الكتاب: زاد المسير
المؤلف: ابن الجوزي
الجزء: ٢
الوفاة: ٥٩٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد بن عبد الرحمن عبد الله
الطبعة: الطبعة الأولى
سنة الطبع: جمادى الأولى ١٤٠٧ - كانون الثاني ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: تخريج الأحاديث أبو هاجر السعيد بن بسيوني زغلول

زاد المسير
في علم التفسير
للامام
أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد
الجوزي القرشي البغدادي
المتوفى سنة 597 ه‍
حققه وكتب هوامشه
محمد بن عبد الرحمن عبد الله
دكتوراه في علوم القرآن
أستاذ بكلية الدراسات الإسلامية بالأزهر
خرج أحاديثه
أبو هاجر
السعيد بن بسيوني زغلول
الجزء الثاني
من الآية 92 من آل عمران حتى آخر سورة المائدة
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

جميع حقوق إعادة الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
جمادي الأولى 1407 ه‍ - كانون الثاني 1987 م
2

سورة آل عمران
بسم الله الرحمن الرحيم
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم (92)
قوله [تعالى] (لن تنالوا البر) في البر أربعة أقوال:
أحدها: أنه الجنة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي في آخرين. قال ابن جرير: فيكون
المعنى: لن تنالوا بر الله بكم الذي تطلبونه بطاعتكم.
والثاني: التقوى، قاله عطاء، ومقاتل. والثالث: الطاعة، قاله عطية.
والرابع: الخير الذي يستحق به الأجر، قاله أبو روق. قال القاضي أبو يعلى: لم يرد نفي
الأصل، وإنما نفي وجود الكمال.
قوله [تعالى]: (حتى تنفقوا مما تحبون) فيه قولان:
أحدهما: أنه نفقة العبد من ماله، وهو صحيح شحيح، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه الانفاق من محبوب المال، قاله قتادة، والضحاك. وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الصدقة المفروضة، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك.
والثاني، أنها جميع الصدقات، قاله ابن عمر.
والثالث: أنها جميع النفقات التي يبتغي بها وجه الله [تعالى]، سواء كانت صدقة، أو لم
تكن، نقل عن الحسن، واختاره القاضي أبو يعلى. وروى البخاري، ومسلم في " الصحيحين " من
حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله
إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله إن الله
يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله،
أرجو برها وذخرها عند الله [تعالى]، فضعها حيث أراك الله، فقال [صلى الله عليه وسلم]: " بخ بخ، ذاك مال
رابح أو رائح شك الرواي وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين " فقسمها أبو
طلحة في أقاربه، وبني عمه. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال: لا أجد شيئا أحب
إلى من جاريتي رميثة، فهي حرة لوجه الله، ثم قال: لولا أني أعود في شئ جعلته لله،
3

لنكحتها، فأنكحها نافعا، فهي أم ولده. وسئل أبو ذر: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة: عماد
الإسلام، والجهاد: سنام العمل، والصدقة: شئ عجب. فقال السائل: يا أبا ذر لقد تركت شيئا هو
أوثق عمل في نفسي ما ذكرته. قال: ما هو؟ قال: الصيام. فقال: قربة وليس هناك، وتلا قوله
[تعالى]: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون). قال الزجاج: ومعنى قوله [تعالى]: (فإن
الله به عليم) أي: يجازي عليه.
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل
التورية قل فأتوا بالتورية فاتلوها إن كنتم صادقين (93)
قوله [تعالى]: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنا
على ملة إبراهيم " فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل، وتشرب ألبانها؟ فقال: " كان ذلك
حلالا لإبراهيم ". فقالوا: كل شئ نحرمه نحن، فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا.
فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم. قاله أبو روق، وابن السائب و " الطعام ": اسم للمأكول. قال
ابن قتيبة: والحل: الحلال، والحرم والحرام، واللبس واللباس. وفي الذي حرمه على نفسه، ثلاثة
أقوال:
أحدها: لحوم الإبل وألبانها. روي عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء بن أبي
رباح، وأبي العالية في آخرين.
والثاني: أنه العروق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو قول مجاهد، وقتادة،
والضحاك، والسدي في آخرين.
والثالث: أنه زائدتا الكبد، والكليتان، والشحم إلا ما على الظهر، قاله عكرمة، وفي سبب
تحريمه لذلك أربعة أقوال:
أحدها: أنه طال به مرض شديد، فنذر: لئن شفاه الله، ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه،
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه اشتكى عرق النسا فحرم العروق، قاله ابن عباس في آخرين.
4

والثالث: أن الأطباء وصفوا له حين أصابه " النسا " اجتناب ما حرمه، فحرمه، رواه الضحاك عن ابن
عباس.
والرابع: أنه كان إذا أكل ذلك الطعام، أصابه عرق النسا، فيبيت وقيذا فحرمه، قاله أبو
سليمان الدمشقي. واختلفوا: هل حرم ذلك بإذن الله، أم باجتهاده؟ على قولين، واختلفوا: بماذا
ثبت تحريم الطعام الذي حرمه على اليهود، على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه حرم عليهم بتحريمه، ولم يكن محرما في التوراة، قاله عطية. وقال ابن عباس:
قال يعقوب: لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد.
والثاني: أنهم وافقوا أباهم يعقوب في تحريمه، لا أنه حرم عليهم بالشرع، ثم أضافوا
تحريمه إلى الله، فأكذبهم الله بقوله: (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها) هذا قول الضحاك.
والثالث: أن الله حرمه عليهم بعد التوراة لا فيها. وكانوا إذا أصابوا ذنبا عظيما، حرم عليهم
به طعام طيب، أو صب عليهم عذاب، هذا قول ابن السائب. قال ابن عباس: (فأتوا بالتوراة
فاتلوها) هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانها!.
فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون (94)
قوله [تعالى]: (فمن افترى) يقول: اختلق (على الله الكذب من بعد ذلك) * أي: من
بعد البيان في كتابهم، وقيل: من بعد مجيئكم بالتوراة وتلاوتكم.
قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95)
قوله تعالى: (قل صدق الله) الصدق: الإخبار بالشئ على ما هو به، وضده الكذب.
واختلفوا أي خبر عنى بهذه الآية؟ على قولين:
أحدهما: أنه عنى قوله [تعالى]: (ما كان إبراهيم يهوديا)، قاله مقاتل، وأبو سليمان
الدمشقي.
والثاني: أنه عنى قوله [تعالى]: (كل الطعام كان حلا) قاله ابن السائب.
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (96)
قوله [تعالى]: (إن أول بيت وضع للناس) قال مجاهد: افتخر المسلمون واليهود، فقالت
5

اليهود: بيت المقدس أفضل من الكعبة. وقال المسلمون: الكعبة أفضل. فنزلت هذه الآية. وفي
معنى كونه " أولا " قولان:
أحدهما: أنه أول بيت كان في الأرض، واختلف أرباب هذا القول، كيف كان أول بيت على
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الأرض، فخلقه قبلها بألفي عام، ودحاها من
تحته، فروى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: كانت الكعبة حشفة على وجه الماء، عليها ملكان
يسبحان الليل والنهار قبل الأرض بألفي سنة. وقال ابن عباس: وضع البيت في الماء على أربعة
أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة، ثم دحيت الأرض من تحت البيت، وبهذا القول يقول ابن
عمر، وابن عمرو، وقتادة، ومجاهد، والسدي في آخرين.
والثاني: أن آدم استوحش حين أهبط، فأوحى الله إليه، أن: ابن لي بيتا في الأرض، فاصنع
حوله نحو ما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي، فبناه، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
والثالث: أنه أهبط مع آدم، فلما كان الطوفان، رفع فصار معمورا في السماء، وبنى إبراهيم
على أثره، رواه شيبان عن قتادة. القول الثاني: أنه أول بيت وضع للناس للعبادة، وقد كانت قبله
بيوت، هذا قول علي بن أبي طالب [رضي الله عنه]، والحسن، وعطاء بن السائب في آخرين.
فأما بكة، فقال الزجاج: يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقا من البك. يقال: بك الناس بعضهم
بعضا، أي: دفع. واختلفوا في تسميتها ببكة على ثلاثة أقوال:
أحدها: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والفراء،
ومقاتل.
والثاني: لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي: تدقها، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله، روي عن
عبد الله بن الزبير، وذكره الزجاج.
والثالث: لأنها تضع من نخوة المتجبرين، يقال: بككت الرجل، أي: وضعت منه، ورددت
نخوته، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي، وقطرب. واتفقوا على أن مكة اسم لجميع البلدة. واختلفوا
في بكة على أربعة أقوال:
أحدها: أنه اسم للبقعة التي فيها الكعبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو مالك، وإبراهيم.
وعطية.
6

والثاني: أنها ما حول البيت، ومكة ما وراء ذلك، قاله عكرمة.
والثالث: أنها المسجد، والبيت. ومكة: اسم للحرم كله، قاله الزهري، وضمرة بن حبيب.
والرابع: أن بكة هي مكة، قاله الضحاك، وابن قتيبة، واحتج ابن قتيبة بأن الباء تبدل من
الميم، يقال: سمد رأسه، وسبد رأسه: إذا استأصله. وشر لازم، ولازب.
قوله [تعالى]: (مباركا) قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: الذي استقر
بمكة في حال بركته.
(وهدى)، فأما بركته، ففيه تغفر الذنوب، وتضاعف الحسنات، ويأمن من دخله.
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من طاف بالبيت، لم يرفع قدما، ولم يضع أخرى،
إلا كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة ".
قوله [تعالى [: (وهدى للعالمين)، في معنى الهدى هاهنا أربعة أقوال:
أحدها: أنه بمعنى القبلة، فتقديره: وقبلة للعالمين.
والثاني: أنه بمعنى: الرحمة.
والثالث: أنه بمعنى: الصلاح، لأن من قصده، صلحت حاله عند ربه.
والرابع: أنه بمعنى: البيان، والدلالة على الله تعالى بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها
غيره، حيث يجتمع الكلب والظبي في الحرم، فلا الكلب يهيج الظبي، ولا الظبي يستوحش منه،
قاله القاضي أبو يعلى.
فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت
من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97)
قوله [تعالى]: (فيه آيات بينات)، الجمهور يقرأون: آيات. وروى عطاء عن ابن عباس
أنه قرأ: (فيه آية بينة مقام إبراهيم)، وبها قرأ مجاهد. قالا: مقام إبراهيم. فأما من قرأ: (آيات)
فقال علي بن أبي طالب [رضي الله عنه]: الآيات: مقام إبراهيم، وأمن من دخله. فعلى هذا
يكون الجمع معبرا عن التثنية، وذلك جائز في اللغة، كقوله [تعالى]: (وكنا لحكمهم شاهدين).
7

وقال أبو رجاء: كان الحسن يعدهن، وأنا أنظر إلى أصابعه: مقام، إبراهيم ومن دخله كان آمنا، ولله على
الناس حج البيت. وقال ابن جرير: في الكلام إضمار: تقديره: منهم مقام إبراهيم. قال
المفسرون: الآيات فيه كثيرة، منها مقام إبراهيم، ومنها: أمن من دخله، ومنها: امتناع الطير من
العلو عليه، واستشفاء المريض منها به، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته، وإهلاك أصحاب الفيل
لما قصدوا إخرابه، إلى غير ذلك. قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالبيت هاهنا: الحرم كله، لأن هذه
الآيات موجودة فيه، ومقام إبراهيم ليس في البيت، والآية في مقام إبراهيم أنه قام على حجر،
فأثرت: قدماه فيه، فكان ذلك دليلا على قدرة الله، وصدق إبراهيم.
قوله [تعالى]: (ومن دخله كان آمنا)، قال القاضي أبو يعلى: لفظه لفظ الخبر، ومعناه:
الأمر، وتقديره: ومن دخله، فأمنوه، وهو عام فيمن جنى جناية قبل دخوله، وفيمن جنى فيه بعد دخوله،
إلا أن الإجماع انعقد على أن من جنى فيه لا يؤمن، لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان، فبقي حكم
الآية فيمن جنى خارجا منه، ثم لجأ إلى الحرم. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال احمد في رواية
المروذي: إذا قتل، أو قطع يدا، أو أتى حدا في غير الحرم، ثم دخله، لم يقم عليه الحد، ولم
يقتص منه، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يؤاكل حتى يخرج، فان فعل شيئا من ذلك في الحرم،
استوفي منه. وقال أحمد في رواية حنبل: إذا قتل خارج الحرم، ثم دخله، لم يقتل. وإن كانت
الجناية دون النفس، فإنه يقام عليه الحد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك والشافعي: يقام
عليه جميع ذلك في النفس، وفيما دون النفس.
وفي قوله [تعالى]: (ومن دخله كان آمنا)، دليل على أنه لا يقام عليه شئ من ذلك،
وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، والشعبي، وسعيد بن جبير، وطاوس.
قوله [تعالى]: (ولله على الناس حج البيت)، الأكثرون على فتح حاء " الحج "، وقرأ
حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بكسرها. قال مجاهد: لما أنزل قوله [تعالى]: (ومن
يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) قال أهل الملل كلهم: نحن مسلمون، فنزلت هذه الآية،
فحجه المسلمون، وتركه المشركون، وقالت اليهود: لا نحجه أبدا.
قوله [تعالى] (من استطاع إليه سبيلا)، قال النحويون: من بدل من " الناس "، وهذا
بدل البعض، كما تقول: ضربت زيدا رأسه. وقد روي عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وعائشة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: ما السبيل؟ فقال: " من وجد الزاد والراحلة ".
8

قوله [تعالى]: (ومن كفر)، فيه خمسة أقوال:
أحدها: أن معناه: من كفر بالحج فاعتقده غير واجب، رواه مقسم عن ابن عباس، وابن
جريج عن مجاهد، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، ومقاتل.
والثاني: من لم يرج ثواب حجه، ولم يخف عقاب تركه، فقد كفر به، رواه علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس، وابن أبي نجيح.
والثالث: أنه الكفر بالله، لا بالحج، وهذا المعنى مروي عن عكرمة، ومجاهد.
والرابع: أنه إذا أمكنه الحج، فلم يحج حتى مات، وسم بين عينيه: كافر، هذا قول ابن
عمر.
والخامس: أنه أراد الكفر بالآيات التي أنزلت في ذكر البيت، لأن قوما من المشركين قالوا:
نحن نكفر بهذه الآيات، هذا قول ابن زيد.
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يا أهل
الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما
تعملون (99)
قوله [تعالى]: (قل يا أهل الكتاب). قال الحسن: هم اليهود والنصارى، فأما آيات الله.
فقال ابن عباس: هي القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم. وأما الشهيد، فقال ابن قتيبة: هو بمعنى الشاهد، وقال
الخطابي: هو الذي لا يغيب عنه شئ، كأنه الحاضر الشاهد.
قوله [تعالى]: (يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن). قال مقاتل: دعت
اليهود حذيفة، وعمار بن ياسر، إلى دينهم، فنزلت هذه الآية. وفي المراد بأهل الكتاب هاهنا
قولان:
أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، قاله الحسن.
والثاني: اليهود. قاله زيد بن أسلم، ومقاتل. قال ابن عباس: لم تصدون عن سبيل الله:
الإسلام، والحج. وقال قتادة: لم تصدون عن نبي الله، وعن الإسلام. قال السدي: كانوا إذا
سئلوا: هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا: لا. فصدوا عنه الناس.
قوله [تعالى]: (تبغونها)، قال اللغويون: الهاء كناية عن السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث.
وأنشدوا:
9

فلا تبعد فكل فتى أناس * غير سيصبح سالكا تلك السبيلا
ومعنى " تبغونها ": تبغون لها، تقول العرب: ابغني خادما، يريدون: ابتغه لي، فإذا أرادوا:
ابتغ معي، وأعني على طلبه، قالوا: ابغني، ففتحوا الألف، ويقولون: وهبتك درهما، كما يقولون:
وهبت لك. قال الشاعر:
فتولى غلامهم ثم نادى * أظليما أصيدكم أم حمارا؟.
أراد: أصيد لكم. ومعنى الآية: يلتمسون لسبيل الله الزيغ والتحريف، ويريدون رد الإيمان
والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج، ويطلبون العدول عن القصد، هذا قول الفراء، والزجاج،
واللغويين. قال ابن جرير: خرج هذا الكلام على السبيل، والمعنى: لأهله، كأن المعنى: تبغون
لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحق عوجا. أي: ضلالا. قال أبو عبيدة: العوج بكسر العين،
في الدين، والكلام، والعمل، والعوج بفتحها، في الحائط والجذع. وقال الزجاج: العوج بكسر
العين: فيما لا ترى له شخصا، وما كان له شخص قلت: عوج بفتحها، تقول: في أمره ودينه عوج،
وفي العصا عوج. وروى ابن الأنباري عن ثعلب قال: العوج عند العرب بكسر العين: في كل ما لا
يحاط به، والعوج بفتح العين في كل مالا يحصل، فيقال: في الأرض عوج، وفي الدين عوج، لأن
هذين يتسعان، ولا يدركان. وفي العصا عوج، وفي الدين عوج، لأنهما يحاط بهما، ويبلغ كنههما.
وقال ابن أبي فارس: العوج بفتح العين: في كل منتصب، كالحائط. والعوج: ما كان في بساط أو
أرض، أو دين، أو معاش.
قوله [تعالى]: (وأنتم شهداء) فيه قولان:
أحدهما: أن معناه، وأنتم شاهدون بصحة ما صددتم عنه، وبطلان ما أنتم فيه، وهذا المعنى
مروي عن ابن عباس، وقتادة، والأكثرين.
والثاني: أن معنى الشهداء هاهنا: العقلاء، ذكره القاضي أبو يعلى في آخرين.
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم
كافرين (100)
سبب نزولها أن الأوس والخزرج كان بينهما حرب في الجاهلية، فلما جاء النبي عليه سلام
أطفأ تلك الحرب بالإسلام، فبينما رجلان أوسي وخزرجي يتحدثان، ومعهما يهودي، جعل اليهودي
يذكرهما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهما حتى اقتتلا، فنادى كل واحد منهما بقومه، فخرجوا
10

بالسلاح، فجاء النبي [صلى الله عليه وسلم]، فأصلح بينهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وعكرمة،
والجماعة. قال المفسرون: والخطاب بهذه الآية للأوس والخزرج. قال زيد بن أسلم: وعنى بذلك
الفريق: شاس بن قيس اليهودي وأصحابه. قال الزجاج: ومعنى طاعتهم: تقليدهم.
وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي
إلى صراط مستقيم (101)
قوله [تعالى]: (ومن يعتصم بالله).
قال ابن قتيبة: أي: يمتنع، وأصل العصمة: المنع، قال الزجاج: ويعتصم جزم ب (من)
والجواب (فقد هدي).
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102)
قال عكرمة: نزلت في الأوس والخزرج حين اقتتلوا، وأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. وفي (حق
تقاته) ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، رواه ابن مسعود عن
النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول ابن مسعود، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: أن يجاهد في الله حق الجهاد، وأن لا يأخذ العبد فيه لومة لائم، وأن يقوموا له
بالقسط، ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس
والثالث: أن معناه: اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه، قاله الزجاج.
فصل
واختلف العلماء: هل هذا الكلام محكم أو منسوخ؟ على قولين:
أحدهما: أنه منسوخ، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد، والسدي،
11

ومقاتل. قالوا: لما نزلت هذه الآية، شقت على المسلمين، فنسخها قوله [تعالى]: (فاتقوا الله ما
استطعتم).
والثاني: أنها محكمة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول طاووس. قال
شيخنا علي بن عبد الله: والاختلاف في نسخها وإحكامها، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها،
فالمعتقد نسخها يرى أن " حق تقاته " الوقوف على جميع ما يجب له ويستحقه، وهذا يعجز الكل عن
الوفاء به، فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أن (حق تقاته) أداء ما يلزم العبد
على قدر طاقته، فكان قوله [تعالى]: " ما استطعتم " مفسرا ل‍ (حق تقاته) لا ناسخا ولا مخصصا.
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف
بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك
يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103)
قوله [تعالى] (واعتصموا بحبل الله جميعا) قال الزجاج: اعتصموا: استمسكوا. فأما
الحبل، ففيه ستة أقوال:
أحدها: أنه كتاب الله: القرآن: رواه شقيق عن ابن مسعود وبه قال قتادة، والضحاك،
والسدي.
والثاني: أنه الجماعة، رواه الشعبي عن ابن مسعود.
والثالث: أنه دين الله، قاله ابن عباس، وابن زيد، ومقاتل، وابن قتيبة. وقال ابن زيد: هو
الإسلام.
والرابع: عهد الله، قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة في رواية، وأبو عبيد، واحتج له الزجاج
بقول الأعشى:
وإذا تجوزها حبال قبيلة * أخذت من الأخرى إليك حبالها
وأنشد ابن الأنباري:
فلو حبلا تناول من سليمى * لمد بحبلها حبلا متينا
والخامس: أنه الإخلاص، قاله أبو العالية.
12

والسادس: أنه أمر الله وطاعته، قاله مقاتل بن حيان. قال الزجاج: وقوله: " جميعا "
منصوب على الحال، أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام به. وأصل (تفرقوا): تتفرقوا، إلا أن
التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد، والمحذوفة هي الثانية، لأن الأولى دليلة على
الاستقبال، فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على الاستقبال، وهو مجزوم بالنهي، والأصل: ولا
تتفرقون، فحذفت النون، لتدل على الجزم.
قوله [تعالى]: (واذكروا نعمة الله عليكم) اختلفوا فيمن أريد بهذا الكلام على قولين:
أحدهما: أنهم مشركو العرب، كان القوي يستبيح الضعيف، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني: الأوس والخزرج، كان بينهم حرب شديد، قاله ابن إسحاق. والأعداء: جمع عدو.
قال ابن فارس: وهو من عدا: إذا ظلم.
قوله [تعالى]: (فأصبحتم) أي: صرتم، قال الزجاج: وأصل الأخ في اللغة أنه الذي
مقصده مقصد أخيه، والعرب تقول: فلان يتوخى مسار فلان، أي: ما يسره. والشفا: الحرف.
واعلم أن هذا مثل ضربه الله لإشرافهم على الهلاك. وقربهم من العذاب، كأنه قال: كنتم على
حرف حفرة من النار، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر. قال السدي: فأنقذكم
منها محمد صلى الله عليه وسلم.
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك
هم المفلحون (104)
قوله [تعالى]: (ولتكن منكم أمة) قال الزجاج: معنى الكلام: ولتكونوا كلكم أمة تدعون
إلى الخير، وتأمرون بالمعروف، ولكن " من " هاهنا تدخل لتحض المخاطبين من سائر الأجناس،
وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين، ومثله: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) معناه: اجتنبوا الأوثان، فإنها
رجس. ومثله قول الشاعر:
أخو رغائب يعطيها ويسألها * يأبى الظلامة منه النوفل الزفر
وهو النوفل الزفر. لأنه وصفه باعطاء الرغائب. والنوفل: الكثير الإعطاء للنوافل، والزفر: الذي
يحمل الأثقال. ويدل على أن الكل أمروا بالمعروف والنهي عن المنكر. قوله [تعالى]: (كنتم
خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) قال: ويجوز أن يكون أمر منهم
فرقة، لأن الدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه، وليس الخلق كلهم علماء ينوب بعض
الناس فيه عن بعض، كالجهاد. فأما الخير، ففيه قولان:
13

أحدهما: أنه الإسلام، قاله مقاتل.
والثاني: العمل بطاعة الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وأما المعروف، فهو ما يعرف كل
عاقل صوابه، وضده المنكر، وقيل: المعروف هاهنا: طاعة الله، والمنكر: معصيته.
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105)
قوله [تعالى]: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) فيهم قولان:
أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والحسن في آخرين.
والثاني: أنهم الحرورية قاله أبو أمامة.
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم
فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106)
قوله [تعالى]: (يوم تبيض وجوه) قرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عمران الجوني، وأبو
نهيك: تبيض وتسود، بكسر التاء فيهما. وقرأ الحسن، والزهري، وابن محيصن، وأبو الجوزاء:
تبياض وتسواد بألف، ومدة فيهما. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر: فأما الذين اسوادت وأما الذين ابياضت،
بألف ومدة. قال الزجاج: أخبر بوقت ذلك العذاب، فقال: يوم تبيض وجوه. قال ابن عباس: تبيض وجوه
أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة. وفي الذين اسودت وجوههم، خمسة أقوال:
أحدها: أنهم كل من كفر بالله بعد إيمانه يوم الميثاق، قاله أبي بن كعب.
والثاني: أنهم الحرورية، قاله أبو أمامة، وإسحاق الهمذاني.
والثالث: اليهود، قاله ابن عباس.
والرابع: أنهم المنافقون، قاله الحسن.
والخامس: أنهم أهل البدع، قاله قتادة.
قوله [تعالى]: (أكفرتم) قال الزجاج: معناه: فيقال لهم: أكفرتم، فحذف القول لأن في
الكلام دليلا عليه، كقوله [تعالى]: (وإسماعيل ربنا تقبل منا)، أي ويقولان: ربنا تقبل منا.
14

ومثله: (من كل باب. سلام عليكم) والمعنى: يقولون: سلام عليكم. والألف لفظها الاستفهام،
ومعناها التقرير والتوبيخ. فإن قلنا: إنهم جميع الكفار، فإنهم آمنوا يوم الميثاق، ثم كفروا، وإن
قلنا: إنهم الحرورية، وأهل البدع، فكفرهم بعد إيمانهم: مفارقة الجماعة في الاعتقاد، وإن قلنا:
اليهود، فإنهم آمنوا بالنبي قبل مبعثه، ثم كفروا بعد ظهوره، وإن قلنا: المنافقون، فإنهم قالوا
بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم.
قوله [تعالى]: (فذوقوا العذاب) أصل الذوق إنما يكون بالفم، وهذا استعارة منه،
فكأنهم جعلوا ما يتعرف ويعرف مذوقا على وجه التشبيه بالذي يعرف عند التطعم، تقول العرب: قد
ذقت من إكرام فلان ما يرغبني في قصده، يعنون: عرفت، ويقولون ذق الفرس، فاعرف ما عنده.
قال تميم بن مقبل:
أو كاهتزاز رديني تذاوقه * أيدي التجار فزادوا متنه لينا
وقال الآخر:
وإن الله ذاق حلوم قيس * فلما راء خفتها قلاها
يعنون بالذوق: العلم. وفي كتاب الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه، فقد ذاقه.
وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (107)
قوله [تعالى]: (وأما الذين ابيضت وجوههم) قال ابن عباس: هم المؤمنون. ورحمة
الله: جنته، قال ابن قتيبة: وسمى الجنة رحمة، لأن دخولهم إياها كان برحمته. وقال الزجاج:
معناه: في ثواب رحمته، قال: وأعاد ذكر " فيها " توكيدا.
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين (108)
قوله [تعالى]: (وما الله يريد ظلما للعالمين) قال بعضهم: معناه: لا يعاقبهم بلا جرم.
وقال الزجاج: أعلمنا أنه يعذب من عذبه باستحقاق.
ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور (109) كنتم خير أمة
أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب
لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110)
15

قوله [تعالى]: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) سبب نزولها أن مالك بن الضيف ووهب
ابن يهوذا اليهوديين، قالا لابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة: ديننا خير ما تدعونا إليه، ونحن أفضل
منكم فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة ومقاتل. وفيمن أريد بهذه الآية، أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أهل بدر.
والثاني: أنهم المهاجرون.
والثالث: جميع الصحابة.
والرابع: جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس. وقد روى بهز بن
حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها على
الله عز وجل ". قال الزجاج: وأصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعم سائر أمته.
وفي قوله [تعالى]: (كنتم)، قولان:
أحدهما: أنها على أصلها، والمراد بها الماضي، ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه: كنتم في اللوح المحفوظ.
والثاني: أن معناه: خلقتم ووجدتم. ذكرهما المفسرون.
والثالث: أن المعنى: كنتم مذ كنتم، ذكره ابن الأنباري.
والثاني: أن معنى كنتم: أنتم، كقوله [تعالى]: (وكان الله غفورا رحيم).
ذكره الفراء، والزجاج. قال ابن قتيبة: وقد يأتي الفعل على بنية الماضي، وهو راهن، أو
مستقبل، كقوله [تعالى]: (كنتم) ومعناه: أنتم، ومثله: (وإذ قال الله يا عيسى)، أي: وإذ
يقول. ومثله: (أتى أمر الله)، أي: سيأتي، ومثله: (كيف نكلم من كان في المهد)، أي: من
هو في المهد، ومثله: (وكان الله سميعا بصيرا)، أي: والله سميع بصير، ومثله: (فتثير سحابا
فسقناه)، أي: فنسوقه.
وفي قوله [تعالى]: (خير أمة أخرجت للناس) قولان:
16

أحدهما: أن معناه: كنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: يأتون بهم في السلاسل حتى
يدخلوهم في الإسلام.
والثاني: أن معناه: كنتم خير الأمم التي أخرجت.
وفي قوله [تعالى]: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) قولان:
أحدهما: أنه شرط في الخيرية، وهذا المعنى مروي عن عمر بن الخطاب، ومجاهد،
والزجاج.
والثاني: أنه ثناء من الله عليهم، قاله الربيع بن أنس. قال أبو العالية: والمعروف: التوحيد.
والمنكر: الشرك. قال ابن عباس: وأهل الكتاب: النصارى.
(منهم المؤمنون): من أسلم، كعبد الله بن سلام وأصحابه. (وأكثرهم الفاسقون)
يعني: الكافرين، وهم الذين لم يسلموا.
لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون (111)
قوله [تعالى]: (لن يضروكم إلا أذى) قال مقاتل: سبب نزولها أن رؤساء اليهود عمدوا
إلى عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فنزلت هذه الآية قال ابن عباس: والأذى
قولهم: (عزير ابن الله) و (المسيح ابن الله) و (ثالث ثلاثة). وقال الحسن: هو الكذب
على الله، ودعاؤهم المسلمين بأنه لن ينالهم منهم إلا الأذى باللسان من دعائهم إياهم إلى الضلال،
وإسماعهم الكفر، ثم وعدهم النصر عليهم في قوله: (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار) وكذلك
كان.
ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من
الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير
حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112)
قوله [تعالى]: (أين ما ثقفوا) معناه: أدركوا ووجدوا، وذلك أنهم أين نزلوا احتاجوا إلى عهد
من أهل المكان، وأداء جزية. قال الحسن: أدركتهم هذه الآية، وإن المجوس لتجبيهم الجزية. وأما
17

الحبل، فقال ابن عباس، وعطاء، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد: الحبل: العهد، قال
بعضهم: ومعنى الكلام: إلا بعهد يأخذونه من المؤمنين بإذن الله. قال الزجاج: وما بعد الاستثناء في
قوله [تعالى]: (إلا بحبل من الله) ليس من الأول، وإنما المعنى: أنهم أذلاء، إلا أنهم يعتصمون
بالعهد إذا أعطوه. وقد سبق في " البقرة " تفسير باقي الآية.
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله اناء الليل وهم يسجدون (113)
قوله [تعالى]: (ليسوا سواء)، في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم، احتبس عن صلاة العشاء ليلة حتى ذهب ثلث الليل، ثم جاء
فبشرهم، فقال: " إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب " فنزلت هذه الآية، قاله ابن
مسعود
والثاني: أنه لما أسلم ابن سلام في جماعه من اليهود، قال أحبارهم: ما آمن بمحمد إلا
أشرارنا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، ومقاتل. وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: ليس أمة محمد واليهود سواء، هذا قول ابن مسعود، والسدي.
والثاني: ليس اليهود كلهم سواء، بل فيهم من هو قائم بأمر الله، هذا قول ابن عباس،
وقتادة. وقال الزجاج: الوقف التام (ليسوا سواء) أي: ليس أهل الكتاب متساوين. وفي معنى
" قائمة " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الثابتة على أمر الله، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنها العادلة، قاله الحسن، ومجاهد، وابن جريج.
والثالث: أنها المستقيمة، قاله أبو عبيد، والزجاج. قال الفراء: ذكر أمة واحدة ولم يذكر
بعدها أخرى، والكلام مبني على أخرى، لأن (سواء) لا بد لها من اثنين، وقد تستجيز العرب إضمار
أحد الشيئين إذا كان في الكلام دليل عليه، قال أبو ذؤيب:
عصيت إليها القلب إني لأمره * سميع فما أدري أرشد طلابها؟!
ولم يقل: أم لا، ولا أم غي، لأن الكلام معروف المعنى.
18

وقال آخر:
وما أدري إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي انا أبتغيه * أم الشر الذي هو يبتغيني
ومثله قوله [تعالى]: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما) ولم يذكر ضده، لأن في قوله: (قل
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). دليلا على ما أضمر من ذلك، وقد رد هذا القول
الزجاج، فقال: قد جرى ذكر أهل الكتاب في قوله [تعالى]: (كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون
الأنبياء بغير حق) فأعلم الله أن منهم أمة قائمة. فما الحاجة إلى أن يقال: وأمة غير قائمة؟ وإنما بدأ
بذكر فعل الأكبر منهم، وهو الكفر والمشاقة، فذكر من كان منهم مباينا لهؤلاء. قال: و (آناء الليل)
ساعاته، وواحد الآناء: إني. قال ابن فارس: يقال: مضى من الليل إني وإنيان، والجمع: الآناء.
واختلف المفسرون: هل هذه الآناء معينة من الليل أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنها معينة، ثم فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها صلاة العشاء، قاله ابن مسعود، ومجاهد.
والثاني: أنها ما بين المغرب والعشاء، رواه سفيان عن منصور.
والثالث: جوف الليل، قاله السدي.
والثاني: أنها ساعات الليل من غير تعيين، قاله قتادة في آخرين.
وفي قوله [تعالى]: (وهم يسجدون)، قولان:
أحدهما: أنه كناية عن الصلاة، قاله مقاتل، والفراء، والزجاج.
والثاني: أنه السجود المعروف، وليس المراد أنهم يتلون في حال السجود، ولكنهم جمعوا
الأمرين، التلاوة والسجود.
يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في
الخيرات وأولئك من الصالحين (114) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم
بالمتقين (115)
قوله [تعالى]: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر وأبو بكر عن
عاصم: تفعلوا، وتكفروه، بالتاء في الموضعين على الخطاب، لقوله [تعالى]: (كنتم خير أمة).
قال قتادة: فلن تكفروه: لن يضل عنكم. وقرأ قوم، منهم: حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم،
وعبد الوارث عن أبي عمرو: يفعلوا، ويكفروا بالياء فيهما، إخبارا عن الأمة القائمة. وبقية
19

أصحاب أبي عمرو يخيرون بين الياء والتاء.
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون (116) مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت
حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (117)
قوله [تعالى]: (ينفقون في هذه الحياة الدنيا) اختلفوا فيمن أنزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها في نفقات الكفار، وصدقاتهم، قاله مجاهد.
والثاني: في نفقة سفلة اليهود على علمائهم، قاله مقاتل.
والثالث: في نفقة المشركين يوم بدر.
والرابع: في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين، ذكر هذين القولين أبو
الحسن الماوردي. وقال السدي: إنما ضرب الإنفاق مثلا لأعمالهم في شركهم. وفي الصر ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه البرد، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه النار، قاله ابن عباس، قال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها صر لتصويتها
عند الالتهاب.
والثالث: أن الصر: التصويت، والحركة من الحصى والحجارة، ومنه: صرير النعل، ذكره
ابن الأنباري. والحرث: الزرع. وفي معنى (ظلموا أنفسهم) قولان:
أحدهما: ظلموها بالكفر، والمعاصي، ومنع حق الله تعالى.
والثاني: بأن زرعوا في غير وقت الزرع.
قوله [تعالى]: (وما ظلمهم الله) قال ابن عباس: أي: ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه،
وإنما أنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حق الله منه، وهذا مثل ضربه الله لإبطال أعمالهم في
الآخرة. وحدثنا عن ثعلب، قال: بدأ الله عز وجل هذه الآية بالريح، والمعنى: على الحرث،
كقوله [تعالى]: (كمثل الذي ينعق بما لا يسمع) وإنما المعنى على المنعوق به. وقريب منه قوله
[تعالى]: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن) فخبر عن (الأزواج) وترك
(الذين) كأنه قال: أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، فبدأ بالذين، ومراده: بعد الأزواج. وأنشد:
20

لعلي إن مالت بي الريح ميلة * على ابن أبي ديان أن يتندما
فخبر عن ابن أبي ديان، وترك نفسه، وإنما أراد: لعل ابن أبي ديان أن يتندما إن مالت بي
الريح ميلة. وقد يبدأ بالشئ، والمراد التأخير، كقوله [تعالى]: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على
الله وجوههم مسودة) والمعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة يوم القيامة.
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت
البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118)
قوله [تعالى]: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) قال ابن عباس، ومجاهد:
نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من
القرابة، والصداقة، والجوار، والرضاع، والحلف، فنهوا عن مباطنتهم قال الزجاج: البطانة:
الدخلاء الذين يستبطنون وينبسط إليهم، يقال: فلان بطانة لفلان، أي: مداخل له، مؤانس.
ومعنى لا يألونكم: لا يتقون غاية في إلقائكم فيما يضركم.
(ودوا ما عنتم) أي: ودوا عنتكم، وهو ما نزل بكم من مكروه وضر، يقال: فلان يعنت
فلانا، أي: يقصد إدخال المشقة والأذى عليه، وأصل هذا من قولهم: أكمة عنوت، إذ أكانت
طويلة، شاقة المسلك. قال ابن قتيبة: ومعنى (من دونكم) أي: من غير المسلمين. والخبال:
الشر.
قوله [تعالى]: (قد بدت البغضاء من أفواههم) قال ابن عباس: أي: قد ظهر لكم منهم
الكذب، والشتم، ومخالفة دينكم، قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز
الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام
بأهل الذمة على قتال أهل الحرب وروي عن عمر أنه بلغه أن أبا موسى استكتب رجلا من أهل
الذمة، فكتب إليه يعنفه، وقال: لا تردوهم إلى العز بعد إذ أذلهم الله.
ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا
عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور (119)
21

قوله [تعالى]: (ها أنتم أولاء تحبونهم) قال ابن عباس: كان عامة الأنصار يواصلون اليهود
ويواصلونهم، فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود، فنزلت هذه الآية. والخطاب بهذه الآية للمؤمنين.
قال ابن قتيبة: ومعنى الكلام: ها أنتم يا هؤلاء. فأما " تحبونهم ". فالهاء والميم عائدة إلى الذين
نهوا عن مصافاتهم. وفي معنى محبة المؤمنين لهم أربعة أقوال:
أحدها: أنها الميل إليهم بالطباع، لموضع القرابة والرضاع والحلف، وهذا المعنى منقول عن
ابن عباس.
والثاني: أنها بمعنى الرحمة لهم، لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشديد،
وهذا المعنى منقول عن قتادة.
والثالث: أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان، روي عن أبي العالية.
والرابع: أنها بمعنى الإسلام لهم، وهم يريدون المسلمين على الكفر، وهذا قول المفضل،
والزجاج. والكتاب بمعنى الكتب، قاله الزجاج.
قوله [تعالى]: (وإذا لقوكم قالوا آمنا) هذه حالة المنافقين، وقال مقاتل: هم اليهود. والأنامل:
أطراف الأصابع. قال ابن عباس: والغيظ: الحنق عليكم، وقيل: هذا من مجاز الكلام، ضرب
مثلا لما حل بهم، وإن لم يكن هناك عض على أنملة، ومعنى (موتوا بغيظكم): ابقوا به حتى تموتوا،
وإنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئما. قال ابن جرير: هذا أمر من الله تعالى لنبيه أن
يدعو عليهم بأن يهلكهم الله كمدا من الغيظ.
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم
كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط (120)
قوله [تعالى]: (إن تمسسكم حسنة) قال قتادة: وهي الألفة والجماعة. والسيئة: الفرقة
والاختلاف، وإصابة طرف من المسلمين. وقال ابن قتيبة: الحسنة: النعمة. والسيئة: المصيبة.
قوله [تعالى]: (وإن تصبروا) فيه قولان:
أحدهما: على أذاهم، قاله ابن عباس.
والثاني: على أمر الله، قاله مقاتل.
وفي قوله [تعالى]: (وتتقوا) قولان:
أحدهما: الشرك، قاله ابن عباس.
والثاني: المعاصي، قاله مقاتل.
قوله [تعالى]: (لا يضركم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، الضاد
22

وتخفيف الراء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: لا يضركم بضم الضاد وتشديد الراء.
قال الزجاج: الضر والضير بمعنى واحد. فأما الكيد فقال ابن قتيبة: هو المكر. قال أبو سليمان
الخطابي: والمحيط: الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وأحاط علمه بالأشياء كلها.
وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم (121)
قوله [تعالى]: (وإذ غدوت من أهلك) قال المفسرون: في هذا الكلام تقديم وتأخير،
تقديره: ولقد نصركم الله ببدر، وإذ غدوت من أهلك. وقال ابن قتيبة: تبوئ، من قولك: بوأتك
منزلا: إذا أفدتك إياه، أو أسكنتكه. ومعنى مقاعد للقتال: المعسكر والمصاف. واختلفوا في أي
يوم كان ذلك، على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يوم أحد، قاله عبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، والزهري،
وقتادة والسدي، والربيع وابن إسحاق، وذلك أنه خرج يوم أحد من بيت عائشة إلى أحد، فجعل
يصف أصحابه للقتال.
والثاني: انه يوم الأحزاب، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل.
والثالث: يوم بدر نقل عن الحسن أيضا. قال ابن جرير: والأول أصح، لقوله [تعالى]: (إذ
همت طائفتان منكم أن تفشلا) وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أحد.
قوله [تعالى]: (والله سميع عليم) قال أبو سليمان الدمشقي: سميع لمشاورتك إياهم في
الخروج، ومرادهم للخروج، عليم بما يخفون من حب الشهادة.
إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون (122)
قوله [تعالى]: (إذ همت طائفتان) قال الزجاج: كانت النبوءة في ذلك الوقت. وتفشلا:
تجبنا، وتخورا. (والله وليهما)، أي: ناصرهما. قال جابر بن عبد الله: نحن هم بنو سلمة، وبنو
حارثة، وما نحب أن لو لم يكن ذلك لقول الله: (والله وليهما). وقال الحسن: طائفتان من
الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله. وقيل: لما رجع عبد الله بن أبي في أصحابه يوم أحد، همت
الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله.
23

فصل
فأما التوكل، فقال ابن عباس: هو الثقة بالله. وقال ابن فارس: هو إظهار العجز والاعتماد على
غيرك، ويقال: فلان وكلة تكلة، أي: عاجز، يكل أمره إلى غيره. وقال غيره: هو تفعل من الوكالة،
يقال: وكلت أمري إلى فلان فتوكل به، أي: ضمنه، وقام به، وأنا متوكل عليه. وقال بعضهم: هو
تفويض الأمر إلى الله ثقة بحسن تدبيره.
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (123)
قوله [تعالى]: (ولقد نصركم الله ببدر) في تسمية بدر قولان:
أحدهما: أنها بئر لرجل اسمه بدر، قاله الشعبي.
والثاني: انه اسم للمكان الذي التقوا عليه، ذكره الواقدي عن أشياخه.
قوله [تعالى]: (وأنتم أذلة) أي: لقلة العدد والعدد. (لعلكم تشكرون) أي: لتكونوا من
الشاكرين.
إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة
منزلين (124)
قوله [تعالى]: (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم) قال الشعبي: قال كرز بن
جابر لمشركي مكة: إني أمدكم بقومي، فاشتد ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية وفي أي يوم
كان ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يوم بدر، قاله ابن عباس، وعكرمة ومجاهد، وقتادة.
والثاني: يوم أحد، وعدهم فيه بالمدد إن صبروا، فلما لم يصبروا لم يمدوا، روي عن
عكرمة، والضحاك، ومقاتل، والأول أصح. والكفاية: مقدار سد الخلة. والاكتفاء: الاقتصار
على ذلك. والإمداد إعطاء الشئ بعد الشئ.
قوله [تعالى]: (منزلين) قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي، وشددها ابن عامر.
بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من
24

الملائكة مسومين (125)
قوله [تعالى]: (ويأتوكم من فورهم) فيه قولان:
أحدهما: أن معناه: من وجههم وسفرهم هذا، قاله ابن عباس والحسن، وقتادة ومقاتل،
والزجاج.
والثاني: من غضبهم هذا، قاله عكرمة، ومجاهد، والضحاك في آخرين. قال ابن جرير:
من قال: من وجههم، أراد ابتداء الأمر يؤخذ فيه، يقال: فارت القدر: إذا ابتدأ ما فيها بالغليان، ثم
اتصل. وقال ابن فارس: الفور: الغليان، يقال: فارت القدر تفور، وفار غضبه: إذا جاش،
ويقولون: فعله من فوره، أي: قبل أن يسكن.
وفي يوم فورهم قولان:
أحدهما: أنه يوم بدر، قاله قتادة.
والثاني: يوم أحد، قال مجاهد، والضحاك، كانوا غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا قوله
[تعالى]: (مسومين) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم بكسر الواو، والباقون بفتحها، فمن فتح
الواو، أراد أن الله سومها، ومن كسرها، أراد أن الملائكة سومت أنفسها. وقال الأخفش: سومت
خيلها، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر: " سوموا فإن الملائكة قد سومت " ونسب
الفعل إليها، فهذا دليل الكسر. قال ابن قتيبة: ومعنى مسومين: معلمين بعلامة الحرب، وهو من
السيماء والسومة: العلامة التي يعلم بها الفارس نفسه. قال علي عليه السلام: وكان سيماء خيل الملائكة
يوم بدر، الصوف الأبيض في أذنابها ونواصيها. وقال أبو هريرة: العهن الأحمر. وقال مجاهد: كانت
أذناب خيولهم مجزوزة، وفيها العهن. وقال هشام بن عروة: كانت الملائكة على خيل بلق، وعليهم
عمائم صفر. وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال: حضرت أنا وابن عم لي بدرا، ونحن على
شركنا، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا فيها حمحمة الخيل، وسمعنا فارسا يقول: أقدم
حيزوم، فأما صاحبي فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم انتعشت وقال أبو واقد الليثي: إني لأتبع يوم
بدر رجلا من المشركين لأضربه، فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن غيري قد قتله.
وفي عدد الملائكة يوم بدر خمسة أقوال:
أحدها: خمسة آلاف، قاله الحسن. وروى جبير بن مطعم عن علي عليه السلام قال: بينا أنا
امتح من قليب بدر، جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا
25

التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين
من الملائكة، وكان مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة
عن يمين رسول الله، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله،
وكنت عن يساره، وهزم الله أعداءه.
والثاني: أربعة آلاف، قاله الشعبي.
والثالث: ألف، قاله مجاهد.
والرابع: تسعة آلاف، ذكره الزجاج.
والخامس: ثمانية آلاف، ذكره بعض المفسرين.
وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله
العزيز الحكيم (126)
قوله [تعالى]: (وما جعله الله) يعني المدد (إلا بشرى)، أي: إلا بشارة تطيب أنفسكم،
(ولتطمئن به قلوبكم)، فتسكن في الحرب، ولا تجزع، والأكثرون على أن هذا المدد يوم بدر.
وقال مجاهد: يوم أحد، وروي عنه ما يدل على أن الله أمدهم بالملائكة في اليومين جميعا، غير أن
الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر.
قوله [تعالى]: (وما النصر إلا من عند الله) أي: ليس بكثرة العدد والعدد.
ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين (127)
قوله [تعالى] ليقطع طرفا) معناه: نصركم ببدر ليقطع طرفا. قال الزجاج: أي: ليقتل
قطعة منهم. وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان:
أحدهما: في يوم بدر، قاله الحسن، وقتادة، والجمهور.
والثاني: يوم أحد، قتل منهم ثمانية وعشرون، قاله السدي.
قوله [تعالى]: (أو يكبتهم) فيه سبعة أقوال:
أحدها: أن معناه: يهزمهم، قاله ابن عباس، والزجاج.
والثاني: يخزيهم، قاله قتادة، ومقاتل.
والثالث: يصرعهم، قاله أبو عبيد، واليزيدي. وقال الخليل: هو الصرع على الوجه.
والرابع: يهلكهم، قاله أبو عبيدة.
26

والخامس: يلعنهم، قاله السدي.
والسادس: يظفر عليهم، قاله المبرد.
والسابع: يغيظهم، قاله النضر بن شميل واختاره ابن قتيبة. وقال ابن قتيبة: أهل النظر يرون
أن التاء فيه منقلبة عن ذاك، كأن الأصل فيه: يكبدهم، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ،
وشدة العداوة، ومنه يقال: فلان قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، والعرب تقول:
العدو: اسود الكبد، قال الأعشى:
فما أجشمت من إتيان قوم * هم الأعداء والأكباد سود
كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة، اسودت، ومنه يقال للعدو: كاشح، لأنه يخبأ العداوة
في كشحه. والكشح: الخاصرة، وإنما يريدون الكبد. لأن الكبد هناك. قال الشاعر:
وأضمر أضغانا علي كشوحها
والتاء والدال متقاربتا المخرج، والعرب تدغم إحداهما في الأخرى، وتبدل إحداهما من
الأخرى، كقولهم: هرت الثوب وهرده: إذا خرقه، وكذلك: كبت العدو، وكبده، ومثله كثير.
قوله [تعالى]: (فينقلبوا خائبين) قال الزجاج: الخائب: الذي لم ينل ما أمل. وقال غيره:
الفرق بين الخيبة واليأس: ان الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل، واليأس قد يكون من غير أمل.
ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون (128)
قوله [تعالى]: (ليس لك من الأمر شئ) في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه،
فقال: " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل؟! " فنزلت هذه الآية.
أخرجه مسلم في " أفراده " من حديث أنس. وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لعن قوما من المنافقين، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر.
والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بسب الذين انهزموا يوم أحد، فنزلت هذه الآية، فكف عن ذلك،
نقل عن ابن مسعود، وابن عباس.
27

والرابع: أن سبعين من أهل الصفة، خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم، عصية وذكوان، فقتلوا
جميعا، فدعا النبي [صلى الله عليه وسلم] عليهم أربعين يوما، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن سليمان.
والخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة ممثلا به، قال: " لأمثلن بكذا وكذا منهم " فنزلت هذه
الآية، قاله الواقدي. وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شئ.
والثاني: ليس لك من النصر والهزيمة شئ. وقيل: إن " لك " بمعنى " إليك ".
قوله [تعالى]: (أو يتوب عليهم) قال الفراء: في نصبه وجهان، إن شئت جعلته معطوفا على
قوله [تعالى]: (ليقطع طرفا) وإن شئت جعلت نصبه على مذهب " حتى " كما تقول: لا أزال
معك حتى تعطيني، ولما نفى الأمر عن نبيه، أثبت أن جميع الأمور إليه بقوله [تعالى]: (ولله ما في
السماوات وما في الأرض).
ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور
رحيم (129) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم
تفلحون (130)
قوله [تعالى]: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا) قال أهل التفسير: هذه الآية نزلت في ربا
الجاهلية. قال سعيد بن جبير: كان الرجل يكون له على الرجل المال، فإذا حل الأجل، فيقول:
أخر عني، وأزيدك على مالك، فتلك الأضعاف المضاعفة.
واتقوا النار التي أعدت للكافرين (131)
قوله [تعالى]: (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) قال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين، لئلا
يستحلوا الربا. قال الزجاج: والمعنى: اتقوا ان تحلوا ما حرم الله فتكفروا.
28

وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132) * وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة
عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133)
قوله [تعالى]: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) كلهم أثبت الواو في (وسارعوا) إلا، نافعا
وابن عامر، فإنهما لم يذكراها. وقال أبو علي: وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام، فمن
قرأ بالواو، عطف (وسارعوا) على (وأطيعوا) ومن حذفها، فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى،
فاستغنت عن العطف. ومعنى الآية: بادروا إلى ما يوجب المغفرة. وفي المراد بموجب المغفرة
هاهنا عشرة أقوال:
أحدها: أنه الاخلاص، قاله عثمان بن عفان [رضي الله عنه].
والثاني: أداء الفرائض، قاله علي بن أبي طالب [رضي الله عنه].
والثالث: الإسلام، قاله ابن عباس.
والرابع: التكبيرة الأولى من الصلاة، قاله أنس بن مالك.
والخامس: الطاعة، قاله سعيد بن جبير.
والسادس: التوبة، قاله عكرمة.
والسابع: الهجرة، قاله أبو العالية.
والثامن: الجهاد، قاله الضحاك.
والتاسع: الصلوات الخمس، قاله يمان.
والعاشر: الأعمال الصالحة، قاله مقاتل.
قوله [تعالى]: (وجنة عرضها السماوات والأرض) قال ابن قتيبة: أراد بالعرض السعة، ولم
يرد العرض الذي يخالف الطول، والعرب تقول: بلاد عريضة، أي: واسعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم
للمنهزمين يوم أحد " لقد ذهبتم فيها عريضة ".
قال الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة * على الخائف المطلوب كفة حابل
قال: وأصل هذا من العرض الذي هو خلاف الطول، وإذا عرض الشئ اتسع، وإذا لم
يعرض ضاق ودق. وقال سعيد بن جبير: لو ألصق بعضهن إلى بعض كانت الجنة في عرضهن.
الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب
المحسنين (134)
29

قوله [تعالى): (الذين ينفقون في السراء والضراء) قال ابن عباس: في العسر واليسر وفي
معنى الآية: أنهم رغبوا في معاملة الله، فلم يبطرهم الرخاء فينسيهم، ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا.
قوله [تعالى]: (والكاظمين الغيظ) قال الزجاج: يقال: كظمت الغيظ: إذا أمسكت على ما
في نفسك منه، وكظم البعير على جرته: إذا رددها في حلقه. وقال ابن الأنباري: الأصل في
الكظم: الإمساك على غيظ وغم. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما تجرع عبد جرعة أفضل
عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى.
قوله [تعالى]: (والعافين عن الناس) فيه قولان:
أحدهما: أنه العفو عن المماليك، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه على إطلاقه، فهم يعفون عمن ظلمهم، قاله زيد بن أسلم، ومقاتل.
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر
الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم
وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (136)
قوله [تعالى]: (والذين إذا فعلوا فاحشة) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمرا فضمها، وقبلها، ثم ندم، فأتى
النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: أن أنصاريا وثقفيا آخى النبي [صلى الله عليه وسلم] بينها، فخرج الثقفي مع النبي [صلى الله عليه وسلم] في بعض
مغازيه، فكان يتعاهد أهل الثقفي، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها،
فدخل ولم يستأذن، فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها، فقبله ثم ندم، فأدبر راجعا، فقالت:
سبحان الله خنت أمانتك، فخرج يسيح في الجبال، ويتوب من ذنبه. فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة
فوافقه ساجدا يقول: ذنبي ذنبي: قد خنت أخي. فقال: يا فلان انطلق إلى رسول [صلى الله عليه وسلم] فاسأله عن
ذنبك، لعل الله أن يجعل لك منه مخرجا، فرجع إلى المدينة، فنزلت هذه الآية بتوبته، رواه أبو
صالح عن ابن عباس. وذكره مقاتل.
30

والثالث: أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كان أحدهم إذا
أذنب، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه، فنزلت هذه الآية، فقال النبي عليه السلام: " ألا
أخبركم بخير من ذلك "؟ فقرأ هذه الآية، والتي قبلها، هذا قول عطاء واختلفوا هل هذه الآية نعت
للمنفقين في السراء والضراء؟ أم لقوم آخرين؟ على قولين:
أحدهما: أنها نعت لهم، قاله الحسن.
والثاني: أنها لصنف آخر، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والفاحشة: القبيحة وكل شئ جاوز قدره، فهو فاحش. وفي المراد بها هاهنا قولان:
أحدهما: أنها الزنى، قاله جابر بن زيد، والسدي، ومقاتل.
والثاني: أنها كل كبيرة، قاله جماعة من المفسرين.
واختلفوا في " الظلم " المذكور بعدها، فلم يفرق قوم بينه وبين الفاحشة، وقالوا: الظلم
للنفس فاحشة أيضا، وفرق آخرون، فقالوا: هو الصغائر. وفي قوله [تعالى]: (ذكروا الله) قولان:
أحدهما: أنه ذكر اللسان، وهو الاستغفار، قاله ابن مسعود، وعطاء في آخرين.
والثاني: أنه ذكر القلب، ثم فيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه ذكر العرض على الله، قاله الضحاك.
والثاني: أنه ذكر السؤال عنه يوم القيامة، قاله الواقدي.
والثالث: ذكر وعيد الله لهم على ما أتوا، قاله ابن جرير.
والرابع: ذكر نهي الله لهم عنه.
والخامس: ذكر غفران الله: ذكر القولين أبو سليمان الدمشقي.
فأما الإصرار، فقال الزجاج: هو الإقامة على الشئ. وقال ابن فارس: هو العزم على الشئ
والثبات عليه. وللمفسرين في المراد بالاصرار ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه مواقعة الذنب عند الاهتمام به. وهذا مذهب مجاهد.
والثاني: أنه الثبوت عليه من غير استغفار، وهذا مذهب قتادة، وابن إسحاق..
والثالث: أنه ترك الاستغفار منه، وهذا مذهب السدي. وفي معنى (وهم يعلمون) ثلاثة
أقوال:
أحدها: وهم يعلمون أن الإصرار يضر، وان تركه أولى من التمادي، قاله ابن عباس،
والحسن.
31

والثاني: يعلمون أن الله يتوب على من تاب، قاله مجاهد، وأبو عمارة.
والثالث: يعلمون أنهم قد أذنبوا، قاله السدي، ومقاتل.
قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137)
قوله [تعالى]: (قد خلت من قبلكم سنن) السنن: جمع سنة، وهي الطريقة. وفي معنى
الكلام قولان:
أحدهما: قد مضى قبلكم أهل سنن وشرائع، فانظروا ماذا صنعنا بالمكذبين منهم، وهذا
قول ابن عباس.
والثاني: قد مضت قبلكم سنن الله في إهلاك من كذب من الأمم، فاعتبروا بهم، وهذا قول
مجاهد. وفي معنى (فسيروا في الأرض) قولان:
أحدهما: أنه السير في السفر. قال الزجاج: إذا سرتم في أسفاركم، عرفتم أخبار الهالكين
بتكذيبهم.
والثاني: أنه التفكر. ومعنى: فانظروا: اعتبروا، والعاقبة: آخر الأمر.
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين (138)
قوله [تعالى]: (هذا بيان للناس) قال سعيد بن جبير: هذه الآية أول ما نزل من " آل عمران "
في المشار إليه ب‍ " هذا " قولان:
أحدهما: أنه القرآن، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: أنه شرح أخبار الأمم السالفة، قاله ابن إسحاق. والبيان: الكشف عن الشئ، وبان
الشئ: اتضح، وفلان أبين من فلان، أي: أفصح. قال الشعبي: هذا بيان للناس من العمى،
وهدى من الضلالة، وموعظة من الجهل.
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139)
قوله [تعالى]: (ولا تهنوا ولا تحزنوا) سبب نزولها أن أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لما انهزموا
يوم أحد، أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم]:
" اللهم لا يعلن علينا، اللهم لا قوة لنا إلا بك " فنزلت هذه الآيات، قاله ابن عباس قال ابن
32

عباس، ومجاهد: (ولا تهنوا) أي: ولا تضعفوا. وفيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال:
أحدها: أنه قتل إخوانهم من المسلمين، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه هزيمتهم يوم أحد، وقتلهم، قاله مقاتل.
والثالث: أنه ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من شجه، وكسر رباعيته، ذكره الماوردي.
والرابع: أنه ما فات من الغنيمة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
قوله [تعالى]: (وأنتم الأعلون) قال ابن عباس: يقول: أنتم الغالبون وآخر الأمر لكم..
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله
الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140)
قوله [تعالى]: (إن يمسسكم قرح) قال ابن عباس: أصابهم يوم أحد قرح، فشكوا إلى النبي
[صلى الله عليه وسلم] ما لقوا، فنزلت هذه الآية. فأما المس، فهو الإصابة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر،
ونافع " قرح " بفتح القاف. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم " قرح " بضم القاف.
واختلفوا هل معنى القراءتين واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد: القرح بالفتح: الجراح، والقتل. والقرح
بالضم: ألم الجراح. وقال الزجاج: هما في اللغة بمعنى واحد، ومعناه الجراح وألمها، قال:
ومعنى نداولها: أي: نجعل الدولة في وقت كفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون، فأما إذا
أطاعوا، فهم منصورون، قال ومعنى (ليعلمه الله) أي: ليعلم واقعا منهم، لأنه عالم قبل ذلك،
وإنما يجازي على ما وقع. وقال ابن عباس: معنى العلم هاهنا: الرؤية.
قوله [تعالى]: (ويتخذ منكم شهداء) قال أبو الضحى: نزلت في قتلى أحد، قال ابن
جريج: كان المسلمون يقولون: ربنا أرنا يوما كيوم بدر، نلتمس فيه الشهادة، فاتخذ منهم شهداء يوم
أحد. قال ابن عباس: والظالمون هاهنا: المنافقون. وقال غيره: هم الذين انصرفوا يوم أحد مع
ابن أبي.
33

وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (141)
قوله [تعالى]: (وليمحص الله الذين آمنوا) قال الزجاج: معنى الكلام: جعل الله الأيام
مداولة بين الناس، ليمحص المؤمنين، ويمحق الكافرين. وفي التمحيص قولان:
أحدهما: أنه الابتلاء والاختبار، وأنشدوا:
رأيت فضيلا كان شيئا ملففا * فكشفه التمحيص حتى بدا ليا
وهذا قول الحسن، ومجاهد، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة في آخرين.
والثاني: أنه التنقية، والتخليص، وهو قول الزجاج، وحكي عن المبرد، قال: يقال: محص
الحبل محصا: إذا ذهب منه الوبر حتى يتخلص، ومعنى قوله: محص عنا ذنوبنا: أذهبها عنا. وذكر
الزجاج عن الخليل أن المحص: التخليص، يقال: محصت الشئ أمحصه محصا: إذا خلصته.
فعلى القول الأول التمحيص: ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم، وعلى الثاني: هو تنقيتهم من
الذنوب بذلك. قال الفراء: معنى الآية: وليمحص الله بالذنوب عن الذين آمنوا.
قوله [تعالى]: (ويمحق الكافرين) فيه أربعة أقوال:
أحدها: يهلكهم، قاله ابن عباس.
والثاني: يذهب دعوتهم، قاله مقاتل.
والثالث: ينقصهم ويقللهم، قاله الفراء.
والرابع: يحبط أعمالهم، ذكره الزجاج.
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين (142)
ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143)
قوله [تعالى]: (ولقد كنتم تمنون الموت) قال ابن عباس: لما أخبرهم الله تعالى على لسان
نبيه صلى الله عليه وسلم، بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة، رغبوا في ذلك، فتمنوا قتالا يستشهدون فيه،
فيلحقون باخوانهم، فأراهم الله يوم أحد، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم، فنزل فيهم
(ولقد كنتم تمنون الموت) يعني القتال (من قبل أن تلقوه) أي: من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد
(فقد رأيتموه) يومئذ، قال الفراء، وابن قتيبة: أي: رأيتم أسبابه، وهي السيف ونحوه من السلاح.
وفي معنى (وأنتم تنظرون) ثلاثة أقوال:
34

أحدها: تنظرون إلى السيوف، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه ذكر للتوكيد، قاله الأخفش. وقال الزجاج: معناه: فقد رأيتموه، وأنتم بصراء،
كما تقول: رأيت كذا وكذا، وليس في عينك علة، أي: رأيته رؤية حقيقة.
والثالث: أن معناه: وأنتم تنظرون ما تمنيتم. وفي الآية إضمار فلم انهزمتم؟!
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144)
قوله [تعالى]: (وما محمد إلا رسول) قال ابن عباس: صاح الشيطان يوم أحد: قتل
محمد. فقال قوم: لئن كان قتل لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا، ولو كان محمد حيا لم
نهزم، فترخصوا في الفرار، فنزلت هذه الآية. وقال الضحاك: قال قوم من المنافقين: قتل محمد،
فالحقوا بدينكم الأول، فنزلت هذه الآية. وقال قتادة: قال أناس: لو كان نبيا ما قتل، وقال ناس
من علية أصحاب رسول الله: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى تلحقوا به، فنزلت هذه الآية.
ومعنى الآية: أنه يموت كما ماتت قبله الرسل، أفإن مات على فراشه، أو قتل كمن قتل قبله من
الأنبياء، أتنقلبون على أعقابكم؟! أي: ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر؟! وهذا على سبيل
المثل، يقال لكل من رجع عما كان عليه: قد انقلب على عقبيه، وأصله: رجعة القهقرى، والعقب:
مؤخر القدم.
قوله [تعالى]: (فلن يضر الله شيئا) أي: لن ينقص الله شيئا برجوعه، وإنما يضر نفسه
(وسيجزي) أي: يثيب الشاكرين، وفيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الثابتون على دينهم، قاله علي عليه السلام، وقال: كان أبو بكر أمير الشاكرين.
والثاني: أنهم الشاكرون على التوفيق والهداية.
والثالث: على الدين.
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن
يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين (145)
35

قوله [تعالى]: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) في الإذن قولان:
أحدهما: أنه الأمر، قاله ابن عباس.
والثاني: الإذن نفسه، قاله مقاتل.
قال الزجاج: ومعنى الآية: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله.
قوله [تعالى]: (كتابا مؤجلا) توكيد، والمعنى: كتب الله ذلك كتابا ذا أجل. والأجل:
الوقت المعلوم، ومثله في التوكيد (كتاب الله عليكم) لأنه لما قال: (حرمت عليكم أمهاتكم) دل على أنه
مرفوض، فأكد بقوله: (كتاب الله عليكم) وكذلك قوله تعالى: (صنع الله) لأنه لما قال: (وترى
الجبال تحسبها جامدة) دل على أنه خلق الله فأكد بقوله: (صنع الله).
قوله [تعالى]: (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها) أي: من قصد بعمله الدنيا، أعطي منها، قليلا
كان أو كثيرا، ومن قصد الآخرة بعمله، أعطي منها. وقال مقاتل: عنى بالآية: من ثبت يوم أحد،
ومن طلب الغنيمة.
فصل
وأكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم، وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله [تعالى]: (عجلنا
له فيها ما نشاء لمن نريد) والصحيح أنه محكم، لأنه لا يؤتى أحد شيئا إلا بقدرة الله ومشيئته.
ومعنى قوله [تعالى]: (نؤته منها) أي: ما نشاء، وما قدرنا له، ولم يقل: ما يشاء هو.
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا
وما استكانوا والله يحب الصابرين (146)
قوله [تعالى]: (وكأين من نبي) قرأ الجمهور (وكأين) في وزن " كعين). وقرأ ابن كثير
" وكائن " في وزن " كاعن ". قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: " كأين " مثل: " كعين " ينصبون
الهمزة، ويشددون الياء. وتميم يقول: " وكائن " كأنها فاعل من كئت. وأنشدني الكسائي:
وكائن ترى يسعى من الناس جاهدا * على ابن غدا منه شجاع وعقرب
وقال آخر:
وكائن أصابت مؤمنا من مصيبة * على الله عقباها ومنه ثوابها
وقال ابن قتيبة: كائن بمعنى " كم " مثل قوله تعالى: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها
36

" كأين " بالهمزة وتشديد الياء، و " كائن " على وزن " قائل "، وقد قرئ بهما والأكثر والأفصح
تخفيفها. قال الشاعر:
وكائن أرينا الموت من ذي تحية * إذا ما ازدرانا أو أصر لمأثم
وقال الآخر: وكائن ترى من صامت لك معجب * زيادته أو نقصه في التكلم
قوله تعالى: (قاتل معه ربيون) قرأ ابن كثير، ونافع، أبو عمرو، وأبان، والمفضل كلاهما
عن عاصم: " قتل " بضم القاف، وكسر التاء من غير ألف، وقرأ الباقون: (قاتل) بألف، وقرأ ابن
مسعود، وأبو رزين، وأبو رجاء، والحسن، وابن يعمر، وابن جبير، وقتادة، وعكرمة، وأيوب:
(ربيون) بضم الراء. وقرأ ابن عباس، وأنس وأبو مجلز، وأبو العالية، والجحدري بفتحها. فعلى
حذف الألف يحتمل وجهين ذكرهما الزجاج
أحدهما: أن يكون قتل للنبي وحده، ويكون المعنى: وكأين من نبي قتل، ومعه ربيون، فما
وهنوا بعد قتله.
والثاني: أن يكون قتل الربيين، ويكون " فما وهنوا " لمن بقي منهم. وعلى إثبات الألف
يكون المعنى: أن القوم قاتلوا، فما وهنوا. وفي معنى الربيين خمسة أقوال:
أحدهما: أنهم الألوف، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، واختاره الفراء.
والثاني: الجماعات الكثيرة رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة،
والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع، واختاره ابن قتيبة.
والثالث: أنهم الفقهاء والعلماء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الحسن،
واختاره اليزيدي، والزجاج.
والرابع: أنهم الأتباع، قاله ابن زيد.
والخامس: أنهم المتألهون العارفون بالله تعالى، قاله ابن فارس.
قوله تعالى: (فما وهنوا) فيه قولان:
أحدهما: أنه الضعف، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.
والثاني: أنه العجز، قاله قتادة.
قال ابن قتيبة: والاستكانة: الخشوع، والذل، ومنه أخذ المسكين. وفي معنى الكلام قولان:
37

أحدهما: فما وهنوا بالخوف، وما ضعفوا بنقصان القوة، ولا استكانوا بالخضوع.
والثاني: فما وهنوا لقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم، ولا استكانوا لما أصابهم.
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا
على القوم الكافرين (147)
قوله تعالى: (وما كان قولهم) يعني الربيين. (إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا) أي: لم يكن قولهم
غير الاستغفار. والإسراف: مجاوزة الحد، وقيل: أريد بالذنوب الصغائر، وبالإسراف: الكبائر.
قوله تعالى: (وثبت أقدامنا) قال ابن عباس: على القتال. وقال الزجاج: معناه: ثبتنا على
دينك، فإن الثابت على دينه ثابت في حربه.
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين (148)
قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا) فيه قولان:
أحدهما: أنه النصر، قاله قتادة.
والثاني: الغنيمة، قاله ابن جريج. وروي عن ابن عباس، أنه النصر والغنيمة.
وفي حسن ثواب الآخرة قولان:
أحدهما: أنه الجنة.
والثاني: الأجر والمغفرة، وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء
العدو.
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) قال ابن عباس: نزلت في قول ابن
أبي للمسلمين لما رجعوا من أحد: لو كان نبيا ما أصابه الذي أصابه. وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنهم المنافقون على قول ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن جريج.
والثالث: أنهم عبدة الأوثان، قاله السدي. قالوا وكانوا قد أمروا المسلمين بالرجوع عن
دينهم. ومعنى (يردوكم على أعقابكم): يصرفوكم إلى الشرك. (فتنقلبوا خاسرين) بالعقوبة.
38

بل الله مولاكم وهو خير الناصرين (150)
قوله تعالى: (بل الله مولاكم) أي: وليكم ينصركم عليهم، فاستغنوا عن موالاة الكفار.
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم
النار وبئس مثوى الظالمين (151)
قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) قال السدي: لما ارتحل المشركون يوم
أحد نحو مكة ندموا في بعض الطريق، وقالوا: قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشرذمة، تركتموهم؟!
ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلت هذه الآية. والإلقاء: القذف.
والرعب: الخوف. قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة " الرعب " ساكنة العين
خفيفة، وقرأ ابن عامر، والكسائي، ويعقوب، وأبو جعفر، مضمومة العين، مثقلة، أين وقعت.
والسلطان هاهنا: الحجة في قول الجماعة. والمأوى: المكان الذي يؤوى إليه. والمثوى: المقام،
والثوى: الإقامة. قال ابن عباس: والظالمون هاهنا: الكافرون.
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم باذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم
من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم
ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين (152)
قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده) قال محمد بن كعب القرظي لما رجع النبي [صلى الله عليه وسلم)
وأصحابه من أحد، قال قوم منهم: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟! فنزلت هذه الآية.
وقال المفسرون: وعد الله تعالى المؤمنين النصر بأحد، فنصرهم فلما خالفوا، وطلبوا الغنيمة،
هزموا، وقال ابن عباس: ما نصر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في موطن ما نصر في أحد، فأنكر ذلك عليه،
فقال: بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) فأما
الحس، فهو القتل، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والسدي، والجماعة. وقال ابن قتيبة:
تحسونهم، أي: تستأصلونهم بالقتل، يقال: سنة حسوس: إذا أتت على كل شئ، وجراد
39

محسوس: إذا قتله البرد.
وفي قوله [تعالى]: (بإذنه) ثلاثة أقوال:
أحدها: بأمره، قاله ابن عباس.
والثاني: بعلمه، قاله الزجاج.
والثالث: بقضائه، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: (حتى إذا فشلتم) قال الزجاج: أي: جبنتم (وتنازعتم) أي: اختلفتم (من بعد
ما أراكم ما تحبون) يعني: النصرة. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، معناه: حتى إذا تنازعتم في
الأمر، فشلتم وعصيتم، وهذه الواو زائدة، كقوله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه) معناه ناديناه.
فأما تنازعهم، فإن بعض الرماة قال: قد انهزم المشركون، فما يمنعنا من الغنيمة؟ وقال بعضهم: بل
نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فترك المركز بعضهم، وطلب الغنيمة، وتركوا مكانهم، فذلك
عصيانهم، وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] قد أوصاهم: " لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم ".
قوله تعالى: (منكم من يريد الدنيا) قال المفسرون: هم الذين طلبوا الغنيمة، وتركوا مكانهم
(ومنكم من يريد الآخرة) وهم الذين ثبتوا. وقال ابن مسعود: ما كنت أظن أحدا من أصحاب
محمد يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.
قوله تعالى: (صرفكم عنهم) أي: ردكم عن المشركين بقتلكم وهزيمتكم. (ليبتليكم)
أي: ليختبركم، فيبين الصابر من الجازع.
قوله تعالى: (ولقد عفا عنكم) فيه قولان:
أحدهما: عفا عن عقوبتكم، قاله ابن عباس.
والثاني: عفا عن استئصالكم، قاله الحسن. وكان يقول: هؤلاء مع رسول الله، في سبيل الله
غضاب لله، يقاتلون أعداء الله نهوا عن شئ فضيعوه، فما تركوا حتى غموا بهذا الغم، والفاسق
اليوم يتجرم كل كبيرة ويركب كل داهية، ويزعم أن لا بأس عليه، فسوف يعلم.
قوله تعالى: (والله ذو فضل على المؤمنين) فيه قولان:
أحدهما: إذ عفا عنهم، قاله ابن عباس.
والثاني: إذ لم يقتلوا جميعا، قاله مقاتل.
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا
تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون (153)
40

قوله تعالى: (إذ تصعدون) قال المفسرون: " إذ " متعلقة بقوله [تعالى]: (ولقد عفا
عنكم) وأكثر القراء على ضم التاء، وكسر العين، من قوله تعالى: " تصعدون " وهو من الإصعاد.
وروى أبان عن ثعلب، عن عاصم فتحها، وهي قراءة الحسن، ومجاهد، وهو من الصعود. قال
الفراء: الإصعاد في ابتداء الأسفار، والمخارج، تقول: أصعدنا من بغداد إلى خراسان، فإذا
صعدت على سلم أو درجة، قلت: صعدت، ولا تقول: أصعدت. وقال الزجاج: كل من ابتدأ
مسيرا من مكان، فقد أصعد، فأما الصعود، فهو من أسفل إلى فوق ومن فتح التاء والمعين، أراد
الصعود في الجبل. وللمفسرين في معنى الآية قولان:
أحدهما: أنه صعودهم في الجبل، قاله ابن عباس ومجاهد.
والثاني: أنه الإبعاد في الهزيمة، قاله قتادة، وابن قتيبة، (وتلوون) بمعنى: (تعرجون).
وقوله تعالى: (على أحد) عام، وقد روي عن ابن عباس أنه أريد به النبي صلى الله عليه وسلم قال:
والنبي [صلى الله عليه وسلم] يناديهم من خلفهم: " إلى عباد الله، أنا رسول الله "، وقرأت عائشة، وأبو مجلز، وأبو
الجوزاء، وحميد " على أحد " بضم الألف والحاء، يعنون الجبل.
قوله تعالى: (فأثابكم) أي: جازاكم. قال الفراء: الإثابة هاهنا بمعنى عقاب، ولكنه كما قال
الشاعر:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه * أداهم سودا أو محدرجة سمرا
المحدرجة: إلى السياط. والسود فيما يقال: القيود.
قوله تعالى: (غما بغم) في هذه الباء أربعة أقوال:
أحدها: أنها بمعنى " مع ".
والثاني: بمعنى " بعد ".
والثالث: بمعنى " على "، فعلى هذه الثلاثة الأقوال يتعلق الغمان بالصحابة. وللمفسرين في
المراد بهذين الغمين خمسة أقوال:
أحدها: أن الغم الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل.
والثاني: إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم، قاله ابن عباس ومقاتل.
والثاني: أن الأول فرارهم الأول، والثاني: فرارهم حين سمعوا أن محمد قد قتل، قاله
مجاهد.
والثالث: أن الأول، ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من القتل والجراح، والثاني: حين سمعوا
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، قاله قتادة.
41

والرابع: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة، والفتح، والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، قاله
السدي.
والخامس: أن الأول اشراف خالد بن الوليد عليهم، والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، ذكره
الثعلبي.
والقول الرابع: أن الباء بمعنى الجزاء، فتقديره: غمكم كما غممتم غيركم، فيكون أحد
الغمين للصحابة، وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين، ويكون الغم الذي جوزوا لأجله
لغيرهم. وفي المراد بغيرهم قولان:
أحدهما: أنهم المشركون غموهم كان يوم بدر، قاله الحسن.
والثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم غموه حيث خالفوه، فجوزوا على ذلك، بأن غموا بما أصابهم، قاله
الزجاج.
قوله تعالى: (لكيلا تحزنوا) في " لا " قولان:
أحدهما: أنها باقية على أصلها، ومعناها النفي، فعلى هذا في معنى الكلام قولان:
أحدهما: فأثابكم غما أنساكم الحزن على ما فاتكم وما أصابكم، وقد روي أنهم لما سمعوا
أن النبي قد قتل، نسوا ما أصابهم وما فاتهم.
والثاني: أنه متصل بقوله [تعالى]: (ولقد عفا عنكم] فمعنى الكلام: عفا عنكم، لكيلا
تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم، لأن عفوه يذهب كل غم.
والقول الثاني: أنها صلة، ومعنى الكلام: لكي تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم عقوبة لكم في
خلافكم. ومثلها قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من فضل الله أي:
ليعلم. هذا قول المفضل. قال ابن عباس: والذي فاتهم: الغنيمة، والذي أصابهم: القتل
والهزيمة.
ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم
يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شئ قل إن الأمر كله
لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا قل لو
كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم
42

وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (154)
قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة) قال ابن قتيبة: الأمنة: الأمن. يقال:
وقعت الأمنة في الأرض. وقال الزجاج: معنى الآية: أعقبكم بما نالكم من الرعب أن أمنكم أمنا
تنامون معه، لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام. و " نعاسا " منصوب على البدل من " أمنة "، يقال:
نعس الرجل ينعس نعاسا، فهو ناعس. وبعضهم يقول: نعسان. قال الفراء: قد سمعتها، ولكني لا
أشتهيها. قال العلماء: النعاس: أخف النوم. وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان:
أحدهما: أنه أمنهم بعد خوفهم حتى ناموا، فالمنة بزوال الخوف، لأن الخائف لا ينام.
والثاني: قواهم بالاستراحة على القتال.
قوله تعالى: (يغشى طائفة منكم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر:
" يغشى " بالياء مع التفخيم، وهو يعود إلى النعاس. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف " تغشى " بالتاء
مع الإمالة، وهو يرجع إلى الأمنة. فأما الطائفة التي غشيها النوم، فهم المؤمنون، والطائفة الذين
أهمتهم أنفسهم: المنافقون، أهمهم خلاص أنفسهم، فذهب النوم عنهم. قال أبو طلحة: كان
السيف يسقط من يدي، ثم آخذه، ثم يسقط، وآخذه من النعاس. وجعلت أنظر، وما منهم أحد
يومئذ إلا يميد تحت حجفته من النعاس. وقال الزبير: ارسل الله علينا النوم، فما منا رجل إلا
ذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير: (لو كان لنا من الأمر شئ ما
قتلنا هاهنا)، فحفظتها منه.
قوله تعالى: (يظنون بالله غير الحق) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنهم ظنوا أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنهم كذبوا بالقدر، رواه الضحاك، عن ابن عباس.
والثالث: أنهم ظنوا أن محمدا قد قتل، قاله مقاتل.
والرابع: ظنوا أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم مضمحل، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (ظن الجاهلية) قال ابن عباس: أي: كظن الجاهلية.
قوله تعالى: (يقولون هل لنا من الأمر من شئ) لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه: الجحد،
43

