الكتاب: معاني القرآن
المؤلف: النحاس
الجزء: ١
الوفاة: ٣٣٨
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الشيخ محمد علي الصابوني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٠٩
المطبعة:
الناشر: جامعة أم القرى - المملكة العربية السعودية
ردمك:
ملاحظات:

المملكة العربية السعودية
جامعة أم القرى
معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي * من التراث الاسلامي
مركز إحياء التراث الإسلامي
مكة المكرمة
معاني القرآن الكريم
للإمام أبي جعفر النحاس
المتوفى سنة 338 ه‍
تحقيق
الشيخ محمد علي الصابوني
الأستاذ بجامعة أم القرى
الجزء الأول
1

الطبعة الأولى
1408 ه‍ - 1988 م
حقوق الطبع محفوظة
لجامعة أم القرى
2

أبو جعفر النحاس
" أبو جعفر النحاس، إمام العربية، صاحب التصانيف،
كان ينظر في زمانه بابن الأنباري، وبنفطويه للمصريين ".
[الذهبي]
" أبو جعفر المصري النحوي، اللغوي، المفسر
الأديب، له مصنفات كثيرة مفيدة، في التفسير وغيره، لقي
أصحاب المبرد، وسمع الحديث عن النسائي وانتفع الناس به ".
[الحافظ ابن كثير]
" أبو جعفر النحوي، رحل إلى بغداد، وقرأ
كتاب سيبويه على الزجاج واشتغل بالتصنيف في علوم
القرآن والأدب، ولم تكن له مشاهدة، وإذا خلا بقلمه
جود وأحسن، وتصانيفه تزيد على خمسين مصنفا ".
[الصفدي]
3

إني لأعجب ممن يقرأ القرآن، كيف
يلتذ بتلاوته ولم يفهم معناه
" الإمام الطبري "
4

تقديم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، والصلاة والسلام
على خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبد الله الذي قال له رب العالمين: * (لا تحرك به
لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا
بيانه) *.
وبعد:
فهذا كتاب جديد من كتب التفسير المبارك، الذي نهض به علماء صالحون
وأئمة متقون، أفنوا أعمارهم في فهم آيات الكتاب الكريم، وتمحيص الرواية في
التفسير، وجمع شواهد اللغة التي يحتج بها في بيان معاني مفردات القرآن.
والمؤلف إمام من أئمة اللغة في القرن الرابع الهجري، انتفع بمعارفه اللغوية
الواسعة في مجال التفسير، فوجه أقوال المفسرين بما يتفق مع ما نقل عن العرب، ونظر
إلى الروايات الشاذة بهذا المنظار فرد منها ما لا تعرفه العرب.
والعجب أن هذا الكتاب النفيس لم يحظ بالعناية قديما، مما يدل عليه ندرة
نسخه، إذ لم يصل إلينا غير نسخة واحدة منه، فيها سقط ومحو في بعض المواضع، مما
اضطر المحقق إلى ترك فراغ مكانها أو محاولة ملئها بنقول من كتب التفسير.
وقد كلف مركز إحياء التراث الإسلامي فضيلة الشيخ " محمد علي الصابوني "
بتحقيق هذا الكتاب الجدير بالنشر، فقام بما عهد إليه، ثم راجعه أساتذة
فضلاء من جامعة أم القرى، هم الأساتذة الدكاترة: محمد المختار المهدي،
وعبد المجيد محمود، وعبد الوهاب فايد، وعبد الباسط بلبول. فكان لهم ملاحظات
واستدراك واقتراحات، انتفع بها الكتاب. فجزاهم الله خير الجزاء. وهذا الجزء من
مراجعة الدكتور محمد المختار المهدي.
5

هذا والمحقق الفاضل يميل إلى كثرة النقول من كتب التفسير; توضيحا للنص
وشرحا له، وقد حاولنا التخفيف من هذه النقول حتى لا تزاحم النص، ورغبنا إليه أن
يختصر فيها، فاستجاب مشكورا في كثير من المواضع، وأبقى ما يراه ضرورة لتوضيح
المقصود.
وها هو " الجزء الأول " من هذا الكتاب المبارك بين أيدي الباحثين
والدارسين، ونرجوهم ألا يضنوا بتصويب أو استدراك يرونه ليمكن التنويه به في ختام
الكتاب.
وليس هناك جهد بشري يخلو من نقص أو قصور، والفاضل من تعد هفواته
وتحصى أخطاؤه.
فشكرا للمحقق، وشكرا للمراجعين وشكرا للقارئين المعقبين، وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين.
ا. د مصطفى عبد الواحد
مدير مركز إحياء التراث الإسلامي
6

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
* الحمد لله منزل الكتاب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب، والصلاة والسلام
على السراج المنير، من أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب، سيدنا محمد
النبي الأمي، الهاشمي العربي صاحب المعجزات، وعلى آله وذريته وسائر
الأصحاب، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب، وسلم تسليما
كثيرا.
أما بعد:
* فلقد ترك أسلافنا - رحمهم الله - كنوزا ثمينة، وثروة علمية عظيمة، في
شتى أنواع العلوم والمعارف، ولم تقتصر جهودهم الجبارة على علوم الشريعة
والدين، بل تعدها إلى سائر العلوم والفنون " العلوم الانسانية،
والاجتماعية، والعربية، والدينية " فما من علم من العلوم، ولا فن من
الفنون، إلا خاضوا عبابه، واستخرجوا منه الدرر والجواهر، وألفوا فيه
الموسوعات، وما وصل إلينا من علومهم ومؤلفاتهم، إنما هو قطرة من
البحر الزاخر، الذي تركوه ثروة للأبناء والأحفاد، فعبثت به يد الفساد،
وعدت عليه عاديات الزمان، في عصور الظلم والطغيان فبددته
7

وجعلته أيدي سبأ، ومع كل ما ذهب واندرس، فقد بقيت بقية من
تراث سلفنا، تحتاج إلى سواعد الرجال، لترى النور وتخرج إلى حيز
الوجود، بعد طول ركود ورقود.
8

* وقد حظي القرآن الكريم، بنصيب وافر من هذه المعارف، فكانت هناك
كتب ومؤلفات، ورسائل، ومعاجم، وموسوعات، في شتى علوم
القرآن، منها المسهب والموجز، ومنها ما يعز مناله، ويصعب حمله،
على العصبة أولي القوة من الرجال، فقد بلغ بعض الكتب مائة جزء أو
تزيد.
* وكتب في علم التفسير رجال عظام، من أساطين العلماء، وفحول
النبغاء، كل أدلى بدلوه، في خدمة الكتاب العزيز، فمنهم من ألف في
غريبه، ومنهم من ألف في ناسخه ومنسوخه، ومنهم من كانت همته في
جمع الأخبار، وتنقيح الآثار، وآخرون بذلوا جهودا جبارة، في إيقاد
قرائحهم، لاستنباط الأحكام من آيات القرآن، واستخراج ما فيها من
دقائق المعرفة وأصول الأحكام.
* ومن هؤلاء الأئمة الأجلاء، والجهابذة الأعلام، الذين لهم باع طويل في
خدمة التنزيل، العلم الأجل - شيخ العربية - الإمام أبو جعفر
النحاس، صاحب كتاب " معاني القرآن الكريم " الذي نحن بصدد
الحديث عنه في هذه المقدمة.
* ومع كل ما صنف العلماء وألفوا، وتبحروا فيه، خدمة للكتاب العزيز،
فإن علم التفسير لا يزال بحرا لجيا، زاخرا بالدرر والنفائس، يحتاج إلى
من يغوص في أعماقه، ليستخرج منه الدرر واللآلئ الثمينة، وكل علم
شاط واحترق إلا علم التفسير، فإنه لا يزال غضا طريا، يحتاج إلى بحث
وتنقيب، ودراسة وتمحيص، لاستخراج كنوزه الدفينة، والاستفادة من
9

أحكامه الثمينة، وها نحن نتناول هذا السفر القيم، بالتحقيق والتدقيق،
لإمام من أئمة اللغة، وعالم من مشاهير علماء الإسلام، ذلكم هو الإمام
الهمام، الشيخ " أبو جعفر النحاس " من علماء القرن الرابع الهجري،
المتوفى سنة 338 ه‍ ثمان وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة النبوية، تغمده الله
بالرحمة والرضوان، وأسكنه فسيح الجنان.
نسبه ولقبه
* هو الإمام أبو جعفر " أحمد بن محمد، بن إسماعيل، بن يونس،
المرادي " المفسر المصري النحوي، المعروف بالنحاس أو بابن النحاس،
ويعرف أيضا بالصفار، ولكن لقب " النحاس " هو الأشهر الذي عرف
به، وهو الذي طار في الآفاق، حتى صار علما له. و " النحاس "
نسبة إلى من يصنع الأواني النحاسية، كالقدور، والأواني، وغير ذلك،
ويظهر أن أجداده كانوا يشتغلون بهذه الصنعة، وأما أبو جعفر فقد طلب
العلم منذ حداثة سنه، ولم ينقل عنه أنه اشتغل بهذه الحرفة، صنعة أو
بيعا، وسمي بالصفار أيضا نسبة إلى " الصفر " وهو النحاس أيضا.
* قال في المصباح: " الصفر مثل قفل: النحاس، وكسر الصاد لغة
فيقال: صفر، وصفر. وهو النحاس، ويقال: بيت صفر أي خال من
المتاع، وهو صفر اليدين أي ليس فيهما شئ ".
* وقال السمعاني في الأنساب: " النحاس بفتح النون وتشديد الحاء، نسبة
إلى عمل النحاس. وأهل مصر يقولون لمن يعمل الأواني الصفرية ويبيعها
10

النحاس، وقد اشتهر بهذا الاسم جماعة، منهم: أبو جعفر أحمد بن
محمد بن إسماعيل النحاس ".
مولده ووفاته
* ولد الإمام أبو جعفر النحاس في مصر، وعاش فيها ردحا من الزمن، ولا
يعرف على وجه الضبط سنة ميلاده، فالمراجع التي بين أيدينا كلها لا
تذكر سنة مولده، ولا أطوار نشأته الأولى، ولكنها متفقة على أنه ولد في
مصر وتوفي فيها، وإن كان يغلب على الظن أن ولادته كانت سنة 260 ه‍
كما ذكر بعض العلماء.
* وأما وفاته فالمراجع متفقة على أنها كانت سنة 338 ه‍ ثمان وثلاثين
وثلاثمائة من الهجرة النبوية.
الحياة العلمية في عصر النحاس
* في الفترة التي عاش فيها " أبو جعفر النحاس " كانت قد دبت في مصر
روح النشاط العلمي، وأخذت تتنافس مع بغداد عاصمة الخلافة
الإسلامية، وقبلة العلم والعلماء آنذاك.. لا سيما بعد أن وفد إليها نخبة
من العلماء الأفذاذ كأحمد بن جعفر الدينوري، وعلي بن سليمان
الأخفش، ومحمد بن يحيى اليزيدي، وغيرهم من أكابر العلماء، ممن
حط عصا التسيار في ربوع الكنانة، وطاب له المقام في دار من ديار
الإسلام، وبذلك دبت روح التنافس والتسابق العلمي، في عواصم البلدان
11

الإسلامية، وأصبحت مصر في " النصف الثاني من القرن الثالث
الهجري " موئل أهل العلم، وكهف أهل الفضل والعرفان، وأضحت
متهيئة لتعطي ثمارها المباركة، بعد أن ظهر فيها العلماء، ونبغ فيها المحدثون
والفقهاء من أمثال الإمام أحمد بن محمد الطحاوي، الذي قال عنه
الذهبي في سير أعلام النبلاء 15 / 27: " الطحاوي هو الإمام العلامة
الحافظ الكبير، محدث الديار المصرية وفقيهها، أبو جعفر أحمد بن محمد
ابن سلامة، المصري الطحاوي الحنفي، صاحب التصانيف
الشهيرة.. " وأمثاله من أهل الفضل والعلم كثيرون، ممن لا يتسع المجال
إلى ذكرهم، وأمها طلاب العلم من شتى الديار والأقطار، وبذلك
أضحى التنافس والتسابق بين " بغداد " و " القاهرة " يشتد ويمتد،
ويسير بخطى حثيثة نحو أوج الارتقاء والكمال.
نشأته العلمية
* نشأ الإمام أبو جعفر النحاس، في عصر مواكبة النهضة العلمية، شغوفا
دؤوبا على طلب العلم، محبا للعلماء ومجالستهم، والاستفادة منهم، لم
يمنعه فقره وإعساره، عن مواصلة الطلب، لأنه شعر أن هذا هو طريق
المجد والسؤدد، فأخذ يجد ويجتهد، ويواصل الليل بالنهار في طلب العلم،
ولم تقتصر همته أن ينهل من معين شيوخه في مصر فحسب، بل دفعه
حبه وشغفه بالعلم، أن يرحل إلى بغداد، لينال من جهابذتها وعلمائها
ما يشفي طموحه، لا سيما وقد تألق في سماء بغداد كواكب مضيئة،
من أمثال المبرد، والأخفش الصغير، ونفطويه، والزجاج، في علوم
العربية، وأمثال " أحمد بن محمد الحجاج المروزي " و " أبي حاتم
12

الرازي " و " إبراهيم بن إسحاق الحربي " و " أبي داود السجستاني " في
الحديث الشريف، وأمثال الإمام " أيي جعفر محمد الطبري " و " بقي
ابن مخلد " في التفسير وعلوم القرآن، فأخذ عن علمائها فنون المعرفة
وأنواع العلوم، ثم رجع إلى مصر، ولم ينقطع عن مواصلة العلم على شيوخ
أجلاء، حتى صار إماما يشار إليه بالبنان، في علوم العربية، والتفسير،
والحديث، وقد سمع الإمام المحدث الحافظ البارع " أحمد بن شعيب بن
علي بن سنان " أبا عبد الرحمن النسائي صاحب السنن، أخذ عنه
النحاس الحديث الشريف، وروى عنه في كتابه " إعراب القرآن "
و " الناسخ والمنسوخ ".
شيوخ النحاس
* ونذكر هنا بإيجاز الشيوخ الذين تلقى عنهم الإمام النحاس علومه،
وتلامذته الذين استفادوا من علمه، وكان له تأثير عظيم في سلوكهم
وحياتهم.
* فمن شيوخه الذين تتلمذ عليهم، وأثروا في بناء شخصيته:
1 - الإمام الزجاج، وهو " أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل "
الإمام اللغوي الشهير، صاحب كتاب " معاني القرآن " المتوفى
سنة 311 ه‍ أحد تلامذة الإمام المبرد، أخذ عنه النحاس، وقرأ
عليه كتاب سيبويه، كما ذكر النحاس ذلك صراحة في كتابه
" إعراب القرآن " حيث قال: هكذا قرأت على أبي إسحاق
الزجاج في كتاب سيبويه، أن يكون " دفاع " مصدر دفع، كما
13

تقول: حسبت الشئ حسابا، ولقيته لقاء، فيكون دفاع ودفع
مصدرين.
2 - ومن شيوخ النحاس " أبو بكر بن الأنباري " المتوفى سنة 328 ه‍
صاحب كتاب " المشكل في معاني القرآن " وهو من أصحاب
ثعلب، ذكره الزبيدي في طبقات النحويين ص 153.
3 - ومن شيوخه أيضا ابن كيسان " أبو الحسن محمد بن أحمد
الكيساني " المتوفى سنة 299 ه‍ أخذ عن ثعلب والمبرد، وكان
نحويا بارعا، يحفظ أقوال الكوفيين والبصريين، قال النحاس عنه
في كتابه إعراب القرآن 1 / 136: " قال ابن كيسان، وهو
النحوي، فكلما قلنا قال ابن كيسان، فإياه نعني، يجوز غشوة
وغشوة، فإن جمعت غشاوة تحذف الهاء فتقول غشاو ".
4 - ومن شيوخه كذلك " نفطويه " وهو " إبراهيم بن محمد بن عرفة
الأزدي " المتوفى سنة 323 ه‍ قال عنه الزبيدي في الطبقات
ص 154: " كان أديبا متفننا في الأدب، يحفظ لجرير،
والفرزدق، وشعر ذي الرمة وغيرهم من الشعراء، وكان يروي
الحديث " وهو من النحويين الكوفيين، ومن أصحاب ثعلب.
5 - ومن شيوخ النحاس " الأخفش الصغير " وهو " أبو الحسن علي
بن سليمان بن الفضل " المتوفى سنة 315 ه‍ الذي تلقى عن
ثعلب والمبرد وانظر ترجمته في طبقات الزبيدي ص 115.
6 - ومن شيوخه أيضا " محمد بن الوليد بن ولاد " المصري التميمي
14

النحوي المتوفى سنة 298 ه‍ وأبو بكر " أحمد بن شقير "
البغدادي المتوفى سنة 315 ه‍، وابن رستم " أحمد بن محمد
الطبري " المتوفى سنة 304 ه‍.
7 - ومن شيوخه في الحديث الشريف، الإمام " أبو عبد الرحمن "
" أحمد بن شعيب بن علي بن سنان " النسائي، صاحب السنن
المشهور ب‍ " سنن النسائي " المتوفى سنة 303 ه‍، وهو أحد أعلام
الدين، وقد ترجم له الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية
11 / 123 بأنه الإمام في عصره، والمقدم على أشكاله وفضلاء
دهره، رحل إلى الآفاق واجتمع بالأئمة الحذاق.
تلامذة النحاس
* أما تلامذة النحاس فلا يكادون يحصون عددا، نذكر منهم خشية
الإطالة:
1 - منذر بن سعيد بن عبد الله البلوطي المتوفى سنة 335 ه‍.
2 - محمد بن مفرج بن عبد الله المعافري المتوفى سنة 371 ه‍.
3 - عمر بن محمد بن عراك الحضرمي المصري المتوفى سنة 388 ه‍.
4 - سليمان بن محمد الزهراوي، ذكره في بغية الوعاة 1 / 602.
5 - محمد بن يحيى الأزدي القرطبي النحوي المتوفى سنة 358 ه‍.
6 - محمد بن علي الأدفوي المصري المتوفي سنة 388 ه‍.
7 - عبد السلام بن السمح بن نابل المتوفى سنة 387 ه‍.
8 - فضل بن سعيد الكزني من أهل قرطبة المتوفى سنة 335 ه‍.
15

9 - أبو بكر بن إسحاق بن منذر المتوفي سنة 367 ه‍.
10 - أبو عبد الله محمد بن خراسان النحوي المتوفي سنة 386 ه‍.
* وآخرون يضيق عن ذكرهم المقام، وكلهم من البارزين الأعلام.
النحاس بحاثة ونقاد
* مما سبق يتضح لنا أن الإمام النحاس، جهبذ من جهابذة علماء اللغة،
ورائد من أكابر رواد العربية، ألف كتابه " معاني القرآن الكريم " وعرض
فيه أقوال العلماء والمفسرين، عرضا دقيقا شاملا، على منهج اللغة
العربية، فنراه يحكي في تفسيره أقوال بعض أئمة التفسير، ويوجه منها
السديد الصائب، ويفند الضعيف الذي لا تعضده لغة العرب، وحجته
في ذلك أن القرآن، نزل بأفصح لسان وأوضح بيان، على أسلوب العرب
في تخاطبهم وكلامهم، فيجب فهمه على منهاج اللسان العربي الفصيح.
* ونجده يؤكد على هذا أشد التأكيد في مؤلفاته وكتبه، فيقول في إعراب
القرآن 1 / 258: * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) * قال
أبو عبيدة: هو مخفوض على الجوار. قال أبو جعفر - يعني النحاس -
" لا يجوز أن يعرب شئ على الجوار في كتاب الله عز وجل، وإنما الجوار
غلط، وإنما وقع في شئ شاذ، وهو قولهم: " هذا جحر ضب
خرب " والدليل أنه غلط قول العرب في التثنية: هذان جحرا ضب
خربان، ولا يحمل شئ من كتاب الله عز وجل على هذا، ولا يكون
إلا بأفصح اللغات وأصحها ".
* ويحكي النحاس أقوال الفراء أحيانا، ويرد منها ما لا يتفق مع اللغة، فقد
16

قال - عند قوله تعالى في سورة الصافات -: * (فأقبلوا إليه يزفون) * وقرئ
" يزفون " بالتخفيف، وأكثر أهل اللغة لا يعرفه، وقرئ " يزفون "
بضم الياء، وأكثر أهل اللغة لا يعرفه أيضا.
* كما يوجه آراء المفسرين بما يتفق مع اللغة، فيقول عند قوله تعالى: * (وأنبتنا
عليه شجرة من يقطين) * بعد نقله آراء المفسرين: " وهذا الذي قاله
مجاهد هو الذي تعرفه العرب، يقع على القرع، والبطيخ، والحنظل،
وأنشد سيبويه:
- ورب هذا البلد المحرم * قواطنا مكة من ورق الحمي -
* كما ينقل آراء السلف فيؤيدها أو يفندها ويردها لأنها تتوافق أو تتعارض مع
اللغة العربية التي أنزل بها القرآن.
النحاس إمام محقق
* وباختصار فالإمام النحاس، إمام محقق، يأتي بالحجج الناصعة، والدلائل
الواضحة على صحة ما يذهب إليه، وأحيانا يخطئه الحظ فيرجح القول
الضعيف من أقوال المفسرين، وهذا دليل ضعف البشر، إذ لا كمال إلا
لله جل وعلا، ولا عصمة إلا لأنبيائه ورسله الكرام، وقد ألف كتابه
معاني القرآن الكريم قبل تأليف " إعراب القرآن " لذا وردت إحالات
كثيرة في الإعراب عليه، وقد يذكر ذلك صراحة فيقول: وقد ذكرناه أولا
في كتابنا الأول " المعاني " وهذا أوضح دليل على أن كتابه " معاني
القرآن " قد ألفه قبل كتابه الآخر " إعراب القرآن ".
17

شواهد من كلام النحاس في كتابيه الإعراب والمعاني
* ومما يؤيد ما قلناه أن أبا جعفر النحاس بحاثة ونقاد، وأنه متمكن في اللغة
العربية ما ذكره في كتابه إعراب القرآن 1 / 296:
* قال أبو جعفر: " ميسرة " أفصح اللغات وهي لغة أهل نجد.
* و " ميسرة " وإن كانت لغة أهل الحجاز فهي من الشواذ، لا يوجد في
كلام العرب مفعلة إلا حروف معدودة شاذة، ليس منها شئ إلا يقال فيه
مفعلة، وأيضا فإن الهاء زائدة، وليس في كلام العرب " مفعل " البتة،
وقراءة من قرأ " إلى ميسرة " لحن لا يجوز. اه‍. إعراب القرآن للنحاس
1 / 255.
* ويقول في الرد على الفراء في معانيه عند قوله تعالى: * (يرونهم مثليهم رأي
العين) * يحتمل " مثليهم " ثلاثة أمثالهم.. إلخ. يقول: وهذا باب
الغلط فيه غلط بين في جميع المقاييس، إنا إنما نعقل مثل الشئ مساويا
له، ونعقل مثليه ما يساويه مرتين، واللغة على خلاف ما قال الفراء.
* ويقول عند قوله تعالى في سورة البقرة آية رقم 214 ما نصه: * (وزلزلوا
حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) *؟ هذه قراءة أهل
الحرمين، وقرأ أهل الكوفة والحسن وأبو عمرو: * (حتى يقول
الرسول) * بالنصب، وهو اختيار أبي عبيدة، وله في ذلك حجتان:
18

* إحداهما: عن أبي عمرو قال " زلزلوا " فعل ماض و " يقول " فعل
مستقبل، فلما اختلفا كان الوجه النصب.
* والحجة الأخرى: حكاها عن الكسائي قال: إذا تطاول الفعل الماضي،
صار بمنزلة المستقبل.
* قال أبو جعفر: أما الحجة الأولى بأن " زلزلوا " ماضي، و " يقول "
مستقبل، فشئ ليس فيه علة الرفع ولا النصب، لأن " حتى " ليست
من حروف العطف في الأفعال، ولا هي البتة من عوامل الأفعال، وكأن
هذه الحجة غلط.
* وحجة الكسائي بأن الفعل إذا تطاول صار بمنزلة المستقبل.. كلا حجة،
لأنه لم يذكر العلة في النصب، ولو كان الأول مستقبلا لكان السؤال
بحاله، ومذهب سيبويه في " حتى " أن النصب فيما بعدها من جهتين،
والرفع من جهتين، تقول: " سرت حتى أدخلها "، على أن السير
والدخول جميعا قد مضيا أي سرت إلى أن أدخلها، وهذا غاية، وعليه
قراءة من قرأ بالنصب.
* والوجه الآخر في النصب - في غير الآية - سرت حتى أدخلها أي كي
أدخلها.
* والوجهان في الرفع " سرت حتى أدخلها " أي سرت فأدخلها، وقد مضيا
جميعا أي كنت سرت فدخلت، ولا تعمل هاهنا بإضمار " أن " لأن
بعدها جملة، كما قال الفرزدق:
- فيا عجبا حتى كليب تسبني * كأن أباها نهشل أو مجاشع -
19

* فعلى هذه القراءة بالرفع وهي أبين وأصح معنى، أي وزلزلوا حتى الرسول
يقول: أي هذه حاله، والنصب على الغاية ليس فيه هذا المعنى. اه‍.
إعراب القرآن 1 / 256.
آراؤه العلمية وانتقاداته الجريئة
* مما يشير إلى إمامته، وجلالة قدره، وسعة باعه في علوم العربية أنه ينقد
آراء علماء اللغة في بعض الأحيان، فيصوب الصحيح، ويخطئ
الخطأ، حتى ولو كان الذين ينتقدهم أساطين علماء اللغة، كالفراء،
والأخفش، وابن قتيبة، والكسائي، وغيرهم من العلماء الأفذاذ.
(أ) انظر إليه وهو يخطئ الفراء في قوله تعالى في سورة السجدة:
* (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض) * قال: " وروي عن أبي رجاء
وطلحة أنهما قرءا " أئذا ضللنا " وهي لغة شاذة، وروى الفراء
عن الحسن " أئذا صللنا " بالصاد، وزعم أنها تروى عن علي بن
أبي طالب، ولا يعرف في اللغة " صللنا " ولكن يعرف
" صللنا " يقال: صل اللحم وأصل، وخم وأخم إذا
أنتن " إعراب القرآن 3 / 293.
(ب) وكذلك يخطئه في قوله تعالى في سورة المؤمن * (النار يعرضون
عليها غدوا وعشيا) * قال الفراء: ليس في القيامة غدو ولا
عشي، ولكن مقدار ذلك.. فيقول النحاس: قال أبو جعفر:
التفسير على خلاف ما قال الفراء، وذلك أن التفسير على أن
20

هذا العرض إنما هو في أيام الدنيا، والمعنى أيضا بين أنه على
ذلك، لأنه قال جل وعز: * (النار يعرضون عليها غدوا
وعشيا) *، ثم دل على أن هذا قبل يوم القيامة بقوله: * (ويوم
تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) * فدل على أن
الأول بمنزلة عذاب القبر. " معاني النحاس ".
(ج‍) وفي قوله سبحانه في سورة فصلت: * (قالتا أتينا طائعين) * لم
يرتض قول الفراء: أتينا بمن فينا طائعين، قال: والأحسن في هذا
- وهو مذهب جلة النحويين - أنه جل وعز لما أخبر عنها
بأفعال ما يعقل، جاء فيها بما يكون من يعقل، كما قال تعالى:
* (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي
ساجدين) * فأما الكسائي فأجاز في كل شيء، أن يجمع بالواو
والنون، وبالياء والنون، قال: وهذا لا يعرج عليه. " معاني
النحاس ".
(د) كما نراه يرجح بين أقوال السلف، بما يتفق مع قواعد اللغة
العربية.. انظر إليه وهو ينقل آراء السلف في قوله سبحانه
* (ريحا صرصرا في أيام نحسات) * فيقول: قال مجاهد:
" صرصرا " شديدة السموم، وقال قتادة: باردة. وقول قتادة
أبين، وكذا قال عطاء، لان " صرصرا " مأخوذ من صر، والصر
في كلام العرب: البرد، كما قال الشاعر:
21

لها غدر كقرون النساء * ركبن في يوم ريح وصبر
قال: وليس القولان بمتناقضين، لأنه يروي أنها كانت ريحا
باردة تحرق كما تحرق النار. وقال أبو عبيدة: " صرصر ":
شديدة الصوت عاصف. " معاني النحاس ".
(ه‍) كذلك يخطئ أبو جعفر ابن قتيبة - وهو من كبار علماء
اللغة - في تفسير آية في سورة الشورى وهي قوله عز وجل:
* (يدرؤكم فيه) * حيث قال ابن قتيبة: يذرؤكم فيه أي في
الزوج.. قال أبو جعفر: كأن المعنى عنده يخلقكم في بطون
الإناث، ويكون قوله " فيه " أي في الرحم، قال: وهذا خطأ
لأن الرحم مؤنثة، ولم يجر لها ذكر.
والمعنى: أي يخلقكم ويكثركم في الجعل - أي بسبب
التوالد - لأنه لما قال: * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) *
دل على الجعل، كما يقال: من كذب كان شرا يعني
الكذب.. إلخ " معاني النحاس ".
(و) كما نراه ينتقد الفراء في قوله سبحانه في سورة الشورى: * (ومن
آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما) * حيث يقول:
قال الفراء: أراد بث في الأرض دون السماء كما قال سبحانه
* (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * وإنما يخرج من الملح دون
22

العذب.. ولا يكتفي بانتقاده بل يقول: هذا غلط، ويروي
أبو جعفر عن مجاهد ما يدل على خطأ قول الفراء فيقول: روي
عن مجاهد * (وما بث فيهما من دابة) * يريد الناس والملائكة،
يعني وما نشر وفرق في الأرض من الناس، وفي السماء من الملائكة،
ويعقب على ذلك بقوله: وهذا قول حسن، لأنه يقال لكل حي
دابة، من دب فهو دأب، والهاء للمبالغة كما يقال: راوية،
وعلامة.
* ولو أردنا أن نستقصي ما انتقده النحاس، وخطأ به آراء من سبقه من
علماء اللغة، وأهل التفسير، لطال بنا الحديث، ولكن ضربنا بعض
الأمثلة، كنموذج على إمامته في اللغة، ومعرفته بالغث والسمين من أقوال
المفسرين، فهو يصوب ويخطئ، ويدلل ويعلل لما يراه الأرجح من
الأقوال، وهذا يدل على أن أبا جعفر النحاس ذو باع طويل في علوم
العربية، وعلى أنه ناقد متمكن، وبحاثة قدير، جمع بين علوم اللغة وعلوم
الدين، وعلى أنه إمام من أئمة الأدب وأئمة التفسير، كما قال عنه الحافظ
ابن كثير. وقد اعتمد على كتابه " معاني القرآن الكريم " الإمام القرطبي
في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " كما يراه القارئ الكريم، مما
ساعدنا في تحقيق المخطوطة الوحيدة.
مؤلفات النحاس
* وللإمام أبي جعفر النحاس مؤلفات كثيرة، ومصنفات شهيرة في مختلف
23

أنواع المعرفة، تزيد على خمسين مصنفا، كما ذكره ياقوت في معجم الأدباء
4 / 228 حيث قال: " وأبو جعفر النحاس، صاحب الفضل الشائع،
والعلم المتعارف الذائع، يستغني بشهرته عن الإطناب في صفته، قال
الزبيدي عنه: " ولم تكن له مشاهدة، فإذا خلا بقلمه جود وأحسن،
وكان لا يتكبر أن يسأل أهل النظر والفقه، ويفاتشهم عما أشكل عليه في
تصانيفه ".
* ثم قال ياقوت: " وصنف كتبا حسانا مفيدة - وسمعت من يحكي أن
تصانيفه تزيد على الخمسين مصنفا - منها:
1 - كتاب الأنوار.
2 - كتاب الاشتقاق لأسماء الله عز وجل.
3 - كتاب معاني القرآن الكريم. وهو هذا التفسير الذي نقوم بتحقيقه.
4 - كتاب اختلاف الكوفيين والبصريين، سماه " المقنع ".
5 - كتاب أخبار الشعراء.
6 - كتاب أدب الكتاب
7 - كتاب الناسخ والمنسوخ.
8 - كتاب الكافي في النحو.
9 - كتاب صناعة الكتاب.
10 - كتاب إعراب القرآن.
24

11 - كتاب شرح السبع الطوال.
12 - كتاب شرح أبيات سيبويه.
13 - كتاب الاشتقاق.
14 - كتاب معاني الشعر.
15 - كتاب التفاحة في النحو.
16 - كتاب أدب الملوك.
* وأبو جعفر من أهل مصر، رحل إلى بغداد، فأخذ عن المبرد، والأخفش
علي بن سليمان، ونفطويه، والزجاج وغيرهم، ثم عاد إلى مصر فأقام
بها إلى أن مات ".
وفاة الإمام النحاس
* توفي أبو جعفر النحاس بحادثة عجيبة غريبة، لا تكاد تصدق، ذكرها
المترجمون لحياته، الذين تحدثوا عنه في كتبهم ومؤلفاتهم، وهي " أن أبا
جعفر النحاس خرج ذات يوم من بيته، وقصد نهر النيل، ليستنشق
الهواء العليل، ويروح عن نفسه، وجلس على درج المقياس على شاطئ
النيل - وهو في أيام زيادته - وأخذ يقطع بالعروض شيئا من الشعر
" مستفعلن، فاعلن، فاعلاتن " يريد وزن الشعر ومعرفة بحوره، فمر به
بدوي أحمق، فسمعه يقول كلاما غير مفهوم، فقال: هذا الرجل ساحر
يسحر النيل حتى لا يزيد ماؤه، فتغلوا الأسعار، فجاءه من خلفه،
ورفسه برجله فسقط في النهر فغرق، ولم يعثر له على خبر ".
25

* وتكاد تجمع الروايات أن هذه القصة هي سبب وفاته.
* رحم الله الإمام النحاس رحمة واسعة، فقد ذهب شهيد علم العروض،
وقاتل الله الجهل فهو سبب نكبة وبلاء العلماء.
* وكانت وفاته رحمه الله سنة 338 ه‍ ثمان وثلاثين وثلاثمائة من هجرة سيد
المرسلين.
ثناء العلماء عليه
* أثنى على الإمام النحاس علماء فطاحل، عرفوا قدره وفضله، وأشادوا
بمآثره ومناقبه، فقد قال عنه الإمام الذهبي: العلامة أبو جعفر إمام
العربية، كان ينظر في زمانه بابن الأنباري وبنفطويه للمصريين.
* - وقال عنه الحافظ ابن كثير: هو الإمام اللغوي، المفسر، الأديب، له،
مصنفات كثيرة ومفيدة، في التفسير وغيره، لقي أصحاب المبرد، سمع
الحديث عن النسائي، وانتفع الناس به وبعلومه.
* وقال عنه الزبيدي: كان واسع العلم، غزير الرواية، كثير التأليف، وإذا
خلا بقلمه جود وأحسن، وله كتب في القرآن مفيدة، وكان لا يتكبر أن
يسأل الفقهاء وأهل النظر، عما أشكل عليه في تأليفاته.
* رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
26

المخطوطة وحيدة
* والمخطوطة التي بين أيدينا، هي المخطوطة الوحيدة، التي أمكن العثور
عليها في معاني القرآن للإمام النحاس في التفسير، إذ لا يوجد - حسب
علمنا واطلاعنا - نسخة أخرى لهذه المخطوطة، فهي من نوادر
المخطوطات، وهي نسخة ملفقة أيضا، قسم منها قد صور من دار
الكتب المصرية بالقاهرة برقم 385 وهي النصف الأول من تفسير القرآن
الكريم، إلى نهاية سورة مريم، وفيها نقص لبعض الآيات من سورة البقرة،
كما في بعض اللوحات طمس وخروم، ولكنها - بحمد الله - قليلة،
وخطها قديم مقروء وعدد أوراقها 238 مزدوجة، ومتوسط عدد السطور فيها
(23) سطرا، وعدد كلمات كل سطر في حدود خمس عشرة كلمة.
* إما النصف الثاني من التفسير، فقد صور من مخطوطة وحيدة أيضا
بمكتبة كوبريلي بتركيا، وهي تبدأ من أول سورة الحج، إلى نهاية سورة
الأحقاف; وقد كتبت بخط نفيس ممتاز، في غاية الوضوح والجمال، تدل
على عناية فائقة بكتاب الله العزيز، في عهد السلاطين والخلفاء العثمانيين،
وقد لاقينا كثيرا من المتاعب والمصاعب في القسم الأول من المخطوطة
بشكل خاص، وفي الكتاب بشكل عام، بسبب أنها المخطوطة الوحيدة
التي بين أيدينا، ولكن الله عز وجل أعاننا - بفض منه وإنعام - على
تذليل الصعاب، ومعرفة أماكن الخطأ، بكثرة المراجع التي بين أيدينا،
والاهتداء إلى أماكن الصواب فيها، رحم الله الإمام أبا جعفر النحاس
رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، بما قدم من خدمة جليلة لكتاب الله
العزيز، وبما أسدى للأمة الإسلامية من معارف وعلوم، وجمعنا وإياه في
مقعد صدق عند مليك مقتدر.
27

عملنا في هذه المخطوطة
* سلكنا في تحقيق هذه المخطوطة الفريدة الطرق الآتية:
* أولا: التثبت من أقوال السلف بالرجوع إلى أمهات كتب التفسير
كالطبري، والقرطبي، و ابن كثير، والدر المنثور، وغيرها من كتب
التفسير التي تزيد على ستة عشر مرجعا.
* ثانيا: تخريج الأحاديث الشريفة التي أوردها المصنف، فقد عملنا على
تخريجها من مصادرها في الكتب الستة وغيرها، وبينا وجه التوافق والتطابق
بين لفظ المصنف، وبين الروايات الثابتة التي ذكرها المحدثون، فقد يورد
الشيخ الحديث باللفظ، وقد يورده بالمعنى، فنذكر ذلك مع بيان درجة
الحديث الشريف.
* ثالثا: الإشعار التي استشهد بها المصنف، رجعنا إلى دواوين الشعر،
وذكرنا قائلها والمحال التي ذكرت فيها، والكتب التي ذكرت فيها هذه
الإشعار كشواهد.
* رابعا: بالنسبة لأقوال أئمة اللغة كالزجاج، والفراء، والأخفش في تفسير
الآيات الكريمة فقد رجعنا إلى كتبهم التي نقل الإمام النحاس عنها،
وأشرنا إلى الأجزاء ورقم الصفحات فيها، وبالنسبة للمعاني اللغوية رجعنا
إلى قواميس اللغة كاللسان، والصحاح، وتهذيب اللغة، والقاموس
المحيط، وتاج العروس.. وغيرها.
* خامسا: وضعنا بعض التعليقات الضرورية على بعض الأقوال التي ذكرها
المصنف تأييدا أو تفنيدا، فقد يذكر المصنف رأيا ضعيفا لابد من
28

مناقشته فيه، وتبيين الوجه الصحيح كما أورد عن مجاهد أن " القردة والخنازير "
مسخ من بني إسرائيل، وهذا قول غير صحيح، ويعارض ما ورد في الأحاديث
الصحيحة.
* سادسا: وضعنا على الهامش الجانبي أرقاما للآيات الكريمة التي تناولها المصنف
بالدراسة تسهيلا على القارئ، كما قمنا بترقيم الآيات حسب المصحف
الشريف.
* وهناك وجوه أخرى يراها القارئ الألمعي بثاقب بصره، مما في هذا التحقيق
من جهد لا يكتشفه إلا من مارس عمل التحقيق بعلم وأمانة، والله ولي
التوفيق.
شكر.. وثناء
* ولا يفوتني وأنا أقدم هذا المخطوط النفيس، أن أنوه بالجهد المشكور الذي
توليه الجامعة لهذا المعهد الفتي " معهد البحوث العلمية وإحياء التراث
الإسلامي " من عناية فائقة، ورعاية خاصة، وقد تولى عمادته الأخ
الشاب الطموح الدكتور حمزة الفعر، الذي يولي المعهد كل اهتمام
وتشجيع للوصول به إلى الغاية المنشودة.
* كما نشكر الأخ الكريم الدكتور مصطفى عبد الواحد، الذي تولى رئاسة
مركز إحياء التراث الإسلامي على جهوده في خدمة المركز، ورفع مستواه،
وحرصه على إخراج تلك الكنوز الدفينة إلى عالم الوجود من آثار سلفنا
الصالح رضوان الله عليهم، فإن العناية بالتراث الإسلامي من أوجب
الواجبات في هذا الزمان.
29

* ولا أنسى أن أخص أخي الدكتور " عبد الرحمن العثيمين " مدير المركز
السابق الذي دلني على هذا المخطوط، وشجعني على تحقيقه، وكان له
الفضل في ظهور هذا الكتاب، حيث خصني بالمخطوطة النادرة التي كان
يمتلكها لنفسه، وهي مخطوطة تركيا التي أكملت القسم الأخير من
الكتاب الموجود في المركز، وهي المخطوطة المصورة من دار الكتب المصرية
بالقاهرة، فله جزيل الشكر والثناء.
* وفي الختام نتقدم لجميع العاملين في الجامعة بالشكر الجزيل، والثناء
العاطر، لرعايتهم لهذا المعهد الفني الذي يسعى لإحياء تراثنا الإسلامي،
وعلى رأس العاملين معالي مدير الجامعة الأخ الدكتور راشد الراجح الذي
سعى لتوحيد المراكز العلمية بالجامعة في هذا المعهد الكبير.
* والله نسأل أن يبارك في جهود العاملين المخلصين، وأن يوفقنا جميعا لما فيه
خدمة العلم والدين، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه هو البر
الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله
رب العالمين.
وكتبه
خادم الكتاب والسنة
الشيخ محمد علي الصابوني
مكة المكرمة - جامعة أم القرى
30

مراجع ترجمة النحاس
1 - وفيات الأعيان لابن خلكان 1 / 99
2 - شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي 2 / 346
3 - سير أعلام النبلاء للذهبي 15 / 401
4 - الوافي بالوفيات للصفدي 7 / 362
5 - إنباه الرواة للقفطي 1 / 102
6 - معجم الأدباء لياقوت 4 / 224
7 - النجوم الزاهرة للأتابكي 3 / 300
8 - حسن المحاضرة للسيوطي 1 / 306
9 - نزهة الألباء للأنباري 218
10 - البداية والنهاية لابن كثير 11 / 222
11 - بغية الوعاة للسيوطي 1 / 362
12 - طبقات النحويين للأندلسي 220
13 - مفتاح السعادة كبري زادة 2 / 83
14 - اللباب في تهذيب الأنساب للجزري 3 / 300
15 - الأعلام للزركلي 1 / 199
16 - إعراب القرآن تحقيق زهير زاهر 1 / 11
17 - الأنساب للسمعاني 13 / 44
31

صورة عن لوحة غلاف نسخة دار الكتب المصرية برقم 385 تفسير
33

صورة عن اللوحة الأولى لنسخة دار الكتب المصرية رقم 385 تفسير وفيها طمس لبعض الكلمات
34

صورة عن اللوحة الثانية لنسخة دار الكتب المصرية رقم 385 تفسير
35

صورة عن اللوحة الأخيرة لنسخة دار الكتب المصرية رقم 385 تفسير
36

صورة عن اللوحة الثانية لنسخة مكتبة أورخان غازي رقم 350 بمدينة بورسه بتركيا وهي بخط نفيس
37

صورة عن اللوحة الأولى لنسخة مكتبة أورخان غازي رقم 350 بمدينة بورسه بتركيا وهي بخط نفيس
38

صورة عن لوحة رقم 266 لنسخة أورخان غازي بمدينة بورسه بتركيا وهي بخط نفيس وهي
نسخة وحيدة
39

