الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٧
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
* (الله لا إله إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء وسع كرسيه السماوات والارض ولا يؤوده حفظهما وهو العلى العظيم) *.
اعلم أن من عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط هذه الأنواع الثلاثة بعضها بالبعض، أعني علم التوحيد، وعلم الأحكام، وعلم القصص، والمقصود من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف، وهذا الطريق هو الطريق الأحسن لا إبقاء الإنسان في النوع الواحد لأنه يوجب الملال، فأما إذا انتقل من نوع من العلوم إلى نوع آخر فكأنه يشرح به الصدر ويفرح به القلب، فكأنه سافر من بلد إلى بلد آخر وانتقل من بستان إلى بستان آخر، وانتقل من تناول طعام لذيذ إلى تناول نوع آخر، ولا شك أنه يكون ألذ وأشهى، ولما ذكر فيما تقدم من علم الأحكام ومن علم القصص ما رآه مصلحة ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد، فقال: * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في فضائل هذه الآية روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
2

" ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة " وعن علي أنه قال: سمعت نبيكم على أعواد المنبر وهو يقول: " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات التي حوله " وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي: أين أنتم من آية الكرسي، ثم قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا علي سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي " وعن علي أنه قال: لما كان يوم بدر قاتلت ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ماذا يصنع، قال فجئت وهو ساجد يقول: يا حي يا قيوم، لا يزيد على ذلك، ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو يقول ذلك، فلا أزال أذهب وأرجع وأنظر إليه، وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له.
واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم فكلما كان المذكور والمعلوم أشرف كان الذكر والعلم أشرف، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله سبحانه بل هو متعال عن أن يقال: إنه أشرف من غيره، لأن ذلك يقتضي نوع مجانسة ومشاكلة، وهو مقدس عن مجانسة ما سواه، فلهذا السبب كل كلام اشتمل على نعوت جلاله وصفات كبريائه، كان ذلك الكلام في نهاية الجلال والشرف، ولما كانت هذه الآية كذلك لا جرم كانت هذه الآية بالغة في الشرف إلى أقصى الغايات وأبلغ النهايات.
المسألة الثانية: اعلم أن تفسير لفظة * (الله) * قد تقدم في أول الكتاب وتفسير قوله * (لا إله إلا هو) * قد تقدم في قوله * (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو) * (البقرة: 163) بقي هاهنا أن نتكلم في تفسير قوله: * (الحي القيوم) * وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول: أعظم أسماء الله * (الحي القيوم) * وما روينا أنه صلوات الله وسلامه عليه ما كان يزيد على ذكره في السجود يوم بدر يدل على عظمة هذا الاسم والبراهين العقلية دالة على صحته وتقريره، ومن الله التوفيق: أنه لا شك في وجود الموجودات فهي إما أن تكون بأسراها ممكنة، وإما أن تكون بأسراها واجبة وإما أن تكون بعضها ممكنة وبعضها واجبة لا جائز أن تكون بأسراها ممكنة، لأن كل مجموع فهو مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزاء هذا المجموع ممكن والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان، فهذا المجموع ممكن بذاته وكل واحد من أجزائه ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح مغاير له، فهذا المجموع مفتقر بحسب كونه مجموعا وبحسب كل واحد من أجزائه إلى مرجح مغاير له وكل ما كان
3

مغايرا لكل الممكنات لم يكن ممكنا فقد وجد موجود ليس بممكن، فبطل القول بأن كل موجود ممكن وأما القسم الثاني وهو أن يقال الموجودات بأسرها واجبة فهذا أيضا باطل. لأنه لو حصل وجودان كل واحد منهما واجب لذاته لكانا مشتركين في الوجوب بالذات ومتغايرين بالنفي، وما به المشاركة مغاير لما به الممايزة، فيكون كل واحد منهما مركبا في الوجوب الذي به المشاركة، ومن الغير الذي به الممايزة، وكل مركب فهو مفتقر إلى كل واحد من جزئه وجزء غيره، وكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، فلو كان واجب الوجود أكثر من واحد لما كان شيء منها واجب الوجود وذلك محال، ولما بطل هذان القسمان ثبت أنه حصل في مجموع الموجودات موجود واحد واجب الوجود لذاته وإن كل ما عداه فهو ممكن لذاته موجود بإيجاد ذلك الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته، ولما بطل هذان فالواجب لذاته موجود لذاته وبذاته، ومستغن في وجوده عن كل ما سواه، وأما كل ما سواه فمفتقر في وجوده وماهيته إلى إيجاد الواجب لذاته، فالواجب لذاته قائم بذاته وسبب لتقوم كل ما سواه في ماهيته وفي وجوده، فهو القيوم الحي بالنسبة إلى كل الموجودات، فالقيوم هو المتقوم بذاته، المقوم لكل ما عداه في ماهيته ووجوده، ولما كان واجب الوجود لذاته كان هو القيوم الحق بالنسبة إلى الكل، ثم إنه لما كان المؤثر في الغير إما أن يكون مؤثرا على سبيل العلية والإيجاب وإما أن يكون مؤثرا على سبيل الفعل والاختيار: لا جرم أزال وهم كونه مؤثرا بالعلية والإيجاب بقوله * (الحي القيوم) * فإن * (الحي) * هو الدرك الفعال، فبقوله * (الحي) * دل على كونه عالما قادرا، وبقوله * (القيوم) * دل على كونه قائما بذاته ومقوما لكل ما عداه، ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد.
فأولها: أن واجب الوجود واحد بمعنى أن ماهيته غير مركبة من الأجزاء، وبرهانه أن كل مركب فإنه مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه وجزؤه غيره، وكل مركب فهو متقوم بغيره، والمتقوم بغيره لا يكون متقوما بذاته، فلا يكون قيوما، وقد بينا بالبرهان أنه قيوم وإذا ثبت أنه تعالى في ذاته واحد، فهذا الأصل له لازمان أحدها: أن واجب الوجود واحد بمعنى أنه ليس في الوجود شيئان كل واحد منهما واجب لذاته إذ لو فرض ذلك لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعين، وما به المشاركة غير ما به المباينة، فيلزم كون كل واحد منهما في ذاته مركبا من جزأين، وقد بينا بيان أنه محال.
اللازم الثاني: أنه لما امتنع في حقيقته أن تكون مركبة من جزأين امتنع كونه متحيزا، لأن
4

كل متحيز فهو منقسم، وقد ثبت أن التركيب عليه ممتنع، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيزا امتنع كونه في الجهة، لأنه لا معنى للمتحيز إلا ما يمكن أن يشار إليه إشارة حسية، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز وليس في الجهة، امتنع أن يكون له أعضاء وحركة وسكون.
وثانيها: أنه لما كان قيوما كان قائما بذاته، وكونه قائما بذاته يستلزم أمور:
اللازم الأول: أن لا يكون عرضا في موضوع، ولا صورة في مادة، ولا حالا في محل أصلا لأن الحال مفتقر إلى المحل والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوما بذاته.
واللازم الثاني: قال بعض العلماء: لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم، فإذا كان قيوما بمعنى كونه قائما بنفسه لا بغيره كانت حقيقته حاضرة عند ذاته، وإذا كان لا معنى للعلم إلا هذا الحضور، وجب أن تكون حقيقته معلومة لذاته فإذن ذاته معلومة لذاته، وكل ما عداه فإنه إنما يحصل بتأثيره، ولأنا بينا أنه قيوم بمعنى كونه مقوما لغيره، وذلك التأثير إن كان بالاختيار فالفاعل المختار لا بد وأن يكون له شعور بفعله وإن كان بالإيجاب لزم أيضا كونه عالما بكل ما سواه لأن ذاته موجبة لكل ما سواه، وقد دللنا على أنه يلزم من كونه قائما بالنفس لذاته كونه عالما بذاته، والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، فعلى التقديرات كلها يلزم من كونه قيوما كونه عالما بجميع المعلومات.
وثالثها: لما كان قيوما لكل ما سواه كان كل ما سواه محدثا، لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقاء ذلك الغير لأن تحصيل الحاصل محال فهو إما حال عدمه وإما حال حدوثه وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل محدثا.
ورابعها: أنه لما كان قيوما لكل الممكنات استندت كل الممكنات إليه إما بواسطة أو بغير واسطة، وعلى التقديرين كان القول بالقضاء والقدر حقا، وهذا مما قد فصلناه وأوضحناه في هذا الكتاب في آيات كثيرة فأنت إن ساعدك التوفيق وتأملت في هذه المعاقد التي ذكرناها علمت أنه لا سبيل إلى الإحاطة بشيء من المسائل المتعلقة بالعلم الإلهي إلا بواسطة كونه تعالى حيا قيوما فلا جرم لا يبعد أن يكون الاسم الأعظم هو هذا، وأما سائر الآيات الإلهية، كقوله * (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو) * (البقرة: 163) وقوله * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * (آل عمران: 18) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند، وأما قوله * (قل هو الله أحد) * (الصمد: 1) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند، وبمعنى أن حقيقته غير مركبة من الأجزاء، وأما قوله * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) * (الأعراف: 54) ففيه بيان صفة الربوبية وليس فيه بيان وحدة الحقيقة، أما قوله * (الحي القيوم) * فإنه يدل على الكل لأن كونه قيوما يقتضي أن يكون قائما بذاته، وأن يكون مقوما لغيره وكونه قائما بذاته يقتضي الوحدة بمعنى نفي الكثرة في
5

حقيقته، وذلك يقتضي الوحدة بمعنى نفي الضد والند ويقتضي نفي التحيز وبواسطته يقتضي نفي الجهة، وأيضا كونه قيوما بمعنى كونه مقوما لغيره يقتضي حدوث كل ما سواه جسما كان أو روحا عقلا كان أو نفسا، ويقتضي استناد الكل إليه وانتهاء جملة الأسباب والمسببات إليه، وذلك يوجب القول بالقضاء والقدر فظهر أن هذين اللفظين كالمحيطين بجميع مباحث العلم الإلهي، فلا جرم بلغت هذه الآية في الشرف إلى المقصد الأقصى واستوجب أن يكون هو الاسم الأعظم من أسماء الله تعالى.
ثم إنه تعالى لما بين أنه حي قيوم أكد ذلك بقوله * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * والمعنى: أنه لا يغفل عن تدبير الخلق، لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة لاختل أمر الطفل، فهو سبحانه قيم جميع المحدثات، وقيوم الممكنات، فلا يمكن أن يغفل عن تدبيرهم، فقوله * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * كالتأكيد لبيان كونه تعالى قائما، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل: إنك لو سنان نائم، ثم إنه تعالى لما بين كونه قيوما بمعنى كونه قائما بذاته، مقوما لغيره، رتب عليه حكما وهو قوله * (له ما في السماوات وما في الأرض) * لأنه لما كان كل ما سواه إنما تقومت ماهيته، وإنما يحصل وجوده بتقويمه وتكوينه وتخليقه لزم أن يكون كل ما سواه ملكا له وملكا له، وهو المراد من قوله * (له ما في السماوات وما في الأرض) * ثم لما ثبت أنه هو الملك والمالك لكل ما سواه، ثبت أن حكمه في الكل جار ليس لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره، وهو المراد بقوله * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * ثم لما بين أنه يلزم من كونه مالكا للكل، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه، بين أيضا أنه يلزم من كونه عالما بالكل وكون غيره غير عالم بالكل، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه إلا بإذنه، وهو قوله * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) * وهو إشارة إلى كونه سبحانه عالما بالكل، ثم قال: * (ولا يحيطون بشيء من علمه) * وهو إشارة إلى كون غيره غير عالم بجميع المعلومات، ثم إنه لما بين كمال ملكه وحكمه في السماوات وفي الأرض، بين أن ملكه فيما وراء السماوات والأرض أعظم وأجل، وأن ذلك مما لا تصل إليه أوهام المتوهمين وينقطع دون الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها المتخيلين، فقال: * (وسع كرسيه السماوات والأرض) * ثم بين أن نفاذ حكمه وملكه في الكل على نعت واحد، وصورة واحدة، فقال: * (ولا يؤده حفظهما) * ثم لما بين كونه قيوما بمعنى كونه مقوما للمحدثات والممكنات والمخلوقات، بين كونه قيوما بمعنى قائما بنفسه وذاته، منزها عن الاحتياج إلى غيره في أمر من الأمور، فتعالى عن أن يكون متحيزا حتى يحتاج إلى مكان، أو متغيرا حتى يحتاج إلى زمان، فقال: * (وهو العلي العظيم) * فالمراد منه العلو والعظمة، بمعنى أنه لا يحتاج إلى غيره في أمر من الأمور، ولا ينسب غيره في
6

صفة من الصفات ولا في نعت من النعوت، فقال: * (وهو العلي العظيم) * إشارة إلى ما بدأ به في الآية من كونه قيوما بمعنى كونه قائما بذاته مقوما لغيره، ومن أحاط عقله بما ذكرنا علم أنه ليس عند العقول البشرية من الأمور الإلهية كلام أكمل، ولا برهان أوضح مما اشتملت عليه هذه الآيات.
وإذا عرفت هذه الأسرار، فلنرجع إلى ظاهر التفسير.
أما قوله * (الله لا إله إلا هو) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: * (الله) * رفع بالابتداء، وما بعده خبره.
المسألة الثانية: قال بعضهم: الإله هو المعبود، وهو خطأ لوجهين الأول: أنه تعالى كان إلها في الأزل، وما كان معبودا والثاني: أنه تعالى أثبت معبودا سواه في القرآن بقوله * (إنكم وما تعبدون من دون الله) * (الأنبياء: 98) بل الإله هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقا للعبادة.
أما قوله * (الحي) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الحي أصله حيي كقوله: حذر وطمع فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما، وقال ابن الأنباري: أصله الحيو، فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكنا فجعلنا ياء مشددة.
المسألة الثانية: قال المتكلمون الحي كل ذات يصح أن يعلم ويقدر، واختلفوا في أن هذا المفهوم صفة موجودة أم لا، فقال بعضهم: إنه عبارة عن كون الشيء بحيث لا يمتنع أنه يعلم ويقدر، وعدم الامتناع لا يكون صفة موجودة، وقال المحققون: ولما كانت الحياة عبارة عن عدم الامتناع، وقد ثبت أن الامتناع أمر عدمي، إذ لو كان وصفا موجودا لكان الموصوف به موجودا، فيكون ممتنع الوجود موجودا وهو محال، وثبت أن الامتناع عدم، وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع. وثبت أن عدم العدم وجود، لزم أي يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة وهو المطلوب.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: لما كان معنى الحي هو أنه الذي يصح أن يعلم ويقدر، وهذا القدر حاصل لجميع الحيوانات، فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات.
والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن هذه الصحة، بل كل شيء كان كاملا في جنسه، فإنه يسمى حيا، ألا ترى أن عمارة الأرض الخربة تسمى: إحياء الموات، وقال تعالى: * (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها) * (الروم: 50) وقال: * (إلى بلد ميت فأحيينا به
7

الأرض) * (فاطر: 9) والصفة المسماة في عرف المتكلمين، إنما سميت بالحياة لأن كمال حال الجسم أن يكون موصوفا بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة وكمال حال الأشجار أن لا تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة وكمال الأرض أن تكون معمورة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة فثبت أن المفهوم الأصلي من لفظ الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته، وإذا كان كذلك فقد زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل، ولما لم يكن ذلك مقيدا بأنه كامل في هذا دون ذاك دل على أنه كامل على الإطلاق، فقوله الحي يفيد كونه كاملا على الإطلاق، والكامل هو أن لا يكون قابلا للعدم، لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقة ولا في صفاته النسبية والإضافية، ثم عند هذا إن خصصنا القيوم بكونه سببا لتقويم غيره فقد زال الإشكال، لأن كونه سببا لتقويم غيره يدل على كونه متقوما بذاته، وكونه قيوما يدل على كونه مقوما لغيره، وإن جعلنا القيوم اسما يدل على كونه يتناول المتقوم بذاته والمقوم لغيره كان لفظ القيوم مفيدا فائدة لفظ الحي مع زيادة، فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (القيوم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: القيوم في اللغة مبالغة في القائم، فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكنا جعلتا ياء مشددة، ولا يجوز أن يكون على فعول، لأنه لو كان كذا لكان قووما، وفيه ثلاث لغات: قيوم، وقيام وقيم، ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ: الحي القيام ومن الناس من قال هذه اللفظة عبرية لا عربية، لأنهم يقولون: حيا قيوما، وليس الأمر كذلك، لأنا بينا أن له وجها صحيحا في اللغة، ومثله ما في الدار ديار وديور، ودير، وهو من الدوران، أي ما بها خلق يدور، يعني: يجيء ويذهب، وقال أمية بن أبي الصلت: قدرها المهيمن القيوم (c)
المسألة الثانية: اختلفت عبارات المفسرين في هذا الباب، فقال مجاهد: القيوم القائم على كل شيء، وتأويله أنه قائم بتدبير أمر الخلق في إيجادهم، وفي أرزاقهم، ونظيره من الآيات قوله تعالى: * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) * (الرعد: 33) وقال: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * (آل عمران: 18) إلى قوله * (قائما بالقسط) * وقال: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) * (فاطر: 41) وهذا القول يرجع حاصله إلى كونه مقوما لغيره، وقال الضحاك: القيوم الدائم الوجود الذي يمتنع عليه التغير، وأقول: هذا القول يرجع معناه إلى كونه قائما بنفسه في ذاته وفي وجوده، وقال بعضهم: القيوم الذي لا ينام بالسريانية، وهذا القول بعيد، لأنه يصير قوله * (لا تأخذه سنة
8

ولا نوم) *. تكرارا
أما قوله تعالى: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: * (السنة) * ما يتقدم من الفتور الذي يسمى النعاس.
فإن قيل: إذ كانت السنة عبارة عن مقدمة النوم، فإذا قال: * (لا تأخذه سنة) * فقد دل ذلك على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى، وكان ذكر النوم تكريرا.
قلنا: تقدير الآية: لا تأخذه سنة فضلا عن أن يأخذه النوم.
المسألة الثانية: الدليل العقلي دل على أن النوم والسهو والغفلة محالات على الله تعالى، لأن هذه الأشياء، إما أن تكون عبارات عن عدم العلم، أو عن أضداد العلم، وعلى التقديرين فجواز طريانها يقتضي جواز زوال علم الله تعالى، فلو كان كذلك لكانت ذاته تعالى بحيث يصح أن يكون عالما، ويصح أن لا يكون عالما، فحينئذ يفتقر حصول صفة العلم له إلى الفاعل، والكلام فيه كما في الأول والتسلسل محال فلا بد وأن ينتهي إلى من يكون علمه صفة واجبة الثبوت ممتنعة الزوال، وإذا كان كذلك
كان النوم والغفلة والسهو عليه محالا.
المسألة الثالثة: يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حكي عن موسى عليه السلام أنه وقع في نفسه: هل ينام الله تعالى أم لا، فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا، ثم أعطاه قارورتين في كل يد واحدة، وأمره بالاحتفاظ بهما، وكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان، فضرب الله تعالى ذلك مثلا له في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السماوات والأرض.
واعلم أن مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى عليه السلام، فإن من جوز النوم على الله أو كان شاكا في جوازه كان كافرا، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى، بل إن صحت الرواية،. فالواجب نسبة هذا السؤال إلى جهال قومه.
أما قوله تعالى: * (له ما في السماوات وما في الأرض) * فالمراد من هذه الإضافة إضافة الخلق والملك، وتقديره ما ذكرنا من أنه لما كان واجب الوجود واحدا كان ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ممكن فله مؤثر، وكل ما له مؤثر فهو محدث فإذن كل ما سواه فهو محدث بإحداثه مبدع بإبداعه فكانت هذه الإضافة إضافة الملك والإيجاد.
فإن قيل: لم قال: * (له ما في السماوات) * ولم يقل: له من في السماوات؟.
قلنا: لما كان المراد إضافة ما سواه إليه بالمخلوقية، وكان الغالب عليه ما لا يعقل أجرى الغالب
9

مجرى الكل فعبر عنه بلفظ * (ما) * وأيضا فهذه الأشياء إنما أسندت إليه من حيث إنها مخلوقة، وهي من حيث إنها مخلوقة غير عاقلة، فعبر عنها بلفظ * (ما) * للتنبيه على أن المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة.
واعلم أن الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، قالوا: لأن قوله * (له ما في السماوات وما في الأرض) * يتناول كل ما في السماوات والأرض، وأفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق، وكما أن اللفظ يدل على هذا المعنى فالعقل يؤكده، وذلك لأن كل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يترجح إلا بتأثير واجب الوجود لذاته، وإلا لزم ترجح الممكن من غير مرجح وهو محال.
أما قوله تعالى: * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * ففيه مسألتان: المسألة الأولى: قوله * (من ذا الذي) * استفهام معناه الإنكار والنفي، أي لا يشفع عنده أحد إلا بأمره وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3) وقولهم * (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * (يونس: 18) ثم بين تعالى أنهم لا يجدون هذا المطلوب. فقال: * (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) * (يونس: 18) فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا من استثناه الله تعالى بقوله * (إلا بإذنه) * ونظيره قوله تعالى: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) * (النبأ: 38).
المسألة الثانية: قال القفال: إنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين، إذ كان لا يجوز في حكمته التسوية بين أهل الطاعة وأهل المعصية، وطول في تقريره.
وأقول: إن هذا القفال عظيم الرغبة في الاعتزال حسن الاعتقاد في كلماتهم، ومع ذلك فقد كان قليل الإحاطة بأصولهم، وذلك لأن من مذهب البصريين منهم أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في العقول، إلا أن السمع دل على أن ذلك لا يقع، وإذا كان كذلك كان الاستدلال العقلي على المنع من الشفاعة في حق العصاة خطأ على قولهم، بل على مذهب الكعبي أن العفو عن المعاصي قبيح عقلا، فإن كان القفال على مذهب الكعبي، فحينئذ يستقيم هذا الاستدلال، إلا أن الجواب عنه يرد ذلك من وجوه الأول: أن العقاب حق الله تعالى وللمستحق أن يسقط حق نفسه، بخلاف الثواب فإنه حق العبد فلا يكون لله تعالى أن يسقطه، وهذا الفرق ذكره البصريون في الجواب عن شبهة الكعبي والثاني: أن قوله: لا يجوز التسوية بين المطيع والعاصي إن أراد به أنه لا يجوز التسوية بينهما في أمر من الأمور فهو جهل، لأنه تعالى قد سوى بينهما في الخلق والحياة والرزق وإطعام الطيبات، والتمكين من المرادات وإن كان المراد أنه
10

لا يجوز التسوية بينهما في كل الأمور فنحن نقول بموجبه، فكيف لا يقول ذلك والمطيع لا يكون له جزع، ولا يكون خائفا من العقاب، والمذنب يكون في غاية الخوف وربما يدخل النار ويتألم مدة، ثم يخلصه الله تعالى عن ذلك العذاب بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن القفال رحمه الله كان حسن الكلام في التفسير دقيق النظر في تأويلات الألفاظ إلا أنه كان عظيم المبالغة في تقرير مذهب المعتزلة مع أنه كان قليل الحظ من علم الكلام قليل النصيب من معرفة كلام المعتزلة.
أما قوله تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": الضمير لما في السماوات والأرض، لأن فيهم العقلاء، أو لما دل عليه * (من ذا) * من الملائكة والأنبياء.
المسألة الثانية: في الآية وجوه أحدها: قال مجاهد، وعطاء، والسدي * (ما بين أيديهم) * ما كان قبلهم من أمور الدنيا * (وما خلفهم) * ما يكون بعدهم من أمر الآخرة والثاني: قال الضحاك والكلبي * (يعلم ما بين أيديهم) * يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها * (وما خلفهم) * الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم والثالث: قال عطاء عن ابن عباس * (يعلم ما بين أيديهم) * من السماء إلى الأرض * (وما خلفهم يريد ما في السماوات والرابع: * (يعلم ما بين أيديهم) * بعد انقضاء آجالهم * (وما خلفهم) * أي ما كان من قبل أن يخلقهم والخامس: ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام: أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق العقاب والثواب، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله تعالى، ولا يعلمون أن الله تعالى هل أذن لهم في تلك الشفاعة وأنهم يستحقون المقت والزجر على ذلك، وهذا يدل على أنه ليس لأحد من الخلائق أن يقدم على الشفاعة إلا بإذن الله تعالى.
المسألة الثالثة: هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكون هم الملائكة، وسائر من يشفع يوم القيامة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
أما قوله * (ولا يحيطون بشيء من علمه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المراد بالعلم ههنا كما يقال: اللهم اغفر لنا علمك فينا، أي معلومك وإذا ظهرت آية عظيمة، قيل: هذه قدرة الله، أي مقدوره والمعنى: أن أحدا لا يحيط بمعلومات الله تعالى.
11

المسألة الثانية: احتج بعض الأصحاب بهذه الآية في إثبات صفة العلم لله تعالى وهو ضعيف لوجوه أحدها: أن كلمة * (من) * للتبعيض، وهي داخلة هاهنا على العلم. فلو كان المراد من العلم نفس الصفة لزم دخول التبعيض في صفة الله تعالى وهو محال والثاني: أن قوله * (بما شاء) * لا يأتي في العلم إنما يأتي في المعلوم والثالث: أن الكلام إنما وقع هاهنا في المعلومات، والمراد أنه تعالى عالم بكل المعلومات، والخلق لا يعلمون كل المعلومات، بل لا يعلمون منها إلا القليل.
علمه أقصاه قد أحاط به، وذلك لأنه علم بأول الشيء وآخره بتمامه صار العلم كالمحيط به.
أما قوله * (إلا بما شاء) * ففيه قولان أحدها: أنهم لا يعلمون شيئا من معلوماته إلا ما شاء هو أن يعلمهم كما حكي عنهم أنهم قالوا * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) * والثاني: أنهم لا يعلمون الغيب إلا عند إطلاع الله بعض أنبيائه على بعض الغيب، كما قال: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا إلا من ارتضى من رسول) *.
أما قوله تعالى: * (وسع كرسيه السماوات والأرض) * فاعلم أنه يقال: وسع فلانا الشيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به، ولا يسعك هذا، أي لا تطبقه ولا تحتمله ومنه قوله عليه السلام: " لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أتباعي " أي لا يحتمل غير ذلك وأما الكرسي فأصله في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض، والكرسي أبوال الدواب وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض، وأكرست الدار إذا كثرت فيها الأبعار والأبوال وتلبد بعضها على بعض، وتكارس الشيء إذا تركب، ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض * (والكرسي) * هو هذا الشيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعض.
واختلف المفسرون على أربعة أقوال الأول: أنه جسم عظيم يسع السماوات والأرض، ثم اختلفوا فيه فقال الحسن * (الكرسي) * هو نفس العرش، لأن السرير قد يوصف بأنه عرش، وبأنه كرسي، لكون كل واحد منهما بحيث يصح التمكن عليه، وقال بعضهم: بل الكرسي غير العرش، ثم اختلفوا فمنهم من قال: إنه دون العرش وفوق السماء السابعة، وقال آخرون إنه تحت الأرض وهو منقول عن السدي.
واعلم أن لفظ الكرسي ورد في الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة ولا امتناع في القول به فوجب القول باتباعه، وأما ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: موضع القدمين، ومن البعيد أن يقول
12

ابن عباس: هو موضع قدمي الله تعالى وتقدس عن الجوارح والأعضاء، وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة على نفي الجسمية في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى.
القول الثاني: أن المراد من * (الكرسي) * السلطان والقدرة والملك، ثم تارة يقال: الإلهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد، والعرب يسمون أصل كل شيء * (الكرسي) * وتارة يسمى الملك بالكرسي، لأن الملك يجلس على الكرسي، فيسمى الملك باسم مكان الملك.
القول الثالث: أن * (الكرسي) * هو العلم، لأن العلم موضع العالم، وهو الكرسي فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه، والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه، ومنه يقال للعلماء: كراسي، لأنهم الذين يعتمد عليهم كما يقال لهم: أوتاد الأرض.
والقول الرابع: ما اختاره القفال، وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه، وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم من ذلك أنه جعل الكعبة بيتا له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعا للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشا، فقال * (الرحمن على العرش استوى) * (طه: 5) ثم وصف عرشه فقال * (وكان عرشه على الماء) * (هود: 7) ثم قال: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمده ربهم) * (الزمر: 75) وقال: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * وقال: * (الذين يحملون العرش ومن حوله) * (غافر: 7) ثم أثبت لنفسه كرسيا فقال: * (وسع كرسيه السماوات والأرض) *.
إذا عرفت هذا فنقول: كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي، فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر، ولما توافقنا ههنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه منزه عن الكعبة، فكذا الكلام في العرش والكرسي، وهذا جواب مبين إلا أن المعتمد هو الأول، لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (ولا يؤده حفظهما) * فاعلم أنه يقال: آده يؤده: إذا أثقله وأجهده، وأدت العود أودا، وذلك إذا اعتمدت عليه بالثقل حتى أملته، والمعنى: لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما
13

أي حفظ السماوات والأرض.
ثم قال: * (وهو العلي العظيم) * واعلم أنه لا يجوز أن يكون المراد منه العلو بالجهة، وقد دللنا على ذلك بوجوه كثيرة، ونزيد هاهنا وجهين آخرين الأول: أنه لو كان علوه بسبب المكان، لكان لا يخلو إما أن يكون متناهيا في جهة فوق، أو غير متناه في تلك الجهة، والأول باطل لأنه إذا كان متناهيا في جهة فوق، كان الجزء المفروض فوقه أعلى منه، فلا يكون هو أعلى من كل ما عداه، بل يكون غيره أعلى منه، وإن كان غير متناه فهذا محال، لأن القول بإثبات بعد لا نهاية له باطل بالبراهين اليقينية، وأيضا فإنا إذا قدرنا بعدا لا نهاية له، لافترض في ذلك البعد نقط غير متناهية، فلا يخلو إما أن يحصل في تلك النقط نقطة واحدة لا يفترض فوقها نقطة أخرى، وإما أن لا يحصل، فإن كان الأول كانت النقطة طرفا لذلك البعد، فيكون ذلك البعد متناهيا، وقد فرضناه غير متناه. هذا خلف، وإن لم يوجد فيها نقطة إلا وفوقها نقطة أخرى كان كل واحدة من تلك النقط المفترضة في ذلك البعد سفلا، ولا يكون فيها ما يكون فوقا على الاطلاق، فحينئذ لا يكون لشيء من النفقات المفترضة في ذلك البعد علو مطلق البتة وذلك ينفي صفة العلوية.
الحجة الثانية: أن العالم كرة، ومتى كان الأمر كذلك فكل جانب يفرض علوا بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض يكون سفلا بالنسبة إلى الوجه الثاني، فينقلب غاية العلو غاية السفل.
الحجة الثالثة: أن كل وصف يكون ثبوته لأحد الأمرين بذاته، وللآخر بتبعية الأول كان ذلك الحكم في الذاتي أتم وأكمل، وفي العرضي أقل وأضعف، فلو كان علو الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلو لله تعالى صفة ذاتية، ولكان حصول هذا العلو لله تعالى حصولا بتبعية حصوله في المكان، فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى، فيكون علو الله ناقصا وعلو غيره كاملا وذلك محال، فهذه الوجوه قاطعة في أن علو الله تعالى يمتنع أن يكون بالجهة، وما أحسن ما قال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير قوله * (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) * (الأنعام: 12) قال: وهذا يدل على أن المكان والمكانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته، ثم قال: * (وله ما سكن في الليل والنهار) * (الأنعام: 13) وهذا يدل على أن الزمان والزمانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته، فتعالى وتقدس عن أن يكون علوه بسبب المكان وأما عظمته فهي أيضا بالمهابة والقهر والكبرياء، ويمتنع أن تكون بسبب المقدار والحجم، لأنه
14

إن كان غير متناه في كل الجهات أو في بعض الجهات فهو محال لما ثبت بالبراهين القاطعة عدم إثبات أبعاد غير متناهية، وإن كان متناهيا من كل الجهات كانت الأحياز المحيطة بذلك المتناهي أعظم منه، فلا يكون مثل هذا الشيء عظيما على الاطلاق، فالحق أنه سبحانه وتعالى أعلى وأعظم من أن يكون من جنس الجواهر والأجسام تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
قوله تعالى
* (لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: اللام في * (الدين) * فيه قولان أحدهما: أنه لام العهد والثاني: أنه بدل من الإضافة، كقوله * (فإن الجنة هي المأوى) * (النازعات: 41) أي مأواه، والمراد في دين الله.
المسألة الثانية: في تأويل الآية وجوه أحدها: وهو قول أبي مسلم والقفال وهو الأليق بأصول المعتزلة: معناه أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار، ثم احتج القفال على أن هذا هو المراد بأنه تعالى لما بين دلائل التوحيد بيانا شافيا قاطعا للعذر، قال بعد ذلك: إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان، ونظير هذا قوله تعالى: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 29) وقال في سورة أخرى * (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) * (الشعراء: 3، 4) وقال في سورة الشعراء * (لعلك باخع نفسك الآ يكونوا مؤمنين، إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) * ومما يؤكد هذا القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية * (قد تبين الرشد من الغي) * يعني ظهرت الدلائل، ووضحت البينات، ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه، وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف فهذا تقرير هذا التأويل.
القول الثاني: في التأويل هو أن الإكراه أن يقول المسلم للكافر: إن آمنت وإلا قتلتك فقال تعالى: * (لا إكراه في الدين) * أما في حق أهل الكتاب وفي حق المجوس، فلأنهم إذا قبلوا
15

الجزية سقط القتل عنهم، وأما سائر الكفار فإذا تهودوا أو تنصروا فقد اختلف الفقهاء فيهم، فقال بعضهم: إنه يقر عليه؛ وعلى هذا التقدير يسقط عنه القتل إذا قبل الجزية، وعلى مذهب هؤلاء كان قوله * (لا أكراه في الدين) * عاما في كل الكفار، أما من يقول من الفقهاء بأن سائر الكفار إذا تهودوا أو تنصروا فإنهم لا يقرون عليه، فعلى قوله يصح الإكراه في حقهم، وكان قوله * (لا أكراه) * مخصوصا بأهل الكتاب.
والقول الثالث: لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرها، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره، ومعناه لا تنسبوهم إلى الإكراه، ونظيره قوله تعالى: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) * (النساء: 94).
أما قوله تعالى: * (قد تبين الرشد من الغي) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: يقال: بان الشيء واستبان وتبين إذا ظهر ووضح، ومنه المثل: قد تبين الصبح لذي عينين، وعندي أن الإيضاح والتعريف إنما سمي بيانا لأنه يوقع الفصل والبينونة بين المقصود وغيره، والرشد في اللغة معناه إصابة الخير، وفيه لغتان: رشد ورشد والرشاد مصدر أيضا كالرشد، والغي نقيض الرشد، يقال غوي يغوي غيا وغواية، إذا سلك غير طريق الرشد.
المسألة الثانية: * (تبين الرشد من الغي) * أي تميز الحق من الباطل، والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة، قال القاضي: ومعنى * (قد تبين الرشد) * أي أنه قد اتضح وانجلى بالأدلة لا أن كل مكلف تنبه لأن المعلوم ذلك وأقول: قد ذكرنا أن معنى * (تبين) * انفصل وامتاز، فكان المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين، وعلى هذا كان اللفظ مجري على ظاهره.
أما قوله تعالى: * (فمن يكفر بالطاغوت) * فقد قال النحويون: الطاغوت وزنه فعلوت، نحو جبروت، والتاء زائدة وهي مشتقة من طغا، وتقديره طغووت، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين كعادتهم في القلب، نحو: الصاقعة والصاعقة، ثم قلبت الواو ألفا لوقوعها في موضع حركة وانفتاح ما قبلها، قال المبرد في الطاغوت: الأصوب عندي أنه جمع قال أبو علي الفارسي: وليس الأمر عندنا كذلك، وذلك لأن الطاغوت مصدر كالرغبوت والرهبوت والملكوت، فكما أن هذه الأسماء آحاد كذلك هذا الاسم مفرد وليس بجمع، ومما يدل على أنه مصدر مفرد قوله
16

* (أولياؤهم الطاغوت) * فأفرد في موضع الجمع، كما يقال: هم رضاهم عدل، قالوا: وهذا اللفظ يقع على الواحد وعلى الجمع، أما في الواحد فكما في قوله تعالى: * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) * (النساء: 60) وأما في الجمع فكما في قوله تعالى: * (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) * (البقرة: 257) وقالوا: الأصل فيه التذكير، فأما قوله: * (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) * (الزمر: 17) فإنما أنثت إرادة الآلهة.
إذا عرفت هذا فنقول: ذكر المفسرون فيه خمسة أقوال الأول: قال عمر ومجاهد وقتادة هو الشيطان الثاني: قال سعيد بن جبير: الكاهن الثالث: قال أبو العالية: هو الساحر الرابع: قال بعضهم الأصنام الخامس: أنه مردة الجن والإنس وكل ما يطغى، والتحقيق أنه لما حصل الطغيان عند الاتصال بهذه الأشياء جعلت هذه الأشياء أسبابا للطغيان كما في قوله * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * (إبراهيم: 36).
أما قوله * (ويؤمن بالله) * ففيه إشارة إلى أنه لا بد للكافر من أن يتوب أولا عن الكفر، ثم يؤمن بعد ذلك.
أما قوله * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * فاعلم أنه يقال: استمسك بالشيء إذا تمسك به والعروة جمعها عرا نحو عروة الدلو والكوز وإنما سميت بذلك، لأن العروة عبارة عن الشيء الذي يتعلق به والوثقى تأنيث الأوثق، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول، لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته، فكذا هاهنا من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه، ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها، لا جرم وصفها بأنها العروة الوثقى.
أما قوله * (لا انفصام لها) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الفصم كسر الشيء من غير إبانة، والانفصام مطاوع الفصم فصمته فانفصم والمقصود من هذا اللفظ المبالغة، لأنه إذا لم يكن لها انفصام، فإن لا يكون لها انقطاع أولى.
المسألة الثانية: قال النحويون: نظم الآية بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والعرب تضمر * (التي) * و * (الذي) * و * (من) * وتكتفي بصلاتها منها، قال سلامة بن جندل:
والعاديات أسامي للدماء بها * كأن أعناقها أنصاب ترحيب
يريد العاديات التي قال الله: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) أي من له.
17

ثم قال: * (والله سميع عليم) * وفيه قولان:
القول الأول: أنه تعالى يسمع قول من يتكلم بالشهادتين، وقول من يتكلم بالكفر، ويعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث.
والقول الثاني: روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة، وكان يسأل الله تعالى ذلك سرا وعلانية، فمعنى قوله * (والله سميع عليم) * يريد لدعائك يا محمد بحرصك عليه واجتهادك.
قوله تعالى
* (الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: * (الولي) * فعيل بمعنى فاعل من قولهم: ولى فلان الشيء يليه ولاية فهو وال وولى، وأصله من الولي الذي هو القرب، قال الهذلي: وعدت عواد دون وليك تشغب
ومنه يقال: داري تلى دارها، أي تقرب منها، ومنه يقال: للمحب المعاون: ولي. لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ولا يفارقك، ومنه الوالي، لأنه يلي القوم بالتدبير والأمر والنهي ومنه المولى ومن ثم قالوا في خلاف الولاية: العداوة من عدا الشيء إذا جاوزه، فلأجل هذا كانت الولاية خلاف العداوة. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمن فيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر، بأن قالوا: الآية دلت على أنه تعالى ولي الذين آمنوا على
التعيين ومعلوم أن الولي للشيء هو المتولي لما يكون سببا لصلاح الإنسان واستقامة أمره في الغرض المطلوب ولأجله قال تعالى: * (يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا
18

أولياءه إن أولياءه إلا المتقون) * (الأنفال: 34) فجعل القيم بعمارة المسجد وليا له ونفى في الكفار أن يكونوا أولياءه، فلما كان معنى الولي المتكفل بالمصالح، ثم إنه تعالى جعل نفسه وليا للمؤمنين على التخصيص، علمنا أنه تعالى تكفل بمصالحهم فوق ما تكفل بمصالح الكفار، وعند المعتزلة أنه تعالى سوى بين الكفار والمؤمنين في الهداية والتوفيق والألطاف، فكانت هذه الآية مبطلة لقولهم، قالت المعتزلة: هذا التخصيص محمول على أحد وجوه
الأول: أن هذا محمول على زيادة الألطاف، كما ذكره في قوله * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (محمد: 17) وتقريره من حيث العقل أن الخير والطاعة يدعو بعضه إلى بعض، وذلك لأن المؤمن إذا حضر مجلسا يجري فيه الوعظ، فإنه يلحق قلبه خشوع وخضوع وانكسار، ويكون حاله مفارقا لحال من قسا قلبه بالكفر والمعاصي، وذلك يدل على أنه يصح في المؤمن من الألطاف ما لا يصح في غيره، فكان تخصيص المؤمنين بأنه تعالى وليهم محمولا على ذلك.
والوجه الثاني: أنه تعالى يثيبهم في الآخرة، ويخصهم بالنعيم المقيم والإكرام العظيم فكان التخصيص محمولا عليه.
والوجه الثالث: وهو أنه تعالى وإن كان وليا للكل بمعنى كونه متكفلا بمصالح الكل على السوية، إلا أن المنتفع بتلك الولاية هو المؤمن، فصح تخصيصه بهذه الآية، كما في قوله * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2).
الوجه الرابع: أنه تعالى ولي المؤمنين، بمعنى: أنه يحبهم، والمراد أنه يحب تعظيمهم.
أجاب الأصحاب عن الأول بأن زيادة الألطاف متى أمكنت وجبت عندكم، ولا يكون لله تعالى في حق المؤمن إلا أداء الواجب، وهذا المعنى بتمامه حاصل في حق الكافر، بل المؤمن فعل ما لأجله استوجب من الله ذلك المزيد من اللطف.
أما السؤال الثاني: وهو أنه تعالى يثيبه في الآخرة فهو أيضا بعيد، لأن ذلك الثواب واجب على الله تعالى، فولي المؤمن هو الذي جعله مستحقا على الله ذلك الثواب، فيكون وليه هو نفسه ولا يكون الله هو وليا له.
وأما السؤال الثالث: وهو أن المنتفع بولاية الله هو المؤمن، فنقول: هذا الأمر الذي امتاز به المؤمن عن الكافر في باب الولاية صدر من العبد لا من الله تعالى، فكان ولي العبد على هذا القول هو العبد نفسه لا غير.
وأما السؤال الرابع: وهو أن الولاية هاهنا معناها المحبة والجواب: أن المحبة معناها إعطاء
19

الثواب، وذلك هو السؤال الثاني، وقد أجبنا عنه.
أما قوله تعالى: * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: أجمع المفسرون على أن المراد هاهنا من الظلمات والنور: الكفر والإيمان فتكون الآية صريحة في أن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من الكفر وأدخله في الإيمان، فيلزم أن يكون الإيمان بخلق الله، لأنه لو حصل بخلق العبد لكان هو الذي أخرج نفسه من الكفر إلى الإيمان، وذلك يناقض صريح الآية.
أجابت المعتزلة عنه من وجهين الأول: أن الإخراج من الظلمات إلى النور محمول على نصب الدلائل، وإرسال الأنبياء، وإنزال الكتب، والترغيب في الإيمان بأبلغ الوجوه، والتحذير عن الكفر بأقصى الوجوه، وقال القاضي: قد نسب الله تعالى الإضلال إلى الصنم في قوله * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * (إبراهيم: 36) لأجل أن الأصنام سبب بوجه ما لضالهم، فإن يضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الله تعالى مع قوة الأسباب التي فعلها بمن يؤمن كان أولى.
والوجه الثاني: أن يحمل الإخراج من الظلمات إلى النور على أنه تعالى يعدل بهم من النار إلى الجنة قال القاضي: هذا أدخل في الحقيقة، لأن ما يقع من ذلك في الآخرة يكون من فعله تعالى فكأنه فعله.
والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أن هذه الإضافة حقيقة في الفعل، مجاز في الحث والترغيب، والأصل حمل اللفظ على الحقيقة والثاني: أن هذه الترغيبات إن كانت مؤثرة في ترجيح الداعية صار الراجح واجبا، والمرجوح ممتنعا، وحينئذ يبطل قول المعتزلة وإن لم يكن لها أثر في الترجيح لم يصح تسميتها بالإخراج.
وأما السؤال الثاني: وهو حمل اللفظ على العدول بهم من النار إلى الجنة فهو أيضا مدفوع من وجهين الأول: قال الواقدي: كل ما كان في القرآن * (من الظلمات إلى النور) * فإنه أراد به الكفر والإيمان، غير قوله تعالى في سورة الأنعام * (وجعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1) فإنه يعني به الليل والنهار، وقال: وجعل الكفر ظلمة، لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك، وجعل الإيمان نورا لأنه كالسبب في حصول الإدراك.
والجواب الثاني: أن العدول بالمؤمن من النار إلى الجنة أمر واجب على الله تعالى عند المعتزلة فلا يجوز حمل اللفظ عليه.
المسألة الثانية: قوله * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) * ظاهره يقتضي أنهم كانوا في الكفر
20

