الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٨
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

قوله تعالى
قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير * تولج اليل فى النهار وتولج النهار فى اليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشآء بغير حساب) *.
إعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة، وصحة دين الإسلام، ثم قال لرسوله * (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن) * ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم بالله، وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق، وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * (آل عمران: 23) ثم ذكر شدة غرورهم بقوله * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) * (آل عمران: 24) ثم ذكر وعيدهم بقوله * (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) * (آل عمران: 25) أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه، لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين، فقال معلما نبيه كيف يمجد ويعظم ويدعو ويطلب * (قل اللهم مالك الملك) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلف النحويون في قوله * (اللهم) * فقال الخليل وسيبويه * (اللهم) * معناه: يا الله، والميم المشددة عوض من: يا، وقال الفراء: كان أصلها، يا الله أم بخير: فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء، وحذفوا الهمزة من: أم، فصار * (اللهم) * ونظيره قول العرب: هلم،
2

والأصل: هل، فضم: أم إليها، حجة الأولين على فساد قول الفراء وجوه الأول: لو كان الأمر على ما قاله الفراء لما صح أن يقال: اللهم افعل كذا إلا بحرف العطف، لأن التقدير: يا الله أمنا واغفر لنا، ولم نجد أحدا يذكر هذا الحرف العاطف والثاني: وهو حجة الزجاج أنه لو كان الأمر كما قال، لجاز أن يتكلم به على أصله، فيقال * (الله أم) * كما يقال * (ويلم) * ثم يتكلم به على الأصل فيقال * (ويل أمه) * الثالث: لو كان الأمر على ما قاله الفراء لكان حرف النداء محذوفا، فكان يجوز أن يقال: يا اللهم، فلما لم يكن هذا جائزا علمنا فساد قول الفراء بل نقول: كان يجب أن يكون حرف النداء لازما، كما يقال: يا الله اغفر لي، وأجاب الفراء عن هذه الوجوه، فقال: أما الأول فضعيف، لأن قوله * (يا الله أم) * معناه: يا الله اقصد، فلو قال: واغفر لكان المعطوف مغايرا للمعطوف عليه فحينئذ يصير السؤال سؤالين أحدهما: قوله * (أمنا) * والثاني: قوله * (واغفر لنا) * أما إذا حذفنا العطف صار قوله: اغفر لنا تفسيرا لقوله: أمنا. فكان المطلوب في الحالين شيئا واحدا فكان ذلك آكد، ونظائره كثيرة في القرآن، وأما الثاني فضعيف أيضا، لأن أصله عندنا أن يقال: يا الله أمنا. ومن الذي ينكر جواز التكلم بذلك، وأيضا فلأن كثيرا من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل، ألا ترى أن مذهب الخليل وسيبويه أن قوله: ما أكرمه، معناه أي شيء أكرمه ثم إنه قط لا يستعمل هذا الكلام الذي زعموا أنه الأصل في معرض التعجب فكذا ههنا، وأما الثالث: فمن الذي سلم لكم أنه لا يجوز أن يقال: يا اللهم وأنشد الفراء:
وأما عليك أن تقولي كلما * سبحت أو صليت يا اللهما
وقول البصريين: إن هذا الشعر غير معروف، فحاصله تكذيب النقل، ولو فتحنا هذا الباب لم يبق شيء من اللغة والنحو سليما عن الطعن، وأما قوله: كان يلزم أن يكون ذكر حرف النداء لازما فجوابه أنه قد يحذف حرف النداء كقوله * (يوسف أيها الصديق أفتنا) * (يوسف: 46) فلا يبعد أن يختص هذا الاسم بإلزام هذا الحذف، ثم احتج الفراء على فساد قول البصريين من وجوه الأول: أنا لو جعلنا الميم قائما مقام حرف النداء لكنا قد أخرنا النداء عن ذكر المنادى، وهذا غير جائز البتة، فإنه لا يقال البتة (الله يا) وعلى قولكم يكون الأمر كذلك الثاني: لو كان هذا الحرف قائما مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء، حتى يقال: زيدم وبكرم، كما يجوز أن يقال: يا زيد ويا بكر والثالث: لو كان الميم بدلا عن حرف النداء لما اجتمعا، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه الرابع: لم نجد العرب يزيدون هذه الميم في الأسماء التامة لإفادة معنى بعض الحروف المباينة للكلمة الداخلة عليها، فكان المصير إليه في هذه اللفظة الواحدة حكما على خلاف
3

الاستقراء العام في اللغة وأنه غير جائز، فهذا جملة الكلام في هذا الموضع.
المسألة الثانية: * (مالك الملك) * في نصبه وجهان الأول: وهو قول سيبويه أنه منصوب على النداء، وكذلك قوله * (قل اللهم فاطر السماوات والأرض) * (الزمر: 46) ولا يجوز أن يكون نعتا لقوله * (اللهم) * لأن قولنا * (اللهم) * مجموع الاسم والحرف، وهذا المجموع لا يمكن وصفه والثاني: وهو قول المبرد والزجاج أن * (مالك) * وصف للمنادى المفرد، لأن هذا الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه * (يا) * ولا يمتنع الصفة مع الميم، كما لا يمتنع مع الياء.
المسألة الثالثة: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، وهم أعز وأمنع من ذلك، وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا، وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخبره، فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضرب صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر وكبر المسلمون، وقال عليه الصلاة والسلام: " أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب " ثم ضرب الثانية، فقال: " أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم " ثم ضرب الثالثة فقال: " أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا " فقال المنافقون: ألا تعجبون من نبيكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية والله أعلم، وقال الحسن إن الله تعالى أمر نبيه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء، وهكذا منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أمروا بدعاء استجيب دعاءهم.
المسألة الرابعة: * (الملك) * هو القدرة، والمالك هو القادر، فقوله * (مالك الملك) * معناه القادر على القدرة، والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه
ليست إلا بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره، ويملك كل مالك مملوكه، قال صاحب " الكشاف " * (مالك الملك) * أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون، واعلم أنه تعالى لما بين كونه * (مالك الملك) * على الإطلاق، فصل بعد ذلك وذكر أنواعا خمسة:
النوع الأول: قوله تعالى: * (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) * وذكروا فيه
4

وجوها الأول: المراد منه: ملك النبوة والرسالة، كما قال تعالى: * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) * (النساء: 54) والنبوة أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر، فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم، وأن يعتقد أنه هو الحق، وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل، ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشرا رسولا فحكى الله عنهم قولهم * (أبعث الله بشرا رسولا) * (الإسراء: 94) وقال الله تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * (الأنعام: 9) وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولا من البشر، إلا أنهم كانوا يقولون: إن محمدا فقير يتيم، فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) وأما اليهود فكانوا يقولون النبوة كانت في آبائنا وأسلافنا، وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوة والكتاب فكيف يليق النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوة، على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * (النساء: 37).
وأيضا فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) * (آل عمران: 12) أن اليهود تكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم، ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بين أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء، فقال * (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) *.
فإن قيل: فإذا حملتم قوله * (تؤتي الملك من تشاء) * على إيتاء ملك النبوة، وجب أن تحملوا قوله * (وتنزع الملك ممن تشاء) * على أنه قد يعزل عن النبوة من جعله نبيا، ومعلوم أن ذلك لا يجوز.
قلنا: الجواب من وجهين الأول: أن الله تعالى إذا جعل النبوة في نسل رجل، فإذا أخرجها الله من نسله، وشرف بها إنسانا آخر من غير ذلك النسل، صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم، واليهود كانوا معتقدين أن النبوة لا بد وأن تكون في بني إسرائيل، فلما شرف الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بها، صح أن يقال: إنه ينزع ملك النبوة من بني إسرائيل إلى العرب.
والجواب الثاني: أن يكون المراد من قوله * (وتنزع الملك ممن تشاء) * أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه، ونظيره قوله تعالى: * (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) * (البقرة: 257) مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط، وقال الله تعالى مخبرا عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام * (أو لتعودن في ملتنا) * (الأعراف: 88) وأولئك الأنبياء
5

قالوا * (وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله) * (الأعراف: 89) مع أنهم ما كانوا فيها قط، فهذا جملة الكلام في تقرير قول من فسر قوله تعالى: * (تؤتي الملك من تشاء) * بملك النبوة.
القول الثاني: أن يكون المراد من الملك، ما يسمى ملكا في العرف، وهو عبارة عن مجموع أشياء أحدها: تكثير المال والجاه، أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع، والحرث، والنسل، وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيبا عن الناس، مقبول القول، مطاعا في الخلق والثاني: أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته، وتحت أمره ونهيه والثالث: أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد، قدر على قهر ذلك المنازع، وعلى غلبته، ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى، أما تكثير المال فقد نرى جمعا في غاية الكياسة لا يحصل لهم مع الكد الشديد، والعناء العظيم قليل من المال، ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته، وأما الجاه فالأمر أظهر، فإنا رأينا كثيرا من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه، وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية، وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظما في العقائد مهيبا في القلوب، ينقاد له الصغير والكبير، ويتواضع له القاصي والداني، وأما القسم الثاني وهو كونه واجب الطاعة، فمعلوم أن هذا تشريف يشرف الله تعالى به بعض عباده، وأما القسم الثالث، وهو حصول النصرة والظفر فمعلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من الله تعالى، فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره الله تعالى من قوله * (تؤتي الملك من تشاء) *.
واعلم أن المعتزلة ههنا بحثا قال الكعبي قوله * (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) * ليس على سبيل المختارية، ولكن بالاستحقاق فيؤتيه من يقوم به، ولا ينزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه ويدل عليه قوله * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) وقال في حق العبد الصالح * (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) * (البقرة: 247) فجعله سببا للملك، وقال الجبائي: هذا الحكم مختص بملوك العدل، فأما ملوك الظلم فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء الله، وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء الله، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه، ومنعهم من ذلك فصح بما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصون بأن الله تعالى آتاهم ذلك الملك، فأما الظالمون فلا، قالوا: ونظير هذا ما قلناه في الرزق أنه لا يدخل تحته الحرام الذي زجره الله عن الانتفاع به، وأمره بأن يرده على مالكه فكذا ههنا، قالوا: وأما النزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك من الملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقد ينزع الملك عن الملوك الظالمين ونزع الملك يكون بوجوه: منها بالموت، وإزالة العقل، وإزالة القوى، والقدر والحواس، ومنها بورود
6

الهلاك والتلف عن الأموال، ومنها أن يأمر الله تعالى المحق بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ويؤتيه القوة والنصرة، فإذا حاربه المحق وقهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب والنزع إليه تعالى، لأنه وقع عن أمره، وعلى هذا الوجه نزع الله تعالى ملك فارس على يد الرسول، هذا جملة كلام المعتزلة في هذا الباب.
واعلم أن هذا الموضع مقام بحث مهم وذلك لأن حصول الملك للظالم، إما أن يقال: إنه وقع لا عن فاعل وإنما حصل بفعل ذلك المتغلب، أو إنما حصل بالأسباب الربانية، والأول: نفي للصانع والثاني: باطل لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه، ولا يتيسر له البتة فلم يبق إلا أن يقال بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى، وهذا الكلام ظاهر ومما يؤكد ذلك أن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس، وتميل إليه القلوب، ويكون النصر قرينا له والظفر جليسا معه فأينما توجه حصل مقصوده، وقد يكون على الضد من ذلك، ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله تعالى، ولذلك قال حكيم الشعراء:
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني * بأجل أسباب السماء تعلقي
من رزق الحجا حرم الغنى * ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه * بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
والقول الثالث: أن قوله * (تؤتي الملك من تشاء) * محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة، وملك العلم، وملك العقل، والصحة والأخلاق الحسنة، وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة، وملك الأموال، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز.
وأما قوله تعالى: * (وتعز من تشاء وتذل من تشاء) * فاعلم أن العزة قد تكون في الدين، وقد تكون في الدنيا، أما في الدين فأشرف أنواع العزة الإيمان قال الله تعالى: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * (المنافقون: 8) إذا ثبت هذا فنقول: لما كان أعز الأشياء الموجبة للعزة هو الإيمان، وأذل الأشياء الموجبة للمذلة هو الكفر، فلو كان حصول الإيمان والكفر بمجرد مشيئة العبد، لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله عبده بكل ما أعزه به، ومن إذلال الله عبده بكل ما أذله به ولو كان الأمر كذلك لكان حظ العبد من هذا الوصف أتم وأكمل من حظ الله تعالى منه، ومعلوم أن ذلك باطل قطعا، فعلمنا أن الإعزاز بالإيمان والحق ليس إلا من الله، والإذلال بالكفر والباطل ليس إلا من الله، وهذا وجه قوي في المسألة، قال القاضي: الإعزاز المضاف إليه تعالى قد يكون في الدين، وقد يكون في الدنيا أما الذي في الدين فهو أن الثواب لا بد وأن يكون مشتملا
7

على التعظيم والمدح والكرامة في الدنيا والآخرة، وأيضا فإنه تعالى يمدهم بمزيد الألطاف ويعليهم على الأعداء بحسب المصلحة، وأما ما يتعلق بالدنيا فبإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب، وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق.
واعلم أن كلامنا يأبى ذلك لأن كل ما يفعله الله تعالى من التعظيم في باب الثواب فهو حق واجب على الله تعالى ولو لم يفعله لانعزل عن الإلهية ولخرج عن كونه إلها للخلق فهو تعالى بإعطاء هذه التعظيمات يحفظ إلهية نفسه عن الزوال فأما العبد، فلما خص نفسه بالإيمان الذي يوجب هذه التعظيمات فهو الذي أعز نفسه فكان إعزازه لنفسه أعظم من إعزاز الله تعالى إياه، فعلمنا أن هذا الكلام المذكور لازم على القوم.
أما قوله * (وتذل من تشاء) * فقال الجبائي في " تفسيره ": إنه تعالى إنما يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ولا يذل أحدا من أوليائه وإن أفقرهم وأمرضهم وأحوجهم إلى غيرهم، لأنه تعالى إنما يفعل هذه الأشياء ليعزهم في الآخرة، إما بالثواب، وإما بالعوض فصار ذلك كالفصد والحجامة فإنهما وإن كانا يؤلمان في الحال إلا أنهما لما كانا يستعقبان نفعا عظيما لا جرم لا يقال فيهما: إنهما تعذيب، قال وإذا وصف الفقر بأنه ذل فعلى وجه المجاز كما سمى الله تعالى لين المؤمنين ذلا بقوله * (أذلة على المؤمنين) * (المائدة: 54).
إذا عرفت هذا فنقول: إذلال الله تعالى عبده المبطل إنما يكون بوجوه منها بالذم واللعن ومنها بأن يخذلهم بالحجة والنصرة، ومنها بأن يجعلهم خولا لأهل دينه، ويجعل مالهم غنيمة لهم ومنها بالعقوبة لهم في الآخرة هذا جملة كلام المعتزلة، ومذهبنا أنه تعالى يعز البعض بالإيمان والمعرفة، ويذل البعض بالكفر والضلالة، وأعظم أنواع الإعزاز والإذلال هو هذا والذي يدل عليه وجوه الأول: وهو أن عز الإسلام وذل الكفر لا بد فيه من فاعل وذلك الفاعل إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى والأول باطل، لأن أحدا لا يختار الكفر لنفسه، بل إنما يريد الإيمان والمعرفة والهداية فلما أراد العبد الإيمان ولم يحصل له بل حصل له الجهل، علمنا أن حصوله من الله تعالى لا من العبد الثاني: وهو أن الجهل الذي يحصل للعبد إما أن يكون بواسطة شبهة وإما أن يقال: يفعله العبد ابتداء، والأول باطل إذ لو كان كل جهل إنما يحصل بجهل آخر يسبقه ويتقدمه لزم التسلسل وهو محال، فبقي أن يقال: تلك الجهات تنتهي إلى جهل يفعله العبد ابتداء من غير سبق موجب البتة لكنا نجد من أنفسنا أن العاقل لا يرضى لنفسه أن يصير على الجهل ابتداء من غير موجب فعلمنا أن ذلك بإذلال الله عبده وبخذلانه إياه الثالث:
8

ما بينا أن الفعل لا بد فيه من الداعي والمرجح، وذلك المرجح يكون من الله تعالى فإن كان في طرف الخير كان إعزازا، وإن كان في طرف الجهل والشر والضلالة كان إذلالا، فثبت أن المعز والمذل هو الله تعالى.
أما قوله تعالى: * (بيدك الخير) *. فاعلم أن المراد من اليد هو القدرة، والمعنى بقدرتك الخير والألف واللام في الخير يوجبان العموم، فالمعنى بقدرتك تحصل كل البركات والخيرات، وأيضا فقوله * (بيدك الخير) * يفيد الحصر كأنه قال بيدك الخير لا بيد غيرك، كما أن قوله تعالى: * (لكم دينكم ولي دين) * (الكافرين: 6) أي لكم دينكم أي لا لغيركم وذلك الحصر ينافي حصول الخير بيد غيره، فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على أن جميع الخيرات منه، وبتكوينه وتخليقه وإيجاده وإبداعه، إذا عرفت هذا فنقول: أفضل الخيرات هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله تعالى لا من تخليق العبد، وهذا استدلال
ظاهر ومن الأصحاب من زاد في هذا التقدير فقال: كل فاعلين فعل أحدهما أشرف وأفضل من فعل الآخر كان ذلك الفاعل أشرف وأكمل من الآخر، ولا شك أن الإيمان أفضل من الخير، ومن كل ما سوى الإيمان فلو كان الإيمان بخلق العبد لا بخلق الله لوجب كون العبد زائدا في الخيرية على الله تعالى، وفي الفضيلة والكمال، وذلك كفر قبيح فدلت هذه الآية من هذين الوجهين على أن الإيمان بخلق الله تعالى.
فإن قيل: فهذه الآية حجة عليكم من وجه آخر لأنه تعالى لما قال: * (بيدك الخير) * كان معناه أنه ليس بيدك إلا الخير، وهذا يقتضي أن لا يكون الكفر والمعصية واقعين بتخليق الله.
والجواب: أن قوله * (بيدك الخير) * يفيد أن بيده الخير لا بيد غيره، وهذا ينافي أن يكون بيد غيره ولكن لا ينافي أن يكون بيده الخير وبيده ما سوى الخير إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه الأمر المنتفع به فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى قال القاضي: كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه تعالى أقدرهم عليه وهداهم إليه لما تمكنوا منه، فلهذا السبب كان مضافا إلى الله تعالى إلا أن هذا ضعيف لأن على هذا التقدير يصير بعض الخير مضافا إلى الله تعالى، ويصير أشرف الخيرات مضافا إلى العبد، وذلك على خلاف هذا النص.
أما قوله * (إنك على كل شيء قدير) * فهذا كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكا لإيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال.
أما قوله تعالى: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) * فيه وجهان الأول: أن يجعل الليل
9

قصيرا ويجعل ذلك القدر الزائد داخلا في النهار وتارة على العكس من ذلك وإنما فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه علق قوام العالم ونظامه بذلك والثاني: أن المراد هو أنه تعالى يأتي بالليل عقيب النهار، فيلبس الدنيا ظلمة بعد أن كان فيها ضوء النهار، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوءه فكان المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر، والأول أقرب إلى اللفظ، لأنه إذا كان النهار طويلا فجعل ما نقص منه زيادة في الليل كان ما نقص منه داخلا في الليل.
وأما قوله * (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وحمزة والكسائي * (الميت) * بالتشديد، والباقون بالتخفيف، وهما لغتان بمعنى واحد، قال المبرد: أجمع البصريون على أنهما سواء وأنشدوا: إنما الميت ميت الأحياء
وهو مثل قوله: هين وهين، ولين ولين، وقد ذهب ذاهبون إلى أن الميت من قد مات، والميت من لم يمت.
المسألة الثانية: ذكر المفسرون فيه وجوها أحدها: يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام والثاني: يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس والثالث: يخرج الحيوان من النطفة، والطير من البيضة وبالعكس والرابع: يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس، والنخلة من النواة وبالعكس، قال القفال رحمه الله: والكلمة محتملة للكل أما الكفر والإيمان فقال تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * (الأنعام: 122) يريد كان كافرا فهديناه فجعل الموت كفرا والحياة إيمانا، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء، وجعل قبل ذلك ميتة فقال * (يحيي الأرض بعد موتها) * (الروم: 19) وقال: * (فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها) * (فاطر: 9) وقال: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) * (البقرة: 28).
أما قوله * (وترزق من تشاء بغير حساب) * ففيه وجوه الأول: أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد، إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب والثاني: ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود، بل تبسطه له وتوسعه عليه كما يقال: فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة، ونظيره قولهم في تكثير مال الإنسان: عنده مال لا يحصى والثالث: ترزق من تشاء بغير حساب، يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب، وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى: إنك لا ترزق عبادك
10

على مقادير أعمالهم والله أعلم.
قوله تعالى
* (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) *.
في كيفية النظم وجهان الأول: أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم الله تعالى، ثم ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس، لأن كمال الأمر ليس إلا في شيئين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله قال: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * الثاني: لما بين أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده، وعند أوليائه دون أعدائه.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في سبب النزول وجوه الأول: جاء قوم من اليهود إلى قوم المسلمين ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر، وعبد الرحمن بن جبير، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم فنزلت هذه الآية والثاني: قال مقاتل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، وكانوا يتولون اليهود والمشركين ويخبرونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية الثالث: أنها نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلفاء من اليهود، ففي يوم الأحزاب قال يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فنزلت هذه الآية.
فإن قيل: إنه تعالى قال: * (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) * وهذه صفة الكافر.
قلنا: معنى الآية فليس من ولاية الله في شيء، وهذا لا يوجب الكفر في تحريم موالاة الكافرين.
11

واعلم أنه تعالى أنزل آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله تعالى: * (لا تتخذوا بطانة من دونكم) * (آل عمران: 118) وقوله * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) * (المجادلة: 22) وقوله * (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) * وقوله * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) * (الممتحنة: 1) وقال: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * (التوبة: 71).
واعلم أن كون المؤمن مواليا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون راضيا بكفره ويتولاه لأجله، وهذا ممنوع منه لأن كل من فعل ذلك كان مصوبا له في ذلك الدين، وتصويب الكفر كفر والرضا بالكفر كفر، فيستحيل أن يبقى مؤمنا مع كونه بهذه الصفة.
فإن قيل: أليس أنه تعالى قال: * (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) * وهذا لا يوجب الكفر فلا يكون داخلا تحت هذه الآية، لأنه تعالى قال: * (يا أيها الذين آمنوا) * فلا بد وأن يكون خطابا في شيء يبقى المؤمن معه مؤمنا وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، وذلك غير ممنوع منه.
والقسم الثالث: وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة، والمظاهرة، والنصرة إما بسبب القرابة، أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه، لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام فلا جرم هدد الله تعالى فيه فقال: * (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) *.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين، فأما إذا تولوهم وتولوا المؤمنين معهم فذلك ليس بمنهي عنه، وأيضا فقوله * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء) * فيه زيادة مزية، لأن الرجل قد يوالي غيره ولا يتخذه مواليا فالنهي عن اتخاذه مواليا لا يوجب النهي عن أصل مولاته.
قلنا: هذان الاحتمالان وإن قاما في الآية إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا تجوز موالاتهم دلت على سقوط هذين الاحتمالين.
المسألة الثانية: إنما كسرت الذال من يتخذ لأنها مجزوم للنهي، وحركت لاجتماع الساكنين قال الزجاج: ولو رفع على الخبر لجاز، ويكون المعنى على الرفع أن من كان مؤمنا فلا ينبغي أن يتخذ الكافر وليا.
واعلم أن معنى النهي ومعنى الخبر يتقاربان لأنه متى كانت صفة المؤمن أن لا يوالي الكافر كان
12

لا محالة منهيا عن موالاة الكافر، ومتى كان منهيا عن ذلك، كان لا محالة من شأنه وطريقته أن لا يفعل ذلك.
المسألة الثالثة: قوله * (من دون المؤمنين) * أي من غير المؤمنين كقوله * (وادعوا شهداءكم من دون الله) * (البقرة: 23) أي من غير الله، وذلك لأن لفظ دون مختص بالمكان، تقول: زيد جلس دون عمرو أي في مكان أسفل منه، ثم إن من كان مباينا لغيره في المكان فهو مغاير له فجعل لفظ دون مستعملا في معنى غير، ثم قال تعالى: * (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) * وفيه حذف، والمعنى فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية الله تعالى رأسا، وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي، وموالاة عدوه ضدان قال الشاعر:
تود عدوي ثم تزعم أنني * صديقك ليس النوك عنك بعازب
ويحتمل أن يكون المعنى: فليس من دين الله في شيء وهذا أبلغ.
ثم قال تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الكسائي: تقاة بالإمالة، وقرأ نافع وحمزة: بين التفخيم والإمالة، والباقون بالتفخيم، وقرأ يعقوب تقية وإنما جازت الإمالة لتؤذن أن الألف من الياء، وتقاة وزنها فعلة نحو تؤدة وتخمة، ومن فخم فلأجل الحرف المستعلي وهو القاف.
المسألة الثانية: قال الواحدي: تقيته تقاة، وتقى، وتقية، وتقوى، فإذا قلت اتقيت كان مصدره الأتقياء، وإنما قال تتقوا ثم قال تقاة ولم يقل اتقاء اسم وضع موضع المصدر، كما يقال: جلس جلسة، وركب ركبة، وقال الله تعالى: * (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا) * (آل عمران: 37) وقال الشاعر: وبعد عطائك المائة الرتاعا
فأجراه مجرى الإعطاء، قال: ويجوز أن يجعل تقاة ههنا مثل رماة فيكون حالا مؤكدة.
المسألة الثالثة: قال الحسن أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم نعم نعم، فقال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة، ومحمد رسول قريش، فتركه ودعا الآخر فقال أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصم ثلاثا، فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.
13

واعلم أن نظير هذه الآية قوله تعالى: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (النحل: 106).
المسألة الرابعة: اعلم أن للتقية أحكاما كثيرة ونحن نذكر بعضها.
الحكم الأول: أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار، ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضا أن
يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافه، وأن يعرض في كل ما يقول، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.
الحكم الثاني للتقية: هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل، ودليله ما ذكرناه في قصة مسيلمة.
الحكم الثالث للتقية: أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين، فذلك غير جائز البتة.
الحكم الرابع: ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس.
الحكم الخامس: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز، لقوله صلى الله عليه وسلم: " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " ولقوله صلى الله عليه وسلم: " من قتل دون ماله فهو شهيد " ولأن الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمم دفعا لذلك القدر من نقصان المال، فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم.
الحكم السادس: قال مجاهد: هذا الحكم كان ثابتا في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا، وروى عوف عن الحسن: أنه قال التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان.
ثم قال تعالى: * (ويحذركم الله نفسه) * وفيه قولان الأول: أن فيه محذوفا، والتقدير: ويحذركم الله عقاب نفسه، وقال أبو مسلم المعنى * (ويحذركم الله نفسه) * أن تعصوه فتستحقوا عقابه والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال: ويحذركم الله فهذا لا يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله أو من غيره، فلما ذكر النفس زال هذا الاشتباه، ومعلوم أن العقاب الصادر
14

عنه يكون أعظم أنواع العقاب لكونه قادرا على ما لا نهاية له، وأنه لا قدرة لأحد على دفعه ومنعه مما أراد.
والقول الثاني: أن النفس ههنا تعود إلى اتخاذ الأولياء من الكفار، أي ينهاهم الله عن نفس هذا الفعل.
ثم قال: * (وإلى الله المصير) * والمعنى: إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله.
* (قل إن تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما فى السماوات وما فى الارض والله على كل شىء قدير) *.
إعلم أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهرا وباطنا واستثنى عنه التقية في الظاهر أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقا للظاهر في وقت التقية، وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سببا لحصول تلك الموالاة في الباطن، فلا جرم بين تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر، فيعلم العبد أنه لا بد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: هذه الآية جملة شرطية فقوله * (إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه) * شرط وقوله * (يعلمه الله) * جزاء ولا شك أن الجزاء مترتب على الشرط متأخر عنه، فهذا يقتضي حدوث علم الله تعالى.
والجواب: أن تعلق علم الله تعالى بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن، ثم إن هذه التبدل والتجدد إنما وقع في النسب والإضافات والتعليقات لا في حقيقة العلم، وهذه المسألة لها غور عظيم وهي مذكورة في علم الكلام.
السؤال الثاني: محل البواعث والضمائر هو القلب، فلم قال: * (إن تخفوا ما في صدوركم) * ولم يقل إن تخفوا ما في قلوبكم؟.
الجواب: لأن القلب في الصدر، فجاز إقامة الصدر مقام القلب كما قال: * (يوسوس في صدور الناس) * (الناس: 5) وقال: * (فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور) * (الحج: 46).
15

السؤال الثالث: إن كانت هذه الآية وعيدا على كل ما يخطر بالبال فهو تكليف ما لا يطاق.
الجواب: ذكرنا تفصيل هذه الكلام في آخر سورة البقرة في قوله * (لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * (البقرة: 284).
ثم قال تعالى: * (ويعلم ما في السماوات وما في الأرض) *.
واعلم أنه رفع على الاستئناف، وهو كقوله * (قاتلوهم يعذبهم الله) * (التوبة: 14) جزم الأفاعيل، ثم قال: * (ويتوب الله) * فرفع، ومثله قوله * (فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل) * (الشورى: 24) رفعا، وفي قوله * (ويعلم ما في السماوات وما في الأرض) * غاية التحذير لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه الضمير.
ثم قال تعالى: * (والله على كل شيء قدير) * إتماما للتحذير، وذلك لأنه لما بين أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالما بما في قلبه، وكان عالما بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب، ثم بين أنه قادر على جميع المقدورات، فكان لا محالة قادرا على إيصال حق كل أحد إليه، فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب.
قوله تعالى
* (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله روءوف بالعباد) *.
اعلم أن هذه الآية من باب الترغيب والترهيب، ومن تمام الكلام الذي تقدم.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في العامل في قوله * (يوم) * وجوها الأول: قال ابن الأنباري: اليوم متعلق بالمصير والتقدير: وإلى الله المصير يوم تجد الثاني: العامل فيه قوله * (ويحذركم الله نفسه) * في الآية السابقة، كأنه قال: ويحذركم الله نفسه في ذلك اليوم الثالث: العامل فيه قوله * (والله على كل شيء قدير) * أي قدير في ذلك اليوم الذي تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وخص هذا اليوم بالذكر، وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تفضيلا له لعظم شأنه كقوله * (مالك يوم الدين) * (الفاتحة: 4) الرابع: أن العامل فيه قوله * (تود) * والمعنى: تود كل نفس كذا وكذا في ذلك اليوم الخامس: يجوز أن يكون منتصبا بمضمر، والتقدير: واذكر يوم تجد كل نفس.
16

المسألة الثانية: اعلم أن العمل لا يبقى، ولا يمكن وجدانه يوم القيامة، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجهين الأول: أنه يجد صحائف الأعمال، وهو قوله تعالى: * (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) * (الجاثية: 29) وقال: * (فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه) * (المجادلة: 6) الثاني: أنه يجد جزاء الأعمال وقوله تعالى: * (محضرا) * يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة، ويحتمل أن يكون المعنى: أن جزاء العمل يكون محضرا، كقوله * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) * (الكهف: 49) وعلى كلا الوجهين، فالترغيب والترهيب حاصلان.
أما قوله: * (وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الواحدي: الأظهر أن يجعل * (ما) * ههنا بمنزلة الذي، ويكون * (عملت) * صلة لها، ويكون معطوفا على * (ما) * الأول، ولا يجوز أن تكون * (ما) * شرطية، وإلا كان يلزم أن ينصب * (تود) * أو يخفضه، ولم يقرأه أحد إلا بالرفع، فكان هذا دليلا على أن * (ما) * ههنا بمعنى الذي.
فإن قيل: فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد الله، ودت.
قلنا: لا كلام في صحته لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع، لأنه حكاية حال الكافر في ذلك اليوم، وأكثر موافقة للقراءة المشهورة.
المسألة الثانية: الواو في قوله * (وما عملت من سوء) * فيه قولان الأول: وهو قول أبي مسلم الأصفهاني: الواو واو العطف، والتقدير: تجد ما عملت من خير وما عملت من سوء، وأما قوله * (تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) * ففيه وجهان الأول: أنه صفة للسوء، والتقدير: وما عملت من سوء الذي تود أن يبعد ما بينها وبينه والثاني: أن يكون حالا، والتقدير: يوم تجد ما عملت من سوء محضرا حال ما تود بعده عنها.
والقول الثاني: أن الواو للاستئناف، وعلى هذا القول لا تكون الآية دليلا على القطع بوعيد المذنبين، وموضع الكرم واللطف هذا، وذلك لأنه نص في جانب الثواب على كونه محضرا وأما في جانب العقاب فلم ينص على الحضور، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه، والبعد عنه، وذلك ينبه على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيد.
المسألة الثالثة: الأمد، الغاية التي ينتهي إليها، ونظيره قوله تعالى: * (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) * (الزخرف: 38). واعلم أن المراد من هذا التمني معلوم، سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان أو على المكان، إذ المقصود تمني بعده، ثم قال: * (ويحذركم الله نفسه) * وهو لتأكيد الوعيد. ثم قال: * (والله رؤوف بالعباد) *
17

وفيه وجوه الأول: أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته، وأنه يمهل ولا يمهل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذرهم من استحقاق غضبه، قال الحسن: ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه الثاني: أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي الثالث: أنه لما قال: * (ويحذركم الله نفسه) * وهو للوعيد أتبعه بقوله * (والله رؤوف بالعباد) * وهو الموعد ليعلم العبد أن وعده ورحمته، غالب على وعيده وسخطه والرابع: وهو أن لفظ العباد في القرآن مختص، قال تعالى: * (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) * (الفرقان: 63) وقال تعالى: * (عينا يشرب بها عباد الله) * (الإنسان: 6) فكان المعنى أنه لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة فقال: * (والله رؤوف بالعباد) * أي كما هو منتقم من الفساق، فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين.
قوله تعالى
* (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) *.
اعلم أنه تعالى لما دعا القوم إلى الإيمان به، والإيمان برسله على سبيل التهديد والوعيد، دعاهم إلى ذلك من طريق آخر وهو أن اليهود كانوا يقولون * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) فنزلت هذه الآية، ويروى أنه صلى الله عليه وسلم وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال: يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة إبراهيم، فقالت قريش: إنما نعبد هذه حبا لله تعالى ليقربونا إلى الله زلفى، فنزلت هذه الآية، ويروى أن النصارى قالوا: إنما نعظم المسيح حبا لله، فنزلت هذه الآية، وبالجملة فكل واحد من فرق العقلاء يدعي أنه يحب الله، ويطلب رضاه وطاعته فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله تعالى فكونوا منقادين لأوامره محترزين عن مخالفته، وتقدير الكلام: أن من كان محبا لله تعالى لا بد وأن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه، وإذا قامت الدلالة القاطعة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجبت متابعته، فإن لم تحصل هذه المتابعة دل ذلك على أن تلك المحبة ما حصلت.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أما الكلام المستقصى في المحبة، فقد تقدم في تفسير قوله تعالى: * (والذين
18

آمنوا أشد حبا لله) * (البقرة: 165) والمتكلمون مصرون على أن محبة الله تعالى عبارة عن محبة إعظامه وإجلاله، أو محبة طاعته، أو محبة ثوابه، قالوا: لأن المحبة من جنس الإرادة، والإرادة لا تعلق لها إلا بالحوادث وإلا بالمنافع.
واعلم أن هذا القول ضعيف، وذلك لأنه لا يمكن أن يقال في كل شيء إنه إنما كان محبوبا لأجل معنى آخر وإلا لزم التسلسل والدور، فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوبا بالذات، كما أنا نعلم أن اللذة محبوبة لذاتها، فكذلك نعلم أن الكمال محبوب لذاته، وكذلك أنا إذا سمعنا أخبار رستم واسفنديار في شجاعتهما مال القلب إليهما مع أنا نقطع بأنه لا فائدة لنا في ذلك الميل، بل ربما نعتقد أن تلك المحبة معصية لا يجوز لنا أن نصر عليها، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته، كما أن اللذة محبوبة لذاتها، وكمال الكمال لله سبحانه وتعالى، فكان ذلك يقتضي كونه محبوبا لذاته من ذاته ومن المقربين عنده الذين تجلى لهم أثر من آثار كماله وجلاله قال المتكلمون: وأما محبة الله تعالى للعبد فهي عبارة عن إرادته تعالى إيصال الخيرات والمنافع في الدين والدنيا إليه.
المسألة الثانية: القوم كانوا يدعون أنهم كانوا محبين لله تعالى، وكانوا يظهرون الرغبة في أن يحبهم الله تعالى، والآية مشتملة على أن الإلزام من وجهين أحدهما: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، لأن المعجزات دلت على أنه تعالى أوجب عليكم متابعتي الثاني: إن كنتم تحبون أن يحبكم الله فاتبعوني لأنكم إذا اتبعتموني فقد أطعتم الله، والله تعالى يحب كل من أطاعه، وأيضا فليس في متابعتي إلا أني دعوتكم إلى طاعة الله تعالى وتعظيمه وترك تعظيم غيره، ومن أحب الله كان راغبا فيه، لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب، والإعراض بالكلية عن غير المحبوب.
المسألة الثالثة: خاض صاحب " الكشاف " في هذا المقام في الطعن في أولياء الله تعالى وكتب ههنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله تعالى فكيف اجترأ على كتبه مثل ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله تعالى، نسأل الله العصمة والهداية، ثم قال تعالى: * (ويغفر لكم ذنوبكم) * والمراد من محبة الله تعالى له إعطاؤه الثواب، ومن غفران ذنبه إزالة العقاب، وهذا غاية ما يطلبه كل عاقل، ثم قال: * (والله غفور رحيم) * يعني غفور في الدنيا يستر على العبد أنواع المعاصي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه.
19

قوله تعالى
* (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) *.
يروى أنه لما نزل قوله * (قل إن كنتم تحبون الله) * الآية قال عبد الله بن أبي: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى، فنزلت هذه الآية، وتحقيق الكلام أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته، ثم إن المنافق ألقى شبهة في الدين، وهي أن محمدا يدعي لنفسه ما يقوله النصارى في عيسى، ذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لتلك الشبهة، فقال: * (قل أطيعوا الله والرسول) * يعني إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا كما تقول النصارى في عيسى بل لكوني رسولا من عند الله، ولما كان مبلغ التكاليف عن الله هو الرسول لزم أن تكون طاعته واجبة فكان إيجاب المتابعة لهذا المعنى لا لأجل الشبه التي ألقاها المنافق في الدين.
ثم قال تعالى: * (فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) * يعني إن أعرضوا فإنه لا يحصل لهم محبة الله، لأنه تعالى إنما أوجب الثناء والمدح لمن أطاعه، ومن كفر استوجب الذلة والإهانة، وذلك ضد المحبة والله أعلم.
قوله تعالى
* (إن الله اصطفى آدم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بين علو درجات الرسل وشرف مناصبهم فقال: * (إن الله اصطفى آدم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المخلوقات على قسمين: المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف، واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة: الملائكة، والإنس والجن، والشياطين، أما الملائكة، فقد روي في الأخبار أن الله تعالى خلقهم من الريح ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك فالأول: أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه والثاني: لهذا السبب قدروا على حمل العرش، لأن الريح تقوم بحمل الأشياء الثالث: لهذا السبب
20

سموا روحانيين، وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور، ولهذا صفت وأخلصت لله تعالى والأولى أن يجمع بين القولين فنقول: أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السماوات، أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر لقوله تعالى: * (وكان من الكافرين) * (البقرة: 34) وأما سائر الشياطين فهم أيضا كفرة بدليل قوله تعالى: * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * (الأنعام: 121) ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى: * (ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو) * (الكهف: 50) وقال: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن) * (الأنعام: 112) ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار قال الله تعالى حكاية عن إبليس * (خلقتني من نار وخلقته من طين) * (الأعراف: 12) وقال: * (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) * (الحجر: 27) فأما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن، قال تعالى: * (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا) * (الجن: 14) أما الإنس فلا شك أن لهم والدا هو والدهم الأول، وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دل على أن ذلك الأول هو آدم
صلى الله عليه وسلم على ما قال تعالى في هذه السورة * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * (آل عمران: 59) وقال: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) * (النساء: 1).
إذا عرفت هذا فنقول: اتفق العلماء على أن البشر أفضل من الجن والشياطين، واختلفوا في أن البشر أفضل أم الملائكة، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: * (اسجدوا لآدم فسجدوا) * (الأعراف: 11) والقائلون بأن البشر أفضل تمسكوا بهذه الآية، وذلك لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة، فلما بين تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين.
فإن قيل: إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال، ولو حملناه على كونه أفضل عالمي زمانه أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض، فوجب حمله على هذا المعنى دفعا للتناقض وأيضا قال تعالى في صفة بني إسرائيل * (وإني فضلتكم على العالمين) * (البقرة: 47) ولا يلزم كونهم أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم بل قلنا المراد به عالمو زمان كل واحد منهم، والجواب ظاهر في قوله: اصطفى آدم على العالمين، يتناول كل من يصح إطلاق لفظ العالم عليه فيندرج فيه الملك، غاية ما في هذا الباب أنه ترك العمل بعمومه في بعض الصور لدليل قام عليه، فلا يجوز أن نتركه في سائر الصور من غير دليل.
21

المسألة الثانية: * (اصطفى) * في اللغة اختار، فمعنى: اصطفاهم، أي جعلهم صفوة خلقه، تمثيلا بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة، ويقال على ثلاثة أوجه: صفوة، وصفوة وصفوة، ونظير هذه الآية قوله لموسى * (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي) * (الأعراف: 144) وقال في إبراهيم * (وإسحق ويعقوب وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) * (ص: 47).
إذا عرفت هذا فنقول. في الآية قولان الأول: المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعا إلى دينهم وشرعهم وملتهم، ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني: أن يكون المعنى: إن الله اصطفاهم، أي صفاهم من الصفات الذميمة، وزينهم بالخصال الحميدة، وهذا القول أولى لوجهين أحدهما: أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار والثاني: أنه موافق لقوله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) * (الأنعام: 124) وذكر الحليمي في كتاب " المنهاج " أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي إما مدركة، وإما محركة.
أما المدركة: فهي إما الحواس الظاهرة، وإما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة أحدها: القوة الباصرة، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصا بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: " زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها " والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: " أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري " ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * (الأنعام: 75) ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل قال الحليمي رحمه الله: وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بصر النبي صلى الله عليه وسلم أقوى من بصرها وثانيها: القوة السامعة، وكان صلى الله عليه وسلم أقوى الناس في هذه القوة، ويدل عليه وجهان أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: " أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى " فسمع أطيط السماء والثاني: أنه سمع دويا وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن، قال الحليمي: ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا، فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيف الفلك، ونظير هذه القوة لسليمان عليه السلام في قصة النمل * (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) * (النمل: 18) فالله تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضا في باب تقوية الفهم، وكان ذلك حاصلا لمحمد صلى الله عليه وسلم حين تكلم مع
22

الذئب ومع البعير ثالثها: تقوية قوة الشم، كما في حق يعقوب عليه السلام، فإن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه، فلما فصلت العير قال يعقوب * (إني لأجد ريح يوسف) * (يوسف: 94) فأحس بها من مسيرة أيام ورابعها: تقوية قوة الذوق، كما في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: " إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم " وخامسها: تقوية القوة اللامسة كما في حق الخليل حيث جعل الله تعالى النار بردا وسلاما عليه، فكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السمندل والنعامة، وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ، قال تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى) * (الأعلى: 6) ومنها قوة الذكاء قال علي عليه السلام: " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب " فإذا كان حال الولي هكذا، فكيف حال النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما القوى المحركة: فمثل عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعراج، وعروج عيسى حيا إلى السماء، ورفع إدريس وإلياس على ما وردت به الأخبار، وقال الله تعالى: * (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) * (النمل: 40).
وأما القوى الروحانية العقلية: فلا بد وأن تكون في غاية الكمال، ونهاية الصفاء.
واعلم أن تمام الكلام في هذا الباب أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس، ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء، والفطنة، والحرية، والاستعلاء، والترفع عن الجسمانيات والشهوات، فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف، وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة المدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن، ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء.
إذا عرفت هذا فقوله * (إن الله اصطفى آدم ونوحا) * معناه: إن الله تعالى اصطفى آدم إما من سكان العالم السفلي على قول من يقول: الملك أفضل من البشر، أو
من سكان العالم العلوي على قول من يقول: البشر أشرف المخلوقات، ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم عليه السلام، هم شيث وأولاده، إلى إدريس، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم حصل من إبراهيم شعبتان: إسماعيل وإسحاق، فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين: يعقوب وعيصو، فوضع النبوة في نسل يعقوب، ووضع الملك في نسل عيصو، واستمر ذلك إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر محمد صلى الله عليه وسلم نقل نور النبوة ونور الملك إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبقيا أعني الدين والملك
23

لأتباعه إلى قيام القيامة، ومن تأمل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة.
المسألة الثالثة: من الناس من قال. المراد بآل إبراهيم المؤمنون، كما في قوله * (أدخلوا آل فرعون) * (غافر: 46) والصحيح أن المراد بهم الأولاد، وهم المراد بقوله تعالى: * (إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) وأما آل عمران فقد اختلفوا فيه، فمنهم من قال المراد عمران ولد موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فيكون المراد من آل عمران موسى وهارون وأتباعهما من الأنبياء، ومنهم من قال: بل المراد: عمران بن ماثان والد مريم، وكان هو من نسل سليمان بن داود بن إيشا، وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، قالوا. وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة، واحتج من قال بهذا القول على صحته بأمور أحدها: أن المذكور عقيب قوله * (وآل عمران على العالمين) * هو عمران بن ماثان جد عيسى عليه السلام من قبل الأم، فكان صرف الكلام إليه أولى وثانيها: أن المقصود من الكلام أن النصارى كانوا يحتجون على إلهية عيس بالخوارق التي ظهرت على يديه، فالله تعالى يقول: إنما ظهرت على يده إكراما من الله تعالى إياه بها، وذلك لأنه تعالى اصطفاه على العالمين وخصه بالكرامات العظيمة، فكان حمل هذا الكلام على عمران بن ماثان أولى في هذا المقام من حمله على عمران والد موسى وهارون وثالثها: أن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى: * (وجعلناها وابنها آية للعالمين) * (الأنبياء: 91) واعلم أن هذه الوجوه ليست دلائل قوية، بل هي أمور ظنية، وأصل الاحتمال قائم.
أما قوله تعالى: * (ذرية بعضها من بعض) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في نصب قوله * (ذرية) * وجهان الأول: أنه بدل من آل إبراهيم والثاني: أن يكون نصبا على الحال، أي اصطفاهم في حال كون بعضهم من بعض.
المسألة الثانية: في تأويل الآية وجوه الأول: ذرية بعضها من بعض في التوحيد والإخلاص والطاعة، ونظيره قوله تعالى: * (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) * (التوبة: 67) وذلك بسبب اشتراكهم في النفاق والثاني: ذرية بعضها من بعض بمعنى أن غير آدم عليه السلام كانوا متولدين من آدم عليه السلام، ويكون المراد بالذرية من سوى آدم.
أما قوله تعالى: * (والله سميع عليم) * فقال القفال: المعنى والله سميع لأقوال العباد، عليم بضمائرهم وأفعالهم، وإنما يصطفى من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا، ونظيره قوله تعالى: * (الله أعلم حيث
24

يجعل رسالاته) * (الأنعام: 124) وقوله * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) * (الأنبياء: 90) وفيه وجه آخر: وهو أن اليهود كانوا يقولون: نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران، فنحن أبناء الله وأحباؤه، والنصارى كانوا يقولون: المسيح ابن الله، وكان بعضهم عالما بأن هذا الكلام باطل، إلا أنه لتطييب قلوب العوام بقي مصرا عليه، فالله تعالى كأنه يقول: والله سميع لهذه الأقوال الباطلة منكم، عليم بأغراضكم الفاسدة من هذه الأقوال فيجازيكم عليها، فكان أول الآية بيانا لشرف الأنبياء والرسل، وآخرها تهديدا لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم.
واعلم أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قصصا كثيرة:
القصة الأولى
واقعة حنة أم مريم عليهما السلام
قوله تعالى
* (إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم * فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتهآ أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا
25

قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشآء بغير حساب) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في موضع * (إذ) * من الإعراب أقوال الأول: قال أبو عبيدة: إنها زائدة لغوا، والمعنى: قالت امرأة عمران، ولا موضع لها من الإعراب، قال الزجاج: لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئا، لأنه لا يجوز إلغاء حرف من كتاب الله تعالى، ولا يجوز حذف حرف من كتاب الله تعالى من غير ضرورة والثاني: قال الأخفش والمبرد: التقدير أذكر * (إذ قالت امرأة عمران) * ومثله في كتاب الله تعالى كثير الثالث: قال الزجاج، التقدير: واصطفى آل عمران على العالمين إذ قالت امرأة عمران، وطعن ابن الأنباري فيه وقال: إن الله تعالى قرن اصطفاء آل عمران باصطفاء آدم ونوح، ولما كان اصطفاؤه تعالى آدم ونوحا قبل قول امرأة عمران
استحال أن يقال: إن هذا الاصطفاء مقيد بذلك الوقت الذي قالت امرأة عمران هذا الكلام فيه ويمكن أن يجاب عنه بأن أثر اصطفاء كل واحد إنما ظهر عند وجوده، وظهور طاعاته، فجاز أن يقال: إن الله اصطفى آدم عند وجوده، ونوحا عند وجوده، وآل عمران عندما قالت امرأة عمران هذا الكلام الرابع: قال بعضهم: هذا متعلق بما قبله، والتقدير: والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران هذا القول.
فإن قيل: إن الله سميع عليم قبل أن قالت المرأة هذا القول، فما معنى هذا التقييد؟
قلنا: إن سمعه تعالى لذلك الكلام مقيد بوجود ذلك الكلام وعلمه تعالى بأنها تذكر ذلك مقيد بذكرها لذلك والتغير في العلم والسمع إنما يقع في النسب والمتعلقات.
المسألة الثانية: أن زكريا بن أذن، وعمران بن ماثان، كانا في عصر واحد، وامرأة عمران حنة بنت فاقوذ، وقد تزوج زكريا بابنته إيشاع أخت مريم، وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة، ثم في كيفية هذا النذر روايات:
الرواية الأولى: قال عكرمة. إنها كانت عاقرا لا تلد، وكانت تغبط النساء بالأولاد، ثم قالت: (اللهم إن لك علي نذرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس ليكون من سدنته). والرواية الثانية: قال محمد بن إسحاق: إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت، وكانت يوما في ظل شجرة فرأت طائرا يطعم فرخا له فتحركت نفسها للولد، فدعت ربها أن يهب لها ولدا فحملت بمريم، وهلك عمران، فلما عرفت جعلته لله محررا، أي خادما للمسجد، قال الحسن البصري: إنها إنما فعلت ذلك بإلهام من الله ولولاه ما فعلت كما رأى إبراهيم ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر من الله وإن لم يكن عن وحي، وكما ألهم الله أم موسى فقذفته في اليم وليس بوحي.
26

المسألة الثالثة: المحرر الذي جعل حرا خالصا، يقال: حررت العبد إذا خلصته عن الرق، وحررت الكتاب إذا أصلحته، وخلصته فلم تبق فيه شيئا من وجوه الغلط، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه تعلق، والطين الحر الخالص عن الرمل والحجارة والحمأة والعيوب أما التفسير فقيل مخلصا للعبادة عن الشعبي، وقيل: خادما للبيعة، وقيل: عتيقا من أمر الدنيا لطاعة الله، وقيل: خادما لمن يدرس الكتاب، ويعلم في البيع، والمعنى أنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفا على طاعة الله، قال الأصم: لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي، فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا، وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين، فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع، ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى، وقيل: كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم، ثم يخير بين المقام والذهاب، فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب، وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار، ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس.
المسألة الرابعة: هذا التحرير لم يكن جائزا إلا في الغلمان أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك لما يصيبها من الحيض، والأذى، ثم إن حنة نذرت مطلقا إما لأنها بنت الأمر على التقدير، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الذكر.
المسألة الخامسة: في انتصاب قوله * (محررا) * وجهان الأول: أنه نصب على الحال من * (ما) * وتقديره: نذرت لك الذي في بطني محررا والثاني: وهو قول ابن قتيبة أن المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محررا.
ثم قال الله تعالى حاكيا عنها: * (فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) * التقبل: أخذ الشيء على الرضا، قال الواحدي: وأصله من المقابلة لأنه يقبل بالجزاء، وهذا كلام من لا يريد بما فعله إلا الطلب لرضا الله تعالى والإخلاص في عبادته، ثم قالت * (إنك أنت السميع العليم) * والمعنى: أنك أنت السميع لتضرعي ودعائي وندائي، العليم بما في ضميري وقلبي ونيتي.
واعلم أن هذا النوع من النذر كان في شرع بني إسرائيل وغير موجود في شرعنا، والشرائع لا يمتنع اختلافها في مثل هذه الأحكام.
قال تعالى: * (فلما وضعتها) * واعلم أن هذا الضمير إما أن يكون عائدا إلى الأنثى التي كانت في بطنها وكان عالما بأنها كانت أنثى أو يقال: إنها عادت إلى النفس والنسمة أو يقال: عادت إلى المنذورة.
ثم قال تعالى: * (قالت رب إني وضعتها أنثى) * واعلم أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها، وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها، وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة الله هو الذكر دون
27

الأنثى فقالت * (رب إني وضعتها أنثى) * خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام لله تعالى، تعالى الله عن أن يحتاج إلى إعلامها، بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار.
ثم قال الله تعالى: * (والله أعلم بما وضعت) * قرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر * (وضعت) * برفع التاء على تقدير أنها حكاية كلامها، والفائدة في هذا الكلام أنها لما قالت * (إني وضعتها أنثى) * خافت أن يظن بها أنها تخبر الله تعالى، فأزالت الشبهة بقولها * (والله أعلم بما وضعت) * وثبت أنها إنما قالت ذلك للاعتذار لا للاعلام، والباقون بالجزم على أنه كلام الله، وعلى هذه القراءة يكون المعنى أنه تعالى قال: والله أعلم بما وضعت تعظيما لولدها، وتجهيلا لها بقدر ذلك الولد، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا فلذلك تحسرت، وفي قراءة ابن عباس * (والله أعلم بما وضعت) * على خطاب الله لها، أي: أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله هو العالم بما فيه من العجائب والآيات.
ثم قال تعالى حكاية عنها * (وليس الذكر كالأنثى) * وفيه قولان الأول: أن مرادها تفضيل الولد الذكر على الأنثى، وسبب هذا التفضيل من وجوه أحدها: أن شرعهم
أنه لا يجوز تحرير الذكور دون الإناث والثاني: أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة، ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان والثالث: الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة والرابع: أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى والخامس: أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى.
والقول الثاني: أن المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر، كأنها قالت الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى، وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله، وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه.
ثم حكى تعالى عنها كلاما ثانيا وهو قولها * (وإني سميتها مريم) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: أن ظاهر هذا الكلام يدل على ما حكينا من أن عمران كان قد مات في حال حمل حنة بمريم، فلذلك تولت الأم تسميتها، لأن العادة أن ذلك يتولاه الآباء.
28

البحث الثاني: أن مريم في لغتهم: العابدة، فأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا، والذي يؤكد هذا قولها بعد ذلك * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) *.
البحث الثالث: أن قوله * (وإني سميتها مريم) * معناه: وإني سميتها بهذا اللفظ أي جعلت هذا اللفظ اسما لها، وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة.
ثم حكى الله تعالى عنها كلاما ثالثا وهو قولها * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * وذلك لأنه لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلا خادما للمسجد تضرعت إلى الله تعالى في أن يحفظها من الشيطان الرجيم، وأن يجعلها من الصالحات القانتات، وتفسير الشيطان الرجيم قد تقدم في أول الكتاب.
ولما حكى الله تعالى عن حنة هذه الكلمات قال: * (فتقبلها ربها بقبول) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إنما قال * (فتقبلها ربها بقبول حسن) * ولم يقل: فتقبلها ربها بتقبل لأن القبول والتقبل متقاربان قال تعالى: * (والله أنبتكم من الأرض نباتا) * (نوح: 17) أي إنباتا، والقبول مصدر قولهم: قبل فلان الشيء قبولا إذا رضيه، قال سيبويه: خمسة مصادر جاءت على فعول: قبول وطهور ووضوء ووقود وولوغ، إلا أن الأكثر في الوقود إذا كان مصدرا الضم، وأجاز الفراء والزجاج: قبولا بالضم، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي يقال: قبلته قبولا وقبولا، وفي الآية وجه آخر وهو أن ما كان من باب التفعل فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل كالتصبر والتجلد ونحوهما فإنهما يفيدان الجد في إظهار الصبر والجلادة، فكذا ههنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول.
فإن قيل: فلم لم يقل: فتقبلها ربها بتقبل حسن حتى صارت المبالغة أكمل؟
والجواب: أن لفظ التقبل وإن أفاد ما ذكرنا إلا أنه يفيد نوع تكلف على خلاف الطبع، أما القبول فإنه يفيد معنى القبول على وفق الطبع فذكر التقبل ليفيد الجد والمبالغة، ثم ذكر القبول ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع، بل على وفق الطبع، وهذه الوجوه وإن كانت ممتنعة في حق الله تعالى، إلا أنها تدل من حيث الاستعارة على حصول العناية العظيمة في تربيتها، وهذا الوجه مناسب معقول.
المسألة الثانية: ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن وجوها:
الوجه الأول: أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان روى أبو هريرة أن النبي صلى الله
29

عليه وسلم قال: " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إلا مريم وابنها " ثم قال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان) * طعن القاضي في هذا الخبر وقال: إنه خبر واحد على خلاف الدليل فوجب رده، وإنما قلنا: إنه على خلاف الدليل لوجوه أحدها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر والصبي ليس كذلك والثاني: أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم والثالث: لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام الرابع: أن ذلك النخس لو وجد بقي أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه، واعلم أن هذه الوجوه محتملة، وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر والله أعلم.
الوجه الثاني: في تفسير أن الله تعالى تقبلها بقبول حسن، ما روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة، وقالت: خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم فقال لهم زكريا: أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا لا حتى نقترع عليها، فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات، ففي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم فأخذها زكريا.
الوجه الثالث: روى القفال عن الحسن أنه قال: إن مريم تكلمت في صباها كما تكلم المسيح ولم تلتقم ثديا قط، وإن رزقها كان يأتيها من الجنة.
الوجه الرابع: في تفسير القبول الحسن أن المعتاد في تلك الشريعة أن التحرير لا يجوز إلا في حق الغلام حين يصير عاقلا قادرا على خدمة المسجد، وههنا لما علم الله تعالى تضرع تلك المرأة قبل تلك الجارية حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد، فهذا كله هو الوجوه المذكورة في تفسير القبول الحسن.
ثم قال الله تعالى: * (وأنبتها نباتا حسنا) * قال ابن الأنباري: التقدير أنبتها فنبتت هي نباتا حسنا ثم منهم من صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا، ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين، أما الأول فقالوا: المعنى أنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد، وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة
والطاعة.
30