تقديره: ما لنا من الأمر من شئ. قال الحسن: قالوا: لو كان الأمر إلينا ما خرجنا، وإنما أخرجنا
كرها. وقال غيره: المراد بالأمر: النصر والظفر، والقضاء والقدر (لله). والأكثرون قرأوا (إن
الأمر كله لله) بنصب اللام، وقرأ أبو عمرو برفعها، قال أبو علي: حجة من نصب، أن " كله "
بمنزلة " أجمعين " في الإحاطة والعموم، فلو قال: إن الأمر أجمع، لم يكن إلا النصب، و " كله "
بمنزلة " أجمعين " ومن رفع، فلأنه قد ابتدأ به، كما ابتدأ بقوله [تعالى]: (وكلهم آتية).
قوله تعالى: (يخفون في أنفسهم) في الذي أخفوه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه قولهم: (لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا).
والثاني: أنه إسرارهم الكفر، والشك في أمر الله.
والثالث: الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد.
قال أبو سليمان الدمشقي: والذي قال: (هل لنا من الأمر من شئ) عبد الله ابن أبي.
والذي قال: (لو كان لنا من الأمر من شئ) معتب بن قشير.
قوله تعالى: (قل لو كنتم في بيوتكم) أي: لو تخلفتم، لخرج منكم من كتب عليه القتل،
ولم ينجه القعود. والمضاجع: المصارع بالقتل. قال الزجاج: ومعنى (برزوا): صاروا إلى براز،
وهو المكان المنكشف. ومعنى (وليبتلي الله ما في صدوركم) أي: ليختبره بأعمالكم، لأنه قد
علمه غيبا، فيعلمه شهادة.
قوله تعالى: (وليمحص الله ما في قلوبكم) قال قتادة: أراد ليظهرها من الشك والارتياب، بما
يريكم من عجائب صنعه من الأمنة، وإظهار سرائر المنافقين. وهذا التمحيص خاص للمؤمنين.
وقال غيره: أراد بالتمحيص: إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله، ولرسوله، وللمؤمنين، فهو خطاب
للمنافقين.
قوله تعالى: (والله عليم بذات الصدور) أي: بما فيها. وقال ابن الأنباري: معناه: عليم
بحقيقة ما في الصدور من المضمرات، فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة، كما تقول العرب: لقيته ذات
يوم. فيؤنثون لأن مقصدهم: لقيته مرة في يوم.
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا
الله عنهم إن الله غفور حليم (155)
44

قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) الخطاب للمؤمنين، وتوليهم:
فرارهم من العدو. والجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين، وذلك يوم أحد. واستزلهم.
طلب زللهم، قال ابن قتيبة: هو كما تقول: استعجلت فلانا، أي: طلبت عجلته، واستعملته:
طلبت عمله. والذي كسبوا: يريد به الذنوب. وفي سبب فرارهم يؤمئذ قولان:
أحدها: أنهم سمعوا أن النبي [صلى الله عليه وسلم: قد قتل، فترخصوا في الفرار، قاله ابن عباس في
آخرين.
والثاني: أن الشيطان أذكرهم خطاياهم، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها، قاله الزجاج.
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا
غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت
والله بما تعملون بصير (156)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا) أي: كالمنافقين الذين قالوا
لإخوانهم في النفاق، وقيل: إخوانهم في النسب. قال الزجاج: وإنما قال: " إذا ضربوا " ولم يقل:
إذ ضربوا، لأنه يريد: شأنهم هذا أبدا، تقول: فلان إذا حدث صدق، وإذا ضرب صبر. و " إذا "
لما يستقبل، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى. قال المفسرون:
ومعنى (ضربوا في الأرض): ماتوا، أو غزوا، فقتلوا.
قوله تعالى: (ليجعل الله ذلك) قال ابن عباس: ليجعل الله ما ظنوا من أنهم لو كانوا
عندهم، سلموا، (حسرة في قلوبهم) أي: حزنا. قال ابن فارس: الحسرة: التلهف على الشئ
الفائت.
قوله تعالى: (والله يحيي ويميت) أي: ليس تحرز الانسان يمنعه من أجله.
قوله تعالى: (والله بما تعملون بصير) قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: يعملون بالياء،
45

وقرأ الباقون بالتاء. قال أبو علي: حجة من قرأ بالياء أن قبلها غيبة، وهو قوله عز وجل: (وقالوا
لإخوانهم)، ومن قرأ بالتاء، فحجته (لا تكونوا كالذين كفروا).
ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (157)
قوله تعالى: (ولئن قتلتم) اللام في " لئن " لام القسم، تقديره: والله لئن قتلتم في الجهاد
(أو متم) في إقامتكم. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: " مت "
و " متم " و " متنا " برفع الميم في جميع القرآن، وروى حفص عن عاصم: أو متم) (ولئن
متم) برفع الميم في هذين دون باقي القرآن. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي كل ما في القرآن
بالكسر.
قوله تعالى: (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) أي: من أعراض الدنيا التي
تتركون الجهاد لجمعها. وقرأ حفص عن عاصم: يجمعون بالياء، ومعناه: خير مما يجمع غيركم مما
تركوا الجهاد لجمعه. قال ابن عباس: خير مما يجمع المنافقون في الدنيا.
ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون (158)
قوله تعالى: (ولئن متم) أي: في إقامتكم. (أو قتلتم) في جهادكم. (لإلى الله
تحشرون) وهذا تخويف من القيامة. والحشر: الجمع مع سوق.
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم
واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159)
قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم) قال الفراء وابن قتيبة، والزجاج " ما " هاهنا
صلة، ومثله: (فبما نقضهم ميثاقهم) قال ابن الأنباري: دخول " ما " هاهنا يحدث توكيدا.
قال النابغة:
المرء يهوى أن يعي * ش وطول عيش قد يضره
فأكد بذكر " ما " وفيمن تتعلق به هذه الرحمة قولان:
أحدهما: أنها تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: بالمؤمنين.
46

قال قتادة: ومعنى (لنت لهم) لأن جانبك، وحسن خلقك، وكثر احتمالك. قال
الزجاج: والفظ: الغليظ الجانب، السئ الخلق، يقال: فظظت تفظ فظاظة وفظظا، والفظ: ماء
الكرش والفرث، وإنما سمي فظا لغلظ مشربه. فأما الغليظ القلب، فقيل: هو القاسي القلب،
فيكون ذكر الفظاظة والغلظ - وإن كانا بمعنى واحد - توكيدا. وقال ابن عباس: الفظ: في القول،
والغليظ القلب: في الفعل.
قوله تعالى: (لانفضوا) أي: تفرقوا. وتقول: فضضت عن الكتاب ختمه: إذا فرقته عنه.
(فاعف عنهم) أي: تجاوز عن هفواتهم، وسل الله المغفرة لذنوبهم (وشاورهم في الأمر)
معناه: استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم. ويقال: إنه من: شرت العسل.
وأنشدوا:
وقاسمها بالله حقا لأنتم * ألذ من الشكوى إذا ما نشورها
قال الزجاج: يقال: شاورت الرجل مشاورة وشورا، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة.
وبعضهم يقول: المشورة. ويقال: فلان حسن الصورة والشورة، أي: حسن الهيئة واللباس. ومعنى
قولهم: شاورت فلانا، أظهرت ما عنده وما عندي. وشرت الدابة: إذا امتحنتها، فعرفت هيئتها في
سيرها. وشرت العسل: إذا أخذته من مواضع النحل. وعسل مشار. قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبيل * باتا بفيها وأريا مشارا
والأري: العسل. واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل
الرأي، تام التدبير، على ثلاثة أقوال:
أحدها: ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن، وسفيان بن عيينة.
والثاني: لتطيب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق، ومقاتل. قال الشافعي
رضي الله عنه: نظير هذا قوله عليه السلام: " البكر تستأمر في نفسها "، إنما أراد استطابة
نفسها، فإنها لو كرهت، كان للأب أن يزوجها، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين
أمر بذبحه.
والثالث: للإعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضحاك. ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا
لم ينجح أمره، علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ومنها أنه قد يعزم على أمر، فيبين
له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح. قال علي عليه السلام:
الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم. وقال
47

بعض الحكماء: ما استنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا حصنت النعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت
البغضاء بمثل الكبر. واعلم أنه إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي، وعمهم
بالذكر، والمقصود أرباب الفضل والتجارب منهم. وفي الذي أمر بمشاورتهم فيه قولان: حكاهما
القاضي أبو يعلى.
أحدهما: أنه أمر الدنيا خاصة.
والثاني: أمر الدين والدنيا، وهو أصح.
وقد قرأ ابن مسعود، وابن عباس " وشاورهم في بعض الأمر ".
قوله تعالى: (فإذا عزمت) قال ابن فارس: العزم: عقد القلب على الشئ ويريد أن
يفعله. وقد قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وعكرمة، والجحدري: (فإذا عزمت) بضم
التاء. فأما التوكل، فقد سبق شرحه.
ومعنى الكلام: فإذا عزمت على فعل شئ، فتوكل على الله، لا على المشاورة.
إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده
وعلى الله فليتوكل المؤمنون (160)
قوله تعالى: (إن ينصركم الله) قال ابن فارس: النصر: العون، والخذلان: ترك العون.
وقيل: الكناية في قوله تعالى (من بعده) تعود إلى خذلانه.
وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت
وهم لا يظلمون (161)
قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل) في سبب نزولها سبعة أقوال:
أحدها: أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر، فقال ناس: لعل النبي [صلى الله عليه وسلم] أخذها، فنزلت
هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: أن رجلا غل من غنائم هوازن يوم حنين، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن
عباس.
48

والثالث: أن قوما من أشراف الناس طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصهم بشئ من الغنائم،
فنزلت هذه الآية، نقل عن ابن عباس أيضا.
والرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث طلائعا، فغنم النبي [صلى الله عليه وسلم] غنيمة، ولم يقسم للطلائع، فقالوا
قسم الفئ ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك.
والخامس: أن قوما غلوا يوم بدر، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والسادس: أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أحد طلبا للغنيمة، وقالوا: نخاف أن يقول
النبي [صلى الله عليه وسلم]: " من أخذ شيئا، فهو له " فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا؟!
أظننتم أنا نغل؟! " فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب، ومقاتل.
والسابع: أنها نزلت في غلول الوحي، قاله القرظي، وابن إسحاق.
وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتهم، فسألوه أن
يطوي ذلك، فنزلت هذه الآية.
واختلف القراء في " يغل " فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: بفتح الياء وضم الغين،
ومعناها: يخون. وفي هذه الخيانة قولان:
أحدهما: خيانة المال على قول الأكثرين.
والثاني: خيانة الوحي على قول القرظي، وابن إسحاق، وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح
الغين، ولها وجهان:
أحدهما: أن يكون المعنى يخان، قاله الحسن، وابن قتيبة.
والثاني: يخون، قاله الفراء، وأجازه الزجاج، ورده ابن قتيبة، فقال: لو أراد: يخون، لقال:
يغلل، كما يقال: يفسق.
وقيل: " اللام " في قوله " لنبي " منقولة، ومعنى الآية: وما كان النبي ليغل، ومثله: (ما كان
لله أن يتخذ من ولد)، أي: ما كان الله ليتخذ ولدا.
وهذه الآية من ألطف التعريض، إذ قد ثبتت براءة ساحة النبي صلى الله عليه وسلم، من الغلول فدل على أن
49

الغلول في غيره. ومثله: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) وقد ذكر عن السدي نحو
هذا.
قوله تعالى: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) الغلول: أخذ شئ من المغنم خفية،
ومنه الغلالة، وهي ثوب يلبس تحت الثياب، والغلل: وهو الماء الذي يجري بين الشجر، والغل:
وهو الحقد الكامن في الصدر، وأصل الباب الاختفاء وفي إتيانه بما غل ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يأتي بما غله، يحمله، ويدل عليه ما روى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من
حديث أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر الغلول، فعظمه، وعظم أمره، ثم قال: " لا
ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك
لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا
رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على
رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين
أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك
شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله
أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. الرغاء: صوت البعير، والثغاء: صوت الشاة،
والنفس: ما يغل من السبي، والرقاع: الثياب، والصامت: المال.
والقول الثاني: أنه يأتي حاملا إثم ما غل.
والثالث: أنه يرد عوض ما غل من حسناته، والقول الأول أصح لمكان الأثر الصحيح.
أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (162)
قوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله) اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين:
أحدهما: أن معناها: أفمن اتبع رضوان الله، فلم يغل، (كمن باء بسخط من الله) حين
غل؟! هذا قول سعيد بن جبير، والضحاك، والجمهور.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر المسلمين باتباعه يوم أحد، اتبعه المؤمنون، وتخلف جماعة من
المنافقين، فأخبر الله بحال من تبعه، ومن تخلف عنه، هذا قول الزجاج.
50

هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون (163)
قوله تعالى: (هم درجات) قال الزجاج: معناه: هم ذوو درجات. وفي معنى درجات قولان:
أحدهما: أنها درجات الجنة، قاله الحسن.
والثاني: أنها فضائلهم، فبعضها أفضل من بعض، قاله الفراء، وابن قتيبة.
وفيمن عنى بهذا الكلام قولان:
أحدهما: أنهم الذين اتبعوا رضوان الله، والذين باؤوا بسخط من الله، فلمن اتبع رضوانه
الثواب، ولمن باء بسخطه العذاب، هذا قول ابن عباس.
والثاني: أنهم الذين اتبعوا رضوان الله فقط، فإنهم يتفاوتون في المنازل، هذا قول سعيد بن
جبير، وأبي صالح، ومقاتل.
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم
ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164)
قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين) أي: أنعم عليهم. و (أنفسهم): جماعتهم،
وقيل: نسبهم. وقرأ الضحاك، وأبو الجوزاء: (من أنفسهم) بفتح الفاء. وفي وجه الامتنان عليهم
بكونه من أنفسهم أربعة أقوال:
أحدها: لكونه معروف النسب فيهم، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: لكونهم قد خبروا أمره، وعلموا صدقه، قاله الزجاج.
والثالث: ليسهل عليهم التعلم منه، لموافقة لسانه للسانهم، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والرابع: لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم، قاله الماوردي.
وهل هذه الآية خاصة أم عامة؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها خاصة للعرب، روي عن عائشة والجمهور.
والثاني: أنها عامة لسائر المؤمنين، فيكون المعنى أنه ليس بملك، ولا بني آدم، وهذا اختيار
الزجاج. وقد سبق في (البقرة) بيان باقي الآية.
51

أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله
على كل شئ قدير (165)
قوله تعالى: (أو لما أصابتكم مصيبة) قال عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]: لما كان يوم
أحد، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر، من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب النبي
[صلى الله عليه وسلم]، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: (أو لما) قال الزجاج: هذه واو النسق، دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت
مفتوحة على هيئتها قبل دخولها، ومثل ذلك قول القائل: تكلم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب له:
أو هو ممن يقول ذلك؟ فأما " المصيبة " فما أصابهم يوم أحد، وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين
يوم بدر، لأنهم قتل منهم سبعون، فقتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وهذا قول ابن عباس،
والضحاك، وقتادة، والجماعة، إلا أن الزجاج قال: قد أصبتم يوم أحد مثلها، ويو بدر مثلها،
فجعل المثلين في اليومين.
قوله تعالى: (أنى هذا) قال ابن عباس: من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون؟
قوله تعالى: (قل هو من عند أنفسكم) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه: بأخذكم الفداء يوم بدر، قاله عمر بن الخطاب. وقال علي بن أبي طالب
[رضي الله عنه]: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم
الفداء، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل
منهم عدتهم، فذكر ذلك للناس، فقالوا: عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ منهم الفداء، ويستشهد منا
عدتهم، فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر فعلى هذا يكون المعنى: قل هو بأخذكم
الفداء، واختياركم القتل لأنفسكم.
والثاني: أنه جرى ذلك بمعصية الرماة يوم أحد، وتركهم أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قاله ابن
عباس، ومقاتل في آخرين.
والثالث: أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أحد، فإنه أمرهم بالتحصن
فيها، فقالوا: بل نخرج، قاله قتادة، والربيع. قال مقاتل: إن الله على كل شئ من النصر والهزيمة
قدير.
52

وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا
وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر
يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما
يكتمون (167)
قوله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان) الجمعان: النبي وأصحابه، وأبو سفيان
وأصحابه، وذلك في يوم أحد، وقد سبق ذكر ما أصابهم.
قوله تعالى: (فبإذن الله) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أمره.
والثاني: قضاؤه، رويا عن ابن عباس.
والثالث: علمه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (وليعلم المؤمنين) أي: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويظهر
نفاق المنافقين بفشلهم وقلة صبرهم. قال ابن قتيبة: والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو جحر من
جحرته يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه. قال ابن قتيبة: قال الزيادي عن الأصمعي:
ولليربوع أربعة أجحرة، النافقاء: وهو الذي يخرج منه كثيرا، ويدخل منه كثيرا. والقاصعاء، هذه سمي
بذلك لأنه يخرج تراب الجحر، ثم يقصع ببعضه كأنه يسد به فم الجحر، ومنه يقال: جرح فلان قد
قصع بالدم: إذا امتلأ ولم يسل. والداماء، سمي بذلك، لأنه يخرج التراب من فم الجحر، ثم يدم
به فم الجحر، كأنه يطليه، ومنه يقال: ادمم قدرك بشحم، أي اطلها به. والراهطاء، ولم يذكر
اشتقاقه، وإنما يتخذ هذه الجحر عددا، فإذا أخذ عليه بعضها، خرج من بعض. قال أبو زيد: فشبه
المنافق به، لأنه يدخل في الإسلام بلفظه، ويخرج منه بعقدة، كما يدخل اليربوع من باب ويخرج
من باب. قال ابن قتيبة: والنفاق: لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام. قال ابن
عباس: والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبي، وأصحابه. قال موسى بن عقبة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم
أحد، ومعه المسلمون، وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فرجع عنه ابن أبي في ثلاثمئة.
فأما القتال، فمباشرة الحرب. وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه التكثير بالعدد. رواه مجاهد عن ابن عباس وهو قول الحسن، وعكرمة،
53

والضحاك، والسدي، وابن جريج في آخرين.
والثاني: أن معناه: ادفعوا عن أنفسكم وحريمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول
مقاتل.
والثالث: أنه بمعنى القتال أيضا. قاله ابن زيد.
قوله تعالى: (لو نعلم قتالا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه: لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما أسلمناكم، ذكره ابن إسحاق.
والثاني: لو كنا نحسن القتال لاتبعناكم.
والثالث: إنما معناه: أن هناك قتلا وليس بقتال، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: (هم للكفر) أي: إلى الكفر (أقرب منهم للايمان) أي: إلى الإيمان، وإنما
قال: يومئذ، لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا، فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى
الإيمان.
قوله تعالى: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) فيه وجهان ذكرهما الماوردي:
أحدهما: ينطقون بالإيمان، وليس في قلوبهم إلا الكفر.
والثاني: يقولون: نحن أنصار، وهم أعداء. وذكر في الذي يكتمون وجهين:
أحدهما: أنه النفاق.
والثاني: العداوة.
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم
صادقين (168)
قوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم) قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أبي. وفي
إخوانهم قولان:
أحدهما: أنهم إخوانهم في النفاق، قاله ابن عباس.
والثاني: إخوانهم في النسب، قاله مقاتل. فعلى الأول يكون المعنى: قالوا لإخوانهم
المنافقين: لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمد ما قتلوا، وعلى الثاني يكون المعنى: قالوا عن إخوانهم
الذين استشهدوا بأحد: لو أطاعونا ما قتلوا.
54

قوله تعالى: (وقعدوا) يعني القائلين قعدوا عن الجهاد.
قوله تعالى: (فادرؤوا) أي: فادفعوا (عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) أن الحذر
ينفع مع القدر.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169)
قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) قرأ ابن عامر: قتلوا بالتشديد.
واختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في شهداء أحد، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لما أصيب
إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها،
وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن
مقيلهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، قال الله تعالى: أنا
أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية " وهذا قول سعيد بن جبير، وأبي الضحى.
والثاني: أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة الله عز وجل وقالوا: ربنا أعلم
إخواننا، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول مقاتل.
والثالث: أنها نزلت في شهداء بئر معونة. روى محمد بن إسحاق عن أشياخ له، أن
النبي صلى الله عليه وسلم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلا من خيار المسلمين إلى أهل نجد، فلما نزلوا بئر
معونة، خرج حزام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فلم ينظر فيه عامر،
وخرج رجل من كسر البيت برمح، فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله
أكبر، فزت ورب الكعبة، وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم، قال أنس بن مالك: فأنزل الله تعالى
فيهم: " بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه " ثم رفعت، فنزلت هذه الآية:
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا).
فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت، واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم، وقد ذكرناه عن
ابن عباس.
55

والثاني: أن رجلا قال: يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا، فنزلت، قاله مقاتل.
والثالث: أن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور، تحسروا، وقالوا نحن في النعمة
والسرور، وآباؤنا، وأبناؤنا، وإخواننا، في القبور، فنزلت هذه الآية، ذكره علي بن أحمد
النيسابوري.
فأما التفسير، فمعنى الآية: لا تحسبنهم أمواتا كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله، وقد
بينا هذا المعنى في (البقرة) وذكرنا أن معنى حياتهم: أن أرواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار
الجنة، وتشرب من أنهارها. قال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة.
فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا
خوف عليهم ولا هم يحزنون (170)
قوله تعالى: (فرحين) قال ابن قتيبة: الفرح: المسرة، فأما الذي آتاهم الله، فما نالوا من
كرامة الله ورزقه، والاستبشار: السرور بالبشارة (للذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) إخوانهم من
المسلمين. وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى ما أخبر بكرامة الشهداء، أخبر الشهداء بأني قد أنزلت على نبيكم،
وأخبرته بأمركم، فاستبشروا، وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: يستبشرون بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة، يقولون: إن قتلوا نالوا ما نلنا من
الفضل، قاله قتادة.
والثالث: أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه وأهله، وفيه يقدم عليك
فلان يوم كذا وكذا، فيستبشر بقدومه، كما يستبشر أهل الغائب به، هذا قول السدي. " والهاء "
و " الميم " في قوله تعالى: (أن لا خوف عليهم) تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم. قال الفراء:
معناه: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم، ولا حزن. وفي ماذا يرتفع " الخوف " و " الحزن "
عنهم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم، ولا يحزنون على ما خلفوا من أموالهم.
والثاني: لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه، ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة.
يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171)
56

قوله تعالى: (يستبشرون بنعمة من الله وفضل) قال مقاتل: برحمة ورزق.
قوله تعالى: (وأن الله) قرأ الجمهور بالفتح على معنى: ويستبشرون بأن الله، وقرأ
الكسائي بالكسر على الاستئناف.
الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر
عظيم (172)
قوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن المشركين لما انصرفوا يوم أحد، ندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لاتباعهم، ثم خرج
بمن انتدب معه، فلقي أبو سفيان قوما، فقال: إن لقيتم محمدا، فأخبروه أني في جمع كثير، فلقيهم
النبي [صلى الله عليه وسلم] فسألهم عنه؟ فقالوا: لقيناه في جمع كثير، ونراك في قلة، فأبى إلا أن يطلبه، فسبقه
أبو سفيان، فدخل مكة، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، والجمهور.
والثاني: أن أبا سفيان لما أراد الانصراف عن أحد، قال يا محمد، موعد بيننا وبينك موسم
بدر، فلما كان العام المقبل، خرج أبو سفيان، ثم ألقى الله في قلبه الرعب، فبدا له الرجوع، فلقي
نعيم بن مسعود، فقال: إني قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى، وهذا عام
جدب، لا يصلح لنا، فثبطهم عنا، وأعلمهم أنا في جمع كثير، فلقيهم فخوفهم، فقالوا: حسبنا الله
ونعم الوكيل، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان، فنزل قوله: (الذين
استجابوا لله والرسول) الآيات. وهذا المعنى مروي عن مجاهد، وعكرمة. والاستجابة:
الإجابة. وأنشدوا:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي: فلم يجبه.
وفي المراد النبي صلى الله عليه وسلم وخروجه وندب الناس إلى الخروج ثلاثة أقوال:
أحدها: ليرهب العدو باتباعهم.
والثاني: لموعد أبي سفيان.
57

والثالث: لأنه بلغه عن القوم أنهم قالوا: أصبتم شوكتهم، ثم تركتموهم. وقد سبق الكلام
في القرح.
قوله تعالى: (للذين أحسنوا منهم) أي: أحسنوا بطاعة الرسول، واتقوا مخالفته
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم
الوكيل (173)
قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس) في المراد بالناس ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم ركب لقيهم أبو سفيان، فضمن لهم ضمانا لتخويف النبي [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه،
قاله ابن عباس، وابن إسحاق.
والثاني: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي، قاله مجاهد، وعكرمة، ومقاتل في آخرين.
والثالث: أنهم المنافقون، لما رأوا النبي [صلى الله عليه وسلم] يتجهز، نهوا المسلمين عن الخروج، وقالوا:
إن أتيتموهم في ديارهم، لم يرجع منكم أحد، هذا قول السدي.
قوله تعالى: (إن الناس قد جمعوا لكم) يعني أبا سفيان وأصحابه.
قوله تعالى: (فزادهم إيمانا) قال الزجاج: زادهم ذلك التخويف ثبوتا في دينهم، وإقامة
على نصرة نبيهم، وقالوا: (حسبنا الله) أي: هو الذي يكفينا أمرهم. فأما " الوكيل "، فقال
الفراء: الوكيل: الكافي، واختاره ابن القاسم. وقال ابن قتيبة: هو الكفيل، قال: ووكيل الرجل في
ماله: هو الذي كفله له، وقام به. وقال الخطابي: الوكيل: الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم،
وحقيقته: أنه الذي يستقل بالأمر الموكول إليه. وحكى ابن الأنباري: أن قوما قالوا: الوكيل: الرب.
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل
عظيم (174)
قوله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله) الانقلاب: الرجوع. وفي النعمة، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الأجر، قاله مجاهد.
والثاني: العافية، قاله السدي.
والثالث: الإيمان والنصر، قاله الزجاج. وفي الفضل، ثلاثة أقوال:
58

أحدها: ربح التجارة، قاله مجاهد، والسدي، وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي
سفيان. قال الزهري: لما استنفر النبي [صلى الله عليه وسلم] المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر، خرجوا ببضائع
لهم، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان، فهو الذي خرجنا إليه، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا، وكانت بدر
متجرا يوافي كل عام، فانطلقوا فقضوا حوائجهم، وأخلف أبو سفيان الموعد.
والثاني: أنهم أصابوا سرية بالصفراء، فرزقوا منها، قاله مقاتل.
والثالث: أنه الثواب، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (لم يمسسهم سوء) قال ابن عباس: لم يؤذهم أحد. (واتبعوا رضوان الله)
في طلب القوم. (والله ذو فضل) أي: ذو من بدفع المشركين عن المؤمنين.
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175)
قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان) قال الزجاج: معناه: ذلك التخويف كان فعل الشيطان،
سوله للمخوفين.
وفي قوله تعالى: (يخوف أولياءه) قولان:
أحدهما: أن معناه: يخوفكم بأوليائه، قاله الفراء، واستدل بقوله تعالى: (لينذر بأسا
شديدا). أي: ببأس، وبقوله تعالى: (لينذر يوم التلاق) أي: بيوم التلاق. وقال الزجاج:
معناه: يخوفكم من أوليائه، بدليل قوله [تعالى]: (فلا تخافوهم).
وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وإبراهيم، وابن قتيبة.
وأنشد ابن الأنباري في ذلك:
وأيقنت التفرق يوم قالوا * تقسم مال أربد بالسهام
أراد: أيقنت بالتفرق. قال: فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه. قال: والذي
نختاره في الآية: أن المعنى: يخوفكم أولياءه. تقول العرب: قد أعطيت الأموال، يريدون: أعطيت
القوم الأموال، فيحذفون القوم، ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني. فهذا أشبه من ادعاء " باء " ما
عليها دليل، ولا تدعوا إليها ضرورة.
والثاني: أن معناه: يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين، قاله الحسن
والسدي، وذكره الزجاج.
قوله تعالى: (فلا تخافوهم) يعني: أولياء الشيطان (وخافون) في ترك أمري. وفي
59

إن قولان:
أحدهما: أنها بمعنى: " إذ " قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أنها للشرط، وهو قول الزجاج في آخرين.
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل
لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم (176)
قوله تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) قرأ نافع ى " حزنك " " ليحزنني "
و " ليحزن " ولم بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن، إلا في (الأنبياء) (لا يحزنهم الفزع)، فإنه
فتح الياء، وضم الزاي. وقرأ الباقون كل ما في القرآن بفتح الياء وضم الزاي. قال أبو علي: يشبه
أن يكون نافع تبع في سورة (الأنبياء) أثرا، أو أحب أن يأخذ بالوجهين. وفي الذين يسارعون في
الكفر أربعة أقوال:
أحدها: أنهم المنافقون، ورؤساء اليهود، قاله ابن عباس.
والثاني: المنافقون، قاله مجاهد.
والثالث: كفار قريش، قاله الضحاك.
والرابع: قوم ارتدوا عن الإسلام، ذكره الماوردي.
وقيل: معنى مسارعتهم في الكفر: مظاهرتهم للكفار، ونصرهم إياهم. فإن قيل: كيف لا
يحزنه المسارعة في الكفر؟ فالجواب: لا يحزنك فعلهم، فإنك منصور عليهم.
قوله تعالى: (إنهم لن يضروا الله شيئا) فيه قولان:
أحدهما: لن ينقصوا الله شيئا بكفرهم، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: لن يضروا أولياء الله شيئا، قاله عطاء. قال ابن عباس: والحظ: النصيب، والآخرة:
الجنة. (ولهم عذاب عظيم) في النار.
إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم (177)
قوله تعالى: (إن الذين اشتروا الكفر بالايمان) قال مجاهد: المنافقون آمنوا ثم كفروا، وقد
سبق في (البقرة) معنى الاشتراء.
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم
60

عذاب مهين (178)
قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم) اختلفوا فيمن نزلت
على أربعة أقوال:
أحدها: في اليهود والنصارى والمنافقين، قاله ابن عباس.
والثاني: في قريظة والنضير، قاله عطاء.
والثالث: في مشركي مكة، قاله مقاتل.
والرابع: في كل كافر، قاله أبو سليمان الدمشقي.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، (ولا يحسبن الذين يبخلون) (ولا يحسبن الذين
يفرحون) بالياء وكسر السين، ووافقهم ابن عامر غير أنه فتح السين، وقرأ حمزة بالتاء، وقرأ عاصم
والكسائي كل ما في هذه السورة بالتاء غير حرفين (ولا يحسبن الذين كفروا) (ولا يحسبن الذين
يبخلون) فإنهما بالياء، إلا أن عاصما فتح السين، وكسرها الكسائي، ولم يختلفوا في (ولا
تحسبن الذين قتلوا) أنها بالتاء. (ونملي لهم): أي: نطيل لهم في العمر، ومثله: (واهجرني
مليا) قال ابن الأنباري: واشتقاق " نملي لهم " من الملوة، وهي المدة من الزمان، يقال: ملوة من
الدهر، وملوة، وملوة، وملاوة، وملاوة، وملاوة، بمعنى، ومنه قولهم وتمل حبيبا، أي: لتطل
أيامك معه.
قال متمم بن نويرة:
بودي لو أني تمليت عمره * بمالي من مال طريف وتالد
وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله
ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله
وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم (179)
قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه) في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أن قريشا قالت: تزعم يا محمد أن من اتبعك، فهو في الجنة، ومن خالفك فهو في
النار؟! فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
61

والثاني: أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق، فنزلت هذه
الآية، هذا قول أبى العالية.
والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عرضت علي أمتي، وأعلمت من يؤمن بي، ومن يكفر، فبلغ
ذلك المنافقين، فاستهزؤوا، وقالوا: فنحن معه ولا يعرفنا، فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي.
والرابع: أن اليهود، قالت: يا محمد قد كنتم راضين بديننا، فكيف بكم لو مات بعضكم قبل
نزول كتابكم؟! فنزلت هذه الآية. هذا قول عمر مولى غفرة.
والخامس: أن قوما من المنافقين ادعوا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين، فأظهر الله نفاقهم يوم
أحد، وأنزل هذه الآية، هذا قول أبي سليمان الدمشقي.
وفي المخاطب بهذه الآية قولان:
أحدهما: أنهم الكفار، والمنافقون، وهو قول ابن عباس، والضحاك.
والثاني: أنهم المؤمنون، فيكون المعنى: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس
المؤمن بالمنافق. قال الثعلبي: وهذا قول أكثر أهل المعاني.
قوله تعالى: (حتى يميز الخبيث من الطيب) قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، وابن عامر
(حتى يميز) و (ليميز الله الخبيث) بفتح الياء والتخفيف. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف،
ويعقوب: " يميز " بالتشديد، وكذلك في الأنفال: (ليميز الله الخبيث).
قال أبو علي: مزت وميزت لغتان. قال ابن قتيبة: ومعنى يميز: يخلص. فأما الطيب، فهو
المؤمن. وفي الخبيث قولان:
أحدهما: أنه المنافق، قاله مجاهد، وابن جريج.
والثاني: الكافر، قاله قتادة، والسدي. وفي الذي وقع به التمييز بينهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الهجرة والقتال، قاله قتادة، وهو قول من قال: الخبيث: الكافر.
والثاني: أنه الجهاد، وهو قول من قال: هو المنافق. قال مجاهد: فميز الله يوم أحد بين
المؤمنين والمنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلفوا.
والثالث: أنه جميع الفرائض والتكاليف. فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار، فإذا جاءت
62

التكاليف بان أمره، هذا قول ابن كيسان.
وفي المخاطب بقوله [تعالى]: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) قولان:
أحدهما: أنهم كفار قريش، فمعناه: ما كان الله ليبين لكم المؤمن من الكافر، لأنهم طلبوا
ذلك، فقالوا: أخبرنا بمن يؤمن ومن لا يؤمن، هذا قول ابن عباس.
والثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فمعناه: وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب، قاله السدي.
" ويجتبي " بمعنى يختار، قاله الزجاج وغيره. فمعنى الكلام على القول الأول: أن الله لا يطلع على
الغيب أحدا إلا الأنبياء الذين اجتباهم، وعلى القول الثاني: أن الله لا يطلع على الغيب أحدا إلا أنه
يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء.
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم
سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون
خبير (180)
قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله) اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم، وهو قول ابن مسعود وأبي
هريرة، وابن عباس في رواية أبي صالح، والشعبي، ومجاهد، وفي رواية السدي في آخرين.
والثاني: أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ونبوته، رواه عطية عن ابن عباس، وابن
جريج عن مجاهد، واختاره الزجاج.
قال الفراء: ومعنى الكلام: لا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم، فاكتفى بذكر " يبخلون "
من البخل، كما تقول: قدم فلان، فسررت به، أي: سررت بقدومه.
قال الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه * وخالف والسفيه إلى خلاف
ويدخلون إلى السفه. والذي آتاهم الله على قول من قال: البخل بالزكاة: هو المال، وعلى
قول من قال: البخل بذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم هو العلم.
قوله تعالى: (هو) إشارة إلى البخل وليس مذكورا، ولكنه مدلول عليه ب‍ " يبخلون " وفي
معنى تطويقهم به أربعة أقوال:
63

أحدها: أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان، روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من
رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع يفر منه، وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه "
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) وهذا مذهب ابن مسعود، ومقاتل.
والثاني: أنه يجعل طوقا من نار، رواه منصور عن مجاهد، وإبراهيم.
والثالث: أن معنى تطويقهم به: تكليفهم أن يأتوا به، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
والرابع: أن معناه: يلزم أعناقهم إثمه، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: (ولله ميراث السماوات والأرض) قال ابن عباس: يموت أهل السماوات وأهل
الأرض، ويبقى رب العالمين، قال الزجاج: خوطب القوم بما يعقلون، لأنهم يجعلون ما رجع إلى
الإنسان ميراثا إذا كان ملكا له، وقال ابن الأنباري: معنى الميراث: انفراد الرجل بما كان لا ينفرد
به، فلما مات الخلق، وانفرد عز وجل صار ذلك له وراثة.
قوله تعالى: (والله بما تعملون خبير) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " يعملون " بالياء اتباعا لقوله
تعالى: (سيطوقون) وقرأ الباقون بالتاء، لأن قبله (وإن تؤمنوا وتتقوا).
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم
الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181)
قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن أبا بكر الصديق [رضي الله عنه] دخل بيت مدراس اليهود، فوجدهم قد
اجتمعوا على رجل منهم، اسمه فنحاص، فقال له أبو بكر: اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن
محمدا رسول الله. فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيا عنا ما
استقرضنا فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والله لولا العهد الذي بيننا
لضربت عنقك. فذهب فنحاص يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أبو بكر بما قال، فجحد فنحاص،
فنزلت هذه الآية، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) هذا قول ابن عباس وإلى نحوه ذهب مجاهد، وعكرمة
والسدي، ومقاتل.
64

والثاني: أنه لما نزل قوله تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضا) قالت اليهود: إنما يستقرض
الفقير من الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، وقتادة.
وفي الذين قالوا: إن الله فقير، أربعة أقوال:
أحدها: أنه فنحاص بن عازوراء اليهودي، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: حيي بن أخطب، قاله الحسن وقتادة.
والثالث: أن جماعة من اليهود قالوه. قال مجاهد: صك أبو بكر رجلا من الذين قالوا: (إن
الله فقير ونحن أغنياء) لم يستقرضنا وهو غني؟!
والرابع: أنه النباش بن عمرو اليهودي، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: (سنكتب ما قالوا) قرأ حمزة وحده: " سيكتب " بياء مضمومة و (قتلهم) بالرفع
و " يقول " بالياء، وقرأ الباقون: (سنكتب ما قالوا) بالنون، و (قتلهم) بالنصب و " نقول " بالنون،
وقرأ ابن مسعود " ويقال " وقرأ الأعمش وطلحة: و " يقول ".
وفي معنى (سنكتب ما قالوا) قولان:
أحدهما: سنحفظ عليهم ما قالوا، قاله ابن عباس.
والثاني: سنأمر الحفظة بكتابته، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (وقتلهم الأنبياء) أي: ونكتب ذلك. فإن قيل: هذا القائل لم يقتل نبيا قط،
فالجواب أنه رضي بفعل متقدميه لذلك، كما بينا في قوله تعالى: (ويقتلون النبيين بغير الحق).
قال الزجاج: ومعنى (عذاب الحريق) عذاب محرق، أي: عذاب بالنار، لأن العذاب قد يكون
بغير النار.
ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182)
قوله تعالى: (ذلك) إشارة إلى العذاب، والذي قدمت أيديهم: الكفر والخطايا..
الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد
جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183)
قوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا) قال ابن عباس: نزلت في كعب بن الأشرف،
ومالك بن الضيف، وحيي بن أخطب، وجماعة من اليهود، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الله عهد
65

إلينا، أي: أمرنا في التوراة: أن لا نؤمن لرسول، أي: لا نصدق رسولا يزعم أنه رسول، حتى يأتينا
بقربان تأكله النار. قال ابن قتيبة: والقربان: ما تقرب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره. وإنما
طلبوا القربان، لأنه لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدمين، وكان نزول النار علامة القبول. قال ابن عباس:
كان الرجل يتصدق، فإذا قبلت منه، نزلت نار من السماء، فأكلته، وكانت نارا لها دوي، وحفيف.
وقال عطاء: كان بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون أطايب اللحم، فيضعونها في وسط البيت تحت
السماء، فيقوم النبي في البيت، ويناجي ربه، فتنزل نار، فتأخذ ذلك القربان، فيخر النبي ساجدا،
فيوحي الله إليه ما يشاء. قال ابن عباس: قل يا محمد لليهود (قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات)
أي: بالآيات، (وبالذي) سألتم من القربان.
فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير (184)
قوله تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك) معناه: لست بأول رسول كذب. قال أبو
علي: وقرأ ابن عامر وحده " بالبينات والزبر " بزيادة باء، وكذلك في مصاحف أهل الشام، ووجهه
أن إعادة الباء ضرب من التأكيد، ووجه قراءة الجمهور أن الواو قد أغنت عن تكرير العامل، تقول:
مررت بزيد وعمرو، فتستغني عن تكرير الباء.
قوله تعالى: (والكتاب المنير) قال أبو سليمان: يعني به الكتب النيرة بالبراهين والحجج.
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن
النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (185)
قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى (قل يتوفاكم
ملك الموت الذي وكل بكم) قالوا: يا رسول الله إنما نزل في بني آدم، فأين ذكر الموت في الجن.
والطير، والأنعام، فنزلت هذه الآية. وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير، وتزهيد في الدنيا
وتنبيه على اغتنام الأجل.
وفي قوله تعالى: (إنما توفون أجوركم يوم القيامة) بشارة للمحسنين، وتهديد للمسيئين.
قوله تعالى: (فمن زحزح) قال ابن قتيبة: نجي وأبعد. (فقد فاز) قال الزجاج: تأويل فاز:
تباعد عن المكروه، ولقي ما يحب، يقال لمن نجا من هلكة، ولمن لقي ما يغتبط به: قد فاز.
قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) يريد أن العيش فيها يغر الإنسان بما يمنيه من
66

طول البقاء، وسينقطع عن قريب. قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب
الآخرة، فأما من يشتغل بطلب الآخرة، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها.
لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين
أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186)
قوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي، وعبد الله بن رواحة، فغشي المجلس
عجاجة الدابة، فخمر ابن أبي أنفه بردائه، وقال: لا تغبروا علينا، فنزل رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، ثم
دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال ابن أبي: إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذنا
في مجالسنا. وقال ابن رواحة: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله، فإنا نحب ذلك، فاستب
المسلمون، والمشركون، واليهود، فنزلت هذه الآية، رواه عروة عن أسامة بن زيد.
والثاني: أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبي [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه أشد الأذى، فنزلت هذه
الآية، قاله كعب بن مالك الأنصاري.
والثالث: أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق، وبين فنحاص اليهودي، وقد سبق ذكره
عن ابن عباس.
والرابع: أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق، قاله أبو صالح عن ابن عباس. واختاره
مقاتل: وقال عكرمة: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق، وفنحاص اليهودي.
والخامس: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، كان يحرض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه في شعره، وهذا مذهب الزهري.
قال الزجاج: ومعنى (لتبلون) لتختبرن، أي: توقع عليكم المحن، فيعلم المؤمن حقا من
غيره. و " النون " دخلت مؤكدة مع لام القسم، وضمت الواو لسكونها، وسكون النون وفي البلوى
في الأموال قولان:
أحدهما: ذهابها ونقصانها.
والثاني: ما فرض فيها من الحقوق.
67

وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال:
أحدها: المصائب، والقتل.
والثاني: ما فرض من العبادات.
والثالث: الأمراض.
والرابع: المصيبة بالأقارب، والعشائر.
وقال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم، وباعوا رباعهم، وعذبوهم.
قوله تعالى: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب) قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى،
والذين أشركوا: مشركو العرب (وإن تصبروا) على الأذى (وتتقوا) الله بمجانبة معاصيه.
قوله تعالى: (فإن ذلك من عزم الأمور) أي: ما يعزم عليه، لظهور رشدة.
فصل
والجمهور على إحكام هذه الآية، وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السيف.
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء
ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون (187)
قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) فيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي، ومقاتل. فعلى هذا، الكتاب:
التوراة.
والثاني: أنهم اليهود، والنصارى، والكتاب: التوراة والإنجيل.
والثالث: أنهم جميع العلماء فيكون الكتاب اسم جنس.
قوله تعالى: (لتبيننه).
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب (ليبيننه للناس
ولا يكتمونه) بالياء فيهما، وقرأ الباقون، وحفص عن عاصم بالتاء فيهما. وفي هاء الكناية في
" لتبيننه " و " تكتمونه " قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهذا قول من قال: هم اليهود.
والثاني: أنها ترجع إلى الكتاب، قاله الحسن، وقتادة، وهو أصح، لأن الكتاب أقرب
المذكورين، ولأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول من ذهب إلى أنه عام
في كل كتاب. وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى
68

أخذ على أهل العلم أن يعلموا.
قوله تعالى: (فنبذوه) قال الزجاج: أي: رموا به يقال للذي يطرح الشئ ولا يعبأ به: قد
جعلت هذا الأمر بظهر. قال الفرزدق:
تميم بن قيس لا تكونن حاجتي * بظهر ولا يعيا على جوابها
معناه: لا تكونن حاجتي مهملة عندك، مطرحة. وفي هاء " فنبذوه " قولان:
أحدهما: أنها تعود إلى الميثاق.
والثاني: إلى الكتاب.
قوله تعالى: (واشتروا به) يعني: استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به، ووعدهم عليه الجنة
(ثمنا قليلا) أي: عرضا يسيرا من الدنيا.
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة
من العذاب ولهم عذاب أليم (188)
قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا) وقرأ أهل الكوفة: لا تحسبن بالتاء. وفي
سبب نزولها ثمانية أقوال:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، سأل اليهود عن شئ، فكتموه و، أخبروه بغيره، وأروه أنهم قد أخبروه
به، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أنها نزلت في قوم من اليهود، فرحوا بما يصيبون من الدنيا، وأحبوا أن يقول الناس:
إنهم علماء، وهذا القول والذي قبله عن ابن عباس.
والثالث: أن اليهود قالوا: نحن على دين إبراهيم، وكتموا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية،
قاله سعيد بن جبير.
والرابع: أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في
الأرض كلها: أن محمدا ليس بنبي، فاثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به، ففرحوا
بذلك، وقالوا: نحن أهل الصوم والصلاة، وأولياء الله، فنزلت هذه الآية، هذا قول الضحاك،
والسدي.
والخامس: أن يهود خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقالوا: نحن على رأيكم، ونحن لكم ردء،
69

وهم مستمسكون بضلالتهم، فأرادوا أن يحمدهم نبي الله بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله
قتادة.
والسادس: أن ناسا من اليهود جهزوا جيشا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واتفقوا عليهم، فنزلت هذه الآية،
قاله إبراهيم النخعي.
والسابع: أن قوما من أهل الكتاب دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين
أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها، فحمدوهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، فنزلت هذه الآية، ذكره
الزجاج.
والثامن: أن رجالا من المنافقين كانوا يتخلفون عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قدم، اعتذروا
إليه، وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو سعيد الخدري وهذا
القول يدل على أنها نزلت في المنافقين، وما قبله من الأقوال يدل على أنها في اليهود.
وفي الذي أتوا ثمانية أقوال:
أحدها: أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق.
والثاني: تبديلهم التوراة.
والثالث: إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب.
والرابع: إضلالهم الناس.
والخامس: اجتماعهم على تكذيب النبي.
والسادس: نفاقهم باظهار ما في قلوبهم ضده.
والسابع: اتفاقهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أقوال من قال: هم اليهود.
والثامن: تخلفهم في الغزوات، وهذا قول من قال: هم المنافقون.
وفي قوله تعالى: (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) ستة أقوال:
أحدها: أحبوا أن يحمدوا على إجابة النبي صلى الله عليه وسلم، عن شئ سألهم عنه وما أجابوه.
والثاني: أحبوا أن يقول الناس: إنهم علماء، وليسوا كذلك.
والثالث: أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصيام، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن
عباس.
والرابع: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: نحن على دين إبراهيم، وليسوا عليه، قاله سعيد بن
جبير.
والخامس: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: إنا راضون بما جاء به النبي، وليسوا كذلك، قاله
70

قتادة. وهذه أقوال من قال: هم اليهود.
والسادس: أنهم كانوا يحلفون للمسلمين، إذا نصروا: إنا قد سررنا بنصركم، وليسوا كذلك،
قاله أبو سعيد الخدري، وهو قول من قال: هم المنافقون.
قوله تعالى: (فلا يحسبنهم) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: فلا يحسبنهم، بالياء وضم الباء. وقرأ
نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بالتاء، وفتح الباء. قال الزجاج: إنما كررت
" تحسبنهم " لطول القصة، والعرب تعيد إذا طالت القصة " حسبت " وما أشبهها، إعلاما أن الذي
يجرى متصل بالأول، وتوكيدا له، فتقول: لا تظنن زيدا إذا جاء وكلمك بكذا وكذا، فلا تظننه
صادقا.
قوله تعالى (بمفازة) قال ابن زيد، وابن قتيبة: بمنجاة.
ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شئ قدير (189)
قوله تعالى (ولله ملك السماوات والأرض) فيه تكذيب القائلين: بأنه فقير.
وفي قوله تعالى: (والله على كل شئ قدير) تهديد لهم، أي: لو شئت لعجلت عذابهم.
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190)
قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن قريشا قالوا لليهود: ما الذي جاءكم به موسى؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء. وقالوا
للنصارى: ما الذي جاءكم به عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى. فأتوا
النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فنزلت هذه الآية، رواه ابن جبير عن ابن
عباس.
والثاني: أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أنه لما نزل قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد) قالت قريش: قد سوى بين آلهتنا،
ائتنا بآية، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الضحى، واسمه: مسلم بن صبيح. فأما تفسير الآية فقد سبق.
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (191)
71

قوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا) في هذا الذكر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الذكر في الصلاة، يصلي قائما، فإن لم يستطع، فعلى جنب، هذا قول علي،
وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنه الذكر في الصلاة وغيرها، وهو قول طائفة من المفسرين.
والثالث: أنه الخوف، فالمعنى: يخافون الله قياما في تصرفهم وقعودا في دعتهم، وعلى
جنوبهم في منامهم.
قوله تعالى: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) قال ابن فارس: الفكرة: تردد القلب
في الشئ. قال ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة، والقلب ساه.
قوله تعالى: (ربنا) قال الزجاج: معناه: يقولون: ربنا (ما خلقت هذا باطلا) أي: خلقته
دليلا عليك، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك. ومعنى (سبحانك) براءة لك من السوء، وتنزيها لك
أن تكون خلقتهما باطلا، (فقنا عذاب النار) فقد صدقنا أن لك جنة ونارا.
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار (192)
قوله تعالى: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) قال الزجاج: المخزى في اللغة المذل
المحقور بأمر قد لزمه وبحجة. يقال: أخزيته، أي: ألزمته حجة أذللته معها. وفيمن يتعلق به هذا
الخزي قولان:
أحدهما: أنه يتعلق بمن يدخلها مخلدا، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وقتادة،
وابن جريج، ومقاتل.
والثاني: أنه يتعلق بكل داخل إليها، وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد الله، واختاره ابن
جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: (وما للظالمين من أنصار) قال ابن عباس: وما للمشركين من مانع يمنعهم
عذاب الله تعالى.
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا
وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (193)
قوله تعالى: (ربنا إننا سمعنا مناديا) في المنادي قولان:
أحدهما: أنه النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد، ومقاتل.
72

والثاني: أنه القرآن، قاله محمد بن كعب القرظي، واختاره ابن جرير الطبري.
قوله تعالى: (ينادي للإيمان) فيه قولان:
أحدهما: أن معناه: ينادي إلى الإيمان، ومثله: (الذي هدانا لهذا)، (بأن ربك أوحى لها) قاله
الفراء.
والثاني: بأنه مقدم ومؤخر، والمعنى: سمعنا مناديا للإيمان ينادي، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: (وكفر عنا سيئاتنا) قال مقاتل: امح عنا خطايانا. وقال غيره: غطها عنا، وقيل:
إنما جمع بين غفران الذنوب، وتكفير السيئات، لأن الغفران بمجرد الفضل، والتكفير بفعل الخير
(وتوفنا مع الأبرار) قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي " الأبرار " و " الأشرار "
و " ذات قرار " وما كان مثله بين الفتح والكسر، وقرأ ابن كثير، وعاصم بالفتح. ومعنى: (مع
الأبرار) فيهم قال ابن عباس: وهم الأنبياء والصالحون.
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد (194)
قوله تعالى: (ربنا وآتنا ما وعدتنا) قال ابن عباس: يعنون: الجنة (على رسلك) أي: على
ألسنتهم. فإن قيل: ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه خرج مخرج المسألة، ومعناه: الخبر، تقديره: فآمنا، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا.
والثاني: أنه سؤال له، أن يجعلهم ممن آتاه ما وعده، لا أنهم استحقوا ذلك، إذ لو كانوا قد
قطعوا أنهم من الأبرار لكانت تزكية لأنفسهم.
والثالث: أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء، لأنه وعدهم نصرا غير مؤقت،
فرغبوا في تعجيله، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير، وقال: أولى الأقوال بالصواب، أن هذه صفة
المهاجرين، رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم. فكأنهم قالوا: لا صبر لنا على حلمك عن
الأعداء فعجل خزيهم، وظفرنا عليهم.
فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض
فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم
سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده
حسن الثواب (195)
73

قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم) روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع
ذكر النساء في الهجرة بشئ؟ فنزلت هذه الآية، واستجاب: بمعنى أجاب. والمعنى: أجابهم بأن
قال لهم: إني لا أضيع عمل عامل منكم ذكرا أو أنثى.
وفي معنى قوله [تعالى]: (بعضكم من بعض) ثلاثة أقوال:
أحدها: بعضكم من بعض في الدين، والنصرة والموالاة.
والثاني: حكم جميعكم في الثواب واحد، لأن الذكور من الإناث والإناث من الذكور.
والثالث: كلكم من آدم وحواء.
قوله تعالى: (فالذين هاجروا) أي: تركوا الأوطان والأهل والعشائر (وأخرجوا من ديارهم)
يعني: المؤمنين الذين أخرجوا من مكة بأذى المشركين، فهاجروا، (وقاتلوا) المشركين (وقتلوا)
قرأ ابن كثير، وابن عامر: " وقاتلوا وقتلوا " مشددة التاء. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم: " وقاتلوا
وقتلوا " خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: و " قتلوا وقاتلوا ". قال أبو علي: تقديم " قتلوا " جائز، لأن
المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى، مؤخرا في اللفظ.
قوله تعالى: (ثوابا من عند الله) قال الزجاج: هو مصدر مؤكد لما قبله، لأن معنى
لأدخلنهم جنات): لأثيبنهم.
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد (197)
قوله تعالى: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في اليهود، ثم في ذلك قولان:
أحدهما: أن اليهود كانوا يضربون في الأرض. فيصيبون الأموال، فنزلت هذه الآية، قاله ابن
عباس.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيرا، فأبى إلا على رهن، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أعطاني لأوفيته قد اني لأمين في السماء أمين في الأرض " فنزلت، ذكره أبو سليمان
الدمشقي.
والقول الثاني: أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاء، فقال بعض المؤمنين: قد أهلكنا
الجهد، وأعداء الله فيما ترون، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. قال
قتادة: والخطاب
للنبي [صلى الله عليه وسلم]، والمراد غيره. وقال غيره: إنما خاطبه تأديبا وتحذيرا، وإن كان لا يغتر. وفي معنى
" تقلبهم " ثلاثة أقوال:
74

أحدها: تصرفهم في التجارات، قاله ابن عباس، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج.
والثاني: تقلب ليلهم ونهارهم، وما يجري عليهم من النعم، قاله عكرمة ومقاتل.
والثالث: تقلبهم غير مأخوذين بذنوبهم، ذكره بعض المفسرين. قال الزجاج: ذلك الكسب
والربح متاع قليل، وقال ابن عباس: منفعة يسيرة في الدنيا، والمهاد: الفراش.
لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند
الله وما عند الله خير للأبرار (198)
قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم) قرأ أبو جعفر: " لكن " بالتشديد هاهنا، وفي (الزمر)
قال مقاتل: وحدوا. قال ابن عباس: " النزل " الثواب. قال ابن فارس: النزل: ما يهيأ للنزيل،
والنزيل: الضيف.
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين
لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع
الحساب (199)
قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في النجاشي، لأنه لما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قائل: يصلي على
هذا العلج النصراني، وهو في أرضه؟! فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله، وابن عباس،
وأنس. وقال الحسن، وقتادة: فيه وفي أصحابه.
والثاني: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، روى هذا المعنى أبو صالح
عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
والثالث: في عبد الله بن سلام، وأصحابه، قاله ابن جريج، وابن زيد، ومقاتل.
والرابع: في أربعين من أهل نجران، وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين
عيسى، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، قاله عطاء.
قوله تعالى: (وما أنزل إليكم) يعني: القرآن، (وما أنزل إليهم) يعني: كتابهم. والخاشع:
الذليل. (لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا) أي: عرضا من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود، وقد سلف
بيان سرعة الحساب.
75

يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (200)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا) قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: نزلت في انتظار
الصلاة بعد الصلاة، وليس يؤمئذ غزو يرابط. وفي الذي أمروا بالصبر عليه خمسة أقوال:
أحدها: البلاء والجهاد، قاله ابن عباس.
الثاني: الدين، قاله الحسن، والقرظي، والزجاج.
والثالث: المصائب، روي عن الحسن أيضا.
والرابع: الفرائض، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: طاعة الله، قاله قتادة، وفي الذي أمروا بمصابرته قولان:
أحدهما: العدو، قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: الوعد الذي وعدهم الله: قاله عطاء، والقرظي، وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان:
أحدهما: الجهاد للأعداء، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة: وأصل
المرابطة والرباط: أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم في الثغر، كل يعد لصاحبه.
والثاني: أنه الصلاة، أمروا بالمرابطة عليها، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد ذكرنا في
(البقرة) معنى " لعل "، ومعنى " الفلاح ".
76

(4) سورة النساء
وآياتها ستة وسبعون ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا
كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1)
اختلفوا في نزولها على قولين:
أحدهما: أنها مكية رواه عطية عن ابن عباس، وهو قول الحسن، ومجاهد، وجابر بن زيد،
وقتادة.
والثاني: أنها مدنية، رواه عطاء عن ابن عباس، وهو قول مقاتل. وقيل: إنها مدنية، إلا آية
نزلت بمكة في عثمان بن طلحة حين أراد النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة، فيسلمها إلى
العباس، وهي قوله: [تعالى]: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (اتقوا ربكم) فيه قولان:
أحدهما: أنه بمعنى الطاعة، قاله ابن عباس.
والثاني: بمعنى الخشية. قاله مقاتل. والنفس الواحدة: آدم، وزوجها حواء و (من) في قوله
[تعالى]: (وخلق منها) للتبعيض في قول الجمهور. وقال ابن بحر: منها، أي: من جنسها.
واختلفوا أي وقت خلقت له، على قولين:
أحدهما: أنها خلقت بعد دخوله الجنة، قاله ابن مسعود، وابن عباس.
والثاني: قبل دخوله الجنة، قاله كعب الأحبار، ووهب، وابن إسحاق. قال ابن عباس: لما
خلق الله آدم، ألقى عليه النوم، فخلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى، فلم تؤذه بشئ، ولو
77

وجد الأذى ما عطف عليها أبدا، فلما استيقظ، قيل: يا آدم ما هذه؟ قال: حواء.
قوله تعالى: (وبث منهما) قال الفراء: بث: نشر، ومن العرب من يقول: أبث الله الخلق،
ويقولون: بثثتك ما في نفسي، وأبثثتك.
قوله تعالى: (الذي تساءلون به) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والبرجمي، عن أبي بكر،
عن عاصم. واليزيدي، وشجاع، والجعفي، وعبد الوارث، عن أبي عمرو: " تساءلون " بالتشديد.
وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي، وكثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف.
قال الزجاج: الأصل: تتساءلون، فمن قرأ بالتشديد. أدغم التاء في السين، لقرب مكان هذه
من هذه، ومن قرأ بالتخفيف، حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين. وفي معنى " تساءلون به " ثلاثة
أقوال:
أحدها: تتعاطفون به، قاله ابن عباس.
والثاني: تتعاقدون، وتتعاهدون به، قاله الضحاك، والربيع.
والثالث: تطلبون حقوقكم به، قاله الزجاج.
فأما قوله " والأرحام " فالجمهور على نصب الميم على معنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها،
وفسرها على هذا ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، وابن زيد. وقرأ الحسن، وقتادة،
والأعمش، وحمزة بخفض الميم على معنى: تساءلون به وبالأرحام، وفسرها على هذا الحسن،
وعطاء والنخعي.
وقال الزجاج: الخفض في " الأرحام " خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ
في الدين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحلفوا بآبائكم " وذهب إلى نحو هذا الفراء، وقال ابن
الأنباري: إنما أراد، حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به، فالمعنى: الذي كنتم
تساءلون به وبالأرحام في الجاهلية. قال أبو علي: من جر، عطف على الضمير المجرور بالباء، وهو
ضعيف في القياس، قليل في الاستعمال، فترك الأخذ به أحسن.
فأما الرقيب، فقال ابن عباس، ومجاهد: الرقيب: الحافظ. وقال الخطابي: هو الحافظ الذي
لا يغيب عنه شئ، وهو في نعوت الآدميين الموكل بحفظ الشئ، المترصد له، المتحرز عن الغفلة
فيه، يقال منه: رقبت الشئ أرقبه رقبة.
78

وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم
إنه كان حوبا كبيرا (2)
قوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم) سبب نزولها: أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير
لابن أخ له يتيم، فلما بلغ، طلب ماله فمنعه، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت، قاله سعيد بن
جبير. والخطاب بقوله [تعالى]: " وآتوا " للأولياء والأوصياء. قال الزجاج: وإنما سموا يتامى بعد
البلوغ، بالاسم الذي كان لهم، وقد كان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب.
قوله [تعالى]: (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) قرأ ابن محيصن: " تبدلوا " بتاء واحدة. ثم في
معنى الكلام قولان:
أحدهما: أنه إبدال حقيقة، ثم فيه قولان:
أحدهما: أنه أخذ الجيد، وإعطاء الردئ مكانه، قاله سعيد بن المسيب، والضحاك،
والنخعي، والزهري، والسدي. قال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم،
ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدراهم الجياد، ويطرح مكانها الزيوف.
والثاني: أنه الربح على اليتيم، واليتيم غر لا علم له، قاله عطاء.
والقول الثاني: أنه ليس بإبدال حقيقة، وإنما هو أخذه مستهلكا، ثم فيه قولان:
أحدهما: أنهم كانوا لا يورثون النساء والصغار، وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرجال،
فنصيب الرجل من الميراث طيب، وما أخذه من حق اليتيم خبيث، هذا قول ابن زيد.
والثاني: أنه أكل مال اليتيم بدلا من أكل أموالهم، قاله الزجاج و " إلى " بمعنى " مع "
والحوب: الإثم. وقرأ الحسن، وقتادة، والنخعي بفتح الحاء.
قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: حوب بالضم، وتميم يقولونه بالفتح. قال ابن الأنباري:
وقال الفراء: المضموم الاسم، والمفتوح المصدر. قال ابن قتيبة: وفيه ثلاث لغات: حوب،
وحوب، وحاب.
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى
ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3)
79

قوله تعالى: (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى) اختلفوا في تنزيلها، وتأويلها على ستة
أقوال:
أحدها: أن القوم كانوا يتزوجون عددا كثيرا من النساء في الجاهلية، ولا يتحرجون من ترك
العدل بينهن، وكانوا يتحرجون في شأن اليتامى، فقيل لهم بهذه الآية: احذروا من ترك العدل بين
النساء، كما تحذرون من تركه في اليتامى وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير
والضحاك، وقتادة، والسدي ومقاتل.
والثاني: أن أولياء اليتامى كانوا يتزوجون النساء بأموال اليتامى، فلما كثر النساء، مالوا على
أموال اليتامى، فقصروا على الأربع حفظا لأموال اليتامى. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا،
وعكرمة.
والثالث: أن معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا
نكحتموهن، فانكحوا سواهن من الغرائب اللواتي أحل الله لكم، وهذا المعنى مروي عن عائشة.
والرابع: أن معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهن، وحذرتم سوء
الصحبة لهن، وقلة الرغبة فيهن، فانكحوا غيرهن، وهذا المعنى مروي عن عائشة أيضا، والحسن.
والخامس: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى، فأمروا بالتحرج من الزنى أيضا، وندبوا
إلى النكاح الحلال، وهذا المعنى مروي عن مجاهد.
والسادس: أنهم تحرجوا من نكاح اليتامى، كما تحرجوا من أموالهم، فرخص الله لهم بهذه
الآية، وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه، فكأنه قال: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا
فيهن، فانكحوهن، ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا، فإن خفتم أن لا تعدلوا فيهن، فواحدة، وهذا
المعنى مروي عن الحسن.
80

قال ابن قتيبة: ومعنى قوله: وإن خفتم، أي فان علمتم أنكم لا تعدلوا يقال: أقسط الرجل:
إذا عدل وقسط الرجل: إذا جار وفي معنى العدل في اليتامى قولان:
أحدهما: في نكاح اليتامى.
والثاني: في أموالهم.
قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم) أي: ما حل لكم.
قال ابن جرير: وأراد بقوله [تعالى]: ما طاب لكم، الفعل دون أعيان النساء، ولذلك قال:
" ما " ولم يقل: " من " واختلفوا: هل النكاح من اليتامى، أو من غيرهن؟ على قولين قد سبقا.
قوله تعالى: (مثنى وثلاث ورباع).
قال الزجاج: هو بدل " ما طاب لكم " ومعناه: اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، وإنما
خاطب الله العرب بأفصح اللغات، وليس من شأن البليغ أن يعبر في العدد عن التسعة باثنتين،
وثلاث، وأربع لأن التسعة قد وضعت لهذا العدد، فيكون عيا في الكلام.
وقال ابن الأنباري: هذه الواو معناها التفرق، وليست جامعة، فالمعنى: فانكحوا ما طاب
لكم من النساء مثنى، وانكحوا ثلاث في غير الحال الأولى، وانكحوا رباع في غير الحالين.
وقال القاضي أبو يعلى: الواو هاهنا لإباحة أي الأعداد شاء، لا للجمع، وهذا العدد إنما هو
للأحرار، لا للعبيد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
وقال مالك: هم كالأحرار. ويدل على قولنا: أنه قال: فانكحوا، فهذا منصرف إلى من
يملك النكاح، والعبد لا يملك ذلك بنفسه، وقال في سياقها (فواحدة أو ما ملكت أيمانكم)،
والعبد لا ملك له، فلا يباح له الجمع إلا بين اثنتين.
قوله تعالى: (فإن خفتم) فيه قولان:
أحدهما: علمتم.
والثاني: خشيتم.
قوله تعالى: (أن لا تعدلوا) قال القاضي أبو يعلى: أراد العدل في القسم بينهن.
قوله تعالى: (فواحدة) أي: فانكحوا واحدة، وقرأ الحسن، والأعمش، وحميد: فواحدة
بالرفع، المعنى، فواحدة تقنع.
قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) يعني: السراري. قال ابن قتيبة: معنى الآية: فكما
81

تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم، فخافوا أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن، فقصرهم على أربع، ليقدروا على العدل، ثم قال: فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع،
فانكحوا واحدة، واقتصروا على ملك اليمين.
قوله تعالى: (ذلك أدنى) أي: أقرب. وفي معنى (تعولوا) ثلاثة أقوال:
أحدهما: تميلوا، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، وإبراهيم، وقتادة،
والسدي، ومقاتل، والفراء. وقال أبو مالك، وأبو عبيد: تجوروا.
قال ابن قتيبة، والزجاج: تجوروا وتميلوا بمعنى واحد. واحتكم رجلان من العرب إلى رجل،
فحكم لأحدهما، فقال المحكوم عليه: إنك والله تعول علي، أي: تميل وتجور.
والثاني: تضلوا، قاله مجاهد.
والثالث: تكثر عيالكم، قال ابن زيد، ورواه أبو سليمان الدمشقي في " تفسيره " عن الشافعي،
ورده الزجاج، فقال: أهل اللغة يقولون: هذا القول خطأ، لأن الواحدة يعولها، وإباحة ملك
اليمين أزيد في العيال من أربع.
وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4)
قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم الأزواج، وهو قول الجمهور، واحتجوا بأن الخطاب للناكحين قد تقدم، وهذا
معطوف عليه، وقال مقاتل: كان الرجل يتزوج بلا مهر، فيقول: أرثك وترثيني، فتقول المرأة:
نعم، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أنه متوجه إلى الأولياء ثم فيه قولان:
أحدهما: أن الزوج كان إذا زوج أيمة جاز صداقها دونها، فنهوا بهذه الآية هذا قول أبي
82

صالح واختاره الفراء، وابن قتيبة.
والثاني: أن الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر، فنهوا عن هذا بهذه
الآية، رواه أبو سليمان التيمي عن بعض أشياخه.
قال ابن قتيبة: والصدقات: المهور، واحدها: صدقة. وفي قوله " نحلة) أربعة أقوال:
أحدها: أنها بمعنى الفريضة، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد، ومقاتل.
والثاني: أنها الهبة والعطية، قاله الفراء.
قال ابن الأنباري: كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهن، فلما فرض
الله لهن المهر، كان نحلة من الله أي: هبة للنساء، فرضا على الرجال.
وقال الزجاج: هو هبة من الله للنساء. قال القاضي أبو يعلى: وقيل: إنما سمي المهر:
نحلة، لأن الزوج لا يملك بدله شيئا، لأن البضع بعد النكاح في ملك المرأة، ألا ترى أنها لو وطئت
بشبهة، كان المهر لها دون الزوج، وإنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة، لا الملك.
والثالث: انها العطية بطيب نفس، فكأنه قال: لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، قال أبو
عبيدة.
والرابع: أن معنى (النحلة): الديانة، فتقديره: وآتوهن صدقاتهن ديانة، يقال: فلان ينتحل
كذا، أي: يدين به، ذكره الزجاج عن بعض العلماء.
قوله تعالى: (فان طبن لكم) يعني: النساء المنكوحات. وفي (لكم) قولان:
أحدهما: أنه يعني الأزواج.
والثاني: الأولياء. و " الهاء " في (منه) كناية عن الصداق، قال الزجاج: و (منه) هاهنا
للجنس، كقوله [تعالى]: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) معناه: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن،
فكأنه قال: كلوا الشئ الذي هو مهر، فيجوز أن يسأل الرجل المهر كله. و (نفسا) منصوب على
التمييز.
فالمعنى: فإن طابت أنفسهن لكم بذلك، فكلوه هنيئا مريئا. وفي الهنئ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ما تؤمن عاقبته.
والثاني: ما أعقب نفعا وشفاء.
83

والثالث: أنه الذي لا ينغصه شئ. وأما " المرئ " فيقال: مرئ الطعام: إذا انهضم،
وحمدت عاقبته.
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم
قولا معروفا (5)
قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) المراد بالسفهاء خمسة أقوال:
أحدها: أنهم النساء، قاله ابن عمر.
والثاني: النساء والصبيان، قاله سعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، والفراء، وابن
قتيبة. وعن الحسن ومجاهد كالقولين.
والثالث: الأولاد، قاله أبو مالك وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس، وروي عن الحسن،
قال: هم الأولاد الصغار.
والرابع: اليتامى، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير في رواية.
قال الزجاج: ومعنى الآية: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، بدليل قوله [تعالى]: (وارزقوهم
فيها) وإنما قال: " أموالكم " ذكرا للجنس الذي جعله الله أموالا للناس. وقال غيره: أضافها إلى
الولاة، لأنهم قوامها.
والخامس: أن القول على إطلاقه، والمراد به كل سفيه يستحق الحجر عليه، ذكره ابن جرير،
وأبو سليمان الدمشقي، وغيرهما، وهو ظاهر الآية.
وفي قوله [تعالى]: (أموالكم) قولان:
أحدهما: أنه أموال اليتامى.
والثاني: أموال السفهاء.
قوله تعالى: (التي جعل الله) قرأ الحسن: " اللاتي جعل الله لكم قواما ". وقرأ ابن كثير،
وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو عمرو: " قياما " الألف، هاهنا وقرأ نافع، وابن عامر: " قيما " بغير
ألف.
قال ابن قتيبة: قياما وقواما بمنزلة واحدة، تقول: هذا قوام أمرك وقيامه، أي: ما يقوم به.
84

وذكر أبو علي الفارسي أن " قواما " و " قياما " و " قيما "، بمعنى القوام الذي يقيم الشأن، قال: وليس
قول من قال: " القيم " هاهنا: جمع: " قيمة " بشئ.
قوله تعالى: (وارزقوهم فيها) أي: منها. وفي " القول المعروف " ثلاثة أقوال:
أحدها: العدة الحسنة، قال ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، ومقاتل.
والثاني: الرد الجميل، قاله الضحاك.
والثالث: الدعاء، كقولك: عافاك الله، قاله ابن زيد.
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم
ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا (6)
قوله تعالى: (وابتلوا اليتامى) سبب نزولها أن رجلا، يقال له: رفاعة، مات وترك ولدا
صغيرا، يقال له، ثابت، فوليه عمه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما
يحل لي من ماله؟ ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت هذه الآية، ذكر نحوه مقاتل. والابتلاء: الاختبار.
وبماذا يختبرون؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم يختبرون في عقولهم، قاله ابن عباس، والسدي، وسفيان، ومقاتل.
والثاني: يختبرون في عقولهم ودينهم، قاله الحسن، وقتادة. وعن مجاهد كالقولين:
والثالث: في عقولهم ودينهم، وحفظهم أموالهم، ذكره الثعلبي. قال القاضي أبو يعلى:
وهذا الابتلاء قبل البلوغ.
قوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح) قال ابن قتيبة: أي: بلغوا أن ينكحوا النساء (فإن
آنستم) أي: علمتم، وتبينتم. وأصل: آنست: أبصرت. وفي الرشد أربعة أقوال:
أحدها: الصلاح في الدين، وحفظ المال، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: الصلاح في العقل، وحفظ المال، روي عن ابن عباس والسدي.
والثالث: أنه العقل، قاله مجاهد، والنخعي.
والرابع: العقل، والصلاح في الدين، روي عن السدي.
85

فصل
واعلم أن الله تعالى علق رفع الحجر عن اليتامى بأمرين: بالبلوغ والرشد، وأمر الأولياء
باختبارهم، فإذا استبانوا رشدهم، وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم.
والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، الاحتلام، واستكمال
خمس عشرة سنة، والإنبات، وشيئان يختصان بالنساء: الحيض والحمل.
قوله تعالى: (ولا تأكلوها إسرافا) خطاب للأولياء، قال ابن عباس: لا تأكلوها بغير حق.
و (بدارا): تبادرون أكل المال قبل بلوغ الصبي (ومن كان غنيا فليستعفف) بماله عن مال اليتيم.
وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال:
أحدها: أنه الأخذ على وجه القرض، وهذا مروي عن عمر، وابن عباس، وابن جبير، وأبي
العالية، وعبيدة، وأبي وائل، ومجاهد، ومقاتل.
والثاني: الأكل بمقدار الحاجة من غير إسراف، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن،
وعكرمة، وعطاء، والنخعي، وقتادة، والسدي.
والثالث: انه الأخذ بقدر الأجرة إذا عمل لليتيم عملا، روي عن ابن عباس، وعائشة، وهي
رواية أبي طالب، وابن منصور، عن أحمد رضي الله عنه
والرابع: أنه الأخذ عند الضرورة، فإن أيسر قضاه، وإن لم يوسر، فهو في حل، وهذا قول
الشعبي.
فصل
واختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة؟ على قولين:
أحدهما: محكمة، وهو قول عمر، وابن عباس، والحسن، والشعبي، وأبي العالية،
ومجاهد، وابن جبير، والنخعي، وقتادة في آخرين. وحكمها عندهم أن الغني ليس له أن يأكل من
مال اليتيم شيئا، فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه، وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية،
فله ان يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إسراف. وهل عليه الضمان إذا أيسر؟ فيه قولان لهم:
أحدهما: أنه لا ضمان عليه، بل يكون كالأجرة له على عمله، وهو قول الحسن، والشعبي،
والنخعي وقتادة، وأحمد بن حنبل.
86

والثاني: إذا أيسر وجب عليه القضاء، روي عن عمر وغيره وعن ابن عباس أيضا كالقولين.
والقول الثاني: أنها منسوخة بقوله [تعالى]: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).
قوله تعالى: (فأشهدوا عليهم) قال القاضي أبو يعلى: هذا على طريق الاحتياط لليتيم،
والولي، وليس بواجب، فأما اليتيم، فإنه إذا كانت عليه بينة، كان أبعد من أن يدعي عدم القبض،
وأما الولي، فإن تظهر أمانته، ويسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم للدفع. وفي " الحسيب " ثلاثة
أقوال:
أحدها: انه الشهيد، قاله ابن عباس، والسدي، ومقاتل.
والثاني: أنه الكافي، من قولك: أحسبني هذا الشئ [قاله ابن قتيبة والمخطابي].
والثالث: أنه المحاسب، فيكون في مذهب جليس، وأكيل، وشريب، حكاه ابن قتيبة
والخطابي.
للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون
مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (7)
قوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) سبب نزولها أن أوس بن ثابت
الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة فقام رجلان من بني عمه، يقال لهما: قتادة، وعرفطة
فأخذوا ماله، ولم يعطيا امرأته، ولا بناته شيئا، فجاءت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، وشكت
الفقر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كانوا لا يورثون النساء، فنزلت هذه الآية
والمراد بالرجال: الذكور، وبالنساء: الإناث، صغارا كانوا أو كبارا. و (النصيب): الحظ من
الشئ، وهو مجمل في هذه الآية، ومقداره معلوم من موضع آخر، وذلك مثل قوله [تعالى]:
(وآتوا حقه يوم حصاده) وقوله [تعالى]: (خذ من أموالهم صدقة) والمفروض: الذي فرضه
الله، وهو آكد من الواجب.
87

وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم
قولا معروفا (8)
قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) في هذه القسمة قولان:
أحدهما: قسمة الميراث بعد موت الموروث، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين، وبهذا قال
الأكثرون منهم ابن عباس، والحسن، والزهري.
والثاني: أنها وصية الميت قبل موته، فيكون مأمورا بأن يعين لمن لا يرثه شيئا، روي عن ابن
عباس وابن زيد. قال المفسرون: والمراد بأولي القربى: الذين لا يرثون، (فارزقوهم منه) أي:
أعطوهم منه، وقيل: أطعموهم، وهذا على الاستحباب عند الأكثرين، وذهب قوم إلى أنه واجب
في المال، فإن كان الورثة كبارا، تولوا إعطاءهم، وإن كانوا صغارا تولى ذلك عنهم ولي مالهم،
فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام، فأمر بشاة، فاشتريت من مالهم، وبطعام فصنع، وقال: لولا
هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي وكذلك فعل محمد بن سيرين في أيتام وليهم، وكذلك روي
عن مجاهد: أن ما تضمنته هذه الآية واجب. وفي " القول المعروف " أربعة أقوال:
أحدها: أن يقول لهم الولي حين يعطيهم: خذ بارك الله فيك، رواه سالم الأفطس، عن ابن
جبير.
والثاني: أن يقول الولي: إنه مال يتامى، ومالي فيه شئ، رواه أبو بشر عن ابن جبير، وفي
رواية أخرى عن ابن جبير، قال: إن كان الميت أوصى لهم بشئ أنفذت لهم وصيتهم، وإن كان
الورثة كبارا رضخوا لهم، وإن كانوا صغارا، قال وليهم: إني لست أملك هذا المال، إنما هو
للصغار، فذلك القول المعروف.
والثالث: أنه العدة الحسنة، وهو أن يقول لهم أولياء الورثة: إن هؤلاء الورثة صغار، فإذا
بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم. رواه عطاء بن دينار، عن ابن جبير.
والرابع: أنهم يعطون من المال، ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرقيق: بورك فيكم، وهذا
القول المعروف. قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس يفعلون هذا.
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:
88

أحدهما: أنها محكمة، وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن، وأبي
العالية، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وقد ذكرنا
أن ما تضمنته من الأمر مستحب عند الأكثرين، وواجب عند بعضهم.
والقول الثاني: انها منسوخة نسخها قوله [تعالى]: (يوصيكم الله في أولادكم) رواه مجاهد
عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب، وعكرمة، والضحاك، وقتادة في آخرين.
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا
قولا سديدا (9)
قوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) اختلفوا في المخاطب بهذه
الآية على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي. وفي معنى الآية على هذا القول قولان:
أحدهما: وليخش الذين يحضرون موصيا في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه، فيفرقه،
ويترك ورثته، كما لو كانوا هم الموصين، لسرهم أن يحثهم من حضرهم على حفظ الأموال للأولاد،
وهذا المعنى مروي عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك،
والسدي، ومقاتل.
والثاني: على الضد من هذا القول، وهو أنه نهي لحاضري الموصي أن يمنعوه من الوصية
لأقاربه، وأن يأمروه بالاقتصار على ولده، وهذا قول مقسم، وسليمان التيمي في آخرين.
والقول الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى متعلق بقوله [تعالى]: (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا)
فمعنى الكلام: أحسنوا فيمن وليتم من اليتامى، كما تحبون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم، وهذا
المعنى مروي عن ابن عباس، وابن السائب.
والثالث: أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصية على ما رسم الموصي، وأن تكون الوجوه
التي عينها مرعية بالمحافظة كرعي الذرية الضعاف من غير تبديل، ثم نسخ ذلك بقوله [تعالى]:
(فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه) فأمر الوصي بهذه الآية إذا وجد
89

ميلا عن الحق أن يستعمل قضية الشرع، ويصلح بين الورثة، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله، وغيره
في " الناسخ والمنسوخ " فعلى هذا تكون الآية منسوخة، وعلى ما قبله تكون محكمة.
و " الضعاف ": جمع ضعيف، وهم الأولاد الصغار، وقرأ حمزة: ضعافا بإمالة العين.
قال أبو علي: ووجهها: أن ما كان على " فعال " وكان أوله حرفا مستعليا مكسورا، نحو ضعاف،
وقفاف، وخفاف، حسنت فيه الإمالة، لأنه قد يصعد بالحرف المستعلي، ثم يحدر بالكسر،
فيستحب أن لا يصعد بالتفخيم بعد التصوب بالكسر، فيجعل الصوت على طريقة واحدة، وكذلك
قرأ حمزة: (خافوا عليهم) بإمالة الخاء، والإمالة هاهنا حسنة، وإن كانت " الخاء " حرفا مستعليا،
لأنه يطلب الكسرة التي في " خفت " فينحو نحوها بالإمالة. والقول السديد: الصواب.
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (10)
قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن رجلا من غطفان، يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه، فأكله، فنزلت
هذه الآية، قاله مقاتل بن حيان.
والثاني: أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما، فأكل ماله، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض
المفسرين. وإنما خص الأكل بالذكر، لأنه معظم المقصود، وقيل: عبر به عن الأخذ.
قال سعيد بن جبير: ومعنى الظلم: ان يأخذه بغير حق. وأما ذكر " البطون " فللتوكيد، كما
تقول: نظرت بعيني، وسمعت بأذني. وفي المراد بأكلهم النار قولان:
أحدهما: أنهم سيأكلون يوم القيامة نارا، فسمي الأكل بما يؤول إليه أمرهم، كقوله [تعالى]:
(أعصر خمرا) قال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظلما، ولهب النار يخرج من فيه، ومن
مسامعه وأذنيه، وأنفه، وعينيه، يعرفه من رآه يأكل مال اليتيم.
والثاني: أنه مثل. معناه: يأكلون ما يصيرون به إلى النار، كقوله [تعالى]: (ولقد كنتم
تمنون الموت من قبل ان تلقوه فقد رأيتموه) أي: رأيتم أسبابه.
قوله تعالى: (وسيصلون) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي،
90