ثم أخرجهم الله تعالى من ذلك الكفر إلى الإيمان، ثم هاهنا قولان:
القول الأول: أن يجري اللفظ على ظاهره، وهو أن هذه الآية مختصة بمن كان كافرا ثم أسلم، والقائلون بهذا القول ذكروا في سبب النزول روايات أحدهما: قال مجاهد: هذه الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام وقوم كفروا به، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمن به من كفر بعيسى، وكفر به من آمن بعيسى عليه السلام وثانيتها: أن الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام على طريقة النصارى، ثم آمنوا بعده بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان إيمانهم بعيسى حين آمنوا به
ظلمة وكفرا، لأن القول بالاتحاد كفر، والله تعالى أخرجهم من تلك الظلمات إلى نور الإسلام وثالثتها: أن الآية نزلت في كل كافر أسلم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: أن يحمل اللفظ على كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك الإيمان بعد الكفر أو لم يكن كذلك، وتقريره أنه لا يبعد أن يقال يخرجهم من النور إلى الظلمات وإن لم يكونوا في الظلمات البتة، ويدل على جوازه: القرآن والخبر والعرف، أما القرآن فقوله تعالى: * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) * (آل عمران: 103) ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار وقال * (لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي) * (يونس: 98) ولم يكن نزل بهم عذاب البتة، وقال في قصة يوسف عليه السلام: * (تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) * (يوسف: 37) ولم يكن فيها قط، وقال: * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) * (النحل: 70) وما كانوا فيه قط، وأما الخبر فروي أنه صلى الله عليه وسلم سمع إنسانا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال على الفطرة، فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال خرج من النار، ومعلوم أنه ما كان فيها، وروي أيضا أنه صلى الله عليه وسلم أقبل على أصحابه فقال: تتهافتون في النار تهافت الجراد، وها أنا آخذ بحجزكم، ومعلوم أنهم ما كانوا متهافتين في النار، وأما العرف فهو أن الأب إذا أنفق كل ماله فالابن قد يقول له: أخرجتني من مالك أي لم تجعل لي فيه شيئا، لا أنه كان فيه ثم أخرج منه، وتحقيقه أن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لوقع في الظلمات. فصار توفيقه تعالى سببا لدفع تلك الظلمات عنه، وبين الدفع والرفع مشابهة، فهذا الطريق يجوز استعمال الإخراج والإبعاد في معنى الدفع والرفع والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) * فاعلم أنه قرأ الحسن * (أولياؤهم الطواغيت) * واحتج بقوله تعالى بعده * (يخرجونهم) * إلا أنه شاذ مخالف للمصحف وأيضا قد بينا في اشتقاق هذا اللفظ أنه مفرد لا جمع.
أما قوله تعالى * (يخرجونهم من النور إلى الظلمات) * فقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الكفر
21

ليس من الله تعالى، قالوا: لأنه تعالى أضافه إلى الطاغوت مجازا باتفاق، لأن المراد من الطاغوت على أظهر الأقوال هو الصنم ويتأكد هذا بقوله تعالى: * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * (إبراهيم: 36) فأضاف الإضلال إلى الصنم، وإذا كانت هذه الإضافة بالاتفاق بيننا وبينكم مجازا، خرجت عن أن تكون حجة لكم.
ثم قال تعالى: * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * يحتمل أن يرجع ذلك إلى الكفار فقط، ويحتمل أن يرجع إلى الكفار والطواغيت معا، فيكون زجرا للكل ووعيدا، لأن لفظ * (أولئك) * إذا كان جمعا وصح رجوعه إلى كلا المذكورين، وجب رجوعه إليهما معا، والله تعالى أعلم بالصواب.
قوله تعالى
* (ألم تر إلى الذى حآج إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذى يحى ويميت قال أنا أحى وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظالمين * أو كالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءاية للناس وانظر
22

إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) *.
إعلم أنه تعالى ذكر هاهنا قصصا ثلاثة: الأولى: منها في بيان إثبات العلم بالصانع، والثانية: في إثبات الحشر والنشر والبعث، والقصة الأولى مناظرة إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع ملك زمانه وهي هذه الآية التي نحن في تفسيرها فنقول:
أما قوله تعالى: * (ألم تر) * فهي كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها، ولفظها لفظ الاستفهام وهي كما يقال: ألم تر إلى فلان كيف يصنع، معناه: هل رأيت كفلان في صنعه كذا.
أما قوله: * (إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) * فقال مجاهد: هو نمروذ بن كنعان، وهو أول من تجبر وادعى الربوبية، واختلفوا في وقت هذه المحاجة قيل: إنه عند كسر الأصنام قبل الإلقاء في النار عن مقاتل، وقيل: بعد إلقائه في النار، والمحاجة المغالبة، يقال: حاججته فحججته، أي غالبته فغلبته، والضمير في قوله * (في ربه) * يحتمل أن يعود إلى إبراهيم، ويحتمل أن يرجع إلى الطاعن، والأول أظهر، كما قال: * (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله) * (الأنعام: 80) والمعنى وحاجه قومه في ربه.
أما قوله: * (أن آتاه الله الملك) * فاعلم أن في الآية قولين الأول: أن الهاء في آتاه عائد إلى إبراهيم، يعني أن الله تعالى آتي إبراهيم صلى الله عليه وسلم الملك، واحتجوا على هذا القول بوجوه الأول: قوله تعالى: * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) * (النساء: 54) أي سلطانا بالنبوة، والقيام بدين الله تعالى والثاني: أنه تعالى لا يجوز أن يؤتي الملك الكفار، ويدعي الربوبية لنفسه والثالث: أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب، وإبراهيم أقرب المذكورين إلى هذا الضمير، فوجب أن يكون هذا الضمير عائدا إليه والقول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين: أن الضمير عائد إلى ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم.
وأجابوا عن الحجة الأولى بأن هذه الآية دالة على حصول الملك لآل إبراهيم، وليس فيها دلالة على حصول الملك لإبراهيم عليه السلام.
وعن الحجة الثانية بأن المراد من الملك هاهنا التمكن والقدرة والبسطة في الدنيا، والحس يدل على أنه تعالى قد يعطي الكافر هذا المعنى، وأيضا فلم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى أعطاه الملك حال ما كان مؤمنا، ثم أنه بعد ذلك كفر بالله تعالى.
وعن الحجة الثالثة بأن إبراهيم عليه السلام وإن كان أقرب المذكورين إلا أن الروايات الكثيرة
23

واردة بأن الذي حاج إبراهيم كان هو الملك، فعود الضمير إليه أولى من هذه الجهة، ثم احتج القائلون بهذا القول على مذهبهم من وجوه الأول: أن قوله تعالى: * (أن
آتاه الله الملك) * يحتمل تأويلات ثلاثة، وكل واحد منها إنما يصح إذا قلنا: الضمير عائد إلى الملك لا إلى إبراهيم، وأحد تلك التأويلات أن يكون المعنى حاج إبراهيم في ربه لأجل أن آتاه الله الملك، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك، ومعلوم أن هذا إنما يليق بالملك العاتي، والتأويل الثاني أن يكون المعنى أنه جعل محاجته في ربه شكرا على أن آتاه ربه الملك، كما يقال: عاداني فلان لأني أحسنت إليه، يريد أنه عكس ما يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان، ونظيره قوله تعالى: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (الواقعة: 82) وهذا التأويل أيضا لا يليق بالنبي فإنه يجب عليه إظهار المحاجة قبل حصول الملك وبعده أما الملك العاتي فإنه لا يليق به إظهار هذا العتو الشديد إلا بعد أن يحصل الملك العظيم له، فثبت أنه لا يستقيم لقوله * (أن آتاه الله الملك) * معنى وتأويل إلا إذا حملناه على الملك العاتي. الحجة الثانية: أن المقصود من هذه الآية بيان كمال حال إبراهيم صلى الله عليه وسلم في إظهار الدعوة إلى الدين الحق، ومتى كان الكافر سلطانا مهيبا، وإبراهيم ما كان ملكا، كان هذا المعنى أتم مما إذا كان إبراهيم ملكا، ولما كان الكافر ملكا، فوجب المصير إلى ما ذكرنا.
الحجة الثانية: ما ذكره أبو بكر الأصم، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لو كان هو الملك لما قدر الكافر أن يقتل أحد الرجلين ويستبقي الآخر، بل كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم يمنعه منه أشد منع، بل كان يجب أن يكون كالملجأ إلى أن لا يفعل ذلك، قال القاضي هذا الاستدلال ضعيف، لأنه من المحتمل أن يقال: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان ملكا وسلطانا في الدين والتمكن من إظهار المعجزات، وذلك الكافر كان ملكا مسلطا قادرا على الظلم، فلهذا السبب أمكنه قتل أحد الرجلين، وأيضا فيجوز أن يقال إنما قتل أحد الرجلين قوما، وكان الاختيار إليه، واستبقى الآخر، إما لأنه لا قتل عليه أو بذل الدية واستبقاه.
وأيضا قوله * (أنا أحيي وأميت) * خبر ووعد، ولا دليل في القرآن على أنه فعله، فهذا ما يتعلق بهذه المسألة.
أما قوله تعالى: * (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الظاهر أن هذا جواب سؤال سابق غير مذكور، وذلك لأن من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا للدعوة، والظاهر أنه متى ادعى الرسالة، فإن المنكر يطالبه
24

بإثبات أن للعالم إلها، ألا ترى أن موسى عليه السلام لما قال: * (إني رسول رب العالمين) * (الزخرف: 46) * (قال فرعون وما رب العالمين) * (الشعراء: 23) فاحتج موسى عليه السلام على إثبات الإلهية بقوله * (رب السماوات والأرض) * فكذا هاهنا الظاهر أن إبراهيم ادعى الرسالة، فقال نمروذ: من ربك؟ فقال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، إلا أن تلك المقدمة حذفت، لأن الواقعة تدل عليها.
المسألة الثانية: دليل إبراهيم عليه السلام كان في غاية الصحة، وذلك لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين، والأحياء والإماتة كذلك، لأن الخلق عاجزون عنهما، والعلم بعد الاختيار ضروري، فلا بد من مؤثر آخر غير هؤلاء القادرين الذين تراهم، وذلك المؤثر إما أن يكون موجبا أو مختارا، والأول: باطل، لأنه يلزم من دوامه دوام الأثر، فكان يجب أن لا يتبدل الأحياء بالإماتة، وأن لا تتبدل الإماتة بالأحياء، والثاني: وهو أنا نرى في الحيوان أعضاء مختلفة في الشكل والصفة والطبيعة والخاصية، وتأثير المؤثر الموجب بالذات لا يكون كذلك فعلمنا أنه لا بد في الأحياء والإماتة من وجود آخر يؤثر على سبيل القدرة، والاختيار في إحياء هذه الحيوانات وفي إماتتها، وذلك هو الله سبحانه وتعالى، وهو دليل متين قوي ذكره الله سبحانه وتعالى في مواضع في كتابه كقوله * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنون: 12) إلى آخره، وقوله * (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين) * (التين: 4، 5) وقال تعالى: * (الذي خلق الموت والحياة) *.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إنه تعالى قدم الموت على الحياة في آيات منها قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * (البقرة: 28) وقال: * (الذي خلق الموت والحياة) * (الملك: 2) وحكي عن إبراهيم أنه قال في ثنائه على الله تعالى: * (والذي يميتني ثم يحيين) * (الشعراء: 81) فلأي سبب قدم في هذه الآية ذكر الحياة على الموت، حيث قال: * (ربي الذي يحيي ويميت) *.
والجواب: لأن المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى الله تعالى وجب أن يكون الدليل في غاية الوضوح، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، واطلاع الإنسان عليها أتم، فلا جرم وجب تقديم الحياة هاهنا في الذكر.
أما قوله تعالى: * (قال أنا أحيي وأميت) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: يروى أن إبراهيم عليه السلام لما احتج بتلك الحجة، دعا ذلك الملك الكافر شخصين، وقتل أحدهما، واستبقى الآخر، وقال: أنا أيضا أحيي وأميت، هذا هو المنقول في التفسير، وعندي أنه بعيد، وذلك لأن الظاهر من حال إبراهيم أنه شرح حقيقة الأحياء وحقيقة
25

الإماتة على الوجه الذي لخصناه في الاستدلال، ومتى شرحه على ذلك الوجه امتنع أن يشتبه على العاقل الإماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه، ويبعد في الجمع العظيم أن يكونوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق، والمراد من الآية والله أعلم شيء آخر، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما احتج بالإحياء والإماتة من الله قال المنكر، تدعى الإحياء والإماتة من الله ابتداء من غير واسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية، أو تدعى صدور الأحياء والإماتة من الله تعالى بواسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية، أما الأول: فلا سبيل إليه، وأما الثاني: فلا يدل على المقصود لأن الواحد منا يقدر على الاحياء والإماتة بواسطة سائر الأسباب، فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية، وتناول السم قد يفضي إلى الموت، فلما ذكر نمروذ هذا السؤال على هذا الوجه أجاب إبراهيم عليه السلام بأن قال: هب أن الإحياء والإماتة حصلا من الله تعالى بواسطة الاتصالات الفلكية إلا أنه لا بد لتلك الاتصالات
والحركات الفلكية من فاعل مدبر، فإذا كان المدبر لتلك الحركات الفلكية هو الله تعالى، كان الإحياء والإماتة الحاصلان بواسطة تلك الحركات الفلكية أيضا من الله تعالى، وأما الإحياء والإماتة الصادران على البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية فليست كذلك، لأنه لا قدرة للبشر على الاتصالات الفلكية، فظهر الفرق.
وإذا عرفت هذا فقوله * (إن الله يأت بالشمس من المشرق) * ليس دليلا آخر، بل تمام الدليل الأول: ومعناه: أنه وإن كان الإحياء والإماتة من الله بواسطة حركات الأفلاك، إلا أن حركات الأفلاك من الله فكان الإحياء والإماتة أيضا من الله تعالى، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأسباب السماوية والأرضية إلا أن الأسباب ليست واقعة بقدرته، فثبت أن الإحياء والإماتة الصادرين عن البشر ليست على ذلك الوجه، وأنه لا يصلح نقضا عليه، فهذا هو الذي أعتقده في كيفية جريان هذه المناظرة، لا ما هو المشهور عند الكل، والله أعلم بحقيقة الحال.
المسألة الثانية: أجمع القراء على إسقاط ألف * (أنا) * في الوصل في جميع القرآن، إلا ما روي عن نافع من إثباته عند استقبال الهمزة، والصحيح ما عليه الجمهور، لأن ضمير المتكلم هو * (أن) * وهو الهمزة والنون، فأما الألف فإنما تلحقها في الوقف كما تلحق الهاء في سكوته للوقف، وكما إن هذه الهاء تسقط عند الوصل، فكذا هذه الألف تسقط عند الوصل، لأن
26

ما يتصل به يقوم مقامه، ألا ترى أن همزة الوصل إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت ولم تثبت، لأن ما يتصل به يتوصل به إلى النطق بما بعد الهمزة فلا تثبت الهمزة فكذا الألف في * (أنا) * والهاء التي في الوقف يجب سقوطها عند الوصل كما يجب سقوط الهمزة عند الوصل.
أما قوله تعالى: * (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * فاعلم أن للناس في هذا المقام طريقين الأول: وهو طريقة أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمروذ أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه، فقال: * (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * فزعم أن الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح منه جائز للمستدل.
فإن قيل: هلا قال نمروذ: فليأت ربك بها من المغرب؟.
قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: أن هذه المحاجة كانت مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالما، فعلم أن من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب والثاني: أن الله خذله وأنساه إيراد هذه الشبهة نصرة لنبيه عليه السلام. والطريق الثاني: وهو الذي قال به المحققون: إن هذا ما كان انتقالا من دليل إلى دليل آخر بل الدليل واحد في الموضعين وهو أنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها فلا بد من قادر آخر يتولى إحداثها وهو الله سبحانه وتعالى، ثم إن قولنا: نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها له أمثلة منها: الإحياء، والإماتة، ومنها السحاب، والرعد، والبرق، ومنها حركات الأفلاك، والكواكب، والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل آخر، لكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالا فله أن ينتقل من ذلك المثال إلى مثال آخر، فكان ما فعله إبراهيم من باب ما يكون الدليل واحد إلا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر، وليس من باب ما يقع الانتقال من دليل إلى دليل آخر، وهذا الوجه أحسن من الأول وأليق بكلام أهل التحقيق منه، والإشكال عليهما من وجوه:
الإشكال الأول: أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة، ووقعت تلك الشبهة في الأسماع، وجب على المحق القادر على الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك التلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك الكافر في الدليل الأول، أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة تلك الشبهة واجبا مضيقا، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب.
والإشكال الثاني: أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال، فإذا ترك المحق الكلام الأول وانتقل إلى كلام آخر، أوهم أن كلامه الأول كان ضعيفا ساقطا، وأنه ما كان عالما بضعفه، وأن
27

ذلك المبطل علم وجه ضعفه وكونه ساقطا، وأنه كأنه عالما بضعفه فنبه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز.
والإشكال الثالث: وهو أنه وإن كان يحسن الانتقال من دليل إلى دليل، أو من مثال إلى مثال، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب، وهاهنا ليس الأمر كذلك، لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه، وأما جنس تحريك الأجسام، فللخلق قدرة عليه، ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجثة أعظم من السماوات، وأنه هو الذي يكون محركا للسماوات، وعلى هذا التقدير الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس على وجود الصانع فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قويا.
والإشكال الرابع: أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع أقوى من دلالة طلوع الشمس عليه وذلك لأنا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبديلات واختلافات والتبدل قوى الدلالة على الحاجة إلى المؤثر القادر، أما الشمس فلا نرى في ذاتها تبدلا، ولا في صفاتها تبدلا، ولا في منهج حركاتها تبدلا البتة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالا من الأقوى الأجلى إلى الأخفى الأضعف، وأنه لا يجوز.
والإشكال الخامس: أن نمروذ لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول: طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب، وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك فقالوا: إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن تطلع الشمس من المغرب ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام إطلاع الشمس من المغرب، فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب، إلا أنه يكون الدليل على وجود الصانع هو طلوع الشمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشمس من المشرق دليلا على
وجود الصانع، وحينئذ يصير دليله الثاني ضائعا كما صار دليله الأول ضائعا، وأيضا فما الدليل الذي جمل إبراهيم عليه السلام على أن ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك والتزم الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال إلى تمسك بدليل لا يمكنه تمشيته إلا بالتزام طلوع الشمس من المغرب، وبتقدير أن يأتي باطلاع الشمس من المغرب فإنه يضيع دليله الثاني كما ضاع الأول ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا يليق بأقل الناس علما فضلا عن أفضل العقلاء وأعلم
28

العلماء، فظهر بهذا أن هذا التفسير الذي أجمع المفسرون عليه ضعيف، وأما الوجه الذي ذكرناه فلا يتوجه عليه شيء من هذه الإشكالات، لأنا نقول: لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإحياء والإماتة أورد الخصم عليه سؤالا لا يليق بالعقلاء، وهو أنك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطة، فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا، وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر، فأجاب إبراهيم عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى بخلاف الخلق فإنه لا قدرة لهم على تحريكات الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، ومتى حملنا الكلام على هذا الوجه لم يكن شيء من المحذورات المذكورة لازما عليه، والله أعلم بحقيقة كلامه.
أما قوله تعالى: * (فبهت الذي كفر) * فالمعنى: فبقي مغلوبا لا يجد مقالا، ولا للمسألة جوابه، وهو كقوله * (بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها) * (الأنبياء: 40) قال الواحدي، وفيه ثلاث لغات: بهت الرجل فهو مبهوت، وبهت وبهت، قال عروة العذري:
فما هو إلا أن أراها فجاءة * فأبهت حتى ما أكاد أجيب
أي أتجير وأسكت.
ثم قال: * (والله لا يهدي القوم الظالمين) * وتأويله على قولنا ظاهر، أما المعتزلة فقال القاضي: يحتمل وجوها: منها أنه لا يهديهم لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق كما يهدي المؤمن فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع.
وأقول: هذا ضعيف، لأن قوله لا يهديهم للحجاج، إنما يصح حيث يكون الحجاج موجودا ولا حجاج على الكفر، فكيف يصح أن يقال: إن الله تعالى لا يهديه إليه، قال القاضي: ومنها أن يريد أنه لا يهديهم لزيادات الألطاف من حيث أنهم بالكفر والظلم سدوا على أنفسهم طريق الانتفاع به.
وأقول: هذا أيضا ضعيف، لأن تلك الزيادات إذا كانت في حقهم ممتنعة عقلا لم يصح أن يقال: إنه تعالى لا يهديهم، كما لا يقال: إنه تعالى يجمع بين الضدين فلا يجمع بين الوجود والعدم قال القاضي: ومنها أنه تعالى لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا يهديهم إلى الجنة.
وأقول: هذا أيضا ضعيف، لأن المذكور هاهنا أمر الاستدلال وتحصيل المعرفة ولم يجر للجنة ذكر، فيبعد صرف اللفظ إلى الجنة، بل أقول: اللائق بسياق الآية أن يقال إنه تعالى لما بين أن
29

الدليل كان قد بلغ في الظهور والحجة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عند سماعه إلا أن الله تعالى لما لم يقدر له الاهتداء لم ينفعه ذلك الدليل الظاهر، ونظير هذا التفسير قوله * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) * الأنعام: 111). القصة الثانية
والمقصود منها إثبات المعاد، قوله تعالى: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلف النحويون في إدخال الكاف في قوله * (أو كالذي) * وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول: أن يكون قوله * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم) * (البقرة: 258) في معنى * (ألم تر كالذي حاج إبراهيم) * وتكون هذه الآية معطوفة عليه، والتقدير: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مر على قرية، فيكون هذا عطفا على المعنى، وهو قول الكسائي والفراء وأبي علي الفارسي، وأكثر النحويين قالوا: ونظيره من القرآن قوله تعالى: * (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله) * (المؤمنون: 84، 85) ثم قال: * (من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله) * (المؤمنون: 85، 86) فهذا عطف على المعنى لأن معناه: لمن السماوات؟ فقيل لله. قال الشاعر: معاوي إننا بشر فأسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فحمل على المعنى وترك اللفظ.
والقول الثاني: وهو اختيار الأخفش: أن الكاف زائدة، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج والذي مر على قرية.
والقول الثالث: وهو اختيار المبرد: أنا نضمر في الآية زيادة، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، وألم تر إلى من كان كالذي مر على قرية.
المسألة الثانية: اختلفوا في الذي مر بالقرية، فقال قوم: كان رجلا كافرا شاكا في البعث وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين من المعتزلة، وقال الباقون: إنه كان مسلما، ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي: هو عزير، وقال عطاء عن ابن عباس: هو أرمياء، ثم من هؤلاء من قال: إن أرمياء هو الخضر عليه السلام، وهو رجل من سبط هارون بن عمران عليهما السلام، وهو قول محمد بن إسحاق، وقال وهب بن منبه: إن أرمياء هو النبي الذي بعثه الله عندما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة، حجة من قال: إن هذا المار كان كافرا وجوه الأول: أن الله حكى عنه أنه قال: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * وهذا كلام من يستبعد من الله الإحياء بعد الإماتة
30

وذلك كفر.
فإن قيل: يجوز أن ذلك وقع منه قبل البلوغ.
قلنا: لو كان كذلك لم يجز من الله تعالى أن يعجب رسوله منه إذ الصبي لا يتعجب من شكه في مثل ذلك، وهذه الحجة ضعيفة لاحتمال أن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشك في قدرة الله تعالى على ذلك، بل كان بسبب إطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معمورا وهذا كما أن الواحد منا يشير إلى جبل، فيقول: متى يقلبه الله ذهبا، أو ياقوتا، لا أن مراده منه الشك في قدرة الله تعالى، بل على أن مراده منه أن ذلك لا يقع ولا يحصل في مطرد العادات، فكذا هاهنا.
الوجه الثاني: قالوا: إنه تعالى قال في حقه * (فلما تبين له) * وهذا يدل على أنه قبل ذلك لم يكن ذلك التبين حاصلا له وهذا أيضا ضعيف لأن تبين الإحياء على سبيل المشاهدة ما كان حاصلا له قبل ذلك، فأما أن تبين ذلك على سبيل الاستدلال ما كان حاصلا فهو ممنوع.
الوجه الثالث: أنه قال: * (أعلم أن الله على كل شيء قدير) * وهذا يدل على أن هذا العالم إنما حصل له في ذلك الوقت، وأنه كان خاليا عن مثل ذلك العلم قبل ذلك الوقت، وهذا أيضا ضعيف لأن تلك المشاهدة لا شك أنها أفادت نوع توكيد وطمأنينة ووثوق، وذلك القدر من التأكيد إنما حصل في ذلك الوقت، وهذا لا يدل على أن أصل العلم ما كان حاصلا قبل ذلك.
الوجه الرابع: لهم أن هذا المار كان كافرا لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد وهو ضعيف أيضا، لأن قبله وإن كان قصة نمروذ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم، فوجب أن يكون نبيا من جنس إبراهيم.
وحجة من قال: إنه كان مؤمنا وكان نبيا وجوه الأول: أن قوله * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * يدل على أنه كان عالما بالله، وعلى أنه كان عالما بأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء إنما يصح أن لو حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة فأما من يعتقد أن القدرة على الإحياء ممتنعة لم يبق لهذا التخصيص فائدة.
الحجة الثانية: أن قوله * (كم لبثت) * لا بد له من قائل والمذكور السابق هو الله تعالى فصار التقدير: قال الله تعالى: * (كم لبثت) * فقال ذلك الإنسان * (لبثت يوما أو بعض يوم) * فقال الله تعالى:
31

* (بل لبثت مائة عام) * ومما يؤكد أن قائل هذا القول هو الله تعالى قوله * (ولنجعلك آية للناس) * ومن المعلوم أن القادر على جعله آية للناس هو الله تعالى، ثم قال: * (وانظر إلى العظام كيف ننشرها، ثم نكسوها لحما) * ولا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى؛ فثبت أن هذه الآية دالة من هذه الوجوه الكثيرة على أنه تكلم معه، ومعلوم أن هذا لا يليق بحال هذا الكافر.
فإن قيل: لعله تعالى بعث إليه رسولا أو ملكا حتى قال له هذا القول عن الله تعالى.
قلنا: ظاهر هذا الكلام يدل على أن قائل هذه الأقوال معه هو الله تعالى، فصرف اللفظ عن هذا الظاهر إلى المجاز من غير دليل يوجبه غير جائز.
والحجة الثالثة: أن إعادته حيا وإبقاء الطعام والشراب على حالهما، وإعادة الحمار حيا بعد ما صار رميما مع كونه مشاهدا لإعادة أجزاء الحمار إلى التركيب وإلى الحياة إكرام عظيم وتشريف كريم، وذلك لا يليق بحال الكافر له.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن كل هذه الأشياء إنما أدخلها الله تعالى في الوجود إكراما لإنسان آخر كان نبيا في ذلك الزمان.
قلنا: لم يجر في هذه الآية ذكر هذا النبي، وليس في هذه القصة حالة مشعرة بوجود النبي أصلا فلو كان المقصود من إظهار هذه الأشياء إكرام ذلك النبي وتأييد رسالته بالمعجزة لكان ترك ذكر ذلك الرسول إهمالا لما هو الغرض الأصلي من الكلام وأنه لا يجوز.
فإن قيل: لو كان ذلك الشخص لكان إما أن يقال: إنه ادعى النبوة من قبل الإماتة والإحياء أو بعدهما، والأول: باطل، لأن أرسال النبي من قبل الله يكون لمصلحة تعود على الأمة، وذلك لا يتم بعد الإماتة، وإن ادعى النبوة بعد الإحياء فالمعجز قد تقدم على الدعوى، وذلك غير جائز.
قلنا: إظهار خوارق العادات على يد من يعلم الله أنه سيصير رسولا جائز عندنا، وعلى هذا الطريق زال السؤال.
الحجة الرابعة: أنه تعالى قال في حق هذا الشخص * (ولنجعلك آية للناس) * وهذا اللفظ إنما يستعمل في حق الأنبياء والرسل قال تعالى: * (وجعلناها وابنها آية للعالمين) * (الأنبياء: 91) فكان هذا وعدا من الله تعالى بأنه يجعله نبيا، وأيضا فهذا الكلام لم يدل على النبوة بصريحه فلا شك أنه يفيد التشريف العظيم، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر وعلى الشك في قدرة الله تعالى.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من جعله آية أن من عرفه من الناس شابا كاملا إذا شاهدوه بعد مائة سنة على شبابه وقد شاخوا أو هرموا، أو سمعوا بالخبر أنه كان مات منذ زمان
32

وقد عاد شابا صح أن يقال لأجل ذلك إنه آية للناس لأنهم يعتبرون بذلك ويعرفون به قدرة الله تعالى، ونبوة نبي ذلك الزمان.
والجواب من وجهين الأول: أن قوله * (ولنجعلك آية) * إخبار عن أنه تعالى يجعله آية، وهذا الاخبار إنما وقع بعد أن أحياه الله، وتكلم معه، والمجعول لا يجعل ثانيا، فوجب حمل قوله * (ولنجعلك آية للناس) * على أمر زائد عن هذا الإحياء، وأنتم تحملونه على نفس هذا الإحياء فكان باطلا والثاني: أنه وجه التمسك أن قوله * (ولنجعلك آية للناس) * يدل على التشريف العظيم، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى.
الحجة الخامسة: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية قال: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرون، ومنهم عزير وكان من علمائهم، فجاء بهم إلى بابل، فدخل عزير يوما تلك القرية ونزل تحت شجرة وهو على حمار، فربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحدا فعجب من ذلك وقال: * (أنى
يحيي هذه الله بعد موتها) * لا على سبيل الشك في القدرة، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، وكانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التين والعنب، وشرب من عصير العنب ونام، فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب، ثم أعمى عن موته أيضا الإنس والسباع والطير، ثم أحياه الله تعالى بعد المائة ونودي من السماء: يا عزير * (كم لبثت) * بعد الموت فقال * (يوما) * فأبصر من الشمس بقية فقال * (أو بعض يوم) * فقال الله تعالى: * (بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك) * من التين والعنب وشرابك من العصير لم يتغير طعمهما، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما ثم قال: * (وانظر إلى حمارك) * فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله وسمع صوتا أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحا فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض، ثم التصق كل عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه ثم العصب والعروق ثم أنبت طراء اللحم عليه، ثم انبسط الجلد عليه، ثم خرجت الشعور عن الجلد، ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق فخر عزير ساجدا، وقال: * (أعلم أن الله على كل شيء قدير) * ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم: حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرخياء مات ببابل، وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفا ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير، والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفا، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاه فما اختلفا في حرف، فعند ذلك قالوا: عزير بن الله، وهذه الرواية مشهورة فيما بين الناس، وذلك يدل على أن ذلك المار كان نبيا.
33

المسألة الثالثة: اختلفوا في تلك القرية فقال وهب وقتادة وعكرمة والربيع: إيلياء وهي بيت المقدس، وقال ابن زيد: هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت.
أما قوله تعالى: * (وهي خاوية على عروشها) * قال الأصمعي: خوى البيت فهو يخوي خواء ممدود إذا ما خلا من أهله، والخوا: خلو البطن من الطعام، وفي الحديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى " أي خلى ما بين عضديه وجنبيه، وبطنه وفخذيه، وخوى الفرس ما بين قوائمه، ثم يقال للبيت إذا انهدم: خوى لأنه بتهدمه يخلو من أهله، وكذلك: خوت النجوم وأخوت إذا سقطت ولم تمطر لأنها خلت عن المطر، والعرش سقف البيت، والعروش الأبنية، والسقوف من الخشب يقال: عرش الرجل يعرش ويعرش إذا بني وسقف بخشب، فقوله: * (وهي خاوية على عروشها) * أي منهدمة ساقطة خراب، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه وجوه أحدها: أن حيطانها كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها، ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المنهدمة، ومعنى الخاوية المنقلعة وهي المنقلعة من أصولها يدل عليه قوله تعالى: * (أعجاز نخل خاوية) * (الحاقة: 7) وموضع آخر * (أعجاز نخل منعقر) * (القمر: 20) وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به والثاني: قوله تعالى: * (خاوية على عروشها) * أي خاوية عن عروشها، جعل * (على) * بمعنى * (عن) * كقوله * (إذا اكتالوا على الناس) * (المطففين: 2) أي عنهم والثالث: أن المراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة فكان التعجب من ذلك أكثر، لأن الغالب من القرية الخالية الخاوية أن يبطل ما فيها من عروش الفاكهة، فلما خربت القرية مع بقاء عروشها كان التعجب أكثر. أما قوله تعالى: * (قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * فقد ذكرنا أن من قال: المار كان كافرا حمله على الشك في قدرة الله تعالى، ومن قال كان نبيا حمله على الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد، كما قال إبراهيم عليه السلام: (أرني كيف تحيي الموتى) وقوله * (أنى) * أي من أين كقوله * (أنى لك هذا) * والمراد بإحياء هذه القرية عمارتها، أي متى يفعل الله تعالى ذلك، على معنى أنه لا يفعله فأحب الله أن يريه في نفسه، وفي إحياء القرية آية * (فأماته الله مائة عام) * وقد ذكرنا القصة.
فإن قيل: ما الفائدة في إماتة الله له مائة عام، مع أن الاستدلال بالإحياء يوم أو بعد بعض يوم حاصل.
قلنا: لأن الإحياء بعد تراخي المدة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدة، وأيضا فلأن بعد تراخي المدة ما يشاهد منه، ويشاهد هو من غيره أعجب.
34

أما قوله تعالى: * (ثم بعثه) * فالمعنى: ثم أحياه، ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها، وإنما قال * (ثم بعثه) * ولم يقل: ثم أحياه لأن قوله * (ثم بعثه) * يدل على أنه عاد كما كان أولا حيا عاقلا فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية، ولو قال: ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد.
أما قوله تعالى: * (قال كم لبثت) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: فيه وجهان من القراءة، قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإدغام والباقون بالإظهار، فمن أدغم فلقرب المخرجين ومن أظهر فلتباين المخرجين وإن كانا قريبين.
المسألة الثانية: أجمعوا على أن قائل هذا القول هو الله تعالى وإنما عرف أن هذا الخطاب من الله تعالى، لأن ذلك الخطاب كان مقرونا بالمعجز، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره وظهور البلى في عظامه ما عرف به أن تلك الخوارق لم تصدر إلا من الله تعالى. المسألة الثالثة: في الآية إشكال، وهو أن الله تعالى كان عالما بأنه كان ميتا وكان عالما بأن الميت لا يمكنه بعد أن صار حيا أن يعلم أن مدة موته كانت طويلة أم قصيرة، فمع ذلك لأي حكمة سأله عن مقدار تلك المدة.
والجواب عنه: أن المقصود من هذا السؤال التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق.
أما قوله تعالى: * (لبثت يوما أو بعض يوم) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: لم ذكر هذا الترديد؟.
الجواب: أن الميت طالت مدة موته أو قصرت فالحال واحدة بالنسبة إليه فأجاب بأقل ما يمكن أن يكون ميتا لأنه اليقين، وفي التفسير أن إماتته كانت في أول النهار،
فقال * (يوما) * ثم لما نظر إلى ضوء الشمس باقيا على رؤوس الجدران فقال: * (أو بعض يوم) *.
السؤال الثاني: أنه لما كان اللبث مائة عام، ثم قال: * (لبثت يوما أو بعض يوم) * أليس هذا يكون كذبا؟.
والجواب: أنه قال ذلك على حسب الظن، ولا يكون مؤاخذا بهذا الكذب، ونظيره أنه تعالى حكى عن أصحاب الكهف أنهم قالوا * (لبثنا يوما أو بعض يوم) * على ما توهموه ووقع عندهم، وأيضا قال أخوة يوسف عليه السلام: * (يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا) * (يوسف: 81) وإنما قالوا: ذلك بناء على الأمارة من إخراج الصواع من رحله.
35

السؤال الثالث: هل علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت، أو لم يعلم ذلك بل كان يعتقد أن ذلك اللبث بسبب الموت.
الجواب: الأظهر أنه علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت، وذلك لأن الغرض الأصلي في إماتته ثم إحيائه بعد مائة عام أن يشاهد الإحياء بعد الإماتة وذلك لا يحصل إلا إذا عرف أن ذلك اللبث كان بسبب الموت، وهو أيضا قد شاهد إما في نفسه، أو في حماره أحوالا دالة على أن ذلك اللبث كان بسبب الموت.
أما قوله تعالى: * (قال بل لبثت مائة عام) * فالمعنى ظاهر، وقيل: العام أصله من العوم الذي هو السباحة، لأن فيه سبحا طويلا لا يمكن من التصرف فيه.
أما قوله تعالى: * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلف القراء في إثبات الهاء في الوصل من قوله * (لم يتسنه) * و * (اقتده) * و * (ماليه) * و * (سلطانيه) * و * (ماهيه) * بعد أن اتفقوا على إثباتها في الوقف، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل، وكان حمزة يحذفهن في الوصل وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله * (لم يتسنه) * و * (اقتده) * ويثبتها في الوصل في الباقي ولم يختلفوا في قوله * (لم أوت كتابيه، واقتده ولم أدر ما حسابيه) * (الحاقة: 25، 26) أنها بالهاء في الوصل والوقف.
إذا عرفت هذا فنقول: أما الحذف ففيه وجوه أحدهما: أن اشتقاق قوله * (يتسنه) * من السنة وزعم كثير من الناس أن أصل السنة سنوة، قالوا: والدليل عليه أنهم يقولون في الاشتقاق منها أسنت القوم إذا أصابتهم السنة، وقال الشاعر: ورجال مكة مسنتون عجاف (c)
ويقولون في جمعها: سنوات وفي الفعل منها: سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة سنة، وفي التصغير: سنية إذا ثبت هذا كان الهاء في قوله * (لم يتسنه) * للسكت لا للأصل وثانيها: نقل الواحدي عن الفراء أنه قال: يجوز أن تكون أصل سنة سننة، لأنهم قالوا في تصغيرها: سنينة وإن كان ذلك قليلا، فعلى هذا يجوز أن يكون * (لم يتسنه) * أصله لم يتسنن، ثم أسقطت النون الأخيرة ثم أدخل عليها هاء السكت عن الوقف عليه كما أن أصل لم يتقض البازي لم يتقضض البازي ثم أسقطت الضاد الأخيرة، ثم أدخل عليه هاء السكت عند الوقف، فيقال: لم يتقضه وثالثها: أن يكون * (لم يتسنه) * مأخوذا من قوله تعالى: * (من حمأ مسنون) * (الحجر: 26) والسن في اللغة هو الصب، هكذا قال
36

أبو علي الفارسي، فقوله: لم يتسنن. أي الشراب بقي بحاله لم ينضب، وقد أتى عليه مائة عام، ثم أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني، فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف، وأما بيان الإثبات فهو أن * (لم يتسنه) * مأخوذ من السنة، والسنة أصلها سنهه، بدليل أنه يقال في تصغيرها: سنيهة، ويقال: سانهت النخلة بمعنى عاومت، وآجرت الدار مسانهة، وإذا كان كذلك فالهاء في * (لم يتسنه) * لام الفعل، فلا جرم لم يحذف البتة لا عند الوصل ولا عند الوقف.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (لم يتسنه) * أي لم يتغير وأصل معنى * (لم يتسنه) * أي لم يأت عليه السنون لأن مر السنين إذا لم يتغير فكأنها لم تأت عليه، ونقلنا عن أبي علي الفارسي: لم يتسنن أي لم ينضب الشراب، بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: أنه تعالى لما قال: * (بل لبثت مائة عام) * كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) * لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهرا على ما قاله من أنه لبث يوما أو بعض يوم.
والجواب: أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال: * (بل لبثت مائة عام) * قال: * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) * فإن هذا مما يؤكد قولك * (لبثت يوما أو بعض يوم) * فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة، ثم قال بعده * (وانظر إلى حمارك) * فرأى الحمار صار رميما وعظاما نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما، والحمار ربما بقي دهرا طويلا وزمانا عظيما، فرأى ما لا يبقى باقيا، وهو الطعام والشراب، وما يبقى غير باق وهو العظام، فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه.
السؤال الثاني: أنه تعالى ذكر الطعام والشراب، وقوله * (لم يتسنه) * راجع إلى الشراب لا إلى الطعام.
والجواب: كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير، كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير، لا سيما إذا كان الطعام لطيفا يتسارع الفساد إليه، والمروي أن طعامه كان التين والعنب، وشرابه كان عصير العنب واللبن، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه * (وانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن) *.
37

أما قوله تعالى: * (وانظر إلى حمارك) * فالمعنى أنه عرفه طول مدة موته بأن شاهد عظام حماره نخرة رميمة، وهذا في الحقيقة لا يدل بذاته، لأنه لما شاهد انقلاب العظام النخرة حيا في الحال علم أن القادر على ذلك قادر على أن يميت الحمار في الحال ويجعل عظامه رميمة نخرة في الحال، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعظام
الحمار على طول مدة الموت، بل انقلاب عظام الحمار إلى الحياة معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله * (بل لبثت مائة عام) * قال الضحاك: معنى قوله أنه لما أحيى بعد الموت كان دليلا على صحة البعث، وقال غيره: كان آية لأن الله تعالى أحياه شابا أسود الرأس، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والرؤوس.
أما قوله تعالى: * (ولنجعلك آية للناس) * فقد بينا أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا، وذلك لا يليق بمن مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى.
فإن قيل: ما فائدة الواو في قوله * (ولنجعلك) * قلنا: قال الفراء: دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر، لأنه لو قال: وانظر إلى حمارك لنجعلك آية، كان النظر إلى الحمار شرطا، وجعله آية جزاء، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام، أما لما قال: * (ولنجعلك آية) * كان المعنى: ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء، ومثله قوله تعالى: * (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست) * (الأنعام: 105) والمعنى: وليقولوا درست صرفنا الآيات * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) * (الأنعام: 75) أي ونريه الملكوت.
أما قوله تعالى: * (وانظر إلى العظام) * فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره، فإن اللام فيه بدل الكناية، وقال آخرون أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه، قالوا: إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه، وكانت بقية بدنه عظاما نخرة، فكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض، وكان يرى حماره واقفا كما ربطه حين كان حيا لم يأكل ولم يشرب مائة عام، وتقدير الكلام على هذا الوجه: وانظر إلى عظامك، وهذا قول قتادة والربيع وابن زيد، وهو عندي ضعيف لوجوه أحدها: أن قوله * (لبثت يوما أو بعض يوم) * إنما يليق بمن لا يرى أثر التغير في نفسه فيظن أنه كان نائما في بعض يوم، أما من شاهد أجزاء بدنة متفرقة، وعظام بدنة رميمة نخرة، فلا يليق به ذلك القول وثانيها: أنه تعالى حكي عنه أن خاطبه وأجاب، فيجب أن يكون المجيب هو الذي أماته الله، فإذا كانت الإماتة راجعة إلي كله، فالمجيب أيضا الذي بعثه الله يجب أن يكون جملة الشخص وثالثها: أن قوله * (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) * يدل على أن تلك الجملة أحياها وبعثها.
38

أما قوله * (كيف ننشرها) * فالمراد يحييها، يقال: أنشر الله الميت ونشره، قال تعالى: * (ثم إذا شاء أنشره) * وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله تعالى: * (قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها) * (يس: 78، 79) وقرئ * (ننشرها) * بفتح النون وضم الشين، قال الفراء: كأنه ذهب إلى النشر بعد الطي، وذلك أن بالحياة يكون الانبساط في التصرف، فهو كأنه مطوي ما دام ميتا، فإذا عاد صار كأنه نشر بعد الطي، وقرأ حمزة والكسائي * (ننشزها) * بالزاي المنقوطة من فوق، والمعنى نرفع بعضها إلى بعض، وانشاز الشيء رفعه، يقال أنشزته فنشز، أي رفعته فارتفع، ويقال لما ارتفع من الأرض نشز، ومنه نشوز المرأة، وهو أن ترتفع عن حد رضا الزوج، ومعنى الآية على هذه القراءة: كيف نرفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركب بعضها على البعض، وروي عن النخعي أنه كان يقرأ * (ننشزها) * بفتح النون وضم الشين والزاي ووجهه ما قال الأخفش أنه يقال: نشزته وأنشزته أي رفعته، والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام، ثم بسط اللحم عليها، ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها، ورفع بعضه إلى جنب البعض، فيكون كل القراءات داخلا في ذلك.
ثم قال تعالى: * (فلما تبين له) * وهذا راجع إلى ما تقدم ذكره من قوله * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * والمعنى فلما تبين له وقوع ما كان يستبعد وقوعه وقال صاحب " الكشاف ": فاعل * (تبين له) * مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال: * (أعلم أن الله على كل شيء قدير) * فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وهذا عندي فيه تعسف، بل الصحيح أنه لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال: * (أعلم أن الله على كل شيء قدير) * وتأويله: أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك الاستدلال وقرأ حمزة والكسائي * (قال أعلم) * على لفظ الأمر وفيه وجهان أحدهما: أنه عند التبين أمر نفسه بذلك، قال الأعشى: ودع أمامة إن الركب قد رحلوا (c)
والثاني: أن الله تعالى قال: * (أعلم أن الله على كل شيء قدير) * ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش: قيل أعلم أن الله على كل شيء قدير ويؤكده قوله في قصة إبراهيم * (ربي أرني كيف تحيي الموتى) * (البقرة: 260) ثم قال في آخرها * (واعلم أن الله عزيز حكيم) * (البقرة: 260) قال القاضي: والقراءة الأولى وذلك لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به، وهاهنا العلم حاصل بدليل قوله * (فلما تبين له) * فكان الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك غير جائز، أما الاخبار عن أنه حصل كان جائزا.
39

