الكتاب: تفسير الثعلبي
المؤلف: الثعلبي
الجزء: ٧
الوفاة: ٤٢٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور ، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠٢م
المطبعة: بيروت - لبنان - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

((سورة الحج))
مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة وهي قوله (هذان خصمانإلى قوله الحميد، وهي خمسة آلاف وخمسة وتسعونحرفا وألف ومائتان وإحدى وسبعون كلمة وثمان وسبعون آية
أخبرنا أبو الحسن الجرجاني غير مرة قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي وأبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصبهاني قالا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال: حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدثنا سلام بن سليم المدائني قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد ابن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولاكن عذاب الله شديد * ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير * ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الارحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الارض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذالك بأن الله هو الحق وأنه يحى الموتى وأنه على كل شىء قدير * وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور) *) 2
5

" * (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم) *) الزلزلة والزلزال: شدة الحركة على الحال الهائلة، من قوله: زلت قدمه إذا زالت عن الجهة بسرعة، ثم ضوعف.
" * (يوم ترونها) *) يعني الساعة " * (تذهل) *) أي تشغل، عن ابن عباس، وقال الضحاك تسلو، ابن حيان: تنسى، يقال: ذهلت عن كذا أي تركته واشتغلت بغيره أذهل ذهولا، وأذهلني الشيء إذهالا. قال الشاعر:
صحا قلبه ياعز أو كاد يذهل
" * (كل مرضعة) *) يعني ذات ولد رضيع، والمرضع المرأة التي لها صبي ترضعه لغيرها، هذا قول أهل الكوفة، وقال أهل البصرة: يقال: امرأة مرضع إذا أريد به الصفة مثل مقرب ومشرقوحامل وحائض، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء فقيل: مرضعة، التي ترضع ولدها.
" * (وتضع كل ذات حمل حملها) *) أي تسقط ولدها من هول ذلك اليوم.
" * (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) *).
قال الحسن: معناه: وترى الناس سكارى من الخوف، ما هم بسكارى من الشراب.
وقال أهل المعاني: مجازه: وترى الناس كأنهم سكارى، تدل عليه قراءة أبي زرعة بن عمرو بن جرير: وترى الناس بضم التاء أي تظن.
وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما: سكرى وما هم سكرى بغير ألف فيهما، وهما لغتان لجمع السكران مثل كسلى وكسالى " * (ولكن عذاب الله شديد) *).
روى عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وغيرهما: إن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق وهم حي من خزاعة والناس يسيرون، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدرا والناس من بين باك أو حاسر حزين متفكر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبشروا وسددوا وقاربوا، فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج)
6

ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبروا وحمدوا الله، ثم قال: (إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبروا وحمدوا الله، ثم قال: اني لأرجوا أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة وإن أهل الجنة، مائة وعشرون صفا، ثمانون منها أمتي وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ثم قال: ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب، فقال عمر: سبعون ألفا؟ فقال: نعم ومع كل واحد سبعون ألفا، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله ا ن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، فقام رجل من الأنصار فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقك بها عكاشة).
2 (* (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق * ذالك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد * ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذالك هو الخسران المبين * يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذالك هو الضلال البعيد * يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير * إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الانهار إن الله يفعل ما يريد * من كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا والاخرة فليمدد بسبب إلى السمآء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ * وكذالك أنزلناه ءايات بينات وأن الله يهدى من يريد * إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شىء شهيد * ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وكثير من
الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشآء) *) 2
" * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) *) نزلت في النضر بن الحرث، كان كثير الجدال فكان يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ويزعم أن الله غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد ترابا.
قال الله سبحانه " * (ويتبع) *) في قيله ذلك وجداله في الله بغير علم " * (كل شيطان مريد كتب عليه) *) قضي عليه، على الشيطان " * (أنه من تولاه) *) اتبعه " * (فأنه) *) يعني الشيطان " * (يضله) *)
7

يعني يضل من تولاه " * (ويهديه إلى عذاب السعير) *) وتأويل الآية: قضي على الشيطان أنه يضل أتباعه ويدعوهم إلى النار.
ثم ألزم الحجة منكري البعث فقال عز من قائل " * (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم) *) يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل ووالد البشر " * (من تراب) *) ثم ذريته " * (من نطفة) *) وهو المني وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف " * (ثم من علقة) *) وهي الدم العبيط الجامد وجمعها علق " * (ثم من مضغة) *) وهي لحمة قليلة قدر ما تمضع " * (مخلقة وغير مخلقة) *).
قال ابن عباس وقتادة: تامة الخلق وغير تامة.
وقال مجاهد: مصورة وغير مصورة يعني السقط.
قال عبد الله بن مسعود: إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله عز وجل ملكا فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دما وإن قال: مخلقة قال: يا رب فما صفة هذه النطفة؟ أذكر أم أنثى؟ ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟ فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.
" * (لنبين لكم) *) كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريفنا أطوار خلقكم.
" * (ونقر) *) روي عن عاصم بفتح الراء على النسق، غيره: بالرفع على معنى ونحن نقر (في الأرحام) * * (ما نشاء) *) فلا تمجه ولا تسقطه " * (إلى أجل مسمى) *) وقت خروجها من الرحم تام الخلق والمدة " * (ثم نخرجكم) *) من بطون أمهاتكم " * (طفلا) *) صغارا ولم يقل أطفالا لأن العرب تسمي الجمع باسم الواحد.
قال الشاعر: إن العواذل ليس لي بأمير
ولم يقل أمراء.
وقال ابن جريج: تشبيها باسم المصدر مثل: عدل وزور، وقيل: تشبيها بالخصم والضيف.
" * (ثم لتبلغوا أشدكم) *) كمال عقولكم ونهاية قواكم.
" * (ومنكم من يتوفى) *) قبل بلوغ الأشد " * (ومنكم من) *) يعمر حتى " * (يرد إلى أرذل العمر) *) وهو الهرم والخرف " * (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) *).
ثم بين دلالة أخرى للبعث فقال تعالى " * (وترى الارض هامدة) *) يابسة دارسة الأثر من الزرع والنبات كهمود النار
8

" * (فإذا أنزلنا عليها الماء) *) المطر " * (اهتزت) *) تحركت بالنبات " * (وربت) *) أي زادت وأضعفت النبات بمجيء الغيث، وقرأ أبو جعفر: ربأت بالهمز، ومثله في حم السجدة أي ارتفعت وعلت وانتفخت، من قول العرب: ربا الرجل إذا صعد مكانا مشرفا، ومنه قيل للطليعة رئبة.
" * (وأنبتت من كل زوج بهيج) *) صنف حسن " * (ذلك) *) الذي ذكرت لتعلموا " * (بأن الله هو الحق) *) والحق هو الكائن الثابت " * (وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) *).
" * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى) *) بيان وبرهان " * (ولا كتاب منير) *) نزلت في النضر بن الحرث " * (ثاني عطفه) *) نصب على الحال.
قال ابن عباس: مستكبرا في نفسه، تقول العرب: جاء فلان ثاني عطفه أي متجبرا لتكبره وتجبره، والعطف: الجانب.
الضحاك: شامخا بأنفه، مجاهد وقتادة: لاويا عنقه، عطية وابن زيد: معرضا عما يدعى إليه من الكبر.
ابن جريج: أي يعرض عن الحق نظيرها قوله سبحانه " * (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا) *) الآية، وقوله " * (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم) *) الآية.
" * (ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي) *) عذاب وهوان وهو القتل ببدر.
" * (ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) *) فيقال له يومئذ " * (ذلك بما قدمت يداك) *) وهذا وأضرابه مبالغة في إضافة الجرم إليه.
" * (وأن الله ليس بظلام للعبيد) *) فيعذبهم بغير ذنب وهو سبحانه على أي وجه تصرف في عبده فإنه غير ظالم، بل الظالم: المتعدي المتحكم في غير ملكه.
" * (ومن الناس من يعبد الله على حرف) *) الآية.
نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة، فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته رضي به واطمأن إليه وقال: ما أصبت مذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا، وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه وذهب ماله وتأخرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلا شرا، فينقلب عن دينه، وذلك الفتنة
9

فأنزل الله سبحانه " * (ومن الناس من يعبد الله على حرف) *) أي طرف واحد وجانب في الدين لا يدخل فيها على الثبات والتمكين، والحرف: منتهى الجسم، وقال مجاهد: على شك.
وقال بعض أهل المعاني: يريد على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف مضطربا فيه.
وقال بعضهم: أراد على لون واحد في الأحوال كلها يتبع مراده، ولو عبدوا الله في الشكر على السراء والصبر على الضراء لما عبدوا الله على حرف.
وقال الحسن: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه.
" * (فإن أصابه خير) *) صحة في جسمه وسعة في معيشته " * (اطمأن به) *) أي رضي واطمأن إليه وأقام عليه.
" * (وإن أصابته فتنة) *) بلاء في جسمه وضيق في معاشه وتعذر المشتهى من حاله " * (انقلب على وجهه) *) ارتد فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر " * (خسر الدنيا والاخرة) *) وقرأ حميد الأعرج ويعقوب: خاسر الدنيا بالألف على مثال فاعل، والآخرة خفضا، على الحال.
" * (ذلك هو الخسران المبين) *) الضرر الظاهر " * (يدعوا من دون الله ما لا يضره) *) إن عصاه " * (وما لا ينفعه) *) إن أطاعه بعد إسلامه راجعا إلى كفره " * (ذلك هو الضلال البعيد) *) ذهب عن الحق ذهابا بعيدا.
" * (يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه) *) اختلف النحاة في وجه هذه اللام فقال بعضهم: هي صلة مجازها: يدعو من ضره أقرب من نفعه، وهكذا قرأها ابن مسعود، وزعم الفراء والزجاج أن اللام معناها التأخير تقديرها: يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه.
وقال بعضهم: هذا على التأكيد معناه: يدعو لمن ضره أقرب من نفعه يدعو ثم حذفت يدعو الأخيرة اجتزاء بالأولى، ولو قلت: تضرب لمن خيره أكثر من شره تضرب، ثم يحذف الأخير جاز.
وحكي عن العرب سماعا: أعطيتك لما غيره خير منه، وعنده لما غيره خير منه.
وقيل: (يدعو لمن ضره) من قوله " * (ذلك هو الضلال البعيد) *)، وموضع " * (ذلك) *) نصب ب (يدعو) كأنه قال: الذي هو الضلال البعيد يدعو، ثم استأنف فقال: لمن ضره أقرب من نفعه، وتكون من في محل الرفع بالابتداء وخبره " * (لبئس المولى ولبئس العشير) *).
وقيل: يدعو بمعنى يقول، والخبر محذوف تقديره: لمن ضره أقرب من نفعه إلهه لبئس المولى الناصر، ولبئس العشير المعاشر، والصاحب والخليط يعني الوثن.
10

" * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار إن الله يفعل ما يريد من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والاخرة) *) اختلفوا في المعنى بالهاء التي في قوله ينصره، فقال أكثر المفسرين: عنى بها نبيه صلى الله عليه وسلم قال قتادة: يقول: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه " * (فليمدد بسبب) *) بحبل " * (إلى السماء) *) إلى سقف البيت فليختنق به حتى يموت " * (ثم ليقطع) *) الحبل بعد الاختناق " * (فلينظر هل يذهبن كيده) *) صنيعه وحيلته " * (ما يغيظ) *) هذا قول أكثر أهل التأويل، وإنما معنى الآية: فليصور هذا الأمر في نفسه وليس يختم لأنه إذا اختنق ومات لا يمكنه القطع والنظر.
قال الحسين بن الفضل: هذا كما تقول في الكلام للحاسد أو المعاند: إن لم ترض هذا فاختنق.
وقال ابن زيد: السماء في هذه الآية هي السماء المعروفة بعينها، وقال: معنى الكلام: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكايده في دينه وأمره ليقطعه عنه، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه فإن أصله في السماء، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه من الله، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه، فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا العمل.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يؤوننا، فقال الله لهم: من استعجل من الله نصر محمد فليختنق، فلينظر استعجاله بذلك في نفسه هل هو مذهب غيظه، فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدم نصره قبل حينه.
وقال مجاهد: الهاء في ينصره راجعة إلى من، ومعنى الكلام: من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى سماء البيت فليختنق، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ وهو خنقه أن لا يرزق، والنصر على هذا القول: الرزق، كقول العرب: من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله.
قال أبو عبيد: تقول العرب: (أرض منصورة) أي ممطورة كأن الله سبحانه أعطاها المطر.
وقال الفقعسي:
وإنك لا تعطي أمرءا فوق حقه
ولا تملك الشق الذي الغيث ناصر
وفي قوله (ما يغيظ) لأهل العربية قولان:
11

أحدهما: أنها بمعنى الذي مجازة هل يذهبن كيده الذي يغيظه فحذف الهاء ليكون أخف.
والثاني: أنها مصدر، مجازه: هل يذهبن كيده غيظه.
" * (وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا) *) يعني عبدة الأوثان، وقال قتادة: الأديان خمسة: أربعة للشيطان وواحد للرحمن. " * (إن الله يفصل) *) يحكم " * (بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) *) قال النحاة: (إن الله) خبر لقوله (إن الذين) كما تقول: إن زيدا ان الخير عنده لكثير، كقول الشاعر:
إن الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به ترجى الخواتيم
" * (ألم تر) *) بقلبك وعقلك " * (أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب) *).
قال مجاهد: سجودها: تحول ظلالها، وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه.
وقال أهل الحقائق: سجود الجماد وما لا يعقل ما فيها من ذلة الخضوع والتسخير وآثار الصنعة والتصوير الذي يدعو العاقلين إلى السجود لله سبحانه، كما قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
" * (وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب) *) بكفره وهو مع ذلك يسجد لله ظله، قال مجاهد:
وقيل: يسجد لله أي يخضع له ويقر له بما يقتضيه عقله ويضطره إليه، وإن كفر بغير ذلك من الأمور.
قالوا: وفي قوله " * (وكثير حق عليه العذاب) *) واو العطف.
وقال بعضهم: هو واو الاستئناف، معناه: وكثير حق عليه العذاب بكفره وإبائه السجود.
حكى لي أبو القاسم بن حبيب عن أبي بكر بن عياش أنه قال: في الآية إضمار مجازها: وسجد كثير من الناس، وأبى كثير حق عليه العذاب.
" * (ومن يهن الله) *) أي يهنه الله " * (فما له من مكرم) *) قرأه العامة بكسر الراء، وقرأ إبراهيم بن
12

أبي عيلة: فماله من مكرم بفتح الراء أي إكرام كقوله سبحانه * (أدخلني مدخل صدق) * * (وأنزلني منزلا مباركا) *) أي إدخالا وإنزالا.
" * (إن الله يفعل ما يشاء) *))
.
* (هاذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم * يصهر به ما فى بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق * إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد * إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سوآء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم * وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطآئفين والقآئمين والركع السجود * وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) *) 2
" * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) *) أي في دينه وأمره، والخصم اسم شبيه بوصف المصدر فلذلك قال: اختصموا، نظيرها " * (وهل أتيك نبؤ الخصم إذتسوروا المحراب) *).
واختلف المفسرون في هذين الخصمين من هما؟ فروى قيس بن عباد أن أبا ذر الغفاري كان يقسم بالله سبحانه أنزلت هذه الآية في ستة نفر من قريش تبادروا يوم بدر: حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة وعبيدة بن الحارث، قال: وقال علي: إني لأول من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى، وإلى هذا القول ذهب هلال بن نساف وعطاء بن يسار. وقال ابن عباس: هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله سبحانه من كتاب، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا، وكان ذلك خصومتهم في ربهم.
وقال مجاهد وعطاء أبن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي: هم المؤمنون والكافرون كلهم من أى ملة كانوا
13

وقال عكرمة: هما الجنة والنار اختصمتا فقالت النار: خلقني الله سبحانه وتعالى لعقوبته، وقالت الجنة: خلقني الله عز وجل لرحمته، فقد قص الله عليك سبحانه من خبرهما ما تسمع، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو سعيد بن حمدون رحمه الله بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو حامد ابن الشرقي قال: حدثنا محمد بن يحيى الذهلي وعبد الرحمن بن بشر العبدي وأحمد بن يوسف السلمي قالوا: حدثنا عبد الرزاق بن همام الحميري قال: أخبرنا معمر بن راشد عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين المتجبرين، وقالت الجنة: لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقاطهم
، فقال الله سبحانه للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحد منكما ملؤها، فأما النار فإنهم يلقون فيها وتقول: هل من مزيد؟ فلا تمتلئ حتى يضع الله سبحانه رجله فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا).
ثم بين مآل الخصمين وحال أهل الدارين فقال سبحانه وتعالى " * (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار) *).
قال سعيد بن جبير: ثياب من نحاس من نار، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حرا منه.
" * (يصب من فوق رءوسهم الحميم) *) الماء الحار.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جنبه فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد كما كان " * (يصهر) *) يذاب، يقال: صهرت الألية والشحم بالنار أذبتها، أصهرها صهرا، قال الشاعر:
تروي لقى ألقى في صفصف
تصهره الشمس ولا ينصهر
ومعنى الآية: يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء وتنشوي جلودهم منه فتتساقط.
" * (ولهم مقامع) *) سياط " * (من حديد) *) واحدتها مقمعة، سميت بذلك لأنها يقمع بها المضروب أي يذلل
14

" * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) *) ردوا إليها.
روى الأعمش عن أبي ظبيان قال: ذكر أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج منها فيعذبهم الخزان فيها ويعيدونهم إليها بالمقامع ويقولون لهم " * (وذوقوا عذاب الحريق) *) أي المحرق مثل الأليم والوجيع، والذوق: حاسة يحصل منها إدراك الطعم، وهو ها هنا توسع، والمراد به إدراكهم الآلام.
" * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب) *) وهي جمع سوار " * (ولؤلؤا) *).
قرأ عاصم وأهل المدينة ها هنا وفي سورة الملائكة: ولؤلؤا بالنصب على معنى ويحلون لؤلؤا، واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع المصاحف بالألف ها هنا.
وقرأ الباقون بالخفض عطفا على الذهب، ثم اختلفوا في وجه إثبات الألف فيه، فقال أبو عمرو: أثبتت الألف فيه كما أثبتت في قالوا وكانوا، وقال الكسائي: أثبتوها فيه للهمزة لأن الهمزة حرف من الحروف، وأما يعقوب فإنه قرأها هنا بالنصب وفي سورة فاطر بالخفض رجوعا إلى المصحف؛ لأنه كتب في جميع المصاحف ها هنا بالألف وهناك بغير ألف.
" * (ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول) *) وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وقال ابن زيد: لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله، نظيرها قوله سبحانه " * (إليه يصعد الكلم الطيب) *) * * (وهدوا إلى صراط الحميد) *) إلى دين الله.
" * (إن الذين كفروا ويصدون) *) فعطف بالمستقبل على الماضي لأن الصد بمعنى دوام الصفة لهم، ومعنى الآية: وهم يصدون ومن شأنهم الصد، نظيرها قوله " * (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) *) وقيل: لفظه مستقبل، ومعناه الماضي، أي: وصدوا عن سبيل الله " * (والمسجد) *) يعني عن المسجد " * (الحرام الذي جعلناه) *) خلقناه وبنيناه " * (للناس) *) كلهم لم نخص منهم بعضا دون بعض " * (سواء العاكف) *) المقيم " * (فيه والباد) *) الطاري المنتاب إليه من غيره.
وقرأ عاصم برواية حفص ويعقوب برواية روح: سواء بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين.
وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبره. وتمام الكلام عند قوله " * (للناس) *).
واختلف العلماء في معنى الآية: فقال قوم: سواء العاكف فيه والباد في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وحق الله الواجب عليهما فيه، وإليه ذهب مجاهد
15

وقال آخرون: هما سواء في النزول به فليس أحدهما بأحق يكون فيه من الآخر. وحرموا بهذه الآية كراء دور مكة وكرهوا إجارتها في أيام الموسم.
قال عبد الله بن عمر: سواء أكلت محرما أو كراء دار مكة.
وقال عبد الرحمن بن سابط: كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم فكان الرجل إذا وجد سعة نزل، ففشا فيهم السرق، وكل إنسان يسرق من ناحيته فاصطنع رجل بابا فأرسل إليه عمر: اتخذت بابا من حجاج بيت الله؟ فقال: لا، إنما جعلته ليحترز متاعهم وهو قوله " * (سواء العاكف فيه والباد) *).
قال: البادي فيه كالمقيم ليس أحد أحق بمنزله من أحد إلا أن يكون سبق إلى منزل، وإلى هذا القول ذهب ابن عباس وابن جبير وابن زيد وباذان قالوا: هما سواء في البيوت والمنازل، والقول الأول أقرب إلى الصواب.
أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسن بقراءتي عليه قال: حدثنا صفوان بن الحسين قال: حدثنا أبو محمد بن أبي حاتم قال: سمعت أبا إسماعيل الترمذي بمكة سنة ستين ومائتين قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: جالست الشافعي بمكة فتذاكرنا في كراء بيوت مكة، وكان يرخص فيه، وكنت لا أرخص فيه، فذكر الشافعي حديثا وسكت، وأخذت أنا في الباب، أسرد فلما فرغت منه قلت لصاحب لي من أهل مرو بالفارسية: مرد كما لأني هست قرية بمرو، فعلم أني راطنت صاحبي بشيء هجنته
فيه، فقال لي: أتناظر؟ قلت: وللمناظرة جئت، فقال: قال الله سبحانه وتعالى " * (الذين أخرجوا من ديارهم) *) نسب الديار إلى مالكيها أو غير مالكيها.؟
وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: (من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وهل ترك عقيل لنا من رباع)؟ نسب الدار إلى أربابها أو غير أربابها وقال لي: اشترى عمر ابن الخطاب ح دار السجن من مالك أو غير مالك؟ فلما علمت أن الحجة لزمتني قمت.
" * (ومن يرد فيه) *) أي في المسجد الحرام " * (بإلحاد بظلم) *) يعني إلحادا بظلم وهو الميل إلى الظلم، والباء فيه زائدة كقوله: تنبت بالدهن أي تنبت الدهن.
قال الفراء: وسمعت أعرابيا من ربيعة وسألته عن شيء فقال: أرجو بذلك يريد أرجو ذلك.
وقال الشاعر:
بواد يمان ينبت الشت صدره
وأسفله بالمرخ والشبهان
16

أي المرخ. وقال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
بين المراجل والصريح الأجرد
بمعنى ضمنت رزق عيالنا أرماحنا وقال آخر:
ألم يأتيك والأنباء تنمي
بما لاقت لبون بني زياد
واختلفوا في معنى الآية، فقال مجاهد وقتادة " * (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) *) هو الشرك أن يعبد فيه غير الله سبحانه وتعالى.
وقال آخرون: هو استحلال الحرام وركوب الآثام فيه.
قال ابن مسعود: ما من رجل يهم بسيئة فيكتب عليه، ولو أن رجلا بعدن أو ببلد آخر يهم أن يقتل رجلا بمكة، أو يهم فيها بسيئة ولم يعملها إلا أذاقه الله العذاب الأليم.
وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه ما لا يقتلك، أو تظلم من لا يظلمك، وهذا القول معنى قول الضحاك وابن زيد.
أخبرنا أحمد بن أبي قال: أخبرنا المغيرة بن عمرو قال: حدثنا المفضل بن محمد قال: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا أبو قرة قال: ذكر سفيان عن ليث عن مجاهد أنه قال: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات.
ابن جريج: هو استحلال الحرام متعمدا، عن حبيب بن أبي ثابت: احتكار الطعام بمكة، بعضهم: هو كل شيء كان منهيا عنه من القول والفعل حتى قول القائل: لا والله، وبلى والله.
وروى شعبة: عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإن أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر، فسئل عن ذلك فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: كلا والله وبلى والله.
" * (وإذ بوأنا) *) وطأنا. قال ابن عباس: جعلنا، الحسن: أنزلنا، مقاتل بن سليمان: دللناه عليه، ابن حبان: هيأنا، نظيره " * (نبوئ المؤمنين) *) * * (وبوأكم في الأرض) *) وقوله " * (لنبوءنهم من الجنة غرفا) *).
" * (لإبراهيم مكان البيت) *) والمكان جوهر يمكن أن يثبت عليه غيره، كما أن الزمان عرض يمكن أن يحدث فيه غيره، وأراد بالبيت الكعبة.
17

" * (أن لا تشرك) *) يعني أمرناه وعهدنا إليه أن لا تشرك " * (بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين) *) يعني المصلين " * (والركع السجود) *))
.
* (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فىأيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير * ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق * ذالك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور * حنفآء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السمآء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق * ذالك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب * لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلهآ إلى البيت العتيق * ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام فإلاهكم إلاه واحد فله أسلموا وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على مآ أصابهم والمقيمى الصلواة ومما رزقناهم ينفقون * والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صوآف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذالك سخرناها لكم لعلكم تشكرون * لن ينال الله لحومها ولا دمآؤها ولاكن يناله التقوى منكم كذالك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) *) 2
" * (وأذن) *) يعني وعهدنا إلى إبراهيم ايضا أن أذن أي أعلم وناد في الناس " * (بالحج) *).
فقال إبراهيم: يا رب وما يبلغ صوتي؟ فقال: عليك الأذان وعلي البلاغ، فقام إبراهيم على المقام وقيل: على جبل أبي قبيس ونادى: يا أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتا فحجوه، فأسمع الله ذلك من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وما بين المشرق والمغرب والبر والبحر ممن سبق في علم الله سبحانه أن يحج إلى يوم القيامة،
فأجابه: لبيك اللهم لبيك.
وقال ابن عباس: عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة وزعم الحسن أن قوله تعالى " * (وأذن في الناس بالحج) *) كلام مستأنف، وأن المأمور بهذا التأذين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع.
" * (يأتوك رجالا) *) مشاة على أرجلهم جمع راجل مثل قائم وقيام وصائم وصيام.
" * (وعلى كل ضامر) *) أي وركبانا، والضامر البعير المهزول، وإنما جمع " * (يأتين) *) لمكان كل، أراد النوق " * (من كل فج عميق) *) طريق بعيد.
سمعت أبا الحسن محمد بن القاسم الفقيه يقول: سمعت أبا القاسم بشر بن محمد بن
18

ياسين القاضي يقول: رأيت في الطواف كهلا قد أجهدته العبادة واصفر لونه وبيده عصا وهو يطوف معتمدا عليها، فتقدمت إليه وجعلت أسائله فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من خراسان قال: في أي ناحية تكون خراسان؟ كأنه جهلها؟ قلت: ناحية من نواحي المشرق، فقال: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: في شهرين وثلاثة أشهر، قال: أفلا تحجون كل عام فأنتم من جيران هذا البيت؟ فقلت له: وكم بينكم وبين هذا البيت؟ فقال: مسيرة خمس سنين، خرجت من بلدي ولم يكن في رأسي ولحيتي شيب، فقلت: هذا والله الجهد البين والطاعة الجميلة والمحبة الصادقة، فضحك في وجهي وأنشأ يقول:
زر من هويت وإن شطت بك الدار
وحال من دونه حجب وأستار
لا يمنعك بعد من زيارته
إن المحب لمن يهواه زوار
" * (ليشهدوا) *) ليحضروا " * (منافع لهم) *) يعني التجارة عن سعيد بن جبير، وهي رواية ابن رزين عن ابن عباس قال: هي الأسواق.
مجاهد: التجارة وما يرضي الله سبحانه من أمر الدنيا والآخرة.
سعيد بن المسيب وعطية العوفي ومحمد بن على الباقر: العفو والمغفرة.
" * (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) *) يعني ذي الحجة في قول أكثر المفسرين، والمعدودات أيام التشريق، وإنما قيل لها معدودات لأنها قليلة، وقيل للعشر: معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل أن وقت الحج في آخرها.
وقال مقاتل: المعلومات أيام التشريق.
محمد بن كعب: المعدودات والمعلومات واحدة.
" * (على ما رزقهم من بهيمة الانعام) *) يعني الهدايا والضحايا من الإبل والبقر والغنم.
" * (فكلوا منها) *) أمر إباحة وليس بواجب. قال المفسرون: وإنما قال ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا ينحرون ويذبحون ولا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا.
" * (وأطعموا البائس) *) يعني الزمن " * (الفقير) *) الذي لا شيء له " * (ثم ليقضوا) *) واختلف القراء في هذه اللامات فكسرها بعضهم فرقا بين ثم والواو والفاء لأن ثم مفضول من الكلام، والواو والفاء كأنهما من نفس الكلمة، وجزمها الآخرون لأنها كلها لامات الأمر " * (تفثهم) *) والتفث: مناسك الحج كلها عن ابن عمر وابن عباس
19

وقال القرظي ومجاهد: هو مناسك الحج واخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقص الأظفار.
عكرمة: التفث: الشعر والظفر.
الوالبي عن ابن عباس: هو وضع الإحرام من حلق الرأس وقص الأظفار ولبس الثياب ونحوها. وأصل التفث في اللغة الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك أي ما أوسخك وأقذرك قال أمية بن الصلت:
ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا
وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
" * (وليوفوا نذورهم) *) قال مجاهد: نذر الحج والهدي وما ينذر الانسان من شيء يكون في الحج.
" * (وليطوفوا بالبيت العتيق) *) أراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة الذي يطاف بعد التعريف أما يوم النحر وأما بعده. واختلف العلماء في معنى العتيق، فقال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وقتادة: سمي عتيقا لأن الله سبحانه أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه، فلم يظهر عليه جبار قط، ولم يسلط عليه إلا من يعظمه ويحترمه.
قال سعيد بن جبير: أقبل تبع يريد هدم البيت حتى إذا كان بقديد أصابه الفالج فدعا الأحبار فقالوا: إن لهذا البيت ربا ما قصده قاصد بسوء إلا حجبه عنه بمكروه فإن كنت تريد النجاة مما عرض لك فلا تتعرض له بسوء.
قال: فأهدى إلى البيت كسوة وأنطاعا فألبست، وكان أول ما ألبست، ونحر عنده ألف ناقة وعفا عن أهله وبرهم ووصلهم، فسميت المطابخ لمطبخة القوم، وكانت خيله
جيادا فسميت جياد لخيل تبع، وسميت قعيقعان لقعقعة السلاح حين أقبل من المدينة.
وقال سفيان بن عيينة: سمي بذلك لأنه لم يملك قط، وهي رواية عبيد عن مجاهد قال: إنما سمي البيت العتيق لأنه ليس لأحد فيه شيء.
ابن زيد: لأنه قديم وهو أول بيت وضع للناس، يقال: سيف عتيق ودينار عتيق أي قديم، وقيل: لأنه كريم على الله سبحانه، يقول العرب: فرس عتيق.
" * (ذلك ومن يعظم حرمات الله) *) فيجتنب معاصيه " * (فهو خير له عند ربه) *).
قال ابن زيد: الحرمات: المشعر الحرام والبيت الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام، وقيل: هي المناسك.
20

" * (وأحلت لكم الانعام) *) أن تأكلوها إذا ذكيتموها " * (إلا ما يتلى عليكم) *) في القرآن وهو قوله " * (حرمت عليكم الميتة والدم) *) الآية، وقوله " * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *) وقيل: وأحلت لكم الأنعام في حال إحرامكم إلا ما يتلى عليكم من الصيد فإنه حرام في حال الإحرام.
" * (فاجتنبوا الرجس من الاوثان) *) يعني عبادتها لأن الأوثان كلها رجس.
" * (واجتنبوا قول الزور) *) يعني الكذب والبهتان.
قال أيمن بن حريم: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: (يا أيها الناس عدلت شهادة الزور الشرك بالله، ثم قرأ هذه الآية).
وقال بعضهم: هو قول المشركين في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
" * (حنفاء) *) مستقيمين مخلصين " * (لله) *) وقيل: حجاجا غير مشركين به " * (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء) *) أي سقط إلى الأرض " * (فتخطفه الطير) *) والخطف والاختطاف تناول الشيء بسرعة، وقرأ أهل المدينة فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أي تتخطفه فأدغم، وتصديق قراءة العامة قوله تعالى * (إلا من خطف الخطفة) * * (أو تهوي) *) تميل وتذهب " * (به الريح في مكان سحيق) *) بعيد.
قال أهل المعاني: إنما شبه حال المشرك بحال الهاوي في أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا دفع ضر يوم القيامة.
وقال الحسن: شبه أعمال الكفار بهذه الحال في أنها تذهب وتبطل، فلا يقدرون على شيء منها.
" * (ذلك) *) الذي ذكرت من اجتناب الرجس والزور وتعظيم شعائر الله " * (من تقوى القلوب) *) هذا معنى الآية ونظمها: وشعائر الله: الهدي والبدن، وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هدي فسميت به، وتعظيمها استعظامها واستحسانها واستسمانها.
" * (لكم فيها) *) أي في الهدايا " * (منافع) *) قيل: أن يسميها صاحبها بدنة أو هديا ويشعرها ويقلدها في رسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها
21

" * (إلى أجل مسمى) *) وهو أن يسميها هديا ويوجبها، فإذا فعل ذلك لم يكن له من منافعها شيء، هذا قول مجاهد وعطاء والضحاك وقتادة، ورواية مقسم عن ابن عباس، وقيل: معناه: لكم في هذه الهدايا منافع بعد إنجابها وتسميتها هديا بأن تركبوها إذا احتجتم إليها وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها، إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحر، وهذا قول عطاء بن أبي رباح.
وقال بعضهم: أراد بالشعائر المناسك ومشاهد مكة، ومعنى الآية: لكم فيها منافع بالتجارة والأسواق إلى أجل مسمى وهو الخروج من مكة، وهذه رواية أبي ذر عن ابن عباس.
وقال بعضهم: لكم فيها منافع بالأجر والثواب في قضاء المناسك وإقامة شعائر الحج إلى أجل مسمى وهو انقضاء أيام الحج.
" * (ثم محلها إلى البيت العتيق) *) أي منحرها عند البيت العتيق يعني أرض الحرم كلها، نظيرها قوله سبحانه " * (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) *) أي الحرم كله، وقال الذين قالوا: عنى بالشعائر المناسك، معنى الآية: ثم محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد قضاء المناسك.
" * (ولكل أمة) *) جماعة مؤمنة سلفت قبلكم " * (جعلنا منسكا) *) اختلف القراء فيه فقرأ أهل الكوفة إلا عاصما بكسر السين في الحرفين على معنى الاسم مثل المجلس والمطلع أي مذبحا موضع قربان، وقرأ الآخرون بفتح السين فيهما على المصدر مثل المدخل والمخرج أي إهراق الدماء وذبح القرابين.
" * (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام) *) عند ذبحها ونحرها، وإنما خص بهيمة الأنعام لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير، وإنما قيل بهائم لأنها لا تتكلم.
" * (فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) *) قال ابن عباس وقتادة: المتواضعين، مجاهد: المطمئنين إلى الله سبحانه، الأخفش: الخاشعين، ابن جرير: الخاضعين، عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا.
" * (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمى الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والبدن) *) أي الإبل العظام الضخام الأجسام، وتخفف وتثقل واحدتها بدنة مثل تمرة وتمر وخشبة وخشب وبادن مثل فاره وفره، والبدن هو الضخم من كل شيء ومنه قيل لامرئ القيس بن النعمان صاحب الخورنق والسدير: البدن لضخمه، وقد بدن الرجل بدنا وبدانة إذا ضخم، فأما إذا أشفى واسترخى قيل: بدن تبدينا.
وقال عطاء والسدي: البدن: الإبل والبقر.
22

" * (جعلناها لكم من شعائر الله) *) أي أعلام دينه إذا أشعر " * (لكم فيها خير) *) النفع في الدنيا، والأجر في العقبى " * (فاذكروا اسم الله عليها) *) عند
نحرها، قال ابن عباس: هو أن تقول: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، اللهم منك ولك.
" * (صواف) *) أي قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك.
روى يعلى بن عطاء عن يحيى بن سالم قال: رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته فقال: صواف كما قال الله سبحانه، فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها.
وقال مجاهد: الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث وتنحر كذلك.
وقرأ ابن مسعود: صوافن وهي المعقلة تعقل يد واحدة، وكانت على ثلاث وتنحر، وهو مثل صواف.
وقرأ أبي: صوافي وهكذا أيضا مجاهد وزيد بن أسلم بالياء أي صافية خالصة لله سبحانه لا شريك له فيها كما كان المشركون يفعلون.
" * (فإذا وجبت جنوبها) *) أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض.
وقال ابن زيد: فإذا ماتت، وأصل الوجوب الوقوع، يقال: وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب، ووجب الفعل إذا وقع ما يلزم به فعله.
" * (فكلوا منها) *) أمر إباحة ورخصة مثل قوله سبحانه " * (وإذا حللتم فاصطادوا) *) وقوله سبحانه وتعالى " * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) *).
" * (وأطعموا القانع والمعتر) *) اختلفوا في معناهما، فروى العوفي عن ابن عباس وليث عن مجاهد أن القانع الذي يقنع بما أعطي، ويرضى بما عنده ولا يسأل، والمعتر: الذي يمر بك ويتعرض لك ولا يسأل.
عكرمة وابن ميثم وقتادة: القانع: المتعفف الجالس في بيته، والمعتر: السائل الذي يعتريك ويسألك، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس.
حصيف عن مجاهد، القانع: أهل مكة وجارك وإن كان غنيا، والمعتر الذي يعتريك ويأتيك فيسألك، وعلى هذه التأويلات يكون القانع من القناعة وهي الرضا والتعفف وترك السؤال.
سعيد بن جبير والكلبي: القانع: الذي يسألك، والمعتر: الذي يتعرض لك ويريك نفسه
23

ولا يسألك، وعلى هذا القول يكون القانع من القنوع وهو السؤال. قال الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني
مفاقره أعف من القنوع
وقال لبيد:
وأعطاني المولى على حين فقره
إذا قال أبصر خلتي وقنوعي
وقال زيد بن أسلم: القانع: المسكين الذي يطوف ويسأل، والمعتر: الصديق الزائر الذي يعتر بالبدن.
ابن أبي نجيح عن مجاهد: القانع: الطامع، والمعتر: من يعتر بالبدن من غني أو فقير.
ابن زيد: القانع: المسكين، والمعتر الذي يعتر القوم للحمهم وليس بمسكين ولا يكون له ذبيحة، يجيء إلى القوم لأجل لحمهم.
وقرأ الحسن: والمعتري وهو مثل المعتر، يقال: عراه واعتراه إذا أتاه طالبا معروفه.
" * (كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) *) وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطخوا حيطان الكعبة بدمائها فأنزل الله سبحانه " * (لن ينال الله) *) أي لن يصل إلى الله * (لحومها ولا دماؤها) * * (ولكن يناله التقوى منكم) *) أي النية وإلاخلاص وما أريد به وجه الله عز وجل، وقرأ يعقوب تنال وتناله بالتاء، غيره: بالياء.
" * (كذلك) *) هكذا " * (سخرها) *) يعني البدن " * (لكم لتكبروا الله على ما هداكم) *) لإعلام دينه ومناسك حجه وهو أن يقول: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا.
(* (إن الله يدافع عن الذين ءامنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور * أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز * الذين إن مكناهم فى الارض أقاموا الصلواة وآتوا الزكواة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور * وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير * فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة
24

فهى خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا فى الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الابصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور * ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) *) 2
" * (إن الله يدافع) *) مكي وبصري: يدفع، غيرهم: يدافع، ومعناه: إن الله يدفع غائلة المشركين.
" * (عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان) *) في أمانة الله " * (كفور) *) لنعمته.
" * (أذن) *) قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم أذن بضم الألف، وقرأ الباقون بفتحه أي أذن الله " * (للذين يقاتلون) *) قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء يعنون المؤمنين الذين يقابلهم المشركون، وقرأ الباقون بكسر التاء يعني إن الذين أذن لهم بالجهاد يقاتلون المشركين " * (بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) *).
قال المفسرون: كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج، فيشكونهم إلى رسول الله فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال.
وقال ابن عباس: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، لنهلكن، فأنزل الله سبحانه " * (أذن للذين يقاتلون) *) الآية، قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فكانوا يمنعون من الهجرة، فأذن الله تعالى لهم في قتال الكفار الذين يمنعونهم من الهجرة.
" * (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) *) بدل من الذين الأولى، ثم قال " * (إلا أن يقولوا ربنا الله) *) يعني لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم ربنا الله وحده، فيكون أن في موضع الخفض ردا على الباء في قوله " * (بغير حق) *) ويجوز أن يكون في موضع نصب على وجه الاستثناء.
" * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) *) بالجهاد وإقامة الحدود وكف الظلم " * (لهدمت) *) قرأ الحجازيون بتخفيف الدال، والباقون بالتشديد على الكسر أي تخربت " * (صوامع) *) قال مجاهد والضحاك: يعني صوامع الرهبان، قتادة: صوامع الصابئين.
" * (وبيع) *) النصارى، ابن أبي نجيح عن مجاهد: البيع: كنائس اليهود، وبه قال ابن زيد
25

" * (وصلوات) *) قال ابن عباس وقتادة والضحاك: يعني كنائس اليهود و يسمونها صلوتا. أبو العالية: هي مساجد الصابئين.
ابن أبي نجيح عن مجاهد: هي مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطريق، وعلى هذه الأقاويل تكون الصلوات صلوات أهل الإسلام تنقطع إذا دخل عليهم العدو، انقطعت العبادة وهدمت المساجد كما صنع بخت نصر.
" * (ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) *) يعني مساجد المسلمين، وقيل: تأويلها: لهدمت صوامع وبيع في أيام شريعة عيسى، وصلوات في أيام شريعة موسى، ومساجد في أيام شريعة محمد صلى الله عليهم أجمعين.
وقال الحسن: يدفع عن هدم مصليات أهل الذمة بالمؤمنين، فإن قيل: لم قدم مصليات الكافرين على مساجد المسلمين؟ قلنا: لأنها أقدم، وقيل: لقربها من الهدم، وقرب المساجد من الذكر كما أخر السابق في قوله " * (فمنهم ظالم لنفسه) *) لقربه من الخيرات.
" * (ولينصرن الله من ينصره) *) أي ينصر دينه ونبيه.
" * (إن الله لقوى عزيز الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) *) قال قتادة: هم أصحاب محمد، عكرمة: أهل الصلوات الخمس، الحسن وأبو العالية: هذه الأمة.
" * (ولله عاقبة الامور) *) آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه.
" * (وإن يكذبوك) *) يا محمد " * (فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين) *) أمهلتهم " * (ثم أخذتهم) *) عاقبتهم " * (فكيف كان نكير) *) إنكاري بالعذاب والهلاك، يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ويخوف مخالفيه.
" * (فكأين) *) وكم " * (من قرية أهلكناها وهي ظالمة) *) يعني وأهلها ظالمون، فنسب الظلم إليها لقرب الجوار.
" * (فهى خاوية على عروشها) *) ساقطة على سقوفها " * (وبئر معطلة) *) متروكة مخلاة عن أهلها " * (وقصر مشيد) *) قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل، ومنه قول عدي
26

شاده مرمرا وجلله كلسا
فللطير في ذراه وكور
أي رفعه.
وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة: مجصص، من الشيد وهو الجص، قال الراجز:
كحبة الماء بين الطى والشيد
وقال امرؤ القيس:
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة
ولا أجما إلا مشيدا بجندل
أي مبنيا بالشيد والجندل.
وروى أبو روق عن الضحاك أن هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها حاصورا وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب أتوا حضرموت
ومعهم صالح، فلما حضروه مات صالح، فسمي حضرموت لأن صالحا لما حضره مات، فبنوا حاصورا وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلا يقال له بلهنس بن جلاس بن سويد، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سواده، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى نموا وكثروا، ثم أنهم عبدوا الأصنام فكفروا فأرسل الله إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان كان حمالا فيهم فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخربت قصورهم.
" * (أفلم يسيروا في الارض) *) يعني كفار مكة فينظروا إلى مصارع المكذيبن من الأمم الخالية.
" * (فتكون لهم قلوب يعقلون بها) *) يعلمون بها " * (أو آذان يسمعون بها) *) فيتفكروا ويعتبروا.
" * (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) *) تأكيد، كقوله سبحانه " * (ولا طائر يطير بجناحيه) *) وقوله تعالى " * (يقولون بأفواههم) *).
قال ابن عباس ومقاتل: لما نزل " * (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) *) جاء ابن أم مكتوم النبي صلى الله عليه وسلم باكيا فقال: يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية.
" * (ويستعجلونك بالعذاب) *) نزلت في النضر بن الحرث.
27

" * (ولن يخلف الله وعده) *) فأنجز ذلك يوم بدر.
" * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) *) بالياء مكي كوفي غير عاصم، غيرهم: بالتاء.
وقال ابن عباس: هي من الأيام التي خلق الله سبحانه فيها السماوات والأرض.
مجاهد وعكرمة: من أيام الآخرة.
ابن زيد: في قوله " * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) *) قال: هذه أيام الآخرة. وفي قوله " * (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) *) قال: هو يوم القيامة.
وقال أهل المعاني: معنى الآية: وإن يوما عند ربك من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدة كألف سنة مما تعدون فكيف تستعجلوه؟ وهذا كما يقال: أيام الهموم طوال وأيام السرور قصار.
2 (* (وكأين من قرية أمليت لها وهى ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير * قل ياأيها الناس إنمآ أنا لكم نذير مبين * فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين أولائك أصحاب الجحيم * ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فىأمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله ءاياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفى شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم * ولا يزال الذين كفروا فى مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم * الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى جنات النعيم * والذين كفروا وكذبوا بئاياتنا فأولائك لهم عذاب مهين * والذين هاجروا فى سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم * ذالك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور) *) 2
" * (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا) *) أي
28

عملوا في إبطال آياتنا " * (معاجزين) *) أي مغالبين مشاقين قال ابن عباس، الأخفش: متأنفين، قتادة: ظنوا أنهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم ولن يعجزوه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر: معجزين بالتشديد أي مثبطين الناس عن الإيمان، ومثله في سورة سبأ.
" * (أولئك أصحاب الجحيم وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى) *).
قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله سبحانه تمنى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله، فأحب يومئذ ألا يأتيه من الله تعالى شيء فينفروا عنه، وتمنى ذلك فأنزل الله سبحانه سورة " * (والنجم إذا هوى) *) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ " * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) *) ألقى
29

الشيطان على لسانه لما كان يحدث به نفسه ويتمناه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود، وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل لها محمد نصيبا فنحن معه، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبرئيل (عليه
السلام) فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم يقل لك، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كبيرا فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغهم سجود قريش، وقيل: قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره، وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله (عليه السلام) قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم.
" * (وما أرسلنا من قبلك من رسول) *) وهو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عيانا وشفاها " * (ولا نبي) *) وهو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما " * (إلا إذا تمنى) *) أي أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه ما لم يؤمر به.
" * (ألقى الشيطان في أمنيته) *) أي مراده ووجد إليه سبيلا، وقال أكثر المفسرين: يعني بقوله: تمنى أي تلا وقرأ كتاب الله سبحانه " * (القي الشيطان في أمنيته) *) أي قراءته، وتلاوته، نظيره قوله سبحانه " * (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) *) يعني قراءة يقرأ عليهم.
وقال الشاعر في عثمان ح حين قتل:
تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخره لاقى حمام المقادر
وسمعت أبا القاسم الحبيب يقول: سمعت أبا الحسن علي بن مهدي الطبري يقول: ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شيء وإنما هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صفرت يده من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنى الدنيا بقلبه وسوسة من الشيطان.
وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلى الملائكة يعني أن الشفاعة ترتجى منهم لا من الأصنام، وهذا قول ليس بالقوي ولا بالمرضى لقوله " * (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) *) أي يبطله ويذهبه " * (ثم يحكم الله آياته) *) فيثبتها " * (والله عليم حكيم) *).
فإن قيل: فما وجه جواز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم فعنه جوابان:
أحدهما: أنه على سبيل السهو والنسيان وسبق اللسان فلا يلبث أن ينبهه الله سبحانه ويعصمه.
والثاني: أن ذلك إنما قاله الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء قراءته وأوهم أنه من القرآن وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتلوه، قال الله سبحانه " * (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض) *) فيشكون في ذلك.
" * (والقاسية قلوبهم) *) فلا تلين لأمر الله " * (وإن الظالمين) *) الكافرين " * (لفي شقاق بعيد وليعلم
30

الذين أوتوا العلم) *) من المؤمنين " * (أنه) *) يعني أن الذي أحكم الله سبحانه من آيات القرآن " * (الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) *) أي مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ابن جريج: من القرآن، غيره: من الدين وهو الصراط المستقيم.
" * (حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) *) قال عكرمة والضحاك: عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة.
وقال الآخرون: هو يوم بدر وهو الصواب لأن الساعة هي القيامة، ولا وجه لأن يقال: حتى تأتيهم القيامة وإنما سمي يوم بدر عقيما لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء قاله ابن جريج، غيره: لأنه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وقيل: لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه.
" * (الملك يومئذ) *) يعني يوم القيامة " * (لله) *) وحده من غير منازع، ولا مدع، والملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور، والله سبحانه وتعالى هو الذي يملك الأمور كلها، وكل ملك سواه فهو مملك بحكمه وإذنه.
" * (يحكم بينهم) *) ثم بين حكمه فقال عز من قائل " * (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين والذين هاجروا في سبيل الله) *) أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله سبحانه وطلب رضاه " * (ثم قتلوا أو ماتوا) *) وهم كذلك " * (ليرزقنهم الله رزقا حسنا) *) في الجنة " * (وإن الله لهو خير الرازقين) *) وقيل: هو قوله سبحانه " * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) *).
روى ابن وهب عن عبد الرحمن بن الحجاج بن سلامان بن عامر قال: كان فضالة بن دوس أميرا على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين: أحدهما قتيل والآخر متوفى، فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل وتفضلونه على أخيه المتوفى فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أى حفرتها بعثت، إقرؤوا قول الله سبحانه " * (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين) *).
" * (ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور) *) نزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، فكره المسلمون قتال المشركين وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الأشهر الحرم
31

فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليه، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات، والعقاب الأول بمعنى الجزاء.
2 (* (ذالك بأن الله يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وأن الله سميع بصير * ذالك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلى الكبير * ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فتصبح الارض مخضرة إن الله لطيف خبير * له ما فى السماوات وما فى الارض وإن الله لهو الغنى الحميد * ألم تر أن الله سخر لكم ما فى الارض والفلك تجرى فى البحر بأمره ويمسك السمآء أن تقع على الارض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم * وهو الذىأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور * لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك فى الامر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم * وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون * ألم تعلم أن الله يعلم ما فى السمآء والارض إن ذالك فى كتاب إن ذالك على الله يسير * ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم ءاياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذالكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير) *) 2
" * (ذلك) *) يعني هذا الذي أنصر المظلوم بأني القادر على ما أشاء، فمن قدرته أنه " * (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون) *) بالياء بصري كوفي غير أبي بكر، الباقون: بالتاء " * (من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي) *) فلا شيء أعلى منه ولأنه تعالى عن الأشباه والأشكال " * (الكبير) *) العظيم الذي كل شيء دونه فلا شيء أعظم منه.
" * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الارض مخضرة) *) بالنبات، رفع فتصبح لأن ظاهر الآية استفهام ومعناه الخبر، مجازها: اعلم يا محمد أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة، وإن شئت قلت: قد رأيت أن الله أنزل من السماء ماء، كقول الشاعر:
ألم تسأل الربع القديم فينطق
وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
معناه: قد سألته فنطق.
" * (إن الله لطيف خبير له ما في السموات وما في الارض وإن الله لهو الغني الحميد ألم تر أن الله سخر لكم ما في الارض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على
32

الارض) *) يعني لكيلا تسقط على الأرض " * (إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم وهو الذي أحياكم) *) ولم تكونوا شيئا " * (ثم يميتكم) *) عند انقضاء آجالكم وفناء أعماركم " * (ثم يحييكم) *) للثواب والعقاب " * (إن الانسان لكفور) *) لجحود لما ظهر من الآيات والدلالات.
" * (لكل أمة جعلنا منسكا) *) مألفا يألفونه وموضعا يعتادونه لعبادة الله، وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد لعمل خير أو شر يقال: إن لفلان منسكا أي مكانا يغشاه ويألفه للعبادة، ومنه مناسك الحج لتردد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحج والعمرة. وقال ابن عباس: " * (لكل أمة جعلنا منسكا) *) أي عيدا. وقال مجاهد وقتادة: موضع قربان يذبحون فيه، غيرهم: أراد جميع العبادات.
" * (فلا ينازعنك في الامر) *) أي في أمر الذبح، نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن الخنيس قالوا لأصحاب رسول الله (عليه السلام): ما لكم تأكلون ما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون ما قتله الله؟).
" * (وادع إلى ربك) *) دين ربك " * (إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) *) فتعرفون حينئذ المحق من المبطل والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، وهذا أدب حسن علم الله سبحانه فيمن جادل على سبيل التعنت والمراء كفعل السفهاء أن لا يجادل ولا يناظر، ويدفع بهذا القول الذي علمه الله سبحانه لنبيه (عليه السلام)
" * (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والارض إن ذلك) *) كله " * (في كتاب) *) يعني اللوح المحفوظ " * (إن ذلك) *) يعني علمه تعالى بجميع ذلك " * (على الله يسير ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين) *) الكافرين " * (من نصير) *) يمنعهم من عذاب الله.
" * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) *) بين ذلك في وجوههم بالكراهة والعبوس.
" * (يكادون يسطون) *) يقعون ويبطشون " * (بالذين يتلون عليهم آياتنا) *) وأصل السطو: القهر.
" * (قل) *) يا محمد لهم " * (أفأنبئكم بشر من ذلكم) *) أي بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون " * (النار) *) أي هي النار " * (وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير) *).
2 (* (ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز * الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله
33

سميع بصير * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الامور * ياأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هاذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على الناس فأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) *) 2
" * (يا أيها الناس ضرب مثل) *) معنى ضرب: جعل، كقولهم: ضرب السلطان البعث على الناس، وضرب الجزية على أهل الذمة أي جعل ذلك عليهم، ومنه
قوله " * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) *) والمثل حالة ثابتة تشبه بالأولى في الذكر الذي صار كالعلم، وأصله الشبه، ومعنى الآية: جعل لي المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي.
" * (فاستمعوا له) *) حالها وصفتها التي بينت وشبهتها بها، ثم بين ذلك فقال عز من قائل " * (إن الذين تدعون من دون الله) *) قراءة العامة بالتاء، وروى زيد عن يعقوب يدعون بالياء " * (لن يخلقوا ذبابا) *) في صغره وقلته لأنها لا تقدر على ذلك " * (ولو اجتمعوا له) *) لخلقه، والذباب واحد وجمعها القليل أذبنة والكثير ذبان، مثل غراب وأغربة وغربان " * (وإن يسلبهم) *) يعني الأصنام، أخبر عنها بفعل ما يعقل، وقد مضت هذه المسألة، يقول: وإن يسلبهم " * (الذباب شيئا) *) مما عليهم " * (لا) *) يقدرون أن " * (يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) *).
قال ابن عباس: الطالب الذباب والمطلوب الصنم، وذلك أن الكفار كانوا يلطخون أصنامهم بالعسل في كل سنة ثم يغلقون عليها أبواب البيوت فيدخل الذبان في الكوى فيأكل ذلك العسل وينقيها منه فإذا رأوا ذلك قالوا: أكلت آلهتنا العسل.
الضحاك: يعني العابد والمعبود.
ابن زيد وابن كيسان: كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلي وأنواع الجواهر ويطيبونها بألوان الطيب، فربما يسقط واحد منها أو يأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها، فالطالب على هذا التأويل الصنم والمطلوب الذباب والطائر.
" * (ما قدروا الله حق قدره) *) أي ما عظموا الله حق تعظيمه، ولا عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته إذ أشركوا به مالا يمتنع من الذباب ولا ينتصف به.
" * (إن الله لقوي عزيز الله يصطفي) *) يختار " * (من الملائكة رسلا) *) كجبرئيل وميكائيل وغيرهما " * (ومن الناس) *) أيضا رسلا مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء
34

صلوات الله عليهم، يقال: نزلت هذه الآية لما قال المشركون " * (أألقي الذكر عليه من بيننا) *) فأخبر أن الاختيار إليه، يختار من يشاء من خلقه.
" * (إن الله سميع) *) لقولهم " * (بصير) *) بمن يختاره لرسالته.
" * (يعلم ما بين أيديهم) *) يعني ما كان بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم.
" * (وما خلفهم) *) ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم.
وقال الحسن: ما بين أيديهم ماعملوه، وما خلفهم ما هم عاملون مما لم يعملوه بعد.
" * (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) *).
أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: وفيما قرأت على عبد الله بن نافع، وحدثني مطرف بن عبد الله عن مالك عن نافع أن رجلا من أهل مصر أخبر عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب ح قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين ثم قال: ان هذه السورة فضلت بسجدتين.
وبإسناده عن مالك عن عبد الله بن دينار أنه قال: رأيت عبد الله بن عمر سجد في الحج سجدتين.
وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العباس الدعولي قال: حدثنا ابن أبي خيثمة قال: حدثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن صفوان بن مهران أن أبا موسى قرأ على منبر البصرة سورة الحج، فنزل فسجد فيها سجدتين.
وحدثنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال: حدثنا محمد ابن مسلم بن دارة قال: حدثنا محمد بن موسى بن أعين قال: قرأت على أبي عن عمرو بن الحرث عن ابن لهيعة ان شريح بن عاها حدثه عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما.
" * (وجاهدوا في الله حق جهاده) *) يعني وجاهدوا في سبيل الله أعداء الله حق جهاده، وهو استفراغ الطاقة فيه، قاله ابن عباس، وعنه أيضا: لا تخافوا في الله لومة لائم وذلك حق الجهاد.
وقال الضحاك ومقاتل: يعني اعملوا لله بالحق حق عمله، واعبدوه حق عبادته.
عبد الله بن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى وذلك حق الجهاد، وهو الجهاد الأكبر
35

على ما روي في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رجع من بعض غزواته: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر).
" * (هو اجتباكم) *) اختاركم لدينه " * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *) ضيق فلا يبتلي المؤمن بشيء من الذنوب إلا جعل له منه مخرجا بعضها بالتوبة وبعضها بالقصاص وبعضها برد المظالم وبعضها بأنواع الكفارات، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من العقاب فيه، ولا ذنب يذنبه المؤمن إلا وله منه في دين الإسلام مخرج، وهذا معنى رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه حين سأله عبد الملك بن مروان عن هذه الآية فقال: جعل الله الكفارات مخرجا من ذلك، سمعت ابن عباس يقول ذلك.
وقال بعضهم: معناه وما جعل عليكم في الدين من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر والأضحى ووقت الحج إذا التبست عليكم وشك الناس فيها، ولكنه وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا محلها " * (ملة) *) أبيكم أي كملة " * (أبيكم إبراهيم) *) نصب بنزع حرف الصفة، عن الفراء، غيره: نصب على الاغراء أي الزموا واتبعوا ملة أبيكم إبراهيم، وإنما أمركم باتباع ملة إبراهيم لأنها داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وسلم
وأما وجه قوله سبحانه (ملة أبيكم) وليس جميعهم يرجع إلى ولادة إبراهيم فإن معناه: إن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد، كما قال سبحانه " * (وأزواجه أمهاتهم) *) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما أنا لكم مثل الوالد)، وهذا معنى قول الحسن البصري (رحمه الله).
" * (هو) *) يعني الله سبحانه وتعالى " * (سماكم المسلمين من قبل) *) يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة " * (وفي هذا) *) الكتاب هذا قول أكثر المفسرين.
وقال ابن زيد: هو راجع إلى إبراهيم (عليه السلام) يعني أن إبراهيم سماكم المسلمين من قبل أي من قبل هذا الوقت في أيام إبراهيم " * (وفي هذا) *) الوقت، قال: وهو قول إبراهيم " * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) *) والقول الأول أولى بالصواب.
" * (ليكون الرسول شهيدا عليكم) *) أن قد بلغكم " * (وتكونوا شهداء على الناس) *) أن رسلهم قد بلغتهم " * (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله) *) وثقوا بالله وتوكلوا عليه.
وقال الحسن: تمسكوا بدين الله الذي لطف به لعباده.
" * (هو مولاكم) *) وليكم وناصركم ومتولي أمركم " * (فنعم المولى ونعم النصير) *))
.
36

((سورة المؤمنون))
مكية، وهي أربعة آلاف وثمانمائة وحرفان، وألف وثمانمائة وأربعون كلمة، ومائة وثماني عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن الخباري قال: حدثنا ابن حبش قال: حدثني أبو العباس محمد بن موسى الدقاق الرازي قال: حدثنا عبد الله بن روح المدائني قال: وحدثنا طفران قال: حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا محمد بن عاصم قال: حدثنا نسابة بن سوار الفزاري قال: حدثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة المؤمنين بشرته الملائكة بالروح والريحان وما تقر به عينه عند نزول ملك الموت).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (قد أفلح المؤمنون * الذين هم فى صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكواة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى ورآء ذالك فأولائك هم العادون * والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولائك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) *) 2
" * (قد أفلح المؤمنون) *) قد حرف تأكيد، وقال المحققون: معنى قد تقريب بالماضي من الحال، فدل على أن فلاحهم قد حصل وهم عليه في الحال، وهذا أبلغ في الصفة من تجريد ذكر الفلاح، والفلاح: النجاح والبقاء.
أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسر بقراءته علي في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو عمرو المعتز بن محمد بن الفضل القاضي قال: حدثنا أحمد بن الحسين الفريابي قال: حدثنا عبد الرحيم بن حبيب البغدادي عن إسحاق بن تجيح الملطي عن
37

ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما خلق الله سبحانه جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم قال لها: تكلمي، قالت: قد أفلح المؤمنون ثلاثا ثم قالت: أنا حرام على كل بخيل ومرائي).
وقرأطلحة بن مصرف: قد أفلح المؤمنون على المجهول، أي أبقوا في الثواب.
" * (الذين هم في صلاتهم خاشعون) *) اختلف المفسرون في معنى الخشوع، فقال ابن عباس: مخبتون أذلاء، الحسن وقتادة: خائفون.
مقاتل: متواضعون على الخشوع في القلب، وأن تلين للمرء المسلم كنفك ولا تلتفت.
مجاهد: هو غض البصر وخفض الجناح وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمد بصره إلى شيء أو أن يحدث نفسه بشيء من شأن الدنيا.
عمرو بن دينار: ليس الخشوع الركوع والسجود ولكنه السكون وحسن الهيئة في الصلاة.
ابن سيرين وغيره: هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك.
قالوا: وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء وينظرون يمينا ويسارا حتى نزلت هذه الآية، فجعلوا بعد ذلك وجوههم حيث يسجدون، وما رؤي بعد ذلك أحد منهم ينظر ألا إلى الأرض.
ربيع: هو أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا.
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: حدثنا السراج قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: أخبرنا إسحاق بن سليمان قال: حدثنا إبراهيم الخوزي عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه بين عيني الرحمان عز وجل فإذا التفت قال له الرب: إلى من تلتفت؟ إلى من هو خير لك مني؟ ابن آدم أقبل إلي فأنا خير ممن تلتفت إليه.
عطاء: هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة، وأبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه.
وأخبرنا محمد بن أحمد بن عقيل القطان قال: أخبرنا صاحب بن أحمد بن ترحم بن سفيان قال: حدثنا أبو عبد الرحمن بن نبيت المروزي عبدان قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن
38

معمر أنه سمع الزهري يحدث عن أبي الأحوص عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يحركن الحصى).
ويقال: نظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى ويقول: اللهم زوجني من الحور العين، فقال: بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث.
خليد بن دعلج عن قتادة: هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
بعضهم: هو جمع الهمة لها وإلاعراض عما سواها.
أبو بكر الواسطي: هو الصلاة لله سبحانه على الخلوص من غير عوض.
سمعت ابن الإمام يقول: سمعت ابن مقسم يقول: سمعت أبا الفضل جعفر بن أحمد الصيدلي يقول: سمعت ابن أبي الورد يقول: يحتاج المصلي إلى أربع خلال حتى يكون خاشعا: إعظام المقام، وإخلاص المقال، واليقين التمام، وجمع الهمة.
" * (والذين هم عن اللغو معرضون) *) قال الحسن: عن المعاصي، ابن عباس: الحلف الكاذب، مقاتل: الشتم والأذى، غيرهم: ما لا يحمل من القول والفعل، وقيل: اللغو الفعل الذي لا فائدة فيه.
" * (والذين هم للزكاة) *) الواجبة " * (فاعلون) *) مؤدون، وهي فصيحة وقد جاءت في كلام العرب قال أمية بن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السنة
الأزمة والفاعلون للزكوات
" * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم) *) أي من أزواجهم، على بمعنى من " * (أو ما) *) في محل الخفض يعني أو من ما " * (ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) *) على إتيان نسائهم وإمائهم.
" * (فمن ابتغى وراء ذلك) *) أي التمس وطلب سوى زوجته وملك يمينه " * (فأولئك هم العادون) *) من الحلال إلى الحرام، فمن زنى فهو عاد.
" * (والذين هم لاماناتهم) *) التي ائتمنوا عليها " * (وعهدهم) *) وعقودهم التي عاقدوا الناس عليها " * (راعون) *) حافظون وافون.
وقرأ ابن كثير: لأمانتهم على الواحد لقوله: (وعهدهم). الباقون: بالجمع لقوله " * (ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) *).
39

" * (والذين هم على صلواتهم يحافظون) *) يداومون على فعلها ويراعون أوقاتها، فأمر بالمحافظة عليها كما أمر بالخشوع فيها لذلك كرر ذكر الصلاة.
" * (أولئك) *) أهل هذه الصفة " * (هم الوارثون) *) يوم القيامة منازل أهل الجنة من الجنة.
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما منكم من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى " * (أولئك هم الوارثون) *).
وقال مجاهد: لكل واحد منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فأما المؤمن فيبنى منزله الذي له في الجنة، ويهدم منزله الذي هو في النار، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة، ويبنى منزله الذي في النار.
وقال بعضهم: معنى الوراثة هو أنه يؤول أمرهم إلى الجنة وينالونها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.
" * (الذين يرثون الفردوس) *) أي البستان ذا الكرم، قال مجاهد: هي بالرومية، عكرمة: هي الجنة بلسان الحبش، السدي: هي البساتين عليها الحيطان بلسان الروم.
وفي الحديث: إن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر فقالت أمه: يا رسول الله إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء، فقال: (يا أم حارثة إنها جنان وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى من الجنة).
أخبرني أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يونس بن إبراهيم بن النضر المقري قال: حدثنا العباس بن الفضل المقري قال: حدثنا أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال: حدثني عبد الله بن لهيعة الحضرمي قال: حدثنا عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله سبحانه " * (قد أفلح المؤمنون) *) يعني قد سعد المصدقون بتوحيد الله سبحانه، ثم نعتهم ووصف أعمالهم فقال عز من قائل " * (الذين هم في صلاتهم خاشعون) *) يعني متواضعين لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره، ولا يلتفت من الخشوع لله " * (والذين هم عن اللغو معرضون) *) يعني الباطل والكذب " * (والذين هم للزكاة فاعلون) *) يعني الأموال كقوله سبحانه في الأعلى " * (قد أفلح من تزكى) *) يعني من ماله " * (والذين هم لفروجهم حافظون) *) يعني عن الفواحش، ثم قال " * (إلا
40

على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) *) يعني ولائدهم " * (فإنهم غير ملومين) *) لا يلامون على جماع أزواجهم وولائدهم " * (فمن ابتغى وراء ذلك) *) فمن
طلب الفواحش بعد الأزواج والولائد ما لم يحل " * (فأولئك هم العادون) *) يعني المعتدين في دينهم " * (والذين هم لأماناتهم) *) يعني ما ائتمنوا عليه فيما بينهم وبين الناس " * (وعهدهم راعون) *) يعني حافظين يؤدون الأمانة ويوفون بالعهود " * (والذين هم على صلاتهم يحافظون) *) يعني يحافظون عليها في مواقيتها، ثم أخبر بثوابهم فقال " * (أولئك هم الوارثون) *) ثم بين مايرثون فقال " * (الذين يرثون الفردوس) *) يعني الجنة بلسان الرومية " * (هم فيها خالدون) *) لا يموتون فيها.
أخبرنا محمد بن عقيل القطان قال: أخبرنا حاجب بن أحمد بن سفيان قال: حدثنا محمد بن حماد البيوردي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرني يونس بن سليم قال أملى على صاحب أيلة عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب ح يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوى النحل، فمكثنا ساعة فاستقبل ورفع يديه فقال: (اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا، ثم قال: لقد أنزل علينا عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ " * (قد أفلح المؤمنون) *) عشر آيات).
(* (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذالك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون * ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق وما كنا عن الخلق غافلين * وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه فى الارض وإنا على ذهاب به لقادرون * فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون * وشجرة تخرج من طور سينآء تنبت بالدهن وصبغ للأكلين * وإن لكم فى الانعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى الفلك تحملون * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون * فقال الملؤا الذين كفروا من قومه ما هاذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شآء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهاذا فىءابآئنا الاولين * إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين * قال رب انصرنى بما كذبون) *
41

" * (ولقد خلقنا الانسان) *) يعني ابن آدم " * (من سلالة من طين) *) أي من صفوة ماء آدم الذي هو من الطين ومنيه والعرب تسمي نطفة الشيء وولده سليله وسلالته لأنهما مسلولان منه. قال الشاعر:
حملت به عضب الأديم غضنفرا
سلالة فرج كان غير حصين
وقال آخر:
وهل كنت إلا مهرة عربية
سليلة أفراس تجللها بغل
" * (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) *) حريز مكين لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها وهو الرحم.
" * (ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما) *) قرأ ابن عامر عظما على الواحد في الحرفين، ومثله روى أبو بكر عن عاصم لقوله لحما، وقرأ الآخرون بالجمع لأن إلانسان ذو عظام كثيرة.
" * (فكسونا) *) فألبسنا " * (العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر) *) اختلف المفسرون فيه. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة وأبو العالية والضحاك وابن زيد: نفخ الروح فيه.
قتادة: نبات الأسنان والشعر.
ابن عمر: استواء الشباب، وهي رواية ابن أبي نجيح وابن جريج عن مجاهد.
وروى العوفي عن ابن عباس: إن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة، يقول: خرج من بطن أمه بعد ما خلق فكان من بدو خلقه الآخر أن استهل، ثم كان من خلقه أن دل على ثدي أمة، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه، إلى أن قعد، إلى أن حبا، إلى أن قام على رجليه، إلى أن
42

مشى، إلى أن فطم، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام، إلى أن بلغ الحلم، إلى أن بلغ ان يتقلب في البلاد.
وقيل: الذكورة والأنوثية، وقيل: إعطاء العقل والفهم.
" * (فتبارك الله) *) أي استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال وأصله من البروك وهو الثبوت.
" * (أحسن الخالقين) *) أي المصورين والمقدرين، مجاهد: يصنعون و يصنع الله والله خير الصانعين.
ابن جريج: إنما جمع الخالقين لأن عيسى كان يخلق، فأخبر جل ثناؤه أنه يخلق أحسن مما كان يخلق.
وروى أبو الخليل عن أبي قتادة قال: لما نزلت هذه الآية إلى آخرها قال عمر بن الخطاب ح (فتبارك الله أحسن الخالقين) فنزلت " * (فتبارك الله أحسن الخالقين) *).
قال ابن عباس: كان ابن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأملى عليه هذه الآية، فلما بلغ قوله " * (خلقا آخر) *) خطر بباله " * (فتبارك الله أحسن الخالقين) *) فلما أملاها كذلك لرسول الله قال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه فانا نبى يوحى إلي، فلحق بمكة كافرا.
" * (ثم إنكم بعد ذلك لميتون) *) قرأ أشهب العقيلي لمايتون بالألف، والميت والمائت، الذي لم يفارقه الروح بعد وهو سيموت، والميت بالتخفيف: الذي فارقه الروح، فلذلك لم تخفف ههنا كقوله سبحانه وتعالى * (إنك ميت وإنهم ميتون) * * (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) *) وإنما قيل: طرائق لأن بعضهن فوق بعض، فكل سماء منهن طريقة، والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة، وقيل: لأنها طرائق الملائكة.
" * (وما كنا عن الخلق غافلين) *) يعني عن خلق السماء، قاله بعض العلماء، وقال أكثر المفسرين: يعني عمن خلقنا من الخلق كلهم ماكنا غافلين عنهم، بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم فتهلكهم.
وقال أهل المعاني: معنى الآية: إن من جاز عليه الغفلة عن العباد جاز عليه الغفلة عن الطرائق التي فوقهم فتسقط فالله عز وجل " * (يمسك السماوات أن تقع على الأرض إلا بإذنه) *) ولولا إمساكه لها لم تقف طرفة عين.
قال الحسن: وما كنا عن الخلق غافلين أن ينزل عليهم ما يجيئهم من المطر.
" * (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض) *) ثم أخرجنا منها ينابيع فماء الأرض هو من السماء.
" * (وإنا على ذهاب به لقادرون) *) حتى تهلكوا عطشا وتهلك مواشيكم وتخرب أراضيكم.
" * (فانشأنا لكم به) *) بالماء " * (جنات من نخيل وأعناب لكم فيها) *) يعني في الجنات " * (فواكه كثيرة ومنها تأكلون) *) شتاء وصيفا، وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما كانا أعظم ثمار الحجاز وما والاها، فكانت النخيل لأهل المدينة، والأعناب لأهل الطائف، فذكر القوم ما يعرفون من نعمه
43

" * (وشجرة) *) يعني وأنشأنا لكم أيضا شجرة " * (تخرج من طور سيناء) *) وهي الزيتون، واختلف القراء في سيناء، فكسر سينه أبو عمرو وأهل الحجاز، وفتحه الباقون، واختلف العلماء في معناه، فقال مجاهد: معناه البركة، يعني: إنه جبل مبارك، وهي رواية عطية عن ابن عباس، قتادة والحسن والضحاك: طور سيناء بالنبطية: الجبل الحسن.
ابن زيد: هو الجبل الذي نودي منه موسى عليه السلام، وهو بين مصر وأيلة، معمر وغيره: جبل ذو شجر، بعضهم: هو بالسريانية الملتفة الأشجار، وقيل: هو كل جبل ذي أشجار مثمرة، وقيل: هو متعال من السنا وهو الارتفاع.
قال مقاتل: خص الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت بها، ويقال: إن الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان.
" * (تنبت بالدهن) *) وأكثر القراء على فتح التاء الأول من قوله تنبت وضم بائه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم التاء وكسر الباء ولها وجهان:
أحدهما: أن الباء فيه زائدة كما يقال: أخذت ثوبه وأخذت بثوبه، وكقول الراجز:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي ونرجو الفرج.
والوجه الآخر: أنهما لغتان بمعنى واحد نبت وأنبت، قال زهير:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم
قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
أي نبت " * (وصبغ للآكلين) *) أي إدام نصطبغ به
" * (وإن لكم في الانعام لعبرة) *) وهي الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدى به إلى العلم وهي من العبور كأنه طريق يعبر إليه ويتوصل به إلى المراد.
" * (نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) *) قال ابن عباس: سمي بذلك لكثرة ماناح على نفسه، واختلف في سبب نوحه، فقال بعضهم: لدعوته على قومه بالهلاك حيث قال " * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) *) وقيل: لمراجعته ربه في شأن أمته، وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم، فقال: إخسأ يا قبيح فأوحى الله سبحانه إليه: أعبتني أم عبت الكلب؟
44

" * (فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل) *) يتشرف " * (عليكم) *) فيكون أفضل منكم فيصير متبوعا وأنتم له تبعا.
" * (ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا) *) الذي يدعونا إليه نوح " * (في آبائنا الأولين إن هو) *) ما هو " * (إلا رجل به جنة) *) جنون، نظيرها قوله سبحانه " * (ما بصاحبهم من جنة) *) ويقال للجن أيضا: جنة، قال الله سبحانه " * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) *) وقال " * (من الجنة والناس) *) يتفق الاسم والمصدر.
" * (فتربصوا) *) فانتظروا " * (به حتى حين) *) يعني إلى وقت ما، وقيل: إلى حين الموت، فقال لما تمادوا في غيهم وأصروا على كفرهم " * (رب انصرني) *) أعني بإهلاكهم " * (بما كذبون) *) يعني بتكذيبهم إياي.
2 (* (فأوحينآ إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جآء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبنى فى الذين
ظلموا إنهم مغرقون * فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلنى منزلا مباركا وأنت خير المنزلين * إن فى ذالك لأيات وإن كنا لمبتلين * ثم أنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين * فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون * وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الاخرة وأترفناهم فى الحيواة الدنيا ما هاذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون * أيعدكم أنكم إذا مت م وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) *) 2
" * (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها) *) فأدخل فيها، يقال: سلكته في كذا وأسلكته فيه، قال الشاعر:
وكنت لزاز خصمك لم أعرد
وقد سلكوك في يوم عصيب
وقال الهذلي:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة
شلا كما تطرد الجمالة الشردا
45

" * (من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) *).
قال الحسن: لم يحمل نوح في السفينة إلا من يلد ويبيض، فأما ما يتولد من الطين وحشرات الأرض والبق والبعوض فلم يحمل منها شيئا.
" * (فإذا استويت) *) اعتدلت في السفينة راكبا فيها، عاليا فوقها " * (أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا) *) قرأه العامة بضم الميم على المصدر أي إنزالا مباركا، وقرأ عاصم برواية أبي بكر بفتح الميم وكسر الزاي أي موضعا.
" * (وأنت خير المنزلين إن في ذلك لآيات وإن كنا) *) وقد كنا، وقيل: وما كنا إلا مبتلين مختبرين إياهم بتذكيرنا ووعظنا لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم.
" * (ثم أنشانا من بعدهم) *) أي أهلكناهم وأحدثنا من بعدهم " * (قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم) *) قال المفسرون يعني هودا وقومه " * (أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم) *) نعمناهم ووسعنا عليهم، والترفة: النعمة، في الحياة الدنيا " * (ما هذا) *) الرسول " * (إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما) *) قد ذهبت اللحوم " * (إنكم مخرجون) *) من قبوركم أحياء، وأعاد إنكم لما طال الكلام، ومعنى وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون.
2 (* (هيهات هيهات لما توعدون * إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين * قال رب انصرنى بما كذبون * قال عما قليل ليصبحن نادمين * فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثآء فبعدا للقوم الظالمين * ثم أنشأنا من بعدهم قرونا ءاخرين * ما تسبق من أمة أجلها وما يستئخرون * ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جآء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون) *) 2
" * (هيهات هيهات لما توعدون) *) قال ابن عباس: هي كلمة بعد يقول: ما توعدون، واختلف القراء فيه، فقرأ أبو جعفر بكسر التاء فيهما، وقرأ نصر بن عاصم بالضم، وقرأ ابن حبوة الشامي بالضم والتنوين، وقرأ الآخرون بالنصب من غير تنوين، وكلها لغات صحيحة، فمن نصب جعل
46

