشرية والأرواح الإنسانية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق بسبب المشاكلة الحاصلة بين هذا البدن وبين ما كان بدنا لتلك النفس المفارقة، فيصير لتلك النفس المفارقة تعلق شديد بهذا البدن وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن، ومعاضدة لها على أفعالها وأحوالها بسبب هذه المشاكلة ثم إن كان هذا المعنى في أبواب الخير والبركات كان ذلك إلهاما وإن كان في باب الشر كان وسوسة فهذه وجوه محتملة تفريعا على القول بإثبات جواهر قدسية مبرأة عن الجسمية والتحيز، والقول بالأرواح الطاهرة والخبيثة كلام مشهور عند قدماء الفلاسفة فليس لهم أن ينكروا إثباتها على صاحب شريعتنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأما القول الثاني: وهو أن الملائكة والشياطين لا بد وأن تكون أجساما فنقول: إن على
113

هذا التقدير يمتنع أن يقال إنها أجسام كثيفة، بل لا بد من القول بأنها أجسام لطيفة والله سبحانه ركبها تركيبا عجيبا وهي أن تكون مع لطافتها لا تقبل التفرق والتمزق والفساد والبطلان ونفوذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة غير مستبعد ألا ترى أن الروح الإنسانية جسم لطيف، ثم إنه نفذ في داخل عمق البدن فإذا عقل ذلك فكيف يستبعد نفوذ أنواع كثيرة من الأجسام اللطيفة في داخل هذا البدن، أليس أن جرم النار يسري في جرم الفحم، وماء الورد يسري في ورق الورد، ودهن السمسم يجري في جسم السمسم فكذا ههنا، فظهر بما قررنا أن القول بإثبات الجن والشياطين أمر لا تحيله العقول ولا تبطله الدلائل، وأن الإصرار على الإنكار ليس إلا من نتيجة الجهل وقلة الفطنة، ولما ثبت أن القول بالشياطين ممكن في الجملة فنقول: الأحق والأولى أن يقال: الملائكة على هذا القول مخلوقون من النور، والشياطين مخلوقون من الدخان واللهب، كما قال الله تعالى: * (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) * (الحجر: 27) وهذا الكلام من المشهورات عند قدماء الفلاسفة، فكيف يليق بالعاقل أن يستبعده من صاحب شريعتنا محمد صلى الله عليه وسلم.
السؤال الثاني: لم قال الشيطان: * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * وهو أيضا ملوم بسبب اقدامه على تلك الوسوسة الباطلة.
والجواب: أراد بذلك فلا تلوموني على ما فعلتم ولوموا أنفسكم عليه، لأنكم عدلتم عما توجبه هداية الله تعالى لكم. ثم قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال: * (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: بمغيثكم ولا منقذكم، قال ابن الأعرابي: الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث. يقال: صرخ فلان إذا استغاث وقال: وا غوثاه وأصرخته أغثته.
المسألة الثانية: قرأ حمزة: بمصرخي بكسر الياء. قال الواحدي: وهي قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب. قال الفراء: ولعلها من وهم القراء فإنه قل من سلم منهم عن
الوهم ولعله ظن أن الباء في قوله * (بمصرخي) * خافضة لجملة هذه الكلمة وهذا خطأ لأن الياء من المتكلم خارجة من ذلك قال، ومما نرى أنهم وهموا فيه قوله: * (نوله ما تولى ونصله جهنم) * (النساء: 115) بجزم الهاء ظنوا والله أعلم أن الجزم في الهاء وهو خطأ، لأن الهاء في موضع نصب وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه، ومن النحويين من تكلف في ذكر وجه لصحته إلا أن الأكثرين قالوا إنه لحن والله أعلم.
ثم قال تعالى حكاية عنه: * (إني كفرت بما أشركتموني من قبل) * وفيه مسائل:
114

المسألة الأولى: " ما " في قوله: * (إني كفرت بما أشركتموني من قبل) * فيه قولان: الأول: إنها مصدرية والمعنى: كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة، والمعنى: أنه جحد ما كان يعتقده أولئك الأتباع من كون إبليس شريكا لله تعالى في تدبير هذا العالم وكفر به، أو يكون المعنى أنهم كانوا يطيعون الشيطان في أعمال الشر كما كانوا قد يطيعون الله في أعمال الخير وهذا هو المراد بالإشراك. والثاني: وهو قول الفراء أن المعنى أن إبليس قال: إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم، والمعنى: أنه كان كفره قبل كفر أولئك الأتباع ويكون المراد بقوله: (ما) في هذا الموضع " من " والقول هو الأول، لأن الكلام إنما ينتظم بالتفسير الأول، ويمكن أن يقال أيضا الكلام منتظم على التفسير الثاني، والتقدير كأنه يقول: لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة، وعلى هذا التقدير ينتظم الكلام.
أما قوله: * (إن الظالمين لهم عذاب أليم) * فالأظهر أنه كلام الله عز وجل وأن كلام إبليس تم قبل هذا الكلام، ولا يبعد أيضا أن يكون ذلك من بقية كلام إبليس قطعا لأطماع أولئك الكفار عن الإعانة والإغاثة، والله أعلم.
* (وأدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام) *
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح أحوال الأشقياء من الوجوه الكثيرة، شرح أحوال السعداء، وقد عرفت أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى: * (وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) * وكونها دائمة أشير إليه بقوله: * (خالدين فيها) * والتعظيم حصل من وجهين: أحدهما: أن تلك المنافع إنما حصلت بإذن الله تعالى وأمره. والثاني: قوله: * (تحيتهم فيها سلام) * لأن بعضهم يحيي بعضا بهذه الكلمة، والملائكة يحيونهم بها كما قال: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام
115

عليكم) * (الرعد: 23) والرب الرحيم يحييهم أيضا بهذه الكلمة كما قال: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58).
واعلم أن السلام مشتق من السلامة وإلا ظهر أن المراد أنهم سلموا من آفات الدنيا وحسراتها أو فنون آلامها وأسقامها، وأنواع غمومها وهمومها، وما أصدق ما قالوا، فإن السلامة من محن عالم الأجسام الكائنة الفاسدة من أعظم النعم، لا سيما إذا حصل بعد الخلاص منها الفوز بالبهجة الروحانية والسعادة الملكية.
المسألة الثانية: قرأ الحسن: * (وأدخل الذين آمنوا) * على معنى وأدخلهم أنا، وعلى هذه القراءة فقوله: * (بإذن ربهم) * متعلق بما بعده، أي تحيتهم فيها سلام بإذن ربهم. يعني: أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم.
* (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السمآء * تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار) *
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال الأشقياء وأحوال السعداء، ذكر مثالا يبين الحال في حكم هذين القسمين، وهو هذا المثل. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى ذكر شجرة موصوفة بصفات أربعة ثم شبه الكلمة الطيبة بها.
فالصفة الأولى: لتلك الشجرة كونها طيبة، وذلك يحتمل أمورا. أحدها: كونها طيبة المنظر والصورة والشكل. وثانيها: كونها طيبة الرائحة. وثالثها: كونها طيبة الثمرة يعني أن الفواكه المتولدة منها تكون لذيذة مستطابة. ورابعها: كونها طيبة بحسب المنفعة يعني أنها كما يستلذ بأكلها فكذلك يعظم الانتفاع بها، ويجب حمل قوله: شجرة طيبة، على مجموع هذه الوجوه لأن اجتماعها يحصل كمال الطيب.
116

والصفة الثانية؛ قوله: * (أصلها ثابت) * أي راسخ باق آمن الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء وذلك لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الانقراض والانقضاء، فهو وإن كان يحصل الفرح بسبب وجدانه إلا أنه يعظم الحزن بسبب الخوف من زواله وانقضائه، أما إذا علم من حاله أنه باق دائم لا يزول ولا ينقضي فإنه يعظم الفرح بوجدانه ويكمل السرور بسبب الفوز به.
والصفة الثالثة: قوله: * (وفرعها في السماء) * وهذا الوصف يدل على كمال حال تلك الشجرة من وجهين: الأول: أن ارتفاع الأغصان وقوتها في التصاعد يدل على ثبات الأصل ورسوخ العروق. والثاني: أنها متى كانت متصاعدة مرتفعة كانت بعيدة عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمراتها نقية ظاهرة طيبة عن جميع الشوائب.
والصفة الرابعة: قوله: * (تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها) * والمراد: أن الشجرة المذكورة كانت موصوفة بهذه الصفة، وهي أن ثمرتها لا بد أن تكون حاضرة دائمة في كل الأوقات، ولا تكون مثل الأشجار التي يكون ثمارها حاضرا في بعض الأوقات دون بعض، فهذا شرح هذه الشجرة التي ذكرها الله تعالى في هذا الكتاب الكريم ومن المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة، وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها وتملكها فإنه لا يجوز له أن يتغافل عنها
وأن يتساهل في الفوز بها.
إذا عرفت هذا فنقول: معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وفي خدمته وطاعته، تشبه هذه الشجرة في هذه الصفات الأربع.
أما الصفة الأولى: وهي كونها طيبة فهي حاصلة، بل نقول: لا طيب ولا لذيذ في الحقيقة إلا هذه المعرفة وذلك لأن اللذة الحاصلة بتناول الفاكهة المعينة إنما حصلت، لأن إدراك تلك الفاكهة أمر ملائم لمزاج البدن، فلأجل حصول تلك الملاءمة والمناسبة حصلت تلك اللذة العظيمة وههنا الملائم لجوهر النفس النطقية والروح القدسية، ليس إلا معرفة الله تعالى ومحبته والاستغراق في الابتهاج به فوجب أن تكون هذه المعرفة لذيذة جدا، بل نقول: اللذة الحاصلة من إدراك الفاكهة يجب أن تكون أقل حالا من اللذة الحاصلة بسبب إشراق جوهر النفس بمعرفة الله وبيان هذا التفاوت من وجوه:
الوجه الأول: أن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة بسبب أن سطح الحاس يلاقي سطح المحسوس فقط، فأما أن يقال إن جوهر المحسوس نفذ في جوهر الحاس فليس الأمر كذلك، لأن الأجسام يمتنع تداخلها أما ههنا فمعرفة الله تعالى وذلك النور وذلك الإشراق صار ساريا في جوهر
117

النفس متحدا به وكأن النفس عند حصول ذلك الإشراق تصير غير النفس التي كانت قبل حصول ذلك الإشراق فهذا فرق عظيم بين البابين.
والوجه الثاني: في الفرق أن في الالتذاذ بالفاكهة المدرك هو القوة الذائقة، والمحسوس هو الطعم المخصوص وههنا المدرك هو جوهر النفس القدسية، والمعلوم والمشعور به هو ذات الحق جل جلاله، وصفات جلاله وإكرامه، فوجب أن تكون نسبة إحدى اللذتين إلى الأخرى كنسبة أحد المدركين إلى الآخر.
الوجه الثالث: في الفرق أن اللذات الحاصلة بتناول الفاكهة الطيبة كلما حصلت زالت في الحال، لأنها كيفية سريعة الاستحالة شديدة التغير، أما كمال الحق وجلاله فإنه ممتنع التغير والتبدل واستعداد جوهر النفس لقبول تلك السعادة أيضا ممتنع التغير، فظهر الفرق العظيم من هذا الوجه.
واعلم أن الفرق بين النوعين يقرب أن يكون من وجوه غير متناهية فليكتف بهذه الوجوه الثلاثة تنبيها للعقل السليم على سائرها. وأما الصفة الثانية وهي كون هذه الشجرة ثابتة الأصل، فهذه الصفة في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل، وذلك لأن عروق هذه الشجرة راسخة في جوهر النفس القدسية، وهذا الجوهر جوهر مجرد عن الكون والفساد بعيد عن التغير والفناء، وأيضا مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلي جلال الله تعالى، وهذا التجلي من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور، وذلك مما يمتنع عقلا زواله لأنه سبحانه واجب الوجود لذاته، وواجب الوجود في جميع صفاته والتغير والفناء والتبدل والزوال والبخل والمنع محال في حقه، فثبت أن الشجرة الموصوفة بكونها ثابتة الأصل ليست إلا هذه الشجرة.
الصفة الثالثة: لهذه الشجرة كونها بحيث يكون فرعها في السماء.
واعلم أن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الإلهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني.
وأما النوع الأول: فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام: " التعظيم لأمر الله " ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفة الله تعالى في عالم الأرواح، وفي عالم الأجسام، وفي أحوال عالم الأفلاك والكواكب، وفي أحوال العالم السفلي، ويدخل فيه محبة الله تعالى والشوق إلى الله تعالى والمواظبة على ذكر الله تعالى والاعتماد بالكلية على الله تعالى، والانقطاع بالكلية عما سوى الله تعالى والاستقصاء في ذكر هذه الأقسام غير مطموع فيه لأنها أحوال غير متناهية.
وأما النوع الثاني: فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام: " والشفقة على خلق الله "
118

ويدخل فيه الرحمة والرأفة والصفح والتجاوز عن الذنوب، والسعي في إيصال الخير إليهم، ودفع الشر عنهم، ومقابلة الإساءة بالإحسان. وهذه الأقسام أيضا غير متناهية وهي فروع ثابتة من شجرة معرفة الله تعالى فإن الإنسان كلما كان أكثر توغلا في معرفة الله تعالى كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى وأفضل.
وأما الصفة الرابعة: فهي قوله تعالى: * (تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها) * فهذه الشجرة أولى بهذه الصفة من الأشجار الجسمانية، لأن شجرة المعرفة موجبة لهذه الأحوال ومؤثرة في حصولها والسبب لا ينفك عن المسبب فأثر رسوخ شجرة المعرفة في أرض القلب أن يكون نظر بالعبرة كما قال: * (فاعتبروا يا أولى الأبصار) * (الحشر: 2) وأن يكون سماعه بالحكمة كما قال: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * (الزمر: 18) ونطقه بالصدق والصواب كما قال: * (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) * (النساء: 135) وقال عليه السلام: " قولوا الحق ولو على أنفسكم " وهذا الإنسان كلما كان رسوخ شجرة المعرفة في أرض قلبه أقوى وأكمل، كان ظهور هذه الآثار عنده أكثر، وربما توغل في هذا الباب فيصير بحيث كلما لاحظ شيئا لاحظ الحق فيه، وربما عظم ترقيه فيه فيصير لا يرى شيئا إلا وقد كان قد رأى الله تعالى قبله. فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى: * (تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها) * وأيضا فما ذكرناه إشارة إلى الإلهامات النفسانية والملكات الروحانية التي تحصل في جواهر الأرواح، ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة ولمحة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل، كثمرة هذه الشجرة.
وأما قوله: * (بإذن ربها) * ففيه دقيقة عجيبة، وذلك لأن عند حصول هذه الأحوال السنية، والدرجات العالية، قد يفرح الإنسان بها من حيث هي هي، وقد يترقى فلا يفرح بها من حيث هي هي، وإنما يفرح بها من حيث إنها من المولى، وعند ذلك فيكون فرحه في الحقيقة بالمولى لا بهذه الأحوال، ولذلك قال بعض المحققين: من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالفاني، ومن آثر العرفان لا للعرفان، بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول، فقد ظهر بهذا التقرير الذي شرحناه والبيان الذي فصلناه أن هذا المثال الذي ذكره الله تعالى في هذا الكتاب مثال هاد إلى عالم القدس، وحضرة الجلال، وسرادقات الكبرياء، فنسأل الله تعالى مزيد الاهتداء والرحمة إنه سميع مجيب، وذكر بعضهم في تقرير هذا المثال كلاما لا بأس به، فقال: إنما مثل الله سبحانه وتعالى الإيمان بالشجرة، لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة، إلا بثلاثة
أشياء: عرق راسخ، وأصل قائم، وأغصان عالية. كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء: معرفة في القلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان. والله أعلم.
119

المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: في نصب قوله: * (كلمة طيبة) * وجهان: الأول: أنه منصوب بمضمر والتقدير: جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وهو تفسير لقوله: * (ضرب الله مثلا) *. الثاني: قال ويجوز أن ينتصب مثلا. وكلمة بضرب، أي ضرب كلمة طيبة مثلا بمعنى جعلها مثلا، وقوله: * (كشجرة طيبة) * خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هي كشجرة طيبة. الثالث: قال صاحب " حل العقد " أظن أن الأوجه أن يجعل قوله: * (كلمة) * عطف بيان، والكاف في قوله: * (كشجرة) * في محل النصب بمعنى مثل شجرة طيبة.
المسألة الثالثة: قال ابن عباس: الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة هي النخلة في قول الأكثرين. وقال صاحب " الكشاف ": إنها كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان، وأراد بشجرة طيبة الثمرة، إلا أنه لم يذكرها لدلالة الكلام عليها أصلها، أي أصل هذه الشجرة الطيبة ثابت، وفرعها أي أعلاها في السماء، والمراد الهواء لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء * (تؤتى) * أي هذه الشجرة * (أكلها) * أي ثمرها وما يؤكل منها كل حين، واختلفوا في تفسير هذا الحين فقال ابن عباس ستة أشهر، لأن بين حملها إلى صرامها ستة أشهر، جاء رجل إلى ابن عباس فقال: نذرت أن لا أكلم أخي حتى حين، فقال: الحين ستة أشهر، وتلا قوله تعالى: * (تؤتى أكله كل حين) * وقال مجاهد وابن زيد: سنة، لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة. وقال سعيد بن المسيب: شهران، لأن مدة إطعام النخلة شهران. وقال الزجاج: جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أن الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أم قصرت، والمراد من قوله: * (تؤتى أكلها كل حين) * أنه ينتفع بها في كل وقت وفي كل ساعة ليلا أو نهارا أو شتاء أو صيفا. قالوا: والسبب فيه أن النخلة إذا تركوا عليها الثمر من السنة إلى السنة انتفعوا بها في جميع أوقات السنة. وأقول: هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية، إلا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود، لأنه تعالى وصف هذه الشجرة بالصفات المذكورة، ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها، فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه، سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن، لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل، واختلافهم في تفسير الحين أيضا من هذا الباب، والله أعلم بالأمور.
ثم قال: * (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) * والمعنى: أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني، وذلك لأن المعاني العقلية المحضة لا يقبلها الحس والخيال والوهم،
120

فإذا ذكر ما يساويها من المحسوسات ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة وأنطبق المعقول على المحسوس وحصل به الفهم التام والوصول إلى المطلوب.
وأما قوله تعالى: * (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) *.
فاعلم أن الشجرة الخبيثة هي الجهل بالله، فإنه أول الآفات وعنوان المخالفات ورأس الشقاوات ثم إنه تعالى شبهها بشجرة موصوفة بصفات ثلاثة:
الصفة الأولى: أنها تكون خبيثة فمنهم من قال إنها الثوم، لأنه صلى الله عليه وسلم وصف الثوم بأنها شجرة خبيثة، وقيل: إنها الكراث. وقيل: إنها شجرة الحنظل لكثرة ما فيها من المضار وقيل: إنها شجرة الشوك.
واعلم أن هذا التفصيل لا حاجة إليه، فإن الشجرة قد تكون خبيثة بحسب الرائحة وقد تكون بحسب الطعم، وقد تكون بحسب الصورة والمنظر وقد تكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة والشجرة الجامعة لكل هذه الصفات وإن لم تكن موجودة، إلا أنها لما كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعا في المطلوب.
والصفة الثانية: قوله: * (اجتثت من فوق الأرض) * وهذه الصفة في مقابلة قوله: * (أصلها ثابت) * ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الإجتثاث أخذ الجثة كلها، وقوله: * (من فوق الأرض) * معناه: ليس لها أصل ولا عرق، فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة.
والصفة الثالثة: قوله ما لها من قرار، وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية، والمعنى أنه ليس لها استقرار. يقال: قر الشيء قرارا كقولك: ثبت ثباتا، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت.
واعلم أن هذا المثال في صفة الكلمة الخبيثة في غاية الكمال، وذلك لأنه تعالى بين كونها موصوفة بالمضار الكثيرة، وخالية عن كل المنافع أما كونها موصوفة بالمضار فإليه الإشارة بقوله: * (خبيثة) * وأما كونها خالية عن كل المنافع فإليه الإشارة بقوله: * (اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار) * والله أعلم.
قوله تعالى
* (يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت فى الحيوة الدنيا وفى الاخرة ويضل الله الظالمين
121

ويفعل الله ما يشآء) *
اعلم أنه تعالى لما بين أن صفة الكلمة الطيبة أن يكون أصلها ثابتا، وصفة الكلمة الخبيثة أن لا يكون لها أصل ثابت بل تكون منقطعة ولا يكون لها قرار ذكر أن ذلك القول الثابت الصادر عنهم في الحياة الدنيا يوجب ثبات كرامة الله لهم، وثبات ثوابه عليهم، والمقصود: بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى فقوله: * (يثبت الله) * أي على الثواب والكرامة، وقوله: * (بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) * أي بالقول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا. ثم قال: * (ويضل الله الظالمين) * يعني كما أن الكلمة الخبيثة ما كان لها أصل ثابت ولا فرع باسق فكذلك أصحاب الكلمة الخبيثة وهم الظالمون يضلهم الله عن كراماته ويمنعهم عن الفوز بثوابه وفي الآية قول آخر وهو القول المشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، وتلقين
الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله: * (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) * قال: " حين يقال له في القبر من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد صلى الله عليه وسلم " والمراد في الباء في قوله: * (بالقول الثابت) * هو أن الله تعالى إنما ثبتهم في القبر بسبب مواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول، ولهذا الكلام تقرير عقلي وهو أنه كلما كانت المواظبة على الفعل أكثر كان رسوخ تلك الحالة في العقل والقلب أقوى، فكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في حقائقها ودقائقها أكمل وأتم كان رسوخ هذه المعرفة في عقله وقلبه بعد الموت أقوى وأكمل. قال ابن عباس: من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها وإنما فسر الآخرة ههنا بالقبر، لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا ودخل في أحكام الآخرة وقوله: * (ويضل الله الظالمين) * يعني أن الكفار إذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري وإنما قال ذلك لأن الله أضله وقوله: * (ويفعل الله ما يشاء) * يعني إن شاء هدى وإن شاء أضل ولا اعتراض عليه في فعله البتة.
قوله تعالى
* (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها
122

وبئس القرار * وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) *
اعلم أنه تعالى عاد إلى وصف أحوال الكفار في هذه الآية فقال: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) * نزل في أهل مكة حيث أسكنهم الله تعالى حرمه الآمن وجعل عيشهم في السعة وبعث فيهم محمدا صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، ثم إنه تعالى حكى عنهم أنواعا من الأعمال القبيحة.
النوع الأول: قوله: * (بدلوا نعمة الله كفرا) * وفيه وجوه: الأول: يجوز أن يكون بدلوا شكر نعمة الله كفرا، لأنه لما وجب عليهم الشكر بسبب تلك النعمة أتوا بالكفر، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلا. والثاني: أنهم بدلوا نفس نعمة الله كفرا لأنهم لما كفروا سلب الله تلك النعمة عنهم فبقي الكفر معهم بدلا من النعمة. الثالث: أنه تعالى أنعم عليهم بالرسول والقرآن فاختاروا الكفر على الإيمان.
والنوع الثاني: ما حكى الله تعالى عنهم قوله: * (وأحلوا قومهم دار البوار) * وهو الهلاك يقال رجل بائر وقوم بور، ومنه قوله تعالى: * (وكنتم قوما بورا) * (الفتح: 12) وأراد بدار البوار جهنم بدليل أنه فسرها بجهنم فقال: * (جهنم يصلونها وبئس القرار) * أي المقر وهو مصدر سمي به.
النوع الثالث: من أعمالهم القبيحة قوله: * (وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفرا ذكر أنهم بعد أن كفروا بالله جعلوا له أندادا، والمراد من هذا الجعل الحكم والاعتقاد والقول، والمراد في الأنداد الأشباه والشركاء، وهذا الشريك يحتمل وجوها: أحدها: أنهم جعلوا للأصنام حظا فيما أنعم الله به عليهم نحو قولهم هذا لله وهذا لشركائنا. وثانيها؛ أنهم شركوا بين الأصنام وبين خالق العالم في العبودية. وثالثها: أنهم كانوا يصرحون بإثبات الشركاء لله وهو قولهم في الحج لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ليضلوا) * بفتح الياء من ضل يضل والباقون بضم الياء من أضل غيره يضل.
المسألة الثالثة: اللام في قوله: * (ليضلوا عن سبيله) * لام العاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ويحتمل أن تكون لام كي، أي الذين اتخذوا الوثن كي يضلوا غيرهم هذا إذا قرىء
123

بالضم فإنه يحتمل الوجهين، وإذا قرىء بالنصب فلا يحتمل إلا لام العاقبة لأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم. وتحقيق القول في لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل أول الفكر آخر العمل. وكل ما حصل في العاقبة كان شبيها بالأمر المقصود في هذا المعنى، والمشابهة أحد الأمور المصححة لحسن المجاز، فلهذا السبب حسن ذكر اللام في العاقبة، ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال: * (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) * والمراد أن حال الكافر في الدنيا كيف كانت، فإنها بالنسبة إلى ما سيصل إليه من العقاب في الآخرة تمتع ونعيم، فلهذا المعنى قال: * (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) * وأيضا إن هذا الخطاب مع الذين حكى الله عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفرا، فأولئك كانوا في الدنيا في نعم كثيرة فلا جرم حسن قوله تعالى: * (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) * وهذا الأمر يسمى أمر التهديد ونظيره قوله تعالى: * (اعملوا ما شئتم) * (فصلت: 40) وكقوله: * (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) * (الزمر: 8). (31)
* (قل لعبادى الذين ءامنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلال) *
اعلم أنه تعالى لما أمر الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا، أمر المؤمنين في هذه الآية بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي * (لعبادي) * بسكون الياء، والباقون: بفتح الياء لالتقاء الساكنين فحرك إلى النصب.
المسألة الثانية: في قوله: * (يقيموا) * وجهان: الأول: يجوز أن يكون جوابا لأمر محذوف هو المقول تقديره: قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. الثاني: يجوز أن يكون هو أمرا مقولا محذوفا منه لام الأمر، أي ليقيموا كقولك: قل لزيد ليضرب عمرا وإنما جاز حذف اللام، لأن قوله: * (قل) * عوض منه ولو قيل ابتداء يقيموا الصلاة لم يجز.
المسألة الثالثة: أن الإنسان بعد الفراغ من الإيمان لا قدرة له على التصرف في شيء إلا في نفسه أو في ماله. أما النفس فيجب شغلها بخدمة المعبود في الصلاة وأما المال فيجب
124

صرفه إلى البذل في طاعة الله تعالى. فهذه الثلاثة هي الطاعات المعتبرة، وهي الإيمان والصلاة والزكاة وتمام ما يجب أن يقال في هذه الأمور الثلاثة ذكرناه في قوله تعالى: * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) * (البقرة: 3).
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: الآية تدل على أن الرزق لا يكون حراما، لأن الآية دلت على أن الانفاق من الرزق ممدوح، ولا شيء من الانفاق من الحرام بممدوح فينتج أن الرزق ليس بحرام. وقد مر تقرير هذا الكلام مرارا.
المسألة الخامسة: في انتصاب قوله: * (سرا وعلانية) * وجوه: أحدها: أن يكون على الحال أي ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين. وثانيها: على الظرف أي وقت سر وعلانية. وثالثها: على المصدر أي انفاق سر وانفاق علانية والمراد إخفاء التطوع وإعلان الواجب.
واعلم أنه تعالى لما أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة قال: * (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال) * قال أبو عبيدة: البيع ههنا الفداء والخلال المخالة، وهو مصدر من خاللت خلالا ومخالة، وهي المصادقة. قال مقاتل: إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة، فكأنه تعالى يقول: أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا تحصل فيه مبايعة ولا مخالة. ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة: * (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) * (البقرة: 254).
فإن قيل: كيف نفى المخالة في هاتين الآيتين، مع أنه تعالى أثبتها في قوله: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * (الزخرف: 67).
قلنا: الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبيعة ورغبة النفس، والآية الدالة على ثبوت المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى والله أعلم.
قوله تعالى
* (الله الذى خلق السماوات والارض وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر
125

دآئبين وسخر لكم اليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) *
اعلم أنه لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، وكان العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وبصفاته، وفي حصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة، لا جرم ختم الله تعالى وصف أحوال السعداء والأشقياء بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته، وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل. أولها: خلق السماوات. وثانيها: خلق الأرض، وإليهما الإشارة بقوله تعالى: * (الله الذي خلق السماوات والأرض) *. وثالثها: * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) *. ورابعها: قوله: * (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) * وخامسها: قوله: * (وسخر لكم الأنهار) *. وسادسها وسابعها: قوله: * (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) *. وثامنها وتاسعها: قوله: * (وسخر لكم الليل والنهار) *. وعاشرها: قوله: * (وآتاكم من كل ما سألتموه) * وهذه الدلائل العشرة قد مر ذكرها في هذا الكتاب وتقريرها وتفسيرها مرارا وأطوارا ولا بأس بأن نذكر ههنا بعض الفوائد. فاعلم أن قوله تعالى: * (الله) * مبتدأ، وقوله: * (والذي خلق) * خبره. ثم إنه تعالى بدأ بذكر خلق السماوات والأرض، وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن السماء والأرض من كم وجه تدل على وجود الصانع الحكيم، وإنما بدأ بذكرهما ههنا لأنهما هما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعد ذلك فإنه قال بعده: * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * وفيه مباحث:
البحث الأول: لولا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه، فظهر أنه لا بد من وجودهما حتى يحصل هذا المقصود وهذا المطلوب.
البحث الثاني: قوله: * (وأنزل من السماء ماء) * وفيه قولان: الأول: أن الماء نزل من السحاب وسمي السحاب سماء اشتقاقا من السمو، وهو الارتفاع. والثاني: أنه تعالى أنزله من نفس السماء وهذا بعيد، لأن الإنسان ربما كان واقفا على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه فإذا نزل من ذلك الجبل يرى ذلك الغيم ماطرا عليهم وإذا كان هذا أمرا مشاهدا بالبصر كان النزاع فيه باطلا.
126

البحث الثالث: قال قوم: إنه تعالى أخرج هذه الثمرات بواسطة هذا الماء المنزل من السماء على سبيل العادة، وذلك لأن في هذا المعنى مصلحة للمكلفين، لأنهم إذا علموا أن هذه المنافع القليلة يجب أن تتحمل في تحصيلها المشاق والمتاعب، فالمنافع العظيمة الدائمة في الدار الآخرة أولى أن تتحمل المشاق في طلبها، وإذا كان المرء يترك الراحة واللذات طلبا لهذه الخيرات الحقيرة، فبأن يترك اللذات الدنيوية ليفوز بثواب الله تعالى ويتخلص عن عقابه أولى. ولهذا السبب لما زال التكليف في الآخرة أنال الله تعالى كل نفس مشتهاها من غير تعب ولا نصب، هذا قول المتكلمين. وقال قوم آخرون: إنه تعالى يحدث الثمار والزروع بواسطة هذا الماء النازل من السماء، والمسألة كلامية محضة، وقد ذكرناه في سورة البقرة.
البحث الرابع: قال أبو مسلم: لفظ * (الثمرات) * يقع في الأغلب على ما يحصل على الأشجار، ويقع أيضا على الزروع والنبات، كقوله تعالى: * (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) * (الأنعام: 141).
البحث الخامس: قال تعالى: * (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * والمراد أنه تعالى إنما أخرج هذه الثمرات لأجل أن تكون رزقا لنا، والمقصود أنه تعالى قصد بتخليق هذه الثمرات إيصال الخير والمنفعة إلى المكلفين، لأن الإحسان لا يكون إحسانا إلا إذا قصد المحسن بفعله إيصال النفع إلى المحسن إليه.
البحث السادس: قال صاحب " الكشاف ": قوله: * (من الثمرات) * بيان للرزق، أي أخرج به رزقا هو ثمرات، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ورزقا حال من المفعول أو نصبا على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق، والتقدير: ورزق من الثمرات رزقا لكم.
فأما الحجة الرابعة: وهي قوله: * (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) * ونظيره قوله تعالى: * (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) * (الشور: 32) ففيها مباحث:
البحث الأول: أن الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجاري في البحر، وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من أنعمه حتى أن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الجانب الآخر من الأرض وبالعكس كثر الربح في التجارات، ثم إن هذا النقل لا يمكن إلا بسفن البر وهي الجمال أو بسفن البحر وهي الفلك المذكور في هذه الآية. فإن قيل: ما معنى وسخر لكم الفلك مع أن تركيب السفينة من أعمال العباد؟
قلنا؛ أما على قولنا إن فعل العبد خلق الله تعالى فلا سؤال، وأما على مذهب المعتزلة فقد أجاب القاضي عنه فقال: لولا أنه تعالى خلق الأشجار الصلبة التي منها يمكن تركيب السفن ولولا خلقه
127

للحديد وسائر الآلات ولولا تعريفه العباد كيف يتخذوه ولولا أنه تعالى خلق الماء على صفة السيلان التي باعتبارها يصح جري السفينة، ولولا خلقه تعالى الرياح وخلق الحركات القوية فيها ولولا أنه وسع الأنهار وجعل فيها من العمق ما يجوز جري السفن فيها لما وقع الانتفاع بالسفن فصار لأجل أنه تعالى هو الخالق لهذه الأحوال، وهو المدبر لهذه الأمور والمسخر لها حسنت إضافة السفن إليه.
البحث الثاني: أنه تعالى أضاف ذلك التسخير إلى أمره لأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال فيه إنه أمر بكذا تعظيما لشأنه، ومنهم من حمله على ظاهر قوله: * (إنما قولنا لشيء إذ أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) وتحقيق هذا الوجه راجع إلى ما ذكرناه.
البحث الثالث: الفلك من الجمادات فتسخيرها مجاز، والمعنى أنه لما كان يجري على وجه الماء كما يشتهيه الملاح صار كأنه حيوان مسخر له.
الحجة الخامسة: قوله تعالى: * (وسخر لكم الأنهار) * واعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات لا جرم ذكر تعالى إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنبات، وأيضا ماء البحر لا يصلح للشرب، والصالح لهذا المهم هو مياه الأنهار.
الحجة السادسة والسابعة: قوله: * (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) *.
واعلم أن الانتفاع بالشمس والقمر عظيم، وقد ذكره الله تعالى في آيات منها قوله: * (وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) * (نوح: 16) ومنها قوله: * (الشمس والقمر بحسبان) * (الرحمن: 5) ومنها قوله: * (وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) * (الفرقان: 61) ومنها قوله: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) * (يونس: 5) وقوله: * (دائبين) * معنى الدؤوب في اللغة مرور الشيء في العمل على عادة مطردة يقال دأب يدأب دأبا ودؤبا وقد ذكرنا هذا في قوله: * (قال تزرعون سبع سنين دأبا) * (يوسف: 47) قال المفسرون: قوله: * (دائبين) * معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية وقد ذكرنا منافع الشمس والقمر بالاستقصاء في أول هذا الكتاب.
الحجة الثامنة والتاسعة: قوله: * (وسخر لكم الليل والنهار) *.
واعلم أن منافعهما مذكورة في القرآن كقوله تعالى: * (وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا) * (النبأ: 10، 11) وقوله: * (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) * قال المتكلمون: تسخير الليل والنهار مجاز لأنهما عرضان، والأعراض لا تسخر.
128