القصة الثالثة
وهي أيضا دالة على صحة البعث:
* (وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في عامل * (إذ) * قولان قال الزجاج التقدير: أذكر إذ قال إبراهيم، وقال غيره إنه معطوف على قوله * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم) * ألم تر إذ حاج إبراهيم في ربه، وألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى.
المسألة الثانية: أنه تعالى لم يسم عزيرا حين قال: * (أو كالذي مر على قرية) * (البقرة: 259) وسمى هاهنا إبراهيم مع أن المقصود من البحث في كلتا القصتين
شيء واحد، والسبب أن عزيرا لم يحفظ الأدب، بل قال: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * وإبراهيم حفظ الأدب فإنه أثنى على الله أولا بقوله * (رب) * ثم دعا حيث قال: * (أرني) * وأيضا أن إبراهيم لما راعى الأدب جعل الإحياء والإماتة في الطيور، وعزيرا لما لم يراع الأدب جعل الإحياء والإماتة في نفسه.
المسألة الثالثة: ذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوها الأول: قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج: أنه رأى جيفة مطروحة في شط البحر فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت، وإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت، فقال إبراهيم: رب أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر، فقيل: أو لم تؤمن قال بلى ولكن المطلوب من السؤال أن يصير العلم بالاستدلال ضروريا.
40

الوجه الثاني: قال محمد بن إسحاق والقاضي: سبب السؤال أنه مع مناظرته مع نمروذ لما قال: * (ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت) * فأطلق محبوسا وقتل رجلا قال إبراهيم: ليس هذا بإحياء وإماتة، وعند ذلك قال: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) * لتنكشف هذه المسألة عند نمروذ وأتباعه، وروي عن نمرود أنه قال: قل لربك حتى يحيي وإلا قتلتك، فسأل الله تعالى ذلك، وقوله * (ليطمئن قلبي) * بنجاتي من القتل أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني، وإن عدولي منها إلى غيرها ما كان بسبب ضعف تلك الحجة، بل كان بسبب جهل المستمع.
والوجه الثالث: قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي رضي الله عنهم: أن الله تعالى أوحى إليه إني متخذ بشرا خليلا: فاستعظم ذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقال إلهي ما علامات ذلك؟ فقال: علامته أنه يحيي الميت بدعائه، فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة، خطر بباله: إني لعلي أن أكون ذلك الخليل، فسأل إحياء الميت فقال الله * (أولم نؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * على أنني خليل لك.
الوجه الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم إنما سأل ذلك لقومه وذلك أتباع الأنبياء كانوا يطالبونهم بأشياء تارة باطلة وتارة حقة، كقولهم لموسى عليه السلام: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) فسأل إبراهيم ذلك. والمقصود أن يشاهده فيزول الإنكار عن قلوبهم.
الوجه الخامس: ما خطر ببالي فقلت: لا شك أن الأمة كما يحتاجون في العلم بأن الرسول صادق في ادعاء الرسالة إلى معجز يظهر على يده فكذلك الرسول عند وصول الملك إليه وإخباره إياه بأن الله بعثه رسولا يحتاج إلى معجز يظهر على يد ذلك الملك ليعلم الرسول أن ذلك الواصل ملك كريم لا شيطان رجيم وكذا إذا سمع الملك كلام الله احتاج إلى معجز يدل على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى لا كلام غيره وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال: إنه لما جاء الملك إلى إبراهيم وأخبره بأن الله تعالى بعثك رسولا إلى الخلق طلب المعجز فقال: * (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم.
الوجه السادس: وهو على لسان أهل التصوف: أن المراد من الموتى القلوب المحجوبة عن أنوار المكاشفات والتجلي، والإحياء عبارة عن حصول ذلك التجلي والأنوار الإلهية فقوله * (أرني كيف تحيي الموتى) * طلب لذلك التجلي والمكاشفات فقال أولم تؤمن قال بلى أو من به إيمان الغيب، ولكن أطلب حصولها ليطمئن قلبي بسبب حصول ذلك التجلي، وعلى قول المتكلمين: العلم الاستدلالي مما يتطرق إليه الشبهات والشكوك فطلب علما ضروريا يستقر القلب معه استقرار لا يتخالجه شيء
41

من الشكوك والشبهات.
الوجه السابع: لعله طالع في الصحف التي أنزلها الله تعالى عليه أنه يشرف ولده عيسى بأنه يحيي الموتى بدعائه فطلب ذلك فقيل له * (أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * على أني لست أقل منزلة في حضرتك من ولدي عيسى.
الوجه الثامن: أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمر بذبح الولد فسارع إليه، ثم قال: أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح ففعلت، وأنا أسألك أن تجعل غير ذي روح روحانيا، فقال: أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أنك اتخذتني خليلا.
الوجه التاسع: نظر إبراهيم صلى الله عليه وسلم في قلبه فرآه ميتا بحب ولده فاستحيي من الله وقال: أرني كيف تحيي الموتى أي القلب إذا مات بسبب الغفلة كيف يكون إحياؤه بذكر الله تعالى.
الوجه العاشر: تقدير الآية أن جميع الخلق يشاهدون الحشر يوم القيامة فأرني ذلك في الدنيا، فقال: أولم نؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أن خصصتني في الدنيا بمزيد هذا التشريف.
الوجه الحادي عشر: لم يكن قصد إبراهيم إحياء الموتى، بل كان قصده سماع الكلام بلا واسطة.
الثاني عشر: ما قاله قوم من الجهال، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان شاكا في معرفة المبدأ وفي معرفة المعاد، أما شكه في معرفة المبدأ فقوله * (هذا ربي) * وقوله * (لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) * (الأنعام: 77) وأما شكه في المعاد فهو في هذه الآية، وهذا القول سخيف، بل كفر وذلك لأن الجاهل بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى كافر، فمن نسب النبي المعصوم إلى ذلك فقد كفر النبي المعصوم، فكان هذا بالكفر أولى، ومما يدل على فساد ذلك وجوه أحدها: قوله تعالى: * (أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * ولو كان شاكا لم يصح ذلك وثانيها: قوله * (ولكن ليطمئن قلبي) * وذلك كلام عارف طالب لمزيد اليقين، ومنها أن الشك في قدرة الله تعالى يوجب الشك في النبوة فكيف يعرف نبوة نفسه.
أما قوله تعالى: * (أولم تؤمن) * ففيه وجهان أحدهما: أنه استفهام بمعنى التقرير، قال الشاعر:
ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح
والثاني: المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه عليه السلام كان مؤمنا بذلك عارفا به وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر.
أما قوله تعالى: * (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * فاعلم أن اللام في * (ليطمئن) * متعلق بمحذوف، والتقدير: سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب، قالوا. والمراد منه أن يزول عنه الخواطر التي تعرض
42

للمستدل وإلا فاليقين حاصل على كلتا الحالتين.
وهاهنا بحث عقلي وهو أن التفسير مفرع على أن العلوم يجوز أن يكون بعضها أقوى من بعض، وفيه سؤال صعب، وهو أن الإنسان حال حصول العلم له إما أن يكون مجوزا لنقيضه، وإما أن لا يكون، فإن جوز نقيضه بوجه من الوجوه، فذاك ظن قوي لا اعتقاد جازم، وإن لم يجوز نقيضه بوجه من الوجوه امتنع وقوع التفاوت في العلوم.
واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا قلنا المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء، أما لو قلنا: المقصود شيء آخر فالسؤال زائل.
أما قوله تعالى: * (فخذ أربعة من الطير) * فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أخذ طاوسا ونسرا وغرابا وديكا، وفي قول مجاهد وابن زيد رضي الله عنهما: حمامة بدل النسر، وهاهنا أبحاث:
البحث الأول: أنه لما خص الطير من جملة الحيوانات بهذه الحالة ذكروا فيه وجهين الأول: أن الطيران في السماء، والارتفاع في الهواء، والخليل كانت همته العلو والوصول إلى الملكوت فجعلت معجزته مشاكلة لهمته.
والوجه الثاني: أن الخليل عليه السلام لما ذبح الطيور وجعلها قطعة قطعة، ووضع على رأس كل جبل قطعا مختلطة، ثم دعاها طار كل جزء إلى مشاكله، فقيل له كما طار كل جزء إلى مشاكله كذا يوم القيامة يطير كل جزء إلى مشاكله حتى تتألف الأبدان وتتصل به الأرواح، ويقرره قوله تعالى: * (يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر) * (القمر: 7).
البحث الثاني: أن المقصود من الإحياء والإماتة كان حاصلا بحيوان واحد، فلم أمر بأخذ أربع حيوانات، وفيه وجهان الأول: أن المعنى فيه أنك سألت واحدا على قدر العبودية وأنا أعطي أربعا على قدر الربوبية والثاني: أن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تركيب أبدان الحيوانات والنباتات والإشارة فيه أنك ما لم تفرق بين هذه الطيور الأربعة لا يقدر طير الروح على الارتفاع إلى هواء الربوبية وصفاء عالم القدس. البحث الثالث: إنما خص هذه الحيوانات لأن الطاوس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه والترفع، قال تعالى: * (زين للناس حب الشهوات) * (آل عمران: 14) والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء الشهوة من الفرج والغراب إشارة إلى شدة الحرص على الجمع والطلب، فإن من حرص الغراب أنه يطير بالليل ويخرج بالنهار في غاية البرد للطلب، والإشارة فيه إلى أن الإنسان ما لم يسع في قتل شهوة النفس والفرج وفي إبطال الحرص وإبطال التزين
43

للخلق لم يجد في قلبه روحا وراحة من نور جلال الله.
أما قوله تعالى: * (فصرهن إليك) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة * (فصرهن إليك) * بكسر الصاد، والباقون بضم الصاد، أما الضم ففيه قولان الأول: أن من صرت الشيء أصوره إذا أملته إليه ورجل أصور أي مائل العنق، ويقال: صار فلان إلى كذا إذا قال به ومال إليه، وعلى هذا التفسير يحصل في الكلام محذوف، كأنه قيل: أملهن إليك وقطعهن، ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ، فحذف الجملة التي هي قطعهن لدلالة الكلام عليه كقوله * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * على معنى: فضرب فانفلق لأن قوله * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ) * يدل على التقطيع.
فإن قيل: ما الفائدة في أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها؟.
قلنا: الفائدة أن يتأمل فيها ويعرف أشكالها وهيآتها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ولا يتوهم أنها غير تلك.
والقول الثاني: وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد * (صرهن إليك) * معناه قطعهن، يقال: صار الشيء يصوره صورا، إذ قطعه، قال رؤبة يصف خصما ألد: صرناه بالحكم، أي قطعناه، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار، وأما قراءة حمزة بكسر الصاد، فقد فسر هذه الكلمة أيضا تارة بالإمالة، وأخرى بالتقطيع، أما الإمالة فقال الفراء: هذه لغة هذيل وسليم: صاره يصيره إذا أماته، وقال الأخفش وغيره * (صرهن) * بكسر الصاد: قطعهن. يقال: صاره يصيره إذا قطعه، قال الفراء: أظن أن ذلك مقلوب من صرى يصري إذا قطع، فقدمت ياؤها، كما قالوا: عثا وعاث، قال المبرد: وهذا لا يصح، لأن كل واحد من هذين اللفظين أصل في نفسه مستقل بذاته، فلا يجوز جعل أحدهما فرعا عن الآخر.
المسألة الثانية: أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية: قطعهن، وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها، وخلط بعضها على بعض، غير أبي مسلم فإنه أنكر ذلك، وقال: إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى أراه الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه، والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة، أي فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك، فإذا صارت كذلك، فاجعل على كل جبل واحدا حال حياته، ثم ادعهن يأتينك سعيا، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه: فقطعهن. واحتج عليه بوجوه الأول: أن المشهور في اللغة في
44

قوله * (فصرهن) * أملهن وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه، فكان إدراجه في الآية إلحاقا لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز والثاني: أنه لو كان المراد بصرهن قطعهن لم يقل إليك، فإن ذلك لا يتعدى بإلي وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن.
قلنا: التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجئ إلى التزامه خلاف الظاهر والثالث: أن الضمير في قوله * (ثم ادعهن) * عائد إليها لا إلى أجزائها، وإذا كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائدا إلى تلك الأجزاء لا إليها، وهو خلاف الظاهر، وأيضا الضمير في قوله * (يأتينك سعيا) * عائدا إليها لا إلى إجزائها وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في * (يأتينك) * عائدا إلى أجزائها لا إليها، واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه الأول: أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبو مسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها، فيكون إنكار ذلك إنكارا للإجماع والثاني: أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم صلى الله عليه وسلم، فلا يكون له فيه مزية على العير والثالث: أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى، وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك، وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة والرابع: أن قوله * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * يدل على أن تلك الطيور جعلت جزأ جزأ، قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه: أنه أضاف الجزء إلى الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة والجواب: أن ما ذكرته وإن كان محتملا إلا أن حمل الجزء على ما ذكرناه أظهر والتقدير: فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا أو بعضا.
أما قوله تعالى: * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر قوله * (على كل جبل) * جميع جبال الدنيا، فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان، كأنه قيل: فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة عليه، وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة وعلى حسب الجهات الأربعة أيضا أعني المشرق والمغرب والشمال والجنوب، وقال السدي وابن جريج: سبعة من الجبال لأن المراد
45

كل جبل يشاهده إبراهيم عليه السلام حتى يصح منه دعاء الطير، لأن ذلك لا يتم إلا بالمشاهدة، والجبال التي كان يشاهدها إبراهيم عليه السلام سبعة.
المسألة الثانية: روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذبحها ونتف ريشها وتقطيعها جزءا جزءا وخلط دمائها ولحومها، وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال على كل جبل ربعا من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن الله تعالى، ثم أخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها وانضم كل رأس إلى جثته، وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى.
المسألة الثالثة: قرأ عاصم في رواية أبي بكر والفضل * (جزءا) * مثقلا مهموزا حيث وقع، والباقون مهمزا مخففا وهما لغتان بمعنى واحد.
أما قوله تعالى: * (ثم ادعهن يأتينك سعيا) * فقيل عدوا ومشيا على أرجلهن، لأن ذلك أبلغ في الحجة، وقيل طيرانا وليس يصح، لأنه لا يقال للطير إذا طار: سعى، ومنهم من أجاب عنه بأن السعي هو الاشتداد في الحركة، فإن كانت الحركة طيرانا فالسعي فيها هو الاشتداد في تلك الحركة.
وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن البنية ليست شرطا في صحة الحياة، وذلك لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حيا فاهما للنداء، قادرا على السعي والعدو، فدل ذلك على أن البنية ليست شرطا في صحة الحياة قال القاضي: الآية دالة على أنه لا بد من البنية من حيث أوجب التقطيع بطلان حياتها.
والجواب: أنه ضعيف لأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة، أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فإنه يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة، ولما دلت الآية على حصول فهم النداء، والقدرة على السعي لتلك الأجزاء حال تفرقها، كان دليلا قاطعا على أن البنية ليست شرطا للحياة.
أما قوله تعالى: * (واعلم أن الله عزيز حكيم) * فالمعنى أنه غالب على جميع الممكنات * (حكيم) * أي عليم بعواقب الأمور وغايات الأشياء.
قوله تعالى
* (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشآء والله واسع عليم) *.
46

إعلم أنه سبحانه لما ذكر من بيان أصول العلم بالمبدأ وبالمعاد ومن دلائل صحتهما ما أراد أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف.
فالحكم الأول: في بيان التكاليف المعتبرة في إنفاق الأموال، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجوه الأول: قال القاضي رحمه الله: إنه تعالى لما أجمل في قوله * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) * فصل بعد ذلك في هذه الآية تلك الأضعاف، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته بالإحياء والإماتة من حيث لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب، لكان الإنفاق في سائر الطاعات عبثا، فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمتي عليك بالإحياء والأقدار وقد علمت قدرتي على المجازاة والإثابة، فليكن علمك بهذه الأحوال داعيا إلى إنفاق المال، فإنه يجازي القليل بالكثير، ثم ضرب لذلك الكثير مثلا، وهو أن من بذر حبة أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فصارت الواحدة سبعمائة.
الوجه الثاني: في بيان النظم ما ذكره الأصم، وهو أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته.
والوجه الثالث: لما بين تعالى أنه ولي المؤمنين، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت بين مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت.
المسألة الثانية: في الآية إضمار، والتقدير: مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة وقيل: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع حبة.
المسألة الثالثة: معنى * (ينفقون أموالهم في سبيل الله) * يعني في دينه، قيل: أراد النفقة في الجهاد خاصة، وقيل: جميع أبواب البر، ويدخل فيه الواجب والنفل من الإنفاق في الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الإنفاق في الجهاد على نفسه وعلى الغير، ومن صرف المال إلى الصدقات، ومن إنفاقها في المصالح، لأن كل ذلك معدود في السبيل الذي هو دين الله وطريقته لأن كل ذلك إنفاق في سبيل الله.
فإن قيل: فهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة حتى يضرب المثل بها؟.
47

قلنا: الجواب عنه من وجوه الأول: أن المقصود من الآية أنه لو علم إنسان يطلب الزيادة والربح أنه إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك ولا التقصير فيه فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر في الآخرة عند الله أن لا يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة، وسبعمائة، وإذا كان هذا المعنى معقولا سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم يوجد كان المعنى حاصلا مستقيما، وهذا قول القفال رحمه الله وهو حسن جدا.
والجواب الثاني: أنه شوهد ذلك في سنبلة الجاورس، وهذا الجواب في غاية الركاكة.
المسألة الرابعة: كان أبو عمرو وحمزة والكسائي يدغمون التاء في السين في قوله * (أنبتت سبع سنابل) * لأنهما حرفان مهموسان، والباقون بالإظهار على الأصل.
ثم قال: * (والله يضاعف لمن يشاء) * وليس فيه بيان كمية تلك المضاعفة، ولا بيان من يشرفه الله بهذه المضاعفة، بل يجب أن يجوز أنه تعالى يضاعف لكل المتقين، ويجوز أن يضاعف لبعضهم من حيث يكون إنفاقه أدخل في الإخلاص، أو لأنه تعالى بفضله وإحسانه يجعل طاعته مقرونة بمزيد القبول والثواب.
ثم قال: * (والله سميع) * أي واسع القدرة على المجازاة على الجود والافضال عليهم، بمقادير الانفاقات، وكيفية ما يستحق عليها، ومتى كان الأمر كذلك لم يصر عمل العامل ضائعا عند الله تعالى.
قوله تعالى
* (الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
إعلم أنه تعالى لما أعظم أمر الانفاق في سبيل الله، أتبعه ببيان الأمور التي يجب تحصيلها حتى يبقى ذلك الثواب، منها ترك المن والأذى ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: نزلت الآية في عثمان وعبد الرحمن بن عوف، أما عثمان فجهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف دينار، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يقول: يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه، وأما عبد الرحمن بن عوف فإنه تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار فنزلت الآية.
48

المسألة الثانية: قال بعض المفسرين: إن الآية المتقدمة مختصة بمن أنفق على نفسه، وهذه الآية بمن أنفق على غيره فبين تعالى أن الانفاق على الغير إنما يوجب الثواب العظيم المذكور في الآية إذا لم يتبعه بمن ولا أذى قال القفال رحمه الله: وقد يحتمل أن يكون هذا الشرط معتبرا أيضا فيمن أنفق على نفسه، وذلك هو أن ينفق على نفسه ويحضر الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ابتغاء لمرضاة الله تعالى، ولا يمن به على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولا يؤذي أحدا من المؤمنين، مثل أن يقول: لو لم أحضر لما تم هذا الأمر، ويقول لغيره: أنت ضعيف بطال لا منفعة منك في الجهاد.
المسألة الثالثة: * (المن) * في اللغة على وجوه أحدها: بمعنى الانعام، يقال: قد من الله على فلان، إذا أنعم، أو لفلان على منة، وأنشد ابن الأنباري:
فمني علينا بالسلام فإنما * كلامك ياقوت ودر منظم
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة " يريد أكثر إنعاما بماله، وأيضا الله تعالى يوصف بأنه منان أي منعم.
والوجه الثاني: في التفسير * (المن) * النقص من الحق والبخس له، قال تعالى: * (وإن لك لأجرا غير ممنون) * أي غير مقطوع وغير ممنوع، ومنه سمي الموت: منونا لأنه ينقص الأعمار، ويقطع الأعذار: ومن هذا الباب المنة المذمومة، لأن ينقص النعمة، ويكدرها، والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة، قال قائلهم:
زاد معروفك عندي عظما * أنه عندي مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته * وهو في العالم مشهور كثير
إذا عرفت هذا فنقول: المن هو إظهار الاصطناع إليهم، والأذى شكايته منهم بسبب ما أعطاهم وإنما كان المن مذموما لوجوه الأول: أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة غير معترف باليد العليا للمعطي، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار ذلك الإنعام، زاد ذلك في انكسار قلبه، فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة، وفي حكم المسئ إليه بعد أن أحسن إليه والثاني: إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريقه ذلك الثالث: أن المعطي يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله تعالى عليه، وأن يعتقد أن لله عليه نعما عظيمة حيث وفقه لهذا العمل، وأن يخاف أنه هل قرن بهذا الانعام ما يخرجه عن قبول الله إياه، ومتى كان الأمر كذلك امتنع أن يجعله منة على الغير الرابع: وهو السر الأصلي أنه إن علم أن ذلك
49

الإعطاء إنما تيسر لأن الله تعالى هيأ له أسباب الاعطاء وأزال أسباب المنع، ومتى كان الأمر كذلك كان المعطي هو الله في الحقيقة لا العبد، فالعبد إذا كان في هذه الدرجة كان قلبه مستنيرا بنور الله تعالى وإذا لم يكن كذلك بل كان مشغولا بالأسباب الجسمانية الظاهرة وكان محروما عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقة فكان في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول وعن الآثار إلى المؤثر، وأما الأذى فقد اختلفوا فيه، منهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين وليس ذلك
بالمن بل يجب أن يكون مختصا بما تقدم ذكره وهو مثل أن يقول للفقير: أنت أبدا تجيئني بالإيلام وفرج الله عني منك وباعد ما بيني وبينك، فبين سبحانه وتعالى أن من أنفق ماله ثم أنه لا يتبعه المن والأذى فله الأجر العظيم والثواب الجزيل.
فإن قيل: ظاهر اللفظ أنهما بمجموعهما يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الثاني لا يبطل الأجر.
قلنا: بل الشرط أن لا يوجد واحد منهما لأن قوله * (لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) * يقتضي أن لا يقع منه لا هذا ولا ذاك.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: الآية دالة على أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها، وذلك لأنه تعالى بين أن هذا الثواب إنما يبقى إذا لم يوجد المن والأذى، لأنه لو ثبت مع فقدهما ومع وجودهما لم يكن لهذا الاشتراط فائدة.
أجاب أصحابنا بأن المراد من الآية أن حصول المن والأذى يخرجان الانفاق من أن يكون فيه أجر وثواب أصلا، من حيث يدلان على أنه إنما أنفق لكي يمن، ولم ينفق لطلب رضوان الله، ولا على وجه القربة والعبادة، فلا جرم بطل الأجر، طعن القاضي في هذا الجواب فقال: إنه تعالى بين أن هذا الانفاق قد صح، ولذلك قال: * (ثم لا يتبعون ما أنفقوا) * وكلمة * (ثم) * للتراخي، وما يكون متأخرا عن الانفاق موجب للثواب، لأن شرط المتأثر يجب أن يكون حاصلا حال حصول المؤثر لا بعده.
أجاب أصحابنا عنه من وجوه الأول: أن ذكر المن والأذى وإن كان متأخرا عن الانفاق، إلا أن هذا الذكر المتأخر يدل ظاهرا على أنه حين أنفق ما كان إنفاقه لوجه الله، بل لأجل الترفع على الناس وطلب الرياء والسمعة، ومتى كان الأمر كذلك كان إنفاقه غير موجب للثواب والثاني: هب أن هذا الشرط متأخر، ولكن لم يجوز أن يقال: إن تأثير المؤثر يتوقف على أن لا يوجد بعده ما يضاده على ما هو مذهب أصحاب الموافاة، وتقريره معلوم في علم الكلام.
50

المسألة الخامسة: الآية دلت أن المن والأذى من الكبائر، حيث تخرج هذه الطاعة العظيمة بسبب كل واحد منهما عن أن تفيد ذلك الثواب الجزيل.
أما قوله * (لهم أجرهم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن العمل يوجب الأجر على الله تعالى، وأصحابنا يقولون: حصول الأجر بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل لأن العمل واجب على العبد وأداء الواجب لا يوجب الأجر.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على نفي الإحباط، وذلك لأنها تدل على أن الأجر حاصل لهم على الاطلاق، فوجب أن يكون الأجر حاصلا لهم بعد فعل الكبائر، وذلك يبطل القول بالإحباط.
المسألة الثالثة: أجمعت الأمة على أن قوله * (لهم أجرهم عند ربهم) * مشروط بأن لا يوجد منه الكفر، وذلك يدل على أنه يجوز التكلم بالعام لإرادة الخاص، ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التمسك بالعمومات على القطع بالوعيد.
أما قوله * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * ففيه قولان الأول: أن إنفاقهم في سبيل الله لا يضيع، بل ثوابه موفر عليهم يوم القيامة، لا يخافون من أن لا يوجد، ولا يحزنون بسبب أن لا يوجد، وهو كقوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) * (طه: 112) والثاني: أن يكون المراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب البتة، كما قال: * (وهم من فزع يومئذ آمنون) * (النمل: 89) وقال: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * (الأنبياء: 103).
قوله تعالى
* (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعهآ أذى والله غنى حليم * يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذى ينفق ماله رئآء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر
51

فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شىء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين * ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغآء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) *.
أما القول المعروف، فهو القول الذي تقبله القلوب ولا تنكره، والمراد منه هاهنا أن يرد السائل بطريق جميل حسن، وقال عطاء: عدة حسنة، أما المغفرة ففيه وجوه أحدها: أن الفقير إذا رد بغير مقصوده شق عليه ذلك، فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان، فأمر بالعفو عن بذاءة الفقير والصفح عن إساءته وثانيها: أن يكون المراد ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل وثالثها: أن يكون المراد من المغفرة أن يستر حاجة الفقير ولا يهتك ستره، والمراد من القول المعروف رده بأحسن الطرق وبالمغفرة أن لا يهتك ستره بأن يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله ورابعها: أن قوله * (قول معروف) * خطاب مع المسؤول بأن يرد السائل بأحسن الطرق، وقوله * (ومغفرة) * خطاب مع السائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرد، فربما لم يقدر على ذلك الشيء في تلك الحالة، ثم بين تعالى أن فعل الرجل لهذين الأمرين خير له من صدقة يتبعها أذى، وسبب هذا الترجيح أنه إذا أعطى، ثم أتبع الإعطاء بالإيذاء، فهناك جمع بين الانفاع والإضرار، وربما لم يف ثواب الانفاع بعقاب الإضرار، وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ولم يقترن به الإضرار، فكان هذا خيرا من الأول.
واعلم أن من الناس من قال: إن الآية واردة في التطوع، لأن الواجب لا يحل منعه، ولا رد السائل منه، وقد يحتمل أن يراد به الواجب، وقد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير
52

إلى فقير.
ثم قال: * (والله غني) * عن صدقة العباد فإنما أمركم بها ليثيبكم عليها * (حليم) * إذا لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته، وهذا سخط منه ووعيد له ثم إنه تعالى وصف هذين النوعين على الإنفاق أحدهما: الذي يتبعه المن والأذى والثاني: الذي لا يتبعه المن والأذى، فشرح حال كل واحد منهما، وضرب مثلا لكل واحد منهما.
فقال في القسم الأول: الذي يتبعه المن والأذى * (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) * وفي الآية مسائل؛ المسألة الأولى: قال القاضي: إنه تعالى آكد النهي عن إبطال الصدقة بالمن والأذى وأزال كل شبهة للمرجئة بأن بين أن المراد أن المن والأذى يبطلان الصدقة، ومعلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدمت، فلا يصح أن تبطل فالمراد إبطال أجرها وثوابها، لأن الأجر لم يحصل بعد وهو مستقبل فيصح إبطاله بما يأتيه من المن والأذى.
واعلم أنه تعالى ذكر لكيفية إبطال أجر الصدقة بالمن والأذى مثلين، فمثله أولا: بمن ينفق ماله رئاء الناس، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر، لأن بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها المن والأذى، ثم مثله ثانيا: بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار، ثم أصابه المطر القوي، فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما كان عليه غبار ولا تراب أصلا، فالكافر كالصفوان، والتراب مثل ذلك الإنفاق والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر، وكالمن والأذى اللذين يحبطان عمل هذا المنفق، قال: فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان، فكذا المن والأذى يوجب أن يكونا مبطلين لأجر الانفاق بعد حصوله، وذلك صريح في القول بالاحباط والتفكير، قال الجبائي: وكما دل هذا النص على صحة قولنا فالعقل دل عليه أيضا، وذلك لأن من أطاع وعصى، فلو استحق ثواب طاعته وعقاب معصيته لوجب أن يستحق النقيضين، لأن شرط الثواب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال، وشرط العقاب أن يكون مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإذلال فلو لم تقع المحابطة لحصل استحقاق النقيضين وذلك محال، ولأنه حين يعاقبه فقد منعه الإثابة ومنع الإثابة ظلم، وهذا العقاب عدل، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلا من حيث إنه حقه، وأن يكون ظلما من حيث إنه منع الإثابة، فيكون ظالما بنفس الفعل الذي هو عادل فيه وذلك محال، فصح بهذا قولنا في الإحباط والتفكير بهذا النص وبدلالة العقل، هذا كلام المعتزلة.
وأما أصحابنا فإنهم قالوا: ليس المراد بقوله * (لا تبطلوا) * النهي عن إزالة هذا الثواب بعد ثبوته
53

بل المراد به أن يأتي بهذا العمل باطلا، وذلك لأنه إذا قصد به غير وجه الله تعالى فقد أتى به من الابتداء على نعت البطلان، واحتج أصحابنا على بطلان قول المعتزلة بوجوه من الدلائل:
أولها: أن النافي والطارئ إن لم يكن بينهما منافاة لم يلزم من طريان الطارئ زوال النافي، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن اندفاع الطارئ أولى من زوال النافي، بل ربما كان هذا أولى لأن الدفع أسهل من الرفع.
ثانيها: أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي وهو محال لأن الماضي انقضى ولم يبق في الحال وإعدام المعدوم محال وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضا محال لأن الموجود في الحال لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محال، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محال، لأن الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال وإعدام ما لم يوجد بعد محال.
وثالثها: أن شرط طريان الطارئ زوال النافي فلو جعلنا زوال النافي معللا بطريان الطارئ لزم الدور وهو محال.
ورابعها: أن الطارئ إذا طرأ وأعدم الثواب السابق فالثواب السابق إما أن يعدم من هذا الطارئ شيئا أو لا يعدم منه شيئا، والأول هو الموازنة وهو قول أبي هاشم وهو باطل، وذلك لأن الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو حصل العدمان معا اللذان هما معلولان لزم حصول الوجودين اللذين هما علتان فيلزم أن يكون كل واحد منهما موجودا حال كون كل واحد منهما معدوما وهو محال.
وأما الثاني: وهو قول أبي علي الجبائي فهو أيضا باطل لأن العقاب الطارئ لما أزال الثواب السابق، وذلك الثواب السابق ليس له أثر البتة في إزالة الشيء من هذا العقاب الطارئ، فحينئذ لا يحصل له من العمل الذي أوجب الثواب السابق فائدة أصلا لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب وذلك على مضادة النص الصريح في قوله * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * (الزلزلة: 7) ولأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقة الطاعة، ولم يظهر له منها أثر لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة.
وخامسها: وهو أنكم تقولون: الصغيرة تحبط بعض أجزاء الثواب دون البعض، وذلك محال من القول، لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهية، فالصغيرة الطارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكل في الماهية كان ذلك ترجيحا للممكن من غير مرجح وهو محال، فلم يبق إلا أن يقال بأن الصغيرة الطارئة تزيل كل تلك الاستحقاقات وهو باطل بالاتفاق، أو لا نزيل شيئا منها وهو المطلوب.
وسادسها: وهو أن عقاب الكبيرة إذا كان أكثر من ثواب العمل المتقدم، فإما أن يقال بأن المؤثر في إبطال الثواب بعض أجزاء العقاب الطارئ أو كلها والأول: باطل لأن اختصاص بعض
54

تلك الأجزاء بالمؤثرية دون البعض مع استواء كلها في الماهية ترجيح للممكن من غير مرجح وهو محال، والقسم الثاني باطل، لأنه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثواب جزآن من العقاب مع أن كل واحد من ذينك الجزأين مستقل بإبطال ذلك الثواب، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال، لأنه
يستغني بكل واحد منهما فيكون غنيا عنهما معا حال كونه محتاجا إليهما معا وهو محال.
وسابعها: وهو أنه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين لأن السيد إذا قال لعبده: احفظ المتاع لئلا يسرقه السارق، ثم في ذلك الوقت جاء العدو وقصد قتل السيد، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدو وقتله فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح والتعظيم حيث دفع القتل عن سيده، ويوجب استحقاقه للذم حيث عرض ماله للسرقة، وكل واحد من الاستحقاقين ثابت، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى الترجيح أو إلى المهايأة، فأما أن يحكموا بانتفاء أحد الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوع في بداهة العقول.
وثامنها: أن الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المتقدم فهذا الطارئ إما أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق أو لا يكون، والأول: محال لأن ذلك الفعل إنما يكون موجودا في الزمان الماضي، فلو كان لهذا الطارئ أثر في ذلك الفعل الماضي لكان هذا إيقاعا للتأثير في الزمان الماضي وهو محال، وإن لم يكن للطارئ أثر في اقتضاء ذلك الفعل السابق لذلك الاستحقاق وجب أن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وأن لا يزول ولا يقال لم لا يجوز أن يكون هذا الطارئ مانعا من ظهور الأثر على ذلك السابق، لأنا نقول: إذا كان هذا الطارئ لا يمكنه أن يعمل بجهة اقتضاء ذلك الفعل السابق أصلا والبتة من حيث إيقاع الأثر في الماضي محال، واندفاع أثر هذا الطارئ ممكن في الجملة كان الماضي على هذا التقدير أقوى من هذا الحادث فكان الماضي بدفع هذا الحادث أولى من العكس.
وتاسعها: أن هؤلاء المعتزلة يقولون: إن شرب جرعة من الخمر يحبط ثواب الإيمان وطاعة سبعين سنة على سبيل الإخلاص، وذلك محال. لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب هذه الطاعات أكثر من عقاب هذه المعصية الواحدة، والأعظم لا يحيط بالأقل، قال الجبائي: إنه لا يمتنع أن تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كل طاعة، لأن معصية الله تعظم على قدر كثرة نعمه وإحسانه، كما أن استحقاق قيام الربانية وقد رباه وملكه وبلغه إلى النهاية العظيمة أعظم من قيامه بحقه لكثرة نعمه، فإذا كانت نعم الله على عباده بحيث لا تضبط عظما وكثرة لم يمتنع أن يستحق على المعصية الواحدة العقاب العظيم الذي يوافي على ثواب جملة الطاعات، واعلم أن هذا
55

العذر ضعيف لأن الملك إذا عظمت نعمه على عبده ثم إن ذلك العبد قام بحق عبوديته خمسين سنة ثم إنه كسر رأس قلم ذلك الملك قصدا، فلو أحبط الملك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكل أحد يذمه وينسبه إلى ترك الانصاف والقسوة، ومعلوم أن جميع المعاصي بالنسبة إلى جلال الله تعالى أقل من كسر رأس القلم، فظهر أن ما قالوه على خلاف قياس العقول.
وعاشرها: أن إيمان ساعة يهدم كفر سبعين سنة، فالإيمان سبعين سنة كيف يهدم بفسق ساعة، وهذا مما لا يقبله العقل والله أعلم، فهذه جملة الدلائل العقلية على فساد القول بالمحابطة، في تمسك المعتزلة بهذه الآية فنقول: قوله تعالى: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) * يحتمل أمرين أحدهما: لا تأتوا به باطلا، وذلك أن ينوي بالصدقة الرياء والسمعة، فتكون هذه الصدقة حين وجدت حصلت باطلة، وهذا التأويل لا يضرنا البتة.
الوجه الثاني: أن يكون المراد بالإبطال أن يؤتي بها على وجه يوجب الثواب، ثم بعد ذلك إذا اتبعت بالمن والأذى صار عقاب المن والأذى مزيلا لثواب تلك الصدقة، وعلى هذا الوجه ينفعهم التمسك بالآية، فلم كان حمل اللفظ على هذا الوجه الثاني أولى من حمله على الوجه الأول واعلم أن الله تعالى ذكر لذلك مثلين أحدهما: يطابق الاحتمال الأول، وهو قوله * (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله) * إذ من المعلوم أن المراد من كونه عمل هذا باطلا أنه دخل في الوجود باطلا، لا أنه دخل صحيحا، ثم يزول، لأن المانع من صحة هذا العمل هو الكفر، والكفر مقارن له، فيمتنع دخوله صحيحا في الوجود، فهذا المثل يشهد لما ذهبنا إليه من التأويل، وأما المثل الثاني وهو الصفوان الذي وقع عليه غبار وتراب ثم أصابه وابل، فهذا يشهد لتأويلهم، لأنه تعالى جعل الوابل مزيلا لذلك الغبار بعد وقوع الغبار على الصفوان فكذا هاهنا يجب أن يكون المن والأذى مزبلين للأجر والثواب بعد حصول استحقاق الأجر، إلا أن لنا أن نقول: لا نسلم أن المشبه بوقوع الغبار على الصفوان حصول الأجر للكافر، بل المشبه بذلك صدور هذا العمل الذي لولا كونه مقرونا بالنية الفاسدة لكان موجبا لحصول الأجر والثواب، فالمشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو ذلك العمل الصادر منه، وحمل الكلام على ما ذكرناه أولى، لأن الغبار إذا وقع على الصفوان لم يكن ملتصقا به ولا غائصا فيه البتة، بل كان ذلك الاتصال كالانفصال، فهو في مرأى العين متصل، وفي الحقيقة غير متصل، فكذا الانفاق المقرون بالمن والأذى، يرى في الظاهر أنه عمل من أعمال البر، وفي الحقيقة ليس كذلك، فظهر أن استدلالهم بهذه الآية ضعيف، وأما الحجة العقلية التي تمسكوا بها فقد بينا أنه لا منافاة في الجمع بين الاستحقاقين، وأن مقتضى ذلك الجمع
56

إما الترجيح وإما المهايأة.
المسألة الثانية: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن على الله بسبب صدقتكم، وبالأذى لذلك السائل، وقال الباقون: بالمن على الفقير، وبالأذى للفقير. وقول ابن عباس رضي الله عنهما محتمل، لأن الإنسان إذا أنفق متبجحا بفعله، ولم يسلك طريقة التواضع والانقطاع إلى الله، والاعتراف بأن ذلك من فضله وتوفيقه وإحسانه فكان كالمان على الله تعالى وإن كان القول الثاني أظهر له.
أما قوله * (كالذي ينفق ماله رئاء الناس) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: الكاف في قوله * (كالذي) * فيه قولان الأول: أنه متعلق بمحذوف والتقدير لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس، فبين تعالى أن المن والأذى يبطلان الصدقة، كما أن النفاق والرياء يبطلانها، وتحقيق القول فيه أن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة لا لوجه الله تعالى، ومن يقرن الصدقة بالمن والأذى، فقد أتى بتلك الصدقة لا لوجه الله أيضا إذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى لما من على الفقير ولا آذاه، فثبت اشتراك الصورتين في كون تلك الصدقة ما أتى بها لوجه الله تعالى، وهذا يحقق ما قلنا أن المقصود من الابطال الإتيان به باطلا، لا أن المقصود الإتيان به صحيحا، ثم إزالته وإحباطه بسبب المن
والأذى.
والقول الثاني: أن يكون الكاف في محل النصب على الحال، أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق ماله رئاء الناس.
المسألة الثانية: الرياء مصدر، كالمراءاة يقال: راأيته رياء ومراءاة، مثل: راعيته مراعاة ورعاء، وهو أن ترائي بعملك غيرك، وتحقيق الكلام في الرياء قد تقدم، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا المثل أتبعه بالمثل الثاني، فقال * (فمثله) * وفي هذا الضمير وجهان أحدهما: أنه عائد إلى المنافق، فيكون المعنى أن الله تعالى شبه المان والمؤذي بالمنافق، ثم شبه المنافق بالحجر، ثم قال: * (كمثل صفوان) * وهو الحجر الأملس، وحكى أبو عبيد عن الأصمعي أن الصفوان والصفا والصفوا واحد، وكل ذلك مقصور، وقال بعضهم: الصفوان جمع صفوانه، كمرجان ومرجانة، وسعدان وسعدانة، ثم قال: * (أصابه وابل) * الوابل المطر الشديد، يقال: وبلت السماء تبل وبلا، وأرض موبولة، أي أصابها وابل، ثم قال: * (فتركه صلدا) * الصلد الأمس اليابس، يقال: حجر صلد، وجبل صلد إذا كان براقا أملس وأرض صلدة، أي لا تنبت شيئا كالحجر الصلد وصلد الزند إذا لم يور نارا.
واعلم أن هذا مثل ضربة الله تعالى لعمل المان المؤذي، ولعمل المنافق، فإن الناس يرون في
57

الظاهر أن لهؤلاء أعمالا، كما يرى التراب على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب، وأما المعتزلة فقالوا: إن المعنى أن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب، ثم إن المن والأذى أزالا ذلك الأجر، كما يزيل الوابل التراب عن وجه الصفوان، واعلم أن في كيفية هذا التشبيه وجهين الأول: ما ذكرنا أن العمل الظاهر كالتراب، والمان والأذى والمنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل هذا على قولنا، وأما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل.
الوجه الثاني: في التشبيه، قال القفال رحمه الله تعالى، وفيه احتمال آخر، وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة، فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذرا في أرض فهو يضاعف له وينمو حتى يحصده في وقته، ويجده وقت حاجته، والصفوان محل بذر المنافق، ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء ولا يكون فيه قبول للبذر، والمعنى أن عمل المان والمؤذي والمنافق يشبه إذا طرح بذرا في صفوان صلد عليه غبار قليل، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودعا بذره خاليا لا شيء فيه، ألا ترى أنه تعالى ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة، والجنة ما يكون فيه أشجار ونخيل، فمن أخلص لله تعالى كان كمن غرس بستانا في ربوة من الأرض، فهو يجني ثمر غراسه في أوجات الحاجة وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها متضاعفة زائدة، وأما عمل المان والمؤذي والمنافق، فهو كمن بذر في الصفوان الذي عليه تراب، فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئا، ومن الملحدة من طعن في التشبيه، فقال: إن الوابل إذا أصاب الصفوان جعله طاهرا نقيا نظيفا عن الغبار والتراب فكيف يجوز أن يشبه الله به عمل المنافق، والجواب أن وجه التشبيه ما ذكرناه، فلا يعتبر باختلافها فيما وراءه، قال القاضي: وأيضا فوقع التراب على الصفوان يفيد منافع من وجوه أحدها: أنه أصلح في الاستقرار عليه وثانيها: الانتفاع بها في التيمم وثالثها: الانتفاع به فيما يتصل بالنبات، وهذا الوجه الذي ذكره القاضي حسن إلا أن الاعتماد على الأول.
أما قوله تعالى: * (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) * فاعلم أن الضمير في قوله * (لا يقدرون) * إلى ماذا يرجع؟ فيه قولان أحدهما: أنه عائد إلى معلوم غير مذكور، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان، لأنه زال ذلك التراب وذلك ما كان فيه، فلم يبق لأحد قدرة على الانتفاع بذلك البذر، وهذا يقوي الوجه الثاني في التشبيه الذي ذكره القفال رحمه الله تعالى، وكذا المان والمؤذي والمنافق لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة والثاني: أنه عائد إلى قوله * (كالذي ينفق ماله) * وخرج على هذا المعنى، ل
58

أن قوله * (كالذي ينفق ماله) * إنما أشير به إلى الجنس، والجنس في حكم العام، قال القفال رحمه الله: وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون ذلك مردودا على قوله * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) * فإنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم، فرجع عن الخطاب إلى الغائب، كقوله تعالى: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجزين بهم) * (يونس: 22).
ثم قال: * (والله لا يهدي القوم الكافرين) * ومعناه على قولهم: سلب الإيمان، وعلى قول المعتزلة: إنه تعالى يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسوء اختيارهم.
ثم قال تعالى: * (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) *.
إعلم أن الله تعالى لما ذكر مثل المنفق الذي يكون مانا ومؤذيا ذكر مثل المنفق الذي لا يكون كذلك، وهو هذه الآية، وبين تعالى أن غرض هؤلاء المنفقين من هذا الانفاق أمران أحدهما: طلب مرضاة الله تعالى، والابتغاء افتعال من بغيت أي طلبت، وسواء قولك: بغيت وابتغيت.
والغرض الثاني: هو تثبيت النفس، وفيه وجوه أحدها: أنهم يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها، ومن جملة ذلك ترك اتباعها بالمن والأذى، وهذا قول القاضي وثانيها: وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه، ويعضده قراءة مجاهد * (وتثبيتا من بعض أنفسهم) * وثالثها: أن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية، إلا إذا صارت مقهورة بالمجاهدة، ومعشوقها أمران: الحياة العاجلة والمال، فإذا كلفت بإنفاق المال فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه، وإذا كلفت يبذل الروح فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه فلا جرم حصل بعض التثبيت، فلهذا دخل فيه * (من) * التي هي التبعيض، والمعنى أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها، وهو المراد من قوله * (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) * (الصف: 11) وهذا الوجه ذكره صاحب " الكشاف "، وهو كلام حسن وتفسير لطيف ورابعها: وهو الذي خطر ببالي وقت كتابة هذا الموضع: أن ثبات القلب لا يحصل إلا بذكر الله
على ما قال: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) فمن أنفق ماله في سبيل الله لم يحصل له اطمئنان القلب في مقام التجلي، إلا إذا كان إنفاقه لمحض غرض العبودية، ولهذا السبب حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال في إنفاقه * (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) * (الإنسان: 9) ووصف إنفاق أبي بكر فقال: * (وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء
59

