الكتاب: أحكام القرآن
المؤلف: ابن العربي
الجزء: ١
الوفاة: ٥٤٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد عبد القادر عطا
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: لبنان - دار الفكر للطباعة والنشر
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الطبري شيخ الدين فجاء فيه بالعجب العجاب ونثر فيه ألباب الألباب وفتح فيه لكل من جاء بعده إلى معارفه الباب فكل أحد غرف منه على قدر إنائه وما نقصت قطرة من مائه وأعظم من انتقى منه الأحكام بصيرة القاضي أبو إسحاق فاستخرج دررها واستحلب دررها وإن كان قد غير أسانيدها لقد ربط معاقدها ولم يأت بعدهما من يلحق بهما
ولما من الله سبحانه بالإستبصار في استثارة العلوم من الكتاب العزيز حسب ما مهدته لنا المشيخة الذين لقينا نظرناها من ذلك المطرح ثم عرضناها على ما جلبه العلماء وسبرناها بعيار الأشياخ فما اتفق عليه النظر أثبتناه وما تعارض فيه شجرناه وشحذناه حتى خلص نضاره وورق عراره فنذكر الآية ثم نعطف
3

على كلماتها بل حروفها فنأخذ بمعرفتها مفردة ثم نركبها على أخواتها مضافة ونحفظ في ذلك قسم البلاغة ونتحرز عن المناقضة في الأحكام والمعارضة ونحتاط على جانب اللغة ونقابلها في القرآن بما جاء في السنة الصحيحة ونتحرى وجه الجميع إذ الكل من عند الله وإنما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليبين للناس ما نزل إليهم ونعقب على ذلك بتوابع لا بد من تحصيل العلم بها منها حرصا على أن يأتي القول مستقلا بنفسه إلا أن يخرج عن الباب فنحيل عليه في موضوعه مجانبين للتقصير والإكثار وبمشيئة الله نستهدي فمن يهدي الله فهو المهتدي لا رب غيره
4

سورة الفاتحة فيها خمس آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (بسم الله الرحمن الرحيم) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قوله تعالى (* (بسم الله الرحمن الرحيم) *)
اتفق الناس على أنها آية من كتاب الله تعالى في سورة النمل واختلفوا في كونها في أول كل سورة فقال مالك وأبو حنيفة ليست في أوائل السور بآية وإنما هي استفتاح ليعلم بها مبتدأها
وقال الشافعي هي آية في أول الفاتحة قولا واحدا وهل تكون آية في أول كل سورة اختلف قوله في ذلك فأما القدر الذي يتعلق بالخلاف من قسم التوحيد والنظر في القرآن وطريق إثباته قرآنا ووجه اختلاف المسلمين في هذه الآية منه فقد استوفيناه في كتب الأصول وأشرنا إلى بيانه في مسائل الخلاف ووددنا أن الشافعي لم يتكلم في هذه المسألة فكل مسألة له ففيها إشكال عظيم ونرجو أن الناظر في كلامنا فيها سيمحي عن قلبه ما عسى أن يكون قد سدل من إشكال به
5

فائدة الخلاف
وفائدة الخلاف في ذلك الذي يتعلق بالأحكام أن قراءة الفاتحة شرط في صحة الصلاة عندنا وعند الشافعي خلافا لأبي حنيفة حيث يقول إنها مستحبة فتدخل (* (بسم الله الرحمن الرحيم) *) في الوجوب عند من يراه أو في الاستحباب كذلك ويكفيك أنها ليست للاختلاف فيها والقرآن لا يختلف فيه فإن إنكار القرآن كفر
فإن قيل ولو لم تكن قرآنا لكان مدخلها في القرآن كافرا
قلنا الاختلاف فيها يمنع من أن تكون آية ويمنع من تكفير من يعدها من القرآن فإن الكفر لا يكون إلا بمخالفة النص والإجماع في أبواب العقائد
فإن قيل فهل تجب قراءتها في الصلاة
قلنا لا تجب فإن أنس بن مالك رضي الله عنه روى أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم يكن أحد منهم يقرأ (* (بسم الله الرحمن الرحيم) *) ونحوه عن عبد الله بن مغفل
فإن قيل الصحيح من حديث أنس فكانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين وقد قال الشافعي معناه أنهم كانوا لا يقرأون شيئا قبل الفاتحة
قلنا وهذا يكون تأويلا لا يليق بالشافعي لعظيم فقهه وأنس وابن مغفل إنما قالا هذا ردا على من يرى قراءة بسم الله الرحمن الرحيم
فإن قيل فقد روى جماعة قراءتها وقد تولى الدارقطني جميع ذلك في جزء صححه
قلنا لسنا ننكر الرواية لكن مذهبنا يترجح بأن أحاديثنا وإن كانت أقل فإنها أصح وبوجه عظيم وهو المعقول في مسائل كثيرة من الشريعة وذلك أن مسجد
6

رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور ومرت عليه الأزمنة من لدن زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك ولم يقرأ أحد قط فيه بسم الله الرحمن الرحيم اتباعا للسنة بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها
المسألة الثانية
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى حمدني عبدي يقول العبد الرحمن الرحيم يقول الله تعالى أثنى علي عبدي يقول العبد مالك يوم الدين يقول تعالى مجدني عبدي يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى فهذه الآية بين وبين عبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
يقول الله فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
فقد تولى سبحانه قسمة القرآن بينه وبين العبد بهذه الصفة فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
وهذا دليل قوي مع أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
7

وثبت عنه أنه قال من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام
الآية الثانية
قوله تعالى (* (الحمد لله رب العالمين) *) [الفاتحة 2]
اعلمواعلمكم الله المشكلات أن البارئ تعالى حمد نفسه وافتتح بحمده كتابه ولم يأذن في ذلك لأحد من خلقه بل نهاهم في محكم كتابه فقال (* (فلا تزكوا أنفسكم) *) [النجم 32] ومنع بعض الناس من أن يسمع مدح بعض له أو يركن إليه وأمرهم برد ذلك
وقال احثوا في وجوه المداحين التراب رواه المقداد وغيره
8

وكأن في مدح الله لنفسه وحمده لها وجوها منها ثلاث أمهات
الأول أنه علمنا كيف نحمده وكلفنا حمده والثناء عليه إذ لم يكن لنا سبيل إليه إلا به
الثاني أنه قال بعض الناس معناه قولوا الحمد لله فيكون فائدة ذلك التكليف لنا
وعلى هذا تخرج قراءة من قرأ بنصب الدال في الشاذ
الثالث أن مدح النفس إنما نهي عنه لما يدخل عليها من العجب بها والتكثر على الخلق من أجلها فاقتضى ذلك الاختصاص بمن يلحقه التغير ولا يجوز منه التكثر وهو المخلوق ووجب ذلك للخالق لأنه أهل الحمد
وهذا هو الجواب الصحيح والفائدة المقصودة
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (إياك نعبد وإياك نستعين) *) [الفاتحة 5] فيها مسألتان
المسألة الأولى
يقول الله تعالى فهذه الآية بيني وبين عبدي وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأسندنا لكم أنه قال قال الله تعالى يا بن آدم أنزلت عليك سبعا ثلاثا لي وثلاثا لك وواحدة بيني وبينك فأما الثلاث التي لي ف (* (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) *) وأما الثلاث التي لك ف (* (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *) وأما الواحدة التي بيني وبينك ف (* (إياك نعبد وإياك نستعين) *)
يعني من العبد العبادة ومن الله سبحانه العون
9

المسألة الثانية
أقوال العلماء في قراءة المأموم الفاتحة
قال أصحاب الشافعي هذا يدل على أن المأموم يقرأها وإن لم يقرأها فليس له حظ في الصلاة لظاهر هذا الحديث
ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال
الأول يقرأها إذا أسر خاصة قاله ابن القاسم
الثاني قال ابن وهب وأشهب في كتاب محمد لا يقرأ
الثالث قال محمد بن عبد الحكم يقرأها خلف الإمام فإن لم يفعل أجزأه كأنه رأى ذلك مستحبا
والمسألة عظيمة الخطر وقد أمضينا القول في مسائل الخلاف في دلائلها بما فيه غنية
والصحيح عندي وجوب قراءتها فيما يسر وتحريمها فيما جهر إذا سمع قراءة الإمام لما عليه من فرض الإنصات له والاستماع لقراءته فإنه كان عنه في مقام بعيد فهو بمنزلة صلاة السر لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها عام في كل صلاة وحالة وخص من ذلك حالة الجهر بوجوب فرض الإنصات وبقي العموم في غير ذلك على ظاهره وهذه نهاية التحقيق في الباب والله أعلم
الآية الرابعة والخامسة
قوله تعالى (* (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *) [الفاتحة 6 7] فيها سبع مسائل
المسألة الأولى في عدد آياتها
لا خلاف أن الفاتحة سبع آيات فإذا عددت فيها (* (بسم الله الرحمن الرحيم) *) آية اطرد العدد وإذا أسقطتها تبين تفصيل العدد فيها
قلنا إنما الاختلاف بين أهل العدد في قوله (* (أنعمت عليهم) *) هل هو خاتمة
10

آية أو نصف آية ويركب هذا الخلاف في عد (* (بسم الله الرحمن الرحيم) *)
والصحيح أن قوله (* (أنعمت عليهم) *) خاتمة آية لأنه كلام تام مستوفى
فإن قيل فليس بمقفى على نحو الآيات [قبله]
قلنا هذا غير لازم في تعداد الآي واعتبره بجميع سور القرآن وآياته تجده صحيحا إن شاء الله تعالى كما قلنا
المسألة الثانية التأمين خلف الإمام
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا قال الإمام (* (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *) فقولوا آمين فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه
وثبت عنه أنه قال إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه
فترتيب المغفرة للذنب على أربع مقدمات ذكر منها ثلاثا وأمسك عن واحدة لأن ما بعدها يدل عليها
11

المقدمة الأولى تأمين الإمام
الثانية تأمين من خلفه
الثالثة تأمين الملائكة
الرابعة موافقة التأمين
فعلى هذه المقدمات الأربع تترتب المغفرة وإنما أمسك عن الثالثة اختصارا لاقتضاء الرابعة لها فصاحة وذلك يكون في البيان للاسترشاد والإرشاد ولا يصح ذلك مع جدل أهل العناد وقد بيناه في أصول الفقه
المسألة الثالثة
اختلف في قوله (* (آمين) *) فقيل هو على وزن فاعيل كقوله يامين
وقيل فيه أمين على وزن يمين الأولى ممدودة والثانية مقصورة وكلاهما لغة والقصر أفصح وأخصر وعليها من الخلق الأكثر
المسألة الرابعة معنى لفظ آمين
في تفسير هذه اللفظة وفي ذلك ثلاثة أقوال
قيل إنها اسم من أسماء الله تعالى ولا يصح نقله ولا ثبت قوله
الثاني قيل معناه اللهم استجب وضعت موضع الدعاء اختصارا
الثالث قيل معناه كذلك يكون والأوسط أصح وأوسط
المسألة الخامسة
هذه كلمة لم تكن لمن قبلنا خصنا الله سبحانه بها في الأثر عن ابن عباس أنه قال ما حسدكم أهل الكتاب على شيء كما حسدوكم على قولكم (* (آمين) *
12

المسألة السادسة تأمين المصلي
في تأمين المصلي ولا يخلو أن يكون إماما أو مأموما أو منفردا فأما المنفرد فإنه يؤمن اتفاقا
وأما المأموم فإنه يؤمن في صلاة السر لنفسه إذا أكمل قراءته وفي صلاة الجهر إذا أكمل القراءة إمامه يؤمن
وأما الإمام فقال مالك لا يؤمن ومعنى قوله عنده إذا أمن الإمام إذا بلغ مكان التأمين كقولهم أنجد الرجل إذا بلغ نجدا
وقال ابن حبيب يؤمن
قال ابن بكير هو بالخيار فإذا أمن الإمام فإن الشافعي قال يؤمن المأموم جهرا
وأبو حنيفة وابن حبيب يقولان يؤمن سرا
والصحيح عندي تأمين الإمام جهرا فإن ابن شهاب قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين خرجه البخاري ومسلم وغيرهما
وفي البخاري حتى إن للمسجد للجة من قول الناس آمين
وفي كتاب الترمذي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين حتى يسمع من الصف وكذلك رواه أبو داود
وروي عن وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قراءة الفاتحة قال آمين يرفع بها صوته
13

المسألة السابعة فضل الفاتحة
ليس في أم القرآن حديث يدل على فضلها إلا حديثان
أحدهما حديث قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين
الثاني حديث أبي بن كعب لأعلمنك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها
وليس في القرآن حديث صحيح في فضل سورة إلا قليل سنشير إليه وباقيها لا ينبغي لأحد منكم أن يلتفت إليها
14

سورة البقرة
اعلمواوفقكم الله أن علماءنا قالوا إن هذه السورة من أعظم سور القرآن سمعت بعض أشياخي يقول فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر
ولعظيم فقهها أقام عبد الله بن عمر ثماني سنين في تعلمها وقد أوردنا ذلك عليكم مشروحا في الكتاب الكبير في أعوام وليس في فضلها حديث صحيح إلا من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر وإن البيت الذي تقرأ في سورة البقرة لا يدخله شيطان خرجه الترمذي
وعدم الهدى وضعف القوى وكلب الزمان على الخلق بتعطيلهم وصرفهم عن الحق
والذي حضر الآن من أحكامها في هذا المجموع تسعون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (الذين يؤمنون بالغيب) *) [الآية 3]
فيها مسألتان
المسألة الأولى (* (يؤمنون) *))
قد بينا حقيقة الإيمان في كتب الأصول ومنها تؤخذ
المسألة الثانية حقيقة الغيب واختلاف العلماء فيه
قوله (* (بالغيب) *) وحقيقته ما غاب عن الحواس مما لا يوصل إليه إلا بالخبر دون النظر فافهموه
15

وقد اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال
الأول ما ذكرناه كوجوب البعث ووجود الجنة ونعيمها وعذابها والحساب
الثاني بالقدر
الثالث بالله تعالى
الرابع يؤمنون بقلوبهم الغائبة عن الخلق لا بألسنتهم التي يشاهدها الناس معناه ليسوا بمنافقين
وكلها قوية إلا الثاني والثالث فإنه يدرك بصحيح النظر فلا يكون غيبا حقيقة وهذا الأوسط وإن كان عاما فإن مخرجه على الخصوص
والأقوى هو الأول أنه الغيب الذي أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول والإيمان بالقلوب الغائبة عن الخلق ويكون موضع المجرور على هذا رفعا وعلى التقدير الأول يكون نصبا كقولك مررت بزيد
ويجوز أن يكون الأول مقدرا نصبا كأنه يقول جعلت قلبي محلا للإيمان وذلك الإيمان بالغيب عن الخلق
وكل هذه المعاني صحيحة لا يحكم له بالإيمان ولا بحمى الذمار ولا يوجب له الاحترام إلا باجتماع هذه الثلاث فإن أخل بشيء منها لم يكن له حرمة ولا يستحق عصمة
الآية الثانية
قوله تعالى (* (ويقيمون الصلاة) *) [الآية 3]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال علماؤنا في ذكر الصلاة في هذه الآية قولان
16

أحدهما أنها مجملة وأن الصلاة لم تكن معروفة عندهم حتى بينها النبي صلى الله عليه وسلم
الثاني أنها عامة في متناول الصلاة حتى خصها النبي صلى الله عليه وسلم بفعله المعلوم في الشريعة
وقد استوفينا القول في ذلك عند ذكر أصول الفقه
والصحيح عندي أن كل لفظ عربي يرد مورد التكليف في كتاب الله عز وجل مجمل موقوف بيانه على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون معناه محدودا لا يتطرق إليه اشتراك فإن تطرق إليه اشتراك واستأثر الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم قبل بيانه فإنه يجب طلب ذلك في الشريعة على مجمله فلا بد أن يوجد ولو فرضنا عدمه لارتفع التكليف به وذلك تحقق في موضعه
وقد قال عمر رضي الله عنه في دون هذا أو مثله ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيها عهدا ننتهي إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا
فتبين من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به وفرض عليه الصلاة ونزل سحرا جاءه جبريل عليه السلام عند صلاة الظهر فصلى به وعلمه ثم وردت الآيات بالأمر بها والحث عليها فكانت واردة بمعلوم على معلوم وسقط ما ظنه هؤلاء من الموهوم
المسألة الثانية (* (ويقيمون) *))
فيه قولان
الأول يديمون فعلها في أوقاتها من قولك شيء قائم أي دائم
والثاني معناه يقيمونها بإتمام أركانها واستيفاء أقوالها وأفعالها وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع
الآية الثالثة
قوله تعالى (ومما رزقناهم ينفقون) [الآية 3]
17

فيها مسألتان
المسألة الأولى في اشتقاق النفقة
وهي عبارة عن الإتلاف ولتأليف نفق في لسان العرب معان أصحها الإتلاف وهو المراد هاهنا يقال نفق الزاد ينفق إذا فني وأنفقه صاحبه أفناه وأنفق القوم فني زادهم ومنه قوله تعالى (* (إذا لأمسكتم خشية الإنفاق) *) [الإسراء 1]
المسألة الثانية في وجه هذا الإتلاف
وذلك يختلف إلا أنه لما اتصل بالمدح تخصص من إجماله جملة
وبعد ذلك التخصيص اختلف العلماء فيه على خمسة أقوال
الأول أنه الزكاة المفروضة عن ابن عباس
الثاني أنه نفقة الرجل على أهله قاله ابن مسعود
الثالث صدقة التطوع قاله الضحاك
الرابع إنه وفاء الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال ما عدا الزكاة
الخامس إن ذلك منسوخ بالزكاة
التوجيه
أما وجه من قال إنه الزكاة فنظر إلى أنه قرن بالصلاة والنفقة المقترنة [في كتاب الله تعالى] بالصلاة هي الزكاة
وأما من قال إنه النفقة على عياله فلأنه أفضل النفقة روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل عندي دينار قال أنفقه على نفسك قال عندي آخر قال أنفقه على أهلك وذكر الحديث فبدأ بالأهل بعد النفس
18

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصدقة على القرابة صدقة وصلة
وأما من قال إنه صدقة التطوع فنظر إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة فإذا جاءت بلفظ الصدقة احتملت الفرض والتطوع وإذا جاءت بلفظ الإنفاق لم يكن إلا التطوع
وأما من قال إنه في الحقوق العارضة في الأموال ما عدا الزكاة فنظر إلى أن الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضا ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها
وأما من قال إنه منسوخ فنظر إلى أنه لما كان بهذا الوجه فرضا سوى الزكاة وجاءت الزكاة المفروضة فنسخت كل صدقة جاءت في القرآن كما نسخ صوم رمضان كل صوم ونسخت الصلاة كل صلاة ونحو هذا جاء في الأثر
التنقيح
إذا تأمل اللبيب المنصف هذه التوجيهات تحقق أن الصحيح المراد بقوله (* (يؤمنون بالغيب) *) كل غيب أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كائن
وقوله (* (ويقيمون الصلاة) *) عام في كل صلاة فرضا كانت أو نفلا
وقوله (* (ومما رزقناهم ينفقون) *) عام في كل نفقة وليس في قوة هذا الكلام القضاء بفرضية ذلك كله وإنما علمنا الفرضية في الإيمان والصلاة والنفقة من دليل آخر وهذا القول بمطلقه يقتضي مدح ذلك كله خاصة كيفما كانت صفته
19

الآية الرابعة
قوله تعالى (* (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) *) [الآية 8]
المراد بهذه الآية
المراد بهذه الآية وما بعدها المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأسروا الكفر واعتقدوا أنهم يخدعون الله تعالى وهو منزه عن ذلك فإنه لا يخفى عليه شيء وهذا دليل على أنهم لم يعرفوه ولو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع وقد تكلمنا عليه في موضعه
والحكم المستفاد هاهنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين مع علمه بهم وقيام الشهادة عليهم أو على أكثرهم
اختلاف العلماء في سبب عدم قتل المنافقين
واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال
الأول أنه لم يقتلهم لأنه لم يعلم حالهم سواه وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه وإن اختلفوا في سائر الأحكام هل يحكم بعلمه أم لا
الثاني أنه لم يقتلهم لمصلحة وتألف القلوب عليه لئلا تنفر عنه
وقد أشار هو صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى فقال أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه
الثالث قال أصحاب الشافعي إنما لم يقتلهم لأن الزنديق وهو الذي يسر الكفر
20

ويظهر الإيمان يستتاب ولا يقتل
وهذا وهم من علماء أصحابه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم ولا يقول أحد إن استتابة الزنديق غير واجبة
وكان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم مع علمه بهم فهذا المتأخر من أصحاب الشافعي الذي قال إن استتابة الزنديق جائزة قال ما لم يصح قولا واحدا
وأما قول من قال إنه لم يقتلهم لأن الحاكم لا يقضي بعلمه في الحدود فقد قتل بالمجذر بن زياد بعلمه الحارث بن سويد بن الصامت لأن المجذر قتل أباه سويدا يوم بعاث فأسلم الحارث وأغفله يوم أحد الحارث فقتله فأخبر به جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقتله به لأن قتله كان غيلة وقتل الغيلة حد من حدود الله عز وجل
القول الصحيح
والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعرض عنهم تألفا ومخافة من سوء المقالة الموجبة للتنفير كما سبق من قوله وهذا كما كان يعطي الصدقة للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا لهم أجرى الله سبحانه أحكامه على الفائدة التي سنها إمضاء لقضاياه بالسنة التي لا تبديل لها
21

الآية الخامسة
قوله تعالى (* (الذي جعل لكم الأرض فراشا) *) [الآية 22]
قال أصحاب الشافعي لو حلف رجل لا يبيت على فراش ولا يستسرج سراجا فبات على الأرض وجلس في الشمس لم يحنث لأن اللفظ لا يرجع إليهما عرفا
وأما علماؤنا فبنوه على أصلهم في الإيمان أنها محمولة على النية أو السبب أو البساط التي جرت عليه اليمين فإن عدم ذلك فالعرف وبعد أن لم يكن ذلك على مطلق اللفظ في اللغة و ذلك محقق في مسائل الخلاف
والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى
وهذا عام في العبادات والمعاملات وهذا حديث غريب اجتمعت فيه فائدتان
22

إحداهما تأسيس القاعدة
والثانية عموم اللفظ في كل حكم منوي
والذي يقول إنه إن حلف ألا يفترش فراشا وقصد بيمينه الاضطجاع أو حلف ألا يستصبح ونوى ألا ينضاف إلى نور عينيه نور يعضده فإنه يحنث بافتراش الأرض والتنور بالشمس وهذا حكم جار على الأصل
الآية السادسة
قوله تعالى (* (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) *) [الآية 29]
لم تزل هذه الآية مخبوءة تحت أستار المعرفة حتى هتكها الله عز وجل بفضله لنا وقد تعلق كثير من الناس بها في أن أصل الأشياء الإباحة إلا ما قام عليه دليل بالحظر واغتر به بعض المحققين وتابعهم عليه
وقد حققناها في أصول الفقه بما الإشارة إليه أن الناس اختلفوا في هذه الآية على ثلاثة أقوال
الأول أن الأشياء كلها على الحظر حتى يأتي دليل الإباحة
الثاني أنها كلها على الإباحة حتى يأتي دليل الحظر
الثالث أن لا حكم لها حتى يأتي الدليل بأي حكم اقتضى فيها
والذي يقول بأن أصلها إباحة أو حظر اختلف منزعه في دليل ذلك فبعضهم تعلق فيه بدليل العقل ومنهم من تعلق بالشرع
والذي يقول إن طريق ذلك الشرع قال الدليل على الحكم بالإباحة قوله تعالى
23

(* (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) *) فهذا سياق القول في المسألة إلى الآية
فأما سائر الأقسام المقدمة فقد أوضحناها في أصول الفقه وبينا أنه لا حكم للعقل وأن الحكم للشرع ولكن ليس لهذه الآية في الإباحة ودليلها مدخل ولا يتعلق بها محصل
وتحقيق ذلك أن الله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم وجريانها في التقديم والتأخير بحكم الإرداة
وعاتب الله تعالى الكفار على جهالتهم بها فقال (* (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) *) [فصلت 91]
فخلقه سبحانه وتعالى الأرض وإرساؤها بالجبال ووضع البركة فيها وتقدير الأقوات بأنواع الثمرات وأصناف النبات إنما كان لبني آدم تقدمة لمصالحهم وأهبة لسد مفاقرهم فكان قوله تعالى (* (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) *) مقابلة الجملة بالجملة للتنبيه على القدرة المهيئة لها للمنفعة والمصلحة وأن جميع ما في الأرض إنما هو لحاجة الخلق والبارئ تعالى غني عنه متفضل به وليس في الإخبار بهذه العبارة عن هذه الجملة ما يقتضي حكم الإباحة ولا جواز التصرف فإنه لو أبيح جميعه جميعهم جملة منثورة النظام لأدى ذلك إلى قطع الوصائل والأرحام والتهارش في الحطام
24

وقد بين لهم طريق الملك وشرح لهم مورد الاختصاص وقد اقتتلوا وتهارشوا وتقاطعوا فكيف لو شملهم التسلط وعمهم الاسترسال وإنما يجب على الخلق إذا سمعوا هذا النداء أن يخروا سجدا شكرا لله تعالى لهذه الحرمة لحق ما ذلك من نعمه ثم يتوكفوا بعد ذلك سؤال وجه الاختصاص لكل واحد بتلك المنفعة
ونظير هذا من المتعارف بين الخلق على سبيل التقريب لتفهيم الحق ما قال حكيم لبنيه قد أعددت لكم ما عندي من كراع وسلاح ومتاع وعرض وقرض لما كان ذلك مقتضيا لتسليطهم عليه كيف شاؤوا حتى يكون منه بيان كيفية اختصاصهم
وقد قال الله سبحانه أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر يعني في الجنة فلا يصل أحد منهم إليه إلا بتبيان حظه منه وتعيين اختصاصه به
الآية السابعة
قوله تعالى (* (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *) [الآية 25]
قال علماؤنا البشارة هي الإخبار عن المحبوب والنذارة هي الإخبار بالمكروه وذلك في البشارة يقتضي أول مخبر بالمحبوب ويقتضي في النذارة كل مخبر
25

وترتب على هذا مسألة من الأحكام وذلك كقول المكلف من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر
فاتفق العلماء على أن أول مخبر له به يكون عتيقا دون الثاني
ولو قال من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر فهل يكون الثاني مثل الأول أم لا
اختلف الناس فيه فقال أصحاب الشافعي يكون حرا لأن كل واحد منهم مخبر وعند علمائنا لا يكون به حرا لأن الحالف إنما قصد خبرا يكون بشارة وذلك يختص بالأول وهذا معلوم عرفا فوجب صرف اللفظ إليه
فإن قيل فقد قال الله تعالى (* (فبشرهم بعذاب أليم) *) [آل عمران 21] فاستعمل البشارة في المكروه
فالجواب أنهم كانوا يعتقدون أنهم يحسنون وبحسب ذلك كان نظرهم للبشرى فقيل لهم بشارتكم على مقتضى اعتقادكم عذاب أليم فخرج اللفظ على ما كانوا يعتقدون أنهم محسنون وبحسب ذلك كان نظر له على الحقيقة كقوله تعالى (* (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) *) [الفرقان 24]
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) *) [الآية 27]
العهد على قسمين
26

أحدهما فيه الكفارة والآخر لا كفارة فيه فأما الذي فيه الكفارة فهو الذي يقصد به اليمين على الامتناع عن الشيء أو الإقدام عليه
وأما العهد الثاني فهو العقد الذي يرتبط به المتعاقدان على وجه يجوز في الشريعة ويلزم في الحكم إما على الخصوص بينهما وإما على العموم على الخلق فهذا لا يجوز حله ولا يحل نقضه ولا تدخله كفارة وهو الذي يحشر ناكثه غادرا ينصب له لواء بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان
وأما مالك فيقول العهد باليمين لم يجز حله لأجل العقد وهو المراد بقوله تعالى (* (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) *) [النحل 91] وهذا ما لا اختلاف فيه
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) *) [الآية 34]
اتفقت الأمة على أن السجود لآدم لم يكن سجود عبادة وإنما كان على أحد وجهين إما سلام الأعاجم بالتكفي والانحناء والتعظيم وإما وضعه قبلة كالسجود للكعبة وبيت المقدس وهو الأقوى لقوله في الآية الأخرى (* (فقعوا له ساجدين) *) [الحجر 29] ولم يكن على معنى التعظيم وإنما صدر على وجه الإلزام للعبادة واتخاذه قبلة وقد نسخ الله تعالى جميع ذلك في هذه الملة
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) *) [الآية 35]
فيها مسألتان
27

المسألة الأولى
جاء في كتاب التفسير أن إبليس حاول آدم على أكلها فلم يقدر عليه وحاول حواء فخدعها فأكلت فلم يصبها مكروه فجاءت أدم فقالت له إن الذي تكره من الأكل قد أتيته فما نالني مكروه
فلما عاين ذلك أدم اغتر فأكل فحلت بهما النقمة والعقوبة وذلك لقول الله سبحانه (* (ولا تقربا هذه الشجرة) *) فجمعهما في النهي فلذلك لم تنزل بهما العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا
واستدل بهذا بعض العلماء على أن من قال لزوجتيه أو أمتيه إن دخلتما علي الدار فأنتما طالقتان أو حرتان أن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما
وقد اختلف علماؤنا رحمة الله عليهم في ذلك على ثلاثة أقوال
فقال ابن القاسم لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدار في الدخول حملا على هذا الأصل وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ
وقال مرة أخرى تعتقان جميعا وتطلقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما لأن بعض الحنث حنث كما لو حلف ألا يأكل هذين الرغيفين فإنه يحنث بأكل أحدهما بل بأكل لقمة منهما حسبما بيناه في أصول المسائل
وقال أشهب تعتق وتطلق التي دخلت وحدها لأن دخول كل واحدة منهما شرط في طلاقها أو عتقها
وقد قال مالك في كتاب محمد بن المواز فيمن قال لزوجته إن وضعت فأنت طالق
28

وهي حامل فوضعت ولدا وبقي في بطنها آخر إنها لا تطلق حتى تضع الآخر
وقال مرة أخرى تطلق بوضع الأول
والصحيح أن اليمين إن لم يكن لها نية وبساط يقتضي ذلك من الجمع بينهما أو بساط أو نية فإن القول قول أشهب ويشبه أن يكون هذا من علمائنا اختلاف حال لا اختلاف قول فأما الحكم بطلاقهما أو عتقهما معا بدخول واحدة منهما فبعيد لأن بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا وأما [الحكم] بالحنث بأكل بعض الرغيفين فلأنه محلوف عليه وبعض الحنث حنث حقيقة لأن الاجتناب الذي عقده لا يوجد منه
المسألة الثانية
قوله تعالى (* (هذه الشجرة) *)
اختلف الناس كيف أكل آدم من الشجرة على خمسة أقوال
الأول أنه أكلها سكران قاله سعيد بن المسيب
الثاني أنه أكل من جنس الشجرة لا من عينها كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر وهي أول معصية عصى الله بها على هذا القول فاجتنبوه فإن في اتباع الظاهر على وجهه هدم الشريعة حسبما بيناه في غير ما موضع وخصوصا في كتاب النواهي عن الدواهي
29

الثالث أنه حمل النهي على التنزيه دون التحريم
الربع أنه أكل متأولا لرغبة الخلد ولا يجوز تأويل ما يعود على المتأول بالإسقاط
الخامس أنه أكل ناسيا
فأما القول الأول بأنه أكلها سكران فتعلق به بعض الناس في أن أفعال السكران معتبرة في الأحكام والعقوبات وأنه لا يعذر في فعل بل يلزمه حكم كل فعل كما يلزم الصاحي كما الزم الله تعالى آدم حكم الخلاف في المعصية مع السكر
وقد اختلف علماؤنا في أفعال السكران على ثلاثة أقوال
أحدهما أنها معتبرة
الثاني أنها لغو
الثالث أن العقود غير معتبرة كالنكاح وأن الحل معتبر كالطلاق
ولذا إذا أكل من جنسها فدليل على أنه إذا حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث
وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا لا حنث عليه وقال مالك وأصحابه إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره وعليه حملت قصة آدم فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد به جنسها فحمل القول على اللفظ دون المعنى كما تقدم
وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين
فقال في الكتاب إنه يحنث لأنها هكذا تؤكل
30

وقال ابن المواز لا شيء عليه لأنه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزا فراعى الاسم والصفة
ولو قال في يمينه لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها
وأما حمل النهي على التنزيه فهي وإن كانت مسألة من أصول الفقه وقد بيناها في موضعها فقد سقط ذلك هاهنا فيها لقوله تعالى (* (فتكونا من الظالمين) *) فقرن النهي بالوعيد ولا خلاف مع ذلك فيه وكيف يصح أن يقال له لا تأكلها فتكون من الظالمين ويرجو أن يكون من الخالدين
وأما قوله إنه أكلها ناسيا فسيأتي في سورة طه إن شاء الله تعالى
التنقيح
أما القول بأن آدم أكلها سكران ففاسد نقلا وعقلا أما النقل فلأن هذا لم يصح بحال وقد نقل عن ابن عباس أن الشجرة التي نهي عنها الكرم فكيف ينهى عنها ويوقعه الشيطان فيها وقد وصف الله خمر الجنة بأنها لا غول فيها فكيف توصف بغير صفتها التي أخبر الله تعالى بها عنها في القرآن
وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوة منزهون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم
وأما سائر التوجيهات فمحتملة وأظهرها الثاني والله أعلم
31

الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) *)
روي أنه لما أكل آدم من الشجرة سلخ عن كسوته وخلع من ولايته وحط عن مرتبته فلما نظر إلى سوأته منكشفة قطع الورق من الثمار وسترها
وهذا هو نص القرآن
وفي ذلك مسألتان
المسألة الأولى بأي شيء سترها
فقالت طائفة سترها بعقله حين رأى ذلك من نفسه منكشفا منهم القدرية وبه قال أقضى القضاة الماوردي
ومنهم من قال إنه سترها استمرارا على عادته
ومنهم من قال إنما سترها بأمر الله
فأما من قال إنه سترها بعقله فإنه بناها على أن العقل يوجب ويحظر ويحسن
32

ويقبح وهو جهل عظيم بيناه في أصول الفقه وقد وهي أقضى القضاة في ذلك إلا أنه يحتمل أنه سترها من ذات نفسه من غير أن يوجب ذلك عليه شيء فيرجع ذلك إلى القول الثاني أنه سترها عادة
وأما من قال إنه سترها بأمر الله فذلك صحيح لا شك فيه لأن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام علمه الأسماء وعرفه الأحكام فيها وأسجل له بالنبوة ومن جملة الأحكام ستر العورة
المسألة الثانية ممن سترها
ولم يكن معه إلا أهله الذين ينكشف عليهم وينكشفون عليه وقد قدمنا في مسائل الفقه وشرح الحديث وجوب ستر العورة وأحكامها [ومحلها] ويحتمل أن يكون آدم سترها من زوجه بأمر جازم في شرعه أو بأمر ندب كما هو عندنا
ويحتمل أن يكون ما رأى سترها إلا لعدم الحاجة إلى كشفها لأنه كان من شرعه أنه لا يكشفها إلا للحاجة
ويجوز أنه كان مأمورا بسترها في الخلوة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسترها في الخلوة وقال الله أحق أن يستحى منه وذلك مبين في موضعه
وبالجملة فإن آدم لم يأت من ذلك شيئا إلا بأمر من الله لا بمجرد عقل إذ قد بينا فساد اقتضاء العقل لحكم شرعي
33

الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) *) [الآية 43]
كان من أمر الله سبحانه بالصلاة والزكاة والركوع أمر بمعلوم متحقق سابق للفعل بالبيان وخص الركوع لأنه كان أثقل عليهم من كل فعل
وقيل إنه الانحناء لغة وذلك يعم الركوع والسجود وقد كان الركوع أثقل شيء على القوم في الجاهلية حتى قال بعض من أسلم للنبي صلى الله عليه وسلم على ألا أخر إلا قائما فمن تأوله على ألا أركع فلما تمكن الإسلام من قلبه اطمأنت بذلك نفسه
ويحتمل أن يكونوا أمروا بالزكاة لأنها معلومة في كل دين من الأديان فقد قال الله تعالى مخبرا عن إسماعيل عليه السلام (* (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا) *) [مريم 55] ثم بين لهم مقدار الجزء الذي يلزم بذله من المال
والزكاة مأخوذة من النماء يقال زكاة الزرع إذا نما ومأخوذة من الطهارة يقال زكاة الرجل إذا تطهر عن الدناءات
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) *) [الآية 59]
قال بعض علمائنا قيل لهم قولوا حطة فقالوا سقماثاه أزه هذبا معناه حبة مقلوة في شعرة مربوطة استخفافا منهم بالدين ومعاندة للنبي صلى الله عليه وسلم والحق
وقد قال بعض من تكلم في القرآن إن هذا الذم يدل على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها لا يجوز
34

وهذا الإطلاق فيه نظر وسبيل التحقيق فيه أن نقول إن الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو يقع التعبد بمعناها فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها وإن وقع التعبد بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه ولكن لا تبديل إلا باجتهاد
ومن المستقل بالمعنى المستوفى لذلك العالم بأن اللفظين الأول والثاني المحمول عليه طبق المعنى وبنو إسرائيل قيل لهم قولوا حطة أي اللهم احطط عنا ذنوبنا فقالوااستخفافا حبة مقلوة في شعرة [فبدلوه بما لا يعطى معناه]
ولو بدلوه بما لا يعطى معناه جدا لم يجز فهذا أعظم في الباطل وهو الممنوع المذموم منهم
ويتعلق بهذا المعنى نقل الحديث بغير لفظه إذا أدى معناه وقد اختلف الناس في ذلك فالمروي عن واثلة بن الأسقع جوازه قال ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ننقله إليكم بلفظه حسبكم المعنى
وقد بينا في أصول الفقه وأذكر لكم فيه فصلا بديعا وهو أن هذا الخلاف إنما يكون في عصر الصحابة ومنهم وأما من سواهم فلا يجوز لهم تبديل اللفظ بالمعنى وإن استوفى ذلك المعنى فإنا لو جوزناه لكل أحد لما كنا على ثقة من الأخذ بالحديث إذ كل أحد إلى زماننا هذا قد بدل ما نقل وجعل الحرف بدل الحرف فيما رواه فيكون خروجا من الإخبار بالجملة والصحابة بخلاف ذلك فإنهم اجتمع فيهم أمران عظيمان
أحدهما الفصاحة والبلاغة إذ جبلتهم عربية ولغتهم سليقة
35

والثاني أنهم شاهدوا قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله فأفادتهم المشاهدة عقل المعنى جملة واستيفاء المقصد كله وليس من أخبر كمن عاين
ألا تراهم يقولون في كل حديث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا ولا يذكرون لفظه وكان ذلك خبرا صحيحا ونقلا لازما وهذا لا ينبغي أن يستريب فيه منصف لبيانه
الآية الرابعة عشرة
قوله سبحانه (* (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) *) [الآية 67]
هذه الآية عظيمة الموقع مشكلة في النظر لتعلقها بالأصول ومن الفروع بالكلام في الدم وفي كل فصل إشكال وذلك ينحصر في خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب ذلك
روي عن بني إسرائيل أنه كان فيها من قتل رجلا غيلة بسبب مختلف فيه وطرحه بين قوم وكان قريبه فادعى به عليهم وترافعوا إلى موسى عليه السلام فقال له القاتل قتل قريبي هذا هؤلاء القوم وقد وجدته بين أظهرهم فانتفوا من ذلك وسألوا موسى عليه السلام أن يحكم بينهم برغبة إلى الله تعالى في تبيين الحق لهم فدعا موسى عليه السلام ربه تعالى فأمرهم بذبح بقرة وأخذ عضومن أعضائها يضرب به الميت فيحيا فيخبرهم بقاتله فسألوا عن أوصافها وشددوا فشدد الله سبحانه عليهم حتى انتهوا إلى صفتها المذكورة في القرآن فطلبوا تلك البقرة فلم يجدوها إلا عند رجل بر بأبويه أو بأحدهما فطلب منهم فيها مسكها مملوءا ذهبا فبذلوه فيها فاستغنى ذلك الرجل بعد فقره وذبحوها فضربوه ببعضها فقال فلان قتلني لقاتله
36

المسألة الثانية في الحديث عن بني إسرائيل
كثر استرسال العلماء في الحديث عنهم في كل طريق وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج
ومعنى هذا الخبر الحديث عنهم بما يخبرون به عن أنفسهم وقصصهم لا بما يخبرون به عن غيرهم لأن أخبارهم عن غيرهم مفتقرة إلى العدالة والثبوت إلى منتهى الخبر وما يخبرون به عن أنفسهم فيكون من باب إقرار المرء على نفسه أو قومه فهو أعلم بذلك
وإذا أخبروا عن شرع لم يلزم قوله ففي رواية مالك عن عمر رضي الله عنه أنه قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمسك مصحفا قد تشرمت حواشيه فقال ما هذا قلت جزء من التوراة فغضب وقال والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي
المسألة الثالثة أخبرهم سبحانه في هذه القصة عن حكم جرى في زمن موسى عليه السلام هل يلزمنا حكمه أم لا
37

اختلف الناس في ذلك والمسألة تلقب بأن شرع من قبلنا من الأنبياء هل هو شرع لنا حتى يثبت نسخة أم لا في ذلك خمسة أقوال
الأول أنه شرع لنا ولنبينا لأنه كان متعبدا بالشريعة معنا وبه قال طوائف من المتكلمين وقوم من الفقهاء واختاره الكرخي ونص عليه ابن بكير القاضي من علمائنا
وقال القاضي عبد الوهاب هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه وإليه ميل الشافعي رحمه الله
الثاني أن التعبد وقع بشرع إبراهيم عليه السلام واختاره جماعة من أصحاب الشافعي
الثالث أنا تعبدنا بشرع موسى عليه السلام
الرابع أنا تعبدنا بشرع عيسى عليه السلام
الخامس أنا لم نتعبد بشرع أحد ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بملة بشر وهذا الذي اختاره القاضي أبو بكر
وما من قول من هذه الأقوال إلا وقد نزع فيه بآية وتلا فيها من القرآن حرفا وقد مهدنا ذلك في أصول الفقه وبينا أن الصحيح القول بلزوم شرع من قبلنا لنا مما أخبرنا به
نبينا صلى الله عليه وسلم عنهم دون ما وصل إلينا من غيره لفساد الطرق إليهم وهذا هو
38

صريح مذهب مالك في أصوله كلها وستراها مورودة بالتبيين حيث تصفحت المسائل من كتابنا هذا أو غيره
ونكتة ذلك أن الله تعالى أخبرنا عن قصص النبيين فما كان من آيات الإزدجار وذكر الاعتبار ففائدته الوعظ وما كان من آيات الأحكام فالمراد به الامتثال له والاقتداء به
قال ابن عباس رضي الله عنه قال الله تعالى (* (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) *) [الأنعام 9]
فنبينا صلى الله عليه وسلم ممن أمر أن يقتدي بهم وبهذا يقع الرد على ابن الجويني حيث قال إن نبينا لم يسمع قط أنه رجع إلى أحد منهم ولا باحثهم عن حكم ولا استفهمهم فإن ذلك لفساد ما عندهم أما الذي نزل به عليه الملك فهو الحق المفيد للوجه الذي ذكرناه ولا معنى له غيره
المسألة الرابعة
لما ضرب بنو إسرائيل الميت بتلك القطعة من البقرة قال دمي عند فلان فتعين قتله وقد استدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه على صحة القول بالقسامة بقول المقتول دمي عند فلان بهذا وقال مالك هذا مما يبين أن قول الميت دمي عند فلان مقبول ويقسم عليه
فإن قيل كان هذا آية ومعجزة على يدي موسى صلى الله عليه وسلم لبني إسرائيل
39

قلنا الآية والمعجزة إنما كانت في إحياء الميت فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الآدميين كلهم في القبول والرد وهذا فن دقيق من العلم لا يتفطن له إلا مالك ولقد حققناه في كتاب المقسط في ذكر المعجزات وشروطها
فإن قيل فإنما قتله موسى صلى الله عليه وسلم بالآية
قلنا ليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقة فلما أمرهم بالقسامة معه أو صدقة جبريل فقتله موسى بعلمه كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن سويد بالمجذر بن ذياد بإخبار جبريل عليه السلام له بذلك حسبما تقدم وهي مسألة خلاف كبرى قد بيناها في موضعها
وروى مسلم وفي الموطأ وغيره حديث حويصة ومحيصة قال فيه فتكلم محيصة فقال يا رسول الله وذكره إلى قوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم
وفي مسلم يحلف خمسون رجلا منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته
وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قتل رجلا بالقسامة من بني نصر بن مالك وقال الدارقطني نسخة عمرو بن شعيب عن
40

أبيه عن جده صحيحة وقد بينا ذلك في أصول الفقه واستبعد ذلك البخاري والشافعي وجماعة من العلماء وقالوا كيف يقبل قوله في الدم وهو لا يقبل قوله في درهم
وإنما تستحق بالقسامة الدية وقد أحكمنا الجواب والاستدلال في موضعه ونشير إليه الآن بوجهين
أحدهما أن السنة هي التي تمضي وترد لا اعتراض عليها ولا تناقض فيها وقد تلونا أحاديثها
الثاني أنه مع أن قوله لا يقبل في درهم قد قلتم إن قتيل المحلة يقسم فيه على الدية وليس هنالك قول لأحد وإنما هي حالة محتملة للتأويل والحق والباطل إذ يجوز أن يقتله رجل ويجعله عند دار آخر بل هذا هو الغالب من أفعالهم وباقي النظر في مسائل الخلاف وشرح الحديث مستطر
المسألة الخامسة
في هذه الآية دليل على حصر الحيوان في المعين بالصفة خلافا لأبي حنيفة حيث يقول لا يحصر الحيوان بصفة ولا يتعين بحلية
قال ابن عباس لو أن بني إسرائيل لما قيل لهم اذبحوا بقرة بادروا إلى أي بقرة كانت فذبحوها لأجزأ ذلك عنهم وامتثلوا ما طلب ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم فما زالوا يسألون ويوصف لهم حتى تعينت وهذا كلام صحيح ودليل مليح والله أعلم
41

الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) *) [الآية 12]
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى
ذكر الطبري وغيره في قصص هذه الآية أن سليمان صلى الله عليه وسلم كان له امرأة يقال لها الجرادة تكرم عليه ويهواها فاختصم أهلها مع قوم فكان صغو سليمان عليه السلام إلى أن يكون الحكم لأهل الجرادة فعوقب وكان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يخلو بإحدى نسائه أعطاها خاتمه ففعل ذلك يوما فألقى الله تعالى صورته على شيطان فجاءها فأخذ الخاتم فلبسه ودانت الجن والإنس له وجاء سليمان عليه السلام بعد ذلك يطلبه فقالت ألم تأخذه فعلم أنه ابتلي وعلمت الشياطين أن ذلك لا يدوم لها فاغتنمت الفرصة فوضعت أوضاعا من السحر والكفر وفنونا من النيرجات وسطروها في مهارق وقالوا هذا ما كتب آصف بن برخيا كاتب نبي
42

الله سليمان فدفنوها تحت كرسيه وعاد سليمان إلى حاله واستأثر الله تعالى به فقالت الشياطين للناس إنما كان سليمان يملككم بأمور أكثرها تحت كرسيه فيها علوم غريبة
فدونكم فاحتفروا عليها ففعلوا واستثاروها فنفذ عليهم القضاء فصار في أيديهم وتناقلته الكفرة والفلاسفة عنهم حتى وصل ذلك إلى يهود الحجاز فكانوا يعملونه ويعلمونه ويصرفونه في حوائجهم ومعايشهم وكانوا بين جاهلية جهلاء وأمة عمياء فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ونور القلوب وكشف قناع الألباب لجأت اليهود إلى أن تعلق ما كان عندها من ذلك لسليمان عليه السلام وتزعم أنه مما نزل به جبريل وميكائيل عليهما السلام على سليمان صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قد حمل قوما قبل البعث على أن يتبرأوا من سليمان عليه السلام فأنزل الله تعالى الآية
المسألة الثانية
هذا الذي ذكرنا آنفا مما فيه الحرج في ذكره عن بني إسرائيل لما قدمناه من أنه إنما أذن لنا أن نتحدث عنهم في حديث يعود إليهم وما كنا لنذكر هذا لولا أن الدواوين قد شحنت به
أما قولهم إن سليمان كان صغوه صحة الحكم لقوم الجرادة فباطل قطعا لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يجوز ذلك عليهم إجماعا فإنهم معصومون عن الكبائر باتفاق
وأما قولهم بأن شيطانا تصور في صورة ملك أو نبي فأخذ الخاتم فباطل قطعا لأن الشياطين لا تتصور على صور الأنبياء وقد بينا ذلك مبسوطا في كتاب النبي
وأما دفنها تحت كرسي سليمان عليه السلام فيمكن ألا يعلم بذلك وتبقى حتى يفتتن بها الخلق بعده
وقد روي أن سليمان عليه الصلاة والسلام أخذها ودفنها تحت كرسيه وذلك مما
43

لا يجوز عليه وأنه لم يكن سحرا أما لو علم أنها سحر فحقها أن تحرق أو تغرق ولا تبقى عرضة للنقل والعمل
المسألة الثالثة
قوله تعالى (* (واتبعوا) *)
قيل يهود زمان سليمان وقيل يهود زماننا واللفظ فيهم عام ولجميعهم محتمل وقد كان الكل منهم متبعا لهذا الباطل
المسألة الرابعة
قوله تعالى (* (ما تتلوا الشياطين) *)
اختلف الناس في حرف ما فمنهم من قال إنه نفي ومنهم من قال إنه مفعول وهو الصحيح
ولا وجه لقول من يقول إنه نفي لا في نظام الكلام ولا في صحة المعنى ولا يتعلق من كونه مفعولا سياق الكلام بمحال عقلا ولا يمتنع شرعا وتقريره واتبع اليهود ما تلته الشياطين من السحر على ملك سليمان أي نسبته إليه وأخبرت به عنه كقوله تعالى (* (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) *) [الحج 52] أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته ما لم يلقه النبي يحاكيه ويلبس على السامعين به حسبما بيناه
وما كفر سليمان قط ولا سحر ولكن الشياطين كفروا بسحرهم وأنهم يعلمونه الناس ومعتقد الكفر كافر وقائله كافر ومعلمه كافر ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ومما كان الملكان يعلمان أحدا حتى يقولا (* (إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) *)
44

فإن قيل وهي المسألة الخامسة
كيف أنزل الله تعالى الباطل والكفر
قلنا كل خير أو شر أو طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر منزل من عند الله تعالى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح ماذا فتح الليلة من الخزائن ماذا أنزل الله تعالى من الفتن أيقظوا صواحب الحجر رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة فأخبر عليه السلام عن نزول الفتن على الخلق
المسألة السادسة
فإن قيل وكيف نزل الكفر على الملكين وهم يفعلون ما يؤمرون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون فأنى يصح أن يتكلموا بالكفر ويعلموه
قلنا هذا الذي أشكل على بعضهم حتى روي عن الحسن أنه قرأ الملكين بكسر اللام وروي أنه كان ببابل علجان وقد بلغ التغافل أو الغفلة ببعضهم حتى قال إنما هما داود وسليمان
وتأول الآية (* (وما أنزل على الملكين) *) أي في أيامهما
وقوله تعالى (* (وما يعلمان من أحد) *) يعني الشياطين
وقد روى المفسرون عن نافع قال قال لي ابن عمر أطلعت الحمراء قلت طلعت قال لا مرحبا بها ولا أهلا وأراه لعنها قلت سبحان الله نجم مسخر مطيع تلعنه قال ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الملائكة عجت من معاصي بني آدم في الأرض فقالت يا رب كيف
45

صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب فأعلمهم الله سبحانه أنهم لو كانوا مكانهم ويحل الشيطان من قلوبهم محله من بني آدم لعملوا بعملهم وقد أعطيت بني آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني قالت الملائكة ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات وابتليتنا لحكمنا بالعدل وما عصيناك
فأمرهم سبحانه أن يختاروا منهم ملكين من أفضلهم فتعرض لذلك هاروت وماروت وقالا نحن ننزل وأعطنا الشهوات وكلفنا الحكم بالعدل
فنزلا ببابل فكانا يحكمان حتى إذا أمسيا عرجا إلى مكانهما ففتنا بامرأة حاكمت زوجها اسمها بالعربية الزهرة وبالنبطية بيرخت وبالفارسية اقاهيد فقال أحدهما لصاحبه إنها لتعجبني قال له الآخر لقد أردت أن أقول لك ذلك فهل لك في أن تعرض لها قال له الآخر كيف بعذاب الله قال إنا لنرجو رحمة الله فطلباها في نفسها قالت لا حتى تقضيا لي على زوجي فقضيا لها وقصداها وأرادا مواقعتها فقالت لهما لا أجيبكما لذلك حتى تعلماني كلاما أصعد به إلى السماء وأنزل به منها فأخبراها فتكلمت فصعدت إلى السماء فمسخها الله تعالى كوكبا فلما أرادا أن يصعدا لم يطيقا فأيقنا بالهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا فعلقا ببابل فجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر
ويقال كانت الملائكة قبل ذلك يستغفرون للذين آمنوا فلما وقعا في الخطيئة استغفروا لمن في الأرض
قال القاضي وإنما سقنا هذا الخبر لأن العلماء رووه ودونوه فخشينا أن يقع لمن يضل به
وتحقيق القول فيه أنه لم يصح سنده ولكنه جائز كله في العقل لو صح في النقل وليس بممتنع أن تقع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه وتخلق فيهم الشهوات فإن هذا لا ينكره إلا رجلان أحدهما جاهل لا يدري الجائز من المستحيل والثاني من شم ورد الفلاسفة فرآهم يقولون إن الملائكة روحانيون وإنهم لا تركيب فيهم وإنما هم بسائط وشهوات الطعام والشراب والجماع لا تكون
46

إلا في المركبات من الطبائع الأربع وهذا تحكم في القولين من وجهين
أحدهما أنهم أخبروا عن الملائكة وكيفيتهم بما لم يعاينوه ولا نقل إليهم ولا دل دليل العقل عليه
والثاني أنهم أحالوا على البسيط أن يتركب وذلك عندنا جائز بل يجوز عندنا بلا خلاف أن يأكل البسيط ويشرب ويطأ ولا يوجد من المركب شيء من ذلك وهذا الذي اطرد في البسيط من عدم الغذاء وفي المركب من وجود الغذاء عادة إلا أنه غاية القدرة وقد مكنا القول في ذلك ومهدناه في الأصول وخبر الله تعالى عنهم بأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ويفعلون ما يؤمرون صدق لا خلاف فيه لكنه خبر عن حالهم وهي ما يجوز أن تتغير فيكون الخبر عنها بذلك أيضا وكل حق صدق لا خلاف فيه
وقد قال علماؤنا إنه خبر عام يجوز أن يدخله التخصيص وهذا صحيح أيضا وقد روى سنيد في تفسيره أنه دخل إليهما في مغارهما وكلما وتعلم منهما في زمن الإسلام وليس التعلم منهما إلا سماع كلامهما وهما إذا تكلما إنما يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر أي لا تجعل ما تسمع منا سببا للكفر كما جعل السامري ما اطلع عليه من أثر فرس جبريل سببا لاتخاذ العجل إلها من دون الله
وفي هذا من العبرة الخشية من سوء العاقبة والخاتمة وعدم الثقة بظاهر الحالة والخوف من مكر الله تعالى فهذا بلعام في الآدميين كهاروت وماروت في الملائكة المقربين فأنزلوا كل فن في مرتبته وتحققوا مقداره في درجته حسبما رويناه ولا تذهلوا عن بعضه فتجهلوا جميعه
47

المسألة السابعة
قوله تعالى (* (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) *)
وقد أوردنا في كتاب المشكلين القول في السحر وحقيقته ومنتهى العمل به على وجه يشفي الغليل وبينا أن من أقسامه فعل ما يفرق به بين المرء وزوجه ومنه ما يجمع بين المرء وزوجه ويسمى التولة وكلاهما كفر والكل حرام كفر قاله مالك
وقال الشافعي السحر معصية إن قتل بها الساحر قتل وإن أضر بها أدب على قدر الضرر
وهذا باطل من وجهين
أحدهما أنه لم يعلم السحر وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى وتنسب إليه فيه المقادير والكائنات
والثاني أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر لأنه تعالى قال (* (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) *) من السحر وما كفر سليمان بقول السحر ولكن الشياطين كفروا به وبتعليمه وهاروت وماروت يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر وهذا تأكيد للبيان
المسألة الثامنة
قوله تعالى (* (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) *)
48

يعني بحكمه وقضائه لا بأمره لأن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها وقد مهدنا ذلك في موضعه
المسألة التاسعة
قوله تعالى (* (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) *)
هم يعتقدون أنه نفع لما يتعجلون به من بلوغ الغرض وحقيقته مضرة لما فيه من عظيم سوء العاقبة وحقيقة الضرر عند أهل السنة كل ألم لا نفع يوازيه وحقيقة النفع كل لذة لا يتعقبها عقاب ولا تلحق فيه ندامة والضرر وعدم المنفعة في السحر متحقق
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا) *) [الآية 14]
كانت اليهود تأتي النبي صلى الله عليه وسلم فتقول يا أبا القاسم راعنا توهم أنها تريد الدعاء من المراعاة وهي تقصد به فاعلا من الرعونة
وروي أن المسلمين كانوا يقولون راعنا من الرعي فسمعتهم اليهود فقالوا يا راعنا كما تقدم فنهى الله تعالى المسلمين عن ذلك لئلا يقتدي بهم اليهود في اللفظ ويقصدوا المعنى الفاسد منه
وهذا دليل على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعرض للتنقيص والغض ويخرج منه فهم التعريض بالقذف وغيره
وقال علماؤنا بأنه ملزم للحد خلافا للشافعي وأبي حنيفة حيث قالا إنه قول محتمل للقذف وغيره والحد مما يسقط بالشبهة
49

ودليلنا أنه قول يفهم منه القذف فوجب فيه الحد كالتصريح
وقد يكون في بعض المواضع أبلغ من التصريح في الدلالة على المراد وإنكار ذلك عناد وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف
الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) *) [الآية 114]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى فيمن نزلت
فيه أربعة أقوال
الأول أنه بخت نصر
الثاني أنهم مانعو بيت المقدس من النصارى اتخذوه كظامة
والثالث أنه المسجد الحرام عام الحديبية
الرابع أنه كل مسجد وهو الصحيح لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع فتخصيصه ببعض المساجد أو بعض الأزمنة محال فإن كان فأمثلها الثالث
المسألة الثانية فائدة الآية
فائدة هذه الآية تعظيم أمر الصلاة فإنها لما كانت أفضل الأعمال وأعظمها أجرا
50

كان منعها أعظم إثما وإخراب المساجد تعطيل هلا وقطع بالمسلمين في إظهار شعائرهم وتأليف كلمتهم
المسألة الثالثة
إن قوله تعالى (* (مساجد الله) *) يقتضي أنها لجميع المسلمين عامة الذين يعظمون الله تعالى وذلك حكمها بإجماع الأمة على أن البقعة إذا عينت للصلاة خرجت عن جملة الأملاك المختصة بربها فصارت عامة لجميع المسلمين بمنفعتها ومسجديتها فلو بنى الرجل في داره مسجدا وحجزه عن الناس واختص به لنفسه لبقي على ملكه ولم يخرج إلى حد المسجدية ولو أباحه للناس كلهم لكان حكمه حكم سائر المساجد العامة وخرج عن اختصاص الأملاك
المسألة الرابعة
قوله تعالى (* (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) *)
يعني إذا استولى عليها المسلمون وحصلت تحت سلطانهم فلا يتمكن الكافر حينئذ من دخولها يعني إن دخلوها فعلى خوف من إخراج المسلمين لهم منها وإذ يتهم على دخولها وهذا يدل على أنه ليس للكافر دخول المسجد بحال وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) *) [الآية 115]
51

فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك سبعة أقوال
الأول أنها نزلت في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بيت المقدس ثم عاد فصلى إلى الكعبة فاعترضت عليه اليهود فأنزلها الله تعالى له كرامة وعليهم حجة قاله ابن عباس
الثاني أنها نزلت في تخيير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليصلوا حيث شاؤوا من النواحي قاله قتادة
الثالث أنها نزلت في صلاة التطوع يتوجه المصلي في السفر إلى حيث شاء فيها راكبا قاله ابن عمر
الرابع أنها نزلت فيمن صلى الفريضة إلى غير القبلة في ليلة مظلمة قاله عامر بن ربيعة
الخامس أنها نزلت في النجاشي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل إلى قبلتنا قاله قتادة
السادس أنها نزلت في الدعاء
السابع أن معناها أينما كنتم وحيثما كنتم من مشرق أو مغرب فلكم قبلة واحدة تستقبلونها
قال القاضي هذه الأقوال السبعة لقائليها تحتمل الآية جميعها فأما قول ابن عباس فيشهد له قوله سبحانه وتعالى (* (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب) *) [البقرة 142]
52

وأما قول ابن عمر فسند صحيح وهو قوي في النظر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحرم في السفر على الراحلة مستقبل القبلة ثم يصلي حيث توجهت به بقية الصلاة وهو صحيح
وأما قول عامر بن ربيعة فقد أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه وإن كان المصنفون قد رووه
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال أبو حنيفة ومالك تجزئه بيد أن مالكا رأى عليه الإعادة في الوقت استحبابا
وقال المغيرة والشافعي لا يجزئه لأن القبلة شرط من شروط الصلاة فلا ينتصب الخطأ عذرا في تركها كالماء الطاهر والوقت
وما قاله مالك أصح لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المسايفة وتبيحها أيضا الرخصة حالة السفر فكانت حالة عذر أشبه بها لأن الماء الطاهر لا يبيح تركه إلى الماء النجس ضرورة فلا يبيحه خطأ
المسألة الثانية
معنى قوله تعالى (ولله المشرق والمغرب)
أي ذلك له ملك وخلق لجواز الصلاة إليه وإضافته إليه تشريفا وتخصيصا
المسألة الثالثة
قوله تعالى (* (فثم وجه الله) *)
قيل معناه فثم الله وهذا يدل على نفي الجهة والمكان عنه تعالى لاستحالة ذلك عليه وأنه في كل مكان بعلمه وقدرته
وقيل معناه فثم قبلة الله ويكون الوجه اسما للتوجه
53

وتحقيق القول فيه أن الله تعالى أمر بالصلاة عبادة وفرض فيها الخشوع استكمالا للعبادة وألزم الجوارح السكون واللسان الصمت إلا عن ذكر الله تعالى ونصب البدن إلى جهة واحدة ليكون ذلك أنفى للحركات وأقعد للخواطر وعينت له جهة الكعبة تشريفا له
وقيل له إن الله سبحانه قبل وجهك معناه أنك قصدت التوجه إلى الله تعالى وقد عين لك هذا الصوب فهنالك تجد ثوابك وتحمد إيابك
المسألة الرابعة في تنزيل الآية على الأقوال المتقدمة
لا يخفى أن عموم الآية يقتضي بمطلقه جواز التوجه إلى جهتي المشرق والمغرب بكل حال لكن الله سبحانه خص من ذلك جواز التوجه إلى جهة بيت المقدس في وقت وإلى جهة الكعبة في حال الاختيار في الفرض والحضر فيها أيضا وبقيت على النافلة في السفر وقد تقدم بيان ذلك في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) *) [الآية 124]
الآية فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
ابتلى معناه اختبر وقد تقدم بيانه في كتاب المشكلين وبينا أن معناه أمر ليعلم من الامتثال أو التقصير [مشاهدة] ما علم غيبا وهو عالم الغيب والشهادة تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا
المسألة الثانية قوله تعالى (* (بكلمات) *) هي
جمع كلمة يرجع تحقيقها إلى كلام الباري سبحانه لكنه تعالى عبر بها عن
54

الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام ولما كان تكليفها بالكلام سميت به كما يسمى عيسى عليه السلام كلمة لأنه صدر عن الكلمة وهي كن وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز الذي بيناه في موضعه
المسألة الثالثة ما تلك الكلمات
وقد اختلف العلماء فيها اختلافا كثيرا لبابه قولان
أحدهما أنها شريعة الإسلام فأكملها إبراهيم عليه السلام قال ابن عباس وما قام أحد بوظائف الدين مثله يعني والله أعلم قبله فقد قام بها بعده كثير من الأنبياء وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم
الثاني انها الفطرة التي أوعز الله تعالى بها إليه ورتبها عليه وروت عائشة رضي الله عنها في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم وحلق العانة ونتف الإبط وانتقاص الماء ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة
وروى عمار بن ياسر الحديث وقال المضمضة والاستنشاق وزاد الختان وذكر الانتضاح بدل انتقاص الماء
وقد قال بعض علمائنا إن معنى قوله هنا من الفطرة يعني من السنة وأنا أقول إنها من الملة وقد روي أن إبراهيم ابتلي بها فرضا وهي لنا سنة والذي
55

يصح أن إبراهيم عليه السلام ابتلي بها تكليفا غير معين من الفرض أو الندب في جميعها أو انقسام الحال فيها
وقد اتفقت الأمة على أنها من الملة واختلفوا في مراتبها فأما قص الشارب وإعفاء اللحية فمخالفة للأعاجم فإنهم يقصون لحاهم ويوفرون شواربهم أو يوفرونهما معا وذلك عكس الجمال والنظافة
وأما السواك والمضمضة والاستنشاق فلتنظيف الفم من الطعام والقلح
وأما قص الأظفار فلتنزيه الطعام عما يلتئم من الوسخ فيها والأقذار
وأما غسل البراجم فلما يجتمع من الأوساخ في غضونها
وحلق العانة ونتف الإبط تنظيفا عما يتلبد من الوسخ فيهما على شعرهما ومما يجتمع من الرحص فيهما والاستنجاء لتنظيف ذلك المحل وتطبيبه عن الأذى والأدواء
وأما الختان فلنظافة القلفة عما يجتمع من أذى البول فيها ولم يختتن أحد قبل إبراهيم عليه السلام ثبت في الصحيح أنه اختتن بالقدوم وهو ابن مائة وعشرين سنة
وقد اختلف العلماء فيه فرأى الشافعي أنه سنة لما قرن به من إخوته في هذا الحديث ورأى مالك أنه فرض لأنه تكشف له العورة ولا يباح الحرام إلا للواجب وقد مهدناه في مسائل الخلاف فلما أتم إبراهيم عليه السلام هذه الوظائف أثنى الله سبحانه عليه فقال (* (وإبراهيم الذي وفى) *) [النجم 37]
56

سمعت بعض العلماء يقول وإبراهيم الذي وفى بماله للضيفان وببدنه للنيران وبقلبه للرحمن
الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) *) [الآية 125]
هذا تنبيه من الله تعالى لعباده على فضله وتعديد لنعمه التي منها أن جعل البيت الحرام للعرب عموما ولقريش خصوصا مثابة للناس أي معادا في كل عام لا يخلو منهم يقال ثاب إلى كذا أي رجع وعاد إليه
فإن قيل ليس كل من جاءه عاد إليه
قلنا لا يختص ذلك بمن ورد عليه وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة ولم يعدم قاصدا من الناس وكذلك جعله تبارك وتعالى أمنا يلقى الرجل فيه قاتل وليه فلا يروعه
وهذا كقوله تعالى (* (ومن دخله كان آمنا) *) آل عمران [الآية 97] وكذلك (* (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) *) [العنكبوت 67] وهذا لما كان الله تعالى قد ركب في قلوبهم من تعظيم البقعة وتفضيل الموضع على غيره من الأرض المشابهة له في الصفة بهذه الخصيصى المعظمة
وقد سمعت أن الكلب الخارج من الحرم لا يروع الصيد بها وهذا من آيات الله تعالى فيها وهذا اللفظ وإن كان ورد بالبيت فإن المراد به الحرم كله لأن الفائدة فيه كانت وعليه دامت
وقد اختلف العلماء في تفسير الأمن على أربعة أقوال
الأول أنه أمن من عذاب الله تعالى في الآخرة والمعنى أن من دخله معظما له
57

وقصده محتسبا فيه لمن تقدم إليه ويعضده ما روي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه
الثاني معناه من دخله كان آمنا من التشفي والانتقام كما كانت العرب تفعله فيمن أناب إليه من تركها لحق يكون لها عليه
الثالث أنه أمن من حد يقام عليه فلا يقتل به الكافر ولا يقتص فيه من القاتل ولا يقام الحد على المحصن والسارق قاله جماعة من فقهاء الأمصار ومنهم أبو حنيفة وسيأتي عليه الكلام
الرابع أنه أمن من القتال لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن الله حبس عن مكة الفيل أو القتل وسلط عليها رسوله والمؤمنين لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار
والصحيح فيه القول الثاني وهذا إخبار من الله تعالى عن منته على عباده حيث قرر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت وتأمين من لجأ إليه إجابة لدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين أنزل به أهله وولده فتوقع عليهم الاستطالة فدعا أن يكون أمنا لهم فاستجيب دعاؤه
58

وأما من قاله إنه أمن من عذاب الله تعالى فإن الله تعالى نبه بجعله مثابة للناس وأمنا على حجته على خلقه والأمن في الآخرة لا تقام به حجة
وأما امتناع الحد فيه فقول ساقط لأن الإسلام الذي هو الأصل وبه اعتصم الحرم لا يمنع من إقامة الحدود والقصاص وأمر لا يقتضيه الأصل أحرى ألا يقتضية الفرع
وأم الأمن عن القتل والقتال [فقول لا يصح لأنه قد كان فيه القتل والقتال] بعد ذلك ويكون إلى يوم القيامة وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن التحليل للقتال فلا جرم لم يكن فيها تحليل قبل ذلك اليوم ولا يكون لعدم النبوة إلى يوم القيامة وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن امتناع تحليل القتال شرعا لا عن منع وجوده حسا
الآية الحادية والعشرين
قوله تعالى (* (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) *) [الآية 125]
فيها مسألتان
المسألة الأولى في تحقيق المقام
هو مفعل بفتح العين من قام كمضرب بفتح العين أيضا من ضرب فمن الناس من حمله على عمومه في مناسك الحج والتقدير واتخذوا من مناسك إبراهيم في الحج عبادة وقدوة والأكثر حمله على الخصوص في بعضها
واختلفوا فيه
فقال قوم هو الحجر الذي جعل إبراهيم عليه رجله حين غسلت زوج إسماعيل عليهما السلام رأسه وقد رأيت بمكة صندوقا فيه حجر عليه أثر قدم قد انمحى واخلولق فقالوا كلهم هذا أثر قدم إبراهيم عليه السلام وهو موضوع بإزاء الكعبة
59

وقال آخرون هو الموضع الذي دعا إبراهيم عليه السلام فيه ربه تعالى حين استودع ذريته
فمن حمله على العموم قال معناه كما قدمنا مصلى مدعى أي موضعا للدعاء ومن خصصه قال معناه موضعا للصلاة المعهودة وهو الصحيح ثبت من كل طريق أن عمر رضي الله عنه قال وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى الحديث فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم طوافه مشى إلى المقام المعروف اليوم وقرأ (* (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) *) وصلى فيه ركعتين وبين بذلك أربعة أمور
الأول أن ذلك الموضع هو المقام المراد في الآية
الثاني أنه بين الصلاة وأنها المتضمنة للركوع والسجود لا مطلق الدعاء
الثالث أنه عرف وقت الصلاة فيه وهو عقب الطواف وغيره من الأوقات مأخوذ من دليل آخر
الرابع أنه أوضح أن ركعتي الطواف واجبتان فمن تركهما فعليه دم
الآية الثانية والعشرون
قوله تعالى (* (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) *) [الآية 142]
قال علماؤنا المراد بذلك اليهود عابوا على المسلمين رجوعهم إلى الكعبة عن بيت المقدس وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أولا أن يتوجه إلى بيت المقدس حتى إذا دانى اليهود في قبلتهم كان أقرب إلى إجابتهم فإنه عليه السلام كان حريصا على تأليف الكلمة وجمع الناس على الدين فقابلت اليهود هذه النعمة بالكفران فأعلمهم الله تعالى أن الجهات كلها له وأن المقصود وجهه وامتثال أمره فحيثما أمر بالتوجه إليه توجه
60

إليه وصح ذلك فيه وتمام الكلام في القسم الثاني وهو قريب من الذي تقدم من قبل
الآية الثالثة والعشرون
قوله تعالى (* (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) *) [الآية 143]
الوسط في اللغة الخيار وهو العدل
وقال بعضهم هو من وسط الشيء وليس للوسط الذي هو بمعنى ملتقى الطرفين ههنا دخول لأن هذه الأمة آخر الأمم وإنما أراد به الخيار العدل يدل عليه قوله تعالى بعده (* (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) *)
فأنبأنا ربنا تعالى بما أنعم به علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتوليته خطة الشهادة على جميع الخليقة فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا زمانا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون
وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول ولا ينفذ على الغير قول الغير إلا أن يكون عدلا وذلك فيما يأتي بعد إن شاء الله تعالى
الآية الرابعة والعشرون
قوله تعالى (* (وما كان الله ليضيع إيمانكم) *) [الآية 143]
61

اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس واختلفوا في تأويلها فمنهم من قال وما كان الله ليضيع إيمانكم بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم قاله محمد بن إسحاق وتابعه عليه معظم المتكلمين والأصوليون
وقد روى ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب عن مالك أن المراد به صلاتكم زاد أشهب وابن عبد الحكم قال مالك أقام الناس يصلون نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم أمروا بالبيت فقال الله سبحانه وتعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم أي في صلاتكم إلى البيت المقدس
قال وإني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة إن الصلاة ليست من الإيمان
فإن قيل فإن كانت الصلاة من الإيمان فلم قال مالك إن تاركها غير كافر وهذا تناقض فحققوا وجه التقصي عنه
فالجواب إنا وإن قلنا إن الصلاة من الإيمان لم يبعد ذلك تسمية وقد جاء ذلك في القرآن قال الله تعالى (* (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) *) إلى قوله تعالى (* (الذين يقيمون الصلاة) *) إلى قوله تعالى (* (أولئك هم المؤمنون) *)
وكذلك لا يبعد أن يسمى تاركها كافرا قال النبي صلى الله عليه وسلم بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة
وقد قال علماؤنا الأصوليون في ذلك وجهان وتاركها
62

أحدهما أن تكون تسمية الصلاة إيمانا وتركها كفرا مجازا
الثاني أن يرجع ذلك إلى اعتقاد وجوب الصلاة أو اعتقاد نفي وجوبها وهذا لا يحتاج إليه بل يقول علماؤنا من الفقهاء إنها تسمى إيمانا وهي من أركان الإيمان وعهد الإسلام
ولكن الفرق بين علماء الأصول والمرجئة أن المرجئة قالت ليست من الإيمان وتاركها في الجنة وهؤلاء قالوا ليست من الإيمان وتاركها في المشيئة وعلماؤنا الفقهاء قالوا هي من الإيمان وتاركها في المشيئة قضت بذلك آي القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى (* (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *) [النساء 116]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم خمس صلوات كتبهن الله على عباده في اليوم والليلة من جاء بهن لم يضيع شيئا منهن استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له
فقضت هذه الآية وهذا الحديث ونظائرهما على كل متشابه جاء معارضا في الظاهر لهما ولم يمتنع أن تسمى الصلاة إيمانا في إطلاق اللفظ ويحكم لتاركها بالمغفرة تخفيفا ورحمة
63

ويحمل ما جاء من الألفاظ المكفرة كقوله عليه السلام من ترك الصلاة فقد كفر ونحوه على ثلاثة أوجه
الأول على التغليظ
الثاني أنه قد فعل فعل الكافر
الثالث أنه قد أباح دمه كما أباحه الكافر والله أعلم
الآية الخامسة والعشرون
قوله تعالى (* (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) *) [الآية 144]
الشطر في اللغة يقال على النصف من الشيء ويقال على القصد وهذا خطاب لجميع المسلمين من كان منهم معاينا للبيت ومن كان غائبا عنه
وذكر الباري سبحانه المسجد الحرام والمراد به البيت كما ذكر في قوله تعالى (* (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) *) [البقرة 125] الكعبة والمراد به الحرم لأنه تعالى خاطبنا بلغة العرب وهي تعبر عن الشيء بما يجاوره أو بما يشتمل عليه وإنما أراد سبحانه أن يعرف أن من بعد عن البيت فإنه يقصد الناحية لا عين البيت فإنه يعسر نظره و قصده بل لا يمكن أبدا إلا للمعاين وربما التفت المعاين يمينا أو شمالا فإذا به قد زهق عنه فاستأنف الصلاة وأضيق ما تكون القبلة عند معاينة القبلة
وقد اختلف العلماء هل فرض الغائب عن الكعبة استقبال العين [أو
64

استقبال الجهة فمنهم من قال فرضه استقبال العين] وهذا ضعيف لأنه تكليف لما لا يصل إليه ومنهم من قال الجهة وهو الصحيح لثلاثة آمور
أحدها أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف
الثاني أنه المأمور به في القرآن إذ قال (* (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) *) [البقرة 144] فلا يلتفت إلى غير ذلك
الثالث أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت ويجب أن يعول على ما تقدم فإن الصف الطويل إذا بعد عن البيت أو طال وعرض أضعافا مضاعفة لكان ممكنا أن يقابل [جميع] البيت
الآية السادسة والعشرون
قوله تعالى (* (ولكل وجهة هو موليها) *) [الآية 148]
وهي مشكلة لباب الكلام فيها في مسألتين
المسألة الأولى
أن الوجهة هي هيئة التوجه كالقعدة بكسر القاف هيئة القعود والجلسة هيئة الجلوس وفي المراد بها ثلاثة أقوال
الأول أن المراد بذلك أهل الأديان المعنى لأهل كل ملة حالة في التوجه إلى القبلة روي عن ابن عباس
الثاني أن المعنى لكل وجهة في الصلاة إلى بيت المقدس وفي الصلاة إلى الكعبة قاله قتادة
الثالث أن المراد به جميع المسلمين أي لأهل كل جهة من الآفاق وجهة ممن
65

بمكة وممن بعد ليس بعضها مقدما على البعض في الصواب لأن الله تعالى هو الذي ولى جميعها وشرع جملتها وهي وإن كانت متعارضة في الظاهر والمعاينة فإنها متفقة في القصد وامتثال الأمر
وقرئ هو مولاها يعني المصلي التقدير المصلى هو موجه نحوها وكذلك قبل في قراءة من قرأ هو موليها إن المعنى أيضا أن المصلي هو متوجه نحوها والأول أصح في
النظر وأشهر في القراءة والخبر
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فاستبقوا الخيرات) *
معناه افعلوا الخيرات من السبق وهو المبادرة إلى الأولية وذلك حث على المبادرة والاستعجال إلى الطاعات ولا خلاف فيه بين الأمة في الجملة
وفي التفضيل اختلاف وأعظم مهم اختلفوا في تفضيله الصلاة فقال الشافعي أول الوقت فيها أفضل من غير تفصيل لظاهر هذه وغيرها كقوله تعالى (* (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) *) [آل عمران 133]
وقال أبو حنيفة آخر الوقت أفضل لأنه عنده وقت الوجوب حسبما مهدناه في مسائل الخلاف
وأما مالك ففصل القول فأما الصبح والمغرب فأول الوقت فيهما أفضل عنده من غير خلاف
وأما الظهر والعصر فلم يختلف قوله إن أول الوقت أفضل للفذ وإن الجماعة تؤخر على ما في حديث عمر رضي الله عنه والمشهور في العشاء أن تأخيرها أفضل لمن قدر عليه ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرها ليلة حتى رقد الناس
66

واستيقظوا ثم قال لولا أن أشق على أمتي لأخرتها هكذا
وأما الظهر فإنها تأتي الناس على غفلة فيستحب تأخيرها قليلا حتى يتأهبوا ويجتمعوا وأما العصر فتقديمها أفضل
ولا خلاف في مذهبنا أن تأخير الصلاة لأجل الجماعة أفضل من تقديمها فإن فضل الجماعة مقدر معلوم وفضل أول الوقت مجهول وتحصيل المعلوم أولى
وأما الصبح فتقديمها أفضل لحديث عائشة رضي الله عنها في الصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح فنيصرف النساء ملتفات بمروطهن ما يعرفن من الغلس
ولحديث جابر رضي الله عنه في الصبح أيضا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم في صلاة العشاء قد اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطأوا أخر والصبح كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس معناه كانوا مجتمعين أو لم يكونوا مجتمعين كان يغلس بها
وأما المغرب فلمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الصلاة عند غروب الشمس اقتدي به في ذلك أو امتثل أمره
وبالجملة فلا يعادل المبادرة إلى أول الوقت شيء
قال الله تعالى مخبرا عن موسى صلى الله عليه وسلم (* (وعجلت إليك رب لترضى) *) [طه 84]
67

وروى الدارقطني عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله قال رضوان الله أحب إلينا من عفوه فإن رضوانه للمحسنين وعفوه للمقصرين
وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس ولعله في السفر إذا اجتمع أصحابه إذ قد صح عنه أنه قال أبردوا حتى رأينا فيء التلول
الآية السابعة والعشرون
قوله تعالى (* (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء) *) [الآية 154]
وفي السورة التي بعدها (* (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) *) [آل عمران 169] تعلق بعضهم في أن الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه بهذه الآية لأن الميت هو الذي يفعل ذلك به والشهيد حي وبه قال مالك والشافعي
وقال أبو حنيفة لا يصلى عليه وكما أن الشهيد في حكم الحي فلا يغسل فكذلك لا يصلى عليه لأن الغسل تطهير وقد طهر بالقتل فكذلك الصلاة شفاعة وقد أغنته عنها الشهادة يؤكده أن الطهارة إذا سقطت مع القدرة عليها سقطت
68

الصلاة لأنها شرطها وسقوط الشرط دليل على سقوط المشروط وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم لا يصح فيه طريق ابن عباس ولا سواه وقد استوفيناها في مسائل الخلاف
الآية الثامنة والعشرون
قوله تعالى (* (إن الصفا والمروة من شعائر الله) *) [الآية 158]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى شعبة عن عاصم قال سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال كانا من شعائر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما فنزلت الآية
المسألة الثانية
قال علماء اللغة قوله تعالى (* (من شعائر الله) *) يعني من معالم الله في الحج واحدتها شعيرة ومنه إشعار الهدي أي إعلامه بالجرح وما يصدق عليه والمعنى فيه عندي ما حصل به العلم لإبراهيم عليه السلام وأشعر به إبراهيم أي أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فلا جناح عليه) *
الجناح في اللغة عبارة عن الميل كيفما تصرف ولكنه خص بالميل إلى الإثم ثم عبر به عن الإثم في الشريعة وقد استعملته العرب في الهم والأذى وجاء في أشعارها وأمثالها
المسألة الرابعة
قوله تعالى (* (أن يطوف بهما) *)
69

وهي معارضة الآية وروى ابن شهاب عن عروة قلت لعائشة رضي الله عنها أرأيت قول الله تبارك وتعالى (* (إن الصفا والمروة من شعائر الله) *) الآية فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بهما قالت عائشة رضي الله عنها بئس ما قلت يا بن أختي إنها لو كانت على ما تأولتها لكان فلا جناح عليه ألا يطوف بهما إنما كان هذا الحي من الأنصار قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون عند المشلل فكان من أهل لمناة يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة فأنزل الله تعالى (* (إن الصفا والمروة) * الآية) ثم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس ينبغي لأحد أن يدع الطواف بينهما
قال ابن شهاب فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن فقال إن هذا العلم أي ما سمعت به
تحقيق هذا الحديث وتفهيمه
اعلموا وفقكم الله تعالى أن قول القائل لا جناح عليك أن تفعل إباحة للفعل وقوله (فلا جناح عليك ألا تفعل) إباحة لترك الفعل فلما سمع عروة رضي الله عنه قول الله سبحانه (* (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) *) قال هذا دليل على أن ترك الطواف جائز ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه فطلب الجمع بين هذين المتعارضين فقالت له عائشة رضي الله عنها ليس قوله تعالى (* (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) *) دليلا على ترك الطواف إنما كان يكون الدليل على تركه لو كان (فلا جناح عليه ألا يطوف) فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ولا فيه دليل عليه وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان
70

يتحرج منه في الجاهلية أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه فأعلمهم الله تعالى أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا
فأدت الآية إباحة الطواف بينهما وسل سخيمة الحرج التي كانت في صدور المسلمين منها قبل الإسلام وبعده وقال الله تعالى (* (إن الصفا والمروة من شعائر الله) *) أي من معالم الحج ومناسكه ومشروعاته لا من مواضع الكفر وموضوعاته فمن جاء البيت حاجا أو معتمرا فلا يجد في نفسه شيئا من الطواف بهما
وهم وتنبيه
[قال الفراء] معنى قوله (لا جناح عليه ألا يطوف بهما) معناه أن يطوف وحرف لا زائدة
وهذا ضعيف من وجهين
أحدهما أنا قد بينا في مواضع أنه يبعد أن تكون لا زائدة
الثاني أنه لا لغوي ولا فقيه يعادل عائشة رضي الله عنها وقد قررتها غير زائدة وقد بينت معناها فلا رأي للفراء ولا لغيره
المسألة الخامسة
اختلف الناس في السعي بين الصفا والمروة
فقال الشافعي إنه ركن
وقال أبو حنيفة ليس بركن
ومشهور مذهب مالك أنه ركن وفي العتبية يجزئ تاركه الدم
71

ومعول من نفى وجوبه وركنيته أن الله تعالى إنما ذكره في رفع الحرج خاصة كما تقدم بيانه
ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا صححه الدارقطني ويعضده المعنى فإنه شعار لا يخلو عنه الحج والعمرة فكان ركنا كالطواف وما ذكروه من رفع الحرج أو تركه فقد تقدم القول فيه
المسألة السادسة
قوله تعالى (* (ومن تطوع خيرا) *)
تعلق به من ينفي ركنية السعي كأبي حنيفة وغيره قال إن الله تعالى رفع الحرج عن تركه وقال تعالى بعد ذلك ومن تطوع خيرا بفعله فإن الله يأجره والتطوع هو ما يأتيه المرء من قبل بنفسه وهذا ليس يصح لأنا قد بينا إلى أي معنى يعود رفع الجناح وقوله تعالى (* (ومن تطوع) *) إشارة إلى أن السعي واجب فمن تطوع بالزيادة عليه فإن الله تعالى يشكر ذلك له
الآية التاسعة والعشرون
قوله تعالى (* (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) *) [الآية 159]
استدل بها علماؤنا على وجوب تبليغ الحق وبيان العلم على الجملة
وللآية تحقيق هو أن العالم إذا قصد الكتمان عصى وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أن معه غيره
قال عثمان رضي الله عنه لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله عز وجل ما حدثتكموه
72

قال عروة الآية (* (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) *) الآية قال أبو هريرة إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ووالله لولا آية في كتاب الله ما حدثت شيئا ثم تلا هذه الآية
وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لا يحدثان بكل ما سمعا من النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند الحاجة إليه
وكان الزبير أقلهم حديثا مخافة أن يواقع الكذب ولكنهم رأوا أن العلم عم جميعهم فسيبلغ واحد إن ترك آخر
فإن قيل فالتبليغ فضيلة أو فرض فإن كان فرضا فكيف قصر فيه هؤلاء الجلة كأبي بكر وعمر والزبير وأمثالهم وإن كان فضيلة فلم قعدوا عنها
فالجواب أن من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية ولما روى أبو هريرة وعمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار وأما من لم يسأل فلا يلزمه التبليغ إلا في القرآن وحده وقد قال سحنون إن حديث أبي هريرة وعمرو هذا إنما جاء في الشهادة
73

والصحيح عندي ما أشرنا إليه من أنه إن كان هناك من يبلغ اكتفي به وإن تعين عليه لزمه وسكت الخلفاء عن الإشارة بالتبليغ لأنهم كانوا في المنصب من يرد ما يسمع أو يمضيه مع علمهم بعموم التبليغ فيه حتى إن عمر كره كثرة التبليغ وسجن من كان يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بينا تحقيقه في شرح الحديث الصحيح
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة التبليغ أنه قال نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها والله أعلم
الآية الموفية ثلاثين
قوله تعالى (* (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) *) [الآية 161]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه لأن حاله عند الموافاة لا تعلم وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة الموافاة على الكفر
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أقوام بأعيانهم من الكفار
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشيء فأغضباه فلعنهما وإنما كان ذلك لعلمه بمآلهما
والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله كجواز قتاله وقتله
74

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال اللهم إن عمرو بن العاص هجاني قد علم أني لست بشاعر فالعنه اللهم واهجه عدد ما هجاني فلعنه وقد كان إلى الإسلام والدين والإيمان مآله وانتصف بقوله عدد ما هجاني ولم يزد ليعلم العدل والإنصاف والانتصاف وأضاف الهجو إلى الباري سبحانه وتعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف له بذلك كما يضاف إليه الاستهزاء والمكر والكيد سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وفي صحيح مسلم لعن المؤمن كقتله وكذلك إن كان ذميا يجوز إصغاره فكذلك لعنه
تركيب وهي المسألة الثانية
فأما العاصي المعين فلا يجوز لعنه اتفاقا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جيء إليه بشارب خمر مرارا فقال بعض من حضره ما له لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم فجعل له حرمة الأخوة وهذا يوجب الشفقة وهذا حديث صحيح
وأما لعن العاصي مطلقا وهي المسألة الثالثة
فيجوز إجماعا لما روي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده
75

وقد قال بعض علمائنا في تأويل هذه الآية إن معناه عليهم اللعنة يوم القيامة كما قال تعالى (* (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) *) [العنكبوت 25]
والذي عندي صحة لعنه في الدنيا لمن وافى كافرا بظاهر الحال وما ذكر الله تعالى عن الكفرة من لعنتهم وكفرهم فيما بينهم حالة أخرى وبيان لحكم آخر وحالة واقعة تعضد جواز اللعن في الدنيا وتكون هذه الآية لجواز اللعن في الدنيا فيكون للآيتين معنيان
فإن قيل فهل تحكمون بجواز لعنة الله لمن كان على ظاهر الكفر وقد علم الله تعالى موافاته مؤمنا
قلنا كذلك نقول ولكن لعنة الله له حكمه بجواز لعنه لعباده المؤمنين أخذا بظاهر حاله والله أعلم بمآله
الآية الحادية والثلاثون
قوله تعالى (* (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) *) [الآية 173]
فيها خمس عشرة مسألة
المسألة الأولى
قوله تعالى (* (إنما) *)
وهي كلمة موضوعة للحصر تتضمن النفي والإثبات فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه وقد بينا ذلك في ملجئة المتفقهين ومسائل الخلاف
وقد حصرت هاهنا المحرم لا سيما وقد جاءت عقب المحلل فقال تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) *) [البقرة 172] فأدت هذه الآية الإباحة على الإطلاق ثم عقبها بالمحرم بكلمة إنما الحاصرة فاقتضى ذلك الإيعاب
76

للقسمين فلا محرم يخرج عن هذه الآية وهي مدنية وأكدتها الآية الآخرى التي روي أنها نزلت بعرفة (* (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) *) إلى آخرها [الأنعام 145] فاستوى البيان أولا وآخرا
المسألة الثانية قوله تعالى (* (الميتة) *))
وهي الإطلاق عرفا والمراد بالآيات حكما ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل بذكاة أو مقتولا بغير ذكاة كانت الجاهلية تستبيحه فحرمه الله تعالى فجادلوا فيه فرد الله تعالى عليهم على ما يأتي بيانه في الأنعام إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة في شعرها وصوفها وقرنها
ويأتي في سورة النحل إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة في عموم هذه الآية وخصوصها
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أحلت لنا ميتتان ودمان فالميتتان السمك والجراد والدمان الكبد والطحال ذكره الدارقطني وغيره
واختلف العلماء في تخصيص ذلك
فمنهم من خصصه في الجراد والسمك وأجاز أكلهما من غير معالجة ولا ذكاة قاله الشافعي وغيره
ومنهم من منعه في السمك وأجازه في الجراد وهو أبو حنيفة
ومع اختلاف الناس في جواز تخصيص عموم الكتاب بالسنة فقد اتفقوا على أنه
77

لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف وهذا الحديث يروى عن ابن عمر وغيره مما لا يصح سنده ولكنه ورد في السمك حديث صحيح جدا في الصحيحين عن جابر ابن عبد الله إنه خرج مع أبي عبيدة بن الجراح يتلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر فانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر قال أبو عبيدة ميتة ثم قال بل نحن رسل رسول صلى الله عليه وسلم وقد اضطررتم فكلوا قال فأقمنا عليه شهرا حتى سمنا وذكر الحديث قال فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا قال فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله
وروي عن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هو الطهور ماؤه الحل ميتته
فهذا الحديث يخصص بصحة سنده عموم القرآن في تحريم الميتة على قول من يرى ذلك وهو نص في المسألة
78

ويعضده قول الله تعالى (* (أحل لكم صيد البحر وطعامه) *) [المائدة 96] فصيده ما صيد وتكلف أخذه وطعامه ما طفا عليه أو جزر عنه
ومنهم من خصصه في السمك خاصة ورأى أكل ميتته ومنع من أكل الجراد إلا بذكاة قاله مالك وغيره وذلك لأن عموم الآية يجري على حاله حتى يخصصه الحديث الصحيح أو الآية الظاهرة وقد وجد كلاهما في السمك وليس في الجراد حديث يعول عليه في أكل ميتته
أما أكل الجراد فجائز بالإجماع وفيه أخبار منها حديث ابن أبي أوفى غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد معه
وروى سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هو أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه ولم يصح بيد أن الخلفاء أكلته وهو من صيد البر فلا بد فيه من ذكاة على ما يأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى
فإن قيل قد قال كعب إنه نترة حوت
قلنا لا ينبني على قول كعب حكم لأنه يحدث عما يلزمنا تصديقه ولا يجوز لنا تكذيبه وقد بيناه فيما تقدم
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (والدم) *))
اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به وقد عينه الله تعالى هاهنا مطلقا وعينه في سورة الأنعام مقيدا بالمسفوح وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعا
وروي عن عائشة أنها قالت لولا أن الله تعالى قال أو دما مسفوحا لتتبع الناس ما في العروق فلا تلتفتوا في ذلك إلى ما يعزى إلى ابن مسعود في الدم
79

ثم اختلف الناس في تخصيص هذا العموم في الكبد والطحال
فمنهم من قال إنه لا تخصيص في شيء من ذلك قاله مالك
ومنهم من قال هو مخصوص في الكبد والطحال قاله الشافعي
والصحيح أنه لم يخصص وأن الكبد والطحال لحم يشهد بذلك العيان الذي لا يعارضه بيان ولا يفتقر إلى برهان
المسألة السادسة قوله تعالى (* (ولحم الخنزير) *))
اتفقت الأمة على أن لحم الخنزير حرام بجميع أجزائه والفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح للقصد إلى لحمه وقد شغفت المبتدعة بأن تقول فما بال شحمه بأي شيء حرم وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحما فقد قال شحما ومن قال شحما فلم يقل لحما إذ كل شحم لحم وليس كل لحم شحما من جهة اختصاص اللفظ وهو لحم من جهة حقيقة اللحمية كما أن كل حمد شكر وليس كل شكر حمدا من جهة ذكر النعم وهو حمد من جهة ذكر فضائل المنعم
ثم اختلفوا في نجاسته
فقال جمهور العلماء إنه نجس
وقال مالك إنه طاهر وكذلك كل حيوان عنده لأن علة الطهارة عنده هي الحياة وقد قررنا ذلك عند مسائل الخلاف بما فيه كفاية وبيناه طردا وعكسا وحققنا ما فيه من الإحالة والملاءمة والمناسبة على مذهب من يرى ذلك ومن
80

لا يراه بما لا مطعن فيه وهذا يشير بك إليه فأما شعره فسيأتي ذكره في سورة النحل إن شاء الله تعالى
المسألة السابعة قوله تعالى (* (وما أهل به لغير الله) *))
وموضعها سورة الأنعام
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (فمن اضطر) *))
وتصريفه افتعل من الضرر كقوله افتتن من الفتنة أي أدركه ضرر ووجد به وقد تكلمنا في حقيقة الضرر والمضطر في كتاب المشكلين بما فيه كفاية
بيانه أن الضرر هو الألم الذي لا نفع فيه يوازيه أو يربي عليه وهو نقيض النفع وهو الذي لا ضرر فيه ولهذا لم يوصف شرب الأدوية الكريهة والعبادات الشاقة بالضرر لما في ذلك من النفع الموازي له أو المربي عليه وحققنا أن المضطر هو المكلف بالشيء الملجأ إليه المكره عليه ولا يتحقق اسم المكره إلا لمن قدر على الشيء ومن خلق الله فيه فعلا لم يكن له عليه قدرة كالمرتعش والمحموم لا يسمى مضطرا ولا ملجأ وأشرنا إلى أنه قد يكون عند علمائنا المضطر وقد يكون المضطر المحتاج ولكن الملجأ مضطر حقيقة والمحتاج مضطر مجازا
وقال الجبائي وابنه إن المضطر هو الذي فعل فيه غيره فعلا وهذا تنازع
81

يرجع إلى اللفظ وما ذهبنا إليه هو اللغة وهو المعروف عند العرب والمراد في كتاب الله تعالى بقوله (* (فمن اضطر) *) أي خاف التلف فسماه مضطرا وهو قادر على التناول
ويرد المضطر في اللغة على معنيين أحدهما مكتسب الضرر والثاني مكتسب دفعه كالإعجام يرد بمعنى الإفهام وبمعنى نفيه فالسلطان يضطره أي يلجئه للضرر والمضطر يبيع منزله أي يدفع الضرر الذي يلحقه بامتناعه من بيع ماله
وكلا المعنيين موجود في مسألتنا فإنه مضطر بما أدركه من ألم الجوع مضطر بدفعه ذلك عن نفسه بتناول الميتة وهو بالمعنى الأول مشروط وبالمعنى الثاني مأمور
المسألة التاسعة
هذا الضرر الذي بيناه يلحق إما بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة أو بفقر لا يجد فيه غيره فإن التحريم يرتفع عن ذلك بحكم الاستثناء ويكون مباحا فأما الإكراه فيبيح ذلك كله إلى آخر الإكراه
وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها وإن كانت نادرة فاختلف العلماء في ذلك على قولين
أحدهما يأكل حتى يشبع ويتضلع قاله مالك
وقال غيره يأكل على قدر سد الرمق وبه قال ابن حبيب وابن الماجشون لأن الإباحة ضرورة فتتقدر بقدر الضرورة
وقد قال مالك في موطئه الذي ألفه بيده وأملاه على أصحابه وأقرأه وقرأه
82

عمره كله يأكل حتى يشبع
ودليله أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا ومقدار الضرورة إنما هو من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده حتى يجد وغير ذلك ضعيف
المسألة العاشرة
من اضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف وإن كان لجوع أو عطش فلا يشرب وبه قال مالك في العتبية وقال لا تزيده الخمر إلا عطشا وحجته أن الله تعالى حرم الخمر مطلقا وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة ومنهم من حمله على الميتة
وقال أبو بكر الأبهري إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها وقد قال الله تعالى في الخنزير (* (فإنه رجس) *) [الأنعام 145] ثم أباحه للضرورة وقال تعالى أيضا في الخمر إنها رجس فتدخل في إباحة ضرورة الخنزير فالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس ولا بد أن تروي ولو ساعة وترد الجوع ولو مدة
المسألة الحادية عشرة
إذا غص بلقمة فهل يجيزها بخمر أم لا
قيل لا يسيغها بالخمر مخافة أن يدعي ذلك
83

وقال ابن حبيب يسيغها لأنها حالة ضرورة
وقد قال العلماء من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل دخل النار إلا أن يعفو الله تعالى عنه
والصحيح أنه سبحانه حرم الميتة والدم ولحم الخنزير أعيانا مخصوصة في أوقات مطلقة ثم دخل التخصيص بالدليل في بعض الأعيان وتطرق التخصيص بالنص إلى بعض الأوقات والأحوال فقال تعالى (* (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) *) فرفعت الضرورة التحريم ودخل التخصيص أيضا بحال الضرورة إلى حال تحريم الخمر لوجهين
أحدهما حملا على هذا بالدليل كما تقدم من أنه محرم فأباحته الضرورة كالميتة
والثاني أن من يقول إن تحريم الخمر لا يحل بالضرورة ذكر أنها لا تزيده إلا عطشا ولا تدفع عنه شبعا فإن صح ما ذكره كانت حراما وإن لم يصح وهو الظاهر أباحتها الضرورة كسائر المحرمات
وأما الغاص بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى وأما فيما بيننا فإن شهدناه فلا يخفى بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها فيصدق إذا ظهر ذلك وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطنا
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (غير باغ ولا عاد) *))
فيها أقوال كثيرة نخبتها اثنان
الأول أن الباغي في اللغة هو الطالب لخير كان أو لشر إلا أنه خص هاهنا بطالب الشر ومن طالب الشر الخارج على الإمام المفارق للجماعة وهو المراد بقوله تعالى (* (فإن بغت إحداهما على الأخرى) *) [الحجرات 9]
والعادي وهو المجاوز ما يجوز إلى ما لا يجوز وخص هاهنا بقاطع السبيل وقد قاله مجاهد وابن جبير
84

الثاني أن الباغي آكل الميتة فوق الحاجة والعادي آكلها مع وجود غيرها قاله جماعة منهم قتادة والحسن وعكرمة
وتحقيق القول في ذلك أن العادي باغ فلما أفرد الله تعالى كل واحد منهما بالذكر تعين له معنى غير معنى الآخر لئلا يكون تكرارا يخرج عن الفصاحة الواجبة للقرآن
والأصح والحالة هذه أن معناه غير طالب شرا ولا متجاوز حدا فأما قوله غير طالب شرا فيدخل تحته كل خارج على الإمام وقاطع للطريق وما في معناه وأما غير متجاوز حدا فمعناه غير متجاوز حد الضرورة إلى حد الاختيار
ويحتمل أن تدخل تحته الزيادة على قدر الشبع كما قاله قتادة وغيره ولكن مع الندور لا مع التمادي فإن أبا عبيدة وأصحابه قد أكلوا حتى شبعوا مما اعتقدوا أنه ميتة حتى أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حلال لكن وجه الحجة أنهم لما أخبروه بحالهم جوز لهم أكلهم شبعا وتضلعا مع اعتقادهم لضرورتهم
المسألة الثالثة عشرة
ولأجل ذلك لا يستبيح العاصي بسفره رخص السفر وقد اختلف العلماء في ذلك والصحيح أنها لا تباح له بحال لأن الله تعالى أباح ذلك عونا والعاصي لا يحل أن يعان فإن أراد الأكل فليتب ويأكل وعجبا ممن يبيح ذلك له مع التمادي على المعصية وما أظن أحدا يقوله فإن قاله أحد فهو مخطئ قطعا
المسألة الرابعة عشرة
إذا وجد المضطر ميتة ودما ولحم خنزير وخمرا وصيدا حرميا أو صيدا وهو محرم فهذه صورتان
85

الأولى الحلال يجدها والثاني الحرام فإن وجد ميتة وخمرا قال ابن القاسم يأكل الميتة حلالا بيقين والخمر محتملة للنظر وإن وجد ميتة وبعيرا ضالا أكل الميتة قاله ابن وهب فإن وجد ميتة وكنزا أو ما في معناه أكل الكنز قاله ابن حبيب فإن وجد ذلك تحت حرز أكل الميتة ولو وجد ميتة وخنزيرا قال علماؤنا يأكل الميتة فإن وجد لحم بني آدم والميتة أكل الميتة فإنها حلال في حال والخنزير وابن آدم لا يحل بحال ولا يأكل ابن آدم ولو مات قاله علماؤنا
وقال الشافعي يأكل لحم ابن آدم
الصورة الثانية إذا وجد المحرم صيدا وميتة قال علماؤنا يأكل الميتة ولا يأكل الصيد
والضابط لهذه الأحكام أنه إذا وجد ميتة ولحم خنزير قدم الميتة لأنها تحل حية والخنزير لا يحل والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال وإذا وجد ميتة وخمرا فقد تقدم وإذا وجد ميتة ومال الغير فإن أمن الضرر في بدنه أكل مال الغير ولم يحل له أكل الميتة وإن لم يأمن أكل الميتة وأمنه إذا كان مال الغير في الثمار أكثر من أمنه إذا كان في الجرين وقد تقدم القول في الميتة والآدمي
والصحيح عندي ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه وإذا وجد المحرم صيدا وميتة أكل الصيد لأن تحريمه مؤقت فهو أخف وتقبل الفدية في حال الاختيار ولا فدية لآكل الميتة
المسألة الخامسة عشرة
إذا احتاج إلى التداوي بالميتة فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة بعينها أو يستعملها محرقة فإن تغيرت بالأحراق فقد قال ابن حبيب يجوز التداوي بها والصلاة وخففه ابن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات
86

وفي العتبية من رواية مالك في المرتك يصنع من عظام الميتة إذا جعله في جرحه لا يصلي به حتى يغسله
وإن كانت الميتة بعينها فقد قال سحنون لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير
والصحيح عندي أنه لا يتداوى بشيء من ذلك لأن منه عوضا حلالا ولا يوجد في المجاعة من هذه الأعيان عوض حتى لو وجد منها في المجاعة عوضا لم يأكلها كما لا يجوز التداوي بها لوجود العوض ولو أحرقت لبقيت نجسة لأن العين النجسة لا تطهر إلا بالماء الذي جعله الشرع مطهرا للأعيان النجسة
وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر أيتداوى بها قال ليست بدواء ولكنها داء
الآية الثانية والثلاثون
قوله تعالى (* (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) *) [الآية 177]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
قد قدمنا فيما قبل أنه ليس في المال حق سوى الزكاة وقد كان الشعبي فيما يؤثر عنه يقول في المال حق سوى الزكاة ويحتج بحديث يروى عن فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المال حق سوى الزكاة وهذا ضعيف لا يثبت عن
87

الشعبي ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس في المال حق سوى الزكاة وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء
وقد قال مالك يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم وكذا إذا منع الوالي الزكاة فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء مسألة فيها نظر أصحها عندي وجوب ذلك عليهم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (والمساكين) *))
يعني الذي لا يسألون والسائلين يعني الذين كشفوا وجوههم وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وفي الرقاب) *))
هم عبيد يعتقون قربة قاله مالك والشافعي
وقال أبو حنيفة والقول الآخر للشافعي أنهم المكاتبون يعانون في فك رقابهم وذلك محتمل والصحيح عندي أنه عام
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وآتى الزكاة) *))
قيل المراد بإيتاء المال في أولها التطوع أو غيره مما قدرناه وبالزكاة هاهنا الزكاة المعروفة
88

وقيل المراد بإيتاء الزكاة هاهنا تفسير لقوله تعالى (* (وآتى المال على حبه) *) فبين المال المؤتى ووجه الإيتاء فيه وهو الزكاة
والصحيح عندي أنهما فائدتان الإيتاء الأول في وجوهه فتارة يكون ندبا وتارة يكون فرضا والإيتاء الثاني هو الزكاة المفروضة
الآية الثالثة والثلاثون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) *) [الآية 178]
فيها إحدى عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
قالها الشعبي وقتادة في جماعة من التابعين إنها نزلت فيمن كان من العرب لا يرضى أن يأخذ بعبد إلا حرا وبوضيع إلا شريفا وبامرأة إلا رجلا ذكرا ويقولون القتل أنفى للقتل فردهم الله عز وجل عن ذلك إلى القصاص وهو المساواة مع استيفاء الحق فقال (* (كتب عليكم القصاص في القتلى) *) وقال تعالى (* (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) *) [البقرة 179] وبين الكلامين في الفصاحة والعدل بون عظيم
المسألة الثانية
قال علماؤنا معنى (* (كتب) *) فرض وألزم وكيف يكون هذا والقصاص غير واجب وإنما هو لخيرة الولي ومعنى ذلك كتب وفرض إذا أردتم استيفاء
89

القصاص فقد كتب عليكم كما يقال كتب عليك إذا أردت التنفل الوضوء وإذا أردت الصيام النية
المسألة الثالثة
اختلف الناس في قوله تعالى (* (كتب عليكم القصاص في القتلى) *) فقيل هو كلام عام مستقل بنفسه وهو قول أبي حنيفة
وقال سائرهم لا يتم الكلام هاهنا وإنما ينقضي عند قوله تعالى (* (والأنثى بالأنثى) *) وهو تفسير له وتتميم لمعناه منهم مالك والشافعي
فائدة
ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة سبع وثمانين وأربعمائة فقيه من عظماء أصحاب أبي حنيفة يعرف بالزوزني زائرا للخليل صلوات الله عليه فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة طهرها الله معه وشهد علماء البلد فسئل على العادة عن قتل المسلم بالكافر فقال يقتل به قصاصا فطولب بالدليل فقال الدليل عليه قوله تعالى (* (كتب عليكم القصاص في القتلى) *) وهذا عام في كل قتيل
فانتدب معه للكلام فقيه الشافعية بها وإمامهم عطاء المقدسي وقال ما استدل به الشيخ الإمام لا حجة له فيه من ثلاثة أوجه
أحدها أن الله سبحانه قال كتب عليكم القصاص فشرط المساواة في المجازاة ولا مساواة بين المسلم والكافر فإن الكفر حط منزلته ووضع مرتبته
90

الثاني أن الله سبحانه ربط آخر الآية بأولها وجعل بيانها عند تمامها فقال (* (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) *) فإذا نقص العبد عن الحر بالرق وهو من آثار الكفر فأحرى وأولى أن ينقص عنه الكافر
الثالث أن الله سبحانه وتعالى قال (* (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف) *) ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر فدل على عدم دخوله في هذا القول
فقال الزوزني بل ذلك دليل صحيح وما اعترضت به لا يلزمني منه شيء
أما قولك إن الله تعالى شرط المساواة في المجازاة فكذلك أقول وأما دعواك أن المساواة بين الكافر والمسلم في القصاص غير معروفة فغير صحيح فإنهما متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد فإن الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم محقون الدم على التأبيد وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه
وأما قولك إن الله تعالى ربط آخر الآية بأولها فغير مسلم فإن أول الآية عام وآخرها خاص وخصوص آخرها لا يمنع من عموم أولها بل يجري كل على حكمه من عموم أو خصوص
وأما قولك إن الحر لا يقتل بالعبد فلا أسلم به بل يقتل به عندي قصاصا فتعلقت بدعوى لا تصح لك
وأما قولك فمن عفي له من أخيه شيء يعني المسلم فكذلك أقول ولكن هذا خصوص في العفو فلا يمنع من عموم ورود القصاص فإنهما قضيتان متباينتان فعموم إحداهما لا يمنع من خصوص الأخرى ولا خصوص هذه يناقض عموم
91

تلك وجرت في ذلك مناظرة عظيمة حصلنا منها فوائد جمة أثبتناها في نزهة الناظر وهذا المقدار يكفي هنا منها
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (الحر بالحر) *))
تعلق أصحابنا على أصحاب أبي حنيفة بهذا التنويع والتقسيم على أن الحر لا يقتل بالعبد لأن الله تعالى بين نظير الحر ومساويه وهو الحر وبين العبد ومساويه وهو العبد ويعضده ما ناقض فيه أبو حنيفة من أنه لا مساواة بين طرف الحر وطرف العبد ولا يجري القصاص منهما في الأطراف فكذلك لا يجب أن يجري في الأنفس ولقد بلغت الجهالة بأقوام أن قالوا يقتل الحر بعبد نفسه ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة قال النبي صلى الله عليه وسلم من قتل عبده قتلناه وهذا حديث ضعيف
ودليلنا قوله تعالى (* (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل) *) [الإسراء 33] والولي هاهنا السيد فكيف يجعل له سلطان على نفسه
فإن قيل جعله إلى الإمام
قيل إنما يكون للإمام إذا ثبت للمسلمين ميراثا فيأخذه الإمام نيابة عنهم لأنه وكيلهم ونيابته هاهنا عن السيد محال فلا يقاد به
فإن قيل وهي المسألة الخامسة
فقد قال تعالى (* (والأنثى بالأنثى) *) [فلم يقتل الذكر بالأنثى]
قلنا ذلك ثابت بالإجماع وهو دليل آخر ولو تركنا هذا التقسيم لقلنا لا يقتل الذكر بالأثنى
92

فإن قيل إذا قتل الرجل زوجه لم لم تقولوا ينتصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج كما انتصب النسب الذي هو فرعه شبهة في درء القصاص عن النسب إذ النكاح ضرب من الرق فكان يجب أن ينتصب شبهة في درء القصاص
قلنا النكاح ينعقد لها عليه كما ينعقد له عليها بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها ويحل لها منه ما يحل له منها وتطالبه من الوطء بما يطالبها ولكن له عليها فضل القوامية التي جعلها الله له عليها بما أنفق من ماله أي بما وجب عليه من صداق ونفقة فلو أورث شبهة لأورثها من الجانبين
فإن قيل فقولوا كما قال عثمان البتي إن الرجل إذا قتل امرأته فقتله وليها لم يكن هنالك شيء زائد ولو قتلت امرأة رجلا قتلت وأخذ من مالها نصف العقل
قلنا هو مسبوق بإجماع الأمة محجوج بالعموميات الواردة في القصاص دون اعتبار شيء من الدية فيهما
وقد قال مالك في هذه الآية أحسن ما سمعت في هذه الآية إن الحرة تقتل بالحرة كما يقتل الحر بالحر والأمة تقتل بالأمة كما يقتل العبد بالعبد والقصاص أيضا يكون بين
الرجال والنساء الأحرار والعبيد في النفس والطرف بقوله تعالى (* (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) *) [المائدة 45] وهذا بين وسنزيده بيانا إن شاء الله تعالى في سورة المائدة
وهذه هي
المسألة السادسة
لأن الآية بعمومها تقتضي الجملة بالجملة والبعض بالبعض وقد قال أبو حنيفة لا يؤخذ طرف الحر بطرف العبد وتؤخذ نفسه بنفسه فيقول شخصان لا يجري بينهما القصاص في الأطراف مع الاستواء في السلامة والخلقة فلا يجري بينهما في الأنفس
93

وقال الليث يؤخذ طرف العبد بطرف الحر ولا يؤخذ طرف الحر بطرف العبد وهذا ينعكس عليه ويلزمه مثله في النفس
وقال ابن أبي ليلى القصاص جار بينهما في الطرف والنفس والتمهيد الذي قدمناه في صدر الآية يبطله وقد حققنا في مسائل الخلاف أن الله سبحانه وتعالى شرط المساواة في القتلى ولا مساواة بين الحر والعبد لأن الرق الذي هو من آثار الكفر يدخله تحت ذل الرق ويسلط عليه أيدي المالكين تسليطا يمنعه من المطاولة ويصده عن تعاطي المصاولة الموجبة للعداوة الباعثة على الإتلاف كدخول الكافر تحت ذل العهد وإن كانت فيه الحياة التي هي معنى الآدمية فإن مذلة العبودية ترهقه كمذلة الكفر المرهقة للذمي
المسألة السابعة هل يقتل الأب بولده مع عموم آيات القصاص
قال مالك يقتل به إذا تبين قصده إلى قتله بأن أضجعه وذبحه فإن رماه بالسلاح أدبا وحنقا لم يقتل به ويقتل الأجنبي بمثل هذا
وخالفه سائر الفقهاء وقالوا لا يقتل به
سمعت شيخنا فخر الإسلام أبا بكر الشاشي يقول في النظر لا يقتل الأب بابنه لأن الأب كان سبب وجوده فكيف يكون هو سبب عدمه وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه ثم أي فقه تحت هذا ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى الله تعالى في ذلك
وقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقاد والد بولده وهو حديث
94