صورة من اللوحة الأخيرة نسخة أورخان غازي برقم 350 بمدينة بورسه بتركيا وهي بخط
نفيس، وقد كتب على هامش الصفحة الأخيرة: جعل وقفا لمكتبة أورخان غازي
40

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
مقدمة
أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحوي [المعروف بالنحاس]
قال: " الحمد لله الذي من علينا بهدايته، واستنقذنا حديث من الضلالة بشريعته
وأرشدنا إلى سبيل النجاة بنبيه صلى الله عليه وسلم، ووفقنا [لانتهاج عند سبيله]
المرتضى، وعلمنا ما لم نكن نعلم، من كتابه الذي جعله فرقا بين الحق
[والباطل]، وأذل به الجاحدين عند عجزهم عن الإتيان بسورة مثله، وجعله
الشفاء والحجة على خلقه، بما بين فيه، فقال جل وعز: * (بلسان عربي
مبين) * وقال: * (قرآن عربيا غير ذي عوج) * وقال: * (هذا
كتاب مصدق لسانا عربيا) *.
41

فدل على أن معانيه إنما وردت من اللغة العربية. لأنه وقال صلى الله عليه وسلم: " أعربوا
القرآن والتمسوا [غرائبه] ".
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: " الذي يقرأ القرآن ولا
يحسن أخبرنا تفسيره، كالأعرابي يهذ الشعر هذا ".
فقصدت في هذا الكتاب تفسير المعاني، والغريب، وأحكام القرآن،
والناسخ والمنسوخ عن المتقدمين من الأئمة، واذكر من قول الجلة من
العلماء باللغة، وأهل النظر ما حضرني، وأبين من تصريف الكلمة واشتقاقها
- إن علمت ذلك - وآتي من القراءات بما يحتاج إلى تفسير معناه، وما احتاج
42

إليه المعنى من يا الإعراب، وبما احتج به العلماء في مسائل سأل عنها
المجادلون وأبين ما فيه حذف، أو اختصار، أو إطالة لإفهامه، وما كان
فيه تقديما أو تأخير، وأشرح ذلك حتى يتبينه المتعلم، وينتفع به كما ينتفع العالم
بتوفيق الله وتسديده.
فأول ذلك:
43

تفسير سورة الفاتحة
مكية وآياتها سبع باتفاق
45

سورة الحمد
وهي مكية على قول ابن عباس.
وقال مجاهد: هي مدنية.
اعلم أن لها أربعة أسماء هي: [سورة الحمد] و " فاتحة الكتاب "
و " أم القرآن " وهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر، وعلي، وابن
عباس.
وروى ابن أبي ذئب عن المقبري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
47

" فاتحة الكتاب هي السبع المثاني ".
والاسم الرابع أنه يقال لها: " السبع من المثاني " روى ذلك سفيان
عن السدي، عن عبد خير عن علي رضي الله عنه.
وروى إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن
أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه: " أبي بن كعب " فاتحة الكتاب، فقال:
" والذي نفسي بيده، ما انزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا
في الفرقان مثلها، إنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته ".
وقيل لها: فاتحة الكتاب، لأنه يفتتح بها المصحف، ويفتتح بها
القرآن [وتقرأ] في كل ركعة.
وقيل لها: " أم القران " لأن أم الشيء ابتداؤه وأصله، فسميت
48

بذلك لابتدائهم لها في أول القرآن فكأنها أصل وابتداء، ومكة " أم القرى " لأن
الأرض دحيت من تحتها.
وقال العجاج: " ما فيهم من الكتاب أم " أي أصل من الكتاب.
وروى: إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قرأ عليه أبي فاتحة الكتاب فقال: " والذي نفسي بيده، ما انزل في
التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، إنها السبع من
المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته ".
وقيل لها: السبع المثاني لأنها سبع آيات، تثنى في كل ركعة، من
ثنيته إذ رددته
وفي هذا قول آخر غريب، وله إسناد حسن قوي، عن جعفر بن محمد
الفاريابي، عن مزاحم بن سعيد قال: حدثنا ابن المبارك، قال: حدثنا
49

ابن جريح، قال: أخبرني أبي أن سعيد بن جبير أخبره، قال: لابن
عباس: ما المثاني؟ قال: هي أم القرآن، استثناها الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
في أم الكتاب، فادخرها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى أخرجها لهم، ولم يعطيها أحدا قبل
أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن من قال: السبع المثاني، ذهب إلى أن من زائدة
للتوكيد، وأجود من هذا القول أن يكون المعنى أنها السبع من القرآن الذي هو
مثان.
تفسير البسملة
ومما قصدنا له قوله عز وجل: * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
قال أكثر البصريين: المعنى: أول ما أفتتح ب‍ " بسم الله " وأول
كلامي " بسم الله ".
50

قال سيبويه: معنى الباء: الإلصاق.
قال الفراء: موضع الباء نصب، والمعنى: بدأت باسم الله، وابدأ
باسم الله.
وفي اشتقاق " اسم " قولان:
أحدهما: من السمو، وهو العلو، والارتفاع، فقيل: اسم لأن صاحبه
بمنزلة المرتفع به.
وقيل: وهو من وسمت، فقيل: اسم لأنه لصاحبه بمنزلة السمه، أي
يعرف به.
والقول الثاني خطأ، لأن الساقط منه لامه، فصح انه من سما
يسمو.
51

قال أحمد بن يحيى: يقال: سم، وسم، ويقال: اسم بكسر
الألف، ويقال: بضمها.
فمن ضم الألف أخذه من سموت أسمو.
ومن كسر أخذه من سميت اسمي.
قال الكسائي والفراء: معنى " بسم الله " باسم الإله، وتركوا الهمزة
وأدغموا اللام الأولى في الثانية، فصارت لاما مشددة، كما قال جل عز وجل * (لكنا
هو الله ربي) * ومعناه: " لكن أنا هو الله ربي " كذلك قرأها الحسن.
ولسيبويه في هذا قولان:
أحدهما: أن الأصل إله، ثم جيء بالألف واللام عوضا من الهمزة،
وكذلك الناس عنده الأصل فيه أناس.
52

والقول الآخر: هو أيضا قول أصحابه، أن الأصل لاه، ثم دخلت
عليه الألف واللام، وأنشدوا:
- لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب *
عني ولا أنت دياني فتخزوني -
ويسأل عن التكرير في قواه عز وجل: * (الرحمن الرحيم) *.
فروي عن ابن عباس أنه قال: * (الرحمن الرحيم) * اسمان رقيقان،
أحدهما أرق من الآخر، فالرحمن الرقيق، والرحيم العاطف على خلقه
بالرزق.
قال محمد بن كعب القرظي: " الرحمن " بخلقه " الرحيم " بعباده فيما
ابتدأهم به، من كرامته، وحجته.
53

وقال عطاء الخراساني: كان الرحمن، فلما اختزل الرحمن من أسمائه
صار " الرحمن الرحيم ".
وقال العرزمي: " الرحمن " بجميع الخلق " الرحيم " بالمؤمنين.
وقال أبو عبيده: هما من الرحمة. كقولهم: ندمان ونديم.
وقال قطرب: يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد. وهذا قول
حسن، وفي التوكيد أعظم الفائدة، وهو كثير في كلام العرب، يستغني عن
الاستشهاد.
54

والفائدة في ذلك ما قاله محمد بن يزيد: إنه تفضل بعد تفضل،
وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطامع الداعين، ووعد لا يخيب آمله.
وقول العرزمي أيضا حسن، لأن " فعلان " فيه معنى المبالغة، فكأنه
- والله أعلم - الرحمن بجميع خلقه، ولهذا لم يقع إلا لله تعالى، لأن معناه:
الذي وسعت رحمته كل شيء.
ولهذا قدم قبل " الرحيم ".
وصار " الرحيم " أولى من الراحم، لأن " الرحيم " الزام في المدح، لأنه
يدل على أن الرحمة لازمه له، غير مفارقة، والراحم يقع لمن رحم مرة
واحدة.
55

وقال أحمد بن يحيى: " الرحيم " عربي، و " الرحمن " عبراني،
فلهذا جمع بينهما.
وهذا القول مرغوب عنه.
وروى مطر عن قتادة في قوله: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * قال:
مدح نفسه. وهذا قول حسن.
قال أبو العباس: النعت قد يقع للمدح، كما تقول: قال جرير
الشاعر.
56

تفسير سورة الفاتحة
1 - وقوله تعالى: * (الحمد لله) * الفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد
أعم لأنه يقع على الثناء، وعلى التحميد، وعلى الشكر والجزاء.
والشكر مخصوص بما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا، فصار
الحمد أثبت في الآية، لأنه يزيد على الشكر.
ويقال: الحمد خبر، وسبيل الخبر أن يفيد، فما الفائدة في
هذا؟
والجواب عن هذا: أن سيبويه قال: إذا قال الرجل: الحمد
لله بالرفع، ففيه من المعنى مثل ما في قوله: حمدت الله حمدا،
إلا أن الذي يرفع الحمد، يخبر أن الحمد منه، ومن جميع الخلق لله
تعالى، والذي ينصب الحمد، يخبر أن الحمد منه وحده لله
تعالى.
57

قال ابن كيسان: وهذا كلام حسن جدا، لأن قولك:
الحمد لله مخرجه في الإعراب، مخرج قولك: المال لزيد، ومعناه:
أنك أخبرت به، وأنت تعتمد أن تكون حامدا، لا مخبرا بشيء،
ففي إخبار المخبر بهذا، إقرار منه بأن الله تعالى مستجوبه وفي علي خلقه،
فهو أحمد من يحمده، إذا أقر بأن الحمد له، فقد آل المعنى المرفوع
إلى مثل المعنى المنصوب، وزاد عليها بأن جعل الحمد الذي يكون
عن فعله، وفعل غيره لله تعالى.
وقال غير سيبويه: إنما يتكلم بهذا تعرضا لعفو الله تعالى
ومغفرته وتعظيما له وتمجيدا، فهو خلاف معنى الخبر، وفيه معنى
السؤال.
وفي الحديث: " من شغل بذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل
58

ما أعطى السائلين ".
وقيل: إن مدحة نفسه جل وعز وثناءه عليه، ليعلم ذلك
عباده، فالمعنى على هذا: قولوا: الحمد لله.
وإنما عيب مدح الآدمي نفسه لأنه ناقص، وإن قال: أنا
جواد فثم بخل، وإن قال: أنا شجاع فثم جبن، والله تعالى منزه من
ذلك، فإن الآدمي إنما يمدح كل نفسه ليجتلب منفعة، ويدفع مضره،
والله تعالى غني عن هذا.
2 - وقوله جل وعز: * (رب العالمين) *.
قال أهل اللغة: الرب: المالك وأنشدوا.
- وهو الرب والشهيد على يوم *
م الحيارين والبلاء بلاء -
59

وأصل هذا أنه يقال: ربه، يربه، ربا، وهو راب، ورب:
إذا قام بصلاحه.
ويقال على التكثير: رباه ورببه، وربته.
وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
* (رب العالمين) * قال: الجن والإنس.
وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الجن عالم، والإنس
عالم، وسوى ذلك، للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمس مائة
عالم خلقهم الله لعبادته.
وقال أبو عبيدة: * (رب العالمين) * أي المخلوقين.
وأنشد العجاج: " فخندف هامة هذا العالم ".
60

والقول الأول: أجل هذه الأقوال، وأعرفها في اللغة لأن هذا
الجمع إنما هو جمع ما يعقل خاصة.
و " عالم " مشتق من العلامة.
وقال الخليل: العلم، والعلامة، والمعلم، ما دل على شيء،
فالعالم دال على أن له خالقا مدبرا.
3 - وقوله تعالى: * (ملك يوم الدين) * ويقرأ * (مالك يوم الدين) *
واختار أبو حاتم (مالك)، قال: وهو أجمع من (ملك)،
لأنك تقول: إن الله مالك الناس، ومالك الطير، ومالك الريح،
ومالك كل شيء من الأشياء، ونوع من الأنواع، ولا يقال: الله ملك
الطير، ولا ملك الريح، ونحو ذلك وإنما يحسن " ملك " الناس
وحدهم.
61

وخالفه في ذلك جلة أهل اللغة، منهم " أبو عبيد "
وأبو العباس " محمد بن يزيد " واحتجوا بقوله تعالى: * (لمن الملك
اليوم) *؟ والملك: مصدر الملك، ومصدر المالك " ملك "
بالكسر، وهذا احتجاج حسن.
وأيضا فإن حجة " أبي حاتم " لا تلزم، لأنه إنما لم يستعمل
ملك الطير، والرياح، لأنه ليس فيه معنى مدح.
وحدثنا محمد بن جعفر بن محمد عن أبي داود بن الأنباري
قال: حدثنا محمد ابن إسماعيل قال: حدثنا عمرو بن أسباط عند
السدي - وهو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي مالك - عن أبي
مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن
مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: * (مالك يوم
الدين) * " يوم الدين ": هو يوم الحساب.
62

وقال مجاهد: * (الدين) * الجزاء، والمعنيان واحد، لأن يوم
القيامة يوم الحساب، ويوم الجزاء.
والدين في غير هذه الطاعة، والدين أيضا العادة، كما قال:
" أهذا دينه أبدا وديني "؟
والمعاني متقاربة، لأنه إذا أطاع فقد دان.
والعادة تجري مجرى الدين، وفلان في دين فلان: أي في
سلطانه وطاعته.
فإن قيل: لم خصت القيامة بهذا؟
فالجواب ان يوم القيامة يوم يضطر فيه الخلائق إلى أن يعرفوا
أن الأمر كله لله تعالى.
وقيل: خصه لأن في الدنيا ملوكا وجبارين، ويوم القيامة إنما
يرجع الأمر كله إلى الله تعالى.
63

4 - وقوله تعالى: * (إياك نعبد) * ولم يقل " نعبدك " لأن هذا أوكد.
قال سيبويه: كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم إليهم، وهم
ببيانه أعني، وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم.
والعبادة في اللغة: الطاعة مع تذلل وخضوع، يقال:
طريق معبد: إذا كان قد ذلل بالوطء، وبعير معبد: إذا طلي
بالقطران، أي امتهن كما يمتهن العبد، قال طرفه:
- إلى أن تحامتني العشيرة كلها *
وأفردت إفراد البعير المعبد -
ويقال: عبد من كذا، أي انف منه، كما قال الشاعر:
" وأعبد أن تهجى تميم بدارم "
64

5 - ثم قال تعالى: * (وإياك نستعين) *.
فأعاد " إياك " توكيدا، ولم يقل " ونستعين " كما يقال: المال
بين زيد وبين عمرو، فتعاد " بين " توكيدا، وقال: * (إياك) * ولم
يقل: إياه، لأن المعنى: قل يا محمد " إياك نعبد ".
على أن العرب ترجع من الغيبة إلى الخطاب، كما قال
الأعشى:
- عنده الحزم والتقى وأسى الصر *
ع وحمل لمضلع الأثقال -
ثم قال: ورجع من الغيبة إلى الخطاب:
- ووفاء إذا أجرت فما غر *
ت حبال وصلتها بحبال -
وقال تعالى: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *.
ثم قال: * (إن هذا كان لكم جزاء) *.
وعكس هذا أن العرب ترجع من الخطاب إلى الغبية، كما
قال تعالى: * (حتى إذا كنتم في الفلك، وجرين بهم بريح
طيبه) *.
65

وفي الكلام حذف والمعنى: وإياك نستعين على ذلك.
6 - ثم قال تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) *.
وهم على الهدى، أي ثبتنا، كما تقول للقائم: قم حتى أعود
إليك، أي أثبت قائما.
ومعنى * (اهدنا) *: أرشدنا، وأصل هدى أرشد، ومنه:
* (واهدنا إلى سواء الصراط ". ويكون هدى بمعنى: بين، كما
قال تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم) *، ويكون هدى بمعنى الهم،
كما قال تعالى: * (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * أي
ألهمه مصلحته.
وقيل: إتيان الأنثى.
ويكون هدى بمعنى دعا، كما قال: * (ولكل قوم هاد) *
أي نبي يدعوهم.
وأصل هذا كله: أرشد، والمعنى: أرشدنا إلى الصراط
المستقيم.
66

حدثنا محمد بن جعفر الأنباري، قال: حدثني هاشم بن
القاسم الحراني، قال: حدثنا أبو إسحق النحوي عن حمزة بن
حبيب عن حمران بن أعين، عن أبي منصور بن أخي الحارث، عن الحارث،
عن الحارث عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: * (الصراط
المستقيم) *: كتاب الله.
وروى مسعر عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله في قوله
تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) * قال: كتاب الله.
وروى عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: هو
الإسلام.
والصراط في اللغة: الطريق الواضح، وكتاب الله بمنزلة الطريق
الواضح، وكذلك الإسلام وقال جرير:
67

- أمير المؤمنين على صراط *
إذا أعوج الموارد، مستقيم -
- أمير المؤمنين جمعت دينا *
وحلما فاضلا لذوي الحلوم -
7 - ثم قال تعالى: * (صراط الذين أنعمت عليهم) *.
روى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس " الذين أنعم
عليهم " النبيون.
وقال غيره: يعني الأنبياء والمؤمنين.
وقيل: هم جميع الناس.
ثم قال تعالى: * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *.
وروي عن عمر أنه قرأ " صراط من أنعمت عليهم غير
68

المغضوب عليهم وغير الضالين ".
وحدثنا محمد بن جعفر بن محمد الأنباري، قال: حدثنا محمد
ابن إدريس المكي: قال أخبرنا محمد بن سعيد، قال: أخبرنا عمرو
عن سماك عن عباد عن عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" اليهود " مغضوب عليهم، و " النصارى " ضالون، قال: قلت:
فإني حنيف مسلم، قال: فرأيت وجهه تبسم فرحا صلى الله عليه وسلم ".
وروى بديل العقيلي عن عبد الله بن شقيق - وبعضهم يقول
عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وبعضهم يقول " إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هو
بوادي القرى وهو على فرسه، وسأله رجل من بني القين، فقال
يا رسول الله: من هؤلاء المغضوب عليهم؟ فأشار إلى اليهود، قال:
فمن هؤلاء الضالون؟ قال: هؤلاء الضالون، يعني النصارى ".
فعلى هذا يكون عاما براد به الخاص، وذلك كثير في كلام
العرب، مستغن عن الشواهد لشهرته.
69

تفسير سورة البقرة
مدينة وآياتها 287 آية
71

سورة البقرة
سورة البقرة، وهي مدنية، من ذلك:
1 - قوله تعالى: * (آلم) *.
اختلف أهل التفسير، وأهل اللغة في معنى * (آلم) * وما
أشبها. قال: فحدثنا عبد الله بن إبراهيم البغدادي بالرملة قال:
حدثنا حفص بن عمر بن الصباح الرقي أبو عمرو، قال: حدثنا أبو
نعيم، قال: حدثنا شريك عن عطاء، عن أبي الضحى، عن ابن
عباس في قوله تعالى: * (آلم) * قال: أنا الله أعلم * (آلم) * أنا
الله، أرى * (المص) * أنا الله، أفضل.
وروى أبو اليقظان عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن
جبير، مثله.
73

وشرح هذا القول إن الألف تؤدي عن معنى " أنا " واللام
تؤدي عن أسم الله جل وعز، والميم تؤدي عن معنى " أعلم ".
ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول، ويقول: أذهب إلى
أن كل حرف منها يؤدي عن معنى.
وحدثنا بكر بن سهل قال: حدثنا أبو صالح عن معاوية بن
صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: * (المص) * و
* (كهيعص) * و * (طه) * و * (طس) * و * (طسم) * و
و * (يس) * و * (ص) * و * (حم عسق) * و * (ق) * و * (ن
والقلم) * وأشباه هذا، هو قسم أقسم الله به وهن من أسماء الله
تعالى.
وروى ابن عليه عن خالد الحذاء، عن عكرمة قال:
74

* (آلم) * قسم.
وحدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال: حدثنا سلمة، قال:
حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة، في قوله الله تعالى:
* (آلم) *، قال: اسم من أسماء القرآن.
وروي عن مجاهد قولان:
قال أبو عبيد: حدثنا أبو مهدي عن سفيان عن خصيف أو
غيره - هكذا قال عن مجاهد - قال: في كله، هي فواتح
السور.
والقول الآخر: حدثنا به محمد بن جعفر الأنباري قال:
حدثني محمد بن بحر، قال: حدثنا موسى عن شبل عن ابن أبي نجيح
عن مجاهد قال: * (آلم) * اسم من أسماء القرآن.
75

قال أبو العباس - وهو اختياره - روي عن بعض أهل
السلف أنه قال: هي تنبيه.
وقال أبو عبيده والأخفش: هي افتتاح كلام.
وقطرب يذهب إلى أنها جيء بها لأنهم كانوا ينفرون عند
استماع القرآن، فلما سمعوا * (آلم) * و * (المص) * استنكروا هذا
اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤلف ليثبت في
أسماعهم وآذانهم، ويقيم الحجة عليهم.
وقال الفراء: المعنى هذه الحروف يا محمد ذلك الكتاب.
وقال أبو إسحاق: ولو كان كما قال: لوجب أن يكون بعده
أبدا * (ذلك الكتاب) * أو ما أشبهه.
وهذه الأقوال يقرب بعضها من بعض، لأنه يجوز أن تكون
أسماء للسورة، وفيها معنى التنبيه.
76

فأما القسم فلا يجوز، لعلة أوجبت ذلك من العربية.
وأبين هذه الأقوال:
قول مجاهد الأول: إنها فواتح السور، وكذلك قول من
قال: هي تنبيه، وقول من قال: هي افتتاح كلام، ولم يشرحوا ذلك
بأكثر من هذا، لأنه ليس من مذهب الأوائل.
وإنما باقي الكلام عنهم مجملا، ثم تأوله أهل النظر، على ما
يوجبه المعنى.
ومعنى افتتاح كلام وتنبيه: أنها بمنزلة " ها " في التنبيه و
" يا " في النداء، والله تعالى أعلم بما أراد.
وقد توقف بعض العلماء عن الكلام فيها وأشكالها، حتى قال
الشعبي: لله تعالى في كل كتاب سر، وسره في القرآن فواتح
السور.
77

وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن، إلا في
أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله تعالى بها؟
2 - ثم قال جل وعز: * (ذلك الكتاب لا ريب فيه) * [آية 2].
روى خالد الحذاء عن عكرمة قال: * (ذلك الكتاب) * هذا
الكتاب، وكذا قول أبي عبيدة، وأنكره أبو العباس قال: لأن
" ذلك " لما بعد، و " ذا " لما قرب، فأن دخل واحد منهما على
الآخر، انقلب المعنى، قال: ولكن المعنى: هذا القرآن، ذلك
الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا.
وقال الكسائي كان: الإشارة [إلى القرآن الذي في
78

السماء] والقول من السماء، والكتاب، والرسول في الأرض،
فقال: ذلك الكتاب يا محمد.
قال ابن كيسان: وهذا حسن.
قال الفراء: يكون كقولك للرجل وهو يحدثك: ذلك والله
الحق، فهو في اللفظ بمنزلة الغائب، وليس بغائب.
والمعنى عنده: ذلك الكتاب الذي سمعت به.
وقيل * (كتاب) * لما جمع فيه، يقال: كتبت الشيء أي
جمعته، والكتب: الخرز، وكتبت البغلة منه أيضا، والكتيبة:
الفرقة المجتمع بعضها إلى بعض.
3 - ثم قال تعالى: * (لا ريب فيه) *. قال قتادة: لاشك فيه.
وكذا هو عند أهل اللغة.
قال أبو العباس: يقال: رابني الشيء إذا تبينت فيه الريبة،
79

وأرابني إذا لم أتبينها منه.
وقال غيره: أراب في نفسه، وراب غيره، كما قال الشاعر:
- وقد رابني قولها يا هنا *
ه، ويحك ألحقت شرا بشر -
ومنه " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ومنه * (ريب
المنون) * أي حوادث الدهر، وما يستراب به.
وأخبر تعالى انه * (لا ريب فيه) * ثم قال بعد * (وان كنتم
في ريب مما نزلنا على عبدنا) *.
فالقول في هذا أن المعنى: وإن كنتم في قولكم في ريب، وعلى
80

زعمكم وإن كنا قد أتيناكم بما لا ريب فيه، لأنهم قالوا كما قال الذين
من قبلهم * (وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب) *.
4 - ثم قال تعالى * (هدى للمتقين) * [آية 2].
والهدى: البيان والبصيرة.
ثم قال تعالى * (للمتقين) * أي الذين يتقون ما نهوا عنه.
والتقوى: أصلها من التوقي، وهو التستر من أن يصيبه
ما يهلك به.
5 - ثم قال تعالى: * (الذين يؤمنون بالغيب...) * [آية 3]
أصل الإيمان التصديق، ومنه قوله تعالى، * (وما أنت بمؤمن
لنا) *.
81

يقال: آمنت بكذا أي صدقت به.
فإذا قلت مؤمن، فمعناه مصدق بالله تعالى لا غير.
ويجوز أن يكون مأخوذا من الأمان، أي يؤمن نفسه
بتصديقه وعمله. والله المؤمن: أي يؤمن مطيعه من عذابه.
وروى شيبان عن قتادة * (الذين يؤمنون بالغيب) * أي آمنوا
بالبعث، والحساب، والجنة، والنار، فصدقوا بموعد الله تعالى.
قال أبو رزين في قوله تعالى * (وما هو على الغيب بضنين) *
يعني القرآن.
82

قال ابن كيسان: وقيل * (يؤمنون بالغيب) * أي القدر.
والغيب في اللغة: ما اطمأن من الأرض، ونزل عما حوله
يستتر فيه من دخله.
وقيل: كل شيء مستتر غيب، وكذلك المصدر.
6 - ثم قال تعالى: * (ويقيمون الصلاة..) * [آية 3].
أي يؤدون الصلاة المفروضة، تقول العرب: قامت السوق
وأقمتها، أي أدمتها ولم أعطلها، وفلان يقوم بعمله، منه.
ومعنى إقامة الصلاة: إدامتها في أوقاتها وترك التفريط في أداء
ما فيها من الركوع والسجود.
وقيل: الصلاة مشتقة من الصلوين، وهما عرقان في الردف
ينحيان في الصلاة.
وقيل: الصلاة: الدعاء فيها، معروف، قال الأعشى.
83

- تقول بنتي وقد قربت مرتحلا *
يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا -
- عليك مثل الذي صليت فاغتمضي بعد *
نوما فإن لجنب المرء مضطجعا -
والصلاة من الله تعالى الرحمة، ومن الملائكة الدعاء، ومن الناس تكون
الدعاء والصلاة المعروفة.
7 - ثم قال تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) * [آية 3].
أي يتصدقون ويزكون، كما قال تعالى * (وأنفقوا مما رزقناكم
من قبل أن يأتي أحدكم الموت، فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل
قريب فأصدق وأكن من الصالحين) *!!
قال الضحاك: كانت النفقة قربانا يتقربون بها إلى الله تعالى،
على قدر جدتهم، حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات في
84

براءة.
8 - ثم قال تعالى: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من
قبلك..) * [آية 4]
أي لا يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض، كما فعله اليهود
والنصارى.
9 - ثم قال تعالى: * (وبالآخرة هم يوقنون) * [آية 4]
سميت آخرة لأنها بعد أولى، وقيل: لتأخرها من الناس،
وجمعها أواخر.
10 - ثم قال تعالى: * (أولئك على هدى من ربهم..) * [آية 5]
روى إبراهيم بن سعيد عن محمد بن إسحاق، قال: على نور
من ربهم، واستقامة على ما جاءهم من عند الله.
85

11 - ثم قال تعالى: * (وأولئك هم المفلحون) * [آية 5]
قال ابن إسحاق: أي الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر
ما منه هربوا.
وأصل الفلاح في اللغة: البقاء، وقيل للمؤمن: " مفلح "
لبقائه في الجنة.
وقال عبيد:
أفلح بما شئت فقد يدرك بالضعف وقد يخدع الأريب
أي ابق بما شئت من كيس وحمق، ثم اتسع في ذلك، حتى
قيل لكل من نال شيئا من الخير: مفلح.
12 - ثم قال تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم
تنذرهم لا يؤمنون) * [آية 6]
86

هم الكفار الذين ثبت في علم الله تعالى أنهم كفار، وهو
لفظ عام يراد به الخاص، كما قال تعالى * (قل يا أيها الكافرون.
لا أعبد ما تعبدون..) * ثم قال جل وعز * (ولا أنا عابد ما عبدتم.
ولا أنتم عابدون ما أعبد) *.
وقال تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي
من يشاء) *.
13 - ثم قال تعالى: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم..) *
[آية 7]
[أي طبع الله على قلوبهم وعلى أسماعهم وغطى عليها] على
جهة الجزاء بكفرهم وصدهم الناس عن دين الله.
[وهؤلاء الكفار هم الذين سبق] في علمه من أنهم لا يؤمنون،
ويكون مثل قولهم: أهلكه المال، وهب المال بعقله أي هلك فيه،
وبسبه، فهو كقوله * (فأنذرتكم نارا تلظى. لا يصلاها إلا
87

الأشقى) * فإن ذلك من الله عن فعلهم في أمره.
14 - ثم قال تعالى: * (وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) *
[آية 7]
قال سيبويه: " غشاوة ": أي غطاء.
15 - ثم قال تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم
الآخر..) * [آية 8]
روى إسماعيل السدي عن ابن عباس قال: هم المنافقون.
قال أهل اللغة: النفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو جحر
يخرج منه اليربوع إذا أخذ عليه الجحر الذي يدخل فيه.
فقيل " منافق " لأنه يدخل بالإسلام باللفظ، ويخرج منه
بالعقد.
88

16 - ثم قال تعالى: * (وما هم بمؤمنين) * [آية 8]
فنفى عنهم الإيمان لأنهم لا اعتقاد لهم ولا عمل.
17 - ثم قال تعالى: * (يخادعون الله والذين آمنوا) * [آية 9].
المخادعة في اللغة: إظهار خلاف الاعتقاد، وتسمى التقية
خداعا، وهو يكون من واحد.
قال ابن كيسان: لأن فيه معنى راوغت، كأنه قابل شيئا
بشيء.
18 - ثم قال تعالى: * (وما يخدعون إلا أنفسهم..) * [آية 9]
أي إن عقوبة ذلك ترجع عليهم.
89

وفرق أهل اللغة بين خادع و خدع فقالوا: خادع
أي قصد الخدع، وإن لم يكن خدع، وخدع معناه: بلغ مراده.
والاختيار عندهم " يخادعون " في الأولى، لأنه غير واقع،
والاختيار في الثاني يخدعون " لأنه أخبر تعالى أنه واقع بهم، لما
يطلع عليه من أخبارهم، فعاد ما ستروه وأظهروا غيره وبالا عليهم.
وقال محمد بن يزيد: يجوز في الثاني " وما يخادعون " أي
بتلك المخادعة بعينيها، إنما يخادعون أنفسهم بها، لأن وبالها يرجع
عليهم.
19 - ثم قال تعالى: * (وما يشعرون) * [آية 9].
أي وما يشعرون بذلك.
[والمعنى: ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم].
20 - ثم قال تعالى: * (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا..) * [آية
10]
[روى السدي عن أبي مالك، وأبي صالح عن ابن عباس قال
90

يقول: في قلوبهم شك].
[وقال غيره: المرض: النفاق والرياء، والمرض في
الجسد، كما أن العمى في القلب، ويقال: مرض فلان: أصابته علة
في بدنه.
فإن قيل: بم أصابهم المرض؟ قيل: فعل هذا بهم عقوبة،
وقيل: بإنزال القرآن أصابهم المرض، كما قال تعالى * (وإذا
ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا؟ فأما الذين
آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون. وأما الذين في قلوبهم مرض
فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) *].
21 - ثم قال تعالى: * (ولهم عذاب أليم) * [آية 10]
يقال: آلم إذا أوجع، وهو مؤلم وأليم، والألم: الوجع،
وجمع " أليم " آلام كأشراف، والأليم: الشديد الوجع.
22 - ثم قال تعالى * (بما كانوا يكذبون) * [آية 10].
قال أبو حاتم: أي بتكذيبهم الرسل، وردهم على الله،
91

وتكذيبهم بآياته، قال: ومن خفف فالمعنى عنده: بكذبهم وقولهم آمنا
ولم يؤمنوا، فذلك كذب.
23 - ثم قال تعالى: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما
نحن مصلحون) * [آية 11].
فيه قولان:
أحدهما: أنهم قالوا: إنما نحن مصلحون فليس من عادتنا
الإفساد.
والآخر: أنهم قالوا: هذا الذي تسمونه فسادا هو عندنا
صلاح.
24 - وقوله تعالى: * (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) *
[آية 12].
معنى " ألا " التنبيه، كما قال الشاعر:
92

- ألا إن هذا الدهر يوم وليلة *
وليس على شيء قويم بمستمر -
25 - وقوله تعالى: * (ولكن لا يشعرون) * [آية 12].
قال ابن كيسان: يقال: ما (على من) لم يعلم أنه
مفسد من الذم، إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم!.
قال ففيه جوابان:
أحدهما: أنهم كانوا يعلمون الفساد، ويظهرون الصلاح، وهم
لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي صلى الله عليه وسلم.
والوجه الثاني: أن يكون فسادهم عندهم صلاحا، وهم
لا يشعرون أن ذلك فساد، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق
واتباعه.
26 - ثم قال تعالى: * (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، قالوا أنؤمن
كما آمن السفهاء) * [آية 13].
93

قال ابن عباس: الناس ههنا أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم.
* (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء..) *؟ [آية 13].
قال أبو إسحاق: أصل السفه في اللغة: رقة الحلم،
يقال: ثوب سفيه أي بال رقيق.
27 - ثم قال تعالى: * (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) *
[آية 13].
أي لا يعلمون أن وبال ذلك يرجع عليهم.
ويقال: إذا وصفوا بالسفه، فلم لا يكون ذلك عذرا لهم؟
فالجواب: إنه إنما لحقهم ذلك إذ عابوا الحق، فأنزلوا أنفسهم
تلك المنزلة، كما قال تعالى * (إن هم إلا كالأنعام) * لصدهم
وإعراضهم، إذ بعده * (بل هم أضل سبيلا) * لأن الأنعام قد
94

يصرفها راعيها كيف شاء، وهؤلاء لا يهتدون بالإنذار والعظة.
وأيضا فإذا سفهوا المؤمنين، فهم في تلك الحال مستحقون
لهذا الاسم.
28 - وقوله تعالى: * (ولكن لا يعلمون) * [آية 13]
الجواب عنه كالجواب عن * (ولكن لا يشعرون) *.
29 - ثم قال جل وعز: * (وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم..) *
[آية 14].
روى أسباط عن السدي: أما شياطينهم فهم رؤساؤهم في
الكفر.
95

ويبين ما قال، قوله جل وعز * (شياطين الإنس
والجن) *.
و " شيطان " مشتق من الشطن وهو الحبل.
أي هو ممدود في الشر، ومنه بئر شطون.
30 - ثم قال جل وعز: * (قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون) *
[آية 14].
فأخبر سبحانه بما يكتمون.
31 - ثم قال جل وعز: * (الله يستهزئ بهم..) * [آية 15].
فيه أجوبة:
أصحها أن معناه: يجازيهم على استهزائهم، فسمى جزاء
الذنب باسمه، لازدواج الكلام، وليعلم أنه عقاب عليه، وجزاء به،
96

كما قال جل وعز * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *.
وقيل: هو ما روى في الحديث أن المؤمنين يعطون نورا،
فيحال بينهم وبينه.
وقيل: هو أن الله أظهر لهم من أحكامه، خلاف مالهم
في الآخرة، كما أظهروا للمسلمين خلاف ما أسروا.
واستشهد صاحب هذا القول بأن بعده * (ويمدهم في
طغيانهم يعمهون) *.
وقيل: هو مثل * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) *.
وهذه الأقوال ترجع إلى الأول لأنها مجازاة أيضا.
ومن أحسن ما قيل فيه، أن معنى " يستهزيء بهم "
يصيبهم، كما قال تعالى * (وقد نزل عليكم الكتاب أن إذا
سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم..) *.
97

32 - ثم قال جل وعز: * (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * [آية 15].
أي يمدهم في تجاوزهم متحيرين، قال تعالى * (إنا لما طغى
الماء حملناكم في الجارية) *.
وقال مجاهد: " يعمهون " يترددون.
والمعنى على قوله: يترددون في ضلالتهم.
وحكى أهل اللغة: عمه، يعمه، عموها، وعمها،
وعمهانا فهو عمه، وعامه: إذا حار.
33 - ثم قال جل وعز: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى..) *
[آية 16]
قال مجاهد: آمنوا ثم كفروا.
ويقال: كيف قال " اشتروا " وإنما يقال: اشتريت كذا
98

بكذا، إذا دفعت شيئا وأخذت غيره؟.
والجواب عن قول مجاهد، أنهم كفروا بعد الإيمان، فصار
الكفر لهم بدلا من الأيمان، وصاروا بمنزلة من باع شيئا بشيء.
وقيل: لما أعطوا بألسنتهم الإيمان، وأبوه بقلوبهم، فباعوا
هذا الذي ظهر بألسنتهم، بالذي في قلوبهم، والذي في قلوبهم هو
الحاصل لهم، فهو بمنزلة العوض، أخرج من أيديهم.
وقيل: لما سمعوا التذكرة والهدى، ردوها واختاروا الضلالة،
فكانوا بمنزلة من دفع إليه شيء فاشترى به غيره.
قال ابن كيسان: قيل: هو مثل قوله تعالى * (وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون) * فلما كان خلقهم للعبادة، صار
99

ما خلفها مبدلا عنها، بصدهم عما خلقوا له.
وأصل الضلالة: الحيرة، وسمي النسيان ضلالة لما فيه
من الحيرة، كما قال جل وعز * (قال فعلتها إذا وأنا من الضالين) *
أي الناسين.
ويسمى الهلاك ضلالة، كما قال عز وجل * (وقالوا أئذا
ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد) *؟.
34 - ثم قال جل وعز * (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) * [آية 16].
فأنزلوا منزلة من اتجر، لأن الربح والخسران إنما يكونان في
التجارة، والمعنى: فما ربحوا في تجارتهم، ومثله قول العرب: خسر
100

بيعه، لأنه قد عرف المعنى.
35 - ثم قال جل وعز * (وما كانوا مهتدين) *.
أي بفعلهم الذي فعلوه من إيثار الضلالة [على الهدى].
ويجوز: وما كانوا مهتدين في علم الله عز وجل.
36 - ثم قال جل وعز: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا..) *
[آية 17].
قال ابن كيسان: استوقد بمعنى أوقد، ويجوز أن يكون
استوقدها من غيره، أي طلبها من غيره.
قال الأخفش - هو سعيد - * (الذي) * في معنى جمع.
101

قال ابن كيسان: لو كان كذلك لأعاد عليه ضمير
الجمع، كما قال الشاعر:
- وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *
هم القوم كل القوم يا أم خالد -
قال: ولكنه واحد شبه به جماعة، لأن القصد كان إلى
الفعل، ولم يكن إلى تشبيه العين بالعين، فصار مثل قوله تعالى
* (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) * فالمعنى: إلا كبعث
نفس واحدة..
وكإيقاد الذي استوقد نارا.
37 - ثم قال جل وعز: * (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله
بنورهم..) * [آية 17]
ويجوز أن يكون " ما " بمعنى " الذي " وأن تكون زائدة، وأن
تكون نكرة.
102

والمعنى: أضاءت له فأبصر الذي حوله
38 - وقوله جل وعز * (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس
والحج..) * [آية 189].
سبب نزول هذه الآية أن بعض المسلمين، يسأل النبي صلى الله عليه وسلم:
لم خلقت هذه الأهلة؟ فأنزل الله عز وجل * (قل هي مواقيت
للناس والحج..) *
فجعلها الله عز وجل مواقيت لحج المسلمين، وإفطارهم،
وصومهم، ومناسكهم، ولعدة نسائهم، ومحل دينهم، والله أعلم بما
يصلح خلقه.
103

قال أبو إسحاق: هلال مشتق من استهل الصبي: إذا
بكى، وأهل القوم بحجة وعمرة: أي رفعوا أصواتهم بالتلبية، فقيل
له: هلال، لأنه حين يرى يهل الناس بذكره.
وأهل، واستهل - ولا يقال: أهل، ويقال: أهللنا أي رأينا
الهلال، وأهللنا شهر كذا وكذا - إذا دخلنا فيه.
وسمي شهر لشهرته وبيانه.
قال الأصمعي: ولا يسمى هلالا حتى يحجر، وتحجيره أن
يستدير بخطة دقيقة.
وقيل: ليلتين وثلاث.
وقيل: حتى يغلب ضوءه، وهذا في السابعة.
قال أبو إسحاق: والأجود عندي أن يسمى هلالا لليلتين،
لأنه في الثالثة يتبين ضوءه.
104

39 - وقوله جل وعز: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن
البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها..) * [آية 189].
روى شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب
يقول: نزلت فينا هذه الآية، كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا، لم
يدخلوا البيوت من أبوابها، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من
الأنصار فدخل من قبل بابه، فنزلت هذه الآية * (وليس البر بأن تأتوا
البيوت من ظهورها..) * الآية.
40 - وقوله عز وجل: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم
ولا تعتدوا..) * [آية 190].
قيل: أي ولا تقاتلوا من عاهدتم وعاقدتم.
وقيل: لا تقاتلوا من لم يقاتلكم.
105

قال ابن زيد: ثم نسخ ذلك فقال جل وعز: * (واقتلوهم
حيث ثقفتموهم) * أي وجدتموهم * (وأخرجوهم من حيث
أخرجوكم) * يعني مكة.
41 - ثم قال جل وعز: * (والفتنة أشد من القتل..) * [آية 191].
قال مجاهد: ارتداد المؤمن أشد عليه من يقتل.
والفتنة في الأصل: الاختبار، فتأويل الكلام: الاختبار
الخبيث الذي يؤدي إلى الكفر، أشد من القتل، وفتنته فلانة: أي
صارت له كالمختبرة، أي اختبر بجمالها، وفتنت الذهب في النار: أي
اختبرته لأعلم خالص هو، أم مشوب؟.
وقيل لهذا السبب لكل ما أحميته في النار: فتنته، لأنه بذلك
كالمختبر
106

وقيل في قوله عز وجل: * (يوم هم على النار يفتتنون) *
هو من هذا أي يشوون.
قال أبو العباس: والقول عندي - والله أعلم - إنما هو
يحرقون بفتنتهم، أي يعذبون بكفرهم، من فتن الكافر.
وقيل: يختبرون، فيقال: (ما سلككم في سقر)؟ وأفتنه
العذاب أي جزاه بفتنته، كقولك كرب، وأكربته، والعلم لله
تعالى.
يقال: فتن الرجال، وفتن، وأفتنته، أي جعلت فيه فتنة
كقولك: دهشته، وكحلته، هذا قول الخليل، وأفتنته: جعلته فاتنا،
وهذا خضر فتن.
وقال الأخفش في قوله عز وجل: * (بأيكم المفتون) * قال:
يعني الفتنة، كقولك خذ ميسوره، ودع معسوره.
107

وكان سيبويه يأبى أن يكون المصدر على مفعول، ويقول:
المعتمد خذ ما يسر لك منه.
42 - وقوله عز وجل: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى
يقاتلوكم فيه..) * [آية 191].
قال قتادة: ثم نسخ ذلك بعد فقال: * (وقاتلوهم حتى
لا تكون فتنة)
قال ابن عباس: أي شرك، قال: * (ويكون الدين
لله) * ويخلص التوحيد لله.
ثم قال: * (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) * [آية 192].
قال قتادة: والظالم الذي أبى أن يقول " لا إله إلا الله ".
43 - ثم قال عز وجل: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات
قصاص..) * [آية 194].
108