وجه ربه، الأعلى ولسوف يرضى) * (الليل: 19، 20، 21) فإذا كان إنفاق العبد لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وطلب الحض. فهناك اطمأن قلبه، واستقرت نفسه، ولم يحصل لنفسه منازعه مع قلبه، ولهذا قال أولا في هذا الانفاق إنه لطلب مراضاة الله، ثم أتبع ذلك بقوله * (وتثبيتا من أنفسهم) * وخامسها: أنه ثبت في العلوم العقلية، أن تكرير الأفعال سبب لحصول الملكات. إذا عرفت هذا فنقول: إن من يواظب على الانفاق مرة بعد أخرى لابتغاء مرضاة الله حصل له من تلك المواظبة أمران أحدهما: حصول هذا المعنى والثاني: صيرورة هذا الابتغاء والطلب ملكة مستقرة في النفس، حتى يصير القلب بحيث لو صدر عنه فعل على سبيل الغفلة والاتفاق رجع القلب في الحال إلى جناب القدس، وذلك بسبب أن تلك العبادة صارت كالعادة والخلق للروح، فإتيان العبد بالطاعة لله، ولابتغاء مرضاة الله، يفيد هذه الملكة المستقرة، التي وقع التعبير عنها في القرآن بتثبيت النفس، وهو المراد أيضا بقوله * (يثبت الله الذين آمنوا) * وعند حصول هذا التثبيت تصير الروح في هذا العالم من جوهر الملائكة الروحانية والجواهر القدسية، فصار العبد كما قاله بعض المحققين: غائبا حاضرا، ظاعنا مقيما وسادسها: قال الزجاج: المراد من التثبيت أنهم ينفقونها جازمين بأن الله تعالى لا يضيع عملهم، ولا يخيب رجاءهم، لأنها مقرونة بالثواب والعقاب والنشور بخلاف المنافق، فإنه إذا أنفق عد ذلك الإنفاق ضائعا، لأنه لا يؤمن بالثواب، فهذا الجزم هو المراد بالتثبيت وسابعها: قال الحسن ومجاهد وعطاء: المراد أن المنفق يتثبت في إعطاء الصدقة فيضعها في أهل الصلاح والعفاف، قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإذا كان لله أعطى، وإن خالطه أمسك، قال الواحدي: وإنما جاز أن يكون التثبيت، بمعنى التثبيت، لأنهم ثبتوا أنفسهم في طلب المستحق، وصرف المال في وجهه، ثم إنه تعالى بعد أن شرح أن غرضهم من الانفاق هذان الأمران ضرب لإنفاقهم مثلا، فقال: * (كمثل جنة بربوة أصابها وابل) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وابن عامر * (بربوة) * بفتح الراء وفي المؤمنين * (إلى ربوة) * وهو لغة تميم، والباقون بضم الراء فيهما، وهو أن أشهر اللغات ولغة قريش، وفيه سبع لغات * (ربوة) * بتعاقب الحركات الثلاث على الراء، و * (رباوة) * بالألف بتعاقب الحركات الثلاث على الراء، و * (ربو) * والربوة المكان المرتفع، قال الأخفش: والذي اختاره * (ربوة) * بالضم، لأن جمعها الربى، وأصلها من قولهم: ربا الشيء يربو إذا ازداد وارتفع، ومنه الرابية، لأن أجزاءها ارتفعت، ومنه الربو إذا أصابه نفس في جوفه زائد، ومنه الربا، لأنه يأخذ الزيادة.
واعلم أن المفسرين قالوا: البستان إذا كان في ربوة من الأرض كان أحسن وأكثر ريعا.
60

ولي فيه إشكال: وهو أن البستان إذا كان في مرتفع من الأرض كان فوق الماء ولا ترتفع إليه أنهار وتضربه الرياح كثيرا فلا يحسن ريعه، وإذا كان في وهدة من الأرض انصبت مياه الأنهار، ولا يصل إليه إثارة الرياح فلا يحسن أيضا ريعه، فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ولا وهدة، فإذن ليس المراد من هذه الربوة ما ذكروه، بل المراد منه كون الأرض طينا حرا، بحيث إذا نزل المطر عليه انتفخ وربا ونما، فإن الأرض متى كانت على هذه الصفة يكثر ربعها، وتكمل الأشجار فيها، وهذا التأويل الذي ذكرته متأكد بدليلين أحدهما: قوله تعالى: * (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) * (الحج: 5) والمراد من ربوها ما ذكرنا فكذا هاهنا والثاني: أنه تعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول، ثم كان المثل الأول هو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر، ولا يربو، ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه، فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو وتنمو، فهذا ما خطر ببالي والله أعلم بمراده.
ثم قال تعالى: * (أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو * (أكلها) * بالتخفيف، والباقون بالتثقيل، وهو الأصل، والأكل بالضم الطعام لأن من شأنه أن يؤكل قال الله تعالى: * (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) * (إبراهيم: 25) أي ثمرتها وما يؤكل منها، فالأكل في المعنى مثل الطعمة، وأنشد الأخفش: فما أكلة إن نلتها بغنيمة * ولا جوعة إن جعتها بقرام
وقال أبو زيد: يقال إنه لذو أكل إذا كان له حظ من الدنيا.
المسألة الثانية: قال الزجاج: * (آتت أكلها ضعفين) * يعني مثلين لأن ضعف الشيء مثله زائدا عليه، وقيل ضعف الشيء مثلاه قال عطاء: حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين، وقال الأصم: ضعف ما يكون في غيرها، وقال أبو مسلم: مثلي ما كان يعهد منها.
ثم قال تعالى: * (فإن لم يصبها وابل فطل) * الطل: مطر صغير الفطر، ثم في المعنى وجوه:
الأول: المعنى أن هذه الجنة إن لم يصبها وابل فيصيبها مطر دون الوابل، إلا أن ثمرتها باقية بحالها على التقديرين لا ينقص بسبب انتقاص المطر وذلك بسبب كرم المنبت الثاني: معنى الآية إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمرا دون ثمر الوابل، فهي على جميع الأحوال لا تخلوا من أن تثمر، فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى لا يضيع كسبه قليلا كان أو كثيرا.
61

ثم قال: * (والله بما تعملون بصير) * والمراد من البصير العليم، أي هو تعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها، والأمور الباعثة عليها، وأنه تعالى مجاز بها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
قوله تعالى
* (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجرى من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفآء فأصابهآ إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) *
اعلم أن هذا مثل آخر ذكره الله تعالى في حق من يتبع إنفاقه بالمن والأذى، والمعنى أن يكون للإنسان جنة في غاية الحسن والنهاية، كثيرة النفع، وكان الإنسان في غاية العجز عن الكسب وفي غاية شدة الحاجة، وكما أن الإنسان كذلك فله ذرية أيضا في غاية الحاجة، وفي غاية العجز، ولا شك أن كونه محتاجا أو عاجزا مظنة الشدة والمحنة، وتعلق جمع من المحتاجين العاجزين به زيادة محنة على محنة، فإذا أصبح الإنسان وشاهد تلك الجنة محرقة بالكلية، فانظر كم يكون في قلبه من الغم والحسرة، والمحنة والبلية تارة بسبب أنه ضاع مثل ذلك المملوك الشريف النفيس، وثانيا: بسبب أنه بقي في الحاجة والشدة مع العجز عن الاكتساب واليأس عن أن يدفع إليه أحد شيئا، وثالثا: بسبب تعلق غيره به، ومطالبتهم إياه بوجوه النفقة، فكذلك من أنفق لأجل الله، كان ذلك نظيرا للجنة المذكورة وهو يوم القيامة، كذلك الشخص العاجز الذي يكون كل اعتماده في وجوه الانتفاع على تلك الجنة، وأما إذا أعقب إنفاقه بالمن أو بالأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنة، ويعقب الحسرة والحيرة والندامة فكذا هذا المال المؤذي إذا قدم يوم القيامة، وكان في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بثواب عمله، لم يجد هناك شيئا فيبقى لا محالة في أعظم غم، وفي أكمل حسرة وحيرة، وهذا المثل في غاية الحسن، ونهاية الكمال، ولنذكر ما يتعلق بألفاظ الآية.
62

أما قوله * (أيود أحدكم) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: الود، هو المحبة الكاملة.
المسألة الثانية: الهمزة في * (أيود) * استفهام لأجل الإنكار، وإنما قال: * (أيود) * ولم يقل أيريد لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبة التامة ومعلوم أن محبة كل أحد لعدم هذه الحالة محبة كاملة تامة فلما كان الحاصل هو مودة عدم هذه الحالة ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت فقال: * (أيود أحدكم) * حصول مثل هذه الحالة تنبيها على الإنكار التام، والنفرة البالغة إلى الحد الذي لا مرتبة فوقه.
أما قوله * (جنة من نخيل وأعناب) * فاعلم أن الله تعالى وصف هذه الجنة بصفات ثلاث:
الصفة الأول: كونها من نخيل وأعناب، واعلم أن الجنة تكون محتوية على النخيل والأعناب، ولا تكون الجنة من النخيل والأعناب إلا أن بسبب كثرة النخيل والأعناب، صار كأن الجنة إنما تكون من النخيل والأعناب، وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما أشرف الفواكه ولأنهما أحسن الفواكه مناظر حين تكون باقية على أشجارها.
والصفة الثانية: قوله * (تجري من تحتها الأنهار) * ولا شك أن هذا سبب لزيادة الحسن في هذه الجنة.
الصفة الثالثة: قوله * (له فيها من كل الثمرات) * ولا شك أن هذا يكون سببا لكمال حال هذا البستان فهذه هي الصفات الثلاثة التي وصف الله تعالى هذه الجنة بها، ولا شك أن هذه الجنة تكون في غاية الحسن، لأنها مع هذه الصفات حسنة الرؤية والمنظر كثيرة النفع والريع، ولا تمكن الزيادة في حسن الجنة على ذلك، ثم إنه تعالى بعد ذلك شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة، فقال: * (وأصابه الكبر) * وذلك لأنه إذا صار كبيرا، وعجز عن الاكتساب كثرت جهات حاجاته في مطعمه، وملبسه، ومسكنه، ومن يقوم بخدمته، وتحصيل مصالحه، فإذا تزايدت جهات الحاجات وتناقصت جهات الدخل والكسب، إلا من تلك الجنة، فحينئذ يكون في نهاية الاحتياج إلى تلك الجنة.
فإن قيل: كيف عطف * (وأصابه) * على * (أيود) * وكيف يجوز عطف الماضي على المستقبل.
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول: قال صاحب " الكشاف " * (الواو) * للحال لا للعطف، ومعناه * (أيود أحدكم أن تكون له جنة) * حال ما أصابه الكبر ثم إنها تحرق.
والجواب الثاني: قال الفراء: وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا فحمل العطف على المعنى، كأنه قيل: أيود أحدكم إن كان له جنة وأصابه الكبر.
ثم إنه تعالى زاد في بيان احتياج
63

ذلك الإنسان إلى تلك الجنة فقال: * (وله ذرية ضعفاء) * والمراد من ضعف الذرية: الضعف بسبب الصغر والطفولية، فيصير المعنى أن ذلك الإنسان كان في غاية الضعف والحاجة إلى تلك الجنة بسبب الشيخوخة والكبر، وله ذرية في غاية الضعف والحاجة بسبب الطفولية والصغر.
ثم قال تعالى: * (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) * والاعصار ريح ترتفع وتستدير نحو السماء كأنها عمود، وهي التي يسميها الناس الزوبعة، وهي ريح في غاية الشدة ومنه قول شاعر:
إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا
والمقصود من هذا المثل بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والمحنة والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله، فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة، إلا أنه لا يقصد بها وجه الله، بل يقرن بها أمورا تخرجها عن كونها موجبة للثواب، فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) * (الزمر: 47) وقوله * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) * (الفرقان: 23).
ثم قال: * (كذلك يبين الله لكم الآيات) * أي كما بين الله لكم آياته ودلائله في هذا الباب ترغيبا وترهيبا كذلك يبين الله لكم آياته ودلائله في سائر أمور الدين * (لعلكم تتفكرون) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أن: لعل، للترجي وهو لا يليق بالله تعالى.
المسألة الثانية: أن المعتزلة تمسكوا به في أنه يدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان وقد تقدم شرح هاتين الآيتين مرارا.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم وممآ أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله
64

غني حميد) *.
إعلم أنه رغب في الإنفاق، ثم بين أن الإنفاق على قسمين: منه ما يتبعه المن والأذى، ومنه ما لا يتبعه ذلك.
ثم إنه تعالى شرح ما يتعلق بكل واحد من هذين القسمين، وضرب لكل واحد منهما مثلا يكشف عن المعنى ويوضح المقصود منه على أبلغ الوجوه.
ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف ينبغي أن يكون فقال: * (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * واختلفوا في أن قوله * (أنفقوا) * المراد منه ماذا فقال الحسن: المراد منه الزكاة المفروضة وقال قوم: المراد منه التطوع وقال ثالث: إنه يتناول الفرض والنفل، حجة من قال المراد منه الزكاة المفروضة أن قوله * (أنفقوا) * أمر وظاهر الأمر للوجوب والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة، حجة من قال المراد صدقة التطوع ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والحسن ومجاهد: أنهم كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم وردئ أموالهم فأنزل الله هذه الآية، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بئس ما صنع صاحب هذا " فأنزل الله تعالى هذه الآية، حجة من قال الفرض والنفل داخلان في هذه الآية أن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز، وهذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض والنفل، فوجب أن يكونا داخلين تحت الأمر.
إذا عرفت هذا فنقول: أما على القول الأول وهو أنه للوجوب فيتفرع عليه مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان، فيدخل فيه زكاة التجارة، وزكاة الذهب والفضة، وزكاة النعم، لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب، ويدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض، على ما هو قول أبي حنيفة رحمه الله، واستدلاله بهذه الآية ظاهر جدا، إلا أن مخالفيه خصصوا هذا الغموم بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس في الخضراوات صدقة " وأيضا مذهب أبي حنيفة أن إخراج الزكاة من كل ما أنبتته الأرض واجب قليلا كان أو كثيرا وظاهر الآية يدل على قوله إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ".
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أنه الجيد من المال دون الردئ، فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة، وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الردئ.
65

والقول الثاني: وهو قول ابن مسعود ومجاهد: أن الطيب هو الحلال، والخبيث هو الحرام حجة الأول وجوه:
الحجة الأولى: إنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون بردئ أموالهم فنزلت الآية وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد.
الحجة الثانية: أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض، والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض قال القفال رحمه الله: ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء، فيكون المعنى: ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام، ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال، أمن حلاله أو من حرامه.
الحجة الثالثة: أن هذا القول متأيد بقوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقون مما تحبون) * (آل عمران: 92) وذلك يدل على أن المراد بالطيبات الأشياء النفيسة التي يستطاب ملكها، لا الأشياء الخسيسة التي يجب على كل أحد دفعها عن نفسه وإخراجها عن بيته، واحتج القاضي للقول الثاني فقال: أجمعنا على أن المراد من الطيب في هذه الآية إما الجيد وإما الحلال، فإذا بطل الأول تعين الثاني، وإنما قلنا إنه بطل الأول لأن المراد لو كان هو الجيد لكان ذلك أمرا بإنفاق مطلق الجيد سواء كان حراما أو حلالا وذلك غير جائز والتزام التخصيص خلاف الأصل، فثبت أن المراد ليس هو الجيد بل الحلال، ويمكن أن يذكر فيه قول ثالث وهو أن المراد من الطيب هاهنا ما يكون طيبا من كل الوجوه فيكون طيبا بمعنى الحلال، ويكون طيبا بمعنى الجودة، وليس لقائل أن يقول حمل اللفظ المشترك على مفهوميه لا يجوز لأنا نقول الحلال إنما سمي طيبا لأنه يستطيبه العقل والدين، والجيد إنما يسمى طيبا لأنه يستطيبه الميل والشهوة، فمعنى الاستطابة مفهوم واحد مشترك بين القسمين، فكان اللفظ محمولا عليه إذا أثبت أن المراد منه الجيد الحلال فنقول: الأموال الزكية إما أن تكون كلها شريفة أو كلها خسيسة أو تكون متوسطة أو تكون مختلطة، فإن كان الكل شريفا كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك، وإن كان الكل خسيسا كان الزكاة أيضا من ذلك الخسيس ولا يكون خلافا للآية لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيسا من ذلك المال بل إن كان في المال جيد وردئ، فحينئذ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك وأما إن كان المال مختلطا فالواجب هو الوسط قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن " أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم " هذا كله إذا قلنا المراد من قوله * (أنفقوا
من طيبات ما كسبتم) * الزكاة الواجبة، أما على القول الثاني وهو أن يكون المراد منه صدقة التطوع، أو قلنا المراد منه الإنفاق الواجب والتطوع، فنقول:
66

إن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه، كمن تقرب إلى السلطان الكبير بتحفة وهدية، فإنه لا بد وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه وأشرفها، فكذا هاهنا، بقي في الآية سؤال واحد، وهو أن يقال ما الفائدة في كلمة * (من) * في قوله * (ومما أخرجنا لكم من الأرض) *.
وجوابه: تقدير الآية: أنفقوا من طيبات ما كسبتم، وأنفقوا من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض، إلا أن ذكر الطيبات لما حصل مرة واحدة حذف في المرة الثانية لدلالة المرة الأولى عليه.
أما قوله تعالى: * (ولا تيمموا الخبيث) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: يقال: أممته، ويممته، وتأممته، كله بمعنى قصدته قال الأعشى: تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شرف
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وحده * (ولا تيمموا) * بتشديد التاء لأنه كان في الأصل تاءان تاء المخاطبة، وتاء الفعل فأدغم إحداهما في الأخرى، والباقون بفتح التاء مخففة وعلى هذا الخلاف في أخواتها، وهي ثلاثة وعشرون موضعا: لا تفرقوا، توفاهم، تعاونوا، فتفرق بكم، تلقف، تولوا، تنازعوا، تربصون، فإن تولوا، لا تكلم، تلقونه، تبرجن، تبدل، تناصرون، تجسسوا، تنابزوا، لتعارفوا، تميز، تخيرون، تلهى، تلظى، تنزل الملائكة، وهاهنا بحثان:
البحث الأول: قال أبو علي: هذا الإدغام غير جائز، لأن المدغم يسكن وإذا سكن لزم أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به، كما جلبت في أمثلة الماضي نحو: أدارأتم، وارتبتم وأطيرنا، لكن أجمعوا على أن همزة الوصل لا تدخل على المضارع.
البحث الثاني: اختلفوا في التاء المحذوفة على قراءة العامة، فقال بعضهم: هي التاء الأولى وسيبويه لا يسقط إلا الثانية، والفراء يقول: أيهما أسقطت جاز لنيابة الباقية عنها.
أما قوله تعالى: * (منه تنفقون) *.
فاعلم أن في كيفية نظم الآية وجهين الأول: أنه تم الكلام عند قوله * (ولا تيمموا الخبيث) * ثم ابتدأ، فقال: * (منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * فقوله * (منه تنفقون) * استفهام على سبيل الإنكار، والمعنى: أمنه تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الاغماض والثاني: أن الكلام إنما يتم عند قوله * (إلا أن تغمضوا فيه) * ويكون الذي مضمرا، والتقدير: ولا تيمموا الخبيث منه الذي تنفقونه ولستم بآخذيه إلا بالإغماض فيه، ونظيره إضمار التي في قوله تعالى: * (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) * (البقرة: 256) والمعنى الوثقى التي لا انفصام لها.
67

أما قوله تعالى: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الاغماض في اللغة غض البصر، وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض، وهو الخفاء يقال: هذا الكلام غامض أي خفي الإدراك والغمض المتطامن الخفي من الأرض.
المسألة الثانية: في معنى الإغماض في هذه الآية وجوه الأول: أن المراد بالإغماض هاهنا المساهلة، وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضا، فقوله * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * يقول لو أهدى إليكم مثل هذه الأشياء لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم والثاني: أن يحمل الإغماض على المتعدى كما تقول: أغمضت بصر الميت وغمضته والمعنى ولستم بآخذيه إلا إذا أغمضتم بصر البائع يعني أمرتموه بالإغماض والحط من الثمن.
ثم ختم الآية بقوله * (واعلموا أن الله غني حميد) * والمعنى أنه غني عن صدقاتكم، ومعنى حميد، أي محمود على ما أنعم بالبيان وفيه وجه آخر، وهو أن قوله * (غني) * كالتهديد على إعطاء الأشياء الرديئة في الصدقات و * (حميد) * بمعنى حامد أي أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات وهو كقوله * (فأولئك كان سعيهم مشكورا) *.
قوله تعالى
* (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشآء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) *.
إعلم أنه تعالى لما رغب الإنسان في إنفاق أجود ما يملكه حذره بعد ذلك من وسوسة الشيطان فقال: * (الشيطان يعدكم الفقر) * أي يقال إن أنفقت الأجود صرت فقيرا فلا تبال بقوله فإن الرحمن * (يعدكم مغفرة منه وفضلا) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في الشيطان فقيل إبليس وقيل سائر الشياطين وقيل شياطين الجن والإنس وقيل النفس الأمارة بالسوء. المسألة الثانية: الوعد يستعمل في الخير والشر، قال الله تعالى: * (النار وعدها الله الذين كفروا) * (الحج: 72) ويمكن أن يكون هذا محمولا على التهكم، كما في قوله * (فبشرهم بعذاب أليم) *.
68

المسألة الثالثة: الفقر والفقر لغتان، وهو الضعيف بسبب قلة المال وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار، يقال: رجل فقر وفقير إذا كان مكسور الفقار، قال طرفة. إنني لست بمرهون فقر
قال صاحب " الكشاف ": قرىء الفقر بالضم والفقر بفتحتين.
المسألة الرابعة: أما الكلام في حقيقة الوسوسة، فقد ذكرناه في أول الكتاب في تفسير * (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) * روي عن ابن مسعود رضي الله عنه: إن
للشيطان لمة وهي الإيعاد بالشر، وللملك لمة وهي الوعد بالخير، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ومن وجد الأول فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقرأ هذه الآية وروى الحسن، قال بعض المهاجرين: من سره أن يعلم مكان الشيطان منه فليتأمل موضعه من المكان الذي منه يجد الرغبة في فعل المنكر.
أما قوله تعالى: * (ويأمركم بالفحشاء) * ففيه وجوه الأول: أن الفحشاء هي البخل * (ويأمركم بالفحشاء) * أي ويغريكم على البخل إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل، قال طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي * عقيلة مال الفاحش المتشدد
ويعتام منقول من عام فلان إلى اللبن إذا اشتهاه وأراد بالفاحش البخيل، قال تعالى: * (وإنه لحب الخير لشديد) * (العاديات: 8) وقد نبه الله تعالى في هذه الآية على لطيفة وهي أن الشيطان يخوفه أولا بالفقر ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ويغريه بالبخل، وذلك لأن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلا بتقديم تلك المقدمة، وهي التخويف من الفقر.
الوجه الثاني: في تفسير الفحشاء، وهو أنه يقول: لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله لئلا تصير فقيرا، فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك زاد الشيطان، فيمنعه من الإنفاق في الكلية حتى لا يعطي لا الجيد ولا الردئ وحتى يمنع الحقوق الواجبة، فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة، فإذا صار هكذا سقط وقع الذنوب عن قلبه ويصير غير مبال بارتكابها، وهناك يتسع الخرق ويصير مقداما على كل الذنوب، وذلك هو الفحشاء وتحقيقه أن لكل خلق طرفين ووسطا فالطرف الكامل هو أن يكون بحيث يبذل كل ما يملكه في سبيل الله الجيد والردئ والطرف الفاحش الناقص لا ينفق شيئا في سبيل الله لا الجيد ولا الردئ والأمر المتوسط أن يبخل بالجيد وينفق الردئ، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش، لا يمكنه إلا
69

بأن يجره إلى الوسط، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام انقطع طمعه عنه، وإن أطاعه فيه طمع في أن يجره من الوسط إلى الطرف الفاحش، فالوسط هو قوله تعالى: * (يعدكم الفقر) * والطرف الفاحش قوله * (ويأمركم بالفحشاء) * ثم لما ذكر سبحانه وتعالى درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال: * (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) * فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة، والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلق، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أن الملك ينادي كل ليلة " اللهم أعط كل منفق خلفا وكل ممسك تلفا ".
وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يعدك الفقر في غد دنياك، والرحمن يعدك المغفرة في غد عقباك، ووعد الرحمن في غد العقبى أولى بالقبول من وجوه أحدها: أن وجدان غد الدنيا مشكوك فيه، ووجدان غد العقبى متيقن مقطوع به وثانيها: أن بتقدير وجدان غد الدنيا، فقد يبقى المال المبخول به، وقد لا يبقى وعند وجدان غد العقبى لا بد من وجدان المغفرة الموعود بها من عند الله تعالى، لأنه الصادق الذي يمتنع وجود الكذب في كلامه وثالثها: أن بتقدير بقاء المال المبخول به في غد الدنيا، فقد يتمكن الإنسان من الانتفاع به وقد لا يتمكن إما بسبب خوف أو مرض أو اشتغال بمهم آخر وعند وجدان غد العقبى الانتفاع حاصل بمغفرة الله وفضله وإحسانه ورابعها: أن بتقدير حصول الانتفاع بالمال المبخول به غد الدنيا لا شك أن ذلك الانتفاع ينقطع ولا يبقى، وأما الانتفاع بمغفرة الله وفضله وإحسانه فهو الباقي الذي لا ينقطع ولا يزول، وخامسها: أن الانتفاع بلذات الدنيا مشوب بالمضار، فلا ترى شيئا من اللذات إلا ويكون سببا للمحنة من ألف وجه بخلاف منافع الآخرة فإنها خالصة عن الشوائب، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن الانقياد لوعد الرحمن بالفضل والمغفرة أولى من الانقياد لوعد الشيطان.
إذا عرفت هذا فنقول: المراد بالمغفرة تكفير الذنوب كما قال: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * (التوبة: 103) وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة أحدها: التنكير في لفظة المغفرة، والمعنى مغفرة أي مغفرة والثاني: قوله * (مغفرة منه) * فقوله * (منه) * يدل على كمال حال هذه المغفرة لأن كمال كرمه ونهاية جوده معلوم لجميع العقلاء وكون المغفرة منه معلوم أيضا لكل أحد فلما خص هذه المغفرة بأنها منه علم أن المقصود تعظيم حال هذه المغفرة، لأن عظم المعطي يدل على عظم العطية، وكمال هذه المغفرة يحتمل أن يكون المراد منه ما قاله في آية أخرى * (فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات) * (الفرقان: 70) ويحتمل أن يكون المراد منه أن يجعله شفيعا في غفران ذنوب سائر المذنبين، ويحتمل أن يكون كمال تلك المغفرة أمرا لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا فإن تفاصيل أحوال
70

الآخرة أكثرها محجوبة عنا ما دمنا في الدنيا، وأما معنى الفضل فهو الخلف المعجل في الدنيا، وهذا الفضل يحتمل عندي وجوها أحدها: أن المراد من هذا الفضل الفضيلة الحاصلة للنفس وهي فضيلة الجود والسخاء، وذلك لأن مراتب السعادة ثلاث: نفسانية، وبدنية، وخارجية، وملك المال من الفضائل الخارجية وحصول خلق الجود والسخاوة من الفضائل النفسانية وأجمعوا على أن أشرف هذه المراتب الثلاث: السعادات النفسانية، وأخسها السعادات الخارجية فمتى لم يحصل إنفاق المال كانت السعادة الخارجية حاصلة والنقيضة النفسانية معها حاصلها ومتى حصل الإنفاق حصل الكمال النفساني والنقصان الخارجي ولا شك أن هذه الحالة أكمل، فثبت أن مجرد الإنفاق يقتضي حصول ما وعد الله به من حصول الفضل والثاني: وهو أنه متى حصل ملكة الإنفاق زالت عن الروح هيئة الاشتغال بلذات الدنيا والتهالك في مطالبها، ولا مانع للروح من تجلي نور جلال الله لها إلا حب الدنيا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " لولا أن الشياطين يوحون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات " وإذا زال عن وجه القلب غبار حب الدنيا استنار بأنوار عالم القدس وصار كالكوكب الدري والتحق بأرواح الملائكة، وهذا هو الفضل لا غير والثالث: وهو أحسن الوجوه: أنه مهما عرف من الإنسان كونه منفقا لأمواله في وجوه الخيرات مالت القلوب إليه فلا يضايقونه في مطالبه، فحينئذ تنفتح عليه أبواب الدنيا، ولأن أولئك الذين أنفق ماله عليهم يعينونه بالدعاء والهمة فيفتح الله عليه أبواب الخير.
ثم ختم الآية بقوله * (والله واسع عليم) * أي أنه واسع المغفرة، قادر على إغنائكم، وإخلاف ما تنفقونه وهو عليم لا يخفى عليه ما تنفقون، فهو يخلفه عليكم.
قوله تعالى
* (يؤتى الحكمة من يشآء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب) *.
إعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل، ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما
71

يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم، ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل، وحكم الحس والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول، فهذا هو الإشارة إلى وجه النظم. بقي في الآية مسائل:
المسألة الأولى: المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب يروى عن مقاتل أنه قال: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها: مواعظ القرآن، قال في البقرة * (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) * يعني مواعظ القرآن وفي النساء * (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) * يعني المواعظ، ومثلها في آل عمران وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم، ومنه قوله تعالى: * (وآتيناه الحكم صبيا) * (مريم: 12) وفي لقمان * (ولقد آتينا لقمان الحكمة) * (لقمان: 12) يعني الفهم والعلم وفي الأنعام * (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم) * (الأنعام: 89) وثالثها: الحكمة بمعنى النبوة في النساء * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة) * (النساء: 54) يعني النبوة، وفي ص * (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) * (ص: 20) يعني النبوة، وفي البقرة * (وآتاه الله الملك والحكمة) * (البقرة: 251) ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحل * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) * (النحل: 125) وفي هذه الآية * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * (البقرة: 269) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم، ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم، قال تعالى: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسراء: 85) وسمى الدنيا بأسرها قليلا، فقال: * (قل متاع الدنيا قليل) * (النساء: 77) وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير، والبرهان العقلي أيضا يطابقه لأن الدنيا متناهية المقدار، متناهية المدة، والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها، والسعادة الحاصلة منها، وذلك ينبئك على فضيلة العلم والاستقصاء في هذا الباب قد مر في تفسير قوله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * (البقرة: 31) وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب فقيل في حدها: إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية، ومداد هذا المعنى على قوله صلى الله عليه وسلم: " تخلقوا بأخلاق الله تعالى " واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين، وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين: أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، فالمرجع بالأول: إلى العلم والإدراك المطابق، وبالثاني: إلى فعل العدل والصواب، فحكي عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قوله * (رب هب لي حكما) * (الشعراء: 83) وهو الحكمة النظرية * (وألحقني بالصالحين) * (الشعراء: 83) الحكمة العملية، ونادى موسى عليه السلام فقال: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا) * وهو الحكمة النظرية، ثم قال: * (فاعبدني) * وهو الحكمة العملية، وقال عن عيسى عليه السلام إنه قال: * (إني عبد الله) * (مريم: 30) الآية، وكل ذلك للحكمة النظرية، ثم قال: * (وأوصاني
72

بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) * (مريم: 31) وهو الحكمة العملية، وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * (محمد: 19) وهو الحكمة النظرية، ثم قال: * (واستغفر لذنبك) * (غافر: 55) (محمد: 19) وهو الحكمة العملية، وقال في جميع الأنبياء * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا) * (النحل: 2) وهو الحكمة النظرية: ثم قال: * (فاتقون) * وهو الحكمة العملية، والقرآن هو من الآية الدالة على أن كمال حال الإنسان ليس إلا في هاتين القوتين، قال أبو مسلم: الحكمة فعلة من الحكم، وهي كالنحلة من النحل، ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي، وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ويقال: أمر حكيم، أي محكم، وهو فعيل بمعنى مفعول، قال الله تعالى: * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * (الدخان: 4) وهذا الذي قاله أبو مسلم من اشتقاق اللغة يطابق ما ذكرناه من المعنى. المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (ومن يؤتي الحكمة) * بمعنى: ومن يؤته الله الحكمة، وهكذا قرأ الأعمش.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وذلك لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية، لأنها حاصلة للبهائم والمجانين والأطفال، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكم، فهي مفسرة بالعلوم النظرية، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهر، وعلى التقديرين فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية والأفعال الحسية ثابتا من غيرهم، وبتقدير مقدر غيرهم، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق، فدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة والقرآن، أو قوة الفهم والحسية على ما هو قول الربيع بن أنس.
قلنا: الدليل الذي ذكرناه يدفع هذه الاحتمالات، وذلك لأنه بالنقل المتواتر ثبت أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء، فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن، بل هي مفسرة إما بمعرفة حقائق الأشياء، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل، فإن حاولت المعتزلة حمل الإيتاء على التوفيق والإعانة والألطاف، قلنا: كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين فقد فعل مثله في حق الكفار، مع أن هذا المدح العظيم المذكور في هذه الآية لا يتناولهم، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيء آخر سوى فعل الألطاف والله أعلم.
ثم قال: * (وما يذكر إلا أولو الألباب) * والمراد به عندي والله أعلم أن الإنسان إذا رأى الحكم والمعارف حاصلة في قلبه، ثم تأمل وتدبر وعرف أنها لم تحصل إلا بإيتاء الله تعالى وتيسيره، كان
73

من أولي الألباب، لأنه لم يقف عند المسببات، بل ترقى منها إلى أسبابها، فهذا الانتقال من المسبب إلى السبب هو التذكر الذي لا يحصل إلا لأولي الألباب، وأما من أضاف هذه الأحوال إلى نفسه، واعتقد أنه هو السبب في حصولها وتحصيلها، كان من الظاهر بين الذين عجزوا عن الانتقال من المسببات إلى الأسباب، وأما المعتزلة
فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل، قالوا: هذه الحكمة لا تقوم بنفسها، وإنما ينتفع بها المرء بأن يتدبر ويتفكر، فيعرف ماله وما عليه، وعند ذلك يقدم أو يحجم.
* (ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الإنفاق يجب أن يكون من أجود المال، ثم حث أولا: بقوله * (ولا تيمموا الخبيث) * (البقرة: 267) وثانيا: بقوله * (الشيطان يعدكم الفقر) * (البقرة: 268) حيث عليه ثالثا: بقوله * (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله * (فإن الله يعلمه) * على اختصاره، يفيد الوعد العظيم للمطيعين، والوعيد الشديد للمتمردين، وبيانه من وجوه أحدها: أنه تعالى عالم بما في قلب المتصدق من نية الإخلاص والعبودية أو من نية الرياء والسمعة وثانيها: أن علمه بكيفية نية المتصدق يوجب قبول تلك الطاعات، كما قال: * (إنما يتقبل الله من المتقين) * (المائدة: 27) وقوله * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7، 8) وثالثها: أنه تعالى يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئا منها، ولا يشتبه عليه شيء منها.
المسألة الثانية: إنما قال: * (فإن الله يعلمه) * ولم يقل: يعلمها، لوجهين الأول: أن الضمير عائد إلى الأخير، كقوله * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) * وهذا قول الأخفش، والثاني: أن الكتابة عادت إلى ما في قوله * (وما أنفقتم من نفقة) * لأنها اسم كقوله * (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) * (البقرة: 231).
المسألة الثالثة: النذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه يقال: نذر ينذر، وأصله من الخوف لأن الإنسان إنما يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده، وأنذرت القوم إنذارا
74

بالتخويف، وفي الشريعة على ضربين: مفسر وغير مفسر، فالمفسر أن يقول: لله علي عتق رقبة، ولله علي حج، فههنا يلزم الوفاء به، ولا يجزيه غيره وغير المفسر أن يقول: نذرت لله أن لا أفعل كذا ثم يفعله، أو يقول: لله علي نذر من غير تسمية فيلزم فيه كفارة يمين، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من نذر نذرا وسمى فعليه ما سمى، ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين ".
أما قوله تعالى: * (وما للظالمين من أنصار) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: أنه وعيد شديد للظالمين، وهو قسمان، أما ظلمه نفسه فذاك حاصل في كل المعاصي، وأما ظلمه غيره فبأن لا ينفق أو يصرف الانفاق عن المستحق إلى غيره، أو يكون نيته في الانفاق على المستحق الرياء والسمعة، أو يفسدها بالمعاصي، وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظلم على الغير، بل من باب الظلم على النفس.
المسألة الثانية: المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في نفي الشفاعة عن أهل الكبائر، قالوا: لأن ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه فلو اندفعت العقوبة عنهم بشفاعة الشفعاء لكان أولئك أنصارا لهم وذلك يبطل قوله تعالى: * (وما للظالمين من أنصار) *.
واعلم أن العرف لا يسمي الشفيع ناصرا، بدليل قوله تعالى: * (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) * (البقرة: 48) ففرق تعالى بين الشفيع والناصر فلا يلزم من نفي الأنصار نفي الشفعاء.
والجواب الثاني: ليس لمجموع الظالمين أنصار، فلم قلتم ليس لبعض الظالمين أنصار.
فإن قيل: لفظ الظالمين ولفظ الأنصار جمع، والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد، فكان المعنى: ليس لأحد من الظالمين أحد من الأنصار.
قلنا: لا نسلم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد.
والجواب الثالث: أن هذا الدليل النافي للشفاعة عام في حق الكل، وفي كل الأوقات، والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات، والخاص مقدم على العام والله أعلم. والجواب الرابع: ما بينا أن اللفظ العام لا يكون قاطعا في الاستغراق، بل ظاهرا على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنيا، والمسألة ليست ظنية، فكان التمسك بها ساقطا.
المسألة الثالثة: الأنصار جمع نصير، كإشراف وشريف، وأحباب وحبيب.
75

قوله تعالى
* (إن تبدوا الصدقات فنعما هى وإن تخفوها وتؤتوها الفقرآء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) *.
إعلم أنه تعالى بين أولا: أن الانفاق منه ما يتبعه المن والأذى، ومنه ما لا يكون كذلك، وذكر حكم كل واحد من القسمين، ثم ذكر ثانيا: أن الانفاق قد يكون من جيد ومن رديء، وذكر حكم كل واحد من القسمين، وذكر في هذه الآية أن الانفاق قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيا، وذكر كل واحد من القسمين، فقال: * (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية: الصدقة تطلق على الفرض والنفل قال تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) * (التوبة: 103) وقال: * (إنما الصدقات للفقراء) * وقال
صلى الله عليه وسلم: " نفقة المرء على عياله صدقة " والزكاة لا تطلق إلا على الفرض، قال أهل اللغة أصل الصدقة " ص د ق " على هذا الترتيب موضوع للصحة والكمال، ومنه قولهم: رجل صدق النظر، وصدق اللقاء، وصدقوهم القتال، وفلان صادق المودة، وهذا خل صادق الحموضة، وشئ صادق الحلاوة، وصدق فلان في خبره إذا أخبر به على الوجه الذي هو عليه صحيحا كاملا، والصديق يسمى صديقا لصدقه في المودة، والصداق سمي صداقا لأن عقد النكاح به يتم ويكمل، وسمى الله تعالى الزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويكمل، فهي سبب إما لكمال المال وبقائه، وإما لأنه يستدل بها على صدق العبد في إيمانه وكماله فيه.
المسألة الثالثة: الأصل في قوله * (فنعما) * نعم ما، إلا أنه أدغم أحد الميمين في الآخر، ثم فيه ثلاثة أوجه من القراءة: قرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر عن عاصم * (فنعما) * بكسر النون وإسكان العين وهو اختيار أبي عبيد، قال: لأنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لعمرو بن العاص: " نعما بالمال الصالح للرجل الصالح " هكذا روي في الحديث بسكون العين، والنحويون قالوا: هذا يقتضي
الجمع بين الساكنين، وهو غير جائز إلا فيما يكون الحرف الأول منهما حرف المد واللين، نحو: دابة وشابة، لأن ما في الحرف من المد يصير عوضا عن الحركة، وأما الحديث فلأنه لما دل الحس
76

على أنه لا يمكن الجمع بين هذين الساكنين علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تكلم به أوقع في العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس والقراءة الثانية قرأ ابن كثير ونافع برواية ورش وعاصم في رواية حفص * (فنعما هي) * بكسر النون والعين وفي تقريره وجهان أحدهما: أنهم لما احتاجوا إلى تحريك العين حركوها مثل حركة ما قبلها والثاني: أن هذا على لغة من يقول * (نعم) * بكسر النون والعين، قال سيبويه: وهي لغة هذيل، القراء الثالثة وهي قراءة سائر القراء * (فنعما هي) * بفتح النون وكسر العين، ومن قرأ بهذه القراءة، فقد أتى بهذه الكلمة على أصلها وهي * (نعم) * قال طرفة:
نعم الساعون في الأمر المير
المسألة الرابعة: قال الزجاج: ما في تأويل الشيء، أي نعم الشيء هو، قال أبو علي الجيد: في تمثيل هذا أن يقال: ما في تأويل شيء، لأن ما هاهنا نكرة، فتمثيله بالنكرة أبين، والدليل على أن ما نكرة هاهنا أنها لو كانت معرفة فلا بد لها من الصلة، وليس هاهنا ما يوصل به، لأن الموجود بعد ما هو هي، وكلمة هي مفردة والمفرد لا يكون صلة لما وإذا بطل هذا القول فنقول: ما نصب على التمييز، والتقدير: نعم شيئا هي إبداء الصدقات، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
المسألة الخامسة: اختلفوا في أن المراد بالصدقة المذكورة في هذه الآية: التطوع، أو الواجب، أو مجموعهما.
فالقول الأول: وهو قول الأكثرين: أن المراد منه صدقة التطوع، قالوا: لأن الإخفاء في صدقة التطوع أفضل، والإظهار في الزكاة أفضل، وفيه بحثان:
البحث الأول: في أن الأفضل في إعطاء صدقة التطوع إخفاؤه، أو إظهاره، فلنذكر أولا الوجوه الدالة على إخفاءه أفضل فالأول: أنها تكون أبعد عن الرياء والسمعة، قال صلى الله عليه وسلم: " لا يقبل الله مسمع ولا مراء ولا منان " والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة والمعطى في ملأ من الناس يطلب الرياء، والإخفاء والسكوت هو المخلص منهما، وقد بالغ قوم في قصد الإخفاء، واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ، فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى، وبعضهم يلقيه في طريق الفقير، وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي، وبعضهم كان يشده في أثواب الفقير وهو نائم، وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره، والمقصود عن الكل الاحتراز عن الرياء والسمعة والمنة، لأن الفقير إذا عرف المعطي فقد حصل الرياء والمنة
77

معا وليس في معرفة المتوسط الرياء وثانيها: أنه إذا أخفى صدقته لم يحصل له بين الناس شهرة ومدح وتعظيم، فكان ذلك يشق على النفس، فوجب أن يكون ذلك أكثر ثوابا وثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصدقة جهد المقل إلى الفقير في سر " وقال أيضا " إن العبد ليعمل عملا في السر يكتبه الله له سرا فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء " وفي الحديث المشهور " سبعة يظلهم الله تعالى يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله: أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطاه يمينه " وقال صلى الله عليه وسلم: " صدقة السر تطفئ غضب الرب " ورابعها: أن الإظهار يوجب إلحاق الضرر بالآخذ من وجوه، والإخفاء لا يتضمن ذلك، فوجب أن يكون الإخفاء أولى، وبيان تلك المضار من وجوه الأول: أن في الإظهار هتك عرض الفقير وإظهار فقره، وربما لا يرضى الفقير بذلك والثاني: أن في الإظهار إخراج الفقير من هيئة التعفف وعدم السؤال، والله تعالى مدح ذلك في الآية التي تأتي بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى: * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) * (البقرة: 273) والثالث: أن الناس ربما أنكروا على الفقير أخذ تلك الصدقة، ويظنون أنه أخذها مع الاستغناء عنها، فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة والرابع: أن في إظهر الإعطاء إذلالا للآخذ وإهانة له وإزلال المؤمن غير جائز والخامس: أن الصدقة جارية مجرى الهدية، وقال عليه الصلاة والسلام: " من أهدى إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها " وربما لا يدفع الفقير من تلك الصدقة شيئا إلى شركائه الحاضرين فيقع الفقير بسبب إظهار تلك الصدقة في فعل ما لا ينبغي فهذه جملة الوجوه الدالة على أن إخفاء صدقة التطوع أولى.
وأما الوجه في جواز إظهار الصدقة، فهو أن الإنسان إذا علم أنه إذا أظهرها، صار ذلك سببا لاقتداء الخلق به في إعطاء الصدقات، فينتفع الفقراء بها فلا يمتنع، والحال هذه أن يكون الإظهار أفضل، وروي ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " السر أفضل من العلانية، والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به " قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي: الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يورد عليه ذكر رؤية الخلق، والقلب ينكر ذلك ويدفعه، فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فضوعف العمل سبعين ضعفا على العلانية، ثم إن لله عبادا راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنواع هدايته فتراكمت على قلوبهم أنوار المعرفة، وذهبت عنهم وساوس النفس، لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله تعالى؛ فإذا عمل عملا
علانية لم يحتج أن يجاهد، لأن شهوة
78