باطل ومتعلقهم أن عمر رضي الله عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه فأخذ سائر الفقهاء المسألة مسجلة وقالوا لا يقتل الوالد بولده وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال إنه لو حذفه بسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وغيره وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله
المسألة الثامنة [قتل الجماعة بالواحد]
احتج علماؤنا رحمة الله عليهم بهذه الآية وهي قوله تعالى (* (كتب عليكم القصاص في القتلى) *) على أحمد بن حنبل في قوله لا تقتل الجماعة بالواحد قال لأن الله تعالى شرط في القصاص المساواة ولا مساواة بين الواحد والجماعة لا سيما وقد قال تعالى (* (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) *) [المائدة 45]
الجواب أن مراعاة القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ ولو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا واحدا لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي منهم
جواب آخر وذلك أن المراد بالقصاص قتل من قتل كائنا من كان ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل وتقتل في مقابلة الواحد مائة افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة فأمر الله تعالى بالمساواة والعدل وذلك بأن يقتل من قتل
جواب ثالث أما قوله تعالى (* (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) *) فالمقصود هناك بيانا للمقابلة في الاستيفاء أن النفس تؤخذ بالنفس والأطراف بالأطراف ردا على من تبلغ به الحمية إلى أن يأخذ نفس جان عن طرف مجني عليه والشريعة تبطل الحمية وتعضد الحماية
95

المسألة التاسعة قوله تعالى (* (فمن عفي له من أخيه شيء) *) إلى آخرها
قال القاضي رضي الله عنه هذا قول مشكل تبلدت فيه ألباب العلماء واختلفوا في مقتضاه
فقال مالك في رواية ابن القاسم موجب العمد القود خاصة ولا سبيل إلى الدية إلا برضا من القاتل وبه قال أبو حنيفة
وروى أشهب عنه أن الولي مخير بين أحد أمرين إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وبه قال الشافعي
وكإختلافهم اختلف من مضى من السلف قبلهم وروي عن ابن عباس العفو أن تقبل الدية في العمد فيتبع بمعروف وتؤدى إليه بإحسان يعني يحسن في الطلب من غير تضييق ولا تعنيف ويحسن في الأداء من غير مطل ولا تسويف
ونحوه عن قتادة ومجاهد وعطاء والسدي زاد قتادة بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من زاد أو ازداد بعيرا يعني في إبل الدية فمن أمر الجاهلية وكأنه يعني فاتباع بالمعروف لا يزاد على الدية المعروفة في الشرع
وقال مالك تفسيره من أعطي من أخيه شيئا من العقل فليتبعه بالمعروف فعلى هذا الخطاب للولي قيل له إن أعطاك أخوك القاتل الدية المعروفة فاقبل ذلك منه واتبعه
وقال أصحاب الشافعي تفسيره إذا أسقط الولي القصاص وعين له من الواجبين له الدية فاتبعه على ذلك أيها الجاني على هذا المعروف وأد إليه بإحسان
وهذا يدور على حرف وهو معرفة تفسير العفو وله في اللغة خمسة موارد
الأول العطاء يقال جاد بالمال عفوا صفوا أي مبذولا من غير عوض
الثاني الإسقاط ونحوه (* (واعف عنا) *) [البقرة 286] وعفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق
96

الثالث الكثرة ومنه قوله تعالى (* (حتى عفوا) *) [الأعراف 95] أي كثروا ويقال عفا الزرع أي طال
الرابع الذهاب ومنه قوله عفت الديار
الخامس الطلب يقال عفيته واعتفيته ومنه قوله ما أكلت العافية فهو صدقة ومنه قول الشاعر
(تطوف العفاة بأبوابه
* كطوف النصارى ببيت الوثن)
وإذا كان مشتركا بين هذه المعاني المتعددة وجب عرضها على مساق الآية ومقتضى الأدلة فالذي يليق بذلك منها العطاء أو الإسقاط فرجح الشافعي الإسقاط لأنه ذكر قبله القصاص وإذا ذكر العفو بعد العقوبة كان في الإسقاط أظهر
ورجح مالك وأصحابه العطاء لأن العفو إذا كان بمعنى الإسقاط وصل بكلمة عن كقوله تعالى (* (واعف عنا) *) [البقرة 286] وكقوله عفوت لكم عن صدقة الخيل وإذا كانت بمعنى العطاء كانت صلته له فترجح ذلك بهذا وبوجه ثان وهو أن تأويل مالك هو اختيار خبر القرآن ومن تابعه كما تقدم وبوجه ثالث وهو أن الظاهر في الجزاء أن يعود على ما كان عليه الشرط والجزاء عائد إلى الولي فليعد إليه الشرط ويكون المراد بمن من كان المراد بالأمر بالاتباع
الرابع أنه تعالى قال (* (شيء) *) فنكر ولو كان المراد القصاص لما نكره لأنه معرف وإنما يتحقق التنكير في جانب الدية وما دونه وينفصل أصحاب الشافعي عن ترجيح المالكية بأن العلة تتحقق إذا كان معنى عفا أسقط لأن تفسيره ترك وكلمة له تتصل بترك كما تتصل بأخذ
97

وأما قول ابن عباس فقد اختلف في ذلك فروي عنه أنه قال بمثل قولنا وأما الجزاء فقد يعود على من لا يعود عليه الشرط فتقول من دخل من عبيدي الدار فصاحبه حر وإن دخل عمرو الدار فعبدي حر وأما فصل النكرة فغير لازم فإن القصاص قد يكون نكرة وهو إذا عفا أحد الأولياء فتبعض القصاص فيعود البعض منكرا
وهذا كما ترون تعارض عظيم وإشكال بين وترجيح من الوجهين ظاهر إلا أن رواية أشهب أظهر لوجهين أحدهما الأثر والآخر النظر أما الأثر فقوله عليه السلام فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفدى وإما أن يقتل
وقد ذكرنا في شرح الصحيح كيفية الروايات واستيفاء ما يتعلق بالحديث ولبابه هاهنا أن الحرف الأول فيه روايتان
إحداهما فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين
والرواية الثانية فمن قتل فهو مخير
وفي الحرف الثاني ست روايات
الأولى إما أن يعقل وإما أن يقاد
الثانية أن يعقل أو يقاد
الثالثة إما أن يفدى وإما أن يقتل
الرابعة إما أن يعطى الدية أو يقاد أهل القتيل
الخامسة إما أن يعفو أو يقتل
السادسة إما أن يقتل أو يقاد
وإذا نزلت الرواية الأخرى على الأولى جاء منها اثنا عشر تنزيلا
98

الأول فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يعقل أو يقاد ويكون معناه إما أن يأخذ الدية وإما أن يتفق مع صاحبه على مفاداة معلومة
التنزيل الثاني في قوله يعقل أو يقاد ويكون معناه إما أن يأخذ الدية أو يأخذ القود
التنزيل الثالث في قوله يفدى أو يقتل مثله
التنزيل الرابع في قوله إما أن يعطى الدية أو يقاد أهل القتيل يكون معناه إما أن يعطي الدية له أو يقاد يمكن من القود وكذا أهل القتيل لأنه الحقيقة وما تقدم من العبارة عنه إنما كان مجازا في الإخبار به عن وليه
التنزيل الخامس في قوله إما أن يعفو أو يقتل وهي رواية الترمذي وهي صحيحة متقنة مضبوطة مفهومة جلية وتكون العبارة عنه بأنه يفعل ذلك إن كان جريحا حقيقة أو يعبر عن وليه به مجازا لأنه سلطان الأمر قال الله سبحانه (* (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) *) [الإسراء 33]
التنزيل السادس في قوله يقتل أو يقاد تقديره إما أن يقاد به القاتل برضاه أو يقتل وكذلك تتنزل التقديرات الستة على الرواية الثانية بإسقاط قوله له قتيل ويكون قوله من قتل عبارة عن فعله في حال جرحه قبل موته أو يعبر عن وليه به فهذا وجه الادكار من الأثر بالنظر
وأما طريق المعنى والنظر فإن الولي أو القاتل إذا وقع العفو منهما بالدية فإنه واجب على القاتل قبوله دون اعتبار رضا القاتل لأنه عرض عليه بقاء نفسه بثمن مثله كما لو عرض عليه بقاء نفسه في المخمصة بقيمة الطعام للزمه يؤكده أنه يلزمه إبقاء نفسه بمال الغير إذا وجده في المخمصة فأولى أن يلزمه إبقاء نفسه بماله
المسألة العاشرة
قال الطبري في قوله تعالى (* (فاتباع بالمعروف) *) دليل على عموم الوجوب ممن وقع يريد أن من ذكر الدية وجب قبولها على الآخر من ولي أو جان ثم رأى أن
99

هذا لا يستمر فعقبه بما يدل على أن الدية إن عرضها الجاني استحب قبولها وإن عرضها المجني عليه أو وليه وجب على الجاني قبولها ولما رجع إليه استغنينا عن الاعتناء به
وفي الآية فصول وأقوال لم نتفرغ لها
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (فمن اعتدى بعد ذلك) *))
المعنى أن الله سبحانه عفا عما كان في الجاهلية لمن أسلم الآن وقد بين له وحدت الحدود فإن تجاوزها بعد بيانها فله عذاب أليم بالقتل في الدنيا وبالعذاب في الآخرة
الآية الرابعة والثلاثون
قوله تعالى (* (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) *) [الآيات 18182]
فيها أربع عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله تعالى (* (كتب عليكم) *))
وقد تقدم وبديع الإشارة فيه ما أشرنا إليه في كتاب المشكلين المحفوظ
المعنى ثبت عليكم في اللوح الأول الذي لا يدخله نسخ ولا يلحقه تبديل وقد بينا قبل أن الفروض على قسمين فرض مبتدأ وفرض يترتب على الإرادة وقد بينا أن هذا فرض مبتدأ
100

المسألة الثانية قوله تعالى (* (إذا حضر أحدكم الموت) *))
قال علماؤنا ليس يريد حضور الموت حقيقة لأن ذلك الوقت لا تقبل له توبة ولا له في الدنيا حصة ولا يمكن أن ننظم من كلامها لفظة ولو كان الأمر محمولا عليه لكان تكليف محال لا يتصور ولكن يرجع ذلك إلى معنيين
أحدهما إذا قرب حضور الموت وأمارة ذلك كبره في السن أو سفر فإنه غرر أو توقع أمر طارئ غير ذلك أو تحقق النفس له بأنها سبيل هو آتيها لا محالة [إذ الموت ربما طرأ عليه اتفاقا]
الثاني أن معناه إذا مرض فإن المرض سبب الموت ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب قال شاعرهم
(وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا
* قولا يبرئكم إني أنا الموت))
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (الوصية) *))
هي القول المبين لما يستأنف عمله والقيام به وهي هاهنا مخصوصة بما بعد الموت وكذلك في الإطلاق والعرف
المسألة الرابعة
تأخير الوصية إلى المرض مذموم شرعا روى مسلم والأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الصدقة أفضل قال أن تتصدق وأنت صحيح حريص تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان كذا
101

المسألة الخامسة في حكمها
وقد اختلف الناس في ذلك على قولين
قال بعضهم إنها واجبة لما رواه مسلم وغيره عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين وفي رواية ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده
وقال آخرون هي منسوخة واختلفوا في نسخها فمنهم من قال نسخ جميعها
ومنهم من قال نسخ بعضها وهي الوصية للوالدين والصحيح نسخها وأنها مستحبة إلا فيما يجب على المكلف بيانه أو الخروج بأداء عنه وعليه يدل اللفظ بظاهره وذكر حديث ابن عمر بلفظ الحق الذي يقتضي الحث ويشمل الواجب والندب
المسألة السادسة قوله تعالى (* (إن ترك خيرا) *))
يعني مالا وقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في تقديره وذكر المفسرون والأحكاميون أقوالا كلها دعاوى لا برهان عليها والصحيح أن الحكم لم يختلف ولا يختلف بقلة
المال وكثرته بل يوصي من القليل قليلا ومن الكثير كثيرا وحيث ورد ذكر المال في القرآن فهو يسمى بالخير وكذلك في الحديث روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله تعالى عليكم من بركة الدنيا فقال الرجل يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر قال النبي صلى الله عليه وسلم لا
102

يأتي الخير إلا بالخير وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت ثم عادت فأكلت
المسألة السابعة في كيفية الوصية للوالدين والأقربين
وقد اختلف الناس في ذلك اختلافا كثيرا لبابه ما صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله تعالى من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للوالدين لكل واحد منهما السدس وفرض للزوج وللزوجة فرضيهما وهذا نص لا معدل لأحد عنه فمن كان من القرابة وارثا دخل مدخل الأبوين ومن لم يكن وارثا قيل له إن قطعك من الميراث الواجب إخراج لك عن الوصية الواجبة ويبقى الاستحباب لسائر القرابة
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (بالمعروف) *))
يعني بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط وقد كان ذلك موكولا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي ثم تولى الله تعالى تقدير ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لسعد بن مالك الثلث والثلث كثير فصار ذلك مقدارا شرعيا مبينا حكمه
103

بقوله عليه السلام إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أعمالكم
وقد أخبرنا ابن يوسف من كتابه عن أبي ذر أخبرنا أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن حفص القاضي الحيري بشاغور قراءة عليه أنبأنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف حدثنا محمد بن عبد الملك أخبرنا عبد الله بن يوسف سمعت طلحة ابن عمر المكي سمعت عطاء بن أبي رباح سمعت أبا هريرة يقول إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أعمالكم
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (حقا) *))
يعني ثابتا ثبوت نظر وتخصيص لا ثبوت فرض ووجوب وهكذا ورد عن علمائنا حيث جاء في كتاب الله تعالى أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتحقيقه أن الحق في اللغة هو الثابت وقد ثبت المعنى في الشريعة ندبا وقد ثبت فرضا وكلاهما صحيح في المعنى
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (على المتقين) *))
فهذا يدل على كونه ندبا لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين فلما خص الله تعالى من يتقي أي يخاف تقصيرا دل على أنه غير لازم وقد بينا أنه يتصور أن تكون الوصية واجبة على المسلمين إذا كان عليه دين وما يتوقع تلفه إن مات فتلزمه فرضا المبادرة بكتبه ولكن ليس من هذه الآية وإنما هو من حديث ابن عمر ومما صح من النظر وأنه إن سكت عنه كان تضييعا له
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (فمن بدله بعد ما سمعه) *))
يعني سمعه من الموصي أو سمعه ممن ثبت به عنده وذلك عدلان
104

المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (فإنما إثمه على الذين يبدلونه) *))
المعنى أن الموصي بالوصية خرج عن اللوم وتوجه على الوارث أو الولي
قال بعض علمائنا وهذا يدل على أن الدين إذا أوصى به الميت خرج عن ذمته وصار الولي مطلوبا به له الأجر في قضائه وعليه الوزر في تأخيره وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرط في أدائه وأما إذا قدر عليه وتركه ثم وصى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (فمن خاف من موص جنفا أو إثما) *))
الخطاب بقوله تعالى (* (فمن خاف) *) لجميع المسلمين قيل لهم إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم فإذا وقع الصلح سقط الإثم على المصلح لأن إصلاح الفساد فرض على الكفاية فإذا قام به أحدهم سقط عن الباقين وإن لم يفعلوا أثم الكل
قال علماؤناوهي
المسألة الرابعة عشرة
وفي هذا دليل على الحكم بالظن لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح وإذا تحقق الفساد لم يكن صلح إنما يكون حكم بالدفع وإبطال للفساد وحسم له
الآية الخامسة والثلاثون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) *
105

)
فيها ست عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله تعالى (* (كتب عليكم) *)
وقد تقدم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (الصيام) *)
وهو في اللغة عبارة عن الإمساك المطلق لا خلاف فيه ولا معنى له غيره ولو كان القول هكذا خاصة لكان فيه كلام في العموم والإجمال كما سبق ذكره في الصلاة فلما قال تعالى (* (كما كتب على الذين من قبلكم) *) كان تفسيرا له وتمثيلا به
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (كما كتب على الذين من قبلكم) *))
فيه ثلاثة أقوال
قيل هم أهل الكتاب
وقيل هم النصارى
وقيل هم جميع الناس
وهذا القول الأخير ساقط لأنه قد كان الصوم على من قبلنا بإمساك اللسان عن الكلام ولم يكن في شرعنا فصار ظاهر القول راجعا إلى النصارى لأمرين أحدهما أنهم الأدنون إلينا الثاني أن الصوم في صدر الإسلام كان إذا نام الرجل لم يفطر وهو الأشبه بصومهم
106

المسألة الرابعة قوله تعالى (* (كما كتب) *))
وجه التشبيه فيه محتمل لثلاثة أوجه
الزمان والقدر والوصف ومحتمل لجميعها ومحتمل لاثنين منها فإن رجع إلى الزمان فقد روي أن النصارى كانوا يصومون رمضان ثم اختلف عليهم الزمان فكان يأتي في الحر يوما طويلا وفي البرد يوما قصيرا فارتأوا برأيهم أن يردوه في الزمان المعتدل
وإن رجع إلى العدد ففيه ثلاثة أقوال
الأول أنه ثلاثة أيام وقد روي أنه كان ذلك في صدر الإسلام
الثاني أنه يوم عاشوراء روي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد الناس يصومون عاشوراء فقال ما هذا قالوا هذا يوم أنجى الله فيه موسى عليه السلام وأغرق فيه فرعون فقال نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه فكان هو الفريضة حتى نزل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه من شاء صامه ومن شاء أفطره
الثالث أنه ثلاثون يوما كما فرض على النصارى في أول الأمر ثم غيروه لأسباب مروية
وإن رجع إلى الوصف فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه وقد كان شرع من قبلنا
107

يصومون عن الكلام كله وفي شرعنا الأمر بالصيام عن قول الزور متأكد على الأمر به في غير الصيام
والمقطوع به أنه التشبيه في الفرضية خاصة وسائره محتمل والله أعلم
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (لعلكم تتقون) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول لعلكم تتقون ما حرم عليكم فعله
الثاني لعلكم تضعفون فتتقون فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي
الثالث لعلكم تتقون ما فعل من كان قبلكم روي أن النصارى بدلته إلى الزمان المعتدل وزادت فيه كفارة عشرة أيام وكلها صحيحة ومرادة بالآية إلا أن الأول حقيقة والثاني مجاز حسن والأول والثاني معصية والثالث كفر
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشك على معنى الاحتياط للعبادة وذلك لأن العبادة إنما يحتاط لها إذا وجبت وقبل ألا تجب لا احتياط شرعا وإنما تكون بدعة ومكروها
وقد قال صلى الله عليه وسلم منبها على ذلك لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين خوفا أن يقول القائل أتلقى رمضان بالعبادة وقد رويت عنه صلى الله عليه وسلم فيه عدم الزيادة فقال إذا
108

انتصف شعبان فلا يصم أحد حتى يدخل رمضان وقد شنع أهل الجهالة بأن يقولوا نشيع رمضان ولا تتلقى العبادة ولا تشيع إنما تحفظ في نفسها وتحرس من زيادة فيها أو نقصان منها
ولذلك كره علماء الدين أن تصام الأيام الستة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها من صام رمضان وستا من شوال فكأنما صام الدهر كله متصلة برمضان مخافة أن يعتقد أهل الجهالة أنها من رمضان ورأوا أن صومها من ذي القعدة إلى شعبان أفضل لأن المقصود منها حاصل بتضعيف الحسنة بعشرة أمثالها متى فعلت بل صومها في
الأشهر الحرم وفي شعبان أفضل ومن اعتقد أن صومها مخصوص بثاني يوم العيد فهو مبتدع سالك سنن أهل الكتاب في الزيادات داخل في وعيد الشرع حيث قال لتركبن سنن من كان قبلكم الحديث
المسألة السادسة قوله تعالى (* (أياما معدودات) *))
وهذا يدل على أن المراد به رمضان لا يوم عاشوراء ومن قال إنه صوم ثلاثة أيام في كل شهر فقد أبعد لأنه حديث لا أصل له في الصحة
109

المسألة السابعة
ظن قوم أن هذا بظاهره يقتضي الوصال وهذا لا يصح لوجهين
أحدهما أن فيه تكليف ما لا يطاق
الثاني أنه لو اقتضى وصالا غير محدود لما تحصل لأحد تقديره لاختلاف أحوالهم فيه
والصحيح أنه خرج على العرف أي أن تصوموا الأيام وتفطروا منها زمنا مخصوصا وكان عندهم متعينا إما بالعرف المتقدم فيكون الخطاب نصا وإما ببيان من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون الخطاب مجملا حتى بينه الشارع صلى الله عليه وسلم
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (فمن كان منكم مريضا أو على سفر) *))
للمريض ثلاثة أحوال
أحدها ألا يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجبا
الثاني أنه يقدر على الصوم بضرر ومشقة فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل
وقد أنبأنا أبو الحسن الأزدي أنبأنا الشيخ أبو مسلم عمر بن علي الليثي الحارثي قال أخبرنا الحيري أخبرنا أبو عبد ربه محمد بن عبد الله الحاكم حدثني أبو سعيد النسوي أحمد بن محمد حدثني أبو حسان صهيب بن سليم قال سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي أفطرت يا أبا عبد الله فقلت نعم فقال خشيت أن أضعف عن قبول الرخصة
قلت أنبأنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لعطاء من أي المرض أفطر قال من أي مرض كان كما قال الله تعالى (* (فمن كان منكم مريضا) *
110

قال البخاري ولم يكن هكذا الحديث عند إسحاق وهو الثالث
الثالث المسافر والسفر في اللغة مأخوذ من الانكشاف والخروج من حال إلى حال وهو في عرف اللغة عبارة عن خروج يتكلف فيه مؤنة ويفصل فيه بعد في المسافة ولم يرد فيه من الشارع نص ولكن ورد فيه تنبيه وهو قوله عليه السلام في الصحيح لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم منها
وفي تقديره اختلاف كثير بيناه في المسائل
والعمدة فيه أن العبادة تثبت في الذمية بيقين فلا براءة لها إلا بيقين مسقط وقدر السفر مشكوك فيه حتى يكون سفرا ظاهرا فيسقط الأصل على ما بيناه في أصول الفقه وبحثه فيما يتعلق بمسألتنا أن الله تعالى لما علق الحكم بالسفر علمت العرب ذلك بفضل علمها بلسانها وجري عادتها في أعمالها فلما جاء الأمر اقتصرنا فيه على العربية وعلى هذا الأمر مبنى الخلاف فقال مالك والشافعي أقل السفر يوم وليلة
وقال أبو حنيفة أقله ثلاثة أيام وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفر يوم وليلة وفي حديث وسفر ثلاثة أيام وفي آخر وذكر تمامه فرأى أبو حنيفة أن السفر يتحقق في ثلاثة أيام يوم يتحمل فيه عن أهله ويوم ينزل فيه في مستقره واليوم الأوسط هو الذي يتحقق فيه السير المجرد بتحمل لا عن موضع الإقامة ونزول لا في موضع الإقامة
وقلنا له إذا كان السفر متحققا في اليوم الثاني كما سردت فاليوم الأول مثله ولا عبرة
111

بالتحمل عن الأهل والوطن وإنما المعول في تحقيق السفر على المبيت في غير المنزل ثم التحديد بستة وثلاثين ميلا أو ثمانية وأربعين ميلا مراحل لا تدرك بتحقيق أبدا وإنما هي ظنون فرجل احتاط وزاد ورجل ترخص ورجل تقصر والله أعلم
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (فعدة من أيام أخر) *))
قال علماؤنا هذا القول من لطيف الفصاحة لأن تقديره فأفطر فعدة من أيام أخر كما قال تعالى (* (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) *) [البقرة 196 تقديره فحلق ففدية
وقد عزي إلى قوم إن سافر في رمضان قضاه صامه أو أفطره وهذا لا يقول به إلا ضعفاء الأعاجم فإن جزالة القول وقوة الفصاحة تقتضي فأفطر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الصوم في السفر قولا وفعلا وقد بينا ذلك في شرح الصحيح وغيره
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (فعدة من أيام أخر) *))
يعطي بظاهره قضاء الصوم متفرقا وقد روي ذلك عن جماعة من السلف منهم أبو هريرة
وإنما وجب التتابع في الشهر لكونه معينا وقد عدم التعيين في القضاء فجاز بكل حال
112

المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (فعدة من أيام أخر) *))
يقتضي وجوب القضاء من غير تعيين لزمان وذلك لا ينافي التراخي فإن اللفظ مسترسل على الأزمنة لا يختص ببعضها دون بعض
وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت إن كان ليكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع قضاءه إلا في شعبان للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تصوم بصيامه إذ كان صومه صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان في شعبان
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) *))
وفي هذه الآيات قراءات وتأويلات واختلافات وهي بيضة العقر
قرئ يطيقونه بكسر الطاء وإسكان الياء وقرئ بفتح الطاء والياء وتشديدهما وقرئ كذلك بتشديد الياء الثانية لكن الأولى مضمومة وقرئ يطوقونه والقراءة هي القراءة الأولى وما وراءها وإن روي وأسند فهي شواذ والقراءة الشاذة لا ينبني عليها حكم لأنه لم يثبت لها أصل وقد بينا ذلك في القسم الثاني من علوم القرآن بيانا شافيا
المسألة الرابعة عشرة
إن الآية منسوخة كذلك روي عن ابن عمر وسلمة وثبت ذلك عنهما
وتحقيق القول أن الله تعالى قال من كان صحيحا مقيما لزمه الصوم ومن كان مسافرا أو مريضا فلا صوم عليه ومن كان صحيحا مقيما ولزمه الصوم وأراد تركه فعليه فدية طعام مسكين ثم نسخ الله تعالى ذلك بقوله (* (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) *) [البقرة 185] مطلقا
113

ولهذا المعنى كرره ولولا تجديد الفرض فيه وتحديده وتأكيده ما كان لتكرار ذلك فائدة مقصودة وهذا منتزع عن الناسخ والمنسوخ فلينظر فيه
المسألة الخامسة عشرة قوله تعالى (* (فمن تطوع خيرا فهو خير له) *))
فيه قولان
أحدهما من زاد على طعام مسكين
وقيل من صام وهذا ضعيف لقوله تعالى بعد ذلك (* (وأن تصوموا خير لكم) *) معناه الصوم خير من الفطر في السفر وخير من الإطعام
وتحقيق ذلك أن الصوم الفرض خير من الإطعام النفل والصدقة النفل خير من الصوم النفل
فإن قيل بل معناه أن الصوم الفرض خير من الإطعام الذي هو بدله وهو فرض لأنه خير بين شيئين
قلنا قوله تعالى (* (وأن تصوموا خير لكم) *) مرتبط بما قبله من الأقوال والتأويلات فيحتمل أن يكون معناه وصومكم خير من إطعامكم الفرض وتطوعه الزائد عليه ويحتمل أن يكون معناه وصومكم خير من إطعامكم البدل له
ويحتمل أن يكون معناه وصومكم خير لكم من تطوعكم الزائد عليه وبدله ويحتمل أن يكون معناه وصومكم خير لكم من الزائد عليه فربما رغب في تكثير الإطعام وترك الصيام فأعلم أن الصوم خير له
فإن قيل كيف يقال الفرض خير من التطوع ولا يستويان في أصل الوضع وحكم التخيير بين الشيئين أن يستويا في أصل التخيير ثم يتفاضلا فيه
قلنا الصوم خير من الفطر وهو مخير بين فعله وتركه فصار فيه وصف من النفل فكأنه قيل تقديمه أو فعله خير من الإطعام
المسألة السادسة عشرة
الصوم خير من الفطر في السفر قاله مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي الفطر
114

أفضل ولعلمائنا مثله ولهم قول ثالث إن الفطر في الغزو أفضل وتعلق الشافعي بالحديث الصحيح ليس من البر الصوم في السفر وصح أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر في السفر قال ابن شهاب وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلق أصحابنا في أن الفطر في الغزو أفضل بالحديث الصحيح إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا
والصحيح أن الصوم أفضل لعموم قوله تعالى (* (وأن تصوموا خير لكم) *) وأما فطر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه روي في الصحيح أنه قيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينتظرون فطرك فأفطر ولا خلاف في أن من شق عليه الصوم فله الفطر
وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر من وجد قوة فصام فذلك حسن ومن
115

وجد ضعفا فأفطر فذلك حسن فأما عند القرب من العدو فلا ينبغي أن يكون في استحباب الفطر اختلاف قاله ابن حبيب وبه أقول
الآية السادسة والثلاثون
قوله تعالى (* (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) *) [الآية 185]
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (شهر رمضان) *))
تفسير لقوله تعالى (* (كتب عليكم الصيام) *)
ثبت في الصحيح عن طلحة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال أخبرني بما فرض الله علي من الصلاة فقال خمس صلوات في اليوم والليلة قال هل علي غيرهن قال لا إلا أن تطوع وذكر شهر رمضان قال هل علي غيره قال لا إلا أن تطوع الحديث
فجاء هذا تفسيرا للمفروض وبيانا له
116

المسألة الثانية قوله تعالى (شهر رمضان))
يعني هلال رمضان وإنما سمي الشهر شهرا لشهرته ففرض الله علينا الصوم عند رؤية الهلال
وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ففرض علينا عند غمة الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوما عند غمة هلال شوال حتى يدخل في العبادة بيقين ويخرج عنها بيقين
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مصرحا به أنه قال لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال احصوا هلال شعبان لرمضان
117

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) *))
محمول على العادة بمشاهدة الشهر وهي رؤية الهلال وكذلك قال صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته
وقد زل بعض المتقدمين فقال يعول على الحساب بتقدير المنازل حتى يدل ما يجتمع حسابه على أنه لو كان صحو لرئي لقوله صلى الله عليه وسلم فإن غم عليكم فاقدروا له معناه عند المحققين فأكملوا المقدار ولذلك قال فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما وفي رواية فإن غم عليكم فأكملوا صوم ثلاثين ثم أفطروا رواه البخاري ومسلم وقد زل أيضا بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنه قال يعول على الحساب وهي عثرة لا لعا لها
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (فمن شهد منكم الشهر) *))
فيه قولان
الأول من شهد منكم الشهر وهو مقيم ثم سافر لزمه الصوم في بقيته قاله ابن عباس وعائشة
118

الثاني من شهد منكم الشهر فليصم منه ما شهد وليفطر ما سافر
وقد سقط القول الأول بالإجماع من المسلمين كلهم على الثاني وكيف يصح أن يقول ربنا سبحانه فمن شهد منكم الشهر فليصم منه ما لم يشهد وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر في رمضان فصام حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطر المسلمون
المسألة الخامسة
إذا صام في المصر ثم سافر في أثناء اليوم لزمه إكمال الصوم فلو أفطر قال مالك لا كفارة عليه لأن السفر عذر طرأ فكان كالمرض يطرأ عليه
وقال غيره عليه الكفارة وبه أقول لأن العذر طرأ بعد لزوم العبادة ويخالف المرض والحيض لأن المرض يبيح له الفطر يحرم عليه الصوم والسفر لا يبيح له ذلك فوجبت عليه الكفارة لهتك حرمته
المسألة السادسة
لا خلاف أنه يصومه من رآه فأما من أخبر به فيلزمه الصوم لأن رؤيته قد تكون لمحة فلو وقف صوم كل واحد على رؤيته لكان ذلك سببا لإسقاطه إذ لا يمكن كل أحد أن يراه وقت طلوعه وإن وقت الصلاة الذي يشترك في دركه كل أحد ويمتد أمده يعلم بخبر المؤذن فكيف الهلال الذي يخفى أمره ويقصر أمده
وقد اختلف العلماء في وجه الخبر عنه فمنهم من قال يجزي فيه خبر الواحد كالصلاة قاله أبو ثور ومنهم من أجراه مجرى الشهادة في سائر الحقوق قاله مالك ومنهم من أجرى أوله مجرى الإخبار وأجرى آخره مجرى الشهادة وهو الشافعي وهذا تحكم ولا عذر له في الاحتياط للعبادة فإنه يحتاط لدخولها كما يحتاط لخروجها والاحتياط لدخولها ألا تلزم إلا بيقين
وأما أبو ثور فاستظهر بما روي عن ابن عباس قال جاء أعرابي إلى رسول الله
119

صلى الله عليه وسلم فقال أبصرت الهلال الليلة فقال أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله قال نعم قال يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا خرجه النسائي والترمذي وأبو داود
وقال أبو داود قال ابن عمر رضي الله عنه أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيت الهلال فصام وأمر الناس بالصيام
واعترض بعضهم على خبر ابن عباس أنه روي مرسلا تارة وتارة مسندا وهذا مما لا يقدح عندنا في الإخبار وبه قال النظام لأن الراوي يسنده تارة ويرسله تارة أخرى ويسنده رجل ويرسله آخر
وقيل يحتمل حديث ابن عمر أن يكون رآه غيره قبله وهذا تحكم وزيادة على السبب ولو كان هذا جائزا لبطل كل خبر بتقدير الزيادة فيه
فإن قيل نؤيده بالأدلة
قلنا لا دليل إنما الصحيح فيه قبول الخبر من العدل ولزوم العمل به
المسألة السابعة
إذا أخبر مخبر عن رؤية بلد فلا يخلو أن يقرب أو يبعد فإن قرب فالحكم واحد وإن بعد فقد قال قوم لأهل كل بلد رؤيتهم
وقيل يلزمهم ذلك
وفي الصحيح عن كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بن أبي سفيان بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأيت
120

الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيته فقلت ليلة الجمعة فقال أنت رأيته قلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية قال لكنا رأيناه ليلة السبت فقلت له أو لا تكتفي برؤية معاوية قال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
واختلف في تأويل قول ابن عباس هذا فقيل رده لأنه خبر واحد وقيل رده لأن الأقطار مختلفة في المطالع وهو الصحيح لأن كريبا لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بشهادة ولا خلاف في أن الحكم الثابت بالشهادة يجزى فيه خبر الواحد ونظير ما لو ثبت أنه أهل ليلة الجمعة بأغمات وأهل بإشبيلية ليلة السبت فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم لأن سهيلا يكشف من إغمات ولا يكشف من إشبيلية وهذا يدل على اختلاف المطالع
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (ولتكملوا العدة) *))
معناه عدة الهلال كان تسعة وعشرين أو ثلاثين قال ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الشهر تسع وعشرون فإذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا أخرجه مسلم
121

المسألة التاسعة قوله تعالى (* (ولتكبروا الله على ما هداكم) *))
قال علماؤنا معناه تكبروا إذا رأيتم الهلال ولا يزال التكبير مشروعا حتى تصلى صلاة العيد وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر إذا رأى الهلال ويكبر في العيد فأما تكبيره إذا رأى الهلال فلم يثبت أما إنه روى أبو داود وغيره عن قتادة بلاغا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين متعارضين
أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال أعرض عنه
الثاني أنه كان إذا رآه قال هلال خير ورشد آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات ثم يقول الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا
قال القاضي ولقد لكته فما وجدت له طعما
وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار أخبرنا ابن زوج الحرة [أنبأنا النجي] أنبأنا ابن محبوب أنبأنا ابن سورة أنبأنا محمد بن بشار أنبأنا أبو عامر العقدي أنبأنا سليمان بن سفيان المدني أنبأنا بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جده طلحة بن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام
122

قال ابن سورة حسن غريب قال القاضي وهو أثبت من المتقدم
وأما تكبيره صلى الله عليه وسلم في العيد فهي مسألة مشكلة ما وجدت فيها شفاء عند أحد ومقدار الذي تحصل بعد البحث أن للتكبير ثلاثة أحوال حال في وقت البروز إلى صلاة العيد وحال الصلاة وحال بعد الصلاة
فأما تكبير البروز فأخبرنا أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار الأزدي أنبأنا أبو الطيب الطبري أنبأنا أبو الحسن علي بن عمر أخبرنا أبو عبد الله الأملي حدثنا علي بن محمد بن إسماعيل حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبيش حدثنا موسى بن محمد عن عطاء حدثنا الوليد بن محمد حدثنا الزهري أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله ابن عمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى
وذكر عن ابن عمر مثله وعن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر حتى يأتي الجبانة يريد حين يبرز
وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنهم كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى
وأما تكبيره في صلاة العيد فقد اختلف في ذلك العلماء سلفا وخلفا وروينا في ذلك الأحاديث والأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبارا عن السلف
فأما الأحاديث فروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن ومحمد بن مسلم بن شهاب عن عروة عن عائشة وعمار بن ياسر وكثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وعبد الله بن عامر الأسلمي وغيره عن نافع عن ابن عمر واللفظ واحد
123

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر سبعا في الأولى وخمسا في الثانية
وأما أخبار السلف فروي عن علي رضي الله عنه يكبر إحدى عشرة تكبيرة ستا في الأولى وخمسا في الآخرة ويكبر في الأضحى خمس تكبيرات ثلاثا في الأولى وثنتين في الثانية
وروى أيوب عن نافع عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكبر اثنتي عشرة تكبيرة سبعا في الأولى وخمسا في الثانية سوى تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع
وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ثنتي عشرة تكبيرة مثله وروي عن ابن عباس رضي الله عنه ثلاث عشرة تكبيرة سبعا في الأولى وستا في الثانية
وروي عنه إن شئت سبعا أو إحدى عشرة أو ثلاث عشرة
وروي عن ابن مسعود يكبر تسعا خمسا في الأولى وأربعا في الثانية ومثله عن حذيفة وأبي موسى وروي عنهما يكبر في العيدين أربعا كتكبير الجنائز
وقد أرسل سعيد بن العاصي أمير المدينة إلى أربعة من أصحاب الشجرة سألهم عن التكبير في العيدين فقالوا ثماني تكبيرات فذكره لابن سيرين فقال صدق ولكنه أغفل تكبيرة فاتحة الصلاة
واختلف رأي الفقهاء فقال مالك والشافعي والليث وأحمد بن حنبل وأبو ثور سبعا في الأولى وخمسا في الثانية
إلا أن مالكا قال سبعا في الأولى بتكبيرة الإحرام وقال الشافعي سوى تكبيرة الإحرام
124

قال أحمد وأبو ثور سوى تكبيرة القيام وقال الثوري وأبو حنيفة يكبر خمسا في الأولى وأربعا في الثانية ست فيها زوائد وثلاث أصليات بتكبيرة الافتتاح وتكبيرتي الركوع لكن يوالي بين القراءتين ويقدم التكبير في الأولى قبل القراءة ويقدم القراءة في الثانية قبل التكبير
وروى أصحاب أبي حنيفة أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة فاتفقوا على مذهبهم وظن قوم أن هذا كأعداد الوضوء وركعات صلاة الليل وهو وهم من قائله ليس في الوضوء أعداد وقد بيناها ولا في قيام الليل ركعات مقدرة وإنما هو اختلاف روايات في صلاة جماعات فهي كاختلاف الروايات في صلاة الخوف وإنما يترجح فيها عند النظر إليها
أحدها أن يقال إن المرء مخير في كل رواية فمن فعل منها شيئا تم له المراد منها لأن الفرض نفس التكبير لا قدره
وإما أن يقال إن رواية أهل المدينة أرجح لأجل أنهم بالدين أقعد فإنهم شاهدوها فصار نقلهم كالتواتر لها
ويترجح قول مالك على قول الشافعي لأن مالكا رأى تكبيرا يتألف من مجموعه وتر والله وتر يحب الوتر [وإليه أميل]
وقد يمكن تلخيص بعض هذه الروايات بأن يقال إنه يحتمل أن يكون الرواي عد الأصول والزوائد مرة وأخبر عنها فيأتي من مجموعها ثلاث عشرة أو يقتصر على الزوائد في الذكر ويحذف الأصليات الثلاث فيظهر هاهنا التباين أكثر ولكن يفضل الكل ما قدمنا من الرجوع إلى أعمال أهل المدينة والله أعلم
وأما تكبيرة من بعد الصلاة فروى أبو الطفيل عن علي وعمار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في دبر الصلوات المكتوبة من صلاة الفجر غداة عرفة إلى صلاة العصر آخر
125

أيام التشريق يوم دفعه الناس العظمى
ومن حديث أبي جعفر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح من غداة عرفة وأقبل على أصحابه يقول على مكانكم ويقول الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
وروي عن نافع عن ابن عمر أنهم كانوا يكبرون في صلاة الظهر ولا يكبرون في صلاة الصبح كذلك فعل عثمان رضي الله عنه وهو محصور
وروى ربيعة بن عثمان عن سعيد بن أبي هند عن جابر بن عبد الله سمعته يكبر في الصلوات أيام التشريق الله أكبرثلاثا
واختار الشافعي رواية أبي جعفر عن جابر أن يجمع بين التهليل والتكبير والتحميد وذكرها ابن الجلاب من أصحابنا
واختار علماؤنا التكبير المطلق وهو ظاهر القرآن وإليه أميل والله أعلم
وكانت الحكمة في ذلك على ما ذكره علماؤنا رحمه الله عليهم الإقبال على التكبير والتهليل وذكر الله تعالى عند انقضاء المناسك شكرا على ما أولى من الهداية وأنقذ به من الغواية وبدلا عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء والتظاهر بالأحساب وتعديد المناقب على ما يأتي تبيانه في موضعه إن شاء الله تعالى
الآية السابعة والثلاثون
قوله تعالى (* (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم) *
126

عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) [الآية 187]
فيها تسع عشرة مسالة
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى الأئمة البخاري وغيره عن البراء أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا حضر الإفطار فنام الرجل منهم قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال أعندك طعام قلت لا ولكني أنطلق فأطلب وكان يعمل يومه فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قد نام قالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية
وروى الطبري نحوه وأن عمر رضي الله عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت قد نمت فقال ما نمت ثم وقع عليها وصنع كعب بن مالك مثله فغدا عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أعتذر إلى الله وإليك فإن نفسي زينت لي مواقعة أهلي فهل تجد لي من
رخصة فقال له لم تكن بذلك حقيقا يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن
وقد روى أبو داود في أبواب الأذان قال جاء عمر رضي الله عنه فأراد أهله فقالت إني قد نمت فظن أنها تعتل فأتاها فلما أصبح نزلت هذه الآية
127

المسألة الثانية في الرفث
الرفث يكون الإفحاش في المنطق ويكون حديث النساء ويكون مباشرتهن والمراد به هاهنا المباشرة
وقد روي عن ابن عباس أنه قال المباشرة الجمع ولكن الله تعالى كريم يكني وهذا يعضد قول من قال إن معنى قوله تعالى (* (كما كتب على الذين من قبلكم) *) أنهم أهل الكتاب فإنهم كذلك يصومون ثم نسخ الله تعالى ذلك بهذه الآية
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (هن لباس لكم) *))
المعنى هن ستر لكم بمنزلة الثوب ويفضي كل واحد منكم إلى صاحبه ويستتر به ويسكن إليه
والفقه فيه أن كل واحد منكم لا يقدر على الاحتراز من صاحبه لمخالطته إياه ومباشرته له
وقيل المعنى أن كل واحد منكم متعفف بصاحبه مستتر به عما لا يحل له من التعري مع غيره
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) *))
وهذا يدل على قوة رواية عمر وكعب رضي الله عنهما فإنه سبحانه أخبر أنه علم الخيانة ولا بد من وجود ما علم موجودا وإن كان على حديث قيس بن صرمة الذي رواه البخاري فتقديره علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فرخص لكم
128

المسألة الخامسة قوله تعالى (* (فتاب عليكم) *))
قد بينا في كتاب الأمر توبة الله تعالى على عباده ومعنى وصفه بأنه التواب
وقد تاب علينا ربنا هاهنا بوجهين
أحدهما قبوله توبة من أختان نفسه
والثاني تخفيف ما ثقل كما قال تعالى (* (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) *) [المزمل 2] أي رجع إلى التخفيف
قال علماء الزهد وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة خان نفسه عمر فجعلها الله تعالى شريعة وخفف لأجله عن الأمة فرضي الله عنه وأرضاه
المسألة السادسة [قوله تعالى] (* (فالآن باشروهن) *))
معناه قد أحل الله لكم ما حرم عليكم وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي الله عنه لا جوع قيس لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال فالآن كلوا ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله
المسألة السابعة قوله تعالى (* (وابتغوا ما كتب الله لكم) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول ما كتب الله لكم من الحلال
الثاني ما كتب الله لكم من الولد
الثالث ليلة القدر
فالقول الأول عام يشهد له حديث قيس والثاني خاص يشهد له حديث عمر والثالث عام في الثواب والأجر
129

المسألة الثامنة قوله تعالى (* (وكلوا واشربوا) *))
هذا جواب نازلة قيس بن صرمة والأول جواب نازلة عمر رضي الله عنه وبدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) *))
روى الأئمة بأجمعهم قال عدي بن حاتم لما نزلت هذه الآية عمدت إلى عقالين لي أسود وأبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر في الليل إليهما فلا يستبين لي فعمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار ونزل قوله تعالى (* (من الفجر) *)
وروى الأئمة قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنعنكم أذان بلال من سحوركم فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم وليس أن يقول هكذا وصوب يده ورفعها حتى يقول هكذاوضرب بين أصابعه
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (ثم أتموا الصيام إلى الليل) *)
فشرط ربنا تعالى إتمام الصوم حتى يتبين الليل كما جوز الأكل حتى يتبين النهار ولكن إذا تبين الليل فالسنة تعجيل الفطر
وقد روى الأئمة منهم البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم
130

في سفر فصام حتى أمسى فقال لرجل انزل فاجدح لي قال لو انتظرت حتى تمسي قال انزل فاجدح لي إذا رأيت الليل قد أقبل من هاهنا وأدبر من هاهنا فقد أفطر الصائم
المسألة الحادية عشرة
كما أن السنة تعجيل الفطر مخالفة لأهل الكتاب كذلك السنة تقديم الإمساك إذا قرب الفجر عن محظورات الصيام
ومن العلماء من جوز الأكل من الشك في الفجر حتى يتبين منهم ابن عباس والشافعي لقوله تعالى (* (حتى يتبين) *) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال وكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت
وتأوله علماؤنا قاربت الصباح وقاربت تبين الخيط وهو الأشبه بوضع الشريعة وحرمة العبادة لقوله صلى الله عليه وسلم يوشك من يرعى حول الحمى أن يقع فيه وإذا جاء الليل فأكلت لم تخف مواقعة محظور وإذا دنا الصباح لم يحل لك الأكل لأنه ربما أوقعك في المحظور غالبا
المسألة الثانية عشرة
إذا تبين الليل سن الفطر شرعا أكل أو لم يأكل فإن ترك الأكل لعذر أو
131

لشغل جاز وإن تركه قصدا لموالاة الصيام قربة اختلف العلماء فمن رآه جائزا عبد الله بن الزبير كان يصوم الأسبوع ويفطر على الصبر ورآه الأكثر حراما لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب
والصحيح أنه مكروه لأن علة تحريمه معروفة وهي ضعف القوى وإنهاك الأبدان
وروى الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال فقال رجل من المسلمين فإنك تواصل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ويوما ثم رأوا الهلال فقال لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا وهذا يدل على أن ذلك لم يكن محرما وإنما كان شفقة عليهم فلذلك لم يقبلوه ولو كان حراما ما فعلوه
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تواصلوا فأيكم أراد الوصال فليواصل حتى السحر وهذه إباحة لتأخير الفطر ومنع من إيصال يوم بيوم
المسألة الثالثة عشرة لما قال الله تعالى (* (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) *
132

بين بذلك محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع
فأما ظاهر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة فاختلف العلماء فيها على أربعة أقوال
الأول أنها حرام
الثاني أنها مباحة
الثالث أنها مكروهة
الرابع أنها منقسمة بين من يخاف على نفسه التعرض لفساد الصوم وبين من يأمن ذلك على نفسه
وتحقيق القول فيها أنها سبب وداعية إلى الجماع وذريعة داعية إليه فيختلف في حكمها كاختلافهم في تحريم الذرائع التي تدعو إلى المحظورات فأما علماء المالكية فاعتبروا حال الرجل وخوفه على صومه وأمنه عليه من نفسه وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل أزواجه عائشة وغيرها وهو صائم ويأمر بالإخبار بذلك لكن النبي كان أملكنا لإربه
وقد خرج مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى عمر بن أبي سلمة بجوازها وهو شاب فدل أن المعول فيها ما اعتبر علماؤنا من حال المقبل لكن منهم من تجاوز في التفصيل حد الفتيا ونحن نضبط بحول الله تعالى
133

فنقول أما إن أفضى التقبيل والمباشرة إلى المذي فلا شيء فيه لأن تأثيره في الطهارة الصغرى وأما إن خيف إفضاؤه إلى المني فذلك الممنوع والله أعلم
المسألة الرابعة عشرة
إن قيل كيف يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى (* (الخيط الأبيض) *) الفجر ويتأخر البيان مع الحاجة إليه وتأخير البيان عن وقت الحاجة إليه مع بقاء التكليف حتى يقع الخطأ عن المقصود لا يجوز
فالجواب أن البيان كان موجودا فيه لكن على وجه لا يدركه جميع الناس وإنما كان على وجه يختص به بعضهم أو أكثرهم وليس يلزم أن يكون البيان مكشوفا في درجة يطلع عليها كل أحد ألا ترى أنه لم يقع فيه إلا عدي وحده وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف عديا وأنزل الله تعالى البيان فيه جليا
وقد روي في حديث عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له إنك لعريض القفا وضحك ولا يضحك إلا على جائز وليس فيما ذكر له إلا تعريضه للغباوة
المسألة الخامسة عشرة
إذا جوزنا له الوطء قبل الفجر ففي ذلك دليل على جواز طلوع الفجر عليه وهو جنب وذلك جائز إجماعا وقد كان وقع فيه بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كلام ثم استقر الأمر على أنه من أصبح جنبا فإن صومه صحيح وبهذا احتج ابن عباس عليه ومن هاهنا أخذه باستنباطه وغوصه والله أعلم
المسألة السادسة عشرة قوله تعالى (* (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) *))
الاعتكاف في اللغة هو اللبث وهو غير مقدر عند الشافعي وأقله لحظة ولا حد
134

لأكثره وقال مالك وأبو حنيفة هو مقدر بيوم وليلة لأن الصوم عندهما من شرطه
قال علماؤنا لأن الله تعالى خاطب الصائمين وهذا لا يلزم في الوجهين أما اشتراط الصوم فيه بخطابه تعالى لمن صام فلا يلزم بظاهره ولا باطنه لأنها حال واقعة لا مشترطة
وأما تقديره بيوم وليلة لأن الصوم من شرطه فضعيف فإن العبادة لا تكون مقدرة بشرطها ألا ترى أن الطهارة شرط في الصلاة وتنقضي الصلاة وتبقى الطهارة وقد حققنا في مسائل الخلاف دليل وجوب الصوم فيه ويغني الآن لكم عن ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر اعتكف وصم وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي إذا دخلنا معه مسجدا بمدينة السلام لإقامة ساعة يقول انووا الاعتكاف تربحوه
وعول مالك على أن الاعتكاف اسم لغوي شرعي فجاء الشرع في حديث عمر رضي الله عنه بتقدير يوم وليلة فكان ذلك أقله وجاء فعل النبي صلى الله عليه وسلم باعتكاف عشرة أيام [فكان ذلك المستحب فيه]
المسألة السابعة عشرة قوله تعالى (* (في المساجد) *))
مذهب مالك الصريح الذي لا مذهب له سواه جواز الاعتكاف في كل مسجد لأنه تعالى قال (* (وأنتم عاكفون في المساجد) *) فعم المساجد كلها لكنه
135

إذا اعتكف في مسجد لا جمعة فيه للجمعة فمن علمائنا من قال يبطل اعتكافه ولا تقول به بل يشرف الاعتكاف ويعظم ولو خرج من الاعتكاف من مسجد إلى مسجد لجاز له لأنه يخرج لحاجة الإنسان إجماعا فأي فرق بين أن يرجع إلى ذلك المسجد أو إلى سواه
المسألة الثامنة عشرة وهي بديعة
فإن قيل قلتم في قوله تعالى (* (فالآن باشروهن) *) إن المراد به الجماع وقلتم في قوله تعالى (* (ولا تباشروهن) *) إنه اللمس والقبلة فكيف هذا التناقض
قلنا كذلك نقول في قوله تعالى (* (فالآن باشروهن) *) إنها المباشرة بأسرها صغيرها وكبيرها ولولا أن السنة قضت على عمومها ما روت عائشة وأم سلمة في جواز القبلة للصائم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وبإذن النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة في القبلة وهو صائم فخصصناها
فأما قوله تعالى (* (ولا تباشروهن) *) فقد بقيت على عمومها وعضدتها أدلة سواها وهي أن الاعتكاف مبني على ركنين أحدهما ترك الأعمال المباحة بإجماع
الثاني ترك سائر العبادات سواه مما يقطعه ويخرج به عن بابه فإذا كانت العبادات تؤثر فيه والمباحات لا تجوز معه فالشهوات أحرى أن تمنع فيه
المسألة التاسعة عشرة قوله تعالى (* (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) *))
فحرم الله تعالى المباشرة في المسجد وذلك يحرم خارج المسجد لأن معنى الآية ولا تباشروهن وأنتم ملتزمون الاعتكاف في المسجد معتقدون له فهو إذا خرج لحاجة الإنسان وهو ملتزم للاعتكاف في المسجد معتقد له رخص له في حاجة الإنسان للضرورة الداعية إليه وبقي سائر أفعال الاعتكاف كلها على أصل المنع
136

الآية الثامنة والثلاثون
قوله تعالى (* (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) *) [الآية 188]
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى
هذه الآية من قواعد المعاملات وأساس المعاوضات ينبني عليها وهي أربعة هذه الآية وقوله تعالى (* (وأحل الله البيع وحرم الربا) *) [البقرة 275] وأحاديث الغرر واعتبار المقاصد والمصالح وقد نبهنا على ذلك في مسائل الفروع
المسألة الثانية
اعلموا علمكم الله أن هذه الآية متعلق كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز فيستدل عليه بقوله تعالى (* (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) *)
فجوابه أن يقال له لا نسلم أنه باطل حتى تبينه بالدليل وحينئذ يدخل في هذا العموم فهي دليل على أن الباطل في المعاملات لا يجوز وليس فيها تعيين الباطل
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ولا تأكلوا أموالكم) *))
المعنى لا يأكل بعضكم مال بعض كما قال تعالى (* (ولا تقتلوا أنفسكم) *) [النساء 29] وكقوله تعالى (* (فسلموا على أنفسكم) *) [النور 61] المعنى لا يقتل بعضكم بعضا وليسلم بعضكم على بعض
ووجه هذا الامتزاج أن أخا المسلم كنفسه في الحرمة والدليل على الأثر والنظر أما الأثر فقوله صلى الله عليه وسلم مثل المسلمين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمى والسهر
137

وأما النظر فلأن رقة الجنسية تقتضيه وشفقة الآدمية تستدعيه
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ولا تأكلوا) *))
معناه ولا تأخذوا ولا تتعاطوا ولما كان المقصود من أخذ المال التمتع به في شهوتي البطن والفرج قال تعالى (* (ولا تأكلوا) *) فخص شهوة البطن لأنها الأولى
المثيرة لشهوة الفرج
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (بالباطل) *))
يعني بما لا يحل شرعا ولا يفيد مقصودا لأن الشرع نهى عنه ومنع منه وحرم تعاطيه كالربا والغرر ونحوهما والباطل ما لا فائدة فيه ففي المعقول هو عبارة عن المعدوم وفي المشروع عبارة عما لا يفيد مقصودا
المسألة السادسة قوله تعالى (* (وتدلوا بها إلى الحكام) *))
أي توردون كلامكم فيها ضرب للكلام المورود على السامع مثلا بالدلو المورودة على الماء ليأخذ الماء
وحقيقة اللفظ وتدلوا كلامكم أو يكون الكلام ممثلا بالحبل والمال المذكور ممثلا بالدلو لتقطعوا قطعة من أموال غيركم وذلك الغير هو المخاصم
(* (بالإثم) *) أي مقرونة بالإثم
(* (وأنتم تعلمون) *) تحريم ذلك
138

المسألة السابعة
قال علماؤنا هذا النهي محمول على التحريم قطعا غير جائز إجماعا وقد ثبت عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فاقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار
المسألة الثامنة
إذا ثبت هذا فإن مدار حكم الحاكم هو في الظاهر على كلام الخصمين لاحظ له في الباطن لأنه لا يبلغه علمه فلا ينفذ فيه حكمه وإنما يحكم في الظاهر والباطن الظاهر الباطن سبحانه وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم المصطفى للاطلاع على الغيب يتبرأ من الباطن ويتنصل من تعدي حكمه إليه فكيف بغيره من الخلق
المسألة التاسعة
هذا يدل على أن الحاكم مصيب في حكمه في الظاهر وإن أخطأ الصواب عند الله تعالى في الباطن لأنه سبحانه قال (* (وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا) *) بحكمهم (* (وأنتم تعلمون) *) بطلان ذلك والحاكم في عفو الله وثوابه والظالم في سخط الله تعالى وعقابه
الآية التاسعة والثلاثون
قوله تعالى (* (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) *) [الآية 189]
139

فيها اثنتا عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفيه قولان
أحدهما أن ناسا سألوا عن زيادة الأهلة ونقصانها فنزلت هذه الآية
الثاني روي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل لم جعلت الأهلة فأنزل الله تعالى الآية
والحكمة فيه أن الله تعالى خلق الشمس والقمر آيتين وفي الأثر أنه وكل بهما ملكين ورتب لهما مطلعين وصرفهما بينهما لمصلحتين إحداهما دنياوية وهي مقرونة بالشمس والأخرى دينية وهي مبنية على القمر ولهذه الحكمة جعل أهل تأويل الرؤيا الشمس ملكا أعجميا والقمر ملكا عربيا
المسألة الثانية قوله تعالى (* (قل هي مواقيت للناس) *))
يعني في صومهم وإفطارهم وآجالهم في تصرفاتهم ومنافع كثيرة لهم
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (والحج) *))
ما فائدة تخصيص الحج آخرا مع دخوله في عموم اللفظ الأول وهي أن العرب كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور فأبطل الله تعالى فعلهم وقولهم وجعله مقرونا بالرؤية
المسألة الرابعة
إذا ثبت أنه ميقات فعليه يعول لقوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن لم ير فليرجع إلى العدد المرتب عليه وإن جهل أول الشهر عول على عدد الهلال
140

قبله وإن علم أوله بالرؤية بني آخره على العدد المرتب على رؤيته لقوله صلى الله عليه وسلم فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين
وروي فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا
المسألة الخامسة إذا رأى أحد الهلال كبيرا
قال علماؤنا لا يعول على كبره ولا على صغره وإنما هو من ليلته لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال إن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتموه بعد ما تزول
الشمس فهو لليلة المستقبلة
وقد روى مالك أن هلال شوال رئي بعشي فلم يفطر عثمان رضي الله عنه حتى أمسى
وروي عن أبي البختري قال قدمنا حجاجا حتى إذا كنا بالصفاح رأينا هلال ذي الحجة كأنه ابن خمس ليال فلما قدمنا على ابن عباس سألناه فقال جعل الله الأهلة مواقيت يصام لرؤيتها ويفطر لرؤيتها
المسألة السادسة إذا رئي قبل الزوال فهو لليلة المستقبلة
وقال ابن حبيب وابن وهب وغيرهما هو للماضية وروي في ذلك أثر ضعيف عن عمر رضي الله عنه والصحيح عن عمر أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته
المسألة السابعة
قال قوم إن المناسك من صوم وحج تنبني على حساب منازل القمر وقد تقدم الرد عليهم
المسألة الثامنة
عند علمائنا أنه يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج
141

وتعلق بعض علمائنا بقوله تعالى (* (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) *) فجعل جميعها ميقاتا للحج وذلك لا يجوز لأن هذه الآية أفادت بيان حكمة الأهلة في الجملة فأما تخصيص الفوائد بالأهلة وتعيينها فإنما تؤخذ من دليل آخر ألا ترى أنه لا يصام لجميعها فكذلك لا يحج لجميعها وقد بين الله تعالى ذلك في آية أخرى فقال (* (الحج أشهر معلومات) *) [البقرة 197] فبين أن أهلته معلومة مخصوصة من بين جميع الأهلة وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) *))
كان سبب نزولها فيما روى الزهري أن أناسا من الأنصار كانوا إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك من بيته فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فيقتحم الجدار من ورائه ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته حتى بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالعمرة زمن الحديبية فدخل حجرته فدخل رجل من الأنصار على أثره كان من بني سلمة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني أحمسي قال الزهري وكانت الحمس لا يبالون ذلك قال الأنصاري وأنا أحمسي يعني على دينك فأنزل الله تعالى الآية
المسألة العاشرة في تأويلها ثلاثة أقوال
الأول أنها بيوت المنازل
142

الثاني أنها النساء أمرنا بإتيانهن من القبل لا من الدبر
الثالث أنها مثل أمر الناس أن يأتوا الأمور من وجوهها
المسألة الحادية عشرة في تحقيق هذه الأقوال
أما القول إن المراد بها النساء فهو تأويل بعيد لا يصار إليه إلا بدليل فلم يوجد ولا دعت إليه حاجة
وأما كونه في إتيان الأمور من وجوهها فذلك جائز في كل آية فإن لكل حقيقة مثلا منها ما يقرب ومنها ما يبعد
وحقيقة هذه الآية البيوت المعروفة بدليل ما روي في سبب نزولها من طرق متعددة ذكرنا أوعبها عن الزهري فحقق أنها المراد بالآية ثم ركب من الأمثال ما يحمله اللفظ ويقرب ولا يعارضه شيء
المسألة الثانية عشرة
قال علماؤنا هذا دليل على مسألة من الفقه وهي أن الفعل بنية العبادة لا يكون إلا في المندوبات خاصة دون المباح ودون المنهي عنه واقتحام البيوت من ظهورها عند التلبس بالعمرة لم يكن ندبا فيقصد به وجه القربة ولذلك لا يتعلق النذر بمباح ولا منهي عنه وإما يتعلق بكل مندوب وهذا أصل حسن
الآية الموفية أربعين
قوله تعالى (* (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) *) [الآية 19]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في مقدمة لها
إن الله سبحانه بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالبيان والحجة وأوعز إلى عباده على لسانه بالمعجزة والتذكرة وفسح لهم في المهل وأرخى لهم في الطيل ما شاء من المدة بما
143

اقتضته المقادير التي أنفذها واستمرت به الحكمة والكفار يقابلونه بالجحود والإنكار ويعتمدونه وأصحابه بالعداوة والإذاية والباري سبحانه يأمر نبيه عليه السلام وأصحابه باحتمال الأذى والصبر على المكروه ويأمرهم بالإعراض تارة وبالعفو والصفح أخرى حتى يأتي الله بأمره إلى أن أذن الله تعالى لهم في القتال
فقيل إنه أنزل على رسوله (* (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) *) [الحج 39] وهي أول آية نزلت وإن لم يكن أحد قاتل ولكن معناه أذن للذين يعلمون أن الكفار يعتقدون قتالهم وقتلهم بأن يقاتلوهم على اختلاف القراءتين ثم صار بعد ذلك فرضا فقال تعالى (* (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) *)
ثم أمر بقتال الكل فقال (* (فاقتلوا المشركين) *) الآية [التوبة 5] وقيل إن هذه الآية أول آية نزلت
والصحيح ما رتبناه لأن آية الإذن في القتال مكية وهذه الآية مدنية متأخرة
المسألة الثانية في سبب نزولها
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سار إلى العمرة زمن الحديبية فصده المشركون عنها فأمر بقتالهم فبايع على ذلك ثم أذن له في الصلح إلى أمر ربك أعلم به
المسألة الثالثة
قال جماعة إن هذه الآية منسوخة بآية براءة وهذا لا يصح لأنه أمر هاهنا بقتال من قاتل وكذلك أمر بذا بعده فقال تعالى (* (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) *) [التوبة 36] بيد أن أشهب روى عن مالك أن المراد هاهنا أهل المدينة أمروا بقتال من قاتلهم
وقال غيره هو خطاب للجميع وهو الأصح أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه ألا تراه كيف بينها تعالى في سورة براءة بقوله (* (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) *
144

) [التوبة 123] وذلك لأن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداية بهم وبكل من عرض دونهم أو عاونهم فلما فتح الله تعالى مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة وذلك متماد إلى يوم القيامة ممتد إلى غاية هي قول النبي صلى الله عليه وسلم الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة وذلك لبقاء القتال وذلك لقوله تعالى (* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) *) [البقرة 193]
وقيل غايته نزول عيسى بن مريم عليه السلام قال صلى الله عليه وسلم ينزل فيكم ابن مريم
145

حكما مقسطا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وذلك موافق للحديث قبله لأن نزول عيسى عليه السلام من أشراط الساعة وسيقاتل الدجال ويأجوج ومأجوج وهو آخر الأمر
وقال جماعة من الفقهاء إن الجهاد بعد فتح مكة ليس بفرض إلا أن يستنفر الإمام أحدا منهم قاله سفيان الثوري ومال إليه سحنون وظنه قوم بابن عمر حين رأوه مواظبا على الحج تاركا للجهاد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا ثبت ذ لك عنه
وهذا هو دليلنا لأنه أخبر أن الجهاد باق بعد الفتح وإنما رفع الفتح الهجرة وذلك لقوله تعالى (* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) *) يعني كفرا [ويكون الدين لله]
ومواظبة ابن عمر رضي الله عنه على الحج لأنه اعتقد الحق وهو أن الجهاد فرض
146

على الكفاية إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين
ويحتمل أن يكون رأى أنه لا يجاهد مع ولاة الجور
والأول أصح لأنه قد كان في زمانه عدول وجائرون وهو في ذلك كله مؤثر للحج مواظب عليه
المسألة الرابعة
لما أقام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عشرة أعوام أو ثلاثة عشر عاما أو خمسة عشر عاما على اختلاف الروايات في مدة مقامه بمكة ثم تعين القتال بعد ذلك سقط فرض الدعوة إلا على الذين لم تبلغهم وبقيت مستحبة فأما الآن فقد بلغت الدعوة وعمت وظهر العناد ولكن الاستحباب لا ينقطع
روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ادعهم إلى ثلاث خصال فإن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم فذكر الدعاء إلى الشهادة ثم إلى الهجرة أو إلى الجزية وهذا إنما كان بعد نزول آية الجزية وذلك بعد الفتح
وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق من خزاعة وهم غارون فقتل وسبى فعلم صلى الله عليه وسلم الجائز والمستحب
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (ولا تعتدوا) *))
فيها ثلاثة أوجه
أحدها لا تقتلوا من لم يقاتل وعلى هذا تكون الآية منسوخة بقوله تعالى (* (وقاتلوا المشركين كافة) *) [التوبة 36] و (* (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *) [التوبة 5]
الثاني أن معنى قوله تعالى (* (ولا تعتدوا) *) أي لا تقاتلوا على غير الدين كما
147

قال تعالى (* (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) *) يعني دينا
الثالث ألا يقاتل إلا من قاتل وهم الرجال البالغون فأما النساء والولدان والرهبان والحشوة فلا يقتلون وبذلك أمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام إلا أن يكون لهؤلاء إذاية وفيه ست صور
الأولى النساء قال علماؤنا لا تقتلوا النساء إلا أن يقاتلن لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهن خرجه البخاري ومسلم والأئمة وهذا ما لم يقاتلن فإن قاتلن قتلن
قال سحنون في حال المقاتلة
والصحيح جواز قتلهن إذا قاتلن على الإطلاق في حالة المقاتلة وبعدها لعموم قوله تعالى (* (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) *) وقوله تعالى (* (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) *) [البقرة 191] وللمرأة آثار عظيمة في القتال منها الإمداد بالأموال ومنها التحريض على القتال فقد كن يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات للثأر معيرات بالفرار وذلك يبيح قتلهن
148

الثانية الصبيان فلا يقتل الصبي لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذرية خرجه الأئمة كلهم فإن قاتل قتل حالة القتال فإذا زال القتال ففي سماع يحيى في العتبية يقتل وكذلك المرأة
والصحيح أنه لا يقتل فإنه لا تكليف عليه وفي ثمانية أبي زيد لا تقتل المرأة ولا الصبي إذا قاتلا وأخذا بعد ذلك أسيرين إلا أن يكونا قتلا وهذا لا يصح لأن القتل هاهنا ليس قصاصا وإنما هو ابتداء وحد
والذي يقوي عندي قتل المرأة لما فيها من المنة والعفو عن الصبي لعفو الله سبحانه عنه في مسائل الذنوب
الثالثة الرهبان قال علماؤنا لا يقتلون ولا يسترقون بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر لقول أبي بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان وستجد أقواما حبسوا أنفسهم فذرهم وما حبسوا أنفسهم له فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا
ولو ترهبت المرأة روى أشهب عنه أنها لا تهاج
وقال سحنون لا يغير الترهب حكمها
والصحيح عندي رواية أشهب لأنها داخلة تحت قوله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له
الرابعة الزمنى قال سحنون يقتلون وقال ابن حبيب لا يقتلون
والصحيح عندي أن تعتبر أحوالهم فإن كان فيهم إذاية قتلوا وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة
149

الخامسة الشيوخ قال مالك في كتاب محمد لا يقتلون ورأيي قتلهم لما روى النسائي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اقتلوا الشيوخ المشركين واستحيوا شرخهم
وهذا نص ويعضده عموم القرآن ووجود المعنى فيهم من المحاربة والقتال إلا أن يدخلهم التشيخ والكبر في حد الهرم والفند فتعود زمانة ويلحقون بالصورة الرابعة وهي الزمنى إلا أن يكون في الكل إذاية بالرأي ونكاية بالتدبير فيقتلون أجمعون والله أعلم
السادسة العسفاء وهم الاجراء والفلاحون وكل من هؤلاء حشوة وقد اختلف فيهم فقال مالك في كتاب محمد لا يقتلون
وفي وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان لا تقتلن عسيفا
والصحيح عندي قتلهم لأنهم إن لم يقاتلوا فهم ردء للمقاتلين وقد اتفق أكثر العلماء على أن الردء يحكم فيه بحكم المقاتل وخالفهم أبو حنيفة وقد مهدنا الدليل في المسألة وأوضحنا وجوب قتله في مسائل الخلاف بما فيه غنية والله أعلم
150

الآية الحادية والأربعون
قوله تعالى (* (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) *) [الآية 191 192]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
المعنى حيث أخذتموهم وفي هذا دليل ظاهر على قتل الأسير وقد روى الترمذي عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هبط عليه جبريل عليه السلام فقال خيرهم يعني أصحابك في أسرى بدر القتل أو الفداء على أن تقتل منهم قاتلا مثلهم قالوا الفداء ويقتل منا وقد ثبت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فقيل له إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) *)
فيه قولان
أحدهما أنه محكم قاله مجاهد وأبو حنيفة
الثاني أنه منسوخ بقوله تعالى (* (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *) [التوبة 5] وقال قتادة هو منسوخ بقوله تعالى (* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) *) [البقرة 193]
151

قال القاضي أبو بكر بن العربي وقد حضرت في بيت القدس طهره الله بمدرسة أبي عتبة الحنفي والقاضي الريحاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في صدر المجلس بمدارع الرعاء فقال له الريحاني من السيد فقال له رجل سلبة الشطار أمس
وكان مقصدي هذا الحرم المقدس وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم فقال القاضي مبادرا سلوه على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل فيه أم لا فأفتى بأنه لا يقتل فسئل عن الدليل فقال قوله تعالى (* (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) *) قرئ ولا تقتلوهم ولا تقاتلوهم فإن قرئ ولا تقتلوهم فالمسألة نص وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل
فاعترض عليه القاضي الريحاني منتصرا للشافعي ومالك وإن لم ير مذهبهما على العادة فقال هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (* (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *) فقال له الصاغاني هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه فإن هذه الآية التي اعترضت بها علي عامة في الأماكن والآية التي احتججت بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول إن العام ينسخ الخاص فأبهت القاضي الريحاني وهذا من بديع الكلام
وقد سأل بعض المتأخرين من أصحابنا أهل بلادنا فقال لهم إن العام عند أبي
152

حنيفة ينسخ الخاص وهذا البائس ليته سكت عما لا يعلم وأمسك عما لا يفهم وأقبل على مسائل مجردة
وقد روى الأئمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار
فقد ثبت النهي عن القتال فيها قرآنا وسنة فإن لجأ إليها كافر فلا سبيل إليه
وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيها فيقتل بنص القرآن
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) *))
هذا يبين أن الكافر إذا قاتل قتل بكل حال بخلاف الباغي المسلم فإنه إذا قاتل يقاتل بنية الدفع ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح وهذا بين
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) *))
يعني انتهوا بالإيمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم وهذا ما لم يؤسر فإن أسر منعه الإسلام عن القتل وبقي عليه الرق لما روى مسلم وغيره عن عمران بن حصين أن ثقيفا كان حلفاء لبني عقيل في الجاهلية فأصاب المسلمون رجلا من بني عقيل ومعه ناقة له فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج قال أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف وقد كانوا أسروا رجلين من المسلمين فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر به وهو محبوس فيقول
153

يا محمد إني مسلم قال لو كنت قلت ذلك وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين من المسلمين وأمسك الناقة لنفسه
الآية الثانية والأربعون
قوله تعالى (* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) *) [الآية 193]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) *))
يعني كفر بدليل قوله تعالى (* (والفتنة أشد من القتل) *) [البقرة 191] يعني الكفر فإذا كفروا في المسجد الحرام وعبدوا فيه الأصنام وعذبوا فيه أهل الإسلام ليردوهم عن دينهم فكل ذلك فتنة فإن الفتنة في أصل اللغة الابتلاء والاختبار وإنما سمي الكفر فتنة لأن مآل الابتلاء كان إليه فلا تنكروا قتلهم وقتالهم فما فعلوا من الكفر أشد مما عابوه
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ويكون الدين لله) *))
قال النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فإن لم يفعلوا قوتلوا وهم الظالمون لا عدوان إلا عليهم
154

المسألة الثالثة
أن سبب القتل هو الكفر بهذه الآية لأنه تعالى قال (* (حتى لا تكون فتنة) *) فجعل الغاية عدم الكفر نصا وأبان فيها أن سبب القتل المبيح للقتال الكفر
وقد ضل أصحاب أبي حنيفة عن هذا وزعموا أن سبب القتل المبيح للقتال هي الخربة وتعلقوا بقول الله تعالى (* (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) *) [البقرة 19] وهذه الآية تقضي عليها التي بعدها لأنه أمر أولا بقتال من قاتل ثم بين أن سبب قتاله وقتله كفره الباعث له على القتال وأمر بقتاله مطلقا من غير تخصيص بابتداء قتال منه
فإن قيل لو كان المبيح للقتل هو الكفر لقتل كل كافر وأنت تترك منهم النساء والرهبان ومن تقدم ذكره معهم
فالجواب أنا إنما تركناهم مع قيام المبيح بهم لأجل ما عارض الأمر من منفعة أو مصلحة
أما المنفعة فالاسترقاق فيمن يسترق فيكون مالا وخدما وهي الغنيمة التي أحلها الله تعالى لنا من بين الأمم
وأما المصلحة فإن في استبقاء الرهبان باعثا على تخلي رجالهم عن القتال فيضعف حربهم ويقل حزبهم فينتشر الاستيلاء عليهم
155

المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) *))
إباحة لقتالهم وقتلهم إلى غاية هي الإيمان فلذلك قال ابن الماجشون وابن وهب لا تقبل من مشركي العرب جزية
وقال سائر علماءنا تؤخذ الجزية من كل كافر وهو الصحيح
وسمعت الشيخ الإمام أبا علي الرفاء بن عقيل الحنبلي إمامهم ببغداد يقول في قوله تعالى (* (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) *) [التوبة 29]
إن قوله تعالى (* (قاتلوا) *) أمر بالقتل
وقوله تعالى (* (الذين لا يؤمنون بالله) *) سبب للقتال
وقوله تعالى (* (ولا باليوم الآخر) *) إلزام للإيمان بالبعث الثابت بالدليل
وقوله تعالى (* (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) *) بيان أن فروع الشريعة كأصولها وأحكامها كعقائدها
وقوله تعالى (* (ولا يدينون دين الحق) *) أمر بخلع الأديان كلها إلا دين الإسلام
وقوله تعالى (* (من الذين أوتوا الكتاب) *) تأكيد للحجة ثم بين الغاية وبين إعطاء الجزية
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر خرجه البخاري وغيره
وقال المغيرة بن شعبة في قتاله لفارس إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقاتلكم حتى
156

تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا أو تؤدوا الجزية وقال النبي عليه السلام لبريدة ادعهم إلى ثلاث خصال وذكر الجزية وذلك كله صحيح
فإن قيل فهل يكون هذا نسخا أو تخصيصا
قلنا هو تخصيص لأنه سبحانه أباح قتالهم وأمر به حتى لا يكون كفر
ثم قال تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد فخصص من الحالة العامة حالة أخرى خاصة وزاد إلى الغاية الأولى غاية أخرى وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
وقال في حديث آخر أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ثم ذكر في حديث آخر الصوم والحج ولم يكن ذلك نسخا وإنما كان بيانا وكمالا وكذلك لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق ثم بين القتل في مواضع لعشرة أسباب سنبينها في موضعها إن شاء الله تعالى
الآية الثالثة والأربعون
قوله تعالى (* (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى) *
157

عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) [الآية 194]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
قيل إنها نزلت سنة سبع حين قضى النبي صلى الله عليه وسلم عمرته في ذي القعدة عن التي صده عنها كفار قريش سنة ست في الحديبية في ذي القعدة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وقد أخلتها قريش وقضى نسكه ونزلت هذه الآية
المعنى شهر بشهر وحرمة بحرمة وصار ذلك أصلا في كل مكلف قطع به عذر أو عدو عن عبادة ثم قضاها إن الحرمة واحدة والمثوبة سواء
وقيل إن المشركين قالوا أنهيت يا محمد عن القتال في شهر الحرام قال نعم فأرادوا قتاله فيه فنزلت الآية
المعنى إن استحلوا ذلك فيه فقاتلهم عليه فإن الحرمة بالحرمة قصاص
قال علماؤنا وهذا دليل على أن لك أن تبيح دم من أباح دمك وتحل مال من استحل مالك ومن اخذ عرضك فخذ عرضه بمقدار ما قال فيك ولذلك كله تفصيل
أما من أباح دمك فمباح دمه لك لكن بحكم الحاكم لا باستطالتك وأخذ لثأرك بيدك ولا خلاف فيه
وأما من أخذ مالك فخذ ماله إذا تمكنت منه إذا كان من جنس مالك طعاما بطعام وذهبا بذهب وقد أمنت من أن تعد سارقا
وأما إن تمكنت من ماله بما ليس من جنس مالك فاختلف العلماء فمنهم من قال
158

لا يؤخذ إلا بحكم حاكم ومنهم من قال يتحرى قيمته ويأخذ مقدار ذلك وهو الصحيح عندي
وأما إن أخذ عرضك فخذ عرضه لا تتعداه إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه
لكن ليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك فإن المعصية لا تقابل بالمعصية فلو قال لك مثلا يا كافر جاز لك أن تقول له أنت الكافر وإن قال لك يا زان فقصاصك أن تقول يا كذاب يا شاهد زور ولو قلت له يا زان كنت كاذبا فأثمت في الكذب وأخذت فيما نسب إليك من ذلك فلم تربح شيئا وربما خسرت
وإن مطلك وهو غني دون عذر قل يا ظالم يا آكل أموال الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح لي الواجد يحل عرضه وعقوبته أما عرضه فبما فسرناه وأما عقوبته فبالسجن حتى يؤدي
وعندي أن العقوبة هي أخذ المال كما أخذ ماله وأما إن جحدك وديعة وقد استودعك أخرى فاختلف العلماء فيه فمنهم من قال اصبر على ظلمة وأد إليه أمانته لقول النبي صلى الله عليه وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك
159

ومنهم من قال اجحده كما جحدك لكن هذا لم يصح سنده ولو صح فله معنى صحيح وهو إذا أودعك مائة وأودعته خمسين فجحد الخمسين فاجحده خمسين مثلها فإن جحدت المائة كنت قد خنت من خانك فيما لم يخنك فيه وهو المنهي عنه وبهذا الأخير أقول والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) *))
هذه الآية عموم متفق عليه وعمدة فيما تقدم بيانه وفيما جانسه
160

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) *))
هذه مسألة بكر قال علماؤنا رحمة الله عليهم إنما سمي الفعل الثاني اعتداء وهو مفعول بحق حملا للثاني على الأول على عادة العرب قالوا وعلى هذا جاء قوله تعالى (* (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *) [الشورى 4]
والذي أقول فيه إن الثاني كالأول في المعنى واللفظ لأن معنى الاعتداء في اللغة مجاوزة الحد وكلا المعنيين موجود في الأول والثاني وإنما اختلف المتعلق من الأمر والنهي فالأول منهي عنه والثاني مأمور به وتعلق الأمر والنهي لا يغير الحقائق ولا يقلب المعاني بل إنه يكسب ما تعلق به الأمر وصف الطاعة والحسن ويكسب ما تعلق به النهي وصف المعصية والقبح وكلا الفعلين مجاوزة الحد وكلا الفعلين يسوء الواقع به وأحدهما حق والآخر باطل
المسألة الرابعة
تعلق علماؤنا بهذه الآية في مسألة من مسائل الخلاف وهي المماثلة في القصاص وهو متعلق صحيح وعموم صريح وقد اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال
الأول أنه لا قود إلا بحديدة قاله أبو حنيفة وغيره واحتجوا بالحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا قود إلا بحديدة ولا قود إلا بالسيف
الثاني أنه يقتص منه بكل ما قتل إلا الخمر وآلة اللواط قاله الشافعي
الثالث قال علماؤنا يقتل بكل ما قتل إلا في وجهين وصفتين
أما الوجه الأول فالمعصية كالخمر واللواط
161

وأما الوجه الثاني فالسم والنار لا يقتل بهما
قال علماؤنا لأنه من المثل ولست أقواله وإنما العلة فيه أنه من العذاب وقد بلغ ابن عباس أن عليا حرق ناسا ارتدوا عن الإسلام فقال ابن عباس لم أكن لأحرقهم بالنار لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه وهو الصحيح والسم نار باطنة نعوذ بالله من النارين ونسأل الله تعالى الشهادة في سبيله
وأما الوصفان فروى ابن نافع عن مالك إن كانت الضربة بالحجر مجهزة قتل بها وإن كانت ضربات فلا
وقال مالك أيضا ذلك إلى الولي وروى ابن وهب يضرب بالعصا حتى يموت ولا يطول عليه وقاله ابن القاسم
162

وقال أشهب إن رجي أن يموت بالضرب ضرب وإلا أقيد منه بالسيف
وقال عبد الملك لا يقتل بالنبل ولا بالرمي بالحجارة لأنه من التعذيب
واتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله وفقأ عينه قصد التعذيب فعل ذلك به كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقتله الرعاء حسبما روي في الصحيح وإن كان في مدافعة ومضاربة قتل بالسيف
والصحيح من أقوال علمائنا أن المماثلة واجبة إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف
وإلى هذا يرجع جميع الأقوال
وأما حديث أبي حنيفة فهو عن الحسن عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح لوجهين بيناهما في شرح الحديث الصحيح وكذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه في شبه العمد بالسوط والعصا لا يصح أيضا
والذي يصح ما رواه مسلم وغيره عن علقمة بن وائل عن أبيه قال إني لقاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجل يقود آخر بنسعة فقال يا رسول الله هذا قتل أخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلته فقال إنه لو لم يعترف لأقمت عليه البينة قال نعم قتلته قال كيف قتلته قال كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته
وروى أبو داود ولم أرد قتله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل لك من شيء تؤدي عن نفسك فقال ما لي مال إلا كسائي وفأسي قال فترى قومك يشترونك قال أنا أهون على قومي من هذا قال فرمى إليه بنسعته وقال دونك صاحبك فانطلق به الرجل فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قتله فهو مثله فرجع فقال يا رسول
الله بلغني أنك قلت كذا وأخذته بأمرك قال أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك قال لعله قال بلى قال فإن ذاك كذلك قال فرمى بنسعته وخلى سبيله
163

والحديث مشكل وقد بيناه في شرح الحديث الصحيح والذي يتعلق به من مسألتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عليه القتل وقد قتل بالفأس
وروى الأئمة أن يهوديا رضخ رأس جارية على أوضاح لها فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف فرض رأسه بين حجرين اعتمادا للمماثلة وحكما بها
الآية الرابعة والأربعون
قوله تعالى (* (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) *) [الآية 195]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى الترمذي وصححه عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران التجيبي قال كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب فقال يا أيها الناس إنكم لتتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه
فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا (* (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *
164

) وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم
المسألة الثانية في تفسير النفقة
فيها ثلاثة أقوال
الأول أنه ندبهم إلى النفقة في سبيل الله قال النبي صلى الله عليه وسلم من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة الثمانية أي هلم
الثاني أنها واجبة لقوله تعالى (* (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *)
الثالث أن معناه لا تخرجوا بغير زاد توكلا واتكالا
وحقيقة التوكل قد بيناها في موضعها والاتكال على أموال الناس لا يجوز
والقول الأول صحيح لأنه دائم والثاني قد يتصور إذا وجب الجهاد والثالث صحيح لأن إعداد الزاد فرض
المسألة الثالثة في تفسير التهلكة
فيه ستة أقوال
الأول لا تتركوا النفقة
الثاني لا تخرجوا بغير زاد يشهد له قوله تعالى (* (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) *) [البقرة 197]
165

الثالث لا تتركوا الجهاد
الرابع لا تدخلوا على العساكر التي لا طاقة لكم بها
الخامس لا تيأسوا من المغفرة قاله البراء بن عازب
قال الطبري هو عام في جميعها لا تناقض فيه وقد أصاب إلا في اقتحام العساكر فإن العلماء اختلفوا في ذلك فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة وكان لله بنية خالصة فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة
وقيل إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل لأن مقصده واحد منهم وذلك بين في قوله تعالى (* (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) *) [البقرة 27]
والصحيح عندي جوازه لأن فيه أربعة أوجه
الأول طلب الشهادة
الثاني وجود النكاية
الثالث تجرية المسلمين عليهم
الرابع ضعف نفوسهم ليروا أن هذا صنع واحد فما ظنك بالجميع والفرض لقاء واحد اثنين وغير ذلك جائز وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وأحسنوا) *))
فيه ثلاثة أقوال
166

الأول أحسنوا الظن بالله قاله عكرمة
الثاني في أداء الفرائض قاله الضحاك
الثالث أحسنوا إلى من ليس عنده شيء
قال القاضي الإحسان مأخوذ من الحسن وهو كل ما مدح فاعله وليس الحسن صفة للشيء وإنما الحسن خبر من الله تعالى عنه بمدح فاعله وقد بين جبريل عليه السلام أصله للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال له ما الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
الآية الخامسة والأربعون
قوله تعالى (* (وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) *) [الآية 196]
فيها اثنتان وثلاثون مسألة
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وأتموا) *))
فيه سبعة أقوال
الأول أحرموا بهما من دياركم قاله عمر وعلي وسفيان
الثاني أتموهما إلى البيت قاله ابن مسعود
167

الثالث بحدودهما وسننهما قاله مجاهد
الرابع ألا يجمع بينهما قاله ابن جبير
الخامس ألا يحرم بالعمرة في أشهر الحج قاله قتادة
السادس إتمامهما إذا دخل فيهما قاله مسروق
السابع ألا يتجر معهما
قال القاضي رضي الله عنه حقيقة الإتمام للشيء استيفاؤه بجميع أجزائه وشروطه وحفظه من مفسداته ومنقصاته وكل الأقوال محتمل في معنى الآية إلا أن بعضها مختلف فيه
أما قوله أحرم بها من دويرة أهلك فإنها مشقة رفعها الشرع وهدمتها السنة بما وقت النبي صلى الله عليه وسلم من المواقيت
وأما قول ابن مسعود إلى البيت فذلك واجب وفيه تفصيل وله شروط بيانها في موضعها
وأما قول مجاهد فصحيح
وأما ألا يجمع بنيهما فالسنة الجمع بينهما كذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد بيناه في مسائل الخلاف
وأما ألا يحرم بالعمرة في أشهر الحج فهو التمتع
وأما إتمامهما إذا دخل فيهما فلا خلاف بين الأمة فيهما حتى بالغوا فقالوا يلزمه إتمامهما وإن أفسدهما
وأما ألا يتجر فيهما فهو مذهب الفقراء ألا تمتزج الدنيا بالآخرة وهو أخلص في النية وأعظم للأجر وليس ذلك بحرام والكل يبين في موضعه بحول الله وعونه
168

المسألة الثانية الحج
وهو في اللغة عبارة عن القصد وخصه الشرع بوقت مخصوص وبموضع مخصوص على وجه معين على الوجه المشروع وقد كان الحج معلوما عند العرب لكنها غيرته فبين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقته وأعاد على ملة إبراهيم عليه السلام صفته وحث على تعلمه فقال خذوا عني مناسككم
المسألة الثالثة العمرة
وهي في اللغة عبارة عن الزيارة وهي في الشريعة عبارة عن زيارة البيت خصصته الشريعة ببعض موارده وقصرته على معنى من مطلقه على عادتها في ألفاظها على سيرة العرب في لغاتها وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بيان الحج
المسألة الرابعة وجوب العمرة
اختلف العلماء في وجوب العمرة فقال الشافعي هي واجبة ويؤثر ذلك عن ابن عباس
وقال جابر بن عبد الله هي تطوع وإليه مال مالك وأبو حنيفة
وليس في هذه الآية حجة للوجوب لأن الله سبحانه إنما قرنها بالحج في وجوب الإتمام لا في الابتداء فإنه ابتدأ إيجاب الصلاة والزكاة فقال تعالى (* (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) *) [البقرة 11] وابتدأ بإيجاب الحج فقال تعالى (* (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *) [آل عمران 97] ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها فلو حج عشر حجج أو اعتمر عشر عمر لزمه الإتمام في جميعها وإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء وقد مهدنا القول فيها في مسائل الخلاف
169

المسألة الخامسة قوله تعالى (* (لله) *))
الأعمال كلها لله خلق وتقدير وعلم وإرادة ومصدر ومورد وتصريف وتكليف وفائدة هذا التخصيص أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر والتفاخر وقضاء الحوائج وحضور الأسواق وليس لله فيه حظ يقصد ولا قربة تعتقد فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه ثم سامح في التجارة على ما يأتي بيانه إن شاء الله
المسألة السادسة قوله (* (الحج والعمرة) *))
روي عن ابن عباس أنه قرأ والعمرة بالرفع للهاء وحكى قوم أنه إنما فر من فرض العمرة وهذا لا يصح من وجهين
أحدهما أن القراءة ينبني عليها المذهب ولا يقرأ بحكم المذهب
الثاني أنا قد بينا أن النصب لا يقتضي ابتداء الفرض فلا معنى لقراءة الرفع إلا على رأي من يقول يقرأ بكل لغة وقد بينا ذلك في موضعه من القسم الأول من علوم القرآن
المسألة السابعة قوله تعالى (* (فإن أحصرتم) *))
هذه آية مشكلة عضلة من العضل فيها قولان
أحدهما منعتم بأي عذر كان قاله مجاهد وقتادة وأبو حنيفة
الثاني منعتم بالعدو خاصة قاله ابن عمر وابن عباس وأنس والشافعي وهو اختيار علمائنا ورأي أكثر أهل اللغة ومحصليها على أن أحصر عرض للمرض وحصر نزل به الحصر
170

وقد اتفق علماء الإسلام على أن الآية نزلت سنة ست في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة وما كانوا حبسوه ولكن حبسوا البيت ومنعوه وقد ذكر الله تعالى القصة في سورة الفتح فقال (* (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) *) [الفتح 25]
وقد تأتي أفعال يكون فيها فعل وأفعل بمعنى واحد والمراد بالآية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومعناها فإن منعتم ويقال منع الرجل عن كذا فإن المنع مضاف إليه أو إلى الممنوع عنه
وحقيقة المنع عندنا العجز الذي يتعذر معه الفعل وقد بيناه في كتب الأصول والذي يصح أن الآية نزلت في الممنوع بعذر وأن لفظها في كل ممنوع ومعناها يأتي إن شاء الله
المسألة الثامنة في تحقيق جواب الشرط من قوله تعالى (* (فإن أحصرتم) *))
وظاهره قوله (* (فما استيسر من الهدي) *) وبهذا قال أشهب في كتاب محمد عن مالك وروى ابن القاسم أنه لا هدي عليه لأنه لم يكن منه تفريط وإنما الهدي على ذي التفريط وهذا ضعيف من وجهين
أحدهما أن الله تعالى قال (* (فما استيسر من الهدي) *) فهو ترك لظاهر القرآن وتعلق بالمعنى
الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى عن نفسه وعن أصحابه البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ولهم أن يقولوا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل الهدي تطوعا وكذلك كان فأما ظاهر القرآن فلا كلام فيه وأما المعنى فلا يمتنع أن يجعل الباري تعالى الهدي واجبا مع التفريط ومع عدمه عبادة منه لسبب ولغير سبب في الوجهين جميعا
ومن علمائنا من قال وهو ابن القاسم إن الذي عليه الهدي من أحصر بمرض فإنه يتحلل بالعمرة ويهدي
171

وقال أبو حنيفة يتحلل بالمرض في موضعه
وهذا ضعيف من الوجهين أحدهما لا معنى للآية إلا حصر العدو أو الحصر مطلقا فكيف يرجع الجواب إلى مقتضى الشرط أما أنه إن رجع إلى بعضه كان جائزا لدليل كما تقدم من أقوال علمائنا
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) *))
قال ابن عمر رضي الله عنهما خرجنا معتمرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش بيننا وبين البيت فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه
المسألة العاشرة
إن قدم الحلق على النحر لم يكن مسيئا لما روى الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال حلقت قبل أن أنحر قال أنحر ولا حرج
المسألة الحادية عشرة
الحلاق نسك مقصود وقال الشافعي هو إلقاء تفث وما قلناه أصح لأن الله تعالى ذكره ورتبه على نسك وأيضا فإنه في الصحيح ممدوح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله المحلقين قيل والمقصرين يا رسول الله قال يرحم الله المحلقين قيل والمقصرين يا رسول الله قال يرحم الله المحلقين قيل والمقصرين يا رسول الله قال والمقصرين
172

المسألة الثانية عشرة في تأكيد معنى قوله تعالى (* (فإن أحصرتم) *) وتتميمه
وقد بينا أن معنى قوله تعالى (* (أحصرتم) *) منعتم فإن كان المنع بعدو ففيه نزلت الآية كما تقدم وهو يحل في موضعه ويحلق رأسه وينحر هديا إن كان معه أو
يستأنف هديا كما تقدم
وإن كان المنع بمرض لم يحله عند علمائنا إلا البيت فخلافا لأبي حنيفة حيث أجرى الآية على عمومها أخذا بمطلق المنع وزاد أصحابه ومن قال بقوله عن أهل اللغة أنه يقال حصره العدو وأحصره المرض قاله أبو عبيدة والكسائي
قلنا قال غيرهما عكسه وقد بيناها في ملجئة المتفقهين وحقيقته هاهنا منع العدو فإنه منعهم ولم يحبسهم والمنع كان مضافا إلى البيت فلذلك حل في موضعه وهذا المريض المنع مضاف إليه فكان عليه أن يصبر حتى يصير إلى موضع الحل
وللقوم أحاديث ضعيفة وآثار عن السلف أكثرها معنعن وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف
المسألة الثالثة عشرة
لا خلاف بين علماء الأمصار أن الإحصار عام في الحج والعمرة
وقال ابن سيرين لا إحصار في العمرة لأنها غير مؤقتة
173

قلنا وإن كانت غير مؤقتة لكن في الصبر إلى زوال العدو ضرر وفي ذلك نزلت الآية وبه جاءت السنة فلا معدل عنها
المسألة الرابعة عشرة
إذا منعه العدو يحل في موضعه ولا قضاء عليه وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة عليه القضاء لأن الله سبحانه أوجب عليه ما استيسر من الهدي خاصة ولم يذكر قضاء ومتعلقهم أمران
أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى عمرة الحديبية في العام الآخر
قلنا إنما قضاها لأن الصلح وقع على ذلك إرغاما للمشركين وإتماما للرؤيا وتحقيقا للموعد وهي في الحقيقة ابتداء عمرة أخرى وسميت عمرة القضية من المقاضاة لا من القضاء
الثاني المعنى قالوا تحلل من نسكه قبل تمامه فلم يكن بد من قضائه كالفائت والمفسد
قلنا الفاسد هو فيه ملوم والفائت هو فيه منسوب إلى التقصير وهذا مغلوب ولا فائدة في اتباع المعنى مع ما قلناه من ظاهر الآية
المسألة الخامسة عشرة
لا يخلو أن يكون الحاصر كافرا أو مسلما فإن كان كافرا لم يجز قتاله ولو وثق بالظهور ويتحلل في موضعه ولو سأل الكافر جعلا لم يجز لأن ذلك وهن في الإسلام وإن كان الحاصر مسلما لم يجز قتاله بحال ووجب التحلل فإن طلب شيئا ويتخلى عن الطريق جاز دفعه ولم يحل القتال لما فيه من إتلاف المهج وذلك لا يلزم في أداء العبادات فإن الدين أسمح وأما بذل الجعل فلما فيه من دفع أعظم الضررين بأهونهما ولأن الحج مما ينفق فيه المال فيعد هذا من النفقة
174

المسألة السادسة عشرة
إذا حل المحصر نحر هدية حيث حل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية لأن الهدي تابع للمهدي والمهدي حل بموضعه فالهدي أيضا يحل معه
فإن قيل فقد قال الله تعالى (* (حتى يبلغ الهدي محله) *) ومحله البيت العتيق
وقال الله تعالى في قصة الحديبية (* (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) *) [الفتح 25]
قلنا كذلك كان صاحب الهدي وهو المهدي معكوفا أن يبلغ منسكه ولكن حل في موضعه كذلك هديه يجب أن يحل معه
فإن قيل فقد روي أن ناجية بن جندب صاحب بدن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنبي صلى الله عليه وسلم ابعث معي الهدي أنحره في الحرم قال فكيف تصنع به قال أخرجه في أودية لا يقدرون عليه فانطلق به حتى نحره في الحرم
قلنا هذا حديث لم يصح
المسألة السابعة عشرة
إذا عقد الإحرام فصده العدو فلا يخلو أن يعلم أنهم يمنعونه أو لا يعلم فإن تحقق أنه لا يصل إلى البيت فإحرامه ملزم له ألا يحل إلا بالبيت أبدا وإن لم يعلم حل بمنعهم له فإن شك لم يحل إلا أن يشترط ذلك وقد أحرم ابن عمر بالحج ثم قيل له إنه كائن هذا العام بين الناس قتال فقال إن صددنا عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحرم النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم فحل حين منع وأحرم ابن عمر على الشك ولكنه لم يمنع
175

المسألة الثامنة عشرة
إن منع من الطريق خاصة فليأخذ في أخرى إن كانت آمنة وكان المنع متطاولا وإن كان قريبا صبر حتى ينجلي وإن كان حاجا فلا يحل حتى يعلم أن الحج قد فات
وقال أشهب يحل يوم النحر وهذا فيمن كان في المناسك وأما اليائس فيحل إذا تحقق يأسه
المسألة التاسعة عشرة
إذا صد عن عرفة في الحج لزمه أن يصل إلى البيت ويتحلل بعمرة ولو صد عن البيت ومكن من عرفة فإنه يجزئه وعليه عمرة وهدي في مشهور القولين
وقيل الحج باطل وهذا إذا كانت حجة الإسلام أو كان الحج مضمونا فأما إن كان التطوع فلا شيء عليه في الحالين وقد تقدم
المسألة الموفية عشرين
إذا كان الإحصار عن الحج ومعه هدي نحره في موضعه حينئذ كما تقدم
وقال أبو يوسف ومحمد وسفيان لا ينحر إلا يوم النحر مراعاة لظاهر قوله تعالى
(* (حتى يبلغ الهدي محله) *) بكسر الحاء وهو وقت الحل
ونحن نقول إن وقته وقت حل المهدي وقد حل باليأس عن البلوغ ألا ترى أنه تعالى قال (* (ثم محلها إلى البيت العتيق) *) [الحج 33] وأنتم تقولون يوم النحر وإذا سقط المنصوص عليه فسقوط الاستقراء أولى
المسالة الحادية والعشرون قوله تعالى (* (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) *))
هذه الآية نزلت في كعب بن عجرة قال مر بي النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر من رأسي فقال أيؤذيك هوامك قلت نعم
176

فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق ولم يأمر غيره وهم على طمع من دخول مكة فأنزل الله سبحانه وتعالى الآية
فكل من كان مريضا واحتاج إلى فعل محظور من محظورات الأحرام فعله وافتدى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة وهو حديث صحيح متفق عليه من أوله إلى آخره أطعم فرقا بين ستة مساكين أو أهد شاة أو صم ثلاثة أيام
وفي الحديث خلاف وكلام بيناه في شرح الصحيح
المسألة الثانية والعشرون
قال الحسن وعكرمة هو صوم عشرة أيام قالوا لأن الله تعالى ذكر الصيام هاهنا مطلقا وقيده في التمتع بعشرة أيام فيحمل المطلق على المقيد
قلنا هذا فاسد من وجهين
أحدهما أن المطلق لا يحمل على المقيد إلا بدليل في نازلة واحدة حسبما بيناه في أصول الفقه وهاتان نازلتان
الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين في الحديث الصحيح قدر الصيام وذلك ثلاثة أيام
المسألة الثالثة والعشرون
قال علماؤنا يجزئ الطعام في كل موضع وقيل لا يختص منها بمكة إلا الهدي وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي الطعام كالهدي لأن منفعة الهدي لمساكين مكة فالطعام الذي هو عوضه كذلك
وإذا قلنا إنه على الفور فيختص بمكة وإن قلنا إنه على التراخي فيأتي بهما حيث شاء وهو الصحيح
وأما الهدي فإنما جاء القرآن فيه بلفظ النسك وهذا يقتضي أن يذبح حيث شاء فإن لفظ النسك عام في كل موضع
177

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأثر من ولد له فأحب أن ينسك عنه فليفعل
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة أو انسك بشاة فحمل هذا اللفظ هاهنا وهو الهدي على أنه إن شاء أن يجعل هذا النسك هديا جعله وذلك لأن الهدي لا يجوز أن يجعل نسكا والنسك يجوز أن يجعل هديا
المسألة الرابعة والعشرون قوله تعالى (* (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) *))
قال كثير من علمائنا هذا يدل على أن قوله تعالى في أول الآية (* (فإن أحصرتم) *) إنه إحصار العدو لأن الأمن يكون من خوف العدو والبرء يكون من المرض وإليه مال من احتج عن ابن القاسم بأن لا هدي عليه كما تقدم ولا نقول هكذا بل زوال كل ألم من مرض وهو أمن وجاء بلفظ الأمن وهو عام كما جاء بلفظ أحصر وهو عام في العدو والمرض ليكون آخر الكلام على نظام أوله
المسألة الخامسة والعشرون قوله تعالى (* (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) *))
المعنى أكملوا ما بدأتم به من عبادة من حج أو عمرة إلا أن يمنعكم مانع فإن كان مانع حللتم حيث حبستم وتركتم ما منعتم منه ويجزيكم ما استيسر من الهدي بعد حلق رؤوسكم فإذا أمنتم أي زال المانع وقد كنتم حللتم عن عمرة فحججتم فعليكم ما استيسر من الهدي والتمتع يكون بشروط ثمانية
الأول أن يجمع بين العمرة والحج
الثاني في سفر واحد
الثالث في عام واحد
الرابع في أشهر الحج
178

الخامس تقديم العمرة
السادس ألا يجمعهما بل يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة
السابع أن تكون العمرة والحج عن شخص واحد
الثامن أن يكون من غير أهل مكة
ومن هذه الشروط ما هو بظاهر القرآن ومنها مستنبط وذلك أن قوله تعالى (* (فمن تمتع) *) يعني من انتفع بضم العمرة إلى الحج وذلك أن عليه أن يأتي مكة للحج والعمرة مرتين بقصدين متغايرين فإذا انتفع باتحادهما وذلك في سفر واحد وهذا الشروط كلها انتفاع إلا قوله تعالى (* (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) *) فإنه نص
المسألة السادسة والعشرون
اختلف الناس فيما استيسر من الهدي فقال قوم هو بدنة منهم عائشة وابن عمر ومجاهد وعروة ومنهم من قال هو شاة وهو قول أكثر الفقهاء ومالك والشافعي ومنهم من قال هو شاة أو بدنة أو شرك في دم وبه قال ابن عباس والشافعي
فأما من قال إنه بدنة فاحتج بأن الهدي اسم في اللغة للإبل تقول العرب كم هدي فلان أي إبله
ويقال في وصف السنة هلك الهدي وجف الوادي
فيقال له إن كنت تجعل أيسر الهدي بدنة وأكثره ما زاد من العدد عليه من غير حد فيلزمك ألا يجوز هدي بشاة وقد أهدى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم وأهدى أصحابه ولو كان أيسره بدنة ما جازت شاة
وما ذكروه عن العرب فإنما سمت الإبل هديا لأن الهدي يكون منها في الأغلب أو لأنها أعلاه
وأما من قال إن أيسر الهدي شرك في دم فاحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر عام
179

الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة رواه جابر وروى مسلم عن جابر قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقرة كل سبعة منا في بدنة وهذا لا غبار عليه ولا مطمع فيه
المسألة السابعة والعشرون قوله تعالى (* (فمن تمتع بالعمرة) *))
يعني انتفع وقد رويت متعتان إحداهما ما كان من فسخ الحج في العمرة
والثانية ما كان من الجمع بين الحج والعمرة في إحرام أو سفر واحد
فأما فسخ الحج إلى العمرة فروى الأئمة عن ابن عباس قال كانوا يرون العمرة في أشهر الحرم من أفجر الفجور ويقولون إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مهلين بالحج أمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم وقالوا يا رسول الله أي الحل قال الحل كله
وهذه المتعة قد انعقد الإجماع على تركها بعد خلاف يسير كان في الصدر الأول ثم زال
وأما متعة القرآن فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عليها في حجه وكثير من أصحابه
وقال أبو حنيفة هي السنة وقال مالك والشافعي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مفردا وهو الأفضل لأنه لا دم فيه ولا انتفاع بإسقاط عمل ولا سفر
وتعلق أصحاب أبي حنيفة بأدلة منها أن عليا شاهد عثمان رضي الله عنهما ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلما رأى ذلك علي أهل بهما وقال ما كنت أدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد
180

وقال له علي ما تريد أن تنهى عن أمر فعله رسوله الله صلى الله عليه وسلم رواه الأئمة كلهم
وتعلق مالك والشافعي بحديث جابر وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج
ومعنى ما روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله أي أمر بفعله وقد حققنا المسألة في كتب شرح الحديث
وأما المسألة الثالثة وهي الجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد فقال أحمد إنها الأفضل لقوله عليه السلام لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة رواه الأئمة
وقال علماؤنا إنما أشفق النبي صلى الله عليه وسلم على ترك الأرفق لا على ترك الأولى والأرفق لأنه صلى الله عليه وسلم لما أمرهم أن يجعلوها عمرة شق عليهم خلافهم له في الفعل فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي معتذرا إليهم مبينا حاله عندهم
181

وقال لما رأى من شفقتهم ولما رجاه من امتثالهم واقتدائهم وسل سخيمة الجاهلية عن أهوائهم لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة كما أمرتكم به
والذي يقتضيه لفظ الآية من هذه الأقسام إضافة العمرة إلى الحج بقوله تعالى (* (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) *) ولا يصلح هذا اللفظ لفسخ الحج إلى العمرة وإذا امتنع هذا في الآية لم يبق إلا الجمع بين الحج والعمرة فالآية بعد محتملة للقرآن والجمع بينهما إما في لفظ واحد أو في سفر واحد لأنهم كانوا معتمرين فصدهم العدو فحلوا وذلك في أشهر الحج التي من اعتمر فيها ثم حج من عامة في سفره ذلك على ما بيناه من الشروط فيكون متمتعا فبين الله تعالى ذلك له
وكأن المعنى أنتم قد اعتمرتم في أشهر الحج فلو حججتم في هذا العام لكنتم متمتعين وإن كنتم قد صددتم لأن عمرتكم مع حلكم قبل البلوغ إلى البيت عمرة صحيحة كاملة تكون إضافة الحج إليها متعة
المسألة الثامنة والعشرون
قال علماؤنا لا يلزم المكي دم متعة لأنه لم يترفه بإسقاط أحد السفرين فإن ذلك بلده
وقال أبو حنيفة لا يتمتع ولا يقرن من كان من حاضري المسجد الحرام فإن تمتع أو قرن فهو مخطئ وعليه دم لا يأكل منه
واحتج أصحابه بقوله تعالى (* (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) *)
المعنى أن جمع الحج والعمرة ليس لأهل المسجد الحرام ولو كان المراد به الدم لقال تعالى ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وهذا ليس بصحيح لما قدمناه ومعنى الآية أن ذلك الحكم مشروع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام
182

المسألة التاسعة والعشرون
قال علماؤنا يجب على المتمتع الهدي إذا رمى جمرة العقبة لأن الحج حينئذ يتم ويصح منه وصف التمتع وما لم يتم الحج لا يكون متمتعا لأنه لا يعلم هل يخلص به أو يقطع دونه قاطع
وقال أبو حنيفة والشافعي يجب عليه الهدي إذا أحرم بالحج لأن الهدي وجب عليه بضم الحج إلى العمرة وإذا أحرم بالحج فأول الحج كآخره وهذه دعوى لا برهان عليها وقد قدمنا فسادها ولو ذبحه قبل النحر لم يجزه وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي يجزيه بناء على ما تقدم وقد قال تعالى (* (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) *) ولا يجوز الحلق قبل يوم النحر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ولو كان ذبح الهدي جائزا قبل يوم النحر لذبحه وجعلها حينئذ عمرة وقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر
المسألة الموفية ثلاثين
إذا لم يجد الهدي فصيام ثلاثة أيام في الحج قال علماؤنا وذلك بأن يصوم من إحرامه بالحج إلى يوم عرفة هذه حقيقته
وقال أبو حنيفة يصومه في إحرامه بالعمرة لأنه أحد إحرامي المتمتع فجاز صوم الأيام فيه كإحرامه بالحج
ودليلنا قوله تعالى (* (فصيام ثلاثة أيام في الحج) *) فإذا صامه في العمرة فقد أداه قبل وقته فلم يجزه
قال القاضي إذا ثبت هذا قال علماؤنا يصومها قبل يوم عرفة ليكون يوم عرفة
183

مفطرا فذلك اتباع للسنة وأقوى على العبادة ولا يخلو المتمتع أن يجد الهدي أو لا يجده فإن لم يجده وعلم استمرار العدم إلى آخر الحج صام من أوله وإن رجاه آخره إلى مقدار ثلاثة أيام قبل عرفة فيصومه حينئذ لتقع الأيام مصومة في الحج ويخلو يوم عرفة عن الصوم
وهذه المسألة تنبني عندي على أصل وهو ما المراد بقوله تعالى (* (في الحج) *) فإنه يحتمل أيام الحج ويحتمل موضع الحج فإن كان المراد به أيام الحج فهذا القول صحيح لأن آخر أيام الحج يوم النحر ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي لأن الرمي من عمل الحج خالصا وإن لم يكن من أركانه
وإن كان المراد به موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى وهو قول عروة ويقوى جدا وقد روى هشام بن عروة قال أخبرني أبي قال كانت عائشة تصوم أيام منى وكان أبي يصومها وروى الزهري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي خرجه البخاري
والمعنى في ذلك والله أعلم لأنه لم يبق من إقامته إلا بمقدارها يؤكده قوله تعالى (* (وسبعة إذا رجعتم) *) لو كان المراد به أيام الحج لقال إذا أحللتم أو فرغتم فكان معنى قوله تعالى (* (إذا رجعتم) *) عن موضع الحج بإتمام أفعاله وبذلك يتحقق وجوب الصوم لعدم الهدي كما بيناه من قبل
فإن قيل فقد روي في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي أن أيام منى أيام أكل وشرب
قلنا إن ثبت النهي عاما فقد جاء الخبر الصحيح بالتخصيص للمتمتع كما قدمناه
184

المسألة الحادية والثلاثون قوله تعالى (* (إذا رجعتم) *))
يعني إلى بلادكم في قول مالك في كتاب محمد وبه قال الشافعي
وقال مالك في الكتاب إذا رجع من منى
قال القاضي وتحقيق المسألة أن قوله تعالى (* (إذا رجعتم) *) إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص ولا ظاهر أنه أراد البلاد وإنما المراد في الأغلب والأظهر فيه أنه الحج
المسألة الثانية والثلاثون
من حاضرو المسجد الحرام فيه خمسة أقوال
الأول أهل الحرم
الثاني مكة وما قرب منها كذي طوى
الثالث أهل عرفة قاله الزهري
الرابع من دون الميقات قاله أبو حنيفة
الخامس من هو في مسافة لا تقصر الصلاة فيها قاله الشافعي
ولكن وجه سردناه في مسائل الخلاف والفروع
والصحيح فيه من تلزمه الجمعة فهو من حاضري المسجد الحرام والله أعلم
الآية السادسة والأربعون
قوله تعالى (* (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) *) [الآية 197]
فيها إحدى عشرة مسألة
185

المسألة الأولى في تعديد أشهر الحج
وفي ذلك أربعة أقوال
أحدها شوال وذو القعدة وذو الحجة كله قاله ابن عمر وقتادة وطاوس ومالك
الثاني وعشرة أيام من ذي الحجة قاله مالك أيضا وأبو حنيفة
الثالث وعشر ليال من ذي الحجة قاله ابن عباس والشافعي
الرابع إلى آخر أيام التشريق قاله مالك أيضا
فمن قال إنه ذو الحجة كله أخذ بظاهر الآية والتعديد للثلاثة
ومن قال إنه عشرة أيام قال إن الطواف والرمي في العقبة ركنان يفعلان في اليوم العاشر
ومن قال عشر ليال قال إن الحج يكمل بطلوع الفجر يوم النحر لصحة الوقوف بعرفة وهو الحج كله
ومن قال آخر أيام التشريق رأى أن الرمي من أفعال الحج وشعائره وبعض الشهر يسمى شهرا لغة
المسألة الثانية
فائدة من جعله ذا الحجة كله أنه إذا أخر طواف الإفاضة إلى آخره لم يكن عليه دم لأنه جاء به في أيام الحج
المسألة الثالثة
لا خلاف في أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة على التفصيل المتقدم
والفائدة في ذكر الله تعالى لها وتنصيصه عليها أمران
أحدهما أن الله تعالى وضعها كذلك في ملة إبراهيم عليه السلام واستمرت عليه الحال إلى أيام الجاهلية فبقيت كذلك حتى كانت العرب ترى أن العمرة فيها من
186

أفجر الفجور ولكنها كانت تغيرها فتنسئها وتقدمها حتى عادت يوم حجة الوداع إلى حدها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المأثور المنتقى إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا الحديث
الثاني أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر التمتع وهو ضم العمرة إلى الحج في أشهر الحج بين أن أشهر الحج ليست جميع الشهور في العام وإنما هي المعلومات من لدن إبراهيم عليه السلام وبين قوله تعالى (* (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) *) [البقرة 189] أن جميعها ليس الحج تفصيلا لهذه الجملة وتخصيصا لبعضها بذلك وهي شوال وذو القعدة وجميع ذي الحجة وهو اختيار عمر رضي الله عنه وصحيح قول علمائنا فلا يكون متمتعا من أحرم بالعمرة في أشهر العام وإنما يكون متمتعا من أتى بالعمرة في هذه الأشهر المخصوصة
المسألة الرابعة
اختلفوا في تقديرها فقال الشافعي وسواه تقديرها الحج حج أشهر معلومات وهذا التقدير من الشافعي لأنه لا يرى الإحرام في غير أشهر الحج كما لا يرى أحد الإحرام قبل وقت الصلاة بها
وقال مالك وغيره أشهر الحج أشهر معلومات وقد بينا ذلك لغة في ملجئة المتفقهين وعيناه فقها في مسائل الخلاف أن النية تكفي باطنا في التزامه
187