مثل أين وكيف، وقيل: لأنهما أداتان فصارتا مثل خمسة عشر وبعلبك ونحوهما.
وقال الفراء: نصبهما كنصب قولهم ثمث وربت، ومن رفعه جعله مثل منذ وقط وحيث، ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء. قال الشاعر:
تذكرت أياما مضين من الصبا
وهيهات هيهات إليك رجوعها
وقال آخر:
لقد باعدت أم الحمارس دارها
وهيهات من أم الحمارس هيهاتا
واختلفوا في الوقف عليها، فكان الكسائي يقف عليها بالهاء، والفراء بالتاء، وإنما أدخلت اللام مع هيهات في الاسم لأنها أداة غير مشتقة من فعل فأدخلوا معها في الاسم اللام كما أدخلوها مع هلم لك.
" * (إن هي) *) يعنون الدنيا " * (إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) *) يموت الآباء ويحيى الأبناء " * (وما نحن بمبعوثين إن هو) *) يعنون الرسول " * (إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل) *) عن قليل، وما صلة " * (ليصبحن نادمين) *) على كفرهم " * (فأخذتهم الصيحة) *) يعني صيحة العذاب " * (بالحق فجعلناهم غثاء) *) وهو ما يحمله السيل " * (فبعدا للقوم الظالمين ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين) *) والقرن أهل العصر، سموا بذلك لمقارنة بعضهم ببعض.
" * (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) *) ومن صلة.
" * (ثم أرسلنا رسلنا تترا) *) مترادفين يتبع بعضهم بعضا، وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو تترى بالتنوين على توهم أن الياء أصلية، كما قيل: معزي بالياء ومعزى وبهمي وبهما فأجريت أحيانا وترك اجراؤها أحيانا، فمن نون وقف عليها بالألف، ومن لم ينون وقف عليها بالياء، ويقال: إنها ليست بياء ولكن ألف ممالة، وقرأه العامة بغير تنوين مثل غضبى وسكرى، وهو اسم جمع مثل شتى، وأصله: وترى من المواترة والتواتر، فجعلت الواو تاء مثل التقوى والتكلان ونحوهما.
" * (كلما جاء أمة رسولها كذبوه فاتبعنا بعضهم بعضا) *) بالهلاك أي أهلكنا بعضهم في أثر بعض.
" * (وجعلناهم أحاديث) *) أي مثلا يتحدث بهم الناس، وهي جمع أحدوثة، ويجوز أن يكون جمع حديث، قال الأخفش: إنما يقال هذا في الشر، فأما في الخير فلايقال: جعلتهم أحاديث وأحدوثة وإنما يقال: صار فلان حديثا.
47

" * (فبعدا لقوم لا يؤمنون) *) نظيرها " * (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق) *)؟
2 (* (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بئاياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين * فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون * فكذبوهما فكانوا من المهلكين * ولقد ءاتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون * وجعلنا ابن مريم وأمه ءاية وءاويناهمآ إلى ربوة ذات قرار ومعين * ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم * وإن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون * فذرهم فى غمرتهم حتى حين * أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون * إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بئايات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون) *) 2
" * (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملائه فاستكبروا) *) تعظموا عن الإيمان " * (وكانوا قوما عالين) *) متكبرين، قاهرين غيرهم بالظلم، نظيرها * (إن فرعون علا في الأرض) * * (فقالوا) *) يعني فرعون وقومه " * (أنؤمن لبشرين مثلنا) *) فنتبعهما " * (وقومهما لنا عابدون) *) مطيعون متذللون، والعرب تسمي كل من دان لملك عابدا له، ومن ذلك قيل لأهل الحيرة: العباد لأنهم كانوا أهل طاعة لملوك العجم.
" * (فكذبوهما فكانوا من المهلكين) *) بالغرق " * (ولقد آتينا موسى الكتاب) *) التوراة " * (لعلهم يهتدون) *) لكي يهتدي بها قومه فيعملوا بما فيها " * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) *) دلالة على قدرتنا، وكان حقه أن يقول آيتين كما قال الله سبحانه " * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) *) واختلف النحاة في وجهها، فقال بعضهم: معناه: وجعلنا كل واحد منهما آية كما قال سبحانه " * (كلتا الجنتين آتت أكلها) *) أي آتت كل واحدة أكلها وقال " * (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس) *) ولم يقل أرجاس، وقال بعضهم: معناه: جعلنا شأنهما واحدا لأن عيسى ولد من غير أب، وأمه ولدت من غير مسيس ذكر. " * (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) *).
أخبرنا أبو صالح منصور بن أحمد المشطي قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن
48

عبد الله الرازي قال: أخبرنا سلمان بن علي قال: أخبرنا هشام بن عمار قال: حدثنا عبد المجيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن سلام في قول الله سبحانه " * (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) *) قال: دمشق، وقال أبو هريرة: هي الرملة، قتادة وكعب: بيت المقدس، قال كعب: وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. ابن زيد: مصر، الضحاك: غوطة دمشق، أبو العالية: إيليا وهي الأرض المقدسة، ويعني بالقرار الأرض المستوية والساحة الواسعة، والمعين: الماء الظاهر لعين الناظر، وهو مفعول من عانه يعينه إذا أدركه البصر ورآه، ويجوز أن يكون فعيلا معن يمعن فهو معين من الماعون.
" * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) *) يعني من الحلالات، يعني: وقلنا لعيسى: كلوا من الطيبات، وهذا كما يقال في الكلام للرجل الواحد: أيها القوم كفوا عنا أذاكم، ونظائرها في القرآن كثيرة. قال عمرو بن شريل: كان يأكل من غزل أمه، وقال الحسن ومجاهد: المراد به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
" * (واعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم وإن هذه) *) قرأه أهل الكوفة بكسر الألف على الابتداء، وقرأ ابن عامر بفتح الألف وتخفيف النون جعل إن صلة مجازه: وهذه أمتكم، وقرأ الباقون بفتح الألف وتشديد النون على معنى هذه، ويجوز أن يكون نصبا بإضمار فعل، أي واعلموا أن هذه " * (أمتكم أمة واحدة) *) أي ملتكم ملة واحدة وهي دين الإسلام.
" * (وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا) *) قرأه العامة بضم الباء يعنى كتبا، جمع زبور بمعنى: دان كل فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر، قاله مجاهد وقتادة، وقيل: معناه فتفرقوا دينهم بينهم كتبا أحدثوها يحتجون فيها لمذاهبهم، قاله قتادة وابن زيد، وقرأ أهل الشام بفتح الباء أي قطعا وفرقا كقطع الحديد، قال الله سبحانه " * (آتوني زبر الحديد) *).
" * (كل حزب) *) جماعة " * (بما لديهم) *) عندهم من الدين " * (فرحون) *) معجبون مسرورون " * (فذرهم في غمرتهم) *) قال ابن عباس: كفرهم وضلالتهم، ابن زيد: عماهم، ربيع: غفلتهم " * (حتى حين) *) إلى وقت مجيء آجالهم.
" * (أيحسبون إنما نمدهم به) *) نعطيهم ونزيدهم " * (من مال وبنين) *) في الدنيا " * (نسارع) *) نسابق " * (لهم في الخيرات) *) ومجاز الآية: أيحسبون ذلك مسارعة لهم في الخيرات، وقرأ عبد الرحمن ابن أبي بكر: يسارع على مالم يسم فاعله، والصواب قراءة العامة لقوله سبحانه " * (نمدهم) *).
" * (بل لا يشعرون) *) أن ذلك استدراج لهم، ثم بين المسارعين إلى الخيرات فقال عز من
49

قائل " * (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا) *) يعطون ما أعطوا من الزكوات
والصدقات، هذه قراءة أهل الأمصار وبه رسوم مصاحفهم.
أخبرنا عبد الخالق بن علي قال: أخبرنا إسماعيل بن نجية قال: حدثنا محمد بن عمار بن عطية قال: حدثنا أحمد بن يزيد الحلواني قال: حدثنا خلاد عن إبراهيم بن الزبرقان عن محمد ابن حماد عن أبيه عن عائشة خ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ " * (والذين يأتون ما آتوا من المجيء) *).
وأخبرنا الحاكم أبو منصور حمد بن أحمد البورجاني قال: حدثنا علي بن أحمد بن موسى الفارسي قال: حدثنا محمد بن الفضيل قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثني ملك بن مغول قال: سمعت عبد الرحمن بن سعيد الهمداني ذكر أن عائشة خ قالت: يا رسول الله:
2 (* (والذين يؤتون مآ ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولائك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون * ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون * بل قلوبهم فى غمرة من هاذا ولهم أعمال من دون ذالك هم لها عاملون * حتى إذآ أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون * لا تجئروا اليوم إنكم منا لا تنصرون * قد كانت ءايتى تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون * أفلم يدبروا القول أم جآءهم ما لم يأت ءابآءهم الاولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * أم يقولون به جنة بل جآءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون * ولو اتبع الحق أهوآءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون * أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين * وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالاخرة عن الصراط لناكبون) *) 2
" * (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) *) أهو الذي يزني ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: (لا يا ابنة الصديق ولكن هو الذي يصوم ويصلي ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله سبحانه).
وأخبرنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا محمد بن حامد قال: حدثنا محمد بن الجهم قال: حدثنا عبد الله بن عمرو قال: أخبرنا وكيع عن ملك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله " * (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) *) أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق قال: (لا يا ابنة أبي بكر أو يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا تقبل منه).
50

" * (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها) *) يعني إليها " * (سابقون) *) كقوله (لما نهوا عنه) و (لما قالوا) ونحوهما، وكان ابن عباس يقول في معنى هذه الآية: سبقت لهم من الله السعادة ولذلك سارعوا في الخيرات.
" * (ولا نكلف نفسا إلا وسعها) *) يعني إلا ما يسعها ويصلح لها من العبادة والشريعة: " * (ولدينا كتاب) *) يعني اللوح المحفوظ " * (ينطق بالحق) *) يبين بالصدق ما عملوا وما هم عاملون من الخير والشر، وقيل: هو كتاب أعمال العباد الذي تكتبه الحفظة وهو أليق بظاهر الآية.
" * (وهم لا يظلمون) *) يعني يوفون جزاء أعمالهم ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.
ثم ذكر الكفار فقال عز من قائل " * (بل قلوبهم في غمرة) *) عمى وغفلة " * (من هذا) *) القرآن " * (ولهم أعمال) *) خبيثة لا يرضاها الله من المعاصي والخطايا " * (من دون ذلك) *) يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله سبحانه، قيل: وهي قوله * (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) * * (هم لها عاملون) *) لابد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة.
" * (حتى إذا أخذنا مترفيهم) *) يعني اغنياءهم ورؤساءهم " * (بالعذاب) *) قال ابن عباس: بالسيوف يوم بدر، وقال الضحاك: يعني الجوع وذلك حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة والقد والأولاد).
" * (إذا هم يجأرون) *) يضجون ويجزعون ويستغيثون، وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع كما يفعل الثور، قال الشاعر:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة
وكان النكير أن تضيف وتجأرا
يصف بقره. وقال أيضا:
يراوح من صلوات المليك
فطورا سجودا وطورا جؤارا
" * (لاتجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون) *) لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم وتضرعكم.
" * (قد كانت آياتي تتلى عليكم) *) يعني القرآن " * (فكنتم على أعقابكم) *) أدباركم " * (تنكصون) *))
51

تدبرون وتستأخرون وترجعون القهقرى، مكذبين بها كارهين لها " * (مستكبرين به) *) أي بالحرم تقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم، وهو كناية عن غير مذكور " * (سامرا) *) نصب على الحال يعني أنهم يسمرون بالليل في مجالسهم حول االبيت، ووحد سامرا وهو بمعنى السمار لأنه وضع موضع الوقت، أراد: تهجرون ليلا، كقول الشاعر:
من دونهم إن جئتهم سمرا
عزف القيان ومجلس غمر
فقال: سمرا لأن معناه: إن جئتهم ليلا وهم يسمرون، وقيل: واحد ومعناه الجمع كما قال " * (ثم يخرجكم طفلا) *) ونحوه.
" * (تهجرون) *) قرأ نافع بضم التاء وكسر الجيم أي تفحشون وتقولون الخنا، يقال اهجر الرجل في كلامه أي أفحش، وذكر أنهم كانوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقرأ الآخرون بفتح التاء وضم الجيم ولها وجهان:
أحدهما: تعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن والإيمان وترفضونها.
والآخر: يقولون سوءا وما لا يعلمون، من قولهم: هجر الرجل في منامه إذا هذى.
" * (أفلم يدبروا) *) يتدبروا " * (القول) *) القرآن " * (أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين) *) فأنكروه وأعرضوا عنه، ويحتمل أن يكون أم بمعنى بل، يعني: بل جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فكذلك أنكروه ولم يؤمنوا به، وروي هذا القول عن ابن عباس.
" * (أم لم يعرفوا رسولهم) *) محمدا وأنه من أهل الصدق والأمانة. " * (فهم له منكرون أم يقولون به جنة) *) جنون، كذبوا في ذلك فإن المجنون يهذي ويقول ما لا يعقل ولا معنى له، " * (بل) *) محمد " * (جاءهم بالحق) *) بالقول الذي لا يخفى صحته وحسنه على عاقل " * (وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق) *) يعني الله سبحانه " * (أهواءهم) *) مرادهم فيما يفعل " * (لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم) *) ببيانهم وشرفهم يعني القرآن.
" * (فهم عن ذكرهم معرضون أم تسئلهم) *) على ما جئتهم به " * (خرجا) *) أجرا وجعلا وأصل الخرج والخراج الغلة والضريبة والأتاوة كخراج العبد والأرض.
وقال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه، والخرج ما تبرعت به من غير وجوب.
قال الله سبحانه: " * (فخراج ربك) *) رزقه وثوابه " * (خير وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) *) وهو الإسلام.
52

" * (وان الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) *) عادلون، مائلون، ومنه الريح النكباء.
" * (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا فى طغيانهم يعمهون * ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون * حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون * وهو الذىأنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون * وهو الذى ذرأكم فى الارض وإليه تحشرون * وهو الذى يحاى ويميت وله اختلاف اليل والنهار أفلا تعقلون * بل قالوا مثل ما قال الاولون * قالوا أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * لقد وعدنا نحن وءابآؤنا هاذا من قبل إن هاذآ إلا أساطير الاولين * قل لمن الارض ومن فيهآ إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون * بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون * ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إلاه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون * قل رب إما ترينى ما يوعدون * رب فلا تجعلنى فى القوم الظالمين * وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون * ادفع بالتى هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون) *) قحط وجدب " * (للجوا) *) لتمادوا " * (في طغيانهم يعمهون ولقد أخذناهم بالعذاب) *) يعني القتل والجوع " * (فما استكانوا لربهم) *) خضعوا، وأصله طلب السكون " * (وما يتضرعون) *).
قال ابن عباس: لما أتى ثمامة بن أثال الحنفي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وهو أسير فخلى سبيله فلحق باليمامة، فحال بين أهل مكة وبين المسيرة من اليمامة وأخذ الله قريشا بسني الجدب حتى أكلوا العلهز، فجاء أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك بالله والرحم أليس تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فأنزل الله سبحانه هذه الآية: " * (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد) *). قال ابن عباس: يوم بدر، وقال مجاهد: القحط، وقيل: عذاب النار في الآخرة. " * (إذا هم فيه مبلسون) *) متحيرون، آيسون من كل خير.
" * (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه
53

تحشرون وهو الذي يحيى ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن) *) هذا الوعد " * (وآباؤنا هذا من قبل) *) ووعد آباءنا من قبلنا قوم ذكروا أنهم أنبياء لله فلم ير له حقيقة.
" * (إن هذا إلا أساطير الأولين قل) *) يا محمد مجيبا لهم " * (لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله) *) ولا بد لهم من ذلك، فقل لهم إذا أقروا بذلك " * (أفلا تذكرون) *) فتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو قادر على إحياءئم بعد موتهم؟.
" * (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله) *).
قرأه العامة: لله، ومثله ما بعده فجعلوا الجواب على المعنى دون اللفظ كقول القائل للرجل: من مولاك؟ فيقول: لفلان، أي أنا لفلان وهو مولاي وأنشد:
وأعلم أنني سأكون رمسا
إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم
فقال المخبرون لهم وزير
فأجاب المخفوض بمرفوع لأن معنى الكلام: فقال السائلون: من الميت؟ فقال المخبرون: الميت وزير، فأجاب عن المعنى. وقال آخر:
إذا قيل من رب المزالف والقرى
ورب الجياد الجرد قيل لخالد
وقال الأخفش: اللام زائدة يعني الله، وقرأ أهل البصرة كلاهما الله بالألف، وهو ظاهر لا يحتاج إلى التأويل، وهو في مصاحف أهل الأمصار كلها لله إلا في مصحف أهل البصرة فإنه الله الله، فجرى كل على مصحفه، ولم يختلفوا في الأول أنه لله لأنه مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف وهو جواب مطابق للسؤال في " * (لمن الأرض ومن فيها) *) فجوابه لله.
" * (أفلا تتقون) *) الله فتطيعونه " * (قل من بيده ملكوت كل شيء) *) ملكه وخزائنه " * (وهو يجير ولا يجار عليه) *) يعني يؤمن من يشاء ولا يؤمن من أخافه " * (إن كنتم تعلمون) *) قال أهل المعاني: معناه أجيبوا إن كنتم تعلمون.
" * (سيقولون لله قل فأنى تسحرون) *) أي تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته.
" * (بل أتيناهم بالحق) *) الصدق " * (وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق) *) فانفرد به لتغالبوا، فعلا بعضهم على بعض وغلب القوى منهم الضعيف.
54

" * (سبحان الله عما يصفون) *) من الكذب " * (عالم الغيب والشهادة) *) بالجر، ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو على نعت الله، غيرهم: بالرفع على الابتداء أو على معنى هو عالم.
وروى رؤيس عن يعقوب أنه كان إذا ابتدأ رفع وإذا وصل خفض.
" * (فتعالى عما يشركون قل رب إما تريني ما يوعدون) *) من العذاب " * (رب فلا تجعلني في القوم الظالمين) *) فلا تهلكني بهلاكهم، والفاء في قوله " * (فلا) *) جواب لأما لأنه شرط وجزاء.
" * (وإنا على أن نريك ما نعدهم) *) من العذاب فجعلناه لهم (لقادرون).
" * (ادفع بالتي هي أحسن) *) يعني بالخلة التي هي أحسن " * (السيئة) *) أذاهم وجفاهم يقول: أعرض عن أذاهم واصفح عنهم، نسختها آية القتال.
" * (نحن أعلم بما يصفون) *) فنجزيهم به " * (وقل رب أعوذ بك) *) استجير بك " * (من همزات الشياطين) *) أي نزغاتهم عن ابن عباس، الحسن: وساوسهم، مجاهد: نفخهم ونفثهم، ابن زيد: خنقهم الناس.
وقال أهل المعاني: يعني دفعهم بالإغواء إلى المعاصي، والهمز: شدة الدفع، ومنه قيل للحرف الذي يخرج من هواء الفم للدفع همزة.
" * (وأعوذ بك رب أن يحضرون) *) في شيء من أموري.
2 (* (حتى إذا جآء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلىأعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قآئلها ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون * فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون * فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولائك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون * ألم تكن ءاياتى تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون * قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين * ربنآ أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنآ ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون * إنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفآئزون * قال كم لبثتم فى الارض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العآدين) *) 2
" * (حتى إذا جاء أحدهم الموت) *) يعني هؤلاء المشركين، وذلك حين ينقطع عن الدنيا ويعاين الآخرة قبل أن يذوق الموت.
" * (قال رب ارجعون) *) ولم يقل ارجعني وهو خطاب الواحد على التعظيم كقوله (إنا نحن) فخوطب على نحو هذا كما ابتدأ بلفظ التعظيم.
55

وقال بعضهم: هذه المسألة إنما كانت منهم للملائكة الذين يقبضون روحه، وإنما ابتدأ الكلام بخطاب الله سبحانه لأنهم استغاثوا أولا بالله سبحانه ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا.
" * (لعلي اعمل صالحا فيما تركت) *) صنعت " * (كلا) *) أي لا يرجع إليها، وهي كلمة ردع وزجر " * (إنها) *) يعني سؤاله الرجعة " * (كلمة هو قائلها) *) ولا ينالها.
روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا؟ فيقول: إلى دار الهموم والأحزان؟ بل قدما إلى الله عز وجل، وأما الكافر فيقول " * (رب ارجعون) *) الآية).
" * (ومن ورائهم) *) أمامهم " * (برزخ إلى يوم يبعثون) *) أي حاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا عن مجاهد، ابن عباس: حجاب، السدي: أجل، قتادة: بقية الدنيا، الضحاك وابن زيد: ما بين الموت إلى البعث، أبو أمامة: القبر، وقيل: الإمهال لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما كانوا يفتخرون.
" * (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) *).
قال أبو العالية: هو كقوله " * (ولا يسئل حميم حميما) *).
وقال ابن جريج: معنى الآية لا يسأل أحد يومئذ شيئا بنسب ولا يتساءلون، لا يمت إليه برحم، واختلف المفسرون في المراد بقوله " * (فإذا نفخ في الصور) *) أى النفختين عنى؟ فقال ابن عباس: هي النفخة الأولى.
أخبرني ابن فنجويه بقراءتي عليه قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أبي عوف قال: حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحراني قال: حدثنا محمد بن سلمة بن أبي عبد الرحيم قال: حدثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس، قوله سبحانه " * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) *) فهذه في النفخة الأولى " * (نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) *) * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * * (ثم نفخ فيه أخرى فإذا
56

هم قيام ينظرون) *) * * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) *).
وقال ابن مسعود: هي النفخة الثانية.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال: حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: حدثنا يزيد بن موهب الرملي قال: حدثنا عيسى بن يونس عن هارون بن أبي وكيع قال: سمعت زاذان أبا عمر يقول: دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخز واليمنة قد سبقوني إلى المجالس، فناديته، يا عبد الله بن مسعود من أجل أني رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني؟ فقال: ادن، فدنوت حتى ما كان بيني وبينه جليس، فسمعته يقول: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد: هذا فلان ابن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على زوجها أو على ابنها أو على أختها، ثم قرأ ابن مسعود " * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) *)
قال: فيقول الله سبحانه: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول: رب فنيت الدنيا، فيقول للملائكة: خذوا من أعماله فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته، فإن كان وليا لله عز وجل و فضلت له من حسناته مثقال حبة من خردل ضاعفها حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: " * (ان الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) *). وإن كان شقيا قالت الملائكة: رب فنيت حسناته وبقي طالبون، فيقول: خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكا إلى النار.
" * (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح) *) تسفع " * (وجوههم النار وهم فيها كالحون) *) عابسون عن ابن عباس، وقال غيره: الكلوح أن تتقلص الشفتان عن الإنسان حتى تبدو الأسنان.
قال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيظ بالنار قد بدت أسنانه وقلصت شفتاه.
قال الأعشى:
وله المقدم لا مثل له
ساعة الشدق عن الناب كلح
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله
57

قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسوحي قال: حدثنا يحيى الحماني قال: حدثنا ابن مبارك عن سعيد بن يزيد أبي شجاع عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل " * (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون) *) قال: (تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته).
" * (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا) *) التي كتبت علينا، قرأ أهل الكوفة غير عاصم: شقاوتنا بالألف وفتح الشين، غيرهم: شقوتنا بغير ألف وكسر الشين وهما لغتان، وهي المضرة اللاحقة في العاقبة، والسعادة هي المنفعة اللاحقة في العاقبة.
" * (وكنا قوما ضالين) *) عن الهدى " * (ربنا أخرجنا منها) *) أي من النار " * (فإن عدنا) *) لما تكره " * (فإنا ظالمون) *) فيجابون بعد ألف سنة " * (اخسئوا فيها) *) أي ابعدوا، كما يقال للكلب: اخسأ إذا طرد وأبعد " * (ولا تكلمون) *) في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم ولا أخففه عليكم، وقيل: هو دلالة على الغضب اللازم لهم فعند ذلك أيس المساكين من الفرج.
قال الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعدها إلا الشهيق والزفير ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يفهمون ولا يفهمون.
" * (إنه) *) هذه الهاء عماد وتسمى أيضا المجهولة " * (كان فريق من عبادي) *) وهم المؤمنون " * (يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا) *) قرأ أهل المدينة والكوفة إلا عاصما بضم السين ههنا وفي سورة ص، الباقون: بكسرها.
قال الخليل وسيبويه: هما لغتان مثل قول العرب: بحر لجي ولجي، وكوكب دري ودري، وكرسي وكرسي.
وقال الكسائي والفراء: الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل، ولم يختلفوا في سورة الزخرف أنه بالضم لأنه بمعنى التسخير والاستعباد إلا ما روي عن ابن محيص أنه كسره قياسا على سائره وهو غير قوى.
" * (حتى أنسوكم ذكري) *) أي أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم وتسخيرهم ذكري " * (وكنتم منهم تضحكون) *) نظيره قوله سبحانه " * (إن الذين أجرموا كانوا
من الذين آمنوا يضحكون) *).
" * (إني جزيتهم اليوم بما صبروا) *) على استهزائكم بهم في الدنيا، والجزاء: مقابلة العمل بما يستحق عليه من ثواب أو عقاب
58

" * (إنهم هم الفائزون) *) قرأ حمزة والكسائي: إنهم بكسر الألف على الاستيناف، والباقون: بفتحه على معنى لأنهم هم الفائزون، ويحتمل أن يكون نصبا بوقوع الجزاء عليه أني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة.
(* (قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون * أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم * ومن يدع مع الله إلها ءاخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون * وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) *) 2
" * (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) *) نسوا لعظيم ما هم فيه من العذاب مدة مكثهم في الدنيا، وهذا توبيخ من الله تعالى لمنكري البعث وإلزام للحجة عليهم.
قرأ حمزة والكسائي: قل كم، على الأمر، لأن في مصاحف أهل الكوفة قل بغير ألف، ومعنى الآية: قولوا كم لبثتم، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد به الجماعة إذ كان مفهوما معناه، ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم أي قل أيها الكافر.
وقرأ الباقون: قال في الحرفين، وكذلك هما في مصاحفهم بالألف على معنى قال الله تعالى، وقرأ ابن كثير: قل كم، على الأمر، وقال: إن على الخبر وهي قراءة ظاهرة لأن الثانية جواب.
وقوله " * (فسئل العادين) *) أي الحساب عن قتادة، وقال مجاهد: هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم.
" * (قال إن لبثتم) *) في الدنيا " * (إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون) *) قدر لبثكم فيها " * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) *) أي لعبا وباطلا لا لحكمة، والعبث: العمل لا لغرض، وهو نصب على الحال عن سيبويه وقطرب، مجازه: عابثين، أبو عبيد: على المصدر، بعض نحاة الكوفة: على الظرف أي بالعبث، بعض نحاة البصرة: للعبث. " * (وأنكم إلينا لا ترجعون) *).
قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب ح: (يا أيها الناس اتقوا ربكم فما خلق امرؤ عبثا فيلهو ولا أهمل سدى فيلغو).
وأخبرني محمد بن القاسم بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن نصر قال
59

حدثنا محمد بن موسى قال: حدثنا ابن شعيب الحراني قال: حدثنا يحيى بن عبد الله ابن الضحاك قال: سمعت الأوزاعي يقول: بلغني أن في السماء ملكا ينادي كل يوم: ألا ليت الخلق لم يخلقوا، ويا ليتهم إذ خلقوا عرفوا ما خلقوا له وجلسوا فذكروا ما عملوا.
فصل في ذكر وجوه الحكمة في خلق الله سبحانه الخلق
قال المحققون: خلق الله سبحانه الخلق ليدل بذلك على وجوده وكمال علمه وقدرته، إذ لو لم يخلق لم يكن لوجوده معنى.
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: حدثنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن قال: قلت للحسن البصري في قوله سبحانه " * (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) *).
قال: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، ومن رحم ربك غير مختلف.
فقيل له: ولذلك خلقهم؟.
قال: نعم، خلق هؤلاء لجنته وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته وخلق هؤلاء لعذابه.
وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن موسى الفقيه قال: حدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن أحمد بن نصر قال: سئل جعفر بن محمد: لم خلق الله الخلق؟
قال: لأن الله سبحانه كان محسنا بما لم يزل فيما لم يزل، إلى ما لم يزل فأراد سبحانه وتعالى أن يفوض إحسانه إلى خلقه وكان غنيا عنهم، لم يخلقهم لجر منفعة، ولا لدفع مضرة، ولكن خلقهم وأحسن إليهم وأرسل إليهم الرسل حتى يفصلوا بين الحق والباطل، فمن أحسن كافأه بالجنة، ومن عصى كافأه بالنار.
وقال محمد بن علي الترمذي: إن الله سبحانه خلق الخلق عبيدا ليعبدوه فيثيبهم على العبودية ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم عبيد أحرار كرام، وغدا أحرار وملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أباق سفلة لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران
60

ومنهم من قال: خلق الله سبحانه الخلق كلهم لأجل محمد صلى الله عليه وسلم يدلل عليه ما حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الرومي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال: حدثنا هارون بن العباس الهاشمي قال: حدثنا محمد بن ياسين بن شريك قال: حدثنا جندل قال: حدثنا عمرو بن أوس الأنصاري عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: (أوحى الله سبحانه إلى عيسى (عليه السلام): يا عيسى آمن بمحمد ومر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكن).
وسمعت محمد بن القاسم الفارسي قال: سمعت محمد بن الحسن بن بهرام الفارسي يقول: سمعت القناد يقول: خلق الله سبحانه الملائكة للقدرة، وخلق الأشياء للعبرة، وخلقك للمحبة له، ومن العلماء من لم يصرح القول بذلك ولكنه قال: نبه الله سبحانه في غير موضع من كتبه المنزلة أنه خلقهم لخطر عظيم مغيب عنهم لا يجليه حتى
يحل بهم ما خلقهم له، وهذا معنى قوله سبحانه " * (أفحسبتم انما خلقناكم عبثا) *) الآية.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال: حدثنا داود بن رشيد، وأخبرني محمد بن القاسم قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن مريس قال: حدثنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا هشام ابن عمار قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش ابن عبد الله الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنه مر بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه " * (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا) *) حتى ختم السورة فبرئ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (ماذا قرأت في أذنه؟) فأخبره فقال: (والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال).
ثم نزه نفسه سبحانه عما وصفه به المشركون من اتخاذ الأنداد والأولاد، ونسبه إليه الملحدون من السفه والعبث فقال عز من قائل " * (فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) *) يعني الحسن العظيم " * (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) *) قال أهل المعاني: فيه إضمار، مجازه: فلا برهان له به " * (فإنما حسابه) *) جزاؤه " * (عند ربه إنه لا يفلح الكافرون وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) *).
61

((سورة النور))
مدنية، وهي خمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفا، وألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، وأربع وستون آية
أخبرنا (أبو الحسين) الخبازي قال: حدثنا ابن حبان قال: أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال: حدثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدثنا يوسف بن عطية قال: حدثنا هارون بن كثير قال: حدثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن فيما مضى وفيما بقي).
وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الكرابيسي قال: حدثنا سلمان بن توبة أبو داود الأنصاري قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي قال: حدثنا شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة خ وعن أبيها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن المغزل، وسورة النور).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيهآ ءايات بينات لعلكم تذكرون * الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين * الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك وحرم ذالك على المؤمنين * والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولائك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذالك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم * والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليهآ إن كان من الصادقين * ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم) *) 2
62

" * (سورة أنزلناها) *) قراءة العامة بالرفع: هذه سورة لأن العرب لا تبتدئ بالنكرة، هذا قول الخليل، وقال الأخفش: سورة ابتداء وخبره في أنزلناها، وقرأ طلحة بن مصرف: سورة بالنصب على معنى أنزلنا سورة، والكناية صلة زائدة، وقيل: اتبعوا سورة أنزلناها " * (وفرضناها) *) أي أوجبنا ما فيها من الأحكام، وقرأ الحسن ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: وفرضناها بالتشديد أي فصلناها وبيناها، وقيل: هو من الفرض والتشديد على التكثير أي جعلناها فرائض مختلفة، وأوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة، وتصديق التخفيف قوله سبحانه * (إن الذي فرض عليك القرآن) * * (وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون الزانية والزاني) *) إذا كانا حرين بالغين بكرين غير محصنين " * (فاجلدوا) *) فاضربوا " * (كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة) *) رحمة ورقة.
قال الأخفش: رحمة في توجع وفيها ثلاث لغات: رأفة ساكنة الهمز وقد تخفف الهمزة، وهي قراءة العامة، ورأفة بفتح الهمزة، ورآفة مهموزة ممدودة مثل الكتابة، وهما قراءة أهل مكة مثل الشناة والشنآة، وقيل: القصر على الاسم والمد بمعنى المصدر مثل صؤل صآلة، وقبح قباحة، ولم يختلفوا في سورة الحديد أنها ساكنة لأن العرب لا تجمع بين أكثر من ثلاث فتحات.
واختلف العلماء في معنى الآية فقال قوم: ولا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها.
روى المعمر عن عمران قال: قلت لأبي مخلد في هذه الآية: والله إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل أو تقطع يده فقال: إنما ذاك أنه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم عليهم الحد، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي وابن زيد وسليمان بن يسار، يدل عليه من الآية أن الله سبحانه وتعالى أمر بالجلد، وهو ضرب الجلد كالرأس لضرب الرأس فذكر الضرب بلفظ الجلد لئلا ينكأ ولا يبرح ولا تبلغ به اللحم.
وروى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عمر جلد جارية له فقال للجالد: اجلد ظهرها ورجليها وأسفلها وخففها، قلت: فأين قول الله سبحانه " * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) *))
؟
63

قال: أفأقتلها؟ إن الله أمرني أن أضربها وأؤدبها ولم يأمرني أن أقتلها.
وقال الآخرون: بل معناها ولا يأخذكم بهما رأفة فتخففوا الضرب ولكن أوجعوهما ضربا، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن.
قال الزهري: يجتهد في حد الزنا والفرية ويخفف في حد الشراب.
وقال قتادة: يخفف في حد الشراب والفرية ويجتهد في الزنا.
وقال حماد: يحد القاذف والشارب وعليهما ثيابهما، وأما الزاني فيخلع ثيابه، وتلا هذه الآية.
" * (في دين الله) *) أي في حكم الله نظيره قوله سبحانه " * (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) *).
" * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما) *) وليحضر حديهما إذا أقيم عليهما " * (طائفة من المؤمنين) *) اختلفوا في مبلغ عدد الطائفة فقال النخعي ومجاهد: أقله رجل واحد فما فوقه، واحتجا بقوله " * (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) *) الآية. عطاء وعكرمة: رجلان فصاعدا، الزهري: ثلاثة فصاعدا، ابن زيد: أربعة بعدد من يقبل شهادته على الزنى، قتادة: نفر من المسلمين.
روى حفص بن غياث عن أشعث عن أبيه قال: أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة وقد أخرج جارية له إلى باب الدار وقد زنت وولدت من الزنا، فألقى عليها ثوبا وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربا غير مبرح، ودعا جماعة ثم قرأ " * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) *).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أبو علي بن حنش المقري قال: حدثنا محمد بن أحمد ابن عثمان قال: حدثنا إبراهيم بن نصره قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا يونس بن عبيد عن حريز بن يزيد البجلي عن أبي زرعة عن عمرو بن حريز عن أبي هريرة قال: إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة.
وأخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال: حدثنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد ابن عدي قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي قال: أخبرني محمد بن شعيب قال: أخبرني معاوية بن يحيى عن سليمان الأعمش عن شقيق بن سلمة عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا معشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة،
64

فأما اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأما اللاتي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار).
وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة قرأه عليه في شهور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال: حدثنا عطية بن بقية قال: حدثنا أبي قال: حدثني عباد بن كثير عن عمران القصير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أعمال أمتي تعرض على في كل جمعة مرتين فاشتد غضب الله على الزناة.
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدثنا إبراهيم بن يزيد الحراني قال: حدثنا المغيرة ابن سقلاب قال: حدثنا النضر بن عدي عن وهب بن منبه قال: مكتوب في التوراة: الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقواد لا يموت حتى يعمى.
" * (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) *) الآية.
اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها فقال قوم: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء كثير ليست لهم أموال ولا عشائر ولا أهلون، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين فقالوا: إنا لو تزوجنا منهن فعشنا معهن إلى يوم يغنينا الله سبحانه عنهن، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فنزلت هذه الآية وحرم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك، وأخبر سبحانه وتعالى أن الزانية إنما ينكحها الزاني والمشرك لأنهن كن زانيات مشركات، والآية وإن كان ظاهرها خبر فمجازها ينبغي أن يكون كذا كقوله " * (ومن دخله كان آمنا) *) وقوله سبحانه وتعالى " * (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) *) يعني ينبغي أن تكون كذلك، وهذا قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والقاسم بن أبي برزه والشعبي وأبي حمزة الثمالي ورواية العوفي عن ابن عباس.
وقال عكرمة: نزلت في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة وكن كثيرات ومنهن تسع صواحب رايات، لهن رايات كرايات البيطار يعرفن بها: أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وأم عليط جارية صفوان بن أمية، وحنة القبطية جارية العاص بن وائل
65

ومرية جارية مالك بن عميلة بن السباق، وحلالة جارية سهيل بن عمرو، وأم سويد جارية عمرو ابن عثمان المخزومي، وسريفة جارية زمعة بن الأسود، وفرسة جارية هشام بن ربيعة بن حبيب ابن حذيفة، وقرينة جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر، وكانت بيوتهن تسمى المواخير في الجاهلية، لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها ماكله، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، واستأذن رجل من المسلمين نبي الله صلى الله عليه وسلم في نكاح أم مهزول اشترطت له ان تنفق عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ونهى المؤمنين عن ذلك وحرمه عليهم.
وقال عمرو بن شعيب: نزلت في مرثد الغنوي وعناق، وكان مرثد رجلا شديدا وكان يقال له دلدل وكان يأتي مكة فيحتمل ضعفه المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عناق صديقته في الجاهلية، فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها فقال مرثد: إن الله حرم الزنا قالت: فأنكحني فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فسأله عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وقد مضت القصة في سورة البقرة.
وقال آخرون: أراد بالنكاح ههنا الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك، وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وعبد الرحمن بن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال: أخبرني محمد بن
عمران قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الله المقري قالا: حدثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: الزاني لا ينكح إلا زانية قال: ليس هذا بالنكاح ولكنه الجماع، لا يزني بها إلا زان أو مشرك، فكنى.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا أبو علي بن حبش قال: حدثني الحسن بن علي بن زكريا قال: حدثنا الحسن بن علي بن راشد قال: قال لنا يزيد بن هارون: هذا عندي إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك، وإن جامعها وهو محرم فهو زان.
وقال بعضهم: كان هذا حكم الله في كل زان وزانية حتى نسختها الآية التي بعدها " * (وانكحوا الأيامى منكم) *) فأحل نكاح كل مسلمة وكل مسلم، وهو قول سعيد بن المسيب أخبرنيه ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شيبة قال: حدثنا الفريابي قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: يزعمون أن تلك الآية " * (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) *) نسخت بالآية التي بعدها " * (وأنكحوا الأيامى منكم) *) فدخلت الزانية في أيامى المسلمين
66

وقال الحسن: معناها المجلود لا ينكح إلا مجلودة.
" * (والذين يرمون المحصنات) *) أي يشتمون المسلمات الحرائر العفائف فيقذفونهن بالزنى " * (ثم لم يأتوا) *) على ما رموهن به " * (بأربعة شهداء) *) عدول يشهدون عليهن أنهم رأوهن يفعلن ذلك " * (فاجلدوهم) *) يعني القاذفين اضربوا كل واحد منهم " * (ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) *).
ثم استثنى فقال عز من قائل " * (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) *) واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء فقال قوم: هو استثناء من قوله " * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) *) وقالوا: إذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه اسم الفسق وعادت ولايته حد فيه أو لم يحد، وهذا قول الشعبي ومسروق وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير وعطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعبد الله بن عتبة والضحاك، وهو قول أهل الحجاز وإليه ذهب الشافعي. واختلفوا في كيفية توبته، فقال بعضهم: هو ان يرجع عن قوله ويكذب نفسه، وقال آخرون: هي الندم على ما سلف والاستغفار منه وترك العود فيما بقي، فإذا أقيم عليه الحدأو عفا المقذوف عنه سقط الحد، وذلك أن القذف حق للمقذوف كالقصاص والجنايات وبالعفو تسقط فإذا عفا عنه فلم يطالبه بالحد، أو مات المقذوف قبل مطالبته بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان فلم يحد لأجل هذه، أو حد ثم تاب وأصلح العمل قبلت شهادته وعادت ولايته، يدل عليه ما روى ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة و شبل بن معبد ونافع بن الحرث بن كلدة فحدهم ثم قال لهم: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب شبل نفسه ونافع وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا تقبل شهادته.
وروى ابن جريج عن عمران بن موسى قال: شهدت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل.
وقال آخرون: هذا الاستثناء راجع إلى قوله " * (وأولئك هم الفاسقون) *) فأما قوله " * (ولا تقبلوا لهم شهادة) *) فقد وصل بالأبد ولا يجوز قبولها أبدا، وهذا قول النخعي وشريح ورواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
روى الأشعث عن الشعبي قال: جاء خصمان إلى شريح فجاء أحدهما بشاهد قد قطع زناد يده ورجله في قطع الطريق ثم تاب وأصلح، فأجاز شريح شهادته فقال المشهود عليه: أتجيز شهادته علي وهو أقطع؟ فقال شريح: كل صاحب حد إذا أقيم عليه ثم تاب وأصلح فشهادته جائزة إلا القاذف، فإنه قضاء من الله أن لا تقبل شهادته أبدا وإنما توبته فيما بينه وبين الله
67

" * (والذين يرمون أزواجهم) *) أي يقذفونهن بالزنا.
" * (ولم يكن لهم شهداء) *) يشهدون على صحة ما قالوا.
" * (إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) *) قرأ أهل الكوفة أربع بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ الباقون بالنصب على معنى أن يشهد أربع شهادات.
" * (والخامسة) *) يعني والشهادة الخامسة، قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره في أن.
وقرأ حفص بالنصب على معنى ويشهد الشهادة الخامسة.
وقرأ نافع ويعقوب وأيوب: إن وأن خفيفتين، لعنة وغضب مرفوعين، وهي رواية المفضل عن عاصم، وقرأ الباقون: بتشديد النونين وما بعدهما نصب.
" * (إن كان من الكاذبين ويدرؤا عنها العذاب) *) ويدفع عن الزوجة الحد.
" * (أن تشهد أربع شهادات بالله إنه) *) يعني الزوج * (لمن الكاذبين) * * (والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) *) قرأ نافع: غضب الله مثل سمع الله على الفعل، الباقون على الاسم.
" * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم) *) جواب لولا محذوف يعني لعاجلكم بالعقوبة وفضحكم ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان حكمة منه ورحمة.
فأما سبب نزول الآية، فروى عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت " * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *) الآية، قال سعد بن عبادة: والله لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته
ويذهب، فإن قلت ما رأيت، إن في ظهري لثمانين جلدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم)؟ قالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور، ما تزوج امرأة قط إلا بكرا و لا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها.
فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإن الله يأبى إلا ذاك)، فقال: صدق الله ورسوله.
قال: فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية من حديقة له، فرأى رجلا مع امرأته يزني بها فأمسك حتى أصبح، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو جالس مع
68

أصحابه فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع أهلي، رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقل عليه جدا حتى عرف ذلك في وجهه.
فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به، والله يعلم أني صادق وما قلت إلا حقا وإني لأرجو أن يجعل الله فرجا، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضربه.
قال: واجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال وتبطل شهادته؟ فإنهم لكذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ، فأنزل الله سبحانه " * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) *) إلى آخر الآيات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبشر يا هلال فإن الله قد جعل لك فرجا)، فقال: قد كنت أرجو بذلك من الله تعالى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أرسلوا إليها)، فجاءت فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لها، فكذبت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟).
فقال هلال: يا رسول الله بأبي وأمي لقد صدقت وما قلت إلا حقا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لاعنوا بينهما)، فقيل لهلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فقيل له عند الخامسة: يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال هلال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ثم قال للمرأة: اشهدي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن جاءت به كذا وكذا) فهو لزوجها، وإن جاءت به كذا وكذا) فهو للذي قيل فيه)
69

قال: فجاءت به غلاما كأنه حمل أورق على الشبه المكروه، وكان بعد أميرا بمصر لا يدرى من أبوه.
وأخبرنا محمد بن عبدوس قال: أخبرنا محمد بن الحسن قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدثنا هيثم عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: لما نزلت " * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) *) الآية، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله أرأيت إن رأى رجل مع امرأته رجلا فقتله يقتلونه، وإن أخبر بما رأى جلد ثمانين أفلا يضربه بالسيف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالسيف شا...، قال: أراد أن يقول شاهدا ثم أمسك وقال: لولا أن يتتابع فيه الغيران والسكران، وذكر الحديث.
وقال ابن عباس في سائر الروايات ومقاتل: لما نزلت " * (والذين يرمون المحصنات) *) الآية، قرأها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري فقال: جعلني الله فداك إن رأى رجل منا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين وسماه المسلمون فاسقا ولا تقبل شهادته أبدا، فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل قد فرغ من حاجته ومر؟ وكان لعاصم هذا ابن عم له يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن فأتى عويمر عاصما فقال: لقد رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأخرى فقال: يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك؟ قال: أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك ابن السحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة شريك كلهم بني عم عاصم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم جميعا فقال لعويمر: (اتق الله في زوجتك وخليلتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان، فقال: يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة اشهر وانها حبلى من غيري.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة: (اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت)، فقالت: يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور، وإنه رآني وشريكا نطيل السمر ونتحدث فحملته الغيرة على ما قال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لشريك: (ما تقول)؟ قال: ما تقوله المرأة، فأنزل الله سبحانه " * (والذين يرمون أزواجهم) *) الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي: الصلاة جامعة، فصلى العصر ثم قال لعويمر: قم فقام فقال: أشهد بالله إن خولة لزانية وإني لمن الصادقين، ثم قال في الرابعة: أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ثم قال في الخامسة: لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال
70

ثم أمره بالقعود وقال لخولة: قومي فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمرا لمن الكاذبين، ثم قالت في الثانية: أشهد بالله إنه ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، ثم قالت في الثالثة: أشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين، ثم قالت في الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين، ثم قالت في الخامسة: غضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال: (لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأي، ثم قال: تحينوا بها الولادة فإن جاءت بأصيهب أثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن السحماء، وإن جاءت بأورق جعد حمش حدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به).
قال ابن عباس: فجاءت بأشبه خلق الله بشريك.
ذكر حكم الآية
إذا قذف الرجل زوجته بالزنا لزمه الحد وله التخلص منه بإقامة البينة على زناها أو باللعان، فإن أقام البينة حقق الزنا ولزمها الحد، وان التعن حقق عليها الزنا ولها التخلص منه باللعان، فإن التعنت وإلا لزمها الحد، وللزوج ان يلتعن سواء كان متمكنا من البينة أو غير متمكن منها، ويصح اللعان من كل زوج مكلف حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا، فكل من صحت يمينه صح قذفه ولعانه.
وقال أهل العراق: اللعان بين كل حرين بالغين ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو خليفته، فإذا لاعن بينهما غلظ عليهما بأربعة أشياء عدد الألفاظ، والمكان، والوقت، وجمع الناس.
فأما اللفظ فأربع شهادات والخامسة ذكر اللعنة للرجل وذكر الغضب للمرأة، وقد مضت كيفية ذلك، وأما المكان فإنه يقصد أشرف البقاع بالبلدان إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس ففي مسجدها، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه، إن كانا يهوديين بالكنيسة وإن كانا نصرانيين فبالبيعة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه.
وأما الوقت، فإنه بعد صلاة العصر. وأما العدد، فيحتاج أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا، فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والمكان والزمان مستحبان، فإذا تلاعنا تعلق باللعان
71

أربعة أحكام: سقوط الحد، ونفي الولد، وزوال الفراش، ووقوع التحريم المؤبد، وكل هذا يتعلق بلعان الزوج، فأما لعان المرأة فإنه يسقط به الحد فقط، فإن أكذب الرجل نفسه فإنه يعود ما عليه ولا يعود ماله في الحد والنسب عليه فيعودان. وأما التحريم والفراش فإنهما له فلا يعودان، وفرقة اللعان هي فسخ لأنه جاء بفعل من قبل المرأة.
وقال أبو حنيفة وسفيان: اللعان تطليقة بائنة لأنه من قبل الرجل بدءا، والله أعلم.
2 (* (إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذى تولى كبره منهم له عذاب عظيم * لولاإذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هاذآ إفك مبين * لولا جآءو عليه بأربعة شهدآء فإذ لم يأتوا بالشهدآء فأولائك عند الله هم الكاذبون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته فى الدنيا والاخرة لمسكم فى مآ أفضتم فيه عذاب عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم * ولولاإذ سمعتموه قلتم ما يكون لنآ أن نتكلم بهاذا سبحانك هاذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين * ويبين الله لكم الايات والله عليم حكيم * إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين ءامنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والاخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم) *) 2
" * (إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم) *) الآية.
ذكر سبب نزول هذه الآيات وقصة الإفك.
أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن إسحاق المهرجان بقراءتي عليه فأقر به قال: أخبرنا أبو عوانة سنة ست عشرة وثلاثمائة قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق وأخبرنا أبو نعيم قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني قال: قرأنا على عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الافك ما قالوا فبرأها الله وكلهم، حدثني بطائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى له من بعض، وقد وعيت عن كل واحد الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق بعضا، ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم و خ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه.
قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسل
72

وذلك بعد ما أنزل الله سبحانه الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل منه مسيرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت، وهم يحسبون أني فيه.
قالت: وكانت النساء إذا ذاك خفافا لم يهبلهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل أن يضرب علي الحجاب فما استيقظت إلا باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، فوالله ما كلمني كلمة عند استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطيت على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي سلول فقدمت المدينة فاشتكيت من شدة الحر حين قدمتها شهرا والناس يخوضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أن لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو مبترزنا فلا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول التنزه، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي عاتكة بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت، تسبين رجلا شهد بدرا قالت: أي هنتاه أولم تسمعي ما قال؟.
قالت: قلت: وما ذي؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي فلما، رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: (كيف تيكم؟) قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا أريد حينئذ أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمه ماذا يتحدث الناس؟.
73

فقالت: أي بنية هوني عليك، فوالله لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قلت: سبحان الله أو قد تحدث الناس بهذا؟ قالت: نعم، قالت: فمكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي واستشارهما في فراق أهله.
فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما على فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك.
قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من أمر عائشة؟ فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.
قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قال وهو على المنبر: (يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي).
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
قالت: فقال سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، فقال سعد: والله لنقتله فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت: فثار الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: ومكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي.
قالت: فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك
74

الله سبحانه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بالذنب ثم تاب تاب الله عليه.
قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا: إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا الأمر حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة والله سبحانه وتعالى يعلم أني بريئة لتصدقونني، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف وما أحفظ اسمه: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
قالت: ثم تحولت واضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله سبحانه مبرئي ببراءتي ولكن، والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها.
قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل الوحي الذي أنزل عليه.
قالت: فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: (أبشري يا عائشة أما والله فقد برأك) فقالت لي أمي: قومي إليه فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله سبحانه هو الذي أنزل براءتي.
قالت: فأنزل الله سبحانه " * (ان الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم) *) عشر آيات وأنزل الله سبحانه هذه الآية لبراءتي.
قالت: فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله سبحانه " * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) *) إلى قوله " * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) *).
فقال أبو بكرح: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا
75

قالت عائشة خ: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم ما علمت أو ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا.
قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله سبحانه وتعالى بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك.
قال الزهري: فهذا ما انتهى إلينا من هؤلاء الرهط.
وأخبرنا أبو نعيم قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ بمكة ومحمد بن حرب المديني بالفسطاط قالا: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة خ، قال أبو أويس: وحدثني أيضا عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يسافر سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فخرج سهم عائشة في غزوة النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق من خزاعة، وذكر الحديث بطوله بمثل معناه.
وقال عروة في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة عن عائشة قال: فانتهرها بعض أصحابه وقال: أصدقي رسول الله، قال عروة: فعيب ذلك على من قاله، فقالت: لا والله ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنك الله، فعجب الناس من فقهها.
قال: وبلغ ذلك الذي قيل له فقال: سبحان الله، والله ما كشفت كتف أنثى قط، فقتل شهيدا في سبيل الله، وزاد في آخره قالت: وقعد صفوان بن المعطل لحسان بن ثابت فضربه ضربة بالسيف وقال حين ضربه:
تلق ذباب السيف عني فإنني
غلام إذا هوجيت لست بشاعر
ولكنني أحمي حماي وانتقم
من الباهت الرامي البراء الظواهر
وصاح حسان بن ثابت واستغاث بالناس على صفوان، ففر صفوان وجاء حسان النبي صلى الله عليه وسلم فاستعدى على صفوان في ضربته إياه فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يهب له ضرب صفوان إياه فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم فعوضه منها حائطا من نخل عظيم وجارية رومية، ثم باع حسان ذلك الحائط من معاوية بن أبي سفيان في ولايته بمال عظيم. قالت عائشة: فقيل في أصحاب الإفك أشعار.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لمسطح في رميه عائشة رضي الله عنها وكان يدعى عوفا:
76

يا عوف ويحك هلا قلت عارفة
من الكلام ولم تبغ به طمعا
فأدركتك حميا معشر أنف
ولم يكن قاطعا في عوف قطعا
لما رميت حصانا غير مقرفة
أمينة الجيب لم نعرف لها خضعا
فيمن رماها وكنتم معشرا افكا
في سيىء القول من لفظ الخنا شرعا
فأنزل الله عذرا في براءتها
وبين عوف وبين الله ما صنعا
فان أعش أجز عوفا في مقالته
شر الجزاء بما ألفيته تبعا
وقال حسان بن ثابت الأنصاري ثم النجاري وهو يبرئ عائشة مما قيل فيها ويعتذر إليها:
حصان رزان ما يزن برتبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصبا
نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب
كرام المساعي مجدها غير زايل
مهذبة قد طيب الله خيمها
وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما قد جاء عني قلته
فلا رفعت سوطي إلي أناملي
وإن الذي قد قيل ليس بلائط
بك الدهر بل قول امرئ غير ماحل
وكيف وودي ما حييت ونصرتي
لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها
تقاصر عنها سورة المتطاول
قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذين رموا عائشة فجلدوا الحدود جميعا ثمانين، فقال حسان بن ثابت:
لقد دان عبد الله ما كان أهله
وحمته إذ قالوا هجيرا ومسطح
تعاطوا برجم القول زوج نبيهم
وسخطة ذا الرب الكريم فأبرحوا
وآذوا رسول الله فيها فعمموا
مخازي ذل جللوها وفضحوا
فهذا سبب نزول الآية وقصتها. فأما التفسير فقوله عز وجل " * (إن الذين جاؤوا بالإفك) *) بالكذب " * (عصبة) *) جماعة " * (منكم) *).
قال الفراء: العصبة، الجماعة من الواحد إلى الأربعين.
" * (لا تحسبوه شرا لكم) *) يا عائشة وصفوان " * (بل هو خير لكم) *) لأن الله يأجركم على ذلك
77

ويظهر براءتكم " * (لكل امرئ منهم) *) يعني من الذين جاؤوا بالإفك " * (ما اكتسب من الإثم) *) جزاء ما اجترح من الذنب والمعصية.
" * (والذي تولى كبره) *) والذي تحمل معظمه فبدا بالخوض فيه، وقراءة العامة " * (كبره) *): بكسر الكاف، وقرأ خليل والأعرج ويعقوب الحضرمي بضم الكاف.
قال أبو عمرو بن العلاء: هو خطأ لأن الكبر بضم الكاف في الولاء والسن، ومنه الحديث: الولاء للكبر، وهو أكبر ولد الرجل من الذكورة وأقربهم إليه نسبا.
وقال الكسائي: هما لغتان مثل صفر وصفر، واختلف المفسرون في المعني بقوله * (والذي تولى كبره منهم) * * (له عذاب عظيم) *).
فقال قوم: هو حسان بن ثابت.
روى داود بن أبي هند عن عامر الشعبي أن عائشة خ قالت: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة، قوله لأبي سفيان:
هجوت محمدا فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
فان أبي ووالدتي وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفؤ
فشر كما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه
وبحري لا تكدره الدلاء
فقيل: يا أم المؤمنين أليس الله يقول " * (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) *).
قالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم؟ أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف.
وروى أبو الضحى عن مسروق قال: كنت عند عائشة فدخل حسان بن ثابت فأمرت فألقي له وسادة، فلما خرج قلت لعائشة: تدعين هذا الرجل يدخل عليك وقد قال ما قال، وأنزل الله سبحانه فيه " * (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) *)؟.
فقالت: وأى عذاب أشد من العمى، ولعل الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره، وقالت: انه كان يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال آخرون: بل هو عبد الله بن أبي سلول وأصحابه.
روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة قالت في حديث إلافك: ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس. فقال عبد الله بن
78

أبي رئيسهم: من هذه؟ قالوا: عائشة: قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقودها، وشرع في ذلك أيضا حسان ومسطح وحمنة فهم الذين تولوا كبره، ثم فشا ذلك في الناس.
" * (لولا) *) هلا " * (إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم) *) بإخوانهم " * (خيرا) *).
قال الحسن: بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة، نظيره قوله " * (ولا تقتلوا أنفسكم) *) وقوله " * (فسلموا على أنفسكم) *).
قال بعض أهل المعاني: تقدير الآية هلا ظننتم كما ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا.
وقيل: أراد بأنفسهم أهاليهم وأزواجهم، وقالوا: أراد بهذه الآية أبا أيوب الأنصاري وامرأته أم أيوب.
روى محمد بن إسحاق بن يسار عن رجاله أن أبا أيوب خالد بن يزيد قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟
قال: بلى وذلك الكذب أكنت، فاعلة ذلك يا أم أيوب؟
قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك، سبحان الله هذا بهتان عظيم، فأنزل الله سبحانه " * (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات) *) الآيات، أي كما فعل أبو أيوب وصاحبته وكما قالا.
وقوله " * (وقالوا هذا إفك مبين) *) أي كذب بين " * (لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم) *) خضتم " * (فيه) *) من الإفك " * (عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم) *) تأخذونه تروونه بعضكم عن بعض، وقرأ (أبي وابن مسعود: إذ تتلقونه بتاءين)، وقرأت عائشة: تلقونه بكسر اللام وتخفيف القاف من الكذب، والولق والألق والالق والليق الكذب.
قال الخليل: أصل الولق السرعة وأنشد:
جاؤوا بأسراب من الشام ولق
79

أي تسرع، يقال: ولق فلان في السير فهو يلق فيه إذا استمر وأسرع فيه، فكان معنى قراءة عائشة: إذ تستمرون في إفككم.
وقرأ محمد بن السميقع: إذ تلقونه من الإلقاء، نظيره ودليله قوله سبحانه " * (فألقوا إليهم القول) *) الآية.
" * (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا) *) وتظنونه سهلا " * (وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك) *) يحتمل التنزيه والتعجب.
" * (هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا) *) أي ينهاكم ويخوفكم أن تعودوا وقيل: يعظكم الله كيلا تعودوا " * (لمثله) *) إلى مثله " * (أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم) *) بأمر عائشة وصفوان " * (حكيم) *) حكم ببراءتها.
" * (إن الذين يحبون أن تشيع) *) تظهر وتفشو وتذيع " * (الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) *) يعني عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه المنافقين.
" * (والله يعلم) *) كذبهم " * (وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم) *) فيه إضمار لعاجلكم بالعقوبة.
(* (ياأيها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشآء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولاكن الله يزكى من يشآء والله سميع عليم * ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن
يغفر الله لكم والله غفور رحيم * إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا فى الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين * الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولائك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته مازكى) *) صلح وطهر من هذا الذنب، وقرأ ابن محيص ويعقوب: زكى بالتشديد أي طهر، دليلها قوله سبحانه وتعالى " * (ولكن الله يزكي) *) يطهر " * (من يشاء) *) من الإثم والذنب بالرحمة والمغفرة " * (والله سميع عليم) *))
.
80

أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدثنا علي بن زنجويه قال: حدثنا سعيد بن سيف التميمي قال: حدثنا غالب بن تميم السعدي قال: حدثنا خالد بن جميل عن موسى بن عقبة المديني عن أبي روح الكلبي عن حر بن نصير الحضرمي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في ظل سخط الله سبحانه حتى ينزع، وأيما رجل حال في شفاعة دون حد من حدود الله تعالى أن يقام فقد كايد الله حقا وحرص على سخطه وأن عليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يريد أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه في النار، وأصله في كتاب الله سبحانه " * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) *) الآية.
" * (ولا يأتل) *) ولا يحلف، هذه قراءة العامة وهو يفتعل من الألية وهي القسم، وقال الأخفش: وإن شئت جعلته من قول العرب: ما ألوت جهدي في شأن فلان أي ما تركته، وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو مخلد السدوسي وأبو جعفر وزيد بن أسلم (ولا يتأل) بتقديم التاء وتأخير الهمزة وهو يفتعل من الألية والالو.
" * (أولوا الفضل منكم والسعة) *) يعني أبا بكر الصديق " * (أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله) *) يعني مسطحا، وكان مسكينا مهاجرا بدريا، وكان ابن خالة أبي بكر ح.
" * (وليعفوا وليصفحوا) *) عنهم خوضهم في أمر عائشة.
وروت أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " * (ولتعفوا ولتصفحوا) *) بالتاء.
" * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) *). فلما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قال: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
وقال ابن عباس والضحاك: أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر ألا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعونهم فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
" * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات) *) عن الفواحش وعما قذفن به كغفلة عائشة عما فيها " * (المؤمنات لعنوا) *) عذبوا " * (في الدنيا) *) بالجلد وفي الآخرة بالنار " * (ولهم عذاب عظيم) *))
81

واختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم: هي لعائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر المؤمنات.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدثنا هارون بن محمد بن هارون قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني قال: حدثنا هشام عن العوام بن حوشب قال: حدثنا شيخ من بني كاهل قال: فسر ابن عباس سورة النور، فلما أتى على هذه الآية " * (ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات) *) إلى آخر الآية، قال: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي مبهمة ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله سبحانه له توبة، ثم قرأ " * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) *) إلى قوله " * (إلا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا) *) فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة، قال: فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسره.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أول السورة " * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) *) إلى " * (فإن الله غفور رحيم) *) فأنزل الله له الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل والشهادة ترد.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حيان قال: حدثنا إسحاق بن محمد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدثنا علي بن علي عن أبي حمزة الثمالي قال: بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا: إنما خرجت تفجر.
" * (يوم تشهد عليهم) *) قرأه العامة بالتاء، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما بالياء لتقدم الفعل.
" * (ألسنتهم) *) وهذا قبل أن يختم على أفواههم، وقيل: معناه: يشهد ألسنة بعضهم على بعض " * (وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) *) في الدنيا " * (يومئذ يوفيهم الله دينهم) *) جزاءهم وحسابهم " * (الحق) *) قرأه العامة بنصب القاف، وقرأ مجاهد الحق بالرفع على نعت الله وتصديقه، قراءة أبي يوفهم الله الحق دينهم.
" * (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) *) يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا.
" * (الخبيثات للخبيثين) *) الآية. قال أكثر المفسرين: الخبيثات من القول للخبيثين من الناس " * (والخبيثون) *) من الناس " * (للخبيثات) *) من القول " * (والطيبات) *) من القول " * (للطيبين) *) من الناس " * (والطيبون) *) من الناس " * (للطيبات) *) من القول.
وقال ابن زيد: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
82

" * (أولئك) *) يعني عائشة وصفوان فذكرهما بلفظ الجمع كقوله " * (فإن كان له إخوة) *) والمراد أخوان.
" * (مبرءون) *) منزهون " * (مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم) *).
أخبرنا أبو نصر النعمان بن محمد بن النعمان الجرجاني بها قال: أخبرنا محمد بن عبد الكريم الباهلي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي قال: حدثنا بشر بن الوليد الكندي قال: حدثنا أبو حفص عن سليمان الشيباني عن علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة أنها قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيت امرأة، لقد نزل جبرئيل (عليه السلام) بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفي وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفت الملائكة في بيتي، وإن كان الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة وعند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذالكم خير لكم لعلكم تذكرون * فإن لم تجدوا فيهآ أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم * ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون * قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذالك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابآئهن أو ءابآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسآئهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم) *) الآية.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الحسين ابن يحيويه قال: حدثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي سفيان قالا: حدثنا محمد بن يوسف الفريابي قال: حدثنا قيس عن أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار
83

فقالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فكيف أصنع؟ فنزلت هذه الآية " * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) *) الآية.
وقال بعض المفسرين: حتى تستأنسوا أي تستأذنوا.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: إنما هو حتى تستأذنوا ولكن أخطأ الكاتب، وكان أبي بن كعب وابن عباس والأعمش يقرأونها كذلك حتى تستأذنوا، وفي الآية تقديم وتأخير تقديرها: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود وهو أن يقول: السلام عليكم أأدخل؟
روى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي أن رجلا استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أألج فقال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن يستأذن فقولي له: تقول: السلام عليكم أأدخل؟ فسمعها الرجل فقالها، فقال: ادخل.
وقال مجاهد والسدي: هو التنحنح والتنخم.
روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الخزاز عن ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عن زينب قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منها على أمر يكرهه.
عكرمة: هو التسبيح والتكبير ونحو ذلك.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدثنا أبو بكر بن خرجة قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي أيوب الأنصاري قال: قلنا يا رسول الله ما الاستيناس الذي يريد الله سبحانه " * (حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) *) قال: يتكلم الرجل بالتكبيرة والتسبيحة والتحميدة، يتنحنح يؤذن أهل البيت.
وقال الخليل: الاستيناس: الاستبصار من قوله " * (آنست نارا) *).
وقال أهل المعاني: الاستيناس: طلب الأنس وهو أن ينظر هل في البيت أحد يؤذنه أنه
84

داخل عليهم، يقول العرب: اذهب فاستأنس هل ترى أحدا في الدار؟ أي انظر هل ترى فيها أحدا؟
ويروى أن أبا موسى الأشعري أتى منزل عمر بن الخطاب ذ فقال: السلام عليكم أأدخل؟
فقال عمر: واحدة، فقال أبو موسى: السلام عليكم أأدخل؟ فقال عمر: ثنتان، قال أبو موسى: السلام عليكم أأدخل؟ ومر، فوجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه
خلفه من رده فسأله عن صنيعه فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الاستيذان ثلاثة فإن أذنوا وإلا فارجع).
فقال عمر: لتأتيني بالبينة أو لاعاقبنك، فانطلق أبو موسى فأتاه بمن سمع ذلك معه.
وعن عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أستأذن على امي؟ قال: (نعم)، قال: (إنها ليس لها خادم غيري أفأستأذن كلما دخلت؟ قال: (أتحب أن تراها عريانة)؟ قال الرجل: لا، قال: (فاستأذن عليها).
وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اطلع في بيت بغير إذنهم فقد حل لهم ان يفقأوا عينه).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شبه قال: حدثنا الحضرمي قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا ابن عيينة عن الزهري أنه سمع سهل بن سعد يقول: اطلع رجل في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه مدرى يحك به رأسه، فقال: (لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك، إنما الاستيذان من النظر).
" * (فإن لم تجدوا فيها) *) أي في البيوت " * (أحدا) *) يأذن لكم في دخولها " * (فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وان قيل لكم ارجعوا فارجعوا) *) ولا تقفوا على أبوابهم ولا تلازموها " * (هو) *) أي الرجوع " * (أزكى) *) أطهر وأصلح " * (لكم والله بما تعملون عليم) *).
فلما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام
85

ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله سبحانه " * (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة) *) بغير استيذان " * (فيها متاع) *) منفعة " * (لكم) *) واختلفوا في هذه البيوت ما هي؟ فقال قتادة: هي الخانات والبيوت المبنية للسائلة ليأووا إليها ويؤوا أمتعتهم إليها.
قال مجاهد: كانوا يضعون بطرق المدينة أقتابا وأمتعة في بيوت ليس فيها أحد، وكانت الطرق إذ ذاك آمنة فأحل لهم أن يدخلوها بغير إذن.
محمد بن الحنفية: هي بيوت مكة، ضحاك: الخربة التي يأوي المسافر إليها في الصيف والشتاء، عطاء: هي البيوت الخربة، والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من الخلاء والبول، ابن زيد: بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق، ابن جرير: جميع ما يكون من البيوت التي لا ساكن لها على العموم لأن الاستيذان إنما جاء لئلا يهجم على مالا يحب من العورة، فإذا لم يخف ذلك فلا معنى للاستيذان.
" * (والله يعلم ماتبدون وما تكتمون قل للمؤمنين يغضوا) *) يكفوا " * (من أبصارهم) *) عن النظر إلى مالا يجوز، واختلفوا في قوله " * (من) *) فقال بعضهم: هو صلة أي يغضوا أبصارهم، وقال آخرون: هو ثابت في الحكم لأن المؤمنين غير مأمورين بغض البصر أصلا، وإنما أمروا بالغض عما لا يجوز.
" * (ويحفظوا فروجهم) *) عمن لا يحل، هذا قول أكثر المفسرين.
وقال ابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا في هذا الموضع فإنه أراد الاستتار يعني: ويحفظوا فروجهم حتى لا ينظر إليها.
ودليل هذا التأويل إسقاط من " * (ذلك أزكى لهم إن الله خبير) *) عليم " * (بما يصنعون) *).
أخبرني ابن فنجويه في داري قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدثنا الحسن بن علي بن زكريا قال: حدثنا أبو الربيع الزهراني قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر قال: حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اضمنوا لي ستا من أنفسكم اضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا ما ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شيبة قال: حدثنا الحضرمي قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن قال: حدثنا أبو الحسن أنه سمع علي بن أبي طالب ح يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (النظر إلى محاسن المرأة سهم من نبال إبليس مسموم
86

فمن رد بصره ابتغاء ثواب الله عز وجل أبدله الله بذلك عبادة تسره).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبة قال: حدثنا الحضرمي قال: حدثنا سهل بن صالح الأنطاكي قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يصلي إذ مرت به امرأة فنظر إليها وأتبعها بصره فذهب عيناه).
" * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) *) عما لا يجوز " * (ويحفظن فروجهن) *) عما لا يحل، وقيل: ويحفظن فروجهن أي يسترنها حتى لا يراها أحد.
" * (ولا يبدين زينتهن) *) ولا يظهرن لغير محرم زينتهن، وهما زينتان: أحداهما ما خفي كالخلخالين والقرطين والقلائد والمعاصم ونحوها، والأخرى ما ظهر منها، واختلف العلماء في الزينة الظاهرة التي استثنى الله سبحانه ورخص فيها فقال ابن مسعود: هي الثياب، وعنه أيضا: الرداء، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه " * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) *) أي ثيابكم. وقال ابن عباس وأصحابه: الكحل والخاتم والسوار والخضاب، الضحاك والأوزاعي: الوجه والكفان، الحسن: الوجه والثياب.
روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويدها إلى ههنا)، وقبض على نصف الذارع، وإنما رخص الله سبحانه ورخص رسوله في هذا القدر من بدن المرأة أن تبديها لأنه ليس بعورة، فيجوز لها كشفه في الصلاة، وسائر بدنها عورة فيلزمها ستره.
" * (وليضربن) *) وليلقين " * (بخمرهن) *) أي بمقانعهن وهي جمع خمار وهو غطاء رأس المرأة " * (على جيوبهن) *) وصدورهن ليسترن بذلك شعورهن
وأقراطهن وأعناقهن.
قالت عائشة: يرحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله سبحانه هذه الآية شققن أكتف مروطهن فاختمرن به.
" * (ولا يبدين زينتهن) *) الخفية التي أمرن بتغطيتها، ولم يبح لهن كشفها في الصلاة وللأجنبيين، وهي ما عدا الوجه والكفين وظهور القدمين " * (إلا لبعولتهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن) *) أي نساء
87

المؤمنين فلا يحل لامرأة مسلمة أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها فذلك قوله سبحانه " * (أو ما ملكت أيمانهن) *).
عن ابن جريج: روى هشام بن الغار عن عبادة بن نسي أنه كره أن تقبل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها ويتأول أو نسائهن.
وقال عبادة: كتب عمر بن الخطاب ح إلى أبي عبيدة بن الجراح: أما بعد فقد بلغني أن نساء يدخلن الحمامات معهن نساء أهل الكتاب فامنع ذلك وحل دونه.
قال: ثم إن أبا عبيدة قام في ذلك المقام مبتهلا: اللهم أيما امرأة تدخل الحمام من غير علة ولا سقم تريد البياض لوجهها فسود وجهها يوم تبيض الوجوه.
وقال بعضهم: أراد بقوله " * (أو ما ملكت أيمانهن) *) مماليكهن وعبيدهن فإنه لا بأس عليهن أن يظهرن لهم من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن.
" * (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال) *) وهم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم في النساء ولا يستهوونهن.
قال ابن عباس: هو الذي لا تستحيي منه النساء، وعنه: الأحمق العنين.
مجاهد: الأبله الذي لا يعرف شيئا من النساء، الحسن: هو الذي لا ينتشر (زبه) سعيد بن جبير: المعتوه، عكرمة: المجبوب، الحكم بن أبان عنه: هو المخنث الذي لا يقوم زبه.
روى الزهري عن عروة عن عائشة خ قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال: (إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان).
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا أرى هذا يعلم ما ههنا، لا يدخلن هذا عليكم) فحجبوه.
ابن زيد: هو الذي يتبع القوم حتى كأنه منهم ونشأ فيهم وليس له في نسائهم إربة، وإنما يتبعهم لإرفاقهم إياه، والإربة والإرب: الحاجة يقال: أربت إلى كذا آرب إربا إذا احتجت إليه، واختلف القراء في قوله " * (غير) *) فنصبه أبو جعفر وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر والمفضل، وله وجهان:
أحدهما: الحال والقطع لأن التابعين معرفة وغير نكرة.
والآخر: الاستثناء ويكون " * (غير) *) بمعنى إلا. وقرأ الباقون بالخفض على نعت التابعين
88

" * (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) *) أي لم يكشفوا عن عورات النساء لجماعهن فيطلعوا عليها، والطفل يكون واحدا وجمعا.
" * (ولا يضربن بأرجلهن) *) يعني ولا يحركنها إذا مشين " * (ليعلم ما يخفين من زينتهن) *) يعني الخلخال والحلي " * (وتوبوا إلى الله جميعا) *) من التقصير الواقع في أمره ونهيه وقيل: معناه راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة.
2 (* (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم * وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وءاتوهم من مال الله الذىءاتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحيواة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم * ولقد أنزلنآ إليكم ءايات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين) *) 2
" * (أيها المؤمنون لعلكم تفلحون وأنكحوا الأيامى منكم) *) أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم " * (والصالحين من عبادكم وإمائكم) *) وقرأ الحسن: من عبيدكم، والأيامى جمع الأيم وهو من لا زوج له من رجل وامرأة يقال: رجل أيم وامرأة أيم وأيمة، والفعل منه أمت المرأة تأيم أيمة أيوما، وتأيمت تأيما، قال الشاعر:
ألم تر أن الله أظهر دينه
وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة
ونسوة سعد ليس منهن أيم
وقال آخر:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي
وإن كنت أفتى منكم أتأيم
وفسر بعض الفقهاء الآية على الحتم والإيجاب فأوجب النكاح على من استطاعه، وتأولها الباقون على الندب والاستحباب وهو الصحيح المشهور والذي عليه الجمهور.
قال الشافعي ح: واجب للرجل والمرأة أن يتزوجا إذا تاقت أنفسهما إليه لأن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه أمر به ورضيه وندب إليه، وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط).
89

وقال صلى الله عليه وسلم (من أحب فطرتي فليستن بسنتي وهي النكاح، وقال: إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده.
قال (الشافعي): ومن لم تتق نفسه إلى ذلك فأحب إلى أن يتخلى لعبادة الله عز وجل).
وذكر الله سبحانه القواعد من النساء وذكر عبدا أكرمه فقال عز من قائل " * (وسيدا وحصورا) *) والحصور: الذي لا يأتي النساء. ولم يندبهم إلى النكاح، فدل أن المندوب إليه من يحتاج إليه.
باب ذكر بعض ما ورد من الأخبار في الترغيب في النكاح
أخبرنا أحمد بن أبي قال: أخبرنا عبد الله بن إسحاق الجرجاني قال: حدثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي قال: حدثنا محمد بن يحيى الأزدي قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: أخبرنا أشعث عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الحديثي قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا محمد بن صالح بن ذريح قال: حدثنا جبارة بن المغلس قال: حدثنا جندل عن ابن جريح عن أبي المغلس عن أبي نجيح السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان له ما يتزوج فلم يتزوج فليس منا).
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا مخلد بن جعفر الباقرحي قال: حدثنا أحمد بن يعقوب المقرى ابن أخي عوف قال: حدثنا جبارة بن المغلس قال: حدثنا مندل عن يحيى بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أدرك له ولد وعنده ما يزوجه فلم يزوجه فأحدث فالإثم بينهما).
وأخبرني الحسين قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا أبو يوسف الصيدلاني قال: حدثنا خالد بن إسماعيل عن عبيد الله عن صالح
90

مولى التومة قال: قال أبو هريرة: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد للقيت الله بزوجة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (شراركم عزابكم).
وبإسناده عن صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا تزوج أحدكم عج شيطانه ياويله: عصم ابن آدم مني بثلثي دينه).
وأخبرني الحسن بن محمد قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا أبو زكريا يحيى بن علي بن خلف القطان قال: حدثنا الحسين بن محمد قال: حدثنا محمد بن ربيعة الكلابي قال: حدثنا محمد بن ثابت العقيلي عن هارون بن رئاب عن أبي نجيح السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مسكين مسكين رجل ليست له امرأة، مسكينة امرأة ليس لها زوج).
قالوا: يا رسول الله وان كانت غنية من المال؟
قال: (وإن كانت غنية من المال).
وأخبرني الحسين قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن موسى قال: حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا حماد بن عبد الرحمن قال: حدثنا خالد بن الزبرقان عن سليمان بن حبيب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع لعنهم الله من فوق عرشه وأمنت عليه ملائكته: الذي يحصر نفسه عن النساء فلا يتزوج ولا يتسرى لئلا يولد له، والرجل يتشبه بالنساء وقد خلقه الله ذكرا، والمرأة تتشبه بالرجال وقد خلقها الله أنثى، ومضلل المساكين).
قال خالد: يعني الذي يهزأ بهم يقول للمسكين: هلم أعطك، فإذا جاء يقول: ليس معي شيء، ويقول للمكفوف: اتق الدابة وليس بين يديه شيء، والرجل يسئل عن دار القوم فيجهله.
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام البيروتي قال: حدثني أحمد بن سعيد بن يعقوب قال: أخبرنا بقية ابن الوليد قال: حدثني معاوية بن يحيى عن سليمان بن موسى عن مكحول عن عفيف ابن الحارث عن عطية بن بشر المازني قال: أتى عكاف بن وادعة الهلالي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا عكاف ألك زوجة؟ قال: لا يا رسول الله، قال: ولا جارية؟ قال: لا. قال: وأنت صحيح موسر؟ قال: نعم والحمد لله.
91

قال: فإنك إذا بين إخوان الشياطين إما أن تكون من رهبان النصارى، وإما أن تكون مؤمنا فاصنع كما نصنع فإن من سنتنا النكاح، شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم، ما للشيطان في نفسه سلاح أبلغ من النساء ألا إن المتزوجين هم المطهرون المبرؤون من الخنا، ويحك يا عكاف إنهن صواحب داود وصواحب أيوب وصواحب يوسف عليهم السلام وصواحب كرسف.
قالوا: يا رسول الله ومن كرسف؟
قال: رجل كان يعبد الله سبحانه على ساحل من سواحل البحر ثلاثين عاما، يصوم النهار ويقوم الليل، لا يفتر من صيام ولا قيام، فكفر بالله العظيم من سبب امرأة عشقها وترك ما كان عليه من عبادة ربه عز وجل فتداركه الله سبحانه بما سلف منه، ويحك يا عكاف تزوج فإنك من المذنبين.
قال: زوجني من شئت قبل أن أبرح.
قال: فإني قد زوجتك على اسم الله كريمة بنت كلثوم الحميري).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن المظفر البزاز قال: حدثنا أبو عبد الله محمد ابن موسى بن النعمان بمصر قال: حدثنا علي بن عبد الرحمن بن المغيرة قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث قال: حدثنا أبو يحيى بن قيس عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد
حلت العزبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال).
فصل فيمن يستحب ويختار من النساء
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الثقفي بقراءتي عليه في داري قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الجعد قال: حدثنا عبد الله بن عمر القواريري قال: حدثنا عمر بن الوليد قال: سمعت معاوية بن يحيى يحدث عن يزيد بن جابر عن جبير بن نفير عن عياض بن غنم الأشعري قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا عياض لا تزوجن عجوزا ولا عاقرا فإني مكاثر).
وأخبرني الحسن بن محمد قال: حدثنا برهان بن علي الصوفي قال: حدثنا أبو بكر مردك
92