النفس قد بطلت، ومنازعة النفس قد اضمحلت، فإذا أعلن به فإنما يريد به أن يقتدي به غيره فهذا عبد كملت ذاته فسعى في تكميل غيره ليكون تاما وفوق التمام، ألا ترى أن الله تعالى أثنى على قوم في تنزيله وسماهم عباد الرحمن، وأوجب لهم أعلى الدرجات في الجنة، فقال: * (أولئك يجزون الغرفة) * (الفرقان: 75) ثم ذكر من الخصال التي طلبوها بالدعاء أن قالوا * (واجعلنا للمتقين إماما) * (الفرقان: 74) ومدح أمة موسى عليه السلام فقال: * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * (الأعراف: 159) ومدح أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * (آل عمران: 110) ثم أبهم المنكر فقال: * (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * (الأعراف: 181) فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يهتدون في الذهاب إلى الله.
فإن قيل: إن كان الأمر على ما ذكرتم فلم رجح الإخفاء على الإظهار في قوله * (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) *.
والجواب: من وجهين الأول: لا نسلم قوله * (فهو خير لكم) * يفيد الترجيح فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن إعطاء الصدقة حال الاخفاء خير من الخيرات، وطاعة من جملة الطاعات، فيكون المراد منه بيان كونه في نفسه خيرا وطاعة، لا أن المقصود منه بيان الترجيح.
والوجه الثاني: سلمنا أن المراد منه الترجيح، لكن المراد من الآية أنه إذا كانت الحال واحدة في الإبداء والإخفاء، فالأفضل هو الإخفاء، فأما إذا حصل في الإبداء أمر آخر لم يبعد ترجيح الإبداء على الإخفاء.
البحث الثاني: أن الإظهار في إعطاء الزكاة الواجبة أفضل، ويدل عليه وجوه الأول: أن الله تعالى أمر الأئمة بتوجيه السعاة لطلب الزكاة، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها وثانيها: أن في إظهارها نفي التهمة، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة فإذا اختلف حكم فرض الصلاة ونفلها في الإظهار والإخفاء لنفي التهمة، فكذا في الزكاة وثالثها: أن إظهارها يتضمن المسارعة إلى أمر الله تعالى وتكليفه، وإخفاءها يوهم ترك الالتفات إلى أداء الواجب فكان الإظهار أولى، هذا كله في بيان قول من قال المراد بالصدقات المذكورة في هذه الآية صدقة التطوع فقط.
القول الثاني: وهو قول الحسن البصري أن اللفظ متناول للواجب والمندوب، وأجاب عن قول من قال: الإظهار في الواجب أولى من وجوه الأول: أن إظهار زكاة الأموال توجب
79

إظهار قدر المال، وربما كان ذلك سببا للضرر، بأن يطمع الظلمة في ماله، أو بكثرة حساده، وإذا كان الأفضل له إخفاء ماله لزم منه لا محالة أن يكون إخفاء الزكاة أولى والثاني: أن هذه الآية إنما نزلت في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ما كانوا متهمين في ترك الزكاة فلا جرم كان إخفاء الزكاة أولى لهم لأنه أبعد عن الرياء والسمعة أما الآن فلما حصلت التهمة كان الإظهار أولى بسبب حصول التهمة الثالث: أن لا نسلم دلالة قوله * (فهو خير) * على الترجيح وقد سبق بيانه.
أما قوله تعالى: * (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) * فالإخفاء نقيض الإظهار وقوله * (فهو) * كناية عن الإخفاء، لأن الفعل يدل على المصدر، أي الإخفاء خير لكم، وقد ذكرنا أن قوله * (خير لكم) * يحتمل أن يكون المراد منه أنه في نفسه خير من الخيرات، كما يقال: الثريد خير وأن يكون المراد منه الترجيح، وإنما شرط تعالى في كون الإخفاء أفضل أن تؤتوها الفقراء لأن عند الإخفاء الأقرب أن يعدل بالزكاة عن الفقراء، إلى الأحباب والأصدقاء الذين لا يكونون مستحقين للزكاة، ولذلك شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء، والمقصود بعث المتصدق على أن يتحرى موضع الصدقة، فيصير عالما بالفقراء، فيميزهم عن غيرهم، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة.
أما قوله تعالى: * (ويكفر عنكم من سيئاتكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: التكفير في اللغة التغطية والستر، ورجل مكفر في السلاح مغطى فيه، ومنه يقال: كفر عن يمينه، أي ستر ذنب الحنث بما بذل من الصدقة، والكفارة ستارة لما حصل من الذنب.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر * (نكفر) * بالنون ورفع الراء وفيه وجوه أحدها: أن يكون عطفا على محل ما بعد الفاء والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر والثالث: أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأ بمستأنفة منقطعة عما قبلها، والقراءة الثانية قراءة حمزة ونافع والكسائي بالنون والجزم، ووجهه أن يحمل الكلام على موضع قوله * (فهو خير لكم) * فإن موضعه جزم، ألا ترى أنه لو قال: وإن تخفوها تكن أعظم لثوابكم، لجزم فيظهر أن قوله * (خير لكم) * في موضع جزم، ومثله في الحمل على موضع الجزم قراءة من قرأ * (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) * (الأعراف: 186) بالجزم، والقراءة الثالثة قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم * (يكفر) * بالياء وكسر الفاء ورفع الراء، والمعنى: يكفر الله أو يكفر الاخفاء، وحجتهم أن ما بعده على لفظ الافراد، وهو قوله * (والله بما تعملون خبير) * فقوله * (يكفر) * يكون أشبه بما بعده، والأولون أجابوا
80

* (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشآء وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون إلا ابتغآء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) *.
وقالوا لا بأس بأن يذكر لفظ الجمع أولا ثم لفظ الأفراد ثانيا كما أتى بلفظ الأفراد أولا والجمع ثانيا في قوله * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) * (الإسراء: 1) ثم قال: * (وآتينا موسى الكتاب) * (الإسراء: 2) ونقل صاحب " الكشاف " قراءة رابعة * (وتكفر) * بالتاء مرفوعا ومجزوما والفاعل الصدقات، وقراءة خامسة وهي قراءة الحسن بالتاء والنصب بإضمار * (إن) * ومعناها إن تخفوها يكن خير لكم، وإن نكفر عنكم سيئاتكم فهو خير لكم.
(المسألة الثالثة) في دخول من في قوله (من سيئاتكم) وجوه: أحدها: المراد: ونكفر عنكم
بعض سيئاتكم لان السيئات كلها لا تكفر بذلك. وإنما يكفر بعضها ثم أبهم الكلام في ذلك البعض
لان بيانه كالاغراء بارتكابها، إذا علم أنها مكفرة، بل الواجب أن يكون العبد في كل أحواله بين الخوف
والرجاء. وذلك إنما يكون مع الابهام. والثاني: أن يكون من بمعنى من أجل. والثالث.
أنها صلة زائدة كقوله (فيها من كل الثمرات) والتقدير، ونكفر عنكم جميع سيئاتكم والأول أولى
وهو الأصح
ثم قال (والله بما تعلمون خبير) وهو إشارة إلى تفضيل صدقة السر على العلانية، والمعنى
أن الله عالم بالسر والعلانية، وأنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاته. فقد حصل
مقصودكم في السر. فما فمعنى الابداء فكأنهم ندبوا بهذا الكلام إلى الاخفاء ليكون أبعد
من الرياء.
قوله تعالى وليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء وما تنفقوا من خير فلا نفسكم وما
تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)
هذا هو الحكم الرابع من أحكام الانفاق. وهو بيان أن الذي يجوز الانفاق عليه من هو
ثم في الآية مسائل
81

المسألة الأولى: في بيان سبب النزول وجوه أحدها: أن هذه الآية نزلت حين جاءت نتيلة أم أسماء بنت أبي بكر إليها تسألها، وكذلك جدتها وهما مشركتان، أتيا أسماء يسألانها شيئا فقالت لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتصدق عليهما.
والرواية الثانية: كان أناس من الأنصار لهم قرابة من قريظة والنضير وكانوا لا يتصدقون عليهم، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئا فنزلت هذه الآية.
والرواية الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتصدق على المشركين، حتى نزلت هذه الآية فتصدق عليهم والمعنى على جميع الروايات: ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدق عليهم لوجه الله، ولا توقف ذلك على إسلامهم، ونظيره قوله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم) * (الممتحنة: 8) فرخص في صلة هذا الضرب من المشركين.
المسألة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إيمانهم كما قال تعالى: * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) * (الكهف: 6) * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) * (الشعراء: 3) وقال: * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) * (يونس: 99) وقال: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم) * (التوبة: 128) فأعلمه الله تعالى أنه بعثه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ومبينا للدلائل، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك، فالهدى هاهنا بمعنى الإهتداء، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم، وفيه وجه آخر: ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة أن توقف صدقتك عنهم على إيمانهم، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به، بل الإيمان المطلوب منهم الإيمان على سبيل التطوع والاختيار.
المسألة الثالثة: ظاهر قوله * (ليس عليك هداهم) * خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به هو وأمته، ألا تراه قال: * (إن تبدوا الصدقات) * (البقرة: 271) وهذا خطاب عام، ثم قال: * (ليس عليك هداهم) * وهو في الظاهر خاص، ثم قال بعده * (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) * وهذا عام فيفهم من عموم ما قبل الآية وعموم ما بعدها عمومها أيضا.
أما قوله تعالى: * (ولكن الله يهدي من يشاء) * فقد احتج به الأصحاب على أن هداية الله تعالى غير عامة، بل هي مخصوصة بالمؤمنين قالوا: لأن قوله * (ولكن الله يهدي من يشاء) * إثبات للهداية التي نفاها بقوله * (ليس عليك هداهم) * لكن المنفي بقوله * (ليس عليك هداهم) * هو حصول الاهتداء على سبيل الاختيار، فكان قوله * (ولكن الله يهدي من يشاء) * عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار وهذا
82

يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعا بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وذلك هو المطلوب.
قالت المعتزلة * (ولكن الله يهدي من يشاء) * يحتمل وجوها أحدها: أنه يهدي بالإثابة والمجازاة من يشاء ممن استحق ذلك وثانيها: يهدي بالألطاف وزيادات الهدى من يشاء وثالثها: ولكن الله يهدي بالإكراه من يشاء على معنى أنه قادر على ذلك وإن لم يفعله ورابعها: أنه يهدي بالاسم والحكم من يشاء، فمن اهتدى استحق أن يمدح بذلك.
أجاب الأصحاب عن هذه الوجوه بأسرها أن المثبت في قوله * (ولكن الله يهدي من يشاء) * هو المنفي أولا بقوله * (ليس عليك هداهم) * لكن المراد بذلك المنفي بقوله أولا: * (ليس عليك هداهم) * هو الاهتداء على سبيل الاختيار، فالمثبت بقوله * (ولكن الله يهدي من يشاء) * يجب أن يكون هو الاهتداء على سبيل الاختيار،
وعلى هذا التقدير يسقط كل الوجوه.
ثم قال: * (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) * فالمعنى: وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير فإنما هو لأنفسكم أي ليحصل لأنفسكم ثوابه فليس يضركم كفرهم.
ثم قال تعالى: * (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية وجوه الأول أن يكون المعنى: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله، فقد علم الله هذا من قلوبكم، فانفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر؛ وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم الثاني: أن هذا وإن كان ظاهره خبرا إلا أن معناه نهي، أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، وورد الخبر بمعنى الأمر والنهي كثيرا قال تعالى: * (الوالدات يرضعن أولادهن) * (البقرة: 233) * (والمطلقات يتربصن) * (البقرة: 228) الثالث: أن قوله * (وما تنفقون) * أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله.
المسألة الثانية: ذكر في الوجه في قوله * (إلا ابتغاء وجه الله) * قولان أحدهما: أنك إذا قلت: فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك: فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه، ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ والثاني: أنك إذا قلت: فعلت هذا الفعل له فههنا يحتمل أن يقال: فعلته له ولغيره أيضا، أما إذا قلت فعلت هذا الفعل لوجهه، فهذا يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة.
المسألة الثالثة: أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم، فتكون هذه الآية مختصة
83

بصدقة التطوع، وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وأباه غيره، وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك.
ثم قال تعالى: * (وما تنفقوا من خير يوف إليكم) * أي يوف إليكم جزاؤه في الآخرة، وإنما حسن قوله * (إليكم) * مع الترفيه لأنها تضمنت معنى التأدية.
ثم قال: * (وأنتم لا تظلمون) * أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا لقوله تعالى: * (آتت أكلها ولم تظلم ومنه شيئا) * (الكهف: 33) يريد لم تنقص.
قوله تعالى
* (للفقرآء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الارض يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) *.
إعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان، بين في هذه الآية أن الذي يكون أشد الناس استحقاقا بصرف الصدقة إليه من هو؟ فقال: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اللام في قوله * (للفقراء) * متعلق بماذا فيه وجوه الأول: لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الانفاق، قال بعدها * (للفقراء) * أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء، وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل فتقول: عاقل لبيب، والمعنى أن ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب، وكذلك الناس يكتبون على الكيس الذي يجعلون فيه الذهب والدراهم: ألفان ومائتان أي ذلك الذي في الكيس ألفان ومائتان هذا أحسن الوجوه الثاني: أن تقدير الآية اعمدوا للفقراء واجعلوا ما تنفقون للقراء الثالث: يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير وصدقاتكم للفقراء.
المسألة الثانية: نزلت في فقراء المهاجرين، وكانوا نحو أربعمائة، وهم أصحاب الصفة لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد، ويتعلمون القرآن، ويصومون ويخرجون
84

في كل غزوة، عن ابن عباس: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجدهم فطيب قلوبهم، فقال: " أبشروا يا أصحاب الصفة فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفاقي ".
واعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء الفقراء بصفات خمس: الصفة الأولى: قوله * (الذين أحصروا في سبيل الله) * (البقرة: 273) فنقول: الإحصار في اللغة أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره، من مرض أو كبر أو عدو أو ذهاب نفقة، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء، يقال: أحصر الرجل فهو محصر، ومضى الكلام في معنى الإحصار عند قوله * (فإن أحصرتم) * بما يعني عن الإعادة، أما التفسير فقد فسرت هذه الآية بجميع الأعداد الممكنة في معنى الإحصار فالأول: أن المعنى: إنهم حصروا أنفسهم ووقفوها على الجهاد، وأن قوله * (في سبيل الله) * مختص بالجهاد في عرف القرآن، ولأن الجهاد كان واجبا في ذلك الزمان، وكان تشتد الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون مستعدا لذلك، متى مست الحاجة، فبين تعالى في هؤلاء الفقراء أنهم بهذه الصفة، ومن هذا حاله يكون وضع الصدقة فيهم يفيد وجوها من الخير أحدها: إزالة عيلتهم والثاني: تقوية قلبهم لما انتصبوا إليه وثالثها: تقوية الإسلام بتقوية المجاهدين ورابعها: أنهم كانوا محتاجين جدا مع أنهم كانوا لا يظهرون حاجتهم، على ما قال تعالى: * (لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) *.
والقول الثاني: وهو قول قتادة وابن زيد: منعوا أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة، وكانوا متى وجدوهم قتلوهم.
والقول الثالث: وهو قول سعيد بن المسيب واختيار الكسائي: أن هؤلاء القوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاروا زمني، فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض.
والقول الرابع: قال ابن عباس هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله فعذرهم الله.
والقول الخامس: هؤلاء قوم كانوا مشتغلين بذكر الله وطاعته وعبوديته، وكانت شدة استغراقهم في تلك الطاعة أحصرتهم عن الاشتغال بسائر المهمات.
الصفة الثانية لهؤلاء الفقراء: قوله تعالى: * (لا يستطيعون ضربا في الأرض) * يقال ضربت في الأرض ضربا إذا سرت فيها، ثم عدم الاستطاعة إما أن يكون لأن اشتغالهم بصلاح الدين
85

وبأمر الجهاد، يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه، وعلى جميع الوجوه فلا شك في شدة احتياجهم إلى من يكون معينا لهم على مهماتهم.
الصفة الثالثة لهم: قوله تعالى: * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وابن عامر وحمزة * (يحسبهم) * بفتح السين والباقون بكسرها وهما اللتان بمعنى واحد، وقرئ في القرآن ما كان من الحسبان باللغتين جميعا الفتح والكسر والفتح عند أهل اللغة أقيس، لأن الماضي إذا كان على فعل، نحو حسب كان المضارع على يفعل، مثل فرق يفرق وشرب يشرب، وشذ حسب يحسب فجاء على يفعل مع كلمات أخر، والكسر حسن لمجيء السمع به وإن كان شاذا عن القياس.
المسألة الثانية: الحسبان هو الظن، وقوله * (الجاهل) * لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء من التعفف، وهو تفعل من العفة ومعنى العفة في اللغة ترك الشيء والكف عنه وأراد من التعفف عن السؤال فتركه للعلم، وإنما يحسبهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة.
الصفة الرابعة لهؤلاء الفقراء: قوله تعالى: * (تعرفهم بسيماهم) * السيما والسيميا العلامة التي يعرف بها الشيء، وأصلها من السمة التي هي العلامة، قلبت الواو إلى موضع العين قال الواحدي: وزنه يكون فعلا، كما قالوا: له جاه عند الناس أي وجه، وقال قوم: السيما الارتفاع لأنها علامة وضعت للظهور، قال مجاهد * (سيماهم) * التخشع والتواضع، قال الربيع والسدي: أثر الجهد من الفقر والحاجة وقال الضحاك صفرة ألوانهم من الجوع وقال ابن زيد رثاثة ثيابهم والجوع خفي وعندي أن كل ذلك فيه نظر لأن كل ما ذكروه علامات دالة على حصول الفقر وذلك يناقضه قوله * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) * بل المراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعا في قلوب الخلق، كل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم وذلك إدراكات روحانية، لا علات جسمانية، ألا ترى أن الأسد إذا مر هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة، لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت، والبازي إذا طار تهرب منه الطيور الضعيفة، وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية، فكذا هاهنا، ومن هذا الباب آثار الخشوع في الصلاة، كما قال تعالى: * (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) * (الفتح: 29) وأيضا ظهور آثار الفكر، روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف.
الصفة الخامسة لهؤلاء الفقراء: قوله تعالى: * (لا يسألون الناس إلحافا) * عن ابن مسعود
86

رضي الله عنه: إن الله يحب العفيف المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الذي إن أعطى كثيرا أفرط في المدح، وإن أعطى قليلا أفرط في الذم، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يفتح أحد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله تعالى، لأن يأخذ أحدكم حبلا يحتطب فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس ".
واعلم أن هذه الآية مشكلة، وذكروا في تأويلها وجوها الأول: أن الإلحاف هو الإلحاح والمعنى أنهم سألوا بتلطف ولم يلحوا، وهو اختيار صاحب " الكشاف " وهو ضعيف، لأن الله تعالى وصفهم بالتعفف عن السؤال قبل ذلك فقال: * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) * وذلك ينافي صدور السؤال عنهم والثاني: وهو الذي خطر ببالي عند كتابة هذا الموضوع: أنه ليس المقصود من قوله * (لا يسألون الناس إلحافا) * وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافا، وذلك لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بأنهم يتعففون عن السؤال، وإذا علم أنهم لا يسألون البتة فقد علم أيضا أنهم لا يسألون إلحافا، بل المراد التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا، ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور ثابت، والآخر طياش مهذار سفيه، فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام، لا يخوض في الترهات، ولا يشرع في السفاهات، ولم يكن غرضك من قولك، لا يخوض في الترهات والسفاهات وصفه بذلك، لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك، بل غرضك التنبيه على مذمة الثاني وكذا هاهنا قوله * (لا يسألون الناس إلحافا) * بعد قوله * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) * الغرض منه التنبيه على من يسأل الناس إلحافا وبيان مباينة أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم.
الوجه الثالث: أن السائل الملحف الملح هو الذي يستخرج المال بكثرة تلطفه، فقوله * (لا يسألون الناس) * بالرفق والتلطف، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى فإذا امتنع القسمان فقد امتنع حصول السؤال، فعلى هذا يكون قوله * (لا يسألون الناس إلحافا) * كالموجب لعدم صدور السؤال منهم أصلا.
والوجه الرابع: هو الذي خطر ببالي أيضا في هذا الوقت، وهو أنه تعالى بين فيما تقدم شدة حاجة هؤلاء الفقراء، ومن اشتدت حاجته فإنه لا يمكنه ترك السؤال إلا بإلحاح شديد منه على نفسه، فكانوا لا يسألون الناس وإنما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحوا على النفس ومنعوها بالتكليف الشديد عن ذلك السؤال، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
ولي نفس أقول لها إذا ما * تنازعني لعلي أو عساني
87

الوجه الخامس: أن كل من سأل فلا بد وأن يلح في بعض الأوقات، لأنه إذا سأل فقد أراق ماء وجهه، ويحمل الذلة في إظهار ذلك السؤال، فيقول: لما تحملت هذه المشاق فلا أرجع بغير مقصود، فهذا الخاطر يحمله على الإلحاف والإلحاح، فثبت أن كل من سأل فلا بد وأن يقدم على الإلحاح في بعض الأوقات، فكان نفي الإلحاح عنهم مطلقا موجبا لنفي السؤال عنهم مطلقا.
الوجه السادس: وهو أيضا خطر ببالي في هذا الوقت، وهو أن من أظهر من نفسه آثار الفقر والذلة والمسكنة، ثم سكت عن السؤال، فكأنه أتى بالسؤال الملح الملحف، لأن ظهور إمارات الحاجة تدل على الحاجة وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع به تلك الحاجة ومتى تصور الإنسان من غير ذلك رق قلبه جدا، وصار حاملا له على أن يدفع إليه شيئا، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف، فقوله * (لا يسألون الناس إلحافا) * معناه أنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق، فهذا الوجه أيضا مناسب معقول وهذه الآية من المشكلات وللناس فيها كلمات كثيرة، وقد لاحت هذه الوجوه الثلاثة بتوفيق الله تعالى وقت كتب تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده.
واعلم أنه تعالى ذكر صفات هؤلاء الفقراء، ثم قال بعده * (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) * (البقرة: 273) وهو نظير ما ذكر قبل هذه الآية من قوله * (وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) * (البقرة: 272) وليس هذا من باب التكرار وفيه وجهان أحدهما: أنه تعالى لما قال: * (وما تنفقوا من خير يوف إليكم) * وكان من المعلوم أن توفية الأجر من غير بخس ونقصان لا يمكن إلا عند العلم بمقدار العمل وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب لا جرم قرر في هذه الآية كونه تعالى عالما بمقادير الأعمال وكيفياتها.
والوجه الثاني: وهو أنه تعالى لما رغب في التصدق على المسلم والذمي، قال: * (وما تنفقوا من خير يوف إليكم) * بين أن أجره واصل لا محالة، ثم لما رغب في هذه الآية في التصدق على الفقراء الموصوفين بهذه الأوصاف الكاملة، وكان هذا الإنفاق أعظم وجوه الإنفاقات، لا جرم أردفه بما يدل على عظمة ثوابه فقال: * (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) * وهو يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته: ما يكفيك بأن يكون علي شاهدا بكيفية طاعتك
88

وحسن خدمتك، فإن هذا أعظم وقعا مما إذا قال له: إن أجرك واصل إليك.
قوله تعالى
* (الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم أقوال الأول: لما بين في هذه الآية المتقدمة أن أكمل من تصرف إليه النفقة من هو بين في هذه الآية أن أكمل وجوه الإنفاق كيف هو، فقال: * (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم) * والثاني: أنه تعالى ذكر هذه الآية لتأكيد ما تقدم من قوله * (إن تبدو الصدقات فنعما هي) * (البقرة: 274) والثالث: أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في أحكام الإنفاق، فلا جرم أرشد الخلق إلى أكمل وجوه الإنفاقات.
المسألة الثانية: في سبب النزول وجوه الأول: لما نزل قوله تعالى: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) * بعت عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير، وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلا، فكان أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقته، فنزلت هذه الآية فصدقة الليل كانت أكمل والثاني: قال ابن عباس: إن عليا عليه السلام ما كان يملك غير أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما حملك على هذا؟ فقال: أن استوجب ما وعدني ربي، فقال: لك ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية والثالث: قال صاحب " الكشاف ": نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار: عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية والرابع: نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله، فكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية الخامس: أن الآية عامة في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يعلقوها بوقت ولا حال، وهذا هو أحسن الوجوه، لأن هذا آخر الآيات المذكورة في بيان حكم الإنفاقات فلا جرم ذكر فيها أكمل وجوه الإنفاقات والله أعلم.
89

المسألة الثالثة: قال الزجاج * (الذين) * رفع بالابتداء وجاز أن تكون الفاء من قوله * (فلهم) * جواب الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاء، فكان التقدير: من أنفق فلا يضيع أجره، وتقديره أنه لو قال: الذي أكرمني له درهم لم يفد أن الدرهم بسبب الإكرام، أما لو قال: الذي أكرمني فله درهم يفيد أن الدرهم بسبب الإكرام، فههنا الفاء دلت على أن حصول الأجر إنما كان بسبب الإنفاق والله أعلم.
المسألة الرابعة: في الآية إشارة إلى أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية، وذلك لأنه قدم الليل على النهار، والسر على العلانية في الذكر.
ثم قال في خاتمة الآية * (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (البقرة: 274) والمعنى معلوم وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أنها تدل على أن أهل الثواب لا خوف عليهم يوم القيامة، ويتأكد ذلك بقوله تعالى: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * (الأنبياء: 103).
المسألة الثانية: أن هذا مشروط عند الكل بأن لا يحصل عقيبه الكفر، وعند المعتزلة أن لا يحصل عقيبه كبيرة محبطة، وقد أحكمنا هذه المسألة، وههنا آخر الآيات المذكورة في بيان أحكام الإنفاق.
الحكم الثاني: من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة حكم الربا:
* (الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا وأحل الله البيع وحرم الربوا فمن جآءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *.
إعلم أن بين الربا وبين الصدقة مناسبة من جهة التضاد، وذلك لأن الصدقة عبارة عن تنقيص
90

المال بسبب أمر الله بذلك، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه، فكانا متضادين، ولهذا قال الله تعالى: * (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) * فلما حصل بين هذين الحكمين هذا النوع من المناسبة، لا جرم ذكر عقيب حكم الصدقات حكم الربا.
أما قوله * (الذين يأكلون الربا) * فالمراد الذين يعاملون به، وخص الأكل لأنه معظم الأمر، كما قال: * (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * (النساء: 10) وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه، ولكنه نبه بالأكل على ما سواه وكذلك قوله * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (البقرة: 188) وأيضا فلأن نفس الربا الذي هو الزيادة في المال على ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يؤكل، إنما يصرف في المأكول فيؤكل، والمراد التصرف فيه، فمنع الله من التصرف في الربا بما ذكرنا من الوعيد، وأيضا فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم: " لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له " فعلمنا أن الحرمة غير مختصة بالآكل، وأيضا فقد ثبت بشهادة الطرد والعكس، أن ما يحرم لا يوقف تحريمه على الأكل دون غيره من التصرفات فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن المراد من أكل الربا في هذه الآية التصرف في الربا، وأما الربا ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الربا في اللغة عبارة عن الزيادة يقال: ربا الشيء يربو ومنه قوله * (اهتزت وربت) * (الحج: 5) أي زادت، وأربى الرجل إذا عامل في الربا، ومنه الحديث " من أجبى فقد أربى " أي عامل بالربا، والاجباء بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، هذا معنى الربا في اللغة.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي * (الربا) * بالإمالة لمكان كسرة الراء والباقون بالتفخيم بفتح الباء، وهي في المصاحف مكتوبة بالواو، وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو والياء، قال صاحب " الكشاف ": الربا كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع.
المسألة الثالثة: إعلم أن الربا قسمان: ربا النسيئة، وربا الفضل.
أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ويكون رأس المال باقيا، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به.
وأما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك.
إذا عرفت هذا فنقول: المروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم
91

الأول فكان يقول: لا ربا إلا في النسيئة، وكان يجوز بالنقد، فقال له أبو سعيد الخدري: شهدت ما لم تشهد، أو سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تسمع ثم روي أنه رجع عنه قال محمد بن سيرين: كنا في بيت ومعنا عكرمة، فقال رجل: يا عكرمة ما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس، فقال: إنما كنت استحللت التصرف برأيي، ثم بلغني أنه صلى الله عليه وسلم حرمه، فاشهدوا أني حرمته وبرئت منه إلى الله، وحجة ابن عباس أن قوله * (وأحل الله البيع) * يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقدا، وقوله * (وحرم الربا) * لا يتناوله لأن الربا عبارة عن الزيادة، وليست كل زيادة محرمة، بل قوله * (وحرم الربا) * إنما يتناول العقد المخصوص الذي كان مسمى فيما بينهم بأنه ربا. وذلك هو ربا النسيئة، فكان قوله * (وحرم الربا) * مخصوصا بالنسيئة، فثبت أن قوله * (وأحل الله البيع) * يتناول ربا النقد، وقوله * (وحرم الربا) * لا يتناوله، فوجب أن يبقى على الحل، ولا يمكن أن يقال: إنما يحرمه بالحديث، لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن مخبر الواحد وأنه غير جائز، وهذا هو عرف ابن عباس وحقيقته راجعة إلى أن تخصيص القرآن بخبر الواحد هل يجوز أم لا؟
وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين، أما القسم الأول فبالقرآن، وأما ربا النقد فبالخبر، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة، ثم اختلفوا فقال عامة الفقهاء: حرمة التفاضل غير مقصورة على هذه الستة، بل ثابتة في غيرها، وقال نفاة القياس: بل الحرمة مقصورة عليها وحجة هؤلاء من وجوه:
الحجة الأولى: أن الشارع خص من المكيلات والمطعومات والأقوات أشياء أربعة، فلو كان الحكم ثابتا في كل المكيلات أو في كل المطعومات لقال: لا تبيعوا المكيل بالمكيل متفاضلا، أو قال: لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم متفاضلا، فإن هذا الكلام يكون أشد اختصارا، وأكثر فائدة، فلما لم يقل ذلك بل عد الأربعة، علمنا أن حكم الحرمة مقصور عليها فقط.
الحجة الثانية: أنا بينا في قوله تعالى: * (وأحل الله البيع) * يقتضي حل ربا النقد فأنتم أخرجتم ربا النقد من تحت هذا العموم بخبر الواحد في الأشياء الستة، ثم أثبتم الحرمة في غيرها بالقياس عليها، فكان هذا تخصيصا لعموم نص القرآن في الأشياء الستة بخبر الواحد، وفي غيرها بالقياس على الأشياء الستة، ثبت الحكم فيها بخبر الواحد، ومثل هذا القياس يكون أضعف بكثير من خبر الواحد، وخبر الواحد أضعف من ظاهر القرآن، فكان هذا ترجيحا للأضعف على الأقوى، وأنه غير جائز.
الحجة الثالثة: أن التعدية من محل النص إلى غير محل النص، لا تمكن إلا بواسطة تعليل
92

الحكم في مورد النص، وذلك غير جائز، أما أولا: فلأنه يقتضي تعليل حكم الله، وذلك محال على ما ثبت في الأصول، وأما ثانيا: فلأن الحكم في مورد النص معلوم
، واللغة مظنونة وربط المعلوم بالمظنون غير جائز، وأما جمهور الفقهاء فقد اتفقوا على أن حرمة ربا النقد غير مقصورة على هذه الأشياء الستة، بل هي ثابتة في غيرها، ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص فلهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب.
فالقول الأول: وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه: أن العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس، وفي الذهب والفضة النقدية.
والقول الثاني: قول أبي حنيفة رضي الله عنه: أن كل ما كان مقدرا ففيه الربا، والعلة في الدراهم والدنانير الوزن، وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس.
والقول الثالث: قول مالك رضي الله عنه أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت، وهو الملح.
والقول الرابع: وهو قول عبد الملك بن الماجشون: أن كل ما ينتفع به ففيه الربا، فهذا ضبط مذاهب الناس في حكم الربا، والكلام في تفاريع هذه المسائل لا يليق بالتفسير.
المسألة الرابعة: ذكروا في سبب تحريم الربا وجوها أحدها: الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض، لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقدا أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض، ومال الإنسان متعلق حاجته وله حرمة عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: " حرمة مال الإنسان كحرمة دمه " فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرما. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون لبقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضا عن الدرهم الزائد، وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن المالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحا فلما تركه في يد المديون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلى رب المال ذلك الدرهم الزائد عوضا عن انتفاعه بماله.
قلنا: إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل، وأخذ الدرهم الزائد أمر متيقن، فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع ضرر
93

وثانيها: قال بعضهم: الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدا كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات وثالثها: قيل: السبب في تحريم عقد الربا، أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض، لأن الربا إذا طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله، ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين، فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان ورابعها: هو أن الغالب أن المقرض يكون غنيا، والمستقرض يكون فقيرا، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين للغنى من أن يأخذ من الفقير الضعيف ما لا زائدا، وذلك غير جائز برحمة الرحيم وخامسها: أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق، فوجب القطع بحرمة عقد الربا، وإن كنا لا نعلم الوجه فيه.
أما قوله تعالى: * (لا يقومون) * فأكثر المفسرين قالوا: المراد منه القيام يوم القيامة، وقال بعضهم: المراد منه القيام من القبر، واعلم أنه لا منافاة بين الوجهين، فوجب حمل اللفظ عليهما.
أما قوله تعالى: * (إلا كما يقوم الذي يتخطبه الشيطان من المس) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: التخبط معناه الضرب على غير استواء، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: إنه يخبط خبط عشواء، وخبط البعير للأرض بأخفافه، وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون لأنه كالضرب على غير الاستواء في الادهاش، وتسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل خبطة، ويقال: به خبطة من جنون، والمس الجنون، يقال: مس الرجل فهو ممسوس وبه مس، وأصله من المس باليد، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، ثم سمي الجنون مسا، كما أن الشيطان يتخبطه ويطؤه برجله فيخبله، فسمي الجنون خبطة، فالتخبط بالرجل والمس باليد، ثم فيه سؤالان:
السؤال الأول: التخبط تفعل، فكيف يكون متعديا؟.
الجواب: تفعل بمعنى فعل كثير، نحو تقسمه بمعنى قسمه، وتقطعه بمعنى قطعه.
السؤال الثاني: بم تعلق قوله * (من المس) *.
قلنا: فيه وجهان أحدهما: بقوله * (لا يقومون) * والتقدير: لا يقومون من المس الذي لهم
94

إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان والثاني: أنه متعلق بقوله * (يقوم) * والتقدير لا يقومون إلا كما يقوم المتخبط بسبب المس.
المسألة الثانية: قال الجبائي: الناس يقولون المصروع إنما حدثت به تلك الحالة لأن الشيطان يمسه ويصرعه وهذا باطل، لأن الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم ويدل عليه وجوه:
أحدها: قوله تعالى حكاية عن الشيطان * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22) وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء والثاني: الشيطان إما أن يقال: إنه كثيف الجسم، أو يقال: إنه من الأجسام اللطيفة، فإن كان الأول وجب أن يرى ويشاهد، إذ لو جاز فيه أن يكون كثيفا ويحضر ثم لا يرى لجاز أن يكون بحضرتنا شموس ورعود وبروق وجبال ونحن لا نراها، وذلك جهالة عظيمة، ولأنه لو كان جسما كثيفا فكيف يمكنه أن يدخل في باطن بدن الإنسان، وأما إن كان جسما لطيفا كالهواء، فمثل هذا يمتنع أن يكون فيه صلابة وقوة، فيمتنع أن يكون قادرا على أن يصرع الإنسان ويقتله الثالث:
لو كان الشيطان يقدر على أن يصرع ويقتل لصح أن يفعل مثل معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك يجر إلى الطعن في النبوة الرابع: أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يصرع جميع المؤمنين ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان، ولم لا يغصب أموالهم، ويفسد أحوالهم، ويفشي أسرارهم، ويزيل عقولهم؟ وكل ذلك ظاهر الفساد، واحتج القائلون بأن الشيطان يقدر على هذه الأشياء بوجهين الأول: ما روي أن الشياطين في زمان سليمان بن داود عليهما السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة على ما حكى الله عنهم أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات.
والجواب عنه: أنه تعالى كلفهم في زمن سليمان فعند ذلك قدروا على هذه الأفعال وكان ذلك من المعجزات لسليمان عليه السلام والثاني: أن هذه الآية وهي قوله * (يتخبطه الشيطان) * صريح في أن يتخبطه الشيطان بسبب مسه.
والجواب عنه: أن الشيطان يمسه بوسوسته المؤذية التي يحدث عندها الصرع، وهو كقول أيوب عليه السلام * (إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) * (ص: 41) وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة لأن الله تعالى خلقه من ضعف الطباع، وغلبة السوداء عليه بحيث يخاف عند الوسوسة فلا يجترئ فيصرع عند تلك الوسوسة، كما يصرع الجبان من الموضع الخالي، ولهذا المعنى لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين، وأهل الحزم والعقل وإنما يوجد فيمن به نقص في المزاج وخلل
95

في الدماغ فهذا جملة كلام الجبائي في هذا الباب، وذكر القفال فيه وجه آخر، وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن، فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا، وأيضا من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان، كما في قوله تعالى: * (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) * (الصافات: 65).
المسألة الثالثة: للمفسرين في الآية أقوال الأول: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا، فعلى هذا معنى الآية: أنهم يقومون مجانين، كمن أصابه الشيطان بجنون.
والقول الثاني: قال ابن منبه: يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله * (يخرجون من الأجداث سراعا) * (المعارج: 43) إلا آكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا، فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون، ويسقطون، ويريدون الإسراع، ولا يقدرون، وهذا القول غير الأول لأنه يريد أن آكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي بسبب ثقل البطن، وهذا ليس من الجنون في شيء، ويتأكد هذا القول بما روي في قصة الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق به جبريل إلى رجال كل واحد منهم كالبيت الضخم، يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) *.
والقول الثالث: أنه مأخوذ من قوله تعالى: * (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) * (الأعراف: 201) وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، فهذا هو المراد من مس الشيطان، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطا، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى، وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى، فحدثت هناك حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطا في حب الدنيا متهالكا فيها، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجابا بينه وبين الله تعالى، فالخبط الذي كان حاصلا في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة، وأوقعه في ذل الحجاب، وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا.
أما قوله تعالى: * (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: القوم كانوا في تحليل الربا على هذه الشبهة، وهي أن من اشترى ثوبا بعشرة
96

ثم باعه بأحد عشر فهذا حلال، فكذا إذا باع العشرة بأحد عشرة يجب أن يكون حلال، لأنه لا فرق في العقل بين الأمرين، فهذا في ربا النقد، وأما في ربا النسيئة فكذلك أيضا، لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهر جاز فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهر، وجب أن يجوز لأنه لا فرق في العقل بين الصورتين، وذلك لأنه إنما جاز هناك، لأنه حصل التراضي من الجانبين، فكذا ههنا لما حصل التراضي من الجانبين وجب أن يجوز أيضا، فالبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات، ولعلل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال شديد الحاجة، ويكون له في المستقبل من الزمان أموال كثيرة، فإذا لم يجز الربا لم يعطه رب المال شيئا فيبقى الإنسان في الشدة والحاجة، إما بتقدير جواز الربا فيعطيه رب المال طمعا في الزيادة، والمديون يرده عند وجدان المال، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال، فهذا يقتضي حل الربا كما حكمنا بحل سائر البياعات لأجل دفع الحاجة، فهذا هو شبهة القوم، والله تعالى أجاب عنه بحرف واحد، وهو قوله * (وأحل الله البيع وحرم الربا) * ووجه الجواب أن ما ذكرتم معارضة للنص بالقياس، وهو من عمل إبليس، فإنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم عارض النص بالقياس، فقال: * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * (الأعراف: 12) (ص: 76) واعلم أن نفاة القياس يتمسكون بهذا الحرف، فقالوا: لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة، فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس، وذكر القفال رحمة الله عليه الفرق بين البابين، فقال: من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلا للآخر في المالية عندهما، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئا بغير عوض، أما إذا باع العشرة بالعشرة فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يمكن أن يقال: إن غرضه هو الامهال في مدة الأجل، لأن الامهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة، فظهر الفرق بين الصورتين.
المسألة الثانية: ظاهر قوله تعالى: * (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) * يدل على أن الوعيد إنما يحصل باستحلالهم الربا دون الإقدام عليه، وأكله مع التحريم، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون الربا من الكبائر.
فإن قيل: مقدمة الآية تدل على أن قيامهم يوم القيامة متخبطين كان بسبب أنهم أكلوا الربا.
قلنا: إن قوله * (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) * صريح في أن العلة لذلك التخبط هو هذا
97

القول والاعتقاد فقط، وعند هذا يجب تأويل مقدمة الآية، وقد بينا أنه ليس المراد من الأكل نفس الأكل، وذكرنا عليه وجوها من الدلائل، فأنتم حملتموه على التصرف في الربا، ونحن نحمله على استحلال الربا واستطابته، وذلك لأن الأكل قد يعبر به عن الاستحلال، يقال: فلان يأكل مال الله قضما خصما، أي يستحل التصرف فيه، وإذا حملنا الأكل على الاستحلال، صارت مقدمة الآية مطابقة لمؤخرتها، فهذا ما يدل عليه لفظ الآية، إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا، لا على وعيد من يستحل هذا العقد.
المسألة الثالثة: في الآية سؤال، وهو أنه لم لم يقل: إنما الربا مثل البيع، وذلك لأن حل البيع متفق عليه، فهم أرادوا أن يقيسوا عليه الربا، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق، فكان نظم الآية أن يقال: إنما الربا مثل البيع، فما الحكمة في أن قلب هذه القضية، فقال: * (إنما البيع مثل الربا) *.
والجواب: أنه لم يكن مقصود القوم أن يتمسكوا بنظم القياس، بل كان غرضهم أن الربا والبيع متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والثاني بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز.
أما قوله تعالى: * (وأحل الله البيع وحرم الربا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: يحتمل أن يكون هذا الكلام من تمام كلام الكفار، والمعنى أنهم قالوا: البيع مثل الربا، ثم إنكم تقولون * (وأحل الله البيع وحرم الربا) * فكيف يعقل هذا؟ يعني أنهما لما كانا متماثلين فلو حل أحدهما وحرم الآخر لكان ذلك إيقاعا للتفرقة بين المثلين، وذلك غير لائق بحكمة الحكيم فقوله * (أحل الله البيع وحرم الربا) * ذكره الكفار على سبيل الاستبعاد، وأما أكثر المفسرين فقد اتفقوا على أن كلام الكفار انقطع عند قوله * (إنما البيع مثل الربا) * وأما قوله * (أحل الله البيع وحرم الربا) * فهو كلام الله تعالى ونصه على هذا الفرق ذكره إبطالا لقول الكفار إنما البيع مثل الربا، والحجة على صحة هذا القول وجوه.
الحجة الأولى: أن قول من قال: هذا كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار زيادات بأن يحمل ذلك على الاستفهام على سبيل الإنكار، أو يحمل ذلك على الرواية من قول المسلمين، ومعلوم أن الإضمار خلاف الأصل، وأما إذا جعلناه كلام الله ابتداء لم يحتج فيه إلى هذا الإضمار، فكان ذلك أولى.
الحجة الثانية: أن المسلمين أبدا كانوا متمسكين في جميع مسائل البيع بهذه الآية ولولا أنهم
98

علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار، وإلا لما جاز لهم أن يستدلوا به، وفي هذه الحجة كلام سيأتي في المسألة الثانية.
الحجة الثالثة: أنه تعالى ذكر عقيب هذه الكلمة قوله * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * فظاهر هذا الكلام يقتضي أنهم لما تمسكوا بتلك الشبهة وهي قوله * (إنما البيع مثل الربا) * فالله تعالى قد كشف عن فساد تلك الشبهة وعن ضعفها، ولو لم يكن قوله * (وأحل الله البيع وحرم الربا) * كلام الله لم يكن جواب تلك الشبهة مذكورا فلم يكن قوله * (فمن جاءه موعظة من ربه) * لائقا بهذا الموضع.
المسألة الثانية: مذهب الشافعي رضي الله عنه أن قوله * (وأحل الله البيع وحرم الربا) * من المجملات التي لا يجوز التمسك بها، وهذا هو المختار عندي، ويدل عليه وجوه الأول: أنا بينا في أصول الفقه أن الاسم المفرد المحلي بلام التعريف لا يفيد العموم البتة، بل ليس فيه إلا تعريف الماهية، ومتى كان كذلك كفى العمل به في ثبوت حكمه في صورة واحدة.
والوجه الثاني: وهو أنا إذا سلمنا أنه يفيد العموم، ولكنا لا نشك أن إفادته العموم أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم، مثلا قوله * (وأحل الله البيع) * وإن أفاد الاستغراق إلا أن قوله وأحل الله البيعات أقوى في إفادة الاستغراق، فثبت أن قوله * (وأحل الله البيع) * لا يفيد الاستغراق إلا إفادة ضعيفة، ثم تقدير العموم لا بد وأن يطرق إليها تخصيصات كثيرة خارجة عن الحصر والضبط، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه كذب والكذب على الله تعالى محال، فأما العام الذي يكون موضع التخصيص منه قليلا جدا فذلك جائز لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرف مشهور في كلام العرب، فثبت أن حمل هذا على العموم غير جائز.
الوجه الثالث: ما روي عن عمر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا، ولو كان هذا اللفظ مفيدا للعموم لما قال ذلك فعلمنا أن هذه الآية من المجملات.
الوجه الرابع: أن قوله * (وأحل الله البيع) * يقتضي أن يكون كل بيع حلالا، وقوله * (وحرم الربا) * يقتضي أن يكون كل ربا حراما، لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع، وآخرها حرم الجميع، فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية، فكانت مجملة، فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
99