المسألة الخامسة قوله تعالى (* (فمن فرض فيهن الحج) *))
المعنى التزمه بالشروع فيه لأنه فرض عليه بالنية قصدا باطنا وبالإحرام فعلا ظاهرا وبالتلبية نطقا مسموعا قاله ابن حبيب وأبو حنيفة في التلبية
وقد بينا في مسائل الخلاف أن النية تكفي باطنا في التزامه عن فعل أو نطق وقد قال جماعة كما قدمنا منهم الشافعي إن هذا القول يقتضي اختصاص الإحرام بهذه الأشهر
فلا يقدم عليها وأباه أبو حنيفة ومالك
والمسألة مشكلة معضلة وقد استوفينا البيان فيها وأوضحنا لبابه في كتاب التلخيص وأن القول فيها دائر من قبل الشافعي على أن الإحرام ركن من الحج مختص بزمانه ومعولنا على أنه شرط فيقدم عليه وهناك تبين الترجيح بين النظرين وظهر أولى التأويلين في الآية من القولين
المسألة السادسة قوله تعالى (* (فلا رفث ولا فسوق) *))
الرفث كل قول يتعلق بذكر النساء يقال رفث يرفث بكسر الفاء وضمها
وقد يطلق على الفعل من الجماع والمباشرة قال الله تعالى (* (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) *) [البقرة 187] وكان ابن عمر وابن عباس يريان أن ذلك لا يمتنع إلا إذا روجع به النساء وأما إذا ذكره الرجل مفردا عنهن لم يدخل في النهي
وفيه نظر فإن الحج منع فيه من التلفظ بالنكاح وهي كلمة واحدة فكيف بالاسترسال على القول يذكر كله وهذه بديعة
المسألة السابعة قوله تعالى (* (فلا رفث ولا فسوق) *
أراد نفيه مشروعا لا موجودا فإنا نجد الرفث فيه ونشاهده وخبر الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره فإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا كقوله تعالى (* (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *)
188

[البقرة 228] معناه شرعا لا حسا فإنا نجد المطلقات لا يتربصن فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي
وهذا كقوله تعالى (* (لا يمسه إلا المطهرون) *) [الواقعة 79] إذا قلنا إنه وارد في الآدميين وهو الصحيح أن معناه لا يمسه أحد منهم بشرع فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا إن الخبر قد يكون بمعنى النهي وما وجد ذلك قط ولا يصح أن يوجد فإنهما يختلفان حقيقة ويتضادان وصفا
المسألة الثامنة
إذا وقع الوطء في الحج أفسده لأنه محظور كالأكل في الصوم أو الكلام في الصلاة فإن وقعت المباشرة لم تفسده لأن تحريمها لكونها داعية إلى الجماع كما حرم الطيب والنكاح حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ولو وجد الطيب والنكاح لم يفسد الحج فكذلك بالمباشرة
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (ولا فسوق) *))
فيه أقوال كثيرة أمهاتها ثلاث
الأول جميع المعاصي قال النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم فسوق وقتاله كفر
189

الثاني أنه قتل الصيد
الثالث أنه الذبح لغير الله تعالى لأن الحج لا يخلو عن ذبح وكان أهل الجاهلية يذبحونه لغير الله فسقا فشرعه الله تعالى لوجهه نسكا
والصحيح أن المراد بالآية جميعها قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه
وقال الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة فقال الفقهاء الحج المبرور هو الذي لم يعص الله في أثناء أدائه
وقال الفراء الحج المبرور هو الذي لم يعص الله بعده وقد روينا في الحديث المذكور من طريق أبي ذر من حج ثم لم يرفث ولم يفسق بقوله ثم والله أعلم
190

المسألة العاشرة قوله تعالى (* (ولا جدال في الحج) *))
أراد لا جدال في وقته فإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض فعاد بذلك إلى يومه ووقته
وقيل لا جدال في موضعه فإن الوقوف بعرفة لكل أحد من الناس كان من الحمس أو من غيرهم
وكلا القولين صحيح وقد رفع الله تعالى الجدال في الوجهين بين الخلق فلا يكون إلى القيامة ولهذا قرأه العامة وحده بنصب اللام على التبرئة دون الكلمتين اللتين قبله
وقد بينا ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) *
أمر الله تعالى بالتزود من كان له مال ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق أو سائلا فلا خطاب عليه وإنما خاطب الله تعالى أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون نحن المتوكلون والتوكل له شروط بيانها في موضعها يخرج من قام بها بغير زاد ولا يدخل في الخطاب ومن لم يكن له مال فإنه خرج على الأغلب من الخلق وهم المقصرون عن درجة التوكل الغافلون عن حقائقه والله أعلم
الآية السابعة والأربعون
قوله تعالى (* (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين) *) [الآية 198]
فيها عشر مسائل
191

المسألة الأولى في سبب نزولها
ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا في الإسلام أن يتجروا فيها فنزلت الآية (* (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) *) يعني في مواسم الحج
المسألة الثانية
قال علماؤنا في هذا دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه خلافا للفقراء أن الحج دون تجارة أفضل أجرا
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فإذا أفضتم من عرفات) *))
الإفاضة السرعة بالدفع هذا أصله في اللغة لكن المراد به هاهنا دفع وهي حقيقة الإفاضة والإسراع هيئة في الإفاضة لا حقيقة لها ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دفع يسير العنق فإذا وجد فجوة نص
وروي عنه عليه السلام أنه دفع من عرفة فسمع وراءه زجرا شديدا فقال يا أيها الناس إن البر ليس بالإبضاع عليكم بالسكينة
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (من عرفات) *))
موضع معلوم الحدود مشهور عظيم القدر روى الترمذي والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الحج عرفة ثلاثا من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك ورويا ومعهما أبو داود أن عروة بن مضرس الطائي قال أتيت النبي
192

صلى الله عليه وسلم بالموقف يعني بجمع فقلت جئت يا رسول الله من جبل طيء أكللت مطيتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه
وهذا صحيح يلزم البخاري ومسلما إخراجه حسبما بيناه في شرح الصحيح وسترونه هنالك إن شاء الله تعالى
المسألة الخامسة
هذا القول بظاهر القرآن والسنة يقتضي جواز عموم الوقوف بعرفة كلها وإجزاءه وقد قال صلى الله عليه وسلم وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ونحرت هاهنا ومنى كلها منحر ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف خرجه مسلم
وروى النسائي والترمذي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قزح فقال هذا قزح وهذا الموقف وجمع كلها موقف
وروى مسلم أن قبة النبي صلى الله عليه وسلم ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس خرج فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس الحديث
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة
193

المسألة السادسة
لم يبين الله سبحانه وقت الإفاضة وبينها النبي صلى الله عليه وسلم بفعله فإنه وقف حتى غربت الشمس قليلا وذهبت الصفرة وغاب القرص خرجه الأئمة واللفظ لمسلم فكان بيانا لقول الله سبحانه فقالت المالكية الفرض الوقوف بالليل وقال الشافعي وأبو حنيفة الوقوف بالنهار وقال ابن حنبل ليلا أو نهارا على حديث عروة وقد مهدناه في مسائل الخلاف وغيرها
المسألة السابعة قوله تعالى (* (فاذكروا الله) *))
روى جابر بن عبد الله في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غابت الشمس ثم دفع فأتى المزدلفة فصلى فيها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين لم يسبح بينهما ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ودعا وكبر وهلل ووحد فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ثم دفع قبل أن تطلع الشمس خرجه مسلم
المسألة الثامنة قال قوم قوله تعالى (* (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) *))
إشارة إلى الصلاة به دون أن تفعل في الطريق فإن الوقت أخذه بعرفة وتمادى عليه الوجوب في الطريق فكان من حقه أن يصلي وكذلك قال أسامة الصلاة يا رسول الله قال له النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة أمامك حتى نزل المزدلفة فجمع بين الصلاتين فيها خرجه الأئمة حتى قال علماؤنا وأبو حنيفة إن صلاها قبل ذلك لم تجز لقول النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة أمامك فجعله لها حدا
194

المسألة التاسعة
قال علماؤنا ليس المبيت بالمزدلفة ركنا في الحج وقال الشعبي والنخعي هو ركن لقوله تعالى (* (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) *) وهذا لا يصلح لوجهين
أحدهما أنه ليس فيه ذكر المبيت وإنما فيه مجرد الذكر
الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لعروة بن مضرس في الحديث المتقدم إجزاء الحج مع الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة
المسألة العاشرة
المشعر الحرام كله موقف إلا بطن محسر لقول النبي صلى الله عليه وسلم جمع كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر رواه مالك بلاغا وأسنده جماعة منهم عبد الرزاق قال
أخبرنا معمر عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة ومزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر ومنى كلها منحر وفجاج مكة كلها منحر
الآية الثامنة والأربعون
قوله تعالى (* (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) *) [الآية 199]
فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى الأئمة عن جابر قال فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ثم
195

مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقية من شعر فضربت له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها وذكر الحديث المسألة الثانية
اختلف الناس في المراد بهذه الإفاضة على قولين
أحدهما أن المراد به من عرفات مخالفة لقريش قاله الجماعة
الثاني المراد به من المزدلفة إلى منى قاله الضحاك وإنما صار إلى ذلك لأنه رأى الله تعالى ذكر هذه الإفاضة بعد ذكره الوقوف بالمشعر الحرام والإفاضة التي بعد الوقوف بالمشعر الحرام هي الإفاضة إلى منى
وأجاب عن ذلك علماؤنا بأربعة أجوبة
الأول أن في الكلام تقديما وتأخيرا التقدير ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات مع الناس فاذكروا الله عند المشعر الحرام والتقديم والتأخير كثير في القرآن قاله الطبري
الثاني أن (* (ثم) *) بمعنى الواو كما قال تعالى (* (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) *) [البلد 17]
الثالث أن معناه ثم ذكرنا لكم أفيضوا من حيث أفاض الناس فيرجع التعقيب إلى ذكر وجود الشيء لا إلى نفس وجوده كقوله تعالى (* (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن) *) [الأنعام 154] المعنى ثم أخبرناكم آتينا موسى الكتاب فيكون التعقيب في الإخبار لا في الإيتاء
الرابع وهو التحقيق أن المعنى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام يا معشر من حل بالمشعر الحرام أفيضوا من حيث أفاض الناس وأخر الله تعالى الخطاب إلى المشعر الحرام ليعم من وقف بعرفة ومن لم يقف حتى يمتثله مع من وقف
196

الآية التاسعة والأربعون
قوله تعالى (* (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين) *) [الآية 2]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قد بينا في غير موضع حقيقة القضاء والأداء وخصوصا في رسالة نزول الوافد وقد يستعمل في الأداء وهو ما كان من العبادات في وقتها وهي حقيقته التي خفيت على الناس
المسألة الثانية
اختلف العلماء في المراد بالمناسك هاهنا على قولين
أحدهما أنه الذبح
الثاني أنها شعائر الحج
والأظهر عندي أنها الرمي أو جميع معاني الحج لقوله صلى الله عليه وسلم خذوا عني مناسككم والمعني بالآية كلها إذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله تعالى كالتلبية عند الإحرام والتكبير عند الرمي والتسمية عند الذبح
الآية الموفية خمسين
قوله تعالى (* (واذكروا الله في أيام معدودات) *) [الآية 23]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
لا خلاف أن المراد بالذكر هاهنا التكبير وأما التلبية فاعلموا أنها مشروعة إلى رمي الجمرة بالعقبة لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى
جمرة العقبة
197

المسألة الثانية في تحديد هذه الأيام وتعيينها وهي مسألة غريبة
قال علماؤنا أيام الرمي معدودات وأيام النحر معلومات فاليوم الأول معلوم غير معدود واليومان بعد يوم النحر معلومان معدودان واليوم الرابع معدود غير معلوم والذي أصارهم إلى ذلك أنهم قالوا المراد بقوله تعالى (* (واذكروا الله في أيام معدودات) *) بعد قوله تعالى (* (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) *) أنها أيام منى وأن المراد بالذكر التكبير عند الرمي فيها
واعلموا أن أيام منى ثلاثة روى الترمذي والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه فلما قال الله تعالى (* (فإذا أفضتم من عرفات) *) وذلك بعد غروب الشمس من يوم عرفة فاذكروا الله عند المشعر الحرام وذلك الغد من يوم النحر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حسبما تقدم ثم أفيضوا يعني إلى منى على التقدير المتقدم في المسألة الثانية من الآية قبل هذه الآية فصار ذلك اليوم أوله للمشعر الحرام وأخره لمنى فلما لم يختص بمنى لم يعد فيها وصارت أيام منى ثلاثة سوى يوم النحر لأنه أقل الجمع في الأظهر عند الإطلاق حسبما بيناه في كتب الأصول وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالعمل الذي يرفع الإشكال قال حينئذ علماؤنا اليوم الأول غير معدود لأنه ليس من الأيام التي تختص بمنى في قوله تعالى (* (واذكروا الله في أيام معدودات) *) ولا من التي عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله أيام منى ثلاثة وكان معلوما لأن الله تعالى قال (* (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) *) [الحج 28] ولا خلاف أن المراد به النحر وكان النحر في اليوم الأول وهو يوم الأضحى والثاني والثالث ولم يكن في الرابع نحر فكان الرابع غير مراد في قوله تعالى (* (معلومات) *) لأنه لا ينحر فيه وقد بينا ذلك في موضعه وكان مما يرمى فيه فصار معدودا في ذلك لأجل الرمي غير معلوم لعدم النحر فيه
198

والحقيقة أن يوم النحر معدود بالرمي معلوم بالذبح لكنه عند علمائنا ليس مرادا في قوله تعالى (* (واذكروا الله في أيام معدودات) *)
فإن قيل فلم لا يكون كما قلتم يوم النحر مرادا في المعدودات وتكون المعدودات أربعة والمعلومات ثلاثة وكما يعطي ذكر الأيام ثلاثة كذلك يقتضي أربعة
فالجواب أنا لا نمنع أن يسمى بمعدود ولا بمعلوم لأن كل معدود معلوم وكل معلوم معدود لكن يمنع أن يكون مرادا بذكر المعدودات هاهنا من وجهين أحدهما أن يوم النحر كما قدمنا قد استحق أوله الوقوف بالمشعر الحرام ومنه تكون الإفاضة إلى منى فصار ذلك اليوم يوم الإفاضة وبعده قال الله تعالى (* (واذكروا الله في أيام معدودات) *) الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ولو كان يوم النحر معدودا منها لاقتضى مطلق هذا القول لمن نفر في يوم ثاني النحر أن ذلك جائز ولا خلاف أن ذلك ليس له فتبين أنه غير معدود فيها لا قرآنا ولا سنة وهذا منتهى بديع
وقال أبو حنيفة والشافعي الأيام المعلومات أيام العشر ورووا ذلك عن ابن عباس وظاهر الآية يدفعه فلا معنى للاشتغال به
المسألة الثالثة في المراد بهذا الذكر
لا خلاف أن المخاطب به هو الحاج خوطب بالتكبير عند رمي الجمار فأما غير الحاج فهل يدخل فيه أم لا وهل هو أيضا خطاب للحاج بغير التكبير عند الرمي فنقول أجمع فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على أن المراد به التكبير لكل أحد وخصوصا في أوقات الصلوات فيكبر عند انقضاء كل صلاة كان المصلي في جماعة أو وحده يكبر تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام لكن اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال
199

الأول أنه يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو يوسف ومحمد صاحبه والمزني
والثاني مثله في الأول ويقطع العصر من يوم النحر قاله ابن مسعود وأبو حنيفة
الثالث يكبر من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق قاله زيد بن ثابت
الرابع يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى بعد صلاة الصبح من آخر أيام التشريق قاله ابن عمر وابن عباس ومالك والشافعي
فأما من قال إنه يكبر عرفة ويقطع العصر يوم النحر فقد خرج عن الظاهر لأن الله تعالى قال (* (في أيام معدودات) *) وأقلها ثلاثة وقد قال هؤلاء يكبر في يومين فتركوا الظاهر لغير دليل ظاهرة
وأما من قال يوم عرفة وأيام التشريق فقال إنه تعالى قال (* (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله) *) فذكر عرفات داخل في ذكر الأيام وهذا كان يصح لو قال يكبر من المغرب يوم عرفة لأن وقت الإفاضة حينئذ فأما قبل ذلك فلا يقتضيه ظاهر اللفظ
وأما من قال يكبر يوم عرفة من الظهر فهو ظاهر في متعلق قوله تعالى (* (في أيام معدودات) *
لكن يلزمه أن يكون من يوم التروية عند الحلول بمنى
ومن قصره على صلاة الصبح من اليوم الرابع فقد بينا مأخذه في مسائل الخلاف
والتحقيق أن التحديد بثلاثة أيام ظاهر وأن تعينها ظاهر أيضا بالرمي وأن سائر أهل الآفاق تبع للحاج فيها ولولا الاقتداء بالسلف لضعف متابعة الحاج من بين سائر أهل الآفاق إلا في التكبير عند الذبح والله عز وجل أعلم
200

الآية الحادية والخمسون
قوله تعالى (* (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام) *) [الآية 24]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
قال قوم نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأظهر الإسلام ثم خرج وقال الله يعلم إني لصادق ثم خرج ومر بزرع لقوم وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر فنزلت هذه الآية فيه
وقال آخرون هي صفة المنافق وهو أقوى
المسألة الثانية
في هذه الآية عند علمائنا دليل على أن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم لأن الله تعالى بين أن من الخلق من يظهر قولا جميلا وهو ينوي قبيحا
وأنا أقول إنه يخاطب بذلك كل أحد من حاكم وغيره وإن المراد بالآية ألا يقبل أحد على ظاهر قول أحد حتى يتحقق بالتجربة حاله ويختبر بالمخالطة أمره
فإن قيل هذا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وفي رواية إنما أمرت بالظاهر والله يتولى السرائر
201

فالجواب أن هذا الحديث إنما هو في حق الكف عنه وعصمته فإنه يكتفي بالظاهر منه في حالته كما قال في آخر الحديث فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها
وأما في حديث حق ثبوت المنزلة بإمضاء قوله على الغير فلا يكتفي بظاهره حتى يقع البحث عنه ويختبر في تقلباته وأحواله
جواب آخر وذلك أنه يحتمل أن هذا كان في صدر الإسلام حيث كان إسلامهم سلامتهم فأما وقد عم الناس الفساد فلا
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وهو ألد الخصام) *))
يعني ذا جدال إذا كلمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه باطل وهذا يدل على أن الجدال لا يجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء وقد روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم
الآية الثانية والخمسون
قوله تعالى (* (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد) *) [الآية 27] فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها أربعة أقوال
الأول نزلت في الجهاد
الثاني فيمن يقتحم القتال أرسل عمر رضي الله عنه جيشا فحاصروا حصنا
202

فتقدم رجل عليه فقاتل فقتل فقال الناس ألقى بيده للتهلكة فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال كذبوا أوليس الله تعالى يقول (* (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) *)
وحمل هشام بن عامر على الصف حتى شقة فقال أبو هريرة (* (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) *)
الثالث نزلت في الهجرة وترك المال والديار لأجلها روي أن صهيبا أخذه أهله وهو قاصد النبي صلى الله عليه وسلم فافتدى منهم بماله ثم أدركه آخر فافتدى منه ببقية ماله وغيره عمل عمله فأثنى عليهم
الرابع أنها نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاله عمر وقرأ هذه الآية واسترجع وقال قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل
ويروى أن عمر رضي الله عنه كان إذا صلى الصبح دخل مربدا له فأرسل إلى فتيان قد قرأوا القرآن منهم ابن عباس وابن أخي عنبسة فقرأوا القرآن فإذا كانت القائلة انصرفوا قال فمروا بهذه الآية (* (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد) *) فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جانبه اقتتل الرجلان فسمع عمر رضي الله عنه ما قال فقال أي شيء قلت قال لا شيء قال ماذا قلت قال فلما رأى ذلك ابن عباس قال أرى هذا أخذته العزة بالإثم من أمره بتقوى الله فيقول هذا وأنا أشري نفسي ابتغاء مرضاة الله فيقاتله فاقتتل الرجلان فقال عمر لله تلادك يا بن عباس
المسألة الثانية
هذا كله من الأقوال لا امتناع في أن يكون مرادا بالآية داخلا في عمومها إلا أن منه متفقا عليه ومنه مختلف فيه أما القول إنها في الجهاد والهجرة فلا خلاف فيه
203

وأما اقتحام القتال فمختلف فيه تقدم أن الصحيح جوازه وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا خاف منه المرء على نفسه سقط فرضه بغير خلاف وهل يستحب له اقتحام الغرر فيه وتعريض النفس للإذاية أو الهلكة مختلف فيه
وعموم هذه الآية دليل عليه وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى
الآية الثالثة والخمسون
قوله تعالى (* (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) *) [الآية 215]
فيها قولان
أحدهما أنها منسوخة بآية الزكاة كما تقدم في غيرها فإن الزكاة كانت موضوعة أولا في الأقربين ثم بين الله مصرفها في الأصناف الثمانية
الثاني أنها مبينة مصارف صدقة التطوع وهو الأولى لأن النسخ دعوى وشروطه معدومة هنا وصدقة التطوع في الأقربين أفضل منها في غيرهم يدل عليه ما روى الأئمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن فقالت زينب امرأة عبد الله لزوجها أراك خفيف ذات اليد فإن أجزأت عني فيك صرفتها إليك فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فقالت أتجزئ الصدقة مني على زوجي وأيتام في حجري فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة
وفي رواية زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم
وروى النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يد المعطي العليا أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك أدناك
204

وروى مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابدأ بنفسك فتصدق عليها ولا شك أن الحنو على القرابة أبلغ ومراعاة ذي الرحم الكاشح أوقع في الإخلاص
وتمام المسألة يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى
الآية الرابعة والخمسون
قوله تعالى (* (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) *) [الآية 216]
اختلف الناس في هذه الآية
فمنهم من قال إنها نزلت في الصحابة وهم المخاطبون والمكتوب عليهم القتال قاله عطاء والأوزاعي
الثاني أنه مكتوب على جميع الخلق لكن يختلف الحال فيه فإن كان الإسلام ظاهرا فهو فرض على الكفاية وإن كان العدو ظاهرا على موضع كان القتال فرضا على الأعيان حتى يكشف الله تعالى ما بهم وهذا هو الصحيح روى البخاري وغيره عن مجاشع قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فقلت بايعني على الهجرة فقال مضت الهجرة لأهلها قلت علام تبايعنا قال على الإسلام والجهاد
205

وروى الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا وهذه الآية كانت في الدرجة الثانية من إباحة القتال والإذن فيه كما تقدم
الآية الخامسة والخمسون
قوله تعالى (* (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) *) [الآية 217]
اختلف الناس في نسخ هذه الآية فكان عطاء يحلف أنها ثابتة لأن الآيات التي بعدها عامة في الأزمنة وهذا خاص والعام لا ينسخ بالخاص باتفاق
وقال سائر العلماء هي منسوخة واختلفوا في الناسخ فقال الزهري نسخها قوله تعالى (* (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) *) [التوبة 36]
وقال غيره نسختها (* (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) *) [التوبة 29]
وقال غيره نسخها غزو النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا في الشهر الحرام وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام وهذه أخبار ضعيفة
وقال غيره نسختها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة وهذا لا حجة فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم بلغة أن عثمان قتل بمكة وأنهم عازمون على حربه فبايع على دفعهم لا على الابتداء
وقال المحققون نسخها قوله تعالى (* (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *
206

) [التوبة 5] يعني أشهر التسيير فلم يجعل حرمة إلا لزمان التسيير
والصحيح أن هذه الآية رد على المشركين حين أعظموا على النبي صلى الله عليه وسلم القتال والحماية في الشهر الحرام فقال الله تعالى وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة وهي الكفر في الشهر الحرام أشد من القتل فإذا فعلتم ذلك كله في الشهر الحرام تعين قتالكم فيه
الآية السادسة والخمسون
قوله تعالى (* (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *) [جزء من الآية 217]
اختلف العلماء رحمة الله عليهم في المرتد هل يحبط عمله نفس الردة أم لا يحبط إلا على الموافاة على الكفر
فقال الشافعي لا يحبط له عمل إلا بالموافاة كافرا وقال مالك يحبط بنفس الردة
ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم فقال مالك يلزمه الحج لأن الأول قد حبط بالردة وقال الشافعي لا إعادة عليه لأن عمله باق
واستظهر عليه علماؤنا بقول الله تعالى (* (لئن أشركت ليحبطن عملك) *) [الزمر 65] وقالوا هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته لأنه صلى الله عليه وسلم يستحيل منه الردة شرعا
وقال أصحاب الشافعي بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط
عمله فكيف أنتم لكنه لا يشرك لفضل مرتبته كما قال الله تعالى (* (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) *) [الأحزاب 3] وذلك لشرف منزلتهن
207

وإلا فلا يتصور إتيان فاحشة منهن صيانة لصاحبهن المكرم المعظم
قال ابن عباس حين قرأ (* (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما) *) [التحريم 1] والله ما بغت امرأة نبي قط ولكنهما كفرتا
وقال علماؤنا إنما ذكر الموافاة شرطا هاهنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء فمن وافى كافرا خلده الله في النار بهذه الآية ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى فهما آيتان مفيدتان لمعنيين مختلفين وحكمين متغايرين وما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه به وما ورد في أزواجه صلى الله عليه وسلم فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكا لحرمة الدين وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ولكل هتك حرمة عقاب وينزل ذلك منزلة من عصى في شهر حرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام فإن العذاب يضاعف عليه بعدد ما هتك من الحرمات والله الواقي لا رب غيره
الآية السابعة والخمسون
قوله تعالى (* (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) *) [الآية 219]
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها أقوال
الأول ما رواه الترمذي عن أبي ميسرة عن عمرو بن شرحبيل عن عمروالصحيح مرسل دون ذكر عن وقال بدلها إن عمر رضي الله عنه قال اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت الآية التي في البقرة (* (يسألونك عن الخمر والميسر) *) فدعي عمر فقرئت عليه فقال اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت الآية التي في النساء (* (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) *
208

) [النساء 43] فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه فقال اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت الآية التي في المائدة (* (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) *) الآية [المائدة 91] فدعي عمر ررضي الله عنه فقرئت عليه فقال انتهينا
المسألة الثانية في تحقيق اسم الخمر ومعناه
وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين
أحدهما أن الخمر شراب يعتصر من العنب خاصة وما اعتصر من غير العنب كالزبيب والتمر وغيرهما يقال لهما نبيذ قاله أبو حنيفة وأهل الكوفة
الثاني أن الخمر كل شراب ملذ مطرب قاله أهل المدينة وأهل مكة وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة ذكرناها في شرح الحديث ومسائل الخلاف فلا يلتفت إليها
والصحيح ما روى الأئمة أن أنسا قال حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا قليل وعامة خمرها البسر والتمر خرجه البخاري واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم وبادروا الامتثال لاعتقادهم أن ذلك كله خمر
وصح عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر إن تحريم الخمر نزل وهي من خمسة العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير
والخمر ما خامر العقل وقد استوفينا القول في المسألة في مسائل الخلاف اشتقاقا وأصولا وقرآنا وأخبارا
المسألة الثالثة
الميسر ما كنا نشتغل به بعد أن حرمه الله تعالى فما حرم الله فعله وجهلناه حمدنا الله تعالى عليه وشكرناه
209

المسألة الرابعة هل حرمت الخمر بهذه الآية أم لا
قال الحسن حرمت الخمر بهذه الآية وقالت الجماعة حرمت بآية المائدة والصحيح أن آية المائدة حرمتها
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (قل فيهما إثم كبير) *))
وقد احتج بعض علمائنا بهذه الآية على تحريم الخمر لأن الله تعالى قال (* (فيهما إثم كبير) *) وقال في سورة الأعراف (* (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم) *) [الأعراف 33] فلما تناول التحريم الإثم وكان الإثم من صفات الخمر وجب تحريمها
وهذا إنما كان يصح التعلق به لو كان نزول قوله تعالى (* (قل إنما حرم ربي الفواحش) *) [الأعراف 33] فلا يقضى عليه من ذلك بتحريم
المسألة السادسة ما هذا الإثم
فيه قولان
أحدهما أن الإثم ما بعد التحريم والمنفعة قبل التحريم
الثاني أن إثمها كانوا إذا شربوا سكروا فسبوا وجرحوا وقتلوا
والصحيح أنها إثم في الوجهين وتمامها فيما بعد إن شاء الله
المسألة السابعة قوله تعالى (* (ومنافع للناس) *))
في ذلك ثلاثة مذاهب
الأول أنها ربح التجارة
والثاني السرور واللذة
والثالث قال قوم من المبتدعة ما فيها من منفعة البدن لحفظ الصحة القائمة أو جلب الصحة الفانية بما تفعله من تقوية المعدة وسريانها في الأعصاب والعروق
210

وتوصلها إلى الأعضاء الباطنة الرئيسية وتجفيف الرطوبة وهضم الأطعمة الثقال وتلطيفها
والصحيح أن المنفعة هي الربح لأنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح كثير
وأما اللذة فهي مضرة عند العقلاء لأن ما تجلبه من اللذة لا يفي بما تذهبه من التحصيل والعقل حتى إن العبيد الأدنياء وأهل النقص كانوا يتنزهون عن شربها لما فيها من إذهاب شريف العقل وإعدامها فائدة التحصيل والتمييز
وأما منفعة إصلاح البدن فقد بالغ فيها الأطباء حتى إني تكلمت يوما مع بعضهم في ذلك فقال لي لو جمع سبعون عقارا ما وفى بالخمر في منافعها ولا قام في إصلاح البدن مقامها
وهذا مما لا نشتغل به لوجهين
أحدهما أن الذين نزل تحريم الخمر عليهم لم يكونوا يقصدون به التداوي حتى نعتذر عن ذلك لهم
الثاني أن البلاد التي نزل أصل تحريم الخمر فيها كانت بلاد جفوف وحر وضرر الخمر فيها أكثر من منفعتها وإنما يصلح الخمر عند الأطباء للأرياف والبطاح والمواضع الرطبة وإن كانت فيها منفعة من طريق البدن ففيها مضرة من طريق الدين والباري تعالى قد حرمها مع علمه بها فقدرها كيف شئت فإن خالقها ومصرفها قد حرمها
وقد روى مسلم عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه وكره أن يصنعها قال إنما أصنعها للدواء قال ليس بدواء ولكنه داء
وروى أيضا عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر أتتخذ خلا قال لا وروى ذلك عن جماعة
211

فإن قيل وكيف يجوز أن يرد الشرع بتحريم ما لا غنى عنه ولا عوض منه هذا مناقض للحكمة
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه
أحدها أنا لا نقول إنه لا غنى عنها ولا عوض منها بل للمريض عنها ألف غنى وللصحيح والمريض منها عوض من الخل ونحوه
الثاني أن نقول لو كانت لا غنى عنها ولا عوض منها لما امتنع تحريمها ولا استحال أن يمنع الباري تعالى الخلق منها لثلاثة أدلة
الأول أن للباري تعالى أن يمنع المرافق كلها أو بعضها وأن يبيحها وقد آلم الحيوان وأمرض الإنسان
الثاني أن التطبب غير واجب بإجماع من الأمة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق أنه قال يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا من غير حساب وهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون
الثالث أنه لو كان فيها صلاح بدن لكانت فيها ضراوة وذريعة إلى فساد العقل فتقابل الأمران فغلب المنع لما لنا في ذلك من المصلحة المنبه عليها في سورة المائدة
المسألة الثامنة
اختلف العلماء فيما لو استهلكت في الأطعمة والأدوية هل يجوز استعمال ذلك الطعام أو ذلك الدواء أم لا فأجازه ابن شهاب ومنعه غيره وتردد علماؤنا في ذلك
212

والصحيح أنه لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم إنها ليست بدواء ولكنها داء
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (وإثمهما أكبر من نفعهما) *))
وفي تأويل ذلك قولان
أحدهما أن الإثم بعد التحريم أكبر من المنفعة قبل التحريم قاله ابن عباس
الثاني أن الإثم فيما يكون عنها من فساد العمل عند ذهاب العقل أكثر من منفعة اللذة والربح قاله سعيد بن جبير وزاد بأن ذلك لما نزل تورع عنها قوم من المسلمين وشربها آخرون للمنفعة يعني لأجل المنفعة المذكورة فيها لا لمنفعة البدن كما قدمنا حتى نزلت (* (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) *) [النساء 43]
فإن قيل كيف شربت بعد قول الله تعالى (* (فيهما إثم كبير) *) وبعد قوله (* (وإثمهما أكبر من نفعهما) *) وكيف تعاطى مسلم ما فيه مأثم
فالجواب من وجهين
أحدهما أن الله تعالى إنما أراد بالإثم في هذه الآية ما يؤول إليه شربها لا نفس شربها فمن فعل حينئذ ذلك الذي يؤول إليه فقد أثم بما فعل من ذلك لا بنفس الشرب وإن لم يفعل ذلك الذي يؤول إليه لما كان عليه حينئذ إثم فكان هذا مقصد القول على وجه الورع لا على وجه التحريم فقبله قوم فتورعوا وأقدم آخرون على الشرب حتى حقق الله تعالى التحريم فامتنع الكل ولو أراد ربك التحريم لقال لعمر أولا ما قال له آخرا حتى قال انتهينا
الثاني أن الله سبحانه لما ذكر ما فيها من الإثم الموجب للامتناع وقرنه بما فيها من المنفعة المقتضية للإقدام فهم قوم من ذلك التخيير بين الحالين ولو تدبروا قوله تعالى (* (وإثمهما أكبر من نفعهما) *) لغلب الورع فأقدم من أقدم وتورع من تورع حتى نزلت آية التحريم الباحثة الكاشفة لتحقيقه ففهمها الناس وقال عمر رضي الله عنه انتهينا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه فنادى بتحريم الخمر
213

الآية الثامنة والخمسون
قوله تعالى (* (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) *) [الآية 219]
اختلف العلماء فيها على ستة أقوال
الأول أنه ما فضل عن الأهل قاله ابن عباس
الثاني الوسط من غير تبذير ولا إسراف قاله الحسن
الثالث ما سمحت به النفس قاله ابن عباس أيضا
الرابع الصدقة عن ظهر غنى قاله مجاهد
الخامس صدقة الفرض قاله مجاهد أيضا
السادس أنها منسوخة بآية الزكاة قاله ابن عباس أيضا
التنقيح
قد بينا أقسام العفو في مورد اللغة عندما فسرنا قوله تعالى (* (فمن عفي له من أخيه شيء) *) [البقرة 178] فلينظر هنالك واسعد هذه الأقوال بالتحقيق وبالصحة ما عضدته اللغة وأقواها عندي الفضل للأثر المتقدم
وللنظر وهو أن الرجل إذا تصدق بالكثير ندم واحتاج فكلاهما مكروه شرعا فإعطاء اليسير حالة بعد حالة أوقع في الدين وأنفع في المال وقد جاء أبو لبابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجميع ماله وكذلك كعب فقال لهما الثلث
الآية التاسعة والخمسون
قوله تعالى (* (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم) *) [الآية 22]
214

فيها ست مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أنه لما نزلت (* (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) *) الآية [النساء 1] تحرج الناس عن مخالطتهم في الأموال واعتزلوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية (* (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير) *) يعني قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم فكان إذنا في ذلك مع صحة القصد في أن يكون المقصد رفق اليتيم لا أن يقصد رفق نفسه
المسألة الثانية في البحث عن اليتيم
هو في اللغة عبارة عن المنفرد من أبيه وقد يطلق فيها على المنفرد من أمه والأول أظهر لغة وعليه وردت الأخبار والآثار ولأن الذي فقد أباه عدم النصرة والذي فقد أمه عدم الحضانة وقد تنصر الأم لكن نصرة الأب أكثر وقد يحضن الأب لكن الأم أرفق حضانة
المسألة الثالثة
إذا بلغ اليتيم زال عنه اسم اليتم لغة وبقي على حكم اليتم في عدم الاستبداد بالتصرف حتى يؤنس منه الرشد ويأتي بيانه في سورة النساء
المسألة الرابعة
لما أذن الله تعالى للناس في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر لهم وفيهم كان ذلك دليلا على جواز التصرف للأيتام كما يتصرف للأبناء وفي الأثر ما كنت تؤدب منه ولدك فأدب منه يتيمك ولأجل ذلك قال بعض علمائنا إنه يجوز للحاضن أن يتصرف في مال اليتيم تصرف الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك وقد بيناه في مسائل الفروع وبه أقول وأحكم فينفذ بنفوذ فعله له في القليل والكثير على الإطلاق لهذه الآية والله أعلم
215

المسألة الخامسة
إذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره جاز عليه فعله كما قدمناه وإن لم يقدمه وآل عليه لأن الآية مطلقة ولأن الكفالة ولاية عامة
واعلموا أنه لم يؤثر على أحد من الخلفاء أنه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في اللقيط هو حر لك ولاؤه وعلينا نفقته يعني بالولاء الولاية ليس الميراث كما توهمه قوم
المسألة السادسة
فإن قيل فإذا جعلتم للولي أن يتصرف في مال اليتيم تصرفه في مال ابنه بولاية الكفالة كما قدمتم بيانه إن كان بتقديم وال عليه فهل ينكح نفسه من يتيمته أو يشتري من مال يتيمته
قلنا إن مالكا جعل ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة حتى قال في الأعراب الذين يسلمون أولادهم في أعوام المجاعة إلى الكفلة إنهم ينكحونهم إنكاحهم فأما إنكاح الكافل من نفسه فسيأتي في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى
وأما الشراء منه فقال مالك وأبو حنيفة يشتري في مشهور الأقوال إذا كان نظرا له وهو صحيح لأنه من باب الإصلاح المنصوص عليه في الآية
وقال الشافعي لا يجوز ذلك في النكاح ولا في البيع وقد مهدناه في مسائل الخلاف فأما ما نزعه الشافعي من منع النكاح فله فيها طرق بيانها في موضعها هنالك وأما الشراء فطريقه فيها ضعيف جدا إلا أن يدخل معنا في مراعاة الذرائع والتهم فينقض أصله في تركها
فإن قيل فلم ترك مالك أصله في التهمة والذرائع وجوز له ذلك من نفسه مع يتيمته
قلنا إنما نقول يكون ذريعة لما يؤدي من الأفعال المباحة إلى محظور منصوص
216

عليه وأما هاهنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله تعالى (* (والله يعلم المفسد من المصلح) *) وكل أمر مخوف وكل الله تعالى فيه المكلف إلى أمانته لا يقال فيه أنه يتذرع إلى محظور فيمنع منه كما جعل الله سبحانه النساء مؤتمنات على فروجهن مع عظم ما يتركب على قولهن في ذلك من الأحكام ويرتبط به من الحل والحرمة والأنساب وإن جاز أن يكذبن
وهذا فن بديع فتأملوه واتخذوه دستورا في الأحكام وأملوه والله الموفق للصواب برحمته
الآية الموفية ستين))
قوله تعالى (* (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) *) [الآية 221]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
اختلف الناس فيها على ثلاثة أقوال
الأول لا يجوز العقد بنكاح على مشركة كانت كتابية أو غير كتابية قاله عمر في إحدى روايتيه وهو اختيار مالك والشافعي إذا كانت أمة
الثاني أن المراد به وطء من لا كتاب له من المجوس والعرب قاله قتادة
الثالث أنه منسوخ بقوله تعالى (* (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) *) [المائدة 5]
قال القاضي ودرسنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسن الشاشي بمدينة السلام قال احتج أبو حنيفة على جواز نكاح الأمة الكتابية بقوله
217

تعالى (* (ولأمة مؤمنة خير من مشركة) *) ووجه الدليل من الآية أن الله تعالى خاير بين نكاح الأمة المؤمنة والمشركة فلولا أن نكاح الأمة المشركة جائز لما خاير الله تعالى بينهما لأن المخايرة إنما هي بين الجائزين لا بين الجائز والممتنع ولا بين المتضادين ألا ترى أنك لا تقول العسل أحلى من الخل
والجواب عنه من ثلاثة أوجه
الأول أنه تجوز المخايرة بين المتضادين لغة وقرآنا لأن الله تعالى قال (* (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) *) [الفرقان 24] ولا خير عند أهل النار
وقال عمر رضي الله عنه في رسالته إلى أبي موسى الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل
الثاني أنه تعالى قال (* (ولعبد مؤمن خير من مشرك) *) ثم لما لم يجز نكاح العبد المشرك للمؤمنة كذلك لا يجوز نكاح المسلم للمشركة إذ لو دل أحد القسمين على المراد لدل الآخر على مثله لأنهما إنما سيقتا في البيان مساقا واحدا
الثالث قوله تعالى (* (ولأمة) *) لم يرد به الرقيق المملوك وإنما أراد به الآدمية والآدميات والآدميون بأجمعهم عبيد الله وإماؤه قاله القاضي بالبصرة أبو العباس الجرجاني رحمه الله
التنقيح
كل كافر بالحقيقة مشرك ولذلك يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كره نكاح اليهودية والنصرانية وقال أي شرك أعظم ممن يقول عيسى هو الله أو ولده تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فإن حملنا اللفظ على الحقيقة فهو عام خصصته آية سورة النساء ولم تنسخه وإن حملناه على العرف فالعرف إنما ينطلق فيه لفظ المشرك على من ليس له كتاب من
218

المجوس والوثنيين من العرب وقد قال الله تعالى (* (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) *) [البقرة 15] وقال (* (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين) *) [البينة 1] فلفظ الكفر يجمعهم ويخصهم ذلك التقسيم
فإن قيل إن كان اللفظ خاصا كما قلتم فالعلة تجمعهم وهي معنى قوله تعالى (* (أولئك يدعون إلى النار) *) وهذا عام في الكتابي والوثني والمجوسي
قلنا لا نمنع في الشرع أن تكون العلة عامة والحكم خاصا أو أزيد من العلة لأنها دليل في الشرع وأمارات وليست بموجبات
ويحتمل أن يكون معنى قوله تعالى (* (أولئك يدعون إلى النار) *) يرجع إلى الرجال في قوله تعالى (* (ولعبد مؤمن خير من مشرك) *) لا إلى النساء لأن المرأة المسلمة لو تزوجت كافرا حكم عليها حكم الزوج على الزوجة وتمكن منها ودعاها إلى الكفر ولا حكم للمرأة على الزوج فلا يدخل هذا فيها والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ولو أعجبكم) *)
قال بعضهم معناه وإن أعجبكم وإنما أوقعه في ذلك علمه بأن لو تفتقر إلى جواب ونسي أن إن أيضا تفتقر إلى جزاء
وتأويل الكلام لا تنكحوا المشركات ابتداء ولو أعجبكم حسنهن كما تقول لا تكلم زيدا وإن أعجبك منطقه
المسألة الثالثة
قال محمد بن علي بن حسين النكاح بولي في كتاب الله تعالى ثم قرأ ولا تنكحوا المشركين بضم التاء وهي مسألة بديعة ودلالة صحيحة
الآية الحادية والستون
قوله تعالى (* (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) *
219

) [الآية 222]
فيها اثنتان وعشرون مسألة
المسألة الأولى سبب السؤال
وقد اختلف العلماء فيه على قولين
فروى أنس بن مالك كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى (* (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) *)
فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤاكلوهن ويشاربوهن وأن يكونوا في البيت معهن وأن يفعلوا كل شيء ما خلا النكاح
فقالت اليهود ما يريد محمد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن الحضير وعباد بن بشر فقالا يا رسول الله ألا نخالف اليهود فنطأ النساء في المحيض فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه قد وجد عليهما قال فقاما فخرجا عنه فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهما فسقاهما فعلما أنه لم يجد عليهما وهذا حديث صحيح متفق عليه من الأئمة
المسألة الثانية
كان غضب النبي صلى الله عليه وسلم عليهما لأحد أمرين إما كراهية من كثرة الأسئلة ولذلك كان عليه السلام يقول ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم
220

وأما أن يكون كره الأطماع المتعلقة بالرذائل وإن كانت مقترنة باللذات والوطء في حالة الحيض رذيلة يستدعي عزوف النفس وعلو الهمة الانكفاف عنه لو كان مباحا كيف وقد وقع النهي عنه لا سيما ممن تحقق في الدين علمه وثبت في المروءة قدمه كأسيد وعباد
وقد روي عن مجاهد قال كانوا يأتون النساء في أدبارهن في المحيض فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية وهذا ضعيف يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة في تفسير المحيض
وهو مفعل من حاض يحيض إذا سال حيضا تقول العرب حاضت الشجرة والسمرة إذا سالت رطوبتها وحاض السيل إذا سال قال الشاعر
(أجالت حصاهن الذواري وحيضت
* عليهن حيضات السيول الطواحم)
وهو عبارة عن الدم الذي يرخيه الرحم فيفيض ولها ثمانية أسماء
الأول حائض الثاني عارك الثالث فارك الرابع طامس الخامس دارس السادس كابر السابع ضاحك الثامن طامث
قال مجاهد في قوله تعالى (* (فضحكت) *) [هود 71] يعني حاضت وقال الشاعر
(ويهجرها يوما إذا هي ضاحك
*)
وقال أهل التفسير (* (فلما رأينه أكبرنه) *) [يوسف 31] يعني حضن وأنشدوا في ذلك
221

(يأتي النساء على أطهارهن ولا
* يأتي النساء إذا أكبرن إكبار))
المسألة الرابعة
المحيض مفعل من حاض فعن أي شيء يكون عبارة عن الزمان أم عن المكان أم عن المصدر حقيقة أم مجاز
وقد قيل إنه عبارة عن زمان الحيض وعن مكانه وعن الحيض نفسه
وتحقيقه عند مشيخة الصنعة قالوا إن الاسم المبني من فعل يفعل للموضع مفعل بكسر العين كالمبيت والمقيل والاسم المبني منه على مفعل بفتح العين يعبر به عن المصدر كالمضرب تقول إن في ألف درهم لمضربا أي ضربا ومنه قوله تعالى (* (وجعلنا النهار معاشا) *) [النبأ 11] أي عيشا وقد يأتي المفعل بكسر العين للزمان كقولنا مضرب الناقة أي زمان ضرابها
وقد يبنى المصدر أيضا عليه إلا أن الأصل ما تقدم وذلك كقوله تعالى (* (إلى الله مرجعكم) *) [المائدة 48] أي رجوعكم وكقوله تعالى (* (ويسألونك عن المحيض) *) أي عن الحيض
وإذا علمت هذا من قولهم فالصحيح عندي أن كل فعل لا بد لكل متعلق من متعلقاته من بناء يختص به قصدا للتمييز بين المعاني بالألفاظ المختصة بها وهي سبعة الفاعل والمفعول والزمان والمكان وأحوال الفعل الثلاثة من ماض ومستقبل وحال ويتداخلان ثم يتفرع إلى عشرة وإلى أكثر منها بحسب تزايد المتعلقات
وكل واحد من هذه الأبنية يتميز بخصيصته اللفظية عن غيره تميزه بمعناه وقد يتميز ببنائه في حركاته وتردداته المتصلة وتردداته المنفصلة كقولك معه وله وبه وغير ذلك
فإذا وضع العربي أحدهما موضع الآخر جاز وهذا على جهة الاستعارة وهذا بين للمنصف استقصيناه من كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين فإذا ثبت هذا وقلت معنى قوله تعالى (* (ويسألونك عن المحيض) *
222

) زمان الحيض صح ويكون حينئذ مجازا على تقدير محذوف دل عليه السبب الذي كان السؤال بسببه تقديره ويسألونك عن الوطء في زمان الحيض
وإن قلت إن معناه موضع الحيض كان مجازا في مجاز على تقدير محذوفين تقديره (* (ويسألونك عن المحيض) *) أي عن الوطء في موضع الحيض حالة الحيض لأن أصل اسم الموضع يبقى عليه وإن زال الذي لأجله سمي به فلا بد من تقدير تحقيق في هذا الاحتمال لظهور المجاز فيه
وإن قلت معناه ويسألونك عن الحيض كان مجازا على تقدير محذوف واحد تقديره ويسألونك عن منع الحيض وهذا كله متصور متقرر على رواية مجاهد وثابت ابن الدحداح وحديث أنس متقدر عليها كله تقديرا صحيحا فيتبين عند التنزيل فلا يحتاج إلى بسطه بتطويل
المسألة الخامسة
في اعتباره شرعا الدماء التي ترخيها الرحم دم عادة وهو المعتبر ودم علة يعتبر غالبا عند علمائنا وفيه خلاف وكلاهما معروف والأرحام التي ترخيها ثنتان حامل وحائل والحائل تنقسم إلى أربعة مبتدأة ومعتادة ومختلطة ومستحاضة ثم تتفرع بالأحوال والزمان إلى ثلاثين قسما بيانها في كتاب المسائل ولكل حال منها حكم
المسألة السادسة قوله تعالى (* (قل هو أذى) *))
فيه أربعة أقوال
الأول قذر قال قتادة والسدي
الثاني دم قاله مجاهد
الثالث نجس
الرابع مكروه يتأذى بريحه وضرره أو نجاسته
223

والصحيح هذا الرابع بدليلين أحدهما أنه يعمها
الثاني قوله تعالى (* (إن كان بكم أذى من مطر) *) [النساء 12]
ويصح رجوعه إلى الاحتمالات الثلاثة المتقدمة وتقديره يسألونك عن موضع الحيض قل هو أذى فيكون رجوعه إلى حقيقة مجازا ويكون رجوعه إلى مجازه حقيقة وهذا من بديع التقدير
المسألة السابعة
اختلف علماؤنا في دم الحيض فقال بعضهم هو كسائر الدماء يعفى عن قليلة ومنهم من قال قليله وكثيره سواء في التحريم رواه أبو ثابت عن ابن القاسم وابن وهب وابن سيرين عن مالك وجه الأول عموم قوله تعالى (* (أو دما مسفوحا) *) [الأنعام 145] وهذا يتناول الكثير دون القليل
ووجه الثاني قوله تعالى (* (قل هو أذى) *) وهذا يعم القليل والكثير ويترجح هذا العموم على الآخر بأنه عموم في خصوص عين وذلك الأول هو عموم في خصوص حال وحال المعين أرجح من حال الحال وهذا من غريب فنون الترجيح وقد بيناه في أصول الفقه وهو مما لم نسبق إليه ولم نزاحم عليه
المسألة الثامنة جملة ما يمنع منه الحيض ويترتب عليه من أحكام الشرع
وجملة ذلك خمسة
الأول أنه يمنع من كل فعل يشترط لجوازه الطهارة
الثاني دخول المسجد
الثالث الصوم
الرابع الوطء
الخامس إيقاع الطلاق
224

وينتهي بالتفصيل إلى ستة عشر حكما تفسيرها في كتب الفروع
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (فاعتزلوا النساء في المحيض) *))
معناه افعلوا العزل أي اكتسبوه وهو الفصل بين المجتمعين عارضا لا أصلا
المسألة العاشرة
اختلف العلماء في مورد العزل ومتعلقة على أربعة أقوال
الأول جميع بدنها فلا يباشره بشيء من بدنه قاله ابن عباس وعائشة في قول وعبيدة السلماني
الثالث الفرج قالته حفصة وعكرمة وقتادة والشعبي والثوري وأصبغ
الرابع الدبر قاله مجاهد وروي عن عائشة معناه
فأما من قال إنه جميع بدنها فتعلق بظاهر قوله تعالى (* (النساء) *) وهذا عام فيهن في جميع أبدانهن والمروي في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله يضطجع معي وأنا حائض وبيني وبينه ثوب وقالت أيضا كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأتزر في فور حيضتها ثم يباشرها قالت وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه
وهذا يقتضي خصوص النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحالة
وقد روي عن بدرة مولاة ابن عباس قالت بعثتني ميمونة بنت الحارث و حفصة بنت عمر إلى امرأة ابن عباس رضي الله عنهم وكانت بينهما قرابة من جهة النساء فوجدت فراشه معتزلا فراشها فظننت أن ذلك عن الهجران فسألتها فقالت إذا طمثت اعتزل فراشي فرجعت فأخبرتها بذلك فردتني إلى ابن عباس وقالت تقول لك أمك أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة
225

من نسائه وإنها حائض وما بينها وبينه إلا ثوب ما يجاوز الركبتين
وهذا إن صح عن ابن عباس فإنما كان ذلك على معنى الراحة من مضاجعة المرأة في هذه الحالة
وأما من قال ما بين السرة إلى الركبة فهو الصحيح ودليله قوله صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عما يحل من الحائض فقال لتشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها
وأما من قال إنه الفرج خاصة فقوله في الصحيح افعلوا كل شيء إلا النكاح وأيضا فإنه حمل الآية على حماية الذرائع وخص الحكم وهو التحريم بموضع العلة وهو الفرج ليكون الحكم طبقا للعلة يتقرر بتقرر العلة إذا أوجبته خاصة فإذا أثارت العلة نطقا تعلق الحكم بالنطق وسقط اعتبار العلة كما بينا في السعي من قبل فإنه كان الرمل فيه لعلة إظهار الجلد للمشركين ثم زالت ولكن شرعه النبي صلى الله عليه وسلم دائبا يثبت بالقول والفعل مستمرا ولذلك أمثلة في الفروع وأدلة في الأصول
وأما من قال الدبر فروى المقصرون الغافلون عن عائشة رضي الله عنها إذا حاضت المرأة حرم حجراها وهذا باطل ذكرناه لنبين حاله
وأما من قال افعلوا كل شيء إلا النكاح فمعناه الإذن في الجماع ولم يبين محله وقوله شأنك بأعلاها بيان لمحله
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (النساء) *)
فذكرهن بالألف واللام المحتملة للجنس والعهد وقد بينا حكمها في أصول الفقه فإن حملتها على العهد صح لأن السؤال وقع عن معهود من الأزواج فعاد
226

الجواب عليه طبقا وإن حملتها على الجنس جاز ويكون الجواب أعم من السؤال فيكون قوله تعالى (* (فاعتزلوا النساء) *) عاما في كل امرأة زوجا أو غير زوج خاصا في حال الحيض وتكون الزوجة محرمة في حال الحيض بالحيض وتكون الأجنبيات محرمات في حال الحيض بالأجنبية وبالحيض جميعا ويتعلق التحريم بالعلتين وقد بينا في أصول الفقه ومسائل الخلاف جواز تعلق الحكم الشرعي بعلتين
المسألة الثانية عشرة (* (في المحيض) *))
وهو مرتب على الأول في جميع وجوهه فاعتبره بما فيه
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (ولا تقربوهن) *)
سمعت فخر الإسلام أبا بكر محمد بن أحمد الشاشي في مجلس النظر يقول إذا قبل لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه
وأما مورده فهو مورد (* (فاعتزلوا النساء) *) وهو محمول عليه في جميع وجوهه لكن بإضمار بعد إضمار كقولك مثلا فاعتزلوا النساء في المحيض أي في مكان الحيض ولا تقربوهن فيه وركبوا عليها باقيها
المسألة الرابعة عشرة قوله تعالى (* (حتى يطهرن) *)
حتى بمعنى الغاية وهو انتهاء الشيء وتمامه وفرق بينهما وبين القاطع للشيء قبل تمامه كثير مثاله أن الليل ينتهي بإقباله الصوم وبالسلام تنتهي الصلاة وبوطء الزوج الثاني ينتهي تحريم النكاح على الزوج الأول كما تقدم بيانه في سورة البقرة وتحقيقه في مسائل الخلاف
المسألة الخامسة عشرة في حكم الغاية
وهو أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها وقد تردد في ذلك علماؤنا والمسألة مشكلة جدا وقد بيناها في موضعها من أصول الفقه والله أعلم
المسألة السادسة عشرة قوله تعالى (* (حتى يطهرن) *))
227

والمسألة السابعة عشرة قوله تعالى (* (فإذا تطهرن) *))
وهما ملتزمتان وقد اختلف الناس فيه اختلافا متباينا نطيل النفس فيه قليلا وفيه ثلاثة أقوال
الأول أن معنى قوله تعالى (* (حتى يطهرن) *) حتى ينقطع دمهن قاله أبو حنيفة ولكنه ناقض في موضعين قال إذا انقطع دمها لأكثر الحيض حينئذ تحل وإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحل حتى يمضي وقت صلاة كامل
الثاني لا يطؤها حتى تغتسل بالماء غسل الجنابة قال الزهري وربيعة والليث ومالك وإسحاق وأحمد وأبو ثور
الثالث تتوضأ للصلاة قاله طاوس ومجاهد
فأما أبو حنيفة فينقض قوله بما ناقض فيه فإنه تعلق بأن الدم إذا انقطع لأقل الحيض لم يؤمن عودته
قلنا ولا تؤمن عودته إذا مضى وقت صلاة فبطل ما قلته
والتعلق بالآية يدفع من وجهين
أحدهما أن الله تعالى قال (* (ولا تقربوهن حتى يطهرن) *) مخففا وقرئ حتى يطهرن مشددا والتخفيف وإن كان ظاهرا في استعمال الماء فإن التشديد فيه أظهر كقوله تعالى (* (وإن كنتم جنبا فاطهروا) *) [المائدة 6] فجعل ذلك شرطا في الإباحة وغاية للتحريم
فإن قيل المراد بقوله تعالى (* (حتى يطهرن) *) حتى ينقطع عنهن الدم وقد يستعمل التشديد موضع التخفيف فيقال تطهر بمعنى طهر كما يقال قطع وقطع ويكون هذا أولى لأنه لا يفتقر إلى إضمار ومذهبكم يفتقر إلى إضمار قولك بالماء
قلنا لا يقال اطهرت المرأة بمعنى انقطع دمها ولا يقال قطع مشددا بمعنى قطع مخففا وإنما التشديد بمعنى تكثير التخفيف
228

جواب آخر وهو أنه قد ذكر بعده ما يدل على المراد فقال إذا تطهرن والمراد بالماء
والظاهر أن ما بعد الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها فيكون قوله تعالى (* (حتى يطهرن) *) مخففا وهو معنى قوله يطهرن مشددا بعينه ولكنه جمع بين اللغتين في الآية كما قال تعالى (* (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) *) [التوبة 18] وقال الكميت
(وما كانت الأبصار فيها أذلة
* ولا غيبا فيها إذا الناس غيب)
وقيل إن قوله تعالى (* (فإذا تطهرن) *) ابتداء كلام لا إعادة لما تقدم ولو كان إعادة لاقتصر على الأول فقال حتى يطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله خاصة فلما زاد عليه دل على أنه استئناف حكم آخر
فالجواب أن هذا خلاف الظاهر فإن المعاد في الشرط هو المذكور في الغاية بدليل ذكره بالفاء ولو كان غيره لذكره بالواو وأما الزيادة عليه فلا تخرجه عن أن يكون بعينه ألا ترى أنه لو قال لا تعط هذا الثوب زيدا حتى يدخل الدار فإذا دخل فأعطه الثوب ومائة درهم لكان هو بعينه ولو أراد غيره لقال لا تعطه حتى يدخل الدار فإذا دخل وجلس فافعل كذا وكذا هذا طريق النظم في اللسان
جواب آخر وذلك أن قولهم إنا لا نفتقر في تأويلنا إلى إضمار وأنتم تفتقرون إلى إضمار
قلنا لا يقع بمثل هذا ترجيح فإن هذا الإضمار من ضرورة الكلام فهذا كالمنطوق به
جواب ثالث وهو المتعلق الثاني من الآية إنا نقول نسلم أن قوله تعالى (* (حتى يطهرن) *) أن معناه حتى ينقطع دمهن لكنه لما قال بعد ذلك فإذا تطهرن معناه فإذا اغتسلن بالماء تعلق الحكم على شرطين
أحدهما انقطاع الدم
229

الثاني الاغتسال بالماء
فوقف الحكم وهو جواز الوطء على الشرطين وصار ذلك كقوله تعالى (* (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) *) [النساء 6] فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين
أحدهما بلوغ النكاح
والثاني إيناس الرشد
فوقف عليهما ولم يصح ثبوته بأحدهما وكذلك قوله تعالى في المطلقة ثلاثا (* (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) *) [البقرة 23] ثم جاءت السنة باشتراط الوطء فوقف التحليل على الأمرين جميعا وهما انعقاد النكاح ووقوع الوطء وعلى هذا عول الجويني
فإن قيل هذا حجة عليكم فإنه مد التحريم إلى غاية وهي انقطاع الدم وما بعد الغاية مخالف لما قبلها فوجب أن يحصل الجواز بعد انقطاع الدم لسبب حكم الغاية
قلنا إنما يكون حكم الغاية مخالفا لما قبلها إذا كانت مطلقة فأما إذا انضم إليها شرط آخر فإنما يرتبط الحكم بما وقع القول عليه من الشرط كقوله تعالى (* (حتى إذا بلغوا النكاح) *) [النساء 6] وكقوله تعالى (* (حتى تنكح زوجا غيره) *) وكما بيناه
فإن قيل ليس هذا تجديد شرط زائد وإنما هو إعادة للكلام كما تقول لا تعط زيدا شيئا حتى يدخل الدار فإذا دخل فأعطه وحمله على هذا أولى من وجهين أحدهما أنه يحفظ حكم الغاية ويقرها على أصلها
والثاني أن الظاهر من لفظ الشرط أنه المذكور في الغاية
فالجواب عنه من تسعة أوجه
أحدها أنا نقول روى عطية عن ابن عباس أنه قال فإذا تطهرن بالماء وهو قول مجاهد وعكرمة
230

الثاني أن تطهر لا يستعمل إلا فيما يكتسبه الإنسان وهو الاغتسال بالماء فأما انقطاع الدم فليس بمكتسب
فإن قيل بل يستعمل تفعل في غير الاكتساب كما يقال تقطع الحبل وكما يقال في صفات الله سبحانه تجبر وتكبر وليس في ذلك اكتساب ولا تكلف
فالجواب عنه من أوجه أحدها أن الظاهر من اللغة ما قلناه وقوله تقطع الحبل نادر فلا يقاس عليه حكم
جواب آخر هبكم سلمنا لكم أنه مستعمل ففي مسألتنا لا يستعمل فلا يقال تطهرت المرأة بمعنى انقطع دمها وإذا لم يجز استعماله في مسألتنا لم يقع استعماله في غيرها وهذه نكتة بديعة من المجاز وذلك أنه إنما يحمل اللفظ على الشيء إذا كان مستعملا على سبيل المجاز وأما مجاز استعمل في موضع آخر فلا يجوز أن يجعل طريقا إلى تأويل اللفظ فيما لم يستعمل فيه وفي ذلك الموضع إنما حملناه على ذلك للضرورة وهو أن الجمادات لا توصف بالاكتساب للأفعال وتكلفها ولذلك يستحيل في صفات الله تعالى وفي أفعاله التكلف فحمل اللفظ على ما وضع له من أجل الضرورة وهذا لا يوجب خروجه عن مقتضاه لغير ضرورة وهذا جواب القاضي أبي الطيب الطبري
جواب ثالث قال تعالى في آخر الآية (* (ويحب المتطهرين) *) فمدحهن وأثنى عليهن فلو كان المراد به انقطاع الدم ما كان فيه مدح لأنه من غير عملهن والباري سبحانه قد ذم على مثل هذا فقال (* (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) *) [آل عمران 188]
فإن قيل هذا ابتداء كلام وليس براجع إلى ما تقدم بدليل قوله تعالى (* (يحب التوابين) *) ولم يجر للتوبة ذكر
قلنا سيأتي الجواب عنه إن شاء الله
231

جواب رابع عن أصل السؤال وهو قولهم إنما حملنا الآية على هذا كما قد حفظنا موجب الغاية ومقتضاها فهذا لو اقتصر على الغاية فإما إذا قرن بها الشرط فذلك لا يلزم كما تقدم
جواب خامس وهو أنا نقول إن كنا نحن قد تركنا موجب الغاية فقد حملتم أنتم اللفظ على التكرار فتركتم فائدة عوده وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجددة لم يحمل على التكرار في كلام الناس فكيف كلام العليم الحكيم
جواب سادس ليس حملكم قوله تعالى (* (فإذا تطهرن) *) على قوله (* (حتى يطهرن) *) بأولى من حملنا قوله تعالى (* (حتى يطهرن) *) على قوله (* (فإذا تطهرن) *) فوجب أن يقرن كل لفظ منه على مقتضاه هذا جواب أبي إسحاق الشيرازي
جواب سابع وذلك أنا إذا حملنا اللفظ على الطهارة بالماء كنا قد حفظنا الآية من التخصيص والأدلة من التناقض وإذا حملنا (* (تطهرن) *) على انقطاع الدم كنا قد خصصنا الآية وتحكمنا على معنى لفظها بما لا يقتضيه ولا يشهد له فرق فيه وتناقضنا في الأدلة والذي قلناه أولى هذا جواب الإمام أبي بكر بن العربي
وجواب ثامن وهو أن المفسرين اتفقوا على أن المراد بالآية التطهر بالماء فالمعول عليه هنا جواب الطوسي وهو أضعفها وقد كانت المسألة عنده ضعيفة عند لقائنا له وقد حصلنا فيها القوة والنصرة بحمد الله تعالى من كل إمام وفي كل طريق
جواب تاسع قولهم إن الظاهر من اللفظ المعاد في الشرط أن يكون بمعنى الغاية إنما ذلك إذا كان معادا بلفظ الأول أما إذا كان معادا بغير لفظه فلا وهو قد قال هاهنا حتى يطهرن مخففا ثم قال في الذي بعده إذا تطهرن مشددا وعلى هذه القراءة كان كلامنا فوجب أن يكون غيره كما في آية التيمم
والظاهر أنه يعود على الذي عليه الحق لأنه صاحب الولي في الإطلاق يقال ولي السفيه وولي الضعيف ولا يقال ولي الحق إنما يقال صاحب الحق
وهذا يدل على أن إقرار الوصي جائز على يتيمه لأنه إذا أملى فقد نفذ قوله فيما أملاه
المسألة العاشرة
إذا ثبت هذا فإن تصرف السفيه المحجور دون ولي فإن التصرف فاسد إجماعا مفسوخ أبدا لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا وإن تصرف سفيه لا حجر عليه فاختلف علماؤنا فيه فابن القاسم يجوز فعله وعامة أصحابنا يسقطونه
والذي أراه من ذلك أنه إن تصرف بسداد نفذ وإن تصرف بغير سداد بطل
وأما الضعيف فربما بخس في البيع وخدع ولكنه تحت النظر كائن وعلى الاعتبار موقوف
وأما الذي لا يستطيع أن يمل فلا خلاف في جواز تصرفه
وظاهر الآية يقتضي أن من احتاج منهم إلى المعاملة عامل فمن كان من أهل الإملاء أملى عن نفسه ومن لم يكن أملى عنه وليه وذلك كله بين في مسائل الفروع
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (واستشهدوا) *))
اختلف الناس هل هو فرض أو ندب والصحيح أنه ندب كما يأتي إن شاء الله تعالى
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (شهيدين) *))
رتب الله الشهادات بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود فجعلها في كل فن شهيدين إلا في الزنا فإنه قرن ثبوتها بأربعة شهداء تأكيدا في الستر على ما يأتي بيانه في سورة النور إن شاء الله
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (من رجالكم) *))
قال مجاهد أراد من الأحرار واختاره القاضي أبو إسحاق وأطنب فيه
232

فإن قيل وهو آخر أسئلة القوم وأعمدها القراءتان كالآيتين فيجب أن يعمل بهما ونحن نحمل كل واحدة منهما على معنى فتحمل المشددة على ما إذا انقطع دمها للأقل فإنا لا نجوز وطأها حتى تغتسل وتحمل القراءة الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر فنجوز وطأها وإن لم تغتسل
قلنا قد جعلنا القراءتين حجة لنا وبينا وجه الدليل من كل واحدة منهما فإن قراءة التشديد تقتضي التطهر بالماء وقراءة التخفيف أيضا موجبة لذلك كما بيناه
جواب ثان وذلك أن إحدى القراءتين أوجبت انقطاع الدم والأخرى أوجبت الاغتسال بالماء كما أن القرآن اقتضى تحليل المطلقة ثلاثا للزوج الأول بالنكاح واقتضت السنة التحليل بالوطء فجمعنا بينهما
فإن قيل إذا اعتبرتم القراءتين هكذا كنتم قد حملتموها على فائدة واحدة وإذا اعتبرناها نحن كما قلنا حملناها على فائدتين متجددتين وهي اعتبار انقطاع الدم في قوله تعالى (* (تطهرن) *) في أكثر الحيض واعتبار قوله يطهر في الأقل
قلنا نحن وإن كنا قد حملناهما على معنى واحد فقد وجدنا لذلك مثالا في القرآن والسنة وحفظنا نطق الآية ولم نخصه وحفظنا الأدلة فلم ننقضها فكان تأويلنا يترتب على هذه الأصول الثلاثة فهو أولى من تأويل آخر يخرج عنها
جواب آخر وذلك أن ما ذكرتموه من الجمع يقتضي إباحة الوطء عند انقطاع الدم للأكثر وما قلنا يقتضي الحظر وإذا تعارض باعث الحظر وباعث الإباحة غلب باعث الحظر كما قال عثمان وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى
فإن قيل قوله تعالى (* (ويسألونك عن المحيض) *) ثم قال (* (فاعتزلوا النساء في المحيض) *) وهو زمان الحيض ومتى انقطع الدم لدون أكثر الحيض فالزمان باق فبقي النهي وهذا اعتراض أبي الحسن القدوري
233

أجاب القاضي أبو الطيب الطبري فقال [المحيض] هو الحيض بعينه بدليل أنه يقال حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا فلا يكون لهم فيه حجة
وأجاب عنه أبو إسحاق الشيرازي بأن قال أراد بقوله المحيض نفس الحيض بدليل قوله تعالى (* (قل هو أذى) *)
فإن قيل بهذا نحتج فإنه إذا زال الدم زال الأذى فجاز الوطء فإن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها
قلنا هذا ينتقض بما إذا انقطع الدم لأقل الحيض فإنه زالت العلة ولم يزل الحكم وذلك لفقه وهو أن الله تعالى بين علة التحريم وهو وجود الأذى ثم لم يربط زوال الحكم بزوال العلة حتى ضم إليه شرطا آخر وهو الغسل بالماء وذلك في الشرع كثير
وأما طاوس ومجاهد فالكلام معهما سهل لأنه خلاف لظاهر القرآن على القولين جميعا وهما تفسير الطهر بالانقطاع أو الاغتسال ولذلك حملنا قوله تعالى (* (فاطهروا) *) [المائدة 6] على الاغتسال في الجملة فأي فرق بين اللفظين أو المسألتين
ويدل عليهما من طريق المعنى أن نقول الحيض معنى يمنع الصوم فكان الطهر الوارد فيه محمولا على جميع الجسد أصله الجنابة
وأما داود فإنا لم نراع خلافه لأنه إن كان يقول بخلق القرآن ويضلل أصحاب محمد في استعماله القياس كفرناه فإن راعينا إشكال سؤاله قلنا هذا الكلام هو عكس الظاهر لأن الله تعالى قال (* (حتى يطهرن) *) وهذا ضمير النساء فكيف يصح أن يسمع الله تعالى يقول (* (حتى يطهرن) *) فيقول إن وطأها جائز مع أن الطهارة عليها واجبة فيبيح الوطء قبل وجود غايته التي علق جواز الوطء عليها واعتبر ذلك بعطف قوله تعالى (* (ولا تقربوهن) *) على قوله
234

تعالى (* (فاعتزلوا النساء) *) تجده صحيحا فإن كان المراد اعتزلوا جملة المرأة كان قوله تعالى (* (ولا تقربوهن) *) عاما فيها فيكون قوله تعالى (* (حتى يطهرن) *) راجعا إلى جملتها وإن كان المراد بقوله تعالى (* (فاعتزلوا) *) أسفلها من السرة إلى الركبة وجب عليه أن يقول حتى يطهر ذلك الموضع كله ولا يصح له لأنه كان نظام الكلام لو أراد ذلك حتى يطهرنه وكذلك لو كان المراد فاعتزلوا الفرج سواء بسواء
فإن قيل قال الله تعالى (* (قل هو أذى) *) فإذا زال الأذى جاز الوطء
قلنا عنه جوابان
أحدهما أنه لو كان الاعتبار بزوال الأذى ما وجب غسل الفرج عندك لأن الأذى قد زال بالجفوف أو القصة البيضاء فغسل الفرج إذ ذاك يكون وقد زالت العلة ولم يبق له أثر فلا فائدة فيه فدل أن الاعتبار بحكم الحيض لا بوجوده
الثاني أنه علل بكونه أذى ثم منع القربان حتى تكون الطهارة من الأذى وهذا بين
المسألة الثامنة عشرة قوله تعالى (* (فأتوهن) *))
معناه فجيئوهن أو يكون ذلك كناية عن الوطء كما كنى عنه بالملامسة في قول ابن عباس إن الله حي كريم يعفو ويكني كنى باللمس عن الجماع
وأما مورده فقد كان يتركب على قوله تعالى (* (فاعتزلوا) *) لولا قوله من حيث أمركم الله فإنه خصصه وهي
المسألة التاسعة عشرة
وفيها ستة أقوال
الأول من حيث نهوا عنهن
الثاني القبل قاله ابن عباس ومجاهد في أحد قوليه
الثالث من جميع بدنها قاله ابن عباس أيضا
235

الرابع من قبل طهرهن قاله عكرمة وقتادة
الخامس من قبل النكاح قاله ابن الحنفية
السادس من حيث أحل الله تعالى لكم الإتيان لا صائمات ولا محرمات ولا معتكفات قاله الأصم
أما الأول فهو قول مجمل لأن النهي عنه مختلف فيه فكيفما كان النهي جاءت الإباحة عليه فبقي تحقيق مورد النهي
وأما قوله القبل فهو مذهب أصبغ وغيره ويشهد له قوله تعالى (* (قل هو أذى) *) وقد تقدم بيانه
وأما الثالث وهو جميع بدنها فالشاهد له قوله تعالى (* (فاعتزلوا النساء) *) وقد تقدم
وأما الرابع وهو قوله (من قبل طهرهن) فيعني به إذا طهرن وهو قول من قال بالفرج لأن اشتراط الطهارة لا يكون إلا بالفرج على ما تقدم من صحيح الأقوال وإن شئت فركبه على الأقوال كلها يتركب فما صح فيها صح فيه
وأما الخامس وهو النكاح فضعيف لما قدمناه من أن قوله تعالى (* (النساء) *) إنما يريد به الأزواج اللواتي يختص التحريم فيهن بحالة الحيض
وأما السادس فصحيح في الجملة لأن كل من ذكر نهى الله تعالى عن وطئه ولكن علم ذلك من غير هذه الآية بأدلتها وإنما اختصت الآية بحال الطهر كما اختص قوله تعالى (* (ولا تباشروهن) *) يعني في حالة الصوم والاعتكاف ولا يقال إن هذا كله يخرج من هذه الآية وإنها مرادة به وإن كان محتملا له فليس كل محتمل في اللفظ مرادا به فيه وهذا من نفيس علم الأصول فافهمه
المسألة الموفية عشرين قوله تعالى (* (يحب) *))
محبة الله هي إرادته ثواب العبد وقد تقدم في كتب الأصول بيانه
236

المسألة الحادية والعشرون قوله تعالى (* (التوابين) *))
التوبة هي رجوع العبد عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة وقد بيناها في كتب الأصول بشروطها
المسألة الثانية والعشرون قوله تعالى (* (المتطهرين) *))
وفيها ثلاثة أقوال
الأول المتطهرين بالماء للصلاة
الثاني الذين لا يأتون النساء في أدبارهن قاله مجاهد
الثالث الذين لا ينقضون التوبة طهروا أنفسهم عن العود إلى ما رجعوا عنه من الباطل الذي كانوا فيه قاله مجاهد
واللفظ وإن كان يحتمل جميع ما ذكر فالأول به أخص وهو فيه أظهر وعليه حملة أهل التأويل وهو المنعطف على سابق الآية المنتظم معها والله أعلم
الآية الثانية والستون
قوله تعالى (* (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين) *) [الآية 223]
فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك روايات
قال جابر كانت اليهود تقول من أتى امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول فنزلت الآية وهذا حديث صحيح خرجه الأئمة
237

الثانية قالت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى (* (نساؤكم حرث لكم) *) قال يأتيها مقبلة ومدبرة إذا كانت في صمام واحد أخرجه مسلم وغيره
الثالثة روى الترمذي أن عمر رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له هلكت قال وما أهلكك قال حولت رحلي البارحة فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزلت (* (نساؤكم حرث لكم) *) فقال أقبل وأدبر واتق الدبر
المسألة الثانية
اختلف العلماء في جواز نكاح المرأة في دبرها فجوزه طائفة كثيرة وقد جمع ذلك ابن شعبان في كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن وأسند جوازه إلى زمرة كريمة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة وقد ذكر البخاري عن ابن عون عن نافع قال كان ابن عمر رضي الله عنه إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عليه يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال أتدري فيم نزلت قلت لا قال أنزلت في كذا وكذا ثم مضى ثم أتبعه بحديث أيوب عن نافع عن ابن عمر فأتوا حرثكم أنى شئتم قال يأتيها في ولم يذكر بعده شيئا
ويروى عن الزهري أنه قال وهل العبد فيما روى عن ابن عمر في ذلك
وقال النسائي عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر قد أكثر عليك القول إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى بأن يأتوا النساء في أدبارهن قال نافع لقد
238

كذبوا علي ولكن سأخبرك كيف كان الأمر إن ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ (* (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) *) قال يا نافع هل تعلم ما أمر هذه الآية قلت لا قال لنا كنا معشر قريش نجيء النساء فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن ما كنا نريد من نسائنا وإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل الله تعالى (* (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) *)
قال القاضي وسألت الإمام القاضي الطوسي عن المسألة فقال لا يجوز وطء المرأة في دبرها بحال لأن الله تعالى حرم الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة فأولى أن يحرم الدبر بالنجاسة اللازمة
الآية الثالثة والستون
قوله تعالى (* (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم) *) [الآية 224]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في شرح العرضة
اعلموا وفقكم الله تعالى أن عرض في كلام العرب يتصرف على معان مرجعها إلى المنع لأن كل شيء اعترض فقد منع ويقال لما عرض في السماء من السحاب عارض لأنه منع من رؤيتها ومن رؤية البدرين والكواكب وقد يقال هذا عرضه لك أي عدة تبتذله في كل ما يعن لك قال عبد الله بن الزبير فهذي لأيام الحروب وهذه للهوى وهذه عرضة لارتحالنا
المسألة الثانية في المعنى
قال علماؤنا في ذلك ثلاثة أجوبة
الأول لا تجعلوا الحلف بالله علة يعتل بها الحالف في بر أو حنث وفي الصحيح أن
239

النبي صلى الله عليه وسلم قال لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله تعالى من أن يعطي عنها كفارة قال ذلك قتادة وسعيد بن جبير وطاوس
الثاني لا يمتنع من فعل خير بأن يقول علي يمين أن لا يكون
الثالث لا تكثروا من ذكر الله تعالى في كل عرض يعرض قال تعالى (* (ولا تطع كل حلاف مهين) *) [القلم 1] فذم كثرة الحلف
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (أن تبروا) *))
وقال بعضهم لا تجعلوا اليمين مانعا من البر وهو معنى الحديث لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله تعالى من أن يعطي كفارة عنها
وتحقيق المعنى أنه إن حلف أولا كان المعنى أن تبروا باليمين وإن لم يحلف كان المعنى أن تصلحوا وتتقوا ويدخل أحد المعنيين على الآخر فيجتمعان وبيان ذلك يأتي في سورة النور عند قوله تعالى (* (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) *) [النور 22] إن شاء الله
وقد قال صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه
240

وعلى الوجه الثالث يكون المعنى أن تبروا أي إن الله ينهاكم عن كثرة الحلف بالله لما في ذلك من البر والتقوى
الآية الرابعة والستون
قوله تعالى (* (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم) *) [الآية 225]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
اللغو في كلام العرب مخصوص بكل كلام لا يفيد وقد ينطلق على ما لا يضر
المسألة الثانية في المراد بذلك
وفيه سبعة أقوال
الأول ما يجري على اللسان من غير قصد كقوله لا والله وبلى والله قالته عائشة والشافعي
الثاني ما يحلف فيه على الظن فيكون بخلافه قاله مالك
الثالث يمين الغضب
الرابع يمين المعصية
الخامس دعاء الإنسان على نفسه كقوله إن لم أفعل كذا فيلحق بي كذا ونحوه
والسادس اليمين المكفر
السابع يمين الناسي
المسألة الثانية في تنقيح هذه الأقوال
اعملوا أن جميع هذه السبعة الأقوال لا تخلو من قسمي اللغو اللذين بيناهما وحمل الآية على جميعها ممتنع لأن الدليل قد قام على المؤاخذة ببعضها وفي ذلك آيات وأخبار وآثار لو تتبعناها لخرجنا عن مقصود الاختصار بما لا فائدة فيه من الإكثار
241

والذي يقطع به اللبيب أنه لا يصح أن يكون تقدير الآية لا يؤاخذكم الله بما لا مضرة فيه عليكم إذ قد قصد هو الإضرار بنفسه وقد بين المؤاخذة بالقصد وهو كسب القلب فدل على أن اللغو ما لا فائدة فيه وخرج من اللفظ يمين الغضب ويمين المعصية وانتظمت الآية قسمين قسم كسبه القلب فهو المؤاخذ به وقسم لا يكسبه القلب فهو الذي لا يؤاخذ به وخرج من قسم الكسب يمين الحالف ناسيا فأما الحانث ناسيا فهو باب آخر يأتي في موضعه إن شاء الله كما خرج من قسم الكسب أيضا اليمين على شيء يظنه فخرج بخلافه لأنه مما لم يقصده وفي ذلك نظر طويل بيانه في المسائل
الآية الخامسة والستون
قوله تعالى (* (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) *) [الآية 226]
فيها ست عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
وهي آية عظيمة الموقع جدا يترتب عليها حكم كبير اختلف فيه الصحابة والتابعون وفقهاء الأمصار ودقت مداركها حسبما ترونها من حملتها إن شاء الله
قال عبد الله بن عباس كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك فوفت لهم أربعة أشهر فمن آلى أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء حكمي
المسألة الثانية
الإيلاء في لسان العرب هو الحلف والفيء هو الرجوع والعزم هو تجريد القلب عن الخواطر المتعارضة فيه إلى واحد منها
242

المسألة الثالثة نظم الآية
للذين يعتزلون من نسائهم بالألية فكان من عظيم الفصاحة أن اختصر وحمل آلى معنى اعتزل النساء بالألية حتى ساغ لغة أن يتصل آلى بقولك من ونظمه في الإطلاق أن يتصل بآلى قولك على تقول العرب اعتزلت من كذا وعن كذا وآليت وحلفت على كذا وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال وجهلت النحوية هذا فقال كثير منهم إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض ويحلم بعضها معاني البعض فخفي عليهم وضع فعل مكان فعل وهو أوسع وأقيس ولجوا بجهلهم إلى الحروف التي يضيق فيها نطاق الكلام والاحتمال
المسألة الرابعة فيما يقع به الإيلاء
قال قوم لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله وحده وبه يقول الشافعي في أحد قوليه
الثاني أن الإيلاء يقع بكل يمين عقد الحالف بها قوله وذلك بالتزام ما لم يكن لازما قبل ذلك
وأصحاب القول الأول بنوه على الحديث من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وقد بينا في مسائل الفقه أن الحديث إنما جاء لبيان الأولى لا لإسقاط سواه من الإيمان بل في هذا الحديث من نص كلامنا ما يوجب أنها كلها أيمان لقوله عليه السلام من كان حالفا ثم إذا كان حالفا وجب أن تنعقد يمينه
243

وأما أصحاب القول الثاني وهو الصحيح فيقولون كل يمين ألزمها نفسه مما لم تكن قبل ذلك لازمة له على فعل أو ترك فهو بها مول لأنه حالف وذلك لازم صحيح شريعة ولغة
المسألة الخامسة فيما يقع عليه الإيلاء
وذلك هو ترك الوطء سواء كان في حال الرضا أو الغضب عند الجمهور
وقال الليث والشعبي لا يكون إلا عند الغضب والقرآن عام في كل حال فتخصيصه دون دليل لا يجوز
وهذا الخلاف انبنى على أصل وهو أن مفهوم الآية قصد المضارة بالزوجة وإسقاط حقها من الوطء فلذلك قال علماؤنا إذا امتنع من الوطء قصدا للإضرار من غير عذر مرض أو رضاع وإن لم يحلف كان حكمه حكم المولي وترفعه إلى الحاكم إن شاءت ويضرب له الأجل من يوم رفعه لوجود معنى الإيلاء في ذلك فإن الإيلاء لم يرد لعينه وإنما ورد لمعناه وهو المضارة وترك الوطء حتى قال علي وابن عباس لو حلف ألا يقربها لأجل الرضاع لم يكن موليا لأنه قصد صحيح لا إضرار فيه
المسألة السادسة
إذا حلف على منع الكلام أو الإنفاق اختلف العلماء فيه والصحيح أنه مول لوجود المعنى السابق بيانه من المضارة وقد قال تعالى (* (وعاشروهن بالمعروف) *) [النساء 19]
المسألة السابعة إذا حلف بالله ألا يطأها إن شاء الله
قال ابن القاسم يكون موليا وقال عبد الملك بن الماجشون ليس بمول
وهذا الخلاف ينبني على أصل وهو معرفة فائدة الاستثناء فرأى ابن القاسم أن
244

الاستثناء لا يحل اليمين وإنما هو بدل من الكفارة ورأى ابن الماجشون أنه يحلها وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح لأنه يتبين به أنه غير عازم على الفعل ولهذه النكتة قال مالك إنه إذا أراد بقوله إن شاء الله معنى قوله (* (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) *) [الكهف 2324] ومورد الأشياء كلها إلى مشيئة الله تعالى فلا ثنيا له لأن الحال في الحقيقة كذلك وإن أراد وقصد بهذا القول حل اليمين فإنها تنحل عنه
المسألة الثامنة في مدة الإيلاء
اختلف العلماء فيها على قولين
أحدهما قال الأكثر الأربعة الأشهر فسحة للزوج لا حرج عليه فيها ولا كلام معه لأجلها فإن زاد عليها حينئذ يكون عليه الحكم ويوقت له الأمد وتعتبر حاله عند انقضائه
وقال آخرون يمين أربعة أشهر موجب الحكم
وظاهر الآية يقتضي أنها لمن آلى أكثر من أربعة أشهر لأنها لا تخلو من ثلاثة تقديرات
الأول للذين يؤلون من نسائهم أكثر من أربعة أشهر تربص أربعة أشهر
الثاني للذين يؤلون من نسائهم أربعة أشره تربص أربعة أشهر
الثالث للذين يؤلون من نسائهم أقل من أربعة أشهر تربص أربعة أشهر
فالثالث باطل قطعا والأول مراد قطعا والثاني محتمل للمراد احتمالا بعيدا والأصل عدم الحكم فيه فلا يقضى به بغير دليل يدل عليه وللزوج أن يقول حلفت على مدة هي لي فلا كلام معي وليس عن هذا جواب
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (فإن فاؤوا) *)
والمعنى إن رجعوا والرجوع لا يكون إلا عن مرجوع عنه وقد كان تقدم منه يمين واعتقاد فأما اليمين فيكون الرجوع عنها بالكفارة لأنها تحلها وأما الاعتقاد فيكون الرجوع عنه بالفعل لأن اعتقاده مستتر لا يظهر إلا بما يكشف عنه من فعل
245

يتبين به كحل اليمين بالكفارة أو إتيان ما امتنع منه فأما مجرد قوله رجعت فلا يعد فيئا وإذا ثبت هذا التحقيق فلا معنى بعده لقول إبراهيم وأبي قلابة إن الفيء قوله رجعت أما أنه تبقى هنا نكتة وهي أن يحلف فيقول والله لقد رجعت فهل تنحل اليمين التي قبلها أم لا
قلنا لا يكون فيئا لأن هذه اليمين توجب كفارة أخرى في الذمة وتجتمع مع اليمين الأول ولا يرفع الشيء إلا بما يضاده وهذا تحقيق بالغ
المسألة العاشرة
إذا كان ذا عذر من مرض أو مغيب فقوله رجعت فيء قاله الحسن وعكرمة
وقال مالك يقال له كفر أو أوقع ما حلفت عليه فإن فعل وإلا طلقت عليه
وعن ابن القاسم أنه يكفي في اليمين بالله قوله رجعت ثم إذا أمكنه الوطء فلم يطأ طلق عليه ولو كفر ثم أمكنه الوطء لزوال العذر لم تطلق عليه
وقال أبو حنيفة تستأنف له المدة إذا انقضت وهو مغيب أو مريض ثم زال عذره
قلنا لأبي حنيفة لا تستأنف له مدة لأن هذا العذر لا يمنعه عن الكفارة فإن كان فعلا لا يقدر عليه إلا بالخروج فيفعله عند خروجه وقد بيناها في كتاب المسائل مستوفاة الحجج
المسألة الحادية عشرة
إذا ترك الوطء مضارا بغير يمين فلا تظهر فيئته عندنا إلا بالفعل لأن اعتقاد الكراهة قد ظهر بالامتناع فلا يظهر اعتقاده للإرادة إلا بالإقدام وهذا تحقيق بالغ
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (وإن عزموا الطلاق) *))
اختلف الصحابة والتابعون في وقوع الطلاق بمضي المدة هذا وهم القدوة الفصحاء اللسن البلغاء من العرب العرب فإذا أشكلت عليهم فمن ذا الذي تتضح له منا بالأفهام المختلفة واللغة المعتلة ولكن إن ألقينا الدلو في الدلاء لم نعدم بعون الله الدواء ولم نحرم الاهتداء في الاقتداء
246

قال علماؤنا قوله تعالى (* (وإن عزموا الطلاق) *) دليل على أن مضي المدة لا يوقع فرقة إذ لا بد من مراعاة قصده واعتبار عزمه
وقال المخالف وهو أبو حنيفة وأصحابه إن عزيمة الطلاق تعلم منه بترك الفيئة مدى التربص
أجاب علماؤنا بأن العزم على الماضي محال وحكم الله تعالى الواقع بمضي المدة لا يصح أن يتعلق به عزيمة منا
وتحقيق الأمر أن تقرير الآية عندنا للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا بعد انقضائها فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم
وتقريرها عندهم للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فيها فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق بترك الفيئة فيها فإن الله سميع عليم
وهذا احتمال متساو ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه فوجب والحالة هذه اعتبار المسألة من غيره وهو بحر متلاطم الأمواج ولقد كنت أقمت بالمدرسة التاجية مدة لكشف هذه المسألة بالمناظرة ثم ترددت في المدرسة النظامية آخرا لأجلها
فالذي انتهى إليه النظر بين الأئمة أن أصحاب أبي حنيفة قالوا كان الإيلاء طلاقا في الجاهلية فزاد فيه الشرع المدة والمهلة فأقره طلاقا بعد انقضائها
قلنا هذه دعوى
قالوا وتغييرها دعوى
قلنا أما شرع من قبلنا فربما قلنا إنه شرع لنا معكم أو وحدنا وأما أحكام الجاهلية فليست بمعتبرة وهذا موقف مشكل جدا وعليه اعتراض عظيم بيانه في كتب المسائل الاعتراض حديث عائشة كان النكاح على أربعة أنحاء فأقر الإسلام واحدا
وأما علماؤنا فرأوا أن اليمين على ترك الوطء ضرر حادث بالزوجة فضربت له في
247

رفعه مدة فإن رفع الضرر وإلا رفعه الشرع عنها وذلك يكون بالطلاق كما يحكم في كل ضرر يتعلق بالوطء كالجب والعنة وغيرهما وهذا غاية ما وقف عليه البيان هاهنا واستيفاؤه في المسائل والله أعلم
المسألة الثالثة عشرة
قال أصحاب الشافعي هذه الآية بعمومها دليل على صحة إيلاء الكافر
قلنا نحن نقول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشرع بلا خلاف فيه عند المالكية ولكن لا عبرة به عندنا بفعل الكافر حتى يقدم على فعله شرط اعتبار الأفعال وهو الإيمان كما لا ينظر في صلاته حتى يقدم شرطها لأن زوجته إن قدرت مسلمة لم يصح بحال وإن قدرت كافرة فما لنا ولهم وكيف ننظر في أنكحتهم ولعل المولى فيها هي الخامسة أو بنت أخيه أو أخته فهذا لغو من قول الشافعي ولا يلتفت إليه
المسألة الرابعة عشرة
قال علماؤنا إذا كفر المولي سقط عنه الإيلاء وفي ذلك دليل على تقديم الكفارة على الحنث في المذهب وذلك إجماع في مسألة الإيلاء ودليل على أبي حنيفة في غير مسألة الإيلاء إذ لا يرى جواز تقديم الكفارة على الحنث
المسألة الخامسة عشرة
ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا وصار في مشربة له فلما أكمل تسعا وعشرين نزل على أزواجه صبيحة تسع وعشرين فقالت له عائشة رضي الله عنها إنك آليت شهرا فقال إن الشهر تسع وعشرون
أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة وصلت الفسطاط مرة فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري وحضرت كلامه على الناس فكان مما قال في أول
248

مجلس جلست إليه إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وظاهر وآلى فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة فجلس معنا في الدهليز وعرفهم أمري فإنه رأى إشارة الغربة ولم يعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه فلما انفض عنه أكثرهم قال لي أراك غريبا هل لك من كلام قلت نعم قال لجلسائه أفرجوا له عن كلامه فقاموا وبقيت وحدي معه فقلت له حضرت المجلس اليوم متبركا بك وسمعتك تقول آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت وطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت وقلت وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لم يكن ولا يصح أن يكون لأن الظهار منكر من القول وزور وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم فضمني إلى نفسه وقبل رأسي وقال لي أنا تائب من ذلك جزاك الله عني من معلم خيرا
ثم انقلبت عنه وبكرت إلى مجلسه في اليوم الثاني فألفيته قد سبقني إلى الجامع وجلس على المنبر فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته مرحبا بمعلمي أفسحوا لمعلمي فتطاولت الأعناق إلي وحدقت الأبصار نحوي وتعرفني يا أبا بكر يشير إلى عظيم حيائه فإنه كان إذا سلم عليه أحد أو فاجأه خجل لعظيم حيائه واحمر حتى كأن وجهه طلي بجلنار قال وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي ويتدافعوني حتى بلغت المنبر وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض والجامع غاص بأهله وأسال الحياء بدني عرقا وأقبل الشيخ على الخلق فقال لهم أنا معلمكم وهذا معلمي لما كان بالأمس قلت لكم آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلق وظاهر فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد علي فاتبعني إلى منزلي وقال لي كذا وكذا وأعاد ما جرى بيني وبينه وأنا تائب عن قولي بالأمس وراجع عنه إلى الحق فمن سمعه ممن
حضر فلا يعول عليه ومن غاب فليبلغه من حضر فجزاه الله خيرا وجعل يحفل في الدعاء والخلق يؤمنون
فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدين المتين والاعتراف بالعلم لأهله على رؤوس الملأ من رجل ظهرت رياسته واشتهرت نفاسته لغريب مجهول العين لا يعرف من ولا من أين فاقتدوا به ترشدوا
249

المسألة السادسة عشرة قوله تعالى (* (فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم) *)
يقتضي أنه قد تقدم ذنب وهو الإضرار بالمرأة في المنع من الوطء ولأجل هذا قلنا إن المضارة دون يمين توجب من الحكم ما يوجب اليمين إلا في أحكام المرأة والله أعلم
الآية السادسة والستون
قوله تعالى (* (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم) *) [الآية 228]
هذه الآية من أشكل آية في كتاب الله تعالى من الأحكام تردد فيها علماء الإسلام واختلف فيها الصحابة قديما وحديثا ولو شاء ربك لبين طريقها وأوضح تحقيقها ولكنه وكل درك البيان إلى اجتهاد العلماء ليظهر فضل المعرفة في الدرجات الموعود بالرفع فيها وقد أطال الخلق فيها النفس فما استضاؤوا بقبس ولا حلوا عقدة الجلس والضابط لأطرافها ينحصر في إحدى عشرة مسألة
المسألة الأولى
ينظمها ثلاثة فصول
الفصل الأول
كلمة القرء كلمة محتملة للطهر والحيض احتمالا واحدا وبه تشاغل الناس قديما وحديثا من فقهاء ولغويين في تقديم أحدهما على الآخر وأوصيكم ألا تشتغلوا الآن بذلك لوجوه أقربها أن أهل اللغة قد اتفقوا على أن القرء الوقت يكفيك هذا فيصلا بين المتشعبين وحسما لداء المختلفين فإذا أرحت نفسك من هذا وقلت المعنى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات صارت الآية مفسرة في العدد محتملة في المعدود فوجب طلب بيان المعدود من غيرها وقد اختلفنا فيها ولنا أدلة ولهم
250

أدلة استوفيناها في تلخيص الطريقتين على وجه بديع وخلصنا بالسبك منها في تخليص التلخيص ما يغني عن جمعه اللبيب وأقربها الآن إلى الغرض أن تعرض عن المعاني لأنها بحار تتقامس أمواجها وتقبل على الأخبار فإنها أول وأولى ولهم خبر ولنا خبر
فأما خبرهم فقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح المشهور لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض والمطلوب من الحرة في استبراء الرحم هو المطلوب من الأمة بعينه فنص الشارع صلى الله عليه وسلم على أن براءة الرحم الحيض وبه يقع الاستبراء بالواحد في الأمة فكذلك فليكن بالثلاثة في الحرة
وأما خبرنا فالصحيح الثابت في كل أمر أن ابن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تحيض وتطهر ثم تحيض وتطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها أن يطلق لها النساء وهذا يدل على أن ابتداء العدة طهر فمجموعها أطهار
والتنقيح والترجيح خبرنا أولى من خبرهم لأن خبرنا ظاهر قوي في أن الطهر قبل العدة واحد أعدادها لا غبار عليه فأما إشكال خبرهم فيرفعه أن المراد هنالك أيضا هو الطهر لكن الطهر لا يظهر إلا بالحيض ولذلك قال علماؤنا إنها تحل بالدم من الحيضة الثالثة
251

الفصل الثاني
من علمائنا من زاحم على الآية بعدد واستند فيها إلى ركن وتعلق منها بسبب متين قالوا يصح التعلق بهذه الآية من أربعة أوجه
الأول أن القرء اسم يقع على الحيض والطهر جميعا والمراد أحدهما فيجب إذا قعدت ثلاثة قروء ينطلق عليها هذا الاسم أن يصح لها قضاء التربص
الثاني أن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء كما قلنا في الشفقين واللمسين والأبوين إن الحكم يتعلق بالشفق الأول والوضوء يجب باللمس الأول قبل الوطء وإن الحجب يكون للأب الأول دون الثاني وهو الجد وهم مخالفون في ذلك كله وقد دللنا عليه أجمعه في موضعه
الثالث أنه تعالى قال (* (ثلاثة قروء) *) فذكره وأثبت الهاء في العدد فدل على أنه أراد الطهر المذكر ولو أراد الحيضة المؤنثة لأسقط الهاء وقال ثلاث قروء فإن الهاء تثبت في عدد المذكر من الثلاثة إلى العشرة وتسقط في عدد المؤنث
الرابع أن مطلق الأمر عندنا وعند أصحاب أبي حنيفة محمول على الفور ولا يكون ذلك إلا على رأينا في أن القرء الطهر لأنه إنما يطلق في الطهر لا في الحيض فلو طلق في الطهر ولم تعتد إلا بالحيض الآتي بعده لكان ذلك تراخيا عن الامتثال للأمر وهذه الوجوه وإن كانت قوية فإنها تفتح من الأسئلة أبوابا ربما عسر إغلاقها فأولى لكم التمسك بما تقدم
الفصل الثالث
قالوا إذا جعلتم الأقراء الأطهار فقد تركتم نص الآية في جعلها ثلاثة لأنه لو طلق في طهر لم يمسها فيه قبل الحيض بليلة لكان عندكم قرءا معتدا به وليس بعدد
قلنا له أما إذا بلغنا لهذا المنتهى فالمسألة لنا ومأخذ القول في المسألة سهل لأن البعض في لسان العرب يطلق على الكل في إطلاق العدد وغيره لغة مشهورة عند العرب وقرآنا قال الله تعالى (* (الحج أشهر معلومات) *) [البقرة 197] وهي عندنا وعندهم شوال وذو القعدة وبعض ذي الحجة فالمخالف إن راعى ظاهر العدد
252

فمراعاة ظاهر حديث ابن عمر أولى
المسألة الثانية
هذه الآية عامة في كل مطلقة لكن القرآن خص منها الآيسة والصغيرة في سورة الطلاق بالأشهر وخص منها التي لم يدخل بها لقوله تعالى (* (فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) *) [الأحزاب 49]
وعرضت هاهنا مسألة رابعة وهي الأمة فإن عدتها حيضتان خرجت بالإجماع
المسألة الثالثة
قال جماعة قوله تعالى (* (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *) خبر معناه الأمر وهذا باطل بل هو خبر عن حكم الشرع فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع فلا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى خلاف مخبره وقد بيناه بيانا شافيا
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) *
فيها ثلاثة أقوال
الأول الحيض
الثاني الحمل
الثلاث مجموعها وهو الصحيح لأن الله تعالى جعلها أمينة على رحمها فقولها فيه مقبول إذ لا سبيل إلى علمه إلا بخبرها وقد شك في ذلك بعض الناس لقصور فهمه ولا خلاف بين الأمة أن العمل على قولها في دعوى الشغل للرحم أو البراءة ما لم يظهر كذبها وقد اختلفوا فيمن قال لامرأته إذا حضت أو حملت فأنت طالق فقالت حضت أو حملت هل يعتبر قولها في ذلك أم لا فمن قال من علمائنا بوقوف الطلاق عليه اختلف قوله هل يعتبر قولها في ذلك أم لا والعدة لا خلاف فيها وهو المراد هاهنا
253

المسألة الخامسة قوله تعالي (* (إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) *))
هذا وعيد عظيم شديد لتأكيد تحريم الكتمان وإيجاب أداء الأمانة في الإخبار عن الرحم بحقيقة ما فيه وخرج مخرج قوله تعالى (* (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) *) [النور 2] وقد بينا ذلك في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم جاره في شرح الحديث
وفائدة تأكيد الوعيد هاهنا أمران
أحدهما حق الزوج في الرجعة بوجوب ذلك له في العدة أو سقوطه عند انقضائها
[الثاني] مراعاة حق الفراش بصيانة الأنساب عن اختلاط المياه
المسألة السادسة قوله تعالى (* (وبعولتهن أحق بردهن) *))
فيه ثلاث فوائد
الفائدة الأولى أن قوله تعالى (* (والمطلقات) *) عام في كل مطلقة فيها رجعة أو لا رجعة فيها
الثانية أن قوله تعالى (* (وبعولتهن) *) يقتضي أنهن أزواج بعد الطلاق وقوله تعالى (* (بردهن) *) يقتضي زوال الزوجية والجمع بينهما عسير إلا أن علماءنا قالوا إن الرجعية محرمة للوطء فيكون الرد عائدا إلى الحل
وأما الليث بن سعد وأبو حنيفة ومن يقول بقولهما في أن الرجعية محللة الوطء
254

فيرون أن وقوع الطلاق فائدته تنقيص العدد الذي جعل له وهو ثلاثة خاصة وأن أحكام الزوجية لم ينحل منها شيء ولا اختل فيعسر عليه بيان فائدة الرد لكونهم قالوا إن أحكام الزوجية وإن كانت باقية فإن المرأة ما دامت في العدة سائرة في سبيل الرد ولكن بانقضاء العدة فالرجعة رد عن هذه السبيل التي أخذت في سلوكها وهو رد مجازي والرد الذي حكمنا به رد حقيقي إذ لا بد أن يكون هناك زوال منجز يقع الرد عنه حقيقة
الفائدة الثالثة قوله تعالى (* (في ذلك) *) يعني في وقت التربص وهو أمد العدة
المسألة السابعة
يتركب عليه إذا قالت المرأة انقضت عدتي قبل قولها في مدة تنقضي في مثلها العدة عادة من غير خلاف فإن أخبرت بانقضائها في مدة تقع نادرا قولان
قال في المدونة إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر صدقت إذا صدقها النساء
وقال في كتاب محمد لا تصدق في شهر ولا في شهر ونصف وكذلك إن طولت فقال في كتاب محمد في المطلقة تقيم سنة لتقول لم أحض إلا حيضة لم تصدق وإن لم تكن ذكرت ذلك وكانت غير مرضع
قال ابن مزين إذا ادعت تأخر حيضها بعد الفطام سنة حلفت بالله ما حاضت وهذا إذا لم تعلم لها عادة
قال القاضي وعادة النساء عندنا مرة واحدة في الشهر وقد قلت الأديان في الذكران فكيف بالنسوان فلا أرى أن تمكن المطلقة من الزواج إلا بعد ثلاثة أشهر من يوم الطلاق ولا يسأل عن الطلاق كان في أول الطهر أو آخره
255

المسألة الثامنة
إذا قال أخبرتني بانقضاء عدتها فكذبته حلفت وبقيت العدة فإن قال راجعتها فقالت قد انقضت عدتي لم يقبل ذلك منها بعد القول وقيل قبل ذلك وهذا تفسير علمائنا
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (إن أرادوا إصلاحا) *))
المعنى إن قصد بالرجعة إصلاح حاله معها وإزالة الوحشة بينهما لا على وجه الإضرار والقطع بها عن الخلاص من ربقة النكاح فذلك له حلال وإلا لم تحل له ولما كان هذا أمرا باطنا جعل الله تعالى الثلاث علما عليه ولو تحققنا نحن ذلك المقصد منه لطلقنا عليه
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) *))
يعني من قصد الإصلاح ومعاشرة النكاح
المعنى أن بعولتهن لما كان لهم عليهن حق الرد كان لهن عليهم إجمال الصحبة كما قال تعالى بعد ذلك في الآية الأخرى (* (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *) [البقرة 229] بذلك تفسير لهذا المجمل
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (وللرجال عليهن درجة) *))
هذا نص في أنه مفضل عليها مقدم في حقوق النكاح فوقها لكن الدرجة هاهنا مجملة غير مبين ما المراد بها منها وإنما أخذت من أدلة أخرى سوى هذه الآية وأعلم الله تعالى النساء هاهنا أن الرجال فوقهن ثم بين على لسان رسوله ذلك
وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الدرجة على أقوال كثيرة فقيل هو الميراث وقيل هو الجهاد وقيل هو اللحية فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم وخصوصا في كتاب الله العظيم ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها لكن الآية لم تأت لبيان درجة مطلقة حتى
256

يتصرف فيها بتعديد فضائل الرجال على النساء فتعين أن يطلب ذلك بالحق في تقدمهن في النكاح فوجدناها على سبعة أوجه
الأول وجوب الطاعة وهو حق عام
الثاني حق الخدمة وهو حق خاص وله تفصيل بيانه في مسائل الفروع
الثالث حجر التصرف إلا بإذنه
الرابع أن تقدم طاعته على طاعة الله تعالى في النوافل فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه
الخامس بذل الصداق
السادس إدرار الإنفاق
السابع جواز الأدب له فيها وهذا مبين في قوله تعالى (* (الرجال قوامون على النساء) *) [النساء 34] إن شاء الله تعالى
الآية السابعة والستون
قوله تعالى (* (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) *) [الآية 229]
فيها ثماني عشرة مسألة
المسألة الأولى في سببها
ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة فروى عروة قال كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها فغضب رجل من الأنصار على امرأته فقال لا أقربك ولا تحلين مني قالت له كيف قال أطلقك حتى إذا جاء أجلك راجعتك فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم
257

فأنزل الله تعالى (* (الطلاق مرتان) *))
المسألة الثانية في مقصود الآية
قال البخاري باب جواز الثلاث لقوله تعالى (* (الطلاق مرتان) *) إشارة إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم فمن ضيق على نفسه لزمه
المسألة الثالثة
قال بعضهم جاءت هذه الآية لبيان عدد الطلاق وقيل جاءت لبيان سنة الطلاق والقولان صحيحان فإن بيان العدد بيان السنة في الرد وبيان سنة الوقوع بيان العدد
وتحقق هذا القول أن الطلاق كان في الجاهلية فعلا مهملا كسائر أفعالها فشرع الله تعالى أمده وبين حده وأوضح في كتابه حكمه وعلى لسان رسوله تمامه وشرحه فقال علماؤنا رحمة الله عليهم طلاق السنة ما اجتمعت فيه ثمانية شروط بيانها في كتب الفروع أحدها تفريق الإيقاع ومنع الاجتماع تولى الله سبحانه بيانه في هذه الآية وهذا يقتضي أن تكون طلقتين متفرقتين لأنهما إن كانتا مجتمعتين لم يكن مرتين
ورأى الشافعي أن جمع الثلاثة مباح وذلك يدل عليه قوله تعالى (* (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *) [الطلاق 1]
وكذلك يقتضي حديث ابن عمر المتقدم سياقه أمرين
أحدهما تفريق الإيقاع
والثاني كيفية الاستدراك بالارتجاع وهي أيضا تفسير المراد بالكتاب لقوله فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء
258

المسألة الرابعة
إن هذه الآية عرف فيها الطلاق بالألف واللام واختلف الناس في تأويل التعريف على أربعة أقوال
الأول معناه الطلاق المشروع مرتان فما جاء على غير هذا فليس بمشروع يروى عن الحجاج بن أرطاة والرافضة قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان الشرع فما جاء على غيره فليس بمشروع
الثاني معناه الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان وذلك لأن الجاهلية كانت تطلق وترد أبدا فبين الله سبحانه أن الرد إنما يكون في طلقتين بدليل قوله تعالى (* (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *)
الثالث أن معناه الطلاق المسنون مرتان قاله مالك
الرابع معناه الطلاق الجائز مرتان قاله أبو حنيفة
فأما من قال إن معناه الطلاق المشروع فصحيح لكن الشرع يتضمن الفرض والسنة والجائز والحرام فيكون المعني بكونه مشروعا أحد أقسام المشروع الثلاثة المتقدمة وهو المسنون وقد كنا نقول بأن غيره ليس بمشروع لولا تظاهر الأخبار والآثار وانعقاد الإجماع من الأمة بأن من طلق طلقتين أو ثلاثا أن ذلك لازم له ولا احتفال بالحجاج وإخوانه من الرافضة فالحق كائن قبلهم فأما مذهب أبي حنيفة في أنه حرام فلا معنى للاشتغال به هاهنا فإنه متفق معنا على لزومه إذا وقع وقد حققنا ذلك في مسائل الخلاف
المسألة الخامسة في تحقيق القول في قوله (مرة))
وهي عبارة في اللغة عن الفعلة الواحدة في الأصل لكن غلب عليها الاستعمال
259

فصارت ظرفا وقد بينا ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين
المسألة السادسة قوله تعالى (* (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *))
قيل الإمساك بالمعروف الرجعة الثانية بعد الطلقة الثانية والتسريح الطلقة الثالثة
وقيل التسريح بإحسان الإمساك حتى تنقضي العدة وكلاهما ممكن مراد قال الله تعالى (* (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) *) [الطلاق 2] يعني إذا قاربن انقضاء العدة فراجعوهن أو فارقوهن
وقد يكون الفراق بإيقاع الطلاق الذي قاله حينئذ وقد يكون إذا راجعها وقال بعد ذلك وقد يكون بالسكوت عن الرجعة حتى تنقضي العدة فليس في ذلك تناقض
وقد قال قوم إن التسريح بإحسان هي الطلقة الثالثة وورد في ذلك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال التسريح بإحسان هي الطلقة الثالثة ولم يصح
المسألة السابعة
هذه الآية عامة في أن الطلاق ثلاث في كل زوجين إلا أن الزوجين إن كانا مملوكين فذلك من هذه الآية مخصوص ولا خلاف في أن طلاق الرقيق طلقتان فالأولى في حقه مرة والثانية تسريح بإحسان لكن قال مالك والشافعي يعتبر عدده برق الزوج وقال أبو حنيفة يعتبر عدده برق الزوجة
وقد قال الدارقطني ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الطلاق بالرجال والعدة بالنساء والتقدير الطلاق معتبر بالرجال ولا يجوز أن يكون معناه الطلاق موجود بالرجال لأن ذلك مشاهد لا يجوز أن يعتمده النبي صلى الله عليه وسلم بالبيان
فإن قيل فقد روى الترمذي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال طلاق الأمة
260

طلقتان وعدتها حيضتان
قلنا يرويه مظاهر بن أسلم وهو ضعيف ألا ترى أنه جعل فيه اعتبار العدة والطلاق بالنساء جميعا ولا يقول السلف بهذا فقد روى النسائي وأبو داود عن ابن عباس أنه سأل عن مملوك كانت تحته مملوكة فطلقها طلقتين ثم أعتقا أيصلح له أن يتزوجها قال نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن كل ملك إنما يعتبر بحال المالك لا بحال المملوك وبيانه في مسائل الخلاف
المسألة الثامنة
قال الشافعي يؤخذ من هذه الآية أن السراح من صريح ألفاظ الطلاق الذي لا يفتقر إلى نية وليس مأخوذا من هذه الآية وإنما يؤخذ من الآية التي بعدها ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى
ولا يمتنع أن يكون المراد بقوله تعالى (* (أو تسريح بإحسان) *) الطلقة الثالثة كما بينا ويكون قوله تعالى بعد ذلك (* (فإن طلقها) *) بيانا لحكم الحرة الواقع عليها وهو الشرط الأول بعينه كما قال الله تعالى في تفسيرنا وتفسير الشافعي من أن الأول هو الثاني
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (فإمساك بمعروف) *))
ظن جهلة من الناس أن الفاء هنا للتعقيب وفسر أن الذي يعقب الطلاق من الإمساك الرجعة وهذا جهل بالمعنى واللسان
261

أما جهل المعنى فليست الرجعة عقيب الطلقتين وإنما هي عقيب الواحدة كما هي عقيب الثانية ولو لزمت حكم التعقيب في الآية لاختصت بالطلقتين
وأما الإعراب فليست الفاء للتعقيب هنا ولكن ذكر أهل الصناعة فيها معاني أمهاتها ثلاثة
أحدها أنها للتعقيب وذلك في العطف تقول خرج زيد فعمرو
الثاني السبب وذلك في الجزاء تقول إن تفعل خيرا فالله يجزيك فهو بعده لكن ليس معقبا عليه
الثالثة زائدة كقولك زيد فمنطلق كما قال الشاعر
(وقائلة خولان فانكح فتاتهم
* واكرومة الحيين خلو كماهيا)
وهذا لم يصححه سيبويه
والذي قاله صحيح من أن الفاء هاهنا ليست بزائدة وإنما هي في معنى الجواب للجملة كأنه قال هذه خولان فانكح فتاتهم
كما تقول هذا زيد فقم إليه ويرجع عندي إلى معنى التسبب فيكون معنيين
المسألة العاشرة
قال علماؤنا إذا وطئ بنية الرجعة جاز وكان من الإمساك بالمعروف لأنه إذا قال قد راجعتك كان معروفا جائزا فالوطء أجوز
فإن قيل هي محرمة بالطلاق فكيف يباح له الوطء
قلنا الإباحة تحصل بنية الرجعة كما تحصل بقولها
فإن قيل فقد قال الله تعالى (* (وأشهدوا ذوي عدل منكم) *) [الطلاق 2] والإشهاد يتصور على القول ولا يتصور على الوطء
قلنا يتصور الإشهاد على الإقرار بالوطء
262

فإن قيل إنما يشهد على الإقرار بفعله بعد فعله وظاهر الآية أن الوطء لا يحل إلا بعد الإشهاد
قلنا ليس في الآية إيقاف الحل على الإشهاد إنما فيه إلزام الإشهاد وذلك يتبين عند ذكر الآية إن شاء الله تعالى
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) *))
قال قوم يعني من الصداق وعندي أنه من كل شيء أعطاها فإن الصداق وإن كان نحلة شرطية فما نحلها بعده مثله لكونه نحلة عن نية عام في كل حالة من نكاح أو طلاق عام في كل وجه من ابتداء أخذ الزوج له أو إعطائها هي إياه له على الخلاص من نكاحه
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) *))
وفي ذلك تأويلات كلها أباطيل وإنما المراد به أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألا يقيم حق النكاح لصاحبه حسبما يجب عليه فيه لكراهية يعتقدها فلا حرج على المرأة أن تفتدي ولا على الزوج أن يأحذ
وقد أكد الله تعالى المنع حالة الفراق بقوله تعالى (* (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) *) [النساء 2] وذلك لأنها حالة تشره النفوس فيها إلى أن يأخذ الزوج ما نحله الزوجة في حالة النكاح إذ يخطر له أنك إنما كنت أعطيت على النكاح وقد فارقت فأنت معذور في أخذك فمنع الله تعالى ذلك بقوله (* (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) *) [النساء 19] وجوزه عند مسامحة المرأة به فقال تعالى (* (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه) *) [النساء 4] وحلل أخذ النصف بوقوع الفراق قبل الدخول بقوله تعالى (* (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) *) [البقرة 237] وطيبه عند عفوها أو عفو صاحب العقدة عن جميعه فقال تعالى (* (إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) *
263