ابن أحمد البردعي قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي قال: حدثني عبد الله بن إدريس المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الأبكار فإنهن أعذب أفواها، وأفتح أرحاما، وأثبت مودة).
وبإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أراد أحدكم أن يتزوج المرأة فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها فإن الشعر أحد الجمالين).
وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الزرق فإن فيهن يمنا).
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدثنا عبدان بن عبد الله بن عبد الحكم قال: حدثنا عبد الله ابن صالح قال: حدثنا محمد بن سليمان بن أبي كريمة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة خ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعظم نساء أمتي بركة أصبحهن وجها وأقلهن مهرا).
فصل في الآداب الواردة في النكاح والزفاف
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: أخبرنا أبو علي الشيباني قال: حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عيسى بن ميمون عن القاسم بن محمد عن عائشة خ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليها بالدفاف وليولم أحدكم ولو بشاة).
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان وعبد الله بن يوسف قالا: حدثنا يوسف بن أحمد بن كركان القرماسيني قال: حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج قال: حدثنا أبو سلمة البصري العتكي القاسم بن عمر قال: حدثنا بشر بن إبراهيم الأنصاري عن الأوزاعي عن مكحول عن عروة عن عائشة خ قالت: حدثني معاذ بن جبل قال: شهدت ملاك رجل من الأنصار مع النبي صلى الله عليه وسلم فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وأملك الأنصاري ثم قال: (على الألفة والخير والطير الميمون دففوا على رأس صاحبكم، وأقبلت السلال فيها الفاكهة والسكر فنهب عليهم
93

فأمسك القوم فلم ينتهبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أزين الحلم ألا تنتهبون، فقالوا: يا رسول الله أنك نهيتنا عن النهبة يوم كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهيتكم عن نهبة العساكر ولم أنهكم عن نهبة الولائم ثم قال: ألا فانتهبوا).
قال معاذ بن جبل: فوالله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجررنا ونجرره في ذلك النهاب.
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدثنا أبو العباس عبد الله بن أحمد بن حشيش البغدادي قال: حدثنا عثمان بن معبد قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم عن سفيان بن عامر العامري عن صافية مولاتهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مسوا بالإملاك فإنه أفضل في اليمن وأعظم في البركة).
وأخبرني الحسين قال: حدثنا طفران بن الحسين قال: حدثنا أبو بكر بن أبي داود السجستاني قال: حدثنا أحمد بن يوسف بن سالم الأزدي السلمي قال: حدثنا حفص بن عبد الله عن إبراهيم بن طهمان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن إسحاق بن سهل بن أبي حنتمة عن أبيه عن عائشة خ أنها قالت: كانت عندي جارية من الأنصار في حجري فزوجتها فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسمع غناء فقال: (يا عائشة ألا تغنون عليها، فان هذا الحى من الأنصار يحبون الغناء).
وأخبرني الحسين قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا أبو بكر محمد بن ظهير بن ثمامة البزار قال: حدثنا أبو موسى بن المثنى الزمر قال: حدثنا حفص بن غياث عن ليث عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بعروس فقال: (لو كان مع هذا لهو).
94

وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن أبي قال: حدثنا محمد بن علي بن سالم الهمذاني قال: حدثنا الحسن بن الحسين الرازي الهسنخاني قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا مسكين بن ميمون قال: حدثني عروة بن رويم قال: بينا عبد الرحمن بن قرط ينعس بحمص إذ مرت عروس وقد أوقدوا النيران، فضربهم بدرية حتى تفرقوا عنها، فلما أصبح قعد على منبره وقال: إن أبا جندلة نكح فصنع جفنات من طعام فرحم الله أبا جندلة وصلى على آبائه، ولعن الله أصحاب عروسكم أوقدوا النيران وتشبهوا بأهل الشرك والله مطفئ نورهم يوم القيامة. " * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) *).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا علي بن أحمد بن نصرويه قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدثني أبو زرعة قال: حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء قال: أخبرنا مسلم بن خالد عن سعيد بن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (التمسوا الرزق بالنكاح).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن الحسن بن بشر قال: حدثنا أبو يوسف محمد ابن سفيان بن موسى الصفار بالمصيصة قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن ناصح قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي عن ابن عجلان أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الحاجة فقال: (عليك بالباءة)، وشكى رجل إلى أبي بكر ح بعد
النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الحاجة فقال: عليك بالباءة، وجاء رجل إلى عمر ح بعد أبي بكر فشكا إليه الحاجة فقال: عليك بالباءة، كل يريد قوله سبحانه " * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) *). قال ابن عجلان: وقال أبو بكر وعمر ذ: ابتغوا الغنى في النكاح.
" * (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا) *) عن الحرام " * (حتى يغنيهم الله من فضله) *) ويوسع عليهم من رزقه.
" * (والذين يبتغون الكتاب) *) أي المكاتبة وهي أن يقول الرجل لعبده أو أمته: قد كاتبتك على أن تعطيني كذا وكذا في نجوم معلومة على أنك إذا أديت ذلك فأنت حر، فيرضى العبد بذلك فإن أدى مال الكتابة بالنجوم التي سماها كان حرا، وإن عجز عن أداء ذلك كان لمولاه أن يرده إلى الرق كما قال صلى الله عليه وسلم (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم). وأصل الكلمة من الكتب وهو الضم والجمع، ومنه الكتيبة وكتب البغل وكتب الكتاب، فسمي المكاتب مكاتبا لأنه يضم نجوم مال الكتابة بعضها إلى بعض.
" * (مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم) *) اختلف الفقهاء في حكم هذه الآية فقال قوم: هو أمر حتم وإيجاب فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم منه خيرا إذا سأله ذلك بقيمته وأكثر ولو كان بدون قيمته لم يلزمه، وهو قول عمرو بن دينار وعطاء، وإليه ذهب داود بن علي ومحمد ابن جرير من الفقهاء وهي رواية العوفي عن ابن عباس، واحتج من نصر هذا المذهب بما روى قتادة أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عليه، فشكاه إلى عمر فعلاه بالدرة وأمره بالكتابة، واحتجوا أيضا بأن هذه الآية نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له صبح سأل
95

مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين فأداها وقتل يوم حنين في الحرب.
وروى عن عمر أنه قال: هي عزمة من عزمات الله، من سأل الكتابة كوتب.
وقال الآخرون: هو أمر ندب واستحباب، ولا يلزم السيد مكاتبة عبده سواء بذل له قيمته أو أكثر منها أو أقل، وهو قول الشعبي والحسن البصري، وإليه ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وسائر الفقهاء.
وأما قوله سبحانه " * (إن علمتم فيهم خيرا) *) فاختلفوا فيه، فقال ابن عمر وابن زيد ومالك بن أنس: يعني قوة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتب عليه، وإليه ذهب الثوري.
وروى الوالبي عن ابن عباس قال: إن علمت أن لهم حيلة ولا يلقون مؤونتهم على المسلمين.
وقال الحسن ومجاهد والضحاك: مالا، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، واستدلوا بقوله " * (إن ترك خيرا) *).
قال الخليل: لو أراد المال لقال: إن علمتم لهم خيرا.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدثنا هارون بن محمد قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا يحيى الحماني قال: حدثنا أبو خالدالأحمر عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي عن سلمان قال: قال له عبد: كاتبني، قال: لك مال؟ قال: لا، قال: تطعمني أوساخ الناس فأبى عليه، وقال إبراهيم وعبيدة وأبو صالح وابن زيد: يعني صدقا ووفاء وأمانة، وقال طاوس وعمرو بن دينار: مالا وأمانة.
وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في هذه الآية الاكتساب مع الأمانة، فأحب أن لا يمتنع من مكاتبته إذا كان هكذا.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبة قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد العزيز العثماني وأبو النضر إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا يحيى بن حمزة قال: أخبرني محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة حق على الله عونهم: رجل خرج في سبيل الله سبحانه، ورجل تزوج التماس الغنى عما حرم الله عز وجل، ورجل كاتب التماس الأداء).
96

وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا هارون بن محمد بن هارون قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا يحيى الحماني قال: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة في قوله سبحانه " * (إن علمتم فيهم خيرا) *) قال: إن أقاموا الصلاة. وقيل: هو أن يكون المكاتب بالغا عاقلا فأما المجنون والصبي فلا يصح كتابتهما لأنهما ليسا من أهل الابتغاء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاث) الحديث.
وقال أبو حنيفة: يصح كتابة الصبي إذا كان مراهقا مميزا بناء على أصله إذا كان مراهقا كيسا حرا فأذن له وليه في التصرف نفذ تصرفه، كذلك السيد مع عبده إذا كاتبه فقد أذن له في التصرف فصحت كتابته.
واختلف الفقهاء في مال الكتابة، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: تصح الكتابة حالة ومؤجلة لأن الله سبحانه قال " * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) *) ولم يشترط فيه أجلا ولأنه عقد على عين فصح حالا ومؤجلا كالبيع.
وقال الشافعي: لا تصح الكتابة حالة وإنما تصح إذا كانت مؤجلة، وأقله نجمان.
" * (وآتوهم من مال الله الذي آتياكم) *) اختلفوا فيه فقال بعضهم: الخطاب للموالي وهو أن يحط له من مال كتابته شيئا، ثم اختلفوا في ذلك الشيء فقال قوم: هو ربع المال وهو قول على، وإليه ذهب الثوري.
روى شعبة عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كاتب غلاما له على ألف ومائتين وترك الربع وأشهدني ثم قال لي: كان صديقك يفعل هذا، يعني عليا كرم الله وجهه، وقد روى ذلك مرفوعا.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حنش المقري قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن موسى قال: حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب يعني أبا عبد الرحمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم " * (وآتوهم من مال الله الذي آتياكم) *) قال: (ربع المكاتبة).
وقال آخرون: ليس فيه حد إنما هو إليه، يحط عنه من مال كتابته شيئا.
روى أسباط عن السدي عن أبيه قال: كاتبتني زينب بنت قيس بن مخرمة وكانت قد صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعا على عشرة آلاف فتركت لي ألفا، وروى الجريري عن أبي
97

نضرة عن أبي سعيد مولى ابن أسيد قال: كاتبني أبو أسيد على ثنتي عشرة مائة فجئته بها فأخذ منها ألفا ورد على مائتين.
وقال نافع: كاتب عبد الله بن عمر غلاما له يقال له شرقي على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسه آلاف درهم.
قال سعيد بن جبير: وكان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته، ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحب، وعلى هذا القول قوله " * (وآتوهم) *) أمر استحباب.
وقال بعضهم: معناه وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله " * (وفي الرقاب) *) وهو قول الحسن وزيد بن أسلم وابنه وعلى هذا التأويل هو أمر إيجاب.
وقال بريدة وإبراهيم: هو حث لجميع الناس على معونتهم.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبة قال: حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: حدثنا صفوان بن صالح قال: حدثنا الوليد قال: حدثني زهير عن عبد الله بن محمد ابن عقيل عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعان مكاتبا في رقبته أو غازيا في عسرته أو مجاهدا في سبيله أظله الله سبحانه في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله).
وأخبرني ابن فنجوية قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا علي بن أحمد الواسطي قال: حدثنا إسحاق بن منصور عن عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن الدالاني عن خارجة بن هلال عن أبي سعيد ورافع بن خديج وابن عمر قالوا: جاءنا غلام لعثمان ح يقال له كيس فقال: قوموا إلى أمير المؤمنين فكلموه أن يكاتبني فقلنا له: إن غلامك هذا سألنا أن تكاتبه فقال: أخذته بخمسين ومائة يجيء بها وهو حر، قال: فخرجنا فأعانه كل رجل منا بشيء قال: كونوا بالباب ثم قال: ياكيس تذكر يوم عركت أذنك، قلت: بلى يا سيدي، قال: ألم أنهك أن تقول يا سيدي؟ قال: فلم يزل بي حتى ذكرت، قال: قم فخذ بأذني قال: فأبيت فلم يزل بي حتى قمت فأخذت بأذنه فعركتها وهو يقول: شد شد حتى إذا رآني قد بلغت ما بلغ مني قال: حسبك ثم قال: واها للقضاء في الدنيا، أخرج فأنت حر وما معك لك.
98

" * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) *) الآية.
نزلت في معاذة ومسيكة جاريتي عبد الله بن أبي المنافق، كان يكرههما على الزنا بضريبة يأخذ منهما وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إماءهم، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيرا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرا فقد آن لنا أن ندعه، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في ست جوار لعبد الله بن أبى كان يكرههن على الزنا ويأخذ أجورهن وهن معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، فجاءته إحداهن ذات يوم بدينار وجاءت أخرى ببرد فقال لهما: ارجعا فازنيا فقالتا: والله لا نفعل قد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا، فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وروى معمر عن الزهري أن عبد الله بن أبي أسر رجلا من قريش يوم بدر، وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة فكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة، فكانت تمتنع منه وكان ابن أبى يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل للقرشي فيطلب فداء ولده، فأنزل الله سبحانه " * (ولا تكرهوا فتياتكم) *) إماءكم " * (على البغاء) *) أي الزنا.
" * (إن أردن تحصنا) *) يعني إذ وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن تحصنا، ونظيره قوله سبحانه " * (وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين) *) وقوله " * (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) *) أي إذ، وقوله " * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) *) يعني إذ شاء الله والتحصن: التعفف.
وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها " * (وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصنا) *) ثم قال " * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء لتبتغوا عرض الحياوة الدنيا ومن يكرههن) *) بعد ورود النهي " * (فإن الله من بعد إكراههن) *) لهن " * (غفور رحيم) *) والوزر على المكره، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: لهن والله لهن.
" * (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا) *) خبرا وعبرة " * (من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين) *))
.
* (الله نور السماوات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح فى زجاجة الزجاجة كأنها
99

كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدى الله لنوره من يشآء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شىء عليم * فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والاصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلواة وإيتآء الزكواة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار * ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشآء بغير حساب) *) 2
" * (الله نور السماوات والأرض) *).
قال ابن عباس: الله هادي أهل السماوات والأرض لا هادي فيهما غيره، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون وليس يهتدي ملك مقرب ولا نبى مرسل إلا بهدى منه. 6
الضحاك والقرظي: منور السماوات والأرض.
مجاهد: مدبر الأمور في السماوات والأرض.
أبي بن كعب وأبو العالية والحسن: مزين السماوات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين.
وقال بعضهم: يعني الأنوار كلها منه كما يقال: فلان رحمة وسخطة وهو لا يكون في نفسه رحمة ولا سخطة وإنما يكون منه الرحمة والسخطة.
وقال بعض أهل المعاني: أصل النور هو التبرئة والتصفية، يقال: امرأة نوار ونساء نوار إذا كن متعريات من الريبة والفحشاء، قال الشاعر:
نوار في صواحبها نوار
كما فاجاك سرب أو صوار
فمعنى النور هو المنزه من كل عيب.
وقال بعض العلماء: النور على أربعة أوجه: نور متلألئ، ونور متولد، ونور من جهة صفاء اللون، ونور من جهة المدح، فالنور المتلألئ مثل قرص الشمس والقمر والكواكب وشعلة السراج، والمتولد هو الذي يتولد من شعاع الشمس والقمر والسراج فيقع على الأرض فيستنير به، والذي هو من صفاء اللون مثل نور اللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر، وكل شيء له نور صاف، والذي هو من جهة المدح قول الناس: فلان نور البلد وشمس العصر، قال الشاعر:
فإنك شمس والملوك كواكب
إذا ما بدت لم يبد منهن كوكب
100

وقال آخر:
قمر القبائل خالد بن يزيد
وقال آخر:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة
فقد سار منها نورها وجمالها
ويجوز أن يقال: الله سبحانه نور من جهة المدح؛ لأنه واجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه دون سائر الأوجه؛ لأن النور المحسوس الذي هو ضد الظلمة لا يخلو من شعاع وارتفاع وسطوع ولموع وهذه كلها منفية عن الله سبحانه لأنها من أمارات الحدث.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: لله يا نور إلا أن يضم إليه شيء كما لا يجوز أن يقال: يا بديع إلا أن يضم إليه شيء كما قال الله سبحانه * (بديع السماوات والأرض) * * (نور السماوات والأرض) *).
وقرأ علي بن أبي طالب: الله نور السماوات والأرض على الفعل.
" * (مثل نوره) *) اختلفوا في هذه الكناية فقال بعضهم: هي عائدة إلى المؤمن أي مثل نوره في قلب المؤمن حيث جعل الإيمان والقرآن في صدره.
روى الربيع عن أبي العالية عن أبي بن كعب في هذه الآية قال: بدا بنور نفسه فذكره ثم ذكر نور المؤمن فقال " * (مثل نوره) *) وهكذا كان يقرأ أبي: مثل نور من آمن به، وقال ابن عباس والحسن وزيد بن أسلم وابنه: أراد بالنور القرآن، وقال كعب وسعيد بن جبير: هو محمد صلى الله عليه وسلم ومثله روى مقاتل عن الضحاك، أضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلا، وروى عطية عن ابن عباس قال: يعني بالنور الطاعة، يسمي طاعته نورا ثم ضرب لها مثلا.
" * (كمشكاوة) *) قال أهل المعاني: هذا من المقلوب أي كمصباح في مشكاة وهي الكوة التي لا منفذ لها، وأصلها الوعاء يجعل فيها الشيء، والمشكاة: وعاء من أدم يبرد فيه الماء، وهي على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة. قال الشاعر
101

كأن عينيه مشكاتان في حجر
قيضا اقتياضا بأطراف المناقير
وقيل: المشكاة: عمود القنديل الذي فيه الفتيلة.
وقال مجاهد: هي القنديل
" * (فيها مصباح) *) أي سراج وأصله من الضوء، ومنه الصبح، ورجل صبيح الوجه ومصبح إذا كان وضيئا، وفرق قوم بين المصباح والسراج فقال الخليل: المصباح: نفس السراج وقيل: السراج أعظم من المصباح لأن الله سبحانه سمى الشمس سراجا فقال " * (سراجا وهاجا) *) و " * (وجعل فيها سراجا) *) وقال في غيرها من الكواكب " * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) *).
" * (المصباح في زجاجة) *) قرأ نصر بن عاصم: زجاجة بفتح الزاي، الباقون بضمه.
قال الأخفش: فيها ثلاث لغات: ضم الزاي وفتحه وكسره.
" * (كأنها كوكب دري) *) أي ضخم مضيء، ودراري النجوم عظامها، واختلف القراء فيه فقرأ أبو عمرو والكسائي مكسورة الدال مهموزة الياء ممدودة وهو من قول العرب: درأ النجم إذا طلع وارتفع، ومن مكان إلى آخر رجع، وإذا انقض في اثر الشيطان فأسرع، وأصله من الرفع، ووزنه من الفعل فعيل، وقرأ حمزة وأبو بكر مضمومة الدال مهموزة ممدودة.
قال أكثر النحاة: هي لحن لأنه ليس في الكلام فعيل بضم الفاء وكسر العين.
قال أبو عبيد: وأنا أرى لها وجها وذلك أنه درو على وزن فعول من درأت مثل سبوح وقدوس ثم استثقلوا كثرة الضمات فيه فردوا بعضها إلى الكسرة كما قالوا عتيا وهو فعول من عتوت.
وقال بعضهم: هو مشتق على هذه القراءة من الدراة وهي البياض ويقال: منه ملح دراني، وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء العطاردي بفتح الدال وبالهمز.
قال أبو حاتم: هو خطأ لأنه ليس في الكلام فعيل وإن صح منهما فهما حجة، وقرأ
102

الباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز، نسبوه إلى الدر في صفائه وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، ثم قال أبو عبيد: وإنما اخترنا هذه القراءة لعلل ثلاث:
إحداها: ما جاء في التفسير أنه منسوب إلى الدر لبياضه.
والثانية: للخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما.
والثالثة: إجماع أهل الحرمين عليها.
" * (يوقد) *) اختلف القراء فيه أيضا فقرأ شيبة ونافع وأيوب وابن عامر وعاصم برواية حفص بياء مضمومة يعنون المصباح، وقرأ حمزة والكسائي وخلف برواية أبي بكر بتاء مضمومة أرادوا الزجاجة، وقرأ بن محيص بتاء مفتوحة وتشديد القاف و رفع الدال على معنى تتوقد الزجاجة، وقرأ الآخرون: بفتح التاء والقاف والدال على المضيء يعنون المصباح.
" * (من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية) *).
قال عكرمة وجماعة: يعني لا يسترها من الشمس جبل ولا واد، فإذا طلعت الشمس أصابتها وإذا غربت أصابتها، فهي صاحبة للشمس طول النهار وليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت، ولا هي غربية وحدها فلا تصيبها الشمس بالغداة إذا طلعت، بل تأخذ حظها من الأمرين، وإذا كان كذلك كان أجود وأضوأ لزينتها.
وقال السدى وجماعة: يعني ليست في مقنوة لا تصيبها الشمس ولا هي بارزة للشمس لا يصيبها الظل، فهي لم يضرها الشمس ولا الظل.
وقال بعضهم: هي معتدلة ليست من شرق فيلحقها الحر، ولا في غرب فيضر بها البرد وهي رواية ابن ظبيان عن ابن عباس.
وقال ابن زيد: هي شامية لأن الشام لا شرقي ولا غربي، تقول: هي شرقية وغربية وهذا كقولك: فلان لا مسافر ولا مقيم، وليس هذا بأبيض ولا أسود إذا كان له من كلا الأمرين قسط ونصيب، قال الشاعر:
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم
ولم تكثر القتلى بها حين سلت
103

يعني فعلوا هذا.
وقال الحسن: ليس هذه الشجرة من شجر الدنيا، ولو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية، وإنما هو مثل ضربه الله سبحانه لنوره، وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا لأنها بدل من الشجرة فقال " * (زيتونة) *) وإنما خص الزيتونة من بين سائر الأشجار لأن دهنها أضوأ وأصفر.
وقيل: لأنه يورق غصنها من أوله إلى آخره ولا يحتاج دهنه إلى عصار يستخرجه.
وقيل: لأنها أول شجرة نبتت من الدنيا، وقيل: بعد الطوفان، وقيل: لأن منبتها منزل الأنبياء والأولياء والأرض المقدسة، وقيل: لأنه بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم (عليه السلام) قال: لذلك قال " * (مباركة) *).
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ في داري قال: حدثنا عبد الله ابن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي قال:
حدثني هاشم ابن القاسم الحراني قال: حدثنا يعلى بن الأشدق عن عمه عبد الله بن حراد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم بارك في الزيت والزيتون، اللهم بارك في الزيت والزيتون).
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال: حدثني أحمد بن عبد الملك قال: حدثنا زهير قال: حدثنا عبد الله بن عيسى عن عطاء عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة).
وأخبرني الحسين قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيق قال: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو حمزة عن جابر عن أبي الطفيل عن عبد الله بن ثابت الأنصاري قال: دعا بنيه ودعا بزيت فقال: ادهنوا رؤوسكم، فقالوا: لا ندهن رؤوسنا بالزيت قال: فأخذ العصا وجعل يضربهم ويقول: أترغبون عن دهن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحدثنا عبد الله بن يوسف بن ماموله قال: أخبرنا محمد بن عمر بن الخطاب الدينوري قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن سنان قال: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال: حدثنا أبي قال: حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بهذه الشجرة المباركة زيت الزيتون فتداووا به فإنه مصحة من الباسور).
104

ثم قال سبحانه " * (يكاد زيتها تضيء) *) من صفائه وضيائه. " * (ولو لم تمسسه نار) *) قيل: أن تصيبه نار، واختلف العلماء في معنى هذا المثل والممثل وفي المعني بالمشكاة والزجاجة والمصباح، فقال قوم: هذا مثل ضربه الله سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال له: حدثني عن قوله سبحانه وتعالى " * (مثل نوره كمشكاة) *) الآية فقال كعب: هذا مثل ضربه الله سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم فالمشكاة صدره، والزجاجة قلبه، والمصباح فيه النبوة، توقد من شجرة مباركة وهي شجرة النبوة، يكاد نور محمد وأمره يتبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبى كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسسه نار.
أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: حدثنا أبو عثمان البصري قال: حدثنا أحمد بن سلمة قال: حدثنا الحسين بن منصور قال: حدثنا أبان بن راشد الحرزي قال: حدثنا الوراع بن نافع عن سالم عن ابن عمر في هذه الآية قال: المشكاة جوف محمد، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعل الله فيه، لا شرقية ولا غربية لا يهودي ولا نصراني، توقد من شجرة مباركة إبراهيم، نور على نور النور الذي جعل الله في قلب إبراهيم كما جعل في قلب محمد صلى الله عليه وسلم
وقال محمد بن كعب القرظي: المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، المصباح محمد صلى الله عليه وسلم سماه الله مصباحا كما سماه سراجا فقال عز من قائل " * (وسراجا منيرا) *) * * (يوقد من شجرة مباركة) *) وهي إبراهيم، سماه مباركا لأن أكثر الأنبياء كانوا من صلبه، لا شرقية ولا غربية يعني إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، وإنما قال ذلك لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق " * (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) *) يعني تكاد محاسن محمد تظهر للناس قبل أن أوحي إليه " * (نور على نور) *) أي نبي من نسل نبي.
وروى مقاتل عن الضحاك قال: شبه عبد المطلب بالمشكاة وعبد الله بالزجاجة والنبي صلى الله عليه وسلم بالمصباح، كان في صلبهما فورث النبوة من إبراهيم (عليه السلام) * * (يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية) *) بل هي مكية لأن مكة وسط الدنيا.
ووصف بعض البلغاء هذه الشجرة فقال: هي شجرة التقى والرضوان وشجرة الهدى والإيمان شجرة أصلها نبوة، وفرعها مروة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبرئيل وميكائيل.
وقال آخرون: هذا مثل ضربه الله سبحانه للمؤمن.
روى الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: هذا مثل المؤمن، فالمشكاة نفسه، والزجاجة صدره، والمصباح ما جعل الله سبحانه من الإيمان والقرآن في قلبه، توقد من
105

شجرة مباركة وهي الإخلاص لله وحده لا شريك له، فمثله مثل شجرة التف بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت، وكذلك المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها، فيثبته الله تعالى فيها، فهو بين أربع خلال: إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.
ثم قال: " * (نور على نور) *) فهو ينقلب في خمسة من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة.
وقال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإن مسته النار ازداد ضوءا على ضوئه كما يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور كقول إبراهيم (عليه السلام) قبل أن تجيئه المعرفة " * (هذا ربي) *) حين رأى الكوكب من غير أن أخبره أحد أن له ربا، فلما أخبره الله أنه ربه ازداد هدى على هدى ثم قال " * (نور على نور) *) يعني إيمان المؤمن وعمله.
وقال الحسن وابن زيد: هذا مثل للقرآن في قلب المؤمن، فكما أن هذا المصباح يستضاء به وهو كما هو لا ينقص فكذلك القرآن يهتدى به و يؤخذ به ويعمل به، فالمصباح هو القرآن، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي.
" * (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) *) يقول: تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم تقرأ، وقيل: تكاد حجج الله على خلقه تضيء لمن فكر فيها وتدبرها ولو لم ينزل القرآن.
" * (نور على نور) *) يعني أن القرآن نور من الله يخلقه مع ما قد أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نورا على نور.
ثم أخبر أن هذا النور المذكور عزيز فقال عز من قائل " * (يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس) *) تقريبا للشيء الذي أراده إلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك على الأنام " * (والله بكل شيء عليم) *).
ثم قال عز من قائل " * (في بيوت) *) نظم الآية: ذلك المصباح في بيوت ويجوز أن يكون معناه: توقد في بيوت وهي المساجد، عن أكثر المفسرين.
أخبرني ابن فنجويه الدينوري قال: حدثنا ابن حنش المقري قال: حدثنا محمد بن أحمد
106

ابن إبراهيم الجوهري قال: حدثنا على بن أشكاب قال: حدثنا محمد بن ربيعة الكلابي عن بكير ابن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: المساجد بيوت الله عز وجل في الأرض، وهي تضيء لأهل السماء كما تضئ النجوم لأهل الأرض.
وقال عمرو بن ميمون: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: المساجد بيوت الله وحق على الله أن يكرم من زاره فيها.
وأخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت الحريري قال: حدثنا أبو سعيد الأشج قال: حدثنا أبو أسامة عن صالح بن حيان عن ابن أبي بريدة في قوله سبحانه " * (في بيوت أذن الله أن ترفع) *) الآية. قال: إنما هي أربع مساجد لم يبنها إلا نبي: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة، وبيت المقدس بناه داود وسليمان، ومسجد المدينة بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء أسس على التقوى، بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري قال: حدثنا أبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني بالكوفة قال: حدثنا المنذر بن محمد القابوسي قال: حدثني الحسين بن سعيد قال: حدثني أبي عن أبان بن تغلب عن نفيع بن الحرث عن أنس بن مالك وعن بريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " * (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) *) إلى قوله " * (والأبصار) *) فقام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: (بيوت الأنبياء).
قال: فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت علي وفاطمة؟
قال: (نعم من أفاضلها).
الصادق: بيوت النبي صلى الله عليه وسلم السدي: المدينة.
وأولى الأقوال بالصواب أنها المساجد لدلالة سياق الآية على أنها بيوت بنيت للصلاة والعبادة.
فإن قيل: ما الوجه في توحيده المشكاة والمصباح وجمع البيوت، لا يكون مشكاة واحدة إلا في بيت واحد؟
107

قلنا: هذا من الخطاب المتلون الذي يفتح بالتوحيد ويختم بالجمع كقوله سبحانه " * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) *) ونحوها، وقيل: رجع إلى كل واحد من البيوت، وقيل: هو مثل قوله سبحانه " * (وجعل القمر فيهن نورا) *) وإنما هو في واحدة منها.
" * (أن ترفع) *) أي تبنى عن مجاهد نظيره قوله سبحانه " * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) *) وقال الحسن: تعظيم، " * (ويذكر فيها اسمه) *) قال ابن عباس: يتلى فيها كتابه، " * (يسبح له فيها) *) قرأ قتادة وأشهب العقيلي ونصر بن عاصم الليثي وابن عامر وعاصم بفتح الباء على غير تسمية الفاعل.
ثم قال " * (رجال) *) أي هم رجال كما يقال: ضرب زيد وأكل طعامك فيقال: من فعل؟ فيبين فيقول: فلان، وفلان والوقف على هذه القراءة عند قوله " * (والآصال) *). وقرأ الآخرون بكسر الباء جعلوا التسبيح فعلا للرجال.
قال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن صلاة يدل عليه قوله سبحانه " * (بالغدو والآصال) *) أي بالغداة والعشى.
قال المفسرون: أراد الصلوات المفروضة، فالصلاة التي تؤدى بالغدو صلاة الفجر، والتي تؤدى في الآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأن اسم الأصيل لجميعها.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبة قال: حدثنا عمير بن مرداس قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد ويوثره على ما سواه إلا وله عند الله نزل معدله في الجنة كلما غدا وراح، كما لو أن أحدكم زاره من يحب زيارته في كرامته).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحسني عن إبراهيم المدني عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غدا إلى المسجد وراح ليتعلم خيرا أو يعلمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله رجع غانما، ومن غدا إليه لغير ذلك كان كالناظر إلى الشيء ليس له، يرى المصلين وليس منهم، ويرى الذاكرين وليس منهم)
108

ثم وصفهم فقال " * (رجال) *) قيل: وجه تخصيص الرجال بالذكر في هذه البيوت أنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المساجد " * (لا تلهيهم تجارة) *)
قال أهل المعاني: إنما خص التجارات لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلوات وسائر الطاعات " * (ولا بيع) *) إن قيل: إن التجارة اسم يقع على البيع والشراء، فما معنى ضم ذكر البيع إلى التجارة؟ فالجواب عنه ما قال الواقدي أنه أراد بالتجارة الشراء نظيره قوله سبحانه " * (وإذا رأوا تجارة) *) يعني الشراء.
" * (عن ذكر الله وإقام الصلواة) *) أي إقامة الصلاة فحذف الهاء الزائدة لأجل الإضافة، لأن الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد فاستغنوا بالمضاف إليه من الهاء إذ كانت الهاء عوضا من الواو، ولأن أصل الكلمة أقومت إقواما فاستثقلوا الضمة على الواو فسكنوها فاجتمع حرفان ساكنان فأسقطوا الواو ونقلوا حركته إلى القاف، وأبدلوا من الواو المحذوفة هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف كما فعلوا في قولهم: عدة وزنة وأصلها وعدة ووزنة، فلما أضيفت حذفت الهاء وجعلت الإضافة عوضا منها، كقول الشاعر:
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا
وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أراد: عدة الأمر فأسقط الهاء منها لما أضافها.
" * (وإيتاء الزكاوة) *) المفروضة عن الحسن.
وقال ابن عباس: الزكاة إخلاص الطاعة لله سبحانه وتعالى. قال ابن حيان: هم أهل الصفة.
وأخبرني ابن فنجويه قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال: أخبرني عمرو بن دينار مولى لآل الزبير عن سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد فقال ابن عمر: فيهم نزلت " * (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) *).
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري قال: حدثنا أبو سعيد أحمد بن عمر بن حبيش الرازي قال: حدثنا علي بن طيفور النسائي قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي حجير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للمساجد أوتادا الملائكة جلساؤهم يتفقدونهم، وإن مرضوا عادوهم وإن كانوا في حاجة أعانوهم)
109

وقال: جليس المسجد على ثلاث خصال: أخ مستفاد، أو كلمة محكمة، أو رحمة منتظرة.
" * (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب) *) من هوله بين طمع في النجاة وحذر من الهلاك.
" * (والأبصار) *) أي ناحية يؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشمال؟ ومن أين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟ وذلك يوم القيامة.
" * (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا) *) يعني أنهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " * (ليجزيهم الله أحسن) *) أي بأحسن " * (ما عملوا) *).
" * (ويزيدهم من فضله) *) ما لم يستحقوه بأعمالهم " * (والله يرزق من يشاء بغير حساب) *))
.
* (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذآ أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور * ألم تر أن الله يسبح له من فى السماوات والارض والطير صآفات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون * ولله ملك السماوات والارض وإلى الله المصير * ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السمآء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشآء ويصرفه عن من يشآء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار * يقلب الله اليل والنهار إن فى ذالك لعبرة لأولى الابصار) *) 2
ثم ضرب لأعمال الكافرين مثلا فقال عز من قائل " * (والذين كفروا أعمالهم كسراب) *) وهو الشعاع الذي تراه نصف النهار في البراري عند شدة الحر كأنه ماء فإذا قرب منه الإنسان انفش فلم ير شيئا، وسمي سرابا لأنه ينسرب أي يجري كالماء.
" * (بقيعة) *) وهو جمع القاع مثل جار وجيرة، والقاع: المنبسط الواسع من الأرض وفيه يكون السراب.
" * (يحسبه الظمآن) *) يظنه العطشان " * (ماء حتى إذا جاءه) *) يعني ما قدر أنه ماء فلم يجده على ما قدر، وقيل: معناه جاء موضع السراب فاكتفى بذكر السراب عن موضعه، كذلك الكافر يحسب أن عمله مغنى عنه أو نافعه شيئا فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى عنه شيئا ولا نفعه " * (ووجد الله عنده) *) أي وجد الله بالمرصاد عند ذلك " * (فوفاه حسابه) *) جزاء عمله، " * (والله سريع الحساب أو كظلمات) *).
وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لأعمال الكفار أيضا يقول: مثل أعمالهم في خطائها
110

وفسادها، وضلالتهم وجهالتهم وحيرتهم فيها كظلمات " * (في بحر لجي) *) وهو العميق الكثير الماء وذلك أشد ظلمة، ولجة البحر: معظمه " * (يغشاه) *) يعلوه " * (موج من فوقه موج) *) متراكم " * (من فوقه سحاب) *) قرأ ابن كثير برواية النبال والفلنجي سحاب بالرفع والتنوين، ظلمات بالجر على البدل من قوله أو كظلمات. روى البزي عنه، سحاب، ظلمات بالإضافة وقرأ الآخرون: سحاب، ظلمات كلاهما بالرفع والتنوين، وتمام الكلام عند قوله " * (سحاب) *).
ثم ابتدأ فقال " * (ظلمات بعضها فوق بعض) *) ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر.
قال المفسرون: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجي قلبه، وبالموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرين والختم والطبع على قلبه.
قال أبي بن كعب في هذه الآية: الكافر ينقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة ومدخله، ظلمة ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار.
" * (إذا أخرج) *) يعني الناظر " * (يده لم يكد يراها) *) أي لم يقرب من أن يراها من شدة الظلمات.
وقال الفراء: كاد صلة أي لم يرها كما تقول: ما كدت أعرفه، وقال المبرد: يعني لم يرها إلا بعد الجهد كما يقول القائل: ما كدت أراك من الظلمة وقد رآه ولكن بعد يأس وشدة، وقيل: معناه قرب من الرؤية ولم ير، كما يقال: كاد العروس يكون أميرا، وكاد النعام يطير.
" * (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) *) يعني من لم يهده الله فلا إيمان له.
قال مقاتل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان يلتمس الدين في الجاهلية ولبس المسوح ثم كفر في الإسلام.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن إبراهيم العدل قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن منصور الواعظ قال: حدثنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد قال: حدثنا محمد ابن يونس الكديمي قال: حدثنا عبيد الله بن عائشة قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن الله تعالى خلقني من نوره، وخلق أبا بكر من نوري، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر، وخلق المؤمنين من أمتي من الرجال من نور عمر، وخلق المؤمنات من أمتي من النساء من نور عائشة، فمن لم يحبني ويحب أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور، فنزلت عليه " * (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) *)).
" * (ألم تر أن الله يسبح له ما في السماوات والأرض والطير صافات) *) أجنحتهن في الهواء
111

" * (كل قد علم صلاته وتسبيحه) *) قال المفسرون: الصلاة لبني آدم، والتسبيح عام لغيرهم من الخلق وفيه وجوه من التأويل:
أحدها: كل مصل ومسبح قد علم الله صلاته وتسبيحه.
والثاني: كل مسبح ومصل منهم قد علم صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلفه الله، وقد علم كل منهم صلاة الله من تسبيحه. " * (والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض) *) أي تقديرها وتدبير أمورها وتصريف أحوالها كما يشاء " * (وإلى الله المصير ألم تر أن الله يزجي) *) يسوق " * (سحابا) *) إلى حيث يريد " * (ثم يؤلف بينه) *) أي يجمع بين قطع السحاب المتفرقة بعضها إلى بعض، والسحاب جمع، وإنما ذكر الكناية على اللفظ " * (ثم يجعله ركاما) *) متراكما بعضه فوق بعض " * (فترى الودق يخرج من خلاله) *) وسطه وهو جمع خلل، وقرأ ابن عباس والضحاك من خلله.
" * (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) *) أي البرد، ومن صلة، وقيل: معناه وينزل من السماء قدر جبال أو مثال جبال من برد إلى الأرض، فمن الأولى للغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية: للتبعيض لأن البرد بعض الجبال التي في السماء، والثالثة: لتبيين الجنس لأن جنس تلك الجبال جنس البرد " * (فيصيب به) *) أي بالبرد " * (من يشاء) *) فيهلكه ويهلك زروعه وأمواله، " * (ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه) *) أي ضوء برق السحاب " * (يذهب بالأبصار) *) من شدة ضوئه وبريقه، وقرأ أبو جعفر: يذهب بضم الياء وكسر الهاء، غيره: من الذهاب.
" * (يقلب الله الليل والنهار) *) يصرفهما في اختلافهما ويعاقبهما " * (إن في ذلك) *) الذي ذكرت من هذه الأشياء " * (لعبرة لأولي الأبصار) *) لذوي العقول.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم بسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار).
(* (والله خلق كل دآبة من مآء فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع يخلق الله ما يشآء إن الله على كل شىء قدير * لقد أنزلنآ ءايات مبينات والله يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم * ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذالك ومآ أولائك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم
112

الحق يأتوا إليه مذعنين * أفى قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولائك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولائك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولائك هم الفآئزون * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون * قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين * وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ومن كفر بعد ذالك فأولائك هم الفاسقون) *) 2
" * (والله خلق كل دابة) *) خالق على الاسم كوفي غير عاصم، الباقون: خلق كل دابة على الفعل " * (من ماء) *) أي من نطفة، وقيل: إنما قال " * (من ماء) *) لأن أصل الخلق من الماء، ثم قلب بعض الماء إلى الريح فخلق منها الملائكة، وبعضه إلى النار فخلق منه الجن، وبعضه إلى الطين فخلق منه آدم.
" * (فمنهم من يمشي على بطنه) *) كالحيات والحيتان " * (ومنهم من يمشي على رجلين) *) كالطير " * (ومنهم من يمشي على أربع) *) قوائم كالأنعام والوحوش والسباع ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع في رأي العين.
" * (يخلق الله ما يشاء) *) كما يشاء " * (إن الله على كل شيء قدير لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا) *) يعني المنافقين " * (ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك) *) ويدعو إلى غير حكم الله.
قال الله سبحانه وتعالى " * (وما أولئك بالمؤمنين) *) نزلت هذه الآيات في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجره إلى كعب بن الأشرف ويقول: إن محمدا يحيف علينا، فذلك قوله " * (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) *) الرسول بحكم الله " * (إذا فريق منهم معرضون وان يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) *) مطيعين منقادين لحكمه " * (أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا) *) يعني أنهم كذلك فجاء بلفظ التوبيخ ليكون أبلغ في الذم، كقول جرير في المدح:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
يعني أنتم كذلك.
" * (أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله) *) أي يظلم " * (بل اولئك هم الظالمون) *) لأنفسهم بإعراضهم عن الحق والواضعون المحاكمة في غير موضعها.
113

" * (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله) *) أي إلى كتاب الله " * (ورسوله ليحكم بينهم) *) نصب القول على خبر كان واسمه في قوله " * (ان يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن) *) وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أينما كنت نكن معك، إن أقمت أقمنا وإن خرجت خرجنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فقال الله سبحانه " * (قل لهم لا تقسموا طاعة معروفة) *) أي هذه طاعة بالقول واللسان دون الاعتقاد فهي معروفة منكم بالكذب أنكم تكذبون فيها، وهذا معنى قول مجاهد، وقيل: معناه طاعة معروفة أمثل وأفضل من هذا القسم الذي تحنثون فيه.
" * (إن الله خبير بما تعملون) *) من طاعتكم ومخالفتكم.
" * (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا) *) عن طاعة الله ورسوله والاذعان بحكمهما " * (فإنما عليه) *) أي على الرسول " * (ما حمل) *) كلف وأمر به من تبليغ الرسالة " * (وعليكم ما حملتم) *) من طاعته ومتابعته " * (وإن تطيعوه تهتدوا) *).
سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن عقيل الوراق في آخرين قالوا: سمعنا أبا عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي يقول: سمعت أبا عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري يقول: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لقول الله سبحانه * (وإن تطيعوه تهتدوا) * * (وما على الرسول إلا البلاغ المبين وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) *) إنما أدخل اللام بجواب اليمين المضمر لأن الوعد قول، مجازها وقال الله سبحانه " * (الذين امنوا وعملوا الصالحات) *) والله ليستخلفنهم في الأرض أي ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وسائسيها وسكانها.
" * (كما استخلف الذين من قبلهم) *) يعني بني إسرائيل إذ أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم، وقرأه العامة: كما استخلف بفتح التاء واللام لقوله سبحانه " * (وعد الله) *) وقوله " * (ليستخلفنهم) *).
وروى أبو بكر عن عاصم بضم التاء وكسر اللام على مذهب ما لم يسم فاعله.
" * (وليمكنن) *) وليوطنن " * (لهم دينهم) *) ملتهم التي ارتضاها لهم وأمرهم بها " * (وليبدلنهم) *) قرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب بالتخفيف وهو اختيار أبي حاتم، غيرهم: بالتشديد وهما لغتان. وقال بعض الأئمة: التبديل: تغيير حال إلى حال، والإبدال: رفع شيء وجعل غيره مكانه " * (من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر) *) بهذه النعمة " * (بعد ذلك وآثر) *) يعني الكفر بالله " * (فأولئك هم الفاسقون) *).
114

روى الربيع عن أبي العالية في هذه الآية قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرا وعلانية ثم أمر بالهجرة إلى المدينة، فمكث بها هو وأصحابه خائفين يصبحون في السلاح ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديده). وأنزل الله سبحانه هذه الآية فأنجز الله وعده وأظهره على جزيرة العرب، فآمنوا ثم تجبروا وكفروا بهذه النعمة وقتلوا عثمان بن عفان، فغير الله سبحانه ما بهم وأدخل الخوف الذي كان رفعه عنهم.
وقال مقاتل: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية حزن أصحابه فأطعمهم الله نخل خيبر، ووعدهم أن يدخلوا العام المقبل مكة آمنين، وأنزل هذه الآية.
قلت: وفيها دلالة واضحة على صحة خلافة أبي بكر الصديق ح وإمامة الخلفاء الراشدين ج.
روى سعيد بن جهمان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الخلافة من بعدي ثلاثون ثم يكون ملكا).
قال سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وعمر عشرا، وعثمان ثنتي عشرة، وعلي ستة.
وأخبرنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال: أخبرنا شافع بن محمد قال: حدثنا ابن الوشاء قال: حدثنا ابن إسماعيل البغدادي قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا هشيم بن بشير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الخلافة بعدي في أمتي في أربع: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي).
2 (* (وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون * لا تحسبن الذين كفروا معجزين فى الارض ومأواهم النار ولبئس المصير * ياأيها الذين ءامنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلواة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلواة العشآء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الايات والله عليم حكيم * وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذالك يبين الله لكم ءاياته والله عليم حكيم * والقواعد من النسآء اللاتى لا
115

يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم * ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت ءابآئكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الايات لعلكم تعقلون * إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه إن الذين يستئذنونك أولائك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استئذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم * لا تجعلوا دعآء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم * ألاإن لله ما فى السماوات والارض قد يعلم مآ أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شىء عليم) *) 2
" * (وأقيموا الصلواة وآتوا الزكاوة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن) *) يا محمد " * (الذين كفروا) *) هذه قراءة العامة وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على معنى: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم " * (معجزين) *) لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين وقال الفراء: يجوز أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا يحسبن محمد الكافرين معجزين " * (في الأرض ومأوايهم النار ولبئس المصير يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم) *).
قال ابن عباس وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته، فقال: يا رسول الله وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستيذان فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد، كان لها غلام كبير فدخل عليها في وقت كرهته فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فأنزل الله سبحانه " * (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم) *) اللام لام الأمر " * (الذين ملكت أيمانكم) *) يعني العبيد والإماء " * (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) *) من الأحرار " * (ثلاث مرات) *) في ثلاثة أوقات " * (من قبل صلوات الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة) *) للقائلة " * (ومن بعد صلوات العشاء) *).
روى عبد الرحمن بن عوف ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلواتكم فإن الله سبحانه قال " * (ومن بعد صلوات العشاء) *) وإنما العتمة عتمة الإبل، وإنما خص هذه الأوقات لأنها ساعات الغفلة والخلوة ووضع الثياب والكسوة، فذلك قوله سبحانه " * (ثلاث عورات لكم) *))
116

قرأ أهل الكوفة ثلاث بالنصب ردا على قوله " * (ثلاث مرات) *) ورفعه الآخرون على معنى هذه ثلاث عورات " * (ليس عليكم ولا عليهم) *) يعني العبيد والخدم والأطفال " * (جناح) *) على الدخول بغير إذن " * (بعدهن) *) أي بعد هذه الأوقات الثلاثة " * (طوافون) *) أي هم طوافون " * (عليكم) *) يدخلون ويخرجون ويذهبون ويجيؤون ويترددون في أحوالهم وأشغالهم بغير إذن " * (بعضكم) *) يطوف " * (على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم) *) واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هو منسوخ لا يعمل به اليوم.
أخبرنا أبو محمد الرومي قال: أخبرنا أبو العباس السراج قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا عبد العزيز عن عمرو عن عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا لابن عباس: كيف ترى في هذه الآية؟ أمرنا فيها بما أمرنا فلا يعمل بها أحد، قول الله عز وجل " * (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) *) الآية، فقال ابن عباس: إن الله رفيق حليم رؤوف رحيم، يحب الستر، وكان الناس ليست لبيوتهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم والولد والرجل على أهله، فأمرهم الله سبحانه وتعالى بالاستيذان في تلك العورات فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحدا يعمل بذلك. وقال آخرون: هي محكمة والعمل بها واجب.
روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت الشعبي عن هذه الآية " * (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) *) قلت: أمنسوخة هي؟ قال: لا والله ما نسخت، قلت: إن الناس لا يعملون بها؟ قال: الله المستعان.
وروى أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: إن ناسا تقول: نسخت، والله ما نسخت ولكنها مما يتهاون به الناس.
" * (وإذا بلغ الأطفال منكم) *) أي من أحراركم " * (الحلم فليستأذنوا) *) في جميع الأوقات في الدخول عليكم " * (كما استأذن الذين من قبلكم) *) يعني الأحرار الكبار.
" * (كذلك يبين الله آياته والله عليم حكيم والقواعد من النساء) *) يعني اللاتي قعدن عن الولد من الكبر فلا يحضن ولا يلدن، واحدتها قاعدة.
" * (التي لا يرجون نكاحا) *) لا يطمعن في التزوج وأيسن من البعولة.
" * (فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن) *) عند الرجال يعني جلابيبهن والقناع الذي فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، يدل على هذا التأويل قراءة أبى بن كعب: أن يضعن من ثيابهن " * (غير متبرجات بزينة) *) يعني من غير أن يردن بوضع الجلباب والثياب أن ترى زينتهن
117

والتبرج هو أن تظهر المرأة محاسنها مما ينبغي لها أن تستره.
" * (وأن يستعففن) *) فيلبيسن جلابيبهن " * (خير لهن والله سميع عليم ليس على الأعمى حرج) *) اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها فقال ابن عباس: لما أنزل الله سبحانه وتعالى قوله " * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) *) تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله سبحانه عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لا يستوفي الطعام، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في، يعني ليس عليكم في مواكله الأعمى والأعرج والمريض حرج.
وقال سعيد بن جبير والضحاك ومقسم: كان العرجان والعميان يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء لان الناس يتقززون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقززا فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية ترخيصا للمرضى والزمنى في الأكل من بيوت من سمى الله سبحانه في هذه الآية وذلك أن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أي بعض من سمى الله في هذه الآية، فكان أهل الزمانة: يتحرجون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير مالكيه ويقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وروى عبد الرزاق عن معمر قال: سألت الزهري عن هذه الآية فقال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون: قد أحللناكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم غيب فأنزلت هذه رخصة لهم.
وقال الحسن وابن زيد: يعني ليس على الأعمى حرج " * (ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) *) في التخلف عن الجهاد في سبيل الله، قالا: وههنا تمام الكلام.
وقوله " * (ولا على أنفسكم) *) الآية. كلام منقطع عما قبله.
قال ابن عباس: تحرج قوم عن الأكل من هذه البيوت لما نزل قوله سبحانه " * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) *) وقالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فأنزل الله سبحانه هذه الآية " * (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه) *))
.
118

قال ابن عباس: عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته.
وقال الضحاك: يعني من بيوت عبيدكم ومماليككم.
مجاهد وقتادة: من بيوت أنفسكم مما اخترتم وملكتم، وقرأ سعيد بن جبير: ملكتم بالتشديد.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحرث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا وخلف ملك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرج من طعامه من غير استيذان بهذه الآية.
" * (أو صديقكم ليس عليكم جناح ان تأكلوا جميعا أو أشتاتا) *).
قال قوم: نزلت في حي من كنانة يقال لهم بنو ليث بن عمرو، كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى المساء الرواح والشول جفل والأحوال منتظمة تحرجا من أن يأكل وحده، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل فأنزل الله سبحانه هذه الآية وهذا قول قتادة والضحاك وابن جريج، ورواية الوالبي عن ابن عباس.
وروى عطاء الخراساني عنه قال: كان الغنى يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول: والله إنى لأحتج أن آكل معك أي أتحرج وأنا غنى وأنت فقير، فنزلت هذه الآية.
وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم فرخص لهم في أن يأكلوا حيث شاؤوا جميعا مجتمعين، أو أشتاتا متفرقين.
" * (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) *) أي ليسلم بعضكم على بعض كقوله سبحانه " * (ولا تقتلوا أنفسكم) *).
عن الحسن وابن زيد حدثنا ابن حبيب لفظا في شهور سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة قال: حدثنا أبو حاتم محمد بن حيان البستي قال: حدثنا محمد بن صالح الطبري قال: حدثنا الفضل بن سهل الأعرج قال: حدثنا محمد بن جعفر المدائني قال: حدثنا ورقاء عن الأعمش
119

عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مر بالقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة بذكره إياهم بالسلام، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب).
وحدثنا أبو القاسم قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن العباس البغوي قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن محمد بن عبد الوهاب البغوي قال: حدثنا يونس بن عبد
الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني ابن سمعان أن سعيد المقبري أخبره عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا وقف أحدكم على المجلس فليسلم، فإن بدا له أن يقعد فليقعد، وإذا قام فليسلم، فإن الأولى ليست بأحق من الآخرة).
وقال بعضهم: معناه: فإذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلموا على أهلكم وعيالكم، وهو قول جابر بن عبد الله وطاووس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار، ورواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، قال: فإن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من ربنا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله.
حدثنا ابن حبيب لفظا قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن كعب العدل إملاء قال: حدثنا أبو نصر اليسع بن زيد بن سهل الرسي بمكة سنة اثنتين وثمانين ومائتين قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء كسرته: لم كسرته؟ وكنت واقفا على رأسه أصب على يديه الماء فرفع رأسه فقال (ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله بلى، قال: من لقيت من أمتي فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار).
وقال بعضهم: يعني فإذا دخلتم المساجد فسلموا على من فيها.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مهل الصنعاني قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله " * (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) *) الآية. قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
" * (تحية من عند الله) *) نصب على المصدر أي تحيون أنفسكم بها تحية، وقيل: على الحال
120

بمعنى تفعلونه تحية من عند الله " * (مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه) *) أي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (على أمر جامع) *) يجمعهم من حرب أو صلاة في جمعة أوجماعة أو تشاور في أمر نزل " * (لم يذهبوا) *) لم يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر " * (حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك) *) يا محمد " * (أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) *).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثنا إسحاق بن محمد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدثنا علي عن أبي حمزة الثمالي في هذه الآية قال: هو يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يقضي الحاجة، والرجل به العلة لم يخرج من المسجد حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يراه، فيعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم.
" * (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم) *) أمرهم " * (فأذن لمن شئت منهم) *) في الانصراف " * (واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) *).
قال ابن عباس: يقول: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره.
وقال مجاهد وقتادة: لا تدعوه كما يدعو بعضكم بعضا: يا محمد، ولكن فخموه وشرفوه وقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، في لين وتواضع.
" * (قد يعلم الله الذين يتسللون) *) أي يخرجون، ومنه: تسلل القطا " * (منكم) *) أيها المنصرفون عن نبيكم بغير إذنه " * (لواذا) *) أي يستتر بعضكم ببعض ويروغ في خفة فيذهب، واللواذ مصدر لاوذ بفلان يلاوذ ملاوذة ولواذا، ولو كان مصدرا للذت لقال: لياذا مثل القيام والصيام.
وقيل: إن هذا في حفر الخندق، كان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لواذا مختفين.
" * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) *) أي أمره وعن صلة، وقيل: معناه يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه " * (أن تصيبهم فتنة) *) أي قتل عن ابن عباس، عطاء: الزلازل والأهوال، جعفر بن محمد: سلطان جائر يسلط عليهم، الحسن: بلية تظهر ما في قلوبهم من النفاق " * (أو يصيبهم عذاب أليم) *) وجيع عاجل في الدنيا. " * (ألا إن لله ما في السماوات والأرض) *) عبيدا وملكا وملكا وخلقا ودلالة على وجوده وتوحيده وكمال قدرته وحكمته.
" * (قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم) *).
121

((سورة الفرقان))
مكية، وهي ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا، وثمانمائة واثنتان وتسعون كلمة، وسبع وسبعون آية
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرة قال: حدثنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي والحافظ أبو الشيخ عبد الله بن محمد الاصفهاني قالا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا سلام بن سليم قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الفرقان بعث يوم القيامة وهو يؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، ودخل الجنة بغير حساب).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذى له ملك السماوات والارض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك وخلق كل شىء فقدره تقديرا * واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيواة ولا نشورا * وقال الذين كفروا إن هاذا إلا
إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون فقد جآءوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذى يعلم السر فى السماوات والارض إنه كان غفورا رحيما * وقالوا ما لهاذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الاسواق لولاأنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * تبارك الذىإن شآء جعل لك خيرا من ذالك جنات تجرى من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا) *) 2
" * (تبارك) *) تفاعل، من البركة، عن ابن عباس، كأن معناه: جاء بكل بركة، دليله قول
122

الحسن: تجيء البركة من قبله، الضحاك: تعظم، الخليل: تمجد، وأصل البركة النماء والزيادة.
وقال المحققون: معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال، وأصل البركة الثبوت يقال: برك الطير على الماء وبرك البعير، ويقال: تبارك الله ولا يقال لله متبارك أو مبارك لأنه ينتهى في صفاته وأسمائه إلى حيث ورد التوقيف.
" * (الذي نزل الفرقان) *) القرآن " * (على عبده) *) محمد صلى الله عليه وسلم " * (ليكون للعالمين) *) الجن والإنس " * (نذيرا) *).
قال بعضهم: النذير هو القرآن، وقيل: هو محمد.
" * (الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء) *) مما يطلق له صفة المخلوق " * (فقدره تقديرا) *) فسواه وهيأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت.
" * (واتخذوا) *) يعني عبدة الأوثان " * (من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياوة ولا نشورا وقال الذين كفروا) *) يعني النضر بن الحرث وأصحابه " * (إن هذا) *) ما هذا القرآن " * (إلا إفك افترايه) *) اختلقه محمد " * (وأعانه عليه قوم آخرون) *) يعني اليهود عن مجاهد، وقال الحسن بن عبيد بن الحضر: الحبشي الكاهن، وقيل: جبر ويسار وعداس مولى حويطب بن عبد العزى، قال الله سبحانه وتعالى " * (فقد جاؤوا) *) يعني ما يلي هذه المقالة " * (ظلما وزورا) *) بنسبتهم كلام الله سبحانه إلى الإفك والافتراء " * (وقالوا) *) أيضا " * (أساطير الأولين أكتتبها فهي تملى عليه) *) تقرأ عليه " * (بكرة وأصيلا) *).
ثم قال سبحانه وتعالى ردا عليهم وتكذيبا لهم " * (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما وقالوا ما لهذا الرسول) *) يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم " * (يأكل الطعام) *) كما نأكل " * (ويمشي في الأسواق) *) يلتمس المعاش " * (لولا أنزل إليه ملك) *) يصدقه " * (فيكون معه نذيرا) *) داعيا " * (أو يلقى إليه كنز) *) ينفقه فلا يحتاج إلى التصرف في طلب المعاش. " * (أو تكون له جنة) *) بستان " * (يأكل منها) *) هو، هذه قراءة العامة، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالنون أي نأكل نحن.
" * (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) *) نزلت هذه الآية في قصة ابن أبي أمية وقد مر ذكرها في بني إسرائيل.
" * (انظر) *) يا محمد " * (كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) *) إلى الهدى
123

ومخرجا من الضلالة فأخبر الله أنهم متمسكون بالجهل والضلال عادلون عن الرشد والصواب وهم مع ذلك كانوا مكلفين بقبول الحق فثبت أن الاستطاعة التي بها الضلال غير الاستطاعة التي يحصل بها الهدى والإيمان.
" * (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) *) أي مما قالوا، عن مجاهد، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: يعني خيرا من المشي في الأسواق والتماس المعاش، ثم بين ذلك الخير ما هو فقال سبحانه وتعالى " * (جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا) *) أي بيوتا مشيدة، وسمي قصرا لأنه قصر أي حبس ومنع من الوصول إليه. واختلف القراء في قوله " * (ويجعل) *) فرفع لامه ابن كثير وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر والمفضل، وجزمه الآخرون على محل الجزاء في: قوله إن شاء جعل.
(أخبرنا) أبو عمرو أحمد بن أبي أحمد بن حمدون النيسابوري قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن يعقوب البخاري قال: حدثنا محمد بن حميد بن فروة البخاري قال: حدثنا أبو حذيفة إسحاق بن بشر البخاري قال: حدثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة فقالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ونزل عليه جبرئيل من عند ربه معزيا له فقال: السلام عليك يا رسول الله، رب العزة يقرئك السلام ويقول لك: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) ويتبعون المعاش في الدنيا.
قال: فبينا جبرئيل (عليه السلام) والنبي صلى الله عليه وسلم يتحدثان إذ ذاب جبرئيل حتى صار مثل الهردة، قيل: يا رسول الله وما الهردة؟ قال: (العدسة) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا جبرئيل مالك ذبت حتى صرت مثل الهردة؟ قال: يا محمد فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك، فتحول الملك وأنه إذا فتح باب من السماء لم يكن فتح قبل ذلك فتحول الملك، إما ان يكون رحمة أو عذابا وإني أخاف أن يعذب قومك عند تعييرهم إياك بالفاقة، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم وجبرئيل (عليه السلام) يبكيان إذ عاد جبرئيل فقال: يا محمد أبشر، هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربك، فأقبل رضوان حتى سلم، ثم قال: يا محمد، رب العزة يقرئك السلام ومعه سفط من نور يتلألأ ويقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عندي في الآخرة مثل جناح بعوضة، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبرئيل (عليه السلام) كالمستشير له فضرب جبرئيل بيده الأرض وقال: تواضع لله. فقال: (يا رضوان لا حاجة لي فيها، الفقر أحب الي،
وأن أكون عبدا صابرا شكورا) فقال رضوان: أصبت أصاب الله بك.
وجاء نداء من السماء فرفع جبرئيل رأسه فإذا السماوات قد فتحت أبوابها إلى العرش
124

وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى جنة عدن أن تدلي غصنا من أغصانها عليه عذق عليه غرفة من زبرجدة خضراء لها سبعون ألف من ياقوتة حمراء، فقال جبرئيل: يا محمد ارفع بصرك فرفع فرأى منازل الأنبياء وغرفهم وإذا منازله فوق منازل الأنبياء فضلا له خاصة ومناد ينادي: أرضيت يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (رضيت، فاجعل ما أردت أن تعطيني في الدنيا ذخيرة عندك في الشفاعة يوم القيامة).
ويروون أن هذه الآية أنزلها رضوان (تبارك الذي ان شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا).
2 (* (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا * وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا * قل أذالك خير أم جنة الخلد التى وعد المتقون كانت لهم جزآء ومصيرا * لهم فيها ما يشآءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا * ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أءنتم أضللتم عبادى هاؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغى لنآ أن نتخذ من دونك من أوليآء ولاكن متعتهم وءابآءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا * فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا * ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الاسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) *) 2
" * (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا) *) أي غليانا وفورانا كالغضبان إذا غلا صدره من الغضب " * (وزفيرا) *) ومعنى قوله: سمعوا لها تغيظا أي صوت التغيظ من التلهب و التوقد، وقال قطرب: التغيظ لا يسمع وإنما المعنى: رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا. قال الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى
متقلدا سيفا ورمحا
أي حاملا رمحا.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدثنا أبو بكر بن خرجة قال: حدثنا أبو جعفر بن أبي شيبة قال: حدثني عمي أبو بكر قال: حدثنا محمد بن يزيد عن الأصبغ بن زيد الوراق عن خالد بن كثير عن خالد بن دريك عن رجل من أصحاب رسول الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
125

(من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا فقال: يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: نعم ألم تسمع إلى قول الله سبحانه * (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) * * (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا) *) قال ابن عباس: يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: قرئ على يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني نافع عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن قول الله سبحانه * (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا) * * (مقرنين) *) قال: (والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط، مقرنين مصفدين، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال). ومنه قيل للحبل قرن، وقيل: مع الشياطين في السلاسل والأغلال.
" * (دعوا هنالك ثبورا) *) ويلا عن ابن عباس، هلاكا عن الضحاك.
روى حماد عن علي بن زيد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من خلفه وهو يقول: يا ثبوره وهم ينادون ياثبورهم حتى يصفوا على النار فيقال لهم " * (لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا قل ذلك) *) الذي ذكرت من صفة النار وأهلها " * (خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها مايشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا) *) وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم ذلك في الدنيا حين قالوا " * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) *) فقال الله سبحانه كان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد وعدا وعدهم على طاعته إياه في الدنيا ومسألتهم إياه ذلك.
وقال بعض أهل العربية: يعني وعدا واجبا وذلك أن المسؤول واجب وإن لم يسئل كالذين قال: ونظير ذلك قول: العرب لأعطينك ألفا وعدا مسؤولا بمعنى أنه واجب لك فتسأله.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أبو علي بن حنش المقري قال: حدثنا أبو القاسم بن الفضل المقري قال: حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا جعفر بن مسافر قال: حدثنا يحيى بن حسان قال: حدثنا رشد بن عمرو بن الحرث، عن محمد بن كعب القرظي في قوله سبحانه وتعالى " * (كان على ربك وعدا مسؤولا) *))
.
126

قال: الملائكة تسأل لهم ذلك قولهم * (وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم) * * (ويوم نحشرهم) *) بالياء أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وأيوب وأبو عبيد وأبو حاتم وحفص، والباقون بالنون " * (وما يعبدون من دون الله) *) من الملائكة والإنس والجن عن مجاهد، وقال عكرمة والضحاك: يعني الأصنام. " * (فيقول) *) بالنون ابن عامر، غيره: بالياء، لهؤلاء المعبودين من دون الله " * (ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من
أولياء) *) أي ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك بل أنت ولينا من دونهم، وقرأ الحسن وأبو جعفر: أن نتخذ بضم النون وفتح الخاء.
قال أبو عبيد: هذا لا يجوز لأن الله سبحانه ذكر (من) مرتين، ولو كان كما قالوا لقال: أن نتخذ من دونك أولياء. وقال غيره: (من) الثاني صلة.
" * (ولكن متعتهم وآباءهم) *) في الدنيا بالصحة والنعمة " * (حتى نسوا الذكر) *) أي تركوا القرآن فلم يعملوا بما فيه، وقيل: الرسول، وقيل: الإسلام، وقيل: التوحيد، وقيل: ذكر الله سبحانه وتعالى.
" * (وكانوا قوما بورا) *) أي هلكى قد غلب عليهم الشقاية والخذلان، وقال الحسن وابن زيد: البور: الذي ليس فيه من الخير شيء، قال أبو عبيد: وأصله من البوار وهو الكساد والفساد ومنه بوار الأيم وبوار السلعة، وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمؤنث والمذكر. قال ابن الزبعرى:
يا رسول المليك إن لساني
راتق ما فتقت إذ أنا بور
وقيل: هو جمع البائر، ويقال: أصبحت منازلهم بورا أي خالية لا شيء فيها، فيقول الله سبحانه لهم عند تبري المعبودين منهم " * (فقد كذبوكم بما تقولون) *) أنهم كانوا آلهة " * (فما تستطيعون) *) قرأه العامة بالياء يعني الآلهة، وقرأ حفص بالتاء يعني العابدين " * (صرفا ولا نصرا) *) أي صرف العذاب عنهم ولا نصر أنفسهم.
وقال يونس: الصرف: الحيلة ومنه قول العرب: إنه ليتصرف أي يحتال.
وقال الأصمعي: الصرف: التوبة والعدل: الفدية.
" * (ومن يظلم) *) أي يشرك " * (منكم نذقه عذابا كبيرا وما أرسلنا قبلك) *) يا محمد " * (من المرسلين إلا أنهم) *) قال أهل المعاني: إلا قيل أنهم " * (ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) *))
127

دليله قوله سبحانه " * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) *) وقيل: معناه إلا من أنهم، وهذا جواب لقول المشركين " * (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) *).
" * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) *) فالمريض فتنة للصحيح، والمبتلى فتنة للمعافى، والفقير فتنة للغني، فيقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان، ويقول الفقير: لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان، وقال ابن عباس: إني جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكن قدرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم.
أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن يوسف ببخارى قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن جمعان قال: حدثنا محمد بن موسى قال: حدثنا القاسم بن يحيى عن الحسن بن دينار عن الحسن عن أبي الدرداء أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للعالم من الجاهل، ويل للجاهل من العالم، وويل للمالك من المملوك، وويل للمملوك من المالك، وويل للشديد من الضعيف، وويل للضعيف من الشديد، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان، بعضهم لبعض فتنة فهو قوله سبحانه " * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) *)).
" * (أتصبرون وكان ربك بصيرا) *) قال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل والنضر بن الحرث وذلك أنهم لما رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة ومهجع مولى عمر وجبر غلام ابن الحضرمي ودونهم قالوا: أنسلم فنكون مثل هؤلاء فانزل الله سبحانه يخاطب هؤلاء المؤمنين " * (أتصبرون) *) يعني على هذه الحال من الشدة والفقر، وكان ربك بصيرا بمن يصبر ويجزع، وبمن يؤمن وبمن لا يؤمن.
2 (* (وقال الذين لا يرجون لقآءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا فىأنفسهم وعتوا عتوا كبيرا * يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا * وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا * أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا * ويوم تشقق السمآء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا * الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا * ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا * ياويلتا ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جآءنى وكان الشيطان للإنسان خذولا * وقال الرسول يارب إن قومى اتخذوا هاذا القرءان مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا * وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا * ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا * الذين يحشرون
128

على وجوههم إلى جهنم أولائك شر مكانا وأضل سبيلا) *) 2
" * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة) *) فتخبرنا أن محمدا صادق محق " * (أو نرى ربنا) *) فيخبرنا بذلك نظيرها قوله سبحانه " * (وقالوا لن نؤمن لك إلى قوله والملائكة قبيلا) *).
قال الله تعالى " * (لقد استكبروا في أنفسهم) *) بهذه المقالة " * (وعتوا عتوا كبيرا) *) قال مقاتل: غلوا في القول، والعتو: أشد الكفر وأفحش الظلم.
" * (يوم يرون الملائكة) *) عند الموت وفي القيامة " * (لا بشرى يومئذ للمجرمين) *) للكافرين " * (ويقولون) *) يعني الملائكة للمجرمين " * (حجرا محجورا) *) أي حراما محرما عليكم البشرى بخير، وقيل: حرام عليكم الجنة، وقال بعضهم: هذا قول الكفار للملائكة، قال ابن جريج: كانت العرب إذا نزلت بهم
شديدة أو رأوا ما يكرهون قالوا: حجرا محجورا، فقالوا حين عاينوا الملائكة هذا، وقال مجاهد: يعني عوذا معاذا، يستعيذون من الملائكة.
" * (وقدمنا) *) وعمدنا " * (إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) *) باطلا لا ثواب له لأنهم لم يعملوه لله سبحانه وإنما عملوه للشيطان، واختلف المفسرون في الهباء فقال بعضهم: هو الذي يرى في الكوى من شعاع الشمس كالغبار ولا يمس بالأيدي ولا يرى في الظل، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد.
وقال قتادة وسعيد بن جبير: هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر، وهي رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، وقال ابن زيد: هو الغبار، والوالبي عن ابن عباس: هو الماء المهراق، مقاتل: ما يسطع من حوافر الدواب، والمنثور: المتفرق.
" * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) *) من هؤلاء المشركين المتكبرين المفتخرين بأموالهم " * (وأحسن مقيلا) *) موضع قائلة وهذا على التقدير، قال المفسرون: يعني أن أهل الجنة لا يمر بهم في الآخرة إلا قدر ميقات النهار من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة.
قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار وقرأ: ثم إن مقيلهم لالى الجحيم، هكذا كان يقرأها، وقال ابن عباس في هذه الآية: الحساب من ذلك اليوم في أوله، وقال القوم حين قالوا في منازلهم في الجنة.
وروى ابن وهب عن عمرو بن الحرث أن سعيدا الصواف أو الصراف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس، وقرأ هذه الآية.
" * (ويوم تشقق السماء بالغمام) *) قرأ أبو عمر وأهل الكوفة بتخفيف الشين على الحذف
129

والتخفيف ههنا وفي سورة ق، وقرأ الآخرون بالتشديد فيهما على معنى تنشق السماء بالغمام أي عن الغمام، والباء وعن يتعاقبان كما يقال: رميت عن القوس وبالقوس بمعنى واحد.
وقال المفسرون: وهو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم، وهو الذي قال الله سبحانه وتعالى * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) * * (ونزل الملائكة تنزيلا) *) هكذا قراءة العامة، وقرأ ابن كثير وننزل بنونين الملائكة نصب " * (الملك يومئذ الحق للرحمن) *) خالصا وبطلت ممالك غيره " * (وكان يوما على الكافرين عسيرا) *) صعبا شديدا نظيرها قوله سبحانه " * (فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير) *) والخطاب يدل على أنه على المؤمنين يسير.
وفي الحديث: إنه ليهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في دار الدنيا.
" * (ويوم يعض الظالم على يديه) *) الآية. نزلت في عقبة بن أبي معيط وأبي بن خلف وكانا متحابين وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما فدعا الناس ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه، فلما قرب الطعام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه وكان أبى بن خلف غائبا، فلما أخبر بالقصة قال: صبأت يا عقبة: قال: لا والله ما أصبأت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي ألا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم.
فقال أبى: ما أنا بالذي أرضى منك أبدا إلا أن تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ عنقه، ففعل ذلك عقبة وأخد رحم دابة فألقاها بين كتفيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف). فقتل عقبة يوم بدر صبرا، وأما أبى بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد في المنابزة، وأنزل الله فيهما هذه الآية.
وقال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد بزاقه في وجهه وانشعب شعبتين فأحرق خديه، فكان أثر ذلك فيه حتى الموت.
130

وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: كان أبي بن خلف يحضر النبي صلى الله عليه وسلم ويجالسه ويسمع إلى كلامه من غير أن يؤمن له فزجره عقبة بن أبي معيط عن ذلك، فنزلت هذه الآية، وقال الشعبي: كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأمية بن خلف فأسلم عقبة فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا، فكفر وارتد لرضا أمية فأنزل الله سبحانه " * (ويوم يعض الظالم على يديه) *) يعني الكافر عقبة بن أبي معيط لأجل طاعة خليله الذي صده عن سبيل ربه " * (يقول يا ليتني) *) وفتح تاءه أبو عمرو " * (اتخذت مع الرسول) *) محمد صلى الله عليه وسلم " * (سبيلا يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلانا خليلا) *) يعني أبي بن خلف الجمحي " * (لقد أضلني عن الذكر) *) يعني القرآن والرسول " * (بعد إذ جاءني وكان الشيطان) *) وهو كل متمرد عات من الجان، وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصيته فهو شيطان " * (للإنسان خذولا) *) عند نزول البلاء والعذاب به.
وحكم هذه الآيات عام في كل متحابين اجتمعا على معصية الله، لذلك قال بعض العلماء: أنشدنيه أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر قال: أنشدني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الصديق قال: أنشدنا أبو وائلة عبد الرحمن بن الحسين:
تجنب قرين السوء واصرم حباله
فإن لم تجد عنه محيصا فداره
وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه
تنل منه صفو الود ما لم تماره
وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا
إذا اشتعلت نيرانه في عذاره
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبو بكر محمد بن عبد الله الحامدي:
اصحب خيار الناس حيث لقيتهم
خير الصحابة من يكون عفيفا
والناس مثل دراهم ميزتها
فوجدت فيها فضة وزيوفا
وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر المفسر قال: حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن ابن محمد بن حسكا قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا عاصم عن أبي كبشة قال: سمعت أبا موسى يقول على المنبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الجليس الصالح مثل العطار إن لم ينلك يعبق بك من ريحه، ومثل الجليس السوء مثل القين إن لم يحرق ثيابك يعبق بك من ريحه.
وحدثنا أبو القاسم بن حبيب لفظا سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو حاتم محمد
131

ابن حيان بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن أبي علي الخلادي قال: حدثنا عبد الله بن الصقر السكري قال: حدثنا وهب بن محمد النباتي قال: سمعت الحرث بن وجيه يقول: سمعت مالك ابن دينار يقول: إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص مع الفجار.
" * (وقال الرسول) *) يعني ويقول الرسول في ذلك اليوم " * (يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) *) أي قالوا فيه غير الحق فزعموا أنه سحر وشعر وسمر من الهجر، وهو القول السيىء، عن النخعي ومجاهد.
وقال الآخرون: هو من الهجران أي أعرضوا عنه وتركوه فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه.
أخبرنا أبو الطيب الربيع بن محمد الحاتمي وأبو نصر محمد بن علي بن الفضل الخزاعي قالا: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال: حدثنا أبو القاسم الخضر بن أبان القرشي قال: حدثنا أبو هدية إبراهيم بن هدية قال: حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه).
" * (كذلك) *) أي وكما جعلنا لك يا محمد أعداء ومن مشركي قومك كذلك " * (جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) *) أي من مشركي قومه، فاصبر لأمري كما صبروا فإني هاد بك وناصرك على من ناواك.
" * (وكفى بربك هاديا ونصيرا) *) على الحال والتمييز " * (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه) *) على محمد " * (القرآن جملة واحدة) *) كما أنزلت التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى جملة واحدة قال الله سبحانه " * (كذلك) *) فعلنا " * (لنثبت به فؤادك) *) لنقوي بها قلبك فتعيه وتحفظه، فإن الكتب نزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، والقرآن أنزل على نبي أمي ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقناه ليكون أوعى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأيسر على العالم به.
" * (ورتلناه ترتيلا) *) قال ابن عباس: ورسلناه ترسيلا، وقال النخعي والحسن: فرقناه تفريقا آية بعد آية وشيئا بعد شيء، وكان بين أوله وآخره نحو ثلاث وعشرين سنة، وقال ابن زيد: وفسرناه تفسيرا، والترتيل: التبيين في ترسل وتثبت.
" * (ولا يأتونك) *) يا محمد يعني هؤلاء المشركين " * (بمثل) *) في إبطال أمرك " * (إلا جئناك بالحق) *) أي بما ترد به ما جاؤوا به من المثل وتبطله. " * (وأحسن تفسيرا) *) بيانا وتفصيلا، ثم وصف حال المشركين وبين حالهم يوم القيامة فقال " * (الذين) *) يعني هم الذين " * (يحشرون على وجوههم) *) فيساقون ويجرون " * (إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا) *))
.
132

أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن خرجة قال: حدثنا الحضرمي قال: حدثنا عثمان قال: حدثنا بشر بن المفضل عن علي بن يزيد عن أوس بن أوس عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب، وثلث على وجوههم، وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا).
2 (* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا * فقلنا اذهبآ إلى القوم الذين كذبوا بئاياتنا فدمرناهم تدميرا * وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس ءاية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما * وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذالك كثيرا * وكلا ضربنا له الامثال وكلا تبرنا تتبيرا * ولقد أتوا على القرية التىأمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا * وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا * أرءيت من اتخذ إلاهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا * ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شآء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا * وهو الذى جعل
لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا * وهو الذىأرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته وأنزلنا من السمآء مآء طهورا * لنحيى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنآ أنعاما وأناسى كثيرا * ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا * ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) *) 2
" * (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا) *) أي معينا وظهيرا " * (فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا) *) يعني القبط، وفي الآية متروك استغنى عنه بدلالة الكلام عليه تقديرها: فكذبوهما.
" * (فدمرناهم تدميرا) *) فأهلكناهم إهلاكا " * (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية) *) عبرة " * (وأعتدنا للظالمين) *) في الآخرة " * (عذابا أليما) *) سوى ما حل بهم من عاجل العذاب.
" * (وعادا وثمود وأصحاب الرس) *) اختلفوا فيهم، فقال ابن عباس: كانوا أصحاب آبار، وقال وهب بن منبه: كانوا أهل بئر قعودا عليها وأصحاب مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام فوجه الله إليهم شعيبا يدعوهم إلى الإسلام فأتاهم ودعاهم، فتمادوا في طغيانهم وفي أذى شعيب
133