أي قتال الشهر الحرام بقتال الشهر الحرام.
قال مجاهد: صدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن البيت الحرام في الشهر الحرام " ذي القعدة " فأقصه الله منهم من
قابل، فدخل البيت الحرام في الشهر الحرام، ذي القعدة وقضى
عمرة.
وقال غيره: قال عز وجل: * (والحرمات قصاص) *
فجمع، لأنه جل ثناؤه أراد الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة
الإحرام.
44 - ثم قال عز وجل: * (فمن اعتدى عليكم..) * [آية 194].
قال مجاهد: أي من قاتلكم فيه، فاعتدوا عليه فاقتلوه فيه،
109

سمي الثاني اعتداء، لأنه جزاء الأول.
45 - وقوله عز وجل: * (وأنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة..) * [آية 195].
أصح ما قيل في هذا أن سعيد بن جبير روى عن ابن عباس
" لا تمسكوا النفقة في سبيل الله فتهلكوا ".
وحدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال: حدثنا عبد الله بن يحيى
قال: حدثنا عاصم قال: حدثنا قيس بن الربيع عن الأعمش عن
شقيق قال قال حذيفة: التهلكة: ترك النفقة.
وقال البراء والنعمان بن بشير: هو الرجل يذنب الذنب،
فيلقي بيده، ثم يقول: لا يغفر لي.
110

وقال عبيدة: هو الرجل يعمل الذنوب والكبائر ثم يقول:
ليس لي توبة، فيلقي بيديه إلى التهلكة.
وقال أبو قلابة: هو الرجل يصيب الذنب فيقول: ليس لي
توبة فينهمك في الذنوب.
قال أبو جعفر: والقول الأول أولى، لأن أبا أيوب الأنصاري
يروي قال: نزلت فينا معاشر الأنصار، لما أعز الله دينه، قلنا -
سرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن أموالنا قد ضاعت، فلو أقمنا فيها
وأصلحنا منها ضاع، فأنزل الله في كتابه، يرد علينا ما هممنا به:
* (أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *
فكانت التهلكة في الإقامة، التي أردنا أن نقيم في أموالنا
ونصلحها، فأمرنا بالغزو.
قال أبو جعفر فدل على وجوب الجهاد على المسلمين.
وقيل أيضا: معنى * (وأحسنوا) *: وأنفقوا.
111

قال أبو إسحاق وأحسنوا في أداء الفرائض
وقال عكرمة أي أحسنوا الظن بالله
وقال ابن زيد عودوا على من ليس في يده شئ
والمعنى في قوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
على ما تقدم أي أن امتنعتم من النفقة في سبيل الله عصيتم
الله فهلكتم ويجوز أن يكون المعنى قويتم فيه عدوكم فهلكتم
46 - وقوله جل وعز وأتموا الحج والعمرة لله
يروى عن عمر أن إتمامهما ترك الفسخ لان الفسخ كان
جائزا في أول الإسلام
وقال عبد الله بن سلمة سالت عليا عن قوله تعالى وأتموا
الحج والعمرة لله ما إتمامهما قال إن تحرم بهما من دويرة
أهلك
112

قال أبو جعفر: وذهب إلى هذا جماعة من الكوفيين، وقال:
وجعل الميقات حتى لا يتجاوز، فأما الأفضل فما قال علي.
وروى علقمة عن عبد الله قال: لا يجاوز بهما البيت.
وقال مجاهد وإبراهيم: إتمامهما أن يفعل ما أمر به فيهما.
وهذا كأنه إجماع، لان عليه أن يأتي المشاعر، وما أمر به،
وبذلك يتم حجه.
فأما الإحرام من بلده، فلو كان من الإتمام لفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الحسن: أحرم عمران بن الحصين من البلد الذي
كان فيه، فأنكر ذلك عمر عليه، وقال أيحرم رجل من أصحاب
113

رسول الله من داره
وقبل وقيل إتمامهما أن تكون النفقة حلالا
وقال سفيان إتمامهما ان يحرم لهما قاصدا لا لتجارة
وقرأ الشعبي والعمرة لله بالرفع وقال العمرة
تطوع والناس جميعا يقرؤونها بالنصب وفي المعنى قولان
قال ابن عمر والحسن وسعيد بن جبير وطاووس
وعطاء وابن سيرين هي فريضة
وقال جابر بن عبد الله والشعبي هي تطوع
وليس يجب في قراءة من قرأ بالنصب انها فرض لأنه ينبغي لمن
دخل في عمل هو لله أن يتمه
114

قيل معنى الحج مأخوذ من قولهم حججت كذا أي
تعرفت كذا فالحاج يأتي مواضع بتعرفها
صلى قال الشاعر
* يحج مأمومة في قعرها لجف *
فاست الطبيب قذاها كالمغاريد *
47 - وقوله جل وعز فان احصر تم يعني منعتم عن إتمامهما
وفي الإحصار قولان
أحدهما قاله ابن عمر وهو مذهب أهل المدينة قال
لا يكون الا من عدو
115

قال أبو جعفر: والقول الآخر قاله ابن مسعود، وهو قول
أهل الكوفة، أنه من العدو، ومن المرض، وأن من أصابه من ذينك
شيء بعث بهدي، فإذا نحر حل.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله.
وروى طاووس عن ابن عباس مثل الأول، وتلا (فإذا
أمنتم) قال نهل الأمن إلا من خوف؟.
فقد صار في الآية أشكال، لأن الإحصار عند جميع أهل اللغة
إنما هو من المرض، الذي يحبس عن الشيء.
فأما من العدو، فلا يقال فيه إلا: " حصر ".
116

يقال حصر، حصرا، وفي الأول: أحصر، إحصارا.
والقول في الآية على مذهب ابن عمر أنه يقال " أقتلت
الرجل " أي: عرضته للقتل، و " اقبره " جعل له قبرا،
وأحصرته - على هذا - عرضته للحصر، كما يقال: أحبسته أي
عرضته للحبس، وأحصر أي أصيب بما كان مسببا للحصر، وهو
فوت الحج.
وقد روي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من عرج، أو كسر، فقد حل،
وعليه حجة أخرى ".
قال: فحدثت بذا ابن عباس، وأبا هريرة، فقالا: صدق.
وإنما روى هذا عن عكرمة حجاج الصواف.
وروى الجلة خلاف هذا.
روى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس وابن طاووس
عن أبيه عن ابن عباس " لا حصر إلا من عدو ".
117

وروى أبو نجيح عن عكرمة أن المحصر يبعث بالهدي، فإذا
بلغ الهدي محله حل، وعليه الحج من قابل.
48 - ثم قال تعالى: * (فما استيسر من الهدي..) * [آية 196].
قال ابن عمر وابن الزبير وعائشة: من الإبل والبقر خاصة،
شيء دون شيء.
وروى جعفر عن أبيه عن علي رضوان الله عنه: (فما استيسر من
الهدي) شاة.
وقال ابن عباس: يكون من الغنم، ويكون شركا في دم،
وهو مذهب سعد.
118

49 - ثم قال تعالى: * (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) *
قال قال مجاهد يعني يوم النحر
[آية 196].
قال خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد: حتى
ينحر.
وقال أكثر الكوفيين: ينحر عنه الهدي في أي يوم شاء في
الحرم.
وقال الكسائي في قوله: * (محله) *: إنما كسرت الحاء لأنه
من حل يحل، حيث يحل أمره، ولو أراد حيث يحل لكان محله،
وإنما هو على الحلال.
119

50 - ثم قال تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه..) *
[آية 196].
روى مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة
أنه لما كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فآذاه القمل في رأسه، فأمره
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه، وقال: " صم ثلاثة أيام، أو أطعم
ستة مساكين، لكل مسكين مدان، أو انسك بشاة ".
قال أبو جعفر: أي ذلك فعلت أجزأ عنك.
وقال عطاء: هذا لمن كان به قمل، أو صداع، أو ما
أشبهما.
قال أبو جعفر: وفي الكلام حذف، والمعنى: فحلق، أو
اكتحل، أو تداوى بشيء فيه طيب، فعليه فدية.
120

51 - ثم قال تعالى: * (فإذا أمنتم، فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فما
استيسر من الهدي..) * [آية 196].
قال الربيع بن أنس: " إذا أمن من خوفه، وبرأ من
مرضه " أي من خوف العدو، والمرض.
وقال علقمة: إذا برأ من مرضه.
52 - ثم قال تعالى * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من
الهدي..) * [آية 196].
التمتع عند الفقهاء المدنيين والكوفيين: أن يعتمر الذي ليس
أهله " حاضري المسجد الحرام " في أشهر الحج، ويحل من عمرته، ثم
يحج في تلك السنة، ولم يرجع إلى أهله بين العمرة والحج، فقد تمتع
من العمرة إلى الحج، أي انتفع بما ينتفع به الحلال.
والمتعة، والمتاع في اللغة: الانتفاع، ومنه قوله تعالى
121

* (ومتعوهن) *.
وقال أهل المدينة: وكذلك إذا اعتمر قبل أشهر الحج، ثم
دخلت عليه أشهر الحج ولم يحل، فحل في أشهر الحج، ثم حج بعد
فهو متمتع.
وقال الكوفيون: إن كان طاف أكثر طواف العمرة، قبل
دخول أشهر الحج، فليس بتمتع، وإن كان قد بقي عليه الأكثر فهو
متمتع.
وقال طاووس: من اعتمر في السنة كلها، في المحرم فما سواه
من الشهور، فأقام حتى يحج فهو متمتع.
122

وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس * (فمن تمتع بالعمرة
إلى الحج) *
يقول: من أحرم بالعمرة في أشهر الحج.
وروى عنه عطاء: العمرة لمن أحصر، ولمن خليت سبيله، أصابتهما
هذه الآية.
وروى عنه سعيد بن جبير: على من أحصر الحج في العام
القابل، فإن حج فاعتمر في أشهر الحج، فإن عليه الفدية.
فهذه الأقوال عن ابن عباس متفقة، وأصحها ما رواه سعيد بن
جبير، لأن اتساق الكلام على مخاطبة من أحصر، وإن كان ممن لم
يحصر فتمتع، فحكمه هذا الحكم.
فعلى هذا يصح ما رواه عطاء عنه، وكذلك ما رواه علي بن
أبي طلحة، غير أن نص التأويل على المخاطبة لمن أحصر.
123

وقال عبد الله بن الزبير: ليس التمتع الذي يصنعه الناس
اليوم، يتمتع أحدهم بالعمرة قبل الحج، ولكن الحاج إذا فاته الحج،
أو ضلت راحلته، أو كسر حتى يفوته الحج، فإنه يجعله عمرة،
وعليه الحج من قابل، وعليه ما استيسر من الهدي.
فتأويل ابن الزبير أنه لا يكون إلا لمن فاته الحج، لأنه تعالى
قال: * (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * فوقع الخطاب لمن
فاته الحج بالحصر،
وخالفه في هذا الأئمة، منهم " عمر بن الخطاب " و " علي
بن أبي طالب " و " سعد " فقالوا: هذا للمحصرين وغيرهم.
ويدلك على أن حكم غير المحصر في هذا كحكم المحصر،
قوله تعالى * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه، ففدية من
صيام أو صدقة أو نسك) * فهذا للمحصر وغيره سواء، وكذلك
التمتع.
53 - وقوله جل وعز: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجعتم..) * [آية 196].
قالت عائشة وابن عمر: الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى
124

الحج، ممن لم يجد هديا، ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفه، ومن لم
يصم صام أيام منى.
وكان ابن عمر يستحب أن يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم
التروية، ويوم عرفة.
وقال الشعبي، وعطاء، وطاووس، وإبراهيم: * (فصيام ثلاثة
أيام في الحج) * قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.
54 - ثم قال جل وعز * (وسبعة إذا رجعتم..) * [آية 196].
روى شعبة عن محمد بن أبي النوار عن حيان السلمي قال:
سألت ابن عمر عن قوله تعالى * (وسبعة إذا رجعتم) * قال: إذا
رجعتم إلى أهليكم.
125

وروى: سفيان عن منصور عن مجاهد قال: إن شاء صامها
في الطريق، إنما هي رخصة. وكذا قال عكرمة والحسن.
والتقدير عند بعض أهل اللغة: إذا رجعتم من الحج أي إذا
رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الإحرام من الحل.
وقال عطاء: إذا رجعتم إلى أهليكم، وهذا كأنه إجماع.
55 - ثم قال عز وجل: * (تلك عشرة كامله..) * [آية 196].
وقد علم أنها عشرة، وأحسن ما قيل في هذا أنه لو لم يقل:
(تلك عشرة كاملة) وهو جاز أن يتوهم السامع أنه إنما عليه أن يصوم
ثلاثة في الحج، أو سبعة إذا رجع، لأنه لم يقل: وسبعة أخرى
126

كما يقول: أنا آخذ منك في سفرك درهما، وإذا قدمت اثنين،
أي لا آخذ إذا قدمت إلا اثنين.
وقال محمد بن يزيد: لو لم يقل: * (تلك عشرة) جاز
أن يتوهم السامع أن بعدها شيئا آخر، فقوله: * (تلك عشرة) *
بمنزلة قولك في العدد: فذلك كذا، وكذا.
وأما معنى * (كاملة) * فروى هشيم فيه عن عباد بن راشد،
عن الحسن قال: * (كاملة) * من الهدي، أي قد كملت في المعنى
الذي جعلت له، فلم يجعل معها غيرها، وهي كاملة الأجر ككمال
الهدي.
56 - ثم قال تعالى: * (ذلك لمن يكن أهله حاضري المسجد
الحرام..) * (آية 196].
قال مجاهد: أهل الحرم
وقال الحسن وإبراهيم والأعرج ونافع: هم أهل مكة
127

خاصة.
وقال عطاء مكحول: هم أهل المواقيت ومن بعدهم إلى
مكة.
قال أبو جعفر: وقول الحسن ومن معه أولى، لأن الحاضر
للشيء هو الذي معه، وليس كذا أهل المواقيت، وأهل منى، وكلام
العرب لأهل مكة أن يقولوا: هم أهل المسجد الحرام.
قال أبو جعفر: فتبين أن معنى * (حاضري المسجد) *
لأهل مكة، ومن يليهم ممن بينه وبين مكة مالا تقصر فيه الصلاة،
لأن الحاضر للشيء هو الشاهد له ولنفسه، وإنما يكون المسافر
مسافرا، لشخوصه إلى ما يقصر فيه، وإن لم يكن كذلك لم يستحق
اسم غائب.
128

57 - وقوله تعالى: * (الحج أشهر معلومات..) * [آية 197].
حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال: حدثنا عبد الله بن يحيى،
قال: أخبرنا حجاج بن محمد، قال ابن جريج: قلت لنافع مولى ابن
عمر: أسمعت ابن عمر سمى أشهر الحج؟
قال: نعم سمى شوالا، وذا القعدة وذا الحجة.
وقال ابن عباس: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي
الحجة.
وقال أبو جعفر: والقولان يرجعان إلى شيء واحد، لأن ابن
عمر إنما سمى ذا الحجة لأن فيه الحج، وهو شهر حج.
58 - ثم قال تعالى: * (فمن فرض فيهن الحج..) * [آية 197].
قال ابن مسعود وابن عمر: (فرض): لبى.
129

وعن ابن عباس: أحرم، وقيل: معنى أحرم أوجب على
نفسه الأحرام بالعزم وإن لم يلب.
قال أبو جعفر: وحقيقته في اللغة أن (فرض): أوجب.
والمعنى: أوجب فيهن الحج بالتلبية [أو بالنية. واحتمل أن
يكون معناه أوجب على نفسه الحج بالتلبية] فيهن، فتكون
التلبية والحج جميعا فيهن.
واحتمل أن يكون المعنى: من وأوجب عل نفسه الحج فيهن
بالتلبية في غيرهن.
إلا أن محمد بن جعفر الأنباري حدثنا قال: حدثنا عبد الله بن
يحيي، قال: أخبرنا حجاج بن محمد قال ابن جريج: أخبرني عمر
بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: " لا ينبغي لأحد أن يحرم
بالحج إلا في أشهر الحج، من أجل قوله تعالى: * (الحج أشهر
130

معلومات فمن فرض فيهن الحج) * فلا ينبغي لأحد أن يلبي بالحج ثم
يقيم بأرض ".
59 - ثم قال تعالى: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) *
[آية 197].
روى سفيان بن حصيف عن مقسم عن ابن عباس قال:
الرفث الجماع، والفسوق السباب. والجدال أن تماري صاحبك حتى
تغضبه.
وكذا قال ابن عمر.
وروى طاووس عن ابن عباس وابن الزبير: الرفث:
التعريض، أي يقول: لو كنا حلالين لكان كذا وكذا.
وقال عطاء وقتادة: الرفث: الجماع، والفسوق: المعاصي،
والجدال: أن يماري بعضهم بعضا حتى يغضبه.
131

وروى أبو يحيي عن مجاهد في الجدال كما قال عطاء.
وروى [عنه] بن أبي نجيح: لا جدال ولا شك فيه وهو
مذهب أبي عمرو بن العلاء.
وعلى ذلك قرأ برفع " رفث وفسوق " وفتح " جدال ".
وهذه الأقوال متقاربة، لأن التعريض بالنكاح من سببه، والرفث
أصله: الإفحاش ثم يكنى به عن الجماع، ويبين لك أنه يقع
للجماع قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم).
والفسوق في اللغة: الخروج عن الشيء.
فسباب المسلم خروج عن طاعة الله.
وقد روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم
فسق، وقتاله كفر ".
132

وقيل: قول عطاء وقتادة: الفسوق: المعاصي، حسن
جدا.
على أنه قد روى عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد، عن
نافع عن ابن عمر قال الفسوق: إتيان معاصي الله في الحرم، ذأي من
صيد وغيره.
فهذا قول جامع لأن سباب المسلم داخل في المعاصي،
وكذلك الأشياء التي منع منها المحرم وحده، التي منع المحرم
والحلال.
ومعنى قول مجاهد: " لاشك " فيه أنه في ذي الحجة،
أن النسأة كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة، ويقف
بعضهم بجمع، وبعضهم بعرفة ويتمارون في الصواب من ذلك. وقال
133

النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات
والأرض، وأن الحج في ذي الحجة ".
وقال أبو زيد قال أبو عمرو: أراد فلا يكونن رفث، ولا
فسوق في شيء يخرج من الحج.
ثم ابتدأ النفي فقال: * (ولا جدال في الحج) *.
فأخبر أن الأول نهى.
60 - ثم قال تعالى: * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * [آية 197].
روى سفيان عن عمرو عن عكرمة قال: " كان أناس
يقدمون مكة في الحج بغير زاد، فأمروا بالزاد ".
وقال مجاهد كان أهل اليمن يقولون: لا تتزودوا فتتوصلون من
الناس، فأمروا أن يتزودوا.
134

وقال قتادة نحو منه.
61 - ثم قال تعالى: * (فإن خير الزاد التقوى) * [آية 197].
أي فمن التقوى، أن لا يتعرض الرجل لما يحرم عليه من
المسألة.
62 - ثم قال تعالى: * (واتقون يا أولي الألباب) * [آية 197].
أي العقول، ولب كل شيء خالصه.
63 - ثم قال تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من
ربكم..) * [آية 198].
حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال: حدثنا الرمادي قال:
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا سفيان عن عمر بن دينار، قال: قال
ابن عباس: كان ذو المجاز، وعكاظ، متجرا للناس في الجاهلية،
فلما كان الإسلام كرهوا ذلك، حتى نزلت: * (ليس عليكم جناح أن
135

تبتغوا فضلا من ربكم) * في مواسم الحج.
64 - ثم قال تعالى: * (فإذا أفضتم من عرفات) * أي اندفعتم.
ويقال: فاض الإناء، إذا امتلأ ينصب من نواحيه.
ورجل فياض: أي يتدفق بالعطاء.
قال زهير:
- وأبيض فياض يداه غمامة *
على معتفيه ما تغب نوافله -
وحديث مستفيض: أي متتابع.
136

وروى أبو الطفيل عن ابن عباس قال: " انما سميت عرفات
لأن جبريل كان يقول لإبراهيم عليهما السلام: هذا موضع كذا.
فيقول: عرفت، وقد عرفت، فلذلك سميت عرفات ".
وقال الحسن وسعيد بن جبير وعطاء ونعيم بن أبي هند: نحوا منه.
وقال ابن المسيب قال: علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
بعث الله جبريل إلى إبراهيم صلى الله عليهما حتى [إذا] أتى عرفات
قال: عرفت. وكان قد أتاها من قبل ذلك، ولذلك سميت
عرفة.
65 - ثم قال تعالى: * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام..) * [آية 198].
قال ابن عباس وسعيد بن جبير: ما بين الجبلين مشعر.
137

قال قتادة: هي جمع، قال: وإنما سميت جمعا، لأنه
يجمع فيها بيت صلاة " المغرب والعشاء ".
قال أبو إسحاق: المعنى: واذكروا بتوحيده، والمعنى الثناء
عليه (وإن كنتم من قبله) أي من قبل هدايته.
66 - وقوله تعالى * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس..) * [آية 199].
قالت عائشة وابن عباس: " كانت العرب تقف بعرفات،
فتتعظم قريش أن تقف معها، فتقف قريش بالمزدلفة، فأمرهم الله أن
يفيضوا من عرفات مع الناس ".
وقال الضحاك: الناس إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: والأول أولى.
138

روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار، عن محمد بن جبير بن
مطعم، عن أبيه قال: " خرجت في طلب بعير لي بعرفة، فرأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بعرفة مع الناس، قبل أن يبعث، فقلت: والله
إن هذا من الحمس، فما شأنه واقفا ها هنا "؟
قال أبو جعفر: الحمس: الذين شددوا في دينهم، والحماسة
الشدة [ويقال " ثم "] في اللغة تدل على الثاني بعد الأول، وبنيهما
مهلة.. وقد قال الله تعالى بعد * (فاذكروا الله عند المعشر
الحرام) *
* (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) *.
وإنما الإفاضة من عرفات، قبل المجيء إلى المعشر الحرام؟.
139

وفي هذا جوابان:
أحدهما: أن (ثم) بمعنى الواو.
والجواب الثاني: وهو المختار أن (ثم) على بابها، والمعنى ثم
أمرتم بالإضافة من عرفات من حيث أفاض الناس.
وفي هذا معنى التوكيد لأنهم أمروا بالذكر عند المعشر الحرام،
وأفاضوا من عرفات ثم وكدت عليهم الإفاضة من حيث أفاض الناس،
لا من حيث كانت قريش تفيض.
وقال الله تعالى: * (ثم آتينا موسى الكتاب) *، ويقال
فلان كريم، ثم إنه يتفقدنا ثنا، وفلان يقاتل الناس ثم إنه رديء في
نفسه، أي ثم أزيدك في خبره.
وفي الآية قول آخر حسن على قول الضحاك: * (الناس) *: إبراهيم
عليه السلام، فيكون المعنى من حيث أفاض إبراهيم الخليل وهو المشعر
الحرام.
140

ويكون هذا مثل (الذين قال لهم الناس) وذلك " نعيم بن
مسعود الأشجعي ".
وقد روي: عنه أنه قال: (ثم أفيضوا من حيث أفاض
الناسي) يعني آدم، وهذه قراءة شاذة.
67 - ثم قال تعالى * (فإذا قضيتم مناسككم..) * [آية 200].
قال مجاهد: إراقة الدماء.
68 - ثم قال تعالى: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا..) *
[آية 200].
روى أبو مالك وأبو صالح عن ابن عباس: " كانت العرب
141

إذا قضت مناسكها وأقاموا بمنى، فيقوم الرجال فيسأل الله فيقول:
اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القبة، كثير المال، فأعطني
مثل ما أعطيته ".
أي ليس يذكر الله تعالى، إنما يذكر أباه، ثم يسأل أن يعطى
في الدنيا.
69 - وقوله جل وعز * (فمن الناي من يقول ربنا آتنا في الدنيا، وماله
في الآخرة من خلاق) * [آية 200].
قال ابن عباس: (الخلاق) النصيب، والمؤمنون يقولون
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة) * قال: المال * (وفي الآخرة حسنة) *
قال: الجنة.
142

وقال هشام عن الحسن: (آتنا في الدنيا حسنة) قال:
العلم والعبادة، (وفي الآخرة حسنة) قال: الجنة.
وروى معمر عن قتادة قال: في الدنيا عافية، وفي الآخرة
عافية.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد، إلى أن
الحسنة والنعمة من الله.
ثم قال تعالى: * (وقنا) * أي اصرف عنا.
يقال منه: وقيته كذا: أقيه، وقاية، ووقاية، ووقاء. وقد
يقال: وقاك الله وقيا.
143

70 - ثم قال تعالى: * (والله سريع الحساب) * [آية 202].
أي قد علم ما للمحاسب وما عليه، قبل توقيفه على
حسابه، وهو يحاسبه بغير تذكر، ولا روية، وليس الآدمي كذلك.
71 - ثم قال تعالى * (واذكروا الله في أيام معدودات..) * [آية 203].
أي بالتوحيد والتعظيم * (في أيام معدودات) * أي
محصيات.
أمروا بالتكبير أدبار الصلوات، وعند الرمي مع كل حصاة من
حصى الجمار.
وروى سفيان عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن الديلي
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام منى ثلاثة أيام " أيام التشريق "
فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه).
وروى نافع عن ابن عمر: الأيام المعلومات والمعدودات
144

جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات: يوم النحر، ويومان بعده،
والمعدودات: ثلاثة أيام بعد يوم النحر (واذكروا الله في أيام معدودات
فمن تعجل في يومين فلا إثم على ومن تأخر فلا إثم عليه).
وروي عن عبد الله بن مسعود، وابن عمر، وابن عباس (فلا
إثم عليه) مغفور له.
وقال عطاء، وإبراهيم، ومجاهد، وقتادة (فمن تعجل في
يومين فلا إثم عليه) في تعجيله، * (ومن تأخر فلا إثم عليه) * في
تأخيره.
145

72 - ثم قال تعالى: * (لمن اتقى..) * [آية 203].
قال عبد الله بن عمر: أبيح ذا لتعجيل من اتقى.
فالتقدير على هذا: الإباحة لمن أتقى.
وقال ابن مسعود: إنها مغفرة للذنوب لمن اتقى في حجه.
قال أبو جعفر: وهذا القول مثل قوله الأول، وأما قول
إبراهيم: (ومن تأخر فلا إثم عليه) في تأخيره، فتأويل بعيد، لأن
المتأخر قد بلغ الغاية، ولا يقال: لا حرج عليه!!.
وقد قيل: يجوز أن يقال: لا حرج عليه، لأن رخص الله
يحسن الأخذ بها، فأعلم الله تبارك وتعالى أنه لا إثم عليه في تركه
الأخذ بالرخص.
146

ويدل على صحة قول ابن مسعود حديث شعبة عن منصور عن
أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حج فلم يرفث ولم
يفسق رجع كما ولدته أمه ".
والمعنى على هذا: من حج فاتقى في حجه ما ينقصه فلا إثم
عليه من الذنوب الخالية.
أي قد كفر الحج عنه.
والتقدير: تكفير الإثم لمن اتقى.
حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال: حدثنا حاجب بن
سليمان قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان الثوري عن سمي عن
أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحج المبرور
ليس له جزاء إلا الجنة ".
قال أبو جعفر: وقول أبي العالية: (لا أثم عليه) ذهب إثمه
كله إن اتقى الله فيما بقي أي من عمره.
147

73 - وقوله تعالى: * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا..) *
[آية 204].
قال ابن عباس: علانيته (ويشهد الله) في الخصومة أن ما
يريد الحق، ولا يطلب الظلم (وهو ألد الخصام) ظالم.
وقال محمد بن كعب: هم المنافقون.
148

وقرأ ابن محيصن: (ويشهد الله) بفتح الياء والهاء
والرفع - ومعناه: يعلم الله.
74 - ثم قال تعالى: * (وهو ألد الخصام) *.
قال مجاهد: أي ظالم لا يستقيم.
وقال قتادة: شديد جدل بالباطل.
والألد في اللغة: الشديد الخصومة، مشتق من اللديدين وهما
صفحتا العنق.
أي في أي جانب أخذ من الخصومة غلب، كما قال الشاعر:
- إن تحت الأحجار حزما وجودا *
وخصيما ألد ذا مغلاق -
ويروى " معلاق " ويقال: هو من لديدي الوادي، أي
جانبيه.
149

فصاحب هذه الصفة، يأخذ من جانب ويدع الإستقامة،
واللدود في أحد الشقين.
وقال أبو إسحق: الخصام جمع خصم.
75 - ثم قال تعالى: * (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك
الحرث والنسل..) * [آية 205].
أي إذا فارقك أسرع في فساد الحرث والنسل.
وروى أبو مالك عن ابن عباس " نزلت في الأخنس بن
شريق، خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فمر بزرع لقوم من المسلمين
وحمر، فأحرق الزرع، وعقر الحمر.
وروى أبو إسحق عن التميمي عن ابن عباس قال: الحرث
حرث الناس، والنسل نسل كل دابة.
150

قال قتادة: الحرث الزرع: والنسل: نسل كل شيء.
وحدثنا محمد بن شعيب قال: أخبرني أحمد بن سعيد قال:
حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا أبي عن علي بن الحكم عن
الضحاك: أما قوله: (ويهلك الحرث والنسل) فالناس وكل دابة،
وأما الحرث فهي: الجنان، والأصل النابت.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متقاربة المعاني، والمعنى:
يحرق ويخرب ويقتل.
76 - ثم قال تعالى: * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) *.
[آية 206].
حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار
قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحق عن سعيد بن وهب
قال: قال عبد الله " كفى بالرجل إثما أن يقول له أخوه: اتق الله،
فيقول: عليك نفسك، أأنت تأمرني "؟.
151

77 - وقوله تعالى: * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة
الله..) * [آية 207].
أي يبيع، ومعنى يبيع نفسه: يبذلها في الله.
قال سعيد بن المسيب: أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى
الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش من المشركين، فنزل عن راحلته،
فانتثر ما في كنانته، أخذ قوسه، ثم قال: يا معشر قريش: لقد
علمتم أنى من أرماكم رجلا، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في
كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما
شئتم، فقالوا: دلنا على بيتك ومالك بمكة، ونخلي عنك!!
وعاهدوه ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبا يحيى ربح
البيع [ربح البيع] فأنزل الله: * (ومن الناس من يشري نفسه
ابتغاء مرضاة الله) *
152

وقال قتادة: هم المهاجرون والأنصار.
78 - وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة..) *
[آية 208].
قال مجاهد: يعني الإسلام.
وروى أبو مالك عن ابن عباس قال: يقول في الإسلام
جميعا.
قال أبو جعفر: وأصل السلم: الصلح والمسالمة، فيجوز
أن يكون المعنى اثبتوا على الإسلام، ويجوز أن يكون المعنى لمن آمن
لسانه.
153

وقد روي أن قوما من اليهود أسلموا وأقاموا على تحريم السبت،
فأمرهم الله أن يدخلوا في جميع شرائع الإسلام.
79 - ثم قال تعالى: * (ولا تبتغوا خطوات الشيطان..) * [آية 209].
قال الضحاك: هي الخطايا التي يأمر بها.
قال أبو إسحاق: أي لا تقفوا آثاره، لأن ترككم شيئا من شرائع
الإسلام اتباع للشيطان.
80 - ثم قال تعالى * (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات..) *
[آية 210].
أي تنحيتم عن القصد.
(فاعلموا أن الله عزيز) لا تعجزونه ولا يعجزه شيء
(حكيم) فيما فطركم عليه وشرع لكم من دينه.
154

81 - ثم قال تعالى: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من
الغمام..) * [آية 210].
قال مجاهد: إن الله يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام.
وقيل: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) بما وعدهم من
الحسنات والعذاب
(فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) أي بخذلانه إياهم.
وهذا قول أبي إسحق.
وقال الأخفش سعيد: (أن يأتيهم الله) يعني أمره.
لأن الله تعالى لا يزول، كما تقول: خشينا أن تأتينا بنو أمية،
وإنما تعني حكمهم.
155

* (وقضي الأمر) * أي فرغ لهم ما كانوا يوعدون.
82 - ثم قال تعالى: * (وإلى الله ترجع الأمور) * [آية 210].
وهي راجعة إليه في كل وقت.
قال قطرب: المعنى إن المسألة عن الأعمال، والثواب فيها
والعقاب يرجع إليه يوم القيامة، لأنهم اليوم غير مسؤولين عنها.
وقال غيره وقد كانت في الدنيا أمور إلى قوم يجورون فيها.
فيأخذون ما ليس لهم، فيرجع ذلك كله إلى الله، يحكم فيه بالحق.
وبعده: * (وقضي بالحق) * أي فصل القضاء بالعدل بين
الخلق.
156

83 - ثم قال تعالى: * (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة..) *
[آية 211].
أي في تصحيح أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: ما ذكر منها في القرآن، وما لم يذكر، قال:
وهم يهود.
84 - ثم قال تعالى: * (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته) *.
[آية 211].
قال مجاهد: أي يفكر بها، وقيل لهم هذا لأنهم بدلوا ما في
كتبهم.
85 - ثم قال تعالى: * (زين للذين كفروا الحياة الدنيا..) * [آية 212]
قال أبو إسحق: أي زينها لهم إبليس، لأن الله قد زهد فيها،
واعلم أنها متاع الغرور.
وقيل: معناه إن الله خلق الأشياء المعجبة، ولا فنظر إليها الذين
157

كفروا بأكثر من مقدورها.
86 - ثم قال عز وجل: * (ويسخرون من الذين آمنوا..) * [آية 212].
قال: أي في ذات اليد.
قال ابن جريح: يسخرون منهم في طلب الآخرة.
قال قتادة: * (فوقهم) * أي الجنة.
87 - ثم قال تعالى: * (والله يرزق من يشاء بغير حساب) *
[آية 212].
ليس يرزق المؤمن على قدر إيمانه، ولا يرزق الكافر على قدر
كفره.
158

أي ليس يحاسب في الرزق في الدنيا على قدر العمل.
وقال قطرب: المعنى - والله أعلم - أنه يعطي [العباد من
الشيء المقسوم] لا من عدد أكثر منه أخذه منه، كالمعطي من
الآدميين الألف من الألفين.
قال: ووجه آخر أن من أنفق شيئا لا يؤاخذ به، كان ذلك
بغير حساب.
88 - وقوله تعالى: * (كان الناس أمة واحدة..) * [آية 213].
قال مجاهد: آدم أمة واحدة.
وروى سعيد بن جبير عن قتادة قال يقول: " كانوا على
شريعة من الحق كلهم ".
159

ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم يعمل
بطاعة الله على الهدى، وعلى شريعة الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك،
فبعث الله نوحا.
قال أبو جعفر: (أمة) من قولهم: أممت كذا أي
قصدته.
فمعنى (أمة) أن مقصدهم واحد، ويقال للمنفرد " أمة "
أي مقصده غير مقصد الناس.
والأمة القامة، كأنها مقصد سائر البدن، الإمة -
بالكسر - النعمة، لأن الناس يقصدون قصدها، وقيل: إمام،
لأن الناس يقصدون قصد ما يفعل.
89 - ثم قال تعالى: * (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس
فيما اختلفوا فيه) * [آية 213].
أي يفصل الكتاب بالحكم.
160

وقرأ الجحدري: (ليحكم) بضم الياء وفتح الكاف.
وقال الفرزدق:
- ضربت عليك العنكبوت بنسجها *
وقضى عليك به الكتاب المنزل -
90 - ثم قال تعالى: * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه) * [آية 213].
أي وما اختلف في الكتاب إلا الذين أعطوه.
قال أبو إسحق: أي وما اختلف في حقيقة أمر النبي صلى
الله عليه وسلم إلا الذين أعطوا علم حقيقته عليه الصلاة والسلام.
161

* (بغيا بينهم) * أي للبغي، أي لم يوقعوا الاختلاف إلا
للبغي..
91 - وقوله جل وعز * (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من
الحق بأذنه..) * [آية 213].
وروى أبو مالك عن ابن عباس: اختلف الكفار فيه، فهدى
الله الذين آمنوا للحق من ذلك.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولا
الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا
الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه [فهدانا
الله له] فالناس لنا فيه تبع، فغدا لليهود، وبعد غد للنصارى ".
وفي بعض الحديث: " هدانا الله ليوم الجمعة ".
162

وقال زيد بن أسلم: اختلفوا، فاتخذت اليهود السبت،
والنصارى الأحد، فهدى الله أمة محمد للجمعة.
واختلفوا في القبلة، واختلفوا في الصلاة، والصيام، فمنهم
من يصوم عن بعض الطعام، ومنهم من يصوم بعض النهار.
واختلفوا في " إبراهيم " فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.
قال أبو زيد: واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لفرية،
وجعلته النصارى ربا، فهدى الله المؤمنين.
قال أبو إسحق: * (بأذنه) * أي بعلمه.
92 - ثم قال تعالى * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة..) * [آية 214].
(أم) ههنا للخروج من حديث إلى حديث.
163

93 - ثم قال تعالى: * (ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم..) *
[آية 214].
حكى النضر بن شميل أن " مثل " يكون بمعنى " صفة ".
ويجوز أن يكون المعنى: ولما يصبكم مثل الذي أصاب
الذين من قبلكم. و (خلوا) أي مضوا.
(مستهم البأساء والضراء) أي الفقر والمرض.
(وزلزلوا) خوفوا وحركوا بما يؤذي.
قال أبو إسحق: أصل الزلزلة من زل الشيء عن مكانه، فإذا
قلت: زلزلته فمعناه: كررت زلزلته من مكانه.
94 - ثم قال تعالى: * (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر
الله) *؟ [آية 214].
أبي بلع الجهد بهم حتى استبطأوا لم النصر.
164

وقال الله تعالى: * (ألا إن نصر الله قريب) * أي هو ناصر
أوليائه لا محالة.
95 - ثم قال تعالى: * (يسألونك ماذا ينفقون..) *؟ [آية 215].
أي يتصدقون ويعطون.
* (قل ما أنفقتم من خير فللوالدين، والأقربين، واليتامى،
والمساكين، وابن السبيل..) * [آية 215].
قيل: كانوا سألوا على من ينبغي أن يفضلوا؟.
فقيل: أولى من أفضل عليه هؤلاء.
165

96 - ثم قال تعالى: * (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) * [آية 215].
أي يحصيه، وإذا أحصاه جازى عليه.
97 - ثم قال تعالى: * (كتب عليكم القتال وهو كره لكم..) *
[آية 216].
أكثر أهل التفسير على أن الجهاد فرض، وأن المعنى: فرض
عليكم القتال، إلا أن بعضهم يكفي من بعض.
قال الله تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله) *.
قال أبو طلحة في قوله تعالى: * (انفروا خفافا وثقالا) *
ما سمعت الله عذر أحدا.
إلا أن سفيان الثوري قال: الجهاد تطوع، ومعنى * (كتب
166

عليكم القتال) * على تفضيله.
ثم قال: * (وهو كره لكم) * [آية 216].
قال أبو إسحق: التأويل وهو ذو كره لكم، وكرهت الشيء
كرها، وكرها، وكراهة، وكراهية.
وقال الكسائي: كأن الكره من نفسك، والكره -
بالفتح - ما أكرهت عليه.
* (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) * [آية 216].
أي إن قتل كان شهيدا، وإن قتل أثيب وغنم، وهدم أمر
الكفر، واستدعى بالقتال دخول من يقاتله في الإسلام.
* (وعسى أن تحبوا شيئا) * القعود عن القتال.
167

98 - قوله تعالى: * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال
فيه كبير..) * [آية 217].
روى سعيد عن قتادة قال: فكان القتال فيه كبيرا - كما قال
تعالى - ثم نسخ في براءة: * (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم
كافة) *.
روى أبو السيار عن جندب بن عبد الله أن النبي صلى الله
عليه وسلم بعث رهطا، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الحارث -
أو عبيدة بن الحارث - فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث " عبد الله بن جحش "
وكتب له كتابا، وأمره لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا،
وقال: لا تكرهن أصحابك على المسير، فلما بلغ المكان قرأ الكتاب
فاسترجع، وقال: سمعا وطاعة لله ورسوله، قال: فرجع رجلان،
ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من
168

رجب، فقال المشركون: قتلتم في الشهر الحرام!! فأنزل الله تعالى
* (يسألونك عن الشهر الحرام) * الآية.
وقيل: إن لم يكونوا أصابوا وزرا، فليس لهم أجر، فأنزل الله
تعالى: * (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله) *
إلى آخر الآية.
قال مجاهد: (قل قتال فيه كبير) أي عظيم.
وتم الكلام. ثم ابتدأ فقال: (وصد عن سبيل الله وكفر به)
أي بالله (والمسجد الحرام) أي وصد عن المسجد الحرام.
169

(وإخراج أهله منه) يعني المسجد الحرام (أكبر عند الله)
من القتل في الشهر الحرام
* (والفتنة أكبر من القتل) *
قال الشعبي: أي الكفر، والمعنى: أفعالكم هذه كفر.
والكفر أكبر من القتل في الشهر الحرام.
99 - ثم قال تعالى: * (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن
استطاعوا..) * [آية 217].
قال مجاهد: يعني كفار قريش.
وقوله تعالى: * (أولئك يرجون رحمة الله..) * [آية 218].
ومعنى (يرجون رحمة الله) وقد مدحهم؟! أنهم لا يدرون
ما يختم لهم به.
100 - وقوله تعالى: * (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير
ومنافع للناس..) * [آية 219].
170

روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: * (يسألونك عن
الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) * ثم أنزل:
* (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون..) *
[فكانوا يدعونها] فإذا صلوا العشاء شربوها، فلا يصبحون حتى
يذهب عنهم السكر، فإذا صلوا الغداة شربوها، فما يأتي الظهر
حتى يذهب عنهم السكر، ثم إن ناسا شربوها، فقاتل بعضهم
بعضا، وتكلموا بما لا يرضي الله، فأنزل الله تعالى: * (إنما الخمر
والميسر، والأنصاب، والأزلام رجس من عمل الشيطان،
فاجتنبوه..) *.
فحرم الله الخمر ونهى عنها، وأمر باجتنابها، كما أمر باجتناب
الأوثان.
وروى أبو توبة عن ابن عمر: أنزلت (إنما الخمر) إلى
قوله (فهل أنتم منتهون) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت.
171

وقال عمرو بن شرحبيل: فقال عمر: انتهينا، فإنها تذهب
المال، والعقل.
وأهل التفسير يذهبون إلى أن المحرم لها هذا.
وقال بعض الفقهاء: المحرم لها آيتان.
إحداهما: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما
بطن والإثم).
قال أبو إسحق: الخمر هذه المجمع عليها، وقياس كل
ما تحمل عملها أن يقال له خمر، وأن يكون بمنزلتها في التحريم، لأن
172

إجماع العلماء أن القمار كله حرام. وإنما ذكر الميسر من بينه،
فجعل كله قياسا على الميسر، والميسر إنما يكون قمارا في الجزر
خاصة، وكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.
وتأويل الخمر في اللغة: أنه ما ستر على العقل، يقال لكل ما ستر
الإنسان من شجر وغيره: خمر، وما ستره من شجر خاصة
الضرا مقصور.
ودخل في " خمار الناس " أي في الكثير الذي يستتر فيه.
وخمار المرأة قناعها، لأنه يغطي [الرأس] والخمرة التي
سجد عليها، لأنها تستر الوجه عن الأرض. وكل مسكر خمر،
لأنه يخالط العقل ويغطيه، وفلان مخمور من كل مسكر.
173