والحجة العاشرة: قوله: * (وآتاكم من كل ما سألتموه) * ثم إنه تعالى لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين بعد ذلك أنه لم يقتصر عليها، بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها التعديد والإحصاء فقال: * (وآتاكم من كل ما سألتموه) * والمفعول محذوف تقديره من كل مسؤول شيئا، وقرئ: * (من كل) * بالتنوين و * (ما سألتموه) * نفي ومحله نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ويجوز أن تكون " ما " موصولة والتقدير: آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه النعم ختم الكلام بقوله: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * قال الواحدي: النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر يقال: أنعم الله عليه، ينعم إنعاما ونعمة أقيم الاسم مقام الإنعام كقوله: أنفقت عليه إنفاقا ونفقة بمعنى واحد، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر، ومعنى قوله: * (لا تحصوها) * أي لا تقدرون على تعديد جميعها لكثرتها.
واعلم أن الإنسان إذا أراد أن يعرف أن الوقوف على أقسام نعم الله ممتنع، فعليه أن يتأمل في شيء واحد ليعرف عجز نفسه عنه ونحن نذكر منه مثالين.
المثال الأول: أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان، منها دماغية ومنها نخاعية. أما الدماغية فإنها سبعة ثم أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد من تلك الأرواح السبعة، ثم مما لا شك فيه أن كل واحد من الأرواح السبعة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحد من تلك الشعب أيضا إلى شعب دقيقة أدق من الشعر ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء ولو أن شعبة واحدة اختلت إما بسبب الكمية أو بسبب الكيفية أو بسبب الوضع لاختلت مصالح البنية، ثم إن تلك الشعب الدقيقة تكون كثيرة العدد
جدا، ولكل واحدة منها حكمة مخصوصة، فإذا نظر الإنسان في هذا المعنى عرف أن الله تعالى بحسب كل شظية من تلك الشظايا العصبية على العبد نعمة عظيمة لو فاتت لعظم الضرر عليه وعرف قطعا أنه لا سبيل له إلى الوقوف عليها والاطلاع على أحوالها وعند هذا يقطع بصحة قوله تعالى: * (وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها) * وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة، وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والكيفية والوضع والفعل والإنفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحرا لا ساحل له، وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان الواحد فاعرف أقسام نعم الله تعالى في نفسه وروحه، فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجساد ثم لما اعتبرت حالة الحيوان الواحد فعند ذلك اعتبر أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والحيوان وعند هذا تعرف
129

أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلا واحدا ثم بذلك العقل يتأمل الإنسان في عجائب حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل، فسبحانه تقدس عن أوهام المتوهمين. المثال الثاني: أنك إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها أما الأمور التي قبلها: فاعرف أن تلك اللقمة من الخبز لا تتم ولا تكمل إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائما على الوجه الأصوب، لأن الحنطة لا بد منها، وأنها لا تنبت إلا معونة الفصول الأربعة، وتركيب الطبائع وظهور الرياح والأمطار، ولا يحصل شيء منها إلا بعد دوران الأفلاك، واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة في الحركات، وفي كيفيتها في الجهة والسرعة والبطء ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد من آلات الطحن والخبز، وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال، ثم إن الآلات الحديدية لا يمكن إصلاحها إلا بآلات أخرى حديدية سابقة عليها، ولا بد من انتهائها إلى آلة حديدية هي أول هذه الآلات، فتأمل أنها كيف تكونت على الأشكال المخصوصة، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر الأربعة، وهي الأرض والماء والهواء والنار حتى يمكن طبخ الخبز من ذلك الدقيق. فهذا هو النظر فيما تقدم على حصول هذه اللقمة. وأما النظر فيما بعد حصولها: فتأمل في تركيب بدن الحيوان، وهو أنه تعالى كيف خلق الأبدان حتى يمكنها الانتفاع بتلك اللقمة، وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار، ولا يمكنك أن تعرف القليل من هذه الأشياء إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب بالكلية، فظهر بما ذكرنا أن الانتفاع باللقمة الواحدة لا يمكن معرفته إلا بمعرفة جملة الأمور، والعقول قاصرة عن إدراك ذرة من هذه المباحث، فظهر بهذا البرهان القاهر صحة قوله تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * ثم إنه تعالى قال: * (إن الإنسان لظلوم كفار) * قيل: يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها. وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع، والمراد من الإنسان ههنا: الجنس، يعني أن عادة هذا الجنس هو هذا الذي ذكرناه، وههنا بحثان:
البحث الأول: أن الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملالة، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال وظلمها بترك شكرها، وإن لم ينسها فإنه في الحال يملها فيقع في كفران النعمة، وأيضا أن نعم الله كثيرة فمتى حاول التأمل في بعضها غفل عن الباقي.
البحث الثاني: أنه تعالى قال في هذا الموضع: * (إن الإنسان لظلوم كفار) * وقال في سورة النحل: * (إن الله لغفور رحيم) * (النحل: 18) ولما تأملت فيه لاحت لي فيه دقيقة كأنه يقول: إذا حصلت النعم
130

الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها، فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما كونك ظلوما كفارا، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفورا رحيما، والمقصود كأنه يقول: إن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت كفارا فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء، ونسأل الله حسن العاقبة والرحمة.
قوله تعالى
* (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبنى وبنى أن نعبد الاصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم) *
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى البتة حكى عن إبراهيم عليه السلام مبالغته في إنكار عبادة الأوثان.
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أشياء: أحدها: قوله: * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * والمراد: مكة آمنا ذا أمن.
فإن قيل: أي فرق بين قوله: (اجعل هذا بلدا آمنا) وبين قوله: * (اجعل هذا البلد آمنا) *.
قلنا: سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فلا يخافون، وفي الثاني: أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها، وهي الخوف، ويحصل لها ضد تلك الصفة وهو الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمنا، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة. وثانيها: قوله: * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء * (واجنبني) * وفيه ثلاث لغات جنبه واجنبه وجنبه. قال الفراء: أهل الحجاز يقول جنبني يجبني بالتخفيف. وأهل نجد يقولون جنبني شره وأجنبني شره، وأصله جعل الشيء عن غيره على جانب وناحية.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الإشكال على هذه الآية من وجوه: أحدها: أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل مكة آمنا، وما قبل الله دعاءه، لأن جماعة خربوا الكعبة وأغاروا على
131

مكة. وثانيها: أن الأنبياء عليهم السلام لا يعبدون الوثن البتة، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله أجنبني عن عبادة الأصنام. وثالثها: أنه طلب من الله تعالى أن لا يجعل أبناءه من عبدة الأصنام والله تعالى لم يقبل دعاءه، ولأن كفار قريش كانوا من أولاده، مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام.
فإن قالوا: إنهم ما كانوا أبناء إبراهيم وإنما كانوا أبناء أبنائه، والدعاء مخصوص بالأبناء، فنقول: فإذا كان المراد من أولئك الأبناء أبناءه من صلبه، وهم ما كانوا إلا
إسماعيل وإسحاق، وهما كانا من أكابر الأنبياء وقد علم أن الأنبياء لا يعبدون الصنم، فقد عاد السؤال في أنه ما الفائدة في ذلك الدعاء.
والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول: أنه نقل أنه عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة ذكر هذا الدعاء، والمراد منه: جعل تلك البلدة آمنة من الخراب. والثاني: أن المراد جعل أهلها آمنين، كقوله: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) أي أهل القرية، وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين، وعلى هذا التقدير فالجواب من وجهين:
الوجه الأول: ما اختصت به مكة من حصول مزيد من الأمن، وهو أن الخائف كان إذا التجأ إلى مكة أمن، وكان الناس مع شدة العداوة بينهم يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضا، ومن ذلك أمن الوحش فإنهم يقربون من الناس إذا كانوا بمكة، ويكونون مستوحشين عن الناس خارج مكة، فهذا النوع من الأمن حاصل في مكة فوجب حمل الدعاء عليه.
والوجه الثاني: أن يكون المراد من قوله: * (اجعل هذا البلد آمنا) * أي بالأمر والحكم بجعله آمنا وذلك الأمر والحكم حاصل لا محالة.
والجواب: عن السؤال الثاني قال الزجاج: معناه ثبتني على اجتناب عبادتها كما قال: * (واجعلنا مسلمين لك) * (البقرة: 128) أي ثبتنا على الإسلام.
ولقائل أن يقول السؤال باق لأنه لأنه لما كان من المعلوم أنه تعالى يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب من عبادة الأصنام فما الفائدة في هذا السؤال والصحيح عندي في الجواب وجهان: الأول: أنه عليه السلام وإن كان يعلم أنه تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضما للنفس وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب. والثاني: أن الصوفية يقولون: إن الشرك نوعان: شرك جلي وهو الذي يقول به المشركون، وشرك خفي وهو تعليق القلب بالوسايط وبالأسباب الظاهرة والتوحيد المحض هو أن ينقطع نظره عن الوسايط ولا يرى متصرفا سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله: * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * المراد منه أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي والله أعلم بمراده.
132

والجواب عن السؤال الثالث من وجوه: الأول: قال صاحب " الكشاف ": قوله (وبني) أراد بنيه من صلبه والفائدة في هذا الدعاء عين الفائدة التي ذكرناها في قوله: * (واجنبني) *. والثاني: قال بعضهم أراد من أولاده وأولاد أولاده كل من كانوا موجودين حال الدعاء ولا شبهة أن دعوته مجابة فيهم. الثالث: قال مجاهد: لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنما، والصنم هو التمثال المصور ما ليس بمصور فهو وثن. وكفار قريش ما عبدوا التمثال وإنما كانوا يعبدون أحجارا مخصوصة وأشجارا مخصوصة، وهذا الجواب ليس بقوي، لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والحجر كالصنم في ذلك. الرابع: أن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية: * (فمن تبعني فإنه مني) * وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى لنوح: * (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) * (هود: 46). والخامس: لعله وإن كان عمم في الدعاء إلا أن الله تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء عليهم السلام، ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: * (قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124).
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بقوله: * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * على أن الكفر والإيمان من الله تعالى، وتقرير الدليل أن إبراهيم عليه السلام طلب من الله أن يجنبه ويجنب أولاده من الكفر فدل ذلك على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان ليس إلا من الله تعالى، وقول المعتزلة إنه محمول على الألطاف فاسد، لأنه عدول عن الظاهر، ولأنا قد ذكرنا وجوها كثيرة في إفساد هذا التأويل.
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * واتفق كل الفرق على أن قوله: * (أضللن) * مجاز لأنها جمادات، والجماد لا يفعل شيئا البتة، إلا أنه لما حصل الإضلال عند عبادتها أضيف إليها كما تقول فتنتهم الدنيا وغرتهم، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها.
ثم قال: * (فمن تبعني فإنه مني) * يعني من تبعني في ديني واعتقادي فإنه مني، أي جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني ومن عصاني في غير الدين فإنك غفور رحيم، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن إبراهيم عليه السلام ذكر هذا الكلام والغرض منه الشفاعة في حق أصحاب الكبائر من أمته، والدليل عليه أن قوله: * (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) * صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة فنقول: أولئك العصاة إما أن يكونوا من الكفار أو لا يكونوا كذلك، والأول باطل من وجهين: الأول: أنه عليه السلام بين في مقدمة هذه الآية أنه مبرأ عن الكفار وهو قوله: * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * وأيضا قوله: * (فمن تبعني فإنه مني) * يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه
133

على دينه فإنه ليس منه ولا يهتم باصلاح مهماته. والثاني: أن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة، ولما بطل هذا ثبت أن قوله: * (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) * شفاعة في العصاة الذين لا يكونون من الكفار.
وإذا ثبت هذا فنقول: تلك المعصية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو من الكبائر قبل التوبة، والأول والثاني باطلان لأن قوله: * (ومن عصاني) * اللفظ فيه مطلق فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر، وأيضا فالصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصوم فلا يمكن حمل اللفظ عليه، فثبت أن هذه الآية شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه السلام ثبت حصولها في حق محمد صلى الله عليه وسلم لوجوه: الأول: أنه لا قائل بالفرق. والثاني: وهو أن هذا المنصب أعلى المناصب فلو حصل لإبراهيم عليه السلام مع أنه غير حاصل لمحمد صلى الله عليه وسلم لكان ذلك نقصانا في حق محمد عليه السلام. والثالث: أن محمدا صلى الله عليه وسلم مأمور بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام لقوله تعالى: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)
* (الأنعام: 90) وقوله: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * فهذا وجه قريب في إثبات الشفاعة لمحمد صلى الله عليه وسلم وفي إسقاط العقاب عن أصحاب الكبائر. والله أعلم.
إذا عرفت هذا فلنذكر أقوال المفسرين: قال السدي معناه: ومن عصاني ثم تاب، وقيل: إن هذا الدعاء إنما كان قبل أن يعلم أن الله تعالى لا يغفر الشرك، وقيل من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم، يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام، وقيل المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب بل يمهلهم حتى يتوبوا أو يكون المراد أن لا تعجل اخترامهم فتفوتهم التوبة. واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة.
أما الأول: وهو حمل هذه الشفاعة على المعصية بشرط التوبة فقد أبطلناه.
وأما الثاني: وهو قوله إن هذه الشفاعة إنما كانت قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك فنقول: هذا أيضا بعيد، لأنا بينا أن مقدمة هذه الآية تدل على أنه لا يجوز أن يكون مراد إبراهيم عليه السلام من هذا الدعاء هو الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر.
وأما الثالث: وهو قوله المراد من كونه: * (غفورا رحيما) * أن ينقله من الكفر إلى الإيمان فهو أيضا بعيد، لأن المغفرة والرحمة مشعرة بإسقاط العقاب ولا إشعار فيهما بالنقل من صفة الكفر إلى صفة الإيمان والله أعلم.
134

وأما الرابع: وهو أن تحمل المغفرة والرحمة على تعجيل العقاب أو ترك تعجيل الإماتة فنقول هذا باطل، لأن كفار زماننا هذا أكثر منهم ولم يعاجلهم الله تعالى بالعقاب ولا بالموت مع أن أهل الإسلام متفقون على أنهم ليسوا مغفورين ولا مرحومين فبطل تفسير المغفرة والرحمة على ترك تعجيل العقاب بهذا الوجه وظهر بما ذكرنا صحة ما قررناه من الدليل والله أعلم.
قوله تعالى
* (ربنآ إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون * ربنآ إنك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شىء فى الارض ولا فى السمآء * الحمد الله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعآء * رب اجعلنى مقيم الصلوة ومن ذريتى ربنا وتقبل دعآء * ربنا اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) *
اعلم أنه سبحانه وتعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب في دعائه أمورا سبعة.
المطلوب الأول: طلب من الله نعمة الأمان وهو قوله: * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * (البقرة: 126) والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به، وسئل بعض العلماء الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن أفضل، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت
135

وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد.
والمطلوب الثاني: أن يرزقه الله التوحيد، ويصونه عن الشرك، وهو قوله: * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * (إبراهيم: 35).
والمطلوب الثالث: قوله: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) * فقوله: * (من ذريتي) * أي بعض ذريتي وهو إسماعيل ومن ولد منه * (بواد) * هو وادي مكة * (غير ذي زرع) * أي ليس فيه شيء من زرع، كقوله: * (قرآنا عربيا غير ذي عوج) * (الزمر: 28) بمعنى لا يحصل فيه اعوجاج عند بيتك المحرم، وذكروا في تسميته المحرم وجوها: الأول: أن الله حرم التعرض له والتهاون به، وجعل ما حوله حرما لمكانه. الثاني: أنه كان لم يزل ممتنعا عزيزا يهابه كل جبار كالشئ المحرم الذي حقه أن يجتنب. الثالث: سمي محرما لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه. الرابع: أنه حرم على الطوفان أي امتنع منه كما سمي عتيقا لأنه أعتق منه فلم يستعل عليه. الخامس: أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل. السادس: حرم موضع البيت حين خلق السماوات والأرض وحفه بسبعة من الملائكة، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم، فرفع إلى السماء السابعة. السابع: حرم على عباده أن يقربوه بالدماء والأقذار وغيرها: روي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت له إسماعيل عليه السلام، فقالت سارة: كنت أرجو أن يهب الله لي ولدا من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي، وقالت لإبراهيم: أبعدهما مني فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع، ثم رجع فقالت هاجر: إلى من تكلنا؟ فقال إلى الله. ثم دعا الله تعالى بقوله؛ * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد) * إلى آخر الآية ثم إنها عطشت وعطش الصبي فانتهت بالصبي إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله أم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا " ثم إن إبراهيم عليه السلام عاد بعد كبر إسماعيل واشتغل هو مع إسماعيل برفع قواعد البيت. قال القاضي: أكثر الأمور المذكورة في هذه الحكاية بعيدة لأنه لا يجوز لإبراهيم عليه السلام أن ينقل ولده إلى حيث لا طعام ولا ماء مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا: إن الله أعلمه أنه يحصل هناك ماء وطعام، وأقول: أما ظهور ماء زمزم فيحتمل أن يكون إرهاصا لإسمعيل عليه السلام، لأن ذلك عندنا جائز خلافا للمعتزلة وعند المعتزلة أنه معجزة لإبراهيم عليه السلام.
ثم قال: * (ربنا ليقيموا الصلاة) * واللام متعلقة بأسكنت أي أسكنت قوما من ذريتي، وهم إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة.
136

ثم قال: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قال الأصمعي هوى يهوي هويا بالفتح إذا سقط من علو إلى سفل. وقيل: * (تهوي إليهم) * تريدهم، وقيل: تسرع إليهم. وقيل: تنحط إليهم وتنحدر
إليهم وتنزل، يقال: هوى الحجر من رأس الجبل يهوي إذا انحدر وانصب، وهوى الرجل إذا انحدر من رأس الجبل.
البحث الثاني: أن هذا الدعاء جامع للدين والدنيا. أما الدين فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى الذهاب إلى تلك البلدة بسبب النسك والطاعة لله تعالى. وأما الدنيا: فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى نقل المعاشات إليهم بسبب التجارات، فلأجل هذا الميل يتسع عيشهم، ويكثر طعامهم ولباسهم.
البحث الثالث: كلمة * (من) * في قوله: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) * تفيد التبعيض، والمعنى: فاجعل أفئدة بعض الناس مائلة إليهم. قال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس، لحجت اليهود والنصارى المجوس، ولكنه قال: * (أفئدة من الناس) * فهم المسلمون.
ثم قال: * (وارزقهم من الثمرات) * وفيه بحثان:
البحث الأول: أنه لم يقل: وارزقهم الثمرات، بل قال: * (وارزقهم من الثمرات) * وذلك يدل على أن المطلوب بالدعاء اتصال بعض الثمرات إليهم.
البحث الثاني: يحتمل أن يكون المراد بإيصال الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات وإنما يكون المراد: عمارة القرى بالقرب منها لتحصيل الثمار منها.
ثم قال: * (لعلهم يشكرون) * وذلك يدل على أن المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات، فإن إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلوات وأداء الواجبات.
المطلوب الرابع: قوله: * (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) *.
واعلم أنه عليه السلام لما طلب من الله تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم، ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهايات الأمور في المستقبل، وأنه تعالى هو العالم بها المحيط بأسرارها، فقال: * (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) * والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا، قيل: ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسماعيل، وما نعلن من البكاء، وقيل: ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حيث قالت له عند الوداع إلى من تكلنا؟
137

فقال إلى الله أكلكم، قالت آلله أمرك بهذا؟ قال نعم: قالت إذن لا نخشى.
ثم قال: * (وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء) * وفيه قولان: أحدهما: أنه كلام الله عز وجل تصديقا لإبراهيم عليه السلام كقوله: * (وكذلك يفعلون) * (النحل: 34) والثاني: أنه من كلام إبراهيم عليه السلام يعني وما يخفي على الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان، ولفظ " من " يفيد الاستغراق كأنه قيل: وما يخفى عليه شيء ما.
ثم قال: * (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق) * وفيه مباحث: البحث الأول: اعلم أن القرآن يدل على أنه تعالى إنما أعطى إبراهيم عليه السلام هذين الولدين أعني إسماعيل وإسحق على الكبر والشيخوخة، فأما مقدار ذلك السن فغير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات فقيل لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة، ولما ولد إسحق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة وقيل ولد له إسماعيل لأربع وستين سنة وولد إسحق لتسعين سنة، وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر قوله: * (على الكبر) * لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم، من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم.
فإن قيل: إن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسماعيل وهاجر أمه في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت ما ولد له إسحق فكيف يمكنه أن يقول: * (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق) *.
قلنا قال القاضي: هذا الدليل يقتضي أن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدم من الدعاء. ويمكن أيضا أن يقال: إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسماعيل وظهور إسحق وإن كان ظاهر الروايات بخلافه.
البحث الثاني: على في قوله: * (على الكبر) * بمعنى مع كقول الشاعر:
إني على ما ترين من كبري * أعلم من حيث يؤكل الكتف
وهو في موضع الحال ومعناه: وهب لي في حال الكبر.
البحث الثالث: في المناسبة بين قوله: * (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء) * وبين قوله: * (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق) * وذلك هو كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما وإعانة ذريتهما بعد موته ولكنه لم يصرح بهذا
138

المطلوب، بل قال: * (ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن) * أي إنك تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، ثم قال: * (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق) * وذلك يدل ظاهرا على أنهما يبقيان بعد موته وأنه مشغول القلب بسببهما فكان هذا دعاء لهما بالخير والمعونة بعد موته على سبيل الرمز والتعريض وذلك يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء قال عليه السلام حاكيا عن ربه أنه قال: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " ثم قال: * (إن ربي لسميع الدعاء) *.
واعلم أنه لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإيضاح والتصريح قال: * (إن ربي لسميع الدعاء) * أي هو عالم بالمقصود سواء صرحت به أو لم أصرح وقوله: سميع الدعاء. من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه سمع الله لمن حمده.
المطلوب الخامس: قوله: * (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذا الآية على أن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى فقالوا إن قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: * (اجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * يدل على أن ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله وقوله: * (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) * يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله، وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصرا على أن الكل من الله.
المسألة الثانية: تقدير الآية: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي. أي واجعل بعض ذريتي كذلك لأن كلمة " من " في قوله: * (ومن ذريتي) * للتبعيض، وإنما ذكر هذا التبعيض لأنه علم باعلام الله تعالى أنه يكون في ذريته جمع من الكفار وذلك قوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) *.
المطلوب السادس: أنه عليه السلام لما دعا الله في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال: * (ربنا وتقبل دعاء) * وقال ابن عباس: يريد عبادتي بدليل قوله تعالى: * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) * (مريم: 48).
المطلوب السابع: قوله: * (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة الذنب فهذا يدل على أنه كان قد صدر الذنب عنه وإن كان قاطعا بأن الله يغفر له فكيف طلب تحصيل ما كان قاطعا بحصوله؟
والجواب: المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته.
المسألة الثانية: إن قال قائل كيف جاز أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟
139

فالجواب عنه من وجوه: الأول: أن المنع منه لا يعلم إلا بالتوقيف فلعله لم يجد منه منعا فظن كونه حائزا. الثاني: أراد بوالديه آدم وحواء. الثالث: كان ذلك بشرط الإسلام.
ولقائل أن يقول: لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلا ولو لم يكن لبطل قوله تعالى: * (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) * (الممتحنة: 4) وقال بعضهم: كانت أمه مؤمنة، ولهذا السبب خص أباه بالذكر في قوله تعالى: * (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) * (التوبة: 114) والله أعلم وفي قوله: * (يوم يقوم الحساب) * قولان: الأول: يقوم أي يثبت وهو مستعار من قيام القائم على الرجل، والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها، ونظيره قوله ترجلت الشمس، أي أشرقت وثبت ضوءها كأنها قامت على رجل. الثاني: أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز مثل قوله: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) أي أهلها. والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعى رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هوآء) *
اعلم أنه لما بين دلائل التوحيد ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أن يصونه عن الشرك، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ذكر بعد ذلك ما يدل على وجود يوم القيامة، وما يدل على صفة يوم القيامة، أما الذي يدل على وجود القيامة فهو قوله: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) * فالمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم، لزم أن يكون إما غافلا عن ذلك الظالم أو عاجزا عن الإنتقام، أو كان راضيا بذلك الظلم، ولما كانت الغفلة والعجز والرضا بالظلم محالا على الله امتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم.
فإن قيل: كيف يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يحسب الله موصوفا بالغفلة؟
والجواب من وجوه: الأول: المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا، كقوله: * (ولا تكونن من المشركين) * (الأنعام: 14). * (ولا تدع مع الله إلها آخر) * (القصص: 88) وكقوله: * (يا أيها الذين آمنوا) *. والثاني:
140

أن المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الإنتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوما لكل أحد لا جرم كان عدم الانتقام محالا. والثالث: أن المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. الرابع: أن يكون هذا الكلام وإن كان خطابا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، إلا أنه يكون في الحقيقة خطابا مع الأمة، وعن سفيان بن عيينة: أنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، ثم بين تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بصفات.
الصفة الأولى: أنه تشخص فيه الأبصار. يقال: شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا يطرفها، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة وسقوط القوة.
والصفة الثانية: قوله: * (مهطعين) * وفي تفسير الإهطاع أقوال أربعة:
القول الأول: قال أبو عبيدة هو الإسراع. يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع وعلى هذا الوجه، فالمعنى: أن الغالب من حال من يبقى بصره شاخصا من شدة الخوف أن يبقى واقفا، فبين الله تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد، فإنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مهطعين، أي مسرعين نحو وذلك البلاء.
القول الثاني: في الإهطاع قال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع.
والقول الثالث: المهطع الساكت.
والقول الرابع: قال الليث: يقال للرجل إذا قر وذل أهطع.
الصفة الثالثة: قوله: * (مقنعي رؤوسهم) * والإقناع رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع، فقوله: * (مقنعي رؤوسهم) * أي رافعي رؤوسهم والمعنى أن المعتاد فيمن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه عنه لكي لا يراه، فبين تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد وأنهم يرفعون رؤوسهم.
الصفة الرابعة: قوله: * (لا يرتد إليهم طرفهم) * والمراد من هذه الصفة دوام ذلك الشخوص، فقوله: * (تشخص فيه الأبصار) * لا يفيد كون هذا الشخوص دائما وقوله: * (لا يرتد إليهم طرفهم) * يفيد دوام هذا الشخوص، وذلك يدل على دوام تلك الحيرة والدهشة في قلوبهم.
الصفة الخامسة: قوله: * (وأفئدتهم هواء) * الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ثم جعل وصفا فقيل: قلب فلان هواء إذا كان خاليا لا قوة فيه، والمراد بيان أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب ومن كل سرور، لكثرة ما فيه من الحزن، إذا عرفت هذه الصفات الخمسة فقد اختلفوا
141

في وقت حصولها فقيل: إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقيب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب، وقيل: إنها تحصل عند ما يتميز فريق عن فريق، والسعداء يذهبون إلى الجنة، والأشقياء إلى النار. وقيل: بل يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور، والأول أولى للدليل الذي ذكرناه، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال) *
اعلم أن قوله: * (يوم يأتيهم العذاب) * فيه أبحاث:
البحث الأول: قال صاحب " الكشاف ": * (يوم يأتيهم العذاب) * مفعول ثان لقوله: * (وأنذر) * وهو يوم القيامة.
البحث الثاني: الألف واللام في لفظ * (العذاب) * للمعهود السابق، يعني: وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب الذي تقدم ذكره وهو شخوص أبصارهم، وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم.
البحث الثالث: الإنذار هو التخويف بذكر المضار، والمفسرون مجمعون على أن قوله: * (يوم يأتيهم العذاب) * هو يوم القيامة، وحمله أبو مسلم على أنه حال المعاينة، والظاهر يشهد بخلافه، لأنه تعالى وصف اليوم بأن عذابهم يأتي فيه وأنهم يسألون الرجعة، ويقال لهم: * (أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) * ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة. وحجة أبي مسلم: أن هذه الآية شبيهة بقوله تعالى: * (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق) * (المنافقون: 10) ثم حكى الله سبحانه ما يقول الكفار في ذلك اليوم، فقال: * (فيقول الذين ظلموا ربنا
142

أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل) * واختلفوا في المراد بقوله: * (أخرنا إلى أجل قريب) * فقال بعضهم: طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرطوا فيه، وقال: بل طلبوا الرجوع إلى حال التكليف بدليل قولهم: نجب دعوتك ونتبع الرسل، وأما على قول أبي مسلم فتأويل هذه الآية ظاهر فقال تعالى مجيبا لهم: * (أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) * ومعناه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى، وهو قوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) * (النحل: 38) إلى غير ذلك مما كانوا يذكرونه من إنكار المعاد فقرعهم الله تعالى بهذا القول لأن التقريع بهذا الجنس أقوى، ومعنى: ما لكم من زوال، لا شبهة في أنهم كانوا يقولون لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى، ومن هذه الدار إلى دار المجازاة، لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت أو عن شباب إلى هرم أو عن فقر إلى غنى، ثم إنه تعالى زادهم تقريعا آخر بقوله: * (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) * يعني سكنتم في مساكن الذين كفروا قبلكم، وهم قوم نوح وعاد وثمود، وظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، لأن من شاهد هذه الأحوال وجب عليه أن يعتبر، فإذا لم يعتبر كان مستوجبا للذم والتقريع.
ثم قال: * (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) * وظهر لكم أن عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال.
فإن قيل: ولماذا قيل: * (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) * ولم يكن القوم يقرون بأنه تعالى أهلكهم لأجل تكذيبهم؟
قلنا: إنهم علموا أن أولئك المتقدمين كانوا طالبين للدنيا ثم إنهم فنوا وانقرضوا فعند هذا يعلمون أنه لا فائدة في طلب الدنيا، والواجب الجد والاجتهاد في طلب الدين، والواجب على من عرف هذا أن يكون خائفا وجلا فيكون ذلك زجرا له هذا إذا قرىء بالتاء أما إذا قرىء بالنون فلا شبهة فيه لأن التقدير كأنه تعالى قال: أولم نبين لكم كيف فعلنا بهم، وليس كل ما بين لهم تبينوه.
أما قوله: * (وضربنا لكم الأمثال) * فالمراد ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل، وذلك في كتاب الله كثير. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) *
143

اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة عقابهم أتبعها بذكر كيفية مكرهم فقال: * (وقد مكروا مكرهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن الضمير في قوله: * (وقد مكروا) * إلى ماذا يعود؟ على وجوه: الأول: أن يكون الضمير عائدا إلى الذين سكنوا في مساكن الذين
ظلموا أنفسهم وهذا القول الصحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات. والثاني: أن يكون المراد به قوم محمد صلى الله عليه وسلم والدليل عليه قوله: * (وأنذر الناس) * (إبراهيم: 45) يا محمد وقد مكر قومك مكرهم وذلك المكر هو الذي ذكره الله تعالى في قوله: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) * (الأنفال: 30) وقوله: * (مكرهم) * أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم. الثالث: أن المراد من هذا المكر ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتا وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور، وكان قد جوعها ورفع فوق الجوانب الأربعة من التابوت عصيا أربعا وعلق على كل واحدة منهن قطعة لحم ثم إنه جلس مع حاجبه في ذلك التابوت فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الدنيا عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها فنكس تلك العصي التي علق عليها اللحم فسفلت النسور وهبطت إلى الأرض، فهذا هو المراد من مكرهم. قال القاضي: وهذا بعيد جدا لأن الخطر فيه عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء فيه خبر صحيح معتمد ولا حجة في تأويل الآية البتة.
المسألة الثانية: قوله: * (وعند الله مكرهم) * فيه وجهان: الأول: أن يكون المكر مضافا إلى الفاعل كالأول. والمعنى: ومكتوب عند الله مكرهم فهو يجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه. والثاني: أن يكون المكر مضافا إلى المفعول، والمعنى: وعند الله مكرهم الذي يمكر بهم وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون.
أما قوله تعالى: * (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) * فاعلم أنه قرأ الكسائي وحده * (لتزول) * بفتح اللام الأولى ورفع اللام الأخرى منه، والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية.
أما القراءة الأولى: فمعناها أن مكرهم كان معدا لأن تزول منه الجبال، وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه، بل التعظيم والتهويل وهو كقوله: * (تكاد السماوات ينفطرن منه) * (مريم: 90).
وأما القراءة الثانية: فالمعنى: أن لفظ " إن " في قوله؛ * (وإن كان مكرهم) * بمعنى " ما " واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد ومن سبيلها نصب الفعل المستقبل. والنحويون يسمونها لام الجحد ومثله قوله تعالى: * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * (آل عمران: 179). * (ما كان الله ليذر المؤمنين) * (آل عمران: 179) والجبال ههنا مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولأمر دين الإسلام وإعلامه ودلالته على معنى أن ثبوتها كثبوت الجبال الراسية
144

لأن الله تعالى وعد نبيه إظهار دينه على كل الأديان. ويدل على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية: * (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) * (إبراهيم: 47) أي قد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم. والمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد صلى الله عليه وسلم، ودلائل شريعته، وقرأ علي وعمرو: * (أن كان مكرهم) *.
قوله تعالى
* (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام) *
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) * (إبراهيم: 42) وقال في هذه الآية: * (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) * والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم يقم القيامة ولم ينتقم للمظلومين من الظالمين، لزم إما كونه غافلا وإما كونه مخلفا في الوعد، ولما تقرر في العقول السليمة أن كل ذلك محال كان القول بأنه لا يقيم القيامة باطلا وقوله: * (مخلف وعده رسله) * يعني قوله: * (إنا لننصر رسلنا) * (غافر: 51) وقوله: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * (المجادلة: 21).
فإن قيل: هلا قيل مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثاني على الأول؟
قلنا: ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا، إن الله لا يخلف الميعاد، ثم قال: * (رسله) * ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحدا وليس من شأنه إخلاف المواعيد فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته، وقرئ: * (مخلف وعد رسله) * بجر الرسل ونصب الوعد، والتقدير: مخلف رسله وعده، وهذه القراءة في الضعف، كمن قرأ قتل أولادهم شركائهم ثم قال: * (إن الله عزيزا) * أي غالب لا يماكر ذو انتقام لأوليائه.
قوله تعالى
* (يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار * وترى المجرمين يومئذ مقرنين فى الاصفاد * سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار * ليجزى الله كل
145

نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب * هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب) *
اعلم أن الله تعالى لما قال: * (عزيز ذو انتقام) * بين وقت انتقامه فقال: * (يوم تبدل الأرض غير الأرض) * وعظم من حال ذلك اليوم، لأنه لا أمر أعظم من العقول والنفوس من تغيير السماوات والأرض وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكر الزجاج في نصب يوم وجهين، إما على الظرف لانتقام أو على البدل من قوله: * (يوم يأتيهم العذاب) *.
المسألة الثانية: اعلم أن التبديل يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون الذات باقية وتتبدل صفتها بصفة أخرى. والثاني: أن تفنى الذات الأولى وتحدث ذات أخرى، والدليل على أن ذكر لفظ التبدل لإرادة التغير في الصفة جائز، أنه يقال بدلت الحلقة خاتما إذا أذبتها وسويتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل، ومنه قوله تعالى: * (فأولئك
يبدل الله سيئاتهم حسنات) * (الفرقان: 70) ويقال: بدلت قميصي جبة أي نقلت العين من صفة إلى صفة أخرى، ويقال: تبدل زيد إذا تغيرت أحواله، وأما ذكر لفظ التبديل عند وقوع التبدل في الذوات فكقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه قوله: * (بدلناهم جلودا غيرها) * (النساء: 56) وقوله: * (بدلناهم بجنتيهم جنتين) * (سبأ: 16) إذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان:
القول الأول: أن المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها، فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العاكظي فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا " وقوله: * (والسماوات) * أي تبدل السماوات غير السماوات، وهو كقوله عليه السلام: " لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده " والمعنى: ولا ذو عهد في عهده بكافر، وتبديل السماوات بانتثار كواكبها وانفطارها، وتكوير شمسها، وخسوف قمرها، وكونها أبوابا، وأنها تارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان.
146

والقول الثاني: أن المراد تبديل الذات. قال ابن مسعود: تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك عليها دم ولم تعمل عليها خطيئة، فهذا شرح هذين القولين، ومن الناس من رجح القول الأول قال لأن قوله: * (يوم تبدل الأرض) * المراد هذه الأرض، والتبدل صفة مضافة إليها، وعند حصول الصفة لا بد وأن يكون الموصوف موجودا، فلما كان الموصوف بالتبدل هو هذه الأرض وجب كون هذه الأرض باقية عند حصول ذلك التبدل، ولا يمكن أن تكون هذه الأرض باقية مع صفاتها عند حصول ذلك التبدل، وإلا لامتنع حصول التبدل، فوجب أن يكون الباقي هو الذات. فثبت أن هذه الآية تقتضي كون الذات باقية، والقائلون بهذا القول هم الذين يقولون: إن عند قيام القيامة لا يعدم الله الذوات والأجسام، وإنما يعدم صفاتها وأحوالها.
واعلم أنه لا يبعد أن يقال: المراد من تبديل الأرض والسماوات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم، ويجعل السماوات الجنة، والدليل عليه قوله تعالى: * (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين) * (المطففين: 18) وقوله: * (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين) * (المطففين: 7) والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وبرزوا لله الواحد القهار) * فنقول أما البروز لله فقد فسرناه في قوله تعالى: * (وبرزوا لله جميعا) * وإنما ذكر الواحد القهار ههنا، لأن الملك إذا كان لمالك واحد غلاب لا يغالب قهار لا يقهر فلا مستغاث لأحد إلى غيره فكال الأمر في غاية الصعوبة، ونظيره قوله: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * (غافر: 16) ولما وصف نفسه سبحانه بكونه قهارا بين عجزهم وذلتهم، فقال: * (وترى المجرمين يومئذ) *.
واعلم أنه تعالى ذكر في صفات عجزهم وذلتهم أمورا:
فالصفة الأولى: كونهم مقرنين في الأصفاد. يقال: قرنت الشيء بالشيء إذا شددته به ووصلته. والقرآن اسم للحبل الذي يشد به شيئان. وجاء ههنا على التكثير لكثرة أولئك القوم والأصفاد جمع صفد وهو القيد.
إذا عرفت هذا فنقول: في قوله: * (مقرنين) * ثلاثة أوجه: أحدها: قال الكلبي: مقرنين كل كافر مع شيطان في غل، وقال عطاء: هو معنى قوله: * (وإذا النفوس زوجت) * (التكوير: 70) أي قرنت فيقرن الله تعالى نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين، وأقول حظ البحث العقلي منه أن الإنسان إذا فارق الدنيا، فإما أن يكون قد راض نفسه وهذبها ودعاها إلى معرفة الله تعالى وطاعته ومحبته، أو ما فعل ذلك، بل تركها متوغلة في اللذات الجسدانية مقبلة على الأحوال الوهمية والخيالية، فإن كان الأول فتلك النفس تفارق مع تلك الجهة بالحضرة الإلهية، والسعادة
147

بالعناية الصمدانية، وإن كان الثاني فتلك النفس تفارق مع الأسف والحزن والبلاء الشديد، بسبب الميل إلى عالم الجسم، وهذا هو المراد بقوله: * (وإذا النفوس زوجت) * وشيطان النفس الكافرة هي الملكات الباطلة، والحوادث الفاسدة، وهو المراد من قول عطاء: إن كل كافر مع شيطانه يكون مقرونا في الأصفاد.
والقول الثاني: في تفسير قوله: * (مقرنين في الأصفاد) * هو قرن بعض الكفار ببعض، والمراد أن تلك النفوس الشقية والأرواح المكدرة الظلمانية، لكونها متجانسة متشاكلة ينضم بعضها إلى بعض، وتنادي ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى، فانحدار كل واحدة منها إلى الأخرى في تلك الظلمات، والخسارات هي المراد بقوله: * (مقرنين في الأصفاد) *.
والقول الثالث: قال زيد بن أرقم: قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال، وحظ العقل من ذلك أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء، فإذا كانت تلك الملكات ظلمانية كدرة، صارت في المثال كأن أيديها وأرجلها قرنت وغلت في رقابها. وأما قوله: * (في الأصفاد) * ففيه وجهان: أحدها: أن يكون ذلك متعلقا بمقرنين، والمعنى: يقربون بالأصفاد. والثاني: أن لا يكون متعلقا به، والمعنى: أنهم مقرنون مقيدون، وحظ العقل معلوم مما سلفت الإشارة إليه.
الصفة الثانية: قوله تعالى: * (سرابيلهم من قطران) * السرابيل جمع سربال وهو القميص، والقطران فيه ثلاث لغات: قطران وقطران وقطرن، بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء وبفتح القاف وكسر الطاء، وهو شيء يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل الجرب فيحرق الجرب بحرارته وحدته، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف، ومن شأنه أن يتسارع فيه اشتعال النار، وهو أسود اللون منتن الريح فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلي كالسرابيل، وهي القمص فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب، لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح، وأيضا التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين، وأقول حظ العقل من هذا أن جوهر الروح جوهر مشرق لامع من عالم القدس وغيبة الجلال، وهذا البدن جار مجرى السربال
والقميص له، وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم، فإنما يحصل بسبب هذا البدن، فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس، لأن الشهوة والحرص والغضب إنما تتسارع إلى جوهر الروح بسببه، وكونه للكثافة والكدورة والظلمة هو الذي يخفي لمعان الروح وضوءه وهو سبب لحصول النتن والعفونة، فتشبه هذا الجسد بسرابيل من القطران والقطر، وقرأ
148

بعضهم * (من قطران) * والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره. قال أبو بكر بن الأنباري: وتلك النار لا تبطل ذلك القطران ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (وتغشى وجوههم النار) * ونظيره قوله تعالى: * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة) * (الزمر: 24) وقوله: * (يوم يسحبون في النار على وجوههم) * (القمر: 48).
واعلم أن موضع المعرفة والنكرة والعلم والجهل هو القلب، وموضع الفكر والوهم والخيال هو الرأس. وأثر هذه الأحوال إنما تظهر في الوجه، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما فقال في القلب: * (نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة) * (الهمزة: 6، 7) وقال في الوجه: * (وتغشى وجوههم النار) * بمعنى تتغشى، ولما ذكر تعالى هذه الصفات الثلاثة قال: * (ليجزي الله كل نفس ما كسبت) * قال الواحدي: المراد منه أنفس الكفار لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان، وأقول يمكن إجراء اللفظ على عمومه، لأن لفظ الآية يدل على أنه تعالى يجزي كل شخص بما يليق بعمله وكسبه ولما كان كسب هؤلاء الكفار الكفر والمعصية، كان جزاؤهم هو هذا العقاب المذكور، ولما كان كسب المؤمنين الأيمان والطاعة، كان اللائق بهم هو الثواب وأيضا أنه تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم فلأن يثيب المطيعين على طاعتهم كان أولى.
ثم قال تعالى: * (إن الله سريع الحساب) * والمراد أنه تعالى لا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه. وحظ العقل منه أن الأخلاق الظلمانية هي المبادي لحصول الآلام الروحانية وحصول تلك الأخلاق في النفس على قدر صدور تلك الأعمال منهم في الحياة الدنيا، فإن الملكات النفسانية إنما تحصل في جوهر النفس بسبب الأفعال المتكررة، وعلى هذا التقدير فتلك الآلام تتفاوت بحسب تلك الأفعال في كثرتها وقلتها وشدتها وضعفها وذلك يشبه الحساب.
ثم قال تعالى: * (هذا بلاغ للناس) * أي هذا التذكير والموعظة بلاغ للناس، أي كفاية في الموعظة ثم اختلفوا فقيل: إن قوله هذا إشارة إلى كل القرآن، وقيل: بل إشارة إلى كل هذه السورة، وقيل: بل إشارة إلى المذكور من قوله: * (ولا تحسبن) * إلى قوله: * (سريع الحساب) * وأما قوله: * (ولينذروا به) * فهو معطوف على محذوف أي لينتصحوا: * (ولينذروا به) * أي بهذا البلاغ.
ثم قال: * (وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا في هذا الكتاب مرارا أن النفس الإنسانية لها شعبتان: القوة النظرية وكمال حالها في معرفة الموجودات بأقسامها وأجناسها وأنواعها حتى تصير النفس كالمرآة
149

التي يتجلى فيها قدس الملكوت ويظهر فيها جلال اللاهوت ورئيس هذه المعارف والجلاء، معرفة توحيد الله بحسب ذاته وصفاته وأفعاله.
والشعبة الثانية؛ القوة العملية وسعادتها في أن تصير موصوفة بالأخلاق الفاضلة التي تصير مبادي لصدور الأفعال الكاملة عنها، ورئيس سعادات هذه القوة طاعة الله وخدمته.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (وليعلموا أنما هو إله واحد) * إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة النظرية وقوله: * (وليذكر أولو الألباب) * إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة العملية فإن الفائدة في هذا التذكر، إنما هو الإعراض عن الأعمال الباطلة والإقبال على الأعمال الصالحة، وهذه الخاتمة كالدليل القاطع في أنه لا سعادة للإنسان إلا من هاتين الجهتين.
المسألة الثانية: هذه الآيات مشعرة بأن التذكير بهذه المواعظ والنصائح يوجب الوقوف على التوحيد والإقبال على العمل الصالح، والوجه فيه أن المرء إذا سمع هذه التخويفات والتحذيرات عظم خوفه واشتغل بالنظر والتأمل، فوصل إلى معرفة التوحيد والنبوة واشتغل بالأعمال الصالحة.
المسألة الثالثة: قال القاضي: أول هذه السورة وآخرها يدل على أن العبد مستقل بفعله، إن شاء أطاع وإن شاء عصى، أما أول هذه السورة فهو قوله تعالى: * (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) * (إبراهيم: 1) فإنا قد ذكرنا هناك أن هذا يدل على أن المقصود من إنزال الكتاب إرشاد الخلق كلهم إلى الدين والتقوى ومنعهم عن الكفر والمعصية، وأما آخر السورة فلأن قوله: * (وليذكر أولو الألباب) * يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذه السورة، وإنما ذكر هذه النصائح والمواعظ لأجل أن ينتفع الخلق بها فيصيروا مؤمنين مطيعين ويتركوا الكفر والمعصية، فظهر أن أول هذه السورة وآخرها متطابقان في إفادة هذا المعنى. واعلم أن الجواب المستقصى عنه مذكور في أول السورة فلا فائدة في الإعادة.
المسألة الرابعة: هذه الآية دالة على أنه لا فضيلة للإنسان ولا منقبة له إلا بسبب عقله، لأنه تعالى بين أنه إنما أنزل هذه الكتب، وإنما بعث الرسل لتذكير أولى الألباب، فلولا الشرف العظيم والمرتبة العالية لأولى الألباب لما كان الأمر كذلك.
150

سورة الحجر
مكية، إلا آية: 87، فمدنية وآياتها: 99، نزلت بعد سورة يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
* (الر تلك ءايات الكتاب وقرءان مبين * ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين * ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون) *
اعلم أن قوله: * (تلك) * إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات. والمراد بالكتاب والقرآن المبين الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمدا صلى الله عليه وسلم وتنكير القرآن للتفخيم، والمعنى: تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتابا وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان.
أما قوله: * (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وعاصم * (ربما) * خفيفة الباء والباقون مشددة قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربما، وقيس وبكر يثقلونها، وأقول في هذه اللفظة لغات، وذلك لأن الراء من
151

رب وردت مضمومة ومفتوحة، أما إذا كانت مضمومة فالباء قد وردت مشددة ومخففة وساكنة وعلى كل التقديرات تارة مع حرف ما، وتارة بدونها وأيضا تارة مع التاء وتارة بدونها وأنشدوا: أسمى ما يدريك أن رب فتية * باكرت لذتهم بأذكر مسرع
ورب بتسكين الباء وأنشدوا بيت الهذلي: أزهير أن يشب القذال فإنني * رب هيضل مرس كففت بهيضل
والهيضل جماعة متسلحة، وأيضا هذه الكلمة قد تجيء حالتي تشديد الباء وتخفيفها مع حرف " ما " كقولك: ربما وربما وتارة مع التاء، وحرف " ما " كقولك: ربتما وربتما هذا كله إذا كانت الراء من رب مضمونة وقد تكون مفتوحة، فيقال: رب وربما وربتما حكاه قطرب قال أبو علي: من الحروف ما دخل عليه حرف التأنيث، نحو: ثم وثمت، ورب وربت، ولا ولات، فهذه اللغات بأسرها رواها الواحدي في " البسيط ".
المسألة الثانية: رب حرف جر عند سيبويه، ويلحقها " ما " على وجهين: أحدهما: أن تكون نكرة بمعنى شيء، وذلك كقوله: رب ما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال
فما في هذا البيت اسم والدليل عليه عود الضمير إليه من الصفة، فإن المعنى رب شيء تكرهه النفوس وإذا عاد الضمير إليه كان اسما ولم يكن حرفا، كما أن قوله تعالى: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين) * (المؤمنون: 55) لما عاد الضمير إليه علمنا بذلك أنه اسم، ومما يدل على أن " ماء " قد يكون اسما إذا وقعت بعد رب وقوع من بعدها في قول الشاعر: يا رب من ينقص أزوادنا * رحن على نقصانه واغتدين
فكما دخلت رب على كلمة " من " وكانت نكرة، فكذلك تدخل على كلمة (ما) فهذا ضرب والضرب الآخر أن تدخل ما كافة كما في هذه الآية والنحويون يسمون ما هذه الكافة يريدون أنها بدخلوها كفت الحرف عن العمل الذي كان له، وإذا حصل هذا الكف فحينئذ تتهيأ للدخول على ما لم تكن تدخل عليه، ألا ترى أن رب إنما تدخل على الاسم المفرد نحو رب رجل يقول ذاك ولا تدخل على الفعل، فلما دخلت " ما " عليها هيأتها للدخول على الفعل كهذه الآية، والله أعلم.
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن رب موضوعة للتقليل، وهي في التقليل نظيرة كم في التكثير، فإذا قال الرجل: ربما زارنا فلان، دل ربما على تقليله الزيارة. قال الزجاج: ومن قال إن رب يعني بها الكثرة، فهو ضد ما يعرفه أهل اللغة، وعلى هذا التقدير: فههنا سؤال، وهو أن تمني
152

الكافر الإسلام مقطوع به، وكلما رب تفيد الظن، وأيضا أن ذلك التمني يكثر ويتصل، فلا يليق به لفظة * (ربما) * مع أنها تفيد التقليل.
والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن من عادة العرب أنهم إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظا وضع للتقليل، وإذا أرادوا اليقين ذكروا لفظا وضع للشك، والمقصود منه: إظهار التوقع والاستغناء عن التصريح بالغرض، فيقولون: ربما ندمت على ما فعلت، ولعلك تندم على فعلك، وإن كان العلم حاصلا بكثرة الندم ووجوده بغير شك، ومنه قول القائل: قد أترك القرن مصفرا أنامله
والوجه الثاني: في الجواب أن هذا التقليل أبلغ في التهديد، ومعناه: أنه يكفيك قليل الندم في كونه زاجرا عن هذا الفعل فكيف كثيره؟
والوجه الثالث: في الجواب أن يشغلهم العذاب عن تمني ذاك إلا في القليل.
المسألة الرابعة: اتفقوا على أن كلمة " رب " مختصة بالدخول على الماضي كما يقال: ربما قصدني عبد الله، ولا يكاد يستعمل المستقبل بعدها. وقال بعضهم: ليس الأمر كذلك والدليل عليه قول الشاعر: ربما تكره النفوس من الأمر
وهذا الاستدلال ضعيف، لأنا بينا أن كلمة " رب " في هذا البيت داخلة على الاسم وكلامنا في أنها إذا دخلت على الفعل وجب كون ذلك الفعل ماضيا، فأين أحدهما من الآخر؟ إلا أني أقول قول هؤلاء الأدباء إنه لا يجوز دخول هذه الكلمة على الفعل المستقبل لا يمكن تصحيحه بالدليل العقلي، وإنما الرجوع فيه إلى النقل والاستعمال، ولو أنهم وجدوا بيتا مشتملا على هذا الاستعمال لقالوا إنه جائز صحيح وكلام الله أقوى وأجل وأشرف، فلم لم يتمسكوا بوروده في هذه الآية على جوازه وصحته. ثم نقول إن الأدباء أجابوا عن هذا السؤال من وجهين: الأول: قالوا: إن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه، فكأنه قيل: ربما ودوا. الثاني: أن كلمة " ما " في قوله: * (ربما يود الذين كفروا) * اسم و * (يود) * صفة له، والتقدير: رب شيء يوده الذين كفروا. قال الزجاج: ومن زعم أن الآية على إضمار كان وتقديره ربما يود الذين كفروا فقد خرج بذلك عن قول سيبويه ألا ترى أن كان لا تضمر عنده ولم يجز عبد الله المقبول وأنت تريد كان عبد الله المقبول.
المسألة الخامسة: في تفسير الآية وجوه على مذهب المفسرين فإن كل أحد حمل قوله:
153

* (ربما يود الذين كفروا) * على محمل آخر، والأصح ما قاله الزجاج فإنه قال: الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب ورأى حالا من أحوال المسلم ود لو كان مسلما، وهذا الوجه هو الأصح. وأما المتقدمون فقد ذكروا وجوها. قال الضحاك: المراد منه ما يكون عند الموت، فإن الكافر إذا شاهد علامات العقاب ود لو كان مسلما. وقيل: إن هذه الحالة تحصل إذا اسودت وجوههم، وقيل: بل عند دخولهم النار ونزول العذاب، فإنهم يقولون: * (أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل) * (إبراهيم: 44) وروى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء من أهل القبلة قال الكفار لهم: ألستم مسلمين؟ قالوا بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم، وقد صرتم معنا في النار، فيتفضل الله تعالى بفضل رحمته، فيأمر بإخراج كل من كان من أهل القبلة من النار، فيخرجون منها، فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية. وعلى هذا القول أكثر المفسرين، وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما يزال الله يرحم المؤمنين، ويخرجهم من النار، ويدخلهم الجنة بشفاعة الأنبياء والملائكة، حتى أنه تعالى في آخر الأمر يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة. قال: فهنالك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. قال القاضي: هذه الروايات مبنية على أنه تعالى يخرج أصحاب الكبائر من النار، وعلى أن شفاعة الرسول مقبولة في إسقاط العقاب، وهذان الأصلان عنده مردودان، فعند هذا حمل هذا الخبر على وجه يطابق قوله ويوافق مذهبه وهو أنه تعالى يؤخر إدخال طائفة من المؤمنين الجنة بحيث يغلب على ظن هؤلاء الكفرة أنه تعالى لا يدخلهم الجنة، ثم إنه تعالى يدخلهم الجنة فيزداد غم الكفرة وحسرتهم وهناك يودون لو كانوا مسلمين، قال فبهذه الطريق تصحح هذه الأخبار والله أعلم.
فإن قيل: إذا كان أهل القيامة قد يتمنون أمثال هذه الأحوال وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقل ثوابه درجة المؤمن الذي يكثر ثوابه، والمتمني لما لم يجده يكون في الغصة وتألم القلب وهذا يقضي أن يكون أكثر المؤمنين في الغصة وتألم القلب.
قلنا: أحوال أهل الآخرة لا تقاس بأحوال أهل الدنيا، فالله سبحانه أرضى كل أحد بما فيه ونزع عن قلوبهم طلب الزيادات كما قال: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * (الحجر: 47) والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المعنى: دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك أخلاقهم ولا خلاق لهم في الآخرة وقوله: * (ويلههم الأمل) * يقال: لهيت عن الشيء الهى لهيا، وجاء في الحديث أن ابن
154

الزبير كان إذا سمع صوت الرعد لهى عن حديثه. قال الكسائي والأصمعي: كل شيء تركته فقد لهيت عنه وأنشد: صرمت حبالك فاله عنها زينب * ولقد أطلت عتابها لو تعتب
فقوله فاله عنها أي اتركها وأعرض عنها. قال المفسرون: شغلهم الأمل عند الأخذ بحظهم عن الإيمان والطاعة فسوف يعلمون.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون له مفسدة في الدين، والدليل عليه أنه تعالى قال لرسوله: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل) * فحكم بأن إقبالهم على التمتع واستغراقهم في طول الأمل يلهيهم عن الإيمان والطاعة ثم إنه تعالى أذن لهم فيها، وذلك يدل على المقصود. قالت المعتزلة: ليس هذا إذنا وتجويزا بل هذا تهديد ووعيد.
قلنا؛ ظاهر قوله: * (ذرهم) * إذن أقصى ما في الباب أنه تعالى نبه على أن إقبالهم على هذه الأعمال يضرهم في دينهم، وهذا عين ما ذكرناه من أنه تعالى أذن في شيء مع أنه نص على كون ذلك الشيء مفسدة لهم في الدين. المسألة الثالثة: دلت الآية على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين، وعن بعضهم التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين، والأخبار في ذم الأمل كثيرة فمنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنان: الحرص على المال وطول الأمل " وعنه صلى الله عليه وسلم أنه نقط ثلاث وقال: " هذا ابن آدم، وهذا الأمل، وهذا الأجل، ودون الأمل تسع وتسعون منية فإن أخذته إحداهن، وإلا فالهرم من ورائه " وعن علي عليه السلام أنه قال: إنما أخشى عليكم اثنين: طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق. والله أعلم.
قوله تعالى
* (ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم * ما تسبق من أمة أجلها وما يستاخرون) *
155

وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما توعد من قبل من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) * أتبعه بما يؤكد الزجر وهو قوله تعالى: * (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) * في الهلاك والعذاب وإنما يقع فيه التقديم والتأخير فالذين تقدموا كان وقت هلاكهم في الكتاب معجلا، والذين تأخروا كان وقت هلاكهم في الكتاب مؤخرا وذلك نهاية في الزجر والتحذير.
المسألة الثانية: قال قوم المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان الله ينزله بالمكذبين المعاندين كما بينه في قوم نوح وقوم هود وغيرهم، وقال آخرون: المراد بهذا الهلاك الموت. قال القاضي: والأقرب ما تقدم، لأنه في الزجر أبلغ، فبين تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل لأن العذاب مدخر، فإن لكل أمة وقتا
معينا في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وقال قوم آخرون: المراد بهذا الهلاك مجموع الأمرين وهو نزول عذاب الاستئصال ونزول الموت، لأن كل واحد منهما يشارك الآخر في كونه هلاكا، فوجب حمل اللفظ على القدر المشترك الذي يدخل فيه القسمان معا.
المسألة الثالثة: قال الفراء: لو لم تكن الواو مذكورة في قوله: * (ولها كتاب) * كان صوابا كما في آية أخرى وهي قوله: * (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) * (الشعراء: 208) وهو كما تقول: ما رأيت أحدا إلا وعليه ثياب وإن شئت قلت: إلا عليه ثياب.
أما قوله: * (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: من في قوله: * (من أمة) * زائدة مؤكدة كقولك: ما جاءني من أحد، وقال آخرون: إنها ليست بزائدة لأنها تفيد التبعيض أي هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد.
المسألة الثانية: قال صاحب " النظم " معنى سبق إذا كان واقعا على شخص كان معناه أنه جاز وخلف كقولك سبق زيد عمرا، أي جازه وخلفه وراءه، ومعناه أنه قصر عنه وما بلغه، وإذا كان واقعا على زمان كان بالعكس في ذلك، كقولك: سبق فلان عام كذا معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه فقوله: * (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) * معناه أنه لا يحصل ذلك الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده، بل إنما يحصل في ذلك الوقت بعينه، والسبب فيه أن اختصاص كل حادث بوقته المعين دون الوقت الذي قبله أو بعده ليس على سبيل الاتفاق الواقع، لا عن مرجح ولا عن مخصص فإن
156

رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح محال، وإنما اختص حدوثه بذلك الوقت المعين لأن إله العالم خصصه به بعينه، وإذا كان كذلك، فقدرة الإله وإرادته اقتضتا ذلك التخصيص، وعلمه وحكمته تعلقا بذلك الاختصاص بعينه، ولما كان تغير صفات الله تعالى أعني القدرة والإرادة والعلم والحكمة ممتنعا كان تغير ذلك الاختصاص ممتنعا.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا الدليل بعينه قائم في أفعال العباد أعني أن الصادر من زيد هو الإيمان والطاعة ومن عمرو هو الكفر والمعصية فوجب أن يمتنع دخول التغير فيهما.
فإن قالوا: هذا إنما يلزم لو كان المقتضي لحدوث الكفر والإيمان من زيد وعمرو هو قدرة الله تعالى ومشيئته. أما إذا قلنا: المقتضى لذلك هو قدرة زيد وعمرو ومشيئتهما سقط ذلك.
قلنا: قدرة زيد وعمرو مشيئتهما إن كانتا موجبتين لذلك الفعل المعين فخالق تلك القدرة والمشيئة الموجبتين لذلك الفعل هو الذي قدر ذلك الفعل بعينه فيعود الإلزام، وإن لم تكونا موجبتين لذلك الفعل بل كانتا صالحتين له ولضده، كان رجحان أحد الطرفين على الآخر لم يكن لمرجح، فقد عاد الأمر إلى أنه حصل ذلك الاختصاص لا لمخصص وهو باطل، وإن كان لمخصص فذلك المخصص إن كان هو العبد عاد البحث ولزم التسلسل، وإن كان هو الله تعالى فحينئذ يعود البحث إلى أن فعل العبد إنما تعين وتقدر بتخصيص الله تعالى، وحينئذ لا يعود الإلزام.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله، وأن من قال: يجوز بأن يموت قبل أجله فمخطئ.
فإن قالوا: هذا الاستدلال إنما يتم إذا حملنا قوله: * (وما أهلكنا) * على الموت أما إذا حملناه على عذاب الاستئصال فكيف يلزم.
قلنا: قوله: * (وما أهلكنا) * إما أن يدخل تحته الموت أو لا يدخل، فإن دخل الاستدلال ظاهر لازم وإن لم يدخل فنقول: إن ما لأجله وجب في عذاب الاستئصال أن لا يتقدم ولا يتأخر عن وقته المعين قائم في الموت، فوجب أن يكون الحكم ههنا كذلك، والله أعم.
قوله تعالى
* (قالوا يا أيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من
157

الصادقين * ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين * إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد الكفار ذكر بعده شبههم في إنكار نبوته.
فالشبهة الأولى: أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون، وفيه احتمالات: الأول: أنه عليه السلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون، والدليل عليه قوله: * (ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين) * (القلم: 51، 52) وأيضا قوله: * (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) * (الأعراف: 184). والثاني: أنم كانوا يستبعدون كونه رسولا حقا من عند الله تعالى، فالرجل إذا سمع كلاما مستبعدا من غيره فربما قال له هذا جنون وأنت مجنون لبعد ما يذكره من طريقة العقل، وقوله: * (إنك لمجنون) * في هذه الآية يحتمل الوجهين.
أما قوله: * (يا أيها الذين نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * ففيه وجهان: الأول: أنهم ذكروه على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون: * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * (الشعراء: 27) وكما قال قوم شعيب: * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * (هود: 87) وكما قال تعالى: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21) لأن البشارة بالعذاب ممتنعة. والثاني: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) * في زعمه واعتقاده، وعند أصحابه وأتباعه. ثم حكى عنهم أنهم قالوا في تقرير شبههم: * (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد لو كنت صادقا في ادعاء النبوة لأتيتنا بالملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدعيه من الرسالة، لأن المرسل الحكيم إذا حاول تحصيل أمر، وله
طريق يفضي إلى تحصيل ذلك المقصود قطعا، وطريق آخر قد يفضي وقد لا يفضي، ويكون في محل الشكوك والشبهات، فإن كان ذلك الحكيم أراد تحصيل ذلك المقصود، فإنه يحاول تحصيله بالطريق الأول لا بالطريق الثاني، وإنزال الملائكة الذين يصدقونك، ويقررون قولك طريق يفضي إلى حصول هذا المقصود قطعا، والطريق الذي تقرر به صحة نبوتك طريق في محل الشكوك والشبهات، فلو كنت صادقا في ادعاء النبوة لوجب في حكمة الله تعالى إنزال الملائكة الذين يصرحون بتصديقك وحيث لم تفعل ذلك علمنا أنك لست من النبوة في شيء، فهذا تقرير هذه الشبهة، ونظيرها قوله تعالى في سورة الأنعام: * (وقالوا لولا أنزل عليك ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر) * (الأنعام: 8) وفيه احتمال آخر: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب إن لم يؤمنوا به، فالقوم طالبوه بنزول العذاب وقالوا له: * (لو ما تأتينا بالملائكة) * الذين ينزلون عليك ينزلون علينا بذلك العذاب
158

الموعود، وهذا هو المراد بقوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب) * (العنكبوت: 53) ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: * (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) * فنقول: إن كان المراد من قولهم: * (لو ما تأتينا بالملائكة) * هو الوجه الأول، كان تقرير هذا الجواب أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وعند حصول الفائدة، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل عليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم، وعلى هذا التقرير فيصير إنزالهم عبثا باطلا، ولا يكون حقا، فلهذا السبب ما أنزلهم الله تعالى، وقال المفسرون: المراد بالحق ههنا الموت، والمعنى: أنهم لا ينزلون إلا بالموت، وإلا بعذاب الاستئصال، ولم يبق بعد نزولهم إنظار ولا إمهال، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة، فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة، وأما إن كان المراد من قوله تعالى: * (لو ما تأتينا بالملائكة) * استعجالهم في نزول العذاب الذي كان الرسول عليه السلام يتوعدهم به، فتقرير الجواب أن الملائكة لا تنزل إلا بعذاب الاستئصال، وحكمنا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن لا نفعل بهم ذلك، وأن نمهلهم لما علمنا من إيمان بعضهم، ومن إيمان أولاد الباقين.
المسألة الثانية: قال الفراء والزجاج: لولا ولو ما لغتان: معناهما: هلا ويستعملان في الخبر والاستفهام، فالخبر مثل قولك لولا أنت لفعلت كذا، ومنه قوله تعالى: * (لولا أنتم لكنا مؤمنين) * (سبأ: 31) والاستفهام كقولهم: * (لولا أنزل عليه ملك) * (الأنعام: 8) وكهذه الآية. وقال الفراء: لو ما الميم فيه بدل عن اللام في لولا، ومثله استولى على الشيء واستومى عليه، وحكى الأصمعي: خاللته وخالمته إذا صادقته، وهو خلى وخلمي أي صديقي.
المسألة الثالثة: قوله: * (ما ننزل الملائكة إلا بالحق) * قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: * (ما ننزل) * بالنون وبكسر الزاي والتشديد، والملائكة بالنصب لوقوع الإنزال عليها. والمنزل هو الله تعالى، وقرأ أبو بكر عن عاصم: * (ما تنزل) * عن فعل ما لم يسمى فاعله، والملائكة بالرفع. والباقون: ما تنزل الملائكة على إسناد فعل النزول إلى الملائكة والله أعلم.
المسألة الرابعة: قوله: * (وما كانوا إذا منظرين) * يعني: لو نزلت الملائكة لم ينظروا أي يمهلوا فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة. قال صاحب " النظم ": لفظ اذن مركبة من كلمتين: من إذا وهو اسم بمنزلة حين ألا ترى أنك تقول: أتيتك إذ جئتني أي حين جئتني. ثم ضم إليها أن، فصار إذ أن. ثم استثقلوا الهمزة، فحذفوها فصار إذن، ومجئ لفظة إذن دليل على اضمار فعل بعدها والتقدير: وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا وهذا تأويل حسن.
159

ثم قال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن القوم إنما قالوا: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) * (الحجر: 6) لأجل أنهم سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " إن الله تعالى نزل الذكر علي " ثم إنه تعالى حقق قوله في هذه الآية فقال: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *.
فأما قوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * فهذه الصيغة وإن كانت للجمع إلا أن هذا من كلام الملوك عند إظهار التعظيم فإن الواحد منهم إذا فعل فعلا أو قال قولا قال: إنا فعلنا كذا وقلنا كذا فكذا ههنا.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: * (له لحافظون) * إلى ماذا يعود؟ فيه قولان:
القول الأول: أنه عائد إلى الذكر يعني: وإنا نحفظ ذلك الذكر من التحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن: * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * (فصلت: 42) وقال: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82).
فإن قيل: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله فلا خوف عليه.
والجواب: أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أن حفظه قيضهم لذلك قال أصحابنا: وفي هذه الآية دلالة قوية على كون التسمية آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد بحفظ القرآن، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا من الزيادة والنقصان، فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كان القرآن مصونا عن التغيير، ولما كان محفوظا عن الزيادة ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أيضا أن يظن بهم النقصان، وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة.
والقول الثاني: أن الكناية في قوله: * (له) * راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى وإنا لمحمد لحافظون وهو قول الفراء، وقوى ابن الأنباري هذا القول فقال: لما ذكر الله الإنزال والمنزل دل ذلك على المنزل عليه فحسنت الكناية عنه، لكونه أمرا معلوما كما في قوله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) فإن هذه الكناية عائدة إلى القرآن مع أنه لم يتقدم ذكره وإنما حسنت الكناية للسبب المعلوم فكذا ههنا، إلا أن القول الأول أرجح القولين وأحسنهما مشابهة لظاهر التنزيل والله أعلم.
المسألة الثالثة: إذا قلنا الكناية عائدة إلى القرآن فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن قال بعضهم: حفظه بأن جعله معجزا مباينا لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة
فيه والنقصان عنه لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا عنه لتغير نظم القرآن فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن فصار كونه معجزا كإحاطة السور بالمدينة لأنه يحصنها ويحفظها، وقال آخرون: إنه تعالى صانه
160

وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته، وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه ويشهرونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف، وقال آخرون: المراد بالحفظ هو أن أحدا لو حاول تغييره بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا: هذا كذب وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان: أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا وكذا، فهذا هو المراد من قوله: * (وإنا له لحافظون) *.
واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير، إما في الكثير منه أو في القليل، وبقاء هذا الكتاب مصونا عن جميع جهات التحريف مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات وأيضا أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظا عن التغيير والتحريف، وانقضى الآن قريبا من ستمائة سنة فكان هذا إخبارا عن الغيب، فكان ذلك أيضا معجزا قاهرا.
المسألة الرابعة: احتج القاضي بقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * على فساد قول بعض الإمامية في أن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان قال: لأنه لو كان الأمر كذلك لما بقي القرآن محفوظا، وهذا الاستدلال ضعيف، لأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه، فالإمامية الذين يقولون إن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان، لعلهم يقولون إن هذه الآية من جملة الزوائد التي ألحقت بالقرآن، فثبت أن إثبات هذا المطلوب بهذه الآية يجري مجرى إثبات الشيء نفسه وأنه باطل والله أعلم.
* (ولقد أرسلنا من قبلك فى شيع الاولين * وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين * لا يؤمنون به وقد خلت سنة الاولين) *
اعلم أن القوم لما أساؤوا في الأدب وخاطبوه بالسفاهة وقالوا: إنك لمجنون، فالله تعالى ذكر
161

أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء هكذا كانت. ولك أسوة في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم بجميع الأنبياء عليهم السلام، فهذا هو الكلام في نظم الآية وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية محذوف والتقدير: ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه. وقوله: * (في شيع الأولين) * أي في أمم الأولين وأتباعهم. قال الفراء: الشيع الأتباع واحدهم شيعة وشيعة الرجل أتباعه، والشيعة الأمة سموا بذلك، لأن بعضهم شايع بعضا وشاكله، وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: * (أو يلبسكم شيعا) * (الأنعام: 65) قال الفراء: وقوله: * (في شيع الأولين) * من إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله: * (لحق اليقين) * (الحاقة: 51) وقوله: * (بجانب الغربي) * (القصص: 44) وقوله: * (وذلك دين القيمة) * (البينة: 5) أما قوله: * (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون) * أي عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء والرسل ذلك الاستهزاء بهم كما فعلوا بك ذكره تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن السبب الذي يحمل هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة أمور. الأول: أنهم يستثقلون التزام الطاعات والعبادات والاحتراز عن الطيبات واللذات. والثاني: أن الرسول يدعوهم إلى ترك ما ألفوه من أديانهم الخبيثة ومذاهبهم الباطلة، وذلك شاق شديد على الطباع. والثالث: أن الرسول متبوع مخدوم والأقوام يجب عليهم طاعته وخدمته وذلك أيضا في غاية المشقة. والرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون فقيرا ولا يكون له أعوان وأنصار ولا مال ولا جاه فالمتنعمون والرؤساء يثقل عليهم خدمة من يكون بهذه الصفة. والخامس: خذلان الله لهم وإلقاء دواعي الكفر والجهل في قلوبهم، وهذا هو السبب الأصلي؛ فلهذه الأسباب وما يشبهها تقع الجهال والضلال مع أكابر الأنبياء عليهم السلام في هذه الأعمال القبيحة والأفعال المنكرة.
أما قوله تعالى: * (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: السلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط والرمح في المطعون، وقيل: في قوله: * (ما سلككم في سفر) * (المدثر: 42) أي أدخلكم في جهنم. وذكر أبو عبيدة وأبو عبيد: سلكته وأسلكته بمعنى واحد.
المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار، فقالوا: قوله * (كذلك نسلكه) * أي كذلك نسلك الباطل والضلال في قلوب المجرمين، قالت المعتزلة: لم يجر للضلال والكفر ذكر فيما قبل هذا اللفظ، فلا يمكن أن يكون الضمير عائدا إليه لا يقال: إنه تعالى قال: * (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) * وقوله: * (يستهزئون) * يدل على الاستهزاء، فالضمير في قوله: * (كذلك نسلكه) * عائد إليه، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال،
162

فثبت صحة قولنا المراد من قوله: * (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) * هو أنه كذلك نسلك الكفر والضلال والاستهزاء بأنبياء الله تعالى ورسله في قلوب المجرمين، لأنا نقول: إن كان الضمير في قوله: * (كذلك نسلكه) * عائدا إلى الاستهزاء وجب أن يكون الضمير في قوله: * (لا يؤمنون به) * عائدا أيضا إلى الاستهزاء لأنهما ضميران تعاقبا وتلاصقا، فوجب عودهما إلى شيء واحد فوجب أن لا يكونوا مؤمنين بذلك الاستهزاء، وذلك يوجب التناقض، لأن الكافر لا بد وأن يكون مؤمنا بكفره، والذي لا يكون كذلك هو المسلم العالم ببطلان الكفر فلا يصدق به، وأيضا فلو كان تعالى هو الذي يسلك الكفر في قلب الكافر ويخلقه فيه فما أحد أولى بالعذر من هؤلاء الكفار، ولكان على هذا التقدير يمتنع أن يذمهم في الدنيا وأن يعاقبهم في الآخرة عليه، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على هذ الوجه فنقول: التأويل الصحيح أن الضمير في قوله تعالى: * (كذلك نسلكه) * عائد إلى الذكر الذي هو القرآن فإنه تعالى قال قبل هذه الآية: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * وقال بعده: * (كذلك نسلكه) * أي هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين، والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ويخلق فيها العلم بمعانيه
وبين أنهم لجهلهم وإصرارهم لا يؤمنون به مع هذه الأحوال عنادا وجهلا، فكان هذا موجبا للحوق الذم الشديد بهم، ويدل على صحة هذا التأويل وجهان: الأول: أن الضمير في قوله: * (لا يؤمنون به) * عائد إلى القرآن بالإجماع فوجب أن يكون الضمير في قوله: * (كذلك نسلكه) * عائدا إليه أيضا لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد. والثاني: أن قوله: * (كذلك) * معناه: مثل ما عملنا كذا وكذا نعمل هذا السلك فيكون هذا تشبيها لهذا السلك بعمل آخر ذكره الله تعالى قبل هذه الآية من أعمال نفسه، ولم يجر لعمل من أعمال الله ذكر في سابقة هذه الآية إلا قوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * فوجب أن يكون هذا معطوفا عليه ومشبها به، ومتى كان الأمر كذلك كان الضمير في قوله: * (نسلكه) * عائدا إلى الذكر وهذا تمام تقرير كلام القوم. والجواب: لا يجوز أن يكون الضمير في قوله: * (نسلكه) * عائدا على الذكر، ويدل عليه وجوه:
الوجه الأول: أن قوله: * (كذلك نسلكه) * مذكور بحرف النون، والمراد منه إظهار نهاية التعظيم والجلالة، ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلا يظهر له أثر قوي كامل بحيث صار المنازع والمدافع له مغلوبا مقهورا. فأما إذا فعل فعلا ولم يظهر له أثر البتة، صار المنازع والمدافع غالبا قاهرا، فإن ذكر اللفظ المشعر بنهاية العظمة والجلالة يكون مستقبحا في هذا المقام، والأمر ههنا كذلك لأنه تعالى سلك أسماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به، ثم إنه
163

لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله تعالى كالهدر الضائع، وصار الكافر والشيطان كالغالب الدافع، وإذا كان كذلك كان ذكر النون المشعر بالعظمة والجلالة في قوله: * (نسلكه) * غير لائق بهذا المقام، فثبت بهذا التأويل الذي ذكروه فاسد.
والوجه الثاني: أنه لو كان المراد ما ذكروه لوجب أن يقال: * (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) * ولا يؤمنون به، أي ومع هذا السعي العظيم في تحصيل إيمانهم لا يؤمنون أما ما لم يذكر الواو فعلمنا أن قوله: * (لا يؤمنون به) * كالتفسير، والبيان لقوله: * (نسلكه في قلوب المجرمين) * وهذا إنما يصح إذا كان المراد أنا نسلك الكفر والضلال في قلوبهم.
والوجه الثالث: أن قوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * (الحجر: 9) بعيد، وقوله: * (يستهزئون) * قريب، وعود الضمير إلى أقرب المذكورات هو الواجب. أما قوله: لو كان الضمير في قوله: * (نسلكه) * عائدا إلى الاستهزاء لكان في قوله؛ * (لا يؤمنون به) * عائدا إليه، وحينئذ يلزم التناقض.
قلنا: الجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن مقتضى الدليل عود الضمير إلى أقرب المذكورات، ولا مانع من اعتبار هذا الدليل في الضمير الأول وحصل المانع من اعتباره في الضمير الثاني فلا جرم قلنا: الضمير الأول عائد إلى الاستهزاء، والضمير الثاني عائد إلى الذكر، وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة ليس بقليل في القرآن، أليس أن الجبائي والكعبي والقاضي قالوا في قوله تعالى: * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين * فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) * (الأعراف: 189، 190) فقالوا هذه الضمائر من أول الآية إلى قوله: * (جعلا له شركاء) * عائدة إلى آدم وحواء، وأما في قوله: * (جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) * عائدة إلى غيرهما، فهذا ما اتفقوا عليه في تفاسيرهم، وإذا ثبت هذا ظهر أنه لا يلزم من تعاقب الضمائر عودها إلى شيء واحد بل الأمر فيه موقوف على الدليل فكذا ههنا والله أعلم.
والوجه الثاني: في الجواب قال بعض الأدباء من أصحابنا قوله: * (لا يؤمنون به) * تفسير للكناية في قوله: * (نسلكه) * والتقدير: كذلك نسلك في قلوب المجرمين أن لا يؤمنوا به والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به.
والوجه الثالث: وهو أنا بينا بالبراهين العقلية القاهرة أن حصول الإيمان والكفر يمتنع أن يكون بالعبد، وذلك لأن كل أحد إنما يريد الإيمان والصدق، والعلم والحق، وأن أحدا
164

لا يقصد تحصيل الكفر والجهل والكذب فلما كان كل أحد لا يقصد إلا الإيمان والحق ثم إنه لا يحصل ذلك، وإنما يحصل الكفر والباطل، علمنا أن حصول ذلك الكفر ليس منه.
فإن قالوا: إنما حصل ذلك الكفر لأنه ظن أنه هو الإيمان: فنقول: فعلى هذا التقدير إنما رضي بتحصيل ذلك الجهل لأجل جهل آخر سابق عليه فينقل الكلام إلى ذلك الجهل السابق فإن كان ذلك لأجل جهل آخر لزم التسلسل وهو محال، وإلا وجب انتهاء كل الجهالات إلى جهل أول سابق حصل في قلبه لا بتحصيله بل بتخليق الله تعالى، وذلك هو الذي قلناه: أن المراد من قوله: * (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون) * والمعنى: نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به، وهو أنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها، وأيضا قدماء المفسرين مثل ابن عباس وتلامذته أطبقوا على تفسير هذه الآية بأنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها، والتأويل الذي ذكره المعتزلة تأويل مستحدث لم يقل به أحد من المتقدمين، فكان مردودا، وروى القاضي عن عكرمة أن المراد كذلك نسلك القسوة في قلوب المجرمين، ثم قال القاضي: إن القسوة لا تحصل إلا من قبل الكافر بأن يستمر على كفره ويعاند، فلا يصح إضافته إلى الله تعالى، فيقال للقاضي: إن هذا يجري مجرى المكابرة، وذلك لأن الكافر يجد من نفسه نفرة شديدة عن قبول قول الرسول ونبوة عظيمة عنه حتى أنه كلما رآه تغير لونه واصفر وجهه، وربما ارتعدت أعضاؤه ولا يقدر على الالتفات إليه والاصغاء لقوله، فحصول هذه الأحوال في قلبه أمر اضطراري لا يمكنه دفعها عن نفسه، فكيف يقال: إنها حصلت بفعله واختياره؟
فإن قالوا: إنه يمكنه ترك هذه الأحوال، والرجوع إلى الانقياد والقبول فنقول هذا مغالطة محضة، لأنك إن أردت أنه مع حصول هذه النفرة الشديدة في القلب، والنبوة
العظيمة في النفس يمكنه أن يعود إلى الإنقياد والقبول والطاعة والرضا فهذا مكابرة، وإن أردت أن عند زوال هذه الأحوال النفسانية يمكنه العود إلى القبول والتسليم فهذا حق، إلا أنه لا يمكنه إزالة هذه الدواعي والصوارف عن القلب فإنه إن كان الفاعل لها هو الإنسان لافتقر في تحصيل هذه الدواعي والصوارف إلى دواعي سابقة عليها ولزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال، وإن كان الفاعل لها هو الله تعالى فحينئذ يصح أنه تعالى هو الذي يسلك هذه الدواعي والصوارف في القلوب وذلك عين ما ذكرناه والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وقد خلت سنة الأولين) * ففيه قولان: الأول: أنه تهديد لكفار مكة يقول قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل في القرون الماضية. الثاني: وهو قول الزجاج: وقد
165

مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم، وهذا أليق بظاهر اللفظ.
قوله تعالى
* (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) *
اعلم أن هذا الكلام هو المذكور في سورة الأنعام في قوله: * (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) * (الأنعام: 7) والحاصل: أن القوم لما طلبوا نزول ملائكة يصرحون بتصديق الرسول عليه السلام في كونه رسولا من عند الله تعالى بين الله تعالى في هذه الآية أن بتقدير أن يحصل هذا المعنى لقال الذين كفروا هذا من باب السحر وهؤلاء الذين يظن أنا نراهم فنحن في الحقيقة لا نراهم. والحاصل: أنه لما علم الله تعالى أنه لا فائدة في نزول الملائكة فلهذا السبب ما أنزلهم.
فإن قيل: كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يصيروا شاكرين في وجود ما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح، ولو جاز حصول الشك في ذلك كانت السفسطة لازمة، ولا يبقى حينئذ اعتماد على الحس والمشاهدة.
أجاب القاضي عنه: بأنه تعالى ما وصفهم بالشك فيما يبصرون، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول، وقد يجوز أن يقدم الإنسان على الكذب على سبيل العناد والمكابرة، ثم سأل نفسه وقال: أفيصح من الجمع العظيم أن يظهروا الشك في المشاهدات. وأجاب بأنه يصح ذلك إذا جمعهم عليه غرض صحيح معتبر من مواطأة على دفع حجة أو غلبة خصم، وأيضا فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصومين، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم إنزال الملائكة، وهذا السؤال ما كان إلا من رؤساء القوم، وكانوا قليلي العدد، وإقدام العدد القليل على ما يجري مجرى المكابرة جائز.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (فظلوا فيه يعرجون) * يقال: ظل فلان نهاره يفعل كذا إذا فعله بالنهار ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل عمل بالنهار، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل، والمصدر الظلول، وقوله: * (فيه يعرجون) * يقال: عرج يعرج عروجا، ومنه المعارج، وهي المصاعد التي يصعد فيها، وللمفسرين في هذه الآية قولان:
166

القول الأول: أن قوله: * (فظلوا فيه يعرجون) * من صفة المشركين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه، وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله.
القول الثاني: أن هذه العروج للملائكة، والمعنى: أنه تعالى لو جعل هؤلاء الكفار بحيث يروا أبوابا من السماء مفتوحة وتصعد منها الملائكة وتنزل لصرفوا ذلك عن وجهه، ولقالوا: إن السحرة سحرونا وجعلونا بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها وقوله: * (لقالوا إنما سكرت أبصارنا) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير * (سكرت) * بالتخفيف، والباقون مشددة الكاف قال الواحدي سكرت غشيت وسددت بالسحر هذا قول أهل اللغة قالوا: وأصله من السكر وهو سد الشق لئلا ينفجر الماء، فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري، والتشديد يوجب زيادة وتكثيرا وقال أبو عمرو بن العلاء: هو مأخوذ من سكر الشراب يعني أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل فإذا كان هذا معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد أخرى، وقال أبو عبيدة: * (سكرت أبصارنا) * أي غشيت أبصارنا فوجب سكونها وبطلانها، وعلى هذا القول أصله من السكون يقال: سكرت الريح سكرا إذا سكنت وسكر الحر يسكر وليلة ساكرة لا ريح فيها وقال أوس: جذلت على ليلة ساهرة * فليست بطلق ولا ساكره
ويقال: سكرت عينه سكرا إذا تحيرت وسكنت عن النظر وعلى هذا معنى سكرت أبصارنا، أي سكنت عن النظر وهذا القول اختيار الزجاج. وقال أبو علي الفارسي: سكرت صارت بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها، وكان معنى السكر قطع الشيء عن سننه الجاري، فمن ذلك تسكير الماء وهو رده عن سننه في الجرية، والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في الصحو، فهذه أقوال أربعة في تفسير * (سكرت) * وهي في الحقيقة متقاربة، والله أعلم.
المسألة الثانية: قال الجبائي: من جوز قدرة السحرة على أن يأخذوا بأعين الناس حتى يروهم الشيء على خلاف ما هو عليه لم يصح إيمانه بالأنبياء والرسل، وذلك لأنهم إذا جوزوا ذلك فلعل
167

هذا الذي يرى أنه محمد بن عبد الله ليس هو ذلك الرجل وإنما هو شيطان، ولعل هذه المعجزات التي نشاهدها ليس لها حقائق، بل هي تكون من باب الآراء الباطلة من
ذلك الساحر، وإذا حصل هذا التجويز بطل الكل. والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) *
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة منكري النبوة، وكان قد ثبت أن القول بالنبوة مفرع على القول بالتوحيد أتبعه تعالى بدلائل التوحيد. ولما كانت دلائل التوحيد منها سماوية، ومنها أرضية، بدأ منها بذكر الدلائل السماوية، فقال: * (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين) * قال الليث: البرج واحد من بروج الفلك، والبروج جمع وهي اثنا عشر برجا، ونظيره قوله تعالى: * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) * (الفرقان: 61) وقال: * (والسماء ذات البروج) * (البروج: 1) ووجه دلالتها على وجود الصانع المختار، هو أن طبائع هذه البروج مختلفة على ما هو متفق عليه بين أرباب الأحكام، وإذا كان الأمر كذلك فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة في الماهية والأبعاض المختلفة في الحقيقة، وكل مركب فلا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء والأبعاض بحسب الاختيار والحكمة، فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار، وهو المطلوب، وأما قوله: * (وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) * فقد استقصينا الكلام فيه في سورة الملك في تفسير قوله تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) * (الملك: 5) فلا نعيد ههنا إلا القدر الذي لا بد منه قوله: * (وزيناها) * أي بالشمس والقمر والنجوم * (للناظرين) * أي للمعتبرين بها والمستدلين بها على توحيد صانعها وقوله: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) *.
فإن قيل: ما معنى وحفظناها من كل شيطان رجيم، والشيطان لا قدرة له على هدم السماء فأي حاجة إلى حفظ السماء منه.
قلنا: لما منعه من القرب منها، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان فحفظ الله السماء منهم كما قد
168

يحفظ منازلنا عن متجسس يخشى منه الفساد ثم نقول: معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة. ثم قيل للقتيل رجم تشبيها له بالرجم بالحجارة، والرجم أيضا السب والشتم لأنه رمي بالقول القبيح ومنه قوله: * (لأرجمنك) * أي لأسبنك، والرجم اسم لكل ما يرمى به، ومنه قوله: * (وجعلناها رجوما للشياطين) * (الملك: 5) أي مرامي لهم، والرجم القول بالظن، ومنه قوله: * (رجما بالغيب) * (الكهف: 22) لأنه يرميه بذلك الظن والرجم أيضا اللعن والطرد، وقوله الشيطان الرجيم، قد فسروه بكل هذه الوجوه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات، فكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاثة سماوات، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها، فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع رمى بشهاب. وقوله: * (إلا من استرق السمع) * لا يمكن حمل لفظة * (إلا) * ههنا على الاستثناء، بدليل أن إقدامهم على استراق السمع لا يخرج السماء من أن تكون محفوظة منهم إلا أنهم ممنوعون من دخولها، وإنما يحاولون القرب منها، فلا يصح أن يكون استثناء على التحقيق، فوجب أن يكون معناه: لكن من استرق السمع. قال الزجاج: موضع * (من) * نصب على هذا التقدير. قال: وجائز أن يكون في موضع خفض، والتقدير: إلا ممن. قال ابن عباس: في قوله: * (إلا من استرق السمع) * يريد الخطفة اليسيرة، وذلك لأن المارد من الشياطين يعلو فيرمى بالشهاب فيحرقه ولا يقتله، ومنهم من يحيله فيصير غولا يضل الناس في البراري. وقوله: * (فأتبعه) * ذكرنا معناه في سورة الأعراف في قصة بلعم بن باعورا في قوله: * (فأتبعه الشيطان) * (الأعراف: 175) معناه لحقه، والشهاب شعلة نار ساطع، ثم يسمى الكواكب شهابا، والسنان شهابا لأجل أنهما لما فيهما من البريق يشبهان النار.
واعلم أن في هذا الموضع أبحاثا دقيقة ذكرناها في سورة الملك وفي سورة الجن، ونذكر منها ههنا إشكالا واحدا، وهو أن لقائل أن يقول: إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السماوات ويختلط بالملائكة ويسمع أخبار الغيوب عنهم، ثم إنها تنزل وتلقي تلك الغيوب على الكهنة فعلى هذا التقدير وجب أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزا لأن كل غيب يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم قام فيه هذا الاحتمال وحينئذ يخرج عن كونه معجزا دليلا على الصدق، لا يقال إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم لأنا نقول هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمد رسولا وكون القرآن حقا، والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز، وكون الإخبار عن الغيب معجزا لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو باطل محال، ويمكن أن يجاب عنه بأنا نثبت كون محمد صلى الله عليه وسلم
169

رسولا بسائر المعجزات، ثم بعد العلم بنبوته نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق، وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيوب معجز، وبهذا الطريق يندفع الدور. والله أعلم.
قوله تعالى
* (والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شىء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين) *
علم أنه تعالى لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية، وهي أنواع:
النوع الأول: قوله تعالى: * (والأرض مددناها) * قال ابن عباس بسطناها على وجه الماء، وفيه احتمال آخر، وذلك لأن الأرض جسم، والجسم هو الذي يكون ممتدا في الجهات الثلاثة، وهي الطول والعرض والثخن، وإذا كان كذلك، فتمدد جسم الأرض في هذه الجهات الثلاثة مختص بمقدار معين لما ثبت أن كل جسم فإنه يجب أن يكون متناهيا وإذا كان كذلك كان تمدد جسم الأرض مختصا بمقدار معين مع أن الازدياد عليه معقول، والانتقاص عنه أيضا معقول، وإذا كان كذلك كان
اختصاص ذلك التمدد بذلك القدر المقدر مع جواز حصول الأزيد والأنقص اختصاصا بأمر جائز وذلك يجب أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر، وهو الله سبحانه وتعالى.
فإن قيل: هل يدل قوله: * (والأرض مددناها) * على أنها بسيطة؟
قلنا: نعم لأن الأرض بتقدير كونها كرة، فهي كرة في غاية العظمة، والكرة العظيمة يكون كل قطعة صغيرة منها، إذا نظر إليها فإنها ترى كالسطح المستوي، وإذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال، والدليل عليه قوله تعالى: * (والجبال أوتادا) * (النبأ: 7) سماها أوتادا مع أنه قد يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية، فكذا ههنا.
النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: * (وألقينا فيها رواسي) * وهي الجبال الثوابت، واحدها رأسي، والجمع راسية، وجمع الجمع رواسي، وهو كقوله تعالى: * (وألقى
170

في الأرض رواسي أن تميد بكم) * (النحل: 15) وفي تفسيره وجهان:
الوجه الأول: قال ابن عباس: لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكيلا تميل بأهلها.
فإن قيل: أتقولون إنه تعالى خلق الأرض بدون الجبال فمالت بأهلها فخلق فيها الجبال بعد ذلك أو تقولون إن الله خلق الأرض والجبال معا.
قلنا: كلا الوجهين محتمل.
والوجه الثاني: في تفسير قوله: * (وألقينا فيها رواسي) * يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال وهذا الوجه ظاهر الاحتمال.
النوع الثالث: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: * (وأنبتنا فيها من كل شيء موزون) * وفيه بحثان:
البحث الأول: أن الضمير في قوله: * (وأنبتنا فيها) * يحتمل أن يكون راجعا إلى الأرض وأن يكون راجعا إلى الجبال الرواسي، إلا أن رجوعه إلى الأرض أولى لأن أنواع النبات المنتفع بها إنما تتولد في الأراضي، فأما الفواكه الجبلية فقليلة النفع، ومنهم من قال: رجوع ذلك الضمير إلى الجبال أولى، لأن المعادن إنما تتولد في الجبال، والأشياء الموزونة في العرف والعادة هي المعادن لا النبات.
البحث الثاني: اختلفوا في المراد بالموزون وفيه وجوه:
الوجه الأول: أن يكون المراد أنه متقدر بقدر الحاجة. قال القاضي: وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى يعلم المقدار الذي يحتاج إليه الناس وينتفعون به فينبت تعالى في الأرض ذلك المقدار، ولذلك أتبعه بقوله: * (وجعلنا لكم فيها معايش) * لأن ذلك الرزق الذي يظهر بالنبات يكون معيشة لهم من وجهين: الأول: بحسب الأكل والانتفاع بعينه. والثاني: أن ينتفع بالتجارة فيه، والقائلون بهذا القول قالوا: الوزن إنما يراد لمعرفة المقدار فكان إطلاق لفظ الوزن لإرادة معرفة المقدار من باب اطلاق اسم السبب على المسبب قالوا: ويتأكد ذلك أيضا بقوله تعالى: * (وكل شيء عنده بمقدار) * (الرعد: 8) وقوله: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * (الحجر: 21).
والوجه الثاني: في تفسير هذا اللفظ أن هذا العالم عالم الأسباب والله تعالى إنما يخلق المعادن والنبات والحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم، فلا بد وأن يحصل من الأرض قدر مخصوص
171

ومن الماء والهواء كذلك، ومن تأثير الشمس والكواكب في الحر والبرد مقدار مخصوص، ولو قدرنا حصول الزيادة على ذلك القدر المخصوص، أو النقصان عنه لم تتولد المعادن والنبات والحيوان فالله سبحانه وتعالى قدرها على وجه مخصوص بقدرته وعلمه وحكمته فكأنه تعالى وزنها بميزان الحكمة حتى حصلت هذه الأنواع. والوجه الثالث: في تفسير هذا اللفظ أن أهل العرف يقولون: فلان موزون الحركات أي حركات متناسبة حسنة مطابقة للحكمة، وهذا الكلام كلام موزون إذا كان متناسبا حسنا بعيدا عن اللغو والسخف فكان المراد منه أنه موزون بميزان الحكمة والعقل، وبالجملة فقد جعلوا لفظ الموزون كناية عن الحسن والتناسب، فقوله: * (وأنبتنا فيها من كل شيء موزون) * أي متناسب محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة ومطابقة المصلحة.
والوجه الرابع: في تفسير هذا اللفظ أن الشيء الذي ينبت من الأرض نوعان: المعادن والنبات: أما المعادن فهي بأسرها موزونة وهي الأجساد السبعة والأحجار والأملاح والزاجات وغيرها. وأما النبات فيرجع عاقبتها إلى الوزن، لأن الحبوب توزن، وكذلك الفواكه في الأكثر والله أعلم. وقوله تعالى: * (وجعلنا لكم فيها معايش) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكرنا الكلام في المعايش في سورة الأعراف وقوله: * (ومن لستم له برازقين) * فيه قولان:
القول الأول: أنه معطوف على محل لكم، والتقدير: وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين.
والقول الثاني: أنه عطف على قوله: * (معايش) * والتقدير: وجعلنا لكم معايش ومن لستم له برازقين، وعلى هذا القول ففيه احتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأول: أن كلمة " من " مختصة بالعقلاء فوجب أن يكون المراد من قوله: * (ومن لستم له برازقين) * العقلاء وهم العيال والمماليك والخدم والعبيد، وتقرير الكلام أن الناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد، وذلك خطأ فإن الله هو الرزاق يرزق الخادم والمخدوم، والمملوك والمالك فإنه لولا أنه
تعالى خلق الأطعمة والأشربة، وأعطى القوة الغاذية والهاضمة، وإلا لم يحصل لأحد رزق.
والاحتمال الثاني: وهو قول الكلبي قال: المراد بقوله: * (ومن لستم له برازقين) * الوحش والطير.
فإن قيل: كيف يصح هذا التأويل مع أن صيغة من مختصة بمن يعقل؟
قلنا: الجواب عنه من وجهين: الأول: أن صيغة من قد وردت في غير العقلاء، والدليل عليه
172

قوله تعالى: * (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) * (النور: 45). والثاني: أنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقا على الله حيث قال: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها) * (هود: 6) فكأنها عند الحاجة تطلب أرزاقها من خالقها فصارت شبيهة بمن يعقل من هذه الجهة، فلم يبعد ذكرها بصيغة من يعقل، ألا ترى أنه قال: * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) * (النحل: 18) فذكرها بصيغة جمع العقلاء، وقال في الأصنام: * (فإنهم عدو لي) * (الشعراء: 77) وقال: * (كل في فلك يسبحون) * (الأنبياء: 33) فكذا ههنا لا يبعد إطلاق اللفظة المختصة بالعقلاء على الوحش والطير لكونها شبيهة بالعقلاء من هذه الجهة وسمعت في بطن الحكايات أنه قلت المياه في الأودية والجبال واشتد الحر في عام من الأعوام فحكى عن بعضهم أنه رأى بعض الوحش رافعا رأسه إلى السماء عند اشتداد عطشه قال: فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت بحيث امتلأت الأودية منها.
والاحتمال الثالث: أنا نحمل قوله: * (ومن لستم له برازقين) * على الإماء والعبيد، وعلى الوحش والطير، وإنما أطلق عليها صيغة من تغليبا لجانب العقلاء على غيرهم.
المسألة الثانية: قوله: * (ومن لستم له برازقين) * لا يجوز أن يكون مجرورا عطفا على الضمير المجرور في لكم، لأنه لا يعطف على الضمير المجرور، لا يقال أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) * (الأحزاب: 7).
واعلم أن هذا المعنى جائز على قراءة من قرأ: * (تساءلون به والأرحام) * (النساء: 1) بالخفض وقد ذكرنا هذه المسألة هنالك. والله أعلم.
* (وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم * وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين) *
اعلم أنه تعالى لما بين أنه أنبت في الأرض كل شيء موزون وجعل فيها معايش أتبعه بذكر ما هو كالسبب لذلك فقال: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) *.
وهذا هو النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه السورة على تقرير التوحيد، وفي الآية مسائل:
173

المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: الخزائن جمع الخزانة، وهو اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ والخزانة أيضا عمل الخازن، ويقال: خزن الشيء يخزنه إذا أحرزه في خزانة، وعامة المفسرين على أن المراد بقوله: * (وإن من شيء إلا من عندنا خزائنه) * هو المطر، وذلك لأنه هو السبب للأرزاق ولمعايش بني آدم وغيرهم من الطيور والوحوش، فلما ذكر تعالى أنه يعطيهم المعايش بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده، أي في أمره وحكمه وتدبيره، وقوله: * (وما ننزله إلا بقدر معلوم) * قال ابن عباس رحمهما الله: يريد قدر الكفاية، وقال الحكم: ما من عام بأكثر مطرا من عام آخر، ولكنه يمطر قوم ويحرم قوم آخرون، وربما كان في البحر، يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم، غير أنه يصرفه إلى من يشاء حيث شاء كما شاء.
ولقائل أن يقول: لفظ الآية لا يدل على هذا المعنى، فإن قوله تعالى: * (وما ننزله إلا بقدر معلوم) * لا يدل على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوام على قدر واحد، وإذا كان كذلك كان تفسير الآية بهذا المعنى تحكما من غير دليل. وأقول أيضا: تخصيص قوله تعالى: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) * بالمطر تحكم محض، لأن قوله: * (وإن من شيء) * يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل، وهو الموجود القديم الواجب لذاته، وقوله: * (إن عندنا خزائنه) * إشارة إلى كون تلك الأشياء مقدورة له تعالى. وحاصل الأمر فيه أن المراد أن جميع الممكنات مقدورة له، ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء إلا أنه تعالى وإن كانت مقدوراته غير متناهية إلا أن الذي يخرجه منها إلى الوجود يجب أن يكون متناهيا لأن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال فقوله: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) * إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية وقوله: * (وما ننزله إلا بقدر معلوم) * إشارة إلى أن كل ما يدخل منها في الوجود فهو متناه، ومتى كان الخارج منها إلى الوجود متناهيا كان لا محالة مختصا في الحدوث بوقت مقدر مع جواز حصوله قبل ذلك الوقت أو بعده بدلا عنه، وكان مختصا بحيز معين مع جواز حصوله في سائر الأحياز بدلا عن ذلك الحيز، وكان مختصا بصفات معينة، مع أنه كان يجوز في العقل حصول سائر الصفات بدلا عن تلك الصفات، وإذا كان كذلك كان اختصاص تلك الأشياء المتناهية بذلك الوقت المعين والحيز المعين، والصفات المعينة بدلا عن أضدادها لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر، وهذا هو المراد من قوله: * (وما ننزله إلا بقدر معلوم) * والمعنى: أنه لولا القادر المختار الذي خصص تلك الأشياء بتلك الأحوال الجائزة لامتنع اختصاصها بتلك الصفات الجائزة، والمراد من الإنزال الإحداث والإنشاء والإبداع كقوله تعالى: * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) * (الزمر: 6) وقوله: * (وأنزلنا الحديد) * (الحديد: 25) والله أعلم.
174

المسألة الثانية: تمسك بعض المعتزلة بهذه الآية في إثبات أن المعدوم شيء قال لأن قوله تعالى: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) * يقتضي أن يكون لجميع الأشياء خزائن، وأن تكون تلك الخزائن حاصلة عند الله تعالى، ولا جائز أن يكون المراد من تلك الخزائن الموجودة عند الله تعالى هي تلك الموجودات من حيث إنها موجودة، لأنا بينا أن المراد من قوله تعالى: * (وما ننزله إلا بقدر معلوم) * الإحداث والإبداع والإنشاء والتكوين، وهذا يقتضي أن يكون حصول تلك الخزائن عند الله متقدما
على حدوثها ودخولها في الوجود، وإذا بطل هذا وجب أن يكون المراد أن تلك الذوات والحقائق والماهيات كانت متقررة عند الله تعالى، بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات، ثم إنه تعالى أنزل بعضها أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود.
ولقائل أن يجيب عن ذلك بقوله: لا شك أن لفظ الخزائن إنما ورد ههنا على سبيل التمثيل والتخييل، فلم لا يجوز أن يكون المراد منه مجرد كونه تعالى قادرا على إيجاد تلك الأشياء وتكوينها وإخراجها من العدم إلى الوجود؟ وعلى هذا التقدير يسقط الاستدلال، والمباحثات الدقيقة باقية، والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وأرسلنا الرياح لواقح) * فاعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في وصف الرياح بأنها لواقح. أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: الرياح لواقح للشجر وللسحاب، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك وأصل هذا من قولهم: لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى الماء فيها فحملت، فكذلك الرياح جارية مجرى الفحل للسحاب. قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية: يبعث الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء وتمجه في السحاب، ثم إنه يعصر السحاب ويدره كما تدر اللقحة فهذا هو تفسير إلقاحها للشجر فما ذكروه.
فإن قيل: كيف قال * (لواقح) * وهي ملقحة؟
والجواب: ما ذهب إليه أبو عبيدة أن (لواقح) ههنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة وأنشد لسهيل يرثي أخاه: لبيك يزيد يائس ذو ضراعة * وأشعث مما طوحته الطوائح
أراد المطوحات وقرر ابن الأنباري ذلك فقال: تقول العرب أبقل النبت فهل بأقل يريدون هو مبقل وهذا بدل على جواز ورود لاقح عبارة عن ملقح.
والوجه الثاني: في الجواب قال الزجاج: يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألحقت غيرها لأن
175