فحذرهم الله عقابه، فبينا هم حول البئر في منازلهم انهارت البئر فانخسفت بهم وبديارهم ورباعهم فهلكوا جميعا.
قتادة: الرس: قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فأهلكهم الله، وقال بعضهم: هم بقية هود قوم صالح، وهم أصحاب البئر التي ذكرها الله سبحانه في قوله تعالى " * (وبئر معطلة وقصر مشيد) *).
قال سعيد بن جبير وابن الكلبي والخليل: كان لهم نبي يقال له حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبل يقال له فتح، مصعده في السماء ميل، وكانت العنقاء تنتابه وهي أعظم ما تكون من الطير وفيها من كل لون، وسموها العنقاء لطول عنقها، وكانت تكون في ذلك الجبل تنقض على الطير تأكلها، فجاعت ذات يوم فأعوزتها الطير فانقضت على صبي فذهبت، فسميت عنقاء مغرب لأنها تغرب بما تأخذه وتذهب به، ثم إنها انقضت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين، فطارت بها فشكو إلى نبيهم فقال: اللهم خذها واقطع نسلها، فأصابتها صاعقة فاحترقت فلم ير لها أثر، فضربتها العرب في أشعارهم، ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكهم الله.
وقال كعب ومقاتل والسدي: هم أصحاب يس، والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار، فنسبوا لها وهم الرس، ذكرهم الله سبحانه في سورة يس، وقيل: هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود الذي حفروه، وقال عكرمة: هم قوم رسوا نبيهم في بئر، دليله ما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة لعبد أسود وذلك أن الله سبحانه بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا ذلك الأسود، ثم إن أهل القرية عدوا على ذلك النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها، ثم أطبق عليه بحجر ضخم، وكان ذلك العبد الأسود يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه فيشري به طعاما وشرابا، ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة يعينه الله عليها فيدلي إليه طعامه وشرابه ثم يردها كما كانت.
قال: وكان كذلك ما شاء الله أن يكون ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحتملها وجد سنة فاضطجع فنام فضرب الله على أذنه سبع سنين، ثم إنه هب فتمطى فتحول لشقه الآخر فاضطجع، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى، ثم إنه هب فاحتمل حزمته ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع، ثم ذهب إلى الحفرة في موضعها التي كانت فيه فالتمسه فلم يجده وقد كان بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه فآمنوا به وصدقوه
134

قال: وكان النبي يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فيقولون له: ما ندري، حتى قبض الله ذلك النبي فأهب الله الأسود من نومته بعد ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة).
قلت: قد ذكر في هذا الحديث انهم آمنوا بنبيهم واستخرجوه من حفرته فلا ينبغي ان يكونوا المعنيين بقوله " * (وأصحاب الرس) *) لأن الله سبحانه وتعالى أخبر عن أصحاب الرس أنهم دمرهم تدميرا إلا أن يكونوا دمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم الذي استخرجوه من الحفرة وامنوا به فيكون ذلك وجها.
وقد ذكر عن أمير المؤمنين علي ح في قصة أصحاب الرس ما يصدق قول عكرمة وتفسيره، وهو ما روى علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب أن رجلا من أشراف بني تميم يقال له عمرو أتاه فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب الرس في أي عصر كانوا؟ وأين كانت منازلهم؟ ومن كان ملكهم؟ وهل بعث الله سبحانه إليهم رسولا؟ وبماذا أهلكوا؟ فإني أجد في كتاب الله سبحانه ذكرهم ولا أجد خبرهم، فقال له علي ح: لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك ولا يحدثك به أحد بعدي.
وكان من قصتهم يا أخا تميم أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت، كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها دوشاب كانت أنبتت لنوح عليه السلام بعد الطوفان، وإنما سموا أصحاب الرس لأنهم رسوا نبيهم في الأرض وذلك قبل سليمان بن داود، وكان له اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرس من بلاد المشرق، وبهم سمي ذلك النهر، ولم يكن يومئذ في الأرض أغزر منه ولا أعذب، ولا قرى أكثر سكانا ولا أعمر منها، وكانت، أعظم مداينهم اسفندماه وهي التي ينزلها ملكهم، وكان يسمى نركوز بن عانور بن ناوش بن سارن ابن نمرود بن كنعار، وبها العين والصنوبرة وقد غرسوا في كل قرية منها حبة من طلع تلك الصنوبرة فنبتت الحبة وصارت شجرة عظيمة، وحرموا ماء العين والأنهار فلا يشربون منها هم ولا أنعامهم، ومن فعل ذلك قتلوه، ويقولون: هي حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن يقطف من حباتها، ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرس الذي عليه قراهم، وقد جعلوا في كل شهر من السنة في كل قرية عيدا تجتمع إليه أهلها ويضربون على الشجرة
التي بها كلة من حرير فيها أنواع الصور، ثم يأتون بشياه وبقر فيذبحونها قربانا للشجرة ويشعلون فيها النيران بالحطب، فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتاره في الهواء، وحال بينهم وبين النظر إلى السماء، خروا للشجرة سجدا يبكون ويتضرعون إليها أن ترضى عنهم
135

وكان الشيطان يجيىء فيحرك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبي: إني قد رضيت عنكم عبادي فطيبوا نفسا وقروا عينا، فيرفعون عند ذلك رؤوسهم ويشربون الخمر ويضربون بالمعازف فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم، ثم ينصرفون حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى اجتمع إليه صغيرهم وكبيرهم فضربوا عند الصنوبرة والعين سرادقا، ويقربون لها الذبائح أضعاف ما قربوا للشجرة التي في قراهم، فيجيء إبليس عند ذلك فيحرك الصنوبرة تحريكا شديدا ويتكلم من جوفها كلاما جهوريا يعدهم ويمنيهم بأكثر مما وعد بهم الشياطين كلها، فيرفعون رؤوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون من الشرب والعزف، فيكونون على ذلك اثنا عشر يوما ولياليها بعدد أعيادهم سائر السنة ثم ينصرفون.
فلما طال كفرهم بالله سبحانه وعبادتهم غيره بعث الله سبحانه إليهم نبيا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب فلبث فيهم زمانا طويلا يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ومعرفة ربوبيته فلا يتبعونه، فلما رأى شدة تماديهم في الغي والضلال، وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والصلاح وحضر عند قريتهم العظمى قال: يا رب إن عبادك أبوا إلا أن يكذبوني ويكفروا بك وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضر، فأيبس شجرهم اجمع وأرهم قدرتك وسلطانك، فأصبح القوم وقد يبس شجرهم كله، فهالهم ذلك وقطعوا بها وصاروا فرقتين: فرقة قالت سحر آلهتكم هذا الرجل الذي زعم أنه رسول رب السماء والأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه.
وفرقة قالت: لا بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيه ويدعوكم إلى عبادة غيرها، فحجبت حسنها وبهاءها لكي تضبوا لها فينتصروا منه، فأجمع رأيهم على قتله فاتخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه، ثم أرسلوها في قرار العين إلى أعلى الماء واحدة فوق الأخرى مثل البرابخ، ونزحوا ما فيها من الماء ثم حفروا في قرارها بئرا ضيقة المدخل عميقة، وأرسلوا فيها نبيهم وألقموا فاها صخرة عظيمة ثم أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا: نرجو الآن أن ترضى عنا آلهتنا إذ رأت أنا قد قتلنا من كان يقع فيها ويصد عن عبادتها ودفناه تحت كبيرها يتشفى منه فيعود لها نورها ونضرتها كما كان، فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم عليه السلام وهو يقول: سيدي قد ترى ضيق مكاني وشدة كربي فارحم ضعف ركني وقلة حيلتي، وعجل قبض روحي ولا تؤخر إجابة دعوتي حتى مات عليه السلام.
فقال الله تعالى لجبرئيل: إن عبادي هؤلاء غرهم حلمي وآمنوا مكري وعبدوا غيري وقتلوا رسولي، وأنا المنتقم ممن عصاني ولم يخش عقابي، وإني حلفت لأجعلنهم عبرة ونكالا للعالمين، فلم يرعهم وهم في عيدهم إلا ريح عاصف شديدة الحمرة قد عروا عنها وتحيروا فيها، وانضم بعضهم إلى بعض ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت تتوقد وأظلتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبة حمراء تلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار نعوذ بالله من غضبه ودرك نقمته.
136

وقال بعض أهل العلم بأخبار الماضين وسير المتقدمين: بلغني أنه كان رسان: أما احدهما فكان أهله أهل بدو وعمود وأصحاب مواشي فبعث الله إليهم رسولا فقتلوه، ثم بعث إليهم رسولا آخر وعضده بولي فقتل الرسول وجاهدهم الولي حتى أفحمهم وكانوا يقولون إلهنا في البحر وكانوا على شفيره، وأنه كان يخرج إليهم من البحر شيطان في كل شهر خرجة فيذبحون عنده ويجعلونه عيدا فقال لهم الولي: أرأيتكم إن خرج إلهكم الذي تعبدونه فدعوته فأجابني وأمرته فأطاعني أتجيبونني إلى ما دعوتكم إليه؟ قالوا: بلى فأعطوه عهودهم ومواثيقهم على ذلك فانتظروا حتى خرج ذلك الشيطان على صورة حوت راكبا أربعة أحوات وله عنق مستعلية، وعلى رأسه مثل التاج، فلما نظروا إليه خروا سجدا وخرج الولي إليه فقال: ائتني طوعا أو كرها باسم الله الكريم فنزل عند ذلك عن أحواته فقال له الولي: ائتني عليهن لئلا يكون من القوم في أمره شك، فأتى الحوت وأتين به حتى أفضن إلى البر يجرونه ويجرهم، فكذبوه بعد ذلك فأرسل الله عليهم ريحا فقذفهم في البحر وقذف في البحر مواشيهم وما كانوا يملكون من ذهب وفضة وآنية، فأتى الولي الصالح إلى البحر حتى أخذ الذهب والفضة والأواني فقسمها على أصحابه بالسوية، وانقطع نسل هؤلاء القوم.
وأما الآخر فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرس ينسبون إليه فكان فيهم أنبياء كثيرة قل يوم يقوم فيهم نبي إلا قتل، وذلك النهر بمنقطع أذربيجان بينهما وبين أرمينية فإذا قطعته مدبرا ذاهبا دخلت في حد أرمينية، وإذا قطعته مقبلا دخلت حد أذربيجان وكان من حولهم من أهل أرمينية يعبدون الأوثان ومن قدامهم من أهل أذربيجان يعبدون النيران، وهم كانوا يعبدون الحواري العذارى فإذا تمت لأحداهن ثلاثون سنة قتلوها واستبدلوا غيرها.
وكان عرض نهرهم ثلاث فراسخ وكان يرتفع في كل يوم وليلة حتى بلغ أنصاف الجبال التي حوله، وكان لا ينصب في بر ولا بحر، إذا خرج من حدهم يقف ويدور ثم يرجع، إليهم فبعث الله سبحانه إليهم ثلاثين نبيا في شهر واحد فقتلوهم جميعا، فبعث الله إليهم نبيا وأيده بنصره وبعث معه وليا فجاهدهم في الله حق جهاده ونابذوه على سواء، فبعث الله ميكائيل وكان ذلك في أوان وقوع الحب في الزرع وكانوا إذ ذاك أحوج ما كانوا إلى الماء ففجر نهرهم في البحر، فانصب ما في أسفله وأتى عيونها من فوق فسدها.
وبعث الله أعوانه من الملائكة خمسمائة ألف ففرقوا ما بقي في وسط النهر، ثم أمر الله سبحانه جبرئيل، فنزل فلم يدع في أرضهم عينا لا ماء ولا نهر إلا أيبسه بإذن الله تعالى، وأمر ملك الموت فانطلق إلى المواشي فأماتها ربضة واحدة، وأمر الرياح الأربع الجنوب والشمال والصبا والديور فقصمت ما كان لهم من متاع، وألقى الله عليهم السبات ثم خفقت الرياح الأربع بما كان من ذلك المتاع أجمع، فنهبته في رؤوس الجبال وبطون الأودية.
137

فأما ما كان من حلي أو تبر أو آنية فإن الله سبحانه أمر الأرض فابتلعته فأصبحوا ولا ماشية عندهم ولا مال يعودون إليه ولا ماء يشربونه، وأصبحت زروعهم يابسة فآمن بالله عند ذلك قليل منهم وهداهم الله سبحانه إلى غار في جبل له طريق إلى خلفه، فنجوا وكانوا أحد وعشرين رجلا وأربع نسوة وصبيين، وكان عدة الباقين من الرجال والنساء والذراري ستمائة ألف فماتوا عطشا وجوعا، ولم يبق منهم باقية، ثم عاد القوم المؤمنون إلى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها فدعوا الله عند ذلك مخلصين
أن يجيئهم بزرع وماشية وماء ويجعله قليلا لئلا يطغوا، فأجابهم الله سبحانه إلى ذلك لما علم من صدقهم، وأطلق لهم نهرهم وزادهم على ما سألوا.
فقام أولئك بطاعة الله ظاهرة وباطنة حتى مضى أولئك القوم وحدث من نسلهم بعدهم قوم أطاعوا الله في الظاهر ونافقوا في الباطن فأملى الله لهم، ثم كثرت معاصيهم فبعث الله سبحانه عليهم عدوهم فأسرع فيهم القتل فبقيت شرذمة منهم، فسلط الله عليهم الطاعون فلم يبق منهم أحدا، وبقي نهرهم ومنازلهم مائتي عام لا يسكنها أحد.
ثم أتى الله سبحانه بقرن بعد ذلك فنزلوها فكانوا صالحين سنين ثم أحدثوابعد ذلك فاحشة جعل الرجل يدعو ابنته وأخته وزوجته فينيكها جاره وصديقه وأخوه يلتمس بذلك البر والصلة، ثم ارتفعوا من ذلك إلى نوع آخر استغنى الرجل بالرجل وتركوا النساء حتى شبقن فجاءتهن شيطانة في صورة امرأة وهي الدلهاث بنت إبليس وهي أخت الشيطان، كانا في بيضة واحدة فشبهت إلى النساء ركوب بعضها إلى بعض وعلمتهن كيف يصنعن، فأصل ركوب النساء بعضهن بعضا من الدلهاث، فسلط الله سبحانه على ذلك القرن صاعقة من أول الليل وخسفا في آخر الليل وصيحة مع الشمس، فلم يبق منهم باقية وبادت مساكنهم.
ويشهد بصحة بعض هذه القصة ما أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أبو الطيب بن حفصويه قال: حدثنا عبد الله بن جامع قال: حدثنا عثمان بن خرزاذ قال: حدثنا سلمان بن عبد الرحمن قال: حدثنا الحكم بن يعلى بن عطاء قال: حدثنا معاوية بن عمار الدهني عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله " * (وأصحاب الرس) *) قال: السحاقات.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدثنا الحسن بن إسماعيل الدينوري قال: حدثنا أحمد بن يحيى بن مالك السوسي قال: حدثنا نصر بن حماد قال: حدثنا عمر بن عبد الرحمن عن مكحول عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أشراط الساعة أن يستكفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق)
138

والرس في كلام العرب: كل محفور مثل البئر والمعدن والقبر ونحوها وجمعه رساس، قال الشاعر:
سبقت إلى فرط بأهل تنابلة
يحفرون الرساسا
وقال أبو عبيد: الرس: كل ركية لم تطو بالحجارة والآجر والخشب.
" * (وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال) *) في إقامة الحجة فلم نهلكهم إلا بعد الإعذار والإنذار " * (وكلا تبرنا تتبيرا) *) أهلكنا إهلاكا، وقال المؤرخ: قال الأخفش: كسرنا تكسيرا.
" * (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء) *) يعني الحجارة وهي قرية قوم لوط وكانت خمس قرى فأهلك الله سبحانه أربعا وبقيت الخامسة، واسمها صغر وكان أهلها لا يعملون ذلك العمل الخبيث.
" * (أفلم يكونوا يرونها) *) إذا مروا بها في أسفارهم فيعتبرون ويتذكروا. قال الله سبحانه " * (بل كانوا لا يرجون) *) يخافون " * (نشورا) *) بعثا " * (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا) *) نزلت في أبي جهل كان إذا مر بأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مستهزئا " * (أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن ألهتنا) *) قد كاد يصدنا عن عبادتها " * (لولا أن صبرنا عليها) *) لصرفنا عنها " * (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) *) وهذا وعيد لهم " * (أرأيت من اتخذ إلهه هويه) *) وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد الحجر أو الصنم، فإن رأى أحسن منه رمى به وأخذ الآخر فعبده، قال ابن عباس: الهوى إله يعبد من دون الله.
" * (أفأنت تكون عليه وكيلا) *) حفيظا من الخروج إلى هذا الفساد، نسختها آية الجهاد " * (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون) *) ما يقول: سماع طالب للإفهام " * (أو يعقلون) *) ما يعاينون من الحجج والأعلام " * (إن هم) *) ما هم " * (إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) *) لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها التي تعلفها وتعهدها، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم.
" * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) *) معناه ألم تر إلى مد ربك الظل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وإنما جعله ممدودا لأنه لا شمس معه، كما قال في ظل الجنة (وظل ممدود) إذ لم يكن معه شمس، " * (ولو شاء لجعله ساكنا) *) دائما ثابتا لا يزول ولا تذهبه الشمس.
قال أبو عبيد: الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة والفيىء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال، سمي فيئا لأنه من جانب المشرق إلى جانب المغرب " * (ثم جعلنا الشمس عليه) *) أي على
139

الظل " * (دليلا) *) ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل إذ الأشياء تعرف بأضدادها، والظل يتبع الشمس في طوله وقصره كما يتبع السائر الدليل، فإذا ارتفعت الشمس قصر الظل وان انحطت طال " * (ثم قبضناه) *) يعني الظل " * (إلينا قبضا يسيرا) *) بالشمس التي يأتي بها فتنسخه، ومعنى قوله يسيرا أي خفيفا سريعا، والقبض: جمع الأجزاء المنبسطة، وأراد ههنا النقل اللطيف.
" * (وهو الذي جعل لكم الليل لباسا) *) أي سترا تستترون وتسكنون فيه " * (والنوم سباتا) *) راحة لأبدانكم وقطعا لعملكم، وأصل السبت القطع ومنه يوم السبت والنعال السبتية " * (وجعل النهار نشورا) *) أي يقظة وحياة تنشرون فيه وتنتشرون لأشغالكم " * (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا) *) وهو الطاهر في نفسه المطهر لغيره " * (لنحيي به بلدة ميتا) *) ولم يقل ميتة لأنه رجع به إلى المكان والموضع، قال كعب: المطر روح الأرض
" * (ونسقيه) *) قرأه العامة بضم النون، وروى المفضل والبرجمي عن عاصم بفتح النون وهي قراءة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ح " * (مما خلقنا أنعاما واناسى كثيرا) *) والأناسي جمع الإنسان، وأصله أناسين مثل بستان وبساتين فجعل الباء عوضا من النون، وإن قيل: هو أيضا مذهب صحيح كما يجمع القرقور قراقير وقراقر.
أخبرني الحسن بن محمد الفنجوي قال: حدثنا مخلد بن جعفر الباقرحي، حدثنا الحسن ابن علوي، حدثنا إسحاق بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: حدثنا ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل كلهم قالوا وبلغوا به ابن مسعود: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من سنة بأمطر من أخرى ولكن الله قسم هذه الأرزاق فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار).
" * (ولقد صرفناه) *) يعني المطر " * (بينهم) *) عاما بعد عام وفي بلدة دون بلدة، وقيل: صرفناه بينهم وابلا وطشا ورهاما ورذاذا، وقيل: التصريف راجع إلى الريح.
" * (ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا) *) أي جحودا، وقيل: هو قولهم مطر كذا وكذا " * (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) *) رسولا ولقسمنا النذير بينهم كما قسمنا المطر، فحينئذ يخف عليك أعباء النبوة، ولكنا حملناك ثقل نذارة جميع القرى لتستوجب بصبرك عليه ما اعتدنا لك من الكرامة والهيبة والدرجة الرفيعة.
" * (فلا تطع الكافرين) *) فيما يدعونك إليه من عبادة آلهتهم ومقاربتهم ومداهنتهم " * (وجاهدهم به) *) أي بالقرآن " * (جهادا كبيرا) *))
.
140

2 (* (وهو الذى مرج البحرين هاذا عذب فرات وهاذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا * وهو الذى خلق من المآء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا * ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا * ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * قل مآ أسألكم عليه من أجر إلا من شآء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) *)
[/ مق]
" * (وهو الذي مرج البحرين وتوكل على الحى الذى لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا * الذى خلق السماوات والارض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمان فاسأل به خبيرا * وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا * تبارك الذى جعل فى السمآء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا * وهو الذى جعل اليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا * وعباد الرحمان الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها سآءت مستقرا ومقاما * والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما * والذين لا يدعون مع الله إلاها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذالك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا فأولائك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا * والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما * والذين إذا ذكروا بئايات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا * والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما * أولائك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما * خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما * قل ما يعبؤا بكم ربى لولا دعآؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) *) أي خلطهما وحلى وأفاض أحدهما في الآخر، وأصل المرج: الخلط والإرسال، ومنه قوله سبحانه " * (فهم في أمر مريج) *) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن عمر: (كيف بك يا عبد الله إذا كنت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا هكذا) وشبك بين أصابعه، ويقال: مرجت دابتي مرجها إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث شاءت، ومنه قيل للروضة مرج، قال العجاج:
رعى بها مرج ربيع ممرجا
141

قال ابن عباس والضحاك ومقاتل: مرج البحرين أي خلع أحدهما على الآخر " * (هذا عذب فرات) *) شديد العذوبة " * (وهذا ملح أجاج) *) شديد الملوحة " * (وجعل بينهما برزخا) *) حاجزا بقدرته وحكمته لئلا يختلطا " * (وحجرا محجورا) *) سترا ممنوعا يمنعهما فلا يبغيان ولا يفسد الملح العذب.
" * (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) *) قال على بن أبي طالب: النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه، وقال الضحاك وقتادة ومقاتل: النسب سبعة والصهر خمسة، وقرأوا هذه الآية " * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) *) إلى آخرها.
أخبرني أبو عبد الله (القسايني) قال: أخبرنا أبو الحسن النصيبي القاضي قال: أخبرنا أبو بكر السبيعي الحلبي قال: حدثنا علي بن العباس المقانعي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن الحسين قال: حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا حسين الأشقر قال: حدثنا أبو قتيبة التيمي قال: سمعت ابن سيرين يقول في قول الله سبحانه وتعالى " * (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) *) قال: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب، زوج فاطمة عليا وهو ابن عمه وزوج ابنته فكان نسبا وصهرا.
" * (وكان ربك قديرا ويعبدون) *) يعني هؤلاء المشركين " * (من دون الله ما لا ينفعهم) *) إن عبدوه " * (ولا يضرهم) *) إن تركوه " * (وكان الكافر على ربه ظهيرا) *) أي معينا للشيطان على ربه، وقيل: معناه وكان الكافر على ربه هينا ذليلا من قول العرب: ظهرت به إذا جعلته خلف ظهرك فلم تتلفت إليه.
" * (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه) *) على تبليغ الوحي " * (من أجر) *) فيقولون: إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتبعه كيلا نعطيه من أموالنا شيئا " * (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) *).
قال أهل المعاني: هذا أمر الاستثناء المنقطع، مجازه لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بإنفاقه ماله في سبيله، " * (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده) *) أي اعبده وصل له شكرا منك له على نعمه، وقيل: احمده منزها له عما لا يجوز في وصفه، وقيل: قل: سبحان الله والحمد لله " * (وكفى به بذنوب عباده خبيرا) *) فيجازيهم بها " * (الذي) *) في محل الخفض على نعت الحي " * (خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) *) فقال بينهما وقد جمع السماوات لأنه أراد الصنفين والشيئين كقول القطامي:
142

ألم يحزنك أن حبال قيس
وتغلب قد تباينتا انقطاعا
أراد وحبال تغلب فثنى والحبال جمع لأنه أراد الشيئين والنوعين، وقال آخر:
إن المنية والحتوف كلاهما
توفي المخارم يرقبان سوادي
" * (ثم استوى على العرش الرحمان فاسئل به خبيرا) *) أي فسل خبيرا بالرحمن، وقيل: فسل عنه خبيرا وهو الله عز وجل، وقيل: جبرئيل (عليه السلام)، الباء بمعنى عن لقول الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء.
" * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان) *) ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة " * (أنسجد لما تأمرنا) *) قرأ حمزة والكسائي بالياء يعنيان الرحمن، وقرأ غيرهما تأمرنا بالتاء يعنون لما تأمرنا أنت يا محمد " * (وزادهم) *) قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن " * (نفورا) *) عن الدين والإيمان، وكان سفيان الثوري إذا قرأ هذه الآية رفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي زادني خضوعا ما زاد أعداءك نفورا.
" * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) *) يعني منازل الكواكب السبعة السيارة وهي اثنا عشر برجا: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زحل، وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منهما ثلاثة بروج تسمى المثلثات، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. واختلفت أقاويل أهل التأويل في تفسير البروج.
فأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال: حدثني محمد بن الحسين بن أبي الشيخ قال: حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال: حدثنا عبد الله بن إدريس قال: حدثني أبي عن عطية العوفي في قوله سبحانه " * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) *) قال: قصورا فيها الحرس، دليله قوله " * (ولو كنتم في بروج مشيدة) *).
143

وقال الأخطل:
كأنها برج رومي يشيده
بان بجص وآجر وأحجار
وقال مجاهد وقتادة: هي النجوم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبة قال: حدثنا علي بن محمد بن ماهان قال: حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال: حدثنا خالي يعلى عن إسماعيل عن أبي صالح " * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) *) قال: النجوم الكبائر. قال عطاء: هي الشرج وهي أبواب السماء التي تسمى المجرة.
" * (وجعل فيها سراجا) *) يعني الشمس، نظيره قوله سبحانه " * (وجعل الشمس سراجا) *) وقرأ حمزة والكسائي (وجعل فيها سرجا) بالجمع يعنون النجوم وهي قراءة أصحاب عبد الله " * (وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) *).
قال ابن عباس والحسن وقتادة: يعني عوضا وخلفا يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر.
قال قتادة: فأروا الله من أعمالكم خيرا في هذا الليل والنهار؛ فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم، وتقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتجيئان بكل موعود إلى يوم القيامة.
روى شمر بن عطية عن شقيق قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب ح فقال: فاتتني الصلاة الليلة فقال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله سبحانه وتعالى
جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر.
وقال مجاهد: يعني جعل كل واحد منهما مخالفا لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض.
وقال ابن زيد وغيره: يعني يخلف أحدهما صاحبه، إذا ذهب أحدهما جاء الآخر، فهما يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان، يدل على صحة هذا التأويل، قول زهير:
بها العين والآدام يمشين خلفة
وأطلاؤها ينهضن من كل مجشم
وقال مقاتل: يعني جعل النهار خلفا من الليل لمن نام بالليل، وجعل الليل خلفا بالنهار لمن كانت له حاجة أو كان مشغولا " * (لمن أراد أن يذكر) *) قرأه العامة بتشديد الذال يعني يتذكر ويتعظ، وقرأ حمزة وخلف بتخفيف الذال من الذكر " * (أو أراد شكورا) *) شكر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه.
144

" * (وعباد الرحمان) *) يعني أفاضل العباد، وقيل هذه الإضافة على التخصيص والتفضيل، وقرأ الحسن: وعبيد الرحمن.
" * (الذين يمشون على الأرض هونا) *) أي بالسكينة والوقار والطاعة والتواضع غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين ولا مفسدين.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا العباس بن محمد بن قوهبار قال: حدثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى قال: حدثنا يحيى بن يحيى قال: حدثنا هشيم بن عباد بن راشد عن الحسن في قوله سبحانه " * (يمشون على الأرض هونا) *) قال: حلما وعلما، وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا.
الضحاك: أتقياء أعفاء لا يجهلون قال: وهو بالسريانية. الثمالي: بالنبطية، والهون في اللغة: الرفق واللين ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما).
" * (وإذا خاطبهم الجاهلون) *) بما يكرهونه " * (قالوا سلاما) *) سدادا من القول عن مجاهد.
ابن حيان: قولا يسلمون فيه من الإثم.
الحسن: سلموا عليهم، دليله قوله سبحانه " * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم) *).
قال أبو العالية والكلبي: هذا قبل أن يؤمروا بالقتال، ثم نسختها آية القتال.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حنش المقري قال: حدثنا محمد بن صالح (الكيلسي) بمكة قال: حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا الوليد بن إسماعيل قال: حدثنا شيبان بن مهران عن خالد أبن المغيرة بن قيس عن أبي محلز لاحق بن حميد عن أبي برزة الأسلمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت قوما من أمتي ما خلقوا بعد، وسيكونون فيما بعد اليوم أحبهم ويحبونني، ويتناصحون ويتبادلون، يمشون بنور الله في الناس رويدا في خفية وتقية، يسلمون من الناس، ويسلم الناس منهم بصبرهم وحلمهم، قلوبهم بذكر الله يرجعون، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون، يرحمون صغيرهم ويجلون كبيرهم ويتواسون بينهم، يعود غنيهم على فقيرهم وقويهم على ضعيفهم، يعودون مرضاهم ويتبعون جنائزهم).
فقال رجل من القوم: في ذلك يرفقون برفيقهم؟ فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كلا،
145

إنهم لا رفيق لهم، هم خدام أنفسهم، هم أكرم على الله من أن يوسع عليهم لهوان الدنيا عند ربهم) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " * (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *)).
وروي أن الحسن كان إذا قرأ هاتين الآيتين قال: هذا وصف نهارهم.
ثم قال " * (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) *) هذا وصف ليلهم.
قال ابن عباس: من صلى بالليل ركعتين أو أكثر من ذلك فقد بات لله سبحانه وتعالى ساجدا وقائما.
قال الكلبي: يقال: الركعتان بعد المغرب وأربع بعد العشاء الآخرة.
" * (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما) *) أي ملحا دائما لازما غير مفارق من عذب به من الكفار، ومنه سمي الغريم لطلبه حقه وإلحاحه على صاحبه وملازمته إياه، وفلانا مغرم بفلان إذا كان مولعا به لا يصبر عنه ولا يفارقه، قال الأعشى:
إن يعاقب يكن غراما وإن
يعط جزيلا فإنه لا يبالي
قال الحسن: قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم.
ابن زيد: الغرام الشر، أبو عبيد: الهلاك، قال بشر بن أبي حازم:
ويوم النسار ويوم الجفا
ركانا عذابا وكانا غراما
أي هلاكا.
" * (إنها) *) يعني جهنم " * (ساءت مستقرا ومقاما) *) أي إقامة، من أقام يقيم.
وقال سلامة بن جندل:
يومان يوم مقامات وأندية
ويوم سير إلى الأعداء تأويب
فإذا فتحت الميم فهو المجلس من قام يقوم، ومنه قول عباس بن مرداس:
فأتي ما وأيك كان شرا
فقيد إلى المقامة لا يراها
146

" * (والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) *) واختلف القراء فيه فقرأ أهل المدينة والشام: يقتروا بضم الياء وكسر التاء، وقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وضم التاء، غيرهم بفتح الياء وكسر التاء وكلها لغات صحيحة، يقال: أقتر وقتر يقتر ويقتر مثل يعرشون ويعكفون، واختلف المفسرون في معنى الإسراف والإقتار، فقال بعضهم: الإسراف: النفقة في معصية الله وإن قلت، والاقتار: منع حق الله سبحانه وتعالى، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري قال: حدثنا محمد بن عمر بن إسحاق الكلوادي قال: حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث قال: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الرملي قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سهيل بن أبي حزم عن كثير بن زياد أبي سهل عن الحسن في هذه الآية قال: لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عن فرائض الله.
وقال بعضهم: الإسراف أن تأكل مال غيرك بغير حق.
قال عون بن عبد الله بن عتبة: ليس المسرف من أكل ماله، إنما المسرف من يأكل مال غيره.
وقال قوم: السرف: مجاوزة الحد في النفقة، والإقتار: التقصير عما ينبغي مما لابد منه، وهذا الاختيار لقوله " * (وكان بين ذلك) *) أي وكان إنفاقهم بين ذلك " * (قواما) *) عدلا وقصدا وسطا بين الإسراف والإقتار.
قال إبراهيم: لا يجيعهم ولا يعريهم، ولا ينفق نفقة تقول الناس: قد أسرف.
مقاتل: كسبوا طيبا، وانفقوا قصدا، وقدموا فضلا، فربحوا وأنجحوا.
وقال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والقر.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حنش قال: حدثنا ابن زنجويه قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا عبد الرزاق عن أبي عيينة عن رجل عن الحسن في قوله سبحانه " * (يسرفوا ولم يقتروا) *) إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كفى سرفا ان لا يشتهي رجل شيئا إلا اشتراه فأكله.
" * (والذين لا يدعون مع الله إلاها آخر) *) الآية
147

أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي قال: أخبرنا المؤمل بن الحسن بن عيسى قال: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا حجاج عن أبي جريح قال: أخبرني يعلى يعني ابن مسلم عن سعيد بن جبير سمعه يحدث عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة فنزل " * (والذين لا يدعون مع الله إلاها آخر) *) ونزل " * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) *) وقيل: نزلت في وحشي غلام ابن مطعم.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر والثوري عن منصور والأعمش عن أبي وائل.
وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان وعبد الله بن عبد الرحمن قالا: حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان قال: حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا سفيان بن الأعمش ومنصور وواصل الأحدب عن أبي وائل.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا عبد الله بن نمير قال: أخبرنا الأعمش عن شقيق عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟
قال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك)، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قلت: ثم أي؟ قال: إن ترى حليلة جارك، فأنزل الله سبحانه تصديق ذلك " * (والذين لا يدعون مع الله إلاها آخر) *)).
قال مسافع: " * (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) *) الآية.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حنش، قال: أخبرنا ابن زنجويه قال: أخبرنا سلمة بن عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن لقمان كان
يقول: يا بني إياك والزنا فإن أوله مخافة وآخره ندامة " * (ومن يفعل ذلك) *) الذي ذكرت " * (يلق أثاما) *) قال ابن عباس: إثما، ومجازه: تلق جزاء الآثام.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن حفصويه، قال: حدثنا محمد بن موسى قال: حدثنا زهير بن محمد، قال: حدثنا محمد بن زياد قال: حدثنا الكلبي، قال: حدثنا شرقي القطامي، قال: حدثني لقمان بن عامر، قال: حدثني أبو أمامة الباهلي صدي بن عجلان، فقلت: حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فدعا لي بطلاء ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أن صخرة زنة عشر عشروات قذف بها في شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين
148

خريفا، ثم ينتهي إلى غي وأثام، قال: قلت: وما غي وأثام)؟ قال: نيران يسيل فيها صديد أهل النار، وهما اللتان قال الله سبحانه في كتابه " * (فسوف يلقون غيا) *) و " * (يلق أثاما) *).
وأخبرنا بو عمرو سعيد بن عبد الله بن إسماعيل الحيري قال: أخبرنا العباس بن محمد بن قوهباد قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن زرين السلمي. قال: أخبرنا حفص بن عبد الرحمن، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أثاما واد في جهنم، وهو قول مجاهد، وقال أبو عبيد: الأثام: العقوبة.
قال الليثي:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى
عقوقا والعقوق له اثاما
أي عقوبة.
" * (يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا) *) قرأه العامة بجزم الفاء والدال، ورفعهما ابن عامر وابن عباس على الابتداء.
ثم قال " * (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) *) الآية.
أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال: حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا موسى بن هارون الجمال قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي قال: حدثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله ابن عمر بن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين " * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) *) الآية. ثم نزلت " * (إلا من تاب) *) فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رح بشيء قط فرحه بها وفرحه ب " * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *).
وأخبرني الحسين بن محمد الفنجوي قال: حدثنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال: حدثنا صفوان بن صالح قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا عبد العزيز بن الحصين عن ابن أبي نجيح قال: حدثني القاسم بن أبي برة قال: قلت لسعيد بن جبير: أبا عبد الله أرأيت قول الله سبحانه وتعالى " * (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلابالحق) *) إلى قوله " * (إلا من تاب) *) قال: سمعت ابن عباس يقول: هذه مكية نسختها الآية المدنية التي في سورة النساء " * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) *) ولا توبة له.
وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت أنه دخل على أبيه وعنده رجل من أهل
149

العراق وهو يسأله عن هذه الآية التي في الفرقان والتي في سورة النساء " * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) *)، فقال زيد بن ثابت: قد عرفت الناسخة من المنسوخة نسختها التي في النساء بعدها ستة أشهر.
وروى حجاج عن أبي جريج قال: قال الضحاك بن مزاحم: هذه السورة بينها وبين النساء " * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) *) ثماني حجج، والصحيح أنها محكمة.
روى جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء قال: اختلفت إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلا سألته عنه ورسولي يختلف إلى عائشة، فما سمعته ولا أحد من العلماء يقول: إن الله سبحانه يقول لذنب: لا أغفره.
" * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) *).
قال ابن عباس وابن جبير والضحاك وابن زيد: يعني فأولئك يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا، وقال الآخرون: يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم حسنات يوم القيامة، يدل على صحة هذا التأويل ما أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ في داري قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن برزة قال: حدثنا أبو حفص المستملي قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز أبي رزمة قال: حدثنا الفضل بن موسى القطيعي عن أبي العنبس عن ابنه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات). قيل: من هم؟ قال: الذين بدل الله سيئاتهم حسنات).
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: أعرضوا عليه صغار ذنوبه قال: فيعرض عليه ويخفى عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة.
قال: فيقول إن لي ذنوبا ما أراها، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه).
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا عبيد الله عن عبد الله بن أبي سمرة البغوي ببغداد قال: حدثنا محمد بن أحمد الطالقاني قال: حدثنا محمد بن هارون أبو نشيط قال: حدثنا أبو المغيرة
150

قال: حدثنا صفوان قال: حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبي الطويل شطب الممدود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها بيمينه، فهل لذلك من توبة؟
قال: (هل أسلمت؟
قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسوله، قال: نعم تفعل الخيرات وتترك الشهوات يجعلهن الله خيرات كلهن.
قال: وغدراتي وفجراتي
قال: نعم
قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى).
وأخبرني ابن فنجويه في عصبة قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسن قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: حدثنا أبو نشيط قال: حدثنا أبو المغيرة قال: سمعت مبشر بن عبيد وكان عارفا بالنحو والعربية يقول: الحاجة الذي يقطع على الحجاج إذا توجهوا، والداجة الذي يقطع عليهم إذا قفلوا " * (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) *) رجوعا حسنا.
" * (والذين لا يشهدون الزور) *) قال الضحاك: يعني الشرك وتعظيم الأنداد، علي بن أبي طلحة: يعني شهادة الزور، وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويطوف به في السوق، يحيى بن اليمان عن مجاهد: أعياد المشركين ليث عنه: الغناء وهو قول محمد بن الحنفية بإسناد الصالحي عن إبراهيم بن محمد بن المنكدر قال: بلغني ان الله تعالى يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أدخلوهم رياض المسك، أسمعوا عبادي تحميدي وثنائي وتمجيدي، وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: حدثنا عبد الواحد بن محمد الارعياني قال: حدثنا الأحمسي قال: حدثنا عمرو العبقري قال: حدثنا مسلمة بن جعفر عن عمرو بن قيس في قوله سبحانه " * (الذين لا يشهدون الزور) *) قال: مجالس الخنا، ابن جريج: الكذب، قتادة: مجالس الباطل، وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من سمعه أو يراه أنه بخلاف ما هو به، فهو تمويه الباطل لما توهم أنه حق.
" * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) *) قال مقاتل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد، نظيره " * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) *))
151

الآية، وقال السدي: وهي منسوخة بآية القتال، العوام بن حوشب عن مجاهد: إذا أتوا على ذكر النكاح كنوا عنه، ابن زيد: إذا مروا بما كان المشركون فيه من الباطل مروا منكرين له معرضين عنه، وقال الحسن والكلبي: اللغو: المعاصي كلها، يعني إذا مروا بمجالس اللهو والباطل مروا كراما مسرعين معرضين، يدل عليه ما روى إبراهيم بن ميسرة أن ابن مسعود مر بلهو مسرعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أصبح ابن مسعود لكريما).
وقال أهل اللغة: أصله من قول العرب ناقة كريمة، وبقرة كريمة، وشاة كريمة إذا كانت تعرض عن الحليب تكرما كأنها لا تبالي بما يحلب منها.
" * (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا) *) لم يقعوا ولم يسقطوا " * (عليها صما وعميانا) *) كأنهم صم عمي، بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه.
قال الفراء: ومعنى قوله " * (لم يخروا) *) أي لم يقيموا ولم يصيروا، تقول العرب: شتمت فلانا فقام يبكي يعني فظل وأقبل يبكي ولا قيام هنالك ولعله بكى قاعدا، وقعد فلان يشتمني أي أقبل وجعل وصار يشتمني، وذلك جائز على ألسن العرب.
" * (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا) *) بغير ألف أبو عمرو وأهل الكوفة، الباقون: ذرياتنا بالألف " * (قرة أعين) *) بأن يراهم مؤمنين صالحين مطيعين لك، ووحد قرة لأنها مصدر، وأصلها من البرد لأن العرب تتأذى بالحر وتستروح إلى البرد.
" * (واجعلنا للمتقين إماما) *) أي أئمة يقتدى بها. قال ابن عباس: اجعلنا أئمة هداية كما قال " * (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) *) ولا تجعلنا أئمة ضلالة كقوله " * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) *).
قتادة: هداة دعاة خير.
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون ابن خالد قال: حدثني أبو جعفر أحمد بن عبد الله العازي الطبري المعروف بابن فيروز قال: حدثنا الحكم بن موسى قال: حدثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن مكحول في قول الله عز وجل " * (واجعلنا للمتقين إماما) *) قال: أئمة في التقوى يقتدي بها المتقون، وقال بعضهم: هذا من المقلوب واجعل المتقين لنا إماما واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم، وهو قول مجاهد، ولم يقل أئمة لأن الإمام مصدر، يقال: أم فلان فلانا مثل الصيام والقيام، ومن جعله أئمة فلأنه قد كثر حتى صار بمعنى الصفة
152

وقال بعضهم: أراد أئمة كما يقول القائل: أميرنا هؤلاء يعني أمراؤنا، وقال الله سبحانه عز وجل " * (فإنهم عدو لي) *)، وقال الشاعر:
يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي
إن العواذل لسن لي بأمين
أي أمناء.
" * (أولئك يجزون الغرفة) *) يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة " * (بما صبروا) *) على أمر ربهم وطاعة نبيهم، وقال الباقر: على الفقر.
" * (ويلقون) *) قرأ أهل الكوفة بفتح الياء وتخفيف القاف، واختاره أبو عبيد لقوله " * (ولقيهم نضرة وسرورا) *).
" * (خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما قل ما يعبؤا بكم ربي) *) أي ما يصنع وما يفعل، عن مجاهد وابن زيد.
وقال أبو عبيد: يقال: ما عبأت به شيئا أي لم أعده، فوجوده وعدمه سواء، مجازه: أي مقدار لكم، وأصل هذه الكلمة تهيئة الشيء يقال: عبأت الجيش وعبأت الطيب أعبئه عبؤا وعبوا إذا هيأته وعملته، قال الشاعر:
كأن بنحره وبمنكبيه عبيرا بات يعبؤه عروس
" * (لولا دعاؤكم) *) إياه، وقيل: لولا عبادتكم، وقيل: لولا إيمانكم. واختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال قوم: معناها قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه، يعني أنه خلقكم لعبادته نظيرها قوله سبحانه " * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *) وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد، قال ابن عباس في رواية الوالبي: أخبر الله سبحانه الكفار أنه لا حاجة لربهم بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حبب إلى المؤمنين.
وقال آخرون: قل ما يعبأ بعذابكم ربي لولا دعاؤكم إياه في الشدائد، بيانه " * (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) *) ونحوها من الآيات
153

وقال بعضهم: قل مايعبأ بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة وشركاء، بيانه قوله سبحانه وتعالى " * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) *) وهذا المعنى قول الضحاك.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حبيش قال: حدثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا أبو طاهر بن السرج قال: حدثنا موسى بن ربيعة الجمحي قال: سمعت الوليد بن الوليد يقول: بلغني أن تفسير هذه الآية " * (قل مايعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم) *) يقول: ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأغفر لكم، وتسألوني فأعطيكم.
" * (فقد كذبتم) *) يا أهل مكة.
وأخبرنا شعيب بن محمد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا شعبة بن عبد الحميد بن واصل قال: سمعت مسلم بن عمار قال: سمعت ابن عباس يقرأ: فقد كذب الكافرون " * (فسوف يكون لزاما) *).
وبه شعبة عن أدهم يعني السدوسي عن أنه كان خلف بن الزبير يقرأ " * (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) *) فلما أتى على هذه الآية قرأها: فقد كذب الكافر فسوف يكون لزاما، ومعنى الآية فسوف يكون تكذيبهم لزاما. قال ابن عباس: موتا. ابن زيد: قتالا، أبو عبيدة: هلاكا.
وأنشد:
فاماينجوا من حتف أرضي
فقد لقيا حتوفهما لزاما
وقال بعض أهل المعاني: يعني فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شر، وقال ابن جرير: يعني عذابا دائما لازما وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم بعضا كقول أبي ذؤيب.
ففاجأه بعادية لزام
كما يتفجر الحوض اللقيف
يعني باللزام الكثير الذي يتبع بعضه بعضا وباللفيف الحجار المنهد، واختلفوا في اللزام ههنا فقال قوم: هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وهو قول عبد الله بن مسعود وأبي ابن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل.
روى الأعمش عن مسلم عن مسروق قال: قال عبد الله: خمس قد مضين: الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم. وقال آخرون: هو عذاب الآخرة.
154

((سورة الشعراء))
مكية، إلا قوله " * (والشعراء يتبعهم الغاوون) *) إلى آخر السورة فإنها مدنية، وهي خمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفا، وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة ومائتان وسبع وعشرون آية
أخبرنا أبو الحسين الخبازي قال: حدثنا أبو الشيخ الاصفهاني قال: حدثنا أبو العباس الطهراني قال: حدثنا يحيى بن يعلى بن منصور قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثنا أبي عن أبي بكر عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعطيت السورة التي يذكر فيها البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه
والطواسين من ألواح موسى (عليه السلام)، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي يذكر فيها البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة.
وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم الماوردي الفارسي قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم ابن منصور الخيزراني ببغداد قال: حدثنا محمد بن أحمد بن حبيب قال: حدثنا يعقوب بن يوسف قال: حدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا خارجة عن عبد الله عن إسماعيل بن أبي رافع عن الرقاشي وعن الحسن عن أنس أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله أعطاني السبع مكان التوراة، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي.
وأخبرني كامل بن أحمد النحوي وسعيد بن محمد المقري قالا: أخبرنا أحمد بن محمد ابن جعفر الشروطي قال: حدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال: حدثنا أحمد بن عبد الله اليربوعي قال: حدثنا سلام بن سليم قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
155

2 (* (طسم * تلك ءايات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السمآء ءاية فظلت أعناقهم لها خاضعين * وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزءون * أولم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم * إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *) 2
" * (طسم) *) اختلف القراء فيها وفي أختيها فكسر الطاء فيهن على الإمالة حمزة والكسائي وخلف وعاصم في بعض الروايات. وقرأ أهل المدينة بين الكسر والفتح وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وقرأ غيرهم بالفتح على التضخيم، وأظهر النون في السين ههنا وفي سورة القصص أبو جعفر وحمزة للتبيين والتمكين، وأخفاها الآخرون لمجاورتها حروف الفم. وأما تأويلها فروى الوالبي عن ابن عباس قال: طسم قسم وهو من أسماء الله سبحانه، عكرمة عنه: عجزت العلماء عن علم تفسيرها. مجاهد: اسم السورة. قتادة وأبو روق: اسم من أسماء القرآن أقسم الله عز وجل به، القرظي أقسم الله سبحانه بطوله وسنائه وملكه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حنش قال: حدثني أحمد بن عبيد الله بن يحيى الدارمي قال: حدثني محمد بن عبده المصيصي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي قال: حدثنا محمد بن بشر الرقي قال: حدثنا أبو عمر حفص بن ميسرة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب ح قال: لما نزلت هذه الآية طسم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الطاء طور سيناء والسين الإسكندرية والميم مكة).
وقال جعفر الصادق (عليه السلام): الطاء طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم
" * (تلك آيات) *) أي هذه آيات " * (الكتاب المبين لعلك باخع) *) قاتل " * (نفسك ألا يكونوا مؤمنين) *) وذلك حين كذبه أهل مكة فشق ذلك عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية، نظيرها في الكهف.
" * (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) *) ذليلين قال: لو شاء الله سبحانه لأنزل عليهم آية يذلون بها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله عز وجل، ابن جريج: لو شاء لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بمعصية
156

وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حبان قال: حدثنا إسحاق بن محمد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدثنا علي بن علي قال: حدثني أبو حمزة الثمالي في هذه الآية قال: بلغنا والله أعلم أنها صوت يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان يخرج له العواتق من البيوت.
وبه عن أبي حمزة قال: حدثني الكلبي عن أبي صالح مولى أم هاني أن عبد الله بن عباس حدثه قال: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية قال: سيكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة، وهوان بعد عزة. وأما قوله سبحانه " * (خاضعين) *) ولم يقل خاضعة وهي صفة الأعناق ففيه وجوه صحيحة من التأويل: أحدها: فظل أصحاب الأعناق لها خاضعين فحذف الأصحاب وأقام الأعناق مقامهم لأن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون، فجعل الفعل أولا للأعناق ثم جعل خاضعين للرجال، كقول الشاعر:
على قبضة مرجودة ظهر كفه
فلا المرء مستحي ولا هو طاعم
فأنث فعل الظهر لأن الكف تجمع الظهر وتكفى منه كما أنك مكتف بأن تقول: خضعت للأمر أن تقول: خضعت لك رقبتي، ويقول العرب: كل ذي عين ناظر إليك وناظرة إليك لأن قولك: نظرت إليك عيني ونظرت بمعنى واحد، وهذا شائع في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويعمد إلى الآخر فيجعل له الخبر كقول الراجز:
طول الليالي أسرعت في نقضي
طوين طولي وطوين عرضي
فأخبر عن الليالي وترك الطول، قال جرير:
أرى مر السنين أخذن مني
كما أخذ السرار من الهلال
وقال الفرزدق:
نرى أرماحهم متقلديها
إذا صدئ الحديد على الكماة
فلم يجعل الخبر للأرماح ورده إلى هم لكناية القوم وإنما جاز ذلك لأنه لو أسقط من وطول والأرماح من الكلام لم يفسد سقوطها معنى الكلام، فكذلك رد الفعل إلى الكناية في قوله أعناقهم؛ لأنه لو أسقط الأعناق لما فسد الكلام ولأدى ما بقي من الكلام عنها وكان فظلوا خاضعين لها واعتمد الفراء وأبو عبيد على هذا القول
157

وقال قوم: ذكر الصفة لمجاورتها المذكر وهو قوله هم، على عادة العرب في تذكير المؤنث إذا أضافوه إلى مذكر، وتأنيث المذكر إذا أضافوه إلى مؤنث، كقول الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته
كما شرقت صدر القناة من الدم
وقال العجاج: لما رأى متن السماء أبعدت.
وقيل: لما كان الخضوع وهو المتعارف من بني آدم أخرج الأعناق مخرج بني آدم كقوله " * (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) *) وقوله سبحانه " * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) *) ومنه قول الشاعر:
تمززتها والديك يدعو صباحه
إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا
وقيل: إنما قال خاضعين فعبر بالأعناق عن جميع الأبدان، والعرب تعبر ببعض الشئ عن كله كقوله " * (بما قدمت يداك) *) وقوله " * (ألزمناه طائره في عنقه) *) ونحوهما.
قال مجاهد: أراد بالأعناق ههنا الرؤساء والكبراء، وقيل: أراد بالأعناق الجماعات والطوائف من الناس، يقال: جاء القوم عنقا أي طوائف وعصبا كقول الشاعر:
ان العراق وأهله عنق
إليك فهيت هيتا
وقرأ ابن أبي عبلة: فظلت أعناقهم لها خاضعة.
" * (وما يأتيهم من ذكر) *) أي وعظ وتذكير " * (من الرحمان محدث) *) في الوحي والتنزيل " * (إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء) *) أخبار وعواقب وجزاء " * (ما كانوا به يستهزؤون) *) وهذا وعيد لهم " * (أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج) *) لون وصنف من النبات مما يأكل الناس والأنعام " * (كريم) *) حسن يكرم على الناس، يقال: نخلة كريمة إذا طاب حملها وناقة كريمة إذا كثر لبنها.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الحسن بن محمد بن
158

بختويه قال: حدثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي يوسف قالا: حدثنا محمد بن يوسف الغزالي قال: حدثنا سفيان عن رجل عن الشعبي في قوله " * (أنبتنا فيها من كل زوج كريم) *) قال: الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.
" * (إن في ذلك) *) الذي ذكرت " * (لآية) *) لدلالة على وجودي وتوحيدي وكمال قدرتي وحكمتي " * (وما كان أكثرهم مؤمنين) *) لما سبق من علمي فيهم، قال سيبويه: " * (كان) *) ههنا صلة، مجازه: وما أكثرهم مؤمنين " * (وان ربك لهو العزيز) *) بالنقمة من أعدائه " * (الرحيم) *) ذو الرحمة بأوليائه.
(* (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إنى أخاف أن يكذبون * ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى فأرسل إلى هارون * ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلا فاذهبا بئاياتنآ إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولاإنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بنىإسراءيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتهآ إذا وأنا من الضآلين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لى ربى حكما وجعلنى من المرسلين * وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى إسراءيل * قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والارض وما بينهمآ إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب ءابآئكم الاولين * قال إن رسولكم الذىأرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهمآ إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلاها غيرى لأجعلنك من المسجونين * قال أولو جئتك بشىء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هى بيضآء للناظرين) *) 2
" * (وإذ نادى) *) واذكر يا محمد إذ نادى " * (ربك موسى) *) حين رأى الشجرة والنار " * (أن ائت القوم الظالمين) *) لأنفسهم بالكفر والمعصية ولبني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب.
" * (قوم فرعون ألا يتقون) *) وقرأ عبيد بن عمير بالتاء أي قل لهما: ألا تتقون؟ " * (قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري) *) من تكذيبهم إياي " * (ولا ينطلق) *) ولا ينبعث " * (لساني) *) بالكلام والتبليغ للعقدة التي فيه، قراءة العامة برفع القافين على قوله " * (أخاف) *) ونصبها يعقوب على معنى وأن
يضيق ولا ينطلق " * (فأرسل إلى هارون) *) ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة، وهذا كما تقول: إذا نزلت بي نازلة أرسلت إليك، أي لتعينني " * (ولهم علي ذنب) *) يعني القتل الذي قتله منهم واسمه ماثون، وكان خباز فرعون، وقيل: على معنى: عندي ولهم عندي ذنب " * (فأخاف أن يقتلون) *) به " * (قال) *) الله سبحانه " * (كلا) *) أي لن يقتلوك " * (فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون) *))
159

سامعون ما يقولون وما تجابون، وإنما أراد بذلك تقوية قلبيهما وإخبارهما أنه يعينهما ويحفظهما " * (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) *) ولم يقل رسولا لأنه أراد المصدر أي رسالة ومجازه: ذو رسالة رب العالمين، كقول كثير:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم
بسر ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة. وقال العباس بن مرداس:
إلا من مبلغ عنا خفافا
رسولا بيت أهلك منتهاها
يعني رسالة فلذلك انتهاء، قاله الفراء.
وقال أبو عبيد: يجوز أن يكون الرسول في معنى الواحد والاثنين والجمع، تقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي، ومنه قوله " * (فإنهم عدو لي) *) وقيل: معناه كل واحد منا رسول رب العالمين.
" * (أن) *) أي بأن " * (أرسل معنا بني إسرائيل) *) إلى فلسطين ولا تستعبدهم وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة وثلاثين ألفا فانطلق موسى إلى مصر، وهارون بها وأخبره بذلك فانطلقا جميعا إلى فرعون، فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البواب فقال لفرعون: ههنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال فرعون: ايذن له لعلنا نضحك منه، فدخلا عليه وأديا إليه رسالة الله سبحانه وتعالى فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته فقال له " * (ألم نربك فينا وليدا) *) صبيا " * (ولبثت فينا من عمرك سنين) *) وهي ثلاثون سنة " * (وفعلت فعلتك التي فعلت) *) يعني قتل القبطي.
أخبرنا ابن عبدوس قال: حدثنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا محمد بن الجهم قال: حدثنا الفراء قال: حدثني موسى الأنصاري عن السري بن إسماعيل عن الشعبي انه قرأ " * (وفعلت فعلتك التي) *) بكسر الفاء ولم يقرأ بها غيره.
" * (وأنت من الكافرين) *) الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي، ربيناك فينا وليدا فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منا وكفرت بنعمتنا، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس، وقال: إن فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية.
فقال موسى " * (قال فعلتها إذا وأنا من الضالين) *) أي الجاهلين قبل أن يأتيني عن الله شيء، هذا قول أكثر المفسرين وكذلك هو في حرف ابن مسعود وأنا من الجاهلين.
160

وقيل: من الضالين عن العلم بأن ذلك يؤدي إلى قتله.
وقيل: من الضالين عن طريق الصواب من غير تعمد كالقاصد إلى أن يرمي طائرا فيصيب إنسانا.
وقيل: من المخطئين نظيره * (إنك لفي ضلالك القديم) * * (إن أبانا لفي ضلال مبين) *)
وقيل: من الناسين، نظيره " * (إن تضل إحدايهما) *).
" * (ففررت منكم لما خفتكم) *) إلى مدين " * (فوهب لي ربي حكما) *) فهما وعلما " * (وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) *).
اختلف العلماء في تأويلها، ففسرها بعضهم على إقرار وبعضهم على الإنكار، فمن قال: هو إقرار قال: عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ولم يقتله كما قتل غلمان بني إسرائيل، ولم يستعبده كما استعبد وتركني فلم يستعبدني وهذا قول الفراء، ومن قال هو إنكار قال: معناه وتلك نعمة على طريق الاستفهام كقوله " * (هذا ربي) *) وقوله " * (فهم الخالدون) *) وقول الشاعر: هم هم، وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
لم أنس يوم الرحيل وقفتها
ودمعها في جفونها عرق
وقولها والركب سائرة
تتركنا هكذا وتنطلق
وهذا قول مجاهد، ثم اختلفوا في وجهها فقال بعضهم: هذا رد من موسى على فرعون حين امتن عليه بالتربية فقال: لو لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي فأى نعمة لك علي؟
وقيل: ذكره إساءته إلى بني إسرائيل فقال: تمن علي أن تربيني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل.
161

وقيل: معناه كيف تمن علي بالتربية وقد استعبدت قومي؟ ومن أهين قومه ذل، فتعبيدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إلي.
وقال الحسن: يقول: أخذت أموال بني إسرائيل وأنفقت منها علي واتخذتهم عبيدا.
وقوله سبحانه " * (أن عبدت بني إسرائيل) *) أي اتخذتهم عبيدا، يقال: عبدته وأعبدته، وأنشد الفراء:
علام يعبدني قومي وقد كثرت
فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان
وله وجهان: أحدهما: النصب بنزع الخافض مجازه: بتعبيدك بني إسرائيل
والثاني: الرفع على البدل من النعمة.
" * (قال فرعون وما رب العالمين) *) وأي شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله إلي؟
" * (قال) *) موسى (عليه السلام) * * (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) *) إنه خلقها عن الكلبي.
وقال أهل المعاني: إن كنتم موقنين أي ما تعاينونه كما تعاينونه فكذلك فأيقنوا أن ربنا هو رب السماوات والأرض.
* (قال فرعون) * * (لمن حوله) *) من أشراف قومه، قال ابن عباس: وكانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة محيلا لقوم موسى معجبا لقومه " * (ألا تستمعون) *) فقال موسى مفهما لهم وملزما للحجة عليهم " * (ربكم ورب آبائكم الأولين قال) *) فرعون " * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) *) يتكلم بكلام لا يعقله ولا يعرف صحته. فقال موسى " * (رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) *) فقال فرعون حين لزمته الحجة وانقطع عن الجواب تكبرا عن الحق وتماديا في الغي " * (لئن اتخذت إلاها غيري لأجعلنك من المسجونين) *) المحبوسين.
قال الكلبي: وكان سجنه أشد من القتل؛ لأنه كان يأخذ الرجل إذا سجنه فيطرحه في مكان وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه شيئا، يهوى به في الأرض.
فقال له موسى حين توعده بالسجن " * (أولو جئتك بشيء مبين) *) يبين صدق قولي، ومعنى الآية: أتفعل ذلك إن أتيتك بحجة بينة، وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان.
فقال له فرعون " * (فأت به) *) فإنا لن نسجنك حينئذ " * (إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا
162

هي ثعبان مبين) *) بين ظاهر أمره، فقال: وهل غير هذا؟ " * (فنزع) *) موسى " * (يده فإذا هي بيضاء للناظرين) *))
.
* (قال للملإ حوله إن هاذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث فى المدآئن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جآء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن
163

الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفكون * فألقى السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنآ إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانآ أن كنآ أول المؤمنين * وأوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادىإنكم متبعون * فأرسل فرعون فى المدآئن حاشرين * إن هاؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغآئظون * وإنا لجميع حاذرون * فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بنىإسراءيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما ترآءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معى ربى سيهدين * فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الاخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الاخرين * إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *) 2
فقال فرعون " * (للملأ من حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم) *) وهو يوم الزينة.
قال ابن عباس: وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة وهو يوم النيروز.
وقال ابن زيد: وكان اجتماعهم للميقات بالإسكندرية، ويقال: بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة يومئذ.
" * (وقيل للناس هل أنتم مجتمعون) *) تنظرون إلى ما يفعل الفريقان ولمن تكون الغلبة لموسى أو للسحرة؟ " * (لعلنا) *) لكي " * (نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) *) موسى، قيل: إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء وأرادوا بالسحرة موسى وهارون وقومهما.
" * (فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير) *) لا ضرر " * (إنا إلى ربنا لمنقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن) *) لأن " * (كنا أول المؤمنين) *) من أهل زماننا " * (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون) *) يتبعكم فرعون
وقومه.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن لؤلؤ قال: أخبرنا الهيثم بن خلف قال: حدثنا الدورقي عن حجاج بن جريح في هذه الآية قال: أوحى الله سبحانه إلى موسى أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أهل أبيات في بيت، ثم اذبحوا أولاد الضأن فاضربوا بدمائها على أموالكم فإني سآمر الملائكة فلا تدخل بيتا على بابه دم، وسآمرها فتقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وأموالهم، ثم اخبزوا خبزا فطيرا فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري ففعل ذلك، فلما أصبحوا قال فرعون: هذا عمل موسى وقومه قتلوا أبكارنا من أنفسنا وأموالنا، فأرسل في أمره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف، وخرج فرعون في الكرسي العظيم.
" * (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين) *) يعني الشرط ليجمعوا السحرة وقال لهم: إن هؤلاء " * (لشرذمة) *) عصبة، وشرذمة كل شيء بقيته القليلة، ومنه قول الراجز:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق
شراذم يضحك منه التواق
قال ابن مسعود: كان هؤلاء الشرذمة ستمائة وسبعون ألفا.
وأخبرنا أبو بكر الخرمي قال: أخبرنا أبو حامد الأعمش قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: حدثنا إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي في هذه الآية قال: كان أصحاب موسى ستمائة ألف.
" * (وإنهم لنا لغائظون) *) يعني أعداء، لمخالفتهم ديننا وقتلهم أبكارنا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها، وخروجهم من أرضنا بغير اذن منا.
" * (وإنا لجميع حاذرون) *) قرأ النخعي والأسود بن يزيد وعبيد بن عمر و سائر قراء الكوفة وابن عامر والضحاك حاذرون بالألف وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس واختيار أبي عبيد، وقرأ الآخرون حذرون بغير ألف وهما لغتان.
وقال قوم: حاذرون: مؤدون مقرون، شاكون في السلاح، ذوو إرادة قوة وكراع وحذرون
164

فرقون متيقظون، وقال الفراء: كأن الحاذر الذي يحذرك، والحذر المخلوق حذر ألا يلقاه إلا حذرا، والحذر اجتناب الشيء خوفا منه.
وقرأ شميط بن عجلان: حادرون بالدال غير معجمة، قال الفراء: يعني عظاما من كثرة الأسلحة، ومنه قيل للعين العظيمة: حدرة وللمتورم: حادر. قال امرؤ القيس:
وعين لها حدرة بدرة
وسقت مآقيها من أخر
" * (فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز) *) قال مجاهد: سماها كنوزا لأنها لم تنفق في طاعة الله سبحانه " * (ومقام كريم) *) ومجلس حسن " * (كذلك) *) كما وصفنا " * (وأورثناها) *) بهلاكهم " * (بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين) *) فلحقوهم في وقت إشراق الشمس وهو إضاءتها " * (فلما تراءى الجمعان) *) أي تقابلا بحيث يرى كل فريق منهما صاحبه، وكسر يحيى والأعمش وحمزة وخلف الراء تراءى الباقون بالفتح.
" * (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) *) لملحقون، وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير لمدركون بتشديد الدال والاختيار قراءة العامة كقوله " * (حتى إذا أدركه الغرق) *).
" * (قال) *) موسى ثقة بوعد الله " * (كلا) *) لا يدركونكم " * (إن معي ربي سيهدين) *) طريق النجاة " * (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر) *).
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الضنجوي قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله العقيلي قال: حدثنا صفوان بن صالح قال: حدثنا الوليد قال: حدثني محمد بن حمزة وعبد الله بن سلام أن موسى لما انتهى إلى البحر قال: يا من قبل كل شيء، والمكون لكل شيء، والكائن بعد كل شيء، اجعل لنا مخرجا، فأوحى الله سبحانه أن اضرب بعصاك البحر " * (فانفلق) *) فانشق " * (فكان كل فرق) *) فرقة أي قطعة من الماء " * (كالطود العظيم) *) كالجبل الضخم.
قال ابن جريج وغيره: لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح، والبحر يرمي موجا مثل الجبال فقال له يوشع: يا مكلم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون، والبحر أمامنا؟ قال موسى: ههنا فخاض يوشع الماء وحار البحر يتوارى حتى أقر دابته الماء، وقال الذي يكتم إيمانه: يا مكلم الله أين أمرت؟ قال: ههنا فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقته، ثم أقحمه البحر فارتسب الماء، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك فلم يقدرو، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع
165

فأوحى الله سبحانه أن اضرب بعصاك البحر فضربه بعصاه فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل لبده ولا سرجه.
" * (وأزلفنا ثم الآخرين) *) يعني قوم فرعون يقول قربناهم إلى الهلاك وقدمناهم إلى البحر.
" * (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين) *) فرعون وقومه " * (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) *).
قال مقاتل: لم يؤمن من أهل مصر غير آسية امرأة فرعون وخربيل المؤمن ومريم بنت موساء التي دلت على عظام يوسف.
" * (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *).
2 (* (واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنآ ءابآءنا كذلك يفعلون * قال أفرءيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وءابآؤكم الاقدمون * فإنهم عدو لىإلا رب العالمين * الذى خلقنى فهو يهدين * والذى هو يطعمنى ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذى يميتنى ثم يحيين * والذىأطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين * رب هب لى حكما وألحقنى بالصالحين * واجعل لى لسان صدق فى الاخرين * واجعلنى من ورثة جنة النعيم * واغفر لابىإنه كان من الضآلين * ولا تخزنى يوم يبعثون) *) 2
" * (واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين) *).
قال بعض العلماء: إنما قالوا: فنظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.
" * (قال هل يسمعونكم) *) قراءة العامة بفتح الياء أي: هل يسمعون دعاءكم، وقرأ قتادة يسمعونكم بضم الياء " * (إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) *).
وفي هذه الآية بيان أن الدين إنما يثبت بالحجة وبطلان التقليد فيه.
" * (قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون) *) الأولون " * (فإنهم عدو لي) *) وأنا منهم بريء، وإنما وحد العدو لأن معنى الكلام: فإن كل معبود لكم عدو لي لو عبدتهم يوم القيامة، كما قال الله سبحانه وتعالى " * (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) *).
166

وقال الفراء: هو من المقلوب أراد فإني عدو لهم لأن من عاديته عاداك.
ثم قال " * (إلا رب العالمين) *) نصب بالاستثناء يعني فإنهم عدو لي وغير معبود لي إلا رب العالمين فإني أعبده، قاله الفراء، وقيل: هو بمعنى لكن، وقال الحسن بن الفضل: يعني الأمر عند رب العالمين.
ثم وصفه فقال " * (الذي خلقني فهو يهدين) *) أخبر أن الهادي على الحقيقة هو الخالق لا هادي غيره.
قال أهل اللسان: الذي خلقني في الدنيا على فطرته فهو يهديني في الآخرة إلى جنته.
" * (والذي هو يطعمني ويسقين) *) يعني يرزقني ويربيني.
وقال أبو العباس بن عطاء: يعني يطعمني أي طعام شاء، ويسقيني أي شراب شاء.
قال محمد بن كثير العبدي: صحبت سفيان الثوري بمكة دهرا فكان يستف من السبت إلى السبت كفا من رمل.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن علي بن الشاه يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن حمدان يقول: سمعت الحجاج بن عبد الكريم يقول: خرجت من بلخ في طلب إبراهيم بن أدهم فرأيته بحمص في أتون يسجرها فسلمت عليه وسألته عن حاله، فرد علي السلام وسألني عن حالي وحال أقربائه، فكنت معه يومه ذلك فقال: لعل نفسك تنازعك إلى شيء من طعام؟ فقلت: نعم فأخذ رمادا وترابا فخلطهما وأكلهما ثم أقبل بوجهه علي وأنشأ يقول:
اخلط الترب بالرماد وكله
وازجر النفس عن مقام السؤال
فإذا شئت ان تقبع بالذل
فرم ما حوته أيدي الرجال
فخرجت من عنده فمكثت أياما لم أدخل عليه فاشتد شوقي إليه، فدخلت عليه وكنت عنده فلم يتكلم بشيء فقلت له: لم لا تكلم؟ فقال:
منع الخطاب لأنه سبب االردى
والنطق فيه معادن الآفات
فإذا نطقت فكن لربك ذاكرا
وإذا سكت فعد جسمك مات
قال أبو بكر الوراق: يطعمني بلا طعام ويسقيني بلا شراب، ومجازها: يشبعني ويرويني من غير علاقة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنى أبيت يطعمني ربي ويسقيني). يدل عليه حديث السقاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام يقرأ " * (وما من دابة في الأرض إلا على
167

الله رزقها) *) فرمى بقربته، فأتاه آت في منامه بقدح من شراب الجنة فسقاه.
قال أنس: فعاش بعد ذلك نيفا وعشرين سنة لم يأكل ولم يشرب على شهوته.
وقال علي بن قادم: كان عبد الرحمن بن أبي نعم لا يأكل في الشهر إلا مرة، فبلغ ذلك الحجاج فدعاه وأدخله بيتا وأغلق عليه بابه ثم فتحه بعد خمسة عشر يوما ولم يشك أنه مات فوجده قائما يصلي فقال: يا فاسق تصلي بغير وضوء فقال: إنما يحتاج إلى الوضوء من يأكل ويشرب، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها هذا البيت.
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول: سمعت أبا سعيد الخزاز بمكة يقول: كنت بطرسوس جائعا
، فاشتد بي الجوع فجلست على شاطئ النهر ووضعت رجلي في الماء فنوديت: أضجرت من جوعك؟ هاك شبع الأبد.
قال: فعاش بعده سنين لم يشته طعاما ولا شرابا، وكان مع ذاك إذا أراد الأكل والشرب أمكنه.
وبلغني أن امرأة أسرت من حلب إلى الروم في أيام سيف الدولة علي بن حمدان، فهربت منهم ومشت مائتي فرسخ لم تطعم شيئا، فقدمت إلى سيف الدولة فقال لها: كيف قويت على المشي وكيف عشت بلا طعام؟
فقالت: كنت كلما جعت أو أعييت أقرأ " * (قل هو الله أحد) *) ثلاث مرات فأشبع وأروى وأقوى.
وسمعت أبا القاسم؟ يقول: سمعت أبا القاسم النصرآبادي يقول: سمعت أبا بكر الشبلي يقول: في الخبز لطيفة تشبعك لا الخبز، ولو شاء لأبقى فيك تلك اللطيفة حتى لا تحتاج إلى الخبز.
وقال ذو النون المصري: يطعمني طعام المحبة ويسقيني شراب المحبة. ثم أنشأ يقول:
شراب المحبة خير الشراب
وكل شراب سواه سراب
وسمعت ابن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبيد الله الجرجاني يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول: سمعت عمي يقول: سمعت أبا يزيد البسطامي يقول: إن لله شرابا يقال له شراب المحبة ادخره لأفاضل عباده، فإذا شربوا سكروا، فإذا سكروا
168

طاشوا، فإذا طاشوا طاروا، فإذا طاروا وصلوا، فإذا وصلوا اتصلوا، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال الجنيد: يحشر الناس كلهم عراة إلا من لبس لباس التقوى، وغراثا إلا من أكل طعام المعرفة، وعطاشى إلا من شرب شراب المحبة.
" * (وإذا مرضت) *) أضاف إبراهيم (عليه السلام) المرض إلى نفسه وإن كان من الله سبحانه؛ لأن قومه كانوا يعدونه عيبا فاستعمل حسن الأدب، نظيرها قصة الخضر حيث قال " * (فأردت أن أعيبها) *) وقال * (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) * * (فهو يشفين) *) يبرئني
يحكى أن أبا بكر الوراق مر بطبيب يعطي الناس الأدوية فوقف عليه وقال: أيفعل دواؤك هذا أمرين؟
قال: وما هما؟
فقال: رد قضاء قاض وجر شفاء شاف؟
فقال: لا
قال: فليس (ذلك بشيء).
وقال جعفر الصادق: إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة.
سامر بن عبد الله: إذا أمرضتني مقاساة الخلق شفاني بذكره والأنس به.
" * (والذي يميتني ثم يحيين) *) أدخل ههنا " * (ثم) *) للقطع والتراخي.
قال أهل اللسان والإشارة: يميتني بالعدل ويحييني بالفضل، يميتني بالمعصية ويحييني بالطاعة، يميتني بالفراق ويحييني بالتلاقي، يميتني بالخذلان ويحييني بالتوفيق، يميتني غنى ويحييني به، يميتني بالجهل ويحييني بالعلم.
" * (والذي أطمع) *) أرجو " * (أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) *) قراءة العامة بالتوحيد.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حنش قال: حدثنا أبا القاسم بن الفضل قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أحمد بن يزيد قال: حدثنا روح عن أبي اليقظان قال: حدثنا الحكم السلمي
169

قال: سمعت الحسن يقرأ (والذي أطمع أن يغفر لي خطاياي يوم الدين).
قال: إنها لم تكن خطيئة ولكن كانت خطايا.
قال مجاهد ومقاتل: هي قوله " * (إني سقيم) *) وقوله " * (بل فعله كبيرهم) *) وقوله لسارة (هي أختي) زاد الحسن، وقوله للكواكب " * (هذا ربي) *).
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت الحريري قال: حدثنا أبو سعيد الأشج قال: حدثنا أبو خالد عن داود عن الشعبي عن عائشة خ قالت: يا رسول الله إن عبد الله بن جدعان كان يقري الضيف ويصل الرحم ويفك العاني، فهل ينفعه ذلك؟
قال: لا، لأنه لم يقل يوما قط: اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
وهذا الكلام من إبراهيم (عليه السلام) احتجاج على قومه وإخبار أنه لا يصلح للإلهية إلا من فعل هذه الأفعال.
" * (رب هب لي حكما) *) وهو البيان على الشيء على ما توجبه الحكمة، وقال مقاتل: فهما وعلما، والكلبي: النبوة.
" * (وألحقني بالصالحين) *) بمن قبلي من النبيين في الدرجة والمنزلة. وقال ابن عباس: بأهل الجنة.
" * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) *) أي ذكرا جميلا وثناء حسنا وقبولا عاما في الأمم التي تجيء بعدي، فأعطاه الله سبحانه وتعالى ذلك، فكل أهل الأديان
يتولونه ويبنون عليه.
قال القتيبي: ووضع اللسان موضع القول على الاستعارة؛ لأن القول يكنى بها، والعرب تسمي اللغة لسانا. وقال أعشى باهله:
إني أتتني لسان لا أسر بها
من علو لا عجب منها ولا سخر
" * (واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي انه كان من الضالين) *) وقد بينا المعنى الذي من أجله استغفر إبراهيم (عليه السلام) لأبيه في سورة التوبة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع
170

" * (ولا تخزني يوم يبعثون) *))
.
* (يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم * وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين * وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفى ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * ومآ أضلنآ إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين * إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *) 2
" * (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) *) خالص من الشرك والشك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد هذا قول أكثر المفسرين.
وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو الصحيح، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله سبحانه " * (في قلوبهم مرض) *).
وقال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب الخالي من البدعة، المطمئن على السنة.
وقال الحسين بن الفضل: سليم من آفة المال والبنين.
وقال الجنيد: السليم في اللغة اللديغ فمعناه: كاللديغ من خوف الله.
" * (وأزلفت) *) وقربت " * (الجنة للمتقين وبرزت) *) وأظهرت " * (الجحيم للغاوين) *) للكافرين " * (وقيل لهم) *) يوم القيامة " * (أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أوينتصرون) *) لأنفسهم " * (فكبكبوا فيها) *).
قال ابن عباس: جمعوا، مجاهد: ذهبوا، مقاتل: قذفوا، وأصله كببوا فكررت الكاف فيه مثل قولك: تهنهني وريح صرصر ونحوهما.
" * (هم والغاوون) *) يعني الشياطين، عن قتادة ومقاتل، الكلبي: كفرة الجن.
" * (وجنود إبليس أجمعون) *) وهم أتباعه ومن أطاعه من الجن والإنس قالوا للشياطين والمعبودين " * (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم) *) نعدلكم " * (برب العالمين) *) فنعبدكم من دونه " * (وما أضلنا) *) أي دعانا إلى الضلال وأمرنا به " * (إلا المجرمون) *) يعني الشياطين، عن مقاتل، والكلبي: أولونا الذين اقتدينا بهم، أبو العالية وعكرمة: يعني إبليس وابن آدم القاتل؛ لأنه أول من سن القتال وأنواع المعاصي
171

" * (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) *) قريب ينفعنا ويشفع لنا، وذلك حين يشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون.
أخبرني الحسين بن محمد الفنجوي قال: حدثنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال: حدثنا صفوان بن صالح قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا من سمع أبا الزبير يقول: أشهد لسمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرجل ليقول في الجنة: رب ما فعل صديقي فلان وصديقه في الحميم؟ فيقول الله سبحانه: أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي " * (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) *).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبة قال: حدثنا سمعان بن أبي مسعود قال: حدثنا المضاء بن الجارود قال: حدثنا صالح المري عن الحسن قال: ما اجتمع ملأ على ذكر الله تعالى فيهم عبد من أهل الجنة إلا شفعه الله فيهم وإن أهل الإيمان شفعاء بعضهم في بعض، وهم عند الله شافعون مشفعون.
" * (فلو أن لنا كرة) *) رجعة إلى الدنيا تمنوا حين لم ينفعهم " * (فنكون من المؤمنين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *).
2 (* (كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * فاتقوا الله وأطيعون * قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون * قال وما علمى بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربى لو تشعرون * ومآ أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين * قالوا لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين * قال رب إن قومى كذبون * فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى ومن معى من المؤمنين * فأنجيناه ومن معه فى الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين * إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *) 2
" * (كذبت قوم نوح) *) أدخلت ألتاء للجماعة كقوله " * (قالت الأعراب) *).
" * (المرسلين) *) يعني نوحا وحده كقوله " * (يا أيها الرسل) *).
وأخبرني أبو عبد الله الدينوري قال: حدثنا أبو على المقري قال: حدثنا أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب قال: حدثنا الحسن بن محمد الصباح قال: حدثنا عبد الوهاب عن إسماعيل
172