قال سعيد بن جبير ومجاهد: الميسر القمار كله.
فأما الإثم الذي في الخمر فالعداوة والبغضاء، وتحول بين
الإنسان وبين عقله الذي يميز به، ويعرف به ما يجب لخالقه.
والقمار يورث العداوة، لأن مال الإنسان يصير إلى غيره بغير
جزاء يأخذه عليه.
والمنافع: لذة الخمر، والربح فيها، ومصير الشيء إلى الإنسان
في القمار بغير كد.
وقال الضحاك: منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعد
التحريم.
101 - وقوله تعالى: * (ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو..) *
[آية 219].
174

قال طاووس: اليسير من كل شيء.
وقال خالد بن أبي عمران: سالت القاسم وسالما فقالا:
فضل المال: ما يصدق به عن ظهر غنى.
وقال قتادة: هو الفضل.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد، لأن
العفو في اللغة: ما سهل.
يقال: خذ ما عفا لك: أي ما سهل لك.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة ما تصدق
به عن ظهر غنى).
فعلى هذا تأويل قول القاسم وسالم. وفي المعنى قول آخر.
قال مجاهد: هي الصدقة المفروضة، والظاهر يدل على
175

القول الأول.
102 - ثم قال تعالى: * (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون
في الدنيا والآخرة..) * [آية 219].
قال أبو جعفر: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال: حدثنا
سلمة بن شبيب قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن
قتادة في قول تعالى * (لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة).
قال: يقول: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتعرفون فضل
الآخرة على الدنيا.
قال أبو جعفر: والتقدير على قول قتادة لعلكم تتفكرون في
أمر الدنيا والآخرة.
وقيل: هو على التقديم والتأخير أي كذلك يبين الله لكم الآيات في
أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون!!.
176

103 - ثم قال تعالى: * (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم
خير..) * [آية 220].
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت: * (إن
الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما..) * إلى آخرها، قالوا: هذه
موجبة، فاعتزلوهم وتركوا خلطتهم، فشق ذلك عليهم، فقالوا
للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الغنم قد بقيت ليس لها راع، والطعام ليس له من
يصنعه، فنزلت: * (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم
خير..) * إلى آخرها.
104 - وقوله تعالى: * (والله يعلم المفسد من المصلح..) * [آية
220].
أي يعلم من يخالطهم للخيانة، ومن لا يريد الخيانة.
105 - ثم قال تعالى: * (ولو شاء الله لأعنتكم..) * [آية 220].
177

قال مجاهد: أي لو شاء لم يطلق لكم مخالطتهم، في الأدم
والمرعى.
وروى الحكم عن مقسم عن ابن عباس (ولو شاء الله
لأعنتكم) قال: لو شاء لجعل ما أحببتم من أموال اليتامى
موبقا.
وقال أبو عبيدة: * (لأعنتكم) * لأهلككم.
وقال أبو إسحق: حقيقته لكلفكم ما يشتد عليكم
فتعنتون.
قال: وأصل العنت في اللغة: من قولهم " عنت البعير عنتا "
إذا حدث في رجله كسر بعد جبر، لا يمكنه معه تصريفها.
178

(إن الله عزيز) أي يفعل بعزته ما يحب، لا يدفعه عنه
أحد.
(حكيم) ذو حكمة فيما أمركم به، من أمر اليتامى وغيره.
106 - وقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن..) *
[آية 221].
أكثر أهل العلم على أن هذه الآية منسوخة، نسخها:
* (اليوم أحل لكم الطيبات) * إلى قوله * (والمحصنات من الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم) *.
هذا قول ابن عباس ومكحول، وهو مذهب الفقهاء " مالك
وسفيان والأوزاعي ".
وروى سفيان عن حماد قال: سألت سعيد بن جبير عن
نكاح اليهودية والنصرانية فقال: لا بأس به، قال: قلت: فإن الله
يقول: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) فقال: أهل الأوثان
179

والمجوس.
وروى معمر عن قتادة: (ولا تنكحوا المشركات) قال:
المشركات ممن ليس من أهل الكتاب، وقد تزوج حذيفة يهودية أو
نصرانية.
فأما (المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم)
فقيل: هن العفائف، والإماء.
107 - ثم قال تعالى: * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا..) *
[آية 221].
أي: لا تزوجوهم بمسلمات * (ولو أعجبكم) * أي:
وإن أعجبكم أمره في الدنيا، فمصيره إلى النار.
180

* (أولئك يدعون إلى النار) *.
أي: يعلمون بأعمال أهلها، فيكون نسلكم يتربى مع من
هذه حاله.
* (والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بأذنه..) * [آية 221].
[أي يدعوكم إلى أعمال أهل الجنة].
* (والمغفرة بأذنه) *.
قيل: أي بعلمه، أي ما دعاكم إليه وصلة إليهما.
وقيل: بما أمركم به * (ويبين آياته) * أي علاماته.
* (لعلهم يتذكرون) * ليكونوا على رجاء التذكر.
108 - ثم قال تعالى * (ويسألونك عن المحيض، قل هو أذى..) *
[آية 222].
181

قال قتادة: أي قذر.
وروى ثابت عن أنس (أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة
أخرجوها من البيت، فلم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها
في بيت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل:
* (يسئلونك عن المحيض، قل هو أذى، فاعتزلوا النساء في
المحيض) * الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جامعوهن في
البيوت، واصنعوا كل شيء إلا النكاح ".
فتبين بهذا الحديث معنى * (فاعتزلوا النساء في المحيض) *
أن معناه فاعتزلوهن في الجماع فقط.
110 - ثم قال تعالى: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن..) * [آية 222].
182

أي حتى ينقطع الدم عنهن.
وقرأ أهل الكوفة: * (يطهرن) * أي: يغتسلن.
وكذا معنى * (يتطهرن) *، قرأه بن مسعود، وأبي.
وقد عاب قوم * (يطهرن) * - بالتخفيف - قالوا: لأنه
لا يحل المسيس حتى يغتسلن.
قال أبو جعفر: وهذا لا يلزم، فيجوز أن يكون معناه كمعنى
* (يطهرن) *، ويجوز أن يكون معناه حتى يحل لهن أن يتطهرن، كما
يقال للمطلقة إذا انقضت عدتها: قد حلت للرجال، وقد بين ذلك
بقوله: * (فإذا تطهرن) *.
111 - ثم قال تعالى: * (فأتوهن من حيث أمركم الله..) * [آية 222].
قال مجاهد: من حيث نهوا عنه في محيضهن.
183

وقال إبراهيم: في الفرج.
وقال ابن الحنيفة: من قبل التزويج، من قبل الحلال.
وقال أبو رزين: من قبل الطهر.
وقال أبو العالية: * (ويحب المتطهرين) * من الذنوب.
وقال عطاء: بالماء.
قال أبو جعفر: وقول عطاء أولى، للحديث، أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال - لأهل مسجد قباء -: " إن الله قد
أثنى عليكم في الطهور خيرا، أفلا تخبروني؟ قالوا: يا رسول الله
نجده مكتوبا علينا في التوراة: الاستنجاء بالماء.
وهذا لما نزل: * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) *.
184

112 - وقوله تعالى: * (نساؤكم حرث لكم..) * [آية 223].
أي موضع حرث لكم، كما تقول: هذه الدار منفعة
لك، أي مكان نفع لك، فالمعنى: أنكم تحرثون منهن الولد.
113 - ثم قال تعالى: * (فأتوا حرثكم أنى شئتم..) * [آية 223].
أصح ما روي في هذا أن مالك بن أنس، وسفيان،
وشعبة، رووا عن محمد بن المنكدر، عن جابر، أن اليهود قالوا:
" من أتى امرأة في فرجها من دبرها، خرج ولدها أحول، فأنزل
الله: * (نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم) *.
وكذلك قال مجاهد: " قائمة، وقاعدة، ومقبلة، ومدبرة،
في الفرج ".
185

وروى أبو إسحاق عن زايدة عن عميرة قال: " سألت ابن
عباس عن العزل فقال: * (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى
شئتم) * إن شئت فاعزل، وإن شئت فلا تعزل ".
قال أبو جعفر: وقال الضحاك: * (أنى شئتم) * متى
شئتم.
ومعناه من أين شئتم، أي من أبي الجهان شئتم.
قال أبو جعفر: وأصل الحرث ما يخرج مما يزرع، والله
تعالى يخلق من النطفة الولد.
وقوله تعالى: * (واتقوا الله) * فدل على العظة في أن
لا يجاوزوا هذا.
114 - ثم قال تعالى: * (وقدموا لأنفسكم) * [آية 223].
أي الطاعة.
وقيل: في طلب الولد.
186

115 - وقوله تعالى: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا
وتصلحوا بين الناس..) * [آية 224].
قال سعيد بن جبير ومجاهد: وهذا لفظ سعيد - هو
الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يصلي، ولا يصلح، فيقال له: بر
فيقول: قد حلفت.
والتقدير في العربية: كراهة أن تبروا.
115 - وقوله تعالى * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم..) * [آية
225].
فيه أقوال:
قال أبو هريرة، وابن عباس، وهذا لفظ أبي هريرة: لغو
اليمين: حلف الإنسان على الشيء، يظن أنه [كما] حلف عليه،
187

فإذا هو غير ذلك.
وقال الحسن بهذا القول، ومجاهد، ومنصور، ومالك.
وروى مالك، وشعبة، عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة أنها قالت " لغو اليمين قول الإنسان: لا والله وبلى والله "
وقال بهذا الشعبي.
وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يحلف في الأمر الحلال
يحرمه.
وقال زيد بن أسلم قولا رابعا قال: وهو قول الرجل: أعمى
الله بصري إن لم أفعل كذا أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا،
فلو آخذه بهذا لم يترك له شيئا.
188

* (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) *.
قال: نحو الرجل: هو كافر، هو مشرك، لا
يؤاخذه حتى يكون ذلك من قبله.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال قول عائشة، لأن يحيى
القطان قال: حدثنا هشام بن عروة قال أخبرني أبي عن عائشة، في
قوله: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) * قالت: نزلت في
قول الرجل: لا والله، وبلى والله.
فهذا إخبار منها عن علمها بحقيقة ما نزلت فيه هذه الآية.
واللغو في اللغة ما يلغى، فيقول الرجل عند الغضب
والعجلة: لا والله، وبلى والله، مما يعقده عليه قلبه.
وقول أبي هريرة وابن عباس غير خارج من ذا أيضا، لأن
189

الحالف إذا حلف على الشيء، يظن أنه الذي حلف عليه فلم
يقصده إلى غير ما حلف عليه، فيحلف على ضده، واليمينان
لغو، والله أعلم.
فأما قول سعيد بن جبير فبعيد، لأن ترك ما حلف عليه من
حلال يحرمه، إذا كفر فليس مذنبا معفوا عنه، بل مثابا
[قابلا] أمر الله.
وقول زيد بن أسلم محال، لأن قول الرجل: أعمى الله
بصري دعاء وليس بيمين.
وقيل: اللغو قد ألغي إثمه.
190

116 - ثم قال تعالى: * (والله غفور حليم) * [آية 225].
أي غفر لكم يمين اللغو، فلم يأمركم فيها بكفارة، ولا ألزمكم
عقوبة. * (حليم) * في تركه المعاجلة بالعقوبة لمن حلف كاذبا، والله
أعلم.
117 - وقوله تعالى * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) *.
قال ابن جريج: قلت لعطاء: قلت لشيء أعمده: والله لا
أفعله; ولم أعقده; قال: وذلك أيضا مما كسبت قلوبكم، وتلا:
* (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) *. قال عطاء: والتعقيد
" والله الذي لا إله إلا هو ".
ففسر عطاء أن قوله " والله لا أفعل " مما اكتسبه القلب،
191

وفيه الكفارة، وأن اليمين " والله لا إله إلا هو "..
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: * (بما كسبت قلوبكم) *
قال بما عقدتم عليه.
118 - وقوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر..) *
[آية 226].
قال أبو جعفر: والتقدير في العربية: للذين يؤلون من
اعتزال نسائهم أي أن يعتزلوا نساءهم.
روى عطاء عن ابن عباس قال: " كان إيلاء أهل الجاهلية،
السنة والسنين، وأكثر من ذلك، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فمن
كان إيلاؤه منهم أقل من أربعة أشهر، فليس بإيلاء ".
192

وفي حديث ابن عباس أنهم كانوا يفعلون ذلك، إذا لم يريدوا
المرأة، وكرهوا أن يتزوجها غيرهم، آلوا أي حلفوا أن لا يقربوها
فجعل الله الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة
أشهر، وإذا تمت ولم يفيء - أي لم يرجع إلى وطء امرأته - فقد
طلقت في قول ابن مسعود وابن عباس.
وقرأ أبي بن كعب: * (فإن فاءوا فيهن) *.
وقال قوم: لا يكون موليا حتى يحلف على أكثر من أربعة
أشهر، فإذا تمت له أربعة، ولم يجامع فيحنث في يمينه، أخذ
بالجماع أو الطلاق.
193

وروي هذا عن عمر وعلي وأبي الدرداء. رواه مالك عن نافع ابن
عمر.
وقال مسروق والشعبي: الفيء الجماع.
قال أبو جعفر: والفيء في اللغة: الرجوع، فهو على هذا
الرجوع إلى مجامعتها، والطلاق مأخوذ من قولهم: أطلقت الناقة
فطلقت إذا أرسلتها من عقال أو قيد، وكان ذات الزوج موثقة عند
زوجها، فإذا فارقها أطلقها من وثاق.
ويدل على هذا: ان أملك فلان، معناه: صير يملك المرأة، إلا
أن المستعمل: أطلقت الناقة فطلقت، وطلقت المرأة فطلقت،
وطلقت.
194

119 - وقوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء..) *
[آية 228].
وقال عمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وأبو الدرداء وأبو موسى:
ثلاث حيض.
وقالت عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر: ثلاثة أطهار.
ويحتج للقول الأول بأن عدة الأمة حيضتان، وإنما عليها
نصف ما على الحرة، وقد قال عمر: " لو قدرت أن أجعلها حيضة
ونصف - حيضة - لفعلت ".
195

والقرء عند أهل اللغة: الوقت، فهو يقع لهما جميعا.
قال الأصمعي: ويقال: أقرأت الريح، إذا هبت لوقتها.
وحدثني أحمد بن محمد بن سلمة، قال: حدثنا محمود بن
حسان النحوي، قال: حدثنا عبد الملك بن هشام، عن أبي زيد
النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء قال: من العرب من يسمي
الحيض قرءا، ومنهم من يسمي الطهر قرءا، ومنهم من يجمعهما
جميعا فيسمى الحيض مع الطهر قرءا.
120 - وقوله تعالى: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في
أرحامهن..) * [آية 228].
قال ابن عمر، وابن عباس: يعني الحبل، والحيض.
وقال قتادة: علم أن منهن كواتم، يكتمن ويذهبن بالولد إلى
غيره، فنها هن الله عن ذلك.
121 - ثم قال تعالى: * (إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) * [آية 228].
196

فليس هذا على أنه أبيح لمن لا يؤمن أن يكتم، وإنما هذا
كقولك: إن كنت مؤمنا فاجتنب الإثم، أي فينبغي أن
[يحجزك] الإيمان عنه لأنه ليس من فعل أهل الإيمان.
122 - ثم قال تعالى * (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) * [آية 228].
وقال [إبراهيم] وقتادة: في الأقراء الثلاثة، والتقدير في
العربية الأجل.
123 - ثم قال تعالى * (إن أرادوا إصلاحا..) * [آية 228].
أي إن أراد الأزواج بردهن الإصلاح، لا الإضرار.
وروى يزيد النحوي عن عكرمة، عن ابن عباس: * (إن
أرادوا إصلاحا) * وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق
برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك فقال: * (الطلاق مرتان
197

فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *.
124 - وقوله تعالى: * (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف..) *
[آية 228].
روى عكرمة عن ابن عباس، في قوله عز وجل: * (ولهن
مثل الذي عليهن بالمعروف) *، قال: إني لأحب أن أتزين للمرأة
كما أحب أن تتزين لي.
وقال ابن زيد: يتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله
فيهم
198

125 - ثم قال تعالى: * (وللرجال عليهن درجة..) * [آية 228].
قال مجاهد: هو ما فضل الله به عليها من الجهاد، وفضل
ميراثه على ميراثها، وكل ما فضل به عليها.
وقال أبو مالك: له أن يطلقها، وليس لها من الأمر
شيء.
126 - وقوله تعالى: * (الطلاق مرتان..) * [آية 229].
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: * (الطلاق مرتان) *
قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في التطليقة الثالثة،
فإما يمسكها بمعروف، فيحسن صحابتها، وإما يسرحها بإحسان،
فلا يظلمها من حقها شيئا.
وقال عروة بن الزبير: كان الرجل يطلق امرأته ويرتجعها قبل
أن تنقضي عدتها، وكان ذلك له، ولو فعله ألف مرة، ففعل ذلك
199

رجل مرارا، فأنزل الله تعالى: * (الطلاق مرتان) * فاستقبل الناس
الطلاق جديدا من يومئذ، من كان منهم طلق، أو لم يطلق.
والتقدير في العربية: الطلاق الذي لا يملك مع أكثر منه
الرجعة مرتان.
ويروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأين الثالثة؟ فقال:
التسريح بإحسان.
127 - ثم قال تعالى: * (فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان..) *
[آية 229]..
أي فالواجب عليكم إمساك بما يعرف أنه الحق.
200

* (أو تسريح بإحسان) *.
أي يسهل أمرها بأن يطلقها الثالثة.
والسرح في كلام العرب: السهل.
128 - وقوله تعالى: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا
أن يخافا ألا يقيما حدود الله) * [آية 229].
هذا في الخلع الذي بين الزوجين.
قال أبو عبيدة: الخوف ههنا: بمعنى اليقين.
قال أبو إسحق: حقيقته عندي أن يكون الغالب عليهما
الخوف من المعاندة. قال ابن جريج: كان طاووس يقول: يحل الفداء، قال الله
201

تعالى: * (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) * ولم يكن يقول قول
السفهاء: لا تحل حتى تقول: لا أغتسل من جانبة، أو ولكنه كان
يقول: * (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) * فيما افترض لكل
واحد منهما على صاحبه، في العشرة، والصحبة.
والمعنى على هذه القراءة: إلا أن يخاف الزوج والمرأة.
وقرأ الأعمش، وأبو جعفر، وابن وثاب، والأعرج.
وحمزة: * (إلا أن يخافا) *، بضم الياء.
وفي قراءة عبد الله: * (إلا أن تخافوا) * بالتاء.
202

وقيل: المعنى على هاتين القراءتين إلا أن يخاف
السلطان، ويكون الخلع إلى السلطان.
وقد قال بهذا الحسن، قال شعبة: قلت لقتادة: عن من
أخذ الحسن قوله: لا يكون الخلع دون السلطان؟. فقال: أخذه
عن زياد، وكان وليا لعمر وعلي رضي الله عنهما.
قال أبو جعفر: وأكثر العلماء على أن ذلك إلى الزوجين.
129 - ثم قال تعالى: * (ولا جناح عليهما فيما افتدت به) *، وقد قال
في موضع آخر: * (فلا تأخذوا منه شيئا، أتأخذونه بهتانا وإثما
مبينا) *؟
وروى معمر عن الزهري قال: لا يحل لرجل أن تختلع
امرأته، إلا أن يؤتى ذلك منها، فأما أن يكون يؤتى ذلك منه،
203

يضارها حتى تختلع منه، فإن ذلك لا يصلح.
وقال أهل الكوفة: حظر عليه ما كان ساقه إلى المرأة
من الصداق في قوله تعالى * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن
شيئا) * ثم أطلقه * (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) * فلا يحل له
أن يأخذ أكثر مما ساقه إليها.
وليس في الآية ما يدل على أنه لا يحل له أكثر مما
أعطاها.
204

وقول الزهري بين، ويكون قوله: * (إلا أن يخافا ألا
يقيما حدود الله) * يبين قوله: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما
آتيتموهن شيئا) *
أي: لا تأخذوا منهن شيئا غصبا.
ومعنى * (حدود الله) * ما منع منه، والحد مانع من
الاجتراء على الفواحش، و أحدت المرأة امتنعت من الزينة، ورجل
محدود ممنوع من الخير، [والبواب حداد] أي مانع.
ومعنى * (فلا تعتدوها) * فلا تتجاوزوها.
130 - ثم قال تعالى: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح
زوجا غيره) * [آية 230].
المعنى: فإن طلقها الثالثة.
205

وأهل العلم على أن النكاح هاهنا الجماع، لأنه قال:
* (زوجا غيره) * فقد تقدمت الزوجية، فصار النكاح الجماع.
[آية 230].
إلا سعيد بن جبير فإنه قال: النكاح هاهنا التزويج الصحيح،
إذا لم يرد إحلالها.
قال أبو جعفر: ويقوي القول الأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا تحل له حتى تذوق العسيلة ".
206

وعن علي: حتى يهزها به.
131 - ثم قال تعالى * (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا..) *
[آية 230].
روى منذر الثوري عن محمد بن علي، عن علي رضوان الله
عليه
قال: ما أشكل علي شيء ما أشكلت هذه الآية في كتاب
الله: * (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) *، فما زلت
أدرس كتاب الله حتى فهمت، فعرفت أن الرجل الآخر إذا طلقها،
رجعت إلى زوجها الأول، إن شاء.
132 - ثم قال تعالى: * (إن ظنا أن يقيما حدود الله..) * [آية 230].
قال طاووس: " إن ظنا " أن كل واحد منهما يحسن عشرة
207

صاحبه.
وقال مجاهد: إن علما أن نكاحهما على غير دلسة.
133 - ثم قال تعالى: * (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) *
[آية 230].
أي يعلمون أن أمر الله حق لا ينبغي أن يتجاوز.
134 - ثم قال تعالى: * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن
بمعروف أو سرحوهن بمعروف) * [آية 231].
" أجلهن ": وقت انقضاء العدة.
ومعنى * (فبلغن أجلهن) * على قرب البلوغ، كما تقول: إذا
بلغت مكة، فاغتسل قبل أن تدخلها.
208

135 - ثم قال تعالى: * (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا..) *
[آية 231].
روى أبو الضحاك عن مسروق: * (ولا تمسكوهن ضرارا
لتعتدوا) *.
قال: يطلقها، حتى إذا كادت تنقضي عدتها، راجعها
أيضا ولا يريد إمساكها، ويحبسها، فذلك الذي يضار، ويتخذ
آيات الله هزوا.
وقال مجاهد وقتادة نحوه.
209

136 - ثم قال تعالى: * (ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه..) *
[آية 231].
أي عرضها لعذاب الله.
137 - ثم قال تعالى: * (ولا تتخذوا آيات الله هزوا..) * [آية 231].
يروى عن الحسن: أن الرجل كان يطلق، ثم يقول: إنما
كنت لاعبا، فنزل هذ.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والعتاق،
والرجعة ".
وقيل: من طلق امرأته [فوق] ثلاثة [فقد] اتخذ
210

آيات الله هزوا.
وروي عن عائشة أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول: " والله
لا أورثك ولا أدعك، وكيف ذاك؟ قال: إذا كدت
تقضين عدتك راجعتك، فنزلت: * (ولا تتخذوا آيات الله
هزوا) *.
قال أبو جعفر: وهذا من أجود هذه الأقوال لمجيئها بالعلة
التي أنزلت من أجلها الآية. والأقوال كلها داخلة في معنى الآية،
لأنه يقال لمن سخر من آيات الله: اتخذوها هزوا، ويقال ذلك لمن
كفر بها، ويقال ذلك: لمن أطرحها ولم يأخذ بها وعمل بغيرها.
فعلى هذا تدخل هذه الأقوال في الآية.
211

وآيات الله دلائله، وأمره ونهيه.
138 - وقوله تعالى: * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن
ينكحن أزواجهن..) * [آية 232].
روى سماك بن حرب عن ابن أخي معقل عن " معقل بن
سنان " أو يسار، وقال لي الطحاوي: وهو " معقل بن سنان " أن
212

أخته كانت عند رجل فطلقها، ثم أراد أن يرجعها فأبى عليه
معقل، فنزلت هذه الآية: * (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن
إذا تراضوا بينهم بالمعروف) * [آية 232].
قال أبو جعفر: ومعنى * (لا تعضلوهن) * في اللغة:
لا تحبسوهن.
وحكى الخليل: دجاجة معضل: أي قد احتبس
بيضها.
وقد قيل في معنى هذه الآية: أن النهي للأزواج، لأن
المخاطبة لهم، مثل قوله: * (ولا تمسكوهن ضرارا) *.
وقد يجوز أن يكون للأولياء، وخوطبوا بهذا لأنهم ممن يقع
لهم هذا، وقد تقدم أيضا نهي الأزواج.
والأجود أن يكون لهما جميعا، ويكون الخطاب عاما، أي:
يا أيها الناس إذا طلقتم النساء فلا تعضلوهن.
213

قال أبو جعفر: وحقيقة * (فلا تعضلوهن) * فلا تضيقوا
عليهن، بمنعكم إياهن - أيها الأولياء - في مراجعة أزواجهن.
وتقول: عضل يعضل، وعضل يعضل، ومنه الداء العضال
الذي لا يطاق علاجه، لضيقه عن العلاج.
ومعنى * (والله يعلم) * أي: ما لكم فيه الصلاح.
139 - وقوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين..) * [آية 232].
لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الأمر، لما فيه من
الإلزام.
وروى ابن أبي ذئب عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن
214

بعجة الجهني قال: " تزوج رجل امرأة، فولدت لستة أشهر،
فأتى عثمان بن عفان، فذكر ذلك له، فأمر برجمها، فأتاه علي رضي
الله عنه وقال: إن الله يقول: * (وحملة وفصاله ثلاثون شهرا) *
وقال: * (وفصاله في عامين) *!!
وقال ابن عباس: فإذا ذهبت رضاعته، فإنما الحمل في ستة
أشهر.
215

والفائدة في * (كاملين) * أن المعنى كاملين للرضاعة
كما قال تعالى: * (تلك عشرة كاملة) * أي من الهدي،
وقال تعالى: * (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) * لأنه قد
كان يجوز أن يأتي بعد هذا شيء آخر، أو تكون العشرة
ساعات.
140 - ثم قال تعالى: * (لمن أراد أن يتم الرضاعة..) * [آية 233].
أي ذلك وقت لتمام الرضاعة، وليس بعد تمام الرضاعة
رضاع.
216

141 - ثم قال تعالى: * (وعلى المولود له) * أي على الأب الذي ولد له
* (رزقهن وكسوتهن) * أي رزق الأمهات * (وكسوتهن
بالمعروف) * أي لا تقصير في النفقة، والكسوة، ولا شطط.
142 - ثم قال تعالى: * (لا تضار والدة بوالدها) * على النهي.
وقرأ أبان عن عاصم: * (لا تضارر والدة) * بكسر الراء
الأولى.
وقيل: المعنى لا تدع رضاع ولدها لتضربه ما غيظا على
أبيه.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير: * (لا تضار والدة) * بالرفع على
الخبر الذي فيه معنى الإلزام.
217

وروى يونس عن الحسن قال: يقول: " لا تضار زوجها،
فتقول: لا أرضعه، ولا يضارها فينزعه منها، وهي تقول: أنا
أرضعه ".
143 - ثم قال تعالى: * (وعلى الوارث مثل ذلك) * [آية 233].
روى مجاهد عن ابن عباس قال: " وعلى الوارث أن
لا يضار ".
وكذلك روي عن الشعبي والضحاك.
وروي عن عمر، والحسين بن صالح، وابن شبرمة:
* (وعلى الوارث مثل ذلك) * أي الكسوة والرضاع.
وروي عن الضحاك: الوارث: الصبي، فإن لم يكن له
218

مال فعلى عصبته، وإلا أجبرت المرأة على رضاعه.
[قال أبو جعفر]: وزعم محمد بن جرير الطبري أن
أولى الأقوال بالصواب قول قبيصة بن ذؤيب ومن قال بقوله: إنه
يراد بالوارث المولود، وأن يكون * (مثل ذلك) * معنى مثل الذي
كان على والده، من رزق والدته، وكسوتها بالمعروف، وإن كانت من
أهل الحاجة، وهي ذات زمانة، ولا احتراف لها، ولا زوج، وإن
كانت من أهل الغنى والصحة، فمثل الذي كان على والده لها، من
أجر الرضاعة، ولا يكون غير هذا إلا بحجة واضحة، لأن الظاهر
كذا.
قال أبو جعفر والقول الأول أبين، لأن الأب هو المذكور
بالنفقة في المواضع، كما قال: * (وإن كن أولات حمل فأنفقوا
عليهن) *، وكذا تجب عليه النفقة على ولده ما دام صغيرا، كما
219

تجب عليه ما دام رضيعا.
ثم قال أبو حنيفة وأصحابه: * (وعلى الوارث مثل ذلك) *
أي الرضاع، والكسوة، والرزق، إذا كان ذا رحم محرمة.
وليس ذلك في القرآن.
144 - ثم قال تعالى * (فإن أراد فصالا عن تراض منهما وتشاور..) *
[آية 233].
قال مجاهد وقتادة: أي فطاما دون الحولين.
قال أبو جعفر: وأصل الفصال في اللغة التفريق، والمعنى
* (عن تراض) * من الأبوين ومشاورة، ليكون ذلك عن غير إضرار
220

منهما بالولد.
ثم قال: * (فلا جناح عليهما) * أي فلا إثم.
145 - ثم قال تعالى: * (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم..) * [آية
233].
أي تسترضعوهم قوما.
قال أبو إسحاق: أي لأولادكم غير الوالدة.
* (فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم) * أي سلمتم ما أعطيتم
من ترك الإضرار.
221

وقال مجاهد: إذا سلمتم حساب ما أرضع به الصبي.
146 - ثم قال تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا..) *
[آية 234].
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ:
* (والذين يتوفون منكم) *، بفتح الياء فيهما جميعا،
ومعناه يتوفون أعمارهم، أي يستوفونها، والله أعلم.
147 - ثم قال تعالى: * (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا..) *
[آية 234].
العشر عدد الليالي، إلا أنه قد علم أن مع كل ليلة يومها.
قال محمد بن يزيد: المعنى وعشر مدد، وتلك المدة يوم
وليلة.
222

وقيل: إنما جعلت العدة للمتوفى عنها زوجها أربعة أشهر
وعشرا، لأنه يتبين حملها إن كانت حاملا.
قال الأصمعي: ويقال: إن ولد كل حامل يرتكض في
نصف حملها، فهي مركض.
وقال غيره: أركضت على فهي مركضة، وأنشد:
- ومركضة صريحي أبوها *
تهان له الغلامة والغلام -
148 - ثم قال تعالى: * (فإذا بلغن أجلهن) * [آية 234].
قال الضحاك: * (أجلهن) * انقضاء العدة.
223

وروى ابن النجيح عن مجاهد * (فيما فعلن في أنفسهن
بالمعروف) * قال: النكاح الحلال الطيب.
149 - وقوله تعالى * (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة
النساء..) * [آية 235].
روى مجاهد عن ابن عباس قال: هو أن يقول: أريد أن
أتزوج، وكره أن يقول: " لا تسبقيني بنفسك " في العدة.
وقال القاسم بن محمد: هو أن يقول الرجل للمرأة، وهي
في عدتها من وفاة زوجها: إنك علي لكريمة، إني فيك لراغب،
وإن الله لسائق إليك خيرا ورزقا، ونحو هذا من القول.
224

وقالت سكينة بنت حنظلة: - وكانت تحت ابن عم لها
فتوفي - فدخل علي " أبو جعفر محمد بن علي " وأنا في عدتي،
فسلم ثم قال: كيف أصبحت؟ فقلت: بخير، جعلك الله بخير،
فقال: " أنا من قد علمت قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته من
علي، وحقي في الإسلام وشرفي في العرب "!!
قالت: فقلت له: غفر الله لك يا أبا جعفر، أنت رجل
يؤخذ منك، ويروى عنك، تخطبني في عدتي؟!.. قال: ما
فعلت، إنما أخبرتك بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثم قال:
" دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة
225

المخزومية، وتأيمت من أبي سلمة بن عبد الأسد - وهو ابن
عمها - فلم يزل [يذكر] منزلته من الله، حتى أثر الحصير في
يده، من شدة ما يعتمد عليه بيده، فما كانت تلك خطبة ".
150 - ثم قال تعالى: * (أو أكننتم في أنفسكم..) * [آية 235].
قيل: من أمر النكاح.
151 - ثم قال تعالى: * (علم الله أنكم ستذكرونهن..) * [آية 235].
قال الحسن: أي في الخطبة.
وقال مجاهد: أي في نفسه.
152 - ثم قال تعالى: * (ولكن لا تواعدوهن سرا..) * [آية 235].
قال سعيد بن جبير: السر أن يعاقدها الله على أن لا تتزوج
226

غيره.
وقال مجاهد: هو أن يقول: لا تفوتيني بنفسك.
وقال أبو مجلز وإبراهيم والحسن: هو الزنا.
وقال أبو عبيدة: هو الإفصاح بالنكاح.
قال محمد بن يزيد: قوم يجعلون السر زنا، وقوم يجعلونه
الغشيان، وكلا القولين خطأ، إنما هو الغشيان من غير وجهه،
قال الله تعالى: * (ولكن لا تواعدوهن سرا) * فليس هذا موضع
الزنا.
قال أبو جعفر: الذي قال محمد بن يزيد من أن السر
الغشيان من غير وجهه، عند أهل اللغة كما قال، إلا أن الأشبه في
الآية ما قال سعيد بن جبير أن المعنى لا تواعدوهن نكاحا،
227

فسمي النكاح سرا، لأن الغشيان يكون فيه، وزعم محمد بن
جرير أن أولى الأقوال بالصواب أن السر الزنا، ولا يصح قول من
قال: السر أن يقول لها " لا تسبقيني بنفسك " لأنه قول
علانية، فإن أراد أنه يقال سرا، قيل له: فهو إذا مطلق علانية،
وهذا لا يقوله أحد، ولا يكون السر النكاح الصحيح، لأنه لا يكون
إلا بولي وشاهدين، وهذا علانية.
ومعنى * (ستذكرونهن) ستذكرون خطبتهن * (ولكن
لا تواعدوهن سرا) * يقال لها: قد ذكرتك في نفسي وقد صرت
زوجتي، فبغرها قال بذلك، حتى يصل إلى جماعها زنا.
228

153 - ثم قال تعالى: * (إلا أن تقولوا قولا معروفا..) * [آية 235].
قال مجاهد: هو التعريض.
وقال سعيد بن جبير: أن يقول لها: إني لأرجو أن نجتمع، وأني
إليك لمائل.
وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس * (ولا تعزموا عقدة
النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) * حتى تنقضي العدة.
والتقدير في اللغة: حتى يبلغ فرض الكتاب، ويجوز أن
يكون الكتاب بمعنى الفرض تمثيلا.
229

154 - ثم قال تعالى: * (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم
فاحذروه..) * [آية 235].
أي يعلم ما تحتالون به.
155 - وقوله عز وجل: * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم
تمسوهن..) * [آية 236].
قال ابن عباس: الجماع.
* (أو تفرضوا لهن فريضة) * الفريضة ههنا: المهر.
قال أبو جعفر: وأصل الفرض الواجب، كما قال:
" كانت فريضة ما تقول [قطيعتي] ".
230

ومنه: فرض السلطان لفلان.
156 - ثم قال تعالى: * (ومتعوهن على الموسع قدره) * وهو الغني
* (وعلى المقتر قدره) * وهو الفقير.
قال سعيد ابن جبير ومجاهد والضحاك: وهذا معنى قولهم في
المطلقة قبل الدخول بها، ولم يفرض لها صداق، لها المتعة
واجبة.
وقال شريح: لا يقضى عليه، لأنه قال: * (حقا على
المحسنين) *.
157 - ثم قال تعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم
لهن فريضة فنصف ما فرضتم..) * [آية 237].
فقال قوم: لها المتعة مع ذلك، كما روي عن علي ابن أبي
طالب - رضي الله عنه - والحسن وسعيد بن جبير:
231

لكل مطلقة متعة.
وقال آخرون: لا متعة لها.
روي ذلك عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء
والشعبي.
158 - ثم قال تعالى: * (إلا أن يعفون..) * [آية 237].
قال الزهري والضحاك: [المرأة] إذا طلقت تدع النصف
الذي جعل لها.
232

159 - ثم قال تعالى: * (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح..) *
[آية 237].
حدثنا محمد بن إدريس بن أسود قال: حدثنا إبراهيم بن
مرزوق قال: حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد قال: حدثنا جرير وهو ابن
حازم قال: حدثنا عيسى بن عاصم عن شريح قال: سألني علي بن
أبي طالب عن * (الذي بيده عقدة النكاح) *.
قال: قلت: هو الولي. قال: لا، بل الزوج.
وكذلك قال جبير بن مطعم، وسعيد بن جبير، ورواه قتادة
عن سعيد بن المسيب.
وقال ابن عباس: وعلقمة وإبراهيم: هو الولي، يعنون
الأب خاصة.
233

قال أبو جعفر: حديث علي إنما رواه عن شريح " عيسى بن
عاصم " ورواه الجلة عن شريح من قوله، منهم الشعبي، وابن
سيرين، والنخعي.
وأصح ما روي فيه عن صحابي قول ابن عباس.
قرىء على عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر
أحمد بن الأزهر، قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا ابن
جريج، قال: أخبرني عمرو ابن دينار، قال: سمعت عكرمة يقول:
قال ابن عباس: إن الله رضي العفو، وأمر به، فإن عفت
فذلك، وإن عفا وليها " الذي بيده عقدة النكاح " وضنت،
جاز، وإن أبت.
234

قال أبو جعفر: والذي يدل عليه سياق الكلام، واللغة أنه
الولي، وهو الذي يجوز أن يعقد النكاح على المرأة بغير أمرها، كما
قال: * (ولا تعزموا عقدة النكاح) *، وإنما بيد الزوج أن
يطلق.
فإن قيل: " بيده عقدة نكاح نفسه " فذا لا يناسب
الكلام الأول، وقد جرى ذكر الزوج في قوله: * (وقد فرضتم لهن
فريضة) * فلو كان للزوج لقيل: أو تعفوا، وهذا أشبه بسياق
الكلام.
235

وإن كان يجوز تحويل المخاطبة إلى الأخبار عن غائب.
فأما اللغة فتوجب إذا أعطي الصداق كاملا أن لا يقال له:
عاف، ولكن يقال له: واهب، لأن العفو إنما هو ترك
الشيء وإذهابه. ومنه: عفت الديار، والعافية دروس البلاء وذهابه،
ومنه: عفا الله عنك.
160 - ثم قال جل وعز: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى..) * [آية 237].
قيل: يعنى به الأزواج، وقيل: يعنى به الذي بيده عقدة
النكاح، والنساء جميعا.
هذا قول ابن عباس، وهو حسن، لأنه يقل: (وأن
236

تعفون) فيكون للنساء، (وأن يعفو) فيكون للذي بيده عقدة
النكاح.
161 - وقوله عز وجل: * (حافظوا على الصلوات..) * [آية 238].
قال مسروق: على وقتها.
* (والصلاة الوسطى..) * [آية 238].
روى جابر بن زيد، ومجاهد، وأبو رجاء عن ابن عباس
قال: هي صلاة الصبح.
وكذا روى [عنه] عكرمة، إلا أنه زاد عنه: يصلي بين
سواد الليل وبياض النهار.
237

وقيل: لأنها بين صلاتين من صلاة الليل، وصلاتين من
صلاة النهار.
وروى قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن بن زيد بن
ثابت قال: هي الظهر.
وفيها قول ثالث هو أولاها.
حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال: حدثنا حاجب بن
238

سليمان قال: حدثنا محمد بن مصعب، قال: حدثنا أبو جزء
عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في
قول الله جل وعز: * (حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى) *: هي صلاة العصر.
وروى عبدة ويحيى بن الجزار وزر عن علي بن أبي طالب
رضوان الله عليه قال: قاتلنا الأحزاب، فشغلونا عن العصر، حتى
كربت الشمس أن تغيب، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارا،
واملأ بيوتهم نارا، واملأ قبورهم نارا "
قال زر: قال علي: كنا نرى أنها صلاة الفجر.
239

وقيل لها: الوسطى لأنها بين صلاتين من صلاة الليل،
وصلاتين من صلاة النهار.
162 - ثم قال تعالى * (وقوموا لله قانتين) *
قال ابن عباس والشعبي * (القنوت) *: الطاعة.
وقال مجاهد: القنوت السكوت.
قال أبو جعفر: وهذان القولان يرجعان إلى شيء واحد، لأن
السكوت في الصلاة طاعة.
وحدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال: حدثنا عبد الله بن
240

يحيى، قال: حدثنا يحيى أخبرنا يعلى هو ابن عتبة قال: حدثنا
إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني
عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة، فيكلم أحدنا صاحبه
فيما بينه وبينه حتى نزلت هذه الآية: * (حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) * فأمرنا بالسكوت.
وقيل: هو القنوت في الصبح، وهو طول القيام.
وروى الجعفي عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دراج
عن أبي الهيثم عن أبي سعيد - يعني الخدري - عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: " كل حرف في القرآن من القنوت، فهو
241

الطاعة ".
163 - ثم قال تعالى: * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا..) * [آية 239].
روى أبو مالك عن ابن عباس: أما * (رجالا) * فعلى
أرجلكم إذا قاتلتم، يصلي الرجل يومي برأسه أينما توجه.
وقال مجاهد: وكيف قدر.
164 - وقوله جل وعز: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية
لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج) *.
روى حبيب بن الشهيد، عن ابن أبي ملكية، عن ابن
الزبير قال: قلت لعثمان: " الآية التي في البقرة: * (والذين يتوفون
منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم) * لم أثبتها؟ وقد نسختها
الآية الأخرى؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئا عن مكانه ".
وروى حميد عن نافع عن زينب بنت أم سلمة: كانت
242

المرأة إذا توفي زوجها دخلت حفشا، ولبست شر ثيابها، ولم
تمس طيبا، حتى تمر سنة، ثم تعطى بعرة فترمي بها، فأنزل الله
عز وجل: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم
متاعا إلى الحول) * يعني لنسائهم، وكان للمرأة أن تسكن في بيت
زوجها سنة، وإن شاءت خرجت فاعتدت في بيت أهلها، أو سكنت
في وصيتها إلى الحول، ثم نسخ بأربعة أشهر وعشر.
وروى يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس، في قوله:
* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى
الحول) * فنسخ ذلك بآية الميراث، بما فرض الله من الربع والثمن،
ونسخ اجل الحول بأن جعل اجلها أربعة أشهر وعشر.
243

وفي حديث " الفريعة " فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" امكثي في منزلك حتى يبلغ الكتاب اجله ".
165 - ثم قال تعالى: * (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) *
[آية 242].
أي لعلكم تتجنبون في ما ليس بمستقيم، كان العاقل الذي يعقل
نفسه عما ليس بمستقيم.
166 - ثم قال تعالى: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف
حذر الموت) * [آية 243].
244

قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف، خرجوا فرارا من
الطاعون، وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، فأماتهم الله، فمر
بهم نبي، ودعا الله فأحياهم.
وقيل: إنهم ماتوا ثمانية أيام.
قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة، ثم بعثهم إلى
بقية آجالهم.
وقال الضحاك: خرجوا فرارا من الجهاد، فأماتهم الله، ثم
أحياهم، ثم أمرهم أن [يرجعوا] إلى الجهاد.
245

وذلك قوله تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع
عليم) * [آية 244].
قال أبو جعفر: وفي رواية ابن جريج: * (وهم ألوف) *
أنهم أربعون ألفا، وهذا أشبه، لأن ألوفا للكثير، وآلافا للقليل، وإن
كان يجوز في كل واحد منهما ما جاز في الآخر.
وأما قول ابن زيد: * (ألوف) * مؤتلفة قلوبهم، فليس
246