معناها النسبة وهو كما يقال: درهم وازن، أي ذو وزن، ورامح وسائف، أي ذو رمح وذو سيف قال الواحدي: هذا الجواب ليس بمغن، لأنه كان يجب أن يصح اللاقح. بمعنى ذات اللقاح وهذا ليس بشيء، لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة، ومن أفاد غيره اللقحة فله نسبة إلى اللقحة فصح هذا الجواب والله أعلم.
والوجه الثالث: في الجواب أن الريح في نفسها لاقح وتقريره بطريقين:
الطريق الأول: أن الريح حاصلة للسحاب، والدليل عليه قوله سبحانه: * (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا) * (الأعراف: 57) أي حملت فعلى هذا المعنى تكون الريح لاقحة بمعنى أنها حاملة تحمل السحاب والماء.
والطريق الثاني: قال الزجاج: يجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير، كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بالخير، وهذا كما تقول العرب: قد لقحت الحرب وقد نتجت ولدا أنكد يشبهون ما تشتمل عليه من ضروب الشر بما تحمله الناقة فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الثانية: الريح هواء متحرك وحركة الهواء بعد أن لم يكن متحركا لا بد له من سبب، وذلك السبب ليس نفس كونه هواء ولا شيئا من لوازم ذاته، وإلا لدامت حركة الهواء بدوام ذاته وذلك محال، فلم يبق إلا أن يقال: إنه يتحرك بتحريك الفاعل المختار، والأحوال التي تذكرها الفلاسفة في سبب حركة الهواء عند حدوث الريح قد حكيناها في هذا الكتاب مرارا فأبطلناها وبينا أنه لا يمكن أن يكون شيء منها سببا لحدوث الرياح، فبقي أن يكون محركها هو الله سبحانه.
وأما قوله: * (وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) * ففيه مباحث: الأول: أن ماء المطر هل ينزل من السماء أو ينزل من ماء السحاب؟ وبتقدير أن يقال إنه ينزل من السحاب كيف أطلق الله على السحاب لفظ السماء؟ وثانيها: أنه ليس السبب في حدوث المطر ما يذكره الفلاسفة بل السبب فيه أن الفاعل المختار ينزله من السحاب إلى الأرض لغرض الإحسان إلى العباد كما قال ههنا: * (فأسقيناكموه) * قال الأزهري: تقول العرب لكل ما كان في بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري أسقيته أي جعلته شربا له، وجعلت له منها مسقى، فإذا كانت السقيا لسقيه قالوا سقاه، ولم يقولوا أسقاه. والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله: * (نسقيكم مما في بطونه) * (النحل: 66) فقرؤا باللغتين، ولم يختلفوا في قوله: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * (الإنسان: 21) وفي قوله: * (والذي هو يطعمني ويسقين) * (الشعراء: 79) قال أبو علي: سقيته حتى روي وأسقيته نهرا، أي جعلته شربا له وقوله: * (فأسقيناكموه) * أي جعلناه
176

سقيا لكم وربما قالوا في أسقى سقى كقول لبيد يصف سحابا: أقول وصوبه مني بعيد * يحط السيب من قلل الجبال
سقى قومي بني نجد وأسقى * نميرا والقبائل من هلال
فقوله: سقى قومي ليس يريد به ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقيا لبلادهم يخصبون بها، وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى العطاش وليغرهم ما يخصبون به. وأما سقيا السقية فلا يقال فيها أسقاه، وأما قول ذي الرمة: وأسقيه حتى كاد مما أبنه * تكلمني أحجاره وملاعبه
فمعنى أسقيه أدعو له بالسقاء، وأقول سقاه الله وقوله: * (وما أنتم له بخازنين) * يعني به ذلك الماء المنزل من السماء يعني لستم له بحافظين.
* (وإنا لنحن نحى ونميت ونحن الوارثون * ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستاخرين * وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم) *
اعلم أن هذا هو النوع السادس من دلائل التوحيد وهو الاستدلال بحصول الإحياء والإماتة لهذه الحيوانات على وجود الإله القادر المختار.
أما قوله: * (وإنا لنحن نحيي ونميت) * ففيه قولان: منهم من حمله على القدر المشترك بين إحياء النبات والحيوان ومنهم من يقول: وصف النبات بالإحياء مجاز فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان ولما ثبت بالدلائل العقلية أنه لا قدرة على خلق الحياة إلا للحق سبحانه كان حصول الحياة للحيوان دليلا قاطعا على وجود الإله الفاعل المختار، وقوله: * (وإنا لنحن نحيي ونميت) * يفيد الحصر أي لا قدرة على الإحياء ولا على الإماتة إلا لنا، وقوله: * (ونحن الوارثون) * معناه: أنه إذا مات
جميع الخلائق، فحينئذ يزول ملك كل أحد عند موته، ويكون الله هو الباقي الحق المالك لكل المملوكات وحده فكان هذا شبيها بالإرث فكان وارثا من هذا الوجه.
وأما قوله: * (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) * ففيه وجوه: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء: المستقدمين يريد أهل طاعة الله تعالى والمستأخرين يريد
177

المتخلفين عن طاعة الله. الثاني: أراد بالمستقدمين الصف الأول من أهل الصلاة، وبالمستأخرين الصف الآخر، روي أنه صلى الله عليه وسلم رغب في الصف الأول في الصلاة، فازدحم الناس عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى: أنا نجزيهم على قدر نياتهم. الثالث: قال الضحاك ومقاتل: يعني في وصف القتال. الرابع: قال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها وإذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فأنزل الله تعالى هذه الآية. الخامس: قيل المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء. وقيل المستقدمون هم الأمم السالفة، والمستأخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عكرمة: المستقدمون من خلق والمستأخرون من لم يخلق.
واعلم أنه تعالى لما قال: * (وإنا لنحن نحيي ونميت) * أتبعه بقوله: * (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) * تنبيها على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم فيدخل فيه علمه تعالى بتقدمهم وتأخرهم في الحدوث والوجود وبتقدمهم وتأخرهم في أنواع الطاعات والخيرات ولا ينبغي أن نخص الآية بحالة دون حالة.
وأما قوله: * (وإن ربك هو يحشرهم) * فالمراد منه التنبيه على أن الحشر والنشر والبعث والقيامة أمر واجب وقوله: * (إنه حكيم عليم) * معناه: أن الحكمة تقتضي وجوب الحشر والنشر على ما قررناه بالدلائل الكثيرة في أول سورة يونس عليه السلام.
* (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجآن خلقناه من قبل من نار السموم) *
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب.
178

المسألة الثانية: ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أول لها، وإذا ثبت هذا ظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى حادث أول هو أول الحوادث، وإذا كان كذلك فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس، وإذا كان كذلك فذلك الإنسان الأول غير مخلوق مع الأبوين فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة الله تعالى. فقوله: * (ولقد خلقنا الإنسان) * إشارة إلى ذلك الإنسان الأول، والمفسرون أجمعوا على أن المراد منه هو آدم عليه السلام، ونقل في " كتب الشيعة " عن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر وأقول: هذا لا يقدح في حدوث العالم بل لأمر كيف كان، فلا بد من الانتهاء إلى إنسان أول هو أول الناس وأما أن ذلك الإنسان هو أبونا آدم، فلا طريق إلى إثباته إلا من جهة السمع.
واعلم أن الجسم محدث، فوجب القطع بأن آدم عليه السلام وغيره من الأجسام يكون مخلوقا عن عدم محض، وأيضا دل قوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) * (آل عمران: 59) على أن آدم مخلوق من تراب، ودلت آية أخرى على أنه مخلوق من الطين، وهي قوله: * (إني خالق بشرا من طين) * (ص: 71) وجاء في هذه الآية أن آدم عليه السلام مخلوق من صلصال من حمأ مسنون، والأقرب أنه تعالى خلقه أولا من تراب ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار، ولا شك أنه تعالى قادر على خلقه من أي جنس من الأجسام كان، بل هو قادر على خلقه ابتداء، وإنما خلقه على هذا الوجه إما لمحض المشيئة أو لما فيه من دلالة الملائكة ومصلحتهم ومصلحة الجن، لأن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه.
المسألة الثالثة: في الصلصال قولان: قيل الصلصال الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فهو فخار. قالوا: إذا توهمت في صوته مدا فهو صليل، وإذا توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة. قال المفسرون: خلق الله تعالى آدم عليه السلام من طين فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة، فصار صلصالا كالخزف ولا يدري أحد ما يراد به، ولم يروا شيئا من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح. وحقيقة الكلام أنه تعالى خلق آدم من طين على صورة الإنسان فجف فكانت الريح إذا مرت به سمع له صلصلة فلذلك سماه الله تعالى صلصالا.
والقول الثاني: الصلصال والمنتن من قولهم صل اللحم وأصل إذا نتن وتغير، وهذا القول عندي ضعيف، لأنه تعالى قال: * (من صلصال من حمأ مسنون) * وكونه حمأ مسنونا يدل على النتن والتغير وظاهر الآية يدل على أن هذا الصلصال إنما تولد من الحمأ المسنون فوجب أن يكون كونه صلصالا مغايرا لكونه حمأ مسنونا، ولو كان كونه صلصالا عبارة عن النتن والتغير لم يبق بين كونه
179

صلصالا، وبين كونه حمأ مسنونا تفاوت، وأما الحمأ فقال الليث الحمأة بوزن فعلة، والجمع الحمأ وهو الطين الأسود المنتن. وقال أبو عبيدة والأكثرون حماة بوزن كمأة وقوله: * (مسنون) * فيه أقوال: الأول: قال ابن السكيت سمعت أبا عمر يقول في قوله: * (مسنون) * أي متغير قال أبو الهيثم يقال سن الماء، فهو مسنون أي تغير. والدليل عليه قوله تعالى: * (لم يتسنه) * (البقرة: 259) أي لم يتغير. الثاني: المسنون المحكوك وهو مأخوذ من سننت الحجر إذا حككته عليه، والذي يخرج من بينهما يقال له السنن وسمي المسن مسنا لأن الحديد يسن عليه. والثالث: قال الزجاج: هذا اللفظ مأخوذ من أي موضوع على سنن الطريق لأنه متى كان كذلك فقد تغير. الرابع: قال أبو عبيدة: المسنون المصبوب، والسن والصب يقال سن الماء على وجهه سنا. الخامس: قال سيبويه: المسنون المصور على صورة ومثال، من سنة الوجه وهي صورته، السادس: روي عن ابن عباس أنه قال: المسنون الطين الرطب، وهذا يعود إلى قول أبي عبيدة، لأنه إذا كان رطبا يسيل وينبسط على
الأرض، فيكون مسنونا بمعنى أنه مصبوب.
أما قوله تعالى: * (والجان خلقناه) * فاختلفوا في أن الجان من هو؟ فقال عطاء عن ابن عباس: يريد إبليس وهو قول الحسن ومقاتل وقتادة. وقال ابن عباس في رواية أخرى: الجان هو أب الجن وهو قول الأكثرين. وسمي جانا لتواريه عن الأعين، كما سمي الجنين جنينا لهذا السبب، والجنين متوار في بطن أمه، ومعنى الجان في اللغة الساتر من قولك: جن الشيء إذا ستره، فالجان المذكور ههنا يحتمل أنه سمي جانا لأنه يستر نفسه عن أعين بني آدم، أو يكون من باب الفاعل الذي يراد به المفعول كما يقال في لابن وتامر وماء دافق وعيشة راضية. واختلفوا في الجن فقال بعضهم: إنهم جنس غير الشياطين والأصح أن الشياطين قسم من الجن، فكل من كان منهم مؤمنا فإنه لا يسمى بالشيطان، وكل من كان منهم كافرا يسمى بهذا الاسم، والدليل على صحة ذلك أن لفظ الجن مشتق من الاستتار، فكل من كان كذلك كان من الجن، وقوله تعالى: * (خلقناه من قبل) * قال ابن عباس: يريد من قبل خلق آدم، وقوله: * (من نار السموم) * معنى السموم في اللغة: الريح الحارة تكون بالنهار وقد تكون بالليل، وعلى هذا فالريح الحارة فيها نار ولها لفح وأوار، على ما ورد في الخبر أنها لفح جهنم. قيل: سميت سموما لأنها بلطفها تدخل في مسام البدن، وهي الخروق الخفية التي تكون في جلد الإنسان يبرز منها عرقه وبخار باطنه. قال ابن مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزأ من السموم التي خلق الله بها الجان وتلا هذه الآية.
فإن قيل: كيف يعقل خلق الجان من النار؟
180

قلنا: هذا على مذهبنا ظاهر، لأن البنية عندنا ليست شرطا لإمكان حصول الحياة، فالله تعالى قادر على خلق الحياة والعلم في الجواهر الفرد، فكذلك يكون قادرا على خلق الحياة والعقل في الجسم الحار، واستدل بعضهم على أن الكواكب يمتنع حصول الحياة فيها قال: لأن الشمس في غاية الحرارة وما كان كذلك امتنع حصول الحياة فيه فننقضه عليه بقوله تعالى: * (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) * بل المعتمد في نفي الحياة عن الكواكب الإجماع.
قوله تعالى
* (وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر حدوث الإنسان الأول واستدل بذكره على وجود الإله القادر المختار ذكر بعده واقعته وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له فأطاعوه إلا إبليس فإنه أبى وتمرد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما تفسير كونه بشرا. فالمراد منه كونه جسما كثيفا يباشر ويلاقي والملائكة والجن لا يباشرون للطف أجسامهم عن أجسام البشر، والبشرة ظاهرة الجلد من كل حيوان وأما كونه صلصالا من حمأ مسنون فقد تقدم ذكره. وأما قوله: * (فإذا سويته) * ففيه
181

قولان: الأول: فإذا سويت شكله بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية. والثاني: فإذا سويت أجزاء بدنه باعتدال الطبائع وتناسب الأمشاج كما قال تعالى: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) * (الإنسان: 2).
وأما قوله: * (ونفخت فيه من روحي) * ففيه مباحث: الأول: أن النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر، وظاهر هذا اللفظ يشعر بأن الروح هي الريح، وإلا لما صح وصفها بالنفخ إلا أن البحث الكامل في حقيقة الروح سيجيء في قوله تعالى: * (قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 85) وإنما أضاف الله سبحانه روح آدم إلى نفسه تشريفا له وتكريما. وقوله: * (فقعوا له ساجدين) * فيه مباحث: أحدها: أن ذلك السجود كان لآدم في الحقيقة أو كان آدم كالقبلة لذلك السجود، وهذا البحث قد تقدم ذكره في سورة البقرة. وثانيها: أن المأمورين بالسجود لآدم عليه السلام كل ملائكة السماوات أو بعضهم أو ملائكة الأرض، من الناس من لا يجوز أن يقال: إن أكابر الملائكة كانوا مأمورين بالسجود لآدم عليه السلام، والدليل عليه قوله تعالى في آخر سورة * (الأعراف) * في صفة الملائكة: * (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) * فقوله: * (وله يسجدون) * (الأعراف: 20) يفيد الحصر، وذلك يدل على أنهم لا يسجدون إلا لله تعالى وذلك ينافي كونهم ساجدين لآدم عليه السلام أو لأحد غير الله تعالى أقصى ما في الباب أن يقال: إن قوله تعالى: * (فقعوا له ساجدين) * يفيد العموم، إلا أن الخاص مقدم على العام. وثالثها: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى كما نفخ الروح في آدم عليه السلام وجب على الملائكة أن يسجدوا له، لأن قوله: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) * مذكور بفاء التعقيب وذلك يمنع من التراخي وقوله: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * قال الخليل وسيبويه قوله: * (كلهم أجمعون) * توكيد بعد توكيد، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال: لو قال فسجد الملائكة احتمل أن يكون سجد بعضهم، فلما قال: * (كلهم) * زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا، ثم بعد هذا بقي احتمال آخر وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد منهم في وقت آخر فلما قال: * (أجمعون) * ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة، ولما حكى الزجاج هذا القول عن المبرد قال: وقول الخليل وسيبويه أجود، لأن أجمعين معرفة فلا يكون حالا وقوله: * (إلا إبليس) * أجمعوا على أن إبليس كان مأمورا بالسجود لآدم، واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا؟ وقد سبقت هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة وقوله: * (أبى أن يكون مع الساجدين) * استئناف وتقديره أن قائلا قال: هلا سجد فقيل: أبى ذلك واستكبر عنه.
أما قوله: * (قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين) * فاعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله: * (قال يا إبليس) * أي قال الله تعالى له يا إبليس وهذا
يقتضي أنه تعالى تكلم معه، فعند هذا قال
182

بعض المتكلمين: إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله، إلا أن هذا ضعيف، لأن إبليس قال في الجواب: * (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال) * فقوله: * (خلقته) * خطاب الحضور لا خطاب الغيبة، وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأن إبليس تكلم مع الله تعالى بغير واسطة، وكيف يعقل هذا مع أن مكالمة الله تعالى بغير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب، فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم، ولعل الجواب عنه أن مكالمة الله تعالى إنما تكون منصبا عاليا إذا كان على سبيل الإكرام والإعظام، فأما إذا كان على سبيل الإهانة والإذلال فلا، وقوله: * (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون) * فيه بحثان:
البحث الأول: اللام في قوله: * (لأسجد) * لتأكيد النفي، ومعناه: لا يصح مني أن أسجد لبشر.
البحث الثاني: معنى هذا الكلام أن كونه بشرا يشعر بكونه جسما كثيفا وهو كان روحانيا لطيفا، فالتفرقة حاصلة بينهما في الحال من هذا الوجه. كأنه يقول: البشر جسماني كثيف له بشرة، وأنا روحاني لطيف، والجسماني الكثيف أدون حالا من الروحاني اللطيف، والأدون كيف يكون مسجودا للأعلى، وأيضا أن آدم مخلوق من صلصال تولد من حمأ مسنون، فهذا الأصل في غاية الدناءة وأصل إبليس هو النار وهي أشرف العناصر، فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم، والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدون، فالكلام الأول إشارة إلى الفرق الحاصل بسبب البشرية والروحانية، وهو فرق حاصل في الحال والكلام الثاني إشارة إلى الفرق الحاصل بحسب العنصر والأصل، فهذا مجموع شبهة إبليس وقوله تعالى: * (قال فاخرج منها فإنك رجيم) * فهذا ليس جوابا عن تلك الشبهة على سبيل التصريح، ولكنه جواب عنها على سبيل التنبيه. وتقريره أن الذي قاله الله تعالى نص، والذي قاله إبليس قياس، ومن عارض النص بالقياس كان رجيما ملعونا. وتمام الكلام في هذا المعنى ذكرناه مستقصى في سورة الأعراف، وقوله: * (فاخرج منها) * قيل المراد من جنة عدن، وقيل من السماوات، وقيل من زمرة الملائكة، وتمام هذا الكلام مع تفسير الرجيم قد سبق ذكره في سورة الأعراف وقوله: * (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) * قال ابن عباس يريد يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم مثل قوله: * (مالك يوم الدين) * (الفاتحة: 4).
فإن قيل: كلمة (إلى) تفيد انتهاء الغاية فهذا يشعر بأن اللعن لا يحصل إلا إلى يوم القيامة، وعند قيام القيامة يزول اللعن.
أجابوا عنه من وجوه: الأول: المراد منه التأبيد، وذكر القيامة أبعد غاية يذكرها الناس
183

في كلامهم كقولهم: * (ما دامت السماوات والأرض) * (هود: 107) في التأبيد. والثاني: أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السماوات والأرض إلى يوم الدين من غير أن يعذب فإذا جاء ذلك اليوم عذب عذابا ينسى اللعن معه فيصير اللعن حينئذ كالزائل بسبب أن شدة العذاب تذهل عنه.
قوله تعالى
* (قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بمآ أغويتنى لأزينن لهم فى الارض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط على مستقيم) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (فأنظرني) * متعلق بما تقدم والتقدير: إذا جعلتني رجيما ملعونا إلى يوم الدين فأنظرني فطلب الإبقاء من الله تعالى عند اليأس من الآخرة إلى وقت قيام القيامة. لأن قوله: * (إلى يوم يبعثون) * المراد منه يوم البعث والنشور وهو يوم القايمة، وقوله: * (فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) * اعلم أن إبليس استنظر إلى يوم البعث والقيامة، وغرضه منه أن لا يموت لأنه إذا كان لا يموت قبل يوم القيامة، وظاهره أن بعد قيام القيامة لا يموت أحد فحينئذ يلزم منه أن لا يموت البتة. ثم إنه تعالى منعه عن هذا المطلوب وقال: * (إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) * واختلفوا في المراد منه على وجوه: أحدها: أن المراد من يوم الوقت المعلوم وقت النفخة الأولى حين يموت كل الخلائق، وإنما سمي هذا الوقت بالوقت المعلوم لأن من المعلوم أن يموت كل الخلائق فيه. وقيل: إنما سماه الله تعالى بهذا الاسم، لأن العالم بذلك الوقت هو الله تعالى لا غير كما قال تعالى: * (إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو) * (الأعراف: 187) وقال: * (إن الله عنده علم الساعة) * (لقمان: 34). وثانيها: أن المراد من يوم الوقت المعلوم هو الذي ذكره إبليس وهو قوله: * (إلى يوم يبعثون) * وإنما سماه تعالى بيوم الوقت المعلوم؟ لأن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار ذلك كالمعلوم.
184

فإن قيل: لما أجابه الله تعالى إلى مطلوبه لزم أن لا يموت إلى وقت قيام الساعة وبعد قيام القيامة لا يموت أيضا، فيلزم أن يندفع عنه الموت بالكلية.
قلنا: يحمل قوله: * (إلى يوم يبعثون) * إلى ما يكون قريبا منه. والوقت الذي يموت فيه كل المكلفين قريب من يوم البعث، وعلى هذا الوجه فيرجع حاصل هذا الكلام إلى الوجه الأول. وثالثها: أن المراد بيوم الوقت المعلوم يوم لا يعلمه إلا الله تعالى، وليس المراد منه يوم القيامة.
فإن قيل: إنه لا يجوز أن يعلم المكلف متى يموت، لأن فيه إغراء بالمعاصي، وذلك لا يجوز على الله تعالى.
أجيب عنه بأن هذا الإلزام إنما يتوجه إذا كان وقت قيام القيامة معلوما للمكلف. فأما إذا علم أنه تعالى أمهله إلى وقت قيام القيامة إلا أنه تعالى ما أعلمه الوقت الذي تقوم القيامة فيه فلم يلزم منه الإغراء بالمعاصي.
وأجيب عن هذا الجواب بأنه وإن لم يعلم الوقت الذي فيه تقوم القيامة على التعيين إلا أنه علم في الجملة أن من وقت خلقة آدم عليه الصلاة والسلام إلى وقت قيام القيامة
مدة طويلة فكأنه قد علم أنه لا يموت في تلك المدة الطويلة.
أما قوله تعالى: * (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) * ففيه بحثان:
البحث الأول: الباء في * (بما أغويتني) * للقسم وما مصدرية، وجواب القسم لأزينن. والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم، ونظيره قوله تعالى: * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) * (ص: 82) إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله، وهي من صفات الذات، وفي قوله: * (بما أغويتني) * أقسم بإغواء الله وهو من صفات الأفعال. والفقهاء قالوا: القسم بصفات الذات صحيح، أما بصفات الأفعال فقد اختلفوا فيه. ونقل الواحدي عن قوم آخرين أنهم قالوا: الباء ههنا بمعنى السبب، أي بسبب كوني غاويا لأزينن كقول القائل، أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار، وبطاعته ليدخلن الجنة.
البحث الثاني: اعلم أن أصحابنا قد احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يريد خلق الكفر في الكافر ويصده عن الدين ويغويه عن الحق من وجوه: الأول: أن إبليس استمهل وطلب البقاء إلى قيام القيامة مع أنه صرح بأنه إنما يطلب هذا الإمهال والإبقاء لإغواء بني آدم وإضلالهم وأنه تعالى أمهله وأجابه إلى هذا المطلوب، ولو كان تعالى يراعي مصالح المكلفين في الدين لما أمهله هذا الزمان الطويل، ولما مكنه من الإغواء والإضلال والوسوسة. الثاني: أن أكابر الأنبياء والأولياء مجدون ومجتهدون في إرشاد الخلق إلى الدين الحق، وأن إبليس ورهطه وشيعته مجدون
185

ومجتهدون في الضلال والإغواء، فلو كان مراد الله تعالى هو الإرشاد والهداية لكان من الواجب إبقاء المرشدين والمحققين وإهلاك المضلين والمغوين، وحيث فعل بالضد منه، علمنا أنه أراد بهم الخذلان والكفر. الثالث: أنه تعالى لما أعلمه بأنه يموت على الكفر وأنه ملعون إلى يوم الدين كان ذلك إغراء له بالكفر والقبيح، لأنه أيس عن المغفرة والفوز بالجنة يجترئ حينئذ على أنواع المعاصي والكفر. الرابع: أنه لما سأل الله تعالى هذا العمر الطويل، مع أنه تعالى علم منه أنه لا يستفيد من هذا العمر الطويل إلا زيادة الكفر والمعصية، وبسبب تلك الزيادة يزداد استحقاقه لأنواع العذاب الشديد كان هذا الإمهال سببا لمزيد عذابه، وذلك يدل على أنه تعالى أراد به أن يزداد عذابه وعقابه. الخامس: أنه صرح بأن الله أغواه فقال: * (رب بما أغويتني) * وذلك تصريح بأن الله تعالى أغواه لا يقال: هذا كلام إبليس وهو ليس بحجة، وأيضا فهو معارض بقول إبليس: * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) * فأضاف الإغواء إلى نفسه، لأنا نقول.
أما الجواب عن الأول: فهو أنه لما ذكر هذا الكلام فإن الله تعالى ما أنكره عليه وذلك يدل على أنه كان صادقا فيما قال.
وأما الجواب عن الثاني: فهو أنه قال في هذه الآية: * (رب بما أغويتني لأزينن لهم) * فالمراد ههنا من قوله: * (لأزينن لهم) * هو المراد من قوله في تلك الآية: * (لأغوينهم أجمعين) * إلا أنه بين في هذه الآية أنه إنما أمكنه أن يزين لهم الأباطيل لأجل أن الله تعالى أغواه قبل ذلك، وعلى هذا التقدير فقد زال التناقض ويتأكد هذا بما ذكره الله تعالى حكاية عن الشياطين في سورة القصص: * (هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا) * (القصص: 63).
السؤال السادس: أنه أقل: * (رب بما أغويتني) * وهذا اعتراف بأن الله تعالى أغواه فنقول: إما أن يقال: إنه كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه، أو ما عرف ذلك، فإن كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه امتنع كونه غاويا لأنه إنما يعرف أن الله تعالى أغواه إذا عرف أن الذي هو عليه جهل وباطل، ومن عرف ذلك امتنع بقاؤه على الجهل والضلالة، وأما إن قلنا: بأنه ما عرف أن الله أغواه فكيف أمكنه أن يقول: * (رب بما أغويتني) * فهذا مجموع السؤالات الواردة في هذه الآية.
أما الإشكال الأول: فللمعتزلة فيه طريقان:
الطريق الأول: وهو طريق الجبائي أنه تعالى إنما أمهل إبليس تلك المدة الطويلة، لأنه تعالى علم أنه لا يتفاوت أحوال الناس بسبب وسوسته، فبتقدير أن لا يوجد إبليس ولا وسوسته
186

فإن ذلك الكافر، والعاصي كان يأتي بذلك الكفر والمعصية، فلما كان الأمر كذلك، لا جرم أمهله هذه المدة.
الطريق الثاني: وهو طريق أبي هاشم أنه لا يبعد أن يقال: إنه تعالى علم أن أقواما يقعون بسبب وسوسته في الكفر والمعصية، إلا أن وسوسته ما كانت موجبة لذلك الكفر والمعصية، بل الكافر والعاصي بسبب اختياره اختار ذلك الكفر وتلك المعصية، أقصى ما في الباب أن يقال: الاحتراز عن القبائح حال عدم الوسوسة أسهل منه حال وجودها، إلا أن على هذا التقدير تصير وسوسته سببا لزيادة المشقة في أداء الطاعات، وذلك لا يمنع الحكيم من فعله، كما أن إنزال المشاق وإنزال المتشابهات صار سببا لمزيد الشبهات، ومع ذلك فلم يمتنع فعله فكذا ههنا، وهذان الطريقان هما بعينهما الجواب عن السؤال الثاني.
وأما السؤال الثالث: وهو أن إعلامه بأنه يموت على الكفر يحمله على الجرأة على المعاصي والإكثار منها، فجوابه أن هذا إنما يلزم إذا كان علم إبليس بموته على الكفر يحمله على الزيادة في المعاصي أما إذا علم الله تعالى من حاله أن ذلك لا يوجب التفاوت البتة، فالسؤال زائل، وهذا بعينه هو الجواب عن السؤال الرابع.
وأما السؤال الخامس: وهو أن إبليس صرح بأن الله تعالى أغواه وأضله عن الدين، فقد أجابوا عنه بأنه ليس المراد ذلك بل فيه وجوه أخرى: أحدها: المراد بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك. وثانيها؛ المراد كما أضللتني عن طريق الجنة أضلهم أنا أيضا عنه بالدعاء إلى المعصية. وثالثها: أن يكون المراد بالإغواء الأول الخيبة، وبالثاني الإضلال. ورابعها: أن المراد بإغواء الله تعالى إياه هو أنه أمره بالسجود لآدم فأفضى ذلك إلى غيه، يعني أنه حصل ذلك الغي عقيبه باختيار إبليس، فأما أن يقال: إن ذلك الأمر صار موجبا لذاته لحصول ذلك الغي، فمعلوم أنه ليس الأمر كذلك، هذا جملة كلام القوم في هذا الباب وكله ضعيف، أما قوله إنه لا يتفاوت الحال بسبب وسوسة إبليس فنقول: هذا باطل، ويدل عليه القرآن والبرهان، أما القرآن فقوله تعالى: * (فأزلهما الشيطان) * (البقرة: 36) فأضاف تلك الزلة إلى الشيطان، وقال: * (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * (طه: 117) فأضاف الإخراج إليه، وقال موسى عليه السلام: * (هذا من عمل الشيطان) * (
القصص: 15) وكل ذلك يدل على أن لعمل الشيطان في تلك الأفعال أثرا، وأما البرهان فلأن بداية العقول شاهدة بأنه ليس حال من ابتلى بمجالسة شخص يرغبه أبدا في القبائح. وينفره عن الخيرات، مثل شخص كان حاله بالضد منه، والعلم بهذا التفاوت ضروري. وأما قوله إن وجوده يصير سببا لزيادة المشقة في الطاعة
187

فنقول: تأثير زيادة المشقة إنما هو في كثرة الثواب على أحد التقديرين، وفي الإلقاء في العذاب الشديد على التقدير الثاني وهو التقدير الأكثر الأغلب، وكل من يراعي المصالح، فإن رعاية هذا التقدير الثاني أولى عنده من رعاية التقدير الأول لأن دفع الضرر العظيم أولى من السعي في طلب النفع الزائد الذي لا حاجة إلى حصوله أصلا، ولما اندفع هذان الجوابان عن هذا السؤال قويت سائر الوجوه المذكورة، وأما قوله: المراد من قوله: * (رب بما أغويتني) * الخيبة عن الرحمة أو الإضلال عن طريق الجنة فنقول: كل هذا بعيد، لأنه هو الذي خيب نفسه عن الرحمة وهو الذي أضل نفسه عن طريق الجنة، لأنه لما أقدم على الكفر باختياره فقد خيب نفسه عن الرحمة، وأضل نفسه عن طريق الجنة فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى فثبت أن الإشكالات لازمة وأن أجوبتهم ضعيفة. والله أعلم.
وأما قوله: * (إلا عبادك منهم المخلصين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن إبليس استثنى المخلصين، لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم، ولا يقبلون منه، وذكرت في مجلس التذكير أن الذي حمل إبليس على ذكر هذا الاستثناء أن لا يصير كاذبا في دعواه فلما احترز إبليس عن الكذب علمنا أن الكذب في غاية الخساسة.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: * (المخلصين) * بكسر اللام في كل القرآن، والباقون بفتح اللام. وجه القراءة الأولى أنهم الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم عن كل شائب يناقض الإيمان والتوحيد، ومن فتح اللام فمعناه: الذين أخلصهم الله بالهداية والإيمان، والتوفيق، والعصمة، وهذه القراءة تدل على أن الإخلاص والإيمان ليس إلا من الله تعالى. المسألة الثالثة: الإخلاص جعل الشيء خالصا عن شائبة الغير فنقول: كل من أتى بعمل فإما أن يكون قد أتى به لله فقط أو لغير الله فقط، أو لمجموع الأمرين، وعلى هذا التقدير الثالث فإما أن يكون طلب رضوان الله راجحا أو مرجوحا أو معادلا، والتقدير الرابع أن يأتي به لا لغرض أصلا وهذا محال، لأن الفعل بدون الداعية محال.
أما الأول: فهو الإخلاص في حق الله تعالى، لأن الحامل له على ذلك الفعل طلب رضوان الله، وما جعل هذه الداعية مشوبة بداعية أخرى بل بقيت خالصة عن شوائب الغير، فهذا هو الإخلاص.
وأما الثاني: وهو الإخلاص في حق غير الله، فظاهر أن هذا لا يكون إخلاصا في حق الله تعالى.
188