أما قوله * (فمن جاءه موعظة من ربه) * فاعلم أنه ذكر فعل الموعظة لأن تأنيثها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ، وقرأ أبي والحسن * (فمن جاءته موعظة) * ثم قال: * (فانتهى) * أي فامتنع، ثم قال: * (فله ما سلف) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في التأويل وجهان الأول: قال الزجاج: أي صفح له عما مضى من ذنبه من قبل نزول هذه الآية، وهو كقوله * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * (الأنفال: 38) وهذا التأويل ضعيف لأنه قبل نزول الآية في التحريم لم يكن ذلك حراما ولا ذنبا، فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع
أنه ما كان هناك ذنب، والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك، وهو قوله * (فله ما سلف) * فكيف يكون ذلك ذنبا الثاني: قال السدي: له ما سلف أي له ما أكل من الربا، وليس عليه رد ما سلف، فأما من لم يقض بعد فلا يجوز له أخذه، وإنما له رأس ماله فقط كما بينه بعد ذلك بقوله * (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) * (البقرة: 279).
المسألة الثانية: قال الواحدي: السلف المتقدم، وكل شيء قدمته أمامك فهو سلف، ومنه الأمة السالفة، والسالفة العنق لتقدمه في جهة العلو، والسلفة ما يقدم قبل الطعام، وسلافة الخمر صفوتها، لأنه أول ما يخرج من عصيرها.
أما قوله تعالى: * (وأمره إلى الله) * ففيه وجوه للمفسرين، إلا أن الذي أقوله: إن هذه الآية مختصة بمن ترك استحلال الربا من غير بيان أنه ترك أكل الربا، أو لم يترك، والدليل عليه مقدمة الآية ومؤخرتها.
أما مقدمة الآية فلأن قوله * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى) * ليس فيه بيان أنه انتهى عما ذا فلا بد وأن يصرف ذلك المذكور إلى السابق، وأقرب المذكورات في هذه الكلمة ما حكى الله أنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، فكان قوله * (فانتهى) * عائدا إليه، فكان المعنى: فانتهى عن هذا القول.
وأما مؤخرة الآية فقوله * (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * ومعناه: عاد إلى الكلام المتقدم، وهو استحلال الربا * (فأمره إلى الله) * ثم هذا الإنسان إما أن يقال: إنه كما انتهى عن استحلال الربا انتهى أيضا عن أكل الربا، أو ليس كذلك، فإن كان الأول كان هذا الشخص مقرا بدين الله عالما بتكليف الله، فحينئذ يستحق المدح والتعظيم والإكرام، لكن قوله * (فأمره إلى الله) * ليس كذلك لأنه يفيد أنه تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ولا بالمؤمن المطيع، فلم يبق إلا أن يكون مختصا بمن أقر بحرمة الربا ثم أكل الربا
100

فههنا أمره لله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهو كقوله * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * فيكون ذلك دليلا ظاهرا على صحة قولنا أن العفو من الله مرجو.
أما قوله * (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * فالمعنى: ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافرا.
واعلم أن قوله * (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * دليل قاطع في أن الخلود لا يكون إلا للكافر لأن قوله * (أولئك أصحاب النار) * يفيد الحصر فيمن عاد إلى قول الكافر وكذلك قوله * (هم فيها خالدون) * يفيد الحصر، وهذا يدل على أن كونه صاحب النار، وكونه خالدا في النار لا يحصل إلا في الكفار أقصى ما في الباب أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه، لكنه يبقى على ظاهره في صاحب الكبيرة فتأمل في هذه المواضع، وذلك أن مذهبنا أن صاحب الكبيرة إذا كان مؤمنا بالله ورسوله يجوز في حقه أن يعفو الله عنه، ويجوز أن يعاقبه الله وأمره في البابين موكل إلى الله، ثم بتقدير أن يعاقبه الله فإنه لا يخلد في النار بل يخرجه منها، والله تعالى بين صحة هذا المذهب في هذه الآيات بقوله * (فأمره إلى الله) * على جواز العفو في حق صاحب الكبيرة على ما بيناه.
ثم قوله * (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * يدل على أن بتقدير أن يدخله الله النار لكنه لا يخلده فيها الآن الخلود مختص بالكفار لا بأهل الإيمان، وهذا بيان شريف وتفسير حسن.
* (يمحق الله الربوا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) *.
إعلم أنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات، ذكر هاهنا ما يجري مجرى الدعاء إلى ترك الصدقات وفعل الربا، وكشف عن فساده، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في الحال، إلا أنه نقصان في الحقيقة، وأن الصدقة وإن كانت نقصانا في الصورة، إلا أنها زيادة في المعنى، ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف، بل يعول على ما ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المحق نقصان الشيء حالا بعد حال، ومنه المحاق في الهلال يقال: محقه الله فانمحق وامتحق، ويقال: هجير ما حق إذا نقص في كل شيء بحرارته.
101

المسألة الثانية: إعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة، أما في الدنيا فنقول: محق الربا في الدنيا من وجوه أحدها: أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤل عاقبته إلى الفقر، وتزول البركة عن ماله، قال صلى الله عليه وسلم: " الربا وإن كثر فإلى قل " وثانيها: إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم، والنقص، وسقوط العدالة، وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة وثالثها: أن الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا يلعنونه ويبغضونه ويدعون عليه، وذلك يكون سببا لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله ورابعها: أنه متى اشتهر بين الخلق أنه إنما جمع ماله من الربا توجهت إلى الأطماع، وقصده كل ظالم ومارق وطماع، ويقولون: إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده، وأما إن الربا سبب للمحق في الآخرة فلوجوه الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: معنى هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادا، ولا حجا، ولا صلة رحم وثانيها: إن مال الدنيا لا يبقى عند الموت، ويبقى التبعة والعقوبة، وذلك هو الخسار الأكبر وثالثها: أنه ثبت في الحديث أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام، فإذا كان الغني من الوجه الحلال كذلك، فما ظنك بالغني من الوجه الحرام المقطوع بحرمته كيف يكون، فذلك هو المحق والنقصان.
وأما أرباء الصدقات فيحتمل أن يكون المراد في الدنيا، وأن يكون المراد في الآخرة.
أما في الدنيا فمن وجوه أحدها: أن من كان لله كان الله له، فإذا كان الإنسان مع فقره وحاجته يحسن إلى عبيد الله، فالله تعالى لا يتركه ضائعا في الدنيا، وفي الحديث
الذي رويناه فيما تقدم أن الملك ينادي كل يوم جائعا " اللهم يسر لكل منفق خلفا ولممسك تلفا " وثانيها: أنه يزداد كل يوم في جاهه وذكره الجميل، وميل القلوب إليه وسكون الناس إليه وذلك أفضل من المال مع أضداد هذه الأحوال وثالثها: أن الفقراء يعينونه بالدعوات الصالحة ورابعها: الأطماع تنقطع عنه فإنه متى اشتهر أنه متشمر لإصلاح مهمات الفقراء والضعفاء، فكل أحد يحترز عن منازعته، وكل ظالم، وكل طماع لا يجوز أخذ شيء من ماله، اللهم إلا نادرا، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا.
وأما إرباؤها في الآخرة فقد روى أبو هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب، ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة تصير مثل أحد " وتصديق ذلك بين في كتاب الله * (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) * (التوبة: 104) * (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) * (البقرة: 276) قال القفال رحمه الله تعالى: ونظير قوله * (يمحق الله الربا) * المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه
102

صلدا، ونظير قوله * (ويربي الصدقات) * المثل الذي ضربه الله بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.
أما قوله * (والله لا يحب كل كفار أثيم) * فاعلم أن الكفار فعال من الكفر، ومعناه من كان ذلك منه عادة، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا، فتقول: فلان فعال للخير أمار به، والأثيم فعيل بمعنى فاعل، وهو الآثم، وهو أيضا مبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام والتمادي فيه، وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحدا، وفيه وجه آخر وهو أن يكون الكفار راجعا إلى المستحيل والأثيم يكون راجعا إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم، فتكون الآية جامعة للفريقين.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلوة وآتوا الزكوة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
إعلم أن عادة الله في القرآن مطردة بأنه تعالى مهما ذكر وعيدا ذكر بعده وعدا فلما بالغ ههنا في وعيد المرابي أتبعه بهذا الوعد، وقد مضى تفسير هذه الآية في غير موضع، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج من قال بأن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان بهذه الآية فإنه قال: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * فعطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ومن الناس من أجاب عنه أليس أنه قال في هذه الآية * (وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) * مع أنه لا نزاع في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان تحت * (وعملوا الصالحات) * فكذا فيما ذكرتم، وأيضا قال تعالى: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) * (محمد: 34) وقال: * (الذين كفروا وكذبوا بآياتنا) * (البقرة: 239) (المائدة: 5، 10).
وللمستدل الأول أن يجيب عنه بأن الأصل حمل كل لفظة على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر، فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل.
المسألة الثانية: * (لهم أجرهم عند ربهم) * أقوى من قوله: على ربهم أجرهم لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد، فذاك النقد هناك حاضر متى شاء البائع أخذه، وقوله: أجرهم على ربهم.
103

يجري مجرى ما إذا باع بالنسيئة في الذمة، ولا شك أن الأول أفضل.
المسألة الثالثة: اختلفوا في قوله * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * فقال ابن عباس: لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من أحوال القيامة، ولا هم يحزنون بسبب ما تركوه في الدنيا، فإن المنتقل من حالة إلى حالة أخرى فوقها ربما يحزن على بعض ما فاته من الأحوال السالفة، وإن كان مغتبطا بالثانية لأجل إلفه وعادته، فبين تعالى أن هذا القدر من الغصة لا يلحق أهل الثواب والكرامة، وقال الأصم: لا خوف عليهم من عذاب يومئذ، ولا هم يحزنون بسبب أنه فاتهم النعيم الزائد الذي قد حصل لغيرهم من السعداء، لأنه لا منافسة في الآخرة، ولا هم يحزنون أيضا بسبب أنه لم يصدر منا في الدنيا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا مستحقين لثواب أزيد مما وجدناه وذلك لأن هذه الخواطر لا توجد في الآخرة.
المسألة الرابعة: في قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم) * إشكال هو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله وكما بلغت حاضت، ثم عند انقطاع حيضها ماتت، أو الرجل بلغ عارفا بالله، وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات، فهما بالاتفاق من أهل الثواب، فدل ذلك على أن استحقاق الأجر والثواب لا يتوقف على حصول الأعمال، وأيضا من مذهبنا أن الله تعالى قد يثيب المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال، وإذا كان كذلك، فكيف وقف الله هاهنا حصول الأجر على حصول الأعمال؟.
الجواب: أنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا، بل لأجل أن لكل واحد منهما أثرا في جلب الثواب، كما قال في ضد هذا * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) * (الفرقان: 68) ثم قال: * (ومن يفعل ذلك يلق آثاما) * (الفرقان: 68) ومعلوم أن من ادعى مع الله إلها آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر، ولكن الله جمع الزنا وقتل النفس على سبيل الاستحلال مع دعاء غير الله إلها لبيان أن كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة. (278)
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربوا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون * وإن كان ذو عسرة
104

فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون * واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: إعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف فقد كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم، فقال تعالى في هذه الآية * (وذروا ما بقي من الربا) * وبين به أن ذلك إذا كان عليهم ولم يقبض، فالزيادة تحرم، وليس لهم أن يأخذوا إلا رؤوس أموالهم، وإنما شدد تعالى في ذلك، لأن من انتظر مدة طويلة في حلول الأجل، ثم حضر الوقت وظن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له، فيحتاج في منعه عنه إلى تشديد عظيم، فقال: * (اتقوا الله) * واتقاؤه ما نهى عنه * (وذروا ما بقي من الربا) * يعني إن كنتم قد قبضتم شيئا فيعفو عنه، وإن لم تقبضوه، أو لم تقبضوا بعضه، فذلك الذي لم تقبضوه كلا كان، أو بعضا فإنه محرم قبضه.
واعلم أن هذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار إذا أسلموا، وذلك لأن ما مضى في وقت الكفر فإنه يبقى ولا ينقص، ولا يفسخ، وما لا يوجد منه شيء في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب، وإن كان النكاح وقع على محرم فقبضته المرأة فقد مضى، وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المهر المسمى هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه.
فإن قيل: كيف قال: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا) * ثم قال في آخره * (إن كنتم مؤمنين) *.
الجواب: من وجوه الأول: أن هذا مثل ما يقال: إن كنت أخا فأكرمني، معناه: إن من كان أخا أكرم أخاه والثاني: قيل: معناه إن كنتم مؤمنين قبله الثالث: إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان الرابع: يا أيها الذين آمنوا بلسانهم ذروا ما بقي من الربا ان
105

كنتم مؤمنين بقلوبكم.
المسألة الثانية: في سبب نزول الآية روايات:
الرواية الأولى: أنها خطاب لأهل مكة كانوا يرابون فلما أسلموا عند فتح مكة أمرهم الله تعالى أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة.
والرواية الثانية: قال مقاتل: إن الآية نزلت في أربعة أخوة من ثقيف: مسعود، وعبد يا ليل، وحبيب، وربيعة، بنو عمرو بن عمير الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف أسلم الأخوة، ثم طالبوا برباهم بني المغيرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثالثة: نزلت في العباس، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا أسلفا في التمر، فلما حضر الجداد قبضا بعضا، وزاد في الباقي فنزلت الآية، وهذا قول عطاء وعكرمة.
الرواية الرابعة: نزلت في العباس وخالد بن الوليد، وكانا يسلفان في الربا، وهو قول السدي.
المسألة الثالثة: قال القاضي: قوله * (إن كنتم مؤمنين) * كالدلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة وإنما يصير مؤمنا بالإطلاق إذا اجتنب كل الكبائر.
والجواب: لما دلت الدلائل الكثيرة المذكورة في تفسير قوله * (الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3) على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان كانت هذه الآية محمولة على كمال الإيمان وشرائعه، فكان التقدير: إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان، وهذا وإن كان تركا للظاهر لكنا ذهبنا إليه لتلك الدلائل.
ثم قال تعالى: * (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة * (فآذنوا) * مفتوحة الألف ممدودة مكسورة الذال على مثال * (فآمنوا) * والباقون * (فأذنوا) * بسكون الهمزة مفتوحة الذال مقصورة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن علي رضي الله عنه أنهما قرآ كذلك * (فآذنوا) * ممدودة، أي فاعلموا من قوله تعالى: * (فقل آذنتكم على سواء) * (الأنبياء: 109) ومفعول الإيذان محذوف في هذه الآية، والتقدير: فاعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله، وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضا قد علموا ذلك لكن ليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم، فهذه القراءة في البلاغة آكد، وقال أحمد بن يحيى: قراءة العامة من الاذن، أي كونوا على علم وإذن، وقرأ الحسن * (فأيقنوا) * وهو دليل لقراءة العامة.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن الخطاب بقوله * (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله) * خطاب
106

مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا، أو هو خطاب مع الكفار المستحلين للربا، الذين قالوا إنما البيع مثل الربا، قال القاضي: والاحتمال الأول أولى، لأن قوله * (فأذنوا) * خطاب مع قوم تقدم ذكرهم، وهم المخاطبون بقوله * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) * وذلك يدل على أن الخطاب مع المؤمنين.
فإن قيل: كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟
قلنا: هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل، كما جاء في الخبر " من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله " وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * (المائدة: 33) أصلا في قطع الطريق من المسلمين، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وفي سنة رسوله.
إذا عرفت هذا فنقول: في الجواب عن السؤال المذكور وجهان الأول: المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب والثاني: المراد نفس الحرب وفيه تفصيل، فنقول:
الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزيز والحبس إلى أن تظهر منه التوبة، وإن وقع ممن يكون له عسكر وشوكة، حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية وكما حارب أبو بكر رضي الله عنه ما نعي الزكاة، وكذا القوم لو اجتمعوا على ترك الأذان، وتترك دفن الموتى، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من عامل بالربا يستتاب فإن تاب وإلا ضرب عنقه.
والقول الثاني: في هذه الآية أن قوله * (فإن لم تفعلوا فأذنوا) * (البقرة: 279) خطاب للكفار، وأن معنى الآية * (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) * (البقرة: 278) معترفين بتحريم الربا * (فإن لم تفعلوا) * أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه * (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * ومن ذهب إلى هذا القول قال: إن فيه دليلا على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام كان كافرا، كما لو كفر بجميع شرائعه.
ثم قال تعالى: * (وإن تبتم) * والمعنى على القول الأول تبتم من معاملة الربا، وعلى القول الثاني من استحلال الربا * (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) * أي لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال، ولا تظلمون أي بنقصان رأس المال.
ثم قال تعالى: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * وفيه مسألتان:
107

المسألة الأولى: قال النحويون * (كان) * كلمة تستعمل على وجوه أحدها: أن تكون بمنزلة حدث ووقع، وذلك في قوله: قد كان الأمر، أي وجد، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر والثاني: أن يخلع منه معنى الحدث، فتبقى الكلمة مجردة للزمان، وحينئذ يحتاج إلى الخبر، وذلك كقوله: كان زيد ذاهبا.
واعلم أني حين كنت مقيما بخوارزم، وكان هناك جمع من أكابر الأدباء، أوردت عليهم إشكالا في هذا الباب فقلت: إنكم تقولون إن * (كان) * إذا كانت ناقصة إنها تكون فعلا وهذا محال، لأن الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان، فقولك * (كان) * يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي، وإذا أفاد هذا المعنى كانت تامة لا ناقصة، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلا كانت تامة لا ناقصة، وإن لم تكن تامة لم تكن فعلا البتة بل كانت حرفا، وأنتم تنكرون ذلك، فبقوا في هذا الإشكال زمانا طويلا، وصنفوا في الجواب عنه كتبا، وما أفلحوا فيه ثم انكشف لي فيه سر أذكره هاهنا وهو أن كان لا معنى له إلا حدث ووقع ووجد، إلا أن قولك وجد وحدث على قسمين أحدها: أن يكون المعنى: وجد وحدث الشيء كقولك: وجد الجوهر وحدث العرض والثاني: أن يكون المعنى: وجد وحدث موصوفية الشيء بالشيء، فإذا قلت: كان زيد عالما فمعناه حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم، والقسم الأول هو المسمى بكان التامة والقسم الثاني هو المسمى بالناقصة، وفي الحقيقة فالمفهوم من * (كان) * في الموضعين هو الحدوث والوقوع، إلا أن في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه، فلا جرم كان الاسم الواحد كافيا، والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافيا، بل لا بد فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر، وهذا من لطائف الأبحاث، فأما إن قلنا إنه فعل كان دالا على وقوع المصدر في الزمان الماضي، فحينئذ تكون تامة لا ناقصة، وإن قلنا: إنه ليس بفعل بل حرف فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل والأمر، وجميع خواص الأفعال، وإذا حمل الأمر على ما قلناه تبين أنه فعل وزال الإشكال بالكلية.
المفهوم الثالث: لكان يكون بمعنى صار، وأنشدوا:
بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا * الحزن قد كانت فراخا بيوضها
وعندي أن هذا اللفظ هاهنا محمول على ما ذكرناه، فإن معنى صار أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك، فيكون هنا بمعنى حدث ووقع، إلا أنه حدوث
108

مخصوص، وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى.
المفهوم الرابع: أن تكون زائدة وأنشدوا: سراة بني أبي بكر تسامى على كان المسومة الجياد
إذا عرفت هذه القاعدة فلنرجع إلى التفسير فنقول: في * (كان) * في هذه الآية وجهان الأول: أنها بمعنى وقع وحدث، والمعنى: وإن وجد ذو عسرة، ونظيره قوله * (إلا أن تكون تجارة حاضرة) * بالرفع على معنى: وإن وقعت تجارة حاضرة، ومقصود الآية إنما يصح على هذا اللفظ وذلك لأنه لو قيل: وإن كان ذا عسرة لكان المعنى: وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة، فتكون النظرة مقصورة عليه، وليس الأمر كذلك، لأن المشتري وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظرة إلى الميسرة الثاني: أنها ناقصة على حذف الخبر، تقديره وإن كان ذو عسرة غريما لكم، وقرأ عثمان * (ذا عسرة) * والتقدير: إن كان الغريم ذا عسرة، وقرئ * (ومن كان ذا عسرة) *.
المسألة الثانية: العسرة اسم من الأعسار، وهو تعذر الموجود من المال؛ يقال: أعسر الرجل، إذا صار إلى حالة العسرة، وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال.
ثم قال تعالى: * (فنظرة إلى ميسرة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية حذف، والتقدير: فالحكم أو فالأمر نظرة، أو فالذي تعاملونه نظرة.
المسألة الثانية: نظرة أي تأخير، والنظرة الاسم من الأنظار، وهو الإمهال، تقول: بعته الشيء بنظرة وبانظار، قال تعالى: * (قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين، إلى يوم الوقت المعلوم) * (الحجر: 36، 37، 38).
المسألة الثالثة: قرىء * (فنظرة) * بسكون الظاء، وقرأ عطاء * (فناظره) * أي فصاحب الحق أي منتظره، أو صاحب نظرته، على طريق النسب، كقولهم: مكان عاشب وباقل، أي ذو عشب وذو بقل، وعنه فناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة إلى الميسرة.
المسألة الرابعة: الميسرة مفعلة من اليسر واليسار، الذي هو ضد الأعسار، وهو تيسر الموجود من المال، ومنه يقال: أيسر الرجل فهو موسر، أي صار إلى اليسر، فالميسرة واليسر والميسور الغنى.
المسألة الخامسة: قرأ نافع * (ميسرة) * بضم السين والباقون بفتحها، وهما لغتان مشهورتان كالمقبرة، والمشرفة، والمشربة، والمسربة، والفتح أشهر اللغتين، لأنه جاء في كلامهم كثيرا.
109

المسألة السادسة: اختلفوا في أن حكم الأنظار مختص بالربا أو عام في الكل، فقال ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم: الآية في الربا، وذكر عن شريح أنه أمر بحبس أحد الخصمين فقيل: إنه معسر، فقال شريح: إنما ذلك في الربا، والله تعالى قال في كتابه * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * (النساء: 58) وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى: * (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * قالت الاخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا: بل نتوب إلى الله فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله، فرضوا برأس المال وطلبوا بني المغيرة بذلك، فشكا بنو المغيرة العسرة، وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا أن يؤخروهم، فأنزل الله تعالى: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) *.
القول الثاني: وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين: إنها عامة في كل دين، واحتجوا بما ذكرنا من أنه تعالى قال: * (وإن كان ذو عسرة) * ولم يقل: وإن كان ذا عسرة، ليكون الحكم عاما في كل المفسرين، قال القاضي: والقول الأول أرجح، لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة * (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) * من غير بخس ولا نقص، ثم قال في هذه الآية: وإن كان من عليه المال معسرا وجب إنظاره إلى وقت القدرة، لأن النظرة يراد بها التأخر، فلا بد من حق تقدم ذكره حتى يلزم التأخر، بل لما ثبت وجوب الإنظار في هذه بحكم النص، ثبت وجوبه في سائر الصور ضرورة الاشتراك في المعنى، وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به، وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم.
المسألة السابعة: إعلم أنه لا بد من تفسير الإعسار، فنقول: الإعسار هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه، ولا يكون له ما لو باعه لأمكنه أداء الدين من ثمنه، فلهذا قلنا: من وحد دارا وثيابا لا يعد في ذوي العسرة، إذا ما أمكنه بيعها وأداء ثمنها، ولا يجوز أن يحبس إلا قوت يوم لنفسه وعياله، وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع البرد والحر عنهم، واختلفوا إذا كان قويا هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدين أو غيره، فقال بعضهم: يلزمه ذلك، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ولعياله، وقال بعضهم: لا يلزمه ذلك، واختلفوا أيضا إذا كان معسرا، وقد بذل غيره ما يؤديه، هل يلزمه القبول والأداء أو لا يلزمه ذلك، فأما من له بضاعة كسدت عليه، فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلا ذلك، ويؤديه في الدين.
المسألة الثامنة: إذا علم الإنسان أن غريمه معسر جرم عليه حبسه، وأن يطالبه بما له عليه، فوجب الإنظار إلى وقت اليسار، فأما إن كانت له ريبة في إعساره فيجوز له أن يحبسه إلى وقت ظهور الإعسار،
110

واعلم أنه إذا ادعى الإعسار وكذبه للغريم، فهذا الدين الذي لزمه إما أن يكون عن عوض حصل له كالبيع والقرض، أو لا يكون كذلك، وفي القسم الأول لا بد من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك، وفي القسم الثاني وهو أن يثبت الدين عليه لا بعوض، مثل إتلاف أو صداق أو ضمان، كان القول قوله وعلى الغرماء البينة لأن الأصل هو الفقر.
ثم قال تعالى: * (وأن تصدقوا خير لكم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم * (تصدقوا) * بتخفيف الصاد والباقون بتشديدها، والأصل فيه: أن تتصدقوا بتاءين، فمن خفف حذف إحدى التاءين تخفيفا، ومن شدد أدغم إحدى التاءين في الأخرى.
المسألة الثانية: في التصدق قولان الأول: معناه: وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين إذ لا يصح التصدق به على غيره، وإنما جاز هذا الحذف للعلم به، لأنه قد جرى ذكر المعسر وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما، وهو كقوله * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (البقرة: 237) والثاني: أن المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام " لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة " وهذا القول ضعيف، لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة جديدة، ولأن قوله * (خير لكم) * لا يليق بالواجب بل بالمندوب.
المسألة الثالثة: المراد بالخير حصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة.
ثم قال: * (إن كنتم تعلمون) * وفيه وجوه الأول: معناه إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم إن عملتموه، فجعل العمل من لوازم العلم، وفيه تهديد شديد على العصاة والثاني: إن كنتم تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض والثالث: إن كنتم تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم.
ثم قال تعالى: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * إعلم أن هذه الآية في العظماء الذين كانوا يعاملون بالربا وكانوا أصحاب ثروة وجلال وأنصار وأعوان وكان قد يجري منهم التغلب على الناس بسبب ثروتهم، فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد وتهديد، حتى يمتنعوا عن الربا، وعن أخذ أموال الناس بالباطل، فلا جرم توعدهم الله بهذه الآية، وخوفهم على أعظم الوجوه، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: هذه الآية آخر أية نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنه عليه السلام لما حج نزلت * (يستفتونك) * (النساء: 127) وهي آية الكلالة، ثم نزل وهو واقف بعرفة
111

* (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) * (المائدة: 3) ثم نزل * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * (البقرة: 281) فقال جبريل عليه السلام: يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وثمانين يوما، وقيل: أحدا وعشرين وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات.
المسألة الثانية: قرأ أبو عمرو * (ترجعون) * بفتح التاء والباقون بضم التاء، واعلم أن الرجوع لازم، والرجع متعد، وعليه تخرج القراءتان.
المسألة الثالثة: انتصب * (يوما) * على المفعول به، لا على الظرف، لأنه ليس المعنى: واتقوا في هذا اليوم، لكن المعنى تأهبوا للقائه بما تقدمون من العمل الصالح، ومثله قوله * (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا) * (المزمل: 17) أي كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله.
المسألة الرابعة: قال القاضي: اليوم عبارة عن زمان مخصوص، وذلك لا يتقي، وإنما يتقي ما يحدث فيه من الشدة والأهوال واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلا في دار الدنيا بمجانبة المعاصي الواجبات، فصار قوله * (واتقوا يوما) * يتضمن الأمر بجميع أقسام التكاليف.
المسألة الخامسة: الرجوع إلى الله تعالى ليس، المراد منه ما يتعلق بالمكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى، وليس المراد منه الرجوع إلى علمه وحفظه، فإنه معهم أينما كانوا لكن كل ما في القرآن من قوله * (ترجعون إلى الله) * له معنيان الأول: أن الإنسان له أحوال ثلاثة على الترتيب.
فالحالة الأولى: كونهم في بطون أمهاتهم، ثم لا يملكون نفعهم ولا ضرهم، بل المتصرف فيهم ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
والحالة الثانية: كونهم بعد البروز عن بطون أمهاتهم، وهناك يكون المتكفل بإصلاح أحوالهم في أول الأمر الأبوين، ثم بعد ذلك يتصرف بعضهم في البعض في حكم الظاهر.
والحالة الثالثة: بعد الموت وهناك لا يكون المتصرف فيهم ظاهرا في الحقيقة إلا الله سبحانه، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا، فهذا هو معنى الرجوع إلى الله والثاني: أن يكون المراد يرجعون إلى ما أعد الله لهم من ثواب أو عقاب، وكلا التأويلين حسن مطابق للفظ.
ثم قال: * (ثم توفى كل نفس ما كسبت) * وفيه مسألتان:
112

المسألة الأولى: المراد أن كل مكلف فهو عند الرجوع إلى الله لا بد وأن يصل إليه جزاء عمله بالتمام، كما قال: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7، 8) وقال: * (إنها أن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله) * وقال: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) * (الأنبياء: 47) وفي تأويل قوله * (ما كسبت) * وجهان الأول: أن فيه حذفا والتقدير جزاء ما كسبت والثاني: أن المكتسب هو ذلك الجزاء، لأن ما يحصله الرجل بتجارته من المال فإنه يوصف في اللغة بأنه مكتسبه، فقوله * (توفى كل نفس ما كسبت) * أي توفى كل نفس مكتسبها، وهذا التأويل أولى، لأنه مهما أمكن تفسير الكلام بحيث لا يحتاج فيه إلى الإضمار كان أولى.
المسألة الثانية: الوعيدية يتمسكون بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق، وأصحابنا يتمسكون بها في القطع بعدم الخلود، لأنه لما آمن فلا بد وأن يصل ثواب الإيمان إليه، ولا يمكن ذلك إلا بأن يخرج من النار ويدخل الجنة.
ثم قال: * (وهم لا يظلمون) * وفيه سؤال وهو أن قوله * (توفى كل نفس ما كسبت) * لا معنى له إلا أنهم لا يظلمون، فكان ذلك تكريرا.
وجوابه: أنه تعالى لما قال: * (توفى كل نفس ما كسبت) * كان ذلك دليلا على إيصال العذاب إلى الفساق والكفار، فكان لقائل أن يقول: كيف يليق بكرم أكرم الأكرمين أن يعذب عبيده فأجاب عنه بقوله * (وهم لا يظلمون) * والمعنى أن العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره، وسهل عليه طريق الاستدلال، وأمهله فمن قصر فهو الذي أساء إلى نفسه، وهذا الجواب إنما يستقيم على أصول المعتزلة، وأما على أصول أصحابنا فهو أنه سبحانه مالك الخلق، والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلما، فكان قوله * (وهم لا يظلمون) * بعد ذكر الوعيد إشارة إلى ما ذكرناه.
الحكم الثالث: من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة آية المداينة.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب
113

بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) *.
إعلم أن في الآية مسائل:
114

المسألة الأولى: أن في كيفية النظم وجهين الأول: أن الله سبحانه لما ذكر قبل هذا الحكم نوعين من الحكم أحدهما: الإنفاق في سبيل الله وهو يوجب تنقيص المال والثاني: ترك الربا، وهو أيضا سبب لتنقيص المال، ثم إنه تعالى ختم ذينك الحكمين بالتهديد العظيم، فقال: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * والتقوى تسد على الإنسان أكثر أبواب المكاسب والمنافع أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والبوار فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله، وعلى ترك الربا،
وعلى ملازمة التقوى لا يتم ولا يكمل إلا عند حصول المال، ثم إنه تعال لأجل هذه الدقيقة بالغ في الوصية بحفظ المال الحلال عن وجوه التوي والتلف، وقد ورد نظيره في سورة النساء * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * (النساء: 5) فحث على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سببا لمصالح المعاش والمعاد، قال القفال رحمه الله تعالى: والذي يدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسط شديد، ألا ترى أنه قال: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * ثم قال ثانيا: * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * ثم قال ثالثا: * (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * فكان هذا كالتكرار لقوله * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * لأن العدل هو ما علمه الله، ثم قال رابعا: * (فليكتب) * وهذا إعادة الأمر الأول، ثم قال خامسا: * (وليملل الذي عليه الحق) * وفي قوله * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * كفاية عن قوله * (فليملل الذي عليه الحق) * لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادسا: * (وليتق الله ربه) * وهذا تأكيد، ثم قال سابعا: * (ولا يبخس منه شيئا) * فهذا كالمستفاد من قوله * (وليتق الله ربه) * ثم قال ثامنا: * (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) * وهو أيضا تأكيد لما مضى، ثم قال تاسعا: * (ذلكم أقسط عند الله وأقوم الشهادة وأدنى أن لا ترتابوا) * فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة، وكل ذلك يدل على أنه لما حث على ما يجري مجرى سبب تنقيص المال في الحكمين الأولين بالغ في هذا الحكم في الوصية بحفظ المال الحلال، وصونه عن الهلاك والبوار ليتمكن الإنسان بواسطته من الانفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخط الله من الربا وغيره، والمواظبة على تقوى الله فهذا هو الوجه الأول من وجوه النظم، وهو حسن لطيف.
والوجه الثاني: أن قوما من المفسرين قالوا: المراد بالمداينة السلم، فالله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم، ولهذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا
115

وضعه الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل ذلك اللذة طريقا حلالا وسبيلا مشروعا فهذا ما يتعلق بوجه النظم.
المسألة الثانية: التداين تفاعل من الدين، ومعناه داين بعضكم بعضا، وتداينتم تبايعتم بدين، قال أهل اللغة: القرض غير الدين، لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم، أو دنانير، أو حبا، أو تمرا، أو ما أشبه ذلك، ولا يجوز فيه الأجل والدين يجوز فيه الأجل، ويقال من الدين أدان إذا باع سلعته بثمن إلى أجل، ودان يدين إذا أقرض، ودان إذا استقرض وأنشد الأحمر:
ندين ويقضي الله عنا وقد نرى * مصارع قوم لا يدينون ضيقا
إذا عرفت هذا فنقول: في المراد بهذه المداينة أقوال: قال ابن عباس: أنها نزلت في السلف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث، فقال صلى الله عليه وسلم: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ثم أن الله تعالى عرف المكلفين وجه الاحتياط في الكيل والوزن والأجل، فقال: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) *.
والقول الثاني: أنه القرض وهو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل والدين المذكور في الآية قد اشترط فيه الأجل.
والقول الثالث: وهو قول أكثر المفسرين: أن البياعات على أربعة أوجه أحدها: بيع العين بالعين، وذلك ليس بمداينة البتة والثاني: بيع الدين بالدين وهو باطل، فلا يكون داخلا تحت هذه الآية، بقي هنا قسمان: بيع العين بالدين، وهو ما إذا باع شيئا بثمن مؤجل وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم، وكلاهما داخلان تحت هذه الآية، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: المداينة مفاعلة، وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين، وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالاتفاق.
والجواب: أن المراد من تداينتم تعاملتم، والتقدير: إذا تعاملتم بما فيه دين.
السؤال الثاني: قوله * (تداينتم) * يدل على الدين فما الفائدة بقوله * (بدين) *.
الجواب من وجوه الأول: قال ابن الأنباري: التداين يكون لمعنيين أحدهما: التداين بالمال، والآخر التداين بمعنى المجازاة، من قولهم: كما تدين تدان، والدين الجزاء، فذكر الله تعالى الدين لتخصيص أحد المعنيين الثاني: قال صاحب " الكشاف ": إنما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه
116

في قوله * (فاكتبوه) * إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم بذلك الحسن الثالث: أنه تعالى ذكره للتأكيد، كقوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * (الحجر: 30) (ص: 73) * (ولا طائر يطير بجناحيه) * (الأنعام: 38) الرابع: فإذا تداينتم أي دين كان صغيرا أو كبيرا، على أي وجه كان، من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل الخامس: ما خطر ببالي أنا ذكرنا أن المداينة مفاعلة، وذلك إنما يتناول بيع الدين بالدين وهو باطل، فلو قال: إذا تداينتم لبقي النص مقصورا على بيع الدين بالدين وهو باطل، أما لما قال: * (إذا تداينتم بدين) * كان المعنى: إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد، وحينئذ يخرج عن النص بيع الدين بالدين، ويبقى بيع العين بالدين، أو بيع الدين بالعين فإن الحاصل في كل واحد منهما دين واحد لا غير.
السؤال الثالث: المراد من الآية: كلما تداينتم بدين فاكتبوه، وكلمة * (إذا) * لا تفيد العموم فلم قال: * (تداينتم) * ولم يقل كلما تداينتم.
الجواب: أن كلمة * (إذا) * وإن كانت لا تقتضي العموم، إلا أنها لا تمنع من العموم وهاهنا قام الدليل على أن المراد هو العموم، لأنه تعالى بين العلة في الأمر بالكتبة في آخر الآية، وهو قوله * (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا) * والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدين ولم يكتب، فالظاهر أنه تنسى الكيفية، فربما توهم الزيادة، فطلب الزيادة وهو ظلم، وربما توهم النقصان فترك حقه من غير حمد ولا أجر، فأما إذا كتب كيفية الواقعة أمن من هذه المحذورات فلما دل النص
على أن هذا هو العلة، ثم إن هذه العلة قائمة في الكل، كان الحكم أيضا حاصلا في الكل.
أما قوله تعالى: * (إلى أجل مسمى) * ففيه سؤالان:
السؤال الأول: ما الأجل؟.
الجواب: الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأجل الدين لوقت معين في المستقبل، وأصله من التأخير، يقال: أجل الشيء يأجل أجولا إذا تأخر، والآجل نقيض العاجل.
السؤال الثاني: المداينة لا تكون إلا مؤجلة فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة؟.
الجواب: إنما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله * (مسمى) * والفائدة في قوله * (مسمى) * ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما، كالتوقيت بالسنة والشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد، أو
117

إلى الدياس، أو إلى قدوم الحاج، لم يجز لعدم التسمية.
أما قوله تعالى: * (فاكتبوه) * فاعلم أنه تعالى أمر في المداينة بأمرين أحدهما: الكتبة وهي قوله هاهنا * (فاكتبوه) * الثاني: الإشهاد وهو قوله * (فاستشهدوا شهيدين من رجالكم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: فائدة الكتبة والإشهاد أن ما يدخل فيه الأجل، تتأخر فيه المطالبة ويتخلله النسيان، ويدخل فيه الجحد، فصارت الكتابة كالسبب لحفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه قد قيد بالكتابة والإشهاد يحذر من طلب الزيادة، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك يحذر عن الجحود، ويأخذ قبل حلول الأجل في تحصيل المال، ليتمكن من أدائه وقت حلول الدين، فلما حصل في الكتابة والإشهاد هذه الفوائد لا جرم أمر الله به والله أعلم.
المسألة الثانية: القائلون بأن ظاهر الأمر للندب لا إشكال عليهم في هذه، وأما القائلون بأن ظاهره للوجوب فقد اختلفوا فيه، فقال قوم بالوجوب وهو مذهب عطاء، وابن جريج والنخعي واختيار محمد بن جرير الطبري، وقال النخعي يشهد ولو على دستة بقل، وقال آخرون: هذا الأمر محمول على الندب، وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين، والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد، وذلك إجماع على عدم وجوبهما، ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة " وقال قوم: بل كانت واجبة، إلا أن ذلك صار منسوخا بقوله * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته) * (البقرة: 283) وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم وابن عيينة، وقال التيمي: سألت الحسن عنها فقال: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد، ألا تسمع قوله تعالى: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * واعلم أنه تعالى لما أمر بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتبة شرطين:
الشرط الأول: أن يكون الكاتب عدلا وهو قوله * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * واعلم أن قوله تعالى: * (فاكتبوه) * ظاهره يقتضي أنه يجب على كل أحد أن يكتب، لكن ذلك غير ممكن، فقد لا يكون ذلك الإنسان كاتبا، فصار معنى قوله * (فاكتبوه) * أي لا بد من حصول هذه الكتبة، وهو كقوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء) * (المائدة: 38) فإن ظاهره وإن كان يقتضي خطاب الكل بهذا الفعل، إلا أنا علمنا أن المقصود منه أنه لا بد من حصول قطع اليد من إنسان واحد، إما الإمام أو نائبه أو المولى، فكذا هاهنا ثم تأكد هذا الذي قلناه بقوله تعالى: * (وليكتب بينكم كاتب
118

بالعدل) * فإن هذا يدل على أن المقصود حصول هذه الكتبة من أي شخص كان.
أما قوله * (بالعدل) * ففيه وجوه الأول: أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه، ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه الثاني: إذا كان فقيها وجب أن يكتب بحيث لا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر، بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه الثالث: قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متفقا عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلا إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين الرابع: أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها، وهذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيها عارفا بمذاهب المجتهدين، وأن يكون أديبا مميزا بين الألفاظ المتشابهة، ثم قال: * (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر هذا الكلام نهى لكل من كان كاتبا عن الامتناع عن الكتبة، وإيجاب الكتبة على كل من كان كاتبا، وفيه وجوه الأول: أن هذا على سبيل الارشاد إلى الأولى لا على سبيل الإيجاب، والمعنى أن الله تعالى لما علمه الكتبة، وشرفه بمعرفة الأحكام الشرعية، فالأولى أن يكتب تحصيلا لمهم أخيه المسلم شكرا لتلك النعمة، وهو كقوله تعالى: * (وأحسن كما أحسن الله إليك) * (القصص: 77) فإنه ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها.
والقول الثاني: وهو قول الشعبي: أنه فرض كفاية، فإن لم يجد أحدا يكتب إلا ذلك الواحد وجب الكتبة عليه، فإن وجد أقواما كان الواجب على واحد منهم أن يكتب.
والقول الثالث: أن هذا كان واجبا على الكاتب، ثم نسخ بقوله تعالى: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) *.
والقول الرابع: أن متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله، يعني أن بتقدير أن يكتب فالواجب أن يكتب على ما علمه الله، وأن لا يخل بشرط من الشرائط، ولا يدرج فيه قيدا يخل بمقصود الإنسان، وذلك لأنه لو كتبه من غير مراعاة هذه الشروط اختل مقصود الإنسان، وضاع ماله، فكأنه قيل له: إن كنت تكتب فاكتبه عن العدل، واعتبار كل الشرائط التي اعتبرها الله تعالى.
المسألة الثانية: قوله * (كما علمه الله) * فيه احتمالان الأول: أن يكون متعلقا بما قبله، ولا يأب كاتب عن الكتابة التي علمه الله إياها، ولا ينبغي أن يكتب غير الكتابة
التي علمه الله إياها ثم قال بعد ذلك: فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها.
119

والاحتمال الثاني: أن يكون متعلقا بما بعده، والتقدير: ولا يأب كاتب أن يكتب، وهاهنا تم الكلام، ثم قال بعده * (كما علمه الله فليكتب) * فيكون الأول أمرا بالكتابة مطلقا ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إياها، والوجهان ذكرهما الزجاج.
الشرط الثاني في الكتابة: قوله تعالى: * (وليملل الذي عليه الحق) * وفيه مسألتان؛
المسألة الأولى: أن الكتابة وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشروط والسجلات لكن ذلك لا يتم إلا بإملاء من عليه الحق فليدخل في جملة إملائه اعترافه بما عليه من الحق في قدره وجنسه وصفته وأجله إلى غير ذلك، فلأجل ذلك قال تعالى: * (وليملل الذي عليه الحق) *.
المسألة الثانية: الأملال والإملاء لغتان، قال الفراء: أمللت عليه الكتاب لغة أهل الحجاز وبني أسد، وأمليت لغة تميم وقيس، ونزل القرآن باللغتين قال تعالى في اللغة الثانية * (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) * (الفرقان: 5).
ثم قال: * (وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا) * وهذا أمر لهذا المملى الذي عليه الحق بأن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئا.
ثم قال تعالى: * (وإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) * والمعنى أن من عليه الدين إذا لم يكن إقراره معتبرا فالمعتبر هو إقرار وليه.
ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: إدخال حرف * (أو) * بين هذه الألفاظ الثلاثة، أعني السفيه، والضعيف، ومن لا يستطيع أن يمل يقتضي كونها أمورا متغايرة، لأن معناه أن الذي عليه الحق إذا كان موصوفا بإحدى هذه الصفات الثلاث فليملل وليه بالعدل، فيجب في الثلاثة أن تكون متغايرة، وإذا ثبت هذا وجب حمل السفيه على الضعيف الرأي ناقص العقل من البالغين، والضعيف على الصغير والمجنون والشيخ الخرف، وهم الذين فقدوا العقل بالكلية، والذي لا يستطيع لأن يمل من يضعف لسانه عن الإملاء لخرس، أو جهله بماله وما عليه، فكل هؤلاء لا يصح منهم الإملاء والإقرار، فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم، فقال تعالى: * (فليملل وليه بالعدل) * والمراد ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة، لأن ولي المحجور السفيه، وولي الصبي: هو الذي يقر عليه بالدين، كما يقرب بسائر أموره، وهذا هو القول الصحيح، وقال ابن عباس ومقاتل والربيع: المراد بوليه ولي الدين يعني أن الذي له الدين يملي وهذا بعيد، لأنه كيف يقبل قول المدعي، وإن كان قوله معتبرا، فأي حاجة بنا إلى الكتابة والإشهاد.
120