بمعروف.
والقياس في جمع ألف: * (أألف; كأفلس، إلا أنهم
يشبهون فعلا بفعل، فيما كان في أوله ألف أو واو، نحو وقت
وأوقات.
وكذلك [الياء]، نحو يوم وأيام، وقد قيل: أألف.
167 - ثم قال جل وعز: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا..) *
[آية 245].
أصل القرض ما يفعل ليجازى عليه، كما قال:
- وإذا أجزيت قرضا فاجزه *
إنما يجزي الفتى غير الجمل -
247

168 - ثم قال تعالى * (والله يقبض ويبسط) * [آية 245]
أي يقتر، ويوسع.
وقيل: يسلب قوما ما أنعم به عليهم، ويوسع على آخرين.
وقيل: يقبض الصدقات ويخلفها بالثواب، أو في الدنيا.
169 - وقوله عز وجل: * (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد
موسى..) * [آية 246].
قال مجاهد: هم الذين قال الله فيهم: * (ألم تر إلى الذين
قيل لهم كفوا أيديكم) *.
248

قال الضحاك: وأما قوله: * (ابعث لنا ملكا نقاتل في
سبيل الله) * فذلك حين رفعت التوراة، واستخرج الإيمان،
وسلط على بني إسرائيل عدوهم، فبعث طالوت ملكا، * (فقالوا:
أنى يكون له الملك علينا) *؟ لأن الملك كان في سبط بعينه، لا
يكون في غيره، ولم يكن طالوت منه، فلذلك وقع الإنكار.
170 - وقوله جل وعز: * (أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم..) *
[آية 248].
حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال: حدثنا عبد الرزاق قال:
أخبرنا الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن علي قال:
السكينة: لها وجه كوجه الإنسان، وهي بعد ريح هفافة.
وروى خالد ابن عرعرة، عن علي قال: أرسل الله السكينة
إلى إبراهيم، وهي ريح خجوج لها رأس.
249

وروى الضحاك عن ابن عباس قال: السكينة دابة قدر
الهر، لها عينان، لهما شعاع، فإذا التقى الجمعان أخرجت يدها،
ونظرت إليهم، فينهزم الجيش من ذلك الرعب.
وقال الضحاك: السكينة: الرحمة، والبقية: القتال.
وروي عن ابن عباس: السكينة طست من ذهب من
الجنة، كانت تغسل فيها قلوب الأنبياء.
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح: * (وبقية مما
ترك آل موسى وآل هارون) * قال: عصا موسى، وثياب هارون،
ولوحان من التوراة.
250

وقال أبو مالك: السكينة: طست من ذهب ألقى فيها
موسى الألواح والتوراة وعصاه، والبقية: رضاضة الألواح التي كتب
فيها التوراة.
وقريء على عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر
عن روح بن عبادة قال: حدثنا محمد بن عبد الملك عن أبيه قال:
قال مجاهد: أما السكينة فما تعرفون من الآيات التي تسكنون إليها،
قال: والبقية العلم والتوراة.
وقال أبو جعفر: وهذا القول من أحسنها وأجمعها، لأن
السكينة في اللغة فعيلة من السكون، أي آية يسكون إليها.
251

وبين معنى * (تحمله الملائكة) * أنه روي أن جالوت
وأصحابه كان التابوت عندهم، فابتلاهم الله بالناسور، فعلموا أنه
من أجل التابوت، فحملوه على ثور، فساقته الملائكة، فهذا مثل
قولهم:
حملت متاعي إلى موضع كذا.
171 - ثم قال تعالى: * (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) *
[آية 248].
أي إن في رد التابوت بعد أن أخذه عدوكم، لآية لكم إن
كنتم مصدقين.
172 - وقوله جل وعز: * (إن الله مبتليكم بنهر..) * [آية 249].
معناه: مختبركم، والفائدة في ذلك، أن يعلم من يقاتل، ممن
لا يقاتل..
قال عكرمة وقتادة: هو نهر بين الأردن وفلسطين.
252

وقال قتادة: كان الكفار يشربون فلا [يرون] وكان
المسلمون يغترفون غرفة فيجزئهم ذلك.
قال أبو جعفر: الغرفة في اللغة: ملء الكف أو المغرفة.
والغرفة الفعلة الواحدة.
ومعنى * (فإنه مني) * فإنه من أصحابي.
وحكى سيبويه: أنت مني فرسخين.
173 - ثم قال تعالى: * (فشربوا منه إلا قليلا منهم..) * [آية 249].
روى أبو إسحاق عن البراء: " كنا نتحدث ان أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر،
253

على عدة أصحاب طالوت، ممن جاز معه النهر يوم جالوت، وما
جاز معه إلا مؤمن ".
* (فلما جاوزه) * يعني النهر، ورأوا كثرة أصحاب جالوت
وقلتهم * (قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين
يظنون أنهم ملاقوا الله) * أي يوقنون.
وقيل: يتوهمون أنهم يقتلون في هذه الوقعة لقلتهم.
والفئة: الفرقة، من فأوت رأسه، وفاأيته.
* (فهزموهم) * أي كسروهم وردوهم، يقال: سقاء مهزوم،
إذا كان منثنيا جافا.
254

174 - وقوله جل وعز: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت
الأرض) * [آية 251].
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: يقول: لولا دفع الله
بالمؤمنين الفجار، ودفعه بتقية أخلاق الناس بعضهم ببعض،
لفسدت الأرض بهلاك أهلها.
قال أبو جعفر: وهذا الذي عليه أكثر أهل التفسير. أي:
لولا أن الله يدفع بمن يصلي عن من لا يصلي، وبمن يتقي عن من
لا يتقي، لأهلك الناس بذنوبهم.
وقيل: " لولا أن الله أمر بحرب الكفار، لعم الكفر،
255

فأهلك جميع الناس ".
وذا راجع إلى الأول.
وقيل: لولا أن الله أمر بحرب الكفار، لكان إفسادهم على
المسلمين أكثر.
ويقرأ: * (ولولا دفاع الله) *.
حكى أبو حاتم أن العرب تقول: أحسن الله عنك الدفاع
والمدافعة. مثل: ناولتك الشيء.
175 - ثم قال تعالى: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من
كلم الله..) * [آية 253].
256

قال مجاهد: يقول: كلم موسى.
176 - ثم قال جل وعز: * (ورفع بعضهم درجات..) * [آية 253].
قال مجاهد: أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس
كافة.
177 - ثم قال تعالى: * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات..) *
[آية 253].
257

أي الحجج الواضحة.
* (وأيدناه) * [أي قويناه] * (بروح القدس) *.
قال الضحاك: جبريل صلى الله عليه وسلم.
178 - ثم قال تعالى * (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما
جاءتهم البينات..) * [آية 253].
فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى لو شاء الله ما أمرنا بالقتال بعد وضوح
الحجة، وإظهار البراهين.
258

وقيل: لو شاء الله أن يضطرهم إلى الإيمان لفعل، كما قال:
* (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) *.
179 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم من
قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة..) * [آية 254].
قوله * (أنفقوا) * تصدقوا، والخلة: الصداقة.
180 - وقوله جل وعز: * (الله لا إله إلا هو) * [آية 255].
أي لا إله للخلق إلا هو.
* (الحي القيوم) * أي القائم بخلقه، المدبر لهم.
وروي عن ابن عباس: * (القيوم) * الذي لا يزول.
259

وقرأ عمر بن الخطاب رحمة الله عليه: * (القيام) *.
وقرأ علقمة: * (" الحي القيم ") *.
قال ابن كيسان: القيوم " فيعول " من القيام، وليس
بفعول، لأنه ليس في الكلام فعول من ذوات الواو.
ولو كان ذلك لقيل: قووم.
والقيام " فيعال " أصله القيوام.
وأصل القيوم القيووم. وأصل القيم في قول البصريين
260

القيوم
وقال الكوفيون: الأصل القويم.
قال ابن كيسان: ولو كان كذا في الأصل، لم يجز فيه
التغير، كما لا يجوز في " طويل " و " سويق ".
181 - وقوله جل وعز: * (لا تأخذه سنة ولا نوم..) * [آية 255].
قال الحسن وقتادة: نعسة.
وأنشد أهل اللغة.
- وسنان أقصده النعاس فرنقت *
في عينه سنة وليس بنائم -
والمعنى: لا يفصل عن تدبير أمر الخلق.
261

ثم قال تعالى: * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه..) *
[آية 255].
لما قالوا: الأصنام شفعاؤنا عند الله.
فأعلم الله أن المؤمنين إنما يصلون على الأنبياء، ويدعون
للمؤمنين، كما أمروا وأذن لهم.
182 - ثم قال تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم) * أي ما تقدمهم من الغيب
* (وما خلفهم) * ما يكون بعدهم.
* (ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء) *
[آية 255].
لا يعلمون من ذلك شيئا إلا ما أراد أن يطلعهم عليه،
أو يبلغه أنبياؤه تثبيتا لنبوتهم.
262

183 - ثم قال تعالى: * (وسع كرسيه السماوات والأرض..) *
[آية 255].
وحكى يعقوب الحضرمي: وسع كرسيه السماوات
والأرض، ابتداء وخبر.
وروى سفيان وهشيم عن مطرف عن جعفر عن أبي المغيرة
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله:
* (وسع كرسيه السماوات والأرض..) * [آية 255].
قال: علمه، ألا ترى إلى قوله * (ولا يؤوده
حفظهما) *؟!
وقد استشهد لهذا القول ببيت لا يعرف، وهو: " ولا يكرسيء
علم الله مخلوق ".
263

أي لا يعلم علم الله مخلوق، وهو أيضا لحن، لأن الكرسي
غير مهموز.
وقيل: * (كرسيه) * قدرته التي يمسك بها السماوات
والأرض، كما تقول: اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي ما يعمده.
وهذا قريب من قول ابن عباس.
وقال أبو هريرة: الكرسي بين يدي العرش.
وفي الحديث: " ما السماوات والأرض في جوف الكرسي
إلا كحلقة في أرض فلاة ".
والله جل وعز أعلم بما أراد، غير أن الكرسي في اللغة الشيء
264

الذي يعتمد عليه، وقد ثبت ولزم بعضه بعضا، ومنه الكراسة،
والكرس: ما تلبد بعضه على بعض.
وقال الحسن: الكرسي: هو العرش.
ومال محمد ابن جرير إلى قول ابن عباس، وزعم أنه يدل
على صحته ظاهر القرآن، وذلك قوله عز وجل: * (ولا يؤوده
حفظهما) *.
وقال جل وعز إخبارا: * (ربنا وسعت كل شيء رحمة
وعلما) *.
فأخبر أن علمه وسع كل شيء، وكذا وسع كرسيه السماوات
265

والأرض.!!
والضمير الذي في * (حفظهما) * للسموات والأرض.
184 - ثم قال تعالى: * (ولا يؤوده حفظهما..) * [آية 255].
قال الحسن وقتادة: لا يثقل عليه.
قال أبو إسحاق: فجائز أن تكون الهاء لله جل وعز،
وجائز أن تكون للكرسي، وإذا كانت للكرسي، هو من أمر الله.
185 - وقوله تعالى: * (لا إكراه في الدين..) * [آية 256].
حدثنا أحمد بن محمد بن سلمة يعنى الطحاوي قال: حدثنا
إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا وهب بن جرير عن شعبة عن أبي بشر
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله: * (لا اكراه في
الدين) *، قال: كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد،
فتحلف لئن عاش ولد لتهودنه، فلما أجليت " بنو النضير " إذا
فيهم ناس من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا،
266

فأنزل الله: * (لا إكراه في الدين) *.
قال سعيد بن جبير: فمن شاء لحق بهم، ومن شاء دخل
الإسلام.
قال أبو جعفر: أي وأقام.
267

وقال الشعبي: [هي] في أهل الكتاب خاصة،
لا يكرهون إذا أدوا الجزية.
وقال سليمان بن موسى: نسخها * (جاهد الكفار
والمنافقين) * وتأولها عمر على أنه لا يكره المملوك على الإسلام.
وقيل: لا يقال لمن أسلم من أهل الحرب: أسلمت
مكرها، لأنه إذا ثبت على الإسلام، فليس بمكره.
186 - وقوله جل وعز: * (فمن يكفر بالطاغوت..) * [آية 256].
روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: الطاغوت:
الشيطان، والجبت: السحر.
وقال الشعبي، وعكرمة، والضحاك: الطاغوت:
الشيطان.
وقال الحسن: الطاغوت: الشياطين.
268

وحدثنا سعيد بن موسى بقرقيسيا قال: حدثنا محمد بن
مالك عن يزيد عن محمد بن سلمة عن خصيف قال: الجبت:
الكاهن، والطاغوت: الشيطان.
وقال الشعبي وعكرمة والضحاك: الطاغوت: الشيطان.
وقال مجاهد في قوله تعالى: * (يريدون أن يتحاكموا إلى
الطاغوت) * هو " كعب بن الأشرف ".
قال أبو حعفر: وهذه الأقوال متقاربة، وأصل الطاغوت في
اللغة مأخوذ من الطغيان، يؤدي عن معناه من غير اشتقاق، كما
قيل: اللآل من اللؤلؤ.
قال سيبويه: وأما الطاغوت فهو اسم واحد مؤنث، يقع
269

على الجمع.
فعلى قول سيبويه إذا جمع فعله ذهب به إلى الشياطين، وإذا
وحده ذهب به إلى الشيطان.
قال أبو جعفر: ومن حسن ما قيل في الطاغوت: أنه من
طغى على الله، وأصله " طغووت " مثل جبروت. من طغى، إذا
تجاوز حده، ثم تقلب اللام فتجعل عينا وتقلب العين فتجعل لاما،
كجبذ، وجذب، ثم تقلب الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها،
فتقول: طاغوت.
والمعنى: فمن يجد ربوبية كل معبود من دون الله،
ويصدق بالله.
270

وأصل الجبت في اللغة: الذي لا خير فيه.
وقال قطرب: أصله الجبس، وهو الثقيل الذي لا خير فيه.
وقال أبو عبيدة: الجبت والطاغوت كل ما عبد من دون
الله.
قال أبو جعفر: وهذا غير خارج مما قلنا، وخالف " محمد
بن يزيد " سيبويه في قوله: هو اسم واحد، فقال: الصواب
عندي أنه جماعة.
271

وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: * (فقد استمسك بالعروة
الوثقى) * أي الإيمان.
قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس: * (بالعروة الوثقى) *
لا إله إلا الله.
187 - ثم قال تعالى: * (لا انفصام لها..) * [آية 256].
قال مجاهد: أي " لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم " أي لا يزيل عنهم اسم الإيمان حتى يكفروا.
يقال: فصمت الشيء أي قطعته.
272

188 - ثم قال تعالى: * (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى
النور..) * [آية 257].
قال الضحاك: الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان، ومثل
الكفر بالظلمات، والإيمان بالنور.
قرىء على أحمد بن شعيب، عن محمد بن عبد الأعلى،
قال: حدثنا المعتمر قال: سمعت منصورا يحدث رجل عن عبدة
ابن أبي لبابه، في هذه الآية: * (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات إلى النور) * إلى قوله: * (هم فيها خالدون) *، قال:
هم أناس كانوا آمنوا بعيسى، فلما جاء محمد كفروا به. قال: وكان
ناس قد كفروا بعيسى، فلما جاء محمد آمنوا به، فنزلت هذه الآية
فيهم.
273

قال أبو عبد الرحمن: رواه جرير، عن منصور، عن
مجاهد.
فإن قيل: ما معنى * (يخرجونهم من النور إلى
الظلمات) *؟ ولم يكونوا في نور قط؟.
فالجواب: أنه يقال: رأيت فلانا خارج الدار، وإن لم
يكن خرج منها، وأخرجته من الدار، جعلته في خارجها، وكذا
أخرجه من النور، جعله خارجا منه، وإن لم يكن كان فيه.
وقيل: هذا تمثيل لما صرفوا عنه، كانوا بمنزلة من أخرج منه
كما يقال: لم أخرجتني من ملتك.
وقيل: لما ولدوا على الفطرة، وهي اخذ الميثاق، وما فطروا
عليه من معرفة الله جل وعز، ثم كفروا، كانوا قد أخرجوا من
274

النور.
قال الأخفش: * (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات إلى النور) * يحكم بأنهم كذلك، تقول: " قد أخرجكم
الله من هذا الأمر ". ولم تكونوا فيه قط.
قال أبو إسحاق: ليس هذا بشيء إنما هو يزيدهم
بإيمانهم هدى، وهو وليهم في حجاجهم وهدايتهم، وفي نصرهم على
عدوهم، ويتولى ثوابهم.
189 - قوله جل وعز: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه..) *
[آية 285].
وهذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التعجب، أي
275

أعجبوا له.
قال ابن عباس ومجاهد: هو نمروذ بن كنعان.
قال سفيان: فدعا برجلين، فقتل أحدهما، واستحيا
الآخر.
قال سفيان: * (فبهت الذي كفر) * فسكت فلم يجبه
بشيء.
وقرئ: * (فبهت الذي كفر) *.
أي: فبهت إبراهيم الذي كفر.
276

190 - وقوله جل وعز: * (أو كالذي مر على قرية خاوية على
عروشها..) * [آية 259].
روى علي بن الحكم عن الضحاك قال: يقال: هو عزير،
والقرية بيت المقدس.
* (فأماته الله مائة عام) * فكان أول شيء حيي منه رأسه،
فجعل ينظر إلى كل ما يخلق منه، وإلى حماره.
قال سعيد عن قتادة: وذكر لنا أنه عزير أتى على بيت
المقدس بعدما خربه بختنصر قال: فقال: أنى تعمر هذه بعد
خربها؟
ثم قال تعالى: * (فأماته الله مائة عام) *
ذكر لنا أنه مات ضحى، وبعث قبل غيبوبة الشمس بعد مائة عام
فقال: لبثت يوما أو بعض يوم!!.
277

وقال كعب: هو عزير.
قال مجاهد: هو رجل من بني إسرائيل.
قال عبد الله بن عبيد بن عمير: هو أرميا، وكان نبيا.
والخاوية: الخالية.
وقال الكسائي: يقال خوت خويا، وخواء، وخواية.
والعروش: السقوف، أي ساقطة على سقوفها.
قال أبو عبيدة: ويقال: خوت عروشها: بيوتها.
والعروش الخيام، وهي بيوت الأعراب.
278

قال الكسائي والفراء: الكاف في قوله: * (أو كالذي) *
عطف على معنى الكلام، أي هل رأيت كالذي حاج إبراهيم،
أو كالذي مر على قرية.
وقيل: هي زائدة، كما قال: * (ليس كمثله شيء) *.
191 - وقوله تعالى: * (لم يتسنه..) * [آية 259].
قال عكرمة وقتادة: لم يتغير.
وقال مجاهد: لم ينتن.
قال بعض أهل اللغة: لم يتسن من قولهم: آسن الماء إذا
أنتن.
279

وقال أبو عمر الشيباني: * (لم يتسنه) *: لم يتغير،
من قوله تعالى * (من حمأ مسنون) * ثم أبدل من إحدى
النونين ياء، كما قيل: تقصيت وتظنيت، وقصيت أظفاري.
قال أبو جعفر: والقولان خطأ، لو كان من قولهم: أسن
الماء إذا أنتن، لكان يتأسن.
قال أبو إسحاق: وليس من مسنون، لأن مسنونا مصبوب
على سنه الأرض.
قال أبو جعفر: والصحيح أنه من السنة، أي لم تغيره
السنون.
280

192 - ثم قال تعالى * (ولنجعلك آية للناس..) * [آية 259].
قال سفيان عن الأعمش قال: رجع إلى بنيه شيوخا، وهو
شاب.
قال الكسائي: لا يكون الكلام إلا بإضمار فعل.
والمعنى عنده: فعلنا هذا لنجعلك دليلا للناس، وعلما على
قدرتنا، ومثله * (وحفظا) *.
193 - ثم قال جل وعز: * (وانظر إلى العظام كيف ننشرها..) *
[آية 259].
أي نحييها * (وننشرها) * بالزاي معجمة أي نركب بعض
281

العظام على بعض، ونرفع بعضها إلى بعض.
والنشز، والنشز: ما ارتفع عن الأرض.
ومن قرأ: * (قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير) *
[آية 229].
فقال قتادة: في قراءته أنه جعل ينظر، كيف يوصل بعض
عظامه إلى بعض، لأن أول ما خلق منه رأسه، وقيل: له: انظر،
فقال عن ذلك هذا.
وروى طاووس عن ابن عباس: * (قال اعلم) * على الأمر،
282

وإنما قيل له ذلك.
قال هارون في قراءة عبد الله: * (قيل: اعلم) * على وجه
الأمر.
وقد يجوز أن يكون خاطب نفسه بهذا.
194 - وقوله جل وعز: * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي
الموتى، قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي..) *
[آية 260].
فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى ليطمئن أهل قلبي للمشاهدة، كأن نفسه
طالبته برؤية ذلك، فإذا رآه اطمأن، والإنسان قد يعلم الشيء من
جهة، ثم يطلب أن يعلمه من غيرها.
وهذا القول مذهب الجلة من العلماء، وهو مذهب ابن
عباس، والحسن.
283

قال الحسن: ولا يكون الخبر عند ابن آدم كالعيان.
والقول الآخر: أن المعنى * (ولكن ليطمئن قلبي) * بأني
إذا سألتك أجبتني.
كما روى عن سفيان عن قيس بن مسلم عن سعيد بن جبير
قال: * (أولم تؤمن) * بالخلة، قال: توقن بالخلة.
وروى أبو الهيثم عن سعيد بن جبير: * (ولكن ليطمئن
قلبي) *: ليزداد.
284

195 - ثم قال تعالى: * (قال فخذ أربعة من الطير) * [آية 260].
حدثنا عبد الباقي بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز الأموي
قال: حدثنا أبي قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثنا
عبد الله بن لهيعة، عن عبيد الله بن هبيرة السبيني عن حنش
الصنعاني عن عبد الله بن عباس، في قول الله جل وعز: * (فخذ
أربعة من الطير فصرهن إليك) *، قال: هو الحمام، والطاووس
والكركي، والديك.
وروى الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال:
" أخذ الديك، والطاووس، والغراب، والحمامة ".
قال مجاهد: * (فصرهن) * انتفهن بريشهن،
ولحومهن.
قال أبو عبيدة: صرت: قطعت، وصرت: جمعت.
285

وحكى أبو عبيدة: صرت عنقه: أصورها، وصرتها
أصيرها أملتها، وقد صور.
يقرأ بالضم والكسر، وأكثر القراء على الضم.
قال الكسائي: من ضمها جعلها من صرت الشيء أملته
وضممته إلي، قال: وصر وجهك إلي أبي أقبل به.
والمعنى على هذه القراءة فضمهن إليك وقطعهن، ثم حذف
" وقطعهن " لأنه قد دل عليه * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) *
ومن قرأ: * (فصرهن) * بالكسر ففيه قولان:
أحدهما: أنه بمعنى الأول.
286

والآخر: أن أبا مالك والضحاك قالا: فقطعهن.
قال أبو حاتم: هو من صار، إذا قطع. قال: ويكون
حينئذ على التقديم والتأخير، كأنه قال: فخذ أربعة من الطير إليك
فصرهن.
قال غيره: ومنه قيل للقطيع من بقر الوحش: صوار
وصوار، أي انقطعت فانفردت، ولذلك قيل لقطع المسك:
أصورة، كما قال:
" إذا تقوم يضوغ المسك أصورة ".
قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في معنى " فصرهن "
وصرهن: أنهما واحد بمعنى، بمعنى القطع، على التقديم
287

والتأخير، أي: فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن.
ولم يوجد التفريق صحيحا عن أحد من المتقدمين.
* (ثم أدعهن) *
قال ابن عباس: تعالين بإذن الله، فطار لحم ذا إلى لحم
ذا، * (سعيا) * أي عدوا على أرجلهن، ولا يقال للطائر إذا طار:
سعى.
* (واعلم أن الله عزيز) * أي لا يمتنع عليه ما يريد.
288

* (حكيم) * فيما يدبر.
فلما قص ما فيه البراهين حث على الجهاد، وأعلم أن من
جاهد بعد هذا البرهان، الذي لا يأتي به إلا نبي، فله في جهاده
الثواب العظيم.
196 - فقال تعالى: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) * إلى
قوله: * (واسع عليم) * [آية 261].
أي جواد، لا ينقصه ما يتفضل به من السعة * (عليم) *
أين يضعه.
197 - ثم قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن
والأذى) * [آية 264].
أي لا تمتنوا بما أعطيتم، وتعتدوا به، وكأنكم تقصدون
ذلك،
289

والأذى: أن يوبخ المعطى.
فأعلم أن هذين يبطلان الصدقة، كما تبطل صدقة المنافق
الذي يعطي رياء، ليوهم أنه مؤمن.
198 - ثم قال تعالى: * (فمثله) * أي فمثل نفقته * (كمثل صفوان) *
وهو الحجر الأملس، والوابل: المطر العظيم القطر.
* (فتركه صلدا) * [آية 264].
قال قتادة: ليس عليه شيء.
والمعنى: لم يقدروا على كسبهم وقت حاجتهم، ومحق
فأذهب، كما أذهب المطر التراب على الصفا ولم يوافق في الصفا
290

مثبتا.
199 - ثم قال: * (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا
من أنفسهم..) * [آية 265].
أي وينفقونها مقرين ثابتين، أنها مما يثيب الله عليه.
قال الحسن: إذا أراد أن ينفق تثبت، فإن كان الله
أمضى، وإلا أمسك.
وقال قتادة: * (تثبيتا) * أي احتسابا.
وقال مجاهد: يتثبتون أين يضعون أموالهم؟ أي زكواتهم.
وقال الشعبي: تصديقا ويقينا.
291

قال أبو جعفر: ولو كان كما قال مجاهد لكان و " تثبيتا " من تثبت
كتكرمت تكرما.
وقول قتادة: " واحتسابا " لا يعرف، إلا أن يراد به أن
أنفسهم تثبتهم محتسبة، وهذا بعيد.
وقول الشعبي حسن، أي تثبيتا من أنفسهم لهم على إنفاق
ذلك في طاعة الله جل وعز، يقال: ثبت فلانا في هذا الأمر، أي
صححت عزمة وقويت فيه رأيه، أثبته تثبيتا، أي أنفسهم موقنة
مصدقة بوعد الله، على تثبيتهم في ذلك.
200 - ثم قال تعالى: * (كمثل جنة بربوة..) * [آية 265].
قال مجاهد: هي الأرض المرتفعة المستوية أضعفت في
292

ثمرها.
قال قتادة: * (بربوة) *، يقول: بنشز من الأرض،
قال: وهذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خلف،
كما أنه ليس لخير هذه الجنة خلف على أي حال كان إن أصابها
وابل " وهو المطر الشديد، وإن أصابها " طل ".
قال مجاهد: [هو] الندى.
وقيل: مطر صغير في القدر يدوم.
قال محمد بن يزيد: أي فالطل يكفيها.
293

201 - ثم قال جل وعز: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة) * إلى قوله:
* (فاحترقت) * [آية 266].
قال ابن أبي ملكية: عن عبيد بن عمير: سألهم عمر عن
هذه الآية، وذكرها، فقالوا: الله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا
نعلم أو لا نعلم، قال: فقال ابن عباس: " إن في نفسي منها
شيئا، فقال: قل ولا تحقر نفسك. قال: ضرب مثلا للعمل،
قال: أي العمل؟ قال: فقال عمر: هذا رجل كان يعمل بطاعة
الله، فبعث إليه الشيطان، فعمل بالمعاصي، فأحرق الأعمال.
وروي عن ابن عباس بغير هذا الإسناد: هذا مثل ضربه الله
للمرائين بالأعمال، يبطلها الله يوم القيامة أحوج ما كانوا إليها،
كمثل رجل كانت له جنة، وكبر، وله أطفال، لا ينفعونه، فأصاب
الجنة إعصار، ريح عاصف فيها سموم شديدة، فاحترقت، ففقدها
294

أحوج ما كان إليها.
وروي عن ابن عباس أنه قال: الإعصار: الريح
الشديدة.
قال أبو جعفر: والإعصار هي التي يسميها الناس
الزوبعة.
202 - ثم قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات
ما كسبتم..) * [آية 267].
أي تصدقوا بالجيد.
295

وحدثنا أحمد بن محمد بن سلامة قال: حدثنا بكار قال:
حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك،
عن البراء، قال: " كانوا يجيئون في الصدقات بأردأ تمرهم، وأردأ
طعامهم، فنزلت: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما
كسبتم) * إلى قوله: * (إلا أن تغمضوا فيه) * [آية 267].
قال: لو كان لكم فأعطاكم لم تأخذوه، إلا وأنتم ترون أنه قد
نقصكم من حقكم.
قال أبو إسحاق في قوله تعالى * (واعلموا أن الله غني
حميد) * أي لم يأمركم أن تصدقوا من عوز، ولكنه بلا أخباركم،
296

فهو حميد على ذلك وعلى جميع نعمه.
203 - ثم قال تعالى: * (الشيطان يعدكم الفقر..) * [آية 268].
أي بالفقر، يخوفكم حتى تخرجوا الرديء في الزكاة
* (ويأمركم بالفحشاء) * بأن لا تتصدقوا، فتعصوا، وتتقاطعوا.
* (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) * [آية 268].
أي بأن يجازيكم على صدقاتكم بالمغفرة، والخلف.
* (والله واسع عليم) *.
يعطي من سعة، ويعلم حيث يضع ذلك، ويعلم الغيب
والشهادة.
204 - ثم قال تعالى: * (يؤتى الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة
فقد أوتي خيرا كثيرا..) * [آية 269].
297

روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس * (ومن يؤت
الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * قال: المعرفة بالقرآن، ناسخة،
ومنسوخة، ومحكمة، ومتشابهة، ومقدمة، ومؤخرة، وحلاله،
وحرامه، وأمثاله.
قال مجاهد: العقل والعفة، والإصابة في القول.
وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل في دين الله.
وقال الضحاك: الحكمة: القرآن.
وقال قتادة: الفهم.
قلت: وهذه الأقوال متفقة، وأصل الحكمة ما يمتنع به من
السفه، فقيل للعلم حكمة لأنه به يمتنع، وبه يعلم الامتناع من
السفه، وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن، والعقل، والفهم.
وقال إبراهيم النخعي: الفهم في القرآن.
298

205 - ثم قال تعالى: * (وما يذكر إلا أولو الألباب) * [آية 269].
أي وما يفكر فكرا، يذكر به ما قص من الآيات، إلا ذوو
العقول، ومن فهم الله عز وجل، أمره ونهيه.
206 - ثم قال عز وجل: * (وما أنفقتم من نفقة..) * [آية 270].
قال أبو إسحاق: [أي] في فرض، لأنه ذكر صدقة
الزكاة.
* (أو نذرتم من نذر) *
299

كل ما نوى الإنسان أن يتطوع به فهو نذر.
وقيل: المعنى ما أنفقتم من نفقة من غير نذر، أو نذرتم ثم
عقدتم على أنفسكم إنفاقه * (فإن الله يعلمه) * أي لا يخفى
عليه، فهو يجازي به.
قال مجاهد: * (يعلمه) * أي يحصيه.
207 - ثم قال تعالى: * (إن تبدوا الصدقات..) * [آية 271].
أي تظهروها.
وفي الحديث: " صدقة السر تطفيء غضب الرب ".
وقيل: كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما اليوم
فالناس يسيئون الظن.
300

قال الحسن إظهار الزكاة أحسن، وإخفاء التطوع أفضل،
لأنه أدل على أنه يراد الله عز وجل به وحده.
وقال الضحاك: كان هذا يعمل به * (الذين ينفقون
أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية) * فلما نزلت " براءة " بفريضة
الصدقة وتفصيلها، انتهت الصدقة إليه.
301

208 - وقوله جل وعز: * (ليس عليك هداهم..) * [آية 272].
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: كانوا يكرهون أن
يتصدقوا على أقربائهم من المشركين، فرخص لهم في ذلك، فنزلت:
* (ليس عليك هداهم) * إلى آخر الآي.
209 - وقوله عز وجل * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله..) *
[آية 273].
قال مجاهد: يعني مهاجري قريش الذين كانوا بالمدينة.
وقال غيره: معنى * (أحصروا في سبيل الله) * منعهم
فرض الجهاد من التصرف.
وقيل: شغلهم عدوهم بالقتال عن التصرف.
قال أبو جعفر: واللغة توجب أن * (أحصروا) * من المرض، إلا أنه
يجوز أن يكون المعنى: صودفوا على هذه الحال.
302

210 - ثم قال تعالى * (لا يستطيعون ضربا في الأرض..) *
[آية 273].
قيل: قد ألزموا أنفسهم الجهاد، كما يقال: لا أستطيع أن
أعصيك، أي قد ألزمت نفسي طاعتك.
211 - ثم قال تعالى * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف..) *
[آية 273].
ليس الجهل ها هنا ضد العقل، وإنما هو ضد الخبرة.
212 - ثم قال تعالى * (تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) *
[آية 273].
يقال: ألحف في المسألة، أخفى، وألح، بمعنى واحد
303

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من سأل وله
أربعون درهما فقد ألحف ".
قال أبو إسحاق: معناه فقد شمل بالمسألة. ومنه اشتق
الحاف، قال: ومعنى (لا يسألون الناس إلحافا) لا يكون منهم
سؤال، فيكون إلحاف، كما قالي الشاعر:
- على لا حب لا يهتدى بمناره *
إذا سافه العود النباطي جرجرا -
أي ليس به منار فيهتدى به.
213 - وقوله عز وجل: * (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار..) *
[آية 274].
304

حدثنا أحمد بن محمد بن نافع، قال: حدثنا سلمة قال:
حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه،
عن ابن عباس، في قوله: * (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار
سرا وعلانية) *، قال: " نزلت في علي بن أبي طالب رضوان الله
عليه، كانت معه أربعة دراهم، فأنفق بالليل درهما، وبالنهار
درهما، وسرا درهما، وعلانية درهما ".
214 - وقوله عز وجل: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم
الذي يتخبطه الشيطان من المس..) * [آية 275].
المعنى * (الذين يأكلون الربا) * في الدنيا * (لا يقومون) * في
الآخرة * (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) *.
305

قال قتادة: أي الجنون.
وقال غيره: هذا علامة لهم يوم القيامة، يخرج الناس من
قبورهم مسرعين، كما قال تعالى * (يخرجون من الأجداث
سراعا) *. إلا أكلة الربا، فإنهم يقومون ويسقطون، أربى الله
الربا في بطونهم يوم القيامة، حتى ثقلهم، فهم ينهضون ويسقطون،
ويريدون الإسراع فلا يقدرون.
306

215 - ثم قال تعالى: * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى..) *
[آية 275].
قال سفيان: يعني: القرآن.
ومعنى: * (فله ما سلف) * مغفور له.
216 - ثم قال تعالى: * (وأمره إلى الله) *.
قال أبو إسحاق: أي الله جل وعز وليه.
قال غيره: (وأمره إلى الله) في عصمته وتوفيقه، إن شاء
عصمه عن أكله، وإن شاء خذله عن ذلك.
وقال بعض أهل التفسير: * (وأمره إلى الله) * في
المستقبل.
307

وهذا قول حسن بين، أي وأمره إلى الله في المستقبل، إن
شاء ثبته على التحريم، وإن شاء أباحه.
217 - ثم قال تعالى: * (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) * [آية 275].
قال سفيان: من عاد فعمل بالربا حتى يموت.
وقال غيره: من عاد فقال إنما البيع مثل الربا فقد كفر.
218 - وقوله جل وعز: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من
الربا..) * [آية 278]
قال مجاهد: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين
فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني، فيؤخر عنه ويزيده.
308

219 - وقوله جل وعز: * (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله
ورسوله..) * [آية 279].
أي فأيقنوا، يقال: أذنت بالشيء، فأنا أذين به، كما
قال:
" فإني أذين إن رجعت مملكا "
ومعنى " فآذنوا ": فأعلموا غيركم أنكم على حربهم.
220 - ثم قال تعالى: * (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون
ولا تظلمون) * [آية 279].
309

ثم قال الضحاك: كانوا في الجاهلية يتبايعون بالربا، فجاء
الإسلام وقد بقيت لهم أموال، فأمروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم، ولا
يأخذوا الربا الذي كانوا أربوا به، وأمروا أن يتصدقوا على من كان
معسرا.
221 - ثم قال جل وعز: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة..) *
[آية 280].
قال إبراهيم: نزلت في الربا.
قال الربيع بن خيثم: هي لكل معسر ينظر.
قال أبو جعفر: وهذا القول الحسن، لأن القراءة بالرفع
بمعنى: وإن وقع ذو عسرة من الناس أجمعين، أم كان فيمن
تطالبون، أو تبايعون ذو عسرة.
310

ولو كان في الربا خاصة، لكان النصب الوجه، بمعنى وإن
كان الذي عليه الربا ذا عسرة.
على أن المعتمر قد روى عن حجاج الوراق قال: في
مصحف عثمان " وإن كان ذا عسرة " والمعنى: فعليكم النظرة أي
التأخير إلى أن يوسر.
وروى عن عطاء أنه قرأ " فناظرة إلى ميسرة " على جهة
الأمر.
222 - ثم قال تعالى: * (وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) *
[آية 280].
قال إبراهيم: أي برأس المال.
قال الضحاك: وأن تصدقوا من رأس المال، خير من النظرة
311

وروى علي بن الحكم عن الضحاك قال: " زعم ابن
عباس أن آخر آية نزلت من القرآن * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى
الله..) * [آية 281].
قرىء على أحمد بن شعيب عن محمد بن عقيل، عن علي
بن الحسين. قال: حدثني أبي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله
تعالى * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله..) * الآية أنها آخر آية
أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
223 - وقوله جل وعز * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل
مسمى فاكتبوه..) * [آية 282].
في معناها أقوال:
1 - منها أن هذا على الندب، وليس بحتم.
312

2 - ومنها أن أبا نضرة، روى عن أبي سعيد الخدري، أنه
تلا هذه الآية * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين..) * حتى بلغ
* (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته) * قال:
نخست هذه الآية ما قبلها.
3 - وقيل: إن هذا واجب في الأجل، والإشهاد في
العاجل وإنما الرخصة في الرهن.
ويقال: داينت الرجل: إذا أقرضته واستقرضت منه،
وكذلك تداين القوم.
وأدنت الرجل: بعته بدين، ودنت، وادنت أي أخذت
بدين، وأنا دائن، ومدان.
والمدين: الملك، إذا دان الناس له أي سمعوا وأطاعوا.
313

ومما يسأل عنه أن يقال: ما وجه " بدين " وقد دل
" تداينهم " على الدين، فهل تكون مداينة بغير دين؟.
فالجواب أن العرب تقول: " تداينا " أي تجارينا " وتعاطينا "
الأخذ والإعطاء، فجاء " بدين " مبينا للمعنى المقصود.
224 - وقوله جل وعز: * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل..) *
[آية 282].
قال السدي: بالحق، أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر
مما له، ولا أقل.
225 - ثم قال تعالى: * (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله..) *
[آية 282].
قيل: كما علمه الله من الكتابة بالعدل.
314

وقيل: كما فضله الله بعلم الكتابة.
226 - ثم قال تعالى: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها، أو ضعيفا،
أو لا يستطيع أن يمل هو..) * [آية 282].
قال ابن وهب: أخبرني يونس أنه سال ربيعة: ما صفة
السفيه؟
فقال: الذي لا يثمر ماله في يدعه ولا ابتياعه، ولا يمنع نفسه
لذة، يسقط في المال سقوط من لا يعد المال شيئا، الذي لا يرى له
عقل في مال.
وروي عن ابن عباس أنه قال: السفيه: الجاهل بالإملاء،
والضعيف: الأخرق.
وقال أبو إسحاق: السفيه: الخفيف العقل، ومن هذا
تسفهت الريح الشيء إذا حركته واستخفته، ومنه:
315

مشين كما اهتزت رماح تسفهت *
أعاليها مر الرياح النواسم
وحكى غيره أن السفه: كل ما يقبح فعله أي هو فعل
ليس بمحكم، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان متخلخلا.
فأما الضعيف فهو - والله أعلم - الذي فيه ضعف، من
خرس، أو هرم، أو جنون.
227 - ثم قال تعالى: * (فليملل ولية بالعدل..) * [آية 282].
في معنى هذا قولان:
روى سفيان عن يونس عن الحسن * (فليملل ولية
بالعدل) *
قال الضحاك: ولى السفيه الذي يجوز عليه أمره، فهو ولية
316

أي يقوم بأمره * (بالعدل) * هو الذي يملي الحق.
والقول الآخر عن ابن عباس أن المعنى: فليملل ولي الذي
هو عليه.
واحتج بهذا القول من ذهب إلى نفي الحجر عن الأحرار،
البالغين العقلاء، وهو مذهب محمد بن سيرين، وإبراهيم
النخعي.
228 - ثم قال عز وجل: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم..) *
[آية 282].
قيل: من أهل ملتكم.
317

229 - ثم قال تعالى: * (ممن ترضون من الشهداء..) * [آية 282].
أي ممن ترضون مذهبه.
قال إبراهيم: ممن لم تظهر له ريبة.
230 - ثم قال تعالى: * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما
الأخرى..) * [آية 283].
أي أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى.
وروي عن الجحدري * (أن تضل) * أي تنسى، كما يقال:
أنسيت كذا.
فأما ما روي عن ابن عيينة من أنه قال: تصير شهادتهما بمنزلة
شهادة الذكر، فلا يعرفه أهل اللغة، وهو أيضا خطأ، لأنه لو كان
إنما معناه: نجعلها بمنزلة الذكر، لم يحتج إلى " أن تضل " لأنها
318

كانت تجعلها بمنزلة الذكر، ضلت أو لم تضل.
ولا يجوز أن تصيرها بمنزلة الذكر وقد نسيت شهادتها.
وأما فتح " أن " فنذكره في الإعراب إن شاء الله.
231 - ثم قال عز وجل: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا..) *
روى ابن نجيح عن مجاهد قال: إذا دعي ليشهد وقد كان
أشهد.
وقال الحسن: وإذا ما دعوا ابتداء للشهادة، ولا يأبوا إذا
دعوا لإقامتها.
319

قال أبو جعفر: قيل: قول الحسن أشبه، لأنه لو كان
ذلك لهم لتويت الحقوق، ولأن بعده * (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا
أو كبيرا إلى أجله) * أي لا تملوا أن تكتبوا الحق، كان كثيرا أو
قليلا، كما يقال: لأعطينك حقك، صغر أو كبر.
وقال الأخفش: * (أن تكتبوه) * فأضمر الشاهد، قال
وقال * (إلى أجله) * أي إلى الأجل الذي تجوز فيه شهادته، والله
أعلم.
هذا في كلام الأخفش نصا.
قال أبو جعفر: واختار محمد بن جرير قول مجاهد، أن
المعنى * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * أن ذلك، إذا كانت
عندك شهادة فدعيت، وهو قول سعيد بن جبير، وعطاء،
وعكرمة، والشعبي، والنخعي.
320

قال محمد بن جرير: " لأن الله قد ألزمهم اسم الشهداء،
وإنما يلزمهم اسم الشهداء إذا شهدوا على شيء قبل ذلك، وغير
جائز أن يقال لهم " شهداء " ولم يشهدوا.
ولو كان ذلك لكان الناس كلهم شهداء، بمعنى أنهم
يشهدون، فصار المعنى: إذا ما دعوا ليؤدوا الشهادة، وأيضا فدخول
الألف واللام يدل على أن المعني بالنهي شخص معلوم ".
232 ثم قال تعالى: * (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة..) *
[آية 282].
قال سفيان: معناه أعدل، ثم قال * (وأقوم الشهادة) *
أي أثبت، لأن الكتاب يذكر الشاهد ما شهد عليه.
233 - ثم قال تعالى: * (وأدنى ألا ترتابوا..) * [آية 282].
321