" وسيصلون " بفتح الياء، وقرأ الحسن، وابن عامر، بضم الياء، ووافقهما ابن مقسم، إلا أنه شدد.
والمعنى: سيحرقون بالنار، ويشوون. والسعير: النار المستعرة، واستعار النار: توقدها.
فصل
وقد توهم قوم لا علم لهم بالتفسير وفقهه، أن هذه الآية منسوخة، لأنهم سمعوا أنها لما
نزلت، تحرج القوم عن مخالطة اليتامى، فنزل قوله [تعالى]: (وإن تخالطوهم فإخوانكم) وهذا
غلط، وإنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإصلاح، لا على إباحة الظلم.
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا
ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان
له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس
من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا
فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما (11)
قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن جابر بن عبد الله مرض، فعاده رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقال: كيف أصنع في مالي يا
رسول الله، فنزلت هذه الآية، رواه البخاري ومسلم.
والثاني: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابنتين لها، فقالت: يا رسول الله قتل أبو هاتين معك
يوم أحد، وقد استفاء عمهما مالهما، فنزلت، روي عن جابر بن عبد الله أيضا.
والثالث: أن عبد الرحمن أخا حسان بن ثابت مات، وترك امرأة، وخمس بنات، فأخذ ورثته
91

ماله، ولم يعطوا امرأته، ولا بناته شيئا، فجاءت امرأته تشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، هذا
قول السدي.
قال الزجاج: ومعنى يوصيكم: يفرض عليكم، لأن الوصية منه فرض، وقال غيره: إنما ذكره
بلفظ الوصية لأمرين:
أحدهما: أن الوصية تزيد على الأمر، فكانت آكد.
والثاني: أن في الوصية حقا للموصي، فدل على تأكيد الحال بإضافته إلى حقه. وقرأ الحسن.
وابن أبي عبلة: " يوصيكم " بالتشديد.
قوله تعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين) يعني، للابن من الميراث مثل حظ الأنثيين، ثم ذكر
نصيب الإناث من الأول، فقال (فإن كن) يعني: البنات (نساء فوق اثنتين) وفي قوله [تعالى]:
(فوق) قولان:
أحدهما: أنها زائدة، كقوله [تعالى]: (فاضربوا فوق الأعناق).
والثاني: أنها بمعنى الزيادة. قال القاضي أبو يعلى: إنما نص على ما فوق الاثنتين،
والواحدة، ولم ينص على الاثنتين، لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثلث، كان لها مع الأنثى
الثلث أولى.
قوله تعالى: (وإن كانت واحدة) قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ نافع بالرفع، على معنى: وإن
وقعت، أو وجدت واحدة.
قوله تعالى: (ولأبويه) قال الزجاج: أبواه تثنية أب وأبة، والأصل في الأم أن يقال لها: أبة
[ولكن استغنى عنها بأم، والكناية في قوله " لأبويه " عن الميت وإن لم يجر له ذكر].
وقوله تعالى: (فلأمه الثلث) أي: إذا لم يخلف غير أبوين، فثلث ماله لأمه، والباقي للأب،
وإنما خص الأم بالذكر، لأنه لو اقتصر على قوله [تعالى]: (وورثه أبواه) ظن الظان أن المال يكون
بينهما نصفين، فلما خصها بالثلث، دل على التفضيل.
وقرأ ابن كثير، ونافع وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر " فلأمه " و (في بطون أمهاتكم) و
(في أمها) و (في أم الكتاب) بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي كل ذلك بالكسر إذا وصلا،
92

وحجتهما: أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها، من ياء أو كسرة.
قوله تعالى: (فإن كان له إخوة) أي: مع الأبوين، فإنهم يحجبون الأم عن الثلث فيردونها
إلى السدس، واتفقوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة إخوة، حجبوا، فإن كانا أخوين، فهل يحجبانها، فيه
قولان:
أحدهما: يحجبانها عن الثلث، قاله عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، والجمهور.
والثاني: لا يحجبها إلا ثلاثة، قاله ابن عباس، واحتج بقوله: إخوة. والأخوة: اسم جمع،
واختلفوا في أقل الجمع، فقال الجمهور: أقله ثلاثة، وقال قوم: اثنان، والأول: أصح. وإنما
حجب العلماء الأم بأخوين لدليل اتفقوا عليه، وقد يسمى الاثنان بالجمع، قال الزجاج: جميع
أهل اللغة يقولون: إن الأخوين جماعة، وحكى سيبويه أن العرب تقول: وضعا رحالهما، يريدون:
رحلي راحلتيهما.
قوله تعالى: (من بعد وصية) أي: هذه السهام إنما تقسم بعد الوصية والدين. وقرأ ابن
كثير، وابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم " يوصى بها " بفتح الصاد في الحرفين. وقرأ نافع، وأبو
عمرو، وحمزة، والكسائي: " يوصي " فيهما بالكسر، وقرأ حفص، عن عاصم الأولى بالكسر، والثانية
بالفتح.
واعلم أن الدين مؤخر في اللفظ، مقدم في المعنى، لأن الدين حق عليه، والوصية حق له،
وهما جميعا مقدمان على حق الورثة إذا كانت الوصية في ثلث المال، و " أو " لا توجب الترتيب، إنما
تدل على أن أحدهما إن كان، فالميراث بعده، وكذلك إن كانا.
قوله تعالى: (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) فيه قولان:
أحدهما: أنه النفع في الآخرة، ثم فيه قولان:
أحدهما: أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده، رفع إليه ولده، وكذلك الولد، رواه أبو
صالح، عن ابن عباس.
والثاني: أنه شفاعة بعضهم في بعض، رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
والقول الثاني: أنه النفع في الدنيا، قاله مجاهد. ثم في معناه قولان:
أحدهما: أن المعنى: لا تدرون هل موت الآباء أقرب، فينتفع الأبناء بأموالهم، أو موت
الأبناء، فينتفع الآباء بأموالهم؟ قاله ابن بحر.
والثاني: أن المعنى: أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعا،
93

لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء، ذكره القاضي أبو
يعلى.
وقال الزجاج: معنى الكلام: أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل
ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فتضعون الأموال على غير حكمة. إن الله كان عليما بما
يصلح خلقه، حكيما فيما فرض. وفي معنى " كان " ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناها: كان عليما بالأشياء قبل خلقها، حكيما فيما يقدر تدبيره منها، قاله
الحسن.
والثاني: أن معناها: لم يزل. قال سيبويه: كأن القوم شاهدوا علما وحكمة، فقيل لهم:
إن الله كان كذلك، أي: لم يزل على ما شاهدتم، ليس ذلك بحادث.
والثالث: أن لفظة " كان " في الخبر عن الله عز وجل يتساوى ماضيها ومستقبلها، لأن الأشياء
عنده على حال واحدة، ذكر هذه الأقوال الزجاج.
ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما
تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن
كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل
يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك
فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم
حليم (12)
قوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة) قرأ الحسن: " يورث " بفتح الواو، وكسر
الراء مع التشديد. وفي الكلالة أربعة أقوال:
أحدها: أنها ما دون الوالد والولد، قاله أبو بكر الصديق. وقال عمر ابن الخطاب: أتى
على حين وأنا لا أعرف ما الكلالة، فإذا هو: من لم يكن له والد ولا ولد، وهذا قول علي،
94

وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، والزهري،
وقتادة والفراء، وذكر الزجاج عن أهل اللغة، أن " الكلالة ": من قولهم: تكلله النسب، أي:
لم يكن الذي يرثه ابنه، ولا أباه. قال: والكلالة سوى الوالد والولد، وإنما هو كالإكليل على
الرأس. وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكلله النسب: إذا أحاط به. والابن والأب:
طرفان للرجل، فإذا مات، ولم يخلفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين:
كلالة.
والثاني: أن الكلالة: من لا ولد له، رواه ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، وهو قول طاووس.
والثالث: أن الكلالة: ما عدا الوالد، قاله الحكم.
والرابع: أن الكلالة: بنو العم الأباعد، ذكره ابن فارس، عن ابن الأعرابي.
واختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اسم للحي الوارث، وهذا مذهب أبي بكر الصديق، وعامة العلماء الذين
قالوا: إن الكلالة من دون الوالد والولد، فإنهم قالوا: الكلالة: اسم للورثة إذا لم يكن فيهم ولد
ولا والد، قال بعض الأعراب: مالي كثير، ويرثني كلالة متراخ نسبهم.
والثاني: أنه اسم للميت، قاله ابن عباس، والسدي، وأبو عبيدة في جماعة. قال القاضي
أبو يعلى: الكلالة: اسم للميت، ولحاله، وصفته، ولذلك انتصب.
والثالث: أنه اسم للميت والحي، قاله ابن زيد.
وفيما أخذت منه الكلالة قولان:
أحدهما: أنه اسم مأخوذ من الإحاطة، ومنه الإكليل، لإحاطته بالرأس.
والثاني: أنه مأخوذ من الكلال، وهو التعب، كأنه يصل إلى الميراث من بعد وإعياء. قال
الأعشى.
فآليت لا أرثي لها من كلالة * ولا من حفى حتى تزور محمدا
قوله: (وله أخ أو أخت) يعني: من الأم باجماعهم.
قوله تعالى: (فهم شركاء في الثلث) قال قتادة: ذكرهم وأنثاهم فيه سواء.
قوله تعالى (غير مضار) قال الزجاج: " غير " منصوب على الحال، والمعنى: يوصي
بها غير مضار، يعني: للورثة.
95

تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها وذلك الفوز العظيم (13)
قوله تعالى: (تلك حدود الله) قال ابن عباس: يريد ما حد الله من فرائضه في الميراث
(ومن يطع الله ورسوله) في شأن المواريث (يدخله جنات) قرأ ابن عامر، ونافع: " ندخله "
بالنون في الحرفين جميعا، والباقون بالياء فيهما.
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14)
قوله تعالى: (ومن يعص الله) فلم يرض بقسمه (يدخله نارا) فإن قيل: كيف قطع
للعاصي بالخلود؟ فالجواب: أنه إذا رد حكم الله، وكفر به، كان كافرا مخلدا في النار.
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا
فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15)
قوله تعالى: واللاتي يأتين الفاحشة) قال الزجاج: " التي " تجمع اللاتي واللواتي. قال
الشاعر:
من اللواتي والتي واللاتي * زعمن أني كبرت لداتي
وتجمع اللاتي باثبات التاء وحذفها. قال الشاعر:
من اللاتي لم يحججن يبغين حسبة * ولكن ليقتلن البرئ المغفلا
والفاحشة: الزنى في قول الجماعة. وفي قوله: [تعالى] (فاستشهدوا عليهن) قولان:
أحدهما: أنه خطاب للأزواج.
والثاني: خطاب للحكام، فالمعنى: اسمعوا شهادة أربعة منكم، ذكرهما الماوردي. قال
عمر بن الخطاب: إنما جعل الله عز وجل الشهود أربعة سترا ستركم به دون فواحشكم. ومعنى
" منكم ": من المسلمين.
قوله تعالى: (فأمسكوهن في البيوت) قال ابن عباس: كانت المرأة إذا زنت، حبست في
البيت حتى تموت، فجعل الله لهن سبيلا، وهو الجلد، أو الرجم.
96

واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا
رحيما (16)
قوله تعالى: (واللذان) قرأ ابن كثير: " واللذان " بتشديد النون، " وهذان " في (طه)
و (الحج) و " هاتين " في (القصص): " إحدى ابنتي هاتين " و " فذانك " كله بتشديد
النون. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بتخفيف ذلك كله، وشدد أبو
عمرو " فذانك " وحدها.
وقوله: واللذان: يعني: الزانيين. وهل هو عام، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه عام في الأبكار والثيب من الرجال والنساء، قاله الحسن، وعطاء.
والثاني: أنه خاص في البكرين إذا زنيا، قاله أبو صالح، والسدي، وابن زيد، وسفيان.
قال القاضي أبو يعلى: والأول أصح، لأن هذا تخصيص بغير دلالة.
قوله تعالى: (يأتيانها) يعني الفاحشة. قوله [تعالى] (فآذوهما) فيه قولان:
أحدهما: أنه الأذى بالكلام، والتعيير، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة،
والسدي، والضحاك، ومقاتل.
والثاني: أنه التعيير، والضرب بالنعال، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. (فإن تابا)
من الفاحشة (وأصلحا) العمل (فأعرضوا) عن أذاهما. وهذا كله كان قبل الحد.
فصل
كان حد الزانيين، فيما تقدم، الأذى لهما، والحبس للمرأة خاصة، فنسخ الحكمان
جميعا، واختلفوا بماذا وقع نسخهما، فقال قوم: بحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب جلد مائة، ورجم
بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسنة.
وقال قوم: نسخ بقوله [تعالى] (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)
97

قالوا: وكان قوله [تعالى] (واللذان يأتيانها) للبكرين، فنسخ حكمهما بالجلد، ونسخ حكم
الثيب من النساء بالرجم.
وقال قوم: يحتمل أن يكون النسخ وقع بقرآن، ثم رفع رسمه، وبقي حكمه، لأن في
حديث عبادة " قد جعل الله لهن سبيلا " والظاهر: أنه جعل بوحي لم تستقر تلاوته. قال القاضي أبو
يعلى: وهذا وجه صحيح، يخرج على قول من لم ينسخ القرآن بالسنة. قال: ويمتنع أن يقع
النسخ بحديث عبادة، لأنه من أخبار الآحاد، والنسخ لا يجوز بذلك.
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب
الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17)
قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) قال الحسن: إنما التوبة
التي يقبلها الله. فأما " السوء " فهو المعاصي، سمي سوءا لسوء عاقبته.
قوله تعالى: (بجهالة) قال مجاهد: كل عاص فهو جاهل حين معصيته وقال الحسن،
وعطاء، وقتادة، والسدي في آخرين: إنما سموا جهالا لمعاصيهم، لا أنهم غير مميزين.
وقال الزجاج: ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء، لأن المسلم لو أتى ما يجهله، كان
كمن لم يوقع سوءا، وإنما يحتمل أمرين:
أحدهما: أنهم عملوه، وهم يجهلون المكروه فيه.
والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل،
فسموا جهالا، لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة، والعاقبة الدائمة. وفي " القريب " ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه التوبة في الصحة، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السدي، وابن
السائب.
والثاني: أنه التوبة قبل معاينة ملك الموت. رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال
أبو مجلز.
98

والثالث: أنه التوبة قبل الموت، وبه قال ابن زيد في آخرين.
وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن
ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما (18)
قوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) في السيئات ثلاثة أقوال:
أحدها: الشرك، قاله ابن عباس، وعكرمة.
والثاني: أنها النفاق، قاله أبو العالية، وسعيد بن جبير.
والثالث: أنها سيئات المسلمين، قاله سفيان الثوري، واحتج بقوله [تعالى]: (ولا الذين
يموتون وهم كفار).
قوله تعالى: (حتى إذا حضر أحدهم الموت) في الحضور قولان:
أحدهما: أنه السوق، قاله ابن عمر.
والثاني: أنه معاينة الملائكة لقبض الروح، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد روى علي بن
أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: أنزل الله تعالى بعد هذه الآية (إن الله لا يغفر أن يشرك
به) الآية. فحرم المغفرة على من مات مشركا، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، فعلى هذا تكون
منسوخة في حق المؤمنين.
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض
ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فان كرهتموهن فعسى
أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) سبب نزولها: أن
الرجل كان إذا مات، كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها،
99

فنزلت هذه الآية. قاله ابن عباس. وقال في رواية أخرى: كانوا في أول الإسلام إذا مات
الرجل، قام أقرب الناس منه، فيلقى على امرأته ثوبا، فيرث نكاحها. وقال مجاهد: كان إذا
توفي الرجل، فابنه الأكبر أحق بامرأته، فينكحها إن شاء، أو ينكحها من شاء. وقال أبو أمامة بن
سهل ابن حنيف: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته من بعده، وكان ذلك لهم
في الجاهلية، فنزلت هذه الآية. قال عكرمة، واسم هذه المرأة: كبيشة بنت معن بن عاصم،
وكان هذا في العرب. وقال أبو مجلز: كانت الأنصار تفعله. وقال ابن زيد: كان هذا في أهل
المدينة. وقال السدي: إنما كان ذلك للأولياء ما لم تسبق المرأة، فتذهب إلى أهلها، فإن
ذهبت، فهي أحق بنفسها. وفي معنى قوله [تعالى]: (أن ترثوا النساء كرها) قولان:
أحدهما: أن ترثوا نكاح النساء، وهذا قول الجمهور.
والثاني: أن ترثوا أموالهن كرها. روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: كان يلقي
حميم الميت على الجارية ثوبا، فان كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى
تموت، فيرثها.
واختلف القراء في فتح كاف " الكره " وضمها في أربعة مواضع: هاهنا، وفي (التوبة)
وفي (الأحقاف) في موضعين، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو بفتح الكاف فيهن وضمهن
حمزة. وقرأ عاصم، وابن عامر بالفتح في (النساء) و (التوبة) وبالضم في (الأحقاف).
وهما لغتان، قد ذكرناهما في (البقرة). وفيمن خوطب بقوله [تعالى].. (ولا تعضلوهن)
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه خطاب للأزواج، ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الرجل كان يكره صحبة امرأته، ولها عليه مهر، فيحبسها، ويضربها لتفتدي،
قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي.
والثاني: أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة، فلعلها لا توافقه، فيفارقها على أن لا تتزوج
إلا بإذنه، ويشهد على ذلك، فإذا خطبت، فأرضته، أذن لها، وإلا عضلها، قاله ابن زيد.
والثالث: أنهم كانوا بعد الطلاق يعضلون، كما كانت الجاهلية تفعل، فنهوا عن ذلك،
100

روي عن ابن زيد أيضا. وقد ذكرنا في (البقرة) أن الرجل كان يطلق المرأة، ثم يراجعها، ثم
يطلقها كذلك أبدا إلى غير غاية، يقصد إضرارها، حتى نزلت (الطلاق مرتان).
والقول الثاني: أنه خطاب للأولياء، ثم في ما نهوا عنه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الرجل كان في الجاهلية إذا كانت له قرابة قريبة، ألقى عليها ثوبه، فلم تتزوج
أبدا غيره إلا بإذنه، قاله ابن عباس.
والثاني: أن اليتيمة كانت تكون عند الرجل، فيحبسها حتى تموت، أو تتزوج بابنه، قاله
مجاهد.
والثالث: أن الأولياء كانوا يمنعون النساء من التزويج، ليرثوهن، وإن روي عن مجاهد أيضا.
والقول الثالث: أنه خطاب لورثة أزواج النساء الذين قيل لهم: لا يحل لكم أن ترثوا النساء
كرها. كان الرجل يرث امرأة قريبه، فيعضلها حتى تموت، أو ترد عليه صداقها. هذا قول ابن
عباس في آخرين وعلى هذا يكون الكلام متصلا بالأول، وعلى الأقوال التي قبله يكون ذكر
العضل منفصلا عن قوله [تعالى]: (أن ترثوا النساء).
وفي الفاحشة قولان:
أحدهما: أنها النشوز على الزوج، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة في جماعة.
والثاني: الزنى، قاله الحسن، وعطاء، وعكرمة في جماعة. وقد روى معمر، عن عطاء
الخراساني، قال: كانت المرأة إذا أصابت فاحشة، أخذ زوجها ما ساق إليها، وأخرجها، فنسخ
ذلك بالحد. قال ابن جرير: وهذا القول ليس بصحيح لأن الحد حق الله، والافتداء حق
للزوج، وليس أحدهما مبطلا للآخر، والصحيح: أنها إذا أتت بأي فاحشة كانت، من زنى
الفرج، أو بذاءة اللسان، جاز له أن يعضلها، ويضيق عليها حتى تفتدي. فأما قوله [تعالى]:
(مبينة) فقرأ ابن كثير، وأبو بكر، عن عاصم: " مبينة "، و (آيات مبينات) بفتح الياء فيهما
101

جميعا. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم: بكسر الياء فيهما، وقرأ
نافع، أبو عمرو " مبينة " كسرا و " آيات مبينات " فتحا. وقد سبق ذكر " العشرة ".
قوله تعالى (فعسى أن تكرهوا شيئا) قال ابن عباس: ربما رزق الله منهما ولدا، فجعل
الله في ولدها خيرا كثيرا. وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها، ونبهت على معنيين:
أحدهما: أن الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح، فرب مكروه عاد محمودا، ومحمود عاد
مذموما.
والثاني: أن الإنسان لا يكاد يجد محبوبا ليس فيه ما يكره، فليصبر على ما يكره لما يحب.
وأنشدوا في هذا المعنى:
ومن لم يغمض عينه عن صديقه * وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة * يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا
أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا (20)
قوله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج) هذا الخطاب للرجال. والزوج: المرأة. وقد سبق
ذكر " القنطار " في (آل عمران).
قوله تعالى: فلا تأخذوا منه شيئا) إنما ذلك في حق من وطئها، أو خلا بها، وقد بينت
ذلك الآية التي بعدها. قال القاضي أبو يعلى: وإنما خص النهي عن أخذ شئ مما أعطى بحال
الاستبدال، وإن كان المنع عاما، لئلا يظن ظان أنه لما عاد البضع إلى ملكها، وجب أن يسقط حقها
من المهر، أو يظن ظان أن الثانية أولى بالمهر منها، لقيامها مقامها.
وفي البهتان قولان:
أحدهما: أنه الظلم، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.
والثاني: الباطل، قاله الزجاج. ومعنى الكلام: أتأخذونه مباهتين آثمين.
وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا (21)
قوله تعالى: (وكيف تأخذونه) أي: كيف تستجيزون أخذه. وفي " الإفضاء " قولان:
102

أحدهما: أنه الجماع، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة.
والثاني: الخلوة بها، وإن لم يغشها، قاله الفراء.
وفي المراد بالميثاق هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الذي أخذه الله للنساء على الرجال، الإمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان.
هذا قول ابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل.
والثاني: أنه عقد النكاح قاله مجاهد وابن زيد.
والثالث: أنه أمانة الله، قاله الربيع.
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء
سبيلا (22)
قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرمون ما
حرم الله إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، فنزلت هذه الآية.. وقال بعض الأنصار: توفي أبو
قيس بن الأسلت، فخطب ابنه قيس امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستأذنه، وقالت: إنما كنت أعده ولدا،
فنزلت هذه الآية.
قال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصلناه عن ثعلب، عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين، أن
" النكاح " في أصل اللغة: اسم للجمع بين الشيئين. وقد سموا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد.
قال الأعشى:
ومنكوحة غير ممهورة
يعني المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد. قال القاضي أبو يعلى: قد يطلق النكاح على
العقد، قال الله تعالى: (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وهو حقيقة في
الوطء، مجاز في العقد، لأنه اسم للجمع، والجمع: إنما يكون بالوطء، فسمي العقد نكاحا، لأنه
سبب إليه.
قوله تعالى: (إلا ما قد سلف) فيه ستة أقوال:
أحدها: أنها بمعنى: بعد ما قد سلف، فإن الله يغفره، قاله الضحاك، والمفضل. وقال
103

الأخفش: المعنى: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم فإنكم تعذبون به، إلا ما قد سلف، فقد وضعه الله
عنكم.
والثاني: أنها بمعنى: سوى ما قد سلف، قاله الفراء.
والثالث: أنها بمعنى: لكن ما قد سلف فدعوه، قاله قطرب. وقال ابن الأنباري: لكن ما قد
سلف، فإنه كان فاحشة.
والرابع: أن المعنى: ولا تنكحوا كنكاح آباؤكم النساء، أي: كما نكحوا على الوجوه الفاسدة
التي لا تجوز في الإسلام إلا ما قد سلف في جاهليتكم، من نكاح لا يجور ابتداء مثله في الإسلام،
فإنه معفو لكم عنه، وهذا كقول القائل: لا تفعل ما فعلت، أي: لا تفعل مثل ما فعلت، ذكره ابن
جرير.
والخامس: أنها بمعنى " الواو " فتقديرها: ولا ما قد سلف، فيكون المعنى: إقطعوا ما أنتم
عليه من نكاح الآباء، ولا تبتدئوا، قاله بعض أهل المعاني.
والسادس: أنها للاستثناء، فتقدير الكلام: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز
إلا ما قد سلف منهم بالزنى، والسفاح، فإنهن حلال لكم، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: (إنه) يعني النكاح، و " الفاحشة ": ما يفحش ويقبح. " والمقت ": أشد
البغض. وفي المراد بهذا " المقت " قولان:
أحدهما: أنه اسم لهذا النكاح، وكانوا يسمون نكاح امرأة الأب في الجاهلية: مقتا، ويسمون
الولد منه: " المقتي " فأعلموا أن هذا الذي حرم عليهم لم يزل منكرا ممقوتا عندهم. هذا قول
الزجاج.
والثاني: أنه يوجب مقت الله لفاعله، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله: (وساء سبيلا) قال ابن قتيبة: أي: قبح هذا الفعل طريقا.
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات
الأخت وأمهاتكم اللتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم
104

اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح
عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف
إن الله كان غفورا رحيما (23)
قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) قال الزجاج: الأصل في أمهات: أمات، ولكن
الهاء زيدت مؤكدة، كما زادوها في: أهرقت الماء، وإنما أصله: أرقت.
قوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) إنما سمين أمهات، لموضع الحرمة. واختلفوا:
هل يعتبر في الرضاع العدد، أم لا؟ فنقل حنبل، عن أحمد: أنه يتعلق التحريم بالرضعة الواحدة،
وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، والحسن، وطاوس، والشعبي، والنخعي،
والزهري، والأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وأصحابه. ونقل محمد بن العباس، عن
أحمد: أنه يتعلق التحريم بثلاث رضعات. ونقل أبو الحارث، عن أحمد: لا يتعلق بأقل من خمس
رضعات متفرقات، وهو قول الشافعي.
قوله تعالى: (وأمهات نسائكم) أمهات النساء: يحرمن بنفس العقد على البنت، سواء
دخل بالبنت، أو لم يدخل، وهذا قول عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وعمران بن حصين ومسروق،
وعطاء، وطاوس، والحسن، والجمهور. وقال علي [رضي الله عنه] في رجل طلق امرأته قبل الدخول:
له أن يتزوج أمها وهذا قول مجاهد، وعكرمة.
قوله تعالى: (وربائبكم) الربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره. ومعنى الربيبة: مربوبة، لأن
الرجل يربيها، وخرج الكلام على الأعم من كون التربية في حجر الرجل، لا على الشرط. قوله:
(وحلائل أبنائكم) قال الزجاج: الحلائل: الأزواج. وحليلة: بمعنى محلة، وهي مشتقة من
الحلال. وقال غيره: سميت بذلك، لأنها تحل معه أينما كان. وقرأت على شيخنا أبي منصور
اللغوي، قال: الحليل: الزوج، والحليلة: المرأة، وسميا بذلك، إما لأنهما يحلان في موضع
واحد، أو لأن كل واحد منهما يحال صاحبه، أي: ينازله، أو لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه.
قوله [تعالى]: (الذين من أصلابكم) قال عطاء: إنما ذكر الأصلاب، لأجل الأدعياء. والكلام
105

في قوله [تعالى]: (إلا ما قد سلف) على نحو ما تقدم في الآية التي قبلها. وقد زادوا في هذا
قولين آخرين:
أحدهما: إلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه السلام، لأنه جمع بين أم يوسف وأختها، وهذا
مروي عن عطاء، والسدي، وفيه ضعف لوجهين:
أحدهما: أن هذا التحريم يتعلق بشريعتنا، وليس كل الشرائع تتفق، ولا وجه للعفو عنا فيما
فعله غيرنا.
والثاني: أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله، لعسر عليه.
والقول الثاني: أن تكون فائدة هذا الاستثناء أن العقود المتقدمة على الأختين لا تنفسخ،
ويكون للإنسان أن يختار إحداهما، ومنه حديث فيروز الديلمي قال: أسلمت وعندي أختان، فأتيت
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " طلق إحداهما " ذكره القاضي أبو يعلى.
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء
ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن
فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما (24)
قوله: (والمحصنات من النساء) أما سبب نزولها، فروى أبو سعيد الخدري قال: أصبنا
سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية،
فاستحللناهن.
وأما خلاف القراء، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة بفتح
الصاد في كل القرآن، وفتح الكسائي الصاد في هذه وحدها، قال ابن قتيبة: والإحصان: أن يحمي
الشئ، ويمنع منه، فالمحصنات: ذوات الأزواج، لأن الأزواج أحصنوهن، ومنعوا منهن.
والمحصنات: الحرائر وإن لم يكن متزوجات، لأن الحرة تحصن وتحصن، وليست كالأمة. والثاني: العفائف: فإنهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح، أو ملك يمين. وهذا قول
106

عمر بن الخطاب، وأبي العالية، وعطاء، وعبيدة، والسدي.
والثالث: الحرائر، فالمعنى: أنهن حرام بعد الأربع اللواتي ذكرن في أول السورة، روي عن
ابن عباس، وعبيدة.
فعلى القول الأول في معنى قوله [تعالى]: (إلا ما ملكت أيمانكم) قولان:
أحدهما: أن معناه إلا ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب، وعلى هذا تأول الآية
علي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وابن عباس، وكان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقا.
والثاني: إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء ذوات الأزواج، بسبي أو غير سبي، وعلى هذا
تأول الآية ابن مسعود، وأبي بن كعب، وجابر، وأنس وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقا. وقد
ذكر ابن جرير، عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن: أنهم قالوا: بيع الأمة طلاقها،
والأول أصح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة إذ أعتقتها عائشة، بين المقام مع زوجها الذي زوجها منه
سادتها في حال رقها، وبين فراقه، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم عتق عائشة إياها طلاقا، ولو كان طلاقا لم
يكن لتخييره إياها معنى. ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية.
وعلى القول الثاني: العفائف حرام إلا بملك، والملك يكون عقدا، ويكون ملك يمين.
وعلى القول الثالث: الحرائر حرام بعد الأربع إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء، فإنهن لم
يحصرن بعدد.
قوله تعالى: (كتاب الله عليكم) قال الزجاج: هو منصوب على التوكيد، محمول على
المعنى، لأن معنى " حرمت عليكم أمهاتكم ": كتب الله عليكم هذا كتابا، قال: ويجوز أن ينتصب
على جهة الأمر، ويكون " عليكم " مفسرا له، فيكون المعنى: الزموا كتاب الله. قال: (وأحل لكم
ما وراء ذلكم) أي: ما بعد هذه الأشياء، إلا أن السنة، قد حرمت تزويج المرأة على عمتها،
وتزويجها على خالتها وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران: " كتب الله عليكم " بفتح الكاف، والتاء،
والباء، من غير ألف، ورفع الهاء. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: وأحل بفتح
الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي: بضم الألف.
107

فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله: وعامة العلماء ذهبوا إلى أن قوله [تعالى]: (وأحل لكم ما
وراء ذلكم) تحليل ورد بلفظ العموم، وأنه عموم دخله التخصيص، والمخصص له نهي النبي صلى الله عليه وسلم
أن تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها. وليس هذا على سبيل النسخ. وذهب طائفة إلى أن
التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث.
قوله تعالى: (أن تبتغوا بأموالكم) أي: تطلبوا إما بصداق في نكاح، أو ثمن في ملك
(محصنين) قال ابن قتيبة: متزوجين، وقال الزجاج: عاقدين التزويج، وقال غيرهما: متعففين غير
زانين. والسفاح: الزنى، قال ابن قتيبة.. أصله من سفحت القربة: إذا صببتها، فسمي الزنى سفاحا،
لأن [حين يسافح] يصب النطفة، وتصب المرأة النطفة. وقال ابن فارس: السفاح: صب الماء بلا
عقد، ولا نكاح، فهو كالشئ يسفح ضياعا.
قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) فيه قولان:
أحدهما: أنه الاستمتاع في النكاح بالمهور، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد،
والجمهور.
والثاني: أنه الاستمتاع إلى أجل مسمى من غير عقد نكاح. وقد روي عن ابن عباس أنه
كان يفتي بجواز المتعة، ثم رجع عن ذلك وقد تكلف قوم من مفسري القراء، فقالوا: المراد بهذه
الآية نكاح المتعة، ثم نسخت بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن متعة النساء، وهذا تكلف لا
يحتاج إليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز المتعة، ثم منع منها، فكان قوله منسوخا بقوله. وأما الآية، فإنها لم
تتضمن جواز المتعة. لأنه تعالى قال فيها: (أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) فدل ذلك
على النكاح الصحيح. قال الزجاج: ومعنى قوله [تعالى]: (فما استمعتم به منهن) فما
نكحتموهن على الشريطة التي جرت، وهو قوله: (محصنين غير مسافحين) أي: عاقدين التزويج
(فآتوهن أجورهن) أي: مهورهن. ومن ذهب في الآية إلى غير هذا، فقد أخطأ، وجهل اللغة.
قوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) فيه ستة أقوال:
أحدها: أن معناه: لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها، ووهبته لزوجها، هذا مروي
عن ابن عباس، وابن زيد.
والثاني: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من مقام، أو فرقة بعد أداء الفريضة، روي عن ابن
عباس أيضا.
108

والثالث: ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من
أن ينقصنكم، وسلم أو يبرئنكم، قاله أبو سليمان التيمي.
والرابع: لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل، وتزيدونهن في الأجر
من غير استبراء، قاله السدي، وهو يعود إلى قصة المتعة.
والخامس: لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها، أو يهب هو للتي لم يدخل بها
نصف المهر الذي لا يجب عليه. قاله الزجاج.
والسادس: أنه عام في الزيادة، والنقصان، والتأخير، والإبراء، قاله القاضي أبو يعلى
ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم
من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن
وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن
فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت
منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم (25)
قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا) " الطول ": الغنى والسعة في قول الجماعة.
و " المحصنات ": الحرائر، قال الزجاج: والمعنى: من لم يقدر على مهر الحرة، يقال: قد طال
فلان طولا على فلان، أي: كان له فضل عليه في القدرة. والمراد بالفتيات هاهنا: المملوكات،
يقال للأمة: فتاة، وللعبد: فتى، وقد سمي بهذا الاسم من ليس بمملوك. قرأت على شيخنا الإمام
أبي منصور اللغوي قال: المتفتية: الفتاة والمراهقة، ويقال للجارية الحدثة: فتاة، وللغلام: فتى،
قال القتيبي: وليس الفتى بمعنى الشاب والحدث، إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال.
109

فأما ذكر الايمان، فشرط في إباحتهن، ولا يجوز نكاح الأمة الكتابية، هذا قول الجمهور،
وقال أبو حنيفة: يجوز.
قوله تعالى: (والله أعلم بإيمانكم) قال الزجاج: معناه: اعملوا على ظاهركم في الإيمان،
فإنكم متعبدون بما ظهر من بعضكم لبعض. قال: وفي قوله [تعالى]: (بعضكم من بعض)
وجهان:
أحدهما: أنه أراد النسب، أي: كلكم ولد آدم. ويجوز أن يكون معناه: دينكم واحد، لأنه
ذكر هاهنا المؤمنات. وإنما قيل لهم ذلك، لأن العرب كانت تطعن في الأنساب، وتفخر بالأحساب،
وتسمي ابن الأمة: الهجين، فأعلم الله عز وجل أن أمر العبيد وغيرهم مستوفى باب الإيمان، وإنما
كره التزويج بالأمة، وحرم إذا وجد إلى الحرة سبيلا، لأن ولد الأمة من الحر يصيرون رقيقا، ولأن
الأمة ممتهنة في عشرة الرجال، وذلك يشق على الزوج.
قال ابن الأنباري: ومعنى الآية كلكم بنو آدم، فلا يتداخلكم شموخ وأنفة من تزوج الإماء
عند الضرورة.
وقال ابن جرير: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح
المحصنات فلينكح بعضكم من بعض، أي: لينكح هذا فتاة هذا.
قوله تعالى: (فانكحوهن) يعني: الإماء (بإذن أهلهن) أي: سادتهن. و " الأجور ":
المهور. وفي قوله (بالمعروف) قولان:
أحدهما: أنه مقدم في المعنى، فتقديره: انكحوهن بإذن أهلهن بالمعروف، أي: بالنكاح
الصحيح (وآتوهن أجورهن).
والثاني: أن المعنى: وآتوهن أجورهن بالمعروف، كمهور أمثالهن. قال ابن عباس:
" محصنات ": عفائف غير زوان (ولا متخذات أخدان) يعني: أخلاء كان الجاهلية يحرمون ما
ظهر من الزنى، ويستحلون ما خفي. وقال في رواية أخرى: " المسافحات ": المعلنات بالزنى.
و " المتخذات أخدان ": ذات الخليل الواحد. وقال غيره: كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه، ولا تزني
مع غيره.
قوله تعالى: (فإذا أحصن) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " أحصن "
مضمومة الألف. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم: بفتح الألف، والصاد.
قال ابن جرير: من قرأ بالفتح، أراد: أسلمن، فصرن ممنوعات الفروج عن الحرام بالاسلام، ومن
110

قرأ بالضم، أراد: فإذا تزوجن، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج.
فأما " الفاحشة "، فهي الزنى، و (المحصنات): الحرائر، و " العذاب ": الحد. قال
القاضي أبو يعلى: وليس الإسلام والتزويج شرطا في إيجاب الحد على الأمة، بل يجب وإن عدما،
وإنما شرط الإحصان في الحد، لئلا يتوهم متوهم أن عليها نصف ما على الحرة إذا لم تكن
محصنة، وعليها مثل ما على الحرة إذا كانت محصنة.
قوله تعالى: (ذلك) الإشارة إلى إباحة تزويج الإماء. وفي (العنت) خمسة أقوال:
أحدها: أنه الزنى، قاله ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد،
ومقاتل، وابن قتيبة.
والثاني: أنه الهلاك، ذكره أبو عبيدة، والزجاج.
والثالث: لقاء المشقة في محبة الأمة، حكاه الزجاج.
والرابع: أن العنت هاهنا: الإثم.
والخامس: أنه العقوبة التي تعنته، وهي الحد، ذكرهما ابن جرير الطبري.
قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على إباحة نكاح الإماء المؤمنات بشرطين:
أحدهما: عدم طول الحرة.
والثاني: خوف الزنى، وهذا قول ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومسروق، ومكحول،
وأحمد، ومالك، والشافعي. وقد روي عن علي، والحسن، وابن المسيب، ومجاهد، والزهري،
قالوا: ينكح الأمة، وإن كان موسرا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
قوله تعالى: (وأن تصبروا خير لكم) قال ابن عباس والجماعة: عن نكاح الإماء، وإنما
ندب إلى الصبر عنه، لاسترقاق الأولاد.
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26)
قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم) اللام بمعنى " أن " وهذا مذهب جماعة من أهل العربية،
واختاره ابن جرير، ومثله (وأمرت لأعدل بينكم) (وأمرنا لنسلم) (يريدون
ليطفئوا).
111

والبيان من الله تعالى بالنص تارة، وبدلالة النص أخرى. قال الزجاج: و " السنن ": الطرق،
فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم. وقال غيره: معنى الكلام: يريد الله ليبين لكم
سنن من قبلكم من أهل الحق والباطل، لتجتنبوا الباطل وتجيبوا الحق، ويهديكم إلى الحق.
الله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27)
قوله تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم) قال الزجاج: يريد أن يدلكم على ما يكون سببا
لتوبتكم. وفي الذين اتبعوا الشهوات أربعة أقوال:
أحدها: أنهم الزناة، قاله مجاهد، ومقاتل.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله السدي.
والثالث: أنهم اليهود خاصة، ذكره ابن جرير.
والرابع: أهل الباطل، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: (أن تميلوا ميلا عظيما) أي: عن الحق بالمعصية.
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28)
قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم) التخفيف: تسهيل التكليف، أو إزالة بعضه. قاله
ابن جرير: والمعنى: يريد أن ييسر لكم بإذنه في نكاح الفتيات المؤمنات لمن لم يستطع طولا
لحرة. وفي المراد بضعف الانسان ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الضعف في أصل الخلقة. قال الحسن: هو أنه خلق من ماء مهين.
والثاني: أنه قلة الصبر عن النساء، قاله طاوس، ومقاتل.
والثالث: أنه ضعف العزم عن قهر الهوى، وهذا قول الزجاج، وابن كيسان.
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم
ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29)
قوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) الباطل: ما لا يحل في الشرع.
قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " تجارة "
112

بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم بالنصب، وقد بينا العلة في آخر (البقرة).
قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) فيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه على ظاهره، وأن الله حرم على العبد قتل نفسه، وهذا الظاهر.
والثاني: أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضا، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وسعيد بن
جبير، وعكرمة، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة.
والثالث: أن المعنى: لا تكلفوا أنفسكم عملا ربما أدى إلى قتلها وإن كان فرضا، وعلى هذا
تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جنبا في ليلة باردة، فلما ذكر
ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال له: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال: يا رسول الله إني احتلمت
في ليلة باردة، وأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) فضحك
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرابع: أن المعنى: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظها، فكأنما قتلها، هذا
قول الفضيل بن عياض.
والخامس: لا تقتلوها بارتكاب المعاصي.
ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30)
قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما) في المشار إليه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه قتل النفس، قاله ابن عباس، وعطاء.
والثاني: أنه عائد إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هاهنا، روي عن ابن عباس
أيضا.
والثالث: قتل النفس، وأكل الأموال بالباطل، قاله مقاتل.
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31)
113

قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) اجتناب الشئ: تركه جانبا.
وفي الكبائر أحد عشر قولا:
أحدها: أنها سبع، فروى البخاري، ومسلم في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله،
والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف،
وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ".
وقد روي هذا الحديث من طريق آخر عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الكبائر سبع،
الإشراك بالله أولهن، وقتل النفس بغير حقها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، والفرار
من الزحف، ورمي المحصنات، وانقلاب إلى أعرابية بعد هجرة.
وروي عن علي عليه السلام قال: هي سبع، فعد هذه.
وروي عن عطاء أنه قال: هي سبع، وعد هذه، إلا أنه ذكر مكان الإشراك والتعرب شهادة
الزور وعقوق الوالدين.
والثاني: أنها تسع، روى عبيد بن عمير، عن أبيه، وكان من الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل
ما الكبائر؟ فقال: " تسع، أعظمهن الإشراك بالله، وقتل نفس المؤمن بغير حق، والفرار من
الزحف، وأكل مال اليتيم، والسحر، وأكل الربا، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين المسلمين،
واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ".
والثالث: أنها أربع: روى البخاري، ومسلم في " الصحيحين " من حديث عبد الله بن
عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين
الغموس ".
114

وروى أنس بن مالك قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر، أو سئل عنها، فقال: " الشرك بالله،
وقتل النفس، وعقوق الوالدين " وقال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور، أو شهادة الزور ".
وروي عن ابن مسعود أنه قال: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والأمن لمكر الله، والقنوط من رحمة
الله، والإياس من روح الله وعن عكرمة نحوه.
والرابع: أنها ثلاث، فروى عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا أنبئكم بأكبر
الكبائر؟ الشرك بالله، وعقوق الوالدين - وكان متكئا فاحتفز - قال: والزور ". وروى البخاري،
ومسلم في " الصحيحين " من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟
قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين - وكان متكئا فجلس - فقال: وشهادة
الزور " فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت - وأخرجا في " الصحيحين " من حديث ابن مسعود
قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أكبر؟ قال: " أن تجعل لله تعالى ندا وهو خلقك ". قلت: ثم
أي؟ قال: " ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ". قلت: ثم أي؟ قال: " أن تزاني حليلة
جارك ".
والخامس: أنها مذكورة من أول السورة إلى هذه الآية، قاله ابن مسعود وابن عباس.
والسادس: أنها إحدى عشرة: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وقتل
النفس، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا " والفرار من الزحف، وقذف المحصنات، وشهادة الزور،
والسحر، والخيانة. روي عن ابن مسعود أيضا.
والسابع: أنها كل ذنب يختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، رواه ابن أبي طلحة،
عن ابن عباس.
والثامن: أنها كل ما أوجب الله عليه النار في الآخرة، والحد في الدنيا، روى هذا المعنى أبو
صالح، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
والتاسع: أنها كل ما عصي الله به، روي عن ابن عباس، وعبيدة، وهو قول ضعيف.
115

والعاشر: أنها كل ذنب أوعد الله عليه النار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد،
والضحاك في رواية، والزجاج.
والحادي عشر: أنها ثمان، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل المؤمن، وقذف المحصنة،
والزنا، وأكل مال اليتيم، وقول الزور، واقتطاع الرجل بيمينه وعهده ثمنا قليلا. رواه محرز، عن
الحسن البصري.
قوله تعالى: (نكفر عنكم سيئاتكم) روى المفضل، عن عاصم: " يكفر " " ويدخلكم "
بالياء فيهما، وقرأ الباقون بالنون فيهما، وقرأ نافع، وأبان، عن عاصم، والكسائي، عن أبي بكر،
عن عاصم: " مدخلا " بفتح الميم هاهنا، وفي (الحج) وضم الباقون " الميم "، ولم يختلفوا في
ضم " ميم " (مدخل صدق) و (مخرج صدق) قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون
" المدخل " مصدرا ويجوز أن يكون مكانا، سواء فتح، أو ضم: قال السدي: السيئات هاهنا: هي
الصغائر. والمدخل الكريم: الجنة. قال ابن قتيبة: والكريم: بمعنى: الشريف.
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب
مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما (32)
قوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن أم سلمة قالت: يا رسول الله: يغزو الرجال، ولا نغزو، وإنما لنا نصف
الميراث، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
والثاني: أن النساء قلن: وددن أن الله جعل لنا الغزو، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال،
فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة.
والثالث: أنه لما نزل (للذكر مثل حظ الأنثيين) قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على
النساء بحسناتنا، كما فضلنا عليهن في الميراث، وقال النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف
116

ما على الرجال، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة،
والسدي.
وفي معنى هذا التمني قولان:
أحدهما: أن يتمنى الرجل مال غيره، قاله ابن عباس، وعطاء.
والثاني: أن يتمنى النساء أن يكن رجالا. وقد روي عن أم سلمة أنها قالت: يا ليتنا كنا
رجال، فنزلت هذه الآية. وللتمني وجوه:
أحدها: أن يتمنى الإنسان أن يحصل له مال غيره، ويزول عن الغير، فهذا الحسد.
والثاني: أن يتمنى مثل ما لغيره، ولا يحب زواله عن الغير، فهذا هو الغبطة وربما لم يكن
نيل ذلك مصلحة في حق المتمني. قال الحسن: لا تمن مال فلان، ولا مال فلان، وما يدريك لعل
هلاكه في ذلك المال؟
والثالث: أن تتمنى المرأة أن تكون رجلا، ونحو هذا مما لا يقع، فليعلم العبد أن الله أعلم
بالمصالح، فليرض بقضاء الله، ولتكن أمانيه الزيادة من عمل الآخرة.
قوله تعالى: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) فيه قولان:
أحدهما: أن المراد بهذا الاكتساب: الميراث، وهو قول ابن عباس، وعكرمة.
والثاني: أنه الثواب والعقاب. فالمعنى: أن المرأة تثاب كثواب الرجل، وتأثم كإثمه، هذا
قول قتادة، وابن السائب، ومقاتل، واحتج على صحته أبو سليمان الدمشقي بأن الميراث لا يحصل
بالاكتساب، وبأن الآية نزلت لأجل التمني والفضل.
قوله تعالى: (واسألوا الله من فضله) قرأ ابن كثير، والكسائي، وأبان، وخلف في
اختياره (وسل الله) (وسل الذين) (وسل بني إسرائيل) (وسل من أرسلنا) وما كان مثله من
الأمر المواجه به، وقبله " واو " أو " فاء " فهو غير مهموز عندهم. وكذلك نقل عن أبي جعفر،
وشيبة. وقرأ الباقون بالهمز في ذلك كله، ولم يختلفوا في قوله [تعالى]: (وليسألوا ما أنفقوا)
أنه مهموز.
117

وفي المراد بالفضل قولان:
أحدهما: أن الفضل: الطاعة، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والسدي.
والثاني: أنه الرزق، قاله ابن السائب، فيكون المعنى: سلوا الله ما تتمنونه من النعم، ولا
تتمنوا مال غيركم.
ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم
إن الله كان على كل شئ شهيدا (33)
قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي) الموالي: الأولياء، وهم الورثة من العصبة وغيرهم.
ومعنى الآية: لكل إنسان موالي يرثون ما ترك. وارتفاع الوالدين والأقربين على معنيين من الإعراب:
أحدهما: أن يكون الرفع على خبر الابتداء، والتقدير: وهم الوالدان والأقربون، ويكون تمام
الكلام قوله: (مما ترك).
والثاني: أن يكون رفعا على أنه الفاعل التارك للمال، فيكون الوالدان، هم المولى.
قوله تعالى: (والذين عقدت أيمانكم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
" عاقدت " بالألف، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " عقدت " بلا ألف. قال أبو علي: من قرأ
بالألف، فالتقدير: والذي عاقدتهم أيمانكم، ومن حذف الألف، فالمعنى: عقدت حلفهم أيمانكم،
فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وفيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أهل الحلف، كان الرجل يحالف الرجل، فأيهما مات ورثه الآخر، فنسخ ذلك
بقوله [تعالى] (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس
وروى عنه عطية قال: كان الرجل يلحق الرجل في الجاهلية، فيكون تابعه، فإذا مات الرجل، صار
لأهله الميراث، وبقي تابعه بغير شئ، فأنزل الله (والذين عاقدت أيمانكم) فأعطي من ميراثه،
ثم نزل من بعد ذلك (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) وممن قال هم الحلفاء: سعيد بن
جبير، وعكرمة، وقتادة.
والثاني: أنهم الذين آخى بينهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وهم المهاجرون والأنصار، كان
المهاجرون يورثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. رواه سعيد بن جبير،
118

عن ابن عباس. وبه قال ابن زيد.
والثالث: أنهم الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية، هذا قول سعيد ابن المسيب.
فأما أرباب القول الأول، فقالوا: نسخ حكم الحلفاء الذين كانوا يتعاقدون على النصرة والميراث بآخر
(الأنفال)، وإليه ذهب ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، ومالك،
وأحمد، والشافعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا الحكم باق غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي
المعاقدة. وذهب قوم إلى أن المراد: فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة من غير ميراث، وهذا
مروي عن ابن عباس، ومجاهد. وذهب قوم آخرون إلى أن المعاقدة: إنما كانت في الجاهلية على
النصرة لا غير، والإسلام لم يغير ذلك، وإنما قرره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أيما حلف كان في
الجاهلية، فإن الإسلام لم يزده إلا شدة " أراد: النصر والعون. وهذا قول سعيد بن جبير، وهو
يدل على أن الآية محكمة.
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم
فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن
في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا
كبيرا (34)
قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء) سبب نزولها: أن رجلا لطم زوجته لطمة
فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وذكر
المفسرون أنه سعد بن الربيع الأنصاري. قال ابن عباس: " قوامون " أي: مسلطون على تأديب
النساء في الحق. وروى هشام بن محمد، عن أبيه في قوله [تعالى]: (الرجال قوامون على
النساء) قال: إذا كانوا رجالا، وأنشد:
119

أكل امرئ تحسبين امرءا * ونارا توقد بالليل نارا
قوله تعالى: (بما فضل الله بعضهم على بعض) يعني: الرجال على النساء، وفضل الرجل
على المرأة بزيادة العقل، وتوفير الحظ في الميراث، والغنيمة، والجمعة، والجماعات، والخلافة،
والإمارة، والجهاد، وجعل الطلاق إليه إلى غير ذلك.
قوله تعالى: (وبما أنفقوا من أموالهم) قال ابن عباس يعني: المهر والنفقة عليهن. وفي
" الصالحات " قولان:
أحدهما: المحسنات إلى أزواجهن، قاله ابن عباس.
والثاني: العاملات بالخير، قاله ابن مبارك. قال ابن عباس. و " القانتات ": المطيعات لله
في أزواجهن، والحافظات للغيب، أي: لغيب أزواجهن. وقال عطاء، وقتادة: يحفظن ما غاب عنه
الأزواج من الأموال، وما يجب عليهن من صيانة أنفسهن لهم.
قوله تعالى: (بما حفظ الله) قرأ الجمهور برفع اسم " الله " وفي معنى الكلام على قراءتهم
ثلاثة أقوال:
أحدها: بحفظ الله إياهن، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل، وروى ابن المبارك،
عن سفيان، قال: بحفظ الله إياها أن جعلها كذلك.
والثاني: بما حفظ الله لهن مهورهن، وإيجاب نفقتهن، قاله الزجاج.
والثالث: أن معناه: حافظات للغيب بالشئ الذي يحفظ به أمر الله، حكاه الزجاج. وقرأ أبو
جعفر بنصب اسم الله. والمعنى: بحفظهن الله في طاعته.
قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن) في الخوف قولان:
أحدهما: أنه بمعنى العلم، قاله ابن عباس.
والثاني: بمعنى الظن لما يبدو من دلائل النشوز، قاله الفراء، وأنشد:
وما خفت يا سلام أنك عائبي
قال ابن قتيبة: والنشوز: بغض المرأة للزوج، يقال: نشزت المرأة على زوجها، ونشصت:
إذا فركته، ولم تطمئن عنده، وأصل النشوز: الانزعاج. قال الزجاج: أصله من النشز، وهو المكان
المرتفع من الأرض.
قوله تعالى: (فعظوهن) قال الخليل: الوعظ: التذكير بالخير فيما يرق له القلب. قال
120

الحسن: يعظها بلسانه، فان أبت وإلا هجرها. واختلفوا في المراد بالهجر في المضجع على أربعة
أقوال:
أحدها: أنه ترك الجماع، رواه سعيد بن جبير، وابن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس
وبه قال ابن جبير، ومقاتل.
والثاني: أنه ترك الكلام، لا ترك الجماع، رواه أبو الضحى، عن ابن عباس، وخصيف، عن
عكرمة، وبه قال السدي، والثوري.
والثالث: أنه قول الهجر من الكلام في المضاجع، روي عن ابن عباس، والحسن،
وعكرمة. فيكون المعنى: قولوا لهن في المضاجع هجرا من القول.
والرابع: أنه هجر فراشها، ومضاجعتها. روي عن الحسن، والشعبي، ومجاهد، والنخعي،
ومقسم، وقتادة. قال ابن عباس: اهجرها وهو في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها
ضربا غير مبرح. وقال جماعة من أهل العلم: الآية على الترتيب، فالوعظ عند خوف النشوز،
والهجر عند ظهور النشوز، والضرب عند تكرره، واللجاج فيه. ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز،
قال القاضي أبو يعلى: وعلى هذا مذهب أحمد. وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز.
قوله تعالى: (فإن أطعنكم) قال ابن عباس: يعني في المضجع (فلا تبغوا عليهن سبيلا)
أي: فلا تتجن عليها العلل. وقال سفيان بن عيينة: لا تكلفها الحب، لأن قلبها ليس في يدها.
وقال ابن جرير: المعنى: فلا تلتمسوا سبيلا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل، وذلك
أن تقول لها وهي مطيعة لك: لست لي محبة، فتضربها، أو تؤذيها.
قوله تعالى: (إن الله كان عليا كبيرا) قال أبو سليمان الدمشقي: لا تبغوا على أزواجكم،
فهو ينتصر لهن منكم. وقال الخطابي: الكبير: الموصوف بالجلال، وكبر الشأن، يصغر دون جلاله
كل كبير. ويقال: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين.
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله
بينهما إن الله كان عليما خبيرا (35)
قوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما) في الخوف قولان:
121

أحدهما: أنه الحذر من وجود ما لا يتيقن وجوده، قاله الزجاج.
والثاني: أنه العلم، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال الزجاج: والشقاق: العداوة، واشتقاقه من
المتشاقين، كل صنف منهم في شق. و " الحكم ": هو القيم بما يسند إليه. وفي المأمور بانفاذ
الحكمين قولان:
أحدهما: أنه السلطان إذا ترافعا إليه، قاله سعيد بن جبير، والضحاك.
والثاني: الزوجان، قاله السدي.
قوله تعالى: (إن يريدا إصلاحا) قال ابن عباس: يعني الحكمين. وفي قوله [تعالى]:
(يوفق الله بينهما) قولان.
أحدهما: أنه راجع إلى الحكمين، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وعطاء، والسدي
والجمهور.
والثاني: أنه راجع إلى الزوجين، ذكره بعض المفسرين.
فصل
والحكمان وكيلان للزوجين، ويعتبر رضى الزوجين فيما يحكمان به، هذا قول أحمد، وأبي
حنيفة، وأصحابه. وقال مالك، والشافعي: لا يفتقر حكم الحكمين إلى رضى الزوجين.
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين
والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت إيمانكم
إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36)
قوله تعالى: (واعبدوا الله) قال ابن عباس: وحدوه.
قوله تعالى: (وبالوالدين إحسانا) قال الفراء: أغراهم بالإحسان إلى الوالدين.
قوله تعالى: (والجار ذي القربى) فيه قولان:
122

أحدهما: أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك،
وقتادة، وابن زيد، ومقاتل في آخرين.
والثاني: أنه الجار المسلم، قاله نوف الشامي. فيكون المعنى: ذي القربى منكم بالإسلام.
قوله تعالى: (والجار الجنب) روى المفضل، عن عاصم: والجار الجنب بفتح الجيم،
وإسكان النون. قال أبو علي: المعنى: والجار ذي الجنب، فحذف المضاف. وفي الجار الجنب
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء،
وعكرمة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل، في آخرين.
والثاني: أنه جارك عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخلفك، رواه الضحاك، عن ابن
عباس.
والثالث: أنه اليهودي والنصراني، قاله نوف الشامي وفي الصاحب بالجنب ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الزوجة، قاله علي، وابن مسعود، والحسن، وإبراهيم النخعي، وابن أبي ليلى.
والثاني: أنه الرفيق في السفر، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقتادة، والضحاك،
والسدي، وابن قتيبة. وعن سعيد بن جبير كالقولين.
والثالث: أنه الرفيق، رواه ابن جريج، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. قال ابن زيد: هو
الذي يلصق بك رجاء خيرك. وقال مقاتل: هو رفيقك حضرا وسفرا. وفي ابن السبيل أقوال قد
ذكرناها في (البقرة).
قوله تعالى: (وما ملكت أيمانكم) يعني: المملوكين. وقال بعضهم: يدخل فيه الحيوان
البهيم. قال ابن عباس: والمختال: البطر في مشيته، والفخور: المفتخر على الناس بكبره. وقال
مجاهد: هو الذي يعد ما أعطى، ولا يشكر الله، وقال ابن قتيبة: المختال: ذو الخيلاء والكبر.
وقال الزجاج: المختال: الصلف التياه الجهول. وإنما ذكر الاختيال هاهنا، لأن المختال يأنف من
ذوي قراباته، ومن جيرانه إذا كانوا فقراء.
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين
عذابا مهينا (37)
قوله تعالى: (الذين يبخلون) ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود. فأما سبب نزولها، فقال
123

ابن عباس: كان كردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحيي بن
أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكانوا يخالطونهم، وينتصحون لهم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى
عليكم الفقر ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فنزلت هذه الآية. وفي
الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان:
أحدهما: أنه المال، قاله ابن عباس، وابن زيد.
والثاني: أنه إظهار صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي.
قوله تعالى: (ويأمرون الناس بالبخل) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن
عامر: بالبخل " خفيفا " وقرأ حمزة، والكسائي: " بالبخل " محركا، وكذلك في سورة الحديد وفي
الذين آتاهم الله من فضله قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، أوتوا علم نعت محمد صلى الله عليه وسلم فكتموه، هذا قول الجمهور.
والثاني: أنهم أرباب الأموال بخلوا بها، وكتموا الغنى، ذكره الماوردي في آخرين.
قوله تعالى: (وأعتدنا) قال الزجاج: معناه: جعلنا ذلك عتادا لهم، أي مثبتا لهم.
والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان
له قرينا فساء قرينا (38)
قوله تعالى: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل.
والثاني: أنهم المنافقون، قاله السدي، والزجاج، وأبو سليمان الدمشقي.
والثالث: مشركو مكة أنفقوا على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره الثعلبي.
والقرين: الصاحب المؤالف، وهو فعيل من الاقتران بين الشيئين. وفي معنى مقارنة الشيطان
قولان:
124

أحدها: مصاحبته في الفعل.
والثاني: مصاحبته في النار.
وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما (39)
قوله تعالى: (وماذا عليهم) المعنى: وأي شئ على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء
الناس، ولا يؤمنون بالله، لو آمنوا!. وفي الإنفاق المذكور هاهنا قولان:
أحدهما: أنه الصدقة، قاله ابن عباس.
والثاني: الزكاة، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي قوله [تعالى]: (وكان الله بهم عليما)
تهديد لهم على سوء مقاصدهم.
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وأن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (40)
قوله تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) قد شرحنا الظلم فيما سلف، وهو مستحيل على
الله عز وجل، لأن قوما قالوا: الظلم: تصرف فيما لا يملك، والكل ملكه، وقال آخرون: هو وضع
الشئ في غير موضعه، وحكمته لا تقتضي فعلا لا فائدة تحته. ومثقال الشئ: زنة الشئ. قال ابن
قتيبة: يقال: هذا على مثقال هذا، أي: على وزنه. قال الزجاج: وهو مفعال من الثقل.
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: يظن الناس أن المثقال وزن دينار لا غير، وليس
كما يظنون. مثقال كل شئ: وزنه، وكل وزن يسمى مثقالا، وإن كان وزن ألف. قال الله تعالى:
(وإن كان مثقال حبة من خردل) قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن صنجة مثقال الميزان،
فقال: فارسي، ولا أدري كيف أقول، ولكني أقول: مثقال، فإذا قلت للرجل: ناولني مثقالا،
فأعطاك صنجة ألف، أو صنجة حبة، كان ممتثلا.
وفي المراد بالذرة خمسة أقوال:
أحدها: أنه رأس نملة حمراء، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: ذرة يسيرة من التراب، رواه يزيد بن الأصم، عن ابن عباس.
والثالث: أصغر النمل، قاله ابن قتيبة، وابن فارس.
والرابع: الخردلة.
والخامس: الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب، ذكرهما الثعلبي.
125

واعلم أن ذكر الذرة ضرب مثل بما يعقل، والمقصود أنه لا يظلم قليلا ولا كثيرا.
قوله تعالى: (وإن تك حسنة) قرأ ابن كثير، ونافع: حسنة بالرفع. وقرأ الباقون بالنصب.
قال الزجاج: من رفع، فالمعنى: وإن تحدث حسنة، ومن نصب، فالمعنى: وإن تك فعلته
حسنة.
قول تعالى: (يضاعفها) قرأ ابن عامر، وابن كثير: يضعفها بالتشديد من غير ألف. وقرأ
الباقون: يضاعفها بألف مع كسر العين. قال ابن قتيبة: يضاعفها بالألف: يعطي مثلها مرات،
ويضعفها بغير ألف: يعطي مثلها مرة.
قوله تعالى: (من لدنه) أي: من قبله. والأجر العظيم: الجنة.
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41)
قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) قال الزجاج: معنى الآية فكيف يكون حال
هؤلاء يوم القيامة، فحذف الحال، لأن في الكلام دليلا عليه. ولفظ " كيف " لفظ الاستفهام،
ومعناها: التوبيخ. والشهيد: نبي الأمة. وبماذا يشهد فيه أربعة أقوال:
أحدها: بأنه قد بلغ أمته. قاله ابن مسعود، وابن جريج، والسدي، ومقاتل.
والثاني: بايمانهم، قاله أبو العالية.
والثالث: بأعمالهم، قاله مجاهد، وقتادة.
والرابع: يشهد لهم وعليهم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (وجئنا بك) يعني: نبينا صلى الله عليه وسلم. وفي هؤلاء ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم جميع أمته، ثم فيه قولان:
أحدهما: أنه يشهد عليهم.
والثاني: يشهد لهم فتكون " على " بمعنى: اللام.
والقول الثاني: أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرسالة، قاله مقاتل.
والثالث: اليهود والنصارى، ذكره الماوردي.
يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله
حديثا (42)
126

قوله تعالى: (لو تسوى بهم الأرض) قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: لو تسوى، بضم
التاء، وتخفيف السين. والمعنى: ودوا لو جعلوا ترابا، فكانوا هم والأرض سواء، هذا قول الفراء في
آخرين. قال أبو هريرة: إذا حشر الله الخلائق، قال للبهائم، والدواب، والطير: كوني ترابا. فعندها
يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا.
وقرأ نافع، وابن عامر: لو تسوى، بفتح التاء، وتشديد السين، والمعنى: لو تتسوى، فأدغمت
التاء في السين، لقربها منها. قال أبو علي: وفي هذه القراءة اتساع، لأن الفعل مسند إلى الأرض،
وليس المراد: ودوا لو صارت الأرض مثلهم، وإنما المعنى: ودوا لو يتسوون بها. ثم في المعنى
للمفسرين قولان:
أحدهما: أن معناه: ودوا لو تخرقت بهم الأرض، فساخوا فيها، قاله قتادة، وأبو عبيدة،
ومقاتل.
والثاني: أن معناه: ودوا أنهم لم يبعثوا، لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم منها،
قاله ابن كيسان، وذكر نحوه الزجاج، وقرأ حمزة، والكسائي: لو تسوى، بفتح التاء، وتخفيف السين
والواو مشددة ممالة، وهي بمعنى: تتسوى، فحذف التاء التي أدغمها نافع، وابن عامر. فأما معنى
القراءتين، فواحد.
قوله تعالى: (ولا يكتمون الله حديثا) في " الحديث " قولان:
أحدهما: أنه قولهم: ما كنا مشركين، هذا قول الجمهور.
والثاني: أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته، قاله عطاء: فعلى الأول يتعلق الكتمان بالآخرة،
وعلى الثاني يتعلق بما كان في الدنيا، فيكون المعنى: ودوا أنهم لم يكتموا ذلك.
وفي معنى الآية ستة أقوال:
أحدها: ودوا إذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم، وهذا المعنى مروي عن
ابن عباس.
والثاني: أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك، روي عن ابن
عباس أيضا.
127

والثالث: أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا، وفي موطن يكتمون، ويقولون: ما كنا مشركين،
قاله الحسن.
والرابع: أن قوله [تعالى]: (ولا يكتمون الله حديثا) كلام مستأنف لا يتعلق بقوله: لو
تسوى بهم الأرض، هذا قول الفراء، والزجاج. ومعنى: لا يكتمون الله حديثا: لا يقدرون على
كتمانه، لأنه ظاهر عند الله.
والخامس: أن المعنى: ودوا لو سويت بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثا.
والسادس: أنهم لم يعتقدوا قولهم: ما كنا مشركين كذبا، وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام
طاعة، ذكر القولين ابن الأنباري.
وقال القاضي أبو يعلى: أخبروا بما توهموا، إذ كانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين وذلك لا
يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا.
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا
عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط
أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن
الله كان عفوا غفورا (43)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) روى أبو عبد الرحمن
السلمي، عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا، وسقانا من
الخمر، فأخذت منا، وحضرت الصلاة، فقدموني، فقرأت " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون،
ونحن نعبد ما تعبدون " فنزلت هذه الآية. وفي رواية أخرى، عن أبي عبد الرحمن، عن علي
[رضي الله عنه] أن الذي قدموه، وخلط في هذه السورة، عبد الرحمن بن عوف.
وفي معنى قوله [تعالى]: (لا تقربوا الصلاة) قولان:
أحدهما: لا تتعرضوا بالسكر في أوقات الصلاة.
والثاني: لا تدخلوا في الصلاة في حال السكر، والأول أصح، لأن السكران لا يعقل ما
128

يخاطب به. وفي معنى: (وأنتم سكارى) قولان:
أحدهما: من الخمر، قاله الجمهور.
والثاني: من النوم، قاله الضحاك، وفيه بعد. وهذه الآية اقتضت إباحة السكر في غير أوقات
الصلاة، ثم نسخت بتحريم الخمر.
قوله تعالى: (ولا جنبا) قال ابن قتيبة: الجنابة: البعد، قال الزجاج: يقال: رجل جنب،
ورجلان جنب، ورجال جنب، كما يقال: رجل رضى، وقوم رضى. وفي تسمية الجنب بهذا الاسم
قولان:
أحدهما: لمجانبة مائه محله.
والثاني: لما يلزمه من اجتناب الصلاة، وقراءة القرآن، ومس المصحف، ودخول المسجد.
قوله تعالى: (إلا عابري سبيل) فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء
فتيمموا، وتصلوا. وهذا المعنى مروي عن علي [رضي الله عنه]. ومجاهد، والحكم، وقتادة،
وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والزجاج.
والثاني: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين، ولا تقعدوا. وهذا
المعنى مروي عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، والحسن، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وعطاء
الخراساني، والزهري، وعمرو بن دينار، وأبي الضحى، وأحمد، والشافعي، وابن قتيبة. وعن
ابن عباس، وسعيد بن جبير، كالقولين، فعلى القول الأول: " عابر السبيل ": المسافر، و " قربان
الصلاة ": فعلها، وعلى الثاني: " عابر السبيل ": المجتاز في المسجد، و " قربان الصلاة ": دخول
المسجد الذي تفعل فيه الصلاة.
قوله تعالى: (وإن كنتم مرضى) في سبب نزول هذا الكلام قولان:
أحدهما: أن رجلا من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم،
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فنزلت: (وإن كنتم مرضى أو على سفر) قاله مجاهد.
والثاني: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحات، ففشت فيهم، وابتلوا بالجنابة، فشكوا
ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت (وإن كنتم مرضى) الآية كلها، قاله إبراهيم النخعي. قال
129

القاضي أبو يعلى: وظاهر الآية يقتضي جواز التيمم مع حصول المرض الذي يستضر معه باستعمال
الماء، سواء كان يخاف التلف، أو لا يخاف، وكذلك السفر يجوز فيه التيمم عند عدم الماء، سواء
كان قصيرا، أو طويلا، وعدم الماء ليس بشرط في جواز التيمم للمريض، وإنما الشرط: حصول
الضرر، وأما السفر، فعدم الماء شرط في إباحة التيمم، وليس السفر بشرط، وإنما ذكر السفر، لأن
الماء يعدم فيه غالبا.
قوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) " أو " بمعنى الواو، لأنها لو لم تكن كذلك،
لكان وجوب الطهارة على المريض والمسافر غير متعلق بالحدث. والغائط: المكان المطمئن من
الأرض، فكني عن الحدث بمكانه، قاله ابن قتيبة. وكذلك قالوا للمزادة: راوية، وإنما الراوية للبعير
الذي يسقى عليه، وقالوا للنساء: ظعائن، وإنما الظعائن: الهوادج، وكن يكن فيها، وسموا الحدث
عذرة، لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدور.
قوله تعالى: (أو لامستم النساء) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: أو
لامستم بألف هاهنا، وفي (المائدة) وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف في اختياره، والمفضل عن
عاصم، والوليد بن عتبة، عن ابن عامر (أو لمستم) بغير ألف هاهنا، وفي (المائدة) وفي
المراد بالملامسة قولان:
أحدهما: أنها الجماع، قاله علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنها الملامسة باليد، قاله ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي، وعبيدة، وعطاء، وابن
سيرين، والنخعي، والنهدي والحكم، وحماد.
قال أبو علي: اللمس يكون باليد، وقد اتسع فيه، فأوقع على غيره، فمن ذلك (وأنا لمسنا
السماء) أي: عالجنا غيب السماء، ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة، ويخبرهم به. فلما كان
اللمس يقع على غير المباشرة باليد، قال: (فلمسوه بأيديهم) فخص اليد، لئلا يلتبس بالوجه
الآخر، كما قال: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) لأن الابن قد يتبنى وليس من
الصلب.
130

قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) سبب نزولها: أن عائشة رضي الله عنها كانت مع
النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فانقطع عقد لها، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه، وليسوا على ماء، وليس
معهم ماء، فنزلت هذه الآية، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. أخرجه
البخاري، ومسلم، وفي رواية أخرى أخرجها البخاري، ومسلم أيضا: أن عائشة استعارت من
أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء،
فصلوا بغير وضوء، وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت آية التيمم. والتيمم في اللغة:
القصد، وقد ذكرناه في قوله [تعالى]: (ولا تيمموا الخبيث) وأما الصعيد: فهو التراب، قاله
علي، وابن مسعود، والفراء، وأبو عبيد، والزجاج، وابن قتيبة. وقال الشافعي: لا يقع اسم
الصعيد إلى علي تراب ذي غبار. وفي الطيب قولان:
أحدهما: أنه الطاهر.
والثاني: الحلال.
قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) الوجه الممسوح في التيمم: هو المحدود في
الوضوء. وفيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إلى الكوعين حيث يقطع السارق، روى عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " التيمم
ضربة للوجه والكفين " وبهذا قال سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة، والأوزاعي،
ومكحول، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وداود.
والثاني: أنه إلى حد المرفقين، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تيمم، فمسح ذراعيه.
وبهذا قال ابن عمر، وابنه سالم، والحسن، وأبو حنيفة، والشافعي، وعن الشعبي كالقولين.
والثالث: أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إلى الآباط، روى عمار بن ياسر قال: كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلت الرخصة في المسح، فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا، وضربة لأيدينا
إلى المناكب والآباط. وهذا قول الزهري.
131

قوله تعالى: (إن الله كان عفوا) قال الخطابي: [" العفو "]: بناء للمبالغة. و (العفو):
الصفح عن الذنوب، وترك مجازاة المسئ. وقيل: إنه مأخوذ من عفت الريح الأثر: إذا درسته،
وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه.
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا
السبيل (44)
قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت.
والثاني: أنها نزلت في رجلين كانا إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم لويا ألسنتهما وعاباه، روي القولان عن
ابن عباس.
والثالث: أنها نزلت في اليهود، قاله قتادة.
وفي النصيب الذي أوتوه قولان:
أحدهما: أنه علم نبوة محمد النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: العلم بما في كتابهم دون العمل.
قوله تعالى: (يشترون الضلالة) قال ابن قتيبة: هذا من الاختصار، والمعنى: يشترون
الضلالة بالهدى، ومثله (وتركنا عليه في الآخرين) أي: تركنا عليه ثناء حسنا، فحذف الثناء لعلم
المخاطب.
وفي معنى اشترائهم الضلالة أربعة أقوال:
أحدها: أنه استبدالهم الضلالة بالإيمان، قاله أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: أنه استبدالهم التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره، قاله مقاتل.
والثالث: أنه إيثارهم التكذيب بالنبي لأخذ الرشوة، وثبوت الرئاسة لهم، قاله الزجاج.
132

والرابع: أنه إعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم ذكره
الماوردي.
قوله تعالى: (ويريدون أن تضلوا) خطاب للمؤمنين. والمراد بالسبيل: طريق الهدى.
والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45)
قوله تعالى: (والله أعلم بأعدائكم) فهو يعلمكم ما هم عليه، فلا تستنصحوهم، وهم
اليهود، (وكفى بالله وليا) لكم، فمن كان وليه، لم يضره عدوه. قال الخطابي: " الولي ":
الناصر، و " الولي ": المتولي للأمر، والقائم به، وأصله، من الولي، وهو القرب، و " النصير ":
فعيل بمعنى فاعل.
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع
وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم
وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46)
قوله تعالى: (من الذين هادوا) قال مقاتل: نزلت في رفاعة بن زيد، ومالك ابن الضيف،
وكعب بن أسيد، وكلهم يهود. وفي " من " قولان: ذكرهما الزجاج:
أحدهما: أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب، فيكون المعنى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من
الكتاب من الذين هادوا.
والثاني: أنها مستأنفة، فالمعنى: من الذين هادوا قوم يحرفون، فيكون قوله: يحرفون،
صفة، ويكون الموصوف محذوفا، وأنشد سيبويه:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما * أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
والمعنى: فمنهما تارة أموت فيها. قال أبو علي الفارسي: والمعنى: وكفى بالله نصيرا من
الذين هادوا، أي: إن الله ينصر عليهم.
فأما " التحريف "، فهو التغيير. و (الكلم): جمع كلمة. وقيل: إن " الكلام " مأخوذ من
" الكلم "، وهو الجرح الذي يشق الجلد واللحم، فسمي الكلام كلاما، لأنه يشق الأسماع بوصوله
إليها، وقيل: بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب.
133

وفي معنى تحريفهم الكلم قولان:
أحدهما: أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الشئ، فإذا خرجوا، حرفوا كلامه، قاله ابن
عباس.
والثاني: أنه تبديلهم التوراة، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (عن مواضعه) أي: عن أماكنه ووجوهه.
قوله تعالى: (ويقولون سمعنا وعصينا) قال مجاهد: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
قوله تعالى: (واسمع غير مسمع فيه قولان:
[أحدهما: أن معناه: اسمع لا سمعت، قاله ابن عباس، وابن زيد، وابن قتيبة].
والثاني: أن معناه: اسمع غير مقبول ما تقول، قاله الحسن، ومجاهد، وقد تقدم في
(البقرة) معنى: وراعنا.
قوله تعالى: (ليا بألسنتهم) قال قتادة: " اللي ": تحريك ألسنتهم بذلك. وقال ابن قتيبة
معنى " ليا بألسنتهم " أنهم يحرفون " راعنا " عن طريق المراعاة، والانتظار إلى السب بالرعونة.
قال ابن عباس: (لكان خيرا لهم) مما بدلوا، و (أقوم) أي: أعدل، (ولكن لعنهم الله
بكفرهم) بمحمد.
قوله تعالى: (فلا يؤمنون إلا قليلا) فيه قولان:
[أحدهما: فلا يؤمن منهم إلا قليل، وهم عبد الله بن سلام، ومن تبعه، قاله ابن عباس].
والثاني: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، قاله قتادة، والزجاج. قال مقاتل: وهو اعتقادهم أن الله
خلقهم ورزقهم.
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها
فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47)
قوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا) سبب نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا قوما
من أحبار اليهود، منهم عبد الله بن صوريا، وكعب إلى الإسلام، وقال لهم: إنكم لتعلمون أن الذي
134

جئت به حق، فقالوا: ما نعرف ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وفي الذين أوتوا
الكتاب قولان:
أحدهما: أنه اليهود، قاله الجمهور.
والثاني: اليهود والنصارى، ذكره الماوردي. وعلى الأول يكون الكتاب: التوراة، وعلى
الثاني: التوراة والإنجيل. والمراد بما نزلنا: القرآن، وقد سبق في (البقرة) بيان تصديقه لما
معهم.
قوله تعالى: (من قبل أن نطمس وجوها) في طمس الوجوه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إعماء العيون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك.
والثاني: أنه طمس ما فيها من عين، وأنف، وحاجب، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس،
واختيار ابن قتيبة.
والثالث: أنه ردها عن طريق الهدى، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، ومجاهد، والضحاك،
والسدي. وقال مقاتل: من قبل أن نطمس وجوها، أي: نحول الملة عن الهدى والبصيرة. فعلى
هذا القول يكون ذكر الوجه مجازا. والمراد: البصيرة والقلوب. وعلى القولين قبله يكون المراد
بالوجه: العضو المعروف.
قوله تعالى: (فنردها على أدبارها) خمسة أقوال:
أحدها: نصيرها في الأقفاء، ونجعل عيونها في الأقفاء، هذا قول ابن عباس، وعطية.
والثاني: نصيرها كالأقفاء، ليس فيها فم، ولا حاجب، ولا عين، وهذا قول قوم، منهم ابن
قتيبة.
والثالث: نجعل الوجه منبتا للشعر، كالقرود، هذا قول الفراء.
والرابع: ننفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها. وإلى نحوه ذهب ابن زيد. قال ابن جرير:
فيكون المعنى: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها. وناحيتهم التي هم بها نزول، فنردها
على أدبارها من حيث جاؤوا بديا من الشام.
والخامس: نردها في الضلالة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل.
135

قوله تعالى: (أو نلعنهم) يعود إلى أصحاب الوجوه. وفي معنى لعن أصحاب السبت
قولان:
أحدهما: مسخهم قردة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: طردهم في التيه حتى هلك فيه أكثرهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (وكان أمر الله مفعولا) قال ابن جرير: الأمر هاهنا بمعنى المأمور، سمي باسم
الأمر لحدوثه عنه.
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى
إثما عظيما (48)
قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) قال ابن عمر: لما نزلت (يا عبادي الذين
أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
والشرك؟ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت هذه. وقد سبق معنى الإشراك.
والمراد من الآية: لا يغفر لمشرك مات على شركه. وفي قوله [تعالى]: (لمن يشاء)
نعمة عظيمة من وجهين:
أحدهما: أنها تقتضي أن كل ميت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب، وإن مات
مصرا.
والثاني: أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين، وهو أن يكونوا على خوف وطمع.
ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا (49)
قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) سبب نزولها: أن مرحب بن زيد.
وبحري بن عون - وهما من اليهود - أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بأطفالهما، ومعهما طائفة من اليهود فقالوا: يا
محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال: لا، قالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله
بالنهار إلا كفر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار، فنزلت هذه الآية. هذا قول
ابن عباس.
136