عن الحسين قال: قيل له: يا أبا سعيد أرأيت قوله عز وجل " * (كذبت قوم نوح المرسلين) *) و " * (كذبت عاد المرسلين) *) و " * (كذبت ثمود المرسلين) *) وانما أرسل إليهم رسولا واحدا؟
قال: ان الآخر جاء بما جاء به الأول، فإذا كذبوا واحدا فقد كذبوهم أجمعين.
" * (إذ قال لهم أخوهم) *) في النسبة لا في الدين " * (نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين) *) على الوحي " * (فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون قالوا أنؤمن لك واتبعك) *) قراءة العامة، وقرأ يعقوب: وأتباعك " * (الأرذلون) *) يعني السفلة عن مقاتل وقتادة والكلبي. ابن عباس: الحاكة.
وأخبرني الحسين بن محمد الفنجوي قال: حدثنا محمد بن الحسين الكعبي قال: حدثنا حسين بن مزاحم عن ابن عباس في قول الله سبحانه " * (واتبعك الأرذلون) *) قال: الحاكة، عكرمة: الحاكة والأسالفة.
* (قال نوح) * * (وما علمي بما كانوا يعملون) *) إنما لي منهم ظاهر أمرهم، وعلي أن أدعوهم وليس على من خساسة أحوالهم ودناءة مكاسبهم شيء، ولم أكلف ذلك إنما كلفت أن أدعوهم.
" * (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) *) وقيل: معناه أي لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم، ويوفقهم ويخذلكم.
" * (وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يا نوح) *) عما تقول وتدعو إليه " * (لتكونن من المرجومين) *) يعني المشؤومين عن الضحاك، قتادة: المضروبين بالحجارة.
قال ابن عباس ومقاتل: من المقتولين.
الثمالي: كل شيء في القرآن من ذكر المرجومين فإنه يعني بذلك القتل إلا التي في سورة مريم " * (لئن لم تنته لأرجمنك) *) فإنه يعني لاشتمنك.
" * (قال رب إن قومي كذبون فافتح) *) فاحكم " * (بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) *) يعني الموقر المجهز عن ابن عباس. مجاهد: المملوء، المفروغ منه، عطاء: المثقل، قتادة: المحمل.
173

2 (* (كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذىأمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إنىأخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا سوآء علينآ أوعظت أم لم تكن من الواعظين * إن هاذا إلا خلق الاولين * وما نحن بمعذبين * فكذبوه فأهلكناهم إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *) 2
" * (ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين) *) على الرسالة، وقال الكلبي: أمين فيكم قبل الرسالة فكيف تتهموني اليوم؟ " * (فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع) *).
قال الوالبي عن ابن عباس: بكل شرف.
قتادة والضحاك ومقاتل والكلبي: طريق، هي رواية العوفي عن ابن عباس.
ابن جريج عن مجاهد: هو الفج بين الجبلين.
ابن أبي نجيح عنه: هو الثقبة الصغيرة وعنه أيضا عكرمة: واد.
مقاتل بن سليمان: كانوا يسافرون ولا يهتدون إلا بالنجوم فبنوا على الطرق أميالا طوالا عبثا ليهتدوا بها، يدل عليه قوله " * (آية) *) أي علامة.
وروي عن مجاهد أيضا قال: الريع بنيان الحمام، دليله وقوله " * (تعبثون) *) أي تلعبون، أبو عبيد: هو المكان المرتفع، وأنشد لذي الرمة:
طراق الخوافي مشرف فوق ريعه
ندى ليلة في ريشه يترقرق
وفيه لغتان ريع وريع بكسر الراء وفتحها وجمعه أرياع وريعه.
" * (وتتخذون مصانع) *).
قال ابن عباس ومجاهد: قصور مشيدة معمر عنه: الحصون.
ابن أبي نجيح عنه: بروج الحمام، قتادة: مآخذ للماء، الكلبي: منازل، عبد الرزاق: المصانع عندنا بلغة اليمن: القصور العادية واحدتها مصنع
174

" * (لعلكم تخلدون) *) قال ابن عباس وقتادة: يعني كأنكم تبقون فيها خالدين، ابن زيد: لعل استفهام، يعني فهل تخلدون حين تبنون هذه الأشياء؟ الفراء: كيما تخلدون.
" * (وإذا بطشتم) *) أي سطوتم وأخذتم " * (بطشتم جبارين) *) قتالين من غير حق.
قال مجاهد: قتلا بالسيف وضربا بالسوط، والجبار: الذي يقتل ويضرب على الغضب.
" * (فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون) *).
ثم ذكر ما أعطاهم فقال " * (أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا سواء علينا أوعظت) *).
روى العباس عن ابن عمير، وواقد عن الكسائي بإدغام الطاء في التاء، الباقون: بالإظهار وهو الاختيار.
" * (أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين) *)
قرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأيوب وأبي عبيد وأبي حاتم بفتح الخاء، لقوله " * (وتخلقون إفكا) *) وقوله " * (إن هذا إلا اختلاق) *) ومعناه: إن هذا إلا دأب الأولين وأساطيرهم وأحاديثهم، وقرأ الباقون: بضم الخاء واللام أي عبادة الأولين من قبلنا، يعيشون ماعاشوا ثم يموتون ولا بعث ولا حساب، وهذا تأويل قتادة.
" * (وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *))
.
* (كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتتركون فى ما هاهنآ ءامنين * فى جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون فى الارض ولا يصلحون * قالوا إنمآ أنت من المسحرين * مآ أنت إلا بشر مثلنا فأت بئاية إن كنت من الصادقين * قال هاذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم * ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم * فعقروها فأصبحوا نادمين * فأخذهم العذاب إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *
175

" * (كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون في ما ههنا) *) أي في الدنيا " * (آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها) *) ثمرها " * (هضيم) *).
قال ابن عباس: لطيف ما دام في كفراه، ومنه قيل: هضيم الكشح إذا كان لطيفا، وهضم الطعام إذا لطف واستحال إلى شكله، عطية عنه: يانع نضيج، قتادة وعكرمة: الرطب اللين، الحسن: رخو.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شبنة قال: حدثنا ابن ماهان قال: حدثنا الطنافسي قال: حدثنا وكيع عن سلام عن أبي إسحاق عن أبي العلاء، طلعها هضيم قال: مذنب، مجاهد: متهشم متفتت وذلك حين يطلع يفيض عليه فيهضمه، وهو ما دام رطبا فهو هضيم فإذا يبس فهو هشيم، أبو العالية: يهشهش في الفم. الضحاك ومقاتل: متراكم ركب بعضه بعضا حتى هضم بعضه بعضا، وأصله من الكسر.
" * (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) *) قرأ أهل الشام والكوفة فارهين بالألف، وهي قراءة أصحاب عبد الله واختيار أبي عبيد أي حاذقين بتخيرها.
وقال عطية وعبد الله بن شداد: متخيرين لمواضع نحتها، وقرأ الباقون: فرهين بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم. واختلفوا في معناه فقال ابن عباس: أشرين، الضحاك: كيسين، قتادة: معجبين بصنعكم، مجاهد: شرهين، عكرمة: ناعمين، السدي: متحيرين، ابن زيد: أقوياء، الكسائي: بطرين، أبو عبيدة: فرحين، الأخفش: فرحين، والعرب تعاقب بين الحاء والهاء مثل: مدحته ومدهته، ويجوز أن يكون فرهين وفارهين بمعنى واحد مثل قوله " * (عظاما نخرة) *) وناخرة، ونحوها.
" * (فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين) *) المشركين " * (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا انما أنت من المسحرين) *) أي المسحورين المخدوعين عن مجاهد وقتادة.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: من المعللين بالطعام والشراب، وأنشد الكلبي قول لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا
عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال آخر:
ويسحر بالطعام وبالشراب
176

أي يعلل ويخدع، وهو على هذين القولين من السحر بكسر السين.
وقال بعضهم: من السحر بفتح السين أي أصحاب الرؤية، يدل عليه قوله " * (ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية) *) على صحة ما يقول " * (إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب) *) حظ ونصيب من الماء " * (ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء) *) بعقر " * (فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين) *) على عقرها حين رأوا العذاب.
" * (فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *))
.
* (كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين * قال إنى لعملكم من القالين * رب نجنى وأهلى مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين * ثم دمرنا الاخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين * إن فى ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *) 2
" * (كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) *) مجاوزون الحلال إلى الحرام.
" * (قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين) *) من بلدنا " * (قال إني لعملكم) *) يعني اللواط
" * (من القالين) *) المبغضين.
ثم دعا فقال " * (رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين) *) عند نزول العذاب " * (إلا عجوزا في الغابرين) *) وهي امرأة لوط بقيت في العذاب والهلاك.
" * (ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) *) فقال: سمعت وهب بن منبه يقول: الكبريت والنار.
" * (ان في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *))
.
177

2 (* (كذب أصحاب لئيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون * إنى لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين * أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تعثوا فى الارض مفسدين * واتقوا الذى خلقكم والجبلة الاولين * قالوا إنمآ أنت من المسحرين * ومآ أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السمآء إن كنت من الصادقين * قال ربىأعلم بما تعملون * فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم * إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين) *) 2
" * (كذبت أصحاب الأيكة) *) الغيضة وهم قوم شعيب والليكة والأيكة لغتان قرئتا جميعا " * (المرسلين) *).
قال أبو زيد: بعث الله سبحانه شعيبا إلى قومه وأهل مدين وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة.
" * (إذ قال لهم شعيب ألا تتقون) *) ولم يقل أخوهم شعيب لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال: " * (أخاهم شعيبا) *) لأنه كان منهم.
" * (إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) *) وإنما دعوة هؤلاء الأنبياء كلهم فيما حكى الله سبحانه عنهم على صيغة واحدة للإخبار بأن الحق الذي يدعون إليه واحد، وأنهم متفقون على الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على الدعوة وتبليغ الرسالة.
" * (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين) *) الناقصين للكيل والوزن.
" * (وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة) *) الخليقة " * (الأولين) *). والجبل: الخلق، قال الشاعر:
والموت أعظم حادث
مما يمر على الجبلة
" * (قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون) *) وهو مجازيكم به وما علي إلاالدعوة.
" * (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة) *) وذلك أن الله سبحانه حبس عنهم الريح سبعة أيام
178

وسلط عليهم الحر حتى أخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء، وكانوا يدخلون الأسراب ليتبردوا فيها فإذا دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر، فخرجوا هرابا إلى البرية فأظلتهم سحابة وهي الظلة، فوجدوا لها بردا ونسيما فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أمطرت عليهم نارا فاحترقوا.
قال قتادة: بعث الله سبحانه شعيبا إلى أمتين: أصحاب الأيكة وأهل مدين، فأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأما أهل مدين فأخذتهم الصيحة، صاح بهم جبرئيل صيحة فهلكوا جميعا.
أخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا المسيب عن برد الجريري قال: سلط الحر عليهم سبعة أيام ولياليهن، ثم رفع لهم جبل من بعيد، فأتاه رجل منهم فإذا تحته أنهار وعيون وماء بارد فتمكن تحته وأخذ ما يكفيه ثم جاء إلى أهل بيته فآذنهم فجاؤوا فأخذوا ما يكفيهم وتمكنوا، ثم آذن بقية الناس فاجتمعوا تحته كلهم فلم يغادر منهم أحدا، فوقع ذلك الجبل عليهم فذلك قوله سبحانه " * (فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) *))
.
* (وإن ربك لهو العزيز الرحيم * وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الامين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين * وإنه لفى زبر الاولين * أو لم يكن لهم ءاية أن يعلمه علماء بنىإسراءيل * ولو نزلناه على بعض الاعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين * كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) *)
[/ مق]
" * (وإنه لتنزيل رب العالمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم * فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون * فيقولوا هل نحن منظرون * أفبعذابنا يستعجلون * أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جآءهم ما كانوا يوعدون * مآ أغنى عنهم ما كانوا يمتعون * ومآ أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين * وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغى لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون * فلا تدع مع الله إلاها ءاخر فتكون من المعذبين * وأنذر عشيرتك الاقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم * الذى يراك حين تقوم * وتقلبك فى الساجدين * إنه هو السميع العليم) *) يعني القرآن " * (نزل به الروح الأمين) *) قرأ الحجازيون وأبو عمر بتخفيف الزاي ورفع الحاء والنون يعنون جبرئيل (عليه السلام) بالقرآن، وقرأ الآخرون بتشديد الزاي وفتح الحاء والنون أي نزل الله جبرئيل (عليه السلام)، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لقوله " * (وإنه لتنزيل) *) وهو مصدر نزل، على قلبك يا محمد حتى وعيته.
179

" * (لتكون من المنذرين بلسان) *) يعني نزل بلسان " * (عربي مبين وإنه) *) يعني ذكر القرآن وخبره عن أكثر المفسرين وقال مقاتل: يعني ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته " * (لفي زبر) *) كتب " * (الأولين) *) وقرأ الأعمش زبر بجزم الباء، وغيره بالرفع.
" * (أو لم يكن لهم آية) *) قرأ ابن عامر تكن بالتاء " * (آية) *) بالرفع، غيره تكن بالتاء آية بالنصب، ومعنى الآية أولم يكن لهؤلاء المنكرين دلالة وعلامة " * (أن يعلمه) *) يعني محمدا " * (علماء بني إسرائيل) *).
عبد الله بن سلام وأصحابه قال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة فسألوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن هذا لزمانه وإنا نجد في التوراة نعته وصفته وكان ذلك آية لهم على صدقه.
" * (ولو نزلناه) *) يعني القرآن " * (على بعض الأعجمين) *) هو جمع الأعجم، وهو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية وإن كان منسوبا إلى العرب، وتأنيثه عجماء، وجمعه عجم، ومنه قيل للبهائم عجم لأنها لا تتكلم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) فإذا أردت أنه منسوب إلى العجم قلت: عجمي.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حنش قال: حدثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدثنا سهل بن علي قال: حدثنا أبو عمر قال: حدثنا شجاع بن أبي نصر عن عيسى بن عمر عن الحسن أنه قرأ (ولو نزلناه على بعض الأعجميين) مشددة بيائين، جعله نسبة ومعنى الآية: ولو نزلناه على رجل ليس بعربي اللسان فقرأه عليهم بغير لغة العرب لما كانوا به مؤمنين، وقالوا: ما نفقه قولك نظيره قوله سبحانه " * (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته) *)، وقيل معناه: ولو نزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة من اتباعه.
" * (كذلك سلكناه) *) أي أدخلنا القرآن " * (في قلوب المجرمين) *) لتقوم الحجة عليهم، وقيل: يعني سلكنا الكفر في قلوب المجرمين " * (لا يؤمنون به) *).
قال الفراء: من شأن العرب إذا وضعت (لا) موضع (كي) في مثل هذا ربما جزمت ما بعدها وربما رفعت فتقول: ربطت الفرس لا ينفلت جزما ورفعا، وأوثقت العبد لا يأبق في الجزم على تأويل إن لم أربطه انفلت، وإن لم أوثقه فر، والرفع على أن الجازم غير ظاهر. أنشد بعض بني عقيل:
180

وحتى رأينا أحسن الود بيننا
مساكنة لا يقرف الشر قارف
ينشد رفعا وجزما، ومن الجزم قول الراجز:
لطال ما حلأتماها لا ترد
فخلياها والسجال تبترد
" * (حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم) *) قراءة العامة بالياء يعنون العذاب.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حنش قال: أخبرنا أبو العباس عبد الرحمن بن محمد ابن حماد الطهراني قال: أخبرنا أبو زكريا يحيى بن الفضل الحرمي قال: حدثنا وهب بن عمرو النمري قال: أخبرنا هارون بن موسى العتكي قال: حدثنا الحسام عن الحسن أنه قرأ " * (فيأتيهم بغتة) *) بالتاء فقال له رجل: يا أبا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة فانتهره الحسن وقال: إنما هي الساعة.
" * (وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون) *).
قال مقاتل: فقال المشركون: يا محمد إلى متى توعدنا بالعذاب؟ فأنزل الله عز وجل " * (أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين) *) في الدنيا ولم نهلكهم " * (
ثم جاءهم ما كانوا يوعدون) *) يعني العذاب " * (ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) *) رسل ينذرونهم " * (ذكرى) *) أي ينذرونهم تذكرة محلها نصب، وقيل رفع أي تلك ذكرى.
" * (وما كنا ظالمين) *) في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم.
" * (وما تنزلت به الشياطين) *) بل نزل به الروح الأمين، وقراءة العامة الشياطين بالياء في جميع القرآن لأن نونه سنخية وهجاؤه واحد كالدهاقين والبساتين.
وقرأ الحسن البصري ومحمد بن السميدح اليماني: الشياطون بالواو
وقال الفراء: غلط الشيخ يعني الحسن فقيل: ذلك النضر بن شميل فقيل: إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة ودونهما فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه؟ مع إنا نعلم أنهما لم يقرآ ذلك إلاوقد سمعا فيه.
وقال المؤرخ: إن كان اشتقاق الشياطين من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه.
وأخبرني عمر بن شبه قال: سمعت أبا عبيد يقول: لم نعب على الحسن في قراءته إلا قوله: وما تنزلت به الشياطون.
وبإسناده عن عمر بن شبه قال: حدثنا أبو حرب البابي من ولد باب قال: جاء أعرابي إلى
181

يونس بن حبيب فقال: أتانا شاب من شبابكم هؤلاء فأتى بنا هذا الغدير فأجلسنا في ذات جناحين من الخشب فأدخلنا بساتين من وراءها بساتون.
قال يونس: ما أشبه هذا بقراءة الحسن.
" * (وما ينبغي لهم) *) أن ينزلوا القرآن " * (وما يستطيعون) *) ذلك " * (إنهم عن السمع) *) أي استراق السمع من السماء " * (لمعزولون) *) وبالشهب مرجومون " * (فلا تدع مع الله إلاها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين) *).
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدثنا الحسن بن علي بن شبيب المعمر قال: حدثني عباد بن يعقوب قال: حدثنا علي بن هاشم عن صباح بن يحيى المزني عن زكريا بن ميسرة عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما نزلت " * (وأنذر عشيرتك الأقربين) *) جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا، الرجل منهم يأكل المسنة ويشرب العس، فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال: ادنوا باسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم: اشربوا باسم الله، فشرب القوم حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما يسحركم به الرجل، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ فلم يتكلم.
ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله سبحانه والبشير لما يجيء به أحد منكم، جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ومن يواخيني ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي، وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم، وأعاد ذلك ثلاثا كل ذلك يسكت القوم، ويقول علي: أنا فقال: (أنت) فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمر عليك.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الاصفهاني ومحمد بن عبد الله بن حمدون قالا: أخبرنا أحمد ابن محمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله سبحانه " * (وأنذر عشيرتك الأقربين) *) قال: (يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، فسلوني من مالي ما شئتم).
وأخبرني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم
182

قال: حدثنا عبد الله قال: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أنزل الله سبحانه " * (وأنذر عشيرتك الأقربين) *) أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسولا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا بني عبد المطلب، يا بني فهر لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟
قالوا: نعم
قال: فإني نذيركم بين يدي عذاب شديد
فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ما دعوتنا إلا لهذا، فأنزلت " * (تبت يدا أبي لهب وتب) *).
" * (واخفض جناحك) *) فلين جانبك " * (لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون) *) من عبادة الأوثان ومعصية الرحمن.
" * (وتوكل) *) بالفاء أهل المدينة والشام وكذلك هو في مصاحفهم، وغيرهم بالواو أي وتوكل " * (على العزيز الرحيم) *) ليكفيك كيد أعدائك.
" * (الذي يراك حين تقوم) *) إلى صلاتك عن أكثر المفسرين.
وقال مجاهد: الذي يراك أينما كنت " * (وتقلبك) *) ويرى تقلبك في صلاتك في حال قيامك وقعودك وركوعك وسجودك.
قال عكرمة وعطية عن ابن عباس، وقال مجاهد: ويرى تقلبك في المصلين أي إبصارك منهم من هو خلفك كما تبصر من هو أمامك.
قال: وكان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن قال: حدثنا السلمي وأحمد بن حفص وعبد الله الفراء وقطن قالوا: حدثنا حفص قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم.
وقال قتادة وابن زيد ومقاتل والكلبي: يعني وتصرفك مع المصلين في أركان الصلاة في الجماعة قائما وقاعدا وراكعا وساجدا، وهي رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس.
183

وقال سعيد بن جبير: وتصرفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك تفعله، والساجدون في هذا القول: الأنبياء.
وقال الحسن: يعني وتصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك والمؤمنين.
أخبرني أبو سهل عبد الملك بن محمد بن أحمد بن حبيب المقري قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن موسى، قال: حدثنا زنجويه بن محمد، قال: حدثنا على بن سعيد النسوي
أبو عاصم عن صهيب عن عكرمة عن ابن عباس " * (وتقلبك في الساجدين) *) قال: من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة.
وحدثنا أبو الحسن محمد بن علي بن سهل الماسرخسي الفقيه إملاء قال: أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة قال: حدثنا الحسن بن بشر قال: حدثنا سعدان بن الوليد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس في قوله سبحانه " * (وتقلبك في الساجدين) *) قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه.
" * (إنه هو السميع) *) لقراءتك " * (العليم) *) بعملك.
" * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعرآء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون) *) 2
" * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين) *) ثم بين فقال " * (تنزل على كل أفاك) *) كذاب " * (أثيم) *) فاجر، وهم الكهنة.
وقال مقاتل: مثل مسيلمة وطلحة.
" * (يلقون السمع) *) يعني يستمعون من الملائكة مسترقين فيلقون إلى الكهنة.
" * (وأكثرهم كاذبون) *) لانهم يخلطون به كذبا كثيرا، وهم الآن محجوبون والحمد لله رب العالمين.
" * (والشعراء يتبعهم الغاوون) *).
أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن قهزاد المروزي قال: حدثنا حاتم بن العلاء قال: أخبرنا عبد المؤمن عن بريده عن ابن عباس في هذه الآية " * (والشعراء يتبعهم
184

الغاوون) *) قال: هم الشياطين، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى " * (فأغويناكم إنا كنا غاوين) *).
وقال الضحاك: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين، ومع كل واحد منهم غواة من قومه وهم السفهاء، فنزلت هذه الآية وهي رواية عطية عن ابن عباس.
عكرمة عنه: الرواة.
علي بن أبي طلحة عنه: كفار الجن والإنس.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال: أخبرني جعفر بن محمد قال: حدثنا حسين بن محمد بن علي قال: حدثنا أبي عن عبد الله بن سعيد بن الحر عن أبي عبد الله " * (والشعراء يتبعهم الغاوون) *) قال: هم الذين يشعرون قلوب الناس بالباطل، وأراد بهؤلاء شعراء الكفار: عبد الله بن الزبعرى المخزومي، وهبيرة بن أبي وهب، ومسافع بن عبد مناف، وعمرو بن عبد الله أبا عزة الجمحي، وأمية بن أبي الصلت كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتبعهم الناس.
أخبرني الحسن بن محمد بن الحسين قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبة قال: حدثنا محمد بن عمران بن هارون قال: حدثنا علي بن سعيد النسوي قال: حدثنا عبد السلام عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن مكحول عن أبي إدريس عن غضيف أو أبي غضيف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه).
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال: أخبرنا أبو يعلى قال: حدثنا إبراهيم بن عرعرة قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم يعني مكة رن إبليس رنة فاجتمعت إليه ذريته فقال: (آيسوا أن ترتد أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا، ولكن أفشوا فيها يعني مكة الشعر والنوح).
" * (ألم تر أنهم في كل واد) *) من أودية الكلام " * (يهيمون) *) حائرين وعن طريق الحق والرشد جائرين.
قال الكسائي: الهائم الذاهب على وجهه.
أبو عبيد: الهائم المخالف للقصد
185

قال ابن عباس في هذه الآية: في كل لغو يخوضون، مجاهد: في كل فن يفتنون، قتادة: يمدحون قوما بباطل، ويشتمون قوما بباطل.
" * (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) *) ثم استثنى شعراء المؤمنين: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير فقال عز من قائل " * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا) *) يعني ردوا على المشركين الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبة قال: حدثنا عبد الله بن أحمد الكسائي قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا يحيى بن واضح عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي الحسن البراد قال: لما نزلت هذه الآية " * (والشعراء يتبعهم الغاوون) *) جاء عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون فقالوا: يا رسول الله أنزل الله سبحانه هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء، فقال: إقرؤوا ما بعدها " * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا) *) أنتم " * (وانتصروا) *) أنتم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا القطيعي قال: حدثنا ابن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري.
وأخبرنا ابن حمدون قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري قال: حدثنا عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله سبحانه في الشعراء ما أنزل: يا رسول الله إن الله سبحانه وتعالى قد أنزل في الشعراء ما قد علمت فكيف ترى فيه؟
فقال النبى صلى الله عليه وسلم (إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عمر بن الخطاب قال: حدثنا عبد الله بن الفضل قال: حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أن عمر مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة وقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أجب عني، اللهم أيده بروح القدس)؟ قال: اللهم نعم
186

وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبة قال: حدثنا محمد بن علي بن سالم الهمداني قال: حدثنا أحمد بن منيع قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الشيباني عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: (اهج المشركين فإن جبرئيل معك).
" * (وسيعلم الذين ظلموا) *) أشركوا " * (أي منقلب ينقلبون) *) أي مرجع يرجعون إليه بعد مماتهم.
وروى نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس ح (أي منقلب ينفلتون) بالفاء والتاء ومعناهما واحد.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبة قال: حدثنا الفريابي قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا ابن عون عن إبراهيم قال: كان شريح يقول: سيعلم الظالمون حظ من نقصوا، إن الظالم ينتظر العقاب، وإن المظلوم ينتظر النصر.
187

((سورة النمل))
مكية، وهي أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا، وألف وتسع وأربعون كلمة، وثلاث وسبعون آية.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد المعدل قال: حدثنا أبو يحيى البزاز قال: حدثنا محمد بن منصور قال: حدثنا محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثني أبي، عن مجالد بن عبد الواحد، عن الحجاج بن عبد الله، عن أبي الخليل وعن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بسليمان وكذب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادي: لا إله إلا الله).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (طستلك ءايات القرءان وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم بالاخرة هم يوقنون * إن الذين لا يؤمنون بالاخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولائك الذين لهم سوء العذاب وهم فى الاخرة هم الاخسرون * وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم) *) 2
" * (طس) *) قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله عز وجل، أقسم الله سبحانه به أن هذه السورة " * (آيات القرآن وكتاب مبين) *) يعني وآيات كتاب مبين، وقيل: الطاء من اللطيف، والسين من السميع، وقال أهل الإشارة: هي إشارة إلى طهارة سر حبيبه.
" * (هدى وبشرى للمؤمنين) *) فيهما وجهان من العربية، الرفع على خبر الابتداء أي هي هدى، وإن شئت على حرف جزاء الصفة في قوله " * (للمؤمنين) *) والنصب على القطع والحال.
" * (الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم بالآخرة هم يوقنون إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم) *) القبيحة حتى رأوها حسنة، وتزيينه خذلانه إياهم
188

" * (فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء) *) شدة " * (العذاب) *) في الدنيا القتل والأسر بيده.
" * (وهم في الآخرة هم الأخسرون) *) بحرمان النجاة والمنع من دخول الجنات.
" * (وإنك لتلقى) *) لتلقن وتعطى " * (القرآن) *) نظيره قوله سبحانه وتعالى " * (ولا يلقاها إلا الصابرون) *) * * (من لدن حكيم عليم) *))
.
* (إذ قال موسى لاهله إنىآنست نارا سئاتيكم منها بخبر أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون * فلما جآءها نودى أن بورك من فى النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين * ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم * وألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إنى لا يخاف لدى المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم * وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء فى تسع ءايات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما جآءتهم ءاياتنا مبصرة قالوا هاذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) *) 2
" * (إذ قال موسى لأهله) *) في مسيره من مدين إلى مصر وقد أصلد زنده " * (إني آنست نارا) *) فامكثوا مكانكم " * (سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس) *) قرأ أهل الكوفة ويعقوب: بشهاب منون على البدل، غيرهم بالإضافة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، ومعناه: سآتيكم بشعلة نار اقتبسها منها.
" * (لعلكم تصطلون) *) تستدفئون " * (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار) *).
قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن: يعني قدس من في النار وهو الله سبحانه عنى به نفسه عز وجل، وتأويل هذا القول أنه كان فيها لا على معنى تمكن الأجسام لكن على معنى أنه نادى موسى منها، وأسمعه كلامه من جهتها وأظهر له ربوبيته من ناحيتها، وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة: جاء الله عز وجل من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران، فمجيئه عز وجل من سيناء بعثته موسى منها، ومن ساعير بعثته المسيح بها، واستعلامه من جبال فاران بعثه المصطفى صلى الله عليه وسلم وفاران مكة، وقالوا: كانت النار نوره عز وجل، وإنما ذكره بلفظ النار لأن موسى حسبه نارا، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر.
وقال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها وهي إحدى حجب الله سبحانه وتعالى، يدل عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثنا هاشم القاسم بن القاسم قال: حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة، موسى عن الأشعري قال: قام بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع فقال: (إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له
189

أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النار، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره)، ثم قرأ أبو عبيدة " * (أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين) *).
وقيل معناه: بورك من في النار سلطانه وقدرته وفيمن حولها.
وقال آخرون: هذا التبريك عائد إلى موسى والملائكة، ومجاز الآية: بورك من في طلب النار وقصدها بالقرب منها، وهذا كما يقال: بلغ فلان البلد إذا قرب منه، وورد فلان الماء لا يريدون أنه في وسطه، ويقال: أعط من في الدار، يريدون من هو فيها مقيم أو شريك وإن لم يكن في الوقت في الدار، ونحوها كثير.
ومعنى الآية: بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين حول النار، وهذا تحية من الله سبحانه لموسى وتكرمة له كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: " * (رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت) *).
وقال بعضهم: هذه البركة راجعة إلى النار نفسها.
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: معناه بوركت النار، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى قال: حدثنا أحمد بن نجدة قال: حدثنا الحماني قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سمعت أبيا يقرؤها: أن بوركت النار ومن حولها، وتقدير هذا التفسير أن (من) تأتي في الكلام بمعنى (ما)، كقوله سبحانه " * (ومن لستم له برازقين) *) وقوله " * (فمنهم من يمشي على بطنه) *) الآية و (ما) قد تكون صلة في كثير من المواضع كقوله " * (جند ما هنالك) *) و " * (عما قليل) *) فمعنى الآية بورك في النار وفيمن حولها وهم الملائكة وموسى (عليه السلام)، فسمى النار مباركة كما سمى البقعة مباركة فقال في " * (البقعة المباركة) *).
وأما وجه قوله " * (بورك من في النار) *) فإن العرب تقول: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك وبارك لك، أربع لغات، قال الشاعر:
فبوركت مولودا وبوركت ناشيا
وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
190

فأما الكلام المسموع من الشجرة فاعلم أن مذهب أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى مستغن عن الحد والمكان والجهة والزمان لأن ذلك كله من أمارات الحدث، وهي خلقه وملكه وهو سبحانه أجل وأعظم من أن يوصف بالجهات، أو تحده الصفات، أو تصحبه الأوقات، أو تحويه الأماكن والأقطار.
ولما كان كذلك استحال أن توصف صفات ذاته بأنها متنقلة من مكان أو حالة في مكان، وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف كلامه بأنه يحل موضعا أو ينزل مكانا، كما لا يوصف بأنه جوهر ولا عرض ولا حروف ولا صوت، بل هو صفة يوصف بها الباري عز وجل فينتفى عنه بها آفات الخرس والبكم وما لا يليق به.
فأما الأفهام والأسماع فيجوز أن يكون في موضع دون موضع ومن مكان دون مكان ومن حيث لم تقع إحاطة واستغراق بالوقت على كنه صفاته، قال الله سبحانه " * (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) *).
" * (يا موسى أنه) *) الهاء عماد وليست بكناية " * (أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز) *) تتحرك " * (كانها جان) *) وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم، وقال الكلبي: لا صغيرة ولا كبيرة.
فإن قيل: كيف قال في موضع " * (كأنها جان) *) وفي موضع آخر " * (فإذا هي ثعبان) *) والموصوف واحد؟
قلنا: فيه وجهان:
أحدهما: أنها في أول أمرها جان وفي آخر الأمر ثعبان، وذلك أنها كانت تصير حية على قدر العصا ثم لا تزال تنتفخ وتربو حتى تصير كالثعبان العظيم.
والآخر: أنها في سرعة الجان وخفته وفي صورة الثعبان وقوته.
فلما رآها موسى (عليه السلام) * * (ولى مدبرا ولم يعقب) *) ولم يرجع، قال قتادة: ولم يلتفت.
فقال الله سبحانه " * (يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم) *) فعمل بغير ما أمر " * (ثم بدل حسنا) *) قراءة العامة بضم الحاء وجزم السين، وقرأ الأعمش بفتح الحاء والسين " * (بعد سوء فإني غفور رحيم) *).
191

واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء ومعنى الآية، فقال الحسن وابن جريج: قال الله سبحانه (يا موسى إنما أخفتك لقتلك).
قال الحسن: وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب، ثم تذنب والله فتعاقب.
قال ابن جريج: فمعنى الآية: لا يخيف الله سبحانه الأنبياء بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يتوب، فقوله " * (إلا) *) على هذا التأويل استثناء صحيح، وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله " * (إلا من ظلم) *) ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الرسل وغيرهم من الناس، وفي الآية استغنى عنه بدلالة الكلام عليه تقديرها (فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم)
وقال الفراء: يقول القائل: كيف صير خائفا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء وهو مغفور له؟
فأقول له: في الآية وجهان:
أحدهما: أن تقول أن الرسل معصومة، مغفور لها، آمنة يوم القيامة، ومن خلط عملا صالحا وآخر سيئا من سائر الناس فهو يخاف ويرجو، فهذا وجه.
والآخر: أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة لأن المعنى " * (لا يخاف لدي المرسلون) *) إنما الخوف على غيرهم.
ثم استثنى فقال عز من قائل: " * (إلا من ظلم) *) يقول: كان مشركا فتاب من الشرك وعمل حسنة مغفور له وليس بخائف.
قال: وقد قال بعض النحويين: " * (إلا) *) ههنا بمعنى الواو يعني: ولا من ظلم منهم كقوله سبحانه (لئلا يكون للناس عليهم حجة إلا الذين ظلموا منهم).
وقال بعضهم: قوله " * (إلا) *) ليس باستثناء من المرسلين لأنه لا يجوز عليهم الظلم وإنما معنى الآية: لكن من ظلم فعليه الخوف فإذا تاب أزال الله سبحانه وتعالى عنه الخوف.
" * (وأدخل يدك في جيبك) *) وإنما أمره بإدخال يده في جيبه لأنه كان عليه في ذلك الوقت مدرعة من صوف، ولم يكن لها كم، قاله المفسرون.
" * (تخرج بيضاء من غير سوء) *) برص وآفة " * (في تسع آيات) *) يقول هذه آية مع تسع آيات أنت مرسل بهن.
" * (إلى فرعون وقومه) *) فترك ذكر مرسل لدلالة الكلام عليه، كقول الشاعر:
رأتني بحبليها فصدت مخافة
وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
192

أراد: راتني مقبلا بحبليها، فترك ذكره لدلالة الكلام عليه.
" * (إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) *) مضيئة بينة يبصر بها " * (قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) *).
2 (* (ولقد ءاتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين * وورث سليمان داوود وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء إن هاذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون * حتى إذآ أتوا على وادى النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعنىأن أشكر نعمتك التىأنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين * وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغآئبين * لأعذبنه عذابا شديدا أو لاذبحنه أو ليأتينى بسلطان مبين * فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شىء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون * ألا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء فى السماوات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إلاه إلا هو رب العرش العظيم) *) 2
" * (ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود) *) نبوته وعلمه وملكه دون سائر أولاده، وكان لداود (عليه السلام) تسعة عشر ابنا.
قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان (عليهما السلام).
" * (وقال) *) سليمان شاكرا لنعم الله سبحانه وتعالى عليه " * (يا أيها الناس علمنا منطق الطير) *) جعل ذلك من الطير كمنطق بني آدم إذ فهمه عنها " * (وأوتينا
من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين) *).
قال مقاتل في هذه الآية: كان سليمان (عليه السلام) جالسا إذ مر به طائر يطوف فقال لجلسائه: هل تدرون ما يقول الطائر الذي مر بنا؟ قالوا: أنت أعلم، فقال سليمان: إنه قال لي: السلام عليك أيها الملك المسلط على بني إسرائيل، أعطاك الله سبحانه وتعالى الكرامة وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى فروخي ثم أمر بك الثانية، وإنه سيرجع إلينا الثانية فانظروا إلى رجوعه.
قال: فنظر القوم طويلا إذ مر بهم فقال: السلام عليك أيها الملك إن شئت أن تأذن لي كيما أكسب على فروخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت، فأخبرهم سليمان بما قال وأذن له.
193

وقال فرقد السخي: مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: الله ونبيه أعلم، قال: يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفا.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسن العدل قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبة وأحمد ابن جعفر بن حمدان قالا: حدثنا الفضل بن العباس الرازي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا موسى ابن إبراهيم قال: حدثنا عباد بن إبراهيم عن الكلبي عن رجل عن كعب قال: صاحت ورشان عند سليمان بن داود (عليه السلام) فقال: أتدرون ما تقول؟
قالوا: لا.
قال: فإنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا.
وصاح طاوس عند سليمان (عليه السلام) فقال: أتدرون ما يقول؟
قالوا: لا.
قال: فإنه يقول: من لا يرحم لا يرحم.
وصاح صرد عند سليمان فقال: أتدرون ما يقول؟
قالوا: لا.
قال: فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين، فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله.
قال: فصاحت طيطوى عند سليمان (عليه السلام) فقال: أتدرون ما تقول؟
قالوا: لا.
قال: فإنها تقول: كل حى ميت، وكل جديد بال.
وصاح خطاف عند سليمان (عليه السلام) فقال: أتدرون ما يقول؟
قالوا: لا.
قال: فإنه تقول: قدموا خيرا تجدوه، فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله.
وهدرت حمامة عند سليمان (عليه السلام) فقال: أتدرون ما تقول هذه الحمامة؟
194

قالوا: لا.
قال: فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه.
وصاح قمري عند سليمان (عليه السلام) فقال: أتدرون ما يقول؟
قالوا: لا.
قال: فإنه يقول: سبحان ربي الأعلى، والغراب يدعو على العشار، والحدأة تقول: كل شيء هالك إلا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه، والضفدع يقول: سبحان ربي القدوس، والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده، والضفدعة تقول: سبحان المذكور بكل مكان.
وأخبرنا الحسين بن محمد قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا الفضل بن العباس بن مهران قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا موسى بن إبراهيم قال: أخبرنا إسماعيل عن عياش عن زر عن مكحول قال: صاح دراج عند سليمان بن داود (عليه السلام) فقال: أتدرون ما يقول؟
قالوا: لا.
قال فإنه يقول: الرحمن على العرش استوى.
وبإسناده عن موسى بن إبراهيم قال: أخبرنا صالح الهروي عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الديك إذا صاح يقول: اذكروا الله يا غافلين).
وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسن بن علي قال: إذا صاح النسر قال: يا بن آدم عش ما شئت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال: في البعد من الناس أنس، وإذا صاح القبر قال: الهي العن مبغضي آل محمد، وإذا صاح الخطاف قرأ: الحمد لله رب العالمين، يمد الضالين كما يمد للقارئ.
" * (وحشر) *) وجمع " * (لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير) *) في مسير لهم " * (فهم يوزعون) *) أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، وذلك أنه جعل على كل صنف منهم وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما يصنع الملوك.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يوزعون: يدفعون. ابن زيد ومقاتل: يساقون، السدي: يوقفون، وأصل الوزع في كلام العرب الكف والمنع، ومنه الحديث: مايزع السلطان أكثر مما يزع القرآن ويقال للأمر أوزعه. وفي الخبر: لا بد للناس من وزعة. وقال الشاعر
195

على حين عاتبت المشيب على الصبا
وقلت ألما أصح والشيب وازع
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدثنا أبو بكر ابن مجاهد قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا سنيد قال: حدثنا حجاج عن أبي معشر عن محمد بن كعب في هذه الآية قال: بلغنا أن سليمان (عليه السلام) كان عسكره مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة صريحة وسبعمائة سرية، فأمر الريح العاصف فحملته وأمر الرخاء فسرت به، فأوحي إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرتك به.
وقال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان (عليه السلام) بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم، وكان يوضع له منبر من الذهب في وسط البساط فيقعد عليه، وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، يقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال: حدثنا أبو بكر يعني ابن عياش عن إدريس ابن وهب بن منبه قال: حدثني أبي قال: إن سليمان (عليه السلام) ركب البحر يوما فمر بحراث فنظر إليه الحراث فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فحملت الريح كلامه في أذن سليمان فنزل حتى أتى الحراث فقال: إني سمعت قولك وإنما مشيت إليك لأن لا تتمنى مالا تقدر عليه، لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود، فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي.
" * (حتى إذا أتوا على وادي النمل) *).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا مخلد بن جعفر قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرنا أبو إلياس عن وهب بن منبه عن كعب قال: إن سليمان (عليه السلام) كان إذا ركب حمل أهله وسائر حشمه وخدمه وكتابه تلك السقوف بعضها فوق بعض على قدر درجاتهم، وقد اتخذ مطابخ ومخابز تحمل فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع في قدر عشرة جزائر، وقد اتخذ ميادين للدواب أمامه، فيطبخ الطباخون و يخبز الخابزون وتجري الدواب بين يديه بين السماء والأرض والريح تهوي بهم
196

فسار بمن اصطحبه إلى اليمن، فسلك المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال سليمان: هذه دار هجرة نبى في آخر الزمان، طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه، وطوبى لمن اقتدى به، ورأى حول البيت أصناما تعبد من دون الله سبحانه، فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله سبحانه إلى البيت: ما يبكيك؟ فقال: يا رب أبكاني هذا نبي من أنبيائك وقوم من أولياءك مروا علي، فلم يهبطوا في ولم يصلوا عندي ولم يذكروك بحضرتي، والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله سبحانه إليه أن لا تبك وإني سوف أملأك وجوها سجدا، وأنزل فيك قرآنا جديدا، وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي، وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يرفون إليك رفة النسور إلى وكرها و يحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضتها، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان.
قال: ثم مضى سليمان حتى مر بوادي السدير، واد من الطائف فأتى على وادي النمل فقالت نملة تمشي، وكانت عرجاء تتكاوس، وكانت مثل المذنب في العظم، فنادت النملة " * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) *) يعني أن سليمان يفهم مقالتها وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان (عليه السلام).
قال " * (فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني) *) إلى قوله " * (في عبادك الصالحين) *) يعني مع عبادك الموحدين.
وقال قتادة ومقاتل: وادي النمل بأرض الشام
قال نوف الحميري: كان نمل وادي سليمان مثل الذباب.
وقال الشعبي: النملة التي فقه سليمان كلامها كانت ذات جناحين.
قال مقاتل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. واختلفوا في اسم تلك النملة.
فأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الحسني الدينوري قال: حدثنا أبو العباس أحمد ابن محمد بن يوسف الصرصري قال: حدثنا الهيثم بن خلف الدوري قال: حدثنا هارون بن حاتم البزاز قال: حدثنا إبراهيم بن الزبرقان التيمي عن أبي روق عن الضحاك قال: كان اسم النملة التي كلمت سليمان بن داود (عليه السلام) طاحية.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا طلحة وعبيد الله قالا: حدثنا ابن مجاهد قال: حدثني الفضل بن الحسن قال: حدثنا أبو محمد النعمان بن شبل الباهلي قال: حدثنا ابن أبي
روق عن أبيه قال: كان اسم نملة سليمان حرمي، وهو قول مقاتل.
ورأيت في بعض الكتب أن سليمان لما سمع قول النملة قال: ائتوني بها، فأتوه بها فقال لها: لم حذرت النمل ظلمي؟ أما علمت أني نبي عدل؟ فلم قلت: لا يحطمنكم سليمان وجنوده
197

فقالت النملة: أما سمعت قولي: وهم لا يشعرون؟ مع ما أني لم أرد حطم النفوس وإنما أردت حطم القلوب، خشيت أن يتمنين ما أعطيت ويشتغلن بالنظر عن التسبيح، فقال لها: عظيني، فقالت النملة: هل علمت لم سمي أبوك داود؟
قال: لا.
قالت: لأنه داوى جرحه فرد. هل تدري لم سميت سليمان؟
قال: لا.
قالت: لأنك سليم وكنت إلى ما أوتيت لسلامة صدرك وإن لك أن تلحق بأبيك ثم قالت: أتدري لم سخر الله لك الريح؟
قال: لا.
قالت: أخبرك الله أن الدنيا كلها ريح، فتبسم سليمان ضاحكا متعجبا من قولها، وقال " * (رب أوزعني) *) إلى آخر الآية.
أخبرني ابن فنجويه قال: أخبرنا ابن شنبة قال: أخبرنا الحضرمي قال: حدثنا حسن الخلال قال: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الدواب: الهدهد والصرد والنحلة والنملة.
" * (وتفقد الطير) *) أي طلبها وبحث عنها " * (فقال ما لي لا أرى الهدهد) *) فتح ابن كثير وعاصم والكسائي وأيوب (لي) ههنا وفي سورة يس " * (وما لي لا أعبد) *) وأرسل حمزة الياء فيهما جميعا، وأما أبو عمرو فكان يرسل الياء في هذه ويفتح في يس، وفرق بينهما فقال: لأن هذه للتي في النمل استفهام والأخرى انتفاء.
" * (أم كان) *) قيل: الميم صلة وقيل: أم بمعنى بل كان " * (من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا) *) وكان عذابه أن ينتف ريشه وذنبه فيدعه ممعطا ثم يلقيه في بيت النمل فيلدغه، وقال عبد الله بن شداد: نتفه وتشميسه.
الضحاك: لأشدن رجله ولأشمسنه.
مقاتل بن حيان: لاطلينه بالقطران ولأشمسنه.
وقيل: لأودعنه القفص، وقيل: لأفرقن بينه وبين إلفه، وقيل: لأمنعنه من خدمتي، وقيل: لأبددن عليه؟.
198

" * (أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) *) حجة واضحة، وأما سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه من بين الطير إخلاله بالنوبة التي كان ينوبها واحتياج سليمان (عليه السلام) إلى الماء، فلم يعلم من قصره بعد الماء، وقيل له: علم ذلك عند الهدهد، فتفقده فلم يجده فتوعده وكانت القصة فيه على ما ذكره العلماء بسيرة الأنبياء دخل حديث بعضهم في بعض:
إن نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز للمسير واستصحب من الإنس والجن والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ، وأمر الريح الرخاء فحملتهم، فلما وافى الحرم وأقام به ما شاء الله تعالى أن يقيم وكان ينحر كل يوم طول مقامه جملة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة.
وقال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا، يعطى النصر على جميع من ناواه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر بالقريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم.
قالوا: فبأي دين ندين يا نبي الله؟ قال: بدين الحنيفية فطوبى لمن أدركه وآمن به وصدقه.
قالوا: وكم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟ قال: زهاء ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل وإن اسمه محمد في زمر الأنبياء.
قال: فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم أحب أن (يسعى) إلى أرض اليمن فخرج من مكة صباحا وسار نحو اليمن يوم نجم سهيل فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا وأزهر خضرتها وأحب النزول بها ليصلي ويتغدى فطلبوا الماء فلم يجدوا وكان الهدهد دليله على الماء، كان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى أحدكم كأسه بيده فينقر الأرض فيعرف موضع الماء وبعده ثم يجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب ثم يستخرجون الماء.
قال سعيد بن جبير: ذكر ابن عباس هذا الحديث، فقال له نافع بن الأزرق: فرأيت قولك الهدهد ينقر الأرض فيبصر الماء، كيف يبصر هذا ولا يبصر) حبتي القمح) فيقع في عنقه؟.
فقال له ابن عباس: ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر.
وروى قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتلوا الهدهد فإنه كان دليل سليمان على قرب الماء وبعده، وأحب أن يعبد الله في الأرض حيث يقول " * (وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة) *)) الآية.
199

قالوا: فلما نزل سليمان قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها، ففعل ذلك فنظر يمينا وشمالا فرأى بستانا فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان بن داود عليه السلام: يعفور، واسم هدهد اليمن عنفر فقال عنفر ليعفور سليمان: من أين أقبلت؟ وأين تريد؟
قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود عليه السلام.
فقال الهدهد: ومن سليمان بن داود؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والريح فمن أين أنت؟ فقال: أنا من هذه البلاد. قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها: بلقيس، وإن لصاحبكم سليمان ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكت الشمس كلها وتحت يديها إثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل.
فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ قال: أخاف أن يتفقدني سليمان وقت الصلاة إذا أحتاج إلى الماء.
قال الهدهد اليماني: إن صاحبك ليسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة. فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وما رجع إلى سليمان إلا وقت العصر.
قال: فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة طلب الهدهد وذلك أنه نزل على غير ماء فسأل الإنس عن الماء فقالوا: ما نعلم ههنا ماء. فسأل الجن والشياطين فلم يعلموا فتفقد الهدهد ففقده قال ابن عباس: في بعض الروايات: وتعب) من تفحصه إلى) الشمس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال: أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته مكانا، فغضب عند ذلك سليمان عليه السلام وقال " * (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) *).
روى عكرمة عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة.
قالوا: ثم دعا بالعقاب سيد الطير فقال: علي بالهدهد الساعة. فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى استقر بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده فقال: بحق الله الذي قواك فأقدرك علي إلا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء.
قال: فول عنه العقاب وقال له: ويلك ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو
200

يذبحك، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما إنتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له: ويلك أين غبت في نومك هذا، فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال.
فقال الهدهد: أوما استثنى رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: أو ليأتيني بعذر بين. ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه. فقال العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله.
فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض؛ تواضعا لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال له: أين كنت؟ لأعذبنك عذابا شديدا، فقال له الهدهد: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله سبحانه، فلما سمع ذلك سليمان ارتعد وعفا عنه.
أخبرني الحسن بن محمد الثقفي قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا محمد ابن إبراهيم بن أبي الرجال ببغداد قال: حدثنا إبراهيم بن بسطام عن أبي قتيبة عن الحسن بن أبي جعفر الجعفري عن الزبير بن حريث عن عكرمة قال: إنما صرف سليمان (عليه السلام) عن ذبح الهدهد لبره بوالديه.
قالوا: ثم سأله فقال: ما الذي أبطا بك عني؟ فقال الهدهد: ما أخبر الله في قوله " * (فمكث غير بعيد) *) قراءة العامة بضم الكاف، وقرأ عاصم ويعقوب وأبو حاتم بفتحه وهما لغتان مشهورتان.
" * (فقال أحطت بما لم تحط به) *) علمت ما لم تعلم " * (وجئتك من سبأ) *) قرأ الحسن وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحميد وابن كثير في رواية البزي من سبأ ولسبأ مفتوحة الهمزتين غير مصروفة، ردوها إلى القبيلة، وهي اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالجر، جعلوه اسم رجل وبه نطق الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال: كان رجلا له عشرة من البنين يتيامن من ستة ويتشاءم من أربعة، وسنذكر أسماءهم وقصتهم في سورة سبأ إن شاء الله عز وجل، وقال الشاعر:
الواردون وتيم في ذرى سبا
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
" * (بنبأ) *) بخبر " * (يقين) *) لا شك فيه.
قال وهب: قال الهدهد: إني أدركت ملكا لم يبلغه ملكك.
" * (إني وجدت امرأة تملكهم) *) واسمها بلقيس بنت الشيرح، وهو الهدهاد وقيل: شراحيل ابن ذي حدن بن اليشرج بن الحرث بن قيس بن صفى بن سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان، وكان أبو بلقيس الذي يسمى اليشرج ويلقب بالهدهاد ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكا،
201

وكان يملك أرض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفوا لي، فأبى أن يتزوج فيهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له تلمقة وهي بلقيس ولم يكن له ولد غيرها.
ويصدق هذا ما أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن الحسن بن بشر قال: حدثنا محمد بن حريم بن مروان قال: حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن
سعيد بن بشير عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشر بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان أحد أبوي بلقيس جنيا.
قالوا: فلما مات أبو بلقيس ولم يخلف ولدا غيرها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون، فاختاروا عليها رجلا فملكوه عليهم، وافترقوا فرقتين كل فرقة منها استولت بملكها على طرف من أرض اليمن.
ثم إن هذا الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر، بهن وأراد أصحابه أن يخلعوه فلم يقدروا عليه، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها الملك: والله ما منعني أن ابتديك بالخطبة إلا اليأس منك
فقالت: لا أرغب عنك فإنك كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا: لا نراها تفعل هذا، فقال لهم: إنما هي ابتدأتني فأنا أحب أن تسمعوا قولها وتشهدوا عليها، فلما جاؤوها وذكروا لها ذلك قالت: نعم أحببت الولد ولم أزل، كنت أرغب عن هذا فالساعة قد رضيت به فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت في ناس كثير من خدمها وحشمها حتى غصت منازله ودوره بهم، فلما جاءته سقته الخمر حتى سكر ثم حزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوبا على باب دارها، فعلموا أن تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها فاجتمعوا إليها وقالوا لها: أنت بهذا الملك أحق من غيرك، فقالت: لولا العار والشنار ما قتلته ولكن عم فساده وأخذتني الحمية حتى فعلت ما فعلت فملكوها واستتب أمرها).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن خديجة قال: حدثنا ابن أبي الليث ببغداد قال: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أبي بكرة قال: ذكرت بلقيس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
202

" * (وأوتيت من كل شيء) *) يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدة.
" * (ولها عرش عظيم) *) سرير ضخم حسن، وكان مقدمه من ذهب مفصص بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، ومؤخره من فضة مكلل بألوان الجواهر وله أربع قوائم: قائمة من ياقوت أحمر وقائمة من زمرد، وقائمة من ياقوت أخضر، وقائمة من در، وصفائح السرير من ذهب، وعليه سبعة أبواب كل بيت باب مغلق.
وقال ابن عباس: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا، وطوله في الهواء ثلاثون ذراعا.
وقال مقاتل: كان ثمانين ذراعا في ثلاثين ذراعا وطوله في الهواء ثمانون ذراعا مكلل بالجوهر.
" * (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله) *) قرأ أبو عبد الرحمن البلخي والحسن وأبو جعفر وحميد والأعرج والكسائي ويعقوب برواية رويس (ألا اسجدوا) بالتخفيف على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وجعلوه أمرا من الله سبحانه مستأنفا، وحذفوا هؤلاء بدلالة فاعلهما، وذكر بعضهم سماعا من العرب: ألا يا أرحمونا، ألا يا تصدقوا علينا، يريدون ألا يا قوم كقول الأخطل:
ألا يا سلمى يا هند، هند بني بدر
وإن كان حيانا عدى آخر الدهر
فعلى هذه القراءة (اسجدوا) في موضع جزم على الأمر والوقف عليه ألا، ثم يبتدي اسجدوا.
قال الفراء: حدثني الكسائي عن عيسى الهمذاني قال: ما كنت أسمع المشيخة يقرؤونها إلا بالتخفيف على نية الأمر، وهي في قراءة عبد الله: هلا تسجدوا لله، بالتاء، وفي قراءة أبي ألا يسجدون لله، فهاتان القراءتان حجة لمن خفف، وقرأ الباقون: ألا يسجدوا بالتشديد بمعنى وزين لهم الشيطان اعمالهم لئلا يسجدوا لله فأن موضع نصب ويسجدوا نصب بأن، واختار أبو عبيد هذه القراءة وقال: للتخفيف وجه حسن إلا أن فيه انقطاع الخبر عن أمر سبأ وقومها، ثم يرجع بعد إلى ذكرهم، والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه، والوقف على هذه ألا ثم يبتدي يسجدوا كما يصل
" * (الذي يخرج الخبء) *) الخفي المخبو " * (في السماوات والأرض) *) يعني غيب السماوات والأرض
203

وقال أكثر المفسرين: خبء السماء المطر، وخبء الأرض النبات، وفي قراءة عبد الله: يخرج الخبء من السماوات، ومن وفي يتعاقبان، يقول العرب: لاستخرجن العلم فيكم، يريد منكم، قاله الفراء.
" * (ويعلم ما يخفون وما يعلنون) *) قراءة العامة بالياء فيهما، وقرأ الكسائي بالتاء وهي رواية حفص عن عاصم.
" * (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) *) الذي كل عرش وإن عظم فدونه، لا يشبهه عرش ملكة سبأ ولا غيره
قال ابن إسحاق وابن زيد: من قوله " * (أحطت بما لم تحط به) *) إلى قوله " * (لا إله إلا هو رب العرش العظيم) *) كله كلام الهدهد.
2 (* (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابى هاذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون * قالت ياأيها الملأ إنىألقى إلى كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم * ألا تعلوا على وأتونى مسلمين * قالت ياأيها الملا أفتونى فىأمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد والامر إليك فانظرى ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة وكذالك يفعلون * وإنى مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جآء سليمان قال أتمدونن بمال فمآ ءاتانى الله خير ممآ ءاتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منهآ أذلة وهم صاغرون * قال ياأيها الملا أيكم يأتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين * قال عفريت من الجن أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنى عليه لقوى أمين * قال الذى عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رءاه مستقرا عنده قال هاذا من فضل ربى ليبلوني أءشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن
ربى غنى كريم * قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدىأم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جآءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين * قيل لها ادخلى الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إنى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) *) 2
" * (قال) *) سليمان للهدهد " * (سننظر أصدقت) *) فيما أخبرت " * (أم كنت من الكاذبين) *) فدلهم الهدهد على الماء فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب، وكانوا قد عطشوا، ثم كتب سليمان كتابا من عبد الله سليمان بن داود (عليه السلام) إلى بلقيس ملكة سبأ، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين.
وقال ابن جريج: لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه إنه وإنه
204

قال منصور: كان يقال: كان سليمان أبلغ الناس في كتابه، وأقله إملاء ثم قرأ " * (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) *) قال قتادة: وكذلك الأنبياء عليهم السلام كانت تكتب جملا لا يطيلون ولا يكثرون، فلما كتب الكتاب طبعه بالمسك، وختمه بخاتمه وقال للهدهد " * (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم) *) فكن قريبا منهم " * (فانظر ماذا يرجعون) *) يردون من الجواب.
وقال ابن زيد: في الآية تقديم وتأخير مجازها: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم وانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم أي انصرف، كقوله " * (ثم تولى إلى الظل) *) أي انصرف إليه، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به إلى بلقيس وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام، فوافاها في قصرها وقد غلقت الأبواب، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها وآوت إلى فراشها، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها، هذا قول قتادة.
وقال مقاتل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره فطار حتى وقف على رأس المرأة، وحولها القادة والجنود، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها.
وقال ابن منبه وابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة الشمس، تقع الشمس فيها حين تطلع، فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد تلك الكوة فسدها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى بالصحيفة إليها.
قالوا: فأخذت بلقيس الكتاب وكانت كاتبة قارئة عربية من قوم تبع بن شراحيل الحميري، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان (عليه السلام) كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل هذا الكتاب هو أعظم ملكا منها؛ لأن ملكا رسله الطير إنه لملك عظيم، فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد، مع كل قائد مائة ألف مقاتل.
وقال قتادة ومقاتل والثمالي: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف.
قالوا: فجاؤوا وأخذوا مجالسهم فقالت لهم بلقيس: " * (يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم) *).
قال قتادة: حسن، نظيره قوله " * (ومقام كريم) *).
205

وقال ابن عباس: شريف بشرف صاحبه.
الضحاك: سمته كريما لأنه كان مختوما، يدل عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن شاذان قال: حدثنا جبعويه بن محمد قال: حدثنا صالح بن محمد بن محمد بن مروان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كرامة الكتاب ختمه).
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال: حدثنا عمرو قال: حدثني أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي قال: حدثنا إسحاق بن منصور قال: حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن أنس قال: لما أراد نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم، قيل له: أن العجم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم، فاصطنع خاتما، فكأني انظر إلى بياضه في كفه.
وقال ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به لأن الختم ختم، وقيل: سمته كريما لأنه كان مصدرا ببسم الله الرحمن الرحيم " * (إنه من سليمان وانه بسم الله الرحمان الرحيم أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين) *) وقرأ أشهب العقيلي: إلا تغلوا على بالغين معجمة، وأتوني مسلمين مؤمنين طائعين.
" * (قالت يا أيها الملأ) *) قال ابن عباس: كان مع بلقيس مائة ألف قيل، مع كل قيل مائة ألف، والقيل تلك دون الملك الأعظم " * (أفتوني في أمري) *) أشيروا علي فيما عرض لي وأجيبوني فيما أشاوركم فيه " * (ما كنت قاطعة) *) قاضية وفاصلة " * (أمرا حتى تشهدون) *) تحضروني.
قالوا مجيبين لها " * (نحن أولوا قوة) *) في القتال " * (وأولوا بأس شديد) *) عند الحرب " * (والأمر إليك) *) أيتها الملكة " * (فانظري ماذا تأمرين) *) تجدينا لأمرك مطيعين.
فقالت بلقيس لهم حين عرضوا أنفسهم للحرب " * (ان الملوك إذا دخلوا قرية) *) عنوة وغلبة " * (أفسدوها) *) خربوها " * (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) *) أي أهانوا أشرافها وكبراءها لكي يستقيم لهم الأمر، وتناهى الخبر عنها هاهنا فصدق الله سبحانه قولها فقال " * (وكذلك يفعلون) *).
أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبي رحمه الله:
ان الملوك بلاء حيث ما حلوا
فلا يكن لك في أكنافهم ظل
ماذا تؤمل من قوم إذا غضبوا
جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا
وإن مدحتهم خالوك تخدعهم
واستثقلوك كما يستثقل الكل
فاستغن بالله عن أبوابهم أبدا
إن الوقوف على أبوابهم ذل
206

" * (وإني مرسلة إليهم بهدية) *) وذلك أن بلقيس كانت لبيبة قد سيست وساست، فقالت للملأ من قومها: إني مرسلة إلى سليمان وقومه بهدية أصانعه بذلك عن ملكي واختبره بها أملك هو؟ فإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف، وإن يكن نبيا لم يقبل الهدية ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه، فأهدت إليه وصيفا ووصائف.
قال ابن عباس: ألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى.
وقال مجاهد: ألبس الغلمان لباس الجواري وألبس الجواري لبسة الغلمان، واختلفوا في عددهم فقال مقاتل: مائة وصيف ومائة وصيفة. وقال مجاهد: مائتي غلام ومائتي جارية. وقال الكلبي: عشرة غلمان وعشر جواري. وقال وهب وغيره: خمسمائة غلام وخمسمائة جارية.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حنش قال: حدثنا ابن فنجويه قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن ثابت البناني في قوله " * (وإني مرسلة إليهم بهدية) *) قال: أهدت له صفائح ذهب في أوعية الديباج، فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب ثم أمر به فألقي في الطريق، فلما جاؤوا رأوه ملقى في الطريق في كل مكان، قالوا: قد جئنا نحمل شيئا نراه ههنا ملقى ما يلتفت إليه، فصغر في أعينهم ما جاؤوا به، وقيل: كانت أربع لبنات من ذهب. وقال وهب وغيره من أهل الكتب: عمدت بلقيس إلى خمسمائة جارية وخمسمائة غلام فألبست الجواري لباس الغلمان، الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان لباس الجواري، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب، وفي آذانهم قروطا وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملونة، وبعثت إليه أيضا خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع وأرسلت إليه أيضا المسك والعنبر وعود الالنجوج، وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معرجة الثقب، ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت معه كتابا نسخة الهدية وقالت: إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصيفات، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها وأثقب الدرة ثقبا مستويا وأدخل خيطا.
الخرزة وأمرت بلقيس الغلمان فقالت: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث وتخنيث شبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول: انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه، فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك ولا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قوله ورد الجواب.
فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان (عليه السلام) فأخبره الخبر كله،
207

فأمر سليمان (عليه السلام) الجن أن يضربوا لبنات الذهب والفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسع فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضة، وأن يجعلوا حول الميدان حائطا شرفها من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال: أي الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر؟ قالوا: يا نبي الله إنا رأينا دواب في بحر كذا وكذا منمرة منقطعة مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواصي. قال: علي بها الساعة، فأتوا بها، فقال: شدوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة، وألقوا لها علوفها.
ثم قال للجن: علي بأولادكم، فاجتمع خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان (عليه السلام) في مجلسه على سريره ووضع له أربعون ألف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفا فراسخ، وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ، وأمر الوحش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره.
فلما رأى القوم الميدان ونظروا إلى ملك سليمان (عليه السلام) ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبنات الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم وبقوا بما معهم من الهدايا.
وفي بعض الروايات أن سليمان (عليه السلام) لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع اللبنات التي معهم، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان.
قالوا: ثم جاؤوا، فلما رأوا الشياطين نظروا إلى موضع عجيب ففزعوا فقال لهم الشياطين: جوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والطير والسباع والوحش حتى وقفوا بين يدي سليمان (عليه السلام) فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه فقال: أين الحقة فأتى به فحركها، وجاءه جبرئيل (عليه السلام) فأخبره بما في الحقة فقال: إن فيها درة يتيمة غير مثقوبة وجزعة
مثقوبة معوجة الثقب، فقال الرسول: صدقت فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الخرزة فقال سليمان (عليه السلام): من لي بثقبها؟ فسأل سليمان الإنس فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الجان فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين فقالوا: ترسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة وأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان (عليه السلام): حاجتك؟ فقالت: تصير رزقي في الشجرة فقال: لك ذاك، ثم قال: من لهذه الخرزة يسلكها؟ الخيط فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا رسول الله، فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال سليمان: حاجتك؟ قالت: تجعل رزقي في الفواكه قال: لك ذاك، ثم ميز بين الجواري والغلمان بأن
208

أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به على الوجه، والغلام كان يأخذه من الآنية يضرب به وجهه، وكانت الجارية تصب على باطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، وكانت الجارية تصب الماء صبا، وكان الغلام يحدر الماء على يده حدرا، فميز بينهن بذلك ثم رد سليمان (عليه السلام) الهدية.
" * (وقال أتمدونني بمال) *) اختلف القراء فيه فقرأ حمزة ويعقوب أتمدوني بنون واحدة مشددة، غيرهما بنونين خفيفتين وحذف الياء، ابن عامر وعاصم والكسائي وخلف، الباقون بإثباته.
" * (فما آتاني الله خير مما آتايكم بل أنتم بهديتكم تفرحون) *) لأنكم أهل مفاخرة الدنيا والمكابرة بها ولا تعرفون غير ذلك، وليست الدنيا من حاجتي لأن الله سبحانه قد مكنني منها وأعطاني فيها ما لم يعط أحدا ومع ذاك أكرمني بالدين والنبوة والحكمة، ثم قال للمنذر بن عمرو آمر الوفد " * (ارجع إليهم) *) بالهدية " * (فلنأتينهم بجنود لا قبل) *) لا طاقة " * (لهم بها ولنخرجنهم منها) *) أي من أرضها وملكها " * (أذلة وهم صاغرون) *) ذليلون إن لم يأتوني مسلمين.
قال وهب وغيره من أهل الكتب: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان (عليه السلام) قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئا، فبعثت إلى سليمان: إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض، في آخر قصر من سبع قصور لها، ثم أغلقت دونه الأبواب ووكلت به حراسا يحفظونه ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك وسرير ملكي، فلا يخلص إليه أحد ولا يزينه حتى آتيك، ثم أمرت مناديا فنادى في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل ألوف كثيرة.
قال ابن عباس: وكان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدئ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوما فجلس على سرير ملكه فرأى رهجا قريبا منه فقال: ما هذه؟.
قالوا: بلقيس يا رسول الله.
قال: (وقد نزلت منا بهذا المكان؟)
قال ابن عباس: وكان ما بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ فأقبل حينئذ سليمان على جنوده فقال " * (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) *) أي مؤمنين. وقال ابن عباس: طائعين. واختلف أهل العلم في السبب الذي لأجله أمر سليمان (عليه السلام) بإحضار العرش فقال أكثرهم: لأن سليمان (عليه السلام) علم أنها إن أسلمت حرم عليه ما لها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها
209

وقال قتادة: لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد فأحب أن يراه.
وقال ابن زيد: أراد أن يختبر عقلها فيأمر بتنكيره لينظر هل تثبته إذا رأته أم تنكره؟ وقيل: قدرة الله سبحانه وعظيم سلطانه في معجزه يأتي بها في عرشها.
" * (قال عفريت من الجن) *) وهو المارد القوي، وفيه لغتان: عفريت وعفريه، فمن قال عفريت جمعه عفاريت، ومن قال عفرية جمعه عفارت.
قال وهب: اسمه كوذى، وقال شعيب الجبائي: كان اسم العفريت ذكوان، وقال ابن عباس: العفريت: الداهية، وقال الضحاك: هو الخبيث. ربيع: الغليظ. الفراء: القوى الشديد. الكسائي: المنكر، وأنشد:
فقال شيطان لهم عفريت
مالكم مكث ولا تبييت
وقرأ أبو رجاء العطاردي قال: عفريه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان البغدادي قال: حدثنا محمد بن الحسن بن سهل قال: حدثنا عبد الرحمن البحتري قال: حدثنا عمرو بن عثمان قال: حدثنا أبي عن عبد الله بن عبد العزيز القرشي عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبي بكر الصديق ح أنه كان يقرأ: قال عفريه من الجن والعفريه البكر بين البكرين لم يلد أبواه قبله شيئا ولم يلد هو شيئا.
" * (أنا اتيك به قبل أن تقوم من مقامك) *) أي مجلسك الذي تقضي فيه، قال ابن عباس: وكان له كل غداة مجلس يقضي فيه إلى منزع النهار.
" * (وإني عليه لقوي) *) على حمله " * (أمين) *) على ما فيه من الجواهر، فقال سليمان عليه السلام أريد أسرع من هذا، " * (قال الذي عنده علم من الكتاب) *) واختلفوا فيه، فقال بعضهم هو جبرئيل (عليه السلام) ملك من الملائكة أيد الله عز وجل به نبيه سليمان عليه السلام.
وقال الآخرون: بل كان رجلا من بني آدم.
ثم اختلفوا فيه فقال أكثر المفسرين: هو آصف بن برخيا بن شمعيا بن ميكيا وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي.
أخبرني ابن فنجويه قال: أخبرنا مخلد بن جعفر الباقرحي قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: حدثنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن آصف قال لسليمان (عليه السلام) حين صلى ودعا الله سبحانه
210

مد عينيك حتى ينتهي طرفك قال: فمد سليمان (عليه السلام) عينه فنظر نحو اليمن ودعا آصف، فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون الأرض خدا حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان (عليه السلام).
واختلف العلماء في الدعاء الذي دعا به آصف عند الإتيان بالعرش، فروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن اسم الله الأعظم الذي دعا به آصف (يا حي يا قيوم).
وروى عثمان بن مطر عن الزهري قال: دعاء الذي عنده علم من الكتاب (يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها) قال: فمثل له بين يديه. وقال مجاهد: يا ذا الجلال والإكرام. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر وعبيد الله بن أحمد بن يعقوب قالا: حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدثنا إسماعيل عن عبد الله بن إسماعيل عن ابن زيد قال: الذي عنده علم من الكتاب رجل صالح كان في جزيرة من جزائر البحر فخرج ذلك اليوم ينظر من ساكن الأرض؟ وهل يعبد الله عزوجل أم لا يعبد؟ فوجد سليمان (عليه السلام) فدعا باسم من أسماء الله فإذا هو بالعرش حمل فأتى به سليمان من قبل إن يرتد إليه طرفه.
وبه عن مجاهد قال: حدثني البزي وابن حرب قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل قال: زعم ابن أبي بزة أن اسم الذي عنده علم من الكتاب اسطوم، وقال بعضهم: كان رجل من حمير يقال له: ضبة.
وقال قتادة: كان اسمه بليحا، وقال محمد بن المنكدر: إنما هو سليمان أما إن الناس يرون أنه كان معه اسم وليس ذلك كذلك، إنما كان رجل عالم من بني إسرائيل آتاه الله علما وفقها فقال: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، قال سليمان (عليه السلام): هات، فقال: أنت النبي ابن النبي وليس أحد أوجه عند الله منك ولا أقدر على حاجته فإن دعوت الله، وطلبت إليه كان عندك.
قال: صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت.
وقوله " * (قبل أن يرتد إليك طرفك) *) اختلفوا في معناه فقال سعيد بن جبير: يعني قبل أن يرجع إليك أقصى من تركت، وهو أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك. قتادة: قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر.
وهب: تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى أمثله بين يديك.
مجاهد: يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئا
211

وعنه أيضا قال: يعني مد بصرك ما بينك وبين الحيرة، وهو يومئذ في كندة.
وعن قتادة: هو أن يبعث رسولا إلى منتهى طرفه فلا يرجع حتى يؤتى به.
فلما رآه يعني رأى سليمان (عليه السلام) العرش " * (مستقرا عنده) *) محمولا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف " * (قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر) *) نعمته " * (أم أكفر) *) ها فلا أشكرها " * (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) *) لم ينفع بذلك غير نفسه حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها؛ لأن الشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة.
" * (ومن كفر فإن ربي غنى كريم) *) بالإفضال على من كفر نعمه.
" * (قال نكروا) *) غيروا " * (لها عرشها) *) فزيدوا فيه وأنقصوا منه واجعلوا أعلاه أسفله وأسفله أعلاه " * (ننظر أتهتدي) *) إلى عرشها فتعرفه " * (أم تكون من الجاهلين) *) به الذين لا يهتدون إليه، وإنما حمل سليمان (عليه السلام) على ذلك، كما ذكره وهب ومحمد بن كعب وغيرهما من أهل الكتب: إن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن، ولا ينفكون من تسخير سليمان وذريته من بعده، فأرادوا أن يزهدوه فيها فأساؤوا الثناء عليها وقالوا: إن في عقلها شيئا وإن رجلها كحافر الحمار، فأراد سليمان (عليه السلام) أن يختبر عقلها بتنكير عرشها، وينظر إلى قدميها ببناء الصرح، فلما جاءت بلقيس " * (قيل) *) لها " * (أهكذا عرشك قالت كأنه هو) *) شبهته به وكانت قد تركته خلفها في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها فلم تقر بذلك ولم تنكر، فعلم سليمان (عليه السلام) كمال عقلها.
قال الحسن بن الفضل: شبهوا عليها فشبهت عليهم وأجابتهم على حسب سؤالهم، ولو قالوا لها: هذا عرشك لقالت: نعم
فقال سليمان (عليه السلام) * * (وأوتينا العلم) *) بالله وبقدرته على ما شاء من قبل هذه المرأة " * (وكنا مسلمين) *) هذا قول مجاهد
وقال بعضهم: معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة وقبل مجيئها، وكنا مسلمين طائعين خاضعين.
وقال بعضهم: هذا من قول بلقيس لما رأت عرشها عند سليمان (عليه السلام) قالت: عرفت هذه، وأوتينا العلم بصحة نبوة سليمان (عليه السلام) بالآيات المتقدمة من قبل هذه الآية وذلك بما اختبرت من أمر الهدية والرسل، وكنا مسلمين أي منقادين لك مطيعين لأمرك من قبل أن جئناك.
" * (وصدها) *) ومنعها " * (ما كانت تعبد من دون الله) *) وهو الشمس بأن تعبد الله، وعلى هذا القول يكون " * (ما) *) في محل الرفع.
212

وقال بعضهم: معناه وصدها سليمان ما كانت تعبد من دون الله أي منعها ذلك وحال بينها وبينه، ولو قيل: وصدها الله ذلك بتوفيقها للإسلام لكان وجها صحيحا، وعلى هذين التأويلين يكون محل " * (ما) *) نصبا.
" * (إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح) *) الآية. وذلك أن سليمان (عليه السلام) لما أقبلت بلقيس تريده أمر الشياطين فبنوا له صرحا أي قصرا من زجاج كأنه الماء بياضا، وقيل: الصرح صحن الدار، وأجرى من تحته الماء وألقى فيه كل شيء من دواب البحر، السمك وغيره، ثم وضع له سريره في صدرها فجلس عليه وحلقت عليه الطير والجن والإنس وإنما أمر ببناء هذا الصرح لأن الشياطين قال بعضهم لبعض: سخر الله لسليمان عليه السلام ما سخر وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد له غلاما فلا ننفك من العبودية أبدا، فأرادوا أن يزهدوه فيها فقالوا: إن رجلها رجل حمار وإنها شعراء الساقين لأن أمها كانت من الجن فأراد أن يعلم حقيقة ذلك وينظر إلى قدميها وساقيها.
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه قال: إنما بنى الصرح ليختبر عقلها وفهمها، يعاينها بذلك كما فعلت هي من توجيهها إليه الوصفاء والوصائف ليميز بين الذكور والإناث، تعاينه بذلك، فلما جاءت بلقيس قيل لها: ادخلي الصرح " * (فلما رأته حسبته لجة) *) وهي معظم الماء وقال ابن جريج: يعني بحرا.
" * (وكشفت عن ساقيها) *) لتخوضه إلى سليمان عليه السلام، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما إلا أنها كانت شعراء الساقين، فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها وناداها " * (إنه صرح ممرد) *) مملس مستو " * (من قوارير) *) وليس ببحر، فلما جلست قالت: يا سليمان إني أريد أن أسألك عن شيء.
قال: سلي.
قالت: أخبرني عن ما ماء رواء ولا من أرض ولا من سماء. وكان سليمان إذا جاءه شيء لا يعلمه سأل الإنس عنه، فإن كان عندهم علم ذلك وإلا سأل الجن، فإن علموا وإلا سأل الشياطين، فسأل الشياطين عن ذلك فقالوا له: ما أهون هذا من الخيل فلتجر ثم املأ الآنية من عرقها.
فقال لها سليمان: عرق الخيل، قالت: صدقت، ثم قالت: أخبرني عن لون الرب، فوثب سليمان عليه السلام عن سريره وخر ساجدا وصعق عليه فقامت عنه وتفرقت جنوده وجاءه الرسول فقال: يا سليمان يقول لك ربك: ما شأنك؟
قال: يا رب أنت أعلم بما قالت، قال: فإن الله يأمرك أن تعود إلى سريرك وترسل إليها وإلى من حضرها من جنودك وجنودها فتسألها وتسألهم عما سألتك عنه، ففعل ذلك سليمان (عليه السلام)، فلما دخلوا عليه قال لها: عماذا سألتني؟
213

قالت: سألتك عن ماء رواء ليس من أرض ولا سماء فأجبت.
قال: وعن أي شيء سألتني أيضا؟
قالت: ما سألتك عن شيء إلا هذا فاسأل الجنود فقالوا مثل قولها، أنساهم الله تعالى ذلك وكفى سليمان (عليه السلام) الجواب، ثم إن سليمان دعاها إلى الإسلام وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت وقالت " * (رب إني ظلمت نفسي) *) بالكفر " * (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) *) فحسن إسلامها.
واختلف العلماء في أمرها بعد إسلامها فقال أكثرهم: لما أسلمت أراد سليمان أن يتزوجها، فلما هم بذلك كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها وقال: ما أقبح هذا فسأل الإنس: ما يذهب هذا؟
قالوا: الموسى فقالت المرأة: لم تمسني حديدة قط، فكره سليمان الموسى وقال: إنها تقطع ساقيها، فسأل الجن فقالوا: لا ندري، ثم سأل الشياطين فتلكأوا ثم قالوا: انا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا لها النورة والحمام.
قال ابن عباس: فإنه لأول يوم رؤيت فيه النورة واستنكحها سليمان عليه السلام.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن أحمد بن نصرويه قال: حدثنا محمد بن عمران ابن هارون قال: حدثنا محمد بن ميمون المكي قال: حدثني أبو هارون العطار عن أبي حفص الأبار عن إسماعيل بن أبي بردة عن أبي موسى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود عليه السلام، فلما ألزق ظهره إلى الجدر فمسه حرها قال: آوه من عذاب الله).
قالوا: فلما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا وأقرها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا وهي: سلحون وسون وعمدان، ثم كان سليمان عليه السلام يزورها في كل شهر مرة بعد أن ردها إلى ملكها، ويقيم عندها ثلاثة أيام يبتكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام، وولدت له فيما ذكر.
وروى ابن أبي إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب قال: زعموا أن سليمان بن داود عليه السلام قال لبلقيس لما أسلمت وفرغ من امرها: اختاري رجلا من قومك أزوجكه.
قالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان.
قال: نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك.
214