أي لا تشكوا.
ثم رخص في ترك الكتابة فيما يجري بين الناس كثيرا، فقال
تعالى: * (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم) *
[آية 282].
234 - وقوله جل وعز * (ولا يضار كاتب ولا شهيد..) * [آية 282].
فيه أقوال:
1 - منها أن المعنى - على قول عطاء - لا يمتنعا علي إذا
دعيا.
كما روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال:
كان عمر يقرأ " ولا يضارر كاتب ولا شهيد ".
وقال طاووس: لا يضارر كاتب فيكتب ما لم يملل
322

عليه.
وقال الحسن: ولا يضارر الشهيد أن يزيد في شهادته.
2 - وروي عن ابن عباس ومجاهد * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) *
قالا: نهي أن يجاء إلى الشاهد والكاتب، فيدعيا إلى الكتابة والشهادة، وهما
مشغولان، فيضارا، فيقال: قد أمركما الله ألا تمتنعا، وهو مستغن عنهما.
323

والتقدير على هذا القول " ولا يضارر " وكذا قرأ ابن مسعود.
فنهى الله جل وعز عن هذا، لأنه لو أطلقه لكان فيه شغل عن أمر
دينهما، ومعاشهما.
235 - ثم قال جل وعز: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم..) *
[آية 282].
قال سفيان: * (فإنه فسوق بكم) * قال: معصية.
236 - ثم قال تعالى: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان
مقبوضة..) * [آية 283].
وقرأ ابن عباس " كتابا ".
وقال: قد يوجد الكاتب ولا توجد الصحيفة.
وكذا قرأ أبو العالية، وعكرمة، والضحاك، ومجاهد.
324

وقيل: إن كتابا جمع كاتب، كما يقال: قايم، وقيام.
وقيل: هما بمنزلة اثنين.
237 - ثم قال تعالى * (فرهان مقبوضة..) * [آية 283].
قرىء " فرهن مقبوضة " رهن جميع رهان، ويجوز أن يكون
جمع رهن، مثل سقف، وسقف.
238 - وقوله عز وجل * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم
به الله..) * آية 284].
فيها أقوال:
روي عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس أنها منسوخة
بقوله تعالى * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *.
إلا أن علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس أنه قال: لم
تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول: إني أخبركم بما كنتم في
325

أنفسكم، فأما المؤمنون فيخبرهم، ثم يغفر لهم.
وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب،
فذلك قوله عز وجل * (يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب
من يشاء) * [آية 284].
وهو قوله جل وعز: * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت
قلوبكم) * من الشك والنفاق.
وحدثنا أحمد بن شعيب، قال: أخبرنا محمود بن غيلان،
قال حدثنا وكيع، قال حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: " لما نزلت هذه الآية * (وإن
تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * دخل قلوبهم
منها شيء لم يدخلها من قبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: سمعنا
وأطعنا، وسلمنا!! فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله عز
وجل: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه..) * الآية وأنزل
* (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما
اكتسبت [ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا] قال: قد فعلت
* (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) *
326

قال: قد فعلت * (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به، واعف عنا،
واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) *
قال: قد فعلت ".
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: " نسختها
الآية التي بعدها * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..) *.
وروى مقسم عن ابن عباس: نزلت في الشهادة، أي في
327

إظهارها وكتمانها.
وقال مجاهد: هذا في الشك واليقين.
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أمية أنها
سألت عائشة عن هذه الآية * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
يحاسبكم به الله) * وسألتها عن هذه الآية * (من يعمل سوءا يجز
به) * فقالت عائشة: ما سألني عنهما أحد منذ سألت عنهما رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عائشة: هذه معاتبة الله
العبد بما يصيبه [من الحمى، والنكبة، والشوكة، حتى البضاعة
يضعها في كمه] فيفقدها، فيفزع لها، فيجدها في ضبنه، حتى
إن المؤمن ليخرج من ذنوبه، كما يخرج التبر الأحمر من الكير ".
328

وقال الضحاك: " يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره،
ليعلم أنه لم يخف عليه ".
وقيل: لا يكون في هذا نسخ لأنه خبر، ولكن يبينه
* (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) *.
فالمعنى - والله أعلم - وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
من الكبائر، والذي رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس حسن،
والله أعلم بما أراد.
فأما ما روي عن ابن عباس من النسخ، فمما يجب أن
يوقف على تأويله، إذ كانت الأخبار لا يقع فيها ناسخ ولا
منسوخ.
329

فإن صح فتأويله أن الثاني مثل الأول، كما تقول: نسخت
هذا من هذا.
وقيل: فيه قول آخر، يكون معناه: فأزيل ما خالط قلوبهم
من ذلك وبين.
239 - وقوله جل وعز: * (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله..) *
[آية 285].
أي كلهم آمن بالله.
وقرأ ابن عباس * (وكتابه) * وقال: كتاب أكثر من
كتب، يذهب إلى أنه اسم للجنس.
240 - وقوله جل وعز: * (لا نفرق بين أحد من رسله..) *
[آية 285].
روي عن ابن مسعود، وابن عباس، ويحيى بن يعمر، أنهم
330

قرءوا * (لا يفرق) * بمعنى: كل لا يفرق، أي لا يفرق الرسول
والمؤمنون، بين أحد من رسله.
ومن قرأ بالنون فالمعنى عنده: قالوا: لا نفرق بين أحد من
رسله، أي لا نؤمن ببعض، ونكفر ببعض.
ويدل على النون " ربنا ".
241 - ثم قال تعالى * (وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك
المصير) * [آية 284].
ومعنى " غفرانك " اغفر لنا غفرانا.
242 - وقوله جل وعز: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما
كسبت وعليها ما اكتسبت) * [آية 286].
331

" وسعها " أي طاقتها، أي لا يكلفها فرضا من الفروض
لا تطيقه.
* (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *.
قال محمد بن كعب: لها ما كسبت من الخير، وعليها ما
اكتسبت من الشر.
وقال غيره: معناه لا يؤاخذ أحد بذنب أحد.
243 - وقوله جل وعز * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا..) *
[آية 286].
قال قطرب: النسيان ههنا: الترك، كقول الرجل
للرجل: لا تنسني من عطيتك أي تتركني منها.
332

قال: " أو أخطأنا " أي خطئنا وأذنبنا، النبي ليس على الخطأ.
قال أبو جعفر: الذي قال قطرب في " نسينا " معروف في
اللغة، قال عز وجل: * (نسو الله فنسيهم) *.
وقد يجوز أن يكون من النسيان، لأن النسيان قد يكون سببه
الإقبال على ما لا يحل، حتى يقع النسيان.
والذي قال في * (أخطأنا) *: لا يعرفه أهل اللغة، لأنه إنما
يقال: " خطينا " أي تعمدنا الذنب، و " أخطأنا ": إذا لم
نتعمده، فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر، ولا يكون معنى
" أخطأنا ": دخلنا في الخطيئة، كما يقال: أظلمنا، وأصبحنا،
وأنجدنا!.
244 - وقوله جل وعز: * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على
الذين من قبلنا..) * [آية 286].
333

قال مجاهد: الإصر: العهد.
قال سعيد بن جبير: الإصر: شدة العمل، وما غلظ على
بني إسرائيل، من البول ونحوه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لامتي عما
حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به، أو تكلم به).
قال الضحاك: كانوا يحملون أمورا شدادا.
قال مالك: الإصر: الأمر الغليظ.
قال أبو عبيدة: الإصر: الثقل.
334

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد.
أي لا تأخذ عهدنا بما لا نقوم به إلا بثقل، أي لا تحمل
علينا إثم العهد، كما قال تعالى * (وأخذتم على ذلكم إصري) *
وما أمروا به فهو بمنزلة ما أخذ عهدهم به، ومعنى " ما تأصرني
فلان آصرة " أي ما يعطفني عليه عهد ولا قرابة.
245 - وقوله جل وعز: * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * [آية 286].
معنى * (ما لا طاقة لنا به) *: ما يثقل، نحو * (لجعلنا لمن
يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) * كما يقال: لا أطيق
مجالسة فلان: أي ذلك يثقل علي.
والإصر: ثقل العهد، والفرض، و " ما لا طاقة لنا به ": ما
يثقل بالإضافة، وقد يجوز أن يخف على غيرنا.
335

246 - ثم قال جل وعز: * (واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت
مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين) * [آية 286].
* (واعف عنا) * أي امح عنا ذنوبنا، والعافي: الدارس الممحي،
والعافية: دروس البلاء.
* (واغفر لنا) * أي غط على عقوبتنا واسترها.
وقيل: أي امح عنا ذنوبنا.
* (أنت مولانا) * أي ولينا وناصرنا، وقال لبيد:
- فغدت كلا الفرجين تحسب أنه *
مولى المخافة خلفها وأمامها -
" تمت سورة البقرة "
336

تفسير سورة آل عمران
مدنية وآياتها مائتا آية
337

سورة آل عمران
قال ابن عباس: نزلت بالمدينة.
1 - من ذلك قوله عز وجل: * (آلم. الله لا إله إلا هو الحي
القيوم) * [آية 2].
روي عن ابن عباس: * (الحي) * الذي لا يموت،
و * (القيوم) * الذي لا يزول.
قال مجاهد * (القيوم) * القائم على كل شيء، أي القائم
على تدبير كل شيء، من رزق، وحياة، وموت.
وقد شرحناه بأكثر من هذا، ومعنى (آلم) في سورة
البقرة.
339

حدثنا أحمد بن شعيب، قال أخبرني عمران بن بكار، قال
حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال حدثنا
هارون عن محمد بن عمرو بن علقمة عن يحيى بن عبد الرحمن عن
أبيه عن عمر بن الخطاب أنه صلى صلاة العشاء، فاستفتح آل
عمران فقرأ " آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " فقرأ في ركعة
بمائة آية، وفي الثانية بالمائة الباقية.
وسنذكر الأصل في الإعراب إن شاء الله.
2 - ثم قال تعالى: * (نزل عليك الكتاب بالحق..) * [آية 3].
قال ابن كيسان: فيه وجهان: أي الزمك ذلك
باستحقاقه إياه عليك، وعلى خلقه.
قال: ويكون * (بالحق) * أي بما حق في كتبه من إنزاله
عليك.
340

وكان هذا الوجه أوضح، لقوله * (مصدقا) * أي في حال
تصديقه لما قبله من الكتب، وما عبد الله به خلقه من طاعته.
قال مجاهد: * (لما بين يديه) * لما قبله من كتاب، أو
رسول.
3 - ثم قال تعالى: * (وأنزل التوراة والإنجيل من قبل، هدى
للناس..) * [آية 4].
أي من قبل القرآن.
والتوراة من ورى، ووريت، فقيل: توراة أي ضياء
ونور.
قال البصريون: توراة أصلها " فوعلة " مثل حوقلة،
341

ومصدر فوعلت فوعلة، والأصل عندهم " وورية " فقلبت الواو
الأولى تاء كما قلبت في تولج، وهو فوعل من ولجت،
وفي قولهم: تالله، وقلبت الياء الأخيرة ألفا، لتحركها وانفتاح
ما قبلها.
وقال الكوفيون: (توراة) يصلح أن تكون تفعلة وتفعلة،
قلبت إلى تفعلة، ولا يجوز عند البصريين في توقيه توقوة، ولا يكاد
يوجد في الكلام تفعلة إلا شاذا.
و " إنجيل " من نجلت الشيء أي: أخرجته، فإنجيل خرج به
دارس من الحق، ومنه قيل لواحد الرجل: نجله كما قال:
342

- إلى معشر لم يورث اللؤم جدهم *
أصاغرهم وكل فحل له نجل -
قال ابن كيسان: إنجيل إفعيل من النجل، ويقال: نجلة
أبوه أي: جاء به، ويقال: نجلت الكلاء بالمنجل، وعين نجلاء:
واسعة، وكذا طعنة نجلاء، وجمع الإنجيل أناجيل، وجمع التوراة
توار.
4 - ثم قال تعالى: * (وأنزل الفرقان) * أي الفارق بين الحق والباطل.
كما قال بعض المفسرين: " كل كتاب له فرقان ".
* (والله عزيز) * أي ذل له كل شيء، بأثر صنعته فيه.
* (ذو انتقام) * أي ممن كفر به.
343

5 - ثم قال تعالى: * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف
يشاء..) * [آية 6].
أي من أحسن وقبح، وتمام ونقصان، وله في كل ذلك
حكمة.
6 - وقوله جل وعز: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات
محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات..) * [آية 7].
روي عن ابن عباس: المحكمات: الثلاث الآيات * (قل تعالوا أتل
ما حرم ربكم) * إلى ثلاث آيات، والتي في بني إسرائيل * (وقضى
ربك ألا تعبدوا إلا إياه) *.
قال: والمتشابه: ما تشابه عليهم نحو " آلم " و " المر ".
وقال يحيى بن يعمر: المحكمات: الفرائض، والأمر،
والنهي، وهن عماد الدين، وعماد كل شيء أمه.
344

وقال مجاهد وعكرمة نحوا من هذا، قالا: ما فيه من
الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو متشابه، يصدق بعضه
بعضا.
وقال قتادة نحوه، قال المحكم ما يعمل به.
وقال الضحاك: المحكمات: الناسخات، والمتشابهات:
المنسوخات.
وقال ابن عباس: * (كل من عند ربنا) * يعني ما نسخ وما
لم ينسخ.
قال ابن كيسان: إحكامها: بيانها وإيضاحها، وقد يكون إيجابها
والزامها، وقد يكون أنها لا تحتمل إلا معاني ألفاظها، ولا يضل أحد
في تأويلها.
ويجمع ذلك أن كل محكم تام الصنعة، وقد يكون الإحكام
ها هنا المنع من احتمال التأويلات، ومنه سميت حكمة الدابة
345

لمنعها إياها.
قال: " ومتشابهات " يحتمل أن يشبه اللفظ اللفظ ويختلف
المعنى، أو يشتبه المعنيان، ويختلف اللفظ، أو يشتبه الفعل من الأمر
والنهي، فيكون هذا نحو الناسخ والمنسوخ.
وقيل: المتشابهات ما كان نحو قوله تعالى (ثلاثة قروء).
وأجمع هذه الأقوال أن المحكم ما كان قائما بنفسه، لا يحتاج
إلى استدلال، والمتشابه ما لم يقم بنفسه، واحتاج إلى استدلال.
7 - وقال الله عز وجل: * (منه آيات محكمات) * وقد قال:
* (كتاب أحكمت آياته) *، وقال: * (وأخر متشابهات) *، وقد
قال: * (كتابا متشابها) *؟ فالجواب أن معنى * (أحكمت
آياته) * جعلت كلها محكمه، ثم فصلت، فكان بعضها أم
346

الكتاب، وليس قوله * (منه آيات محكمات) * بمزيل الحكمة عن
المتشابهات، وكذا (كتابا متشابها) وليس قوله * (وأخر
متشابهات) بمزيل عن المحكمات أن تكون متشابهات في باب
الحكمة، بل جملته إذا كان محكما لاحقة لجميع ما فصل منه، (وكتابا
متشابها) أي متشابها في الحكمة، لا يختلف بعضه مع بعض، كما
قال تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا
كثيرا) *.
وقد بينا معنى * (منه آيات محكمات) * بأقاويل العلماء
فيه.
وهذا معنى قول ابن عباس أنها ما أوجب الله على عباده من
أحكامه اللازمة، التي لم يلحقها تغير ولا تبديل.
وقد يكون المحكم ما كان خبرا، لأنه لا يلحقه نسخ،
والمتشابه: الناسخ والمنسوخ، لأنهم لا يعلمون منتهى ما يصيرون إليه
347

منه. وفي كل ذلك حكمة، وبعضه يشبه بعضا في الحكمة.
وقال تعالى: * (هن أم الكتاب) * ولم يقل: أمهات..
قال الأخفش: هذا حكاية.
قال الفراء: (هن أم الكتاب) لأن معناهن شيء واحد.
قال ابن كيسان: وأحسب الأخفش أراد هذا، أي هن
الشيء الذي يقال: هو أم الكتاب، أي كل واحدة منهن يقال لها:
أم الكتاب، كما تقول: أصحابك علي أسد ضار، أي كل واحد
كاسد ضار، لأنهم جروا مجرى شيء واحد في الفعل.
ومنه * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) * لأن شأنهما واحد،
348

في أنها جاءت به من غير ذكر، وأنه لا أب له، فلم تكن الآية لها
إلا به، ولا له إلا بها، ولم يرد أن يفصله منها فيقول: آيتين.
وكذلك (هن أم الكتاب) إنما جعلهن شيئا واحدا، في
الحكمة والبيان، فذلك الشيء هو أم الكتاب.
8 - ثم قال تعالى: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه
منه) * [آية 7].
روى أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم
* (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) * قال: " فإذا رأيتم
الذين يجادلون فيه، فهم أولئك فاحذروهم.
قال ابن عباس هم الخوارج.
وقال أبو غالب: قال أبو أمامة الباهلي - ورأى رؤوسا
349

من رؤوس الخوارج - فقرأ * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما
تشابه منه) * ثم قال: هم هؤلاء، فقلت: يا أبا أمامة أشيئا سمعته
من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيئا قلته من رأيك؟ فقال:
إني إذا لجريء - يقولها ثلاثا - بل سمعته من رسول الله صلى الله
عليه وسلم غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث.
قال مجاهد: الزيغ: الشك، وابتغاء الفتنة: الشبهات.
وقيل: إفساد ذات البين.
وقد ذكرنا تصرف الفتنة.
والتأويل: من قولهم: آل الأمر إلى كذا،
350

أي صار إليه، وأولته تأويلا صيرته إليه.
قيل: الفرق بين التأويل والتفسير، أن التفسير نحو قول
العلماء: الريب: الشك، والتأويل نحو قول ابن عباس: الجد أب،
وتأمل قول الله (يا بني آدم).
9 - ثم قال تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم
يقولون آمنا به..) * [آية 7].
في هذه الآية اختلاف كثير.
منه: أن التمام عند قوله (إلا الله) وهذا قول الكسائي،
والأخفش، والفراء، وأبي عبيدة، وأبي حاتم.
ويحتج في ذلك بما روى طاووس عن ابن عباس أنه قرأ " وما
يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به ".
351

وقال عمر بن عبد العزيز: انتهى علم الراسخين في العلم إلى
أن قالوا: آمنا به.
قال ابن كيسان: التأويل في كلام العرب: ما يؤول إليه
معنى الكلام، فتأويله ما يرجع إليه معناه، وما يستقر عليه الأمر في
ذلك المشتبه، هل ينجح أم لا؟ فالكلام عندي منقطع على
هذا.
والمعنى: والثابتون في العم، المنتهون إلى ما يحاط به منه،
مما أباح الله خلقه بلوغه، يقولون آمنا به على التسليم، والتصديق به
وإن لم ينتهوا إلى علم ما يؤول إليه أمره.
ودل على هذا * (كل من عند ربنا) * أي المحكم والمتشابه،
فلو كان كله عندهم سواء، لكان كله محكما، ولم ينسب شيء
منه إلى المتشابه
352

قال أبو جعفر: وهذا قول حسن، ولكنه على قول من
قال: المحكم الذي لا ينسخ نحو " الأخبار " ودعاء العباد إلى التوحيد،
والمتشابه ما يحتمل النسخ من الفرائض، لم يكن إلى العباد علم
تأويله، وما يثبت عليه.
ومن جعل " تأويله " بمعنى تفسير، لأنه ما يؤول إليه معنى
الكلام، فالراسخون في العلم عنده يعلمون تأويله.
كما روى ابن أبي نجيح عن مجاهد: الراسخون في العلم
يعلمون تأويله يقولون آمنا به.
قال مجاهد: قال ابن عباس: أنا ممن يعلم تأويله.
353

قال أبو جعفر: والقول الأول وإن كان حسنا، فهذا أبين
منه، لأن واو العطف الأولى بها أن تدخل الثاني، فيما دخل فيه
الأول، حتى يقع دليل بخلافه.
وقد مدح الله عز وجل الراسخين، بثباتهم في العلم، فدل
على أنهم يعلمون تأويله.
وقد قال جل وعز: * (أفلا يتدبرون القرآن) *؟
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا لابن
عباس فقال:
" اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ".
354

وقال أبو إسحاق: معنى " ابتغائهم تأويله " أنهم طلبوا
تأويل بعثهم، وإحيائهم، فأعلم الله عز وجل أن تأويل ذلك، ووقته
لا يعلمه إلا الله.
قال: والدليل على ذلك قوله * (هل ينظرون إلا تأويله يوم
يأتي تأويله) * أي يوم يرون ما وعدوا به من البعث والنشور
والعذاب * (يقول الذين نسوه) * أي تركوه * (قد جاءت رسل ربنا
بالحق) * أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل.
قال: والوقف التام * (وما يعلم تأويله إلا الله) * أي لا يعلم
أحد متى البعث " غير الله ".
10 - وقوله جل وعز: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا..) *
[آية 8].
أي لا تبتلينا بما نزيغ به، أي يقولون هذا، ويجوز أن يكون
المعنى: قل يا محمد
355

ويقال: إزاغة القلب فساد وميل عن الدين، أو كانوا
يخافون - وقد هدوا - أن ينقلهم الله إلى الفساد؟
فالجواب أن يكونوا سألوا إذ هداهم، الله أن لا يبتليهم بما
يثقل عليهم من الأعمال، فيعجزوا عنه، نحو * (ولو أنا كتبنا
عليهم أن اقتلوا أنفسكم) *.
قال ابن كيسان: سألوا أن لا يزيغوا، فيزيغ الله قلوبهم 7
نحو * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * أي ثبتنا على هدايتك إذ
هديتنا، وأن لا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا.
قال وفيها جواب آخر: أنه جل وعز الذي من عليهم
بالهداية، وعرفهم ذلك، فسألوه أن يدوموا على ما هم عليه، وأن
يمدهم منه بالمعونة، وأن لا يلجئهم إلى أنفسهم، وقد ابتدأهم
356

بفضله، فتزيغ قلوبهم، وذلك مضاف إليه جل وعز لأنه إذا تركهم
ولم يتول هدايتهم ضلوا، فكان سبب ذلك تخليته إياهم.
قال: وقول جامع القلوب لله جل وعز يصرفها كيف
يشاء.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " يا مقلب
القلوب ثبت قلبي على دينك ".
11 - وقوله عز وجل: * (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن
الله لا يخلف الميعاد) * [آية 9].
قال ابن كيسان: * (لا ريب فيه) * أي دليله قائم في أنفس
357

العباد، وإن جحدوا به، لإقرارهم بالحياة الأولى: ولم يكونوا قبلها
شيئا، فإذا عرفوا الإعادة فهي لهم لازمة بأن يقروا بها، وأن لا يشكوا
فيها، لأن إنشاء ما لم يكن، مبين بأن المنشء على الإعادة قادر.
ومن حسن ما قيل فيه: أن يوم القيامة لا ريب فيه، لأنهم إذا
شاهدوه، وعاينوا ما وعدوا فيه، لم يجز أن يداخلهم ريب فيه.
12 - ثم قال جل وعز: * (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم
ولا أولادهم من الله شيئا) * [آية 10].
وذلك أن قوما قالوا " شغلتنا أموالنا وأهلونا ".
13 - ثم قال تعالى: * (وأولئك هم وقود النار) * [آية 10].
أي هم بمنزلة الحطب في النار.
358

14 - ثم قال تعالى * (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا
فأخذهم الله بذنوبهم) * [آية 11].
قال الضحاك: كفعل آل فرعون.
قال أبو جعفر: وكذلك هو في اللغة، ويقال: دأب
يدأب: إذا اجتهد في فعله، فيجوز أن تكون الكاف معلقة
بقوله: * (وقود النار) * أي عذبوا تعذيبا كما عذب آل فرعون.
وتجوز أن تكون معلقة بقوله (لن تغني عنهم).
ويجوز أن تكون معلقة بقوله (فأخذهم الله بذنوبهم).
قال ابن كيسان: ويحتمل - على بعد - أن تكون معلقة
(يكذبوا) ويكون في (كذبوا) ضمير الكافرين، لا ضمير آل
فرعون.
359

قال أبو إسحاق: المعنى: اجتهادهم في كفرهم، هو
كاجتهاد آل فرعون، والكاف في موضع رفع أي دأبهم مثل دأب
آل فرعون.
15 - ثم قال جل وعز: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى
جهنم وبئس المهاد) * [آية 12].
قال ابن كيسان: * (ستغلبون) * أي قل لهم هذا، وبالياء
لأنهم في وقت الخطاب غيب.
ويحتمل أن يكون الذين أمره أن يبلغهم غير المغلوبين.
وقد قيل: إنه أمر أن يقول لليهود: سيغلب المشركون.
360

16 - ثم قال عز وجل: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا، فئة تقاتل
في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين..) *
[آية 13].
والمعنى: قد كان لكم علامة من أعلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه
أنبأهم بما لم يكن.
والفئة: الفرقة، من قولهم: فأوت رأسه بالسيف، وفأيته
أي فلقته.
قرأ أبو عبد الرحمن: * (ترونهم مثليهم) * بضم التاء.
وروى علي ابن أبي طلحة * (يرونهم) * بضم الياء.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله جل وعز (قد كان
361

لكم آية في فئتين التقتا)
قال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومشركو بدر.
وأنكر أبو عمرو أن يقرأ " ترونهم " بالتاء، قال: ولو
كان كذلك لكان " مثليكم ".
قال أبو جعفر: وذا لا يلزم، ولكن يجوز أن يكون مثلي
أصحابكم.
قال ابن كيسان: الهاء والميم في " ترونهم " عائدة إلى
* (وأخرى كافرة) * والهاء والميم في " مثليهم " عائدة إلى * (فئة
تقاتل في سبيل الله) * وهذا من الإضمار الذي يدل عليه سياق
الكلام، وهو قوله (والله يؤيد بنصره من يشاء) فدل عل أن
الكافرين كانوا مثلي المسلمين في رأي العين، وكانوا ثلاثة أمثالهم في
العدد.
قال: والرؤية ها هنا لليهود.
362

قال: ومن قال " يرونهم " بالياء جعل الرؤية للمسلمين،
يرون المشركين مثليهم، وكان المسلمون يوم بدر ثلاثمائة وأربعة عشر،
والمشركون تسع مائة وخمسين، فأري المسلمون المشركين ضعفهم،
وقد وعدوهم أن الرجل منهم يغلب الرجلين من المشركين فكانت تلك
آية، أن يروا أي الشيء على خلاف صورته، كما قال تعالى * (وإذ
يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، ويقللكم في أعينهم،
ليقضي الله أمرا كان مفعولا..) *.
قال ابن إسحاق: ليؤلف بينهم على الحرب، للنقمة ممن
363

أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه، من أهل
ولايته.
قال الفراء: يحتمل " مثليهم " ثلاثة أمثالهم.
قال أبو إسحاق: وهذا باب الغلط فيه غلط " بين " في
جميع المقاييس، لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له، ونعقل مثليه ما
يساوي مرتين.
قال ابن كيسان الأزدي: كيف يقع المثلان موقع ثلاثة
أمثال؟ إلا أني أحسبه جعل * (ترونهم) * راجعة إلى الكل، ثم
جعل المثلين مضافا إلى نصفهم، على معادلة الكافرين المؤمنين، أي
يرون الكل مثليهم، لو كان الفريقان معتدلين.
364

قال: والراءون ثنا هاهنا: اليهود، وقد بين الفراء قوله بأن قول: كما
تقول: وعندك عبد، أحتاج إلى مثليه، فأنت محتاج إلى ثلاثة.
وكذلك عنده إذا قلت: معي درهم، وأحتاج إلى مثليه،
فأنت تحتاج إلى ثلاثة، مثليه والدرهم، لأنك لا تريد أن يذهب
الدرهم.
والمعنى يدل على خلاف ما قال، وكذلك اللغة.
فإنهم إذا رأوهم على هيأتهم، فليس في هذه آية، واللغة على
خلاف هذا، لأنه قد عرف بالتميز معنى المثل.
والذي أوقع الفراء في هذا، أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال
المؤمنين يوم بدر، فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عادتهم،
فتأول أنك إذا قلت: عندي درهم، وأحتاج إلى مثله، والدرهم
بحاله فقد صرت تحتاج إلى درهمين، وهذا بين، وليس المعنى
عليه، وإنما أراهم الله إياهم على غير عدتهم، لجهتين:
365

إحداهما: أنه رأى الصلاح في ذلك، لأن المؤمنين تقوى
قلوبهم بذلك.
والأخرى: أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم.
17 - وقوله جل وعز: * (زين للناس حب الشهوات من النساء،
والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة..) *
[آية 14].
قيل: لما كانت معجبة، كانت كأنها قد زينت.
وقيل: زينها الشيطان.
366

* (والقناطير المقنطرة) * القنطار في كلام العرب: الشيء
الكثير، مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه، والقنطرة من ذلك،
و " مقنطرة " أي مكملة، كما تقول: آلاف مؤلفة.
18 - ثم قال جل وعز: * (والخيل المسمومة والأنعام، والحرث..) *
[آية 14].
" الخيل المسمومة " قال مجاهد: الحسنة.
وقال سعيد بن جبير: الراعية.
وقال أبو عبيدة والكسائي: قد تكون المسومة المعلمة.
قال أبو جعفر: قول مجاهد حسن، من قولهم: رجل وسيم،
وقول سعيد بن جبير لا يمتنع، من قولهم: سامت تسوم،
وأسمتها وسومتها أي رعيتها، وقد تكون راعية حسانا معلمة
لتعرف من غيرها.
وقال أبو زيد: أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة،
367

أو علامة تخالف سائر جسدها، لتبين من غيرها في المرعى.
والأنعام: الإبل، والبقر، والغنم، والحرث: الزرع.
وقوله تعالى: * (والله عنده حسن المآب) * أي المرجع
19 - ثم قال عز وجل: * (للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها، وأزواج مطهرة..) * [آية 15].
* (وأزواج مطهرة) * أي من الأدناس والحيض.
20 - ثم قال تعالى * (الصابرين، والصادقين، والقانتين، والمنفقين،
والمستغفرين بالأسحار.) * [آية 17].
قيل " الصابرون ": الصائمون، ويقال في شهر رمضان:
شهر الصبر.
والصحيح: أن الصابر هو الذي يصبر عن المعاصي.
368

و " القانتون لله ": المصلون، و " المنفقون " المتصدقون.
21 - ثم قال عز وجل: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو
العلم..) * [آية 18].
قال أبو عبيدة: شهد: معناه قضى أي أعلم.
قال أبو جعفر: قال أبو إسحاق: وحقيقة هذا أن الشاهد هو
الذي يعلم الشيء ويبنيه، فقد دلنا الله عز وجل بما خلق وبين على
وحدانيته.
وقرأ الكسائي بفتح " أن " في قوله * (أنه لا إله إلا هو) *
وفي قوله سبحانه * (أن الدين عند الله الإسلام) *.
369

قال أبو العباس " محمد بن يزيد ": التقدير على هذه
القراءة: أن الدين عند الله الإسلام، بأنه لا إله إلا هو، ثم حذفت
الباء، وأنشد سيبويه:
- أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *
فقد تركتك ذا مال وذا نشب -
المعنى: أي أمرتك بالخير.
قال الكسائي: انصبهما جميعا، بمعنى شهد الله أنه كذا،
وأن الدين عند الله الإسلام. ويكون أيضا بمعنى شهد الله أنه لا
إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام.
قال ابن كيسان: " أن " الثانية بدل من الأولى، لأن الإسلام
تفسيره المعنى الذي هو التوحيد:
وقرأ ابن عباس فيما حكى الكسائي: (شهد الله إنه لا إله
370

إلا هو).
وقرأ (أن الدين عند الله الإسلام) والتقدير على هذه
القراءة: شهد الله أن الدين الإسلام، ثم ابتدأ فقال: إنه لا إله
إلا هو.
وروي عن محارب ابن دثار، عن عمه أبي المهلب، أنه
قرأ - وكان قارئا - * (شهداء لله) *.
وقوله تعالى: (قائما بالقسط) يعني بالعدل.
22 - ثم قال جل وعز * (إن الدين عند الله الإسلام..) * [آية 19].
الإسلام في اللغة: الخضوع والانقياد، ومنه استسلم
الرجل.
فمعنى أسلم: خضع، وقبل ما جاء به محمد صلى الله عليه
وسلم.
371

وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بني الإسلام
على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وايتاء
الزكاة، وحج البيت، وصوم شهر رمضان ".
23 - وقوله عز وجل: * (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع
الحساب) * [آية 19].
في الآية قولان:
أحدهما: أن المعنى إن الحساب قريب، كما قال تعالى:
(وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب).
والقول الآخر أن محاسبته سريعة لأنه عالم بما عمل
عباده لا يحتاج أن يفكر في شيء منه.
372

24 - وقوله عز وجل: * (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن
اتبعن) * [آية 20].
أمره الله أن يحتج عليهم بأنه متبع أمر من هم مقرون به،
لأنهم مقرون بأن الله عز وجل، خالقهم فأمروا أن يعبدوا من خلقهم
وحده.
ومعنى * (أسلمت وجهي لله) *: أسلمت نفسي لله، كما قال
تعالى: * (ويبقى وجه ربك) * أي ويبقى ربك.
25 - وقوله عز وجل: * (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين) *
[آية 20].
373

الذين أوتوا الكتاب " اليهود " و " النصارى " والأميون: مشركو
العرب، كأنهم نسبوا إلى الأم لأنهم بمنزلة المولود في أنهم
لا يكتبون.
وقيل: هم منسبون إلى أم القرى وهي مكة.
26 - وقوله عز وجل: * (أأسلمتم) * قيل معناه: أسلموا، وحقيقته أنه
على التهديد، كما تقول للرجل: أأفلت مني؟
27 - ثم قال تعالى: * (فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك
البلاغ) * [آية 20].
ونسخ هذا بالأمر بالقتال.
374

ثم قال تعالى: * (والله بصير بالعباد) * أي بصير بما يقطع
عذرهم.
28 - وقوله عز وجل: * (إن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون
النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس،
فبشرهم بعذاب أليم) * [آية 21].
قال معقل بن أبي مسكين: " كانت الأنبياء صلوات الله
عليهم تجيء إلى بني إسرائيل بغير كتاب فيقتلونهم فيقوم قوم ممن
اتبعهم، فيأمرون بالقسط - أي بالعدل - فيقتلون.
فإن قال قائل: الذين وعظوا بهذا لم يقتلوا نبيا؟
فالجواب عن هذا: أنهم رضوا فعل من قتل فكانوا
بمنزلته، وأيضا فإنهم قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهموا بقتلهم،
كما
375

قال الله عز وجل * (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو
يقتلوك) *.
29 - ثم قال الله عز وجل * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من
الكتاب) * [آية 23].
أي حظا وافرا * (يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم) *.
وقرأ أبو جعفر " يزيد بن القعقاع " * (ليحكم بينهم) *
والقراءة الأولى أحسن، كقوله * (هذا كتابنا ينطق عليكم
بالحق) *.
376

30 - وقوله عز وجل: * (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما
معدودات) * (آية 24).
روي أنهم قالوا: إنما نعذب أربعين يوما، وهي الأيام التي
عبد فيها آباؤنا العجل، فأخبر الله عز وجل أن هذا افتراء منهم
وكذب، فقال تعالى: * (وغرهم قي دينهم ما كانوا يفترون) * أي
يختلفون من الكذب، كأنهم يسوون ما لم يكن، من فريت
الشيء قال زهير:
- ولأنت تفري ما خلقت *
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري -
31 - وقوله عز وجل * (فكيف إذا جمعنا هم ليوم لا ريب فيه) *
[آية 25)
377

في الكلام حذف
والمعنى: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم " ليوم لا ريب
فيه " أي لاشك فيه أنه كائن؟
32 - وقوله عز وجل * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء
وتنزع الملك ممن تشاء..) * [آية 26].
قيل: الملك ها هنا النبوة.
وقيل: هو المال والعبيد.
وقيل: هو الغلبة.
وقال قتادة: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله عز وجل أن
يعطي أمته ملك فارس، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
378

ومعنى * (تؤتى الملك من تشاء) * أي من تشاء أن تؤتيه
* (وتنزع الملك ممن تشاء) * أي ممن تشاء أن تنزعه منه، ثم
حذف هذا، وأنشد سيبويه:
الأهل لهذا الدهر من متعلعل *
على الناس، مهما شاء بالناس يفعل
قال أبو إسحاق المعنى: مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل.
33 - وقوله عز وجل: * (وتعز من تشاء وتذل من تشاء..) * [آية 26].
يقال: عز إذا غلب، وذل يذل ذلا: إذا غلب وقهر، قال
طرفة:
- بطيء على الجلي سريع إلى الخنا *
ذليل بإجماع الرجال ملهد -
379

34 - وقوله عز وجل * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في
الليل..) * [آية 27).
قال عبد الله بن مسعود: هو قصره في الشتاء، والصيف،
فالمعنى على هذا:
تنقص من الليل وتدخل النقصان في النهار، وتنقص من
النهار وتدخل النقصان في الليل.
يقال: ولج، يلج ولوجا، ولجة: إذا دخل، قال
الراجز:
" متخذا في ضعوات ابن تولجا "
380

35 - وقوله عز وجل: * (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من
الحي..) * * (آية 27].
قال سلمان: أي تخرج المؤمن من الكافر، والكافر من
المؤمن.
وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك
وهذا معنى قولهم: تخرج النطفة وهي ميتة، من الرجل وهو حي،
وتخرج الرجل وهو حي، من النطفة وهي ميتة.
381

36 - ثم قال تعالى: * (وترزق من تشاء بغير حساب) * [آية 27].
أي يغير تضيق ولا تقتير، كما تقول: فلان يعطي بغير
حساب، كأنه لا يحسب ما يعطي.
37 - وقوله عز وجل: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين..) * [آية 28].
أي لا يتولوهم في الدنيا، لأن المنافقين أظهروا الإيمان، وعاضدوا
الكفار فقال الله عز وجل * (ومن يتولهم منكم فإنه
منهم) *.
وقال: * (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن
تتقوا منهم تقاة..) * [آية 82].
382

قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه، ولا يقتل، ولا يأتي
إنما، ويكون قلبه مطمئنا بالإيمان.
وقرأ جابر بن زيد ومجاهد وحميد والضحاك (إلا أن تتقوا
منهم تقية).
وقال الضحاك: التقية باللسان، والمعنى عند أكثر أهل
اللغة واحد.
وروى عوف عن الحسن قال: التقية جائزة للمسلم إلى يوم
القيامة غير أنه لا يجعل في القتل تقية.
ومعنى * (فليس من الله شيء..) * فليس من حزب
الله.
وحكى سيبويه: هو منى فرسخين أي من أصحابي.
ومعنى * (من دون المؤمنين) * من مكان دون مكان
383

المؤمنين، وهو مكان الكافرين.
38 - * (ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) * [آية 28].
أي يحذركم إياه.
39 - وقوله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم
الله..) * [آية 31].
والمحبة في كلام العرب على ضروب: منها الحبة في الذات،
والمحبة من الله لعباده: المغفرة، والرحمة، والثناء عليها، والمحبة من
عباده له: القصد لطاعته، والرضا لشرائعه.
40 - وقوله تعالى: * (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله
لا يحب الكافرين) * [آية 32].
المعنى: لا يحبهم، ثم أعاد الذكر، وكذلك " فإن الله " ولم
يقل: فإنه. والعرب إذا عظمت الشيء أعادت ذكره، وأنشد
سيبويه:
384

لا أرى الموت يسبق الموت شيء *
نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
41 - وقوله عز وجل: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل
عمران على العالمين) * [آية 33].
قال أهل التفسير: المعنى على عالم أهل زمانهم، ومعنى
(اصطفى) اختار وهذا تمثيل لأن الشيء الصافي هو النقي من
الكدر، فصفوة الله عز وجل هم: الأنقياء ذلك من الدنس، ذوو
الخير والفضل.
42 - وقوله عز وجل: * (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما
في بطني محررا) [آية 35].
روى خصيف عن مجاهد وعكرمة، أن المحرر: الخالص لله
385

عز وجل، لا يشوبه شيء من أمر الدنيا.
وهذا معروف في اللغة، أن يقال لكل ما خلص: حر.
ومحرر بمعناه، قال ذو الرمة:
- والقرط في حرة الذفرى معلقة *
تباعد الحبل منه فهو يضطرب -
43 - وقوله عز وجل: * (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها
أنثى..) * [آية 36].
قال ابن عباس: إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر
إلا الذكور، فقبل الله مريم.
386

44 - ثم قال تعالى: * (والله أعلم بما وضعت وليس الذكر
كالأنثى..) * [آية 36].
في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: قالت ربي إني وضعتها
أنثى، وليس الذكر كالأنثى، فقال الله عز وجل * (والله أعلم بما
وضعت) *
وقرأ أبو الرجاء، وإبراهيم النخعي، وعاصم * (والله أعلم
بما وضعت) *
فعلى هذه القراءة، ليس في الكلام تقديم ولا تأخير.
45 - وقوله تعالى: * (وكفلها زكريا) * [آية 37].
قال قتادة: كانت مريم بنت عمران: إمامهم وسيدهم -
387

فقارعوا عليها سهامهم، فخرج سهم " زكريا " فكفلها أي ضمها
إليه.
وفي الحديث " كافل اليتيم له كذا ".
وقال الحسن: قبلها وتحملها.
وقال أبو عبيدة: معنى " كفلها " ضمها، أو ضمن
القيام بها.
46 - وقوله تعالى: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها
رزقا..) * [آية 37].
المحراب في اللغة: المكان العالي، ويستعمل لأشرف
المواضع، وإن لم يكن عاليا، إلا أنه روي أن زكريا كان يصعد
إليها بسلم.
388

ومعنى * (وجد عندها رزقا) * على قول مجاهد: وجد
عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.
47 - وقوله تعالى: * (قال يا مريم أنى لك هذا) *؟
قال أبو عبيدة: المعنى من أين لك؟
وهذا القول فيه تساهل لأن " أين " سؤال عن المواضع
و " أنى " سؤال عن المذاهب والجهات، والمعنى: من أي المذاهب
ومن أي الجهات لك هذا؟ وقد فرق الكميت بينهما فقال:
- " أنى " ومن " أين " آبك الطرب *
من حيث لا صبوة ولا ريب -
389

* (قالت هو من عند الله) * من قبل الله.
* (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) * أي بغير تقتير.
48 - وقوله تعالى: * (فنادته الملائكة..) * [آية 39].
روي أن جبريل صلى الله عليه وسلم هو الذي ناده وحده.
وهذا لا يمتنع في اللغة، كما تقول: ركب فلان السفن، وإنما
ركب سفينة واحدة، أي ركب هذا الجنس.
49 - وقوله تعالى: * (مصدقا بكلمة من الله..) * [آية 39].
قال ابن عباس: صدق بعيسى.
وقال الضحاك: بشر بعيسى.
ومعنى " بشرته " أظهرت في بشرته السرور.
390

فإن قيل: فما معنى تسميه " عيسى " بالكلمة، ففي هذا
أقوال:
أحدهما: أنه لما قال له الله عز وجل " كن " فكان سماه
بالكلمة، فالمعنى على هذا: ذو كلمة الله كما قال تعالى
* (واسأل القرية) *.
وقيل: سمي بهذا كما يقال: عبد الله، وألقاها على
اللفظ.
وقيل: لما كانت الأنبياء قد بشرت به، وأعلمت أنه يكون
من غير فحل، وبشر الله مريم به كما قال (إنما أنا رسول ربك
لأهب لك غلاما زكيا) فلما ولدته على الصفة التي وصف بها
391