وفي قوله (ألم تر) قولان:
أحدهما: ألم تخبر، قاله ابن قتيبة:
والثاني: ألم تعلم، قاله الزجاج. وفي الذين يزكون أنفسهم قولان:
أحدهما: اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: أنهم اليهود، والنصارى، وبه قال الحسن، وابن زيد. ومعنى " يزكون أنفسهم ":
يزعمون أنهم أزكياء، يقال: زكى الشئ: إذا نما في الصلاح. وفي الذي زكوا به أنفسهم أربعة
أقوال:
أحدها: أنهم برؤوا أنفسهم من الذنوب، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: أن اليهود قالوا: إن أبناءنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله، ويشفعون لنا، رواه عطية،
عن ابن عباس.
والثالث: أن اليهود كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم،
هذا قول عكرمة، ومجاهد، وأبي مالك.
والرابع: أن اليهود والنصارى قالوا: (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقالوا: (لن يدخل الجنة
إلا من كان هودا أو نصارى) هذا قول الحسن، وقتادة.
قوله تعالى: (بل الله يزكي من يشاء) أي: يجعله زاكيا، ولا يظلم الله أحدا مقدار فتيل.
قال ابن جرير: وأصل " الفتيل ": المفتول، صرف عن مفعول إلى فعيل، كصريع، ودهين.
وفي الفتيل قولان:
أحدهما: أنه ما يكون في شق النواة، رواه عكرمة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد،
وعطاء بن أبي رباح، والضحاك، وقتادة، وعطية، وابن زيد، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة،
والزجاج.
والثاني: أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إذا دلكن، رواه العوفي، عن ابن عباس، وبه
قال سعيد بن جبير، وأبو مالك، والسدي، والفراء.
أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا (50)
137

قوله تعالى: (انظر كيف يفترون على الله الكذب) وهو قولهم (نحن أبناء الله
وأحباؤه)] وقولهم (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) وقولهم: لا ذنب لنا ونحو
ذلك مما كذبوا فيه (وكفى به) أي: وحسبهم بقيلهم الكذب (إثما مبينا) يتبين كذبهم
لسامعيه.
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين
كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51)
قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أن جماعة من اليهود قدموا على قريش، فسألوهم: أديننا خير، أم دين محمد؟
فقال اليهود: بل دينكم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
والثاني: أن كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، قدما مكة، فقالت لهما قريش: أنحن خير،
أم محمد؟ فقالا: أنتم، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة في رواية. وقال قتادة: نزلت في
كعب، وحيي، ورجلين آخرين من بني النضير قالوا لقريش: أنتم أهدى من محمد.
والثالث: أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفار قريش: أنتم أهدى من محمد، فنزلت
هذه الآية. وهذا قول مجاهد، والسدي، وعكرمة في رواية.
والرابع: أن حيي بن أخطب قال للمشركين: نحن وإياكم خير من محمد، فنزلت هذه الآية،
هذا قول ابن زيد. والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود.
وفي " الجبت " سبعة أقوال:
أحدها: أنه السحر، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد، والشعبي.
والثاني: الأصنام، رواه عطية، عن ابن عباس. وقال عكرمة: الجبت: صنم.
والثالث: حيي بن أخطب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء.
والرابع: كعب بن الأشرف، رواه الضحاك، عن ابن عباس، وليث عن مجاهد.
والخامس: الكاهن، روي عن ابن عباس، وبه قال ابن سيرين، ومكحول.
138

والسادس: الشيطان، قاله سعيد بن جبير في رواية، وقتادة، والسدي.
والسابع: الساحر، قاله أبو العالية، وابن زيد. وروى أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال:
الجبت: الساحر بلسان الحبشة.
وفي المراد بالطاغوت هاهنا ستة أقوال:
أحدها: الشيطان، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد في رواية، والشعبي، وابن زيد.
والثاني: أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبرون عنها ليضلوا الناس، رواه العوفي،
عن ابن عباس.
والثالث: كعب بن الأشرف، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك،
والفراء.
والرابع: الكاهن، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وقتادة، والسدي.
والخامس: أنه الصنم، قاله عكرمة. وقال. الجبت والطاغوت صنمان.
والسادس: الساحر، روي عن ابن عباس، وابن سيرين، ومكحول، فهذه الأقوال تدل على
أنهما اسمان لمسميين. وقال اللغويون منهم ابن قتيبة، والزجاج: كل معبود من دون الله، من حجر،
أو صورة، أو شيطان، فهو جبت وطاغوت.
قوله تعالى: (ويقولون للذين كفروا) يعني لمشركي قريش: أنتم (أهدى) من الذين آمنوا،
يعنون النبي وأصحابه (طريقا) في الديانة والاعتقاد.
أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52) أم لهم نصيب من الملك
فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53)
قوله تعالى: (أم لهم نصيب من الملك) هذا استفهام معناه الإنكار، فالتقدير: ليس لهم.
وقال الفراء: قوله (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) جواب لجزاء مضمر، تقديره: ولئن كان لهم نصيب
لا يؤتون الناس نقيرا. وفي " النقير " أربعة أقوال:
أحدها: أنه النقطة التي في ظهر النواة، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال
مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة
في آخرين.
والثاني: أنه القشر الذي يكون في وسط النواة، رواه التيمي عن ابن عباس. وروي عن
139

مجاهد: أنه الخيط الذي يكون في وسط النواة.
والثالث: أنه نقر الرجل الشئ بطرف إبهامه، رواه أبو العالية، عن ابن عباس.
والرابع: أنه حبة النواة التي في وسطها رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد. قال الأزهري:
و " الفتيل " و " النقير " و " القطمير ": تضرب أمثالا للشئ التافه الحقير.
أم يحسدون الناس على ما آتهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب
والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54)
قوله تعالى: (أم يحسدون الناس) سبب نزولها: أن أهل الكتاب قالوا: يزعم محمد أنه
أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، فأي ملك أفضل من هذا، فنزلت، رواه العوفي، عن ابن
عباس.
وفي " أم " قولان:
أحدهما: أنها بمعنى ألف الاستفهام، قاله ابن قتيبة:
والثاني: بمعنى " بل " قاله الزجاج، وقد سبق ذكر " الحسد " في (سورة البقرة)
والحاسدون هاهنا: اليهود. وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال:
أحدها: النبي محمد صلى الله عليه وسلم، رواه عطية، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، ومجاهد،
والضحاك، والسدي، ومقاتل.
والثاني: النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، روي عن علي بن أبي طالب [رضي الله عنه].
والثالث: العرب، قاله قتادة.
والرابع: النبي، والصحابة، ذكره الماوردي. وفي الذي آتاهم الله من فضله ثلاثة أقوال:
أحدها: إباحة الله تعالى نبيه أن ينكح ما شاء من النساء من غير عدد، روي عن ابن عباس،
والضحاك، والسدي.
والثاني: أنه النبوة، قاله ابن جريج، والزجاج.
والثالث: بعثة نبي منهم على قول من قال: هم العرب.
140

قوله تعالى: (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب) يعني: التوراة، والإنجيل، والزبور. كله كان
في آل إبراهيم، وهذا النبي من أولاد إبراهيم. وفي الحكمة قولان:
أحدهما: النبوة، قاله السدي، ومقاتل.
والثاني: الفقه في الدين، قاله أبو سليمان الدمشقي.
وفي الملك العظيم خمسة أقوال:
أحدها: ملك سليمان، رواه عطية، عن ابن عباس.
والثاني: ملك داود، وسليمان في النساء، كان لداود مائة امرأة، ولسليمان سبعمائة امرأة،
وثلاثمائة سرية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السدي.
والثالث: النبوة، قاله مجاهد.
والرابع: التأييد بالملائكة، قاله ابن زيد في آخرين.
والخامس: الجمع بين سياسة الدنيا، وشرع الدين، ذكره الماوردي.
فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (55)
قوله تعالى: (فمنهم من آمن به) فيمن تعود عليه الهاء، والميم قولان:
أحدهما: اليهود الذين أنذرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول مجاهد، ومقاتل، والفراء في
آخرين. فعلى هذا القول في هاء (به) ثلاثة أقوال:
أحدها: تعود على ما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد. قال أبو سليمان: فيكون
الكلام مبنيا على قوله [تعالى]: (على ما آتاهم الله من فضله) وهو النبوة، والقرآن.
والثاني: أنها تعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون متعلقة بقوله: (أم يحسدون الناس) يعني
بالناس: محمدا صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بقوله: (فمنهم من آمن به) عبد الله بن سلام، وأصحابه.
والثالث: أنها تعود إلى النبأ عن آل إبراهيم، قاله الفراء.
والقول الثاني: أن الهاء، والميم في قوله (فمنهم) تعود إلى آل إبراهيم، فعلى هذا في هاء
(به) قولان:
أحدهما: أنها عائدة إلى إبراهيم، قاله السدي.
والثاني: إلى الكتاب، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (ومنهم من صد عنه) وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير، وعكرمة،
141

وابن يعمر، والجحدري: " من صد عنه " برفع الصاد. وقرأ أبي بن كعب، وأبو الجوزاء: بكسر
الصاد.
إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها
ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما (56)
قوله تعالى: (فسوف نصليهم نارا) قال الزجاج: أي نشويهم في نار. ويروى أن يهودية
أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية، أي: مشوية. وفي قوله [تعالى] (بدلناهم جلودا غيرها)
قولان:
أحدهما: أنها غيرها حقيقة، ولا يلزم على هذا أن يقال: كيف بدلت جلود التذت بالمعاصي
بجلود ما التذت، لأن الجلود آلة في إيصال العذاب إليهم، كما كانت آلة في إيصال اللذة، وهم
المعاقبون لا الجلود.
والثاني: أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها، كما تعاد بعد البلى في القبور. فتكون الغيرية
عائدة إلى الصفة، لا إلى الذات، فالمعنى: بدلناهم جلودا غير محترقة، كما تقول: صغت من
خاتمي خاتما آخر. وقال الحسن البصري: في هذه الآية: تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة،
كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا، فعادوا.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57)
قوله تعالى: (وندخلهم ظلا ظليلا) قال الزجاج: هو الذي يظل من الحر والريح، وليس
كل ظل كذلك، فأعلم الله تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حر معه، ولا برد. فإن قيل: أفي الجنة برد
أو حر يحتاجون معه إلى ظل؟ فالجواب: أن لا، وإنما خاطبهم بما يعقلون مثله، كقوله
[تعالى]: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا)، وجواب آخر: وهو أنه إشارة إلى كمال وصفها،
وتمكين بنائها، فلو كان البرد أو الحر يتسلط عليها، لكان في أبنيتها وشجرها ظل ظليل.
* إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا
142

بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58)
قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، طلب مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة، فذهب ليعطيه
إياه، فقال العباس: بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية، فكف عثمان يده مخافة أن يعطيه
للعباس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هات المفتاح " فأعاد العباس قوله، وكف عثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله وباليوم الآخر " فقال: هاكه يا رسول الله بأمانة الله، فأخذ
المفتاح، ففتح البيت، فنزل جبريل بهذه الآية، فدعا عثمان، فدفعه إليه. رواه أبو صالح، عن ابن
عباس، وبه قال مجاهد، والزهري، وابن جريج، ومقاتل.
والثاني: أنها نزلت في الأمراء. رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال زيد بن أسلم، وابنه،
ومكحول، واختاره أبو سليمان الدمشقي، وقال: أمر الأمراء أن يؤدوا الأمانة في أموال المسلمين.
والثالث: أنها نزلت عامة، وهو مروي عن أبي بن كعب، وابن عباس، والحسن، وقتادة،
واختاره القاضي أبو يعلى. واعلم أن نزولها على سبب لا يمنع عموم حكمها. فإنها عامة في الودائع
وغيرها من الأمانات. وقال ابن مسعود: الأمانة في الوضوء، وفي الصلاة، وفي الصوم، وفي
الحديث، وأشد ذلك في الودائع.
قوله تعالى: (نعما يعظكم به) يقول: نعم الشئ يعظكم به، وقد ذكرناه في (البقرة).
يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في
شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن
تأويلا (59)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية،
أخرجه البخاري، ومسلم، من حديث ابن عباس.
والثاني: أن عمار بن ياسر كان مع خالد بن الوليد في سرية، فهرب القوم، ودخل رجل منهم
143

على عمار، فقال: إني قد أسلمت، هل ينفعني، أو أذهب كما ذهب قومي؟ قال عمار: أقم فأنت
آمن، فرجع الرجل، وأقام فجاء خالد، فأخذ الرجل، فقاد عمار: إني قد أمنته، وإنه قد أسلم،
قال: أتجير علي وأنا الأمير؟ فتنازعا، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو
صالح، عن ابن عباس.
قوله تعالى: (وأطيعوا الرسول) طاعة الرسول في حياته: امتثال أمره، واجتناب نهيه، وبعد
مماته: اتباع سنته. وفي أولي الأمر أربعة أقوال:
أحدها: أنهم الأمراء، قاله أبو هريرة، وابن عباس في رواية، وزيد بن أسلم، والسدي،
ومقاتل.
والثاني: أنهم العلماء، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهو قول جابر بن عبد الله،
والحسن، وأبي العالية، وعطاء، والنخعي، والضحاك، ورواه خصيف، عن مجاهد.
والثالث: أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وبه قال بكر بن عبد
الله المزني.
والرابع: أنهم أبو بكر، وعمر، وهذا قول عكرمة.
قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شئ) قال الزجاج: معناه: اختلفتم. وقال كل فريق: القول
قولي. واشتقاق المنازعة: أن كل واحد ينتزع الحجة.
قوله تعالى: (فردوه إلى الله والرسول) في كيفية هذا الرد قولان:
أحدهما: أن رده إلى الله رده إلى كتابه، ورده إلى النبي رده إلى سنته، هذا قول مجاهد،
وقتادة، والجمهور. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الرد يكون من وجهين:
أحدهما: إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه.
والثاني: الرد إليهما من جهة الدلالة عليه، واعتباره من طريق القياس، والنظائر.
والقول الثاني: أن رده إلى الله ورسوله أن يقول من لا يعلم الشئ: الله ورسوله أعلم، ذكره
قوم، منهم الزجاج.
144

وفي المراد بالتأويل أربعة أقوال:
أحدها: أنه الجزاء، والثواب، وهو قول مجاهد، وقتادة.
والثاني: أنه العاقبة، وهو قول السدي، وابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج.
والثالث: أنه التصديق، مثل قوله [تعالى]: (هذا تأويل رؤياي). قاله ابن زيد في
رواية.
والرابع: أن معناه: ردكم إياه إلى الله ورسوله أحسن من تأويلكم، ذكره الزجاج
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا
إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60)
قوله تعالى: (ألم ترى إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا) في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي، انطلق
بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى
لليهودي، فلما خرجا، قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إليه، فقصا عليه القصة،
فقال: رويدا حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج، فضرب به المنافق
حتى برد، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح،
عن ابن عباس.
والثاني: أن أبا بردة الأسلمي كان كاهنا يقضي بين اليهود، فتنافر إليه ناس من المسلمين،
فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة، عن ابن عباس.
والثالث: أن يهوديا ومنافقا كانت بينهما خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي، لأنه لا
يأخذ الرشوة، ودعا المنافق إلى حكامهم، لأنهم يأخذون الرشوة، فلما اختلفا، اجتمعا أن يحكما
كاهنا، فنزلت هذه الآية، هذا قول الشعبي.
145

والرابع: أن رجلا من بني النضير قتل رجلا من بني قريظة، فاختصموا، فقال المنافقون
منهم: إنطلقوا إلى أبي برذة الكاهن، فقال المسلمون من الفريقين: بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى
المنافقون، فانطلقوا إلى الكاهن، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي.
والزعم والزعم لغتان، وأكثر ما يستعمل في قول ما لا تتحقق صحته، وفي (الذين زعموا أنهم
آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله) قولان:
أحدهما: أنه المنافق.
والثاني: أن الذي زعم أنه آمن بما أنزل إليه المنافق، والذي زعم أنه آمن بما أنزل من قبله
اليهودي. والطاغوت: كعب بن الأشرف، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والربيع، ومقاتل.
قوله تعالى: (وقد أمروا أن يكفروا به) قال مقاتل: أن يتبرؤوا من الكهنة، " والضلال
البعيد ": الطويل.
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك
صدودا (61)
قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله) قال مجاهد: هذه الآية والتي قبلها نزلتا
في خصومة اليهودي، والمنافق، والهاء والميم في (لهم): إشارة إلى الذين يزعمون و (الذي أنزل
الله): أحكام القرآن. و (إلى الرسول) أي: إلى حكمه.
فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا
إلا إحسانا وتوفيقا (62)
قوله تعالى: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة) أي: كيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم عقوبة
من الله؟ وفي المراد بالمصيبة قولان:
أحدهما: أنه تهديد ووعيد.
والثاني: أنه قتل المنافق الذي قتله عمر. وفي الذي قدمت أيديهم ثلاثة أقوال:
146

أحدها: نفاقهم واستهزاؤهم.
والثاني: ردهم حكم النبي صلى الله عليه وسلم.
والثالث: معاصيهم المتقدمة.
قوله تعالى: (إن أردنا) بمعنى. ما أردنا.
قوله تعالى: (إلا إحسانا وتوفيقا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لما قتل عمر صاحبهم، جاؤوا يطلبون بدمه، ويحلفون ما أردنا في المطالبة بدمه
إلا إحسانا إلينا، وما يوافق الحق في أمرنا.
والثاني: ما أردنا بالترافع إلى عمر إلا إحسانا وتوفيقا.
والثالث: أنهم جاؤوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من محاكمتهم إلى غيره، ويقولون: ما أردنا في
عدولنا عنك إلا إحسانا بالتقريب في الحكم، وتوفيقا بين الخصوم دون الحمل على مر الحق.
أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا
بليغا (63)
قوله تعالى: (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) أي: من النفاق والزيغ. وقال ابن
عباس: إضمارهم خلاف ما يقولون (فأعرض عنهم) ولا تعاقبهم (وعظهم) بلسانك (وقل لهم
في أنفسهم قولا بليغا) أي: تقدم إليهم: إن فعلتم الثانية، عاقبتكم. وقال الزجاج: يقال: بلغ
الرجل يبلغ بلاغة فهو بليغ: إذا كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه.
وقد تكلم العلماء في حد " البلاغة " فقال بعضهم: " البلاغة " إيصال المعنى إلى القلب في
أحسن صورة من اللفظ، وقيل: " البلاغة ": حسن العبارة مع صحة المعنى، وقيل: البلاغة:
الإيجاز مع الإفهام، والتصرف من غير إضجار. قال خالد بن صفوان: أحسن الكلام ما قلت
ألفاظه، وكثرت معانيه، وخير الكلام ما شوق أوله إلى سماع آخره، وقال غيره: إنما يستحق الكلام
اسم البلاغة إذا سابق لفظه معناه، ومعناه لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى
قلبك.
فصل
وقد ذهب قوم إلى أن " الإعراض " المذكور في هذه الآية منسوخ بآية السيف.
147

وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا
الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64)
قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع) قال الزجاج: (من) دخلت للتوكيد.
والمعنى: وما أرسلنا رسولا إلا ليطاع. وفي قوله: (بإذن الله) قولان:
أحدهما: أنه بمعنى: الأمر، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الإذن نفسه، قاله مجاهد. وقال الزجاج: المعنى: إلا ليطاع بأن الله أذن له في
ذلك.
وقوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما. قال
ابن عباس: ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرسول: (جاؤوك فاستغفروا الله) من صنيعهم.
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت
ويسلموا تسليما (65)
قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنها نزلت في خصومة كانت بين الزبير وبين رجل من الأنصار في شراج الحرة،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: " اسق ثم أرسل إلى جارك " فغضب الأنصاري، قال: يا رسول الله: أن كان
ابن عمتك! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال للزبير: " اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يبلغ
الجدر " قال الزبير: فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت إلى في ذلك. أخرجه البخاري، ومسلم.
والثاني: أنها نزلت في المنافق، واليهودي اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف، وقد سبقت
قصتهما، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون) أي: لا يكونون مؤمنين حتى يحكموك، وقيل: (لا) رد
لزعمهم أنهم مؤمنون، والمعنى: فلا، أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا، وهم يخالفون
148

حكمك. ثم استأنف، فقال: وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، أي: فيما اختلفوا
فيه.
وفي " الحرج " قولان:
أحدهما: أنه الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي في آخرين.
والثاني: الضيق، قاله أبو عبيدة، والزجاج. وفي قوله: (ويسلموا تسليما) قولان:
أحدهما: يسلموا لما أمرتهم به، فلا يعارضونك، هذا قول ابن عباس، والزجاج،
والجمهور.
والثاني: يسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك، قاله الماوردي.
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو
أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا
عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68)
قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم) سبب نزولها: أن رجلا من اليهود قال:
والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلناها. فقال ثابت بن قيس بن الشماس: والله لو كتب
الله علينا ذلك لفعلنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي. قال الزجاج: (لو) يمتنع به الشئ لامتناع
غيره، تقول: لو جاءني زيد لجئته. والمعنى: أن مجيئك امتنع لامتناع مجيئه، و (كتبنا) بمعنى:
فرضنا. والمعنى: لو أنا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم. قرأ أبو عمرو: أن اقتلوا
أنفسكم، بكسر النون، أو اخرجوا بضم الواو. وقرأ ابن عامر، وابن كثير، ونافع، والكسائي: أن
اقتلوا أو اخرجوا بضم النون والواو، وقرأ عاصم، وحمزة بكسرهما. والمعنى: لو فرضنا عليهم كما
فرضنا على قوم موسى، لم يفعله إلا قليل منهم، هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر: إلا قليلا
بالنصب. (ولو أنهم) يعني: المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت،
ويصدون عنك (فعلوا ما يوعظون به) أي: ما يذكرون به من طاعة الله، والوقوف مع أمره، (لكان
خيرا لهم) وأثبت لأمورهم. وقال السدي: (وأشد تثبيتا) أي: تصديقا.
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
149

والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (70)
قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم، فرآه رسول الله يوما فعرف
الحزن في وجهه، فقال يا ثوبان ما غير وجهك؟ قال: ما بي من وجع غير أني إذا لم ارك اشتقت
إليك، فأذكر الآخرة، فأخاف أن لا أراك هناك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن
عباس.
والثاني: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا، فإنك إذا فارقتنا
رفعت فوقنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول مسروق.
والثالث: أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال مالي أراك محزونا؟
فقال: يا رسول الله غدا ترفع مع الأنبياء، فلا نصل إليك. فنزلت هذه الآية. هذا قول سعيد بن
جبير. قال ابن عباس: ومن يطع الله في الفرائض، والرسول في السنن. قال ابن قتيبة:
والصديق: الكثير الصدق، كما يقال: فسيق، وسكير، وشريب، وخمير، وسكيت، وفجير،
وعشيق، وضليل، وظليم: إذا كثر منه ذلك. ولا يقال ذلك لمن فعل الشئ مرة، أو مرتين حتى
يكثر منه ذلك، أو يكون عادة. فأما الشهداء، فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله.
وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال:
أحدها: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة، قاله ثعلب.
والثاني: لأن ملائكة الرحمة تشهده.
والثالث: لسقوطه بالأرض، والأرض: هي الشاهدة، ذكر القولين ابن فارس اللغوي.
والرابع: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والخامس: لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل، قاله شيخنا علي بن عبيد الله.
فأما الصالحون، فهم اسم لكل من صلحت سريرته وعلانيته. والجمهور على أن النبيين،
والصديقين، والشهداء، والصالحين عام في جميع من هذه صفته.
وقال عكرمة: المراد بالنبيين هاهنا محمد، والصديقين أبو بكر، وبالشهداء عمرو عثمان
150

وعلي، وبالصالحين سائر الصحابة.
قوله تعالى: (وحسن أولئك رفيقا) قال الزجاج: " رفيقا " منصوب على التمييز، وهو ينوب
عن رفقاء، قال الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها * فبيض وأما جلدها فصليب
وقال آخر:
في حلقكم عظم وقد شجينا
يريد: في حلوقكم عظام
(ذلك الفضل) الذي أعطى المذكورين (من الله وكفى بالله عليما) بالمقاصد والنيات.
يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71)
قوله تعالى: (خذوا حذركم) فيه قولان:
أحدهما: احذروا عدوكم.
والثاني: خذوا سلاحكم.
قوله تعالى: (فانفروا ثبات) قال ابن قتيبة: أي: جماعات، واحدتها: ثبة، يريد جماعة بعد
جماعة. وقال الزجاج: " الثبات ": الجماعات المتفرقة. قال زهير:
وقد أغدوا على ثبة كرام * نشاوى واجدين لما نشاء
قال ابن عباس: فانفروا ثبات، أي: عصبا، سرايا متفرقين، أو انفروا كلكم.
فصل
وقد نقل عن ابن عباس أن هذه الآية وقوله (انفروا خفافا وثقالا) وقوله [تعالى]: (إلا تنفروا
يعذبكم عذابا أليما) منسوخات بقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) قال أبو سليمان
الدمشقي: والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإمام، وليس في هذا من المنسوخ شئ.
وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم
شهيدا (72) ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني
151

كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (73)
قوله تعالى: (وإن منكم لمن ليبطئن) اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها في المنافقين، كعبد الله بن أبي، وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد، فإن
لقيت السرية نكبة، قال من أبطأ منهم: لقد أنعم الله علي، وإن لقوا غنيمة، قال: يا ليتني كنت
معهم. هذا قول ابن عباس، وابن جريج.
والثاني: أنها نزلت في المسلمين الذين قلت علومهم بأحكام الدين، فتثبطوا لقلة العلم، لا
لضعف الدين، ذكره الماوردي وغيره. فعلى الأول تكون إضافتهم إلى المؤمنين بقوله " منكم "
لموضع نطقهم بالإسلام، وجريان أحكامه عليهم، وعلى الثاني تكون الإضافة حقيقة. قال ابن
جرير: اللام في (لمن) لام تأكيد. قال الزجاج: واللام في (ليبطئن) لام القسم، كقولك: إن
منكم لمن أحلف بالله ليبطئن، يقال: " أبطأ الرجل " و " بطؤ " فمعنى " أبطأ " تأخر، ومعنى
" بطؤ ": ثقل. وقرأ أبو جعفر: (ليبطئن) بتخفيف الهمزة. وفي معنى " ليبطئن " قولان:
أحدهما: ليبطئن هو نفسه، وهو قول ابن عباس:
والثاني: ليبطئن غيره، قاله ابن جريج. قال ابن عباس: و " المصيبة ": النكبة. و " الفضل
من الله ": الفتح والغنيمة.
قوله تعالى: (كأن لم يكن بينكم وبينه مودة) قرأ ابن كثير، وحفص، والمفضل، عن عاصم:
كأن لم تكن بالتاء، لأن الفاعل المسند إليه مؤنث في اللفظ وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو
بكر، عن عاصم: يكن بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقي. قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى:
ليقولن يا ليتني كنت معهم، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة، أي: كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد
معكم، ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به، فيكون المعنى: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا
ليتني كنت معهم فإن أصابتكم مصيبة، قال: قد أنعم الله علي، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة. فيكون
معنى " المودة " أي: كأنه لم يعاقدكم على الإيمان.
فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل
أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما (74)
152

قوله تعالى: (الذين يشترون الحياة الدنيا) يشترون هاهنا: بمعنى يبتغون في قول الجماعة.
وأنشدوا:
وشريت... بردا ليتني * من بعد برد كنت هامه
و " برد ": غلام له باعه. ومعنى الآية: ليكن قتال المقاتلين على وجه الإخلاص، وطلب
الآخرة.
قوله تعالى: (فيقتل أو يغلب) خرج مخرج الغالب، وقد يثاب من لم يغلب ولم يقتل.
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين
يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا
من لدنك نصيرا (75)
قوله تعالى: (والمستضعفين من الرجال) قال الفراء: تقديره: وفي المستضعفين. وكذلك
روي عن ابن عباس. وقال الزجاج: المستضعفون في موضع خفض، والمعنى في سبيل الله،
وسبيل المستضعفين، أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء؟ قال ابن عباس: وهم ناس مسلمون
كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا. و (القرية): مكة في قول الجماعة. قال الفراء: وإنما خفض
(الظالم) لأنه نعت للأهل، فلما عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها،
تقول: مررت بالرجل الواسعة داره.
قوله تعالى: (واجعل لنا من لدنك وليا) قال أبو سليمان: سألوا الله وليا من عنده يلي
إخراجهم منها، ونصيرا يمنعهم من المشركين. قال ابن عباس: فلما فتح رسول الله مكة، جعل الله
عز وجل النبي عليه السلام وليهم، واستعمل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد، فكان نصيرا
لهم، ينصف الضعيف من القوي.
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء
الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا (76)
قوله تعالى: (يقاتلون في سبيل الطاغوت) الطاغوت هاهنا في معنى جماعة، كقوله (ولحم
الخنزير) معناه: ولحم الخنازير.
قوله تعالى: (إن كيد الشيطان) يعني: مكره وصنيعه (كان ضعيفا) حيث خذل أصحابه يوم بدر.
153

ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم
القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا
القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون
فتيلا (77)
قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في نفر من المهاجرين، كانوا يحبون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم
بمكة قبل أن يفرض القتال، فنهوا عن ذلك، فلما أذن لهم فيه، كرهه بعضهم. روى هذا المعنى أبو
صالح، عن ابن عباس وهو قول قتادة، والسدي، ومقاتل.
والثاني: أنها نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمان المتقدم، فحذرت هذه الأمة من مثل
حالهم، روى هذا المعنى عطية، عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدمشقي: كأنه يومئ إلى قصة
الذين قالوا: ابعث لنا ملكا. وقال مجاهد: هي في اليهود.
فأما كف اليد، فالمراد به: الامتناع عن القتال، ذلك كان بمكة و " كتب " بمعنى: فرض،
وذلك بالمدينة، هذا على القول الأول.
قوله تعالى: (إذا فريق منهم) في هذا الفريق ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم المنافقون.
والثاني: أنهم كانوا مؤمنين، فلما فرض القتال، نافقوا جبنا وخوفا.
والثالث: أنهم مؤمنون غير أن طبائعهم غلبتهم، فنفرت نفوسهم عن القتال.
قوله: (يخشون الناس) في المراد بالناس قولان:
أحدهما: كفار مكة.
والثاني: جميع الكفار.
قوله تعالى: (أو أشد خشية) قيل: إن " أو " بمعنى الواو، و " كتبت " بمعنى: فرضت.
154

و " لولا " بمعنى " هلا "، وإذا رأيت بعدها اسما مرفوعا، فهي التي جوابها اللام، تقول: لولا عبد
الله لضربتك. وقال ابن قتيبة: إذا رأيتها بغير جواب، فهي بمعنى " هلا " تقول: لولا فعلت كذا،
ومثلها " لوما " فإذا رأيت ل‍ (لولا) جوابا، فليست بمعنى " هلا " إنما هي التي تكون لأمر يقع
بوقوع غيره، كقوله [تعالى]: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه) قلت: فأما (لولا)
التي لها جواب فكثيرة في الكلام، وأنشدوا في ذلك:
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا * فيه المشيب لزرت أم القاسم
وأما التي بمعنى " هلا " فأنشدوا منها:
تعدون ذلك عقر النبيب أفضل مجدكم * بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
أراد: فهلا تعدون الكمي، والكمي: الداخل في السلاح.
وفي الأجل القريب قولان:
أحدهما: أنه الموت، فكأنهم قالوا: هلا تركتنا نموت موتا، وعافيتنا من القتل، هذا قول
السدي، ومقاتل.
والثاني: أنه إمهال زمان، فكأنهم قالوا: هلا أخرت فرض الجهاد عنا قليلا حتى نكثر ونقوى،
قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين.
قوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل) أي: مدة الحياة فيها قليلة.
قوله تعالى: (ولا تظلمون فتيلا) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ولا يظلمون
بالياء. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم: بالتاء، وقد سبق ذكر المتاع والفتيل.
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا
هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال
هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78)
قوله تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت) سبب نزولها أن المنافقين قالوا في حق شهداء
أحد: لو كانوا عندنا ما ماتوا، وما قتلوا، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، ومقاتل.
والبروج: الحصون، قاله ابن عباس وابن قتيبة. وفي " المشيدة " خمسة أقوال:
155

أحدها: أنها الحصينة، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: المطولة، قاله أبو مالك، ومقاتل، وابن قتيبة.
والثالث: المجصصة، قاله هلال بن خباب، واليزيدي.
والرابع: أنها المبنية بالشيد، وهو الجص، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والخامس: أنها بروج في السماء، قاله الربيع بن أنس، والثوري. وقال السدي: هي
قصور بيض في السماء مبنية.
قوله تعالى: (وإن تصبهم) اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم المنافقون واليهود، قاله ابن عباس.
والثاني: المنافقون، قاله الحسن.
والثالث: اليهود، قاله ابن السري. وفي الحسنة والسيئة قولان:
أحدهما: أن الحسنة: الخصب، والمطر. والسيئة: الجدب، والغلاء، رواه أبو صالح،
عن ابن عباس.
والثاني: أن الحسنة: الفتح والغنيمة، والسيئة: الهزيمة والجراح، ونحو ذلك، رواه ابن
أبي طلحة عن ابن عباس. وفي قوله تعالى: (من عندك) قولان:
أحدهما: بشؤمك، قاله ابن عباس.
والثاني: بسوء تدبيرك، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: (قل كل من عند الله) قال ابن عباس: الحسنة والسيئة، أما الحسنة، فأنعم
بها عليك، وأما السيئة، فابتلاك بها.
قوله تعالى: (فما لهؤلاء القوم) وقف أبو عمرو، والكسائي على الألف من (فما) في
قوله [تعالى]: (فما لهؤلاء القوم) و (ما لهذا الكتاب) و (ما لهذا الرسول) و (فما للذين
كفروا) والباقون وقفوا على اللام. فأما " الحديث "، فقيل: هو القرآن، فكأنه قال: لا يفقهون
القرآن، فيؤمنون به، ويعلمون أن الكل من عند الله.
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس
رسولا وكفى بالله شهيدا (79)
قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله) في المخاطب بهذا الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه عام، فتقديره: ما أصابك أيها الإنسان، قاله قتادة.
156

والثاني: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو المراد به غيره، ذكره الماوردي. وقال ابن الأنباري: ما
أصابك الله من حسنة، وما أصابك الله به من سيئة، فالفعلان يرجعان إلى الله عز وجل. وفي
" الحسنة " و " السيئة " ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الحسنة: ما فتح عليه يوم بدر، والسيئة: ما أصابه يوم أحد، رواه ابن أبي
طلحة، عن ابن عباس.
والثاني: الحسنة: الطاعة، والسيئة: المعصية، قاله أبو العالية.
والثالث: الحسنة: النعمة، والسيئة: البلية، قاله ابن قتيبة، وعن أبي العالية نحوه، وهو
أصح، لأن الآية عامة.
وروى كرداب، عن يعقوب: (ما أصابك من حسنة فمن الله) بتشديد النون، ورفعها،
ونصب الميم، وخفض اسم (الله) (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) بنصب الميم، ورفع
السين. وقرأ ابن عباس: وما أصابك من سيئة، فمن نفسك، وأنا كتبتها عليك. وقرأ ابن
مسعود: وأنا عددتها عليك
قوله تعالى: (فمن نفسك) أي: فبذنبك، قاله الحسن، وقتادة، والجماعة، وذكر فيه ابن
الأنباري وجها آخر، فقال: المعنى: أفمن نفسك فأضمرت ألف الاستفهام، كما أضمرت في قوله
(وتلك نعمة) أي: أو تلك نعمة.
قوله تعالى: (وأرسلناك للناس رسولا) قال الزجاج: ذكر الرسول مؤكد لقوله [تعالى]:
(وأرسلناك) والباء في " بالله " مؤكدة. والمعنى: وكفى بالله شهيدا. و " شهيدا " منصوب على
التمييز، لأنك إذا قلت: كفى بالله، ولم تبين في أي شئ الكفاية كنت مبهما.
وفي المراد بشهادة الله هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: شهيدا لك بأنك رسوله، قاله مقاتل.
والثاني: على مقالتهم، قاله ابن السائب.
والثالث: لك بالبلاغ، وعليهم بالتكذيب والنفاق، قاله أبو سليمان الدمشقي. فان قيل:
كيف عاب الله هؤلاء حين قالوا: إن الحسنة من عند الله، والسيئة من عند النبي عليه السلام، ورد
عليهم بقوله [تعالى]: (كل من عند الله) ثم عاد، فقال: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما
أصابك من سيئة فمن نفسك) فهل قال القوم إلا هكذا؟ فعنه جوابان:
157

أحدهما: أنهم أضافوا السيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشاؤما به، فرد عليهم، فقال: كل بتقدير الله.
ثم قال: ما أصابك من حسنة، فمن الله، أي: من فضله، وما أصابك من سيئة، فبذنبك، وإن
كان الكل من الله تقديرا.
والثاني: أن جماعة من أرباب المعاني قالوا: في الكلام محذوف مقدر، تقديره: فما
لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، يقولون: ما أصابك من حسنة، فمن الله، وما أصابك من
سيئة، فمن نفسك. فيكون هذا من قولهم. والمحذوف المقدر في القرآن كثير، ومنه قوله
[تعالى]: (ربنا تقبل منا) أي: يقولان: ربنا. ومثله (أو به أذى من رأسه ففدية)
أي: فحلق، ففدية. ومثله (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم) أي: فيقال لهم. ومثله
(والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) أي: يقولون سلام. ومثله (أو كلم به
الموتى بل لله الأمر) أراد: لكان هذا القرآن. ومثله (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله
رؤوف رحيم) أراد: لعذبكم. ومثله (ربنا أبصرنا وسمعنا) أي: يقولون. وقال النمر بن
تولب:
فإن المنية من يخشها * فسوف تصادفه أينما
أراد: أينما ذهب.
وقال غيره:
فأقسم لو شئ أتانا رسوله * سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
أراد: لرددناه.
ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80)
قوله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) سبب نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من
أطاعني، فقد أطاع الله، ومن أحبني، فقد أحب الله " فقال المنافقون: لقد قارب هذا الرجل
الشرك، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الكلام: من قبل ما أتى به الرسول، فإنما قبل: ما
أمر الله به، ومن تولى، أي: أعرض عن طاعته. وفي " الحفيظ " قولان:
أحدهما: أنه الرقيب، قاله ابن عباس.
158

والثاني: المحاسب، قاله السدي، وابن قتيبة.
فصل
قال المفسرون: وهذا كان قبل الأمر بالقتال، ثم نسخ بآية السيف.
ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب
ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (81)
قوله تعالى: (ويقولون طاعة) نزلت في المنافقين، كانوا يؤمنون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليأمنوا، فإذا خرجوا، خالفوا، هذا قول ابن عباس. قال الفراء: والرفع في " طاعة " على
معنى: أمرك طاعة.
قوله تعالى: (بيت طائفة) قرأ أبو عمرو، وحمزة: بيت، بسكون " التاء "، وإدغامها في
" الطاء " ونصب الباقون " التاء " قال أبو علي: التاء والطاء والدال من حيز واحد، فحسن
الإدغام، ومن بين، فلانفصال الحرفين، واختلاف المخرجين. قال ابن قتيبة: والمعنى قالوا:
وقدروا ليلا غير ما أعطوك نهارا. قال الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بيتوا * وكانوا أتوني بشئ نكر
والعرب تقول: هذا أمر قد قدر بليل
وقال بعضهم: بيت، بمعنى: بدل، وأنشد:
وبيت قولي عند المليك * قاتلك الله عبدا كفورا
وفي قوله (غير الذي تقول) قولان:
أحدهما: غير الذي تقول الطائفة عندك، وهو قول ابن عباس، وابن قتيبة.
والثاني: غير الذي تقول أنت يا محمد، وهو قول قتادة، والسدي.
قوله تعالى: (والله يكتب ما يبيتون) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يكتبه في الأعمال التي تثبتها الملائكة، قاله مقاتل في آخرين.
والثاني: ينزله إليك في كتابه.
والثالث: يحفظه عليهم ليجازوا به، ذكر القولين الزجاج، قال ابن عباس: فأعرض عنهم:
159

فلا تعاقبهم، وثق بالله [عز وجل]، وكفى بالله ثقة لك، قال: ثم نسخ هذا الإعراض، وأمر
بقتالهم.
فإن قيل: ما الحكمة في أنه ابتدأ بذكرهم جملة، ثم قال: (بيت طائفة) والكل
منافقون؟ فالجواب من وجهين: ذكرهما أهل التفسير.
أحدهما: أنه أخبر عمن سهر ليله، ودبر أمره منهم دون غيره منهم،
والثاني: أنه ذكر من علم أنه يبقى على نفاقه من علم أنه يرجع.
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)
قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن) قال الزجاج: " التدبر ": النظر في عاقبة الشئ.
و " الدبر " النحل، سمي دبرا، لأنه يعقب ما ينتفع به، و " الدبر ": المال الكثير، سمي دبر
لكثرته، لأنه يبقى للأعقاب، والأدبار. وقال ابن عباس: أفلا يتدبرون القرآن، فيتفكرون فيه،
فيرون تصديق بعضه لبعض، وأن أحدا من الخلائق لا يقدر عليه. قال ابن قتيبة: والقرآن من
قولك: ما قرأت الناقة سلى قط، أي: ما ضمت في رحمها ولدا، وأنشد أبو عبيدة:
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وإنما سمي قرآنا، لأنه جمع السور، وضمها.
قوله تعالى: (لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه التناقض، قاله ابن عباس، وابن زيد، والجمهور.
والثاني: الكذب، قاله مقاتل، والزجاج.
والثالث: أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام، ومرذول، أبو لا بد للكلام إذا طال
من مرذول، وليس في القرآن إلا بليغ، ذكره الماوردي في جماعة.
وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر
منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا
قليلا (83)
160

قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون: طلق
رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فدخل على النبي عليه السلام فسأله أطلقت نساءك؟ قال: " لا ". فخرج
فنادى: ألا إن رسول الله لم يطلق نساءه. فنزلت هذه الآية. فكان هو الذي استنبط الأمر. انفرد
باخراجه مسلم، من حديث ابن عباس، عن عمر.
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت أو غلبت، تحدثوا بذلك،
وأفشوه، ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدث به. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن
ابن عباس.
وفي المشار إليهم بهذه الآية قولان:
أحدهما: أنهم المنافقون. قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أهل النفاق، وضعفة
المسلمين، ذكره الزجاج. وفي المراد بالأمن أربعة أقوال:
أحدها: فوز السرية بالظفر والغنيمة، وهو قول الأكثرين.
والثاني: أنه الخبر يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه ظاهر على قوم، فيأمن منهم، قاله الزجاج.
والثالث: أنه ما يعزم عليه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من الموادعة والأمان لقوم، ذكره الماوردي.
والرابع: أنه الأمن يأتي من المأمن وهو المدينة، ذكره أبو سليمان الدمشقي مخرجا من
حديث عمر. وفي (الخوف) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه النكبة التي تصيب السرية، ذكره جماعة من المفسرين.
والثاني: أنه الخبر يأتي أن قوما يجمعون للنبي [صلى الله عليه وسلم]، فيخاف منهم، قاله الزجاج.
والثالث: ما يعزم عليه النبي من الحرب والقتال، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (أذاعوا به) قال ابن قتيبة: أشاعوه. وقال ابن جرير: والهاء عائدة على
الأمر.
قوله تعالى: (ولو ردوه) يعني: الأمر (إلى الرسول) حتى يكون هو المخبر به (وإلى
أولي الأمر منهم) وفيهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم أبو بكر، وعمر، قاله عكرمة.
161

والثالث: العلماء، قاله الحسن، وقتادة، وابن جريج.
والرابع: أمراء السرايا، قاله ابن زيد، ومقاتل. وفي (الذين يستنبطونه) قولان:
أحدهما: أنهم الذين يتتبعونه من المذيعين له، قاله مجاهد.
والثاني: أنهم أولو الأمر، قاله ابن زيد. و " الاستنباط " في اللغة: الاستخراج. قال
الزجاج: أصله من النبط، وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، يقال من ذلك: قد أنبط
فلان في غضراء، أي: استنبط الماء من طين حر. والنبط: سموا نبطا، لاستنباطهم ما يخرج من
الأرض. قال ابن جرير: ومعنى الآية: وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين بخير أو بشر أفشوه،
ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذوو الأمر يتولون الخبر عن ذلك، فيصححوه إن كان صحيحا، أو
يبطلوه إن كان باطلا، لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أولي الأمر.
قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم).
في المراد بالفضل أربعة أقوال:
أحدها: أنه رسول الله.
والثاني: الإسلام.
والثالث: القرآن.
والرابع: أولو الأمر. وفي الرحمة أربعة أقوال:
أحدها: أنها الوحي.
والثاني: اللطف.
والثالث: النعمة.
والرابع: التوفيق.
قوله تعالى: (لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه راجع إلى الإذاعة، فتقديره: أذاعوا به إلا قليلا. وهذا قول ابن عباس، وابن
زيد، واختاره الفراء، وابن جرير.
والثاني: أنه راجع إلى المستنبطين، فتقديره: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا، وهذا
قول الحسن، وقتادة، واختاره ابن قتيبة. فعلى هذين القولين، في الآية تقديم وتأخير.
والثالث: أنه راجع إلى اتباع الشيطان، فتقديره: لاتبعتم الشيطان إلا قليلا منكم، وهذا
قول الضحاك، واختاره الزجاج. وقال بعض العلماء: المعنى: لولا فضل الله بإرسال النبي
إليكم، لضللتم إلا قليلا منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة الله، ويعرفون ضلال من يعبد غيره،
كقيس بن ساعدة.
162

فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس
الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا (84)
قوله تعالى: (فقاتل في سبيل الله) سبب نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس لموعد أبي
سفيان ببدر الصغرى بعد أحد، كره بعضهم ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن
عباس. وفي " فاء " (فقاتل) قولان:
أحدهما: أنه جواب قوله (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب).
والثاني: أنها متصلة بقوله (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) ذكرهما ابن السري.
والمراد بسبيل الله: الجهاد.
قوله تعالى: (لا تكلف إلا نفسك) أي: إلا المجاهدة بنفسك. و " حرض ": بمعنى
حضض. قال الزجاج: ومعنى (عسى) في اللغة: معنى الطمع والإشفاق. والإطماع من الله
واجب. و " البأس ": الشدة. وقال ابن عباس. والله أشد عذابا. قال قتادة: و " التنكيل ":
العقوبة.
من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل
منها وكان الله على شئ مقيتا (85)
قوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة) في المراد بالشفاعة أربعة أقوال:
أحدها: أنها شفاعة الإنسان للانسان، ليجتلب له نفعا، أو يخلصه من بلاء، وهذا قول
الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد.
والثاني: أنها الإصلاح بين اثنين، قاله ابن السائب.
والثالث: أنه الدعاء للمؤمنين والمؤمنات. ذكره الماوردي.
والرابع: أن المعنى: من يصر شفعا لوتر أصحابك يا محمد، فيشفعهم في جهاد عدوهم
وقتالهم في سبيل الله، قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي. وفي الشفاعة السيئة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها السعي بالنميمة، قاله ابن السائب، ومقاتل.
والثاني: أنها الدعاء على المؤمنين والمؤمنات، وكانت اليهود تفعله، ذكره الماوردي.
والثالث: أن المعنى من يشفع وتر أهل الكفر، فيقاتل المؤمنين، قاله ابن جرير، وأبو
163

سليمان الدمشقي. قال الزجاج: و " الكفل " في اللغة: النصيب، وأخذ من قولهم: اكتفلت
البعير: إذ أدرت على سنامه، أو على موضع من ظهره كساء، وركبت عليه. وإنما قيل له:
كفل، لأنه لم يستعمل الظهر كله، وإنما استعمل نصيبا منه. وفي " المقيت " سبعة أقوال:
أحدها: أنه المقتدر، قال أحيحة بن الجلاح:
وذي ضغن كففت النفس عنه * وكنت على مساءته مقيتا
وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، وابن جرير، والسدي، وابن زيد، والفراء، وأبو
عبيد، وابن قتيبة، والخطابي.
والثاني: أنه الحفيظ، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والزجاج.
وقال: هو بالحفيظ أشبه، لأنه مشتق من القوت، يقال: قت الرجل أقوته قوتا: إذا حفظت عليه
نفسه بما يقوته. والقوت: اسم الشئ الذي يحفظ نفسه، فمعنى المقيت: الحافظ الذي يعطي
الشئ على قدر الحاجة من الحفظ. قال الشاعر:
ألي الفضل أم علي إذا حو * سبت إني على الحساب مقيت
والثالث: أنه الشهيد، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، واختاره أبو سليمان الدمشقي.
والرابع: أنه الحسيب، رواه خصيف عن مجاهد.
والخامس: الرقيب، رواه أبو شيبة عن عطاء.
والسادس: الدائم، رواه ابن جريج عن عبد الله بن كثير.
والسابع: أنه معطي القوت، قاله مقاتل بن سليمان. وقال الخطابي: المقيت يكون بمعنى
معطي القوت، قال الفراء: يقال: قاته وأقاته.
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شئ حسيبا (86)
قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية) في التحية قولان:
أحدهما: أنها السلام، قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: الدعاء، ذكره ابن جرير، والماوردي. فأما " أحسن منها " فهو الزيادة عليها،
وردها: قول مثلها. قال الحسن: إذا قال أخوك المسلم: السلام عليكم، فرد السلام، وزد:
ورحمة الله. أو رد ما قال ولا تزد. وقال الضحاك: إذا قال: السلام عليك، قلت: وعليكم
السلامة ورحمة الله بركاته وإذا قال: السلام عليك ورحمة الله، قلت: وعليكم السلام، ورحمة
الله وبركاته، وهذا منتهى السلام. وقال قتادة: بأحسن منها للمسلم، أو ردوها على أهل الكتاب.
164

الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله
حديثا (87)
قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو) قال مقاتل: نزلت في الذين شكوا في البعث. قال
الزجاج: وللأم في " ليجمعنكم " لام القسم، كقولك: والله ليجمعنكم، قال: وجائز أن تكون
سميت القيامة، لقيام الناس من قبورهم، وجائز أن تكون، لقيامهم للحساب.
قوله تعالى: (ومن أصدق من الله حديثا) إنما وصف نفسه بهذا، لأن جميع الخلق يجوز
عليهم الكذب، ويستحيل في حقه.
* فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله
ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88)
قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين) في سبب نزولها سبعة أقوال:
أحدها: أن قوما أسلموا، فأصابهم وباء بالمدينة وحماها، فخرجوا فاستقبلهم نفر من
المسلمين، فقالوا: ما لكم خرجتم؟ قالوا: أصابنا وباء بالمدينة، واجتويناها، فقالوا: أما لكم
في رسول الله أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فنزلت هذه الآية، رواه
أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه.
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد، رجع ناس ممن خرج معه، فافترق فيهم
أصحاب رسول الله، ففرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا نقتلهم، فنزلت هذه الآية، هذا في
" الصحيحين " من قول زيد بن ثابت.
والثالث: أن قوما كانوا بمكة تكلموا بالإسلام وكانوا يعاونون المشركين، فخرجوا من مكة
لحاجة لهم، فقال قوم من المسلمين: اخرجوا إليهم، فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم. وقال
قوم: كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به؟ فنزلت هذه الآية، رواه عطية، عن ابن
عباس.
165

والرابع: أن قوما قدموا المدينة، فأظهروا الإسلام، ثم رجعوا إلى مكة، فأظهروا الشرك،
فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، ومجاهد.
والخامس: أن قوما أعلنوا الإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة، فاختلف المؤمنون فيهم،
فنزلت هذه الآية، وهذا قول الضحاك.
والسادس: أن قوما من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إنه قد
أصابتنا أوجاع في المدينة، فلعلنا نخرج فنتماثل، فإنا كنا أصحاب بادية، فانطلقوا واختلف فيهم
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي.
والسابع: أنها نزلت في شأن ابن أبي حين تكلم في عائشة بما تكلم، وهذا قول ابن
زيد.
وقوله تعالى: (فما لكم) خطاب للمؤمنين. والمعنى: أي شئ لكم في الاختلاف في
أمرهم؟ و " الفئة ": الفرقة. وفي معنى " أركسهم " أربعة أقوال:
أحدها: ردهم، رواه عطاء، عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: ركست الشئ،، وأركسته:
لغتان، أي: نكسهم وردهم في كفرهم، وهذا قول الفراء، والزجاج.
والثاني: أوقعهم، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.
والثالث: أهلكهم، قاله قتادة.
والرابع: أضلهم، قاله السدي.
فأما الذي كسبوا، فهو كفرهم، وارتدادهم. قال أبو سليمان. إنما قال: أتريدون أن تهدوا
من أضل الله، لأن قوما من المؤمنين قالوا: إخواننا، وتكلموا بكلمتنا.
قوله تعالى: (فلن تجد له سبيلا) فيه قولان:
أحدهما: إلى الحجة، قاله الزجاج.
166

والثاني: إلى الهدى، قاله أبو سليمان الدمشقي.
ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل
الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89)
قوله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا) أخبر الله عز وجل المؤمنين بما في ضمائر تلك
الطائفة، لئلا يحسنوا الظن بهم، ولا يجادلوا عنهم، وليعتقدوا عداوتهم.
قوله تعالى: (فلا تتخذوا منهم أولياء) أي: لا توالوهم فإنهم أعداء لكم (حتى يهاجروا)
أي: يرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: فإن تولوا عن الهجرة والتوحيد، (فخذوهم) أي:
ائسروهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحل والحرم.
فصل
قال القاضي أبو يعلى: كانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة. وقال الحسن: فرض الهجرة
باق، واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه، وهو الذي لا يقدر على إظهار الإسلام في دار الحرب، خوفا على
نفسه، وهو قادر على الهجرة، فتجب عليه لقوله (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها).
والثاني: من لا تجب عليه بل تستحب له، وهو من كان قادرا على إظهار دينه في دار
الحرب.
والثالث: من لا تستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر على إظهار دينه، ولا على الحركة
كالشيخ الفاني، والزمن فلم تستحب له للحوق المشقة.
إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم أن
يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم
يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90)
قوله تعالى: (إلا الذين يصلون) هذا الاستثناء راجع إلى القتل، لا إلى الموالاة وفي " يصلون "
قولان:
167

أحدهما: أنه بمعنى يتصلون ويلجؤون. قال ابن عباس: كان هلال بن عويمر الأسلمي وادع
رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه. فكان من وصل إلى هلال من قومه وغيرهم، فلهم
من الجوار مثل ما لهلال.
والثاني: أنه بمعنى ينتسبون، قاله ابن قتيبة، وأنشد.
إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل * وبكر سبتها والأنوف رواغم
يريد: إذا انتسبت، قالت: أبكرا، أي: يا آل بكر.
وفي القوم المذكورين أربعة أقوال:
أحدها: أنهم بنو بكر بن زيد مناة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف،
قاله عكرمة.
والثالث: أنهم بنو مدلج، قاله الحسن.
والرابع: خزاعة وبنو مدلج، قاله مقاتل. قال ابن عباس: " والميثاق ": العهد.
قوله تعالى: (أو جاؤوكم) فيه قولان:
أحدهما: أن معناه: أو يصلون إلى قوم جاؤوكم، قاله الزجاج في جماعة.
والثاني: أنه يعود إلى المطلوبين للقتل. فتقديره: أو رجعوا فدخلوا فيكم، وهو بمعنى قول
السدي.
قوله تعالى: (حصرت صدورهم) فيه قولان:
أحدهما: أن فيه إضمار " قد ".
والثاني: أنه خبر، فقوله (جاؤوكم): خبر قد تم، وحصرت: خبر مستأنف، حكاهما
الزجاج، وقرأ الحسن، ويعقوب، والمفضل، عن عاصم: (حصرة صدورهم) على الحال. و
" حصرت " ضاقت، ومعنى الكلام: ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم، أو
168

يقاتلوا قومهم، يعني قريشا. قال مجاهد: هلال بن عويمر هو الذي حصر صدره أن يقاتلكم، أو
يقاتل قومه.
قوله تعالى: (ولو شاء الله لسلطهم عليكم) قال الزجاج: أخبر انه إنما كفهم بالرعب الذي
قذف في قلوبهم. وفي (السلم) قولان:
أحدهما: أنه الإسلام، قاله الحسن.
والثاني: الصلح، قاله الربيع، ومقاتل.
فصل
قال جماعة من المفسرين: معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية
السيف. قال القاضي أبو يعلى: لما أعز الله الإسلام أمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا
الإسلام أو السيف.
ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة
أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم
حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا (91)
قوله تعالى: ستجدون آخرين) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في أسد وغطفان، كانوا قد تكلموا بالإسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم،
ويأمنوا قومهم بكفرهم، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في بني عبد الدار، رواه الضحاك، عن ابن عباس،
والثالث: أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لا نقاتلك ولا نقاتل
قومنا، قاله قتادة.
والرابع: أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان يأمن في المسلمين والمشركين،
فينقل الحديث بين النبي عليه السلام وبينهم، ثم أسلم نعيم، هذا قول السدي. ومعنى الآية:
169

ستجدون قوما يظهرون الموافقة لكم ولقومهم، ليأمنوا الفريقين، كلما دعوا إلى الشرك، عادوا فيه،
فإن لم يعتزلوكم في القتال، ويلقوا إليكم الصلح، ويكفوا أيديهم عن قتالكم، فخذوهم أي:
ائسروهم، واقتلوهم حيث أدركتموهم، وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجة بينة في قتلهم.
فصل
قال أهل التفسير: والكف عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السيف.
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية
مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة
مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة
فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما (92)
قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن عياش بن أبي ربيعة أسلم بمكة قبل هجرة رسول الله، ثم خاف ان يظهر إسلامه
لقومه، فخرج إلى المدينة فقالت أمه لابنيها أبي جهل، والحارث ابني هشام، وهما أخواه لأمه: والله
لا يظلني سقف، ولا أذوق طعام ولا شرابا حتى تأتياني به. فخرجا في طلبه، ومعهما الحارث بن
زيد، حتى أتوا عياشا وهو متحصن في أطم، فقالوا له انزل فإن أمك لم يؤوها سقف، ولو تذق
طعاما، ولا شرابا، ولك علينا أن لا نحول بينك وبين دينك، فنزل، فأوثقوه، وجلده كل واحد منهم
مائة جلدة، فقدموا به على أمه، فقالت: والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر، فطرح موثقا في
الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا، فقال له الحارث بن زيد: يا عياش لئن كان ما كنت عليه هدى لقد
تركته، وإن كان ضلالا لقد ركبته. فغضب، وقال: والله لا ألقاك خاليا إلا قتلتك، ثم أفلت عياش
بعد ذلك، وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم أسلم الحارث بعده، وهاجر ولم يعلم عياش،
فلقيه يوما فقتله، فقيل له: إنه قد أسلم، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، وقال: لم أشعر
بإسلامه، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وهو قول سعيد بن جبير، والسدي،
والجمهور.
170

والثاني: أن أبا الدرداء قتل رجلا قال لا إله إلا الله في بعض السرايا، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر
له ما صنع، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد. قال الزجاج: معنى الآية: وما كان لمؤمن أن
يقتل مؤمنا البتة. والاستثناء ليس من الأول، وإنما المعنى: إلا أن يخطئ المؤمن. روى أبو عبيدة،
عن يونس: أنه سأل رؤبة عن هذه الآية، فقال: ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ، ولكنه أقام " إلا "
مقام " الواو " قال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان
أراد: والفرقدان. وقال بعض أهل المعاني: تقدير الآية: لكن قد يقتله خطأ، وليس ذلك
فيما جعل الله له، لأن الخطأ لا تصح فيه الإباحة، ولا النهي. وقيل: إنما وقع الاستثناء على ما
تضمنته الآية من استحقاق الاثم، وإيجاب القتل.
قوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة) قال سعيد بن جبير: عتق الرقبة واجب على القاتل في
ماله، واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصلاة والصيام، فروي عن أحمد جوازه،
وكذلك روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهذا قول عطاء، ومجاهد. وروي عن أحمد: لا
يجزئ إلا من صام وصلى، وهو قول ابن عباس في رواية، والحسن، والشعبي، وإبراهيم،
وقتادة.
قوله تعالى: (ودية مسلمة إلى أهله) قال القاضي أبو يعلى: ليس في هذه الآية بيان من تلزمه
هذه الدية، واتفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل، تحملها عنه على طريق المواساة، وتلزم العاقلة
في ثلاث سنين، كل سنة ثلثها، والعاقلة: العصبات من ذوي الأنساب. ولا يلزم الجاني منها شئ.
وقال أبو حنيفة: هو كواحد من العاقلة.
وللنفس ستة أبدال: من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم، ومن الإبل
مائة، ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، وفي الحلل روايتان عن أحمد. إحداهما: أنها
أصل، فتكون مائتا حلة. فهذه دية الذكر الحر المسلم، ودية الحرة المسلمة على النصف من
ذلك.
171

قوله تعالى: (إلا أن يصدقوا) قال سعيد بن جبير: إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على
القاتل.
قوله تعالى: (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن) فيه قولان:
أحدهما: أن معناه: وإن كان المقتول خطأ من قوم كفار، ففيه تحرير رقبة من غير دية، لأن
أهل ميراثه كفار.
والثاني: وإن كان مقيما بين قومه، فقتله من لا يعلم بإيمانه، فعليه تحرير رقبة ولا دية، لأنه
ضيع نفسه بإقامته مع الكفار، والقولان مرويان عن ابن عباس، وبالأول قال النخعي، وبالثاني سعيد
ابن جبير. وعلى الأول تكون " من " للتبعيض، وعلى الثاني تكون بمعنى في.
قوله تعالى: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) فيه قولان:
أحدهما: أنه الرجل من أهل الذمة يقتل خطأ، فيجب على قاتله الدية، والكفارة، هذا قول
ابن عباس، والشعبي، وقتادة، والزهري. وأبي حنيفة، والشافعي، ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما
يجب من الدية.
والثاني: أنه المؤمن يقتل، وقومه مشركون، ولهم عقد، فديته لقومه، وميراثه للمسلمين، هذا
قول النخعي.
قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) اختلفوا هل هذا الصيام بدل من الرقبة
وحدها إذا عدمها، أو بدل من الرقبة والدية؟ فقال الجمهور: عن الرقبة وحدها، وقال مسروق،
ومجاهد، وابن سيرين: عنهما: واتفق العلماء على أنه إذا تخلل صوم الشهرين إفطار لغير عذر،
فعليه الابتداء، فأما إذا تخللها المرض، أو الحيض، فعندنا لا ينقطع التتابع. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: المرض يقطع! والحيض لا يقطع، وفرق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين
بلا مرض، ولا يمكن ذلك في الحيض، وعندنا أنها معذورة في الموضعين.
قوله تعالى: (توبة من الله) قال الزجاج: معناه: فعل الله ذلك توبة منه. قوله: (وكان الله
عليما) أي: لم يزل عليما بما يصلح خلقه من التكليف (حكيما) فيما يقضي بينهم، ويدبره في
أمورهم.
172

ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له
عذابا عظيما (93)
قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) سبب نزولها: أن مقيس بن صبابة وجد أخاه هشام بن
صبابة قتيلا في بني النجار، وكان مسلما، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأرسل رسول الله
رسولا من بني فهر، فقال له: إيت بني النجار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأمركم إن علمتم قاتل هشام، فادفعوه إلى مقيس، وإن لم تعلموا له قاتلا، فادفعوا إليه ديته،
فأبلغهم الفهري ذلك، فقالوا: والله ما نعلم له قاتلا، ولكنا نعطي ديته، فأعطوه مائة من الإبل، ثم
انصرفا راجعين إلى المدينة، فأتى الشيطان مقيس بن صبابة، فقال: تقبل دية أخيك، فيكون عليك
سبة ما بقيت. اقتل الذي معك مكان أخيك، وأفضل بالدية، فرمى الفهري بصخرة فشدخ رأسه،
ثم ركب بعيرا منها، وساق بقيتها راجعا إلى مكة، وهو يقول:
قتلت به فهرا وحملت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع
وأدركت ثأري واضطجعت موسدا * وكنت إلى الأصنام أول راجع
فنزلت هذه الآية، ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح، فقتل، رواه أبو صالح، عن ابن عباس
وفي قوله [تعالى]: (متعمدا) قولان:
أحدهما: متعمدا لأجل أنه مؤمن، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: متعمدا لقتله، ذكره بعض المفسرين. وفي قوله [تعالى]: (فجزاؤه جهنم) قولان:
أحدهما: أنها جزاؤه قطعا.
والثاني: انها جزاؤه إن جازاه. واختلف العلماء هل للمؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا توبة أم لا؟
فذهب الأكثرون إلى أن له توبة، وذهب ابن عباس إلى أنه لا توبة له.
فصل
اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فقال قوم: هي محكمة، واحتجوا
بأنها خبر، والأخبار لا تحتمل النسخ، ثم افترق هؤلاء فرقتين، إحداهما قالت: هي على ظاهرها،
173

وقاتل المؤمن مخلد في النار، والفرقة الثانية قالت: هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله
كافر، ثم أسلم الكافر، انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العام
المخصص، فأي دليل صلح للتخصيص، وجب العمل به. ومن أسباب التخصيص أن يكون قتله
مستحلا، فيستحق الخلود لاستحلاله. وقال قوم: هي مخصوصة في حق من لم يتب، واستدلوا
بقوله تعالى في الفرقان: (إلا من تاب) وقال آخرون: هي منسوخة بقوله [تعالى]: (إن الله لا
يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام
لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن
الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون خبيرا (94)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) في سبب نزولها أربعة
أقوال:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم، وجدوهم قد
تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد بن
الأسود فقتله.. فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله،
فقتله المقداد، فقال: ادعوا لي المقداد فقال: يا مقداد أقتلت رجلا قال: لا إله إلا الله، فكيف
لك ب‍ " لا إله إلا الله غدا "! فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أن رجلا من بني سليم مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غنم، فسلم
عليهم، فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. رواه عكرمة، عن ابن عباس.
والثالث: أن قوما من أهل مكة سمعوا بسرية لرسول الله أنها تريدهم فهربوا، وأقام رجل منهم
كان قد أسلم، يقال له: مرداس، وكان على السرية رجل، يقال له: غالب بن فضالة، فلما رأى
مرداس الخيل، كبر، ونزل إليهم، فسلم عليهم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، ورجعوا إلى
174

النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فوجد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من ذلك وجدا شديدا، وأنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح
عن ابن عباس. وقال السدي: كان أسامة أمير السرية.
والرابع: أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلمي، وأبا قتادة، ومحلم بن جثامة في سرية إلى
إضم، فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعي، فحياهم بتحية الإسلام، فجعل عليه محلم بن جثامة،
قتله، وسلبه بعيرا وسقاء. فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، أخبروه، فقال: أقتلته بعد ما قال آمنت؟!
ونزلت هذه الآية. رواه ابن أبي حدرد، عن أبيه.
فأما التفسير، فقوله [تعالى]: (إذا ضربتم في سبيل الله) أي: سرتم وغزوتم. وقوله
[تعالى]: (فتبينوا) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: فتبينوا بالنون من التبيين
للأمر قبل الإقدام عليه. وقرأ حمزة والكسائي وخلف (فتثبتوا) بالثاء من الثبات وترك الاستعجال،
وكذلك قرؤوا في (الحجرات).
قوله تعالى: (لمن ألقى إليكم السلام) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص، عن
عاصم، والكسائي: " السلام " بالألف مع فتح السين. قال الزجاج: يجوز أن يكون بمعنى التسليم،
ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام. وقرأ نافع. وابن عامر، وحمزة، وخلف، وجبلة عن المفضل
عن عاصم: (السلم) بكسر السين وإسكان اللام من غير ألف. و " السلم ": الصلح وقرأ
الجمهور: لست مؤمنا، بكسر الميم، وقرأ علي، وابن عباس، وعكرمة، وأبو العالية، ويحيى بن
يعمر وأبو جعفر: بفتح الميم من الأمان.
قوله تعالى: (تبتغون عرض الحياة الدنيا) و " عرضها ": ما فيها من مال، قل أو كثر. قال
المفسرون: والمراد به: ما غنموه من الرجل الذي قتلوه.
قوله تعالى: (فعند الله مغانم كثيرة) فيه قولان:
أحدهما: أنه ثواب الجنة، قاله مقاتل.
والثاني: أنها أبواب الرزق في الدنيا، قاله أبو سليمان الدمشقي.
175

قوله تعالى: (كذلك كنتم من قبل) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه: كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة، فلا تخيفوا من قالها،
رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: كذلك كنتم تخفون إيمانكم بمكة كما كان هذا يخفي إيمانه، رواه سعيد بن جبير
عن ابن عباس.
والثالث: كذلك كنتم من قبل مشركين، قاله مسروق، وقتادة، وابن زيد.
قوله تعالى: (فمن الله عليكم) في الذي من به أربعة أقوال:
أحدها: الهجرة، قاله ابن عباس.
والثاني: إعلان الإيمان، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: الإسلام، قاله قتادة، ومسروق.
والرابع: التوبة على الذي قتل ذلك الرجل، قاله السدي.
قوله تعالى: (فتبينوا) تأكيد للأول.
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم
وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله
الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (95)
قوله تعالى: (لا يستوي القاعدون) قال أبو سليمان الدمشقي: نزلت هذه الآية من أجل قوم
كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود. وقال زيد بن ثابت: إني لقاعد إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
إذ غشيته السكينة، ثم سري عنه، فقال: " اكتب " (لا يستوي القاعدون من المؤمنين
والمجاهدون) الآية، فقام ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟
فوالله ما قضى كلامه حتى غشيت رسول الله السكينة، ثم سري عنه، فقال: اقرأ فقرأت لا يستوي
القاعدون من المؤمنين والمجاهدون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (غير أولي الضرر) فألحقتها.
قوله تعالى: (لا يستوي القاعدون) يعني عن الجهاد، والمعنى: أن المجاهدين أفضل. قال
176

ابن عباس: وأريد بهذا الجهاد غزوة بدر. وقال مقاتل: غزاة تبوك.
قوله تعالى: (غير أولي الضرر) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة: (غير) برفع الراء، وقرأ
نافع، وابن عامر، والكسائي، وخلف، والمفضل: بنصبها. قال أبو علي: من رفع الراء، جعل
" غير " صفة للقاعدين، ومن نصبها، جعلها استثناء من القاعدين. وفي " الضرر " قولان:
أحدهما: أنه العجز بالزمانة والمرض ونحوهما. قال ابن عباس: هم قوم كانت تحبسهم عن
الغزاة أمراض وأوجاع. وقال ابن جبير، وابن قتيبة: هم أولو الزمانة. وقال الزجاج: الضرر: أن
يكون ضريرا أو أعمى أو زمنا.
والثاني: أنه العذر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
قوله تعالى: (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) في هؤلاء
القاعدين قولان:
أحدهما: انهم القاعدون بالضرر، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: القاعدون من غير ضرر، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير: والدرجة:
الفضيلة. فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة.
قوله تعالى: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين) قال ابن عباس: القاعدون هاهنا: غير
أولي الضرر، وقال سعيد بن جبير: هم الذين لا عذر لهم.
درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما (96)
قوله تعالى: (درجات منه) قال الزجاج: درجات في موضع نصب بدلا من قوله [تعالى]: أجرا
عظيما، وهو مفسر للأجر. وفي المراد بالدرجات قولان:
أحدهما: أنها درجات الجنة، قال ابن محيريز: الدرجات: سبعون درجة ما بين كل درجتين
حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة، وإلى نحوه ذهب مقاتل.
والثاني: أن معنى الدرجات: الفضائل، قاله سعيد بن جبير. قال قتادة: كان يقال: الإسلام
درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة،
177

وقال ابن زيد: الدرجات: هي السبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال: (ذلك بأنهم
لا يصيبهم ظمأ.. إلى قوله: ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم...) فإن قيل: ما الحكمة في أن
الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة، وفي آخره درجات؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن الدرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر منزلة،
والدرجات: تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر منازل كثيرة، وهذا معنى قول
ابن عباس.
والثاني: أن الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم، والدرجات: منازل الجنة، ذكره القاضي
أبو يعلى.
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا
ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97)
قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن أناسا كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر لم تدع قريش
أحدا إلا أخرجوه معهم، فقتل أولئك الذين أقروا بالإسلام، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن
ابن عباس وقال قتادة: نزلت في أناس تكلموا بالإسلام، فخرجوا مع أبي جهل، فقتلوا يوم بدر،
واعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبل منهم.
والثاني: أن قوما نافقوا يوم بدر، وارتابوا، وقالوا: غر هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين
حتى قتلوا، فنزلت فيهم هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أنها نزلت في قوم تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن
يلحق بالنبي، ضربت الملائكة وجهه ودبره، رواه العوفي عن ابن عباس. وفي " التوفي " قولان:
أحدهما: أنه قبض الأرواح بالموت، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: الحشر إلى النار، قاله الحسن. قال مقاتل: والمراد بالملائكة ملك الموت وحده.
وقال في موضع آخر: ملك الموت وأعوانه، وهم ستة، ثلاثة يلون أرواح المؤمنين، وثلاثة يلون
178

أرواح الكفار. قال الزجاج: " ظالمي أنفسهم " نصب على الحال، والمعنى: تتوفاهم في حال
ظلمهم أنفسهم، والأصل. ظالمين، لأن النون حذفت استخفافا. فأما ظلمهم لأنفسهم، فيحتمل
على ما ذكر في قصتهم أربعة أقوال:
أحدها: أنه ترك الهجرة.
والثاني: رجوعهم إلى الكفر.
والثالث: الشك بعد اليقين.
والرابع: إعانة المشركين.
قوله تعالى: (فيم كنتم) قال الزجاج: هو سؤال توبيخ، والمعنى: كنتم في المشركين أو في
المسلمين.
قوله تعالى: (قالوا كنا مستضعفين في الأرض: قال مقاتل: كنا مقهورين في أرض مكة، لا
نستطيع أن نذكر الإيمان، قالت الملائكة: (ألم تكن أرض الله واسعة) يعني المدينة (فتهاجروا
فيها) يعني: إليها. وقول الملائكة لهم يدل على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة.
إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون
سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا (99)
قوله تعالى: (إلا المستضعفين) سبب نزولها: أن المسلمين قالوا في حق المستضعفين من
المسلمين بمكة: هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر، فنزلت هذه الآية. قاله مجاهد. قال الزجاج:
" المستضعفين " نصب على الاستثناء من قوله [تعالى]: (مأواهم جهنم) قال أبو سليمان:
" المستضعفون ": ذوو الأسنان، والنساء، والصبيان.
قوله تعالى: (لا يستطيعون حيلة) أي: لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة، ولا على
نفقة، ولا قوة. وفي قوله تعالى: (ولا يهتدون سبيلا) قولان:
أحدهما: أنهم لا يعرفون الطريق إلى المدينة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد،
والثاني: أنهم لا يعرفون طريقا يتوجهون إليه، فإن خرجوا هلكوا، قاله ابن زيد. وفي
(عسى) قولان:
أحدهما: أنها بمعنى الإيجاب، قاله الحسن.
والثاني: أنها بمعنى الترجي، فالمعنى: أنهم يرجون العفو، قاله الزجاج.
179

* ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته
مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا
رحيما (100)
قوله تعالى: (يجد في الأرض مراغما) قال سعيد بن جبير، ومجاهد: متزحزحا عما يكره.
وقال ابن قتيبة: المراغم والمهاجر: واحد، يقال: راغمت وهاجرت، وأصله: أن الرجل كان إذا
أسلم، عن قومه، مراغما، أي: مغاضبا لهم، ومهاجرا، أي: مقاطعا من الهجران فقيل للمذهب:
مراغم، وللمصير إلى النبي عليه السلام هجرة، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه.
وفي السعة قولان:
أحدهما: أنها السعة في الزرق، قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: التمكن من إظهار الدين، قاله قتادة.
قوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) اتفقوا على أنه نزل في رجل خرج
مهاجرا، فمات في الطريق، واختلفوا فيه على ستة أقوال:
أحدها: (أنه ضمرة بن العيص، وكان ضريرا موسرا، فقال: احملوني فحمل، وهو مريض،
فمات عند التنعيم، فنزل فيه هذا الكلام، رواه سعيد بن جبير.
والثاني: أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعي أمر أهله ان يحملوه على سريره، فلما بلغ
التنعيم، مات، فنزلت فيه هذه الآية، رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير.
والثالث: أنه ابن ضمرة الجندعي، مرض فقال لبنيه: أخرجوني من مكة، فقد قتلني غمها،
فقالوا: أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة، يريد الهجرة، فخرجوا به، فمات في الطريق، فنزل فيه هذا،
ذكره ابن إسحاق. وقال مقاتل: هو جندب بن ضمرة.
والرابع: أن اسمه سبرة، فلما نزل قوله [تعالى]: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي
أنفسهم) إلى قوله: (مراغما كثيرا) قال لأهله وهو مريض: احملوني، فإني موسر، ولي من المال
ما يبلغني إلى المدينة، فلما جاوز الحرم، مات فنزل فيه هذا، قاله قتادة.
180

والخامس: أنه رجل من بني كنانة هاجر فمات في الطريق، فسخر منه قومه، فقالوا: لا هو بلغ ما
يريد، ولا أقام في أهله حتى يدفن، فنزل فيه هذا، قاله ابن زيد.
والسادس: أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام، خرج مهاجرا، فمات في الطريق، ذكره
الزبير بن بكار وقوله: (وقع) معناه وجب.
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم
الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا (101)
قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) روى
مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن
الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة،
فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر. والضرب في الأرض: السفر، والجناح: الإثم،
والقصر: النقص، والفتنة: القتل. وفي القصر قولان:
أحدهما: أنه القصر من عدد الركعات.
والثاني: أنه القصر من حدودها. وظاهر الآية يدل على أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف،
وليس الأمر كذلك، وإنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرها لم يخل عن خوف
العدو. وقيل: إن قوله: (أن تقصروا من الصلاة) كلام تام. وقوله [تعالى]: (إن خفتم) كلام
مبتدأ، ومعناه: وإن خفتم.
واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا؟ فقال قوم: ليست مقصورة، وإنما
فرض المسافر ذلك، وهو قول ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، والسدي، وأبي
حنيفة، فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة ولا يجوز ذلك إلا بوجود السفر والخوف. لأن
عند هؤلاء أن الركعتين في السفر إذا لم يكن فيه خوف تمام غير قصر، واحتجوا بما روى ابن عباس
أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى بذي قرد، فصف الناس خلفه صفين، صفا خلفه، وصفا موازي العدو، فصلى
بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء، إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم
181

يقضوا. وعن ابن عباس أنه قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر
ركعتين: وفي الخوف ركعة.
والثاني: انها مقصورة، وليست بأصل، وهو قول مجاهد: وطاووس، وأحمد، والشافعي.
قال يعلى بن أمية: قلت لعمر بن الخطاب: عجبت من قصر الناس اليوم، وقد أمنوا وإنما قال الله
تعالى: (إن خفتم) فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقال:
صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته.
فصل
وإنما يجوز للمسافر القصر إذا كان سفره مباحا، وبهذا قال مالك، والشافعي، وقال أبو
حنيفة: يجوز له القصر في سفر المعصية. فأما مدة الإقامة التي إذا نواها أتم الصلاة، وإن نوى أقل
منها، قصر، فقال أصحابنا: إقامة اثنين وعشرين صلاة وقال أبو حنيفة: خمسة عشر يوما.
وقال مالك، والشافعي: أربعة أيام.
وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم
فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا
حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة
واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم
وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا (102)
قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) سبب نزولها: أن المشركين لما رأوا
النبي [صلى الله عليه وسلم]، وأصحابه قد صلوا الظهر، ندموا إذ لم يكبوا عليهم، فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإن
182

لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، يعنون العصر، فإذا قاموا فشدوا عليهم، فلما قاموا،
إلى صلاة العصر، نزل جبريل بهذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم) خطاب للنبي [عليه السلام]، ولا يدل على أن الحكم مقصور
عليه، فهو كقوله [تعالى] (خذ من أموالهم صدقة) وقال أبو يوسف: لا تجوز صلاة الخوف بعد
النبي صلى الله عليه وسلم، والهاء والميم من (فيهم) تعود على الضاربين في الأرض.
قوله تعالى: (فأقمت لهم الصلاة) أي: ابتدأتها، (فلتقم طائفة منهم معك) أي: لتقف.
ومثله (وإذا أظلم عليهم قاموا). (وليأخذوا أسلحتهم) فيهم قولان:
أحدهما: أنهم الباقون، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم المصلون معه، ذكره ابن جرير، قال: وهذا السلاح كالسيف، يتقلده
الإنسان، والخنجر يشده إلى ذراعه.
قوله تعالى: (فإذا سجدوا) يعني المصلين معه (فليكونوا) في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم الطائفة التي لم تصل، أمرت ان تحرس الطائفة المصلية، وهذا معنى قول ابن
عباس.
والثاني: أنهم المصلون معه أمروا إذا سجدوا أن ينصرفوا إلى الحرس.
واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السجود، فقال قوم: إذا أتموا مع الإمام ركعة أتموا
لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، وانصرفوا، وقد تمت صلاتهم وقال آخرون: ينصرفون عن ركعة،
واختلف هؤلاء، فقال بعضهم: إذا صلوا مع الإمام ركعة وسلموا، فهي تجزئهم. وقال آخرون
منهم أبو حنيفة: بل ينصرفون عن تلك الركعة إلى الحرس وهم على صلاتهم، فيكونون في وجه
العدو مكان الطائفة التي لم تصل، وتأتي تلك الطائفة. واختلفوا في الطائفة الأخرى، فقال قوم: إذا
صلى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائتة، ثم يسلم بهم، وقال آخرون: بل يسلم هو
عند فراغه من الصلاة بهم، فإذا سلم قضوا ما فاتهم. وقال آخرون: بل يصلي بالطائفة الثانية ركعة
ويسلم هو، ولا تسلم هي، بل ترجع إلى وجه العدو، ثم تجئ الأولى، فتقضي ما بقي من صلاتها
وتسلم، وتمضي وتجئ الأخرى، فتتم صلاتها، وهذا مذهب أبي حنيفة.
183