) [البقرة 237] على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة عشرة
تعلق من رأى اختصاص الخلع بحالة الشقاق بقوله تعالى (* (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله) *) فشرط ذلك ولا حجة لهم فيه لأن الله تعالى لم يذكره على جهة الشرط وإنما ذكره لأنه الغالب من أحوال الخلع فخرج القول على الغالب ولحق النادر به كالعدة وضعت لبراءة الرحم ثم لحق بها البرية الرحم وهي الصغيرة واليائسة والذي يقطع العذر ويوجب العلم قوله (* (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *) [النساء 4] فإذا أعطتك مالها برضاها من صداق وغيره فخذه
المسألة الرابعة عشرة
هذا يدل على أن الخلع طلاق خلافا لقول الشافعي في القديم إنه فسخ
وفائدة الخلاف أنه إن كان فسخا لم يعد طلقة قال الشافعي لأن الله تعالى ذكر الطلاق مرتين وذكر الخلع بعده وذكر الثالث بقوله تعالى (* (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) *) وهذا غير صحيح لأنه لو كان كل مذكور في معرض هذه الآيات لا يعد طلاقا لوقوع الزيادة على الثلاث لما كان قوله تعالى (* (أو
تسريح بإحسان) *) طلاقا لأنه يزيد به على الثلاث ولا يفهم هذا إلا غبي أو متغاب لأن الله تعالى قال (* (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *) فإن وقع شيء من هذا الطلاق بعوض كان ذلك راجعا إلى الأولى والثانية دون الثالثة التي هي (* (أو تسريح بإحسان) *) حسبما تقدم فلا جناح عليه فيه فإن طلقها ثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره كان بفدية أو بغير فدية وقد بينا فساد قولهم إن الخلع فسخ في مسائل الخلاف
المسألة الخامسة عشرة قوله تعالى (* (تلك حدود الله فلا تعتدوها) *))
فيه قولان
الأول قيل هي في النكاح خاصة وهو قول الأكثر
264

الثاني أنها الطاعة يروى عن ابن عباس وغيره وهو الأصح لأنه إذا كان أحد الزوجين لا يطيع الله تعالى ولا يطيع صاحبه في الله فلا خير لهما في الاجتماع وبه أقول
المسألة السادسة عشرة
قال مالك المبارئة المخالعة بما لها قبل الدخول والمخالعة إذا فعلت ذلك بعد الدخول والمفتدية المخالعة ببعض مالها وهذا اصطلاح يدخل بعضه على بعض وقد اختلف الناس في ذلك فالأكثر أنه يجوز الخلع بالبعض من مالها وبالكل بأن تزيده على ما لها عليه من مالها المختص بها ما شاءت إذا كان الضرر من جهتها
وقال قوم لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها منهم الشعبي وابن المسيب ويروى عن علي مثله ونص الحديث في قصة ثابت بن قيس يدل على جواز الخلع بجميع ما أعطاها وعموم القرآن يدل على جوازه بأكثر من ذلك لقوله تعالى (* (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) *) فكل ما كان فداء فجائز على الإطلاق
المسألة السابعة عشرة قوله تعالى (* (فلا تعتدوها) *))
بين تعالى أحكام النكاح والفراق ثم قال تعالى تلك حدودي التي أمرت بامتثالها فلا تعتدوها كما بين تحريمات الصيام في الآية الأخرى ثم قال تلك حدودي فلا تقربوها فقسم الحدود قسمين منها حدود الأمر بالامتثال وحدود النهي بالاجتناب
المسألة الثامنة عشرة
احتج مشيخة خراسان من الحنفية على أن المختلعة يلحقها الطلاق بقوله تعالى (* (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) *) [البقرة 23] قالوا فشرع الله سبحانه وتعالى صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق وإنما قلنا بعدها لأن الفاء حرف تعقيب
265

قلنا معناه فإن طلقها ولم تعتد لأنه شرع قبل الابتداء بطلاقين فيكون الابتداء ثالثة ولا طلاق بعدها ليكون مرتبا عليها ويكون معقبا به فالصريح المذكور على سبيل المعاقبة معناه إن لم يكن فداء ولكن كان صريحا ودليله أن الله تعالى شرع طلقتين صريحتين ثم ذكر بعدهما إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان إما بالترك لتبين وإما بالطلقة الثالثة فيكون تمليكا للثالثة فإن افتدت فلا جناح عليها فيه وإن لم تفتد وطلقها كان كذا كما أخبر به فيكون بيانا لكيفية التصرف فيما بقي من ملك الثالثة
فإن قيل حرف الفاء يقتضي الترتيب وقد رتب الصريح على الفداء فلا يعدل عنه وذلك أنه تعالى قال (* (الطلاق مرتان) *) ثم قال (* (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) *) أي فيما فدت به نفسها من نكاحها بمالها ولا بد في ذلك من طلاق فتكون المفاداة طلاقا بمال وذلك هو المذكور في قوله تعالى (* (الطلاق مرتان) *) حتى لا يلزمنا ترك القول بالترتيب الذي يقتضيه حرف الفاء وعليه يدل مساق الآية لأنها سيقت لبيان عدد الطلاق وأحكام الواقع منه فبين تعالى أن العدد ثلاث وأن الصريح لا يمنع وقوع آخر لقوله تعالى (* (مرتان) *) وبين أنه لا يقطع الرجعة بقوله تعالى (* (فإمساك بمعروف) *) ولا إيقاع الثالثة لقوله تعالى بعده (* (أو تسريح بإحسان) *) لو لم يذكر الوقوع ببدل ولا حكم ما بعده فتبين بقوله تعالى (* (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) *) أن الافتداء بالمال عن النكاح جائز وطلاق في الجملة وأنه لا رجعة بعده فإنه لم يذكر بعده رجعة فالآية سيقت لبيان جملة فيكون الترك بيانا
ثم قال تعالى (* (فإن طلقها) *) فبين أن الصريح يقع بعد الطلاق بمال
قلنا هذا تطويل ليس وراءه تحصيل إنما قال الله تعالى (* (فإمساك بمعروف) *) بما قد تردد في كلامنا جملته أن الطلاق محصور في ثلاث وأن للزوج فيما دون الثلاثة الرجعة وأن الثالثة تحرمها إلى غاية وتبين مع ذلك كله تحريم أخذ الصداق
266

إلا بعد رضا المرأة لما قد استوفى منها واستحل من فرجها وأحكم أنه لا حجة له في أن يقول تأخذ بمقدار متعتي وآخذ بما بقي لي وأوضح أن للمرأة أن تفك نفسها من رق النكاح بما لها منه ومن غيره وسواء أخذه في الأولى أو الثانية أو الثالثة لقوله تعالى بعد ذكر أعداد الطلاق الثلاث والمرتين والتسريح (* (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) *) كيفما كان الفداء فكان بيانا لجواز الفداء في الجملة كلها لا في محل مخصوص منها بأولى أو ثانية أو ثالثة
جواب آخر وأما تحريم الرجعة في طلاق الخلع فليس من هذه الآية إنما اقتضت الآية تحريمها بالثالثة أو بالثلاث فأما سقوط الرجعة في المفاداة فمأخوذ من دليل آخر وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم في شأن ثابت بن قيس فمعناه وفرقه
جواب ثالث أما قولهم إن الصريح يقع بعد الطلاق فنقول نعم ولكن في محله ألا ترى أن العدة لو انقضت لم يقع طلاق ثان ولا يقع إذا خالعها في الأولى ولا في الثانية
جواب رابع قد بينا قبل هذا تقدير الآية ونظم مساقها بما يقتضيه لفظها لا بما لا يقتضيه ولا يدل عليه كما فعلوا فقارنوا بين الأمرين تجدوا البون بينا إن شاء الله تعالى
الآية الثامنة والستون
قوله تعالى (* (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون
) *) [الآية 23]
وفيها مسألتان
المسألة الأولى قوله تعالى (* (فإن طلقها فلا تحل له من بعد) *))
قال سعيد بن المسيب تحل المطلقة ثلاثا للأول بمجرد العقد من الثاني وإن لم يطأها الثاني لظاهر قوله تعالى (* (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) *) والنكاح العقد
267

قال وهذا لا يصح من وجهين أحدهما أن يقال له بل هو الوطء ولفظ النكاح قد ورد بهما في كتاب الله تعالى جميعا فما باله خصصه هاهنا بالعقد
فإن قيل فأنتم لا تقولون به لأنه شرط الإنزال وأنتم لا تشترطونه
إنما شرط ذوق العسيلة وذلك يكون بالتقاء الختانين هذا لباب كلام علمائنا
قال القاضي ما مر بي في الفقه مسألة أعسر منها وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها وقد بينا ذلك في أصول الفقه وفي بعض ما تقدم
فإنا قلنا إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا مذهب سعيد بن المسيب
وإن قلنا إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال لأنه آخر ذوق العسيلة ولأجل ذلك لا يجوز له أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها فصارت المسألة في هذا الحد من الإشكال وأصحابنا يهملون ذلك ويمحون القول عليه وقد حققناها في مسائل الخلاف
المسألة الثانية قوله تعالى (* (حتى تنكح زوجا غيره) *))
دليل على أن المرأة تزوج نفسها لأنه أضاف العقد إليها ولنا لو كان سعيد بن المسيب يرى هذا مع قوله إن النكاح العقد لجاز له وأما نحن وأنتم الذين نرى أن النكاح هاهنا هو الوطء فلا يصح الاستدلال لكم معنا بهذه الآية
فإن قيل القرآن اقتضى تحريمها إلى العقد والسنة لم تبدل لفظ النكاح ولا نقلته عن العقد إلى الوطء إنما زادت شرطا آخر وهو الوطء
قلنا إذا احتمل اللفظ في القرآن معنيين فأثبتت السنة أن المراد أحدهما فلا يقال إن القرآن اقتضى أحدهما وزادت السنة الثاني إنما يقال إن السنة أثبتت المراد منهما والعدول عن هذا جهل بالدليل أو مراغمة وعناد في التأويل
268

الآية التاسعة والستون
قوله تعالى (* (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا) *) [الآية 231]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (بلغن) *))
معناه قاربن البلوغ لأن من بلغ أجله بانت منه امرأته وانقطعت رجعته فلهذه الضرورة جعل لفظ بلغ بمعنى قارب كما يقال إذا بلغت مكة فاغتسل
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فأمسكوهن بمعروف) *))
هو الرجعة مع المعروف محافظة على حدود الله تبارك وتعالى في القيام بحقوق النكاح
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (أو سرحوهن بمعروف) *))
يعني طلقوهن
قال الشافعي هذا من ألفاظ التصريح في الطلاق وهي ثلاثة طلاق وسراح وفراق وفائدتها عنده أنها لا تفتقر إلى النية بل يقع الطلاق بذكرها مجردة عن النية
وعندنا أن صريح الطلاق الذي لا يفتقر إلى النية نيف على عشرة ألفاظ ولم يذكر الله تعالى هذه الألفاظ ليبين بها عدد الصريح وإنما دخلت لبيان أحكام علقت على الطلاق فلا تستفاد منه ما لم يذكر لأجله ولا في موضعه
وقد بينا ذلك في المسائل ولا يصح أن يجعل قوله هاهنا (* (أو سرحوهن) *) صريحا في الطلاق قطعا لأن الله تعالى إنما أراد بقوله (* (فأمسكوهن بمعروف) *) أي أرجعوهن قولا أو فعلا على ما يأتي بيانه في سورة الطلاق إن شاء الله تعالى
ومعنى (* (أو سرحوهن) *) أي اتركوا الارتجاع فستسرح عند انقضاء العدة
269

بالطلاق الأول وليس إحداث طلاق بحال وقد يكون الطلاق الذي كانت عنه العدة مكانه فلا يكون لقوله تعالى (* (سرحوهن) *) معنى
المسألة الرابعة حكم الإمساك بالمعروف
إن للزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها فإن لم يفعل خرج عن حد المعروف فيطلقها عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها
فإن قيل فإذا كان هذا العاجز عن النفقة لا يمسك بالمعروف فكيف تكلفونه أنتم غير المعروف وهو الإنفاق ولا يجوز تكليف ما لا يطاق
قلنا إذا لم يطق الإنفاق بالمعروف أطاق الإحسان بالطلاق وإلا فالإمساك مع عدم الإنفاق ضرار
وفي الحديث الصحيح للبخاري تقول لك زوجك أنفق علي وإلا طلقني ويقول لك عبدك أنفق علي وإلا بعني ويقول لك ابنك أنفق علي إلى من تكلني
المسألة الخامسة
هذا يدل على أن الرجعة لا تكون إلا بقصد الرغبة فإن قصد أن يمنعها النكاح ويقطع بها في أملها من غير رغبة اعتداء عليها فهو ظالم لنفسه فلو عرفنا ذلك نقضنا رجعته وإذا لم نعرف نفذت والله حسيبه
المسألة السادسة قوله تعالى (* (ولا تتخذوا آيات الله هزوا) *))
قال علماؤنا معناه لا تأخذوا أحكام الله في طريق الهزء فإنها جد كلها فمن هزأ بها لزمته
270

وهذا اللفظ لا يستعمل إلا بطريق القصد إلى اتخاذها هزوا فأما لزومها عند اتخاذها هزوا فليست من قوة اللفظ وإنما هو مأخوذ من جهة المعنى على ما بيناه في مسائل الخلاف
ومن اتخاذ آيات الله هزوا ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال لامرأته أنت طالق مائة فقال يكفيك منها ثلاث والسبعة والتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا فمن اتخاذها هزوا على هذا مخالفة حدودها فيعاقب بإلزامها وعلى هذا يتركب طلاق الهازل ولست أعلم خلافا في المذهب في لزومه وإنما اختلف قول مالك في نكاح الهازل فقال عنه علي بن زياد لا يلزم ومن أراد أن يخرج على هذا طلاق الهازل فهو ضعيف النظر لأن إبطال نكاح الهازل يوجب إلزام طلاقه لأن فيه تغليب التحريم في البضع على التحليل في الوجهين جميعا وهو مقدم على الإباحة فيه إذا عارضته
الآية الموفية سبعين
قوله تعالى (* (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) *) [الآية 232]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (فبلغن أجلهن) *))
والبلوغ هاهنا حقيقة لا مجاز فيها لأنه لو كان معناه قاربن البلوغ كما في الآية قبلها لما خرجت به الزوجة عن حكم الزوج في الرجعة فلما قال تعالى (* (فلا تعضلوهن) *) تبين أن البلوغ قد وقع في انقضاء العدة وأن الزوج قد سقط حقه من الرجعة
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فلا تعضلوهن) *))
العضل يتصرف على وجوه مرجعها إلى المنع وهو المراد هاهنا فنهى الله تعالى أولياء المرأة من منعها عن نكاح من ترضاه وهذا دليل قاطع على أن المرأة لا حق لها
271

في مباشرة النكاح وإنما هو حق الولي خلافا لأبي حنيفة ولولا ذلك لما نهاه الله عن منعها
وقد صح أن معقل بن يسار كانت له أخت فطلقها زوجها فلما انقضت عدتها خطبها فأبى معقل فأنزل الله تعالى هذه الآية ولو لم يكن له حق لقال الله تعالى لنبيه عليه السلام لا كلام لمعقل في ذلك
وفي الآية أسئلة كثيرة يقطعها هذا الحديث الصحيح خرجه البخاري
فإن قيل السبب الذي رويتم يبطل نظم الآية لأن الولي إذا كان هو المنكح فكيف يقال له لا تمتنع من فعل نفسك وهذا محال
قلنا ليس كما ذكرتم للمرأة حق الطلب للنكاح وللولي حق المباشرة للعقد فإذا أرادت من يرضى حاله وأبى الولي من العقد فقد منعها مرادها وهذا بين
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (إذا تراضوا بينهم بالمعروف) *))
يعني إذا كان لها كفؤا لأن الصداق في الثيب المالكة أمر نفسها لا حق للولي فيه والآية نزلت في ثيب مالكة أمر نفسها فدل على أن المعروف المراد بالآية هو الكفاءة وفيها حق عظيم للأولياء لما في تركها من إدخال العار عليهم وذلك إجماع من الأمة
الآية الحادية والسبعون
قوله تعالى (* (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف) *) [الآية 233]
272

هذه الآية عضلة ولا يتخلص منها إلا بجريعة الذقن مع الغصص بها برهة من الدهر وفهيا خمس عشرة مسألة
المسألة الأولى
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقل الحمل ستة أشهر لأن الله تعالى قال (* (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * ([الأحقاف 15] ثم قال تعالى (* (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) *) فإذا أسقطت حولين من ثلاثين شهرا بقيت منه ستة أشهر وهي مدة الحمل وهذا من بديع الاستنباط
المسألة الثانية قال الله تعالى (* (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) *))
واختلف الناس في فائدة هذا التقدير على قولين
فمنهم من قال معناه إذا ولدت لستة أشهر أرضعت حولين وإن ولدت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا وهكذا تتداخل مدة الحمل ومدة الرضاع ويأخذ الواحد من الآخر
ومنهم من قال إذا اختلف الأبوان في مدة الرضاع فالفصل في فصاله من الحاكم حولان
والصحيح أنه لا حد لأقله وأكثره محدود بحولين مع التراضي بنص القرآن
المسألة الثالثة
إذا زادت المرأة في رضاعها على مدة الحولين وقع الرضاع موقعه إلى أن يستقل الولد
وقال الشافعي وغيره لو زادت لحظة ما اعتبر ذلك في حكم ولو كان هذا حدا مؤقتا لا تجوز الزيادة عليه ولا تعتبر إن وجدت لما أوقفه الله تعالى على الإرادة كسائر الأعداد المؤقتة في الشريعة
273

وقال أبو حنيفة يريد ستة أشهر وقال زفر ثلاث سنين وهذا كله تحكم
والصحيح أن ما قرب من أمد الفطام عرفا لحق به وما بعد منه خرج عنه من غير تقدير وفي مسائل الفروع تتمة ذلك
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) *))
دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لعجزه وضعفه فجعل الله تعالى ذلك على يدي أبيه لقرابته منه وشفقته عليه وسمى الله تعالى الأم لأن الغذاء يصل إليه بوساطتها في الرضاعة كما قال تعالى (* (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن) *) [الطلاق 6] لأن الغذاء لا يصل إلى الحمل إلا بوساطتهن في الرضاعة وهذا باب من أصول الفقه وهو أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب مثله
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (بالمعروف) *))
يعني على قدر حال الأب من السعة والضيق كما قال تعالى في سورة الطلاق (* (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله) *) [الطلاق 7] ومن هذه النكتة أخذ علماؤنا جواز إجارة الظئر بالنفقة والكسوة وبه قال أبو حنيفة وأنكره صاحباه لأنها إجارة مجهولة فلم تجز كما لو كانت الإجارة به على عمل الآخر وذلك عند أبي حنيفة استحسان وهو عند مالك والشافعي أصل في الارتضاع وفي كل عمل وحمل على العرف والعادة في مثل ذلك العمل ولولا أنه معروف ما أدخله الله تعالى في المعروف
فإن قيل الذي يدل على أنه مخصوص أنه قدر بحال الأب من عسر ويسر ولو كان على رسم الأجرة لم يختلف كبدل سائر الأعواض
قلنا قدروه بالمعروف أصلا في الإجارات ونوعه باليسار والإقتار رفقا فانتظم الحكمان واطردت الحكمتان
وفي مسائل الخلاف ترى تمام ذلك إن شاء الله تعالى
274

المسألة السادسة في قوله تعالى (* (والوالدات يرضعن أولادهن) *))
اختلف الناس هل هو حق لها أم هو حق عليها
واللفظ محتمل لأنه لو أراد التصريح بقوله (عليها) لقال وعلى الوالدات إرضاع أولادهن حولين كاملين كما قال تعالى (* (وعلى المولود له رزقهن) *) لكن هو عليها في حال الزوجية وهو عليها إن لم يقبل غيرها وهو عليها إذا عدم الأب لاختصاصها به وقد قدمنا أن في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم تقول لك المرأة أنفق علي وإلا طلقني ويقول لك العبد أطعمني واستعملني ويقول لك ابنك أنفق علي إلى من تكلني
ولمالك في الشريفة رأي خصص به الآية فقال إنها لا ترضع إذا كانت شريفة وهذا من باب المصلحة التي مهدناها في أصول الفقه
المسألة السابعة
قال علماؤنا الحضانة بدليل هذه الآية للأم والنصرة للأب لأن الحضانة مع الرضاع ومسائل الباب تأتي في سورة الطلاق إن شاء الله تعالى
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده) *))
المعنى لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارا بأبيه ولا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك وذلك كله عند الطلاق لوجهين
أحدهما أن ذكر ذلك جاء عند ذكر الطلاق فكان بيانا لبعض أحكامه المتعلقة به
الثاني أن النكاح إذا كان باقيا ثابتا فالنفقة واجبة لأجله ولا تستوجب الأم زيادة عليها لأجل رضاعه
المسألة التاسعة
إذا أراد الأب أن يرضع الابن غير الأم وهي في العصمة لتتفرغ له جاز ذلك
275

ولم يجز لها أن تختص به إذا كان يقبل غيرها لما في ذلك من الإضرار بالأب بل لما في ذلك من غيال الابن فاجتماع الفائدتين يوجب على الأم إسلام الولد إلى غيرها
ولما في الآية من الاحتمال في أنه حق لها أو عليها
المسألة العاشرة قوله (* (وعلى الوارث مثل ذلك) *))
قال ابن القاسم عن مالك هي منسوخة وهذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين وتحار فيه ألباب الشادين والأمر فيه قريب لأنا نقول لو ثبتت ما نسخها إلا ما كان في مرتبتها ولكن وجهه أن علماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمون التخصيص نسخا لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم ومسامحة وجرى ذلك في ألسنتهم حتى أشكل ذلك على من بعدهم وهذا يظهر عند من ارتاض بكلام المتقدمين كثيرا
وتحقيق القول فيه أن قوله تعالى (* (وعلى الوارث مثل ذلك) *) إشارة إلى ما تقدم فمن الناس من رده إلى جميعه من إيجاب النفقة وتحريم الإضرار منهم أبو حنيفة من الفقهاء ومن السلف قتادة والحسن ويسند إلى عمر رضي الله عنه فأوجبوا على قرابة المولود الذين يرثونه نفقته إذا عدم أبوه في تفصيل طويل لا معنى له
وقالت طائفة من العلماء إن قوله تعالى (* (وعلى الوارث مثل ذلك) *) لا يرجع إلى جميع ما تقدم كله وإنما يرجع إلى تحريم الإضرار المعنى وعلى الوارث من تحريم الإضرار بالأم ما على الأب
وهذا هو الأصل فمن ادعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل وهو يدعي على اللغة العربية ما ليس منها ولا يوجد له نظير فيها
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما) *))
المعنى أن الله تعالى لما جعل مدة الرضاع حولين بين أن فطامها هو الفطام
276

وفصالها هو الفصال ليس لأحد عنه منزع إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارة بالولد فذلك جائز بهذا البيان
المسألة الثانية عشرة
هذا يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الشريعة لأن الله تعالى جعل للوالدين التشاور والتراضي في الفطام فيعملان على موجب اجتهادهما فيه وتترتب الأحكام عليه
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) *))
هذا عند خيفة الضيعة على الولد عند الأم والتقصير أو الإضرار بالولد في اشتغال الأم عن حقه بولدها أو الإضرار بالولد في الاغتيال ونحوه فإن اختلفوا نظر للصبي فإن أوجب النظر أن يسترضع له استرضع إذا أعطى المرضع حقه من أم أو ظئر
المسألة الرابعة عشرة
قال علماؤنا إذا كانت الحضانة للأم في الولد تمادت إلى البلوغ في الغلام وإلى النكاح في الجارية وذلك حق لها وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي إذا عقل ميز وخير بين أبويه لما روى النسائي وغيره عن أبي هريرة أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له زوجي يريد أن يذهب بابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة فجاء زوجها فقال من يحاقني في أبني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا غلام هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه
وعند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال استهما عليه فلما قال زوجها من يحاقني عليه خيره النبي صلى الله عليه وسلم فاختار أمه
277

وروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قالت له المرأة إن ابني كان ثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أنت أحق به ما لم تنكحي
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ابنة حمزة للخالة من غير تخيير والأم أحق به منها والمعنى يعضده فإن الابن قد أنس بها فنقله عنها إضرار به والله أعلم
المسألة الخامسة عشرة
معضلة قال مالك كل أم يلزمها رضاع ولدها بما أخبر الله تعالى من حكم الشريعة فيها إلا أن مالكا دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة فقال لا يلزمها إرضاعه فأخرجها من الآية وخصها فيها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالمصلحة وهذا فن لم يتفطن له مالكي
وقد حققناه في أصول الفقه والأصل البديع فيه هو أن هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب وجاء الإسلام عليه فلم يغيره وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء إلى المراضع إلى زمانه فقال به وإلى زماننا فحققناه شرعا
الآية الثانية والسبعون
قوله تعالى (* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير) *) [الآية 234]
فيها اثنتا عشرة مسألة
278

المسألة الأولى في نسخها قولان
أحدهما أنها ناسخة لقوله تعالى (* (متاعا إلى الحول غير إخراج) *) [البقرة 24] وكانت عدة الوفاء في صدر الإسلام حولا كما كانت في الجاهلية ثم نسخ الله تعالى ذلك بأربعة أشهر وعشر قاله الأكثر
الثاني أنها منسوخة بقوله تعالى (* (متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف) *) تعتد حيث شاءت روي عن ابن
عباس وعطاء
والأصح هو القول الأول كما حققناه في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ على وجه نكتته على ما روى الأئمة في الصحيح أن ابن الزبير قال لعثمان رضي الله عنه قوله تعالى (* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم) *) [البقرة 24] نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها قال يا بن أخي لا أغير منه شيئا عن مكانه وقد قال الأئمة إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة بنت مالك بن سنان حين قتل زوجها امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله
فتقرر من هذا أن المتوفى عنها زوجها كانت بالخيار بين أن تخرج من بيتها وبين أن تبقى بآية الإخراج ثم نسخها الله تعالى بالآية التي فيها التربص ثم أكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره للفريعة بالمكث في بيتها فكان ذلك بيانا للسكنى للمتوفى عنها زوجها قرآنا وسنة
المسألة الثانية
هذا لفظه لفظ الخبر ومعناه أيضا معنى الخبر كما تقدم المعنى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا يعني شرعا فما وجد من
279

المطلقات لأنه فيهن ورد وعلى ذكرهن انعطف
قلنا عطفه على المطلقة لا يسقط عمومه ويشهد له ما بيناه من الحكمة في إيجاب العدة من براءة الرحم وأنها قد وجدت قطعا
المسألة الرابعة
قد يزدحم على الرحم وطآن فتكون العدة فيهما أقصى الأجلين في مسائل منها المنعي لها يقدم ثم يموت وهي حامل من الثاني فلا بد من أقصى الأجلين وكذلك لو قدم وهي حامل فطلقها الأول فلا يبرئها الوضع ولتأتنف ثلاث حيض بعده وهو أمر بين
المسألة الخامسة
أما الطيب والزينة
فقد روي عن الحسن أنه جوز ذلك لها احتجاجا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت عميس حين مات جعفر أمسكي ثلاثا ثم افعلي ما بدا لك وهذا حديث باطل روى الأئمة بأجمعهم عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة جاءت إليه فقالت له إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينيها أفتكحلهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مرتين أو ثلاثا ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول قالت زينب وكانت المرأة إذا توفي عنها زوجها لبست شر ثيابها ودخلت حفشا فلم تمس طيبا حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقل ما تفتض بشيء إلا مات ثم تحرج فتعطي بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب وغيره
281

ولو صح حديث أسماء فقد قال علماؤنا إن التسلب هو لباس الحزن وهو معنى غير الإحداد
وأما الخروج فعلى ثلاثة أوجه
الأول خروج انتقال ولا سبيل إليه عند عامة العلماء إلا ما روي عن ابن عباس وعطاء وسفيان الثوري لاعتقادهم أن آية الإخراج لم تنسخ وقد تقدم بيان ذلك
الثاني خروج العبادة كالحج والعمرة قال ابن عباس وعطاء يحججن لأداء الفرض عليهن وقد قال عمر وابن عمر لا يحججن وقد كان عمر رضي الله عنه يرد المعتدات من البيداء يمنعهن الحج فرأي عمر في الخلفاء ورأي مالك في العلماء وغيرهم أن عموم فرض التربص في زمن العدة مقدم على عموم زمان فرض الحج لا سيما إن قلنا إنه على التراخي وإن قلنا على الفور فحق التربص آكد من حق الحج لأن حق العدة لله تعالى ثم للآدمي في صيانة مائة وتحرير نسبه وحق الحج خاص لله سبحانه
الثالث خروجها بالنهار للتصرف ورجوعها بالليل قاله ابن عمر وغيره ويكون خروجها في السحر ورجوعها عند النوم فراعوا المبيت الذي هو عمدة السكنى ومقصوده وإليه ترجع حقيقة المأوى
فإن قيل وهي
المسألة السادسة
لم ير أحد مبيت ليلة أو ثلاث سكنى للبائت حيث بات ولا خروجا عن السكنى فما بالهم في العدة قالوا خروج ليلة خروج
قلنا المعنى فيه والله أعلم أن حق الخروج متعلق المبيت فاحتيط له والحي يحمي شوله معقولا فلم يعتبر ذلك فيه
282

المسألة السابعة
الآية عامة في كل متزوجة مدخول بها أو غير مدخول بها صغيرة أو كبيرة أمة أو حرة حامل أو غير حامل كما تقدم وهي خاصة في المدة فإن كانت أمة فتعتد نصف عدة الحرة إجماعا إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى فيه بين الحرة والأمة وقد سبقه الإجماع لكن لصممه لم يسمع به وإذا انتصف فمن العلماء من قال إنها شهران وخمس ليال وهو مالك ورأيت لغيره ما لم أرض أن أحكيه
المسألة الثامنة
إذا مات الزوج ولم تعلم المرأة بذلك إلا بعد مضي مدة العدة فمذهب الجماعة أن العدة قد انقضت ويروى عن علي أن العدة من يوم علمت وبه قال الحسن وقال نحوا منه عمر بن عبد العزيز والشعبي إن ثبت الموت ببينة
ووجهه أن العدة عبادة بترك الزينة وذلك لا يصح إلا بقصد والقصد لا يكون إلا بعد العلم يؤكده أنها لو علمت بموته فتركت الإحداد لانقضت العدة فإذا تركت الإحداد مع عدم العلم فهو أهون ألا ترى أن الصغيرة تنقضي عدتها ولا إحداد عليها
المسألة التاسعة
إن لم تحض في الأربعة الأشهر فلا عدة لها عندنا في أشهر الأقوال
وقال أبو حنيفة والشافعي وغيرهما لا تفتقر إلى الحيض
ودليلنا أن تأخير الحيض ريبة توجب أن تستظهر له إلا أن علماءنا قالوا إذا لم يكن لها عادة بتأخير الحيض ولم تخش ريبة بقيت تسعة أشهر من يوم وفاته
وكيفية الاستظهار عندنا تكون بحيضة واحدة على ما بيناه في مسائل الفروع
المسألة العاشرة
إن كانت الزوجة كتابية فلمالك فيها قولان
أحدهما أنها كالمسلمة
283

الثاني أنها تعتد بثلاث حيض إذ بها يبرأ الرحم وهذا منه فاسد جدا لأنه أخرجها من عموم آية الوفاة وهي منها وأدخلها في عموم آية الطلاق وليست منها
المسألة الحادية عشرة في تنزيل هذه الأحكام
اعلموا وفقكم الله أن المقصود بهذه العدة براءة الرحم من ماء الزوج فامتناع النكاح إنما هو لأجل الماء الواجب صيانته أولا
وامتناع عقد النكاح إنما هو لاستحالة وجوده شرعا على محل لا يفيد مقصوده فيه وهو الحل
وامتناع الطيب والزينة لأنه من دواعيه فقطعت الذريعة إليه بمنع ما يحرص عليه وامتناع الخطبة لأن القول في ذلك والتصريح به أقوى ذريعة وأشد داعية من الطيب والزينة فحرم من طريق الأولى
وامتناع الخروج لبقاء الرقبة الموجب غاية الحفيظة والعصمة وحق أمر السكنى لكونه في الدرجة الخامسة من الحرمة فأسقط وجوبه أحبار من الأمة ثم رخص الله تعالى في التعريض على ما يأتي بيانه إن شاء الله
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (فإذا بلغن أجلهن) *))
يعني انقضت العدة فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن
هذا خطاب للأولياء وبيان أن الحق في التزويج لهن فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف أي من جائز شرعا يريد من اختيار أعيان الأزواج وتقدير الصداق دون مباشرة العقد لأنه حق للأولياء كما تقدم دون وضع نفسها في غير كفء لأنه ليس من المعروف وفيه الضرر وإدخال العار
الآية الثالثة والسبعون
قوله تعالى (* (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في) *
284

أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) [الآية 235]
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى
حرم الله تعالى النكاح في العدة وأوجب التربص على الزوجة وقد علم سبحانه أن الخلق لا يستطيعون الصبر عن ذكر النكاح والتكلم فيه فأذن في التصريح بذلك مع جميع الخلق وأذن في ذكر ذلك بالتعريض مع العاقد له وهو المرأة أو الولي وهو في المرأة آكد
والتعريض هو القول المفهم لمقصود الشيء وليس بنص فيه والتصريح هو التنصيص عليه والإفصاح بذكره مأخوذ من عرض الشيء وهو ناحيته كأنه يحوم على النكاح ولا يسف عليه ويمشي حوله ولا ينزل به
المسألة الثانية في تفسير التعريض
وقد روي عن السلف فيه كثير جماعه عندي يرجع إلى قسمين
الأول أن يذكرها للولي يقول لا تسبقني بها
الثاني أن يشير بذلك إليها دون واسطة
فإن ذكر ذلك لها بنفسه ففيه سبعة ألفاظ
الأول أن يقول لها إني أريد التزويج
الثاني أن يقول لها لا تسبقيني بنفسك قاله ابن عباس
الثالث أن يقول لها إنك لجميلة وإن حاجتي في النساء وإن الله لسائق إليك خيرا
الرابع أن يقول لها إنك لنافقة قاله ابن القاسم
285

الخامس إن لي حاجة وأبشري فإنك نافقة وتقول هي قد اسمع ما تقول ولا تزيد شيئا قاله عطاء
السادس أن يهدي لها قال إبراهيم إذا كان من شأنه وقال الشعبي مثله في
السابع ولا يأخذ ميثاقها
قالت سكينة بنت حنظلة بن عبد الله بن حنظلة دخل علي أبو جعفر وأنا في عدتي فقال يا بنت حنظلة قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي علي فقلت غفر الله لك أبا جعفر تخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك
فقال أوقد فعلت إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي
وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله فما كانت تلك خطبة
فانتحل من هذا فصلان
أحدهما أن يذكرها لنفسها
الثاني أن يذكرها لوليها أو يفعل فعلا يقوم مقام الذكر كأن يهدي لها
والذي مال إليه مالك أن يقول إني بك لمعجب ولك محب وفيك راغب وهذا عندي أقوى التعريض وأقرب إلى التصريح
والذي أراه أن يقول لها أن الله تعالى سائق إليك خيرا وأبشري وأنت نافقة فإن قال لها أكثر فهو إلى التصريح أقرب
ألا ترى إلى ما قال أبو جعفر الباقر وإلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما إذا ذكرها لأجنبي فلا حرج عليه ولا حرج على الأجنبي في أن يقول إن فلانا يريد أن يتزوجك إذا لم يكن ذلك بواسطة
286

وهذا التعريض ونحوه من الذرائع المباحة إذ ليس كل ذريعة محظورا وإنما يختص بالحظر الذريعة في باب الربا لقول عمر رضي الله عنه فدعوا الربا والريبة وكل ذريعة ريبة وذلك لعظيم حرمة الربا وشدة الوعيد فيه من الله تعالى
المسألة الثالثة
لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح قال علماء الشافعية هذا دليل على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد لأن الله تعالى لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح فأولى ألا يكون هاهنا لأن الحد يسقط بالشبهة وهذا ساقط فإن الله تعالى لم يأذن في التصريح في النكاح بالخطبة وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح فهذا دليل على أن التعريض به يفهم منه القذف والأعراض يجب صيانتها كما تجب صيانة الأموال والدماء وذلك يوجب حد المعرض لئلا يتطرق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (أو أكننتم في أنفسكم) *))
يعني سترتم وأخفيتم في قلوبكم من ذكرهن والعزيمة على نكاحهن فرفع الله تعالى الحرج في ذلك لعلمه بأنه لا بد منه تفضلا منه حين علم أنه لا بد من ذكرهن ثم قال تعالى وهي
المسألة الخامسة (* (ولكن لا تواعدوهن سرا) *))
المعنى قد منعتم التصريح بالنكاح وعقده وأذن لكم في التعريض فإياكم أن يقع بينكم مواعدة في النكاح حين منعتم العقد فيه
وقد اختلف العلماء في السر المراد هاهنا على ثلاثة أقوال
الأول أنه الزنا
الثاني الجماع
الثالث التصريح
واختار الطبري أنه الزنا لقول الأعشى
287

(فلا تقربن جارة إن سرها
* عليك حرام فأنكحن أو تأبدا)
والسر في اللغة يتصرف على معان
أحدها ما تكلم به في سره وأخفى منه ما أضمر
الثاني سر الوادي أي شطه
الثالث سر الشيء خياره
الرابع أنه الزنا
الخامس أنه الجماع
السادس أنه فرج المرأة
السابع سرر الشهر ما استسر الهلال فيه من لياليه
وهذه الإطلاقات يدخل بعضها على بعض ويرجع المعنى إلى الخفاء فيعم به تارة ويخص أخرى وترى سر الشيء خياره إنما هو لأنه يخفى ويضن به وترى أن سر الوادي شطه لأنه أشرفه لأن حسن الوادي إنما يكون بالجلوس عليه لا فيه ومنه سميت السرية لأنها تتخذ للوطء إذ الخدم يتخذون للتصرف والوطء فسميت المتخذة للوطء سرية من السرور ومنه سمي فرج المرأة سرا لأنه موضعه
فالمعنى هاهنا لا تواعدوهن نكاحا ولا وطئا فهو الذي حرم عليكم في العدة لأنه حرم عليهن النكاح في العدة إلى وقت محرم عليهن ضرب الوعد فيه وهذا بين لمن تأمله
المسألة السادسة
قال علماؤنا إذا حرم الوعد في العدة بالنكاح لأنه لا يجوز كان ذلك دليلا على تحريم الوعد في التقابض في الصرف في وقت لا يجوز إلى وقت يجوز فيه التقابض
ومنه قول عمر رضي الله عنه وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره وهذا
288

بين فإن الربا مثل الفرج في التحريم وهذا بين عند التأمل
المسألة السابعة قوله تعالى (* (إلا أن تقولوا قولا معروفا) *))
وهو التعريض الجائز
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) *))
فهذه عامة للبيان أي لا تواعدوا نكاحا ولا تعقدوه حتى تنقضي العدة
المسألة التاسعة
لو واعد في العدة ونكح بعدها استحب له مالك الفراق بطلقة تورعا ثم يستأنف خطبتها وأوجب عليه أشهب الفراق وهو الأصح
المسألة العاشرة
إذا نكح في العدة وبنى فسخ ولم ينكحها أبدا قاله مالك وأحمد والشعبي وبه قضى عمر لأنه استحل ما لا يحل له فحرمه كالقاتل في حرمان الميراث
وقد استوفيناها في مسائل الخلاف دليلا وفي كتب الفروع تفريعا
الآية الرابعة والسبعون
قوله تعالى (* (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) *) [الآية 236]
فيها مسألة واحدة
اختلف الناس في تقديرها فمنهم من قال معناها لا جناح عليكم إن طلقتم النساء المفروض لهن الصداق من قبل الدخول ما لم تمسوهن وغير المفروض لهن قبل الفرض قاله الطبري واختاره
289

ومنهم من قال معناها إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة وتكون أو بمعنى الواو
الثالث أن يكون في الكلام حذف تقديره لا جناح عليكم إن طلقتم النساء فرضتم أو لم تفرضوا
وهذه الأقوال ترجع إلى معنيين
أحدهما أن تكون أو بمعنى الواو
الثاني أن يكون في الكلام حذف تقدير به الآية وتبقى أو على بابها وتكون بمعنى التفصيل والتقسيم والبيان ولا ترجع إلى معنى الواو كقوله تعالى (* (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) *) [الإنسان 24] فإنها للتفصيل
واحتج من قال إنها بمعنى الواو بأنه عطف عليها بعد ذلك المفروض لهن فقال تعالى (* (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) *) فلو كان الأول لبيان طلاق المفروض لهن قبل المسيس لما كرره وهذا ظاهر وقد بينا في كتاب ملجئة المتفقهين ذلك
ولا فرق في قانون العربية بين تقدير حذف أو تكون أو بمعنى الواو لأن المعاني تتميز بذلك والأحكام تتفصل فإن المطلقة التي لم تمس ولم يفرض لها لا تخلو من أربعة أقسام
الأول مطلقة قبل المس وبعد الفرض
الثاني مطلقة بعد المسيس والفرض
الثالث مطلقة قبل المسيس وبعد الفرض
الرابع مطلقة بعد المس وقبل الفرض
وقد اختلف الناس في المتعة على أربعة أقوال دائرة مع الأربعة الأقسام
والصحيح أن الله تعالى لم يذكر في هذا الحكم إلا قسمين مطلقة قبل المس وقبل الفرض ومطلقة قبل المس وبعد الفرض فجعل للأولى المتعة وجعل للثانية نصف
290

الصداق وآلت الحال إلى أن المتعة لم يبين الله سبحانه وتعالى وجوبها إلا لمطلقة قبل المسيس والفرض وأما من طلقت وقد فرض لها فلها قبل المسيس نصف الفرض ولها بعد المسيس جميع الفرض أو مهر مثلها
والحكمة في ذلك أن الله سبحانه وتعالى قابل المسيس بالمهر الواجب ونصفه بالطلاق قبل المسيس لما لحق الزوجة من رخص العقد ووصم الحل الحاصل للزوج بالعقد فإذا طلقها قبل المسيس والفرض ألزمه الله المتعة كفؤا لهذا المعنى ولهذا اختلف العلماء في وجوب المتعة فمنهم من رآها واجبة لظاهر الأمر بها وللمعنى الذي أبرزناه من الحكمة فيها
وقال علماؤنا ليست بواجبة لوجهين
أحدهما أن الله تعالى لم يقدرها وإنما وكلها إلى اجتهاد المقدر وهذا ضعيف فإن الله تعالى قد وكل التقدير في النفقة إلى الاجتهاد وهي واجبة فقال (* (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) *)
الثاني أن الله تعالى قال فيها (* (حقا على المحسنين) *) حقا على المتقين ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين فتعليقها بالإحسان وليس بواجب وبالتقوى وهو معنى خفي دل على أنها استحباب يؤكده أنه قال تعالى في العفو عن الصداق (* (وأن تعفوا أقرب للتقوى) *) [البقرة 237] فأضافه إلى التقوى وليس بواجب وذلك أن للتقوى أقساما بيناها في كتب الفقراء ومنها واجب ومنها ما ليس بواجب فلينظر هنالك
فإن قيل فقد قال تعالى (* (وللمطلقات متاع بالمعروف) *) [البقرة 241] فذكرها لكل مطلقة
قلنا عنه جوابان
أحدهما أن المتاع هو كل ما ينتفع به فمن كان لها مهر فمتاعها مهرها ومن لم يكن لها مهر فمتاعها ما تقدم
291

الثاني أن إحدى الآيتين حقيقة دون الأخرى وذلك بين في مسائل الخلاف فلينظر هنالك إن شاء الله تعالى
الآية الخامسة والسبعون
قوله تعالى (* (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم) *) [الآية 237]
فيها ثماني مسائل
المسألة الأولى
هذا القسم هو أحد الأقسام المتقدمة وهو مطلقة قبل المسيس وبعد الفرض فلها نصف المفروض واجبا كما أن للمتقدمة المتعة مستحبة
المسألة الثانية
إن المطلقة قبل المسيس لها نصف المهر وإن خلا بها ولا تضر الخلوة بالمهر إلا أن يقترن بها مسيس في مشهور المذهب وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة يتقرر المهر بالخلوة وظاهر القرآن يدل على ما قلناه
فإن قيل الآية حجة عليكم لأنه لو خلا وقبل ولمس قلتم لا يتقرر المهر
قلنا المسيس هاهنا كناية عن الوطء بإجماع لأن عندكم أنه لو خلا ولم يلمس ولا قبل يتقرر المهر ولم يوجد هنا مس ولا وطء وهذا خلاف الآية ومراغمة الظاهر
المسألة الثالثة
لما قسم الله تعالى حال المطلقة إلى قسمين مطلقة سمي لها فرض ومطلقة لم يسم لها فرض دل على أن نكاح التفويض جائز وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصداق ولا خلاف فيه ويفرض بعد ذلك الصداق فإن فرض التحق بالعقد وجاز وإن لم يفرض لها وكان الطلاق لم يجب صداق إجماعا وإن فرض بعد عقد النكاح وقبل وقوع الطلاق فقال أبو حنيفة لا يتنصف بالطلاق لأنه لم يجب بالعقد وهذا
292

خلاف الظاهر من قوله تعالى (* (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) *) وخلاف القياس أيضا فإن الفرض بعد العقد يلحق بالعقد فوجب أن يتنصف بالطلاق أصله الفرض المقترن بالعقد
المسألة الرابعة
فإن وقع الموت قبل الفرض فقال مالك لها الميراث دون الصداق وخالف في ذلك الشافعي وأبو حنيفة فقالوا يجب لها الصداق والميراث واحتجوا بما روى جماعة منهم النسائي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق وقد مات زوجها قبل أن يفرض لها بالمهر والميراث والعدة
والحديث ضعيف لأن راوية مجهول ودليلنا أنه فراق في نكاح قبل الفرض فلم يجب فيه صداق أصله الطلاق وقد خرج الحديث المتقدم أبو عيسى وقال حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح وقد روى عنه من غير وجه
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) *))
الواجب لهن من الصداق أذن الله تعالى لهن في إسقاطه بعد وجوبه إذ جعله خالص حقهن يتصرفن بالإمضاء والإسقاط كيف شئن إذا ملكن أمر أنفسهن في الأموال ورشدن
المسألة السادسة (* (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) *))
وهي معضلة اختلف العلماء فيها
فقيل هو الزوج قاله علي وشريح وسعيد بن المسيب وجبير بن مطعم ومجاهد والثوري واختاره أبو حنيفة والشافعي في أصح قوليه
293

ومنهم من قال إنه الولي قاله ابن عباس والحسن وعكرمة وطاوس وعطاء وأبو الزناد وزيد بن أسلم وربيعة وعلقمة ومحمد بن كعب وابن شهاب وأسود ابن يزيد وشريح الكندي والشعبي وقتادة
واحتج من قال إنه الزوج بوجوه كثيرة لبابها ثلاثة
الأول أن الله تعالى ذكر الصداق في هذه الآية ذكرا مجملا من الزوجين فحمل على المفسر في غيرها وقد قال الله تعالى (* (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *) [النساء 4] فأذن الله تعالى للزوج في قبول الصداق إذا طابت نفس المرأة بتركه
وقال أيضا (* (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) *) [النساء 2]
فنهى الله تعالى الزوج أن يأخذ مما أتى المرأة إن أراد طلاقها
الثاني قوله تعالى (* (إلا أن يعفون) *))
يعني النساء أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح يعني الزوج معناه يبذل جميع الصداق يقال عفا بمعنى بذل كما يقال عفا بمعنى أسقط
ومعنى ذلك وحكمته أن المرأة إذا أسقطت ما وجب لها من نصف الصداق تقول هي لم ينل مني شيئا ولا أدرك ما بذل فيه هذا المال بإسقاطه وقد وجب إبقاء للمروءة واتقاء في الديانة ويقول الزوج أنا أترك المال لها لأني قد نلت الحل وابتذلتها بالطلاق فتركه أقرب للتقوى وأخلص من اللائمة
الثالث أنه تعالى قال (* (ولا تنسوا الفضل بينكم) *))
وليس لأحد في هبة مال لآخر فضل وإنما ذلك فيما يهبه المفضل من مال نفسه وليس للولي حق في الصداق
واحتج من قال إنه الولي بوجوه كثيرة نخبتها أربعة
الأول قالوا الذي بيده عقدة النكاح الولي لأن الزوج قد طلق فليس بيده
294

عقدة ومنه قوله تعالى (* (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) *) [البقرة 235] وهذا يستمر مع الشافعي دون أبي حنيفة الذي لا يرى عقدة النكاح للولي
الثاني أنه لو أراد الأزواج لقال إلا أن تعفوا أو تعفون فلما عدل من مخاطبة الحاضر المبدوء به في أول الكلام إلى لفظ الغائب دل على أن المراد به غيره
الثالث أنه تعالى قال (* (إلا أن يعفون) *) يعني يسقطن وقوله تعالى (* (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) *) لا يتصور الإسقاط فيه إلا من الولي فيكون معنى اللفظ الثاني هو معنى اللفظ الأول بعينه وذلك أنظم للكلام
الرابع أنه تعالى قال (* (إلا أن يعفون) *) يعني يسقطن أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح يعني يسقط فيرجع القول إلى النصف الواجب بالطلاق الذي تسقطه المرأة فأما النصف الذي لم يجب فلم يجر له ذكر
المسألة السابعة في المختار
والذي تحقق عندي بعد البحث والسبر أن الأظهر هو الولي لثلاثة أوجه
أحدها أن الله تعالى قال في أول الآية (* (وإن طلقتموهن) *) إلى قوله تعالى (* (وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) *) فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب ثم قال (* (إلا أن يعفون) *) فذكر النسوان (* (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) *) فهذا ثالث فلا يرد إلى الزوج المتقدم إلا لو لم يكن لغيره وجود وقد وجد وهو الولي فلا يجوز بعد هذا إسقاط التقدير بجعل الثلاث اثنين من غير ضرورة
الثاني أن الله تعالى قال (* (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) *) ولا إشكال في أن الزوج بيده عقدة النكاح لنفسه والولي بيده عقدة النكاح لوليته على القول بأن الذي يباشر العقد الولي فهذه المسألة هي أصول العفو مع أبي حنيفة وقد بيناها قبل وشرحناها في مسائل الخلاف
فقد ثبت بهذا أن الولي بيده عقدة النكاح فهو المراد لأن الزوجين يتراضيان فلا
295

ينعقد لهما أمر إلا بالولي بخلاف سائر العقود فإن المتعاقدين يستقلان بعقدهما
الثالث إن ما قلنا أنظم في الكلام وأقرب إلى المرام لأن الله تعالى قال (* (إلا أن يعفون) *) ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو فإن الصغيرة أو المحجورة لا عفو لها فبين الله تعالى القسمين وقال (* (إلا أن يعفون) *) إن كن لذلك أهلا أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح لأن الأمر فيه إليه
وكذلك روى ابن وهب وابن عبد الحكم وابن القاسم عن مالك أنه الأب في ابنته البكر والسيد في أمته لأن هذين هما اللذان يتصرفان في المال وينفذ لهما القول
فإن قيل إنما يتصرف الولي في المال بما يكون حظا لابنته فأما الإسقاط فليس بحظ ولا نظر
قلنا إذا رآه كان فإنا أجمعنا على أنه لو عقد نكاحها بأقل من مهرها نفذ وهذا إسقاط محض لكنه لما كان نظرا مضى
فإن قيل فهو عام في كل ولي فلم خصصتموه بهذين
قلنا كما هو عام في كل زوجة وخص في الصغيرة والمحجورة
وأما متعلق من قال إنه الزوج فضعيف أما قولهم إن الله سبحانه ذكر الأزواج في الآيتين اللتين استشهدوا بهما فقد ذكر الولي في هذه الآية فجاءت الأحكام كلها مبينة والفوائد الثلاثة معتبرة وعلى قولهم يسقط بعض البيان
وأما قولهم الثاني فلا حجة فيه لأن مجيء العفو بمعنى واحد من الجهتين أبلغ في الفصاحة وأوفى في المعنى من مجيئة بمعنيين لأن فيه إسقاط أحد العافيين وهو الولي المستفاد إذا كان العفو بمعنى الإسقاط وأما ندب الزوج إلى إعطاء الصداق كله في الآيتين اللتين ذكروا فذلك معلوم من دليل آخر
وأما الثالث فلا حجة لهم فيه لأن الله تعالى أراد أن يميز الولي عن الزوج والزوجة بمعنى يخصه فكنى عنه بقوله تعالى (* (الذي بيده عقدة النكاح) *) بكناية مستحسنة فكان ذلك أبلغ في الفصاحة وأتم في المعنى وأجمع للفوائد
296

وأما الرابع وهو قوله تعالى (* (ولا تنسوا الفضل بينكم) *) وتعلقهم بأن الإفضال لا يكون بمال أحد وإنما الإفضال يكون بأحد وجهين أحدهما يكون ببذل ما تملكه يده والثاني بإسقاط ما يملك إسقاطه كما يتفضل عليه بأن يزوجه بأقل من مهر المثل
المسألة الثامنة
هذه الآية حجة على صحة المشاع لأن الله تعالى أوجب للمرأة بالطلاق نصف الصداق فعفوها للرجل عن جميعه كعفو الرجل ولم يفصل بين مشاع ومقسوم
وقال أبو حنيفة لا تصح هبة المشاع إلا بعد القسمة والذي انفصل به المهر عن عموم الآية أن الله سبحانه إنما بين تكميلا ثبت بنفس العفو دون شرط قبض ذلك في عفو المرأة والمهر دين أو في عفو الرجل والمهر مقبوض دين على المرأة فأما المعين فلا يكمل العفو فيه إلا بقبض متصل به أو قبض قائم ينوب عن قبض الهبة ولئن حملت الآية على عفو بشرط زيادة القبض فنحن لا نشترط إلا تمامه وتمامه بالقسمة فآل الاختلاف إلى كيفية القبض
قال القاضي ابن العربي هذا الانفصال إنما يستمر بظاهره على أصحاب الشافعي الذين يشترطون في الهبة القبض فأما نحن فلا نرى ذلك فلا يصح لهم هذا الانفصال معنا فإن نفس العفو ممن عفا يخلص ملكا لمن عفي له
وأما أصحاب الشافعي فلا يصح لهم هذا معهم من طريق أخرى وهي أن الآية بمطلقها تفيد صحة هبة المشاع مع كونه مشاعا وافتقار الهبة إلى القبض نظر يؤخذ من دليل يخص تلك النازلة فمشترط القسمة مفتقر إلى دليل ولما يجدوه إلا من طريق المعنى ينبني على اشتراط القبض ونحن لا نسلمه وليس التمييز من القبض أصلا في ورد ولا صدر فصح تعلقنا بالآية وعمومها وسلمت من تشغيبهم
الآية السادسة والسبعون
قوله تعالى (* (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) *) [الآية 238]
297

فيها سبع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (حافظوا) *))
المحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة وذلك بالتمادي على فعلها والاحتراس من تضييعها أو تضييع بعضها
وحفظ الشيء في نفسه مراعاة أجزائه وصفاته ومنه كتاب عمر من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه فيجب أولا حفظها ثم المحافظة عليها بذلك يتم الدين
المسألة الثانية
لا شك في انتظام قوله تعالى الصلوات للصلاة الوسطى لكنه خصصها بعد ذلك بالذكر تنبيها على شرفها في جنسها ومقدارها في أخواتها كما قال الله تعالى (* (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) *) [البقرة 98] تنبيها على شرف الملكين وكما قال تعالى (* (فيهما فاكهة ونخل ورمان) *) [الرحمن 68] تنبيها على وجه الزيادة في مقدارهما بين الفاكهة
المسألة الثالثة في معنى تسميتها وسطى
وفي ذلك احتمالات
الأول إنها وسطى من الوسط وهو العدل والخيار والفضل كما قال تعالى (* (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) *) [البقرة 143] وقوله تعالى (* (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) *) [القلم 28] يعني الأفضل في الآيتين
الثاني أنها وسط في العدد لأنها خمس صلوات تكتنفها اثنتان من كل جهة
الثالث أنها وسط من الوقت قال ابن القاسم قال مالك الصبح هي الوسطى لأن الظهر والعصر في النهار والمغرب والعشاء في الليل والصبح فيما بين ذلك وهي أقل
الصلوات قدرا
والظهر والعصر تجمعان والمغرب والعشاء تجمعان ولا تجمع الصبح مع شيء من الصلوات وهي كثيرا ما تفوت الناس وينامون عنها وقال نحوه زيد بن أسلم في توسط الوقت
298

وروي عن ابن عباس أنها الوسطى لأنها تصلي في سواد من الليل وبياض من النهار وكثيرا ما تفوت الناس قال ابن عباس أيضا وقد قنت في الصبح هذه هي الصلاة الوسطى قال الله تعالى (* (وقوموا لله قانتين) *))
المسألة الرابعة في تحقيقها
يبعد في الشريعة أن تسمى وسطى بعدد أو وقت وما العدد والزمان من الحظ في الوسط والتخصيص عليه وقد كان اللبيب يمكنه أن يبدئ في ذلك ويعيد إلا أنه تكلف والحق أحق أن يتبع قال الله تعالى (* (حافظوا على الصلوات) *) معناه لفضلهن وخصوا الفضلى منهن بزيادة محافظة أي الزائدة الفضل وتعيينها متعذر
وقد اختلف العلماء فيها على سبعة أقوال
الأول أنها الظهر قاله زيد بن ثابت
الثاني أنها العصر قاله علي في إحدى روايتيه
الثالث المغرب قاله البراء
الرابع أنها العشاء الآخرة
الخامس أنها الصبح قاله ابن عباس وابن عمر وأبو أمامة والرواية الصححية عن علي
السادس أنها الجمعة
السابع أنها غير معينة
وكل قول من هذه الأقوال مستند إلى ما لا يستقل بالدليل
أما من قال إنها الظهر فلأنها أول صلاة فرضت
وأما من قال إنها العصر فتعلق بحديث علي رضي الله عنه شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا
299

وأما من قال إنها المغرب فلأنها وتر بين أشفاع
وأما من قال العشاء فلأنها وسطى صلاة الليل بين المغرب والصبح
وأما من قال إنها الصبح فلأنها في وقت متوسط بين الليل والنهار قاله مالك وابن عباس
وقال غيرهما هي مشهودة والعصر وإن كانت مثلها فتزيد الصبح عليها بوجهين
أحدهما أنها أثقل الصلوات على المنافقين
والثاني أن في الموطأ عن عائشة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين وهذا يدل على أن الصلاة الوسطى غير صلاة العصر ويعارض حديث علي رضي الله عنه ويبين أن المراد به أنها كانت وسطى بين ما فات وبقي
وأما من قال الجمعة فلأنها تختص بشروط زائدة وهذا يدل على شرفها وفضلها
وأما من قال إنها غير معينة فلتعارض الأدلة وعدم الترجيح وهذا هو الصحيح فإن الله خبأها في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان وخبأ الساعة في يوم الجمعة وخبأ الكبائر في السيئات ليحافظ الخلق على الصلوات ويقوموا جميع شهر رمضان ويلزموا الذكر في يوم الجمعة كله ويجتنبوا جميع الكبائر والسيئات
300

المسألة الخامسة
قال بعض علمائنا في هذه الآية فائدة وهي الرد على أبي حنيفة في قوله إن الوتر واجب لأن الوسط إنما يعد في عدد وتر ليكون الوسط شفعا يحيط به من جانبيه وإذا عدت الصلوات الواجبات ستا لم تكن الواحدة وسطا لأنها بين صلاتين من جهة وبين ثلاث صلوات من أخرى وهذا مبني على أن الوسط معتبر بالعدد أو بالوقت وقد بينا أن ذلك محتمل لا يدل على تعيينه دليل
المسألة السادسة قوله تعالى (* (وقوموا لله قانتين) *))
اعلموا وفقكم الله تعالى أن القنوت يرد على معان أمهاتها أربع
الأول الطاعة قاله ابن عباس
الثاني القيام قاله ابن عمر وقرأ (* (أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما) *) [الزمر 9]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة طول القنوت
الثالث إنه السكوت قاله مجاهد وفي الصحيح قال زيد كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت (* (وقوموا لله قانتين) *) فأمرنا بالسكوت
الرابع أن القنوت الخشوع
وهذه المعاني كلها يصح أن يكون جميعها مرادا لأنه لا تنافر فيه إلا القيام فإنه يبعد أن يكون معنى الآية وقوموا لله قائمين إلا على تكلف وقد صلى ابن عباس الصبح وقنت فيها فلما فرغ منها قال هذه هي الصلاة الوسطى وقرأ الآية إلى قوله تعالى (* (قانتين) *)
301

والصحيح رواية زيد بن أرقم لأنها نص ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتفت إلى محتمل سواها
المسألة السابعة
إذا ثبت أن المراد بالقنوت هاهنا السكوت فإذا تكلم المصلي فلا يخلو أن يتكلمها ساهيا أو عامدا فإن تكلم ساهيا لم يخرج عن الصلاة ولا زال عن امتثال الأمر لأن السهو لا يدخل تحت التكليف وهذا قوي جدا
وقد عارضه بعض العلماء بأن الفطر المنهي عنه في الصوم إذا وقع سهوا أبطله فينتقض هذا الأصل فأجابوا عنه بأن الفطر ضد الصوم وإذا وجد ضد العبادة أبطلها كان سهوا أو عمدا كالحدث في الصلاة بخلاف مسألتنا فإن الكلام في الصلاة محظور غير مضاد فكان ذلك معلقا بالقصد وقد حققنا ذلك في كتاب تلخيص مسائل الخلاف
وإما من تكلم عامدا فإن كان عابثا أبطل الصلاة وإن كان لإصلاحها كتنبيه الإمام جاز عند علمائنا
وقال الشافعي لا يجوز
ودليلنا حديث ذي اليدين المشهور الصحيح تكلموا فيه لإصلاح الصلاة فلم تبطل صلاتهم وقد حققناه في مسائل الخلاف وكتب الحديث فلينظر هنالك ففيه الشفاء إن شاء الله
الآية السابعة والسبعون
قوله تعالى (* (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) *) [الآية 239]
أمر الله سبحانه بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة ومرض وحضر وسفر وقدرة وعجز وخوف وأمن لا تسقط عن المكلف بحال ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال
302

وقد قال صلى الله عليه وسلم صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب
وقال في الصحيح من رواية ابن عمر في حال الخوف فإن كان خوف أكثر من ذلك صلوا قياما وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها
وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف مرارا متعددة بصفات مختلفة وقد مهدناها في كتب الحديث
والمقصود من ذلك أن تفعل الصلاة كيفما أمكن ولا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين للزم فعلها كذلك إذا لم يقدر على حركة سائر الجوارح وبهذا المعنى تميزت عن سائر العبادات فإن العبادات كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها بالرخص الضعيفة ولذلك قال علماؤنا وهي مسألة عظمى إن تارك الصلاة يقتل لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال وقالوا فيها إحدى دعائم الإسلام لا تجوز النيابة فيها ببدن ولا مال يقتل تاركها وأصله الشهادتان
وقد قال أبو حنيفة إن القتال يفسد الصلاة وقد قدمنا من طريق ابن عمر الرد عليه وظاهر الآية أقوى دليل عليه
الآية الثامنة والسبعون
قوله تعالى (* (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) *) [الآية 243]
303

فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها
فيه قولان
أحدهما أن بني إسرائيل لما سلط عليهم رجز الطاعون ومات منهم عدد كثير خرجوا هاربين من الموت فأماتهم الله تعالى مدة ثم أحياهم آية وميتة العقوبة بعدها حياة وميتة الأجل لا حياة بعدها
الثاني روي أنه كتب عليهم القتال فتركوه وخرجوا فارين منه
المسألة الثانية
الأصح والأشهر أن خروجهم إنما كان فرارا من الطاعون وهذا حكم باق في ملتنا لم يتغير
قال عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه
واختلف العلماء في وجه الحكم في ذلك أما الدخول ففيه الخلاف على أربعة أقوال
الأول ما فيه من التعرض للبلاء وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى فإن صيانة النفس عن كل مكروه مخوف واجب
الثاني إنما نهي عن دخوله لئلا يشتغل عن مهمات دينه بما يكون فيه من الكرب
304

والخوف بما يرى من عموم الآلام وشمول الأسقام
الثالث ما يخاف من السخط عند نزول البلاء به وذهاب الصبر على ما ينزل من القضاء
الرابع ما يخاف عليه من سوء الاعتقاد كأن يقول لولا دخولي في هذا البلد لما نزل بي مكروه
وأما الخروج فإنما نهي عنه لما فيه من ترك المرضى مهملين مع ما ينتظم به مما تقدم والله أعلم
الآية التاسعة والسبعون
قوله تعالى (* (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) *) [الآية 244]
قال قوم من علمائنا هذه الآية مجملة وهو خطأ بل هي عامة قال مالك سبل الله كثيرة
قال القاضي ما من سبيل من سبل الله تعالى إلا يقاتل عليها وفيها وأولها وأعظمها دين الإسلام قال الله سبحانه (* (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة) *) [يوسف 18] وزاد صلى الله عليه وسلم تماما فقال من قاتل لتكون كلمة الله العليا فهو في سبيل الله
وبعد هذا فليس شيء من الشريعة إلا يجوز القتال عليه وعنه فقد صح العموم وظهر تأكيد التخصيص
305

فإن قيل فمن قاتل دون ماله
قلنا هو في سبيل الله لقوله صلى الله عليه وسلم من قتل دون ماله فهو شهيد
الآية الموفية ثمانين
قوله تعالى (* (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون) *) [الآية 245]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
القرض في اللغة القطع والمعنى من يقطع الله جزءا من ماله فيضاعف له ثوابه أضعافا كثيرة إلا أنه في الشرع مخصوص بالسلف على عادة الشرع في أن يجري على أسلوب اللغة في تخصيص الاسم ببعض محتملاته كما أن القراض مخصوص بالمضاربة كأن هذا سلف ماله وهذا سلف عمله فصارا متسالفين فسمي قراضا وقيل متقارضان
المسألة الثانية
جاء هذا الكلام في معرض الندب والتحضيض على إنفاق المال في ذات الله تعالى
306

على الفقراء المحتاجين وفي سبيل الله بنصرة الدين وكنى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة كما كنى عن المريض والجائع والعاطش بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى عبدي مرضت فلم تعدني يقول وكيف تمرض وأنت رب العالمين فيقول مرض عبدي فلان ولو عدته لوجدتني عنده ويقول جاع عبدي فلان ولو أطعمته لوجدتني عنده ويقول عطش عبدي فلان ولو سقيته لوجدتني عنده
وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به
المسألة الثالثة
قال قوم المراد بالآية الإنفاق في سبيل الله تعالى لأنه قال قبلها (* (وقاتلوا في سبيل الله) *) [البقرة 244] فهذا الجهاد بالبدن ثم قال بعده (* (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) *) فهذا الجهاد بالمال
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا
والصحيح عندي ما قاله الحسن من أنه في أبواب البر كلها ولا يرد عمومه ما تقدمه من ذكر الجهاد
المسألة الرابعة
انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وإرادته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما وتفرقوا فرقا ثلاثة
307

الفرقة الأولى الرذلى قالوا إن رب محمد فقير محتاج إلينا ونحن أغنياء وهذه جهالة لا تخفى على ذي لب وقد رد الله تعالى عليهم بقوله (* (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا) *) [آل عمران 181] والعجب من معاندتهم مع خذلانهم وفي التوراة نظير هذه الألفاظ
الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أغاثت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار
الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله أولهم أبو الدحداح لما سمع هذا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال يا نبي الله ألا أرى ربنا يستقرض مما أعطانا لأنفسنا ولي أرضان أرض بالعالية وأرض بالسافلة وقد جعلت خيرهما صدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم كم عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة
فانظروا إلى حسن فهمه في قوله يستقرض مما أعطانا لأنفسنا وجوده بخير ماله وأفضله فطوبى له ثم طوبى له ثم طوبى له ثم طوبى له
المسألة الخامسة
القرض يكون من المال ويكون من العرض قال النبي صلى الله عليه وسلم في مشهور الآثار أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك
وروي عن ابن عمر أقرض من عرضك ليوم فقرك يعني من سبك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر
وقال أبو حنيفة لا يجوز التصدق بالعرض لأنه حق لله تعالى وهذا فاسد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا
308

وهذا يقتضي أن هذه المحرمات الثلاث تجري مجرى واحدا في كونها باحترامها حقا للآدمي وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف فلينظر هنالك
الآية الحادية والثمانون
قوله تعالى (* (ومن لم يطعمه فإنه مني) *) [الآية 249]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
إن الماء طعام بقوله تعالى (* (ومن لم يطعمه) *) وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات البدن به فوجب أن يجري فيه الربا وهو الصحيح من المذهب ولم لا يجري فيه الربا وهو أجل الأقوات وإنما هان لعموم وجوده وإنما عمم الله تعالى وجوده بفضله لعظيم الحاجة إليه ومن شرفه على سائر الأطعمة أنه مهيأ مخلوق على صفة لا صنعة لأحد فيها لا أولا ولا آخرا
المسألة الثانية
قال أبو حنيفة من قال إن شرب عبدي من الفرات فهو حر فلا يعتق إلا أن يكرع فيه فإن شرب بيده أو اغترف بإناء منه لم يعتق لأن الله تعالى فرق بين الكرع في النهر وبين الشرب باليد
وهذا فاسد فإذا أجرينا الأيمان على الألفاظ وقلنا به معهم لأن شرب الماء ينطلق على كل هيئة وصفة في لسان العرب من غرف باليد أو كرع بالفم انطلاقا واحدا فإذا وجد الشرب المحلوف عليه لغة وحقيقة حنث فاعله
309

وأما هذه الآية فلا حجة فيها فإن الله تعالى جعل ما لزمهم من هذه القصة معيارا لعزائمهم وإظهار صبرهم في اللقاء فكان من كسر شهوته عن الماء وغلب نفسه على الإمعان فيه إلا غرفة واحدة يطفئ بها سورته ويسكن غليله موثوقا به في الثبات عند اللقاء في الحرب وكسر النفس عن الفرار عن القتال وبالعكس من كرع في النهر واستوفى الشرب منه
وهذا منزع معلوم ليس من اليمين في ورد ولا صدر
الآية الثانية والثمانون
قوله تعالى (* (لا إكراه في الدين) *) [الآية 256]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قيل إنها منسوخة بآية القتال وهو قول ابن زيد
الثاني أنها مخصوصة في أهل الكتاب الذين يقرون على الجزية وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنس تحمل الآية عليه
الثالث أنها نزلت في الأنصار كانت المرأة منهم إذا لم يعش لها ولد تجعل على نفسها إن عاش أن تهوده ترجو به طول عمره فلما أجلى الله تعالى بني النضير قالوا كيف نصنع بأبنائنا فأنزل الله تعالى الآية (* (لا إكراه في الدين) *))
المسألة الثانية قوله تعالى (* (لا إكراه) *))
عموم في نفي إكراه الباطل فأما الإكراه بالحق فإنه من الدين وهل يقتل الكافر إلا على الدين قال صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وهو مأخوذ من قوله تعالى (* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) *) [البقرة 193]
310

وبهذا يستدل على ضعف قول من قال إنها منسوخة
فإن قيل فكيف جاز الإكراه بالدين على الحق والظاهر من حال المكره أنه لا يعتقد ما أظهر
الجواب أن الله سبحانه بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو الخلق إليه ويوضح لهم السبيل ويبصرهم الدليل ويحتمل الإذابة والهوان في طريق الدعوة والتبيين حتى قامت حجة الله واصطفى الله أولياءه وشرح صدورهم لقبول الحق فالتفت كتيبة الإسلام وائتلفت قلوب أهل الإيمان ثم نقله من حال الإذابة إلى العصمة وعن الهوان إلى العزة وجعل له أنصارا بالقوة وأمره بالدعاء بالسيف إذ مضى من المدة ما تقوم به الحجة وكان من الإنذار ما حصل به الإعذار
جواب ثان وذلك أنهم يؤخذون أولا كرها فإذا ظهر الدين وحصل في جملة المسلمين وعمت الدعوة في العالمين حصلت لهم بمثافنتهم وإقامة الطاعة معهم النية فقوي
اعتقاده وصح في الدين وداده إن سبق لهم من الله تعالى توفيق وإلا أخذنا بظاهره وحسابه على الله
المسألة الثالثة
إذا كان الإكراه بغير حق لم يثبت حكما وكان وجوده كعدمه وفي ذلك تفريع كثير قد بيناه في كتاب الإكراه من المسائل وستأتي منها مسألة إكراه الطلاق والكفر في قوله تعالى (* (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *) [النحل 16] إن شاء الله تعالى
الآية الثالثة والثمانون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) *) [الآية 267]
311

فهيا ست مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
لا خلاف بين أهل التفسير أنها نزلت فيما روى أبو داود وغيره أن الرجل كان يأتي بالقنو من الحشف فيعلقه في المسجد يأكل منه الفقراء فنزلت (* (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) *))
المسألة الثانية في المراد بالنفقة
وفيه قولان
أحدهما أنها صدقة الفرض قاله عبيدة السلماني وغيره
الثاني أنها عامة في كل صدقة فمن قال إنها في الفرض تعلق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب وبأنه نهي عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض
والصحيح أنها عامة في الفرض والنفل والدليل عليه أن سبب نزول الآية كان في التطوع
الثاني أن لفظ أفعل صالح للندب صلاحيته للفرض والرديء منهي عنه في النفل كما هو منهي عنه في الفرض إلا أنه في التطوع ندب في أفعل مكروه في لا تفعل وفي الفرض واجب في أفعل حرام في لا تفعل
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) *))
قال بعض علمائنا هذا دليل على أن الآية في الفرض لأن قوله تعالى (* (بآخذيه إلا أن تغمضوا) *) لفظ يختص بالديون التي لا يتسامح في اقتضاء الرديء فيها عن الجيد ولا في أخذ المعيب عن السليم إلا بإغماض وهذه غفل فإنها لو كانت نازلة في الفرض لما قال (* (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) *) لأن الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه وإنما يؤخذ بإغماض في النفل
312

المسألة الرابعة
قوله تعالى (* (من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) *) قال علماؤنا قوله تعالى (* (ما كسبتم) *) يعني التجارة (* (ومما أخرجنا لكم من الأرض) *) يعني النبات
وتحقيق هذا أن الاكتساب على قسمين منها ما يكون من بطن الأرض وهو النباتات كلها ومنها ما يكون من المحاولة على الأرض كالتجارة والنتاج والمغاورة في بلاد العدو والاصطياد فأمر الله تعالى الأغنياء من عباده بأن يؤتوا الفقراء مما آتاهم على الوجه الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسألة الخامسة
قال أصحاب أبي حنيفة هذا يدل على وجوب الزكاة في كل نبات من غير تقدير نصاب ولا تخصيص بقوت وعضدوه بقوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر
وهذا لا متعلق فيه من الآية لأنها إنما جاءت لبيان محل الزكاة لا لبيان نصابها أو مقدارها وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم النصب بقوله ليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة
313

وقد حققنا ذلك في موضعه من مسائل الخلاف وتقصينا القول على الحديث
المسألة السادسة
في هذه الآية فائدة وهي معرفة معنى الخبيث فإن جماعة قالوا إن الخبيث هو الحرام وزل فيه صاحب العين فقال الخبيث كل شيء فاسد وأخذه والله أعلم من تسمية الرجيع خبيثا
وقال يعقوب الخبيث الحرام وهذا تفسير منه للغة بالشرع وهو جهل عظيم
والصحيح أن الخبيث ينطلق على معنيين
أحدهما ما لا منفعة فيه كقوله صلى الله عليه وسلم كما ينفي الكير خبث الحديد
الثاني ما تنكره النفس كقوله تعالى (* (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) *))
الآية الرابعة والثمانون
قوله تعالى (* (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) *) [الآية 271]
فيها مسألتان
المسألة الأولى اختلف الناس في الآية على قولين
أحدهما أنها صدقة الفرض
الثاني أنها صدقة التطوع
قال ابن عباس في الآية جعل الله تعالى صدقة السر في التطوع تفضل صدقة العلانية بسبعين ضعفا وجعل صدقة العلانية في الفرض تفضل صدقة السر بخمسة وعشرين ضعفا
314

المسألة الثانية
أما صدقة الفرض فلا خلاف أن إظهارها أفضل كصلاة الفرض وسائر فرائض الشريعة لأن المرء يحرز بها إسلامه ويعصم ماله
وليس في تفضيل صدقة العلانية على السر ولا في تفضيل صدقة السر على العلانية حديث صحيح يعول عليه ولكنه الإجماع الثابت
فأما صدقة النفل فالقرآن صرح بأنها في السر أفضل منها في الجهر بيد أن علماءنا قالوا إن هذا على الغالب مخرجه
والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المعطي لها والمعطى إياها والناس الشاهدين لها
أما المعطي فله فائدة إظهار السنة وثواب القدوة وآفتها الرياء والمن والأذى
وأما المعطى إياها فإن السر أسلم له من احتقار الناس له أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفف
وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطي لها بالرياء وعلى الآخذ له بالاستثناء ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة لكن هذا اليوم قليل
الآية الخامسة والثمانون
قوله تعالى (* (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) *) [الآية 272]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك قولان
315

أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لا تصدقوا إلا على أهل دينكم)) فنزلت (* (ليس عليك هداهم) *)
الثاني قال ابن عباس كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين فنزلت الآية
وهذا هو الصحيح لوجهين أحدهما أن الأول حديث باطل
الثاني أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله إن أمي قدمت علي راغبة وهي مشركة أفأصلها قال صلي أمك فإنما شكوا في جواز الموالاة لهم والصدقة عليهم فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لهم
المسألة الثانية
قال علماؤنا رحمة الله عليهم لا تصرف إليهم صدقة الفرض وإنما ذلك في التطوع لقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم
وقال أبو حنيفة تصرف إليهم صدقة الفطر لحديث يروى عن ابن مسعود أنه كان يعطي الرهبان من صدقة الفطر وهذا حديث ضعيف لا أصل له
ودليلنا أنها صدقة طهر واجبة فلا تصرف إلى الكافر كصدقة الماشية والعين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أغنوهم عن سؤال هذا اليوم يعني يوم الفطر
316

المسألة الثالثة
إذا كان مسلما عاصيا فلا خلاف أن صدقة الفرض تصرف إليه إلا أنه إذا كان يترك أركان الإسلام من الصلاة والصيام فلا تصرف إليه الصدقة حتى يتوب وسائر المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبها لدخولهم في اسم المسلمين
وفي الحديث الصحيح أن رجلا خرج بصدقته فدفعها فقيل تصدق على سارق فقال على سارق فأوحى الله تعالى لعله يستعف عن سرقته الحديث
الآية السادسة والثمانون
قوله تعالى (* (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا
من خير فإن الله به عليم) *) [الآية 273]
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى (* (للفقراء الذين أحصروا) *))
سيأتي تحقيق الفقر في آية الصدقة
المسألة الثانية من هم
قيل هم فقراء المهاجرين والصحيح أنه فقراء المسلمين
المسألة الثالثة
لا خلاف في هذه الآية وغيرها أن الصدقة على فقراء المسلمين أفضل من غيرهم ويحكى عن جابر بن زيد أن الصدقة لا تعطى لكافر ومعناه صدقة الفرض
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس) *) قيل
هو الخشوع وقيل الخصاصة وهو الصحيح لأن الخشوع قد يكون على الغنى
317

قال تعالى (* (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) *) [الفتح 29] فعم الفقير والغني
المسألة الخامسة (* (لا يسألون الناس إلحافا) *))
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس
المسألة السادسة
الواجب على معطي الصدقة كان إماما أو مالكا أن يراعي أحوال الناس فمن علم فيه صبرا على الخصاصة وتحليا بالقناعة آثر عليه من لا يستطيع الصبر فربما وقع في التسخط قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه
المسألة السابعة قوله تعالى (* (إلحافا) *))
معناه الشمول بالمسألة إما للناس وإما في الأموال فيسأل من الناس جماعة ويسأل من المال أكثر مما يحتاج إليه وبناء لحف للشمول ومنه اللحاف وهو الثوب الذي يشتمل به ونحوه الإلحاح يقال ألحف في المسألة إذا شمل رجالا أو مالا وألح فيها إذا كررها
وروى المفسرون عن قتادة أنه قال ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب الحليم الحيي الغني النفس المتعفف ويبغض الغني الفاحش البذي السائل الملحف
ولم يصح لهذا الحديث أصل ولا عرف له سند لكن روى مسلم عن معاوية قال
318

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا كاره فيبارك الله له فيما أعطيته
وروى مالك عن الأسدي أنه قال نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله لنا شيئا نأكله وجعلوا يذكرون من حاجتهم فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا أجد ما أعطيك فولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول لعمرك إنك لتعطي من شئت
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ليغضب علي ألا أجد ما أعطيه من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا فقال الأسدي للقحة لنا خير من أوقية
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من سأل وله أوقية فهو ملحف
فتبين بهذا أن الملحف هو الذي يسأل الرجل بعدما رده عن نفسه أو يسأل وعنده ما يغنيه عن السؤال إلا أن يسأل زائدا على ما عنده ويغنيه وهو محتاج إليه فذلك جائز
وسمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلا يقول هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم وليس له ثياب يقيم بها سنة الجمعة فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثيابا جددا فقيل لي كساه إياها فلان لأخذ الثناء بها
ويكرر المسألة إذا رده المسؤول والسائل يعلم أنه قادر على ما سأله إياه أو جاهل
319

بحاله فيعيد عليه السؤال إعذارا أو إنذارا ثلاثا لا يزيد عليه وذلك جائز والأفضل تركه والله أعلم
الآية السابعة والثمانون
قوله تعالى (* (الذين يأكلون الربا) *) [الآية 275]
هذه الآية من أركان الدين وفيها خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
ذكر من فسر أن الله تعالى لما حرم الربا قالت ثقيف وكيف ننتهي عن الربا وهو مثل البيع فنزلت فيهم الآية
المسألة الثانية
قال علماؤنا قوله تعالى (* (الذين يأكلون الربا) *) كناية عن استجابة في البيع وقبضه باليد لأن ذلك إنما يفعله المربي قصدا لما يأكله فعبر بالأكل عنه وهو مجاز من باب التعبير عن الشيء بفائدته وثمرته وهو أحد قسمي المجاز كما بيناه في غير موضع
المسألة الثالثة
قال علماؤنا الربا في اللغة هو الزيادة ولا بد في الزيادة من مزيد عليه تظهر الزيادة به فلأجل ذلك اختلفوا هل هي عامة في تحريم كل ربا أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها
والصحيح أنها عامة لأنهم كانوا يتبايعون ويربون وكان الربا عندهم معروفا يبايع الرجل الرجل إلى أجل فإذا حل الأجل قال أتقضي أم تربي يعني أم تزيدني على مالي عليك وأصبر أجلا آخر فحرم الله تعالى الربا وهو الزيادة ولكن لما كان كما قلنا لا تظهر الزيادة إلا على مزيد عليه ومتى قابل الشيء غير جنسه في المعاملة لم تظهر الزيادة وإذا قابل جنسه لم تظهر الزيادة أيضا إلا بإظهار الشرع ولأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر معلومة لمن أيده الله تعالى بالنور الأظهر
320

وقد فاوضت فيها علماء وباحثت رفعاء فكل منهم أعطى ما عنده حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا
إن من زعم أن هذه الآية مجملة فلم يفهم مقاطع الشريعة فإن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قوم هو منهم بلغتهم وأنزل عليهم كتابه تيسيرا منه بلسانه ولسانهم وقد كانت التجارة والبيع عندهم من المعاني المعلومة فأنزل عليهم مبينا لهم ما يلزمهم فيهما ويعقدونهما عليه فقال تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) *) [النساء 29]
والباطل كما بيناه في كتب الأصول هو الذي لا يفيد وقع التعبير به عن تناول المال بغير عوض في صورة العوض
والتجارة هي مقابلة الأموال بعضها ببعض وهو البيع وأنواعه في متعلقاته بالمال كالأعيان المملوكة أو ما في معنى المال كالمنافع وهي ثلاثة أنواع عين بعين وهو بيع النقد أو بدين مؤجل وهو السلم أو حال وهو يكون في التمر أو على رسم الاستصناع أو بيع عين بمنفعة وهو الإجارة
والربا في اللغة هو الزيادة والمراد به في الآية كل زيادة لم يقابلها عوض فإن الزيادة ليست بحرام لعينها بدليل جواز العقد عليها على وجهه ولو كانت حراما ما صح أن يقابلها عوض ولا يرد عليها عقد كالخمر والميتة وغيرها
وتبين أن معنى الآية وأحل الله البيع المطلق الذي يقع فيه العوض على صحة القصد والعمل وحرم منه ما وقع على وجه الباطل
وقد كانت الجاهلية تفعله كما تقدم فتزيد زيادة لم يقابلها عوض وكانت تقول إنما البيع مثل الربا أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا مثل أصل الثمن في أول العقد فرد الله تعالى عليهم قولهم وحرم ما اعتقدوه حلالا عليهم وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة تخفيفا يحققه أن الزيادة إنما تظهر بعد تقدير العوضين فيه وذلك على قسمين
321

أحدهما تولى الشرع تقدير العوض فيه وهو الأموال الربوية فلا تحل الزيادة فيه
وأما الذي وكله إلى المتعاقدين فالزيادة فيه على قدر مالية العوضين عند التقابل على قسمين
أحدهما ما يتغابن الناس بمثله فهو حلال بإجماع ومنه ما يخرج عن العادة واختلف علماؤنا فيه فأمضاه المتقدمون وعدوه من فن التجارة ورده المتأخرون ببغداد ونظرائها وحدوا المردود بالثلث
والذي أراه أنه إذا وقع عن علم المتعاقدين فإنه حلال ماض لأنهما يفتقران إلى ذلك في الأوقات وهو داخل تحت قوله تعالى (* (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) *) [النساء 29] وإن وقع عن جهل من أحدهما فإن الآخر بالخيار
وفي مثله ورد الحديث أن رجلا كان يخدع في البيوع فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايعت فقل لا خلابة زاد الدارقطني وغيره ولك الخيار ثلاثا وقد مهدناه في شرح الحديث ومسائل الخلاف فهذا أصل علم هذا الباب
فإن قيل أنكرتم الإجمال في الآية وما أوردتموه من البيان والشروط هو بيان ما لم يكن في الآية مبينا ولا يوجد عنها من القول ظاهرا
قلنا هذا سؤال من لم يحضر ما مضى من القول ولا ألقى إليه السمع وهو شهيد وقد توضح في مسائل الكلام أن جميع ما أحل الله لهم أو حرم عليهم كان معلوما عندهم لأن الخطاب جاء فيه بلسانهم فقد أطلق لهم حل ما كانوا يفعلونه من بيع وتجارة ويعلمونه وحرم عليهم الربا وكانوا يفعلونه وحرم عليهم أكل المال بالباطل
322

وقد كانوا يفعلونه ويعلمونه ويتسامحون فيه ثم إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم زيادة فيما كان عندهم من عقد أو عوض لم يكن عندهم جائزا فألقى إليهم وجوه الربا المحرمة في كل مقتات وثمن الأشياء مع الجنس متفاضلا وألحق به بيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب والبيع والسلف وبين وجوه أكل المال بالباطل في بيع الغرر كله أو ما لا قيمة له شرعا فيما كانوا يعتقدونه متقوما كالخمر والميتة والدم وبيع الغش ولم يبق في الشريعة بعد هاتين الآيتين بيان يفتقر إليه في الباب وبقي ما وراءهما على الجواز إلا أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يصح ستة وخمسون معنى نهى عنها
الأول والثاني ثمن الأشياء جنسا بجنس والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع بيع المقتات أو ثمن الأشياء جنسا بجنس متفاضلا أو جنسا بغير جنسه نسيئة أو بيع الرطب بالتمر أو العنب بالزبيب أو بيع المزابنة على أحد القولين أو عن بيع وسلف وهذا كله داخل في بيع الربا وهو مما تولى الشرع تقدير العوض فيه فلا تجوز الزيادة عليه الثامن بيعتان في بيعة التاسع بيع الغرر ورد بيع الملامسة والمنابذة والحصاة وبيع الثنيا وبيع العربان وما ليس عندك والمضامين والملاقيح وحبل حبلة ويتركب
عليهما من وجه بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وبيع السنبل حتى يشتد والعنب حتى يسود وهو مما قبله وبيع المحاقلة والمعاومة والمخابرة والمحاصرة وبيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن وبيع الطعام قبل أن يستوفي من بعض ما تقدم والخمر والميتة وشحومها وثمن الدم وبيع الأصنام وعسب الفحل والكلب والسنور وكسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن وبيع المضطر وبيع الولاء وبيع الولد أو الأم فردين أو الأخ والأخ فردين وكراء الأرض والماء والكلأ والنجش وبيع الرجل على بيع أخيه وخطبته على خطبة أخيه وحاضر لباد وتلقي السلع والقينات
فهذه ستة وخمسون معنى حضرت الخاطر مما نهى عنه أوردناها حسب نسقها في
323

الذكر وهي ترجع في التقسيم الصحيح الذي أوردناه في المسائل إلى سبعة أقسام
ما يرجع إلى صفة العقد وما يرجع إلى صفة المتعاقدين وما يرجع إلى العوضين وإلى حال العقد والسابع وقت العقد كالبيع وقت نداء يوم الجمعة أو في آخر جزء من الوقت المعين للصلاة
ولا تخرج عن ثلاثة أقسام وهي الربا والباطل والغرر
ويرجع الغرر بالتحقيق إلى الباطل فيكون قسمين على الآيتين وهذه المناهي تتداخل ويفصلها المعنى
ومنها أيضا ما يدخل في الربا والتجارة ظاهرا ومنها ما يخرج عنها ظاهرا ومنها ما يدخل فيها باحتمال ومنها ما ينهى عنها مصلحة للخلق وتألفا بينهم لما في التدابر من المفسدة
المسألة الرابعة
قد بينا أن الربا على قسمين زيادة في الأموال المقتاتة والأثمان والزيادة في سائرها وذكرنا حدودها وبينا أن الربا فيما جعل التقدير فيه للمتعاقدين جائز بعلمهما ولا خلاف فيه وكذلك يجوز الربا في هبة الثواب
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى منها فهو مستثنى من الممنوع الداخل في عموم التحريم وقد انتهى القول في هذا الغرض هاهنا وشرحه في تفسير الحديث ومسائل الخلاف ومنه ما تيسر على آيات القرآن في هذا القسم من الأحكام
المسألة الخامسة من معنى هذه الآية
وهي في التي بعدها قوله تعالى (* (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) *) [الآية 279]
ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرم المختلط به لم يحل ولم يطب لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام وهو غلو في الدين فإن كل ما لم
324

يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه ولو تلف لقام المثل مقامه والاختلاط إتلاف لتميزه كما أن الإهلاك إتلاف لعينه والمثل قائم مقام الذاهب وهذا بين حسا بين معنى والله أعلم
الآية الثامنة والثمانون
قوله تعالى (* (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) *) [الآية 28]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
قد تقدم أنها نزلت في الربا عند ذكر الآية قبلها
المسألة الثانية في المعنى المقصود بها
فيها ثلاثة أقوال
الأول أن المقصود بها ربا الدين خاصة وفيه يكون الإنظار قاله ابن عباس وشريح القاضي والنخعي
الثاني أنه عام في كل دين وهو قول العامة
الثالث قال متأخرو علمائنا هو نص في دين الربا وغيره من الديون مقيس عليه
المسألة الثالثة في التنقيح
أما من قال إنه في دين الربا فضعيف ولا يصح عن ابن عباس فإن الآية وإن كان أولها خاصا فإن آخرها عام وخصوص أولها لا يمنع من عموم آخرها لا سيما إذا كان العام مستقلا بنفسه
ومن قال إنه نص في الربا وغيره مقيس عليه فهو ضعيف لأن العموم قد يتناول الكل فلا مدخل للقياس فيه
325

فإن قيل فقد قال في غيره من الديون (* (لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما) *) [آل عمران 75]
قلنا سنتكلم على الآية في موضعها إن شاء الله تعالى
فإن قيل وبم تعلم العسرة
قلنا بأن لا نجد له مالا فإن قال الطالب خبأ مالا قلنا للمطلوب أثبت عدمك ظاهرا ويحلف باطنا والله يتولى السرائر
المسألة الرابعة ما الميسرة التي يؤدى بها الدين
وقد اختلف الناس فيها اختلافا متباينا بيناه في مسائل الفقه تحرير قول علمائنا أنه يترك له ما يعيش به الأيام وكسوة لباسه ورقاده ولا تباع ثياب جمعته ويباع خاتمه وتفصيل الفروع في المسائل
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وأن تصدقوا خير لكم) *))
قال علماؤنا الصدقة على المعسر قربة وذلك أفضل عند الله من إنظاره إلى الميسرة بدليل ما روى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم قالوا عملت من الخير شيئا قال كنت آمر فتياني أن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر قال الله عز وجل تجاوزوا عنه
وقد روي عن أبي اليسر كعب بن عمرو أنه قال من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله وهذا مما لا خلاف فيه
326

الآية التاسعة والثمانون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) *) [الآية 282]
هي آية عظمى في الأحكام مبينة جملا من الحلال والحرام وهي أصل في مسائل البيوع وكثير من الفروع جماعها على اختصار مع استيفاء الغرض دون الإكثار في الثنتين وخمسين مسألة
المسألة الأولى في حقيقة الدين
هو عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة فإن العين عند العرب ما كان حاضرا والدين ما كان غائبا قال الشاعر
(وعدتنا بدرهمينا طلاء
* وشواء معجلا غير دين)
والمداينة مفاعلة منه لأن أحدهما يرضاه والآخر يلتزمه وقد بينه الله تعالى بقوله (* (إلى أجل مسمى) *))
المسألة الثانية
قال أصحاب أبي حنيفة عموم قوله تعالى (* (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) *) يدخل تحته المهر إلى أجل والصلح عن دم العمد ويجوز فيه شهادة
327

النساء وهذا وهم فإن هذه الشهادة إنما هي على النكاح المشتمل على المهر وعلى الدم المفضي إلى الصلح والمهر في النكاح والمال في الدم بيع وإنما جاءت الآية لبيان حكم حال دين مجرد ومال مفرد فعليه يحمل عموم الشهادة وإليه يرجع
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فاكتبوه) *))
يريد يكون صكا ليستذكر به عند أجله لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل والنسيان موكل بالإنسان والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ فشرع الكتاب والإشهاد وكان ذلك في الزمان الأول
وروى أحمد بن حنبل وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أول من جحد آدم قالها ثلاث مرات إن الله تعالى لما خلقه مسح ظهره فأخرج ذريته فعرضهم عليه فرأى فيهم رجلا يزهر فقال أي رب من هذا قال هذا ابنك داود قال كم عمره قال ستون سنة قال رب زد في عمره قال لا إلا أن تزيده أنت من عمرك فزاده أربعين من عمره فكتب الله تعالى عليه كتابا وأشهد عليه الملائكة فلما أراد أن يقبض روحه قال بقي من أجلي أربعون سنة فقيل له إنك قد جعلتها لابنك داود قال فجحد آدم قال فأخرج إليه الكتاب فأقام عليه البينة وأتم لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة
المسألة الرابعة في قوله تعالى (* (فاكتبوه) *))
إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفاته المبينة له المعربة عنه المعرفة للحاكم بما يحكم عند ارتفاعهما إليه
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) *))
فيه وجهان
328

أحدهما أن الناس لما كانوا يتعاملون حتى لا يشذ أحد منهم عن المعاملة وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب أمر سبحانه أن يكتب بينهم كاتب بالعدل
الثاني أنه لما كان الذي له الدين يتهم في الكتابة للذي عليه وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتبا يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا في قلمه هوادة لأحدهما على الآخر
المسألة السادسة قوله تعالى (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله))
فيها أربعة أقوال
الأول أنه فرض على الكفاية كالجهاد والصلاة على الجنائز قاله الشعبي
الثاني أنه فرض على الكاتب في حال فراغه قاله بعض أهل الكوفة
الثالث أنه ندب قاله مجاهد وعطاء
الرابع أنه منسوخ قاله الضحاك
والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذ حقه
المسألة السابعة قوله تعالى (* (وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا) *))
قال علماؤناإنما أملى الذي عليه الحق لأنه المقر به الملتزم له فلو قال الذي له الحق لي كذا وكذا لم ينفع حتى يقر له الذي عليه الحق فلأجل ذلك كانت البداءة به لأن القول قوله وإلى هذه النكتة وقعت الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم البينة على من ادعى واليمين على من أنكر على نحو ما تقدم في قوله تعالى (ولا يحل لهن
329

أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) [البقرة 228] وفي هذه الآية أيضا نحو منه وهو قوله تعالى (ولا تكتموا الشهادة) لما كان القول قولهن في الذي تشتمل عليه أرحامهن وقول الشاهد أيضا فيما وعاه قلبه من علم ما عنده مما بينهما من التنازع
المسألة الثامنة قوله تعالى (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا))
أما السفيه ففيه أربعة أقوال
الأول أنه الجاهل قاله مجاهد
الثاني أنه الصبي
الثالث أنه المرأة والصبي قاله الحسن
الرابع المبذر لماله المفسد لدينه قاله الشافعي
وأما الضعيف فقيل هو الأحمق وقيل هو الأخرس أو الغبي واختاره الطبري
وأما الذي لا يستطيع أن يمل ففيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الغبي قاله ابن عباس
الثاني أنه الممنوع بحبسة أو عي
الثالث أنه المجنون
وهذا فيه نظر طويل نخبته أن الله سبحانه جعل الذي عليه الحق أربعة أصناف مستقل بنفسه يمل وثلاثة أصناف لا يملون ولا يصح أن تكون هذه الأصناف الثلاثة صنفا واحدا أو صنفين لأن تعديد الباري سبحانه كأنه يخلو عن الفائدة ويكون من فن المثبج [من] القول الركيك من الكلام ولا ينبغي هذا في كلام حكيم فكيف في كلام أحكم الحاكمين
فتعين والحالة هذه أن يكون لكل صنف من هذه الأصناف الثلاثة معنى ليس لصاحبه حتى تتم البلاغة وتكمل الفائدة ويرتفع التداخل الموجب للتقصير وذلك
330

بأن يكون السفيه والضعيف والذي لا يستطيع قريبا بعضه من بعض في المعنى فإن العرب تطلق السفيه على ضعيف العقل تارة وعلى ضعيف البدن أخرى وأنشدوا
(مشين كما اهتزت رماح تسفهت
* أعاليها مر الرياح النواسم)
أي استضعفتها واستلانتها فحركتها
وكذلك يطلق الضعيف على ضعيف العقل وعلى ضعيف البدن
وقد قالوا الضعف بضم الضاد في البدن وفتحها في الرأي وقيل هما لغتان وكل ضعيف لا يستطيع ما يستطيعه القوي فثبت التداخل في معنى هذه الألفاظ
وتحريرها الذي يستقيم به الكلام ويصح معه النظام أن السفيه هو المتناهي في ضعف العقل وفساده كالمجنون والمحجور عليه نظيره الشاهد له قوله تعالى (* (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) *) [النساء 5] على ما سيأتي في سورة النساء إن شاء الله تعالى
وأما الضعيف فهو الذي يغلبه قلة النظر لنفسه كالطفل نظيره ويشهد له قوله تعالى (* (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) *) [النساء 9]
وأما الذي لا يستطيع أن يمل فهو الغبي الذي يفهم منفعته لكن لا يلفق العبارة عنها
والأخرس الذي لا يتبين منطقه عن غرضه ويشهد لذلك أنه لم ينف عنه أنه لا يستطيع أن يمل خاصة
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (فليملل وليه بالعدل) *
اختلف الناس على ما يعود ضمير وليه على قولين
الأول قيل يعود على الحق التقدير فليملل ولي الحق
الثاني أنه يعود على الذي عليه الحق التقدير فليملل ولي الذي عليه الحق الممنوع من الإملاء بالسفه والضعف والعجز
331

وقيل المراد من المسلمين لأن قوله تعالى (من الرجال) كان يغني عنه فلا بد لهذه الإضافة من خصيصة وهي إما أحراركم وإما مؤمنوكم والمؤمنون به أخص من الأحرار لأن هذه الإضافة هي إضافة الجماعة وإلا فمن هو الذي يجمع الشتات وينظم الشمل النظم الذي يصح منه الإضافة
والصحيح عندي أن المراد به البالغون من ذكوركم المسلمون لأن الطفل لا يقال له رجل وكذا المرأة لا يقال لها رجل أيضا وقد بين الله تعالى بعد ذلك شهادة المرأة وعين بالإضافة في قوله تعالى (* (من رجالكم) *) المسلم ولأن الكافر لا قول له وعنى الكبير أيضا لأن الصغير لا محصول له
وإنما أمر الله تعالى بإشهاد البالغ لأنه الذي يصح أن يؤدي الشهادة فأما الصغير فيحفظ الشهادة فإذا أداها وهو رجل جازت ولا خلاف فيه
وليس للآية أثر في شهادة العبد يرد وسيأتي القول فيها في تفسير قوله تعالى (* (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) *) [النساء 135] إن شاء الله
المسألة الرابعة عشرة
عموم قوله تعالى (* (من رجالكم) *) يقتضي جواز شهادة الأعمى على ما يتحققه ويعلمه فإن السمع في الأصوات طريق للعلم كالبصر للألوان فما علمه أداه كما يطأ زوجته باللمس والشم ويأكل بالذوق فلم لا يشهد على طعام اختلف فيه قد ذاقه
المسألة الخامسة عشرة
قال علماؤنا أخذ بعض الناس من عموم هذه الآية في قوله تعالى (* (من رجالكم) *) جواز شهادة البدوي على القروي وقد منعها أحمد بن حنبل ومالك في مشهور قوله
وقد بينا الوجوه التي منعها أشياخنا من أجلها في كتب الخلاف والصحيح جوازها مع العدالة كشهادة القروي على القروي وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد عنده أعرابي على هلال رمضان فأمر بالصيام
333

المسألة السادسة عشرة
قال علماؤنا قوله تعالى (* (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) *) من ألفاظ الإبدال فكان ظاهره يقتضي ألا تجوز شهادة النساء إلا عند عدم شهادة الرجال كحكم سائر إبدال الشريعة مع مبدلاتها وهذا ليس كما زعمه ولو أراد ربنا ذلك لقال فإن لم يوجد رجلان فرجل فأما وقد قال فإن لم يكونا فهذا قول يتناول حالة الوجود والعدم والله أعلم
المسألة السابعة عشرة
قال أصحابنا لما جعل الله تعالى شهادة امرأتين بدل شهادة الرجل وجب أن يكون حكمها حكمه فكما يحلف مع الشاهد واليمين عندنا وعند الشافعي كذلك يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضية وقد بيناه في مسائل الخلاف
المسألة الثامنة عشرة
قال أصحاب أبي حنيفة لما قال الله تعالى (* (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) *) فقسم الله تعالى أنواع الشهادة وعددها ولم يذكر الشاهد واليمين فلا يجوز القضاء به لأنه يكون قسما ثالثا فيما قد قسمه الله تعالى قسمين
وسلك علماؤنا في الرد عليهم مسلكين
أحدهما أن هذا ليس من قسم الشهادة وإنما الحكم هنالك باليمين وحط الشاهد ترجيح جنبة المدعي وهو الذي اختاره أهل خراسان
وقال آخرون وهو الذي عول عليه مالك إن القوم قد قالوا يقضي بالنكول وهو قسم ثالث ليس له في القرآن ذكر كذلك يحكم بالشهادة واليمين وإن لم يجز له ذكر لقيام الدليل
والمسلك الأول أسلوب الشرع والمسلك الثاني يتعلق بمناقضة الخصم والمسلك الأول أقوى وأولى
334

المسألة التاسعة عشرة
فضل الله تعالى الذكر على الأنثى من ستة أوجه
الأول أنه جعل أصلها وجعلت فرعه لأنها خلقت منه كما ذكر الله تعالى في كتابه
الثاني أنها خلقت من ضلعه العوجاء قال النبي صلى الله عليه وسلم إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج وقال وكسرها طلاقها
الثالث أنه نقص دينها
الرابع أنه نقص عقلها وفي الحديث ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن قلن يا رسول الله وما نقصان ديننا وعقلنا قال أليس تمكث إحداكن
الليالي لا تصوم ولا تصلي وشهادة إحداكن على نصف شهادة الرجل
الخامس أنه نقص حظها في الميراث قال الله تعالى (* (للذكر مثل حظ الأنثيين) *) [النساء 11]
السادس أنها نقصت قوتها فلا تقاتل ولا يسهم لها وهذه كلها معان حكمية فإن قيل كيف نسب النقص إليهن وليس من فعلهن
قلنا هذا من عدل الله يحط ما شاء ويرفع ما شاء ويقضي ما أراد ويمدح ويلوم
335

ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وهذا لأنه خلق المخلوقات منازل ورتبها مراتب فبين ذلك لنا فعلمنا وآمنا به وسلمناه
المسألة الموفية عشرين قوله تعالى (* (ترضون من الشهداء) *))
هذا تقييد من الله سبحانه على الاسترسال على كل شاهد وقصر الشهادة على الرضا خاصة لأنها ولاية عظيمة إذ هي تنفيذ قول الغير على الغير فمن حكمه أن يكون له شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها حتى يكون له مزية على غيره توجب له تلك المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله على غيره ويقضى له بحسن الظن ويحكم بشغل ذمة المطلوب بالحق بشهادته عليه ويغلب قول الطالب على قوله بتصديقه له في دعواه
المسألة الحادية والعشرون قوله (* (ممن ترضون من الشهداء) *))
دليل على تفويض القبول في الشهادة إلى الحاكم لأن الرضا معنى يكون في النفس بما يظهر إليها من الأمارات عليه ويقوم من الدلائل المبينة له ولا يكون غير هذا فإنا لو جعلناه لغيره لما وصل إليه إلا بالاجتهاد واجتهاده أولى من اجتهاد غيره
المسألة الثانية والعشرون
قال علماؤنا هذا دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات على ما خفي من المعاني والأحكام
المسألة الثالثة والعشرون
هذا دليل على أنه لا يكتفى بظاهر الإسلام في الشهادة حتى يقع البحث عن العدالة وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة يكتفى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود وهذه مناقضة تسقط كلامه وتفسد عليه مرامه فيقول حق من الحقوق فلا يكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود وقد مهدت المسألة في مسائل الخلاف
المسألة الرابعة والعشرون
هذا القول يقتضي ألا تقبل شهادة ولد لأبيه ولا أب لولده قال مالك ولا كل
336

ذي نسب أو سبب يفضي إلى وصلة تقع بها التهمة كالصداقة والملاطفة والقرابة الثابتة
وفي كل ذلك بين العلماء واختلاف بيانه في إيضاح دلائل مسائل الخلاف بيانه في إلزام وصف الرضا المشاهد في هذه الآية الذي أكده بالعدالة في الآية الأخرى فقال تعالى (* (وأشهدوا ذوي عدل منكم) *) [الطلاق 2] ولا يجتمع الوصفان حتى تنتفي التهمة والله أعلم
المسألة الخامسة والعشرون
إذا شرط الرضا والعدالة في المداينة فاشتراطها في النكاح أولى خلافا لأبي حنيفة حيث قال إن النكاح ينعقد بشهادة فاسقين فنفى الاحتياط المأمور به في الأموال عن النكاح وهو أولى لما يتعلق به من الحل والحرم والجد والنسب
المسألة السادسة والعشرون قوله تعالى (* (فتذكر إحداهما الأخرى) *))
فيه تأويلان وقراءتان
إحداهما أن تجعلها ذكرا وهذه قراءة التخفيف
الثاني أن تنبهها إذا غفلت وهي قراءة التثقيل وهو التأويل الصحيح لأنه يعضده قوله تعالى (* (أن تضل إحداهما) *) والذي يصح أن يعقب الضلال والغفلة الذكر ويدخل التأويل الثاني في معناه
فإن قيل فهلا كانت امرأة واحدة مع رجل فيذكرها الرجل الذي معها إذا نسيت فما الحكمة فيه
فالجواب فيه أن الله سبحانه شرع ما أراد وهو أعلم بالحكمة وأوفى بالمصلحة وليس يلزم أن يعلم الخلق وجوه الحكمة وأنواع المصالح في الأحكام وقد أشار علماؤنا أنه لو ذكرها إذا نسيت لكانت شهادة واحدة فإذا كانت امرأتين وذكرت إحداهما الأخرى كانت شهادتهما شهادة رجل واحد كالرجل يستذكر في نفسه فيتذكر
337

المسألة السابعة والعشرون قوله تعالى (* (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) *))
فكرر قوله إحداهما وكانت الحكمة فيه أنه لو قال أن تضل إحداهما فتذكر الأخرى لكانت شهادة واحدة وكذلك لو قال فتذكرها الأخرى لكان البيان من جهة واحدة لتذكرة الذاكرة الناسية فلما كرر إحداهما أفاد تذكرة الذاكرة للغافلة وتذكرة الغافلة للذاكرة أيضا لو انقلبت الحال فيهما بأن تذكر الغافلة وتغفل الذاكرة وذلك غاية في البيان
المسألة الثامنة والعشرون قوله تعالى (* (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) *))
اختلف الناس فيه على ثلاثة أقوال
أحدها لا يأب الشهداء عن تحمل الشهادة إذا تحملوا
الثاني لا يأب الشهداء عن الأداء
الثالث لا يأب الشهداء عنهما جميعا لا يأب الشهداء عن التحمل إذا حملوا ولا يأبوا عن الأداء إذا تحملوا
وكذلك اختلفوا في حكم هذا النهي عن ثلاثة أقوال
أحدها أن فعل ذلك ندب
الثاني أن ذلك فرض على الكفاية
الثالث أنها فرض على الأعيان مطلقا قاله الشافعي
والصحيح عندي أن المراد هاهنا حالة التحمل للشهادة لأن حالة الأداء مبينة بقوله تعالى (* (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) *) [البقرة 283] وإذا كانت حالة التحمل فهي فرض على الكافية إذا قال به البعض سقط عن البعض لأن إباية الناس كلهم عنها إضاعة للحقوق وإجابة جميعهم إليها تضييع للأشغال فصارت كذلك فرضا على الكفاية ولهذا المعنى جعلها أهل تلك الديار ولاية فيقيمون للناس شهودا يعينهم الخليفة ونائبه ويقيمهم للناس ويبرزهم لهم ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا وإحياؤها لهم أداء
338

فإن قيل فهذه شهادة بالأجرة
قلنا إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال وقد بيناه في شرح الحديث ومسائل الخلاف
المسألة التاسعة والعشرون
قال علماؤنا قوله تعالى (* (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) *) دليل على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم وهذا أمر انبنى عليه الشرع وعمل به في كل زمن وفهمته كل أمة ومن أمثال العرب في بيته يؤتى الحكم
المسألة الموفية ثلاثين
كيفا ترددت الحال بالأقوال فهذا دليل على خروج العبد من جملة الشهداء لأنه لا يمكنه أن يجيب ولا يصح له أن يأبى لأنه لا استقلال له بنفسه وإنما يتصرف بإذن غيره فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منصب الولاية نعم وكما انحط عنه فرض الجمعة وقد بيناه في مسائل الخلاف
المسألة الحادية والثلاثون
قال علماؤنا هذا في حالة الدعاء إلى الشهادة فأما من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلم بها مستحقها الذي ينتفع بها فقال قوم أداؤها ندب لقوله تعالى (* (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) *) ففرض الله تعالى عليه الأداء عند الدعاء وإذا لم يدع كان ندبا لقوله صلى الله عليه وسلم خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها
والصحيح عندي أن أداءها فرض لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال انصر أخاك ظالما أو مظلوما فعد تعين نصره بأداء الشهادة التي هي عنده إحياء لحقه الذي أماته الإنكار
339

المسألة الثانية والثلاثون قوله تعالى (* (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) *))
هذا تأكيد من الله تعالى في الإشهاد بالدين تنبيها لمن كسل فقال هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه والإشهاد عليه لأن أمر الله تعالى فيه والتخصيص عليه واحد والقليل والكثير في ذلك سواء
قال علماؤنا إلا ما كان من قيراط ونحوه لنزارته وعدم تشوف النفوس إليه إقرارا أو إنكارا
المسألة الثالثة والثلاثون قوله تعالى (* (ذلكم أقسط عند الله) *))
يريد أعدل يعني أن يكتب القليل والكثير ويشهد عليه بالعدل عموم ذلك فيه
المسألة الرابعة والثلاثون قوله تعالى (* (وأقوم للشهادة) *))
يعني أدعى إلى ثبوتها لأنه إذا أشهد ولم يكتب ربما نسي الشاهد
المسألة الخامسة والثلاثون قوله تعالى (* (وأدنى ألا ترتابوا) *))
بالشاهد إذا نسي أو قال خلاف ما عند المتداينين
المسألة السادسة والثلاثون قوله تعالى (* (وأقوم للشهادة) *))
دليل على أن الشاهد إذا رأى الكتاب فلم يذكر الشهادة لا يؤديها لما دخل عليه من الريبة فيها ولا يؤدي إلا ما يعلم لكنه يقول خذا خطي ولا أذكر الآن ما كتبت فيه
340

وقد اختلف فيه علماؤنا على ثلاثة أقوال
الأول قال في المدونة يؤديها ولا ينفع ذلك في الدين والطلاق
الثاني قال في كتاب محمد لا يؤديها
الثالث قال مطرف يؤديها وينفع إذا لم يشك في كتاب وهو الذي عليه الناس وهو اختيار ابن الماجشون والمغيرة
وقد قررناه في كتب المسائل وبينا تعلق من قال إنه لا يجوز لأن خطه فرع عن علمه فإذا ذهب علمه ذهب نفع خطه وأجبنا بأن خطه بدل الذكرى فإن حصلت وإلا قام مقامها
المسألة السابعة والثلاثون قوله تعالى (* (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم) *))
قال الشعبي البيوع ثلاثة بيع بكتاب وشهود وبيع برهان وبيع بأمانة وقرأ هذه الآية وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد وإذا باع بنسيئة كتب وأشهد وكان كأبيه وقافا عند كتاب الله تعالى مقتديا برسول الله صلى الله عليه وسلم
المسألة الثامنة والثلاثون
المسألة الثامنة والثلاثون
ظن من رأى الإشهاد في الدين واجبا أن سقوطه في بيع النقد رفع للمشقة لكثرة تردده
والظاهر الصحيح أن الإشهاد ليس واجبا وإنما الأمر به أمر إرشاد للتوثق والمصلحة وهو في النسيئة محتاج إليه لكون العلاقة بين المتعاقدين باقية توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب فأما إذا تفاصلا في المعاملة وتقابضا وبان كل واحد منهما من صاحبه فيقل في العادة خوف التنازع إلا بأسباب عارضة ونبه الشرع على هذه المصالح في حالتي النسيئة والنقد
المسألة التاسعة والثلاثون قوله تعالى (* (فليس عليكم جناح ألا تكتبوها) *))
يدل على سقوط الإشهاد في النقد وأن قوله تعالى (* (وأشهدوا إذا تبايعتم) *) أمر إرشاد ويدل على أن عليه جناحا في ترك الإشهاد في الدين من دليل الخطاب
341

ونحن لا نقول به في هذا النوع وقد بيناه في أصول الفقه ومسائل الخلاف
والجناح هاهنا ليس الإثم إنما هو الضرر الطارئ بترك الإشهاد من التنازع
المسألة الموفية أربعين
اختلف الناس في لفظ أفعل في قوله تعالى (* (وأشهدوا إذا تبايعتم) *) على قولين
أحدهما أنه فرض قاله الضحاك
الثاني أنه ندب قاله الكافة وهو الصحيح فقد باع النبي صلى الله عليه وسلم وكتب ونسخة كتابه
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى منه عبدا أو أمة لأداء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم
وقد باع ولم يشهد واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة
المسألة الحادية والأربعون قوله تعالى (* (ولا يضار كاتب ولا شهيد) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول أن يكتب الكاتب ما لم يمل عليه ويشهد الشاهد بما لم يشهد عليه قاله قتادة والحسن وطاوس
الثاني يمتنع الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء
الثالث أن يدعى الكاتب والشهيد وهما مشغولان معذوران قاله عكرمة وجماعة
وتحقيقه أن يضار تفاعل من الضرر قوله تعالى (* (يضار) *) يحتمل أن يكون تفاعل بكسر العين ويحتمل أن يكون بفتحها فإن كان بكسر العين فالكاتب
342