قال الله عز وجل: هذه كلمتي، كما تخبر الرجل بالشيء، أو تعده
به، فإذا كان، قلت: هذا مولي، وهذا كلامي.
والعرب تسمي الكلام الكثير، والكلمة الواحدة كلمة، كما
روي أن الحويدرة ذكر لحسان فقال: " لعن الله كلمته تلك " يعني
قصيدته.
وقيل: سمي كلمة لأن الناس يهتدون به، كما يهتدون
بالكلمة.
50 - وقوله تعالى: * (وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) *
[آية 39].
قال سعيد بن جبير والضحاك: السيد: الحليم.
392

وقيل: الرئيس.
وروى يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب أنه قرأ
* (وسيدا وحصورا) * فأخذ من الأرض شيئا، ثم قال: الحصور،
الذي لا يأتي النساء.
393

يقال: حصر إذا منع، ف‍ " حصور " بمعنى محصور، وكأنه
منع مما يكون في الرجال.
و " فعول " بمعنى " مفعول " كثير في كلام العرب، من ذلك
" حلوب " بمعنى محلوبة، قال الشاعر:
- فيها اثنتان وأربعون حلوبة *
سواد كخافية الغراب الأسحم -
ويقال: حصرت الرجل: إذا حسبته، وأحصر المرض: إذا منعه
من السير، والحصير من هذا سمي، لأن بعضه حبس على بعض.
وقيل: هو الحابس نفسه عن معاصي الله عز وجل.
394

وقال ابن عباس: الذي لا ينزل.
51 - وقوله تعالى: * (قال رب أنى يكون لي غلام، وقد بلغني الكبر
وامرأتي عاقرا) *؟ [آية 40].
يقال: كيف استنكر هذا وهو نبي، يعلم أن الله يفعل
ما يريد؟
ففي هذا جوابان:
أحدهما: أن المعنى: بأي منزلة استوجبت هذا؟ على
التواضع لله.
وكذلك قيل في قول مريم: * (أنى يكون لي ولد ولم
يمسسني بشر) *؟
والجواب الآخر: أن زكريا أراد أن يعلم هل يرد شابا؟ وهل ترد
امرأته؟ وهل يرزقهما الله ولدا من غير رد؟ أو من غيرها؟
فأعلمهم الله عز وجل أنه يرزقهما ولدا من غير رد، فقال
395

عز وجل: * (كذلك يفعل الله ما يشاء) *.
ويقال: عقرت المرأة: إذا لم تحمل، وعقر الرجل: إذا لم
يولد له، والذكر والأنثى عاقر.
52 - وقوله تعالى: * (قال رب اجعل لي آية..) *. [آية 41].
أي علامة.
* (قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) *.
قال قتادة: إنما عوقب بهذا، لأنه طلب الآية بعد مشافهة
الملائكة إياه بالبشارة.
وقال مجاهد: الرمز: تحرك الشفتين.
وقال الضحاك: الرمز: تحريك اليدين والرأس.
396

والرمز في اللغة: الإشارة كانت بيد، أو رأس،
أو حاجب، أو فم، يقال: رمز أي أشار، ومنه سميت
الفاجرة: رامزة، ورمازة، لأنها توميء ولا تعلن.
53 - ثم قال تعالى: * (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار) *.
[آية 41].
وقرئ " الأبكار " وهو جمع بكر، ويقال: بكر،
وبكر، وابتكر، وأبكر إذا جاء في أول الوقت، ومنه سميت
" الباكورة ".
ويقال: أبكر إذا خرج من بين مطلع الفجر، إلى وقت
الضحى.
والعشي: من حين نزول الشمس إلى أن تغيب، وهو
397

معنى قول مجاهد.
54 - وقوله تعالى: * (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك) *
[آية 42].
أي اختارك * (وطهرك) * من الأدناس، وقيل: من الحيض
* (واصطفاك على نساء العالمين) *.
فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى على أهل زمانها.
والقول الآخر على جميع النساء بعيسى.
فليس مولود ولد من غير ذكر إلا عيسى عليه السلام.
55 - وقوله تعالى: * (يا مريم اقنتي لربك) * [آية 43].
قيل: القنوت ها هنا القيام، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل " ما أفضل
الصلاة؟ فقال: طول القنوت " أي طول القيام، وسمي الدعاء
398

قنوتا، لأنه يدعى به في القيام.
وروى عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن
أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلى الله عليه وسلم كل حرف ذكره الله
في القرآن من القنوت، فهو الطاعة ".
56 - ثم قال تعالى: * (واسجدي واركعي مع الراكعين) * [آية 43].
فبدأ بالسجود قبل الركوع، وفي هذا جوابان:
أحدهما: أن في شريعتهم السجود قبل الركوع.
والقول الآخر: أن الواو تدل على الاجتماع، فإذا قلت:
قام زيد وعمر، جاز أن يكون عمرو قبل زيد، فعلى هذا يكون
المعنى: واركعي واسجدي، ولهذا أجاز النحويون قام وزيد عمرو
399

وأنشدوا:
- ألا يا نخلة من ذات عرق *
عليك - ورحمة الله - السلام -
57 - وقوله تعالى: * (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك..) *
[آية 44].
أي من أخبار ما غاب عنك.
ثم قال تعالى * (وما كنت لديهم إذ يلقون
أقلامهم) * [آية 44].
* (لديهم) * معناه: عندهم، قيل: الأقلام: السهام
يتقارعون بها، وسمي السهم قلما لأنه يقلم أي يبرى.
58 - ثم قال تعالى: * (أيهم يكفل مريم) *؟ أي لينظروا أيهم تجب له
كفالة مريم؟
وفي الكلام حذف، أي إذ يختصمون فيها أيهم أحق بها؟
400

59 - وقوله تعالى: * (وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين) *
[آية 45].
الوجيه: الذي له القدر، والمنزلة الرفيعة، يقال: لفلان
جاه، وجاهة، وقد وجه، يوجه، وجاهة.
60 - وقوله تعالى * (ويكلم الناس في المهد، وكهلا، ومن
الصالحين) * [آية 46].
يقال: اكتهل النبت: إذا تم، والكهل: ابن الأربعين،
أو ما قاربها.
وقال يزيد بن أبي حبيب: الكهل: منتهى الحلم.
والفائدة في قوله تعالى * (وكهلا) * أنه خبرها أنه يعيش إلى
أن يصير كهلا.
401

61 - وقوله تعالى: * (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة
والإنجيل..) * [آية 48].
قيل: يعني إلهاما.
62 - وقوله تعالى: * (وأبرئ الأكمة والأبرص وأحي الموتى بإذن
الله) * [آية 49].
* (الأكمة) *: قال مجاهد: هو الذي يبصر النهار، ولا يبصر
بالليل، فهو يتكمه.
قال الكسائي: يقال: كمه، يكمه، كمها.
وقال الضحاك: هو الأعمى.
قال أبو عبيدة: هو الذي يولد أعمى، وأنشد لرؤبة:
402

" هرجت فارتد ارتداد الأكمة "
قال أبو عبيدة: في قوله تعالى: * (ولأحل لكم بعض
الذي حرم عليكم) * [آية 50].
يجوز أن يكون معنى الكل، وأنشد للبيد:
- تراك أمكنه إذا لم أرضها *
أو يرتبط بعض النفوس حمامها -
وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة، لأن البعض
والجزء لا يكونان بمعنى الكل.
وقال أبو العباس: معنى " أو يرتبط بعض النفوس "
403

أو يرتبط نفسي، كما يقول: " بعضنا يعرفه " أي: أنا أعرفه، ومعنى
الآية على بعض، لأن عيسى صلى الله عليه وسلم إنما أحل لهم أشياء مما حرمها
عليهم موسى، من أكل الشحوم وغيرها، ولم يحل لهم القتل، ولا
السرقة ولا الفاحشة.
والدليل على هذا أنه روي عن قتادة أنه قال: " جاءهم عيسى بألين
مما جاء به موسى صلى الله عليهما، لأن موسى جاءهم بتحريم
الإبل، وأشياء من الشحوم، فجاءهم عيسى بتحليل بعضها.
63 - وقوله تعالى: * (فاعبدوه هذا صراط مستقيم) * أي هذا طريق
واضح.
64 - وقوله تعالى: * (فلما أحس عيسى منهم الكفر) * [آية 52].
404

قال أبو عبيدة: * (أحس) * بمعنى عرف * (قال من أنصاري
إلى الله) *.
قال سفيان: أي مع الله، وقد قال هذا بعض أهل اللغة،
وذهبوا إلى أن حروف الخفض يبدل بعضها من بعض، واحتجوا بقوله
تعالى * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) * قالوا معنى " في "
معنى " على ".
وهذا القول عند أهل النظر لا يصح لأن لكل حرف
معناه، وإنما يتفق الحرفان لتقارب المعنى، فقوله تعالى:
* (ولأصلبنكم في جذوع النخل) *.
كان الجذع مشتملا على من صلب، ولهذا دخلت " في " لأنه قد
صار بمنزلة الظرف.
ومعنى * (من أنصاري إلى الله) *؟ من يضم نصرته إياي،
إلى نصرة الله عز وجل؟!.
405

65 - ثم قال تعالى: * (قال الحواريون نحن أنصار الله) * [آية 52].
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس إنه إنما سموا
" حواريين " لبياض ثيابهم، وكانوا صيادين.
وقال ابن أرطاة: إنما كانوا غسالين - يحورون الثياب أي
يغسلونها.
وقال أهل اللغة: الحواريون: صفوة الأنبياء وهم
المخلصون.
وروى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الزبير ابن
عمتي وحواري من أمتي " أي صفوتي، ومنه قيل: عن حوراء إذا
406

اشتد بياضها وسوادها، وامرأة حوراء إذا خلص بياضها مع حور
العين،
ومنه قيل لنساء الأنصار: حواريات لنظافتهن، وقال
أبو جلدة اليشكري:
- فقل للحواريات يبكين غيرنا *
ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح -
ومنه الحوري.
66 - وقوله تعالى * (فاكتبنا مع الشاهدين) * [آية 53].
أي مع الشاهدين لرسولك بالتصديق.
وروى إسرائيل، عن سماك بن عكرمة، عن ابن عباس
* (فاكتبنا مع الشاهدين) *.
407

قال: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، شهدوا له أنه قد بلغ، وشهدوا
للرسل أنهم قد بلغوا.
67 - وقوله عز وجل: * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) *
[آية 54].
هذا راجع إلى قوله تعالى * (فلما أحس عيسى منهم
الكفر) *.
والمكر من الخلائق خب، ومن الله مجازاة، كما قال تعالى
* (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *.
68 - وقوله عز وجل: * (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك،
ورافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا..) * [آية 55].
في الآية قولان:
أحدهما: أن المعنى: إني رافعك إلي، ومطهرك من الذين
408

كفروا، ومتوفيك.
وهذا جائز في الواو، لأنه قد عرف المعنى، وأنه لم يمت
بعد.
والقول الآخر: أن يكون معنى " متوفيك ": قابضك من غير
موت، مثل توفيت مالي من فلان أي قبضته كما قال جل وعز:
* (الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في
منامها) *.
وقال الربيع بن أنس: يعني وفاة المنام، رفعه الله عز وجل
في منامه.
409

وقال مطر الوراق: * (متوفيك ورافعك) * واحدة ولم
يمت بعد.
وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس * (متوفيك) * أي
مميتك.
ثم قال وهب: توفاه الله ثلاث ساعات من النهار.
و " محمد بن جرير " يميل إلى قول من قال إني قابضك
من الأرض بغير موت، ورافعك إلي لما، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم
" ليهبطن عيسى بن مريم إلى الأرض ".
69 - ثم قال تعالى: * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم
القيامة) * [آية 55].
410

قال قتادة: يعني المسلمين، لأنهم اتبعوه، فلا يزالون
ظاهرين إلى يوم القيامة.
وقال غيره: الذين اتبعوه محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمون، لأن دينهم
التوحيد، كما كان التوحيد دين عيسى صلى الله عليه وسلم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أنا أولى الناس بابن
مريم ".
وروى يونس بن ميسرة بن حلبس عن معاوية عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه: " قال لن تبرح طائفة من أمتي، يقاتلون على
الحق، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " ونزع بهذه الآية
* (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا،
411

وجاعل الذين اتبعوك) * يا محمد * (فوق الذين كفروا إلى يوم
القيامة) *.
70 - ثم قال تعالى: * (إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه
تختلفون) * [آية 55].
أي فأفصل بينكم، وتقع المجازاة عليه، لأنه قد بين لهم في
الدنيا.
71 - ثم قال تعالى: * (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في
الدنيا والآخرة) * [آية 56].
عذابهم في الدنيا: القتل، والأسر، واخذ الجزية.
وفي الآخرة: النار وما لهم من ناصرين، لأن المسلمين عالون
عليهم ظاهرون..
412

72 - وقوله تعالى: * (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) *
[آية 58].
أي من العلامات، التي لا تعرف إلا بوحي، أو بقراءة
كتاب، ومعنى " الحكيم " ذو الحكمة.
73 - وقوله تعالى: * (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) *
[آية 60].
الممترون: الشاكون.
فإن قيل: كيف خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا؟.
فعلى هذا جوابان:
أحدهما: أن المعنى: يا محمد قل للشاك: هذا الحق من
ربك فلا تكن من الممترين.
413

والقول الآخر: أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لجميع
الناس فالمعنى على هذا: فلا تكونوا من الممترين، ويقوي هذا قوله
عز وجل: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) *.
74 - وقوله تعالى: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم،
فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم وأنفسنا
وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) *
[آية 61].
قيل: يعني بالأنفس هاهنا أهل دينهم، كما قال تعالى
* (فسلموا على أنفسكم) *.
414

وقال تعالى: * (فاقتلوا أنفسكم) * وأصل الابتهال في اللغة
الإجتهاد، ومنه قول البيد:
- في كهول سادة من قومه *
نظر الدهر إليهم فابتهل -
أي اجتهد في هلاكهم، فمعنى الآية: ثم نجتهد في الدعاء
بالعنة.
وروي أن قوما من النصارى من أهل نجران أتوا النبي صلى الله عليه وسلم
فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: قد كنا مسلمين مثلك، فقال:
كذبتم، يمنعكم من الإسلام ثلاث: قولكم اتخذ ولدا، وأكلكم لحم
الخنزير، وسجودكم للصليب، فقالوا: من أبو عيسى؟ فأنزل الله
عز وجل * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) *
415

إلى قوله * (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * فدعاهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى الالتعان، فقال بعضهم لبعض: إن فعلتم اضطرم الوادي
عليكم نارا.
فقالوا: أما تعرض علينا سوى هذا؟ فقال: الإسلام أو الجزية
أو الحرب، فأقروا بالجزية.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " لو خرجوا للابتهال
لرجعوا لا يرون أهلا ولا ولدا ".
75 - وقوله تعالى: * (إن هذا لهو القصص الحق) * [آية 62].
أي إن هذا الذي أوحينا إليك لهو القصص الحق * (وما
من إله إلا الله) *
" من " زائدة للتوكيد، والمعنى: وما إله إلا الله العزيز
416

الحكيم، ومعنى " العزيز " الذي لا يغلب، و " الحكيم " ذو
الحكمة.
76 - ثم قال تعالى: * (فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين) *
[آية 63].
أي عليم بمن يفسد عباده، وإذا علم ذلك جازى عليه.
77 - وقوله تعالى: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم..) * [آية 64].
معنى " كلمة " قصة فيها شرح، ثم بين الكلمة بقوله
* (ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا
من دون الله) *
السواء: النصفة، قال زهير:
417

- أروني خطة لا ضيم فيها *
يسوى بيننا فيها السواء -
78 - وقوله تعالى: * (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت
التوراة والإنجيل إلا من بعده) * [آية 65].
لأن اليهود قالوا: كان إبراهيم منا، وقالت النصارى كان منا،
فأعلم الله أن اليهودية والنصرانية كانتا بعد إبراهيم عليه السلام، وأن
دين إبراهيم الإسلام، لأن الإسلام هو التوحيد، فهو دين جميع
الأنبياء.
79 - ثم قال تعالى: * (ولكن كان حنيفا مسلما) * [آية 67].
418

والحنف في اللغة: إقبال صدر القدم على الأخرى، إذا كان
ذلك خلقه.
فمعنى الحنيف المائل إلى الإسلام على حقيقته.
80 - وقوله عز وجل: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا
النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) * [آية 68].
والمعنى: والنبي والذين آمنوا أولى بإبراهيم، ويعني بالنبي محمد
صلى الله عليه وسلم.
ومعنى * (والله ولي المؤمنين) * ناصرهم.
81 - ثم قال تعالى: * (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) *
[آية 69].
وكلهم كذا، وإنما " من " هاهنا لبيان الجنس، وقد
419

قيل: إن " طائفة " بعضهم.
82 - وقوله تعالى: * (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم
تشهدون) * [آية 70].
أي وأنتم تشهدون بأنها حق، لأنكم كنتم تبشرون بالنبي صلى
الله عليه وسلم قبل أن يبعث؟.
83 - ثم قال تعالى: * (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل..) *
[آية 71].
أي لم تغطون؟
84 - وقوله تعالى: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل
على الذين آمنوا وجه النهار، واكفروا آخره لعلهم يرجعون) *
[آية 72].
الطائفة: الفرقة، ووجه النهار: أوله، قال الشاعر:
- وتضئ في وجه النهار منيرة *
كجمانة البحري سل نظامها -
420

قال قتادة: قال بعض اليهود: أظهروا لمحمد الرضا ما بما جاء به
أول النهار، ثم أنكروا ذاك في آخره، فإنه أجدر أن يتوهم أنكم إنما
فعلتم ذلك لشيء ظهرت لكم تنكرونه، وأجدر أن يرجع
أصحابه.
85 - وقوله تعالى: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم - قل إن الهدى
هدى الله - أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو يحاجوكم عند
ربكم، قل إن الفضل بيد الله يؤته من يشاء) * [آية 73].
قال محمد بن يزيد: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى:
ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو يحاجوكم
عند ربكم، قل إن الهدى هدى الله.
421

وقيل المعنى: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، إلا من
تبع دينكم، واللام زائدة.
والمعنى: ولا تصدقوا أن يؤتى أحد من علم رسالة النبي مثل
ما أوتيتم.
وقيل المعنى: قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما
أوتيتم، أي إن الهدى هدى الله وهو بعيد من الكفار.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وعيسى: * (أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) *
والمعنى ألأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.
وقرأ الأعمش: * (إن يؤتى لا أحد مثل ما أتيتم) * ومعنى: " إن "
معنى " ما " كما قال تعالى * (إن الكافرون إلا في غرور) *.
وقد زعم بعض النحويين إن هذا لحن، لأن قوله تعالى
422

* (يحاجوكم) * بغير نون، وكان يجب أن يكون " يحاجونكم " ولا عامل لها،
وهذا القول ليس بشيء لأن " أو " تضمر بعدها " أن " إذا كانت في معنى
حتى، و " إلا أن " كم قال الشاعر:
- فقلت له لا تبك عينك إنما *
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا -
وقيل: إن معنى * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) *
لا تصدقوا أن النبوة تكون إلا منكم، واستشهد صاحب هذا القول،
بأن مجاهدا قال في قوله عز وجل بعد هذا * (يختص برحمته من
يشاء) * أنه يعني النبوة.
86 - وقوله تعالى: * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده
إليك..) * [آية 75].
اختلف: في معنى القنطار، فروي عن ابن عباس والحسن
أنهما قالا: القنطار: ألف مثقال.
وقال أبو صالح وقتادة: القنطار مائة رطل.
423

وروى ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد قال: القنطار سبعون
ألف دينار.
وروى طلحة ابن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح المكي
قال: القنطار سبعة آلاف دينار.
والله أعلم بما أراد.
ومعنى " المقنطرة " في اللغة: المكملة، كما تقول ألف
مؤلفة.
87 - وقوله تعالى: * (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا
ما دمت عليه قائما..) * [آية 75].
أي مواظبا غير مقصر، كما تقول: فلان قائم بعمله.
424

قال سيبويه: دام بمعنى ثبت.
قال أبو جعفر: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن
البول في الماء الدائم " أي الساكن الثابت.
* (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) *
[آية 75].
قيل: إن اليهود، كانوا إذا بايعوا المسلمين، يقولون: ليس
علينا في ظلمهم حرج، لأنهم مخالفون لنا، ويعنون بالأميين
العرب.
نسبوا إلى ما عليه الأمة من قبل أن يتعلموا الكتابة.
وقيل: نسبوا إلى الأم، ومنه " النبي الأمي " وقيل هو
425

منسوب إلى أم القرى وهي مكة.
88 - وقوله تعالى: * (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب
المتقين) * [آية 76].
بلى رد لقولهم * (ليس علينا في الأميين سبيل) *.
89 - ثم قال تعالى: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا
قليلا، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) * [آية 77].
الخلاق: النصيب.
وروى عبد الله بن مسعود والأشعث بن قيس عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين فاجرة، ليقتطع
بها مال امريء مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان " ثم تلا رسول
الله صلى الله عليه وسلم * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم
ثمنا قليلا، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله) *
426

إلى آخر الآية.
وفي قوله (ولا يكلمهم الله) قولان:
أحدهما: أنه روي أن الله يسمع أولياءه كلامه.
والقول الآخر: أنه يغضب عليهم، كما تقول: فلان
لا يكلم فلانا.
ومعنى * (ولا يزكيهم) * ولا يثنى عليهم ولا يطهرهم * (ولهم
عذاب أليم) * أي مؤلم.
يقال: أألم إذا أوجع، فهو مؤلم، و " أليم " على التكثير.
90 - وقوله تعالى: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب..) *
[آية 78].
427

قال الشعبي: يلون: يحرفون.
وقال أهل اللغة: لويت الشيء إذا عدلته عن قصده، وحملته
على غير تأويله.
91 - وقوله جل وعز: * (ولكن كونوا ربانيين) * [آية 79].
قال سعيد بن جبير والضحاك: الرباني: الفقيه العالم.
وقال أبو رزين: هو العالم الحليم.
والألف والنون يأتي بهما العرب للمبالغة، نحو قولهم:
جماني للعظيم الجمة، وكذلك سكران أي ممتليء سكرا.
فمعنى الرباني: العالم بدين الرب، الذي يعمل بعلمه،
لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم.
428

وروي عن ابن الحنيفة أنه قال لما مات ابن عباس: " مات
رباني هذه الأمة ".
ومعنى (ولكن كونوا ربانيين) ولكن يقول: كونوا ربانيين،
ثم حذف لعلم السامع.
وقال ابن زيد: الربانيون: الولاة، والأحبار: العلماء.
وقال مجاهد: الربانيون فوق الأحبار.
قال أبو جعفر: وهذا القول حسن، لأن الأحبار هم
العلماء، والرباني الذي الذي يجمع إلى العلم البصر للسياسة، مأخوذ من
قول العرب: رب أمر الناس يربه: إذا أصلحه وقام به، فهو
راب، ورباني على التكثير.
429

ثم قال تعالى * (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين
أربابا..) * [آية 80].
ومن قرا * (ولا يأمركم) * بالنصب، فمعناه عنده: ولا
يأمركم البشر، لأنه معطوف على ما قبله.
ومن قرأ * (ولا يأمركم) * بالرفع، فمعناه عنده:
ولا يأمركم من الله، كذا قال سيبويه.
92 - وقوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب
وحكمة..) * [آية 81].
قال طاووس: أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء، أن يؤمن
بما جاء الآخر.
93 - ثم قال جل وعز: * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن
به ولتنصرنه..) * [آية 81].
قال: فهذه الآية لأهل الكتاب، أخذ الله ميثاقهم بأن يؤمنوا
430

بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه.
وقرأ ابن مسعود: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا
الكتاب) *.
وقال ابن عباس: إنما أخذ ميثاق النبيين على قومهم.
وقال الكسائي: يجوز أن تكون وإذ أخذ الله ميثاق النبيين
بمعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين.
وقال البصريون: إذا أخذ الله ميثاق النبيين، فقد أخذ
ميثاق الذين معهم، لأنهم قد اتبعوهم وصدقوهم.
و " ما " بمعنى الذي، ويجوز أن تكون للشرط ويقرأ " لما "
بكسر اللام، فتكون " ما " أيضا بمعنى الذي وتكون متعلقة بأخذ.
431

وقرأ سعيد بن جبير: " لما " بالتشديد.
94 - وقوله تعالى: * (وأخذتم على ذلكم إصري) * [آية 81].
قال مجاهد: أي عهدي، والإصر في اللغة: الثقل، فسمي
العهد إصرارا، لأنه منع وتشديد.
95 - ثم قال تعالى: * (فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) *
[آية 81].
أي فبينوا، لأن الشاهد هو الذي يبين حقيقة الشيء.
96 - وقوله تعالى: * (أفغير دين الله تبغون..) *؟ [آية 83].
أي تطلبون، فالمعنى قل لهم يا محمد: أفغير دين الله تبغون؟
ومن قرا * (يبغون) * بالياء، فالكلام عنده متناسق، في لأن
قبله * (فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) *.
432

فالمعنى: أفغير دين الله يبغي هؤلاء؟.
97 - وقوله تعالى * (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا
وكرها..) * [آية 83].
معنى * (وله أسلم) *: خضع، ثم قال * (طوعا
وكرها) *.
قيل: لما كانت السنة فيمن خالف أن يقاتل، سمي
إسلامه كرها، وإن كان طوعا، لأن سببه القتال.
98 - وقوله تعالى: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) *؟
[آية 86].
روى داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس أن
رجل من الأنصار ارتد.
قال مجاهد: هو " الحارث بن سويد بن الصامت الأنصاري "
فلحق أهل الشرك ثم ندم، فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، هل لي من توبة؟ فأنزل الله عز وجل * (كيف
يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) *؟ إلى قوله * (إلا الذين تابوا
433

من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) *.
قال ابن عباس: فأسلم.
وقال الحسن: نزلت في اليهود، لأنهم كانوا يبشرون بالنبي
صلى الله عليه وسلم ويستفتحون على الذين كفروا، فلما بعث
عاندوا وكفروا.
قال الله عز وجل: * (أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين) * [آية 87].
فإن قيل: فهل يلعنهم أهل دينهم؟ ففي هذا أجوبة:
أحدهما: أن بعضهم يلعن بعضا يوم القيامة.
434

وجواب آخر: وهو أنه يعني بالناس المسلمين.
وقيل: - وهو أحسنها - إن الناس جميعا يلعنونهم، لأنهم
يقولون: لعن الله الظالمين، كما قال تعالى: * (ألا لعنة الله على
الظالمين) *.
99 - ثم قال تعالى: * (خالدين فيها) * أي في اللعنة، والمعنى:
في عذاب اللعنة.
100 - وقوله عز وجل: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا
كفرا، لن تقبل توبتهم) * [آية 90].
قال أبو العالية: هؤلاء قوم أظهروا التوبة ولم يحققوا.
وقال غيره: نزلت قي قوم ارتدوا ولحقوا بالمشركين، ثم قالوا:
سنرجع ونسلم.
435

فالمعنى: أنهم أظهروا التوبة أيضا وأضمروا خلاف ذلك،
والدليل على ذلك قوله عز وجل: * (وأولئك هم الضالون) * ولو
حققوا التوبة لما قيل لهم " ضالون "!!
ويجوز في اللغة أن يكون المعنى: لن تقبل توبتهم، فيما تابوا
منه من الذنوب، وهم مقيمون على الكفر، هذا يروي عن أبي
العالية.
ويجوز أن يكون المعنى: لن تقبل توبتهم إذا تابوا إلى الكفر آخر،
وإنما تقبل توبتهم إذا تابوا إلى الإسلام.
101 - ثم قال تعالى: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، فلن يقبل
من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به، أولئك لهم عذاب
اليم، وما لهم من ناصرين) * [آية 91].
روى انس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء
الأرض ذهبا، أكنت مفتديا به؟
436

فيقول: نعم، فيقال له: كذبت، قد سئلت أقل من هذا،
ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم * (إن الذين كفروا وماتوا
وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا) * إلى آخر
الآية ".
وقال بعض أهل اللغة: الواو مقحمة، والمعنى: فلن
يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به.
وقال أهل النظر من النحويين: لا يجوز أن تكون الواو
مقحمة، لأنها تدل على معنى.
ومعنى الآية: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا تبرعا
ولو افتدى به.
437

والملء: مقدار ما يملا السيء، والملا بالفتح: المصدر.
102 - وقوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون..) *
[آية 92].
قال ابن مسعود، وعمرو بن ميمون: البر: الجنة، يكون
التقدير على ذا: لن تنالوا ثواب البر.
وقال غيرهما: البر: العمل الصالح، وفي الحديث " عليكم
بالصدق، فإنه يدعوا إلى البر، والبر يدعوا إلى الجنة، وإياكم
والكذب فإنه يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار ".
وروى أنس بن مالك أنه لما نزلت هذه الآية، قال أبو
438

طلحة: " أنا أتصدق بأرضي، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن
يتصدق بها على أقربائه، فقسمها بين أبي وحسان ".
وروي أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له
جارية - حين فتحت مدائن كسرى - فاشتراها ووجه بها إليه،
فلما رآها أعجب بها، ثم أعتقها، وقرأ: * (لن تنالوا البر حتى
تنفقوا مما تحبون) *.
وقال مجاهد: وهو مثل قوله تعالى * (ويطعمون الطعام على
حبه) *.
ومعنى * (حتى تنفقوا) * حتى تتصدقوا.
439

103 - ثم قال تعالى: * (وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) *
[آية 92].
أي وإذا علمه جازى عليه.
104 - وقوله عز وجل: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل،
إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، من قبل أن تنزل التوراة) *
[آية 93].
قال ابن عباس: كان اشتكى عرق النساء، كذا روي عنه،
فكان له زقاء - يعني صياح - فآلى لئن برأ من ذلك لا أكل
عرقا.
وقال مجاهد: الذي حرم على نفسه الأنعام.
440

قال عطاء: حرم لحوم الإبل وألبانها.
وهذا كله صحيح مما كان حرمه، واليهود تحرمه إلى هذا
الوقت، كما كان عليه أوائلها، وفيه حديث مسند.
وقال الضحاك: قال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم:
حرم علينا هذا في التوراة، فأكذبهم الله، وأخبر أن إسرائيل حرمه
على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ودعاهم إلى إحضارها فقال * (قل
فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) *.
105 - وقوله عز وجل: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة
مباركا..) * [آية 96].
قال أبو ذر: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي
مسجد وضع في الأرض أول؟ فقال: المسجد الحرام، قلت: ثم
441

أي؟ قال: ثم بيت المقدس، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون
سنة، ثم حيثما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد ".
وروى إسرائيل عن سماك بن حرب، عن خالد بن
عرعرة، قال: سأل رجل عليا عن أول بيت وضع للناس للذي
ببكة، أهو أول بيت في الأرض؟ قال لا، ولكنه أول بيت وضعت
فيه البركة، والهدى، ومقام إبراهيم، * (ومن دخله كان آمنا) * وإن
الله أوحى إلى إبراهيم صلوات الله عليه، أن ابن لي بيتا - وضاق به
ذرعا - فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج لها رأس فنظرت
موضع البيت.
قال أبو الحسن: قال أبو بكر: الخجوج التي تخج في
هبوبها أي تلتوي. يقال: خجت هذه تخج، ولو ضوعفت لقيل:
442

خجخجت، والخجخجة توصف بها السرعة.
وقال عطية: " بكة " موضع البيت، و " مكة "
ما حوليه.
وقال عكرمة: " بكة " ما ولي البيت، و " مكة " ما وراء
ذلك.
والذي عليه أكثر أهل اللغة أن " بكة " ور " مكة " واحد،
وأنه يجوز أن تكون الميم مبدلة من الباء، يقال: لازب ولازم، وسبد
شعره وسمده: إذا استأصله.
وقال سعيد بن جبير: سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها
أي يتزاحمون فيها.
وقال غيره: سميت " بكة " لأنها تبك الجبابرة، والميم
على هذا بدل من الباء.
ويجوز أن يكون من قولهم: أمتك الفصيل الناقة: إذا اشتد
مصه إياها،
443

والأول أحسن.
106 - وقوله عز وجل: * (فيه آيات بينات مقام إبراهيم..) *
[آية 97].
وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وأهل مكة: * (فيه
آية بينة) *.
وفسر ذلك مجاهد فقال * (مقام إبراهيم) * الحرم كله،
فذهب إلى أن من آياته " الصفا " و " المروة " و " الركن "
و " المقام ".
ومن قرأ * (آيات بينات) * فقراءته أبين لأن الصفا والمروة من
الآيات، ومنها أن الطائر لا يعلو البيت صحيحا.
ومنها أن الجارح يتبع الصيد، فإذا دخل الحرم تركه، ومنها إن
الغيث إذا كان ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمين، وإذا كان
444

ناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذا عم البيت كان الخصب في
جميع البلدان.
ومنها إن الجمار على ما يزاد عليها ترى على قدر واحد.
والمقام من قولهم: قمت مقام، فأما قول زهير:
- وفيهم مقامات حسان وجوهها *
وأندية ينتابها القول والفعل -
فمعناه: فيهم أهل مقامات.
107 - وقوله عز وجل: * (ومن دخله كان آمنا..) * [آية 97].
قال قتادة: ذلك من آيات الحرم أيضا.
445

وذا قول حسن لأن الناس كانوا يتخطفون من حواليه،
ولا يصل إليه جبار، وقد وصل إلى بيت المقدس وخرب ولم يصل
إلى الحرم، قال الله عز وجل: * (ألم تر كيف فعل ربك
بأصحاب الفيل) *.
وروى الثوري عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس قال 6
* (من أصاب حدا في الحرم أقيم عليه، وإن أصاب خارج الحرم،
ثم دخل الحرم، لم يكلم، ولم يجالس، ولم يبايع، حتى يخرج من
الحرم، فيقام الحد عليه.
وقال أكثر الكوفيين: ذلك في كل حد يأتي على النفس.
446

وقال قوم: الأمان ههنا الصيد.
وأولاها القول الأول، ويكون على العموم، ولو كان للصيد
لكان " وما دخله " ولم يكن * (ومن دخله) *.
قال قتادة: وإنما هو ومن دخله في الجاهلية كان آمنا.
108 - وقوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا..) * [آية 97].
قال الزبير: من وجد قوة وما يتحمل به.
وقال سعيد بن حبير: الزاد، والراحلة.
وروى حماد بن سلمة عن حميد وقتادة عن الحسن أن رجلا
قال: يا رسول الله ما السبيل إليه؟ قال: الزاد والراحلة.
447

السبيل أصله: الوصول، ومنه قيل للطريق سبيل، فالمعنى
عند أهل اللغة: من استطاع إلى البيت وصولا، كما قال إخبارا
* (يقولون هل إلى مرد من السبيل) *؟
109 - ثم قال تعالى: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) *
[آية 97].
أكثر أهل التفسير على أن المعنى: من قال إن الحج ليس
بواجب فقد كفر.
وروى وكيع عن فطر عن نفيع أبي داود، أن رجلا
سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية * (ومن كفر فإن
الله غني عن العالمين) * فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حج لا يرجو
ثوابه، وجلس لا يخاف عقابه، فقد كفر به ".
448

وقال الشعبي: السبيل ما يسره الله عز وجل.
وهذا من حسن ما قيل فيه، أي على قدر الطاقة، والسبيل
في كلام العرب: الطريق، فمن كان واجدا طريقا إلى الحج بغير
مانع، من زمانة، أو عجز، أو عدو، أو تعذر ماء في طريقة،
فعليه الحج، ومن منع بشيء من هذه المعاني، فلم يجد طريقا، لأن
الاستطاعة القدرة على الشيء. فمن عجز بسبب فهو غير مطيق
عليه، ولا مستطيع إليه السبيل.
وأولى الأقوال في معنى * (ومن كفر) * ومن جحد فرض
الله، لأنه عقيب فرض الحج.
110 - وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا
الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) * [آية 100].
قال قتادة: حذركموهم الله لأنهم غيروا كتابهم.
449

وفي الحديث " لا تصدقوا أهل الكتاب فيما لا تعرفون،
ولا تكذبوهم، فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم ".
111 - وقوله تعالى: * (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات لله
وفيكم رسوله..) * [آية 101].
قال الأخفش " سعيد بن مسعدة ": معنى " كيف "
على أي حال؟
وقال غيره: معنى * (وفيكم رسوله) * أي يبين لكم.
ويجوز أن تكون هذه المخاطبة، يدخل فيها من لم ير النبي
450

صلى الله عليه وسلم لأن آثاره وسنته بمنزلة مشاهدته.
112 - ثم قال جل وعز * (ومن يعتبهم بالله فقد هدي إلى صراط
مستقيم) * [آية 101].
معنى " يعتصم ": يمتنع.
113 - وقوله جل وعز * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته..) *
[آية 102].
قال عبد الله ابن مسعود " حق تقاته ": " أن يشكر فلا
يكفر، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى ".
وروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: نسخ هذه الآية قوله تعالى * (فاتقوا الله ما
451

استطعتم) *.
قال أبو جعفر: لا يجوز أن يقع في هذا ناسخ ولا منسوخ،
لأن الله تعالى لا يكلف الناس إلا ما يستطيعون.
وقوله " فاتقوا الله ما استطعتم " مبين لقوله " اتقوا الله حق
تقاته "، وهو على ما فسره ابن مسعود، أن يذكر الله عندما يجب
عليه فلا ينساه.
114 - وقوله عز وجل: * (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * ([آية 102].
المعنى: كونوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت وأنتم
مسلمون، لأنه قد علم أنه لا ينهاهم عما لا يملكون.
452

وحكى سيبويه: لا أرينك ههنا، فهو لم ينه نفسه، وإنما
المعنى: لا تكن ههنا فإنه من يكن ههنا أره.
115 - وقوله جل وعز: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا..) *
[آية 103].
قال عبد الله بن مسعود: حبل الله: القرآن.
وقال ابن عباس: الحبل: العهد.
وقال الأعشى:
- وإذا تجوزها حبال قبيلة *
أخذت من الأخرى إليك حبالها -
وأصل الحبل في اللغة: السبب، ومنه سمي حبل البئر، لأنه
السبب الذي يوصل به إلى ما بها.
ومنه قيل: " فلان يحطب في حبل فلان " أي يميل إليه وإلى
453

أسبابه، وأصل هذا أن الحاطب يقطع أغصان الشجر، فيجعلها في
حبله، فإذا قطع غيره وجعله في حبله، قيل: هو يحطب في حبله.
ومنه قولهم: " حبلك على غاربك " أي قد خليتك من
سبي وأمري ونهي.
وأصل هذا أن الإبل إذا أهملت للرعي ألقيت حبالها على
غواربها، لئلا تتعلق بشوك أو غيره، فيشغلها عن الرعي.
ومعنى * (ولا تفرقوا) *: ولا تتفرقوا، ثم حذفت إحدى
التاءين، وقيل لهم هذا، لأن اليهود والنصارى تفرقوا، وكفر بعضهم
بعضا.
116 - ثم قال عز وجل: * (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء،
فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا..) * [آية 103].
قال عكرمة: هذا في الأنصار، كانت بينهم شرور فألف
الله بينهم بالإسلام.
454

وقيل: هو عام لقريش لأن بعضهم كان يغير على بعض،
فلما دخلوا في الإسلام حرمت عليهم الدماء، فأصبحوا إخوانا أي
يقصد بعضهم مقصد بعض.
117 - ثم قال تعالى: * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم
منها..) * [آية 103].
وهذا تمثيل، و " الشفا " الحرف، ومنه أشفى فلان على
كذا:
إذا أشرف عليه.
118 - وقوله عز وجل * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير..) *
[آية 104].
455

قال أبو عبيدة: الأمة، الجماعة، و " من " ههنا
ليست " للتبعيض " وإنما هي " لبيان الجنس " كما قال تعالى
* (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) *
ولم يأمرهم باجتناب بعض الأوثان، وإنما المعنى فاجتنبوا الرجس
الذي هو الأوثان.
119 - وقوله عز وجل * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.) *
ابيضاضها: إشراقها، كما قال تعالى * (وجوه يومئذ
مسفرة) *.
456

120 - ثم قال تعالى * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد
إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * [آية 106].
في الكلام محذوف، والمعنى: فأما الذين اسودت وجوههم،
فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟
وأجمع أهل العربية على أنه لابد من الفاء في جواب " أما "
لأن المعنى في قولك " أما زيد فمنطلق ": مهما يكن من شيء فزيد
منطلق.
قال مجاهد: في قوله تعالى * (أكفرتم بعد إيمانكم) * بعد
أخذ الميثاق.
ويدل على هذا قوله جل وعلا * (وإذ أخذ ربك من بني
آدم..) * الآية.
وقيل: هم اليهود، بشروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم كفروا به من بعد
457

مبعثه، فقيل لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟
وقيل: هو عام، أي كفرتم بعد أن كنتم صغارا، تجري
عليكم أحكام المؤمنين؟.
121 - وقوله جل وعز: * (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله
هم فيها خالدون) * [آية 107].
معنى " ففي رحمة الله هم فيها خالدون ": ففي ثواب رحمة
الله.
122 - وقوله جل وعز: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس..) *
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نحن نكمل سبعين
أمة، نحن آخرها وأكرمها على الله ".
458

وقال أبو هريرة: " نحن خير الناس للناس، نسوقهم
بالسلاسل إلى الإسلام ".
وقال ابن عباس: نزلت فيمن هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم من
مكة إلى المدينة.
وقيل: معنى * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) *: كنتم
في اللوح المحفوظ.
وقيل: كنتم منذ آمنتم.
وروى بن أبي نجيح عن مجاهد * (كنتم خير أمة أخرجت
للناس) * قال: على هذا الشرط، على أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن
المنكر، ثم بينه.
459

وقال عطية: شهدتم للنبيين - أهل صلى الله عليهم أجمعين -
بالبلاغ، الذين كفر بهم قومهم.
123 - ثم بين الخيرية التي هي فيهم فقال: * (تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر وتؤمنون بالله) *.
ثم بين أن الإيمان بالله لا يقبل، إلا بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وما
جاء به، فقال عز وجل * (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم،
منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) * [آية 110].
والفاسق: الخارج عن الحق.
124 - وقوله عز وجل: * (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم
الأدبار..) * [آية 111].
أخبر تعالى أن اليهود لن يضروا المسلمين إلا بتحريف
أو بهت، فأما الغلبة فلا تكون لهم.
460

125 - ثم أخبر تعالى أنهم أذلاء فقال * (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا،
إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * [آية 112].
قال ابن عباس: الحبل: العهد.
قال أبو جعفر: هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى:
ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، إلا أنهم يعتصمون بحبل من الله،
وحبل من الناس، يعني الذمة التي لهم.
126 - ثم قال تعالى: * (وباءوا بغضب من الله..) * [آية 112].
أي رجعوا، وقيل: احتملوا.
وحقيقته في اللغة أنه لزمهم ذلك، وتبوأ فلان الدار، من هذا،
أي لزمها.
461

127 - ثم خبر تعالى لم فعل بهم ذلك؟ فقال * (ذلك بأنهم كانوا يكفرون
بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون) * [آية 112].
والاعتداء: التجاوز.
128 - ثم خبر عز وجل أنهم ليسوا مستوين، وأن منهم من قد آمن فقال
سبحانه: * (ليسوا سواء) *.
أي ليس يستوي منهم من آمن، ومن كفر!؟
129 - ثم قال عز وجل * (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله
آناء الليل..) * [آية 113].
* (قائمة) * قال مجاهد: أي عادلة.
462