قوله تعالى: (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) قال ابن عباس: يريد الذين صلوا أولا. وقال
الزجاج: يجوز أن يريد به الذين وجاه العدو، لأن المصلي غير مقاتل، ويجوز أن يكون الجماعة
أمروا بحمل السلاح، لأنه أرهب للعدو، وأحرى أن لا يقدموا عليهم. و " الجناح " الإثم، وهو من:
جنحت: إذا عدلت عن المكان، وأخذت جانبا عن القصد. فالمعنى: أنكم إذا وضعتم أسلحتكم،
لم تعدلوا عن الحق.
قوله تعالى: (إن كان بكم أذى من مطر) قال ابن عباس: رخص لهم في وضع الأسلحة
لثقلها على المريض وفي المطر، وقال: وخذوا حذركم كي لا يتغفلوكم.
فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة
إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (103)
قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة) يعني صلاة الخوف، و (قضيتم) بمعنى: فرغتم.
قوله تعالى: (فاذكروا الله) في هذا الذكر قولان:
أحدهما: أنه الذكر لله في غير الصلاة، وهذا قول ابن عباس، والجمهور قالوا: وهو
التسبيح، والتكبير، والدعاء، والشكر.
والثاني: انه الصلاة فيكون المعنى: فصلوا قياما، فإن لم تستطيعوا فقعودا، فإن لم تستطيعوا
فعلى جنوبكم، هذا قول ابن مسعود. وفي المراد بالطمأنينة قولان:
أحدهما: أنه الرجوع إلى الوطن عن السفر، وهو قول الحسن، ومجاهد وقتادة.
والثاني: أنه الأمن بعد الخوف، وهو قول السدي، والزجاج وأبي سليمان الدمشقي.
وفي إقامة الصلاة قولان:
أحدهما: إتمامها، قاله مجاهد، وقتادة، والزجاج، وابن قتيبة.
والثاني: أنه إقامة ركوعها وسجودها، وما يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف، هذا قول
السدي.
قوله تعالى: (كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) أي: فرضا. وفي " الموقوت " قولان:
أحدهما: انه بمعنى المفروض، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد.
والثاني: انه الموقت في أوقات معلومة، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، وزيد بن أسلم،
وابن قتيبة.
184

ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا
يرجون وكان الله عليما حكيما (104)
قوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) قال أهل التفسير: سبب نزولها: أن النبي [عليه
السلام] أمر أصحابه لما انصرفوا من أحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه، فشكوا ما بهم من
الجراحات، فنزلت هذه الآية، قال الزجاج: ومعنى " تهنوا ": تضعفوا، يقال: وهن يهن: إذا
ضعف، وكل ضعف فهو وهن. وابتغى القوم: طلبهم بالحرب. و " القوم " هاهنا: الكفار (إن
تكونوا تألمون) أي: توجعون، فإنهم يجدون من الوجع بما ينالهم من الجراح والتعب، كما
تجدون، وأنتم مع ذلك ترجون مالا يرجون. وفي هذا الرجاء قولان:
أحدهما: أنه الأمل، قاله مقاتل. قال الزجاج: وهو إجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم.
والثاني: أنه الخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الفراء: ولم نجد الخوف بمعنى
الرجاء إلا ومعه جحد، كقوله [تعالى]: (ما لكم لا ترجون لله وقارا) وقوله: (لا يرجون أيام الله)
قال الشاعر:
لا ترتجي حين تلاقي الزائدا * أسبعة لاقت معا أم واحدا
وقال الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك، قال الزجاج: وإنما
اشتمل الرجاء على معنى الخوف، لأنه أمل قد يخاف أن لا يتم، فعلى القول الأول يكون المعنى:
ترجون النصر وإظهار دينكم والجنة. وعلى الثاني: تخافون من عذاب الله ما لا يخافون.
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين
خصيما (105)
قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن طعمة بن أبيرق سرق درعا لقتادة بن النعمان، وكان الدرع في جراب فيه دقيق،
فجعل الدقيق ينتشر من خرق الجراب، حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود،
فالتمست الدرع عند طعمة، فلم توجد عنده، وحلف: مالي بها علم، فقال أصحابها: بلى والله،
185

لقد دخل علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق، فلما حلف تركوه، واتبعوا أثر
الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه، فقال: دفعها إلي طعمة، فقال قوم طعمة: إنطلقوا
إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وليجادل عن صاحبنا فإنه برئ، فأتوه فكلموه في ذلك، فهم أن يفعل، وأن
يعاقب اليهودي، فنزلت هذه الآيات كلها. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن رجلا من اليهود، استودع طعمة بن أبيرق درعا، فخانها، فلما خاف اطلاعهم
عليها، ألقاها في دار أبي مليل الأنصاري، فجادل قوم طعمة عنه، وأتوا إلى النبي [صلى الله عليه وسلم]، فسألوه
ان يبرئه، ويكذب اليهودي، فنزلت الآيات هذا قول السدي، ومقاتل.
والثالث: أن مشربة رفاعة بن زيد نقبت، وأخذ طعامه وسلاحه، فاتهم به بنو أبيرق، وكانوا ثلاثة
بشير، ومبشر، وبشر، فذهب قتادة بن النعمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أهل
بيت منا فيهم جفاء نقبوا مشربة لعمي رفاعة بن زيد، وأخذوا سلاحه، وطعامه، فقال: أنظر في
ذلك، فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن قتادة بن النعمان، وعمه عمدوا
إلى أهل بيت منا يرمونهم بالسرقة وهم أهل بيت إسلام وصلاح، فقال النبي لقتادة: رميتهم بالسرقة
على غير بينة! فنزلت هذه الآيات. قاله قتادة بن النعمان والكتاب: القرآن. والحق: الحكم
بالعدل. (لتحكم بين الناس) أي: لتقضي بينهم. وفي قوله [تعالى]: (بما أراك الله) قولان:
أحدهما: أنه الذي علمه، والذي علمه أن لا يقبل دعوى أحد على أحد إلا ببرها.
والثاني: أنه ما يؤدي إليه اجتهاده، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (ولا تكن للخائنين خصيما) قال الزجاج: لا تكن مخاصما، ولا دافعا عن خائن
واختلفوا هل خاصم عنه أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنه قام خطيبا فعذره. رواه العوفي عن ابن عباس:
والثاني: أنه هم بذلك، ولم يفعله، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. قال القاضي أبو يعلى:
وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم
بحقيقة أمره، لأن الله تعالى عاتب نبيه على مثل ذلك.
واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106)
186

قوله تعالى: (واستغفر الله) في الذي أمر بالاستغفار منه قولان:
أحدهما: أنه القيام بعذر.
والثاني: انه العزم على ذلك.
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) يستخفون
من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله
بما يعملون محيطا (108)
قوله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) أي: يخونون أنفسهم، فيجعلونها خائنة
بارتكاب الخيانة. قال عكرمة: والمراد بهم:: طعمة بن أبيرق، وقومه الذين جادلوا عنه. وفي
حديث العوفي عن ابن عباس قال: انطلق نفر من عشيرة طعمة ليلا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقالوا:
إن صاحبنا برئ. و " الاستخفاء ": الاستتار، والمعنى: يستترون من الناس لئلا يطلعوا على
خيانتهم وكذبهم، ولا يستترون من الله، وهو معهم بالعلم. وكل ما فكر فيه، أو خيض فيه بليل، فقد
بيت. وجمهور العلماء على أن المشار إليه بالاستخفاء والتبييت، قوم طعمة. والذي بيتوا: احتيالهم
في براءة صاحبهم بالكذب. وقال الزجاج: هو السارق نفسه، والذي بيت أنه قال: أرمي اليهودي
بأنه سارق الدرع، وأحلف أني لم أسرقها، فتقبل يميني، ولا تقبل يمين اليهودي
ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيمة أم من
يكون عليهم وكيلا (109)
قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم) قال الزجاج: " ها " للتنبيه، وأعيدت في أوله.
والمعنى: ها أنتم الذين جادلتم. و " المجادلة، والجدال ": شدة المخاصمة، و " الجدل ": شدة
الفتل. والكلام يعود إلى من احتج عن السارق. فأما قوله: " عنهم " فإنه عائد إلى السارق.
و " عليهم " بمعنى " لهم ". والوكيل: القائم بأمر من وكله. فكأنه قال: من الذي يتوكل لهم منكم في
خصومة ربهم؟!
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (110)
قوله تعالى: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه) اختلفوا في نزولها على ثلاثة أقوال:
187

أحدها: أنها نزلت خطابا للسارق، وعرضا للتوبة عليه. رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه
قال ابن زيد، ومقاتل.
والثاني: أنها للذين جادلوا عنه من قومه، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أنه عنى بها كل مسئ ومذنب. ذكره أبو سليمان الدمشقي. وإطلاقها لا يمنع أن
تكون نزلت على سبب. وفي هذا السوء ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه السرقة.
والثاني: الشرك.
والثالث: أنه كل ما يأثم به. وفي هذا الظلم قولان:
أحدهما: أنه رمي البرئ بالتهمة.
والثاني: ما دون الشرك.
ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (111)
قوله تعالى: (ومن يكسب إثما) أي: ومن يعمل ذنبا (فإنما يكسبه على نفسه) يقول: إنما
يعود وباله عليه. قاله مقاتل. وهذه في طعمة أيضا.
ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتنا وإثما مبينا (112)
قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما) جمهور العلماء على أنها نزلت متعلقة بقصة طعمة
ابن أبيرق. وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله ابن أبي بن سلول إذ رمى عائشة
عليها السلام بالإفك وفي قوله [تعالى]: (خطيئة أو إثما) أربعة أقوال:
أحدها: أن " الخطيئة " يمين السارق الكاذبة و " الإثم ": سرقته الدرع، ورميه اليهودي، قاله
ابن السائب.
والثاني: أن " الخطيئة " ما يتعلق به من الذنب، و " الإثم ": قذفه البرئ، قاله مقاتل.
والثالث: أن " الخطيئة " قد تقع عن عمد، وقد تقع عن خطأ، و " الإثم ": يختص العمد. قاله
ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي. وذكر الزجاج أن الخطيئة نحو قتل الخطأ الذي يرتفع فيه الإثم.
والرابع: انه لما سمى الله عز وجل بعض المعاصي خطيئة، وبعضها إثما، أعلم أن من
كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين، ثم قذف به بريئا، فقد احتمل بهتانا، ذكره الزجاج أيضا فأما
قوله [تعالى]: (ثم يرم به) أي: يقذف بما جناه بريئا منه.
188

فإن قيل: الخطيئة والإثم اثنان، فكيف قال: به، فعنه أربعة أجوبة:
أحدها: أنه أراد: ثم يرم بهما، فاكتفى بإعادة الذكر على الاثم من إعادته على الخطيئة،
كقوله [تعالى]: (انفضوا إليها) فخص التجارة، والمعنى للتجارة واللهو.
والثاني: أن الهاء تعود على الكسب، فلما دل ب " يكسب " على الكسب، كنى عنه.
والثالث: ان الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإثم، كأنه قال: ومن يكسب ذنبا، ثم يرم به.
ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.
والرابع: أن الهاء تعود على الإثم خاصة، قاله ابن جرير الطبري. وفي المراد بالبرئ الذي
قذفه هذا السارق قولان:
أحدهما: أنه كان يهوديا، قاله ابن عباس، وعكرمة، وابن سيرين وقتادة وابن زيد، وسماه
عكرمة، وقتادة: زيد بن السمير.
والثاني: أنه كان مسلما، روي عن ابن عباس، وقتادة بن النعمان، والسدي، ومقاتل،
واختلفوا في ذلك المسلم، فقال الضحاك عن ابن عباس: هو عائشة لما قذفها ابن أبي، وقال قتادة
ابن النعمان: هو لبيد بن سهل، وقال السدي، ومقاتل: هو أبو مليل الأنصاري، فأما البهتان: فهو
الكذب الذي يحير من عظمه، يقال: بهت الرجل: إذا تحير. قال ابن السائب: فقد احتمل بهتانا
برميه البرئ، وإثما مبينا بيمينه الكاذبة.
ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم
وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان
فضل الله عليك عظيما (113)
قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنها متعلقة بقصة طعمة وقومه، حيث لبسوا على النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر صاحبهم، هذا قول
ابن عباس من طريق ابن السائب.
والثاني: أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقالوا: جئناك نبايعك على أن لا نحشر ولا
نعشر، وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة، فلم يجبهم، فنزلت هذه الآية، وهذا قول ابن عباس في
189

رواية الضحاك. وفي المراد بفضل الله ورحمته قولان:
أحدهما: النبوة والعصمة.
والثاني: الإسلام والقرآن، رويا عن ابن عباس.
قال مقاتل: لولا فضل الله عليك حيث بين لك امر طعمة، وحولك بالقرآن عن تصديق.
الخائن، لهمت طائفة منهم أن يضلوك. قال الفراء: والمعنى لقد همت فإن قيل: كيف قال:
(ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة) وقد همت بإضلاله؟ فالجواب: أنه لولا فضل الله،
لظهر تأثير ما هموا به. فأما الطائفة، فعلي رواية ابن السائب عن ابن عباس: قوم طعمة، وعلى
رواية الضحاك: وفد ثقيف، وفي الإضلال قولان:
أحدهما: التخطئة في الحكم:
والثاني: الاستزلال عن الحق.
قال الزجاج: وما يضلون إلا أنفسهم، لأنهم يعملون عمل الضالين، فيرجع الضلال إليهم.
فأما " الكتاب "، فهو القرآن وفي " الحكمة " ثلاثة أقوال:
أحدها: القضاء بالوحي، قاله ابن عباس.
والثاني: الحلال والحرام، قاله مقاتل.
والثالث: بيان ما في الكتاب، وإلهام الصواب، وإلقاء صحة الجواب في الروع، قاله أبو
سليمان الدمشقي، وفي قوله [تعالى]: (وعلمك ما لم تكن تعلم) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الشرع، قاله ابن عباس ومقاتل.
والثاني: أخبار الأولين والآخرين، قاله أبو سليمان.
والثالث: الكتاب والحكمة، ذكره الماوردي. وفي قوله [تعالى]: (وكان فضل الله عليك
عظيما) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه المنة بالإيمان.
والثاني: المنة بالنبوة، هذان عن ابن عباس.
والثالث: انه عام في جميع الفضل الذي خصه [الله] به، قاله أبو سليمان.
لا خير في كثير من نجوهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن
يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114)
190

قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم) قال ابن عباس: هم قوم طعمة، وقال مقاتل:
وكلهم يهود تناجوا في أمر طعمة، وقال مجاهد: هو عام في نجوى جميع الناس. قال الزجاج:
ومعنى النجوى: ما تنفرد به الجماعة أو الاثنان، سرا كان أو ظاهرا. ومعنى " نجوت الشئ " في
اللغة. خلصته وألقيته، يقال: نجوت الجلد: إذا ألقيته عن البعير وغيره. قال الشاعر:
فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه * سيرضيكما منها سنام وغاربه
وقد نجوت فلانا إذا استنكهته، قال الشاعر:
نجوت مجالدا فوجدت منه * كريح الكلب مات قديم عهد
وأصله كله من النجوة، وهو ما ارتفع من الأرض، قال الشاعر يصف سيلا:
فمن بنجوته كمن بعقوته * والمستكن كمن يمشي بقرواح
والمراد بنجواهم: ما يدبرونه بينهم من الكلام.
فأما قوله: (إلا من أمر بصدقة) فيجوز أن يكون بمعنى: إلا في نجوى من أمر بصدقة،
ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول فيكون بمعنى: لكن من أمر بصدقة، ففي نجواهم خير.
وأما قوله [تعالى]: (أمر بصدقة فالمعنى: حث عليها. وأما المعروف، ففيه قولان:
أحدهما: أنه الفرض، روي عن ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أنه عام في جميع أفعال البر، وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي سليمان
الدمشقي.
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى
ونصله جهنم وساءت مصيرا (115)
قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنه لما نزل القرآن بتكذيب طعمة، وبيان ظلمه، وخاف على نفسه من القطع
والفضيحة، هرب إلى مكة، فلحق بأهل الشرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وقتادة،
191

وابن زيد، والسدي. وقال مقاتل: لما قدم مكة نزل على الحجاج بن علاط السلمي فأحسن نزله،
فبلغه أن في بيته ذهبا، فخرج في الليل فنقب حائط البيت، فعلموا به فأحاطوا البيت، فلما رأوه،
أرادوا أن يرجموه، فاستحيا الحجاج، لأنه ضيفه، فتركوه، فخرج، فلحق بحرة بني سليم يعبد
صنمهم حتى مات على الشرك، فنزل فيه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) وقال غيره: بل خرج مع
تجار فسرق منهم شيئا، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وقيل: ركب سفينة، فسرق فيها مالا، فعلم به،
فألقي في البحر.
والقول الثاني: أن قوما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، ثم ارتدوا، فنزلت فيهم هذه
الآية، روي عن ابن عباس. ومعنى الآية: ومن يخالف الرسول في التوحيد، والحدود، من بعد ما
تبين له التوحيد والحكم، ويتبع غير دين المسلمين، نوله ما تولى، أي: نكله إلى ما اختار لنفسه،
ونصله جهنم: ندخله إياها.
قال ابن فارس: تقول صليت اللحم أصليه: إذا شويته، فإن أردت أنك أحرقته، قلت:
أصليته. وساءت مصيرا، أي: مرجعا يصار إليه.
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل
ضللا بعيدا (116)
قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنها نزلت في حق طعمة بن أبيرق لما هرب من مكة، ومات على الشرك، وهذا
قول الجمهور، منهم سعيد بن جبير.
والثاني: أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال: إني منهمك في الذنوب، إلا
أني لم أشرك بالله منذ عرفته، وإني لنادم مستغفر، فما حالي؟ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن
عباس. فأما تفسيرها، فقد تقدم.
192

إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا (117) لعنه الله وقال لأتخذن
من عبادك نصيبا مفروضا (118)
قوله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا إناثا) (إن) بمعنى: " ما " و (يدعون) بمعنى: يعبدون.
والهاء في (دونه) ترجع إلى الله عز وجل. والقراءة المشهورة إناثا. وقرأ سعيد بن أبي وقاص، وعبد
الله بن عمر، وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: إلا وثنا، بفتح الواو، والثاء من غير ألف.
وقرأ ابن عباس، وأبو رزين: أنثا، برفع الهمزة والنون من غير ألف. وقرأ أبو العالية، ومعاذ
القارئ، وأبو نهيك: إناثا، برفع الهمزة وبألف بعد الثاء. وقرأ أبو السوار العدوي، وأبو شيخ
الهنائي: أوثانا، بهمزة مفتوحة بعدها واو وبألف بعد الثاء. وقرأ أبو هريرة، والحسن، والجوني: إلا
أنثى، على وزن " فعلى ". وقرأ أيوب السختياني: إلا وثنا، برفع الواو والثاء من غير ألف. وقرأ
مورق العجلي: اثنا، برفع الهمزة والثاء من غير ألف. قال الزجاج: فمن قال: إناثا، فهو جمع أنثى
وإناث، ومن قال: أنثا، فهو جمع إناث، ومن قال: اثنا، فهو جمع وثن، والأصل: وثن، إلا أن
الواو إذا انضمت جاز إبدالها همزة، كقوله تعالى: (وإذا الرسل أقتت) الأصل: وقتت. وجائز أن
يكون أثن أصلها: أثن، فأتبعت الضمة الضمة وجائز أن يكون أثن، مثل أسد وأسد. فأما المفسرون،
فلهم في معنى الإناث أربعة أقوال:
أحدها: إن الإناث بمعنى الأموات، قاله ابن عباس، والحسن في رواية، وقتادة. قال
الحسن: كل شئ لا روح فيه، كالحجر، والخشبة، فهو إناث. قال الزجاج: والموات كلها يخبر
عنها، كما يخبر عن المؤنث، تقول من ذلك: الأحجار تعجبني، والدراهم تنفعني.
والثاني: أن الإناث. الأوثان، وهو قول عائشة، ومجاهد.
والثالث: أن الإناث اللات والعزى ومناة، كلهن مؤنث، وهذا قول أبي مالك، وابن زيد
والسدي. وروى أبو رجاء عن الحسن قال: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يسمونه:
أنثى بني فلان، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: والمعنى: ما يدعون إلا ما يسمونه باسم الإناث.
والرابع: أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بنات الله، قاله الضحاك.
وفي المراد بالشيطان ثلاثة أقوال:
أحدها: شيطان يكون في الصنم. قال ابن عباس: في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم.
وقال أبي بن كعب: مع كل صنم جنية.
والثاني: أنه إبليس وعبادته: طاعته فيما سول لهم، هذا قول مقاتل، والزجاج.
والثالث: أنه أصنامهم التي عبدوا، ذكره الماوردي، فأما " المريد " فقال الزجاج:
193

و " المريد ": المارد، وهو الخارج عن الطاعة، ومعناه: أنه قد مرد في الشر، يقال: مرد الرجل يمرد
مرودا: إذا عتا، وخرج عن الطاعة. وتأويل المرود: أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه
ذلك الصنف، وأصله في اللغة: املساس الشئ، ومنه قيل للإنسان: أمرد: إذا لم يكن في وجهه
شعر، وكذلك يقال: شجرة مرداء: إذا تناثر ورقها، وصخرة مرداء: إذا كانت ملساء. وفي قوله
[تعالى]: (لعنه الله) قولان:
أحدهما: أنه ابتداء دعاء علي باللعن، وهو قول من قال: هو الأوثان.
والثاني: أنه إخبار عن لعن متقدم، وهو قول من قال: هو إبليس، قال ابن جرير: المعنى: قد
لعنه الله قالا بن عباس: معنى الكلام: دحره الله، وأخرجه من الجنة. وقال - يعني إبليس -:
لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا. قال ابن قتيبة: أي: حظا افترضته لنفسي منهم، فأضلهم. وقال
مقاتل: النصيب المفروض [في اللغة: القطع] أن من كل ألف إنسان واحد في الجنة، وسائرهم
في النار قال الزجاج: " الفرض " في اللغة: القطع، و " الفرضة ": الثلمة تكون في النهر.
و " الفرض " في القوس: الحز الذي يشد فيه الوتر، والفرض فيما ألزمه الله العباد: جعله حتما
عليهم قاطعا.
ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعم ولأمرنهم فليغيرن خلق الله
ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا (119)
قوله تعالى: (ولأضلنهم) قال ابن عباس: عن سبيل الهدى، وقال غيره: ليس له من الضلال
سوى الدعاء إليه. وفي قوله [تعالى]: (ولأمنينهم) أربعة أقوال:
أحدها: أنه الكذب الذي يخبرهم به، قال ابن عباس: يقول لهم: لا جنة، ولا نار، ولا
بعث.
والثاني: أنه التسويف بالتوبة، روي عن ابن عباس.
والثالث: أنه إيهامهم أنهم سينالون من الآخرة حظا، قاله الزجاج.
والرابع: أنه تزيين الأماني لهم، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: (فليبتكن آذان الأنعام) قال قتادة، وعكرمة، والسدي: هو شق أذن البحيرة، قال
الزجاج: ومعنى " يبتكن " يشققن، يقال: بتكت الشئ أبتكه بتكا: إذا قطعته، وبتكه وبتك، مثل:
194

قطعه وقطع. وهذا في البحيرة كانت الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن، وكان الخامس ذكرا،
شقوا أذن الناقة، وامتنعوا من الانتفاع بها، ولم تطرد عن ماء، ولا مرعى، وإذا لقيها المعيي، لم
يركبها. سول لهم إبليس أن هذا قربة إلى الله تعالى وفي المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال:
أحدها: أنه تغيير دين الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن في رواية،
وسعيد بن المسيب، وابن جبير، والنخعي، والضحاك والسدي، وابن زيد، ومقاتل: وقيل: معنى
تغيير الدين: تحليل الحرام، وتحريم الحلال.
والثاني: أنه تغيير الخلق بالخصاء، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو مروي عن أنس بن
مالك، وعن مجاهد، وقتادة، وعكرمة، كالقولين.
والثالث: أنه التغيير بالوشم، وهو قول ابن مسعود، والحسن في رواية.
والرابع: أنه تغيير أمر الله، رواه أبو شيبة عن عطاء.
والخامس: أنه عبادة الشمس والقمر والحجارة، وتحريم ما حرموا من الأنعام، وإنما خلق
ذلك للانتفاع به، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله) في المراد بالولي قولان:
أحدهما: أنه بمعنى الرب، قاله مقاتل.
والثاني: من الموالاة، قاله أبو سليمان الدمشقي، فإن قال قائل: من أين لإبليس العلم
بالعواقب حتى قال: ولأضلنهم. وقال في [سورة] الأعراف (ولا تجد أكثرهم شاكرين). وقال
في [سورة] بني إسرائيل: (لأحتنكن ذريته إلا قليلا) فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه ظن ذلك، فتحقق ظنه، وذلك قوله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه)
قاله الحسن، وابن زيد وفي سبب ذلك الظن قولان:
أحدهما: أنه لما قال الله تعالى له: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) علم أنه
ينال ما يريد.
والثاني: أنه لما استزل آدم، قال: ذرية هذا أضعف منه.
195

والثاني: أن المعنى: لأحرضن بين ولأجتهدن في ذلك، لا أنه كان يعلم الغيب، قاله ابن
الأنباري.
والثالث: أن من الجائز أن يكون علم من جهة الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلق لا
يشكرون، ذكره الماوردي، فإن قيل: فلم اقتصر على بعضهم؟ فقال: (نصيبا مفروضا) وقال:
(ولا تجد أكثرهم شاكرين) وقال: (إلا قليلا)، فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه يجوز أن يكون علم مآل الخلق من جهة الملائكة، كما بينا.
والثاني: أنه لما لم ينل من آدم كل ما يريد، طمع في بعض أولاده، وأيس من بعض.
والثالث: أنه لما عاين الجنة والنار، علم أنهما خلقتا لمن يسكنهما، فأشار بالنصيب المفروض
إلى ساكني النار.
قوله تعالى: (يعدهم) يعني: الشيطان يعد أولياءه. وفيما يعدهم به قولان:
أحدهما: أنه لا بعث لهم، قاله مقاتل.
والثاني: النصرة لهم، ذكره أبو سليمان الدمشقي، وفيما يمنيهم قولان:
أحدهما: الغرور والأماني، مثل أن يقول: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا مرادك:
والثاني: الظفر بأولياء الله.
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (120) أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون
عنها محيصا (121) والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا (122)
قوله تعالى: (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) أي: باطلا يغرهم به، فأما المحيص، فقال
الزجاج: هو المعدل والملجأ، يقال: حصت عن الرجل أحيص، ورووا: جضت أجيض بالجيم
والضاد، بمعنى: حصت، ولا يجوز ذلك في القرآن، وإن كان المعنى واحدا، لأن القراءة سنة،
والذي في القرآن أفصح مما يجوز، ويقال: حصت أحوص حوصا وحياصة: إذا خطت، قال
الأصمعي: يقال: حص عين صقرك، أي: خط عينه، والحوص في العين: ضيق مؤخرها، ويقال:
وقع في حيص بيص، وحاص باص: إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه.
196

ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون
الله وليا ولا نصيرا (123)
قوله تعالى: (ليس بأمانيكم) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن أهل الأديان اختصموا، فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء،
وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال المسلمون: كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم الأنبياء، فنزلت
هذه الآية، ثم خير بين الأديان بقوله [تعالى]: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله) رواه العوفي
عن ابن عباس وإلى هذا المعنى ذهب مسروق، وأبو صالح، وقتادة والسدي.
والثاني: أن العرب قالت: لا نبعث، ولا نعذب، ولا نحاسب، فنزلت هذه الآية، هذا قول
مجاهد.
والثالث: أن اليهود والنصارى قالوا: لا يدخل الجنة غيرنا، وقالت قريش: لا نبعث، فنزلت
هذه الآية، هذا قول عكرمة.
قال الزجاج: اسم " ليس " مضمر، والمعنى: ليس ثواب الله عز وجل بأمانيكم، وقد جرى ما
يدل على الثواب، وهو قوله تعالى: (سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) وفي المشار إليهم
بقوله " أمانيكم " قولان:
أحدهما: أنهم المسلمون على قول الأكثرين:
والثاني: المشركون على قول مجاهد. فأما أماني المسلمين، فما نقل من قولهم: كتابنا ناسخ
للكتب، ونبينا خاتم الأنبياء، وأماني المشركين قولهم: لا نبعث، وأماني أهل الكتاب قولهم: نحن
أبناء الله وأحباؤه، وإن النار لا تمسنا إلا أياما معدودة، وإن كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء،
فأخبر الله عز وجل أن دخول الجنة والجزاء، بالأعمال لا بالأماني. وفي المراد " بالسوء " قولان:
أحدهما: أنه المعاصي، ومنه حديث أبي بكر الصديق أنه قال: يا رسول الله كيف الصلاح
بعد هذه الآية؟ (من يعمل سوءا يجز به) فإذا عملنا سوءا جزينا به، فقال: غفر الله لك يا أبا بكر،
ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به.
والثاني: أنه الشرك، قاله ابن عباس، ويحيى بن أبي كثير. وفي هذا الجزاء قولان:
197

أحدهما: أنه عام في كل من عمل سوءا فإنه يجازى به، وهو معنى قول أبي بن كعب،
وعائشة، واختاره ابن جرير، واستدل عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه.
والثاني: أنه خاص في الكفار يجازون بكل ما فعلوا، فأما المؤمن فلا يجازى بكل ما جنى،
قاله الحسن البصري. وقال ابن زيد: وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد
المشركين.
قوله تعالى: (ولا يجد له من دون الله وليا) قال أبو سليمان: لا يجد من أراد الله أن يجزيه
بشئ من عمله وليا، وهو القريب، ولا ناصرا يمنعه من عذاب الله وجزائه.
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة
ولا يظلمون نقيرا (124)
قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) قال مسروق: لما نزلت
(ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فنزلت (ومن يعمل
من الصالحات...)، وهذه تدل على ارتباط الإيمان بالعمل الصالح، فلا يقبل أحدهما إلا بوجود
الآخر، وقد سبق ذكر " النقير ".
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله
إبراهيم خليلا (125)
قوله تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله) قال ابن عباس: خير الله بين الأديان بهذه
الآية. و (أسلم) بمعنى: أخلص. وفي " الوجه " قولان:
أحدهما: أنه الدين.
والثاني: العمل. وفي الاحسان قولان:
أحدهما: أنه التوحيد، قاله ابن عباس.
والثاني: القيام لله بما فرض الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي اتباع ملة إبراهيم قولان:
198

أحدهما: اتباعه على التوحيد والطاعة.
والثاني: اتباع شريعته، اختاره القاضي، أبو يعلى. فأما الخليل، فقال ابن عباس: الخليل
الصفي، وقال غيره: المصافي، وقال الزجاج: هو المحب الذي ليس في محبته خلل. قال: وقيل:
الخليل: الفقير، فجائز أن يكون إبراهيم سمي خليل الله بأنه أحبه محبة كاملة، وجائز أن يكون لأنه
لم يجعل فقره وفاقته إلا إليه، و " الخلة ": الصداقة، لأن كل واحد يسد خلل صاحبه، و " الخلة "
بفتح الخاء: الحاجة: سميت خلة للاختلال الذي يلحق الانسان فيما يحتاج إليه، وسمي الخل
الذي يؤكل خلا، لأنه اختل منه طعم الحلاوة. وقال ابن الأنباري: الخليل: فعيل من الخلة،
والخلة: المودة. وقال بعض أهل اللغة: الخليل، المحب، والمحب الذي ليس في محبته نقص
ولا خلل، والمعنى: أنه كان يحب الله، ويحبه الله محبة لا نقص فيها، ولا خلل، ويقال: الخليل:
الفقير، فالمعنى: اتخذه فقيرا إليه ينزل فقره وفاقته به، لا بغيره. وفي سبب اتخاذ الله له خليلا ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه اتخذه خليلا لإطعامه الطعام، روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام ".
والثاني: أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام، وكانت له ميرة من
صديق له بمصر في كل سنة، فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه، فلم يعطهم شيئا، فقالوا: لو
احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة، فملؤوا الغرائر رملا، ثم أتوا إبراهيم عليه
السلام، فأعلموه، فاهتم إبراهيم لأجل الخلق. فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان، ففتحت
الغرائر، فإذا دقيق حواري، فأمرت الخبازين فخبزوا، وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم، فقال: من
أين هذا الطعام؟ فقالت: من عند خليلك المصري، فقال: بل من عند خليلي الله عز وجل، فيومئذ
اتخذه الله خليلا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أنه اتخذه خليلا لكسره الأصنام، وجداله قومه، قاله مقاتل.
ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شئ محيطا (126)
قوله تعالى: (وكان الله بكل شئ محيطا) أي: أحاط علمه بكل شئ.
199

ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتب في يتامى النساء
التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا
لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما (127)
قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء) في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال، فلما فرض الله المواريث في هذه
السورة، شق ذلك عليهم، فسألوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن
عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد.
والثاني: أن ولي اليتيمة كان يتزوجها إذا كانت جميلة وهويها، فيأكل مالها، وإن كانت دميمة
منعها الرجال حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنهم كانوا لا يؤتون النساء صدقاتهن، ويتملك ذلك أولياؤهن، فلما نزل قوله
[تعالى]: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) سألوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا
قول عائشة [عليها السلام].
والرابع: أن رجلا كانت له امرأة كبيرة، وله منها أولاد، فأراد طلاقها، فقالت: لا تفعل،
وأقسم لي في كل شهر إن شئت أو أكثر فقال: لئن كان هذا يصلح، فهو أحب إلي، فأتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال: " قد سمع الله ما تقول، فإن شاء أجابك "، فنزلت هذه الآية، والتي
بعدها، رواه سالم الأفطس عن سعيد بن جبير.
والخامس: أن ولي اليتيمة كان إذا رغب في مالها وجمالها لم يبسط لها في صداقها، فنزلت
هذه الآية، ونهوا أن ينكحوهن، أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق، ذكره القاضي أبو يعلى.
وقوله [تعالى]: (ويستفتونك) أي: يطلبون منك الفتوى، وهي تبيين المشكل من الأحكام.
وقيل: الاستفتاء: الاستخبار. قال المفسرون: والذي استفتوه فيه، ميراث النساء، وذلك أنهم قالوا:
200

كيف ترث المرأة والصبي الصغير؟
قوله تعالى: (وما يتلى عليكم) قال الزجاج: موضع " ما " رفع: المعنى: الله يفتيكم فيهن،
وما يتلى عليكم في الكتاب أيضا يفتيكم فيهن. وهو قوله [تعالى]: (وآتوا اليتامى أموالهم...)
الآية.
والذي تلي عليهم في التزويج قوله تعالى: (فإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما
طاب لكم من النساء) وفي يتامى النساء قولان:
أحدهما: أنهن النساء اليتامى، فأضيفت الصفة إلى الاسم، كما تقول: يوم الجمعة.
والثاني: أنهن أمهات اليتامى، فأضيف إليهن أولادهن اليتامى.
وفي الذي كتب لهن قولان:
أحدهما: أنه الميراث، قاله ابن عباس، ومجاهد في آخرين.
والثاني: أنه الصداق. ثم في المخاطب بهذا قولان:
أحدهما: أنهم أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها.
والثاني: ولي اليتيمة، كان إذا تزوجها لم يعدل في صداقها، وفي قوله [تعالى]: (وترغبون
أن تنكحوهن) قولان:
أحدهما: وترغبون في نكاحهن رغبة في جمالهن، وأموالهن، هذا قول عائشة، وعبيدة.
والثاني: وترغبون عن نكاحهن لقبحهن، فتمسكوهن رغبة في أموالهن، وهذا قول الحسن.
قوله تعالى: (والمستضعفين من الولدان) قال الزجاج: موضع المستضعفين خفض على قوله
[تعالى]: (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء) المعنى: وفي الولدان. قال ابن عباس:
يريد أنهم لم يكونوا يورثون صغيرا من الغلمان والجواري، فنهاهم الله عن ذلك، وبين لكل ذي
سهم سهمه.
قوله تعالى: (وأن تقوموا لليتامى بالقسط) قال الزجاج: موضع " أن " خفض، فالمعنى: في
يتامى النساء، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. قال ابن عباس: يريد العدل في مهورهن ومواريثهن.
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا
والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون
خبيرا (128)
201

قوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن سودة خشيت أن يطلقها رسول لله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني،
وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: أن بنت محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج، فكره منها أمرا، إما كبرا، وإما
غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني، واقسم لي ما شئت، فنزلت هذه الآية، رواه الزهري عن
سعيد بن المسيب وقال مقاتل: واسمها خويلة.
والثالث: قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول الآية التي قبلها، وقالت
عائشة: نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلا يستكثر منها، ويريد فراقها، ولعلها تكون له محبة
أو يكون لها ولد فتكره فراقه، فتقول له: لا تطلقني وأمسكني، وأنت في حل من شأني. رواه
البخاري، ومسلم.
وفي خوف النشوز قولان:
أحدهما: أنه العلم به عند ظهوره.
والثاني: الحذر من وجوده لأماراته. قال الزجاج: والنشوز من بعل المرأة: أن يسئ عشرتها،
وأن يمنعها نفسه ونفقته. وقال أبو سليمان: نشوزا، أي: نبوا عنها إلى غيرها، أو إعراضا عنها،
واشتغالا بغيرها. (فلا جناحا عليهما أن) يصالحا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
" يصالحا " بفتح الياء، والتشديد. والأصل: " يتصالحا "، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ عاصم،
وحمزة، والكسائي: " يصلحا " بضم الياء، والتخفيف. قال المفسرون: والمعنى: أن يوقعا بينهما
أمرا يرضيان به، وتدوم بينهم الصحبة، مثل أن تصبر على تفضيله. وروي عن علي، وابن عباس:
أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها، أو بعض أيامها، بأن يجعله لغيرها. وفي قوله
[تعالى]: (والصلح خير) قولان:
أحدهما: خير من الفرقة، قاله مقاتل، والزجاج.
والثاني: خير من النشوز والإعراض، ذكره الماوردي، قال قتادة: متى ما رضيت بدون ما كان
لها، واصطلحا عليه، جاز، فإن أبت لم يصلح أن يحبسها على الخسف.
202

قوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) " أحضرت " بمعنى: ألزمت. و " الشح ": الإفراط
في الحرص على الشئ. وقال ابن فارس: " الشح ": البخل مع الحرص، وتشاح الرجلان على
الأمر: لا يريدان أن يفوتهما، وفيمن يعود إليه هذا الشح قولان:
أحدهما: المرأة، فتقديره: وأحضرت نفس المرأة الشح بحقها من زوجها، هذا قول ابن
عباس، وسعيد بن جبير.
والثاني: الزوجان جميعا، فالمرأة تشح على مكانها من زوجها، والرجل يشح عليها بنفسه
إذا كان غيرها أحب إليه، هذا قول الزجاج. وقال ابن زيد: لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا
فتحلله، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها، فتعطفه عليها.
قوله تعالى: (وإن تحسنوا) فيه قولان:
أحدهما: بالصبر على التي يكرهها.
والثاني: بالإحسان إليها في عشرتها.
قوله تعالى: (وتتقوا) يعني الجور عليها (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) فيجازيكم
عليه.
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها
كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما (129)
قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) قال أهل التفسير: لن تطيقوا أن تسووا
بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع، لأن ذلك ليس من كسبكم (ولو حرصتم) على ذلك
(فلا تميلوا) إلى التي تحبون في النفقة والقسم. وقال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة فتذروا
الأخرى كالمعلقة قال ابن عباس: المعلقة: التي لا هي أيم، ولا ذات بعل. وقال قتادة:
المعلقة: المسجونة و
قوله تعالى: (وإن تصلحوا) أي: بالعدل في القسمة (وتتقوا) الجور (فإن الله كان
غفورا) لميل القلوب.
وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله وسعا حكيما (130) ولله ما في السماوات
وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا
203

تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا (131) ولله ما في السماوات
وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (132)
قوله تعالى: (وإن يتفرقا) يقول: وإن أبت المرأة أن تسمح لزوجها بإيثار التي يميل
إليها، واختارت الفرقة، فإن الله يغني كل واحد من سعته. قال ابن السائب: يغني المرأة برجل،
والرجل بامرأة، ثم ذكر ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير، فقال: (ولله ما في السماوات وما
في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) يعني: أهل التوراة، والإنجيل، وسائر
الكتب (وإياكم) يا أهل القرآن (أن اتقوا الله) قيل: وحدوه (وإن تكفروا) بما أوصاكم به
(فإن لله ما في السماوات وما في الأرض) فلا يضره خلافكم. وقيل: له ما في السماوات، وما
في الأرض من الملائكة، فهم أطوع له منكم. وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى " الغني
الحميد "، وفي آل عمران معنى " الوكيل ".
إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا (133)
قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس) قال ابن عباس: يريد المشركين والمنافقين
(ويأت بآخرين) أطوع له منكم. وقال أبو سليمان: هذا تهدد للكفار، يقول: إن يشأ يهلككم
كما أهلك من قبلكم إذ كفروا به، وكذبوا رسله.
من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا (134)
قوله تعالى: (من كان يريد ثواب الدنيا) قيل: إن هذه الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا
لا يصدقون بالقيامة، وإنما يطلبون عاجل الدنيا، ذكره أبو سليمان. وقال الزجاج: كان مشركو
العرب يتقربون إلى الله ليعطيهم من خير الدنيا، ويصرف عنهم شرها، ولا يؤمنون بالبعث، فأعلم
الله عز وجل أن خير الدنيا والآخرة عنده. وذكر الماوردي أن المراد بثواب الدنيا: الغنيمة في
الجهاد، وثواب الآخرة: الجنة. قال: والمراد بالآية: حث المجاهد على قصد ثواب الله.
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين
والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا
أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (135)
204

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صغوه مع الفقير يرى أن الفقير لا
يظلم الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قولا السدي.
والثاني: أنها متعلقة بقصة ابن أبيرق، فهي خطاب للذين جادلوا عنه، ذكره أبو سليمان
الدمشقي. و " القوام ": مبالغة من قائم. و " القسط ": العدل. قال ابن عباس: كونوا قوالين
بالعدل في الشهادة على من كانت، ولو على أنفسكم. وقال الزجاج: معنى الكلام: قوموا
بالعدل، واشهدوا لله بالحق، وإن كان الحق على الشاهد، أو على والديه، أو قريبه، (إن
يكن) المشهود له (غنيا) فالله أولى به، وإن يكن (فقيرا) فالله أولى به. فأما الشهادة على
النفس، فهي إقرار الإنسان بما عليه من حق. وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إلى فقر المشهود عليه،
ولا إلى غناه، فإن الله تعالى أولى بالنظر إليهما. قال عطاء: لا تحيفوا على الفقير، ولا تعظموا
الغني، فتمسكوا عن القول فيه. وممن قال: إن الآية نزلت في الشهادات، ابن عباس،
والحسن، ومجاهد، وعكرمة، والزهري، وقتادة، والضحاك.
قوله تعالى: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن معناه: فلا تتبعوا الهوى، واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق، قاله مقاتل.
والثاني: ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا، قاله الزجاج.
والثالث: فلا تتبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحق.
والرابع: فلا تتبعوا الهوى فتعدلوا، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: (وإن تلووا) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، والكسائي،
تلووا، بواوين، الأولى مضمومة، واللام ساكنة. وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إلى غير الحق. قال ابن عباس: يلوي لسانه بغير
الحق، ولا يقيم الشهادة على وجهها، أو يعرض عنها ويتركها. وهذا قول مجاهد، وسعيد بن
جبير، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد.
والثاني: أن يلوي الحاكم وجهه إلى بعض الخصوم، أو يعرض عن بعضهم، روي عن
ابن عباس أيضا.
205

والثالث: أن يلوي الإنسان عنقه إعراضا عن أمر الله لكبره وعتوه. ويكون: " أو تعرضوا "
بمعنى: وتعرضوا، ذكره الماوردي. وقرأ الأعمش، وحمزة، وابن عامر: " تلوا " بواو واحدة،
واللام مضمومة. والمعنى: أن تلوا أمور الناس، أو تتركوا، فيكون الخطاب للحكام.
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي
أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل
ضلالا بعيدا (136)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن عبد الله بن سلام، وأسدا، وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وسلاما،
وسلمة، ويامين. وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسولا الله نؤمن بك،
وبكتابك، وبموسى، والتوراة، وعزير، ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل، فنزلت هذه
الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن مؤمني أهل الكتاب كان بينهم وبين اليهود كلام لما أسلموا، فنزلت هذه الآية،
هذا قول مقاتل. وفي المشار إليهم بقوله [تعالى]: (يا أيها الذين آمنوا) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم المسلمون، قاله الحسن، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بمحمد والقرآن
اثبتوا على إيمانكم.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله الضحاك، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى،
والتوراة، وبعيسى، والإنجيل: آمنوا بمحمد والقرآن.
والثالث: المنافقون، قاله مجاهد، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر
بألسنتهم، آمنوا بقلوبكم.
قوله تعالى: (والكتاب الذي نزل على رسوله) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر:
" نزل " على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل، مضمومتين. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة،
والكسائي: نزل على رسوله، والكتاب الذي أنزل مفتوحتين. والمراد بالكتاب: الذي نزل على
206

رسوله القرآن، والكتاب الذي أنزل من قبل: كل كتاب أنزل قبل القرآن، فيكون " الكتاب " هاهنا
اسم جنس.
إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم
ولا ليهديهم سبيلا (137)
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا ثم كفروا) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها في اليهود آمنوا بموسى، ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعده
بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد عليه السلام، هذا قول ابن عباس. وروي عن قتادة قال: آمنوا
بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، ثم آمنوا به بعد عوده، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفرا
بمحمد.
والثاني: أنها في اليهود والنصارى، آمن اليهود بالتوراة، وكفروا بالإنجيل. وآمن النصارى
بالإنجيل، ثم تركوه فكفروا به، ثم ازدادوا كفرا بالقرآن وبمحمد، رواه شيبان عن قتادة. وروي
عن الحسن قال: هم قوم من أهل الكتاب، قصدوا تشكيك المؤمنين، فكانوا يظهرون بالإيمان ثم
الكفر، ثم ازدادوا كفرا بثبوتهم على دينهم. وقال مقاتل: آمنوا بالتوراة وموسى، ثم كفروا من بعد
موسى، ثم آمنوا بعيسى والإنجيل، ثم كفروا من بعده، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن.
والثالث: أنها في المنافقين آمنوا، ثم ارتدوا، ثم ماتوا على كفرهم، قاله مجاهد. وروى
ابن جريج عن مجاهد (ثم ازدادوا كفرا) قال: ثبتوا عليه حتى ماتوا. قال ابن عباس: (لم
يكن الله ليغفر لهم) ما أقاموا على ذلك (ولا ليهديهم سبيلا) أي: لا يجعلهم بكفرهم
مهتدين. قال: وإنما علق امتناع المغفرة بكفر بعد كفر، لأن المؤمن بعد الكفر يغفر له كفره، فإذا
ارتد طولب بالكفر الأول.
بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما (138)
قوله تعالى: (بشر المنافقين) زعم مقاتل أنه لما نزلت المغفرة في (سورة الفتح) للنبي
والمؤمنين قال عبد الله بن أبي ونفر معه: فما لنا؟ فنزلت هذه الآية. وقال غيره: كان المنافقون
يتولون اليهود، فألحقوا بهم في التبشير بالعذاب. وقال الزجاج: معنى الآية: اجعل موضع
بشارتهم العذاب. والعرب تقول: تحيتك الضرب، أي: هذا بدل لك من التحية. قال الشاعر:
207

وخيل قد دلفت لها بخيل * تحية بينهم ضرب وجيع
الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله
جميعا (139)
قوله تعالى: (الذين يتخذون الكافرين أولياء) قال ابن عباس: يتخذون اليهود أولياء في
العون والنصرة.
قوله تعالى: (أيبتغون عندهم العزة) أي: القوة بالظهور على محمد وأصحابه،
والمعنى: أيتقون بهم؟ قال مقاتل: وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]. وقال الزجاج: أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزة. و " العزة ": المنعة، وشدة
الغلبة، وهو مأخوذ من قولهم: أرض عزاز. قال الأصمعي: " العزاز ": الأرض التي لا تنبت.
فتأويل العزة: الغلبة والشدة التي لا يتعلق بها إذلال. قالت الخنساء:
كأن لم يكونوا حمى يتقى * إذ الناس إذ ذاك من عز بزا
أي: من قوي وغلب سلب. ويقال: قد استعز على المريض، أي: اشتد وجعه. وكذلك
قول الناس: يعز علي أن يفعل، أي: يشتد، وقولهم قد عز الشئ: إذا لم يوجد، معناه:
صعب أن يوجد، والباب واحد.
وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا
معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين
في جهنم جميعا (140)
قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب) وقرأ عاصم، ويعقوب: " نزل " بفتح النون
والزاي. قال المفسرون: الذي نزل عليهم في النهي عن مجالستهم، قوله في (الأنعام) (وإذا
رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود،
فيسخرون من القرآن ويكذبون به، فنهى الله المسلمين عن مجالستهم. وآيات الله: هي القرآن.
والمعنى: إذا سمعتم الكفر بآيات الله، والاستهزاء بها، فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في حديث غير
الكفر، والاستهزاء. (إنكم) إن جالستموهم على ما هم عليه من ذلك، فأنتم (مثلهم) وفي ماذا تقع
المماثلة فيه، قولان:
208

أحدهما: في العصيان.
والثاني: في الرضى بحالهم، لأن مجالس الكافر غير كافر. وقد نبهت الآية على التحذير
من مجالسة العصاة، قال إبراهيم النخعي: إن الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة،
فيرضي الله بها، فتصيبه الرحمة فتعم من حوله، وإن الرجل ليجلس في المجلس، فيتكلم
بالكلمة، فيسخط الله بها، فيصيبه السخط، فيعم من حوله.
الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين
نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم
القيمة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141)
قوله تعالى: (الذين يتربصون بكم) قال أبو سليمان: هذه الآية نزلت في المنافقين
خاصة. قال مقاتل: كان المنافقون يتربصون بالمؤمنين الدوائر، فإن كان الفتح، قالوا: ألم نكن
معكم؟ فأعطونا من الغنيمة. وإن كان للكافرين نصيب، أي: دولة على المؤمنين، قالوا للكفار:
ألم نستحوذ عليكم؟ قال المبرد: ومعنى: ألم نستحوذ عليكم: ألم نغلبكم على رأيكم. وقال
الزجاج: ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم. و " نستحوذ " في اللغة، بمعنى: نستولي، يقال:
حذت الإبل، وحزتها: إذا استوليت عليها وجمعتها. وقال غيره: ألم نستول عليكم بالمعونة
والنصرة؟ وقال ابن جريج: ألم نبين لكم أنا على دينكم؟ وفي قوله [تعالى]: (ونمنعكم من
المؤمنين) ثلاثة أقوال:
أحدها: نمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم.
والثاني: بما نعلمكم من أخبارهم.
والثالث: بصرفنا سعيد إياكم عن الدخول في الإيمان. ومراد الكلام: إظهار المنة من المنافقين
على الكفار، أي: فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم.
قوله تعالى: (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) يعني المؤمنين والمنافقين. قال ابن عباس:
يريد أنه أخر عقاب المنافقين.
قوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة، روى يسيع الحضرمي عن علي بن أبي طالب
أن رجلا جاءه، فقال: أرأيت قول الله [عز وجل]: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
209

سبيلا) وهم يقاتلوننا، فقال: ولن يجعل الله للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلا. هذا
مروي عن ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أن المراد بالسبيل: الظهور عليهم، يعني: أن المؤمنين هم الظاهرون، والعاقبة
لهم، وهذا المعنى في رواية عكرمة، عن ابن عباس.
والثالث: أن السبيل: الحجة. قال السدي: لم يجعل الله عليهم حجة، يعني فيما فعلوا
بهم من القتل والإخراج من الديار. قال ابن جرير: لما وعد الله المؤمنين أنه لا يدخل المنافقين
مدخلهم من الجنة، ولا المؤمنين مدخل المنافقين، لم يكن للكافرين على المؤمنين حجة بأن
يقولوا لهم: أنتم كنتم أعداءنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار.
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون
الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا (142)
قوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله) أي: يعملون عمل المخادع. وقيل: يخادعون
نبيه، وهو خادعهم، أي: مجازيهم على خداعهم. وقال الزجاج: لما أمر بقبول ما أظهروا، كان
خادعا لهم بذلك. وقيل: خداعه إياهم يكون في القيامة باطفاء نورهم، وقد شرحنا طرفا من هذا
في (البقرة).
قوله تعالى: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) أي: متثاقلين. و (كسالى): جمع
كسلان، و " الكسل ": التثاقل عن الأمر. وقرأ أبو عمران الجوني: " كسلى " بفتح الكاف، وقرأ
ابن السميفع: " كسلى " بفتح الكاف من غير ألف. وإنما كانوا هكذا، لأنهم يصلون حذرا على
دمائهم، لا يرجون بفعلها ثوابا، ولا يخافون بتركها عقابا.
قوله تعالى: (يراؤون الناس) أي: يصلون ليراهم الناس. قال قتادة: والله لولا الناس ما
صلى المنافق. وفي تسمية ذكرهم بالقليل ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه سمي قليلا، لأنه غير مقبول، قاله علي [رضي الله عنه]، وقتادة.
والثاني: لأنه رياء، ولو كان لله لكان كثيرا، قاله ابن عباس، والحسن.
والثالث: أنه قليل في نفسه، لأنهم يقتصرون على ما يظهر، دون ما يخفى من القراءة
والتسبيح، ذكره الماوردي.
210

مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له
سبيلا (143)
قوله تعالى: (مذبذبين بين ذلك) المذبذب: المتردد بين أمرين، وأصل التذبذب:
التحرك، والاضطراب، وهذه صفة المنافق، لأنه محير في دينه لا يرجع إلى اعتقاد صحيح. قال
قتادة: ليسوا بالمشركين المصرحين بالشرك، ولا بالمؤمنين المخلصين. قال ابن زيد: ومعنى
(بين ذلك): بين الاسلام والكفر، لم يظهروا الكفر فيكونوا إلى الكفار، ولم يصدقوا الإيمان،
فيكونوا إلى المؤمنين. قال ابن عباس: (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) إلى الهدى. وقد روى
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مثل المنافق: مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة،
وإلى هذه مرة، ولا تدري أيها تتبع ".
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن
تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا (144)
قوله تعالى: (لا تتخذوا الكافرين أولياء) في المراد بالكافرين قولان:
أحدهما: اليهود، قاله ابن عباس.
والثاني: المنافقون، قال الزجاج: ومعنى الآية: لا تجعلوهم بطانتكم وخاصتكم.
والسلطان: الحجة الظاهرة، وإنما قيل للأمير: سلطان، لأنه حجة الله في أرضه، واشتقاق
السلطان: من السليط. والسليط: ما يستضاء به، ومن هذا قيل للزيت: السليط. والعرب تؤنث
السلطان وتذكره، تقول: قضت عليك السلطان، وأمرتك السلطان، والتذكير أكثر، وبه جاء
القرآن، فمن أنث، ذهب إلى معنى الحجة، ومن ذكر، أراد صاحب السلطان. قال ابن
الأنباري: تقدير الآية: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم بموالاة الكافرين حجة بينة تلزمكم عذابه،
وتكسبكم غضبه؟
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145)
قوله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن
211

عامر: بفتح الراء، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: بتسكين الراء. قال الفراء: وهي
لغتان. قال أبو عبيدة: جهنم أدراك، أي: منازل، وأطباق. فكل منزل منها: درك. وحكى ابن
الأنباري عن بعض العلماء أنه قال: الدركات: مراق، بعضها تحت بعض. وقال الضحاك:
الدرج: إذا كان بعضها فوق بعضها، والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض. وقال ابن فارس:
الجنة درجات، والنار دركات. وقال ابن مسعود في هذه الآية: هم في توابيت من حديد مبهمة.
قال ابن الأنباري: المبهمة: التي لا أقفال عليها، يقال: أمر مبهم: إذا كان ملتبسا ولا يعرف
معناه، ولا بابه.
قوله تعالى: (ولن تجد لهم نصيرا) قال ابن عباس: مانعا من عذاب الله.
إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف
يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (146)
قوله تعالى: (إلا الذين تابوا) قال مقاتل: سبب نزولها: أن قوما قالوا عند ذكر مستقر
المنافقين: فقد كان فلان وفلان منافقين، فتابوا، فكيف يفعل بهم؟ فنزلت هذه الآية. ومعنى
الآية: إلا الذين تابوا من النفاق (وأصلحوا) أعمالهم بعد التوبة (واعتصموا بالله) أي:
استمسكوا بدينه. (وأخلصوا دينهم) فيه قولان:
أحدهما: أنه الإسلام، وإخلاصه: رفع الشرك عنه، قاله مقاتل.
والثاني: أنه العمل، وإخلاصه: رفع شوائب النفاق والرياء منه، قاله أبو سليمان
الدمشقي.
قوله تعالى: (فأولئك مع المؤمنين) في " مع " قولان:
أحدهما: أنها على أصلها، وهو الاقتران. وفي ماذا اقترنوا بالمؤمنين؟ فيه قولان:
أحدهما: في الولاية، قاله مقاتل.
والثاني: في الدين والثواب. قاله أبو سليمان.
والثاني: أنها بمعنى " من " فتقديره: فأولئك من المؤمنين، قاله الفراء.
ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما (147)
قوله تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم) " ما " حرف استفهام، ومعناه: التقرير، أي: إن
الله لا يعذب الشاكر المؤمن، ومعنى الآية: ما يصنع الله بعذابكم إن شكرتم نعمه، وآمنتم به
212

وبرسوله. والإيمان مقدم في المعنى وإن أخر في اللفظ. وروي عن ابن عباس أن المراد بالشكر:
التوحيد.
قوله تعالى: (وكان الله شاكرا عليما) أي: للقليل من أعمالكم، عليما بنياتكم، وقيل:
شاكرا، أي: قابلا.
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148)
قوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن ضيفا تضيف فأساؤوا قراه فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية رخصة في أن
يشكوا، قاله مجاهد.
والثاني: أن رجلا نال من أبي بكر الصديق والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر، فسكت عنه أبو بكر مرارا،
ثم رد عليه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئا، حتى إذا رددت
عليه قمت؟! فقال: " إن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه، ذهب الملك، وجاء
الشيطان، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. واختلف القراء في قراءة (إلا من ظلم) فقرأ
الجمهور بضم الظاء، وكسر اللام. وقرأ عبد الله بن عمرو، والحسن، وابن المسيب، وأبو رجاء،
وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، وزيد بن أسلم، بفتحهما. فعلى قراءة الجمهور، في معنى
الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: إلا أن يدعو المظلوم علة من ظلمه، فإن الله قد أرخص له، قاله ابن عباس.
والثاني: إلا أن ينتصر المظلوم من ظالمه، قاله الحسن، والسدي.
والثالث: إلا أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. وروى ابن
جريج عنه قال: إلا أن يجهر الضيف بذم من لم يضيفه. فأما قراءة من فتح الظاء، فقال ثعلب:
هي مردودة على قوله [تعالى]: (ما يفعل الله بعذابكم) إلا من ظلم. وذكر الزجاج فيها قولين:
أحدهما: أن المعنى: إلا أن الظالم يجهر بالسوء ظلما.
والثاني: إلا أن تجهروا بالسوء للظالم. فعلى هذا تكون " إلا " في هذا المكان استثناء
213

منقطعا، ومعناها: لكن المظلوم يجوز له أن يجهر لظالمه بالسوء. ولكن الظالم قد يجهر له بالسوء..
فاجهروا له بالسوء. وقال ابن زيد: إلا من ظلم، أي: أقام على النفاق، فيجهر له بالسوء حتى
ينزع.
قوله تعالى: (وكان الله سميعا) أي: لما تجهرون به من سوء القول (عليما) بما تخفون.
وقيل: سميعا لقوم المظلوم، عليما بما في قلبه، فليتق الله، ولا يقل إلا الحق. وقال الحسن: من
ظلم، فقد رخص له أن يدعو على ظالمه من غير أن يعتدي، مثل أن يقول: اللهم أعني عليه، اللهم
استخرج لي حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد.
إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا (149)
قوله تعالى: (إن تبدوا خيرا) قال ابن عباس: يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة. وقال
بعضهم: إن تبدوا خيرا بدلا من السوء. وأكثرهم على أن " الهاء " في (تخفوه) تعود إلى الخير.
وقال بعضهم: تعود إلى السوء.
قوله تعالى: (فإن الله كان عفوا) قال أبو سليمان: أي: لم يزل ذا عفو مع قدرته، فاعفوا أنتم مع
القدرة.
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن
ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150)
قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله) فيهم قولان:
أحدهما: أنهم اليهود كانوا يؤمنون بموسى، وعزير، والتوراة، ويكفرون بعيسى، والإنجيل،
ومحمد، والقرآن، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم اليهود والنصارى، آمن اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وآمن
النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بمحمد والقرآن، قاله قتادة. ومعنى قوله [تعالى]: (ويريدون
أن يفرقوا بين الله ورسله) أي: يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله، والإيمان برسله، ولا يصح
الإيمان به والتكذيب برسله أو ببعضهم (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك) أي: بين إيمانهم ببعض
214

الرسل، وتكذيبهم ببعض (سبيلا) أي: مذهبا يذهبون إليه. وقال ابن جريج: دينا يدينون به.
أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151) والذين آمنوا بالله
ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما (152)
قوله تعالى: (أولئك هم الكافرون حقا) ذكر " الحق " هاهنا توكيدا لكفرهم إزالة لتوهم من
يتوهم أن إيمانهم ببعض الرسل يزيل عنهم اسم الكفر.
يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك
فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات
فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا (153)
قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم سألوه أن ينزل كتابا عليهم خاصة، هذا قول الحسن، وقتادة.
والثاني: أن اليهود والنصارى أتوا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقالوا: لا نبايعك حتى تأتينا بكتاب
من عند الله إلى فلان أنك رسول الله، وإلى فلان كل بكتاب أنك رسول الله، فنزلت هذه الآية، هذا
قول ابن جريج.
والثالث: أن اليهود سألوا النبي [عليه السلام] أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا كما
نزلت التوراة على موسى، هذا قول القرظي، والسدي. وفي المراد بأهل الكتاب قولان:
أحدهما: اليهود والنصارى.
والثاني: اليهود وفي المراد بأهل الكتاب المنزل من السماء قولان:
أحدهما: كتاب مكتوب غير القرآن.
والثاني: كتاب بتصديقه في رسالته، وقد بينا في (البقرة) معنى سؤالهم رؤية الله جهرة،
واتخاذهم العجل. و (البينات) الآيات التي جاء بها موسى. فإن قيل: كيف قال: ثم اتخذوا
العجل، و " ثم " تقتضي التراخي. والتأخر: أفكان اتخاذ العجل بعد قولهم: (أرنا الله جهرة)؟
فعنه أربعة أجوبة: ذكرهن ابن الأنباري.
215

أحدهن: أن تكون " ثم " مردودة على فعلهم القديم، والمعنى: وإذ وعدنا موسى أربعين
فخالفوا أيضا، ثم اتخذوا العجل.
والثاني: أن تكون مقدمة في المعنى، مؤخرة في اللفظ، والتقدير: فقد اتخذوا العجل، ثم
سألوا موسى أكبر من ذلك ومثله (فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون) المعنى: فألقه
إليهم، ثم انظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم.
والثالث: أن المعنى، ثم كانوا اتخذوا العجل، فأضمر الكون.
والرابع: أن معناها التأخير في الإخبار، والتقديم في الفعل، كما يقول القائل: شربت الماء،
ثم أكلت الخبز، يريد: شربت الماء، ثم أخبركم أني أكلت الخبز بعد إخباري بشرب الماء.
قوله تعالى: (فعفونا عن ذلك) أي: لم نستأصل عبدة العجل. و " السلطان المبين ":
الحجة البينة. قال ابن عباس: اليد والعصا. وقال غيره: الآيات التسع.
ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في
السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (154)
قوله تعالى: (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم) أي: بما أعطوا الله من العهد والميثاق: ليعملن
بما في التوراة.
قوله تعالى: (لا تعدوا في السبت) قرأ نافع: (لا تعدوا) بتسكين العين، وتشديد الدال، وقرأ
الباقون " تعدوا " خفيفة، وقد ذكرنا هذا وغيره في (البقرة) و " الميثاق الغليظ ": العهد المؤكد.
فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا
غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (155)
قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم) " ما " صلة مؤكدة. قال الزجاج: والمعنى: فبنقضهم
ميثاقهم، وهو أن الله أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا ما أنزل عليهم من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره. والجالب
للباء العامل ما أنزل عليهم فيها، وقوله [تعالى]: (حرمنا عليهم طيبات) أي: بنقضهم ميثاقهم،
والأشياء التي ذكرت بعده حرمنا عليهم. وقوله [تعالى]: (فبظلم) بدل من قوله [تعالى]: (فبما
216

نقضهم) وجعل الله جزاءهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم. وقال ابن فارس: الطبع: الختم
قوله تعالى: (فلا يؤمنون إلا قليلا) فيه قولان:
أحدهما: فلا يؤمن منهم إلا القليل، وهم عبد الله بن سلام، وأصحابه، قاله ابن عباس.
والثاني: المعنى: إيمانهم قليل، وهو قولهم: ربنا الله، قاله مجاهد.
وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156)
قوله تعالى: (وبكفرهم) في إعادة ذكر الكفر فائدة وفيها قولان:
أحدهما: أنه أراد: وبكفرهم بمحمد والقرآن، قاله ابن عباس.
والثاني: وبكفرهم بالمسيح، وقد بشروا به، قاله أبو سليمان الدمشقي. فأما " البهتان " فهو
في قول الجماعة: قذفهم مريم بالزنى.
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157)
بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)
قوله تعالى: (وقولهم إنا قتلنا المسيح) قال الزجاج: أي باعترافهم بقتلهم إياه، وما قتلوه،
يعذبون عذاب من قتل، لأنهم قتلوا الذي قتلوا على أنه نبي وفي قوله [تعالى]: (رسول الله)
قولان:
أحدهما: أنه من قول اليهود، فيكون المعنى: أنه رسول الله على زعمه.
والثاني: أنه من قول الله، لا على وجه الحكاية عنهم.
قوله تعالى: (ولكن شبه لهم) أي: ألقي شبهه على غيره.
وفيمن ألقي عليه شبهه قولان:
أحدهما: أنه بعض من أراد قتله من اليهود روى أبو صالح عن ابن عباس: أن اليهود لما
اجتمعت على قتل عيسى، أدخله جبريل خوخة لها روزنة، ودخل وراءه رجل منهم، فألقى الله عليه
شبه عيسى، فلما خرج على أصحابه، قتلوه يظنونه عيسى، ثم صلبوه، وبهذا قال مقاتل وأبو
سليمان.
والثاني: أنه رجل من أصحاب عيسى، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن عيسى خرج
217

على أصحابه لما أراد الله رفعه، فقال: أيكم يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني، ويكون معي في
درجتي؟ فقام شاب، فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد القول، فقام الشاب، فقال عيسى: اجلس،
ثم أعاد، فقال الشاب: أنا، فقال: نعم أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى، وجاء
اليهود، فأخذوا الرجل، فقتلوه، ثم صلبوه وبهذا القول قال وهب بن منبه، وقتادة، والسدي.
قوله تعالى: (وإن الذين اختلفوا فيه) في المختلفين قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، فعلى هذا في هاء " فيه " قولان:
أحدهما: أنها كناية عن قتله، فاختلفوا هل قتلوه أم لا؟ وفي سبب اختلافهم في ذلك قولان:
أحدهما: أنهم لما قتلوا الشخص المشبه كان الشبه قد ألقي على وجهه دون جسده، فقالوا:
الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره، ذكره ابن السائب.
والثاني: أنهم قالوا: إن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا، فأين عيسى
يعنون الذي دخل في طلبه، هذا قول السدي.
والثاني: أن " الهاء " كناية عن عيسى، واختلافهم فيه قول بعضهم: هو ولد زنى، وقول
بعضهم، هو ساحر.
والثاني: أن المختلفين النصارى، فعلى هذا في هاء " فيه " قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى قتله، هل قتل أم لا؟
والثاني: أنها ترجع إليه، هل هو إله أم لا؟ وفي هاء " منه " قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى قتله.
والثاني: إلى نفسه، هل هو إله، أم لغير رشدة، أم هو ساحر؟
قوله تعالى: (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) قال الزجاج: " اتباع " منصوب بالاستثناء،
وهو استثناء ليس من الأول. والمعنى: ما لهم به من علم إلا أنهم يتبعون الظن، وإن رفع جاز على
أن يجعل علمهم اتباع الظن، كما تقول العرب: تحيتك الضرب.
قوله تعالى: (وما قتلوه) في " الهاء " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى الظن فيكون المعنى: وما قتلوا ظنهم يقينا، هذا قول ابن عباس.
218

والثاني: أنها ترجع إلى العلم، أي: ما قتلوا [العلم به] يقينا، تقول: قتلته يقينا، وقتلته علما.
هذا قول الفراء، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة: وأصل هذا: أن القتل للشئ يكون عن قهر واستعلاء
وغلبة، يقول: فلم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به، إنما كان ظنا.
والثالث: أنها ترجع إلى عيسى، فيكون المعنى: وما قتلوا عيسى حقا، هذا قول الحسن،
وقال ابن الأنباري: اليقين مؤخر في المعنى، فالتقدير: وما قتلوه، بل رفعه الله إليه يقينا.
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيمة يكون عليهم
شهيدا (159)
قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به) قال الزجاج: المعنى: وما منهم أحد إلا
ليؤمنن به، ومثله (وإن منكم إلا واردها) وفي أهل الكتاب قولان:
أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله الحسن، وعكرمة. وفي هاء " به " قولان:
أحدهما: أنها راجعة إلى عيسى، قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: أنها راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، قاله عكرمة. وفي هاء " موته " قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى المؤمن. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ليس يهودي يموت
أبدا حتى يؤمن بعيسى، فقيل لابن عباس: إن خر من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهوي قال:
وهي في قراءة أبي: " قبل موتهم " وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وروى الضحاك عن ابن
عباس قال: يؤمن اليهودي قبل أن يموت، ولا تخرج روح النصراني حتى يشهد أن عيسى عبد. وقال
عكرمة: لا تخرج روح اليهودي والنصراني حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنها تعود إلى عيسى، روى عطاء عن ابن عباس قال: إذا نزل إلى الأرض لا يبقى
يهودي ولا نصراني، ولا أحد يعبد غير الله إلا اتبعه، وصدقه، وشهد أنه روح الله، وكلمته، وعبده
ونبيه. وهذا قول قتادة، وابن زيد، وابن قتيبة، واختاره ابن جرير، وعن الحسن كالقولين. وقال
الزجاج: هذا بعيد، لعموم قوله [تعالى]: (وإن من أهل الكتاب)، والذين يبقون حينئذ شرذمة
منهم، إلا أن يكون المعنى: أنهم كلهم يقولون: إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجال نؤمن به،
219

قوله تعالى: (ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) قال قتادة: يكون عليهم شهيدا أنه قد بلغ
رسالات ربه، وأقر بالعبودية على نفسه.
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله (160)
قوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا) قال مقاتل: حرم الله على أهل التوراة الربا، وأن يأكلوا
أموال الناس ظلما، ففعلوا، وصدوا عن دين الله، وعن الإيمان بمحمد عليه السلام، فحرم الله
عليهم ما ذكر في قوله [تعالى]: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) عقوبة لهم. قال أبو
سليمان: وظلمهم: نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وما ذكر في الآيات قبلها. وقال مجاهد:
(وبصدهم عن سبيل الله) قال: صدهم أنفسهم وغيرهم عن الحق. قال ابن عباس: صدهم عن
سبيل الله، يعني الإسلام، وأكلهم أموال الناس بالباطل، أي: بالكذب على دين الله، وأخذ الرشى
على حكم الله، وتبديل الكتب التي أنزلها الله ليستديموا المأكل.
وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا
أليما (161)
قوله تعالى: (وأعتدنا) أي: أعددنا للكافرين، يعني اليهود، وقيل: إنما قال " منهم "، لأنه
علم أن قوما منهم يؤمنون، فيأمنون العذاب.
لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين
الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما (162)
قوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم) قال ابن عباس: هذا استثناء لمؤمني أهل
الكتاب، فأما الراسخون. فهم الثابتون في العلم. قال أبو سليمان: وهم عبد الله بن سلام، ومن
220

آمن معه، والذين آمنوا من أهل الإنجيل ممن قدم مع جعفر من الحبشة، والمؤمنون، يعني أصحاب
رسول الله، فأما قوله [تعالى]: (والمقيمين الصلاة) فهم القائمون بأدائها كما أمروا وفي نصب
" المقيمين " أربعة أقوال:
أحدها: أنه خطأ من الكاتب، وهذا قول عائشة، وروي عن عثمان بن عفان أنه قال: إن
في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها. وقد قرأ ابن مسعود، وأبي، وسعيد بن جبير، وعكرمة،
والجحدري: " والمقيمون الصلاة " بالواو. وقال الزجاج: قول من قال إنه خطأ، بعيد جدا، لأن
الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة، والقدوة، فكيف يتركون في كتاب الله شيئا يصلحه غيرهم؟! فلا
ينبغي أن ينسب هذا إليهم. وقال ابن الأنباري: حديث عثمان لا يصح، لأنه غير متصل، ومحال أن
يؤخر عثمان شيئا فاسدا، ليصلحه من بعده.
والثاني: أنه نسق على " ما " والمعنى: يؤمنون بما أنزل إليك، وبالمقيمين الصلاة، فقيل:
هم الملائكة، وقيل: الأنبياء.
والثالث: أنه نسق على الهاء والميم من قوله (منهم) فالمعنى: لكن الراسخون في العلم
منهم، ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك. قال الزجاج: وهذا ردئ عند النحويين، لا
ينسق بالظاهر المجرور على المضمر المجرور إلا في الشعر.
والرابع: أنه منصوب على المدح، فالمعنى: اذكر المقيمين الصلاة، وهم المؤتون
الزكاة. وأنشدوا:
لا يبعدن قومي الذين هم * سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك * والطيبون معاقد الأزر
وهذا على معنى: اذكر النازلين، وهم الطيبون، ومن هذا قولك: مررت بزيد الكريم، إن
أردت أن تخلصه من غيره، فالخفض هو الكلام، وإن أردت المدح والثناء، فإن شئت نصبت،
فقلت: بزيد الكريم، كأنك قلت: اذكر الكريم، وإن شئت رفعت على معنى: هو الكريم،
وتقول: جاءني قومك المطعمين في المحل، والمغيثون في الشدائد على معنى: اذكر
المطعمين، وهم المغيثون، وهذا القول اختيار الخليل، وسيبويه. فهذه الأقوال حكاها الزجاج،
واختار هذا القول.
* إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم
221

وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا
داود زبورا (163)
قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك) قال ابن عباس: قال عدي بن زيد، وسكين: يا محمد ما
نعلم الله أنزل على بشر من شئ بعد موسى، فنزلت هذه الآية. وقد ذكرنا في " آل عمران " معنى
الوحي، وذكر نوحا هنالك. وإسحاق: أعجمي، وإن وافق لفظ العربي، يقال: أسحقه الله
يسحقه إسحاقا، ويعقوب: أعجمي. فأما اليعقوب، وهو ذكر الحجل وهي القبج فعربي،
كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي. وأيوب: أعجمي، ويونس: اسم أعجمي. قال أبو
عبيدة، يقال: يونس ويونس بضم النون وكسرها، وحكى أبو زيد الأنصاري عن العرب همزة مع
الكسرة والضمة والفتحة. وقال الفراء: يونس بضم النون من غير همز لغة أهل الحجاز، وبعض
بني أسد يقول: يؤنس بالهمز، وبعض بني عقيل يقول: يونس بفتح النون من غير همز.
والمشهور في القراءة يونس برفع النون من غير همز. وقد قرأ ابن مسعود، وقتادة، ويحيى بن
يعمر، وطلحة: يؤنس بكسر النون مهموزا. قرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والجحدري: يونس
بفتح النون من غير همز. وقرأ أبو المتوكل: يؤنس بفتح النون مهموزا. وقرأ أبو السماك العدوي.
يونس بكسر النون من غير همز. وقرأ عمرو بن دينار برفع النون مهموزا. وهارون: اسم أعجمي،
وباقي الأنبياء قد تقدم ذكرهم. فأما الزبور، فأكثر القراء على فتح الزاي، وقرأ أبو رزين، وأبو
رجاء، والأعمش، وحمزة بضم الزاي. قال الزجاج: فمن فتح الزاي، أراد: كتابا، ومن ضم،
أراد: كتبا. ومعنى ذكر " داود " أي: لا تنكروا تفضيل محمد بالقرآن، فقد أعطى الله داود
الزبور. وقال أبو علي: كأن حمزة جعل كتاب داود أنحاء، وجعل كل نحو زبرا، ثم جمع،
فقال: زبورا. وقال ابن قتيبة: الزبور فعول بمعنى مفعول، كما تقول: حلوب وركوب بمعنى:
محلوب ومركوب، وهو من قولك: زبرت الكتاب أزبره زبرا: إذا كتبته، قال: وفيه لغة أخرى
الزبور بضم الزاي، كأنه جمع.
ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله
موسى تكليما (164)
قوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليما) تأكيد كلم بالمصدر يدل على أنه سمع كلام الله
222

حقيقة. روى أبو سليمان الدمشقي، قال: سمعت إسماعيل بن محمد الصفار يقول: سمعت ثعلبا
يقول: لولا أن الله تعالى أكد الفعل بالمصدر، لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر: قد كلمت
لك فلانا بمعنى: كتبت اليه رقعة، أو بعثت إليه رسولا، فلما قال: تكليما لم يكن إلا كلاما
مسموعا من الله.
رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا
حكيما (165)
قوله تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة) أي: لئلا يحتجوا في ترك التوحيد والطاعة
بعدم الرسل، لأن هذه الأشياء إنما تجب بالرسل.
لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا (166)
قوله تعالى: (لكن الله يشهد) في سبب نزلها قولان:
أحدهما: أن النبي عليه السلام دخل على جماعة من اليهود، فقال: " إني والله أعلم أنكم
لتعلمون أني رسول الله "، فقالوا: ما نعلم ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
والثاني: أن رؤساء أهل مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سألوا عنك اليهود، فزعموا أنهم
لا يعرفونك، فائتنا بمن يشهد لك أن الله بعثك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن السائب. قال
الزجاج: الشاهد: المبين لم يشهد به، فالله عز وجل بين ذلك، ويعلم مع إبانته أنه حق. وفي
معنى (أنزله بعلمه) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنزله وفيه علمه، قاله الزجاج.
والثاني: أنزله من علمه، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
والثالث: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه، قاله ابن جرير.
قوله تعالى: (والملائكة يشهدون).
[فيه قولان:
أحدهما: يشهدون أن الله أنزله.
والثاني: يشهدون بصدقك.
223

قوله تعالى: (وكفى بالله شهيدا) قال الزجاج: " الباء " دخلت مؤكدة. والمعنى: اكتفوا
بالله في شهادته.
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضللا بعيدا (167)
قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) قال مقاتل وغيره: هم اليهود كفروا
بمحمد، وصدوا الناس عن الإسلام. قال أبو سليمان: وكان صدهم عن الإسلام قولهم للمشركين
ولأتباعهم: ما نجد صفة محمد في كتابنا.
إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا (168) إلا طريق جهنم
خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا (169)
قوله تعالى: (إن الذين كفروا وظلموا) قال مقاتل وغيره: شهم اليهود أيضا كفروا بمحمد
والقرآن. وفي الظلم المذكور هاهنا قولان:
أحدهما: أنه الشرك، قاله مقاتل.
والثاني: أنه جحدهم صفة محمد النبي صلى الله عليه وسلم في كتابهم.
قوله تعالى: (لم يكن الله ليغفر لهم) يريد من مات منهم على الكفر. وقال أبو سليمان
لم يكن الله ليستر عليهم قبيح فعالهم، بل يفضحهم في الدنيا، ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسبي،
وفي الآخرة بالنار (ولا ليهديهم طريقا) ينجون فيه. وقال مقاتل: طريقا إلى الهدى (وكان ذلك
على الله يسيرا) يعني كان عذابهم على الله هينا.
يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فأمنوا خيرا لكم وإن تكفروا
فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (170)
قوله تعالى: (يا أيها الناس) الكلام عام، وروي عن ابن عباس أنه قال: أراد
المشركين. (قد جاءكم الرسول بالحق) أي: بالهدى، والصدق.
قوله تعالى: (فآمنوا خيرا لكم) قال الزجاج عن الخليل وجميع البصريين: إنه منصوب
بالحمل على معناه، لأنك إذا قلت: انته خيرا لك، وأنت تدفعه عن أمر فتدخله في غيره، كان
المعنى: انته وأت خيرا لك، وادخل في ما هو خير لك. وأنشد الخليل، وسيبويه قول عمر بن
أبي ربيعة:
224