فقالت: زوجني إن كان لابد من ذلك ذا تبع ملك همذان فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال: اعمل لذي
تبع ما استعملك فيه.
قال: فصنع لذي تبع الصنائع باليمن ثم لم يزل بها يعمل له فيها ما أراد حتى مات سليمان ابن داود (عليه السلام)، فلما أن حال الحول وتبينت الجن موت سليمان (عليه السلام) أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم قال: فعمدت الشياطين إلى حجرين عظيمين فكتبوا فيها كتابا بالمسند نحن بنينا سلحين دائبين (سبعة وسبعين خريفا)، وبنينا صرواح ومرواح (وبنيون وحاضة وهند وهنيدة، وسبعة أمجلة بقاعة، وتلثوم بريدة، ولولا صارخ بتهامة لتركنا بالبون إمارة، وقال وسلحين وصرواح ومرواح وبينون وهند وهنيدة وتلثوم حصون كانت باليمن عملتها الشياطين لذي تبع)، ثم رفعوا أيديهم وانطلقوا وتفرقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان (عليه السلام).
2 (* (ولقد أرسلنآ إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون * قال ياقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون * قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون * وكان فى المدينة تسعة رهط يفسدون فى الارض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون * ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن فى ذالك لاية لقوم يعلمون * وأنجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *) 2
" * (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن) *) يعني بأن " * (اعبدوا الله) *) وحده " * (فإذا هم فريقان) *) مؤمن وكافر ومصدق ومكذب " * (يختصمون) *) في الدين.
قال مقاتل: واختصامهم مبين في سورة الأعراف وهو قوله " * (قال الملأ الذين استكبروا من قومه) *) إلى قوله " * (يا صالح أئتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين) *).
فقال لهم صالح " * (يا قوم لم تستعجلون بالسيئة) *) بالبلاء والعقوبة " * (قبل الحسنة) *) العافية والرحمة، والاستعجال طلب التعجيل بالأمر، وهو الإتيان به قبل وقته. " * (لولا) *) هلا " * (تستغفرون الله) *) بالتوبة من كفركم " * (لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا) *) تشاءمنا، وأصله تطيرنا " * (بك
215

وبمن معك) *) وذلك أن المطر أمسك عنهم في ذلك الوقت وقحطوا فقالوا: أصابنا هذا الضر والشر من شؤمك وشؤم أصحابك، وإنما ذكر التطير بلفظ الشأم على عادة العرب ونسبتهم الشؤم إلى البارح، وهو الطائر الذي يأتي من جانب اليد الشومى وهي اليسرى.
" * (قال طائركم) *) من الخير والشر وما يصيبكم من الخصب والجدب " * (عند الله) *) بأمره وهو مكتوب على رؤوسكم، لازم أعناقكم، وليس ذلك إلي ولا علمه عندي.
" * (بل أنتم قوم تفتنون) *) قال ابن عباس: تختبرون بالخير والشر، نظيره " * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) *).
الكلبي: تفتنون حتى تجهلوا أنه من عند الله سبحانه وتعالى.
محمد بن كعب: تعذبون بذنوبكم وقيل: تمتحنون بإرسالي إليكم لتثابوا على طاعتكم ومتابعتي، وتعاقبوا على معصيتي ومخالفتي.
" * (وكان في المدينة) *) يعني مدينة ثمود وهي الحجر " * (تسعة رهط) *) من أبناء أشرافهم " * (يفسدون في الأرض ولا يصلحون) *) وأسماؤهم قدار بن سالف ومصدع بن دهر وأسلم ورهمى وبرهم ودعمى وعيم وقتال وصداف.
" * (قالوا تقاسموا) *) تحالفوا " * (بالله) *) أيها القوم وموضع تقاسموا جزم على الأمر كقوله " * (بعضهم لبعض) *) وقال قوم من أهل المعاني: محله نصب على الفعل الماضي يعني انهم تحالفوا وتواثقوا، تقديره: قالوا متقاسمين بالله، ودليل هذا التأويل أنها في قراءة عبد الله: ولا يصلحون تقاسموا بالله، وليس فيها قالوا.
" * (لنبيتنه وأهله) *) من البيات فلنقتله، هذه قراءة العامة بالنون فيهما واختيار أبي حاتم، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي: لتبيتنه ولتقولن بالتاء فيهما وضم التاء واللام على الخطاب واختاره أبو عبيد، وقرأ مجاهد وحميد بالتاء فيهما وضم التاء واللام على الخبر عنهم.
ثم " * (ثم ليقولن ما شهدنا) *) ما حضرنا " * (مهلك أهله) *) أي إهلاكهم، وقرأ عاصم برواية أبي بكر مهلك بفتح الميم واللام، وروى حفص عنه بفتح الميم وكسر اللام، وهما جميعا بمعنى الهلاك " * (وإنا لصادقون) *) في قولنا: إنا ما شهدنا ذلك.
" * (ومكروا مكرا) *) وغدروا غدرا حين قصدوا تبييت صالح والفتك به " * (ومكرنا مكرا) *) وجزيناهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم " * (وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا) *) قرأ الحسن والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي أنا بفتح الألف ولها وجهان:
216

أحدهما: أن يكون أنا في محل الرفع ردا على العاقبة.
والثاني: النصب على تكرير (كان) تقديره: كان عاقبة مكرهم التدمير، واختار أبو عبيد هذه القراءة اعتبار الحرف أي أن دمرناهم، وقرأ الباقون: إنا بكسر الألف على الابتداء.
" * (دمرناهم) *) يعني أهلكنا التسعة، واختلفوا في كيفية هلاكهم.
فقال ابن عباس: أرسل سبحانه الملائكة فامتلأت بهم دار صالح فأتى التسعة الدار شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة
فقتلتهم.
قال قتادة: خرجوا مسرعين إلى صالح فسلط الله عليهم صخرة فدمغتهم.
مقاتل: نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم.
السدي: خرجوا ليأتوا صالحا فنزلوا خرقا من الأرض يتمكنون فيه فانهار عليهم.
" * (وقومهم أجمعين) *) بالصيحة وقد مضت القصة.
" * (فتلك بيوتهم خاوية) *) خالية، قراءة العامة بالنصب على الحال عن الفراء والكسائي وأبو عبيدة عن القطع مجازه: فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف واللام نصبت كقوله سبحانه " * (وله الدين واصبا) *) وقرأ عيسى بن عمر " * (خاوية) *) بالرفع على الخبر " * (بما ظلموا) *) أي بظلمهم " * (إن في ذلك لآية) *) لعبرة " * (لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) *) من صيحة جبريل، والخراج الذي ظهر بأيديهم.
قال مقاتل: خرج أول يوم على أيديهم مثل الحمصة أحمر ثم اصفر من الغد، ثم اسود اليوم الثالث، ثم تفقأت، وصاح جبريل (عليه السلام) في خلال ذلك فخمدوا، وكانت الفرقة المؤمنة الناجية أربعة آلاف، خرج بهم صالح إلى حضرموت، فلما دخلها صالح مات، فسمي (حضر موت).
قال الضحاك: ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها: (حاضورا) وقد مضت القصة جميعا.
2 (* (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون * أءنكم لتأتون الرجال شهوة من
217

دون النسآء بل أنتم قوم تجهلون * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين * قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفىءآلله خير أما يشركون) *) 2
" * (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة) *) وهي الفعلة القبيحة الشنيعة " * (وأ نتم تبصرون) *) أنها فاحشة، وقيل: يرى بعضكم بعضا. كانوا لا يتسترون عتوا منهم وتمردا " * (أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) *) من أدبار الرجال، يقولونه استهزاء منهم بهم " * (فأنجيناه وأهله إلا امرأته) *) وأهله " * (قدرناها) *) قضينا عليها أنها " * (من الغابرين) *) أي الباقين في العذاب وقال أهل المعاني: معنى " * (قدرناها) *) جعلناها " * (من الغابرين) *) وإنما قال ذلك لأن جرمها على مقدار جرمهم، فلما كان تقديرها كتقديرهم في الشرك والرضى بأفعالهم القبيحة، جرت مجراهم في إنزال العذاب بها " * (وأمطرنا عليهم) *) أي على شذادها " * (مطرا) *) وهو الحجارة " * (فساء مطر المنذرين قل الحمد لله) *) قال الفراء: قيل للوط: " * (قل الحمد لله) *) على هلاك كفار قومي.
وقال الباقون: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني و " * (قل الحمد لله) *) على هلاك كفار الأمم الخالية، وقال مقاتل: على ما علمك هذا الأمر. الآخرون: على جميع نعمه.
" * (وسلام على عباده الذين اصطفى) *) لرسالاته وهم الأنبياء (عليهم السلام)، عن مقاتل دليله قوله: " * (وسلام على المرسلين) *) وأخبرني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا السدي. قال: حدثنا أحمد بن نجدة. قال: حدثنا الحماني. قال: حدثنا الحكم بن طهر، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس " * (وسلام على عباده الذين اصطفى) *) قال: أصحاب محمد (عليه السلام). وأخبرني عبد الرحيم بن إبراهيم بن محمد العدل بقراءتي عليه، قال: أخبرني عبد الله بن محمد بن مسلم، فيما أجازه لي أن محمد بن إدريس حدثهم، قال: حدثنا الحميدي. قال: سمعت سفيان سئل عن " * (عباده الذين اصطفى) *) قال: هم أصحاب محمد.
وقال الكلبي: هم أمة محمد اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته، ثم قال إلزاما للحجة: " * (ءألله) *) القراءة بهمزة ممدودة وكذلك كل استفهام فيه ألف وصل، مثل قوله: (آلذين وآلآن) جعلت المدة علما بين الاستفهام والخبر، ومعنى الآية: الله الذي صنع هذه الأشياء " * (خير أما يشركون) *) من الأصنام، وقرأ عاصم وأهل البصرة (بالياء)، الباقون (بالتاء)، وكان النبي (عليه
218

السلام) إذا قرأ هذه الآية قال: (بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم).
2 (* (أمن خلق السماوات والارض وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلاه مع الله بل هم قوم يعدلون * أمن جعل الارض قرارا وجعل خلالهآ أنهارا وجعل لها رواسى وجعل بين البحرين حاجزا أءلاه مع الله بل أكثرهم لا يعلمون * أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم حلفآء الارض أءلاه مع الله قليلا ما تذكرون * أمن يهديكم فى ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته أءلاه مع الله تعالى الله عما يشركون * أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السمآء والارض أءلاه مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * قل لا يعلم من فى السماوات والارض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون * بل ادارك علمهم فى الاخرة بل هم فى شك منها بل هم منها عمون) *) 2
" * (أمن) *) قال أبو حاتم: فيه إضمار كأنه قال: آلهتكم خير أم الذي " * (خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأ نبتنا به حدائق ذات بهجة) *) حسن.
" * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) *) هو (ما) النفي، يعني ما قدرتم عليه " * (أءله مع الله) *) يعينه على ذلك، ثم قال: " * (بل هم قوم يعدلون) *) يشركون " * (أمن جعل الأرض قرارا) *) لا تميد بأهلها " * (وجعل خلالها) *) وسطها " * (أنهارا) *) تطرد بالمياه " * (وجعل لها رواسي) *) جبالا
ثوابت " * (وجعل بين البحرين) *) العذب والملح " * (حاجزا) *) مانعا لئلا يختلطا ولا يبغي أحدهما على صاحبه، وقيل: أراد الجزائر " * (أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه) *) أي المجهود، عن ابن عباس وقال السدي: المضطر الذي لا حول له ولا قوة، ذو النون هو الذي قطع العلائق عما دون الله، أبو حفص وأبو عثمان النيسابوريان: هو المفلس.
وسمعت أبو القاسم الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول: سمعت أبا الحسن عمر بن فاضل العنزي يقول: سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول: " * (المضطر) *) الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدمها " * (ويكشف السوء) *) أي الضر " * (ويجعلكم خلفاء الأرض) *) يهلك قرنا وينشئ آخرين " * (أإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) *) إذا سافرتم.
" * (ومن يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته) *) قدام رحمته " * (أإله مع الله تعالى الله عما يشركون أمن يبدأ الخلق ثم يعيده) *) للبعث " * (ومن يرزقكم من السماء) *) المطر " * (والأرض) *) النبات " * (أإله مع الله قل هاتوا برهانكم) *) حجتكم على قولكم إن مع الله إلها آخر " * (إن كنتم صادقين قل
219

لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) *) نزلت في المشركين حيث سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة.
قال الفراء: وإنما رفع ما بعد " * (إلا) *) لأن قبلها جحدا كما يقال: ما ذهب أحد إلا أبوك " * (وما يشعرون أيان) *) متى " * (يبعثون) *) قالت عائشة: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله عز وجل يقول: " * (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) *).
أخبرنا أبو زكريا الحري قال: أخبرنا أبو حامد الأعمشي قال: حدثنا علي بن حشرم قال: حدثنا الفضل بن موسى، عن رجل قد سماه قال: كان عند الحجاج بن يوسف منجم، فأخذ الحجاج حصيات بيده قد عرف عددها فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب، فأصاب المنجم، ثم اعتقله الحجاج فأخذ حصيات لم يعددهن، فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب، فحسب، فأخطأ ثم حسب أيضا، فأخطأ، فقال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها في يدك. قال: فما الفرق بينهما؟ قال: إن ذاك أحصيته فخرج من حد الغيب، فحسبت فأصبت، وإن هذا لم تعرف عددها، فصار غيبا، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل. " * (بل ادارك) *) اختلف القراء فيه، فقرأ ابن عباس بلى بإثبات الياء " * (ادارك) *) بفتح الألف وتشديد الدال على الاستفهام.
روى شعبة عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: في هذه الآية " * (بل ادارك علمهم في الآخرة) *) أي لم يدرك، قال الفراء: وهو وجه جيد كأنه يوجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، لقولك للرجل تكذبه: بلى لعمري لقد أدركت السلف فأنت تروي ما لا تروي، وأنت تكذبه. وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب والأعمش وشيبة ونافع وعاصم وحمزة والكسائي " * (بل ادارك) *) بكسر اللام وتشديد الدال أي تدارك وتتابع " * (علمهم في الآخرة) *) هل هي كائنة أم لا؟ وتصديق هذه القراءة أنها في حرف أبي أم تدارك " * (علمهم في الآخرة) *) والعرب تضع بل موضع أم، وأم موضع بل إذا كان في أول الكلام استفهام كقول الشاعر:
فوالله ما أدري أسلمى تغولت
أم البوم أم كل إلي حبيب
أي بل كل إلي حبيب، ومعنى الكلام هل تتابع علمهم بذلك في الآخرة، أي لم يتتابع فصل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه؛ لأن في الاستفهام ضربا من الجحد، وقرأ أبو جعفر ومجاهد وحميد وابن كثير وأبو عمرو " * (بل ادارك) *) من الادراك أي لم يدرك علمهم علم في الآخرة، وقال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم لأنهم كانوا في (الأنبياء) مكذبين، وقيل بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس فيها لهم علم، ويقال: اجتمع علمهم في الآخرة أنها كائنة وهم في شك من وقتهم.
220

" * (بل هم في شك منها بل هم منها عمون) *) أي (جهلة) واحدها عمي، وقرأ سليمان بن يسار وعطاء بن يسار " * (تدارك) *) غير مهموزة، وقرأ ابن محيض " * (بل أءدرك) *) على الاستفهام، أي لم تدرك، وحمل القول فيه أن الله سبحانه أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم إذا بعثوا يوم القيامة استوى علمهم بالآخرة وما وعدوا فيه من الثواب والعقاب، وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا وإن كانوا في شك من أمرها بل جاهلون به.
وسمعت بعض العلماء يقول في هذه الآية: إن حكمها ومعناها لو ادارك علمهم في ما هم في شك منها حيث هم منها عمون على تعاقب الحروف.
(* (وقال الذين كفروا أءذا كنا ترابا وءابآؤنآ أءنا لمخرجون * لقد وعدنا هاذا نحن وءابآؤنا من قبل إن هاذآ إلا أساطير الاولين * قل سيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين * ولا تحزن عليهم ولا تكن فى ضيق مما يمكرون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذى تستعجلون * وإن ربك لذو فضل على الناس ولاكن أكثرهم لا يشكرون * وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون * وما من غآئبة فى السمآء والارض إلا فى كتاب مبين * إن هاذا القرءان يقص على بنىإسراءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون * وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين * إن ربك يقضى بينهم بحكمه وهو العزيز العليم * فتوكل على الله إنك على الحق المبين * إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين * ومآ أنت بهادى العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بئاياتنا فهم مسلمون) *) 2
" * (وقال الذين كفروا) *) يعني مشركي مكة " * (إذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون) *) من قبورنا أحياء " * (لقد وعدنا هذا) *) البعث " * (نحن وآباؤنا من قبل) *) وليس ذاك بشيء " * (إن هذا إلا أساطير الأولين) *) أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها.
" * (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن) *) على تكذيبهم إياك عنك " * (ولا تكن في ضيق مما يمكرون) *) نزلت في المستهزئين الذين أقسموا بمكه وقد مضت قصتهم.
" * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم) *) أي دنا وقرب لكم، وقيل: تبعكم.
وقال ابن عباس: حضركم، والمعنى: ردفكم، فأدخل اللام كما أدخل في قوله: " * (لربهم يرهبون) *) و " * (للرؤيا تعبرون) *) وقد مضت هذه المسألة.
قال الفراء: اللام صلة زائدة كما يقول تقديرها به ويقدر له " * (بعض الذي تستعجلون) *) من
221

العذاب فحل بهم ذلك يوم بدر " * (وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وإن ربك ليعلم ما تكن) *) تخفي " * (صدروهم وما يعلنون وما من غائبة) *) أي مكتوم سر وخفي أمر، وإنما أدخل الهاء على الإشارة إلى الجمع.
" * (في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) *) وهو اللوح المحفوظ.
" * (ان هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي فيهم يختلفون) *) من أمر الدين " * (وإنه) *) يعني القرآن " * (لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم) *) أي بين المختلفين في الدين يوم القيامة " * (بحكمه وهو العزيز) *) المنيع فلا يرد له أمر " * (العليم) *) بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء.
" * (فتوكل على الله إنك على الحق المبين) *) البين " * (إنك لا تسمع الموتى) *) الكفار كقوله " * (أفمن كان ميتا فأحييناه) *) وقوله " * (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) *).
" * (ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين) *) نظيره " * (صم بكم عمي) *).
" * (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم) *) قراءة العامة على الاسم، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة يهدي العمى بالياء ونصب الياء على الفعل ههنا وفي سورة النمل " * (إن تسمع) *) وتفهم " * (إلا من يؤمن بآياتنا) *) بأدلتنا وحجتنا " * (فهم مسلمون) *) في علم الله سبحانه وتعالى.
2 (* (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دآبة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا بئاياتنا لا يوقنون) *) 2
" * (وإذا وقع القول) *) وجب العذاب والسخط " * (عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم) *) قراءة العامة بالتشديد من التكلم وتصديقهم، وقرأ أبي: تنبئهم.
قال السدي: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام، وقرأ أبو رجاء العطاردي: تكلمهم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم وهو الحرج أي تسمهم.
قال أبو الجوزاء: سألت ابن عباس عن هذه الآية يكلمهم أو تكلمهم فقال: كل ذلك يفعل تكلم المؤمن ويكلم الكافر. " * (إن الناس) *) قرأ ابن أبي إسحاق وأهل الكوفة بالنصب وقرأ الباقون بالكسر.
" * (كانوا بآياتنا لا يوقنون) *) قبل خروجها.
222

ذكر الأخبار الواردة في صفة دابة الأرض وكيفية خروجها
أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن حامد الأصبهاني قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، قالحدثنا عبد الله بن محمد بن رسموية قال: حدثنا الحكم بن بشير بن سليمان، عن عمرو بن قيس الملائي، عن عطية، عن ابن عمر " * (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم) *) قال: حين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني عن أحمد بن عبد الله بن سليمان قال: أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرنا أبو بكر بن خرجة حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي عن ميثم بن ميناء الجهني عن عمرو بن محمد العبقري عن طلحة بن عمرو عن عبد الله بن عمير الليثي عن أبي شريحة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم يمر زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة فبينا الناس يوما في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله سبحانه يعني المسجد الحرام لم ترعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو تدنو كذا ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك فيرفض الناس عنهم وتثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب، حتى أن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان الآن تصلي، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، ويتجاور الناس في ديارهم ويصلحون في أسفارهم ويشتركون في الأموال يعرف الكافر من المؤمن فيقال: للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر).
وأخبرني ابن محمد بن الحسين الثقفي عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي عن محمد بن عبدالغفار الزرقاني عن أحمد بن محمد بن هاني الطائي عن محمد بن النضر بن محمد الأودي عن أبيه عن سفيان الثوري عن شهاب بن عبدربه الرحمن عن طارق بن عبد الرحمن عن طارق بن عبد الرحمن عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دابة الأرض طولها سبعون ذراعا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب تسم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن وتسم الكافر
223

بين عينيه وتكتب بين عينيه كافر، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان (عليهما السلام)).
وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عن بهز عن حماد عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تخرج الدابة معها عصا موسى وخاتم سليمان فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم أنف الكافر بالخاتم، حتى أن أهل الخوان ليجتمعون فيقولون: هذا يا مؤمن ويقولون هذا يا كافر).
وأخبرنا الحسين بن محمد عن عبد الله بن محمد بن شنبة عن الحسن بن يحيى عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس الثور، وعينها عين
خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وصدرها صدر الأسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرة، وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم البعير، وبين كل مفصلين إثنا عشر ذراعا معها عصا موسى وخاتم سليمان، ولا يبقي مؤمن إلا نكتته في مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء فيفشو تلك النكتة حتى يضيء لها وجهه، ولا يبقى كافر إلا وتنكت وجهه بخاتم سليمان فتفشو تلك النكتة فيسود لها وجهه، حتى أن الناس يبتاعون في الأسواق بكم يا مؤمن وبكم يا كافر، ثم تقول لهم الدابة: يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار، وذلك قول الله عز وجل: " * (وإذا وقع القول أخرجنا لهم دابة..) *) الآية.
وأخبرنا الحسين بن محمد عن ابن شنبة عن ابن عمر، وعن سفيان بن وكيع عن الوليد بن عبد الله بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن أبي البيلماني عن ابن عمر قال: تخرج الدابة ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى قال: فتحمل الناس بين يديها وعجزها، لا يبقى منافق إلا خطمته ولا مؤمن إلا مسحته.
وأخبرني الحسين بن محمد عن عمر بن الخطاب عن عبد الله بن الفضل عن إبراهيم بن محمد بن عرعرة عن عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي عن فرقد بن الحجاج القرشي قال: سمعت عقبة بن أبي الحسناء اليماني قال: سمعت أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تخرج دابة الأرض من موضع جياد فيبلغ صدرها الركن ولما يخرج ذنبها بعد قال: وهي دابة ذات وبر وقوائم)
224

وأخبرني الحسن قال: حدثنا علي بن محمد بن لؤلؤ قال: أخبرنا أبو عبيد محمد بن أحمد بن المؤمل قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن جعفر الأحول قال: حدثنا منصور بن عمار قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو أنه ضرب أرض الطائف برجله وقال: من هاهنا تخرج الدابة التي تكلم الناس، وأخبرني عقيل بن محمد الجرجاني الفقيه قال: حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادي قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري قال: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا الأشجعي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن ابن عمر قال: تخرج الدابة من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها.
وبه عن محمد بن جرير قال: حدثني عصام بن بندار بن الجراح قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سفيان بن سعيد قال: حدثنا المنصور بن المعتمر، عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه الدابة، قلت: يا رسول الله من أين تخرج؟ قال: (من أعظم المساجد حرمة على الله، بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون؛ إذ تضطرب الأرض تحتهم من تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش، لن يدركها طالب، ولا يفوتها هارب، تسمي الناس مؤمنا وكافرا، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه: مؤمن، وأما الكافر فتترك بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه: كافر).
وبه عن محمد بن جرير قال: حدثني أبو عبد الرحمن الرقي قال: حدثنا ابن أبي مزينة قال: حدثنا ابن لهيعة ويحيى بن أيوب قالا: حدثنا ابن الهاد، عن عمرو بن الحكم أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: تخرج الدابة من شعب، فيمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض ماخرجتا، فتمر بالإنسان يصلي، فتقول: ما الصلاة من حاجتك، فتخطمه وقال وهب: وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من رآهها أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون، وفي هذا تصديق لقراءة من فتح أن.
وقال كعب: صورتها صورة الحمار، وروى ابن جريج روح، عن هشام، عن الحسن أن موسى (عليه السلام) سأل ربه أن يريه الدابة، فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء، وأشاره بيده لا يرى واحدا من طرفيها، فرأى منظرا فظيعا، فقال: رب ردها، فردها.
225

2 (* (ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بئاياتنا فهم يوزعون * حتى إذا جآءوا قال أكذبتم بئاياتى ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون * ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون * ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذلك لايات لقوم يؤمنون * ويوم ينفخ فى الصور ففزع من فى السماوات ومن فى الارض إلا من شآء الله وكل أتوه داخرين * وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله الذىأتقن كل شىء إنه خبير بما تفعلون * من جآء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون * ومن جآء بالسيئة فكبت وجوههم فى النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) *)
[/ مق]
قوله عز وجل: " * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها وله كل شىء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرءان فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فقل إنمآ أنا من المنذرين * وقل الحمد لله سيريكم ءاياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) *) جماعة " * (ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون) *) يحبس أولهم على آخرهم ليجتمعوا ثم يساقون إلى النار، وقال ابن عباس: يوزعون: يدفعون " * (حتى إذا جاءوا) *) يوم القيامة " * (قال) *) الله سبحانه لهم " * (أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما) *) ولم تعرفوا حق معرفتها " * (أم ماذا كنتم تعملون) *) فيها من تكذيب أو تصديق، وقيل: هو توبيخ، أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها، ولم تتفكروا فيها؟
" * (ووقع القول) *) ووجب العذاب " * (عليهم بما ظلموا) *) أشركوا " * (فهم لا ينطقون) *) لأن أفواههم مختومة. وقال أكثر المفسرين: " * (فهم لا ينطقون) *) بحجة وعذر، نظيره قوله سبحانه: * (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * * (أ لم يروا أنا جعلنا) *) خلقنا " * (الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا) *) مضيئا يبصر فيه " * (إن في ذلك) *) الذي ذكرت " * (لآيات لقوم يؤمنون) *) يصدقون فيعتبرون قوله تعالى: " * (ويوم ينفخ في الصور) *) وهي النفخة الأولى.
أخبرنا محمد عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن يزيد الصيرفي قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا أسباط قال: حدثنا سلمان التميمي، عن أسلم
العجلي، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو قال: جاء إعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الصور، فقال: (قرن ينفخ فيه).
وقال مجاهد: الصور كهيئة البوق، وقيل: هو بلغة أهل اليمن، وعلى هذا أكثر
226

المفسرين، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ).
وقال قتادة وأبو عبيدة: هو جمع صورة يقال: صورة وصور، وصور: مثل سور البناء والمسجد، وجمعها سور وسئور وأنشد أبو عبيدة:
سرت إليها في أعالي السور
فمعنى الآية: ونفخ في صور الخلق.
وقد ورد في كيفية نفخ الصور حديث جامع صحيح وهو ما أخبرنا الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم المهرجاني قراءة عليه أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي ببغداد، قال: أخبرني أبو قلابة الرقاشي قال: أخبرني أبو عاصم الضحاك بن مخلد، عن إسماعيل بن رافع، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل وهو واضعه على فيه، شاخص بصره إلى العرض ينتظر متى؟
قال: قلت يا رسول الله: وما الصور؟ قال: القرن، قال: قلت: كيف هو؟ قال: عظيم، والذي بعثني بالحق إن أعظم داره فيه كعرض السماء والأرض، فينفخ فيه بثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين، فأمر الله عز وجل إسرافيل (عليه السلام) بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع فيفزع من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، فيأمره فيمدها ويطيلها وهو الذي يقول الله عز وجل: " * (وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق) *) فيسير الله عز وجل الجبال فيمر من السحاب فيكون سرابا، وترج الأرض بأهلها رجا فيكون كالسفينة الموثقة في البحر، تضربها الأمواج وتلقيها الرياح، أو كالقنديل المعلق بالعرش يرجحه الأرواح وهي التي يقول الله عز وجل: " * (يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة) *) فتمتد الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى يأتي الأقطار فتلقاها الملائكة تضرب وجوهنا، فيرجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله عز وجل " * (يوم التناد يوم يولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم) *).
فبينا هم كذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلي قطروا أو أمرا عظيما لم يروا مثله، وأخذهم من الكرب والهول ما الله به عليم، ثم نظروا إلى السماء فهي كالمهل، ثم انشقت فتناثرت نجومها وانكشفت شمسها وقمرها
227

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والأموات يومئذ يعلمون بشيء من ذلك).
قال أبو هريرة: يا رسول الله فمن استثنى الله عز وجل حيث يقول " * (ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) *).
قال صلى الله عليه وسلم (أولئك هم الشهداء وإنما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أحياء عند ربهم يرزقون ووقيهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذاب بعثه الله تعالى إلى شرار خلقه، وهو الذي يقول الله " * (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم) *) إلى قوله " * (وإن عذاب الله شديد) *) فيمكثون في ذلك البلاء ما شاء الله إلا أنه يطول عليهم، ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل فينفخ نفخة الصعق " * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) *) فإذا اجتمعوا جاء ملك الموت إلى الجبار ويقول: قد مات أهل السماء والأرض إلا من شئت، فيقول الله سبحانه وهو أعلم من بقي فقال: أي رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة العرش، وبقي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وبقيت أنا فيقول الله عز وجل فيموت جبرائيل وميكائيل فينطق الله العرش فيقول: أي رب يموت جبرائل وميكائيل، فيقول: اسكت إني كتب الموت على كل من تحت عرشي فيموتان.
ثم يأتي ملك الموت فيقول: أي رب قد مات جبرائيل وميكائيل فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت حملة عرشك فيقول ليمت حملة عرشي فيموتون، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل فيموت.
ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب قد مات حملة عرشك فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت أنا فقال: أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت فيموت فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وكان آخرا كما كان أولا طوى السماوات كطي السجل للكتب.
ثم قال: أنا الجبار، لمن الملك اليوم، ولا يجيبه أحد، ثم يقول تبارك وتعالى جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: لله الواحد القهار " * (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات مطويات فيبسطها بسطا) *) ثم يمدها مد الأديم العكافي " * (لا يرى فيها عوجا ولا أمتا) *).
ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة، فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل ما كانوا فيه من الأول، من كان في بطنها، كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها، ثم ينزل الله سبحانه عليهم ماء من تحت العرش كمني الرجال، ثم يأمر السحاب أن تنزل بمطر أربعين يوما حتى يكون) من فوقهم) إثنا عشر ذراعا، ويأمر الله سبحانه الأجساد أن تنبت كنبات الطراثيث وكنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم كما كانت، قال الله سبحانه: ليحي حملة العرش، فيحيون. ثم يقول الله تعالى: ليحي جبريل وميكائيل. فيحييان، فيأمر الله إسرافيل، فيأخذ
228

الصور فيضعه على فيه، ثم يدعو الله الأرواح فيؤتى بها، تتوهج أرواح المؤمنين نورا والأخرى ظلمة، فيقبضها جميعا ثم يلقيها على الصور، ثم يأمر الله سبحانه إسرافيل أن ينفخ نفخة للبعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما في السماء والأرض، فيقول الله سبحانه: ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح الخياشم،
ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السم في اللديغ.
ثم تنشق الأرض عنهم سراعا، فأنا أول من ينشق عنه الأرض، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون عراة حفاة عزلا مهطعين إلى الداعي، فيقول الكافرون: هذا يوم عسر).
قوله عز وجل: " * (ففزع) *) أي فيفزع، والعرب تفعل ذلك في المواضع التي يصلح فيها إذا، لأن إذا يصلح معها فعل ويفعل كقولك: أزورك إذا زرتني، وأزورك إذا تزورني. " * (من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) *) أن لا يفزع وقد ذكرنا في الخبر الماضي أنهم الشهداء " * (وكل أتوه داخرين) *) قرأ الأعمش وحمزة وخلف وحفص " * (أتوه) *) مقصورا على الفعل بمعنى جاءوه عطفا على قوله: " * (وفزع) *) و " * (أتوه) *) اعتبارا بقراءة ابن مسعود.
أخبرنا محمد بن نعيم قال: حدثنا الحسين بن أيوب قال: حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا هشام، عن مغيرة، عن إبراهيم، وأخبرنا محمد بن عبدوس قال: حدثنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا محمد بن الجهم قال: حدثنا الفراء قال: حدثني عدة، منهم المفضل الضبي وقيس وأبو بكر كلهم عن جحش بن زياد الضبي كلاهما عن تميم بن حذلم قال: قرأت على عبد الله بن مسعود " * (وكل أتوه داخرين) *) بتطويل الألف، فقال: " * (وكل أتوه) *) قصره وقرأ الباقون بالمد وضم التاء على مثال فاعلوه كقوله: " * (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) *) وهي قراءة عليح " * (داخرين) *) صاغرين.
قوله تعالى: " * (وترى الجبال) *) يا محمد " * (تحسبها جامدة) *) قائمة واقفة مستقرة مكانها. " * (وهي تمر مر السحاب) *) حين تقع على الأرض فتستوي بها.
قال القتيبي: وذلك أن الجبال تجمع وتسير وهي في رؤية العين كالواقفة وهي تسير، وكذلك كل شيء عظيم وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمته ويعد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو يسير، وإلى هذا ذهب الشاعر في وصف جيش:
يأرعن مثل الطود تحسب أنهم
وقوف لحاج والركاب تهملج
" * (صنع الله) *) نصب على المصدر وقيل: على الإغراء أي اعلموا وأبصروا " * (الذي أتقن كل
229

شيء) *) أي أحكم (كل شيء، قتادة): أحسن. " * (إنه خبير بما تفعلون) *) قرأ أهل الكوفة " * (تفعلون) *) بالتاء. غيرهم بالياء، واختار أبو عبيدة بقوله: " * (أتوه) *) إنما هو خبر عنهم " * (من جاء) *) أي وافى الله " * (بالحسنة) *) بالإيمان. قال أبو معشر: كان إبراهيم يحلف ما يستثني أن الحسنة: لا إله إلا الله، قتادة: بالإخلاص.
وأخبرني الحسين بن محمد ابن فنجويه قال: حدثنا محمد ابن شنبه قال: حدثنا عبيد الله بن أحمد بن منصور قال: حدثنا سهل بن بشر قال: حدثنا عبد الله بن سليمان قال: حدثنا سعد بن سعيد قال: سمعت علي بن الحسين يقول: رجل غزا في سبيل الله، فكان إذا خلا المكان قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فبينما هو ذات يوم في أرض الروم في موضع في حلفاء وبردي رفع صوته يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض، فقال: يا عبد الله ما ذات قلت؟ قال: قلت الذي سمعت، والذي نفسي بيده إنها الكلمة التي قال الله عز وجل: " * (من جاء بالحسنة) *).
" * (فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون) *) وأخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الله العباسي قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين محمد بن عثمان (النصيبي ببغداد) قال: حدثنا أبو بكر محمد ابن الحسين السبيعي بحلب قال: حدثني الحسين بن إبراهيم الجصاص قال: أخبرنا حسين بن الحكم قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، عن (فضيل) بن الزبير، عن أبي داود السبيعي، عن أبي عبد الله الهذلي قال: دخلت على علي بن أبي طالب ح، فقال: يا عبد الله ألا أنبئك بالحسنة التي من جاء بها أدخله الله الجنة، والسيئة التي من جاء بها أكبه الله في النار، ولم يقبل معها عمل؟
قلت: بلى، قال: الحسنة حبنا والسيئة بغضنا " * (فله خير منها) *) أي فله من هذه الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والأمن من العذاب، قال ابن عباس: " * (فله خير منها) *) أي فمنها يصل إليه الخير، الحسن: معناه له منها خير، عكرمة وابن جريج: أما أن يكون له خير من الإيمان فلا، وإنه ليس شيء خير من لا إله إلا الله ولكن له منها خير، وعن ابن عباس أيضا " * (فله خير منها) *) يعني الثواب لأن الطاعة فعل العبد والثواب فعل الله سبحانه.
وقيل: هو إن الله عز وجل يقبل إيمانه وحسناته، وقبول الله سبحانه خير من عمل العبد، وقيل: " * (فله خير منها) *) يعني رضوان الله سبحانه، قال الله تعالى: " * (ورضوان من الله أكبر) *).
وقال محمد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد " * (فله خير منها) *) يعني الإضعاف، أعطاء الله
230

الحسنة بالواحدة عشرا صاعدا، فهذا خير منها، وقد أحسن بن كعب وابن زيد في تأويلهما لأن للإضعاف خصائص منها أن العبد يسئل عن عمله ولا يسأل عن الإضعاف، ومنها أن للشيطان سبيلا إلى عمله ولا سبيل له إلى الإضعاف، ولأنه لا مطمع للخصوم في الإضعاف، ولأن دار الحسنة الدنيا ودار الإضعاف الجنة، ولأن الجنة على استحقاق العبد، والتضعيف كما يليق بكرم الرب " * (وهم من فزع يومئذ آمنون) *) قرأ أهل الكوفة " * (فزع) *) منونا " * (يومئذ) *) بنصب الميم وهي قراءة ابن مسعود، وسائر القراء قرأوا بالإضافة واختاره أبو عبيد قال: لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وإذا قال: " * (من فزع يومئذ)
*) صار كأنه فزع دون فزع، وهو اختيار الفراء أيضا، قال: لأنه فزع معلوم، ألا ترى أنه قال: " * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) *) فصير معرفة؟ فإذا أضفته كان معرفة فهو أعجب إلي " * (ومن جاء بالسيئة) *) يعني الشرك.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي المحجل، عن أبي معشر، عن إبراهيم " * (من جاء بالحسنة) *) قال: لا إله إلا الله. " * (ومن جاء بالسيئة) *) قال: الشرك.
وأخبرنا عبد بن حامد قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن شعيب البيهقي قال: حدثنا بشر ابن موسى قال: حدثنا روح، عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: ثمن الجنة لا إله إلا الله.
" * (فكبت وجوههم في النار) *) قال ابن عباس: ألقيت، الضحاك: طرحت، أبو العالية: قلبت، وقيل لهم: " * (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون إنما أمرت) *) يقول الله سبحانه لنبيه محمد (عليه السلام) قل: " * (إنما أمرت) *) * * (أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) *) يعني مكة جعلها حرما آمنا، فلا يسفك فيها دم حرام، ولا يظلم فيها أحد، ولا يهاج، ولا يصطاد صيدها، ولا يختلي خلالها، وقرأ ابن عباس (التي حرمها) إشارة إلى البلدة.
" * (وله كل شيء) *) خلقا وملكا " * (وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أ نا من المنذرين) *) * * (وما علينا إلا البلاغ) *) نسختها آية القتال " * (وقل الحمد لله) *) على نعمه، " * (سيريكم آياته) *) يعني يوم بدر، نظيرها في سورة الأنبياء: " * (سأريكم آياتي فلا تستعجلون) *) وقال مجاهد: " * (سيريكم آياته) *) في أنفسكم وفي السماء والأرض والرزق، دليله قوله: " * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) *) وقوله: * (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم) * * (فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) *).
231

((سورة القصص))
مكية، وهي خمسة آلاف وثمانمائة حرف، وألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة، وثمان وثمانون آية
أخبرنا أبو الحسين الخباري، قال: حدثنا ابن حنيش قال: حدثني أبو العباس محمد بن موسى الدفاق، قال: حدثنا عبد الله بن روح المدائني، وأخبرنا الخياري، قال: حدثنا طغران، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا محمد بن عاصم، قالا: حدثنا شبابه بن سوار الفزاري، قال: حدثنا مخلد بن عبد الواحد، عن علي بن زيد، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن زيد بن حنيش، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ طسم القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بموسى وكذب به، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا، إن كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (طسم * تلك ءايات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون * إن فرعون علا فى الارض وجعل أهلها شيعا يستضعف طآئفة منهم يذبح أبنآءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم فى الارض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) *) 2
" * (طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا) *) قال ابن عباس: استكبر، السدي قال: تجبر، وقال قتادة: بغى
232

وقال مقاتل: تعظم، " * (في الأرض) *) يعني أرض مصر، " * (وجعل أهلها شيعا) *) فرقا وأصنافا في الخدمة والسحر، " * (يستضعف طائفة منهم) *) يعني بني إسرائيل، " * (يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) *) يعني بني إسرائيل.
" * (ونجعلهم أئمة) *) قال ابن عباس: قادة في الخير يقتدى بهم، وقال قتادة: ولاة وملوكا، دليله قوله سبحانه: " * (وجعلكم ملوكا) *)، مجاهد دعاة إلى الخير، " * (ونجعلهم الوارثين) *) بعد هلاك فرعون وقومه يرثونهم ديارهم وأموالهم، " * (ونمكن لهم في الأرض) *) يعني ويوطي لهم في أرض مصر والشام وينزلهم إياها، " * (ونري فرعون وهامان وجنودهما) *) قرأ حمزة ويحيى بن وثاب والأعشى والكسائي وخلف " * (يري) *) بالتاء، وما بعده رفع على أن الفعل " * (لهم) *)، وقرأ غيرهم " * (ونري) *) بنون مضمومة وياء مفتوحة، وما بعده نصب بوقوع الفعل عليهم، " * (منهم ما كانوا يحذرون) *) وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل، فكانوا على وجل منهم، فأراهم الله سبحانه ما كانوا يحذرون.
(* (وأوحينآ إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنىإنا رآدوه إليك وجاعلوه من المرسلين * فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين * وقالت امرأت فرعون قرة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون * وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدى به لولاأن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين * وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون * وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون * فرددناه إلى أمه كى تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولاكن أكثرهم لا يعلمون * ولما بلغ أشده واستوى ءاتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين) *) 2
" * (وأوحينا إلى أم موسى) *) قال قتادة: قذفنا في قلبها وليس نبوة، واسم أم موسى يوخابد بنت لاوي بن يعقوب " * (أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي) *) عليه، " * (ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) *).
233

أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد قال: حدثنا مخلد بن جعفر الباقرجي قال: حدثنا الحسين بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرني ابن سمعان، عن عطاء عن ابن عباس قال إسحاق: وأخبرني جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي، ورق خيارهم أشرارهم، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، فسلط الله عليهم القبط، فاستضعفوهم إلى أن نجاهم الله تعالى على يدي نبيه موسى (عليه السلام).
قال وهب: بلغني أنه ذبح في طلب موسى تسعين ألف وليد، قال ابن عباس: إن أم موسى لما تقارب (ولادها)، وكانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى، فلما ضربها الطلق أرسلت إليها، فقالت: قد نزل بي ما نزل، ولينفعني حبك إياي اليوم، قال: فعالجت قبالها، فلما أن وقع موسى (عليه السلام) على الأرض هالها نور بين عيني موسى (عليه السلام)، فارتعش كل مفصل منها ودخل حب موسى (عليه السلام) قلبها، ثم قالت لها: يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني إلا ومن رأيي قتل مولودك وأخبر فرعون، ولكن وجدت لابنك هذا حبا ما وجدت حب شيء مثل حبه، فاحفضي ابنك، فإني أراه هو عدونا.
فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب، فلفت موسى في خرقة، فوضعته في التنور وهو مسجور، فطاش عقلها، فلم تعقل ما تصنع، قال: فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون، ولم يظهر لها لبن، فقالوا: ما أدخل عليك القابلة؟ قالت: هي مصافية لي، فدخلت علي زائرة، فخرجوا من عندها، فرجع إليها عقلها، فقالت لأخت موسى: فأين الصبي؟ قالت: لا أدري، فسمعت بكاء الصبي من التنور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله سبحانه النار عليه بردا وسلاما فاحتملته.
قال: ثم إن أم موسى (عليه السلام) لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها، فقذف الله سبحانه في نفسها أن تتخذ له تابوتا، ثم تقذف بالتابوت في اليم وهو النيل، فانطلقت إلى رجل نجار من أهل مصر من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا صغيرا، فقال لها النجار: ما تصنعين بهذا التابوت؟
234

قالت: ابن لي أخبئه في التابوت، وكرهت الكذب، قال: ولم؟ قالت: أخشى عليه كيد فرعون، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت، انطلق النجار إلى أولئك الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى، فلما هم بالكلام أمسك الله سبحانه لسانه فلم ينطق الكلام، وجعل يشير بيده، فلما يدر الأمناء ما يقول، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم: اضربوه، فضربوه وأخرجوه.
فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله سبحانه عليه لسانه، فتكلم، فانطلق أيضا يريد الأمناء، فأتاهم ليخبرهم وأخذ الله سبحانه لسانه وبصره، فلم ينطق الكلام، ولم يبصر شيئا، فضربوه وأخرجوه، فوقع في واد تهوى فيه حيران، فجعل لله عليه إن رد لسانه وبصره أن لا يدل عليه، وأن يكون معه لحفظه حيث ما كان، فعرف الله عز وجل منه الصدق، فرد عليه بصره ولسانه فخر لله ساجدا، فقال: يا رب دلني على هذا العبد الصالح، فدله الله عليه، فخرج من الوادي، فآمن به وصدقه وعلم أن ذلك من الله.
فانطلقت أم موسى، فألقته في البحر، وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها، وكانت من أكرم الناس عليه، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون، وكان بها برص شديد مسلخة برصا، فكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة، فنظروا في أمرها، فقالوا له: أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس.
فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه آسية بنت مزاحم، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهن وتنضح بالماء على وجوههن، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج، فقال فرعون: إن هذا الشيء في البحر قد تعلق بالشجرة، ائتوني به، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه.
قال: فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها للذي أراد الله سبحانه أن يكرمها، فعالجته ففتحت الباب، فإذا هي بصبي صغير في مهده، وإذا نور بين عينيه، وقد جعل
235

الله تعالى رزقه في إبهامه يمصه لبنا، فألقى الله سبحانه لموسى (عليه السلام) المحبة في قلب آسية، وأحبه فرعون وعطف عليه، وأقبلت بنت فرعون، فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه، فلطخت به برصها، فبرأت فقبلته وضمته إلى صدرها.
فقال الغواة من قوم فرعون: أيها الملك إنا نظن إن ذلك المولود الذي نحذر منه من بني إسرائيل هو هذا، رمي به في البحر فرقا منك فاقتله، فهم فرعون بقتله، قالت آسية: قرة عين لي ولك، لا تقتله عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون، فوهبه لها، وقال فرعون: أما أنا فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله (عليه السلام): (لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو لك مثل قالت امرأته لهداه الله سبحانه كما هداها، ولكن أحب الله عز وجل أن يحرمه للذي سبق في علم الله).
فقيل لآسية: سميه، قالت: سميته موشا لأنا وجدناه في الماء والشجر، ف (مو) هو الماء، و (شا): هو الشجر.
فذلك قوله سبحانه: " * (فالتقطه) *) أي فأخذه، والعرب تقول لما وردت عليه فجأة من غير طلب له ولا إرادة: أصبته التقاطا، ولقيت فلانا التقاطا، ومنه قول الراجز:
ومنهل وردته التقاطا
لم ألق إذ وردته فراطا
ومنه اللقطة وهو ما وجد ضالا فأخذ، " * (آل فرعون ليكون لهم) *) هذه اللام تسمى لام العاقبة، ولام الصيرورة، لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أنه كان لهم، " * (عدوا وحزنا) *)، قال الشاعر:
فللموت تغذو الوالدات سخالها
كما لخراب الدور تبنى المساكن
" * (عدوا وحزنا) *) قرأ أهل الكوفة بضم الحاء وجزم الزاي، وقرأ الآخرون بفتح الحاء والزاي، واختاره أبو عبيد، قال: للتفخيم، واختلف فيه غير عاصم، وهما لغتان مثل العدم والعدم، والسقم والسقم " * (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) *) عاصين آثمين.
" * (وقالت امرأة فرعون قرت عين) *) أي هو قرة عين، " * (لي ولك لا تقتلوه) *) فإن الله أتانا به من أرض أخرى وليس من بني إسرائيل، " * (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون) *)
236

بما هو كائن من أمرهم وأمره، عن مجاهد، قتادة " * (وهم لا يشعرون) *) إن هلاكهم على يديه، محمد بن زكريا بن يسار " * (وهم لا يشعرون) *) إني أفعل ما أريد ولا أفعل ما يريدون.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا طلحة وعبيد الله قالا: حدثنا أبو مجاهد قال: حدثني أحمد بن حرب قال: حدثنا سنيد قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس " * (وهم لا يشعرون) *) يقول: لا يدري بنو إسرائيل إنا التقطناه، الكلبي " * (وهم لا يشعرون) *) إلا وإنه ولدنا.
" * (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) *) أي خاليا لاهيا ساهيا من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه، قاله أكثر المفسرين، وقال الحسن وابن إسحاق وابن زيد: يعني فارغا من الوحي الذي أوحى الله سبحانه وتعالى إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن، والعهد الذي عهدنا إليه أن نرده إليها ونجعله من المرسلين، فجاءها الشيطان، فقال: يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فتكون لك أجره وثوابه، وتوليت أنت قتله، فألقيته في البحر وغرقته.
ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت: إنه وقع في يدي عدوه والذي فررت به منه، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله سبحانه إليها، فقال الله تعالى: " * (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) *) من الوحي الذي أوحي إليها، وقال الكسائي: " * (فارغا) *) أي ناسيا، أبو عبيدة: " * (فارغا) *) من الحزن لعلمها بأنه لم يغرق، وهو من قول العرب: دم فرغ إذا كان هدرا لا قود فيه ولا دية. وقال الشاعر:
فإن تك أذواد أصبن ونسوة
فلن تذهبوا فرغا بقتل حبال
237

العلاء بن زيد " * (فارغا) *): نافرا، وقرأ ابن محيض وفضالة بن عبيد: " * (فزعا) *) بالزاي والعين من غير ألف، " * (إن كادت لتبدي به) *) قال بعضهم: الهاء في قوله: " * (به) *) راجعة إلى موسى ومعنى الكلام: إن كادت لتبدي به أنه ابنها من شدة وجدها.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن بشر، قال: حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس " * (إن كادت لتبدي به) *) قال: كادت تقول: وا ابناه، وقال مقاتل: لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر، فخشيت عليه الغرق، فكادت تصيح من شفقها عليه، الكلبي: كادت تظهر أنه ابنها، وذلك حين سمعت الناس وهم يقولون لموسى بعدما شب: موسى بن فرعون، فشق عليها فكادت تقول: لا، بل هو ابني، وقال بعضهم: الهاء عائدة إلى الوحي أي " * (إن كادت لتبدي) *) بالوحي الذي أوحينا إليها أن نرده عليها.
" * (لولا أن ربطنا على قلبها) *) قوينا قلبها فعصمناها وثبتناها " * (لتكون من المؤمنين) *) المصدقين الموقنين بوعد الله عز وجل " * (وقالت) *) أم موسى " * (لأخته) *) لأخت موسى واسمها مريم " * (قصيه) *) ابتغي أثره حتى تعلمي خبره، ومنه القصص لأنه حديث يتبع فيه الثاني الأول، " * (فبصرت به) *) أبصرته " * (عن جنب) *) بعد، وقال ابن عباس: الجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به.
وقال قتادة: جعلت تنظر إليها كإنها لا تريده، وكان يقرأ " * (عن جنب) *) بفتح الجيم وسكون النون، وقرأ النعمان بن سالم عن جانب أي عن ناحية " * (وهم لا يشعرون) *) أنها أخته " * (وحرمنا عليه المراضع) *) وهي جمع المرضع، " * (من قبل) *) أي من قبل مجيء أم موسى، وذلك أنه كان يؤتى بمرضع بعد مرضع فلا يقبل ثدي امرأة، فهمهم ذلك، فلما رأت أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلبه ذلك، وما يصنع به، فقالت لهم: " * (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم) *) أي يضمنونه ويرضعونه ويضمونه إليهم، وهي امرأة قد قتل ولدها، فأحب شيء إليها أن تجد صبيا صغيرا فترضعه، " * (وهم له ناصحون) *) والنصح: إخلاص العمل من شائب الفساد، وهو نقيض الغش، قالوا: نعم، فأتينا بها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها (بحال ابنها) وجاءت بها إليهم، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها فذلك قوله: " * (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) *) أن الله وعدها رده إليها.
قال السدي وابن جريج: لما قالت أخت موسى: " * (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم
238

وهم له ناصحون) *) أخذوها وقالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام، فدلينا على أهله، فقالت: ما أعرفه ولكني إنما قلت: هم للملك ناصحون، " * (ولما بلغ أشده) *) قال الكلبي: الأشد: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وقال سائر المفسرين: الأشد ثلاث وثلاثون سنة، " * (واستوى) *) أي بلغ أربعين سنة.
أخبرنا أبو محمد المخلدي، قال: أخبرنا أبو الوفاء المؤمل بن الحسن بن عيسى، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، قال: حدثنا يحيى بن سليم، قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله سبحانه: " * (بلغ أشده واستوى) *) قال: الأشد: ثلاث وثلاثون سنة، والاستواء: أربعون سنة، والعمر الذي أعده الله إلى ابن آدم ستون سنة، ثم قرأ " * (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) *).
" * (آتيناه حكما) *) عقلا وفهما، " * (وعلما) *) قال مجاهد: قيل: النبوة، " * (وكذلك نجزي المحسنين) *).
2 (* (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هاذا من شيعته وهاذا من عدوه فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هاذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بمآ أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين * فأصبح فى المدينة خآئفا يترقب فإذا الذى استنصره بالامس يستصرخه قال له موسى إنك لغوى مبين * فلمآ أن أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما قال ياموسى أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا بالامس إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الارض وما تريد أن تكون من المصلحين * وجآء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من الناصحين * فخرج منها خآئفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين * ولما توجه تلقآء مدين قال عسى ربىأن يهدينى سوآء السبيل) *) 2
" * (ودخل) *) يعني موسى " * (المدينة) *) قال السدي: يعني مدينة منف من أرض مصر، وقال مقاتل: كانت قرية تدعى خانين على رأس فرسخين من مصر.
" * (على حين غفلة من أهلها) *) قال محمد بن كعب القرظي: دخلها فيما بين المغرب والعشاء، وقال غيره: نصف النهار عند القائلة، واختلف العلماء في السبب الذي من أجله دخل
239

موسى هذه المدينة في هذا الوقت، فقال السدي: كان موسى (عليه السلام) حين أمر بركب مراكب فرعون وبلبس مثل ما يلبس، وكان إنما يدعى موسى بن فرعون، ثم إن فرعون ركب مركبا وليس عنده موسى (عليه السلام)، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض يقال لها: منف، فدخلها نصف النهار وقد تقلبت أسواقها، وليس في طرقها أحد، وهو الذي يقول الله سبحانه: " * (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) *).
وقال ابن إسحاق: كانت لموسى من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه ويقتدون به ويجتمعون إليه، فلما اشتد رأيه وعرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه، فخالفهم في دينه وتكلم وعادى وأنكر حتى ذكر ذلك منه، وحتى خافوه وخافهم، حتى كان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخفيا، فدخلها يوما " * (على حين غفلة من أهلها) *).
وقال ابن زيد: لما علا موسى فرعون بالعصا في صغره قال فرعون: هذا عدونا الذي قتلت فيه بني إسرائيل، فقالت امرأته: لا بل هو صغير، ثم دعت بالجمر والجوهر، فلما أخذ موسى الجمرة وطرحها في فيه حتى صارت عقدة في لسانه، ترك فرعون قتله وأمر بإخراجه من مدينته، فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشده، " * (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) *) عن موسى أي من بعد نسيانهم خبره وأمره لبعد عهدهم به.
وقال علي بن أبي طالب (ح): في قوله: " * (حين غفلة من أهلها) *) كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم، " * (فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته) *) من أهل دينه من بني إسرائيل، " * (وهذا من عدوه) *) من مخالفيه من القبط، قال المفسرون: الذي هو من شيعته هو السامري، والذي من عدوه طباخ فرعون واسمه فليثون.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا موسى بن محمد، قال: حدثنا الحسن بن علوية، قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدثنا المسيب بن شريك قال: اسمه فاثون وكان خباز فرعون، قالوا: يسخره لحمل الحطب إلى المطبخ، روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما بلغ موسى أشده، وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل، والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى واشتد غضبه؛ لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس إلا إنما ذلك من قبل الرضاعة من أم موسى، فقال للفرعوني، خل
240

سبيله، فقال: إنما أخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك، فنازع أحدهما صاحبه، فقال الفرعوني لموسى: لقد هممت إلى أن أحمله عليك.
وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة والبطش، " * (فوكزه موسى) *) بجمع كفه ولم يتعمد قتله، قال الفراء وأبو عبيدة: الوكز: الدفع بأطراف الأصابع، وفي مصحف عبد الله (فنكزه) بالنون، والوكز واللكز والنكز واحد، ومعناها: الدفع، " * (فقضى عليه) *) أي قتله وفرغ من أمره، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته، وقضيت عليه، قال الشاعر:
أيقايسون وقد رأوا حفاثهم
قد عضه فقضى عليه الأشجع
أي قتله.
فلما قتله موسى ندم على قتله، وقال: لم أومر بذلك ثم دفنه) في الرمل) * * (قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين وقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي
فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي) *) بالمغفرة فلم تعاقبني " * (فلن أكون ظهيرا) *) عونا ونصيرا " * (للمجرمين) *) قال ابن عباس: لم يستثن فابتلى، قال قتادة: يعني فلن أعين بعدها على خطيئة، أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد، قال: حدثنا داود بن سليمان، قال: أخبرنا عبد بن حميد، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن سلمة بن نبيط قال: بعث بعض الأمراء وهو عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى، وقال: أعطهم، فقال: اعفني، فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه، فقال له بعض أصحابه: وأنت لا) ترزأ) شيئا، فقال: لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم.
وبه عن عبد الله قال: حدثنا يعلى، قال حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي قال: قلت لعطاء بن أبي رياح: إن لي أخا يأخذ بقلمه، وإنما يكتب ما يدخل وما يخرج، قال: أخذ بقلمه كان ذلك غنى وإن تركه احتاج، وصار عليه دين وله عيال، فقال: من الرأس؟ قلت: خالد بن عبد الله، قال: اما تقرأ ما قال العبد الصالح: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين، فلا يعينهم فإن الله تعالى سيغنيه.
" * (فأصبح في المدينة خائفا) *) من قتله القبطي أن يؤخذ فيقتل به، " * (يترقب) *) ينتظر الأخبار، " * (فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه) *) يستغيثه، وأصل ذلك من الصراخ، كما يقال: قال بني فلان: يا صاحبا.
241

قال ابن عباس: أتى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا منا، فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم في ذلك، فقال: أبغوا لي قاتله ومن يشهد عليه، فلا يستقيم أن يقضى بغير بينة ولا ثبت فاطلبوا ذلك، فبينا هم يطوفون (و) لا يجدون ثبتا إذ مر موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا آخر يريد أن يسخره، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى، وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتله القبطي، فقال موسى للإسرائيلي: " * (إنك لغوي مبين) *) ظاهر الغواية حين قاتلت أمس رجلا وقتلته بسببك، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه.
وقيل: إنما قال للفرعوني: " * (إنك لغوي مبين) *) بتسخيرك وظلمك، والقول الأول أصوب وأليق بنظم الآية.
قال ابن عباس: ثم مد موسى يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعدما قال له: " * (إنك لغوي مبين) *) (فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس فخاف أن يكون بعدما قال له: إنك لغوي مبين أراده)، ولم يكن أراده، إنما أراد الفرعوني، فقال: " * (يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض) *) بالقتل ظلما، قال عكرمة والشعبي: لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق.
" * (وما تريد أن تكون من المصلحين) *) ثم تتاركا، فلما سمع القبطي ما قال الإسرائيلي علم أن موسى قتل ذلك الفرعوني، فانطلق إلى فرعون، فأخبره بذلك، فأمر فرعون بقتل موسى ولم يكن ظهر على قاتل القبطي حتى قال صاحب موسى ما قال.
قال ابن عباس: فلما أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة أي آخرها، واختصر طريقا قريبا) وسبقهم فأخبره وأنذره) حتى أخذ طريقا آخر فذلك قوله: " * (وجاء رجل) *) واختلفوا فيه، فقال أكثر أهل التأويل: هو حزقيل بن صبورا مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون، فقال شعيب الجبائي: اسمه شمعون، وقيل: شمعان.
" * (من أقصا المدينة يسعى) *) قال الكلبي: يسرع في مشيه لينذره، مقاتل: يمشي على رجليه، " * (قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) *) أي يهمون بقتلك ويتشاورون فيك، وقيل: يأمر بعضهم بعضا نظيره قوله عز وجل: " * (وأتمروا بينكم بمعروف) *)، وقال النمر بن تغلب:
أرى الناس قد أحدثوا سمة
وفي كل حادثة يؤتمر
" * (فأخرج) *) من هذه المدينة " * (إني لك من الناصحين فخرج) *) موسى " * (منها) *) أي من مدينة فرعون " * (خائفا يترقب) *) ينتظر الطلب " * (قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين) *)
242

أي نحوها وقصدها ماضيا لها، خارجا عن سلطان فرعون، يقال: داره تلقاء دار فلان إذا كانت محاذيتها، وأصله من اللقاء، ولم تصرف مدين لأنها اسم بلدة معروفة. قال الشاعر:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا
والعصم من شغف العقول القادر
وهو مدين بن إبراهيم نسبت البلدة إليه كما نسبت مدائن إلى أخيه مدائن بن إبراهيم " * (قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) *) قصد الطريق إلى مدين، وإنما قال ذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها، فلما دعا جاءه ملك على فرس بيده عنزة فانطلق به إلى مدين.
قال المفسرون: خرج موسى من مصر بلا زاد ولا درهم ولا ظهر ولا حذاء إلى مدين وبينهما مسيرة ثماني ليال نحوا من الكوفة إلى البصرة، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، قال ابن جبير: خرج من مصر حافيا، فما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه.
(* (ولما ورد مآء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعآء وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إنى لمآ أنزلت إلى من خير فقير * فجآءته إحداهما تمشى على استحيآء قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جآءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين * قالت إحداهما ياأبت استئجره إن خير من استئجرت القوى الأمين * قال إنىأريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن
تأجرنى ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك ومآ أريد أن أشق عليك ستجدنى إن شاء الله من الصالحين * قال ذلك بينى وبينك أيما الاجلين قضيت فلا عدوان على والله على ما نقول وكيل) *) 2
" * (ولما ورد ماء مدين) *) وهو بئر كانت لهم " * (وجد عليه أمة من الناس يسقون) *) مواشيهم " * (ووجد من دونهم امرأتين تذودان) *) تحبسان وتمنعان أغنامهما عن أن تشذ وتذهب، وقال الحسن: تكفان (أغنامهما) عن أن تختلط بأغنام الناس وترك ذكر الغنم اختصارا، قتادة: (تذودان) الناس عن شائهما، أبو مالك وابن إسحاق: تحبسان غنمهما عن الماء حتى يصدر عنه مواشي الناس ويخلوا لهما البئر، ثم يسقيان غنمهما لضعفهما، وهذا القول أولى بالصواب لما بعده، وهو قوله: " * (قال) *) يعني موسى " * (ما خطبكما) *) ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس؟
" * (قالتا لا نسقي حتى يصدر) *) قرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وابن عامر وابن جعفر
243

وأيوب بن المتوكل: بفتح الياء وضم الدال، جعلوا الفعل للرعاء أي حتى يرجعوا عن الماء، وقرأ الآخرون بضم الياء وكسر الدال أي حتى يصرفوا مواشيهم عن الماء، والرعاء: جمع راع مثل تاجر وتجار، ومعنى الآية لا نسقي مواشينا حتى يصدر " * (الرعاء) *) لأنا لا نطيق أن نسقي، ولا نستطيع أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض.
" * (وأبونا شيخ كبير) *) لا يقدر أن يسقي مواشيه، واختلفوا في اسم أبيهما، فقال مجاهد والضحاك والسدي والحسن: هو شعيب النبي صلى الله عليه وعلى جميع الأنبياء واسمه شعيب بن بويب بن مدين بن إبراهيم، قال وهب وسعيد بن جبير وأبو عبيدة بن عبد الله: هو بثرون ابن أخي شعيب، وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره، فدفن بين المقام وزمزم.
وروى حماد بن سلمة، عن أبي حمزة الضبعي، عن ابن عباس قال: اسم أبي امرأة موسى صاحب مدين بثرى، قالوا: فلما سمع موسى (عليه السلام) قولهما رحمهما، واقتلع صخرة على رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس. شريح: عشرة رجال، وقيل: إنه زاحم القوم عن الماء وأخذ دلوهما وسقى غنمهما، عن ابن إسحاق، فذلك قوله سبحانه: " * (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل) *) قال السدي: ظل شجرة، وروى عمر بن ميمون، عن عبد الله قال: أحييت على جمل لي ليلتين حتى صبحت مدين، فسألت عن الشجرة التي آوى إليها موسى فإذا شجرة خضراء ترق فما هوى إليها جملي، وكان جائعا، فأخذها فعالجها ساعة فلم يقطعها، فدعوت الله سبحانه لموسى ثم انصرفت.
" * (فقال رب إني لما أنزلت إلي) *) قال قطرب: اللام ههنا بمعنى إلى تقول العرب: احتجت له، واحتجت إليه بمعنى واحد، " * (من خير) *) أي طعام " * (فقير) *) محتاج، قال ابن عباس: لقد قال ذلك وإن خضرة البقل تتراءى في بطنه من الهزال ما يسأل الله سبحانه إلا أكله. قال الباقر: لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة.
قالوا: فلما رجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس وأغنامهما حفل بطان، قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا، فسقى لنا أغنامنا (قبل الناس)، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي.
" * (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) *) قال عمر بن الخطاب (ح): مستترة بكم درعها لوف قد سترت وجهها بيدها، روى قتادة، عن مطرف، قال: أما والله لو كان عند نبي الله شيء ما اتبع مذقتها، ولكنه حمله على ذلك الجهد
244

" * (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) *) فانطلق موسى معها يتبعها، فهبت الريح، فألزقت ثوب المرأة بردفها، فكره موسى أن يرى ذلك منها، فقال لها: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق، ودليني عليها إن أخطأت، فإنا بني يعقوب لا ننظر إلى أعجاز النساء " * (فلما جاءه) *) يعني الشيخ " * (وقص عليه القصص) *) أخبره بأمره والسبب الذي أخرجه من أرضه " * (قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين) *) يعني فرعون وقومه لا سلطان له بأرضنا.
" * (قالت إحداهما) *) وهي التي تزوجها موسى " * (يا أبت استئجره) *) لرعي أغنامنا " * (إن خير من استأجرت القوي الأمين) *)، فقال لها أبوها: وما علمك بقوته وأمانته؟ فقالت: أما قوته فإنه لما رآنا حابسي أغنامنا عن الماء، قال لنا: فهل بقربكما بئر؟ قلنا: نعم، ولكن عليها صخرة لا يرفعها إلا أربعون رجلا، قال: انطلقا بي إليها (فأخذ) الصخرة بيده فنحاها.
وأما أمانته فإنه قال لي في الطريق: امشي خلفي، وإن أخطأت فارمي قدامي بحصاة حتى أنهج نهجها.
" * (قال) *) عند ذلك الشيخ لموسى " * (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) *) واسمهما صفورة ولباني، قول شعيب الجبائي قال: امرأة موسى صفورة، وقال ابن إسحاق: صفورة وشرفا، وغيرهما: الكبرى صفرا والصغرى صفيرا " * (على أن تأجرني) *) يعني آجرني، وقالت الأئمة: على أن تثيبني من تزويجها رعي ماشيتي " * (ثماني حجج) *) سنين واحدتها حجة، جعل صداقها ذلك، قال: (يقول العرب) آجرك الله فهو يأجرك بمعنى أثابك " * (فإن أتممت عشرا) *) أي عشر سنين " * (فمن عندك) *) وأنت به متبرع متفضل وليس مما اشترطه عليك في عقد النكاح " * (وما أريد أن أشق عليك) *).
" * (ستجدني إن شاء الله من الصالحين) *) من الوافين بالعهد، المحسنين الصحبة " * (قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت) *) الثمان أو العشر " * (فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل) *) شهيد وحفيظ.
وقالت العلماء بأخبار الأنبياء: أن موسى وصاحبه (عليهما السلام) لما تعاقدا بينهما هذا العقد أمر صهره احدى بنتيه أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه،
واختلفوا في حال تلك العصا، فقال عكرمة: خرج بها آدم من الجنة وأخذها جبريل بعد موت آدم، فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه، وقال آخرون: لم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وصلت إلى شعيب وكانت عصي الأنبياء عنده، فأعطاها موسى
245

وقال السدي: كانت تلك العصا استودعها ملك في صورة رجل، وأمر ابنته أن تأتيه بعصا، فدخلت الجارية فأخذت العصا فأتته بها، فلما رآها الشيخ قال لابنته، آتيه بغيرها، فلما رمتها تريد أن تأخذ غيرها فلا تقع في يدها إلا هي، كل ذلك تطير في يدها حتى فعلت ذلك مرات، فأعطاها موسى، فأخرجها معه، ثم إن الشيخ ندم، وقال: كانت وديعة، فخرج يتلقى موسى، فلما لقيه، قال: أعطني العصا، قال موسى: هي عصاي، فأبى أن يعطيه، فاختصما حتى رضيا أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما، فأتاهما ملك يمشي، فقضى بينهما، فقال: ضعوها بالأرض فمن حملها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها، وأخذها موسى بيده فرفعها، فتركها له الشيخ.
وروى حيان عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال: كان في دار يثرون بيت لا يدخله إلا يثرون وابنته التي زوجها موسى، كانت تكنسه وتنظفه، وكان في البيت ثلاث عشرة عصا، وكان ليثرون أحد عشر ولدا من الذكور، فكلما أدرك منهم ولد أمره بدخول البيت وإخراج عصا من تلك العصي، فجعل يحترق الولد حتى هلك كلهم، فرجع موسى ذات يوم إلى منزله فلم يجد أهله، واحتاج إلى عصا لرعيه، فدخل ذلك البيت وأخذ عصا من تلك العصي وخرج بها، فلما علمت بذلك امرأته انطلقت إلى أبيها، وأخبرته بذلك، فسر بها يثرون وقال لها: إن زوجك هذا نبي وإن له مع هذه العصا لشأنا.
وفي بعض الأخبار أن موسى (عليه السلام) لما أصبح من الغد بعد العقد وأراد الرعي قال له صهره شعيب: اذهب بهذه الأغنام، فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ بها أكثر، فإن هناك تنينا عظيما أخشى عليك وعلى الأغنام منه. فذهب موسى بالأغنام، فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين، فاجتهد موسى على أن يصرفها إلى ذات الشمال فلم تطعه فسار موسى على أثرها، فرأى عشبا وريفا لم ير مثله، ولم ير التنين، فنام موسى والأغنام ترعى، فإذا بالتنين قد جاء، فقامت عصا موسى وحاربته حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى وهي دامية.
فلما استيقظ موسى رأى العصا دامية والتنين مقتولا، فارتاح لذلك وعلم أن لله سبحانه في تلك العصا قدرة وإرادة، فعاد إلى شعيب، وكان شعيب ضريرا فمس الأغنام، فإذا هي أمثل حالا مما كانت، فسأله، فأخبره موسى بالقصة، ففرح بذلك شعيب وعلم أن لموسى وعصاه شأنا، فأراد شعيب أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما له وصلة لابنته فقال له: إني قد وهبت لك (من) الجدايا التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام.
قال: فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه، فما أخطأت واحدة منها إلا وقد
246

وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله إلى موسى وامرأته، فوفى له بشرطه وسلم إليه الأغنام.
2 (* (فلما قضى موسى الاجل وسار بأهله ءانس من جانب الطور نارا قال لاهله امكثوا إنىءانست نارا لعلي ءاتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون * فلمآ أتاها نودى من شاطىء الوادى الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إنىأنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الامنين * اسلك يدك فى جيبك تخرج بيضآء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين * قال رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخى هرون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردءا يصدقنى إنىأخاف أن يكذبون * قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بئاياتنآ أنتما ومن اتبعكما الغالبون) *) 2
" * (فلما قضى موسى الأجل) *) أي أتمه وفرغ منه. أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكي بن عبدان عن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الرحمن بن بشر، قال: حدثنا موسى بن عبد العزيز، قال: حدثنا الحكم بن أبان، قال: حدثني عكرمة، قال: قال ابن عباس: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأجلين قضى موسى؟ قال: (أبعدهما وأطيبهما).
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، قال: حدثنا محمد بن عبد الجبار الهمذاني، قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن زيد، عن علي بن رباح، عن عتبة بن التيب وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسكن الشام، ومات في زمن عبد الملك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأجلين قضى موسى؟ قال: (أبرهما وأوفاهما).
وروى محمد بن إسحاق، عن حكم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي يهودي بالكوفة وأنا أتجهز للحج: إني أراك رجلا تتبع العلم، أخبرني أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم، وأنا الآن قادم على حبر العرب يعني ابن عباس فسأسأله عن ذلك، فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك، فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن النبي إذا وعد لم يخلف، قال
247

سعيد: فقدمت العراق، فلقيت اليهودي فأخبرته، فقال: صدق، ما أنزل على موسى هذا والله العالم. وقال وهب: أنكحه الكبرى، وقد روي أن النبي (عليه السلام) قال: (تزوج صغراهما وقضى أوفاهما) فإن صح هذا الخبر فلا معدل عنه.
وقال مجاهد: لما قضى موسى الأجل ومكث بعد ذلك عند صهره عشرا أخرى، فأقام عنده عشرين سنة، ثم إنه استأذنه في العودة إلى مصر لزيارة والدته وأخيه، فأذن له، فسار بأهله وماله، وكانت أيام الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام، وامرأته في شهرها لا يدري أليلا تضع أم نهارا، فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة شديدة البرد، وأخذ امرأته الطلق، فقدح زندا فلم تور (المقدحة شيئا)، فآنس من جانب الطور
نارا " * (قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة) *) قطعة وشعلة " * (من النار) *) وفيها ثلاث لغات: فتح الجيم وهي قراءة عاصم، وضمها وهي قراءة حمزة، وكسرها وهي قراءة الباقين، وقال قتادة ومقاتل: الجذوة: العود الذي قد احترق بعضه، وجمعها جذي، قال ابن مقبل:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها
جزل الجذي غير خوار ولا دعر
" * (لعلكم تصطلون) *) أي تستدفئون وتستحمون بها من البرد " * (فلما أتاها نودي من شاطئ) *) جانب " * (الواد الأيمن) *) عن يمين موسى " * (في البقعة المباركة) *) وقرأ أشهب العقيلي " * (في البقعة) *) بفتح الباء " * (من الشجرة) *) أي من ناحية الشجرة " * (أن يا موسي إني أنا الله رب العالمين) *) قال عبد الله بن مسعود: كانت الشجرة سمرة خضراء ترق، قتادة، عوسجة، وهب: عليق.
" * (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز) *) تتحرك " * (كأنها جان) *) وهي الحية الصغيرة من سرعة حركته " * (ولى مدبرا) *) هاربا منها " * (ولم يعقب) *) ولم يرجع، فنودي " * (يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) *) فخرجت كأنها مصباح " * (واضمم إليك جناحك من الرهب) *) قرأ حفص بفتح الراء وجزم (الهاء)، وقرأ أهل الكوفة والشام بضم (الراء) وجزم (الهاء)، غيرهم بفتح (الراء) و (الهاء)، دليلهم قوله سبحانه: " * (ويدعوننا رغبا ورهبا) *) وكلها لغات بمعنى الخوف والفرق.
248

ومعنى الآية إذا هالك أمر يدك وما ترى من شعاعها، فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى، وقال بعضهم: أمره الله سبحانه وتعالى أن يضم يده إلى صدره ليذهب الله عز وجل ما ناله من الخوف عند معاينة الحية، وقيل: معناه سكن روعك واخفض عليك جأشك لأن من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه، وضم الجناح هو السكون، ومثله قوله سبحانه " * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) *) يريد الرفق، وقوله سبحانه: " * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) *) أي ارفق بهم وألن جانبك لهم، وقال الفراء: أراد بالجناح عصاه.
وقال بعض أهل المعاني: الرهب، الكم بلغة حمير وبني حنيفة، وحكي عن الأصمعي أنه سمع بعض الأعراب يقول لآخر: أعطني ما في رهبك، قال: فسألته عن الرهب؟ فقال: الكم، ومعناه على هذا التأويل: اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم؛ لأنه تناول العصا ويده في كمه.
" * (فذانك) *) قراءة العامة بتخفيف (النون)، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد (النون) وهي لغة قريش، وفي وجهها أربعة أقوال: قيل: شدد النون عوضا من (الألف) الساقطة ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين لأن أصله " * (فذانك) *) فحذفت الألف الأولى لالتقاء الساكنين.
وقيل: التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك. وقيل: شددت فرقا بينها وبين التي تسقط للإضافة؛ لأن ذان لا تضاف. وقيل: للفرق بين تثنية الاسم المتمكن وبينها. قال أبو عبيد: وكان أبو عمرو يخص هذا الحرف بالتشديد دون كل تثنية في القرآن، وأحسبه فعل ذلك لقلة الحروف في الاسم، فقرأه بالتثقيل.
ومعنى الآية " * (فذانك) *) يعني العصا واليد البيضاء " * (برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا) *) وأحسن بيانا، وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه " * (فأرسله معي ردءا) *) معينا، يقال: أردأته أي أعنته، وترك همزه عيسى بن عمر وأهل المدينة طلبا للخفة " * (يصدقني) *) قرأه العامة بالجزم، ورفعه عاصم وحمزة، وهو اختيار أبو عبيد، فمن جزمه فعلى جواب الدعاء، ومن رفعه فعلى الحال، أي ردءا مصدقا حاله التصديق كقوله سبحانه: " * (ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون) *) أي كائنة حال صرف إلى الاستقبال.
" * (إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك) *) أن نقويك ونعينك " * (بأخيك) *) وكان هارون يومئذ بمصر " * (ونجعل لكما سلطانا) *) قوة وحجة وبرهانا " * (فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) *))
.
249

2 (* (فلما جآءهم موسى بئاياتنا بينات قالوا ما هاذآ إلا سحر مفترى وما سمعنا بهاذا فىءابآئنا الاولين * وقال موسى ربىأعلم بمن جآء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون * وقال فرعون ياأيها الملا ما علمت لكم من إلاه غيرى فأوقد لى ياهامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلىأطلع إلى إلاه موسى وإنى لأظنه من الكاذبين * واستكبر هو وجنوده فى الارض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين * ولقد ءاتينا موسى الكتاب من بعد مآ أهلكنا القرون الاولى بصآئر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) *) 2
" * (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا) *) الذي تدعونا إليه " * (في آبائنا الأولين وقال موسى) *) قراءة العامة بالواو، وقرأ أهل مكة بغير واو، وكذلك هو في مصاحفهم " * (ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده) *) بالمحق من المبطل " * (ومن تكون له) *) (قرأ) بالياء أهل الكوفة والباقون بالتاء. " * (عاقبة الدار) *) أي العقبى المحمودة في الدار الآخرة " * (إنه لا يفلح الظالمون) *) لا ينجح الكافرون.
" * (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين) *) فاطبخ لي الآجر، وقيل: إنه أول من اتخذ الآجر وبنى به.
قال أهل التفسير: لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح، جمع هامان العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ومن يطبخ الآجر والجص، وينجر الخشب والأبواب، ويضرب المسامير، فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق منذ خلق الله السماوات والأرض، أراد الله سبحانه أن
يفتنهم فيه، فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه، فأمر بنشابه فرمى بها نحو السماء، فردت إليه وهي ملطخة دما.
فقال: قد قتلت إله موسى، قالوا: لو كان فرعون يصعده على البراذين، فبعث الله سبحانه جبريل (عليه السلام) (عند) غروب الشمس، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف رجل، ووقعت قطعة منها في البحر، وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك، فذلك قوله تعالى: " * (فأوقد لي يا هامان على الطين) *)، " * (فاجعل لي صرحا) *) قصرا " * (لعلي أطلع إلى إله موسى) *) أنظر إليه وأقف على حاله.
250