* (يتلون آيات الله آناء الليل) * قال الحسن والضحاك:
ساعاته.
والواحد إني، ويقال: إنو، ويقال: إني.
130 - وقوله عز وجل * (ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..) *
[آية 115].
الأمر بالمعروف ههنا: الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم
* (وينهون عن المنكر) * أي ينهون عن مخالفته صلى الله
عليه وسلم.
131 - ثم قال جل وعز * (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه، والله عليم
بالمتقين) * (آية 116].
من قرأ " وما يفعلوا من خير فلن يكفروه " فهو عنده
لهؤلاء المذكورين، ويكون من فعل الخير بمنزلتهم.
463

ومن قرأ " وما تفعلوا من خير فلن تكفروه " بالتاء فهو
عام.
132 - وقوله عز وجل: * (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح
فيها صر..) * [آية 117].
قال ابن عباس: الصر: البرد.
ومعنى صر في اللغة: أن الصر شدة البرد، وفي الحديث
(أنه نهى عن الجراد الذي قتله الصر).
ومعنى الآية: أنه شبه ما ينفقونه على قتال النبي صلى الله عليه وسلم
464

وأصحابه في بطلانه بريح * (أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم
فأهلكته) * أي زرع قوم عاقبهم الله بذلك، فهلك زرعهم،
فكذلك أعمال هؤلاء لا يرجعون منها إلى شيء.
133 - وقوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانه من دونكم
لا يألونكم خبالا..) * [آية 118].
البطانة: خاصة الرجل الذين يطلعهم على الباطن من
أمره.
والمعنى: لا تتخذوا بطانة من دون أهل دينكم.
ونظير هذا * (فاقتلوا أنفسكم) *.
وكذلك * (فسلموا على أنفسكم) * أي على أهل دينكم،
ومن يقوم مقامكم.
465

ومعنى قوله تعالى * (لا يألونكم خبالا) * أي لا يقصرون في
السوء.
وأصل الخبال في اللغة: من الخبل، والخبل: ذهاب الشيء
وإفساده.
134 - وقوله تعالى * (ودوا ما عنتم) * [آية 118].
أي ما شق عليكم واشتد.
وأصل هذا أنه يقال: عنت العظم يعنت عنتا: إذا انكسر بعد
جبر.
ومن هذا قوله تعالى * (ذلك لمن خشي العنت منكم) *
أي المشقة.
135 - وقوله عز وجل * (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم،
وتؤمنون بالكتاب كله..) * [آية 119].
أي تحبون المنافقين ولا يحبونكم.
والدليل على أنه يعني المنافقين قوله عز وجل * (وإذا
466

لقولكم قالوا آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) *.
قال عبد الله بن مسعود: يعضون أطراف الأنامل من
الغيظ.
136 - وقوله عز وجل * (إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم
سيئة يفرحوا بها..) * [آية 120].
أي إن غنمتم أو ظفرتم ساءهم ذلك، وإن أصابكم ضد ذلك
فرحوا به.
ثم خبر أنهم إن صبروا على ذلك لم يضرهم شيئا فقال * (وإن
تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا، إن الله بما يعملون
محيط) *.
137 - وقوله عز وجل * (وإذ غدوت من أهلك تبويء المؤمنين مقاعد
للقتال..) * [آية 121].
467

* (تبويء) * تلزم، وباء بكذا إذا لزمه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنه في درع حصينة، فأول ذلك
المدينة، فأمر أصحابه أن يقيموا بها إلى أن يوافي المشركون
فيقاتلهم.
138 - وقوله عز وجل * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا، والله
وليهما..) * [آية 122].
قال جابر بن عبد الله: نحن هم " بني سلمة " و " بني
حارثة " من الأوس، وما يسرنا أنها لم تكن [نزلت] لقوله تعالى
* (والله وليهما) *.
468

والفشل في اللغة: الجبن، والولي: الناصر.
" بنو سلمة " من الخزرج، و " بنو حارثة " من الأوس.
139 - وقوله عز وجل: * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة...) *
[آية 123].
قيل: يعني بأذلة: أنهم كانوا قليلي العدد.
وقال البراء بن عازب: " كنا نتحدث أن عدة أصحاب
بدر، كعدة أصحاب طالوت، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر ".
من قرأ " بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ".
140 - وقوله عز وجل: * (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم
هذا..) * [آية 125].
قال الضحاك وعكرمة: من وجههم هذا.
141 - وقوله تعالى * (يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة
مسومين) * [آية 125].
469

لا نعلم اختلافا أن معنى " مسومين " من السومة،
إلا عن الأخفش فإنه قال: " مسومين ": مرسلين.
قال أبو زيد: السومة أن يعلم الفارس نفسه في الحرب
ليظهر شجاعته.
قال عروة بن الزبير: كانت الملائكة يوم بدر على خيل
بلق، وعليها عمائم صفر.
قال أبو إسحاق: كانت سيماهم عمائم بيضا.
وقال الحسن: علموا على أذناب خيلهم ونواصيها بصوف
ابيض.
وقال عكرمة: عليهم سيماء القتال.
470

وقال مجاهد: الصوف في أذناب الخيل.
وقريء * (مسومين) * واحتج صاحب هذه القراءة بأنه
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يوم بدر: " سوموا فإني رأيت الملائكة
قد سومت ".
أي قد سومت خيلها، أو نفسها.
142 - وقوله عز وجل: * (وما جعله الله إلا بشرى لكم..) * [آية 126]
يعني المدد، أو الوعد.
143 - وقوله عز وجل: * (ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم
فينقلبوا خائبين) *. [آية 127].
471

قال قتادة: " يكتبهم " يحزنهم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم " جاء إلى أبي طلحة، فرأى ابنه
مكبوتا، فقال: ما شأنه؟ فقيل: مات نغيره ".
فالمكبوت ههنا: المحزون.
وقال أبو عبيدة: يقال كبته لوجهه: أي صرعة لوجهه.
ومعروف في اللغة أن يقال: كبته إذا أذله وأقماه.
قال بعض أهل اللغة: كبته بمعنى كبده، ثم أبدلت من
الدال تاء، لأن مخرجهما من موضع واحد.
والخائب في اللغة: الذي لم ينل ما أمل، وهو ضد المفلح.
472

144 - وقوله عز وجل * (ليس لك من الأمر شيء، أو يتوب عليهم
أو يعذبهم فإنهم ظالمون) * [آية 128].
روى الزهري عن سالم عن أبيه قال: " رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية من الفجر، يدعو على قوم من المنافقين،
فأنزل الله عز وجل * (ليس لك من الأمر شيء..) * إلى آخر
الآية.
وقال أنس بن مالك: " كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم
أحد، فأخذ الدم بيده وجعل يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا
بنبيهم؟ فأنزل الله عز وجل * (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب
عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *.
وقيل: استأذن في أن يدعو باستئصالهم، فنزل هذا، لأنه
علم أن منهم من سيسلم، وأكد ذلك الآية بعدها.
473

فمن قال إنه معطوف ب‍ " أو " على قوله تعالى * (ليقطع
طرفا) * فالمعنى عنده: ليقتل طائفة منهم، أو يخزيهم بالهزيمة،
أو يتوب عليهم، أو يعذبهم.
وقد تكون " أو " ههنا بمعنى " حتى " و " إلا أن " والأول
أولى، لأنه لا أمر إلى أحد من الخلق، قال امرؤ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما *
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
145 - وقوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا
مضاعفة..) * [آية 130].
قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل
زادوا في الثمن على أن يؤخروا، فأنزل الله عز وجل * (ولا تأكلوا الربا
أضعافا مضاعفة) *.
474

146 - ثم قال تعالى * (واتقوا الله لعلكم تفلحون) * [آية 130].
أي لتكونوا على رجاء من الفلاح.
وقال سيبويه في قوله تعالى * (إذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له
قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) *: إذهبا على رجائكما
وطمعكما ومبلغكما، والعلم من وراء ذلك، وليس لهما أكثر من
ذلك.
والفلاح في اللغة: أن يظفر الإنسان بما يؤمل.
147 - وقوله عز وجل: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها
السماوات والأرض أعدت للمتقين) * [آية 133].
475

روي عن أنس بن مالك أنه قال: يعني " التكبيرة الأولى "
148 - ثم قال تعالى * (وجنة عرضها السماوات والأرض..) *
[آية 133].
في هذا قولان:
أحدهما: أنه العرض بعينه.
وروى طارق بن شهاب أن اليهود قالت لعمر بن الخطاب
تقولون: جنة عرضها السماوات والأرض، فأين تكون النار؟ فقال
لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار، فأين يكون الليل، وإذا جاء الليل
فأين يكون النهار؟
فقالوا: لقد نزعت بما في التوراة.
476

والقول الآخر: أن العرض ههنا: السعة، وذلك معروف
في اللغة.
وفي الحديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمنهزمين يوم أحد: لقد
ذهبتم فيها عريضة " يعني واسعة، وأنشد أهل اللغة:
- كأن بلاد الله وهي عريضة *
على الخائف المطلوب كفة حابل -
149 - وقوله عز وجل * (والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله
يحب المحسنين) * [آية 134].
الكظم في اللغة: أن يحبس الغيظ.
ويقال: كظم البعير على جرته: إذا ردها في حلقه.
477

ويقال للممتليء حزنا وغما: كظيم، ومكظوم، كما قال تعالى
* (إذ نادى وهو مكظوم) *.
150 - وقوله عز وجل: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم
ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم..) * [آية 135].
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: كنت إذا
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله منه بما شاء أن
ينفعني، فإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي
صدقته، وحدثني أبو بكر رضي الله عنه - وصدق أبو بكر -
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من رجل يذنب
ذنبا وينام ثم يقوم، فيتطهر فيحسن الطهور، ثم يستغفر الله، إلا
غفر له، ثم تلا الآية * (والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا
أنفسهم، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا
الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) *.
478

وقال مجاهد: معنى * (ولم يصروا على ما فعلوا وهم
يعلمون) *: ولم يمضوا.
والإصرار في اللغة: اعتقاد الشيء، ومنه قيل: صرة، ومنه
قيل للبرد: " صر " كأنه البرد الذي يصل إلى القلب، ومنه قيل
للذي لم يحج: صرورة، وصارورة، كأنه يحبس ما يجب أن ينفقه.
وقال معبد بن صبيحة: " صليت خلف عثمان، وعلي إلى
جنبي، فأقبل علينا فقال: صليت على غير وضوء * (ولم يصروا على ما
فعلوا وهم يعلمون) * ثم ذهب فتوضأ وصلى ".
وروي عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أصر من
استغفر الله ولو عاد في اليوم سبعين مرة ".
479

وقال عبد الله بن عبيد بن عمير * (وهم يعلمون) * أي وهم
يعلمون أنهم إن تابوا تاب الله عليهم.
151 - وقوله عز وجل: * (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض
فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * [آية 137].
قال أبو عبيدة: السنن: الأعلام، والمعنى على هذا:
إنكم إذا سافرتم رأيتم آثار قوم هلكوا، فلعلكم تتعظون!؟
152 - وقوله عز وجل: * (هذا بيان للناس وهدى وموعظة
للمتقين) *.
قال الشعبي: هذا بيان من العمى، وهدى من الضلال،
وموعظة من الجهل.
480

153 - وقوله عز وجل: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم
مؤمنين) * (آية 139].
قال أبو عبيدة: معناه: لا تضعفوا.
قال أبو جعفر: من الوهن.
154 - وقوله عز وجل: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح
مثله..) * [آية 140].
يقرأ " قرح " ويقرأ " قرح " وبفتح القاف والراء.
فالقرح مصدر قرح يقرح.
قال الكسائي: القرح والقرح واحد.
وقال الفراء: كان القرح الجراحات، وكأن القرح
الألم.
481

155 - ثم قال عز وجل: * (وتلك الأيام نداولها بين الناس..) *
[آية 140].
أي تكون مرة للمؤمنين ليعزم الله عز وجل، وتكون مرة
للكافرين إذا عصى المؤمنون، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم
الغالبون.
156 - ثم قال عز وجل * (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء،
والله لا يحب الظالمين) * [آية 140].
أي ليعلم الله صبر المؤمنين، إذا كانت الغلبة عليهم، وكيف
صبرهم؟
وقد كان سبحانه علم هذا غيبا، إلا أن علم الغيب لا تقع
عليه المجازاة.
فالمعنى: ليعلمه واقعا علم الشهادة.
482

وقال الضحاك: قال المسلمون الذين لم يحضروا بدرا: ليتنا
لقينا العدو حتى نبلي فيهم ونقاتلهم [فلقي المسلمون يوم أحد،
فاتخذ الله منهم الشهداء، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل] فقال
* (ويتخذ منكم الشهداء) *.
و " الظالمون " هنا: الكافرون أي لم يتخذوا وهذه المحبة
لهم.
157 - وقوله عز وجل * (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) *
[آية 141].
قال مجاهد: " يمحص " يبتلي.
قال أبو جعفر: قال أبو إسحاق: قرأت على أبي العباس
" محمد بن يزيد " عن الخليل أن التمحيص: التخليص، يقال:
محصه، يمحصه، محصا: إذا خلصه.
483

فالمعنى على هذا: ليبتلي المؤمنون ليثيبهم، ويخلصهم من
ذنوبهم، ويستأصل الكافرين.
158 - وقوله عز وجل * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله
الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * [آية 142].
" ما " بمعنى " لم " إلا أن " لما " عند سيبويه جواب لمن
قال قد فعل، و " لم " جواب لمن قال فعل.
ومعنى الآية: ولما يعلم الله ذلك واقعا منهم، لأنه قد علمه
غيبا.
وقيل: المعنى لم يكن جهاد فيعلمه الله.
159 - وقوله عز وجل: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلاقوه
فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) * [آية 143].
484

قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: " كان قوم من المسلمين
قالوا بعد بدر، ليت أنه يكون قتال حتى نبلي ونقاتل!! فلما كان يوم
أحد انهزم بعضهم فعاتبهم الله على ذلك فقال: * (ولقد كنتم تمنون
الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه) *.
والتقدير في العربية: ولقد كنتم تمنون سبب الموت، ثم
حذف، وسبب الموت القتال.
160 - ثم قال تعالى: * (فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) * [آية 143].
وقال بعض أهل اللغة: وأنتم تنظرون محمدا.
وقال سعيد الأخفش * (وأنتم تنظرون) * توكيد.
قال أبو جعفر: وحقيقة هذا القول: فقد رأيتموه حقيقة،
وأنتم بصراء متيقنون.
485

161 - وقوله عز وجل * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله
الرسل...) * [آية 144].
معنى " خلت " مضت.
162 - ثم قال تعالى * (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم..) *
[آية 144].
قال قتادة: أفإن مات نبيكم، أو قتل، رجعتم كفارا؟
وهذا القول حسن في اللغة، وشبهه بمن يمشي إلى خلفه
بعد أن كان يمشي إلى أمامه.
* (وسيجزي الله الشاكرين) *
أي على أن هداهم وأنعم عليهم.
486

ويقال: " انقلب على عاقبيه " إذا رجع عما كان عليه.
وأصل هذا من العاقبة، والعقبى، وهما ما يتلوا الشيء ويجب
أن يتبعه، وقال تعالى * (والعاقبة للمتقين) * ومنه عقب الرجل،
ومنه يقال: جئت في عقب الشهر: إذا جئت بعد مضى،
وجئت في عقبه، وعقبه: إذا جئت وقد بقيت منه بقية، ومنه
قوله تعالى * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) *.
163 - وقوله عز وجل * (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد
ثواب الآخرة نؤته منها..) * [آية 145].
المعنى: ومن يرد ثواب الآخرة بالعمل الصالح.
وهذا كلام مفهوم معناه، كما يقال: فلان يريد
الجنة، إذا كان يعمل عمل أهلها، ولا يقال ذلك للفاسق.
487

164 - وقوله عز وجل * (وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير..) *
[آية 146].
ويقرأ " قاتل " فمن قرأ " قتل معه " ففيه عنده قولان:
أحدهما: روي عن عكرمة وهو أن المعنى: وكأين من نبي
قتل، على أنه قد تم الكلام، ثم قال " معه ربيون كثير " بمعنى:
معه ربيون كثير.
وهذا قول حسن على مذهب النحويين، لأنهم أجازوا " رأيت
زيدا السماء تمطر عليه " بمعنى والسماء تمطر عليه.
والقول الآخر أن يكون المعنى: قتل معه بعض الربيين،
وهذا معروف في اللغة أن يقال: جاءني بني فلان وإنما جاءك
488

بعضهم، فيكون المعنى على هذا: قتل معه بعض الربيين.
165 - وقوله تعالى: * (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا
وما استكانوا..) * [آية 146].
أي فما ضعف من بقي منهم، كما قريء * (ولا تقتلوهم عند
المسجد الحرام حتى يقتلونكم فيه، فإن قتلوكم فاقتلوهم) * بمعنى
فإن قتلوا بعضكم.
والقول الأول على أن يكون التمام عند قوله: " قتل " وهو
أحسن، والحديث يدل عليه.
قال الزهري: صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد، فانهزم
489

جماعة من المسلمين.
قال كعب بن مالك: " كنت أول من عرف رسول الله
صلى الله عليه وسلم رأيت عينيه من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: هذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلي أن اسكت، فأنزل الله عز وجل
* (وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير) *.
وقال عبد الله بن مسعود: الربيون: الألوف الكثيرة.
وقال مجاهد وعكرمة والضحاك: الربيون: الجماعات.
وقال ابن زيد: الربيون الأتباع.
ومعروف أن الربة الجماعة، فهم منسوبون إلى الربة، ويقال
490

للخرقة التي يجمع فيها القدح: ربة وربة، والرباب: قبائل
تجمعت.
وقال أبان بن تغلب: الربي: عشرة آلاف.
وقال الحسن - رحمة الله عليه -: هم العلماء الصبر،
كأنه أخذ من النسبة إلى الرب تبارك وتعالى.
166 - ثم قال تعالى * (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) *
[آية 146].
أي فما ضعفوا.
والوهن في اللغة: أشد الضعف.
* (وما استكانوا) * أي وما ذلوا، فعاتب الله عز وجل
المسلمين بهذا; لأنهم كانوا يتمنون القتال.
491

وقرأ مجاهد فيما روي عنه: * (ولقد كنتم تمنون الموت
من قبل أن تلقوه) * وهي قراءة حسنة، والمعنى: ولقد
كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل أي من قبل أن تلقوه.
167 - وقوله عز وجل: * (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا
ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا..) * [آية 147].
قال مجاهد: يعني الخطايا الكبار.
168 - ثم قال تعالى: * (وثبت أقدامنا) * [آية 147].
أي ثبتنا على دينك، وإذا ثبتهم على دينه ثبتوا في الحرب، كما
قال: * (فتزل قدم بعد ثبوتها) *.
169 - وقال تعالى * (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة) *
[آية 148].
قال قتادة: أعطوا النصر في الدنيا، والنعيم في الآخرة.
492

170 - ثم قال عز وجل: * (بل الله مولاكم، وهو خير الناصرين) *
[آية 150].
المولى: الناصر، فإذا كان ناصرهم لم يغلبوا.
171 - وقوله عز وجل: * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما
أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا..) * [آية 151].
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " نصرت بالرعب ".
والسلطان: الحجة، ومنه * (هلك عني سلطانيه) * أي حجتيه.
172 - وقوله تعالى: * (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) *
[آية 152].
قال قتادة: * (تحسونهم) * تقتلونهم.
493

173 - ثم قال تعالى: * (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من
بعد ما أراكم ما تحبون) * [آية 152].
أي: من هزيمة القوم، و * (فشلتم) * جبنتم.
قال عبد الله بن مسعود: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرماة أن
يثبتوا مكانهم، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أول شيء، فقال
بعضهم: نلحق الغنائم، وقال بعضهم: نثبت، فعاقبهم الله بأن
قتل بعضهم.
قال: وما علمنا أن أحدا منا يريد الدنيا حتى نزلت * (منكم من
يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم
ليبتليكم) * [آية 152].
494

قال: معنى * (ليبتليكم) * ليختبركم، وقيل معناه:
ليبتليكم بالبلاء.
174 - وقوله عز وجل: * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد..) *
[آية 153].
ويقرأ: " تصعدون " بفتح التاء، فمن ضمها فهو عنده من
أصعد، إذا ابتدأ السير، ومن فتحها فهو عنده من صعد الجبل وما
أشبهه.
ومعنى * (تلوون) *: تعرجون.
175 - ثم قال عز وجل: * (والرسول يدعوكم في أخراكم..) *
[آية 153].
495

قال أبو عبيدة: معناه: في آخركم.
176 - وقوله عز وجل: * (فأثابكم غما بغم..) * [آية 153].
في هذا قولان:
أحدهما: أن مجاهد قال: الغم الأول القتل والجراح، والغم
الثاني أنه صاح صائح: قتل محمد، فأنساهم الغم الآخر الغم
الأول.
والقول الآخر: أنهم غموا النبي - صلى الله عليه وسلم - في مخالفتهم
إياه; لأنه أمرهم أن يثبتوا فخالفوا أمره، فأثابهم الله بذلك الغم
غمهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم.
496

ومعنى * (فأثابهم) * أي فأنزل بهم ما يقوم مقام الثواب،
كما قال تعالى: * (فبشرهم بعذاب اليم) * أي: الذي يقوم لهم
مقام البشارة عذاب أليم، وأنشد سيبويه:
- تراد على دمن الحياض فإن تعف *
فإن المندى رحلة فركوب -
أي الذي يقوم مقام التندية: الرحلة والركوب.
177 - وقوله تعالى * (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم..) *
[آية 153].
والمعنى " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " أنهم طلبوا الغنيمة
[" ولا ما أصابكم " في أنفسكم من القتل والجراحات].
497

178 - وقوله عز وجل * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا..) *
[آية 154].
الأمنة، والأمن واحد، وهو اسم للمصدر.
وروي عن أبي طلحة أنه قال: " نظرت يوم أحد فلم أر إلا
ناعسا تحت ترسه ".
179 - ثم قال تعالى * (يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم
أنفسهم..) * [آية 154].
* (يغشى طائفة منكم) * يعني بهذه الطائفة المؤمنين.
* (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) * يعني بهذه الطائفة المنافقين.
498

180 - وقوله تعالى: * (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية..) *
[آية 154].
أي يظنون أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم قد اضمحل.
ثم قال تعالى * (ظن الجاهلية) * أي هم في ظنهم بمنزلة
الجاهلية.
* (يقولون هل لنا من الأمر شيء؟ قل إن الأمر كله
لله) * [آية 154].
أي ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء.
181 - وقوله عز وجل * (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم
القتل إلى مضاجعهم) * [آية 154].
أي لصاروا إلى براز من الأرض.
182 - وقوله عز وجل * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما
استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم) *
[آية 155].
499

معنى " استزلهم " استدعى أن يزلوا، كما يقال:
استعجله، أي: استدعيت أن يعجل، ومعنى * (استزلهم الشيطان
ببعض ما كسبوا) * أنه روي أن الشيطان ذكرهم خطاياهم، فكرهوا
القتل قبل التوبة ولم يكرهوا القتل معاندة ولا نفاقا، فعفا الله
عنهم.
183 - وقوله عز وجل * (وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا
غزى لو كانوا عندنا ماتوا وما قتلوا..) * [آية 156].
روى عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هذا قول المنافق
عبد الله بن أبي.
184 - وقوله عز وجل * (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا
غليظ القلب لا نفضوا من حولك..) * [آية 159].
500

الفظ في اللغة: الغليظ الجانب، السيء الخلق، يقال:
فظظت تفظ فظاظة، ومعنى * (لا نفضوا من حولك) * لتفرقوا،
هذا قول أبي عبيدة.
وكأنه التفرق من غير جهة واحدة. ويقال: فلان يفض
الغطاء، أي يفرقه وفضضت الكتاب، من هذا.
185 - وقوله عز وجل * (فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في
الأمر..) * [آية 159].
المشاورة في اللغة: أن تظهر ما عندك، وما عند صاحبك من
الرأي، والشوار: متاع البيت المرئي. وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: أن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم فيما لم يأت فيه
وحي، لأنه قد يكون عند بعضهم فيما يشاور فيه علم وقد يعرف
501

الناس من أمور الدنيا ما لا يعرفه الأنبياء، فإذا كان بعد وحي لم
يشاورهم.
والقول الآخر: أن الله عز وجل أمره بهذا ليستميل به
قلوبهم، وليكون ذلك سنة لمن بعده.
حدثني أحمد بن عاصم، قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن
أبي مريم قال: حدثنا أبي قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن
دينار، عن ابن عباس * (وشاورهم في الأمر) *.
قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال الحسن: أمر بذلك صلى الله عليه وسلم لتستن به أمته.
186 - وقوله عز وجل * (إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن
يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده..؟) * [آية 160].
502

الخذلان في اللغة: الترك، ومنه يقال: تخاذل القوم، إذا
انماز بعضهم من بعض، ويقال: ظبية خاذلة، إذا انفردت عن
القطيع، قال زهير:
بجيد مغزلة أدماء خاذلة *
من الظباء تراعي شادنا خرقا
187 - وقوله عز وجل * (وما كان لنبي أن يغل..) * [آية 161].
وتقرأ (يغل)، ومعنى * (يغل) * يخون، وروى أبو
صخر، عن محمد بن كعب في معنى * (وما كان لنبي أن يغل) *
قال: يقول: ما كان لنبي أن يكتم شيئا من كتاب الله عز وجل
و " يغل " يحتمل معنيين:
503

أحدهما: أن يلفي غالا، أي خائنا كما تقول: أحمدت
الرجل: إذا أصبته محمودا، وأحمقته: إذا أصبته أحمق.
قالوا: ويقوي هذا القول، أنه روي عن الضحاك أنه قال
" يغل " يبادر الغنائم لئلا تؤخذ.
والمعنى الآخر، أن يكون (يغل) بمعنى يغل منه، أي يخان
منه.
وروى عن قتادة أن معنى (يغل) يخان.
وقد قيل فيه قول ثالث، لا يصح، وهو أن معنى (يغل)
يخون، ولو كان كذلك لكان يغلل.
188 - ثم قال عز وجل * (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة..) *
[آية 161].
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا أعرفن أحدكم يأتي يوم
504

القيامة، ومعه شاة لها ثغاء، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك
لك من الله شيئا ".
والغلول في اللغة: أن يأخذ من المغنم شيئا، يستره عن أصحابه، ومنه
يقال للماء الذي يجري بين الشجر: غلل، كما قال الشاعر:
- لعب السيول به فأصبح ماؤه *
غللا يقطع في أصول الخروع -
ومنه الغلالة، ومنه يقال: تغلغل فلان في الأمر، والأصل:
تغلل.
ومنه: في صدره علي غل: أي حقد، ومنه: غللت
لحيتي وغليتها.
189 - وقوله عز وجل * (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من
الله..) *؟ [آية 162].
505

قال الضحاك " أفمن اتبع رضوان الله " من لم يغل
* (كمن باء بسخط من الله) * كمن غل؟
ومعنى " باء ": احتمل.
190 - ثم قال عز وجل * (هم درجات عند الله، والله بصير بما
يعملون) * [آية 163].
قال مجاهد: المعنى: لهم درجات عند الله، والتقدير في اللغة العربية:
هم ذوو درجات، ثم حذف، والمعنى: بعضهم أرفع درجة من
بعض.
وقيل: " هم " لمن اتبع رضوان الله، ولمن باء بسخطه،
أي: لكل واحد منهم جزاء عمله بقدر.
506

191 - وقوله عز وجل: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم
رسولا من أنفسهم..) * [آية 164].
أي: ممن يعرفونه بالصدق والأمانة، وجاءهم بالبراهين، ولم
يعرفوا منه كذبا قط.
192 - وقوله عز وجل * (أو لما أصابكم مصيبة قد أصبتم مثليها) *
[آية 165].
قال الضحاك: قتل من المسلمين يوم أحد سبعون رجلا،
وقتل من المشركين يوم بدر سبعون، وأسر سبعون، فذلك قوله تعالى
* (قد أصبتم مثليها) * يوم بدر، ويوم أحد.
ومعنى * (قل هو من عند أنفسكم) * بذنبكم، وبما
كسبت أيديكم، لأن الرماة خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبتوا كما
507

أمرهم.
ومعنى (أو ادفعوا) أي كثروا وإن لم تقاتلوا، ومعنى
* (فادرءوا) *: فادفعوا.
193 - وقوله عز وجل * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل
احياء عند ربهم يرزقون) * [آية 169].
روي أن أرواح " الشهداء " تسرح في الجنة حيث شاءت،
ثم تأوي إلى قناديل معلقة عند العرش.
194 - وقوله عز وجل: * (فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون
بالذين لم يلحقوا بهمم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم
يحزنون) * [آية 170].
508

المعنى: لم يلحقوا بهم في الفضل، وإن كان لهم فضل.
195 - قوله عز وجل * (يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وأن الله
لا يضيع أجر المؤمنين) * [آية 171].
والمعنى: ويستبشرون حتى بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين.
ويقرأ * (وإن الله) * بكسر الألف * (لا يضيع أجر
المؤمنين) * على أنه مقطوع من الأول.
والمعنى: وهو سبحانه لا يضيع أجر المؤمنين، ثم جيء بأن
توكيدا.
196 - وقوله عز وجل * (الذين استجابوا لله ورسوله من بعد ما
أصابهم القرح..) * [آية 172].
روى عكرمة عن ابن عباس " أن المشركين يوم أحد، لما
انصرفوا فبلغوا إلى الروحاء، حرض بعضهم بعضا على الرجوع
509

لمقاتلة المسلمين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فندب أصحابه للخروج،
فانتدبوا حتى وفوا يعني " حمراء الأسد " وهي على ثمانية أميال من
المدينة، فأنزل الله عز وجل * (الذين استجابوا لله ورسوله من بعد
ما أصابهم القرح) *.
197 - وقوله عز وجل: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا
لكم فاخشوهم..) * [آية 173].
قيل: إنه يعني بالناس " نعيم بن مسعود " وجهه أبو سفيان
يثبط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومجازة في اللغة أن يراد به نعيم
وأصحابه.
وقال ابن إسحاق (الذين قال لهم الناس) هم نفر من
عبد القيس.
510

قالوا: إن أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم.
ثم قال تعالى * (فزادهم ايمانا) * أي: فزادهم التخويف إيمانا
وقالوا * (حسبنا الله ونعم الوكيل) * أي كافينا الله، يقال:
أحسبه: إذا كفاه.
198 - وقوله عز وجل * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم
سوء) * [آية 174].
قال عكرمة عن ابن عباس: لما وافدوا بدرا وكان أبو سفيان
قد قال لهم: موعدكم بدرا موضع قتلتم أصحابنا، فوافى النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه بدرا، واشترى المسلمون بها أشياء ربحوا فيها.
511

فالمعنى على هذا * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) * من
انصراف عدوهم، وفضل في تجارتهم.
199 - وقوله عز وجل * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه..) *
[آية 175].
يقال: كيف يخوف من تولاه؟. فروي عن إبراهيم
النخعي: يخوفكم أولياءه، قيل: هذا حسن في العربية، كما
تقول: فلان يعطي الدنانير، أي يعطي الناس الدنانير، والتقدير على
هذا: يخوف المؤمنون بأوليائه، ثم حذفت الباء وأحد المفعولين، ونظيره
قوله عز وجل * (لينزر بأسا شديدا) * المعنى: لينذركم ببأس شديد،
وأنشد سيبويه فيما حذفت منه الباء:
- أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *
فقد تركتك فإن ذا مال وذا نشب -
وأولياؤه هاهنا الشياطين، وقد قيل: إن معنى * (يخوف
512

أولياءه) * يخوف المنافقين الفقر حتى لا ينفقوا لأنهم أشد خوفا.
200 - وقوله عز وجل * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير
لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما..) * [آية 178].
في معناه قولان:
أحدهما: ما رواه الأسود عن عبد الله بن مسعود أنه قال:
الموت خير للمؤمن والكافر، ثم تلا * (وما عند الله خير للأبرار) *
و * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) *.
والقول الآخر أن هذه الآية مخصومة أريد بها قوم بأعيانهم
لا يسلمون كما قال جل وعز * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) *.
513

201 - وقوله عز وجل: * (وكان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه
حتى يميز الخبيث من الطيب..) * [آية 179].
قال قتادة: حتى يميز الكافر من المؤمن.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: حتى يميز المؤمن من المنافق،
وكان هذا يوم أحد، بين فيه المؤمن من المنافق، حتى قتل من
المسلمين من قتل.
ثم قال تعالى * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) *
[آية 179].
أي: ليس يخبركم من يسلم، ومن يموت على الكفر.
* (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) * قال مجاهد: أي
يخلصهم لنفسه.
202 - وقوله عز وجل * (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من
514

فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم
القيامة) * [آية 180].
في الآية قولان:
أحدهما: أنه يراد به اليهود، لأنهم بخلوا أن يخبروا بصفة النبي
صلى الله عليه وسلم، فهي على هذا للتمثيل أي سيطوقون الإثم.
والقول الآخر: وهو الذي عليه أهل الحديث، أنه روى أبو
وائل عن عبد الله ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من رجل له
مال ثم بخل بالحق في ماله، إلا طوق يوم القيامة شجاعا أقرع، ثم
تلا مصداق ذلك * (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من
فضله) * إلى قوله * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) *.
515

203 - ثم قال عز وجل * (ولله ميراث السماوات والأرض، والله بما
تعملون خبير) * [آية 180].
العرب تسمي كل ما صار إلى الإنسان، مما قد كان في يد
غيره: ميراثا، فخوطبوا على ما يعرفون، لأن الله يغني الخلق وهو
خير الوارثين.
204 - وقوله عز وجل * (لقد سمع الله قول الذين قالوا: إن الله فقير
ونحن أغنياء) * [آية 181].
قال الحسن: لما نزلت * (من ذا الذي يقرض الله قرضا
حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) *.
قالت اليهود: أو هو فقير يستقرض؟ يموهون بذلك على
ضعفائهم، فأنزل الله عز وجل * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن
الله فقبر ونحن أغنياء) *.
516

المعنى: إنه على قول محمد فقير، لأنه اقترض منا!!
فكفروا بهذا القول لأنهم أرادوا تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم به، وتشكيكا
للمؤمنين في الإسلام.
205 - ثم قال تعالى * (سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق) * أي
سنحصيه، ويجوز سيكتب ما قالوا، أي: سيكتب الله ما قالوا.
206 - ثم قال تعالى ونقول ذوقوا عذاب الحريق أي عذاب
النار، لأن من العذاب ما لا يحرق.
207 - وقوله عز وجل * (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا
بالبينات والزبر والكتاب المنير) *.
517

الزبر: جمع زبور، وهو الكتاب، يقال: زبرت إذا
كتبت.
208 - ثم قال تعالى * (كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم
يوم القيامة) * [آية 185].
وهذا تمثيل، والمعنى: كل نفس كل نفس ميتة، وأنشد أهل اللغة:
- من لم يمت عبطه يمت هرما *
للموت كأس فالمرء ذائقها -
209 - ثم قال جل وعز * (فمن زحزح وسلم عن النار وأدخل الجنة فقد
فاز..) * [آية 185].
* (زحزح) *: نحي، و * (فاز) *: إذا نجا واغتبط بما هو فيه، فأما
518

قولهم: مفازة، فإنما هو على التفاؤل، كما يقال للأعمى بصير،
وقد قيل: إن مفازة من قولهم: فوز الرجل، إذا مات، وهذا
القول ليس بشيء، لأن قولهم: فوز الرجل، إنما هو على التفاؤل
أيضا.
210 - وقوله عز وجل * (لتبلون في أموالكم وأنفسكم..) * [آية 186].
قيل معناه: لتختبرن، وقيل معناه: لتصابن.
والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد.
211 - ثم قال تعالى: * (ولتسمعن من الذين اتوا الكتاب من قبلكم ومن
الذين أشركوا أذى كثيرا) * روي أن أبا بكر - رحمة الله عليه -
سمع رجلا من اليهود يقول: أو هو فقير يستقرض؟ فلطمه، فشكاه
اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل * (ولتسمعن من الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى) * [آية 186].
519

وأذى: مصور أذي يأذي، إذا تأوى.
212 - وقوله عز وجل * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه
للناس ولا تكتمونه..) * [آية 187].
قال سعيد بن جبير، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
والمعنى على هذا: لتبينن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا
تكتمونه.
وقال قتادة: " هذا ميثاق أخذه الله عز وجل على أهل
العلم، فمن علم سيئا فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم.
520

213 - ثم قال تعالى * (فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا..) *
[آية 187].
* (فنبذوه وراء ظهورهم) * أي تركوه، ثم بين لم فعلوا ذلك
فقال * (واشتروا به ثمنا قليلا) * أي أخذ الرشا، وكرهوا أن يتبعوا
الرسول صلى الله عليه وسلم فتبطل رياستهم.
214 - وقوله عز وجل * (لا يحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن
يحمدوا بما لم يفعلوا..) * [آية 188].
روي عن مروان أنه وجه إلى ابن عباس يقول: أكل من
فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل يعذب؟.
فقال ابن عباس: هذا في اليهود، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عن
شيء، فلم يخبروه به وأخبروه بغيره [وأحبوا أن] يحمدوا بذلك،
وفرحوا بما أتوا من كتمانهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل
* (لا تحسبن الذين يفرحون بما اتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم
يفعلوا..) * الآية.
521

وروى سعيد بن جبير أنه قرأ " لا تحسبن الذين يفرحون
بما أتوا " قال: اليهود، فرحوا بما أوتي آل إبراهيم من الكتاب،
والحكم، والنبوة.
ثم قال سعيد بن جبير " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا "
هو قولهم: نحن على دين إبراهيم.
522

215 - ثم قال عز وجل * (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) *
[آية 188].
أي بمنجاة * (ولهم عذاب أليم) * أي مؤلم.
216 - ثم قال عز وجل * (ولله ملك السماوات والأرض، والله على
كل شيء قدير) * [آية 189].
أي هو خالقهما، وخالق ما فيهما.
وهذا تكذيب للذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء.
217 - ثم قال عز وجل * (إن في خلق السماوات والأرض، واختلاف
الليل والنهار، لآيات لأولي الألباب) * [آية 190].
أي لعلامات دالة عليه، والألباب: العقول.
218 - وقوله عز وجل * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى
جنوبهم..) * [آية 191].
في معنى الآية قولان:
أحدهما: روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: " من لم
523

يستطيع أن يصلي قائما صلى قاعدا، وإلا مضطجعا ".
والقول الآخر: أنهم الذين يوحدون الله عز وجل على كل
حال، ويذكرونه. والقول الأول ليس بصحيح الإسناد.
وأيضا فإن الله تعالى إنما وصف أولي الألباب بالذكر له، على
كل الأحوال التي يكون الناس عليها.
ويبين لك هذا حديث ابن عباس، حين بات عند النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " فاستوى على فراشه قاعدا، ثم رفع رأسه إلى السماء ثم
قال: " سبحان الملك القدوس " ثلاث مرات - وقرأ * (إن في
خلق السماوات والأرض..) * حتى ختم السورة ".
524

219 - ثم قال عز وجل * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..) *
[آية 191].
أي ليكون ذلك أزيد في بصيرتهم.
220 - ثم قال عز وجل: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا..) * [آية 191].
أي يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا، فحذف يقولون.
221 - ثم قال عز وجل * (سبحانك فقنا عذاب النار) * [آية 191].
روي عن طلحة بن عبيد الله أنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم
عن " سبحان " فقال: تنزيه الله عن السوء).
525

وأصل التنزيه في اللغة: البعد، أي التنزيه الله عز وجل عن
الأنداد والأولاد.
222 - وقوله عز وجل * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته..) *
[آية 192].
حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام، قال: حدثنا أبو
الأزهر إملاء قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل، قال حدثنا أبو هلال
عن قتادة عن أنس في قوله عز وجل * (ربنا إنك تدخل النار
فقد أخزيته) * قال: من خلد في النار فقد أخزيته.
قال أبو الأزهر: وحدثنا روح قال حدثنا حماد بن زيد عن
جويبر عن الضحاك أنه تلا حديث الشفاعة فقال له رجل * (إنك
من تدخل النار فقد أخزيته) * قال: ذلك لهم خزي.
فمن أدخل النار فقد أخزي، وإن أخرج منها، لأن الخزي
526

إنما هو هتك ستر المخزى وفضيحته، يقال: خزي يخزى: إذا
ذل، وأخزيته: إذا أذللته إذلالا يتبين عليه.
223 - وقوله عز وجل * (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان..) *
[آية 193].
قال محمد بن كعب: هو القرآن، وليس كلهم سمع
النبي صلى الله عليه وسلم.
224 - وقوله عز وجل * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك..) 8
[آية 194].
لأنه وعد من وحده وآمن الجنة.
225 - وقوله عز وجل: * (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل
منكم من ذكر أو أنثى) * [آية 195].
527

ويقرأ " إني لا أضيع عمل عامل منكم " على معنى فقال:
إني، والفتح بمعنى بأني لا أضيع عمل عامل منك من ذكر أو
أنثى.
وروي أن أم سلمة قالت يا رسول الله: " ما سمعت الله ذكر
النساء في الهجرة "!!
فأنزل الله عز وجل * (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع
عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض..) *.
226 - وقوله عز وجل * (ثوابا من عند الله، والله عنده حسن
الثواب) * [آية 195].
أي جزاء، وأصله من ثاب يثوب إذا رجع، والتثويب في
النداء ترجيع الصوت.
227 - وقوله عز وجل * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) *
[آية 196].
528

أي لا يغرنك تصرفهم وسلامتهم، فإن آخر مصيرهم إلى
النار، فمن كان آخر مصير إلى النار لم يغبط.
228 - وقوله عز وجل * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما انزل
إليكم وما أنزل إليهم..) * [آية 199].
" روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي، وترحم عليه، فقال قوم من
المنافقين: صلى عليه وليس من أهل دينه!! " فأنزل الله عز وجل * (وإن
من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين
لله..) * أي متواضعين، ومنه قال الشاعر:
" وإذا افتقرت فلا تكن متخشعا وتجمل "
229 - ثم قال عز وجل * (لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا..) *
[آية 199].
لأنه قد خبر أن منهم من ثبت على دينه، لأخذ الرشا، ولئلا
تبطل رياسته.
529

230 - قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا، وصابروا،
ورابطوا..) * [آية 200].
أي اصبروا على دينكم * (وصابروا) * قال قتادة: أي صابروا
المشركين.
* (ورابطوا) * قال قتادة: أي جاهدوا.
وأصل الرباط والمرابطة عند أهل اللغة، أن العدو يربطون
خيولهم، ويربط المسلمون تحرزا، ثم كثر استعمالهم لها حتى
قيل لكل من أقام بالثغر: مرابط.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام قال: حدثنا الدارمي،
قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا جسر عن الحسن
* (يا أيها الذين آمنوا اصبروا) * قال: على المصائب * (وصابروا) *
530

قال: الصلوات الخمس * (ورابطوا) * أعداء الله في سبيل
الله.
231 - ثم قال عز وجل * (واتقوا الله) * أي لم تؤمروا بالجهاد فقط، فاتقوا
الله عز وجل فيما أمركم به، ونهاكم عنه.
232 - ثم قال عز وجل * (لعلكم تفلحون) * [آية 200].
أي لتكونوا على رجاء من الفلاح.
وأصل الفلاح: البقاء والخلود، وقد بيناه فيما تقدم.
تمت سورة آل عمران
531