والشاهد فاعلان فيكون المراد نهيهما عن الضرر بما يكتبان به أو بما يشهدان عليه وإن كان بفتح العين فالكاتب والشاهد مفعول بهما فيرجع النهي إلى المتعاملين ألا يضرا بكاتب ولا شهيد في دعائه في وقت شغل لا بأدائه وكتابته ما سمع فكثير من الكتاب الشهداء يفسقون بتحويل الكتابة والشهادة أو كتمها وإما متعامل يطلب من الكاتب والشاهد أن يدع شغله لحاجته أو يبدل له كتابته أو شهادته قال الله سبحانه (* (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) *))
المسألة الثانية والأربعون قوله تعالى (* (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) *) [الآية 283]
اختلف الناس في هذه الآية على قولين
فمنهم من حملها على ظاهرها ولم يجوز الرهن إلا في السفر قاله مجاهد
وكافة العلماء على رد ذلك لأن هذا الكلام وإن كان خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال
والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع في الحضر ورهن ولم يكتب
وهذا الفقه صحيح وذلك لأن الكاتب إنما يعدم في السفر غالبا فأما في الحضر فلا يكون ذلك بحال
المسألة الثالثة والأربعون قوله تعالى (* (فرهان مقبوضة) *))
دليل على أن الرهن لا يحكم له في الوثيقة إلا بعض القبض فلو رهنه قولا ولم يقبضه فعلا لم يوجب ذلك له حكما قال الشافعي لم يجعل الله الحكم إلا لرهن موصوف بالقبض فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم
وهذا ظاهر جدا لكن عندنا إذا رهنه قولا وأبى عن الإقباض أجبر عليه وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف
343

المسألة الرابعة والأربعون قوله تعالى (* (فرهان مقبوضة) *))
يقتضي بظاهره ومطلقه أن الرهن إذا خرج عن يد صاحبه فإنه مقبوض صحيح يوجب الحكم ويختص بما ارتهن به دون الغرماء عند كافة العلماء
وقال عطاء وغيره لا يكون مقبوضا إلا أن كان عند المرتهن وإذا صار عند العدل فهو مقبوض لغة مقبوض حقيقة لأن العدل نائب عن صاحب الحق وبمنزلة الوكيل له وهذا ظاهر
المسألة الخامسة والأربعون قوله تعالى (* (فرهان مقبوضة) *))
يقتضي بظاهره ومطلقه جواز رهن المشاع خلافا لأبي حنيفة لأنه لو لم يصح رهنه لم يصح بيعه لأن البيع يفتقر إلى القبض افتقار الرهن بل أشد منه وهذا بين والله أعلم
المسألة السادسة والأربعون
إذا قبض الرهن لم يجز انتزاعه من يده خلافا لبعض أصحاب الشافعي لأنه إذا انتزعه من يده فقد خرج عن الصفة التي وجبت له من القبض وترتب عليها الحكم وهذا بين ظاهر
المسألة السابعة والأربعون
كما يجوز رهن العين كذلك يجوز رهن الدين وذلك عندنا إذا تعامل رجلان لأحدهما على الآخر دين فرهنه دينه الذي له عليه وكان قبضه قبضا وقال غيرنا من العلماء لا يكون قبضا
وكذلك إذا وهبت المرأة كالئها لزوجها جاز ويكون قبوله قبضا وخالفنا فيه أيضا غيرنا من العلماء وما قلناه أصح لأن الذي في الذمة آكد قبضا من المعين وهذا لا يخفى
344

المسألة الثامنة والأربعون إن الله سبحانه قال (* (ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) *))
فجعل الله تعالى الرهن قائما مقام الشاهد فقال علماؤنا إذا اختلف الراهن والمرتهن فالقول قول المرتهن ما بينه وبين قيمة الرهن
وخالفنا أبو حنيفة والشافعي وقالا القول قول الراهن
وما قلناه يشهد له ظاهر القرآن كما قدمناه
وعادة الناس في ارتهانهم ما يكون قدر الدين في معاملتهم فإذا قال المرتهن ديني مائة وقال الراهن خمسون صار الرهن شاهدا يحلف المدعي معه كما يحلف مع الشاهد وإن قال المرتهن ديني مائة وخمسون صار مدعيا في الخمسين
ولو هلك الرهن فقد قال أصحاب الشافعي لا يسقط الدين لأن الرهن وثيقة وظنوا بنا أن الدين يسقط بهلاك الرهن ونحن نقول إنما نستوفي به إذا هلك وكان مما يعاب عليه وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف
المسألة التاسعة والأربعون قوله تعالى (* (فإن أمن بعضكم بعضا) *))
معناه إن أسقط الكتاب والإشهاد والرهن وعول على أمانة المعامل فليؤد الذي ائتمن الأمانة وليتق الله ربه
وقد اختلف العلماء في ذلك كما بيناه ولو كان الإشهاد واجبا لما جاز إسقاطه وبهذا يتبين أنه وثيقة وكذلك هو عندنا في النكاح
وقال المخالفون هو واجب في النكاح وسيأتي في سورة الطلاق إن شاء الله تعالى
وقد قال بعض الناس إن هذا ناسخ للأمر بالإشهاد وتابعهم جماعة ولا منازعة عندنا في ذلك بل هو جائز وحبذا الموافقة في المذهب ولا نبالي من الاختلاف في الدليل
وجملة الأمر أن الإشهاد حزم والائتمان وثيقة بالله من المداين ومروءة من
345

المدين وفي الحديث الثابت الصحيح عن أبي هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بالشهداء أشهدهم فقال كفى بالله شهيدا قال فأتني بالكفيل قال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج الرجل في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر فقال اللهم إنك تعلم أني تسلفت فلان ألف دينار فسألني كفيلا فقلت كفى بالله كفيلا فرضي بذلك وسألني شهيدا فقلت كفى بالله شهيدا فرضي بذلك وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر وإني أستودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده
فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما نشرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار وقال والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه قال هل كنت بعثت إلي شيئا قال أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت به قال فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بالألف دينار راشدا
وقد روي عن سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية فقال نسخ لكل ما تقدم يعني من الأمر بالكتاب والإشهاد والرهن
المسألة الموفية خمسين قوله تعالى (* (ولا تكتموا الشهادة) *))
هذا تفسير لقوله تعالى (* (ولا يضار كاتب ولا شهيد) *) بكسر العين نهيه الشاهد عن أن يضر بكتمان الشهادة فإن ذلك إثم بالقلب كما لو حولها وبدلها لكن كذبا وهو إثم باللسان
346

المسألة الحادية والخمسون
إذا كان على الحق شهود تعين عليهم أداؤها على الكفاية فإن أداها اثنان واجتزأ بهما الحاكم سقط الفرض عن الباقين وإن لم يجتزئ بما تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات وهذا يعلم بدعاء صاحبها فإذا قال له أحي حقي بأداء ما عندك لي من شهادة تعين ذلك عليه
المسألة الثانية والخمسون
قال علماؤنا رحمة الله عليهم لما أمر الله سبحانه بالتوثيق بالشهادة على الحقوق كان ذلك دليلا على المحافظة في مراعاة المال وحفظه ويعتضد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال
الآية الموفية تسعين
قوله تعالى (* (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) *) [الآية 286]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *))
هذا أصل عظيم في الدين وركن من أركان شريعة المسلمين شرفنا الله سبحانه على الأمم بها فلم يحملنا إصرا ولا كلفنا في مشقة أمرا وقد كان من سلف من بني إ سرائيل إذا أصاب البول ثوب أحدهم قرضه بالمقراض فخفف الله تعالى ذلك إلى وظائف على الأمم حملوها ورفعها الله تعالى عن هذه الأمة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه
347

المسألة الثانية قوله تعالى (* (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *))
ذكر علماؤنا هذه الآية في أن القود واجب على شريك الأب خلافا لأبي حنيفة وعلى شريك الخاطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة لأن كل واحد منهما قد اكتسب القتل وقالوا إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص شبهة في درء ما يدرأ بالشبهة وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) *))
تعلق بذلك جماعة من العلماء في أن الفعل الواقع خطأ أو نسيانا لغو في الأحكام كما جعله الله تعالى لغوا في الآثام وبين النبي صلى الله عليه وسلم عندهم بقوله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه
وهذا لا حجة فيه لأن الحديث لم يصح والآية إنما جاءت لرفع الإثم الثابت في قوله تعالى (* (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) *) [البقرة 284] فأما أحكام العباد وحقوق الناس فثابتة حسب ما يبين في سورة النساء إن شاء الله تعالى والله أعلم
348

سورة آل عمران فيها ست وعشرون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم) *) [الآية 21]
قال بعض علمائنا هذه الآية دليل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن أدى إلى قتل الآمر به
وقد بينا في كتاب المشكلين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآياته وأخباره وشروطه وفائدته وسنشير إلى بعضه هاهنا فنقول
المسلم البالغ القادر يلزمه تغيير المنكر والآيات في ذلك كثيرة والأخبار متظاهرة وهي فائدة الرسالة وخلافة النبوة وهي ولاية الإلهية لمن اجتمعت فيه الشروط المتقدمة
وليس من شرطه أن يكون عدلا عند أهل السنة
وقالت المبتدعة لا يغير المنكر إلا عدل وهذا ساقط فإن العدالة محصورة في قليل من الخلق والنهي عن المنكر عام في جميع الناس
فإن استدلوا بقوله تعالى (* (أتأمرون الناس بالبر) *) [البقرة 44] وقوله تعالى (* (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) *) [الصف 3] ونحوه
قلنا إنما وقع الذم هاهنا على ارتكاب ما نهي عنه لا عن نهيه عن المنكر
349

وكذلك ما روي في الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقيل له هم الذين ينهون عن المنكر ويأتونه إنما عوقبوا على إتيانهم
ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه عند فاعله فيبعد قبوله منه
وأما القدرة فهي أصل وتكون منه في النفس وتكون في البدن إن احتاج إلى النهي عنه بيده فإن خاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل فإن رجا زواله جاز عند أكثر
العلماء الاقتحام عند هذا الغرر وإن لم يرج زواله فأي فائدة فيه
والذي عنده أن النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يبالي
فإن قيل هذا إلقاء بيده إلى التهلكة
قلنا قد بينا معنى الآية في موضعها وتمامها في شرح المشكلين والله أعلم
فإن قيل فهل يستوي في ذلك المنكر الذي يتعلق به حق الله تعالى مع الذي يتعلق به حق الآدمي
قلنا لم نر لعلمائنا في ذلك نصا وعندي أن تخليص الآدمي أوجب من تخليص حق الله تعالى وذلك ممهد في موضعه
الآية الثانية
قوله تعالى (* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) *) [الآية 23]
قال علماؤنا في هذا دليل على وجوب ارتفاع المدعو إلى الحاكم لأنه دعي إلى كتاب الله فإن لم يفعل كان مخالفا يتعين عليه الزجر بالأدب على قدر المخالف والمخالف
350

ومثله قوله تعالى (* (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) *) [النور 48]
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) *) [الآية 28]
هذا عموم في أن المؤمن لا يتخذ الكافر وليا في نصره على عدوه ولا في أمانة ولا بطانة من دونكم يعني من غيركم وسواكم كما قال تعالى (* (ألا تتخذوا من دوني وكيلا) *) [الإسراء 2]
وقد نهى عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري عن ذمي كان استكتبه باليمن وأمره بعزله وقد قال جماعة من العلماء يقاتل المشرك في معسكر المسلمين معهم لعدوهم واختلف في ذلك علماؤنا المالكية
والصحيح منعه لقوله عليه السلام إنا لا نستعين بمشرك وأقول إن كانت في ذلك فائدة محققة فلا بأس به
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *) [الآية 28]
فيه قولان
أحدهما إلا أن تخافوا منهم فإن خفتم منهم فساعدوهم ووالوهم وقولوا ما يصرف عنكم من شرهم وأذاهم بظاهر منكم لا باعتقاد يبين ذلك قوله تعالى (* (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *) [النحل 16] على ما يأتي بيانه إن شاء الله
الثاني أن المراد به إلا أن يكون بينكم وبينه قرابة فصلوها بالعطية كما روي أن
351

أسماء قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إن أمي قدمت علي وهي مشركة وهي راغبة أفأصلها قال نعم صلي أمك
وهذا وإن كان جائزا في الدين فليس بقوي في معنى الآية وإنما فائدتها ما تقدم في القول الأول والله أعلم
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) *) [الآية 3536]
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى في حقيقة النذر
وهو التزام الفعل بالقول مما يكون طاعة لله عز وجل من الأعمال قربة
ولا يلزم نذر المباح والدليل عليه ما روي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا إسرائيل قائما فسأل عنه فقالوا نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم مروه فليصم وليقعد وليستظل فأخبره بإتمام العبادة ونهاه عن فعل المباح
وأما المعصية فهي ساقطة إجماعا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه
352

المسألة الثانية في تعليق النذر بالحمل
اعلموا علمكم الله إن الحمل في حيز العدم لأن القضاء بوجوده غير معلوم لاحتمال أن يكون نفخ في البطن لعلة وحركة خلط يضطرب وريح ينبعث ويحتمل أن يكون لولد وقد يغلب على البطن كل واحد منهما في حالة وقد يشكل الحال فإن فرضنا غلبة الظن في كونه حملا فقد اتفق العلماء على أن العقود التي ترد عليه وتتعلق به على ضربين
أحدهما عقد معاوضة
والثاني عقد مطلق لا عوضية فيه
فأما الأول وهو عقد المعاوضة فإنه ساقط فيه إجماعا بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع حبل الحبلة
والحكمة فيه أن العقد إذا تضمن العوض وجب تنزيهه عن الجهالة والغرر في حصول الفائدة التي بذل المرء فيها ماله فإذا لم يتحقق حصول تلك الفائدة كان من آكل المال بالباطل
وأما الثاني وهو العقد المطلق المجرد من العوض كالوصية والهبة والنذر فإنه يرد على الحمل لأن الغرر فيه منتف إذ هو تبرع مجرد فإن اتفق فيها ونعمت وإن تعذر لم يستضر أحد
353

المسألة الثالثة في معنى الآية
قال علماؤنا كان لعمران بن ماثان ابنتان إحداهما حنة والأخرى يملشقع وبنو ماثان من ملوك بني إسرائيل من نسل داود عليه السلام وكان في ذلك الزمان لا يحرر إلا الغلمان فلما نذرت قال لها زوجها عمران أرأيتك إن كان ما في بطنك أنثى كيف نفعل فاهتمت لذلك فقالت إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم وذلك لأنها كانت لا ولد لها فلما حملت نذرت إن الله أكمل لها الحمل ووضعته فإنه حبس على بيت المقدس
المسألة الرابعة
قال أشهب عن مالك جعلته نذرا تفي به قالوا فلما وضعتها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها
وقيل لفتها في خرقها وقالت رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى وقد سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم وأرسلتها إلى المسجد وفاء بنذرها كما أشار إليه مالك وتبريا منها حين حررتها لله أي خلصتها
والمحرر والحر هو الخالص من كل شيء
المسألة الخامسة
لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر ولده كيف ما تصرفت حاله فإنه إن كان الناذر عبدا لم يتقرر له قول في ذلك وإن كان الناذر حرا فولده لا يصح أن يكون مملوكا له وكذلك المرأة مثله وأي وجه للنذر فيه
وإنما معناه والله أعلم أن المرء إنما يريد ولده للأنس به والاستبصار والتسلي والمؤازرة فطلبت المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الأنس به متروك فيه وهو على خدمة الله تعالى موقوف وهذا نذر الأحرار من الأبرار وأرادت به محررا من جهتي محررا من رق الدنيا وأشغالها فتقبله مني
354

وقد قال رجل من الصوفية لأمة يا أماه ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم فقالت نعم فسار حتى تبصر ثم عاد إليها فدق الباب فقالت من قال ابنك فلان قالت قد تركناك لله ولا نعوذ فيك
المسألة السادسة قوله (* (وليس الذكر كالأنثى) *))
يحتمل أن تريد به في كونها تحيض ولا تصلح في تلك الأيام للمسجد ويحتمل أن تريد بها أنها امرأة فلا تصلح لمخالطة الرجال وعلى كل تقدير فقد تبرأت منها ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام
وفي صحيح الحديث أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه اختلاف في الرواية كثير
المسألة السابعة
رواية أشهب عن مالك تدل على أن مذهبه التعلق بشرائع الماضين في الأحكام والآداب وقد بيناه في أصول الفقه
المسألة الثامنة
لو صح أنها أسلمتها في خرقها إلى المسجد فكفلها زكريا لكان ذلك في أن الحضانة حق للأم أصلا
وقد اختلفت فيه رواية علمائنا على ثلاثة أقوال
أحدها أن الحضانة حق لله سبحانه
الثاني أنها حق للأم
الثالث أنها حق للولد وقد بيناه في مسائل الفروع بواضح الدليل
المسألة التاسعة
على أي حال كان القول والتأويل فإن الآية دليل على جواز النذر في الحمل وكل عقد لا يتعلق به عوض بدليل إجماعهم على نفوذ العتق فيه والنذر مثله
355

المسألة العاشرة
قال بعض الشافعية الدليل على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساويه في وجوب الكفارة عليهم قوله تعالى (* (وليس الذكر كالأنثى) *)
قال القاضي ابن العربي وعجبا لغفلته وغفلة القاضي عبد الوهاب عنه حين تكلم عليه وحاجه فيه وهذا خبر عن شرع من قبلنا ولا خلاف بين الشافعية عن بكرة أبيهم أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا فاسكت واصمت
ثم نقول لأنفسنا نحن نعلم من أصول الفقه الفرق بين الأقوال التي جاءت بلفظ العموم وهي على قصد العموم والتي جاءت بلفظ العموم وهي على قصد الخصوص وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له بينة حالها ومقطع كلامها فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها ورأته أنثى لا تصلح أن تكون برزة وإنما هي عورة فاعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها وقد بينا في أصول الفقه العموم المقصود به العموم وغيره وساعدنا عليه ابن الجويني وحققناه فلينظر هنالك
المسألة الحادية عشرة
قالت إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فكانت المعاذة هي وابنها عيسى فبهما وقع القبول من جملة الذرية وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة وقد بينا ذلك في مسألة العقب من الأحكام وفي سورة الأنعام والله أعلم
الآية السادسة
قوله تعالى (* (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) *) [الآية 39]
اختلف العلماء في ذلك على قولين
أحدهما أن الحصور هو العنين وهم الأكثر ومنهم ابن عباس
356

ومنهم من قال هو الذي يكف عن النساء ولا يأتيهن مع القدرة منهم سعيد بن المسيب وهو الأصح لوجهين
أحدهما أنه مدح وثناء عليه والمدح والثناء إنما يكون على الفضل المكتسب دون الجبلة في الغالب
الثاني أن حصورا فعولا وبناء فعول في اللغة من صيغ الفاعلين
قال علماؤنا الحصور البخيل والهيوب الذي يحجم عن الشيء والكاتم السر وهذا بناء فاعل والحصور عندهم الناقة التي لا يخرج لبنها من ضيق إحليلها
وهذا فيه نظر وقد جاء فعول بمعنى مفعل تقول رسول بمعنى مرسل ولكن الغالب ما تقدم
وإذا ثبت هذا فيحي كان كافا عن النساء عن قدرة في شرعه فأما شرعنا فالنكاح روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عثمان بن مظعون عن التبتل قال الراوي ولو أذن له لاختصينا ولهذا بالغ قوم فقالوا النكاح واجب وقصر آخرون فقالوا مباح وتوسط علماؤنا فقالوا مندوب
والصحيح أنه يختلف باختلاف حال النكاح والزمان وقد بينا ذلك في سورة النساء وسترونه إن شاء الله
الآية السابعة
قوله تعالى (* (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) *) [الآية 44]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في كيفية فعلهم
واختلف فيه نقل المفسرين على روايتين
357

الأولى روي أن زكريا قال أنا أحق بها خالتها عندي وقال بنو إسرائيل نحن أحق بها بنت عالمنا فاقترعوا عليها بالأقلام وجاء كل واحد بقلمه واتفقوا أن يجعلوا الأقلام في الماء الجاري فمن وقف قلمه ولم يجر في الماء فهو صاحبها
قال النبي عليه السلام فجرت الأقلام وعال قلم زكريا كانت آية لأنه نبي تجري الأيات على يده
الثاني أن زكريا كان يكفلها حتى كان عام مجاعة فعجز وأراد منهم أن يقترعوا فاقترعوا فوقعت القرعة عليهم لما أراد الله من تخصيصه بها
ويحتمل أن تكون أنها لما نذرتها لله تخلت عنها حين بلغت السعي واستقلت بنفسها فلم يكن لها بد من قيم إذ لا يمكن انفرادها بنفسها فاختلفوا فيه فكان ما كان
المسألة الثانية
القرعة أصل في شريعتنا ثبت أن النبي عليه السلام كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها وهذا مما لم يره مالك شرعا
والصحيح أنه دين ومنهاج لا يتعدى وثبت عنه أيضا صلى الله عليه وسلم أن رجلا أعتق عبيدا له ستة في مرضه لا مال له غيرهم فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة
358

وهذا مما رآه مالك والشافعي وأباه أبو حنيفة واحتج بأن القرعة في شأن زكريا وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز
وأما حديث الأعبد فلا يصح التراضي في الحرية ولا الرضا لأن العبودية والرق إنما ثبتت بالحكم دون قرعة فجازت ولا طريق للتراضي فيها وهذا ضعيف فإن القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاح فأما ما يخرجه التراضي فيه فباب آخر ولا يصح لأحد أن يقول إن القرعة تجري في موضع التراضي وإنها لا تكون أبدا مع التراضي فكيف يستحيل اجتماعها مع التراضي ثم يقال إنها لا تجري إلا على حكمه ولا تكون إلا في محله وهذا بعيد
المسألة الثالثة
قد روي أن مريم كانت بنت أخت زوج زكريا ويروى أنها كانت بنت عمه وقيل من قرابته فأما القرابة فمقطوع بها وتعيينها مما لم يصح
وهذا جرى في الشريعة التي قبلنا فأما إذا وقع في شريعتنا فالخالة أحق بالحضانة بعد الجدة من سائر القرابة والناس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها
للخالة ونص الحديث خرجه أبو داود قال خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة قال ابن العربي واسمها أمة الله وأمها سلمى بنت عميس أخت أسماء بنت عميس فقال جعفر أنا أحق بها ابنة عمي وعندي خالتها وإنما الخالة أم وقال علي أنا أحق بها وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا أحق بها وقال زيد أنا أحق بها خرجت إليها وسافرت وقدمت بها فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر شيئا وقال أما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة بمنزلة الأم
المسألة الرابعة
هذا إذا كانت الخالة أيما فأما إن تزوجت وكان زوجها أجنبيا فلا حضانة لها لأن الأم تسقط حضانتها بالزوج الأجنبي فكيف بأختها وبأمها والبدل عنها
359

فإن كان وليا لم تسقط حضانتها كما لو تسقط حضانة زوج جعفر لكون جعفر وليا لابنة حمزة وهي بنوة العم
وذكر ابن أبي خيثمة أن زيد بن حارثة كان وصي حمزة فتكون الخالة على هذا أحق من الوصي ويكون ابن العم إذا كان زوجا غير قاطع للخالة في الحضانة وإن لم يكن محرما لها
وقد بينا في شرح الحديث اسم الكل ووصف قرابته
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) *) [الآية 61]
فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ناظر أهل نجران حتى ظهر عليهم بالدليل والحجة فأبوا الانقياد والإسلام فأنزل الله عز وجل هذه الآية فدعا حينئذ فاطمة والحسن والحسين ثم دعا النصارى إلى المباهلة
المسألة الثانية
هذا يدل على أن الحسن والحسين ابناه وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين
360

فتعلق بهذا من قال إن الابن من البنت يدخل في الوصية والحبس ويأتي ذلك في موضعه إن شاء الله
وليس فيها حجة فإنه يقال إن هذا الإطلاق مجاز وبيانه هنالك
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) *) [الآية 75]
فيها إحدى عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
قيل نزلت في نصارى نجران وقال ابن جريح نزلت في قوم من اليهود تابعهم جماعة من العرب فلما أسلموا قال لهم اليهود تركتم دينكم فليس لكم عندنا حق
المسألة الثانية
الدينار أربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من شعير والقنطار أربعة أرباع والربع ثلاثون رطلا والرطل اثنتا عشرة أوقية والأوقية ستة عشر درهما والدرهم ست وثلاثون حبة من شعير وقد بينا ذلك مشروحا في مسائل الفقه
المسألة الثالثة
فائدتها النهي عن ائتمانهم على مال وقال شيخنا أبو عبد الله العربي فائدتها ألا يؤتمنوا على دين يدل عليه ما بعده من قوله (* (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب) *) [آل عمران 78] فأراد ألا يؤتمنوا على نقل شيء من التوراة والإنجيل
قال القاضي والصحيح عندي أنها في المال نص وفي الدين سنة فأفادت المعنيين بهذين الوجهين
361

المسألة الرابعة
في قوله تعالى (* (من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) *)
هذا يدل على أن أداء الأمانة في الدينار بالنص أو بالسنة أو بالقياس وقد بيناه في أصول الفقه
والصحيح أنه قياس جلي وهو أعلى مراتبه وهناك تجدونه
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (إلا ما دمت عليه قائما) *))
تعلق به أبو حنيفة في ملازمة الغريب للمفلس وأباه سائر العلماء ولا حجة لأبي حنيفة فيه لأن ملازمة الغريم المحكوم بعدمه لا فائدة فيها إذ لا يرجى ما عنده وقد بيناه في
مسائل الخلاف هناك
وقد قال جماعة من الناس إن معنى (* (لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما) *) أي حافظا بالشهادة فلينظر هنالك
المسألة السادسة
أقسام هذه الحال ثلاثة
قسم يؤدى وقسم لا يؤدى إلا ما دمت عليه قائما وقسم لا يؤدى وإن دمت عليه قائما إلا أن الله سبحانه ذكر القسمين لأنه الغالب المعتاد والثالث نادر فخرج الكلام على الغالب
المسألة السابعة قوله تعالى (* (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) *))
المعنى فعلوا ذلك لاعتقادهم أن ظلمهم لأهل الإسلام جائز تقدير كلامهم ليس علينا في ظلم الأميين سبيل أي إثم وقولهم هذا كذب صادر عن اعتقاد باطل مركب على كفر فإنهم أخبروا عن التوراة بما ليس فيها وذلك قوله تعالى (* (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) *))
المسألة الثامنة
الأمانة عظيمة القدر في الدين ومن عظيم قدرها أنها تقف على جنبتي الصراط
362

ولا يمكن من الجواز إلا من حفظها وقد بيناه في شرح الحديث وكتاب شرح المشكلين ولهذا وجب عليك أن تؤديها إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك فتقابل معصية فيك بمعصية فيه على اختلاف بيناه في مسائل الخلاف
ولذلك لم يجز لك أن تغدر بمن غدر بك قال البخاري باب إثم الغادر البر والفاجر
فإن قيل فقد قال الشعبي من حل بك فاحلل به قال إبراهيم النخعي يعني أن المحرم لا يقتل ولكن من غرض لك فاقتله وحل أنت به أيضا من خانك فخنه
قلنا تحريم المحرم كان بشرط ألا يعرض له في أصل العقد والأمانة يلزم الوفاء بها من غير شرط
المسألة التاسعة
قال رجل لابن عباس إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول ليس بذلك علينا بأس
فقال له هذا كما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) *))
هذه الآية رد على الكفرة الذين يحللون ويحرمون من غير تحليل الله وتحريمه ويجعلون ذلك من الشرع ومن هذا يخرج الرد على من يحكم بالاستحسان من غير دليل ولست أعلم أحدا من أهل القبلة قاله
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) *) [الآية 77]
فيها مسألتان
363

المسألة الأولى في سبب نزولها
قال قوم نزلت في اليهود كتبوا كتابا وحلفوا أنه من عند الله
وقيل نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة لتنفق سلعته في البيع قاله مجاهد وغيره
والذي يصح أن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تعالى تصدق ذلك (* (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *) الآية قال فجاء الأشعث بن قيس فقال في نزلت كان لي بئر في أرض ابن عمر وفي رواية كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني قال النبي صلى الله عليه وسلم بينتك أو يمينه فقلت إذا يحلف يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث
وذلك يحتمل ما صح في الحديث وما روي عن اليهود
المسألة الثانية
قال علماؤنا هذا دليل على أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه
وقد روت أم سلمة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار
364

وهذا لا خلاف فيه بين الأمة وإنما ناقض أبو حنيفة وغلا فقال إن حكم الحاكم المبني على الشهادة الباطلة يحل الفرج لمن كان محرما عليه وسيأتي بطلان قوله في آية اللعان إن شاء الله تعالى
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) *) [الآية 798]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
قيل إنها نزلت في نصارى نجران وكذلك روي أن السورة كلها إلى قوله (* (وإذ غدوت من أهلك) *) كان سبب نزولها نصارى نجران ولكن مزج معهم اليهود لأنهم فعلوا من الجحد والعناد مثل فعلهم
المسألة الثانية في قوله تعالى (* (ربانيين) *))
وهو منسوب إلى الرب وقد بينا تفاصيل معنى اسم الرب في الأمد الأقصى وهو هاهنا عبارة عن الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره وكأنه يقتدي بالرب سبحانه وتعالى في تيسير الأمور المجملة في العبد على مقدار بدنه من غذاء وبلاء
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) *))
المعنى وإن علمهم بالكتاب ودرسهم له يوجب ذلك عليهم لأن هذا من المعاني التي شرحت فيه لهم
365

المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا) *))
المعنى ولا آمر الخلق أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا يعبدونهم لأن الله سبحانه لا يأمر بالكفر من أسلم فعلا ولا يأمر بالكفر ابتداء لأنه محال عقلا فلما لم يتقدر ولا تصور لم يتعلق به أمر
المسألة الخامسة
حرم الله تعالى على الأنبياء أن يتخذوا الناس عبادا يتألهون لهم ولكن ألزم الخلق طاعتهم
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي
وقد قال الله تعالى مخبرا عن يوسف (* (اذكرني عند ربك) *) [يوسف 42] وقال (* (والصالحين من عبادكم وإمائكم) *) [النور 32] وقال النبي صلى الله عليه وسلم من أعتق شركا له في عبد فتعارضت
فلو تحققنا التاريخ لكان الآخر رافعا للأول أو مبينا له على اختلاف الناس في النسخ وإذا جهلنا التاريخ وجب النظر في دلالة الترجيح
وقد مهدنا ذلك في شرح الحديث بما الكافي منه الآن لكم ترجيح الجواز لأن النهي إنما كان لتخليص الاعتقاد من أن يعتقد لغير الله عبودية أو في سواه ربوبية فلما حصلت العقائد كان الجواز
المسألة السادسة قوله تعالى (* (بما كنتم تعلمون الكتاب) *))
قرأ ابن عامر وأهل الكوفة بضم التاء وكأن معناه لا تتخذوهم عبادا بحق
366

تعليمكم فإنه فرض عليكم أو إشراك في نيتكم أو استعجال لأجركم أو تبديل لأمر الآخرة بأمر الدنيا واختاره الطبري على قراءة فتح التاء
قال شيخنا أبو عبد الله العربي كذلك يقتضي صفة العلم وقراءته لأن العلم إنما هو للتعليم لتحريم كتمان العلم والأمر في ذلك قريب وليس هذا موضع تحريره
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) *) [الآية 92]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (لن تنالوا البر) *)
معناه تصيبوا يقال نالني خير ينولني وأنالني خيرا ويقال نلته أنوله معروفا ونولته قال الله تعالى (* (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) *) [الحج 37] أي لا يصل إلى الله شيء من ذلك لتقديسه عن الاتصال والانفصال
المسألة الثانية (البر))
وقد بيناه في كتاب الأمد الأقصى وشفينا النفس من إشكاله
قيل إنه ثواب الله وقيل إنه الجنة وذلك يصل البر إليه لكونه على الصفات المأمور بها
المسألة الثالثة (* (حتى تنفقوا) *))
المعنى حتى تهلكوا يقال نفق إذا هلك المعنى حتى تقدموا من أموالكم في سبيل الله ما تتعلق به قلوبكم
المسألة الرابعة في تفسير هذه النفقة
قال ابن عمر وهي صدقة الفرض والتطوع
وقيل هي سبل الخير كلها وهو الصحيح لعموم الآية
367

وقد روى الأئمة كلهم أن أبا طلحة قال يا رسول الله إني أسمع الله تعالى يقول (* (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بخ بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت فيها وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه
وروى الطبري أن زيد بن حارثة جاء بفرس له يقال له سبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تصدق بهذا يا رسول الله فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة فقال يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبلت صدقتك
المسألة الخامسة
قال العلماء إنما تصدق به النبي صلى الله عليه وسلم على قرابة المصدق لوجهين
أحدهما أن الصدقة في القرابة أفضل لأنها كما قال في غير هذا الحديث صدقة وصلة
الثاني أن نفس المتصدق تكون بذلك أطيب وأسلم عن تطرق الندم إليها
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) *) [الآية 93]
368

فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى سبب نزولها وفيه ثلاثة أقوال
الأول روي أن اليهود أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحليل لحوم الإبل فأخبر الله بتحليلها لهم حتى حرمها إسرائيل على نفسه
المعنى إني لم أحرمها عليكم وإنما كان إسرائيل هو الذي حرمها على نفسه
الثاني أن عصابة من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها فقالوا اللهم نعم قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم أن الله سبحانه أنزل تحريم ذلك فيها رواه الطبري
الثالث أنها نزلت في نفر من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة زنيا فرجمهما النبي صلى الله عليه وسلم على ما يأتي بيانه في سورة المائدة إن شاء الله تعالى
فأما نزولها في رجم اليهود فيأباه ظاهر اللفظ وأما سائرها فمحتمل والله أعلم
المسألة الثانية
اختلفوا في تحريم إسرائيل على نفسه فقيل كان بإذن الله تعالى
وقيل كان باجتهاد وذلك مبني على جواز اجتهاد الأنبياء وقد بيناه في موضعه
369

واختلف في تحريم اليهود ذلك فقيل إن إسرائيل حرمها على نفسه وعليهم
وقيل اقتدوا به في تحريم ذلك فحرم الله تعالى عليهم بغيهم ونزلت به التوراة وذلك في قوله تعالى (* (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) *) [النساء 16]
والصحيح أن للنبي أن يجتهد وإذا أداه اجتهاده إلى شيء كان دينا يلزم اتباعه لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه كذلك يؤذن له ويجتهد ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه
والظاهر من الآية مع أن الله سبحانه أضاف التحريم إليه بقوله إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة أن الله سبحانه أذن له في تحريم ما شاء ولولا تقدم الإذن له ما تسور على التحليل والتحريم وتقدم ما يقتضي ذلك على القول بجواز الاجتهاد فحرمه مجتهدا فأقره الله سبحانه عليه
وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم العسل على الرواية الصحيحة أو جاريته مارية فلم يقر الله تحريمه ونزل قوله تعالى (* (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) *) [التحريم 1] وكان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم اجتهادا أو بأمر على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة
حقيقة التحريم المنع فكل من امتنع من شيء مع اعتقاده الامتناع منه فقد حرمه وذلك يكون بأسباب إما بنذر كما فعل يعقوب في تحريم الإبل وألبانها وإما بيمين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العسل أو في جاريته فإن كان بنذر فإنه غير منعقد في شرعنا
ولسنا نتحقق كيفية تحريم يعقوب هل كان بنذر أو بيمين فإن كان بيمين فقد أحل الله لنا اليمين بالكفارة أو بالاستثناء المتصل رخصة منه لنا ولم يكن ذلك لغيرنا من الأمم
فلو قال رجل حرمت الخبز على نفسي أو اللحم لم يحرم ولم ينعقد يمينا فإن قال حرمت أهلي فقد اختلف العلماء فيه اختلافا كثيرا يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى
370

والصحيح أنه يلزمه تحريم الأهل إذا ابتدأ بتحريمها كما يحرمها بالطلاق ولا يلزمه تحريم فيما عدا ذلك لقوله سبحانه (* (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا) *) [المائدة 87]
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) *) [الآية 9697]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له أي المسجدين وضع في الأرض أول المسجد الحرام أو المسجد الأقصى قال المسجد الحرام وذكر أنه كان بينهما أربعون عاما وهذا رد على من يقول كان في الأرض بيت قبله تحجه الملائكة
المسألة الثانية في بركته
قيل ثواب الأعمال
وقيل ثواب القاصد إليه
وقيل أمن الوحش فيه
وقيل عزوف النفس عن الدنيا عند رؤيته
والصحيح أنه مبارك من كل وجه من وجوه الدنيا والآخرة وذلك بجميعه موجود فيه
371

المسألة الثالثة فأما قوله ببكة ففيها ثلاثة أقوال
الأول بكة مكة
الثاني بكة المسجد ومكة سائر الحرم
وإنما سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تقطعها وقال أبو جعفر وقتادة إن الله سبحانه بك بها الناس فتصلي النساء بين يدي الرجال ولا يكون في بلد غيرها وصورة هذا أن الناس يستديرون بالبيت فيكون وجوه البعض إلى البعض فلا بد من استقبال النساء من حيث صلوا
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (مقام إبراهيم) *))
فيه قولان
أحدهما أنه الحجر المعهود وإنما جعل آية للناس لأنه جماد صلد وقف عليه إبراهيم فأظهر الله فيه أثر قدمه آية باقية إلى يوم القيامة
الثاني قال ابن عباس (* (مقام إبراهيم) *) هو الحج كله وهذا بين فإن إبراهيم قام بأمر الله سبحانه ونادى بالحج عباد الله فجمع الله العباد على قصده وكانت شرعة من عهده وحجة على العرب الذين اقتدوا به من بعده
372

وفيه من الآيات أن من دخله خائفا عاد آمنا فإن الله سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته وصرف الأيدي عن إذايته وجمعها على تعظيم الله تعالى وحرمته
وهذا خبر عما كان وليس فيه إثبات حكم وإنما هو تنبيه على آيات وتقرير نعم متعددات مقصودها وفائدتها وتمام النعمة فيه بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم فمن لم يشهد هذه الآيات ويرى ما فيها من شرف المقدمات لحرمة من ظهر من تلك البقعة فهو من الأموات
المسألة الخامسة
قال أبو حنيفة إن من اقترف ذنبا واستوجب به حدا ثم لجأ إلى الحرم عصمه لقوله تعالى (* (ومن دخله كان آمنا) *) فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله وروي ذلك عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وغيره من الناس
وكل من قال هذا فقد وهم من وجهين
أحدهما أنه لم يفهم معنى الآية أنه خبر عما مضى ولم يقصد بها إثبات حكم مستقبل
الثاني أنه لم يعلم أن ذلك الأمن قد ذهب وأن القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها وخبر الله سبحانه لا يقع بخلاف مخبره فدل على أنه في الماضي
هذا وقد ناقض أبو حنيفة فقال إنه لا يطعم ولا يسقى ولا يعامل ولا يكلم حتى يخرج فاضطراره إلى الخروج ليس يصح معه أمن
وروي عنه أنه قال يقع القصاص في الأطراف في الحرم ولا أمن أيضا مع هذا وقد مهدناه في مسائل الخلاف
المسألة السادسة
قال بعضهم من دخله كان آمنا من النار ولا يصح هذا على عمومه ولكنه من
373

حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة قال ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون تفسيرا للمقصود وبيانا لخصوص العموم إن كان هذا القصد صحيحا
هذا والصحيح ما قدمناه من أنه قصد به تعديد النعم على من كان بها جاهلا ولها منكرا من العرب كما قال تعالى (* (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) *) [العنكبوت 67]
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) *) [الآية 97]
فيها إحدى عشرة مسألة
المسألة الأولى
قال علماؤنا هذا من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب إذا قال العربي لفلان علي كذا فقد وكده وأوجبه
قال علماؤنا فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته وتقوية لفرضه
المسألة الثانية
كان الحج معلوما عند العرب مشروعا لديهم فخوطبوا بما علموا وألزموا ما عرفوا وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم معهم قبل فرض الحج فوقف بعرفة ولم يغير من شرع إبراهيم ما غيروا حيث كانت قريش تقف بالمزدلفة ويقولون نحن أهل الحرم فلا نخرج منه ونحن الحمس
374

المسألة الثالثة
هذا يدل على أن ركن الحج القصد إلى البيت
وللحج ركنان
أحدهما الطواف بالبيت
والثاني الوقوف بعرفة لا خلاف في ذلك وكل ما وراءه نازل عنه مختلف فيه
فإن قيل فأين الإحرام وهو متفق عليه
قلنا هو النية التي تلزم كل عبادة وتتعين في كل طاعة وكل عمل خلافها لم يكن به اعتداد فهي شرط لا ركن
المسألة الرابعة
قال علماؤنا إذا توجه الخطاب على المكلفين بفرض هل يكفي فيه فعله مرة واحدة أو يحمل على التكرار
وقد بيناه في أصول الفقه دليلا ومذهبا
والمختار أنه يقتضي فعله مرة واحدة وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه يا رسول الله أحجنا هذا لعامنا أم للأبد فقال لا بل لأبد الأبد رواه جماعة منهم علي قال لما نزلت ولله على الناس حج البيت قالوا يا رسول الله أو في كل عام قال لا ولو قلت نعم لوجبت
وروى محمد بن زياد عن أبي هريرة خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله سبحانه كتب عليكم الحج فقال محصن الأسدي أفي كل عام يا رسول الله قال أما إني لو قلت نعم لوجبت ثم لو تركتم لضللتم اسكتوا عني ما سكت عنكم إنما
375

هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فأنزل الله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) *) [المائدة 11]
المسألة الخامسة
إذا ثبت أنه لا يتعين لامتثال الخطاب إلا فعلة واحدة من الفعل المأمور به فقد اختلف العلماء هل هي على الفور أم هي مسترسلة على الزمان إلى خوف الفوت
ذهب جمهور البغداديين إلى حملها على الفور ويضعف عندي
واضطربت الروايات عن مالك في مطلقات ذلك
والصحيح عندي من مذهبه أنه لا يحكم فيه بفور ولا تراخ كما تراه وهو الحق وقد بيناه في أصول الفقه
المسألة السادسة قوله تعالى (* (على الناس) *))
عام في جميعهم مسترسل على جميعهم من غير خلاف بين الأمة في هذه الآية وإن كان الناس قد اختلفوا في مطلق العمومات بيد أنهم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكرهم وأنثاهم خلا الصغير فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف فلا يقال فيه إن الآية مخصوصة فيه وكذا العبد لم يدخل فيها لأنه أخرجه عن مطلق العموم الأول قوله سبحانه في تمام الآية (* (من استطاع إليه سبيلا) *) والعبد غير مستطيع لأن السيد يمنعه بشغله بحقوقه عن هذه العبادة وقد قدم الله سبحانه حق السيد على حقه رفقا بالعباد ومصلحة لهم
ولا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة ولا نهرف بما لا نعرف ولا دليل عليه إلا الإجماع
376

توجيه وتعليم
تساهل بعض علمائنا فقال إنما لم يثبت الحج على العبد وإن أذن له السيد لأنه كان كافرا في الأصل ولم يكن حج الكافر معتدا به فلما ضرب عليه الرق ضربا مؤبدا لم يخاطب بالحج وهذا فاسد فاعلموه من ثلاثة أوجه
أحدها أن الكفار عندنا مخاطبون بفروع الشريعة ولا خلاف فيه في قول مالك وإن خفي ذلك على الأصحاب
الثاني أن الكفر قد ارتفع بالإسلام فوجب ارتفاع حكمه
الثالث أن سائر العبادات تلزمه من صلاة وصوم مع كونه رقيقا ولو فعلها في حال الكفر لم يعتد بها فوجب أن يكون الحج مثله فتبين أن المعتمد ما ذكرنا من تقدم حقوق السيد
المسألة السابعة
قال جماعة من فقهاء الأمصار منهم أبو حنيفة والشافعي وعبد العزيز بن أبي سلمة السبيل الزاد والراحلة ورفعوا في ذلك حديثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح إسناده وقد بيناه في مسائل الخلاف
وهو أيضا يبعد معنى فإنه لو قال الاستطالة الزاد الراحلة لكان أولى في النفس فإن السبيل في اللغة هي الطريق والاستطاعة ما يكسب سلوكها وهي صحة البدن ووجود القوت لمن يقدر على المشي ومن لم يقدر على المشي فالركوب زيادة على صحة البدن ووجود القوت
وقد روى ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك أنه سئل عن هذه الآية فقال الناس في ذلك على طاقتهم ويسرهم وجلدهم
قال أشهب أهو الزاد والراحلة قال لا والله وما ذلك إلا قدر طاقة الناس وقد يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على السير وآخر يقدر أن يمشي على رجليه ولا صفة في ذلك أبين مما أنزل الله وهذا بالغ في البيان منه
377

وقال علماؤنا لو صح حديث الخوزي الزاد والراحلة لحملناه على عموم الناس والغالب منهم في الأقطار البعيدة وخروج مطلق الكلام على غالب الأحوال كثير في الشريعة وفي كلام العرب وأشعارها
المسألة الثامنة
إذا وجدت الاستطاعة توجه فرض الحج بلا خلاف إلا أن تعرض له آفة والآفات أنواع
منها الغريم يمنعه من الخروج حتى يؤدي الدين ولا خلاف فيه
ومن كان له أبوان أو من كان لها من النساء زوج فاختلف العلماء فيهم واختلف قول مالك كاختلافهم
والصحيح في الزوج أنه يمنعها لا سيما إذا قلنا إن الحج لا يلزم على الفور وإن قلنا إنه على الفور فحق الزوج مقدم وأما الأبوان فإن كانا منعاه لأجل الشوق والوحشة فلا يلتفت إليه وإن كان خوف الضيعة وعدم العوض في التلطف فلا سبيل له إلى الحج وذلك مبين في مسائل الفقه
المسألة التاسعة
إن كان مريضا أو مغصوبا لم يتوجه عليه المسير إلى الحج بإجماع من الأمة فإن الحج إنما فرضه الله على المستطيع إجماعا والمريض والمغصوب لا استطاعة لهما فإن رووا أن الصحيح قد تضمن عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عبادة في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عنه وقال النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى
378

وقد قال بهذا الحديث جماعة من المتقدمين واختاره الشافعي من المتأخرين وأبى ذلك الحنفية والمالكية وهم فيه أعدل قضية فإن مقصود الحديث الحث على بر الوالدين والنظر في مصالحهم دينا ودنيا وجلب المنفعة إليهما جبلة وشرعا فإنه رأى من المرأة انفعالا بينا وطواعية ظاهرة ورغبة صادقة في بر أبيها وتأسفت أن تفوته بركة الحج ويكون عن ثواب هذه العبادة بمعزل وطاعت بأن تحج عنه فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم فيه
وكأن في هذا الحديث جواز حج الغير عن الغير لأنها عبادة بدنية مالية والبدن وإن كان لا يحتمل النيابة فإن المال يحتملها فروعي في هذه العبادة جهة المال وجازت فيه النيابة
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بجواز النيابة في غير هذا الموضع وضرب المثل بأنه لو كان على أبيها دين عبد لسعت في قضائه فدين الله أحق بالقضاء وإن كان لا يلزمها تخليصه من مأثم الدين وعار الاقتضاء فدين الله أحق بالقضاء وهذه الكلمة أقوى ما في الحديث فإنه جعله دينا ولكن لم يرد به هذا الشخص المخصوص فإنما أراد به دين الله إذا وجب فهو أحق بالقضاء والتطوع به أولى من الابتداء
والدليل على أن الحج في هذا الحديث ليس بفرض ما صرحت به المرأة في قولها إن فريضة الله على عبادة في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة وهذا تصريح بنفي الوجوب ومنع الفريضة ولا يجوز ما انتفى في أول الحديث قطعا أن يثبت في آخره ظنا يحققه أن دين الله أحق أن يقضى ليس على ظاهره بإجماع فإن دين العبد أولى بالقضاء وبه يبدأ إجماعا لفقر الآدمي واستغناء الله تعالى فيتعين الغرض الذي أشرنا إليه وهو تأكيد ما ثبت في النفس من البر حياة وموتا وقدرة
وعجزا والله أعلم
379

متوفى عنها زوجها لم تتربص فليس ذلك من الشرع فجرى الخبر على لفظه وثبت كلام الله سبحانه على صدقه كما تقدم في التربص بالقرء والله أعلم
المسألة الثالثة
التربص هو الانتظار ومتعلقه ثلاثة أشياء النكاح والطيب والتنظف والتصرف والخروج
أما النكاح فإذا وضعت المتوفى عنها زوجها ولو بعد وفاته بلحظة اختلف الناس فيها على ثلاثة أقوال
الأول أنها قد حلت
الثاني أنها لا تحل إلا بانقضاء الأشهر قاله ابن عباس
الثالث أنها لا تحل إلا بعد الطهر من النفاس قاله الحسن وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي
وقد كان قول ابن عباس ظاهرا لولا حديث سبيعة الأسلمية أنها وضعت بعد وفاة زوجها بليال فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم قد حللت فانكحي من شئت صحت رواية الأئمة له
والذي عندي أن هذا الحديث لو لم يكن لما صح رأي ابن عباس في آخر الأجلين لأن الحمل إذا وضع فقد سقط الأجل بقوله تعالى (* (أجلهن أن يضعن حملهن) *) (الطلاق 4) وسقط المعنى الموضوع لأجله الأجل وهو مخافة شغل الرحم فأي فائدة في الأشهر وإذا تمت الأشهر وبقي الحمل فليس يقول أحد إنها تحل وهذا يدلك على أن حديث سبيعة جلاء لكل غمة وعلا على كل رأي وهمة
وأما قول الأوزاعي فيرده قوله تعالى (* (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) *) ولم يشترط الطهارة
فإن قيل المراد بقوله تعالى (* (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) *)
المسألة العاشرة
إذا لم يكن للمكلف قوت يتزوده في الطريق لم يلزمه الحج إجماعا وإن وهب له أجنبي مالا يحج به لم يلزمه قبوله إجماعا ولو كان رجل وهب أباه مالا قال الشافعي يلزمه قبوله لأن ابن الرجل من كسبه ولا منة عليه في ذلك منه لأن الولد يجازي الوالد عن نعمه لا يبتدئه بعطية
قال مالك وأبو حنيفة لا يلزمه قبوله لأن هبة الولد لو كانت جزاء لقضي بها عليه قبل أن يتطوع بها ثم إن لم تكن فيه منة ففيه سقوط الحرمة وحق الأبوة لأنه نوع منه لأنه لا يقال قد جزاه وقد وفاه
المسألة الحادية عشرة
لا يسقط فرض الحج عن الأعمى لإمكان وصوله إلى البيت محمولا فيحصل له وصف الاستطاعة كما يحصل له فرض الجمعة بوجود قائد إليها ويلزم السعي لقضائها
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) *) [الآية 13]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
الحبل لفظ لغوي ينطلق على معان كثيرة أعظمها السبب الواصل بين شيئين
وهو هاهنا مما اختلف العلماء فيه فمنهم من قال هو عهد الله وقيل كتابه وقيل دينه وقد روى الأئمة في الصحيح أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له حديث رؤيا الظلة التي تنطف عسلا وسمنا وفيه قال ورأيت شيئا واصلا من السماء
380

إلى الأرض الحديث إلى أخره وعبر الصديق بحضرته عليه السلام فقال وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه فضرب الله تعالى على يدي ملك الرؤيا مثلا للحق الذي بعث به الأنبياء بالحبل الواصل بين السماء والأرض وهذا لأنهما جميعا ينيران بمشكاة واحدة
المسألة الثانية
إذا ثبت هذا فالأظهر أنه كتاب الله فإنه يتضمن عهده ودينه
المسألة الثالثة
التفرق المنهي عنه يحتمل ثلاثة أوجه
الأول التفرق في العقائد لقوله تعالى (* (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) *) [الشورى 13]
الثاني قوله عليه السلام لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ويعضده قوله تعالى (* (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم
فأصبحتم بنعمته إخوانا) *)
الثالث ترك التخطئة في الفروع والتبري فيها وليمض كل أحد على اجتهاده فإن الكل بحبل الله معتصم وبدليله عامل وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فمنهم من حضرت العصر فأخرها حتى بلغ بني قريظة أخذا بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال لم يرد هذا منا يعني وإنما أراد الاستعجال فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم
381

والحكمة في ذلك أن الاختلاف والتفرق المنهي عنه إنما هو المؤدي إلى الفتنة والتعصب وتشتيت الجماعة فأما الاختلاف في الفروع فهو من محاسن الشريعة قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد وروي أن له إن أصاب عشرة أجور
المسألة الرابعة
قال بعض علمائنا قوله (* (ولا تفرقوا) *) دليل على أنه لا يصلي المفترض خلف المتنفل لأن نيتهم قد تفرقت ولو كان هذا متعلقا لما جازت صلاة المتنفل خلف المفترض أن النية أيضا قد تفرقت وفي الاجماع على جواز ذلك دليل على أن منزع الآية ما قدمناه لا ما تعلق به هذا العالم
الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) *) [الآية 14]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (أمة) *))
كلمة ذكر لها علماء اللسان خمسة عشر معنى وقد رأيت من بلغها إلى أربعين منها أن الأمة بمعنى الجماعة ومنها أن الأمة الرجل الواحد الداعي إلى الحق
382

المسألة الثانية
في هذه الآية وفي التي بعدها وهي قوله (* (كنتم خير أمة أخرجت للناس) *) [آل عمران 11] دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة الدين بإقامة الحجة على المخالفين وقد يكون فرض عين إذا عرف المرء من نفسه صلاحية النظر والاستقلال بالجدال أو عرف ذلك منه
المسألة الثالثة في مطلق قوله تعالى (* (ولتكن منكم أمة) *))
دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض يقوم به المسلم وإن لم يكن عدلا خلافا للمبتدعة الذين يشترطون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العدالة
وقد بينا في كتب الأصول أن شروط الطاعات لا تثبت إلا بالأدلة وكل أحد عليه فرض في نفسه أن يطيع وعليه فرض في دينه أن ينبه غيره على ما يجهله من طاعة أو معصية وينهاه عما يكون عليه من ذنب وقد بيناه في الآية الأولى قبلها
المسألة الرابعة في ترتيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وفي هذا الحديث من غريب الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في البيان بالأخير في الفعل وهو تغيير المنكر باليد وإنما يبدأ باللسان والبيان فإن لم يكن فباليد
يعني أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه بنزعه وبجذبه منه فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه وذلك إنما هو إلى السلطان لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجا إلى الفتنة وآيلا إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن
383

يقوى المنكر مثل أن يرى عدوا يقتل عدوا فينزعه عنه ولا يستطيع ألا يدفعه ويتحقق أنه لو تركه قتله وهو قادر على نزعه ولا يسلمه بحال وليخرج السلاح
وقد بيناه في موضعه
ويعني بقوله وذلك أضعف الإيمان أنه ليس وراءه في التغيير درجة
المسألة الخامسة
في هذه الآية دليل على مسألة اختلف فيها العلماء وهي إذا رأى مسلم فحلا يصول على مسلم فإنه يلزمه أن يدفعه عنه وإن أدى إلى قتله ولا ضمان على قاتله حينئذ سواء كان القاتل له هو الذي صال عليه الفحل أو معينا له من الخلق وذلك أنه إذا دفعه عنه فقد قام بفرض يلزم جميع المسلمين فناب عنهم فيه ومن جملتهم مالك الفحل فكيف يكون نائبا عنه في قتل الصائل ويلزمه ضمانه
وقال أبو حنيفة يلزمه الضمان وقد بيناها في مسائل الخلاف
المسألة السادسة
في هذه الآية دليل على تعظيم هذه الأمة وكذلك في قوله سبحانه (* (كنتم خير أمة أخرجت للناس) *) [آل عمران 11] وإشارة لتقديمها على سائر الأمم
وفي الأثر ينمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) *) [الآية 16]
أورد العلماء فيه خمسة أقوال
الأول أنهم المنافقون قاله الحسن
الثاني أنهم المرتدون قاله مجاهد
384

الثالث أهل الكتاب قاله الزجاج
الرابع أنهم جميع الكفار أقروا بالتوحيد في صلب آدم ثم كفروا بعد ذلك قاله أبي بن كعب
الخامس رواه ابن القاسم عن مالك أنهم أهل الأهواء قال مالك وأي كلام أبين من هذا
وهذا الذي قاله ممكن في معنى الآية لكن لا يتعين واحد منها إلا بدليل
والصحيح أنه عام في الجميع وعلى هذا فإن المبتدعة وأهل الأهواء كفار وقد اختلف العلماء في تكفيرهم
والصحيح عندي ترتيبهم فأما القدرية فلا شك في كفرهم وأما من عداهم فنستقرئ فيهم الأدلة ونحكم بما تقتضيه وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول ففيهم نظر طويل وإذا حكمنا بكفرهم فقد قال مالك لا يصلى على موتاهم ولا تعاد مرضاهم قال سحنون أدبا لهم
قال بعض الناس وهذه إشارة من سحنون إلى أنه لا يكفرهم وليس كما زعم فإن الكافر من أهل الأهواء يجب قتله فإذا لم تستطع قتله وجب عليك هجرته فلا تسلم عليه ولا تعده في مرضه ولا تصل عليه إذا مات حتى تلجئه إلى اعتقاد الحق ويتأدب بذلك غيره من الخلق فكأن سحنون قال إذا لم تقدر على قتله فأدبه
وقد سئل مالك هل تزوج القدرية فقال قد قال الله تعالى (* (ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) *) [البقرة 221]
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) *) [الآية 113]
385

قال ابن وهب قال مالك يعني قائمة بالحق يريد قولا وفعلا فيعود الكلام إلى الآية المتقدمة (* (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) *)
وقد اتفق المفسرون أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب وعليه يدل ظاهر القرآن ومفتتح الكلام نفي المساواة بين من أسلم منهم وبين من بقي منهم على الكفر إلا أنه روي عن ابن مسعود أن معناه نفي المساواة بين أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم
وقد روي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه من أهل الكتاب
وقوله (* (ليسوا سواء) *) تمام كلام ثم ابتدأ الكلام بوصف المؤمنين بالإيمان والقرآن والصلاة وهذه الخصال هي من شعائر الإسلام لا سيما الصلاة وخاصة في الليل وقت الراحة
وقيل إنها الصلاة مطلقا
وقيل إنها صلاة المغرب والعشاء الآخرة
قال ابن مسعود خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة وقد أخر الصلاة فمنا المضطجع ومنا المصلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يصلي أحد من أهل الأرض هذه الصلاة غيركم
والصحيح أنه في الصلاة مطلقا وعن أبي موسى عنه عليه السلام ما من أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم وهذه في العتمة تأكيد للتخصيص وتبيين للتفضيل
386

الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) *) [الآية 118]
قد تقدم بيانها في قوله تعالى (* (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) *) [آل عمران 28]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
لا خلاف بين علمائنا أن المراد به النهي عن مصاحبة الكفار من أهل الكتاب حتى نهى عن التشبه بهم
قال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تستضيئوا بنار أهل الشرك ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا
فلم ندر ما قال حتى جاء الحسن فقال لا تستضيئوا لا تشاوروهم في شيء من أموركم ومعنى لا تنقشوا عربيا لا تنقشوا محمد رسول الله
قال الحسن وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) *) الآية
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن التشبه بالأعاجم
المسألة الثانية
حسنة وهي أن شهادة العدو على عدوه لا تجوز لقوله تعالى (* (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) *
387

) وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز
وقال أبو حنيفة تجوز شهادة العدو على عدوه والاعتراضات والانفصالات قد مهدناها في مسائل الخلاف
الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى (* (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) *) [الآية 125]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
قيل نزلت يوم أحد وقيل يوم بدر والصحيح يوم بدر وعليه يدل ظاهر الآية
المسألة الثانية
قال علماؤنا أول أمر الصوف يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم تسوموا فإن الملائكة قد تسومت وكان على الزبير ذلك اليوم عمامة صفراء فنزلت الملائكة ذلك اليوم على صفته نزلوا عليهم عمائم صفر وقد طرحوها بين أكتافهم
وقال ابن عباس نزلت الملائكة مسومين بالصوف فأمر محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه فسوموا أنفسهم وخيلهم بالصوف
وقال مجاهد جاءت الملائكة مجزوزة أذناب خيلهم ونواصيها
المسألة الثانية
الاشتهار بالعلامة في الحرب سنة ماضية وهي هيئة باهية قصد بها الهيبة على العدو والإغلاظ على الكفار والتحريض للمؤمنين والأعمال بالنيات وهذا من باب الجليات لا يفتقر إلى برهان
388

المسألة الرابعة
هذا يدل على لباس الثوب الأصفر وحسنه ولولا ذلك لما نزلت الملائكة به
وقد قال ابن عباس من لبس نعلا أصفر قضيت حاجته ولم يصح عندي فأنظر فيه غير أن المفسرين قالوا إن الله قضى حاجة بني إسرائيل على بقرة صفراء
المسألة الخامسة
أما قول مجاهد في جز النواصي والأذناب فضعيف لم يصح كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر الصحيح الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم وهذا إن صح تعضده المشاهدة فيها والله أعلم
الآية الثانية والعشرون
قوله تعالى (* (وشاورهم في الأمر) *) [الآية 159]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
إن المشاورة هي الاجتماع على الأمر ليستشير كل واحد منهم صاحبه ويستخرج ما عنده من قولهم شرت الدابة أشورها إذا رضتها لتستخرج أخلافها
المسألة الثانية فيماذا تقع الإشارة
قال علماؤنا المراد به الاستشارة في الحرب ولا شك في ذلك لأن الأحكام لم يكن لهم فيها رأي بقول وإنما هي بوحي مطلق من الله عز وجل أو باجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم على من يجوز له الاجتهاد
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الإفك حين خطب أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا يعني بقوله أبنوهم عيروهم
389

ولم يكن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا لهم عن الواجب وإنما أراد أن يستخرج ما عندهم من التعصب لهم وإسلامهم إلى الحق الواجب عليهم فقال له رجل من الأنصار من الأوس يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فيه بأمرك
فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحمية فقال لذلك الأوسي كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله
فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم الأوسي المتكلم أولا فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك رجل منافق تجادل عن المنافقين فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا
وكانت هذه فائدة لمن بعده ليستن بالنبي صلى الله عليه وسلم في المشاورة
وقد روى أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال لما كان يوم بدر جيء بالأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هؤلاء الأسارى فذكر في الحديث قصة طويلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفلتني أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق قال عبد الله بن مسعود فقلت يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني قد
سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فما رأيتني في يوم أخوف أن يقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سهيل بن بيضاء قال ونزل القرآن بقول عمر ما كان لنبي أن يكون له أسرى) [الأنفال 67]
390

قال القاضي وهذا حديث صحيح وهو على النحو الأول أراد أن يختبر ما عندهم في قرابتهم وحال أنفسهم فيما يفعل بهم
المسألة الثالثة
المراد بقوله (* (وشاورهم في الأمر) *) جميع أصحابه ورأيت بعضهم قال المراد به أبو بكر وعمر
ولعمر الله إنهم أهل لذلك وأحق به ولكن لا يقصر ذلك عليهم فقصره عليهم دعوى
وقد ثبت في السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه أشيروا علي في المنزل فقال الحباب بن المنذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره أم هو الرأي والحرب والمكيدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو الرأي والحرب والمكيدة قال فإن هذا ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم إلى آخره
الآية الثالثة والعشرون
قوله تعالى (* (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) *) [الآية 161]
فيها ثماني مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفيها ثلاثة أقوال
الأول روي أن قوما من المنافقين اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من المغانم وروي أن قطيفة حمراء فقدت فقال قوم لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها وأكثروا في ذلك فأنزل الله سبحانه الآية
391

الثاني أن قوما غلوا من المغنم أو هموا فأنزل الله الآية فيما هموا ونهاهم عن ذلك رواه الترمذي
الثالث نهى الله أن يكتم شيئا من الوحي والصحيح هو القول الثاني
المسألة الثانية في حقيقة الغلول
اعلموا وفقكم الله أن غل ينصرف في اللغة على ثلاثة معان
الأول خيانة مطلقة
الثاني في الحقد يقال في الأول تغل بضم الغين وفي الثاني يغل بكسر الغين
الثالث أنه خيانة الغنيمة وسمي بذلك لوجهين أحدهما لأنه جرى على خفاء
الثاني قال ابن قتيبة كان أصله من خان فيه إذا أدخله في متاعه فستره فيه
ومنه الحديث لا إغلال ولا إسلال وفيه تفسيران
أحدهما أن الإغلال خيانة المغنم والإسلال السرقة مطلقة
الثاني أن الإغلال والإسلال السرقة
والصحيح عندي أن الإغلال خيانة المغنم والإسلال سرقة الخطف من حيث لا تشعر كما يفعل سودان مكة اليوم
المسألة الثالثة في القراءات
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم يغل بضم الغين وفتحها الباقون وهما صحيحتان قراءة ومعنى
المسألة الرابعة في معنى الآية
فأما من قرأها بضم الغين فمعناه ما كان لنبي أن يخون في مغنم فإنه ليس بمتهم ولا في وحي فإنه ليس بظنين ولا ضنين أي ليس بمتهم عليه ولا بخيل فيه فإنه إذا
392

كان أمينا حريصا على المؤمنين فكيف يخون وهو يأخذ ما أحب من رأس الغنيمة ويكون له فيه سهم الصفي إذا كان له أن يصطفي من رأس الغنيمة ما أراد ثم يأخذ الخمس وتكون القسمة بعد ذلك فما كان ليفعل ذلك كرامة أخلاق وطهارة أعراق فكيف مع مرتبة النبوة وعصمة الرسالة
ومن قرأ يغل بنصب الغين فله أربعة معان
الأول يوجد غالا كما تقول أحمدت فلانا
الثاني ما كان لنبي أن يخونه أحد وقد روي أن هذا تلي على ابن عباس وفسر بهذا علي وابن مسعود فقال نعم ويقتل
وهذا لا يصح عندنا فإن باعه في العلم والتفسير لا يبوعه أحد من الخلق فإنه ليس المعنى بقوله وما كان لنبي أن يغل بفتح الغين أن يخونه أحد وجودا إنما المراد به أن يخونه أحد شرعا نعم يكون ذلك فيهم فجورا وتعديا وخص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر تعظيما لقدره وإن كان غيره أيضا لا يجوز أن يخون ولكن هو أعظم حرمة
الثالث ما كان لنبي أن يتهم فإنه مبرأ من ذلك وهذا يدل على بطلان قول من قال إن شيطانا لبس على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي وجاءه في صورة ملك وهذا باطل قطعا
وقد بيناه في المشكلين وخصصناه برسالة سميناها بكتاب تنبيه الغبي على مقدار النبي وسنذكرها في سورة الحج إن شاء الله تعالى
الرابع ما كان لنبي أن يغل بفتح الغين ولا يعلم وإنما يتصور ذلك في غير النبي صلى الله عليه وسلم أما النبي صلى الله عليه وسلم فإذا خانه أحد أطلعه الله سبحانه عليه
وهذا أقوى وجوه هذه الآية فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثقله رجل يقال له كركرة فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوه قد غل عباءة
393

وقد روى أبو داود وغيره في الموطأ أن رجلا أصيب يوم خيبر فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه القوم فقال صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا
وفي رواية فقال إن صاحبكم قد غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود ما يساوي درهمين
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) *))
روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر الغلول وعظمه وقال لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء وعلى رقبته فرس لها حمحمة يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت الحديث
المسألة السادسة
إذا غل الرجل في المغنم فوجدناه أخذناه منه وأدبناه خلافا للأوزاعي وأحمد وإسحاق من الفقهاء وللحسين من التابعين حيث قالوا يحرق رحله إلا الحيوان والسلاح قال الأوزاعي إلا السرج والإكاف لحديث أبي داود عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه رواه أبو داود عن عبد العزيز بن محمد بن أبي زائدة عن سالم عن أبيه عن عمر ورواه
394

ابن الجارود والدارقطني نحوه قال ابن الجارود عن الذهلي عن علي بن بحر القطان عن الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فذكره وذكر البخاري حديث كركرة المتقدم عن عبد الله بن عمر قال ولم يذكر عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرق متاعه
وهذا أصح ويحتمل أن يكون النبي إنما لم يحرق رحل كركرة لأن كركرة قد فات بالموت والتحريق إنما هو زجر وردع ولا يردع من مات
والجواب أنه يردع به من بقي ويحتمل أنه كان ثم ترك ويعضده أنه لا عقوبة في الأموال ولكنه يؤدب بجنايته لخيانته بالإجماع
المسألة السابعة
قال علماؤنا تحريم الغلول دليل على اشتراك الغانمين في الغنيمة فلا يحل لأحد أن يستأثر بشيء منها دون الآخر لثلاثة أوجه
أحدها كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم الصفي
الثاني أن الولي يجوز له أن يأخذ من المغنم ما شاء وهذا ركن عظيم وأمر مشكل بيانه في سورة الأنفال إن شاء الله
الثالث في الصحيح واللفظ لمسلم عن عبد الله بن مغفل قال أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت والله لا أعطي اليوم أحد شيئا من هذا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم
قال علماؤنا تبسم النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أنه رأى حقا من أخذ الجراب وحقا من الاستبداد به دون الناس ولو كان ذلك لا يجوز لم يتبسم منه ولا أقره عليه لأنه لا يقر على الباطل إجماعا كما قررناه في الأصول
395

المسألة الثامنة
إذا ثبت الاشتراك في الغنيمة فمن غصب منها شيئا أدب فإن وطء جارية أو سرق نصابا فاختلف العلماء في إقامة الحد عليه فرأى جماعة أنه لا قطع عليه منهم عبد الملك من أصحابنا لأن له فيه حقا وكان سهمه كالمشترك المعين
قلنا الفرق بين المطلق والمعين ظاهر والدليل عليه بيت المال وقد منع بيت المال وقال لا يقطع من سرق منه وقد قال يقطع وفرق بينهما فقال إن حظه في المغنم يورث عنه وحظه في بيت المال لا يورث عنه وهي مشكلة بيناها في الإنصاف
الآية الرابعة والعشرون
قوله تعالى (* (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير) *) [الآية 18]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
اختلف الناس في المراد بهذه الآية على قولين
أحدهما أنهم مانعو الزكاة
الثاني أنهم أهل الكتاب بخلوا بما عندهم من خبر النبي صلى الله عليه وسلم وصفته يروى عن ابن عباس
المسألة الثانية
قال علماؤنا البخل منع الواجب والشح منع المتسحب
والدليل عليه الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى (* (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) *) [الحشر 9] والإيثار مستحب وسمي منعه شحا
396

وأما السنة فثبت برواية الأئمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد فإذا أراد المتصدق أن يتصدق سبغت ووفرت حتى تجن بنانه وتعفي أثره وإذا أراد البخيل أن يتصدق تقلصت ولزمت كل حلقة مكانها فهو يوسع ولا توسع وهذا من الأمثال البديعة بيانه في شرح الحديث
المسألة الثالثة في المختار الصحيح
أن هذه الآية دليل على وجوب الزكاة لأن هذا وعيد لمانعها والوعيد المقترن بالفعل المأمور به والمنهي عنه على حسب اقتضاء الوجوب أو التحريم وهذا الوعيد بالعقاب مفسر في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم روى الأئمة عنه أنه قال ما من مال لا يؤدى زكاته إلا جاء يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يأخذه بشدقيه يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية (* (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) *) إلى آخرها
وهذا نص لا يعدل عنه إلى غيره
أما أن القول الثاني يدخل في الآية بطريق الأولى لأنه إذا منع واجبا مما أخبر به صاحب الشريعة فاستحق العقاب فمنعه وقطعه لموجب الشريعة ومبلغها وشارحها أولى بوجوب العقاب وتضعيفه
الآية الخامسة والعشرون
قوله تعالى (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) [الآية 191]
فيها ثلاث مسائل
397

المسألة الأولى
فيها أربعة أقوال
الأول الذين يذكرون الله في الصلاة المشتملة على قيام وقعود ومضطجعين على جنوبهم
الثاني أنها في المريض الذي تختلف أحواله بحسب استطاعته قاله ابن مسعود
الثالث أنه الذكر المطلق
الرابع قاله ابن فورك المعنى قياما بحق الذكر وقعودا عن الدعوى فيه
المسألة الثانية في الأحاديث المناسبة لهذا المعنى وهي خمسة
الأول روى الأئمة عن ابن عباس قال بت عند خالتي ميمونة وذكر الحديث إلى قوله فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يمسح النوم عن وجهه ويقرأ (* (إن في خلق السماوات والأرض) *) [آل عمران 19] العشر الآيات
الثاني روى البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عمران بن حصين أنه كان به باسور فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب
الثالث روى الأئمة منهم مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه
الرابع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة
الخامس روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسن وحمل اللحم اتخذ عمودا في مصلاه يعتمد عليه
398

المسألة الثالثة
الصحيح أن الآية عامة في كل ذكر وقد روي عن مالك من قدر صلى قائما فإن لم يقدر صلى معتمدا على عصا فإن لم يقدر صلى جالسا فإن لم يقدر صلى نائما على جنبه الأيمن فإن لم يقدر صلى على جنبه الأيسر وروي على ظهره
والصحيح الجنب واختلف قول مالك فيه وما وافق الحديث فيه أولى وهو مبين في المسائل
الآية السادسة والعشرون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) *) [الآية 2]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في شرح ألفاظها
الصبر عبارة عن حبس النفس عن شهواتها والمصابرة إدامة مخالفتها في ذلك فهي تدعو وهو ينزع والمرابطة العقد على الشيء حتى لا يبخل فيعود إلى ما كان صبر عنه
المسألة الثانية في الأقوال
فيها ثلاثة أقوال
الأول اصبروا على دينكم وصابروا وعدي لكم ورابطوا أعداءكم
الثاني اصبروا على الجهاد وصابروا العدو ورابطوا الخيل
الثالث مثله إلا قوله رابطوا فإنه أراد بذلك رابطوا الصلوات
المسألة الثالثة في حقيقة ذلك
وهو أن الصبر حبس النفس عن مكروهها المختص بها والمصابرة حمل مكروه يكون بها وبغيرها الأول كالمرض والثاني كالجهاد
399

والرباط حمل النفس على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة ومن أعظمه ارتباط الخيل في سبيل الله وارتباط النفس على الصلوات على ما جاء في الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات فهي له أجر وذكر الحديث
وقال عليه السلام ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ثلاثا
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أولاه وأفضله في نوعي الطاعة المتعدي بالمنفعة إلى الغير وهو الأفضل وإلزام المختص بالفاعل وهو دونه وبعد ذلك تتفاضل العقائد والأعمال بحسب متعلقاتها وليس ذلك من الأحكام فنفيض منه
400

سورة النساء فيها إحدى وستون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) *) [الآية 1]
المعنى اتقوا الله أن تعصوه واتقوا الأرحام أن تقطعوها
ومن قرأ والأرحام فقد اكدها حتى قرنها بنفسه
وقد اتفقت الملة أن صلة ذوي الأرحام واجبة وأن قطيعتها محرمة وثبت أن أسماء بنت أبي بكر قال إن أمي قدمت علي راغبة وهي مشركة أفأصلها قال نعم صلي أمك
فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الرحم الكافرة فانتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه إلى أن يقولوا إن ذوي الأرحام يتوارثون ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم وتأكيدا للبعضية وعضد ذلك بما رواه أبو هريرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من ملك ذا رحم محرم فهو حر
401

قال علماؤنا وما بينهم من تعصبة وما يجب للرحم عليهم من صلة معلوم عقلا مؤكد شرعا لكن قضاء الميراث قد أحكمته السنة والشريعة وبينت أعيان الوارثين ولو كان لهم في الميراث حظ لفصل لهم أما الحكم بالعتق فقد نقضوه فإنهم لم يعلقوه بالرحم المطلقة حسبما قضى ظاهر القرآن وإنما أناطوه برحم المحرمية وذلك خروج عن ظاهر القرآن وتعلق بإشارة الحديث
وقد تكلمنا على ذلك في مسائل الخلاف بما نكتته أنه عموم خصصناه في الآباء والأولاد والإخوة على أحد القولين بدليل المعنى المقرر هنالك
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) *) [الآية 2]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وأتوا) *))
معناه وأعطوا أي مكنوهم منها واجعلوها في أيديهم وذلك لوجهين
أحدهما إجراء الطعام والكسوة إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي والاستبداد
الثاني رفع اليد عنها بالكلية وذلك عند الابتلاء والإرشاد
المسألة الثانية قوله (* (اليتامى) *))
وهو عند العرب اسم لكل من لا أب له من الآدميين حتى يبلغ الحلم فإذا بلغة خرج عن هذا الاسم وصار في جملة الرجال
وحقيقة اليتم الانفراد فإن رشد عند البلوغ واستقل بنفسه في النظر لها والمعرفة بمصالحها والنظر بوجود الأخذ والإعطاء منها زال عنه اسم اليتم ومعناه من الحجر وإن بلغ الحلم وهو مستمر في غرارته وسفهه متماد على جهالته زال عنه اسم اليتم حقيقة وبقي عليه حكم الحجر وتمادى عليه الاسم مجازا لبقاء الحكم عليه
402

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) *))
كانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى فيأخذون أموال اليتامى ويبدلونها بأموالهم ويقولون اسم باسم ورأس برأس مثل أن يكون لليتيم مائة شاة جياد فيبدلونها بمائة شاة هزلى لهم ويقولون مائة بمائة فنهاهم الله عنها
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) *))
قال علماؤنا معنى تأكلوا تجمعوا وتضموا أموالهم إلى أموالكم ولأجل ذلك قال بعض الناس معناه مع أموالكم
والمعنى الذي يسلم معه اللفظ ما قلنا نهوا أن يعتقدوا أن أموال اليتامى كأموالهم ويتسلطون عليها بالأكل والانتفاع
المسألة الخامسة
روي أن هذه الآية لما نزلت اعتزل كل ولي يتيمه وأزال ملكه عن ملكه حتى آلت الحال أن يصنع لليتيم معاشه فيأكله فإن بقي له شيء فسد ولم يقربه أحد فعاد ذلك بالضرر عليهم فأرخص الله سبحانه في المخالطة قصدا للإصلاح ونزلت هذه (* (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم) *) [البقرة 22]
المسألة السادسة
إن كان المعنى بالآية الإنفاق فذلك يكون ما دامت الولاية ويكون اسم اليتم حقيقة كما قدمناه وإن كان الإيتاء هو التمكين وإسلام المال إليه فذلك عند الرشد ويكون تسميته يتيما مجازا المعنى الذي كان يتيما
وقال أبو حنيفة إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ماله على أي حال كان
وهذا باطل فإن الآية المطلقة مردودة إلى المقيدة عندنا
والمعنى الجامع بينهما أن العلة التي لأجلها منع اليتيم من ماله هي خوف التلف عليه بغرارته وسفهه فما دامت العلة مستمرة لا يرتفع الحكم وإذا زالت العلة زال الحكم
403

وهذا هو المعنى بقوله سبحانه (* (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) *) [النساء 6]
وقد بينا وجوب حمل المطلق على المقيد وتحقيقه في أصول الفقه والمسائل وهبكم أنا لا نحمل المطلق على المقيد فالحكم بخمس وعشرين سنة لا وجه له لا سيما وأبو حنيفة يرى المقدرات لا تثبت قياسا وإنما تؤخذ من جهة النص وليس في هذه المسألة نص ولا قول من جميع وجوهه ولا يشهد له المعنى
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) *) [الآية 3]
فيها اثنتا عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
ثبت في الصحيح أن عروة سأل عائشة عن هذه الآية فقالت هي اليتيمة تكون في حجر الرجل تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ويريد أن يتزوجها ولا يقسط لها في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا عن أن ينكحوهن حتى يقسطوا لهن ويعطوهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن
قال عروة قالت عائشة وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية فأنزل الله تبارك وتعالى (* (ويستفتونك في النساء) *) [النساء 127]
قالت عائشة رضي الله عنها وقول الله سبحانه في آية أخرى (* (وترغبون أن تنكحوهن) *) [النساء 127] هي رغبة أحدهم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلا بالقسط
404

من أجل رغبتهم عنهن أن كن قليلات المال والجمال وهذا نص كتابي البخاري والترمذي وفي ذلك من الحشو روايات لا فائدة في ذكرها هاهنا يرجع معناها إلى قول عائشة رضي الله عنها
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وإن خفتم) *))
قال جماعة من المفسرين معناه أيقنتم وعلمتم والخوف وإن كان في اللغة بمعنى الظن الذي يترجح وجوده على عدمه فإنه قد يأتي بمعنى اليقين والعلم
والصحيح عندي أنه على بابه من الظن لا من اليقين التقدير من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة فليعدل عنها
المسألة الثالثة دليل الخطاب
وإن اختلف العلماء في القول به فإن دليل خطاب هذه الآية ساقط بالإجماع فإن كل من علم أنه يقسط لليتيمة جاز له أن يتزوج سواها كما يجوز ذلك له إذا خاف ألا يقسط
المسألة الرابعة
تعلق أبو حنيفة بقوله (* (في اليتامى) *) في تجويز نكاح اليتيمة قبل البلوغ
وقال مالك والشافعي لا يجوز ذلك حتى تبلغ وتستأمر ويصح إذنها
وفي بعض روايتنا إذا افتقرت أو عدمت الصيانة جاز إنكاحها قبل البلوغ
والمختار لأبي حنيفة أنها إنما تكون يتيمة قبل البلوغ وبعد البلوغ هي امرأة مطلقة لا يتيمة
قلنا المراد به يتيمة بالغة بدليل قوله (* (ويستفتونك في النساء) *) وهو اسم إنما ينطلق على الكبار وكذلك قال (* (في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن) *) [النساء 127] فراعى لفظ النساء ويحمل اليتم على الاستصحاب للاسم
405

فإن قيل لو أراد البالغة لما نهى عن حطها عن صداق مثلها لأنها تختار ذلك فيجوز إجماعا
قلنا إنما هو محمول على وجهين
أحدهما أن تكون ذات وصي
والثاني أن يكون محمولا على استظهار الولي عليها بالرجولية والولاية فيستضعفها لأجل ذلك ويتزوجها بما شاء ولا يمكنها خلافه فنهوا عن ذلك إلا بالحق الوافر
وقد وفرنا الكلام في هذه المسألة في التخليص وروينا في ذلك حديث الموطأ الثيب أحق بنفسها من وليها
وقد روي عن مالك رضي الله عنه واليتيمة تستأمر في نفسها ولا إذن لمن لم يبلغ
وروى الدارقطني وغيره وقال زوج قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون فجاء المغيرة إلى أمها فرغبها في المال فرغبت فقال قدامة أنا عمها ووصي أبيها زوجتها ممن أعرف فضله فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنها يتيمة لا تنكح إلا بإذنها
قال أصحاب أبي حنيفة تحمل هذه الألفاظ على البالغة بدليل قوله إلا بإذنها وليس للصغيرة إذن
وقد أطنبنا في الجواب في مسائل الخلاف أقواه أنه لو كان كما قالوا لم يكن لذكر اليتم معنى لأن البالغة لا يزوجها أحد إلا بإذنها
406

المسألة الخامسة
قال علماؤنا في هذه الآية دليل على أن مهر المثل واجب في النكاح لا يسقط إلا بإسقاط الزوجة أو من يملك ذلك منها من أب فأما الوصي فمن دونه فلا يزوجها إلا بمهر مثلها وسنتها
وسئل مالك رضي الله عنه عن رجل زوج ابنته غنية من ابن أخ له فقير فاعترضت أمها فقال إني لأرى لها في ذلك متكلما فسوغ لها في ذلك الكلام حتى يظهر هو في نظره ما يسقط اعتراض الأم عليه
وروي ما أرى لها في ذلك متكلما بزيادة الألف على النفي والأول أصح
المسألة السادسة
قال علماؤنا إذا بلغت اليتيمة وأقسط الولي في الصداق جاز له أن يتزوجها ويكون هو الناكح والمنكح وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي لا يجوز له أن يتولى طرفي العقد بنفسه فيكون ناكحا منكحا حتى يقدم الولي من ينكحها
ومال الشافعي إلى أن تعديد الناكح والمنكح والولي تعبد فإذا اتحد اثنان منهم سقط واحد من المذكورين في الحديث حين قال لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل الحديث
407

الجواب إنا لا نقول إن للتعبد مدخلا في هذا وإنما أعلم الله عز وجل الخلق ارتباط العقد بالولي فأما التعدد والتعبد فلا مدخل له ولا دليل عليه ولا نظر له وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف
المسألة السابعة قوله تعالى (* (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) *))
اختلف الناس فيه فمنهم من رده إلى العقد ومنهم من رده إلى المعقود عليه والصحيح رجوعه إلى المعقود عليه
التقدير انكحوا من حل لكم من النساء وهذا يدفع قول من قال إنه يرجع إلى العقد ويكون التقدير انكحوا نكاحا طيبا
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (مثنى وثلاث ورباع) *))
قد توهم قوم من الجهال أن هذه الآية تبيح للرجل تسع نسوة ولم يعلموا أن مثنى عند العرب عبارة عن اثنين مرتين وثلاث عبارة عن ثلاث مرتين ورباع عبارة عن أربع مرتين فيخرج من ظاهره على مقتضى اللغة إباحة ثماني عشرة امرأة لأن مجموع اثنين وثلاثة وأربعة تسعة وعضدوا جهالتهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان تحته تسع نسوة وقد كان تحت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من تسع وإنما مات عن تسع وله في النكاح وفي غيره خصائص ليست لأحد بيانها في سورة الأحزاب
ولو قال ربنا تبارك وتعالى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين وثلاثا وأربعا لما خرج من ذلك جواز نكاح التسع لأن مقصود الكلام ونظام المعنى فيه فلكم نكاح أربع فإن لم تعدلوا فثلاثة فإن لم تعدلوا فاثنتين فإن لم تعدلوا فواحدة فنقل العاجز عن هذه الرتب إلى منتهى قدرته وهي الواحدة من ابتداء الحل وهي الأربع ولو كان المراد تسع نسوة لكان تقدير الكلام فانكحوا تسع نسوة فإن لم تعدلوا
408

فواحدة وهذا من ركيك البيان الذي لا يليق بالقرآن لا سيما وقد ثبت من رواية أبي داود والدارقطني وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان الثقفي حين أسلم وتحته عشر نسوة اختر منهن أربعا وفارق سائرهن
المسألة التاسعة
من البين على من رزقه الله تعالى فهما في كتاب الله أن العبد لا مدخل له في هذه الآية في نكاح أربع لأنها خطاب لمن ولى وملك وتولى وتوصى وليس للعبد شيء من ذلك لأن هذه صفات الأحرار المالكين الذين يلون الأيتام تحت نظرهم ينكح إذا رأى ويتوقف إذا أراد ثم قال الشافعي لا ينكح إلا اثنتين وبه قال مالك في إحدى روايتيه وفي مشهور قوليه إنه يتزوج أربعا من دليل آخر وذلك مبين في مسائل الخلاف
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (فإن خفتم ألا تعدلوا) *))
قال علماؤنا معناه في القسم بين الزوجات والتسوية في حقوق النكاح وهو فرض وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتمده ويقدر عليه ويقول إذا فعل الظاهر من ذلك في الأفعال ووجد قلبه الكريم السليم يميل إلى عائشة اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني قلبه لأن الله سبحانه وتعالى لم يكلف أحدا صرف قلبه عن ذلك لما فيه من المشقة وربما فات القدرة وأخذ الخلق باعتداد الظاهر لتيسره على العاقل فإذا قدر الرجل من ماله ومن بنيته على نكاح أربع فليفعل وإذا لم يحتمل ماله ولا بنيته في الباءة ذلك فليقتصر على ما يقدر عليه ومعلوم أن كل من كانت عنده واحدة أنه إن نالها فحسن وإن قعد عنها هان ذلك عليها بخلاف أن تكون
409

عنده أخرى فإنه إذا أمسك عنها اعتقدت أنه يتوفر للأخرى فيقع النزاع وتذهب الألفة
المسألة الحادية عشرة قوله (* (أو ما ملكت أيمانكم) *))
قال علماؤنا هذا دليل على أن ملك اليمين لا حق للوطء فيه ولا للقسم لأن المعنى فإن خفتم ألا تعدلوا في القسم فواحدة أو ما ملكت أيمانكم فجعل ملك اليمين كله بمنزلة الواحدة فانتفى بذلك أن يكون لملكه حق في الوطء أو في القسم وحق ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكية والرفق بالرقيق
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (ذلك أدنى ألا تعولوا) *))
اختلف الناس في تأويله على ثلاثة أقوال
الأول ألا يكثر عيالكم قاله الشافعي
الثاني ألا تضلوا قاله مجاهد
الثالث ألا تميلوا قاله ابن عباس والناس
وقد تكلمنا عليه في رسالة ملجئة المتفقهين بشيء لم نر أن نختصره هاهنا
قلنا أعجب أصحاب الشافعي بكلامه هذا وقالوا هو حجة لمنزلة الشافعي في اللغة وشهرته في العربية والاعتراف له بالفصاحة حتى لقد قال الجويني هو أفصح من نطق بالضاد مع غوصه على المعاني ومعرفته بالأصول واعتقدوا أن معنى الآية فانكحوا واحدة إن خفتم أن يكثر عيالكم فذلك أقرب إلى أن تنتفي عنكم كثرة العيال
قال الشافعي وهذا يدل على أن نفقة المرأة على الزوج وقال أصحابه لو كان المراد بالعول هاهنا الميل لم تكن فيه فائدة لأن الميل لا يختلف بكثرة عدد النساء وقلتهن وإنما يختلف بالقيام بحقوق النساء فإنهن إذا كثرن تكاثرت الحقوق
قال ابن العربي كل ما قال الشافعي أو قيل عنه أو وصف به فهو كله جزء من
410

مالك ونغبة من بحره ومالك أوعى سمعا وأثقب فهما وأفصح لسانا وأبرع بيانا وأبدع وصفا ويدلك على ذلك مقابلة قول بقول في كل مسألة وفصل
والذي يكشف لك ذلك في هذه المسألة البحث عن معاني قولك عال لغة حتى إذا عرفته ركبت عليه معنى الآية وحكمت بما يصح به لفظا ومعنى
وقد قال علماؤنا فيه سبعة معان
الأول الميل قال يعقوب عال الرجل إذا مال قال الله تعالى (* (ذلك أدنى ألا تعولوا) *)
وفي العين العول الميل في الحكم إلى الجور وعال السهم عن الهدف مال عنه وقال ابن عمر إنه لعائل الكيل والوزن وينشد لأبي طالب
(بميزان قسط لا يغل شعيرة
* له شاهد من نفسه غير عائل)
الثاني عال زاد
الثالث عال جار في الحكم قالت الخنساء
(وليس بأولى ولكنه
* ويكفي العشيرة ما عالها)
الرابع عال افتقر قال الله تعالى (* (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) *) [التوبة 28]
الخامس عال أثقل قاله ابن دريد وربما كان ذلك معنى بيت الخنساء وكان به أقعد
السادس قام بمؤونة العائل ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ابدأ بمن تعول
411

السابع عال غلب ومنه عيل صبره أي غلب
هذه معانيه السبعة ليس لها ثامن ويقال أعال الرجل كثر عياله وبناء عال يتعدى ويلزم ويدخل بعضه على بعض وقد بينا تفصيل ذلك في ملجئة المتفقهين كما قدمنا في مسألة
مثنى وثلاث ورباع مفصلا بجميع وجوهه
فإذا ثبت هذا فقد شهد لك اللفظ والمعنى بما قاله مالك أما اللفظ فلأن قوله تعالى (* (تعولوا) *) فعل ثلاثي يستعمل في الميل الذي ترجع إليه معاني عول كلها والفعل في كثرة العيال رباعي لا مدخل له في الآية فقد ذهبت الفصاحة ولم تنفع الضاد المنطوق بها على الاختصاص
وأما المعنى فلأن الله تعالى قال ذلك أدنى أقرب إلى أن ينتفي العول يعني الميل فإنه إذا كانت واحدة عدم الميل وإذا كانت ثلاثا فالميل أقل وهكذا في اثنتين فأرشد الله الخلق إذا خافوا عدم القسط والعدل بالوقوع في الميل مع اليتامى أن يأخذوا من الأجانب أربعا إلى واحدة فذلك أقرب إلى أن يقل الميل في اليتامى وفي الأعداد المأذون فيها أو ينتفي وذلك هو المراد فأما كثرة العيال فلا يصح أن يقال ذلك أقرب إلى ألا يكثر عيالكم
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *) [الآية 4]
412

فيها أربع مسائل
المسألة الأولى من المخاطب بالإيتاء
وقد اختلف الناس في ذلك على قولين
أحدهما أن المراد بذلك الأزواج
الثاني أن المراد به الأولياء قاله أبو صالح
واتفق الناس على الأول وهو الصحيح لأن الضمائر واحدة إذ هي معطوفة بعضها على بعض في نسق واحد وهي فيما تقدم بجملته الأزواج فهم المراد هاهنا لأنه تعالى قال (* (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا وآتوا النساء صدقاتهن) *) [النساء 3]
المسألة الثانية قوله تعالى (* (نحلة) *))
وهي في اللغة عبارة عن العطية الخالية عن العوض واختلف في المراد بها هاهنا على ثلاثة أقوال
الأول معناه طيبوا نفسا بالصداق كما تطيبون بسائر النحل والهبات
الثاني معناه نحلة من الله تعالى للنساء فإن الأولياء كانوا يأخذونها في الجاهلية فانتزعها الله سبحانه منهم ونحلها النساء
الثالث أن معناه عطية من الله فإن الناس كانوا يتناكحون في الجاهلية بالشغار ويخلون النكاح من الصداق ففرضه الله تعالى للنساء ونحله إياهن
413

المسألة الثالثة
قال أصحاب الشافعي النكاح عقد معاوضة انعقد بين الزوجين فكل واحد منهما بدل عن صاحبه ومنفعة كل واحد منهما لصاحبه عوض عن منفعة الآخر والصداق زيادة فرضه الله تعالى على الزواج لما جعل له في النكاح من الدرجة ولأجل خروجه عن رسم العوضية جاز إخلاء النكاح عنه والسكوت عن ذكره ثم يفرض بعد ذلك بالقول أو يجب بالوطء
وكذلك أيضا قالوا لو فسد الصداق لما تعدى فساده إلى النكاح ولا يفسخ النكاح بفسخه لما كان معنى زائدا على عقده وصلة في حقه فإن طابت المرأة نفسا بعد وجوبه بهبته للزوج وحطه فهو حلال له وإن أبت فهي على حقها فيه كانت بكرا أو ثيبا حسبما اقتضاه عموم القرآن في ذلك
وقال علماؤنا إن الله سبحانه جعل الصداق عوضا وأجراه مجرى سائر أعواض المعاملات المتقابلات بدليل قوله تعالى (* (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) *) [النساء 24] فسماه أجرا فوجب أن يخرج به عن حكم النحل إلى حكم المعاوضات
وأما تعلقهم بأن كل واحد من الزوجين يتمتع بصاحبه ويقابله في عقد النكاح وأن الصداق زيادة فيه فليس كذلك بل وجب الصداق على الزوج ليملك به السلطنة على المرأة وينزل معها منزلة المالك مع المملوك فيما بذل من العوض فيه فتكون منفعتها بذلك له فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا بإذنه ولا تفارق منزلها إلا بإذنه ويتعلق حكمه بمالها كله حتى لا يكون لها منه إلا ثلثه فما ظنك ببدنها
وقد روي عن مالك أنه قال يفسد النكاح لفساده فيفسخ قبل وبعد
والمشهور أنه يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده لما فات من الانتفاع ومضى من الاستمتاع
وروي أنه لا يفسخ لا قبله ولا بعده على ما تقرر في المسائل الخلافية
وأما طيب نفس المرأة به إن كانت مالكة فصحيح داخل تحت العموم
414

وأما البكر فلم تدخل تحت العموم لأنها لا تملك ما لها كما لم تدخل فيه الصغيرة عندهم والمجنونة والأمة وإن كن من الأزواج ولكن راعى قيام الرشد ودليل التملك للمال دون ظاهر العموم في الزوجات كذلك فعلنا نحن في البكر وقد بينا أدلة قصورها عن النظر لنفسها في المسائل الخلافية وهذه مسألة عظيمة الموقع وفي الذي أشرنا إليه من النكت كفاية للبيب المنصف
المسألة الرابعة
اتفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها ولا رجوع لها فيه إلا أن شريحا رأى الرجوع لها فيه واحتج بقوله تعالى (* (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا) *) وإذا قامت طالبة له لم تطب به نفسا وهذا باطل لأنها قد طابت وقد أكل فلا كلام لها إذ ليس المراد صورة الأكل وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال وهذا بين
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) *) [الآية 5]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في السفه
وقد تقدم بيانه في آية الدين في سورة البقرة والمراد به هاهنا الصغيرة والمرأة التي لم تجرب
وقد قال بعض الناس إن السفه صفة ذم والصغيرة والمرأة لا تستحقان ذما
وهذا ضعيف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد وصف المرأة بنقصان الدين والعقل وكذلك الصغير موصوف بالغرارة والنقص وإن كانا لم يفعلا ذلك بأنفسهما لكنهما
415

لا يلامان على ذلك فنهى الله سبحانه عن إيتاء المال إليهم وتمكينهم منه وجعله في أيديهم ويجوز هبة ذلك لهم فيكون للسفهاء ملكا ولكن لا يكون لهم عليه يد
المسألة الثانية قوله تعالى (* (أموالكم) *))
اختلف في هذه الإضافة على قولين
أحدهما أنها حقيقة والمراد نهي الرجل أو المكلف أن يؤتي ماله سفهاء أولاده فيضيعونه ويرجعون عيالا عليه
والثاني أن المراد به نهي الأولياء عن إيتاء السفهاء من أموالهم وإضافتها إلى الأولياء لأن الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج عن ملك إلى ملك وهذا كقوله تعالى (* (ولا تقتلوا أنفسكم) *) [النساء 29] معناه لا يقتل بعضكم بعضا فيقتل القاتل فيكون قد قتل نفسه وكذلك إذا أعطي المال سفيها فأفسده رجع النقصان إلى الكل
والصحيح أن المراد به الجميع لقوله تعالى (* (التي جعل الله لكم قياما) *) وهذا عام في كل حال
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وارزقوهم فيها واكسوهم) *))
لا يخلو أن يكون المراد بذلك ولي اليتيم فهو مخاطب بالتقدير المتقدم من اشتراك الخلق في الأموال وإن كان المخاطب به الآباء فهذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وقولوا لهم قولا معروفا) *))
المعنى لا تجمعوا بين الحرمان وجفاء القول لهم ولكن حسنوا لهم الكلام مثل أن يقول الرجل لوليه أنا أنظر إليك وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك ويقول الأب لابنه مالي إليك مصيره وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكتم رشدكم وعرفتم تصرفكم
416

الآية السادسة
قوله تعالى (* (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا) *) [الآية 6]
فيها خمس عشرة مسألة
المسألة الأولى
الابتلاء هنا الاختبار لتحصل معرفة ما غاب من علم العاقبة أو الباطن عن الطالب لذلك
المسألة الثانية قوله تعالى (* (اليتامى) *))
قد تقدم بيانه
المسألة الثالثة في وجه تخصيص اليتامى
وهو أن الضعيف العاجز عن النظر لنفسه ومصلحته لا يخلو أن يكون له أب يحوطه أو لا أب له فإن كان له أب فما عنده من غلبة الحنو وعظيم الشفقة يغني عن الوصية به والإهتبال بأمره
فأما الذي لا أب له فخص بالتنبيه على أمره لذلك والوصية به وإلا فكذلك يفعل الأب بولده الصغار أو الضعفاء فإنه يبتليهم ويختبر أحوالهم
المسألة الرابعة في كيفية الابتلاء
وهو بوجهين
أحدهما يتأمل أخلاق يتيمه ويستمع إلى أغراضه فيحصل له العلم بنجابته
417

والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله أو الإهمال لذلك فإذا توسم الخير قال علماؤنا لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله وهو الثاني ويكون يسيرا ويبيح له التصرف فيه فإن نماه وأحسن النظر فيه فقد وقع الاختيار فليسلم إليه ماله جميعه وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنه
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (حتى إذا بلغوا النكاح) *))
يعني القدرة على الوطء وذلك في الذكور بالاحتلام فإن عدم فالسن وذلك خمس عشرة سنة في رواية وثماني عشرة في أخرى
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابن عمر في أحد ابن أربع عشرة سنة وجوزه في الخندق ابن خمس عشرة سنة وقضى بذلك عمر بن عبد العزيز واختاره الشافعي وغيره
قال علماؤنا إنما كان ذلك نظرا إلى إطاقة القتال لا إلى الاحتلام فإن لم يكن هذا دليلا فكل عدد من السنين يذكر فإنه دعوى والسن التي اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم أولى من سن لم يعتبرها ولا قام في الشرع دليل عليها
وكذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الإنبات في بني قريظة فمن عذيرى ممن يترك أمرين اعتبرهما النبي صلى الله عليه وسلم فيتأوله ويعتبر ما لم يعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظا ولا جعل له في الشريعة نظرا
وأما الإناث فلا بد في شرط اختيارهن من وجود نفس الوطء عند علمائنا وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد
وقال الشافعي وأبو حنيفة وجه اختيار الرشد في الذكور والإناث واحد وهو البلوغ إلى القدرة على النكاح والحكمة في الفرق بينهما حسبما رآه مالك قد قررناها في مسائل الخلاف نكتته أن الذكر بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشأته إلى بلوغه يحصل به الاختبار ويكمل عقله بالبلوغ فيحصل له الغرض
418

وأما المرأة فبكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تخالط ولا تبرز لأجل حياء البكارة وقف فيها على وجود النكاح فبه تفهم المقاصد كلها
قال مالك إذا احتلم الغلام ذهب حيث شاء إلا أن يخاف عليه فيقصر حتى يؤمن أمره ولأبيه تجديد الحجر عليه إن رأى خللا منه
وأما الأنثى فلا بد بعد دخول زوجها من مضي مدة من الزمان عليها تمارس فيها الأحوال وليس في تحديد المدة دليل
وذكر علماؤنا في تحديده أقوالا عديدة منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب وجعلوه في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول وجعلوه في المولى عليها مؤبدا حتى يثبت رشدها
وتحديد الأعوام في ذات الأب عسير وأعسر منه تحديد العام في اليتيمة وأما تمادي الحجر في المولى عليها حتى يتبين رشدها فيخرجها الوصي منه أو يخرجها الحكم منه فهو ظاهر القرآن وأما سكوت الأب عن ابنته فدليل على إمضائه لفعلها فتخرج دون حكم بمرور مدة من الزمان يحصل فيه الاختبار وتقديره موكول إلى اجتهاد الولي وفي ذلك تفصيل طويل واختلاف كثير موضعه كتب المسائل
والمقصود منه أن ذلك كله دخل تحت قوله سبحانه (* (فإن آنستم منهم رشدا) *) فتعين اعتبار إيناس الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد فاعرفه وركبه عليه واجتنب التحكم الذي لا دليل عليه
المسألة السادسة قوله تعالى (* (فادفعوا) *))
دفع المال إلى اليتيم يكون بوجهين
أحدهما إيناس الرشد
والثاني بلوغ الحلم
فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال إليه كذلك نص الآية وهي رواية ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك في الآية أنه إذا احتلم الغلام أو حاضت
419

الجارية ولم يؤنس منه الرشد فإنه لا يدفع إليه ماله ولا يجوز له فيه بيع ولا شراء ولا هبة ولا عتق حتى يؤنس منه الرشد ولو فعل شيئا من ذلك قبل أن يدفع إليه ماله ثم دفع إليه ماله لم ينفذ عليه شيء منه
المسألة السابعة حقيقة الرشد
فيه ثلاثة أقوال
الأول صلاح الدين والدنيا والطاعة لله وضبط المال وبه قال الحسن والشافعي
الثاني إصلاح الدنيا والمعرفة بوجوه أخذ المال والإعطاء والحفظ له عن التبذير قاله مالك
الثالث بلوغ خمس وعشرين سنة قاله أبو حنيفة
وعول الشافعي على أنه لا يوثق على دينه فكيف يؤتمن على ماله كما أن الفاسق لما لم يوثق على صدق مقالته لم تجز شهادته
قلنا له العيان يرد هذا فإنا نشاهد المتهتك في المعاصي حافظا لماله فإن غرض الحفظين مختلف أما غرض الدين فخوف الله سبحانه وأما غرض الدنيا فخوف فوات الحوائج والمقاصد وحرمان اللذات التي تنال به ويخالف هذا الفاسق فإن قبول الشهادة مرتبة والفاسق محطوط المنزلة شرعا
وعول أبو حنيفة على أن من بلغ خمسا وعشرين سنة صلح أن يكون جدا فيقبح أن يحجر عليه في ماله
قلنا هذا ضعيف لأنه إذا كان جدا ولم يكن ذا جد فماذا ينفعه جد النسب وجد البخت فائت وقد قال ابن عباس إن الرجل ليبلغ خمسا وعشرين سنة لتنبت لحيته ليشيب وهو ضعيف الأخذ لنفسه ضعيف الإعطاء
وقد قال الشافعي رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة ولعل ذلك في النساء أقرب منه في الرجال
المسألة الثامنة
إذا سلم المال إليه بوجه الرشد ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد عليه الحجر
420

وقال أبو حنيفة لا يعود لأنه بالغ عاقل بدليل جواز إقراره في الحد والقصاص ودليلنا قوله تعالى (* (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) *) [النساء 5]
وقال (* (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) *) [البقرة 282] ولم يفرق بين أن يكون محجورا سفيها أو يطرأ ذلك عليه بعد الإطلاق
ويعضد هذا ما روي أن عبد الله بن جعفر اشترى ضيعة بستين ألفا فقال عثمان ما يسرني أنها لي بنعلي وقال لعلي ألا تأخذ على ابن أخيك وتحجر عليه فعل كذا فجاء علي إلى عثمان ليحجر عليه فقال الزبير أنا شريكه فقال عثمان كيف أحجر على رجل شريكه الزبير رواه الدارقطني
فهذان خليفتان قد نظرا في هذا وعزما على فعله لولا ظهور السداد بعد ذلك فيه
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) *))
إسرافا يعني مجاوزة من أموالكم التي تنبغي لكم إلى ما لا يحل لكم من أموالهم والإسراف مجاوزة الحد المباح إلى المحظور
وبدارا يعني مبادرة أن يكبروا واستباقا لمعرفتهم لمصالحهم واستئثارا عليهم بأموالهم
المسألة العاشرة
قال علماؤنا لما لم يكن لهم عمل في أموالهم وقبضت عنها أيديهم لم يكن لهم فيها قول ولا نفذ لهم فيها عقد ولا عهد فلا يجوز فيها بيعهم ولا نذرهم لأن العلة التي لأجلها قبضت أيديهم عنها الصيانة لها عن تبذيرهم والحفظ لها إلى وقت معرفتهم وتبصرهم فلو جاز لهم فيها بيع أو هبة أو عهد لبطلت فائدة المنع لهم عنها وسقط مقصود حفظها عليهم
421

فأما ما كان في أيديهم من زوجة أو أم ولد تمكنوا منهما فكلامهم نافذ فيهما وينفذ طلاق الزوجة وعتق أم الولد عليهم لأنهم تمكنوا من ذلك فعلا فينفذ القول فيهما شرعا
وهذه نكتة بديعة في الحجة لإنفاذ الطلاق والعتق
المسألة الحادية عشرة
إذا كان الاختبار إلى بلوغ النكاح في الحرة وقلنا إنه في ذات الأب ستة أو سبعة وفي اليتيمة ستة فما عملنا في أثناء الستة أو السبعة محمول على الرد وما كان من العمل بعده محمول على الجواز
وقال بعض علمائنا ما عملت في الستة والسبعة محمول على الرد إلا أن يتبين فيه السداد وما عملت بعد ذلك محمول على الإمضاء حتى يتبين فيه السفه
ولقد وقعت هذه المسألة في زماننا في محجورة أرادت نحلة ابنتها بمال لا تنكح إلا به فقال بعضهم لا يجوز فعل المحجور وقلنا نحن يجوز لأن إيناس الرشد إنما يكون بمثل هذا ومن نظر لولده واهتبل به فهو في غاية السداد والرشد له ولنفسه فوفق الله متولي الحكم يومئذ وأمضى النحلة على ما أفتيناه
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (ومن كان غنيا فليستعفف) *))
اختلف العلماء في هذه المسألة على أربعة أقوال
الأول أنه لا يأكل من مال اليتيم شيئا بحال وهذه الرخصة في قوله سبحانه (* (فليأكل بالمعروف) *) منسوخة بقوله تعالى (* (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) *) [النساء 1] واختاره زيد بن أسلم واحتج به
الثاني أن المراد به اليتيم وإذا كان فقيرا أنفق عليه واليه بقدر فقره من مال اليتيم وإن كان غنيا أنفق عليه بقدر غناه ولم يكن للولي فيه شيء
الثالث أن المراد به الولي إن كان غنيا عف وإن كان فقيرا أكل بالمعروف
422

الرابع أن المعروف شربه اللبن وركوبه الظهر غير مضر بنسل ولا ناهك في حلب
قال ابن العربي أما من قال إنه منسوخ فهو بعيد لا أرضاه لأن الله تعالى يقول (* (فليأكل بالمعروف) *) وهو الجائز الحسن وقال (* (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) *) فكيف ينسخ الظلم المعروف بل هو تأكيد له في التجويز لأنه خارج عنه مغاير له وإذا كان المباح غير المحظور لم يصح دعوى نسخ فيه وهذا أبين من الإطناب
وأما من قال إن المراد به اليتيم فلا يصح لوجهين
أحدهما أن الخطاب لا يصلح أن يكون له لأنه غير مكلف ولا مأمور بشيء من ذلك
الثاني أنه إن كان غنيا أو فقيرا إنما يأكل بالمعروف فسقط هذا
وأما من قال إن الولي إن كان غنيا عف وإن كان فقيرا أكل فهو قول عمر روي عنه أنه قال إنما أنا في بيت المال كولي اليتيم إن استغنيت تركت وإن احتجت أكلت وبه أقول
وأما استثناء اللبن ومثله التمر فهو على قول مالك لقول ابن عباس اشرب غير مضر بنسل ولا ناهك للحلب ولأن شرب اللبن من الضرع وأكل التمر من الجذوع أمر متعارف بين الخلق متسامح فيه
فإن أكل هل يقضي اختلف الناس فيه فروي عن عمر أنه قال إن أكلت قضيت واختلف في ذلك قول عكرمة وهو قول عبيدة السلماني وأبي العالية وهو أحد قولي ابن عباس
فأما من نفى القضاء فاحتج بأن الأكل له كما أن النظر عليه فجرى مجرى الأجرة
وأما من يرى القضاء فاحتج بقوله سبحانه (* (ومن كان غنيا فليستعفف) *)
423

فمنع منه فإن فعل قضى ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف أي بقدر الحاجة ويقضي كما يقضي المضطر إلى المال في المخمصة
قال عبيدة السلماني في قول الله سبحانه (* (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) *) ذلك دليل على وجوب القضاء على من أكل
المعنى فإذا رددتم ما أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله
والصحيح أنه لا يقضي لأن النظر له فيتعين به الأكل بالمعروف والمعروف هو حق النظر وقد قال أبو حنيفة يقارض في مال اليتيم ويأكل حظه من الربح فكذلك يأخذ من صميم المال بمقدار النظر هذا إذا كان فقيرا أما إذا كان غنيا فلا يأخذ شيئا لأن الله سبحانه أمره بالعفة والكف عنه
فإن قيل فقول عمر أنا كولي اليتيم إن استغنيت تركت أليس يجوز للغني الأكل من بيت المال كذلك يجوز للوصي إن كان غنيا الأكل من مال اليتيم قلنا عنه جوابان
أحدهما أن قول عمر أنا كولي اليتيم إن استغنيت دليل على أن الخليفة ليس كالوصي ولكن عمر بورعه جعل نفسه كالوصي
الثاني أن الذي يأكله الخلفاء والولاة والفقهاء ليس بأجرة وإنما هو حق جعله الله لهم لنازلهم ومنتابهم وإلا فالذي يفعلونه فرض عليهم فكيف تجب الأجرة لهم وهو فرض عليهم والفرضية تنفي الأجرة لا سيما إذا كان عملا غير معين كعمل الخلفاء والقضاة والمفتين والسعاة والمعلمين والله أعلم
المسألة الثالثة عشرة من هو المخاطب بهذا كله
قال علماؤنا كان الأيتام في ذلك الزمان على قسمين
الأول يتيم معهود به كقول سعد هو ابن أخي عهد إلي فيه
424

الثاني مكفول بقرابة أو جوار
وعند المالكية أن الكافل له ناظر كما لو وصى إليه الأب إلا أن الكافل ناظر في حفظ الموجود والمعهود إليه قائم مقام الأب في التصرف المطلق فإن كان اليتيم عريا عن كافل ووصي فالمخاطب ولي الأولياء وهو السلطان فهو ولي من لا ولي له وهو ولي على الأولياء فصار تقدير الآية يا من إليه يتيم بكفالة أو عهد أو ولاية عامة افعل كذا
المسألة الرابعة عشرة
قال علماؤنا في قوله تعالى (* (وابتلوا اليتامى) *) دليل على أن للوصي والكافل أن يحفظ الصبي في بدنه وماله إذ لا يصح الابتلاء إلا بذلك فالمال يحفظه بضبطه والبدن يحفظه بأدبه
وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن في حجري يتيما أآكل من ماله
قال نعم غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله قال يا رسول الله أفأضربه قال ما كنت ضاربا منه ولدك
وهذا وإن لم يثبت مسندا فليس يجد عنه أحد ملتحدا لأن المقصود الإصلاح وإصلاح البدن أوكد من إصلاح المال والدليل عليه أنه يعلمه الصلاة ويضربه عليها ويكفه عن الحرام بالكهر والقهر
المسألة الخامسة عشرة قوله تعالى (* (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) *))
قال علماؤنا أمر الله تعالى بالإشهاد تنبيها على التحصين وإرشادا إلى نكتة بديعة وهي أن كل مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بإشهاد على دفعه لقوله تعالى (* (فأشهدوا عليهم) *) وهو عنده أمانة فلو ضاع قبل قوله فإذا قال دفعت لم يقبل إلا بالإشهاد لأن الضياع لا يمكنه إقامة البينة عليه وقت ضياعه فلا
425

يكلف ما لا سبيل إليه والبينة يقدر أن يقيمها حال الدفع فتفريطه فيها موجب عليه الضمان
وقال علماؤنا في الوديعة مثله وهي عندنا محمولة ونظيرة له
وخالف في ذلك أبو حنيفة والشافعي وقالا إنها أمانة فكان القول قوله
قلنا لو رضي أمانته بالرد ما كتب عليه الشهادة بالعقد
الآية السابعة
قوله تعالى (* (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) *) [الآية 7]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
قال قتادة كان أهل الجاهلية يمنعون النساء الميراث ويخصون به الرجال حتى كان الرجل منهم إذا مات وترك ذرية ضعافا وقرابة كبارا استبد بالمال القرابة الكبار
وقد روي أن رجلا من الأنصار مات وترك ولدا أصاغر وأخا كبيرا فاستبد بماله فرفع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له العم يا رسول الله إن الولد صغير لا يركب ولا يكسب فنزلت الآية
وكان هذا من الجاهلية تصرفا بجهل عظيم فإن الورثة الصغار الضعاف كانوا أحق بالمال من القوي فعكسوا الحكم وأبطلوا الحكمة فضلوا بأهوائهم وأخطأوا في آرائهم
المسألة الثانية في هذه الآية ثلاث فوائد
إحداها بيان علة الميراث وهي القرابة
الثاني عموم القرابة كيفما تصرفت من قرب أو بعد
426