" * (وإني لأظنه) *) يعني موسى " * (من الكاذبين) *) في ادعائه كون إله غيري وأنه رسوله " * (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم) *) فألقيناهم " * (في اليم) *) يعني البحر، قال قتادة: هو بحر من وراء مصر يقال له: أساف، غرقهم الله فيه * (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) * * (وجعلناهم أئمة) *) قادة ورؤساء " * (يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) *) حزنا وعذابا " * (ويوم القيامة هم من المقبوحين) *) الممقوتين، وقال أبو عبيدة وابن كيسان: المهلكين، وقال ابن عباس: يعني المشوهين الخلقة بسواد الوجه وزرقة العيون، قال أهل (اللغة) يقال: قبحه الله، وقبحه إذا جعله قبيحا " * (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) *).
أخبرنا شعيب بن محمد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن الأزهر، قال: حدثنا روح بن عبادة، عن عوف، عن أبي نصرة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أهلك الله عز وجل قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل الله سبحانه التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخوا قردة، ألم تر أن الله سبحانه قال: " * (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) *) الآية).
" * (وما كنت) *) يا محمد " * (بجانب الغربي) *) أي غربي الجبل " * (إذ قضينا إلى موسى الأمر) *) أي أخبرناه بأمرنا ونهينا، وألزمناه عهدنا " * (وما كنت من الشاهدين) *) الحاضرين هناك تذكرة من ذات نفسك " * (ولكنا أنشأنا) *) أحدثنا وخلقنا " * (قرونا فتطاول عليهم العمر) *) فنسوا عهد الله سبحانه وتركوا أمره، نظيره * (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم) * * (وما كنت ثاويا) *) مقيما " * (في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين) *) يعني أرسلناك رسولا وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار، فتتلوها عليهم ولولا ذلك لما علمتها ولما أخبرتهم) بما تشاهده، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى: خذ الكتاب بقوة.
(* (وما كنت بجانب الغربى إذ قضينآ إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين * ولكنآ أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا فىأهل مدين تتلو عليهم ءاياتنا ولكنا كنا مرسلين * وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولاكن رحمة من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون * ولولاأن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولاأرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك ونكون من المؤمنين * فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا لولاأوتى
251

مثل مآ أوتى موسى أولم يكفروا بمآ أوتى موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون * قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهمآ أتبعه إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين) *) 2
قال وهب بن منبه: قال موسى يا رب أرني محمد صلى الله عليه وسلم قال: إنك) لن تصل إلى ذلك، وإن شئت ناديت أمته فأسمعتك صوتهم، قال: (بلى يا رب)، فقال الله سبحانه: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني، قال أخبرنا محمد بن جعفر المطري، قال: حدثنا الحماد بن الحسن، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي مدرك، عن أبي زرعة يعني ابن عمرو بن جرير " * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) *) قال: قال: يا أمة محمد قد أجبتكم من قبل أن تدعوني، وأعطيتكم من قبل أن تسألوني.
وأخبرني عبد الله بن حامد الوزان، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، قال: حدثنا جيعويه بن محمد، قال: حدثنا صالح بن محمد، قال: وأخبرنا عثمان بن أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الجبلي، قال: حدثنا محمد بن الصباح بن عبد السلم، قال: حدثنا داود أبو سلمان كلاهما، عن سلمان بن عمرو، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله سبحانه: " * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) *) قال: (كتب الله عز وجل كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورقة آس، ثم وضعها على العرش، ثم نادى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي أدخلته الجنة).
" * (ولكن رحمة من ربك) *) قراءة العامة بالنصب على الخبر، تقديره: ولكن رحمناك رحمة، وقرأ عيسى بن عمر " * (رحمة) *) بالرفع يعني (ولكنه رحمة من ربك) إذا أطلعك عليه وعلى الأخبار الغائبة عنك " * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) *) يعني أهل مكة " * (لعلهم يتذكرون) *).
" * (ولولا أن تصيبهم مصيبة) *) عقوبة ونقمة " * (بما قدمت أيديهم) *) من الكفر والمعصية
252

" * (فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين) *) وجواب لولا محذوف أي لعاجلناهم بالعقوبة، وقيل معناه: لما أرسلناك إليهم رسولا، ولكنا بعثناك إليهم " * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *)، " * (فلما جاءهم الحق من عندنا) *) يعني محمد (عليه السلام) * * (قالوا) *) يعني كفار مكة " * (لولا أوتي) *) محمد " * (مثل ما أوتي موسى) *) كتابا جملة واحدة.
قال الله تعالى: " * (أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا) *) قال الكلبي: وكانت مقالتهم تلك حين بعثوا الرهط منهم إلى رؤوس اليهود بالمدينة في عيد لهم، فسألوهم عن محمد (عليه السلام) فأخبروهم أنه نعته وصفته، وأنه في كتابهم التوراة، فرجع الرهط إلى قريش، فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك
" * (ساحران تظاهرا) *) قرأ أهل الكوفة " * (سحران) *) بغير ألف وهي قراءة ابن مسعود، وبه قرأ عكرمة، واحتج بقوله: " * (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما) *) وقرأ الآخرون " * (ساحران) *) بالألف، واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة، لأن معنى التظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منه بالكتب، فمن قرأ " * (سحران) *) أراد التوراة والقرآن، ومن قرأ " * (ساحران) *) أراد موسى ومحمدا (عليهما السلام).
" * (وقالوا إنا بكل كافرون قل) *) لهم يا محمد " * (فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك) *) ولم يأتوا به " * (فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *).
2 (* (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون * الذين ءاتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا ءامنا به إنه الحق من ربنآ إنا كنا من قبله مسلمين * أولائك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين * إنك لا تهدى من أحببت ولاكن الله يهدى من يشآء وهو أعلم بالمهتدين * وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنآ أولم نمكن لهم حرما ءامنا يجبى إليه ثمرات كل شىء رزقا من لدنا ولاكن أكثرهم لا يعلمون * وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين * وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث فىأمها رسولا يتلو عليهم ءاياتنا وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون * ومآ أوتيتم من شىء فمتاع الحيواة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون) *) 2
253

" * (ولقد وصلنا لهم القول) *) ابن عباس ومجاهد: فصلنا، ابن زيد: وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا، وقال أهل المعاني: أي والينا وتابعنا، وأصلة من وصل الجبال بعضها إلى بعض، قال الشاعر:
فقل لبني مروان ما بال ذمة
وحبل ضعيف ما يزال يوصل
وقرأ الحسن " * (وصلنا) *) خفيفة، وقراءة العامة بالتشديد على التكثير " * (لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله) *) أي من قبل محمد (عليه السلام) * * (هم به يؤمنون) *) نزلت في مؤمني أهل الكتاب " * (وإذا يتلى عليهم) *) يعني القرآن " * (قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين) *) لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر " * (بما صبروا) *) على دينهم، قال مجاهد: نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأوذوا " * (ويدرؤون) *) ويدفعون " * (بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو) *) القبيح من القول " * (أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) *) أي دين الجاهلين عن الكلبي، وقيل: محاورة الجاهلين، وقيل: لا نريد أن نكون جهالا.
" * (إنك لا تهدي من أحببت) *) أي من أحببت هدايته، وقيل: من أحببته، نزلت في أبي طالب.
حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي إملاء قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن بشر، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن زيد بن كيسان، قال: حدثني أبو حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: (قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة) قال: لولا أن تعيرني نساء قريش يقلن: إنه حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله سبحانه " * (إنك لا تهدي من أحببت) *)، " * (ولكن الله يهدي من يشاء) *))
.
254

وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدثنا عبد الرزاق قال: وأخبرنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن يوسف السلمي، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا أبو سعيد بن حمدون، قال: أخبرنا ابن الشرقي، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل على عمه أبي طالب في مرضه الذي مات فيه وعنده أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية فقال: (يا عمي قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله).
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟
فقال: بل على ملة عبد المطلب. فأنزل الله سبحانه * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) * * (وهو أعلم بالمهتدين) *) أخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن مالك، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الطيالسي، قال: حدثنا الحسين بن علي بن يزيد المدايني، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الفضل بن العباس الهاشمي، قال: حدثنا عبد الوهاب ابن عبد المجيد الثقفي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن الزهري، عن محمد بن (جبير عن) مطعم، عن أبيه قال: لم يستمع أحد الوحي يلقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر الصديق، فإنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده يوحى إليه فسمع * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) * * (وقالوا إن نتبع الهدى معك) *) الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه قال للنبي (عليه السلام) أنا لنعلم إن الذي تقول حق، ولكن يمنعنا إتباعك أن العرب
255

تتخطفنا من أرضنا، لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم، فأنزل الله سبحانه " * (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) *) مكة.
قال الله سبحانه: " * (أولم نمكن لهم حرما آمنا) *) وذلك أن العرب في الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض، فيقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا
لحرمة الحرم " * (يجبى إليه ثمرات) *) يجلب ويجمع، قرأ أهل المدينة ويعقوب (تجبى) بالتاء لأجل الثمرات واختاره أبو حاتم وقرأ غيرهم بالياء كقوله " * (كل شيء) *) واختاره أبو عبيد قال: لأنه قد حال بين الاسم المؤنث والفعل حائل * (رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) * * (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) *)، أي أشرت وطغت، فكفرت بربها، قال عطاء بن رياح: أي عاشوا في البطر والأشر وأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام، وجعل الفعل للقرية وهو في الأصل للأهل، وقد مضت هذه المسألة " * (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا) *) يعني فلم يعمر منها إلا أقلها، وأكثرها خراب، قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوما أو ساعة " * (وكنا نحن الوارثين) *) نظيره قوله سبحانه: " * (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها) *) وقوله: " * (ولله ميراث السماوات والأرض) *).
" * (وما كان ربك مهلك القرى) *) بكفر أهلها " * (حتى يبعث في أمها) *) يعني مكة " * (رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) *) كافرون " * (وما أتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون) *) بالياء أبو عمرو، يختلف عنه الباقون بالتاء.
2 (* (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحيواة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين * ويوم يناديهم فيقول أين شركآئى الذين كنتم تزعمون * قال الذين حق عليهم القول ربنا هاؤلاء الذين أغوينآ أغويناهم كما غوينا تبرأنآ إليك ما كانوا إيانا يعبدون * وقيل ادعوا شركآءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون * ويوم يناديهم فيقول ماذآ أجبتم المرسلين * فعميت عليهم الانبآء يومئذ فهم لا يتسآءلون * فأما من تاب وءامن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين * وربك يخلق ما يشآء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون * وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون * وهو الله لاإلاه إلا هو له الحمد فى الاولى والاخرة وله الحكم وإليه ترجعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بضيآء أفلا تسمعون * قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن
256

رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * ويوم يناديهم فيقول أين شركآئي الذين كنتم تزعمون * ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون) *) 2
" * (أفمن وعدناه وعدا حسنا) *) يعني الجنة " * (فهو لاقيه) *) مدركه ومصيبه " * (كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين) *) في النار، نظيره قوله سبحانه: " * (ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين) *) قال مجاهد: نزلت في النبي (عليه السلام) وفي أبي جهل بن هشام. محمد بن كعب: في حمزة وعلي وفي أبي جهل. السدي: عمار والوليد بن المغيرة.
" * (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) *) في الدنيا أنهم شركائي " * (قال الذين حق عليهم القول) *) وجب عليهم العذاب وهم الرؤوس عن الكلبي، غيره: الشياطين " * (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك) *) منهم " * (ما كانوا إيانا يعبدون وقيل) *) لبني آدم الكفار " * (ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) *) جواب (لو) مضمر، أي لو كانوا يهتدون لما رأوا العذاب، وقيل معناه: ودوا إذا رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون.
" * (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت) *) فخفيت واشتبهت " * (عليهم الأنباء) *) يعني الأخبار والأعذار والحجج " * (يومئذ) *) لأن الله سبحانه قد أعذر إليهم في الدنيا، فلا يكون لهم حجة ولا عذر يوم القيامة " * (فهم لا يتساءلون) *) لا يجيبون، قتادة: لا يحتجون، وقيل: يسكتون، لا يسئل بعضهم بعضا، مجاهد: لا يتساءلون بالأنساب كما كانوا يفعلون في الدنيا، نظيره قوله سبحانه: " * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) *).
" * (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار) *) وهذا جواب لقول الوليد بن المغيرة: " * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) *) أخبر الله سبحانه أنه لا يبعث الرسل باختيارهم.
وهذا من الجواب المفصول، وللقراء في هذه الآية طريقان:
أحدهما: أن يمر على قوله: * (ويختار) * * (ما كان لهم الخيرة) *) ويجعل (ما) إثباتا بمعنى الذي، أي ويختار لهم ما هو الأصلح والخير
257

والثاني: أن يقف على قوله: " * (ويختار) *) ويجعل ما نفيا أي ليس إليهم الاختيار، وهذا القول أصوب وأعجب إلي كقوله سبحانه: " * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) *)، وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، قال: أنشدني أبو جعفر محمد بن صالح، قال: أنشدنا حماد بن علي البكراوي لمحمود بن الحسن الوراق:
توكل على الرحمن في كل حاجة
أردت فإن الله يقضي ويقدر
إذا ما يرد ذو العرش أمرا بعبده
يصبه وما للعبد ما يتخير
وقد يهلك الإنسان من جه حذره
وينجو بحمد الله من حيث يحذر
وأنشدني الحسين بن محمد، قال: أنشدني أبو الفوارس حنيف بن أحمد بن حنيف الطبري:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر
والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا
وفي اختيار سواه اللؤم والشوم
روى سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي (رضوان الله عليهم أجمعين) فجعلهم خير أصحابي، وفي كل أصحابي خير، واختار أمتي على سائر الأمم، واختار لي من أمتي أربعة قرون بعد أصحابي: القرون الأول والثاني والثالث تترى والرابع فردي).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شيبة، قال: حدثنا جعفر بن أحمد الواسطي، قال: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا يوسف بن يعقوب السلمي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن وهب بن منبه، عن أخيه في قوله: " * (وربك يخلق ما يشاء ويختار) *) قال: اختار من الغنم الضأن ومن الطير الحمام.
" * (سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة) *) دائما لا نهار معه.
258

" * (من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة) *) لا ليل فيه " * (من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا) *) وأخرجنا وأحضرنا " * (من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا) *) حينئذ " * (أن الحق لله) *) يعني التوحيد والصدق والحجة البالغة " * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) *))
.
* (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وءاتيناه من الكنوز مآ إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيمآ ءاتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كمآ أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الارض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنمآ أوتيته على علم عندىأولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون * فخرج على قومه فى زينته قال الذين يريدون الحيواة الدنيا ياليت لنا مثل مآ أوتى قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحا ولا يلقاهآ إلا الصابرون * فخسفنا به وبداره الارض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين * وأصبح الذين تمنوا مكانه بالامس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر لولاأن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون * تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين * من جآء بالحسنة فله خير منها ومن جآء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون * إن الذى فرض عليك القرءان لرآدك إلى معاد قل ربىأعلم من جآء بالهدى ومن هو فى ضلال مبين * وما كنت ترجوأن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين * ولا يصدنك عن ءايات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين * ولا تدع مع الله إلاها ءاخر لا إلاه إلا هو كل شىء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) *) 2
" * (إن قارون كان من قوم موسى) *) كان ابن عمه لأنه قارون بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن فاهث، هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن إسحاق: تزوج يصهر ابن فاهث شميت بنت تباويت بن بركيا بن يقشان بن إبراهيم فولدت له عمران بن يصهر وقارون ابن يصهر، فنكح (عمران) نجيب بنت سمويا بن بركيا بن رمنان بن بركيا فولدت له هارون
259

ابن عمران وموسى بن عمران (عليهم السلام)، فموسى على قول ابن إسحاق: ابن أخي قارون وقارون عمه لأبيه وأمه، قال قتادة: وكان يسمى المنور لحسن صورته ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري.
" * (فبغى عليهم) *) أخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا موسى بن محمد، قال: حدثنا الحسن بن علوية، قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى، عن المسيب أن قارون كان من قوم موسى " * (فبغى عليهم) *) قال: كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل وكان يبغي عليهم ويظلمهم، قال ابن عباس: كان فرعون قد ملكه على بني إسرائيل حين كان بمصر، سعيد، عن قتادة: " * (بغى عليهم) *) بكثرة ماله وولده، سفيان عنه: بالكبر والبذخ، عطاء الخراساني وشهر بن حوشب: زاد عليهم في الثياب شبرا " * (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه) *) وهي جمع المفتح، وهو الذي يفتح به الباب " * (لتنوأ بالعصبة أولي القوة) *) أي لتثقل بهم إذا حملوها لثقلها، يقال: ناء ينوء نوءا إذا نهض بثقل، قال الشاعر:
تنوء بأخراها فلأيا قيامها
وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر
واختلفوا في مبلغ عدد العصبة في هذا الموضع، فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى خمسة عشر، قتادة: ما بين العشرة إلى أربعين، أبو صالح: أربعون رجلا، عكرمة
منهم من يقول: أربعون، ومنهم من يقول: سبعون، الضحاك عن ابن عباس: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: ستون.
روى جرير، عن منصور، عن خيثمة، قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون توقر ستين بغلا غراء محجلة، ما يزيد منها مفتاح على أصبع، لكل مفتاح منها كنز، مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الإبل، ويقال: كان قارون (أينما) ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه، وكانت من حديد، فلما ثقلت عليه جعلت من خشب، فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا.
وقال بعضهم: أراد بالمفاتيح الحراس وإليه ذهب أبو صالح. وروى حصين، عن أبي زرين قال: لو كان مفتاح واحد لأهل الكوفة كان كافيا إنما يعني كنوزه، فإن قيل: فما وجه قوله: " * (ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة) *) وإنما العصبة هي التي تنوء بها، قيل فيه قولان: أحدهما
260

يميل بهم ويثقلهم حملها، والآخر قال أهل البصرة: قد يفعل العرب هذا، تقول للمرأة: إنها لتنوء بها عجيزتها، وإنما هي تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله، وقال الشاعر:
فديت بنفسه نفسي ومالي
وما آلوك إلا ما أطيق
والمعنى فديت بنفسي ومالي نفسه، وقال آخر:
وتركب خيلا لا هوادة بينها
وتشقي الرماح بالضياطرة الحمر
وإنما يشقي الضياطرة بالرماح، والخيل هاهنا: الرجال.
" * (إذ قال له قومه) *) من بني إسرائيل " * (لا تفرح) *) لا تأشر ولا تمرح، ومنه قول الله سبحانه: " * (إنه لفرح فخور) *)، وقال الشاعر:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني
ولا جازع من صرفه المتحول
أراد: لست بأشر؛ لأن السرور غير مكروه ولا مذموم " * (إن الله لا يحب الفرحين) *) الأشرين البطرين المتكبرين الذين لا يشكرون الله سبحانه على ما أعطاهم.
أخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا منصور بن جعفر النهاوندي، قال: حدثنا أحمد بن يحيى النهاوندي، قال: حدثنا أحمد بن يحيى بن الجارود، قال: حدثنا محمد بن عمرو بن حيان عن نفته قال: حدثنا مبشر بن عبد الله في قول الله سبحانه وتعالى: " * (لا تفرح) *) قال: لا تفسد إن الله لا يحب الفرحين المفسدين، وقال الشاعر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة
وتحمل أخرى أفرحتك الودائع
يعني أفسدتك.
" * (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) *) قال مجاهد وابن زيد: لا تترك أن تعمل في دنياك لآخرتك حتى تنجو من عذاب الله، وهي رواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وقال علي (ح): لا تنس صحتك وقوتك وشبابك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة، وقال الحسن: ولا تنس أن تطلب فيها كفايتك وغناك مما أحل الله لك منها.
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن علي
261

الحران، قال: حدثنا سعيد بن سلمة، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن منصور بن زادان في قوله: " * (ولا تنس نصيبك من الدنيا) *) قال: قوتك وقوة أهلك. وقيل: هو الكفن لأنه حظه من الدنيا عند خروجه منها.
" * (وأحسن) *) إلى الناس " * (كما أحسن الله إليك ولا تبغ) *) ولا تطلب " * (الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال) *) قارون " * (إنما أوتيته على علم) *) على فضل علم " * (عندي) *) علمنيه الله، ورآني لذلك أهلا، ففضلني بهذا المال عليكم لفضلي عليكم بالعلم وغيره، وقيل: هو علم الكيمياء، قال سعيد بن المسيب: كان موسى (عليه السلام) يعلم الكيمياء، فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم، وعلم كالب بن نوفيا ثلثه، وعلم قارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، وفي خبر آخر أن الله سبحانه وتعالى علم موسى علم الكيمياء، فعلم موسى أخته، فعلمت أخته قارون، فكان ذلك سبب أقواله، وقيل: على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وسائر أنواع المكاسب والمطالب، وقيل: في سبب جمعه تلك الأموال، ما أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد قال: حدثنا محمد بن موسى الحلواني قال: حدثنا خزيمة بن أحمد، قال: حدثنا أحمد بن أبي الجواري، قال: سمعت أبا سلمان الداراني يقول: يبدي إبليس لقارون وكان قارون قد أقام في جبل أربعين سنة يتعبد حتى إذا غلب بني إسرائيل في العبادة بعث إليه إبليس شياطينه، فلم يقدروا عليه، فتبدى هو له وجعل يتعبد، وجعل قارون وجعل إبليس يقهره بالعبادة ويفوقه، فخضع له قارون، فقال له إبليس: يا قارون قد رضينا بهذا الذي نحن فيه، لا تشهد لبني إسرائيل جماعة، ولا تعود مريضا، ولا تشهد جنازة، قال: فحذره من الجبل إلى البيعة، فكانوا يؤتون بالطعام، فقال إبليس: يا قارون قد رضينا الآن أن يكون هكذا كلا على بني إسرائيل، فقال له قارون: فأي شيء الرأي عندك؟ قال: نكسب يوم الجمعة ونتعبد بقية الجمعة، قال: فكسبوا يوم الجمعة وتعبدوا بقية الجمعة.
فقال: إبليس لقارون: قد رضينا أن يكون هكذي. فقال له قارون: فأي شيء الرأي عندك، قال: نكسب يوما ونتعبد يوما ونتصدق ونعطي، قال: فلما كسبوا يوما وتعبدوا يوما خنس إبليس وتركه، ففتحت على قارون الدنيا، فبلغ ماله، ما أخبرنا ابن فنجويه، قال: أخبرنا موسى، قال: حدثنا الحسن ابن علوية، قال: حدثنا إسماعيل بن موسى، عن المسيب بن شريك " * (ما إن مفاتحه) *) قال: أوعيته وكانت أربعمائة ألف ألف في أربعين جرابا.
قال الله سبحانه: " * (أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون) *) الكافرة " * (من هو أشد
262

منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون) *) قال قتادة: يدخلون النار بغير حساب، مجاهد: يعني: إن الملائكة لا تسأل عنهم لأنهم يعرفونهم بسيمائهم، الحسن: لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ليعلم ذلك من قبلهم فأن سئلوا سؤال تقريع وتوبيخ.
" * (فخرج على قومه في زينته) *) قال جابر بن عبد الله: في القرمز، النخعي والحسن: في ثياب حمراء، مجاهد: على براذين بيض عليها سروج الأرجوان، عليهم المعصفرات، قتادة: على أربعة ألف دابة عليهم وعلى دوابهم (الأرجوان)، ابن زيد: في سبعين ألفا عليهم المعصفرات، قال: وكان ذلك أول يوم رؤيت المعصفرات فيما كان يذكر لنا، مقاتل: على بغلة
263

شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعلى دوابهم الأرجوان، ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب.
" * (قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) *) من المال " * (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها) *) ولا يلقن ويوفق لهذه الكلمة " * (إلا الصابرون) *) على طاعة الله وعن زينة الدنيا.
" * (فخسفنا به وبداره الأرض) *) قال العلماء بأخبار القدماء: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون، وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم ولكنه نافق كما نافق السامري فبغى على قومه، واختلف في معنى هذا البغي، فقال ابن عباس: كان فرعون قد ملك قارون على بني إسرائيل حين كان بمصر، وعن المسيب بن شريك: أنه كان عاملا على بني إسرائيل وكان يظلمهم، وقيل: زاد عليهم في الثياب شبرا، وقيل: بغى عليهم بالكبر، وقيل: بكثرة ماله، وكان أغنى أهل زمانه وأثراهم. واختلف في مبلغ عدة العصبة في هذا الموضع فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى خمسة عشر، وقال قتادة: ما بين العشرة إلى أربعين، وقال عكرمة: منهم من يقول أربعون ومنهم من يقول سبعون، وقال الضحاك: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: هم ستون.
وروي عن خثيمة قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح منها كنز، ويقال: كان أينما يذهب تحمل معه وكانت من حديد، فلما ثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، فكانت تحمل معه على أربعين بغلا، وكان أول طغيانه أنه تكبر واستطال على الناس بكثرة الأموال فكان يخرج في زينته ويختال كما قال تعالى " * (فخرج على قومه في زينته) *).
قال مجاهد: خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان وعليهم المعصفرات.
وقال عبد الرحمن: خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات، وقال مقاتل: على بغلة شهباء عليها سرج من الذهب عليها الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثة آلاف جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب، فتمنى أهل الجهالة مثل الذي أوتيه كما حكى الله فوعظهم أهل العلم بالله أن اتقوا الله فإن ثواب الله (خير لمن آمن و عمل صالحا).
قال: ثم إن الله أوحى إلى نبيه موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أخضر لونه لون السماء، فدعا موسى بني إسرائيل وقال لهم: إن الله تعالى يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا خضرا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها، وإنه تعالى ينزل من السماء كلامه عليكم، فاستكبر قارون وقال: إنما تفعل هذه الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا من غيرهم.
ولما قطع موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة وهي رئاسة المذبح وبيت القربان لهارون فكان بنو إسرائيل يأتون بهديتهم ويدفعونه إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله، فوجد قارون في نفسه من ذلك وأتى موسى وقال: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك، وأنا أقرأ للتوراة منكما لا صبر لي على هذا، فقال موسى: والله ما أنا جعلتها في هارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون: والله لا أصدقك في ذلك حتى تريني بيانه، قال: فجمع موسى (عليه السلام) رؤساء بني إسرائيل وقال: هاتوا عصيكم، فجاءوا بها فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله تعالى فيها وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا، فأصبحت عصا هارون (عليه السلام) قد اهتز لها ورق أخضر، وكانت من ورق شجر اللوز، فقال موسى: يا قارون ترى هذا؟
فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر.
فذهب قارون مغاضبا واعتزل موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما، وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد كل يوم إلا كبرا ومخالفة ومعاداة لموسى (عليه السلام) حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه.
قال ابن عباس: ثم إن الله سبحانه وتعالى أنزل الزكاة على موسى (عليه السلام) فلما أوجب الله سبحانه الزكاة عليهم أبى قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، وعن كل ألف شيء شيئا، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل
وقال لهم: يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلا على أن تقذفه
264

بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه، فأتوا بها فجعل لها قارون ألف درهم وقيل: ألف دينار، وقيل: طستا من ذهب، وقيل: حكمها، وقال لها: إني أمولك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل، فلما أن كان الغد جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى موسى فقال له: إن بني إسرائيل قد اجتمعوا ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم وتبين لهم أعلام دينهم وأحكام شريعتهم فخرج إليهم موسى و هم في براح من الأرض فقام فيهم خطيبا ووعظهم (فكان) فيما قال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت، فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال قارون: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال: أنا، قال: نعم، قال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت، فلما أن جاءت قال لها موسى: يا فلانة إنما أنا فعلت لك ما يقول هؤلاء، وعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت، فلما ناشدها تداركها الله بالتوفيق وقالت في نفسها: لئن أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله، فقالت: لا كذبوا، ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فلما تكلمت بهذا الكلام سقط في يده قارون ونكس رأسه وسكت الملأ وعرف أنه وقع في مهلكة وخر) موسى ساجدا يبكي ويقول: اللهم إن كنت رسولك، فاغضب لي، فأوحى الله سبحانه إليه: مر الأرض بما شئت، فإنها مطيعة لك، فقال موسى: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليثبت مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزل قارون ولم يبق معه إلا رجلان، ثم قال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه عليه.
ثم قال: يا أرض خذيهم، فانطبقت عليهم الأرض، وأوحى الله تعالى إلى موسى: يا موسى ماأفظك. استغاثوا بك سبعين مرة فلم ترحمهم ولم تغثهم، أما وعزتي لو إياي دعوا لوجدوني قريبا مجيبا.
قال قتادة: وذكر (لنا) أنه يخسف به كل يوم قامة وأنه يتخلخل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة، قالوا: وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أن (موسى) إنما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله، فدعا الله موسى حتى يخسف بداره وأمواله الأرض.
وأوحى الله سبحانه إلى موسى: إني لا أعبد الأرض لأحد بعدك أبدا، فذلك قوله تعالى: * (فخسفنا به وبداره الأرض) * * (فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من
265

المنتصرين) *) الممتنعين " * (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس) *) العرب تعبر بأضحى وأمسى وأصبح عن الصيرورة والفعل، فتقول: أصبح فلان عاملا وأمسى حزينا وأضحى معدما، إذا صاروا بهذه الأحوال وليس ثم من الصبح والمساء والضحى شيء.
" * (يقولون ويكأن الله) *) اختلف العلماء في هذه اللفظة، فقال مجاهد: معناه: ألم تعلم؟ قتادة: ألم تر؟، الفراء: هي كلمة تقرير كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله وإحسانه؟ وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت، يعني أما ترينه وراء البيت؟ ابن عباس والحسن: هي كلمة ابتداء وتحقيق، تقديره إن الله " * (يبسط الرزق) *) المؤرخ: هو تعجب، قطرب: إنما هو ويلك فأسقط منه اللام، قال عنترة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
قول الفوارس ويك عنتر أقدم
وقيل: هو تنبيه بمنزلة ألا وأما. قال بعض الشعراء:
ويكأن من يكن له نشب
يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
وقال القتيبي: معناه رحمة بلغة حمير، وقال سيبويه: سألت الخليل عنه، فقال: وي كلمة تنبيه منفصلة من كأن فكأن في معنى الطب والعلم.
" * (يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر) *) يقتر " * (لولا أن من الله علينا لخسف بنا) *) قرأ يعقوب وبعض أهل الشام والكوفة بفتح الخاء والسين، وقراءة العامة بضم الخاء وكسر السين، " * (ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض) *) تكبرا وتجبرا فيها، " * (ولا فسادا) *) عملا بالمعاصي عن ابن جريج ومقاتل وعكرمة ومسلم البطين: الفساد: أخذ المال بغير حق، الكلبي: الدعاء إلى غير عبادة الله.
" * (والعاقبة) *) المحمودة " * (للمتقين) *) قال قتادة: الجنة " * (من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون إن الذي فرض عليك القرآن) *) أي أنزله عن أكثر المفسرين، وقال عطاء بن أبي رباح: فرض عليك العمل بالقرآن " * (لرادك إلى معاد) *) قال (الضحاك و) مجاهد: إلى مكة، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، قال (ابن قتيبة): معاد الرجل: بلده لأنه ينصرف ثم يعود إلى بلده.
قال مقاتل: خرج النبي (عليه السلام) من الغار ليلا ثم هاجر من وجهه إلى المدينة، فسار
266

في غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد آبائه، فأتاه جبريل (عليهما السلام)، فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟
قال: (نعم)، قال: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: " * (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) *) إلى مكة ظاهرا عليها.
قال مقاتل: قال الضحاك: قال ابن عباس: إنما نزلت بالجحفة ليس بمكة ولا المدينة، وروي جابر عن أبي جعفر، قال: انطلقت أنا وأبي إلى أبي سعيد الخدري، فسأله عن هذه الآية: " * (لرادك إلى معاد) *)، قال: إلى الموت. وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال الحسن والزهري وعكرمة: إلى يوم القيامة، وقال أبو مالك وأبو صالح: إلى الجنة.
أخبرنا عبد الخالق بن علي، قال: أخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا عمار بن كثير، قال: أخبرنا فضيلة، عن ليث، عن مجاهد في قوله: " * (لرادك إلى معاد) *) قال: إلى الجنة.
" * (قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) *) قال بعض أهل المعاني: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: إن الذي فرض عليك القرآن وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب لرادك إلى معاد.
" * (فلا تكونن ظهيرا للكافرين ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك) *) وهذا حين دعا إلى دين آبائه " * (وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه) *) يعني إلا هو، عن مجاهد، الصادق: دينه، أبو العالية: إلا ما أريد به وجهه.
أخبرنا ابن شاذان، قال: أخبرنا جيعويه، قال: حدثنا صالح بن محمد، عن جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن شهر بن حوشب، عن عبادة بن الصامت، قال: يجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال: ميزوا ما كان لله منها، قال: فيماز ما كان لله منها، ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار.
وبه عن صالح، عن سليمان بن عمرو، عن سالم الأفطس، عن الحسن وسعيد بن جبير،
267

عن علي بن أبي طالب ح أن رجلا سأله، فلم يعطه شيئا، فقال: أسألك بوجه الله، فقال له علي: كذبت، ليس بوجه الله سألتني، إنما وجه الله الحق، ألا ترى قوله سبحانه وتعالى: " * (كل شيء هالك إلا وجهه) *) يعني الحق؟ ولكن سألتني بوجهك الخالق كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش. ابن كيسان: إلا ملكه. " * (له الحكم وإليه ترجعون) *).
268

((سورة العنكبوت))
مكية، وهي أربعة ألف ومائة وخمسة وتسعون حرفا، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة، وتسع وستون آية.
أخبرنا الخباري قال: أخبرنا ابن حيان، قال: أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال: حدثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدثنا يوسف بن عطية قال: حدثنا هارون بن كثير قال: حدثنا زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا سآء ما يحكمون * من كان يرجو لقآء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم * ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغنى عن العالمين * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون * ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهمآ إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم فى الصالحين * ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذآ أوذى فى الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جآء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما فى صدور العالمين * وليعلمن الله الذين ءامنوا وليعلمن المنافقين) *) 2
" * (ألم أحسب) *) أظن وأصله من الحساب " * (الناس) *) يعني الذين جزعوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين " * (أن يتركوا) *) بغير اختبار ولا ابتلاء بأن قالوا: " * (آمنا) *) كلا لنختبرنهم لنتبين الصادق من الكاذب، (إن) الأولى منصوبة ب " * (أحسبت) *) والثانية خفض بنزع الخافض، أي لأن يقولوا، والعرب لا تقول: تركت فلانا أن يذهب، إنما تقول: تركته يذهب
269

معه جوابان: أحدهما يشتركوا لأن يقولوا، والثاني: على التكرير تقديره: " * (أحسب الناس أن يتركوا) *) أحسبوا " * (أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) *) لا يبتلون ليظهر المخلص من المنافق، وقيل: " * (يفتنون) *) يصابون بشدائد الدنيا، يعني: أن البلاء لا يدفع عنهم في الدنيا لقولهم: " * (آمنا) *).
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن جريج وابن عمير: نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله.
وقال الشعبي: نزلت هاتان الآيتان في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إنه لا يقبل منكم إقرار بإسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عائدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم إنه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا، فقالوا: نخرج، فإن اتبعنا أحد قاتلناه. فخرجوا، فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله سبحانه فيهم هاتين الآيتين، وقال مقاتل: نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل يوم بدر رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبيصلى الله عليه وسلم (يومئذ سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة)، فجزع عليه أبواه وامرأته، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية وأخبر أنه لابد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله تعالى، وقيل: " * (وهم لا يفتنون) *) بالأوامر والنواهي.
ثم عزاهم، فقال عز من قائل: " * (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) *) والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار، وعلمه قديم تام، وإنما معنى ذلك: فليظهرن الله تعالى ذلك حتى يوجد معلومة.
قال مقاتل: فليرين الله، الأخفش: فليميزن الله.
وقال القتيبي: علم الله سبحانه نوعان: أحدهما: علم شيء كان يعلم إنه كان، والثاني: علم شيء يكون، فعلم إنه يكون وقت كذا ولا يعلمه كائنا واقعا إلا بعد كونه ووقوعه، بيانه قوله سبحانه: " * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) *) أي نعلم المجاهدين منكم مجاهدين ونعلم الصابرين صابرين، فكذلك هاهنا فليعلمن الله ذاك موجودا كائنا وهذا سبيل علم الله في الاستقبال.
" * (أم حسب الذين يعملون السيئات) *) الشرك " * (أن يسبقونا) *) يعجزونا ويقولوا ما بأنفسهم
270

فلا يقدر على الانتقام منهم " * (ساء ما يحكمون) *) أي ساء حكمهم الذي يحكمون " * (من كان يرجوا لقاء الله) *) قال ابن عباس ومقاتل: من كان يخشى البعث. سعيد بن جبير: من كان يطمع في ثواب الله " * (فإن أجل الله لآت) *) يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب الكائن " * (وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) *) له ثوابه. " * (إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) *) أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة.
" * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) *) اختلف النحاة في وجه نصب الحسن، فقال أهل البصرة: على التكرير تقديره ووصيناه حسنا أي بالحسن، كما يقول: وصيته خيرا، أي بخير، وقال أهل الكوفة: معناه ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا، فحذفه لدلالة الكلام عليه كقول الراجز:
عجبت من دهماء إذ تشكونا
ومن أبي دهماء إذ يوصينا
خيرا بها كأننا جافونا
أي يوصينا أن نفعل بها خيرا، وهو مثل قوله: " * (فطفق مسحا) *) أي يمسح مسحا.
وقيل معناه: وألزمناه حسنا، وقرأ العامة " * (حسنا) *) بضم الحاء وجزم السين، وقرأ أبو رجاء العطاردي بفتح الحاء والسين.
وفي مصحف أبي " * (إحسانا) *) نزلت في سعد بن أبي وقاص الزهري. واسم أبي وقاص: مالك بن وهبان، وذلك إنه لما أسلم قالت له أمه جمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف: يا سعد بلغني إنك صبوت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد وترجع إلى ما كنت عليه، وكان أحب ولدها إليها، فأبى سعد وصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل بظل، فأتى سعد النبي (عليه السلام) وشكا ذلك إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية والتي في لقمان والأحقاف، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يترضاها ويحسن إليها ولا يطيعها في الشرك وذلك قوله سبحانه: " * (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم) *) إنه لي شريك " * (فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد قراءة قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا نمير بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: (أمك)، قلت: ثم من؟ قال: (أمك)، قلت: ثم من؟ قال: (ثم أمك)، قلت: ثم من؟ قال: (ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب)
271

وأخبرنا عبد الله إجازة قال: أخبرنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا علي بن إبراهيم الواسطي قال: حدثنا منصور بن مهاجر قال: حدثنا أبو النصر الأبار، عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (الجنة تحت أقدام الأمهات).
" * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين) *) أي في زمرتهم وجملتهم، وقال محمد بن جرير: أي في مدخل الصالحين وهو الجنة، وقيل: " * (في) *) بمعنى مع، والصالحون هم الأولياء والأنبياء.
" * (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس) *) أي أذاهم وعدائهم " * (كعذاب الله) *) في الآخرة فارتد عن إيمانه " * (ولئن جاء نصر من ربك ليقولن) *) هؤلاء المرتدون " * (إنا كنا معكم) *) وهم كاذبون " * (أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) *) أي ليميزنهم ويظهر أمرهم بالابتلاء والاختبار والفتن والمحن.
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية:
فقال مجاهد: نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا. الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك. عكرمة عن ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر، فارتدوا وهم الذين نزلت فيهم " * (إن الذين توفهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *)... الآية، وقد مضت القصة. قتادة: نزلت هذه الآية في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة.
وهذه الآيات العشر مدنية إلى هاهنا، وسائرها مكي، وقال مقاتل والكلبي: نزلت في العياش بن أبي ربيعة بن مغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، وذلك إنه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي (عليه السلام)، فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة ابن أبي جندل بن نهشل التميمي أن لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل لها رأسا ولا تدخل لبيتا حتى يرجع إليها، فلما رأى ابناها أبو جهل والحارث ابنا هشام وهما أخوا عياش لأمه جزعها وحلفها رهبا في ظلمة حتى أتيا المدينة فلقياه
، فقال أبو جهل لأخيه عياش بن أبي ربيعة: قد علمت أنك أحب إلى أمك من جميع ولدها وكنت بها بارا، وقد حلفت أمك إنها لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل بيتا حتى ترجع إليها، وأنت تزعم أن في دينك بر الوالدين، فارجع إليها فإن ربك الذي تعبده بالمدينة هو ربك بمكة فاعبده بها، فلم يزالا به حتى أخذ
272

عليهما المواثيق لا يحركاه ولا يصرفاه عن دينه، فأعطياه ما سأل من المواثيق فتبعهما، وقد صبرت أمه ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت، قالا: فلما خرجوا من أهل المدينة أخذاه فأوثقاه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة حتى تبرأ من دين محمد (رحمهما الله) جزعا من الضرب وقال ما لا ينبغي، فأنزل الله سبحانه فيه: " * (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي) *)... الآية.
قالا: وكان الحارث أشدهما عليه وأسوأهما قولا، فحلف عياش بالله لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه، فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى المدينة، فهاجر عياش وأسلم وحسن إسلامه.
ثم إن الله تعالى قذف الإيمان في قلب الحارث بن هشام، فهاجر إلى المدينة وبايع النبي (عليه السلام) على الإسلام ولم يحضر عياش، فلقيه عياش يوما بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه، فضرب عنقه، فقيل له: إن الرجل قد أسلم، فاسترجع عياش وبكى، ثم أتى النبي (عليه السلام) وأخبره بذلك، فأنزل الله سبحانه وتعالى: " * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا) *)... الآية.
2 (* (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شىء إنهم لكاذبون * وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون * فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناهآ ءاية للعالمين * وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون * إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون * وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين * أولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذالك على الله يسير * قل سيروا فى الارض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الاخرة إن الله على كل شىء قدير * يعذب من يشآء ويرحم من يشآء وإليه تقلبون) *) 2
" * (وقال الذين كفروا) *) من أهل مكة " * (للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم) *) أوزاركم، قال الفراء: لفظة أمر ومعناه: جزاء، مجازه إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم كقوله سبحانه: " * (فليلقه اليم بالساحل) *) وقوله سبحانه: " * (لا يحطمنكم سليمان وجنوده) *) لفظة نهي وتأويله جزاء. وقال الشاعر:
273

فقلت ادعي وادع فإن أندى
لصوت أن ينادي داعيان
يريد إن دعوت دعوت.
فأكذبهم الله تعالى، فقال: " * (وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم) *) أوزار أنفسهم وأثقال من أضلوا وصدوا عن سبيل الله " * (وأثقالا مع أثقالهم) *) نظيرها " * (وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) *) الآية.
روي عوف، عن الحسن أن النبي (عليه السلام) قال: (أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة، فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا) ثم قرأ الحسن " * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن عبد الرحمن بن هلال العنسي، عن جرير قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثنا على الصدقة، فأبطأ الناس حتى رئي في وجهه الغضب، ثم إن رجلا من الأنصار قام فجاء بصرة وأعطاها، فتتابع الناس، فأعطوا حتى رئي في وجهه السرور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سن سنة حسنة كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).
" * (وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) *).
قال ابن عباس: بعث نوح (عليه السلام) لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.
" * (فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا) *).
ويقولون كذبا، وقال مجاهد: وتصنعون أصناما بأيديكم فتسمونها آلهة، نظيره قوله
274

سبحانه: " * (أتعبدون ما تنحتون) *)، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي " * (وتخلقون إفكا) *) على المبالغة والكثرة. " * (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم) *) فاهلكوا " * (وما على الرسول إلا البلاغ المبين أو لم يروا) *) بالتاء كوفي غيرهم بالياء " * (كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ) *) الله، " * (الخلق) *) يعني فانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ولم يتعذر عليه مبدئا فكذلك لا يتعذر عليه إنشائها معيدا.
" * (ثم الله ينشىء النشأة) *) أي يبدأ البدأة " * (الآخرة) *) بعد الموت.
وفيها لغتان: " * (نشأة) *) بالمد وهي قراءة ابن كثير والحسن وأبو عمر وحبيب كانت، و " * (نشأة) *) بالقصر وتسكين السين وهي قراءة الناس ونظيرها الرأفة، والرأفة " * (إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون) *) تردون.
(* (ومآ أنتم بمعجزين فى الارض ولا فى السمآء وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير * والذين كفروا بئايات الله ولقآئه أولائك يئسوا من رحمتى وأولائك لهم عذاب أليم * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن فى ذالك لايات لقوم يؤمنون * وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحيواة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين * فئامن له لوط وقال إنى مهاجر إلى ربىإنه هو العزيز الحكيم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب وءاتيناه أجره فى الدنيا وإنه فى لاخرة لمن الصالحين) *) 2
" * (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء) *) اختلف أهل المعاني في وجهها، فقال الفراء: معناه ولا من في السماء بمعجز، وهو من غامض العربية الضمير الذي لم يظهر في الثاني. كقول حسان بن ثابت:
فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر من وإلى هذا التأويل ذهب عبد الرحمن بن زيد قال: لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوا.
275

وقال قطرب: ولا في السماء لو كنتم فيها، كقولك: ما يفوتني فلان بالبصرة ولا هاهنا في بلدي، وهو معك في البلد أي ولا بالبصرة لو صار إليها.
" * (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم) *) فأعرض سبحانه بهذه الآيات تذكيرا وتحذيرا لأهل مكة، ثم عاد إلى قصة إبراهيم، فقال عز من قائل: " * (فما كان جواب قومه) *) قرأ العامة بنصب الباء على خبر كان وإن قالوا: في محل الرفع على اسم كان، وقرأ سالم الأفطس " * (جواب) *) رفعا على اسم كان، وإن موضعه نصب على خبره " * (ألا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار) *) وجعلها عليه بردا وسلاما، قال كعب: ما حرقت منه إلا وثاقه.
" * (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال) *) يعني إبراهيم (عليه السلام) لقومه: " * (إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم) *) اختلف القراء فيها، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب " * (مودة) *) رفعا " * (بينكم) *) خفضا بالإضافة، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم على معنى: أن الذين اتخذتم من دون الله أوثانا هي " * (مودة بينكم) *). " * (في الحياة الدنيا) *) لم تنقطع ولا تنفع في الآخرة كقوله: * (* (لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) *) ثم قال: " * (بلاغ) *)) أي هذا بلاغ، وقوله سبحانه: * (* (لا يفلحون) *) ثم قال: " * (متاع) *)) أي هو متاع، فكذلك أضمروا هاهنا هي ويجوز أن تكون خبر إن.
وقرأ عاصم في بعض الروايات " * (مودة) *) مرفوعة منونة " * (بينكم) *) نصبا وهو راجع إلى معنى القراءة الأولى، وقرأ حمزة " * (مودة) *) بالنصب " * (بينكم) *) بالخفض على الإضافة بوقوع الاتحاد عليها وجعل إنما حرفا واحدا وهي رواية حفص عن عاصم، وقرأ الآخرون: " * (مودة) *) نصبا منونة " * (بينكم) *) بالنصب وهي راجعة إلى قراءة حمزة ومعنى الآية أنكم اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا.
" * (مودة بينكم في الحياة الدنيا) *) تتوادون وتتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها.
" * (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) *) وتتبرأ الأوثان من عابديها " * (ومأواكم) *) جميعا العابدون والمعبودون " * (النار وما لكم من ناصرين فآمن له لوط) *) وهو أول من صدق إبراهيم (عليه السلام) حين رأى أن النار لم تضره.
" * (وقال إني مهاجر إلى ربي) *) فهاجر من كوتي من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة، وهو أول من هاجر، قال مقاتل: هاجر إبراهيم (عليه السلام) وهو ابن خمس وسبعين سنة
276

" * (إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) *))
.
* (ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون فى ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين * قال رب انصرنى على القوم المفسدين * ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوأهل هاذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين * ولمآ أن جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين * إنا منزلون على أهل هاذه القرية رجزا من السمآء بما كانوا يفسقون * ولقد تركنا منهآ ءاية بينة لقوم يعقلون) *) 2
" * (ولوطا) *) فأذكر لوطا " * (إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم) *) مجلسكم " * (المنكر) *).
حدثنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي، قال: حدثنا جدي لأمي أبو الحسن المحمودي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: أن بشر بن معاذ
العمقدي حدثهم قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا عمير بن مرداس الدونقي، قال: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا يحيى بن أبي الحجاج أبو أيوب البصري قال: حدثنا أبو يونس حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن أبي مولى أم هانيء، عن أم هانيء بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه: " * (وتأتون في ناديكم المنكر) *) قلت: ما المنكر الذي كانوا يأتون؟ قال: (كانوا يخذفون أهل الطرق ويسخرون بهم).
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا موسى بن محمد، قال: حدثنا الحسن بن علوية، قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدثنا المسيب، قال: سمعت زياد بن أبي زياد يحدث عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى، فإذا مر بهم عابر سبيل قذفوه، فأيهم أصابه كان أولى به) وذلك قول الله سبحانه: " * (وتأتون في ناديكم المنكر) *) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إياكم
277

والخذف فإنه لا ينكأ العدو ولا يصيب الصيد، ولكن يفقأ العين ويكسر السن).
وأخبرنا الحسين قال: أخبرنا أبو علي بن حنيش المقري قال: حدثني أبو جعفر محمد بن جعفر المقري، قال: حدثنا إبراهيم بن الحسين الكسائي، قال: حدثنا هارون بن حاتم، قال: أخبرنا أبو بكر بن أوس المدني، عن أبيه، عن يزيد بن بكر بن دأب، عن القاسم بن محمد " * (وتأتون في ناديكم المنكر) *) قال: الضراط، كانوا يتضارطون في مجالسهم، وقال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضا في مجالسهم.
أخبرنا أبو جعفر الخلفاني قال: حدثنا أبو العباس التباني قال: حدثنا أبو لبيد السرخسي، قال: حدثنا الحسن بن عمر بن شفيق، قال: حدثنا سليمان بن ظريف عن مكحول، قال: عشرة في هذه الأمة من أخلاق قوم لوط: مضغ العلك، وتطويق الأصابع بالحناء، وحل الأزار، وتنقيص الأصابع والعمامة التي يلف بها على الرأس، والسلينية، ورمي الجلاهق، والصفير، والخذف، واللوطية.
" * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) *) إنه نازل بنا وذلك إنه أوعدهم العذاب، " * (قال) *) لوط " * (رب انصرني على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) *) من الله سبحانه إسحاق ويعقوب: " * (قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية) *) يعني قوم لوط " * (إن أهلها كانوا ظالمين قال) *) إبراهيم للرسل: " * (إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا) *) وحسب إنهم من الإنس " * (سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا) *) عذابا " * (من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة) *) عبرة ظاهرة " * (لقوم يعقلون) *) وهي الخبر عما صنع بهم، وقال ابن عباس: هي آثار منازلهم الخرباء. أبو العالية وقتادة: هي الحجارة التي ألقاها الله. مجاهد: الماء الأسود على وجه الأرض.
2 (* (وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الاخر ولا تعثوا فى الارض مفسدين * فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين * وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين
278

وقارون وفرعون وهامان ولقد جآءهم موسى بالبينات فاستكبروا فى الارض وما كانوا سابقين * فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الارض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *) 2
" * (وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال: يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر) *) وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثني ابن شنبه قال: حدثنا أبو حامد المستملي قال: حدثنا محمد بن حاتم الرمني قال: حدثنا محمد بن سلامة الجمحي قال: قال يوسف النحوي: " * (وارجوا اليوم الآخر) *) يعني أخشوا " * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين) *) في الضلالة، قال مجاهد وقتادة: " * (مستبصرين) *) في ضلالهم معجبين بها. الفراء: عقلاء ذوي بصائر. ضحاك ومقاتل والكلبي: حسبوا إنهم على الهدى والحق وهم على الباطل.
" * (وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين) *) فائتين من عذابنا " * (فكلا أخذنا) *) عاقبنا " * (بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا) *) ريحا تأتي في الحصباء، وهي الحصى الصغار، وهم قوم لوط " * (ومنهم من أخذته الصيحة) *) يعني ثمودا. " * (ومنهم من خسفنا به الأرض) *) قارون وأصحابه " * (ومنهم من أغرقنا) *) فرعون وقومه وقوم نوح.
" * (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *).
2 (* (مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون * إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شىء وهو العزيز الحكيم * وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون * خلق الله السماوات والارض بالحق إن فى ذالك لآية للمؤمنين * اتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلواة إن الصلواة تنهى عن الفحشآء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) *) 2
" * (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء) *) يعني: الأصنام يرجون نصرها ونفعها عند حاجتهم إليها " * (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) *) لنفسها كيما يكنها فلم يغن عنها بناؤها شيئا عند حاجتها إياه، فكما أن بيت العنكبوت لا يدفع عنها بردا ولا حرا كذلك هذه الأوثان لا تملك لعابديها نفعا ولا ضرا ولا خيرا ولا شرا.
279

" * (وإن أوهن) *) أضعف " * (البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) *) قال النحاة: العنكبوت مؤنثة التاء التي فيها، وقد يذكرها بعض العرب، أنشد الفراء
:
على هطالهم منهم بيوت
كأن العنكبوت هو ابتناها
وزنته فعللون.
أخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا أبو حامد المستملي، قال: حدثنا محمد بن عمران الضبي، قال: حدثني محمد بن سليمان المكي، قال: حدثني عبد الله بن ميمون القداح، قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي يقول: قال علي بن أبي طالب: طهروا بيوتكم من نسيج العنكبوت، فإن تركه في البيوت يورث الفقر، قال: سمعت عليا يقول: منع الخميرة يورث الفقر.
" * (إن الله يعلم ما يدعون) *) بالياء أهل البصرة واختاره أبو عبيد قال: لذكر الأمم قبلها. واختلف فيها عن عاصم، غيرهم بالتاء.
" * (من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال) *) الأشياء والأوصاف، والمثل: قول سائر يشبه حال الثاني بالأول " * (نضربها) *) يبينها " * (للناس وما يعقلها إلا العالمون) *). أخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا ابن مندة قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا داود بن المخبر قال: حدثنا عباد بن كثير، عن أبي جريج، عن عطاء وأبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: " * (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) *) فقال: (العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه).
" * (خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) *) قال ابن عمر: تغني. الفراء: أن تنهي عن الفحشاء والمنكر ودليل هذا التأويل قوله: " * (ولا تجهر بصلاتك) *) أي بقراءتك. وقال آخرون: هي الصلاة التي فيها الركوع والسجود.
قال ابن مسعود وابن عباس: يقول: في الصلاة: منتهى ومزدجر عن معاصي الله سبحانه وتعالى، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا
280

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وإطاعة الصلاة أن تنهي عن الفحشاء والمنكر).
وروى أبو سفيان عن جابر قال: قيل لرسول الله (صلى الله عليه وسلم: إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل، فقال: (إن صلاته لتردعه).
وقال أنس بن مالك: كان فتى من الأنصار يصلي الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه، فوصف لرسول الله (عليه السلام) حاله، فقال: (إن صلاته تنهاه يوما ما)، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألم أقل لكم إن صلاته تنهاه يوما ما).
وقال ابن عون: معناه أن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها، وقال أهل المعاني: ينبغي أن تنهاه صلاته كقوله: * (ومن دخله كان آمنا) * * (ولذكر الله أكبر) *) اختلفوا في تأويله، فقال قوم: معناه " * (ولذكر الله) *) إياكم أفضل من ذكركم إياه، وهو قول عبد الله وسلمان ومجاهد وعطية وعكرمة وسعيد بن جبير، ورواية عبد الله بن ربيعة عن ابن عباس، وقد روى ذلك مرفوعا:
أخبرناه الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني، قال: حدثني أحمد بن علي بن الحسين، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود البزكي، قال: حدثنا الحسين اللهبني، قال: حدثنا صالح بن عبد الله بن أبي فروة، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قول الله سبحانه: " * (ولذكر الله أكبر) *) قال: (ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه).
قالت الحكماء: لأن ذكر الله سبحانه للعبد على حد الاستغناء، وذكر العبد إياه على حد الافتقار، ولأن ذكره دائم، وذكر العبد مؤقت، ولأن ذكر العبد بحد رفع أو دفع ضر، وذكر الله سبحانه إياه للفضل والكرم. وقال ذو النون: لأنك ذكرته بعد أن ذكرك، وقال ابن عطاء: لأن ذكره لك بلا علة، وذكرك مشوب بالعلل. أبو بكر الوراق: لأن ذكره تعالى للعبد أطلق لسانه بذكره له، ولأن ذكر العبد مخلوق وذكره غير مخلوق. وقال أبو الدرداء وابن زيد وقتادة: معناه ولذكر الله أكبر مما سواه وهو أفضل من كل شيء.
281

أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن محمد الثقفي الحافظ قال: حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال: حدثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي، قال: حدثنا عيسى بن يونس قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن جويبر عن الضحاك، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " * (ولذكر الله أكبر) *) قال: (ذكر الله على كل حال أحسن وأفضل، والذكر أن نذكره عندما حرم، فندع ما حرم ونذكره عندما أحل فنأخذ ما أحل).
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا جعفر بن محمد الفرباني قال: حدثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا إسحاق بن سليمان الرازي قال: سمعت موسى بن عبيدة الزيدي يحدث أبي عبد الله القراظ، عن معاذ بن جبل قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسير بالدف من حمدان إذ استنبه، فقال: (يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله، من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله سبحانه).
قال إسحاق بن سليمان: سمعت حريز بن عثمان يحدث، عن أبي بحرية، عن معاذ بن جبل، قال: ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله سبحانه، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا ولو ضرب بسيفه، قال الله سبحانه: " * (ولذكر الله أكبر) *). وأخبرني الحسين بن محمد، قال: حدثنا ابن شنبه، قال:
حدثنا جعفر بن محمد الفرباني، قال: حدثنا يحيى بن عمار المصيصي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي غريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، قال: سمعت أبا الدرداء يقول: ألا أخبركم بخير أعمالكم لكم وأحبها إلى مليككم وأتمها في درجاتكم، وخير من أن تغزوا عدوكم فتضرب رقابكم وتضربون رقابهم، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم، قالوا: وما هو يا أبا الدرداء؟ قال: ذكر الله، قال الله سبحانه: " * (ولذكر الله أكبر) *).
وقيل لسلمان: أي العمل أفضل؟ قال: أما تقرأ القرآن " * (ولذكر الله أكبر) *) لا شيء أفضل من ذكر الله سبحانه.
وأنبأني عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا محمد بن يعقوب، قال: حدثنا حميد بن داود،
282

قال: حدثني يزيد بن خالد قال: حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، عن أبيه، عن مكحول، عن جبير ابن هبير، عن مالك بن عامر، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله (: أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟
قال صلى الله عليه وسلم (أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله).
وأنبأني عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سلمة بن محمد ابن أحمد بن مجاشع الباهلي، قال: حدثنا خالد بن يزيد العمري، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله عز وجل وما والاه أو عالم أو متعلم).
قالت الحكماء: وإنما كان الذكر أفضل الأشياء لأن ثواب الذكر الذكر، قال الله تعالى: " * (فاذكروني أذكركم) *) ويؤيد هذا ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدثنا عبد الله بن هشام، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).
وأخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا علي، قال: أخبرنا عبد الله بن هاشم، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الأعز أبي مسلم، قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد إنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: (ما جلس قوم يذكرون الله سبحانه إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم فيمن عنده).
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا ابن شيبة، قال: حدثنا الفرباني، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شنبه، قال: حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك " * (ولذكر الله
283

أكبر) *) قال: ذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة. ابن عون: معناه: الصلاة التي أنت فيها وذكرك الله فيها أكبر مما نهتك عنه الصلاة من الفحشاء والمنكر، وقال ابن عطاء: " * (ولذكر الله أكبر) *) من أن تبقى معه بالمعصية.
" * (والله يعلم ما تصنعون) *))
.
* (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذىأنزل إلينا وأنزل إليكم وإلاهنا وإلاهكم واحد ونحن له مسلمون * وكذلك أنزلنآ إليك الكتاب فالذين ءاتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هاؤلاء من يؤمن به وما يجحد باياتنآ إلا الكافرون * وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل هو ءايات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بئاياتنآ إلا الظالمون * وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربه قل إنما الايات عند الله وإنمآ أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن فى ذالك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون * قل كفى بالله بينى وبينكم شهيدا يعلم ما فى السماوات والارض والذين ءامنوا بالباطل وكفروا بالله أولائك هم الخاسرون * ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون * يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين * يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون) *) 2
" * (ولا تجادلوا أهل الكتاب) *) الجدال: فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج فيه، وأصله شدة الفتل ومنه قيل للصقر: أجدل لشدة فتل بدنه وقوة خلقه، وقيل: الجدال من الجدالة وهو أن يروم كل واحد من الخصمين قهر صاحبه وصرعه على الجدالة وهي الأرض.
" * (إلا بالتي هي أحسن) *) ألطف وأرفق، وهو الجميل من القول والدعاء إلى الله والبينة على آيات الله وحججه.
" * (إلا الذين ظلموا منهم) *) قال مجاهد: يعني إن قالوا شرا فقولوا خيرا " * (إلا الذين ظلموا منهم) *) أي أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب، فأولئك انتصروا منهم وجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يقروا بالجزية. قال سعيد بن جبير: هم أهل الحرب من لا عهد لهم فجادلوهم بالسيف. ابن زيد: " * (إلا الذين ظلموا منهم) *) بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم.
ومجاز الآية: إلا الذين ظلموكم لأن جميعهم ظالم. وقال قتادة ومقاتل: هذه الآية منسوخة بقوله: " * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) *)... الآية
284

" * (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) *) أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري: إن أبا نملة أخبره واسمه (عمار) إنه بينما هو عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم جالس جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة.
فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الله أعلم)، فقال اليهودي: إنها تتكلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلا لم تصدقوهم وإن كان حقا لم تكذبوهم).
وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) * * (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) *)... الآية).
وروى سفيان ومسعود، عن سعد بن إبراهيم، عن عطاء بن يسار قال: بينما رجل من أهل الكتاب يحدث أصحابه وهم يسبحون كلما ذكر شيئا من أمرهم، قال: فأتوا رسول الله (عليه السلام) فأخبروه، فقال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ولكن " * (قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) *)) (160).
" * (وإلاهنا وإلاهكم واحد ونحن له مسلمون وكذلك) *) أي وكما أنزلنا الكتاب عليهم. " * (أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) *) يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه.
" * (ومن هؤلاء) *) الذين هم بين ظهرانيك اليوم من يؤمن به " * (وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) *) قال قتادة: إنما يكون الجحود بعد المعرفة.
" * (وما كنت تتلوا) *) يا محمد " * (من قبله) *) أي من قبل هذا الكتاب الذي أنزلنا عليك " * (من كتاب ولا تخطه) *) تكتبه " * (بيمينك إذا لارتاب المبطلون) *) يعني: لو كنت تكتب أو تقرأ الكتب
285

قبل الوحي إذا لشك المبطلون أي المشركون من أهل مكة وقالوا: هذا شيء تعلمه محمد وكتبه، قاله قتادة.
وقال مقاتل: " * (المبطلون) *) هم اليهود، ومعنى الآية: إذا لشكوا فيك واتهموك يا محمد، وقالوا: إن الذي نجد نعته في التوراة هو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
" * (بل هو) *) يعني القرآن " * (آيات بينات) *) عن الحسن، وقال ابن عباس وقتادة: بل هو يعني محمد صلى الله عليه وسلم والعلم بأنه أمي " * (آيات بينات في صدور) *) أهل العلم من أهل الكتاب يجدونها في كتبهم. ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود وابن السميقع " * (بل هي آيات) *).
" * (وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه) *) كما أنزل على الأنبياء قبلك، قرأ ابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب وعاصم برواية أبي بكر " * (آية) *) على الواحد، الباقون " * (آيات) *) بالجمع واختاره أبو عبيد لقوله: " * (قل إنما الآيات عند الله) *) حتى إذا شاء أرسلها، وليست عندي ولا بيدي.
" * (وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) *) هذا جواب لقولهم " * (لولا أنزل عليه آيات من ربه) *)، وروى حجاج، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة أن أناسا من المسلمين أتوا نبي الله (عليه السلام) بكتب قد كتبوها فيها بعض ما يقول اليهود فلما أن نظر فيها ألقاها ثم قال: (كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم إلى قوم غيرهم)، فنزلت " * (أو لم يكفهم) *)... الآية.
" * (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا) *) أني رسوله، وأن هذا القرآن كتابه. " * (يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ويستعجلونك بالعذاب) *) نزلت في النضر بن الحارث حين قال: فأمطر علينا حجارة من السماء وقال: عجل لنا قطنا.
" * (ولولا أجل مسمى) *) في نزول العذاب، وقال ابن عباس: يعني ما وعدتك أن لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة، بيانه قوله: " * (بل الساعة موعدهم) *)... الآية، وقال الضحاك: يعني مدة أعمارهم في الدنيا. وقيل: يوم بدر.
286

" * (لجاءهم العذاب وليأتينهم) *) يعني العذاب وقيل: الأجل " * (بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) *) لا يبقى منهم أحد إلا دخلها، وقيل: هو متصل بقوله: " * (يوم يغشاهم) *) يصيبهم " * (العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) *) يعني: إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم.
" * (ويقول) *) بالياء كوفي ونافع وأيوب، غيرهم بالنون " * (ذوقوا ما كنتم تعملون) *).
2 (* (ياعبادى الذين ءامنوا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون * كل نفس ذآئقة الموت ثم إلينا ترجعون * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها نعم أجر العاملين * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون * وكأين من دآبة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم * ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون * الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له إن الله بكل شىء عليم * ولئن سألتهم من نزل من السمآء مآء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون * وما هاذه الحيواة الدنيآ إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون * فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون * ليكفروا بمآ ءاتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون * أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون * ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جآءه أليس فى جهنم مثوى للكافرين * والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) *) 2
" * (يا عبادي الذين آمنوا) *) بإرسال الياء عراقي غير عاصم، سائرهم بفتحها " * (إن أرضي) *) مفتوحة الياء ابن عامر، غيره ساكنة " * (واسعة فإياي
فاعبدون) *) توحدون من غير طاعة مخلوق في معصيتي، قال سعيد بن جبير: إذا عمل في أرض بالمعاصي، فاهربوا فإن أرضي واسعة.
مجاهد: " * (إن أرضي واسعة) *) فهاجروا وجاهدوا، وقال مقاتل والكلبي: نزلت في المستضعفين المؤمنين الذين كانوا بمكة لا يقدرون على إظهار الإيمان وعبادة الرحمن، يحثهم على الهجرة ويقول لهم: إن أرض المدينة واسعة آمنة. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: " * (أرضي واسعة) *) أي رزقي لكم واسع، أخرج من الأرض ما يكون بها
287

أخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، قال: حدثنا جيغويه ابن محمد الترمذي، قال: حدثنا صالح بن محمد، عن سليمان، عن عباد بن منصور الناجي، عن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد (عليهما السلام)).
" * (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) *) فلا تقيموا بدار المشركين.
" * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا) *) علالي، قرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء، غيرهم بالياء أي لينزلنهم " * (تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وكأين) *) وكم " * (من دابة لا تحمل رزقها) *) وذلك إن رسول الله (عليه السلام) قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون: (أخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة فيها).
فقالوا: يا رسول الله كيف نخرج إلى المدينة ليس لنا بها دار ولا عقار ولا مال، فمن يطعمنا بها ويسقينا؟ فأنزل الله سبحانه: " * (وكأين من دابة) *) ذات حاجة إلى غذاء لا تحمل رزقا فيرفعه لغذائها يعني الطير والبهائم.
" * (الله يرزقها وإياكم) *) يوما بيوم " * (وهو السميع) *) لأقوالكم: نخشى لفراق أوطننا العيلة. " * (العليم) *) بما في قلوبكم وما إليه صائرة أموركم.
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الرقاق، وقال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا إسماعيل بن زرارة الرقي، قال: حدثنا أبو العطوف الجراح بن المنهال الجوزي، عن الزهري، عن عطاء بن أبي رياح، عن ابن عمر قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا من حياطان الأنصار، فجعل رسول الله (عليه السلام) يلقط الرطب بيده ويأكل فقال: (كل يا بن عمر)، قلت: لا أشتهيها يا رسول الله، قال: (لكني أشتهيه وهذه صبحة رابعة لم أزق طعاما ولم أجده).
فقلت: إنا لله، الله المستعان، قال: (يا بن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك
288

كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة، ولكني أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا بن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبؤون رزق سنة ويضعف اليقين)، فنزلت على رسول الله (عليه السلام): " * (وكأين من دابة لا تحمل رزقها) *)... الآية.
أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن حنيش، حدثنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا يحيى من معين، حدثنا يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن علي بن الأرقم " * (وكأين من دابة لا تحمل رزقها) *) قال: لا تدخر شيئا لغد.
قال سفيان: ليس شيء مما خلق الله يخبيء إلا الإنسان والفأرة والنملة.
" * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) *) يعني الدائمة الباقية التي لا زوال لها ولا موت فيها. " * (لو كانوا يعلمون) *) ولكنهم لا يعلمون ذلك.
" * (فإذا ركبوا في الفلك) *) وخافوا الغرق والهلاك " * (دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم) *) ليجحدوا نعمه في إنجائه إياهم وسائر الآية " * (وليتمتعوا) *) جزم لامه الأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب، واختلف فيه عن عاصم ونافع وابن كثير، الباقون بكسر اللام واختاره أبو عبيد ليكفروا لكون الكلام نسقا. ومن جزم احتج بقراءة أبي بن كعب " * (يمتعوا) *). " * (فسوف يعلمون) *).
أخبرني أبو محمد عبد الله بن حامد فيما أذن لي روايته عنه قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أسكت، قال: حدثنا عقال، قال: حدثنا جعفر بن سلمان قال: حدثنا ملك بن دينار، قال: سمعت أبو العالية قرأ " * (ليكفروا بما أتيناهم فتمتعوا فسوف يعلمون) *) بالياء، فالكسر على كي والجزم على التهديد.
" * (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل) *) بالأصنام " * (يؤمنون وبنعمة الله) *) يعني الإيمان " * (يكفرون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *) فزعموا أن لله شريكا، وقالوا إذا فعلوا فاحشة، " * (قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) *).
289

" * (أو كذب بالحق) *) بمحمد والقرآن " * (لما جاءه أليس في جهنم مثوى) *) منزل " * (للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) *) أي والذين قاتلوا لأجلنا أعداءنا لنصرة ديننا لنثبتهم على ما قاتلوا عنه.
قال أبو سورة: " * (والذين جاهدوا) *) في الغزو " * (لنهدينهم) *) سبيل الشهادة أو المغفرة.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن وهب، قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا اختلف الناس
فانظروا ما عليه أهل الثغر فإن الله سبحانه وتعالى يقول: " * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) *).
وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به.
وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد، قال: حدثني أبو الطيب محمد بن أحمد ابن حمدون، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: حدثنا أحمد بن أبي الجواري، قال: قال أبو أحمد يعني عباس الهمداني وأبو سليمان الداراني في قوله سبحانه: " * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) *) قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم ربهم إلى ما لا يعلمون.
وعن عمر بن عبد العزيز إنه تكلم بكلمات وعنده نفر من العلماء، فقال له الوضين بن عطاء: بم أوتيت هذا العلم يا أبا مروان؟ قال: ويحك يا وضين إنما قصر بنا من علم ما جهلنا بتقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو أنا عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا.
وعن عبد الله بن الزبير قال: تقول الحكمة: من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين: أن يعمل بأحسن ما يعلمه، أو يدع أسوأ ما يعلمه.
وروي عن ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا. ضحاك: والذين جاهدوا بالهجرة لنهدينهم سبل الثبات على الإيمان، وقيل: والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم سبل دخول الجنان، سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة ثم قال: مثل السنة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى، من دخل الجنة في العقبى سلم، فكذلك من لزم السنة في الدنيا سلم، وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: والذين هديناهم سبيلنا جاهدوا فينا " * (وإن الله لمع المحسنين) *) بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقباهم.
290

((سورة الروم))
مكية، وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة، وستون آية
أخبرنا المغازي غير مرة، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الجرجاني، وأبو الشيخ عبد الله بن أحمد الأصبهاني قالا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الكوفي، قال: حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي، قال: حدثنا سلام بن سليمان المدائني، قال: حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه: (من قرأ سورة الروم كان له من الأجر، عشر حسنات بعدد كل ملك سبح لله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع في يومه وليلته).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ألم * غلبت الروم * فىأدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * فى بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشآء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحيواة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون) *) 2
قوله عز وجل: " * (ألم غلبت الروم) *) الآية.
قال المفسرون: كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك والأبطال بسم الله الرحمن الرحيم، فدعاها كسرى فقال: إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك فأشيري علي أيهم أستعمل؟ فقالت: هذا فلان، أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر، وهذا فرخان أنفذ من سنان، وهذا شهريراز هو أحلم من كذا، فاستعمل أيهم شئت. قال: فإني
291

استعملت الحليم، فاستعمل شهريراز، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع زيتونهم، وكان قيصر بعث رجلا يدعى يحنس وبعث كسرى شهريراذ فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وأصحابه بمكة فشق عليهم، وكان النبي صلى الله عليه يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم.
وفرح كفار مكة وشمتوا ولقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم. فإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم.
فأنزل الله عز وجل: " * (ألم غلبت الروم...) *) إلى آخر الآيات.
فخرج الصديق ح إلى الكفار فقال: فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا، فقام إليه أبي بن خلف الجمحي فقال: كذبت يا أبا فضيل، فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله، فقال: اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه، والمناحبة: المراهنة على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت، ففعل ذلك وجعلوا الأجل ثلاث سنين.
فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وذلك قبل تحريم القمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين ثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال: لعلك ندمت قال: لا، قال: فتعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه فقال: إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلا، فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر.
فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه قال: والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا ثم خرج إلى أحد، ثم رجع أبي بن خلف
فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله صلى الله عليه حين بارزه.
وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم. هذا قول أكثر المفسرين
292

وقال أبو سعيد الخدري ومقاتل: لما كان يوم بدر غلب المسلمون كفار مكة وأتاهم الخبر أن الروم قد غلبوا فارس ففرح المؤمنون بذلك. قال الشعبي: لم تمض تلك المدة التي عقدوا المناحبة بينهم، أهل مكة وصاحب قمارهم أبي بن خلف، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر، وذلك قبل تحريم القمار حتى غلبت الروم فارس وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فقمر أبو بكر أبيا، وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به يحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (تصدق به).
وكان سبب غلبة الروم فارس على ما قال عكرمة وغيره أن شهريراز بعدما غلب الروم لم يزل يطأهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج، فبينا أخوه فرخان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى، فبلغت كلمته كسرى فكتب إلى شهريراز: إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان.
فكتب إليه: أيها الملك إنك لم تجد مثل فرخان، إن له نكاية وصوتا في العدو فلا تفعل، فكتب إليه: إن في رجال فارس خلفا منه فعجل إلي برأسه، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس إني قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان. ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وأمره فيها بقتل شهريراز وقال: إذا ولي فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه، فلما قرأ شهريراز الكتاب قال: سمعا وطاعة ونزل عن سريره وجلس فرخان فدفع إليه الصحيفة فقال: ائتوني بشهريراز فقدمه ليضرب عنقه.
قال: لا تعجل حتى أكتب وصيتي، قال: نعم، قال: فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف، وقال: كل هذا راجعت فيه كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد، فرد الملك إلى أخيه. فكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم: إن لي إليك حاجة لا يحملها البريد ولا تبلغها الصحف فألقني ولا تلقني إلا في خمسين روميا فأني ألقاك في خمسين فارسيا.
فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ومع كل واحد منهما سكين، فدعيا بترجمان بينهما فقال شهريراز: إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا ومكرنا وشجاعتنا، وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت.
ثم أمر أخي أن يقتلني. فقد خلعناه جميعا فنحن نقاتله معك، قال: قد أصبتما ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا، فقتلا الترجمان جميعا بسكينيهما (فأديلت) الروم على فارس عند ذلك فأتبعوهم يقتلونهم ومات كسرى.
وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه يوم الحديبية ففرح ومن معه، فذلك قوله عز
293

وجل: " * (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض) *) يعني أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس وهي أذرعات.
قال ابن عباس: طرف الشام. مجاهد: أرض الجزيرة. مقاتل: الأردن وفلسطين، عكرمة: أذرعات وكسكر. مقاتل بن حبان: هي ريف الشام.
" * (وهم من بعد غلبهم) *) أي غلبتهم فحذفت التاء منه كما حذفت من قوله: " * (وإقام الصلوة) *) وانما هو إقامته.
وقرأ أبو حيوة الشامي (غلبهم) بسكون اللام وهما لغتان مثل الطعن والطعن.
" * (سيغلبون) *) فارس " * (في بضع سنين) *) وقرأ عبد الله بن عمرو وأبو سعيد الخدري والحسن وعيسى بن عمر " * (غلبت) *) بفتح الغين واللام " * (سيغلبون) *) بضم الواو وفتح اللام.
قالوا: نزلت هذه الآية حين أخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن غلبة الروم فارس، ومعنى الآية: ألم غلبت الروم فارس في أدنى الأرض إليكم. وقرأ سعيد بن جبير وطلحة بن مصرف في أداني الأرض بالجمع " * (وهم من بعد غلبهم) *) سيغلبهم المسلمون. " * (في بضع سنين) *) وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدويه، عن الحسين بن الحسن بن أيوب، عن علي بن عبد العزيز قال: أخبرني أبو عبيد عن حماد بن خالد الخياط عن معاوية بن صالح عن مرتد بن سمي قال: سمعت أبا الدرداء يقول: سيجيء قوم يقرأون: " * (ألم غلبت الروم) *) وإنما هي " * (غلبت الروم) *). قال أبو عبيد بضم الغين يعني الأخيرة.
قوله: " * (لله الأمر من قبل ومن بعد) *) يعني من قبل دولة الروم على فارس ومن بعد وهما مرفوعان على الغاية. " * (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) *) الروم لأنهم أهل كتاب، وبنصر الله المؤمنين على الكافرين " * (ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) *).
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه عن عبد الله بن محمد بن شنبه، عن علي بن محمد ابن هامان، عن علي بن محمد الطنافسي عن النعمان بن محمد عن أبي إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فارس نطحة أو نطحتان) ثم قال: (لا فارس بعدها أبدا، والروم ذات القرون أصحاب بحر وصخر، كلما ذهب قرن خلف قرن، هيهات إلى آخر الأبد).
294