وأما الثالث: وهو أن يشتمل على الجهتين إلا أن جانب الله يكون راجحا، فهذا يرجى أن يكون من المخلصين، لأن المثل يقابله المثل. فيبقى القدر الزائد خالصا عن الشوب.
وأما الرابع والخامس: فظاهر أنه ليس من المخلصين في حق الله تعالى، والحاصل أن القسم الأول: إخلاص في حق الله تعالى قطعا. والقسم الثاني: يرجى من فضل الله أن يجعله من قسم الإخلاص وأما سائر الأقسام فهو خارج عن الإخلاص قطعا والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (قال هذا صراط علي مستقيم) * ففيه وجوه: الأول: أن إبليس لما قال: * (إلا عبادك منهم المخلصين) * فلفظ المخلص يدل على الإخلاص، فقوله هذا عائد إلى الإخلاص، والمعنى: أن الإخلاص طريق علي وإلي، أي أنه يؤدي إلى كرامتي وثوابي، وقال الحسن: معناه هذا صراط إلي مستقيم، وقال آخرون: هذا صراط من مر عليه، فكأنه مر علي وعلى رضواني وكرامتي وهو كما يقال: طريقك علي. الثاني: أن الإخلاص طريق العبودية فقوله: * (هذا صراط علي مستقيم) * أي هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم. الثالث: قال بعضهم: لما ذكر إبليس أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى الله تعالى وإلى إرادته فقال تعالى: * (هذا صراط علي) * أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي طريق علي مستقيم. الرابع: معناه: هذا صراط علي تقريره وتأكيده، وهو مستقيم حق وصدق، وقرأ يعقوب: * (صراط علي) * بالرفع والتنوين على أنه صفة لقوله: * (صراط) * أي هو علي بمعنى أنه رفيع مستقيم لا عوج فيه. قال الواحدي: معناه أن طريق التفويض إلى الله تعالى والإيمان بقضاء الله طريق رفيع مستقيم.
قوله تعالى
* (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين * وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) *
اعلم أن إبليس لما قال: * (لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) * أوهم هذا الكلام أن له سلطانا على عباد الله الذين يكونون من المخلصين، فبين تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء كانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين، بل من اتبع منهم
189

إبليس باختياره صار متبعا له، ولكن حصول تلك المتابعة أيضا ليس لأجل أن إبليس يقهره على تلك المتابعة أو يجبره عليها والحاصل في هذا القول: أن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطانا، فبين تعالى كذبه فيه، وذكر أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلا، ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس أنه قال: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22) وقال تعالى في آية أخرى: * (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) * (النحل: 99، 100) قال الجبائي: هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما يقوله العامة، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة قال وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه، وفي الآية قول آخر، وهو أن إبليس لما قال: * (إلا عبادك منهم المخلصين) * (الحجر: 40) فذكر أنه لا يقدر على إغواء المخلصين صدقه الله في هذا الاستثناء فقال: * (إن عبادي ليس لك عليهم
سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) * فلهذا قال الكلبي: العباد المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس.
واعلم أن على القول الأول يمكن أن يكون قوله: * (إلا من اتبعك) * استثناء، لأن المعنى: أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فإن لك عليهم سلطانا بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي.
وأما على القول الثاني فيمتنع أن يكون استثناء، بل تكون لفظة (إلا) بمعنى لكن، وقوله: * (إن جهنم لموعدهم أجمعين) * قال ابن عباس: يريد إبليس وأشياعه، ومن اتبعه من الغاوين.
ثم قال تعالى: * (لها سبعة أبواب) * وفيه قولان:
القول الأول: إنها سبع طبقات: بعضها فوق البعض وتسمى تلك الطبقات بالدركات، ويدل على كونها كذلك قوله تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) * (النساء: 145).
والقول الثاني: إن قرار جهنم مقسوم سبعة أقسام: ولكل قسم باب، وعن ابن جريج: أولها: جهنم. ثم لظى. ثم الحطمة. ثم السعير. ثم سقر. ثم الجحيم. ثم الهاوية. قال الضحاك: الطبقة الأولى: فيها أهل التوحيد يعذبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون. والثانية: لليهود. والثالثة: للنصارى. والرابعة: للصابئين. والخامسة: للمجوس. والسادسة: للمشركين. والسابعة: للمنافقين. وقوله: * (لكل باب منهم جزء مقسوم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ عاصم في رواية أبي بكر: * (جزء مقسوم) * والباقون (جز) بتخفيف الزاي. وقرأ الزهري: (جز) بالتشديد، كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي، كقولك: خب
190

في خبء، ثم وقف عليه بالتشديد.
المسألة الثانية: الجزء بعض الشيء، والجمع الأجزاء، وجزأته جعلته أجزاء. والمعنى: أنه تعالى يجزي أتباع إبليس إجزاء، بمعنى أنه يجعلهم أقساما وفرقا، ويدخل في كل قسم من أقسام جهنم طائفة من هؤلاء الطوائف. والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة، فلا جرم صارت مراتب العذاب والعقاب مختلفة بالغلظ والخفة، والله أعلم.
قوله تعالى
* (إن المتقين فى جنات وعيون * ادخلوها بسلام ءامنين * ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين * لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين) *
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (إن المتقين) * قولان:
القول الأول: قال الجبائي وجمهور المعتزلة: القائلون بالوعيد المراد بالمتقين هم الذين اتقوا جميع المعاصي. قالوا: لأنه اسم مدح فلا يتناول إلا من يكون كذلك.
والقول الثاني: وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به. وأقول: هذا القول هو الحق الصحيح، والذي يدل عليه هو أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة، كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة واحدة، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة، فكما أنه ليس من شرط الوصف كونه ضاربا وقاتلا كونه آتيا بجميع أنواع الضرب والقتل، فكذلك ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى، والذي يقوي هذا الكلام أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى، لأن كل فرد من أفراد الماهية فإنه يجب كونه مشتملا على تلك الماهية، فالآتي بالتقوى يجب أن يكون متقيا، فثبت أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يصدق عليه كونه متقيا، ولهذا التحقيق اتفق المفسرون على أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار.
إذا ثبت هذا فنقول: ظاهر قوله: * (إن المتقين في جنات وعيون) * يقتضي حصول الجنات والعيون
191

لكل من اتقى عن شيء واحد، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم، وأيضا فإن هذه الآية وردت عقيب قول إبليس: * (إلا عبادك منهم المخلصين) * (الحجر: 40) وعقيب قول الله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * (الحجر: 42) فلأجل هذه الدلائل اعتبرنا الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزيد فيه قيد آخر، لأن تخصيص العام لما كان بخلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق لمقتضى الأصل والظاهر، فثبت أن قوله: * (إن المتقين في جنات وعيون) * يتناول جميع القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله قولا واعتقادا سواء كانوا من أهل الطاعة أو من أهل المعصية وهذا تقرير بين، وكلام ظاهر.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (في جنات وعيون) * أما الجنات فأربعة لقوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (الرحمن: 46) ثم قال: * (ومن دونهما جنتان) * (الرحمن: 46) فيكون المجموع أربعة وقوله: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * يؤكد ما قلناه، لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه عن الخوف من الله تعالى وقوله: * (ولمن خاف) * يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرة واحدة، وأما العيون فيحتمل أن يكون المراد منها ما ذكر الله تعالى في قوله: * (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) * (محمد: 15) ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار.
فإن قيل: أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون، أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض قيل: لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين
وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان، ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم، ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وقوله: * (ادخلوها بسلام آمنين) * يحتمل أن القائل لقوله: * (ادخلوها) * هو الله تعالى وأن يكون ذلك القائل بعض ملائكته، وفيه سؤال لأنه تعالى حكم قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون، وإذا كانوا فيها فكيف يمكن أن يقال لهم: * (ادخلوها) *.
والجواب عنه من وجهين: الأول: لعل المراد به قيل لهم قبل دخولهم فيها: * (ادخلوها بسلام) *. الثاني: لعل المراد لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها وقوله: * (ادخلوها بسلام آمنين) * المراد ادخلوا الجنة مع السلامة من كل الآفات في الحال ومع القطع ببقاء هذه السلامة، والأمن من زوالها.
ثم قال تعالى: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * والغل الحقد الكامن في القلب وهو مأخوذ
192

من قولهم: أغل في جوفه وتغلغل، أي إن كان لأحدهم في الدنيا غل على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم، وعن علي عليه السلام أنه قال: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، وحكى عن الحرث بن الأعور أنه كان جالسا عند علي عليه السلام إذ دخل زكريا بن طلحة فقال له علي: مرحبا بك يا ابن أخي، أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى في حقهم: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * فقال الحرث: كلا بل الله أعدل من أن يجعلك وطلحة في مكان واحد. قال عليه السلام: فلمن هذه الآية؟ لا أم لك يا أعور، وروي أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص لبعضهم من بعض، ثم يؤمر بهم إلى الجنة. وقد نقى الله قلوبهم من الغل والغش، والحقد والحسد، وقوله: * (إخوانا) * نصب على الحال وليس المراد الأخوة في النسب بل المراد الأخوة في المودة والمخالصة كما قال: * (الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * (الزخرف: 67) وقوله: * (على سرر متقابلين) * السرير معروف والجمع أسرة وسرر قال أبو عبيدة يقال: سرر وسرر بفتح الراء وكذا كل فعيل من المضاعف فإن جمعه فعل وفعل نحو: سرر وسرر، وجدد وجدد قال المفضل: بعض تميم وكلب يفتحون، لأنهم يستثقلون ضمتين متواليتين في حرفين من جنس واحد، وقال بعض أهل المعاني: السرير مجلس رفيع مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور. قال الليث: وسرير العيش مستقره الذي اطمأن إليه في حال سروره وفرحه قال ابن عباس: يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية، وقوله: * (متقابلين) * التقابل التواجه، وهو نقيض التدابر، ولا شك أن المواجهة أشرف الأحوال وقوله: * (لا يمسهم فيها نصب) * النصب الإعياء والتعب أي لا ينالهم فيها تعب: * (وما هم منها بمخرجين) * والمراد به كونه خلودا بلا زوال وبقاء بلا فناء، وكمالا بلا نقصان، وفوزا بلا حرمان.
واعلم أن للثواب أربع شرائط: وهي أن تكون منافع مقرونة بالتعظيم خالصة عن الشوائب دائمة.
أما القيد الأول: وهو كونها منفعة فإليه الإشارة بقوله: * (إن المتقين في جنات وعيون) *.
وأما القيد الثاني: وهو كونها مقرونة بالتعظيم فإليه الإشارة بقوله: * (ادخلوها بسلام آمنين) * لأن الله سبحانه إذا قال لعبيده هذا الكلام أشعر ذلك بنهاية التعظيم وغاية الإجلال.
وأما القيد الثالث: وهو كون تلك المنافع خالصة عن شوائب الضرر، فاعلم أن المضار إما أن تكون روحانية، وإما أن تكون جسمانية، أما المضار الروحانية فهي الحقد، والحسد، والغل، والغضب، وأما المضار الجسمانية فكالإعياء والتعب فقوله: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل
193

إخوانا على سرر متقابلين) * إشارة إلى نفي المضار الروحانية وقوله: * (لا يمسهم فيها نصب) * إشارة إلى نفي المضار الجسمانية.
وأما القيد الرابع: وهو كون تلك المنافع دائمة آمنة من الزوال فإليه الإشارة بقوله: * (وما هم منها بمخرجين) * فهذا ترتيب حسن معقول بناء على القيود الأربعة المعتبرة في ماهية الثواب ولحكماء الإسلام في هذه الآية مقال، فإنهم قالوا: المراد من قوله: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * إشارة إلى أن الأرواح القدسية النطقية نقية مطهرة عن علائق القوى الشهوانية والغضبية، مبرأة عن حوادث الوهم والخيال، وقوله: * (إخوانا على سرر متقابلين) * معناه أن تلك النفوس لما صارت صافية عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام، ووقع عليها أنوار عالم الكبرياء والجلال فأشرقت بتلك الأنوار الإلهية، وتلألأت بتلك الأضواء الصمدية، فكل نور فاض على واحد منها انعكس منه على الآخر مثل المزايا المتقابلة المتحاذية، فلكونها بهذه الصفة وقع التعبير عنها بقوله: * (إخوانا على سرر متقابلين) * والله أعلم.
قوله تعالى
* (نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم * وأن عذابى هو العذاب الاليم) *
في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: أثبتت الهمزة الساكنة في (نبىء) صورة، وما أثبتت في قوله: * (دفء. وجزء) * لأن ما قبلها ساكن فهي تحذف كثيرا وتلقى حركتها على الساكن قبلها، ف (- نبىء) في الخط على تحقيق الهمزة، وليس قبل همزة (نبىء) ساكن فأجروها على قياس الأصل:
المسألة الثانية: اعلم أن عباد الله قسمان: منهم من يكون متقيا، ومنهم من لا يكون كذلك، فلما ذكر الله تعالى أحوال المتقين في الآية المتقدمة، ذكر أحوال غير المتقين في هذه الآية فقال: * (نبىء عبادي) *.
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، فههنا وصفهم بكونهم عبادا له، ثم أثبت عقيب ذكر هذا
الوصف الحكم بكونه غفورا رحيما، فهذا يدل على أن كل من اعترف بالعبودية ظهر في حقه كونه الله غفورا رحيما ومن أنكر ذلك كان مستوجبا للعقاب الأليم. وفي الآية لطائف: أحدها: أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله: * (عبادي) * وهذا تشريف عظيم. ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمدا
194

صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج لم يزد على قوله: * (سبحان الذي أسرى بعبده) * (الإسراء: 1). وثانيها: أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة: أولها: قوله: * (أنى) *. وثانيها: قوله: * (أنا) *. وثالثها: ادخال حرف الألف واللام على قوله: * (الغفور الرحيم) * ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب وما وصف نفسه بذلك بل قال: * (وأن عذابي هو العذاب الأليم) *. وثالثها: أنه أمر رسوله أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة. ورابعها: أنه لما قال: * (نبىء عبادي) * كان معناه نبىء كل من كان معترفا بعبوديتي، وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع، فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى. وعن قتادة قال: بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى ما تورع من حرام، ولو علم قدر عقابه لبخع نفسه " أي قتلها وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بنفر من أصحابه، وهم يضحكون فقال: " أتضحكون والنار بين أيديكم " فنزل قوله: * (نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم) * والله أعلم.
قوله تعالى
* (ونبئهم عن ضيف إبراهيم * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم * قال أبشرتمونى على أن مسنى الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضآلون) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير أمر النبوة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد، ثم ذكر عقيبه أحوال القيامة وصفة الأشقياء والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغبا في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء، ومحذرا عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء، فبدأ أولا بقصة إبراهيم عليه السلام، والضمير في قوله: * (ونبئهم) * راجع إلى قوله: * (عبادي) * والتقدير: ونبىء عبادي عن ضيف إبراهيم، يقال: أنبأت القوم إنباء ونبأتهم تنبئة إذا
195

أخبرتهم وذكر تعالى في الآية أن ضيف إبراهيم عليه السلام بشروه بالولد بعد الكبر. وبانجاء المؤمنين من قوم لوط من العذاب وأخبروه أيضا بأنه تعالى سيعذب الكفار من قوم لوط بعذاب الاستئصال، وكل ذلك يقوي ما ذكره من أنه غفور رحيم للمؤمنين، وأن عذابه عذاب أليم في حق الكفار.
المسألة الثانية: الضيف في الأصل مصدر ضاف يضيف إذا أتى إنسانا لطلب القرى، ثم سمى به، ولذلك وحد في اللفظ وهم جماعة.
فإن قيل: كيف سماهم ضيفا مع امتناعهم عن الأكل؟
قلنا: لما ظن إبراهيم أنهم إنما دخلوا عليه لطلب الضيافة جاز تسميتهم بذلك. وقيل أيضا: إن من يدخل دار الإنسان ويلتجئ إليه يسمى ضيفا وإن لم يأكل، وقوله تعالى: * (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما) * أي نسلم عليك سلاما أو سلمت سلاما، فقال إبراهيم: * (إنا منكم وجلون) * أي خائفون، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل. وقيل: لأنهم دخلوا عليه بغير إذن وبغير وقت وقرأ الحسن: * (لا توجل) * بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه. وقرئ لا تأجل ولا تواجل من واجله بمعنى أو جله، وهذه القصة قد مر ذكرها بالاستقصاء في سورة هود. وقوله: * (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) * فيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ حمزة: * (إنا نبشرك) * بفتح النون، وتخفيف الباء، والباقون: * (نبشرك) * بالتشديد.
البحث الثاني: قوله: * (إن نبشرك) * استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، والمعنى: أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل.
البحث الثالث: قوله: * (إنا نبشرك بغلام عليم) * بشروه بأمرين: أحدهما: أن الولد ذكر والآخر أنه يصير عليما، واختلفوا في تفسير العليم، فقيل: بشروه بنبوته بعده. وقيل: بشروه بأنه عليم بالدين. ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون، فمعنى: * (على) * ههنا للحال أي حالة الكبر، وقوله: * (فيم تبشرون) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: لفظ ما ههنا استفهام بمعنى التعجب كأنه قال: بأي أعجوبة تبشروني؟
فإن قيل: في الآية إشكالان: الأول: أنه كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلق الولد منه في زمان الكبر وإنكار قدرة الله تعالى في هذا الموضع كفر. الثاني: كيف قال: * (فيم تبشرون) * مع أنهم قد بينوا ما بشروه به، وما فائدة هذا الاستفهام. قال القاضي: أحسن ما قيل في الجواب عن
196

ذلك أنه أراد أن يعرف أنه تعالى يعطيه الولد مع أنه يبقيه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شابا، ثم يعطيه الولد، والسبب في هذا الاستفهام أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامة وإنما يحصل في حال الشباب.
فإن قيل: فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم فلم قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قلنا: إنهم بينوا أن الله تعالى بشره بالولد مع إبقائه على صفة الشيخوخة وقوله: فلا تكن من القانطين. لا يدل على أنه كان كذلك، بدليل أنه صرح في جوابهم بما يدل على أنه ليس كذلك فقال: * (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) * وفيه جواب آخر، وهو أن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيء وفاته الوقت الذي يغلب على ظنه حصول ذلك المراد فيه، فإذا بشر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه وسروره ويصير ذلك الفرح القوي كالمدهش له والمزيل لقوة فهمه وذكائه فلعله يتكلم بكلمات مضطربة في ذلك الفرح في ذلك الوقت، وقيل أيضا: إنه يستطيب تلك البشارة فربما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرة أخرى ومرتين وأكثر طلبا للالتذاذ بسماع تلك البشارة، وطلبا لزيادة الطمأنينة والوثوق مثل قوله: * (ولكن ليطمئن قلبي) * (
البقرة: 260) وقيل أيضا: استفهم أبأمر الله تبشرون أم من عند أنفسكم واجتهادكم؟
المسألة الثانية: قرأ نافع: * (تبشرون) * بكسر النون خفيفة في كل القرآن، وقرأ ابن كثير بكسر النون وتشديدها. والباقون بفتح النون خفيفة، أما الكسر والتشديد فتقديره تبشرونني أدغمت نون الجمع في نون الإضافة، وأما الكسر والتخفيف فعلى حذف نون الجمع استثقالا لاجتماع المثلين وطلبا للتخفيف قال أبو حاتم: حذف نافع الياء مع النون. قال: وإسقاط الحرفين لا يجوز، وأجيب عنه: بأنه أسقط حرفا واحدا وهي النون التي هي علامة للرفع. وعلى أن حذف الحرفين جائز قال تعالى في موضع: * (ولا تك) * وفي موضع: * (ولا تكن) * فأما فتح النون فعلى غير الإضافة والنون علامة الرفع وهي مفتوحة أبدا، وقوله: * (بشرناك بالحق) * قال ابن عباس: يريد بما قضاه الله تعالى والمعنى: أن الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق عليه السلام. ويخرج من صلب إسحق مثل ما أخرج من صلب آدم فإنه تعالى بشر بأنه يخرج من صلب إسحق أكثر الأنبياء فقوله: * (بالحق) * إشارة إلى هذا المعنى وقوله: * (فلا تكن من القانطين) * نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط وقد ذكرنا كثيرا أن نهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كون المنهي فاعلا للمنهي عنه كما في قوله: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) * (الأحزاب: 1) ثم حكى تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: * (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) * وفيه مسألتان:
197

المسألة الأولى: هذا الكلام حق، لأن القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا عند الجهل بأمور: أحدها: أن يجهل كونه تعالى قادرا عليه. وثانيها؛ أن يجهل كونه تعالى عالما باحتياج ذلك العبد إليه. وثالثها: أن يجهل كونه تعالى منزها عن البخل والحاجة والجهل فكل هذه الأمور سبب للضلال، فلهذا المعنى قال: * (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) *.
المسألة الثانية: قرأ أبو عمرو والكسائي: (يقنط) بكسر النون ولا تقطنوا كذلك، والباقون بفتح النون وهما لغتان: قنط يقنط، نحو ضرب يضرب، وقنط يقنط نحو علم يعلم، وحكى أبو عبيدة: قنط يقنط بضم النون، قال أبو علي الفارسي: قنط يقنط بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات يدل على ذلك اجتماعهم في قوله: * (من بعد ما قنطوا) * (الشورى: 28) وحكاية أبي عبيدة تدل أيضا على أن قنط بفتح النون أكثر، لأن المضارع من فعل يجيء على يفعل ويفعل مثل فسق يفسق ويفسق ولا يجيء مضارع فعل على يفعل. والله أعلم.
قوله تعالى
قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين * إلا ءال لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته قدرنآ إنها لمن الغابرين) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (فما خطبكم) * سؤال عما لأجله أرسلهم الله تعالى، والخطب والشأن والأمر سواء: إلا أن لفظ الخطب أدل على عظم الحال.
فإن قيل: إن الملائكة لما بشروه بالولد الذكر العليم فكيف قال لهم بعد ذلك: * (فما خطبكم أيها المرسلون) *.
قلنا: فيه وجوه: الأول: قال الأصم: معناه ما الأمر الذي توجهتم له سوى البشرى. الثاني: قال القاضي: إنه علم أنه لو كان كمال المقصود إيصال البشارة لكان الواحد من الملائكة كافيا، فلما رأى جمعا من الملائكة علم أن لهم غرضا آخر سوى إيصال البشارة فلا جرم قال: * (فما خطبكم أيها المرسلون) *. الثالث: يمكن أن يقال إنهم قالوا: إنا نبشرك بغلام عليم. في معرض إزالة الخوف والوجل، ألا ترى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما خاف قالوا له: لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم.
198

ولو كان تمام المقصود من المجيء هو ذكر تلك البشارة لكانوا في أول ما دخلوا عليه ذكروا تلك البشارة، فلما لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذا الطريق أنه ما كان مجيئهم لمجرد هذه البشارة بل كان لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض فقال: * (فما خطبكم أيها المرسلون) *.
ثم حكى تعالى عن الملائكة أنهم قالوا: * (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) * وإنما اقتصروا على هذا القدر لعلم إبراهيم عليه السلام بأن الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين كان ذلك لإهلاكهم واستئصالهم وأيضا فقولهم: * (إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين) * يدل على أن المراد بذلك الإرسال إهلاك القوم.
أما قوله تعالى: * (إلا آل لوط) * فالمراد من آل لوط أتباعه الذين كانوا على دينه.
فإن قيل: قوله: * (إلا آل لوط) * هل هو استثناء منقطع أو متصل؟
قلنا: قال صاحب " الكشاف ": إن كان هذا الاستثناء استثناء من (قوم) كان منقطعا، لأن القوم موصوفون بكونهم مجرمين وآل لوط ما كانوا مجرمين، فاختلف الجنسان، فوجب أن يكون الاستثناء منقطعا. وإن كان استثناء من الضمير في (مجرمين) كان متصلا كأنه قيل: إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم كما قال: * (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) * (الذاريات: 36) ثم قال صاحب " الكشاف ": ويختلف المعنى بحسب اختلاف هذين الوجهين، وذلك لأن آل لوط يخرجون في المنقطع من حكم الإرسال، لأن على هذا التقدير الملائكة أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة وما أرسلوا إلى آل لوط أصلا، وأما في المتصل فالملائكة أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء، وأما قوله: * (إنا لمنجوهم أجمعين) * فاعلم أنه قرأ حمزة والكسائي * (منجوهم) * خفيفة، والباقون مشددة وهما لغتان.
أما قوله تعالى: * (إلا امرأته) * قال صاحب " الكشاف ": هذا استثناء من الضمير المجرور في قوله: * (لمنجوهم) * وليس ذلك من باب الاستثناء من الاستثناء، لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، كما لو قيل: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته، وكما لو قال: المطلق لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين إلا
واحدة، وكما إذا قال: المقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما، فأما في هذه الآية فقد اختلف الحكمان، لأن قوله: * (إلا آل لوط) * متعلق بقوله: * (أرسلنا) * أو بقوله * (مجرمين) * وقوله: * (إلا امرأته) * قد تعلق بقوله: * (منجوهم) * فكيف يكون هذا استثناء من استثناء.
وأما قوله: * (قدرنا إنها لمن الغابرين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن معنى التقدير في اللغة: جعل الشيء على مقدار غيره. يقال: قدر هذا الشيء بهذا أي اجعله على مقداره، وقدر الله تعالى الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية، ثم يفسر التقدير بالقضاء، فقال: قضى الله عليه كذا، وقدره عليه أي جعله على مقدار ما يكفي
199

في الخير والشر، وقيل في معنى: * (قدرنا) * كتبنا. قال الزجاج: دبرنا. وقيل: قضينا، والكل متقارب.
المسألة الثانية: قرأ أبو بكر عن عاصم * (قدرنا) * بتخفيف الدال ههنا وفي النمل. وقرى الباقون فيهما بالتشديد. قال الواحدي يقال: قدرت الشيء وقدرته، ومنه قراءة ابن كثير: * (نحن قدرنا بينكم الموت) * (الواقعة: 60) خفيفا، وقراءة الكسائي: * (والذي قدر فهدى) * ثم قال: والمشددة في هذا المعنى أكثر استعمالا لقوله تعالى؛ * (وقدر فيها أقواتها) * (فصلت: 10) وقوله: * (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) *.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله تعالى، ولم لم يقولوا: قدر الله تعالى؟
والجواب: إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم، وإنما يريدون بذكر هذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك، فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الرابعة: قوله؛ * (إنها لمن الغابرين) * في موضع مفعول التقدير قضينا أنها تتخلف وتبقى مع من يبقى حتى تهلك كما يهلكون. ولا تكون ممن يبقى مع لوط فتصل إلى النجاة والله أعلم.
* (فلما جآء ءال لوط المرسلون * قال إنكم قوم منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون * وآتيناك بالحق وإنا لصادقون) *
اعلم أن الملائكة لما بشروا إبراهيم بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون لعذاب قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط وإلى آله، وأن لوط وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة الله، فلهذا قال لهم: * (إنكم قوم منكرون) * وفي تأويله وجوه: الأول: أنه إنما وصفهم بأنهم منكرون، لأنه عليه الصلاة والسلام ما عرفهم، فلما هجموا عليه استنكر منهم ذلك وخاف أنهم دخلوا عليه لأجل شر يوصلونه إليه، فقال هذه الكلمة. والثاني: أنهم كانوا شبابا مردا حسان الوجوه، فخاف أن يهجم قومه عليه بسبب طلبهم فقال هذه الكلمة. والثالث: أن النكرة ضد المعرفة فقوله: * (إنكم قوم منكرون) * أي لا أعرفكم، ولا أعرف أنكم من أي الأقوام، ولأي غرض دخلتم علي، فعند هذه الكلمة قالت الملائكة، بل جئناك بما كانوا فيه يمترون، أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في نزوله، ثم أكدوا
200

ما ذكروه بقولهم: * (وأتيناك بالحق) * قال الكلبي: بالعذاب، وقيل باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو عذاب أولئك الأقوام ثم أكدوا هذا التأكيد بقولهم؛ * (وإنا لصادقون) *.
قوله تعالى
* (فأسر بأهلك بقطع من اليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون * وقضينآ إليه ذلك الامر أن دابر هؤلآء مقطوع مصبحين) *
قرىء * (فأسر) * بقطع الهمزة ووصلها من أسرى وسرى. وروى صاحب الكشاف عن صاحب الإقليد فسر * (من) * السير والقطع آخر الليل. قال الشاعر: افتحي الباب وانظري في النجوم * كم علينا من قطع ليل بهيم
وقوله: * (واتبع أدبارهم) * معناه: اتبع آثار بناتك وأهلك. وقوله: * (ولا يلتفت منكم أحد) * الفائدة فيه أشياء: أحدها: لئلا يتخلف منكم أحد فينا له العذاب. وثانيها: لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من البلاء. وثالثها: معناه الإسراع وترك الاهتمام لما خلف وراءه كما تقول: امض لشأنك ولا تعرج على شيء. ورابعها: لو بقي منه متاع في ذلك الموضع، فلا يرجعن بسببه البتة. وقوله: * (وامضوا حيث تؤمرون) * قال ابن عباس: يعني الشام. قال المفضل: حيث يقول لكم جبريل. وذلك لأن جبريل عليه السلام أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة أهلها ما عملوا مثل عمل قوم لوط. وقوله: * (وقضينا إليه) * عدى قضينا بإلى، لأنه ضمن معنى أوحينا، كأنه قيل: وأوحيناه إليه مقضيا مبتوتا، ونظيره قوله تعالى: * (وقضينا إلى بني إسرائيل) * (الإسراء: 4) وقوله؛ * (ثم اقضوا إلي) * (يونس: 71) ثم إنه فسر بعد ذلك القضاء المبتوت بقوله: * (أن دابر هؤلاء مقطوع) * وفي إبهامه أولا، وتفسيره ثانيا تفخيم للأمر وتعظيم له. وقرأ الأعمش * (إن) * بالكسر على الاستئناف كان قائلا قال أخبرنا عن ذلك الأمر، فقال: إن دابر هؤلاء، وفي قراءة ابن مسعود. وقلنا: * (إن دابر هؤلاء) * ودابرهم آخرهم، يعني يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد وقوله: * (مصبحين) * أي حال ظهور الصبح.
201

قوله تعالى
* (وجآء أهل المدينة يستبشرون * قال إن هؤلآء ضيفى فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون * قالوا أو لم ننهك عن العالمين * قال هؤلآء بناتى إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون * فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن فى ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم * إن فى ذلك لآية للمؤمنين) *
اعلم أن المراد بأهل المدينة قوم لوط، وليس في الآية دليل على أن المكان الذي جاؤه إلا أن القصة تدل على أنهم جاؤوا دار لوط. قيل: إن الملائكة لما كانوا في غاية
الحسن اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط. وقيل: امرأة لوط أخبرتهم بذلك، وبالجملة فالقوم قالوا: نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح وجها ولا أحسن شكلا منهم فذهبوا إلى دار لوط طلبها منهم لأولئك المرد والاستبشار إظهار السرور فقال لهم لوط لما قصدوا أضيافه كلامين:
الكلام الأول: قال: * (إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون) * يقال فضحه يفضحه فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار، والمعنى أن الضيف يجب إكرامه فإذا قصدتموهم بالسوء كان ذلك إهانة بي، ثم أكد ذلك بقوله: * (واتقوا الله ولا تخزون) * فأجابوه بقولهم: * (أو لم ننهك عن العالمين) * والمعنى: ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة.
والكلام الثاني: مما قاله لوط قوله: * (هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين) * قيل: المراد بناته من صلبه، وقيل: المراد نساء قومه، لأن رسول الأمة يكون كالأب لهم وهو كقوله تعالى: * (النبي أولى
202

بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) * (الأحزاب: 6) وفي قراءة أبي وهو أب لهم، والكلام في هذه المباحث قد مر بالاستقصاء في سورة هود عليه السلام.
أما قوله: * (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: العمر والعمر واحد وسمي الرجل عمرا تفاؤلا أن يبقى ومنه قول ابن أحمر: ذهب الشباب وأخلق العمر
وعمر الرجل يعمر عمرا وعمرا، فإذا أقسموا به قالوا: لعمرك وعمرك فتحوا العين لا غير. قال الزجاج: لأن الفتح أخف عليهم وهم يكثرون القسم بلعمري ولعمرك فالتزموا الأخف.
المسألة الثانية: في قوله: * (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) * قولان: الأول: أن المراد أن الملائكة قالت للوط عليه السلام: * (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) * أي في غوايتهم يعمهون، أي يتحيرون فكيف يقبلون قولك، ويلتفتون إلى نصيحتك. والثاني: أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد، وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله تعالى قال النحويون: ارتفع قوله: * (لعمرك) * بالابتداء والخبر محذوف، والمعنى: لعمرك قسمي وحذف الخبر، لأن في الكلام دليلا عليه وباب القسم يحذف منه الفعل نحو: بالله لأفعلن، والمعنى: أحلف بالله فيحذف لعلم المخاطب بأنك حالف.
ثم قالت عالي: * (فأخذتهم الصيحة) * أي صيحة جبريل عليه السلام قال أهل المعاني: ليس في الآية دلالة على أن تلك الصيحة صيحة جبريل عليه السلام فإن ثبت ذلك بدليل قوي قيل به، وإلا فليس في الآية دلالة إلا على أنه جاءتهم صيحة عظيمة مهلكة وقوله: * (مشرقين) * يقال شرق الشارق يشرق شروقا لكل ما طلع من جانب الشرق، ومنه قولهم ما ذر شارق أي طلع طالع فقوله: * (مشرقين) * أي داخلين في الشروق يقال أشرق الرجل إذا دخل في الشروق، وهو بزوغ الشمس.
واعلم أن الآية تدل على أنه تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب: أحدها: الصيحة الهائلة المنكرة. وثانيها: أنه جعل عاليها سافلها. وثالثها: أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل، وكل هذه الأحوال قد مر تفسيرها في سورة هود.
ثم قال تعالى: * (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) * يقال توسمت في فلان خيرا أي رأيت فيه أثرا منه وتفرسته فيه، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير المتوسمين قيل: المتفرسين، وقيل: الناظرين، وقيل: المتفكرين، وقيل: المعتبرين، وقيل: المتبصرين. قال الزجاج: حقيقة المتوسمين في اللغة المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا سمة الشيء وصفته وعلامته، والمتوسم الناظر في السمة الدالة تقول: توسمت
203

في فلان كذا أي عرفت وسم ذلك وسمته فيه.
ثم قال: * (وإنها لبسبيل مقيم) * الضمير في قوله: * (وإنها) * عائد إلى مدينة قوم لوط، وقد سبق ذكرها في قوله؛ * (وجاء أهل المدينة) * وقوله: * (لبسبيل مقيم) * أي هذه القرى وما ظهر فيها من آثار قهر الله وغضبه لبسبيل مقيم ثابت لم يندرس ولم يخف، والذين يمرون من الحجاز إلى الشام يشاهدونها.
ثم قال: * (إن في ذلك لآية للمؤمنين) * أي كل من آمن بالله وصدق الأنبياء والرسل عرف أن ذلك إنما كان لأجل أن الله تعالى انتقم لأنبيائه من أولئك الجهال، أما الذين لا يؤمنون بالله فإنهم يحملونه على حوادث العالم ووقائعه، وعلى حصول القرانات الكوكبية والاتصالات الفلكية والله أعلم.
* (وإن كان أصحاب الايكة لظالمين * فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين) *
اعلم أن هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة. فأولها: قصة آدم وإبليس. وثانيها: قصة إبراهيم ولوط. وثالثها: هذه القصة، وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب عليه السلام، كانوا أصحاب غياض فكذبوا شعيبا فأهلكهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة، وقد ذكر الله تعالى قصتهم في سورة الشعراء، والأيكة الشجر الملتف. يقال: أيكة وأيك كشجرة وشجر. قال ابن عباس: الأيك هو شجر المقل، وقال الكلبي: الأيكة الغيضة، وقال الزجاج: هؤلاء أهل موضع كان ذا شجر. قال الواحدي: ومعنى إن واللام للتوكيد وإن ههنا هي المخففة من الثقيلة، وقوله: * (فانتقمنا منهم) * قال المفسرون: اشتد الحر فيهم أياما، ثم اضطرم عليهم المكان نارا فهلكوا عن آخرهم وقوله: * (وإنهما) * فيه قولان:
القول الأول: المراد قرى قوم لوط عليه السلام والأيكة.
والقول الثاني: الضمير للأيكة ومدين لأن شعيبا عليه السلام كان مبعوثا إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما وقوله: * (لبإمام مبين) * أي بطريق واضح والإمام اسم ما يؤتم به. قال الفراء والزجاج: إنما جعل الطريق إماما لأنه يؤم ويتبع. قال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده وقوله: * (مبين) * يحتمل أنه مبين في نفسه ويحتمل
204