الثالث إجمال النصيب المفروض فبين الله سبحانه وتعالى في آية المواريث خصوص القرابة ومقدار النصيب وكان نزول هذه الآية توطئة للحكم وإبطالا لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي بعد ذلك على سيرة الله وسنته في إبطال آرائهم وسنتهم
المسألة الثالثة قوله سبحانه وتعالى (* (مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) *))
كان أشياخنا قد اختلفوا عن مالك في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله كالحمام وبدء الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإبراز أقل السهام منها فكان ابن كنانة يرى ذلك لقوله تعالى (* (مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) *) وكان ابن القاسم يروي عنه أن ذلك لا يجوز لما فيه من المضارة وقد نفى الله سبحانه وتعالى المضارة بقوله سبحانه (* (غير مضار) *) [النساء 12] وأكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله لا ضرر ولا ضرار
وهذا بعيد فإنه ليس في الآية تعرض للقسمة وإنما اقتضت الآية وجوب الحظ والنصيب في التركة قليلا كان أو كثيرا فقال سبحانه وتعالى (* (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) *) وهذا ظاهر جدا فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر وذلك أن الوارث يقول قد وجب لي نصيب بقول الله سبحانه فمكنوني منه فيقول له شريكه أما تمكينك على الاختصاص فلا يمكن لأنه يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال وتغيير الهيئة وتنقيص القيمة فيقع الترجيح
427

*
والأظهر سقوط القسمة فيما يبطل المنفعة وينقص القيمة
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) *) [الآية 8]
في هذه الآية ثلاثة أقوال
الأول أنها منسوخة قاله سعيد وقتادة وهو أحد قولي ابن عباس
الثاني أنها محكمة والمعنى فيها الإرضاخ للقرابة الذين لا يرثون إذا كان المال وافرا والاعتذار إليهم إن كان المال قليلا ويكون هذا على هذا الترتيب بيانا لتخصيص قوله تعالى (* (للرجال نصيب) *) [النساء 7] وأنه في بعض الورثة غير معين فيكون تخصيصا غير معين ثم يتعين في آية المواريث
وهاذ ترتيب بديع لأنه عموم ثم تخصيص ثم تعيين
الثالث أنها نازلة في الوصية يوصي الميت لهؤلاء على اختلاف في نقل الوصية لا معنى لها
وأكثر أقوال المفسرين أضغاث وآثار ضعاف
والصحيح أنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له منهم بأن يسهم لهم من التركة ويذكر لهم من القول ما يؤنسهم وتطييب به نفوسهم
وهذا محمول على الندب من وجهين
أحدهما أنه لو كان فرضا لكان ذلك استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول وذلك مناقض للحكمة وإفساد لوجه التكليف
428

الثاني أن المقصود من ذلك الصلة ولو كان فرضا يستحقونه لتنازعوا منازعة القطيعة
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) *) [الآية 9]
اختلف علماؤنا فيها على أربعة أقوال
الأول أنه نهي لمن حضر عند الموت عن الترغيب له بالوصية حتى يخرج إلى الإسراف المضر بالورثة
الثاني أنه نهي للميت عن الإعطاء في الوصية للمساكين والضعفاء
الثالث أنه نهي لمن حضر عند الميت عن ترغيبه في الزيادة على الثلث
الرابع أنه الآية راجعة إلى ما سبق من ذكر اليتامى وأموالهم وأوليائهم فذكروا بالنظر في مصلحتهم والعمل بما كان يرضيهم أن يعمل مع ذرياتهم الضعفاء وورثتهم
والصحيح أن الآية عامة في كل ضرر يعود عليهم بأي وجه كان على ذرية المتكلم فلا يقول إلا ما يريد أن يقال فيه وله
الآية العاشرة
قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمة السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما) [الآية 11]
اعلموا علمكم الله أن هذه الآية ركن من أركان الدين وعمدة من عمد
429

الأحكام وأم من أمهات الآيات فإن الفرائض عظيمة القدر حتى أنها ثلث العلم وقد قال صلى الله عليه وسلم العلم ثلاث آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة
وكان جل علماء الصحابة وعظم مناظرتهم ولكن الخلق ضيعوه وانتقلوا منه إلى الإجارات والسلم والبيوع الفاسدة والتدليس إما لدين ناقص أو علم قاصر أو غرض في طلب الدنيا ظاهر وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ولو لم يكن من فضل الفرائض والكلام عليها إلا أنها تبهت منكري القياس وتخزي مبطلي النظر في إلحاق النظير بالنظير فإن عامة مسائلها إنما هي مبنية على ذلك إذ النصوص لم تستوف فيها ولا أحاطت بنوازلها وسترى ذلك فيها إن شاء الله
وقد روى مطرف عن مالك قال قال عبد الله بن مسعود من لم يتعلم الفرائض والحج والطلاق فبم يفضل أهل البادية
وقال وهب عن مالك كنت أسمع ربيعة يقول من تعلم الفرائض من غير علم بها من القرآن ما أسرع ما ينساها قال مالك وصدق وقد أطلنا فيها النفس في مسائل الخلاف فأما الآن فإنا نشير إلى نكت تتعلق بألفاظ الكتاب وفيها ست عشرة مسألة
المسألة الأولى في المخاطب بها وعلى من يعود الضمير
وبيانه أن الخطاب عام في الموتى الموروثين والخلفاء الحاكمين وجميع المسلمين أما تناولها للموتى فليعلموا المستحقين لميراثهم بعدهم فلا يخالفوه بعقد ولا عهد وفي ذلك آثار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتها ثلاثة أحاديث
الحديث الأول حديث سعد في الصحيح عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع في مرض اشتد بي فقلت يا رسول الله أنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بمالي كله قال لا قلت فالثلثان قال لا قلت فالشطر قال
430

لا الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس
الثاني ما ثبت في الصحيح قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل أي الصدقة أفضل قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان كذا
الثالث ما روى مالك عن عائشة أن أبا بكر الصديق قال لها في مرض موته إني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا من تمر فلو كنت حددته لكان لك وإنما هو اليوم مال الوارث
فبين الله سبحانه أن المرء أحق بماله في حياته فإذا وجد أحد سبي زواله وهو المرض قبل وجود الثاني وهو الموت منع من ثلثي ماله وحجر عليه تفويته لتعلق حق الوارث به فعهد الله سبحانه بذلك إليه ووصى به ليعلمه فيعمل به ووجوب الحكم المعلق على سببين بأحد سببيه ثابت معلوم في الفقه لجواز إخراج
431

الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث وبعد الخروج وقبل الموت في القتل وكذلك صح سقوط الشفعة بوجود الاشتراك في المال قبل البيع
وأما تناوله للخلفاء الحاكمين فليقضوا به على من نازع في ذلك من المتخاصمين
وأما تناوله لكافة المسلمين فليكونوا به عالمين ولمن جهله مبينين وعلى من خالفه منكرين وهذا فرض يعم الخلق أجمعين وهو فن غريب من تناول الخطاب للمخاطبين فافهموه واعملوا به وحافظوا عليه واحفظوه والله المستعان
المسألة الثانية في سبب نزولها
وفي ذلك ثلاثة أقوال
الأول أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون الضعفاء من الغلمان ولا الجواري فأنزل الله تعالى ذلك وبين حكمه ورد قولهم
الثاني قال ابن عباس كان الميراث للولد وكانت الوصية للوالدين والأقرباء فرد الله ذلك وبين المواريث رواه في الصحيح
الثالث أن عبد الله بن محمد بن عقيل وهو مقارب الحديث عندهم روى عن جابر بن عبد الله قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواق وهي جدة خارجة بنت زيد بن ثابت فزرناها ذلك اليوم فعرشت لنا صورا فقعدنا تحته وذبحت لنا شاة وعلقت لنا قربة فبينا نحن نتحدث إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة فطلع علينا أبو بكر الصديق فتحدثنا ثم قال لنا الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة فطلع علينا عمر بن الخطاب فتحدثنا فقال الآن
يأتيكم رجل من أهل الجنة قال فرأيته يطأطى رأسه من سعف الصور يقول اللهم إن شئت جعلته علي بن أبي طالب فجاء حتى دخل علينا فهنيئا لهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فجاءت المرأة بطعامها فتغدينا ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الظهر فقمنا معه ما توضأ ولا أحد منا غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بكفه جرعا من
432

الماء فتمضمض بهن من غمر الطعام فجاءت المرأة بابنتين لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله هاتان بنتا سعد بن الربيع قتل معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله فلم يدع لهما مالا إلا أخذه فما ترى يا رسول الله فوالله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الله في ذلك فنزلت (* (يوصيكم الله في أولادكم) *) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادع لي المرأة وصاحبها فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن ولك الباقي فقال محمد بن عبد الله بن محمد بن عطاء مقارب الحديث قال الإمام أبو بكر هو مقبول لهذا الإسناد
الثالث ما روى البخاري عن جابر قلت يا رسول الله ما ترى أن أصنع في مالي فنزلت (* (يوصيكم الله في أولادكم) *) رد لكل عمل من تلك الأعمال وإبطال لجميع الأقوال المتقدمة إلا أن في حديث جابر الأول فائدة وهو أن ما كانت الجاهلية تفعل في صدر الإسلام لم يكن شرعا مسكوتا عنه مقرا عليه لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم على عم الصبيتين برد ما أخذ من مالهما لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما تؤثر في المستقبل ولا ينقض به ما تقدم وإنما كانت ظلامة وقعت أما أن الذي وقعت الوصية به للوالدين والأقربين فأخرجت عنها أهل المواريث
المسألة الثالثة قوله (* (في أولادكم) *))
يتناول كل ولد كان موجودا من صلب الرجل دنيا أو بعيدا قال الله تعالى (* (يا بني آدم) *) وقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم وقال تعالى (* (ولكم نصف) *
433

ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد) [النساء 12] فدخل فيه كل من كان لصلب الميت دنيا أو بعيدا
ويقال بنو تميم فيعم الجميع فمن علمائنا من قال ذلك حقيقة في الأدنين مجاز في الأبعدين ومنهم من قال هو حقيقة في الجميع لأنه من التولد فإن كان الصحيح أن ذلك حقيقة في الجميع فقد غلب مجاز الاستعمال في إطلاقه على الأعيان في الأدنين على تلك الحقيقة
والصحيح عندي أنه مجاز في البعداء بدليل أنه ينفي عنه فيقال ليس بولد ولو كان حقيقة لما ساغ نفيه ألا ترى أنه يسمي ولد الولد ولدا ولا يسمي به ولد الأعيان وكيفما دارت الحال فقد اجتمعت الأمة هاهنا على أنه ينطلق على الجميع
وقد قال مالك لو حبس رجل على ولده لانتقل إلى أبنائهم ولو قال صدقة فاختلف قول علمائنا هل تنقل إلى أولاد الأولاد على قولين وكذلك في الوصية
واتفقوا على أنه لو حلف لا ولد له وله حفدة لم يحنث وإنما اختلف ذلك في أقوال المخلوقين في هذه المسائل لوجهين
أحدهما أن الناس اختلفوا في عموم كلام المخلوقين هل يحمل على العموم كما يحمل كلام الباري فإذا قلنا بذلك فيه على قولين أحدهما أنه لا يحمل كلام الناس على العموم بحال وإن حمل كلام الله سبحانه عليه
الثاني أن كلام الناس يرتبط بالأغراض والمقاصد والمقصود من الحبس التعقيب فدخل فيه ولد الولد والمقصود من الصدقة التمليك فدخل فيه الأدنى خاصة ولم يدخل فيه من بعد إلا بدليل
434

والذي يحقق ذلك أنه قال بعده (* (ولأبويه لكل واحد منهما السدس) *) فدخل فيه آباء الآباء وكذلك يدخل فيه أولاد الأولاد
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (للذكر مثل حظ الأنثيين) *))
هذا القول يفيد أن الذكر إذا اجتمع مع الأنثى أخذ مثلي ما تأخذه الأنثى وأخذت هي نصف ما يأخذ الذكر وليس هذا بنص على الإحاطة بجميع المال ولكنه تنبيه قوي لأنه لولا أنهم يحيطون بجميع المال إذا انفردوا لما كان بيانا لسهم واحد منهم فاقتضى الاضطرار إلى بيان سهامهم الإحاطة بجميع المال إذا انفردوا فإذا انضاف إليهم غيرهم من ذوي السهام فأخذ سهمه كان الباقي أيضا معلوما فيتعين سهم كل واحد منهم فيه ووجب حمل هذا القول على العموم إلا أنه خص منه الأبوين بالسدس لكل واحد منهما والزوجين بالربع والثمن لهما على تفصيلهما وبقي العموم والبيان بعد ذلك على أصله
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (في أولادكم) *))
عام في الأعلى منهم والأسفل فإن استووا في الرتبة أخذوه بهذه القسمة وإن تفاوتوا فكان بعضهم أعلى من بعض حجب الأعلى الأسفل لأن الأعلى يقول أنا ابن الميت والأسفل يقول أنا ابن ابن الميت فلما استفلت درجته انقطعت حجته لأن الذي يدلي به يقطع به فإن كان الولد الأعلى ذكرا سقط الأسفل وإن كان الولد الأعلى أنثى أخذت الأنثى حقها وبقي الباقي لولد الولد إن كان ذكرا وإن كان ولد الولد أنثى أعطيت العليا النصف وأعطيت السفلى السدس تكملة الثلثين لأنا نقدرهما بنتين متفاوتتين في الرتبة فاشتركتا في الثلث بحكم البنتية وتفاوتتا في القسمة بتفاوت الدرجة وبهذه الحكمة جاءت السنة
وإن كان الولد الأعلى بنتين أخذتا الثلثين فإن كان الولد الأسفل أنثى لم يكن لها شيء إلا أن يكون بإزائها أو أسفل منها ذكر فإنها تأخذ معه ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين بإجماع الصحابة إلا ما يروى عن ابن مسعود أنه قال إن كان الذكر من ولد الولد بإزائها رد عليها وإن كان أسفل منها لم يرد عليها شيئا مراعيا في ذلك
435

ظاهر قوله تعالى (* (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) *) فلم يجعل للبنات وإن كثرن شيئا إلا الثلثين وهذا ساقط فإن الموضع الذي قضينا فيه باشتراك بنت
الابن مع ابن أخيها واشتراك ابن الابن مع عمته ليس حكما بالسهم الذي اقتضاه قوله تعالى (* (فلهن ثلثا ما ترك) *) وإنما هو قضاء بالتعصيب
والدليل عليه اشتراكهما معه إذا كانتا بإزائه وإن كان ذلك زيادة على الثلثين وهذا قاطع جدا
ولو قال قائل إنه لو وازاها ما رد عليها ولا شاركته مراعاة لهذا الظاهر لقيل له لا حجة لك في هذا الظاهر لأن هذا حق أخذ بالسهم وهذا حق أخذ بالتعصيب وما يؤخذ بالتعصيب يجوز أن يزيد على الثلثين بخلاف السهم المفروض المعين ألا ترى أن رجلا لو ترك عشر بنات وابنا واحدا لأخذت البنات أكثر من الثلثين ولكن ذلك لما كان بالتعصيب لم يقدح في الذي يجب بالسهم وفي ذلك تفصيل طويل بيانه في الفرائض
المسألة السادسة قوله تعالى (* (فإن كن نساء فوق اثنتين) *))
وهي معضلة عظيمة فإنه تعالى لو قال فإن كن اثنتين فما فوقهما فلهن ثلثا ما ترك لانقطع النزاع فلما جاء القول هكذا مشكلا وبين حكم الواحدة بالنصف وحكم ما زاد على الاثنتين بالثلثين وسكت عن حكم البنتين أشكلت الحال فروي عن ابن عباس أنه قال تعطى البنات النصف كما تعطى الواحدة إلحاقا للبنتين بالواحدة من طريق النظر لأن الأصل عدم الزيادة على النصف وأن ذلك لما زاد على البنتين فتختص الزيادة بتلك الحال
الجواب أن الله سبحانه وتعالى لو كان مبينا حال البنتين بيانه لحال الواحدة وما فوق البنتين لكان ذلك قاطعا ولكنه ساق الأمر مساق الإشكال لتتبين درجة العالمين وترتفع منزلة المجتهدين في أي المرتبتين في إلحاق البنتين أحق
436

وإلحاقهما بما فوق الاثنتين أولى من ستة أوجه
الأول أن الله سبحانه وتعالى لما قال (* (للذكر مثل حظ الأنثيين) *) نبه على أنه إذا وجب لها مع أخيها الثلث فأولى وأحرى أن يجب لها ذلك مع أختها
الثاني أنه روي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قضى في بنت وبنت ابن وأخت بالسدس لبنت الابن والنصف للبنت تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فإذا كان لبنت الابن مع البنت الثلثان فأحرى وأولى أن يكون لها ذلك مع أختها
الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالثلثين لابنتي سعد بن الربيع كما قدمنا وهو نص
الرابع أن المعنى فيه فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما كما قال تعالى (* (فاضربوا فوق الأعناق) *) [الأنفال 12] أي اضربوا الأعناق فما فوقها
الخامس أن النصف سهم لم يجعل فيه اشتراك بل شرع مخلصا للواحدة بخلاف الثلثين فإنه سهم الاشتراك بدليل دخول الثلاث فيه فما فوقهن فدخلت فيه الاثنتان مع الثلث دخول الثلاث مع ما فوقهن
السادس أن الله سبحانه قال في الأخوات (* (وله أخت فلها نصف ما ترك) *) [النساء 176] وقال (* (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان) *) [النساء 176] فلحقت الابنتان بالأختين في الاشتراك في الثلثين وحملتا عليهما ولحقت الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين وحملتا عليهن
قال بعض علمائنا كما حملنا الابن في الإحاطة بالمال بطريق التعصيب على الأخ بدليل قوله تعالى (* (وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) *) وهذا كله ليتبين به العلماء أن القياس مشروع والنص قليل
وهذه الأوجه الستة بينة المعنى وإن كان بعضها أجلى من بعض لكن مجموعها يبين المقصود
437

المسألة السابعة قوله تعالى (* (ولأبويه لكل واحد منهما السدس) *))
هذا قول لم يدخل فيه من علا من الآباء دخول من سفل من الأبناء في قوله (* (أولادكم) *) لثلاثة أوجه
الأول أن القول هاهنا مثنى والمثنى لا يحتمل العموم والجمع
الثاني أنه قال فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث والأم العليا هي الجدة ولا يفرض لها الثلث بإجماع فخروج الجدة من هذا اللفظ مقطوع به وتناوله للأب مختلف فيه
الثالث أنه إنما قصد في قوله (* (أولادكم) *) بيان العموم وقصد هاهنا بيان النوعين من الآباء وهما الذكر والأنثى وتفصيل فرضهما دون العموم فأما الجد فقد اختلف فيه الصحابة فروي عن أبي بكر الصديق أنه جعله أبا وحجب به الإخوة أخذا بقوله تعالى (* (ملة أبيكم إبراهيم) *) [الحج 78] وبقوله تعالى (* (يا بني آدم) *) وقد بينا أن هذا اللفظ مساقه بيان التنويع لا بيان العموم ومقاصد الألفاظ أصل يرجع إليه
والذي نحققه من طريق النظر والمعنى أن الأخ أقوى سببا من الجد فإن الأخ يقول أنا ابن أبي الميت والجد يقول أنا أبو أبي الميت وسبب البنوة أقوى من سبب الأبوة فكيف يسقط الأضعف الأقوى وهذا بعيد والمسألة مشهورة طيولية في مسائل الخلاف والغرض من هذا البيان إيضاح أن المسألة قياسية لا مدخل لها في هذه الألفاظ فأما الجدة فقد صح أن الجدة أم الأم جاءت أبا بكر الصديق فقال لها لا أجد لك في كتاب الله شيئا وما أنا بزائد في الفرائض شيئا فإن وجد الأب والأم لم يكن للجد والجدة شيء لأن الأدنى يحجب الأبعد كما تقدم في الأولاد وإن عدما ينزل الأبعد منزلة من كان قبله
المسألة الثامنة
قال بعض الناس معناه إن كان له ولد ذكر وأما إن كان الولد أنثى أخذت النصف وأخذت الأم السدس وأخذ الأب الثلث وهذا ضعيف بل يأخذ الأب
438

السدس سهما والسدس الآخر تعصيبا وهو معنى آخر لم يقع عليه نص في الآية إنما هو تنبيه ظاهر على ما يأتي بيانه إن شاء الله
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (ولأبويه لكل واحد منهما السدس) *) إلى قوله سبحانه وتعالى (* (الثلث) *))
قال علماؤنا سوى الله سبحانه وتعالى بين الأبوين مع وجود الولد وفاضل بينهما مع عدمه في أن جعل سهميهما للذكر مثل حظ الأنثيين والمعنى فيه أنهما يدليان بقرابة واحدة وهي الأبوة فاستويا مع وجود الولد فإن عدم الولد فضل الأب الأم بالذكورة والنصرة ووجوب المؤنة عليه وثبتت الأم على سهم لأجل القرابة
المسألة العاشرة
إذا اجتمع الآباء والأولاد قدم الله الأولاد لأن الأب كان يقدم ولده على نفسه ويود أنه يراه فوقه ويكتسب له فقيل له حال حفيدك مع ولدك كحالك مع ولدك
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه) *))
يقتضي أنه لا وارث له مع عدم الأولاد إلا الأبوان فكان ظاهر الكلام أن يقول فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه فلأمه الثلث ولكنه أراد زيادة الواو ليبين أنه أمر مستقر خبر عن ثبوته واستقراره لأن الأولاد أسقطوا الإخوة وشاركهم الأب وأخذ حظه من أيديهم فوجب أن يسقط من أسقطوا بل أولى وأيضا فإن الأخ بالأب يدلي فيقول أنا ابن أبيه فلما كان واسطته وسببه الذي يريد أن يأخذ به هو الأب كان سببه أولى منه ومانعا له فيكون حال الوالدين عند انفرادهما كحال الوالدين للذكر مثل حظ الأنثيين كما تقدم بيانه ويجتمع بذلك للأب فرضان السهم والتعصيب وهذا عدل في الحكم ظاهر في الحكمة
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) *))
المعنى إن وجد له إخوة فلأمة السدس وإن لم يكن لهم شيء من الميراث فهم يحجبون ولا يرثون بظاهر هذا اللفظ بخلاف الابن الكافر على ما يأتي بيانه إن شاء
439

الله تعالى وكان دليل ذلك وعاضده وبسطه أن قوله تعالى (* (فإن كان له إخوة) *) معطوف على ما سبق فصار تقدير الكلام فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمة الثلث والباقي للأب وإن كان له إخوة فلأمة السدس والباقي للأب وهكذا يزدوج الكلام ويصح الاشتراك الذي يقتضيه العطف
فإن قيل إنما تقدير الكلام فإن كان له إخوة ولا أب له فلأمه السدس
قلنا هذا ساقط من أربعة أوجه
أحدها أنه تبطل فائدة العطف
الثاني أنه إبطال لفائدة الكلام من البيان فإنا كنا نعطي بذلك الأم السدس وما ندري ما نصنع بباقي المال
فإن قيل يعطى للأخوة
قلنا وهم من أو كيف يعطى لهم فيكون القول مشكلا غير مبين ولا مبين وهذا لا يجوز
الثالث إنه كان يبقى قسم من الأقسام غير مبين وهو إن كان له إخوة وله أب وأم فاعتباره بالبيان أولى وما صوروه من أم وإخوة قد بين في قوله (* (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة) *) [النساء 12] وهذا من نفيس الكلام فتأملوه
الرابع أنه تبين ههنا فائدتان
أحداهما حجب الأم بالإسقاط لهم
الثاني حجب النقصان للأم
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) *))
هذا قول يقتضي بظاهره أنه إذا كان له ثلاثة إخوة أنهم يحجبونها حجب نقصان بلا خلاف وإن كانا أخوين فروي عن ابن عباس أنهما لا يحجبانها وغرضه ظاهر فإن الجمع خلاف التثنية لفظا وصيغة وهذه صيغة الجمع فلا مدخل لها في التثنية
440

ومن يعجب فعجب أن يخفى على حبر الأمة وترجمان القرآن ودليل التأويل عبد الله بن عباس مسألتان
إحداهما هذه المسألة والأخرى مسألة العول وعضد هذا الظاهر بأن قال إن الأم أخذت الثلث بالنص فكيف يسقط النص بمحتمل وهذا المنحى مائل عن سنن الصواب
ولعلمائنا في ذلك سبيل مسلوكة نذكرها ونبين الحق فيها إن شاء الله وذلك من ثلاثة أوجه
الأول أنه ينطلق لفظ الإخوة على الأخوين بل قد ينطلق لفظ الجماعة على الواحد تقول العرب نحن فعلنا وتريد القائل لنفسه خاصة وقد قال تعالى (* (هذان خصمان اختصموا في ربهم) *) [الحج 19] وقال (* (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب) *) [ص 21] ثم قال (* (خصمان بغى بعضنا على بعض) *) [ص 22] وقال (* (فقد صغت قلوبكما) *) [التحريم 4] وقال (* (وكنا لحكمهم شاهدين) *) [الأنبياء 78] وقال (* (بم يرجع المرسلون) *) [النمل 35] والرسول واحد وقال تعالى (* (أولئك مبرؤون مما يقولون) *) [النور 26] يعني عائشة وقيل عائشة وصفوان وقال (* (وألقى الألواح) *) [الأعراف 15] وكانا اثنين كما نقل في التفسير وقال (* (وأطراف النهار) *) [طه 13] وهما طرفان وقال (* (إنا معكم مستمعون) *) [الشعراء 15] وقال (* (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) *) [السجدة 18] وقال (* (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) *) [آل عمران 173] وكان واحدا
وهذا كله صحيح في اللغة سائغ لكن إذا قام عليه دليل فأين الدليل
الثاني أن الله تعالى قال في ميراث الأخوات (* (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) *) [النساء 176] فحمل العلماء البنتين على الأختين في الاشتراك في الثلثين
وحملوا الأخوات على البنات في الاشتراك في الثلثين وكان هذا نظرا دقيقا
441

وأصلا عظيما في الاعتبار وعليه المعول وأراد الباري بذلك أن يبين لنا دخول القياس في الأحكام
الثالث أن الكلام في ذلك لما وقع بين عثمان وابن عباس قال له عثمان إن قومك حجبوها يعني بذلك قريشا وهم أهل الفصاحة والبلاغة وهم المخاطبون والقائمون لذلك والعاملون به فإذا ثبت هذا فلا يبقى لنظر ابن عباس وجه لأنه إن عول على اللغة فغيره من نظائره ومن فوقه من الصحابة أعرف بها وإن عول على المعنى فهو لنا لأن الأختين كالبنتين كما بينا وليس في الحكم بمذهبنا خروج عن ظاهر الكلام لأنا بينا أن في اللغة واردا لفظ الاثنين على الجميع
المسألة الرابعة عشرة قوله تعالى (* (من بعد وصية يوصي بها أو دين) *))
قال علماؤنا هذا فصل عظيم من فصول الفرائض وأصل عظيم من أصول الشريعة وذلك أن الله سبحانه جعل المال قواما للخلق ويسر لهم السبب إلى جمعه بوجوه متعبة ومعان عسيرة وركب في جبلاتهم الإكثار منه والزيادة على القوت الكافي المبلغ إلى المقصود وهو تاركه بالموت يقينا ومخلفه لغيره فمن رفق الخالق بالخلق صرفه عند فراق الدنيا إبقاء على العبد وتخفيفا من حسرته على أربعة أوجه
الأول ما يحتاج إليه من كفنه وجهازه إلى قبره
الثاني ما تبرأ به ذمته من دينه
الثالث ما يتقرب به إلى الله من خير ليستدرك به ما فات في أيام مهلته
الرابع ما يصير إلى ذوي قرابته الدانية وأنسابه المشتبكة المشتركة
فأما الأول فإنما قدم لأنه أولى بماله من غيره ولأن حاجته الماسة في الحال متقدمة على دينه وقد كان في حياته لا سبيل لقرابته إلى قوته ولباسه وكذلك في كفنه
وأما تقديم الدين فلأن ذمته مرتهنة بدينه وفرض الدين أولى من فعل الخير الذي يتقرب به
442

فأما تقديم الصدقة على الميراث في بعض المال ففيه مصلحة شرعية وإيالة دينية لأنه لو منع جميعه لفاته باب من البر عظيم ولو سلط عليه لما أبقى لورثته بالصدقة منه شيئا لأكثر الوارثين أو بعضهم فقسم الله سبحانه بحكمته المال وأعطى الخلق ثلث أموالهم في آخر أعمارهم وأبقى سائر المال للورثة كما قال صلى الله عليه وسلم إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس مع أنه كلالة منه بعيد عنه
وأراد بقوله خير هاهنا وجوها معظمها أن ذلك سبب إلى ذكره بالجميل وإحياء ذكره هو إحدى الحياتين ومعنى مقصود عند العقلاء وقد أثنى الله سبحانه على الأنبياء في طريقه فقال (* (وتركنا عليه في الآخرين) *) [الصافات 78] وأخبر عن رغبته فيه فقال (* (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) *) [الشعراء 84]
وإذا كان ورثته أغنياء عظم قدرهم وشرف ذكرهم في الطاعة وذكره
وقد ذكر الله تعالى الأوجه الثلاثة وترك الأول لأنه ليس بمتروك وإنما يكون متروكا ما فضل عن حاجته ومصلحته ولما جعل الله في القسم الثالث الوصية مشروعة مسوغة له وكلها إلى نظره لنفسه في أعيان الموصي لهم وبمقدار ما يصلح لهم
وقد كانت قبل ذلك مفروضة للوالدين والأقربين غير مقدرة ثم نسخ ذلك فروي أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله أعطى لكل ذي حق حقه لا وصية لوارث
443

وقد روى البخاري عن خباب قال هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث ثم قال ومنهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد له ما نكفنه فيه إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا عليه من الإذخر فبدأ بالكفن على كل شيء
وروى الأئمة عن جابر أن أباه استشهد يوم أحد وترك ست بنات وترك دينا فلما حضر جداد النخل أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد وترك عليه دينا وإني أحب أن يراك الغرماء قال اذهب فبيدر كل تمرة على حدة ففعلت فلما دعوته وحضر عندي ونظروا إليه كأنما أغروا بي تلك الساعة فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرا فجلس عليه وقال ادع أصحابك فما زال يكيل لهم حتى أدى الله أمانة والدي فقدم الدين على الميراث
وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة فقالوا صل عليها فقال هل عليه دين قالوا لا فصلى عليه ثم أتي بجنازة أخرى فقالوا يا رسول الله صل عليها فقال هل عليه دين قالوا نعم قال فهل ترك شيئا قالوا ثلاثة دنانير فصلى عليه ثم أتى بالثالثة فقالوا صل عليها فقال هل ترك شيئا قالوا لا قال أعليه دين قالوا ثلاثة دنانير
444

قال صلوا على صاحبكم قال أبو قتادة صل عليه يا رسول الله وعلي دينه فصلى عليه فجعل الوفاء بمقابلة الدين
ولهذه الآثار والمعاني السالفة قال علي بن أبي طالب رواه الترمذي وغيره إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية وأنتم تقدمون الوصية قبل الدين
فإن قيل فما الحكمة في تقديم ذكر الوصية على ذكر الدين والدين مقدم عليها قلنا في ذلك خمسة أوجه
الأول أن أو لا توجب ترتيبا إنما توجب تفصيلا فكأنه قال من بعد أحدهما أو من بعدهما ولو ذكرهما بحرف الواو لأوهم الجمع والتشريك فكان ذكرهما بحرف أو المتقضي التفصيل أولى
الثاني أنه قدم الوصية لأن تسببها من قبل نفسه والدين ثابت مؤدى ذكره أم لم يذكره
الثالث أن وجود الوصية أكثر من وجود الدين فقدم في الذكر ما يقع غالبا في الوجود
الرابع أنه ذكر الوصية لأنه أمر مشكل هل يقصد ذلك ويلزم امتثاله أم لا لأن الدين كان ابتداء تاما مشهورا أنه لا بد منه فقدم المشكل لأنه أهم في البيان
الخامس أن الوصية كانت مشروعة ثم نسخت في بعض الصور فلما ضعفها النسخ قويت بتقديم الذكر وذكرهما معا كان يقتضي أن تتعلق الوصية بجميع المال تعلق الدين لكن الوصية خصصت ببعض المال لأنها لو جازت في جميع المال لاستغرقته ولم
445

يوجد ميراث فخصصها الشرع ببعض المال بخلاف الدين فإنه أمر ينشئه بمقاصد صحيحة في الصحة والمرض بينة المناحي في كل حال يعم تعلقها بالمال كله
ولما قام الدليل وظهر المعنى في تخصيص الوصية ببعض المال قدرت ذلك الشريعة بالثلث وبينت المعنى المشار إليه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعد قال سعد للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله لي مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بثلثي مالي الحديث إلى أن قال له النبي صلى الله عليه وسلم الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس
فظهرت المسألة قولا ومعنى وتبينت حكمة وحكما
المسألة الخامسة عشرة
لما ذكر الله تقديم الدين على الوصية تعلق بذلك الشافعي في تقديم دين الزكاة والحج على الميراث فقال إن الرجل إذا فرط في زكاته وحجة أخذ ذلك من رأس ماله
وقال أبو حنيفة ومالك إن أوصى بها أديت من ثلثه وإن سكت عنها لم يخرج عنه شيء
وتعلق الشافعي ظاهر ببادئ الرأي لأنه حق من الحقوق فلزم أداءه عنه بعد الموت كحقوق الآدميين لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدمي
ومتعلق مالك أن ذلك موجب إسقاط الزكاة أو ترك الورثة فقراء لأنه يعتمد ترك الكل حتى إذا مات استغرق ذلك جميع ماله فلا يبقى للورثة حق فكان هذا قصدا باطلا في حق عباداته وحق ورثته وكل من قصد باطلا في الشريعة نقض عليه قصده تحقق ذلك منه أو اتهم به إذا ظهرت علامته كما قضينا بحرمان الميراث للقاتل وقد مهدناه في مسائل الخلاف
446

المسألة السادسة عشرة قوله تعالى (* (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) *))
اختلف العلماء في معناه على قولين
أحدهما لا تدرون في الدنيا أنهم أقرب لكم نفعا في الآخرة لأن كل واحد من الجنسين يشفع في الآخرة يوم القيامة
الثاني لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا أيهم أرفع درجة في الدنيا روي عن ابن عباس
والمعنى فيه أنه لو ترك الأمر على ما كان في أول الإسلام الوصية للوالدين والأقربين لم يؤمن إذا قسم التركة في الوصية حيف أحدكم لتفضيل ابن علي بنت أو أب على أم أو ولد على ولد أو أحد من هؤلاء أو غيرهم على أحد فتولى الله سبحانه قسمها بعلمه وأنفذ فيها حكمته بحكمه وكشف لكل ذي حق حقه وعبر لكم ربكم عن ولاية ما جهلتم وتولى لكم بيان ما فيه نفعكم ومصلحتكم والله أعلم
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم) *) [الآية 12]
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى في قراءتها
قرىء بفتح الراء وكسرها وقرئ بتشديدها مكسورة فإن كان بالفتح فذلك عائد الميت ويكون قوله كلالة حالا من الضمير في يورث
447

وإذا قرئت بالكسر فمعناه عائد إلى الورثة ويكون قوله كلالة مفعولا يتعدى الفعل إليه وكذلك بالتشديد وإنما فائدته تضعيف الفعل إليه
المسألة الثانية في لغتها
اختلف أهل اللغة وغيرهم في ذلك على ستة أقوال
قال صاحب العين الكلالة الذي لا ولد له ولا والد
الثاني قال أبو عمرو ما لم يكن لحا من القرابة فهو كلالة يقال هو ابن عمي لحا وهو ابن عمي كلالة
الثالث وهو في معنى الثاني أن الكلالة من بعد يقال كلت الرحم إذا بعد من خرج منها
الرابع أن الكلالة من لا ولد له ولا والد ولا أخ
الخامس أن الكلالة هو الميت بعينه كما يقال رجل عقيم ورجل أمي
السادس أن الكلالة هم الورثة والوراث الذين يحيطون بالميراث
المسألة الثالثة في التوجيه
أما القول الأول والثاني والثالث فيعضده الاشتقاق الذي بيناه في القول الثالث ويقرب منه توجيه الرابع لأن الأخ قريب جدا حين جمعه مع أخيه صلب واحد وارتكضا في رحم واحدة والتقما من ثدي واحدة وقد قال الشاعر
(فإن أبا المرء أحمى له
* ومولى الكلالة لا يغضب)
وأما من قال إنه الميت نفسه فقد نزع بقول الشاعر
(ورثتم قناة المجد لا عن كلالة
* عن ابني مناف عبد شمس وهاشم)
ومن قال إنهم المحيطون بالميراث نزع بأن العرب تقول كلله النسب أحاط به ومنه سمي التاج إكليلا لأنه يحيط بجوانب الرأس
وقال أبو عبيدة هو الذي لا والد له ولا ولد مأخوذ من تكلله النسب أي أحاط به كأنه سماه بضده كالمفازة والسليم على أحد الأقوال
448

المسألة الرابعة في المختار
دعنا من ترتان ومالنا ولاختلاف اللغة وتتبع الاشتقاق ولسان العرب واسع ومعنى القرآن ظاهر وظاهر القرآن أن الكلالة من فقد أباه وابنه والزوجات وترك الإخوة [والدليل عليه أن الله تعالى ترك سهام الفرائض مع الآباء والأبناء والزوجات وترك الإخوة] فجعل هذه آيتهم وجعلهم كلالة اسما موضوعا لغة بأحد معاني الكلالة مستعملا شرعا وكذلك ذكره في آخر السورة في آية الصيف سماه كلالة وذكر فريضة لا أب فيها ولا ابن فتحققنا بذلك مراد الله عز وجل في الكلالة
تبقى هاهنا نكتة تفطن لها أبو عمرو وهي إلحاق فقد الأخ للعين أو لعلة بالكلالة لأنها نازلة الآية في سورة النساء الأولى وهي هذه وفي الآية الأخرى آية الصيف الكلالة فقد الأب والابن فدل على أن الاشتقاق يقتضي ذلك كله ومطلق اللغة يقتضيه لأن القرآن جاء بها فاستعمله الشرع في كل موضع قصدا لبيان الأحكام بحسب الأدلة والمصالح فهذا جريان الأمر على الاشتقاق وتصريف اللغة فأما اعتبار المعنى على رسم الفتوى وهي
المسألة الخامسة واختلف العلماء في المراد بالكلالة على ثلاثة أقوال
الأول أن قوما اختاروا أن الكلالة من لا ولد له ولا والد وهو قول أبي بكر الصديق وإحدى الروايتين عن عمر
الثاني من لا ولد له وإن كان له أب أو أخوة
الثالث قول طريف لم يذكر في التقسيم الأول وهو أن الكلالة المال
فأما من قال إنه المال فلا وجه له وأما من قال إنه الذي ذهب طرفاه الأسفل فمشكل تحقيق القول فيه وذلك أن عمر أشكلت عليه هذه الآية حتى ألحف على
449

رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيانها فقال له ألا تكفيك آية الصيف يعني الآية التي أنزلت في آخر النساء
وروى معدان بن أبي طلحة قال خطب عمر بن الخطاب يوم الجمعة فقال إني لا أدع بعدي شيئا هو أهم عندي من الكلالة وفي رواية أهم عندي من الجد والكلالة وما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن بإصبعه في صدري وقال يا عمر أما تكفيك آية الصيف يعني الآية التي في آخر سورة النساء قال وإن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن
فإذا كان هذا أمرا وقف في وجه عمر فمتى يسفر لنا عنه وجه النظر
لكن الآن نرد في اقتحام هذا الوعر بنية وعلم فنقول فيها والله الموفق المنعم
إن الكلالة وإن كانت معروفة لغة متواردة على معان متماثلة ومتضادة فعلينا أن نتبصر مواردها في الشريعة فنقول
وردت في آيتين إحداهما هذه والأخرى التي في آخر سورة النساء كما تقدم فأما هذه فهي التي لا ولد فيها ولا والد وفيها إخوة لأم وأما التي في آخر سورة النساء فهي التي لا ولد ذكرا فيها وهم إخوة لأب وأم أو إخوة لأب أو أخوات لأب وأم وجد فجاءت هذه الآية لبيان حال الإخوة من الأم وجاءت في آخر سورة النساء لبيان إخوة الأعيان والعلات حتى يقع البيان بجميع الأقسام ولو شاء ربك لجمعه وشرحه
وكان عمر يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم النص القاطع للعذر وهو عليه السلام يحمله على البيان الواقع مع الإطلاق الذي وكل فيه إلى الاجتهاد بالأخذ من اللغة ومقاطع القول ومرابط البيان ومفاصله
450

وهذا نص في جواز الاجتهاد ونص في التكلم بالرأي المستفاد عند النظر الصائب
وإذا ثبت فيه النظر فإنه يصح في ذلك أن معنى الكلالة من كل أي بعد ومن تكلل أي أحاط على معنيين
أحدهما أن يكون على معنى السلب كما يقال فاز في المفازة أي انتفى له الفوز
والثاني أن الإحاطة وجدت مع فقد السبب الذي يقتضي الإحاطة وهو قرب النسب
المسألة السادسة
إنما قلنا إن الكلالة في هذه الآية فقد الابن والأب لأن الإخوة للأم يحجبون بالجد وهم المرادون في الآية بالإخوة إجماعا ودخل فيها الجد الخارج عن الكلالة لأنه أصل
النسب كالأب المتولد عنه الابن
وأما الآية التي في آخر النساء فقد قال المحققون من علمائنا إن الجد أيضا خارج عنها لأن الأخت مع الجد لا تأخذ نصفا إنما هي مقاسمة وكذلك الأخ مقاسم لها
فإن قيل فلم أخرجتم الجد عنها
قلنا لأن الاشتقاق يقتضي خروجه عنها إذ حقيقة الكلالة ذهاب الطرفين وعليه مبنى اللغة وغير ذلك من الأقوال بعيد ضعيف
وأفسدها قول من قال إنه المال فإنه غير مسموع لغة ولا مقيس معنى
الثاني أن الجد يرث مع ذكور ولد المتوفى في السدس والإخوة لا يرثون معهم فكيف يشارك من يسقط الإخوة كلهم ويكون كأحدهم
ولهذه العلة قال حبر الأمة مالك بن انس إن امرأة لو ماتت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأبيها وإخوتها لأمها وجدها إن النصف للزوج والسدس للأم فريضة وللجد ما بقي قال لأن الجد يقول لو لم أكن كان للإخوة للأم ما بقي ولا يأخذ الإخوة للأب شيئا فلما حجبت إخوة الأم عنه كنت أنا أحق به
451

وقد روي عن مالك أنه جعل للجد السدس وللإخوة للأب السدس كهيئة المقاسمة وذلك محقق في الفرائض
المسألة السابعة قوله (* (فهم شركاء في الثلث) *))
اتفق العلماء على أن التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى لأن مطلق اللفظ يدل عليه كما أن الآية التي في سورة النساء في آخرها ما يقتضي التعصيب ولذلك قلنا في مسألة الزوج والأم والأخ من الأم والإخوة من الأب والأم إن للزوج النصف وللأم السدس وللأخ للأم السدس وللإخوة للأب والأم السدس بحكم التعصيب
المسألة الثامنة
الأخوات عصبة للبنات وإذا ترك بنتا وأختا أو ابنتين وأختا فالنصف للابنة وللأخت ما بقي وهما ذواتا فرض لكن إذا اجتمعا سقط فرض الأخوات وعاد سهمهن إلى التعصيب بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود كما تقدم
وقال ابن عباس وابن الزبير الابنة تسقط الأخت لأن الله تعالى يقول (* (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت) *) [النساء 176] فتأخذ البنت النصف وما بقي للعصبة وقد سبق قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن مسعود
وفي البخاري أن معاذا قضى باليمن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن للابنة النصف وللأخت النصف وبهذا الحديث رجع ابن الزبير عن قوله فصار فرض الأخت والأخوات بالنص إن لم يكن ولد وصار فرضهن التعصيب إن كان بنتا وسقطن بالذكر بظاهر القرآن فخصت السنة برواية ابن مسعود قوله (* (ليس له ولد) *))
المسألة التاسعة
لو كان الورثة أخوين للأم أحدهما ابن عم أو ابنا عم أحدهما أخ لأم فأما الصورة الأولى فاتفق الناس فيها أن الثلث لهما بسبب الأم ويأخذ الثاني ما بقي من الميراث بالتعصيب
452

وأما الثانية فاختلفوا فيها فقال الجمهور لمن اجتمعت فيه القرابتان السدس بحكم الأمومة والباقي بينه وبين الآخر
وقال عمر وابن مسعود المال للأخ للأم وبه قال شريح والحسن وأبو ثور واحتجوا بأنه ساواه في التعصيب وفضله بقرابة الأم فكان مقدما عليه في التعصيب كالأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب
ودليلنا أن الإخوة من الأم سبب يفرض به في السهام فلا يرجح به في التعصيب كما لو كان زوجها وبهذا فارق الأخ الشقيق فإنه لا يفرض له بقرابة الأم
فإن قيل فقد فرضتم له في مسألة المشتركة
قلنا إنما يفرض فيها لولد الأم لا لولد الأب والأم ثم يدخل معهم فيه ولد الأب والأم
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (غير مضار) *))
وذلك راجع إلى الوصية والدين
أما رجوعه إلى الوصية فبوجهين
أحدهما بأن يزيد على الثلث
الثاني بأن يوصي لوارث فأما إن زاد على الثلث فإنه يرد إلا أن يجيز الورثة لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله
وأما إن أوصى إلى وارث فإن الورثة يحاصون به أهل الوصايا في وصاياهم ويرجع ميراثا
وقال أبو حنيفة والشافعي تبطل ولا يقع به تحاص ونظرهما بين في إسقاط ما زاد على الثلث لبطلانه ومطلع نظر مالك أعلى لأنا نتبين بوصيته للوارث مع سائر الوصايا أنه أراد تنقيص حظ الوصايا وتخصيص وارثه فإن بطل أحد
453

القصدين لأن الشرع لم يجوزه لم يبطل الآخر لأن الشرع لم يمنع منه وقد بيناه في مسائل الخلاف فيرد ما أبطل الشرع ويمضي ما لم يعترض فيه
وأما رجوع المضارة إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز فيها لشخص الإقرار له به كما لو أقر في مرضه لوارثه بدين أو لصديق ملاطف له فإن ذلك لا يجوز عندنا
إذا تحققنا المضارة بقوة التهمة أو غلب على ظننا
وقال أبو حنيفة يبطل الإقرار رأسا وقال الشافعي يصح
ومطلع النظر أنا لمحنا أن الموروث لما علم أن هبته لوارثه في هذه الحالة أو وصيته له لا تجوز وقد فاته نفعه في حال الصحة عمد إلى الهبة فألقاها بصورة الإقرار لتجوزها ويعضد هذه التهمة صورة القرابة وعادة الناس بقلة الديانة
ومطلع نظر أبي حنيفة نحو منه لكنه ربط الأمر بصفة القرابة حين تعذر عليه الوقوف على التهمة كما علقت رخص السفر بصورة السفر حين تعذر الوقوف على تحرير المشقة ووجودها
وراعى الشافعي في نظره أن هذه حالة إخبار عن حق واجب يضاف إلى سبب جائز في حالة يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر ويتوب فيها المعاصي فأمضاه عليهم وجوزه
فإن قال الإقرار حجة شرعية فلا يؤثر فيها المرض
قلنا وإن كان الإقرار حجة شرعية [فإن الهبة صلة شرعية] ولكن حجرها المرض كذلك تحجر التهمة الإقرار وكما ردت التهمة الشهادة أيضا
وأما نظر أبي حنيفة إلى صورة القرابة ففيه إلغاء العلة في غير محلها وقصر لها على موردها وينبغي أن تطرد العلة حيث وجدت ما لم يقف دونها دليل تخصيص فعلى هذا إذا وجدنا التهمة في غير القريب من صديق ملاطف حكمنا ببطلان الإقرار وكم من صديق ألصق من قريب وأحكم عقدة في المودة
454

تكملة
لما ذكر الله تعالى في هذه الآية فائض السهام وبقيت بعد ذلك من الأموال بقية مسكوت عنها في كتاب الله عز وجل بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في الحديث الصحيح ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقته الفرائض فلأولي عصبة ذكر فلأجل ذلك قدم الأقعد في العصبة على الأبعد كالأخ من الأب والأم يقدم على الأخ للأب وابن الأخ من الأب والأم على ابن الأخ للأب ويقدم الأخ للأب على ابن الأخ للأب والأم هكذا أبدا
تخصيص
قال الله سبحانه (* (يوصيكم الله في أولادكم) *) [النساء 11] الفرائض إلى آخرها بسهامها ومستحقيها ثم ثبت في الصحيح المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم فخرج من هذا العموم توارث الكفار والمسلمين فلا يرث كافر مسلما ولا يحجبه
وقال ابن مسعود هو وإن كان لا يرث فإنه يحجب وهذا ضعيف فإن المذكور في قوله (* (ولأبويه) *) [النساء 11] هو المذكور في (* (إن كان له ولد) *
455

) [النساء 11] فكما أن قوله (* (ولأبويه) *) لم يدخل فيه الكفار كذلك قوله (* (إن كان له ولد) *) لا يدخل فيه الكافر
تحقيقه أن الشريعة جعلته في باب الإرث وإن كان موجودا كالمعدوم كذلك في باب الحجب فإنه أحد حكمي الميراث فلا يؤثر فيه الكافر أو لا يتعلق بالكافر أصله الميراث والتعليل بالحجب معضد لهذه الأقسام في الأبواب
قال علماؤنا الأسباب التي يستحق بها الميراث ثلاثة أسباب نكاح ونسب وولاء
فأما النكاح والنسب فهو نص القرآن وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يستحق الميراث زائدا على هذا بالحلف والمعاقدة والاتحاد في الديوان
وحقيقة المسألة في المذهب أن الميراث عندنا يستحق بأربعة معان نكاح ونسب وولاء وإسلام ومعنى قولنا وإسلام أن بيت المال عندنا وارث
وقال أبو حنيفة ليس بوارث وقد حققناه في مسائل الخلاف وعول أبو حنيفة على قوله تعالى (* (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) *) [النساء 33] وهي آية نبينها في موضعها إن شاء الله تعالى
فصل
لما قدر الله سبحانه الفرائض مقاديرها وقررها مقاريرها واستمرت على ذلك زمانا نزلت في خلافة عمر عارضة وهي ازدحام أرباب الفرائض على الفرائض وزيادة فروضهم على مقدار المال مثال ذلك امرأة تركت زوجها وأختها وأمها قال ابن عباس فلما ألقيت عند عمر وكان امرأة ورعا ودفع بعضهم بعضا قال والله ما أدري أيكم قدم الله ولا أيكم أخر فلا أجد ما هو أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص فأدخل على كل ذي سهم ما دخل عليه من عول
وقال ابن عباس سبحان الله العزيز إن الذي أحصى رمل عالج عددا ما جعل في المال نصفا ونصفا وثلثا فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين الثلث فليجيئوا فلنضع أيدينا على الركن فلنبتهل
قال زفر بن الحارث البصري يا بن عباس وأيهما قدم الله وأيهما أخر قال
456

كل فريضة لم يهبطها الله إلا إلى فريضة فهي المقدم وكل فرض إذا زال رجع إلى ما بقي فهو المؤخر
قال القاضي اجتمعت الأمة على ما قال عمر ولم يلتفت أحد إلى ما قال ابن عباس وذلك أن الورثة استووا في سبب الاستحقاق وإن اختلفوا في قدره فأعطوا عند التضايق حكم الحصة أصلة الغرماء إذا ضاق مال الغريم عن حقوقهم فإنهم يتحاصون بمقدار رؤوس أموالهم في رأس مال الغريم
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) *) [الآية 15]
قال القاضي هذه معضلة في الآيات لم أجد من يعرفها ولعل الله أن يعين على علمها وفيها ثماني عشرة مسألة
المسألة الأولى
اجتمعت الأمة على أن هذه الآية ليست منسوخة لأن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما بحال وأما إذا كان الحكم ممدودا إلى غاية ثم وقع بيان الغاية بعد ذلك فليس بنسخ لأنه كلام منتظم متصل لم يرفع ما بعده ما قبله ولا اعتراض عليه
المسألة الثانية قوله تعالى (* (اللاتي) *))
هو جمع التي كلمة يخبر بها عن المؤنث خاصة كما أن قوله الذي يخبر به عن المذكر خاصة وجمعه الذين وقد تحذف التاء فتبقى الياء الساكنة فتجري بحركتها قال سبحانه (* (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) *) [الطلاق 4] فجاء باللغتين في القرآن وقد قال الشاعر المخزومي
457

(من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
* ولكن ليقتلن البريء المغفلا))
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (الفاحشة) *))
هي في اللغة عبارة عن كل فعل تعظيم كراهيته في النفوس ويقبح ذكره في الألسنة حتى يبلغ الغاية في جنسه وذلك مخصوص بشهوة الفرج إذا اقتضيت على الوجه الممنوع شرعا أو المجتنب عادة وذلك يكون في الزنا إجماعا وفي اللواط باختلاف
والصحيح أن اللواط فاحشة لأن الله سبحانه سماه به على ما يأتي ذكره في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (يأتين الفاحشة) *))
يقال أتيت مقصورا أي جئت وعبر عن الفعل والعمل بالمجيء لأن المجيء إليه يكون وهذا من بديع الاستعارة
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (من نسائكم) *))
اختلف الناس في ذلك فقال الأكثر من الصحابة إن المراد بذلك الأزواج وقال آخرون المراد الجنس من النساء وتعلق من قال إنهن الأزواج بقوله تعالى (* (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) *) [البقرة 226] وقوله (* (الذين يظاهرون منكم من نسائهم) *) [المجادلة 2] وأراد الأزواج في الآيتين فكذلك في هذه الآية الثالثة وإذا كان إضافة زوجية فلا فائدة فيها إلا اعتبار الثيوبة قالوا ولأن الله سبحانه ذكر عقوبتين إحداهما أكبر من الأخرى وكانت الأكبر للثيب والأصغر للبكر
والصحيح عندي أنه أراد جميع النساء لأنه مطلق اللفظ الذي يقتضي ذلك وعمومه فأما الذي تعلقوا به من آية الإيلاء والظهار فإنما أوقفناه على الأزواج لأن الظهار والإيلاء من أحكام النكاح ألا ترى أن الإيلاء لما كان مجردا عن النكاح بأن يحلف ألا يطأ امرأة أجنبية فوطئها يحنث إذا وطئها إذا تزوجها وإنما وقف على الأجل في الزوجة رفعا للضرر
458

وأما قولهم إنه ذكر عقوبتين فاقتضى أن يكون الأغلظ للأعظم والأقل للأصغر بناء منهم على أن الآيتين في النساء جميعا إحداهما في الثيب والأخرى في البكر وهذا لا يصح وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وقد قال المحققون من علمائنا إن الحكمة في قوله تعالى (* (من نسائكم) *) بيان حال المؤمنات كما قال تعالى (* (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) *) [البقرة 282] يعني من المؤمنين
وقال تعالى (* (ذوي عدل منكم) *) [الطلاق 2] ويفيد ذلك أن الحاكم لا يحد الكافرة إذا زنت وذلك يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
المسألة السادسة قوله تعالى (* (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) *))
وهذا حكم ثابت بإجماع من الأمة قال تعالى (* (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم) *) الآية [النور 4]
فشرط غاية الشهادة في غاية المعصية لأعظم الحقوق حرمة وتعديد الشهود بأربعة حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال جاءت اليهود برجل وامرأة قد زنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ائتوني بأعلم رجلين منكم فأتوه بابني صوريا فنشدهما الله كيف تجدان أمر هذين في التوراة قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما قال فما يمنعكما أن ترجوهما قالا ذهب سلطاننا وكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاؤوا وشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمهما
المسألة السابعة
ولا بد أن يكون الشهود عدولا لأن الله عز وجل شرط العدالة في البيوع والرجعة فهذا أعظم وهو بذلك أولى وهو من باب حمل المطلق على المقيد بالدليل حسبما بيناه في أصول الفقه
459

المسألة الثامنة
ولا يكونوا ذمة وإن كان الحكم على ذمة وسيأتي ذلك في سورة المائدة إن شاء الله تعالى
المسألة التاسعة
فإن قيل أليس القتل أعظم حرمة من الزنا وقد ثبت في الشرع بشاهدين فما هذا
قال علماؤنا في ذلك حكمة بديعة وهو أن الحكمة الإلهية والإيالة الربانية اقتضت الستر في الزنا بكثرة الشهود ليكون أبلغ في الستر وجعل ثبوت القتل بشاهدين بل بلوث وقسامة صيانة للدماء
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (منكم) *))
المراد به هاهنا الذكور دون الإناث لأنه سبحانه ذكر أولا (* (من نسائكم) *) ثم قال (* (منكم) *) فاقتضى ذلك أن يكون الشاهد غير المشهود عليه ولا خلاف في ذلك بين الأمة
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (فإن شهدوا) *))
المعنى فاطلبوا عليهن الشهداء فإن شهدوا وليس هذا بأمر وجوب لطلب الشهادة وإنما هو أمر تعليم كيف يكون الحكم بالشهادة وصفة الشهادة التي يشهد بها الشاهد ما ورد في الحديث من شأن ماعز بن مالك الأسلمي على ما رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه في الخامسة فقال أنكتها قال نعم قال حتى غاب ذلك منك فيها قال نعم قال كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال نعم قال هل تدري ما الزنا قال نعم قال أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله
460

حلالا قال نعم قال فما تريد مني بهذا القول قال أريد أن تطهرني فأمر به فرجم
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (فأمسكوهن في البيوت) *))
أمر الله تعالى بإمساكهن في البيوت وحبسهن فيها في صدر الإسلام قبل أن تكثر الجناة فلما كثر الجناة وخشي فوتهم اتخذ لهم سجن
واختلف في هذا السجن هل هو حد أو توعد بالحد على قولين
أحدهما أنه توعد بالحد
والثاني أنه حد
قال ابن عباس والحسن زاد ابن زيد أنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا يعني عقوبة لهم حيث طلبوا النكاح من غير وجهه ثم نسخ ذلك بالحد
وقال ابن عباس أنزل الله سبحانه بعد ذلك (* (الزانية والزاني) *) [النور] فمن كان محصنا رجم ومن كان بكرا جلد
والصحيح أنه حد جعله الله عقوبة ممدودة إلى غاية مؤذنة بأخرى هي النهاية
وإنما قلنا إنه حد لأنه إيذاء وإيلام ومن الناس من يرى أنه أشد من الجلد وكل إيذاء وإيلام حد لأنه منع وزجر
وإنما قلنا إنه ممدود إلى غاية إبطالا لقول من رأى من المتقدمين والمتأخرين إنه نسخ وقد تقدم بيانه
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (أو يجعل الله لهن سبيلا) *))
روى مسلم وغيره عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خذوا عني قد
461

جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم
وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك واربد فأنزل الله عليه ذات يوم فلقي لذلك فلما سري عنه قال قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب والبكر بالبكر الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ونفي سنة
وروى مسلم في بعض طرقه البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم
فبين صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحوال بكر تزني ببكر وثيب تزني بثيب الثالث بكر تزني بثيب أو ثيب تزني ببكر لقوله البكر تجلد وتنفى والثيب ترجم
المسألة الرابعة عشرة
البكر يجلد ويغرب وبه قال الشافعي وأحمد
وقال أبو حنيفة وحماد لا يقضى بالنفي حدا إلا أن يراه الحاكم تعزيرا واحتجا بقوله تعالى (* (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *) [النور 2] ولم يذكر تغريبا والزيادة على النص نسخ
قلنا لا نسلم أن الزيادة على النص نسخ وقد بيناه في غير موضع
462

جواب ثان قد رددتم البينة بخبر لا يصح على الماء والتراب
جواب ثالث وذلك أن الله تعالى ذكر الجلد ولم يذكر الرجم وهو زيادة عليه
جواب رابع وذلك أن الله تعالى لم يذكر الإحصان ولا الحرية فتبين أن المقصود من الآية بيان جنس الحد والفرق بين المحصن وغير المحصن
المسألة الخامسة عشرة
المرأة لا تغرب خلافا للشافعي وغيره حين تعلقوا بعموم الحديث والمعنى يخصه فإن المرأة تحتاج من الصيانة والحفظ والقصر عن الخروج والتبرز اللذين يذهبان بالعفة إلى ما لا يحتاج إليه الرجل
المسألة السادسة عشرة
العبد لا يغرب خلافا للشافعي حيث يقول بعموم الخبر ويخصه قوله صلى الله عليه وسلم إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ثم إن زنت فليجلدها ثم قال في الثالثة أو الرابعة فليبعها ولو بضفير فكرر ذكر الجلد ولم يذكر التغريب ولو كان واجبا لكرره أو ذكره
وأيضا فإن المعنى يخصه لأن المقصود من تغريب الحر إيذاؤه بالحيلولة له بينه وبين أهله والإهانة له ولا يتصور ذلك في العبد
المسألة السابعة عشرة في أصل التغريب
وهو أنه أجمع رأي خيار بني إسماعيل على أن من أحدث في الحرم حدثا غرب منه وكان ذلك مما بينه لهم أولهم فصارت سنة لهم فيه يدينون بها فلأجل ذلك استن الناس إذا أحدث أحد حدثا غرب عن بلده وتمادى بذلك إلى الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأقره في الزنا خاصة لأن المظالم يمكن كف الظالم عنها جهرا فلا
463

يقدر عليها سرا والزنا ليس الكف عنه بكامل حتى يغرب عن موضعه فلا تكون له حيلة في السر يتوصل بها إلى العودة إليه أو إلى مثله
المسألة الثامنة عشرة
لا يجمع بين الجلد والرجم خلافا لأحمد وغيره ومتعلقهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل علي ذلك أيام خلافته
وقولنا أصح لأن كل من رجمه النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلده فتركه له عليه السلام فعلا في كل من رجم وقولا في قوله في حديث العسيف واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها مسقط له
الأية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما) *) [الآية 16]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
فيها ثلاثة أقوال
الأول أن الإذاية في الأبكار قاله قتادة والسدي وابن زيد
الثان أنها عامة في الرجال والنساء
الثالث أنها عامة في أبكار الرجال وثيبهم قاله مجاهد واحتج بأن لفظ الآية الأولى مؤنث فاقتضى النساء وهذا لفظ مذكر فاقتضى الرجال
464

ورد عليه الطبري وأبو عبد الله النحوي وغيرهما وقالوا إن لفظ الآية الثانية يصلح للذكر والأنثى
قال ابن العربي والصواب مع مجاهد وبيانه أن الآية الأولى نص في النساء بمقتضى التأنيث والتصريح باسمهن المخصوص لهن فلا سبيل لدخول الرجال فيه ولفظ الثانية يحتمل الرجال والنساء وكان يصح دخول النساء معهم فيها لولا أن حكم النساء تقدم والآية الثانية لو استقلت لكانت حكما آخر معارضا له فينظر فيه ولكن لما جاءت منوطة بها مرتبطة معها محالة بالضمير عليها فقال (* (يأتيانها منكم) *) علم أنه أراد الرجال ضرورة وإذا ثبت هذا قلنا وهي
المسألة الثانية
إن قوله (* (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) *) عام في البكر والثيب فاقتضى مساق الآيتين أن الله تعالى جعل في زنا النساء عقوبة الإمساك في البيوت وجعل في زنا الرجال على الإطلاق فيهما جميعا الإيذاء فاحتمل وهي
المسألة الثالثة
أن يكون الإيذاء الذي جعل الله عقوبة لهم عقوبة دون الإمساك واحتمل الإيذاء والإمساك حملا على النساء والأول أظهر وإذا ثبت هذا فهاهنا نكتة حسنة وهي
المسألة الرابعة
أن الجلد بالآية والرجم بالحديث نسخ هذا الإيذاء في الرجال لأنه لم يكن ممدودا إلى غاية وقد حصل التعارض وعلم التاريخ ولم يمكن الجمع فوجب القضاء بالنسخ وأما الجلد فقرآن نسخ قرآنا وأما الرجم فخبر متواتر نسخ قرآنا ولا خلاف فيه بين المحققين وقد بيناه في أصول الفقه وأوعبنا القول في القسم الثاني قبل هذا فيه
465

الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) *) [الآية 19]
فيه تسع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك أقوال
الأول قال ابن عباس كان الرجل في الجاهلية إذا مات كان أولياؤه أحق بزوجته من وليها يتزوجها أو ينكحها لغيره وربما ألقى أحد من أوليائه عليها ثوبا فكان أولى بها حتى مات ابن عامر فأنزل الله سبحانه وتعالى الآية ونحوه عن زيد بن أسلم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ولا تعضلوهن) *))
القول في العضل قد تقدم في سورة البقرة قيل فيها أمروا بتخلية سبيلهن إذا لم يرثوهن
وقيل هذا خطاب للجاهلية الذين كانوا يمنع الرجل منهم امرأة أبيه أن تتزوج حتى تموت فيرثها رواه ابن وهب عن مالك
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ما آتيتموهن) *))
قيل هو خطاب للأزواج إذا لم يتفقوا مع أزواجهن نهوا أن يمسكوهن على غير عشرة جميلة حتى يأخذوا ما أعطوهن
وقيل هو خطاب للأزواج كما تقدم والجاهلية نهوا أن يمنعوا النساء من النكاح
466

لمن أردن إذا مات أزواجهن ولا يحبسوهن ليرثوا منهن ما ورثوا من مورثهم عبر عن ذلك بقوله تعالى (* (آتيتموهن) *) لأنه إعطاء في الحقيقة على وجه الميراث وهم يريدون أن يأخذوه على وجه الغصب ميراثا أيضا
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) *))
وفي ذلك أربعة أقوال
الأول قيل الفاحشة الزنا
الثاني قيل النشوز
الثالث قال عطاء كان الرجل من الجاهلية إذا زنت امرأته أخذ جميع مالها الذي ساقه لها ثم نسخ الله سبحانه ذلك بالحدود
الرابع قيل إنه كان في الزنا ثلاثة وجوه قيل لهم (* (ولا تقربوا الزنى) *) الآية ثم قيل لهم (* (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) *) [النساء 15] فجاز له عضلها عن حقها وأخذ مالها ثم نزلت (* (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) *) [النساء 16] فهذا البكران
المسألة الخامسة في تحقيق ما تقدم من الأقوال
أما من قال إنه الزنا والنشوز فقد بينا أحكام جواز الخلع وأخذ مال المرأة في سورة البقرة
وأما قول عطاء فمحتمل صحيح تتناوله الآية لكن لا يقال في مثل هذا إنه نسخ وإن كان في التحقيق نسخا لأن محمدا صلى الله عليه وسلم نسخ الباطل ولكن اللفظ مجمل ينطلق عليه وشرط يرتبط به معلوم عند العلماء مبين في موضعه
وأما من قال كان في الزنا ثلاثة أنحاء فتحكم محض ونقل لم يصح وتقدير يفتقر إلى نقل ثابت ولم يكن فلا معنى للاشتغال به
467

المسألة السادسة في تقدير الآية على الصحيح من الأقوال
وهو أن المعنى لا يحل لرجل أن يحبس امرأة كرها حتى يأخذ مالها إذا ماتت كانت غير زوجة أو زوجة قد سقط غرضه فيها وسقطت عشرته الجميلة معها ولا يحل عضلها عن النكاح لغيرهم حتى يأخذ الزوج ما أعطاها صداقا أو ليأخذ الغاصب ما كان أخذ من مال مورثه إلا أن يكون منهن ذنب بزنا أو نشوز لا تحسن معه عشرة فجائز عند ذلك أن يتمسك بنكاحها حتى يأخذ منها مالا فأول الآية عام في الأزواج وغيرهم وآخرها عند الاستثناء مخصوص بالأزواج
المسألة السابعة قوله تعالى (* (وعاشروهن بالمعروف) *))
وحقيقة عشر في العربية الكمال والتمام ومنه العشيرة فإنه بذلك كمل أمرهم وصح استبدادهم عن غيرهم
وعشرة تمام العقد في العدد ويعشر المال لكماله نصابا
فأمر الله سبحانه الأزواج إذا عقدوا على النساء أن يكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على التمام والكمال فإنه أهدأ للنفس وأقر للعين وأهنأ للعيش وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه ذلك في القضاء إلا أن يجري الناس في ذلك على سوء عادتهم فيشترطونه ويربطونه بيمين ومن سقوط العشرة تنشأ المخالعة وبها يقع الشقاق فيصير الزوج في شق وهو سبب الخلع على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) *))
المعنى إن وجد الرجل في زوجته كراهية وعنها رغبة ومنها نفرة من غير فاحشة ولا نشوز فليصبر على أذاها وقلة إنصافها فربما كان ذلك خيرا له
أخبرني أبو القاسم بن أبي حبيب بالمهدية عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر ابن عبد الرحمن قال كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة المعروفة وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها
468

فيقال له في أمرها فيسدل بالصبر عليها وكان يقول أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني فلعلها بعثت عقوبة على ديني فأخاف إذا
فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها
المسألة التاسعة قال علماؤنا
في هذا دليل على كراهية الطلاق وقد تقدم ذكره قبل هذا
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) *) [الآية 2]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
لما أباح الله الفراق للأزواج والانتقال بالنكاح من امرأة إلى امرأة أخبر عن دينه القويم وصراطه المستقيم في توفية حقوقهن إليهن عند فراقهن فوطأة واحدة حلالا تقاوم مال الدنيا كله نهى الأزواج عن أن يعترضوهن في صدقاتهن إذ قد وجب ذلك لهن وصار مالا من أموالهن
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وآتيتم إحداهن قنطارا) *))
فيه جواز كثرة الصداق وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يقللونه وقد قال عمر بن الخطاب على المنبر ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية فقامت إليه امرأة فقالت يا عمر يعطينا الله وتحرمنا أنت أليس الله سبحانه يقول وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فقال عمر امرأة أصابت وأمير أخطأ
وفي الرواية المشهور عنه مثله إلى قوله اثنتي عشرة أوقية زاد فإن الرجل يغلي بالمرأة في صداقها فتكون حسرة في صدره فيقول كلفت إليك عرق القربة قال
469

فكنت غلاما مولودا لم أدر ما هذا قال وأخرى يقولون لمن قتل في مغازيكم هذه قتل فلان شهيدا أو مات فلان شهيدا ولعله أن يكون خرج وأفرد دون راحلته أو أعجزها بطلب النجاة ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل في سبيل الله أو مات فله الجنة
وهذا لم يقله عمر على طريق التحريم وإنما أراد به الندب إلى التعليم وقد تناهى الناس في الصدقات حتى بلغ صداق امرأة ألف ألف وهذا قل أن يوجد من حلال
وقد سئل عطاء عن رجل غالى في صداق امرأة أيرده السلطان قال لا
وقد روي عن عمر أنه خطب إلى علي أم كلثوم ابنته من فاطمة فقال إنها صغيرة فقال عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن كل نسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري فلذلك رغبت في مثل هذا فقال علي إني أرسلها حتى تنظر إلى صغرها فأرسلها فجاءت فقالت إن أبي يقول هل رضيت الحلة فقال عمر قد رضيتها فأنكحها علي فأصدقها أربعين ألف درهم
وقد روي أن صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة كان أربعمائة دينار وروي ثمانمائة دينار
وروي عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير النكاح أيسره
وقال لرجل أترضى أن أزوجك فلانة قال نعم وقال للمرأة أترضين أن أزوجك فلان قالت نعم فزوجها فدخل عليها فلم يكتب لها صداقا ولا أعطاها شيئا وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر فلما حضرته الوفاة قال إن رسول الله
470

صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة فلم أعين لها صداقا ولم أعطها شيئا وإني أعطيها من صداقها سهمي بخيبر فأخذت سهمه ذلك فباعته بمائة ألف
وزوج عروة البارقي بنت هانئ بن قبيصة على أربعين ألف درهم
وعن غيلان بن جرير أن مطرفا تزوج امرأة على عشرة آلاف أوقية
وقد ثبت في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة بنواة من ذهب يقال هي خمسة دراهم وزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة بخاتم من حديد
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا تزوج امرأة على نعلين فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضيت عن مالك بهاتين النعلين قالت نعم فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم
وقال سعيد بن المسيب لو أصدقها سوطا جاز
وقال إبراهيم يستحب في الصداق الرطل من الذهب وكانوا يكرهون أن يكون سهم الحرائر مثل أجور البغايا الدرهم والدرهمين ويحبون أن يكون عشرين درهما وشئ من هذا لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره خلاف حديث عبد الرحمن بن عوف وخاتم الحديد وسيأتي تقدير المهر بعد هذا إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة قوله سبحانه (* (قنطارا) *))
قال علماؤنا اختلف في القنطار على عشرة أقوال
الأول أنه اثنا عشر ألف درهم روي عن الحسن وابن عباس
الثاني أنه ألف ومائتا دينار قاله الحسن وهو الأولى للصواب
الثالث أنه دية أحدكم روي عن ابن عباس
471

الرابع أنه ألف ومائتا أوقية روي عن أبي هريرة
الخامس أنه اثنا عشر ألف أوقية قاله أبو هريرة أيضا
السادس أنه ثمانون ألف درهم روي عن ابن عباس وابن المسيب
السابع أنه مائة رطل قاله قتادة
الثامن أنه سبعون ألف دينار قاله مجاهد
التاسع قال أبو سعيد الخدري وهو ملء مسك ثور من ذهب
العاشر أنه المال الكثير من غير تحديد
المسألة الرابعة
هذه الأقوال كلها تحكم في الأكثر وقد روي بعضها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح في هذا الباب شيء
والذي يصح في ذلك أنه المال الكثير الوزن هذا عرف عربي أما أن الناس لهم في القنطار عرف معتاد وهو أن القنطار أربعة أرباع والربع ثلاثون رطلا والرطل اثنتا عشرة أوقية والأوقية ستة عشر درهما والدرهم ست وثلاثون حبة وهي ستة دوانيق فما زاد أو نقص فبحسب اتفاقهم أو بحكم الولاة وقد ردوا الدرهم من سبعة والأصل أنه من ستة دوانيق وركبوا الدرهم الأكبر من ثمانية دوانيق على الدرهم الأصغر وهو أربعة دوانيق فحملت بنو أمية زيادة الأكبر على نقصان الأصغر فجعلوهما درهمين متساويين كل واحد منهما ستة دوانيق وجعلوا الدينار درهمين وذلك أربعة وعشرون قيراطا والقراط ثلاث حبات
وقد روي شريك عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب قال زوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة على أربعمائة وثمانين درهما بوزن ستة وهذا ضعيف إنما زوجه إياها في الصحيح على درعه الحطمية
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) *) [الآية 21]
472

فيه ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (أفضى) *))
أفعل من الفضاء وهو كل موضع خال فقال وكيف تأخذونه وقد كانت الخلوة بينكم وبينهن وهذا دليل على وجوب المهر بالخلوة وقد بينا ذلك في سورة البقرة ومسائل الخلاف
ولمالك في ذلك ثلاث روايات
إحداهن يستقر المهر بالخلوة
الثاني لا يستقر إلا بالوطء
الثالث يستقر بالخلوة في بيت الإهداء
والأصح استقراره بالخلوة مطلقا ويليه في بيت الإهداء
وأما وقوفه على الوطء فضعيف
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وأخذنا منكم ميثاقا غليظا) *))
فيه قولان
الأول قاله مجاهد وقتادة وغيرهما قوله (* (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *) [البقرة 229]
الثاني كلمة النكاح قاله مجاهد وهي قوله (نكحت) وعن محمد بن كعب نحوه وقد ثبت عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وقد تقدم ذلك في سورة البقرة
473

المسألة الثالثة
قال بكر بن عبد الله المزني لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا لقوله (* (فلا تأخذوا منه شيئا) *) إلى قوله (* (ميثاقا غليظا) *)
قال ابن زيد رخص بعد ذلك فقال (* (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) *) فنسخ ذلك
قال الطبري بل هي محكمة ولا معنى لقول بكر إن أرادت هي العطاء فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها وصدق إنما يكون النسخ عند تعذر الجمع والجمع ممكن وبه يتم البيان وتستمر في سبلها الأحكام
الأية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) *) [الآية 22]
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى
قد بينا في غير موضع أن النكاح أصله الضم والجمع فتجتمع الأقوال في الانعقاد والربط كما تجتمع الأفعال في الاتصال والضم لكن العرب على عادتها خصصت اسم النكاح ببعض أحوال الجمع وبعض محاله وما تعلق بالنساء واقتضى تعاطي اللذة فيها واستيفاء الوطر منها وعلى ذلك من المعنيين جاءت الآثار والآيات
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ما نكح) *))
اختلف العلماء في كلمة ما هل يخبر بها عما يعقل أم لا وقد بينا في رسالة ملجئة المتفقهين أن ذلك مستعمل في اللغة شائع فيها وفي الشريعة
474

وجهل المفسرون هذا المقدار واختلفت عباراتهم في ذلك فقالت طائفة المعنى ولا تنكحوا نكاح آبائكم يعني النكاح الفاسد المخالف لدين الله إذ الله سبحانه قد أحكم وجه النكاح وفصل شروطه
والمعنى الصحيح ولا تنكحوا نساء آبائكم ولا تكون (* (ما) *) هنا بمعنى المصدر لاتصالها بالفعل وإنما هي بمعنى الذي وبمعنى من والدليل عليه أمران
أحدهما أن الصحابة إنما تلقت الآية على هذا المعنى ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء
الثاني أن قوله (* (إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) *) تعقب النهي بالذم البالغ المتتابع وهذا دليل على أنه انتهاء من القبح إلى الغاية وذلك هو خلف الأبناء على حلائل الآباء إذ كانوا في الجاهلية يستقبحونه ويستهجنون فاعله ويسمونه المقتي نسبوه إلى المقت
فأما النكاح الفاسد فلم يكن عندهم ولا يبلغ إلى هذا الحد
المسألة الثالثة
روي عن الحسن وقتادة أنهما قالا ثلاث آيات مبهمات (* (وحلائل أبنائكم) *) و (* (ما نكح آباؤكم) *) و (* (وأمهات نسائكم) *)
وقد بينا أن هذه الآية ليست مبهمة وإنما النهي يتناول العقد والوطء فلا يجوز للابن أن يتزوج امرأة عقد عليها أبوه أو وطئها لاحتمال اللفظ عليهما معا
وقد بينا ذلك في أصول الفقه وفيما تقدم
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (إلا ما قد سلف) *))
يعني من فعل الأعراب في الجاهلية فإن بعضهم كانت الحمية تغلب عليه فيكره أن يعمر فراش أبيه غيره فيعلو هو عليه ومنهم من كان يستمر على العادة وهو الأكثر فعطف الله تعالى بالعفو عما مضى
475

المسألة الخامسة
قال علماؤنا هو استثناء منقطع وصدقوا فإنه ليس بإباحة المحظور وإنما هو خبر عن عفو سحب ذيله عما مضى من عملهم القبيح فصار تقديره إلا ما قد سلف فإنكم غير مؤاخذين به
المسألة السادسة
قال علماؤنا معنى قوله (* (كان) *) أنه صفة للمقت والفحش دليله القاطع (* (وكان الله عزيزا حكيما) *) وهو يكون كذلك وإنما أخبر عن صفته التي هو كائن عليها كذلك فسر هذا كله الحبر والبحر رضي الله عنه
وقد وهم القاضي أبو إسحاق والمبرد فقالا إن (* (كان) *) زائدة هنا وإنما المعنى في زيادتها كما قال الشاعر
(فكيف إذا مررت بدار قوم
* وجيران لنا كانوا كرام)
وهذا جهل عظيم باللغة والشعر بل لا يجوز زيادة كان هاهنا وإنما المعنى وجيران كرام كانوا لنا مجاورين فأبادهم الزمان وانقطع عنهم ما كان وقد بسطنا القول في ملجئة المتفقهين وذكرنا من قالها قبلهما وبعدهما واستوفينا القول في ذلك
المسألة السابعة
إذا نكح الأب والابن نكاحا فاسدا حرم على كل واحد منهما من انعقد لصاحبه عقد فاسد عليه من النساء كما يحرم بالصحيح
وتحقيقه أن النكاح الفاسد لا يخلو أن يكون متفقا على فساده أو مختلفا فيه فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما ولا تحريما وكان وجوده كعدمه وإن كان مختلفا فيه تعلق به إلى الحرمة ما يتعلق بالصحيح لاحتمال أن يكون نكاحا فيدخل تحت مطلق اللفظ والفروج إذا تعارض فيها التحليل والتحريم غلب التحريم والله أعلم
476

المسألة الثامنة
إذا لمسها الأب أو الابن فإن ذلك عندنا في التحريم كالوطء
وقد اختلف الناس في ذلك هل يتعلق باللمس من التحريم ما يتعلق بالوطء على قولين فعندنا وعند أبي حنيفة هو مثله وتفصيل بيانه في المسائل
وقد قال الشافعي لا يتعلق باللمس ما يتعلق بالوطء لأن النكاح اسم مختص بالجماع أو العقد وليس ينطلق على المباشرة لغة ولا حقيقة
وهذا فاسد فإنا قد بينا أن النكاح هو الاجتماع وإذا قبل أو عانق فقد وجد المعنى من اللفظ حقيقة فوجب إطلاقه عليه
فإن قيل النكاح في عرف الشرع عبارة عن العقد
قلنا لا نسلم ذلك بل هما سواء يتصرف المعنى فيهما تحت اللفظ في كل موضع بحسب أدلته واحتمالاته وانتظام المعنى والحكم معه
المسألة التاسعة
إذا نظر إليها بلذة هو وأبوه حرمت عليهما عندنا نص عليه مالك في كتاب محمد لأنه استمتاع فجرى مجرى النكاح في التحريم إذ الأحكام إنما تتعلق بالمعاني لا بالألفاظ
وقد يحتمل أن يقال إنه من الاجتماع بالاستمتاع فإن النظر اجتماع ولقاء وفيه بين المحبين استمتاع وقد بالغ في ذلك الشعراء فقالوا
(أليس الليل يجمع أم عمرو
* وإيانا فذاك بنا تدان)
(نعم وترى الهلال كما أراه
* ويعلوها النهار كما علاني)
فكيف بالنظر والمجالسة واللذة وهذا بين
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما) *
477

) [الآية 23]
فيها ثلاث عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله تعالى (* (حرمت عليكم) *))
قد بينا بين الله لكم وبلغكم في العلم أملكم أن التحريم ليس بصفات للأعيان وأن الأعيان ليست موردا للتحليل والتحريم ولا مصدرا وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون لكن الأعيان لما كانت موردا للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازا بديعا على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به من باب قسم التسبيب في المجاز وقد بينا ذلك في أصول الفقه
المسألة الثانية
قال ابن عباس حرم الله تعالى في هذه الآية من النسب سبعا ومن الصهر سبعا وهذا صحيح وهو أصل المحرمات ووردت من جهة مبينة لجميعها بأخصر لفظ وأدل معنى فهمته الصحابة وخبرته العلماء
ونحن نفصل ذلك بالبيان فنقول
الأم عبارة عن كل امرأة لها عليك ولادة ويرتفع نسبك إليها بالبنوة كانت منك على عمود الأب أو على عمود الأم وكذلك من فوقك
والبنت عبارة عن كل امرأة لك عليها ولادة تنتسب إليك بواسطة أو بغير واسطة إذا كان مرجعها إليك
والأخت عبارة عن كل امرأة شاركتك في أصليك أبيك وأمك ولا تحرم أخت الأخت إذا لم تكن لك أختا فقد يتزوج الرجل المرأة ولكل واحد منهما ولد ثم يقدر بينهما ولد
478

سحنون هو أن يزوج الرجل ولده من غيرها بنتها من غيره
وتفسيرها أن يكون لرجل اسمه زيد زوجتان عمرة وخالدة وله من عمرة ولد اسمه عمرو ومن خالدة بنت اسمها سعادة ولخالدة زوج اسمه عمرو وله منها بنت اسمها حسناء فزوج زيد ولده عمرا من حسناء وهي أخت أخت عمر وهذه صورتها لتكون أثبت في النفوس
العمة هي عبارة عن كل امرأة شاركت أباك ما علا في أصليه
الخالة هي كل امرأة شاركت أمك ما علت في أصليها أو في أحدهما على تقدير تعلق الأمومة كما تقدم ومن تفصيله تحريم عمة الأب وخالته لأن عمة الأب أخت الجد والجد أب وأخته عمة وخالة الأب أخت جدته لأمه والجدة أم فأختها خالة وكذلك عمة الأم أخت جدها لأبيها وجدها أب وأخته عمة وخالة أمها جدته والجدة أم وأختها خالة وتتركب عليه عمة العمة لأنها عمة الأب كذلك وخالة العمة خالة الأم كذلك وخالة الخالة خالة الأم وكذلك عمة الخالة عمة الأم فتضمن هذا كله قوله تعالى (* (وعماتكم وخالاتكم) *) بالاعتلاء في الاحترام ولم يتضمنه آية الفرائض بالاشتراك في المواريث لسعة الحجر في التحريم وضيق الاشتراك في الأموال فعرق التحريم يسري حيث اطرد وسبب الميراث يقف أين ورد ولا تحرم أم العمة ولا أخت الخالة وصورة ذلك كما قررنا لك في الأخت
بنت الأخ وبنت الأخت عبارة عن كل امرأة لأخيك أو لأختك عليها ولادة وترجع إليها بنسبة فهذه الأصناف النسبية السبعة
وأما الأصناف الصهرية السبعة أمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وهما محرمتان بالقرآن ولم يذكر من المحرم بالرضاعة في القرآن سواهما والأم أصل
والأخت فرع فنبه بذلك على جميع الأصول والفروع وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة
479

وثبت في الصحاح عن علي أنه قال قلت يا رسول الله مالك تنوق في قريش وتدعنا قال وعندكم شيء قلت نعم ابنة حمزة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها ابنة أخي من الرضاعة
ومثله في الصحة والمعنى حديث أم حبيبة قالت يا رسول الله إني لست لك بمخلية وأحب من شركني في خير أختي فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن ذلك لا يحل لي قلت فإنا نتحدث أنك تنكح ابنة أبي سلمة قال ابنة أم سلمة قلت نعم قال إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي أرضعتني أنا وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن
قال ابن العربي وثويبة هي التي أرضعت حمزة أيضا فروى أن هذا الرضاع كان في وقت واحد
وروى أنه كان في وقتين لاتفاق أهل السير على أن حمزة كان أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بعامين وقيل بأربع
480

المسألة الثالثة
روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان وهي المصة
وروى مالك وغيره عن عائشة قالت كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات فنسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن فقال بها جماعة منهم الشافعي
ورأى مالك وأبو حنيفة الأخذ بمطلق القرآن وهو الصحيح لأنه عمل بعموم القرآن وتعلق به وقد قوي ذلك بأنه من باب التحريم في الأبضاع والحوطة على الفروج فقد وجب القول به لمن يرى العموم ومن لا يراه وقد رام بعض حذاق الشافعية وهو الإمام الجويني أن يبطل التعلق بهذا العموم قال لأنه سيق ليتبين به وجه التحريم في المحرمات ولم يقصد به التعميم وإنما يصح القول بالعموم إذا سيق قصدا للعموم وذلك يعلم من لسان العرب
قال القاضي يا لله وللمحققين من رأس التحقيق الجويني يأتي بهذا الكلام في غير موضعه وقد علم كل ناظر في الفقه شاد أو منته أن المحرمات كلها في الآية جاءت مجيئا واحدا في البيان في مقصود واحد فلو جاز لقائل أن يقول إنه لا يحمل على العموم قوله (* (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) *) لما حمل أيضا على العموم قوله (* (أمهاتكم) *) فيرتقى بهن إلى الجدات ولا بناتكم فيحط بهن إلى بنات البنات وقد رأى أنهن لم يعمهن في الميراث وعمهن هاهنا في التحريم وكذلك قوله تعالى
481

(* (وأمهات نسائكم) *) كان ينبغي ألا يحمل على العموم أيضا لأنه لم يقصد به كما قال سياق العموم وكان ذلك لو قلنا به سببا لخرم قاعدة الآية وقد بينت ذلك في التلخيص والتمحيص
وأما الأحاديث المتقدمة فلا متعلق فيها
أما حديث عائشة فهو أضعف الأدلة لأنها قالت كان مما نزل من القرآن ولم يثبت أصله فكيف يثبت فرعه
وأما حديث الإملاجة فمعناه كان من المص والجذب مما لم يدر معه لبن ويصل إلى الجوف ويتحقق وصول اللبن إلى الجوف فقليله وكثيره سواء بنص القرآن وبنص الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فإذا مص لبنها وحصل في جوفه فهي مرضعة وهي أمة وهي داخلة بالآية بلا مرية والله أعلم
المسألة الرابعة
كان قوله تعالى (* (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) *) يقتضي بمطلقة تحريم الرضاع في أي وقت وجد من صغر أو كبر إلا أن الله سبحانه وتعالى بين وقته بقوله (* (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) *) [البقرة 233] فبين زمانه الكامل فوجب ألا يعتبر ما زاد عليه
وقد رأت عائشة أن رضاع الكبير محرم للحديث الصحيح عنها قالت جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلا وقد أنزل الله سبحانه وتعالى فيهم ما علمت فكيف ترى يا رسول الله فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه خمس رضعات يحرم بلبنها
482

فكانت تراه ابنا من الرضاعة فبذلك كانت عائشة تأخذ وأباه سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقلن والله ما نرى ذلك إلا رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة لأنهم لم يروه حكما عاما ولا قضية مطلقة لكل أحد لا سيما وقد رده عمر وأمر بأدب من أرضع من النساء كبيرا
وقد روى الترمذي والنسائي عن أبي سلمة قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء من الثدي وكان قبل الفطام
نظام نشر
اعلموا وفقكم الله أن كل شخصين التقما ثديا واحدا في زمان واحد أو في زمانين فهما أخوان والأصول منهما والفروع بمنزلة أصول الأنساب وفروعها في التحريم
المسألة الخامسة في لبن الفحل
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من كل طريق وفي كل فريق عن عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن على عائشة بعد أن نزل الحجاب فقالت عائشة والله لا آذن لأفلح حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعني إنما أرضعتني المرأة قالت عائشة فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن علي فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك فقال إنه عمك فليلج عليك وهو مذهب أكثر الأئمة وأعيان العلماء
483

ورأى سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وإبراهيم النخعي أن لبن الفحل لا يحرم وصورته أن يكون رجل له امرأتان أرضعت إحداهما صبيا والأخرى صبية فيحرم كل واحد منهما على صاحبه لأنهما أخوان لأب من لبن فيحرمان كما يحرمان لو كانا أخوين لأب من نسب لقول النبي صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة وهذا ظاهر وحديث عائشة نص فقد تعاضدا فوجب القضاء به
المسألة السادسة قوله تعالى (* (وأمهات نسائكم) *))
اختلف الناس فيها في الصدر الأول فروي عن علي وجابر وابن الزبير وزيد بن ثابت ومجاهد أن العقد على البنت لا يحرم الأم حتى يدخل بها كما أن العقد على الأم لا يحرم البنت حتى يدخل بها
وقال سائر العلماء والصحابة إن العقد على البنت يحرم الأم ولا تحرم البنت حتى يدخل بالأم
واختلف النحاة في الوصف في قوله (* (اللاتي دخلتم بهن) *) فقيل يرجع إلى الربائب والأمهات وهو اختيار أهل الكوفة
وقيل يرجع إلى الربائب خاصة وهو اختيار أهل البصرة وجعلوا رجوع الوصف إلى الموصوفين المختلفي العامل ممنوعا كالعطف على عاملين وجوز ذلك كله أهل الكوفة ورأوا أن عامل الإضافة غير عامل الخفض بحرف الجر
وقد مهدنا القول في ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين وقد رد القاضي أبو إسحاق الرواية عن زيد بن ثابت والذي استقر أنه مذهب علي خاصة كما قد استقر اليوم في الأمصار والأقطار أن الربائب والأمهات في هذا الحكم مختلفات وأن الشرط إنما هو في الربائب
واعلموا أن هذه المسألة من غوامض العلم وأخذها من طريق النحو يضعف فإن
484

الصحابة العرب القرشيين الذين نزل القرآن بلغتهم أعرف من غيرهم بمقطع المقصود منهم وقد اختلفوا فيه وخصوصا على مع مقداره في العلمين ولو لم يسمع ذلك في اللغة العربية لكان فصاحتها بالأعجمية فإنما ينبغي أن يحاول ذلك بغير هذا القصد
والمأخذ فيه يرجع إلى خمسة أوجه
الأول أن يقال إنه يحتمل أن يرجع الوصف إلى الربائب خاصة ويحتمل أن يرجع إليها جميعا فيرد إلى أقرب مذكور تغليبا للتحريم على التحليل في الفروج وهكذا هو مقطوع السلف فيها عند تعارض الأدلة بالتحريم والتحليل عليها
الثاني روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل فلا يحل له نكاح أمها وأيما رجل نكح امرأة فدخل بها فلا يحل له نكاح ابنتها فإن لم يدخل بها فلينكحها
وهذا إن صح حجة ظاهرة لكن رواية المثنى بن الصباح تضعف
الثالث أن قوله (* (من نسائكم) *) لفظة عربية لأنه جمع لا واحد له من لفظه والواحد منه امرأة وقولك امرؤ وامرأة كقولك آدمي وآدمية فقوله وامرأتك كقوله وآدميتك فأضيفت إليك ولا بد من البحث عن وجه هذه الإضافة فيحتمل أن يكون معناه التي تشبهك أو تجاورك أو تملكها أو تملكك أو تحل لها أو تحل لك والإضافة على معنى الشبه والجوار محال وكذلك لو قسمت ما قسمت لم تجد وجها إلا باب التحليل والتحريم الذي نحن فيه وله مساق الآية وهو المقصود بالبيان فإذا حلت له أو ملكها فقد تحققت الإضافة المقصودة فوجب ثبوت الحكم على الإطلاق
وكذلك كنا نقول في الربائب لولا التقييد بشرط الدخول
فإن قيل فاحملوا الأمهات على البنات
قلنا لو كنا نطلب الرخص لفعلنا ولكن إذا تعارض الدليل في التحليل والتحريم في الفروج غلبنا التحريم وكذلك فعل علي في الأختين من ملك اليمين لما تعارض فيهما التحليل والتحريم غلب التحريم
485

الرابع أنه قد قيل إن المراد بالدخول هاهنا النكاح فعلى هذا الربائب والأمهات سواء لكن الإجماع غلب على الربائب باشتراط الوطء في أمهاتهن لتحريمهن
الخامس أن كل واحد من الموصوفين قد انقطع عن صاحبه وخرج منه بوصفه فإنه قال (* (وأمهات نسائكم) *) ثم قال بعده (* (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم) *) فوصف وكرر وذلك الوصف لا يصح أن يرجع إلى الأمهات وهو قوله (* (اللاتي في حجوركم) *) فالوصف الذي يتلوه يتبعه ولا يرجع إلى الأول لبعده منه وانقطاعه عنه
المسألة السابعة قوله تعالى (* (وربائبكم) *))
واحدتها ربيبة فعيلة بمعنى مفعولة من قولك ربها يربها إذا تولى أمرها وهي محرمة بإجماع الأمة كانت في حجر الرجل أو في حجر حاضنتها غير أمها وتبين بهذا أن قوله تعالى (* (اللاتي في حجوركم) *) تأكيد للوصف وليس بشرط في الحكم
فإن قيل فقد روى مالك بن أوس عن علي أنها لا تحرم حتى تكون في حجره
قلنا هذا باطل
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (اللاتي دخلتم بهن) *))
اختلف فيه على ثلاثة أقوال
الأول أن الدخول هو الجماع قاله الطبري والشافعي
وقالت طائفة أخرى هو التمتع من اللمس أو القبل قاله مالك وأبو حنيفة
والثالث انه النظر إليها بشهوة قاله عطاء وعبد الملك بن مروان وهي مسألة خلاف قد ذكرناها
وجملة القول فيها أن الجماع هو الأصل ويحمل عليه اللمس لأنه استمتاع مثله يحل بحله ويحرم بحرمته ويدخل تحت عمومه كما بيناه قبل هذا
486

وأما النظر فعند ابن القاسم أنه يحرم وقال غيره لا يحرم لأنه في الدرجة الثالثة شبهة في الزنا ذريعة الذريعة لكن الأموال تارة يغلب فيها التحليل وتارة يغلب فيها التحريم فإما الفروج فقد اتفقت الأمة فيها على تغليب التحريم كما أن النظر لا يحل إلا بعقد نكاح أو شراء فكذلك يحرم إذا حل أصله اللمس والوطء
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) *))
واحدتها حليلة وهي فعيلة بمعنى مفعلة أي محللة حرم الله على الآباء نكاح أزواج أبنائهم كما حرم على الأبناء نكاح أزواج آبائهم في قوله تعالى (* (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) *) [النساء 22] فكل فرج حل للابن حرم على الأب أبدا
المسألة العاشرة
الأبناء ثلاثة ابن نسب وابن رضاع وابن تبن
فأما ابن النسب فمعلوم ومعلوم حكمه وأما ابن الرضاع فيجري مجرى الابن في جملة من الأحكام معظمها التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب
وأما ابن التبني فكان ذلك في صدر الإسلام إذ تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ثم نسخ الله تبارك وتعالى ذلك بقوله (* (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) *) [الأحزاب 5]
وفي الصحيح أن ابن عمر قال ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت (* (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) *) وهذه هي الفائدة في قوله تعالى (* (من أصلابكم) *) ليسقط ولد التبني ويذهب اعتراض الجاهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح زينب زوج زيد وقد كان يدعى له فنهج الله سبحانه ذلك ببيانه
487

المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) *))
حرم الله سبحانه الجمع بين الأختين كما حرم نكاح الأخت والنهي يتناول الوطء فهو عام في عقد النكاح وملك اليمين وقد كان توقف فيها من توقف في أول وقوعها ثم اطرد البيان عندهم واستقر التحريم وهو الحق
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (وأن تجمعوا بين الأختين) *))
تعلق أبو حنيفة به في تحريم نكاح الأخت في عدة الأخت والخامسة في عدة الرابعة وقال إن هذا محرم بعموم القرآن لأنه إن لم يكن جمعا في حل فهو جمع في حبس بحكم من أحكام الفرج وهو إذا تزوج أختها فقد حبس المتزوجة بحكم من أحكام النكاح وهو الحل والوطء وقد حبس أختها بحكم من أحكام النكاح وهو استبراء الرحم لحفظ النسب فحرم ذلك بالعموم وهي من مسائل الخلاف الطيولية وقد مهدنا القول فيها هنالك
والذي نجتزىء به الآن أن الله سبحانه نهاه عن أن يجمع وهذا ليس بجمع منه لأن النكاح اكتسبه والعدة ألزمته فالجامع بينهما هو الله سبحانه بخلقه وليس للعبد في هذا الجمع كسب يرجع النهي بالخطاب إليه
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (إلا ما قد سلف) *))
ليس هذا من مثل قوله (* (إلا ما قد سلف) *) في نكاح منكوحات الآباء لأن ذلك لم يكن قط بشرع وإنما كانت جاهلية جهلاء وفاحشة شائعة ونكاح الأختين كان شرعا لمن قبلنا فنسخه الله عز وجل فينا
488

الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما) *) [الآية 24]
فيها إحدى وعشرون مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى أبو الخليل صالح بن أبي مريم الضبعي عن أبي سعيد الخدري قال أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج في قومهن فكرهتهن رجال فذكروا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى (* (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *) وقد خرج عن أبي الخليل مسلم والبخاري
المسألة الثانية قوله (* (والمحصنات) *))
بناء حصن على المنع ومنه الحصن لكن يتصرف بحسب متعلقاته وأسبابه فالإسلام حصن والحرية حصن والنكاح حصن والتعفف حصن قال الله تعالى (* (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة) *) [النساء 25] وهو الإسلام وقال تعالى (* (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) *) [المائدة 5] فهن الحرائر
وقال تعالى (* (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) *) [النور 4] هن العفائف
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أحصنت يعني تزوجت قال نعم وقال صلى الله عليه وسلم أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن خرجه مسلم
489

وتصريفه غريب يقال أحصن الرجل فهو محصن بفتح العين في اسم الفاعل وأسهب في الكلام فهو مسهب إذ أطال القول فيه وألفج فهو ملفج إذ كان عديما ولا رابع لها والله أعلم
المسألة الثالثة في إشكالها
قال سعيد بن جبير كان ابن عباس لا يعلمها وقال مجاهد لو أعلم أحدا يفسر هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل وذلك لا يدريه إلا من ابتلي بالقرآن ومعانيه وتصدى لضم منتشر الكلام وترتيب وضعه وحفظ معناه من لفظه
المسألة الرابعة في سرد الأقوال
الذي تحصل عندي فيه ستة أقوال
الأول أن المحصنات ذوات الأزواج قاله ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب وغيرهم وقاله مالك واختاره
الثاني ذوات الأزواج من المشركين قاله علي وأنس وغيرهما
الثالث من جميع النساء الأربع اللواتي حللن له قاله عبيدة
الرابع أنهن جميع النساء على الإطلاق قاله طاوس وغيره
الخامس المعنى لا تنكح المرأة زوجين
السادس أن المحصنات الحرائر قاله عروة وابن شهاب
المسألة الخامسة في سرد الأقوال في قوله (* (إلا ما ملكت أيمانكم) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول قالوا بيع الأمة طلاقها ذكره ابن عباس وأبي وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وابن مسعود
490

وعن عكرمة عن ابن عباس طلاق الأمة ستة بيعها وعتقها وهبتها وميراثها وطلاق زوجها زاد أنس بن مالك وانتزاع سيدها لها من ملك زوجها عبده
الثاني يعني به المرأة الحربية إذا سبيت فإن السباء يفسخ النكاح
الثالث قوله (* (إلا ما ملكت أيمانكم) *) إلا الإماء والأزواج وهو اختيار طاوس وقال زوجك ما ملكت يمينك
المسألة السادسة في تنزيل الأقوال وتقديرها
أما من قال إنهن ذوات الأزواج فذوات الأزواج على قسمين مسلمات وكافرات والمسلمات على قسمين حرائر وإماء فيعمهن التحريم على هذا التأويل ويرجع الاستثناء في قوله (* (إلا ما ملكت أيمانكم) *) إلى بعضهن وهن الإماء أو إلى بعض البعض وهن المسبيات فإن رجع إلى الإماء جملة فعلية يتركب أن بيع الأمة المزوجة فراق بينها وبين زوجها وإن رجع إلى المسبيات وفيه وردت الآية فيكون التقدير حرمنا عليكم كل ذات زوج إلا من سبيتم وعلى أنهن جميع الإماء يكون التقدير حرمنا عليكم كل ذات زوج إلا ما ملكتم
وأما من قال إنهن جميع النساء فيكون تنزيل الآية عنده حرمنا عليكم من تقدم تحريما مدبرا وحرمنا عليكم جميع النساء إلا بملك نكاح أو شراء وكلهن ما ملكت أيمانكم
وأما من قال إنهن جميع النساء إلا أربع فدعوى أن هذه الآية نزلت بعد الآية الأولى في ابتداء السورة في الأربع فإن ثبت ذلك تعذر ذلك له لفظا وبطل معنى على ما نبينه إن شاء الله تعالى وقول مجاهد مقدر بنوع ونحو مما تقدم
وأما من قال إنهن الحرائر فيكون تقدير الآية وحرمنا عليكم الحرائر من النساء وأحللنا لكم ما ملكت أيمانكم
491

المسألة السابعة في الاعتراض على الأقوال
أما من خصصها في بعض النساء فيعترض عليه أن البعض يبقى حلا والآية إنما جاءت لبيان المحرمات والمحللات منهن فإن بقي من الأزواج له من الحرائر أو من المسلمات أو كل تأويل يقتضي بقاء بعضهن فذلك بعيد في التأويل مفسر للتنزيل
وأما من عمم جميع المسائل إلا الأربع فمبني على دعوى لا برهان عليها
وأما من عمم في الكل فهو الصحيح ويقع الاستثناء بقوله (* (إلا ما ملكت أيمانكم) *) في الإماء أو في الزوجة والأمة وهذا موضع الإشكال العظيم
المسألة الثامنة في المختار
وهذا المشكل هو الذي ملنا إليه قديما وحديثا وذلك أن من قال إن قوله (* (إلا ما ملكت أيمانكم) *) راجع إلى الشراء والنكاح فيعترض عليه بقوله تعالى (* (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) *) [المؤمنون 6] فقد ميز بينهما ولم يطلق قط أحد من أرباب الشريعة على الحرة في ملك النكاح بأنها ملك اليمين فإنها تملك منه ما يملك منها أما إنه له عليها درجة ولكن نقول إن قوله (* (إلا ما ملكت أيمانكم) *) يرجع إلى الإماء وقوله (* (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *) يرجع إلى من عدا المنصوص على تحريمهن
وأما من قال إنها في الإماء كلهن فإن ملك الأمة المتجدد على النكاح يبطله فموضع إشكال عظيم ولأجله تردد فيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بيد أن الظاهر أن ملكا متجددا لا يبطل نكاحا متأكدا ولو أنه ملك منفعة رقبتها لرجل بالإجارة ثم يبيعها ما أبطل الملك ملك منفعة الرقبة فملك منفعة البضع أولى أن يبقى فإن أحق الشروط أن يوفى به ما استحلت به الفروج فعقد الفرج نفسه أحق بالوفاء به من عقد منفعة الرقبة
492

والذي يقطع العذر أن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة ولم يجعل ما طرأ من العتق عليها ولا ما ملكت من نفسها مبطلا لنكاح زوجها وعليه يحمل كل ملك متجدد وقد بيناه في مسائل الخلاف وفيما أشرنا إليه هاهنا من الأثر والمعنى كفاية لمن سدد النظر فوضح أن المراد بالمحصنات الجميع وأن المراد بملك اليمين السبي الذي نزلت الآية في بيانه
وأما تحريم الأربع فيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
المسألة التاسعة قوله (* (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *))
هذا عموم متفق عليه ممن نفاه وممن أثبته وذلك أن الله تعالى عدد المحرمات ثم قال
(* (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *) فاختلف الناس في المراد به على ثلاثة أقوال
الأول المراد به من عدا القرابة من المحرمات المذكورات
الثاني ما دون الأربع
الثالث ما ملكت أيمانكم
المسألة العاشرة
عجبا للأوائل كلفوا فهرفوا نظروا إلى السدي يقول (* (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *) يعني ما دون الأربع وكم حرام بعد هذا وكأنه يشير إلى أن هذا العموم مخصوص فيما زاد على الأربع وكذلك قول عطاء إنه فيما زاد على القرابة وبقي الأجانب غير مبينات ومثله قول قتادة بل أضعف لأنه رد التحليل إلى الإماء خاصة
المسألة الحادية عشرة
اعلموا وفقكم الله تعالى أنا قد بينا أن الشرع لم يأت دفعة ولا وقع البيان في
493

تفصيله في حالة واحدة وإنما جاء نجوما وشذر شذورا لمصلحة عامة وحكمة بالغة فلو شاء ربك لذكر المحرمات معدودات مشروحات في حالة واحدة ولكنه فرقها على السور والآيات وقسمها على الحالات والأوقات فاجتمعت العلماء وكملت في الدين كما كمل جميعه واستوثق وانتظم واتسق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث وقد بلغ العلماء الأسباب المبيحة للدم إلى عشرة يأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى
وعدد المحرمات في الشريعة عندنا حسبما رتبنا من الأدلة في هذا الكتاب وغيره من النساء أربعون امرأة منهن أربع وعشرون حرمن تحريما مؤبدا ومنهن ست عشرة تحريمهن لعارض
فأما الأربع والعشرون فهن الأم البنت الأخت العمة الخالة بنت الأخ بنت الأخت فهؤلاء سبع ومن الرضاع مثلهن بالسنة وإجماع الأمة كملن أربع عشرة وحليلة الأب وحليلة الابن وأم الزوجة وربيبة الزوجة المدخول بها ومن الجمع ثلاث وهن الأختان بنص القرآن والمرأة وعمتها والمرأة وخالتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم وبيانه وكذلك الملاعنة سنة والمنكوحة في العدة بإجماع الصحابة في قضاء عمر ابن الخطاب وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وقد سقط هذا الوجه بموتهن
وأما المحرمات لعارض فهن الخامسة والمزوجة والمعتدة والمستبرأة والحامل والمطلقة ثلاثا والمشركة والأمة الكافرة والأمة المسلمة لواجد الطول وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى وأمة الابن والمحرمة والمريضة ومن كان ذا محرم من زوجه
494

اللاتي لا يجوز الجمع بينهن وبينها واليتيمة الصغيرة والمنكوحة عند النداء يوم الجمعة والمنكوحة عند الخطبة بعد التراكن
فأما السبع عشرة منهن فدليلهن ظاهر وأما الملاعنة فمختلف فيها قال أبو حنيفة ليس تحريمها مؤبدا فإنه إذا أكذب نفسه حل له رجعتها وبناء على أن فرقة اللعان طلاق لأجل أنها متعلقة بلفظ الزوج كلاطلاق مفتقرة إلى الحاكم كطلاق العنين ولأنه سبب أوجبه اللعان فزال بالتكذيب فنفى بلعانه ويعود بتكذيبه
والنكتة العظمى لهم أنهم قالوا أوجب حرمة لأوجد محرمية كالرضاع
وبالجملة فالمعاني لهم والنظائر والأصول معهم وليس لنا نحن إلا حديث ابن عمر في صحيح مسلم وغيره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها قال يا رسول الله مالي قال لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها
وأما المنكوحة في العدة فهو النظر الصحيح لأنه استعجل محرما قبل حله فحرمه أبدا كالقاتل لا يمكن من الميراث والمستبرأة معتدة العلة واحدة والمحل واحد والسبب
واحد فلما اتحدا اتحد الحكم والحامل أوقع والدليل فيها الجمع والمطلقة ثلاثا قرآنية وكذلك المشركة والأمتان تأتيان مبينتين إن شاء الله
وأما أمة الابن فكل محرم في كتاب الله مما تقدم بيانه فإن لفظه ومعناه عام في النكاح وملك اليمين فدخل فيه تحريم ملك اليمين وأمة الابن من حلائل الابن لفظا أو معنى ولفظا أو معنى من غير لفظ والكل في اقتضاء التحريم درجات وله مقتضيات وكذلك تحريم الجمع دخل فيه الجمع بملك اليمين لما بيناه
495

وأما المحرمة فقال أبو حنيفة والبخاري وجماعة نكاح المحرم جائز بالعقد دون الوطء
وقال مالك والشافعي لا يجوز ولا عمدة لهما فيه إلا حديث نبيه بن وهب خرجه مالك لا ينكح المحرم ولا ينكح وضعف البخاري نبيه بن وهب وتعديل مالك وعلمه به أقوى من علم كل بخاري وحجازي فلا يلتفت لغيره
وأما حديث البخاري في ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها محرما فعجبا للبخاري يدخله مع عظيم الخلاف فيه ويترك أمثاله ولا يعارض حديث نبيه المتفق عليه بحديث ميمونة المختلف فيه والمسألة عظيمة قد بيناها في مسائل الخلاف
وأما نكاح المريض فمن مسائل الخلاف ومنعه مالك وجوزه أبو حنيفة والشافعي وقد بيناه في موضعه وكذلك اليتيمة الصغيرة لا تزوج بحال عندنا وعند الشافعي وقال أبو حنيفة يزوجها وليها ولها الخيار إذا بلغت فأفسد ما بنى وجعل حلا مترقبا وهي طيولية قد ذكرناها في التخليص وغيره
فهذه جمل من المحرمات ثبتت في الشريعة بأدلتها وخصت من قوله (* (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *) وتركب على هذا ما إذا زنى بامرأة هي يثبت زناه حرمة في فروعها وأصولها عن مالك في ذلك روايتان ودع من روى وما روى أقام مالك عمره كله يقرأ عليه الموطأ ويقرأه لم يختلف قوله فيه إن الحرام لا يحرم الحلال ولا شك في ذلك وقد بيناها في مسائل الخلاف والله أعلم
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (أن تبتغوا بأموالكم) *))
يعني بالنكاح أو بالشراء فأباح الله الحكيم الفروج بالأموال والإحصان دون
496

السفاح وهو الزنا وهذا يدل على وجوب الصداق في النكاح لكن رخص في جواز السكوت عنه عند العقد كما تقدم في التفويض في سورة البقرة وقد حققناه هنالك في مسائل الخلاف
المسألة الثالثة عشرة
قال الله سبحانه (* (أن تبتغوا بأموالكم) *) مطلقا فتعلق الشافعي بهذا الإطلاق في جواز الصداق بكل قليل وكثير وعضد ذلك بحديث الموهوبة في الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم التمس ولو خاتما من حديد
ولنا فيه طرق أقواها أن الله تبارك وتعالى لما حرم استباحة هذا العضو وهو البضع إلا ببدل وجب أن يتقرر ذلك البدل بيانا لخطره وتحقيقا لشرفه لا سيما وهو حق الله تعالى وحقوق الله مقدرة كالشهادات والكفارات والزكاة ونصب السرقة والديات
وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف فوجب أن يتخصص هذا الإطلاق بهذه الأدلة لا سيما ومساق هذا اللفظ إيجاب البدل وليس المقصود الإشارة بعمومه
فأما حديث خاتم الحديد فخاتم في العرف يتزين به قيمته أكثر من ربع دينار وهذا ظاهر فتأمل تحقيقه في موضعه
المسألة الرابعة عشرة
لما أمر الله تعالى بالنكاح بالأموال لم يجز أن يبذل فيه ما ليس بمال وتحقيق المال ما تتعلق به الأطماع ويعتد للانتفاع هذا رسمه في الجملة وفيه تفصيل
وتحقيق بيانه في كتب المسائل يترتب عليه أن منفعة الرقبة في الإجارة مال وأن
497

منفعة التعليم للعلم كله مال وفي جواز كونه صادقا كلام يأتي بيانه في سورة القصص إن شاء الله تعالى
وأما عتق الأمة فليس بمال وقال أحمد بن حنبل هو مال يجوز النكاح بمثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله صداقا في نكاحه لصفية بنت حيي بن أخطب فإنه أعتقها بتزوجها وجعل عتقها صداقها رواه أنس في الصحيح
وقال علماؤنا كان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا في النكاح وغيره بخصائص ومن جملتها أنه كان ينكح بغير ولي ولا صداق فإنه كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم وقد أراد زينب فحرمت على زيد فلا يجوز أن يستدل بمثل هذا
وقد حققنا خصائصه في سورة الأحزاب وقد عضد ذلك علماؤنا بأن قالوا إن قوله (* (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *) [النساء 4] وذلك لا يتصور في العتق وقد مهدناه في مسائل الخلاف
المسألة الخامسة عشرة قوله تعالى (* (محصنين) *))
قال بعض الغافلين أن قوله (* (محصنين) *) يجوز أن يكون حالا من النساء كأنه يريد ابتغوهن غير زانيات ولو أراد كونها حالا للنساء لقال محصنات غير مسافحات كما في الآية بعدها وإنما المراد بقوله (* (محصنين) *) حث الرجال على حظهم المحمود فيما أبيح لهم من الإحصان دون السفاح قيل لهم ابتغوا بأموالكم نكاحا لا سفاحا والسفاح اسم الزنا
المسألة السادسة عشرة قوله تعالى (* (غير مسافحين) *))
يعني غير زانين والسفاح اسم للزنا سمي به لأنه يسفح الماء أي يصبه والسفح الصب والنكاح سفاح اشتقاقا لأن في كل واحد منهما الجمع والضم وصب الماء ولكن الشريعة واللغة خصصت كل واحد باسم من معنى مطلقه للتعريف به على عادتها فيما تطلقه من بعض ألفاظها على المعاني المشتركة فيها
498