" * (وعد الله) *) نصب على المصدر " * (لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) *) يعني أمر معايشهم كيف يكتسبون
ويتجرون ومتى يغرسون ويحصدون وكيف يبنون ويعيشون.
" * (وهم عن الآخرة هم غافلون) *) وبها جاهلون ولها مضيعون، لا يتفكرون فيها ولا يعملون لها. فعمروا دنياهم وخربوا آخرتهم.
(* (أولم يتفكروا فىأنفسهم ما خلق الله السماوات والارض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقآء ربهم لكافرون * أولم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروهآ أكثر مما عمروها وجآءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بئايات الله وكانوا بها يستهزئون * الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون * ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون * ولم يكن لهم من شركآئهم شفعاء وكانوا بشركآئهم كافرين * ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فهم فى روضة يحبرون * وأما الذين كفروا وكذبوا بئاياتنا ولقآء الاخرة فأولائك فى العذاب محضرون * فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد فى السماوات والارض وعشيا وحين تظهرون) *) 2
" * (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى) *) يعني ولوقت معلوم إذا انتهت إليه فنيت، وهو يوم القيامة.
" * (وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض) *) حرثوها وقلبوها للزراعة والعمارة. " * (وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات) *) فلم يؤمنوا وأهلكهم الله عز وجل.
" * (فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساؤا) *) العمل " * (السوأى) *) يعني الخلة التي تسوؤهم وهي النار. وقيل: (السوأى) اسم لجهنم كما أن (الحسنى) اسم للجنة.
" * (أن كذبوا) *) يعني لأن كذبوا. وقيل: تفسير (السوأى) ما بعدها وهو قوله: " * (أن كذبوا) *) يعني: ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب حملهم تلك السيئات على أن كذبوا " * (بآيات الله وكانوا بها يستهزءون) *) استهزءوا بها.
" * (الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) *).
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (يبلس) يكتئب. أبو يحيى عنه: يفتضح. قتادة
295

ومقاتل والكلبي: بياءين، ابن زيد: المبلس الذي قد نزل به البلاء والشر. الفراء: ينقطع كلامهم وحججهم. أبو عبيدة: يندمون، وأنشد:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا
قال نعم أعرفه وأبلسا
وقرأ السلمي " * (يبلس) *) بفتح اللام، والأول أجود. " * (ولم يكن لهم من شركائهم) *) أوثانهم التي عبدوها من دون الله ليشفعوا لهم " * (شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين) *) جاحدين وعنهم متبرين.
" * (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة) *) بستان " * (يحبرون) *) قال ابن عباس: يكرمون. مجاهد وقتادة: ينعمون. أبو عبيدة: يسرون، ومنه قيل: كل حبرة تتبعها عبرة. وقال العجاج:
فالحمد لله الذي أعطى الحبر
موالي الحق إن المولى شكر
أي السرور. وقال بعضهم: الحبرة في اللغة كل نعمة حسنة. والتحبير: التحسين. ومنه قيل للمداد: حبر لأنه يحسن به الأوراق. والعالم: حبر لأنه متخلق بأخلاق حسنة، وقال الشاعر: يحبرها الكاتب الحميري. وقيل: يحبرون يلذذون بالسماع.
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن حامد بن محمد بن عبد الله عن محمد بن يونس، عن روح عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير " * (فهم في روضة يحبرون) *) قال: السماع في الجنة.
أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله عن ابن شنبه، عن عمير بن مرداس عن سلمة بن شبيب عن عبد القدوس بن الحجاج قال: سمعت الأوزاعي يقول: " * (في روضة يحبرون) *) قال: السماع. وقال: إذا أخذ في السماع لم يبق في الجنة شجرة إلا وردت. وبه عن سلمة بن شبيب عن داود بن الجراح، العسقلاني قال: سمعت الأوزاعي يقول: ليس أحد ممن خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل؛ فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سماوات صلاتهم وتسبيحهم.
وأخبرنا الحسين بن محمد الدينوري، عن أحمد بن الحسن بن ماجة القزويني، عن الحسن ابن أيوب، عن عبد الله بن عراد الشيباني قالا: أخبرنا القاسم بن مطيب العجلي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين منها كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها سموا وأوسطها محله، ومنها تنفجر أنهار الجنة، وعليها يوضع العرش يوم القيامة).
فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله إني رجل حبب إلي الصوت، فهل في الجنه صوت حسن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، إن الله سبحانه ليوحي إلى شجرة في الجنة أن أسمعي
296

عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي وذكري عن عزف البرابط والمزامير، فترفع صوتا لم يسمع الخلائق مثله قط من تسبيح الرب وتقديسه.
وأخبرني الحسين بن محمد عن هارون، عن محمد بن هارون العطار، عن حازم بن يحيى الحلواني، عن الوليد بن عبد الملك، عن مسروح الحراني، عن سليمان بن عطاء، عن سلمة بن عبد الله الجهني، عن عمه، عن أبي الدرداء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الناس فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم وفي (آخر) القوم أعرابي فجثا لركبتيه وقال: يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال: (نعم يا إعرابي إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية، يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها، فذلك أفضل نعيم أهل الجنة).
قال: فسألت أبا الدرداء بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح إن شاء الله. قال: والخوصانية: المرهفة الأعلى الضخمة الأسفل. وأخبرني الحسين بن محمد عن أحمد بن محمد بن علي الهمداني عن علي بن سعيد العسكري قال: أخبرني أبو بدر عباد بن الوليد الغبري، عن محمد ابن موسى الخراساني عن عبد الله بن عرادة الشيباني، عن القاسم بن مطيب عن مغيرة عن إبراهيم قال: (إن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله عز وجل ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الأرض لماتوا طربا).
وأخبرني الحسين، عن أبي شنبه وعبد الله بن يوسف قالا: قال محمد بن عمران، عن محمد بن منصور، قال: أخبرني يحيى بن أبي الحجاج، عن عبد الله بن مسلم عن مولى لبني أمية يقال له: سليمان، قال: سمعت أبا هريرة يسأل: هل لأهل الجنة من سماع؟
قال: نعم، شجرة أصلها من ذهب وأغصانها فضة وثمرها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت يبعث الله سبحانه وتعالى ريحا فيحك بعضها بعضا، فما سمع أحد شيئا أحسن منه.
قوله: " * (وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون فسبحان الله) *) فصلوا لله " * (حين تمسون) *) وهو صلاة العصر والمغرب " * (وحين تصبحون) *) صلاة الصبح " * (وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا) *) وهو صلاة العشاء الآخرة. أي وسبحوه عشيا " * (وحين تظهرون) *) صلاة الظهر.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان عن أحمد بن محمد بن الحسين الحافظ، عن محمد بن
297

يحيى، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين قال نافع بن الأزرق لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم " * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) *)... إلى قوله: " * (وحين تظهرون) *).
حدثنا أبو بكر بن عبدوس قال: حدثني أبو بكر الشرقي قال: حدثني أبو حاتم الرازي قال: حدثني أبو صالح كاتب الليث، حدثني الليث، عن سعيد بن بشير، عن محمد بن عبد الرحمن السلماني، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه قال: (من قال حين يصبح " * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) *)... إلى قوله: " * (وكذلك يخرجون) *) أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته).
وأخبرني محمد بن القاسم بن أحمد قال: كتب إلي عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي أن زيد بن محمد بن خلف القرشي حدثهم عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب عن عمي، عن الماضي بن محمد عن جويبر، عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قال: " * (سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) *) هذه الآيات الثلاث من سورة الروم وآخر سورة الصافات دبر كل صلاة يصليها كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء وقطر المطر وعدد ورق الشجر وعدد تراب الأرض، فإذا مات أجري له بكل حسنة عشر حسنات في قبره).
وأخبرني عبد الله بن فنجويه، عن ابن شنبه وأحمد بن جعفر بن حمدان والفضل بن الفضل قالوا: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام الزنجاني، عن الحجاج بن يوسف بن قتيبة بن مسلم، عن بشر بن الحسين، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: " * (سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) *)... إلى قوله: * (وكذلك تخرجون) * * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) *)... إلى قوله: " * (والحمد لله رب العالمين) *)).
وأخبرني ابن فنجويه عن عمر بن أحمد بن القاسم عن محمد بن عبد الغفار عن حبارة بن المغلس عن كثير عن الضحاك قال: من قال: " * (سبحان الله حين تمسون) *) إلى آخر الآية كان له من الأجر كعدل مائتي رقبة من ولد إسماعيل (عليه السلام).
وأخبرني ابن فنجويه عن ابن شنبه عن علي بن محمد الطيالسي، عن يحيى بن آدم عن
298

إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد العمي، عن محمد بن واسع، عن كعب قال: من قال حين يصبح: " * (سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) *) إلى آخر الآية، لم يفته خير كان في يومه ولم يدركه شر كان فيه، ومن قالها حين يمسي لم يدركه شر كان في ليله ولم يفته خير كان في ليله، وكان إبراهيم خليل الله صلى الله عليه يقولها في كل يوم وليلة ست مرات.
(* (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحى الارض بعد موتها وكذلك تخرجون * ومن ءاياته أن خلقكم من تراب ثم إذآ أنتم بشر تنتشرون * ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لأيات لقوم يتفكرون * ومن ءاياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذالك لأيات للعالمين * ومن ءاياته منامكم باليل والنهار وابتغآؤكم من فضله إن فى ذلك لايات لقوم يسمعون * ومن ءاياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السمآء مآء فيحى به الارض بعد موتها إن فى ذلك لايات لقوم يعقلون * ومن ءاياته أن تقوم السمآء والارض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذآ أنتم تخرجون * وله من فى السماوات والارض كل له قانتون * وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى فى السماوات والارض وهو العزيز الحكيم) *) 2
" * (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ومن ءايته أن خلقكم من تراب) *) يعني آدم (عليه السلام).
" * (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) *) يعني ذريته.
" * (ومن ءايته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا) *) من جنسكم ولم يجعلهن من الجن، وقيل: من ضلع آدم وقيل: من نطف الرجال.
" * (وجعل بينكم مودة) *) ألفة ومحبة " * (ورحمة إن في ذلك لاايت لقوم يتفكرون) *)
أخبرني الحسين بن محمد، عن موسى بن محمد بن علي قال: أخبرني أبو شعيب الحراني، عن يحيى بن عبد الله البابلي، عن صفوان بن عمرو، عن المشيخة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله لقد عجبت من أمر وإنه لعجب، إن الرجل ليتزوج المرأة وما رآها وما رأته قط حتى إذا ابتنى بها اصطحبا وما شيء أحب إليهما من الآخر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم * (وجعل بينكم مودة ورحمة) * * (ومن ءايته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم) *) فعربي وأعجمي.
299

" * (وألوانكم) *) أبيض وأسود وأحمر وأنتم ولد رجل واحد وامرأة واحدة.
" * (إن في ذلك لآيات للعالمين) *) بكسر اللام حفص، والياقوت بفتحها.
" * (ومن ءاياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لاايت لقوم يسمعون ومن ءآياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لايات لقوم يعقلون) *) وحذف أن من قوله (يريكم) لدلالة الكلام عليه، كقول طرفه:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
وإن اشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد أن أحضر. وقيل: هو على التقديم والتأخير تقديره: ويريكم البرق خوفا، من آياته.
" * (ومن ءآيته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض) *) أي من قبوركم، عن ابن عباس " * (إذا أنتم تخرجون) *) منها، وأكثر العلماء على أن معنى الآية ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون من الأرض.
" * (وله من في السموات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده) *) فقرأ ابن مسعود: يبدي، ودليله قوله: " * (إنه هو يبدي ويعيد) *).
ودليل العامة " * (كما بدأكم تعودون) *) * * (وهو أهون عليه) *) قال الربيع بن خيثم والحسن: وهو هين عليه وما شيء عليه بعزيز، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، وهذا كقول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنا لها
بيتا دعائمه أعز وأطول
أي عزيزة طويلة.
وقال آخر:
لعمرك إن الزبرقان لباذل معروفه
عند السنين وأفضل
أي فاضل.
وقال مجاهد وعكرمة: الإعادة أهون عليه من البدأة أي أيسر. وهي رواية الوالبي عن ابن عباس: ووجه هذا التأويل أن هذا مثل ضربه الله تعالى، يقول: إعادة الشيء على الخلق أهون من
300

ابتدائه فينبغي أن يكون البعث أهون عليه عندكم من الإنشاء. وقال قوم: وهو أهون عليه، أي على الخلق، يصاح بهم صيحة فيقومون، ويقال لهم: كونوا فيكونون أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء. وهذا معنى رواية حسان، عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس واختيار قطرب.
" * (وله المثل الأعلى) *) أي الصفة العليا " * (في السموات والأرض) *) قال ابن عباس: ليس كمثله شيء. وقال قتادة: مثله أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره. " * (وهو العزيز الحكيم) *))
.
* (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء فى ما رزقناكم فأنتم فيه سوآء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الايات لقوم يعقلون * بل اتبع الذين ظلموا أهوآءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين * فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلواة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون * وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذآ أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون * ليكفروا بمآ ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون * أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) *) 2
قوله تعالى: " * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمنكم) *) من عبيدكم وإمائكم " * (من شركاء في ما رزقناكم) *) من المال " * (فأنتم) *) وهم " * (فيه) *) شرع " * (سوآء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) *) قال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا، وقيل: تخافون هؤلاء الشركاء أن يقاسموكم أموالكم كما يقاسم بعضكم بعضا، وهذا معنى قول أبي محلز، فإذ لم تخافوا هذا من مماليككم ولم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء؟ وأنتم وهم عبيدي وأنا مالككم جميعا، فكما لا يجوز استواء المملوك مع سيده فكذلك لا يجوز استواء المخلوق مع خالقه.
ثم قال: " * (كذلك نفصل الأيت لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله) *).
دين الله وهو نصب على المصدر أي فطر فطرة. ومعنى الآية: إن الدين الحنيفية، فطرة الله " * (التي فطر الناس عليها) *) وقيل: نصب على الإغراء. " * (لا تبديل لخلق الله) *) لدين الله، أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل، ظاهره نفي ومعناه نهي، هذا قول أكثر العلماء والمفسرين. وقال عكرمة ومجاهد: لا تغيير لخلق الله من البهائم بالخصاء ونحوه.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن
301

يحيى، عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة هل تحسون فيها من جدعاء؟) قال: ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم " * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) *) الآية.
وأخبرني عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو بكر محمد بن جعفر المطيري، عن أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب عن عبد الرزاق، وأخبرنا أبو سعيد التاجر قال: أخبرني أبو حامد الشرقي، وحدثنا محمد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر والسلمي، قالوا: قال عبد الرزاق عن معمر عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه قال: (ما من مولود إلا يولد على هذه الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتجون البهيمة فهل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟ قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين).
وقال الأسود بن سريع: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات وأن قوما تناولوا الذرية بالقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بال أقوام قتلوا المقاتلة ثم تناولوا الذرية؟)، فقال رجل: يا رسول الله إنما هم أولاد المشركين، فقال (عليه السلام): (إن خياركم أولاد المشركين، والذي نفسي بيده ما من مولود إلا يولد على الفطرة فما يزال عليها حتى يبين عنه لسانه فأبواه يهودانه وينصرانه).
وروى قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه: (إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا وأنه قال: إن كل مال نحلته عبادي فهو لهم حلال وإني خلقت عبادي كلهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا). وذكر الحديث
302

قال أبو بكر الوراق: فطرة الله التي فطر الناس عليها هي الفقر والفاقة. " * (ذلك الدين القيم) *) المستقيم " * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *).
قوله تعالى: " * (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) *) فرقا كاليهود والنصارى.
أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري، عن محمد بن عمر بن إسحاق بن حبيش الكلواذي، عن عبد الله بن سليمان بن الأشعث، عن محمد بن مصفى، عن بقية بن الوليد عن شعبة أو غيره، عن مجالد، عن الشعبي، عن شريح، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: (يا عائشة إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أهل البدع والضلالة من هذه الأمة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة إلا صاحب البدع والأهواء ليست لهم توبة، أنا منهم بريء وهم مني براء).
" * (كل حزب بما لديهم فرحون) *) قوله: " * (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة...) *) خصبا ونعمة " * (إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما ءاتينهم فتمتعوا فسوف تعلمون) *) وفي مصحف عبد الله وليتمتعوا " * (أم أنزلنا عليهم سلطانا) *). قال ابن عباس والضحاك: حجة وعذرا. قتادة والربيع: كتابا.
" * (فهو يتكلم) *) ينطق " * (بما كانوا به يشركون) *) يعذرهم على شركهم ويأمرهم به.
(* (وإذآ أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون * أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن فى ذلك لأيات لقوم يؤمنون * فئات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولائك هم المفلحون * ومآ ءاتيتم من ربا ليربوا فى أموال الناس فلا يربوا عند الله ومآ ءاتيتم من زكواة تريدون وجه الله فأولائك هم المضعفون * الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركآئكم من يفعل من ذلكم من شىء سبحانه وتعالى عما يشركون * ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون * قل سيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين * فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون * من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون * ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات
303

من فضله إنه لا يحب الكافرين * ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين * الله الذى يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه فى السمآء كيف يشآء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذآ أصاب به من يشآء من عباده إذا هم يستبشرون * وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين * فانظر إلىءاثار رحمة الله كيف يحى الارض بعد موتهآ إن ذلك لمحى الموتى وهو على كل شىء قدير * ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون * فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين * ومآ أنت بهاد العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بئاياتنا فهم مسلمون) *) 2
" * (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لأيات لقوم يؤمنون فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولائك هم المفلحون) *).
قوله تعالى: " * (وماء ءاتيتم من ربا) *). قرأ ابن كثير (ءاتيتم) مقصور غير ممدود " * (ليربوا في أموال الناس) *). قرأ الحسن وعكرمة وأهل المدينة " * (لتربوا) *) بضم التاء وجزم الواو وعلى الخطاب أي لتربوا أنتم، وهي قراءة ابن عباس واختيار يعقوب وأيوب وأبي حاتم.
وقرأ الآخرون (ليربوا) بياء مفتوحة ونصب الواو وجعلوا الفعل للربا. واختاره أبو عبيد لقوله: " * (فلا يربوا عند الله) *) ولم يقل فلا يربى. واختلف المفسرون في معنى الآية. فقال سعيد ابن جبير ومجاهد وطاووس وقتاده والضحاك: هو الرجل يعطي الرجل العطية ويهدي الهدية ليثاب أكثر منها، فهذا ربا حلال ليس فيه أجر ولا وزر، وهذا للناس عامة، فأما النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فكان هذا عليه حراما لقوله عز وجل " * (ولا تمنن تستكثر) *). وقال الشعبي: هو الرجل يلزق بالرجل فيحف له ويخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله ليجزيه وإنما أعطاه التماس عونه ولم يرد به وجه الله. وقال النخعي: هذا في الرجل يقول للرجل: لأمولنك فيعطيه مراعاة، وكان الرجل في الجاهلية يعطي ذا القرابة له المال ليكثر ماله، وهي رواية أبي حسين عن ابن عباس. وقال السدي: نزلت في ثقيف كانوا يعطون الربا.
" * (فلا يربوا) *) يزكو " * (عند الله) *) لأنه لم يرد به وجه الله. " * (وما ءاتيتم من زكاواة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) *) قال قتادة: هذا الذي يقبله الله ويضاعفه له عشر أمثالها وأكثر من ذلك. ومعنى قوله: (المضعفون). أهل التضعيف. كقول العرب: أصبحتم مسمنين، إذا
304

سمنت إبلهم، ومعطشين إذا عطشت. ورجل مقو إذا كانت إبله قوية، ومضعف إذا كانت ضعيفة، ومنه الخبيث المخبث أي أصحابه خبثا.
" * (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون) *)
قوله تعالى: " * (ظهر الفساد) *) أي قحط المطر ونقص الغلات وذهاب البركة " * (في البر والبحر) *) تقول: أجدبت البر وانقطعت مادة البحر " * (بما كسبت أيدي الناس) *) بشؤم ذنوبهم.
قال قتادة: هذا قبل أن يبعث الله نبيه (عليه السلام) امتلأت الأرض ظلما وضلالة، فلما بعث الله عز وجل محمدا (صلى الله عليه وسلم رجع راجعون من الناس. فالبر أهل العمود والمفاوز والبراري، والبحر أهل الريف والقرى. قال مجاهد: أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر. وقال عكرمة: العرب تسمي الأمصار بحرا. وقال عطية وغيره: البر ظهر الأرض، الأمصار وغيرها، والبحر هو البحر المعروف. وقال عطية: إذا قل المطر قل الغوص. وقال ابن عباس: إذا مطرت السماء تفتح الأصداف فمها في البحر فما وقع فيها من ماء السماء فهو لؤلؤ. وقال الحسن: البحر القرى على شاطئ البحر. قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: " * (ظهر الفساد في البر) *) بقتل ابن آدم أخاه " * (والبحر) *) بالملك الجائر الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا واسمه الجلندا، رجل من الأزد.
" * (ليذيقهم) *) قرأ السلمي بالنون وهو اختيار أبي حاتم. الباقون بالياء " * (بعض الذي عملوا) *) أي عقوبة بعض الذي عملوا من ذنوبهم " * (لعلهم يرجعون) *) عن كفرهم وأعمالهم الخبيثة. " * (قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون) *) يتفرقون، فريق في الجنة وفريق في السعير " * (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) *) يفرشون ويسوون المضاجع في القبور. " * (ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من فضله) *) ثوابه " * (إنه لا يحب الكافرين) *).
قوله: " * (ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته) *) نعمته المطر. " * (ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله) *) رزقه " * (ولعلكم تشكرون ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا) *) أشركوا " * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) *) في العاقبة، فكذلك نحن ناصروك ومظفروك على من عاداك وناواك. قال الحسن: يعني أنجاهم مع الرسل من عذاب الأمم.
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري، قال أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف الصرصري، عن الحسين بن محمد المطبقي، عن الربيع بن سليمان، عن علي
305

ابن معبد عن موسى بن أعين، عن بشير بن أبي سليمان، عن عمرو بن مرة عن شهر بن حوشب (عن أم الدرداء) عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من امرئ يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله سبحانه أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة)، ثم تلا هذه الآية: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * * (الله الذي يرسل الريح فتثير سحابا) *) أخبرني ابن فنجويه عن مخلد الباقر حي، عن الحسن بن علوية، عن إسماعيل بن عيسى، عن إسحاق بن بشر
، أخبرنا إدريس أبو الياس، عن وهب بن منبه: أن الأرض شكت إلى الله عز وجل أيام الطوفان لأن الله عز وجل أرسل الماء بغير وزن ولا كيل فخرج الماء غضبا لله عز وجل فخدش الأرض وخددها فقالت: يارب إن الماء خددني وخدشني، فقال الله عز وجل فيما بلغني والله أعلم إني سأجعل للماء غربالا لا يخددك ولا يخدشك، فجعل السحاب غربال المطر. " * (فيبسطه في السماء كيف يشاء) *) رد الكناية إلى لفظ السحاب لذلك ذكرها. والسحاب جمع كما يقال: هذا تمر جيد " * (ويجعله كسفا) *) قطعا متفرقة. " * (فترى الودق يخرج من خلاله) *) وسطه. وقرأ ابن عباس من خلله. " * (فإذا أصاب به) *) أي بالودق " * (من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا) *) وقد كانوا " * (من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين) *) وقيل: وما كانوا إلا. قال قطرب والفائدة في تكرار قبل هاهنا أن الأولى للأنزال والثانية للمطر، وقيل على التأكيد، كقول الله عز وجل: " * (لا تحسبن الذين يفرحون بما آتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم) *) كرر تحسبن للتأكيد. وقال الشاعر:
إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن
لقاؤك إلا من وراء وراء
وفي حرف ابن مسعود " * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب) *) غير مكرر، وفي حرفه أيضا: " * (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم لمبلسين) *) غير مكرر.
قوله عز وجل: " * (فانظر إلىءاثار) *) بالألف على الجمع أهل الشام والكوفة. واختلف فيه عن أصم، غيرهم: أثر على الواحد " * (رحمت الله) *) يعني المطر " * (كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير) *) من البعث وغيره.
" * (ولئن أرسلنا ريحا) *) باردة مضرة فأفسدت ما أنبت الغيث " * (فرأوه) *) يعني الزرع والنبات كناية عن غير مذكور " * (مصفرا) *) يابسا بعد خضرته ونضرته " * (لظلوا من بعده يكفرون) *) وقد رأوا هذه الآيات الواضحات، ثم ضرب لهم مثلا فقال: " * (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا
306

ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) *))
.
* (الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشآء وهو العليم القدير * ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم فى كتاب الله إلى يوم البعث فهاذا يوم البعث ولاكنكم كنتم لا تعلمون * فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون * ولقد ضربنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل ولئن جئتهم بئاية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون * كذالك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون * فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) *) 2
قوله تعالى: " * (الله الذي خلقكم من ضعف) *) نطفة " * (ثم جعل من بعد ضعف قوة) *) شبابا " * (ثم جعل من بعد قوة ضعفا) *) هرما " * (وشيبة) *). قرأ يحيى وعاصم والأعمش وحمزة (بفتح) الضاد من الضعف، غيرهم بالضم فيها كلها، واختارها أبو عبيد لأنها لغة النبيصلى الله عليه وسلم
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن حامد بن محمد، عن علي بن عبد العزيز قال أبو نعيم، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي قال: قرأت على ابن عمر " * (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا) *) يعني بالضم، ثم قال: إني قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها علي كما أخذتها عليك، وكان عاصم الحجدري يقرأ " * (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف) *) بالضم قوة ثم من بعد قوة ضعفا بالفتح أراد أن يجمع بين اللغتين. قال الفراء: الضم لغة قريش والنصب لغة تميم " * (يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) *).
وقوله: " * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون) *) يحلف المشركون " * (ما لبثوا) *) في الدنيا " * (غير ساعة) *) استقل القوم أجل الدنيا لما عاينوا الآخرة. وقال مقاتل والكلبي: يعني ما لبثوا في قبورهم غير ساعة، استقلوا ذلك لما استقبلوا من هول يوم القيامة، نظيرها قوله عز وجل: " * (كأن لم يلبثوا إلا ساعة) *) من النهار ومن نهار " * (كذلك كانوا يؤفكون) *) يكذبون في الدنيا.
" * (وقال الذين أتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله) *) أي فيما كتب الله لكم في سابق علمه. وقيل: في حكم الله، كقول الشاعر:
307

ومال الولاء بالبلاء فملتم
وما ذاك قال الله إذ هو يكتب
أي يحكم. وقال قتادة ومقاتل: هذا من مقاديم الكلام تأويلها: وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان لقد لبثتم " * (إلى يوم البعث فهاذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) *) في الدنيا أنه يكون وأنكم مبعوثون ومجزيون فكنتم به تكذبون.
" * (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون) *) يسترجعون.
" * (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون) *) ما أنتم إلا على باطل " * (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون فاصبر إن وعد الله) *) في نصرك وتمكينك " * (حق ولا يستخفنك) *) يستزلنك ويستخفن رأيك عن حكمك " * (الذين لا يوقنون) *).
308

((سورة لقمان))
مكية، وهي ألفان ومائة وعشرة أحرف، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة، وأربع وثلاثون آية
أخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن يزيد المعدل قال: أخبرني أبو يحيى البزار، عن محمد بن منصور، عن محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثني أبي، عن مخالد بن عبد الواحد، عن الحجاج بن عبد الله، عن أبي الخليل، عن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا في يوم القيامة وأعطي من الحسنات عشرا بقدر من عمل المعروف، وعمل بالمنكر).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ألم * تلك ءايات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين * الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم بالاخرة هم يوقنون * أولائك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون * ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولائك لهم عذاب مهين * وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فىأذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم * خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم * خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى فى الارض رواسى أن تميد بكم وبث فيها من كل دآبة وأنزلنا من السمآء مآء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم * هاذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون فى ضلال مبين) *) 2
" * (ألم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة) *) قرأ العامة بالنصب على الحال والقطع، وقرأ حمزة (ورحمة) بالرفع على الابتداء " * (للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالاخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) *).
309

قوله: " * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) *).
قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي، كان يتجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشا ويقول لهم: إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأعاجم والأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، وقال مجاهد: يعني شراء (القيان) والمغنين، ووجه الكلام على هذا التأويل يشتري ذات أو ذا لهو الحديث.
أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكى سنة ثلاث وثمانين، حدثني جدي محمد بن إسحاق بن خزيمة) عن علي بن خزيمة) عن علي بن حجرة، عن مستمغل بن ملجان الطائي، عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زجر، عن علي بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن، وأثمانهن حرام، وفي مثل هذا نزلت هذه الآية: " * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) *)...) إلى آخر الآية.
وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت. وقال آخرون: معناه يستبدل ويختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن وقال: سبيل الله: القرآن.
وقال أبو الصهباء البكري: سألت ابن مسعود عن هذه الآية، فقال: هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات، ومثله روى سعيد بن جبير عن ابن عباس. ابن جريج: هو الطبل. عبيد عن الضحاك: هو الشرك. جويبر عنه: الغناء، وقال: الغناء مفسدة للمال، مسخطة للرب مفسدة للقلب. وقال ثوير بن أبي فاخته عن أبيه عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية تغنيه ليلا ونهارا. وكل ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله إلى ما نهى عنه فهو لهو ومنه الغناء وغيره. وقال قتادة: هو كل لهو ولعب. قال عطاء: هو الترهات والبسابس. وقال مكحول: من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغناها وضربها مقيما عليه حتى يموت لم أصل عليه، إن الله عز وجل يقول: " * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) *)... إلى آخر الآية.
وروى علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير والأوتار والصلب وأمر الجاهلية، وحلف ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر متعمدا إلا سقيته من الصديد مثلها
310

يوم القيامة مغفورا له أو معذبا، ولا يسقيها صبيا صغيرا ضعيفا مسلما إلا سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة مغفورا له أو معذبا، ولا يتركها من مخافتي إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة. لا يحل بيعهن ولا شرائهن ولا تعليمهن ولا التجارة بهن وثمنهن حرام). يعني الضوارب. وروى حماد عن إبراهيم قال: الغناء ينبت النفاق في القلب. وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يحرقون الدفوف.
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن ابن شاذان، عن جيغويه، عن صالح بن محمد، عن إبراهيم ابن محمد، عن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أدخلوهم رياض المسك، ثم يقول للملائكة: أسمعوا عبادي حمدي وثنائي وتمجيدي وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قوله: " * (ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا) *) قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب " * (ويتخذها) *) بنصب الذال عطفا على قوله: " * (ليضل) *) وهو اختيار أبي عبيد قال: لقربه من المنصوب، وقرأ الآخرون بالرفع نسقا على قوله: " * (يشتري) *).
" * (أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره) *) إخبره " * (بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الارض رواسى أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) *) أي نوعا حسنا " * (هذا) *) الذي ذكرت مما يعاينون " * (خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) *) من آلهتكم التي تعبدونها " * (بل الظالمون في ضلل مبين) *))
.
* (ولقد ءاتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد * وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم * ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله فى عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون * يابنى إنهآ إن تك مثقال حبة من خردل فتكن فى صخرة أو فى السماوات أو فى الارض يأت بها الله إن الله لطيف خبير * يابنى أقم الصلواة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على مآ أصابك إن ذلك من عزم الامور * ولا
311

تصعر خدك للناس ولا تمش فى الارض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور * واقصد فى مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الاصوات لصوت الحمير * ألم تروا أن الله سخر لكم ما فى السماوات وما فى الارض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ءابآءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) *) 2
قوله: " * (ولقد ءاتينا لقمن الحكمة) *) يعني العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور.
قال محمد بن إسحاق بن يسار: وهو لقمان بن باعور بن باحور بن تارخ وهو آزر، وقال وهب: كان ابن أخت أيوب. وقال مقاتل: ذكر أن لقمان كان ابن خالة أيوب.
قال الواقدي: كان قاضيا في بني إسرائيل، واتفق العلماء على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا إلا عكرمة فإنه قال: كان لقمان نبيا، تفرد بهذا القول.
حدثنا أبو منصور الجمشاذي قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن يوسف، عن الحسين بن محمد، عن عبد الله بن هاشم، عن وكيع عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة قال: كان لقمان نبيا. وقال بعضهم: خير لقمان بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة.
وروى عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: (حقا أقول لم يكن لقمان نبيا ولكن عبد صمصامة كثير التفكير، حسن اليقين، أحب الله فأحبه وضمن عليه بالحكمة).
(وروي أن لقمان في ابتداء أمره) كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت فقال: إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء، وإن عزم علي فسمعا وطاعة. فإني أعلم إن فعل ذلك بي عصمني وأعانني، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان إن (وفى فبالحري) أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا (وفي الآخرة شريفا) خير من أن يكون) في الدنيا) شريفا (وفي الآخرة ذليلا).
ومن تخير الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة. فانتبه يتكلم بها.
312

ثم نودي داود بعده فقبلها ولم يشرط ما شرط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرة كل ذلك يعفو الله عز وجل عنه، وكان لقمان يؤازره بحكمته، فقال له داود: طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى. وأعطي داود الخلافة وأبتلي بالبلية والفتنة.
وحدثنا الإمام أبو منصور بن الجمشاذي لفظا قال: حدثني أبو عبد الله بن يوسف عن الحسن بن محمد، عن عبد الله بن هاشم، عن وكيع، عن محمد بن حسان، عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبدا حبشيا نجارا. وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدثني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبي عن أسود بن عامر، عن حماد، عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب أن لقمان كان خياطا.
" * (أن اشكر لله) *) يعني وقلنا له: أن اشكر لله.
" * (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد) *).
قال مجاهد: كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين، متشقق القدمين. وروى الأوزاعي عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنك أسود، فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر بن الخطاب ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا من سودان مصر ذا مشافر.
قوله تعالى: " * (وإذ قال لقمان لابنه) *) واسمه أنعم " * (وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن) *) قال ابن عباس: شدة بعد شدة. الضحاك: ضعف على ضعف. قتادة: جهدا على جهد. مجاهد وابن كيسان: مشقة على مشقة.
" * (وفصاله) *) فطامه. وروي عن يعقوب: وفصله " * (في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير) *) أنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني، عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي قال: أخبرني أبو بكر محمد بن القاسم البلخي، عن نصير بن يحيى، عن سفيان بن عيينة في قول الله عز وجل: " * (أن اشكر لي ولوالديك) *) قال: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات فقد شكر للوالدين.
" * (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) *) عشرة جميلة، وتقديره: بالمعروف.
" * (واتبع سبيل من أناب إلي) *) واسلك طريق محمد وأصحابه.
" * (ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) *) نزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقاص وأمه، وقد مضت القصة.
313

" * (يبني إنها إن تك مثقال حبة من خردل) *) قال بعض النحاة: هذه الكناية راجعة إلى الخطيئة والمعصية، يعني: إن المعصية إن تك. يدل عليه قول مقاتل: قال أنعم بن لقمان لأبيه: يا أبة إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال له: يا بني إنها إن تك. وقال آخرون: هذه الهاء عماد، وإنما أنث لإنه ذهب بها إلى الحبة، كقول الشاعر:
ويشرق بالقول الذي قد أذعته
كما شرقت صدر القناة من الدم
ويرفع المثقال وينصب، فالنصب على خبر كان والرفع على اسمها ومجازه: إن تقع وحينئذ لا خبر له: " * (فتكن في صخرة) *) قال قتادة: في جبل، وقال ابن عباس: هي صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار، وخضرة السماء منها، وقال السدي: خلق الله الأرض على حوت وهو النون الذي ذكره الله عز وجل في القرآن " * (ن والقلم) *) والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك والملك، على صخرة، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، والصخرة على الريح.
" * (أو في السماوات أو في الارض يأت بها الله إن الله لطيف) *) باستخراجها " * (خبير) *) عالم بمكانها. ورأيت في بعض الكتب أن لقمان (عليه السلام) قال لابنه: يا بني " * (إنها إن تك مثقال حبة..) *) إلى آخر الآية. فانفطر من هيبة هذه الكلمة فمات فكانت آخر حكمته.
قوله: " * (يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور) *)
أي الأمور الواجبة التي أمر الله بها، وقال ابن عباس: حزم الأمور. مقاتل: حق الأمور. " * (ولا تصعر خدك للناس) *) قرأ النخعي ونافع وأبو عمرو وابن محيص ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي تصاعر بالألف.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو حبش قال أبو القاسم بن الفضل قال أبو زرعة: حدثني نضر بن علي قال: أخبرني أبي عن معلى الوراق عن عاصم الجحدري " * (ولا تصعر خدك) *) بضم التاء وجزم الصاد من أصعر. الباقون " * (تصعر) *) من التصعير. قال ابن عباس: يقول لا تتكبر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك. مجاهد: هو الرجل يكون بينه وبينك إحنة فتلقاه فيعرض عنك بوجهه. عكرمة: هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه تكبرا. الربيع وقتادة: لا تحقر الفقراء، ليكن الفقير والغني عندك سواء.
عطاء: هو الذي يلوي شدقه. أخبرنا عبد الله بن حامد، عن حامد بن محمد، عن محمد
314

ابن صالح، عن عبد الصمد، عن خارجة بن مصعب، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: " * (ولا تصعر خدك للناس) *) قال: التشديق في الكلام. وقال المؤرخ: لا تعبس في وجوه الناس. وأصل هذه الكلمة من الميل، يقال: رجل أصعر إذا كان مائل العنق. وجمعه صعر، ومنه، الصعر: وهو داء يأخذ الإبل في أعناقها ورؤوسها حتى يلفت أعناقها، فشبه الرجل المتكبر الذي يعرض عن الناس احتقارا لهم بذلك. قال الشاعر يصف إبلا:
وردناه في مجرى سهيل يمانيا
بصعر البري من بين جمع وخادج
أي مائلات البري. وقال آخر:
وكنا إذا الجبار صعر خده
أقمنا له من ميله فتقوما
" * (ولا تمش في الارض مرحا) *) أي خيلاء. " * (إن الله لا يحب كل مختال) *) في مشيته " * (فخور) *) على الناس.
أخبرني عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن شاذان، عن جيغويه، عن صالح ابن محمد، عن جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج رجل يتبختر في الجاهلية عليه حلة، فأمر الله عز وجل الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
" * (واقصد في مشيك) *) أي تواضع ولا تتبختر وليكن مشيك قصدا لا بخيلاء ولا إسراع.
أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران المقرئ سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرني أبو العباس محمد بن إسحاق السراج وأبو الوفا، المؤيد بن الحسين بن عيسى قالا: قال عباس بن محمد الدوري، عن الوليد بن سلمة قاضي الأردن، عن عمر بن صهبان، عن نافع عن ابن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سرعة المشي يذهب بهاء المؤمن).
" * (واغضض) *) واخفض " * (من صوتك إن أنكر الاصوات لصوت الحمير) *) قال مجاهد وقتادة والضحاك: أقبح، أوله زفير وآخره شهيق، أمره بالاقتصاد في صوته. عكرمة والحكم بن عيينة: أشد. ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيرا ما جعله للحمير.
أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحري قال: أخبرني أبو حامد أحمد بن عبدون بن عمارة الأعمش قال: أخبرني أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي، عن يحيى بن صالح
315

الوحاضي، عن موسى بن أعين قال: سمعت سفيان يقول في قوله عز وجل: " * (إن أنكر الاصوات لصوت الحمير) *) يقول: صياح كل شيء تسبيح لله عز وجل إلا الحمار. وقيل: لأنه ينهق بلا فائدة.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه عن محمد بن الحسين بن بشر قال: أخبرني أبو بكر ابن أبي الخصيب، عن عبد الله بن جابر، عن عبد الله بن الوليد الحراني، عن عثمان بن عبد الرحمن، عن عنبسة بن عبد الرحمن، عن محمد بن زادان، عن أم سعد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل يبغض ثلاثة أصوات: نهقة الحمار، ونباح الكلب، والداعية بالحرب).
فصل في ذكر بعض ما روي من حكم لقمان
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان الأصفهاني، عن أحمد بن شاذان، عن جيغويه بن محمد (عن صالح بن محمد) عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن محمد بن عجلان قال: قال لقمان: ليس مال كصحة، ولا نعيم كطيب نفس.
وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، عن محمد بن عبد الغفار الزرقاني، عن أبو سكين زكريا بن يحيى بن عمر بن (حفص) عن عمه أبي زجر بن حصن، عن جده حميد بن منهب قال: حدثني طاووس، عن أبي هريرة قال: مر رجل بلقمان والناس مجتمعون عليه فقال: ألست بالعبد الأسود الذي كنت راعيا بموضع كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني.
وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو الحسين بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله ابن أحمد بن حنبل، عن أبي، عن وكيع قال: أخبرني أبو الأشهب، عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبدا حبشيا نجارا، فقال له سيده: اذبح لنا شاة، فذبح له شاة، فقال له: ائتني بأطيب المضغتين فيها، فأتاه باللسان والقلب. فقال: ما كان فيها شيء أطيب من هذا؟ قال: لا، قال: فسكت عنه ما سكت، ثم قال له: اذبح لنا شاة، فذبح شاة، فقال: ألق أخبثها مضغتين، فرمى باللسان والقلب، فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت اللسان والقلب؟ فقال: لأنه ليس شيء بأطيب منهما إذا طابا وأخبث منهما إذا خبثا.
316

وأخبرني الحسين بن محمد، عن أحمد بن جعفر بن حمدان، عن يوسف بن عبد الله عن موسى ابن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن أنس أن لقمان كان عند داود (عليه السلام) وهو يسرد درعا فجعل لقمان يتعجب مما يرى، ويريد أن يسأله، ويمنعه حكمه عن السؤال، فلما فرغ منها وجاء بها وصبها قال: نعم درع الحرب هذه فقال لقمان: إن من الحكم الصمت وقليل فاعله.
(وأخبرني الحسين بن محمد بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي) قال: أخبرني أبو أسامة ووكيع قالا: أخبرنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة قال: كان لقمان من أهون مملوكيه على سيده. قال: فبعثه مولاه في رقيق له إلى بستان له ليأتوه من ثمره، فجاؤوا وليس معهم شيء، وقد أكلوا الثمر، وأحالوا على لقمان. فقال لقمان لمولاه: إن ذا الوجهين لا يكون عند الله أمينا، فاسقني وإياهم ماء حميما ثم أرسلنا فلنعد، ففعل، فجعلوا يقيئون تلك الفاكهة وجعل لقمان يقيء ماء، فعرف صدقه وكذبهم.
قال: أول ما روي من حكمته، أنه بينا هو مع مولاه، إذ دخل المخرج فأطال فيه الجلوس، فناداه لقمان: إن طول الجلوس على الحاجة ينجع منه الكبد، ويورث الباسور، ويصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هونا، وقم هونا، قال: فخرج وكتب حكمته على باب (الحش).
قال: وسكر مولاه يوما فخاطر قوما على أن يشرب ماء بحيرة، فلما أفاق عرف ما وقع فيه فدعا لقمان فقال: لمثل هذا كنت اجتبيتك، فقال: اخرج كرسيك وأباريقك ثم اجمعهم، فلما اجتمعوا قال: على أي شيء خاطرتموه؟ قالوا: على أن يشرب ماء هذه البحيرة، قال: فإن لها مواد إحبسوا موادها عنها، قالوا: وكيف نستطيع أن نحبس موادها عنها؟ قال لقمان: وكيف يستطيع شربها ولها مواد؟
وأخبرني الحسين بن محمد، عن عبيد الله بن محمد بن شنبه، عن علي بن محمد بن ماهان، عن علي بن محمد الطنافسي قال: أخبرني أبو الحسين العكلي (عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن داود بن عمر، عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن دينار أن لقمان قدم من سفر،) فلقي غلامه في الطريق، فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات، قال: الحمد لله، ملكت
317

أمري. قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت. قال: جدد فراشي، قال: ما فعلت أختي؟ قال: ماتت، قال: ستر عورتي، قال: ما فعل أخي؟ قال: مات، قال: انقطع ظهري.
وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبي، عن سفيان قال: قيل للقمان: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. وقيل للقمان: ما أقبح وجهك قال: تعيب بهذا على النقش أو على النقاش؟
قوله تعالى: " * (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض وأسبغ عليكم نعمه) *).
قرأ نافع وشيبه وأبو جعفر وأبو رجاء العطاردي وأبو محلز وأبو عمرو والأعرج وأيوب وحفص " * (نعمه) *) بالجمع والإضافة، واختاره أبو عبيد وأبو معاذ
النحوي وأبو حاتم، وقرأ الآخرون منونة على الواحد ومعناها جمع أيضا، ودليله قول الله عز وجل: " * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) *) وقال مجاهد وسفيان: هي لا إله إلا الله، وتصديقه أيضا ما أخبرني أبو القاسم (الحبيبي) أنه رأى في مصحف عبد الله " * (نعمته) *) بالإضافة والتوحيد " * (ظاهرة وباطنة) *) اختلفوا فيها فأكثروا. فقال ابن عباس: أما الظاهرة فالدين والرياش، وأما الباطنة فما غاب عن العباد وعلمه الله.
مقاتل: الظاهرة تسوية الخلق والرزق والإسلام، والباطنة ما ستر من ذنوب بني آدم فلم يعلم بها أحد ولم يعاقب عليها. الضحاك: الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء، والباطنة المغفرة. القرظي: الظاهرة محمد (عليه السلام) والباطنة المعرفة. ربيع: الظاهرة بالجوارح والباطنة بالقلب. عطاء الخراساني: الظاهرة تخفيف الشرائع، والباطنة الشفاعة. مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء، والباطنة الإمداد بالملائكة.
أخبرنا الحسين بن محمد بن إبراهيم النيستاني، قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم ابن محمش، قال: أخبرني أبو يحيى زكريا بن يحيى بن الحرب، عن محمد بن يوسف بن محمد ابن سابق الكوفي قال: أخبرني أبو مالك الجبنى، عن جويبر، عن الضحاك قال: سألت ابن عباس عن قول الله عز وجل: " * (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) *) فقال: هذا من محرزي الذي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؟ قال: أما الظاهرة فالإسلام وما حسن من خلقك وما أفضل عليك من الرزق، وأما الباطنة ما ستر من سوء عملك، يا بن عباس يقول الله تعالى: إني جعلت للمؤمن ثلثا صلاة المؤمنين عليه بعد انقطاع عمله أكفر
318

به عن خطاياه، وجعلت له ثلث ماله ليكفر به عنه من خطاياه وسترت عليه سوء عمله الذي لو قد أبديته للناس لنبذه أهله فما سواهم.
وقال محمد بن علي الترمذي: النعمة الظاهرة: " * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) *) والباطنة قوله: " * (ورضيت لكم الاسلام دينا) *).
(الحرث بن أسد المحاسبي): الظاهرة نعيم الدنيا، والباطنة نعيم العقبى. عمرو بن عثمان الصدفي: الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة تضعيف الصنائع.
وقيل: الظاهرة الجزاء، والباطنة الرضا. سهل بن عبد الله: الظاهرة اتباع الرسول، والباطنة محبته. وقيل: الظاهرة تسوية الظواهر والباطنة تصفية السرائر. وقيل: الظاهرة التبيين، بيانه قوله تعالى: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * * (ويبين آياته للناس) *) والباطنة التزين قوله: " * (وزينه في قلوبكم) *) وقيل: الظاهرة الرزق المكتسب، والباطنة الرزق من حيث لا يحتسب.
وقيل: الظاهرة المدخل للغذاء، والباطنة المخرج للأذى. وقيل: الظاهرة الجوارح، والباطنة المصالح. وقيل: الظاهرة الخلق، والباطنة الخلق. وقيل الظاهرة التنعيم، بيانه قوله: " * (أنعمت عليهم) *) والباطنة التعليم. قوله: " * (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) *) وقيل: الظاهرة ما أعطى وحبا من النعماء، وقيل الباطنة: ما طوي وزوي من أنواع البلاء، وقيل: الظاهرة الدعوة، بيانه قوله: " * (والله يدعوا الى دار السلام) *) والباطنة الهداية. بيانه قوله: " * (ويهدي من يشاء) *).
وقيل: الظاهرة الإمداد بالملائكة، والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفار، وقيل: الظاهرة تفصيل الطاعات، وهو أنه ذكر طاعتك واحدة فواحدة وأثنى عليك بها وأثابك عليها، بيانه قوله: " * (التائبون) *) وقوله: " * (قد أفلح المؤمنون) *) وقوله: " * (إن المسلمين والمسلمات) *) إلى آخر الآية. والباطنة إجمال المعاصي وذلك أنه دعاك منها إلى التوبة باسم الإيمان من غير عدها وتفصيلها، بيانه قوله: " * (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) *) وقيل: الظاهرة إنزال الأقطار والأمطار، والباطنة إحياء الأقطار والأمصار
319

وقيل: الظاهرة التوفيق للعبادات، والباطنة الإخلاص والعصمة من المراءات، وقيل: الظاهرة ذكر اللسان، والباطنة ذكر الجنان، وقيل: الظاهرة تلاوة القرآن والباطنة معرفته. وقيل: الظاهرة ضياء النهار للتصرف والمعاش، والباطنة ظلمة الليل للسكون والقرار. وقيل: الظاهرة النطق، والباطنة العقل، وقيل: الظاهرة نعمه عليك بعدما خرجت من بطن أمك، والباطنة: نعمه عليك وأنت في بطن أمك.
وقيل: الظاهرة الشهادة الناطقة، والباطنة السعادة السابقة. وقيل: الظاهرة ألوان العطايا، والباطنة غفران الخطايا. وقيل: الظاهرة وضع الوزر ورفع الذكر، والباطنة شرح الصدر.
وقيل: الظاهرة فتح المسالك والباطنة نزع الممالك ممن خالفك، وقيل: الظاهرة المال والأولاد، والباطنة الهدى والارشاد، وقيل: الظاهرة القول السديد والباطنة التأييد والتسديد، وقيل: الظاهرة ما يكفر الله به الخطايا من الرزايا والبلايا، والباطنة ما يعفو عنه ولا يؤاخذ به في الدنيا والعقبى، وقيل: الظاهرة ما بينك وبين خلقه من الأنساب والأصهار، والباطنة ما بينك وبينه من القرب والأسرار والمناجاة في الأسحار، وقيل: الظاهرة العلو بيانه قوله: " * (وأنتم الأعلون) *) والباطنة الدنو بيانه قوله: " * (أولئك المقربون) *).
قوله: " * (ومن الناس من يجدل في الله بغير علم) *) نزلت في النضر بن الحرث حين زعم أن الملائكة بنات الله " * (ولا هدى ولا كتب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) *).
قال الله تعالى: " * (أولو كان) *) قال الأخفش: لفظه استفهام ومعناه تقرير، وقال أبو عبيدة: لو هاهنا متروك الجواب مجازه أولو كان " * (الشيطن يدعوهم إلى عذاب السعير) *) أي موجباته فيتبعونه.
2 (* (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الامور * ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم
بذات الصدور * نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ * ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * لله ما فى السماوات والارض إن الله هو الغنى الحميد * ولو أنما فى الارض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم * ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير * ألم تر أن الله يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرىإلى أجل مسمى وأن الله
320

بما تعملون خبير * ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلى الكبير * ألم تر أن الفلك تجرى فى البحر بنعمت الله ليريكم من ءاياته إن فى ذلك لايات لكل صبار شكور * وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بئاياتنآ إلا كل ختار كفور * ياأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيواة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور * إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما فى الارحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير) *) 2
قوله: " * (ومن يسلم وجهه إلى الله) *) أي يخلص دينه لله ويفوض أمره إليه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (يسلم) بالتشديد، وقراءة العامة بالتخفيف من الإسلام وهو الاختيار لقوله: " * (بلى من أسلم وجهه لله) *) وأشباه ذلك.
" * (وهو محسن) *) في عمله " * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) *) أي: اعتصم بالطريق الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه. وقال ابن عباس: هي: * (لا إله إلا الله) * * (وإلى الله عاقبة الامور) *) يعني مرجعها. " * (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم) *) نعمرهم ونمهلهم " * (قليلا ثم نضطرهم) *) نلجئهم، ونردهم * (إلى عذاب غليظ) * * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والارض إن الله هو الغنى الحميد) *).
قوله عز وجل: " * (ولو أنما في الارض من شجرة أقلام) *) الآية. قال المفسرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فأنزل الله بمكة: " * (ويسألونك عن الروح) *) الآية، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود، فقالوا: يا محمد بلغنا عنك أنك تقول: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، أفعنيتنا أم قومك؟ فقال (عليه السلام): كلا قد عنيت. قالوا: ألست تتلوا فيما جاءك: إنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم. قالوا: يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول: " * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) *) فكيف يجتمع هذا قليل وخير كثير؟ فأنزل الله: " * (ولو أنما في الارض من شجرة أقلام) *) أي بريت
321

أقلاما " * (والبحر) *) بالنصب ابن أبي إسحاق وأبو عمرو ويعقوب. غيرهم بالرفع، وحجتهم: قراءة عبد الله وبحر " * (يمده) *) أي يزيده وينصب عليه " * (من بعده) *) من خلفه " * (سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) *) وفي هذه الآية اختصار تقديرها: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر يكتب بها كلام الله ما نفدت كلمات الله، وهذه الآية تقتضي أن كلامه غير مخلوق؛ لأنه لا نهاية له ولما يتعلق به من معناه فهو غير مخلوق.
" * (إن الله عزيز حكيم) *) هذه الآية على قول عطاء بن يسار: مدنية، قال: نزلت بعد الهجرة كما حكينا. وعلى قول غيره: مكية، قالوا: إنما أمر اليهود وفد قريش أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكة، والله أعلم.
قوله: " * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) *) يعني إلا كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء وهذا كقوله: " * (تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) *) أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.
" * (إن الله سميع بصير ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك) *) الذي ذكرت لتعلموا: " * (بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلى الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله) *) برحمة الله، " * (ليريكم من آياته إن في ذلك لايات لكل صبار) *) على أمر الله " * (شكور) *) على نعمه. قال أهل المعاني: أراد لكل مؤمن، لأن الصبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين.
" * (وإذا غشيهم موج كالظلل) *) قال مقاتل: كالجبال. وقال الكلبي: كالسحاب (والظلل) جمع ظله شبه الموج بها في كثرتها وارتفاعها كقول النابغة في صفة بحر:
يماشيهن أخضر ذو ظلال
على حافاته فلق الدنان.
وإنما شبه الموج وهو واحد بالظلل وهي جمع، لان الموج يأتي شيء بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل. وقيل: هو بمعنى الجمع، وإنما لم يجمع لأنه مصدر، وأصله من الحركة والازدحام.
" * (دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) *) قال ابن عباس: موف بما عاهد الله عليه في البحر. ابن كيسان: مؤمن. مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر. الكلبي: مقتصد في القول من الكفار لأن بعضهم أشد قولا وأغلى في الافتراء من بعض. ابن
322

زيد: المقتصد الذي على صلاح من الأمر. " * (وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار) *) غدار " * (كفور) *) جحود، والختر أسوأ الغدر. وقال عمرو بن معدي كرب:
وإنك لو رأيت أبا عمير
ملأت يديك من غدر وختر
قوله: " * (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي) *) لا يقضي ولا يغني ولا يكفر " * (والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) *). قراءة العامة: بفتح الغين هاهنا وفي سورة الملائكة والحديد وقالوا: هو الشيطان. وقال سعيد بن جبير: هو أن يعمل بالمعصية ويتمنى المغفرة. وقرأ سماك بن حرب: بضم الغين ومعناه لا تغتروا " * (إن الله عنده علم الساعة) *) الآية. نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن خصفة من أهل البادية، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الساعة ووقتها وقال: إن أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت أين ولدت فبأي أرض تموت؟ فأنزل الله هذه الآية.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن يحيى، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مفاتيح الغيب خمسة " * (إن الله عنده علم الساعة) *) الآية).
وروى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد أن رجلا قال: يا رسول الله هل من العلم علم لم تؤته؟ فقال: لقد أوتيت علما كثيرا أو علما حسنا (أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تلا رسول الله هذه الآية " * (إن الله عنده علم الساعة) *) إلى قوله: " * (خبير) *) فقال: هؤلاء خمسة لا يعلمهن إلا الله تبارك وتعالى.
وأخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: أخبرني أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش، عن علي بن حشرم، عن الفضل بن موسى، عن رجل سماه قال: بلغ ابن عباس أن يهوديا خرج من المدينة يحسب حساب النجوم فأتاه فسأله. فقال: إن شئت أنبأتك عن نفسك وعن ولدك. فقال: إنك ترجع إلى منزلك وتلقى لك بابن محموم، ولا تمكث عشرة أيام حتى يموت الصبي، وأنت لا تخرج من الدنيا حتى تعمى، فقال ابن عباس: وأنت يا يهودي؟ قال: لا يحول علي الحول حتى أموت، قال: فأين موتك؟ قال: لا أدري. قال ابن عباس:
323

صدق الله " * (وما تدري نفس بأي أرض تموت) *). قال: فرجع ابن عباس فتلقى بابن محموم فما بلغ عشرا حتى مات الصبي، وسأل عن اليهودي قبل الحول فقالوا: مات، وما خرج ابن عباس من الدنيا حتى ذهب بصره. قال علي: هذا أعجب حديث.
قوله: " * (بأي أرض تموت) *) كان حقه بأية أرض، وبه قرأ أبي بن كعب، إلا أن من ذكر قال: لان الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء. وقيل: أراد بالأرض المكان فلذلك ذكر، وأحتج بقول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها
ولا الأرض ابقل ابقالها
324

((سورة السجدة))
مكية، وهي ألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا، وثلاثمائة وثمانون كلمة، وثلاثون آية
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي الفراتي، عن عمران بن موسى، عن مكي بن عبدان، عن سليمان بن داود، عن أحمد بن نصر قال: أخبرني أبو معاد، عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم، عن زيد العمي عن أبي نضرة، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة ألم تنزيل أعطي من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر).
وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل الفهنرزي بها، عن حمزة بن محمد بن العباس ببغداد، عن عبد الله بن روح عن شبابة) بن سوار) عن المغيرة بن مسلم، عن ابن الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا ينام حتى يقرأ " * (ألم تنزيل) *) السجدة و " * (تبارك الذي بيده الملك) *) ويقول: (هما تفضلان كل سورة في القرآن سبعين حسنة، ومن قرأهما كتبت له سبعون حسنة، ومحي عنه سبعون سيئة، ورفع له سبعون درجة).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ألم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون * الله الذى خلق السماوات والارض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون * يدبر الامر من السمآء إلى الارض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذالك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون * وقالوا أءذا ضللنا فى الارض أءنا لفى خلق جديد بل هم بلقآء ربهم كافرون * قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) *) 2
325

قوله عز وجل: " * (ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون) *). أي، بل يقولون وقيل: الميم صلة، أي أيقولون استفهام توبيخ. وقيل: هو بمعنى الواو يعني ويقولون. وقيل: فيه إضمار مجازه: فهل يؤمنون به، أم يقولون: " * (افتريه) *) ثم قال: " * (بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير) *) أي لم يأتهم " * (من نذير من قبلك) *).
قال قتادة: كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير قبل محمد (عليه السلام). قال ابن عباس ومقاتل: ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد (عليهما السلام).
" * (لعلهم يهتدون الله الذي خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الامر من السماء إلى الارض) *) أي ينزل الوحي مع جبرائيل من السماء إلى الأرض " * (ثم يعرج) *) يصعد " * (إليه) *) جبرائيل بالأمر في يوم واحد من أيام الدنيا، وقدر مسيره ألف سنة، خمسمائة نزوله من السماء إلى الأرض، وخمسمائة صعوده من الأرض إلى السماء. وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة يقول: لو ساره أحد من بني آدم لم يسره إلا في ألف سنة، والملائكة يقطعون هذه المسافة بيوم واحد، فعلى هذا التأويل نزلت الآية في وصف مقدار عروج الملائكة من الأرض إلى السماء، ونزولهم من السماء إلى الأرض، وأما قوله: " * (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) *) فإنه أراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها مقام جبرائيل (عليه السلام).
يقول: يسير جبرائيل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا، وهذا كله معنى قول مجاهد وقتادة والضحاك، وأما معنى قوله: " * (إليه) *) على هذا التأويل فإنه يعني إلى مكان الملك الذي أمره الله أن يعرج إليه، كقول إبراهيم (عليه السلام) * * (إني ذاهب إلى ربي) *) وإنما أراد أرض الشام. وقال: " * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله) *) أي إلى المدينة، ولم يكن الله تعالى بالمدينة ولا بالشام.
أخبرني ابن فنجويه، عن هارون بن محمد بن هارون، عن حازم بن يحيى الحلواني، عن محمد بن المتوكل، عن عمرو بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتاني ملك برسالة من الله عز وجل، ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء، والاخرى في الأرض لم يرفعها). وقال بعضهم معناه
326

يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا، ثم يعرج إليه الأمر والتدبير، ويرجع يعود إليه بعد انقضاء الدنيا وفنائها " * (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) *) وهو يوم القيامة.
وأما قوله: " * (خمسين ألف سنة) *) فإنه أراد على الكافر، جعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة، وعلى المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في دار الدنيا. ويجوز أن يكون ليوم القيامة أول وليس له آخر وفيه أوقات شتى بعضها ألف سنة وبعضها خمسين ألف سنة. ويجوز أن يكون هذا إخبار عن شدته وهوله ومشقته لان العرب تصف أيام المكروه بالطول وأيام السرور بالقصر، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من المفسرين.
وروي عبد الرزاق عن ابن جريح قال: أخبرني ابن أبي مليكة قال: دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان على ابن عباس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية، فقال له ابن عباس: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان، فقال عبد الله بن عباس: أيام سماها الله لا أدري ما هي، وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم. قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتى دخلت على سعيد بن المسيب فسئل عنها فلم يدر ما يقول، فقلت له: ألا أخبرك ما حضرت من ابن عباس، فأخبرته، فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عباس قد اتقى أن يقول فيها وهو أعلم مني.
قوله: " * (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه) *) قرأ نافع وأهل الكوفة (خلقه) بفتح اللام على الفعل، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ثم قالا: لسهولتها في المعنى وهي قراءة سعيد بن المسيب. وقرأ الآخرون بسكون اللام. قال الأخفش: هو على البدل ومجازه: الذي أحسن خلق كل شيء.
قال ابن عباس: أتقنه وأحكمه، ثم قال: أما إن أست القرد ليست بحسنة ولكنه أحكم خلقها. وقال قتادة: حسنه. مقاتل: علم كيف يخلق كل شيء، من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه.
" * (وبدأ خلق الانسان) *) يعني آدم (عليه السلام) * * (من طين ثم جعل نسله) *) ذريته " * (من سلالة) *) من نطفة، سميت بذلك لانها تنسل من الإنسان، أي تخرج، ومنه قيل للولد: سلالة. وقال ابن عباس: وهي صفو الماء " * (من ماء مهين) *) ضعيف " * (ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون وقالوا) *) يعني منكري البعث، " * (أءذا ضللنا في الارض) *) أي أهلكنا وبطلنا وصرنا ترابا، وأصله من قول العرب: ضل الماء في اللبن إذا ذهب، ويقال: أضللت الميت أي دفنته. قال الشاعر
327

وأب مضلوه بغير جلية
وغودر بالجولان جرم ونائل
وقرأ ابن محيصن بكسر اللام (ضللنا) وهي لغة. وقرأ الحسن والأعمش " * (ضللنا) *) (بالصاد) غير معجمة أي أنتنا، وهي قراءة علي ح.
أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شنبه قال: أخبرني أبو حامد المستملي، عن محمد بن حاتم (الكرخي) أبو (عثمان) النحوي، عن المسيب بن شريك، عن عبيدة الضبي، عن رجل، عن علي أنه قرأ أءذا ضللنا أي أنتنا. قال محمد بن حاتم: يقال: صل اللحم وأصل إذا أنتن.
" * (أءنا لفي خلق جديد) *) قال الله: " * (بل هم بلقاء ربهم كافرون) *).
قوله عز وجل: " * (قل يتوفاكم) *) بقبض أرواحكم " * (ملك الموت الذي وكل بكم) *) قال مجاهد: حويت له الأرض فجعلت له مثل طست يتناول منها حيث يشاء، وقال مقاتل والكلبي: بلغنا أن اسم ملك الموت عزرائيل وله أربعة أجنحة: جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، وجناح له في أقصى العالم من حيث يجيء ريح الصبا، وجناح من الأفق الآخر. ورجل له بالمشرق، والأخرى بالمغرب، والخلق بين رجليه، ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض، وجعلت له الدنيا مثل راحة اليد، صاحبها يأخذ منها ما أحب في غير مشقة ولا عناء، أي مثل اللبنة بين يديه فهو يقبض أنفس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة
الرحمة وملائكة العذاب.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك عن الخطاب بن أحمد بن عيسى قال: أخبرني أبو نافع أحمد بن كثير، عن كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: إن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب.
وأخبرنا الحسين بن محمد، عن عبد الله بن يوسف، عن عبد الرحيم بن محمد، عن سلمة ابن شبيب، عن الوليد بن سلمة الدمشقي، عن ثور بن يزيد عن خالد بن (معد)، عن معاذ بن جبل قال: إن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفح وجوه الناس، فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتفحصهم في كل يوم مرتين، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة، وقال: الآن يزار بك عسكر الأموات
328

وأخبرنا الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد ابن حنبل، عن أبي، عن عبد الله بن نميرة عن الأعمش عن خيثمة وعن شهر بن حوشب قال: دخل ملك الموت على سليمان، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم إليه النظر، فلما خرج قال الرجل: من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر إلي كأنه يريدني، قال: فما تريد؟ قال: أريد أن تحملني على الريح فتلقيني بالهند، فدعا بالريح فحملته عليها فألقته بالهند، ثم أتى ملك الموت سليمان (عليه السلام) فقال: إنك كنت تديم النظر إلى رجل من جلسائي، قال: كنت أعجب منه إني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
فإن قيل: ما الجامع بين قوله: * (توفته رسلنا و) * * (تتوفهم الملائكة) *) و " * (قل يتوفكم ملك الموت) *) وقوله: " * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) *) و " * (هو الذي يتوفكم بالليل) *).
قيل: توفي الملائكة: القبض والنزع. وتوفي ملك الموت: الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه ثم يأمر أعوانه بقبضها، وتوفي الله سبحانه: خلق الموت، والله أعلم.
(* (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون * ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولاكن حق القول منى لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين * فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هاذآ إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون * إنما يؤمن بئاياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس مآ أخفى لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون * أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون * ولنذيقنهم من العذاب الادنى دون العذاب الاكبر لعلهم يرجعون * ومن أظلم ممن ذكر بئايات ربه ثم أعرض عنهآ إنا من المجرمين منتقمون) *) 2
قوله تعالى: " * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم) *) أي مطأطئوا رؤوسهم " * (عند ربهم) *) حياء منه للذي سلف من معاصيهم في الدنيا يقولون: " * (ربنا أبصرنا) *) ماكنا به مكذبين " * (وسمعنا) *))
329

منك تصديق ما أتتنا به رسلك " * (فارجعنا) *) فأرددنا إلى الدنيا " * (نعمل صالحا إنا موقنون) *) وجواب لو مضمر مجازه: لرأيت العجب " * (ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها) *) رشدها وتوفيقها للإيمان " * (ولكن حق) *) وجب وسبق " * (القول مني لأاملاان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *) وهو قوله لإبليس " * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) *). ثم يقال لأهل النار: " * (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا) *) أي تركتم الإيمان به " * (إنا نسيناكم) *) تركناكم في النار " * (وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون) *).
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، عن أحمد بن الحسن بن ماجة القزويني، عن الحسن ابن أيوب القزويني، عن عبد الله بن أبي زياد القطواني، عن سيار حماد الصفار، عن حجاج الأسود، عن جبلة، عن مولى له، عن كعب قال: إذا كان يوم القيامة يقوم الملائكة فيشفعون، ثم يقوم الأنبياء فيشفعون، ثم يقوم الشهداء فيشفعون ثم يقوم المؤمنون فيشفعون. حتى انصرمت الشفاعة كلها فلم يبق أحد، خرجت الرحمة، فتقول: يارب أنا الرحمة فشفعني، فيقول: قد شفعتك، فتقول: يارب فيمن؟ فيقول: في من ذكرني في مقام وخافني فيه أو رجاني أو دعاني دعوة واحدة خافني أو رجاني فأخرجيه، قال: فيخرجون فلا يبقى في النار أحد يعبأ الله به شيئا، ثم يعظم أهلها بها، ثم يأمر بالنار فتقبض عليهم فلا يدخل فيها روح أبدا، ولا يخرج منها غم أبدا وقيل: " * (اليوم ننسكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) *).
" * (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) *) عن الإيمان به والسجود له. " * (تتجافى) *) أي ترتفع وتنتحي، وهو تفاعل من الجفا، والجفا: التبوء والتباعد، تقول العرب: جاف ظهرك عن الجدار، وجفت عين فلان عن الغمض إذا لم تنم. " * (جنوبهم عن المضاجع) *).
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن قال: أخبرني أبو عمرو عثمان بن أحمد ابن سمعان الوزان، عن عبد الله بن قحطبة بن مرزوق، عن محمد بن موسى الحرشي، عن الحرث بن وحيه الراسبي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: سألت أنس بن مالك عن قول الله تعالى: " * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) *)، فقال أنس: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فأنزل الله تعالى: " * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) *).
أخبرني الحسين بن محمد (عن موسى بن محمد، عن الحسن بن محمد، عن موسى بن محمد) عن الحسن بن علوية، عن إسماعيل بن عيسى، عن المسيب، عن سعيد بن أبي عروبة
330

عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: نزلت فينا معاشر الأنصار: " * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) *) الآية، كنا نصلي المغرب، فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وآله.
وأخبرنا الحسين بن محمد عن عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله، عن عبد الله بن محمد بن وهب، عن محمد بن حميد، عن يحيى بن الضريس، عن النضر بن حميد، عن سعيد، عن الشعبي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عقب ما بين المغرب والعشاء بني له في الجنة قصران (ما بينهما) مسيرة (مائة) عام، وفيهما من الشجر، ما لو نزلها أهل المشرق وأهل المغرب لأوسعتهم فاكهة، وهي صلاة الأوابين وغفلة الغافلين، وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يرد الدعاء ما بين المغرب والعشاء).
وقال عطاء: يعني يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها، يدل عليها ما أنبأني عبد الله بن حامد، عن عبد الصمد بن الحسن بن علي بن مكرم، عن السري بن سهل، عن عبد الله بن رشيد قال: أنبأني أبو عبيدة مجاعة بن الزبير، عن أبان قال: جاءت امرأة إلى أنس بن مالك، فقالت: إني أنام قبل العشاء. فقال: لا تنامي. فإن هذه الآية نزلت في الذين لا ينامون قبل العشاء الآخرة " * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) *). وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وابن زيد: هو التهجد وقيام الليل، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه عن أبي بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عن زيد بن الحباب، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن شهر بن حوشب، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * * (يدعون ربهم خوفا وطمعا) *) قال: قيام العبد في الليل.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني، عن محمد بن عبد الله بن عبد الواحد الهمداني، عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق بن معمر، عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل، عن معاذ قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت قريبا منه ونحن نسير، فقلت: يا نبي الله ألا تخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار؟ قال: يا معاذ، لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير. الصوم جنة من النار والصدقة تطفئ غضب الرب وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ " * (تتجافى جنوبهم عن
331

المضاجع) *) حتى بلغ " * (جزاء بما كانوا يعملون) *) ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله. فقلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه. فقال: (اكفف، عليك هذا).
فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟ فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).
وقال الضحاك: هو أن يصلي الرجل العشاء والغداة في جماعة.
أخبرني الحسين بن فنجويه عن أحمد بن الحسين بن ماجة قال: أخبرني أبو عوانة الكوفي بالري عن منجاب بن الحرث عن علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء. فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعا إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس).
" * (يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) *) أي خبئ لهم، هذه قراءة العامة. وقرأ حمزة ويعقوب أخفي مرسلة الياء أي: أنا أخفي وحجتهما قراءة عبد الله: نخفي بالنون. وقرأ محمد بن كعب: أخفى بالألف يعني: أخفى الله من قرة أعين، قراءة العامة على التوحيد.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن مكي بن عبدان، عن عبد الله بن هاشم قال: أخبرني أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بله ما (قد) أطلعتكم عليه، اقرأوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرات أعين). " * (جزاء بما كانوا يعملون) *)
قال: وكان أبو هريرة يقرأ. هكذا: قرات أعين. وقال ابن مسعود: إن في التوراة مكتوبا: لقد أعد الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولا يخطر على
332

قلب بشر وما لا يعلمه ملك مقرب، وإنه لفي القرآن " * (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) *) الآية.
قوله: " * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) *) الآية نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه وذلك أنه كان بينهما تنازع وكلام في شيء، فقال الوليد لعلي: أسكت فإنك صبي، وأنا والله أبسط منك لسانا وأحد منك سنانا، وأشجع جنانا، وأملأ منك حشوا في الكتيبة، فقال له علي: اسكت فإنك فاسق، فأنزل الله عز وجل: " * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) *) ولم يقل يستويان، لأنه لم يرد بالمؤمن مؤمنا واحدا، وبالفاسق فاسقا واحدا، وإنما أراد جميع الفساق وجميع المؤمنين. قال الفراء: إن الاثنين إذا لم يكونا مصمودين لهما ذهب بهما مذهب الجمع.
ثم ذكر حال الفريقين ومآلهما، فقال عز من قائل: " * (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ولنذيقنهم من العذاب الادنى دون العذاب الاكبر لعلهم يرجعون) *)
قال أبي بن كعب وأبو العالية والضحاك والحسن وإبراهيم: العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وبلاؤها مما يبتلي الله به العباد حتى يتوبوا، وهذه رواية الوالبي عن
ابن عباس. عكرمة عنه: الحدود. عبد الله بن مسعود والحسن بن علي وعبد الله بن الحرث: القتل بالسيف يوم بدر. مقاتل: الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب. مجاهد: عذاب القبر. قالوا: والعذاب الاكبر، يوم القيامة " * (لعلهم يرجعون) *) عن كفرهم.
قوله تعالى: " * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين) *) المشركين " * (منتقمون) *) قال زيد بن رفيع: عنى بالمجرمين هاهنا أصحاب القدر ثم قرأ " * (إن المجرمين في ضلال وسعر) *) إلى قوله: " * (إنا كل شيء خلقناه بقدر) *) وأخبرنا الحسين بن محمد، عن أحمد ابن محمد بن إسحاق السني قال: أخبرني جماهر بن محمد الدمشقي، عن هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن عبادة بن سني، عن جنادة بن أبي أمية، عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من اعتقد لواء في غير حق، أو عق والديه، أو مشى مع ظالم لينصره فقد أجرم. يقول الله تعالى: إنا من المجرمين منتقمون).
333

2 (* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقآئه وجعلناه هدى لبنى إسراءيل * وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بئاياتنا يوقنون * إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك لايات أفلا يسمعون * أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الارض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون * ويقولون متى هاذا الفتح إن كنتم صادقين * قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون * " * (فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون) *) 2
" * (ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه) *) ليلة المعراج. عن ابن عباس، وقال السدي: من تلقيه كتاب الله تعالى بالرضا والقبول. قال أهل المعاني: لم يرد باللقاء الرؤية وإنما أراد مباشرته الحال وتبليغه رسالة الله عز وجل وقبول كتاب الله. وقيل: من لقاء الله الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره.
" * (وجعلناه) *) (يعني الكتاب، وقال قتادة: موسى) * * (هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة) *) قادة في الخير يقتدى بهم " * (يهدون) *) يدعون " * (بأمرنا لما صبروا) *) قرأ حمزة والكسائي (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم أي لصبرهم، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة عبد الله " * (لما صبروا) *) وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي حين صبروا.
" * (وكانوا بآياتنا يوقنون إن ربك هو يفصل بينهم) *) يقضي بينهم. ويسمي أهل اليمن القاضي الفيصل " * (يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لأيات أفلا يسمعون) *) آيات الله وعظاته فيتعظون بها.
قوله: " * (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الارض الجرز) *) أي اليابسة المغبرة: الغليظة التي لا نبات فيها. وأصله من قولهم: ناقة جراز إذا كانت تأكل كل شيء تجده، ورجل جروز، إذا كان أكولا. قال الراجز:
خب جروز وإذا جاع بكى
ويأكل التمر ولا يلقي النوى
وسيف جراز أي قاطع، وجرزت الجراد الزرع إذا استأصلته، فكأن الجرز هي الأرض التي لا يبقى على ظهرها شيء إلا أفسدته، وفيه أربع لغات: جرز وجرز وجرز وجرز.
قال ابن عباس: هي أرض باليمن. قال مجاهد: هي أبين " * (فنخرج) *) فننبت " * (به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين) *) قال بعضهم: أراد
334

بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الثواب والعقاب والحكم بين العباد.
قال قتادة: قال أصحاب النبي صلى الله عليه: إن لنا يوما ننعم فيه ونستريح ويحكم بيننا وبينكم، فقال الكفار استهزاء: متى هذا الفتح؟ أي القضاء والحكم.
قال الكلبي: يعني فتح مكة. وقال السدي: يعني يوم بدر، لان أصحاب رسول الله صلى الله عليه كانوا يقولون لهم: إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم.
" * (قل يوم الفتح) *) يوم القيامة " * (لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) *) ومن تأول النصر قال: لا ينفعهم إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا.
" * (فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون) *) قراءة العامة " * (منتظرون) *) بكسر الظاء. وقرأ محمد بن السميقع بفتح الظاء، قال الفراء: لا يصح هذا إلا بإضمار مجازه: إنهم منتظرون ربهم، قال أبو حاتم: الصحيح كسر الظاء لقوله: " * (فارتقب إنهم مرتقبون) *))
.
* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقآئه وجعلناه هدى لبني إسراءيل * وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بئاياتنا يوقنون * إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك لايات أفلا يسمعون * أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الارض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون * ويقولون متى هاذا الفتح إن كنتم صادقين * قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون * فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون) *) 2
" * (ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه) *) ليلة المعراج. عن ابن عباس، وقال السدي: من تلقيه كتاب الله تعالى بالرضا والقبول. قال أهل المعاني: لم يرد باللقاء الرؤية وإنما أراد مباشرته الحال وتبليغه رسالة الله عز وجل وقبول كتاب الله. وقيل: من لقاء الله الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره.
" * (وجعلناه) *) (يعني الكتاب، وقال قتادة: موسى) * * (هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة) *) قادة في الخير يقتدى بهم " * (يهدون) *) يدعون " * (بأمرنا لما صبروا) *) قرأ حمزة والكسائي (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم أي لصبرهم، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة عبد الله " * (لما صبروا) *) وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي حين صبروا.
" * (وكانوا بآياتنا يوقنون إن ربك هو يفصل بينهم) *) يقضي بينهم. ويسمي أهل اليمن القاضي الفيصل " * (يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لأيات أفلا يسمعون) *) آيات الله وعظاته فيتعظون بها.
قوله: " * (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الارض الجرز) *) أي اليابسة المغبرة: الغليظة التي لا نبات فيها. وأصله من قولهم: ناقة جراز إذا كانت تأكل كل شيء تجده، ورجل جروز، إذا كان أكولا. قال الراجز:
خب جروز وإذا جاع بكى
ويأكل التمر ولا يلقي النوى
وسيف جراز أي قاطع، وجرزت الجراد الزرع إذا استأصلته، فكأن الجرز هي الأرض التي لا يبقى على ظهرها شيء إلا أفسدته، وفيه أربع لغات: جرز وجرز وجرز وجرز.
قال ابن عباس: هي أرض باليمن. قال مجاهد: هي أبين " * (فنخرج) *) فننبت " * (به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين) *) قال بعضهم: أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الثواب والعقاب والحكم بين العباد.
قال قتادة: قال أصحاب النبي صلى الله عليه: إن لنا يوما ننعم فيه ونستريح ويحكم بيننا وبينكم، فقال الكفار استهزاء: متى هذا الفتح؟ أي القضاء والحكم.
قال الكلبي: يعني فتح مكة. وقال السدي: يعني يوم بدر، لان أصحاب رسول الله صلى الله عليه كانوا يقولون لهم: إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم.
" * (قل يوم الفتح) *) يوم القيامة " * (لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) *) ومن تأول النصر قال: لا ينفعهم إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا.
" * (فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون) *) قراءة العامة " * (منتظرون) *) بكسر الظاء. وقرأ محمد بن السميقع بفتح الظاء، قال الفراء: لا يصح هذا إلا بإضمار مجازه: إنهم منتظرون ربهم، قال أبو حاتم: الصحيح كسر الظاء لقوله: " * (فارتقب إنهم مرتقبون) *))
.
335