ثم قال الله تعالى: * (وكفلها زكريا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: يقال: كفل يكفل كفالة وكفلا فهو كافل، وهو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح مصالحه، وفي الحديث " أنا وكافل اليتيم كهاتين " وقال الله تعالى: * (أكفلنيها) *.
المسألة الثانية: قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (وكفلها) * بالتشديد، ثم اختلفوا في زكريا فقرأ عاصم بالمد، وقرأ حمزة والكسائي بالقصر على معنى ضمها الله تعالى إلى زكريا، فمن قرأ (زكرياء) بالمد أظهر النصب ومن قرأ بالقصر كان في محل النصب والباقون قرأوا بالمد والرفع على معنى ضمها زكرياء إلى نفسه، وهو الاختيار، لأن هذا مناسب لقوله تعالى: * (أيهم يكفل مريم) * وعليه الأكثر، وعن ابن كثير في رواية * (كفلها) * بكسر الفاء، وأما القصر والمد في زكريا فهما لغتان، كالهيجاء والهيجا، وقرأ مجاهد * (فتقبلها ربها، وأنبتها، وكفلها) * على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة، ونصب * (ربها) * كأنها كانت تدعو الله فقالت: اقبلها يا ربها، وأنبتها يا ربها، واجعل زكريا كافلا لها.
المسألة الثالثة: اختلفوا في كفالة زكريا عليه السلام إياها متى كانت، فقال الأكثرون: كان ذلك حال طفوليتها، وبه جاءت الروايات، وقال بعضهم: بل إنما كفلها بعد أن فطمت، واحتجوا عليه بوجهين الأول: أنه تعالى قال: * (وأنبتها نباتا حسنا) * ثم قال: * (وكفلها زكريا) * وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن والثاني: أنه تعالى قال: * (وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله) * وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع وقت تلك الكفالة، وأصحاب القول الأول أجابوا بأن الواو لا توجب الترتيب، فلعل الانبات الحسن وكفالة زكرياء حصلا معا.
وأما الحجة الثانية: فلعل دخوله عليها وسؤاله منها هذا السؤال إنما وقع في آخر زمان الكفالة.
ثم قال الله: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: * (المحراب) * الموضع العالي الشريف، قال عمر بن أبي ربيعة:
ربة محراب إذا جئتها * لم أدن حتى أرتقي سلما
واحتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى: * (إذ تسوروا المحراب) * والتسور لا يكون إلا من علو، وقيل: المحراب أشرف المجالس وأرفعها، يروى أنها لما صارت شابة بنى زكريا عليه السلام لها غرفة في المسجد، وجعل بابها في وسطه لا يصعد إليه إلا بسلم، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب.
31

المسألة الثانية: احتج أصحابنا على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية، ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم: أنى لك هذا؟ قالت هو من عند الله، فحصول ذلك الرزق عندها إما أن يكون خارقا للعادة، أو لا يكون، فإن قلنا: إنه غير خارق للعادة فهو باطل من خمسة أوجه الأول: أن على هذا التقدير لا يكون حصول ذلك الرزق عند مريم دليلا على علو شأنها وشرف درجتها وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصية ومعلوم أن المراد من الآية هذا المعنى والثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية * (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) * والقرآن دل على أنه كان آيسا من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته، فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد فيستقيم قوله * (هنالك دعا زكريا ربه) * أما لو كان الذي شاهده في حق مريم لم يكن خارقا للعادة لم تكن مشاهدة ذلك سببا لطمعه في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر الثالث: أن التنكر في قوله * (وجد عندها رزقا) * يدل على تعظيم حال ذلك الرزق، كأنه قيل: رزقا. أي رزق غريب عجيب، وذلك إنما يفيد الغرض اللائق لسياق هذه الآية لو كان خارقا للعادة الرابع: هو أنه تعالى قال: * (وجعلناها وابنها آية للعالمين) * (الأنبياء: 91) ولولا أنه ظهر عليهما من الخوارق، وإلا لم يصح ذلك.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: المراد من ذلك هو أن الله تعالى خلق لها ولدا من غير ذكر؟
قلنا: ليس هذا بآية، بل يحتاج تصحيحه إلى آية، فكيف نحمل الآية على ذلك، بل المراد من الآية ما يدل على صدقها وطهارتها، وذلك لا يكون إلا بظهور خوارق العادات على يدها كما ظهرت على يد ولدها عيسى عليه السلام الخامس: ما تواترت الروايات به أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها السلام كان فعلا خارقا للعادة، فنقول: إما أن يقال: إنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك، والأول باطل لأن النبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه السلام، ولو كان ذلك معجزة له لكان هو عالما بحاله وشأنه، فكان يجب أن لا يشتبه أمره عليه وأن لا يقول لمريم * (أنى لك هذا) * وأيضا فقوله تعالى: * (هنالك دعا زكريا ربه) * مشعر بأنه لما سألها عن أمر تلك الأشياء ثم إنها ذكرت له أن ذلك من عند الله فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من المرأة العقيمة الشيخة العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا بأخبار مريم، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال: إنها كانت كرامة لعيسى عليه السلام، أو كانت كرامة لمريم عليها السلام، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على وقوع كرامات الأولياء.
32

اعترض أبو علي الجبائي وقال: لم لا يجوز أن يقال إن تلك الخوارق كانت من معجزات زكريا عليه السلام، وبيانه من وجهين الأول: أن زكريا عليه السلام دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقا، وأنه ربما كان غافلا عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله تعالى، فإذا رأى شيئا بعينه في وقت معين قال لها * (أنى لك هذا قالت هو من عند الله) * فعند ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة والثاني: يحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقا معتادا إلا أنه كان يأتيها من
السماء، وكان زكريا يسألها عن ذلك حذرا من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها، فقالت هو من عند الله لا من عند غيره.
المقام الثاني: أنا لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من خوارق العادات، بل معنى الآية أن الله تعالى كان قد سبب لها رزقا على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات، فكان زكريا عليه السلام إذا رأى شيئا من ذلك خاف أنه ربما أتاها ذلك الرزق من وجه لا ينبغي، فكان يسألها عن كيفية الحال، هذا مجموع ما قاله الجبائي في " تفسيره " وهو في غاية الضعف، لأنه لو كان ذلك معجزا لزكريا عليه السلام كان مأذونا له من عند الله تعالى في طلب ذلك، ومتى كان مأذونا في ذلك الطلب كان عالما قطعا بأن يحصل، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال، ولم يبق أيضا لقوله * (هنالك دعا زكريا ربه) * فائدة، وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني.
وأما سؤاله الثالث ففي غاية الركاكة لأن هذا التقدير لا يبقى فيه وجه اختصاص لمريم بمثل هذه الواقعة، وأيضا فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا ينبغي فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة فعلمنا سقوط هذه الأسئلة وبالله التوفيق.
أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوة لا يوجد مع غير الأنبياء، كما أن الفعل المحكم لما كان دليلا على العلم لا جرم لا يوجد في حق غير العالم.
والجواب من وجوه الأول: وهو أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدعي، فإن ادعى صاحبه النبوة فذاك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيا، وإن ادعى الولاية فذلك يدل على كونه وليا والثاني: قال بعضهم: الأنبياء مأمورون بإظهارها، والأولياء مأمورون بإخفائها والثالث: وهو أن النبي يدعي المعجز ويقطع به، والولي لا يمكنه أن يقطع به والرابع: أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة، فهذا جملة
33

الكلام في هذا الباب وبالله التوفيق.
ثم قال تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: * (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) * فهذا يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم، وأن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى، وقوله * (بغير حساب) * أي بغير تقدير لكثرته، أو من غير مسألة سألها على سبيل يناسب حصولها، وهذا كقوله * (ويرزقه من حيث لا يحتسب) * (الطلاق: 3) وههنا آخر الكلام في قصة حنة. القصة الثانية واقعة زكريا عليه السلام
قوله تعالى
* (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعآء) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قولنا: ثم، وهناك، وهنالك، يستعمل في المكان، ولفظة: عند، وحين يستعملان في الزمان، قال تعالى: * (فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) * (الأعراف: 119) وهو إشارة إلى المكان الذي كانوا فيه، وقال تعالى: * (إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا) * (الفرقان: 13) أي في ذلك المكان الضيق، ثم قد يستعمل لفظة * (هنالك) * في الزمان أيضا، قال تعالى: * (هنالك الولاية لله الحق) * (الكهف: 44) فهذا إشارة إلى الحال والزمان. إذا عرفت هذا فنقول: قوله * (هنالك دعا زكريا ربه) * إن حملناه على المكان فهو جائز، أي في ذلك المكان الذي كان قاعدا فيه عند مريم عليها السلام، وشاهد تلك الكرامات دعا ربه، وإن حملناه على الزمان فهو أيضا جائز، يعني في ذلك الوقت دعا ربه.
المسألة الثانية: اعلم أن قوله * (هنالك دعا) * يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء عند أمر عرفه في ذلك الوقت له تعلق بهذا الدعاء، وقد اختلفوا فيه، والجمهور الأعظم من العلماء المحققين والمفسرين قالوا: هو أن زكريا عليه السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء، ومن فاكهة الشتاء في الصيف، فلما رأى خوارق العادات عندها، طمع في أن يخرقها الله تعالى في حقه أيضا فيرزقه الولد
34

من الزوجة الشيخة العاقر.
والقول الثاني: وهو قول المعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء، وإرهاصات الأنبياء قالوا: إن زكريا عليه السلام لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم عليها السلام اشتهى الولد وتمناه فدعا عند ذلك، واعلم أن القول الأول أولى، وذلك لأن حصول الزهد والعفاف والسيرة المرضية لا يدل على انخراق العادات، فرؤية ذلك لا يحمل الإنسان على طلب ما يخرق العادة، وأما رؤية ما يخرق العادة قد يطمعه في أن يطلب أيضا فعلا خارقا للعادة ومعلوم أن حدوث الولد من الشيخ الهرم، والزوجة العاقر من خوارق العادات، فكان حمل الكلام على هذا الوجه أولى.
فإن قيل: إن قلتم إن زكريا عليه السلام ما كان يعلم قدرة الله تعالى على خرق العادات إلا عندما شاهد تلك الكرامات عند مريم عليها السلام كان في هذا نسبة الشك في قدرة الله تعالى إلى زكريا عليه السلام.
فإن قلنا: إنه كان عالما بقدرة الله على ذلك لمن تكن مشاهدة تلك الأشياء سببا لزيادة علمه بقدرة الله تعالى، فلم يكن لمشاهدة تلك الكرامات أثر في ذلك، فلا يبقى لقوله هنالك أثر.
والجواب: أنه كان قبل ذلك عالما بالجواز، فأما أنه هل يقع أم لا فلم يكن عالما به، فلما شاهد علم أنه إذا وقع كرامة لولي، فبأن يجوز وقوع معجزة لنبي كان أولى، فلا جرم قوي طمعه عند مشاهدة تلك الكرامات.
المسألة الثالثة: إن دعاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلا بعد الإذن، لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة، فحينئذ تصير دعوته مردودة، وذلك نقصان في منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هكذا قاله المتكلمون، وعندي فيه بحث، وذلك لأنه تعالى لما أذن في الدعاء مطلقا، وبين أنه تارة يجيب وأخرى لا يجيب، فللرسول أن يدعو كلما شاء وأراد مما لا يكون معصية، ثم إنه تعالى تارة يجيب وأخرى لا يجيب، وذلك لا يكون نقصانا بمنصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم على باب رحمة الله تعالى سائلون فإن أجابهم فبفضله وإحسانه وإن لم يجبهم فمن المخلوق حتى يكون له منصب على باب الخالق.
أما قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: * (هب لي من لدنك ذرية طيبة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أما الكلام في لفظة * (لدن) * فسيأتي في سورة الكهف والفائدة في ذكره ههنا أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة فلما طلب الولد مع فقدان تلك
35

الأسباب كان المعنى: أريد منك إلهي أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وأن تحدث هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسط شيء من هذه الأسباب.
المسألة الثانية: لذرية النسل، وهو لفظ يقع على الواحد، والجمع، والذكر والأنثى، والمراد منه ههنا: ولد واحد، وهو مثل قوله * (فهب لي من لدنك وليا) * (مريم: 5) قال الفراء: وأنث * (طيبة) * لتأنيث الذرية في الظاهر، فالتأنيث والتذكير تارة يجيء على اللفظ، وتارة على المعنى، وهذا إنما نقوله في أسماء الأجناس، أما في أسماء الأعلام فلا، لأنه لا يجوز أن يقال جاءت طلحة، لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص، فإذا كان ذلك الشخص مذكرا لم يجز فيها إلا التذكير.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (إنك سميع الدعاء) * ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم، بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه، وهو كقول المصلين: سمع الله لمن حمده، يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين، وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) * (مريم: 4).
* (فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشآء) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: فناداه الملائكة، على التذكير والإمالة، والباقون على التأنيث على اللفظ، وقيل: من ذكر فلأن الفعل قبل الاسم، ومن أنث فلأن الفعل للملائكة، وقرأ ابن عامر * (المحراب) * بالإمالة، والباقون بالتفخيم، وفي قراءة ابن مسعود: فناداه جبريل.
المسألة الثانية: ظاهر اللفظ يدل على أن النداء كان من الملائكة، ولا شك أن هذا في التشريف أعظم، فإن دل دليل منفصل أن المنادي كان جبريل عليه السلام فقط صرنا إليه.
36

وحملنا هذ اللفظ على التأويل، فإنه يقال: فلان يأكل الأطعمة الطيبة، ويلبس الثياب النفيسة، أي يأكل من هذا الجنس، ويلبس من هذا الجنس، مع أن المعلوم أنه لم يأكل جميع الأطعمة، ولم يلبس جميع الأثواب، فكذا ههنا، ومثله في القرآن * (الذين قال لهم الناس) * (آل عمران: 173) وهم نعيم بن مسعود إن الناس: يعني أبا سفيان، قال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيسا جاز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه، فلما كان جبريل رئيس الملائكة، وقلما يبعث إلا ومعه جمع صح ذلك.
أما قوله * (وهو قائم يصلي في المحراب) * فهو يدل على أن الصلاة كانت مشروعة في دينهم، والمحراب قد ذكرنا معناه.
أما قوله * (أن الله يبشرك بيحيى) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: أما البشارة فقد فسرناها في قوله تعالى: * (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (البقرة: 25) وفي قوله * (يبشرك بيحيى) * وجهان الأول: أنه تعالى كان قد عرف زكريا أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله ذرية عالية، فإذا قيل: إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان ذلك بشارة له بيحيى عليه السلام والثاني: أن الله يبشرك بولد اسمه يحيى.
المسألة الثانية: قرأ ابن عامر وحمزة * (إن) * بكسر الهمزة، والباقون بفتحها، أما الكسر فعلى إرادة القول، أو لأن النداء نوع من القول، وأما الفتح فتقديره: فنادته الملائكة بأن الله يبشرك.
المسألة الثالثة: قرأ حمزة والكسائي * (يبشرك) * بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين، وقرأ الباقون * (يبشرك) * وقرئ أيضا * (يبشرك) * قال أبو زيد يقال: بشر يبشر بشرا، وبشر يبشر تبشيرا، وأبشر يبشر ثلاث لغات.
المسألة الرابعة: قرأ حمزة والكسائي * (يحيى) * بالإمالة لأجل الياء والباقون بالتفخيم، وأما أنه لم سمى يحيى فقد ذكرناه في سورة مريم، واعلم أنه تعالى ذكر من صفات يحيى ثلاثة أنواع:
الصفة الأولى: قوله * (مصدقا بكلمة من الله) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الواحدي قوله * (مصدقا بكلمة من الله) * نصب على الحال لأنه نكرة، ويحيى معرفة.
المسألة الثانية: في المراد * (بكلمة من الله) * قولان الأول: وهو قول أبي عبيدة: أنها كتاب من الله، واستشهد بقولهم: أنشد فلان كلمة، والمراد به القصيدة
الطويلة.
والقول الثاني: وهو اختيار الجمهور: أن المراد من قوله * (بكلمة من الله) * هو عيسى عليه السلام، قال السدي: لقيت أم عيسى أم يحيى عليهما السلام، وهذه حامل بيحيى وتلك بعيسى،
37

فقالت: يا مريم أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم: وأنا أيضا حبلى، قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله * (مصدقا بكلمة من الله) * وقال ابن عباس: إن يحيى كان أكبر سنا من عيسى بستة أشهر، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليهما السلام، فإن قيل: لم سمي عيسى كلمة في هذه الآية، وفي قوله * (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته) * (النساء: 171) قلنا: فيه وجوه الأول: أنه خلق بكلمة الله، وهو قوله * (كن) * من غير واسطة الأب، فلما كان تكوينه بمحض قول الله * (كن) * وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر، لا جرم سمى: كلمة، كما يسمى المخلوق خلقا، والمقدور قدرة، والمرجو رجاء، والمشتهي شهوة، وهذا باب مشهور في اللغة والثاني: أنه تكلم في الطفولية، وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية، فكان في كونه متكلما بالغا مبلغا عظيما، فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال: فلان جود وإقبال إذا كان كاملا فيهما والثالث: أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق، كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية، فسمى: كلمة، بهذا التأويل، وهو مثل تسميته روحا من حيث إن الله تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح، وقد سمى الله القرآن روحا فقال: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52) والرابع: أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله، فلما جاء قيل: هذا هو تلك الكلمة، فسمى كلمة بهذا التأويل قالوا: ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال: قد جاء قولي وجاء كلامي، أي ما كنت أقول وأتكلم به، ونظيره قوله تعالى: * (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار) * (غافر: 6) وقال: * (ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) * (الزمر: 71) الخامس: أن الإنسان قد يسمى بفضل الله ولطف الله، فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم: كلمة الله، وروح الله، واعلم أن كلمة الله هي كلامه، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته، وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها الله تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة، والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال: أنها هي ذات عيسى عليه السلام، ولما كان ذلك باطلا في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل.
الصفة الثانية: ليحيى عليه السلام قوله * (وسيدا) * والمفسرون ذكروا فيه وجوها الأول: قال ابن عباس: السيد الحليم، وقال الجبائي: إنه كان سيدا للمؤمنين، رئيسا لهم في الدين، أعني في العلم والحلم والعبادة والورع، وقال مجاهد: الكريم على الله، وقال ابن المسيب: الفقيه العالم، وقال عكرمة الذي لا يغلبه الغضب، قال القاضي: السيد هو المتقدم المرجوع إليه، فلما كان سيدا في
38

الدين كان مرجوعا إليه في الدين وقدوة في الدين، فيدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم والحلم والكرم والعفة والزهد والورع.
الصفة الثالثة: قوله * (وحصورا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسير الحصور والحصر في اللغة الحبس، يقال حصره يحصره حصرا وحصر الرجل: أي اعتقل بطنه، والحصور الذي يكتم السر ويحبسه، والحصور الضيق البخيل، وأما المفسرون: فلهم قولان أحدهما: أنه كان عاجزا عن إتيان النساء، ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة، ومنهم من قال: كان ذلك لتعذر الإنزال، ومنهم من قال: كان ذلك لعدم القدرة، فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول، كأنه قال محصور عنهن، أي محبوس، ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب، وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز، ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثوابا ولا تعظيما.
والقول الثاني: وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد، وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب، والظلوم، والغشوم، والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائما، فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين، وإلا لما كان حاصرا لنفسه فضلا عن أن يكون حصورا، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة، وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل وذلك لأنه تعالى مدحه بترك النكاح، وذلك يدل على أن ترك النكاح أفضل في تلك الشريعة، وإذا ثبت أن الترك في تلك الشريعة أفضل، وجب أن يكون الأمر كذلك في هذه الشريعة بالنص والمعقول، أما النص فقوله تعالى: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90) وأما المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان والنسخ على خلاف الأصل.
الصفة الرابعة: قوله * (ونبيا) * واعلم أن السيادة إشارة إلى أمرين أحدهما: قدرته على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى تعليم الدين والثاني: ضبط مصالحهم فيما يرجع إلى التأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الحصور فهو إشارة إلى الزهد التام فلما اجتمعا حصلت النبوة بعد ذلك، لأنه ليس بعدهما إلا النبوة.
الصفة الخامسة: قوله * (من الصالحين) * وفيه ثلاثة أوجه الأول: معناه أنه من أولاد
39

الصالحين والثاني: أنه خير كما يقال في الرجل الخير (أنه من الصالحين) والثالث: أن صلاحه كان أتم من صلاح سائر الأنبياء، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: " ما من نبي إلا وقد عصى، أو هم بمعصية غير يحيى فإنه لم يعص ولم يهم ".
فإن قيل: لما كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح فلما وصفه بالنبوة فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بالصلاح؟
قلنا: أليس أن سليمان عليه السلام بعد حصول النبوة قال: * (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) * (النمل: 19) وتحقيق القول فيه: أن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر، وكل من كان أكثر نصيبا منه كان أعلى قدرا والله أعلم.
قوله تعالى: * (قال رب أنى يكون لي غلام) * في الآية سؤالات:
السؤال الأول: قوله * (رب) * خطاب مع الله أو مع الملائكة، لأنه جائز أن يكون خطابا مع الله، لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوه هم الملائكة، وهذا الكلام لا بد أن يكون خطابا مع ذلك المنادي لا مع غيره، ولا جائز أن يكون خطابا مع الملك، لأنه لا يجوز للإنسان أن يقول للملك: يا رب.
والجواب: للمفسرين فيه قولان الأول: أن الملائكة لما نادوه بذلك وبشروه به تعجب زكريا عليه السلام ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى والثاني: أنه خطاب مع الملائكة والرب إشارة إلى المربي، ويجوز وصف المخلوق به، فإنه يقال: فلان يربيني ويحسن إلي.
السؤال الثاني: لما كان زكريا عليه السلام هو الذي سأل الولد، ثم أجابه الله تعالى إليه فلم تعجب منه ولم استبعده؟
الجواب: لم يكن هذا الكلام لأجل أنه كان شاكا في قدرة الله تعالى على ذلك والدليل عليه وجهان الأول: أن كل أحد يعلم أن خلق الولد من النطفة إنما كان على سبيل العادة لأنه لو كان لا نطفة إلا من خلق، ولا خلق إلا من نطفة، لزم التسلسل ولزم حدوث الحوادث في الأزل وهو محال، فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله تعالى لا من نطفة أو من نطفة خلقها الله تعالى لا من إنسان.
40

والوجه الثاني: أن زكريا عليه السلام طلب ذلك من الله تعالى، فلو كان ذلك محالا ممتنعا لما طلبه من الله تعالى، فثبت بهذين الوجهين أن قوله * (أنى يكون لي غلام) * ليس للاستبعاد، بل ذكر العلماء فيه وجوها الأول: أنه قوله * (أنى) * معناه: من أين. ويحتمل أن يكون معناه: كيف تعطي ولدا على القسم الأول أم على القسم الثاني، وذلك لأن حدوث الولد يحتمل وجهين أحدهما: أن يعيد الله شبابه ثم يعطيه الولد مع شيخوخته، فقوله * (أنى يكون لي غلام) * معناه: كيف تعطي الولد على القسم الأول أم على القسم الثاني؟ فقيل له كذلك، أي على هذا الحال والله يفعل ما يشاء، وهذا القول ذكره الحسن والأصم والثاني: أن من كان آيسا من الشيء مستبعدا لحصوله ووقوعه إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود فربما صار كالمدهوش من شدة الفرح فيقول: كيف حصل هذا، ومن أين وقع هذا كمن يرى إنسانا وهبه أموالا عظيمة، يقول كيف وهبت هذه الأموال، ومن أين سمحت نفسك بهبتها؟ فكذا ههنا لما كان زكريا عليه السلام مستبعدا لذلك، ثم اتفق إجابة الله تعالى إليه، صار من عظم فرحه وسروره قال ذلك الكلام الثالث: أن الملائكة لما بشروه بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة أنثى أو من صلبه، فذكر هذا الكلام لذلك الاحتمال الرابع: أن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء فطلبه من السيد، ثم إن السيد يعده بأنه سيعطيه بعد ذلك، فالتذ السائل بسماع ذلك الكلام، فربما أعاد السؤال ليعيد ذلك الجواب فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى، فالسبب في إعادة زكريا هذا الكلام يحتمل أن يكون من هذا الباب الخامس: نقل سفيان بن عيينة أنه قال: كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة فلما سمع البشارة زمان الشيخوخة لا جرم استبعد ذلك على مجرى العادة لا شكا في قدرة الله تعالى فقال ما قال السادس: نقل عن السدي أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال إن هذا الصوت من الشيطان، وقد سخر منك فاشتبه الأمر على زكريا عليه السلام فقال: * (رب أنى يكون لي غلام) * وكان مقصوده من هذا الكلام أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي والملائكة لا من إلقاء الشيطان قال القاضي: لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع ويمكن أن يقال: لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملائكة ولا مدخل للشيطان فيه، أما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فربما لم يتأكد ذلك المعجز فلا جرم بقي احتمال كون ذلك من الشيطان فلا جرم رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال.
41

أما قوله تعالى: * (وقد بلغني الكبر) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الكبر مصدر كبر الرجل يكبر إذا أسن، قال ابن عباس: كان يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت تسعين وثمان.
المسألة الثانية: قال أهل المعاني: كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك، وكلما جاز أن يقول: بلغت الكبر جاز أن يقول بلغني الكبر يدل عليه قول العرب: لقيت الحائط، وتلقاني الحائط.
فإن قيل: يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد، قلنا: هذا لا يجوز، والفرق بين الموضعين أن الكبر كالشئ الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه، والإنسان أيضا يأتيه بمرور السنين عليه، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب، فظهر الفرق.
أما قوله * (وامرأتي عاقر) *.
اعلم أن العاقر من النساء التي لا تلد، يقال: عقر يعقر عقرا، ويقال أيضا عقر الرجل، وعقر بالحركات الثلاثة في القاف إذا لم يحمل له، ورمل عاقر: لا ينبت شيئا، واعلم أن زكريا عليه السلام ذكر كبر نفسه مع كون زوجته عاقرا لتأكيد حال الاستبعاد.
أما قوله * (قال كذلك الله يفعل ما يشاء) * ففيه بحثان الأول: أن قوله * (قال) * عائد إلى مذكور سابق، وهو الرب المذكور في قوله * (قال رب أنى يكون لي غلام) * وقد ذكرنا أن ذلك يحتمل أن يكون هو الله تعالى، وأن يكون هو جبريل.
البحث الثاني: قال صاحب " الكشاف " * (كذلك الله) * مبتدأ وخبر أي على نحو هذه الصفة الله، ويفعل ما يشاء بيان له، أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادة.
قوله تعالى
* (قال رب اجعل لىءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبكار وإذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على
42

نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) *.
واعلم أن زكريا عليه السلام لفرط سروره بما بشر به وثقته بكرم ربه، وإنعامه عليه أحب أن يجعل له علامة تدل على حصول العلوق، وذلك لأن العلوق لا يظهر في أول الأمر فقال: * (رب اجعل لي آية) * فقال الله تعالى: * (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكره ههنا ثلاثة أيام، وذكر في سورة مريم ثلاثة ليالي فدل مجموع الآيتين على أن تلك الآية كانت حاصلة في الأيام الثلاثة مع لياليها. المسألة الثانية: ذكروا في تفسير هذه الآية وجوها أحدها: أنه تعالى حبس لسانه ثلاثة أيام فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزا، وفيه فائدتان إحداهما: أن يكون ذلك آية على علوق الولد والثانية: أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل، ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر الله تعالى، وبالطاعة والشكر على تلك النعمة الجسيمة وعلى هذا التقدير يصير الشيء الواحد علامة على المقصود، وأداء لشكر تلك النعمة، فيكون جامعا لكل المقاصد.
ثم اعلم أن تلك الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه أحدها: أن قدرته على التكلم بالتسبيح والذكر، وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من أعظم المعجزات وثانيها: أن حصول ذلك المعجز في تلك الأيام المقدورة مع سلامة البنية واعتدال المزاج من جملة المعجزات وثالثها: أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد، ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضا من المعجزات.
القول الثاني في تفسير هذه الآية: وهو قول أبي مسلم: أن المعنى أن زكريا عليه السلام لما طلب من الله تعالى آية تدله على حصول العلوق، قال آيتك أن لا تكلم، أي تصير مأمورا بأن لا تتكلم ثلاثة أيام بلياليها مع الخلق، أي تكون مشتغلا بالذكر والتسبيح والتهليل معرضا عن الخلق والدنيا شاكرا لله تعالى على إعطاء مثل هذه الموهبة، فإن كانت لك حاجة دل عليها بالرمز فإذا أمرت بهذه الطاعة فاعلم أنه قد حصل المطلوب، وهذا القول عندي حسن معقول، وأبو مسلم حسن الكلام في التفسير كثير الغوص على الدقائق واللطائف.
القول الثالث: روي عن قتادة أنه عليه الصلاة والسلام عوقب بذلك من حيث سأل الآية بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصير بحيث لا يقدر على الكلام.
43

أما قوله * (إلا رمزا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: أصل الرمز الحركة، يقال: ارتمز إذا تحرك، ومنه قيل للبحر: الراموز، ثم اختلفوا في المراد بالرمز ههنا على أقوال أحدها: أنه عبارة عن الإشارة كيف كانت باليد، أو الرأس، أو الحاجب، أو العين، أو الشفة والثاني: أنه عبارة عن تحريك الشفتين باللفظ من غير نطق وصوت قالوا: وحمل الرمز على هذا المعنى أولى، لأن الإشارة بالشفتين يمكن وقوعها بحيث تكون حركات الشفتين وقت الرمز مطابقة لحركاتهما عند النطق فيكون الاستدلال بتلك الحركات على المعاني الذهنية أسهل والثالث: وهو أنه كان يمكنه أن يتكلم بالكلام الخفي، وأما رفع الصوت بالكلام فكان ممنوعا منه.
فإن قيل: الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه؟.
قلنا: لما أدى ما هو المقصود من الكلام سمي كلاما، ويجوز أيضا أن يكون استثناء منقطعا فأما إن حملنا الرمز على الكلام الخفي فإن الإشكال زائل.
المسألة الثانية: قرأ يحيى بن وثاب * (إلا رمزا) * بضمتين جمع رموز، كرسول ورسل، وقرئ * (رمزا) * بفتح الراء والميم جمع رامز، كخادم وخدم، وهو حال منه ومن الناس، ومعنى * (إلا رمزا) * إلا مترامزين، كما يتكلم الناس مع الأخرس بالإشارة ويكلمهم.
ثم قال الله تعالى: * (واذكر ربك كثيرا) * وفيه قولان أحدهما: أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا * (إلا رمزا) * فأما في الذكر والتسبيح، فقد كان لسانه جيدا، وكان ذلك من المعجزات الباهرة والثاني: إن المراد منه الذكر بالقلب وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في الأول أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله سكت اللسان وبقي الذكر في القلب، ولذلك قالوا: من عرف الله كل لسانه، فكأن زكريا عليه السلام أمر بالسكوت واستحضار معاني الذكر والمعرفة واستدامتها.
* (وسبح بالعشي والأبكار) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: * (العشي) * من حين نزول الشمس إلى أن تغيب، قال الشاعر:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه * ولا الفيء من برد العشى تذوق
والفئ إنما يكون من حين زوال الشمس إلى أن يتناهى غروبها، وأما الإبكار فهو مصدر بكرر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار، ومثله بكر وابتكر وبكر، ومنه الباكورة لأول الثمرة، هذا هو أصل اللغة، ثم سمي ما بين طلوع الفجر إلى الضحى: إبكارا، كما سمي إصباحا، وقرأ بعضهم * (والأبكار) * بفتح الهمزة، جمع بكر كسحر وأسحار، ويقال: أتيته بكرا بفتحتين.
44

المسألة الثانية: في قوله * (وسبح) * قولان أحدهما: المراد منه: وصل لأن الصلاة تسمى تسبيحا قال الله تعالى: * (فسبحان الله حين تمسون) * وأيضا الصلاة مشتملة على التسبيح، فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح، وههنا الدليل دل على وقوع هذا المحتمل وهو من وجهين الأول: أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله * (واذكر ربك) * فرق، وحينئذ يبطل لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز والثاني: وهو أنه شديد الموافقة لقوله تعالى: * (أقم الصلاة طرفي النهار) * وثانيهما: أن قوله * (واذكر ربك) * محمول على الذكر باللسان.
القصة الثالثة
وصفه طهارة مريم صلوات الله عليها
قوله تعالى
* (وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نسآء العالمين * يامريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: عامل الإعراب ههنا في * (إذ) * هو ما ذكرناه في قوله * (إذ قالت امرأة عمران) * (آل عمران: 35) من قوله * (سميع عليم) * ثم عطف عليه * (إذ قالت الملائكة) * وقيل: تقديره واذكر إذ قالت الملائكة.
المسألة الثانية: قالوا المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده، وهذا كقوله * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النحل: 2) يعني جبريل، وهذا وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه، لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل عليه السلام، وهو قوله * (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا) * (مريم: 17). المسألة الثالثة: اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) * (يوسف: 109) وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها إما أن يكون كرامة لها، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء، أو إرهاصا لعيسى عليه السلام، وذلك جائز عندنا، وعند الكعبي من المعتزلة، أو معجزة لزكريا عليه السلام، وهو قول جمهور المعتزلة، ومن الناس من قال: إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب، كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله * (وأوحينا إلى أم موسى) * (القصص: 7).
المسألة الرابعة: اعلم أن المذكور في هذه الآية أولا: هو الاصطفاء، وثانيا: التطهير، وثالثا: الاصطفاء على نساء العالمين، ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولا من الاصطفاء الثاني، لما أن التصريح
45

بالتكرير غير لائق، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها.
النوع الأول من الاصطفاء: فهو أمور أحدها: أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث وثانيها: قال الحسن: إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، وكان رزقها يأتيها من الجنة وثالثها: أنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ورابعها: أنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى: * (أنى لك هذا قالت هو من عند الله) * وخامسها: أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول، وأما التطهير ففيه وجوه أحدها: أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية، فهو كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم * (ويطهركم تطهيرا) * (الأحزاب: 33) وثانيها: أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال وثالثها: طهرها عن الحيض، قالوا: كانت مريم لا تحيض ورابعها: وطهرك من الأفعال الذميمة، والعادات القبيحة وخامسها: وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم.
وأما الاصطفاء الثاني: فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة، وجعلها وابنها آية للعالمين، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة.
المسألة الخامسة: روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " حسبك من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون، وخديجة، وفاطمة عليهن السلام " فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء، وهذه الآي دلت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل، وقول من قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها، فهذا ترك الظاهر.
ثم قال تعالى: * (يا مريم اقنتي لربك واسجدي) * وقد تقدم تفسير القنوت في سورة البقرة في قوله تعالى: * (وقوموا لله قانتين) * (البقرة: 238) وبالجملة فلما بين تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله أوجب عليها مزيد الطاعات، شكرا لتلك النعم السنية، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع؟.
والجواب من وجوه الأول: أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب الثاني: أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجدا قال عليه الصلاة والسلام: " أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد " فلما كان السجود مختصا بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات.
46

ثم قال: * (واركعي مع الراكعين) * وهو إشارة إلى الأمر بالصلاة، فكأنه تعالى يأمرها بالمواظبة على السجود في أكثر الأوقات، وأما الصلاة فإنها تأتي بها في أوقاتها المعينة لها والثالث: قال ابن الأنباري: قوله تعالى: * (اقنتي) * أمر بالعبادة على العموم، ثم قال بعد ذلك * (اسجدي واركعي) * يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، واستعملي الركوع في وقته اللائق به، وليس المراد أن يجمع بينهما، ثم يقدم السجود على الركوع والله أعلم الرابع: أن الصلاة تسمى سجودا كما
قيل في قوله * (وأدبار السجود) * (ق: 40) وفي الحديث " إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين " وأيضا المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة، وأيضا أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز.
إذا ثبت هذا فنقول قوله * (يا مريم اقنتي) * معناه: يا مريم قومي، وقوله * (واسجدي) * أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة، ثم قال: * (واركعي مع الراكعين) * إما أن يكون أمرا لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله * (واسجدي) * أمرا بالصلاة حال الانفراد، وقوله * (واركعي مع الراكعين) * أمرا بالصلاة في الجماعة، أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله * (واسجدي) * أمرا ظاهرا بالصلاة، وقوله * (واركعي مع الراكعين) * أمرا بالخضوع والخشوع بالقلب.
الوجه الخامس في الجواب: لعله كان السجود في ذلك الدين متقدما على الركوع.
السؤال الثاني: اما المراد من قوله * (واركعي مع الراكعين) *.
والجواب: قيل معناه: افعلي كفعلهم، وقيل المراد به الصلاة في الجماعة كانت مأمورة بأن تصلي في بيت المقدس مع المجاورين فيه، وإن كانت لا تختلط بهم.
السؤال الثالث: لم لم يقل واركعي مع الراكعات؟
والجواب لأن الاقتداء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء.
واعلم أن المفسرين قالوا: لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات مع مريم عليها السلام شفاها، قامت مريم في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح من قدميها.
قوله تعالى
* (ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) *.
47

وفيه مسائل:
المسألة الأولى: * (ذلك) * إشارة إلى ما تقدم، والمعنى أن الذي مضى ذكره من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم، إنما هو من إخبار الغيب فلا يمكنك أن تعلمه إلا بالوحي.
فإن قيل: لم نفيت هذه المشاهدة، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها وهو موهوم؟.
قلنا: كان معلوما عندهم علما يقينيا أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي، فلم يبق إلا المشاهدة، وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة، ونظيره * (وما كنت بجانب الغربي) * (القصص: 44)، * (وما كنت بجانب الطور) * (القصص: 46) وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم) * (يوسف: 102) * (وما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) * (هود: 49).
المسألة الثانية: الأنباء: الإخبار عما غاب عنك، وأما الإيحاء فقد ورد الكتاب به على معان مختلفة، يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما، وبهذا التفسير يعد الإلهام وحيا كقوله تعالى: * (وأوحى ربك إلى النحل) * (النحل: 68) وقال في الشياطين * (ليوحون إلى أوليائهم) * (الأنعام: 121) وقال: * (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) * (مريم: 11) فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأشياء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحيا.
أما قوله تعالى: * (إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في تلك الأقلام وجوها الأول: المراد بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وسائر كتب الله تعالى، وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلموا الأمر له وهذا قول الأكثرين والثاني: أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري جرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم، هذا قول الربيع والثالث: قال أبو مسلم: معنى يلقون أقلامهم مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم فمن خرج له السهم سلم له الأمر، وقد قال الله تعالى: * (فساهم فكان من المدحضين) * (الصافات: 141) وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور، وإنما سميت هذه السهام أقلاما لأنها تقلم وتبرى، وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلما.
قال القاضي: وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحا نظرا إلى أصل الاشتقاق، إلا أن العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به، فوجب حمل لفظ القلم عليه.
48

المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون أقلامهم في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب، وإما ليس فيه دلالة على كيفية ذلك الإلقاء، إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له، ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا عليه السلام، فلا جرم صار هو أولى بكفالتها والله أعلم.
المسألة الثالثة: اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة، فقال بعضهم: إن عمران أباها كان رئيسا لهم ومقدما عليهم، فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها، وقال بعضهم: إن أمها حررتها لعبادة الله تعالى ولخدمة بيت الله تعالى، ولأجل ذلك حرصوا على التكفل بها، وقال آخرون: بل لأن في الكتب الإلهية كان بيان أمرها وأمر عيسى عليه السلام حاصلا فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن أولئك المختصمين من كانوا؟ فمنهم من قال: كانوا هم خدمة البيت، ومنهم من قال: بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي، ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في الطريق.
أما قوله: * (أيهم يكفل مريم) * ففيه حذف والتقدير: يلقون أقلامهم لينظروا أيهم يكفل مريم وإنما حسن لكونه معلوما.
أما قوله * (وما كنت لديهم إذ يختصمون) * فالمعنى وما كنت هناك إذ يتقارعون على التكفل بها وإذ يختصمون بسببها فيحتمل أن يكون المراد بهذا الاختصام ما كان قبل الإقراع، ويحتمل أن يكون اختصاما آخر حصل بعد الإقراع، وبالجملة فالمقصود من الآية شدة رغبتهم في التكفل بشأنها، والقيام بإصلاح مهماتها، وما ذاك إلا لدعاء أمها حيث قالت * (فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) * (آل عمران: 35) وقالت * (إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * (آل عمران: 36).
قوله سبحانه وتعالى
* (إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والاخرة ومن المقربين * ويكلم الناس فى المهد وكهلا ومن الصالحين) *.
49

اعلم أنه تعالى لما شرح حال مريم عليها السلام، في أول أمرها وفي آخر أمرها وشرح كيفية ولادتها لعيسى عليه السلام، فقال: * (إذ قالت الملائكة) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اختلفوا في العامل في * (إذ) * قيل: العامل فيه. وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة، وقيل: يختصمون إذ قالت الملائكة، وقيل: إنه معطوف على * (إذ) * الأولى في قوله * (إذ قالت امرأة عمران) * وقيل التقدير: إن ما وصفته من أمور زكريا، وهبة الله له يحيى كان إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك، وأما أبو عبيدة: فإنه يجري في هذا الباب على مذهب له معروف، وهو أن * (إذ) * صلة في الكلام وزيادة، واعلم أن القولين الأولين فيهما بعض الضعف وذلك لأن مريم حال ما كانوا يلقون الأقلام وحال ما كانوا يختصمون ما بلغت الجد الذي تبشر فيه بعيسى عليه السلام، إلا قول الحسن: فإنه يقول إنها كانت عاقلة في حال الصغر، فإن ذلك كان من كراماتها، فإن صح ذلك جاز في تلك الحال أن يرد عليها البشرى من الملائكة، وإلا فلا بد من تأخر هذه البشرى إلى حين العقل، ومنهم من تكلف الجواب، فقال: يحتمل أن يقال الاختصام والبشرى وقعا في زمان واسع، كما تقول لقيته في سنة كذا، وهذا الجواب بعيد والأصوب هو الوجه الثالث، والرابع، أما قول أبي عبيدة: فقد عرفت ضعفه، والله أعلم.
المسألة الثانية: ظاهر قوله * (إذ قالت الملائكة) * يفيد الجمع إلا أن المشهور أن ذلك المنادي كان جبريل عليه السلام، وقد قررناه فيما تقدم، وأما البشارة فقد ذكرنا تفسيرها في سورة البقرة في قوله * (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (البقرة: 25).
وأما قوله تعالى: * (بكلمة منه) * فقد ذكرنا تفسير الكلمة من وجوه وأليقها بهذا الموضع وجهان الأول: أن كل علوق وإن كان مخلوقا بواسطة الكلمة وهي قوله * (كن) * إلا أن ما هو السبب المتعارف كان مفقودا في حق عيسى عليه السلام وهو الأب، فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكل وأتم فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة إنه نفس الجود، ومحض الكرم، وصريح الإقبال، فكذا ههنا.
والوجه الثاني: أن السلطان العادل قد يوصف بأنه ظل الله في أرضه، وبأنه نور الله لما أنه سبب لظهور ظل العدل، ونور الإحسان، فكذلك كان عيسى عليه السلام سببا لظهور كلام الله عز وجل بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه فلا يبعد أن يسمى بكلمة الله تعالى على هذا التأويل.
فإن قيل: ولم قلتم إن حدوث الشخص من غير نطفة الأب ممكن قلنا: أما على أصول المسلمين
50

فالأمر فيه ظاهر ويدل عليه وجهان الأول: أن تركيب الأجسام وتأليفها على وجه يحصل فيها الحياة والفهم، والنطق أمر ممكن، وثبت أنه تعالى قادر على الممكنات بأسرها، وكان سبحانه وتعالى قادرا على إيجاد الشخص، لا من نطفة الأب، وإذا ثبت الإمكان، ثم إن المعجز قام على صدق النبي، فوجب أن يكون صادقا، ثم أخبر عن وقوع ذلك الممكن، والصادق إذا أخبر عن وقوع الممكن وجب القطع بكونه كذلك، فثبت صحة ما ذكرناه الثاني: ما ذكره الله تعالى في قوله * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) * (آل عمران: 59) فلما لم يبعد تخليق آدم من غير أب فلأن لا يبعد تخليق عيسى من غير آب كان أولى وهذه حجة ظاهرة، وأما على أصول الفلاسفة فالأمر في تجويزه ظاهر ويدل عليه وجوه الأول: أن الفلاسفة اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التوالد من غير تولد قالوا: لأن بدن الإنسان إنما استعد لقبول النفس الناطقة التي تدبر بواسطة حصول المزاج المخصوص في ذلك البدن، وذلك المزاج إنما جعل لامتزاج العناصر الأربعة على قدر معين في مدة معينة، فحصول أجزاء العناصر على ذلك القدر الذي يناسب بدن الإنسان غير ممتنع وامتزاجها غير ممتنع، فامتزاجها يكون عند حدوث الكيفية المزاجية واجبا، وعند حدوث الكيفية المزاجية يكون تعلق النفس بذلك البدن واجبا، فثبت أن حدوث الإنسان على سبيل التولد معقول ممكن، وإذا كان الأمر كذلك فحدوث الإنسان لا عن الأب أولى بالجواز والإمكان.
الوجه الثاني: وهو أنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد، كتولد الفأر عن المدر، والحيات عن الشعر، والعقارب عن الباذروج، وإذا كان كذلك فتولد الولد لا عن الأب أولى أن لا يكون ممتنعا.
الوجه الثالث: وهو أن التخيلات الذهنية كثيرا ما تكون أسبابا لحدوث الحوادث الكثيرة ليس أن تصور المنافي يوجب حصول كيفية الغضب، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن أليس اللوح الطويل إذا كان موضوعا على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه، بل كلما مشى
عليه يسقط وما ذاك إلا أن تصور السقوط يوجب حصول السقوط، وقد ذكروا في " كتب الفلسفة " أمثلة كثيرة لهذا الباب، وجعلوها كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات، فما المانع من أن يقال إنه لما تخيلت صورته عليه السلام كفى ذلك في علوق الولد في رحمها. وإذا كان كل هذه الوجوه ممكنا محتملا كان القول بحدوث عيسى عليه السلام من غير واسطة الأب قولا غير ممتنع، ولو أنك طالبت جميع الأولين والآخرين من أرباب الطبائع والطب والفلسفة على إقامة حجة إقناعية في امتناع حدوث الولد
51

من غير الأب لم يجدوا إليه سبيلا إلا الرجوع إلا استقراء العرف والعادة، وقد اتفق علماء الفلاسفة على أن مثل هذا الاستقراء لا يفيد الظن القوي فضلا عن العلم، فعلمنا أن ذلك أمر ممكن فلما أخبر العباد عن وقوعه وجب الجزم به والقطع بصحته.
أما قوله تعالى: * (بكلمة منه) * فلفظة * (من) * ليست للتبعيض ههنا إذ لو كان كذلك لكان الله تعالى متجزئا متبعضا متحملا للاجتماع والافتراق وكل من كان كذلك فهو محدث وتعالى الله عنه، بل المراد من كلمة * (من) * ههنا ابتداء الغاية وذلك لأن في حق عيسى عليه السلام لما لم تكن واسطة الأب موجودة صار تأثير كلمة الله تعالى في تكوينه وتخليقه أكمل وأظهر فكان كونه كلمة * (الله) * مبدأ لظهوره ولحدوثه أكمل فكان المعنى لفظ ما ذكرناه لا ما يتوهمه النصارى والحلولية.
وأما قوله تعالى: * (اسمه المسيح عيسى ابن مريم) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: المسيح: هل هو اسم مشتق، أو موضوع؟.
والجواب: فيه قولان الأول: قال أبو عبيدة والليث: أصله بالعبرانية مشيحا، فعربته العرب وغيروا لفظه، وعيسى: أصله يشوع كما قالوا في موسى: أصله موشى، أو ميشا بالعبرانية، وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق.
والقول الثاني: أنه مشتق وعليه الأكثرون، ثم ذكروا فيه وجوها الأول: قال ابن عباس: إنما سمي عيسى عليه السلام مسيحا، لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة، إلا برئ من مرضه الثاني: قال أحمد بن يحيى: سمي مسيحا لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها، ومنه مساحة أقسام الأرض، وعلى هذا المعنى يجوز أن يقال: لعيسى مسيح بالتشديد على المبالغة كما يقال للرجل فسيق وشريب الثالث: أنه كان مسيحا، لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى، فعلى هذه الأقوال: هو فعيل بمعنى: فاعل، كرحيم بمعنى: راحم الرابع: أنه مسح من الأوزار والآثام والخامس: سمي مسيحا لأنه ما كان في قدمه خمص، فكان ممسوح القدمين والسادس: سمي مسيحا لأنه كان ممسوحا بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء، ولا يمسح به غيرهم، ثم قالوا: وهذا الدهن يجوز أن يكون الله تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبيا السابع: سمي مسيحا لأنه مسحه جبريل صلى الله عليه وسلم بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صونا له عن مس الشيطان الثامن: سمي مسيحا لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وعلى هذه الأقوال يكون المسيح، بمعنى: الممسوح، فعيل بمعنى: مفعول. قال أبو عمرو بن العلاء المسيح: الملك. وقال النخعي: المسيح الصديق والله أعلم. ولعلهما قالا ذلك من جهة كونه مدحا
52

لا لدلالة اللغة عليه، وأما المسيح الدجال فإنما سمي مسيحا لأحد وجهين أحدهما: لأنه ممسوح أحد العينين والثاني: أنه يمسح الأرض أي: يقطعها في المدة القليلة، قالوا: ولهذا قيل له: دجال لضربه في الأرض، وقطعه أكثر نواحيها، يقال: قد دجل الدجال إذا فعل ذلك، وقيل: سمي دجالا من قوله: دجل الرجل إذا موه ولبس.
السؤال الثاني: المسيح كان كاللقب له، وعيسى كالاسم فلم قدم اللقب على الاسم؟.
الجواب: أن المسيح كاللقب الذي يفيد كونه شريفا رفيع الدرجة، مثل الصديق والفاروق فذكره الله تعالى أولا بلقبه ليفيد علو درجته، ثم ذكره باسمه الخاص.
السؤال الثالث: لم قال عيسى بن مريم والخطاب مع مريم؟.
الجواب: لأن الأنبياء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فلما نسبه الله تعالى إلى الأم دون الأب، كان ذلك إعلاما لها بأنه محدث بغير الأب، فكان ذلك سببا لزيادة فضله وعلو درجته.
السؤال الرابع: الضمير في قوله: اسمه عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير؟.
الجواب: لأن المسمى بها مذكر.
السؤال الخامس: لم قال اسمه المسيح عيسى بن مريم؟ والاسم ليس إلا عيسى، وأما المسيح فهو لقب، وأما ابن مريم فهو صفة.
الجواب: الاسم علامة المسمى ومعرف له، فكأنه قيل: الذي يعرف به هو مجموع هذه الثلاثة.
أما قوله تعالى: * (وجيها في الدنيا والآخرة) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: معنى الوجيه: ذو الجاه والشرف والقدر، يقال: وجه الرجل، يوجه وجاهة هو وجيه، إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس والسلطان، وقال بعض أهل اللغة: الوجيه: هو الكريم، لأن أشرف أعضاء الإنسان وجهه فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال.
واعلم أن الله تعالى وصف موسى صلى الله عليه وسلم بأنه كان وجيها قال الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) * (الأحزاب: 69) ثم للمفسرين أقوال: الأول: قال الحسن: كان وجيها في الدنيا بسبب النبوة، وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند الله تعالى والثاني: أنه وجيه عند الله تعالى، وأما عيسى عليه السلام، فهو وجيه في الدنيا بسبب أنه يستجاب دعاؤه ويحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بسبب دعائه، ووجيه في الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته المحقين ويقبل شفاعتهم فيهم كما يقبل شفاعة أكابر الأنبياء عليهم السلام والثالث: أنه وجهه في الدنيا بسبب أنه كان مبرأ من العيوب التي
وصفه اليهود بها، ووجيه في الآخرة بسبب كثرة
53

ثوابه وعلو درجته عن الله تعالى.
فإن قيل: كيف كان وجيها في الدنيا واليهود عاملوه بما عاملوه، قلنا: قد ذكرنا أنه تعالى سمى موسى عليه السلام بالوجيه مع أن اليهود طعنوا فيه، وآذوه إلى أن برأه الله تعالى مما قالوا، وذلك لم يقدح في وجاهة موسى عليه السلام، فكذا ههنا.
المسألة الثانية: قال الزجاج * (وجيها) * منصوب على الحال، المعنى: أن الله يبشرك بهذا الولد وجيها في الدنيا والآخرة، والفراء يسمي هذا قطعا كأنه قال: عيسى بن مريم الوجيه فقطع منه التعريف.
أما قوله * (ومن المقربين) * ففيه وجوه أحدها: أنه تعالى جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم بواسطة هذه الصفة وثانيها: أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه عليه السلام سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة وثالثها: أنه ليس كل وجيه في الآخرة يكون مقربا لأن أهل الجنة على منازل ودرجات، ولذلك قال تعالى: * (وكنتم أزواجا ثلاثة) * (الواقعة: 7) إلى قوله * (والسابقون السابقون أولئك المقربون) * (الواقعة: 10).
أما قوله تعالى: * (ويكلم الناس في المهد وكهلا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الواو للعطف على قوله * (وجيها) * والتقدير كأنه قال: وجيها ومكلما للناس وهذا عندي ضعيف، لأن عطف الجملة الفعلية على الإسمية غير جائز إلا للضرورة، أو الفائدة والأولى أن يقال تقدير الآية * (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم) * الوجيه في الدنيا والآخرة المعدود من المقربين، وهذا المجموع جملة واحدة، ثم قال: * (ويكلم الناس) * فقوله * (ويكلم الناس) * عطف على قوله * (إن الله يبشرك) *.
المسألة الثانية: في المهد قولان أحدهما: أنه حجر أمه والثاني: هو هذا الشيء المعروف الذي هو مضجع الصبي وقت الرضاع، وكيف كان المراد منه: فإنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد، ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه وكان في المهد.
المسألة الثالثة: قوله * (وكهلا) * عطف على الظرف من قوله * (في المهد) * كأنه قيل: يكلم الناس صغيرا وكهلا وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الكهل؟.
الجواب: الكهل في اللغة ما اجتمع قوته وكمل شبابه، وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوي وتم قال الأعشى:
يضاحك الشمس منها كوكب * شرق مؤزر بجميم النبت مكتهل
54

أراد بالمكتهل المتناهي في الحسن والكمال.
السؤال الثاني: أن تكلمه حال كونه في المهد من المعجزات، فأما تكلمه حال الكهولة فليس من المعجزات، فما الفائدة في ذكره؟.
والجواب: من وجوه الأول: أن المراد منه بيان كونه متقلبا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة والتغير على الإله تعالى محال، والمراد منه الرد على وفد نجران في قولهم: إن عيسى كان إلها والثاني: المراد منه أن يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة والثالث: قال أبو مسلم: معناه أنه يكلم حال كونه في المهد، وحال كونه كهلا على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجز الرابع: قال الأصم: المراد منه أنه يبلغ حال الكهولة.
السؤال الثالث: نقل أن عمر عيسى عليه السلام إلى أن رفع كان ثلاثا وثلاثين سنة وستة أشهر، وعلى هذا التقدير: فهو ما بلغ الكهولة.
والجواب: من وجهين الأول: بينا أن الكهل في أصل اللغة عبارة عن الكامل التام، وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين، فصح وصفه بكونه كهلا في هذا الوقت والثاني: هو قول الحسين بن الفضل البجلي: أن المراد بقوله * (وكهلا) * أن يكون كهلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، ويكلم الناس، ويقتل الدجال، قال الحسين بن الفضل: وفي هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض.
المسألة الرابعة: أنكرت النصارى كلام المسيح عليه السلام في المهد، واحتجوا على صحة قولهم بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها، ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم، لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والاثنين لا يجوز، ومتى حدثت الواقعة العجيبة جدا عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوفر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغا حد التواتر، وإخفاء ما يكون بالغا إلى حد التواتر ممتنع، وأيضا فلو كان ذلك لكان ذلك الإخفاء ههنا ممتنعا لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلها، ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله بل ربما يجعل الواحد ألفا فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى، ولما أطبقوا على إنكارها علمنا أنه ما كان موجودا البتة.
أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة، وقالوا: إن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة
55

على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة، وكان الحاضرون جمعا قليلين، فالسامعون لذلك الكلام، كان جمعا قليلا، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء، وبتقدير: أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت، فهم أيضا قد سكتوا لهذه العلة فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوما مخفيا إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك، وأيضا فليس كل النصارى ينكرون ذلك، فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب: لما قرأ على النجاشي سورة مريم، قال النجاشي: لا تفاوت بين واقعة عيسى، وبين المذكور في هذا الكلام بذرة.
ثم قال تعالى: * (ومن الصالحين) *.
فإن قيل: كون عيسى كلمة من الله تعالى، وكونه * (وجيها في الدنيا والآخرة) * وكونه من المقربين عند الله تعالى، وكونه مكلما للناس في المهد، وفي الكهولة كل واحد من هذه الصفات أعظم وأشرف من كونه صالحا فلم ختم الله تعالى أوصاف عيسى بقوله * (ومن الصالحين) *؟.
قلنا: إنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحا لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظبا على النهج الأصلح، والطريق الأكمل، ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب، وفي أفعال الجوارح، فلما ذكر الله تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات.
قوله تعالى
* (قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذلك الله يخلق ما يشآء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) *.
قال المفسرون: إنها إنما قالت ذلك لأن التبشير به يقتضي التعجب مما وقع على خلاف العادة وقد قررنا مثله في قصة زكريا عليه السلام، وقوله * (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * (غافر: 68) تقدم تفسيره في سورة البقرة.
أما قوله تعالى: * (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) * ففيه مسألتان:
56

المسألة الأولى: قرأ نافع، وعاصم * (ويعلمه) * بالياء والباقون بالنون، أما الياء فعطف على قوله * (يخلق ما يشاء) * وقال المبرد عطف على يبشرك بكلمة، وكذا وكذا * (ويعلمه الكتاب) * ومن قرأ بالنون قال تقدير الآية أنها: قالت رب أنى يكون لي ولد فقال لها الله * (كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * فهذا وإن كان إخبارا على وجه المغايبة، فقال * (ونعلمه) * لأن معنى قوله * (كذلك الله يخلق ما يشاء) * معناه: كذلك نحن نخلق ما نشاء * (ونعلمه الكتاب والحكمة) * والله أعلم.
المسألة الثانية: في هذه الآية أمور أربعة معطوف بعضها على بعض بواو العطف، والأقرب عندي أن يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة، ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة، ثم بعد أن صار عالما بالخط والكتابة، ومحيطا بالعلوم العقلية والشرعية، يعلمه التوراة، وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة، لأن التوراة كتاب إلهي، وفيه أسرار عظيمة، والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث على أسرار الكتب الإلهية، ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل، وإنما أخر ذكر الإنجيل عن ذكر التوراة لأن من تعلم الخط، ثم تعلم علوم الحق، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله الله تعالى على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله تعالى عليه بعد ذلك كتابا آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى، والمرتبة العليا في العلم، والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية، فهذا ما عندي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة.
قوله تعالى
* (ورسولا إلى بنى إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم) *
فيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية وجوه الأول: تقدير الآية: ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ونبعثه رسولا إلى بني إسرائيل، قائلا * (أني قد جئتكم بآية من ربكم) * والحذف حسن إذا لم يفض إلى الاشتباه الثاني: قال الزجاج: الاختيار عندي أن تقديره: ويكلم الناس رسولا، وإنما أضمرنا ذلك لقوله * (أني قد جئتكم) * والمعنى: ويكلمهم رسولا بأني قد جئتكم، الثالث: قال الأخفش: إن شئت جعلت الواو زائدة، والتقدير: ويعلمه الكتاب والحكمة
57