فواعديه سرحتي مالك * أو الربا بينهما سهلا
كأنه قال: إيتي مكانا أسهل
قوله تعالى: (وإن تكفروا فان لله ما في السماوات والأرض) أي: هو غني عنكم. وعن
إيمانكم، (وكان الله عليما) بما يكون من إيمان أو كفر (حكيما في تكليفكم مع علمه بما يكون
منكم.
يا أهل الكتب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى
ابن مريم رسول الله وكلمته ألقها إلى مريم وروح منه فأمنوا بالله ورسله ولا تقولوا
ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله وحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في
السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171)
قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) قال مقاتل: نزلت في نصارى نجران،
السيد والعاقب ومن معهما. والجمهور على أن المراد بهذه الآية: النصارى، وقال الحسن:
نزلت في اليهود والنصارى. والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد، ومنه غلا السعر. وقال الزجاج:
الغلو: مجاوزة القدر في الظلم. وغلو النصارى في عيسى: قول بعضهم: هو الله، وقول
بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة. وعلى قول الحسن غلو اليهود فيه قولهم:
إنه لغير رشدة. وقال بعض العلماء: لا تغلوا في دينكم بالزيادة في التشدد فيه
قوله تعالى: (ولا تقولوا على الله إلا الحق) أي: لا تقولوا: إن الله له شريك أو ابن أو
زوجة. وقد ذكرنا معنى " المسيح " فالكلمة في (آل عمران). وفي معنى (وروح منه) سبعة
أقوال:
أحدها: أنه روح من أرواح الأبدان. قال أبي بن كعب: لما أخذ الله الميثاق على بني آدم
كان عيسى روحا من تلك الأرواح، فأرسله إلى مريم، فحملت به.
والثاني: أن الروح النفخ، فسمي روحا، لأنه حدث عن نفخة جبريل في درع مريم. ومنه
قول ذي الرمة:
وقلت له ارفعها إليك وأحيها * بروحك واقتته لها قيتة قدرا
هذا قول أبي روق.
225

والثالث: أن معنى (وروح منه) إنسان حي باحياء الله له.
والرابع: أن الروح: الرحمة، فمعناه: ورحمة منه، ومثله (وأيدهم بروح منه)
والخامس: أن الروح هاهنا جبريل. فالمعنى: ألقاها الله إلى مريم، والذي ألقاها روح
منه: ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو سليمان الدمشقي.
والسادس: أنه سماه روحا، لأنه يحيا به الناس كما يحيون بالأرواح، ولهذا المعنى سمي
القرآن روحا، ذكره القاضي أبو يعلى.
والسابع: أن الروح: الوحي أوحى الله إلى مريم يبشرها به، وأوحى إلى جبريل بالنفخ في
درعها، وأوحى إلى ذات عيسى أن: كن فكان. ومثله: (ينزل الملائكة بالروح من أمره) أي.
بالوحي، ذكره الثعلبي.
فأما قوله: " منه " فإنه إضافة تشريف، كما تقول: بيت الله، والمعنى من أمره، ومما
يقاربها قوله [تعالى]: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه).
قوله تعالى: (ولا تقولوا ثلاثة) قال الزجاج: رفعه باضمار: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة (إنما
الله إله واحد) أي: ما هو إلا إله واحد (سبحانه) ومعنى " سبحانه ": تبرئته من أن يكون له
ولد. قال أبو سليمان: (وكفى بالله وكيلا) أي: قيما على خلقه، مدبرا لهم.
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن
عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172)
قوله تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله) سبب نزولها: أن وفد نجران وفدوا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد لم تذكر صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا:
عيسى، قال: وأي شئ أقول له؟ هو عبد الله، قالوا: بل هو الله، فقال: إنه ليس بعار عليه أن
يكون عبدا لله، قالوا: بلى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج.
معنى يستنكف: يأنف، وأصله في اللغة من نكفت الدمع: إذا نحيته بإصبعك من خدك.
قال الشاعر:
فبانوا فلولا ما تذكر منهم * من الحلف لم ينكف لعينيك مدمع
226

قوله تعالى: (ولا الملائكة المقربون) قال ابن عباس: هم حملة العرش.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين
استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (173)
قوله تعالى: (فيوفيهم أجورهم) أي: ثواب أعمالهم (ويزيدهم من فضله) مضاعفة
الحسنات. وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله [تعالى]: (فيوفيهم أجورهم) قال:
يدخلون الجنة، ويزيدهم من فضله: الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في
الدنيا
يا أيها الناس قد جاءكم برهن من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174)
قوله تعالى: (قد جاءكم برهان من ربكم) في البرهان ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الحجة، قاله مجاهد، والسدي.
والثاني: القرآن، قاله قتادة.
والثالث: أنه النبي محمد [عليه وسلم]، قاله سفيان الثوري. فأما النور المبين، فهو
القرآن، قاله قتادة، وإنما سماه نورا، لأن الأحكام تبين به بيان الأشياء بالنور.
فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه
صراطا مستقيما (175)
قوله تعالى: (واعتصموا به) أي: استمسكوا. وفي " هاء " به قولان:
أحدهما: أنها تعود إلى النور وهو القرآن، قاله ابن جريج.
والثاني: تعود إلى الله تعالى، قاله مقاتل. وفي " الرحمة " قولان:
أحدهما: أنها الجنة، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أنها نفس الرحمة، والمعنى: سيرحمهم، قاله أبو سليمان. وفي " الفضل "
قولان:
227

أحدهما: أنه الرزق في الجنة، قاله مقاتل.
والثاني: أنه الإحسان، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: (ويهديهم إليه صراطا مستقيما) أي: يوفقهم لإصابة الطريق المستقيم. وقال
ابن الحنفية: الصراط المستقيم: دين الله.
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف
ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا
إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شئ
عليم (176)
قوله تعالى: (يستفتونك) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنها نزلت في جابر بن عبد الله. روى أبو الزبير عن جابر قال: مرضت فأتاني
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني هو وأبو بكر فوجدني قد أغمي علي، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صب
علي من وضوئه، فأفقت، وقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي تسع أخوات،
ولم يكن لي ولد؟ فلم يجبني بشئ، ثم خرج وتركني، ثم رجع إلي وقال: يا جابر لا
أراك ميتا من وجعك هذا، وإن الله عز وجل قد أنزل في أخواتك، وجعل لهن الثلثين، فقرأ علي
هذه الآية: (يستفتونك قل الله يفتيكم) فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية في.
والثاني: أن الصحابة أهمهم بيان شأن الكلالة فسألوا عنها نبي الله، فنزلت هذه الآية، هذا
قول قتادة. وقال سعيد بن المسيب: سأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نورث الكلالة؟
فأنزل الله [عز وجل] (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة).
قوله تعالى: (إن امرؤ هلك) أي: مات (ليس له ولد) يريد: ولا والد: فاكتفى بذكر
أحدهما، ويدل على المحذوف أن الفتيا في الكلالة، وهي من ليس له ولد ولا والد.
قوله تعالى: (وله أخت) يريد من أبيه وأمه (فلها نصف ما ترك) عند انفرادها (وهو
يرثها) أي: يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن لها ولد ولا والد، وهذا هو الأخ من الأب والأم،
228

أو من الأب (فإن كانتا اثنتين) يعني: أختين. وسئل الأخفش ما فائدة قوله " اثنتين " و (كانتا)
لا يفسر إلا باثنتين؟ فقال: أفادت العدد العاري عن الصفة، لأنه يجوز في (كانتا) صغيرتين، أو
حرتين، أو صالحتين، أو طالحتين، فلما قال: (اثنتين) فإذا اطلاق العدد على أي وصف كانتا
عليه. (فلهما الثلثان) من تركة أخيهما الميت (وإن كانوا) يعني المخلفين.
قوله تعالى: (يبين الله لكم أن تضلوا) قال ابن قتيبة: لئلا تضلوا. وقال الزجاج: فيه
قولان:
أحدهما: أن لا تضلوا، فأضمرت لا.
والثاني: كراهية أن تضلوا، وهو قول البصريين. قال ابن جريج: أن تضلوا في شأن
المواريث.
229

(5) سورة المائدة مدنية
وآياتها عشرون ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن عباس، والضحاك: هي مدنية. وقال مقاتل: نزلت نهارا وكلها مدنية. وقال أبو
سليمان الدمشقي: فيها من المكي (اليوم أكملت لكم دينكم) قال: وقيل: فيها من المكي (يا
أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) والصحيح أن قوله [تعالى]: (اليوم أكملت لكم دينكم)
نزلت بعرفه يوم عرفة، فلهذا نسبت إلى مكة.
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي
الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (1)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم المؤمنون من أمتنا، وهذا قول الجمهور.
والثاني: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن جريج. و (العقود): العهود، قاله ابن عباس،
ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والضحاك، والسدي، والجماعة. وقال الزجاج: " العقود ":
أوكد العهود. واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال:
أحدها: أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحل وحرم، وهذا قول ابن عباس،
ومجاهد.
والثاني: أنها عهود الدين كلها، قاله الحسن.
والثالث: أنها عهود الجاهلية، وهي الحلف الذي كان بينهم، قاله قتادة.
والرابع: أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، قاله
ابن جريج، وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين.
والخامس: أنها عقود الناس بينهم، من بيع، ونكاح، أو عقد الإنسان على نفسه من نذر،
أو يمين وهذا قول ابن زيد.
230

قوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) في بهيمة الأنعام ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها أجنة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت الأمهات، قاله ابن
عمر، وابن عباس.
والثاني: أنها الإبل، والبقر، والغنم، قاله الحسن، وقتادة، والسدي. وقال الربيع: هي
الأنعام كلها. وقال ابن قتيبة: هي الإبل، والبقر، الغنم، والوحوش كلها.
والثالث: أنها وحش الأنعام كالظباء، وبقر الوحش، روي عن ابن عباس. وأبي صالح.
وقال الفراء: بهيمة الأنعام: بقر الوحش، والظباء، والحمر الوحشية. قال الزجاج: وإنما قيل لها
بهيمة، لأنها أبهمت عن أن تميز، وكل حي لا يميز فهو بهيمة.
قوله تعالى: (إلا ما يتلى عليكم) روي عن ابن عباس أنه قال: هي الميتة وسائر ما في
القرآن تحريمه. وقال ابن الأنباري: المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها، وهي قوله
[تعالى]: (حرمت عليكم الميتة).
قوله تعالى: (غير محلي الصيد) قال أبو الحسن الأخفش: أوفوا بالعقود غير محلي
الصيد، فانتصب على الحال. وقال غيره: المعنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلي
اصطيادها، وأنتم حرم، قال الزجاج: الحرم: المحرومون، وواحد الحرم: حرام، يقال: رجل
حرام، وقوم حرم. قال الشاعر:
فقلت لها فيئي إليك فإنني * حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي: ملب. وقوله [تعالى]: (إن الله يحكم ما يريد) أي: الخلق له يحل ما يشاء لمن
يشاء، ويحرم ما يريد على من يريد.
يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد
ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا
ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر
والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2)
قوله تعالى: (لا تحلوا شعائر الله) في سبب نزولها قولان.
أحدهما: أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إلام تدعو؟
231

فقال: " إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله "، فقال: إن لي أمراء خلفي أرجع إليهم
أشاورهم، ثم خرج، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم]: " لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرجل
بمسلم "، فمر شريح بسرح لأهل المدينة، فاستاقه، فلما كان عام الحديبية، خرج شريح إلى
مكة معتمرا، ومعه تجارة، فأراد أهل السرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم، فاستأذنوا رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقال السدي: اسمه الحطم ابن
هند البكري. قال: ولما ساق السرح جعل يرتجز:
قد لفها الليل بسواق حطم * ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم * باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم * خدلج الساقين ممسوح القدم
والثاني: أن ناسا من المشركين، جاؤوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلين بعمرة، فقال
المسلمون: لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم، فنزل قوله [تعالى] (ولا آمين البيت الحرام).
قال ابن قتيبة: وشعائر الله: ما جعله الله علما لطاعته. وفي المراد بها هاهنا سبعة أقوال:
أحدها: أنها مناسك الحج، رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال الفراء: كانت عامة العرب
لا يرون الصفا والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بينهما، فقال الله تعالى: لا تستحلوا ترك ذلك.
والثاني: أنها ما حرم الله تعالى في حال الإحرام، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: دين الله كله، قاله الحسن.
والرابع: حدود الله، قاله عكرمة، وعطاء.
والخامس: حرم الله، قاله السدي.
والسادس: الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام، قاله أبو عبيدة، والزجاج.
والسابع: أنها أعلام الحرم، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة، ذكره
الماوردي، والقاضي أبو يعلى
232

قوله تعالى: (ولا الشهر الحرام) قال ابن عباس: لا تحلوا القتال فيه. وفي المراد بالشهر
الحرام ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ذو القعدة، قاله عكرمة، وقتادة.
والثاني: أن المراد به الأشهر الحرم. قال مقاتل: كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ
كل سنة فيقول: ألا إني قد أحللت كذا، وحرمت كذا.
والثالث: أنه رجب، ذكره ابن جرير الطبري. والهدي: كل ما أهدي إلى بيت الله تعالى
من شئ. وفي (القلائد) قولان:
أحدهما: أنها المقلدات من الهدي، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنها ما كان المشركون يقلدون به إبلهم وأنفسهم في الجاهلية، ليأمنوا به عدوهم،
لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إلا في الأشهر الحرم، فمن لقوه مقلدا نفسه، أو بعيره، أو
مشعرا بدنه أو سائقا هديا لم يتعرض له. قال ابن عباس: كان من أراد أن يسافر في غير الأشهر
الحرم، قلد بعيره من الشعر والوبر، فيأمن حيث ذهب. وروى مالك بن مغول عن عطاء قال:
كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، فيأمنون به إذا خرجوا من الحرم، فنزلت هذه الآية وقال
قتادة: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر، فلم يعرض له
أحد، وإذا رجع تقلد قلادة شعر، فلم يعرض له أحد.
وقال الفراء: كان أهل مكة يقلدون بلحاء الشجر، وسائر العرب يقلدون بالوبر والشعر
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تستحلوا المقلدات من الهدي.
والثاني: لا تستحلوا أصحاب القلائد.
والثالث: أن هذا نهي للمؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم، فيتقلدوه كما كان المشركون
يفعلون في جاهليتهم، رواه عبد الملك عن عطاء، وبه قال مطرف: والربيع بن أنس.
قوله تعالى: (ولا آمين البيت الحرام) " الآم ": القاصد، و (البيت الحرام): الكعبة،
233

والفضل: الربح في التجارة، والرضوان من الله يطلبونه في حجهم على زعمهم. ومثله قوله
تعالى: (وانظر إلى إلهك الذي) وقيل: ابتغاء الفضل عام، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة.
قوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) لفظه لفظ الأمر، ومعناه الإباحة، نظيره (فإذا
قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) وهو يدل على إحرام متقدم.
قوله تعالى: (ولا يجرمنكم) وروى الوليد عن يعقوب " يجرمنكم " بسكون النون، وتخفيفها.
قال ابن عباس: لا يحملنكم، وقال غيره: لا يدخلنكم في الجرم، كما تقول: آثمته، أي: أدخلته
في الاثم، وقال ابن قتيبة: لا يكسبنكم يقال: فلان جارم أهله، أي: كاسبهم، وكذلك جريمتهم.
وقال الهذلي: ووصف عقابا:
جريمة ناهض في رأس نيق * ترى لعظام ما جمعت صليبا
والناهض: فرخها، يقول: هي تكسب له، وتأتيه بقوته. و " الشنآن " البغض، يقال: شنئته
أشنؤه: إذا أبغضته. وقال ابن الأنباري: " الشنآن "، البعض، و " الشنآن " بتسكين النون: البغيض.
واختلف القراء في نون الشنآن، فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بتحريكها،
وأسكنها ابن عامر، وروى حفص عن عاصم تحريكها، وأبو بكر عنه تسكينها، وكذلك اختلف عن
نافع.
قال أبو علي: " الشنآن "، قد جاء وصفا، وقد جاء اسما، فمن حرك، فلأنه مصدر،
والمصدر يكثر على فعلان، نحو النزوان، ومن سكن. قال: هو مصدر، وقد جاء المصدر على
فعلان، تقول: لويته دينه ليانا، فالمعنى في القراءتين واحد، وإن اختلف اللفظان. واختلفوا في
قوله تعالى: (أن صدوكم) فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح، فمن فتح
جعل الصد ماضيا، فيكون المعنى من أجل ان صدوكم، ومن كسرها، جعلها للشرط، فيكون الصد
مترقبا. قال أبو الحسن الأخفش: وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر، كقوله تعالى: (إن يسرق فقد
سرق أخ له من قبل) وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت، وأنشد أبو علي الفارسي:
إذا ما انتسبنا لم تلدني أميمة * ولم تجدي من أن تقري بها بدا
قال ابن جرير: وقراءة من فتح الألف أبين، لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية، وقد كان
الصد تقدم. فعلى هذا في معنى الكلام قولان:
أحدهما: ولا يحملنكم بغض أهل مكة ان صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فيه،
234

فتقاتلوهم، وتأخذوا أموالهم إذا دخلتموه، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: لا يحملنكم بغض أهل مكة، وصدهم إياكم أن تعتدوا باتيان ما لا يحل لكم من
الغارة على المعتمرين من المشركين، على ما سبق في نزول الآية..
قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) قال الفراء: ليعن بعضكم بعضا. قال ابن عباس:
البر ما أمرت به، و " التقوى ": ترك ما نهيت عنه. فأما " الإثم " فالمعاصي. والعدوان: التعدي في
حدود الله، قاله عطاء.
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها محكمة، روي عن الحسن أنه قال: ما نسخ من المائدة شئ، وكذلك قال أبو
ميسرة في آخرين قالوا: ولا يجوز استحلال الشعائر، ولا الهدي قبل أوان ذبحه، واختلفوا في
القلائد) فقال قوم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر، وقال آخرون: كانت الجاهلية تقلد
من شجر الحرم، فقيل لهم: لا تستحلوا أخذ القلائد من الحرم، ولا تصدوا القاصدين إلى البيت.
والثاني: انها منسوخة، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال:
أحدها: أن جميعها منسوخ، وهو قول الشعبي.
والثاني: انها وردت في حق المشركين كانوا يقلدون هداياهم، ويظهرون شعائر الحج من
الاحرام والتلبية، فنهي المسلمون بهذه الآية عن التعرض لهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم) وهذا قول الأكثرين.
والثالث: أن الذي نسخ قوله تعالى: (ولا آمين البيت الحرام) نسخه قوله [تعالى]: (فلا
يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) روي عن ابن عباس، وقتادة.
والرابع: أن المنسوخ منها: تحريم الشهر الحرام، وآمون البيت الحرام: إذا كانوا مشركين.
وهدي المشركين. إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان، قاله أبو سليمان الدمشقي.
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والمنخنقة والموقوذة
والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تسقسموا:
235

بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم
أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر
في مخصمة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (3)
قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة) مفسر في البقرة، فأما (المنخنقة) فقال ابن عباس:
هي التي تختنق فتموت، وقال الحسن، وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره. قلت:
والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك، قال ابن قتيبة: و (لموقوذة): التي تضرب حتى توقذ، أي:
تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة، ومنه يقال: فلان وقيذ، وقد وقذته
العبادة. و " المتردية ": الواقعة من جبل أو حائط، أو في بئر، يقال: تردى: إذا سقط. و (النطيحة):
التي تنطحها شاة أخرى، أو بقرة، " فعيلة " في معنى " مفعولة " (وما أكل السبع) وقرأ ابن عباس،
وأبو رزين، وأبو مجلز، وابن أبي ليلى: السبع: بسكون الباء. والمراد: ما افترسه فأكل بعضه
(إلا ما ما ذكيتم) أي: إلا ما لحقتم من هذا كله وبه حياة، فذبحتموه. فأما الاستثناء، ففيه
قولان:
أحدهما: أنه يرجع إلى المذكور من عند قوله [تعالى]: (والمنخنقة).
والثاني: أنه يرجع إلى ما أكل السبع خاصة، والعلماء على الأول.
فصل في الذكاة
قال الزجاج: أصل الذكاة في اللغة: تمام الشئ، فمنه الذكاء في السن، وهو تمام السن.
قال الخليل: الذكاء: ان تأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة، ومنه الذكاء في
الفهم، وهو أن يكون فهما تاما، سريع القبول. وذكيت النار، أي: أتممت إشعالها. وقد روي عن
علي، وابن عباس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: ما أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف، أو ذنب
يتحرك، فأكله حلال. قال القاضي أبو يعلى: ومذهب أصحابنا أنه إن كان يعيش مع ما به، حل
بالذبح، فإن كان لا يعيش مع ما به، نظرت، فإن لم تكن حياته مستقرة، وإنما حركته حركة المذبوح،
مثل أن شق جوفه، وأبينت حشوته، فانفصلت عنه، لم يحل أكله، وإن كانت حياته مستقرة يعيش
اليوم واليومين، مثل أن يشق جوفه، ولم تقطع الأمعاء، حل أكله ومن الناس من يقول: إذا كانت
فيه حياة في الجملة أبيح بالذكاة، والصحيح ما ذكرنا، لأنه إذا لم تكن فيه حياة مستقرة، فهو في
236

حكم الميت. ألا ترى أن رجلا لو قطع حشوة آدمي، ثم ضرب عنقه آخر، فالأول هو القاتل، لأن
الحياة لا تبقى مع الفعل الأول. وفي ما يجب قطعه في الذكاة روايتان:
إحداهما: أنه الحلقوم والمرئ، فإن نقص من ذلك شيئا، لم يؤكل، هذا ظاهر كلام أحمد
في رواية عبد الله.
والثاني: يجزئ قطع الحلقوم والمرئ، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل، وبه قال
الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجزئ قطع الحلقوم والمرئ وأحد الودجين. وقال مالك: يجزئ
قطع الأوداج، وإن لم يقطع الحلقوم. وقال الزجاج: الحلقوم بعد الفم، وهو موضع النفس، وفيه
شعب تتشعب منه في الرئة. والمرئ: مجرى الطعام، والودجان: عرقان يقطعهما الذابح.
فأما الآلة التي تجوز بها الذكاة، فهي كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج سوى السن والظفر،
سواء كانا منزوعين، أو غير منزوعين. وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالمنزوعين. فأما البعير إذا توحش، أو
تردى في بئر، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقره. وقال مالك: ذكاته ذكاة المقدور عليه. فإن رمى صيدا،
فأبان بعضه، وفيه حياة مستقرة، فذكاه، أو تركه حتى مات جاز أكله، وفي أكل ما بان منه
روايتان.
قوله تعالى: (وما ذبح على النصب) في النصب قولان:
أحدهما: أنها أصنام تنصب، فتعبد من دون الله، قاله ابن عباس، والفراء، والزجاج، فعلى
هذا القول يكون المعنى، وما ذبح على اسم النصب، وقيل لأجلها، فتكون " على " بمعنى " اللام "،
وهما يتعاقبان في الكلام، كقوله تعالى: (فسلام لك) أي: عليك، وقوله تعالى: (وإن أسأتم
فلها).
والثاني: أنها حجارة كانوا يذبحون عليها، ويشرحون اللحم عليها ويعظمونها، وهو قول ابن
جريج. وقرأ الحسن، وخارجة عن أبي عمرو: على النصب، بفتح النون، وسكون الصاد، قال
ابن قتيبة، يقال: نصب ونصب ونصب، وجمعه أنصاب.
237

قوله تعالى: (وأن تستقسموا بالأزلام) قال ابن جرير: أي: وأن تطلبوا علم ما قسم لكم،
أو لم يقسم بالأزلام، واستفعلت من القسم. قال ابن قتيبة: الأزلام: القداح، واحدها: زلم وزلم.
والاستقسام بها: أن يضرب فيعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي، فكانوا إذا أرادوا أن يقتسموا شيئا
بينهم، فأحبوا أن يعرفوا قسم كل امرئ تعرفوا ذلك منها، فأخذ الاستقسام من القسم وهو
النصيب. قال سعيد بن جبير: الأزلام: حصى بيض، كانوا إذا أرادوا غدوا، أو رواحا، كتبوا في
قدحين، في أحدهما: أمرني ربي، وفي الآخر: نهاني ربي، ثم يضربون بهما، فأيهما خرج، عملوا به. وقال
مجاهد: الأزلام: سهام العرب، وكعاب فارس التي يتقامرون بها. وقال السدي: كانت الأزلام تكون عند
الكهنة. وقال مقاتل: في بيت الأصنام. وقال قوم: كانت عند سدنة الكعبة قال الزجاج: ولا فرق بين
ذلك، وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، أو اخرج من أجل نجم كذا.
قوله تعالى: (ذلكم فسق) في المشار إليه بذلكم قولان:
أحدهما: أنه جميع ما ذكر في الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال سعيد
ابن جبير.
والثاني: أنه الاستقسام بالأزلام، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والفسق: الخروج عن طاعة
الله إلى معصيته.
قوله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) في هذا (اليوم) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكة في حجة الوداع، قاله أبو صالح عن ابن
عباس. وقال ابن السائب: نزلت ذلك اليوم.
والثاني: أنه يوم عرفة، قاله مجاهد، وابن زيد.
والثالث: أنه لم يرد يوما بعينه، وإنما المعنى: الآن يئسوا، كما تقول: أنا اليوم قد كبرت، قاله
الزجاج. قال ابن الأنباري: العرب توقع اليوم على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي،
فيقولون: قد كنت في غفلة، فاليوم استيقظت، يريدون: فالآن، ويقولون: كان فلان يزورنا، وهو
اليوم يجفونا، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد. قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا * ويوم نساء ويوم نسر
أراد: فزمان لنا، وزمان علينا، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضم إليه غيره. وفي معنى يأسهم
قولان:
أحدهما: أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين، قاله ابن عباس، والسدي.
238

والثاني: يئسوا من بطلان الإسلام، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: وإنما يئسوا من إبطال
دينهم لما نقل الله خوف المسلمين إليهم. وأمنهم إلى المسلمين، فعلموا أنهم لا يقدرون على
إبطال دينهم، ولا على استئصالهم، وإنما قاتلوهم بعد ذلك ظنا منهم أن كفرهم يبقى.
قوله تعالى: (فلا تخشوهم) قال ابن جريج: لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، وقال ابن
السائب: لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم، واخشوني في مخالفة أمري.
قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) روى البخاري، ومسلم في " الصحيحين " من
حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية
من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأي آية هي؟ قال: قوله
تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت
فيه على رسول الله، والساعة التي نزلت فيها، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم
بعرفة في يوم جمعة. وفي لفظ " نزلت عشية عرفة " قال سعيد بن جبير: عاش رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
بعد ذلك أحدا وثمانين يوما. فأما قوله تعالى: (اليوم) ففيه قولان:
أحدهما: أنه يوم عرفة، وهو قول الجمهور.
والثاني: أنه ليس بيوم معين، رواه عطية عن ابن عباس، وقد ذكرنا هذا آنفا. وفي معنى
إكمال الدين خمسة أقوال:
أحدها: أنه إكمال فرائضه وحدوده، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم، قاله ابن
عباس، والسدي، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم شرائع دينكم.
والثاني: انه بنفي المشركين عن البيت، فلم يحج معهم مشرك عامئذ، قاله سعيد بن جبير،
وقتادة. وقال الشعبي: كمال الدين هاهنا: عزه وظهوره، وذل الشرك ودروسه، لا تكامل الفرائض
والسنن، لأنها لن تزل تنزل إلى أن قبض رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت
لكم نصر دينكم.
والثالث: أنه رفع النسخ عنه. وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قبض، روي عن ابن
جبير أيضا.
والرابع: أنه زوال الخوف من العدو، والظهور عليهم، قاله الزجاج.
والخامس: أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها، كما نسخ بها ما تقدمها. وفي
إتمام النعمة ثلاثة أقوال:
239

أحدها: منع المشركين من الحج معهم، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة.
والثاني: الهداية إلى الإيمان، قاله ابن زيد.
والثالث: الإظهار على العدو، قاله السدي.
قوله تعالى: (فمن اضطر) أي: دعته الضرورة إلى أكل ما حرم عليه. (في مخمصة) أي:
مجاعة، والخمص: الجوع. قال الشاعر يذم رجلا:
يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة * يبت قلبه من قلة الهم مبهما
وهذا الكلام يرجع إلى المحرمات المتقدمة من الميتة والدم، وما ذكر معهما.
قوله تعالى: (غير متجانف) قال ابن قتيبة: غير مائل إلى ذلك، و " الجنف " الميل. وقال
ابن عباس، والحسن، ومجاهد: غير متعمد لإثم. وفي معنى " تجانف لإثم " قولان:
أحدهما: أن يتناول منه بعد زوال الضرورة، روي عن ابن عباس في آخرين.
والثاني: أن يتعرض لمعصية في مقصده، قاله قتادة. وقال مجاهد: من بغى وخرج في
معصية، حرم عليه أكله. قال القاضي أبو يعلى: وهذا أصح من القول الأول، لأن الآية تقتضي
اجتماع تجانف الاثم مع الاضطرار، وذلك إنما يصح في سفر العاصي، ولا يصح حمله على تناول
الزيادة على سد الرمق، لأن الاضطرار قد زال. قال أبو سليمان: ومعنى الآية: فمن اضطر فأكله
غير متجانف لإثم، فإن الله غفور، أي: متجاوز عنه، رحيم إذ أحل ذلك للمضطر.
يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين
تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله
إن الله سريع الحساب (4)
قوله تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب، قال الناس: يا رسول الله ماذا أحل لنا من هذه
الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية، أخرجه أبو عبد الله الحاكم في " صحيحه " من حديث
أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان السبب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها أن جبريل عليه السلام استأذن على
240

رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فأذن له، فلم يدخل وقال: " إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة " فنظروا فإذا في
بعض بيوتهم جرو.
والثاني: أن عدي بن حاتم، وزيد الخيل الذي سماه رسول الله: زيد الخير، قالا: يا رسول
الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه مالا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة،
فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير قال الزجاج: ومعنى الكلام: يسألونك أي
شئ أحل لهم؟ قل: أحل لكم الطيبات، وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح: والتأويل أنهم
سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علمتم، لأن في الكلام دليلا عليه. وفي الطيبات قولان:
أحدهما: أنها المباح من الذبائح.
والثاني: أنها ما استطابه العرب مما لم يحرم. فأما (الجوارح) فهي ما صيد به من سباع
البهائم والطير، كالكلب، والفهد، والصقر والبازي، ونحو ذلك مما يقبل التعليم، قال ابن
عباس: كل شئ صاد فهو جارح. وفي تسميتها بالجوارح قولان:
أحدهما: لكسب أهلها بها. قال ابن قتيبة: أصل الاجتراح: الاكتساب، يقال: امرأة لا
جارح لها، أي: لا كاسب.
والثاني: لأنها تجرح ما تصيد في الغالب، ذكره الماوردي. قال أبو سليمان الدمشقي:
وعلامة التعليم أنك إذا دعوته أجاب، وإذا أسدته على الصيد استأسد، ومضى في طلبه، وإذا أمسك
أمسك عليك لا على نفسه، وعلامة إمساكه عليك: أن لا يأكل منه شيئا، هذا في السباع والكلاب، فأما
تعليم جوارح الطير فبخلاف السباع، لأن الطائر إنما يعلم الصيد بالأكل، والفهد، والكلب، وما أشبههما
يعلمون بترك الأكل، فهذا فرق ما بينهما.
وفي قوله تعالى: (مكلبين) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أصحاب الكلاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر، وسعيد
ابن جبير، وعطاء، والضحاك، والسدي، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة. قال الزجاج: يقال: رجل
مكلب وكلابي، أي: صاحب صيد بالكلاب.
241

والثاني: أن معنى (مكلبين): مصرين على الصيد، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن،
ومجاهد.
والثالث: أن (مكلبين) بمعنى: معلمين. قال أبو سليمان الدمشقي: وإنما قيل لهم:
مكلبين، لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب. قال ثعلب: وقرأ الحسن، وأبو رزين:
مكلبين، بسكون الكاف، يقال: أكلب الرجل: إذا كثرت كلابه، وأمشى: إذا كثرت ماشيته،
والعرب تدعو الصائد مكلبا.
قوله تعالى: (تعلمونهن مما علمكم الله) قال سعيد بن جبير: تؤدبونهن لطلب الصيد. وقال
الفراء: تؤدبونهن أن لا يأكلن صيدهن. واختلفوا هل إمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة
التعليم أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه شرط في كل الجوارح، فإن أكلت، لم يؤكل، روي عن ابن عباس، وعطاء.
والثاني: أنه ليس بشرط الكل، ويؤكل وإن أكلت، روي عن سعد ابن أبي وقاص، وابن
عمر، وأبي هريرة، وسلمان الفارسي.
والثالث: أنه شرط في جوارح البهائم، وليس بشرط في جوارح الطير، وبه قال الشعبي،
والنخعي، والسدي، وهو أصح لما بينا أن جارح الطير يعلم على الأكل، فأبيح ما أكل منه. وسباع
البهائم تعلم على ترك الأكل، فأبيح ما أكلت منه. فعلى هذا إذا أكل الكلب والفهد من الصيد، لم
يبح أكله. فأما ما أكل منه الصقر والبازي، فمباح، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، وقال مالك: يباح
أكل ما أكل منه الكلب، والفهد، والصقر، فطن قتل الكلب، ولم يأكل، أبيح. وقال أبو حنيفة: لا
يباح، فان أدرك الصيد، وفيه حياة، فمات قبل أن يذكيه، فإن كل ذلك قبل القدرة على ذكاته أبيح،
وإن أمكنه فلم يذكه، لم يبح، وبه قال مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يباح في الموضعين.
فأما الصيد بكلب المجوسي، فروي عن أحمد أنه لا يكره، وهو قول الأكثرين، وروي عنه
الكراهة، وهو قول الثوري لقوله تعالى: (وما علمتم) وهذا خطاب للمؤمنين. قال القاضي أبو
يعلى: ومنع أصحابنا الصيد بالكلب الأسود، وإن كان معلما، لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر بقتله، والأمر
بالقتل: يمنع ثبوت اليد، ويبطل حكم الفعل، فيصير وجوده كالعدم، فلا يباح صيده.
قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم) قال الأخفش: " من " زائدة كقوله تعالى: (فيها من
برد).
242

قوله تعالى: (واذكروا اسم الله عليه) في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الإرسال، قاله ابن عباس، والسدي، وعندنا أن التسمية شرط في
إباحة الصيد.
والثاني: ترجع إلى الأكل فتكون التسمية مستحبة.
قوله تعالى: (واتقوا الله) قال سعيد بن جبير: لا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليه.
اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتب حل لكم وطعامكم حل
لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتب من قبلكم إذا
آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان
فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5)
قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات) قال القاضي أبو يعلى: يجوز ان يريد باليوم اليوم
الذي أنزلت فيه الآية، ويجوز ان يريد اليوم الذي تقدم ذكره في قوله تعالى: (اليوم يئس الذين
كفروا من دينكم)، وفي قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم)، وقيل: ليس بيوم معين، وقد
سبق الكلام في " الطيبات " وإنما كرر إحلالها تأكيدا. فأما أهل الكتاب، فهم اليهود والنصارى.
وطعامهم: ذبائحهم، هذا قول ابن عباس، والجماعة. وإنما أريد بها الذبائح خاصة، لأن سائر
طعامهم لا يختلف بمن تولاه من مجوسي وكتابي، وإنما الذكاة تختلف، فلما خص أهل الكتاب
بذلك، دل على أن المراد الذبائح، فأما ذبائح المجوس، فأجمعوا على تحريمها. واختلفوا في
ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان، فروي عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى
العرب، فقال: لا بأس بها، وتلا قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وهذا قول الحسن،
وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعكرمة، وقتادة، والزهري، والحكم، وحماد. وقد روي عن
علي، وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل. ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب
روايتين.
إحداهما: تباح ذبائحهم، وهو قول أبي حنيفة، ومالك.
243

والثانية: لا تباح. وقال الشافعي: من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن، لم يبح
أكل ذبيحته.
قوله تعالى: (وطعامكم حل لهم) أي: وذبائحكم لهم حلال، فإذا اشتروا منا شيئا كان الثمن
لنا حلالا، واللحم لهم حلالا. قال الزجاج. والمعنى: أحل لكم أن تطعموهم.
فصل
وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا وإن ذكروا غير اسم الله
عليها، فكان هذا ناسخا لقوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) والصحيح أنها
أطلقت إباحة ذبائحهم، لأن الأصل أنهم يذكرون الله، وإلى هذا الذي قلته ذهب، علي، وابن عمر،
وعبادة، وأبو الدرداء، والحسن في جماعة.
قوله تعالى: (والمحصنات من المؤمنات) فيهن قولان:
أحدهما: العفائف، قاله ابن عباس.
والثاني: الحرائر، قاله مجاهد.
وفي قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) قولان:
أحدهما: الحرائر أيضا، قاله ابن عباس.
والثاني: العفائف، قاله الحسن، والشعبي، والنخعي، والضحاك والسدي، فعلى هذا القول
يجوز تزويج الحرة منهن والأمة.
فصل
وهذه الآية أباحت نكاح الكتابية. وقد روي عن عثمان أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه
وهي نصرانية. وعن طلحة بن عبيد الله: انه تزوج يهودية. وقد روي عن عمر، وابن عمر كراهة
ذلك. واختلفوا في نكاح الكتابية الحربية، فقال ابن عباس: لا تحل، والجمهور على خلافه،
وإنما كرهوا ذلك، لقوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله
ورسوله) والنكاح يوجب الود. واختلفوا في نكاح نساء تغلب، فروي عن علي رضي الله عنه
الحظر، وبه قال جابر بن زيد، والنخعي، وروي عن ابن عباس الإباحة. وعن أحمد روايتان
واختلفوا في إماء أهل الكتاب، فروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد: أنه لا يجوز نكاحهن،
244

وبه قال الأوزاعي، ومالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأصحابنا، وروي عن الشعبي، وأبي
ميسرة جواز ذلك، وبه قال أبو حنيفة. فأما المجوس: فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب، وقد
شذ من قال: إنهم أهل كتاب، ويبطل قولهم قوله عليه السلام: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ".
فأما " الأجور "، و " الإحصان "، و " السفاح "، و " الأخدان " فقد سبق في (سورة النساء).
قوله تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) سبب نزول هذا الكلام: أن الله تعالى لما
رخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن: لولا أن الله تعالى قد رضي علينا، لم يبح للمؤمنين
تزويجنا، وقال المسلمون: كيف يتزوج الرجل منا الكتابية، وليست على ديننا، فنزلت: (ومن يكفر
بالإيمان فقد حبط عمله) رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل بن حيان: نزلت فيما أحصن
المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر.
وروى ليث عن مجاهد: (ومن يكفر بالإيمان) بالله تعالى، قال الزجاج: معنى الآية: من أحل ما حرم
الله، أو حرم ما أحله الله فهو كافر. وقال أبو سليمان: من جحد ما أنزله الله من شرائع الإيمان،
وعرفه من الحلال والحرام، فقد حبط عمله المتقدم. وسمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري
الفقيه يقول: إنما أباح الله عز وجل الكتابيات، لأن بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن، فحذر
ناكحهن من الميل إلى دينهن بقوله [تعالى]: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله).
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو
على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا
طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم
وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6)
قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة) قال الزجاج: المعنى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة،
كقوله [تعالى]: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا آخيت فآخ
أهل الحسب، وإذا اتجرت فاتجر في البز. قال: ويجوز أن يكون الكلام مقدما ومؤخرا، تقديره:
إذا غسلتم وجوهكم، واستوفيتم الطهور، فقوموا إلى الصلاة. وللعلماء في المراد بالآية قولان:
245

أحدهما: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، فاغسلوا، فصار الحدث مضمرا في وجوب
الوضوء، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، والفقهاء.
والثاني: أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة،
محدثا كان، أو غير محدث، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه وعكرمة، وابن سيرين. ونقل
عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ، ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجبا، ثم نسخ بالسنة،
وهو ما روى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: لقد
صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال: " عمدا فعلته يا عمر " وقال قوم: في الآية تقديم وتأخير،
ومعناها: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فاغسلوا
وجوهكم.
قوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق) " إلى " حرف موضوع للغاية، وقد تدخل الغاية فيها تارة،
وقد لا تدخل، فلما كان الحدث يقينا، لم يرتفع إلا بيقين مثله، وهو غسل المرفقين. فأما الرأس
فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه، وهو قول مالك، وروي عنه: يجب مسح أكثره، وروي
عن أبي حنيفة روايتان.
إحداهما: أنه يتقدر بربع الرأس.
والثانية: بمقدار ثلاث أصابع.
قوله تعالى: (وأرجلكم إلى الكعبين) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن
عاصم: بكسر اللام عطفا على مسح الرأس، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن
عاصم، ويعقوب: بفتح اللام عطفا على الغسل، فيكون من المقدم والمؤخر. قال الزجاج:
الرجل من أصل الفخذ إلى القدم، فلما حد الكعبين، علم أن الغسل ينتهي إليهما، ويدل على
وجوب الغسل التحديد بالكعبين، كما جاء في تحديد اليد " إلى المرافق " ولم يجئ في شئ من
المسح تحديد، ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض، لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل،
فينسق وإن بالغسل على المسح. قال الشاعر:
يا ليت بعلك قد غدا * متقلدا سيفا ورمحا
246

والمعنى: وحاملا رمحا. وقال الآخر.
علفتها تبنا وماء باردا
والمعنى: وسقيتها ماء باردا. وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز الجر على الاتباع، والمعنى:
الغسل، نحو قولهم جحر ضب خرب. وقال ابن الأنباري: لما تأخرت الأرجل بعد الرؤوس، نسقت
عليها للقرب والجوار، وهي في المعنى نسق على الوجوه كقولهم: جحر ضب خرب، ويجوز أن
تكون منسوقة عليها، لأن العرب تسمي الغسل مسحا، لأن الغسل لا يكون إلا بمسح. وقال أبو
علي: من جر فحجته أنه وجد في الكلام عاملين:
أحدهما: الغسل، والآخر: الباء الجارة، ووجه العاملين إذا اجتمعا: أن يحمل الكلام على
الأقرب منهما دون الأبعد، وهو " الباء " هاهنا، وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح: الغسل من
وجهين:
أحدهما: أن أبا زيد قال: المسح الخفيف الغسل، قالوا: تمسحت للصلاة، وقال أبو عبيدة:
فطفق مسحا بالسوق، أي: ضربا، فكأن المسح في الآية غسل خفيف. فإن قيل: فالمستحب
التكرار ثلاثا؟ قيل: إنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون.
والوجه الثاني: ان التحديد والتوقيت إنما جاء في المغسول دون الممسوح، فلما وقع التحديد
مع المسح، علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد، وحجة من نصب أنه حمل ذلك
على الغسل لاجتماع فقهاء الأمصار على الغسل.
قوله تعالى: (إلى الكعبين) " إلى " بمعنى " مع " والكعبان: العظمان الناتئان من جانبي القدم.
قوله تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) أي: فتطهروا، فأدغمت التاء في الطاء، لأنهما من
مكان واحد، وقد بين الله عز وجل طهارة الجنب في سورة (النساء) بقوله [تعالى]: (حتى تغتسلوا)
وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إلى قوله [تعالى]: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج)
و " الحرج ": الضيق، فجعل الله الدين واسعا حين رخص في التيمم.
قوله تعالى: (ولكن يريد ليطهركم) أي: يريد أن يطهركم. قال مقاتل: من الأحداث
والجنابة، وقال غيره: من الذنوب والخطايا، لأن الوضوء يكفر الذنوب.
قوله تعالى: (وليتم نعمته عليكم) في الذي يتم به النعمة أربعة أقوال:
أحدها: بغفران الذنوب. قال محمد بن كعب القرظي: حدثني عبد الله بن دارة، عن
حمران قال: مررت على عثمان بفخارة من ماء، فدعا بها فتوضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: لو لم
أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة أو مرتين أو ثلاثا ما حدثتكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما توضأ
247

عبد فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة، إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى " قال محمد بن
كعب: وكنت إذا سمعت الحديث التمسته في القرآن. فالتمست هذا فوجدته في قوله تعالى: (إنا
فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك) فعلمت أن الله
لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه، ثم قرأت الآية التي في " المائدة ": (إذا قمتم إلى الصلاة)
إلى قوله (وليتم نعمته عليكم) فعلمت انه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم.
والثاني: بالهداية إلى الإيمان، وإكمال الدين، وهذا قول ابن زيد.
والثالث: بالرخصة في التيمم، قاله مقاتل، وأبو سليمان.
والرابع: ببيان الشرائع، ذكره بعض المفسرين.
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن
الله عليم بذات الصدور (7)
قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم) يعني النعم كلها. وفي هذا حث على الشكر. وفي
الميثاق أربعة أقوال:
أحدها: أنه إقرار كل مؤمن بما آمن به. قال ابن عباس: لما أنزل الله الكتاب، وبعث
الرسول، فقالوا: آمنا، ذكرهم ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء.
والثاني: أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره، رواه أبو صالح عن
ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن زيد.
والثالث: أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيه عليه السلام من الأمر بالوفاء بما أقروا به من
الإيمان. روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والرابع: أنه الميثاق الذي أخذ من الصحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة، وبيعة
الرضوان، ذكره بعض المفسرين.
قوله تعالى: (واتقوا الله) قال مقاتل: اتقوه في نقض الميثاق (إن الله عليم بذات الصدور)
أي: بما فيها من إيمان وشك.
248

يا أيها الذين آمنوا كونوا قومين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا
تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: من أجل كفار قريش أيضا، وقد تقدم ذكرهم في قوله تعالى: (ولا يجرمنكم
شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام) روى نحو هذا أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.
والثاني: ان قريشا بعثت رجلا ليقتل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فأطلع الله نبيه على ذلك، ونزلت هذه
الآية، والتي بعدها، هذا قول الحسن.
والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في دية، فهموا بقتله، فنزلت هذه
الآية، قاله مجاهد، وقتادة، ومعنى الآية: كونوا قوامين لله بالحق، ولا يحملنكم بغض قوم على ترك
العدل (اعدلوا) في الولي والعدو (هو أقرب للتقوى) أي: إلى التقوى. والمعنى: أقرب إلى أن
تكونوا متقين، وقيل: هو أقرب إلى اتقاء النار.
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (9) والذين كفروا وكذبوا
بآيتنا أولئك أصحب الجحيم (10)
قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة) في معناها قولان:
أحدهما: أن المعنى: وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى.
والثاني: أن المعنى: وعدهم فقال: لهم مغفرة. وقد بينا في (البقرة) معنى " الجحيم ".
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف
أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم)
في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أن رجلا من محارب قال لقومه: الا أقتل لكم محمدا، فقالوا: وكيف تقتله؟ فقال.
249

أفتك به، فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه في حجره، فأخذه وجعل يهزه، ويهم به، فيكبته الله، ثم
قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: لا، قال: لا تخافني وفي يدي السيف؟! قال: يمنعني الله منك،
فأغمد السيف، فنزلت هذه الآية، رواه الحسن البصري عن جابر بن عبد الله. وفي بعض الألفاظ:
فسقط السيف من يده. وفي لفظ آخر: فما قال له النبي [صلى الله عليه وسلم] شيئا ولا عاقبه. واسم هذا الرجل:
غورث بن الحارث من محارب خصفة.
والثاني: أن اليهود عزموا على الفتك برسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فكفاه الله شرهم قال ابن عباس:
صنعوا له طعاما، فأوحي إليه بشأنهم، فلم يأت. وقال مجاهد، وعكرمة: خرج إليهم يستعينهم
في دية، فقالوا: اجلس حتى نعطيك، فجلس هو وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: لن
تجدوا محمدا أقرب منه الآن، فمن يظهر على هذا البيت، فيطرح عليه صخرة؟ فقال عمرو بن
جحاش: أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه، فأمسك الله يده، وجاء جبريل، فأخبره،
وخرج، ونزلت هذه الآية.
والثالث: أن بني ثعلبة، وبني محارب أرادوا أن يفتكوا بالنبي وبأصحابه، وهم ببطن نخلة في
غزاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: السابعة، فقالوا: إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم، فإذا
سجدوا وقعنا بهم فأطلع الله نبيه على ذلك، وأنزل صلاة الخوف، ونزلت هذه الآية، هذا قول
قتادة.
والرابع: أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، هذا قول
ابن زيد.
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم
لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعززتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا
لأكفرن عنكم سيأتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك
منكم فقد ضل سواء السبيل (12)
250

قوله تعالى: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل) قال أبو العالية: أخذ الله ميثاقهم أن يخلصوا
له العبادة، ولا يعبدوا غيره. وقال مقاتل: أن يعملوا بما في التوراة. وفي معنى النقيب ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الضمين، قاله الحسن، ومعناه: أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده، ولا يجوز
أن يكون ضمينا عنهم بالوفاء، لأن ذلك لا يصح ضمانة. وقال ابن قتيبة: هو الكفيل على القوم.
والنقابة شبيهة بالعرافة.
والثاني: أنه الشاهد، قاله قتادة. وقال ابن فارس: النقيب: شاهد القوم، وضمينهم.
والثالث: الأمين، قاله الربيع بن أنس، وهذه الأقوال تتقارب. قال الزجاج:
النقيب في اللغة، كالأمين والكفيل، يقال: نقب الرجل على القوم ينقب: إذا صار نقيبا عليهم،
وصناعته النقابة، وكذلك عرف عليهم: إذا صار عريفا، ويقال لأول ما يبدو من الجرب: النقبة،
ويجمع النقب والنقب. وقال الشاعر:
متبذلا تبدو محاسنه * يضع الهناء مواضع النقب
ويقال: في فلان مناقب جميلة، وكل الباب معناه: التأثير الذي له عمق ودخول، ومن ذلك
نقبت الحائط، أي: بلغت في النقب آخره، والنقبة من الجرب: داء شديد الدخول. وإنما قيل:
نقيب، لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إلى معرفة أمورهم. ونقل ان الله
تعالى أمر موسى وقومه بالسير إلى الأرض المقدسة، وكان يسكنها الجبارون، فقال تعالى: يا
موسى اخرج إليها وجاهد من فيها من العدو، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا، من كل سبط نقيبا
يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به، فاختاروا النقباء. وفيما بعثوا له قولان:
أحدهما: أن موسى بعثهم إلى بيت المقدس، ليأتوه بخبر الجبارين، قاله ابن عباس،
ومجاهد، والسدي.
والثاني: أنهم بعثوا ضمناء على قومهم بالوفاء بميثاقهم، قاله الحسن، وابن إسحاق. وفي
نبوتهم قولان: أصحهما: أنهم ليسوا بأنبياء.
قوله تعالى: (وقال الله) في الكلام محذوف. تقديره: وقال الله لهم، وفي المقول لهم
قولان:
أحدهما: أنهم بنو إسرائيل، قاله الجمهور.
والثاني: أنهم النقباء، قاله الربيع، ومقاتل. ومعنى (إني معكم)، أي: بالعون والنصرة.
وفي معنى: (وعزرتموهم) قولان:
أحدهما: أنه الإعانة والنصر، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد وقتادة والسدي.
251

والثاني: أنه التعظيم والتوقير، قاله عطاء واليزيدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة.
قوله تعالى: (وأقرضتم الله قرضا) في هذا الاقراض قولان:
أحدهما: أنه الزكاة الواجبة.
والثاني: صدقة التطوع. وقد شرحنا في البقرة معنى القرض الحسن.
قوله تعالى: (فمن كفر بعد ذلك منكم) يشير إلى الميثاق (فقد ضل سواء السبيل) أي:
أخطأ قصد الطريق.
فبما نقضهم ميثاقهم لعنهم وجعلنا قلوبهم قسية يحرفون الكلم عن مواضعه
ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم
واصفح إن الله يحب المحسنين (13)
قوله تعالى: (فبما نقضهم) في الكلام محذوف، تقديره: فنقضوا، فبنقضهم لعناهم. وفي
المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها التعذيب بالجزية، قاله ابن عباس.
والثاني: التعذيب بالمسخ، قاله الحسن، ومقاتل.
والثالث: الإبعاد من الرحمة، قاله عطاء، والزجاج.
قوله تعالى: (وجعلنا قلوبهم قاسية) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر:
(قاسية) بالألف، يقال: قست، فهي قاسية، وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، عن عاصم:
(قسية) بغير ألف مع تشديد الياء، لأنه قد يجئ فاعل وفعيل، مثل شاهد وشهيد، وعالم وعليم.
و " القسوة ": خلاف اللين والرقة. وقد ذكرنا هذا في (البقرة) وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال:
أحدها: تغيير حدود التوراة، قاله ابن عباس.
والثاني: تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل.
والثالث: تفسيره على غير ما أنزل، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (عن مواضعه) مبين في (سورة النساء).
قوله تعالى: (ونسوا حظا مما ذكروا به) النسيان هاهنا: الترك عن عمد. والحظ: النصيب.
قال مجاهد: نسوا كتاب الله الذي أنزل عليهم، وقال غيره: تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ
عليهم. وفي معنى (ذكروا به) قولان:
أحدهما: أمروا.
والثاني: أوصوا.
252

قوله تعالى: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) وقرأ الأعمش " على خيانة منهم " قال ابن
قتيبة: الخائنة: الخيانة. ويجوز أن تكون صفة للخائن، كما يقال: رجل طاغية، وراوية للحديث.
قال ابن عباس: وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخروج كعب بن الأشرف إلى أهل
مكة للتحريض على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (إلا قليلا منهم) لم ينقضوا العهد، وهم عبد الله بن سلام
وأصحابه، وقيل: بل القليل ممن لم يؤمن.
قوله تعالى: (فاعف عنهم واصفح) واختلفوا في نسخها على قولين:
أحدهما: انها منسوخة، قاله الجمهور. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال:.
أحدها: أنها آية السيف.
والثاني: قوله [تعالى]: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله...).
والثالث: قوله [تعالى]: (وإما تخافن من قوم خيانة).
والثاني: أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي [صلى الله عليه وسلم] عهد، فغدروا، وأرادوا قتل النبي
[صلى الله عليه وسلم [فأظهره الله عليهم، ثم أنزل الله هذه الآية، ولم تنسخ. قال ابن جرير: يجوز أن يعفى عنهم
في غدرة فعلوها، ما لم ينصبوا حربا، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصغار، فلا يتوجه
النسخ.
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة
والبغضاء إلى يوم القيمة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14)
قوله تعالى: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم) قال الحسن: إنما قال: قالوا: إنا
نصارى، ولم يقل: من النصارى، ليدل على أنهم ليسوا على منهاج النصارى حقيقة، هم الذين
اتبعوا المسيح. وقال قتادة: كانوا بقرية، يقال لها: ناصرة، فسموا بهذا الاسم، قال مقاتل: أخذ
عليهم الميثاق، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد، فتركوا ما أمروا به.
قوله تعالى: (فأغرينا بينهم) قال النضر: هيجنا، وقال المؤرج: حرشنا بعضهم على بعض.
وقال الزجاج: ألصقنا بهم ذلك، يقال: غريت بالرجل غرى مقصورا: إذا لصقت به، هذا قول
الأصمعي. وقال غير الأصمعي: غريت به غراء ممدود، وهذا الغراء الذي يغرى به إنما يلصق به
253

الأشياء، ومعنى أغرينا بينهم العداوة والبغضاء: أنهم صاروا فرقا يكفر بعضهم بعضا. وفي الهاء
والميم من قوله (بينهم) قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى اليهود والنصارى، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي.
والثاني: ترجع إلى النصارى خاصة، قاله الربيع. وقال الزجاج: هم النصارى، منهم
النسطورية، واليعقوبية، والملكية، وكل فرقة منهم تعادي الأخرى. وفي تمام الآية وعيد شديد
لهم.
يا أهل الكتب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتب ويعفوا
عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15)
قوله تعالى: (يأهل الكتاب) فيهم قولان:
أحدهما: أنهم اليهود.
والثاني: اليهود والنصارى. والرسول: محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: (يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) قال ابن عباس: أخفوا آية
الرجم وأمر محمد [عليه السلام] وصفته (ويعفو عن كثير) يتجاوز، فلا يخبرهم بكتمانه. فإن
قيل: كيف كان له أن يمسك عن حق كتموه فلا يبينه؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه كان متلقيا ما يؤمر به، فإذا أمر باظهار شئ من أمرهم، أظهره، وأخذهم به،
وإلا سكت.
والثاني: أن عقد الذمة إنما كان على أن يقروا على دينهم، فلما كتموا كثيرا مما أمروا به،
واتخذوا غيره دينا، أظهر عليهم ما كتموه من صفته وعلامة نبوته، لتتحقق معجزته عندهم، واحتكموا
إليه في الرجم، فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته، وسكت عن أشياء ليتحقق إقرارهم على دينهم.
قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور) قال قتادة: يعني بالنور: النبي محمدا صلى الله عليه وسلم وقال غيره:
هو الإسلام، فأما الكتاب المبين، فهو القرآن.
يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلم ويخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه
ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)
254

قوله تعالى: (يهدي به الله) يعني: بالكتاب. ورضوانه: ما رضيه الله تعالى. و " السبل "،
جمع سبيل، قال ابن عباس: سبل السلام: دين الاسلام. وقال السدي: " السلام ": هو الله،
و " سبله ": دينه الذي شرعه. قال الزجاج: وجائز أن يكون " سبل السلام " طريق السلامة التي من
سلكها سلم في دينه، وجائز أن يكون " السلام " اسم الله عز وجل، فيكون المعنى: طرق الله عز
وجل. قوله تعالى: (ويخرجهم من الظلمات) قال ابن عباس: يعني الكفر (إلى النور) يعني:
الإيمان (بإذنه) أي: بأمره (ويهديهم إلى صراط مستقيم) وهو الإسلام. وقال الحسن: طريق
الحق.
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن
أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض
وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير (17)
قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) قال ابن عباس: هؤلاء
نصارى أهل نجران، وذلك أنهم اتخذوه إلها (قل فمن يملك من الله شيئا) أي: فمن يقدر أن يدفع
من عذابه شيئا (إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم) أي: فلو كان إلها كما تزعمون لقدر أن يرد أمر
الله إذا جاءه باهلاكه أو إهلاك أمه، ولما نزل أمر الله بأمه، لم يقدر أن يدفع عنها. وفي قوله
[تعالى]: (يخلق ما يشاء) رد عليهم حيث قالوا للنبي: فهات مثله من غير أب
فإن قيل: فلم قال (ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما) ولم يقل: وما بينهن؟ فالجواب
أن المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء، قاله ابن جرير.
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر
ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما
وإليه المصير (18)
قوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى) قال مقاتل: هم يهود المدينة، ونصارى نجران.
وقال السدي: قالوا: إن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل، إن ولدك بكري من الولد. فأدخلهم النار
255

فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم، وتأكل خطاياهم، ثم ينادي مناد: أخرجوا كل مختون من
بني إسرائيل. وقيل: إنهم لما قالوا: المسيح ابن الله، كان معنى قولهم: (نحن أبناء الله) أي: منا
ابن الله. وفي قوله: (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) إبطال لدعواهم، لأن الأب لا يعذب ولده،
والحبيب لا يعذب حبيبه وهم يقولون: إن الله يعذبنا أربعين يوما بالنار. وقيل: معنى الكلام: فلم
عذب منكم من مسخه قردة وخنازير؟ وهم أصحاب السبت والمائدة.
قوله تعالى: (بل أنتم ممن خلق) أي: أنتم كسائر بني آدم تجازون بالإحسان والإساءة. قال
عطاء: يغفر لمن يشاء، وهم الموحدون، ويعذب من يشاء، وهم المشركون.
يا أهل الكتب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من
بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير (19)
قوله تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا) سبب نزولها: أن معاذ بن جبل، وسعد بن
عبادة، وعقبة بن وهب، قالوا: يا معشر اليهود اتقوا الله، والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، كنتم
تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته. فقال وهب بن يهوذا، ورافع: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل
الله بعد موسى من كتاب، ولا أرسل رسولا بشيرا ولا نذيرا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
فأما " الفترة " فأصلها السكون، يقال: فتر الشئ يفتر فتورا: إذا سكنت حدته، وانقطع عما
كان عليه، والطرف الفاتر: الذي ليس بحديد. والفتور: الضعف. وفي مدة الفترة بين عيسى ومحمد
عليهما السلام أربعة أقوال:
أحدها: أنه كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة، رواه أبو صالح عن ابن
عباس، وبه قال سلمان الفارسي، ومقاتل.
والثاني: خمسمائة سنة وستون سنة، قاله قتادة.
والثالث: أربع مائة وبضع وثلاثون سنة، قاله الضحاك.
والرابع: خمسمائة سنة وأربعون سنة، قاله ابن السائب. وقال أبو صالح عن ابن عباس
(على فترة من الرسل) أي: انقطاع منهم، قال: وكان بين ميلاد عيسى، وميلاد محمد عليهما
السلم خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة، وهي فترة. وكان بعد عيسى أربعة من الرسل، فذلك
قوله [تعالى]: (إذا أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث). قال: والرابع لا أدري من هو.
256

وكان بين تلك السنين مائة سنة، وأربع وثلاثون نبوة وسائرها فترة. قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع -
والله أعلم - خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نبي ضيعه قومه ".
قوله تعالى: (أن تقولوا) قال الفراء: كي لا تقولوا: مثل قوله [تعالى]: (يبين الله لكم أن
تضلوا). وقال غيره: لئلا تقولوا، وقيل: كراهة أن تقولوا.
وإذ قال موسى لقومه يقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم
ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العلمين (20)
قوله تعالى: (إذ جعل فيكم أنبياء) فيهم قولان:
أحدهما: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى، وانطلقوا معه إلى الجبل، جعلهم الله أنبياء
بعد موسى، وهارون، وهذا قول ابن السائب، ومقاتل.
والثاني: أنهم الأنبياء الذين أرسلوا من بني إسرائيل بعد موسى، ذكره الماوردي. وبماذا
جعلهم ملوكا؟ فيه ثمانية أقوال:
أحدها: بالمن والسلوى والحجر.
والثاني: بأن جعل للرجل منهم زوجة وخادما.
والثالث: بالزوجة والخادم والبيت، رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس، وهذا الثالث اختيار
الحسن، ومجاهد.
والرابع: بالخادم والبيت، قاله عكرمة.
والخامس: بتمليكهم الخدم. وكانوا أول من ملك الخدم، ومن اتخذ خادما فهو ملك، قاله
قتادة.
والسادس: بكونهم أحرارا يملك الإنسان منهم نفسه وأهله وماله، قاله السدي.
والسابع: بالمنازل الواسعة، فيها المياه الجارية، قاله الضحاك.
والثامن: بأن جعل لهم الملك والسلطان، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم قوم موسى، وهذا مذهب ابن عباس، ومجاهد. قال ابن عباس: ويعني
257

بالعالمين: الذين هم بين ظهرانيهم. وفي الذي آتاهم ثلاثة أقوال:
أحدها: المن والسلوى والحجر والغمام، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به..
والثاني: أنه الدار والخادم والزوجة، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن جرير: ما أوتي أحد
من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا.
والثالث: كثرة الأنبياء فيهم، ذكره الماوردي.
والثاني: أن الخطاب لأمة محمد [صلى الله عليه وسلم]، وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي مالك.
يقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم
فتنقلبوا خاسرين (21)
قوله تعالى: (يا قوم ادخلوا) وقرأ ابن محيصن: يا قوم ادخلوا بضم الميم، وكذلك (يا قوم
اذكروا) و (يا قوم اعبدوا) وفي معنى (المقدسة) قولان:
أحدهما: المطهرة، قاله ابن عباس، والزجاج. قال: وقيل للسطل: القدس، لأنه يتطهر منه،
وسمي بيت المقدس، لأنه يتطهر فيه من الذنوب. وقيل: سماها مقدسة، لأنها طهرت من الشرك،
وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين.
والثاني: أن المقدسة: المباركة، قاله مجاهد.
وفي المراد بتلك الأرض أربعة أقوال:
أحدها: أنها أريحا: هي أرض بيت المقدس. وروي عن الضحاك أنه قال: المراد بهذه
الأرض إيلياء بيت المقدس فهذا يدل على أن إيلياء الأرض التي فيها بيت المقدس. وقرأت على
شيخنا أبي منصور اللغوي أن إيلياء بيت المقدس، وهو معرب. قال الفرزدق:
وبيتان بيت الله نحن ولاته * وبيت بأعلى إيلياء مشرف
والقول الثاني: انها الطور وما حوله، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به.
258

والقول الثالث: أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردن، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والرابع: أنها الشام كلها، قاله قتادة. وفي قوله تعالى: (التي كتب الله لكم) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بمعنى أمركم وفرض عليكم دخولها، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: أنه بمعنى: وهبها الله لكم، قاله محمد بن إسحاق. وقال ابن قتيبة: جعلها لكم.
والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكنكم.
فإن قيل: كيف؟ قال: فإنها محرمة عليهم، وقد كتبها لهم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه إنما جعلها لهم بشرط الطاعة، فلما عصوا حرمها عليهم.
والثاني: أنه كتبها لبني إسرائيل، وإليهم صارت، ولم يعن موسى أن الله كتبها للذين أمروا
بدخولها بأعيانهم. قال ابن جرير: ويجوز أن يكون الكلام خرج مخرج العموم، وأريد به
الخصوص فتكون مكتوبة لبعضهم، وقد دخلها يوشع، وكالب.
قوله تعالى: (ولا ترتدوا على أدباركم) فيه قولان:
أحدهما: لا ترجعوا عن أمر الله إلى معصيته.
والثاني: لا ترجعوا إلى الشرك به.
* * *
قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها
فإنا داخلون (22)
قوله تعالى: (إن فيها قوما جبارين) قال الزجاج: الجبار من الآدميين: الذي يجبر الناس على
ما يريد، يقال: جبار: بين الجبرية، والجبرية بكسر الجيم والباء، والجبروة والجبورة والتجبار
والجبروت.
وفي معنى وصفه هؤلاء بالجبارين ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا ذوي قوة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم كانوا عظام الخلق والأجسام، قاله قتادة.
والثالث: أنهم كانوا قتالين، قاله مقاتل.
الإشارة إلى القصة
قال ابن عباس: لم نزل موسى وقومه بمدينة الجبارين، بعث اثني عشر رجلا، ليأتوه بخبرهم،
فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فأتى بهم المدينة، ونادى في قومه، فاجتمعوا،
259

فقالوا لهم: من أين أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى بعثنا لنأتيه بخبركم، فأعطوهم حبة من عنب
توقر الرجل، وقالوا لهم، قولوا لموسى وقومه: اقدروا قدر فاكههم، فلما رجعوا، قالوا: يا موسى
إن فيها قوما جبارين. وقال السدي: كان الذي لقيهم، يقال له: عاج، يعني: عوج بن عناق،
فأخذ الاثني عشر، فجعلهم في حجرته وعلى رأسه حزمة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال:
انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، فطرحهم بين يديها، قال: ألا أطحنهم برجلي؟
فقالت امرأته: لا، بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. فلما خرجوا قالوا: يا قوم إن أخبرتم
بني إسرائيل بخبر القوم، ارتدوا عن نبي الله، فأخذوا الميثاق بينهم على كتمان ذلك، فنكث
عشرة، وكتم رجلان، وقال مجاهد: لما رأى النقباء الجبارين، وجدوهم يدخل في كم أحدهم
اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أو أربعة، ويدخل في شطر الرمانة إذ نزع حبها
خمسة أو أربعة، فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع، وابن يوقنا.
قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه
فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين (23)
قوله تعالى: (قال رجلان من الذين يخافون) في الرجلين ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهما يوشع بن نون، وكالب بن يوقنة، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: ابن يوقنا،
وهما من النقباء.
والثاني: أنهما كانا من الجبارين فأسلما، روي عن ابن عباس.
والثالث: أنهما كانا في مدينة الجبارين، وهما على دين موسى، قاله الضحاك: وقرأ ابن
عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأيوب: " يخافون " بضم الياء، على معنى أنهما كانا
من العدو، فخرجا مؤمنين. وفي معنى " خوفهم " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم خافوا الله وحده.
والثاني: خافوا الجبارين، ولم يمنعهم خوفهم قول الحق.
والثالث: يخاف منهم، على قراءة ابن جبير. وفيما أنعم به عليهما أربعة أقوال:
أحدها: الإسلام، قاله ابن عباس.
والثاني: الصلاح والفضل واليقين، قاله عطاء.
والثالث: الهدى، قاله الضحاك.
260

والرابع: الخوف، ذكره ابن جرير عن بعض السلف.
قوله تعالى: (ادخلوا عليهم الباب) قال ابن عباس: قال الرجلان: ادخلوا عليهم باب القرية
فإنهم قد ملئوا منا رعبا وفرقا.
قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقتلا إنا ههنا
قاعدون (24)
قوله تعالى: (فاذهب أنت وربك فقاتلا) قال ابن زيد: قالوا له: انظر كما صنع ربك
بفرعون وقومه، فليصنع بهؤلاء. وقال مقاتل: فاذهب أنت وسل ربك النصر. وقال غيرهما: اذهب
أنت وليعنك ربك. قال ابن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي
مما عدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك، كما قال قوم موسى
لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين
يديك ومن خلفك. فرأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أشرق لذلك وجهه وسر به. وقال أنس: استشار
رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم خرج إلى بدر، فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم، فأشار عليه عمر
فسكت، فقال رجل من الأنصار: إنما يريدكم، فقالوا: يا رسول الله! لا نقول لك كما قالت بنو
إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن والله لو ضربت أكبادها حتى تبلغ
برك الغماد لكنا معك.
قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (25)
قوله تعالى: (لا أملك إلا نفسي وأخي) فيه قولان:
أحدهما: لا أملك إلا نفسي، وأخي لا يملك إلا نفسه.
والثاني: لا أملك إلا نفسي وإلا أخي، أي: وأملك طاعة أخي، لأن أخاه إذا أطاعه فهو
كالملك له، وهذا على وجه المجاز، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما نفعني مال ما نفعني مال
أبي بكر " فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله يعني: أني متصرف حيث
صرفتني، وأمرك جائز في مالي.
261

قوله تعالى: (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) قال ابن عباس: اقض بيننا وبينهم. وقال أبو
عبيدة: باعد، وافصل، وميز. وفي المراد بالفاسقين ثلاثة أقوال:
أحدها: العاصون، قاله ابن عباس.
والثاني: الكاذبون، قاله ابن زيد.
والثالث: الكافرون، قاله أبو عبيدة: قال السدي: غضب موسى حين قالوا له: اذهب أنت
وربك، فدعا عليهم، وكانت عجلة من موسى عجلها.
قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين (26)
قوله تعالى: (فإنها محرمة عليهم) الإشارة إلى الأرض المقدسة. ومعنى تحريمها عليهم:
منعهم منها. فأما نصب " الأربعين "، فقال الفراء: هو منصوب بالتحريم، وجائز أن يكون منصوبا ب
" يتيهون ". وقال الزجاج: لا يجوز أن ينتصب بالتحريم، لأن التفسير جاء أنها محرمة عليهم أبدا
قلت: وقد اختلف المفسرون في ذلك، فذهب الأكثرون، منهم عكرمة، وقتادة، إلى ما قال
الزجاج، وأنها حرمت عليهم أبدا، قال عكرمة: فإنها محرمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين
سنة، وذهب قوم، منهم البيع بن أنس، إلى انها حرمت عليهم أربعين سنة، ثم أمروا بالسير
إليها، وهذا اختيار ابن جرير. قال: إنما نصبت بالتحريم، والتحريم كان عاما في حق الكل،
ولم يدخلها في هذه المدة منهم أحد، فلما انقضت، أذن لمن بقي منهم بالدخول مع ذراريهم.
قال أبو عبيدة: ومعنى: يتيهون: يحورون ويضلون.
الإشارة إلى قصتهم
قال ابن عباس: حرم الله على الذين عصوا دخول بيت المقدس، فلبثوا في تيههم أربعين
سنة، وماتوا في التيه، ومات موسى وهارون، ولم يدخل بيت المقدس إلا يوشع وكالب بأبناء
القوم، وناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين فافتتحها. وقال مجاهد: تاهوا أربعين سنة
يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا. وقال السدي: لما ضرب الله عليهم التيه، ندم
موسى على دعائه عليهم، وقالوا له: ما صنعت بنا، أين الطعام؟ فأنزل الله المن. قالوا: فأين
الشراب؟ فأمر موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام. قالوا: فأين
اللباس؟ وكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، وقبض موسى ولم يبق
262

أحد ممن أبى دخول قرية الجبارين إلا مات، ولم يشهد الفتح. وفيه قول آخر أنه لما مضت
الأربعون خرج موسى ببني إسرائيل من التيه، وقال لهم: ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث
شئتم رغدا، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا حطة... إلى آخر القصة. وهذا قول الربيع بن أنس،
وعبد الرحمن بن زيد. وقال ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي: وهذا الصحيح، وان
موسى هو الذي فتح مدينة الجبارين مع الصالحين من بني إسرائيل، لأن أهل السيرة أجمعوا على أن
موسى هو قاتل عوج، وكان عوج ملكهم، وكان بلعم بن باعوراء فيمن سباه موسى وقتله، ولم
يدخل مع موسى من قدمائهم غير يوشع وكالب، وإنما حرمت على الذين لم يطيعوا. وفي مسافة
أرض التيه قولان،
أحدهما: تسعة فراسخ، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: هذا عرضها، وطولها ثلاثون فرسخا.
والثاني: ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخا، حكاه مقاتل أيضا.
قوله تعالى: (فلا تأس على القوم الفاسقين) قال الزجاج: لا تحزن على قوم شأنهم
المعاصي، ومخالفة الرسل. وقال ابن قتيبة: يقال أسيت على كذا، أي: حزنت، فأنا آسي
أسى.
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من
الأخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (27)
قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق) النبأ: الخبر. وفي ابني آدم قولان:
أحدهما: أنهما ابناه لصلبه، وهما قابيل وهابيل، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد،
وقتادة.
والثاني: أنها أخوان من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، هذا قول الحسن،
والعلماء على الأول، وهو أصح لقوله [تعالى]: (ليريه كيف يواري سوأة أخيه) ولو كان من بني
إسرائيل، لكان قد عرف الدفن، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: " إنه أول من سن القتل " وقوله تعالى:
(بالحق) أي: كما كان. والقربان: فعلان من القرب، وقد ذكرناه في (آل عمران)
263

وفي السبب الذي قربا لأجله قولان:
أحدهما: أن آدم عليه السلام كان قد نهي أن ينكح المرأة أخاها الذي هو توأمها، وأجيز له أن
ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فولدت له ابنة وسيمة، وأخرى دميمة،
فقال أخو الدميمة لأخي الوسيمة: أنكحني أختك، وأنكحك أختي، فقال أخو الوسيمة: أنا أحق
بأختي، وكان أخو الوسيمة صاحب حرث، وأخو الدميمة صاحب غنم، فقال: هلم فلنقرب قربانا،
فأينا تقبل قربانه فهو أحق بها، فجاء صاحب الغنم بكبش أبيض أعين أقرن، وجاء صاحب الحرث بصبرة
من طعام، فتقبل الكبش، فخزنه الله في الجنة أربعين خريفا، فهو الذي ذبحه إبراهيم، فقتله
صاحب الحرث، فولد آدم كلهم من ذلك الكافر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أنهما قرباه من غير سبب. روى العوفي عن ابن عباس أن ابني آدم كانا قاعدين يوما،
فقالا: لو قربنا قربانا، فجاء صاحب الغنم بخير غنمه وأسمنها، وجاء الآخر ببعض زرعه، فنزلت
النار، فأكلت الشاة، وتركت الزرع، فقال لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أن قربانك تقبل،
وأنك خير مني لأقتلنك، واختلفوا هل قابيل وأخته ولدا قبل هابيل وأخته، أم بعدهما؟ على قولين،
وهل كان قابيل كافرا أو فاسقا غير كافر؟ فيه قولان: وفي سبب قبول قربان هابيل قولان:
أحدهما: أنه كان أتقى لله من قابيل.
والثاني: أنه تقرب بخيار ماله، وتقرب قابيل بشر ماله. وهل كان قربانهما بأمر آدم، أم من قبل
أنفسهما؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه كان وآدم قد ذهب إلى زيارة البيت.
والثاني: أن آدم أمرهما بذلك. وهل قتل هابيل بعد تزويج أخت قابيل، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه قتله قبل ذلك لئلا يصل إليها.
والثاني: أنه قتله بعد نكاحها.
قوله تعالى: (قال لأقتلنك) وروى زيد عن يعقوب: " لأقتلنك " بسكون النون وتخفيفها.
والقائل: هو الذي لم يتقبل منه. قال الفراء: إنما حذف ذكره، لأن المعنى يدل عليه، ومثل ذلك في
264

الكلام أن تقول: إذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت، وإذا اجتمع السفيه والحليم حمد، وإنما كان
ذلك، لأن المعنى لا يشكل، فلو قلت: مر بي رجل وامرأة، فأعنت، وأنت تريد أحدهما، لم
يجز، لأنه ليس هناك علامة تدل على مرادك. وفي المراد بالمتقين قولان:.
أحدهما: أنهم الذين يتقون المعاصي، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم الذين يتقون الشرك، قاله الضحاك.
لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب
العلمين (28)
قوله تعالى: (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) فيه قولان:
أحدهما: ما أنا بمنتصر لنفسي، قاله ابن عباس.
والثاني: ما كنت لأبتدئك، قاله عكرمة. وفي سبب امتناعه من دفعه عنه قولان:
أحدهما: أنه منعه التحرج مع قدرته على الدفع وجوازه له، قاله ابن عمر، وابن عباس.
والثاني: أن دفع الإنسان عن نفسه لم يكن في ذلك الوقت جائزا، قاله الحسن، ومجاهد.
وقال ابن جرير: ليس في الآية دليل على أن المقتول علم عزم القاتل على قتله، ثم ترك الدفع عن
نفسه، وقد ذكر أنه قتله غيلة، فلا يدعى ما ليس في الآية إلا بدليل.
إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحب النار وذلك جزاء الظالمين (29)
قوله تعالى: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) فيه قولان:
أحدهما: إني أريد أن ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي في عنقك، هذا قول ابن مسعود، وابن
عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك.
والثاني: أن تبوء بإثمي في خطاياي، وإثمك في قتلك لي، وهو مروي عن مجاهد أيضا قال
ابن جرير: والصحيح عن مجاهد القول الأول، وقد روى البخاري، ومسلم في " صحيحهما " من
حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من
دمها، لأنه كان أول من سن القتل " فإن قيل: كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوء قابيل بالإثم
وهو معصية، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه ما أراد لأخيه الخطيئة، وإنما أراد: إن قتلتني أردت أن تبوء بالإثم، وإلى هذا
المعنى ذهب الزجاج.
265

والثاني: أن في الكلام محذوفا، تقديره: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك، فحذف " لا "
كقوله تعالى: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) أي: أن لا تميد بكم، ومنه قول امرئ
القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أراد: لا أبرح. وهذا مذهب ثعلب.
والثالث: أن المعنى: أريد زوال أن تبوء بإثمي وإثمك، وبطلان أن تبوء بإثمي وإثمك،
فحذف ذلك، وقامت " أن " مقامه، كقوله تعالى: (وأشربوا في قلوبهم العجل) أي: حب العجل،
ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
قوله تعالى: (وذلك جزاء الظالمين) الإشارة إلى مصاحبة النار.
فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (30)
قوله تعالى: (فطوعت له نفسه) فيه خمسة أقوال:
أحدها: تابعته على قتل أخيه، قاله ابن عباس.
والثاني: شجعته، قاله مجاهد.
والثالث: زينت له، قاله قتادة.
والرابع: رخصت له، قاله أبو الحسن الأخفش.
والخامس: أن " طوعت " فعلت من " الطوع " والعرب تقول: طاع لهذه الظبية أصول هذا
الشجر، وطاع له كذا، أي: أتاه طوعا، حكاه الزجاج عن المبرد. وقال ابن قتيبة: شايعته وانقادت
له، يقال: لساني لا يطوع بكذا، أي: لا ينقاد وهذه المعاني تتقارب. وفي كيفية قتله ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه رماه بالحجارة حتى قتله، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: ضرب رأسه بصخرة وهو نائم، رواه مجاهد عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه.
والثالث: رضخ رأسه بين حجرين. قال ابن جريج: لم يدر كيف يقتله، فتمثل له إبليس،
وأخذ طائرا فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، ففعل به هكذا، وكان ل‍ " هابيل " يومئذ
عشرون سنة. وفي موضع مصرعه ثلاثة أقوال:
أحدها: على جبل ثور، قاله ابن عباس.
والثاني: بالبصرة، قاله جعفر الصادق.
266