النوع الثاني: من الأمور التي اعتبرها الله تعالى في المداينة الإشهاد، وهو قوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * واعلم أن المقصود من الكتابة هو الاستشهاد لكي يتمكن بالشهود عند الجحود من التوصل إلى تحصيل الحق، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: * (استشهدوا) * أي أشهدوا يقال: أشهدت الرجل واستشهدته، بمعنى: والشهيدان هما الشاهدان، فعيل بمعنى فاعل.
المسألة الثانية: الإضافة في قوله * (من رجالكم) * فيه وجوه الأول: يعني من أهل ملتكم وهم المسلمون والثاني: قال بعضهم: يعني الأحرار والثالث: * (من رجالكم) * الذين تعتدونهم للشهادة بسبب العدالة. المسألة الثالثة: شرائط الشهادة كثيرة مذكورة في كتب الفقه، ونذكر هاهنا مسألة واحدة وهي أن عند شريح وابن سيرين وأحمد تجوز شهادة العبد، وعند الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما لا تجوز، حجة شريح أن قوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * عام يتناول العبيد وغيرهم، والمعنى المستفاد من النص أيضا دال عليه، وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب، فإذا شهد عند اجتماع هذه الشرائط تأكد به قول المدعي، فصار ذلك سببا في إحياء حقه، والعقل والدين والعدالة لا تختلف بسبب الحرية والرق، فوجب أن تكون شهادة العبيد مقبولة، حجة الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما قوله تعالى: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * فهذا يقتضي أنه يجب على كل من كان شاهدا الذهاب إلى موضع أداء الشهادة، ويحرم عليه عدم الذهاب إلى أداء الشهادة، فلما دلت الآية على أن كل من كان شاهدا وجب عليه الذهاب والإجماع دل على أن العبد لا يجب عليه الذهاب، فوجب أن لا يكون العبد شاهدا، وهذا الاستدلال حسن.
وأما قوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * فقد بينا أن منهم من قال: واستشهدوا شهيدين من رجالكم الذين تعتدونهم لأداء الشهادة، وعلى هذا التقدير فلم قلتم أن العبيد كذلك.
ثم قال تعالى: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * وفي ارتفاع رجل وامرأتان أربعة أوجه الأول: فليكن رجل وامرأتان والثاني: فليشهد رجل وامرأتان والثالث: فالشاهد رجل وامرأتان والرابع: فرجل وامرأتان يشهدون كل هذه التقديرات جائز حسن، ذكرها علي بن عيسى رحمه الله.
ثم قال: * (ممن ترضون من الشهداء) * وهو كقوله تعالى في الطلاق * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * (الطلاق: 2) واعلم أن هذه الآية تدل على أنه ليس كل أحد صالحا للشهادة والفقهاء قالوا: شرائط قبول الشهادة
121

عشرة أن يكون حرا بالغا مسلما عدلا عالما بما شهد به ولم يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع بها مضرة عن نفسه، ولا يكون معروفا بكثرة الغلط، ولا بترك المروءة، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة.
ثم قال: * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) * والمعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن واجتماع المرأتين على النسيان أبعد
في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى أن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى فهذا هو المقصود من الآية ثم فيها مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة * (إن تضل) * بكسر إن * (فتذكر) * بالرفع والتشديد، ومعناه: الجزاء موضع * (تضل) * جزم إلا أنه لا يتبين في التضعيف * (فتذكر) * رفع لأن ما بعد الجزاء مبتدأ وأما سائر القراء فقرؤا بنصب * (أن) * وفيه وجهان أحدهما: التقدير: لأن تضل، فحذف منه الخافض والثاني: على أنه مفعول له، أي إرادة أن تضل.
فإن قيل: كيف يصح هذا الكلام والإشهاد للاذكار لا الإضلال.
قلنا: هاهنا غرضان أحدهما: حصول الإشهاد، وذلك لا يأتي إلا بتذكير إحدى المرأتين الثانية والثاني: بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية، وذلك لا يأتي إلا في ضلال إحدى المرأتين، فإذا كان كل واحد من هذين الأمرين أعني الإشهاد، وبيان فضل الرجل على المرأة مقصودا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بضلال إحداهما وتذكر الأخرى، لا جرم صار هذان الأمران مطلوبين، هذا ما خطر ببالي من الجواب عن هذا السؤال وقت كتبه هذا الموضع وللنحويين أجوبة أخرى ما استحسنتها والكتب مشتملة عليها، والله أعلم.
المسألة الثانية: الضلال في قوله * (أن تضل إحداهما) * فيه وجهان أحدهما: أنه بمعنى النسيان، قال تعالى: * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * أي ذهب عنهم الثاني: أن يكون ذلك من ضل في الطريق إذا لم يهتد له، والوجهان متقاربان، وقال أبو عمرو: أصل الضلال في اللغة الغيبوبة.
المسألة الثالثة: قرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي * (فتذكر) * بالتشديد والنصب، وقرأ حمزة بالتشديد والرفع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب، وهما لغتان ذكر وأذكر نحو نزل وأنزل، والتشديد أكثر استعمالا، قال تعالى: * (فذكر إنما أنت مذكر) * (الغاشية: 21) ومن قرأ بالتخفيف
122

فقد جعل الفعل متعديا بهمزة الأفعال، وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان إلا ما يروى عن سفيان بن عيينة أنه قال في قوله * (فتذكر إحداهما الأخرى) * أن تجعلها ذكرا يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد، وهذا الوجه منقول عن أبي عمرو بن العلاء، قال: إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها، لأنهما يقومان مقام رجل واحد وهذا الوجه باطل باتفاق عامة المفسرين، ويدل على ضعفه وجهان الأول: أن النساء لو بلغن ما بلغن، ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن، فإذا كان كذلك فالمرأة الثانية ما ذكرت الأولى.
الوجه الثاني: أن قوله * (فتذكر) * مقابل لما قبله من قوله * (أن تضل إحداهما) * فلما كان الضلال مفسر بالنسيان كان الإذكار مفسرا بما يقابل النسيان.
ثم قال تعالى: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية وجوه الأول: وهو الأصح: أنه نهى الشاهد عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها والثاني: أن المراد تحمل الشهادة على الإطلاق، وهو قول قتادة واختيار القفال، قال: كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة، كذلك أمر الشاهد أن لا يأبى عن تحمل الشهادة، لأن كل واحد منهما يتعلق بالآخر، وفي عدمهما ضياع الحقوق الثالث: أن المراد تحمل الشهادة إذا لم يوجد غيره الرابع: وهو قول الزجاج: أن المراد بمجموع الأمرين التحمل أولا، والأداء ثانيا، واحتج القائلون بالقول الأول من وجوه الأول: أن قوله * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * يقتضي تقديم كونهم شهداء، وذلك لا يصح إلا عند أداء الشهادة، فأما وقت التحمل فإنه لم يتقدم ذلك الوقت كونهم شهداء.
فإن قيل: يشكل هذا بقوله * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * وكذلك سماه كاتبا قبل أن يكتب.
قلنا: الدليل الذي ذكرناه صار متروكا بالضرورة في هذه الآية فلا يجوز أن نتركه لعلة ضرورة في تلك الآية والثاني: أن ظاهر قوله * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * النهي عن الامتناع، والأمر بالفعل، وذلك للوجوب في حق الكل، ومعلوم أن التحمل غير واجب على الكل، فلم يجز حمله عليه، وأما الأداء بعد التحمل فإنه واجب على الكل، ومتأكد بقوله تعالى: * (ولا تكتموا الشهادة) * فكان هذا أولى الثالث: أن الأمر بالإشهاد يفيد أمر الشاهد بالتحمل من بعض الوجوه، فصار الأمر بتحمل الشهادة داخلا في قوله * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * فكان صرف قوله * (ولا
123

يأب الشهداء إذا ما دعوا) * إلى الأمر بالأداء حملا له على فائدة جديدة، فكان ذلك أولى، فقد ظهر بما ذكرنا دلالة الآية على أنه يجب على الشاهد أن لا يمتنع من إقامة الشهادة إذا دعي إليها.
واعلم أن الشاهد إما أن يكون متعينا، وإما أن يكون فيهم كثرة، فإن كان متعينا وجب عليه أداء الشهادة، وإن كان فيهم كثرة صار ذلك فرضا على الكفاية.
المسألة الثانية: قد شرحنا دلالة هذه الآية على أن العبد لا يجوز أن يكون شاهدا فلا نعيده الثالثة: قال الشافعي رضي الله عنه: يجوز القضاء بالشاهد واليمين، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يجوز، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال: إن الله تعالى أوجب عند عدم شهادة رجلين شهادة الرجل والمرأتين على التعيين، فلو جوزنا الاكتفاء بالشاهد واليمين لبطل ذلك التعيين، وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين، وتمام الكلام فيه مذكور في خلافيات الفقه.
واعلم أنه تعالى لما أمر عند المداينة بالكتبة أولا، ثم بالإشهاد ثانيا، أعاد ذلك مرة أخرى على سبيل التأكيد، فأمر بالكتبة، فقال: * (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: السآمة الملال والضجر، يقال: سئمت الشيء سأما وسآمة، والمقصود من الآية البعث على الكتابة قل المال أو كثر، فإن القليل من المال في هذا الاحتياط كالكثير، فإن النزاع الحاصل بسبب القليل من المال ربما أدى إلى فساد عظيم ولجاج شديد، فأمر تعالى في الكثير والقليل بالكتابة، فقال: * (ولا تسأموا) *
أي ولا تملوا فتتركوا ثم تندموا.
فإن قيل: فهل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر؟.
قلنا: لا لأن هذا محمول على العادة، ليس في العادة أن يكتبوا التافه.
المسألة الثانية: * (أن) * في محل النصب لوجهين: إن شئت جعلته مع الفعل مصدرا فتقديره: ولا تسأموا كتابته، وإن شئت بنزع الخافض تقديره: ولا تسأموا من أن تكتبوه إلى أجله.
المسألة الثالثة: الضمير في قوله * (أن تكتبوه) * لا بد وأن يعود إلى المذكور سابقا، وهو هاهنا إما الدين وإما الحق.
المسألة الرابعة: قرىء * (ولا يسأموا أن يكتبوه) * بالياء فيهما.
ثم قال تعالى: * (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا) * اعلم أن الله تعالى
124

بين أن الكتبة مشتملة على هذه الفوائد الثلاث:
الفائدة الأولى: قوله * (ذلكم أقسط عن الله) * وفي قوله * (ذلكم) * وجهان الأول: أنه إشارة إلى قوله * (أن تكتبوه) * لأنه في معنى المصدر، أي ذلك الكتب أقسط والثاني: قال القفال رحمه الله: ذلكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد لأهل الرضا ومعنى * (أقسط عند الله) * أعدل عند الله، والقسط اسم، والإقساط مصدر، يقال: أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطا إذا عدل فهو مقسط، قال تعالى: * (إن الله يحب المقسطين) * (الممتحنة: 8) (الحجرات: 9) ويقال: هو قاسط إذا جار، قال تعالى: * (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) * (الجن: 15) وإنما كان هذا أعدل عند الله، لأنه إذا كان مكتوبا كان إلى اليقين والصدق أقرب، وعن الجهل والكذب أبعد، فكان أعدل عند الله وهو كقوله تعالى: * (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) * (الأحزاب: 5) أي أعدل عند الله، وأقرب إلى الحقيقة من أن تنسبوهم إلى غير آبائهم.
والفائدة الثانية: قوله * (أقوم للشهادة) * معنى * (أقوم) * أبلغ في الاستقامة، التي هي ضد الاعوجاج، وذلك لأن المنتصب القائم، ضد المنحني المعوج.
فإن قيل: مم بنى أفعل التفضيل؟ أعني: أقسط وأقوم.
قلنا: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام، ويجوز أن يكون أقسط من قاسط، وأقوم من قويم.
واعلم أن الكتابة إنما كانت أقوم للشهادة، لأنها سبب للحفظ والذكر، فكانت أقرب إلى الاستقامة، والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى: تتعلق بتحصيل مرضاة الله تعالى، والثانية: بتحصيل مصلحة الدنيا، وإنما قدمت الأولى على الثانية إشعارا بأن الدين يجب تقديمه على الدنيا.
والفائدة الثالثة: هي قوله * (وأدنى أن لا ترتابوا) * يعني أقرب إلى زوال الشك والارتياب عن قلوب المتداينين، والفرق بين الوجهين الأولين، وهذا الثالث الوجهين الأولين يشيران إلى تحصيل المصلحة، فالأول: إشارة إلى تحصيل مصلحة الدين، والثاني: إشارة إلى تحصيل مصلحة الدنيا وهذا الثالث: إشارة إلى دفع الضرر عن النفس وعن الغير، أما عن النفس فإنه لا يبقى في الفكر أن هذا الأمر كيف كان، وهذا الذي قلت هل كان صدقا أو كذبا، وأما دفع الضر عن الغير فلأن ذلك الغير ربما نسبه إلى الكذب والتقصير فيقع في عقاب الغيبة والبهتان، فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في القسط، وما أحسن ما فيها من الترتيب.
ثم قال تعالى: * (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: * (إلا) * فيه وجهان أحدهما: أنه استثناء متصل والثاني: أنه منقطع، أما
125

الأول ففيه وجهان الأول: أنه راجع إلى قوله تعالى: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * وذلك لأن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب، وقد يكون إلى أجل بعيد، فلما أمر بالكتبة عند المداينة، استثنى عنها ما إذا كان الأجل قريبا، والتقدير: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن يكون الأجل قريبا، وهو المراد من التجارة الحاضرة والثاني: أن هذا استثناء من قوله * (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا) * وأما الاحتمال الثاني، وهو أن يكون هذا استثناء منقطعا فالتقدير: لكنه إذا كانت التجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها، فهذا يكون كلاما مستأنفا، وإنما رخص تعالى في ترك الكتبة والإشهاد في هذا النوع من التجارة، لكثرة ما يجري بين الناس، فلو تكلف فيها الكتبة والإشهاد لشق الأمر على الخلق، ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتعاملين حقه من صاحبه في ذلك المجلس، لم يكن هناك خوف التجاحد، فلم يكن هناك حاجة إلى الكتبة والإشهاد.
المسألة الثانية: قوله * (أن تكون) * فيه قولان أحدهما: أنه من الكون بمعنى الحدوث والوقوع كما ذكرناه في قوله * (وإن كان ذو عسرة) * والثاني: قال الفراء: إن شئت جعلت * (كان) * ههنا ناقصة على أن الاسم تجارة حاضرة، والخبر تديرونها، والتقدير: إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم.
المسألة الثالثة: قرأ عاصم * (تجارة) * بالنصب، والباقون بالرفع، أما القراءة بالنصب فعلى أنه خبر كان، ولا بد فيه من إضمار الاسم، وفيه وجوه أحدها: التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كتبة الكتاب، ومنه قول الشاعر:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوما ذا كواكب أشهبا
أي إذا كان اليوم وثانيها: أن يكون التقدير: إلا أن يكون الأمر والشأن تجارة وثالثها: قال الزجاج: التقدير إلا أن تكون المداينة تجارة حاضر، قال أبو علي الفارسي: هذا غير جائز لأن المداينة لا تكون تجارة حاضرة، ويمكن أن يجاب عنه بأن المداين إذا كانت إلى أجل ساعة، صح تسميتها بالتجارة الحاضرة، فإن من باع ثوبا بدرهم
في الذمة بشرط أن تؤدي الدرهم في هذه الساعة كان ذلك مداينة وتجارة حاضرة، وأما القراءة بالرفع، فالوجه فيها ما ذكرناه في المسألة الثانية والله أعلم.
المسألة الرابعة: التجارة عبارة عن التصرف في المال سواء كان حاضرا أو في الذمة لطلب الربح، يقال: تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر، واعلم أنه سواء كانت المبايعة بدين أو بعين،
126

فالتجارة تجارة حاضرة، فقوله * (إلا أن تكون تجارة حاضرة) * لا يمكن حمله على ظاهره، بل المراد من التجارة ما يتجر فيه من الإبدال، ألا ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يدا بيد، ثم قال: * (فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها) * (البقرة: 282) معناه: لا مضرة عليكم في ترك الكتابة، ولم يرد الإثم عليكم لأنه لو أراد الإثم لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم، ويأثم صاحب الحق بتركها، وقد ثبت خلاف ذلك وبيان أنه لا مضرة عليهم في تركها ما قدمناه.
ثم قال تعالى: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * وأكثر المفسرين قالوا: المراد أن الكتابة وإن رفعت عنهم في التجارة إلا أن الاشهاد ما رفع عنهم، لأن الإشهاد بلا كتابة أخف مؤنة، ولأن الحاجة إذا وقعت إليها لا يخاف فيها النسيان.
واعلم أنه لا شك أن المقصود من هذا الأمر الإرشاد إلى طريق الاحتياط. ثم قال تعالى: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * واعلم أنه يحتمل أن يكون هذا نهيا للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق، أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط، وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع، ويحتمل أن يكون نهيا لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد، بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما والأول: قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة، والثاني: قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد.
واعلم أن كلا الوجهين جائز في اللغة، وإنما احتمل الوجهين بسبب الإدغام الواقع في * (لا يضار) * أحدهما: أن يكون أصله لا يضارر، بكسر الراء الأولى، فيكون الكاتب والشهيد هما الفاعلان للضرار والثاني: أن يكون أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى، فيكون هما المفعول بهما الضرار ونظير هذه الآية التي تقدمت في هذه السورة، وهو قوله * (لا تضار والدة بولدها) * وقد أحكمنا بيان هذا اللفظ هناك، والدليل على ما ذكرنا من احتمال الوجهين قراءة عمر رضي الله عنه * (ولا يضارر) * بالإظهار والكسر، وقراءة ابن عباس * (ولا يضارر) * بالإظهار والفتح، واختار الزجاج القول الأول، واحتج عليه بقوله تعالى بعد ذلك * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم قال: وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أضر الكاتب والشهيد، ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشهادة * (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * (البقرة: 283) والإثم والفاسق متقاربان، واحتج من نصر القول الثاني بأن هذا لو كان خطابا للكاتب والشهيد لقيل: وإن تفعلا فإنه فسوق بكم، وإذا كان هذا خطابا للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم والله أعلم.
127

ثم قال: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * وفيه وجهان أحدهما: يحتمل أنه يحمل على هذا الموضع خاصة والمعنى: فإن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار والثاني: أنه عام في جميع التكليف، والمعنى: وإن تفعلوا شيئا مما نهيتكم عنه أو تتركوا شيئا مما أمرتكم به فإنه فسوق بكم، أي خروج عن أمر الله تعالى وطاعته.
ثم قال تعالى: * (واتقوا الله) * يعني فيما حذر منه هاهنا، وهو المضارة، أو يكون عاما، والمعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه.
ثم قال: * (ويعلمكم الله) * والمعنى: أنه يعلمكم ما يكون إرشادا واحتياطا في أمر الدنيا، كما يعلمكم ما يكون إرشادا في أمر الدين * (والله بكل شيء عليم) * إشارة إلى كونه سبحانه وتعالى عالما بجميع مصالح الدنيا والآخرة.
قوله تعالى
* (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه والله بما تعملون عليم) *.
إعلم أنه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام: بيع بكتاب وشهود، وبيع برهان مقبوضة، وبيع الأمانة، ولما أمر في آخر الآية المتقدمة بالكتبة والإشهاد، واعلم أنه ربما تعذر ذلك في السفر إما بأن لا يوجد الكاتب، أو إن وجد لكنه لا توجد آلات الكتابة ذكر نوعا آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرهن فهذا وجه النظم وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتبة والإشهاد ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكرنا اشتقاق في السفر في قوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 184) ونعيده هاهنا قال أهل اللغة: تركيب هذه الحروف للظهور والكشف فالسفر هو الكتاب، لأنه يبين الشيء ويوضحه، وسمي السفر سفرا، لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، أي
128

يكشف، أو لأنه لما خرج من الكن إلى الصحراء فقد انكشف للناس، أو لأنه لما خرج إلى الصحراء، فقد صارت أرض البيت منكشفة خالية، وأسفر الصبح إذا ظهر، وأسفرت المرأة عن وجهها، أي كشفت وسفرت عن القوم أسفر سفارة إذا كشفت ما في قلوبهم، وسفرت أسفر إذا كنست، والسفر الكنس، وذلك لأنك إذا كنست، فقد أظهرت ما كان تحت الغبار والسفر من الورق ما سفر به الريح، ويقال لبقية بياض النهار بعد مغيب الشمس سفر لوضوحه والله أعلم.
المسألة الثانية: أصل الرهن من الدوام، يقال: رهن الشيء إذا دام وثبت، ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة.
إذا عرفت أصل المعنى فنقول: أصل الرهن مصدر. يقال: رهنت عند الرجل أرهنه رهنا إذا وضعت عنده، قال الشاعر: يراهنني فيرهنني بنيه * وأرهنه بني بما أقول
إذا عرفت هذا فنقول: إن المصادر قد تنقل فتجعل أسماء ويزول عنها عمل الفعل، فإذا قال: رهنت عند زيد رهنا لم يكن انتصابه انتصاب المصدر، لكن انتصاب
المفعول به كما تقول: رهنت عند زيد ثوبا، ولما جعل اسما بهذا الطريق جمع كما تجعل الأسماء وله جمعان: رهن ورهان، ومما جاء على رهن قول الأعشى: آليت لا أعطيه من أبنائنا * رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا
وقال بعيث:
بانت سعاد وأمسى دونها عدن * وغلقت عندها من قبلك الرهن
ونظيره قولنا: رهن ورهن، سقف وسقف، ونشر ونشر، وخلق وخلق، قال الزجاج: فعل وفعلى قليل، وزعم الفراء أن الرهن جمعه رهان، ثم الرهان جمعه رهن فيكون رهن جمع الجمع وهو كقولهم ثمار وثمر، ومن الناس من عكس هذا فقال: الرهن جمعه رهن، والرهن جمعه رهان، واعلم أنهما لما تعارضا تساقطا لا سيما وسيبويه لا يرى جمع الجمع مطردا، فوجب أن لا يقال به إلا عند الاتفاق، وأما أن الرهان جمع رهن فهو قياس ظاهر، مثل نعل ونعال، وكبش وكباش وكعب وكعاب، وكلب وكلاب.
المسألة الثالثة: قرأ ابن كثير أبو عمرو * (فرهن) * بضم الراء والهاء، وروي عنهما أيضا * (فرهن) * برفع الراء وإسكان الهاء والباقون * (فرهان) * قال أبو عمرو: لا أعرف الرهان إلا في الخيل، فقرأت
129

* (فرهن) * للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع الرهن، وأما قراءة أبي عمرو بضم الراء وسكون الهاء، فقال الأخفش: إنها قبيحة لأن فعلا لا يجمع على فعل إلا قليلا شاذا كما يقال: سقف وسقف تارة بضم القاف وأخرى بتسكينها، وقلب للنخل ولحد ولحد وبسط وبسط وفرس ورد، وخيل ورد.
المسألة الرابعة: في الآية حذف فإن شئنا جعلناه مبتدأ وأضمرنا الخبر، والتقدير: فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين، أو ما يقوم مقامهما، أو فعليه رهن مقبوضة، وإن شئنا جعلناه خبرا وأضمرنا المبتدأ، والتقدير: فالوثيقة رهن مقبوضة.
المسألة الخامسة: اتفقت الفقهاء اليوم على أن الرهن في السفر والحضر سواء في حال وجود الكاتب وعدمه، وكان مجاهد يذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر أخذا بظاهر الآية، ولا يعمل بقوله اليوم وإنما تقيدت الآية بذكر السفر على سبيل الغالب، كقوله * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) * (النساء: 101) وليس الخوف من شرط جواز القصر.
المسألة السادسة: مسائل الرهن كثيرة، واحتج من قال بأن رهن المشاع لا يجوز بأن الآية دلت على أن الرهن يجب أن يكون مقبوضا والعقل أيضا يدل عليه لأن المقصود من الرهن استيثاق جانب صاحب الحق بمنع الجحود، وذلك لا يحصل إلا بالقبض والمشاع لا يمكن أن يكون مقبوضا فوجب ألا يصح رهن المشاع.
ثم قال تعالى: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * واعلم أن هذا هو القسم الثالث من البياعات المذكورة في الآية، وهو بيع الأمانة، أعني ما لا يكون فيه كتابة ولا شهود ولا يكون فيه رهن، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أمن فلان غيره إذا لم يكن خائفا منه، قال تعالى: * (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه) * (يوسف: 64) فقوله * (فإن أمن بعضكم بعضا) * أي لم يخف خيانته وجحوده * (فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * أي فليؤد المديون الذي كان أمينا ومؤتمنا في ظن الدائن، فلا يخلف ظنه في أداء أمانته وحقه إليه، يقال: أمنته وائتمنته فهو مأمون ومؤتمن.
ثم قال: * (وليتق الله ربه) * أي هذا المديون يجب أن يتقي الله ولا يجحد، لأن الدائن لما عامله المعاملة الحسنة حيث عول على أمانته ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة والإشهاد والرهن فينبغي لهذا المديون أن يتقي الله ويعامله بالمعاملة الحسنة في أن لا ينكر ذلك الحق، وفي أن يؤديه إليه عند حلول الأجل، وفي الآية قول آخر، وهو أنه خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال
130

فإنه أمانة في يده، والوجه هو الأول.
المسألة الثانية: من الناس من قال: هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن، واعلم أن التزام وقوع النسخ من غير دليل يلجئ إليه خطأ، بل تلك الأوامر محمولة على الإرشاد ورعاية الاحتياط، وهذه الآية محمولة على الرخصة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس في آية المداينة نسخ، ثم قال: * (ولا تكتموا الشهاد) * وفي التأويل وجوه:
الوجه الأول: قال القفال رحمه الله: إنه تعالى لما أباح ترك الكتابة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أمينا، ثم كان من الجائز في هذا المديون أن يخلف هذا الظن، وأن يخرج خائنا جاحدا للحق، إلا أنه من الجائز أن يكون بعض الناس مطلعا على أحوالهم، فههنا ندب الله تعالى ذلك الإنسان إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمان تلك الشهادة سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة، أو لم يعرف وشدد فيه بأن جعله آثم القلب لو تركها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يدل على صحة هذا التأويل، وهو قوله " خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد ".
الوجه الثاني: في تأويل أن يكون المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة، ونظيره قوله تعالى: * (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) * (البقرة: 140) والمراد الجحود وإنكار العلم.
الوجه الثالث: في كتمان الشهادة والامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها، وقد تقدم ذلك في قوله * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * (البقرة: 282) وذلك لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة فقد بطل حقه، وكان هو بالامتناع من الشهادة كالمبطل لحقه، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه، فهذا بالغ في الوعيد.
ثم قال: * (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الآثم الفاجر، روي أن عمر كان يعلم أعرابيا * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) * (الدخان: 43، 44) فكان يقول: طعام اليتيم، فقال له عمر: طعام الفاجر. فهذا يدل على أن الآثم بمعنى الفجور.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": آثم خبر إن وقلبه رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل فإنه يأثم قلبه وقرئ * (قلبه) * بالفتح كقوله * (سفه نفسه) * (البقرة: 130) وقرأ ابن أبي عبلة * (أثم قلبه) * أي جعله آثما.
المسألة الثالثة: إعلم أن كثيرا من المتكلمين قالوا. إن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي هو القلب، وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله تعالى: * (نزل به الروح الأمين
131

على قلبك) * (الشعراء: 193) وذكرنا طرفا منه في تفسير قوله * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) * (البقرة: 97) وهؤلاء يتمسكون بهذه الآية ويقولون: إنه تعالى أضاف الآثم إلى القلب فلولا أن القلب هو الفاعل وإلا لما كان آثما.
وأجاب من خالف في هذا القول بأن إضافة الفعل إلى جزء من أجزاء البدن إنما يكون لأجل أن أعظم أسباب الإعانة على ذلك الفعل إنما يحصل من ذلك العضو، فيقال: هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي، ويقال: فلان خبيث الفرج ومن المعلوم أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلوب من الدواعي والصوارف، فلما كان الأمر كذلك فلهذا السبب أضيف الآثم ههنا إلى القلب.
ثم قال عز وجل: * (والله بما تعملون عليم) * وهو تحذير من الإقدام على هذا الكتمان، لأن المكلف إذا علم أنه لا يعزب عن علم الله ضمير قلبه كان خائفا حذرا من مخالفة أمر الله تعالى، فإنه يعلم أنه تعالى يحاسبه على كل تلك الأفعال، ويجازيه عليها إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.
* (لله ما في السماوات وما فى الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله على كل شيء قدير) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجوه الأول: قال الأصم: إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول، وهو دليل التوحيد والنبوة، وأشياء كثيرة من علم الأصول ببيان الشرائع والتكاليف، وهي في الصلاة، والزكاة، والقصاص، والصوم، والحج، والجهاد، والحيض، والطلاق، والعدة، والصداق، والخلع، والإيلاء، والرضاع، والبيع، والربا، وكيفية المداينة ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآية على سبيل التهديد.
وأقول إنه قد ثبت أن الصفات التي هي كمالات حقيقية ليست إلا القدرة والعلم، فعبر سبحانه عن كمال القدرة بقوله * (لله ما في السماوات وما في الأرض) * ملكا وملكا، وعبر عن كمال العلم المحيط
132

بالكليات والجزئيات بقوله * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * وإذا حصل كمال القدرة والعلم، فكان كل من في السماوات والأرض عبيدا مربوبين وجدوا بتخليقه وتكوينه كان ذلك غاية الوعد للمطيعين، ونهاية الوعيد للمذنبين، فلهذا السبب ختم الله هذه السورة بهذه الآية.
والوجه الثاني: في كيفية النظم، قال أبو مسلم: إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة * (والله بما تعملون عليم) * (البقرة: 283) ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال: * (لله ما في السماوات وما في الأرض) * ومعنى هذا الملك أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه ومن كان فاعلا لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد وأن يكون عالما بها إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به، فكان الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض مع ما فيهما من وجوه الإحكام والإتقان على كونه تعالى عالما بها محيطا بأجزائها وجزئياتها.
الوجه الثالث: في كيفية النظم، قال القاضي: إنه تعالى لما أمر بهذه الوثائق أعني الكتبة والإشهاد والرهن، فكان المقصود من الأمر بها صيانة الأموال، والاحتياط في حفظها بين الله تعالى أنه إنما المقصود لمنفعة ترجع إلى الخلق لا لمنفعة تعود إليه سبحانه منها فإنه له ملك السماوات والأرض.
الوجه الرابع: قال الشعبي وعكرمة ومجاهد: إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه بين أنه له ملك السماوات والأرض فيجازي على الكتمان والإظهار.
المسألة الثانية: احتج الأصحاب بقوله * (لله ما في السماوات وما في الأرض) * على أن فعل العبد خلق الله تعالى، لأنه من جملة ما في السماوات والأرض بدليل صحة الاستثناء، واللام في قوله * (لله) * ليس لام الغرض، فإنه ليس غرض الفاسق من فسقه طاعة الله، فلا بد وأن يكون المراد منه لام الملك والتخليق.
المسألة الثالثة: احتج الأصحاب بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء لأن من جملة ما في السماوات والأرض حقائق الأشياء وماهياتها فهي لا بد وأن تكون تحت قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما تكون الحقائق والماهيات تحت قدرته لو كان قادرا على تحقيق تلك الحقائق، وتكوين تلك الماهيات، فإذا كان كذلك كانت قدرة الله تعالى مكونة للذوات، ومحققة للحقاق، فكان القول بأن المعدوم شئ باطلا.
ثم قال تعالى: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * يروى عن ابن عباس أنه
133

قال: لما نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ وناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه، وإن له الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل سمعنا وعصينا قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا سمعنا وأطعنا، واشتد ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولا فأنزل الله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) فنسخت هذه الآية، فقال
صلى الله عليه وسلم: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا به ".
واعلم أن محل البحث في هذه الآية أن قوله * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * يتناول حديث النفس، والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب، ولا يتمكن من دفعها، فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق، والعلماء أجابوا عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين، فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أمورا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس، فالقسم الأول: يكون مؤاخذا به، والثاني: لا يكون مؤاخذا به، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * (البقرة: 225) وقال في آخر هذه السورة * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * (البقرة: 286) وقال: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا) * (النور: 19) هذا هو الجواب المعتمد.
والوجه الثاني: أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل، فهو في محل العفو وقوله * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * فالمراد منه أنه يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهرا وإما على سبيل الخفية وأما ما وجد في القلب من العزائم والإرادات ولم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو وهذا الجواب ضعيف، لأن أكثر المؤاخذات إنما تكون بأفعال القلوب ألا ترى أن اعتقاد الكفر والبدع ليس إلا من أعمال القلوب: وأعظم أنواع العقاب مرتب عليه، وأيضا فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم والساهي فثبت ضعف هذا الجواب.
والوجه الثالث في الجواب: أن الله تعالى يؤاخذه بها لكن مؤاخذتها هي العموم والغموم في الدنيا، روى الضحاك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه بغم يبتليه به في الدنيا أو حزن أو أذى، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب عليه، وروت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه.
134

فإن قيل: المؤاخذة كيف تحصل في الدنيا مع قوله تعالى: * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * (غافر: 17).
قلنا: هذا خاص فيكون مقدما على ذلك العام.
الوجه الرابع في الجواب: أنه تعالى قال: * (يحاسبكم به الله) * ولم يقل: يؤاخذكم به الله وقد ذكرنا في معنى كونه حسيبا ومحاسبا وجوها كثيرة، وذكرنا أن من جملة تفاسيره كونه تعالى عالما بها، فرجع معنى هذه الآية إلى كونه تعالى عالما بكل ما في الضمائر والسرائر، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الله تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم، فالمؤمن يخبره ثم يعفو عنه، وأهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب والذنب.
الوجه السابع في الجواب: أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله * (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * فيكون الغفران نصيبا لمن كان كارها لورود تلك الخواطر، والعذاب يكون نصيبا لمن يكون مصرا على تلك الخواطر مستحسنا لها.
الوجه السادس: قال بعضهم: المراد بهذه الآية كتمان الشهادة، وهو ضعيف، لأن اللفظ عام، وإن كان واراه عقيب تلك القضية لا يلزم قصره عليه.
الوجه السابع في الجواب: ما روينا عن بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (القرة: 286) وهذا أيضا ضعيف لوجوه أحدها: أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا: أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها، وذلك باطل، لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة، ولذلك قال عليه السلام: " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة " والثاني: أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر، وقد بينا أن الآية لا تدل على ذلك والثالث: أن نسخ الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي.
واعلم أن الناس اختلافا في أن الخبر هل ينسخ أم لا؟ وقد ذكرنا في أصول الفقه والله أعلم.
ثم قال: * (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على جواز غفران ذنوب أصحاب الكبائر وذلك لأن المؤمن المطيع مقطوع بأنه يثاب ولا يعاقب، والكافر مقطوع بأنه يعاقب ولا يثاب، وقوله * (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * رفع للقطع واحد من الأمرين، فلم يبق إلا أن يكون ذلك نصيبا للمؤمن يرثه المذنب بأعماله.
المسألة الثانية: قرأ عاصم وابن عامر * (فيغفر، يعذب) * برفع الراء والباء، وأما الباقون
135

فبالجزم أما الرفع فعلى الاستئناف، والتقدير: فهو يغفر، وأما الجزم فبالعطف على يحاسبكم ونقل عن أبي عمرو أنه أدغم الراء في اللام في قوله * (يغفر لمن يشاء) * قال صاحب " الكشاف ": إنه لحن ونسبته إلى أبي عمرو كذب، وكيف يليق مثل هذا اللحن بأعلم الناس بالعربية. ثم قال: * (والله على كل شيء قدير) * وقد بين بقوله * (لله ما في السماوات وما في الأرض) * أنه كامل الملك والملكوت، وبين بقوله * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * أنه كامل العلم والإحاطة، ثم بين بقوله * (والله على كل شيء قدير) * أنه كامل القدرة مستولي على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبدا منقادا له، خاضعا لأوامره ونواهيه محترزا عن سخطه ونواهيه، وبالله التوفيق.
قوله تعالى
* (ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) *
.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجوه الأول: وهو أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة كمال الملك، وكمال العلم، وكمال القدرة لله تعالى، وذلك يوجب كمال صفات الربوبية أتبع ذلك بأن بين كون المؤمنين في نهاية الانقياد والطاعة والخضوع لله تعالى، وذلك هو كمال العبودية وإذا ظهر لنا كمال الربوبية، وقد ظهر منا كمال العبودية، فالمرجو من عميم فضله وإحسانه أن يظهر يوم القيامة في حقنا كمال العناية والرحمة والإحسان اللهم حقق هذا الأمل.
الوجه الثاني في النظم: أنه تعالى لما قال: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * (القبرة: 284) بين أنه لا يخفى عليه من سرنا وجهرنا وباطننا وظاهرنا شيء البتة، ثم إنه تعالى ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا والثناء علينا، فقال: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) * كأنه بفضله يقول
136

عبدي أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك، فلا أظهر من أحوالك، ولا أذكر منها إلا ما يكون مدحا لك وثناء عليك، حتى تعلم أني كما أنا الكامل في الملك والعلم والقدرة، فأنا الكامل في الجود والرحمة، وفي إظهار الحسنات، وفي الستر على السيئات.
الوجه الثالث: أنه بدأ في السورة بمدح المتقين الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، وبين في آخر السورة أن الذين مدحهم في أول السورة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: * (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) * وهذا هو المراد بقوله في أول السورة * (الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3).
ثم قال ههنا * (وقالوا سمعنا وأطعنا) * وهو المراد بقوله في أول السورة * (ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) *.
ثم قال ههنا * (غفرانك ربنا وإليك المصير) * وهو المراد بقوله في أول السورة * (وبالآخرة هم يوقنون) * (البقرة: 4) ثم حكى عنهم ههنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * (البقرة: 286) إلى آخر السورة وهو المراد بقوله في أول السورة * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * (البقرة: 5) فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها.
والوجه الرابع: وهو أن الرسول إذا جاءه الملك من عند الله، وقال له: إن الله بعثك رسولا إلى الخلق، فههنا الرسول لا يمكنه أن يعرف صدق ذلك الملك إلا بمعجزة يظهرها الله تعالى على صدق ذلك الملك في دعواه ولولا ذلك المعجز لجوز الرسول أن يكون ذلك المخبر شيطانا ضالا مضلا، وذلك الملك أيضا إذا سمع كلام الله تعالى افتقر إلى معجز يدل على أن المسموع هو كلام الله تعالى لا غير، وهذه المراتب معتبرة أولها: قيام المعجز على أن المسموع كلام الله لا غيره، فيعرف الملك بواسطة ذلك المعجز أنه سمع كلام الله تعالى وثانيها: قيام المعجزة عند النبي صلى الله عليه وسلم على أن ذلك الملك صادق في دعواه، وأنه ملك بعثه الله تعالى وليس بشيطان وثالثها: أن تقوم المعجزة على يد الرسول عند الأمة حتى تستدل الأمة بها على أن الرسول صادق في دعواه فإذن لما لم يعرف الرسول كونه رسولا من عند الله لا تتمكن الأمة من أن يعرفوا ذلك، فلما ذكر الله تعالى في هذه السورة أنواع الشرائع وأقسام الأحكام، قال: * (آمن الرسول) * فبين أن الرسول عرف أن ذلك وحي من الله تعالى وصف إليه، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله تعالى معصوم من التحريف، وليس بشيطان مضل، ثم ذكر إيمان الرسول صلى الله
137

عليه وسلم بذلك، وهو المرتبة المتقدمة، وذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك وهو المرتبة المتأخرة، فقال: * (والمؤمنون كل آمن بالله) * ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضا معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته ولعل الذين قالوا: إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير متنبهين لهذه الأمور، وليس الأمر في هذا الباب كما قيل: والنجم تستصغر الأبصار رؤيته * والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، ويعلمنا ما ينفعنا به بفضله ورحمته.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) * فالمعنى أنه عرف بالدلائل القاهرة والمعجزات الباهرة أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام نزل من عند الله تعالى، وليس ذلك من باب إلقاء الشياطين، ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة، وإنما عرف الرسول لأنه صلى الله عليه وسلم ذلك بما ظهر من المعجزات القاهرة على يد جبريل عليه السلام.
فأما قوله * (والمؤمنون) * ففيه احتمالان أحدهما: أن يتم الكلام عند قوله * (والمؤمنون) * فيكون المعنى: آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه، ثم ابتدأ بعد ذلك بقوله * (كل آمن بالله) * والمعنى: كل واحد من المذكورين فيما تقدم، وهم الرسول والمؤمنون آمن بالله.
الاحتمال الثاني: أن يتم الكلام عند قوله * (بما أنزل إليه من ربه) * ثم يبتدئ من قوله * (والمؤمنون كل آمن بالله) * ويكون المعنى أن الرسول آمن بكل ما أنزل إليه من ربه، وأما المؤمنون فإنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، فالوجه الأول يشعر بأنه عليه الصلاة والسلام ما كان مؤمنا بربه، ثم صار مؤمنا به، ويحتمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال، وعلى الوجه الثاني يشعر اللفظ بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي أنزلت عليه، كما قال: * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * (الشورى: 52) وأما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال، فقد كان حاصلا منذ خلقه الله من أول الأمر، وكيف يستبعد ذلك مع أن عيسى عليه السلام حين انفصل عن أمه قال: إني عبد الله آتاني الكتاب، فإذا لم يبعد أن عيسى عليه السلام رسولا من عند الله حين كان طفلا، فكيف يستبعد أن يقال: إن محمدا صلى الله
عليه وسلم كان عارفا بربه من أول ما خلق كامل العقل.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن الرسول آمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وإنما خص الرسول بذلك، لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون كلاما
138

متلوا يسمه الغير ويعرفه ويمكنه أن يؤمن به، وقد يكون وحيا لا يعلمه سواه، فيكون هو صلى الله عليه وسلم مختصا بالإيمان به، ولا يتمكن غيره من الإيمان به، فلهذا السبب كان الرسول مختصا في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره.
ثم قال الله تعالى: * (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إعلم أن هذه الآية دلت على أن معرفة هذه المراتب الأربعة من ضرورات الإيمان.
فالمرتبة الأولى: هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وذلك لأنه ما لم يثبت أن للعالم صانعا قادرا على جميع المقدورات، عالما بجميع المعلومات، غنيا عن كل الحاجات، لا يمكن معرفة صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكانت معرفة الله تعالى هي الأصل، فلذلك قدم الله تعالى هذه المرتبة في الذكر.
والمرتبة الثانية: أنه سبحانه وتعالى إنما يوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بواسطة الملائكة، فقال: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) * (النحل: 2) وقال: * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) * (الشورى: 51) وقال: * (فإنه نزله على قلبك) * (البقرة: 97) وقال: * (نزل به الروح الأمين، على قلبك) * (الشعراء: 193، 194) وقال: * (علمه شديد القوى) * (النجم: 5) فإذا ثبت أن وحي الله تعالى إنما يصل إلى البشر بواسطة الملائك فالملائكة يكونون كالواسطة بين الله تعالى وبين البشر، فلهذا السبب جعل ذكر الملائكة في المرتبة الثانية، ولهذا السر قال أيضا: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) * (آل عمران: 18).
والمرتبة الثالثة: الكتب، وهو الوحي الذي يتلقفه الملك من الله تعالى ويوصله إلى البشر وذلك في ضرب المثال يجري مجرى استنارة سطح القمر من نور الشمس فذات الملك كالقمر وذات الوحي كاستنارة القمر فكما أن ذات القمر مقدمة في الرتبة على استنارته فكذلك ذات الملك متقدم على حصول ذلك الوحي المعبر عنه بهذه الكتب، فلهذا السبب كانت الكتب متأخرة في الرتبة عن الملائكة، فلا جرم أخر الله تعالى ذكر الكتب عن ذكر الملائكة.
والمرتبة الرابعة: الرسل، وهم الذين يقتبسون أنوار الوحي من الملائكة، فيكونون متأخرين في الدرجة عن الكتب فلهذا السبب جعل الله تعالى ذكر الرسل في المرتبة الرابعة، واعلم أن ترتيب هذه المراتب الأربعة على هذا الوجه أسرار غامضة، وحكما عظيمة لا يحسن إيداعها في الكتب والقدر الذي ذكرناه كاف في التشريف.
139

المسألة الثانية: المراد بالإيمان بالله عبارة عن الإيمان بوجوده، وبصفاته، وبأفعاله، وبأحكامه، وبأسمائه.
أما الإيمان بوجوده، فهو أن يعلم أن وراء المتحيزات موجودا خالقا لها، وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقرا بوجود الإله تعالى لأنه لا يثبت ما وراء المتحيزات شيئا آخر فيكون اختلافه معنا في إثبات ذات الله تعالى أما الفلاسفة والمعتزلة فإنهم مقرون بإثبات موجود سوى المتحيزات موجد لها، فيكون الخلاف معهم لا في الذات بل في الصفات.
وأما الإيمان بصفاته، فالصفات إما سلبية، وإما ثبوتية.
فأما السلبية: فهي أن يعلم أنه فرد منزه عن جميع جهات التركيب، فإن كل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره، فهو مركب، فهو مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فإذن كل مركب فهو ممكن لذاته، وكل ما ليس ممكنا لذاته، بل كان واجبا لذاته امتنع أن يكون مركبا بوجه من الوجوه، بل كان فردا مطلقا، وإذا كان فردا في ذاته لزم أن لا يكون متحيزا، ولا جسما، ولا جوهرا، ولا في مكان، ولا حالا، ولا في محل، ولا متغيرا، ولا محتاجا بوجه من الوجوه البتة.
وأما الصفات الثبوتية: فبأن يعلم أن الموجب لذاته نسبته إلى بعض الممكنات كنسبته إلى البواقي، فلما رأينا أن هذه المخلوقات وقعت على وجه يمكن وقوعها على خلاف تلك الأحوال، علمنا أن المؤثر فيها قادر مختار لا موجب بالذات، ثم يستدل بما في أفعاله من الإحكام والإتقان على كمال علمه، فحينئذ يعرفه قادرا عالما حيا سميعا بصيرا موصوفا منعوتا بالجلال وصفات الكمال، وقد استقصينا ذلك في تفسير قوله * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * (البقرة: 255).
وأما الإيمان بأفعاله، فبأن تعلم أن كل ما سواه فهو ممكن محدث، وتعلم ببديهة عقلك أن الممكن المحدث لا يوجد بذاته، بل لا بد له من موجد يوجده وهو القديم، وهذا الدليل يحملك على أن تجزم بأن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وإيجاده وتكوينه إلا أنه وقع في البين عقدة وهي الحوادث التي هي الأفعال الاختيارية للحيوانات، فالحكم الأول وهو أنها ممكنة محدثة فلا بد من إسنادها إلى واجب الوجود مطرد فيها.
فإن قلت: إني أجد من نفسي أني إن شئت أن أتحرك تحركت، وإن شئت أن لا أتحرك لم أتحرك فكانت حركاتي وسكناتي بي لا بغيري.
فنقول: قد علقت حركتك بمشيئتك لحركتك، وسكونك بمشيئتك لسكونك، فقبل حصول مشيئة
140