والتوراة، والإنجيل رسولا إلى بني إسرائيل، قائلا: أني قد جئتكم بآية.
المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان رسولا إلى كل بني إسرائيل بخلاف قول بعض اليهود إنه كان مبعوثا إلى قوم مخصوصين منهم.
المسألة الثالثة: المراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه تعالى عدد ههنا أنواعا من الآيات، وهي إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن المغيبات فكان المراد من قوله * (قد جئتكم بآية من ربكم) * الجنس لا الفرد.
ثم قال: * (أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله) *.
اعلم أنه تعالى حكى ههنا خمسة أنواع من معجزات عيسى عليه السلام: النوع الأول ما ذكره ههنا في هذه الآية وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة * (أني) * بفتح الهمزة، وقرأ نافع بكسر الهمزة فمن فتح * (أني) * فقد جعلها بدلا من آية كأنه قال: وجئتكم بأني أخلق لكم من الطين، ومن كسر فله وجهان أحدهما: الاستئناف وقطع الكلام مما قبله والثاني: أنه فسر الآية بقوله * (أنى أخلق لكم) * ويجوز أن يفسر الجملة المتقدمة بما يكون على وجه الابتداء قال الله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (الفتح: 29) ثم فسر الموعود بقوله * (لهم مغفرة) * وقال: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) * (آل عمران: 59) ثم فسر المثل بقوله. * (خلقه من تراب) * (آل عمران: 59) وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كقراءة من فتح * (أني) * على جعله بدلا من آية. المسألة الثانية: * (أخلق لكم من الطين) * أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير قوله تعالى: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم) * (البقرة: 21) إن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره ههنا أيضا فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد، أما القرآن فآيات أحدها: قوله تعالى: * (فتبارك
الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14) أي المقدرين، وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقا بالتقدير والتسوية وثانيها: أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء * (إن هذا إلا خلق الأولين) * (الشعراء: 137) وفي العنكبوت * (وتخلقون إفكا) * (العنكبوت: 17) وفي سورة ص * (إن هذا إلا اختلاق) *
والكاذب إنما سمي خالقا لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره وثالثها: هذه الآية
58

التي نحن في تفسيرها وهي قوله * (أني أخلق لكم من الطين) * أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير) * (المائدة: 110) وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير ورابعها: قوله تعالى: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (البقرة: 29) وقوله * (خلق) * إشارة إلى الماضي، فلو حملنا قوله * (خلق) * على الإيجاد والإبداع، لكان المعنى: أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي، وذلك باطل بالاتفاق، فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض، وأما الشعر فقوله: ولأنت تفري ما خلقت * وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وقوله: ولا يعطي بأيدي الخالق ولا * أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وأما الاستشهاد: فهو أنه يقال: خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس والخلاق المقدار من الخير، وفلان خليق بكذا، أي له هذا المقدار من الاستحقاق، والصخرة الخلقاء الملساء، لأن الملاسة استواء، وفي الخشونة اختلاف، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلف الناس في لفظ * (الخالق) * قال أبو عبد الله البصري: إنه لا يجوز إطلاقه على الله في الحقيقة، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على الله محال، وقال أصحابنا: الخالق، ليس إلا الله، واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (الله خالق كل شيء) * (الرعد: 16) ومنهم من احتج بقوله * (هل من خالق غير الله يرزقكم) * (فاطر: 3) وهذا ضعيف، لأنه تعالى قال: * (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء) * (فاطر: 3) فالمعنى هل من خالق غير الله موصوف بوصف كونه رازقا من السماء ولا يلزم من صدق قولنا الخالق الذي يكون هذا شأنه، ليس إلا الله، صدق قولنا أنه لا خالق إلا الله.
وأجابوا عن كلام أبي عبد الله بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالا في حق الله تعالى فالعلم ثابت.
إذا عرفت هذا فنقول: * (أني أخلق لكم من الطين) * معناه: أصور وأقدر وقوله * (كهيئة الطير) * فالهيئة الصورة المهيئة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وقوله * (فأنفخ فيه) * أي في ذلك الطين المصور وقوله * (فيكون طيرا بإذن الله) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع * (فيكون طائرا) * بالألف على الواحد، والباقون * (طيرا) * على الجمع، وكذلك في المائدة والطير اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع.
يروى أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة، وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش، فأخذ طينا وصوره، ثم نفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال وهب:
59

كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا، ثم اختلف الناس فقال قوم: إنه لم يخلق غير الخفاش، وكانت قراءة نافع عليه. وقال آخرون: إنه خلق أنواعا من الطير وكانت قراءة الباقين عليه.
المسألة الثانية: قال بعض المتكلمين: الآية تدل على أن الروح جسم رقيق كالريح، ولذلك وصفها بالفتح، ثم ههنا بحث، وهو أنه هل يجوز أن يقال: إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية، بحيث متى نفخ في شيء كان نفخه فيه موجبا لصيرورة ذلك الشيء حيا، أو يقال: ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخة عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات، وهذا الثاني هو الحق لقوله تعالى: * (الذي خلق الموت والحياة) * (الملك: 2) وحكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قال في مناظرته مع الملك * (ربي الذي يحيي ويميت) * (البقرة: 258) فلو حصل لغيره، هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال.
المسألة الثالثة: القرآن دل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما تولد من نفخ جبريل عليه السلام في مريم وجبريل صلى الله عليه وسلم روح محض وروحاني محض فلا جرم كانت نفخة عيسى عليه السلام للحياة والروح.
المسألة الرابعة: قوله * (بإذن الله) * معناه بتكوين الله تعالى وتخليقه لقوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) * (آل عمران: 145) أي إلا بأن يوجد الله الموت، وإنما ذكر عيسى عليه السلام هذا القيد إزالة للشبهة، وتنبيها على إني أعمل هذا التصوير، فأما خلق الحياة فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل.
واما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات
فهو قوله: * (وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله) *.
ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي ولد أعمى، وقال الخليل وغيره هو الذي عمي بعد أن كان بصيرا، وعن مجاهد هو الذي لا يبصر بالليل، ويقال: إنه لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب " التفسير "، وروي أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده، قال
60

الكلبي: كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بيا حي يا قيوم وأحيا عاذر، وكان صديقا له، ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حيا، ومر على ابن ميت لعجوز فدعا الله، فنزل عن سريره حيا، ورجع إلى أهله وولد له، وقوله * (بإذن الله) * رفع لتوهم من اعتقد فيه الإلهية.
وأما النوع الخامس من المعجزات إخباره عن الغيوب فهو قوله تعالى حكاية عنه * (وأنبئكم بما تأكلوا وما تدخرون في بيوتكم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في هذه الآية قولان أحدهما: أنه عليه الصلاة والسلام كان من أول مرة يخبر عن الغيوب، روى السدي: أنه كان يلعب مع الصبيان، ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم، وكان يخبر الصبي بأن أمك قد خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء ثم قالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر، وجمعوهم في بيت، فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم، فقالوا له، ليسوا في البيت، فقال: فمن في هذا البيت، قالوا: خنازير قال عيسى عليه السلام كذلك يكونون فإذا هم خنازير.
والقول الثاني: إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة، وذلك لأن القوم نهوا عن الادخار، فكانوا يخزنون ويدخرون، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بذلك.
المسألة الثانية: الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة، وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لا يمكنهم ذلك إلا عن سؤال يتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآلة ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيرا، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة، ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من الله تعالى.
ثم إنه عليه السلام ختم كلامه بقوله * (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) *.
والمعنى إن في هذه الخمسة لمعجزة قاهرة قوية دالة على صدق المدعي لكل من آمن بدلائل المعجزة
61

في الحمل على الصدق، بلى من أنكر دلالة أصل المعجز على صدق المدعي، وهم البراهمة، فإنه لا يكفيه ظهور هذه الآيات، أما من آمن بدلالة المعجز على الصدق لا يبقى له في هذه المعجزات كلام البتة.
قوله تعالى
* (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بأية من ربكم فا تقوا الله وأطيعون * إن الله ربى وربكم فا عبدوه هذا صراط مستقيم) *.
اعلم أنه عليه السلام لما بين بهذه المعجزات الباهرة كونه رسولا من عند الله تعالى، بين بعد ذلك أنه بماذا أرسل وهو أمران أحدهما: قوله * (ومصدقا لما بين يدي من التوراة) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قد ذكرنا في قوله * (ورسولا إلى بني إسرائيل أنى قد جئتكم بآية) * (آل عمران: 49) أن تقديره وأبعثه رسولا إلى بني إسرائيل قائلا * (أني قد جئتكم بآية) * فقوله * (ومصدقا) * معطوف عليه والتقدير: وأبعثه رسولا إلى بني إسرائيل قائلا * (أنى قد جئتكم بآية) *، وإني بعثت * (مصدقا لما بين يدي من التوراة) * وإنما حسن حذف هذه الألفاظ لدلالة الكلام عليها. المسألة الثانية: إنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقا لجميع الأنبياء عليهم السلام، لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة، فكل من حصل له المعجز، وجب الاعتراف بنبوته، فلهذا قلنا: بأن عيسى عليه السلام يجب أن يكون مصدقا لموسى بالتوراة، ولعل من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام إليهم تقرير التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات الجاهلين.
وأما المقصود الثاني: من بعثة عيسى عليه السلام قوله * (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) *.
وفيه سؤال: وهو أنه يقال: هذه الآية الأخيرة مناقضة لما قبلها لأن هذه الآية الأخيرة صريحة في أنه جاء ليحل بعد الذي كان محرما عليه في التوراة، وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التوراة، وهذا يناقض قوله * (ومصدقا لما بين يدي من التوراة) *.
والجواب: إنه لا تناقض بين الكلام، وذلك لأن التصديق بالتوراة لا معنى له إلا اعتقاد أن كل ما فيها فهو حق وصواب، وإذا لم يكن الثاني مذكورا في التوراة لم يكن حكم عيسى
62

بتحليل ما كان محرما فيها، مناقضا لكونه مصدقا بالتوراة، وأيضا إذا كانت البشارة بعيسى عليه السلام موجودة في التوراة لم يكن مجيء عيسى عليه السلام وشرعه مناقضا للتوراة، ثم اختلفوا فقال بعضهم: إنه عليه السلام ما غير شيئا من أحكام التوراة، قال وهب بن منبه: إن عيسى عليه السلام كان على شريعة موسى عليه السلام كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس، ثم إنه فسر قوله * (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * بأمرين أحدهما: إن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى، فجاء عيسى عليه السلام ورفعها وأبطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السلام والثاني: أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات كما قال الله تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * (النساء: 160) ثم بقي ذلك التحريم مستمرا على اليهود فجاء عيسى عليه السلام ورفع تلك التشديدات عنهم، وقال آخرون: إن عيسى عليه السلام رفع كثيرا من أحكام التوراة، ولم يكن ذلك قادحا في كونه مصدقا بالتوراة على ما بيناه ورفع السبت ووضع الأحد قائما مقامه وكان محقا في كل ما عمل لما بينا أن الناسخ والمنسوخ كلاهما حق وصدق.
ثم قال: * (وجئتكم بآية من ربكم) * وإنما أعاده لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر فأعاد ذكر المعجزات ليصير كلامه ناجعا في قلوبهم
ومؤثرا في طباعهم، ثم خوفهم فقال: * (فاتقوا الله وأطيعون) * لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله تعالى فبين أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم به عن ربي، ثم إنه ختم كلامه بقوله * (إن الله ربي وربكم) * ومقصوده إظهار الخضوع والاعتراف بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولون: إنه إله وابن إله لأن إقراره لله بالعبودية يمنع ما تدعيه جهال النصارى عليه، ثم قال: * (فاعبدوه) * والمعنى: أنه تعالى لما كان رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه، ثم أكد ذلك بقوله * (هذا صراط مستقيم) *.
قوله تعالى
* (فلمآ أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ءامنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنآ ءامنا بمآ أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين *
63

ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك ههنا قصة ولادته، وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء، شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات، وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بماذا عاملوه فقال تعالى: * (فلما أحس عيسى منهم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة وههنا وجهان أحدهما: أن يجري اللفظ على ظاهره، وهو أنهم تكلموا بالكفر، فأحس ذلك بإذنه والثاني: أن نحمله على التأويل، وهو أن المراد أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر، وعزمهم على قتله، ولما كان ذلك العلم علما لا شبهة فيه، مثل العلم الحاصل من الحواس، لا جرم عبر عن ذلك العلم بالإحساس.
المسألة الثانية: اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه الأول: قال السدي: أنه تعالى لما بعثه رسولا إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين الله فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم، وكان أمر عيسى عليه السلام في قومه كأمر محمد صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فكان مستضعفا، وكان يختفي من بني إسرائيل كما اختفى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وفي منازل من آمن به لما أرادوا قتله، ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج مع أمه يسيحان في الأرض، فاتفق أنه نزل في قرية على رجل فأحسن ذلك الرجل ضيافته وكان في تلك المدينة ملك جبار فجاء ذلك الرجل يوما حزينا، فسأله عيسى عن السبب فقال: ملك هذه المدينة رجل جبار ومن عادته أنه جعل على كل رجل منا يوما يطعمه ويسقيه هو وجنوده، وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر علي، فلما سمعت مريم عليها السلام ذلك، قالت: يا بني ادع الله ليكفي ذلك، فقال: يا أماه إن فعلت ذلك كان شر، فقالت: قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه فقال عيسى عليه السلام: إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني، فلما فعل ذلك دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخا، وما في الخوابي خمرا، فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذا الخمر؟ فتعلل الرجل في الجواب فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتى أخبره بالواقعة فقال: إن من دعا الله حتى جعل الماء خمرا إذا دعا أن يحيي الله تعالى ولدي لا بد وأن يجاب، وكان ابنه قد مات قبل ذلك بأيام، فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك، فقال عيسى: لا تفعل، فإنه إن عاش كان شرا، فقال: ما أبالي ما كان إذا رأيته، وإن
64

أحييته تركتك على ما تفعل، فدعا الله عيسى، فعاش الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح واقتتلوا، وصار أمر عيسى عليه السلام مشهورا في الخلق، وقصد اليهود قتله، وأظهروا الطعن فيه والكفر به.
والقول الثاني: إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة، وأنه ينسخ دينهم، فكانوا من أول الأمر طاعنين فيه، طالبين قتله، فلما أظهر الدعوة اشتد غضبهم، وأخذوا في إيذائه وإيحاشه وطلبوا قتله.
والقول الثالث: إن عيسى عليه السلام ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجع فيهم فأحب أن يمتحنهم ليتحقق ما ظنه بهم فقال لهم * (من أنصاري إلى الله) * فما أجابه إلا الحواريون، فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون مصرون على إنكار دينه وطلب قتله.
أما قوله تعالى: * (قال من أنصاري إلى الله) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية أقوال الأول: أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الدين، وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك، وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثني عشر فقال عيسى عليه السلام: الآن تصيد السمك، فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد، فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئا فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه، واستعانوا بأهل سفينة أخرى، وملؤا السفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام.
والقول الثاني: أن قوله * (من أنصاري إلى الله) * إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلبا لقتله، ثم ههنا احتمالات الأول: أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟.
فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم: أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى باذنه، فقال له عيسى: حسبك ثم أخذ اذن العبد فردها إلى موضعها، فصارت كما كانت، والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه.
65

والاحتمال الثاني: أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى * (فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) * (الصف: 14).
المسألة الثانية: قوله * (إلى الله) * فيه وجوه الأول: التقدير: من أنصاري حال ذهابي إلى الله أو حال التجائي إلى الله والثاني: التقدير: من أنصاري إلى أن أبين أمر الله تعالى، وإلى أن أظهر دينه ويكون إلى ههنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي، ويظهر أمر الله تعالى الثالث: قال الأكثرون من أهل اللغة إلى ههنا بمعنى مع قال تعالى: * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * (النساء: 2) أي معها، وقال صلى الله عليه وسلم: " الذود إلى الذود إبل " أي مع الذود.
قال الزجاج: كلمة * (إلى) * ليست بمعنى مع فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول: ذهب زيد مع عمرو لأن * (إلى) * تفيد الغاية و * (مع) * تفيد ضم الشيء إلى الشيء، بل المراد من قولنا أن * (إلى) * ههنا بمعنى * (مع) * هو أنه يفيد فائدتها من حيث أن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي وكذلك المراد من قوله * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * (النساء: 2) أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، وكذلك قوله عليه السلام: " الذود إلى الذود إبل " معناه: الذود مضموما إلى الذود إبل والرابع: أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ضحى " اللهم منك وإليك " أي تقربا إليك، ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياه * (إلى) * أي انضم إلى، فكذا ههنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله تعالى الخامس: أن يكون * (إلى) * بمعنى اللام كأنه قال: من أنصاري لله نظيره قوله تعالى: * (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق) * (يونس: 35) والسادس: تقدير الآية: من أنصاري في سبيل الله. و (إلى) بمعنى (في) جائز، وهذا قول الحسن.
أما قوله تعالى: * (قال الحواريون نحن أنصار الله) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في لفظ * (الحواري) * وجوها الأول: أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل، وخالصته، ومنه يقال للدقيق حواري، لأنه هو الخالص منه، وقال صلى الله عليه وسلم للزبير: " إنه ابن عمتي، وحواري من أمتي " والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم.
القول الثاني: الحواري أصله من الحور، وهو شدة البياض، ومنه قيل للدقيق حواري، ومنه الأحور، والحور نقاء بياض العين، وحورت الثياب: بيضتها، وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم؟ فقال سعيد بن جبير: لبياض ثيابهم، وقيل كانوا قصارين، يبيضون
66

الثياب، وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحا لهم، وإشارة إلى نقاء قلوبهم، كالثوب الأبيض، وهذا كما يقال فلان نقي الجيب، طاهر الذيل، إذا كان بعيدا عن الأفعال الذميمة، وفلان دنس الثياب: إذا كان مقدما على ما لا ينبغي.
القول الثالث: قال الضحاك: مر عيسى عليه السلام بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب، فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري، وهو القصار فعربت هذه اللفظة فصارت حواري، وقال مقاتل بن سليمان: الحواريون: هم القصارون، وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلا على خواص الرجل وبطانته.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا؟. فالقول الأول: إنه عليه السلام مر بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم " تعالوا نصطاد الناس " قالوا: من أنت؟ قال: " أنا عيسى بن مريم، عبد الله ورسوله " فطلبوا من المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به، فهم الحواريون.
القول الثاني: قالوا: سلمته أمه إلى صباغ، فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته، فقال له: ههنا ثياب مختلفة، وقد علمت على كل واحد علامة معينة، فاصبغها بتلك الألوان، بحيث يتم المقصود عند رجوعي، ثم غاب فطبخ عيسى عليه السلام جبا واحدا، وجعل الجميع فيه وقال: " كوني بإذن الله كما أريد " فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال: قد أفسدت علي الثياب، قال: " قم فانظر " فكان يخرج ثوبا أحمر، وثوبا أخضر، وثوبا أصفر كما كان يريد، إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها، فتعجب الحاضرون منه، وآمنوا به فهم الحواريون.
القول الثالث: كانوا الحواريون إثنى عشر رجلا اتبعوا عيسى عليه السلام، وكانوا إذا قالوا: يا روح الله جعنا، فيضرب بيده إلى الأرض، فيخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا يا روح الله: عطشنا، فيضرب بيده إلى الأرض، فيخرج الماء فيشربون، فقالوا: من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا، وإذا شئنا سقيتنا، وقد آمنا بك فقال: " أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه " فصاروا يغسلون الثياب بالكراء، فسموا حواريين.
القول الرابع: أنهم كانوا ملوكا قالوا وذلك أن واحدا من الملوك صنع طعاما، وجمع الناس عليه، وكان عيسى عليه السلام على قصعة منها، فكانت القصعة لا تنقص، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك، فقال: تعرفونه، قالوا: نعم، فذهبوا بعيسى عليه السلام، قال: من أنت؟ قال: أنا
67

عيسى بن مريم، قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه، فأولئك هم الحواريون قال القفال: ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك، وبعضهم من صيادي السمك، وبعضهم من القصارين، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام، وأعوانه، والمخلصين في محبته، وطاعته، وخدمته.
المسألة الثالثة: المراد من قوله * (نحن أنصار الله) * أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه، لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال، فالمراد منه ما ذكرناه.
أما قوله * (آمنا بالله) * فهذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله، لأجل أنا آمنا بالله، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله، والذب عن أوليائه، والمحاربة مع أعدائه.
ثم قالوا: * (واشهد بأنا مسلمون) * وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم، إشهاد لله تعالى أيضا، ثم فيه قولان الأول: المراد واشهد أنا منقادون لما
تريده منا في نصرتك، والذب عنك، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه الثاني: أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم.
واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى، وقالوا: * (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) * وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا: في الآية المتقدمة * (آمنا بالله) * ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا * (آمنا بما أنزلت) * وآمنوا برسول الله حيث، قالوا * (واتبعنا الرسول) * فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب، فقالوا * (فاكتبنا مع الشاهدين) * وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين، ويفضل على درجته، لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143) الثاني: وهو منقول أيضا عن ابن عباس * (اكتبنا مع الشاهدين) * أي اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) * (الأعراف: 6).
وقد أجاب الله تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلا، فأحيوا الموتى، وصنعوا كل ما صنع عيسى عليه السلام.
والقول الثالث: * (اكتبنا مع الشاهدين) * أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق، والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم، حيث قالوا
68

* (واشهد بأنا مسلمون) * فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيدا للأمر، وتقوية له، وأيضا طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوة.
القول الرابع: إن قوله * (فاكتبنا مع الشاهدين) * إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السماوات مع الملائكة قال الله تعالى: * (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين) * (المطففين: 18) فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهورا في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين.
القول الخامس: إنه تعالى قال: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) * (آل عمران: 18) فجعل أولو العلم من الشاهدين، وقرن ذكرهم بذكر نفسه، وذلك درجة عظيمة، ومرتبة عالية، فقالوا * (فاكتبنا مع الشاهدين) * أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك.
والقول السادس: إن جبريل عليه السلام لما سأل محمدا صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: " أن تعبد الله كأنك تراه " وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود، لا في مقام الغيبة، فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال، إلى مقام الشهود والمكاشفة، فقالوا * (فاكتبنا مع الشاهدين) *.
القول السابع: إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام، فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له، ذابين عنه، قالوا * (فاكتبنا مع الشاهدين) * أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك.
ثم قال تعالى: * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أصل المكر في اللغة، السعي بالفساد في خفية ومداجاة، قال الزجاج: يقال مكر الليل، وأمكر إذا أظلم، وقال الله تعالى: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * (الأنفال: 30) وقال: * (وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) * (يوسف: 102) وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه، ومنه امرأة ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال الله تعالى: * (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) * (يونس: 71) فلما كان المكر رأيا محكما قويا مصونا عن جهات النقص والفتور، لا جرم سمي مكرا.
المسألة الثانية: أما مكرهم بعيسى عليه السلام، فهو أنهم هموا بقتله، وأما مكر الله تعالى بهم، ففيه وجوه الأول: مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وذلك أن يهودا ملك اليهود، أراد قتل عيسى عليه السلام، وكان جبريل عليه السلام، لا يفارقه ساعة، وهو معنى قوله * (وأيدناه بروح القدس) * (البقرة: 87) فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتا فيه روزنة، فلما دخلوا
69

البيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة، وكان قد ألقى شبهه على غيره، فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق، فرقة قالت: كان الله فينا فذهب، وأخرى قالت: كان ابن الله، والأخرى قالت: كان عبد الله ورسوله، فأكرمه بأن رفعه إلى السماء، وصار لكل فرقة جمع فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم، وفي الجملة، فالمراد من مكر الله بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه.
الوجه الثاني: أن الحواريين كانوا إثنى عشر، وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم، ودل اليهود عليه، فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم، وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام، فكان ذلك هو مكر الله بهمه
الوجه الثالث: ذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام، فشمسوهم وعذبوهم، فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله، وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل، فقال: لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم، ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام، فأخبروه فتابعهم على دينهم، وأنزل المصلوب فغيبه، وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم، وكان اسم هذا الملك طباريس، وهو صار نصرانيا، إلا أنه ما أظهر ذلك، ثم إنه جاء بعده ملك آخر، يقال له: مطليس، وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة، فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس
حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح وألهم بقتله.
القول الرابع: أن الله تعالى سلط عليهم ملك فارس حتى قتلهم وسباهم، وهو قوله تعالى: * (بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد) * (الإسراء: 5) فهذا هو مكر الله تعالى بهم.
القول الخامس: يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره، وإبطال دينه ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود والله أعلم.
المسألة الثالثة: المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر، والاحتيال على الله تعالى محال فصار لفظ المكر في حقه من المتشابهات وذكروا في تأويله وجوها أحدها: أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر، كقوله * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة، وجزاء الاستهزاء
70

بالاستهزاء والثاني: أن معاملة الله معهم كانت شبيهة بالمكر فسمي بذلك الثالث: أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات، لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير، وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع والله أعلم.
قوله تعالى
* (إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: العامل في * (إذ) * قوله * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) * أي وجد هذا المكر إذ قال الله هذا القول، وقيل التقدير: ذاك إذ قال الله.
المسألة الثانية: اعترفوا بأن الله تعالى شرف عيسى في هذه الآية بصفات:
الصفة الأولى: * (إني متوفيك) * ونظيره قوله تعالى حكاية عنه * (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) * (المائدة: 117) واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما: إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم، ولا تأخير فيها والثاني: فرض التقديم والتأخير فيها، أما الطريق الأول فبيانه من وجوه الأول: معنى قوله * (إني متوفيك) * أي متمم عمرك، فحينئذ أتوفاك، فلا أتركهم حتى يقتلوك، بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن والثاني: * (متوفيك) * أي مميتك، وهو مروي عن ابن عباس، ومحمد بن إسحاق قالوا: والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها: قال وهب: توفي ثلاثة ساعات، ثم رفع وثانيها: قال محمد بن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه الثالث: قال الربيع بن أنس: أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) * (الزمر: 42).
الوجه الرابع: في تأويل الآية أن الواو في قوله * (متوفيك ورافعك إلي) * تفيد الترتيب
71

فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال، فأما كيف يفعل، ومتى يفعل، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه سينزل ويقتل الدجال " ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك. الوجه الخامس: في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي، وهو أن المراد * (إني متوفيك) * عن شهواتك وحظوظ نفسك، ثم قال: * (ورافعك إلي) * وذلك لأن من لم يصر فانيا عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله، وأيضا فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة، والغضب والأخلاق الذميمة.
والوجه السادس: إن التوفي أخذ الشيء وافيا، ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: * (وما يضرونك من شيء) * (النساء: 113).
والوجه السابع: * (إني متوفيك) * أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
الوجه الثامن: إن التوفي هو القبض يقال: وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه، كما يقال: سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه، وقد يكون أيضا توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفيا له.
فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله * (ورافعك إلي) * تكرارا.
قلنا: قوله * (إني متوفيك) * يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء، فلما قال بعده * (ورافعك إلي) * كان هذا تعيينا للنوع ولم يكن تكرارا.
الوجه التاسع: أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير: متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك * (ورافعك إلي) * أي ورافع عملك إلي، وهو كقوله * (إليه يصعد الكلم الطيب) * (فاطر: 10) والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشره بقبول طاعته وأعماله، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها.
الطريق الثاني: وهو قول من قال: لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير، قالوا إن قوله * (ورافعك إلي) * يقتضي أنه رفعه حيا، والواو لا تقتضي
72

الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير، والمعنى: أني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن.
واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر والله أعلم.
والمشبهة يتمسكون بهذه الآية في إثبات المكان لله تعالى وأنه في المساء، وقد دللنا في المواضع الكثيرة من هذا الكتاب بالدلائل القاطعة على أنه يمتنع كونه تعالى في المكان فوجب حمل اللفظ على التأويل، وهو من وجوه:
الوجه الأول: أن المراد إلى محل كرامتي، وجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله * (إني ذاهب إلى ربي) * (الصافات: 99) وإنما ذهب إبراهيم صلى الله عليه وسلم من العراق إلى الشام وقد يقول السلطان: ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي، وقد يسمي الحجاج زوار الله، ويسمى المجاورون جيران الله، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا ههنا.
الوجه الثاني: في التأويل أن يكون قوله * (ورافعك إلي) * معناه إنه يرفع إلى مكان لا يملك الحكم عليه فيه غير الله لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السماوات فلا حاكم هناك في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله.
الوجه الثالث: إن بتقدير القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك سببا لانتفاعه وفرحه بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبه من الثواب والروح والراحة والريحان، فعلى كلا القولين لا بد من حمل اللفظ على أن المراد: ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان لله تعالى.
الصفة الثالثة: من صفات عيسى قوله تعالى: * (ومطهرك من الذين كفروا) * والمعنى مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم، وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى.
الصفة الرابعة: قوله * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) * وجهان الأول: أن المعنى: الذين اتبعوا دين عيسى يكونون فوق الذين كفروا به، وهم اليهود بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة، فيكون ذلك إخبارا عن ذل اليهود وإنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة، فأما الذين اتبعوا المسيح عليه السلام فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأما بعد الإسلام فهم المسلمون، وأما النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث أن صريح العقل يشهد أنه عليه السلام ما كان يرضى بشيء مما
73

يقوله هؤلاء الجهال، ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكا يهوديا ولا بلدة مملوءة من اليهود بل يكونون أين كانوا بالذلة والمسكنة وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك الثاني: أن المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والدليل.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله * (ورافعك إلي) * هو الرفعة بالدرجة والمنقبة، لا بالمكان والجهة، كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة.
أما قوله * (ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) * فالمعنى أنه تعالى بشر عيسى عليه السلام بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة، والدرجات الرفيعة العالية، وأما في القيامة فإنه يحكم بين المؤمنين به، وبين الجاحدين برسالته، وكيفية ذلك الحكم ما ذكره في الآية التي بعد هذه الآية وبقي من مباحث هذه الآية موضع مشكل وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال: * (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) * (النساء: 157) والأخبار أيضا واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه، وتارة يروى أنه عليه السلام رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقي شبهه حتى يقتل مكانه، وبالجملة فكيفما كان ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات:
الإشكال الأول: إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة، فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانيا فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانيا ليس بولدي بل هو إنسان ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات، وأيضا فالصحابة الذين رأوا محمدا صلى الله عليه وسلم يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه ألقي شبهه على غيره وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع، وأيضا فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس، فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية.
والإشكال الثاني: وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال، هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله * (إذ أيدتك بروح القدس) * (المائدة: 110) ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه؟ وأيضا أنه عليه السلام لما كان قادرا على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة
74

أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له؟.
والإشكال الثالث: إنه تعالى كان قادرا على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره، وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من
غير فائدة إليه؟.
والإشكال الرابع: أنه إذا ألقي شبهه على غيره ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه هو عيسى مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى. والإشكال الخامس: أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام، وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولا مصلوبا، فلو أنكرنا ذلك كان طعنا فيما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ونبوة عيسى، بل في وجودهما، ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكل ذلك باطل.
والإشكال السادس: أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيا زمانا طويلا، فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع، ولقال: إني لست بعيسى بل إنما أنا غيره، ولبالغ في تعريف هذا المعنى، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم، فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات:
والجواب عن الأول: أن كل من أثبت القادر المختار، سلم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنسانا آخر على صورة زيد مثلا، ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور، فكذا القول فيما ذكرتم:
والجواب عن الثاني: أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى عيسى عليه السلام على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، وذلك غير جائز.
وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث: فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقي شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء.
والجواب عن الرابع: أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة، وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس.
والجواب عن الخامس: أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيدا للعلم.
75

والجواب عن السادس: إن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه السلام عليه كان مسلما وقبل ذلك عن عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة، وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع، والله ولي الهداية.
قوله تعالى
* (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والاخرة وما لهم من ناصرين) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر * (إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) * بين بعد ذلك مفصلا ما في ذلك الاختلاف، أما الاختلاف فهو أن كفر قوم وآمن آخرون، وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذابا شديدا في الدنيا والآخرة، وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات، فهو أن يوفيهم أجورهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين أحدهما: القتل والسبي وما شاكله، حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به، فذلك داخل في عذاب الدنيا والثاني: ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب، وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا؟ قال بعضهم: إنه عقاب في حق الكافر، وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقابا بل يكون ابتلاء وامتحانا، وقال الحسن: إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقابا بل يكون أيضا ابتلاء وامتحانا، ويكون جاريا مجرى الحدود التي تقام على النائب، فإنها لا تكون عقابا بل امتحانا، والدليل عليه أنه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقابا.
فإن قيل: فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذاب للكافر على كفره، وهذا على خلاف قوله تعالى: * (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة) * (النحل: 61) وكلمة * (لو) * تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فوجب أن لا توجد المؤاخذة في الدنيا، وأيضا قال تعالى: * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * (غافر: 17) وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم، لا في الدنيا، قلنا: الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة، والآيات التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام.
76

المسألة الثانية: لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة، يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وأخرى على المسلمين، ولا نجد بين الناس تفاوتا.
قلنا: بل التفاوت موجود في الدنيا، لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى عليه السلام، ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم، فزال الإشكال.
المسألة الثالثة: وصف تعالى هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم.
فإن قيل: أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة.
قلنا: المانع هو العهد، ولذلك إذا زال العهد حل قتله.
ثم قال تعالى
* (وأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حفص عن عاصم * (فيوفيهم) * بالياء، يعني فيوفيهم الله، والباقون بالنون حملا على ما تقدم من قوله * (فأحكم، فأعذبهم) * وهو الأولى لأنه نسق الكلام.
المسألة الثانية: ذكر الذين آمنوا، ثم وصفهم بأنهم عملوا الصالحات، وذلك يدل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان، وقد تقدم ذكر هذه الدلالة مرارا.
المسألة الثالثة: احتج من قال بأن العمل علة للجزاء بقوله * (فنوفيهم أجورهم) * فشبههم في عبادتهم لأجل طلب الثواب بالمستأجر، والكلام فيه أيضا قد تقدم والله أعلم.
المسألة الرابعة: المعتزلة احتجوا بقوله * (والله لا يحب الظالمين) * على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي، قالوا: لأن مريد الشيء لا بد وأن يكون محبا له، إذا كان ذلك الشيء من الأفعال وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص، فقد يقال: أحب زيدا، ولا يقال: أريده، وأما إذا علقتا بالأفعال: فمعناهما واحد إذا استعملتا على حقيقة اللغة، فصار قوله * (والله لا يحب الظالمين) * بمنزلة قوله (لا يريد ظلم الظالمين) هكذا قرره القاضي، وعند أصحابنا أن المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير إليه فهو تعالى وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لا يريد إيصال الثواب إليه، وهذه
77

المسألة قد ذكرناها مرارا وأطوارا.
ثم قال تعالى
* (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: * (ذلك) * إشارة إلى ما تقدم من نبأ عيسى وزكريا وغيرهما، وهو مبتدأ، خبره * (نتلوه) * و * (من الآيات) * خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي، و * (نتلوه) * صلته، و * (من الآيات) * الخبر.
المسألة الثانية: التلاوة والقصص واحد في المعنى، فإن كلا منهما يرجع معناه إلى شيء يذكر بعضه على إثر بعض، ثم إنه تعالى أضاف التلاوة إلى نفسه في هذه الآية، وفي قوله * (نتلو عليك من نبأ موسى) * (القصص: 3) وأضاف القصص إلى نفسه فقال: * (نحن نقص عليك أحسن القصص) * (يوسف: 3) وكل ذلك يدل على أنه تعالى جعل تلاوة الملك جارية مجرى تلاوته سبحانه وتعالى، وهذا تشريف عظيم للملك، وإنما حسن ذلك لأن تلاوة جبريل صلى الله عليه وسلم لما كان بأمره من غير تفاوت أصلا أضيف ذلك إليه سبحانه وتعالى.
المسألة الثالثة: قوله * (من الآيات) * يحتمل أن يكون المراد منه، أن ذلك من آيات القرآن ويحتمل أن يكون المراد منه أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك، لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ من كتاب أو من يوحى إليه، فظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ، فبقي أن ذلك من الوحي.
المسألة الرابعة: * (والذكر الحكيم) * فيه قولان الأول: المراد منه القرآن وفي وصف القرآن بكونه ذكرا حكيما وجوه الأول: إنه بمعنى الحاكم مثل القدير والعليم، والقرآن حاكم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه والثاني: معناه ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وكثرة علومه والثالث: أنه بمعنى المحكم، فعيل بمعنى مفعل، قال الأزهري: وهو شائع في اللغة، لأن حكمت يجري مجرى أحكمت في المعنى، فرد إلى الأصل، ومعنى المحكم في القرآن أنه أحكم عن تطرق وجوه الخلل إليه قال تعالى: * (أحكمت آياته) * (هود: 1) والرابع: أن يقال القرآن لكثرة حكمه إنه ينطق بالحكمة، فوصف بكونه حكيما على هذا التأويل.
القول الثاني: أن المراد بالذكر الحكيم ههنا غير القرآن، وهو اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، أخبر أنه تعالى أنزل هذا القصص مما كتب
78

هنالك، والله أعلم بالصواب.
قوله تعالى
* (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) *.
أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من جملة شبههم أن قالوا: يا محمد، لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى، فقال: إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابنا لله تعالى، فكذا القول في عيسى عليه السلام، هذا حاصل الكلام، وأيضا إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس، هذا تلخيص الكلام.
ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: * (مثل عيسى عند الله كمثل آدم) * أي صفته كصفة آدم ونظيره قوله تعالى: * (مثل الجنة التي وعد المتقون) * (الرعد: 35) أي صفة الجنة.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (خلقه من تراب) * ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير بحال آدم، قال الزجاج: هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد، تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور، ثم تخبر بقصة زيد فتقول فعل كذا وكذا.
المسألة الثالثة: اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوق بوالد لا إلى أول وهو محال، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم عليه السلام كما في هذه الآية، وقال: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) * (النساء: 1) وقال: * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها) * (الأعراف: 189) ثم إنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوها كثيرة أحدها: أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية والثاني: أنه مخلوق من الماء، قال الله تعالى: * (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) * (الفرقان: 54) والثالث: أنه مخلوق من الطين قال الله تعالى: * (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) * (السجدة: 7، 8) والرابع: أنه مخلوق من سلالة من طين قال تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) * (المؤمنون: 11، 13) الخامس: أنه مخلوق من طين لازب قال تعالى: * (إنا خلقناهم من طين لازب) * (الصافات: 11) السادس: إنه مخلوق من صلصال قال تعالى: * (إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون) * (الحجر: 28)
79

السابع: أنه مخلوق من عجل، قال تعالى: * (خلق الإنسان من عجل) * (الأنبياء: 37) الثامن: قال تعالى: * (لقد خلقنا الإنسان في كبد) * (البلد: 4) أما الحكماء فقالوا: إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه: الأول: ليكون متواضعا الثاني: ليكون ستارا الثالث: ليكون أشد التصاقا بالأرض، وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض، قال تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (البقرة: 30) الرابع: أراد إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام وأعطاهم كمال الشدة والقوة، وخلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام، ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية، وخلق السماوات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهانا باهرا ودليلا ظاهرا على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج، والخالق بلا مزاج وعلاج الخامس: خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئا لنار الشهوة، والغضب، والحرص، فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب وإنما خلقه من الماء ليكون صافيا تتجلى فيه صور الأشياء، ثم إنه تعالى مزج بين الأرض والماء ليمتزج الكثيف فيصير طينا وهو قوله * (إني خالق بشرا من طين) * ثم إنه في المرتبة الرابعة قال: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * والسلالة بمعنى المفعولة لأنها هي التي تسل من ألطف أجزاء الطين، ثم إنه في المرتبة السادسة أثبت له من الصفات ثلاثة أنواع:
أحدها: أنه من صلصال والصلصال: اليابس الذي إذا حرك تصلصل كالخزف الذي يسمع من داخله صوت. والثاني: الحمأ وهو الذي استقر في الماء مدة، وتغير لونه إلى السواد. والثالث: تغير رائحته قال تعالى: * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) * (البقرة: 259) أي لم يتغير.
فهذه جملة الكلام في التوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام. المسألة الرابعة: في الآية إشكال، وهو أنه تعالى قال: * (خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدما على قول الله له * (كن) * وذلك غير جائز.
وأجاب عنه من وجوه الأول: قال أبو مسلم: قد بينا أن الخلق هو التقدير والتسوية، ويرجع معناه إلى علم الله تعالى بكيفية وقوعه وإراداته لإيقاعه على الوجه المخصوص وكل ذلك متقدم على وجود آدم عليه السلام تقديما من الأزل إلى الأبد، وأما قوله * (كن) * فهو عبارة عن إدخاله في الوجود فثبت أن خلق آدم متقدم على قوله * (كن) *.
والجواب الثاني: وهو الذي عول عليه القاضي أنه تعالى خلقه من الطين ثم قال له * (كن) * أي
80

أحياه كما قال: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * فإن قيل الضمير في قوله خلقه راجع إلى آدم وحين كان ترابا لم يكن آدم عليه السلام موجودا.
أجاب القاضي وقال: بل كان موجودا وإنما وجد بعد حياته، وليست الحياة نفس آدم وهذا ضعيف لأن آدم عليه السلام ليس عبارة عن مجرد الأجسام المشكلة بالشكل المخصوص، بل هو عبارة عن هوية أخرى مخصوصة وهي: إما المزاج المعتدل، أو النفس، وينجر الكلام من هذا البحث إلى أن النفس ما هي، ولا شك أنها من أغمض المسائل.
الجواب: الصحيح أن يقال لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم عليه السلام قبل ذلك، تسمية لما سيقع بالواقع.
والجواب الثالث: أن قوله * (ثم قال له كن فيكون) * يفيد تراخي هذا الخبر عن ذلك الخبر كما في قوله تعالى: * (ثم كان من الذين آمنوا) * (البلد: 17) ويقول القائل: أعطيت زيدا اليوم ألفا ثم أعطيته أمس ألفين، ومراده: أعطيته اليوم ألفا، ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله * (خلقه من تراب) * أي صيره خلقا سويا ثم إنه يخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له * (كن) *.
المسألة الخامسة: في الآية إشكال آخر وهو أنه كان ينبغي أن يقال: ثم قال له كن فكان فلم يقل كذلك بل قال: * (كن فيكون) *.
والجواب: تأويل الكلام، ثم قال له * (كن فيكون) * فكان.
واعلم يا محمد أن ما قال له ربك * (كن) * فإنه يكون لا محالة.
قوله تعالى
* (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء، والزجاج قوله * (الحق) * خبر مبتدأ محذوف، والمعنى: الذي أنبأتك من قصة عيسى عليه السلام، أو ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام * (الحق) * فحذف لكونه معلوما، وقال أبو عبيدة هو استئناف بعد انقضاء الكلام، وخبره قوله * (من ربك) * وهذا كما تقول الحق من الله، والباطل من الشيطان، وقال آخرون: الحق، رفع بإضمار فعل أي جاءك الحق.
وقيل: أيضا إنه مرفوع بالصفة وفيه تقديم وتأخير، تقديره: من ربك الحق فلا تكن.
المسألة الثانية: الامتراء الشك، قال ابن الأنباري: هو مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذي يجتذب عند الحلب، يقال قد ماري
81

فلان فلانا إذا جادله، كأنه يستخرج غضبه، ومنه قيل الشكر يمتري المزيد أي يجلبه.
المسألة الثالثة: في الحق تأويلان الأول: قال أبو مسلم المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام لا ما قالت النصارى واليهود، فالنصارى قالوا: إن مريم ولدت إلها، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار، فالله تعالى بين أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ثم نهى عن الشك فيه، ومعنى ممتري مفتعل من المرية وهي الشك.
والقول الثاني: أن المراد أن الحق في بين هذه المسألة ما ذكرناه من المثل وهو قصة آدم عليه السلام فإنه لا بيان لهذه المسألة ولا برهان أقوى من التمسك بهذه الواقعة والله أعلم.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (فلا تكن من الممترين) * خطاب في الظاهر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكا في صحة ما أنزل عليه، وذلك غير جائز، واختلف الناس في الجواب عنه، فمنهم من قال: الخطاب وإن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه في المعنى مع الأمة قال تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * والثاني: أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى: فدم على يقينك، وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء.
قوله تعالى
* (فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين) *.
اعلم أن الله تعالى بين في أول هذه السورة وجوها من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد، وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام، وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم، وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم عليه السلام أن يكون ابنا لله تعالى لم يلزم من عدم الأب البشري لعيسى عليه السلام أن يكون ابنا لله، تعالى الله عن ذلك ولما لم يبعد انخلاق آدم عليه السلام من التراب لم يبعد أيضا انخلاق عيسى عليه السلام من الدم الذي كان يجتمع في رحم أم عيسى عليه السلام، ومن أنصف وطلب الحق، علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى، فعند ذلك قال تعالى: * (فمن حاجك) * بعد هذه الدلائل الواضحة
82

والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة فقال: * (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) * إلى آخر الآية، ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: اتفق أني حين كنت بخوارزم، أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهبت إليه وشرعنا في الحديث وقال لي: ما الدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقلت له كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى الله عليه وسلم، فإن رددنا التواتر، أو قبلناه لكن قلنا: إن المعجزة لا تدل على الصدق، فحينئذ بطلت نبوة سائر الأنبياء عليهم السلام، وإن اعترفنا بصحة التواتر، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق، ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعا بنبوة محمد عليه السلام ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول، فقال النصراني: أنا لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبيا بل أقول إنه كان إلها، فقلت له الكلام في النبوة لا بد وأن يكون مسبوقا بمعرفة الإله وهذا الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته، يجب أن لا يكون جسما ولا متحيزا ولا عرضا وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوما وقتل بعد أن كان حيا على قولكم وكان طفلا أولا، ثم صار مترعرعا، ثم صار شابا، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ، وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديما والمحتاج لا يكون غنيا والممكن لا يكون واجبا والمتغير لا يكون دائما.
والوجه الثاني: في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حيا على الخشبة، وقد مزقوا ضلعه، وأنه كان يحتال في الهرب منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد، فإن كان إلها أو كان الإله حالا فيه أو كان جزءا من الإله حاك فيه، فلم لم يدفعهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم! وبالله أنني لأتعجب جدا! إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته، فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده.
والوجه الثالث: وهو أنه: إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو يقال حل الإله بكليته فيه، أو حل بعض الإله وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة أما الأول: فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهود كان ذلك قولا بأن اليهود قتلوا إله العالم، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله! ثم إن أشد الناس ذلا ودناءة اليهود، فالإله الذي تقتله اليهود
83

إله في غاية العجز! وأما الثاني: وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم، فهو أيضا فاسد، لأن الإله لم يكن جسما ولا عرضا امتنع حلوله في الجسم، وإن كان جسما، فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله، وإن كان عرضا كان محتاجا إلى المحل، وكان الإله محتاجا إلى غيره، وكل ذلك سخف، وأما الثالث: وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله، وجزء من أجزائه، فذلك أيضا محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبرا في الإلهية، فعند انفصاله عن الإله، وجب أن لا يبقى الإله إلها، وإن لم يكن معتبر في تحقق الإلهية، لم يكن جزأ من الإله، فثبت فساد هذه الأقسام، فكان قول النصارى باطلا.
الوجه الرابع: في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى، ولو كان إلها لاستحال ذلك، لأن الإله لا يعبد نفسه، فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور، دالة على فساد قولهم، ثم قلت للنصراني: وما الذي دلك على كونه إلها؟ فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى، فقلت له هل تسلم إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا؟ فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فأقول: لما جوزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام، فكيف عرفت أن الإله ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد؟ فقال: الفرق ظاهر، وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول، لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك، فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا، فقلت له: تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى: فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل، فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك، وفي حق الكلب والسنور والفأر ثم قلت: إن مذهبا يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية النحسة والركاكة.
الوجه الخامس: أن قلب العصا حية، أبعد في العقل من إعادة الميت حيا، لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلها ولا ابنا للإله، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلهية كان ذلك أولى، وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام والله أعلم.
84

المسألة الثانية: روي أنه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم، فقال عليه السلام: " إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم " فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فلما رجعوا قالوا للعاقب: وكان ذا رأيهم، يا عبد المسيح ما ترى، فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي رضي الله عنه خلفها، وهو يقول، إذا دعوت فأمنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، ثم قالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك فقال صلوات الله عليه: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما على المسلمين، فأبوا، فقال: فإني أناجزكم القتال، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفى حلة: ألفا في صفر، وألفا في رجب، وثلاثين درعا عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال: والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله، حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا، وروي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله، ثم جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة، ثم علي رضي الله عنهما ثم قال: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (الأحزاب: 33) واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث.
المسألة الثالثة: * (فمن حاجك فيه) * أي في عيسى عليه السلام، وقيل: الهاء تعود إلى الحق، في قوله * (الحق من ربك) * (هود: 17) * (من بعد ما جاءك من العلم) * (البقرة: 145) بأن عيسى عبد الله ورسوله عليه السلام وليس المراد ههنا بالعلم نفس العلم لأن العلم الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك، بل المراد بالعلم ما ذكره بالدلائل العقلية، والدلائل الواصلة إليه بالوحي والتنزيل، فقل تعالوا: أصله تعاليوا، لأنه تفاعلوا من العلو، فاستثقلت الضمة على الياء، فسكنت، ثم حذفت لاجتماع الساكنين، وأصله العلو والارتفاع، فمعنى تعالى ارتفع، إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجيء، وصار بمنزلة هلم.
85

المسألة الرابعة: هذه الآية دالة على أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعد أن يدعو أبناءه، فدعا الحسن والحسين، فوجب أن يكونا ابنيه، ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام * (ومن ذريته داود وسليمان) * (الأنعام: 84) إلى قوله * (وزكريا ويحيى وعيسى) * (الأنعام: 85) ومعلوم أن عيسى عليه السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالأم لا بالأب، فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابنا والله أعلم. المسألة الخامسة: كان في الري رجل يقال له: محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلم الاثني عشرية، وكان يزعم أن عليا رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد عليه السلام، قال: والذي يدل عليه قوله تعالى: * (وأنفسنا وأنفسكم) * وليس المراد بقوله * (وأنفسنا) * نفس محمد صلى الله عليه وسلم لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد، ولا يمكن أن يكون المراد منه، أن هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد أن هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة، وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أن
محمدا عليه السلام كان نبيا وما كان علي كذلك، ولانعقاد الإجماع على أن محمدا عليه السلام كان أفضل من علي رضي الله عنه، فيبقى فيما وراءه معمولا به، ثم الإجماع دل على أن محمدا عليه السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية، ثم قال: ويؤيد الاستدلال بهذه الآية، الحديث المقبول عند الموافق والمخالف، وهو قوله عليه السلام: " من أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحا في طاعته، وإبراهيم في خلته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه " فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم، وذلك يدل على أن عليا رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وأما سائر الشيعة فقد كانوا قديما وحديثا يستدلون بهذه الآية على أن عليا رضي الله عنه مثل نفس محمد عليه السلام إلا فيما خصه الدليل، وكان نفس محمد أفضل من الصحابة رضوان الله عليهم، فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضا من سائر الصحابة، هذا تقدير كلام الشيعة، والجواب: أنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمدا عليه السلام أفضل من علي، فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان، على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي، وأجمعوا على أن عليا رضي الله عنه ما كان نبيا، فلزم
86

القطع بأن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى الله عليه وسلم، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام.
المسألة السادسة: قوله * (ثم نبتهل) * أي نتباهل، كما يقال اقتتل القوم وتقاتلوا واصطحبوا وتصاحبوا، والابتهال فيه وجهان أحدهما: أن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء، وإن لم يكن باللعن، ولا يقال: ابتهل في الدعاء إلا إذا كان هناك اجتهاد والثاني: أنه مأخوذ من قولهم عليه بهلة الله، أي لعنته وأصله مأخوذ مما يرجع إلى معنى اللعن، لأن معنى اللعن هو الإبعاد والطرد وبهله الله، أي لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله وناقة باهل لا صرار عليها، بل هي مرسلة مخلاة، كالرجل الطريد المنفي، وتحقيق معنى الكلمة: أن البهل إذا كان هو الإرسال والتخلية فكان من بهله الله فقد خلاه الله ووكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شك فيه فمن باهل إنسانا، فقال: علي بهلة الله إن كان كذا، يقول: وكلني الله إلى نفسي، وفرضني إلى حولي وقوتي، أي من كلاءته وحفظه، كالناقة الباهل التي لا حافظ لها في ضرعها، فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة لها في الدفع عن نفسها، ويقال أيضا: رجل باهل، إذا لم يكن معه عصا، وإنما معناه أنه ليس معه ما يدفع عن نفسه، والقول الأول أولى، لأنه يكون قوله * (ثم نبتهل) * أي ثم نجتهد في الدعاء، ونجعل اللعنة على الكاذب وعلى القول الثاني يصير التقدير: ثم نبتهل، أي ثم نلتعن * (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * وهي تكرار، بقي في الآية سؤالات أربع.
السؤال الأول: الأولاد إذا كانوا صغارا لم يجز نزول العذاب بهم وقد ورد في الخبر أنه صلوات الله عليه أدخل في المباهلة الحسن والحسين عليهما السلام فما الفائدة فيه؟.
والجواب: إن عادة الله تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلكت معهم الأولاد والنساء، فيكون ذلك في حق البالغين عقابا، وفي حق الصبيان لا يكون عقابا، بل يكون جاريا مجرى إماتتهم وإيصال الآلام والأسقام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده وأهله شديدة جدا فربما جعل الإنسان نفسه فداء لهم وجنة لهم، وإذا كان كذلك فهو عليه السلام أحضر صبيانه ونساءه مع نفسه وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ليكون ذلك أبلغ في الزجر وأقوى في تخويف الخصم، وأدل على وثوقه صلوات الله عليه وعلى آله بأن الحق معه.
السؤال الثاني: هل دلت هذه الواقعة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟.
الجواب: أنها دلت على صحة نبوته عليه السلام من وجهين أحدهما: وهو أنه عليه السلام خوفهم بنزول العذاب عليهم، ولو لم يكن واثقا بذلك، لكان ذلك منه سعيا في إظهار كذب نفسه
87

لأن بتقدير: أن يرغبوا في مباهلته، ثم لا ينزل العذاب، فحينئذ كان يظهر كذبه فيما أخبر ومعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان من أعقل الناس، فلا يليق به أن يعمل عملا يفضي إلى ظهور كذبه فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقا بنزول العذاب عليهم وثانيهما: إن القوم لما تركوا مباهلته، فلولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته، وإلا لما أحجموا عن مباهلته.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنهم كانوا شاكين، فتركوا مباهلته خوفا من أن يكون صادقا فينزل بهم ما ذكر من العذاب؟.
قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول: أن القوم كانوا يبذلونه النفوس والأموال في المنازعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كانوا شاكين لما فعلوا ذلك الثاني: أنه قد نقل عن أولئك النصارى أنهم قالوا: إنه والله هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل، وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال فكان ذلك تصريحا منهم بأن الامتناع عن المباهلة كان لأجل علمهم بأنه نبي مرسل من عند الله تعالى.
السؤال الثالث: أليس إن بعض الكفار اشتغلوا بالمباهلة مع محمد صلى الله عليه وسلم؟ حيث قالوا * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) * (الأنفال: 32) ثم إنه لم ينزل العذاب بهم البتة، فكذا ههنا، وأيضا فبتقدير نزول العذاب، كان ذلك مناقضا لقوله * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * (الأنفال: 33).
والجواب: الخاص مقدم على العام، فلما أخبر عليه السلام بنزول العذاب في هذه السورة على التعيين وجب أن يعتقد أن الأمر كذلك.
السؤال الرابع: قوله * (إن هذا لهو القصص الحق) * هل هو متصل بما قبله أم لا؟.
والجواب: قال أبو مسلم: إنه متصل بما قبله ولا يجوز الوقف على قوله * (الكاذبين) * وتقدير الآية فنجعل لعنة الله على الكاذبين بأن هذا هو القصص الحق وعلى
هذا التقدير كان حق * (إن) * أن تكون مفتوحة، إلا أنها كسرت لدخول اللام في قوله * (لهو) * كما في قوله * (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) * (العاديات: 11) وقال الباقون: الكلام تم عند قوله * (على الكاذبين) * وما بعده جملة أخرى مستقلة غير متعلقة بما قبلها والله أعلم.
88

قوله تعالى
* (إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله * (إن هذا) * إشارة إلى ما تقدم ذكره من الدلائل، ومن الدعاء إلى المباهلة * (لهو القصص الحق) * والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين، ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة فبين تعالى إن الذي أنزله على نبيه هو القصص الحق ليكون على ثقة من أمره، والخطاب وإن كان معه فالمراد به الكل.
المسألة الثانية: * (هو) * في قوله * (لهو القصص الحق) * فيه قولان أحدهما: أن يكون فصلا وعمادا، ويكون خبر * (إن) * هو قوله * (القصص الحق) *.
فإن قيل: فكيف جاز دخول اللام على الفصل؟.
قلنا: إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجود، لأنه أقرب إلى المبتدأ منه، وأصلها أن تدخل على المبتدأ.
والقول الثاني: إنه مبتدأ، والقصص خبره، والجملة خبر * (إن) *.
المسألة الثالثة: قرىء * (لهو) * بتحريك الهاء على الأصل، وبالسكون لأن اللام ينزل من * (هو) * منزلة بعضه فخفف كما خفف عضد.
المسألة الرابعة: يقال: قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا، وأصله اتباع الأثر، يقال: خرج فلان قصصا، وفي أثر فلان، وقصا، وذلك إذا اقتص أثره، ومنه قوله تعالى: * (وقالت لأخته قصيه) * (القصص: 11) وقيل للقاص إنه قاص لاتباعه خبرا بعد خبر، وسوقه الكلام سوقا، فمعنى القصص الخبر المشتمل على المعاني المتتابعة.
ثم قال: * (وما من إله إلا الله) * وهذا يفيد تأكيد النفي، لأنك لو قلت عندي من الناس أحد، أفاد أن عندك بعض الناس، فإذا قلت ما عندي من الناس من أحد، أفاد أنه ليس عندك بعضهم، وإذا لم يكن عندك بعضهم، فبأن لا يكون عندك كلهم أولى فثبت أن قوله * (وما من إله إلا الله) * مبالغة
89