والثالث: عند عقبة حراء، حكاه ابن جرير الطبري. وفي قوله [تعالى]: (فأصبح من
الخاسرين) ثلاثة أقوال:
أحدها: من الخاسرين الدنيا والآخرة، فخسرانه الدنيا: أنه أسخط والديه، وبقي بلا أخ،
وخسرانه الآخرة: أنه أسخط ربه، وصار إلى النار، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه أصبح من الخاسرين الحسنات، قاله الزجاج.
والثالث: من الخاسرين أنفسهم باهلاكهم إياها، قاله القاضي أبو يعلى.
فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه، كيف يوري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت
أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من الندمين (31)
قوله تعالى: (فبعث الله غرابا يبحث) قال ابن عباس: حمله على عاتقه، فكان إذا مشى
تخط يداه ورجلاه في الأرض، وإذا قعد وضعه إلى جنبه حتى رأى غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما
الآخر، ثم بحث له الأرض حتى واراه بعد أن حمله سنين. وقال مجاهد: حمله على عاتقه مائة
سنة. وقال عطية: حمله حتى أروح. وقال مقاتل: حمله ثلاثة أيام. وفي المراد بسوأة فقال أخيه قولان:
أحدهما: عورة أخيه.
والثاني: جيفة أخيه.
قوله تعالى: (فأصبح من النادمين) فإن قيل: أليس الندم توبة، فلم لم يقبل منه؟ فعنه أربعة
أجوبة:
أحدها: أنه يجوز أن لا يكون الندم توبة لمن تقدمنا: ويكون توبة لهذه الأمة، لأنها خصت
بخصائص لم تشارك فيها، قاله الحسن بن الفضل.
والثاني: أنه ندم على حمله لا على قتله.
والثالث: أنه ندم إذ لم يواره حين قتله.
والرابع: أنه ندم على فوات أخيه، لا على ركوب الذنب. وفي هذه القصة تحذير من
الحسد، لأنه الذي أهلك قابيل.
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض
فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا
بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (32)
267

قوله تعالى: (من أجل ذلك) قال الضحاك: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما، وقال أبو
عبيدة: من جناية ذلك، ومن جري ذلك. قال الشاعر:
وأهل خباء صالح ذات بينهم * قد احتربوا في عاجل أنا آجله
أي: جانيه وجار عليهم. وقال قوم: الكلام متعلق بما قبله، والمعنى: فأصبح من النادمين من
أجل ذلك. فعلى هذا يحسن الوقف هاهنا، وعلى الأول لا يحسن الوقف. والأول أصح. و (كتبنا)
بمعنى: فرضنا. ومعنى (قتل نفسا بغير نفس) أي: قتلها ظلما ولم تقتل نفسا. (أو فساد في
الأرض) " فساد " منسوق على (نفس)، المعنى: أو بغير فساد تستحق به القتل. وقيل: أراد
بالفساد هاهنا: الشرك، وفي معنى قوله [تعالى]: (فكأنما قتل الناس جميعا) خمسة أقوال:
أحدها: أن عليه إثم من قتل الناس جميعا، قاله الحسن، والزجاج.
والثاني: أنه يصلى النار بقتل المسلم، كما لو قتل الناس جميعا، قاله مجاهد، وعطاء. وقال
ابن قتيبة: يعذب كما يعذب قاتل الناس جميعا.
والثالث: أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعا، قاله ابن زيد
والرابع: أن معنى الكلام: ينبغي لجميع الناس أن يعينوا ولي المقتول حتى يقيدوه منه، كما
لو قتل أولياءهم جميعا، ذكره القاضي أبو يعلى.
والخامس: أن المعنى: من قتل نبيا أو إماما عادلا، فكأنما قتل الناس جميعا، رواه عكرمة عن
ابن عباس. والقول بالعموم أصح. فإن قيل: إذا كان إثم قاتل الواحد كإثم من قتل الناس جميعا،
دل هذا على أنه لا إثم عليه في قتل من يقتله بعد قتل الواحد إلى أن يفنى الناس؟ فالجواب: أن
المقدار الذي يستحقه قاتل الناس جميعا، معلوم عند الله محدود، فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك
الإثم المعلوم، والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه، وكلما زاد قتلا زاده الله إثما، ومثل هذا قوله
[تعالى]: (من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها) فالحسنة معلوم عند الله مقدار ثوابها، فعاملها
يعطى بمثل ذلك عشر مرات. وهذا الجواب عن سؤال سائل إن قال: إذا كان من أحيا نفسا فله
ثواب من أحيا الناس، فما ثواب من أحيا الناس كلهم؟ هذا كله منقول عن المفسرين. والذي أراه
أن التشبيه بالشئ تقريب منه، لأنه لا يجوز أن يكون إثم قاتل شخصين كإثم قاتل شخص، وإنما
وقع التشبيه ب " كأنما "، لأن جميع الخلائق من شخص واحد، فالمقتول يتصور منه نشر عدد الخلق
كلهم.
268

وفي قوله [تعالى]: (ومن أحياها) خمسة أقوال:
أحدها: استنقذها من هلكة، روي عن ابن مسعود، ومجاهد. قال الحسن. من أحياها من
غرق أو حرق أو هلاك. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: من شد عضد نبي أو إمام عادل، فكأنما
أحيا الناس جميعا.
والثاني: ترك قتل النفس المحرمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في
رواية.
والثالث: أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص، قاله الحسن، وابن زيد، وابن قتيبة.
والرابع: أن يزجر عن قتلها، وينهى.
والخامس: أن يعين الولي على استيفاء القصاص، لأن في القصاص حياة، ذكرهما القاضي
أبو يعلى. وفي قوله [تعالى]: (فكأنما أحيا الناس جميعا) قولان:
أحدهما: فله أجر من أحيا الناس جميعا، قاله الحسن، وابن قتيبة.
والثاني: فعلى جميع الناس شكره، كما لو أحياهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (ولقد جاءتهم رسلنا) يعني: بني إسرائيل الذين جرى ذكرهم.
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا
أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في
الآخرة عذاب عظيم (33)
قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في ناس من عرينة قدموا المدينة، فاجتووها، فبعثهم رسول الله في إبل
الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فصحوا، وارتدوا عن الإسلام، وقتلوا
الراعي، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله في آثارهم، فجئ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من
خلاف، وسمر أعينهم، وألقاهم بالحرة حتى ماتوا، ونزلت هذه الآية، رواه قتادة عن أنس، وبه
قال سعيد بن جبير، والسدي.
والثاني: أن قوما من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي [صلى الله عليه وسلم] عهد وميثاق، فنقضوا العهد،
269

وأفسدوا في الأرض، فخير الله رسوله بهذه الآية: إن شاء أن يقتلهم، وإن شاء أن يقطع أيديهم
وأرجلهم من خلاف. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
والثالث: أن أصحاب أبي بردة الأسلمي قطعوا الطريق على قوم جاؤوا يريدون الاسلام،
فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن السائب: كان أبو بردة، واسمه هلال بن
عويمر، وادع النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين لم يهج، ومن مر
بهلال إلى سول الله [صلى الله عليه وسلم] لم يهج، فمر قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناس من قوم هلال،
فنهدوا إليهم، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، ولم يكن هلال حاضرا، فنزلت هذه الآية.
والرابع: أنها نزلت في المشركين، رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن. واعلم
أن ذكر " المحاربة " لله عز وجل في الآية مجاز. وفي معناها للعلماء قولان:
أحدهما: أنه سماهم محاربين له تشبيها بالمحاربين حقيقة، لأن المخالف محارب، وإن لم
يحارب، فيكون المعنى: يخالفون الله ورسوله بالمعاصي.
والثاني: أن المراد: يحاربون أولياء الله، وأولياء رسوله. وقال سعيد بن جبير: أراد بالمحاربة
لله ورسوله، الكفر بعد الاسلام. وقال مقاتل: أراد بها الشرك. فأما " الفساد " فهو القتل والجراح
وأخذ الأموال، وإخافة السبيل.
قوله تعالى: (أن يقتلوا أو يصلبوا) اختلف العلماء هل هذه العقوبة على الترتيب، أم على
التخيير؟ فمذهب أحمد رضي الله عنه أنها على الترتيب، وإنهم إذا قتلوا، وأخذوا المال، أو قتلوا
ولم يأخذوا، قتلوا وصلبوا، وإن أخذوا المال، ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن
لم يأخذوا المال، نفوا. قال ابن الأنباري: فعلى هذا تكون " أو " مبعضة فالمعنى: بعضهم يفعل به
كذا، وبعضهم كذا، ومثله قوله [تعالى]: (كونوا هودا أو نصارى) المعنى: قال بعضهم هذا، وقال
بعضهم هذا. وهذا القول اختيار أكثر اللغويين. وقال الشافعي: إذا قتلوا وأخذوا المال، قتلوا
وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت
أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقال مالك: الإمام مخير في إقامة أي الحدود شاء، سواء قتلوا أو لم
270

يقتلوا، أخذوا المال أو لم يأخذوا، والصلب بعد القتل. وقال أبو حنيفة، ومالك: يصلب ويبعج
برمح حتى يموت. واختلفوا في مقدار زمان الصلب. فعندنا أنه يصلب بمقدار ما يشتهر صلبه.
واختلف أصحاب الشافعي، فقال بعضهم: ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال بعضهم: يترك
حتى يسيل صديده. قال أبو عبيدة: معنى " من خلاف " أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى،
يخالف بين قطعهما. فأما " النفي " فأصله الطرد والإبعاد. وفي صفة نفيهم أربعة أقوال:
أحدها: إبعادهم من بلاد الإسلام إلى دار الحرب، قاله أنس بن مالك، والحسن، وقتادة، وهذا
إنما يكون في حق المحارب المشرك، فأما المسلم فلا ينبغي أن يضطر إلى ذلك.
والثاني: أن يطلبوا لتقام عليهم الحدود، فيبعدوا، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثالث: إخراجهم من مدينتهم إلى مدينة أخرى، قاله سعيد بن جبير. وقال مالك: ينفى إلى
بلد غير بلده، فيحبس هناك.
والرابع: أنه الحبس، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وقال أصحابنا: صفة النفي: أن يشرد ولا يترك
يأوي في بلد، فكلما حصل في بلد نفي إلى بلد غيره، وفي (الخزي) قولان:
أحدهما: انه العقاب.
والثاني: الفضيحة.
وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر، أم لا؟ ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك
في المصر وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي، وأبو يوسف: المصر والصحارى سواء، ويعتبر في
المال المأخوذ قدر نصاب، كما يعتبر في حق السارق، خلافا لمالك.
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (34)
قوله تعالى: (إلا الذين تابوا) قال أكثر المفسرين: هذا الاستثناء في المحاربين المشركين
إذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم، وآمنوا قبل القدرة عليهم، فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من
مال أو دم، وهذا لا خلاف فيه. فأما المحاربون المسلمون، فاختلفوا فيهم، ومذهب أصحابنا: أن
حدود الله تسقط عنهم من انحتام القتل والصلب والقطع والنفي. فأما حقوق الآدميين من الجراح
والأموال، فلا تسقطها التوبة، وهذا قول الشافعي.
271

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجهدوا في سبيله لعلكم
تفلحون (35) إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من
عذاب يوم القيمة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم (36) يريدون أن يخرجوا من النار وما هم
بخرجين منها ولهم عذاب مقيم (37)
قوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) في (الوسيلة) قولان:
أحدهما: أنها القربة، قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، والفراء وقال قتادة: تقربوا إليه بما
يرضيه. قال أبو عبيدة: يقال: توسلت إليه، أي: تقربت إليه. وأنشد:
إذا غفل الواشون عدنا لو صلنا * وعاد التصافي بيننا والوسائل
والثاني: المحبة، يقول: تحببوا إلى الله، هذا قول ابن زيد.
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكلا من الله والله عزيز حكيم (38)
قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) قال ابن السائب: نزلت في طعمة بن
أبيرق، وقد مضت قصته في (سورة النساء). و (السارق): إنما سمي سارقا، لأنه يأخذ الشئ في
خفاء، واسترق السمع: إذا تسمع مستخفيا. قال المبرد: والسارق هاهنا مرفوع بالابتداء، لأنه ليس
القصد منه واحدا بعينه، وإنما هو، كقولك: من سرق فاقطع يده. وقال ابن الأنباري: وإنما دخلت
الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط، تقديره: من سرق فاقطعوا يده. قال الفراء: وإنما قال: (فاقطعوا
أيديهما) لأن كل شئ موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا، جمع تقول: قد
هشمت رؤوسهما وملأت [ظهورهما] وبطونهما ومثله (فقد صنعت قلوبكما) وإنما اختير الجمع
على التثنية، لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الانسان: اليدين، والرجلين، والعينين،
فلما جرى أكثره على هذا، ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب التثنية، وقد يجوز
تثنيتهما. قال أبو ذؤيب
فتخالسا نفسيهما بنوافذ * كنوافذ العبط التي لا ترقع
272

فصل
وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كل سارق، وبينت السنة أن المراد به السارق لنصاب
من حرز مثله، كما قال تعالى: (فاقتلوا المشركين) ونهى النبي [صلى الله عليه وسلم] عن قتل النساء، والصبيان،
وأهل الصوامع. واختلف في مقدار النصاب، فمذهب أصحابنا: أن للسرقة نصابين: أحدهما: من
الذهب ربع دينار، ومن الورق ثلاثة دراهم، أو قيمة ثلاثة دراهم من العروض وهو قول مالك.
وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى تبلغ السرقة عشرة دراهم. وقال الشافعي: الاعتبار في ذلك بربع
دينار، وغيره مقوم به، فلو سرق درهمين قيمتهما ربع دينار، قطع فإن سرق نصابا من التبر، فعليه
القطع. وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى يبلغ ذلك نصابا مضروبا، فإن سرق منديلا لا يساوي نصابا،
في طرفه دينار، وهو لا يعلم، لا يقطع. وقال الشافعي: يقطع. فإن سرق ستارة الكعبة، قطع،
خلافا لأبي حنيفة. فإن سرق صبيا صغيرا حرا، لم يقطع، وإن كان على الصغير حلي، وقال مالك:
يقطع بكل حال. وإذا اشترك جماعة في سرقة نصاب، قطعوا، وبه قال مالك، إلا أنه اشترط أن
يكون المسروق ثقيلا يحتاج إلى معاونة بعضهم لبعض في إخراجه. وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا
قطع عليه بحال ويجب القطع على جاحد العارية عندنا، وبه قال سعيد بن المسيب، والليث بن
سعد، خلافا لأكثر الفقهاء.
فأما الحرز، فهو ما جعل للسكنى، وحفظ الأموال، كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها
الناس، ويحفظون أمتعتهم بها، فكل ذلك حرز، وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده، وسواء سرق من
ذلك وهو مفتوح الباب، أو لا باب له إلا أنه محجر بالبناء. فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة، فإنه
ليس في حرز إلا أن يكون عنده من يحفظه. ونقل الميموني عن أحمد: إذا كان المكان مشتركا في
الدخول إليه، كالحمام والخيمة لم يقطع السارق منه، ولم يعتبر الحافظ. ونقل عنه ابن منصور:
لا يقطع سارق الحمام إلا أن يكون على المتاع أجير حافظ. فأما النباش، فقال أحمد في رواية أبي
طالب: يقطع، وبه قال مالك، والشافعي، وابن أبي ليلى. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو
حنيفة: لا يقطع.
فصل
فأما موضع قطع السارق، فمن مفصل الكف، وممن مفصل الرجل. فأما اليد اليسرى
273

والرجل اليمنى، فروي عن أحمد: لا تقطع، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي حنيفة، وروي
عنه: أنها تقطع، وبه قال مالك، والشافعي. ولا يثبت القطع إلا باقراره مرتين، وبه قال ابن أبي
ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: يثبت بمرة. ويجتمع القطع
والغرم موسرا كان أو معسرا. وقال أبو حنيفة لا يجتمعان، فإن كانت العين باقية أخذها ربها، وإن
كانت مستهلكة، فلا ضمان. وقال مالك: يضمنها إن كان موسرا، ولا شئ عليه إن كان معسرا.
قوله تعالى: (نكالا من الله) قد ذكرنا " النكال " في (البقرة).
قوله تعالى: (والله عزيز حكيم) قال سعيد بن جبير: شديد في انتقامه، حكيم إذ حكم
بالقطع. قال الأصمعي: قرأت هذه الآية، وإلى جنبي أعرابي، فقلت: والله غفور رحيم، سهوا،
فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعد فأعدت: والله غفور رحيم، فقال: ليس
هذا كلام الله، فتنبهت، فقلت: والله عزيز حكيم. فقال: أصبت، هذا كلام الله. فقلت له: أتقرأ
القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال: يا هذا عز فحكم فقطع، ولو غفر
ورحم لما قطع.
فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (39) ألم تعلم
أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ
قدير (40)
قوله تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه) سبب نزولها: أن امرأة كانت قد سرقت، فقالت: يا
رسول الله هل لي من توبة؟ فنزلت هذه الآية. قاله عبد الله بن عمرو. وقال سعيد بن جبير: فمن
تاب من بعد ظلمه، أي: سرقته، وأصلح العمل، فإن الله يتجاوز عنه، إن الله غفور لما كان منه قبل
التوبة، رحيم لمن تاب.
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسرعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن
قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من
274

بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته
فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي
ولهم في الآخرة عذاب عظيم (41)
قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) اختلفوا فيمن نزلت
على خمسة أقوال:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بيهودي وقد حمموه وجلدوه، فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في
كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم، فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى،
هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا نترك الشريف، ونقيمه
على الوضيع، فقلنا: تعالوا نجمع على شئ نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم
والجلد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه " فأمر به فرجم، ونزلت هذه
الآية، رواه البراء بن عازب.
والثاني: أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر، وهذا المعنى مروي عن أبي هريرة.
والثالث: أنها نزلت في يهودي قتل يهوديا، ثم قال: سلوا محمدا فإن كان بعث بالدية،
اختصمنا إليه، وإن كان بعث بالقتل، لم نأته، قال الشعبي.
والرابع: أنها نزلت في المنافقين، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والخامس: أن رجلا من الأنصار أشارت إليه قريظة يوم حصارهم على ماذا ننزل؟ فأشار
إليهم: أنه الذبح، قاله السدي، قال مقاتل: هو أبو لبابة بن عبد المنذر، قالت له قريظة: أننزل
275

على حكم سعد؟ فأشار بيده: أنه الذبح، وكان حليفا لهم. قال أبو لبابة: فعلمت أني قد خنت الله
ورسوله، فنزلت هذه الآية. ومعنى الكلام: لا يحزنك مسارعة الذين يسارعون في الكفر من الذين
قالوا آمنا بأفواههم وهم المنافقون، ومن الذين هادوا وهم اليهود.
(سماعون للكذب) قال سيبويه: هو مرفوع بالابتداء. قال أبو الحسن الأخفش: ويجوز أن
يكون رفعه على معنى: ومن الذين هادوا سماعون للكذب.
وفي معناه أربعة أقوال:
أحدها: سماعون منك ليكذبوا عليك.
والثاني: سماعون للكذب، أي: قائلون له.
والثالث: سماعون للكذب الذي بدلوه في توراتهم.
والرابع: سماعون للكذب، أي: قابلون له، ومنه: " سمع الله لمن حمده " أي: قبل.
وفي قوله [تعالى]: (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) قولان:
أحدهما: يسمعون لأولئك، فهم عيون لهم.
والثاني: سماعون من قوم آخرين، وهم رؤساؤهم المبدلون التوراة.
وفي السماعين للكذب، وللقوم الآخرين قولان:
أحدهما: أن " السماعين للكذب " يهود المدينة، والقوم الآخرون يهود فدك.
والثاني: بالعكس من هذا. وفي تحريفهم الكلم خمسة أقوال:
أحدها: أنه تغيير حدود الله في التوراة، وذلك أنهم غيروا الرجم، قاله ابن عباس،
والجمهور.
والثاني: تغيير ما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب عليه، قاله الحسن.
والثالث: إخفاء صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
والرابع: إسقاط القود بعد استحقاقه.
والخامس: سوء التأويل. وقال ابن جرير: المعنى يحرفون حكم الكلم، فحذف ذكر الحكم
لمعرفة السامعين بذلك.
276

قوله تعالى: (من بعد مواضعه) قال الزجاج: أي: من بعد أن وضعه الله مواضعه، فأحل
حلاله وحرم حرامه.
قوله تعالى: (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه) في القائلين لهذا قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، وذلك أن رجلا وامرأة من أشرافهم زنيا، فكان حدهما الرجم، فكرهت
اليهود رجمهما، فبعثوا إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] يسألونه عن قضائه في الزانيين إذا أحصنا، وقالوا: إن
أفتاكم بالجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فلا تعملوا به، هذا قول الجمهور.
والثاني: أنهم المنافقون. قال قتادة: وذلك أن بني النضير كانوا لا يعطون قريظة القود إذا قتلوا
منهم، وإنما يعطونهم الدية، فإذا قتلت قريظة من النضير لم يرضوا إلا بالقود تعززا عليهم، فقتل بنو
النضير رجلا من قريظة عمدا، فأرادوا رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من المنافقين: إن قتيلكم
قتيل عمد، ومتى ترفعوا ذلك إلى محمد خشيت عليكم القود، فإن قبلت منكم الدية فأعطوا، وإلا
فكونوا منه على حذر. وفي معنى (فاحذروا) ثلاثة أقوال:
أحدها: فاحذروا أن تعملوا بقوله الشديد.
والثاني: فاحذروا أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به.
والثالث: فاحذروا أن تسألوه بعدها.
قوله تعالى: (ومن يرد الله فتنته) في " الفتنة " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بمعنى الضلالة، قاله ابن عباس ومجاهد.
والثاني: العذاب، قاله الحسن، وقتادة.
والثالث: الفضيحة، ذكره الزجاج.
قوله تعالى: (فلن تملك له من الله شيئا) أي: لا تغني عنه، ولا تقدر على استنقاذه. وفي
هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم من حزنه على مسارعتهم في الكفر.
قوله تعالى: (لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) قال السدي: يعني المنافقين واليهود، لم يرد أن
يطهر قلوبهم من دنس الكفر، ووسخ الشرك بطهارة الإيمان والإسلام.
قوله تعالى: (لهم في الدنيا خزي) أما خزي المنافقين، فبهتك سترهم وإطلاع النبي على
كفرهم، وخزي اليهود بفضيحتهم في إظهار كذبهم إذ كتموا الرجم، وبأخذ الجزية منهم. قال
277

مقاتل، وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي النضير بإجلائهم.
سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض
عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (42)
قوله تعالى: (سماعون للكذب) قال الحسن: يعني حكام اليهود يسمعون الكذب ممن
يكذب عندهم في دعواه، ويأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان: هم اليهود يسمعون الكذب،
وهو قول بعضهم لبعض: محمد كاذب، وليس بنبي، وليس في التوراة رجم، وهم يعلمون كذبهم.
قوله تعالى: (أكالون للسحت) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر
" السحت " مضمومة الحاء مثقلة. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة (السحت) ساكنة الحاء
خفيفة. وروى خارجة بن مصعب عن نافع " أكالون للسحت " بفتح السين وجزم الحاء. قال أبو
علي: السحت والسحت لغتان، وهما اسمان للشئ المسحوت، وليسا بالمصدر، فأما من فتح
السين، فهو مصدر سحت، فأوقع اسم المصدر على المسحوت، كما أوقع الضرب على المضروب
في قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير. وفي المراد بالسحت ثلاثة أقوال:
أحدها: الرشوة في الحكم.
والثاني: الرشوة في الدين، والقولان عن ابن مسعود.
والثالث: أنه كل كسب لا يحل، قاله الأخفش.
قوله تعالى: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فيمن أريد بهذا الكلام قولان:
أحدهما: اليهوديان اللذان زنيا، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي.
والثاني: رجلان من قريظة والنضير قتل أحدهما الآخر، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان
حيي بن أخطب قد جعل للنضيري ديتين، والقرظي دية، لأنه كان من النضير، فقالت قريظة: لا
نرضى بحكم حيي، ونتحاكم إلى محمد، فقال الله تعالى لنبيه: (فان جاؤوك فاحكم بينهم) الآية.
فصل
اختلف علماء التفسير في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا، إن
شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل
278

الله) فلزمه الحكم، وزال التخيير، وهذا مروي عن ابن عباس، وعطاء ومجاهد، وعكرمة،
والسدي.
والثاني: أنها محكمة، وأن الإمام ونوابه في الحكم مخيرون إذا ترافعوا إليهم، إن شاؤوا
حكموا بينهم، وإن شاؤوا أعرضوا عنهم، وهذا مروي عن الحسن، والشعبي، والنخعي، والزهري،
وبه قال أحمد بن حنبل، وهو الصحيح، لأنه لا تنافي بين الآيتين، لأن إحداهما: خيرت بين الحكم
وتركه. والثانية: بينت كيفية الحكم إذا كان.
وكيف يحكمونك وعندهم التورة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك
بالمؤمنين (43)
قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة) قال المفسرون: هذا تعجيب من الله عز
وجل لنبيه من تحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حكم ما تحاكموا إليه فيه، وتقريع
لليهود إذ يتحاكمون إلى من يجحدون نبوته، ويتركون حكم التوراة التي يعتقدون صحتها.
قوله تعالى: (فيها حكم الله) فيه قولان:
أحدهما: حكم الله بالرجم، وفيه تحاكموا، قاله الحسن.
والثاني: حكمه بالقود، وفيه تحاكموا، قاله قتادة.
قوله تعالى: (ثم يتولون من بعد ذلك) فيه قولان:
أحدهما: من بعد حكم الله في التوراة.
والثاني: من بعد تحكيمك. وفي قوله تعالى: (وما أولئك بالمؤمنين) قولان:
أحدهما: ليسوا بمؤمنين لتحريفهم التوراة.
والثاني: ليسوا بمؤمنين أن حكمك من عند الله لجحدهم نبوتك.
إنا أنزلنا التورة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون
والأحبار بما استحفظوا من كتب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون
ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)
قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية:
279

استفتاء اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الزانيين، وقد سبق. و " الهدى ": البيان. فالتوراة مبينة صحة
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومبينة ما تحاكموا فيه إليه. و " النور ": الضياء الكاشف للشبهات، والموضح
للمشكلات. وفي النبيين الذين أسلموا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الأنبياء من لدن موسى إلى عيسى، قاله الأكثرون.
فعلى هذا القول في معنى " أسلموا " أربعة أقوال:
أحدها: سلموا لحكم الله، ورضوا بقضائه.
والثاني: انقادوا لحكم الله، فلم يكتموه كما كتم هؤلاء.
والثالث: أسلموا أنفسهم إلى الله عز وجل.
والرابع: أسلموا لما في التوراة ودانوا بها، لأنه قد كان فيهم من لم يعمل بكل ما فيها
كعيسى عليه السلام. قال ابن الأنباري: وفي " المسلم " قولان:
أحدهما: أنه سمي بذلك لاستسلامه وانقياده لربه.
والثاني: لإخلاصه لربه، من قوله تعالى: (ورجلا سالما لرجل) أي: خالصا له.
والثاني: أن المراد بالنبيين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن، والسدي. وذلك حين حكم على
اليهود بالرجم، وذكره بلفظ الجمع كقوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من
فضله).
وفي الذي حكم به منها قولان:
أحدهما: الرجم والقود.
والثاني: الحكم بسائرها ما لم يرد في شرعه ما يخالف.
والثالث: النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم، قاله عكرمة.
قوله تعالى: (الذين هادوا) قال ابن عباس: تابوا من الكفر. قال الحسن: هم اليهود. قال
الزجاج: ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير. على معنى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين
هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا. فأما " الربانيون " فقد سبق ذكرهم في (آل عمران). وأما
(الأحبار) فهم العلماء واحدهم حبر وحبر، والجمع أحبار وحبور. وقال الفراء: أكثر ما سمعت
العرب تقول في واحد الأحبار: حبر بكسر الحاء. وفي اشتقاق هذا الاسم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من الحبار وهو الأثر الحسن، قاله الخليل.
280

والثاني: أنه من الحبر الذي يكتب به، قاله الكسائي.
والثالث: أنه من الحبر الذي هو الجمال والبهاء. وفي الحديث " يخرج رجل من النار قد
ذهب حبره وسبره " أي: جماله وبهاؤه. فالعالم بهي بجمال العلم، وهذا قول قطرب. وهل بين
الربانيين والأحبار فرق أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا فرق، والكل العلماء، هذا قول الأكثرين، منهم ابن قتيبة، والزجاج. وقد روي
عن مجاهد أنه قال: الربانيون: الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار. وقال السدي: الربانيون
العلماء، والأحبار القراء. وقال ابن زيد: الربانيون: الولاة، والأحبار: العلماء، وقيل: الربانيون:
علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود.
قوله تعالى: (بما استحفظوا من كتاب الله) قال ابن عباس: بما استودعوا من كتاب الله وهو
التوراة. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: يحكمون بحكم ما استحفظوا.
والثاني: العلماء بما استحفظوا. قال ابن جرير: " الباء " في قوله تعالى: (بما استحفظوا)
من صلة الأحبار.
وفي قوله تعالى: (وكانوا عليه شهداء) قولان:
أحدهما: وكانوا على ما في التوراة من الرجم شهداء، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: وكانوا شهداء لمحمد عليه السلام بما قال أنه حق. رواه العوفي عن ابن عباس.
قوله تعالى: (فلا تخشوا الناس واخشوني) قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، وابن عامر،
والكسائي " واخشون " بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو بياء في الوصل، وبغير ياء في
الوقف، وكلاهما حسن. وقد أشرنا إلى هذا في [سورة] آل عمران. ثم في المخاطبين بهذا قولان.
أحدهما: أنهم رؤساء اليهود، قيل لهم: فلا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد، والعمل
بالرجم، واخشوني في كتمان ذلك، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. قال مقاتل:
الخطاب ليهود المدينة، قيل لهم: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم، ونعت محمد،
واخشوني في كتمانه.
والثاني: أنهم المسلمون، قيل لهم: لا تخشوا الناس، كما خشيت اليهود الناس، فلم يقولوا
الحق، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) في المراد بالآيات قولان:
281

أحدهما: أنها صفة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
والثاني: الأحكام والفرائض. والثمن القليل مذكور في (البقرة). فأما قوله: (ومن لم يحكم
بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). وقوله تعالى بعدها: (فأولئك هم الظالمون) (فأولئك هم
الفاسقون). فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في اليهود خاصة، رواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
والثاني: أنها نزلت في المسلمين، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى.
والثالث: أنها عامة في اليهود، وفي هذه الأمة، قاله ابن مسعود، والحسن، والنخعي،
والسدي.
والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، قاله أبو مجلز.
والخامس: أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، قاله الشعبي
وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان:
أحدهما: أنه الكفر بالله تعالى.
والثاني: أنه الكفر بذلك الحكم، وليس بكفر ينقل عن الملة.
وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا له، وهو يعلم أن الله أنزله، كما فعلت
اليهود، فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلا إلى الهوى من غير جحود، فهو ظالم وفاسق. وقد روى
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به
فهو فاسق وظالم.
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن
والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الظالمون (45)
282

قوله تعالى: (وكتبنا) أي: فرضنا (عليهم) أي: على اليهود (فيها) أي: في التوراة.
قال ابن عباس: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، فما بالهم يخالفون، فيقتلون النفسين بالنفس،
ويفقؤون العينين بالعين؟ وكان على بني إسرائيل القصاص أو العفو، وليس بينهم دية في نفس ولا
جرح، فخفف الله عن أمة محمد بالدية. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: النفس بالنفس:
والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، ينصبون ذلك كله ويرفعون
" والجروح " وكان نافع، وعاصم، وحمزة ينصبون ذلك كله، وكان الكسائي يقرأ: " أن النفس
بالنفس " نصبا، ويرفع ما بعد ذلك. قال أبو علي: وحجته أن الواو لعطف الجمل، لا لاشتراك في
العامل، ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى، لأن معنى: وكتبنا عليهم: قلنا لهم: النفس
بالنفس، فحمل العين على هذا، وهذه حجة من رفع الجروح. ويجوز أن يكون مستأنفا، لا أنه مما
كتب على القوم، وإنما هو ابتداء إيجاب. قال القاضي أبو يعلى: وقوله [تعالى]: العين بالعين،
ليس المراد قلع العين بالعين، لتعذر استيفاء المماثلة، لأنا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه،
وإنما يجب فيما ذهب ضوؤها وهي قائمة، وصفة ذلك أن تشد عين القالع، وتحمى مرآة، فتقدم من
العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها. وأما الأنف فإذا قطع المارن، وهو ما لان منه،
وتركت قصبته، ففيه القصاص، وأما إذا قطع من أصله، فلا قصاص فيه، لأنه لا يمكن استيفاء
القصاص، كما لو قطع يده من نصف الساعد. وقال أبو يوسف، ومحمد: فيه القصاص إذا
استوعب. وأما الأذن، فيجب القصاص إذا استوعبت، وعرف المقدار. وليس في عظم قصاص إلا
في السن، فإن قلعت قلع مثلها، وإن كسر بعضها، برد بمقدار ذلك. وقوله [تعالى]: (والجروح
قصاص) يقتضي إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها.
قوله تعالى: (فمن تصدق به) يشير إلى القصاص.
(فهو كفارة له) في هاء " له " قولان:
أحدهما: أنها إشارة إلى المجروح، فإذا تصدق بالقصاص كفر من ذنوبه، وهو قول ابن
مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والحسن، والشعبي.
والثاني: إشارة إلى الجارح إذا عفا عنه المجروح، كفر عنه ما جنى، وهذا قول ابن عباس،
ومجاهد، ومقاتل، وهو محمول على أن الجاني تاب من جنايته، لأنه إذا كان مصرا فعقوبة الإصرار
باقية.
وقفينا على آثرهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التورة وآتيناه الإنجيل
283

فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التورة وهدى وموعظة للمتقين (46)
قوله تعالى: (وقفينا على آثارهم) أي: وأتبعنا على آثار النبيين الذين أسلموا (بعيسى)
فجعلناه يقفو آثارهم (مصدقا) أي: بعثناه مصدقا (لما بين يديه) (وآتيناه الإنجيل فيه هدى
ونور ومصدقا) ليس هذا تكرارا للأول، لأن الأول لعيسى، والثاني للإنجيل، لأن عيسى كان يدعو
إلى التصديق بالتوراة، والإنجيل أنزل وفيه ذكر التصديق بالتوراة.
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الفاسقون
قوله تعالى: (وليحكم أهل الإنجيل) قرأ الأكثرون بجزم اللام على معنى الأمر، تقديره:
وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه. وقرأ الأعمش، وحمزة بكسر اللام، وفتح الميم على معنى
" كي "، فكأنه قال: وآتيناه الإنجيل لكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه.
وأنزلنا إليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليه فاحكم
بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة
ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتكم ابن فاستبقوا
الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)
قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب) يعني القرآن (بالحق) أي: بالصدق (مصدقا لما
بين يديه من الكتاب) قال ابن عباس: يريد كل كتاب أنزله الله تعالى. وفي " المهيمن " أربعة
أقوال:
أحدها: أنه المؤيمن قوله رواه التميمي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء،
والضحاك. وقال المبرد: " مهيمن " في معنى: " مؤيمن " إلا أن الهاء بدل من الهمزة، كما قالوا:
أرقت الماء، وهرقت، وإياك وهياك. وأرباب هذا القول يقولون: المعنى: أن القرآن مؤتمن على ما
قبله من الكتب إلا أن ابن أبي نجيح روى عن مجاهد: ومهيمنا عليه. قال: محمد مؤتمن على
القرآن. فعلى قوله [تعالى]: في الكلام محذوف، كأنه قال: وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه،
فتكون هاء " عليه " راجعة إلى القرآن. وعلى غير قول مجاهد ترجع إلى الكتب المتقدمة.
284

والثاني: أنه الشاهد، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، والسدي،
ومقاتل.
والثالث: أنه المصدق على ما أخبر عن الكتب، وهذا قول ابن زيد، وهو قريب من القول
الأول.
والرابع: أنه الرقيب الحافظ، قاله الخليل.
قوله تعالى: (فاحكم بينهم) يشير إلى اليهود (بما أنزل الله إليك) في القرآن (ولا تتبع
أهواءهم عما جاءك من الحق). قال أبو سليمان: المعنى: فترجع عما جاءك. قال ابن عباس: لا
تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن.
قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) قال مجاهد: الشرعة: السنة، والمنهاج:
الطريق. وقال ابن قتيبة: الشرعة والشريعة واحد، والمنهاج: الطريق الواضح. فإن قيل: كيف نسق
" المنهاج " على " الشرعة " وكلاهما بمعنى واحد؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن بينهما فرقا من وجهين:
أحدهما: أن " الشرعة " ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق المستمر، قاله المبرد.
والثاني: أن " الشرعة " الطريق الذي ربما كان واضحا، وربما كان غير واضح، والمنهاج:
الطريق الذي لا يكون إلا واضحا، ذكره ابن الأنباري. فلما وقع الاختلاف بين الشرعة والمنهاج،
حسن نسق أحدهما على الآخر.
والثاني: أن الشرعة والمنهاج بمعنى واحد، وإنما نسق أحدهما على الآخر لاختلاف
اللفظين. قال الحطيئة:
ألا حبذا هند وأرض بها هند * وهند أتى من دونها النأي والبعد
فنسق البعد على النأي لما خالفه في اللفظ، وإن كان موافقا له في المعنى، ذكره ابن
الأنباري. وأجاب عنه أرباب القول الأول، فقالوا: " النأي " كل ما قل بعده أو كثر كأنه المفارقة،
والبعد إنما يستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته. وللمفسرين في معنى الكلام قولان:
أحدهما: لكل ملة جعلنا شرعة ومنهاجا، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإنجيل شريعة،
ولأهل القرآن شريعة، هذا قول الأكثرين. قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث: أمة موسى، وعيسى،
وأمة محمد، فللتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما
يشاء بلاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الواحد الذي لا يقبل غيره، التوحيد والإخلاص لله
الذي جاءت به الرسل.
285

والثاني: أن المعنى: لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا، هذا قول
مجاهد.
قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) فيه قولان:
أحدهما: لجمعكم على الحق.
والثاني: لجعلكم على ملة واحدة (ولكن ليبلوكم) أي: ليختبركم (في ما آتاكم) من
الكتب، وبين لكم من الملل. فإن قيل: إذا كان المعنى بقوله [تعالى]: (لكل جعلنا منكم
شرعة): نبينا محمد مع سائر الأنبياء قبله، فمن المخاطب بقوله [تعالى]: (ليبلوكم)؟
فالجواب: أنه خطاب لنبينا، والمراد به سائر الأنبياء والأمم. قال ابن جرير: والعرب من شأنها إذا
خاطبت غائبا، فأرادت الخبر عنه أن تغلب المخاطب، فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب.
قوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات) قال ابن عباس، والضحاك: هو خطاب لأمة محمد عليه
السلام. قال مقاتل: و " الخيرات ": الأعمال الصالحة. (إلى الله مرجعكم) في الآخرة
(فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) من الدين. قال ابن جرير: قد بين ذلك في الدنيا بالأدلة
والحجج، وغدا يبينه بالمجازاة.
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض
ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن
كثيرا من الناس لفاسقون (49)
قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) سبب نزولها: أن جماعة من اليهود منهم
كعب بن أسيد، وعبد الله بن صوريا، وشأس بن قيس، قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد،
لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه، فقالوا: يا محمد، قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم، وأنا إن تبعناك،
اتبعك اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك،
فأبى ذلك رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، ونزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل: أن جماعة من
بني النضير قالوا له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء. كما كنا عليه من
قبل، ونبايعك؟ فنزلت هذه الآية. قال القاضي أبو يعلى: وليس هذه الآية تكرارا لما تقدم، وإنما نزلتا
في شيئين مختلفين:
أحدهما: في شأن الرجم.
286

والآخر: في التسوية في الديات حتى تحاكموا إليه في الأمرين.
قوله تعالى: (واحذرهم أن يفتنوك) أي: يصرفوك (عن بعض ما أنزل الله إليك) وفيه
قولان:
أحدهما: أنه الرجم، قاله ابن عباس.
والثاني: شأن القصاص والدماء، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (فإن تولوا) فيه قولان:
أحدهما: عن حكمك.
والثاني: عن الإيمان، فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعذبهم ببعض ذنوبهم.
وفي ذكر البعض قولان:
أحدهما: أنه على حقيقته، وإنما يصيبهم ببعض ما يستحقونه.
والثاني: أن المراد به الكل، كما يذكر لفظ الواحد، ويراد به الجماعة، كقوله [تعالى]:
(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) والمراد: جميع المسلمين. وقال الحسن: أراد ما عجله من
إجلاء بني النضير وقتل بني قريظة.
قوله تعالى: (وإن كثيرا من الناس لفاسقون) قال المفسرون: أراد اليهود. وفي المراد
بالفسق هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: الكفر، قاله ابن عباس.
والثاني: الكذب، قاله ابن زيد.
والثالث: المعاصي، قاله مقاتل.
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50)
قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون) قرأ الجمهور " يبغون " بالياء، لأن قبله غيبة، وهي
قوله [تعالى]: (وإن كثيرا من الناس لفاسقون). وقرأ ابن عامر " تبغون " بالتاء، على معنى:
قل لهم. وسبب نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم بالرجم على اليهوديين تعلق بنو قريظة ببني النضير،
وقالوا: يا محمد هؤلاء إخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، إذا قتلوا منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من
تمر، وإن قتلنا منهم واحدا أخذوا منا أربعين ومائة وسق، وإن قتلنا منهم رجلا قتلوا به رجلين، وإن
قتلنا امرأة قتلوا بها رجلا، فاقض بيننا بالعدل، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " ليس لبني النضير على بني
قريظة فضل في عقل ولا دم " فقال بنو النضير: والله لا نرضى بقضائك، ولا نطيع أمرك، ولنأخذن
287

بأمرنا الأول، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: ومعنى الآية:
أتطلب اليهود حكما لم يأمر الله به، وهم أهل كتاب الله، كما تفعل الجاهلية؟!.
قوله تعالى: (ومن أحسن من الله حكما) قال ابن عباس: ومن أعدل؟!.
وفي قوله تعالى: (لقوم يوقنون) قولان:
أحدهما: يوقنون بالقرآن، قاله ابن عباس.
والثاني: يوقنون بالله، قاله مقاتل. وقال الزجاج: من أيقن تبين عدل الله في حكمه.
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم
منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (51)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) في سبب نزولها ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنها نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة إذ رضوا بحكم سعد: إنه الذبح، رواه
أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول عكرمة.
والثاني: أن عبادة بن الصامت قال: يا رسول الله إن لي موالي من اليهود، وإني أبرأ إلى الله
من ولاية يهود، فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، ولا أبرأ إلى الله من ولاية يهود،
فنزلت هذه الآية، قاله عطية العوفي.
والثالث: أنه لما كانت وقعة أحد خافت طائفة من الناس أن يدال عليهم الكفار، فقال رجل
لصاحبه: أما أنا فألحق بفلان اليهودي، فآخذ منه أمانا، أو أتهود معه، فنزلت هذه الآية، قاله
السدي، ومقاتل. قال الزجاج: لا تتولوهم في الدين. وقال غيره: لا تستنصروا بهم، ولا
288

تستعينوا، (بعضهم أولياء بعض) في العون والنصرة.
قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) فيه قولان:
أحدهما: من يتولهم في الدين، فإنه منهم في الكفر.
والثاني: من يتولهم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر.
فترى الذين في قلوبهم مرض يسرعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى
الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين (52)
قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم) قال المفسرون: نزلت في
المنافقين، ثم لهم في ذلك قولان:
أحدهما: أن اليهود والنصارى كانوا يميرون المنافقين ويقرضونهم فيوادونهم، فلما نزلت
(لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) قال المنافقون: كيف نقطع مودة قوم إن أصابتنا سنة وسعوا
علينا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وممن قال: نزلت في المنافقين، ولم
يعين: مجاهد، وقتادة.
والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أبي، قاله عطية العوفي. وفي المراد بالمرض قولان:
أحدهما: أنه الشك، قاله مقاتل.
والثاني: النفاق، قاله الزجاج.
وفي قوله [تعالى]: (يسارعون فيهم) ثلاثة أقوال:
أحدها: يسارعون في موالاتهم ومناصحتهم، قاله مجاهد: وقتادة.
والثاني: في رضاهم، قاله ابن قتيبة.
والثالث: في معاونتهم على المسلمين، قاله الزجاج. وفي المراد " بالدائرة " قولان:
أحدهما: الجدب والمجاعة، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة: نخشى أن يدور علينا الدهر
289

بمكروه، يعنون الجدب، فلا يبايعوننا، ولا يميروننا.
والثاني: انقلاب الدولة لليهود على المسلمين، قاله مقاتل.
وفي المراد بالفتح أربعة أقوال:
أحدها: فتح مكة، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: فتح قرى اليهود، قاله الضحاك.
والثالث: نصر النبي [صلى الله عليه وسلم] على من خالفه، قاله قتادة، والزجاج.
والرابع: الفرج، قاله ابن قتيبة. وفي الأمر أربعة أقوال:
أحدها: إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم، وقتل قريظة، وسبي ذراريهم، قاله ابن السائب،
ومقاتل.
والثاني: الجزية، قاله السدي.
والثالث: الخصب، قاله ابن قتيبة.
والرابع: أن يؤمر النبي [صلى الله عليه وسلم] باظهار أمر المنافقين وقتلهم، قاله الزجاج. وفيما أسروا
قولان:
أحدهما: موالاتهم.
والثاني: قولهم: لعل محمدا لا ينصر.
ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمنهم إنهم لمعكم
حبطت أعملهم فأصبحوا خاسرين (53)
قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا) قرأ أبو عمرو، بنصب اللام على معنى: وعسى أن يقول.
ورفعه الباقون، فجعلوا الكلام مستأنفا. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: يقول، بغير واو، مع رفع
اللام، وكذلك في مصاحف أهل مكة والمدينة. قال المفسرون: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني
النضير، اشتد ذلك على المنافقين، وجعلوا يتأسفون على فراقهم، وجعل المنافق يقول لقريبه
المؤمن إذا رآه جادا في معاداة اليهود: أهذا جزاؤهم منك، طال والله ما أشبعوا بطنك؟ فلما قتلت
قريظة، لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه، فجعلوا يقولون: أربعمائة حصدوا في ليلة،
فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين، قالوا: (أهؤلاء) يعنون المنافقين (الذين أقسموا
بالله جهد أيمانهم) قال ابن عباس: أغلظوا في الأيمان. وقال مقاتل: جهد أيمانهم: القسم بالله.
290

وقال الزجاج: اجتهدوا في المبالغة في اليمين (إنهم لمعكم) على عدوكم (حبطت أعمالهم)
بنفاقهم.
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة
على المؤمنين أعزة على الكافرين يجهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (54)
قوله تعالى: (من يرتد منكم عن دينه) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة
والكسائي: يرتد، بادغام الدال الأولى في الأخرى، وقرأ نافع، وابن عامر: يرتدد، بدالين. قال
الزجاج: " يرتدد " هو الأصل، لأن الثاني إذا سكن من المضاعف، ظهر التضعيف. فأما " يرتد "
فأدغمت الدال الأولى في الثانية، وحركت الثانية بالفتح، لالتقاء الساكنين. قال الحسن: علم الله أن
قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم عليه السلام، فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه.
وفي المراد بهؤلاء القوم ستة أقوال:
أحدها: أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، قاله علي بن أبي طالب، والحسن
عليهما السلام، وقتادة، والضحاك، وابن جريج. قال أنس بن مالك: كرهت الصحابة قتال مانعي
الزكاة، وقالوا: أهل القبلة، فتقلد أبو بكر سيفه، وخرج وحده، فلم يجدوا بدا من الخروج على
أثره
والثاني: أبو بكر، وعمر، روي عن الحسن، أيضا.
والثالث: أنهم قوم أبي موسى الأشعري، روى عياض الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هم قوم هذا " يعني: أبا موسى.
والرابع: أنهم أهل اليمن، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
والخامس: أنهم الأنصار، قاله السدي.
والسادس: المهاجرون والأنصار، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير: وقد أنجز الله ما
وعد فأتى بقوم في زمن عمر كانوا أحسن موقعا في الإسلام ممن ارتد.
قوله تعالى: (أذلة على المؤمنين) قال علي بن أبي طالب عليه السلام: أهل رقة على أهل
291

دينهم، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقال الزجاج: معنى " أذلة ": جانبهم لين على
المؤمنين، لا أنهم أذلاء. (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) لأن المنافقين يراقبون
الكفار، ويظاهرونهم، ويخافون لومهم، فأعلم الله عز وجل أن الصحيح الإيمان لا يخاف في الله
لومة لائم، ثم أعلم أن ذلك لا يكون إلا بتوفيقه، فقال: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) يعني:
محبتهم لله، ولين جانبهم للمسلمين، وشدتهم على الكافرين.
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون (55) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56)
قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أن عبد الله بن سلام وأصحابه جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن قوما قد أظهروا لنا
العداوة، ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقالوا: رضينا بالله
وبرسوله وبالمؤمنين، وأذن بلال بالصلاة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مسكين يسأل الناس، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل أعطاك أحد شيئا "؟ قال: نعم. قال: " ماذا "؟ قال: خاتم فضة. قال:
" من أعطاكه "؟ قال: ذاك القائم، فإذا هو علي بن أبي طالب، أعطانيه وهو راكع، فقرأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. وقال مجاهد: نزلت في
علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع.
والثاني: أن عبادة بن الصامت لما تبرأ من حلفائه اليهود نزلت هذه الآية في حقه، رواه العوفي
عن ابن عباس.
والثالث: أنها نزلت في أبي بكر الصديق، قاله عكرمة.
والرابع: أنها نزلت فيمن مضى من المسلمين ومن بقي منهم، قاله الحسن.
قوله تعالى: (ويؤتون الزكاة وهو راكعون) فيه قولان:
أحدهما: أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم، وهو تصدق علي عليه السلام بخاتمه في ركوعه.
والثاني: أن من شأنهم إيتاء الزكاة وفعل الركوع. وفي المراد بالركوع ثلاثة أقوال:
292

أحدها: أنه نفس الركوع على ما روى أبو صالح عن ابن عباس. وقيل: إن الآية نزلت وهم
في الركوع.
والثاني: أنه صلاة التطوع بالليل والنهار، وإنما أفرد الركوع بالذكر تشريفا له، وهذا مروي عن
ابن عباس أيضا. والثالث: أنه الخضوع والخشوع، وأنشدوا:
لا تذل الفقير علك أن تر * كع يوما والدهر قد رفعه
ذكره الماوردي. فأما (حزب الله) فقال الحسن: هم جند الله. وقال أبو عبيدة: أنصار الله. ثم
فيهم قولان:
أحدهما: أنهم المهاجرون والأنصار، قاله ابن عباس.
والثاني: الأنصار، ذكره أبو سليمان.
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتب من
قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (57)
قوله تعالى: (لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا) سبب نزولها: أن رفاعة بن زيد
ابن التابوت، وسويد بن الحارث كانا قد أظهرا الإسلام، ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين
يوادونهما، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. فأما اتخاذهم الدين هزوا ولعبا، فهو إظهارهم
الإسلام، وإخفاؤهم الكفر، وتلاعبهم بالدين. والذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، والكفار:
عبدة الأوثان. قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة: (والكفار) بالنصب على معنى: لا تتخذوا
الكفار أولياء. وقرأ أبو عمرو، والكسائي: " والكفار " خفضا، لقرب الكلام من العامل الجار،
وأمال أبو عمرو الألف. (واتقوا الله) أن تولوهم.
وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (58)
قوله تعالى: (وإذا ناديتم إلى الصلاة) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نادى إلى الصلاة، وقام المسلمون إليها، قالت
293

اليهود: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا، على سبيل الاستهزاء والضحك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن
السائب.
والثاني: أن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين على ذلك، وقالوا: يا
محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية، فإن كنت تدعي النبوة، فقد
خالفت في هذا الأذان الأنبياء قبلك، فما أقبح هذا الصوت، وأسمج هذا الأمر، فنزلت هذه الآية،
ذكره بعض المفسرين. وقال السدي: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي:
أشهد أن محمدا رسول الله، قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم، وأهله
نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. والمناداة: هي الأذان، واتخاذهم إياها
هزوا: تضاحكهم وتغامزهم (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) ما لهم في إجابة الصلاة، وما عليهم في
استهزائهم بها.
قل يأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل
وأن أكثركم فاسقون (59)
قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا) سبب نزولها: أن نفرا من اليهود أتوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فذكر جميع الأنبياء، فلما ذكر عيسى، جحدوا
نبوته، وقالوا: والله ما نعلم دينا شرا من دينكم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله ابن عباس.
وقرأ الحسن، والأعمش: " تنقمون " بفتح القاف. قال الزجاج: يقال: نقمت على الرجل أنقم،
ونقمت عليه أنقم، والأول أجود. ومعنى " نقمت ": بالغت في كراهة الشئ، والمعنى: هل
تكرهون منا إلا إيماننا، وفسقكم، لأنكم علمتم أننا على حق، وأنكم فسقتم.
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم
القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (60)
294

قوله تعالى: (هل أنبئكم بشر من ذلك) قال المفسرون: سبب نزولها قول اليهود للمؤمنين:
والله ما علمنا أهل دين أقل حظا منكم في الدنيا والآخرة، ولا دينا شرا من دينكم. وفي قوله
[تعالى]: (بشر من ذلك) قولان:
أحدهما: بشر من المؤمنين، قاله ابن عباس.
والثاني بشر مما نقمتم من إيماننا، قاله الزجاج. فأما " المثوبة " فهي الثواب. قال الزجاج:
وموضع " من " في قوله [تعالى]: (من لعنه الله) إن شئت كان رفعا، وإن شئت كان خفضا، فمن
خفض جعله بدلا من " شر " فيكون المعنى: أنبئكم بمن لعنه الله؟ ومن رفع فبإضمار " هو " كأن
قائلا قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله. قال أبو صالح عن ابن عباس: من لعنه الله بالجزية،
وغضب عليه بعبادة العجل، فهم شر مثوبة عند الله. وروي عن ابن عباس أن المسخين من أصحاب
السبت: مسخ شبابهم قردة، ومشايخهم خنازير. وقال غيره: الردة: أصحاب السبت، والخنازير:
كفار مائدة عيسى. وكان ابن قتيبة يقول: أنا أظن أن هذه القردة، والخنازير هي المسوخ بأعيانها
توالدت. قال: واستدللت بقوله تعالى: (وجعل منهم القردة والخنازير) فدخول الألف واللام يدل
على المعرفة، وعلى أنها القرود التي تعاين، ولو كان أراد شيئا انقرض ومضى، لقال: وجعل منهم
قردة وخنازير، إلا أن يصح حديث أم حبيبة في " المسوخ " فيكون كما قال عليه السلام. قلت أنا:
وحديث أم حبيبة في " الصحيح " انفرد باخراجه مسلم، وهو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا
رسول الله، القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال النبي عليه السلام: " لم يمسخ قوما أو يهلك
قوما، فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة، وإن القردة والخنازير قد كانت قبل ذلك " وقد ذكرنا في سورة
(البقرة) عن ابن عباس زيادة بيان ذلك، فلا يلتفت إلى ظن ابن قتيبة.
قوله تعالى: (وعبد الطاغوت) فيها عشرون قراءة. قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو،
وابن عامر، ونافع، والكسائي: " وعبد " بفتح العين والباء والدال، ونصب تاء " الطاغوت ". وفيها
وجهان:
أحدهما: أن المعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت.
والثاني: أن المعنى: من لعنه الله وعبد الطاغوت، وقرأ حمزة: " وعبد الطاغوت " بفتح العين
والدال، وضم الباء، وخفض تاء الطاغوت. قال ثعلب: ليس لها وجه إلا أن يجمع فعل على فعل.
295

وقال الزجاج: وجهها أن الاسم بني على " فعل " كما تقول: علم زيد، ورجل حذر، أي: مبالغ في
الحذر. فالمعنى: جعل منهم خدمة الطاغوت ومن بلغ في طاعة الطاغوت الغاية. وقرأ ابن مسعود،
وأبي بن كعب، " وعبدوا " بفتح العين والباء، ورفع الدال على الجمع " الطاغوت " بالنصب. وقرأ
ابن عباس، وابن أبي عبلة: " وعبد " بفتح العين والباء والدال، إلا أنهما كسرا تاء " الطاغوت ".
قال الفراء: أرادا " عبدة " فحذفا الهاء. وقرأ أنس بن مالك: " وعبيد " بفتح العين والدال وبياء بعد
الباء وخفض تاء " الطاغوت ". وقرأ أيوب، والأعمش: " وعبد "، برفع العين ونصب الباء والدال
مع تشديد الباء، وكسر تاء " الطاغوت ". وقرأ أبو هريرة، وأبو رجاء، وابن السميفع، " وعابد "
بألف، مكسورة الباء، مفتوحة الدال، مع كسر تاء الطاغوت. وقرأ أبو العالية، ويحيى ابن وثاب:
" وعبد " برفع العين والباء وفتح الدال، مع كسر تاء الطاغوت. قال الزجاج: هو جمع عبيد، وعبد
مثل رغيف، ورغف، وسرير، وسرر، والمعنى: وجعل منهم عبيد الطاغوت. وقرأ أبو عمران
الجوني، ومورق العجلي، والنخعي: " وعبد " برفع العين وكسر الباء مخففة، وفتح الدال مع ضم
تاء " الطاغوت ". وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعكرمة: " وعبد " بفتح العين والدال، وتشديد
الباء مع نصب تاء الطاغوت. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو نهيك: " وعبد " بفتح العين والدال
وسكون الباء خفيفة مع كسر تاء الطاغوت. وقرأ قتادة، وهذيل بن شرحبيل: " وعبدة " بفتح العين
والباء والدال وتاء في اللفظ منصوبة بعد الدال " الطواغيت " بألف وواو وياء بعد الغين على الجمع.
وقرأ الضحاك، وعمرو بن دينار: " وعبد " برفع العين وفتح الباء والدال مع تخفيف الباء، وكسر تاء
" الطاغوت ". وقرأ سعيد بن جبير، والشعبي: " وعبدة " مثل حمزة، إلا أنهما رفعا تاء
" الطاغوت ". وقرأ يحيى بن يعمر، والجحدري: " وعبد " بفتح العين ورفع الباء والدال مع كسر تاء
" الطاغوت ". وقرأ أبو الأشهب العطاردي: " وعبد " برفع العين وتسكين الباء، ونصب الدال، مع
كسر تاء " الطاغوت " وقرأ أبو السماك: " وعبدة " بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ بعد الدال
مرفوعة مع كسر تاء " الطاغوت " وقرأ معاذ القارئ: " وعابد " مثل قراءة أبي هريرة إلا أنه ضم
الدال. وقرأ أبو حيوة: " وعباد " بتشديد الباء وبألف بعدها مع رفع العين، وفتح الدال. وقرأ ابن
حذلم، وعمرو بن فائد: " وعباد " مثل أبي حيوة إلا أن العين مفتوحة والدال مضمومة. وقد سبق ذكر
" الطاغوت " في (سورة البقرة). وفي المراد به هاهنا قولان:
أحدهما: الأصنام.
والثاني: الشيطان.
قوله تعالى: (أولئك شر مكانا) أي: هؤلاء الذين وصفناهم شر مكانا من المؤمنين، ولا شر
في مكان المؤمنين، ولكن الكلام مبني على كلام الخصم، حين قالوا للمؤمنين: لا نعرف شرا
منكم، فقيل: من كان بهذه الصفة، فهو شر منهم.
296

وإذا جاؤكم ما قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما
كانوا يكتمون (61)
قوله تعالى: (وإذا جاؤوكم قالوا آمنا) قال قتادة: هؤلاء ناس من اليهود كانوا يدخلون على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخبرونه أنهم مؤمنون بما جاء به، وهم متمسكون بضلالتهم.
قوله تعالى: (وقد دخلوا بالكفر) أي: دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين، فالكفر معهم في
حالتيهم: (والله أعلم بما كانوا يكتمون) من الكفر والنفاق.
وترى كثيرا منهم يسرعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا
يعملون (62)
قوله تعالى: (وترى كثيرا منهم) يعني: اليهود (يسارعون)، أي: يبادرون (في
الإثم) وفيه قولان:
أحدهما: أنه المعاصي، قاله ابن عباس.
والثاني: الكفر، قاله السدي. فأما العدوان فهو الظلم. وفي " السحت " ثلاثة أقوال:
أحدها: الرشوة في الحكم.
والثاني: الرشوة في الدين.
والثالث: الربا.
لولا ينههم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا
يصنعون (63)
قوله تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار) " لولا " بمعنى: " هلا " و " الربانيون "
مذكورون في (آل عمران)، و (الأحبار) قد تقدم ذكرهم في هذه السورة. وهذه الآية من أشد
الآيات على تاركي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأن الله تعالى جمع بين فاعل المنكر
وتارك الإنكار في الذم. قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية.
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف
يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العدوة
297

والبغضاء إلى يوم القيمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا
والله لا يحب المفسدين (64)
قوله تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة) قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في
فنحاص اليهودي وأصحابه، قالوا: يد الله مغلولة. وقال مقاتل: فنحاص وابن صلوبا، وعازر
ابن أبي عازر. وفي سبب قولهم هذا ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى كان قد بسط لهم الرزق، فلما عصوا الله تعالى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم
وكفروا به كف عنهم بعض ما كان بسط لهم، فقالوا: يد الله مغلولة، رواه أبو صالح عن ابن
عباس، وبه قال عكرمة.
والثاني: أنه الله تعالى استقرض منهم كما استقرض من هذه الأمة، فقالوا: إن الله بخيل،
ويده مغلولة فهو يستقرضنا، قاله قتادة.
والثالث: أن النصارى لما أعانوا بختنصر المجوسي على تخريب بيت المقدس، قالت
اليهود: لو كان الله صحيحا، لمنعنا منه، فيده مغلولة، ذكره قتادة أيضا. والمغلولة: الممسكة
المنقبضة. وعن ماذا عنوا أنها ممسكة، فيه قولان:
أحدهما: عن العطاء، قاله ابن عباس، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج.
والثاني: ممسكة عن عذابنا، فلا يعذبنا إلا تحلة القسم بقدر عبادتنا العجل، قاله الحسن.
وفي قوله [تعالى]: (غلت أيديهم) ثلاثة أقوال:
أحدها: غلت في جهنم، قاله الحسن.
والثاني: أمسكت عن الخير، قاله مقاتل.
والثالث: جعلوا بخلاء، فهم أبخل قوم، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: وهذا خبر أخبر
الله تعالى به الخلق أن هذا قد نزل بهم، وموضعه نصب على معنى الحال. تقديره: قالت اليهود
هذا في حال حكم الله بغل أيديهم، ولعنته إياهم، ويجوز أن يكون المعنى: فغلت أيديهم،
ويجوز أن يكون دعاء، معناه: تعليم الله لنا كيف ندعو عليهم، كقوله [تعالى] (تبت يدا أبي
298

لهب) وقوله [تعالى]: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) وفي قوله [تعالى]:
(ولعنوا بما قالوا) ثلاثة أقوال:
أحدها: أبعدوا من رحمة الله.
والثاني: عذبوا في الدنيا بالجزية، وفي الآخرة بالنار.
الثالث: مسخوا قردة وخنازير. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لعن شيئا لم
يكن للعنه أهلا رجعت اللعنة على اليهود بلعنة الله إياهم ". قال الزجاج: وقد ذهب قوم إلى أن
معنى " يد الله ": نعمته، وهذا خطأ ينقضه (بل يداه مبسوطتان) فيكون المعنى على قولهم:
نعمتاه، ونعم الله أكثر من أن تحصى، والمراد بقوله: بل (يداه مبسوطتان): أنه جواد ينفق
كيف يشاء وإلى نحو هذا ذهب ابن الأنباري. قال ابن عباس: إن شاء وسع في الرزق، وإن شاء
قتر.
قوله تعالى: (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) قال الزجاج: كلما
أنزل عليك شئ كفروا به فيزيد كفرهم. و " الطغيان " هاهنا: الغلو في الكفر. وقال مقاتل:
وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدماء طغيانا وكفرا.
قوله تعالى: (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء) فيمن عني بهذا قولان:
أحدهما: اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل. فإن قيل: فأين ذكر
النصارى؟ فالجواب: أنه قد تقدم في قوله [تعالى]: (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء).
والثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة.
قوله تعالى: (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) ذكر إيقاد النار مثل ضرب لاجتهادهم
في المحاربة، وقيل: إن الأصل في استعارة اسم النار للحرب أن القبيلة من العرب كانت إذا
أرادت حرب أخرى أوقدت النار على رؤوس الجبال، والمواضع المرتفعة، ليعلم استعدادهم
للحرب، فيتأهب من يريد إعانتهم. وقيل: كانوا إذا تحالفوا على الجد في حربهم، أوقدوا نارا،
وتحالفوا. وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: كلما جمعوا لحرب النبي صلى الله عليه وسلم فرقهم الله.
والثاني: كلما مكروا مكرا رده الله.
قوله تعالى: (ويسعون في الأرض فسادا) فيه أربعة أقوال:
299

أحدها: بالمعاصي، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: بمحو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من كتبهم، ودفع الإسلام، قاله الزجاج.
والثالث: بالكفر.
والرابع: بالظلم، ذكرهما الماوردي.
ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم (65)
قوله تعالى: (ولو أن أهل الكتاب) يعني: اليهود والنصارى (آمنوا) بالله وبرسله
(واتقوا) الشرك (لكفرنا عنهم سيئاتهم) التي سلفت.
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت
أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (66)
قوله تعالى: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل) قال ابن عباس: عملوا بما فيهما. وفيما
أنزل إليهم من ربهم قولان:
أحدهما: كتب أنبياء بني إسرائيل.
والثاني: القرآن، لأنهم لما خوطبوا به، كان نازلا إليهم.
قوله تعالى: (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) فيه قولان:
أحدهما: لأكلوا بقطر السماء، ونبات الأرض، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أن المعنى: لوسع عليهم، كما يقال: فلان في خير من قرنه إلى قدمه، ذكره
الفراء، والزجاج. وقد أعلم الله تعالى بهذا أن التقوى سبب في توسعة الرزق كما قال: (لفتحنا
عليهم بركات من السماء والأرض) وقال: (ويرزقه من حيث لا يحتسب).
قوله تعالى: (منهم أمة مقتصدة) يعني: من أهل الكتاب، وهم الذين أسلموا منهم، قاله
ابن عباس، ومجاهد. وقال القرظي: هم الذين قالوا: المسيح عبد الله ورسوله. و " الاقتصاد "
الاعتدال في القول والعمل من غير غلو ولا تقصير.
300

يا أيها على الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله
يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)
قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت على
أسباب، روى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما بعثني الله برسالته، ضقت بها ذرعا، وعرفت أن
من الناس من يكذبني "، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهاب قريشا واليهود والنصارى، فأنزل الله هذه
الآية. وقال مجاهد: لما نزلت (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) قال: " يا رب
كيف أصنع؟ إنما أنا وحدي يجتمع علي الناس ". فأنزل الله (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله
يعصمك من الناس) وقال مقاتل: لما دعا اليهود، وأكثر عليهم، جعلوا يستهزئون به، فسكت
عنهم، فحرض بهذه الآية. وقال ابن عباس: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يحرس فيرسل معه أبو طالب
كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية، فقال: " يا عماه إن الله قد
عصمني من الجن والإنس ". وقال أبو هريرة: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم تحت شجرة وعلق
سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه، فقال: يا محمد من يمنعني منك؟ فقال: " الله " فنزل قوله
[تعالى]: (والله يعصمك من الناس). قالت عائشة: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة،
فقلت: ما شأنك؟ قال: ألا رجل صالح يحرسني الليلة، فبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت
السلاح، فقال: " من هذا "؟ فقال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
سمعت غطيطه، فنزلت (والله يعصمك من الناس) فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم وقال:
انصرفوا أيها الناس، فقد عصمني الله تعالى " قال الزجاج: قوله [تعالى]: (بلغ ما أنزل
إليك) معناه: بلغ جميع ما أنزل إليك، ولا تراقبن أحدا ولا تتركن شيئا منه مخافة أن ينالك
مكروه، فإن تركت منه شيئا، فما بلغت. قال ابن قتيبة: يدل على هذا المحذوف قوله
[تعالى]: (والله يعصمك) وقال ابن عباس: إن كتمت آية فما بلغت رسالتي. وقال غيره:
301

المعنى: بلغ جميع ما أنزل إليك جهرا، فإن أخفيت شيئا منه لخوف أذى يلحقك، فكأنك ما
بلغت شيئا. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " رسالته " على التوحيد. وقرأ نافع " رسالاته "
على الجمع.
قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) قال ابن قتيبة: أي: يمنعك منهم. وعصمة
الله: منعه للعبد من المعاصي، ويقال: طعام لا يعصم، أي: لا يمنع من الجوع. فإن قيل:
فأين ضمان العصمة وقد شج جبينه، وكسرت رباعيته، وبولغ في أذاه؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه عصمة من القتل والأسر وتلف الجملة، فأما عوارض الأذى، فلا تمنع عصمة
الجملة.
والثاني: أن هذه الآية نزلت بعدما جرى عليه ذلك، لأن " المائدة " من أواخر ما نزل.
قوله تعالى: (إن الله لا يهدي القوم الكافرين) فيه قولان:
أحدهما: لا يهديهم إلى الجنة.
والثاني: لا يعينهم على بلوغ غرضهم.
قل يأهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التورة والإنجيل وما أنزل إليكم من
ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم
الكافرين (68)
قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شئ) سبب نزولها: أن اليهود قالوا للنبي
صلى الله عليه وسلم: ألست تؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها حق؟ قال: بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم
ما فيها، فأنا برئ من إحداثكم. فقالوا: نحن على الهدى، ونأخذ بما في أيدينا، ولا نؤمن
بك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس فأما أهل الكتاب، فالمراد بهم اليهود والنصارى، وقوله
[تعالى]: (لستم على شئ) أي: لستم على شئ من الدين الحق حتى تقيموا التوراة
والإنجيل، وإقامتهما: العمل بما فيهما، ومن ذلك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. وفي الذي أنزل إليهم
من ربهم قولان قد سبقا، وكذلك باقي الآية.
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الأخر وعمل
302

صلحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (69)
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون) قد ذكرنا تفسيرها في البقرة.
وكذلك اختلفوا في إحكامها ونسخها كما بينا هناك. فأما رفع " الصائبين " فذكر الزجاج عن
البصريين، منهم الخليل، وسيبويه أن قوله: " والصائبون " محمول على التأخير، ومرفوع
بالابتداء. والمعنى: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف
عليهم ولا هم يحزنون. والصائبون والنصارى كذلك أيضا، وأنشدوا:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم * بغاة ما بقينا في شقاق
المعنى: فاعلموا أنا بغاة ما بقينا في شقاق، وأنتم أيضا كذلك.
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى
أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون (70)
قوله تعالى: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل) قال مقاتل: أخذ ميثاقهم في التوراة بأن
يعملوا بما فيها. قال ابن عباس: كان فيمن كذبوا، محمد، وعيسى، وفيمن قتلوا، زكريا،
ويحيى. قال الزجاج: فأما التكذيب، فاليهود، والنصارى يشتركون فيه. وأما القتل فيختص
اليهود.
وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله
بصير بما يعملون (71)
قوله تعالى: (وحسبوا أن لا تكون فتنة) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر:
(تكون) بالنصب، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " تكون " بالرفع، ولم يختلفوا في رفع
(فتنة). قال مكي بن أبي طالب: من رفع جعل " أن " مخففة من الثقيلة، وأضمر معها
(الهاء)، وجعل (حسبوا) بمعنى: أيقنوا، لأن " أن " للتأكيد، والتأكيد لا يجوز إلا مع اليقين.
والتقدير: أنه لا تكون فتنة. ومن نصب جعل " أن " هي الناصبة للفعل، وجعل (حسبوا)
بمعنى: ظنوا. ولو كان قبل " أن " فعل لا يصلح للشك، لم يجز أن تكون إلا مخففة من الثقيلة،
ولم يجز نصب الفعل بها، كقوله [تعالى]: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم) و (علم أن
303

سيكون) وقال أبو علي: الأفعال ثلاثة: فعل يدل على ثبات الشئ واستقراره، نحو العلم
والتيقن، وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار، وفعل يجذب إلى هذا مرة، وإلى هذا
أخرى، فما كان معناه العلم، وقعت بعده " أن " الثقيلة، لأن معناها ثبوت الشئ واستقراره،
كقوله [تعالى]: (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) (ألم يعلم بأن الله يرى) وما كان على
غير وجه الثبات والاستقرار نحو: أطمع وأخاف وأرجو، وقعت بعده " أن " الخفيفة، كقوله
[تعالى]: (فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله) (تخافون أن يتخطفكم) (فخشينا أن
يرهقهما) (أطمع أن يغفر لي) وما كان مترددا بين الحالين مثل حسبت وظننت، فإنه
يجعل تارة بمنزلة العلم، وتارة بمنزلة أرجو وأطمع وكلتا القراءتين في (وحسبوا ألا تكون فتنة) قد
جاء بها التنزيل. فمثل من نصب (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم) (أم حسب
الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) (أحسب الناس أن يتركوا) ومثل مذهب من رفع (أيحسبون
أنما نمدهم) (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم) قال ابن عباس: ظنوا أن الله لا يعذبهم، ولا
يبتليهم بقتلهم الأنبياء، وتكذبيهم الرسل.
قوله تعالى: (فعموا وصموا) قال الزجاج: هذا مثل تأويله: أنهم لم يعملوا بما سمعوا، ورأوا
من الآيات، فصاروا كالعمي الصم.
قوله تعالى: (ثم تاب الله عليهم) فيه قولان:
أحدهما: رفع عنهم البلاء، قاله مقاتل. وقال غيره: هو ظفرهم بالأعداء، وذلك مذكور في
قوله [تعالى]: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم).
والثاني: أن معنى " تاب عليهم ": أرسل إليهم محمدا يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إن
آمنوا وصدقوا، قاله الزجاج. وفي قوله [تعالى]: (ثم عموا وصموا) قولان:
أحدهما: لم يتوبوا بعد رفع البلاء، قاله مقاتل.
والثاني: لم يؤمنوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (كثير منهم) أي: عمي وصم وكثير منهم، كما تقول: جاءني قومك
304

أكثرهم. قال ابن الأنباري: هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما بعث كذبوه بغيا وحسدا، وقدروا أن هذا الفعل لا يكون موبقا لهم، وجانيا عليهم، فقال الله
تعالى: (وحسبوا أن لا تكون فتنة) أي: ظنوا ألا تقع بهم فتنة في الإصرار على الكفر، فعموا
وصموا بمجانبة الحق. (ثم تاب الله عليهم) أي: عرضهم للتوبة بأن أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وإن لم
يتوبوا، ثم عموا وصموا بعد بيان الحق بمحمد، كثير منهم فخص بعضهم بالفعل الأخير، لأنهم
لم يجتمعوا كلهم على خلاف رسول الله [صلى الله عليه وسلم].
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل
اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين
من أنصار (72)
قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) قال مقاتل: نزلت في
نصارى نجران، قالوا ذلك.
قوله تعالى: (وقال المسيح) أي: وقد كان المسيح قال لهم وهو بين أظهرهم: إنه من
يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة.
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله وحد وإن لم ينتهوا عما
يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73)
قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) قال مجاهد: هم النصارى. قال
وهب بن منبه: لما ولد عيسى لم يبق صنم إلا خر لوجهه، فاجتمعت الشياطين إلى إبليس،
فأخبروه، فذهب فطاف أقطار الأرض، ثم رجع، فقال: هذا المولود الذي ولد من غير ذكر،
أردت أن أنظر إليه، فوجدت الملائكة قد حفت بأمه، فليتخلف عندي اثنان من مردتكم، فلما
أصبح، خرج بهما في صورة الرجال، فأتوا مسجد بني إسرائيل وهم يتحدثون بأمر عيسى،
ويقولون: مولود من غير أب. فقال إبليس: ما هذا ببشر، ولكن الله أحب أن يتمثل في امرأة
ليختبر العباد، فقال أحد صاحبيه: ما أعظم ما قلت، ولكن الله أحب أن يتخذ ولدا. وقال
الثالث: ما أعظم ما قلت، ولكن الله أراد أن يجعل إلها في الأرض، فألقوا هذا الكلام على ألسنة
الناس، ثم تفرقوا، فتكلم به الناس. وقال محمد بن كعب: لما رفع عيسى اجتمع مئة من علماء
بني إسرائيل، وانتخبوا منهم أربعة، فقال أحدهم: عيسى هو الله كان في الأرض ما بدا له، ثم
305

صعد إلى السماء، لأنه لا يحيي الموتى ولا يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله. وقال الثاني: ليس
كذلك، لأنا قد عرفنا عيسى، وعرفنا أمه، ولكنه ابن الله. وقال الثالث: لا أقول كما قلتما،
ولكن جاءت به أمه من عمل غير صالح. فقال الرابع: لقد قلتم قبيحا، ولكنه عبد الله ورسوله،
وكلمته، فخرجوا، فاتبع كل رجل منهم عنق من الناس. قال المفسرون: ومعنى الآية: أن
النصارى قالت: الإلهية مشتركة بين الله وعيسى ومريم، وكل واحد منهم إله. وفي الآية إضمار،
فالمعنى: ثالث ثلاثة آلهة، فحذف ذكر الآلهة، لأن المعنى مفهوم، لأنه لا يكفر من قال: هو
ثالث ثلاثة، ولم يرد الآلهة، لأنه ما من اثنين إلا وهو ثالثهما، وقد دل على المحذوف قوله
[تعالى]: (وما من إله إلا إله واحد). قال الزجاج: ومعنى ثالث ثلاثة: أنه أحد ثلاثة.
ودخلت " من " في قوله [تعالى]: (وما من إله) للتوكيد. والذين كفروا منهم، هم المقيمون
على هذا القول. وقال ابن جرير: المعنى: ليمسن الذين يقولون: المسيح هو الله، والذين
يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وكل كافر يسلك سبيلهم، عذاب أليم.
أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74)
قوله تعالى: (أفلا يتوبون إلى الله) قال الفراء: لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الأمر، كقوله
[تعالى]: (فهل أنتم منتهون).
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام
انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75)
قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول) فيه رد على اليهود في تكذيبهم رسالته،
وعلى النصارى في ادعائهم إلهيته. والمعنى: أنه ليس بإله، وإنما حكمه حكم من سبقه من
الرسل. وفي قوله [تعالى]: (وأمه صديقة) رد على من نسبها من اليهود إلى الفاحشة. قال
الزجاج: والصديقة: المبالغة في الصدق، وصديق " فعيل " من أبنية المبالغة، كما تقول: فلان
سكيت، أي: مبالغ في السكوت. وفي قوله [تعالى]: (كانا يأكلان الطعام) قولان:
أحدهما: أنه بين أنهما يعيشان بالغذاء، ومن لا يقيمه إلا أكل الطعام فليس بإله، قاله
الزجاج.
306

والثاني: أنه نبه بأكل الطعام على عاقبته، وهو الحدث، إذ لا بد لآكل الطعام من الحدث،
قاله ابن قتيبة. قال: وقوله [تعالى]: (انظر كيف نبين لهم الآيات) من ألطف ما يكون من
الكناية. و " يؤفكون ": يصرفون عن الحق ويعدلون، يقال: أفك الرجل عن كذا: إذا عدل
عنه، وأرض مأفوكة: محرومة المطر والنبات، كأن ذلك صرف عنها وعدل.
قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم (76)
قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله) قال مقاتل: قل لنصارى نجران: أتعبدون من
دون الله، يعني عيسى ولا يملك لكم ضرا في الدنيا، ولا نفعا في الآخرة. والله هو السميع
لقولهم: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، العليم بمقالتهم.
قل يأهل الكتب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل
وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)
قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب) قال مقاتل: هم نصارى نجران. والمعنى: لا تغلوا
في دينكم، فتقولوا غير الحق في عيسى. وقد بينا معنى " الغلو " في آخر سورة (النساء)
قوله تعالى: (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل) قال أبو سليمان: من قبل أن
تضلوا. وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم رؤساء الضلالة من اليهود.
والثاني: رؤساء اليهود والنصارى، والآية خطاب للذين كانوا في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم نهوا أن يتبعوا
أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم.
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا
وكانوا يعتدون (78)
قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) في لعنهم قولان:
أحدهما: أنه نفس اللعن، ومعناه: المباعدة من الرحمة. قال ابن عباس: لعنوا على لسان
داود، فصاروا قردة، ولعنوا على لسان عيسى في الإنجيل. قال الزجاج: وجائز أن يكون داود
وعيسى أعلما أن محمدا نبي، ولعنا من كفر به.
307

والثاني: أنه المسخ، قاله مجاهد، لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، وعلى لسان
عيسى، فصاروا خنازير. وقال الحسن، وقتادة: لعن أصحاب السبت على لسان داود، فإنهم لما
اعتدوا، قال داود: اللهم العنهم، واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولعن أصحاب المائدة على
لسان عيسى، فإنهم لما أكلوا منها ولم يؤمنوا، قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب
السبت، فجعلوا خنازير.
قوله تعالى: (ذلك بما عصوا) أي: ذلك اللعن بمعصيتهم لله تعالى في مخالفتهم أمره
ونهيه، وباعتدائهم في مجاوزة ما حده لهم.
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)
قوله تعالى: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) التناهي: تفاعل من النهي، أي: كانوا لا
ينهى بعضهم بعضا عن المنكر. وذكر المفسرون في هذا المنكر ثلاثة أقوال:
أحدها: صيد السمك يوم السبت.
والثاني: أخذ الرشوة في الحكم.
والثالث: أكل الربا، وأثمان الشحوم. وذكر المنكر منكرا يدل على الإطلاق ويمنع هذا
الحصر، ويدل على ما قلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا
رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه
وشريبه، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان
داود وعيسى ابن مريم ".
قوله تعالى: (لبئس ما كانوا يفعلون) قال الزجاج: اللام دخلت للقسم والتوكيد،
والمعنى: لبئس شيئا فعلهم.
ترى كثير منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي
العذاب هم خلدون (80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء
ولكن كثيرا منهم فاسقون (81)
قوله تعالى: (ترى كثيرا منهم) في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم المنافقون، روي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد.
308