أنه مبين لغيره، لأن الطريق يهدي إلى المقصد.
قوله تعالى
* (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين * وءاتيناهم ءاياتنا فكانوا عنها معرضين * وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين * فأخذتهم الصيحة مصبحين * فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) *
هذه هي القصة الرابعة، وهي قصة صالح. قال المفسرون: الحجر اسم واد كان يسكنه ثمود وقوله: * (المرسلين) * المراد منه صالح وحده، ولعل القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل وقوله: * (وآتيناهم آياتنا) * يريد الناقة، وكان في الناقة آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظم خلقها وظهور نتاجها عند خروجها، وكثرة لبنها وأضاف الإيتاء إليهم وإن كانت الناقة آية لصالح لأنها آيات رسولهم، وقوله: * (فكانوا عنها معرضين) * يدل على أن النظر والاستدلال واجب وأن التقليد مذموم وقوله: * (وكانوا ينحتون من الجبال) * قد ذكرنا كيفية ذلك النحت في سورة الأعراف وقوله: * (آمنين) * يريد من عذاب الله، وقال الفراء: * (آمنين) * أن يقع سقفهم عليهم وقوله: * (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) * أي ما دفع عنهم الضر والبلاء ما كانوا يعملون من نحت تلك الجبال ومن جمع تلك الأموال. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وما خلقنا السماوات والارض وما بينهمآ إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل * إن ربك هو الخلاق العليم) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أهلك الكفار فكأنه قيل: الإهلاك والتعذيب كيف يليق بالرحيم الكريم. فأجاب عنه بأني إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة فإذا تركوها
205

وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير وجه الأرض منهم، وهذا النظم حسن إلا أنه إنما يستقيم على قول المعتزلة، قال الجبائي: دلت الآية على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا حقا وبكون الحق لا يكون الباطل، لأن كل ما فعل باطلا وأريد بفعله كون الباطل لا يكون حقا ولا يكون مخلوقا بالحق، وفيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلقه الله تعالى بين السماوات والأرض من الكفر والمعاصي باطل. واعلم أن أصحابنا قالوا: هذه الآية تدل على أنه سبحانه هو الخالق لجميع أعمال العباد، لأنها تدل على أنه سبحانه هو الخالق للسموات والأرض ولكل ما بينهما. ولا شك أن أفعال العباد بينهما فوجب أن يكون خالقها هو الله سبحانه، وفي الآية وجه آخر في النظم وهو أن المقصود من ذكر هذه القصص تصبير الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام على سفاهة قومه فإنه إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء الله تعالى بمثل هذه المعاملات الفاسدة سهل تحمل تلك السفاهات على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنه تعالى لما بين أنه أنزل العذاب على الأمم السالفة فعند هذا قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (وإن الساعة لآتية) * وإن الله لينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم، فإنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق والعدل والإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك، ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم فقال: * (فاصفح الصفح الجميل) * أي فأعرض عنهم، واحتمل ما تلقى منهم إعراضا جميلا بحلم وإغضاء، وقيل: هو منسوخ بآية السيف وهو بعيد، لأن المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والعفو والصفح، فكيف يصير منسوخا.
ثم قال: * (إن ربك هو الخلاق العليم) * ومعناه أنه خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم وتفاوت أحوالهم مع علمه بكونهم كذلك، وإذا كان كذلك فإنما خلقهم مع هذا التفاوت، ومع العلم بذلك التفاوت. أما على قول أهل السنة فلمحض المشيئة والإرادة. وأما على قول المعتزلة فلأجل المصلحة والحكمة، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم * لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) *
206

اعلم أنه تعالى لما صبره على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بها، لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه سهل عليه الصفح والتجاوز، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: * (آتيناك سبعا) * يحتمل أن يكون سبعا من الآيات وأن يكون سبعا من السور وأن يكون سبعا من الفوائد. وليس في اللفظ ما يدل على التعيين. وأما المثاني: فهو صيغة جمع. واحده مثناة، والمثناة كل شيء يثنى، أي يجعل اثنين من قولك: ثنيت الشيء إذا عطفته أو ضممت إليه آخر، ومنه يقال: لركبتي الدابة ومرفقيها مثاني، لأنها تثنى بالفخذ والعضد، ومثاني الوادي معاطفه.
إذا عرفت هذا فنقول: سبعا من المثاني مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى ولا شك أن هذا القدر مجمل ولا سبيل إلى تعيينه إلا بدليل منفصل وللناس فيه أقوال: الأول: وهو قول أكثر المفسرين: إنه فاتحة الكتاب وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة وقال: هي السبع المثاني رواه أبو هريرة، والسبب في وقوع هذا الاسم على الفاتحة أنها سبع آيات، وأما السبب في تسميتها بالمثاني فوجوه: الأول: أنها تثنى في كل صلاة بمعنى أنها تقرأ في كل ركعة. والثاني: قال الزجاج: سميت مثاني لأنها يثنى بعدها ما يقرأ معها. الثالث: سميت آيات الفاتحة مثاني، لأنها قسمت قسمين اثنين، والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " والحديث مشهور. الرابع: سميت مثاني لأنها قسمان ثناء ودعاء، وأيضا النصف الأول منها حق الربوبية وهو الثناء، والنصف الثاني حق العبودية وهو
الدعاء. الخامس: سميت الفاتحة بالمثاني، لأنها نزلت مرتين مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن ومرة بالمدينة. السادس: سميت بالمثاني، لأن كلماتها مثناة مثل: * (الرحمن الرحيم * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم) * (الفاتحة: 2، 7) وفي قراءة عمر: (غير المغضوب عليهم وغير الضالين). السابع: قال الزجاج: سميت الفاتحة بالمثاني لاشتمالها على الثناء على الله تعالى وهو حمد الله وتوحيده وملكه.
واعلم أنا إذا حملنا قوله: * (سبعا من المثاني) * على سورة الفاتحة فههنا أحكام:
الحكم الأول
نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال: كان ابن مسعود يكتب في مصحفة فاتحة الكتاب
رأى أنها ليست من القرآن. وأقول: لعل حجته فيه أن السبع المثاني لما ثبت أنه هو الفاتحة، ثم
207

إنه تعالى عطف السبع المثاني على القرآن، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه وجب أن يكون السبع
المثاني غير القرآن، إلا أن هذا يشكل بقول تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح)
وكذلك قوله (وملائكته وجبريل وميكال) وللخصم أن يجيب: بأنه لا يبعد أن يذكر الكل، ثم
يعطف عليه ذكر بعض أجزائه وأقسامه لكونه أشرف الأقسام. أما إذا ذكر شئ ثم عطف عليه
شئ آخر كان المذكور أولا مغاير للمذكور ثانيا، وههنا ذكر السبع المثاني، ثم عطف عليه القرآن
العظيم، فوجب حصول المغايرة.
والجواب الصحيح: أن بعض الشئ مغاير لمجموعه، فلم لا يكفي هذا القدر من المغايرة في حسن
العطف، والله أعلم،
الحكم الثاني
أنه لما كان المراد بقوله (سبعا من المثاني) هو الفاتحة، دل على أنه هذه السورة أفضل سور
القرآن من وجهين: أحدهما: أن إفرداها بالذكر مع كونها جزءا من أجزاء القرآن، لابد
وأن يكون لاختصاصها بمزيد الشرف والفضيلة، والثاني: أنه تعالى لما أنزلها مرتين دل ذلك على
زيادة فضلها وشرفها.
وإذا ثبت هذا فنقول: لما رأينا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم واظب على قراءتها
في جمع الصلوات طول عمره، وما أقام سورة أخرى مقامها في شئ من الصلوات دل ذلك على أنه يجب
على المكلف أن يقرأها في صلاته وأن لا يقيم سائر آيات القرآن مقامها وأن يحترز عن هذا الابدال
فان فيه خطرا عظيما والله أعلم.
(القول الثاني) في تفسير قوله (سبعا من المثاني) إنها السبع الطوال وهذا قول ابن عمر
وسعيد بن جبير في بعض الروايات ومجاهد وهي: البقرة وآل عمران، والنساء والمائدة،
والانعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة معا. قالوا: وسميت هذه السور مثاني، لان الفرائض
والحدود والأمثال والعبر ثنيت فيها وأنكر الربيع هذا القول. وقال هذه الآية مكية وأكثر هذه
السور السبعة مدينة. وما نزل شئ منها في مكة، فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها.
وأجاب قوم عن هذا الاشكال: بأن الله تعالى أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا. ثم أنزله
على نبيه منها نجوما، فلما أنزله إلى السماء الدنيا، وحكم بانزاله عليه، فهو من جملة ما آتاه، وإن لم
ينزل عليه بعد.
ولقائل أن يقول: إنه تعالى قال (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) وهذا الكلام انما يصدق
208

إذا وصل ذلك الشئ إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فأما الذي أنزله إلي السماء الدنيا وهو لم يصل
بعد إلى محمد عليه السلام، فهذا الكلام لا يصدق فيه. وأما قوله بأنه لما حكم الله تعالى بانزاله على
محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك جاريا مجرى ما نزل عليه فهذا أيضا ضعيف، لان إقامة ما لم ينزل
عليه مقام النازل عليه مخالف للظاهر.
(والقول الثالث) في تفسير السبع المثاني إنها هي السور التي هي دون الطوال والمئين وفوق
المفصل، واختار هذا القول قوم واحتجوا عليه بما روى ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني المثاني
مكان الزبور، وفضلني ربى بالمفصل قال الواحدي: والقول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في
تسمية الطوال مثاني. وأقول إن صح هذا التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا غبار عليه
وإن لم يصح فهذا القول مشكل، لأنا بينا أن المسمى بالسبع المثاني يجب أن يكون أفضل من سائر
السور، وأجمعوا على أن هذه السور التي سموها بالمثاني ليست أفضل من غيرها، فيمتنع حمل السبع
الثماني على تلك السور.
(والقول الرابع) أن السبع المثاني هو القرآن كله، وهو منقول عن ابن عباس في بعض
الروايات، وقول طاوس قالوا: ودليل هذا القول قوله تعالى (كتابا متشابها مثاني) فوصف كل
القرآن بكونه مثاني ثم اختلف القائلون بهذا القول في أنه ما المراد بالسبع، وما المراد بالمثاني؟ أما السبع
فذكر فيه وجوها: أحدها: أن القرآن سبعة أسباع: وثانيها: أن القرآن مشتمل على سبعة أنواع
من العلوم. التوحيد، والنبوة، والمعاد، والقضاء، والقضاء والقدر، وأحوال العالم، والقصص، والتكاليف.
وثالثها: أنه مشتمل على الأمر والنهي، والخبر والاستخبار، والنداء، والقسم، والأمثال. وأما وصف
كل القرآن بالمثاني، فلأنه كرر فيه دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف، وهذا القول ضعيف أيضا،
لأنه لو كان المراد بالسبع الثماني القرآن، لكان قوله (والقرآن العظيم) عطفا للشئ على نفسه،
وذلك غير جائز.
وأجيب عنه بأنه إنما حسن إدخال حرف العطف فيه لاختلاف اللفظين كقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام... وليث الكتيبة في المزدحم
وأعلم ان هذا وإن كان جائزا لأجل وروده في هذا البيت، الا أنهم أجمعوا على أن الأصل خلافه
(والقول الخامس) يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة، لأنها سبع آيات، ويكون المراد
بالمثاني كل القرآن ويكون التقدير: ولقد آتيناك سبع آيات هي الفاتحة وهي من جملة المثاني الذي هو
209

القرآن وهذا القول عين الأول والتفاوت ليس إلا بقليل والله أعلم.
(المسألة الثانية) لفظة من في قوله (سبعا من المثاني) قال الزجاج فيها وجهان: أحدهما:
أن تكون للتبعيض من القرآن أي ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله
تعالى وآتيناك القرآن العظيم قال ويجوز أن تكون من صلة، والمعنى: أتيناك سبعا هي
المثاني كما قال (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) المعنى: اجتنبوا الأوثان، لان أن بعضها
رجس والله أعلم.
أما قوله تعالى (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) فاعلم أنه تعالى لما عرف رسوله
عظم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين، وهو أنه آتاه سبعا من المثاني والقرآن العظيم، نهاه عن الرغبة
في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها وفى مد العين أقوال:
(القول الأول) كأنه قيل له إنك أوتيت القرآن العظيم فلا تشغل سرك وخاطرك بالالتفات
إلى الدنيا ومنه الحديث ليس منا من لم يتغن بالقرآن وقال أبو بكر: من أوتى القرآن فرأى أن أحدا
أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى فقد صغر عظيما وعظم صغيرا، وقيل: وافت من بعض البلاد
سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير، فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة، فقال
المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فقال الله تعالى لهم لقد
أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع.
(القول الثاني) قال ابن عباس (لا تمدن عينيك) أي لا تتمن ما فضلنا به أحدا من متاع الدنيا،
وقرر الواحدي هذا المعنى فقال: إنما يكون مادا عينيه إلى الشئ إذا أدام النظر ونحوه، وإدامة
النظر إلى الشئ تدل على استحسانه وتمنيه، وكان صلى الله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن
من متاع الدنيا، وروى أنه نظر إلى نعمي بنى المصطلق، وقد عبست في أبوالها وأبعارها فتقنع
في ثوبه وقرأ هذه الآية وقوله عبست في أبوالها وأبعارها هو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها
إذا تركت من العمل أيام الربيع فتكثر شحومها ولحومها وهي أحسن ما تكون.
(والقول الثالث) قال بعضهم (ولا تمدن عينيك) أي لا تحسدن أحدا على ما أوتى من الدنيا
قال القاضي: هذا بعيد، لان الجسد من كل أحد قبيح، لأنه إرادة لزوال نعم الغير عنه، وذلك يجرى
مجرى الاعتراض على الله تعالى والاستقباح لحكمه وقضائه، وذلك من كل أحد قبيح، فكيف يحسن
تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم به؟
أما قوله تعالى (أزواجا منهم) قال ابن قتيبة أي أصنافا من الكفار، والزوج في اللغة الصنف
210

* (وقل إنى أنا النذير المبين * كمآ أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرءان عضين) *
ثم قال (ولا تحزن عليهم) ان لم يؤمنوا فيقوى بمكانهم الاسلام وينتعش بهم المؤمنون. والحاصل
أن قوله (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) نهى له عن الالتفات إلى أموالهم وقوله
(ولا تحزن عليهم) نهى له عن الالتفات إليهم وأن يحصل لهم في قلبه قدر ووزن.
ثم قال (واخفض جناحك للمؤمنين) الخفض: معناه في اللغة نقيض الرفع، ومنه قوله تعالى
في صفة القيامة (خافضة رافعة) أي أنها تخفض أهل المعاصي، وترفع أهل الطاعات، فالخفض
معناه الوضع، وجناح الانسان يده. قال الليث: يدا الانسان جناحاه ومنه قوله (واضمم إليك
جناحك من الرهب) وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع، والمقصود أنه تعالى لما
نهاه عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين، ونظيره قوله
تعالى (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) وقال في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
(أشداء على الكفار رحماء بينهم)
قوله تعالى (وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين)
اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالزهد في الدنيا، وخفض الجناح للمؤمنين، أمره بأن يقول للقوم: * (إني أنا النذير المبين) * فيدخل تحت كونه نذيرا، كونه مبلغا لجميع التكاليف، لأن كل ما كان واجبا ترتب على تركه عقاب وكل ما كان حراما ترتب على فعله عقاب فكان الأخبار بحصول هذا العقاب داخلا تحت لفظ النذير، ويدخل تحته أيضا كونه شارحا لمراتب الثواب والعقاب والجنة والنار، ثم أردفه بكونه مبينا، ومعناه كونه آتيا في كل ذلك بالبيانات الشافية والبينات الوافية، ثم قال بعده: * (كما أنزلنا على المقتسمين) * وفيه بحثان:
البحث الأول: اختلفوا في أن المقتسمين من هم؟ وفيه أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: هم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرب عددهم من أربعين. وقال مقاتل بن سليمان: كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا عقبات مكة وطرقها يقولون لمن يسلكها لا تغتروا بالخارج منا، والمدعي للنبوة فإنه مجنون، وكانوا ينفرون الناس عنه بأنه ساحر أو كاهن
211

أو شاعر، فأنزل الله تعالى بهم خزيا فماتوا شر ميتة، والمعنى: أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين.
والقول الثاني: وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات أن المقتسمين هم اليهود والنصارى، واختلفوا في أن الله تعالى لم سماهم مقتسمين؟ فقيل لأنهم جعلوا القرآن عضين آمنوا بما وافق التوراة وكفروا بالباقي. وقال عكرمة: لأنهم اقتسموا القرآن استهزاء به، فقال بعضهم: سورة كذا لي. وقال بعضهم: سورة كذا لي. وقال مقاتل بن حبان: اقتسموا القرآن فقال بعضهم سحر. وقال بعضهم شعر، وقال بعضهم كذب، وقال بعضهم: أساطير الأولين.
والقول الثالث: في تفسير المقتسمين. قال ابن زيد: هم قوم صالح تقاسموا لنبيتنه وأهله، فرمتهم الملائكة بالحجارة حتى قتلوهم، فعلى هذا والاقتسام من القسم لا من القسمة، وهو اختيار ابن قتيبة.
البحث الثالث: أن قوله: * (كما أنزلنا على المقتسمين) * يقتضي تشبيه شيء بذلك فما ذلك الشيء؟
والجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: التقدير: ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم كما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين، حيث قالوا بعنادهم وجهلهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل.
فإن قيل: فعلى هذا القول كيف توسط بين المشبه والمشبه به قوله: * (ولا تمدن عينيك) * (الحجر: 88) إلى آخره؟
قلنا: لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم، اعترض بما هو مدار لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على
كفرهم.
والوجه الثاني: أن يتعلق هذا الكلام بقوله: * (وقل إني أنا النذير المبين) *.
واعلم أن هذا الوجه لا يتم إلا بأحد أمرين: إما التزام إضمار أو التزام حذف، أما الإضمار فهو أن يكون التقدير إني أنا النذير المبين عذابا كما أنزلناه على المقتسمين، وعلى هذا الوجه، المفعول محذوف وهو المشبه، ودل عليه المشبه به، وهذا كما تقول: رأيت كالقمر في الحسن، أي رأيت إنسانا كالقمر في الحسن، وأما الحذف فهو أن يقال: الكاف زائدة محذوفة، والتقدير: إني أنا النذير المبين ما أنزلناه على المقتسمين، وزيادة الكاف له نظير وهو قوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) والتقدير: ليس مثله شيء، وقال بعضهم: لا حاجة إلى الإضمار والحذف، والتقدير: إني أنا النذير أي أنذر قريشا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين وقوله: * (الذين جعلوا القرآن عضين) * فيه بحثان:
212

البحث الأول: في هذا اللفظ قولان: الأول: أنه صفة للمقتسمين. والثاني: أنه مبتدأ، وخبره هو قوله: * (لنسألنهم) * وهو قول ابن زيد.
البحث الثاني: ذكر أهل اللغة في واحد عضين قولين:
القول الأول: أن واحدها عضة مثل عزة وبرة وثبة، وأصلها عضوة من عضيت الشيء إذا فرقته، وكل قطعة عضة، وهي مما نقص منها واو هي لام الفعل، والتعضية التجزئة والتفريق، يقال: عضيت الجزور والشاة تعضية إذا جعلتها أعضاء وقسمتها، وفي الحديث: " لا تعضية في ميراث إلا فيما احتمل القسمة " أي لا تجزئه فيما لا يحتمل القسمة كالجوهرة والسيف. فقوله: * (جعلوا القرآن عضين) * يريد جزؤه أجزاء، فقالوا: سحر وشعر وأساطير الأولين ومفترى.
والقول الثاني؛ أن واحدها عضة وأصلها عضهة، فاستثقلوا الجمع بين هاءين، فقالوا: عضة كما قالوا شفة، والأصل شفهة بدليل قولهم: شافهت مشافهة، وسنة وأصلها سنهة في بعض الأقوال، وهو مأخوذ من العضة بمعنى الكذب، ومنه الحديث: " إياكم والعضة " وقال ابن السكيت: العضة بأن يعضه الإنسان ويقول فيه ما ليس فيه. وهذا قول الخليل فيما روى الليث عنه، فعلى هذا القول معنى قوله تعالى: * (جعلوا القرآن عضين) * أي جعلوه مفترى. وجمعت العضة جمع ما يعقل لما لحقها من الحذف، فجعل الجمع بالواو والنون عوضا مما لحقها من الحذف.
* (فوربك لنسالنهم أجمعين * عما كانوا يعملون * فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزءين * الذين يجعلون مع الله إلها ءاخر فسوف يعلمون) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) * يحتمل أن يكون راجعا إلى المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين، لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى، ويكون التقدير أنه تعالى أقسم بنفسه أن يسأل هؤلاء المقتسمين عما كانوا يقولونه من اقتسام القرآن وعن سائر المعاصي، ويحتمل أن يكون راجعا إلى جميع المكلفين لأن ذكرهم قد تقدم في قوله: * (وقل إني أنا النذير المبين) * (الحجر: 89) أي
213

لجميع الخلق وقد تقدم ذكر المؤمنين وذكر الكافرين، فيعود قوله: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) * على الكل، ولا معنى لقول من يقول إن السؤال إنما يكون عن الكفر أو عن الإيمان، بل السؤال واقع عنهما وعن جميع الأعمال، لأن اللفظ عام فيتناول الكل.
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: * (لنسألنهم أجمعين) * وبين قوله: * (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان) * (الرحمن: 39) أجابوا عنه من وجوه:
الوجه الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يسئلون سؤال الاستفهام لأنه تعالى عالم بكل أعمالهم، وإنما يسئلون سؤال التقريع يقال لهم لم فعلتم كذا؟
ولقائل أن يقول: هذا الجواب ضعيف، لأنه لو كان المراد من قوله: * (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان) * سؤال الاستفهام لما كان في تخصيص هذا النفي بقوله يومئذ فائدة لأن مثل هذا السؤال على الله تعالى محال في كل الأوقات.
والوجه الثاني: في الجواب أن يصرف النفي إلى بعض الأوقات، والإثبات إلى وقت آخر، لأن يوم القيامة يوم طويل.
ولقائل أن يقول: قوله؛ * (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان) * (الرحمن: 39) هذا تصريح بأنه لا يحصل السؤال في ذلك اليوم، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء ذلك اليوم لحصل التناقض. والوجه الثالث: أن نقول: قوله: * (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان) * يفيد عموم النفي وقوله: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) * عائد إلى المقتسمين وهذا خاص ولا شك أن الخاص مقدم على العام. أما قوله: * (فاصدع بما تؤمر) * فاعلم أن معنى الصدع في اللغة الشق والفصل، وأنشد ابن السكيت لجرير: هذا الخليفة فارضوا ما قضى لكم * بالحق يصدع ما في قوله حيف
فقال يصدع يفصل، وتصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه قوله تعالى: * (يومئذ يصدعون) * (الروم: 43) قال الفراء: يتفرقون. والصدع في الزجاجة الإبانة، أقول ولعل ألم الرأس إنما سمي صداعا لأن قحف الرأس عند ذلك الألم كأنه ينشق. قال الأزهري: وسمي الصبح صديعا كما يسمى فلقا. وقد انصدع وانفلق الفجر وانفطر الصبح.
إذا عرفت هذا فقول: * (فاصدع بما تؤمر) * أي فرق بين الحق والباطل، وقال الزجاج: فاصدع أظهر ما تؤمر به يقال: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا كقولك صرح بها، وهذا في الحقيقة يرجع أيضا إلى الشق والتفريق، أما قوله: * (بما تؤمر) * ففيه قولان: الأول: أن يكون " ما " بمعنى الذي
214

أي بما تؤمر به من الشرائع، فحذف الجار كقوله: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
الثاني: أن تكون " ما " مصدرية أي فاصدع بأمرك وشأنك. قالوا: وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية.
ثم قال تعالى: * (وأعرض عن المشركين) * أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة. قال بعضهم: هذا منسوخ بآية القتال وهو ضعيف، لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم فلا يكون منسوخا.
ثم قال: * (إنا كفيناك المستهزئين) * قيل: كانوا خمسة نفر من المشركين: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى عقب الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات، وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال: لدغت لدغت وانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي، وأشار إلى أنف عدي بن قيس، فامتخط قيحا فمات وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات.
واعلم أن المفسرين قد اختلفوا في عدد هؤلاء المستهزئين وفي أسمائهم وفي كيفية طريق استهزائهم، ولا حاجة إلى شيء منها، والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورياسة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة مع مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في علو قدره وعظم منصبه، ودل القرآن على أن الله تعالى أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن قومه يسفهون عليه ولا سيما أولئك المقتسمون وأولئك المستهزؤون قال له: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) * لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك فعند هذا قال له: * (فسبح بحمد ربك) * فأمره بأربعة أشياء بالتسبيح والتحميد والسجود والعبادة
215

واختلف الناس في أنه كيف صار الإقبال على هذه الطاعات سببا لزوال ضيق القلب والحزن؟ فقال العارفون المحققون إذا اشتغل الإنسان بهذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية، ومتى حصل ذلك الإنكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة، وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها، وعند ذلك يزول الحزن والغم. وقالت المعتزلة: من اعتقد تنزيه الله تعالى عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق، فإنه يعلم أنه عدل منزه عن إنزال المشاق به من غير غرض ولا فائدة فحينئذ يطيب قلبه، وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات كأنه يقول: تجب على عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات، وقوله: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الموت وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن.
فإن قيل: فأن فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟
قلنا: المراد منه: * (واعبد ربك) * في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة، والله أعلم.
216

سورة النحل
مكية، إلا الآيات الثلاث الأخيرة فمدنية وآياتها: 128، نزلت بعد سورة الكهف
بسم الله الرحمن الرحيم
* (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون * ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) *
سورة النحل مكية غير ثلاث آيات في أخرها وحكى الأصم عن بعضهم أن كلها مدنية، وقال آخرون: من أولها إلى قوله: * (كن فيكون) * مدني وما سواه فمكي، وعن قتادة بالعكس.
واعلم أن هذه السورة تسمى سورة النعم وهي مائة وعشرون وثمان آيات مكية. بسم الله الرحمن الرحيم * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن معرفة تفسير هذه الآية مرتبة على سؤالات ثلاثة:
فالسؤال الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بعذاب الدنيا تارة وهو القتل والاستيلاء عليهم كما حصل في يوم بدر، وتارة بعذاب يوم القيامة، وهو الذي يحصل عند
217

قيام الساعة، ثم إن القوم لما لم يشاهدوا شيئا من ذلك احتجوا بذلك على تكذيبه وطلبوا منه الإتيان بذلك العذاب وقالوا له ائتنا به. وروي أنه لما نزل قوله تعالى: * (اقتربت الساعة وانشق القمر) * (القمر: 1) قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا ما نرى شيئا مما تخوفنا به، فنزل قوله: * (اقترب للناس حسابهم) * (الأنبياء: 1) فأشفقوا وانتظروا يومها فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل قوله: * (أتى أمر الله) * فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزل قوله: * (فلا تستعجلوه) * والحاصل أنه عليه السلام لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ولم يروا شيئا نسبوه إلى الكذب.
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) * وفي تقرير هذا الجواب وجهان:
الوجه الأول: أنه وإن لم يأت ذلك العذاب إلا أنه كان واجب الوقوع والشيء إذا كان بهذه الحالة والصفة فإنه يقال في الكلام المعتاد أنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه بعد ذلك مجرى الواقع يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها: قد جاءك الغوث فلا تجزع.
والوجه الثاني: وهو أن يقال أن أمر الله بذلك وحكمه به قد أتى وحصل ووقع، فأما المحكوم به فإنما لم يقع، لأنه تعالى حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود والحاصل كأنه قيل: أمر الله وحكمه بنزول العذاب قد حصل ووجد من الأزل إلى الأبد فصح قولنا أتى أمر الله، إلا أن المحكوم به والمأمور به إنما لم يحصل، لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين فلا تستعجلوه ولا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت.
السؤال الثاني: قالت الكفار: هب أنا سلمنا لك يا محمد صحة ما تقوله من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة، إلا أنا نعبد هذه الأصنام فإنها شفعاؤنا عند الله فهي تشفع لنا عنده فنتخلص من هذا العذاب المحكوم به بسبب شفاعة هذه الأصنام.
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * فنزه نفسه عن شركة الشركاء والأضداد، والأنداد وأن يكون لأحد من الأرواح والأجسام أن يشفع عنده إلا بإذنه و * (ما) * في قوله: * (عما يشركون) * يجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: سبحانه وتعالى عن إشراكهم ويجوز أن تكون بمعنى الذي، أي سبحانه وتعالى عن هذه الأصنام التي جعلوها شركاء لله، لأنها جمادات خسيسة، فأي مناسبة بينها وبين أدون الموجودات فضلا عن أن يحكم بكونها شركاء لمدبر الأرض والسماوات.
السؤال الثالث: هب أنه تعالى قضى على بعض عبيده بالسراء وعلى آخرين بالضراء ولكن
218

كيف يمكنك أن تعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله، وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟
فأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) * وتقرير هذا الجواب أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده ويأمر ذلك العبد بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد كلفهم بمعرفة التوحيد والعبادة وبين أنهم إن فعلوا ذلك فازوا بخيري الدنيا والآخرة، وإن تمردوا وقعوا في شر الدنيا والآخرة، فبهذا الطريق صار مخصوصا بهذه المعارف من دون سائر الخلق، وظهر بهذا الترتيب الذي لخصناه أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه والله أعلم. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: (ينزل) بالياء وكسر الزاي وتشديدها، والملائكة بالنصب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ينزل) * بضم الياء وكسر الزاي وتخفيفها، والأول من التفعيل، والثاني من الأفعال، وهما لغتان:
المسألة الثانية: روي عن عطاء عن ابن عباس قال: يريد بالملائكة جبريل وحده. قال الواحدي: وتسمية الواحد باسم الجمع إذا كان ذلك الواحد رئيسا مقدما جائز كقوله تعالى: * (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) *. (نوح: 1) * (وإنا أنزلناه) * (يوسف: 2). * (وإنا نحن نزلنا الذكر) * (الحجر: 9) وفي حق الناس كقوله: * (الذين قال لهم الناس) * وفيه قول آخر سيأتي شرحه بعد ذلك وقوله: * (بالروح من أمره) * فيه قولان:
القول الأول: أن المراد من الروح الوحي وهو كلام الله ونظيره قوله تعالى: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52) وقوله: * (يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده) * (غافر: 15) قال أهل التحقيق: الجسد موات كثيف مظلم، فإذا اتصل به الروح صار حيا لطيفا نورانيا. فظهرت آثار النور في الحواس الخمس، ثم الروح أيضا ظلمانية جاهلة، فإذا اتصل العقل بها صارت مشرقة نورانية، كما قال تعالى؛ * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) * (النحل: 78) ثم العقل أيضا ليس بكامل النورانية والصفاء والإشراق حتى يستكمل بمعرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ومعرفة أحوال عالم الأرواح والأجساد، وعالم الدنيا والآخرة، ثم إن هذه المعارف الشريفة الإلهية لا تكمل ولا تصفو إلا بنور الوحي والقرآن.
إذا عرفت هذا فنقول: القرآن والوحي به تكمل المعارف الإلهية، والمكاشفات الربانية وهذه المعارف بها يشرق العقل ويصفو ويكمل، والعقل به يكمل جوهر الروح، والروح به يكمل حال الجسد، وعند هذا يظهر أن الروح الأصلي الحقيقي هو الوحي والقرآن، لأن به يحصل الخلاص
219

من رقدة الجهالة، ونوم الغفلة، وبه يحصل الانتقال من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية، فظهر أن إطلاق لفظ الروح على الوحي في غاية المناسبة والمشاكلة، ومما يقوى ذلك أنه تعالى أطلق لفظ الروح على جبريل عليه السلام في قوله: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 193، 194) وعلى عيسى عليه السلام في قوله: * (روح الله) * (يوسف: 87) وإنما حسن هذا الإطلاق، لأنه حصل بسبب وجودهما حياة القلب وهي الهداية والمعارف، فلما حسن إطلاق اسم الروح عليهما لهذا المعنى، فلأن يحسن إطلاق لفظ الروح على الوحي والتنزيل كان ذلك أولى.
والقول الثاني؛ في هذه الآية وهو قول أبي عبيدة إن الروح ههنا جبريل عليه السلام، والباء في قوله: * (بالروح) * بمعنى مع كقولهم خرج فلان بثيابه، أي مع ثيابه وركب الأمير بسلاحه أي مع سلاحه، فيكون المعنى: ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل، والأول أقرب، وتقرير هذا الوجه: أنه سبحانه وتعالى ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم جبريل وحده، بل في أكثر الأحوال كان ينزل مع جبريل أفواجا من الملائكة، ألا ترى أن في يوم بدر وفي كثير من الغزوات كان ينزل مع جبريل عليه السلام أقوام من الملائكة، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ملك الجبال. وتارة ملك البحار. وتارة رضوان. وتارة غيرهم. وقوله: * (من أمره) * يعني أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * (مريم: 64) وقوله: * (لا
يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون) * (الأنبياء: 27) وقوله: * (وهم من خشيته مشفقون) * (الأنبياء: 28) وقوله: * (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * (النحل: 5) وقوله: * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * (التحريم: 6) فكل هذه الآيات دالة على أنهم لا يقدمون على عمل من الأعمال إلا بأمر الله تعالى وإذنه، وقوله: * (على من يشاء من عباده) * يريد الأنبياء الذين خصهم الله تعالى برسالته، وقوله: * (أن أنذروا) * قال الزجاج: * (أن) * بدل من الروح والمعنى: ينزل الملائكة بأن أنذروا، أي أعلموا الخلائق أنه لا إله إلا أنا، والإنذار هو الإعلام مع التخويف.
المسألة الثانية: في الآية فوائد: الفائدة الأولى: أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بواسطة الملائكة، ومما يقوى ذلك أنه تعالى قال في آخر سورة البقرة: * (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) * (البقرة: 285) فبدأ بذكر الله سبحانه ثم أتبعه بذكر الملائكة، لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة، وذلك الوحي هو الكتب، ثم إن الملائكة يوصلون ذلك الوحي إلى الأنبياء فلا جرم كان الترتيب الصحيح هو الابتداء بذكر الله تعالى، ثم بذكر الملائكة، ثم بذكر الكتب وفي الدرجة الرابعة بذكر الرسل.
220