في أنه لا إله إلا الله الواحد الحق سبحانه وتعالى.
ثم قال: * (وإن الله لهو العزيز الحكيم) * وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهات النصارى، وذلك لأن اعتمادهم على أمرين أحدهما: أنه قدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فكأنه تعالى قال: هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية، بل لا بد وأن يكون عزيزا غالبا لا يدفع ولا يمنع، وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى ما كان كذلك، وكيف وأنتم تقولون إن اليهود قتلوه؟ والثاني: أنهم قالوا: إنه كان يخبر عن الغيوب وغيرها، فيكون إلها، فكأنه تعالى قال: هذا القدر من العلم لا يكفي في الإلهية، بل لا بد وأن يكون حكيما، أي عالما بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور، فذكر * (العزيز الحكيم) * ههنا إشارة إلى الجواب عن هاتين الشبهتين ونظير هذه الآية ما ذكره تعالى في أول السورة من قوله * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * (آل عمران: 6).
ثم قال: * (فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين) * والمعنى: فإن تولوا عما وصفت من أن الله هو الواحد، وأنه يجب أن يكون عزيزا غالبا قادرا على جميع المقدورات، حكيما عالما بالعواقب والنهايات مع أن عيسى عليه السلام ما كان عزيزا غالبا، وما كان حكيما عالما بالعواقب والنهايات. فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوض أمرهم إلى الله، فإن الله عليم بفساد المفسدين، مطلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادر على مجازاتهم.
قوله تعالى
* (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) *.
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أورد على نصارى نجران أنواع الدلائل وانقطعوا، ثم دعاهم إلى المباهلة فخافوا وما شرعوا فيها وقبلوا الصغار بأداء الجزية، وقد كان عليه السلام حريصا على إيمانهم، فكأنه تعالى قال: يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر
90

يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم أنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال، و * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض، ولا ميل فيه لأحد على صاحبه، وهي * (أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) * هذا هو المراد من الكلام ولنذكر الآن تفسير الألفاظ.
أما قوله تعالى: * (يا أهل الكتاب) * ففيه ثلاثة أقوال أحدها: المراد نصارى نجران والثاني: المراد يهود المدينة والثالث: أنها نزلت في الفريقين، ويدل عليه وجهان الأول: أن ظاهر اللفظ يتناولهما والثاني: روي في سبب النزول، أن اليهود قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام، ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى! وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير! فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعندي أن الأقرب حمله على النصارى، لما بينا أنه لما أورد الدلائل عليهم أولا، ثم باهلهم ثانيا، فعدل في هذا المقام إلى الكلام المبني على رعاية الإنصاف، وترك المجادلة، وطلب الإفحام والإلزام، ومما يدل عليه،
أنه خاطبهم ههنا بقوله تعالى: * (يا أهل الكتاب) * وهذا الاسم من أحسن الأسماء وأكمل الألقاب حيث جعلهم أهلا لكتاب الله، ونظيره، ما يقال لحافظ القرآن يا حامل كتاب الله، وللمفسر يا مفسر كلام الله، فإن هذا اللقب يدل على أن قاتله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب وفي تطييب قلبه، وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريقة اللجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف.
أما قوله تعالى: * (تعالوا) * فالمراد تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالا من مكان إلى مكان لأن أصل اللفظ مأخوذ من التعالي وهو الارتفاع من موضع هابط إلى مكان عال، ثم كثر استعماله حتى صار دالا على طلب التوجه إلى حيث يدعى إليه.
أما قوله تعالى: * (إلى كلمة سواء بيننا) * فالمعنى هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض، لا ميل فيه لأحد على صاحبه، والسواء هو العدل والإنصاف، وذلك لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف، فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف، فإذا أنصف وترك ظلمه أعطاه النصف فقد سوى بين نفسه وبين غيره وحصل الاعتدال، وإذا ظلم وأخذ أكثر مما أعطى زال الاعتدال فلما كان من لوازم العدل والإنصاف التسوية جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل.
ثم قال الزجاج * (سواء) * نعت للكلمة يريد: ذات سواء، فعلى هذا قوله * (كلمة سواء) * أي كلمة عادلة مستقيمة مستوية، فإذا آمنا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة، ثم قال: * (أن لا نعبد إلا الله) * وفيه مسألتان:
91

المسألة الأولى: محل * (أن) * في قوله أن لا نعبد، فيه وجهان الأول: إنه رفع بإضمار، هي: كأن قائلا قال: ما تلك الكلمة؟ فقيل هي أن لا نعبد إلا الله والثاني: خفض على البدل من: كلمة. المسألة الثانية: إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء أولها: * (أن لا نعبد إلا الله) * وثانيها: أن * (لا نشرك به شيئا) * وثالثها: أن * (لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) * وإنما ذكر هذه الثلاثة لأن النصارى جمعوا بين هذه الثلاثة فيعبدون غير الله وهو المسيح، ويشركون به غيره وذلك لأنهم يقولون إنه ثلاثة: أب وابن وروح القدس، فأثبتوا ذوات ثلاثة قديمة سواء، وإنما قلنا: إنهم أثبتوا ذوات ثلاثة قديمة، لأنهم قالوا: إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح، وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم، ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين وإلا لما جازت عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم، ولما أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلة فقد أشركوا، وأما إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فيدل عليه وجوه:
أحدها: إنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم والثاني: إنهم كانوا يسجدون لأحبارهم والثالث: قال أبو مسلم: من مذهبهم أن من صار كاملا في الرياضة والمجاهدة يظهر فيه أثر حلول اللاهوت، فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فهم وإن لم يطلقوا عليه لفظ الرب إلا أنهم أثبتوا في حقه معنى الربوبية والرابع: هو أنهم كانوا يطيعون أحبارهم في المعاصي، ولا معنى للربوبية إلا ذلك، ونظيره قوله تعالى: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * (الجاثية: 23) فثبت أن النصارى جمعوا بين هذه الأمور الثلاثة، وكان القول ببطلان هذه الأمور الثلاثة كالأمر المتفق عليه بين جمهور العقلاء وذلك، لأن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله، فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح على هذا الوجه، وأيضا القول بالشركة باطل باتفاق الكل، وأيضا إذا كان الخالق والمنعم بجميع النعم هو الله، وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والطاعة إلا إليه، دون الأحبار والرهبان، فهذا هو شرح هذه الأمور الثلاثة.
ثم قال تعالى: * (فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * والمعنى إن أبوا إلا الإصرار، فقولوا إنا مسلمون، يعني أظهروا أنكم على هذا الدين، لا تكونوا في قيد أن تحملوا غيركم عليه.
92

قوله تعالى
* (يا أهل الكتاب لم تحآجون فى إبراهيم ومآ أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) *.
اعلم أن اليهود كانوا يقولون: إن إبراهيم كان على ديننا، والنصارى كانوا يقولون: كان إبراهيم على ديننا، فأبطل الله عليهم ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده فكيف يعقل أن يكون يهوديا أو نصرانيا؟.
فإن قيل: فهذا أيضا لازم عليكم لأنكم تقولون: إن إبراهيم كان على دين الإسلام، والإسلام إنما أنزل بعده بزمان طويل، فإن قلتم إن المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على المذهب الذي عليه المسلمون الآن، فنقول: فلم لا يجوز أيضا أن تقول اليهود إن إبراهيم كان يهوديا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود، وتقول النصارى إن إبراهيم كان نصرانيا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى، فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهوديا أو نصرانيا بهذا التفسير، كما إن كون القرآن نازلا بعده لا ينافي كونه مسلما.
والجواب: إن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفا مسلما، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، فظهر الفرق، ثم نقول: أما إن النصارى ليسوا على ملة إبراهيم، فالأمر فيه ظاهر، لأن المسيح ما كان موجودا في زمن إبراهيم، فما كانت عبادته مشروعة في زمن إبراهيم لا محالة، فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لملة إبراهيم لا محالة، وأما إن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم، فذلك لأنه لا شك إنه كان لله سبحانه وتعالى تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام، ولا شك أن الموصل لتلك التكاليف إلى الخلق واحد من البشر، ولا شك أن ذلك الإنسان قد كان مؤيدا بالمعجزات، وإلا لم يجب على الخلق قبول تلك التكاليف منه فإذن قد كان قبل مجيء موسى أنبياء، وكانت لهم شرائع معينة، فإذا جاء موسى فإما أن يقال إنه جاء بتقرير تلك الشرائع، أو بغيرهما فإن جاء بتقريرها لم يكن موسى صاحب تلك الشريعة، بل كان كالفقيه المقرر لشرع من قبله، واليهود لا يرضون بذلك، وإن كان قد جاء بشرع آخر سوى شرع من تقدمه فقد قال بالنسخ، فثبت أنه لا
بد وأن يكون دين كل الأنبياء جواز القول بالنسخ واليهود ينكرون
93

ذلك، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم، فبطل قول اليهود والنصارى بأن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، فهذا هو المراد من الآية والله أعلم.
قوله تعالى
* (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين تبعوه وهذا النبى والذين ءامنوا والله ولى المؤمنين) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (ها أنتم) * بالمد والهمزة وقرأ نافع وأبو عمرو بغير همز ولا مد، إلا بقدر خروج الألف الساكنة وقرأ ابن كثير بالهمز والقصر على وزن * (صنعتم) * وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز، فمن حقق فعلى الأصل، لأنهما حرفان * (ها) * و * (أنتم) * ومن لم يمد ولم يهمز فللتخفيف من غير إخلال.
المسألة الثانية: اختلفوا في أصل * (ها أنتم) * فقيل * (ها) * تنبيه والأصل * (أنتم) * وقيل أصله * (أأنتم) * فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم هرقت الماء وأرقت و * (هؤلاء) * مبني على الكسر وأصله أولاء دخلت عليه ها التنبيه، وفيه لغتان: القصر والمد، فإن قيل: أين خبر أنتم في قوله ها أنتم؟ قلنا في ثلاثة أوجه الأول: قال صاحب " الكشاف " * (ها) * للتنبيه و * (أنتم) * مبتدأ و * (هؤلاء) * خبره و * (حاججتم) * جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى بمعنى: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم وإن جادلتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟ والثاني: أن يكون * (أنتم) * مبتدأ، وخبر * (هؤلاء) * بمعنى أولاء على معنى الذي وما بعده صلة له الثالث: أن يكون * (أنتم) * مبتدأ * (وهؤلاء) * عطف بيان * (وحاججتم) * خبره وتقديره: أنتم يا هؤلاء حاججتم.
94

المسألة الثالثة: المراد من قوله * (حاججتم فيما لكم به علم) * هو أنهم زعموا أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به وهو ادعاؤكم أن شريعة إبراهيم كانت مخالفة لشريعة محمد عليه السلام؟.
ثم يحتمل في قوله * (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم) * أنه لم يصفهم في العلم حقيقة وإنما أراد إنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به البتة؟.
ثم حقق ذلك بقوله * (والله يعلم) * كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة * (وأنتم لا تعلمون) * كيفية تلك الأحوال.
ثم بين تعالى ذلك مفصلا فقال: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) * فكذبهم فيما ادعوه من موافقة لهما.
ثم قال: * (ولكن كان حنيفا مسلما) * وقد سبق تفسير الحنيف في سورة البقرة.
ثم قال: * (وما كان من المشركين) * وهو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح وبكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه.
فإن قيل: قولكم إبراهيم على دين الإسلام أتريدون به الموافقة في الأصول أو في الفروع؟ فإن كان الأول لم يكن مختصا بدين الإسلام بل نقطع بأن إبراهيم أيضا على دين اليهود، أعني ذلك الدين الذي جاء به موسى، فكان أيضا على دين النصارى، أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى فإن أديان الأنبياء لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول، وإن أردتم به الموافقة في الفروع، فلزم أن لا يكون محمد عليه السلام صاحب الشرع البتة، بل كان كالمقرر لدين غيره، وأيضا من المعلوم كالضرورة أن التعبد بالقرآن ما كان موجودا في زمان إبراهيم عليه السلام فتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا وغير مشروعة في صلاتهم. قلنا: جاز أن يكون المراد به الموافقة في الأصول والغرض منه بيان إنه ما كان موافقا في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هم اليهود والنصارى في زماننا هذا، وجاز أيضا أن يقال المراد به الفروع وذلك لأن الله نسخ تلك الفروع بشرع موسى، ثم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم نسخ شرع موسى عليه السلام الشريعة التي كانت ثابتة في زمن إبراهيم عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون محمد عليه السلام صاحب الشريعة ثم لما كان غالب شرع محمد عليه السلام موافقا لشرع إبراهيم عليه السلام، فلو وقعت المخالفة في القليل لم يقدح ذلك في حصول الموافقة.
ثم ذكر تعالى: * (إن أولى الناس بإبراهيم) * فريقان أحدهما: من اتبعه ممن تقدم والآخر: النبي وسائر المؤمنين.
95

ثم قال: * (والله ولى المؤمنين) * بالنصرة والمعونة والتوفيق والإعظام والإكرام.
قوله تعالى
* (ودت طآئفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق، والإعراض عن قبول الحجة بين أنهم لا يقتصرون على هذا القدر، بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات كقولهم: إن محمدا عليه السلام مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوة، وأيضا إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول، وأيضا القول بالنسخ يفضي إلى البداء، والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود، ونظير قوله تعالى في سورة البقرة: * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم) * (البقرة: 109) وقوله * (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) * (النساء: 89).
واعلم أن * (من) * ههنا للتبعيض وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم لأن منهم من آمن وأثنى الله عليهم بقوله * (منهم أمة مقتصدة) * (المائدة: 66) * (ومن أهل الكتاب أمة قائمة) * (آل عمران: 113) وقيل نزلت هذه الآية في معاذ وعمار بن ياسر وحذيفة دعاهم اليهود إلى دينهم، وإنما قال: * (لو يضلونكم) * ولم يقل أن يضلوكم، لأن * (لو) * للتمني فإن قولك لو كان كذا يفيد التمني ونظيره قوله تعالى: * (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) * (البقرة: 96).
ثم قال تعالى: * (وما يضلون إلا أنفسهم) * وهو يحتمل وجوها منها إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قصدهم إضلال الغير وهو كقوله * (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * (البقرة: 57) وقوله * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) * (العنكبوت: 13) * (وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون) * (النحل: 25) ومنها إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق لأن الذاهب عن الاهتداء يوصف بأنه ضال ومنها أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فهم قد صاروا خائبين خاسرين، حيث اعتقدوا شيئا ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه.
ثم قال تعالى: * (وما يشعرون) * أي ما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين.
96

قوله تعالى
* (يا أهل الكتاب لم تكفرون بأيات الله وأنتم تشهدون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين حال الطائفة التي لا تشعر بما في التوراة من دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بين أيضا حال الطائفة العارفة بذلك من أحبارهم.
فقال: * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: * (لم) * أصلها لما، لأنها: ما، التي للاستفهام، دخلت عليها اللام فحذفت الألف لطلب الخفة، ولأن حرف الجر صار كالعوض عنها ولأنها وقعت طرفا ويدل عليها الفتحة وعلى هذا قوله * (عم يتساءلون) * (النبأ: 1) و * (فبم تبشرون) * (الحجر: 54) والوقف على هذه الحروف يكون بالهاء نحو: فبمه، ولمه.
المسألة الثانية: في قوله * (بآيات الله) * وجوه الأول: أن المراد منها الآيات الواردة في التوراة والإنجيل، وعلى هذا القول فيه وجوه أحدها: ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد عليه السلام، ومنها ما في هذين الكتابين، أن إبراهيم عليه السلام كان حنيفا مسلما، ومنها أن فيهما أن الدين هو الإسلام.
واعلم أن على هذا القول المحتمل لهذه الوجوه نقول: إن الكفر بالآيات يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة بل كانوا كافرين بما يدل عليه التوراة فأطلق اسم الدليل على المدلول على سبيل المجاز والثاني: أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة لأنهم كانوا يحرفونها وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فأما قوله تعالى: * (وأنتم تشهدون) * فالمعنى على هذا القول أنهم عند حضور المسلمين، وعند حضور عوامهم، كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إذا خلا بعضهم مع بعض شهدوا بصحتها، ومثله قوله تعالى: * (تبغونها عوجا وأنتم شهداء) * (آل عمران: 99).
واعلم أن تفسير الآية بهذا القول، يدل على اشتمال هذه الآية على الإخبار عن الغيب لأنه عليه الصلاة والسلام أخبرهم بما يكتمونه في أنفسهم، ويظهرون غيره، ولا شك أن الإخبار عن الغيب معجز.
القول الثاني: في تفسير آيات الله أنها هي القرآن وقوله * (وأنتم تشهدون) * يعني أنكم
97

تنكرون عند العوام كون القرآن معجزا ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزا.
القول الثالث: أن المراد بآيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا القول فقوله تعالى: * (وأنتم تشهدون) * معناه أنكم إنما اعترفتم بدلالة المعجزات التي ظهرت على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدالة على صدقهم، من حيث أن المعجز قائم مقام التصديق من الله تعالى فإذا شهدتهم بأن المعجز إنما دل على صدق سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هذا الوجه، وأنتم تشهدون حصول هذا الوجه في حق محمد صلى الله عليه وسلم كان إصراركم على إنكار نبوته ورسالته مناقضا لما شهدتهم بحقيته من دلالة معجزات سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على صدقهم.
قوله تعالى
* (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) *.
اعلم أن علماء اليهود والنصارى كانت لهم حرفتان إحداهما: أنهم كانوا يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا يعلمون بقلوبهم أنه رسول حق من عند الله والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في الآية الأولى وثانيتهما: إنهم كانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات، وفي إخفاء الدلائل والبينات والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في هذه الآية الثانية، فالمقام الأول مقام الغواية والضلالة والمقام الثاني مقام الإغواء والإضلال، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء * (تلبسون) * بالتشديد، وقرأ يحيى بن وثاب * (تلبسون) * بفتح الباء، أي تلبسون الحق مع الباطل، كقوله عليه السلام: " كلابس ثوبي زور " وقوله. إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
المسألة الثانية: اعلم أن الساعي في إخفاء الحق لا سبيل له إلى ذلك إلا من أحد وجهين: إما بإلقاء شبهة تدل على الباطل، وإما بإخفاء الدليل الذي يدل على الحق، فقوله * (لم تلبسون الحق بالباطل) * إشارة إلى المقام الأول وقوله * (وتكتمون الحق) * إشارة إلى المقام الثاني أما لبس الحق بالباطل فإنه يحتمل ههنا وجوها أحدها
: تحريف التوراة، فيخلطون المنزل بالمحرف، عن الحسن وابن زيد وثانيها: إنهم تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار، ثم الرجوع عنه في آخر النهار، تشكيكا للناس، عن ابن عباس وقتادة وثالثها: أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم من البشارة والنعت والصفة ويكون في التوراة أيضا ما يوهم خلاف ذلك، فيكون كالمحكم
98

والمتشابه فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعله كثير من المشبهة، وهذا قول القاضي ورابعها: أنهم كانوا يقولون محمدا معترف بأن موسى عليه السلام حق، ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى عليه السلام لا ينسخ وكل ذلك إلقاء للشبهات.
أما قوله تعالى: * (وتكتمون الحق) * فالمراد أن الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان الاستدلال بها مفتقرا إلى التفكر والتأمل، والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي كان بمجموعها يتم هذا الاستدلال مثل ما أن أهل البدعة في زماننا يسعون في أن لا يصل إلى عوامهم دلائل المحققين.
أما قوله * (وأنتم تعلمون) * ففيه وجوه أحدها: إنكم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا وثانيها: * (وأنتم تعلمون) * أي أنتم أرباب العلم والمعرفة لا أرباب الجهل والخرافة وثالثها: * (وأنتم تعلمون) * أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم.
المسألة الثالثة: قال القاضي: قوله تعالى: * (لم تكفرون) * و * (لم تلبسون الحق بالباطل) * دال على أن ذلك فعلهم، لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم، ثم يقول: لم فعلتم؟ وجوابه: أن الفعل يتوقف على الداعية فتلك الداعية إن حدثت لا لمحدث لزم نفي الصانع، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى وإن كان محدثها هو الله تعالى لزمكم ما ألزمتموه علينا والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقالت طآئفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي انزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يلبسون الحق بالباطل أردف ذلك بأن حكى عنهم نوعا واحدا من أنواع تلبيساتهم، وهو المذكور في هذه الآية وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قول بعضهم لبعض * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) * ويحتمل أن يكون المراد كل ما أنزل وأن يكون المراد بعض ما أنزل.
أما الاحتمال الأول: ففيه وجوه الأول: أن اليهود والنصارى استخرجوا حيلة في
99

تشكيك ضعفه المسلمين في صحة الإسلام، وهو أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع في بعض الأوقات، ثم يظهروا بعد ذلك تكذيبه، فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب، قالوا: هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد، وإلا لما آمنوا به في أول الأمر وإذا لم يكن هذا التكذيب لأجل الحسد والعناد وجب أن يكون ذلك لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكروا في أمره واستقصوا في البحث عن دلائل نبوته فلاح لهم بعد التأمل التام، والبحث الوافي أنه كذاب، فيصير هذا الطريق شبهة لضعفة المسلمين في صحة نبوته، وقيل: تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر على هذا الطريق.
وقوله * (لعلهم يرجعون) * معناه أنا متى ألقينا هذه الشبهة فلعل أصحابه يرجعون عن دينه.
الوجه الثاني: يحتمل أن يكون معنى الآية أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين، ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب، فإن أمر هؤلاء المؤمنين في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم ويرجعوا إلى دينكم، وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويدل عليه وجهان الأول: أنه تعالى لما قال: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا) * (النساء: 137) أتبعه بقوله * (بشر المنافقين) * وهو بمنزلة قوله * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن) * (البقرة: 14) الثاني: أنه تعالى اتبع هذه الآية بقوله * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * فهذا يدل على أنهم نهوا عن غير دينهم الذي كانوا عليه فكان قولهم * (آمنوا وجه النهار) * أمر بالنفاق.
الوجه الثالث: قال الأصم: قال بعضهم لبعض إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم، لأن كثيرا مما جاء به حق ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض حتى يحمل الناس تكذيبكم له على الإنصاف لا على العناد فيقبلوا قولكم.
الاحتمال الثاني: أن يكون قوله * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره) * بعض ما أنزل الله والقائلون بهذا القول حملوه على أمر القبلة وذكروا فيه وجهين الأول: قال ابن عباس: وجه النهار أوله، وهو صلاة الصبح واكفروا آخره: يعني صلاة الظهر وتقريره أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم، فلما حوله الله إلى الكعبة كان ذلك عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) * يعني آمنوا بالقبلة
100

التي صلى إليها صلاة الصبح فهي الحق، واكفروا بالقبلة التي صلى إليها صلاة الظهر، وهي آخر النهار، وهي الكفر الثاني: أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم، فقال بعضهم لبعض صلوا إلى الكعبة في أول النهار، ثم اكفروا بهذه القبلة في آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون إن أهل الكتاب أصحاب العلم فلولا أنهم عرفوا بطلان هذه القبلة لما تركوها فحينئذ يرجعون عن هذه القبلة. المسألة الثانية: الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه الأول: أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم، وما أطلعوا عليها أحدا من الأجانب، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب، فيكون معجزا الثاني: أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإعلان لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف الثالث: أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس.
المسألة الثالثة: وجه النهار هو أوله، والوجه في اللغة هو مستقبل كل شيء، لأنه أول ما يواجه منه، كما يقال لأول الثوب وجه الثوب، روى ثعلب عن ابن الأعرابي: أتيته بوجه نهار وصدر نهار، وشباب نهار، أي أول النهار، وأنشد الربيع بن زياد فقال:
من كان مسرورا بمقتل مالك * فليأت نسوتنا بوجه نهار
قوله تعالى
* (ولا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل مآ أوتيتم أو يحآجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم * يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل لعظيم) *.
اتفق المفسرون على أن هذا بقية كلام اليهود، وفيه وجهان الأول: المعنى: ولا تصدقوا إلا نبيا يقرر شرائع التوراة، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه، وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم، وعلى هذا التفسير تكون * (اللام) * في قوله * (إلا لمن تبع) * صلة زائدة
101

فإنه يقال صدقت فلانا. ولا يقال صدقت لفلان، وكون هذه اللام صلة زائدة جائز، كقوله تعالى: * (ردف لكم) * (النمل: 72) والمراد ردفكم والثاني: أنه ذكر قبل هذه الآية قوله * (آمنوا وجه النهار واكفروا آخره) *.
ثم قال في هذه الآية: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم، كأنهم قالوا: ليس الغرض من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم، فالمعنى ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم، فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته.
ثم قال تعالى: * (قل إن الهدى هدى الله) * قال ابن عباس رضي الله عنهما. معناه: الدين دين الله ومثله في سورة البقرة * (قل إن هدى الله هو الهدى) * (البقرة: 120).
واعلم أنه لا بد من بيان أنه كيف صار هذا الكلام جوابا عما حكاه عنهم؟ فنقول: أما على الوجه الأول وهو قولهم لا دين إلا ما هم عليه، فهذا الكلام إنما صلح جوابا عنه من حيث أن الذي هم عليه إنما ثبت دينا من جهة الله، لأنه تعالى أمر به وأرشد إليه وأوجب الانقياد له وإذا كان كذلك، فمتى أمر بعد ذلك بغيره، وأرشد إلى غيره، وأوجب الانقياد إلى غيره كان نبيا يجب أن يتبع، وإن كان مخالفا لما تقدم، لأن الدين إنما صار دينا بحكمه وهدايته، فحيثما كان حكمه وجبت متابعته، ونظيره قوله تعالى جوابا لهم عن قولهم * (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب) * (البقرة: 142) يعني الجهات كلها لله، فله أن يحول القبلة إلى أي جهة شاء، وأما على الوجه الثاني فالمعنى أن الهدى هدى الله، وقد جئتكم به فلن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف.
ثم قال تعالى: * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم) *.
واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة، فنقول هذا إما أن يكون من جملة كلام الله تعالى أو يكون من جملة كلام اليهود، ومن تتمة قولهم ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، وقد ذهب إلى كل واحد من هذين الاحتمالين قوم من المفسرين.
أما الاحتمال الأول: ففيه وجوه الأول: قرأ ابن كثير آن يؤتي بمد الألف على الاستفهام والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام، فإن أخذنا بقراءة ابن كثير، فالوجه ظاهر وذلك لأن هذه اللفظة موضوعة للتوبيخ كقوله تعالى: * (أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) * (القلم: 14، 15) والمعنى أمن أجل أن يؤتي أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه؟ ثم حذف الجواب للاختصار، وهذا الحذف كثير يقول الرجل بعد طول
102

العتاب لصاحبه، وتعديده عليه ذنوبه بعد كثرة إحسانه إليه أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت؟ ونظيره قوله تعالى: * (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه) * (الزمر: 9) وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر. أما قراءة من قرأ بقصر الألف من * (أن) * فقد يمكن أيضا حملها على معنى الاستفهام كما قرىء * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * (البقرة: 6) بالمد والقصر، وكذا قوله * (أن كان ذا مال وبنين) * قرىء بالمد والقصر، وقال امرؤ القيس:
تروح من الحي أم تبتكر؟ * وماذا عليك ولم تنتظر
أراد أروح من الحي؟ فحذف ألف الاستفهام، وإذا ثبت أن هذه القراءة محتملة لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى.
الوجه الثاني: أن أولئك لما قالوا لأتباعهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم * (إن الهدى هدى الله) * فلا تنكروا * (أن يؤتي أحد) * سواكم من الهدى * (مثل ما أوتيتموه) * * (أو يحاجوكم) * يعني هؤلاء المسلمين بذلك * (عند ربكم) * إن لم تقبلوا ذلك منهم، أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله فلا تنكروا لأن عليه دليلا وهو قوله * (إن الهدى هدى الله) * فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار.
الوجه الثالث: إن الهدى اسم للبيان كقوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) * (فصلت: 17) فقوله * (إن الهدى) * مبتدأ وقوله * (هدى الله) * بدل منه وقوله * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) * خبر بإضمار حرف لا، والتقدير: قل يا محمد لا شك أن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان وأن لا يحاجوكم يعني هؤلاء اليهود عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون، وهذا التأويل ليس فيه إلا أنه لا بد من إضمار حرف * (لا) * وهو جائز كما في قوله تعالى: * (أن تضلوا) * (النساء: 44) أي أن لا تضلوا.
الوجه الرابع: * (الهدى) * اسم و * (هدى الله) * بدل منه و * (أن يؤتى أحد) * خبره والتقدير: إن هدى الله هو أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم، وعلى هذا التأويل فقوله * (أو يحاجوكم عند ربكم) * لا بد فيه من إضمار، والتقدير: أو يحاجوكم عند ربكم فيقضى لكم عليهم، والمعنى: أن الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام الذي من حاجكم به عندي قضيت لكم عليه، وفي قوله * (عند ربكم) * ما يدل على هذا الإضمار ولأن حكمه بكونه ربا لهم يدل على كونه راضيا عنهم وذلك مشعر بأنه يحكم لهم ولا يحكم عليهم.
103

والاحتمال الثاني: أن يكون قوله * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) * من تتمة كلام اليهود، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل إن الهدى هدى الله، وأن الفضل بيد الله، قالوا، والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم، وأسروا تصديقكم، بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام.
أما قوله * (أو يحاجوكم عند ربكم) * فهو عطف على أن يؤتى، والضمير في يحاجوكم لأحد، لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة، وعندي أن هذا التفسير ضعيف، وبيانه من وجوه الأول: إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد عليه السلام كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم وأشياعهم عنه، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم وأشياعهم، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟ هذا في غاية البعد الثاني: أن على هذا التقدير يختل النظم ويقع فيه تقديم وتأخير لا يليق بكلام الفصحاء والثالث: إن على هذا التقدير لا بد من الحذف فإن التقدير: قبل إن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله، ولا بد من حذف * (قل) * في قوله * (قل إن الفضل بيد الله) * الرابع: إنه كيف وقع قوله * (قل إن الهدى هدى الله) * فيما بين جزأي كلام واحد؟ فإن هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم، قال القفال: يحتمل أن يكون قوله * (قل إن الهدى هدى الله) * كلام أمر الله نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقابله بقول حق، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر، فيقول: عند بلوغه إلى تلك الكلمة آمنت بالله، أو يقول لا إله إلا الله، أو يقول تعالى الله ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى: * (قل إن الهدى هدى الله) * من هذا الباب، ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله * (أو يحاجوكم عند ربكم) * ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم، فقيل له * (قل إن الفضل بيد الله) * إلى آخر الآية.
الإشكال الخامس: في هذه الوجوه: أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدى إلى المصدق بحرف اللام لا يقال صدقت لزيد بل يقال: صدقت زيدا، فكان ينبغي أن يقال: ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم، وعلى هذا التقدير يحتاج إلى حذف اللام في قوله * (لمن تبع دينكم) *
104

ويحتاج إلى إضمار الباء أو ما يجري مجراه في قوله * (أن يؤتى) * لأن التقدير: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فقد اجتمع في هذا التفسير الحذف والإضمار وسوء النظم وفساد المعنى، قال أبو علي الفارسي: لا يبعد أن يحمل الإيمان على الإقرار فيكون المعنى: ولا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وعلى هذا التقدير لا تكون اللام زائدة، لكن لا بد من إضمار حرف الباء أو ما يجري مجراه على كل حال، فهذا محصل ما قيل في تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده.
ثم قال تعالى: * (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) *.
واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين أحدهما: أن يؤمنوا وجه النهار، ويكفروا آخره، ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام.
فأجاب عنه بقوله * (قل إن الهدى هدى الله) * والمعنى: أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر والثاني: أنه حكى عنهم أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة.
فأجاب عنه بقوله * (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) * والمراد بالفضل الرسالة، وهو في اللغة عبارة عن الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير، ثم كثر استعمال الفضل لكل نفع قصد به فاعله الإحسان إلى الغير وقوله * (بيد الله) * أي إنه مالك له قادر عليه، وقوله * (يؤتيه من يشاء) * أي هو تفضل موقوف على مشيئته، وهذا يدل على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق، لأنه تعالى جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله، ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز وقوله * (والله واسع عليم) * مؤكد لهذا المعنى، لأن كونه واسعا، يدل على كمال القدرة، وكونه عليما على كمال العلم، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء، ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب.
ثم قال: * (يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) * وهذا كالتأكيد لما تقدم، والفرق بين هذه الآية وبين ما قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادة، ثم إن الزيادة من جنس المزيد عليه، فبين بقوله * (إن الفضل بيد الله) * إنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاهم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها، ثم قال: * (يختص برحمته من يشاء) * والرحمة المضافة إلى الله سبحانه أمر أعلى من ذلك الفضل، فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلى أن لا تكون من جنس
105

ما آتاهم، بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما آتاهم، ويحصل من مجموع الآيتين إنه لا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده، وأن قصر إنعامه وإكرامه على
مراتب معينة، وعلى أشخاص معينين جهل بكمال الله في القدرة والحكمة.
قوله تعالى
* (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا فى الاميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون * بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) *.
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الأول: أنه تعالى حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية، ما لم يؤت أحد غيرهم مثله، ثم إنه تعالى بين أن الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان، وهم مصرون عليها، فدل هذا على كذبهم والثاني: أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا * (لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * (آل عمران: 73) حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس، وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير وههنا مسائل:
المسألة الأولى: الآية دالة على انقسامهم إلى قسمين: بعضهم أهل الأمانة، وبعضهم أهل الخيانة وفيه أقوال الأول: أن أهل الأمانة منهم هم الذين أسلموا، أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أن يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين وأخذ أموالهم ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) * (آل عمران: 113) مع قوله * (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) * (آل عمران: 110) الثاني: أن أهل الأمانة هم النصارى،
106

وأهل الخيانة هم اليهود، والدليل عليه ما ذكرنا، أن مذهب اليهود أنه يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان الثالث: قال ابن عباس: أودع رجل عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأدى إليه، وأودع آخر فنحاص بن عازوراء دينارا فخانه فنزلت الآية.
المسألة الثانية: يقال أمنته بكذا وعلى كذا، كما يقال مررت به وعليه، فمعنى الباء إلصاق الأمانة، ومعنى: على استعلاء الأمانة، فمن اؤتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به لقربه منه، واتصاله بحفظه وحياطته، وأيضا صار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة والمستولي عليها، فلهذا حسن التعبير عن هذا المعنى بكلتا العبارتين، وقيل إن معنى قولك أمنتك بدينار أي وثقت بك فيه، وقولك أمنتك عليه، أي جعلتك أمينا عليه وحافظا له.
المسألة الثالثة: المراد من ذكر القنطار والدينار ههنا العدد الكثير والعدد القليل، يعني أن فيهم من هو في غاية الأمانة حتى لو اؤتمن على الأموال الكثيرة أدى الأمانة فيها، ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى لو اؤتمن على الشيء القليل، فإنه يجوز فيه الخيانة، ونظيره قوله تعالى: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * (النساء: 20) وعلى هذا الوجه، فلا حاجة بنا إلى ذكر مقدار القنطار وذكروا فيه وجوها الأول: إن القنطار ألف ومائتا أوقية قالوا: لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلام حين استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية من الذهب فرده ولم يخن فيه، فهذا يدل على القنطار هو ذلك المقدار الثاني: روي عن ابن عباس أنه ملء جلد ثور من المال الثالث: قيل القنطار هو ألف ألف دينار أو ألف ألف درهم، وقد تقدم القول في تفسير القنطار.
المسألة الرابعة: قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر * (يؤده) * بسكون الهاء، وروي ذلك عن أبي عمرو، وقال الزجاج: هذا غلط من الراوي عن أبي عمرو كما غلط في * (بارئكم) * بإسكان الهمزة وإنما كان أبو عمرو يختلس الحركة، واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة بأن قال: الجزاء ليس في الهاء وإنما هو فيما قبل الهاء والهاء اسم المكنى والأسماء لا تجزم في الوصل، وقال الفراء: من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها. فيقول: ضربته ضربا شديدا كما يسكنون (ميم) أنتم وقمتم وأصلها الرفع، وأنشد: لما رأى أن لا دعه ولا شبع
وقرئ أيضا باختلاس حركة الهاء اكتفاء بالكسرة من الياء، وقرئ بإشباع الكسرة في الهاء وهو الأصل.
107

ثم قال تعالى: * (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في لفظ (القائم) وجهان: منهم من حمله على حقيقته، قال السدي: يعني إلا ما دمت قائما على رأسه بالاجتماع معه والملازمة له، والمعنى: أنه إنما يكون معترفا بما دفعت إليه ما دمت قائما على رأسه، فإن أنظرت وأخرت أنكر، ومنهم من حمل لفظ (القائم) على مجازه ثم ذكروا فيه وجوها الأول: قال ابن عباس المراد من هذا القيام الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة، قال ابن قتيبة: أصله أن المطالب للشيء يقوم فيه والتارك له يقعد عنه، دليل قوله تعالى: * (أمة قائمة) * (آل عمران: 113) أي عامله بأمر الله غير تاركه، ثم قيل: لكل من واظب على مطالبة أمر أنه قام به وإن لم يكن ثم قيام الثاني: قال أبو علي الفارسي: القيام في اللغة بمعنى الدوام والثبات، وذكرنا ذلك في قوله تعالى: * (يقيمون الصلاة) * (البقرة: 3) ومنه قوله * (دينا قيما) * (الأنعام: 161) أي دائما ثابتا لا ينسخ فمعنى قوله * (إلا ما دمت عليه قائما) * أي دائما ثابتا في مطالبتك إياه بذلك المال.
المسألة الثانية: يدخل تحت قوله * (من أن تأمنه بقنطار) * و * (بدينار) * العين والدين، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقاوضة وليس في الآية ما يدل على التعيين والمنقول عن ابن عباس أنه حمله على المبايعة، فقال منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك ونقلنا أيضا أن الآية نزلت في أن رجلا أودع مالا كثيرا عند عبد الله بن سلام، ومالا قليلا عند فنحاص بن عازوراء، فخان هذا اليهودي في القليل، وعبد الله بن سلام أدى الأمانة، فثبت أن اللفظ محتمل لكل الأقسام.
ثم قال تعالى: * (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) * والمعنى إن ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب
سبيل. وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوها الأول: أنهم مبالغون في التعصب لدينهم، فلا جرم يقولون: يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام: " كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " الثاني: أن اليهود قالوا * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا الثالث: أن اليهود إنما ذكروا هذا الكلام لا مطلقا لكل من خالفهم، بل للعرب الذين آمنوا
108

بالرسول صلى الله عليه وسلم، روي أن اليهود بايعوا رجالا في الجاهلية فلما أسلموا طالبوهم بالأموال فقالوا: ليس لكم علينا حق لأنكم تركتم دينكم، وأقول: من المحتمل أنه كان من مذهب اليهود أن من انتقل من دين باطل إلى دين آخر باطل كان في حكم المرتد، فهم وإن اعتقدوا أن العرب كفار إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كفر حكموا على العرب الذين أسلموا بالردة.
المسألة الثانية: نفي السبيل المراد منه نفي القدرة على المطالبة والإلزام. قال تعالى: * (ما على المحسنين من سبيل) * (التوبة: 91) وقال: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * (النساء: 141) وقال: * (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) * (الشورى: 41، 42).
المسألة الثالثة: * (الأمي) * منسوب إلى الأم، وسمي النبي صلى الله عليه وسلم أميا قيل لأنه كان لا يكتب وذلك لأن الأم أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بقي على أصله في أن لا يكتب، وقيل: نسب إلى مكة وهي أم القرى.
ثم قال تعالى: * (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * وفيه وجوه الأول: أنهم قالوا: إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش الثاني: أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة الثالث: أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم.
ثم قال تعالى: * (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) *. اعلم أن في * (بلى) * وجهين أحدهما: أنه لمجرد نفي ما قبله، وهو قوله * (ليس علينا في الأميين سبيل) * فقال الله تعالى رادا عليهم * (بلى) * عليهم سبيل في ذلك وهذا اختيار الزجاج، قال: وعندي وقف التمام على * (بلى) * وبعده استئناف والثاني: أن كلمة * (بلى) * كلمة تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعده، وذلك لأن قولهم: ليس علينا فيما نفعل جناح قائم مقام قولهم: نحن أحباء الله تعالى، فذكر الله تعالى أن أهل الوفاء بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى لا غيرهم، وعلى هذا الوجه فإنه لا يحسن الوقف على * (بلى) * وقوله * (من أوفى بعهده) * مضى الكلام في معنى الوفاء بالعهد والضمير في * (بعهده) * يجوز أن يعود على اسم * (الله) * في قوله * (ويقولون على الله الكذب) * ويجوز أن يعود على * (من) * لأن العهد مصدر فيضاف إلى المفعول وإلى الفاعل وههنا سؤالان:
السؤال الأول: بتقدير * (أن) * يكون الضمير عائدا إلى الفاعل وهو * (من) * فإنه يحتمل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة، فإنهم يكتسبون محبة الله تعالى.
109

الجواب: الأمر كذلك، فإنهم إذا أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الأعظم، وهو ما أخذ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة، لاتقوه في ترك الكذب على الله، وفي ترك تحريف التوراة.
السؤال الثاني: أين الضمير الراجع من الجزاء إلى * (من) *؟.
الجواب: عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير.
واعلم أن هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد، وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معا، لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق، فهو شفقة على خلق الله، ولما أمر الله به، كان الوفاء به تعظيما لأمر الله، فثبت أن العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات والوفاء بالعهد، كما يمكن في حق الغير يمكن أيضا في حق النفس لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات، لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب.
قوله تعالى
* (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم فى الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) *.
اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها الأول: أنه تعالى لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس، ثم من المعلوم أن الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة الثاني: أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم * (يقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * (آل عمران: 75) ولا شك أن عهد الله على كل مكلف أن لا يكذب على الله ولا يخون في دينه، لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك الثالث: أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس، ثم ذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذبا، ومن الناس من قال: هذه الآية ابتداء كلام
110

مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة، وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على الأيمان الكاذبة، وإذا كان كذلك وجب
اعتقاد كون هذا الوعيد عاما في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص باليهود.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفت الروايات في سبب النزول، فمنهم من خصها باليهود الذين شرح الله أحوالهم في الآيات المتقدمة، ومنهم من خصها بغيرهم.
أما الأول ففيه وجهان الأول: قال عكرمة إنها نزلت في أحبار اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا، واحتج هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة * (وأوفوا بعهدي أوف بعدكم) * (البقرة: 40) الثاني: أنها نزلت في ادعائهم أنه * (ليس علينا في الأميين سبيل) * (آل عمران: 75) كتبوا بأيديهم كتابا في ذلك وحلفوا أنه من عند الله وهو قول الحسن.
وأما الاحتمال الثاني: ففيه وجوه الأول: أنها نزلت في الأشعث بن قيس، وخصم له في أرض، اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للرجل: " أقم بينتك " فقال الرجل: ليس لي بينة فقال للأشعث " فعليك اليمين " فهم الأشعث باليمين فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم واعترف بالحق، وهو قول ابن جريج الثاني: قال مجاهد: نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته الثالث: نزلت في عبدان وامرئ القيس اختصما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أرض، فتوجه اليمين على امرئ القيس، فقال: أنظرني إلى الغد، ثم جاء من الغد وأقر له بالأرض، والأقرب الحمل على الكل.
فقوله: * (إن الذين يشترون بعهد الله) * يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول، ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه، لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به.
قال تعالى: * (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن) * (التوبة: 75) الآية وقال: * (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) * (الإسراء: 34) وقال: * (يوفون بالنذر) * (الإنسان: 7) وقال: * (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) * (الأحزاب: 23) وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الشراء، وذلك لأن المشتري يأخذ شيئا ويعطي شيئا فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر، وأما الأيمان فحالها معلوم وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد، أو وعيد، أو إنكار، أو إثبات.
ثم قال تعالى: * (أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة
111

ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) * واعلم أنه تعالى فرع على ذلك الشرط وهو الشراء بعهد الله والأيمان ثمنا قليلا، خمسة أنواع من الجزاء أربعة منها في بيان صيرورتهم محرومين عن الثواب والخامس: في بيان وقوعهم في أشد العذاب، أما المنع من الثواب فاعلم أن الثواب عبارة عن المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم.
فالأول: وهو قوله * (أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) * إشارة إلى حرمانهم عن منافع الآخرة.
وأما الثلاثة الباقية: وهي قوله * (ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم) * فهو إشارة إلى حرمانهم عن التعظيم والإعزاز.
وأما الخامس: وهو قوله * (ولهم عذاب أليم) * فهو إشارة إلى العقاب، ولما نبهت لهذا الترتيب فلنتكلم في شرح كل واحد من هذه الخمسة:
أما الأول: وهو قوله * (لا خلاق لهم في الآخرة) * فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الأمة بعدم التوبة، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضا بعدم العفو فإنه تعالى قال: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48).
وأما الثاني: وهو قوله * (ولا يكلمهم الله) * ففيه سؤال، وهو أنه تعالى قال: * (فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون) * (الحجر: 92، 93) وقال: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) * (الأعراف: 6) فكيف الجمع بين هاتين الآيتين، وبين تلك الآية؟ قال القفال في الجواب: المقصود من كل هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا، فإنما ذلك بسخط الله عليه وإذا سخط إنسان على آخر، قال له لا أكلمك، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول لا أرى وجه فلان، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل فثبت أن هذه الكلمات كنايات عن شدة الغضب نعوذ بالله منه. وهذا هو الجواب الصحيح، ومنهم من قال: لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفا عاليا يختص به أولياءه، ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة ومنهم من قال معنى هذه الآية أنه تعالى لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم والمعتد هو الجواب الأول.
وأما الثالث: وهو قوله تعالى: * (ولا ينظر إليهم) * فالمراد إنه لا ينظر إليهم بالإحسان، يقال فلان لا ينظر إلى فلان، والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه، والسبب لهذا المجاز أن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاد نظره إليه مرة بعد أخرى، فلهذا السبب صار نظر الله عبارة عن الاعتداد والإحسان، وإن لم يكن ثم نظر، ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر
112

الرؤية، لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام، وتعالى إلهنا عن أن يكون جسما، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف (إلى) ليس للرؤية وإلا لزم في هذه الآية أن لا يكون الله تعالى رائيا لهم وذلك باطل.
وأما الرابع: وهو قوله * (ولا يزكيهم) * ففيه وجوه الأول: أن لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة بل يعاقبهم عليها والثاني: لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكى للشاهد مدح منه له.
واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * (الرعد: 23، 24) وقال: * (وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) * (الأنبياء: 103) * (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) * (فصلت: 21) وقد تكون بغير واسطة، أما في الدنيا فكقوله * (التائبون العابدون) * (التوبة: 112) وأما في الآخرة فكقوله * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58).
وأما الخامس: وهو قوله * (ولهم عذاب أليم) * فاعلم أنه تعالى لما بين حرمانهم من الثواب بين كونهم في العقاب الشديد المؤلم.
قوله تعالى
* (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) *.
اعلم أن هذه الآية تدل على أن الآية المتقدمة نازلة في اليهود بلا شك لأن هذه الآية نازلة في حق اليهود وهي معطوفة على ما قبلها فهذا يقتضي كون تلك الآية المتقدمة نازلة في اليهود أيضا واعلم أن * (اللي) * عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج، يقال: لويت يده، والتوى الشيء إذا انحرف والتوى فلان على إذا غير أخلافه عن الاستواء إلى ضده، ولوى لسانه عن كذا إذا غيره، ولوى فلانا عن رأيه إذا أماله عنه، وفي الحديث: " لي الواجد ظلم " وقال تعالى: * (وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين) * (النساء: 46).
113

إذا عرفت هذا الأصل ففي تأويل الآية وجوه الأول: قال القفال رحمه الله قوله * (يلوون ألسنتهم) * معناه وأن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفا يتغير به المعنى، وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية، فلما فعلوا مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله تعالى: * (يلوون ألسنتهم) * وهذا تأويل في غاية الحسن الثاني: نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم كتبوا كتابا شوشوا فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثم قالوا * (هذا من عند الله) *.
إذا عرفت هذا فنقول: إن لي اللسان تثنيه بالتشدق والتنطع والتكلف وذلك مذموم فعبر الله تعالى عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلى اللسان ذما لهم وعيبا ولم يعبر عنها بالقراءة، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد، فيقولون في المدح: خطيب مصقع، وفي الذم: مكثار ثرثار.
فقوله * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب) * المراد قراءة ذلك الكتاب الباطل، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) * (البقرة: 79) ثم قال: * (وما هو من الكتاب) * أي وما هو الكتاب الحق المنزل من عند الله، بقي ههنا سؤالان:
السؤال الأول: إلى ما يرجع الضمير في قوله * (لتحسبوه) *؟.
الجواب: إلى ما دل عليه قوله * (يلوون ألسنتهم) * وهو المحرف.
السؤال الثاني: كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس؟.
الجواب: لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل، يجوز عليهم التواطؤ على التحريف، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكنا، والأصوب عندي في تفسير الآية وجه آخر وهو أن الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين، واليهود كانوا يقولون: مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم، فكان هذا هو المراد بالتحريف وبلي الألسنة وهذا مثل ما أن المحق في زماننا إذا استدل بآية من كتاب الله تعالى، فالمبطل يورد عليه الأسئلة والشبهات ويقول: ليس مراد الله ما ذكرت، فكذا في هذه الصورة.
ثم قال تعالى: * (ويقولون هو من عند الله) *
114

واعلم أن من الناس من قال: إنه لا فرق بين قوله * (لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب) * وبين قوله * (ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله) * (آل عمران: 78) وكرر هذا الكلام بلفظين مختلفين لأجل التأكيد، أما المحققون فقالوا: المغايرة حاصلة، وذلك لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله، فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب، وتارة بالسنة، وتارة بالإجماع، وتارة بالقياس والكل من عند الله.
فقوله * (لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب) * هذا نفي خاص، ثم عطف عليه النفي العام فقال: * (ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله) * وأيضا يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة، ويكون المراد من قولهم: هو من عند الله، أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أشعياء، وأرمياء، وحيقوق، وذلك لأن القوم في نسبة التحريف إلى الله كانوا متحيرين، فإن وجدوا قوما من الأغمار والبله الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة، وإن وجدوا قوما عقلاء أذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين جاؤوا بعد موسى عليه السلام، واحتج الجبائي والكعبي به على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى فقالا: لو كان لي اللسان بالتحريف والكذب خلقا لله تعالى لصدق اليهود في قولهم: إنه من عند الله ولزم الكذب في قوله تعالى: إنه ليس من عند الله، وذلك لأنهم أضافوا إلى الله ما هو من عنده، والله ينفي عن نفسه ما هو من عنده، ثم قال: وكفى خزيا لقوم يجعلون اليهود أولى بالصدق من الله قال: ليس لأحد أن يقول المراد من قولهم * (لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب) * وبين قوله * (ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله) * فرق، وإذا لم يبق الفرق لم يحسن العطف، وأجاب الكعبي عن هذا السؤال أيضا من وجهين آخرين الأول: أن كون المخلوق من عند الخالق أوكد من كون المأمور به من عند الآمر به، وحمل
الكلام على الوجه الأقوى أولى والثاني: أن قوله * (وما هو من عند الله) * نفي مطلق لكونه من عند الله وهذا ينفي كونه من عند الله بوجه من الوجوه، فوجب أن لا يكون من عنده لا بالخلق ولا بالحكم.
والجواب: أما قول الجبائي لو حملنا قوله تعالى: * (ويقولون هو من عند الله) * على أنه كلام الله لزم التكرار، فجوابه ما ذكرنا أن قوله * (وما هو من الكتاب) * معناه أنه غير موجود في الكتاب وهذا لا يمنع من كونه حكما لله تعالى ثابتا بقول الرسول أو بطريق آخر فلما قال: * (وما هو من عند الله) * ثبت نفي كونه حكما لله تعالى وعلى هذا الوجه زال التكرار.
115

وأما الوجه الأول: من الوجهين اللذين ذكرهما الكعبي فجوابه، أن الجواب لا بد وأن يكون منطبقا على السؤال، والقوم ما كانوا في ادعاء أن ما ذكروه وفعلوه خلق الله تعالى، بل كانوا يدعون أنه حكم الله ونازل في كتابه.
فوجب أن يكون قوله * (وما هو من عند الله) * عائدا إلى هذا المعنى لا إلى غيره، وبهذا الطريق يظهر فساد ما ذكره في الوجه الثاني والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * والمعنى أنهم يتعمدون ذلك الكذب مع العلم.
واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة، وإعراب ألفاظها، فالمقدمون عليه يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب، وإن كان المراد منه تشويش دلالة تلك الآيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات لم يبعد إطباق الخلق الكثير عليه والله أعلم.
قوله تعالى
* (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن عادة علماء أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أن من جملة ما حرفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الإلهية، وأنه كان يأمر قومه بعبادته فلهذا قال: * (ما كان لبشر) * الآية، وههنا مسائل:
116

المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية وجوه الأول: قال ابن عباس: لما قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله نزلت هذه الآية الثاني: قيل إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا، فقال عليه الصلاة والسلام " معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني؛ ولا بذلك أمرني " فنزلت هذه الآية الثالث: قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله " الرابع: أن اليهود لما ادعوا أن أحدا لا ينال من درجات الفضل والمنزلة ما نالوه، فالله تعالى قال لهم: إن كان الأمر كما قلتم، وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم ولكن يجب أن تأمروا الناس بالطاعة لله والانقياد لتكاليفه وحينئذ يلزمكم أن تحثوا الناس على الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن ظهور المعجزات عليه يوجب ذلك، وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله * (ثم يقول للناس كونوا عبادا من دون الله) * مثل قوله * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * (التوبة: 31). المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله * (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) * على وجوه الأول: قال الأصم: معناه، أنهم لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الدليل عليه قوله تعالى: * (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين) * (الحاقه: 44) قال: * (لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) * (الاسراء: 74، 75) الثاني: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موصوفون بصفات لا يحسن مع تلك الصفات ادعاء الإلهية والربوبية منها أن الله تعالى آتاهم الكتاب والوحي وهذا لا يكون إلا في النفوس الطاهرة والأرواح الطيبة، كما قال الله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) * (الأنعام: 124) وقال: * (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) * (الدخان: 32) وقال الله تعالى: * (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) * (الحج: 75) والنفس الطاهرة يمتنع أن يصدر عنها هذه الدعوى، ومنها أن إيتاء النبوة لا يكون إلا بعد كمال العلم وذلك لا يمنع من هذه الدعوى، وبالجملة فللانسان قوتان: نظرية وعملية، وما لم تكن القوة النظرية كاملة بالعلوم والمعارف الحقيقية ولم تكن القوة العملية مطهرة عن الأخلاق الذميمة لا تكون النفس مستعدة لقبول الوحي والنبوة، وحصول الكمالات في القوة النظرية والعملية يمنع من مثل هذا القول والاعتقاد، الثالث: أن الله تعالى لا يشرف عبده بالنبوة والرسالة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل هذا الكلام الرابع: أن الرسول ادعى أنه يبلغ الأحكام عن الله تعالى، واحتج على صدقه في هذه الدعوى فلو
117

أمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالة المعجزة على كونه صادقا، وذلك غير جائز، واعلم أنه ليس المراد من قوله * (ما كان لبشر) * ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق، وظاهر الآية يدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أن الله آتاه الكتاب والحكم والنبوة، وأيضا لو كان المراد منه التحريم لما كان ذلك تكذيبا للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجل فعلا فقيل له إن فلان لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن تكذيبا له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلام قال لهم: اتخذوني إلها من دون الله فالمراد إذن ما قدمناه، ونظيره قوله تعالى: * (ما كان الله أن يتخذ من ولد) * (مريم: 35) على سبيل النفي لذلك عن نفسه، لا على وجه التحريم والحظر، وكذا قوله تعالى: * (ما كان لنبي أن يغل) * (آل عمران: 161) والمراد النفي لا النهي والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله * (أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة) * إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولا ثم إنه
يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه الإشارة بالحكم، فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم، قال تعالى: * (وآتيناه الحكم صبيا) * (مريم: 12) يعني العلم والفهم، ثم إذا حصل فهم الكتاب، فحينئذ يبلغ ذلك إلى الخلق وهو النبوة فما أحسن هذا الترتيب.
ثم قال تعالى: * (ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: القراءة الظاهرة، ثم يقول بنصب اللام، وروي عن أبي عمرو برفعها، أما النصب فعلى تقدير: لا تجتمع النبوة وهذا القول، والعامل فيه (أن) وهو معطوف عليه بمعنى ثم أن يقول وأما الرفع فعلى الاستئناف.
المسألة الثانية: حكى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: * (كونوا عبادا لي) * إنه لغة مزينة يقولون للعبيد عبادا.
ثم قال: * (ولكن كونوا ربانيين) * وفيه مسألتان؛
المسألة الأولى: في هذه الآية إضمار، والتقدير: ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الاضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، ونظيره قوله تعالى: * (وأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) * (آل عمران: 106) أي فيقال لهم ذلك.
118

المسألة الثانية: ذكروا في تفسير (الرباني) أقوالا الأول: قال سيبويه: الرباني المنسوب إلى الرب، بمعنى كونه عالما به، ومواظبا على طاعته، كما يقال: رجل إلهي إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة، كما قالوا: شعراني ولحياني ورقباني إذا وصف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة، فإذا نسبوا إلى الشعر قالوا: شعري وإلى الرقبة رقبي وإلى اللحية لحيي والثاني: قال المبرد * (الربانيون) * أرباب العلم وأحدهم رباني، وهو الذي يرب العلم ويرب الناس أي: يعلمهم ويصلحهم ويقوم بأمرهم، فالألف والنون للمبالغة كما قالوا: ربان وعطشان وشبعان وعريان، ثم ضمت إليه ياء النسبة كما قيل: لحياني ورقباني قال الواحدي: فعلى قول سيبويه الرباني: منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وبطاعته، وعلى قول المبرد * (الرباني) * مأخوذ من التربية الثالث: قال ابن زيد: الرباني. هو الذي يرب الناس، فالربانيون هم ولاة الأمة والعلماء، وذكر هذا أيضا في قوله تعالى: * (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار) * (المائدة: 63) أي الولاة والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التقدير: لا أدعوكم إلى أن تكونوا عبادا لي، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته، قال القفال رحمه الله: ويحتمل أن يكون الوالي سمي ربانيا، لأنه يطاع كالرب تعالى، فنسب إليه الرابع: قال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية، أو سريانية، وسواء كانت عربية أو عبرانية، فهي تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم، واشتغل بتعليم طرق الخير.
ثم قال تعالى: * (بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله * (بما كنتم تعلمون الكتاب) * قراءتان إحداهما: * (تعلمون) * من العلم، وهي قراءة عبد الله بن كثير، وأبي عمرو، ونافع والثانية: * (تعلمون) * من التعليم وهي قراءة الباقين من السبعة وكلاهما صواب، لأنهم كانوا يعلمونه في أنفسهم ويعلمونه غيرهم، واحتج أبو عمرو على أن قراءته أرجح بوجهين الأول: أنه قال: * (تدرسون) * ولم يقل * (تدرسون) * بالتشديد الثاني: أن التشديد يقتضي مفعولين والمفعول هاهنا واحد، وأما الذين قرؤا بالتشديد فزعموا أن المفعول الثاني محذوف تقديره: بما كنتم تعلمون الناس الكتاب، أو غيركم الكتاب وحذف، لأن المفعول به قد يحذف من الكلام كثيرا، ثم احتجوا على أن التشديد أولى بوجهين الأول: أن التعليم يشتمل على العلم ولا ينعكس فكان التعليم أولى الثاني: أن الربانيين لا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم لله تعالى ألا ترى أنه تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:
119