والثاني: أنهم اليهود، قاله مقاتل في آخرين، فعلى هذا القول انتظام الآيات ظاهر، وعلى
الأول يرجع الكلام إلى قوله [تعالى] (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم) وفي الذين
كفروا قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، قاله أرباب القول الأول.
والثاني: أنهم مشركو العرب، قاله أرباب هذا القول الثاني.
قوله تعالى: (لبئسما قدمت لهم أنفسهم) أي: بئسما قدموا لمعادهم (أن سخط الله
عليهم) قال الزجاج: يجوز أن تكون " أن " في موضع رفع على إضمار هو، كأنه قيل: هو أن
سخط الله عليهم.
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة
للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا
سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا
فاكتبنا مع الشاهدين (83)
قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود) قال المفسرون: نزلت هذه
الآية وما بعدها مما يتعلق بها في النجاشي وأصحابه. قال سعيد بن جبير: بعث النجاشي قوما إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها، وسنذكر قصتهم فيما بعد. قال
الزجاج: واللام في " لتجدن " لام القسم، والنون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال،
و " عداوة " منصوب على التمييز، واليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسدا للنبي [عليه
السلام].
قوله تعالى: (والذين أشركوا) يعني: عبدة الأوثان. فأما الذين قالوا: إنا نصارى، فهل
هذا عام في كل النصارى، أم خاص؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه خاص، ثم فيه قولان:
أحدهما: أنه أراد النجاشي وأصحابه لما أسلموا، قاله ابن عباس، وابن جبير.
والثاني: أنهم قوم من النصارى كانوا متمسكين بشريعة عيسى، فلما جاء محمد عليه السلام
أسلموا، قاله قتادة.
309

والقول الثاني: أنه عام. قال الزجاج: يجوز أن يراد به النصارى، لأنهم كانوا أقل مظاهرة
للمشركين من اليهود.
قوله تعالى: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا) وليس ذلك من أمر شريعتنا؟ فالجواب: أنه
مدحهم بالتمسك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمد ما أخذ عليهم في كتابهم، وقد كانت الرهبانية
مستحسنة في دينهم. والمعنى بأن فيهم علماء بما أوصى به عيسى من أمر محمد [صلى الله عليه وسلم]. قال
القاضي أبو يعلى: وربما ظن جاهل أن في هذه الآية مدح النصارى، وليس كذلك، لأنه إنما مدح من
آمن منهم، ويدل عليه ما بعد ذلك، ولا شك أن مقالة النصارى أقبح من مقالة اليهود.
قوله تعالى: (وأنهم لا يستكبرون)، أي: لا يتكبرون عن اتباع الحق.
قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول) قال ابن عباس: لما حضر أصحاب النبي
[صلى الله عليه وسلم] بين يدي النجاشي، وقرؤوا القرآن، سمع ذلك القسيسون والرهبان، فانحدرت دموعهم
مما عرفوا من الحق، فقال الله تعالى: (ذلك بأن منهم قسيسين) إلى قوله [تعالى]:
(الشاهدين). وقال سعيد بن جبير: بعث النجاشي من خيار أصحابه ثلاثين رجلا إلى رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] فقرأ عليهم القرآن، فبكوا ورقوا، وقالوا: نعرف والله، وأسلموا، وذهبوا إلى النجاشي
فأخبروه فأسلم، فأنزل الله فيهم (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول...) الآية. وقال السدي:
كانوا اثني عشر رجلا، سبعة من القسيسين، وخمسة من الرهبان، فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
القرآن، بكوا وآمنوا، فنزلت هذه الآية فيهم.
قوله تعالى: (فاكتبنا مع الشاهدين)، أي: مع من يشهد بالحق، وللمفسرين في المراد
بالشاهدين هاهنا أربعة أقوال:
أحدها: محمد وأمته، رواه علي بن أبي طلحة، وعكرمة عن ابن عباس.
والثاني: أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم]، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: الذين. يشهدون بالإيمان، قاله الحسن.
والرابع: الأنبياء والمؤمنون، قاله الزجاج.
وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84)
فأثابهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء
المحسنين (85) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحب الجحيم (86)
قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن بالله) قال ابن عباس: لامهم قومهم على الإيمان، فقالوا
310

هذا. وفي القوم الصالحين ثلاثة أقوال:
أحدها: أصحاب رسول الله، قاله ابن عباس.
والثاني: رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه، قاله ابن زيد.
والثالث: المهاجرون الأولون، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (وذلك جزاء المحسنين) قال ابن عباس: ثواب المؤمنين.
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب
المعتدين (87) وكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) في سبب نزولها ثلاثة
أقوال:
أحدها: أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عثمان بن مظعون، حرموا اللحم والنساء
على أنفسهم، وأرادوا جب أنفسهم ليتفرغوا للعبادة، فقال رسول الله: " لم أومر بذلك "، ونزلت
هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس. وروى أبو صالح عن ابن عباس، قال: كانوا عشرة:
أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وعثمان بن مظعون، والمقداد بن الأسود، وسالم مولى أبي حذيفة،
وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، فتواثقوا على ذلك، فبلغ
ذلك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال: " من رغب عن سنتي فليس مني " ونزلت هذه الآية. قال السدي: كان سبب
عزمهم على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما، فلم يزدهم على التخويف، فرق الناس، وبكوا، فعزم هؤلاء
على ذلك، وحلفوا على ما عزموا عليه. وقال عكرمة: إن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعثمان ابن
مظعون، والمقداد، وسالما مولى أبي حذيفة في أصحابه، تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا
المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا
بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أن رجلا أتى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقال: إني إذا أكلت من هذا اللحم، أقبلت
على النساء، وإني حرمته علي، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثالث: أن ضيفا نزل بعبد الله بن رواحة، ولم يكن حاضرا، فلما جاء، قال لزوجته:
هل أكل الضيف؟ فقالت: انتظرتك. فقال: حبست ضيفي من أجلي؟! طعامك علي حرام.
311

فقالت: وهو علي حرام إن لم تأكله، فقال الضيف: وهو علي حرام إن لم تأكلوه، فلما رأى ذلك
ابن رواحة قال: قربي طعامك، كلوا بسم الله، ثم غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك فقال:
أحسنت، ونزلت هذه الآية، وقرأ حتى بلغ (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) رواه عبد
الرحمن بن زيد عن أبيه. فأما " الطيبات " فهي اللذيذات التي تشتهيها النفوس مما أبيح وفي قوله
[تعالى]: " ولا تعتدوا " خمسة أقوال:
أحدها: لا تجبوا أنفسكم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم.
والثاني: لا تأتوا ما نهى الله عنه، قاله الحسن.
والثالث: لا تسيروا بغير سيرة المسلمين من ترك النساء، وإدامة الصيام، والقيام، قاله
عكرمة.
والرابع: لا تحرموا الحلال، قاله مقاتل.
والخامس: لا تغصبوا من الأموال المحرمة، ذكره الماوردي.
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام
عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام
ثلاثة أيام ذلك كفرة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته
لعلكم تشكرون (89)
قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) سبب نزولها: أنه لما نزل قوله
[تعالى]: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) قال القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم: يا
رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فنزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس.
وقد سبق ذكر " اللغو " في سورة (البقرة).
قوله تعالى: (بما عقدتم الأيمان) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن
عاصم: " عقدتم " بغير ألف، مشددة القاف. قال أبو عمرو: معناها: وكدتم، وقرأ أبو بكر،
والمفضل عن عاصم: " عقدتم " خفيفة بغير ألف، واختارها أبو عبيد. قال ابن جرير: معناها:
أوجبتموها على أنفسكم. وقرأ ابن عامر: " عاقدتم " بألف، مثل " عاهدتم ". قال القاضي أبو
يعلى: وهذه القراءة المشددة لا تحتمل إلا عقد قول. فأما المخففة، فتحتمل عقد القلب، وعقد
القول. وذكر المفسرون في معنى الكلام قولين:
312

أحدهما: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم عليه قلوبكم في التعمد لليمين، قاله مجاهد.
والثاني: بما عقدتم عليه قلوبكم أنه كذب، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: (فكفارته) قال ابن جرير: الهاء عائدة على " ما " في قوله: " بما عقدتم ".
فصل
فأما إطعام المساكين، فروي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن في
آخرين: أن لكل مسكين مدبر، وبه قال مالك، والشافعي. وروي عن عمر، وعلي، وعائشة في
آخرين: لكل مسكين نصف صاع من بر، قال عمر، وعائشة: أو صاعا من تمر، وبه قال أبو
حنيفة. ومذهب أصحابنا في جميع الكفارات التي فيها إطعام، مثل كفارة اليمين، والظهار، وفدية
الأذى، والمفرطة في قضاء رمضان، مد بر، أو نصف صاع تمر أو شعير. ومن شرط صحة
الكفارة، تمليك الطعام للفقراء، فإن غداهم وعشاهم، لم يجزئه، وبه قال سعيد بن جبير،
والحكم، والشافعي. وقال الثوري، والأوزاعي: يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، ومالك. ولا يجوز
صرف مدين إلى مسكين واحد، ولا إخراج القيمة في الكفارة، وبه قال الشافعي. وقال أبو
حنيفة: يجوز. قال الزجاج: وإنما وقع لفظ الذكير في المساكين، ولو كانوا إناثا لأجزأ، لأن
المغلب في كلام العرب التذكير. وفي قوله [تعالى]: (من أوسط ما تطعمون أهليكم) قولان:
أحدهما: من أوسطه في القدر، قاله عمر، وعلي، وابن عباس، ومجاهد.
والثاني: من أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، والأسود، وعبيدة، والحسن وابن
سيرين. وروي عن ابن عباس قال: كان أهل المدينة [يقرون] للحر من القوت أكثر ما
للمملوك، وللكبير أكثر ما للصغير، فنزلت (من أوسط ما تطعمون أهليكم) ليس بأفضله ولا
بأخسه. وفي كسوتهم خمسة أقوال:
أحدها: أنها ثوب واحد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وطاووس، وعطاء، والشافعي.
والثاني: ثوبان، قاله أبو موسى الأشعري، وابن المسيب، والحسن، وابن سيرين،
والضحاك
والثالث: إزار ورداء وقميص، قاله ابن عمر.
والرابع: ثوب جامع كالملحفة، قاله إبراهيم النخعي.
والخامس: كسوة تجزئ فيها الصلاة، قاله مالك. ومذهب أصحابنا: أنه إن كسا الرجل،
كساه ثوبا، والمرأة ثوبين، درعا وخمارا، وهو أدنى ما تجزئ فيه الصلاة. وقرأ أبو عبد الرحمن
313

السلمي، وأبو الجوزاء، ويحيى بن يعمر: " أو كسوتهم "، بضم الكاف. وقد قرأ سعيد بن
جبير، وأبو العالية، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ: " أو كإسوتهم " بهمزة مكسورة، مفتوحة
الكاف، مكسورة التاء والهاء. وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران الجوزي مثله، إلا أنهما فتحا
الهمزة. قال المصنف: ولا أرى هذه القراءة جائزة، لأنها تسقط أصلا من أصول الكفارة.
قوله تعالى: (أو تحرير رقبة) تحريرها: عتقها، والمراد بالرقبة: جملة الشخص. واتفقوا
على اشتراط إيمان الرقبة في كفارة القتل لموضع النص.
واختلفوا في إيمان الرقبة المذكورة في هذه الكفارة على قولين:
أحدهما: أنه شرط، وبه قال الشافعي، لأن الله تعالى قيد بذكر الإيمان في كفارة القتل،
فوجب حمل المطلق على المقيد.
والثاني: ليس بشرط، وبه قال أبو حنيفة، وعن أحمد رضي الله عنه في إيمان الرقبة المعتقة
في كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع، والمنذورة، روايتان.
قوله تعالى (فمن لم يجد) اختلفوا فيما إذا لم يجده، صام، على خمسة أقوال:
أحدها: أنه إذا لم يجد درهمين صام، قاله الحسن.
والثاني: ثلاثة دراهم، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: إذا لم يجد إلا قدر ما يكفر به، صام، قاله قتادة.
والرابع: مئتي درهم، قاله أبو حنيفة.
والخامس: إذا لم يكن له إلا قدر قوته وقوت عائلته يومه وليلته، قاله أحمد، والشافعي،
وفي تتابع الثلاثة أيام، قولان:
أحدهما: أنه شرط، وكان أبي، وابن مسعود يقرآن: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وبه قال
ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، وقتادة، وأبو حنيفة، وهو قول أصحابنا.
والثاني: ليس بشرط، ويجوز التفريق، وبه قال الحسن، ومالك. والشافعي فيه قولان:
قوله تعالى: (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) فيه إضمار تقديره: إذا حلفتم وحنثتم.
وفي قوله [تعالى]: (واحفظوا أيمانكم) ثلاثة أقوال:
314

أحدها: أقلوا منها، ويشهد له قوله [تعالى]: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم)
وأنشدوا:
قليل الألايا حافظ ليمينه
والثاني: احفظوا أنفسكم من الحنث فيها.
والثالث: راعوها لكي تؤدوا الكفارة عند الحنث فيها.
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلم رجس من عمل الشيطان
فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أن سعد بن أبي وقاص أتى نفرا من المهاجرين والأنصار، فأكل عندهم، وشرب
الخمر، قبل أن تحرم، فقال: المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجل لحي جمل فضربه،
فجدع أنفه، فأتى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فأخبره، فنزلت هذه الآية، رواه مصعب بن سعد عن أبيه.
وقال سعيد بن جبير: صنع رجل من الأنصار صنيعا، فدعا سعد بن أبي وقاص، فلما أخذت فيهم
الخمرة افتخروا واستبوا، فقام الأنصاري إلى لحي بعير، فضرب به رأس سعد، فإذا الدم على
وجهه، فذهب سعد يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل تحريم الخمر في قوله [تعالى]: (إنما الخمر
والميسر) إلى قوله [تعالى]: (تفلحون).
والثاني: أن عمر بن الخطاب قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الآية
رواه أبو ميسرة عن عمر.
والثالث: أن أناسا من المسلمين شربوها، فقاتل بعضهم بعضا، وتكلموا بما لا يرضاه الله
من القول، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والرابع: أن قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثملوا عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل
الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته، فيقول: صنع بي هذا أخي فلان!! والله لو كان بي رؤوفا
315

ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فنزلت
هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقد ذكرنا الخمر والميسر في البقرة وذكرنا في
" النصب " في أول هذه السورة قولين، وهما اللذان ذكرهما المفسرون في الأنصاب. وذكرنا هناك
" الأزلام " فأما الرجس، فقال الزجاج: هو اسم لكل ما استقذر من عمل، يقال: رجس الرجل
يرجس، ورجس يرجس: إذا عمل عملا قبيحا، والرجس بفتح الراء: شدة الصوت، فكأن
الرجس، العمل الذي يقبح ذكره، ويرتفع في القبح، ويقال: رعد رجاس، إذا كان شديد
الصوت.
قوله تعالى: (من عمل الشيطان) قال ابن عباس: من تزيين الشيطان. فإن قيل: كيف
نسب إليه، وليس من فعله؟ فالجواب: أن نسبته إليه مجاز، وإنما نسب إليه، لأنه هو الداعي
إليه، المزين له، ألا ترى أن رجلا لو أغرى رجلا بضرب رجل، لجاز أن يقال له: هذا من
عملك.
قوله تعالى: (فاجتنبوه) قال الزجاج: اتركوه. واشتقاقه في اللغة: كونوا جانبا منه. فإن
قيل: كيف ذكر في هذه الآية أشياء، ثم قال: فاجتنبوه؟ فالجواب: أن الهاء عائدة على
الرجس، والرجس واقع على الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، ورجوع الهاء عليه بمنزلة
رجوعها على الجمع الذي هو واقع عليه، ومنبئ عنه، ذكره ابن الأنباري.
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العدوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن
ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن
توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلغ المبين (92)
قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) أما
" الخمر " فوقوع العداوة والبغضاء فيها على نحو ما ذكرنا في سبب نزول الآية من القتال والمماراة.
وأما الميسر، فقال قتادة: كان الرجل يقامر على أهله وماله، فيقمر ويبقى حزينا سليبا، فينظر إلى
ماله في يد غيره، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء.
قوله تعالى: (فهل أنتم منتهون) فيه قولان:
أحدهما: أنه لفظ استفهام، ومعناه: الأمر. تقديره: انتهوا. قال الفراء: ردد علي
أعرابي: هل أنت ساكت، هل أنت ساكت؟ وهو يريد: اسكت، اسكت.
316

والثاني: أنه استفهام، لا بمعنى: الأمر، ذكر شيخنا علي بن عبيد الله أن جماعة كانوا
يشربون الخمر بعد هذه الآية، ويقولون: إنها لم يحرمها، إنما قال: (فهل أنتم منتهون)،
فقال بعضنا: انتهينا وقال بعضنا: لم ننته فلما نزلت (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما
بطن والإثم) حرمت، لأن " الإثم " اسم للخمر. وهذا القول ليس بشئ، والأول أصح.
قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فيما أمراكم، واحذروا خلافهما (فإن
توليتم) أي: أعرضتم، فاعلموا أنكم قد استحققتم العقاب لتوليكم.
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا
الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (93)
قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) سبب نزولها:
أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر، إذ كانت مباحة، فلما حرمت، قال
ناس: كيف بأصحابنا وقد ماتوا وهم يشربونها؟! فنزلت هذه الآية، قاله البراء بن عازب.
و " الجناح ": الإثم. وفيما طعموا ثلاثة أقوال:
أحدها: ما شربوا من الخمر قبل تحريمها، قاله ابن عباس، قال ابن قتيبة: يقال: لم
أطعم خبزا وأدما ولا ماء ولا نوما. قال الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء سواكم * وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
النقاخ: الماء [البارد] الذي ينقخ الفؤاد ببرده، والبرد: النوم.
والثاني: ما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر.
والثالث: ما طعموا من المباحات. وفي قوله [تعالى]: (إذا ما اتقوا) ثلاثة أقوال:
أحدها: اتقوا بعد التحريم، قاله ابن عباس.
والثاني: اتقوا المعاصي والشرك.
والثالث: اتقوا مخالفة الله في أمره. وفي قوله [تعالى]: (وآمنوا) قولان:
أحدهما: امنوا بالله ورسوله.
والثاني: آمنوا بتحريمها. قوله تعالى: (وعملوا الصالحات) قال مقاتل: أقاموا على
الفرائض.
317

قوله تعالى: (ثم اتقوا) في هذه التقوى المعادة أربعة أقوال:
أحدها: أن المراد خوف الله عز وجل.
والثاني: أنها تقوى الخمر والميسر بعد التحريم.
والثالث: أنها الدوام على التقوى.
والرابع: أن التقوى الأولى مخاطبة لمن شربها قبل التحريم، والثانية لمن شربها بعد
التحريم.
قوله تعالى: (وآمنوا) في هذا الإيمان المعاد قولان:
أحدهما: صدقوا بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
والثاني: آمنوا بما يجئ من الناسخ والمنسوخ.
قوله تعالى: (ثم اتقوا وأحسنوا) في هذه التقوى الثالثة أربعة أقوال:
أحدها: اجتنبوا العود إلى الخمر بعد تحريمها، قاله ابن عباس.
والثاني: اتقوا ظلم العباد.
والثالث: توقوا الشبهات.
والرابع: اتقوا جميع المحرمات.
وفي الإحسان قولان:
أحدهما: أحسنوا العمل بترك شربها بعد التحريم، قاله ابن عباس.
والثاني: أحسنوا العمل بعد تحريمها، قاله مقاتل.
يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله
من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (94)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد) قال المفسرون: لما كان
عام الحديبية، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بالتنعيم، كانت الوحوش والطير تغشاهم في رحالهم، وهم
محرمون، فنزلت هذه الآية، ونهوا عنها ابتلاء. قال الزجاج: اللام في " ليبلونكم " لام
القسم، ومعناه: لنختبرن طاعتكم من معصيتكم. وفي " من " قولان:
أحدهما: أنها للتبعيض، ثم فيه قولان:
318

أحدهما: أنه عنى صيد البر دون صيد البحر.
والثاني: أنه عنى الصيد ما داموا في الإحرام كأن ذلك بعض الصيد.
والثاني: أنها لبيان الجنس، كقوله [تعالى]: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان).
قوله تعالى: (تناله أيديكم ورماحكم) قال مجاهد: الذي تناله اليد: الفراخ والبيض،
وصغار الصيد، والذي تناله الرماح: كبار الصيد.
قوله تعالى: (ليعلم الله) قال مقاتل: ليرى الله من يخافه بالغيب ولم يره، فلا يتناول
الصيد وهو محرم (فمن اعتدى) فأخذ الصيد عمدا بعد النهي للمحرم عن قتل الصيد (فله
عذاب أليم) قال ابن عباس: يوسع بطنه وظهره جلدا، وتسلب ثيابه.
يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل
من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بلغ الكعبة أو كفارة طعام مسكين أو عدل
ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله
عزيز ذو انتقام (95)
قوله تعالى: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) بين الله عز وجل بهذه الآية من أي وجه تقع
البلوى، وفي أي زمان، وما على من قتله بعد النهي؟. وفي قوله: (وأنتم حرم) ثلاثة أقوال:
أحدها: وأنتم محرمون بحج أو عمرة، قاله الأكثرون.
والثاني: وأنتم في الحرم، يقال: أحرم: إذا دخل في الحرم، وأنجد: إذا أتى نجدا
والثالث: الجمع بين القولين.
قوله تعالى: (ومن قتله منكم متعمدا) فيه قولان:
أحدهما: أن يتعمد قتله ذاكرا لإحرامه، قاله ابن عباس، وعطاء.
والثاني: أن يتعمد قتله ناسيا لإحرامه، قاله مجاهد. فأما قتله خطأ، ففيه قولان:
أحدهما: أنه كالعمد، قاله عمر، وعثمان، والجمهور. قال الزهري: نزل القرآن
بالعمد، وجرت السنة في الخطأ، يعني: ألحقت المخطئ بالمتعمد في وجوب الجزاء وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الضبع صيد وفيه كبش إذا قتله المحرم " وهذا عام في العامد والمخطئ.
319

قال القاضي أبو يعلى: أفاد تخصيص العمد بالذكر ما ذكر في أثناء الآية من الوعيد، وإنما يختص
ذلك بالعامد.
والثاني: أنه لا شئ فيه، قاله ابن عباس، وابن جبير، وطاووس، وعطاء، وسالم،
والقاسم، وداود. وعن أحمد روايتان: أصحهما الوجوب.
قوله تعالى: (فجزاء مثل ما قتل من النعم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن
عامر: (فجزاء مثل) مضافة وبخفض " مثل ". وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " فجزاء "
منون " مثل " مرفوع. قال أبو علي: من أضاف، فقوله [تعالى]: (من النعم) يكون صفة
للجزاء، وإنما قال: مثل ما قتل، وإنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، لأنهم يقولون: أنا أكرم
مثلك، يريدون: أن أكرمك، فالمعنى: جزاء ما قتل. ومن رفع " المثل "، فالمعنى: فعليه
جزاء من النعم مماثل للمقتول، والتقدير: فعليه جزاء. قال ابن قتيبة: النعم: الإبل، وقد يكون
البقر والغنم، والأغلب عليها الإبل. وقال الزجاج: النعم في اللغة: الإبل والبقر والغنم، فإن
انفردت الإبل، قيل لها: نعم، وإن انفردت البقر والغنم، لم تسم نعما.
فصل
قال القاضي أبو يعلى: والصيد الذي يجب الجزاء بقتله: ما كان مأكول اللحم، كالغزال،
وحمار الوحش، والنعامة، ونحو ذلك، أو كان متولدا من حيوان يؤكل لحمه، كالسمع، فإنه
متولد من الضبع، والذئب، وما عدا ذلك من السباع كلها، فلا جزاء على قاتلها، سواء ابتدأ
قتلها، أو عدت عليه، فقتلها دفعا عن نفسه، لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة، فلم يدخل
تحت الآية، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للمحرم قتل الحية، والعقرب، والفويسقة، والغراب،
والحدأة، والكلب العقور، والسبع العادي. قال: والواجب بقتل الصيد فيما له مثل من الأنعام
مثله، وفيما لا مثل له قيمته، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه القيمة،
وحمل المثل على القيمة، وظاهر الآية يرد ما قال، ولأن الصحابة حملوا الآية على المثل من طريق
الصورة، فقال ابن عباس: المثل: النظير، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بعير.
قوله تعالى: (يحكم به ذوا عدل منكم) يعني بالجزاء، وإنما ذكر اثنين، لأن الصيد
يختلف في نفسه، فافتقر الحكم بالمثل إلى عدلين.
قوله تعالى: (منكم) يعني: من أهل ملتكم.
320

قوله تعالى: (هديا بالغ الكعبة) قال الزجاج: هو منصوب على الحال، والمعنى:
يحكمان به مقدرا أن يهدى. ولفظ قوله " بالغ الكعبة " لفظ معرفة، ومعناه: النكرة. والمعنى:
بالغا الكعبة، إلا أن التنوين حذف استخفافا. قال ابن عباس: إذا أتى مكة ذبحه، وتصدق به.
قوله تعالى: (أو كفارة) قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: (أو
كفارة) منونا (طعام) رفعا. وقرأ نافع، وابن عامر: (أو كفارة) رفعا غير منون (طعام
المساكين) على الإضافة. قال أبو علي: من رفع ولم يضف، جعله عطفا على الكفارة عطف
بيان، لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة إلى الطعام، لأن الكفارة لقتل الصيد، لا
للطعام، ومن أضاف الكفارة إلى الطعام، فلأنه لما خير المكفر بين الهدي، والطعام، والصيام،
جازت الإضافة لذلك، فكأنه قال: كفارة طعام، لا كفارة هدي، ولا صيام. والمعنى: أو عليه
بدل الجزاء والكفارة، وهي طعام مساكين. وهل يعتبر في إخراج الطعام قيمة النظير، أو قيمة
الصيد؟ فيه قولان:
أحدهما: قيمة النظير، وبه قال عطاء، والشافعي، وأحمد.
والثاني: قيمة الصيد، وبه قال قتادة، وأبو حنيفة، ومالك. وفي قدر الإطعام لكل مسكين
قولان:
أحدهما: مدان من بر، وبه قال ابن عباس، وأبو حنيفة.
والثاني: مد بر، وبه قال الشافعي، وعن أحمد روايتان، كالقولين.
قوله تعالى: (أو عدل ذلك صياما) قرأ أبو رزين، والضحاك، وقتادة، والجحدري،
وطلحة: (أو عدل ذلك)، بكسر العين. وقد شرحنا هذا المعنى في (البقرة). قال
أصحابنا: يصوم عن كل مد بر، أو نصف صاع تمر، أو شعير يوما. وقال أبو حنيفة: يصوم يوما
عن نصف صاع في الجميع. وقال مالك، والشافعي: يصوم يوما عن كل مد من الجميع.
فصل
وهل هذا الجزاء على الترتيب، أم على التخيير؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه على التخيير بين إخراج النظير، وبين الصيام، وبين الإطعام.
والثاني: أنه على الترتيب، إن لم يجد الهدي، اشترى طعاما، فإن كان معسرا صام، قاله
ابن سيرين. والقولان مرويان عن ابن عباس، وبالأول قال جمهور الفقهاء.
321

قوله تعالى: (ليذوق وبال أمره) أي: جزاء ذنبه. قال الزجاج: " الوبال ": ثقل الشئ
في المكروه، ومنه قولهم: طعام وبيل، وماء وبيل: إذا كانا ثقيلين. قال الله عز وجل:
(فأخذناه أخذا وبيلا) أي: ثقيلا شديدا.
قوله تعالى: (عفا الله عما سلف) فيه قولان:
أحدهما: ما سلف في الجاهلية، من قتلهم الصيد، وهم محرمون، قاله عطاء.
والثاني: ما سلف من قتل الصيد في أول مرة، حكاه ابن جرير، والأول أصح. فعلى القول
الأول يكون معنى قوله: (ومن عاد) في الإسلام، وعلى الثاني: (ومن عاد) ثانية بعد أولى.
قال أبو عبيدة: " عاد " في موضع يعود، وأنشد:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
قوله تعالى: (فينتقم الله منه) " الانتقام " المبالغة في العقوبة، وهذا الوعيد بالانتقام لا
يمنع إيجاب جزاء ثان إذا عاد، وهذا قول الجمهور، وبه قال مالك والشافعي، وأحمد. وقد
روي عن ابن عباس، والنخعي، وداود: أنه لا جزاء عليه في الثاني، إنما وعد بالانتقام.
أحل لكم صيد البحر وطعامه متعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما
واتقوا الله الذي إليه تحشرون (96)
قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر) قال أحمد: يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع
والتمساح، لأن التمساح يأكل الناس يعني: أنه يفرس. وقال أبو حنيفة، والثوري: لا يباح منه
إلا السمك، وقال ابن أبي ليلى، ومالك: يباح كل ما فيه من ضفدع وغيره فأما طعامه، ففيه ثلاثة
أقوال:
أحدها: ما نبذه البحر ميتا، قاله أبو بكر، وعمر، وابن عمر، وأبو أيوب، وقتادة.
والثاني: أنه مليحه، قاله سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير والسدي، وعن ابن عباس
ومجاهد، وعكرمة كالقولين. واختلفت الرواية عن النخعي. فروي عنه كالقولين، وروي عنه أنه
جمع بينهما، فقال: طعامه المليح وما لفظه.
322

والثالث: أنه ما نبت بمائة من زروع البر، وإنما قيل لهذا: طعام البحر، لأنه ينبت بمائه،
حكاه الزجاج، وفي المتاع قولان:
أحدهما: أنه المنفعة، قاله ابن عباس، والحسن وقتادة.
والثاني: أنه الحل قاله النخعي. قال مقاتل: متاعا لكم صيد البحر.
قوله تعالى: (صيد البحر ما دمتم حرما) أما الاصطياد فمحرم على المحرم، فإن صيد
لأجله، حرم عليه أكله خلافا لأبي حنيفة، فإن أكل فعليه الضمان خلافا لأحد قولي الشافعي، فإن
ذبح المحرم صيدا، فهو ميتة خلافا لأحد قولي الشافعي أيضا. فإن ذبح الحلال صيدا في الحرم،
فهو ميتة أيضا، خلافا لأكثر الحنفية.
* جعل الله الكعبة البيت الحرام قيما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد
ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شئ عليم (97)
اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (98)
قوله تعالى: (جعل الله الكعبة) جعل بمعنى: صير. وفي تسمية الكعبة كعبة قولان:
أحدهما: لأنها مربعة، قاله عكرمة، ومجاهد.
والثاني: لعلوها ونتوئها، يقال: كعبت المرأة كعابة، وهي كاعب، إذا نتأ ثديها. ومعنى تسمية
البيت بأنه حرام: أنه حرم أن يصاد عنده، وأن يختلى ما عنده من الخلا، وأن يعضد شجره،
وعظمت حرمته. والمراد بتحريم البيت سائر الحرم، كما قال: (هديا بالغ الكعبة) وأراد: الحرم.
والقيام: بمعنى القوام. وقرأ ابن عامر: قيما بغير ألف. قال أبو علي: وجهه على أحد أمرين، إما أن
يكون جعله مصدرا، كالشبع. أو حذف الألف وهو يريدها، كما يقصر الممدود. وفي معنى الكلام
ستة أقوال:
أحدها: قياما للدين، ومعالم للحج، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: قياما لأمر من توجه إليها، رواه العوفي عن ابن عباس. قال قتادة: كان الرجل لو جر
كل جريرة، ثم لجأ إليها، لم يتناول.
والثالث: قياما لبقاء الدين، فلا يزال في الأرض دين ما حجت واستقبلت، قاله الحسن.
والرابع: قوام دنيا وقوام دين، قاله أبو عبيدة.
والخامس: قياما للناس، أي: مما أمروا أن يقوموا بالفرض فيه، ذكره الزجاج.
323

والسادس: قياما لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التجارة عندها، ذكره بعض
المفسرين.
فأما الشهر الحرام، فالمراد به الأشهر الحرم، كانوا يأمن بعضهم بعضا فيها، فكان ذلك قواما
لهم، وكذلك إذا أهدى الرجل هديا أو قلد بعيره أمن كيف تصرف، فجعل الله تعالى هذه الأشياء
عصمة للناس بما جعل في صدورهم من تعظيمها.
قوله تعالى: (ذلك لتعلموا) ذكر ابن الأنباري في المشار إليه بذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أخبر في هذه السورة بغيوب كثيرة من أخبار الأنبياء وغيرهم، وأطلع
على أشياء من أحوال اليهود والمنافقين، فقال: ذلك لتعلموا، أي: ذلك الغيب الذي أنبأتكم به
عن الله يدلكم على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ولا تخفى عليه خافية.
والثاني: أن العرب كانت تسفك الدماء بغير حلها، وتأخذ الأموال بغير حقها، ويقتل أحدهم
غير القاتل، فإذا دخلوا البلد الحرام، أو دخل الشهر الحرام، كفوا عن القتل. والمعنى: جعل
الله الكعبة أمنا، والشهر الحرام أمنا، إذ لو لم يجعل للجاهلية وقتا يزول فيه الخوف لهلكوا، فذلك
يدل على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض.
والثالث: أن الله تعالى صرف قلوب الخلق إلى مكة في الشهور المعلومة، فإذا وصلوا إليها
عاش أهلها معهم، ولولا ذلك ماتوا جوعا، لعلمه بما في ذلك من صلاحهم، وليستدلوا بذلك
على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض.
والرابع: أن الله تعالى جعل مكة أمنا، وكذلك الشهر الحرام، فإذا دخل الظبي الوحشي
الحرم، أنس بالناس، ولم ينفر من الكلب، ولم يطلبه الكلب، فإذا خرجا عن حدود الحرم،
طلبه الكلب، وذعر هو منه، والطائر يأنس بالناس في الحرم، ولا يزال يطير حتى يقرب من
البيت، فإذا قرب منه عدل عنه، ولم يطر فوقه إجلالا له، فإذا لحقه وجع طرح نفسه على سقف
البيت استشفاء به، فهذه الأعاجيب في ذلك المكان، وفي ذلك الشهر قد دللن على أن الله تعالى
يعلم ما في السماوات وما في الأرض.
ما على الرسول إلا البلغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (99)
قوله تعالى: (ما على الرسول إلا البلاغ) في هذه الآية تهديد شديد. وزعم مقاتل أنها
نزلت والتي بعدها، في أمر شريح بن ضبيعة وأصحابه، وهم حجاج اليمامة حين هم المسلمون
بالغارة عليهم، وقد سبق ذكر ذلك في أول السورة. وهل هذه الآية محكمة، أم لا؟ فيه قولان:
324

أحدهما: أنها محكمة، وأنها تدل على أن الواجب على الرسول التبليغ، وليس عليه
الهدى.
والثاني: أنها كانت قبل الأمر بالقتال، ثم نسخت بآية السيف.
قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب
لعلكم تفلحون (100)
قوله تعالى: (لا يستوي الخبيث والطيب) روى جابر بن عبد الله أن رجلا قال: يا رسول
الله إن الخمر كانت تجارتي، فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الله لا يقبل إلا الطيب " فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الخبيث والطيب
أربعة أقوال:
أحدها: الحلال والحرام، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: المؤمن والكافر، قاله السدي.
والثالث: المطيع والعاصي.
والرابع: الردئ والجيد، ذكرهما الماوردي. ومعنى الاعجاب هاهنا: السرور بما يتعجب
منه.
يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل
القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم (101)
قوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) في سبب نزولها ستة أقوال:
أحدها: أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فقام مغضبا خطيبا، فقال:
" سلوني فوالله لا تسألوني عن شئ ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم "، فقام رجل من قريش،
يقال له: عبد الله بن حذافة كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال:
أبوك حذافة، فقام آخر، فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام عمر فقال: رضينا بالله ربا،
وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، إنا حديثو عهد بجاهلية، والله أعلم من آباؤنا،
325

فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن أبي هريرة، وقتادة عن أنس.
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال: " إن الله كتب عليكم الحج، فقام عكاشة
ابن محصن، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: أما إني لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ثم
تركتم لضللتم، اسكتوا عني ما سكت عنكم، فإنما هلك من هلك ممن كان قبلكم بكثرة سؤالهم،
واختلافهم على أنبيائهم " فنزلت هذه الآية، رواه محمد بن زياد عن أبي هريرة. وقيل: إن
السائل عن ذلك الأقرع بن حابس.
والثالث: أن قوما كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول
الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو الجورية عن ابن عباس.
والرابع: أن قوما سألوا الرسول [صلى الله عليه وسلم] عن البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام،
فنزلت هذه الآية، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير.
والخامس: أن قوما كانوا يسألون الآيات والمعجزات، فنزلت هذه الآية، روي هذا المعنى
عن عكرمة.
والسادس: أنها نزلت في تمنيهم الفرائض، وقولهم: وددنا أن الله تعالى أذن لنا في قتال
المشركين، وسؤالهم عن أحب الأعمال إلى الله، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال الزجاج:
(أشياء) في موضع خفض إلا أنها فتحت، لأنها لا تنصرف. و (تبد لكم): تظهر لكم. فأعلم
الله تعالى أن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع، لأنه يسوء الجواب عنه. وقال ابن
عباس: إن تبد لكم، أي: إن نزل القرآن فيها بتغليظ، ساءكم ذلك.
قوله تعالى: (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن) أي: حين ينزل القرآن فيها بفرض أو
إيجاب، أو نهي أو حكم، وليس في ظاهر ما نزل دليل على شرح ما بكم إليه حاجة، فإذا سألتم
حينئذ عنها تبد لكم. وفي قوله [تعالى]: (عفا الله عنها) قولان:
أحدهما: أنه إشارة إلى الأشياء.
والثاني: إلى المسألة، فعلى القول الأول في الآية تقديم وتأخير. والمعنى: لا تسألوا عن
326

أشياء إن تبد لكم تسؤكم، عفا الله عنها. ويكون معنى: عفا الله عنها: أمسك عن ذكرها، فلم
يوجب فيها حكما. وعلى القول الثاني، الآية على نظمها، ومعنى: عفا الله عنها: لم يؤاخذ
بها.
قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كفرين (102)
قوله تعالى: (قد سألها قوم من قبلكم) في هؤلاء القوم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم الذين سألوا عيسى نزول المائدة، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: أنهم قوم صالح حين سألوا الناقة، هذا على قول السدي. وهذان القولان يخرجان
على أنهما سألوا الآيات.
والثالث: أن القوم هم الذين سألوا في شأن البقرة وذبحها، فلو ذبحوا بقرة لأجزأت،
ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، قاله ابن زيد. وهذا يخرج على سؤال من سأل عن الحج، إذ لو
أراد الله أن يشدد عليهم بالزيادة في الفرض لشدد.
والرابع: أنهم الذين قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، وهذا عن ابن زيد
أيضا، وهو يخرج على من قال: إنما سألوا عن الجهاد والفرائض تمنيا لذلك. قال مقاتل: كان
بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدقوهم، فأصبحوا
بتلك الأشياء كافرين.
ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على
الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون (103)
قوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة) أي: ما أوجب ذلك، ولا أمر به. وفي " البحيرة "
أربعة أقوال:
أحدها: أنها الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكرا نحروه، فأكله
الرجال والنساء، وإن كان أنثى شقوا أذنها، وكانت حراما على النساء لا ينتفعن بها، ولا يذقن من
لبنها، ومنافعها للرجال خاصة، فإذا ماتت، اشترك فيها الرجال والنساء، قاله ابن عباس، واختاره
ابن قتيبة.
والثاني: أنها الناقة تلد خمس إناث ليس فيهن ذكر، فيعمدون إلى الخامسة، فيبتكون
أذنها، قاله عطاء.
327

والثالث: أنها ابنة السائبة، قاله ابن إسحاق، والفراء: قال ابن إسحاق: كانت الناقة إذا
تابعت بين عشر إناث، ليس فيهن ذكر، سيبت، فإذا نتجت بعد ذلك أنثى، شقت أذنها،
وسميت بحيرة، وخليت مع أمها.
والرابع: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها، أي:
شقوها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا تمنع عن مرعى، وإذا لقيها لم
يركبها، قاله الزجاج. فأما " السائبة "، فهي فاعلة بمعنى: مفعولة، وهي المسيبة، كقوله
[تعالى]: (في عيشة راضية): أي مرضية. وفي السائبة خمسة أقوال:
أحدها: أنها التي تسيب من الأنعام للآلهة، لا يركبون لها ظهرا، ولا يحلبون لها لبنا، ولا
يجزون منها وبرا، ولا يحملون عليها شيئا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: أن الرجل كان يسيب من ماله ما شاء، فيأتي به خزنة الآلهة، فيطعمون ابن السبيل
من ألبانه ولحومه إلا النساء، فلا يطعمونهن شيئا منه إلا أن يموت، فيشترك فيه الرجال والنساء،
رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقال الشعبي: كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم، ويتركونها عند
الآلهة، فلا يشرب منها إلا رجل، فان مات منها شئ أكله الرجال والنساء.
والثالث: أنها الناقة إذا ولدت عشرة أبطن، كلهن إناث، سيبت، فلم تركب، ولم يجزلها
وبر، ولم يشرب لبنها إلا ضيف أو ولدها حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء، ذكره
الفراء.
والرابع: أنها البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله تعالى من مرض أو بلغه منزله
أن يفعل ذلك، قاله ابن قتيبة. قال الزجاج: كان الرجل إذا نذر لشئ من هذا، قال: ناقتي
سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ولا تمنع من ماء ومرعى.
والخامس: أنه البعير يحج عليه الحجة، فيسيب، ولا يستعمل شكرا لنجحها، حكا
الماوردي عن الشافعي. وفي " الوصيلة " خمسة أقوال:
أحدها: أنها الشاة إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا إلى السابع، فإن كان أنثى، لم ينتفع
النساء منها بشئ إلا أن تموت، فيأكلها الرجال والنساء، وإن كان ذكرا، ذبحوه، فأكلوه جميعا.
وإن كان ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها، فتترك مع أخيها فلا تذبح، ومنافعها للرجال دون
النساء، فإذا ماتت، اشترك فيها الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذهب إلى نحوه
ابن قتيبة، فقال: إن كان السابع ذكرا، ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى، تركت في
النعم، وإن كان ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم تذبح، لمكانها، وكانت لحومها حراما
328

على النساء، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منها شئ فيأكله الرجال والنساء.
والثاني: أنها الناقة البكر تبتكر في أول نتاج الإبل بالأنثى، ثم تثني بالأنثى، فكانوا يستبقونها
لطواغيتهم، ويدعونها الوصيلة، أي: وصلت إحداهما بالأخرى، ليس بينهما ذكر، رواه الزهري عن
ابن المسيب.
والثالث: أنها الشاة تنتج عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن، فيدعونها الوصيلة، وما ولدت
بعد ذلك فللذكور دون الإناث، قاله ابن إسحاق.
والرابع: أنها الشاة تنتج سبعة أبطن، عناقين عناقين، فإذا ولدت في سابعها عناقا وجديا،
قيل: وصلت أخاها، فجرت مجرى السائبة، قاله الفراء.
والخامس: أن الشاة كانت إذا ولدت أنثى، فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتم فإن
ولدت ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، قاله الزجاج.
وفي " الحام " ستة أقوال:
أحدها: أنه الفحل، ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقولون: قد حمى ظهره، فيسيبونه
لأصنامهم، ولا يحمل عليه، قاله ابن مسعود، وابن عباس، واختاره أبو عبيدة، والزجاج.
والثاني: أنه الفحل يولد لولده، فيقولون: قد حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه، ولا يجزون
وبره، ولا يمنعونه ماء، ولا مرعى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، واختاره الفراء، وابن قتيبة.
والثالث: أنه الفحل يظهر من أولاده عشر إناث من بناته، وبنات بناته، قاله عطاء
والرابع: أنه الذي ينتج له سبع إناث متواليات، قاله ابن زيد.
والخامس: أنه الذي لصلبه عشرة كلها تضرب في الإبل، قاله أبو روق.
والسادس: أنه الفحل يضرب في إبل الرجل عشر سنين، فيخلى ويقال: قد حمى ظهره، ذكره
الماوردي عن الشافعي. قال الزجاج: والذي ذكرناه في البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام أثبت
ما روينا عن أهل اللغة. وقد أعلم الله عز وجل في هذه الآية أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئا، وإن
الذين كفروا افتروا على الله عز وجل. قال مقاتل: وافتراؤهم: قولهم: إن الله حرمه، وأمرنا به. وفي
قوله [تعالى]: (وأكثرهم لا يعقلون) قولان:
أحدهما: وأكثرهم، يعني: الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب على الله من الرؤساء الذين
حرموا، قاله الشعبي.
والثاني: لا يعقلون أن هذا التحريم من الشيطان، قاله قتادة.
329

وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه
آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104)
قوله تعالى: (وإذا قيل لهم) يعني: إذا قيل لهؤلاء المشركين الذين حرموا على أنفسهم هذه
الأنعام: تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن من تحليل ما حرمتهم على أنفسكم، قالوا: (حسبنا)
أي: يكفينا (ما وجدنا عليه آباءنا) من الدين والمنهاج (أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا) من
الدين (ولا يهتدون) له، أيتبعونهم في خطئهم.
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم
جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون (105)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هجر، وعليهم المنذر بن ساوي يدعوهم إلى الاسلام، فإن
أبوا فليؤدوا الجزية، فلما أتاه الكتاب، عرضه على من عنده من العرب واليهود والنصارى
والمجوس، فأقروا بالجزية، وكرهوا الإسلام، فكتب إليهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " أما العرب فلا تقبل
منهم إلا الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس، فاقبل منهم الجزية " فلما قرأ عليهم
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت العرب، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية، فقال منافقو مكة:
عجبا لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، وقد قبل من مجوس هجر، وأهل الكتاب
الجزية، فهلا أكرههم على الاسلام، وقد ردها على إخواننا من العرب، فشق ذلك على المسلمين،
فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لا يقبل الجزية
إلا من أهل الكتاب فلما أسلمت العرب طوعا وكرها، قبلها من مجوس هجر، فطعن المنافقون في
ذلك، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أن الرجل كان إذا أسلم، قالوا له: سفهت آباءك وضللتهم، وكان ينبغي لك أن
تنصرهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد. قال الزجاج: ومعنى الآية: إنما ألزمكم الله أمر أنفسكم،
ولا يؤاخذكم بذنوب غيركم، وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف، لأن المؤمن إذا تركه وهو
مستطيع له، فهو ضال، وليس بمهتد. وقال عثمان بن عفان: لم يأت تأويلها بعد. وقال ابن
330

مسعود: تأويلها في آخر الزمان: قولوا ما قبل منكم، فإذا غلبتم، فعليكم أنفسكم. وفي وقاله
[تعالى]: (لا يضركم من ضل) قولان:
أحدهما: لا يضركم من ضل بترك الأمر بالمعروف إذا اهتديتم أنتم للأمر بالمعروف، والنهي
عن المنكر، قاله حذيفة بن اليمان، وابن المسيب.
والثاني: لا يضركم من ضل من أهل الكتاب إذا أدوا الجزية، قاله مجاهد. وفي قوله
[تعالى]: (فينبئكم بما كنتم تعملون (تنبيه على الجزاء.
فصل
فعلى ما ذكرنا عن الزجاج في معنى الآية، هي محكمة، وقد ذهب قوم من المفسرين إلى أنها
منسوخة، ولهم في ناسخها قولان:
أحدهما: أنه آية السيف.
والثاني: أن آخرها نسخ أولها. روي عن أبي عبيد أنه قال: ليس في القرآن آية جمعت
الناسخ والمنسوخ غير هذه، وموضع المنسوخ منها إلى قوله [تعالى]: (لا يضركم من ضل)
والناسخ: قوله: إذا اهتديتم. والهدى هاهنا: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
يا أيها الذين آمنوا شهدة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا
عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت
تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى
ولا نكتم شهدة الله إنا إذا لمن الآثمين (106)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان
تميم الداري، وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة، فصحبهما رجل من قريش من بني سهم، فمات
بأرض ليس فيها أحد من المسلمين، فأوصى إليهما بتركته، فلما قدما، دفعاها إلى أهله، وكتما جاما
كان معه من فضة، وكان مخوصا بالذهب، فقالا: لم نره، فأتي بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحلفهما
بالله: ما كتما، وخلى سبيلهما، ثم إن الجام وجد عند قوم من أهل مكة، فقالوا: ابتعناه من تميم
331

الداري، وعدي بن بداء، فقام أولياء السهمي، فأخذوا الجام، وحلف رجلان منهم بالله: إن هذا
الجام جام صاحبنا، وشهادتنا أحق من شهادتهما، وما اعتدينا، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها.
قال مقاتل: واسم الميت: بزيل بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السهمي، وكان تميم، وعدي
نصرانيين، فأسلم تميم، ومات عدي نصرانيا. فأما التفسير: فقال الفراء: معنى الآية: ليشهدكم
اثنان إذا حضر أحدكم الموت. قال الزجاج: المعنى: شهادة هذه الحال شهادة اثنين، فحذف
" شهادة " ويقوم " اثنان " مقامهما. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ليشهدكم في سفركم إذا
حضركم الموت، وأردتم الوصية اثنان. وفي هذه الشهادة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الشهادة على الوصية التي ثبتت عند الحكام، وهو قول ابن مسعود، وأبي موسى،
وشريح، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والثوري، والجمهور.
والثاني: أنها أيمان الوصي بالله تعالى إذا ارتاب الورثة بهما، وهو قول مجاهد.
والثالث: أنها شهادة الوصية، أي: حضورها، كقوله [تعالى]: (أم كنتم شهداء إذ حضر
يعقوب الموت) جعل الله الوصي هاهنا اثنين تأكيدا، واستدل أرباب هذا القول بقوله [تعالى]:
(فيقسمان بالله) قالوا: والشاهد لا يلزمه يمين. فأما " حضور الموت " فهو حضور أسبابه
ومقدماته. وقوله [تعالى]: (حين الوصية)، أي: وقت الوصية. وفي قوله: " منكم " قولان:
أحدهما: من أهل دينكم وملتكم، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب،
وسعيد بن جبير وشريح، وابن سيرين، والشعبي، وهو قول أصحابنا.
والثاني: من عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضا، قاله الحسن وعكرمة، والزهري،
والسدي.
قوله تعالى: (أو آخران) تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم. وفي قوله [تعالى]: (من
غيركم) قولان.
أحدهما: من غير ملتكم ودينكم، قاله أرباب القول الأول.
والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضا، قاله أرباب القول الثاني. وفي
" أو " قولان:
أحدهما: أنها ليست للتخيير، وإنما المعنى: أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم، وبه
قال ابن عباس، وابن جبير.
332

والثاني: أنها للتخيير، ذكره الماوردي.
فصل
والقائل بأن المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة، أو من غير القبيلة لا يشك في إحكام هذه
الآية. فأما القائل بأن المراد بقوله: " أو آخران من غيركم " أهل الكتاب إذا شهدوا على الوصية في
السفر، فلهم فيها قولان:
أحدهما: أنها محكمة، والعمل على هذا باق، وهو قول ابن عباس، وابن المسيب، وابن
جبير، وابن سيرين، وقتادة، والشعبي، والثوري، وأحمد في آخرين.
والثاني: أنها منسوخة بقوله [تعالى]: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وهو قول زيد بن أسلم،
وإليه يميل أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، قالوا: وأهل الكفر ليسوا بعدول، والأول أصح، لأن هذا
موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض والنفاس
والاستهلال.
قوله تعالى: (إن أنتم ضربتم) هذا الشرط متعلق بالشهادة، والمعنى: ليشهدكم اثنان إن أنتم
ضربتم في الأرض، أي: سافرتم. (فاصابتكم مصيبة الموت) فيه محذوف، تقديره: وقد أسندتم
الوصية إليهما، ودفعتم إليهما مالكم (تحبسونهما من بعد الصلاة) خطاب للورثة إذا ارتابوا. وقال
ابن عباس: هذا من صلة قوله: " أو آخران من غيركم " أي: من الكفار، فأما إذا كانا مسلمين، فلا
يمين عليهما. وفي هذه الصلاة قولان:
أحدهما: صلاة العصر، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال شريح، وابن جبير، وإبراهيم،
وقتادة، والشعبي.
والثاني: من بعد صلاتهما في دينهما، حكاه السدي عن ابن عباس، وقال به. وقال الزجاج:
كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس. وقال ابن قتيبة: لأنه وقت
يعظمه أهل الأديان.
قوله تعالى: (فيقسمان بالله) أي: فيحلفان (إن ارتبتم) أي: شككتم يا أولياء الميت.
ومعنى الآية: إذا قدم الموصى إليهما بتركة المتوفي، فاتهمهما الوارث، استحلفا بعد صلاة العصر:
أنهما لم يسرقا، ولم يخونا. فالشرط في قوله: " إن ارتبتم " متعلق بتحبسونهما، كأنه قال: إن ارتبتم
حبستموهما فاستخلفتموهما، فيحلفان بالله: (لا نشتري به) أي: بأيماننا، وقيل: بتحريف
شهادتنا، فالهاء عائدة على المعنى. (ثمنا) أي: عرضا من الدنيا (ولو كان ذا قربى) أي: ولو كان
المشهود له ذا قرابة منا، وخص ذا القرابة، لميل القريب إلى قريبه. والمعنى: لا نحابي في شهادتنا
333

أحدا، ولا نميل مع ذي القربى في قول الزور (ولا نكتم شهادة الله) إنما أضيفت إليه، لأمره
بإقامتها، ونهيه عن كتمانها، وقرأ سعيد بن جبير: " ولا نكتم شهادة " بالتنوين " الله " بقطع الهمزة
وقصرها، وكسر الهاء، ساكنة النون في الوصل. وقرأ سعيد بن المسيب، وعكرمة " شهادة " بالتنوين
والوصل منصوبة الهاء. وقرأ أبو عمران الجوني " شهادة " بالتنوين وإسكانها في الوصل الله بقطع
الهمزة وقصرها مفتوحة الهاء وقرأ الشعبي وابن السميفع " شهادة " بالتنوين وإسكانها في الوصل
" الله " بقطع الهمزة، ومدها، وكسر الهاء. وقرأ أبو العالية، وعمرو بن دينار مثله، إلا أنهما نصبا
الهاء. واختلف العلماء لأي معنى وجبت اليمين على هذين الشاهدين، على ثلاثة أقوال:
أحدها: لكونهما من غير أهل الاسلام، روي هذا المعنى عن أبي موسى الأشعري.
والثاني: لوصية وقعت بخط الميت وفقد ورثته بعض ما فيها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: لأن الورثة كانوا يقولون: كان مال ميتنا أكثر، فاستخانوا الشاهدين، قاله الحسن،
ومجاهد.
فإن عثر على أنهما استحقا إثما فاخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأولين
فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهدتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين (107)
قوله تعالى: (فإن عثر على أنهما استحقا إثما) قال المفسرون: لما نزلت الآية الأولى، دعا
رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عديا وتميما، فاستحلفهما عند المنبر: أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما فحلفا،
وخلى سبيلهما، ثم ظهر الإناء الذي كتماه، فرفعهما أولياء الميت إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فنزلت (فإن
عثر على أنهما استحقا إثما) ومعنى " عثر ": اطلع أي: إن عثر أهل الميت، أو من يلي أمره، على
أن الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا (استحقا إثما) لميلهما عن الاستقامة في شهادتهما
(فآخران يقومان مقامهما) أي: مقام هذين الخائنين (من الذين استحق عليهم الأوليان) قرأ ابن
كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: " استحق " بضم التاء، (الأوليان) على التثنية وفي
قوله [تعالى]: (من الذين استحق عليهم) قولان:
أحدهما: أنهما الذميان.
والثاني: الوليان فعلى الأول في معنى (استحق عليهم) أربعة أقوال:
أحدها: استحق عليهم الإيصاء، قال ابن الأنباري: المعنى: من القوم الذين استحق فيهم
الإيصاء، استحقه الأوليان بالميت، وكذلك قال الزجاج: المعنى: من الذين استحقت الوصية أو
الإيصاء عليهم.
334

والثاني: أنه الظلم، والمعنى: من الذين استحق عليهم ظلم الأوليين فحذف الظلم، وأقام
الأوليين مقامه، ذكره ابن القاسم أيضا.
والثالث: أنه الخروج مما قاما به من الشهادة، لظهور خيانتهما.
والرابع: أنه الاثم، والمعنى: استحق منهم الاثم، ونابت " على " عن " من " كقوله
[تعالى]: (على الناس يستوفون) أي: منهم. وقال الفراء: " على " بمعنى " في " كقوله [تعالى]:
(على ملك سليمان) أي: في ملكه، ذكر القولين أبو علي الفارسي. وعلى هذه الأقوال مفعول
" استحق " محذوف مقدر، وعلى القول الثاني في معنى (استحق عليهم) قولان:
أحدهما: استحق منهم الأوليان، وهو اختيار ابن قتيبة.
والثاني: عليهم الاثم، ذكره الزجاج.
فأما " الأوليان " فقال الأخفش: الأوليان: اثنان، وأحدهما: الأولى، والجمع: الأولون: ثم
للمفسرين فيهما قولان:
أحدهما: أنهما أولياء الميت، قاله الجمهور، قال الزجاج: " الأوليان " في قول أكثر البصريين
يرتفعان على البدل مما في " يقومان " والمعنى: فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين. وقال
أبو علي: لا يخلو الأوليان أن يكون ارتفاعهما على الابتداء، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال:
فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان، أو يكون بدلا من الضمير الذي في " يقومان " والتقدير: فيقوم الأوليان.
والقول الثاني: أن الأوليان: هما الذميان، والمعنى: أنهما الأوليان بالخيانة ذكرهما ابن
الأنباري وروى قرة عن ابن كثير، وحفص وعاصم: " استحق " بفتح التاء والحاء " الأوليان " على
التثنية، والمعنى: استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها، فحذف المفعول. وقرأ
حمزة، وأبو بكر عن عاصم: " استحق " برفع التاء، وكسر الحاء، " الأولين " بكسر اللام، وفتح
النون على الجمع، والتقدير: من الأولين الذين استحق فيهم الإثم، أي: جني عليهم، لأنهم كانوا
أولين في الذكر. ألا ترى أنه قد تقدم (ذوا عدل منكم) على قوله [تعالى]: (أو آخران من
غيركم) وروى الحلبي عن عبد الوارث " الأولين " بفتح الواو وتشديدها، وفتح اللام، وسكون
الياء، وكسر النون، وهي تثنية: أول. وقرأ الحسن البصري: " استحق " بفتح التاء والحاء،
" الأولان " تثنية " أول " على البدل من قوله: " فآخران " وقال ابن قتيبة: أشبه الأقوال بالآية أن الله
تعالى أراد أن يعرفنا كيف يشهد بالوصية عند حضور الموت فقال: (ذوا عدل منكم) أي: عدلان
من المسلمين وعلم أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل
القرية التي لا يسكنها غيرهم، ويحضره الموت، فلا يجد من يشهده من المسلمين، فقال: (أو
335

آخران من غيركم)، أي: من غير أهل دينكم، فالذميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما
(تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم) أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إن
ارتبتم في شهادتهما، وخشيتم أن يكونا قد خانا، أو بدلا فإذا حلفا، مضت شهادتهما، فإن عثر أي:
ظهر على أنهما استحقا إثما، أي: حنثا في اليمين بكذب أو خيانة، فآخران، أي: قام في اليمين
مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان، وهما الوليان يقال: هذا الأولى بفلان،
ثم يحذف من الكلام " بفلان " فيقال: هذا الأولى، وهذان الأوليان، و " عليهم " بمعنى: " منهم "
فيحلفان بالله: لقد ظهرنا على خيانة الذميين، وكذبهما، وما اعتدينا عليهما، ولشهادتنا أصح،
لكفرهما وإيماننا، فيرجع على الذميين بما اختانا، وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك.
وقال غيره: لشهادتنا، أي: ليميننا أحق، وسميت اليمين شهادة، لأنها كالشهادة على ما يحلف عليه
أنه كذلك. قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص، والمطلب بن أبي وداعة
السهميان، فحلفا بالله، ودفع الاناء إليهما وإلى أولياء الميت.
ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمن بعد أيمنهم واتقوا الله
واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين (108)
قوله تعالى: (ذلك أدنى) أي: ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين، أقرب إلى إتيان أهل
الذمة بالشهادة على وجهها، أي: على ما كانت، وأقرب أن يخافوا أن ترد أيمان أولياء الميت بعد
أيمانهم، فيحلفون على خيانتهم، فيفتضحوا، ويغرموا، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا ذلك.
(واتقوا الله) أن تحلفوا كاذبين، أو تخونوا أمانة، واسمعوا الموعظة.
* يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لاعلم لنا إنك أنت علم الغيوب (109)
قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل) قال الزجاج: نصب (يوم) محمول على قوله
[تعالى]: (واتقوا يوم): واتقوا جمعة للرسل. ومعنى مسألته للرسل توبيخ الذين أرسلوا
إليهم. فأما قول الرسل: (لا علم لنا) ففيه ستة أقوال:
أحدها: أنهم طاشت عقولهم حين زفرت جهنم، فقالوا: (لا علم لنا) ثم ترد إليهم
عقولهم، فينطلقون بحجتهم، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد،
والسدي.
والثاني: أن المعنى: (لا علم لنا) إلا علم أنت أعلم به منا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن
عباس.
336

والثالث: أن المراد بقوله [تعالى]: (ماذا أجبتم): ماذا عملوا بعدكم، وأحدثوا،
فيقولون: (لا علم لنا)، قاله ابن جريج، وفيه بعد.
والرابع: أن المعنى: (لا علم لنا) مع علمك، لأنك تعلم الغيب، ذكره الزجاج.
والخامس: أن المعنى: (لا علم لنا) كعلمك، إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا،
ونحن نعلم ما أظهروا، ولا نعلم ما أضمروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا، هذا اختيار ابن
الأنباري.
والسادس: (لا علم لنا) بجميع أفعالهم إذ كنا نعلم بعضها وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان
بعد وفاتنا، وإنما يستحق الجزاء بما تقع به الخاتمة، حكاه ابن الأنباري. قال المفسرون: إذا رد
الأنبياء العلم إلى الله أبلست الأمم، وعلمت أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه، وأن الكل لا
يخرجون عن قبضته.
قوله تعالى: (علام الغيوب) قال الخطابي: العلام: بمنزلة العليم، وبناء " فعال " بناء
التكثير، فأما " الغيوب " فجمع غيب، وهو ما غاب عنك.
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس
تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ
تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه
والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم
بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110)
قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى) قال ابن عباس: معناه: وإذ يقول.
قوله تعالى: (اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك) في تذكيره النعم فائدتان:
إحداهما: إسماع الأمم ما خصه به من الكرامة.
والثانية: توكيد حجته على جاحده. ومن نعمه على مريم أنه اصطفاها وطهرها، وأتاها برزقها
من غير سبب. وقال الحسن: المراد بذكر النعمة: الشكر. فأما النعمة، فلفظها لفظ الواحد، ومعناها
الجمع. فإن قيل: لم قال هاهنا: * (فتنفخ فيها) * وفي (آل عمران) " فيه "؟ فالجواب: أنه جائز
أن يكون ذكر الطير على معنى الجميع، وأنث على معنى الجماعة، وجاز أن يكون " فيه " للطير،
337

و " فيها " للهيئة ذكره أبو علي الفارسي.
قوله تعالى: (إن هذا إلا سحر مبين) قرأ ابن كثير، وعاصم هاهنا، وفي (هود)
و (الصف) (إلا سحر مبين)، وقرأ في (يونس) (لساحر مبين) بألف. وقرأ نافع، وأبو
عمرو، وابن عامر، الأربعة (سحر مبين) بغير ألف، فمن قرأ " سحر " أشار إلى ما جاء به، ومن
قرأ " ساحر "، أشار إلى الشخص.
وإذ أوحيت إلى الحوارين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون (111)
وفي الوحي إلى الحواريين قولان:
أحدهما: أنه بمعنى الإلهام، قاله الفراء. وقال السدي: قذف في قلوبهم.
والثاني: أنه بمعنى الأمر، فتقديره: أمرت الحواريين و " إلى " صلة، قاله أبو عبيدة. وفي
قوله [تعالى]: (واشهد) قولان:
أحدهما: أنهم يعنون الله تعالى.
والثاني: عيسى عليه السلام.
وقوله [تعالى]: (بأننا مسلمون) أي: مخلصون للعبادة والتوحيد. وقد سبق شرح ما أهمل
هاهنا فيما تقدم.
إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من
السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112)
قوله تعالى: (هل يستطيع ربك) قال الزجاج: أي: هل يقدر. وقرأ الكسائي: " هل تستطيع "
بالتاء، ونصب الرب. قال الفراء: معناه: هل تقدر أن تسأل ربك. قال ابن الأنباري: ولا يجوز لأحد
أن يتوهم أن الحواريين شكوا في قدرة الله، وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم
معي، وهو يعلم أنه مستطيع، ولكنه يريد: هل يسهل عليك. وقال أبو علي: المعنى: هل يفعل
ذلك بمسألتك إياه. وزعم بعضهم أنهم قالوا ذلك قبل استحكام إيمانهم ومعرفتهم، فرد عليهم
عيسى بقوله: اتقوا الله، أن تنسبوه إلى عجز، والأول أصح. فأما " المائدة " فقال اللغويون:
المائدة: كل ما كان عليه من الأخونة طعام، فإذا لم يكن عليه طعام، فليس بمائدة، والكأس: كل
إناء فيه شراب، فإذا لم يكن فيه شراب، فليس بكأس، ذكره الزجاج. قال الفراء: وسمعت بعض
338

العرب يقول للطبق الذي تهدى عليه الهدية: هو المهدى، مقصور، ما دامت عليه الهدية، فإذا كان
فارغا رجع إلى اسمه إن كان طبقا أو خوانا أو غير ذلك. وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن لفظها
فاعلة، وهي في المعنى مفعولة، مثل (عيشة راضية). قال أبو عبيدة: وهي من العطاء،
والممتاد: المفتعل المطلوب منه العطاء، قال الشاعر:
إلى أمير المؤمنين الممتاد
وماد زيد عمرا: إذا أعطاه. قال الزجاج: والأصل عندي في " مائدة " أنها فاعلة من: ماد
يميد: إذا تحرك، فكأنها تميد بما عليها. وقال ابن قتيبة: المائدة: الطعام، من: مادني يميدني،
كأنها تميد الآكلين، أي: تعطيهم، أو تكون فاعلة بمعنى: مفعول بها، أي: ميد بها الآكلون.
قوله تعالى: * (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: اتقوه أن تسألوه البلاء، لأنها إن نزلت وكذبتم، عذبتم، قاله مقاتل.
والثاني: أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم، ذكره أبو عبيد.
والثالث: أن تشكوا في قدرته.
قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من
الشاهدين (113)
قوله تعالى: (قالوا نريد أن نأكل منها) هذا اعتذار منهم بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا
عنه. وفي إرادتهم للأكل منها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أرادوا ذلك للحاجة، وشدة الجوع، قاله ابن عباس.
والثاني: ليزدادوا إيمانا، ذكره ابن الأنباري.
والثالث: للتبرك بها، ذكره الماوردي. وفي قوله [تعالى]: (وتطمئن قلوبنا) ثلاثة أقوال:
أحدها: تطمئن إلى أن الله تعالى قد بعثك إلينا نبيا.
والثاني: إلى أن الله تعالى قد اختارنا يكون أعوانا لك.
والثالث: إلى أن الله تعالى قد أجابك. وقال ابن عباس: قال لهم عيسى: هل لكم أن
تصوموا لله ثلاثين يوما، ثم لا تسألونه شيئا إلا أعطاكم؟ فصاموا، ثم سألوا المائدة. فمعنى:
(ونعلم أن صدقتنا) في أنا إذا صمنا ثلاثين يوما لم نسأل الله شيئا إلا أعطانا. وفي هذا العلم
قولان:
339

أحدهما: أنه علم يحدث لهما لم يكن، وهو قول من قال: كان سؤالهم قبل استحكام
معرفتهم.
والثاني: أنه زيادة علم إلى علم، ويقين إلى يقين، وهو قول من قال: كان سؤالهم بعد
معرفتهم. وقرأ الأعمش: " وتعلم " بالتاء، والمعنى: وتعلم القلوب أن قد صدقتنا. وفي قوله
[تعالى]: من الشاهدين أربعة أقوال:
أحدها: من الشاهدين لله بالقدرة، ولك بالنبوة.
والثاني: عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم، وذلك أنهم كانوا مع عيسى في البرية عند هذا
السؤال.
والثالث: من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدنا من الآيات الدالة على أنك نبي.
والرابع: من الشاهدين لك عند الله بأداء ما بعثت به.
قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا
وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين (114)
قوله تعالى: (تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا) وقرأ ابن محيصن، وابن السميفع، والجحدري:
" لأولانا وأخرانا " برفع الهمزة، وتخفيف الواو، والمعنى: يكون اليوم الذي نزلت فيه عيدا لنا،
نعظمه نحن ومن بعدنا، قاله قتادة، والسدي. وقال كعب: أنزلت عليهم يوم الأحد، فاتخذوه عيدا.
وقال ابن قتيبة: عيدا، أي: مجمعا. قال الخليل بن أحمد: العيد: كل يوم يجمع، كأنهم عادوا
إليه. وقال ابن الأنباري: سمي عيدا للعود من الترح إلى الفرح.
قوله تعالى: (وآية منك) أي: علامة منك تدل على توحيدك، وصحة نبوة نبيك. وقرأ ابن
السميفع، وابن محيصن، والضحاك " وأنه منك " بفتح الهمزة، وبنون مشددة. وفي قوله
[تعالى]: (وارزقنا) قولان.
أحدهما: ارزقنا ذلك من عندك.
والثاني: ارزقنا الشكر على ما أنعمت به من إجابتك لنا.
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من
العلمين (115)
340

قوله تعالى: (قال الله إني منزلها عليكم) قرأ نافع، وعاصم، وابن عامر " منزلها "
بالتشديد، وقرأ الباقون خفيفة. وهذا وعد بإجابة سؤال عيسى. واختلف العلماء: هل نزلت، أم لا؟
على قولين:
أحدهما: أنها نزلت، قاله الجمهور، فروى وهب بن منبه عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان
الفارسي قال: لما رأى عيسى أنهم قد جدوا في طلبها لبس جبة من شعر، ثم توضأ، واغتسل،
وصف قدميه في محرابه حتى استويا، وألصق الكعب بالكعب، وحاذى الأصابع بالأصابع، ووضع
يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وطأطأ رأسه خضوعا، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت تسيل
دموعه على خده، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض من دموعه حيال وجهه، ثم رفع رأسه
إلى السماء، فقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، فبينما عيسى كذلك، هبطت عليهم مائدة
من السماء، سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من تحتها، وغمامة من فوقها، وعيسى يبكي
ويتضرع، ويقول: إلهي اجعلها سلامة، لا تجعلها عذابا، حتى استقرت بين يديه، والحواريون من
حوله، فأقبل هو وأصحابه حتى قعدوا حولها، وإذا عليهم منديل مغطى، فقال عيسى: أيكم أوثق
بنفسه وأقل بلاء عند ربه فليأخذ هذا المنديل، وليكشف لنا عن هذه الآية. قالوا: يا روح الله أنت
أولانا بذلك، فاكشف عنها، فاستأنف وضوءا جديدا، وصلى ركعتين، وسأل ربه أن يأذن له بالكشف
عنها، ثم قعد إليها، وتناول المنديل، فإذا عليها سمكة مشوية، ليس فيها شوك، وحولها من كل
البقل ما خلا الكراث، وعند رأسها الخل، وعند ذنبها الملح، وحولها خمسة أرغفة، على رغيف
تمر، وعلى رغيف زيتون، وعلى رغيف خمس رمانات. فقال شمعون رأس الحواريين: يا روح الله
أمن طعام الدنيا هذا، أمن طعام الجنة؟ فقال عيسى: سبحان الله أما تنتهون! ما أخوفني عليكم.
قال شمعون. لا وإله بني إسرائيل ما أردت بهذا سوءا. قال عيسى: ليس ما ترون عليها من طعام
الدنيا، ولا من طعام الجنة، إنما هو شئ ابتدعه الله، فقال له: " كن " فكان أسرع من طرفة عين.
فقال الحواريون: يا روح الله إنما نريد أن ترينا في هذه الآية آية، فقال: سبحان الله! ما اكتفيتم بهذه
الآية؟! ثم أقبل على السمكة فقال: عودي بإذن الله حية طرية، فعادت تضطرب على المائدة، ثم
قال: عودي كما كنت، فعادت مشوية، فقال: يا روح الله كن أنت أول من يأكل منها، فقال: معاذ
الله بل يأكل منها من سألها، فلما رأوا امتناعه، خافوا أن يكون نزولها عقوبة، فلما رأى عيسى ذلك
دعا لها الفقراء والزمنى واليتامى، فقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، ليكون مهنؤها لكم،
وعقوبتها على غيركم، فأكل منها ألف وسبعمائة إنسان، يصدرون عنها شباعا وهي كهيئتها حين
نزلت، فصح كل مريض، واستغنى كل فقير أكل منها، ثم نزلت بعد ذلك عليهم، فازدحموا عليها،
فجعلها عيسى نوبا بينهم، فكانت تنزل عليهم أربعين يوما، تنزل يوما وتغب يوما، وكانت تنزل عند
ارتفاع الضحى، فيأكلون منها حتى إذا قالوا، ارتفعت إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها في
341

الأرض. وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشية، حيث كانوا: وقال غيره: نزلت يوم الأحد
مرتين. وقيل: نزلت غدوة وعشية يوم الأحد، فلذلك جعلوه عيدا. وفي الذي كان على المائدة
ثمانية أقوال:
أحدها: أنه خبز ولحم، روي عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نزلت المائدة من
السماء خبزا ولحما ".
والثاني: أنها سمكة مشوية، وخمس أرغفة، وتمر، وزيتون، ورمان. وقد ذكرناه عن سلمان.
والثالث: ثمر من ثمار الجنة، قاله عمار بن ياسر، وقال قتادة: ثمر من ثمار الجنة، وطعام من
طعامها.
والرابع: خبز، وسمك، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن: وأبو عبد الرحمن
السلمي.
والخامس: قطعة من ثريد، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والسادس: أنه أنزل عليها كل شئ إلا اللحم، قاله سعيد بن جبير.
والسابع: سمكة فيها طعم كل شئ من الطعام، قاله عطية العوفي.
والثامن: خبز أرز وبقل، قاله ابن السائب.
والقول الثاني: أنها لم تنزل، روى قتادة عن الحسن أن المائدة لم تنزل، لأنه لم قال الله
تعالى: (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) قالوا: لا حاجة لنا
فيها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: أنزلت مائدة عليها ألوان من الطعام، فعرضها عليهم،
وأخبرهم أنه العذاب إن كفروا، فأبوها فلم تنزل. وروى ليث عن مجاهد قال: هذا مثل ضربه الله
تعالى لخلقه، لينهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه، ولم ينزل عليهم شئ، والأول أصح.
قوله تعالى: (فمن يكفر بعد منكم) أي: بعد إنزال المائدة. وفي العذاب المذكور
قولان:
أحدهما: أنه المسخ.
342

والثاني: جنس من العذاب لم يعذب به أحد سواهم. قال الزجاج: ويجوز أن يعجل لهم في
الدنيا، ويجوز أن يكون في الآخرة. وفي " العالمين " قولان:
أحدهما: أنه عام.
والثاني: عالمو زمانهم. وقد ذكر المفسرون أن جماعة من أصحاب المائدة مسخوا. وفي
سبب مسخهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أمروا أن لا يخونوا، ولا يدخروا، فخانوا وادخروا، فمسخوا قردة وخنازير، رواه
عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن عيسى خص بالمائدة الفقراء، فتكلم الأغنياء بالقبيح من القول، وشككوا الناس
فيها، وارتابوا، فلما أمسى المرتابون بها، وأخذوا مضاجعهم، مسخهم الله خنازير، قاله سلمان
الفارسي.
والثالث: أن الذين شاهدوا المائدة، ورجعوا إلى قومهم، فأخبروهم، فضحك بهم من لم
يشهد، وقالوا: إنما سحر أعينكم، وأخذ بقلوبكم، فمن أراد الله به خيرا، ثبت على بصيرته، ومن
أراد به فتنة، رجع إلى كفره. فلعنهم عيسى، فأصبحوا خنازير، فمكثوا ثلاثة أيام، ثم هلكوا، قاله
ابن عباس.
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال
سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي
ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علم الغيوب (116)
قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم) في زمان هذا القول قولان:
أحدهما: أنه يقوله له يوم القيامة، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج.
والثاني: أنه قاله له حين رفعه إليه، قاله السدي، والأول أصح. وفي (إذ) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها زائدة، والمعنى: وقال الله، قاله أبو عبيدة.
والثاني: أنها على أصلها، والمعنى: وإذ يقول الله له، قاله ابن قتيبة.
والثالث: أنها بمعنى: " إذا "، كقوله [تعالى]: (ولو ترى إذ فزعوا) والمعنى: إذا. قال
أبو النجم:
343

ثم جزاك الله عني إذ جزى * جنات عدن في السماوات العلا
ولفظ الآية لفظ الاستفهام، ومعناها التوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسى. قال أبو عبيدة: وإنما
قال: " إلهين "، لأنهم إذ أشركوا فعل ذكر مع فعل أنثى ذكروهما. فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا
مريم إلها، فكيف قال الله تعالى ذلك فيهم؟ فالجواب: أنهم لما قالوا: لم تلد بشرا، وإنما ولدت
إلها، لزمهم أن يقولوا: إنها من حيث البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا بمثابة من قاله.
قوله تعالى: (قال سبحانك) أي: براءة لك من السوء (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي
بحق) أي: لست أستحق العبادة، فأدعو الناس إليها. وروى عطاء بن السائب عن ميسرة قال: لما
قال الله تعالى لعيسى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) رعد كل مفصل منه
حتى وقع مخافة أن يكون قد قاله، وما قال: إني لم أقل، ولكنه قال: (إن كنت قلته، فقد علمته)
فإن قيل: ما الحكمة في سؤال الله تعالى له عن ذلك وهو يعلم أنه ما قاله؟ فالجواب: أنه تثبيت
للحجة على قومه، وإكذاب لهم في ادعائهم عليه أنه أمرهم بذلك، ولإنه إقرار من عيسى بالعجز
في قوله [تعالى]: (ولا أعلم ما في نفسك) وبالعبودية في قوله [تعالى]: (أن اعبدوا الله
ربي وربكم).
قوله تعالى: (تعلم ما في نفسي) قال الزجاج: تعلم ما أضمره، ولا أعلم ما عندك علمه،
والتأويل: تعلم ما أعلم وأنا لا أعلم ما تعلم.
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت
فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد (117)
قوله تعالى: (أن اعبدوا الله) قال مقاتل: وحدوه.
قوله تعالى: (وكنت عليهم شهيدا) أي: على ما يفعلون ما كنت مقيما فيهم، (فلما
توفيتني) فيه قولان:
أحدهما: بالرفع إلى السماء.
والثاني: بالموت عند انتهاء الأجل. و " الرقيب " مشروح في سورة (النساء)، و " الشهيد "
في (آل عمران).
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118)
قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) * قال الحسن، وأبو العالية: إن تعذبهم، فبإقامتهم
344

على كفرهم، وإن تغفر لهم، فبتوبة كانت منهم. وقال الزجاج: علم عيسى أن منهم من آمن،
ومنهم من أقام على الكفر، فقال في جملتهم: (إن تعذبهم) أي: إن تعذب من كفر منهم فإنهم
عبادك، وأنت العادل فيهم، لأنك قد أوضحت لهم الحق، فكفروا، وإن تغفر لهم، أي: وإن تغفر
لمن أقلع منهم، وآمن، ذلك تفضل منك، لأنه قد كان لك أن لا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم، وأنت
في مغفرتك لهم عزيز، لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك. وقال ابن الأنباري: معنى الكلام:
لا ينبغي لأحد أن يعترض عليك، فإن عذبتهم، فلا اعتراض عليك، وإن غفرت لهم - ولست فاعلا
إذا ماتوا على الكفر - فلا اعتراض عليك. وقال غيره: العفو لا ينقص عزك، ولا يخرج عن حكمك.
وقد روى أبو ذر قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام ليلة بآية يرددها: (إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر
لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها
أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم (119) لله ملك السماوات والأرض وما فيهن
وهو على كل شئ قدير (120)
قوله تعالى: (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) قرأ الجمهور برفع اليوم، وقرأ نافع
بنصبه على الظرف. قال الزجاج: المعنى: قال الله هذا لعيسى في يوم ينفع الصادقين صدقهم،
ويجوز أن يكون على معنى: قال الله هذا الذي ذكرناه يقع في يوم ينفع في يوم ينفع الصادقين صدقهم. والمراد
باليوم: يوم القيامة. وإنما خص نفع الصدق به، لأنه يوم الجزاء. وفي هذا الصدق قولان:
أحدهما: أنه صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة.
والثاني: صدقهم في الآخرة ينفعهم هنالك. وفي هذه الآية تصديق لعيسى فيما قال.
قوله تعالى: (رضي الله عنهم) أي: بطاعتهم، (ورضوا عنه) بثوابه. وفي قوله
[تعالى]: (لله ملك السماوات والأرض) تنبيه على عبودية عيسى، وتحريض على تعليق الآمال
بالله وحده.
تم - بعون الله تبارك وتعالى - الجزء الثاني، من كتاب
" زاد المسير في علم التفسير " ويليه الجزء الثالث
وأوله تفسير " سورة الأنعام "
345