إذا عرفت هذا فنقول: إذا أوحى الله تعالى إلى الملك فعلم ذلك الملك بأن ذلك الوحي وحي الله علم ضروري أو استدلالي. وبتقدير أن يكون استدلاليا فكيف الطريق إليه؟ وأيضا الملك إذا بلغ ذلك الوحي إلى الرسول فعلم الرسول بكونه ملكا صادقا لا شيطانا رجيما ضروري أو استدلالي فإن كان استدلاليا فكيف الطريق إليه؟ فهذه مقامات ضيقة، وتمام العلم بها لا يحصل إلا بالبحث عن حقيقة الملك وكيفية وحي الله إليه، وكيفية تبليغ الملك ذلك الوحي إلى الرسول. فأما إذا أجرينا هذه الأمور على الكلمات المألوفة صعب المرام وزال النظام، وذلك لأن آيات القرآن ناطقة بأن هذا الوحي والتنزيل إنما حصل من الملائكة أو نقول: هب أن آيات القرآن لم تدل على ذلك إلا أن احتمال كون الأمر كذلك قائم في بديهة العقل.
وإذا عرفت هذا فنقول: لا نعلم كون جبريل عليه السلام صادقا معصوما عن الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله تعالى، لا من قبل شيطان خبيث، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبريل صادق محق مبرأ عن التلبيس وعن أفعال الشيطان، وحينئذ يلزم الدور، فهذا مقام صعب. أما إذا عرفنا حقيقة النبوة وعرفنا حقيقة الوحي زالت هذه الشبهة بالكلية، والله أعلم.
المسألة الرابعة: هذه الآية تدل على أن الروح المشار إليها بقوله: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * ليس إلا لمجرد قوله: * (لا إله إلا أنا فاتقون) * وهذا كلام حق، لأن مراتب السعادات البشرية أربعة: أولها: النفسانية، وثانيها: البدنية، وفي المرتبة الثالثة: الصفات البدنية التي لا تكون من اللوازم، وفي المرتبة الرابعة: الأمور المنفصلة عن البدن.
أما المرتبة الأولى: وهي الكمالات النفسانية، فاعلم أن النفس لها قوتان: إحداهما: استعدادها لقبول صور الموجودات من عالم الغيب، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة النظرية، وسعادة هذه القوة في حصول المعارف. وأشرف المعارف وأجلها معرفة أنه لا إله إلا هو، وإليه الإشارة بقوله: * (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا) * والقوة الثانية للنفس: استعدادها للتصرف في أجسام هذا العالم، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة العملية، وسعادة هذه القوة في الإتيان بالأعمال الصالحة، وأشرف الأعمال الصالحة هو عبودية الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله: * (فاتقون) * ولما كانت القوة النظرية أشرف من القوة العملية لا جرم قدم الله تعالى كمالات القوة النظرية، وهي قوله: * (لا إله إلا أنا) * على كمالات القوة العملية وهي قوله: * (فاتقون) *.
221

وأما المرتبة الثانية: وهي السعادات البدنية فهي أيضا قسمان: الصحة الجسدانية، وكمالات القوى الحيوانية، أعني القوى السبع عشرة البدنية.
وأما المرتبة الثالثة: وهي السعادات المتعلقة بالصفات العرضية البدنية، فهي أيضا قسمان: سعادة الأصول والفروع، أعني كمال حال الآباء. وكمال حال الأولاد.
وأما المرتبة الرابعة: وهي أخس المراتب فهي السعادات الحاصلة بسبب الأمور المنفصلة وهي المال والجاه، فثبت أن أشرف مراتب السعادات هي الأحوال النفسانية، وهي محصورة في كمالات القوة النظرية والعملية، فلهذا السبب ذكر الله ههنا أعلى حال هاتين القوتين فقال: * (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) *.
قوله تعالى
* (خلق السماوات والارض بالحق تعالى عما يشركون) *
اعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أن معرفة الحق لذاته، وهي المراد من قوله: * (أنه لا إله إلا أنا) * ومعرفة الخير لأجل العمل به وهي المراد من قوله: * (فاتقون) * (النحل: 2) روح الأرواح، ومطلع السعادات، ومنبع الخيرات والكرامات، أتبعه بذكر الدلائل على وجود الصانع الإله تعالى وكمال قدرته وحكمته.
واعلم أنا بينا أن دلائل الإلهيات، إما التمسك بطريقة الإمكان في الذوات أو في الصفات. أو التمسك بطريقة الحدوث في الذوات أو في الصفات أو بمجموع الإمكان والحدوث في الذوات أو الصفات، فهذه طرق ستة، والطريق المذكور في كتب الله تعالى المنزلة، هو التمسك بطريقة حدوث الصفات وتغيرات الأحوال. ثم هذا الطريق يقع على وجهين: أحدهما: أن يتمسك بالأظهر فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى، وهذا الطريق هو المذكور في أول سورة البقرة، فإنه تعالى قال: * (اعبدوا ربكم الذي خلقكم) * فجعل تعالى تغير أحوال نفس كل واحد دليلا على احتياجه إلى الخالق. ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الآباء والأمهات، وإليه الإشارة بقوله: * (والذين من قبلكم) * (البقرة: 21) ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الأرض، وهي قوله: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا) * لأن الأرض أقرب إلينا من السماء، ثم ذكر في المرتبة الرابعة قوله: * (والسماء بناء) * ثم ذكر في المرتبة الخامسة الأحوال المتولدة من تركيب السماء بالأرض، فقال: * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * (البقرة: 22).
الثاني من الدلائل القرآنية؛ أن يحتج الله تعالى بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون
222

فالأدون، وهذا الطريق هو المذكور في هذه السورة، وذلك لأنه تعالى ابتدأ في الاحتجاج على وجود الإله المختار بذكر الأجرام العالية الفلكية، ثم ثنى بذكر الاستدلال بأحوال الإنسان، ثم ثلث بذكر الاستدلال بأحوال الحيوان، ثم ربع بذكر الاستدلال بأحوال النبات، ثم خمس بذكر الاستدلال بأحوال العناصر الأربعة، وهذا الترتيب في غاية الحسن.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول:
النوع الأول: من الدلائل المذكورة على وجود الإله الحكيم الاستدلال بأحوال السماوات والأرض فقال: * (خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون) * وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * (الأنعام: 1) إن لفظ الخلق من كم وجه يدل على الاحتياج إلى الخالق الحكيم، ولا بأس بأن نعيد تلك الوجوه ههنا فنقول: الخلق عبارة عن التقدير بمقدار مخصوص، وهذا المعنى حاصل في السماوات من وجوه: الأول: أن كل جسم متناه فجسم السماء متناه، وكل ما كان متناهيا في الحجم والقدر، كان اختصاصه بذلك القدر المعين دون الأزيد والأنقص أمرا جائزا، وكل جائز فلا بد له من مقدر ومخصص، وكل ما كان مفتقرا إلى الغير فهو محدث. الثاني: وهو أن الحركة الأزلية ممتنعة، لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، والأزل ينافيه فالجمع بين الحركة والأزل محال. إذا ثبت هذا فنقول: إما أن يقال أن الأجرام والأجسام كانت معدومة في الأزل، ثم حدثت أو يقال إنها وإن كانت موجودة في الأزل إلا أنها كانت ساكنة ثم تحركت. وعلى التقديرين فلحركتها أول، فحدوث الحركة من ذلك المبدأ دون ما قبله أو ما بعده خلق وتقدير، فوجب افتقاره إلى مقدر وخالق ومخصص له. الثالث: أن جسم الفلك مركب من أجزاء بعضها حصلت في عمق جرم الفلك وبعضها في سطحه، والذي حصل في العمق كان يعقل حصوله في السطح وبالعكس، وإذا ثبت هذا كان اختصاص كل جزء بموضعه المعين أمرا جائزا فيفتقر إلى المخصص والمقدر، وبقية الوجوه مذكورة في أول سورة الأنعام.
واعلم أنه سبحانه لما احتج بالخلق والتقدير على حدوث السماوات والأرض قال بعده: * (تعالى عما يشركون) * والمراد أن القائلين بقدم السماوات والأرض كأنهم أثبتوا لله شريكا في كونه قديما أزليا فنزه نفسه عن ذلك، وبين أنه لا قديم إلا هو، وبهذا البيان ظهر أن الفائدة المطلوبة من قوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * (يونس: 18) في أول السورة غير الفائدة المطلوبة من ذكر هذه الكلمة ههنا، لأن المطلوب هناك إبطال قول من يقول: إن الأصنام تشفع للكفار في دفع العقاب عنهم، والمقصود
223

ههنا إبطال قول من يقول: الأجسام قديمة، والسماوات والأرض أزلية، فنزه الله سبحانه نفسه عن أن يشاركه غيره في الأزلية والقدم والله أعلم.
قوله تعالى
* (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) *
اعلم أن أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان، فلما ذكر الله تعالى الاستدلال على وجود الإله الحكيم بأجرام الأفلاك، أتبعه بذكر الاستدلال على هذا المطلوب بالإنسان.
واعلم أن الإنسان مركب من بدن ونفس، فقوله تعالى: * (خلق الإنسان من نطفة) * إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم، وقوله: * (فإذا هو خصيم مبين) * إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على وجود الصانع الحكيم.
أما الطريق الأول: فتقريره أن نقول: لا شك أن النطفة جسم متشابه الأجزاء بحسب الحس والمشاهدة، إلا أن من الأطباء من يقول إنه مختلف الأجزاء في الحقيقة، وذلك لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع، فإن الغذاء يحصل له في المعدة هضم أول وفي الكبد هضم ثان. وفي العروق هضم ثالث. وعند وصوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابع. ففي هذا الوقت وصل بعض أجزاء الغذاء إلى العظم وظهر فيه أثر من الطبيعة العظيمة، وكذا القول في اللحم والعصب والعروق وغيرها ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشهوة يحصل ذوبان من جملة الأعضاء، وذلك هو النطفة، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسما مختلف الأجزاء والطبائع.
إذا عرفت هذا فنقول: النطفة في نفسها إما أن تكون جسما متشابه الأجزاء في الطبيعة والماهية، أو مختلف الأجزاء فيها، فإن كان الحق هو الأول لم يجز أن يكون المقتضى لتولد البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودم الطمث، لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار. والقوة الطبيعية إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة، وعلى هذا الحرف عولوا في قولهم البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعية في الكرة فلو كان المقتضى لتولد الحيوان من النطفة هو الطبيعة، لوجب أن يكون شكلها الكرة. وحيث لم يكن الأمر كذلك، علمنا أن المقتضى لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة، بل فاعل مختار، وهو يخلق بالحكمة والتدبير والاختيار.
224

وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: النطفة جسم مركب من أجزاء مختلفة في الطبيعة والماهية فنقول: بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فإنه يجب أن يكون تولد البدن منها بتدبير فاعل مختار حكيم وبيانه من وجوه:
الوجه الأول: أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة، وإذا كان كذلك كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة، فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل في الفوق، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوان على هذا الترتيب المعين أمرا دائما ولا أكثريا، وحيث كان الأمر كذلك، علمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم.
والوجه الثاني: أن النطفة بتقدير أنها جسم مركب من أجزاء مختلفة الطبائع، إلا أنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطا، وإذا كان الأمر كذلك، فلو كان المدبر لها قوة طبيعية لكان كل واحد من تلك البسائط يجب أن يكون شكله هو الكرة فكان يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض، وحيث لم يكن الأمر كذلك، علمنا أن مدبر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ولا تأثيرات الأنجم والأفلاك، لأن تلك التأثيرات متشابهة، فعلمنا أن مدبر أبدان الحيوانات فاعل مختار حكيم، وهو المطلوب، هذا هو الاستدلال بأبدان الحيوانات على وجود الإله المختار. وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى: * (خلق الإنسان من نطفة) * وأما الاستدلال على وجود الصانع المختار الحكيم بأحوال النفس الإنسانية فهو المراد من قوله: * (فإذا هو خصيم مبين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في بيان وجه الاستدلال وتقريره: أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات، ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجئ إلى الأم، ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والغذاء الذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حال انفصاله عن بطن الأم، لا يميز البتة بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع، فظهر أن الإنسان في أول الحدوث أنقص حالا وأقل فطنة من سائر الحيوانات ثم إن الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض ويقوى على معرفة ذات الله وصفاته وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله تعالى والخصومات الشديدة في كل المطالب فانتقال نفس الإنسان من تلك البلاد المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون
225

بتدبير إله مختار حكيم ينقل الأرواح من نقصانها إلى كمالاتها ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمة والاختيار، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى: * (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) *.
وإذا عرفت هذه الدقيقة أمكنك التنبيه لوجوه كثيرة:
المسألة الثانية: أنه تعالى إنما يخلق الإنسان من النطفة بواسطة تغيرات كثيرة مذكورة في القرآن العزيز منها قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) * (المؤمنون: 12، 13) إلا أنه تعالى اختصر ههنا لأجل أن ذلك الاستقصاء مذكور في سائر الآيات، وقوله؛ * (فإذا هو خصيم مبين) * فيه بحثان:
البحث الأول: قال الواحدي: الخصيم بمعنى المخاصم، قال أهل اللغة: خصيمك الذي يخاصمك وفعيل بمعنى مفاعل معروف كالنسيب بمعنى المناسب، والعشير بمعنى المعاشر، والأكيل والشريب ويجوز أن يكون خصيم فاعلا من خصم يخصم بمعنى اختصم، ومنه قراءة حمزة: * (تأخذهم وهم يخصمون) * (يس: 49).
البحث الثاني: لقوله: * (فإذا هو خصيم مبين) * وجهان: أحدهما: فإذا هو منطبق مجادل عن نفسه، منازع للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة، وجمادا لا حس له ولا حركة، والمقصود منه: أن الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم عليم. والثاني: فإذا هو خصيم لربه، منكر على خالقه، قائل: * (من يحيي العظام وهي رميم) * (يس: 78) والغرض منه وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل، والتمادي في كفران النعمة، والوجه الأول أوفق، لأن هذه الآيات مذكورة لتقرير وجه الاستدلال على وجود الصانع الحكيم، لا لتقرير وقاحة الناس وتماديهم في الكفر والكفران.
قوله تعالى
* (والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم) *
وفيه مسائل:
226

المسألة الأولى: اعلم أن أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة. وهي الحواس الظاهرة والباطنة، والشهوة والغضب، ثم هذه الحيوانات قسمان: منها ما ينتفع الإنسان بها، ومنها ما لا يكون كذلك، والقسم الأول: أشرف من الثاني، لأنه لما كان الإنسان أشرف الحيوانات وجب في كل حيوان يكون انتفاع الإنسان به أكمل. وأكثر أن يكون أكمل وأشرف من غيره، ثم نقول: والحيوان الذي ينتفع الإنسان به إما أن ينتفع به في ضروريات معيشته مثل الأكل واللبس أو لا يكون كذلك، وإنما ينتفع به في أمور غير ضرورية مثل الزينة وغيرها، والقسم الأول أشرف من الثاني، وهذا القسم هو الأنعام، فلهذا السبب بدأ الله بذكره في هذه الآية، فقال: * (والأنعام خلقها لكم) *.
واعلم أن الأنعام عبارة عن الأزواج الثمانية وهي: الضأن، والمعز. والإبل. والبقر، وقد يقال أيضا: الأنعام ثلاثة: الإبل. والبقر. والغنم. قال صاحب " الكشاف ": وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل. وقوله: * (والأنعام) * منصوبة وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله تعالى: * (والقمر قدرناه منازل) * (يس: 39) ويجوز أن يعطف على الإنسان. أي خلق الإنسان والأنعام، قال الواحدي: تم الكلام عند قوله: * (والأنعام خلقها) * ثم ابتدأ وقال: * (لكم فيها دفء) * ويجوز أيضا أن يكون تمام الكلام عند قوله: * (لكم) * ثم ابتدأ وقال: * (فيها دفء) * قال صاحب " النظم ": أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: * (خلقها) * والدليل عليه أنه عطف عليه قوله: * (ولكم فيها جمال) * والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال.
المسألة الثانية: أنه تعالى لما ذكر أنه خلق الأنعام للمكلفين أتبعه بتعديد تلك المنافع، واعلم أن منافع النعم منها ضرورية، ومنها غير ضرورية، والله تعالى بدأ بذكر
المنافع الضرورية.
فالمنفعة الأولى: قوله: * (لكم فيها دفء) * وقد ذكر هذه المعنى في آية أخرى فقال: * (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها) * (النحل: 80) والدفء عند أهل اللغة ما يستدفأ به من الأكسية، قال الأصمعي: ويكون الدفء السخونة. يقال: أقعد في دفء هذا الحائط، أي في كنه. وقرئ: * (دف) * بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء.
والمنفعة الثانية: قوله: * (ومنافع) * قالوا: المراد نسلها ودرها، وإنما عبر الله تعالى عن نسلها ودرها بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على لوصف الأعم، لأن النسل والدر قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود، وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل.
227

والمنفعة الثالثة: قوله: * (ومنها تأكلون) *.
فإن قيل: قوله: * (ومنها تأكلون) * يفيد الحصر وليس الأمر كذلك، فإنه قد يؤكل من غيرها، وأيضا منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللبس، فلم أخر منفعته في الذكر؟
قلنا: الجواب عن الأول: إن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم، وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر، فيشبه غير المعتاد. وكالجاري مجرى التفكه، ويحتمل أيضا أن غالب أطعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر والحب والثمار التي تأكلونها منها، وأيضا تكتسبون باكراء الإبل وتنتفعون بألبانها ونتاجها وجلودها، وتشترون بها جميع أطعمتكم.
والجواب عن السؤال الثاني: أن الملبوس أكثر بقاء من المطعوم، فلهذا قدمه عليه في الذكر.
واعلم أن هذه المنافع الثلاثة هي المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام. وأما المنافع الحاصلة من الأنعام التي هي ليست بضرورية فأمور:
المنفعة الأولى: قوله تعالى: * (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) * الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا، ويقال: سرح القوم إبلهم سرحا إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. قال أهل اللغة: هذه الإراحة أكثر ما تكون أيام الربيع إذا سقط الغيث وكثر الكلأ وخرجت العرب للنجعة، وأحسن ما يكون النعم في ذلك الوقت.
واعلم أن وجه التجمل بها أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء، وفرحت أربابها وعظم وقعهم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها.
فإن قيل: لم قدمت الإراحة على التسريح؟
قلنا: لأن الجمال في الإراحة أكثر. لأنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع، ثم اجتمعت في الحظائر حاضرة لأهلها بخلاف التسريح، فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللبن ثم تأخذ في التفرق والانتشار، فظهر أن الجمال في الإراحة أكثر منه في التسريح.
والمنفعة الثانية: قوله: * (وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الأثقال جمع ثقل وهو متاع المسافر لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. قال ابن عباس: يريد من مكة إلى المدينة. أو إلى اليمن. أو إلى الشام. أو إلى مصر. قال الواحدي: هذا قوله والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل لشق عليكم وخص ابن عباس هذه البلاد، لأن
228

متاجر أهل مكة كانت إلى هذه البلاد، وقرئ: * (بشق الأنفس) * بكسر الشين وفتحها، وأكثر القراء على كسر الشين. والشق المشقة والشق نصف الشيء، وحمل اللفظ ههنا على كلا المعنيين جائز، فإن حملناه على المشقة كان المعنى: لم يكونوا بالغيه إلا بالمشقة، وإن حملناه على نصف الشيء كان المعنى: لم يكونوا بالغيه إلا عند ذهاب النصف من قوتكم أو من بدنكم ويرجع عند التحقيق إلى المشقة. ومن الناس من قال: المراد من قوله: * (والأنعام خلقها) * الإبل فقط بدليل أنه وصفها في آخر الآية بقوله * (وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه) * وهذا الوصف لا يليق إلا بالإبل.
قلنا: المقصود من هذه الآيات تعديد منافع الأنعام فبعض تلك المنافع حاصلة في الكل وبعضها مختص بالبعض، والدليل عليه: أن قوله: * (ولكم فيها جمال) * حاصل في البقر والغنم مثل حصوله في الإبل. والله أعلم.
المسألة الثانية: احتج منكرو كرامات الأولياء بهذه الآية فقالوا: هذه الآية تدل على أن الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى بلد إلا بشق الأنفس؛ وحمل الأثقال على الجمال ومثبتو الكرامات يقولون: إن الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى بلد آخر بعيد في ليلة واحدة من غير تعب وتحمل مشقة، فكان ذلك على خلاف هذه الآية فيكون باطلا، ولما بطل القول بالكرامات في هذه الصورة بطل القول بها في سائر الصور، لأنه لا قائل بالفرق.
وجوابه: أنا نخصص عموم هذه الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرمات. والله أعلم.
قوله تعالى
* (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر منافع الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها في المنافع الضرورية والحاجات الأصلية، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في المنافع التي ليست بضرورية، فقال: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (والخيل والبغال والحمير) * عطف على الأنعام، أي وخلق الأنعام لكذا وكذا، وخلق هذه الأشياء للركوب. وقوله: * (وزينة) * أي وخلقها زينة، ونظيره قوله تعالى: * (زينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا) * (فصلت: 12) المعنى: وحفظناها حفظا. قال الزجاج: نصب قوله: * (وزينة) * على أنه مفعول له. والمعنى: وخالقها للزينة.
المسألة الثانية: احتج القائلون بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية. فقالوا منفعة الأكل أعظم
229

من منفعة الركوب، فلو كان أكل لحم الخيل جائزا لكان هذا المعنى أولى بالذكر، وحيث لم يذكره الله تعالى علمنا أنه يحرم أكله، ويمكن أيضا أن يقوي هذا الاستدلال من وجه آخر. فيقال: إنه تعالى قال في صفة الأنعام: * (ومنها تأكلون) * (النحل: 5) وهذه الكلمة تفيد الحصر، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعام، فوجب أن يحرم أكل لحم الخيل بمقتضى هذا الحصر، ثم إنه تعالى بعد هذا الكلام ذكر الخيل والبغال والحمير وذكر أنها مخلوقة للركوب، فهذا يقتضي أن منفعة الأكل مخصوصة بالأنعام وغير حاصلة في هذه الأشياء، ويمكن الاستدلال بهذه الآية من وجه ثالث وهو أن قوله: * (لتركبوها) * يقتضي أن تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة هو الركوب والزينة، ولو حل أكلها لما كان تمام المقصود من خلقها هو الركوب، بل كان حل أكلها أيضا مقصودا، وحينئذ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصود، بل يصير بعض المقصود.
وأجاب الواحدي بجواب في غاية الحسن فقال: لو دلت هذه الآية على تحريم أكل هذه الحيوانات لكان تحريم أكلها معلوما في مكة لأجل أن هذه السورة مكية، ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدثين أن لحوم الحمر الأهلية حرمت عام خيبر باطلا، لأن التحريم لما كان حاصلا قبل هذا اليوم لم يبق لتخصيص هذا التحريم بهذه الشبهة فائدة، وهذا جواب حسن متين.
المسألة الثالثة: القائلون بأن أفعال الله تعالى معللة بالمصالح والحكم، احتجوا بظاهر هذه الآية فإنه يقتضي أن هذه الحيوانات مخلوقة لأجل المنفعة الفلانية، ونظيره قوله: * (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) * (إبراهيم: 1) وقوله: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) والكلام فيه معلوم.
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول لما كان معنى الآية أنه تعالى خلق الخيل والبغال والحمير لتركبوها وليجعلها زينة لكم فلم ترك هذه العبارة؟
وجوابه أنه تعالى لو ذكر هذا الكلام بهذه العبارة لصار المعنى أن التزين بها أحد الأمور المعتبرة في المقصود، وذلك غير جائز، لأن التزين بالشيء يورث العجب والتيه والتكبر، وهذه أخلاق مذمومة والله تعالى نهى عنها وزجر عنها فكيف يقول إني خلقت هذه الحيوانات لتحصيل هذه المعاني بل قال: خلقها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر، ولكنه غير مقصود بالذات، فهذا هو الفائدة في اختيار هذه العبارة.
أو اعلم أنه تعالى لما ذكر أولا: أحوال الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها انتفاعا ضروريا
230

وثانيا: أحوال الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها انتفاعا غير ضروري بقي القسم الثالث من الحيوانات وهي الأشياء التي لا ينتفع الإنسان بها في الغالب فذكرها على سبيل الإجمال فقال: * (ويخلق ما لا تعلمون) * وذلك لأن أنواعها وأصنافها وأقسامها كثيرة خارجة عن الحد والإحصاء ولو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان المذكور بعد كتبة المجلدات الكثيرة كالقطرة في البحر فكان أحس الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية، وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال: إن على يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع، والبحار السبعة يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر ويغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله، ثم ينتفض فيخلق الله من كل نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور، وفي الكعبة أيضا سبعون ألفا، ثم لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة.
قوله تعالى
* (وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر ولو شآء لهداكم أجمعين) *
اعلم أنه تعالى لما شرح دلائل التوحيد قال: * (وعلى الله قصد السبيل) * أي إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها إزاحة للعذر وإزالة للعلة ليهلك من هلك عن بينة. ويحيى من حيى عن بينة وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: القصد استقامة الطريق يقال: طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك، إذا عرفت هذا ففي الآية حذف، والتقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، ثم قال: * (ومنها جائر) * أي عادل مائل ومعنى الجور في اللغة الميل عن الحق والكناية في قوله: * (ومنها جائر) * تعود على السبيل، وهي مؤنثة في لغة الحجاز يعني ومن السبيل ما هو جائر غير قاصد للحق وهو أنواع الكفر والضلال. والله أعلم. المسألة الثانية؛ قالت المعتزلة: دلت الآية على أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية إلى الدين وإزاحة العلل والأعذار، لأنه تعالى قال: * (وعلى الله قصد السبيل) * وكلمة " على " للوجوب قال تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * (آل عمران: 97) ودلت الآية أيضا على أنه تعالى لا يضل أحدا ولا يغويه ولا يصده عنه، وذلك لأنه تعالى لو كان فاعلا للضلال لقال: * (وعلى الله قصد السبيل) * وعليه جائرها أو قال: وعليه الجائر فلما لم يقل كذلك بل قال في قصد السبيل أنه عليه، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه بل قال
231

* (ومنها جائر) * دل على أنه تعالى لا يضل عن الدين أحدا.
أجاب أصحابنا أن المراد على الله بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح فإما أن يبين كيفية الاغواء والإضلال فذلك غير واجب فهذا هو المراد،
والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: * (ولو شاء لهداكم أجمعين) * يدل على أنه تعالى ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان، لأن كلمة (لو) تفيد انتفاء شيء لانتفاء شيء غيره قوله؛ * (ولو شاء لهداكم) * معناه: لو شاء هدايتكم لهداكم، وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم، وذلك يدل على المقصود.
وأجاب الأصم عنه بأن المراد لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم، وهذا يدل على أن مشيئة الإلجاء لم تحصل.
وأجاب الجبائي بأن المعنى: ولو شاء لهداكم إلى الجنة وإلى نيل الثواب لكنه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان، لأنه مقدور جميع المكلفين.
وأجاب بعضهم فقال المراد: ولو شاء لهداكم إلى الجنة ابتداء على سبيل التفضل، إلا أنه تعالى عرفكم للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبين، فمن تمسك بها فاز بتلك المنازل ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب، والله أعلم.
واعلم أن هذه الكلمات قد ذكرناها مرارا وأطوارا مع الجواب فلا فائدة في الإعادة.
قوله تعالى
* (هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون) *
اعلم أن أشرف أجسام العالم السفلي بعد الحيوان النبات، فلما قرر الله تعالى الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات، أتبعه في هذه الآية بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات.
232

واعلم أن الماء المنزل من السماء هو المطر، وأما أن المطر نازل من السحاب أو من السماء فقد ذكرناه في هذا الكتاب مرارا، والحاصل: أن ماء المطر قسمان: أحدهما: هو الذي جعله الله تعالى شرابا لنا ولكل حي، وهو المراد بقوله: * (لكم منه شراب) * وقد بين الله تعالى في آية أخرى أن هذه النعمة جليلة فقال: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) * (الأنبياء: 30).
فإن قيل: أفتقولون إن شرب الخلق ليس إلا من المطر، أو تقولون قد يكون منه وقد يكون من غيره، وهو الماء الموجود في قعر الأرض؟
أجاب القاضي: بأنه تعالى بين أن المطر شرابنا ولم ينف أن نشرب من غيره.
ولقائل أن يقول: ظاهر الآية يدل على الحصر، لأن قوله: * (لكم منه شراب) * يفيد الحصر لأن معناه منه لا من غيره.
إذا ثبت هذا فنقول: لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر يسكن هناك، والدليل عليه قوله تعالى في سورة المؤمنين: * (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض) * (المؤمنون: 18) ولا يمتنع أيضا في غير العذب وهو البحر أن يكون من جملة ماء المطر، والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سببا لتكوين النبات وإليه الإشارة بقوله: * (ومنه شجر فيه تسيمون) * إلى آخر الآية، وفيه مباحث:
البحث الأول: ظاهر هذه الآية يقتضي أن أسامة الشجر ممكنة، وهذا إنما يصح لو كان المراد من الشجر الكلأ والعشب، وههنا قولان:
القول الأول: قال الزجاج: كل ما ثبت على الأرض فهو شجر وأنشد: يطعمها اللحم إذا عز الشجر
يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، وقال ابن قتيبة في هذه الآية المراد من الشجر الكلأ، وفي حديث عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ.
ولقائل أن يقول: إنه تعالى قال: * (والنجم والشجر يسجدان) * (الرحمن: 6) والمراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق، ومن الشجر ما له ساق، هكذا قال المفسرون، وبالجملة فلما عطف الشجر على النجم دل على التغاير بينهما، ويمكن أن يجاب عنه بأنه عطف الجنس على النوع وبالضد مشهور وأيضا فلفظ الشجر مشعر بالاختلاط، يقال: تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض وتشاجرت الرماح إذا اختلطت وقال تعالى: * (حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * (النساء: 65) ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ، فوجب جواز إطلاق لفظ الشجر عليه.
القول الثاني: أن الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما ذكرناه في القول الأول.
233

البحث الثاني: قوله: * (فيه تسيمون) * أي في الشجر ترعون مواشيكم يقال: أسمت الماشية إذا خليتها ترعى، وسامت هي تسوم سوما إذا رعت حيث شاءت فهي سوام وسائمة قال الزجاج: أخذ ذلك من السومة وهي العلامة. وتأويلها أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات، وقال غيره: لأنها تعلم للإرسال في المرعى، وتمام الكلام في هذا اللفظ قد ذكرناه في سورة آل عمران في قوله تعالى: * (والخيل المسومة) * (آل عمران: 14).
أما قوله تعالى: * (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب) * ففيه مباحث:
البحث الأول: هو أن النبات الذي ينبته الله من ماء السماء قسمان: أحدهما: معد لرعي الأنعام وأسامة الحيوانات، وهو المراد من قوله: * (فيه تسيمون) *. والثاني: ما كان مخلوقا لأكل الإنسان وهو المراد من قوله: * (ينب لكم به الزرع والزيتون) *.
فإن قيل: إنه تعالى بدأ في هذه الآية بذكر ما يكون مرعى للحيوانات، وأتبعه بذكر ما يكون غذاء للإنسان، وفي آية أخرى عكس هذا الترتيب فبدأ بذكر مأكول الإنسان، ثم بما يرعاه سائر الحيوانات فقال: * (كلوا وارعوا أنعامكم) * (طه: 54) فما الفائدة فيه؟
قلنا: أما الترتيب المذكور في هذه الآية فينبه على مكارم الأخلاق وهو أن يكون اهتمام الإنسان بمن يكون تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه، وأما الترتيب المذكور
في الآية الأخرى، فالمقصود منه ما هو المذكور في قوله عليه السلام: " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ".
البحث الثاني: قرأ عاصم في رواية أبي بكر: * (ننبت) * بالنون على التفخيم والباقون بالياء، قال الواحدي: والياء أشبه بما تقدم.
البحث الثالث: اعلم أن الإنسان خلق محتاجا إلى الغذاء، والغذاء إما أن يكون من الحيوان أو من النبات. والغذاء الحيواني أشرف من الغذاء النباتي، لأن تولد أعضاء الإنسان عند أكل أعضاء الحيوان أسهل من تولدها عند أكل النبات لأن المشابهة هناك أكمل وأتم والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات والسعي في تنميتها بواسطة الرعي، وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في الأسامة، وأما الغذاء النباتي فقسمان: حبوب. وفواكه، أما الحبوب فإليها الإشارة بلفظ الزرع وأما الفواكه فأشرفها الزيتون. والنخيل. والأعناب، أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج، وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه، فظاهر معلوم، وكما أنه تعالى لما ذكر الحيوانات التي ينتفع الناس بها على التفصيل، ثم قال في صفة البقية: * (ويخلق ما لا تعلمون) * (النحل: 8) فكذلك ههنا لما ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، قال في صفة البقية: * (ومن كل الثمرات) * تنبيها على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها لا يمكن ذكره في مجلدات، فالأولى الاقتصار فيه على الكلام المجمل.
234

ثم قال: * (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) * وههنا بحثان:
البحث الأول: في شرح كون هذه الأشياء آيات دالة على وجود الله تعالى فنقول: إن الحبة الواحدة تقع في الطين فإذا مضت على هذه الحالة مقادير معينة من الوقت نفذت في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنتفخ الحبة فينشق أعلاها وأسفلها، فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء. ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة، ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى، ثم يخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار، ثم إن تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب، فإن قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان، ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان.
إذا عرفت هذا فنقول: نسبة الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ونسبة التأثيرات الفلكية والتحريكات الكوكبية إلى الكل متشابهة. ومع تشابه نسب هذه الأشياء ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع والطعم واللون والرائحة والصفة، فدل صريح العقل على أن ذلك ليس إلا لأجل فاعل قادر حكيم رحيم فهذا تقدير هذه الدلالة.
البحث الثاني: أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله: * (لقوم يتفكرون) * والسبب فيه أنه تعالى ذكر أنه: * (أنزل من السماء ماء... ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب) *.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه تعالى هو الذي أنبتها ولم لا يجوز أن يقال: إن هذه الأشياء إنما حدثت وتولدت بسبب تعاقب الفصول الأربعة وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب؟ وإذا عرفت هذا السؤال فما لم يقم الدليل على فساد هذا الاحتمال لا يكون هذا الدليل تاما وافيا بإفادة هذا المطلوب، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقيا، فلهذا السبب ختم هذه الآية بقوله: * (لقوم يتفكرون) *.
235