* (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * (النحل: 125) ويدل عليه قول مرة بن شراحيل: كان علقمة من الربانيين الذين يعلمون الناس القرآن.
المسألة الثانية: نقل ابن جني في " المحتسب "، عن أبي حياة أنه قرأ * (تدرسون) * بضم التاء ساكنة الدال مكسورة الراء، قال ابن جني: ينبغي أن يكون هذا منقولا من درس هو، أو درس غيره، وكذلك قرأ وأقرأ غيره، وأكثر العرب على درس ودرس، وعليه جاء المصدر على التدريس.
المسألة الثالثة: (ما) في القراءتين، هي التي بمعنى المصدر مع الفعل، والتقدير: كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب، ومثل هذا من كون (ما) مع الفعل بمعنى المصدر قوله تعالى: * (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) * (الأعراف: 5) وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانيا والسبب لا محالة مغاير للمسبب، فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانيا، أمرا مغايرا لكونه عالما، ومعلما، ومواظبا على الدراسة، وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه لله، وتعليمه ودراسته لله، وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة الله، والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله، وإذا ثبت أن الرسول يأمر جميع الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر الخلق بعبادته، وحاصل الحرف شيء واحد، وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق، فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه. وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يأمر غيره بعبادته.
المسألة الرابعة: دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا، فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ".
ثم قال تعالى: * (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة وابن عامر * (ولا يأمركم) * بنصب الراء، والباقون بالرفع أما النصب فوجهه أن يكون عطفا على * (ثم يقول) * وفيه وجهان أحدهما: أن تجعل * (لا) * مزيدة والمعنى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس كونوا عبادا
120

لي من دون الله ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، كما تقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي والثاني: أن تجعل * (لا) * غير مزيدة، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا: أتريد أن نتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يجعله الله نبيا ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء، وأما القراءة بالرفع على سبيل الاستئناف فظاهر لأنه بعد انقضاء الآية وتمام الكلام، ومما يدل على الانقطاع عن الأول ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ * (ولن يأمركم) *.
المسألة الثانية: قال الزجاج: ولا يأمركم الله، وقال ابن جريج: لا يأمركم محمد، وقيل: لا يأمركم الأنبياء بأن تتخذوا الملائكة أربابا كما فعلته قريش.
المسألة الثالثة: إنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا من أهل الكتاب بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير، فلهذا المعنى خصهما بالذكر.
ثم قال تعالى: * (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) * وفيه ومسائل:
المسألة الأولى: الهمزة في * (أيأمركم) * استفهام بمعنى الإنكار، أي لا يفعل ذلك.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف " قوله * (بعد إذ أنتم مسلمون) * دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يسجدوا له.
المسألة الثالثة: قال الجبائي: الآية دالة على فساد قول من يقول: الكفر بالله هو الجهل به والإيمان بالله هو المعرفة به، وذلك لأن الله تعالى حكم بكفر هؤلاء، وهو قوله تعالى: * (أيأمركم بالكفر) * ثم إن هؤلاء كانوا عارفين بالله تعالى بدليل قوله * (ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) * وظاهر هذا يدل على معرفته بالله فلما حصل الكفر ههنا مع المعرفة بالله دل ذلك على أن الإيمان به ليس هو المعرفة والكفر به تعالى ليس هو الجهل به.
والجواب: أن قولنا الكفر بالله هو الجهل به لا نعني به مجرد الجهل بكونه موجودا بل نعني به الجهل بذاته وبصفاته السلبية وصفاته الإضافية أن لا شريك له في المعبودية، فلما جهل هذا فقد جهل بعض صفاته.
قوله تعالى
* (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق
121

لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فا شهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) *.
اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قطعا لعذرهم وإظهارا لعنادهم ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه، وأخبر أنهم قبلوا ذلك وحكم تعالى بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين، فهذا هو المقصود من الآية فحصل الكلام أنه تعالى أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقا لما معهم إلا أن هذه المقدمة الواحدة لا تكفي في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما لم يضم إليها مقدمة أخرى، وهي أن محمدا رسول الله جاء مصدقا لما معهم، وعند هذا لقائل أن يقول: هذا إثبات للشيء بنفسه، لأنه إثبات لكونه رسولا بكونه رسولا.
والجواب: أن المراد من كونه رسولا ظهور المعجز عليه، وحينئذ يسقط هذا السؤال والله أعلم، ولنرجع إلى تفسير الألفاظ:
أما قوله * (وإذ أخذ الله) * فقال ابن جرير الطبري: معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيين، وقال الزجاج: واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله ميثاق النبيين.
أما قوله * (ميثاق النبيين) * فاعلم أن المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول، فيحتمل أن يكون الميثاق مأخوذا منهم، ويحتمل أن يكون مأخوذا لهم من غيرهم، فلهذا السبب اختلفوا في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين.
أما الاحتمال الأول: وهو أنه تعالى أخذ الميثاق منهم في أن يصدق بعضهم بعضا، وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس رحمهم الله، وقيل: إن الميثاق هذا مختص بمحمد صلى الله
122

عليه وسلم، وهو مروي عن علي وابن عباس وقتادة والسدي رضوان الله عليهم، واحتج أصحاب هذا القول على صحته من وجوه الأول: أن قوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * يشعر بأن آخذ الميثاق هو الله تعالى، والمأخوذ منهم هم النبيون، فليس في الآية ذكر الأمة، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة، ويمكن أن يجاب عنه من وجوه الأول: أن على الوجوه الذي قلتم يكون الميثاق مضافا إلى الموثق عليه، وعلى الوجه الذي قلنا يكون إضافته إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل، وهو الموثق له، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل أقوى من إضافته إلى المفعول، فإن لم يكن فلا أقل من المساواة، وهو كما يقال ميثاق الله وعهده، فيكون التقدير: وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الله للأنبياء على أممهم الثاني: أن يراد ميثاق أولاد النبيين، وهو بنو إسرائيل على حذف المضاف وهو كما يقال: فعل بكر بن وائل كذا، وفعل معد بن عدنان كذا، والمراد أولادهم وقومهم، فكذا ههنا الثالث: أن يكون المراد من لفظ * (النبيين) * أهل الكتاب وأطلق هذا اللفظ عليهم تهكما بهم على زعمهم لأنهم
كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد عليه الصلاة والسلام لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون الرابع: أنه كثيرا ورد في القرآن لفظ النبي والمراد منه أمته قال تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * (الطلاق: 1).
الحجة الثانية: لأصحاب هذا القول: ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي ".
الحجة الثالثة: ما نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن الله تعالى ما بعث آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد عليه الصلاة والسلام وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، فهذا يمكن نصرة هذا القول به والله أعلم.
الاحتمال الثاني: إن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه، وهذا قول كثير من العلماء، وقد بينا أن اللفظ محتمل له وقد احتجوا على صحته بوجوه الأول: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني فقال: ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من زمرة الأموات، والميت لا يكون مكلفا فلما كان الذين أخذ الميثاق عليهم يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم
123

ليسوا هم النبيين بل هم أمم النبيين قال: ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما يليق بالأمم، أجاب القفال رحمه الله فقال لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، ونظيره قوله تعالى: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض فكذا ههنا، وقال: * (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين) * (الحاقه: 44، 45، 46) وقال في صفة الملائكة * (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين) * (الأنبياء: 29) مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يسبقونه بالقول وبأنهم يخافون ربهم من فوقهم، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير فكذا ههنا، ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك، وقد ذكر تعالى ذلك على سبيل الفرض والتقدير في قوله * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) فكذا ههنا.
الحجة الثانية: أن المقصود من هذه الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الميثاق مأخوذا عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذا على الأنبياء عليهم السلام، وقد أجيب عن ذلك بأن درجات الأنبياء عليهم السلام، أعلى وأشرف من درجات الأمم، فإذا دلت هذه الآية على أن الله تعالى أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام لو كانوا في الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجبا على أممهم لو كان ذلك أولى، فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المطلوب من هذا الوجه.
الحجة الثالثة: ما روي عن ابن عباس أنه قيل له إن أصحاب عبد الله يقرؤن * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) * ونحن نقرأ * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
الحجة الرابعة: أن هذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * وبقوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * (آل عمران: 187) فهذا جملة ما قيل في هذا الموضوع والله أعلم بمراده.
وأما قوله تعالى: * (لما آتيتكم من كتاب وحكمة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الجمهور * (لما) * بفتح اللام وقرأ حمزة بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير * (لما) * مشددة، أما القراءة بالفتح فلها وجهان الأول: أن * (ما) * اسم موصول والذي بعده صلة
124

له وخبره قوله * (لتؤمنن به) * والتقدير: للذي آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، وعلى هذا التقدير * (ما) * رفع بالابتداء والراجع إلى لفظة * (ما) * وموصولتها محذوف والتقدير: لما آتيتكموه فحذف الراجع كما حذف من قوله * (أهذا الذي بعث الله رسولا) * (الفرقان: 41) وعليه سؤالان:
السؤال الأول: إذا كانت * (ما) * موصولة لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلا لم يجز، ألا ترى أنك لو قلت: الذي قام أبوه ثم انطلق زيد لم يجز.
وقوله * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) * ليس فيه راجع إلى الموصول، قلنا: يجوز إقامة المظهر مقام المضمر عند الأخفش والدليل عليه قوله تعالى: * (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) * (يوسف: 90) ولم يقل: فإن الله لا يضيع أجره، وقال: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) * (الكهف: 30) ولم يقل: إنا لا نضيع أجرهم وذلك لأن المظهر المذكور قائم مقام المضمر فكذا ههنا.
السؤال الثاني: ما فائدة اللام في قوله * (لما) * قلنا: هذه اللام هي لام الابتداء بمنزلة قولك: لزيد أفضل من عمرو، ويحسن إدخالها على ما يجري مجرى المقسم عليه لأن قوله * (إذ أخذ الله ميثاق النبيين) * بمنزلة القسم والمعنى استحلفهم، وهذه اللام المتلقية للقسم، فهذا تقرير هذا الكلام. الوجه الثاني: وهو اختيار سيبويه والمازني والزجاج أن * (ما) * ههنا هي المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، فاللام في قوله * (
لتؤمنن به) * هي المتلقية للقسم، أما اللام في * (لما) * هي لام تحذف تارة، وتذكر أخرى، ولا يتفاوت المعنى ونظيره قولك: والله لو أن فعلت، فعلت فلفظة (أن) لا يتفاوت الحال بين ذكرها وحذفها فكذا ههنا، وعلى هذا التقدير كانت (ما) في موضع نصب بأتيتكم * (وجاءكم) * جزم بالعطف على * (آتيتكم) * و * (لتؤمنن به) * هو الجزاء، وإنما لم يرض سيبويه بالقول الأول لأنه لا يرى إقامة المظهر مقام المضمر، وأما الوجه في قراءة * (لما) * بكسر اللام فهو أن هذا لام التعليل كأنه قيل: أخذ ميثاقهم لهذا لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء والرسل * (وما) * على هذه القراءة تكون موصولة، وتمام البحث فيه ما قدمناه في الوجه الأول، وأما قراءة * (لما) * بالتشديد فذكر صاحب " الكشاف " فيه وجهين الأول: أن المعنى: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق له، وجب عليكم
125

الإيمان به ونصرته والثاني: أن أصل * (لما) * لمن ما فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات، وهي الميمان والنون المنقلبة ميما بإدغامها في الميم فحذفوا إحداها فصارت * (لما) * ومعناه: لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به، وهذا قريب من قراءة حمزة في المعنى.
المسألة الثانية: قرأ نافع * (آتيناكم) * بالنون على التفخيم، والباقون بالتاء على التوحيد، حجة نافع قوله * (وآتينا داود زبورا) * (النساء: 163) * (وآتيناه الحكم صبيا) * (مريم: 12) * (وآتيناهما الكتاب المستبين) * (الصافات: 117) ولأن هذا أدل على العظمة فكان أكثر هيبة في قلب السامع، وهذا الموضع يليق به هذا المعنى، وحجة الجمهور قوله * (هو الذي ينزل على عبده آيات بينات) * (الحديد: 9) و * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) * (الكهف: 1) وأيضا هذه القراءة أشبه بما قبل هذه الآية وبما بعدها لأنه تعالى قال قبل هذه الآية * (وإذ أخذ الله) * وقال بعدها * (إصري) * وأجاب نافع عنه بأن أحد أبواب الفصاحة تغيير العبارة من الواحد إلى الجمع ومن الجمع إلى الواحد قال تعالى: * (وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني) * (الإسراء: 2) ولم يقل من دوننا كما قال: * (وجعلناه) * والله أعلم.
المسألة الثالثة: أنه تعالى ذكر النبيين على سبيل المغايبة ثم قال: * (آتيتكم) * وهو مخاطبة إضمار والتقدير: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين فقال مخاطبا لهم لما آتيتكم من كتاب وحكمة، والإضمار باب واسع في القرآن، ومن العلماء من التزم في هذه الآية إضمارا آخر وأراح نفسه عن تلك التكلفات التي حكيناها عن النحويين فقال تقدير الآية: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة، قال إلا أنه حذف لتبلغن لدلالة الكلام عليه لأن لام القسم إنما يقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل لا جرم حذفه اختصارا ثم قال تعالى بعده * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) * وهو محمد صلى الله عليه وسلم * (لتؤمنن به ولتنصرنه) * وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ولا يحتاج إلى تكليف تلك التعسفات، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار فهذا الإضمار الذي به ينتظم الكلام نظما بينا جليا أولى من تلك التكلفات.
المسألة الرابعة: في قوله * (لما آتيتكم من كتاب) * إشكال، وهو أن هذا الخطاب إما أن يكون مع الأنبياء أو مع الأمم، فإن كان مع الأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتوا الكتاب، وإنما أوتي بعضهم وإن كان مع الأمم، فالإشكال أظهر، والجواب عنه من وجهين الأول: أن جميع الأنبياء عليهم السلام أوتوا الكتاب، بمعنى كونه مهتديا به داعيا إلى العمل به، وإن لم ينزل عليه والثاني: أن أشرف الأنبياء عليهم السلام هم الذين أوتوا الكتاب، فوصف الكل بوصف أشرف الأنواع.
المسألة الخامسة: الكتاب هو المنزل المقروء والحكمة هي الوحي الوارد بالتكاليف المفصلة
126

التي لم يشتمل الكتاب عليها.
المسألة السادسة: كلمة * (من) * في قوله * (من كتاب) * دخلت تبيينا لما كقولك: ما عندي من الورق دانقان.
أما قوله تعالى: * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: ما وجه قوله * (ثم جاءكم) * والرسول لا يجيء إلى النبيين وإنما يجيء إلى الأمم؟.
والجواب: إن حملنا قوله * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * على أخذ ميثاق أممهم فقد زال السؤال وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيين أنفسهم كان قوله * (ثم جاءكم) * أي جاء في زمانكم.
السؤال الثاني: كيف يكون محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم مع مخالفة شرعه لشرعهم، قلنا: المراد به حصول الموافقة في التوحيد، والنبوات، وأصول الشرائع، فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها؛ فذلك في الحقيقة ليس بخلاف، لأن جميع الأنبياء عليهم السلام متفقون على أن الحق في زمان موسى عليه السلام ليس إلا شرعه وأن الحق في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا شرعه، فهذا وإن كان يوهم الخلاف، إلا أنه في الحقيقة وفاق، وأيضا فالمراد من قوله * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) * هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بكونه مصدقا لما معهم هو أن وصفه وكيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل، فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان مذكورا في تلك الكتب، كان نفس مجيئه تصديقا لما كان معهم، فهذا هو المراد بكونه مصدقا لما معهم.
السؤال الثالث: حاصل الكلام أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقا لما معهم فما معنى ذلك الميثاق.
والجواب: يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولا عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه، فتقدير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من أخذ الميثاق، ويحتمل أن يكون المراد من أخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته في كتب الأنبياء المتقدمين، فإذا صارت أحواله مطابقة لما جاء في الكتب الإلهية المتقدمة وجب الانقياد له، فقوله تعالى: * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) * يدل على هذين الوجهين، أما على الوجه الأول، فقوله * (رسول) * وأما على الوجه الثاني، فقوله * (مصدق
لما معكم) *.
أما قوله * (لتؤمنن به ولتنصرنه) * فالمعنى ظاهر، وذلك لأنه تعالى أوجب الإيمان به أولا، ثم الاشتغال بنصرته ثانيا، واللام في * (لتؤمنن به) * لام القسم، كأنه قيل: والله لتؤمنن به.
127

ثم قال تعالى: * (قال أأقرتم وأخذتم على ذلكم إصري) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إن فسرنا قوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * بأنه تعالى أخذ المواثيق على الأنبياء كان قوله تعالى * (أأقرتم) * معناه: قال الله تعالى للنبيين أأقرتم بالإيمان به والنصرة له وإن فسرنا أخذ الميثاق بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخذوا المواثيق على الأمم كان معنى قوله * (قال أأقرتم) * أي قال كل نبي لأمته أأقرتم، وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه، وإن كانت النبيون أخذوه على الأمم، فكذلك طلب هذا الإقرار أضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا المعنى وتأكيده، فلم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم، بل طالبوهم بالإقرار بالقول، وأكدوا ذلك بالإشهاد.
المسألة الثانية: الإقرار في اللغة منقول بالألف من قر الشيء يقر، إذا ثبت ولزم مكانه وأقره غيره والمقر بالشيء يقره على نفسه أي يثبته.
أما قوله تعالى: * (وأخذتم على ذلكم إصري) * أي قبلتم عهدي، والأخذ بمعنى القبول كثير في الكلام قال تعالى: * (ولا يؤخذ منها عدل) * (البقرة: 48) أي يقبل منها فدية وقال: * (ويأخذ الصدقات) * (التوبة: 104) أي يقبلها والإصر هو الذي يلحق الإنسان لأجل ما يلزمه من عمل قال تعالى: * (ولا تحمل علينا إصرا) * (البقرة: 286) فسمى العهد إصرا لهذا المعنى، قال صاحب " الكشاف ": سمى العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد، ومنه الإصار الذي يعقد به وقرئ * (إصري) * ويجوز أن يكون لغة في إصر.
ثم قال تعالى: * (قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) * وفي تفسير قوله * (فاشهدوا) * وجوه الأول: فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار، وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضا * (من الشاهدين) * وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض الثاني: أن قوله * (فاشهدوا) * خطاب للملائكة الثالث: أن قوله * (فاشهدوا) * أي ليجعل كل أحد نفسه شاهدا على نفسه ونظيره قوله * (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) * (الأعراف: 172) على أنفسنا وهذا من باب المبالغة الرابع: * (فاشهدوا) * أي بينوا هذا الميثاق للخاص والعام، لكي لا يبقى لأحد عذر في الجهل به، وأصله أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى الخامس: * (فاشهدوا) * أي فاستيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له السادس: إذا قلنا إن أخذ الميثاق كان من الأمم فقوله * (فاشهدوا) * خطاب للأنبياء عليهم السلام بأن يكونوا شاهدين عليهم.
وأما قوله تعالى: * (وأنا معكم من الشاهدين) * فهو للتأكيد وتقوية الإلزام، وفيه فائدة أخرى
128

وهي أنه تعالى وإن أشهد غيره، فليس محتاجا إلى ذلك الإشهاد، لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية لكن لضرب من المصلحة لأنه سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى، ثم إنه تعالى ضم إليه تأكيدا آخر فقال: * (فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) * يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ووعيد الفاسق معلوم، وقوله * (فمن تولى بعد ذلك) * هذا شرط، والفعل الماضي ينقلب مستقبلا في الشرط والجزاء، والله أعلم.
قوله تعالى
* (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من فى السماوات والارض طوعا وكرها وإليه يرجعون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرع شرعه الله وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالبا دينا غير دين الله، فلهذا قال بعده * (أفغير دين الله يبغون) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حفص عن عاصم * (يبغون) * و * (يرجعون) * بالياء المنقطة من تحتها، لوجهين أحدهما: ردا لهذا إلى قوله * (وأولئك هم الفاسقون) * (آل عمران: 82) والثاني: أنه تعالى إنما ذكر حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما أصروا على كفرهم قال على جهة الاستنكار * (أفغير دين الله يبغون) * وقرأ أبو عمرو * (تبغون) * بالتاء خطابا لليهود وغيرهم من الكافر و * (يرجعون) * بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله * (وله أسلم من في السماوات والأرض) * وقرأ الباقون فيهما بالتاء على الخطاب، لأن ما قبله خطاب كقوله * (أأقرتم وأخذتم) * (آل عمران: 81) وأيضا فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر ولكل أحد: أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له من في السماوات والأرض، وأن مرجعكم إليه وهو كقوله * (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) * (آل عمران: 101).
المسألة الثانية: الهمزة للاستفهام والمراد استنكار أن يفعلوا ذلك أو تقرير أنهم يفعلونه، وموضع الهمزة هو لفظة * (يبغون) * تقديره: أيبغون غير دين الله؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث، إلا أنه تعالى قدم المفعول الذي هو * (غير دين الله) * على فعله، لأنه أهم من حيث
129

أن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل وأما الفاء فلعطف جملة على جملة وفيه وجهان أحدهما: التقدير: فأولئك هم الفاسقون، فغير دين الله يبغون.
واعلم أنه لو قيل أو غير دين الله يبغون جاز إلا أن في الفاء فائدة زائدة كأنه قيل: أفبعد أخذ هذا الميثاق المؤكد بهذه التأكيدات البليغة تبغون؟.
المسألة الثالثة: روي أن فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام، وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به، فقال عليه الصلاة والسلام: كلا الفريقين برئ من دين إبراهيم عليه السلام، فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت هذه الآية، ويبعد عندي حمل هذه الآية على هذا السبب لأن على هذا التقدير تكون هذه الآية منقطعة عما قبلها، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها، فالوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر، فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا طالبين دينا غير دين الله، ومعبودا سوى الله سبحانه، ثم بين أن التمرد على الله تعالى والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقلاء فقال: * (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الإسلام، هو الاستسلام والانقياد والخضوع.
إذا عرفت هذا ففي خضوع كل من في السماوات والأرض لله وجوه الأول: وهو الأصح عندي أن كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه فإذن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه، وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع، ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله * (وله أسلم) * يفيد الحصر أي وله أسلم كل من في السماوات والأرض لا لغيره، فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ولا يفنى إلا بإفنائه سواء كان عقلا أو نفسا أو روحا أو جسما أو جوهرا أو عرضا أو فاعلا أو فعلا، ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى: * (ولله يسجد من في السماوات والأرض) * (الرعد: 15) وقوله * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44).
الوجه الثاني: في تفسير هذه الآية أنه لا سبيل لأحد إلى الامتناع عليه في مراده، وإما أن ينزلوا عليه طوعا أو كرها، فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين، وينقادون
130

له كرها
فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك، وأما الكافرون فهم ينقادون لله تعالى على كل حال كرها لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين، وفي غير ذلك مستسلمون له سبحانه كرها، لأنه لا يمكنهم دفع قضائه وقدره الثالث: أسلم المسلمون طوعا، والكافرون عند موتهم كرها لقوله تعالى: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * (غافر: 85) الرابع: أن كل الخلق منقادون لإلهيته طوعا بدليل قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25) ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرها الخامس: أن انقياد الكل إنما حصل وقت أخذ الميثاق وهو قوله تعالى: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) * (الأعراف: 172) السادس: قال الحسن: الطوع لأهل السماوات خاصة، وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضهم بالكره، وأقول: إنه سبحانه ذكر في تخليق السماوات والأرض هذا وهو قوله * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا آتينا طائعين) * (فصلت: 11) وفيه أسرار عجيبة.
أما قوله * (وإليه ترجعون) * فالمراد أن من خالفه في العاجل فسيكون مرجعه إليه، والمراد إلى حيث لا يملك الضر والنفع سواه هذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق.
المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه الله: الطوع الانقياد، يقال: طاعة يطوعه طوعا إذا انقاد له وخضع، وإذا مضى لأمره فقد أطاعه، وإذا وافقه فقد طاوعه، قال ابن السكيت: يقال طاع له وأطاع، فانتصب طوعا وكرها على أنه مصدر وقع موقع الحال، وتقديره طائعا وكارها، كقولك أتاني راكضا، ولا يجوز أن يقال: أتاني كلاما أي متكلما، لأن الكلام ليس يضرب للإتيان والله أعلم.
قوله تعالى
* (قل ءامنا بالله ومآ أنزل علينا ومآ أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول
131

الذي يأتي مصدق لما معهم بين في هذه الآية أن من صفة محمد صلى الله عليه وسلم كونه مصدقا لما معهم فقال: * (قل آمنا بالله) * إلى آخر الآية وههنا مسائل:
المسألة الأولى: وحد الضمير في * (قل) * وجمع في * (آمنا) * وفيه وجوه الأول: إنه تعالى حين خاطبه، إنما خاطبه بلفظ الوحدان، وعلمه أنه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع على وجه التعظيم والتفخيم، مثل ما يتكلم الملوك والعظماء والثاني: أنه خاطبه أولا بخطاب الوجدان ليدل هذا الكلام على أنه لا مبلغ لهذا التكليف من الله إلى الخلق إلا هو، ثم قال: * (آمنا) * تنبيها على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه الثالث: إنه تعالى عينه في هذا التكليف بقوله * (قل) * ليظهر به كونه مصدقا لما معهم ثم قال * (آمنا) * تنبيها على أن هذا التكليف ليس من خواصه بل هو لازم لكل المؤمنين كما قال: * (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) * (البقرة: 285).
المسألة الثانية: قدم الإيمان بالله على الإيمان بالأنبياء، لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة، وفي المرتبة الثانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه، لأن كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فكان ما أنزل على محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء فلهذا قدمه
عليه، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء وهم الأنبياء الذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم، ويختلفون في نبوتهم * (والأسباط) * هم أسباط يعقوب عليه السلام الذين ذكر الله أممهم الاثني عشر في سورة الأعراف، وإنما أوجب الله تعالى الإقرار بنبوة كل الأنبياء عليهم السلام لفوائد إحداها: إثبات كونه عليه السلام مصدقا لجميع الأنبياء، لأن هذا الشرط كان معتبرا في أخذ الميثاق وثانيها: التنبيه على أن مذاهب أهل الكتاب متناقضة، وذلك لأنهم إنما يصدقون النبي الذي يصدقونه لمكان ظهور المعجزة عليه، وهذا يقتضي أن كل من ظهرت المعجزة عليه كان نبيا، وعلى هذا يكون تخصيص البعض بالتصديق والبعض بالتكذيب متناقضا، بل الحق تصديق الكل والاعتراف بنبوة الكل وثالثها: إنه قال قبل هذه الآية * (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض) * (آل عمران: 83) وهذا تنبيه على أن إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين الله ومنازعة مع الله، فههنا أظهر الإيمان بنبوة جميع الأنبياء، ليزول عنه وعن أمته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة الله في الحكم والتكليف ورابعها: أن في الآية الأولى ذكر أنه أخذ الميثاق على جميع النبيين، أن يؤمنوا بكل من أتى بعدهم من الرسل، وههنا أخذ الميثاق على محمد صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن بكل من أتى قبله من الرسل،
132

ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده البتة، فإن قيل: لم عدى * (أنزل) * في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟ قلنا: لوجود المعنيين جميعا، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر، وقيل أيضا إنما قيل * (علينا) * في حق الرسول، لأن الوحي ينزل عليه وإلينا في حق الأمة لأن الوحي يأتيهم من الرسول على وجه الانتهاء وهذا تعسف، ألا ترى إلى قوله * (بما أنزل إليك) * (البقرة: 4) وأنزل إليك الكتاب وإلى قوله * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا) * (آل عمران: 72).
المسألة الثانية: اختلف العلماء في أن الإيمان بهؤلاء الأنبياء الذين تقدموا ونسخت شرائعهم كيف يكون؟ وحقيقة الخلاف، أن شرعه لما صار منسوخا، فهل تصير نبوته منسوخة؟ فمن قال إنها تصير منسوخة قال: نؤمن أنهم كانوا أنبياء ورسلا، ولا نؤمن بأنهم الآن أنبياء ورسل، ومن قال إن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة قال: نؤمن أنهم أنبياء ورسل في الحال فتنبه لهذا الموضع. المسألة الرابعة: قوله * (لا نفرق بين أحد منهم) * فيه وجوه الأول: قال الأصم: التفرق قد يكون بتفضيل البعض على البعض، وقد يكون لأجل القول بأنهم ما كانوا على سبيل واحد في الطاعة لله والمراد من هذا الوجه يعني: نقر بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله الثاني: قال بعضهم المراد * (لا نفرق بين أحد منهم) * بأن نؤمن ببعض دون بعض كما تفرقت اليهود والنصارى الثالث: قال أبو مسلم * (لا نفرق بين أحد منهم) * أي لا نفرق ما أجمعوا عليه، وهو كقوله * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) * (آل عمران: 103) وذم قوما وصفهم بالتفرق فقال: * (لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) * (الأنعام: 94).
أما قوله * (ونحن له مسلمون) * ففيه وجوه الأول: إن إقرارنا بنبوة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأجل كوننا منقادين لله تعالى مستسلمين لحكمه وأمره، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله * (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض) * والثاني: قال أبو مسلم * (ونحن له مسلمون) * أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة وتلك صفة المؤمنين بالله وهم أهل السلم والكافرون يوصفون بالمحاربة لله كما قال: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * (المائدة: 33) الثالث: أن قوله * (ونحن له مسلمون) * يفيد الحصر والتقدير: له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ورياء وطلب مال، وهذا تنبيه على أن حالهم بالضد من ذلك فإنهم لا يفعلون ولا يقولون إلا للسمعة والرياء وطلب الأموال والله أعلم.
133

قوله تعالى
* (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاخرة من الخاسرين) *.
اعلم أنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة * (ونحن له مسلمون) * (آل عمران: 84) أتبعه بأن بين في هذه الآية أن الدين ليس إلا الإسلام، وأن كل دين سوى الإسلام فإنه غير مقبول عند الله، لأن القبول للعمل هو أن يرضى الله ذلك العمل، ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه، ولذلك قال تعالى: * (إنما يتقبل الله من المتقين) * (المائدة: 27) ثم بين تعالى أن كل من له دين سوى الإسلام فكما أنه لا يكون مقبولا عند الله، فكذلك يكون من الخاسرين، والخسران في الآخرة يكون بحرمان الثواب، وحصول العقاب، ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح وعلى ما تحمله من التعب والمشقة في الدنيا في تقريره ذلك الدين الباطل واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولا لقوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) * إلا أن ظاهر قوله تعالى: * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) * (الحجرات: 14) يقتضي كون الإسلام مغايرا للإيمان ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي، والآية الثانية على الوضع اللغوي.
قوله تعالى
* (كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجآءهم البينات والله لا يهدى القوم الظالمين * أولئك جزآؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين *
134

خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) *.
اعلم أنه تعالى لما عظم أمر الإسلام والإيمان بقوله * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) * (آل عمران: 85) أكد ذلك التعظيم بأن بين وعيد من ترك الإسلام، فقال: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) * وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في سبب النزول أقوال الأول: قال ابن عباس
رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في عشرة رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله * (إلا الذين تابوا) * الثاني: نقل أيضا عن ابن عباس أنه قال: نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه، وكانوا يشهدون له بالنبوة، فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بغيا وحسدا والثالث: نزلت في الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن اسألوا لي هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه بالآية، فأقبل إلى المدينة وتاب على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم توبته، قال القفال رحمه الله: للناس في هذه الآية قولان: منهم من قال إن قوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا) * وما بعده من قوله * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) * إلى قوله * (وأولئك هم الضالون) * نزل جميع ذلك في قصة واحدة، ومنهم من جعل ابتداء القصة من قوله * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) * ثم على التقديرين ففيها أيضا قولان أحدهما: أنها في أهل الكتاب والثاني: أنها في قوم مرتدين عن الإسلام آمنوا ثم ارتدوا على ما شرحناه.
المسألة الثانية: اختلف العقلاء في تفسير قوله * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) * أما المعتزلة فقالوا: إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف، ووضع الدلائل وفعل الألطاف، إذ لو يعم الكل بهذه الأشياء لصار الكافر والضال معذورا، ثم إنه تعالى حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار، فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل، ثم ذكروا فيه وجوها الأول: المراد من هذه الآية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم على إيمانهم كما قال تعالى: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * (العنكبوت: 69) وقال تعالى: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * (مريم: 76) وقال تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (محمد: 17) وقال: * (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) * (المائدة: 16) فدلت هذه الآيات على أن المهتدي قد يزيده الله هدى الثاني: أن المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى
135

الجنة قال تعالى: * (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم) * (النساء: 168، 169) وقال: * (يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار) * (يونس: 9) والثالث: أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه لأن على هذا التقدير يلزم أن يكون أيضا من الله تعالى لأنه تعالى إذا خلق المعرفة كان مؤمنا مهتديا، وإذا لم يخلقها كان كافرا ضالا، ولو كان الكفر من الله تعالى لم يصح أن يذمهم الله على الكفر ولم يصح أن يضاف الكفر إليهم، لكن الآية ناطقة بكونهم مذمومين بسبب الكفر وكونهم فاعلين للكفر فإنه تعالى قال: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) * فضاف الكفر إليهم وذمهم على ذلك الكفر فهذا جملة أقوالهم في هذه الآية، وأما أهل السنة فقالوا: المراد من الهداية خلق المعرفة، قالوا: وقد جرت سنة الله في دار التكليف أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإن الله تعالى يخلقه عقيب قصد العبد، فكأنه تعالى قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفة وهم قصدوا تحصيل الكفر أو أرادوه والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله * (واشهدوا) * فيه قولان:
الأول: أنه عطف والتقدير بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا أن الرسول حق، لأن عطف الفعل على الاسم لا يجوز فهو في الظاهر وإن اقتضى عطف الفعل على الاسم لكنه في المعنى عطف الفعل على الفعل الثاني: أن الواو للحال بإضمار (قد) والتقدير: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم حال ما شهدوا أن الرسول حق.
المسألة الرابعة: تقدير الآية: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم، وبعد الشهادة بأن الرسول حق، وقد جاءتهم البينات، فعطف الشهادة بأن الرسول حق، على الإيمان، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فيلزم أن الشهادة بأن الرسول حق مغاير للإيمان وجوابه: إن مذهبنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والشهادة هو الإقرار باللسان، وهما متغايران فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أن الإيمان مغاير للإقرار باللسان وأنه معنى قائم بالقلب.
المسألة الخامسة: اعلم أنه تعالى استعظم كفر القوم من حيث أنه حصل بعد خصال ثلاث أحدها: بعد الإيمان وثانيها: بعد شهادة كون الرسول حقا وثالثها: بعد مجيء البينات، وإذا كان الأمر كذلك كان ذلك الكفر صلاحا بعد البصيرة وبعد إظهار الشهادة، فيكون الكفر بعد هذه الأشياء أقبح لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود، وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل.
أما قوله تعالى: * (والله لا يهدي القوم الظالمين) *
136

ففيه سؤالان:
السؤال الأول: قال في أول الآية * (كيف يهدي الله قوما) * وقال في آخرها * (والله لا يهدي القوم الظالمين) * وهذا تكرار.
والجواب: أن قوله * (كيف يهدي الله) * مختص بالمرتدين، ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في المرتد وفي الكافر الأصلي فقال: * (والله لا يهدي القوم الظالمين) *.
السؤال الثاني: لم سمي الكافر ظالما؟.
الجواب: قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) والسبب فيه أن الكافر أورد نفسه موارد البلاء والعقاب بسبب ذلك الكفر، فكان ظالما لنفسه.
ثم قال تعالى: * (أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها) * والمعنى أنه تعالى حكم بأن الذين كفروا بعد إيمانهم يمنعهم الله تعالى من هدايته، ثم بين أن الأمر غير مقصور عليه، بل كما لا يهديهم في الدنيا يلعنهم اللعن العظيم ويعذبهم في الآخرة، على سبيل التأبيد والخلود.
واعلم أن لعنة الله، مخالفة للعنة الملائكة، لأن لعنته بالإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة والعذاب واللعنة من الملائكة هي بالقول، وكذلك من الناس، وكل ذلك مستحق لهم
بسبب ظلمهم وكفرهم / فصح أن يكون جزاء لذلك وههنا سؤالان:
السؤال الأول: لم عم جميع الناس ومن يوافقه لا يلعنه؟.
قلنا: فيه وجوه الأول: قال أبو مسلم له أن يلعنه وإن كان لا يلعنه الثاني: أنه في الآخرة يلعن بعضهم بعضا قال تعالى: * (كلما دخلت أمة لعنت أختها) * (الأعراف: 38) وقال: * (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) * (العنكبوت: 25) وعلى هذا التقدير فقد حصل اللعن للكفار من الكفار والثالث: كأن الناس هم المؤمنون، والكفار ليسوا من الناس، ثم لما ذكر لعن الثلاث قال: * (أجمعين) * الرابع: وهو الأصح عندي أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر، ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا بكافر، فإذا لعن الكافر وكان هو في علم الله كافرا، فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك.
السؤال الثاني: قوله * (خالدين فيها) * أي خالدين في اللعنة، فما خلود اللعنة؟.
قلنا: فيه وجهان الأول: أن التخليد في اللعنة على معنى أنهم يوم القيامة لا يزال يلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار فلا يخلو شيء من أحوالهم، من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء الثاني: أن المراد بخلود اللعن
137

* (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضآلون) *.
خلود أثر اللعن، لأن اللعن يوجب العقاب، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن، ونظيره قوله تعالى: * (من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه) * (طه: 100، 101) الثالث: قال ابن عباس قوله * (خالدين فيها) * أي في جهنم فعلى هذا الكناية عن غير مذكور، واعلم أن قوله * (خالدين فيها) * نصب على الحال مما قبله، وهو قوله تعالى: * (عليهم لعنة الله) *.
ثم قال: * (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) * معنى الانظار التأخير قال تعالى: * (فنظرة إلى ميسرة) * (البقرة: 280) فالمعنى أنه لا يجعل عذابهم أخف ولا يؤخر العقاب من وقت إلى وقت وهذا تحقيق قول المتكلمين: إن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة، نعوذ منه بالله.
ثم قال: * (إلا الذين تابوا من بعد ذلك) * والمعنى إلا الذين تابوا منه، ثم بين أن التوبة وحدها لا تكفي حتى ينضاف إليها العمل الصالح فقال: * (وأصلحوا) * أي أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات، وذلك بأن يلعنوا بأنا كنا على الباطل حتى أنه لو اغتر بطريقتهم الفاسدة مغتر رجع عنها.
ثم قال: * (فإن الله غفور رحيم) * وفيه وجهان الأول: غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر، رحيم في الآخرة بالعفو الثاني: غفور بإزالة العقاب، رحيم بإعطاء الثواب، ونظيره قوله تعالى: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * (الأنفال: 38) ودخلت الفاء في قوله * (فإن الله غفور رحيم) * لأنه الجزاء، وتقدير الكلام: إن تابوا فإن الله يغفر لهم.
* (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضآلون) *.
المسألة الأولى: اختلفوا فيما به يزداد الكفر، والضابط أن المرتد يكون فاعلا للزيادة بأن يقيم ويصر فيكون الإصرار كالزيادة، وقد يكون فاعلا للزيادة بأن يضم إلى ذلك الكفر كفرا آخر، وعلى هذا التقدير الثاني ذكروا فيه وجوها الأول: أن أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه، ثم كفروا به عند المبعث، ثم ازدادوا كفرا بسبب طعنهم فيه في كل وقت، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وإنكارهم لكل معجزة تظهر الثاني: أن اليهود كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام، ثم كفروا بسبب إنكارهم عيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا،
138

بسبب إنكارهم محمدا عليه الصلاة والسلام والقرآن والثالث: أن الآية نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة، وازديادهم الكفر أنهم قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد صلى الله عليه وسلم ريب المنون الرابع: المراد فرقة ارتدوا، ثم عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق، فسمى الله تعالى ذلك النفاق كفرا.
المسألة الثانية: أنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين، وحكم في هذه الآية بعدم قبولها وهو يوهم التناقض، وأيضا ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها فإنها تكون مقبولة لا محالة، فلهذا اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: * (لن تقبل توبتهم) * على وجوه؛
الأول: قال الحسن وقتادة وعطاء: السبب أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والله تعالى يقول: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) * (النساء: 18) الثاني: أن يحمل هذا على ما إذا تابوا باللسان ولم يحصل في قلوبهم إخلاص الثالث: قال القاضي والقفال وابن الأنباري: أنه تعالى لما قدم ذكر من كفر بعد الإيمان، وبين أنه أهل اللعنة، إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير نير مقبولة وتصير كأنها لم تكن، قال وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه لأن التقدير: إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم، الرابع: قال صاحب " الكشاف ": قوله * (لن تقبل توبتهم) * جعل كناية عن الموت على الكفر، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل إن اليهود والمرتدين / الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم الخامس: لعل المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة فقط فإن التوبة عن تلك الزيادة لا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل، وأقول: جملة هذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا) * على المعهود السابق لا على الاستغراق وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف، فأما الجواب الذي حكيناه عن القفال والقاضي فهو جواب مطرد سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق أو على الاستغراق.
أما قوله * (وأولئك هم الضالون) * ففيه سؤالان الأول: * (وأولئك هم الضالون) * ينفي كون غيرهم ضالا، وليس الأمر كذلك فإن كل كافر فهو ضال سواء كفر
بعد الإيمان أو كان كافرا في الأصل
139

والجواب: هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال.
السؤال الثاني: وصفهم أولا بالتمادي على الكفر والغلو فيه والكفر أقبح أنواع الضلال والوصف إنما يراد للمبالغة، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى حالا منه لا بما هو أضعف حالا منه والجواب: قد ذكرنا أن المراد أنهم هم الضالون على سبيل الكمال، وعلى هذا التقدير تحصل المبالغة.
قوله تعالى
* (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين) *.
اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام أحدها: الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله * (إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) * (آل عمران: 89) وثانيهما: الذي يتوب عن ذلك الكفر توبة فاسدة وهو الذي ذكره الله في الآية المتقدمة وقال: إنه لن تقبل توبته وثالثهما: الذي يموت على الكفر من غير توبة البتة وهو المذكور في هذه الآية، ثم إنه تعالى أخبر عن هؤلاء بثلاثة أنواع.
النوع الأول: قوله * (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) * قال الواحدي ملء الشيء قدر ما يملؤه وانتصب * (ذهبا) * على التفسير، ومعنى التفسير: أن يكون الكلام تاما إلا أن يكون مبهما كقوله: عندي عشرون، فالعدد معلوم، والمعدود مبهم، فإذا قلت: درهما فسرت العدد، وكذلك إذا قلت: هو أحسن الناس فقد أخبرت عن حسنه، ولم تبين في ماذا، فإذا قلت وجها أو فعلا فقد بينته ونصبته على التفسير وإنما نصبته لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه فلما خلا من هذين نصب لأن النصب أخف الحركات فيجعل كأنه لا عامل فيه قال صاحب " الكشاف " وقرأ الأعمش * (ذهب) * بالرفع ردا على ملء كما يقال: عندي عشرون نفسا رجال.
وههنا ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: لم قيل في الآية المتقدمة * (لن تقبل) * بغير فاء وفي هذه الآية * (فلن يقبل) * بالفاء؟.
140

الجواب: أن دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء، وعند عدم الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطا وجزاء، تقول: الذي جاءني له درهم، فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء، وإذا قلت: الذي جاءني فله درهم، فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء فذكر الفاء في هذه الآية يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر.
السؤال الثاني: ما فائدة الواو في قوله * (ولو افتدى به) *؟.
الجواب: ذكروا فيه وجوها الأول: قال الزجاج: إنها للعطف، والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهبا لم قبل منه، وهذا اختيار ابن الأنباري قال: وهذا أوكد في التغليظ، لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه الثاني: * (الواو) * دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال وذلك لأن قوله * (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا) * يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية الثالث: وهو وجه خطر ببالي، وهو أن من غضب على بعض عبيده، فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها البتة إلا أنه قد يقبل منه الفدية، فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضا كان ذلك غاية الغضب، والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية، فحكم تعالى بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهبا ولو كان واقعا على سبيل الفداء تنبيها على أنه لما لم يكن مقبولا بهذا الطريق، فبأن لا يكون مقبولا منه بسائر الطرق أولى.
السؤال الثالث: أن من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيرا ولا قطميرا ومعلوم أن بتقدير أن يملك الذهب فلا ينفع الذهب البتة في الدار الآخرة، فما فائدة قوله * (لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا) *.
الجواب: فيه وجهان أحدهما: أنهم إذا ماتوا على الكفر فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهبا لن يقبل الله تعالى ذلك منهم، لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة والثاني: أن الكلام وقع على سبيل الفرض، والتقدير: فالذهب كناية عن أعز الأشياء، والتقدير: لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ثم قدر على بذله في غاية الكثرة لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله، وبالجملة فالمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب.
النوع الثاني: من الوعيد المذكور في هذه الآية قوله * (ولهم عذاب أليم) * واعلم أنه تعالى لما بين أن الكافر لا يمكنه تخليص النفس من العذاب، أردفه بصفة ذلك العذاب، فقال: * (ولهم عذاب أليم) * أي مؤلم.
141

النوع الثالث: من الوعيد قوله * (وما لهم من ناصرين) * والمعنى أنه تعالى لما بين أنه لا خلاص لهم عن هذا العذاب الأليم بسبب الفدية، بين أيضا أنه لا خلاص لهم عنه بسبب النصرة والإعانة والشفاعة، ولأصحابنا أن يحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة وذلك لأنه تعالى ختم تعديد وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر، والله أعلم.
قوله تعالى
* (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شىء فإن الله به عليم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الإنفاق لا ينفع الكافر البتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة، فقال: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * وبين
في هذه الآية أن من أنفق مما أحب كان من جملة الأبرار، ثم قال في آية أخرى * (إن الأبرار لفي نعيم) * (المطففين: 22) وقال أيضا: * (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) * (الإنسان: 5) وقال أيضا: * (إن الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) * (المطففين: 22، 26) وقال: * (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) * (البقرة: 177) فالله تعالى لما فصل في سائر الآيات كيفية ثواب الأبرار اكتفى ههنا بأن ذكر أن من أنفق ما أحب نال البر، وفيه لطيفة أخرى.
وهي أنه تعالى قال: * (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة) * إلى آخر الآية، فذكر في هذه الآية أكثر أعمال الخير، وسماه البر ثم قال في هذه الآية * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * والمعنى أنكم وإن أتيتم بكل تلك الخيرات المذكورة في تلك الآية فإنكم لا تفوزون بفضيلة البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق ما يحبه كان ذلك أفضل الطاعات، وههنا بحث وهو: أن لقائل أن يقول كلمة * (حتى) * لانتهاء الغاية فقوله * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * يقتضي أن من أنفق مما أحب فقد نال البر ومن نال البر دخل تحت الآيات الدالة على عظم الثواب للأبرار، فهذا يقتضي أن من أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم وإن لم يأت بسائر الطاعات، وهو باطل، وجواب هذا الإشكال: أن الإنسان لا يمكنه أن ينفق محبوبه إلا إذا توسل بإنفاق ذلك المحبوب إلى وجدان محبوب أشرف من الأول، فعلى هذا الإنسان لا يمكنه أن ينفق الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقن سعادة الآخرة، ولا يمكنه أن يعترف بسعادة الآخرة إلا إذا أقر بوجود الصانع العالم القادر،
142

وأقر بأنه يجب عليه الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه، فإذا تأملت علمت أن الإنسان لا يمكنه إنفاق الدنيا في الدنيا إلا إذا كان مستجمعا لجميع الخصال المحمودة في الدنيا، ولنرجع إلى التفسير فنقول في الآية مسائل:
المسألة الأولى: كان السلف إذا أحبوا شيئا جعلوه لله، روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة: يا رسول الله لي حائط بالمدينة وهو أحب أموالي إلي أفأتصدق به؟ فقال عليه السلام: " بخ بخ ذاك مال رابح، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين " فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها في أقاربه، ويروى أنه جعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهما، وروي أن زيد بن حارثة رضي الله عنه جاء عند نزول هذه الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله، فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة، فوجد زيد في نفسه فقال عليه السلام: " إن الله قد قبلها " واشترى ابن عمر جارية أعجبته فأعتقها فقيل له: لم أعتقتها ولم تصب منها؟ فقال: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *.
المسألة الثانية: للمفسرين في تفسير البر قولان أحدهما: ما به يصيرون أبرارا حتى يدخلوا في قوله * (إن الأبرار لفي نعيم) * فيكون المراد بالبر ما يحصل منهم من الأعمال المقبولة والثاني: الثواب والجنة فكأنه قال: لن تنالوا هذه المنزلة إلا بالانفاق على هذا الوجه.
أما القائلون بالقول الأول، فمنهم من قال: * (البر) * هو التقوى واحتج بقوله * (ولكن البر من آمن بالله) * إلى قوله * (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) * (البقرة: 177) وقال أبو ذر: إن البر هو الخير، وهو قريب مما تقدم.
وأما الذين قالوا: البر هو الجنة فمنهم من قال: * (لن تنالوا البر) * أي لن تنالوا ثواب البر، ومنهم من قال: المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم وتفضله عليهم، وهو من قول الناس: برني فلان بكذا، وبر فلان لا ينقطع عني، وقال تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) * إلى قول: * (أن تبروهم) * (الممتحنة: 8).
المسألة الثالثة: اختلف المفسرون في قوله * (مما تحبون) * منهم من قال: إنه نفس المال، قال تعالى: * (وإنه لحب الخير لشديد) * (العاديات: 8) ومنهم من قال: أن تكون الهبة رفيعة جيدة، قال تعالى: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * (البقرة: 267) ومنهم من قال: ما يكون محتاجا إليه قال تعالى: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا) * (الإنسان: 8) أحد تفاسير الحب في هذه الآية على حاجتهم إليه، وقال: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) * (الحشر: 9) وقال عليه السلام: " أفضل الصدقة ما تصدقت به وأنت صحيح شحيح تأمل العيش
143

وتخشى الفقر " والأولى أن يقال: كل ذلك معتبر في باب الفضل وكثرة الثواب. المسألة الرابعة: اختلف المفسرون في أن هذا الانفاق، هل هو الزكاة أو غيرها؟ قال ابن عباس: أراد به الزكاة، يعني حتى تخرجوا زكاة أموالكم، وقال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من ماله طلب به وجه الله فإنه من الذين عنى الله سبحانه بقوله * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * حتى التمرة، والقاضي اختار القول الأول، واحتج عليه بأن هذا الانفاق، وقف الله عليه كون المكلف من الأبرار، والفوز بالجنة، بحيث لو لم يوجد هذا الانفاق، لم يصر العبد بهذه المنزلة، وما ذاك إلا الانفاق الواجب، وأقول: لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أولى لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحب، والزكاة الواجبة ليس فيها إيتاء الأحب، فإنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل الندب.
المسألة الخامسة: نقل الواحدي عن مجاهد والكلبي: أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وهذا في غاية البعد لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله سبحانه وتعالى.
المسألة السادسة: قال بعضهم كلمة * (من) * في قوله * (مما تحبون) * للتبعيض، وقرأ عبد الله * (حتى تنفقوا بعض ما تحبون) * وفيه إشارة إلى أن إنفاق الكل لا يجوز ثم قال: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) * (الفرقان: 67) وقال آخرون: إنها للتبيين.
ففيه سؤال:
وهو أن يقال: قيل فإن الله به عليم على جهة جواب الشرط مع أن الله تعالى يعلمه على كل حال.
والجواب: من وجهين الأول: أن فيه معنى الجزاء تقديره: وما تنفقوا من شيء فإن الله به يجازيكم قل أم كثر، لأنه عليم به لا يخفى عليه شيء منه، فجعل كونه عالما بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب، والتعريض في مثل هذا الموضع يكون أبلغ من التصريح والثاني: أنه تعالى يعلم الوجه الذي لأجله يفعلونه ويعلم أن الداعي إليه أهو الإخلاص أم الرياء ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود، أم الأخس الأرذل.
واعلم أن نظير هذه الآية قوله * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) * وقوله * (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) * (البقرة: 270) قال صاحب " الكشاف " * (من) * في قوله * (من شيء) * لتبيين ما ينفقونه أي من
144

شيء كان طيبا تحبونه أو خبيثا تكرهونه فإن الله به عليم يجازيكم على قدره.
قوله تعالى
* (كل الطعام كان حلا لبنى إسراءيل إلا ما حرم إسراءيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين * فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون * قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *.
اعلم أن الآيات المتقدمة إلى هذه الآية كانت في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب.
وأما هذه الآية فهي في بيان الجواب عن شبهات القوم فإن ظاهر الآية يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعي أن كل الطعام كان حلا ثم صار البعض حراما بعد أن كان حلا والقوم نازعوه في ذلك وزعموا أن الذي هو الآن حرام كان حراما أبدا.
وإذا عرفت هذا فنقول: الآية تحتمل وجوها الأول: أن اليهود كانوا يعولون في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ، فأبطل الله عليهم ذلك بأن * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * فذاك الذي حرمه على نفسه، كان حلالا ثم صار حراما عليه وعلى أولاده فقد حصل النسخ، فبطل قولكم: النسخ غير جائز، ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال أنكروا أن يكون حرمة ذلك الطعام الذي حرم الله بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه، بل زعموا أن ذلك كان حراما من لدن زمان آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، فعند هذا طلب الرسول عليه السلام منهم أن يحضروا التوراة فإن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه، فخافوا من الفضيحة وامتنعوا من إحضار
145

التوراة، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوي دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أحدها: أن هذا السؤال قد توجه عليهم في إنكار النسخ، وهو لازم لا محيص عنه وثانيها: أنه ظهر للناس كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها تارة، ويمتنعون عن الإقرار بما هو فيها أخرى وثالثها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر السماء فهذا وجه حسن علمي في تفسير الآية وبيان النظم.
الوجه الثاني: أن اليهود قالوا له: إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فلو كان الأمر كذلك فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم فجعلوا هذا الكلام شبهة طاعنة في صحة دعواه، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الشبهة بأن قال: ذلك كان حلا لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك، فأمرهم الرسول عليه السلام بإحضار التوراة وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام فعجزوا عن ذلك وافتضحوا فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام.
الوجه الثالث: أنه تعالى لما أنزل قوله * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) * (الأنعام: 146) وقال أيضا: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * (النساء: 160) فدلت هذه الآية على أنه تعالى إنما حرم على اليهود هذه الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم وقبيح فعلهم وإنه لم يكن شيء من الطعام حراما غير الطعام الواحد الذي حرمه إسرائيل على نفسه، فشق ذلك على اليهود من وجهين أحدهما: أن ذلك يدل على أن تلك الأشياء حرمت بعد أن كانت مباحة، وذلك يقتضي وقوع النسخ وهم ينكرونه والثاني: أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال، فلما حق عليهم ذلك من هذين الوجهين أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجددة، بل زعموا أنها كانت محرمة أبدا، فطالبهم النبي صلى الله عليه وسلم بآية من التوراة تدل على صحة قولهم فعجزوا عنه فافتضحوا، فهذا وجه الكلام في تفسير هذه الآية وكله حسن مستقيم، ولنرجع إلى تفسير الألفاظ.
أما قوله * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) *
146

ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف " * (كل الطعام) * أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام وأقول: اختلف الناس في أن اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام هل يفيد العموم أم لا؟.
ذهب قوم من الفقهاء والأدباء إلى أنه يفيده، واحتجوا عليه بوجوه أحدها: أنه تعالى أدخل لفظ * (كل) * على لفظ الطعام في هذه الآية، ولولا أن لفظ الطعام قائم مقام
لفظ المطعومات وإلا لما جاز ذلك وثانيها: أنه استثنى عنه ما حرم إسرائيل على نفسه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ الطعام وإلا لم يصح هذا الاستثناء وأكدوا هذا بقوله تعالى: * (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا) * (العصر: 2، 3) وثالثها: أنه تعالى وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع، فقال: * (والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد) * (ق: 10، 11) فعلى هذا من ذهب إلى هذا المذهب لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب " الكشاف "، أما من قال إن الاسم المفرد المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم، وهو الذي نظرناه في أصول الفقه احتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب " الكشاف ".
المسألة الثانية: الطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل، وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه إنه اسم للبر خاصة، وهذه الآية دالة على ضعف هذا الوجه، لأنه استثنى من لفظ الطعام ما حرم إسرائيل على نفسه، والمفسرون اتفقوا على أن ذلك الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان شيئا سوى الحنطة، وسوى ما يتخذ منها ومما يؤكد ذلك قوله تعالى في صفة الماء * (ومن لم يطعمه فإنه مني) * (البقرة: 249) وقال تعالى: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) * (المائدة: 5) وأراد الذبائح، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما لنا طعام إلا الأسودان، والمراد التمر والماء.
إذا عرفت هذا فنقول: ظاهر هذه الآية يدل على أن جميع المطعومات كان حلا لبني إسرائيل ثم قال القفال: لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام، وكذا القول في الخنزير، ثم قال فيحتمل أن يكون ذلك على الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم أنها كان محرمة على إبراهيم، وعلى هذا التقدير لا تكون الألف واللام في لفظ الطعام للاستغراق، بل للعهد السابق، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال ومثله قوله تعالى: * (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) * (الأنعام: 145) فإنه إنما خرج هذا الكلام على أشياء سألوا عنها فعرفوا أن المحرم منها كذا وكذا دون غيره فكذا في هذه الآية.
المسألة الثالثة: الحل مصدر يقال: حل الشيء حلا كقولك: ذلت الدابة ذلا وعز الرجل
147

عزا، ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال تعالى: * (لا هن حل لهم) * (الممتحنة: 10) والوصف بالمصدر يفيد المبالغة فههنا الحل والمحلل واحد، قال ابن عباس رضي الله عنهما في زمزم هي حل وبل رواه سفيان بن عيينة فسئل سفيان: ما حل؟ فقال محلل.
أما قوله تعالى: * (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في الشيء الذي حرمه إسرائيل على نفسه على وجوه الأول: روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن يعقوب مرض مرضا شديدا فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها " وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل والثاني: قيل إنه كان به عرق النساء، فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئا من العروق الثالث: جاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر، ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة، أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان بعث بردا إلى عيصو أخيه إلى أرض ساعير، فانصرف الرسول إليه، وقال: إن عيصو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل، فذعر يعقوب وحزن جدا وصلى ودعا وقدم هدايا لأخيه وذكر القصة إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل، فدنا ذلك الرجل ووضع أصبعه على موضع عرق النساء، فخدرت تلك العصبة وجفت فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق.
المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أن إسرائيل حرم ذلك على نفسه، وفيه سؤال: وهو أن التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله تعالى، فكيف صار تحريم يعقوب عليه السلام سببا لحصوله الحرمة.
أجاب المفسرون عنه من وجوه الأول: أنه لا يبعد أن الإنسان إذا حرم شيئا على نفسه فإن الله يحرمه عليه ألا ترى أن الإنسان يحرم امرأته على نفسه بالطلاق، ويحرم جاريته بالعتق، فكذلك جائز أن يقول تعالى إن حرمت شيئا على نفسك فأنا أيضا أحرمه عليك الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتهد فأدى اجتهاده إلى التحريم، فقال بحرمته وإنما قلنا: إن الاجتهاد جائز من الأنبياء لوجوه الأول: قوله تعالى: * (فاعتبروا يا أولي الأبصار) * (الحشر: 2) ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رؤساء أولي الأبصار والثاني: قال: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * (النساء: 83) مدح المستنبطين والأنبياء أولى بهذا المدح والثالث: قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * (التوبة: 43) فلو كان ذلك الإذن بالنص، لم يقل: لم أذنت،
148