المسألة السابعة عشرة قوله تعالى (* (فما استمتعتم به منهن) *))
فيه قولان
أحدهما أنه أراد استمتاع النكاح المطلق قاله جماعة منهم الحسن ومجاهد وإحدى روايتي ابن عباس
الثاني أنه متعة النساء بنكاحهن إلى أجل روي عن ابن عباس أنه سئل عن المتعة فقرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى قال ابن عباس والله لأنزلها الله كذلك
وروي عن حبيب بن أبي ثابت قال أعطاني ابن عباس مصحفا وقال هذا قراءة أبي وفيه مثل ما تقدم ولم يصح ذلك عنهما فلا تلتفتوا إليه وقول الله تعالى فما استمتعتم به منهن يعني بالنكاح الصحيح
أما إنه يقتضي بظاهره أن الصادق إذا لم يسم في العقد وجب بالدخول وقد تقدم بيانه في التفويض وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة لأنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر ثم أبيحت في غزوة أوطاس ثم حرمت بعد ذلك واستقر الأمر على التحريم وقد بينا ذلك في شرح الحديث بيانا يشفي الصدور
المسألة الثامنة عشرة قوله تعالى (* (فآتوهن أجورهن) *))
سماه في هذه الآية أجرا وسماه في الآية الأولى في أول السورة نحلة وقد تكلمنا على تلك الآية وكانت الفائدة بهذا والله أعلم البيان لحال الصداق وأنه من وجه نحلة ومن وجه عوض
والصحيح أنه عوض ولذلك قال مالك النكاح أشبه شيء بالبيوع لما فيه من أحكام البيوع وهو وجوب العوض وتعريفه وإبقاؤه ورده بالعيب والقيام فيه بالشفعة إلى غير ذلك من أحكامه
المسألة التاسعة عشرة قوله تعالى (* (فريضة) *))
يحتمل أن يكون صفة للإتيان ليخلص الأمر للوجوب ويحتمل أن يكون صفة
499

للأجر فيقتضي التقدير معناه أعطوها صداقها كاملا ولا تأخذوا منه شيئا كما قال (* (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) *) [النساء 2]
المسألة الموفية عشرين قوله تعالى (* (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) *))
إذا وجب المهر وعلم فلا بأس أن يقع فيه التراضي بعد ذلك بين الرجال والنساء في تركه كله أو بعضه أو الزيادة عليه فإن كان ذلك بين المرأة والرجل وهما مالكان أمرهما فذلك مستمر على ظاهر الآية وإن كان منهما من لا يملك أمر نفسه فذلك إلى الولي الذي أوجبه كما تقدم في قوله (* (إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) *) [البقرة 237] وكما توجب امرأة لنفسها صداقها ثم تسقطه كذلك يوجبه وليها لها ثم يسقطه إذا رأى ذلك مصلحة لها وقد تقدم بيان ذلك في موضعه
وأما الزيادة فيه وهي
المسألة الحادية والعشرون
فقد قال مالك إن الزيادة بالثمن في البيع وبالصداق في النكاح تلحقهما ويجري مجراهما في أحد القولين وبه قال أبو حنيفة وفي القول الثاني يجري مجرى الهبات وبه قال الشافعي وهي في مسائل الخلاف مذكورة
ونكتة المسألة أنهما يملكان فسخ العقد وتجديده صريحا فملكاه عنهما ولهما أن يتصرفا فيه كيف شاءا
الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض) *) [الآية 25]
فيها اثنتا عشرة مسألة
500

المسألة الأولى في حكمة الآية
انظروا رحمكم الله إلى مراعاة الباري سبحانه لمصالحنا وحسن تقديره في تدبيره لأحكامنا وذلك أنه لما ضرب الرق على الخلق عقوبة للجاني وخدمة للمعصوم وعلم أن العلاقة قد تنتظم بالرق في باب الشهوة التي رتبها جبلة ورتب النكاح عليها في اتحاد القرون وترتيب النظر وشرفه لشرف فائدته ومقصوده من وجود الآدمي عليه صان عنه محل المملوكية لثلاثة أوجه
أحدها أن فيها سبب الحل وطريق التحريم والاستمتاع يكفي
الثاني وهو المقصود صيانة النطفة عن التصوير بصورة الإرقاق
الثالث صيانة لعقد النكاح حين كثر شروطه وأعلى درجته وكمل صفته وقد كان سبق في علمه أن أحوال الخلق ستستقيم بقسمته إلى ضيق وسعة وضرورة أذن في حال الضرورة للحر في تعريض نطفته للإرقاق لئلا يكون مراعاة أمر موهوم يؤدي إلى فساد حال متوقعة حتى قال بعض العلماء إن الهوى يجيز نكاح الإماء وهذا منتهى نظر
المحققين في مطالعة الأحكام من بحر الشرع وساحل العقل فاتخذوها مقدمة لكل مسألة تتعلق بها
المسألة الثانية في فهم سياق الآية
اعلموا وفقكم الله تعالى أن العلماء اختلفوا في سياق هذه الآية فمنهم من قال إنها سبقت مساق الرخص كقوله (* (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) *) [النساء 92] وقوله (* (فلم تجدوا ماء فتيمموا) *) [النساء 43 والمائدة 6] ونحوه فإذا كانت كذلك وجب أن تلحق بالرخص التي تكون مقرونة بأحوال الحاجة وأوقاتها ولا يسترسل في الجواز استرسال العزائم وإلى هذا مال جماعة من الصحابة واختاره مالك ومنهم من جعلها أصلا وجوز نكاح الأمة مطلقا ومال إليه أبو حنيفة
501

وقد جهل مساق الآية من ظن هذا فقد قال الله تعالى ما يدل على أنه لم يبح نكاح الأمة إلا بشرطين أحدهما عدم الطول والثاني خوف العنت فجاء به شرطا على شرط ثم ذكر الحرائر من المؤمنات والحرائر من أهل الكتاب ذكرا مطلقا فلما ذكر الإماء المؤمنات ذكرها ذكرا مشروطا مؤكدا مربوطا
فإن قيل حلقتم على دليل الخطاب بألفاظ هائلة وليس في هذه الآية إلا أن الله تعالى ذكر في نكاح الأمة وصفا أو وصفين فأردتم أن يكون الآخر بخلافه وهذا دليل الخطاب الذي نازعناكم فيه مذ كنا وكنتم
فالجواب عنه من وجهين
أحدهما أنا نقول دليل الخطاب أصل من أصولنا وقد دللنا عليه في أصول الفقه وحققناه تحقيقا لا قبل لكم به ومن راد دراه
الثاني أن هذه الآية ليست مسوقة مساق دليل الخطاب كما بينا وإنما هي مسوقة مساق الإبدال وإنما كانت تكون مسوقة مساق شبه دليل الخطاب لو قلنا انكحوا المحصنات المؤمنات بطول وعند خوف عنت فأما وقد قال ومن لم يستطع منكم فقرنه بالقدرة التي رتب عليها الإبدال في الشريعة وأدخلها في بابها بعبارتها ومعناها لم يقدر أحد أن يخرجها عنها فليس لرجل حكمه الله واضع
ومن غريب دليل الخطاب أن الباري تعالى قد يخص الوصف بالذكر للتنبيه وقد يخصه بالعرف وقد يخصه باتفاق الحال فالأول كقوله تعالى (* (فلا تقل لهما أف) *) [الإسراء 23] وقد قال تعالى (* (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) *) [الإسراء 31] فإنه تنبيه على حالة الإثراء وخص حالة الإملاق بالنهي لأنها هي التي يمكن أن يتعرض الأب لقتل الابن فيها وكذلك قوله تعالى
502

(* (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) *) [آل عمران 13] خص حالة الإكثار والإثراء التي تتعلق بها النفوس بالنهي فأما إذا وقع شرط بقدرة فهو نص في البدلية والرخصة وإن وقع بتنبيه مقرونا بحالة أو عادة كان ظاهرا كقوله صلى الله عليه وسلم من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع
وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف وبينا أن خمسة من الأدلة تقتضي في المعنى أن نكاح الأمة رخصة فلما انتهى النظر إلى هذا المقام ورأى المحققون من أصحاب أبي حنيفة أن نكاح الأمة رخصة وأنه مشروط بعد الطول تحكم في الطول وهي
المسألة الثالثة
فقال إن الطول هو وجود الحرة تحته فإذا كانت تحته حرة فهو ذو طول فلا يجوز له نكاح الأمة هذا تأويل أبي يوسف
وتحقيقه عندهم أن الطول في لسان العرب هو القدرة والنكاح هو الوطء حقيقة فمعناه من لم يقدر أن يطأ حرة فليتزوج أمة وهذا هو حقيقة في الذي تحته حرة فلا ينقل إلى المجاز إلا بدليل
أجاب علماؤنا بأن قالوا الطول هو الغنى والسعة بدليل قوله (* (استأذنك أولوا الطول منهم) *) [التوبة 86] والنكاح هو العقد فمعناه من لم يكن عنده صداق حرة فليتزوج أمة وكذلك فسره جماعة من الصحابة والتابعين ويعضده قوله تعالى (* (ذلك لمن خشي العنت منكم) *) [النساء 25] وهذا أقوى ألفاظ الحصر كقوله في شروط المتعة في الحج (* (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) *) [البقرة 196]
وأبو حنيفة لا يشترط خوف العنت
503

فإن قيل وهي
المسألة الرابعة
فإن قدر على طول كتابية هل يتزوج الأمة
قلنا نعم يتزوجها
فإن قيل كيف هذا وهي مثل المسلمة الحرة والقدرة على مثل الشيء قدرة عليه في الحكم
قلنا ليسا مثلين بأدلة لا تحصى كثرة وقوة منها أن إماءهم لم تستو فكيف حرائرهم وما لم يشترطه الله سبحانه لا نشترطه نحن ولا نلحق مسلمة بكافرة فأمة مؤمنة خير من حرة مشركة بلا كلام
فإن قيل وهي
المسألة الخامسة
قال أبو بكر الرازي إمام الحنفية في كتاب أحكام القرآن له ليس نكاح الأمة ضرورة لأن الضرورة ما يخاف منه تلف النفس أو تلف عضو وليس في مسألتنا شيء من ذلك
قلنا هذا كلام جاهل بمنهاج الشرع أو متهكم لا يبالي بما يرد القول نحن لم نقل إنه حكم نيط بالضرورة إنما قلنا إنه حكم علق بالرخصة المقرونة بالحاجة ولكل واحد منهما حكم يختص به وحالة يعتبر فيها ومن لم يفرق بين الضرورة والحاجة التي تكون معها الرخصة فلا يعنى بالكلام معه فإنه معاند أو جاهل وتقدير ذلك إتعاب للنفس عند من لا ينتفع به
فإن قيل وهي
504

المسألة السادسة
فإذا كانت تحته حرة هل يتزوج الأمة أم لا
قلنا اختلف في ذلك علماؤنا فقال مالك إذا خشي العنت مع حرة واحتاج إلى أخرى ولم يقدر على صداقها فإنه يجوز له أن يتزوج الأمة وهكذا مع كل حرة وكل أمة حتى ينتهي إلى الأربع بظاهر القرآن
وقال مرة أخرى إذا تزوج الأمة على الحرة رد نكاحه رواه ابن القاسم
ورواية ابن وهب الأولى أصح في الدليل وأولى لأن الله تعالى أباح بشرط قد وجد وكمل على الأمر
فإن قيل وهي
المسألة السابعة
فهل تكون الحرة بالخيار في البقاء معها أو الفراق
قلنا كذلك قال مالك على الرواية الواحدة ويجيء على مذهبه أن من رضي بالسبب المحقق رضي بالمسبب المرتب عليه وألا يكون لها خيار لأنها قد علمت أن له نكاح الأربع وعلمت أنه إن لم يقدر على نكاح حرة تزوج أمة وما شرط الله تعالى عليها كما شرطت على نفسها ولا يعتبر في شروط الله علمها وهذا غاية التحقيق في الباب والإنصاف فيه
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (من فتياتكم المؤمنات) *
بهذا استدل مالك على أن نكاح الأمة الكافرة لا يحل لأن الله تعالى أباح نكاح المؤمنة فكان شرطا في نكاح الإماء الإيمان
فإن قيل هذا استدلال بدليل الخطاب ونحن لا نقول به
قلنا ليس هذا استدلالا بدليل الخطاب من أربعة أوجه
الأول أنه هذا استدلال بالتعليل فإن الله تعالى ذكر الإيمان في نكاحهن وذكر الصفة في الحكم تعليل كما لو قال أكرموا العالم واحفظوا الغريب لكان تنصيصا على
505

الحكم وعلى علته وهي العلم والغربة فيتعدى الإكرام والحفظ لكل عالم وغريب ولا يتعدى إلى سواهما
الثاني أن الله تعالى قال (* (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) *) [المائدة 5] فكان هذا تعليلا يمنع من النكاح في المشركات
الثالث أن الله تعالى قال (* (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) *) فإذا لم يكن الإيمان شرطا في الإحلال ولا العفة تبين أن المراد بالإحصان هاهنا الحرية
الرابع أن الله تعالى قال في هذه الآية (* (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات) *) فلينكح الفتيات المؤمنات فالإحصان هاهنا في الحرية قطعا فنقلناه من حرة مؤمنة إلى أمة مؤمنة وقال في آية أخرى (* (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) *) [المائدة 5] ثم قال (* (والمحصنات من المؤمنات) *) يعني حل لكم (* (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) *) حل لكم أيضا يريد بذلك الحرائر لا معنى له سواه فأفادت الآية حل الكتابية وبقيت الأمة الكافرة تحت التحريم
فإن قيل فقد قال (* (ولأمة مؤمنة خير من مشركة) *) [البقرة 221] فخاير بينهما والمخايرة لا تكون بين ضدين وقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة
المسألة التاسعة
لما أكمل الله تعالى بيان المحرمات الحاضرات في ذلك الوقت للتكليف وقال بعده (* (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *) [النساء 24] فلو وقع هذا الإحلال بنص لكان ما يأتي بعده من المحرمات التي عددناها نسخا ولكنه كان عموما فجرى على عمومه إلا ما خصه الدليل في ست عشرة مسألة ولو كانت ألفا ما أثر في العموم فكيف وهي على هذا المقدار ألا ترى إلى قوله تعالى (* (فاقتلوا المشركين) *)
506

[التوبة 5] وهو عموم خرج منه عشرة أصناف وبقي تحته صنف واحد وهم المحاربون ولم يؤثر ذلك فيه لا فصاحة ولا حكمة ولا دينا ولا شريعة
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض) *))
المعنى أن الله لما شرط الإيمان وعلم أنه مخفي لا يطلع عليه سواه أحال على الظاهر فيه وقال (* (والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض) *) فيما أضمرتم من الإيمان كلكم فيه مقبول وبظاهره معصوم حتى يحكم فيه الحكيم ولذلك لما جاء الأنصاري فقال له علي رقبة وأريد أن أعتق هذه الجارية قال لها النبي صلى الله عليه وسلم أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة حملا على الظاهر من الإيمان نعم وعلى الظاهر من الألفاظ وقد بينا ذلك في كتاب المشكلين
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (بعضكم من بعض) *))
قيل معناه أنتم بنو آدم وقيل معناه أنتم المؤمنون إخوة وفي هذا دليل على التسوية بين الحر والعبد في الشرف ورد على العرب التي كانت تسمي ولد الأمة هجينا تعبيرا له بنقصان مرتبة أمه وهذا أمر أدخلته اليمنية على المضرية من حيث لم تشعر بجهل العرب وغفلتها فإن إسماعيل ابن أمة فلو كانت على بصيرة ما قبلت هذا التعبير وإليها يرجع
المسألة الثانية عشرة
إذا تزوج أمة ثم قدر بعد ذلك على حرة فتزوجها ثبت نكاح الأمة ولم ينفسخ
507

وقال مسروق ينفسخ لأنه أمر أبيح للضرورة فإذا ارتفعت الضرورة ارتفعت الإباحة وهذا لا يصح لأنه شرط في ابتداء العقد فلا يشترط في استدامته كالعدة والإحرام وخوف العنت وهذا لا جواب عنه
وأما الميتة في الضرورة فتفارق هذا من وجهين
أحدهما أن هذا عقد لازم وتلك إباحة مجردة
الثاني أن هذا عقد بشروط فيعتبر بشروطه بخلاف الإباحة في الميتة والله أعلم
الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى (* (فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) *) [الآية 25]
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى
قال إسماعيل القاضي زعم بعض أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق وكيف يجوز هذا ونكاح بغير صداق سفاح وبالغ في الرد وبين أن الله ذكر نكاح كل امرأة فقرنه بذكر الصداق فقال في الإماء (* (فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف) *) وقال تعالى (* (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن) *) [المائدة 5] وقال أيضا (* (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) *) [الممتحنة 1] فكيف يخلو عنه عقد حكم الشرع فيه بأن يجب في كل نوع منه حتى أنه لو سكت في العقد عنه لوجب بالوطء
قال ابن العربي وهذا الذي ذكره القاضي إسماعيل هو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وقد تعرض الحنفيون والشافعيون للرد على إسماعيل فرد عليه أبو بكر
508

الرازي في كتاب أحكام القرآن له ورد عليه علي بن محمد الطبري الهراس في كتاب أحكام القرآن فتعرضوا للارتقاء في صفوفه بغير تمييز
قال الرازي يجب المهر ويسقط لئلا تكون استباحة البضع بغير بدل ويسقط في الثاني حين يستحقه المولى لأنها لا تملكه والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على عبده دين
وقال الطبري إن المهر لو وجب لوجب لشخص على شخص فمن الذي أوجبه وعلى من وجب
فإن قلت وجب للسيد على العبد فهذا محال أن يثبت له دين على عبده ووجوبه لا على أحد محال وكما أن العقد يقتضي الإيجاب كذلك الملك يقتضي الإسقاط وليس إيجابه ضرورة الإسقاط كما يقال إن إثبات الملك للابن ضرورة العتق فإن العتق لا يتصور بدون الملك فأما إسقاط المهر فلا يقتضي إثباته فوجب ألا يجب بحال
وقد دل الدليل على أن العبد لا يملك بالتمليك أصلا وإذا لم يملك ولا بد من مالك واستحال أن يكون السيد مالكا فامتنع لذلك وعاد الكلام إلى أصل آخر وهو أن العبد هل يملك أم لا
قال القاضي أبو بكر أما قول الرازي إنه يجب ويسقط فكلام له في الشرع أمثلة منها متفق عليها ومنها مختلف فيها فمن المتفق عليه بيننا وبين الشافعية والحنفية هو فيما إذا قال لرجل أعتق عبدك عني على ألف فقال سيده هو حر فإن هذا القول وهو كلمة هو حر يتضمن عقد البيع ووجوب الثمن على المبتاع ثم وجوب الثمن للبائع ووجوب الملك للمبتاع وخروجه عن يد البائع وملكه والعتق ويجب الملك ثم يسقط كل ذلك بصحة البيع والعتق
كذلك يلزم أن يقول يجب الصداق هاهنا لحل الوطء ثم يكون ما كان
ومما اتفقنا عليه نحن والشافعية إذا اشترى الابن أباه فإنه يصح عقد الشراء ويحصل الملك للابن ثم يسقط الملك ويعتق ويجب الثمن للبائع
509

وقد قال بعض أصحاب الشافعي إذا قتل الأب ابنه يجب القصاص ويسقط فوجوبه لوجود علة القصاص من العدوان وشرطه من المكافآت ويسقط لعدم المستحق إذ يستحيل أن يجب للمرء على نفسه
ونحن نقول ينتقل القصاص إلى غير الأب من الورثة كما لو كان الأب كافرا لانتقل الميراث عنه إلى غيره من الورثة
وكذلك قال أصحاب أبي حنيفة لو قتل حر عبدا قتل به ولو قتل مكاتبا لم يترك وفاء قتل به ولو قتل مكاتبا ترك وفاء لم يقتل به لأن الصحابة اختلفوا فيه فمنهم من قال مات عبدا والقصاص لسيده ومنهم من قال مات حرا ويدفع من ماله كتابته لسيده ويرث ماله بقية ورثته ويرثون قصاصه فانتصب اختلافهم في المستحق شبهة في درك القصاص
وهذا الفقه صحيح وذلك أن الإيجاب حكم والاستيفاء حكم آخر مغاير له وأسبابهما تختلف وإذا اختلفا سببا واختلفا ذاتا كيف يصح لمحق أن ينكر انفراد أحدهما عن الآخر
بل هنالك أغرب من هذا وهو أن الوجوب حكم والاستقرار حكم آخر فإن الصداق يجب بالعقد ولا يستقر بالوطء إذ يتطرق السقوط إلى جميعه قبل الوطء بالردة وإلى نصفه بالطلاق
وقد انبنى على هذا الأصل أحكام كثيرة من الزكاة إذا كان الصداق ماشية وغيرها فإذا كان الاستقرار وهو وصف الوجوب حكما انفرد عن الوجوب بانفراد الاستيفاء منه وهو غيره أصلا وصفة فذلك أولى
وأما قول الطبري من الذي أوجب عليه ولمن وجب
فيقال له نقصك قسم ثالث عدلت عنه أو تعمدت تركه تلبيسا وهو أن يجب للأمة وهي الزوج على العبد الذي تزوجها كما تجب عليه النفقة لها
فإن قال ليست الأمة أهلا للملك ولا للتمليك
قلنا لا نسلم بل العبد أهل للملك والتمليك
510

وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف تخليصا وتلخيصا وإنصافا وحققنا في الكتب الثلاثة أن علة الملك الحياة والآدمية وإنما انغمر وصف العبد بالرق للسيد ولكن العلة باقية والحكم قد يتركب عليها مع وجود الغامر لها وكيف لا تملك الأمة والله تعالى يقول في الإماء (* (فآتوهن أجورهن) *) [النساء 24] فأضاف الأجور إليهن إضافة تمليك
وأما قوله إن العقد كما يقتضي الإيجاب كذلك الملك يقتضي الإسقاط
قلنا له فذكر على كل واحد مقتضاه أوجب بالعقد وأسقط بالملك ووفر على كل سبب حكمه كما فعلنا في شراء القريب
وأما قوله إن إيجابه ليس ضرورة للإسقاط بخلاف عتق القريب فإن إيجابه هناك ضرورة العتق
قلنا وإيجابه الصداق هاهنا ضرورة الحل إذ جعله الله علما على الفرق بين النكاح والسفاح ونص على إيجابه في كل نكاح على اختلاف أنواع الناكحين من ملك أو مملوك فيجب للأمة ثم يجب للسيد منها وليس يستحيل أن يجب للسيد على العبد حق فلا تغر غرورا بما لا تحصيل فيه ولا منفعة له وهلا قلتم يجب للأمة على العبد ثم يجب للسيد من الأمة ثم يسقط وسقوط الحق بانتقاله من محل إلى محل ليس غريبا في مسائل القصاص والشفعة والديون
وأما قوله إن العتق لا يتصور بدون الملك فكذلك لا يتصور الحل في النكاح بغير صداق
وأما قولك إن القول عاد إلى أن العبد لا يملك فيا حبذا عوده إلى هذا الأصل الذي ظهرنا فيه عليكم والحمد لله
المسألة الثانية قوله تعالى (* (بإذن أهلهن) *))
دليل على أن المملوكة لا تنكح إلا بإذن أهلها وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن أهله وسيده
511

وذلك لأن العبد مملوك لا أمر له وبدنه كله مستغرق بحق السيد لكن الفرق بينهما أن الأمة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ النكاح ولم يجز بإجازة السيد وإذا جوز السيد نكاح العبد جاز لأن نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من انعقاد النكاح البتة على ما بيناه في سورة البقرة
فإن قيل فهل يجوز نكاحها بإذن أهلها وإن لم يباشر السيد العقد
قلنا نعم يجوز ولكن لا تباشره هي بل يتولاه من تولاه وقد روى ابن جريج وغيره عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر خرجه الترمذي وقال هو حسن
وحديث يرويه ابن جريج عن ابن عقيل عن جابر ينبغي أن يكون صحيحا
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وآتوهن أجورهن) *))
هذا يدل على وجوب المهر في النكاح وقد تقدم
المسألة الرابعة
هذا نص على أنه يسمى أجرة ودليل هذا أنه في مقابلة المنفعة البضعية لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرة
وقد اختلف الناس في المعقود عليه النكاح ما هو بدن المرأة أو منفعة البضع أو الحل وقد مهدناه في مسائل الخلاف عند ذكرنا ما ترد به الزوجة من العيوب
512

المسألة الخامسة
هذا يدل على وجوب المهر للأمة وقد أنكر ذلك الشافعي وقال إنه عوض منفعة لا يكون للأمة أصله إجازة المنفعة في الرقبة
وقال علماؤنا إن السيد إذا زوج أمته فقد ملك منها ما لم يكن يملك لأن السيد لم يكن يملك غشيانها بالتزويج وإنما كان يملكه بملك اليمين فهذا العقد لها لا له فعوضه لها بخلاف منافع الرقبة فإنها والعقد عليها للسيد وهذا ظاهر لا يفتقر إلى إطناب
المسألة السادسة ما يعني بالمعروف
يعني الواجب وهو ضد المنكر وليس يريد به المعروف الذي هو العرف والعادة وستراه مبينا في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى
المسألة السابعة قوله تعالى (* (محصنات غير مسافحات) *))
يعني عفائف غير زانيات
وقد استدل بها من حرم نكاح الزانية وهو الحسن البصري وقال إنه شرط في النكاح الإحصان وهو العفة وأيضا فإن الله تعالى قال في سورة النور (* (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) *) [النور 3]
وقالت طائفة معنى قوله محصنات أي بنكاح لا بزنى وهذا ضعيف جدا لأن الله تعالى قد قال قبل هذا (* (فانكحوهن بإذن أهلهن) *) فكيف يقول بعد ذلك منكوحات فيكون تكرارا في الكلام قبيحا في النظام وإنما شرط الله ذلك صيانة للماء الحلال عن الماء الحرام فإن الزانية لا يجوز عندنا نكاحها حتى تستبرأ
وقال أبو حنيفة والشافعي يجوز نكاحها اليوم لمن زنى بها البارحة ولمن لم يزن بها مع شغل رحمها بالماء فهذه هي الزانية التي حرم الله نكاحها فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
513

أنه قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره وثبت عنه أنه قال لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض في وطء ونسب لهما حرمة وذلك في وطء الكفار لكن إن لم يكن للماء المستقر في الرحم حرمة فللماء الوارد عليه حرمة فكيف يمتزج ماء بماء غير محترم وفي ذلك خلط الأنساب الصحيحة بالمياه الفاسدة
وأما قوله (* (الزاني لا ينكح إلا زانية) *) فهي آية مشكلة اختلف فيها السلف قديما وحديثا والمتحصل فيها أربعة أقوال
الأول أنه روي عن عبد الله بن عمر أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه وكذلك كن نساء معلومات يفعلن ذلك فيتزوجن الرجل من فقراء المسلمين لتنفق المرأة منهن عليه فنهاهم الله عن ذلك
الثاني قال ابن عباس ونحوه عن قتادة ومجاهد عن بغايا كن ينصبن على أبوابهن كراية البيطار وكانت بيوتهن تسمى المواخير لا يدخل إليهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك فحرم الله ذلك على المؤمنين
الثالث قال سعيد بن جبير لا يزني الزاني إلا بزانية مثله أو مشركة ونحوه عن عكرمة
الرابع قال سعيد بن المسيب نسخها قوله (* (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) *) [النور 32] وقال أنس من أيامى المسلمين
وقد أكد رواية ابن عمر ما رواه الترمذي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان رجل يحمل الأسرى من مكة
514

حتى يأتي بهم المدينة قال وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكان صديقا لها وإنه واعد رجلا من أسرى مكة يحمله قال فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة قال فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط فلما انتهت إلي عرفتني فقالت مرثد فقلت مرثد فقالت مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة قال قلت يا عناق حرم الله الزنا قالت يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم وذكر الحديث قال حتى قدمت المدينة فقلت يا رسول الله أأنكح عناق فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي شيئا فنزلت (* (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) *) الآية [النور 3] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا مرثد الزاني لا ينكح وقرأها إلى آخرها وقال له فلا تنكحها
فأما من قال إنها نزلت في بغايا معلومات فكلام صحيح
وأما من قال إن معناه الزاني لا يزاني إلا زانية فما أصاب فيه غيره وهي من علوم القرآن المأثورة عن معلمه المعظم ابن عباس
وأما من قال لا ينكح المحدود إلا محدودة وهو الحسن يريد أن معنى الآية الزانية التي تبين زناها ويصح أن يخبر عنها به وذلك لا يكون إلا فيمن نفذ عليه الحد وقبل نفوذ الحد هي محصنة يحد قاذفها وهو الذي منع من نكاحها ومعه نتكلم وعليه نحتج وإذا قال القائل إن معناه إذا زنى بامرأة فلا يتزوجها فيشبه أن يكون قولا لكن مخرجه ما قدمناه من أن تحريم ذلك إنما يكون قبل الاستبراء وتكون الآية مسوقة لبيان أنه لا يسترسل على المياه الفاسدة بالنكاح إلا زان أو مشرك كما سبق أو يكون معناه ما اختاره عالم القرآن قال المراد بالنكاح الوطء والآية نزلت في البغايا المشركات والدليل عليه أن الزانية من المسلمات حرام على المشرك وأن الزاني من المسلمين حرام عليه المشركات فمعنى الآية أن الزاني لا يزني إلا بزانية
515

لا تستحل الزنا أو بمشركة تستحله والزانية لا يزني بها إلا زان لا يستحل الزنا أو مشرك يستحله
وأما من قال إن الآية منسوخة فما فهم النسخ إذ بينا أنه لا يكون إلا بين الآيتين المتعارضتين من كل وجه بل الآية التي احتج بها عاضدة لهذه الآية وموافقة لها لأن الله تعالى حرم نكاح الزناة والزواني وأمر بنكاح الصالحات والصالحين
المسألة الثامنة
هذه الآية وإن كانت بصيغة الخبر فكذلك هو معناها وهي خبر عن حكم الشرع فإن وجد خلاف المخبر فليس من الشرع على ما تقدم بيانه في سورة البقرة
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (ولا متخذات أخدان) *))
كانت البغايا في الجاهلية على قسمين مشهورات ومتخذات أخدان وكانوا بعقولهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويحلون ما بطن فنهى الله سبحانه عن الجميع
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (من فتياتكم المؤمنات) *))
يدل على أن فتى وفتاة وصف للعبيد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ومن هاهنا قال بعضهم إن يوشع بن نون كان عبدا لموسى عليه السلام لقوله تعالى (* (وإذ قال موسى لفتاه) *) [الكهف 6] والله أعلم
الآية الثانية والعشرون
قوله تعالى (* (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم) *) [النساء 25]
فيها سبع مسائل
516

المسألة الأولى
معنى الإحصان هاهنا مما اختلف فيه فقال قوم هو الإسلام قائله ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم وقال آخرون أحصن تزوجن قاله ابن عباس وسعيد ابن جبير وقال مجاهد هو أن يتزوج العبد حرة والأمة حرا ويروى عن ابن عباس وقال الشافعي تحد الكافرة على الزنا ولا يشترط الإسلام ولا النكاح
وقرئ أحصن بفتح الهمزة وأحصن بضمها فمن قرأ بالفتح قال معناه أسلمن والإسلام أحد معاني الإحصان ومن قرأ أحصن بالضم قال معناه زوجن
وقد يحتمل أن يكون أحصن بفتح الهمزة زوجن فيضاف الفعل إليهن لما وجد بهن
وقد يحتمل أن يكون أحصن بضم الهمزة أسلمن معناه منعن بالإسلام من أحكام الكفر والظاهر في الإطلاق هو الأول
ومن شرط نكاح الحر والحرة لا معنى له ولا دليل عليه
والإحصان هو الإسلام من غير شك لأنه أول درجات الإحصان فلا ينزل عنه إلا بدليل ويكون تقدير الآية ومن لم يستطع أن ينكح الحرائر المؤمنات فلينكح المملوكات المؤمنات فإذا أسلمن فعليهن نصف ما على الحرائر من الحد ولا يتنصف الرجم فليسقط اعتباره ويكون المراد ما يتشطر وهو الجلد وعلى قول الآخرين يكون التقدير فإذا تزوجن فعليهن نصف ما على الأبكار من العذاب وهو الجلد
ونحن أسد تأويلا لوجهين
أحدهما أن قوله المؤمنات يقتضي الإسلام فقوله (* (فإذا أحصن) *) يجب أن يحمل على فائدة مجردة
الثاني أن المسلمة داخلة تحت قوله (* (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *) [النور 2] فتناولها عموم هذا الخطاب
فإن قيل فخذوا الكافر بهذا العموم
517

قلنا الكافر له عهد ألا نعترض عليه
فإن قيل فالرقيق لا عهد له
قلنا الرق عهد إذا ضرب عليه لم يكن بعده سبيل إليه إلا بطريق التأديب والمصلحة لتظاهره بالفاحشة إن أظهرها
المسألة الثانية
روى الأئمة بأجمعهم عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إن زنت فاجلدوها ثلاثا ثم بيعوها ولو بضفير قال ابن شهاب لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة
وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن وهذا نص عموم في جلد من تزوج ومن لم يتزوج
المسألة الثالثة
قال مالك والشافعي يقيم السيد الحد على مملوكه دون رأي الإمام
وقال أبو حنيفة لا يقيمه إلا نائب الله وهو الإمام لأنه حق الله تعالى
ودليلنا قوله تعالى (* (فعليهن نصف ما على المحصنات) *) ولم يعين من يقيمه فبينه النبي صلى الله عليه وسلم وجعل ذلك إلى السادات وهم نواب الله في ذلك كما ينوب آحاد الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فإن قيل وكيف يتفق للسيد أن يقيم حد الزنا أيقيمه بعلمه أم بالشهود فيتصدى منصب قاض وتؤدى عنده الشهادة
518

قلنا قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها وهو حديث صحيح عند الأئمة
والزنا يتبين بالشهادة وذلك يكون عند الحاكم أو بالحمل ولا يحتاج فيه السيد إلى الإمام ولكنه يقيمه عليها بما ظهر من حملها إذا وضعته وفصلت من نفاسها لقوله علي في الصحيح إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها الحد فوجدتها حديثة عهد بنفاس فخفت إن أنا جلدتها أن أقتلها فتركتها فأخبرته فقال أحسنت
ولهذا خاطب السادات بذكر الإماء اللاتي يتبين زناهن بالحمل وسكت عن العبيد الذين لا يظهر زناهم إلا بالشهادة
المسألة الرابعة
دخل الذكور تحت الإناث في قوله (* (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *) بعلة المملوكية كما دخل الإماء تحت قوله من أعتق شركا له في عبد بعلة سراية العتق وتغليب حق الله تعالى فيه على حق الملك
وأبين من هذا أنه فهم من قوله (* (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) *) [النور 4] دخول المحصنين فيه والله أعلم
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (ذلك لمن خشي العنت منكم) *))
اختلف الناس في العنت على خمسة أقوال
الأول أنه الزنا قاله ابن عباس
الثاني أنه الإثم
519

الثالث العقوبة
الرابع الهلاك
الخامس قال الطبري كل ما يعنت المرء عنت وهذه كلها تعنته وهذا صحيح فمن خاف شيئا من ذلك فقد وجد شرطه وأصله الزنا كما قال ابن عباس فعليه عول
المسألة السادسة قوله تعالى (* (وأن تصبروا خير لكم) *))
يدل على كراهية نكاح الأمة لما فيه من خوف إرقاق الولد وجواز خوف هلاك المرء فاجتمعت فيه مضرتان دفعت الأعلى بالأدنى فقدم المتحقق على المتوهم والله أعلم
المسألة السابعة
هذا يدل على أن العزل حق المرأة لأنه لو كان حقا للرجل لكان له أن يتزوج ويعزل فينقطع خوف إرقاق الولد في الغالب وبه قال مالك
وقال الشافعي وأبو حنيفة ليس للمرأة حق إلا في الإيلاج وهذا ضعيف فإن النكاح إنما عقد للوطء وكل واحد من الزوجين له فيه حق وكما أن للرجل فيه حق الغاية وهو الإيلاج والتكرار فللمرأة فيه غاية الإنزال وتمام ذوق العسيلة فبه تتم اللذة للفريقين فإن أراد الرجل إسقاط حقه والوقوف دون هذه الغاية فللمرأة حق بلوغها
الآية الثالثة والعشرون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا) *) [الآية 29 3]
الآية فيها إحدى عشرة مسألة
520

المسألة الأولى القول في صدر هذه الآية
وهو أكل المال بالباطل قد تقدم في سورة البقرة
المسألة الثانية قوله (* (إلا أن تكون تجارة) *))
التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومن الأجر الذي يعطيه الباري عوضا عن الأعمال الصالحة التي هي بعض من فضله فكل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض إلا أن قوله (* (بالباطل) *) أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير ووجوه الربا حسبما تقدم بيانه
فإذا ثبت هذا فكل معاوض إنما يطلب الربح إما في وصف العوض أو في قدره وهو أمر يقتضيه القصد من التاجر لا لفظ التجارة
المسألة الثالثة
من جملة أكل المال بالباطل بيع العربان وهو أن يأخذ منك السلعة ويعطيك درهما على أنه إن اشتراها تمم الثمن وإن لم يشترها فالدرهم لك وقد روى مالك في الموطأ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان
المسألة الرابعة
لما شرط العوض في أكل المال وصارت تجارة خرج عنها كل عقد لا عوض فيه يرد على المال كالهبة والصدقة فلا يتناوله مطلق اللفظ وجازت عقود البيوعات بأدلة أخر من القرآن والسنة على ما عرف ويأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى
المسألة الخامسة
الربح هو ما يكتسبه المرء زائدا على قيمة معوضه فيأذن له فيه إذا كان معه أصل العوض في المعاملة ويكون ذلك الربح بحسب حاجة المشتري والبائع إلى عقد الصفقة
521

فالزيادة أبدا تكون من جهة المحتاج إن احتاج البائع أعطى زائدا على الثمن من قيمة سلعته وإن احتاج المشتري أعطى زائدا من الثمن وذلك يكون يسيرا في الغالب فإن كان الربح متفاوتا فاختلف فيه العلماء فأجازه جميعهم ورده مالك في إحدى روايتيه إذا كان المغبون لا بصر له بتلك السلعة ولذا جوزه فراعى أن المغبون مفرط إذ كان من حقه أن يشتري لنفسه ويشاور من يعلم أو يوكله وإذا رددناه فلأنه من أكل المال بالباطل إذ ليس تبرعا ولا معاوضة فإن المعاوضة عند الناس لا تخرج إلى هذا التفاوت وإنما هو من باب الخلابة والخلابة ممنوعة شرعا مع ضعفها كالغلابة وهو الغصب ممنوعة شرعا مع قوتها وتدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار ألا ترى أن تلقي الركبان يتعلق به الخيار عند تبين الحال وهو من هذا الباب وقد قررناه قبل هذا في موضعين فلنجمع الكلام على الآية فيها كلها
المسألة السادسة
قال عكرمة والحسن البصري وغيرهما خرج عن هذه الآية التبرعات كلها وإنما جوز الشرع التجارة وبقي غيرها على مقتضى النهي حتى نسخها قوله (* (ليس عليكم
جناح أن تأكلوا) *) [النور 61] وهذا ضعيف جدا فإن الآية لم تقتض تحريم التبرعات وإنما اقتضت تحريم المعاوضة الفاسدة وقد بينا ذلك في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ
المسألة السابعة قوله تعالى (* (عن تراض منكم) *))
وهو حرف أشكل على العلماء حتى اضطربت فيه آراؤهم
قال بعضهم التراضي هو التخاير بعد عقد البيع قبل الافتراق من المجلس وبه قال ابن عمر وأبو هريرة وشريح والشعبي وابن سيرين والشافعي وتعلقوا بحديث ابن عمر وغيره المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار
522

وقال آخرون إذا تواجبا بالقول فقد تراضيا يروى عن عمر وغيره وبه قال أبو حنيفة ومالك والصحابة
واختار الطبري أن يكون تأويل الآية إلا تجارة تعاقدتموها وافترقتم بأبدانكم عن تراض منكم فيها وهذه دعوى إنما يدل مطلق الآية على التجارة على الرضا وذلك ينقضي بالعقد وينقطع بالتواجب وبقاء التخاير في المجلس لا تشهد له الآية لا نطقا ولا تنبيها وكل آية وردت في ذكر البيع والشراء والمداينة والمعاملة إنما هي مطلقة لا ذكر للمجلس فيها ولا لافتراق الأبدان منها كقوله (* (أوفوا بالعقود) *) [المائدة 1] فإذا عقد ولم يبرم لم يكن وفاء وإذا عقد ورجع عن عقده لم يكن بين الكلام والسكوت فرق بل السكوت خير منه لأنه تعب ولا التزم ولا أخبر عن شيء فتبين الأمر وتقدم العذر وإذا عقد وحل بعد ذلك كان كلامه تعبا ولغوا وما الإنسان لولا اللسان وقد أخبر بلسانه عن عقده ورضاه فأي شيء بقي بعد هذا
وكذلك قوله في آية الدين (* (وليملل الذي عليه الحق) *) [البقرة 282] فإذا أملى وكتب وأعطى الأجرة ثم عاد ومحا ما كتب كان تلاعبا وفسخا لعقد آخر قد تقرر
وكذلك قال (* (ولا يبخس منه شيئا) *) [البقرة 282] وإذا حله فقد بخسه كله
وكذلك قال (* (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) *) [البقرة 282] وعلى أي شيء يشهدون ولم يلزم عقد ولا انبرم أمر
وكذلك قوله (* (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) *) يلزم منه ما لزم من قوله (* (وليملل الذي عليه الحق) *) وكذلك قوله (* (فرهان مقبوضة) *) [البقرة 283] فيضيف عقدا إلى غير عقد ويرتهن إلى غير واجب
523

واعتبار خيار المجلس وحده مبطل لهذا كله فأي الأمرين أولى أن يراعى وأي الحالين أقوى أن يعتبر
فإن قيل أمر الله تعالى بالكتابة والإشهاد محمول على الغالب في أن المتبايعين لا يفترقان حتى ينقضي ذلك كله
قلنا الغالب ضده وكيف يتصور بقاء الشهود حتى يقوم المتعاقدان هذا لم يعهد ولم يتفق
فإن تعلقوا بخبر ابن عمر وغيره في خيار المجلس فهذا خروج عن القرآن إلى الأخبار وقد تكلمنا على ذلك في مسائل الخلاف بما يجب فلا ندخله في غير موضعه
المسألة الثامنة
هذا نص على إبطال بيع المكره لفوات الرضا فيه وتنبيه على إبطال أفعاله كلها حملا عليه
المسألة التاسعة قوله (* (ولا تقتلوا أنفسكم) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول لا تقتلوا أهل ملتكم
الثاني لا يقتل بعضكم بعضا
الثالث لا تقتلوا أنفسكم بفعل ما نهيتم عنه قاله الطبري والأكثر من العلماء
وكلها صحيح وإن كان بعضها أقعد من بعض في الدين من اللفظ واستيفاء المعنى
والذي يصح عندي أن معناه ولا تقتلوا أنفسكم بفعل ما نهيتم عنه فكل ذلك دخل تحته ولكن هاهنا دقيقة من النظر وهي أن هذا الذي اخترناه يستوفي المعنى ولكنه مجاز في لفظ القتل وعلى حمل الآية على صريح القتل يكون قوله (* (أنفسكم) *) مجازا أيضا فإذ لم يكن بد من المجاز فمجاز يستوفي المعنى ويقوم بالكل أولى وهذا كقوله تعالى (* (ولا تلمزوا أنفسكم) *) [الحجرات 11] فتدبروه عليه
524

المسألة العاشرة قوله تعالى (* (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما) *))
دليل على أن فعل الناسي والخاطئ والمكره لا يدخل في ذلك لأن هذه الأفعال لا تتصف بالعدوان والظلم إلا فرع واحد منها وهو المكره على القتل فإن فعله يتصف إجماعا بالعدوان فلا جرم يقتل عندنا بمن قتله ولا ينتصب الإكراه عذرا وقد بيناه في مسائل الخلاف
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما) *))
اختلف في مرجعه فقيل إلى ما نهى عنه من قوله (* (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) *) [النساء 19] إلى هاهنا لأن ما تقدم قبله من أول السورة وعيده فيه
وقيل إنه يرجع إلى الكل لأن كون وعيده جاء معه مخصوصا لا يمنع أن يدخل في العموم أيضا إذ لا تناقض فيه بل فيه تأكيد له قال ابن العربي هاهنا دقيقة أغفلها العلماء
وذلك أنها إذا نزلت لا نعلم هل كان ذلك بعد استقرار ما سبقها من أول السورة إلى هنا منزلا مكتوبا أم نزل جميعه بعد نزولها وإذا علمنا أن ذلك كله تقدم نزولا وكتابة لا يقتضي قوله ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم من أول السورة دون ما تقدم من أول القرآن دون جميع ما فيه من ممنوع محرم
فالأصح أن قوله (* (ذلك) *) يرجع إلى قوله (* (ولا تقتلوا أنفسكم) *) يقنيا وغيره محتمل موقوف على الدليل والله أعلم
الآية الرابعة والعشرون
قوله تعالى (* (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما) *) [الآية 32]
525

فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
يروى أن أم سلمة قالت يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو ويذكر الرجال ولا نذكر ولنا نصف الميراث فأنزل الله سبحانه هذه الآية (* (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) *))
المسألة الثانية في حقيقة التمني
وهو نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي
المسألة الثالثة
نهى الله سبحانه عن التمني لأن فيه تعلق البال بالماضي ونسيان الآجل والأجل ما فيه من ذلك وقع النهي عنه وتفطن البخاري له فعقد له في جامعه كتابا فقال كتاب التمني وأدخل فيه أبوابا ومسائل هناك ترى مستوفاة بالغة إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة
المراد هاهنا النهي عن التمني الذي تستحسنه عند الغير حتى ينتقل إليك وهو الحسد المنهي عنه مطلقا في غير هذا الموضع أما أنه يجوز تمني مثله وهي الغبطة فيستحب الغبط في الخير وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين رجل يتلو القرآن وآخر يعمل الحكمة ويعلمها هذا معناه قال اعملوا ولا تتمنوا فليتكم قمتم بما أوتيتم واستطعتم ما عندكم
وأحسن عبارة في ذلك قول الصوفية كن طالب حقوق مولاك ولا تتبع متعلقات هواك
526

وقال الحسن لا يتمنين أحد المال وما يدريه لعل هلاكه فيه
وهذا إنما يصح إذا تمناه للدنيا وأما إذا تمناه للخير فقد جوزه الشرع كما تقدم فيتمناه العبد ليصل به إلى الرب ويفعل الله ما يشاء
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) *))
قال علماؤنا أما نصيبهم في الأجر فسواء كل حسنة بعشر أمثالها للرجل والمرأة كذلك واسألوا الله من فضله
وأما نصيبهم في مال الدنيا فبحسب ما علمه الله من المصالح ورب الخلق عليه من التقدير والتدبير رتب أنصباءهم فلا تتمنوا ما حكم الله به وأحكم بما علم ودبر حكمه
الآية الخامسة والعشرون
قوله تعالى (* (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا) *) [الآية 33]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
المولى في لسان العرب ينطلق على ثمانية معان قد بيناها في كتاب الأمد وغيره وأصله من الولي وهو القرب وتختلف درجات القرب وأسبابه
المسألة الثانية
معناه مولى العصبة قاله مجاهد وابن عباس وهذا صحيح لقوله بعد ذلك (* (مما ترك الوالدان والأقربون) *) وليس بعد الوالدين والأقربين إلا العصبة ويفسره ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر
527

المسألة الثالثة
المولى المنعم بالعتق في حكم القريب لقوله صلى الله عليه وسلم للولاء لحمة كلحمة النسب وليس المنعم عليه بالعتق نسيبا ولا وارثا وإنما ثبت حكم النسب من إحدى الجهتين فكأن الولاء أبوة لأنه أوجده بالعتق حكما كما أوجد الأب ابنه بالاكتساب للوطء حسا
قال طاوس والحسن بن زياد هو وارث لأن حكم النسب إذا ثبت من إحدى الجهتين وجب أن يثبت من الأخرى لا سيما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مولى القوم منهم
واستهان العلماء بهذا الكلام وهي في غاية الإشكال وقد أجابوا عنه بأن الميراث إنما هو في مقابلة الإنعام بالعتق وهذا فاسد من وجهين
أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله لحمة كلحمة النسب
الثاني أن الإنعام بالعتق لا مقابل له إلا العتق من النار حسبما قابله به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار
وليس في المسألة عندي متعلق إلا الإجماع السابق لطاوس فيه ولمن قاله بعده
528

المسألة الرابعة قوله تعالى (* (والذين عقدت أيمانكم) *))
اختلف الناس فيه وابن عباس فتارة قال كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر فأنزل الله تعالى (* (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) *) [الأحزاب 6] يعني تؤتوهم من الوصية جميلا وإحسانا في الثلث المأذون فيه وتارة قال كان المهاجرون لما قدموا المدينة حالف النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فكان الأنصاري يرث المهاجري والمهاجري يرث الأنصاري فنزلت هذه الآية ثم انقطع ذلك فلا تواخي بين أحد اليوم
وقال ابن المسيب نزلت في الذين كانوا يتبنون الأبناء فرد الله الميراث إلى ذوي الأرحام والعصبة وجعل لهم نصيبا في الوصية
وقد أحكم ذلك ابن عباس في الصحيح بيانا بما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برهانا قال البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الصحيح ولكل جعلنا موالي قال ورثة والذين عقدت أيمانكم فكان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذي رحمة للأخوة التي آخى بها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت (* (ولكل جعلنا موالي) *) نسخت ثم قال والذين عقدت أيمانكم من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصى له وهذا غاية ليس لها مطلب
المسألة الخامسة
قال أبو حنيفة حكم الآية باق من يرث به وبالاشتراك في الديون لاشتراكهما عنده في العقد وهذا باب قد استوفيناه في مسائل الخلاف وقد بينا هاهنا معنى الآية وحققنا أنه ليس وراءها معنى
529

الآية السادسة والعشرون
قوله تعالى (* (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا) *) [الآية 34]
فيها أربع عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
ثبت عن الحسن أنه قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجي لطم وجهي قال بينكما القصاص فأنزل الله عز وجل (* (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) *) [طه 114] قال حجاج في الحديث عنه فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله تعالى (* (الرجال قوامون على النساء) *)
قال جرير بن حازم سمعت الحسن يقرأها (* (من قبل أن يقضى إليك وحيه) *) بالنون ونصب الياء من وحيه
المسألة الثانية قوله (* (قوامون) *))
يقال قوام وقيم وهو فعال وفيعل من قام المعنى هو أمين عليها يتولى أمرها ويصلحها في حالها قاله ابن عباس وعليها له الطاعة وهي
المسألة الثالثة
الزوجان مشتركان في الحقوق كما قدمنا في سورة البقرة (* (وللرجال عليهن درجة) *) بفضل القوامية فعليه أن يبذل المهر والنفقة ويحسن العشرة ويحجبها ويأمرها بطاعة الله وينهي إليها شعائر الإسلام من صلاة وصيام إذا وجبا على المسلمين وعليها الحفظ لماله والإحسان إلى أهله والالتزام لأمره في الحجبة وغيرها إلا بإذنه وقبول قوله في الطاعات
530

المسألة الرابعة قوله (* (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) *) [البقرة 282]
الثالث بذله المال من الصداق والنفقة وقد نص الله عليها ها هنا
المسألة الخامسة قوله (* (فالصالحات قانتات حافظات) *))
يعني مطيعات وهو أحد أنواع القنوت
المسألة السادسة قوله تعالى (* (حافظات للغيب) *))
يعني غيبة زوجها لا تأتي في مغيبه بما يكره أن يراه منها في حضوره وقد قال الشعبي إن شريحا تزوج امرأة من بني تميم يقال لها زينب قال فلما تزوجتها ندمت حتى أردت أن أرسل إليها بطلاقها فقلت لا أعجل حتى يجاء بها قال فلما جيء بها تشهدت ثم قالت أما بعد فقد نزلنا منزلا لا ندري متى نظعن منه فانظر الذي تكره هل تكره زيارة الأختان فقلت أما بعد فإني شيخ كبير لا أكره المرافقة وإني لأكره ملال الأختان قال فما شرطت شيئا إلا وفت به قال فأقامت سنة ثم
531

جئت يوما ومعها في الحجلة إنس فقلت إنا لله فقالت أبا أمية إنها أمي فسلم عليها فقالت أنظر فإن رابك شيء منها فأوجع رأسها قال فصحبتني ثم هلكت قبلي قال فوددت أني قاسمتها عمري أو مت أنا وهي في يوم واحد وقال شريح
(رأيت رجالا يضربون نساءهم
* فشلت يميني يوم أضرب زينبا))
المسألة السابعة قوله تعالى (* (بما حفظ الله) *))
يعني بحفظ الله وهو ما يخلقه للعبد من القدرة على الطاعة فإنه إذا شاء أن يحفظ عبده لم يخلق له إلا قدرة الطاعة فإن توالت كانت له عصمة ولا تكون إلا للأنبياء
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (واللاتي تخافون نشوزهن) *))
قيل فيه تظنون وقيل تتيقنون ولكل وجه معنى يأتي بيانه في تركيب ما بعده عليه إن شاء الله تعالى
المسألة التاسعة قوله (* (نشوزهن) *))
يعني امتناعهن منكم عبر عنه بالنشوز وهو من النشز المرتفع من الأرض وإن كل ما امتنع عليك فقد نشز عنك حتى ماء البئر
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (فعظوهن) *))
وهو التذكير بالله في الترغيب لما عنده من ثواب والتخويف لما لديه من عقاب إلى ما يتبع ذلك مما يعرفها به من حسن الأدب في إجمال العشرة والوفاء بذمام الصحبة والقيام بحقوق الطاعة للزوج والاعتراف بالدرجة التي له عليها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو أمرت أحدا أن يسجد إلى أحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها
532

المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (واهجروهن في المضاجع) *))
فيه أربعة أقوال
الأول يوليها ظهره في فراشه قاله ابن عباس
الثاني لا يكلمها وإن وطئها قاله عكرمة وأبو الضحى
الثالث لا يجمعها وإياه فراش ولا وطء حتى ترجع إلى الذي يريد قاله إبراهيم والشعبي وقتادة والحسن البصري ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك وغيرهم
الرابع يكلمها ويجامعها ولكن بقول فيه غلظ وشدة إذا قال لها تعالي قاله سفيان
قال الطبري ما ذكره من تقدم معترض وذكر ذلك واختار أن معناه يربطن بالهجار وهو الحبل في البيوت وهي المراد بالمضاجع إذ ليس لكلمة (* (واهجروهن) *) إلا أحد ثلاثة معان فلا يصح أن يكون من الهجر الذي هو الهذيان فإن المرأة لا تداوى بذلك ولا من الهجر الذي هو مستفحش من القول لأن الله لا يأمر به فليس له وجه إلا أن تربطوهن بالهجار
قال ابن العربي يا لها هفوة من عالم بالقرآن والسنة وإني لأعجبكم من ذلك إن الذي أجرأه على هذا التأويل ولم يرد أن يصرح بأنه أخذه منه هو حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك قال وعتب عليها وعلى ضرتها فعقد شعر واحدة بالأخرى وضربهما ضربا شديدا وكانت الضرة أحسن اتقاء وكانت أسماء لا تتقي فكان الضرب بها أكثر وآثر فشكته إلى أبيها أبي بكر فقال لها أي بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح ولعله أن يكون زوجك في الجنة ولقد بلغني أن الرجل إذا
533

ابتكر بالمرأة تزوجها في الجنة فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير فأقدم على هذا التفسير لذلك
وعجبا له مع تبحره في العلوم وفي لغة العرب كيف بعد عليه صواب القول وحاد عن سداد النظر فلم يكن بد والحالة هذه من أخذ المسألتين من طريق الإجتهاد المفضية بسالكها إلى السداد فنظرنا في موارد هجر في لسان العرب على هذا النظام فوجدناها سبعة ضد الوصل ما لا ينبغي من القول مجانبة الشيء ومنه الهجرة هذيان المريض انتصاف النهار الشاب الحسن الحبل الذي يشد في حقو البعير ثم يشد في أحد رسغيه ونظرنا في هذه الموارد فألفيناها تدور على حرف واحد وهو البعد عن الشيء فالهجر قد بعد عن الوصل الذي ينبغي من الألفة وجميل الصحبة وما لا ينبغي من القول قد بعد عن الصواب ومجانبة الشيء بعد منه وأخذ في جانب آخر عنه وهذيان المريض قد بعد عن نظام الكلام وانتصاف النهار قد بعد عن طرفيه المحمودين في اعتدال الهواء وإمكان التصرف والشاب الحسن قد بعد عن العاب والحبل الذي يشد به البعير قد أبعده عن استرساله في تصرفه واسترسال ما ربط عن تقلقله وتحركه
وإذا ثبت هذا وكان مرجع الجميع إلى البعد فمعنى الآية أبعدوهن في المضاجع ولا يحتاج إلى هذا التكلف الذي ذكره العالم وهو لا ينبغي لمثل السدي والكلبي فكيف أن يختاره الطبري
فالذي قال يوليها ظهره جعل المضجع ظرفا للهجر وأخذ القول على أظهر الظاهر وهو حبر الأمة وهو حمل الأمر على الأقل وهي مسألة عظيمة من الأصول
والذي قال يهجرها في الكلام حمل الأمر على الأكثر الموفي فقال لا يكلمها ولا يضاجعها ويكون هذا القول كما يقول اهجره في الله وهذا هو أصل مالك وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال في تفسير الآية بلغنا أن عمر بن عبد العزيز كان له نساء فكان يغاضب بعضهن فإذا كانت ليلتها يفرش في حجرتها وتبيت هي في بيتها
534

فقلت لمالك وذلك له واسع قال نعم وذلك في كتاب الله تعالى (* (واهجروهن في المضاجع) *)
والذي قال لا يكلمها وإن وطئها فصرفه نظره إلى أن جعل الأقل في الكلام وإذا وقع الجماع فترك الكلام سخافة هذا وهو الراوي عن ابن عباس ما تقدم من قوله
والذي قال يكلمها بكلام فيه غلظ إذا دعاها إلى المضجع جعله من باب ما لا ينبغي من القول
وهذا ضعيف من القول في الرأي فإن الله سبحانه رفع التثريب عن الأمة إذا زنت وهو العقاب بالقول فكيف يأمر مع ذلك بالغلظة على الحرة
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (واضربوهن) *))
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أيها الناس إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله تعالى قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف
وفي هذا دليل على أن الناشز لا نفقة لها ولا كسوة وأن الفاحشة هي البذاء ليس الزنا كما قال العلماء ففسر النبي صلى الله عليه وسلم الضرب وبين أنه لا يكون مبرحا أي لا يظهر له أثر على البدن يعني من جرح أو كسر
المسألة الثالثة عشرة
من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير قال يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها فإن قبلت وإلا ضربها فإن هي قبلت وإلا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها فينظران ممن الضرر وعند ذلك يكون الخلع
535

المسألة الرابعة عشرة
قال عطاء لا يضربها وإن أمرها ونهاها فلم تطعه ولكن يغضب عليها
قال القاضي هذا من فقه عطاء فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظان الإجتهاد علم أن الأمر بالضرب هاهنا أمر إباحة ووقف على الكراهية من طريق أخرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زمعة إني لأكره للرجل يضرب أمته عند غضبه ولعله أن يضاجعها من يومه
وروى ابن نافع عن مالك عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استؤذن في ضرب النساء فقال اضربوا ولن يضرب خياركم
فأباح وندب إلى الترك وإن في الهجر لغاية الأدب
والذي عندي أن الرجال والنساء لا يستوون في ذلك فإن العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة ومن النساء بل من الرجال من لا يقيمه إلا الأدب فإذا علم ذلك الرجل فله أن يؤدب وإن ترك فهو أفضل
قال بعضهم وقد قيل له ما أسوأ أدب ولدك فقال ما أحب استقامة ولدي في فساد ديني
ويقال من حسن خلق السيد سوء أدب عبده
وإذا لم يبعث الله سبحانه للرجل زوجة صالحة وعبدا مستقيما فإنه لا يستقيم أمره معهما إلا بذهاب جزء من دينه وذلك مشاهد معلوم بالتجربة
فإن أطعنكم بعد الهجر والأدب فلا تبغوا عليهن سبيلا
536

الآية السابعة والعشرون
قوله تعالى (* (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) *) [الآية 35]
وفيها خمس عشرة مسألة
وهي من الآيات الأصول في الشريعة ولم نجد لها في بلادنا أثرا بل ليتهم يرسلون إلى الأمينة فلا بكتاب الله تعالى ائتمروا ولا بالأقيسة اجتزوا وقد ندبت إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد ولا إلى القضاء باليمين مع الشاهد إلا قاض آخر فلما ولاني الله الأمر أجريت السنة كما ينبغي وأرسلت الحكمين وقمت في مسائل الشريعة كما علمني الله سبحانه من الحكمة والأدب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة ولكن أعجب لأبي حنيفة ليس للحكمين عنده خبر وهو كثيرا ما يترك الظواهر والنصوص للأقيسة بل أعجب أيضا من الشافعي فإنه قال ما نصه الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما وذلك أني وجدت الله سبحانه أذن في نشوز الزوج بأن يصالحا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وبين في نشوز المرأة بالضرب وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضاء المرأة وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إن أراد استبدال زوج مكان زوج فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج فلما كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما للحكمين بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك
ووجدنا حديثا بإسناد يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين
قال القاضي أبو بكر هذا منتهى كلام الشافعي وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم وقد تولى القاضي أبو إسحاق الرد عليه ولم ينصفه في الأكثر
والذي يقتضي الرد عليه بالإنصاف والتحقيق أن نقول أما قوله الذي يشبه ظاهر
537

الآية أنه فيما عم الزوجين فليس بصحيح بل هو نصه وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء فإن الله تعالى قال الرجال قوامون على النساء ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع فإن ارعوت وإلا ضربها فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما وهذا إن لم يكن نصا وإلا فليس في القرآن بيان
ودعه لا يكون نصا يكون ظاهرا فأما أن يقول الشافعي يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي يشبه الظاهر وكيف يقول الله (* (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) *) فنص عليهما جميعا ويقول هو يشبه أن يكون فيما عمهما وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه
ثم قال فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما بغير اختيارهما فتتحقق الغيرية
وأما قوله لا يبعث الحكمين إلا مأمونين فصحيح ولا خلاف فيه
وأما قوله برضا الزوجين بتوكيلهما فخطأ صراح فإن الله خاطب غير الزوجين إذا خافا الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك بتوكيلهما ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه والتوكيل من كل واحد لا يكون إلا فيما يخالف الآخر وذلك لا يمكن هاهنا
المسألة الأولى قوله (* (وإن خفتم) *))
قال السدي يخاطب الرجل والمرأة إذا ضربها فشاقته تقول المرأة لحكمها قد وليتك أمري وحالي كذا ويبعث الرجل حكما من أهله ويقول له حالي كذا قاله ابن عباس ومال إليه الشافعي
وقال سعيد بن جبير المخاطب السلطان ولم ينته رفع أمرهما إلى السلطان فأرسل الحكمين
وقال مالك قد يكون السلطان وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين
538

فأما من قال إن المخاطب الزوجان فلا يفهم كتاب الله كما قدمنا
وأم من قال إنه السلطان فهو الحق
وأما قول مالك إنه قد يكون الوليين فصحيح ويفيده لفظ الجمع فيفعله السلطان تارة ويفعله الوصي أخرى
وإذا أنفذ الوصيان حكمين فهما نائبان عنهما فما أنفذاه نفذ كما لو أنفذه الوصيان
وقد روى محمد بن سيرين وأيوب عن عبيدة عن علي قال جاء إليه رجل وامرأة ومعهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين أتدريان ما عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما
فقالت المرأة رضيت بما في كتاب الله لي وعلي وقال الزوج أما الفرقة فلا فقال لا تنقلب حتى تقر بمثل الذي أقرت
قال القاضي أبو إسحاق فبني على أن الأمر إلى الحكمين اللذين بعثا من غير أن يكون للزوج والزوجة أمر في ذلك ولا نهي فقالت المرأة بعد ما مضيا من عند علي رضيت بما في كتاب الله تعالى لي وعلي وقال الزوج لا أرضى فرد عليه علي تركه الرضا بما في كتاب الله وأمره أن يرجع كما يجب على كل مسلم أو ينفذ ما فيه بما يجب من الأدب فلو كانا وكيلين لم يقل لهما أتدريان ما عليكما إنما كان يقول أتدريان بما وكلتما ويسأل الزوجين ما قالا لهما
المسألة الثانية قوله تعالى (* (حكما من أهله وحكما من أهلها) *))
هذا نص من الله سبحانه في أنهما قاضيان لا وكيلان وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى وللحكم اسم في الشريعة ومعنى فإذا بين الله سبحانه كل واحد منهما فلا ينبغي لشاد فكيف لعالم أن يركب معنى أحدهما على الآخر فذلك تلبيس وإفساد للأحكام وإنما يسيران بإذن الله ويخلصان النية لوجه الله وينظران فيما عند الزوجين بالتثبت فإن رأيا للجمع وجها جمعا وإن وجداهما قد أنابا تركاهما كما روي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت اصبر لي
539

وأنفق عليك وكان إذا دخل عليها قالت يا بني هاشم لا يحبكم قلبي أبدا أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ترد أنوفهم قبل شفاههم أين عتبة بن ربيعة أين شيبة بن ربيعة فيسكت حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له أين عتبة بن ربيعة فقال على يسارك في النار إذا دخلت فنشرت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك فأرسل ابن عباس ومعاوية فقال ابن عباس لأفرقن بينهما وقال معاوية ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما
وفي رواية أنها لما أتيا اشتما رائحة طيبة وهدوا من الصوت فقال له معاوية ارجع فإني أرجو أن يكونا قد اصطلحا
وقال ابن عباس أفلا نمضي فننظر أمرهما فقال معاوية فنفعل ماذا فقال ابن عباس أقسم بالله لئن دخلت عليهما فرأيت الذي أخاف عليهما منه لأحكمن عليهما ثم لأفرقن بينهما
فإن وجداهما قد اختلفا سعيا في الألفة وذكر بالله تعالى وبالصحبة فإن أنابا وخافا أن يتمادى ذلك في المستقبل بما ظهر في الماضي فإن يكن ما طلعا عليه في الماضي يخاف منه التمادي في المستقبل فرقا بينهما
وقال جماعة منهم علي وابن عباس والشعبي ومالك وهي
المسألة الثالثة
وقال الحسن وابن زيد هما شاهدان يرفعان الأمر إلى السلطان ويشهدان بما ظهر إليهما
وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال أبو حنيفة والشافعي
والذي صح عن ابن عباس ما قدمنا من أنهما حكمان لا شاهدان
فإذا فرقا بينهما وهي
540

المسألة الرابعة
تكون الفرقة كما قال علماؤنا لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة
فإن قيل إذا ظهر الظلم من الزوج أو الزوجة فظهور الظلم لا ينافي النكاح بل يؤخذ من الظالم حق المظلوم ويبقى العقد
قلنا هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال فأما عقود الأبدان فلا تتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه وكانت المصلحة في الفرقة
وبأي وجه رأياها من المتاركة أو أخذ شيء من الزوج أو الزوجة وهي
المسألة الخامسة
جاز ونفذ عند علمائنا
وقال الطبري والشافعي لا يؤخذ من مال المحكوم عليه شيء إلا برضاه وبه قال كل من جعلهما شاهدين وقد بينا أنهما حكمان لا شاهدان وأن فعلهما ينفذ كما ينفذ فعل الحاكم في الأقضية وكما ينفذ فعل الحكمين في جزاء الصيد وهي أختها
والحكمة عندي في ذلك وهي
المسألة السادسة
أن القاضي لا يقضي بعلمه فخص الشرع هاتين الواقعتين بحكمين لينفذ حكمهما بعلمهما وترتفع بالتعديد التهمة عنهما
المسألة السابعة
قال علماؤنا إذا كانت الإساءة من قبل الزوج فرق بينهما وإن كانت من قبل المرأة ائتمناه عليها وإن كانت منهما فرقا بينهما على بعض ما أصدقها ولا يستوعبانه له وعنده بعض الظلم رواه محمد عن أشهب وهو معنى قوله تعالى (* (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) *) [البقرة 229]
541

المسألة الثامنة قوله تعالى (* (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) *))
قال ابن عباس ومجاهد هما الحكمان إذا أرادا الإصلاح وفق الله بينهما وذلك إذا أمرهما الله سبحانه بتوفيقه فقد صلح أمرهما وأمر الزوجين فكل ما كان بعد ذلك فهو خير والأصل هي النية فإذا صلحت صلحت الحال كلها واستقامت الأفعال وقبلت
المسألة التاسعة
الأصل في الحكمين أن يكونا من الأهل والحكمة في ذلك أن الأهل أعرف بأحوال الزوجين وأقرب إلى أن يرجع الزوجان إليهما فأحكم الله سبحانه الأمر بأهله
قال علماؤنا فإن لم يكن لهما أهل أو كان ولم يكن فيهم من يصلح لذلك لعدم العدالة أو غير ذلك من المعاني فإن الحاكم يختار حكمين عدلين من المسلمين لهما أو لأحدهما كيفما كان عدم الحكمين منهما أو من أحدهما ويستحب أن يكونا جارين وهذا لأن الغرض من الحكمين معلوم والذي فات بكونهما من أهلهما يسير فيكون الأجنبي المختار قائما مقامهما وربما كان أوفى منهما
المسألة العاشرة
إذا حكما بالفراق فإنه بائن لوجهين
أحدهما كلي والآخر معنوي
أما الكلي فكل طلاق ينفذه الحاكم فإنه بائن
الثاني أن المعنى الذي لأجله وقع الطلاق هو الشقاق ولو شرعت فيه الرجعة لعاد الشقاق كما كان أول دفعة فلم يكن ذلك يفيد شيئا فامتنعت الرجعة لأجله فإن أوقعا أكثر من واحدة قال ابن القاسم وأصبغ ينفذ وقال مطرف وابن الماجشون لا يكون إلا واحدة
وجه القول الأول بأنه ينفذ أنهما حكما فينفذ ما حكما به ووجه الثاني أن حكمهما لا يكون فوق حكم الحاكم لا يطلق أكثر من واحدة كذلك الحكمان
542

وبالجملة فرده المسألة إلى مسألة خيار الأمة حزم والأصل واحد والأدلة متداخلة ومتقاربة فليطلب في مسائل الخلاف
المسألة الحادية عشرة
فإن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث قال عبد الملك ينفذ الواجب وهي الواحدة التي اتفقا عليها ويلغو ما زاد
وقال ابن حبيب لا ينفذ شيء لأنهما اختلفا
وقال محمد لا ينفذ شيء مثل قول ابن حبيب
ولو طلق أحدهما طلقة والآخر طلقتين فعلى قول ابن القاسم تلزمه طلقتان
وقول عبد الملك أصح كالشاهدين إذا اختلفا في العدد قضي بالأقل
المسألة الثانية عشرة
إذا حكم أحدهما بمال والآخر بغير مال لم يكن شيء لأنه اختلاف محض كالشاهدين إذا شهد أحدهما ببيع والآخر بهبة فإنه لا ينفذ اتفاقا
المسألة الثالثة عشرة
إذا علم الإمام من حال الزوجين الشقاق لزمه أن يبعث إليهما حكمين ولا ينتظر ارتفاعهما لأن ما يضيع من حقوق الله أثناء ما ينتظر رفعهما إليه لا جبر له
المسألة الرابعة عشرة
يجزئ إرسال الواحد لأن الله سبحانه حكم في الزنا بأربعة شهود ثم قد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزانية أليسا وقال له إن اعترفت فارجمها وكذلك قال
عبد الملك في المدونة
المسألة الخامسة عشرة
لو أرسل الزوجان حكمين وحكما نفذ حكمهما لأن التحكيم عندنا جائز وينفذ فعل الحكم في كل مسألة هذا إذا كان كل واحد منهما عدلا ولو كان غير عدل
543

قال عبد الملك حكمه منقوض لأنهما تخاطرا بما لا ينبغي من الغرر والصحيح نفوذه لأنه إن كان توكيلا ففعل الوكيل نافذ وإن كان تحكيما فقد قدماه على أنفسهما وليس الغرر بمؤثر فيه كما لم يؤثر في التوكيل وباب القضاء مبني على الغرر كله وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه بما يؤول إليه الحكم
الآية الثامنة والعشرون
قوله تعالى (* (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) *) [الآية 36]
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى
كما قال الله سبحانه (* (ولا تشركوا به شيئا) *) قال بعض علمائنا لو نوى تبردا أو تنظفا مع نية الحدث أو مجما لمعدته مع التقرب لله أو قضاء الصوم فإنه لا يجزيه لأنه مزج في نيته التقرب بنية دنياوية
وليس لله إلا الدين الخالص
وهذا ضعيف فإن التبرد لله والتنظيف وإجمام المعدة لله فإن كل ذلك مندوب إليه أو مباح في موضع ولا تناقض الإباحة الشريعة
المسألة الثانية
وليس من هذا الباب ما لو أحس الإمام وهو راكع بداخل عليه في الصلاة فإنه لا ينتظره وليس لأمر يعود إلى نية الصلاة ولكن لأن فيه إضرارا بمن عقد الصلاة معه ومراعاته أولى
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وبالوالدين إحسانا) *))
بر الوالدين ركن من أركان الدين في المفروضات كما تقدم وبرهما يكون في
544

الأقوال والأعمال فأما في الأقوال فكما قال الله تعالى (* (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما) *) [الإسراء 23] فإن لهما حق الرحم المطلقة وحق القرابة الخاصة إذ أنت جزء منه وهو أصلك الذي أوجدك وهو القائم بك حال ضعفك وعجزك عن نفسك
وقد عرض رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال يا رسول الله إن كنت تريد النساء البيض والنوق الأدم فعليك ببني مدلج فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله سبحانه منع مني سبي بني مدلج لصلتهم الرحم
وفي الإسرائيليات أن يوسف لما دخل عليه أبواه فلم يقم لهما قال الله عز وجل وعزتي لا أخرجت من صلبك نبيا فلا نبي فيهم من عقبه
وفي الحديث إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه ومن حقه أن يرجع في هبته وأن يأكل من مال ولده قال النبي صلى الله عليه وسلم إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه وقد بيناه في مسائل الخلاف
فإن قيل إذا أخذ الوالد الهبة من الولد أغضبه فعقه وما أدى إلى المعصية فمعصية
قلنا أما إذا عصى أخذ بالشرع فلا لعا له ولا عذر إنما يكون العذر لمن أطاع الله أو عصى الله فيه
545

فإن قيل هل من بر الرجل بوالده المشرك ألا يقتله
قلنا من بره بنفسه أن يتولى قتله قال عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول مستأذنا في قتل أبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أذنت لي في قتله قتلته وهكذا فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وللرحم حق ولكن لما جاء حق الله تعالى بطل حق الرحم
المسألة الرابعة والخامسة اليتامى والمساكين
وقد تقدمتا
المسألة السادسة قوله تعالى (* (والجار ذي القربى والجار الجنب) *))
حرمة الجار عظيمة في الجاهلية والإسلام معقولة مشروعة مروءة وديانة قال النبي صلى الله عليه وسلم ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه
وقال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره
والجيران ثلاثة جار له حق واحد وهو المشرك وجار له حقان الجار المسلم وجار له ثلاثة حقوق الجار المسلم له الرحم
546

وهما صنفان قريب وبعيد وأبعده في قول الزهري من بينك وبينه أربعون دارا
وقيل البعيد من يليك بحائط والقريب من يليك ببابه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل قال له إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما منك بابا
وحقوقه عشرة يجمعها الإكرام وكف الأذى
ومن العشرة الحديث الصحيح لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره
وقد رأى جميع العلماء أن يكون ذلك ندبا لا فرضا وأن يكون منعه مكروها لا محرما لأن كل أحد أحق بماله والحائط يحتاجه صاحبه فإن أعطاه نقص ماله وإن أعاره تكلف حفظه بالإشهاد وأضر بنفسه فإن شاء أن يحتمل له ذلك فله الأجر وإن أبى فليس عليه وزر
المسألة السابعة الصاحب بالجنب
قيل إنه الجار الملاصق والذي قال هذا جعل قوله (* (والجار ذي القربى) *) الجار الذي له الرحم
وقيل إنه الذي يجمعك معه رفاقة السفر فهو ذمام عظيم فإنه يلفه معه الأنس والأمن والمأكل والمضجع وبعضها يكفي للحرمة فكيف إذا اجتمعت
547

المسألة الثامنة
ليس من حق الجوار الشفعة كما قال أبو حنيفة وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف
قال علماؤنا لأن الله تعالى في هذه الآية لم يتعرض للمفروضات وإنما ذكر الإحسان والمفروض لهم يؤخذ من دليل آخر
وليس كما زعم لأن الإحسان يعم الفرض والنفل ولم يبق شرع ولا حق إلا دخل فيه فعمت الوصية فيه وتفصلت منازله بالأدلة وإنما قطعنا شفعة الجوار بعلة أن الشفعة متعلقة بالشركة لقول النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يقسم
فإن قيل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم الجار أحق بصقبه
قلنا أراد به الشريك وهو أخص جوار بدليل ما تقدم
المسألة التاسعة ابن السبيل
قيل هو الضيف ينزل بك
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة وما زاد عليه صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه
548

وقد كان قوم منهم الليث بن سعد يرى أن الضيافة حق
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فليكرم ضيفه دليل على أنها كرامة وليست بحق وبذلك يفسر أن الإحسان هاهنا مستحب وإن كان ابن السبيل الفقير فقد تقدم بيانه
المسألة العاشرة (* (وما ملكت أيمانكم) *))
أمر الله تعالى بالرفق بهم والإحسان إليهم
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إخوانكم خولكم ملككم الله رقابهم فأطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون فإن كلفتموهم فأعينوهم
وقال أبو مسعود كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي اعلم أبا مسعود مرتين فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقيت السوط فقال والله لله أقدر عليك منك على هذا
الآية التاسعة والعشرون
قوله تعالى (* (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) *) [الآية 37]
فيها ثلاث مسائل
549

المسألة الأولى
روي عن ابن عباس أن جماعة من اليهود كانوا يأتون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزهدونهم في نفقة أموالهم في الدين ويخوفونهم الفقر ويقولون لهم لا تدرون ما يكون فأنزل الله تعالى فيهم (* (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) *) الآية كلها
وقد قدمنا في سورة آل عمران بيان البخل قال جماعة من العلماء المعنى أنهم بخلوا بأموالهم وأمروا غيرهم بالبخل وقيل بخلوا بعلم النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وتواصوا مع أحبارهم بكتمه فذلك قوله تعالى (* (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) *) وهي
المسألة الثانية
وقيل وهي
المسألة الثالثة
يكتمون الغنى ويتفاقرون للناس ليس عندنا وعندهم ليس معنا ومعهم وذلك حرام
وقد قال الله تعالى (* (وأما بنعمة ربك فحدث) *) وإن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه
الآية الموفية ثلاثين
قوله تعالى (* (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا) *) [الآية 38]
قيل هم اليهود وقيل هم المنافقون وقد تقدم شرحه في سورة البقرة وبيانها من
550

تمام ما قبلها لأن الذي ينفق ماله رئاء الناس شر من الذي يبخل بالواجب عليه ونفقة الرياء تدخل في الأحكام من جهة أن ذلك لا يجزي
الآية الحادية والثلاثون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) *) [الآية 43]
فيها ثمان وثلاثون مسألة
المسألة الأولى
خطاب الله سبحانه وتعالى بالصلاة وإقامتها عام في المسلم والكافر حسبما بيناه في أصول الفقه وإنما خص الله سبحانه وتعالى هاهنا المؤمنين بالخطاب لأنهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وتلفت عليهم أذهانهم فخصوا بهذا الخطاب إذ كان الكفار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى
المسألة الثانية في سبب نزولها
روى عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عمرو أنه صلى بعبد الرحمن بن عوف ورجل آخر فقرأ (* (قل يا أيها الكافرون) *) فخلط فيها وكانوا يشربون من الخمر فنزلت (* (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) *)
وقال عمرو بن العاص صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون قال فأنزل الله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) *) الآية خرجه الترمذي وصححه
551

وقد رويت هذه القصة بأبين من هذا لكنا لا نفتقر إليها هاهنا وهذا حديث صحيح من رواية العدل عن العدل
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (لا تقربوا الصلاة) *))
سمعت الشيخ الإمام فخر الإسلام أبا بكر محمد بن أحمد الشاشي وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة ومالك في مجلس النظر قال يقال في اللغة العربية لا تقرب كذا بفتح الراء أي لا تلبس بالفعل وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع وهذا الذي قاله صحيح مسموع
المسألة الرابعة قوله (* (الصلاة) *))
وهي في نفسها معلومة اللفظ مفهومة المعنى لكن اختلفوا فيها قديما وحديثا في المراد بها هاهنا على قولين
أحدهما أن المراد بها النهي عن قربان الصلاة نفسها قاله علي وابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومالك وجماعة
الثاني أن المراد بذلك موضع الصلاة وهو المسجد قاله ابن عباس في قوله الثاني وعبد الله بن مسعود وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وعكرمة وغيرهم
سمعت فخر الإسلام يقول في الدرس المراد بذلك لا تقربوا مواضع الصلاة وحذف المضاف وإقامته مقام المضاف إليه أكثر في اللغة من رمل يبرين وهي فلسطين في الأرض ويكون فيه تنبيه على المنع من قربان الصلاة نفسها لأنه إذا نهي عن دخول موضعها كرامة فهي بالمنع أولى
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وأنتم سكارى) *))
السكر عبارة عن حبس العقل عن التصرف على القانون الذي خلق عليه في الأصل من النظام والاستقامة ومنه قوله تعالى (* (إنما سكرت أبصارنا) *) [الحجر
552

15] أي حبست عن تصرفها المعتاد لها ومنه سكر الأنهار وهو محبس مائها فكل ما حبس العقل عن التصرف فهو سكر وقد يكون من الخمر وقد يكون من النوم وقد يكون من الفرح والجزع
وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن المراد بهذا السكر سكر الخمر وأن ذلك إبان كانت الخمر حلالا خلا الضحاك فإنه قال معناه سكارى من النوم فإن كان أراد أن النهي عن سكر الخمر نهي عن سكر النوم فقد أصاب ولا معنى له سواه ويكون من باب لا يقضي القاضي وهو غضبان دل على أنه منهي عن كل قضاء في حال شغل البال بنوم أو جوع أو حقن أو حزق فلا يفهم معه كلام الخصوم كما لا يعلم ما يقرأ ولا يعقل في الصلاة إذا دافعه الأخبثان أو كان بحضرة طعام كما رواه مسلم ولذلك قال (* (حتى تعلموا ما تقولون) *) وهي
المسألة السادسة العلة في النهي
فبين العلة في النهي فحيثما وجدت بأي سبب وجدت يترتب عليها الحكم وقد أغنى هذا اللفظ عن علم سبب الآية لأنه مستقل بنفسه
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح لا يصلي أحدكم وهو نائم لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه فهذا أيضا مستقل بنفسه والحق يعضد بعضه بعضا
فإن قيل وهي
المسألة السابعة
وكيف يصح تقدير هذا النفي أتقولون إن المراد به السكر قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح لا يصلي أحدكم وهو نائم لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه فهذا أيضا الذي لا يعقل معه معنى وكيف يتوجه على هذا خطاب
553

فإن قلتم نهى عن التعرض للسكر إذا كان عليهم فرض الصلاة
قيل لكم إن السكر إذا نافى ابتداء الخطاب نافى استدامته
وإن قلتم إن المراد به المنتشي الذي ليس بسكران نهي أن يصير نفسه سكران والله تعالى يقول (* (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) *) أي في حال سكركم ولما كان الاضطراب في الآية هكذا قال الشافعي المراد به موضع الصلاة هذا نص كلام بعض من يدعى له التحقيق من أئمة الشافعية وهذه منه غفلة فإن كل ما لزمه في تقدير الصلاة من توجيه الخطاب يلزمه في تقدير موضع الصلاة
والذي يعتقد أنه يصح أن يكون خطابا للصاحي يقال له لا تشرب الخمر بحال فإن ذلك يؤدي إلى أن تصلي وأنت لا تعلم فتخلط كما فعل من تقدم ذكره وهذه إشارة إلى التحريم فلم يقنع بها عمر
والنهي عن التعرض للمحرمات معقول وهذا الخطاب يتوجه عليه وهو صاح فإذا شرب وعصى وسكر توجه عليه اللوم والعقاب ويصح أن يخاطب المنتشي وهو يعقل النهي لكن استمرار الأفعال والكلام وانتظامه ربما يفوته فقيل له لا تفعل وأنت منتش أمرا لا تقدر على نظامه كله وحاشا لله أن يكون الشافعي يأخذ بهذا من كلام هذا الرجل وإنما ينسج الشافعي على منوال الصحابة وما في الآية احتمال يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى وهو الإسكار
فإن قيل وهي
المسألة الثامنة
فقد نرى الإنسان يصلي ولا يحسن صلاته لشغل باله فلا يشعر بالقراءة حتى تكمل ولا بالركوع ولا بالسجود حتى لا يعلم ما كان عدده حتى روي عن عمر أنه قال إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة
قلنا إنما أخذ على العبد الاستشعار وإحضار النية في حال التكبير فإن ذهل بعد ذلك فقد سومح فيه ما لم يكثر لتعذر الاحتراز منه وأنه لا يمكن تكليف العباد به وليس حال عمر من هذا فإن ذلك نظر في عبادة لعبادة مثلها أو أعظم في بعض الأحوال منها ومع هذا فإنما يكون ذلك لحظة مع الغلبة ثم يصحو إلى نفسه بخلاف
554

السكران والنائم والغاضب ومدافع الأخبثين فإنه لا يمكنه إحضار ذهنه لغلبة الحال عليه
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (ولا جنبا إلا عابري سبيل) *))
الجنب في اللغة البعيد بعد بخروج الماء الدافق عن حال الصلاة وقد كان عندهم الجنب معروفا وهو الذي غشى النساء والحديث عندهم معروفا وهو ما خرج من السبيلين على الوجه المعتاد ثم أثبتت الشريعة بعد ذلك زياداته وتفضيله وهو إيلاج في قبل أو دبر بشرط مغيب الحشفة دون إنزال أو إنزال الماء دون مغيب الحشفة أو مجموعهما على حسب ما بينا في كتب الحديث والمسائل فلينظر هناك
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (إلا عابري سبيل) *))
أما من قال إن المراد بقوله (* (لا تقربوا الصلاة) *) لا تقربوا مواضع الصلاة فتقدير الآية عندهم لا تقربوا المساجد وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل أي مجتازين غير لابثين فجوزوا العبور في المسجد من غير لبث فيه
وأما من قال إن المراد بذلك نفس الصلاة فإن تقدير الآية لا تصلوا وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا لها أو تكونوا مسافرين فتيمموا وتصلوا وأنتم جنب حتى تغتسلوا إذا وجدتم الماء
ورجح أهل القول الأول مذهبهم بما روي عن جابر بن عبد الله وابن مسعود أنه كان أحدنا يمر بالمسجد وهو جنب مجتازا
ورجح الآخرون بما روى أفلت بن خليفه عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد الأبواب الشارعة إلى المسجد وقال لا أحل المسجد لحائض ولا جنب خرجه أبو داود وغيره
555

والمسألة تفتقر إلى تفصيل تنقيح وقد أحكمناها في مسائل الخلاف بما نشير إليه هاهنا فنقول
لا إشكال في أن الآية محتملة ولذلك اختلف فيها الصحابة فإن أردنا أن نعلم المراد منها رجحنا احتمالاتها حتى نرى الفضل لمن هو فيها فأما أصحاب الشافعي فظهر لهم أن العبور لا يمكن في نفس الصلاة فلا بد من تأويل وأحسنه حذف المضاف وهو الموضع وإقامة المضاف إليه مقامه وهو الصلاة وذلك كثير في اللغة ولا يحتاج بعد ذلك إلى حذف كثير وتأويل طويل في قوله تعالى (* (ولا جنبا إلا عابري سبيل) *)
قالوا وأيضا فإن ما تأولتم في قوله (* (إلا عابري سبيل) *) يفهم من الآية التي بعدها في قوله (* (فتيمموا صعيدا طيبا) *)
وأما علماؤنا فقالوا إن أول ما يحفظ سبب الآية التي نزلت عليه في الصحيح وتحفظ فاتحتها فتحمل على ظاهرها حتى نرى ما يردنا عنها ويحفظ لغتها فإنه تعالى قال لا تقربوها بفتح الراء وذلك يكون في الفعل لا في المكان فكيف يضمر المكان ويوصل بغير فعله هذا محال
وتقدير الآية أنه قال سبحانه لا تصلوا سكارى ولا جنبا إلا عابري سبيل
فإن قيل كيف يكون العبور في نفس الصلاة
قلنا بأن يكون مسافرا فلم يجد ماء فيصلي حينئذ بالتيمم جنبا لأن التيمم لا يرفع حدث الجنابة
فإن قيل لا يسمى المسافر عابر سبيل
قلنا لا نسلم بل يقال له عابر سبيل حقيقة واسما والدنيا كلها سبيل تعبر وفي الآثار الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها
وقد اتفقوا معنا على أن التيمم لا يرفع الجنابة
556

وأما قولهم إن ما قلتم يفتقر إلى الإضمار الكثير قلنا إنما يفتقر إليه في تفهيم من لا يفهم مثلك وأما مع من يفهم فالحال تعرب عن نفسها كما أعربت الصحابة
وأما قولهم إن هذا يفهم من الآية التي بعدها في قوله تعالى (* (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) *) فليس يفهم من هذا إلا جواز التيمم عند عدم الماء فأما أن يكون التيمم لا يرفع الحدث مع إباحة الصلاة فليس يفهم إلا من هذا الموضع قبله وهي فائدة حسنة جدا
المسألة الحادية عشرة
ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضأون ويأتون المسجد فيتحدثون فيه وربما اغتر بهذا جاهل فظن أن اللبث للجنب في المسجد جائز وهذا لا حجة فيه فإن كل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة كيف يدخله من لا يرضى لتلك العبادة ولا يصح له أن يتلبس بها
فإن قيل يبطل بالحديث فإنه لا يحل فعل الصلاة ويدخل المسجد
قلنا ذلك يكثر وقوعه فيشق الوضوء له والشريعة لا حرج فيها بخلاف الغسل فإنه لا مشقة في أن يمنع من المسجد حتى يغتسل لأنها تقع نادرا بالإضافة إلى حدث الوضوء
فإن قيل هذا قياس
قلنا نعم هو قياس ونحن إنما نتكلم مع أصحاب محمد الذين يرونه دليلا فإن وجدنا مبتدعا ينكره أخذنا معه غير هذا المسلك كما قد رأيتمونا مرارا نفعله
557

فنخصمهم ونبهتهم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذن لأحد أن يمر فيه ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (حتى تغتسلوا) *))
وهو لفظ معلوم عند العرب يعبرون به عن إمرار الماء على المغسول باليد حتى يزول عنه ما كان منع منه عبادة أو عادة
وظن أصحاب الشافعي أن الغسل عبارة عن صب الماء خاصة لا سيما وقد فرقت العرب بين الغسل بالماء والغمس فيه
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي لم يأكل الطعام فبال على ثوبه فأتبعه بماء ولم يغسله وهذا نص
المسألة الثالثة عشرة
لما قال (* (حتى تغتسلوا) *) اقتضى هذا عموم إمرار الماء على البدن كله باتفاق وهذا لا يتأتى إلا بالدلك وأعجب لأبي الفرج الذي رأى وحكى عن صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزي وما قاله مالك قط نصا ولا تخريجا وإنما هي من أوهامه فإن اللفظ إذا كان غريبا لم يخرج عند مالك أو كان احتياطا لم يعدل عنه ولو صببت على نفسك الماء كثيرا ما عم حتى تمشي يدك لأن البدن بما فيه من دهنية يدفع الماء عن نفسه
المسألة الرابعة عشرة
إذا عم المرء نفسه بالماء أجزأة إجماعا إلا أن الأفضل له أن يمتثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه من طرق في دواوين صحاح على السنة عدول قالوا روت عائشة
558

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يأخذ الماء فيدخل فيه أصابعه وفي أصول الشعر حتى إذا رأى أن قد أروى بشرته حفن على رأسه ثلاث حفنات ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه وفي رواية ميمونة ثم غسل جسده
وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة قال أبو داود لم أدخل في كتابي إلا الحديث الصحيح أو ما يقرب من الصحيح
المسألة الخامسة عشرة
لما قال الله سبحانه (* (حتى تغتسلوا) *) وفهم الكل منه عموم البدن بالماء والغسل بالغ قوم منهم أبو حنيفة فقال إن المضمضة والاستنشاق واجبان في غسل الجنابة لأنهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر الوجه بدليل غسلهما من النجاسة كما يغسل الخد والجبين وهي مسألة خلاف كبيرة وقد بينا ما فيها
واللباب منها أن الفم والأنف باطنان حقيقة وحكما أما الحقيقة فإنك تشاهد بطونهما في أصل الخلقة وأما الحكم فمن وجهين
أحدهما أن الصائم إذا بلع ما اجتمع من الريق في فمه فلا يفطر ولو ابتلعه من يده لأفطر
559

الثاني أنهما لا يجبان في غسل الميت مع أنه يعم جميع البدن والمسألة هناك مستوفاة فمن أرادها وجدها
المسألة السادسة عشرة
إن اسم الجنابة باق عليه حتى يغتسل لأنه حكم مدة إلى غاية هي الاغتسال والحكم المعلق بالغاية يمتد إلى غايته وقد تكلمنا عليه في كتب المسائل
المسألة السابعة عشرة قوله تعالى (* (حتى تغتسلوا) *))
يقتضي النية خلافا لما رواه الوليد بن مسلم عن مالك ولما ذهب إليه الأوزاعي وأبو حنيفة من أن الطهارة لا تفتقر إلى نية ولفظ اغتسل يقتضي اكتساب الفعل ولا يكون مكتسبا له إلا بالقصد إليه حقيقة فمن أخرجه إلى المجاز فعليه البينة
وقد استوفيناها في كتب الخلاف بالإنصاف والتلخيص أعظمها أن الوضوء عبادة اشترطت فيها النية كالصلاة
والدليل على أن الوضوء عبادة قوله صلى الله عليه وسلم الوضوء شطر الإيمان ولا يكون شطر الشيء إلا من جنسه قال والوضوء نور على نور ولا تستنير الجوارح بالمباحات وإنما تستنير بالطاعات والعبادات
وقال إذا توضأ العبد المؤمن خرجت خطاياه الحديث ولا ينفي الأوزار إلا العبادات والقرآن يقتضي وجوب النية في الوضوء في آية المائدة على ما سترونه مشروحا إن شاء الله
المسألة الثامنة عشرة قوله تعالى (* (وإن كنتم مرضى) *))
المرض عبارة عن خروج البدن عن الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ وهو على ضربين يسير وكثير وقد يخاف المريض من استعماله وقد يعدم من يناوله
560

إياه وهو يعجز عن تناوله ومطلق اللفظ يبيح التيمم لكل مريض إذا خاف من استعماله وتأذيه بالماء
وروي عن الشافعي أنه قال يباح التيمم للمريض إذا خاف التلف ونظر إلى أن زيادة المرض غير متحققة لأنها قد تكون وقد لا تكون ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك فيه
قلنا ظاهر الآية يجوز له التيمم فليس لك في هذا القول أصل ترد إليه كلامك بل قد ناقضت فإنك قلت إذا خاف التلف من البرد يتيمم فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك يبيحه له خوف المرض فإن المرض محذور كما أن التلف محذور وكذلك يقول إذا خاف المريض من البرد يتيمم فكيف بزيادة المرض
وقد روى جابر بن عبد الله قال خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر في رأسه فشجه ثم احتلم فقال لأصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده خرجه أبو داود وغيره
وعجبا للشافعي يقول لو زاد الماء على قيمته حبة لم يلزم شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم وهو يخاف على بدنه المرض وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه
المسألة التاسعة عشرة قوله تعالى (* (أو على سفر) *))
روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك فنزلت هذه الآية
وقالت عائشة كنت في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنت بذات الجيش ضل عقد لي الحديث إلى آخره قال فنزلت آية التيمم وهي معضلة ما
561

وجدت لدائها من دواء عند أحدهما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في النساء والأخرى في المائدة فلا نعلم أية آية عنت عائشة
وآية التيمم المذكورة في حديث عائشة النازلة عند فقد العقد كانت في غزوة المريسيع قال خليفة بن خياط سنة ست من الهجرة وقال غيره سنة خمس وليس بصحيح
وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم فالله أعلم كيف كانت حال من عدم الماء وحانت عليه الصلاة فإحدى الآيتين مبينة والأخرى زائدة عليها وإحداهما سفرية والأخرى حضرية ولما كان أمرا لا يتعلق به حكم خبأه الله ولم يتيسر بيانه على يدي أحد ولقد عجبت من البخاري بوب في كتاب التفسير في سورة النساء على الآية التي ذكر فيها التيمم وأدخل حديث عائشة فقال وإن كنتم مرضى أو على سفر وبوب في سورة المائدة فقال باب فلم تجدوا ماء وأدخل حديث عائشة بعينه وإنما أراد أن يدل على أن الآيتين تحتمل كل واحدة منهما قصة عائشة وأراد فائدة أشار إليها هي أن قوله (* (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) *) إلى هذا الحد نزل في قصة علي وأن ما وراءها قصة أخرى وحكم آخر لم يتعلق بها شيء منه فلما نزلت في وقت آخر قرنت بها
والذي يقتضيه هذا الظاهر عندي أن آية الوضوء يذكر التيمم فيها في المائدة وهي النازلة في قصة عائشة وكان الوضوء مفعولا غير متلو فكمل ذكره وعقب بذكر بدله واستوفيت النواقض فيه ثم أعيدت من قوله (* (وإن كنتم مرضى) *) إلى آخر الآية في سورة النساء مركبة على قوله تعالى (* (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) *) حتى تكمل تلك الآية في سورة النساء جاء بأعيان مسائلها كمال هذه ويتكرر البيان وليس لها نظير في القرآن والذي يدل على أن آية عائشة هي آية المائدة أن المفسرين بالمدينة اتفقوا على أن المراد بقوله تعالى (* (إذا قمتم إلى الصلاة) *) يعني من النوم وكان ذلك في قصة عائشة والله أعلم
562

المسألة الموفية عشرين قوله تعالى (* (أو على سفر) *))
هاهنا خلاف قوله (* (أو على سفر) *) [البقرة 184185] في الصيام لأن السفر هناك شرط في الإفطار فاعتبرناه وتكلمنا عليه وحددناه فأما هاهنا فإن التيمم في حالة الحضر جائز وإنما نص الله سبحانه على السفر لأنه الغالب من عدم الماء فأما عدم الماء في الحضر فنادر فإن وقع فالتيمم جائز عند علمائنا والشافعية
وفي المدونة يعيد إذا وجد الماء وإنما ذلك حيث وقع اتهام له بالتقصير كما استقصر فيما إذا نسي الماء في رحله وتيمم والناس لا خطاب عليهم إجماعا
وقال أبو حنيفة يتيمم في الحضر إلا مريض أو محبوس يقال له أو طليق طلب الماء فلم يجده حتى خاف خروج الوقت فإنه يتيمم لأن معنى المرض والحبس عنده هو عدم المقدرة على ما يأتي بيانه شريفا بديعا إن شاء الله تعالى
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل فلم يرد عليه السلام حتى تيمم في الحائط وهذا نص في التيمم في الحضر
المسألة الحادية والعشرون قوله تعالى (* (أو جاء أحد منكم من الغائط) *))
وهو المطمئن من الأرض كانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوه رغبة في التستر فكني به عما يخرج من السبيلين وشرط الوضوء به شرعا وكأن معنى ذلك أو كنتم محدثين حدثا معتادا ضرب لهم به المثل وصار تقدير الآية وإلا إذا كنتم جنبا أو محدثين حتى تغتسلوا ولكل شيء بيان صفة غسله ولذلك قال علماؤنا إن الخارج إذا كان على غير المعتاد لم يتعلق به نقض الوضوء وصار داء والدليل عليه سقوط اعتبار دم المستحاضة لأجل أنه دم علة وقد مهدنا ذلك بتفصيله في كتب المسائل
المسألة الثانية والعشرون قوله تعالى (* (أو لامستم النساء) *))
فيها خلاف كثير وأقوال متعددة للعلماء ومتعلقات مختلفات وهي من مسائل الخلاف الطيولية وقد استوفينا ما فيه بطرقه البديعة وخذوا الآن معنى قرآنيا بديعا وذلك أنا نقول
563

حقيقة اللمس إلصاق الجارحة بالشيء وهو عرف في اليد لأنها آلته الغالبة وقد يستعمل كناية عن الجماع
وقد قالت طائفة اللمس هنا الجماع
وقالت أخرى هو اللمس المطلق لغة أو شرعا فأما اللغة فقد قال المبرد لمستم وطئتم ولامستم قبلتم لأنها لا تكون إلا من اثنين والذي يكون بقصد وفعل من المرأة هو التقبيل فاما الوطء فلا عمل لها فيه
قال أبو عمرو الملامسة الجماع واللمس لسائر الجسد وهذا كله استقراء لا نقل فيه عن العرب
وحقيقة النقل أنه كله سواء (* (أو لامستم) *) محتمل للمعنيين جميعا كقوله لامستم ولذلك لا يشترط لفعل الرجل شيء من المرأة
وقد قال ابن عباس إن الله تعالى حيي كريم يعف كنى باللمس عن الجماع
وقال ابن عمر قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة وكذلك قال ابن مسعود وهو كوفي فما بال أبي حنيفة خالفه ولو كان معنى القراءتين مختلفين لجعلنا لكل قراءة حكمها وجعلناهما بمنزلة الآيتين ولم يتناقض ذلك ولا تعارض وهذا تمهيد المسألة
ويكمله ويؤكده ويوضحه أن قوله (* (ولا جنبا) *) أفاد الجماع وأن قوله تعالى (* (أو جاء أحد منكم من الغائط) *) أفاد الحدث وأن قوله (* (أو لامستم) *) أفاد اللمس والقبل فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام وهذا غاية في العلم والإعلام ولو كان المراد باللمس الجماع لكان تكرارا وكلام الحكيم يتنزه عنه والله أعلم
فإن قيل ذكر الله سبحانه الجنابة ولم يذكر سببها فلما ذكر سبب الحدث وهو المجيء من الغائط ذكر سبب الجنابة وهو الملامسة للجماع ليفيد أيضا بيان حكم الحدث والجنابة عند عدم الماء كما أفاد بيان حكمها عند وجود الماء
قلنا لا يمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس ويفيد الحكمين وقد حققنا ذلك في أصول الفقه
564

المسألة الثالثة والعشرون
راعى مالك في اللمس القصد وجعله الشافعي ناقضا للطهارة بصورته كسائر النواقض وهو الأصل والذي يدعي انضمام القصد إلى اللمس في اعتبار الحكم هو الذي يلزمه الدليل فإن الله تعالى أنزل اللمس المفضي إلى خروج المذي منزله التقاء الختانين المفضي إلى خروج المني فأما اللمس المطلق فلا معنى له وذلك مقرر في مسائل الخلاف
المسألة الرابعة والعشرون قوله تعالى (* (النساء) *))
وهذا عام في كل امرأة بحلال أو حرام كالجنابة حتى قال الشافعي إنه لو لمس صغيرة ينتقض طهره في أحد قوليه
وهذا ضعيف فإن لمس الصغيرة كلمس الحائط واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا يعتبر اللذة وإن أخرج ذوات المحارم عنها فقد انتقض عليه جميع مذهبه في ذلك ونحن اعتبرنا اللذة فحيث وجدت وجد حكمها وهو وجوب الوضوء
المسألة الخامسة والعشرون
يدخل في حكم اللمس الرجال والنساء كما دخلوا في قوله (* (وإن كنتم جنبا) *) سواء لأنه لا اعتبار عندنا بالاسم وإنما الاعتبار بالمعنى وذلك بين
المسألة السادسة والعشرون قوله تعالى (* (فلم تجدوا ماء) *))
لما ذكر الله سبحانه اغتسلوا واطهروا اقتضى ذلك الماء اقتضاء قطعيا إذ هو الغاسول والطهور فلذلك قال فلم تجدوا ماء فصرح بالمقتضى وكان عنده سواء التصريح والاقتضاء وهذا في اللغة كثير
المسألة السابعة والعشرون قوله تعالى (* (فلم تجدوا ماء) *))
قال علماؤنا رحمة الله عليهم فائدة الوجود الاستعمال والانتفاع بالقدرة عليهما فمعنى قوله فلم تجدوا ماء فلم تقدروا ليتضمن ذلك الوجوه المتقدمة المذكورة فيها وهي المرض والسفر فإن المريض واجد للماء صورة ولكنه لما لم يتمكن من
565

استعماله لضرورة صار معدوما حكما فالمعنى الذي يجمع نشر الكلام فلم تقدروا على استعمال المال وهذا يعم المرض والصحة إذا خاف من أخذ الماء لصا أو سبعا ويجمع الحضر والسفر وهذا هو العلم الصريح والفقه الصحيح والأصوب بالتصحيح ألا ترى أنه لو وجده بزائد على قيمته جعله معدوما حكما وقيل له تيمم
ويتبين أن المراد الوجود الحكمي ليس الوجود الحسي وعلى هذا قلنا إن من وجد الماء في أثناء الصلاة إنه يتمادى ولا يقطع الصلاة خلافا لأبي حنيفة حيث يقول يبطل تيممه لأن الوجود لعينه لا يبطل التيمم كما لو رأى الماء وعليه لص أو سبع أو رآه بأكثر من قيمته لم يبطل تيممه وإنما يبطل التيمم بوجود مقرون بالقدرة وإذا كان في الصلاة فلا قدرة له إلا بعد إبطالها ولا تبطل إلا بعد اقتران القدرة بالماء فلا بطلان لها وهي مسألة دورية وقد حققناها في كتاب التلخيص فلتنظر فيه وعلى هذا تنبني مسألة هي إذا نسي الماء في رحله وقد اجتهد في طلبه فإن الناسي لا يعد واجدا ولا يخاطب في حال نسيانه فلذلك قلنا في أصح الأقوال إنه يجزئه
المسألة الثامنة والعشرون قوله تعالى (* (ماء) *))
قال أبو حنيفة هذا نفي في نكرة وهو يعم لغة فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير لانطلاق اسم الماء عليه
قلنا استنوق الجمل الآن يستدل أصحاب أبي حنفية باللغات ويقولون على ألسنة العرب وهم ينبذونها في أكثر المسائل بالعراء
واعلموا أن النفي في النكرة يعم كما قلتم ولكن في الجنس فهو عام في كل ما كان من سماء أو بئر أو عين أو نهر أو بحر عذب أو ملح فأم غير الجنس فهو المتغير فلا يدخل فيه كما لم يدخل فيه ماء الباقلاء
وقد مهدنا ذلك في الكلام على منع الوضوء بالماء المتغير بالزعفران في كتاب التلخيص
ومن هاهنا وهم الشافعي في قوله إنه إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لأعضاء الوضوء كلها أنه يستعمله فيما كفاه ويتيمم لباقيه فخالف مقتضى اللغة وأصول الشريعة
أما مقتضى اللغة فإن الله سبحانه قال (* (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا) *) [المائدة 6] وأراد في جميع البدن ثم قال (* (فلم تجدوا ماء فتيمموا) *) فاقتضى ذلك الماء الذي يقوم له بحق ما تقدم الأمر فيه والتكليف له فإن آخر الكلام مرتبط بأوله
وأما مخالفته للأصول فليس في الشريعة موضع يجمع فيه بين الأصل والبدل وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف وبهذا تعلق الأئمة في الوضوء بماء البحر وهي
المسألة التاسعة والعشرون
قال ابن عمر رضي الله عنه إنه لا يجوز الوضوء به لأنه ماء النار أو لأنه طين جهنم وكأنهم يشيرون إلى أنه ماء عذاب فلا يكون ماء قربة
وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلوا بديار ثمود ألا يشرب ولا يتوضأ من آبارهم إلا من بئر الناقة وأوقفهم عليه وهي إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم
قلنا قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته
567

وقد روي عن ابن عباس أن ماء البحر هو طهور الملائكة إذا نزلوا توضأوا وإذا صعدوا توضأوا فيقابل حديث ابن عمر بحديث ابن عباس ويبقى لنا مطلق الآية وحديث النبي صلى الله عليه وسلم
المسألة الموفية ثلاثين قوله تعالى (* (فتيمموا صعيدا) *))
معناه فاقصدوا
وقد روي عن عبد الله أنه قرأها فائتموا والأولى أفصح وأملح فإن اقصدوا أملح من اتخذوه إماما ومن هاهنا قال أبو حنيفة تلزم النية في التيمم لأنه القصد لفظا ومعنى
قلنا ليس القصد إليه للاستعمال بدل الماء هو النية إنما معناه اجعلوه بدلا فأما قصد التقرب فهو غيره
جواب آخر وذلك أن قوله (* (فتيمموا) *) إن كان يقتضي بلفظه النية فقوله تطهروا واغتسلوا يقتضي بلفظه النية كما تقدم
فإن قيل الماء مطهر بنفسه فلم يفتقر إلى قصد إذا وجدت النظافة به على أي وجه كانت
قلنا وكذلك التراب ملوث بنفسه فلم يفتقر إلى قصد إذا وجد التلوث به
المسألة الحادية والثلاثون قوله تعالى (* (صعيدا) *))
فيه أربعة أقوال
الأول وجه الأرض قاله مالك
الثاني الأرض المستوية قاله ابن زيد
568

الثالث الأرض الملساء
الرابع التراب قاله ابن عباس واختاره الشافعي
والذي يعضده الاشتقاق وهو صريح اللغة أنه وجه الأرض على أي وجه كان من رمل أو حجر أو مدر أو تراب
المسألة الثانية والثلاثون قوله (* (طيبا) *))
قيل إنه منبت وعزي إلى ابن عباس واختاره الشافعي وعضده بالمعنى فقال إنه ينتقل من الماء الذي هو أصل الإحياء إلى التراب الذي هو أصل الإنبات
وقيل إنه النظيف وقيل إنه الحلال وقيل هو الطاهر فهذه خمسة أقوال أصحها الطاهر
فإن قيل فقد قال مالك إذا تيمم على بقعة نجسة جاهلا أعاد في الوقت ولو توضأ بماء نجس أعاد أبدا
قلنا هما عندنا سواء في أحد القولين الذي ننصره الآن وكلام القول الثاني في كتب المسائل
فأما قول الشافعي إنه نقل من أصل الإحياء إلى أصل الإنبات فهو دعوى لا برهان عليها على أنا نقول نقلنا من الماء إلى الأرض ومنها خلقنا
المسألة الثالثة والثلاثون قوله تعالى (* (فامسحوا) *))
والمسح في اللغة عبارة عن جر اليد على الممسوح خاصة فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة إلى اليد وجرها على الممسوح بخلاف الغسل وسيأتي تحقيق ذلك كله في موضعه إن شاء الله
المسألة الرابعة الثلاثون والخامسة والثلاثون شرح الوجه واليد
والسادسة والثلاثون دخول الباء على الوجه
569

والسابعة والثلاثون
سقوط قوله منه هاهنا وثبوتها في سورة المائدة وسيأتي بيان ذلك كله في سورة المائدة إن شاء الله تعالى
المسألة الثامنة والثلاثون
دخول العفو والغفران على ما تقدم من الأحكام وانتظامها بهما ووجه ذلك أن عفو الله تبارك وتعالى إسقاطه لحقوقه أو بذله لفضله ومغفرته ستره على عباده فوجه الإسقاط هاهنا تخفيف التكليف ولو رد بأكثر للزم ووجه بدله إعطاؤه الأجر الكثير على الفعل اليسير ورفعه عن هذه الأمة في العبادات الإصر الذي كان وضعه على سائر الأمم قبلها ومغفرته ستره على المقصرين في الطاعات وذلك مستقصى في آيات الذكر ومنه نبذة في شرح المشكلين فلتنظر هنالك إن شاء الله تعالى
الآية الثانية والثلاثون
قوله تعالى (* (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) *) [الآية 58]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
اختلف الناس في الأمانات فقال قوم هي كل ما أخذته بإذن صاحبه
وقال آخرون هي ما أخذته بإذن صاحبه لمنفعته
والصحيح أن كليهما أمانة معنى الأمانة في الاشتقاق أنها أمنت من الإفساد
570

المسألة الثانية
أمر الله تعالى بأدائها إلى أربابها وكان سبب نزولها أمر السرايا قاله علي ومكحول
وقيل نزلت في عثمان بن أبي طلحة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم منه المفتاح يوم الفتح ودخل الكعبة فنزل عليه جبريل بهذه الآية وخرج النبي صلى الله عليه وسلم يتلوها فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح فكانت ولاية من الله تعالى بغير واسطة إلى يوم القيامة وناهيك بهذا فخرا
وروي أن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن تجمع له السدانة والسقاية ونازعه في ذلك شيبة فأنزل الله تبارك وتعالى على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية
المسألة الثالثة
لو فرضناها نزلت في سبب فهي عامة بقولها شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة أمهاتها في الأحكام الوديعة واللقطة والرهن والإجارة والعارية
أما الوديعة فلا يلزم أداؤها حتى تطلب وأما اللقطة فحكمها التعريف سنة في مظان الاجتماعات وحيث ترجى الإجابة لها وبعد ذلك يأكلها حافظها فإن جاء صاحبها غرمها والأفضل أن يتصدق بها
وأما الرهن فلا يلزم فيه أداء حتى يؤدي إليه دينه
وأما الإجارة والعارية إذا انقضى عمله فيها يلزمه ردها إلى صاحبها قبل أن يطلبها ولا يحوجه إلى تكليف للطلب ومؤنة الرد
وقال بعض علمائنا في الإجارة يردها أين أخذها إن كان موضع ذلك فيها
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) *))
571

قال ابن زيد قال أبي هم السلاطين بدأ الله سبحانه بهم فأمرهم بأداء الأمانة فيما لديهم من الفيء وكل ما يدخل إلى بيت المال حتى يوصلوه إلى أربابه وأمرهم بالحكم بين الناس بالعدل وأمرنا بعد ذلك بطاعتهم فقال (* (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) *) [النساء 59]
قال القاضي هذه الآية في أداء الأمانة والحكم عامة في الولاية والخلق لأن كل مسلم عالم بل كل مسلم حاكم ووال
وقال النبي صلى الله عليه وسلم المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين وهم الذين يعدلون في أنفسهم وأهليهم وما ولوا
وقال صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع على الناس وهو مسؤول عنهم والرجل راع في أهل بيته وهو مسؤول عنهم والعبد راع في مال سيده وهو مسؤول عنه ألا كلكم راع ومسؤول عن رعيته
فجعل صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة وحكاما على مراتبهم وكذلك العالم الحاكم فإنه إذا أفتى يكون قضى وفصل بين الحلال والحرام والفرض والندب والصحة والفساد فجميع ذلك فيمن ذكرنا أمانة تؤدى وحكم يقضى والله عز وجل أعلم
572

الآية الثالثة والثلاثون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) *) [الآية 59]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في حقيقة الطاعة
وهي امتثال الأمر كما أن المعصية ضدها وهي مخالفة الأمر
والطاعة مأخوذة من طاع إذا انقاد والمعصية مأخوذة من عصى وهو اشتد فمعنى ذلك امتثلوا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أطاع أميري فقد أطاعني ومن أطاعني فقد أطاع الله تعالى ومن عصى أميري فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى الله تعالى
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وأولي الأمر منكم) *))
فيها قولان
الأول قال ميمون بن مهران هم أصحاب السرايا وروى في ذلك حديثا وهو اختيار البخاري وروى عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن حذافة إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية
الثاني قال جابر هم العلماء وبه قال أكثر التابعين واختاره مالك قال مطرف
573