فدل على أنه كان بالاجتهاد الرابع: أنه لا طاعة إلا وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها أعظم نصيب ولا شك أن استنباط أحكام الله تعالى بطريق الاجتهاد طاعة عظيمة شاقة، فوجب أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها نصيب لا سيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق الله وتسديده معهم أكثر، ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد على الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته والأظهر الأقوى أن إسرائيل صلوات الله عليه إنما حرم ذلك على نفسه بسبب الاجتهاد إذ لو كان ذلك بالنص لقال إلا ما حرم الله على إسرائيل فلما أضاف التحريم إلى إسرائيل دل هذا على أن ذلك كان بالاجتهاد وهو كما يقال: الشافعي يحل لهم الخيل وأبو حنيفة يحرمه بمعنى أن اجتهاده أدى إليه فكذا ههنا.
الثالث: يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا، فكما يجب علينا الوفاء بالنذر كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم.
واعلم أن هذا لو كان فإنه كان مختصا بشرعه أما في شرعنا فهو غير ثابت قال تعالى: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * (التحريم: 1) الرابع: قال الأصم: لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس وطلبا لمرضاة الله تعالى، كما يفعله كثير من الزهاد فعبر من ذلك الامتناع بالتحريم الخامس:
قال قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب، وللمتكلمين في هذه المسألة منازعات كثيرة ذكرناها في أصول الفقه.
المسألة الثالثة: ظاهر هذه الآية يدل على أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه فقد حرمه الله على بني إسرائيل، وذلك لأنه تعالى قال: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) * فحكم بحل كل أنواع المطعومات لبني إسرائيل، ثم استثنى عنه ما حرمه إسرائيل على نفسه، فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراما على بني إسرائيل والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (من قبل أن تنزل التوراة) * فالمعنى أن قبل نزول التوراة كان حلا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه، أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم الله تعالى عليهم أنواعا كثيرة، روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم الله عليهم نوعا من أنواع الطعام، أو سلط عليهم شيئا لهلاك أو مضرة، دليله قوله تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * (النساء: 160).
ثم قال تعالى: * (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) * وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول
149

الله صلى الله عليه وسلم، إما لأنهم ادعوا أن تحريم هذه الأشياء كان موجودا من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وإما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ادعى كون هذه المطعومات مباحة في الزمان القديم، وأنها إنما حرمت بسبب أن إسرائيل حرمها على نفسه، فنازعوه في ذلك، فطلب الرسول عليه السلام إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول، وعلى كلا الوجهين، فالتفسير ظاهر، ولمنكري القياس أن يحتجوا بهذه الآية، وذلك لأن الرسول عليه السلام طالبهم فيما ادعوه بكتاب الله، ولو كان القياس حجة لكان لهم أن يقولوا: لا يلزم من عدم هذا الحكم في التوراة عدمه، لأنا نثبته بالقياس، ويمكن أن يجاب عنه بأن النزاع ما وقع في حكم شرعي، وإنما وقع في أن هذا الحكم، هل كان موجودا في زمان إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام أم لا؟ ومثل هذا لا يمكن إثباته إلا بالنص، فلهذا المعنى طالبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، بنص التوراة.
ثم قال تعالى: * (فمن افترى على الله الكذب) * الافتراء اختلاق الكذب، والفرية الكذب والقذف، وأصله من فرى الأديم، وهو قطعه، فقيل للكذب افتراء، لأن الكاذب يقطع به في القول من غير تحقيق في الوجود.
ثم قال: * (من بعد ذلك) * أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب، ولم يكن محرما قبله * (فأولئك هم الظالمون) * المستحقون لعذاب الله لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين.
ثم قال تعالى: * (قل صدق الله) * ويحتمل وجوها أحدها: * (قل صدق) * في أن ذلك النوع من الطعام صار حراما على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالا لهم، فصح القول بالنسخ، وبطلت شبهة اليهود وثانيها: * (صدق الله) * في قوله إن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة لإبراهيم عليه السلام وإنما حرمت على بني إسرائيل لأن إسرائيل حرمها على نفسه، فثبت أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما أفتى بحل لحوم الإبل وألبانها، فقد أفتى بملة إبراهيم وثالثها: * (صدق الله) * في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء على قبائح أفعالهم.
ثم قال تعالى: * (فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا) * أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلوات الله عليه من ملة إبراهيم، وسواء قال: ملة إبراهيم حنيفا، أو قال: ملة إبراهيم الحنيف لأن الحال والصفة سواء في المعنى.
ثم قال: * (وما كان من المشركين) * أي لم يدع مع الله إلها آخر، ولا عبد سواه، كما فعله بعضهم
150

من عبادة الشمس والقمر، أو كما فعله العرب من عبادة الأوثان، أو كما فعله اليهود من ادعاء أن عزير ابن الله، وكما فعله النصارى من ادعاء أن المسيح ابن الله، والغرض منه بيان أن محمدا صلوات الله عليه على دين إبراهيم عليه السلام، في الفروع والأصول.
أما في الفروع، فلما ثبت أن الحكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضا، وأما في الأصول فلأن محمدا صلوات الله وسلامه عليه لا يدعو إلا إلى التوحيد، والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وما كان إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إلا على هذا الدين.
قوله تعالى
* (إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه ءايات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان ءامنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) *.
قوله تعالى: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا) * في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول: أن المراد منه الجواب عن شبهة أخرى من شبه اليهود في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنه عليه السلام لما حول القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة، وهو أرض المحشر، وقبلة جملة الأنبياء، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة منه إلى الكعبة باطلا، فأجاب الله تعالى عنه بقوله * (إن أول بيت وضع للناس) * فبين تعالى أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف، فكان جعلها قبلة أولى والثاني: أن المقصود من الآية المتقدمة بيان أن النسخ هل يجوز أم لا؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استدل على جوازه بأن الأطعمة كانت مباحة لبني إسرائيل، ثم إن الله تعالى حرم بعضها، والقوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله نسخها هو القبلة، لا جرم ذكر تعالى في هذه
الآية بيان ما لأجله حولت الكعبة، وهو كون الكعبة أفضل من غيرها الثالث: أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة * (فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * (آل عمران: 95) وكان من أعظم شعار ملة إبراهيم الحج، ذكر في هذه الآية فضيلة البيت، ليفرع عليه إيجاب الحج الرابع: أن اليهود والنصارى زعم كل فرقة منهم أنه على ملة إبراهيم، وقد سبقت هذه المناظرة في الآيات المتقدمة، فإن الله تعالى بين كذبهم، من حيث أن حج الكعبة كان ملة إبراهيم واليهود والنصارى لا يحجون، فيدل هذا على كذبهم في ذلك، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال المحققون الأول: هو الفرد السابق، فإذا قال: أول عبد اشتريه فهو حر
151

فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق أحد منها لأن الأول هو الفرد، ثم لو اشترى في المرة الثانية عبدا واحدا لم يعتق، لأن شرط الأول كونه سابقا فثبت أن الأول هو الفرد السابق.
إذا عرفت هذا فنقول: إن قوله تعالى: * (إن أول بيت وضع للناس) * لا يدل على أنه أول بيت خلقه الله تعالى، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض، بل ظاهر الآية يدل على أنه أول بيت وضع للناس، وكونه موضوعا للناس يقتضي كونه مشتركا فيه بين جميع الناس، فأما سائر البيوت فيكون كل واحد منها مختصا بواحد من الناس فلا يكون شيء من البيوت موضوعا للناس، وكون البيت مشتركا فيه بين كل الناس، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضوعا للطاعات والعبادات وقبلة للخلق، فدل قوله تعالى: * (إن أول بيت وضع للناس) * على أن هذا البيت وضعه الله موضعا للطاعات والخيرات والعبادات فيدخل فيه كون هذا البيت قبلة للصلوات، وموضعا للحج، ومكانا يزداد ثواب العبادات والطاعات فيه.
فإن قيل: كونه أولا في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان، وهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس يشاركه في هذه الصفات التي منها وجوب حجه، ومعلوم أنه ليس كذلك.
والجواب: من وجهين الأول: أن لفظ الأول: في اللغة اسم للشيء الذي يوجد ابتداء، سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل، يقال: هذا أول قدومي مكة، وهذا أول مال أصبته ولو قال: أول عبد ملكته فهو حر فملك عبدا عتق وإن لم يملك بعده عبدا آخر، فكذا هنا، والثاني: أن المراد من قوله * (إن أول بيت وضع للناس) * أي أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم وبيت المقدس يشاركه في كونه بيتا موضوعا للطاعات والعبادات، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا " فهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس، وأما أن يكون بيت المقدس مشاركا له في جميع الأمور حتى في وجوب الحج، فهذا غير لازم والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن قوله * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) * يحتمل أن يكون المراد كونه أولا في الوضع والبناء وأن يكون المراد كونه أولا في كونه مباركا وهدى فحصل للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان الأول: أنه أول في البناء والوضع، والذاهبون إلى هذا المذهب لهم أقوال أحدها: ما روى الواحدي رحمه الله تعالى في " البسيط " بإسناده عن مجاهد أنه قال: خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين، وفي رواية أخرى: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى وروي أيضا عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين عن
152

أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى بعث ملائكته فقال ابنوا لي في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، وهذا كان قبل خلق آدم ".
وأيضا ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر، ومجاهد والسدي: أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء، وقد خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته، قال القفال في " تفسيره ": روى حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال: وجد في كتاب في المقام أو تحت المقام " أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر، وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين، وحققتها بسبعة أملاك حنفاء " وثانيها: أن آدم صلوات الله عليه وسلامه لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة، فأمره الله تعالى ببناء الكعبة وطاف بها، وبقي ذلك إلى زمان نوح عليه السلام، فلما أرسل الله تعالى الطوفان، رفع البيت إلى السماء السابعة حيال الكعبة، يتعبد عنده الملائكة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك سوى من دخل من قبل فيه، ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة، وبقي مختفيا إلى أن بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت، وأمره بعمارته، فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام.
واعلم أن هذين القولين يشتركان في أن الكعبة كانت موجودة في زمان آدم عليه السلام، وهذا هو الأصوب ويدل عليه وجوه الأول: أن تكليف الصلاة كان لازما في دين جميع الأنبياء عليهم السلام، بدليل قوله تعالى في سورة مريم * (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملناه مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) * (مريم: 58) فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله والسجدة لا بد لها من قبلة، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم السلام موضعا آخر سوى القبلة لبطل قوله * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) * فوجب أن يقال: إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة، فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبدا مشرفة مكرمة الثاني: أن الله تعالى سمى مكة أم القرى، وظاهر هذا يقتضي أنها كانت سابقة على سائر البقاع في الفضل والشرف منذ كانت موجودة الثالث: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة " ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق
السماوات والأرض والشمس والقمر " وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجود مكة الرابع: أن الآثار التي حكيناها عن الصحابة والتابعين دالة على أنها كانت مودة قبل زمان إبراهيم عليه السلام.
واعلم أن لمن أنكر ذلك أن يحتج بوجوه الأول: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
153

" اللهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة " وظاهر هذا يقتضي أن مكة بناء إبراهيم عليه السلام ولقائل أن يقول: لا يبعد أن يقال البيت كان موجودا قبل إبراهيم وما كان محرما ثم حرمه إبراهيم عليه السلام الثاني: تمسكوا بقوله تعالى: * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) * (البقرة: 127) ولقائل أن يقول: لعل البيت كان موجودا قبل ذلك ثم انهدم، ثم أمر الله إبراهيم برفع قواعده وهذا هو الوارد في أكثر الأخبار الثالث: قال القاضي: إن الذي يقال من أنه رفع زمان الطوفان إلى السماء بعيد، وذلك لأن الموضع الشريف هو تلك الجهة المعينة، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ألا ترى أن الكعبة والعياذ بالله تعالى لو انهدمت ونقل الأحجار والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف البتة، ويكون شرف تلك الجهة باقيا بعد الانهدام، ويجب على كل مسلم أن يصلي إلى تلك الجهة بعينها، وإذا كان كذلك فلا فائدة في نقل تلك الجدران إلى السماء ولقائل أن يقول: لما صارت تلك الأجسام في العزة إلى حيث أمر الله بنقلها إلى السماء، وإنما حصلت لها هذه العزة بسبب أنها كانت حاصلة في تلك الجهة، فصار نقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على غاية تعظيم تلك الجهة وإعزازها، فهذا جملة ما في هذا القول:
القول الثاني: أن المراد من هذه الأولية كون هذا البيت أولا في كونه مباركا وهدى للخلق روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أول مسجد وضع للناس، فقال عليه الصلاة والسلام: " المسجد الحرام ثم بيت المقدس " فقيل كم بينهما؟ قال: " أربعون سنة " وعن علي رضي الله عنه أن رجلا قال له: أهو أول بيت؟ قال: لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة أول من بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جرهم، ثم هدم فبناه العمالقة، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح، ثم هدم فبناه قريش. واعلم أن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه، لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود، إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء، وقد دللنا على ثبوت هذا المعنى أيضا.
المسألة الثالثة: إذا ثبت أن المراد من هذه الأولية زيادة الفضيلة والمنقبة فلنذكر ههنا وجوه فضيلة البيت:
الفضيلة الأولى: اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل عليه السلام، وباني بيت المقدس سليمان عليه السلام، ولا شك أن الخليل أعظم درجة وأكثر منقبة من سليمان عليه السلام فمن هذا الوجه يجب أن تكون الكعبة أشرف من بيت المقدس.
154

واعلم أن الله تعالى أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت، فقال: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) * (الحج: 26) والمبلغ لهذا التكليف هو جبريل عليه السلام، فلهذا قيل: ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة، فالأمر هو الملك الجليل والمهندس هو جبريل، والباني هو الخليل، والتلميذ إسماعيل عليهم السلام.
الفضيلة الثانية: * (مقام إبراهيم) * وهو الحجر الذي وضع إبراهيم قدمه عليه فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم عليه السلام من ذلك الحجر دون سائر أجزائه كالطين حتى غاص فيه قدم إبراهيم عليه السلام، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ولا يظهره إلا على الأنبياء، ثم لما رفع إبراهيم قدمه عنه خلق فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى، ثم إنه تعالى أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام فهذه أنواع من الآيات العجيبة والمعجزات الباهرة أظهرها الله سبحانه في ذلك الحجر.
الفضيلة الثالثة: قلة ما يجتمع فيه من حصى الجمار، فإنه منذ آلاف سنة وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة، ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير وليس الموضع الذي ترمي إليه الجمرات مسيل ماء ولا مهب رياح شديدة وقد جاء في الآثار أن من كانت حجته مقبولة رفعت حجارة جمراته إلى السماء.
الفضيلة الرابعة: إن الطيور تترك المرور فوق الكعبة عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنها إذا ما وصلت إلى فوقها.
الفضيلة الخامسة: أن عنده يجتمع الوحش لا يؤذي بعضها بعضا كالكلاب والظباء، ولا يصطاد فيه الكلاب والوحوش وتلك خاصية عجيبة وأيضا كل من سكن مكة أمن من النهب والغارة وهو بركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال: * (رب اجعل هذا بلدا آمنا) * (البقرة: 126) وقال تعالى في صفة أمنه * (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) * (العنكبوت: 67) وقال: * (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) * (قريش: 3، 4) ولم ينقل البتة أن ظالما هدم الكعبة وخرب مكة بالكلية؛ وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية.
الفضيلة السادسة: أن صاحب الفيل وهو أبرهة الأشرم لما قاد الجيوش والفيل إلى مكة لتخريب الكعبة وعجز قريش عن مقاومة أولئك الجيوش وفارقوا مكة وتركوا له الكعبة فأرسل الله عليهم طيرا أبابيل، والأبابيل هم الجماعة من الطير بعد الجماعة، وكانت صغارا تحمل أحجارا ترميهم بها فهلك الملك وهلك العسكر بتلك الأحجار مع أنها كانت في غاية الصغر، وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة وإرهاص لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
155

فإن قال قائل: لم لا يجوز أن يقال إن كل ذلك بسبب طلسم موضوع هناك بحيث لا يعرفه أحد فإن الأمر في تركيب الطلسمات مشهور.
قلنا: لو كان هذا من باب الطلسمات لكان هذا طلسما مخالفا لسائر الطلسمات فإنه لم يحصل لشيء سوى الكعبة مثل هذا البقاء الطويل في هذه المدة العظيمة، ومثل هذا يكون من المعجزات، فلا يتمكن منها سوى الأنبياء.
الفضيلة السابعة: إن الله تعالى وضعها بواد غير ذي زرع، والحكمة من وجوه أحدها: إنه تعالى قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله وثانيها: أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة فإنهم يريدون طيبات الدنيا فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع، فالمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا وثالثها: أنه فعل ذلك لئلا يقصدها أحد للتجارة بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة فقط ورابعها: أظهر الله تعالى بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيوت في أقل المواضع نصيبا من الدنيا، فكأنه قال: جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين، لهم في الدنيا بيت الأمن وفي الآخرة دار الأمن وخامسها: كأنه قال: لما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في كل قلب خال عن محبة الدنيا، فهذا ما يتعلق بفضائل الكعبة، وعند هذا ظهر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس في أنواع الفضائل والمناقب، وإذا ظهر هذا بطل قول اليهود: إن بيت المقدس أشرف من الكعبة والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (للذي ببكة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لا شك أن المراد من * (بكة) * هو مكة ثم اختلفوا فمنهم من قال: بكة ومكة اسمان لمسمى واحد، فإن الباء والميم حرفان متقاربان في المخرج فيقام كل واحد منهما مقام الآخر فيقال: هذه ضربة لازم، وضربة لازب، ويقال: هذا دائم ودائب، ويقال: راتب وراتم، ويقال: سمد رأسه، وسبده، وفي اشتقاق بكة وجهان الأول: أنه من البك الذي هو عبارة عن دفع البعض بعضا، يقال: بكه يبكه بكا إذا دفعه وزحمه، وتباك القوم إذا ازدحموا فلهذا قال سعيد بن جبير: سميت مكة بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف، وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة قال بعضهم: رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين
156

يديه فذهبت أدفعها فقال: دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضا، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي لا بأس بذلك في هذا المكان.
الوجه الثاني: سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة لا يريدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه قال قطرب: تقول العرب بككت عنقه أبكه بكا إذا وضعت منه ورددت نخوته.
وأما مكة ففي اشتقاقها وجوه الأول: أن اشتقاقها من أنها تمك الذنوب أي تزيلها كلها، من قولك: أمتك الفصيل ضرع أمه، إذا امتص ما فيه الثاني: سميت بذلك لاجتلابها الناس من كل جانب من الأرض، يقال أمتك الفصيل، إذا استقصى ما في الضرع، ويقال تمككت العظم، إذا استقصيت ما فيه الثالث: سميت مكة، لقلة مائها، كأن أرضها امتكت ماءها الرابع: قيل: إن مكة وسط الأرض، والعيون والمياه تنبع من تحت مكة، فالأرض كلها تمك من ماء مكة، ومن الناس من فرق بين مكة وبكة، فقال بعضهم: إن بكة اسم للمسجد خاصة، وأما مكة، فهو اسم لكل البلد، قالوا: والدليل عليه أن اشتقاق بكة من الازدحام والمدافعة، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف، لا في سائر المواضع، وقال الأكثرون: مكة اسم للمسجد والمطاف. وبكة اسم البلد، والدليل عليه أن قوله تعالى: * (للذي ببكة) * يدل على أن البيت حاصل في بكة ومظروف في بكة فلو كان بكة اسما للبيت لبطل كون بكة ظرفا للبيت، أما إذا جعلنا بكة اسما للبلد، استقام هذا الكلام. المسألة الثانية: لمكة أسماء كثيرة، قال القفال رحمه الله في " تفسيره ": مكة وبكة وأم رحم وكويساء والبشاشة والحاطمة تحطم من استخف بها، وأم القرى قال تعالى: * (لتنذر أم القرى ومن حولها) * (الأنعام: 92) وسميت بهذا الاسم لأنها أصل كل بلدة ومنها دحيت الأرض، ولهذا المعنى يزار ذلك الموضع من جميع نواحي الأرض.
المسألة الثالثة: للكعبة أسماء أحدها: الكعبة قال تعالى: * (جعل الله الكعبة البيت الحرام) * (المائدة: 97) والسبب فيه أن هذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع، وسمي الكعب كعبا لإشرافه وارتفاعه على الرسغ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعبا، لارتفاع ثديها، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض وأقدمها زمانا، وأكثرها فضيلة سمي بهذا الاسم وثانيها: البيت العتيق: قال تعالى: * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * (الحج: 33) وقال: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * (الحج: 29) وفي اشتقاقه وجوه الأول: العتيق هو القديم، وقد بينا أنه أقدم بيوت الأرض بل عند بعضهم أن الله خلقه قبل الأرض والسماء والثاني: أن الله أعتقه من الغرق حيث رفعه إلى السماء الثالث: من عتق الطائر إذا قوي في وكره، فلما بلغ
157

في القوة إلى حيث أن كل من قصد تربية أهلكه الله سمي عتيقا الرابع: أن الله أعتقه من أن يكون ملكا لأحد من المخلوقين الخامس: أنه عتيق بمعنى أن كل من زاره أعتقه الله تعالى من النار وسادسها: المسجد الحرام قال سبحانه: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) * (الإسراء: 1) والمراد من كونه حراما سيجيء إن شاء الله في تفسير هذه الآية.
فإن قال قائل: كيف الجمع بين قوله * (إن أول بيت وضع للناس) * وبين قوله * (وطهر بيتي للطائفين) * (الحج: 26) فأضافه مرة إلى نفسه ومرة إلى الناس.
والجواب: كأنه قيل: البيت لي ولكن وضعته لا لأجل منفعتي فإني منزه عن الحاجة ولكن وضعته لك ليكون قبلة لدعائك والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (مباركا وهدى للعالمين) *.
واعلم أنه تعالى وصف هذا البيت بأنواع الفضائل فأولها: أنه أول بيت وضع للناس، وقد ذكرنا معنى كونه أولا في الفضل ونزيد ههنا وجوها أخر الأول: قال علي رضي الله عنه، هو أول بيت خص بالبركة، وبأن من دخله كان آمنا، وقال الحسن: هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض وقال مطرف. أول بيت جعل قبلة وثانيها: أنه تعالى وصفه بكونه مباركا، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: انتصب * (مباركا) * على الحال والتقدير الذي استقر هو ببكة مباركا.
المسألة الثانية: البركة لها معنيان أحدهما: النمو والتزايد والثاني: البقاء والدوام، يقال تبارك الله، لثبوته لم يزل، والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها، وبرك
البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر، فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه أحدها: أن الطاعات إذا أتى بها في هذا البيت ازداد ثوابها. قال صلى الله عليه وسلم: " فضل المسجد الحرام على مسجدي، كفضل مسجدي على سائر المساجد " ثم قال صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه " فهذا في الصلاة، وأما الحج، فقال عليه الصلاة والسلام: " من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " وفي حديث آخر " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة وثانيها: قال القفال رحمه الله تعالى: ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى: * (يجبى إليه ثمرات كل شيء) * فيكون كقوله * (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) * (الإسراء: 1) وثالثها: أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال
158

اشتغالهم بالصلاة، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية، وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسية فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف، وهو ينبهك على معنى كونه مباركا.
وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضا كذلك لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود، وأيضا الأرض كرة، وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم، وظهر لثان وعصر لثالث، ومغرب لرابع وعشاء لخامس، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة، فكان الدوام حاصلا من هذه الجهة، وأيضا بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفا من السنين دوام أيضا فثبت كونه مباركا من الوجهين.
الصفة الثالثة: من صفات هذا البيت كونه * (هدى للعالمين) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قيل: المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم، وقيل: هدى للعالمين أي دلالة على وجود الصانع المختار، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولا على وجود الصانع، وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء، وقيل: هدى للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة.
المسألة الثانية: قال الزجاج: المعنى وذا هدى للعالمين، قال: ويجوز أن يكون * (وهدى) * في موضع رفع على معنى وهو هدى.
أما قوله تعالى: * (فيه آيات بينات) * ففيه قولان الأول: أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي: أمن الخائف، وإنمحاق الجمار على كثرة الرمي، وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور.
وقوله * (مقام إبراهيم) * لا تعلق له بقوله * (فيه آيات بينات) * فكأنه تعالى قال: * (فيه آيات بينات) * ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه، لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم.
159

القول الثاني: أن تفسير الآيات مذكور، وهو قوله * (مقام إبراهيم) * أي: هي مقام إبراهيم.
فإن قيل: الآيات جماعة ولا يصح تفسيرها بشيء واحد، أجابوا عنه من وجوه الأول: أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة، لأن ما كان معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو دليل على وجود الصانع، وعلمه وقدرته وإرادته وحياته، وكونه غنيا منزها مقدسا عن مشابهة المحدثات فمقام إبراهيم وإن كان شيئا واحدا إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الدلائل كقوله * (إن إبراهيم كان أمة قانتا) * (النحل: 120) الثاني: أن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ألوف سنين فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة الثالث: قال الزجاج إن قوله * (ومن دخله كان آمنا) * من بقية تفسير الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله، ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين، قال تعالى: * (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) * (التحريم: 4) وقال عليه السلام: " الاثنان فما فوقهما جماعة " ومنهم من تمم الثلاثة فقال: مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمنا، وأن لله على الناس حجه، ثم حذف (أن) اختصارا، كما في قوله * (قل أمر ربي بالقسط) * (الأعراف: 29) أي أمر ربي بأن تقسطوا الرابع: يجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما الخامس: قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة * (آية بينة) * على التوحيد السادس: قال المبرد * (مقام) * مصدر فلم يجمع كما قال: * (وعلى سمعهم) * والمراد مقامات إبراهيم، وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك أنها كثيرة وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال: * (ومن يعظم شعائر الله) * (الحج: 32).
ثم قال تعالى: * (مقام إبراهيم) * وفيه أقوال أحدها: أنه لما ارتفع بنيان الكعبة، وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه والثاني: أنه جاء زائرا من الشام إلى مكة، وكان قد حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع، فلما وصل إلى مكة قالت له أم إسماعيل: إنزل حتى نغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على الجانب الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه، ثم حولته إلى الجانب الأيسر، حتى غسلت الجانب الآخر، فبقي أثر قدميه عليه والثالث: أنه هو الحجر الذي قام إبراهيم عليه عند الأذان بالحج، قال القفال رحمه الله: ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلها.
160

ثم قال تعالى: * (ومن دخله كان آمنا) * ولهذه الآية نظائر: منها قوله تعالى: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) * (البقرة: 125) وقوله * (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) * (العنكبوت: 67) وقال إبراهيم * (رب اجعل هذا بلدا آمنا) * (إبراهيم: 35) وقال تعالى: * (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) * (قريش: 4) قال أبو بكر الرازي: لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله * (إن أول بيت وضع للناس) * موجودة في الحرم ثم قال: * (ومن دخله كان آمنا) * وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم فإنه يستوفي القصاص منه في الحرم وأجمعوا على أن الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم فهل يستوفي منه القصاص في الحرم؟ قال الشافعي: يستوفي، وقال أبو حنيفة: لا يستوفي، بل يمنع منه الطعام والشراب والبيع والشراء والكلام حتى يخرج، ثم يستوفي منه القصاص، والكلام في هذه المسألة قد تقدم في تفسير قوله * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) * واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية، فقال: ظاهر الآية الاخبار عن كونه آمنا، ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمنا فيقع الخلف في الخبر، فوجب حمله على الأمر ترك العمل به في الجنايات التي دون النفس، لأن الضرر فيها أخف من الضرر في القتل، وفيما إذا وجب عليه القصاص لجناية أتى بها في الحرم، لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية.
والجواب: أن قوله * (كان آمنا) * إثبات لمسمى الأمن، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من بعض الوجوه، ونحن نقول به وبيانه من وجوه الأول: أن من دخله للنسك تقربا إلى الله تعالى كان آمنا من النار يوم القيامة، قال النبي عليه السلام: " من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا " وقال أيضا: " من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام " وقال: " من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " والثاني: يحتمل أن يكون المراد ما أودع الله في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ودفع المكروه عنه، ولما كان الأمر واقعا على هذا الوجه في الأكثر أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقا وهذا أولى مما قالوه لوجهين الأول: أنا على هذا التقدير لا نجعل الخبر قائما مقام الأمر وهم جعلوه قائما مقام الأمر والثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذا لبيان فضيلة البيت وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوما للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد عليه السلام فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة.
الوجه الثالث: في تأويل الآية: أن المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى الله عليه
161

وسلم كان آمنا لأنه تعالى قال: * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * (الفتح: 27) الرابع: قال الضحاك: من حج حجة كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
واعلم أن طرق الكلام في جميع هذه الأجوبة شيء واحد، وهو أن قوله * (كان آمنا) * حكم بثبوت الأمن وذلك يكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد وفي صورة واحدة فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النص فلا يبقى للنص دلالة على ما قالوه، ثم يتأكد ذلك بأن حمل النص على هذا الوجه لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص وحمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك فكان قولنا أولى والله أعلم.
قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل البيت ومناقبه، أردفه بذكر إيجاب الحج وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (حج البيت) * بكسر الحاء والباقون بفتحها، قيل الفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد وهما واحد في المعنى، وقيل هما جائزان مطلقا في اللغة، مثل رطل ورطل، وبزر وبزر، وقيل المكسورة اسم للعمل والمفتوحة مصدر، وقال سيبويه: يجوز أن تكون المكسورة أيضا مصدرا، كالذكر والعلم.
المسألة الثانية: في قوله * (من استطاع إليه سبيلا) * وجوه الأول: قال الزجاج: موضع * (من) * خفض على البدل من * (الناس) * والمعنى: ولله على من استطاع من الناس حج البيت الثاني: قال الفراء إن نويت الاستئناف بمن كانت شرطا وأسقط الجزاء لدلالة ما قبله عليه، والتقدير من استطاع إلى الحج سبيلا فلله عليه حج البيت الثالث: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون * (من) * في موضع رفع على معنى الترجمة للناس، كأنه قيل: من الناس الذين عليهم لله حج البيت؟ فقيل هم من استطاع إليه سبيلا.
المسألة الثالثة: اتفق الأكثرون على أن الزاد والراحلة شرطان لحصول الاستطاعة، روى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة، وروى القفال عن جويبر عن الضحاك أنه قال: إذا كان شابا صحيحا ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه فقال له قائل: أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال: لا بل ينطلق إليه ولو حبوا، قال: فكذلك يجب عليه
162

حج البيت، عن عكرمة أيضا أنه قال: الاستطاعة هي صحة البدن، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه.
واعلم أن كل من كان صحيح البدن قادرا على المشي إذا لم يجد ما يركب فإنه يصدق عليه أنه يستطيع لذلك الفعل، فتخصيص هذه الاستطاعة بالزاد والراحلة ترك لظاهر اللفظ فلا بد فيه من دليل منفصل، ولا يمكن التعويل في ذلك على الأخبار المروية في هذا الباب لأنها أخبار آحاد فلا يترك لأجلها ظاهر الكتاب لا سيما وقد طعن محمد بن جرير الطبري في رواة تلك الأخبار، وطعن فيها من وجه آخر، وهو أن حصول الزاد والراحلة لا يكفي في حصول الاستطاعة، فإنه يعتبر في حصول الاستطاعة صحة البدن وعدم الخوف في الطريق، وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك معتبرا، فصارت هذه الأخبار مطعونا فيها من هذا الوجه بل يجب أن يعول
في ذلك على ظاهر قوله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وقوله * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185).
المسألة الرابعة: احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا لأن ظاهر قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * يعم المؤمن والكافر وعدم الإيمان لا يصلح معارضا ومخصصا لهذا العموم، لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط صحة الإيمان بمحمد عليه السلام غير حاصل والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة غير حاصل، فلم يكن عدم الشرط مانعا من كونه مكلفا بالمشروط، فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الخامسة: احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن الاستطاعة قبل الفعل، فقالوا: لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج مستطيعا للحج، ومن لم يكن مستطيعا للحج لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية فيلزم أن كل من لم يحج أن لا يصير مأمورا بالحج بسبب هذه الآية وذلك باطل بالاتفاق.
أجاب الأصحاب بأن هذا أيضا لازم لهم، وذلك لأن القادر إما أن يصير مأمورا بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل أو بعد حصوله أما قبل حصول الداعي فمحال، لأن قبل حصول الداعي يمتنع حصول الفعل، فيكون التكليف به تكليف ما لا يطاق، وأما بعد حصول الداعي فالفعل يصير واجب الحصول، فلا يكون في التكليف به فائدة، وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف المذكور في هذه الآية على أحد.
163

المسألة السادسة: روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله أكتب الحج علينا في كل عام، ذكروا ذلك ثلاثا، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال في الرابعة: " لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة اختلافهم على أنبيائهم "، ثم احتج العلماء بهذا الخبر على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين الأول: أن الأمر ورد بالحج ولم يفد التكرار والثاني: أن الصحابة استفهموا أنه هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما احتاجوا إلى الاستفهام مع كونهم عالمين باللغة.
المسألة السابعة: استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول، قال تعالى: * (فهل إلى خروج من سبيل) * (غافر: 11) وقال: * (هل إلى مرد من سبيل) * (الشورى: 44) وقال: * (ما على المحسنين من سبيل) * (التوبة: 91) فيعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن، وزوال خوف التلف من السبع أو العدو، وفقدان الطعام والشراب والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع الديون ويرد جميع الودائع، وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في المجيء والذهاب وتفاصيل هذا الباب مذكور في كتب الفقهاء والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية قولان:
القول الأول: أنها كلام مستقل بنفسه ووعيد عام في حق كل من كفر بالله ولا تعلق له بما قبله.
القول الثاني: أنه متعلق بما قبله والقائلون بهذا القول منهم من حمله على تارك الحج ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوب الحج، أما الذين حملوه على تارك الحج فقد عولوا فيه على ظاهر الآية فإنه لما تقدم الأمر بالحج ثم أتبعه بقوله * (ومن كفر) * فهم منه أن هذا الكفر ليس إلا ترك ما تقدم الأمر به ثم إنهم أكدوا هذا الوجه بالأخبار، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا " وعن أبي أمامة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان
164

جائر فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا " وعن سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه، فإن قيل: كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب ترك الحج؟
أجاب القفال رحمه الله تعالى عنه: يجوز أن يكون المراد منه التغليظ، أي قد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج، ونظيره قوله تعالى: * (وبلغت القلوب الحناجر) * (الأحزاب: 10) أي كادت تبلغ ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام: " من ترك صلاة متعمدا فقد كفر " وقوله عليه الصلاة والسلام: " من أتى امرأة حائضا أو في دبرها فقد كفر " وأما الأكثرون: فهم الذين حملوا هذا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحج، قال الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الأديان الستة المسلمين، والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم وقال: " إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا " فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نحجه، فأنزل الله تعالى قوله * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * وهذا القول هو الأقوى. المسألة الثانية: اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان، منها ما يكون أصله معقولا إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة مثل الصلاة فإن أصلها معقول وهو تعظيم الله أما كيفية الصلاة فغير معقولة، وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير وكيفيتها غير معقولة، والصوم أصله معقول، وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة، أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة، فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة.
إذا عرفت هذا فنقول: قال المحققون إن الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول، وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه، أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية، فلأجل هذا المعنى اشتمل الأمر بالحج في هذه الآية على أنواع كثيرة من التوكيد أحدها: قوله * (ولله على الناس حج البيت) * والمعنى أنه سبحانه لكونه إلها ألزم عبيده هذه الطاعة فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا وثانيها: أنه ذكر * (الناس) * ثم أبدل منه * (من استطاع إليه سبيلا) * وفيه ضربان من التأكيد، أما أولا فلأن الإبدال
تثنية للمراد وتكرير، وذلك يدل على شدة العناية، وأما ثانيا فلأنه أجمل أولا وفصل ثانيا وذلك يدل على شدة الاهتمام وثالثها: أنه سبحانه عبر عن هذا الوجوب بعبارتين إحداهما: لام الملك في قوله * (ولله) *
165

وثانيتهما: كلمة * (على) * وهي للوجوب في قوله * (ولله على الناس) * ورابعها: أن ظاهر اللفظ يقتضي إيجابه على كل إنسان يستطيعه، وتعميم التكليف يدل على شدة الاهتمام وخامسها: أنه قال * (ومن كفر) * مكان، ومن لم يحج وهذا تغليظ شديد في حق تارك الحج وسادسها: ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان وسابعها: قوله * (عن العالمين) * ولم يقل عنه لأن المستغني عن كل العالمين أولى أن يكون مستغنيا عن ذلك الإنسان الواحد وعن طاعته، فكان ذلك أدل على السخط وثامنها: أن في أول الآية قال: * (ولله على الناس) * فبين أن هذا الإيجاب كان لمجرد عزة الإلهية وكبرياء الربوبية، لا لجر نفع ولا لدفع ضر، ثم أكد هذا في آخر الآية بقوله * (فإن الله غني عن العالمين) * ومما يدل من الأخبار على تأكيد الأمر بالحج، قوله عليه الصلاة والسلام: " حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالث " وروي " حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه " قيل: معناه أنه يتعذر عليكم السفر في البر في مكة لعدم الأمن أو غيره، وعن ابن مسعود " حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا هلكت ".
قوله تعالى
* (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بايات الله والله شهيد على ما تعملون * قل يأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من ءامن تبغونها عوجا وأنتم شهدآء وما الله بغافل عما تعملون) *.
إعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول: وهو الأوفق: أنه تعالى لما أورد الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام مما ورد في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه، ثم ذكر عقيب ذلك شبهات القوم.
فالشبهة الأولى: ما يتعلق بإنكار النسخ.
وأجاب عنها بقوله * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * (آل عمران: 93).
والشبهة الثانية: ما يتعلق بالكعبة ووجوب استقبالها في الصلاة ووجوب حجها.
166

وأجاب عنها بقوله * (إن أول بيت وضع للناس) * (آل عمران: 96) إلى آخرها، فعند هذا تمت وظيفة الاستدلال وكمل الجواب عن شبهات أرباب الضلال، فعند ذلك خاطبهم بالكلام اللين وقال: * (لم تكفرون بآيات الله) * بعد ظهور البينات وزوال الشبهات، وهذا هو الغاية القصوى في ترتيب الكلام وحسن نظمه.
الوجه الثاني: وهو أنه تعالى لما بين فضائل الكعبة ووجوب الحج، والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق والملة الصحيحة قال لهم: * (لم تكفرون بآيات الله) * بعد أن علمتم كونها حقة صحيحة.
واعلم أن المبطل إما أن يكون ضالا فقط، وإما أن يكون مع كونه ضالا يكون مضلا، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعا فبدأ تعالى بالإنكار عليهم في الصفة الأولى على سبيل الرفق واللطف.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله) * واختلفوا فيمن المراد بأهل الكتاب، فقال الحسن: هم علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوته، واستدل عليه بقوله * (وأنتم شهداء) * وقال بعضهم: بل المراد كل أهل الكتاب لأنهم وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم فكأنهم بترك الاستدلال والعدول إلى التقليد بمنزلة من علم ثم أنكر.
فإن قيل: ولم خص أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار؟.
قلنا لوجهين: الأول: أنا بينا أنه تعالى أورد الدليل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم أجاب عن شبههم في ذلك، ثم لما تم ذلك خاطبهم فقال: * (يا أهل الكتاب) * فهذا الترتيب الصحيح الثاني: أن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوة، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة بصدق الرسول والبشارة بنبوته.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة في قوله تعالى: * (لم تكفرون بآيات الله) * دلالة على أن الكفر من قبلهم حتى يصح هذا التوبيخ وكذلك لا يصح توبيخهم على طولهم وصحتهم ومرضهم.
والجواب عنه: المعارضة بالعلم والداعي.
المسألة الثالثة: المراد * (من آيات الله) * الآيات التي نصبها الله تعالى على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، والمراد بكفرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: * (والله شهيد على ما تعملون) * الواو للحال والمعنى: لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها وهذه الحال توجب أن لا تجترؤا على الكفر بآياته.
ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد
167

ذلك الإنكار عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين فقال: * (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن) * قال الفراء: يقال صددته أصده صدا وأصددته إصدادا، وقرأ الحسن * (تصدون) * بضم التاء من أصده، قال المفسرون: وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من المسلمين وكانوا ينكرون كون صفته صلى الله عليه وسلم في كتابهم.
ثم قال: * (تبغونها عوجا) * العوج بكسر العين الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى، وهو الدين والقول، فأما الشيء الذي يرى فيقال فيه: عوج بفتح العين كالحائط والقناة والشجرة، قال ابن الأنباري: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك: بغيت المال والأجر والثواب وأريد ههنا: تبغون لها عوجا، ثم أسقطت اللام كما قالوا: وهبتك درهما أي وهبت لك درهما، ومثله صدت لك ظبيا وأنشد:
فتولى غلامهم ثم نادى * أظليما أصيدكم أم حمارا
أراد أصيد لكم والهاء في * (تبغونها) * عائدة إلى * (السبيل) * لأن السبيل يؤنث ويذكر و * (العوج) * يعني به الزيغ والتحريف، أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي توردونها على الضعفة نحو قولهم: النسخ يدل على البداء وقولهم: إنه ورد في التوراة أن شريعة موسى عليه السلام باقية إلى الأبد، وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون * (عوجا) * في موضع الحال والمعنى: تبغونها ضالين وذلك أنهم كأنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقال الله تعالى: إنكم تبغون سبيل الله ضالين وعلى هذا القول لا يحتاج إلى إضمار اللام في تبغونها.
ثم قال: * (وأنتم شهداء) * وفيه وجوه الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني أنتم شهداء أن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام الثاني: وأنتم شهداء على ظهور المعجزات على نبوته صلى الله عليه وسلم الثالث: وأنتم شهداء أنه لا يجوز الصد عن سبيل الله الرابع: وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ويعولون على شهادتكم في عظام الأمور وهم الأحبار والمعنى: أن من كان كذلك فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال.
ثم قال: * (وما الله بغافل عما تعملون) * والمراد التهديد، وهو كقول الرجل لعبده، وقد أنكر طريقة لا يخفى على ما أنت عليه ولست غافلا عن أمرك وإنما ختم الآية الأولى بقوله * (ولله شهيد) * وهذه الآية بقوله * (وما الله بغافل عما تعملون) * وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين، بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه * (والله شهيد) * وفيما أضمروه * (وما الله بغافل عما تعملون) * وإنما كرر في الآيتين قوله * (قل يا أهل الكتاب) * لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه، وتكرير هذا
168

الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين * وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم ءايات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم) *.
واعلم أنه تعالى لما حذر الفريق من أهل الكتاب في الآية الأولى عن الإغواء والإضلال حذر المؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم، روي أن شاس بن قيس اليهودي كان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد، فاتفق أنه مر على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج فرآهم في مجلس لهم يتحدثون، وكان قد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام، فشق ذلك على اليهودي فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح، فوصل الخبر إلى النبي عليه السلام، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، وقال: أترجعون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهركم، وقد أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان، ومن كيد ذلك اليهودي، فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله * (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب) * يحتمل أن يكون المراد هذه الواقعة، ويحتمل أن يكون المراد جميع ما يحاولونه من أنواع الإضلال، فبين تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالا بعد حال إلى أن يعودوا كفارا، والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين، أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة وثوران المحاربة المؤدية إلى سفك الدماء، وأما في الدين فظاهر.
169

ثم قال تعالى: * (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) * وكلمة * (كيف) * تعجب، والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب، وذلك على الله محال، والمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات الله عليهم حالا بعد حال مع كون الرسول فيهم الذي يزيل كل شبهة ويقرر كل حجة، كالمانع من وقوعهم في الكفر، فكان صدور الكفر على الذين كانوا بحضرة الرسول أبعد من هذا الوجه، فقوله * (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) * تنبيه على أن المقصد الأقصى لهؤلاء اليهود والمنافقين أن يردوا المسلمين عن الإسلام ثم أرشد المسلمين إلى أنه يجب أن لا يلتفتوا إلى قولهم، بل الواجب أن يرجعوا عند كل شبهة يسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يكشف عنها ويزيل وجه الشبهة فيها.
ثم قال: * (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) * والمقصود: إنه لما ذكر الوعيد أردفه بهذا الوعد، والمعنى: ومن يتمسك بدين الله، ويجوز أن يكون حثا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار والاعتصام في اللغة الاستمساك بالشيء وأصله من العصمة، والعصمة المنع في كلام العرب، والعاصم المانع، واعتصم فلان بالشيء إذا تمسك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة، ومنه قوله تعالى: * (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) * (يوسف: 32) قال قتادة: ذكر في الآية
أمرين يمنعان عن الوقوع في الكفر أحدهما: تلاوة كتاب الله والثاني: كون الرسول فيهم، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة الله، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.
وأما قوله * (فقد هدي إلى صراط مستقيم) * فقد احتج به أصحابنا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، قالوا: لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله، فلما جعل ذلك الاعتصام فعلا لهم وهداية من الله ثبت ما قلناه، أما المعتزلة فقد ذكروا فيه وجوها الأول: أن المراد بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات كما قال تعالى: * (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) * (المائدة: 16) وهذا اختاره القفال رحمه الله والثاني: أن التقدير من يعتصم بالله فنعم ما فعل فإنه إنما هدي إلى الصراط المستقيم ليفعل ذلك الثالث: أن من يعتصم بالله فقد هدى إلى طريق الجنة والرابع: قال صاحب " الكشاف " * (فقد هدي) * أي فقد حصل له الهدى لا محالة، كما تقول: إذا جئت فلانا فقد أفلحت، كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلا وذلك لأن المعتصم بالله متوقع للهدى كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.
170

قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون) *.
اعلم أنه تعالى لما حذر المؤمنين من إضلال الكفار ومن تلبيساتهم في الآية الأولى أمر المؤمنين في هذه الآيات بمجامع الطاعات، ومعاقد الخيرات، فأمرهم أولا: بتقوى الله وهو قوله * (اتقوا الله) * وثانيا: بالاعتصام بحبل الله، وهو قوله * (واعتصموا بحبل الله) * وثالثا: بذكر نعم الله وهو قوله * (واذكروا نعمة الله عليكم) * والسبب في هذا الترتيب أن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللا، إما بالرهبة وإما بالرغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة، لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع، فقوله * (اتقوا الله حق تقاته) * إشارة إلى التخويف من عقاب الله تعالى، ثم جعله سببا للأمر بالتمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله، ثم أردفه بالرغبة، وهي قوله * (واذكروا نعمة الله عليكم) * فكأنه قال: خوف عقاب الله يوجب ذلك، وكثرة نعم الله توجب ذلك فلم تبق جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله ووجوب طاعتكم لحكم الله، فظهر بما ذكرناه أن الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية مرتبة على أحسن الوجوه، ولنرجع إلى التفسير:
أما قوله تعالى: * (اتقوا الله حق تقاته) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم هذه الآية منسوخة وذلك لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين لأن حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، والعباد لا طاقة لهم بذلك، فأنزل الله
171

تعالى بعد هذه * (فاتقوا الله ما استطعتم) * ونسخت هذه الآية أولها ولم ينسخ آخرها وهو قوله * (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * وزعم جمهور المحققين أن القول بهذا النسخ باطل واحتجوا عليه من وجوه الأول: ما روي عن معاذ أنه عليه السلام قال له: " هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " وهذا لا يجوز أن ينسخ الثاني: أن معنى قوله * (اتقوا الله حق تقاته) * أي كما يحق أن يتقى، وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأنه إباحة لبعض المعاصي، وإذا كان كذلك صار معنى هذا ومعنى قوله تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (التغابن: 16) واحدا لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله * (حق تقاته) * ما لا يستطاع من التقوى، لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها والوسع دون الطاقة ونظير هذه الآية قوله * (وجاهدوا في الله حق جهاده) * (الحج: 78).
فإن قيل: أليس أنه تعالى قال: * (وما قدروا الله حق قدره) * (الأنعام: 91).
قلنا: سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين؛ أما الذين قالوا: إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات، وكذلك قوله: أن يشكر فلا يكفر، لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم الله بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله: أن يذكر فلا ينسى، فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق، فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ.
قال المصنف رضي الله تعالى عنه، أقول: للأولين أن يقرروا قولهم من وجهين الأول: أن كنه الإلاهية غير معلوم للخلق، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوما للخلق، وإذا لم يحصل العلم بذلك لم يحصل الخوف اللائق بذلك فلم يحصل الاتقاء اللائق به الثاني: أنهم أمروا بالاتقاء المغلظ والمخفف معا فنسخ المغلظ وبقي المخفف، وقيل: إن هذا باطل، لأن الواجب عليه أن يتقي ما أمكن والنسخ إنما يدخل في الواجبات لا في النفي، لأنه يوجب رفع الحجر عما يقتضي أن يكون الإنسان محجورا عنه وإنه غير جائز.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (حق تقاته) * أي كما يجب أن يتقى يدل عليه قوله تعالى: * (حق اليقين) * (الواقعة: 95) ويقال: هو الرجل حقا، ومنه قوله عليه السلام: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " وعن علي رضي الله عنه أنه قال: أنا علي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، والتقى اسم الفعل من قولك اتقيت، كما أن الهدى اسم الفعل من قولك اهتديت.
172

أما قوله تعالى: * (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * فلفظ النهي واقع على الموت، لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام، وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام، صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم، ومضى الكلام في هذا عند قوله * (إن الله اصطفى لكم
الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * (البقرة: 132).
ثم قال تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) *.
واعلم أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات، وهو الاعتصام بحبل الله.
واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله، فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف، ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق، وقد انزلق رجل الكثير من الحلق عنه، فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف، فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين، وهو أنواع كثيرة، فذكر كل واحد من المفسرين واحدا من تلك الأشياء، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالحبل ههنا العهد المذكور في قوله * (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40) وقال: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * (آل عمران: 112) أي بعهد، وإنما سمي العهد حبلا لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء، وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف، وقيل: إنه القرآن، روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أما إنها ستكون فتنة " قيل: فما المخرج منها؟ قال: " كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين " وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هذا القرآن حبل الله " وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي " وقيل: إنه دين الله، وقيل: هو طاعة الله، وقيل: هو إخلاص التوبة، وقيل: الجماعة، لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله * (ولا تفرقوا) * وهذه الأقوال كلها متقاربة، والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلا لله، وأمروا بالاعتصام به.
ثم قال تعالى: * (ولا تفرقوا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في التأويل وجوه الأول: أنه نهى عن الاختلاف في الدين وذلك لأن الحق لا يكون إلا واحدا، وما عداه يكون جهلا وضلالا، فلما كان كذلك وجب أن يكون النهي عن
173

الاختلاف في الدين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (فماذا بعد الحق إلا الضلال) * (يونس: 32) والثاني: أنه نهى عن المعاداة والمخاصمة، فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على المحاربة والمنازعة فنهاهم الله عنها الثالث: أنه نهى عما يوجب الفرقة ويزيل الألفة والمحبة. واعلم أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد والباقي في النار فقيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال الجماعة " وروي " السواد الأعظم " وروي " ما أنا عليه وأصحابي " والوجه المعقول فيه: أن النهي عن الاختلاف والأمر بالاتفاق يدل على أن الحق لا يكون إلا واحدا، وإذا كان كذلك كان الناجي واحدا.
المسألة الثانية: استدلت نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: الأحكام الشرعية إما أن يقال: إنه سبحانه نصب عليها دلائل يقينية أو نصب عليها دلائل ظنية، فإن كان الأول امتنع الاكتفاء فيها بالقياس الذي يفيد الظن، لأن الدليل الظني لا يكتفى به في الموضع اليقيني، وإن كان الثاني كان الأمر بالرجوع إلى تلك الدلائل الظنية يتضمن وقوع الاختلاف ووقوع النزاع، فكان ينبغي أن لا يكون التفرق والتنازع منهيا عنه، لكنه منهي عنه لقوله تعالى: * (ولا تفرقوا) * وقوله * (ولا تنازعوا) * ولقائل أن يقول: الدلائل الدالة على العمل بالقياس تكون مخصصة لعموم قوله * (ولا تفرقوا) * ولعموم قوله * (ولا تنازعوا) * والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (واذكروا نعمة الله عليكم) * واعلم أن نعم الله على الخلق إما دنيوية وإما أخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية، أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى: * (إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قيل إن ذلك اليهودي لما ألقى الفتنة بين الأوس والخزرج وهم كل واحد منهما بمحاربة صاحبه، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يزل يرفق بهم حتى سكنت الفتنة وكان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة، وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام، فالآية إشارة إليهم وإلى أحوالهم، فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضا ويبغض بعضهم بعضا، فلما أكرمهم الله تعالى بالإسلام صاروا إخوانا متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في الله: ونظير هذه الآية قوله * (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) * (الأنفال: 63).
واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معاديا لأكثر الخلق، ومن كان وجهه إلى خدمة الله تعالى لم يكن معاديا لأحد، والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيرا في قبضة القضاء
174

والقدر فلا يعادي أحدا، ولهذا قيل: إن العارف إذا أمر أمر برفق ويكون ناصحا لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر الله في القدر.
المسألة الثانية: قال الزجاج: أصل الأخ في اللغة من التوخي وهو الطلب فالأخ مقصده مقصد أخيه، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين صاحبه ما في قلبه، ولا يخفي عنه شيئا وقال أبو حاتم قال أهل البصرة: الاخوة في النسب والإخوان في الصداقة، قال وهذا غلط، قال الله تعالى: * (إنما المؤمنون إخوة) * (الحجرات: 10) ولم يعن النسب، وقال: * (أو بيوت إخوانكم) * (النور: 61) وهذا في النسب.
المسألة الثالثة: قوله * (فأصبحتم بنعمته إخوانا) * يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله، لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من الله مستلزمة لحصول الفعل، وذلك يبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال، قال الكعبي: إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف.
قلنا: كل هذا كان حاصلا في زمان حصول المحاربات والمقاتلات، فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم.
ثم قال تعالى: * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) *.
واعلم أنه تعالى لما شرح النعمة الدنيوية ذكر بعدها النعمة الأخروية، وهي ما ذكره في آخر هذه الآية، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حفرتها، فبين تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة، وقد قربوا من الوقوع فيها.
قالت المعتزلة: ومعنى ذلك أنه تعالى لطف بهم بالرسول عليه السلام وسائر ألطافه حتى آمنوا قال أصحابنا: جميع الألطاف مشترك فيه بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، والله تعالى حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار، فدل هذا على أن خالق أفعال العباد هو الله سبحانه وتعالى.
المسألة الثانية: شفا الشيء حرفه مقصور، مثل شفا البئر والجمع الإشفاء، ومنه يقال: أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه، أي حده وحرفه وقوله * (فأنقذكم منها) * قال الأزهري: يقال نقذته وأنقذته واستنقذته، أي خلصته ونجيته.
وفي قوله * (فأنقذكم منها) * سؤال وهو: أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم
175

كانوا على شفا حفرة، وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها؟.
وأجابوا عنه من وجوه الأول: الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها والثاني: أنها راجعة إلى النار، لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة، وهذا قول الزجاج الثالث: أن شفا الحفرة، وشفتها طرفها، فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث.
المسألة الثالثة: أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالعقود على حرفها، وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء، وبين ذلك الشيء، ثم قال: * (كذلك يبين الله) * الكاف في موضع نصب، أي مثل البيان المذكور يبين الله لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها، قال الجبائي: الآية تدل على أنه تعالى يريد منهم الاهتداء، أجاب الواحدي عنه في " البسيط " فقال: بل المعنى لتكونوا على رجاء هداية.
وأقول: وهذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ومن المعلوم أن على مذهبنا قد لا يريد ذلك الرجاء، فالجواب الصحيح أن يقال كلمة (لعل) للترجي، والمعنى أنا فعلنا فعلا يشبه فعل من يترجى ذلك والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جآءهم البينات وأولئك لهم عذاب
176

عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين سودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة الله هم فيها خالدون * تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين * ولله ما فى السماوات وما فى الارض وإلى الله ترجع الامور) *.
اعلم أنه تعالى في الآيات المتقدمة عاب أهل الكتاب على شيئين أحدهما: أنه عابهم على الكفر، فقال: * (يا أهل الكتاب لم تكفرون) * (آل عمران: 70) ثم بعد ذلك عابهم على سعيهم في إلقاء الغير في الكفر، فقال: * (يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله) * (آل عمران: 99) فلما انتقل منه إلى مخاطبة المؤمنين أمرهم أولا بالتقوى والإيمان، فقال: * (اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا) * (آل عمران: 102، 103) ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة، فقال: * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) * وهذا هو الترتيب الحسن الموافق للعقل، وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى: في قوله * (منكم) * قولان أحدهما: أن * (من) * ههنا ليست للتبعيض لدليلين الأول: أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * (آل عمران: 110) والثاني: هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس إذا ثبت هذا فنقول: معنى هذه الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما كلمة * (من) * فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) * (الحج: 30) ويقال أيضا: لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم، كذا ههنا، ثم قالوا: إن ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين، ونظيره قوله تعالى: * (انفروا خفافا وثقالا) * (التوبة: 41) وقوله * (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) * (التوبة: 39) فالأمر عام، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين.
177

والقول الثاني: أن * (من) * ههنا للتبعيض، والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين أحدهما: أن فائدة كلمة * (من) * هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين والثاني: أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان الأول: أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر،
فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء، ولا شك أنهم بعض الأمة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) * (التوبة: 122) والثاني: أنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم، فكان في الحقيقة هذا إيجابا على البعض لا على الكل، والله أعلم.
وفيه قول رابع: وهو قول الضحاك: إن المراد من هذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه السلام ويعلمون الناس، والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعلم الدين.
المسألة الثانية: هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء، أولها: الدعوة إلى الخير ثم الأمر بالمعروف، ثم النهي عن المنكر، ولأجل العطف يجب كون هذه الثلاثة متغايرة، فنقول: أما الدعوة إلى الخير فأفضلها الدعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وإنما قلنا إن الدعوة إلى الخير تشتمل على ما ذكرنا لقوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) * (النحل: 125) وقوله تعالى: * (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) * (يوسف: 108).
إذا عرفت هذا فنقول: الدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان أحدهما: الترغيب في فعل ما ينبغي وهو بالمعروف والثاني: الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الجنس أولا ثم أتبعه بنوعية مبالغة في البيان، وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمذكورة في كتب الكلام.
ثم قال تعالى: * (وأولئك هم المفلحون) * وقد سبق تفسيره وفيه مسائل:
المسألة الأولى: منهم من تمسك بهذه الآية في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى
178

عن المنكر، قال لأن هذه الآية تدل على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين، والفاسق ليس من المفلحين، فوجب أن يكون الآمر بالمعروف ليس بفاسق، وأجيب عنه بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير، ثم إنهم أكدوا هذا بقوله تعالى: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) * (التوبة: 44) قوله * (لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * (الصف: 2، 3) ولأنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها؟ ومعلوم أن ذلك في غاية القبح، والعلماء قالوا: الفاسق له أن يأمر بالمعروف لأنه وجب عليه ترك ذلك المنكر ووجب عليه النهي عن ذلك المنكر، فبأن ترك أحد الواجبين لا يلزمه ترك الواجب الآخر، وعن السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا، وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول: لا أقول ما لا أفعل، فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه الكلمة منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن المنكر.
المسألة الثانية: عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه " وعن علي رضي الله عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال أيضا: من لم يعرف بقلبه معروفا ولم ينكر منكرا نكس وجعل أعلاه أسفله، وروى الحسن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير، وعن الثوري: إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن.
المسألة الثالثة: قال الله سبحانه وتعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) * (الحجرات: 9) قدم الإصلاح على القتال، وهذا يقتضي أن يبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقيا إلى الأغلظ فالأغلظ، وكذا قوله تعالى: * (واهجروهن في المضاجع واضربوهن) * (النساء: 34) يدل على ما ذكرناه، ثم إذا لم يتم الأمر بالتغليظ والتشديد وجب عليه القهر باليد، فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب، وأحوال الناس مختلفة في هذا الباب.
ثم قال تعالى: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في النظم وجهان الأول: أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في
179

التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمدا صلى الله عليه وسلم واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة، ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله، ثم ختم ذلك بأن حذر المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب، وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص فقال: * (ولا تكونوا) * أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات * (كالذين تفرقوا واختلفوا) * من أهل الكتاب * (من بعد ما جاءهم) * في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة، فعلى هذا الوجه تكون الآية من تتمة جملة الآيات المتقدمة والثاني: وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادرا على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الإلفة والمحبة بين أهل الحق والدين، لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط.
المسألة الثانية: قوله * (تفرقوا واختلفوا) * فيه وجوه الأول: تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد، كما أن إبليس ترك نص الله تعالى بسبب حسده لآدم الثاني: تفرقوا حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض، فصاروا بذلك إلى العداوة والفرقة الثالث: صاروا مثل مبتدعة هذه الأمة، مثل المشبهة والقدرية والحشوية.
المسألة الثالثة: قال بعضهم * (تفرقوا واختلفوا) * معناهما واحد وذكرهما للتأكيد وقيل: بل معناهما مختلف، ثم اختلفوا فقيل: تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين، وقيل: تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص، ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه والثالث: تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل، وأقول: إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة.
المسألة الرابعة: إنما قال: * (من بعد ما جاءهم البينات) * ولم يقل * (جاءتهم) * لجواز حذف علامة من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدما.
ثم قال تعالى: * (وأولئك لهم عذاب عظيم) * يعني الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم، فكان ذلك زجرا للمؤمنين عن التفرق.
ثم قال تعالى: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * اعلم أنه تعالى لما أمر اليهود ببعض الأشياء
180

ونهاهم عن بعض، ثم أمر المسلمين بالبعض ونهاهم عن البعض أتبع ذلك بذكر أحوال الآخرة، تأكيدا للأمر، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في نصب * (يوم) * وجهان الأول: أنه نصب على الظرف، والتقدير: ولهم عذاب عظيم في هذا اليوم، وعلى هذا التقدير ففيه فائدتان إحداهما: أن ذلك العذاب في هذا اليوم، والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن تبيض فيه وجوه وتسود وجوه والثاني: أنه منصوب بإضمار (أذكر).
المسألة الثانية: هذه الآية لها نظائر منها قوله تعالى: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) * (الزمر: 60) ومنها قوله * (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) * (يونس: 26) ومنها قوله * (وجوه يومئذ مسفره * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة) * (عبس: 38 - 41) ومنها قوله * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة) * (القيامة: 22 - 25) ومنها قوله * (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) * (المطففين: 24) ومنها قوله * (يعرف المجرمون بسيماهم) * (الرحمن: 41).
إذا عرفت هذا فنقول: في هذا البياض والسواد والغبرة والقترة والنضرة للمفسرين قولان أحدهما: أن البياض مجاز عن الفرح والسرور، والسواد عن الغم، وهذا مجاز مستعمل، قال تعالى: * (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) * (النحل: 58) ويقال: لفلان عندي يد بيضاء، أي جلية سارة، ولما سلم الحسن بن علي رضي الله عنه الأمر لمعاوية قال له بعضهم: يا مسود وجوه المؤمنين، ولبعضهم في الشيب.
يا بياض القرون سودت وجهي * عند بيض الوجوه سود القرون
فلعمري لأخفينك جهدي * عن عياني وعن عيان العيون
بسواد فيه بياض لوجهي * وسواد لوجهك الملعون
وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه: ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل وعند التهنئة بالسرور يقولون: الحمد لله الذي بيض وجهك، ويقال لمن وصل إليه مكروه: إربد وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته، فعلى هذا معنى الآية أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فإن كان ذلك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله، وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسود وجهه بمعنى شدة الحزن والغم وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني.
والقول الثاني: إن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين، وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولا دليل يوجب ترك الحقيقة، فوجب المصير إليه، قلت: ولأبي مسلم أن
181

يقول: الدليل دل على ما قلناه، وذلك لأنه تعالى قال: * (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة) * فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار، فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلا، فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة الغم والحزن حتى يصح هذا التقابل، ثم قال القائلون بهذا القول: الحكمة في ذلك أن أهل الموقف إذا رأوا البياض في وجه إنسان عرفوا أنه من أهل الثواب فزادوا في تعظيمه فيحصل له الفرح بذلك من وجهين أحدهما: أن السعيد يفرح بأن يعلم قومه أنه من أهل السعادة، قال تعالى مخبرا عنهم * (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) * (يس: 26، 27) الثاني: أنهم إذا عرفوا ذلك خصوه بمزيد التعظيم فثبت أن ظهور البياض في وجه المكلف سبب لمزيد سروره في الآخرة وبهذا الطريق يكون ظهور السواد في وجه الكفار سببا لمزيد غمهم في الآخرة، فهذا وجه الحكمة في الآخرة، وأما في الدنيا فالمكلف حين يكون في الدنيا إذا عرف حصول هذه الحالة في الآخرة صار ذلك مرغبا له في الطاعات وترك المحرمات لكي يكون في الآخرة من قبيل من يبيض وجهه لا من قبيل من يسود وجهه، فهذا تقرير هذين القولين. المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر، وأنه ليس ههنا منزلة بين المنزلتين كما يذهب إليه المعتزلة، فقالوا: إنه تعالى قسم أهل القيامة إلى قسمين منهم من يبيض وجهه وهم المؤمنون، ومنهم من يسود وجهه وهم الكافرون ولم يذكر الثالث، فلو كان ههنا قسم ثالث لذكره الله تعالى قالوا وهذا أيضا متأكد بقوله تعالى: * (وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة) * (عبس: 38 - 42).
أجاب القاضي عنه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه، يبين ذلك أنه تعالى إنما قال: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * فذكرهما على سبيل التنكير،
وذلك لا يفيد العموم، وأيضا المذكور في الآية المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين، فكذا القول في الفساق.
واعلم أن وجه الاستدلال بالآية هو أنا نقول: الآيات المتقدمة ما كانت إلا في الترغيب في الإيمان بالتوحيد والنبوة وفي الزجر عن الكفر بهما ثم إنه تعالى اتبع ذلك بهذه الآية فظاهرها يقتضي أن يكون ابيضاض الوجه نصيبا لمن آمن بالتوحيد والنبوة، واسوداد الوجه يكون نصيبا لمن أنكر ذلك، ثم دل ما بعد هذه الآية على أن صاحب البياض من أهل الجنة، وصاحب السواد من أهل النار، فحينئذ يلزم نفي المنزلة بين المنزلتين، وأما قوله يشكل هذا بالكافر الأصلي فجوابنا عنه
182

من وجهين الأول: أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد منه أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم؟ وإذا كان كذلك كان الكل داخلا فيه والثاني: وهو أنه تعالى قال في آخر الآية * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * فجعل موجب العذاب هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث أنه بعد الإيمان، وإذا وقع التعليل بمطلق الكفر دخل كل الكفار فيه سواء كفر بعد الإيمان، أو كان كافرا أصليا والله أعلم.
ثم قال: * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) * وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى ذكر القسمين أولا فقال: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * فقدم البياض على السواد في اللفظ، ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد، وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض.
والجواب عنه من وجوه: أحدها: أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب وثانيها: أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن رب العزة سبحانه: " خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم " وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض، لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن، ثم ختم بذكرهم أيضا تنبيها على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال: " سبقت رحمتي غضبي " وثالثها: أن الفصحاء والشعراء قالوا: يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئا يسر الطبع ويشرح الصدر ولا شك أن ذكر رحمة الله هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم.
السؤال الثاني: أين جواب (أما)؟.
والجواب: هو محذوف، والتقدير فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم، وإنما حسن الحذف لدلالة الكلام عليه ومثله في التنزيل كثير قال تعالى: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم) * (الرعد: 23، 24) وقال: * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا) * (البقرة: 127) وقال: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا) * (السجدة: 12).
السؤال الثالث: من المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟.
والجواب: للمفسرين فيه أقوال أحدها: قال أبي بن كعب: الكل آمنوا حال ما استخرجهم من صلب آدم عليه السلام، فكل من كفر في الدنيا، فقد كفر بعد الإيمان، ورواه الواحدي في " البسيط " بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم وثانيها: أن المراد: أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوة، والدليل على صحة هذا
183

التأويل، قوله تعالى فيما قبل هذه الآية * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) * (آل عمران: 70) فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات، وقال للمؤمنين * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) * (آل عمران: 105).
ثم قال ههنا * (أكفرتم بعد إيمانكم) * فكان ذلك محمولا على ما ذكرناه حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها، وعلى هذين الوجهين تكون الآية عامة في حق كل الكفار، وأما الذين خصصوا هذه الآية ببعض الكفار فلهم وجوه الأول: قال عكرمة والأصم والزجاج المراد أهل الكتاب فإنهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين به، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كفروا به الثاني: قال قتادة: المراد الذين كفروا بعد الإيمان بسبب الارتداد الثالث: قال الحسن: الذين كفروا بعد الإيمان بالنفاق الرابع: قيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة الخامس: قيل هم الخوارج، فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيهم: " إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " وهذان الوجهان الأخيران في غاية البعد لأنهما لا يليقان بما قبل هذه الآية، ولأنه تخصيص لغير دليل، ولأن الخروج على الإمام لا يوجب الكفر البتة.
السؤال الرابع: ما الفائدة في همزة الاستفهام في قوله * (أكفرتم) *؟.
الجواب: هذا استفهام بمعنى الإنكار، وهو مؤكد لما ذكر قبل هذه الآية وهو قوله * (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله) * (آل عمران: 98، 99).
ثم قال تعالى: * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *.
وفيه فوائد الأولى: أنه لو لم يذكر ذلك لكان الوعيد مختصا بمن كفر بعد إيمانه، فلما ذكر هذا ثبت الوعيد لمن كفر بعد إيمانه ولمن كان كافرا أصليا الثانية: قال القاضي قوله * (أكفرتم بعد إيمانكم) * يدل على أن الكفر منه لا من الله وكذا قوله * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * الثالثة: قالت المرجئة: الآية تدل على أن كل نوع من أنواع العذاب وقع معللا بالكفر، وهذا ينفي حصول العذاب لغير الكافر.
ثم قال تعالى: * (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) * وفيه سؤالات:
السؤال الأول: ما المراد برحمة الله؟.
الجواب: قال ابن عباس: المراد الجنة، وقال المحققون من أصحابنا: هذا إشارة إلى أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمة الله، وكيف لا نقول ذلك والعبد ما دامت داعيته إلى الفعل وإلى الترك على السوية يمتنع منه الفعل؟ فإذن ما لم يحصل رجحان داعية الطاعة امتنع
184

أن يحصل منه الطاعة وذلك الرجحان لا يكون إلا بخلق الله تعالى، فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله في حق العبد فكيف يصير ذلك موجبا على الله شيئا، فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله وبرحمته وبكرمه لا باستحقاقنا.
السؤال الثاني: كيف موقع قوله * (هم فيها خالدون) * بعد قوله * (ففي رحمة الله) *.
الجواب: كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.
السؤال الثالث: الكفار مخلدون في النار كما أن المؤمنين مخلدون في الجنة، ثم إنه تعالى لم ينص على خلود أهل النار في هذه الآية مع أنه نص على خلود أهل الجنة فيها فما الفائدة؟.
والجواب: كل ذلك إشعارات بأن جانب الرحمة أغلب، وذلك لأنه ابتدأ في الذكر بأهل الرحمة وختم بأهل الرحمة، ولما ذكر العذاب ما أضافه إلى نفسه، بل قال: * (فذوقوا العذاب) * مع أنه ذكر الرحمة مضافة إلى نفسه حيث قال: * (ففي رحمة الله) * ولما ذكر العذاب ما نص على الخلود مع أنه نص على الخلود في جانب الثواب، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم فقال: * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * ولما ذكر الثواب علله برحمته فقال: * (ففي رحمة الله) * ثم قال في آخر الآية * (وما الله يريد ظلما للعالمين) * وهذا جار مجرى الاعتذار عن الوعيد بالعقاب، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب، يا أرحم الراحمين لا تحرمنا من برد رحمتك ومن كرامة غفرانك وإحسانك.
ثم قال تعالى: * (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق) * فقوله * (تلك) * فيه وجهان الأول: المراد أن هذه الآيات التي ذكرناها هي دلائل الله، وإنما جاز إقامة * (تلك) * مقام * (هذه) * لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر، فصار كأنها بعدت فقيل فيها * (تلك) * والثاني: إن الله تعالى وعده أن ينزل عليه كتابا مشتملا على كل ما لابد منه في الدين، فلما أنزل هذه الآيات قال: تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك بالحق، وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة في تفسير قوله * (ذلك الكتاب) * (البقرة: 2) وقوله * (بالحق) * فيه وجهان الأول: أي ملتبسة بالحق والعدل من إجزاء المحسن والمسئ بما يستوجبانه الثاني: بالحق، أي بالمعنى الحق، لأن معنى التلو حق.
ثم قال تعالى: * (وما الله يريد ظلما للعالمين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إنما حسن ذكر الظلم ههنا لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين، فكأنه تعال يعتذر عن ذلك وقال إنهم ما وقعوا فيه إلا بسبب أفعالهم المنكرة، فإن مصالح العالم لا تستقيم إلا بتهديد المذنبين، وإذا حصل هذا التهديد فلا بد من التحقيق دفعا للكذب، فصار هذا الاعتذار من أدل الدلائل، على أن جانب الرحمة غالب، ونظيره قوله
185

تعالى في سورة (عم) بعد أن ذكر وعيد الكفار * (إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا) * (النبأ: 27، 28) أي هذا الوعيد الشديد إنما حصل بسبب هذه الأفعال المنكرة.
المسألة الثانية: قال الجبائي: هذه الآية تدل على أنه سبحانه لا يريد شيئا من القبائح لا من أفعاله ولا من أفعال عباده، ولا يفعل شيئا من ذلك، وبيانه: وهو أن الظلم إما أن يفرض صدوره من الله تعالى، أو من العبد، وبتقدير صدوره من العبد، فإما أن يظلم نفسه وذلك بسبب إقدامه على المعاصي أو يظلم غيره، فأقسام الظلم هي هذه الثلاثة، وقوله تعالى: * (وما الله يريد ظلما للعالمين) * نكرة في سياق النفي، فوجب أن لا يريد شيئا مما يكون ظلما، سواء كان ذلك صادرا عنه أو صادرا عن غيره، فثبت أن هذه الآية تدل على أنه لا يريد شيئا من هذه الأقسام الثلاثة، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون فاعلا لشيء من هذه الأقسام، ويلزم منه أن لا يكون فاعلا للظلم أصلا ويلزم أن لا يكون فاعلا لأعمال العباد، لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم وظلم بعضهم بعضا، وإنما قلنا: إن الآية تدل على كونه تعالى غير فاعل للظلم البتة لأنها دلت على أنه غير مريد لشيء منها، ولو كان فاعلا لشيء من أقسام الظلم لكان مريدا لها، وقد بطل ذلك، قالوا: فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم، وغير فاعل لأعمال العباد، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد، ثم قالوا: إنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريدا له، فدلت هذه الآية على كونه تعالى قادرا على الظلم وعند هذا تبجحوا وقالوا: هذه الآية الواحدة وافية بتقرير جميع أصول المعتزلة في مسائل العدل، ثم قالوا: ولما ذكر تعالى أنه لا يريد الظلم ولا يفعل الظلم قال بعده * (ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور) * وإنما ذكر هذه الآية عقيب ما تقدم لوجهين الأول: أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح إما للجهل، أو العجز، أو الحاجة، وكل ذلك على الله محال لأنه مالك لكل ما في السماوات وما في الأرض، وهذه المالكية تنافي الجهل والعجز والحاجة، وإذا امتنع ثبوت هذه الصفات في حقه تعالى امتنع كونه فاعلا للقبيح والثاني: أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجه من الوجوه كان لقائل أن يقول: إنا نشاهد وجود الظلم في العالم، فإذا لم يكن وقوعه بإرادته كان على خلاف إرادته، فيلزم كونه ضعيفا عاجزا مغلوبا وذلك محال.
فأجاب الله تعالى عنه بقوله * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * أي أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر، ولما كان قادرا على ذلك خرج عن كونه عاجزا ضعيفا لا أنه تعالى أراد منهم ترك المعصية اختيارا وطوعا ليصيروا بسبب ذلك مستحقين للثواب
186

فلو قهرهم على ترك المعصية لبطلت هذه الفائدة، فهذا تلخيص كلام المعتزلة في هذه الآية، وربما أوردوا هذا الكلام من وجه آخر، فقالوا: المراد من قوله * (وما الله يريد ظلما للعالمين) * إما أن يكون هو لا يريد أن يظلمهم أو أنه لا يريد منهم أن يظلم بعضهم بعضا فإن كان الأول فهذا لا يستقيم على قولكم، لأن مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء عن الذنب بأشد العذاب لم يكن ظلما، بل كان عادلا، لأن الظلم تصرف في ملك الغير، وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه فاستحال كونه ظالما وإذا كان كذلك لم يكن حمل الآية على أنه لا يريد أن يظلم الخلق وإن حملتم الآية على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضا، فهذا أيضا لا يتم على قولكم لأن كل ذلك بإرادة الله وتكوينه على قولكم، فثبت أن على مذهبكم لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح والجواب: لم لا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى لا يريد أن يظلم أحدا من عباده؟ قوله الظلم منه محال على مذهبكم فامتنع التمدح به قلنا: الكلام عليه من وجهين الأول: أنه تعالى تمدح بقوله * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * (البقرة: 255) وبقوله * (وهو يطعم ولا يطعم) * (الأنعام: 14) ولا يلزم من ذلك صحة النوم والأكل عليه فكذا ههنا الثاني: أنه تعالى إن عذب من لم يكن مستحقا للعذاب فهو وإن لم يكن ظلما في نفسه لكنه في صور الظلم، وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) ونظائره كثيرة في القرآن هذا تمام الكلام في هذه المناظرة.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بقوله * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * على كونه خالقا لأعمال العباد، فقالوا لا شك أن أفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض، فوجب كونها له بقوله * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * وإنما يصح قولنا: إنها له لو كانت مخلوقة له فدلت هذه الآية على أنه خالق لأفعال العباد.
أجاب الجبائي عنه بأن قوله * (لله) * إضافة ملك لا إضافة فعل، ألا ترى أنه يقال: هذا البناء لفلان فيريدون أنه مملوكه لا أنه مفعوله، وأيضا المقصود من الآية تعظيم الله لنفسه ومدحه لإلهية نفسه، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب إلى نفسه الفواحش والقبائح، وأيضا فقوله * (ما في السماوات وما في الأرض) * إنما يتناول ما كان مظروفا في السماوات والأرض وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض.
أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الإضافة إضافة الفعل بدليل أن القادر على القبيح والحسن لا يرجح الحسن على القبيح إلا إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى فعل الحسن، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله تعالى دفعا
187

للتسلسل، وإذا كان المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية، وثبت أن مجموع القدرة والداعية بخلق الله تعالى ثبت أن فعل العبد مستند إلى الله تعالى خلقا وتكوينا بواسطة فعل السبب، فهذا تمام القول في هذه المناظرة.
المسألة الرابعة: قوله تعالى * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * زعمت الفلاسفة أنه إنما قدم ذكر ما في السماوات على ذكر ما في الأرض لأن الأحوال السماوية أسباب للأحوال الأرضية، فقدم السبب على المسبب، وهذا يدل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأحوال السماوية، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلق الله وتكوينه فيكون الجبر لازما أيضا من هذا الوجه.
المسألة الخامسة: قال تعالى: * (ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور) * فأعاد ذكر الله في أول الآيتين والغرض منه تأكيد التعظيم، والمقصود أن تمنه مبدأ المخلوقات وإليه معادهم، فقوله * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول وقوله * (وإلى الله ترجع الأمور) * إشارة إلى أنه هو الآخر، وذلك يدل إحاطة حكمه وتصرفه وتدبيره بأولهم وآخرهم، وأن الأسباب منتسبة إليه وأن الحاجات منقطعة عنده.
المسألة السادسة: كلمة * (إلى) * في قوله * (وإلى الله ترجع الأمور) * لا تدل على كونه تعالى في مكان وجهة، بل المراد أن رجوع الخلق إلى موضع لا ينفذ فيه حكم أحد إلا حكمه ولا يجري فيه قضاء أحد إلا قضاؤه.
قوله تعالى
* (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون * لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون) *.
188

في النظم وجهان الأول: أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان، وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين، كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية، ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال * (كنتم خير أمة) * والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة، وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة، وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف الثاني: أن الله تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله * (فأما الذين اسودت وجوههم) * (آل عمران: 106) وكمال حال السعداء وهو قوله * (وأما الذين ابيضت وجوههم) * (آل عمران: 107) نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله * (وما الله يريد ظلما للعالمين) * (آل عمران: 108) يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة، ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا * (خير أمة أخرجت للناس) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: لفظة * (كان) * قد تكون تامة وناقصة وزائدة على ما هو مشروح في النحو واختلف المفسرون في قوله * (كنتم) * على وجوه الأول: أن (كان
) ههنا تامة بمعنى الوقوع والحدوث وهو لا يحتاج إلى خبر، والمعنى: حدثتم خير أمة ووجدتم وخلقتم خير أمة، ويكون قوله * (خير أمة) * بمعنى الحال وهذا قول جمع من المفسرين الثاني: أن (كان) ههنا ناقصة وفيه سؤال: وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها.
والجواب عنه: أن قوله (كان) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، ولا يدل ذلك على انقطاع طارئ بدليل قوله * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا) * (نوح: 10) قوله * (وكان الله غفورا رحيما) * (الفتح: 14) إذا ثبت هذا فنقول: للمفسرين على هذا التقدير أقوال أحدها: كنتم في علم الله خير أمة وثانيها: كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة وهو كقوله * (أشداء على الكفار رحماء بينهم) * (الفتح: 29) إلى قوله * (ذلك مثلهم في التوراة) * (الفتح: 29) فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وثالثها: كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة ورابعها: كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس وخامسها: قال أبو مسلم قوله * (كنتم خير أمة) * تابع لقوله * (وأما الذين ابيضت وجوههم) * (آل عمران: 107) والتقدير: أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم
189

ما أنتم فيه من الرحمة وبياض الوجه بسببه، ويكون ما عرض بين أول القصة وآخرها كما لا يزال يعرض في القرآن من مثله وسادسها: قال بعضهم: لو شاء الله تعالى لقال (أنتم) وكان هذا التشريف حاصلا لكلنا ولكن قوله * (كنتم) * مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهم السابقون الأولون، ومن صنع مثل ما صنعوا وسابعها: كنتم مذ آمنتم خير أمة تنبيها على أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة مذ كانوا. الاحتمال الثالث: أن يقال (كان) ههنا زائدة، وقال بعضهم قوله * (كنتم خير أمة) * هو كقوله * (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) * (الأعراف: 86) وقال في موضع آخر * (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون) * (الأنفال: 26) وإضمار كان وإظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة: قال ابن الأنباري: هذا القول ظاهر الاختلال، لأن (كان) تلغى متوسطة ومؤخرة، ولا تلغى متقدمة، تقول العرب: عبد الله كان قائم، وعبد الله قائم كان على أن كان ملغاة، ولا يقولون: كان عبد الله قائم على إلغائها، لأن سبيلهم أن يبدؤا بما تنصرف العناية إليه، والمعنى لا يكون في محل العناية، وأيضا لا يجوز إلغاء الكون في الآية لانتصاب خبره، وإذا عمل الكون في الخبر فنصبه لم يكن ملغى.
الاحتمال الرابع: أن تكون (كان) بمعنى صار، فقوله * (كنم خير أمة) * معناه صرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، أي صرتم خير أمة بسبب كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومؤمنين بالله.
ثم قال: * (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم) * يعني كما أنكم اكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال، فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضا صفة الخيرية والله أعلم.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة، وتقريره من وجهين الأول: قوله تعالى: * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق) * (الأعراف: 159) ثم قال في هذه الآية * (كنتم خير أمة) * فوجب بحكم هذه الآية أن تكون هذه الآية أفضل من أولئك الذين يهدون بالحق من قوم موسى، وإذا كان هؤلاء أفضل منهم وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق إذ لو جاز في هذه الآية أن تحكم بما ليس بحق لامتنع كون هذه الأمة أفضل من الأمة التي تهدي بالحق، لأن المبطل يمتنع أن يكون خيرا من المحق، فثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق، وإذا كان كذلك كان إجماعهم حجة.
الوجه الثاني: وهو (أن الألف واللام) في لفظ * (المعروف) * ولفظ * (المنكر) * يفيدان الاستغراق، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف، وناهين عن كل منكر ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقا وصدقا لا محالة فكان حجة، والمباحث الكثيرة فيه ذكرناها في الأصول.
190

المسألة الثالثة: قال الزجاج: قوله * (كنتم خير أمة) * ظاهر الخطاب فيه مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه عام في كل الأمة، ونظيره قوله * (كتب عليكم الصيام) * (البقرة: 183) * (كتب عليم القصاص) * (البقرة: 178) فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ، ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا.
المسألة الرابعة: قال القفال رحمه الله: أصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد فأمة نبينا صلى الله عليه وسلم هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به والإقرار بنبوته، وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته أنهم أمته إلا أن لفظ الأمة إذا أطلقت وحدها وقع على الأول، ألا ترى أنه إذا قيل أجمعت الأمة على كذا فهم منه الأول وقال عليه الصلاة والسلام: " أمتي لا تجتمع على ضلالة " وروي أنه عليه الصلاة والسلام يقول يوم القيامة " أمتي أمتي " فلفظ الأمة في هذه المواضع وأشباهها يفهم منه المقرون بنبوته، فأما أهل دعوته فإنه إنما يقال لهم: إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم إلا لفظ الأمة بهذا الشرط.
أما قوله * (أخرجت للناس) * ففيه قولان الأول: أن المعنى كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار، فقوله * (أخرجت للناس) * أي أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها والثاني: أن قوله * (للناس) * من تمام قوله * (كنتم) * والتقدير: كنتم للناس خير أمة، ومنهم من قال: * (أخرجت) * صلة، والتقدير: كنتم خير أمة للناس.
ثم قال: * (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) *.
واعلم أن هذا كلام مستأنف، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية، كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات.
وههنا سؤالات:
السؤال الأول: من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم؟.
والجواب: قال القفال: تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد، وأقواها ما يكون بالقتال، لأنه إلقاء النفس في خطر القتل وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات: الكفر بالله، فكان الجهاد في الدين
191

محملا لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم المضار، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات، ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع، لا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: قوله * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه و " لا إله إلا الله " أعظم المعروف، والتكذيب هو أنكر المنكر.
ثم قال القفال: فائدة القتال على الدين لا ينكره منصف، وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الألف والعادة، ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل، ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق، ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم.
السؤال الثاني: لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد وأن يكون مقدما على كل الطاعات؟.
والجواب: أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة، ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة، فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثرا في صفة الخيرية، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان.
السؤال الثالث: لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنه لا بد منه.
والجواب: الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوة، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقا، والإيمان بكونه صادقا لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقا لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول، فلما شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان الاقتصار على ذكر الإيمان بالله تنبيها على هذه الدقيقة.
192

ثم قال تعالى: * (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم) * وفيه وجهان الأول: ولو آمن أهل الكتاب بهذا الدين الذي لأجله حصلت صفة الخيرية لأتباع محمد عليه الصلاة والسلام لحصلت هذه الخيرية أيضا لهم، فالمقصود من هذا الكلام ترغيب أهل الكتاب في هذا الدين الثاني: إن أهل الكتاب إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرياسة واستتباع العلوم ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة، فكان ذلك خيرا لهم مما قنعوا به.
واعلم أنه تعالى أتبع هذا الكلام بجملتين على سبيل الابتداء من غير عاطف إحداهما: قوله * (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) * (آل عمران: 110) وثانيتهما: قوله * (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) * قال صاحب " الكشاف ": هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاء * (آمن) * غير عاطف.
أما قوله * (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) * ففيه سؤالان:
السؤال الأول: الألف واللام في قوله * (المؤمنون) * للاستغراق أو للمعهود السابق؟.
والجواب: بل للمعهود السابق، والمراد: عبد الله بن سلام ورهطه من اليهود، والنجاشي ورهطه من النصارى.
السؤال الثاني: الوصف إنما يذكر للمبالغة فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق.
والجواب: الكافر قد يكون عدلا في دينه وقد يكون فاسقا في دينه فيكون مردودا عند الطوائف كلهم، لأن المسلمين لا يقبلونه لكفره، والكفار لا يقبلونه لكونه فاسقا فيما بينهم، فكأنه قيل أهل الكتاب فريقان: منهم من آمن، والذين ما آمنوا فهم فاسقون في أديانهم، فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم البتة عند أحد من العقلاء.
أما قوله تعالى: * (لن يضروكم إلا أذى) * فاعلم أنه تعالى لما رغب المؤمنين في التصلب في إيمانهم وترك الالتفات إلى أقوال الكفار وأفعالهم بقوله * (كنتم خير أمة) * رغبهم فيه من وجه آخر، وهو أنهم لا قدرة لهم على الاضرار بالمسلمين إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به، ولو أنهم قاتلوا المسلمين صاروا منهزمين مخذولين، وإذا كان كذلك لم يجب الالتفات إلى أقوالهم وأفعالهم، وكل ذلك تقرير لما تقدم من قوله * (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب) * (آل عمران: 100) فهذا وجه النظم، فأما قوله * (لن يضروكم إلا أذى) * فمعناه: أنه ليس على المسلمين من كفار أهل الكتاب ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان، إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام،
193

وإما بإظهار كلمة الكفر، كقولهم * (عزير ابن الله) * (التوبة: 30) و * (المسيح ابن الله) * (التوبة: 30) و * (الله ثالث ثلاثة) * (المائدة: 73) وإما
بتحريف نصوص التوراة والإنجيل، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين، ومن الناس من قال: إن قوله * (إلا أذى) * استثناء منقطع وهو بعيد، لأن كل الوجوه المذكورة يوجب وقوع الغم في قلوب المسلمين والغم ضرر، فالتقدير لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى، فهو استثناء صحيح، والمعنى لن يضروكم إلا ضررا يسيرا، والأذى وقع موقع الضرر، والأذى مصدر أذيت الشيء أذى.
ثم قال تعالى: * (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) * وهو إخبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لصاروا منهزمين مخذولين * (ثم لا ينصرون) * أي إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة البتة، ومثله قوله تعالى: * (ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون) * (الحشر: 12) قوله * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم) * (آل عمران: 12) وقوله * (نحن جميع منتصر * سيهزم الجمع ويولون الدبر) * (القمر: 44، 45) وكل ذلك وعد بالفتح والنصرة والظفر.
واعلم أن هذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة، منها أن المؤمنين آمنون من ضررهم، ومنها أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا، ومنها أنه لا يحصل لهم قوة وشوكة بعد الانهزام وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا، وما أقدموا على محاربة وطلب رياسة إلا خذلوا، وكل ذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزا وههنا سؤالات:
السؤال الأول: هب أن اليهود كذلك، لكن النصارى ليسوا كذلك فهذا يقدح في صحة هذه الآيات قلنا: هذه الآيات مخصوصة باليهود، وأسباب النزول على ذلك فزال هذا الإشكال.
السؤال الثاني: هلا جزم قوله * (ثم لا ينصرون) *.
قلنا: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الأخبار ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون، والفائدة فيه أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم لا يجدون النصرة بعد ذلك قط بل يبقون في الذلة والمهانة أبدا دائما.
السؤال الثالث: ما الذي عطف عليه قوله * (ثم لا ينصرون) *؟.
الجواب: هو جملة الشرط والجزاء، كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون
194

وإنما ذكر لفظ * (ثم) * لإفادة معنى التراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الاخبار بتوليتهم الأدبار.
قوله تعالى
* (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وبآءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الانبيآء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) *.
واعلم أنه تعالى لما بين أنهم إن قاتلوا رجعوا مخذولين غير منصورين ذكر أنهم مع ذلك قد ضربت عليهم الذلة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا تفسير هذه اللفظة في سورة البقرة، والمعنى جعلت الذلة ملصقة ربهم كالشئ يضرب على الشيء فيلصق به، ومنه قولهم: ما هذا علي بضربة لازب، ومنه تسمية الخراج ضريبة.
المسألة الثانية: الذلة هي الذل، وفي المراد بهذا الذل أقوال الأول: وهو الأقوى أن المراد أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم فهو كقوله تعالى: * (اقتلوهم حيث ثقفتموهم) * (البقرة: 191).
ثم قال تعالى: * (إلا بحبل من الله) * والمراد إلا بعهد من الله وعصمة وذمام من الله ومن المؤمنين لأن عند ذلك تزول الأحكام، فلا قتل ولا غنيمة ولا سبي الثاني: أن هذه الذلة هي الجزية، وذلك لأن ضرب الجزية عليهم يوجب الذلة والصغار والثالث: أن المراد من هذه الذلة أنك لا ترى فيهم ملكا قاهرا ولا رئيسا معتبرا، بل هم مستخفون في جميع البلاد ذليلون مهينون.
واعلم أنه لا يمكن أن يقال المراد من الذلة هي الجزية فقط أو هذه المهانة فقط لأن قول * (إلا بحبل من الله) * يقتضي زوال تلك الذلة عند حصول هذا الحبل والجزية والصغار والدناءة لا يزول شيء منها عند حصول هذا الحبل، فامتنع حمل الذلة على الجزية فقط، وبعض من نصر هذا القول،
195

أجاب عن هذا السؤال بأن قال: إن هذا الاستثناء منقطع، وهو قول محمد بن جرير الطبري، فقال: اليهود قد ضربت عليهم الذلة، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا فلا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة، فقوله * (إلا بحبل من الله) * تقديره لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس. واعلم أن هذا ضعيف لأن حمل لفظ * (إلا) * على (لكن) خلاف الظاهر، وأيضا إذا حملنا الكلام على أن المراد: لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس لم يتم هذا القدر فلا بد من إضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه والإضمار خلاف الأصل، فلا يصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة فإذا كان لا ضرورة ههنا إلى ذلك كان المصير إليه غير جائز، بل ههنا وجه آخر وهو أن يحمل الذلة على كل هذه الأشياء أعني: القتل، والأسر، وسبي الذراري، وأخذ المال، وإلحاق الصغار، والمهانة، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام، وهو أخذ القليل من أموالهم الذي هو مسمى بالجزية، وبقاء المهانة والحقارة والصغار فيهم، فهذا هو القول في هذا الموضع، وقوله * (أينما ثقفوا) * أي وجدوا وصودفوا، يقال: ثقفت فلانا في الحرب أي أدركته، وقد
مضى الكلام فيه عند قوله * (حيث ثقفتموهم) * (البقرة: 191).
المسألة الثالثة: قوله * (إلا بحبل من الله) * فيه وجوه الأول: قال الفراء: التقدير إلا أن يعتصموا بحبل من الله، وأنشد على ذلك:
رأتني بحبلها فصدت مخافة * وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
واعترضوا عليه، فقالوا: لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته، لأن الموصول هو الأصل والصلة فرع فيجوز حذف الفرع لدلالة الأصل عليه، أما حذف الأصل وإبقاء الفرع فهو غير جائز الثاني: أن هذا الاستثناء واقع على طريق المعنى، لأن معنى ضرب الذلة لزومها إياهم على أشد الوجوه بحيث لا تفارقهم ولا تنفك عنهم، فكأنه قيل: لا تنفك عنهم الذلة، ولن يتخلصوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس الثالث: أن تكون الباء بمعنى (مع) كقولهم: اخرج بنا نفعل كذا، أي معنا، والتقدير: إلا مع حبل من الله.
المسألة الرابعة: المراد من حبل الله عهده، وقد ذكرنا فيما تقدم أن العهد إنما سمي بالحبل لأن الإنسان لما كان قبل العهد خائفا، صار ذلك الخوف مانعا له من الوصول إلى مطلوبه، فإذا حصل العهد توصل بذلك العهد إلى الوصول إلى مطلوبه، فصار ذلك شبيها بالحبل الذي من تمسك به تخلص من خوف الضرر.
196

فإن قيل: إنه عطف على حبل الله حبلا من الناس وذلك يقتضي المغايرة فكيف هذه المغايرة؟
قلنا: قال بعضهم: حبل الله هو الإسلام، وحبل الناس هو العهد والذمة، وهذا بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال: أو حبل من الناس، وقال آخرون: المراد بكلام الحبلين العهد والذمة والأمان، وإنما ذكر تعالى الحبلين لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين هو الأمان المأخوذ بإذن الله وهذا عندي أيضا ضعيف، والذي عندي فيه أن الأمان الحاصل للذمي قسمان أحدهما: الذي نص الله عليه وهو أخد الجزية والثاني: الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد فالأول: هو المسمى بحبل الله والثاني: هو المسمى بحبل المؤمنين والله أعلم.
ثم قال: * (وباؤا بغضب من الله) * وقد ذكرنا أن معناه: أنهم مكثوا، ولبثوا وداموا في غضب الله، وأصل ذلك مأخوذ من البوء وهو المكان، ومنه: تبوأ فلان منزل كذا وبوأته إياه، والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه، وسواء قولك: حل بهم الغضب وحلوا به.
ثم قال: * (وضربت عليهم المسكنة) * والأكثرون حملوا المسكنة على الجزية وهو قول الحسن قال وذلك لأنه تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء وذلك يدل على أنها باقية عليهم غير زائلة عنهم، والباقي عليهم ليس إلا الجزية، وقال آخرون: المراد بالمسكنة أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنيا موسرا، وقال بعضهم: هذا إخبار من الله سبحانه بأنه جعل اليهود أرزاقا للمسلمين فيصيرون مساكين، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأنواع من الوعيد قال: * (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق) * والمعنى: أنه تعالى ألصق باليهود ثلاثة أنواع من المكروهات أولها: جعل الذلة لازمة لهم وثانيا: جعل غضب الله لازما لهم وثالثها: جعل المسكنة لازمة لهم، ثم بين في هذه الآية أن العلة لإلصاق هذه الأشياء المكروهة بهم هي: أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق، وهنا سؤالات:
السؤال الأول: هذه الذلة والمسكنة إنما التصقت باليهود بعد ظهور دولة الإسلام، والذين قتلوا الأنبياء بغير حق هم الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم بأدوار وأعصار، فعلى هذا الموضع الذي حصلت فيه العلة وهو قتل الأنبياء لم يحصل فيه المعلول الذي هو الذلة والمسكنة، والموضع الذي حصل فيه هذا المعلول لم تحصل فيه العلة، فكان الإشكال لازما.
والجواب عنه: أن هؤلاء المتأخرين وإن كان لم يصدر عنهم قتل الأنبياء عليهم السلام لكنهم كانوا راضين بذلك، فإن أسلافهم هم الذين قتلوا الأنبياء وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم، فنسب ذلك الفعل إليهم من حيث كان ذلك الفعل القبيح
197

فعلا لآبائهم وأسلافهم مع أنهم كانوا مصوبين لأسلافهم في تلك الأفعال.
السؤال الثاني: لم كرر قوله * (ذلك بما عصوا) * وما الحكمة فيه ولا يجوز أن يقال التكرير للتأكيد، لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد، والعصيان أقل حالا من الكفر فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان؟. والجواب من وجهين الأول: أن علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء، وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية، وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالا فحالا، ونور الإيمان يضعف حالا فحالا، ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر، وإليه الإشارة بقوله * (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) * (المطففين: 14) فقوله * (ذلك بما عصوا) * إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات، من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر الثاني: يحتمل أن يريد بقوله * (ذلك بأنهم كانوا يكفرون) * من تقدم منهم، ويريد بقوله * (ذلك بما عصوا) * من حضر منهم في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا لا يلزم التكرار، فكأنه تعالى بين علة عقوبة من تقدم، ثم بين أن من تأخر لما تبع من تقدم كان لأجل معصيته وعداوته مستوجبا لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله الله بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة.
قوله تعالى
* (ليسوا سوآء من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون ءايات الله ءانآء اليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الاخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون فى الخيرات وأولائك من الصالحين * وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين) *.
198

في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن في قوله * (ليسوا سواء) * قولين أحدهما: أن قوله * (ليسوا سواء) * كلام تام، وقوله * (من أهل الكتاب أمة قائمة) * كلام مستأنف لبيان قوله * (ليسوا سواء) * كما وقع قوله * (تأمرون بالمعروف) * (آل عمران: 110) بيانا لقوله * (كنتم خير أمة) * (آل عمران: 110) والمعنى أن أهل الكتاب الذين سبق ذكرهم ليسوا سواء، وهو تقرير لما تقدم من قوله * (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) *، ثم ابتدأ فقال: * (من أهل الكتاب أمة قائمة) * وعلى هذا القول احتمالان أحدهما: أنه لما قال: * (من أهل الكتاب أمة قائمة) * كان تمام الكلام أن يقال: ومنهم أمة مذمومة، إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر وتحقيقه أن الضدين يعلمان معا، فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر.
قال أبو ذؤيب: دعاني إليها القلب إني لامرؤ * مطيع فلا أدري أرشد طلابها
أراد (أم غي) فاكتفى بذكر الرشد عن ذكر الغي، وهذا قول الفراء وابن الأنباري، وقال الزجاج: لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة، لأن ذكر الأمة المذمومة قد جرى فيما قبل هذه الآيات فلا حاجة إلى إضمارها مرة أخرى، لأنا قد ذكرنا أنه لما كان العلم بالضدين معا كان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر، وهذا كما يقال زيد وعبد الله لا يستويان زيد عاقل دين زكي، فيغني هذا عن أن يقال: وعبد الله ليس كذلك، فكذا ههنا لما تقدم قوله * (ليسوا سواء) * أغنى ذلك عن الإضمار.
والقول الثاني: أن قوله * (ليسوا سواء) * كلام غير تام ولا يجوز الوقف عنده، بل هو متعلق بما بعده، والتقدير: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وأمة مذمومة، فأمة رفع بليس وإنما قيل * (ليسوا) * على مذهب من يقول: أكلوني البراغيث، وعلى هذا التقدير لا بد من إضمار الأمة المذمومة وهو اختيار أبي عبيدة إلا أن أكثر النحويين أنكروا هذا القول لاتفاق الأكثرين على أن قوله أكلوني البراغيث وأمثالها لغة ركيكة والله أعلم.
المسألة الثانية: يقال فلان وفلان سواء، أي متساويان وقوم سواء، لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع ومضى الكلام في * (سواء) * في أول سورة البقرة.
المسألة الثالثة: في المراد بأهل الكتاب قولان الأول: وعليه الجمهور: أن المراد منه الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام، روي أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قال لهم بعض
199

كبار اليهود: لقد كفرتم وخسرتم، فأنزل الله تعالى لبيان فضلهم هذه الآية، وقيل: إنه تعالى لما وصف أهل الكتاب في الآية المتقدمة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك، بل فيهم من يكون موصوفا بالصفات الحميدة والخصال المرضية، قال الثوري: بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء، وعن عطاء: أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد عليه الصلاة والسلام.
والقول الثاني: أن يكون المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان، وعلى هذا القول يكون المسلمين من جملتهم، قال تعالى: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) * (فاطر: 32) ومما يدل على هذا ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: " أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم " وقرأ هذه الآية، قال القفال رحمه الله: ولا يبعد أن يقال: أولئك الحاضرون كانوا نفرا من مؤمني أهل الكتاب، فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا، ولم يبعد أيضا أن يقال: المراد كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله بأهل الكتاب، كأنه قيل: أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا، يستويان؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيدا لما تقدم من قوله * (كنتم خير أمة) * (آل عمران: 110) وهو كقوله * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) * (السجدة: 18).
ثم اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية.
الصفة الأولى: أنها قائمة وفيها أقوال الأول: أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله * (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) * (الفرقان: 64) وقوله * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل) * (المزمل: 20) وقوله * (قم الليل) * (المزمل: 2) وقوله * (وقوموا لله قانتين) * (البقرة: 238) والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله * (وهم يسجدون) * والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة.
والقول الثاني: في تفسير كونها قائمة: أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله * (إلا ما دمت عليه قائما) * (آل عمران: 75) أي ملازما للاقتضاء ثابتا على المطالبة مستقصيا فيها،
200

ومنه قوله تعالى: * (قائما بالقسط) * (آل عمران: 18).
وأقول: إن هذه الآية دلت على كون المسلم قائما بحق العبودية وقوله * (قائما بالقسط) * يدل على أن المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان فتمت المعاهدة بفضل الله تعالى كما قال: * (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40) وهذا قول الحسن البصري، واحتج عليه بما روي أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله: إن أناسا من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود، قال الحسن: متحيرون
مترددون " أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية " وفي رواية أخرى قال عند ذلك: " إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى الله تعالى، وكلفتم أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوة وعشيا والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني " فهذا الخبر يدل على أن الثبات على هذا الدين واجب وعدم التعلق بغيره واجب، فلا جرم مدحهم الله في هذه الآية بذلك فقال: * (من أهل الكتاب أمة قائمة) *.
القول الثالث: * (أمة قائمة) * أي مستقيمة عادلة من قولك: أقمت العود فقام بمعنى استقام، وهذا كالتقرير لقوله * (كنتم خير أمة) *.
الصفة الثانية: قوله تعالى: * (يتلون آيات الله آناء الليل) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: * (يتلون ويؤمنون) * في محل الرفع صفتان لقوله * (أمة) * أي أمة قائمة تالون مؤمنون.
المسألة الثانية: التلاوة القراءة وأصل الكلمة من الاتباع فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ اللفظ.
المسألة الثالثة: آيات الله قد يراد بها آيات القرآن، وقد يراد بها أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته والمراد ههنا الأولى.
المسألة الرابعة: * (آناء الليل) * أصلها في اللغة الأوقات والساعات وواحدها إنا، مثل: معي وأمعاء وإني مثل نحى وإنحاء، مكسور الأول ساكن الثاني، قال القفال رحمه الله، كأن الثاني مأخوذ منه لأنه انتظار الساعات والأوقات، وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة " آذيت وآنيت " أي دافعت الأوقات.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (وهم يسجدون) * وفيه وجوه الأول: يحتمل أن يكون حالا من التلاوة كأنهم يقرؤن القرآن في السجدة مبالغة في الخضوع والخشوع إلا أن القفال رحمه الله روى في " تفسيره " حديثا: أن ذلك غير جائز، وهو قوله عليه السلام: " ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا " الثاني: يحتمل أن يكون كلاما مستقلا والمعنى أنهم يقومون تارة يبتغون الفضل والرحمة
201

بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله تعالى وهو كقوله * (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) * (الفرقان: 64) وقوله * (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه) * (الزمر: 9) قال الحسن: يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه، وهذا على معنى إرادة الراحة وإزالة التعب وإحداث النشاط الثالث: يحتمل أن يكون المراد بقوله * (وهم يسجدون) * أنهم يصلون وصفهم بالتهجد بالليل والصلاة تسمى سجودا وسجدة وركوعا وركعة وتسبيحا وتسبيحة، قال تعالى: * (واركعوا مع الراكعين) * (البقرة: 43) أي صلوا وقال: * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) * (الروم: 17) والمراد الصلاة الرابع: يحتمل أن يكون المراد بقوله * (وهم يسجدون) * أي يخضعون ويخشعون لله لأن العرب تسمي الخشوع سجودا كقوله * (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض) * (النمل: 49) وكل هذه الوجوه ذكرها القفال رحمه الله.
الصفة الرابعة: قوله * (يؤمنون بالله واليوم الآخر) * واعلم أن اليهود كانوا أيضا يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله * (يؤمنون بالله واليوم الآخر) * وقد بينا أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ولا يحترزون عن معاصي الله، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد.
واعلم أن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر الله، وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد، فقوله * (يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) * إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم وقوله * (يؤمنون بالله واليوم الآخر) * إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية، وذلك أكمل أحوال الإنسان، وهي المرتبة التي يقال لها: إنها آخر درجات الإنسانية وأول درجات الملكية.
الصفة الخامسة: قوله * (ويأمرون بالمعروف) *.
الصفة السادسة: قوله * (وينهون عن المنكر) * واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاما وفوق التمام فكون الإنسان تاما ليس إلا في كمال قوته العملية والنظرية وقد تقدم ذكره، وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين، وذلك بطريقين، إما بإرشادهم إلى ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف، أو يمنعهم عما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: * (يأمرون بالمعروف) * أي بتوحيد الله وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم * (وينهون عن المنكر) * أي ينهون عن الشرك بالله، وعن إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، واعلم أن لفظ المعروف والمنكر مطلق
202

فلم يجز تخصيصه بغير دليل، فهو يتناول كل معروف وكل منكر.
الصفة السابعة: قوله * (ويسارعون في الخيرات) * وفيه وجهان أحدهما: أنهم يتبادرون إليها خوف الفوت بالموت، والآخر: يعملونها غير متثاقلين. فإن قيل: أليس أن العجلة مذمومة قال عليه الصلاة والسلام: " العجلة من الشيطان والتأني من الرحمان " فما الفرق بين السرعة وبين العجلة؟ قلنا: السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه، فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين، لأن من رغب في الأمر، آثر الفور على التراخي، قال تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) * (آل عمران: 133) وأيضا العجلة ليست مذمومة على الإطلاق بدليل قوله تعالى: * (وعجلت إليك رب لترضى) * (طه: 84).
الصفة الثامنة: قوله * (وأولئك من الصالحين) * والمعنى وأولئك الموصوفون بما وصفوا به من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله تعالى ورضيهم، واعلم أن الوصف بذلك غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول، أما القرآن، فهو أن الله تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال: بعد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم * (وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين) * (الأنبياء: 86) وذكر حكاية عن سليمان عليه السلام أنه قال: * (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) * (النمل: 19) وقال: * (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) * (التحريم: 4) وأما المعقول فهو أن الصلاح ضد الفساد، وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد، سواء كان ذلك في العقائد، أو في الأعمال، فإذا كان كل ما حصل من باب ما ينبغي أن يكون، فقد حصل الصلاح، فكان الصلاح دالا على أكمل الدرجات.
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات الثمانية قال: * (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) * بالياء على المغايبة، لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب، يتلون ويسجدون ويؤمنون ويأمرون وينهون ويسارعون، ولن يضيع لهم ما يعلمون، والمقصود أن جهال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلام إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان، قال تعالى بل فازوا بالدرجات العظمى، فكان المقصود تعظيمهم ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال، ثم هذا وإن كان بحسب اللفظ يرجع إلى كل ما تقدم ذكره من مؤمني أهل الكتاب، فإن سائر الخلق يدخلون فيه نظرا إلى العلة.
وأما الباقون فإنهم قرؤا بالتاء على سبيل المخاطبة فهو ابتداء خطاب لجميع المؤمنين على معنى
203

أن أفعال مؤمني أهل الكتاب ذكرت، ثم قال: وما تفعلوا من خير معاشر المؤمنين الذين من جملتكم هؤلاء، فلن تكفروه، والفائدة أن يكون حكم هذه الآية عاما بحسب اللفظ في حق جميع المكلفين، ومما يؤكد ذلك أن نظائر هذه الآية جاءت مخاطبة لجميع الخلائق من غير تخصيص بقوم دون قوم كقوله * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) * (البقرة: 197) وما تفعلوا من خير يوف إليكم) * * (وما تفعلوا من خير تجدوه عند الله) * وأما أبو عمرو فالمنقول عنه أنه كان يقرأ هذه الآية بالقراءتين.
المسألة الثانية: * (فلن تكفروه) * أي لن تمنعوا ثوابه وجزاءه وإنما سمي منع الجزاء كفر لوجهين الأول: أنه تعالى سمى إيصال الثواب شكرا قال الله تعالى: * (فإن الله شاكر عليم) * (البقرة: 158) وقال: * (فأولئك كان سعيهم مشكورا) * (الإسراء: 19) فلما سمى إيصال الجزاء شكرا سمى منعه كفرا والثاني: أن الكفر في اللغة هو الستر فسمي منع الجزاء كفرا، لأنه بمنزلة الجحد والستر.
فإن قيل: لم قال: * (فلن تكفروه) * فعداه إلى مفعولين مع أن شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد يقال شكر النعمة وكفرها.
قلنا: لأنا بينا أن معنى الكفر ههنا هو المنع والحرمان، فكان كأنه قال: فلن تحرموه، ولن تمنعوا جزاءه.
المسألة الثالثة: احتج القائلون بالموازنة من الذاهبين إلى الإحباط بهذه الآية فقال: صريح هذه الآية يدل على أنه لا بد من وصول أثر فعل العبد إليه، فلو انحبط ولم ينحبط من المحبط بمقداره شيء لبطل مقتضى هذه الآية، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7، 8).
ثم قال: * (والله عليم بالمتقين) * والمعنى أنه تعالى لما أخبر عن عدم الحرمان والجزاء أقام ما يجري مجرى الدليل عليه وهو أن عدم إيصال الثواب والجزاء إما أن يكون للسهو والنسيان وذلك محال في حقه لأنه عليم بكل المعلومات، وإما أن يكون للعجز والبخل والحاجة وذلك محال لأنه إله جميع المحدثات، فاسم الله تعالى يدل على عدم العجز والبخل والحاجة، وقوله * (عليم) * يدل على عدم الجهل، وإذا انتفت هذه الصفات امتنع المنع من الجزاء، لأن منع الحق لا بد وأن يكون لأجل هذه الأمور والله أعلم، إنما قال: * (عليم بالمتقين) * مع أنه عالم بالكل بشارة للمتقين بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى.
204

قوله تعالى
* (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *.
اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب، وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب جامعا بين الزجر والترغيب والوعد والوعيد، فلما وصف من آمن من الكفار بما تقدم من الصفات الحسنة أتبعه تعالى بوعيد الكفار، فقال: * (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله * (إن الذين كفروا) * قولان الأول: المراد منه بعض الكفار ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوها أحدها: قال ابن عباس: يريد قريظة والنضير، وذلك لأن مقصود رؤساء اليهود في معاندة الرسول ما كان إلا المال والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * (البقرة: 41) وثانيها: أنها نزلت في مشركي قريش، فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله ولهذا السبب نزل فيه قوله * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا) * (مريم: 74) وقوله * (فليدع ناديه * سندع الزبانية) * (العلق: 17، 18) وثالثها: أنها نزلت في أبي سفيان، فإنه أنفق مالا كثيرا على المشركين يوم بدر وأحد في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: أن الآية عامة في حق جميع الكفار، وذلك لأنهم كلهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال، وكانوا يعيرون الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه بالفقر، وكان من جملة شبههم أن قالوا: لو كان محمد على الحق لما تركه ربه في هذا الفقر والشدة ولأن اللفظ عام، ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراؤه على عمومه، وللأولين أن يقولوا: إنه تعالى قال بعد هذه الآية * (مثل ما ينفقون) * فالضمير في قوله * (ينفقون) * عائد إلى هذا الموضع، وهو قوله * (إن الذين كفروا) * ثم
إن قوله * (ينفقون) * مخصوص ببعض الكفار، فوجب أن يكون هذا أيضا مخصوصا.
المسألة الثانية: إنما خص تعالى الأموال والأولاد بالذكر لأن أنفع الجمادات هو الأموال وأنفع الحيوانات هو الولد، ثم بين تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما البتة في الآخرة، وذلك يدل على عدم انتفاعه بسائر الأشياء بطريق الأولى، ونظيره قوله تعالى: * (يوم لا ينفع مال
205

ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم) * (الشعراء: 88، 89) وقوله * (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * (البقرة: 48) الآية وقوله * (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) * (آل عمران: 91) وقوله * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) * (سبأ: 37) ولما بين تعالى أنه لا انتفاع لهم بأموالهم ولا بأولادهم، قال: * (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة لا يبقون في النار أبدا فقالوا قوله * (وأولئك أصحاب النار) * كلمة تفيد الحصر فإنه يقال: أولئك أصحاب زيد لا غيرهم وهم المنتفعون به لا غيرهم ولما أفادت هذه الكلمة معنى الحصر ثبت أن الخلود في النار ليس إلا للكافر.
قوله تعالى
* (مثل ما ينفقون فى هذه الحيوة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئا، ثم إنهم ربما أنفقوا أموالهم في وجوه الخيرات، فيخطر ببال الإنسان أنهم ينتفعون بذلك، فأزال الله تعالى بهذه الآية تلك الشبهة، وبين أنهم لا ينتفعون بتلك الإنفاقات، وإن كانوا قد قصدوا بها وجه الله. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما يشبه به وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع. فإن قيل: فعلى هذا التقدير مثل إنفاقهم هو الحرث الذي هلك، فكيف شبه الإنفاق بالريح الباردة المهلكة.
قلنا: المثل قسمان منه ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين، وهذا هو المسمى بالتشبيه المركب، ومنه ما حصلت المشابهة فيه بين المقصود من الجملتين، وبين أجزاء كل واحدة منهما، فإذا جعلنا هذا المثل من القسم الأول زال السؤال، وإن جعلناه من القسم الثاني ففيه وجوه الأول: أن يكون التقدير: مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون، كمثل الريح المهلكة للحرث الثاني: مثل ما ينفقون، كمثل مهلك ريح، وهو الحرث الثالث: لعل الإشارة في قوله * (مثل ما ينفقون) * إلى ما أنفقوا في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع العساكر عليه، وكان هذا الإنفاق مهلكا لجميع ما أتوا به من أعمال
206

الخير والبر وحينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار وتقديم وتأخير، والتقدير: مثل ما ينفقون في كونه مبطلا لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث، وهذا الوجه خطر ببالي عند كتابتي على هذا الموضع، فإن انفاقهم في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم أنواع الكفر ومن أشدها تأثيرا في إبطال آثار أعمال البر.
المسألة الثانية: اختلفوا في تفسير هذا الإنفاق على قولين الأول: أن المراد بالإنفاق ههنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة سماه الله إنفاقا كما سمى ذلك بيعا وشراء في قوله * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) * (التوبة: 111) إلى قوله * (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) * (التوبة: 111) ومما يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 92) والمراد به جميع أعمال الخير وقوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (البقرة: 188) والمراد جميع أنواع الانتفاعات.
والقول الثاني: وهو الأشبه أن المراد إنفاق الأموال، والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله * (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم) * (آل عمران: 10).
المسألة الثالثة: قوله * (مثل ما ينفقون) * المراد منه جميع الكفار أو بعضهم، فيه قولان: الأول: المراد بالإخبار عن جميع الكفار، وذلك لأن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق منه أثر البتة في الآخرة في حق المسلم فضلا عن الكافر وإن كان لمنافع الآخرة لم ينتفع به في الآخرة لأن الكفر مانع من الانتفاع به، فثبت أن جميع نفقات الكفار لا فائدة فيها في الآخرة، ولعلهم أنفقوا أموالهم في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والاحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل، وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيرا كثيرا فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلا لآثار الخيرات، فكان كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا فأصابته ريح فأحرقته فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف، هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه الخيرات لكنه كان من المعاصي مثل إنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم، فالذي قلناه فيه أسد وأشد، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) * (الفرقان: 23) وقال: * (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) * (الأنفال: 36) وقوله * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) * (النور: 39) فكل ذلك يدل على الحسنات من الكفار لا تستعقب الثواب، وكل ذلك مجموع في قوله تعالى: * (إنما يتقبل الله من المتقين) * (المائدة: 27) وهذا القول هو الأقوى والأصح.
واعلم أنا إنما فسرنا الآية بخيبة هؤلاء الكفار في الآخرة ولا يبعد أيضا تفسيرها بخيبتهم في
207