وابن مسلمة سمعنا مالكا يقول هم العلماء وقال خالد بن نزار وقفت على مالك فقلت يا أبا عبد الله ما ترى في قوله تعالى (* (وأولي الأمر منكم) *) قال وكان محتبيا فحل حبوته وكان عنده أصحاب الحديث ففتح عينيه في وجهي وعلمت ما أراد وإنما عنى أهل العلم واختاره الطبري واحتج له بقوله صلى الله عليه وسلم من أطاع أميري فقد أطاعني الحديث
والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق وجوابهم لازم وامتثال فتواهم واجب يدخل فيه الزوج للزوجة لا سيما وقد قدمنا أن كل هؤلاء حاكم وقد سماهم الله تعالى بذلك فقال (* (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار) *) [الآية 44] فأخبر تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم حاكم والرباني حاكم والحبر حاكم والأمر كله يرجع إلى العلماء لأن الأمر قد أفضى إلى الجهال وتعين عليهم سؤال العلماء ولذلك نظر مالك إلى خالد ابن نزار نظرة منكرة كأنه يشير بها إلى أن الأمر قد وقف في ذلك على العلماء وزال عن الأمراء لجهلهم واعتدائهم والعادل منهم مفتقر إلى العالم كافتقار الجاهل
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) *))
قال علماؤنا ردوه إلى كتاب الله فإذا لم تجدوه فإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم تجدوه فكما قال علي ما عندنا إلا ما في كتاب الله تعالى أو ما في هذه الصحيفة أو فهم أوتيه رجل مسلم وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي ولا آلو قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله
574

فإن قيل هذا لا يصح
قلنا قد بينا في كتاب شرح الحديث الصحيح وكتاب نواهي الدواهي صحته وأخذ الخلفاء كلهم بذلك ولذلك قال أبو بكر الصديق للأنصار إن الله جعلكم المفلحين وسمانا الصادقين فقال (* (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) *) إلى قوله تعالى (* (أولئك هم الصادقون) *) [الحشر 8] ثم قال (* (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم) *) إلى قوله (* (فأولئك هم المفلحون) *) [الحشر 9]
وقد أمركم الله سبحانه وتعالى أن تكونوا معنا حيث كنا فقال (* (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *) [التوبة 119]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أوصيكم بالأنصار خيرا ولو كان لكم من الأمر شيء ما أوصى بكم وقال له عمر حين ارتد مانعو الزكاة خذ منهم الصلاة ودع الزكاة فقال لا أفعل فإن الزكاة حق المال والصلاة حق البدن
وقال عمر بن الخطاب نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا
وجاءت الجدة الأخرى إليه فقال لها لا أجد لك في كتاب الله شيئا ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السدس فأيتكما خلت به فهو لها فإن اجتمعتما فهو بينكما
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسدس للجدة غير معينة فوجب أن يشتركا فيه عند الاجتماع
وكذلك لما جمع الصحابة في أمر الوباء بالشام فتكلموا معه بأجمعهم وهم متوافرون ما ذكروا في طلبهم الحق في مسألتهم لله كلمة ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم حرفا لأنه لم يكن عندهم وأفتوا وحكم عمر ونازعه أبو عبيدة فقال له أرأيت لو
575

كان لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبه أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله فضرب المثل لنفسه بالرعي والناس بالإبل والأرض الوبئة بالعدوة الجدبة والأرض السليمة بالعدوة الخصبة ولاختيار السلامة باختيار الخصب فأين كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا كله
أيقال قال الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لم يقولا فذلك كفر أم يقال دع هذا فليس لله فيه حكم فذلك كفر ولكن تضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب
قال أبو العالية وذلك قوله تعالى (* (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) *) [النساء 83]
وقال عثمان بن عفان وأصحابه حين جمعوا القرآن إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ولم يبين لنا موضع براءة وإن قصتها لتشبه قصة الأنفال فنرى أن نكتبها معها ولا نكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم (فأثبتوا موضع القرآن بقياس الشبه
وقال علي نرى أن مدة الحمل ستة أشهر لأن الله تعالى يقول (* (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) *) [الأحقاف 15]
وقال (* (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) *) [البقرة 233] فإذا فصلتهما من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر
ولذلك قال ابن عباس صوم الجنب صحيح لأن الله سبحانه تعالى قال (* (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) *) [البقرة 187] فيقع الاغتسال بعد الفجر وقد انعقد جزء من الصوم وهو فاتحته مع الجنابة ولو سردنا نبط الصحابة لتبين خطأ الجهالة وفي هذا كفاية للعلماء فإن عارضكم السفهاء فالعجلة العجلة إلى كتاب نواهي الدواهي ففيه الشفاء إن شاء الله تعالى
576

الآية الرابعة والثلاثون
قوله تعالى (* (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) *) [الآية 6]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
يروى أنها نزلت في رجل من المنافقين نازع رجلا من اليهود فقال اليهودي بيني وبينك أبو القاسم وقال المنافق بيني وبينك الكاهن
وقيل قال المنافق بيني وبينك كعب بن الأشرف يفر اليهودي ممن يقبل الرشوة ويريد المنافق من يقبلها
ويروى أن اليهودي قال له بيني وبينك أبو القاسم وقال المنافق بيني وبينك الكاهن حتى ترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم لليهودي على المنافق فقال المنافق لا أرضى بيني وبينك أبو بكر فأتيا أبا بكر فحكم أبو بكر لليهودي فقال المنافق لا أرضى بيني وبينك عمر فأتيا عمر فأخبره اليهودي بما جرى فقال أمهلا حتى أدخل بيتي في حاجة فدخل فأخرج سيفه ثم خرج فقتل المنافق فشكا أهله ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر يا رسول الله إنه رد حكمك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنت الفاروق وفي ذلك نزلت الآية كلها إلى قوله (ويسلموا تسليما) [الآية 65]
ويروى في الصحيح أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اسق يا زبير وأرسل الماء إلى جارك الأنصاري فقال الأنصاري آن كان ابن عمتك فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير أمسك الماء حتى يبلغ الجدر ثم ارسله
577

قال ابن الزبير عن أبيه وأحسب أن الآية نزلت في ذلك (* (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) *) إلى آخره [النساء 65]
قال مالك الطاغوت كل ما عبد من دون الله من صنم أو كاهن أو ساحر أو كيفما تصرف الشرك فيه
وقوله (* (آمنوا بما أنزل إليك) *) يعني المنافقين أظهروا الإيمان
وبقوله (* (وما أنزل من قبلك) *) يعني اليهود آمنوا بموسى وذلك قوله (* (رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) *) [النساء 61] ويذهبون إلى الطاغوت
المسألة الثانية
اختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي ثم تتناول بعمومها قصة الزبير وهو الصحيح وكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر لكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه وأنها كانت فلتة وليس ذلك لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكل من لم يرض بحكم الحاكم بعده فهو عاص آثم
المسألة الثالثة
فيها أن يتحاكم اليهودي مع المسلم عند حاكم الإسلام وسيأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى
الآية الخامسة والثلاثون
قوله تعالى (* (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) *
578

) [الآية 66]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
روي أنه تفاخر ثابت بن قيس بن شماس ويهودي فقال اليهودي والله لقد كتب الله علينا أن نقتل أنفسنا
فقال ثابت والله لو كتب الله سبحانه علينا لفعلنا
قال أبو إسحاق السبيعي قال رجل من الصحابة لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي
قال ابن وهب قال مالك القائل ذلك أبو بكر الصديق
المسألة الثانية
حرف لو تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فأخبر الله سبحانه أنه لم يكتب ذلك علينا لعلمه بأن الأكثر ما كان يمتثل ذلك فتركه رفقا بنا لئلا تظهر معصيتنا فكم من أمر قصرنا عنه مع خفته فكيف بهذا الأمر مع ثقله أما والله لقد ترك المهاجرون مساكنهم خاوية وخرجوا يطلبون بها عيشة راضية والحمد لله
الآية السادسة والثلاثون
قوله تعالى (* (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) *) [الآية 69]
الآية فيها مسألتان
579

المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك روايات أشبهها ما روى سعيد بن جبير أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما لي أراك محزونا فقال يا نبي الله نحن نغدو عليك ونروح ننظر في وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فأتاه جبريل بهذه الآية فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يبشره
المسألة الثانية
قال ابن وهب سمعت مالكا يقول قال ذلك الرجل وهو يصف المدينة وفضلها يبعث منها أشراف هذه الأمة يوم القيامة وحولها الشهداء أهل بدر وأحد والخندق ثم تلا مالك هذه الآية (* (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما) *) يريد مالك في قوله (* (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) *) هم هؤلاء الذين بالمدينة ومن حولها فبين بذلك فضلهم وفضل المدينة على غيرها من البقاع مكة وسواها وهذا فضل مختص بها ولها فضائل سواها بيناها في قبس الموطأ وفي الإنصاف على الاستيفاء فلينظر في الكتابين
الآية السابعة والثلاثون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) *) [الآية 71]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
الثبة الجماعة والجمع فيها ثبون أو ثبين أو ثبات كما تقول عضة وعضون وعضاه واللغتان في القرآن وتصغير الثبة ثبية ويقال في وسط الحوض ثبة لأن الماء
580

يثوب إليه أي يرجع وتصغير هذه ثويبة لأن هذا محذوف الواو وثبة الجماعة إنما اشتقت من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه في حياته وجمعت محاسن ذكره فيعود إلى الاجتماع
المسألة الثانية قوله تعالى (* (خذوا حذركم) *))
أمر الله سبحانه المؤمنين ألا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم ويعلموا كيف يردون عليهم فذلك أثبت للنفوس وهذا معلوم بالتجربة
المسألة الثالثة
أمر الله سبحانه الناس بالجهاد سرايا متفرقة أو مجتمعين على الأمير فإن خرجت السرايا فلا تخرج إلا بإذن الإمام ليكون متحسسا إليهم وعضدا من ورائهم وربما احتاجوا إلى درئه
الآية الثامنة والثلاثون
قوله تعالى (* (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *) [الآية 74]
سوى الله سبحانه في ظاهر هذه الآية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة فغاير بينهما وجعل الأجر في محل والغنيمة في محل آخر
وثبت عنه أيضا أنه قال أيما سرية أخفقت كمل لها الأجر وأيما سرية غنمت ذهب ثلثا أجرها
581

فأما هذا الحديث فقد تكلمنا عليه في شروحات الحديث بما فيه كفاية وليس يعارض الآية كل المعارضة لأن فيه ثلث الأجر وهذا عظيم وإذا لم يعارضها فليؤخذ تمامه من غير هذا الكتاب
وأما الحديث الأول فقد قيل فيه إن أو بمعنى الواو لأن الله سبحانه يجمع له الأجر والغنيمة فما أعطى الله الغنائم لهذه الأمة محسابا لها بها من ثوابها وإنما خصها بها تشريفا وتكريما لها لحرمة نبيها قال النبي صلى الله عليه وسلم جعل رزقي تحت ظل رمحي فاختار الله لنبيه ولأمته فيما يرتزقون أفضل وجوه الكسب وأكرمها وهو أخذ القهر والغلبة
وقيل إن معناه الذي يغنم قد أصاب [الحظين والذي يخفق له] الحظ الواحد وهو الأجر فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول مع ما نال من أجر وحده أو غنيمة مع الأجر والله عز وجل أعلم
الآية التاسعة والثلاثون
قوله تعالى (* (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) *) [الآية 75]
الآية فيها [ثلاث] مسائل
المسألة الأولى
قال علماؤنا أوجب الله سبحانه في هذه الآية القتال لاستنقاذ الأسرى من يد
582

العدو مع ما في القتال من تلف النفس فكان بذل المال في فدائهم أوجب لكونه دون النفس وأهون منها
وقد روى الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني
وقد قال مالك على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم ولذلك قالوا عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة فإن كان الأسير غنيا فهل يرجع عليه الفادي أم لا في ذلك لعلمائنا قولان أصحهما الرجوع
المسألة الثانية
فإن امتنع من عنده مال من ذلك
قال علماؤنا يقاتله إن كان قادرا على قتاله وهو قول مالك في كتاب محمد
فإن قتل المانع الممنوع كان عليه القصاص فإن لم يكن قادرا على قتاله فتركه حتى مات جوعا فإن كان المانع جاهلا بوجوب المواساة كان في الميت الدية على عاقلة المانع وإن كان عالما بوجوب المواساة ففي المسألة ثلاثة أقوال
الأول عليه القصاص
الثاني عليه الدية في ماله
الثالث الدية على عاقلته
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعامهم جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد واقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم
583

المسألة الثالثة في تنقيح هذه المسألة
قال بعض علماؤنا روى طلحة بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم السائل معالم الدين وأركان الإسلام قال له والزكاة قال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق دخل الجنة إن صدق
وهذا نص في أنه لا يتعلق بالمال حق سوى الزكاة
والصحيح أن هذا الحديث لا يمنع من وجوب حق في المال غير الزكاة لثلاثة أوجه
أحدها أن المراد بهذا الحديث لا فرض ابتداء في المال والبدن إلا الصلاة والزكاة والصيام فأما العوارض فقد يتوجه فيها فرض من جنس هذه الفروض بالنذر وغيره
الثاني أن أركان الإسلام من الصلاة والصيام عبادات لا تتعدى المتعبد بها وأما المال فالأغراض به متعلقة والعوارض عليه مختلفة
فإن قيل إنما فرض الله سبحانه الزكاة ليقوم بحق الفقراء أو يسد خلتهم وإلا فتكون الحكمة قاصرة
فالجواب أن نقول هذا لا يلزم لثلاثة أوجه
أحدها أن من الممكن أن يفرض الباري سبحانه الزكاة قائمة لسد خلة الفقراء ويحتمل أن يكون فرضها قائمة بالأكثر وترك الأقل ليسدها بنذر العبد الذي يسوقه القدر إليه
الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ الزكاة في زمنه فلم تقم الخلة المذكورة بالفقراء حتى كان يندب إلى الصدقة ويحث عليها
584

الثالث للفضلين إن الزكاة إذا اخذها الولاة ومنعوها من مستحقيها فبقي المحاويج فوضى هل يتعلق إثمهم بالناس أم يكون على الوالي خاصة
فيه نظر فإن علم أحد بخلة مسكين تعين عليه سدها دون غيره إلا أن يعلم بها سواه فيتعلق الفرض بجميع من علمها وقد بينا ذلك في التفسير
الآية الموفية أربعين
قوله تعالى (* (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) *) [الآية 78]
قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول (* (بروج مشيدة) *) هي قصور السماء ألا تسمع قول الله سبحانه (* (والسماء ذات البروج) *) [البروج 1]
قال علماؤنا والبروج التي في السماء اثنا عشر برجا عند العرب وعند جميع الأمم الحمل الثور الجوزاء السرطان الأسد السنبلة الميزان العقرب القوس الجدي الدلو الحوت وقد يسمون الحمل الكبش والجوزاء التوأمين والسنبلة العذراء والعقرب الصورة والقوس الرامي والحوت السمكة وتسمى أيضا الدلو الرشا
قال القاضي أبو بكر خلق الله هذه البروج منازل للشمس والقمر وقدر فيها ورتب الأزمنة عليها وجعلها جنوبية وشمالية دليلا على المصالح وعلما على القبلة وطريقا إلى تحصيل آناء الليل والنهار لمعرفة أوقات التهجد وغير ذلك من أحوال المعاش والتعبد وسنستوفي ذلك بيانا في موضعه إن شاء الله تعالى
وفي هذا دليل على أن ما في السماوات والأرض فان ذاهب كله والله أعلم
الآية الحادية والأربعون
قوله تعالى (* (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) *) [الآية 84]
585

فيها مسألتان
المسألة الأولى
ظن قوم أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم أولا وحده وندب المؤمنين إليه وليس الأمر كذلك ولكن المسلمين كانوا سراعا إلى القتال قبل أن يفرض القتال فلما أمر الله سبحانه بالقتال كاع عنه قوم ففيهم نزلت (* (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) *) [النساء 77] قبل أن يفرض القتال (* (فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) *) فقال الله تعالى لنبيه قد بلغت قاتل وحدك (* (لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) *) فسيكون منهم ما كتب الله من فعلهم لأن الله سبحانه كان وعده بالنصر فلو لم يقاتل معه أحد من الخلق لنصره الله سبحانه دونهم وهل نصره مع قتالهم إلا بجنده الذي لا يهزم
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى أمرني أن أحرق قريشا قلت أي رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة قال استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نعنك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك
وقد قال أبو بكر الصديق في الردة أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي وفي رواية ثانية والله لو خالفتني شمالي لقاتلتها بيميني
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وحرض المؤمنين) *) أي على القتال
التحريض والتحضيض هو ندب المرء إلى الفعل وقد يندب المرء إلى الفعل ابتداء وقد يندب إلى امتثال ما أمر الله سبحانه تذكرة به له
586

الآية الثانية والأربعون
قوله تعالى (* (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا) *) [الآية 85]
الآية فيها مسألتان
المسألة الأولى
اختلف في قوله (* (من يشفع شفاعة) *) على ثلاثة أقوال
الأول من يزيد عملا إلى عمل
الثاني من يعين أخاه بكلمة عند غيره في قضاء حاجة
قال النبي صلى الله عليه وسلم اشفعوا تؤجروا وليقض الله سبحانه على لسان رسوله ما شاء
الثالث قال الطبري في معناه من يكن يا محمد شفعا لوتر أصحابك في الجهاد للعدو يكن له نصيب في الآخرة من الأجر ومن يشفع وترا من الكفار في جهادك يكن له كفل في الآخرة من الإثم
والصحيح عندي أنها عامة في كل ذلك وقد تكون الشفاعة غير جائزة وذلك فيما كان سعيا في إثم أو في إسقاط حد بعد وجوبه فيكون حينئذ شفاعة سيئة
وروت عائشة أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقالوا ومن يجترئ إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم
587

فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشفع في حد من حدود الله وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها مختصرا وهذا حديث صحيح
وروى أبو داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب
الآية الثالثة والأربعون
قوله تعالى (* (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا) *) [الآية 86]
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى
التحية تفعلة من حي وكان الأصل فيها ما روي في الصحيح أن الله تعالى خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعا ثم قال له إذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالت له وعليك السلام ورحمة الله إلا أن الناس قالوا إن كل من كان
588

يلقى أحدا في الجاهلية يقول له اسلم عش ألف عام أبيت اللعن فهذا دعاء في طول الحياة أو طيبها بالسلامة من الذام أو الذم فجعلت هذه اللفظة والعطية الشريفة بدلا من تلك وأعلمنا أن أصلها آدم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وإذا حييتم) *))
فيها ثلاثة أقوال
الأول روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن قوله تعالى (* (وإذا حييتم) *) أنه في العطاس والرد على المشمت
الثاني إذا دعي لأحدكم بطول البقاء فردوا عليه أو بأحسن منه
الثالث إذا قيل سلام عليكم وهو الأكثر
وقد روى عبد الله بن عبد الحكم عن أبي بكر بن عبد العزيز عن مالك بن أنس أنه كتب إلى هارون الرشيد جواب كتاب فقال فيه بسم الله الرحمن الرحيم والسلام لهذه الآية وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها فاستشهد مالك في هذا بقول ابن عباس في رد الجواب إذا رجع الجواب على حق كما روي رجع المسلم
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فحيوا بأحسن منها أو ردوها) *))
فيها قولان
أحدهما أحسن منها أي الصفة إذا دعا لك بالبقاء فقل سلام عليكم فإنها أحسن منها فإنها سنة الآدمية وشريعة الحنيفية
الثاني إذا قال لك سلام عليك فقل وعليك السلام ورحمة الله
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (أو ردوها) *))
اختلفوا فيها على قولين
589

أحدهما حيوا بأحسن منها أو ردوها في السلام
الثاني أن أحسن منها هو في المسلم وأن ردها بعينها هو في الكافر واختاره الطبري
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن أهل الكتاب إذا سلموا عليك قالوا السام عليكم فقولوا عليكم كذلك كان سفيان يقولها والمحدثون يقولون بالواو والصواب سقوط الواو لأن قولنا لهم عليكم رد وقولنا وعليكم مشاركة ونعوذ بالله من ذلك
وكانت عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم عليك السام فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليكم ففهمت عائشة قولهم فقالت عائشة عليكم السلام واللعنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم مهلا يا عائشة فقالت أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله قال أو لم تسمعي ما قلت عليكم إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم في
المسألة الخامسة
قال أصحاب أبي حنيفة التحية هاهنا الهدية أراد الكرامة بالمال والهبة قال الشاعر
(إذ تحيي بضيمران وآس
*)
وقال آخر
والمراد بهذا والله أعلم الكرامة بالمال لأنه قال أو ردوها بأحسن منها ولا يمكن رد السلام بعينه
590

وظاهر الآية يقتضي رد التحية بعينها وهي الهدية فإما بالتعويض أو الرد بعينه وهذا لا يمكن في السلام ولا يصح في العارية لأن رد العين هاهنا واجب من غير تخيير
قلنا التحية تفعلة من الحياة وهي تنطلق في لسان العرب على وجوه منها البقاء قال زهير بن جناب
(من كل ما نال الفتى
* قد نلته إلا التحية)
ومنها الملك وقيل إنه المراد هاهنا في بيت زهير ومنها السلام وهو أشهرها قال الله تعالى (* (وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول) *) [المجادلة 8]
وقد أجمع العلماء والمفسرون أن المراد هاهنا بالتحية السلام حتى ادعى هذا القائل تأويله هذا ونزع بما لا دليل عليه وإن العرب عبرت بالتحية عن الهدية فإن ذلك لمجاز لأنها تجلب التحية كما يجلبها السلام والسلام أول أسباب التحية ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم
وقال أفشوا السلام وأطعموا الطعام
591

فعلى هذا يصح أن تسمى الهدية بها مجازا كأنها حياة للمحبة ولا يصح حمل اللفظ على المجاز وإسقاط الحقيقة بغير دليل
فإن قيل نحمله عليهما جميعا
قلنا لهم أنتم لا ترون ذلك فلا يصح لكم بالقول به وإذا ثبت هذا بقيت الآية على ظاهرها وإن حملوه على الهدية على مذهبنا في هبة الثواب فنستثني منها الولد مع والده بما قررناه من الأدلة في مسائل الخلاف فليطلب هنالك فصحت لنا الآية على الوجهين جميعا والحمد لله وبقية الكلام ينظر في مسائل الخلاف فليطلب هنالك
وقد اختلف في معنى السلام عليكم فقيل هو مصدر سلم يسلم سلامة وسلاما كلذاذة ولذاذا وقيل للجنة دار السلام لأنها دار السلامة من الفناء والتغير والآفات
وقيل السلام اسم من أسماء الله تعالى لأنه لا يلحقه نقص ولا يدركه آفات الخلق
فإذا قلت السلام عليكم فيحتمل الله رقيب عليكم وإن أردت بيني وبينكم عقد السلامة وذمام النجاة
حدثنا الحضرمي أخبرنا ابن منير أخبرنا النيسابوري [أنبأنا النسائي] أنبأنا محمد بن علي سمعت أبي يقول قال ابن عيينة أتدري ما السلام تقول أنت مني آمن
المسألة السادسة
قال علماؤنا أكثر المسلمين على أن السلام سنة ورده فرض لهذه الآية
وقال عبد الوهاب منهم السلام ورده فرض على الكفاية إن كانت جماعة وإن كان واحدا كفى واحد
فالسلام فرض مع المعرفة سنة مع الجهالة لأن المعرفة إن لم تسلم عليه تغيرت
592

نفسه ثم يترتب السلام على حسب ما بيناه في كتب الحديث من قائم على قاعد ومار على جالس وقليل على كثير وصغير على كبير إلى غير ذلك من شروطه
المسألة السابعة
إذا كان الرد فرضا بلا خلاف فقد استدل علماؤنا على أن هذه الآية دليل على وجوب الثواب في الهبة للعين وكما يلزمه أن يرد مثل التحية يلزمه أن يرد مثل الهبة
وقال الشافعي في هبة الأجنبي ثواب وهذا فاسد لأن المرء ما أعطى إلا ليعطى وهذا هو الأصل فيها وإنا لا نعمل عملا لمولانا إلا ليعطينا فكيف بعضنا لبعض وسيأتي بيان ذلك في موضعه في سورة الروم إن شاء الله تعالى
الآية الرابعة والأربعون
قوله تعالى (* (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) *) [الآيات 889]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفيه خمسة أقوال
الأول روى عبد الله بن يزيد الأنصاري عن زيد بن ثابت صاحب عن صاحب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد رجعت طائفة ممن كان معه فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين فرقة تقول نقتلهم وفرقه تقول لا نقتلهم فنزلت وهو اختيار البخاري والترمذي
593

الثاني قال مجاهد نزلت في قوم خرجوا من [أهل] مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون فارتدوا واستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في الرجوع إلى مكة ليأتوا ببضائع فاختلف فيهم المؤمنون ففرقة تقول إنهم منافقون وفرقة تقول هم مؤمنون فبين الله سبحانه وتعالى نفاقهم
الثالث قال ابن عباس نزلت في قوم كانوا بمكة فتكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة وإن المؤمنين لما أخبروا بهم قالت فئة اخرجوا إلى هؤلاء الجبناء فاقتلوهم وقالت أخرى قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به
الرابع قال السدي كان ناس من المنافقين إذا أرادوا أن يخرجوا من المدينة قالوا أصابتنا أوجاع بالمدينة فلعلنا نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ونرجع فانطلقوا فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالت طائفة أعداء الله منافقون وقال آخرون بل إخواننا غمتهم المدينة فاجتووها فإذا برئوا رجعوا فنزلت فيهم الآية
الخامس قال ابن زيد نزلت في ابن أبي حين تكلم في عائشة
واختار الطبري من هذه الأقوال قول من قال إنها نزلت في أهل مكة لقوله تعالى (* (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله) *)
والصحيح ما رواه زيد وقوله حتى يهاجروا في سبيل الله يعني حتى يهجروا الأهل والولد والمال ويجاهدوا في سبيل الله
المسألة الثانية
أخبر الله سبحانه وتعالى أن الله رد المنافقين إلى الكفر وهو الإركاس وهو عبارة عن الرجوع إلى الحالة المكروهة كما قال في الروثة إنها رجس أي رجعت إلى حالة مكروهة فنهى الله سبحانه وتعالى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يتعلقوا فيهم بظاهر
594

الإيمان إذا كان أمرهم في الباطن على الكفر وأمرهم بقتلهم حيث وجدوهم وأينما ثقفوهم وفي هذا دليل على أن الزنديق يقتل ولا يستتاب لقوله تعالى (* (ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) *)
فإن قيل معناه ما داموا على حالهم
قلنا كذلك نقول وهذه حالة دائمة لا تذهب عنهم أبدا لأن من أسر الكفر وأظهر الإيمان فعثر عليه كيف تصح توبته
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) *))
المعنى إلا من انضاف منهم إلى طائفة بينكم وبينهم عهد فلا تعرضوا لهم فإنهم على عهدهم ثم نسخت العهود فانتسخ هذا وقد بيناه في القسم الثاني بإيضاحه وبسطه
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) *))
هؤلاء قوم جاؤوا وقالوا لا نريد أن نقاتل معكم ولا نقاتل عليكم
ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك وهو نوع من العهد وقالوا لا نسلم ولا نقاتل فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام تألفا حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام والأول أظهر
ومثله الآية التي بعدها وقد بسطناها بسطا عظيما في كتاب أنوار الفجر بأخبارها ومتعلقاتها في نحو من مائة ورقة
الآية الخامسة والأربعون
قوله تعالى (* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) *
595

) [الآية 9293]
فيها تسع عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) *))
معناه وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا قتلا جائزا أما أنه يوجد ذلك منه غير جائز فنفى الله سبحانه جوازه لا وجوده لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لم يبعثوا لبيان الحسيات وجودا وعدما إنما بعثوا لبيان الأحكام الشرعية إثباتا ونفيا
فإن قيل فهل هو جائز للكافر فإن قلتم نعم فقد أحلتم وإن قلتم لا فقد أبطلتم فائدة التخصيص بالمؤمن بذلك والكافر فيه مثله
قلنا معناه أن المؤمنين أبعد من ذلك بحنانهم وأخوتهم وشفقتهم وعقيدتهم فلذلك خص المؤمن بالتأكيد ولما يترتب عليه من الأحكام أيضا حسبما زين ذلك بعد
المسألة الثانية قوله تعالى (* (إلا خطأ) *))
قال علماؤنا هذا استثناء من غير الجنس وله يقول النحاة الاستثناء المنقطع إذا لم يكن من جنس الأول وذلك كثير في لسان العرب وقد بينا حقيقته في رسالة الملجئة ومعناه أن يأتي الاستثناء على معنى ما تقدم من اللفظ لا على نفس اللفظ كما قال الشاعر
([وقفت بها أصيلانا أسائلها
* عيت جوابا] وما بالربع من أحد)
(إلا الأواري [لأيا ما أبينها
* والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد])
فلم تدخل الأواري في لفظ أحد ولكن دخلت في معناه أراد وما بالربع أحد
596

أي [غير] ما كان فيه أو أثر كله ذاهب إلا الأواري وكذلك قوله (* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا) *) المعنى ما كان لمؤمن أن يفوت نفس مؤمن بكسبه إلا أن يكون بغير قصده إلى وصفه فافهمه وركبه تجده بديعا
المسألة الثالثة
أراد بعض أصحاب الشافعي أن يخرج هذا من الاستثناء المنقطع ويجعله متصلا لجهله باللغة وكونه أعجميا في السلف فقال هو استثناء صحيح وفائدته أن له أن يقتله خطأ في بعض الأحوال فيا لله ويا للعالمين من هذا الكلام كيف يصح في عقل عاقل أن يقول أبيح له أن يقتله خطأ ومن شرط الإذن والإباحة المكلف وقصده وذلك ضد الخطأ فالكلام لا يتحصل معقولا
ثم قال وهو أن يرى عليه لبسة المشركين والإنحياز إليهم كقصة حذيفة مع أبيه يوم أحد
قلنا له هذا هو الاستثناء المنقطع لأن القتل وقع خلاف القصد وهو قصد إلى مشرك فتبين أنه مسلم فهذا لا يدخل تحت التكليف أمرا ولا نهيا
ثم قال وقول الله سبحانه (* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) *) يقتضي أن يقال إنما يباح له إذا وجد شرط الإباحة وشرط الإباحة أن يكون خطأ وفي هذا القول من التهافت لمن تأمله ما يغني عن رده وكيف يتصور أن يقال شرط إباحة القتل أن لا يقصد لاهم إلا أن كون المقلد ألم بقول المبتدعة إن المأمور لا يعلم كونه مأمورا إلا بعد تقضي الامتثال ومضائه فالاختلال في المقال واحد والرد واحد فلتلحظه في أصوله التي صنف فإنه من جنسه ثم أبطل هو هذا وكان في غنى عن ذكره وإبطاله
ثم قال إن أقرب قول فيه أن يقال إن قوله سبحانه (* (إلا خطأ) *) اقتضى تأثيم قاتله لاقتضاء النهي ذلك فقوله تعالى (* (إلا خطأ) *) رفع للتأثيم عن قاتله وإنما
597

دخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من استحقاق المآثم فأخرج منه قاتل الخطأ وجاء الاستثناء على حقيقته وهذا كلام من لا يعلم اللغة ولا يفهم مقاطع الشريعة بل قوله (* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا) *) معناه كما قلنا جائز ضرورة لا وجودا فنفى الله سبحانه جواز ذلك لا وجوده فقول هذا الرجل إن ذلك يقتضي تأثيم قاتله لا يصح لأنه ليس ضد الجواز التحريم وحده بل ضد الندب والكراهية على قول والوجوب والتحريم على آخر فلم عين هذا الرجل من نفي الجواز التحريم المؤثم أما إن ذلك علم من دليل آخر لا من نفس هذا اللفظ
ثم نقول هبك أنا أوجبنا عليه بهذا اللفظ وقلنا له إن معناه الصريح أنت آثم إن قتلته إلا أن تقتله خطأ فإنه يكون استثناء من غير الجنس لأن الإثم أيضا إنما يرتبط بالعمد فإذا قال بعده إلا خطأ فهو ضده فصار منقطعا عنه حقيقة وصفة ورفعا للمأثم
وقوله فإنما دخل الاستثناء على ما يتضمنه اللفظ من استحقاق المأثم فقد بينا أن اللفظ ليس فيه لذلك ذكر حقيقة ولا مجازا وإنما يؤخذ الإثم من دليل آخر وقد أشرنا نحن إلى حقيقته في أول الأمر
وقد قال بعض النحارير إن الآية نزلت في سبب وذلك أن أسامة لقي رجلا من المشركين في غزاة فعلاه بالسيف فقال لا إله إلا الله فقتله فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله
فقال يا رسول الله إنما قالها متعوذا فجعل يكرر عليه بعد أن قال لا إله إلا الله
قال فلقد تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم فهذا قتل متعمدا مخطئا في اجتهاده وهذا نفيس
ومثله قتل أبي حذيفة يوم أحد فمتعلق الخطأ غير متعلق العمد ومحله غير محله
598

وهو استثناء منقطع أيضا منه ولذلك قالت جماعة إن الآيتين نزلت في شأن مقيس ابن صبابة فإنه أسلم هو وأخوه هشام فأصاب هشاما رجل من الأنصار من رهط عبادة ابن الصامت وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ في هزيمة بني المصطلق من خزاعة وكان أخوه مقيس بمكة فقدم مسلما فيما يظهر
وقيل لم يبرح من المدينة فطلب دية أخيه فبعث معه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من فهر إلى بني النجار في ديته فدفعوا إليه الدية مائة من الإبل فلما انصرف مقيس والفهري راجعين إلى المدينة قتل مقيس الفهري وارتد عن الإسلام وركب جملا منها وساق معه البقية ولحق كافرا بمكة وقال
(شفى النفس أن قد مات بالقاع مسندا
* يضرج في ثوبيه دماء الأخادع)
(وكانت هموم النفس من قبل قتله
* تلم فتحميني وطاء المضاجع)
(ثأرت به فهرا وحملت عقله
* سراة بني النجار أرباب فارع)
(حللت به وتري وأدركت ثؤرتي
* وكنت إلى الأوثان أول راجع)
فدخل قتل الأنصاري في قوله تعالى (* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) *) ودخل قتل مقيس في قوله تعالى (* (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) *) وكل واحد بصفته في الآيتين بصفتهما والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) *))
أوجب الله سبحانه في قتل الخطأ تحرير الرقبة وسكت في قتل العمد عنها
واختلف العلماء في ذلك اختلافا كثيرا قديما وحديثا مآله أن أبا حنيفة ومالكا قالا لا كفارة في قتل العمد وقال الشافعي فيه الكفارة لأنها إذا وجبت في قتل الخطأ ولا إثم فيه ففي العمد أولى
قلنا هذا يبعدها عن العمد لأن الله سبحانه لم يوجبها في مقابلة الإثم وإنما أوجبها عبادة أو في مقابلة التقصير وترك الحذر والتوقي والعمد ليس من ذلك
المسألة الخامسة قوله (* (مؤمنة) *))
وهذا يقتضي كمالها في صفات الدين فتكمل في صفات المالية حتى لا تكون معيبة لا سيما وقد أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه فعليه أن يخلص آخر لعبادة ربه
599

عن شغل غيره وأيضا فإنما يعتق بكل عضو منه عضو منها من النار حتى الفرج بالفرج فمتى نقص عضو منها لم تكمل شروطها وهذا بديع
المسألة السادسة
سواء كانت الرقبة صغيرة أو كبيرة إذا كانت بين المسلمين أو لمسلم فإنه يجوز خلافا لابن عباس وجماعة من التابعين إذ قالوا لا يجزئ إلا من صام وصلى وعقل الإسلام
قال الطبري من ولد بين المسلمين فحكمه حكم المسلمين في العتق كما أن حكمه حكم المسلمين في الجنابة والإرث والصلاة عليه وجميع أحكامه
المسألة السابعة قوله تعالى (* (ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) *))
أوجب الله تعالى الدية في قتل الخطأ جبرا كما أوجب القصاص في قتل العمد زجرا وجعل الدية على العاقلة رفقا وهذا يدل على أن قاتل الخطأ لم يكتسب إثما ولا محرما والكفارة وجبت زجرا عن التقصير والحذر في جميع الأمور
المسألة الثامنة
الدية مائة من الإبل في تقدير الشريعة وبإجماع الأمة فإن عدمت الإبل فاختلف العلماء فقال مالك من الدراهم على أهل الورق اثنا عشر ألف درهم ومن الذهب ألف دينار وليست في غيرهما
وقال أبو حنيفة عشرة آلاف درهم
وقال الشافعي الواجب منه الإبل كيف تصرفت فإنها الأصل فإذا عدمت وقت الوجوب فحينئذ ينظر في بدلها وهو القيمة بحساب الوقت كما في كل واجب في الذمة يتعذر أداؤه
ودليلنا أن عمر بن الخطاب قومها بمحضر من الصحابة ذهبا وورقا وكتب به إلى الآفاق ولا مخالف ولا ينبغي أن يكون فإن بلدا لم يكن قط به إبل لا سبيل إلى تقويمها فيه فعلمت الصحابة ذلك فقدرت نصيبها واعتبرتها في كل بلد بالذهب والفضة إذ لا يخلو بلد منهما
600

وقال أبو حنيفة في تقديرها عشرة آلاف درهم فبناها على نصاب الزكاة وعمر مع الصحابة قد علموا نصاب الزكاة حين قدروها باثني عشرة ألف درهم وقد بينا المعنى في نصاب الزكاة في مسائل الخلاف وهو بديع فلينظر فيه من أراد تمام العلم به
المسألة التاسعة هي في الإبل أخماس
بنات مخاض وبنات لبون وبنو لبون وحقاق وجذاع
وقال أبو حنيفة هي أخماس إلا أن منها بني مخاض دون بني لبون
ودليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر دية الخطأ أخماسا فقال عشرون بني لبون ولم يذكر بني مخاض أخرجه أبو داود كوفيا من طريق ابن مسعود فلا كلام لهم عليه ولا معنى معهم لأن ما ذكروه شيء لا يجب في الزكاة فلم يجب في الدية كالثنايا
المسألة العاشرة
وهي مؤجلة في ثلاثة أعوام كذلك قضى عمر وعلي وهي ضرورة لأن الإبل قد تكون في وقت الوجوب حوامل فيضر به ولا يجوز العدول إلى غير ما قال النبي صلى الله عليه وسلم وفيه تكون في السنة الثانية لوابن ووجبت مواساة ورفقا فتؤخذ منها بذلك
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة لأغراض منها أنه كان يعطيها صلحا وتسديدا ومنها أنه كان يعجلها تأليفا فلما وجد الإسلام قررتها الصحابة على هذا النظام
المسألة الحادية عشرة
ولا مدخل فيها لغير الذهب والفضة من ثياب أو طعام أو بقر خلافا لأبي يوسف ومحمد وغيرهما لأنها قد تمهدت في عصر الصحابة على هذا وما كان من غيره فقد
601

سقط بالإجماع على هذا فأما بقية أحكام الدية فهي كثيرة لا يفي بها إلا كتب المسائل فلا نطول بذكرها فنخرج عن المقصود بها
المسألة الثانية عشرة قوله (* (إلا أن يصدقوا) *))
أوجب الله تعالى الدية لأولياء القتيل إلا أن يصدقوا بها على القاتل والاستثناء إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها إذا صلح ذلك فيها وإلا عاد إلى ما يصلح له ذلك منها
والذي تقدم الكفارة والدية والكفارة حق الله سبحانه ولا تقبل الصدقة من الأولياء لأن الصدقة من المتصدق عليه لا تنفذ إلا فيما يملكه
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) *))
أوجب الله سبحانه الكفارة في قتل المؤمن بين أهل الحرب إذا كان خطأ ولم يذكر الدية
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال أبو حنيفة لا دية في ذلك وهو مذهب ابن عباس وعكرمة وقتادة وجماعة من التابعين وفيه الكفارة
أما وجوب الكفارة فلأنه أتلف نفسا مؤمنة
وأما امتناع الدية عندهم فاختلفوا في ذلك فقال بعضهم إنما لم تجب الدية لهم لئلا يستعينوا بها على حرب المسلمين
وقال آخرون إنما لم تجب لهم دية لأنه ليس بينهم وبين الله عز وجل عهد ولا ميثاق
وأما أبو حنيفة فعول على أن العاصم للعبد في ذمته لا إله إلا الله وأن العاصم له في ماله الدار فإذا أسلم وبقي في دار الحرب فقد اعتصم عصمة قويمة يجب بها على قاتله الكفارة وليس له عصمة مقومة فدمه وماله هدر ولو أنه هاجر إلى أرض الإسلام وترك أهله في دار الحرب فلا حرمة لهم
وهذا هو قطعة من مذهب مالك فإن الدار عند مالك العاصمة للأهل والمال وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف
602

وقال الشافعي الإسلام يعصم مال المسلم وأهله ودمه حيث كانوا
والمسألة في نهاية الإشكال ومذهب الشافعي فيها أسلم وعلى هذا عند هؤلاء لم يذكر أنه الدية لأنها لم تجب وعلى المذهب المالكي لم يذكرها الله سبحانه لأنها لم يكن لها مستحق فلو كان لها مستحق لوجبت لأن سبب الوجوب موجود وهو الإسلام وجل أن يكون الله لم يذكر الدية لأن الهجرة كانت على من آمن فرضا ومن أسلم ولم يهاجر فلا إسلام له ولا ولاية فأما مذ سقط فرض الهجرة بعصمة الإسلام فوجب له الدية والكفارة أينما كان
المسألة الرابعة عشرة قوله تعالى (* (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) *))
والميثاق هو العهد المؤكد الذي قد ارتبط وانتظم ومنه الوثيقة ففيه الدية
قال ابن عباس هذا هو الكافر الذي له ولقومه العهد فعلى قاتله الدية لأهله والكفارة لله سبحانه وبه قال جماعة من التابعين والشافعي
وقال مالك وابن زيد والحسن المراد به وهو مؤمن واختار الطبري أن يكون المراد به المقتول الكافر من أهل العهد لأن الله سبحانه أهمله ولم يقل وهو مؤمن كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب وإطلاقه ما قيد قبل ذلك دليل أنه خلافه
وهذا عند علمائنا محمول على ما قبله من وجهين
أحدهما أن هذه الجملة نسقت على ما قبلها وربطت بها فوجب أن يكون حكمها حكمه
الثاني أن الله سبحانه قال (* (فدية مسلمة) *) وقد اختلف الناس في دية الكافر فمنهم من جعلها كدية المسلم وهو أبو حنيفة وجماعة ومنهم من جعلها على النصف وهو مالك وجماعة ومنهم من جعلها ثلث دية المسلم وهو الشافعي وجماعة
والدية المسلمة هي الموفرة
603

قال القاضي والذي عندي أن هذه الجملة محمولة على ما قبلها جمل المطلق على المقيد وهو أصل من أصول الفقه اختلف الناس فيه وقد أتينا فيه بالعجب في المحصول وهو عندي لا يلحق إلا بالقياس عليه
والدليل على حمل هذه الجملة على التي قبلها أمران
أحدهما أن الكفارة إنما هي لأنه أتلف شخصا عن عبادة الله فيلزمه أن يخلص آخر لها
والثاني أن الكفارة إنما هي زجر عن الاسترسال وتقاة للحذر وحمل على التثبت عند الرمي وهذا إنما هو في حق المسلم
وأما في حق الكافر فلا يلزم فيه مثل هذا ونحرر هذا قياسا فنقول كل كافر لا كفارة في قتله [كالمستأمن وقد اتفقنا على أنه لا كفارة في قتله] ولا عذر لهم عنه به احتفال
المسألة الخامسة عشرة
إذا ثبت أن المذكور في هذه الجملة هو المؤمن فمن قتل كافرا خطأ وله عهد ففيه الدية إجماعا
وقد اختلفوا فيه كما تقدم وهو أصل بديع في رفع الدماء ونحن نمهد فيه قاعدة قوية فنقول
مبنى الديات في الشريعة على التفاضل في الحرمة والتفاوت في المرتبة لأنه حق مالي يتفاوت بالصفات بخلاف القتل لأنه لما شرع زجرا لم يعتبر فيه ذلك التفاوت فإذا ثبت هذا نظرنا إلى الدية فوجدنا الأنثى تنقص فيه عن الذكر ولا بد أن يكون للمسلم مزية على الكافر فوجب ألا يساويه في ديته
وزاد الشافعي نظرا فقال إن الأنثى المسلمة فوق الكافر الذكر فوجب أن تنقص ديته عن ديتها فتكون ديته ثلث دية المسلم
604

وقال مالك بقضاء عمر وهو النصف إذ لم يراع الصحابة التفاوت بينهما إلا في درجة واحدة ولم يتبع ذلك إلى أقصاه وليس بعد قضاء عمر بمحضر من الصحابة نظر
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى في ذي العهد مثل دية المسلم فإنما كان على معنى الاستئلاف لقومهم إذ كان يؤديه من قبل نفسه ولا يرتبها على العاقلة وإلا فقد استقر ما استقر على يد عمر حتى جعل في المجوسي ثمانمائة درهم لنقصه عن أهل الكتاب وهذا يدل على مراعاة التفاوت واعتبار نقص المرتبة
المسألة السادسة عشرة قوله تعالى (* (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) *))
ظن قوم أولهم مسروق أن الصيام بدل عن الدية والرقبة وساعده عليه جماعة وهو وهم لأن الصيام يلزم القاتل فهو بدل عما كان يلزمه من الرقبة والدية لم تكن تلزمه فليس
عليه بدل عنها وهذا أظهر من إطناب فيه
المسألة السابعة عشرة
لما قال الله سبحانه (* (ومن قتل مؤمنا خطأ) * ومن يقتل مؤمنا متعمدا) انحصر القتل في خطأ وعمد عند أكثر العلماء ومنهم من زاد ثالثا وهو شبه العمد وجعلوه عمدا خطأ كأنهم يريدون به أنه عمد من وجه خطأ من وجه والذي أشاروا به من ذلك قد جاء في الحديث فروى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها رواه أبو داود والترمذي
قال ابن العربي هذا حديث لم يصح وقد روي شبه العمد عن الصحابة
605

والفقهاء كأبي حنيفة والشافعي وحكى العلماء عن مالك القول بشبه العمد وأن القتل ثلاثة أقسام ولكن جعل شبه العمد في مثل قصة المدلجي في نظر من أثبته أن الضرب مقصود والقتل غير مقصود وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود وتغلظ الدية
وبالغ أبو حنيفة مبالغة أفسدت القاعدة فقال إن القاتل بالعصا والحجر شبه العمد فيه دية مغلظة ولا قود فيه وهذا باطل قطعا وقد مهدناه في مسائل الخلاف
الآية السادسة والأربعون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا) *) [الآية 94]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفيه خمسة أقوال
الأول قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول إن رجلا من المسلمين في مغازي النبي صلى الله عليه وسلم حمل على رجل من المشركين فلما علاه بالسيف قال المشرك لا إله إلا الله فقال الرجل إنما يتعوذ بها من القتل فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كيف لك بلا إله إلا الله قال يا رسول الله إنما يتعوذ فما زال يعيدها عليه كيف لك بلا إله إلا الله فقال الرجل وددت أني أسلمت ذلك اليوم وأنه يبطل ما كان لي من عمل قبل ذلك وأني استأنفت العمل من ذلك اليوم
قال القاضي هذا الذي ذكره مالك مطلقا هو أسامة بن زيد والحديث صحيح رواه الأئمة من كل طريق أصله أبو ظبيان عن أسامة رواه عنه الأعمش وحصين
606

ابن عبد الرحمن والحديث مشهور وذكر الطبري أن اسم الذي قتله أسامة مرداس ابن نهيك
الثاني قال عبد الله بن عمر بعث النبي صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام وكان بينهما إحنة في الجاهلية فرماه محلم بن جثامة بسهم فقتله وجاء محلم بن جثامة فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر الله فقال لا غفر الله لك فقام وهو يتلقى دموعه ببردته فما مضت سابعة حتى دفنوه ولفظته الأرض فذكر ذلك له فقال إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يعظم من حرمتكم فرموه بين جبلين والقوا عليه من الحجارة وأنزل الله سبحانه الآية
الثالث قال ابن عباس لقي ناس رجلا في غنيمة له فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة فنزلت الآية
الرابع قال قتادة أغار رجل من المسلمين على رجل من المشركين فقال المشرك إني مسلم لا إله إلا الله فقتله بعد أن قالها
وعن سعيد بن جبير أن الذي قتله هو المقداد وذكر نحو ما تقدم وهو الخامس
قال القاضي قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حمل ديته ورد على أهله غنيمته ويشبه أن يكون هذا صحيحا على طريق الائتلاف وهي المسألة الثانية فإن هذا المقتول الذي نزلت فيه الآية لا يخلو أن يكون الذي قال سلام عليكم أو يكون الذي قال لا إله إلا الله أو يكون عامر بن الأضبط الذي علم إسلامه فأما كونه عامر بن الأضبط فبعيد لأن قصة عامر قد اختلفت اختلافا كثيرا لا نطول بذكره تبين أن قتل محلم إنما كان لإحنة وحقد بعد العلم بحاله وكيفما تصور الأمر ففي واحدة من هذه نزلت وغيرها يدخل فيها بمعناها
607

وجملة الأمر أن المسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله فإن قال له الكافر لا إله إلا الله لم يجز قتله فقد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله فإن قتله بعد ذلك قتل به
وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا وأن العاصم قولها مطمئنا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه عاصم كيفما قالها
وأما إن قال له سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل حتى يعلم ما وراء هذا لأنه موضع إشكال
وقد قال مالك في الكافر يوجد عند الدرب فيقول جئت مستأمنا أطلب الأمان هذه أمور مشكلة وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام لأن الكفر قد ثبت له فلا بد أن يظهر منه ما يدل على أن الاعتقاد الفاسد الذي كان يدل عليه قوله الفاسد قد تبدل باعتقاد صحيح يدل عليه قوله الصحيح ولا يكفي فيه أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بها عليه في قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا
مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله
فإن صلى أو فعل فعلا من خصائص الإسلام وهي
المسألة الثالثة
فقد اختلف فيه علماؤنا وتباينت الفرق في إسلامه وقد حررناها في مسائل الخلاف
ونرى أنه لا يكون مسلما بذلك أما أنه يقال له ما وراء هذه الصلاة فإن قال صلاة مسلم قيل له قل لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن قالها تبين صدقه وإن أبى
608

علمنا أن ذلك تلاعب وكانت عند من يرى إسلامه ردة ويقتل على كفره الأصلي وذلك محرر في مسائل الخلاف مقرر أنه كفر أصلي ليس بردة
وكذلك هذا الذي قال سلام عليكم يكلف الكلمة فإن قالها تحقق رشاده وإن أبى تبين عناده وقتل وهذا معنى قوله فتبينوا أي الأمر المشكل أو تثبتوا ولا تعجلوا المعنيان سواء فإن قتله أحد فقد أتى منهيا عنه لا يبلغ فدية ولا كفارة ولا قصاصا
وقال الشافعي له أحكام الإسلام وهذا فاسد لأن أصل كفره قد تيقناه فلا يزال اليقين بالشك
فإن قيل فتغليظ النبي صلى الله عليه وسلم على محلم كيف مخرجه
قلنا لأنه علم من نيته أنه لم يبال بإسلامه ولم يحققه فغضب على هذه النية والله أعلم
الآية السابعة والأربعون
قوله تعالى (* (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) *) [الآية 11]
فيها ثماني مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وإذا ضربتم) *))
اعلموا وفقكم الله أن بناء ضرب يتصرف في اللغة على معان كثيرة منها السفر وما أظنه سمي به إلا لأن الرجل إذا سافر ضرب بعصاه دابته ليصرفها في السير على حكمه ثم سمي به كل مسافر ولم يجتمع لي في هذا الباب ولا أمكنني في هذا الوقت ضبط فرأيته تكلفا فتركته إلى أوبة تأتيه إن شاء الله تعالى
المسألة الثانية قوله (* (مراغما كثيرا) *))
هذه لفظة وردت في الآية التي قبلها وهي مرتبطة بها سنذكرها معها فأردنا أن
609

نقدم شرح اللفظة لتكون إلى جانب أختها وفيه اختلاف وإشكال وللعلماء فيه ثلاثة أقوال
الأول المراغم المذهب قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول المراغم الذهاب في الأرض
الثاني المراغم المتحول يعزى إلى ابن عباس
الثالث المراغم المندوحة
قال مجاهد وهذه الأقوال تتقارب
واختلف في اشتقاقها فقالت طائفة هو مأخوذ من الرغام بفتح الراء والغين المعجمية وهو التراب وقالت أخرى هو مأخوذ منه بضم الراء وهو ما يسيل من أنف الشاة والرغام بضم الراء يرجع إلى الرغام بفتحها لأن من كره رجلا قصد ذله وأن يكبه الله على وجهه حتى يقع أنفه على الرغام وهو التراب فضرب المثل به حتى يقال أرغم الله أنفه وأفعل كذا وإن رغم أنفه ثم سمي بعد ذلك الأنف وما يسيل منه به
وتحقيقه أن اللفظة ترجع إلى الرغام بفتح الراء
المعنى ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مكانا للذهاب وضرب التراب له مثلا لأنه أسهل أنواع الأرض
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) *))
وقد تقدم بيانه في سورة البقرة
المسألة الرابعة في السفر في الأرض
تتعدد أقسامه من جهات مختلفات فتنقسم من جهة المقصود به إلى هرب أو طلب وتنقسم من جهة الأحكام إلى خمسة أقسام وهي من أحكام أفعال المكلفين الشرعية واجب ومندوب ومباح ومكروه وحرام
وينقسم من جهة التنويع في المقاصد إلى أقسام
610

الأول الهجرة وهي تنقسم إلى ستة أقسام
الأول الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرها من أنواعها بيناها في شرح الحديث وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان فمن أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام فإن بقي فقد عصى ويختلف في حاله كما تقدم بيانه
الثاني الخروج من أرض البدعة قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم ببلد سب فيها السلف
وهذا صحيح فإن المنكر إذا لم يقدر على تغييره نزل عنه قال الله تعالى (* (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *) [الأنعام 68]
وقد كنت قلت لشيخنا الإمام الزاهد أبي بكر الفهري ارحل عن أرض مصر إلى بلادك فيقول لا أحب أن أدخل بلادا غلب عليها كثرة الجهل وقلة العقل فأقول له فارتحل إلى مكة أقم في جوار الله وجوار رسوله فقد علمت أن الخروج عن هذه الأرض فرض لما فيها من البدعة والحرام فيقول وعلى يدي فيها هدى كثير وإرشاد للخلق وتوحيد وصد عن العقائد السيئة ودعاء إلى الله عز وجل وتعالى الكلام بيني وبينه فيها إلى حد شرحناه في ترتيب [لباب] الرحلة واستوفيناه
الثالث الخروج عن أرض غلب عليها الحرام فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم
611

الرابع الفرار من الإذاية في البدن وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور
وأول من حفظناه فيه الخليل إبراهيم عليه السلام لما خاف من قومه قال (* (إني مهاجر إلى ربي) *) [العنكبوت 26] وقال (* (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) *) [الصافات 99] وموسى قال الله سبحانه فيه (* (فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) *) [القصص 21]
وذلك يكثر تعداده
ويلحق به وهو
الخامس خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة
وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاء حين استوخموا المدينة أن يتنزهوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بيد أني رأيت علماءنا قالوا هو مكروه
وقد استوفيناه في شرح الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم
السادس الفرار خوف الإذاية في المال فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه والأهل مثله أو آكد فهذه أمهات قسم الهرب
وأما قسم الطلب فينقسم إلى قسمين طلب دين وطلب دنيا فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه ولكن أمهاته الحاضرة عندي الآن تسعة
الأول سفر العبرة قال الله تعالى (* (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) *) [يوسف 19]
وهذا كثير في كتاب الله عز وجل
ويقال إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها
وقيل لينفذ الحق فيها
612

الثاني سفر الحج والأول وإن كان ندبا فهذا فرض وقد بيناه في موضعه
الثالث سفر الجهاد وله أحكامه
الرابع سفر المعاش فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه ولا ينقص من صيد أو احتطاب أو احتشاش أو استئجار وهو فرض عليه
الخامس سفر التجارة والكسب الكثير الزائد على القوت وذلك جائز بفضل الله سبحانه قال الله سبحانه (* (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) *) [البقرة 198] يعني التجارة
وهذه نعمة من بها في سفر الحج فكيف إذا انفردت
السادس في طلب العلم وهو مشهور
السابع قصد البقاع الكريمة وذلك لا يكون إلا في نوعين أحدهما المساجد الإلهية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى
الثاني الثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها ففي ذلك فضل كثير
الثامن زيادة الإخوان في الله وقد استوفينا ذلك في شرح الحديث
التاسع السفر إلى دار الحرب وسيأتي بعد إن شاء الله تعالى وبعد هذا فالنية تقلب الواجب من هذا حراما والحرام حلالا بحسب حسن القصد وإخلاص السر عن الشوائب
613

وقد تتنوع هذه الأنواع إلى تفصيل هذا أصلها التي تتركب عليه
فإذا ثبت هذا فقد اختلف الناس في السفر الذي تقصر فيه الصلاة المذكورة هاهنا على ستة أقوال
الأول أنها لا تقصر إلا في سفر واجب لأن الصلاة فرض ولا يسقط الفرض إلا فرض
الثاني أنها لا تقصر إلا في سفر قربة وبه قال جماعة منهم ابن حنبل وتعلقوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبحديث عمران بن حصين قال إن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يكن يقصر إلا في حج أو عمرة أو جهاد
الثالث أنه يجوز القصر في كل سفر مباح كما قد بينا أنواعه لعموم قوله سبحانه (* (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) *) ولم يفرق بين سفر وسفر
الخامس أنه يقصر في كل سفر حتى في سفر المعصية وهو قول أبي حنيفة وجماعة بنوه على أن القصر فرض الصلاة في السفر بعينه وتعلقوا بحديث عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على أصلها
السادس أن القصر لا يجوز إلا مع الخوف قال به جماعة منهم عائشة قالت أتموا فقالوا لها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب وكان يخاف فهل تخافون أنتم
أما القول الأول ففاسد لأن عموم القرآن لم يخص منها واجبا من ندب وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم في غير الواجب كالعمرة في الحديبية وغيرها وأما من قال لا تقصر إلا في سفر قربة فعموم القرآن أيضا يقضي عليه لأنه عم ولم يخص قربة من مباح وهو القول الثالث الصحيح
614

وأما من قال إنه يقصر في سفر المعصية فلأنها فرض معين للسفر وقد اختلف في ذلك قول علماء المذهب وهي مسألة تعلقت لهم من أقوال العراقيين
وقد بينا في كتاب التلخيص وغيره فسادها وقد تكلمنا على هذا الحديث في شرح مسائل الخلاف والحديث وبينا أنه خبر واحد يعارضه نص القرآن والأخبار المتواترة فإن الله سبحانه جعل في كتابه القصر تخفيفا والتمام أصلا ويعارض أيضا الأصول المعقولة فإنه جعل الإقامة في القرآن أصلا وهو الواجب وقلبها في الحديث الراوي وأقواه أن عائشة قالت سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصر وأتممت وأفطر وصمت ولم ينكر ذلك علي وكانت تتم في السفر
وأما سفر المعصية فأشكل دليل فيه لهم أن قالوا إنا بنينا الأمر على أن القصر عزيمة وليس برخصة والعزائم لا تتغير بسفر الطاعة والمعصية كالتيمم
قلنا قد بينا أنه رخصة وعليه تنبني المسألة والرخص لا تجوز في سفر المعصية كالمسح على الخفين
المسألة الخامسة
تلاعب قوم بالدين فقالوا إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر الصلاة وأكل
وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب أو مستخف بالدين ولولا أن العلماء ذكروه ما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني ولا أن أفكر فيه بفضول قلبي وقد كان من تقدم من الصحابة يختلفون في تقديره فروي عن عمر وابن عمر وابن عباس أنهم كانوا يقدرونه بيوم وعن ابن مسعود أنه كان يقدره بثلاثة أيام يعلمهم بأن السفر كل خروج تكلف له وأدركت فيه المشقة
المسألة السادسة قوله (* (أن تقصروا من الصلاة) *))
اختلف العلماء في تأويلها فمنهم من قال إن القصر قصر عدد وهم الجم الغفير ومنهم من قال إنها قصر الحدود وتغيير الهيئات والذين قالوا إن القصر في العدد قالت جماعة منهم أن ينقص من أربع إلى اثنين وقال آخرون يقصر من اثنين إلى واحدة
615

وقال علماؤنا الآية تحتمل المعنيين [جميعا] فأما القصر من هيآتها فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلا حالة الخوف وأما القصر من عددها إلى ثنتين فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فعلا في حالة الأمن
وأما القصر في حالة الخوف إلى واحدة فقد روي عنه من طريقين أحدهما قول ابن عباس في الصحيح فرض الله الصلاة على لسان نبيه في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ويأتي إن شاء الله بيانه
المسألة السابعة قوله (* (إن خفتم) *))
فشرط الله تعالى الخوف في القصر
وقد اختلف العلماء في الشرط المتصل بالفعل هل يقتضي ارتباط الفعل به حتى يثبت بثبوته ويسقط بسقوطه فذهب بعض الأصوليين إلى أنه لا يرتبط به وهم نفاة دليل الخطاب ولا علم عندهم باللغة ولا بالكتاب
وقد بينا ذلك في المحصول بيانا شافيا
وعجبا لهم قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب إن الله تعالى يقول (* (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) *) فها نحن قد أمنا قال عجبت مما عجبت منه فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
616

وقال أمية بن عبد الله بن أسيد لعبد الله بن عمر إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر يعني نجد ذلك في هذه الآية فقال إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلينا ونحن لا نعلم شيئا فإنا نفعل كما رأيناه يفعل فهذه الصحابة الفصح والعرب تعرف ارتباط الشرط بالمشروط وتسلم فيه وتعجب منه وهؤلاء يريدون أن يبدلوا كلام العرب لأغراض صحيحة لا يحتاج إلى ذلك فيها فلينظر تحقيقه في كلامنا عليه
ولقد انتهى الجهل بقوم آخرين إلى أن قالوا إن الكلام قد تم في قوله (* (من الصلاة) *) وابتدأ بقوله (* (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) *) وإن الواو زائدة في قوله (* (وإذا كنت فيهم) *) وهذا كله لم يفتقر إليه عمر ولا ابنه ولا يعلى بن أمية معهما
وفي الصحيح عن حارثة بن وهب قال صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى آمن ما كان الناس وأكثره ركعتين فهؤلاء لما جهلوا القرآن والسنة تكلموا برأيهم في كتاب الله
وهذا نوع عظيم من تكلف القول في كتاب الله تعالى بغير علم وقول مذموم وليس بعد قول عمر وابن عمر مطلب لأحد إلا لجاهل متعسف أو فارغ متكلف أو مبتدع متخلف
وهذا كله يبين لك أن القصر فضل من الله سبحانه ورخصة لا عزيمة وهي
المسألة الثامنة
وإذا ثبت ذلك فقد اختلف الناس بعد ثبوت القول بأن القصر ليس بفرض على قولين الأول أن المسافر مخير بين القصر والإتمام لحديث عائشة المتقدم وبه قال الشافعي وجماعة من أصحابنا
ومنهم من قال إن القصر سنة وعلى هذا جمهور المذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب
617

عليه في الصحيح وإن عثمان لما أتم بمنى قال عبد الله بن مسعود صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين فليت حظي من أربع ركعتان متقبلتان
الآية الثامنة والأربعون
قوله تعالى (* (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) *) [الآية 12]
وهي وإن كانت منفصلة عن التي قبلها عددا فقد زعم قوم كما قدمنا أنها بها مرتبطة وقد فصلناها خطابا ونتكلم عليها حكما حتى يتبين الحال دون اختلال
وذلك أن الله تعالى قال (* (أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) *)
فإن ذلك إن كان شرطا في القصر وكان المعنى أن تقصروا من حدودها فهذه الآية بيان صفة ذلك القصر من الحدود وإن كان كلاما مبتدأ لم يرتبط بالأول فهذا بيانه فيقول ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف مرارا عدة بهيئآت مختلفة فقيل في مجموعها إنها أربع وعشرون صفة ثبت فيها ست عشرة صفة قد شرحناها في كتب الحديث
والذي نذكره لكم الآن ما نورده أبدا في المختصرات وذلك على ثماني صفات
الصفة الأولى روي عن ابن عمر قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجد سجدتين والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا فقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم ثم قضى هؤلاء ركعة
618

الصفة الثانية قال جابر بن عبد الله شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصفنا صفين صفا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي صلى الله عليه وسلم فكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدرنا بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدرنا بالسجود والصف الذي يليه كان مؤخرا في الركعة الأولى وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا
الصفة الثالثة عن ابن أبي خيثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف فصفهم خلفه صفين فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام فلم يزل قائما حتى صلى بالذين خلفه ركعة ثم تقدموا وتأخر الذين قدامهم فصل بهم ركعة ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ثم سلم
الصفة الرابعة يوم ذات الرقاع إن طائفة صلت معه وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى وصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم
الصفة الخامسة قال جابر اقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع فذكر الحديث ثم قال فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين
الصفة السادسة عن ابن عمر يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة وتكون طائفة بينهم وبين العدو لم يصلوا فإذا صلى بالذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا فيصلون ركعة ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين فيقوم كل واحد
619

من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام ويكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين
قال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا قياما وركبانا قال نافع قال ابن عمر مستقبلي القبلة وغير مستقبليها لا أرى ذكر ذلك عن عمر إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذه الصفات الست في الصحيح الثابت
الصفة السابعة عن ابن مسعود قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقام صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف مستقبل العدو فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة وجاء الآخرون فقاموا مقامهم واستقبل هؤلاء للصلاة فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام هؤلاء وصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ورجع أولئك مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا
الصفة الثامنة عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا ومن هذه الصفة الثامنة ما قال ابن عباس فرض الله الصلاة على لسان نبيه في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وقد تقدم
وهاتان الصفتان مرويتان في المصنفات خرجهما أبو دواد وغيره
واختلف الناس في هذه الصفات وما بقي غيرها من الست عشرة صفة على ستة أقوال
الأول قال أبو يوسف هي ساقطة كلها لقوله عز وجل (* (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) *) فإنما أقام الصلاة خوفية بشرط إقامة النبي صلى الله عليه وسلم لها بهم
قلنا لهم فالآن ما يصنعون فإن قال نترك الصلاة مع الذكر لها والعلم بها وبوقتها كان ذلك احتجاجا بها واقتداء بمن فات وإن قال يفعلها على الحالة المعتادة فيها فلا يمكن فلم يبق إلا الاقتداء بقول الله تعالى (* (وإذا كنت فيهم) *) والائتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم
620

وقد قال في الصحيح صلوا كما رأيتموني أصلي والله قال له (* (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) *) وهو قال لنا صلوا كما رأيتموني أصلي
وقد استوفيناها في مسائل الخلاف
الثاني قالت طائفة أي صلاة صلى من هذه الصلوات الصحاح المروية جاز وبه قال أحمد بن حنبل
الثالث أن الذي يعلم تقدمه ويتحقق تأخر غيره عنه فإن المتأخر ينسخ المتقدم وإنما يبقى الترجيح فيما جهل تاريخه
وقد تكلمنا في نسخ الفعل للفعل في الأصول في المحصول وهذا كان فيه متعلق لولا أنا نبقى في الإشكال بعد تحديد المتقدم
الرابع قال قوم ما وافق صفة القرآن منها فهو الذي نقول به لأنه مقطوع به وما خالفها مظنون ولا يترك المقطوع به له وعلقوه بنسخ القرآن للسنة وهذا متعلق قوي لكن يمنع منه القطع على أن صلاة الخوف إنما كانت ليجمع بين التحرز من العدو وإقامة العبادة فكيفما أمكنت فعلت وصفة القرآن لم تأت لتعيين الفعل وإنما جاءت لحكاية الحال الممكنة وهذا بالغ
الخامس ترجيح الأخبار بكثرة الرواة لها أو مزيد عدالتهم فيها وهو مذهب مالك والشافعي فرجحنا خبر سهل وصالح ثم رجحنا بينهما بعد ذلك بوجوه من الترجيحات منها أن يكون أخف فعلا ومنها ما يكون أحفظ لأهبة الصلاة وهو
السادس مثال ذلك إذا صلى صلاة المغرب في الخوف
قلنا نحن وأبو حنيفة نصلي بالأولى ركعتين لأنه أخف في الانتظار
621

وقال الإمام الشافعي يصلي بالأولى ركعة لأن عليا فعلها ليلة الهرير ومنها الترجيح بالسلام بعد الإمام على ما قبله وذلك طول لا يكون إلا في موضعه وهذه نبذة كافية للباب الذي تصدينا إليه
المسألة الثانية
إذا صلوا أخذوا سلاحهم عند الخوف وبه قال الشافعي وهو نص القرآن
وقال أبو حنيفة لا يحملها قالوا لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها
قلنا لم يجب عليهم حملها لأجل الصلاة وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا أو لأمر خارج عن الصلاة فلا تعلق لصحة الصلاة به نفيا وإثباتا فاعلمه
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم) *))
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان صلاة الظهر فرأوه هو وأصحابه يركع ويسجد فقال بعضهم كان فرصة لكم قال قائل منهم فإن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهليهم وأموالهم فاستعدوا حتى تغيروا عليهم فأنزل الله سبحانه (* (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) *)
وهذا سقناه لتتبينوا أنها آية أخرى في قصة غير قصة القصر وتتحققوا غباوة من حذف الواو
المسألة الرابعة
قال أبو حنيفة لا يصلي حال المسايفة لأنه معنى لا تصح معه الصلاة في غير الخوف فلا يصح معه في الخوف كالرعاف
ودليلنا حديث ابن عمر المتقدم الصحيح فإن لم تستطيعوا فرجالا أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وهذا لا يكون إلا في حالة المسايفة وشدة الخوف وصفة موقف العدو
622

وأما الزحاف فإن احتيج إليها فعلت كما أنه إن احتيج إلى الكلام في الصلاة فعل وكل ما كان من ضرورة فإنه ساقط الاعتبار
وما قلناه أرجح لأنا نحن أسقطنا صفة من صفات الصلاة للضرورة وهو أسقط أصل الصلاة فهذا أرجح والله عز وجل أعلم
المسألة الخامسة
إذا رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم بان لهم أنه غير شيء فلعلمائنا فيه روايتان
إحداهما يعيدون وبه قال أبو حنيفة
والثانية لا إعادة عليهم وهو أظهر قولي الشافعي
وجه الأول أنهم عملوا على اجتهادهم فجاز لهم كما لو أخطأوا القبلة
ووجه الثاني أنهم تبين لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم والمضاء على الصلاة وترك الإعادة أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به واجتهدوا ولم يمكنهم أكثر من ذلك فلا إعادة عليهم لا في القبلة ولا في الخوف ولا في أمثاله والله أعلم
المسألة السادسة
قال الشافعي إذا تابع الطعن والضرب فسدت الصلاة لأنها لا تكون حينئذ صلاة وإنما تكون محاربة
قلنا يا حبذا الفرضان إذا اجتمعا وإذا كانت الحركة لعبا لم تنتظم مع الصلاة أما إذا كانت عبادة واجبة وتعينتا جميعا جمع بينهما فيصلي ويقاتل وعموم قوله صلى الله عليه وسلم ركبانا وعلى أقدامهم ومستقبلي القبلة وغير مستقبليها يعطي جواز قليل ذلك وكثيره
المسألة السابعة
قال المزني لا يفتقر القصر والخوف إلى تجديد نية وهذه إحدى خطيئاته فله انفرادات يخرج فيها عن مقام المتثبتين
623

وهذا فاسد لأنها صلاة طارئة فلا بد لها من تجديد نية كالجمعة
فإن قيل الجمعة بدل عن الظهر فلذلك افتقرت إلى نية محدودة
قلنا ربما قلبنا الأمر فقلنا الجمعة أصل والظهر بدل فكيف يكون كلامهم
الثاني إنا نقول وهبكم سلمنا لكم أن الجمعة بدل أليست صلاة القصر بدلا وصلاة الخوف بدلا آخر فإن الجمعة إنما قلنا إنها غير صلاة الظهر سواء جعلناها بدلا أو أصلا لأجل مخالفتها في الصفات والشروط والهيئات وهذا كله موجود هاهنا فوجب أن يكون غيره وأن تستأنف له نية
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم) *))
نزل عليهم المطر ومرض عبد الرحمن بن عوف من جرح فرخص الله سبحانه لهم في ترك السلاح والتأهب للعدو بعذر المرض والمطر وهذا يدل على تأكيد التأهب والحذر من العدو وترك الاستسلام فإن الجيش ما جاءه قط مصاب إلا من تفريط في حذر
المسألة التاسعة
قوله تعالى (* (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) *) [الآية 13]
قال قوم هذه الآية والتي في آل عمران سواء وهذا عندي بعيد فإن القول في هذه الآية دخل في أثناء صلاة الخوف فاحتمل أن يكون قوله سبحانه (* (فإذا قضيتم الصلاة) *) أي فرغتم منها فافزعوا إلى ذكر الله وإن كنتم في هذه الحال كما قال فإذا فرغت فانصب
ويحتمل أن يريد فإذا قضيتم الصلاة إذا كنتم فيها قاضين لها فأتوها قياما وقعودا وعلى جنوبكم في أثناء الصلاة ومصافتكم للعدو وكركم وفركم والله أعلم
624

والدليل عليه قوله تعالى بعد ذلك وهي
المسألة العاشرة (* (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) *))
يعني بحدودها وأهبتها وكمال هيئتها في السفر وكمال عددها في الحضر ولذلك قال جماعة من السلف منهم إبراهيم ومجاهد يصلي راحلا وراكبا كما جاء في سورة البقرة وما قدر يومىء إيماء كما جاء في هذه السورة ويكون في كل حالة حكم له آية أخرى تدل عليه وحكم ينفرد به
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) *))
قال العلماء معناه مفروضا وزعم بعضهم أنه من الوقت وما أظنه لأنه استعمل في غير الزمان فإن في الحديث الصحيح وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة فدل أن معناه مفروضا حقيقة
ومن قال إنها منوطة بوقت فقد أخطأ وقد عولت عليه جماعة من المبتدعة في أن الصلاة مرتبطة بوقت إذا زال لم تفعل ونحن نقول إن الوقت محل للفعل لا شرط فيه وإن الصلاة واجبة على المكلف لا تسقط عنه إلا بفعلها مضى الوقت أو بقي ولا نقول إن القضاء بأمر ثان بحال
وقد ربطنا ذلك على وجهه في أصول الفقه
وقد قال غيرهم إن موقوتا محدودا بأقوال وأفعال وسنن وفرائض وكل ذلك سائغ لغة محتمل معنى
فإن قيل فقد قال ابن مسعود إن للصلاة وقتا كوقت الحج
قلنا قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وقت الصلاة وقت للذكر وكما دام ذكرها وجب فعلها وأداؤها
625

الآية التاسعة والأربعون
قوله تعالى (* (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) *) [الآية 15]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
هذه الآية نزلت في شأن بني أبيرق سرقوا طعام رفاعة بن زيد اعتذر عنهم قومهم بأنهم أهل خير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتادة بن النعمان ذلك فطالبهم عن عمه رفاعة بن زيد فقال رفاعة الله المستعان فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم الآية ونصر رفاعة وأخزى الله بني أبيرق بقوله (* (بما أراك الله) *) أي بما أعلمك وذلك بوحي أو بنظر ونهى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة وهي
المسألة الثانية
وفي ذلك دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز بدليل قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (* (واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما) *) [النساء 16] وهي المسألة الثالثة
الآية الموفية خمسين
قوله تعالى (* (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *) [الآية 114]
هذه الآية آية بكر لم يبلغني عن أحد فيها ذكر
والذي عندي فيها أن الله تعالى أمر عباده بأمرين عظيمين
626

أحدهما الإخلاص وهو أن يستوي ظاهر المرء وباطنه
والثاني النصيحة لكتاب الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم فالنجوى خلاف هذين الأصلين وبعد هذا فلم يكن بد للخلق من أمر يختصون به في أنفسهم ويخص به بعضهم بعضا فرخص في ذلك بصفة الأمر بالمعروف والحث على الصدقة والسعي في إصلاح ذات البين
إذا ثبت هذا الأصل ففيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (لا خير في كثير من نجواهم) *))
يحتمل أن يكون النجوى مصدرا كالبلوى والعدوي ويحتمل أن يكون اسما للمنتجين كما قال (* (وإذ هم نجوى) *) [الإسراء 47]
فإن كان بمعنى المنتجين فقوله (* (إلا من أمر بصدقة) *) استثناء شخص من شخص وإن كان مصدرا جاز الاستثناء على حذف تقديره إلا نجوى من أمر بصدقة
المسألة الثانية في صفة النجوى
ثبت عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد
واختلف في ذلك على أربعة أقوال
627

الأول ما جاء في الحديث الصحيح فإن ذلك يحزنه وهو ضرر والضرر لا يحل بإجماع وبالنص لا ضرر ولا ضرار
الثاني أن ذلك كان في صدر الإسلام حين كان الناس بين مؤمن وكافر ومنافق ومخلص حتى فشا الإسلام فسقط اعتبار ذلك
الثالث أن ذلك في السفر حيث يتوقع الرجل على نفسه من حيلة لا يمكنه دفعها
الرابع أنه من حسن الأخلاق وجميل الأدب وهو راجع إلى الأول
والصحيح بقاء النهي وتمادي الأمر وعمومه في الحضر والسفر والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث مخافة أن يحزنه وأيضا فإن ابن عمر كان يمشي مع عبد الله بن دينار فأراد رجل أن يكلمه فدعا رابعا وأوقفه مع عبد الله بن دينار ريثما تكلم الرجل
المسألة الثالثة
قال ابن القاسم عن مالك لا يتناجى ثلاثة دون يعني أربع وهذا صحيح لأن العلة إذا علمت بالنظر اطردت حيثما وجدت وتعلق الحكم بها أينما كانت
وقد بينا أن علة النهي تحزين الواحد وهو موجود في كل موضع وكلما كثر العدد كان التحزين أكثر فيكون المنع آكد
المسألة الرابعة
إذا ثبت أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم معلل بتحزين الواحد فإذا استأذنه فأذن له جاز ولم يحرم والله عز وجل أعلم
الآية الحادية والخمسون
قوله تعالى (* (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) *) [الآية 119]
فيها ثماني مسائل
628

المسألة الأولى
روى أبو الأحوص قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قشف الهيئة فصعد في النظر وصوبه فقال هل لك من مال قلت نعم قال من أي المال قلت من كل المال آتاني الله فأكثر وأطيب الخيل والإبل والرقيق والغنم قال فإذا آتاك الله مالا فلير عليك ثم قال هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها فتعمد إلى الموسى فتشق آذانها فتقول هذه بحر وتشق جلودها وتقول هذه صرم لتحرمها عليك وعلى أهلك قال قلت أجل قال فكل ما آتاك الله حل وموسى الله أحد وساعده أشد الحديث
المسألة الثانية
لما كان من إبليس ما كان من الامتناع من السجود والاعتراض على الآمر به بالتسفيه أنفذ الله فيه حكمه وأحق عليه لعنته فسأله النظرة فأعطاه إياها زيادة في لعنته فقال لربه (* (لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) *) وكان ما أراد وفعلت العرب ما وعد به الشيطان كما تقدم في الحديث وذلك تعذيب للحيوان وتحريم وتحليل بالطغيان وقول بغير حجة ولا برهان والآذان في الأنعام جمال ومنفعة فلذلك رأى الشيطان أن يغير بها خلق الله تعالى ويركب على ذلك التغيير الكفر به لا جرم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في الأضحية أن تستشرف العين والآذان في الأنعام معناه أن تلحظ الأذن لئلا تكون مقطوعة أو مشقوقة فتجتنب من جهة أن فيها أثر الشيطان
وفي الحديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي هذه وشبهها
629

مما وفى فيها للشيطان بشرطه حين قال (* (فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) *))
المسألة الثالثة
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسم الغنم في آذانها وكأن هذا مستثنى من تغيير خلق الله
المسألة الرابعة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقلد الهدي ويشعره أي يشق جلده ويقلده نعلين ويساق إلى مكة نسكا وهذا مستثنى من تغيير خلق الله
وقال أبو حنيفة هو بدعة كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة لهي [فيها] أشهر منه في العلماء
المسألة الخامسة
وسم الإبل والدواب بالنار في أعناقها وأفخاذها مستثنى من التغيير لخلق الله تعالى كاستثناء ما سلف
المسألة السادسة
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والواشرة والموتشرة والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله
فالواشمة هي التي تجرح البدن نقطا أو خطوطا فإذا جرى الدم حشته كحلا فيأتي خيلانا وصورا فيتزين بها النساء للرجال ورجال صقلية وإفريقية يفعلونه ليدل كل واحد منهم على رجلته في حداثته
630

والنامصة هي ناتفة الشعر تتحسن به
وأهل مصر ينتفون شعر العانة وهو منه فإن السنة حلق العانة ونتف الإبط فأما نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه ويبطل كثيرا من المنفعة فيه
والواشرة هي التي تحدد أسنانها
والمتفلجة هي التي تجعل بين الأسنان فرجا وهذا كله تبديل للخلقة وتغيير للهيئة وهو حرام وبنحو هذا قال الحسن في الآية
وقال إبراهيم ومجاهد وغيرهما التغيير لخلق الله يريد به دين الله وذلك وإن كان محتملا فلا نقول إنه المراد بالآية ولكنه مما غير الشيطان وحمل الآباء على تغييره وكل مولود يولد على الفطرة ثم يقع التغيير على يدي الأب والكافل والصاحب وذلك تقدير العزيز العليم
المسألة السابعة
قال جماعة من الصحابة منهم ابن عباس ومن التابعين جملة توخية الخصاء تغيير خلق الله فأما في الآدمي فمصيبة وأما في [الحيوان] والبهائم فاختلف الناس في ذلك فمنهم من قال هو مكروه لأجل قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون
وروى مالك كراهيته عن ابن عمر وقال فيه نماء الخلق ومنهم من قال إنه جائز وهم الأكثر
والمعنى فيه أنهم لا يقصدون به تعليق الحال بالدين لصنم يعبد ولا لرب يوحد
631

وإنما يقصد به تطييب اللحم فيما يؤكل وتقوية الذكر إذا انقطاع أمله عن الأنثى والآدمي عكسه إذا خصي بطل قلبه وقوته
المسألة الثامنة
روى علماؤنا أن طاوسا كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ويقول هو من قول الله (* (فليغيرن خلق الله) *) [النساء 119] وهو أن كان يحتمله عموم اللفظ ومطلقه فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلى الله عليه وسلم من نكاح مولاه زيد وكان أبيض بظئره بركة الحبشية أم أسامة فكان أسامة أسود من أبيض وهذا
مما خفي على طاوس من علمه
الآية الثانية والخمسون
قوله تعالى (* (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما) *) [الآية 127]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قد تقدم بيانها في أول السورة عند قولنا في آية (* (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) *) [النساء 3]
وقد روى أشهب عن مالك كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي وذلك في كتاب الله قال الله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ويسألونك عن اليتامى ويسألونك عن الخمر والميسر ويسألونك عن الجبال هذا في كتاب الله سبحانه وتعالى كثير
قال علماؤنا طلبنا ما قال مالك فوجدناه في ثلاثة عشر موضعا قوله يسألونك عن الشهر الحرام ويسألونك عن الخمر والميسر ويسألونك ماذا ينفقون ويسألونك
632

عن اليتامى ويستفتونك في النساء يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة يسألونك ماذا أحل لهم يسألونك عن الساعة يسألك الناس عن الساعة يسألونك عن الأنفال يسألونك عن ذي القرنين يسألونك عن الجبال يسألونك عن المحيض
المسألة الثانية قوله تعالى (* (والمستضعفين من الولدان) *))
الذين لا أب لهم أكد الله سبحانه أمرهم وأكد أمر اليتامى وهم الذين لا أبا لهم فيحتمل وهي
المسألة الثالثة
أن يكونوا هم أكد أمرهم بلفظ آخر أخص به من الضعف ويحتمل أن يريد بالمستضعفين من كان هو وأبوه ضعيفا واليتيم المنفرد بالضعف ويحتمل أن يريد بالمستضعفين من رماه أهله ودفعه أبوه عن نفسه لعجزه عن أمره
الآية الثالثة والخمسون
قوله تعالى (* (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) *) [الآية 128]
قالت عائشة هي المرأة تكون عند الرجل ليس بمستكثر منها أن يفارقها فيقول أجعلك من شأني في حل فنزلت الآية
قال القاضي رضوان الله عليه وعلى الصديقة الطاهرة لقد وفت ما حملها ربها من العهد في قوله (* (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) *) [الأحزاب 34] ولقد خرجت في ذلك عن العهد وهذا كان شأنها مع سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها فآثرت الكون مع زوجاته فقالت له أمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل صلى الله عليه وسلم وماتت وهي من أزواجه
وقد صرح ابن أبي مليكة بذلك فقال نزلت هذه الآية في عائشة وفي هذه الآية
633

رد على الرعن الذين يرون الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي له أن يتبدل بها فالحمد لله الذي رفع حرجا وجعل من هذه الضيقة مخرجا
الآية الرابعة والخمسون
قوله تعالى (* (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما) *) [الآية 129] فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال الأستاذ أبو بكر في هذه الآية دليل على جواز تكليف ما لا يطاق فإن الله سبحانه كلف الرجال العدل بين النساء وأخبر أنهم لا يستطيعونه وهذا وهم عظيم فإن الذي كلفهم من ذلك هو العدل في الظاهر الذي دل عليه بقوله (* (ذلك أدنى ألا تعولوا) *) [النساء 3]
وهذا أمر مستطاع والذي أخبر عنهم أنهم لا يستطيعونه لم يكلفهم قط إياه وهو النسبة في ميل النفس ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل بين نسائه في القسم ويجد نفسه أميل إلى عائشة في الحب فيقول اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تسألني في الذي تملك ولا أملك يعني قلبه والقاطع لذلك الحاسم لهذا الإشكال أن الله سبحانه قد أخبر بأنه رفع الحرج عنا في تكليف ما لا نستطيع فضلا وإن كان له أن يلزمنا إياه حقا وخلقا
المسألة الثانية
قال محمد بن سيرين سألت عبيدة عن هذه الآية فقال هو الحب والجماع
وصدق فإن ذلك لا يملكه أحد إذ قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفه
634

كيف يشاء وكذلك الجماع قد ينشط للواحدة ما لا ينشط للأخرى فإذا لم يكن ذلك بقصد منه فلا حرج عليه فيه فإنه مما لا يستطيعه فلم يتعلق به تكليف
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فلا تميلوا كل الميل) *))
قال العلماء أراد تعمد الإتيان وذلك فيما يملكه وجعل إليه من حسن العشرة والقسم والنفقة ونحوه من أحكام النكاح
الآية الخامسة والخمسون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) *) [الآية 135]
فيها ثلاث عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان ضلعه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير
المسألة الثانية القسط
العدل بكسر القاف وإسكان العين والقسط بفتحها الجور ويقال أقسط إذا عدل وقسط إذا جار ولعله مأخوذ من قسط البعير قسطا إذا يبست يده فلعل أقسط سلب قسط فقد يأتي بناء أفعل للسلب كقوله أعجم الكتاب إذا سلب عجمته بالضبط
وقيل نزلت في الشهادة بالحق وهي عامة لكل أحد في كل شيء
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (قوامين بالقسط) *))
يعني فعالين من قام واستعار القيام لامتثال الحق لأنه يفعل في مهمات الأمور
635

وهي غاية الفعل لنا ومن أسمائه سبحانه الحي القيوم والقائم على كل نفس بما كسبت فضربه ههنا مثلا لغاية القيام بالعدل
المسألة الرابعة (* (شهداء لله) *))
كونوا ممن يؤدي الشهادة لله ولوجهه فيبادر بها قبل أن يسألها ويقول الحق فيها وإن الله يشهد بالحق والملائكة وأولو العلم وعدول الأمة وكل من قام بالقسط فقد شهد لله سبحانه بالحق وكل من قام لله فقد شهد بالقسط ولهذا نزلت الآية الأخرى في المائدة بمقلوب هذا النظم وهو مثله في المعنى كما بيناه آنفا
المسألة الخامسة والسادسة قوله تعالى (* (ولو على أنفسكم) *))
أمر الله سبحانه العبد بأن يشهد على نفسه بالحق ويسمي الإقرار على نفسه شهادة كما تسمى الشهادة على الغير الإقرار
وفي حديث ماعز فلم يرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقر على نفسه أربع مرات ولا يبالي المرء أن يقول الحق على نفسه لله جل وعلا فالله يفتح له قال الله سبحانه (* (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) *) [الطلاق 3] إلا أنه في باب الحدود ندب إلى أن يستر على نفسه فيتوب حتى يحكم الله له بل إنه يجوز أن يقر على نفسه بالحد إذا رأى غيره قد ابتلي به وهو صاحبه فيشهد على نفسه ليخلصه ويبرئه
روى أبو داود والنسائي عن الحلاج أنه كان يعمل في السوق فرمت امرأة صبيا قال فثار الناس وثرت فيمن ثار فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول من أبو هذا معك فقال فتى حذاءها أنا أبوه يا رسول الله فأقبل عليها فقال من أبو هذا معك فسكتت فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها حديثة السن حديثة عهد بحزن وليست تكلمك أنا أبوه فنظر إلى بعض أصحابه كأنه يسألهم عنه فقالوا ما علمنا إلا
636

خيرا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أحصنت قال نعم فأمر به فرجم قال فخرجنا فحفرنا له حتى أمكناه ثم رميناه بالحجارة حتى هدأ محتضرا
المسألة السابعة قوله تعالى (* (أو الوالدين) *))
أمر الله سبحانه بالشهادة بالحق على الوالدين الأب والأم وذلك دليل على أن شهادة الابن على الأبوين لا يمنع ذلك برهما بل من برهما أن يشهد عليهما بالحق ويخلصهما من الباطل وهو من قوله تعالى (* (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) *) [التحريم 6] في بعض معانيه
وقد اتفقت الأمة على قبول شهادة الابن على الأبوين فإن شهد لهما أو شهدا له وهي
المسألة الثامنة
فقد اختلف العلماء فيها قديما وحديثا فقال ابن شهاب كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالد والأخ لأخيه ويتأولون في ذلك قول الله سبحانه (* (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) *) فلم يكن أحد يتهم في ذلك من السلف الصالح ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وأحمد بن حنبل أنه لا تجوز شهادة الوالد للولد وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا
وروي عن عمر أنه أجازه وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز وبه قال إسحاق وأبو ثور والمزني
ومذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلا إلا في النسب
637

وروى ابن وهب عن مالك أنه لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه ولا تجوز عند مالك شهادة الزوج والمرأة أحدهما للآخر وأجازه الشافعي
ولا تجوز شهادة الصديق الملاطف عنده ولا إذا كان في عياله
والمختار عندي أن أصل الشريعة لا تجوز شهادة الوالد للولد ولا الولد للوالد لما بينهما من البعضية قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها وشهادة الإنسان لنفسه لا تجوز إلا أن من تقدم قال إنه كان يسامح فيه وما روى قط أحد أنه نفذ قضاء بشهادة ولد لوالده ولا والد لولده وإنما معنى المسامحة فيه أنهم كانوا لا يصرحون بردها ولا يحذرون منها لصلاح الناس فلما فسدوا وقع التحذير ونبه العلماء على الأصل فظن من تغافل أو غفل أن الماضين جوزوها وما كان ذلك قط وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه وقد جعله الله جزءا منه في الإسلام وتبعا له في الإيمان فهو مسلم بإسلام أبيه بإجماع ومسلم بإسلام أمه باختلاف وماله لأبيه حيا وميتا وهكذا في أصول الشريعة ولا بيان فوق هذا
والأخ وإن كان بينهما بعضية فإنها بعيدة حقيقة وعادة فجوزها العلماء في جانب الأخ بشرط العدالة المبررة ما لم تجر نفعا
وخالف الشافعي فقال يجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض لأنهما أجنبيان وإنما بينهما عقد الزوجية وهو سبب معرض للزوال
وهذا ضعيف فإن الزوجية توجب الحنان والتعطف والمواصلة والألفة والمحبة وله حق في مالها عندنا ولذلك لا تتصرف في الهبة إلا في ثلثها
وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ولها في ماله حق الكسوة والنفقة وهذه شبهة توجب رد الشهادة
638

المسألة التاسعة
ألحق مالك الصديق الملاطف بالقرابة القريبة فهي في العادة أقوى منها وهي في المودة فكانت مثلها في رد الشهادة
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) *))
المعنى لا تميلوا بالهوى مع الفقير لضعفه ولا على الغني لاستغنائه وكونوا مع الحق فالله الذي أغنى هذا وأفقر هذا أولى بالفقير أن يغنيه بفضله بالحق لا بالهوى والباطل والله أولى بالغني أن يأخذ ما في يده بالعدل والحق لا بالتحامل عليه فإنما جعل الله سبحانه الحق والعدل عيارا لما يظهر من الخبث وميزانا لما يتبين من الميل عليه تجري الأحكام الدنياوية وهو سبحانة يجري المقادير بحكمته ويقضي بينهم يوم القيامة بحكمه
المسألة الحادية عشرة
قال جماعة قوله تعالى (* (ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) *) فسوى بين الأقربين والأبوين في الأمر بالحق والوصية بالعدل وإن تفاضلوا في الدرجة كما سوى بين الخلق أجمعين وإن تفاضلوا أيضا في الدرجة وكأنه سبحانه يقول لا تلتفتوا في الرحم قربت أو بعدت في الحق كونوا معه عليها ولولا خوف العدل عنه لها لما خصوا بالوصية بها وذلك قوله سبحانه وهي
المسألة الثانية عشرة (* (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا) *))
معناه لا تتبعوا أهواءكم في طلب العدل برحمة الفقير والتحامل على الغني بل ابتغوا الحق فيهما وهذا بيان شاف
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (وإن تلووا أو تعرضوا) *))
المعنى إن مطلتم حقا فلم تنفذوه إلا بعد بطء أو عرضتم عنه جملة فالله خبير بعملكم يقال لويت الأمر ألويه ليا وليانا إذا مطلته قال غيلان
639

(تطيلين لياني وأنت ملية
* وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا)
وقرأ حمزة والأعمش وإن تلوا والأول أفصح وأكثر وقد رد إلى الأول بوجه عربي وذلك أن تبدل من الواو الآخرة همزة فتكون تلوؤا ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الواو والعرب تفعل ذلك
وقيل إن معناه تلوا من الولاية أي استقللتم بالأمر أو ضعفتم عنه فالله خبير بذلك
الآية السادسة والخمسون
قوله تعالى (* (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) *) [الآية 141]
هذا خبر والخبر من الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره ونحن نرى الكافرين يتسلطون على المؤمنين في بلادهم وأبدانهم وأموالهم وأهليهم فقال العلماء في ذلك قولين
أحدهما لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجة فلله الحجة البالغة
الثاني لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجة يوم القيامة
قال القاضي أما حمله على نفي وجود الحجة من الكافر على المؤمن فذلك ضعيف لأن وجود الحجة للكافر محال فلا يتصرف فيه الجعل بنفي ولا إثبات
وأما نفي وجود الحجة يوم القيامة فضعيف لعدم فائدة الخبر فيه وإن أوهم صدر الكلام معناه لقوله (* (فالله يحكم بينهم يوم القيامة) *) فأخر الحكم إلى يوم القيامة وجعل الأمر في الدنيا دولة تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة ثم قال (* (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) *) فتوهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله وذلك يسقط فائدته وإنما معناه ثلاثة أوجه
الأول لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يمحو به دولة المؤمنين ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم كما جاء في الحديث ودعوت ربي ألا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يستبيح بيضتهم فأعطانيها
640

الثاني أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن تتواصوا بالباطل ولا تتناهوا عن المنكر وتتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو من قبلكم وهذا نفيس جدا
الثالث أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا بالشرع فإن وجد ذلك فبخلاف الشرع ونزع بهذا علماؤنا في الاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم وبه قال أشهب والشافعي لأن الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه والملك بالشراء سبيل فلا يشرع ولا ينعقد بذلك
وقال ابن القاسم عن مالك وهو قول أبي حنيفة إن معنى (* (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) *) في دوام الملك لأنا نجد ابتداءه يكون له عليه وذلك بالإرث وصورته أن يسلم عبد كافر في يدي كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه فقبل الحكم ببيعه مات فيرث العبد المسلم وارث الكافر فهذه سبيل قد ثبتت ابتداء ويحكم عليه ببيعه
ورأى مالك في رواية أشهب والشافعي أن الحكم بملك الميراث ثابت قهرا لا قصد فيه
فإن قيل ملك الشراء ثبت بقصد اليد فقد أراد الكافر تملكه باختياره
قلنا فإن الحكم بعقد بيعه وثبوت ملكه فقد تحقق فيه قصده وجعل له سبيل اليد وهي مسألة طيولية عظيمة وقد حققناها في مسائل الخلاف وحكمنا بالحق فيها في كتاب الإنصاف لتكملة الإشراف فلينظر هنالك
الآية السابعة والخمسون
قوله تعالى (* (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) *) [الآية 142]
فيها من الأحكام ثلاث مسائل
641

المسألة الأولى قوله تعالى (* (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) *))
يعني متكاسلين متثاقلين لا ينشطون لفعلها ولا يفرحون لها وقد قال صلى الله عليه وسلم في الآثار أرحنا بها يا بلال فكان يرى راحته فيها
وفيها آثار آخر وجعلت قرة عيني في الصلاة وفي الحديث أثقل صلاة على المنافقين العتمة والصبح فإن العتمة تأتي وقد أنصبهم عمل النهار فيثقل عليهم القيام إليها وتأتي صلاة الصبح والنوم أحب إليهم من مفروح به وهم لا يعرفون قدر الصلاة دنيا ولا فائدتها أخرى فيقومون إليها بغير نية إلا خوفا من السيف ومن قام إليها مع هذه الحالة بنية إتعاب النفس وإيثارها عليها طالبا لما عند الله سبحانه فله أجران والذي يرى راحته فيها مع الملائكة المقربين
المسألة الثانية قوله تعالى (* (يراؤون الناس) *))
يعني أنهم يفعلونها ليراها الناس وهم يشهدونها لغوا فهذا هو الرياء الشرك فأما إن صلاها ليراها الناس يعني ويرونه فيها فيشهدون له بالإيمان فليس ذلك الرياء المنهي عنه وكذلك لو أراد بها طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة وجواز الإمامة لم يكن عليه حرج وإنما الرياء المعصية أن يظهرها صيدا للدنيا وطريقا إلى الأكل بها فهذه نية لا تجزئ وعليه الإعادة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ولا يذكرون الله إلا قليلا) *))
وروى الأئمة مالك وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تلك صلاة
642

المنافقين تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان أو على قرني الشيطان قام ينقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا فذمها صلى الله عليه وسلم بقلة ذكر الله سبحانه فيها لأنه يراها أثقل عليه من الجبل فيطلب الخلاص منها بظاهر من القول والعمل وأقل ما يجزئ فيها من الذكر فرضا الفاتحة وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله عز وجل وأقل ما يجزئ من العمل في الصلاة إقامة الصلب في الركوع والسجود والطمأنينة فيهما والاستواء عند الفصل بينهما
ففي الحديث الصحيح لا تجزئ صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود وعلم الأعرابي على ما روي في الصحيح فقال له فاركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تطمئن رافعا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها
وذهب ابن القاسم وأبو حنيفة إلى أن الطمأنينة ليست بفرض وهي رواية عراقية لا ينبغي لأحد من المالكيين أن يشتغل بها فليس للعبد شيء يعول عليه سواها فلا ينبغي أن ينقرها نقر الغراب ولا يذكر الله بها ذكر المنافقين وقد بين صلاة المنافقين في هذه الآية وبين صلاة المؤمنين فقال (* (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) *
643

) [المؤمنون 12] ومن خشع خضع واستمر ولم ينقر ولا استعجل إلا أن يكون له عذر فيقتصر على الفرض الذي قد بيناه
وقد ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك أنه ذكر صلاة عمر بن عبد العزيز فقال هذا أشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم موجزة في تمام
الآية الثامنة والخمسون
قوله تعالى (* (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما) *) [الآية 148]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
اختلف الناس في تأويلها فقال ابن عباس إنما نزلت في الرجل يظلم الرجل فيجوز للمظلوم أن يذكره بما ظلمه فيه لا يزيد عليه
وقال مجاهد وآخرون إنما نزلت في الضيافة إذا نزل رجل على رجل ضيفا فلم يقم به جاز له إذا خرج عنه أن يذكر ذلك
وقال رجل لطاوس إني رأيت من قوم شيئا في سفر أفأذكره قال لا
قال القاضي قول ابن عباس هو الصحيح وقد وردت في ذلك أخبار صحيحة قال النبي صلى الله عليه وسلم مطل الغني ظلم وقال لي الواجد يحل عرضه
644

وعقوبته وقال العباس لعمر بحضرة أهل الشورى عن علي بن أبي طالب اقض بيني وبين هذا الظالم فلم يرد عليه أحد منهم لأنها كانت حكومة كل واحد منهما يعتقدها لنفسه حتى أنفذ فيها عليهم عمر للواجب
المسألة الثانية
قال علماؤنا وهذا إنما يكون إذا استوت المنازل أو تقاربت فأما إذا تفاوتت فلا تمكن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب وهذا صحيح وعليه تدل الآثار
وقد قال العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم لي الواجد يحل عرضه بأن يقول مطلني وعقوبته بأن يحبس له حتى ينصفه
المسألة الثالثة
قال ابن عباس رخص له أن يدعو على من ظلمه وإن صبر وغفر كان أفضل له وصفة دعائه على الظالم أن يقول اللهم أعني عليه اللهم استخرج حقي منه اللهم حل بيني وبينه قاله الحسن البصري
قال القاضي أبو بكر وهذا صحيح وقد روى الأئمة عن عائشة أنها سمعت من يدعو على سارق سرقه فقالت لا تستحيي عنه أي لا تخفف عنه بدعائك وهذا إذا كان مؤمنا فأما إذا كان كافرا فأرسل لسانك وادع بالهلكة وبكل دعاء كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في التصريح على الكفار بالدعاء وتعيينهم وتسميتهم ولذلك قال علماؤنا وهي
645

المسألة الرابعة
إذا كان الرجل مجاهرا بالظلم دعا عليه جهرا ولم يكن له عرض محترم ولا بدن محترم ولا مال محترم وقد فصلنا ذلك في أحكام العباد في المعاد
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (إلا من ظلم) *))
قرئ بفتح الظاء وقرئ بضمها وقال أهل العربية كلا القراءتين هو استثناء ليس من الأول وإنما هو بمعنى لكن من ظلم ويجوز أن يكون موضع من رفعا على البدل من أحد التقدير لا يحب الجهر بالسوء لأحد إلا من ظلم
والذي قرأها بالفتح هو زيد بن أسلم وكان من العلماء بالقرآن وقد أغفل المتكلمون على الآية تقديرها وإعرابها وقد بيناه في ملجئة المتفقهين واختصاره أن الآية لا بد فيها من حذف مقدر تقديره في فاتحة الآية ليأتي الاستثناء مركبا على معنى مقدر خير من تقديره هذا الاستثناء فنقول معنى الآية لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لأحد إلا من ظلم بضم الظاء أو نقول مقدرا للقراءة الأخرى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لأحد إلا من ظلم فهذا خير لك من أن تقول تقديره لكن من ظلم بضم الظاء فإنه كذا أو من ظلم فإنه كذا التقدير أبعد منه وأضعف كما قدر العلماء المحققون في قوله تعالى (* (إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم) *) [النمل 111]
قيل الاستثناء تقديرا انتظم به الكلام واتسق به المعنى قالوا تقدير الآية إني لا يخاف لدي المرسلون لكن يخاف الظالمون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم
الآية التاسعة والخمسون
قوله تعالى (* (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما) *) [الآية 161]
646

المسألة الأولى
قد قدمنا القول في مخاطبة الكفار بفروع الشريعة في مسائل الأصول وأشرنا إليه فيما سلف من هذا الكتاب ولا خلاف في مذهب مالك في أنهم يخاطبون
وقد بين الله تعالى في هذه الآية أنهم نهوا عن الربا وأكل المال بالباطل فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فيها ونعمت وإن كان ذلك خبرا عما أنزل الله عز وجل على موسى في التوراة وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معامتلهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد
والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحامهم ما حرم الله سبحانه عليهم فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة قال الله تعالى (* (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) *) [المائدة 5]
وهذا نص في مخاطبتهم بفروع الشريعة وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه سئل عمن أخذ ثمن الخمر في الجزية والتجارة فقال ولوهم بيعها وخذوا منهم عشر أثمانها والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأئمة
على جواز التجارة مع أهل الحرب وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجرا وهي
المسألة الثانية
وذلك من سفره صلى الله عليه وسلم أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم
فإن قيل كان ذلك قبل النبوة
قلنا إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام ثبت ذلك تواترا ولا اعتذر عنه إذ بعث ولا منع منه إذ نبئ ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته ولا أحد من المسلمين بعد وفاته فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى وذلك واجب وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره وقد يجب وقد يكون ندبا فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فذلك مباح
647

المسألة الثالثة
فإن قيل فإذا قلتم إنهم مخاطبون بفروع الشريعة كيف يجوز مبايعتهم بمحرم عليهم وذلك لا يجوز للمسلم
قلنا سامح الشرع في معاملتهم وفي طعامهم رفقا بنا وشدد عليهم في المخاطبة تغليظا عليهم فإنه ما جعل علينا في الدين من حرج إلا ونفاه ولا كانت في العقوبة شدة إلا وأثبتها عليهم
المسألة الرابعة
مع أن الله شرع لهم الشرع وبين لهم الأحكام فقد بدلوا وابتدعوا رهبانية التزموها فأجرى الشرع الأحكام على ما هم عليه في بيع وطعام حتى في اعتقادهم في أولادهم وبناتهم سواء تصرفوا في ذلك بشرعتهم أو بعصبيتهم حتى قال مالك وهي
المسألة الخامسة
يجوز أن يؤخذ منهم في الصلح أنباؤهم ونساؤهم إذا كان الصلح للعامين ونحوهما لأنهما مهادنة ولو كان دائما أو لمدة كثيرة لم يجز لأنه يكون لهم من الصلح مثل ما لآبائهم
وقال ابن حبيب لا يجوز ذلك فراعى مالك اعتقادهم في الأولاد والنساء كما راعى اعتقادهم في الطعام فإن كان ذلك شرطا مع بطارقتهم يعني باتفاق منهم جاز
المسألة السادسة
فإن عامل مسلم كافرا بربا فلا يخلو أن يكون في دار الحرب أو في دار الإسلام فإن كان في دار الإسلام لم يجز وإن كان في دار الحرب جاز عند أبي حنيفة وعبد الملك من أصحابنا
وقال مالك والشافعي لا يجوز وتعلق أبو حنيفة بأن ماله حلال فبأي وجه أخذ جاز
648

قلنا أن ما يجوز أخذه بوجه جائز في الشرع من غلة وسرقة في سرية فأما إذا أعطى من نفسه الأمان ودخل دارهم فقد تعين عليهم أن يفي بألا يخون عهدهم ولا يتعرض لما لهم ولا شيء من أمرهم فإن جوز القوم الربا فالشرع لا يجوزه فإن قال أحد إنهم لا يخاطبون بفروع الشريعة فالمسلم مخاطب بها
المسألة السابعة
توهم قوم أن ابن الماجشون لما قال إن من زنا في دار الحرب بحربية لم يحد أن ذلك حلال وهو جهل بأصول الشريعة ومأخذ الأدلة قال الله تعالى (* (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) *) [المؤمنون 56] فلا يباح الوطء إلا بهذين الوجهين ولكن أبا حنيفة يرى أن دار الحرب لا حد فيها نازع بذلك ابن الماجشون معه فأما التحريم فهو متفق عليه فلا تستنزلنكم الغفلة في تلك المسألة
الآية الموفية ستين
قوله تعالى (* (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) *) [الآية 171]
فيها مسألتان
المسألة الأولى في تسمية عيسى بالمسيح
قد ذكرنا في الحديث نحوا من خمسة وعشرين وجها في معناه وأمهاتها أنه اسم علم له أو هو فعيل بمعنى مفعول ولد دهينا لأنه مسح بالدهن أو بالبركة أو مسحه حين ولد يحيى أو فعيل بمعنى فاعل عليه مسحة جمال كما يقال فلان جميل أو يمسح الزمن فيبرأ أو يمسح الطائر فيحيا أو يمسح الأرض بالمشي وإليه ذهب مالك
649

قال ابن وهب أخبرني مالك بن أنس بلغني أن عيسى عليه السلام انتهى إلى قرية قد خرجت حصونها وعفت آثارها وتشعث شجرها فنادى يا خرب أين أهلك فنودي عيسى بن مريم عليه السلام بادوا والتقمتهم الأرض وعادت أعمالهم قلائد في رقابهم إلى يوم القيامة عيسى بن مريم مجد
قال الرواي يريد مالك أنه كان يمسح الأرض
وقيل إنه معرب من مشيح كتعريب موسى عن موشي وهو بتخفيف الشين وكسرها وكذلك الدجال وقد دخل فيه جهلة يتوسمون بالعلم فجعلوا الدجال مشدد السين بالخاء المعجمة وكلاهما في الاسم سواء إن الأول قالوا هو المسيح الذي هو مسيح الهدى الصالح السليم والآخر المسيح الكذاب الأعور الدجال الكافر فاعلموه ترشدوا
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) *))
اختلف العلماء فيه على ستة أقوال
الأولى أنها نفخة نفخها جبريل في جيب درعها وسميت النفخة روحا لأنها تكون عن الريح
الثاني أن الروح الحياة وقد بينا ذلك في المقسط والمشكلين
الثالث أن معنى روح رحمة
الرابع أن روح صورة لما خلق الله آدم أخرج من صلبه ذريته وصورهم ثم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ثم أنشأهم كرة أطوارا أو جعل لهم الدنيا قرارا فعيسى من تلك الأرواح أدخله في مريم واختار هذا أبي بن كعب
وقيل في الخامس
روح صورة صورها الله تعالى ابتداء وجهها في مريم
وقيل في السادس
سر روح منه يعني جبريل وهو معنى الكلام ألقاها إليه روح منه أي إلقاء الكلمة كان من الله ثم من جبريل
650

قال الطبري وهذه الأحكام كلها محتملة غير بعيدة من الصواب
قال القاضي وفقه الله وبعضها أقوى من بعض وقد بيناها في المشكلين لكن يتعلق بها الآن من الأحكام مسألة وهي إذا قال لزوجه روحك طالق فاختلف علماؤنا فيه على قولين وكذا لو قال لها حياتك طالق فيها قولان وكذلك مثله كلامك طالق
واختلف أصحاب الشافعي كاختلافنا واستمر أبو حنيفة على أن الطلاق لا يلزمه في شيء من ذلك فأما إذا قال لها كلامك طالق فلا إشكال فيه فإن الكلام حرام سماعه فهو من محللات النكاح فيلحقه الطلاق
وأما الروح والحياة فليس للنكاح فيهما متعلق فوجه وقوع الطلاق بتعليقه عليهما خفي وهو أن بدنها الذي فيه المتاع لا قوام له إلا بالروح والحياة وهو باطن فيها فكأنه قال لها باطنك طالق فيسري الطلاق إلى ظاهرها فإنه إذا تعلق الطلاق بشيء منها سرى إلى الباقي
وقال أبو حنيفة لا يسري وهي مسألة خلاف كبيرة تكلمنا عليها في قوله يدك طالق
وتحقق القول فيه أنه إذا طلق منها شيئا وحرمه على نفسه فلا يخلوا أن يقف حيث قال ولا يتعدى أو يسري كما قلنا أو يلغو ومحال أن يلغو لأنه كلام صحيح أضافه إلى محل بحكم صحيح جائز فنفذ كما لو قال رأسك طالق أو ظهرك ومحال أن يقف حيث قال لأنه يؤدي إلى تحريم بعضها وتحليل بعضها وذلك محال شرعا وهذا بالغ والله أعلم
الآية الحادية والستون
قوله تعالى (* (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) *) [الآية 172]
هذا رد على النصارى الذين يقولون إن عيسى ولد الله ورد على من يقول إن الملائكة بنات الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
651

يقول الله سبحانه وتعالى لهم إن من نسبتموه إلى ولادة الله تعالى من آدمي وملك ليس بممتنع أن يكون عبدا لله فكيف تجعلونه ولدا ولو كان اجتماع العبودية والولادة جائزا ما كان لله سبحانه وتعالى في ذلك حجة وذلك قوله سبحانه وتعالى (* (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) *) [مريم 9293]
فإن قيل ما معنى (* (يستنكف) *) في اللغة
قلنا هو يستفعل من نكفت كذا إذا نحيته وهو مشهور المعنى
التقدير لن يتنحى من ذلك ولا يبعد عنه ولا يمتنع منه
الآية الثانية والستون
قوله تعالى (* (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم) *) [الآية 176]
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى في وقت نزولها
ثبت في الصحيح أن البراء بن عازب قال آخر سورة نزلت سورة براءة وآخر آية نزلت آية الكلالة
المسألة الثانية في سبب نزولها
روي عن جابر بن عبد الله قال مرضت وعندي تسع أخوات لي فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنضح في وجهي من الماء فأفقت فقلت يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين قال أحسن قلت بالشطر قال أحسن ثم خرج وتركني
652

ثم رجع فقال لا أراك ميتا من وجعك هذا فإن الله أنزل الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين
وكان جابر يقول نزلت في هذه الآية (* (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) *) خرجه النسائي وأبو داود والترمذي
المسألة الثالثة
قال قتادة وذكر لنا أن أبا بكر قال ألا إن الآية التي نزلت في أول سورة النساء من شأن الفرائض نزلت في الولد والوالد والآية الثانية أنزلها الله سبحانه في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء في الإخوة والأخوات من الأب والأم والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها الله سبحانه في ذوي الأرحام وما جرت الرحم من العصبة
المسألة الرابعة
قال ابن سيرين نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم في مسير له وإلى جنبه حذيفة فبلغها حذيفة وبلغها حذيفة عمر وهو يسير خلفه فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ورجا أن يكون عنده تفسيرها فقال له حذيفة والله إنك لعاجز هكذا قال الطبري في روايته
وقال نعيم بن حماد فيها والله إنك لأحمق إن ظننت أن إمارتك تحملني على أن أحدثك بما لم أحدثك يومئذ فقال عمر لم أرد هذا رحمك الله والله لا أزيدك عليها شيئا أبدا فكان عمر يقول اللهم من كنت بينتها له فإنها لم تتبين لي
وقد روي أن عمر نازع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فضرب في صدره وقال يكفيك آية الصيف التي نزلت في آخر سورة النساء وإن أعش فسأقضي فيها بقضاء يعلمه من يقرأ القرآن ومن لا يقرأه وهو من لا ولد له
653

المسألة الخامسة
قال علماؤنا معنى الآية إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى فكان موروثا كلالة فلأخته النصف فريضة مسماة فأما إن كان للميت ولد أنثى فهي مع الأنثى عصبة يصير لها ما كان يصير للعصبة لو لم يكن ذلك غير محدود بحد ولم يقل الله إن كان له ولد فلا شيء لأخته معه فيكون لما قال ابن عباس وابن الزبير وجه إذ قال ابن عباس إن الميت إذا ترك بنتا فلاشيء للأخت إلا أن يكون معها أخ ذكر وإنما بين الله سبحانه حقها إذا ورثت الميت كلالة وترك بيان ما لها من حق إذا لم يورث كلالة فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي ربه فجعلها عصبة مع إناث ولد الميت وذلك لا يغير وراثتها في الميت إذا كان موروثا عن كلالة
المسألة السادسة قوله تعالى (* (يبين الله لكم أن تضلوا) *))
معناه كراهية أن تضلوا وفيه اختلاف قد بيناه في ملجئة المتفقهين فلينظره هنالك من أراده
المسألة السابعة
فإن قيل وأي ضلال أكبر من هذا ولم يعلمها عمر ولا اتفق فيها الصحابة وما زال الخلاف إلى اليوم الموعود
قلناليس هذا ضلالا وهذا هو البيان الموعود به لأن الله سبحانه لم يجعل طرق الأحكام نصا يدركه الجفلى وإنما جعله مظنونا يختص به العلماء ليرفع الله تعالى الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ويتصرف المجتهدون في مسالك النظر فيدرك بعضهم الصواب فيؤجر عشرة أجور ويقصر آخر فيدرك أجرا واحدا وتنفذ الأحكام الدنياوية على ما أراد الله سبحانه وهذا بين للعلماء والله أعلم
654