الدنيا، فإنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر وتحملوا المشاق ثم انقلب الأمر عليهم، وأظهر الله الإسلام وقواه فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة.
والقول الثاني: المراد منه الإخبار عن بعض الكفار، وعلى هذا القول ففي الآية وجوه الأول: أن المنافقين كانوا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولكن على سبيل التقية والخوف من المسلمين وعلى سبيل المداراة لهم فالآية فيهم الثاني: نزلت هذه الآية في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على الرسول عليه السلام الثالث: نزلت في إنفاق سفلة اليهود على أحبارهم لأجل التحريف والرابع: المراد ما ينفقون ويظنون أنه تقرب إلى الله تعالى مع أنه ليس كذلك.
المسألة الرابعة: اختلفوا في * (الصر) * على وجوه الأول: قال أكثر المفسرين وأهل اللغة: الصر البرد الشديد وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد والثاني: أن الصر: هو السموم الحارة والنار التي تغلي، وهو اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر بن الأنباري، قال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها * (صر) * لتصويتها عند الالتهاب، ومنه صرير الباب، والصرصر مشهور، والصرة الصيحة ومنه قوله تعالى: * (فأقبلت امرأته في صرة) * (الذاريات: 29) وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما في * (فيها صر) * قال فيها نار، وعلى القولين فالمقصود من التشبيه حاصل، لأنه سواء كان بردا مهلكا أو حرا محرقا فإنه يصير مبطلا للحرث والزرع فيصح التشبيه به.
المسألة الخامسة: المعتزلة احتجوا بهذه الآية على صحة القول بالإحباط، وذلك لأنه كما أن هذه الريح تهلك الحرث فكذلك الكفر يهلك الإنفاق، وهذا إنما يصح إذا قلنا: إنه لولا الكفر لكان ذلك الإنفاق موجبا لمنافع الآخرة وحينئذ يصح القول بالإحباط، وأجاب أصحابنا عنه بأن العمل لا يستلزم الثواب إلا بحكم الوعد، والوعد من الله مشروط بحصول الإيمان، فإذا حصل الكفر فات المشروط لفوات شرطه لأن الكفر أزاله بعد ثبوته، ودلائل بطلان القول بالإحباط قد تقدمت في سورة البقرة.
ثم قال تعالى: * (أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم) * وفيه سؤال: وهو أن يقال: لم لم يقتصر على قوله * (أصابت حرث قوم) * وما الفائدة في قوله * (ظلموا أنفسهم) *.
قلنا: في تفسير قوله * (ظلموا أنفسهم) * وجهان الأول: أنهم عصوا الله فاستحقوا هلاك حرثهم عقوبة لهم، والفائدة في ذكره هي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه شيء، وحرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بالكلية ولا يحصل منه منفعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب بالكلية لأنه وإن كان يذهب صورة فلا يذهب
208

معنى، لأن الله تعالى يزيد في ثوابه لأجل وصول تلك الأحزان إليه والثاني: أن يكون المراد من قوله * (ظلموا أنفسهم) * هو أنهم زرعوا في غير موضع الزرع أو في غير وقته، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وعلى هذا التفسير يتأكد وجه التشبيه، فإن من زرع لا في موضعه ولا في وقته يضيع، ثم إذا أصابته الريح الباردة كان أولى بأن يصير ضائعا، فكذا ههنا الكفار لما أتوا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤم كفرهم امتنع أن لا يصير ضائعا والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون) * والمعنى أن الله تعالى ما ظلمهم حيث لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث أتوا بها مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة لله تعالى قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (ولكن) * بالتشديد بمعنى ولكن أنفسهم يظلمونها، ولا يجوز أن يراد، ولكنه أنفسهم يظلمون على إسقاط ضمير الشأن، لأنه لا يجوز إلا في الشعر.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضآء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الايات إن كنتم تعقلون) *.
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين في هذه الآية وههنا مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم؟ على أقوال: الأول: أنهم هم اليهود وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم ويؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظنا منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه، وحجة أصحاب هذا القول أن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مخاطبة مع اليهود فتكون هذه الآية أيضا كذلك الثاني: أنهم هم المنافقون، وذلك لأن المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية، فالله تعالى منعهم عن ذلك، وحجة أصحاب هذا القول أن
209

ما بعد هذه الآية يدل على ذلك وهو قوله * (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) * (آل عمران: 119) ومعلوم أن هذا لا يليق باليهود بل هو صفة المنافقين، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن) * (البقرة: 14) الثالث: المراد به جميع أصناف الكفار والدليل عليه قوله تعالى: * (بطانة من دونكم) * فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار وقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) * (الممتحنة: 1) ومما يؤكد ذلك ما روي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ههنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظا ولا أحسن خطأ منه، فإن رأيت أن تتخذه كاتبا، فامتنع عمر من ذلك وقال: إذن اتخذت بطانة من غير المؤمنين، فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلا على النهي عن اتخاذ بطانة، وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية، فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاما وآخرها إذا كان خاصا لم يكن خصوص آخر الآية مانعا من عموم أولها.
المسألة الثانية: قال أبو حاتم عن الأصمعي: بطن فلان بفلان يبطن به بطونا وبطانة، إذا كان خاصا به داخلا في أمره، فالبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يبطنون أمره وأصله من البطن خلاف الظهر، ومنه بطانة الثوب خلاف ظهارته، والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد التقريب يسمى
بطانة لأنه بمنزلة ما يلي بطنه في شدة القرب منه.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (لا تتخذوا بطانة) * نكرة في سياق النفي فيفيد العموم.
أما قوله * (من دونكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: من دونكم أي من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم ولفظ * (من دونكم) * يحسن حمله على هذا الوجه كما يقال الرجل: قد أحسنتم إلينا وأنعمتم علينا، وهو يريد أحسنتم إلى إخواننا، وقال تعالى: * (ويقتلون النبيين بغير حق) * (آل عمران: 21) أي آباؤهم فعلوا ذلك.
المسألة الثانية: في قوله * (من دونكم) * احتمالان أحدهما: أن يكون متعلقا بقوله * (لا تتخذوا) * أي لا تتخذوا من دونكم بطانة والثاني: أن يجعل وصفا للبطانة والتقدير: بطانة كائنات من دونكم.
فإن قيل: ما الفرق بين قوله: لا تتخدوا من دونكم بطانة، وبين قوله * (لا تتخذوا بطانة من دونكم) *؟.
قلنا: قال سيبويه: إنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وههنا ليس المقصود اتخاذ البطانة إنما المقصود أن يتخذ منهم بطانة فكان قوله: لا تتخذوا من دونكم بطانة أقوى في إفادة المقصود.
المسألة الثالثة: قيل * (من) * زائدة، وقيل للنبيين: لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم.
210

فإن قيل: هذه الآية تقتضي المنع من مصاحبة الكفار على الإطلاق، وقال تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم... إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم) * (الممتحنة: 8، 9) فكيف الجمع بينهما؟ قلنا: لا شك أن الخاص يقدم على العام.
واعلم أنه تعالى لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذكر علة هذا النهي وهي أمور أحدها: قوله تعالى: * (لا يألونكم خبالا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": يقال (ألا) في الأمر يألوا إذا قصر فيه، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا على التضمين، والمعنى لا أمنعك نصحا ولا أنقصك جهدا.
المسألة الثانية: الخبال الفساد والنقصان، وأنشدوا: لستم بيد إلا يدا أبدا مخبولة العضد
أي فاسدة العضد منقوضتها، ومنه قيل: رجل مخبول ومخبل ومختبل لمن كان ناقص العقل، وقال تعالى: * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) * (التوبة: 47) أي فسادا وضررا.
المسألة الثالثة: قوله * (لا يألونكم خبالا) * أي لا يدعون جهدهم في مضرتكم وفسادكم، يقال: ما ألوته نصحا، أي ما قصرت في نصيحته، وما ألوته شرا مثله.
المسألة الرابعة: انتصب الخبال بلا يألونكم لأنه يتعدى إلى مفعولين كما ذكرنا وإن شئت نصبته على المصدر، لأن معنى قوله * (لا يألونكم خبالا) * لا يخبلونكم خبالا وثانيها: قوله تعالى: * (ودوا ما عنتم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يقال وددت كذا، أي أحببته و (العنت) شدة الضرر والمشقة قال تعالى: * (ولو شاء الله لأعنتكم) * (البقرة: 220).
المسألة الثانية: ما مصدرية كقوله * (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) * (غافر: 75) أي بفرحكم ومرحكم وكقوله * (والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها) * (الشمس: 5، 6) أي بنائه إياها وطحيه إياها.
المسألة الثالثة: تقدير الآية: أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر.
المسألة الرابعة: قال الواحدي رحمه الله: لا محل لقوله * (ودوا ما عنتم) * لأنه استئناف بالجملة وقيل: إنه صفة لبطانة، ولا يصح هذا لأن البطانة قد وصفت بقوله * (لا يألونكم خبالا) * فلو كان
211

هذا صفة أيضا لوجب إدخال حرف العطف بينهما.
المسألة الخامسة: الفرق بين قوله * (لا يألونكم خبالا) * وبين قوله * (ودوا ما عنتم) * في المعنى من وجوه الأول: لا يقصرون في إفساد دينكم، فإن عجزوا عنه ودوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر الثاني: لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا، فإذا عجزوا عنه لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم والثالث: لا يقصرون في إفساد أموركم، فإن لم يفعلوا ذلك لمانع من خارج، فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم وثالثها: قوله تعالى: * (قد بدت البغضاء من أفواههم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: البغضاء أشد البغض، فالبغض مع البغضاء كالضر مع الضراء.
المسألة الثانية: الأفواه جمع الفم والفم أصله فوه بدليل أن جمعه أفواه، يقال: فوه وأفواه كسوط وأسواط، وطوق وأطواق، ويقال رجل مفوه إذا أجاد القول، وأفوه إذا كان واسع الفهم، فثبت أن أصل الفم فوه بوزن سوط، ثم حذفت الهاء تخفيفا ثم أقيم الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان.
المسألة الثالثة: قوله * (قد بدت البغضاء من أفواههم) * إن حملناه على المنافقين ففي تفسيره وجهان الأول: أنه لا بد في المنافق من أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ومفارقة لطريق المخالصة في الود والنصيحة، ونظيره قوله تعالى: * (ولتعرفنهم في لحن القول) * (محمد: 30) الثاني: قال قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضا على ذلك، أما إن حملناه على اليهود فتفسير قوله * (قد بدت البغضاء من أفواههم) * فهو أنهم يظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق، ومن اعتقد في غيره الإصرار على الجهل والحمق امتنع أن يحبه، بل لا بد وأن يبغضه، فهذا هو المراد بقوله * (قد بدت
البغضاء من أفواههم) *.
ثم قال تعالى: * (وما تخفي صدورهم أكبر) * يعني الذي يظهر على لسان المنافق من علامات البغضاء أقل مما في قلبه من النفرة، والذي يظهر من علامات الحقد على لسانه أقل مما في قلبه من الحقد، ثم بين تعالى أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من نعمه عليهم، فقال: * (قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) * أي من أهل العقل والفهم والدراية، وقيل: * (إن كنتم تعقلون) * الفصل بين ما يستحقه العدو والولي، والمقصود بعثهم على استعمال العقل في تأمل هذه الآية وتدبر هذه البينات، والله أعلم.
212

قوله تعالى
* (هآ أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا ءامنا وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) *.
واعلم أن هذا نوع آخر من تحذير المؤمنين عن مخالطة المنافقين، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال السيد السرخسي سلمه الله * (ها) * للتنبيه و * (أنتم) * مبتدأ و * (أولاء) * خبره و * (تحبونهم) * في موضع النصب على الحال من اسم الإشارة، ويجوز أن تكون * (أولاء) * بمعنى الذين و * (تحبونهم) * صلة له، والموصول مع الصلة خبر * (أنتم) * وقال الفراء * (أولاء) * خبر و * (تحبونهم) * خبر بعد خبر.
المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر في هذه الآية أمورا ثلاثة، كل واحد منها على أن المؤمن لا يجوز أن يتخذ غير المؤمن بطانة لنفسه فالأول: قوله * (تحبونهم ولا يحبونكم) * وفيه وجوه: أحدها: قال المفضل * (تحبونهم) * تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء * (ولا يحبونكم) * لأنهم يريدون بقاءكم على الكفر، ولا شك أنه يوجب الهلاك الثاني: * (تحبونهم) * بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة * (ولا يحبونكم) * بسبب كونكم مسلمين الثالث: * (تحبونهم) * بسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان * (ولا يحبونكم) * بسبب أن الكفر مستقر في باطنهم الرابع: قال أبو بكر الأصم * (تحبونهم) * بمعنى أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات والمحن * (ولا يحبونكم) * بمعنى أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ويتربصون بكم الدوائر الخامس: * (تحبونهم) * بسبب أنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب * (ولا يحبونكم) * لأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول وهم يبغضون الرسول ومحب المبغوض مبغوض السادس: * (تحبونهم) * أي تخالطونهم، وتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم * (ولا يحبونكم) * أي لا يفعلون مثل ذلك بكم.
واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى الأسباب الموجبة لكون المؤمنين يحبونهم ولكونهم يبغضون المؤمنين، فالكل داخل تحت الآية، ولما عرفهم تعالى كونهم مبغضين للمؤمنين
213

وعرفهم أنهم مبطلون في ذلك البغض صار ذلك داعيا من حيث الطبع، ومن حيث الشرع إلى أن يصير المؤمنون مبغضين لهؤلاء المنافقين.
والسبب الثاني لذلك: قوله تعالى: * (وتؤمنون بالكتاب كله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية إضمار، والتقدير: وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به، وحسن الحذف لما بينا أن الضدين يعلمان معا فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر.
المسألة الثانية: ذكر (الكتاب) بلفظ الواحد لوجوه أحدها: أنه ذهب به مذهب الجنس كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس وثانيها: أن المصدر لا يجمع إلا على التأويل، فلهذا لم يقل الكتب بدلا من الكتاب، وإن كان لو قاله لجاز توسعا.
المسألة الثالثة: تقدير الكلام: أنكم تؤمنون بكتبهم كلها وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم مع ذلك تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم، ونظيره قوله تعالى: * (فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) * (النساء: 104).
السبب الثالث لقبح هذه المخالطة: قوله تعالى: * (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) * والمعنى: أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة، وشدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل، كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان، صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان: إنه يعض يده غيظا وإن لم يكن هناك عض، قال المفسرون: وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم.
ثم قال تعالى: * (قل موتوا بغيظكم) * وهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، والمراد من ازدياد الغيظ ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام وعزة أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي.
فإن قيل: قوله * (قل موتوا بغيظكم) * أمر لهم بالإقامة على الغيظ، وذلك الغيظ كفر، فكان هذا أمرا بالإقامة على الكفر وذلك غير جائز.
قلنا: قد بينا أنه دعاء بازدياد ما يوجب هذا الغيظ وهو قوة الإسلام فسقط السؤال:
وأيضا فإنه دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون.
ثم قال: * (إن الله عليم بذات الصدور) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: (ذات) كلمة وضعت لنسبة المؤنث كما أن (ذو) كلمة وضعت لنسبة المذكر
214

والمراد بذات الصدور الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه فكانت ذات الصدور، والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما حصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف " يحتمل أن تكون هذه الآية داخلة في جملة المقول وأن لا تكون أما الأول: فالتقدير: أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا وقل لهم: إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم، وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفى عليه أما الثاني: وهو أن لا يكون داخلا في المقول فمعناه: قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك، وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم ويجوز أن لا يكون، ثم قول وأن يكون قوله * (قل موتوا بغيظكم) * أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به، كأنه قيل: حدث نفسك بذلك والله تعالى أعلم.
قوله تعالى
* (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط) *.
واعلم أن هذه الآية من تمام وصف المنافقين، فبين تعالى أنهم مع ما لهم من الصفات الذميمة والأفعال القبيحة مترقبون نزول نوع من المحنة والبلاء بالمؤمنين، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المس أصله باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء (ماسا) على سبيل التشبيه فيقال: فلان مسه التعب والنصب، قال تعالى: * (وما مسنا من لغوب) * (ق: 38) وقال: * (وإذا مسكم الضر في البحر) * (الإسراء: 67) قال صاحب " الكشاف ": المس ههنا بمعنى الإصابة، قال تعالى: * (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة) * (التوبة: 50) وقوله * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * (النساء: 79) وقال: * (إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا) * (المعارج: 20، 21).
المسألة الثانية: المراد من الحسنة ههنا منفعة الدنيا على اختلاف أحوالها، فمنها صحة البدن وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة والألفة بين الأحباب
215

والمراد بالسيئة أضدادها، وهي المرض والفقر والهزيمة والانهزام من العدو وحصول التفرق بين الأقارب، والقتل والنهب والغارة، فبين تعالى أنهم يحزنون ويغتمون بحصول نوع من أنواع الحسنة للمسلمين ويفرحون بحصول نوع من أنواع السيئة لهم.
المسألة الثالثة: يقال ساء الشيء يسوء فهو سئ، والأنثى سيئة أي قبح، ومنه قوله تعالى: * (ساء ما يعملون) * (المائدة: 66) والسوأى ضد الحسنى. ثم قال: * (وإن تصبروا) * يعني على طاعة الله وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم * (وتتقوا) * كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على الله * (لا يضركم كيدهم شيئا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو * (لا يضركم) * بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء، وهو من ضاره يضيره، ويضوره ضورا إذا ضره، والباقون * (لا يضركم) * بضم الضاد والراء المشددة وهو من الضر، وأصله يضرركم جزما، فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة، اتباعا لأقرب الحركات وهي ضمة الضاد، وقال بعضهم: هو على التقديم والتأخير تقديره: ولا يضركم كيدهم شيئا إن تصبروا وتتقوا، قال صاحب " الكشاف ": وروى المفضل عن عاصم * (لا يضركم) * بفتح الراء.
المسألة الثانية: الكيد هو أن يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه، وابن عباس فسر الكيد ههنا بالعداوة.
المسألة الثالثة: * (شيئا) * نصب على المصدر أي شيئا من الضر.
المسألة الرابعة: معنى الآية: أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين.
وتحقيق الكلام في ذلك هو أنه سبحانه إنما خلق الخلق للعبودية كما قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) فمن وفى بعهد العبودية في ذلك فالله سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه عن الآفات والمخافات، وإليه الإشارة بقوله * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب) * (الطلاق: 2، 3) إشارة إلى أنه يوصل إليه كل ما يسره، وقال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسد فاجتهد في اكتساب الفضائل.
ثم قال تعالى: * (إن الله بما يعملون محيط) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء بما يعملون بالياء على سبيل المغايبة بمعنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه، ومن قرأ بالتاء على سبيل المخاطبة، فالمعنى أنه عالم محيط بما تعملون من الصبر
216

والتقوى فيفعل بكم ما أنتم أهله.
المسألة الثانية: إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه، وذلك من صفات الأجسام، لكنه تعالى لما كان عالما بكل الأشياء قادرا على كل الممكنات، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها، ومنه قوله * (والله من ورائهم محيط) * (البروج: 20) وقال: * (والله محيط بالكافرين) *
(البقرة: 19) وقال: * (ولا يحيطون به علما) * (طه: 11) وقال: * (وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا) * (الجن: 28).
المسألة الثالثة: إنما قال: * (إن الله بما يعملون محيط) * ولم يقل إن الله محيط بما يعملون لأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه، أعني وليس المقصود ههنا بيان كونه تعالى عالما، بينا أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ومجازيهم عليها فلا جرم قد ذكر العمل والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم * إذ همت طآئفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) * (آل عمران: 120) أتبعه بما يدلهم على سنة الله تعالى فيهم في باب النصرة والمعونة ودفع مضار العدو إذا هم صبروا واتقوا، وخلاف ذلك فيهم إذا لم يصبروا فقال: * (وإذ غدوت من أهلك) * يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين للقتال فلما أطاعوا أمر الرسول غلبوا واستولوا على خصومهم، وذلك يؤكد قولنا، وفيه وجه آخر وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ هؤلاء المنافقين بطانة وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله * (وإذ غدوت من أهلك) * فيه ثلاثة أوجه الأول: تقديره واذكر إذ غدوت والثاني: قال أبو مسلم: هذا كلام معطوف بالواو على قوله * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة) * (آل عمران: 13) يقول: قد كان لكم في نصر الله تلك الطائفة القليلة من المؤمنين على الطائفة الكثيرة من الكافرين موضع اعتبار لتعرفوا به أن الله ناصر المؤمنين، وكان
217

لهم مثل ذلك من الآية إذ غدا الرسول صلى الله عليه وسلم يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والثالث: العامل فيه محيط: تقديره والله بما يعملون محيط إذ غدوت.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن هذا اليوم أي يوم هو؟ فالأكثرون: أنه يوم أحد: وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحاق والربيع والأصم وأبي مسلم، وقيل: إنه يوم بدر، وهو قول الحسن، وقيل إنه يوم الأحزاب وهو قول مجاهد ومقاتل، حجة من قال هذا اليوم هو يوم أحد وجوه الأول: أن أكثر العلماء بالمغازي زعموا أن هذه الآية نزلت في وقعة أحد الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية * (ولقد نصركم الله ببدر) * (آل عمران: 123) والظاهر أنه معطوف على ما تقدم، ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، وأما يوم الأحزاب، فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد لا يوم الأحزاب، فكانت قصة أحد أليق بهذا الكلام لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله * (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) * فثبت أن هذا اليوم هو يوم أحد الثالث: أن الانكسار واستيلاء العدو كان في يوم أحد أكثر منه في يوم الأحزاب لأن في يوم أحد قتلوا جمعا كثيرا من أكابر الصحابة ولم يتفق ذلك يوم الأحزاب فكان حمل الآية على يوم أحد أولى.
المسألة الثالثة: روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد الله وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم والله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخل عدو علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر موضع وإن دخلوا قتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال آخرون: أخرج بنا إلى الأكلب لئلا يظنوا أنا قد خفناهم، فقال عليه الصلاة والسلام: " إني قد رأيت في منامي بقرا تذبح حولي فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم " فقال قوم من المسلمين من الذين فاتتهم (بدر) وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته، فلما لبس ندم القوم، وقالوا: بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحي يأتيه، فقالوا له اصنع يا رسول الله ما رأيت، فقال: " لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل " فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال، فمشى على رجليه وجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن
218

رأى صدرا خارجا قال له تأخر، وكان نزوله في جانب الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة، وقال: ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا، وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أثبتوا في هذا المقام، فإذا عاينوكم ولوكم الأدبار، فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لما خالف رأى عبد الله بن أبي شق عليه ذلك، وقال: أطاع الولدان وعصاني، ثم قال لأصحابه: إن محمدا إنما يظفر بعدوه بكم، وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعوكم، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد عليه السلام، فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بالمنافقين، وكان جملة عسكر المسلمين ألفا، فانهزم عبد الله بن أبي مع ثلثمائة، فبقيت سبعمائة، ثم قواهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم، وكان الله تعالى بشرهم بذلك، طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر، فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع، وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أراهم ما يحبون، فأراد الله تعالى أن يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول عليه السلام وليعلموا أن ظفرهم إنما حصل يوم بدو ببركة طاعتهم لله ولرسوله، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين، فكثر عليهم المشركون وتفرق العسكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: * (إذا تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم) * (آل عمران: 153) وشج وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه، ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وسعد، ووقعت الصيحة في العسكر أن محمدا قد قتل، وكان رجل يكنى أبا سفيان من الأنصار نادى الأنصار وقال: هذا رسول الله، فرجع إليه المهاجرون والأنصار، وكان قتل منهم سبعون وكثر فيهم الجراح، فقال صلى الله عليه وسلم: " رحم الله رجلا ذب عن إخوانه " وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى والله أعلم.
والمقصود من القصة أن الكفار كانوا ثلاثة آلاف المسلمون كانوا ألفا وأقل، ثم رجع عبد
الله بن أبي معم ثلثمائة بن أصحابه فبقى الرسول صلى الله عليه وسلم مع سبعمائة، فأعانهم الله حتى
هزموا الكفار، ثم لما خالفوا أمر الرسول واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الامر عليهم وانهزموا
ووقع ما وقع، وكل ذلك يؤكد قوله تعالى (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) وأن المقبل
من أعانه الله، والمدبر من خذله الله.
(المسألة الرابعة) يقال: بوأته منزلا، وبوأت له منزلا. أي أنزلته فيه، والمباءة والباءة المنزل
219

وقوله (مقاعد للقتال) أي مواطن ومواضع، وقد اتسعوا في استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان،
ومنه قوله تعالى (في مقعد صدق) وقال (قبل أن تقوم من مقامك) أي من مجلسك وموضع حكمك
وإنما عبر عن الأمكنة ههنا بالمقاعد لوجهين: الأول: وهو أنه عليه السلام أمرهم أن يثبتوا
في مقاعدهم وأن لا ينتقلوا عنها، والقاعد في المكان لا ينتقل عنه فسمى تلك الأمكنة بالمقاعد، تنبيها
على أنهم مأمورون بأن يثبتوا فيها ولا ينتقلوا عنها البتة. والثاني: أن المقاتلين قد يقعدون في
الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدو فيقوموا عند الحاجة إلى المحاربة، فسميت تلك الأمكنة
بالمقاعد لهذا الوجه.
(المسألة الخامسة) قوله (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) يروى أنه عليه
السلام غدا من منزل عائشة رضي الله عنها فمشى على رجليه إلى أحد، وهذا قول مجاهد والواقدي،
فدل هذا النص على أن عائشة رضي الله عنها كانت أهلا للنبي صلى الله عليه وسلم وقال تعالى (الطيبات
للطيبين والطيبون للطيبات) فدل هذا النص على أنها كانت مطهرة مبرأة عن كل قبيح، ألا ترى أن
ولد نوح لما كان كافرا قال (إنه ليس من أهلك) وكذلك امرأة لوط.
ثم قال تعالى (والله سميع عليم) أ سميع لأقوالكم عليم بضمائركم ونياتكم، فانا ذكرنا أنه عليه
السلام شاور أصحابه في ذلك الحرب، فمنهم من قال له: أقم بالمدينة، ومنهم من قال: اخرج إليهم،
وكان لكل أحد غرض آخر فيما يقول، فمن موافق، ومن مخالف، فقال تعالى: أنا سميع لما يقولون
عليهم بما يضررون.
ثم قال تعالى (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) العامل في قوله ((إذ همت طائفتان منكم) فيه وجوه: الأول: قال الزجاج:
العامل فيه لتبوئة، والمعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت، الثاني: العامل فيه قوله (سميع عليم) الثالث:
يجوز أن يكون بدلا من (إذ غدوت)
(المسألة الثانية) الطائفتان حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس
لما انهزم عبد الله بن أبي همت الطائفتان باتباعه، فعصمهم الله، فثبتوا مع الرسول صلى الله عليه
وسلم. ومن العلماء من قال: ان الله تعالى أبهم ذكرهما وستر عليهما، فلا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر
(المسألة الثالثة) الفشل، الجبن والخور.
فان قيل: لهم بالشئ هو العزم، فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل والترك
وذلك معصية فكيف يليق بهما أن يقال والله وليهما؟
220

ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (123)
والجواب: اللهم قد يراد به العزم، وقد يراد به الفكر، وقد يراد به حديث النفس، وقد يراد
به ما يظهر من القول الدال على قوة العدو، وكثرة عدده ووفور عدده، لان أي شئ ظهر من
هذا الجنس صح أن يوصف من ظهر ذلك منه بأنه هم بأن يفشل من حيث ظهر منه ما يوجب ضعف
القلب، فكان قوله (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) لا يدل على أن معصية وقعت منهما. وأيضا
فبتقدير أن يقال: ان ذلك معصية لكنهما من باب الصغائر لا من باب الكبائر، بدليل قوله تعالى
(والله وليهما) فان ذلك الهم لو كان من باب الكبائر لما بقيت ولاية الله لهما
ثم قال تعالى (والله وليهما) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) قرأ عبد الله (والله وليهم) كقوله (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)
(المسألة الثانية) في المعنى وجوه: الأول: أن المراد منه بيان أن ذلك الهم ما أخرجهما عن
ولاية الله تعالى. الثاني: كأنه قيل: الله تعالى ناصرهما ومتولي أمرهما فكيف يليق بهما هذا الفشل
وترك التوكل على الله تعالى؟ الثالث: فيه تنبيه على أن ذلك الفشل إنما لم يدخل في الوجود
لان الله تعالى وليهما، فأمدهما بالتوفيق والعصمة: والغرض منه بيان أنه لولا توفيقه سبحانه
وتسديده لما تخلص أحد عن ظلمات المعاصي، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى بعد هذه
الآية (وعلى الله فليتوكل المؤمنون)
فان: قيل: ما معنى ما روى عن بعضهم عند نزول هذه الآية أنه قال: والله ما يسرنا أنا لم نهم
بما همت الطائفتان به وقد أخبرنا الله تعالى بأنه وليهما؟
قلنا: معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى، وانزاله فيه آية
ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى
ثم قال (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) التوكل: تفعل. من وكل أمره إلى فلان، إذا اعتمد فيه
كفايته عليه ولم يتوله بنفسه، وفى الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الانسان ما يعرض له من
مكروه وآفة بالتوكل على الله وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل
قوله تعالى * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فا تقوا الله لعلكم تشكرون) *.
في كيفية النظم وجهان: الأول: أنه تعالى لما ذكر قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر، وذلك لان
المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الفقر والعجز، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة، ثم انه تعالى
221

سلط المسلمين على المشركين فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى تحصيل غرضه ومطلوبه إلا بالتوكل على الله والاستعانة به والمقصود من ذكر هذه القصة تأكيد قوله * (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) * (آل عمران: 120) وتأكيد قوله * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * (آل عمران: 122) الثاني: أنه تعالى حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل.
ثم قال: * (والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * يعني من كان الله ناصرا له ومعينا له فكيف يليق به هذا الفشل والجبن والضعف؟ ثم أكد ذلك بقصة بدر فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ولكن لما كان الله ناصرا لهم فازوا بمطلوبهم وقهروا خصومهم فكذا ههنا، فهذا تقرير وجه النظم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في بدر أقوال الأول: بدر اسم بئر لرجل يقال له بدر فسميت البئر باسم صاحبها هذا قول الشعبي الثاني: أنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه وهذا قول الواقدي وشيوخه، وأنكروا قول الشعبي وهو ماء بين مكة والمدينة.
المسألة الثانية: * (أذلة) * جمع ذليل قال الواحدي: الأصل في الفعيل إذا كان صفة أن يجمع على فعلاء كظريف وظرفاء وكثير وكثراء وشريك وشركاء إلا أن لفظ فعلاء اجتنبوه في التضعيف لأنهم لو قالوا: قليل وقللاء وخليل وخللاء لاجتمع حرفان من جنس واحد فعدل إلى أفعلة لأن من جموع الفعيل: الأفعلة، كجريب وأجربة، وقفيز وأقفزة فجعلوه جمع ذليل أذلة، قال صاحب " الكشاف ": الأذلة جمع قلة، وإنما ذكر جمع القلة ليدل على أنهم مع ذلهم كانوا قليلين.
المسألة الثالثة: قوله * (وأنتم أذلة) * في موضع الحال، وإنما كانوا أذلة لوجوه الأول: أنه تعالى قال: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * (المنافقون: 8) فلا بد من تفسير هذا الذل بمعنى لا ينافي مدلول هذه الآية، وذلك هو تفسيره بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو ومعنى الذل الضعف عن المقاومة ونقيضه العز وهو القوة والغلبة، روي أن المسلمين كانوا ثلثمائة وبضعة عشر، وما كان فيهم إلا فرس واحد، وأكثرهم كانوا رجالة، وربما كان الجمع منهم يركب جملا واحدا، والكفار قريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة الثاني: لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين واعتقادهم لأجل قلة عددهم وسلاحهم، وهو مثل ما حكى الله عن الكفار أنهم قالوا * (ليخرجن الأعز منها الأذل) * (المنافقون: 8) الثالث: أن الصحابة قد شاهدوا الكفار في مكة في القوة والثروة وإلى ذلك الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك
222

الكفار، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم واستعظامهم مقررا في نفوسهم فكانوا لهذا السبب يهابونهم ويخافون منهم.
ثم قال تعالى: * (فاتقوا الله) * أي في الثبات مع رسوله * (لعلكم تشكرون) * بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام، لأنه سبب له.
قوله تعالى
* (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالاف من الملائكة منزلين) *.
فيه مسائل: المسألة الأولى: اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر، أو يوم أحد ويتفرع على هذين القولين بيان العامل في * (إذ) * فإن قلنا هذا الوعد حصل يوم بدر كان العامل في * (إذ) * قوله * (نصركم الله) * (آل عمران: 123) والتقدير: إذ نصركم الله ببدر وأنتم أذلة تقول للمؤمنين، وإن قلنا إنه حصل يوم أحد كان ذلك بدلا ثانيا من قوله * (وإذ غدوت) *.
إذا عرفت هذا فنقول:
القول الأول: أنه يوم أحد، وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق، والحجة عليه من وجوه:
الحجة الأولى: أن يوم بدر إنما أمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة قال تعالى في سورة الأنفال: * (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة) * (الأنفال: 9) فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف وخمسة آلاف بيوم بدر؟.
الحجة الثانية: أن الكفار كانوا يوم بدر ألفا أو ما يقرب منه والمسلمون كانوا على الثلث منهم لأنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفا من الملائكة، فصار عدد الكفار مقابلا بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فلا جرم وقعت الهزيمة على الكفار فكذلك يوم أحد كان عدد المسلمين ألفا، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم، كما في يوم بدر، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة
223

ليصير عدد الكفار مقابلا بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين، فيصير ذلك دليلا على أن المسلمين يهزمونهم في هذا اليوم كما هزموهم يوم بدر ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة قلوب المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل إذا قلنا إن هذا الوعد إنما حصل يوم أحد.
الحجة الثالثة: أنه تعالى قال في هذه الآية * (ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * (آل عمران: 125) والمراد ويأتوكم أعداؤكم من فورهم، ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء، فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم، بل هم ذهبوا إلى الأعداء.
فإن قيل: لو جرى قوله تعالى: * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة) * في يوم أحد، ثم إنه ما حصل هذا الإمداد لزم الكذب.
والجواب عنه من وجهين الأول: أن إنزاله خمسة آلاف من الملائكة كان مشروطا بشرط أن يصبروا ويتقوا في المغانم ثم أنهم لم يصبروا ولم يتقوا في المغانم بل خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط وأما إنزال ثلاثة آلاف من الملائكة فإنما وعد الرسول بذلك للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال وأمرهم بالسكون والثبات في تلك المقاعد، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم إنما وعدهم بهذا الوعد بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد، فلما أهملوا هذا الشرط لا جرم لم يحصل المشروط.
الوجه الثاني: في الجواب: لا نسلم أن الملائكة ما نزلت، روى الواقدي عن مجاهد أنه قال: حضرت الملائكة يوم أحد ولكنهم لم يقاتلوا، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى اللواء معصب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ملك أمد به، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: كنت أرمي السهم يومئذ فيرده على رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه، فظننت أنه ملك، فهذا ما نقوله في تقرير هذا الوجه.
إذا عرفت هذا فنقول: نظم الآية على هذا التأويل أنه تعالى ذكر قصة أحد، ثم قال: * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * أي يجب أن يكون توكلهم على الله لا على كثرة عددهم وعددهم فلقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فكذلك هو قادر على مثل هذه النصرة في سائر المواضع، ثم بعد هذا أعاد الكلام إلى قصة أحد فقال: * (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة) *.
القول الثاني: أن هذا الوعد كان يوم بدر، وهو قول أكثر المفسرين، واحتجوا على صحته بوجوه.
224

الحجة الأولى: أن الله تعالى قال: * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم) * كذا وكذا، فظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى نصرهم ببدر حينما قال الرسول للمؤمنين هذا الكلام، وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام يوم بدر.
الحجة الثانية: أن قلة العدد والعدد كانت يوم بدر أكثر وكان الاحتياج إلى تقوية القلب ذلك اليوم أكثر، فكان صرف هذا الكلام إلى ذلك اليوم أولى.
الحجة الثالثة: أن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقا غير مشروط بشرط، فوجب أن يحصل، وهو إنما حصل يوم بدر لا يوم أحد، وليس لأحد أن يقول إنهم نزلوا لكنهم ما قاتلوا لأن الوعد كان بالإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد بل لا بد من الإعانة، والإعانة حصلت يوم بدر ولم تحصل يوم أحد، ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن دلائل الأولين فقالوا:
أما الحجة الأولى: وهي قولكم: الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أمد يوم بدر بألف من الملائكة.
فالجواب عنها: من وجهين الأول: أنه تعالى أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بألف ثم زاد فيهم ألفين فصاروا ثلاثة آلاف، ثم زاد ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة فقالوا بلى، ثم قال: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف فقالوا بلى، ثم قال لهم: إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف، وهو كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا نعم قال أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة قالوا نعم قال فإني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ".
الوجه الثاني في الجواب: أن أهل بدر إنما أمدوا بألف على ما هو مذكور في سورة الأنفال، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق عليهم
ذلك لقلة عددهم، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة، ثم إنه لم يأت قريشا ذلك المدد، بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش، فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف.
وأما الحجة الثانية: وهي قولكم: إن الكفار كانوا يوم بدر ألفا فأنزل الله ألفا من الملائكة ويوم أحد ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف.
225

فالجواب: إنه تقريب حسن، ولكنه لا يوجب أن لا يكون الأمر كذلك، بل الله تعالى قد يزيد وقد ينقص في العدد بحسب ما يريد.
وأما الحجة الثالثة: وهي التمسك بقوله * (ويأتوكم من فورهم) * (آل عمران: 125).
فالجواب عنه: أن المشركين لما سمعوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد تعرضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى: أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة فهذا حاصل ما قيل في تقرير هذين القولين، والله أعلم بمراده.
المسألة الثانية: اختلفوا في عدد الملائكة، وضبط الأقوال فيها أن من الناس من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد، فقالوا: لأن الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتقوى ومجئ الكفار من فورهم، فلا بد من التغاير وهو ضعيف، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة بشرط أن تكون الثلاثة التي جزؤها مشروطة بذلك الشرط ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد، أما على تقدير الأول: فإن حملنا الآية على قصة بدر كان عدد الملائكة تسعة آلاف لأنه تعالى ذكر الألف، وذكر ثلاثة آلاف، وذكر خمسة آلاف، والمجموع تسعة آلاف، وإن حملناها على قصة أحد، فليس فيها ذكر الألف، بل فيها ذكر ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، والمجموع: ثمانية آلاف، وأما على التقدير الثاني: وهو إدخال الناقص في الزائد فقالوا: عدد الملائكة خمسة آلاف، ثم ضم إليها ألفان آخران، فلا جرم وعدوا بالألف ثم ضم إليه ألفان فلا جرم وعدوا بثلاثة آلاف، ثم ضم إليها ألفان آخران فلام جر وعدوا بخمسة آلاف، وقد حكينا عن بعضهم أنه قال أمد أهل بدر بألف فقيل: إن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: ألن يكفيكم يعني بتقدير أن يجيء المشركين مدد فالله تعالى يمدكم أيضا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف، ثم إن المشركين ما جاءهم المدد، فكذا ههنا الزائد على الألف ما جاء المسلمين فهذه وجوه كلها محتملة والله أعلم بمراده.
المسألة الثالثة: أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون، وهذا قول الأكثرين، وأما أبو بكر الأصم، فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار، واحتج عليه بوجوه:
الحجة الأولى: إن الملك الواحد يكفي في إهلاك الأرض، ومن المشهور أن جبريل عليه
226

السلام أدخل جناحه تحت المدائن الأربع لقوم لوط وبلغ جناحه إلى الأرض السابعة، ثم رفعها إلى السماء وقلب عاليها سافلها، فإذا حضر هو يوم بدر، فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار؟ ثم بتقدير حضوره، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟.
الحجة الثانية: أن أكابر الكفار كانوا مشهورين وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة.
الحجة الثالثة: الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس أو لا يراهم الناس فإن رآهم الناس فإما أن يقال إنهم رأوهم في صورة الناس أو في غير صورة الناس، فإن كان الأول فعلى هذا التقدير صار المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف، أو أكثر، ولم يقل أحد بذلك، ولأن هذا على خلاف قوله تعالى: * (ويقللكم في أعينهم) * (الأنفال: 44) وإن شاهدوهم في صورة غير صور الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق فإن من شاهد الجن لا شك أنه يشتد فزعه ولم ينقل ذلك البتة.
وأما القسم الثاني: وهو أن الناس ما رأوا الملائكة فعلى هذا التقدير: إذا حاربوا وحزوا الرؤوس، ومزقوا البطون وأسقطوا الكفار عن الأفراس، فحينئذ الناس كانوا يشاهدون حصول هذه الأفعال مع أنهم ما كانوا شاهدوا أحدا من الفاعلين، ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات، وحينئذ يجب أن يصير الجاحد لمثل هذه الحالة كافرا متمردا، ولما لم يوجد شيء من ذلك عرف فساد هذا القسم أيضا.
الحجة الرابعة: أن هؤلاء الملائكة الذين نزلوا، إما أن يقال: إنهم كانوا أجساما كثيفة أو لطيفة، فإن كان الأول وجب أن يراهم الكل وأن تكون رؤيتهم كرؤية غيرهم، ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك، وإن كانوا أجساما لطيفة دقيقة مثل الهواء لم يكن فيهم صلابة وقوة، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول وكل ذلك مما ترونه.
واعلم أن هذه الشبهة إنما تليق بمن ينكر القرآن والنبوة، فأما من يقر بهما فلا يليق به شيء من هذه الكلمات، فما كان يليق بأبي بكر الأصم إنكار هذه الأشياء مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الأخبار قريب من التواتر، روى عبد الله بن عمر قال لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا، ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر والشبهة المذكورة إذا قابلناها بكمال قدرة الله تعالى زالت وطاحت فإنه تعالى يفعل ما يشاء لكونه قادرا على جميع الممكنات ويحكم ما يريد لكونه منزها عن الحاجات.
227

المسألة الرابعة: اختلفوا في كيفية نصرة الملائكة قال بعضهم: بالقتال مع المؤمنين، وقال بعضهم: بل بتقوية نفوسهم وإشعارهم بأن النصرة لهم وبإلقاء الرعب في قلوب الكفار، والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم، ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال وأن يكون مجرد حضورهم كافيا في تقوية القلب، وزعم كثير من المفسرين أنهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام.
المسألة الخامسة: قوله تعالى: * (ألن يكفيكم) * معنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر، يقال كفاه أمر كذا إذا سد خلته، ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالا بعد حال قال المفضل: ما كان على جهة القوة والإعانة قيل فيه أمده يمده، وما كان على جهة الزيادة قيل فيه: مده يمده ومنه قوله * (والبحر يمده) * (لقمان: 27).
قوله تعالى
* (بلى وان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة ءالاف من الملائكة مسومين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: بلى: إيجاب لما بعد (لن) يعني بل يكفيكم الإمداد فأوجب الكفاية، ثم قال: * (إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا) * يعني والمشركون يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بأكثر من ذلك العدد وهو خمسة آلاف، فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطة ثلاثة أشياء، الصبر والتقوى ومجئ الكفار على الفور، فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم
228

لم يوجد المشروط.
المسألة الثانية: الفور مصدر من: فارت القدر إذا غلت، قال تعالى: * (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) * (هود: 40) قيل إنه أول ارتفاع الماء منه ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال جاء فلان ورجع من فوره، ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو التراخي، والمعنى حدة مجيء العدو وحرارته وسرعته.
المسألة الثالثة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم * (مسومين) * بكسر الواو أي معلمين علموا أنفسهم بعلامات مخصوصة، وأكثر الأخبار أنهم سوموا خيولهم بعلامات جعلوها عليها، والباقون بفتح الواو، أي سومهم الله أو بمعنى أنهم سوموا أنفسهم، فكان في المراد من التسويم في قوله * (مسومين) * قولان الأول: السومة العلامة التي يعرف بها الشيء من غيره، ومضى شرح ذلك في قوله * (والخيل المسومة) * (آل عمران: 14) وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها، وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: " سوموا فإن الملائكة قد سومت " قال ابن عباس: كانت الملائكة قد سوموا أنفسهم بالعمائم الصفر، وخيولهم وكانوا على خيل بلق، بأن علقوا الصوف الأبيض في نواصيها وأذنابها، وروي أن حمزة بن عبد المطلب كان يعلم بريشة نعامة، وأن عليا كان يعلم بصوفة بيضاء وأن الزبير كان يتعصب بعصابة صفراء وأن أبا دجانة كان يعلم بعصابة حمراء.
القول الثاني: في تفسير المسومين إنه بمعنى المرسلين مأخوذا من الإبل السائمة المرسلة في الرعي، تقول أسمت الإبل إذا أرسلتها، ويقال في التكثير سومت كما تقول أكرمت وكرمت، فمن قرأ * (مسومين) * بكسر الواو فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيلها على الكفار لقتلهم وأسرهم، ومن قرأ بفتح الواو فالمعنى أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات والحشيش.
قوله تعالى
* (وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم * ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خآئبين) *.
229

الكناية في قوله * (وما جعله الله) * عائدة على المصدر، كأنه قال: وما جعل الله المدد والإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون فدل * (يمددكم) * على الإمداد فكنى عنه، كما قال: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) * (الأنعام: 121) معناه: وإن أكله لفسق فدل * (تأكلوا) * على الأكل فكنى عنه وقال الزجاج * (وما جعله الله) * أي ذكر المدد * (إلا بشرى) * والبشرى اسم من الإبشار ومضى الكلام في معنى التبشير في سورة البقرة في قوله * (وبشر الذين آمنوا) * (البقرة: 25).
ثم قال: * (ولتطمئن قلوبكم به) * وفيه سؤال:
وهو أن قوله * (ولتطمئن) * فعل وقوله * (إلا بشرى) * اسم وعطف الفعل على الاسم مستنكر، فكان الواجب أن يقال إلا بشرى لكم واطمئنانا، أو يقال إلا ليبشركم ولتطمئن قلوبكم به فلم ترك ذلك وعدل عنه إلى عطف الفعل على الاسم.
والجواب عنه من وجهين الأول: في ذكر الإمداد مطلوبان، وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر، فأحدهما إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله * (إلا بشرى) * والثاني: حصول الطمأنينة على أن إعانة الله ونصرته معهم فلا يجبنوا عن المحاربة، وهذا هو المقصود الأصلي ففرق بين هاتين العبارتين تنبيها على حصول التفاوت بين هذين الأمرين في المطلوبية فكونه بشرى مطلوب ولكن المطلوب الأقوى حصول الطمأنينة، فلهذا أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة، فقال: * (ولتطمئن) * ونظيره قوله * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) * (النحل: 8) ولما كان المقصود الأصلي هو الركوب أدخل حرف التعليل عليها، فكذا ههنا الثاني؛ قال بعضهم في الجواب: الواو زائدة والتقدير وما جعله الله إلا بشرى لكم لتطمئن به قلوبكم.
ثم قال: * (وما النصر إلا من عند الله) * والغرض منه أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة وهذا تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسبب الأسباب أو قوله * (العزيز الحكيم) * فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته، والحكيم إشارة إلى كمال علمه، فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إجابة الدعوات، وكل من كان كذلك لم يتوقع النصر إلا من رحمته ولا الإعانة إلا من فضله وكرمه.
ثم قال: * (ليقطع طرفا من الذين كفروا) * واللام في * (ليقطع طرفا) * متعلق بقوله * (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) * والمعنى أن المقصود من نصركم بواسطة إمداد الملائكة هو أن يقطعوا طرفا من الذين كفروا، أي يهلكوا طائفة منهم ويقتلوا قطعة منهم، قيل: إنه راجع إلى قوله * (ولتطمئن قلوبكم به، ليقطع
طرفا) * ولكنه ذكر بغير حرف العطف لأنه إذا كان البعض قريبا من البعض جاز
230

حذف العاطف، وهو كما يقول السيد لعبده: أكرمتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي حذف العاطف، لأن البعض يقرب من البعض، فكذا ههنا، وقوله * (طرفا) * أي طائفة وقطعة وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف ولم يحسن ذكر الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف، وهذا يوافق قوله تعالى: * (قاتلوا الذين يلونكم) * (التوبة: 123) وقوله * (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) * (الرعد: 41).
ثم قال: * (أو يكبتهم) * الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه، يقال: كبته فانكبت هذا تفسيره، ثم قد يذكر والمراد به الاخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ الإذلال، فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت، وقوله * (خائبين) * الخيبة هي الحرمان والفرق بين الخيبة وبين اليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع، وأما اليأس فإنه قد يكون بعد التوقع وقبله، فنقيض اليأس الرجاء، ونقيض الخيبة الظفر، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ليس لك من الامر شىء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية قولان الأول: وهو المشهور: أنها نزلت في قصة أحد، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها: أنه أراد أن يدعو على الكفار فنزلت هذه الآية والقائلون بهذا ذكروا احتمالات أحدها: روي أن عتبة بن أبي وقاص شجه وكسر رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول: " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم " ثم أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية وثانيها: ما روى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أقواما فقال: " اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية " فنزلت هذه الآية * (أو يتوب عليهم) * فتاب الله على هؤلاء وحسن إسلامهم وثالثها: أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال: " لأمثلن منهم بثلاثين "، فنزلت هذه الآية، قال القفال رحمه الله، وكل هذه الأشياء حصلت يوم أحد، فنزلت هذه الآية عند الكل فلا يمتنع حملها على كل الاحتمالات الثاني: في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت بسبب أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله
231

من ذلك وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الوجه الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر للمسلمين الذين انهزموا وخالفوا أمره ويدعو عليهم فنزلت الآية، فهذه الاحتمالات والوجوه كلها مفرعة على قولنا إن هذه الآية نزلت في قصة أحد.
القول الثاني: أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جمعا من خيار أصحابه إلى أهل بئر معونة ليعلموهن القرآن فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم فجزع من ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم جزعا شديدا ودعا على الكفار أربعين يوما، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل وهو بعيد لأن أكثر العلماء اتفقوا على أن هذه الآية في قصة أحد، وسياق الكلام يدل عليه وإلقاء قصة أجنبية عن أول الكلام وآخره غير لائق.
المسألة الثانية: ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت في أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيه فعلا، وكانت هذه الآية كالمنع منه، وعند هذا يتوجه الإشكال، وهو أن ذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى، فكيف منعه الله منه؟ وإن قلنا إنه ما كان بأمر الله تعالى وبإذنه، فكيف يصح هذا مع قوله * (وما ينطق عن الهوى) * (النجم: 3) وأيضا دلت الآية على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالأمر الممنوع عنه في هذه الآية إن كان حسنا فلم منعه الله؟ وإن كان قبيحا، فكيف يكون فاعله معصوما؟.
والجواب من وجوه الأول: أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع منه كان مشتغلا به فإنه تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) وأنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك قط وقال: * (يا أيها النبي اتق الله) * (الأحزاب: 1) فهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله، ثم قال: * (ولا تطع الكافرين) * وهذا لا يدل على أنه أطاعهم، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغم الشديد، والغضب العظيم، وهو مثلة عمه حمزة، وقتل المسلمين، والظاهر أن الغضب يحمل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل، فلأجل أن لا تؤدي مشاهدة تلك المكاره إلى ما لا يليق من القول والفعل نص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته وتأكيدا لطهارته والثاني: لعله عليه الصلاة والسلام إن فعل لكنه كان ذلك من باب ترك الأفضل والأولى، فلا جرم أرشده الله إلى اختيار الأفضل والأولى، ونظيره قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله) * (النحل: 126، 127) كأنه تعالى قال: إن كنت تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل، ثم قال ثانيا: وإن تركته كان ذلك أولى، ثم أمره أمرا جازما بتركه، فقال: * (واصبر وما صبرك إلا بالله) *.
232

الوجه الثالث: في الجواب: لعله صلى الله عليه وسلم لما مال قلبه إلى اللعن عليهم استأذن ربه فيه، فنص الله تعالى على المنع منه، وعلى هذا التقدير لا يدل هذا النهي على القدح في العصمة.
المسألة الثالثة: قوله * (ليس لك من الأمر شيء) * فيه قولان الأول: أن معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء وعلى هذا فنقل عن المفسرين عبارات أحدهما: ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك وثانيها: ليس لك من مسألة إهلاكهم شيء، لأنه تعالى أعلم بالمصالح فربما تاب عليهم وثالثها: ليس لك في أن يتوب الله عليهم، ولا في أن يعذبهم شيء.
والقول الثاني: أن المراد هو الأمر الذي يضاد النهي، والمعنى: ليس لك من أمر خلقي شيء إلا إذا كان على وفق أمري، وهو كقوله * (ألا له الحكم) * (الأنعام: 62) وقوله * (لله الأمر من قبل ومن بعد) * (الروم: 4) وعلى القولين فالمقصود من الآية منعه صلى الله عليه وسلم من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية، ثم اختلفوا في أن المنع من اللعن لأي معنى كان؟ منهم من قال الحكمة فيه أنه تعالى ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب، أو إن لم يتب لكنه علم أنه سيولد منه ولد يكون مسلما برا تقيا، وكل من كان كذلك، فإن اللائق برحمة الله تعالى أن يمهله في الدنيا وأن يصرف عنه الآفات إلى أن يتوب أو إلى أن يحصل ذلك الولد فإذا حصل دعاء الرسول عليهم بالإهلاك، فإن قبلت دعوته فات هذا المقصود، وإن لم تقبل دعوته كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من اللعن وأمره بأن يفوض الكل إلى علم الله تعالى، ومنهم من قال: المقصود منه إظهار عجز العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته، هذا هو الأحسن عندي والأوفق لمعرفة الأصول الدالة على حقيقة الربوبية والعبودية.
المسألة الرابعة: ذكر الفراء والزجاج وغيرهما في هذه الآية قولين أحدهما: أن قوله * (أو يتوب عليهم) * عطف على ما قبله، والتقدير: ليقطع طرفا من الذين كفروا، أو يكبتهم، أو يتوب عليهم، أو يعذبهم، ويكون قوله * (ليس لك من الأمر شيء) * كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه، كما تقول: ضربت زيدا، فاعلم ذلك عمرا، فعلى هذا القول هذه الآية متصلة بما قبلها.
والقول الثاني: أن معنى * (أو) * ههنا معنى حتى، أو إلا أن كقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي والمعنى: إلا أن تعطيني أو حتى تعطيني، ومعنى الآية ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم، أو يعذبهم فتتشفى منهم.
233

المسألة الخامسة: قوله تعالى: * (أو يتوب عليهم) * مفسر عند أصحابنا بخلق التوبة فيهم وذلك عبارة عن خلق الندم فيهم على ما مضى، وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل قال أصحابنا: وهذا المعنى متأكد ببرهان العقل وذلك لأن الندم عبارة عن حصول إرادة في المضي متعلقة بترك فعل من الأفعال في المستقبل، وحصول الإرادات والكراهات في القلب لا يكون بفعل العبد، لأن فعل العبد مسبوق بالإرادة، فلو كانت الإرادات فعلا للعبد لافتقر العبد في فعل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ويلزم التسلسل وهو محال، فعلمنا أن حصول الإرادة والكراهات في القلب ليس إلا بتخليق الله تعالى وتكوينه ابتداء، ولما كانت التوبة عبارة عن الندم والعزم، وكل ذلك من جنس الإرادات والكراهات، علمنا أن التوبة لا تحصل للعبد إلا بخلق الله تعالى، فصار هذا البرهان مطابقا لما دل عليه ظاهر القرآن، هو قوله * (أو يتوب عليهم) * وأما المعتزلة فإنهم فسروا قوله * (أو يتوب عليهم) * إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة.
أما قوله تعالى: * (فإنهم ظالمون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إن كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفر صح الكلام وهو أنه تعالى سماهم ظالمين، لأن الشرك ظلم قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) وإن كان الغرض منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره صح الكلام أيضا، لأن من عصى الله فقد ظلم نفسه.
المسألة الثانية: يحتمل أن يكون المراد من العذاب المذكور في هذه الآية عذاب الدنيا، وهو القتل والأسر وأن يكون عذاب الآخرة، وعلى التقديرين فعلم ذلك مفوض إلى الله.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (فإنهم ظالمون) * جملة مستقلة، إلا أن المقصود من ذكرها تعليل حسن التعذيب، والمعنى: أو يعذبهم فإنه إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون.
قوله تعالى
* (ولله ما فى السماوات وما فى الارض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله غفور رحيم) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: إن المقصود من هذا تأكيد ما ذكره أولا من قوله * (ليس لك من الأمر شيء) * والمعنى أن الأمر إنما يكون لمن له الملك، وملك السماوات والأرض ليس إلا لله تعالى
234

فالأمر في السماوات والأرض ليس إلا لله، وهذا برهان قاطع.
المسألة الثانية: إنما قال: * (ما في السماوات وما في الأرض) * ولم يقل (من) لأن المراد الإشارة إلى الحقائق والماهيات، فدخل فيه الكل.
أما قوله * (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * فاعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أنه سبحانه له أن يدخل الجنة بحكم إلهيته جميع الكفار والمردة، وله أن يدخل النار بحكم إلهيته جميع المقربين والصديقين وأنه لا اعتراض عليه في فعل هذه الأشياء ودلالة الآية على هذا المعنى ظاهرة والبرهان العقلي يؤكد ذلك أيضا، وذلك أن فعل العبد يتوقف على الإرادة وتلك الإرادة مخلوقة لله تعالى، فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى، فطاعة العبد من الله ومعصيته أيضا من الله، وفعل الله لا يوجب على الله شيئا البتة، فلا الطاعة توجب الثواب، ولا المعصية توجب العقاب، بل الكل من الله بحكم إلهيته وقهره وقدرته، فصح ما ادعيناه أنه لو شاء يعذب جميع المقربين حسن منه، ولو شاء يرحم جميع الفراعنة حسن منه ذلك، وهذا البرهان هو الذي دل عليه ظاهر قوله تعالى: * (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) *.
فإن قيل: أليس أنه ثبت أنه لا يغفر للكفار ولا يعذب الملائكة والأنبياء.
قلنا: مدلول الآية أنه لو أراد لفعل ولا اعتراض عليه، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل، وهذا الكلام في غاية الظهور.
ثم ختم الكلام بقوله * (والله غفور رحيم) * والمقصود بيان أنه وإن حسن كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والإحسان.
235