الحركة لا تتحرك وقبل حصول مشيئة السكون لا تسكن، وعند حصول مشيئة الحركة لا بد وأن تتحرك.
إذا ثبت هذا فنقول: هذه المشيئة كيف حدثت فإن حدوثها إما أن يكون لا بمحدث أصلا أو يكون بمحدث، ثم ذلك المحدث إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى، فإن حدثت لا بمحدث فقد لزم نفي الصانع، وإن كان محدثها هو العبد افتقر في إحداثها إلى مشيئة أخرى ولزم التسلسل، فثبت أن محدثها هو الله سبحانه وتعالى.
إذا ثبت هذا فنقول: لا اختيار للإنسان في حدوث تلك المشيئة، وبعد حدوثها فلا اختيار له في ترتب الفعل عليها إلا بالمشيئة به، ولا حصول الفعل بعد المشيئة، فالإنسان مضطر في صورة مختار، فهذا كلام قاهر قوي، وفي معارضته إشكالان أحدهما: كيف يليق بكمال حكمة الله تعالى إيجاد هذه القبائح والفواحش من الكفر والفسق والثاني: أنه لو كان الكل بتخليقه فكيف توجه الأمر والنهي، والمدح والذم، والثواب والعقاب على العبد، فهذا هو الحرف المعول عليه من جانب الخصم، إلا أنه وارد عليه أيضا في العلم على ما قررناه في مواضع عدة.
وأما المرتبة الرابعة في الإيمان بالله: فهي معرفة أحكامه، ويجب أن يعلم في أحكامه أمورا أربعة أحدها: أنها غير معللة بعلة أصلا، لأن كل ما كان معللا بعلة كان صاحبه ناقصا بذاته، كاملا بغيره، وذلك على الحق سبحانه محال وثانيها: أن يعلم أن المقصود من شرعها منفعة عائدة إلى العبد لا إلى الحق، فإنه منزه عن جلب المنافع، ودفع المضار وثالثها: أن يعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد ورابعها: أنه يعلم أنه لا يجب لأحد على الحق بسبب أعماله وأفعاله شيء، وأنه سبحانه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله، وأنه لا يقبح منه شيء، ولا يجب عليه شيء، لأن الكل ملكه وملكه، والمملوك المجازى لا حق له على المالك المجازي، فكيف المملوك الحقيقي مع المالك الحقيقي.
وأما الرتبة الخامسة في الإيمان بالله: فمعرفة أسمائه قال في الأعراف * (ولله الأسماء الحسنى) * (الأعراف: 180) وقال في بني إسرائيل * (أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) * (الإسراء: 110) وقال في طه * (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) * (طه: 8) وقال في آخر الحشر * (له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض) * (الحشر: 24) والأسماء الحسنى هي الأسماء الواردة في كتب الله المنزلة على ألسنة أنبيائه المعصومين، وهذه الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله.
وأما الإيمان بالملائكة، فهو من أربعة أوجه أولها: الإيمان بوجودها، والبحث عن أنها روحانية محضة، أو جسمانية، أو مركبة من القسمين، وبتقدير كونها جسمانية فهي أجسام
141

لطيفة أو كثيفة، فإن كانت لطيفة فهي أجسام نورانية، أو هوائية، وإن كانت كذلك فكيف يمكن أن تكون مع لطافة أجسامها بالغة في القوة إلى الغاية القصوى، فذاك مقام العلماء الراسخين في علوم الحكمة القرآنية والبرهانية.
والمرتبة الثانية في الإيمان بالملائكة: العلم بأنهم معصومون مطهرون * (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * (النحل: 50) * (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) * (الأنبياء: 19) فإن لذتهم بذكر الله، وأنسهم بعبادة الله، وكما أن حياة كل واحد منا بنفسه الذي هو عبارة عن استنشاق الهواء، فكذلك حياتهم بذكر الله تعالى ومعرفته وطاعته.
والمرتبة الثالثة: أنهم وسائط بين الله وبين البشر، فكل قسم منهم متوكل على قسم من أقسام هذا العالم، كما قال سبحانه: * (والصافات صفا، فالزاجرات زجرا) * (الصافات: 1، 2) وقال: * (والذاريات ذروا، فالحاملات وقرا) * (الذاريات: 1، 2) وقال: * (والمرسلات عرفا، فالعاصفات عصفا) * (المرسلات: 1، 2) وقال: * (والنازعات غرقا، والناشطات نشطا) * (النازعات: 1، 2) ولقد ذكرنا في تفسير هذه الآيات أسرارا مخفية، إذا طالعها الراسخون في العلم وقفوا عليها.
والمرتبة الرابعة: أن كتب الله المنزلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة، قال الله تعالى: * (إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين) * (التكوير: 19، 20، 21) فهذه المراتب لا بد منها في حصول الإيمان بالملائكة، فكلما كان غوص العقل في هذه المراتب أشد كان إيمانه بالملائكة أتم.
وأما الإيمان بالكتب: فلا بد فيه من أمور أربعة أولها: أن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسوله، وأنها ليست من باب الكهانة، ولا من باب السحر، ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة وثانيها: أن يعلم أن الوحي بهذه الكتب وإن كان من قبل الملائكة المطهرين، فالله تعالى لم يمكن أحدا من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الطاهر، وعند هذا يعلم أن من قال: إن الشيطان ألقى قوله: تلك الغرانيق العلا في أثناء الوحي، فقد قال قولا عظيما، وطرق الطعن والتهمة إلى القرآن.
والمرتبة الثالثة: أن هذا القرآن لم يغير ولم يحرف، ودخل فيه فساد قول من قال: إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان رضي الله عنه، فإن من قال ذلك أخرج القرآن عن كونه حجة.
والمرتبة الرابعة: أن يعلم أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه، وأن محكمه
142

يكشف عن متشابهه.
وأما الإيمان بالرسل: فلا بد فيه من أمور أربعة:
المرتبة الأولى: أن يعلم كونهم معصومين من الذنوب، وقد أحكمنا هذه المسألة في تفسير قوله * (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) * (البقرة: 36) وجميع الآيات التي يتمسك بها المخالفون قد ذكرنا وجه تأويلاتها في هذا التفسير بعون الله سبحانه وتعالى.
والمرتبة الثانية: من مراتب الإيمان بهم: أن يعلم أن النبي أفضل ممن ليس بنبي، ومن الصوفية من ينازع في هذا الباب.
المرتبة الثالثة: قال بعضهم: أنهم أفضل من الملائكة، وقال كثير من العلماء: إن الملائكة السماوية أفضل منهم، وهم أفضل من الملائكة الأرضية، وقد ذكرنا هذه
المسألة في تفسير قوله * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * (البقرة: 34) ولأرباب المكاشفات في هذه المسألة مباحثات غامضة.
المرتبة الرابعة: أن يعلم أن بعضهم أفضل من البعض، وقد بينا ذلك في تفسير قوله تعالى: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * (البقرة: 253) ومنهم من أنكر ذلك وتمسك بقوله تعالى له في هذه الآية * (لا نفرق بين أحد من رسله) * (البقرة: 253).
وأجاب العلماء عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر، وهو أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا كانوا حاضرين هو ظهور المعجزة على وفق دعاويهم، فإذا كان هذا هو الطريق، وجب في حق كل من ظهرت المعجزة على وفق دعواه أن يكون صادقا، وإن لم يصح هذا الطريق وجب أن لا يدل في حق أحد منهم على صحة رسالته، فأما أن يدل على رسالة البعض دون البعض فقول فاسد متناقض، والغرض منه تزييف طريقة اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى، ويكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المقصود من قوله تعالى: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * لا ما ذكرتم من أنه لا يجوز أن يكون بعضهم أفضل من البعض فهذا هو الإشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.
المسألة الثالثة: قرأ حمزة * (وكتابه) * على الواحد، والباقون * (كتبه) * على الجمع، أما الأول ففيه وجهان أحدهما: أن المراد هو القرآن ثم الإيمان به ويتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل والثاني: على معنى الجنس فيوافق معنى الجمع، ونظيره قوله تعالى: * (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق) * (البقرة: 213).
فإن قيل: اسم الجنس إنما يفيد العموم إذا
143

كان مقرونا بالألف واللام، وهذه مضافة.
قلنا: قد جاء المضاف من الأسماء ونعني به الكثرة، قال الله تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34) وقال الله تعالى: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * (البقرة: 187) وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام قال العلماء: والقراءة بالجمع أفضل لمشاكلة ما قبله وما بعده من لفظ الجمع ولأن أكثر القراءة عليه، واعلم أن القراء أجمعوا في قوله * (ورسله) * على ضم السين، وعن أبي عمرو سكونها، وعن نافع * (وكتبه ورسله) * مخففين، وحجة الجمهور أن أصل الكلمة على فعل بضم العين، وحجة أبي عمرو هي أن لا تتوالى أربع متحركات، لأنهم كرهوا ذلك، ولهذا لم تتوال هذه الحركات في شعر إلا أن يكون مزاحفا، وأجاب الأولون أن ذلك مكروه في الكلمة الواحدة أما في الكلمتين فلا بدليل أن الإدغام غير لازم في وجعل ذلك مع أنه قد توالى فيه خمس متحركات، والكلمة إذا اتصل بها ضمير فهي كلمتان لا كلمة واحدة.
المسألة الرابعة: قوله * (لا نفرق بين أحد من رسله) * فيه محذوف، والتقدير: يقولون لا نفرق بين أحد من رسله كقوله * (والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا) * (الأنعام: 93) معناه يقولون: أخرجوا وقال: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله) * (الزمر: 3) أي قالوا هذا.
المسألة الخامسة: قرأ أبو عمرو * (يفرق) * بالياء على أن الفعل لكل، وقرأ عبد الله * (لا يفرقون) *.
المسألة السادسة: أحد في معنى الجمع، كقوله * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * (الحاقة: 47) والتقدير: لا نفرق بين جميع رسله، هذا هو الذي قالوه، وعندي أنه لا يجوز أن يكون أحد ههنا في معنى الجمع، لأنه يصير التقدير: لا نفرق بين جميع رسله، وهذا لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل والمقصود بالنفي هو هذا، لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل، بل بين البعض وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فثبت أن التأويل الذي ذكروه باطل، بل معنى الآية: لا نفرق بين أحد من الرسل، وبين غيره في النبوة، فإذا فسرنا بهذا حصل المقصود من الكلام، والله أعلم.
ثم قال الله تعالى: * (وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الكلام في نظم هذه الآية من وجوه الأول: وهو أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، واستكمال القوة النظرية بالعلم، واستكمال القوة العملية بفعل الخيرات، والقوة النظرية أشرف من القوة العملية، والقرآن مملوء من ذكرهما بشرط أن تكون القوة النظرية مقدمة على العملية قال عن إبراهيم * (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) * (الشعراء: 83)
144

فالحكم كمال القوة النظرية * (وألحقني بالصالحين) * كمال القوة العملية، وقد أطنبنا في شواهد هذا المعنى من القرآن فيما تقدم من هذا الكتاب.
إذا عرفت هذا فنقول: الأمر في هذه الآية أيضا كذلك، فقوله * (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) * إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة وقوله * (وقالوا سمعنا وأطعنا) * إشارة إلى استكمال القوة العملية الإنسانية بهذه الأعمال الفاضلة الكاملة، ومن وقف على هذه النكتة علم اشتمال القرآن على أسرار عجيبة غفل عنها الأكثرون.
والوجه الثاني: من النظم في هذه الآية أن للإنسان أياما ثلاثة: الأمس والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ واليوم الحاضر، والبحث عنه يسمى بعلم الوسط، والغد والبحث عنه يسمى بعلم المعاد والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاثة قال في آخر سورة هود * (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله) * (هود: 123) وذلك إشارة إلى معرفة المبدأ ولما كانت الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة، لا جرم ذكرها في هذه الآية، وقوله * (ولله غيب السماوات والأرض) * إشارة إلى كمال العلم، وقوله * (وإليه يرجع الأمر كله) * إشارة إلى كمال القدرة، فهذا هو الإشارة إلى علم المبدأ، وأما علم الوسط وهو علم ما يجب اليوم أن
يشتغل به، فله أيضا مرتبتان: البداية والنهاية أما البداية فالاشتغال بالعبودية، وأما النهاية فقطع النظر عن الأسباب، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب، وذلك هو المسمى بالتوكل، فذكر هذين المقامين، فقال: * (فاعبده وتوكل عليه) * (هود: 123) وأما علم المعاد فهو قوله * (وما ربك بغافل عما يعملون) * (الأنعام: 132) أي فيومك غدا سيصل فيه نتائج أعمالك إليك، فقد اشتملت هذه الآية على كمال ما يبحث عنه في هذه المراتب الثلاثة، ونظيرها أيضا قوله سبحانه وتعالى: * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) * (الصافات: 180) وهو إشارة إلى علم المبدأ، ثم قال: * (وسلام على المرسلين) * (الصافات: 181) وهو إشارة إلى علم الوسط، ثم قال: * (والحمد لله رب العالمين) * (الصافات: 182) وهو إشارة إلى علم المعاد على ما قال في صفة أهل الجنة * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (يونس: 100).
إذا عرفت هذا فنقول: تعريف هذه المراتب الثلاثة مذكور في آخر سورة البقرة، فقوله * (آمن الرسول) * إلى قوله * (لا نفرق بين أحد من رسله) * إشارة إلى معرفة المبدأ، وقوله * (وقالوا سمعنا وأطعنا) * إشارة إلى علم الوسط، وهو معرفة الأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عالما مشتغلا بها، ما دام يكون في هذه الحياة الدنيا، وقوله * (غفرانك ربنا وإليك المصير) * إشارة إلى علم المعاد، والوقوف على هذه الأسرار ينور القلب ويجذبه من ضيق عالم الأجسام إلى فسحة عالم
145

الأفلاك، وأنوار بهجة السماوات.
الوجه الثالث في النظم: أن المطالب قسمان أحدهما: البحث عن حقائق الموجودات والثاني: البحث عن أحكام الأفعال في الوجوب والجواز والحظر، أما القسم الأول فمستفاد من العقل والثاني مستفاد من السمع والقسم الأول هو المراد بقوله * (والمؤمنون كل آمن بالله) * والقسم الثاني هو المراد بقوله * (وقالوا سمعنا وأطعنا) *.
المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه الله قوله * (سمعنا وأطعنا) * أي سمعنا قوله وأطعنا أمره، إلا أنه حذف المفعول، لأن في الكلام دليلا عليه من حيث مدحوا به.
وأقول: هذا من الباب الذي ذكره عبد القاهر النحوي رحمه الله أن حذف المفعول فيه ظاهرا وتقديرا أولى لأنك إذا جعلت التقدير: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، فإذن ههنا قول آخر غير قوله، وأمر آخر يطاع سوى أمره، فإذا لم يقدر فيه ذلك المفعول أفاد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته: أطعنا إلا أمره فكان حذف المفعول صورة ومعنى في هذا الموضع أولى.
المسألة الثالثة: إعلم أنه تعالى لما وصف إيمان هؤلاء المؤمنين وصفهم بعد ذلك بأنهم يقولون: سمعنا وأطعنا، فقوله * (سمعنا) * ليس المراد منه السماع الظاهر، لأن ذلك لا يفيد المدح، بل المراد أنا سمعناه بآذان عقولنا، أي عقلناه وعلمنا صحته، وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلينا فهو حق صحيح واجب القبول والسمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن، قال الله تعالى: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) * (ق: 37) والمعنى: لمن سمع الذكرى بفهم حاضر، وعكسه قوله تعالى: * (كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا) * (لقمان: 7) ثم قال بعد ذلك * (وأطعنا) * فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكليف علما وعملا. ثم حكي عنهم بعد ذلك أنهم قالوا * (غفرانك ربنا وإليك المصير) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية سؤال، وهو أن القوم لما قبلوا التكاليف وعملوا بها، فأي حاجة بهم إلى طلبهم المغفرة.
والجواب من وجوه الأول: أنهم وإن بذلوا مجهودهم في أداء هذه التكاليف إلا أنهم كانوا خائفين من تقصير يصدر عنهم، فلما جوزوا ذلك قالوا * (غفرانك ربنا) * ومعناه أنهم يلتمسون
146

من قبله الغفران فيما يخافون من تقصيرهم فيما يأتون ويذرون والثاني: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " فذكروا لهذا الحديث تأويلات من جملتها أنه عليه الصلاة والسلام كان في الترقي في درجات العبودية فكان كلما ترقى من مقام إلى مقام أعلى من الأول رأى الأول حقيرا، فكان يستغفر الله منه، فحمل طلب الغفران في القرآن في هذه الآية على هذا الوجه أيضا غير مستبعد والثالث: أن جميع الطاعات في مقابلة حقوق إلهيته جنايات، وكل أنواع المعارف الحاصلة عند الخلق في مقابلة أنوار كبريائه تقصير وقصور وجهل، ولذلك قال: * (وما قدروا الله حق قدره) * (الأنعام: 91) وإذا كان كذلك فالعبد في أي مقام كان من مقام العبودية، وإن كان عالما جدا إذا قوبل ذلك بجلال كبرياء الله تعالى صار عين التقصير الذي يجب الاستغفار منه، وهذا هو السر في قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) * (محمد: 19) فإن مقامات عبوديته وإن كانت عالية إلا أنه كان ينكشف له في درجات مكاشفاته أنها بالنسبة إلى ما يليق بالحضرة الصمدية عن التقصير، فكان يستغفر منها، وكذلك حكي عن أهل الجنة كلامهم فقال * (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) * (يونس: 10) فسبحانك اللهم إشارة إلى التنزيه.
ثم إنه قال: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (يونس: 10) يعني أن كل الحمد لله وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا.
المسألة الثانية: قوله * (غفرانك) * تقديره: اغفر غفرانك، ويستغني بالمصدر عن الفعل في الدعاء نحو سقيا ورعيا، قال الفراء: هو مصدر وقع موقع الأمر فنصب، ومثله الصلاة الصلاة، والأسد الأسد، وهذا أولى من قول من قال: نسألك غفرانك لأن هذه الصيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ابتداء كانت أدل عليه، ونظيره قولك: حمدا حمدا، وشكرا شكرا، أي أحمد حمدا، وأشكر شكر.
المسألة الثالثة: أن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين أحدهما: بالإضافة إليه، وهو قوله * (غفرانك) * والثاني: أردفه بقوله * (ربنا) * وهذان القيدان يتضمنان فوائد إحداها: أنت الكامل في هذه الصفة، فأنت غافر الذنب، وأنت غفور * (وربك الغفور) * (الكهف: 58) * (وهو الغفور الودود) * (البروج: 14) وأنت
الغفار * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا) * (نوح: 10) يعني أنه ليست غفاريته من هذا الوقت، بل كانت قبل هذا الوقت غفار الذنوب، فهذه الغفارية كالحرفة له، فقوله ههنا * (غفرانك) *
يعني أطلب الغفران منك وأنت الكامل في هذه الصفة، والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة، فقوله * (غفرانك) *
147

طلب لغفران كامل، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب بفضله ورحمته، ويبدلها بالحسنات، كما قال: * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) * (الفرقان: 70) وثانيها: روي في الحديث الصحيح " إن لله مائة جزء من الرحمة قسم جزءا واحدا منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات، فيها يتراحمون، وادخر تسعة وتسعين جزءا ليوم القيامة " فأظن أن المراد من قوله * (غفرانك) * هو ذلك الغفران الكبير، كان العبد يقول: هب أن جرمي كبير لكن غفرانك أعظم من جرمي وثالثها: كأن العبد يقول: كل صفة من صفات جلالك وإلهيتك، فإنما يظهر أثرها في محل معين، فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك، ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك، فكذا لولا جرم العبد وجنايته، وعجزه وحاجته، لما ظهرت آثار غفرانك، فقوله * (غفرانك) * معناه طلب الغفران الذي لا يمكن ظهور أثره إلا في حقي، وفي حق أمثالي من المجرمين.
وأما القيد الثاني: وهو قوله * (ربنا) * ففيه فوائد أولها: ربيتني حين ما لم أذكرك بالتوحيد، فكيف يليق بكرمك أن لا تريني عندما أفنيت عمري في توحيدك وثانيها: ربيتني حين كنت معدوما، ولو لم تربني في ذلك الوقت لما تضررت به، لأني كنت أبقى حينئذ في العدم، وأما الآن فلو لم تربني وقعت في الضرر الشديد، فأسألك أن لا تهملي وثالثها: ربيتني في الماضي فاجعل لي في الماضي شفيعي إليك في أن تربيني في المستقبل ورابعها: ربيتني في الماضي فإتمام المعروف خير من ابتدائه، فتمم هذه التربية بفضلك ورحمتك.
ثم قال الله تعالى: * (وإليك المصير) * وفيه فائدتان إحداهما: بيان أنهم كما أقروا بالمبدأ فكذلك أقروا بالمعاد، لأن الإيمان بالمبدأ أصل الإيمان بالمعاد، فإن من أقر أن الله عالم بالجزئيات، وقادر على كل الممكنات، لا بد وأن يقر بالمعاد والثانية: بيان أن العبد متى علم أنه لا بد من المصير إليه، والذهاب إلى حيث لا حكم إلا حكم الله، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذن الله، كان إخلاصه في الطاعات أتم، واحترازه عن السيئات أكمل، وهاهنا آخر ما شرح الله تعالى من إيمان المؤمنين.
قوله تعالى
* (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنآ
148

إن نسينآ أو أخطأنا) *
إعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين على نسق الكلام في قوله * (وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) * (البقرة: 285) وقالوا * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله * (ربنا لا تؤاخذنا) * (البقرة: 286) فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها.
المسألة الثانية: في كيفية النظم: إن قلنا إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم لما قالوا * (سمعنا وأطعنا) * فكأنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع، وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا، فإذا كان هو تعالي بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين، وإن قلنا: إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا * (سمعنا وأطعنا) * ثم قالوا بعده * (غفرانك ربنا) * دل ذلك على أن قولهم * (غفرانك) * طلبا للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد فلما كان قولهم: * (غفرانك) * طلبا للمغفرة في ذلك التقصير، لا جرم خفف الله تعالى عنهم ذلك وقال: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم، وما تعمدتم التقصير، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم * (غفرانك ربنا) *.
المسألة الثالثة: يقال: كلفته الشيء فتكلف، والكلف اسم منه، والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، قال الفراء: هو اسم كالوجد والجهد، وقال بعضهم: الوسع دون المجهود في المشقة، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان.
المسألة الرابعة: المعتزلة عولوا على هذه الآية في أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه ولا يقدر عليه، ونظيره قوله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وقوله * (يريد الله أن يخفف عنكم) * (النساء: 28) وقوله * (يريد الله بكم اليسر) * وقالوا: هذه الآية صريحة في نفي تكليف ما لا يطاق، قالوا: وإذا ثبت هذا فههنا أصلان الأول: أن العبد موجد لأفعال نفسه، فإنه لو كان موجدها هو الله تعالى، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفا بما لا يطاق، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ولا قدرة البتة للعبد على ذلك الفعل ولا على تركه، أما إنه لا قدرة له على الفعل فلأن ذلك الفعل
149

وجد بقدرة الله تعالى، والموجود لا يوجد ثانيا، وأما إنه لا قدر له على الدفع فلأن قدرته أضعف من قدرة الله تعالى، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى وإذا لم يخلق الله الفعل استحال أن يكون للعبد قدرة على التحصيل، فثبت أنه لو كان الموجد لفعل العبد هو الله تعالى لكان تكليف العبد بالفعل تكليفا بما لا يطاق والثاني: أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادرا على الإيمان، فكان ذلك التكليف بما لا يطاق هذا تمام استدلال المعتزلة في هذا الموضع.
أما الأصحاب فقالوا: دلت الدلائل العقلية على وقوع التكليف على هذا الوجه، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية.
الحجة الأولى: أن من مات على الكفر ينبئ موته على الكفر أن الله تعالى كان عالما في الأزل بأنه يموت على الكفر ولا يؤمن قط، فكان العلم بعدم الإيمان موجودا، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان على ما قررناه في مواضع، وهو أيضا مقدم بينة بنفسها، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفا بالجمع بين النقيضين، وهذه الحجة كما أنها جارية في العلم، فهي أيضا جارية في الجبر.
الحجة الثانية: أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداهي، وتلك الداعية مخلوقة لله تعالى ومتى كان الأمر كذلك كان تكليف ما لا يطاق لازما، إنما قلنا: إن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي، لأن قدرة العبد لما كانت صالح للفعل والترك، فلو ترجح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجح لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع، وإنما قلنا: إن تلك الداعية من الله تعالى لأنها لو كانت من العبد لافتقر إيجادها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل، وإنما قلنا: إنه متى كان الأمر كذلك لزم الجبر، لأن عند حصول الداعية المرجحة لأحد الطرفين صار الطرف الآخر مرجوحا، والمرجوح ممتنع الوقوع، وإذا كان المرجوح ممتنعا كان الراجح واجبا ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين، فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعا وهو مكلف به، فكان التكليف تكليف ما لا يطاق.
الحجة الثالثة: أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء الداعيين، أو حال رجحان أحدهما، فإن كان الأول فهو تكليف ما لا يطاق، لأن الاستواء يناقض الرجحان، فإذا كلف حال حصول الاستواء بالرجحان، فقد كلف بالجمع بين النقيضين، وإن كان الثاني فالراجح واجب، والمرجوح ممتنع، وإن وقع التكليف بالراجح فقد وقع بالواجب، وإن وقع بالمرجوح
150

فقد وقع بالممتنع.
الحجة الرابعة: أنه تعالى كلف أبا لهب الإيمان، والإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه، وهو مما أخبر أنه لا يؤمن، فقد صار أبو لهب مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وذلك تكليف ما لا يطاق. الحجة الخامسة: العبد غير عالم بتفاصيل فعله، لأن من حرك أصبعه لم يعرف عدد الأحيان التي حرك أصبعه فيها، لأن الحركة البطيئة عبارة عند المتكلمين عن حركات مختلطة بسكنات، والعبد لم يخطر بباله أنه يتحرك في بعض الأحيان، ويسكن في بعضها، وأنه أين تحرك وأين سكن، وإذا لم يكن عالما بتفاصيل فعله لم يكن موجدا لها، لأنه لم يقصد إيجاد ذلك العدد المخصوص من الأفعال، فلو فعل ذلك العدد دون الأزيد ودون الأنقص فقد ترجح الممكن لا لمرجح وهو محال، فثبت أن العبد غير موجد، فإذا لم يكن موجدا كان تكليف ما لا يطاق لازما على ما ذكرتم، فهذه وجوه عقلية قطعية يقينية في هذا الباب، فعلمنا أنه لا بد للآية من التأويل وفيه وجوه الأول: وهو الأصوب: أنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع العقلي، والظاهر السمعي، فإما أن يصدقهما وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يكذبهما وهو محال، لأنه إبطال النقيضين، وإما أن يكذب القاطع العقلي، ويرجح الظاهر السمعي، وذلك يوجب تطرق الطعن في الدلائل العقلية، ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوة والقرآن، وترجيح الدليل السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معا، فلم يبق إلا أن يقطع بصحة الدلائل العقلية، ويحمل الظاهر السمعي على التأويل، وهذا الكلام هو الذي تعول المعتزلة عليه أبدا في دفع الظواهر التي تمسك بها أهل التشبيه، فبهذا الطريق علمنا أن لهذه الآية تأويلا في الجملة، سواء عرفناه أو لم نعرفه، وحينئذ لا يحتاج إلى الخوض فيه على سبيل التفصيل.
الوجه الثاني في الجواب: هو أنه لا معنى للتكليف في الأمر والنهي إلا الإعلام بأنه متى فعل كذا فإنه يثاب، ومتى لم يفعل فإنه يعاقب، فإذا وجد ظاهر الأمر فإن كان المأمور به ممكنا كان ذلك أمرا وتكليفا في الحقيقة، وإلا لم يكن في الحقيقة تكليفا، بل كان إعلاما بنزول العقاب به في الدار الآخرة، وإشعارا بأنه إنما خلق للنار. والجواب الثالث: وهو أن الإنسان ما دام لم يمت، وأنا لا ندري أن الله تعالى علم منه أنه يموت على الكفر أو ليس كذلك، فنحن شاكون في قيام المانع، فلا جرم نأمره بالإيمان ونحثه عليه، فإذا مات على الكفر علمنا بعد موته أن المانع كان قائما في حقه. فتبين أن شرط
151

التكليف كان زائلا عنه حال حياته، وهذا قول طائفة من قدماء أهل الجبر.
الجواب الرابع: أنا بينا أن قوله * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * ليس قول الله تعالى، بل هو قول المؤمنين، فلا يكون حجة، إلا أن هذا ضعيف، وذلك لأن الله تعالى لما حكاه عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم، فبسبب هذا الكلام وجب أن يكونوا صادقين في هذا الكلام، إذ لو كانوا كاذبين فيه لما جاز تعظيمهم بسببه، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ونسأل الله العظيم أن يرحم عجزنا وقصور فهمنا، وأن يعفو عن خطايانا، فإنا لا نطلب إلا الحق، ولا نروم إلا الصدق.
أما قوله تعالى: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أنه هل في اللغة فرق بين الكسب والاكتساب، قال الواحدي رحمه الله: الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد لا فرق بينهما، قال ذو الرمة: ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب
والقرآن أيضا ناطق بذلك، قال الله تعالى: * (كل نفس بما كسبت رهينة) * (المدثر: 38) وقال: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * (الأنعام: 164) وقال: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئة) * (البقرة: 81) وقال: * (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) * (الأحزاب: 58) فدل هذا على إقامة كل واحد من هذين اللفظين مقام الآخر، ومن الناس من سلم الفرق، ثم فيه قولان أحدهما: أن الاكتساب أخص من الكسب، لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره، والاكتساب لا يكون إلا ما يكتسب الإنسان لنفسه خاصة يقال فلان كاسب لأهله، ولا يقال مكتسب لأهله والثاني: قال صاحب " الكشاف ": إنما خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب، لأن الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه، وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لهذا المعنى مكتسبة فيه ولما لم يكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال والله أعلم.
المسألة الثانية: المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبد بإيجاده وتكوينه، قالوا لأن الآية صريحة في إضافة خيره وشره إليه ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة ويجري صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها البتة والكلام فيه معلوم وبالله التوفيق، قال القاضي: لو كان خالقا أفعالهم فما الفائدة في التكليف، وأما الوجه في أن يسألوه أن لا يثقل عليهم والثقيل على قولهم كالخفيف في أنه تعالى يخلقه فيهم وليس يلحقهم
152

به نصب ولا لغوب.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة قالوا: لأنه تعالى أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع، فبين أن لها ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت، وهذا صريح في أن هذين الاستحقاقين يجتمعان، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر، قال الجبائي: ظاهر الآية وإن دل على الإطلاق إلا أنه مشروط والتقدير: لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم تبطله، وعليها ما اكتسبت من العقاب إذا لم تكفره بالتوبة، وإنما صرنا إلى إضمار هذا الشرط لما بينا أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة وأن العقاب يجب أن يكون مضرة خالصة دائمة، والجمع بينهما محال في العقول، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضا محالا.
واعلم أن الكلام على هذه المسألة مر على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) * (القرة: 264) فلا نعيده.
المسألة الرابعة: احتج كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم، ووجه الاستدلال ظاهر فيه، ونظيره قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الأنعام: 164).
المسألة الخامسة: الفقهاء تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الأصل في الإمساك البقاء والاستمرار، لأن اللام في قوله * (لها ما كسبت) * يدل على ثبوت هذا الاختصاص، وتأكد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " كل امرئ أحق بكسبه من والده وولده وسائر الناس أجمعين " وإذا تمهد هذا الأصل خرج عليه شيء كثير من مسائل الفقه.
منها أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم، وهو قوله: * (لها ما كسبت) * والعارض الموجود، إما الغضب، وإما الضمان، وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبرة.
ومنها أنه إذا غصب ساحة وأدرجها في بنائه، أو غصب حنطة فطحنها لا يزول الملك لقوله * (لها ما كسبت) *.
ومنها أنه لا شفعة للجار، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم، وهو قوله * (لها ما كسبت) * والفرق بين الشريك والجار ظاهر بدليل أن الجار لا يقدم على الشريك، وذلك يمنع من حصول الاستواء ولأن التضرر بمخالطة الجار أقل ولأن في الشركة يحتاج إلى تحمل مؤنة القسمة وهذا المعنى مفقود في الجار.
ومنها أن القطع لا يمنع وجوب الضمان، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم، وهو قوله * (لها ما
153

ما كسبت)
لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقيا قائما، فإنه يجب رده على المالك، ولا يكون القطع مقتضيا زوال ملكه عنه.
ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به، وجوابه أن الدلائل الموجبة للزكاة أخص، والخاص مقدم على العام، وبالجملة فهذه الآية أصل كبير في فروع الفقه والله أعلم.
ثم إعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين دعاءهم، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء مخ العبادة " لأن الداعي يشاهد نفسه في مقام الفقر والحاجة والذلة والمسكنة ويشاهد جلال الله تعالى وكرمه وعزته وعظمته بنعت الاستغناء والتعالي، وهو المقصود من جميع العبادات والطاعات فلهذا السبب ختم هذه السورة الشريفة المشتملة على هذه العلوم العظيمة بالدعاء والتضرع إلى الله والكلام في حقائق الدعاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * (البقرة: 186) فقال: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: إعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء، وذكر في مطلع كل واحد منها قوله * (ربنا) * إلا في النوع الرابع من الدعاء فإنه حذف هذه الكلمة عنها وهو قوله * (واعف عنا واغفر لنا) *.
أما النوع الأول فهو قوله * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا، وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد، لأن الناسي قد أمكن من نفسه، وطرق السبيل إليها بفعله، فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه، وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الله يأخذ المذنب بالعقوبة، فالمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم، فإنه لا يجد من يخلصه من عذابه إلا هو، فلهذا يتمسك العبد عند الخوف منه به، فلما كان كل واحد منهما يأخذ الآخر عبر عنه بلفظ المؤاخذة.
المسألة الثانية: في النسيان وجهان الأول: أن المراد منه هو النسيان نفسه الذي هو ضد الذكر.
فإن قيل: أليس أن فعل الناسي في محل العفو بحكم دليل العقل حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق وبدليل السمع وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإذا كان النسيان في محل العفو قطعا فما معنى طلب العفو عنه في الدعاء ".
والجواب: عنه من وجوه الأول: أن النسيان منه ما يعذر فيه صاحبه، ومنه ما لا يعذر
154

ألا ترى أن من رأى في ثوبه دما فأخر إزالته إلى أن نسي فصلى وهو على ثوبه عد مقصرا، إذ كان يلزمه المبادر إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه،
ومن رمى صيدا في موضع فأصاب إنسانا فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره فإذا رمى ولم يتحرز كان ملوما أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنسانا كان ههنا معذورا، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون ملوما، وأما إذا واظب على القراءة، لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذورا، فثبت أن النسيان على قسمين، منه ما يكون معذورا، ومنه ما لا يكون معذورا، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطا في أصبعه فثبت بما ذكرنا أن الناسي قد لا يكون معذورا، وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء.
الوجه الثاني في الجواب: أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعارا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل: إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به.
الوجه الثالث في الجواب: أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى، لا طلب الفعل، ولذلك فإن الداعي كثيرا ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع، قال الله تعالى: * (قال رب احكم بالحق) * (الأنبياء: 112) وقال: * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة) * (آل عمران: 194) وقالت الملائكة في دعائهم * (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) * (غافر: 7) فكذا في هذه الآية العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء.
الوجه الرابع في الجواب: أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلا، وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذا فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر، فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس، فلما كان ذلك جائزا في العقول، لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء.
الوجه الخامس: أن أصحابنا الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنه جائز عقلا من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه.
والقول الثاني: في تفسير النسيان، أن يحمل على الترك، قال الله تعالى: * (فنسي ولم نجد له عزما) * (طه: 115)
155

وقال تعالى: * (نسوا الله فنسيهم) * (التوبة: 67) أي تركوا العمل لله فتركهم، ويقول الرجل لصاحبه: لا تنسني من عطيتك، أي لا تتركني، فالمراد بهذا النسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد، والمراد بالخطأ، أن يفعل الفعل لتأويل فاسد.
المسألة الثالثة: علم أن النسيان والخطأ المذكورين في هذه الآية إما أن يكونا مفسرين بتفسير ينبغي فيه القصد إلى فعل ما لا ينبغي، أو يكون أحدهما كذلك دون الآخر، فأما الاحتمال الأول فإنه يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر، لأن العمد إلى المعصية لما كان حاصلا في النسيان وفي الخطأ ثم إنه تعالى أمر المسلمين أن يدعوه بقولهم * (لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * فكان ذلك أمرا من الله تعالى لهم بأن يطلبوا من الله أن لا يعذبهم على المعاصي، ولما أمرهم بطلب ذلك، دل على أنه يعطيهم هذا المطلوب، وذلك يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر، وأما القسم الثاني والثالث فباطلان لأن المؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم، وما يقبح فعله من الله يمتنع أن يطلب بالدعاء.
فإن قيل: الناسي قد يؤاخذ في ترك التحفظ قصدا وعمدا على ما قررتم في المسألة المتقدمة.
قلنا: فهو في الحقيقة مؤاخذ بترك التحفظ قصدا وعمدا، فالمؤاخذة إنما حصلت على ما تركه عمدا، وظاهر ما ذكرنا دلالة هذه الآية على رجاء العفو لأهل الكبائر.
قوله تعالى: * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) *.
إعلم أن هذا هو النوع الثاني من الدعاء وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الإصر في اللغة: الثقل والشدة، قال النابغة: يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم والحامل الإصر عنهم بعد ما عرفوا
ثم سمي العهد إصرا لأنه ثقيل، قال الله تعالى: * (وأخذتم على ذلكم إصري) * (آل عمران: 81) أي عهدي وميثاقي والإصر العطف، يقال: ما يأصرني عليه آصرة، أي رحم وقرابة، وإنما سمي العطف إصرا لأن عطفك عليه يثقل على قلبك كل ما يصل إليه من المكاره.
المسألة الثانية: ذكر أهل التفسير فيه وجهين الأول: لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود، قال المفسرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها، وكانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة في الدنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم، قال الله تعالى: * (فبظلم
156

من
الذين هادوا حرمنا عليهم) * (النساء: 160) وقال تعالى: * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) * وقد حرم على المسافرين من قوم طالوت الشرب من النهر، وكان عذابهم معجلا في الدنيا، كما قال: * (من قبل أن نطمس وجوها) * وكانوا يمسخون قرد وخنازير، قال القفال: ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق، ورأى الأعاجيب الكثيرة، فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات، وهو بفضله ورحمته قد أزال ذلك عنهم، قال الله تعالى في صفة هذه الأمة * (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) * (الأعراف: 157) وقال عليه السلام: " رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق " وقال الله تعالى: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) * وقال عليه الصلاة والسلام: " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة " والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير، والتقصير موجب للعقوبة،
ولا طاقة لهم بعذاب الله تعالى، فلا جرم طلبوا السهولة في التكاليف.
والقول الثاني: لا تحمل علينا عهدا وميثاقا يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة، وهذا القول يرجع إلى الأول في الحقيقة لكن بإضمار شيء زائد على الملفوظ، فيكون القول الأول أولى.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: دلت الدلائل العقلية والسمعية على أنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، فما السبب في أن شدد التكليف على اليهود حتى أدى ذلك إلى وقوعهم في المخالفات والتمرد، قالت المعتزلة: من الجائز أن يكون الشيء مصلحة في حق إنسان، مفسدة في حق غيره، فاليهود كانت الفظاظة والغلظة غالبة على طباعهم، فما كانوا ينصلحون إلا بالتكاليف الشاقة والشدة، وهذه الأمة كانت الرقة وكرم الخلق غالبا على طباعهم، فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ.
أجاب الأصحاب بأن السؤال الذي ذكرناه في المقام الأول ننقله إلى المقام الثاني فنقول: ولماذا خص اليهود بغلظة الطبع، وقسوة القلب ودناءة الهمة، حتى احتاجوا إلى التشديدات العظيمة في التكاليف ولماذا خص هذه الأمة بلطافة الطبع وكرم الخلق وعلو الهمة حتى صار يكفيهم التكاليف السهلة في حصول مصالحهم.
ومن تأمل وأنصف علم أن هذه التعليلات عليلة فجل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) *.
157

قوله تعالى: * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) *.
إعلم أن هذا هو النوع الثالث من دعاء المؤمنين، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الطاقة اسم من الإطاقة، كالطاعة من الإطاعة، والجابة من الإجابة وهي توضع موضع المصدر.
المسألة الثانية: من الأصحاب من تمسك به في أن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزا لما حسن طلبه بالدعاء من الله تعالى.
أجاب المعتزلة عنه من وجوه الأول: أن قوله * (ما لا طاقة لنا به) * أي يشق فعله مشقة عظيمة وهو كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أنظر إلى فلان إذا كان مستثقلا له. قال الشاعر: إنك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المملوك: " له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " أي ما يشق عليه، وروى عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المريض يصلي جالسا، فإن لم يستطع فعلى جنب " فقوله: فإن لم يستطع ليس معناه عدم القوة على الجلوس، بل كل الفقهاء يقولون: المراد منه إذا كان يلحقه في الجلوس مشقة عظيمة شديدة، وقال الله تعالى في وصف الكفار * (ما كانوا يستطيعون السمع) * (هود: 20) أي كان يشق عليهم.
الوجه الثاني: أنه تعالى لم يقل: لا تكلفنا ما لا طاقة لنا به، بل قال: * (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * والتحميل هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمله فيكون المراد منه العذاب والمعنى لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله فلو حملنا الآية على ذلك كان قوله * (لا تحملنا) * حقيقة فيه ولو حملناه على التكليف كان قوله * (لا تحملنا) * مجازا فيه، فكان الأول أولى.
الوجه الثالث: هب أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم بما لا قدرة لهم عليه لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلافه، لأنه لو دل على ذلك لدل قوله * (رب احكم بالحق) * (الأنبياء: 112) على جواز أن يحكم بباطل، وكذلك يدل قول إبراهيم عليه السلام * (ولا تخزني يوم يبعثون) * (الشعراء: 87) على جواز أن يخزي الأنبياء، وقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) * (الأحزاب: 48) ولا يدل هذا على جواز أن يطيع الرسول الكافرين والمنافقين وكذا الكلام في قوله * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) هذا جملة أجوبة المعتزلة.
158

أجاب الأصحاب فقالوا:
أما الوجه الأول: فمدفوع من وجهين الأول: أنه لو كان قوله * (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * محمولا على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه ومعنى الآية المتقدمة عليه وهو قوله * (ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * واحدا فتكون هذه الآية تكرارا محضا وذلك غير جائز الثاني: أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة والقدرة، فقوله * (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة.
وأما الوجه الثاني: فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف، قال الله تعالى: * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات) * (الأحزاب: 72) إلى قوله * (وحملها الإنسان) * (الأحزاب: 72) ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله * (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * عام في العذاب وفي التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز.
وأما الوجه الثالث: فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعا لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء والتضرع ويصير ذلك جاريا مجرى من يقول في دعائه وتضرعه: ربنا لا تجمع بين الضدين ولا تقلب القديم محدثا، كما أن ذلك غير جائز، فكذا ما ذكرتم.
إذا ثبت هذا فنقول: هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكا في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل وبالله التوفيق.
المسألة الثالثة: إعلم أنه بقي في الآية سؤالات:
السؤال الأول: لم قال في الآية الأولى * (لا تحمل علينا إصرا) * وقال في هذه الآية * (لا تحملنا) * خص ذلك بالحمل وهذا بالتحميل.
الجواب: أن الشاق يمكن حمله أما ما لا يكون مقدورا لا يمكن حمله، فالحاصل فيما لا يطاق هو التحميل فقط أما الحمل فغير ممكن وأما الشاق فالحمل والتحميل يمكنان فيه، فلهذا السبب خص الآية الأخيرة بالتحميل.
السؤال الثاني: أنه لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق قوله * (لا تحمل علينا إصرا) * كان من لوازمه أن لا يكلفه ما لا يطاق، وعلى هذا التقدير كان عكس هذا الترتيب أولى.
والجواب: الذي أتخيله فيه والعلم عند الله تعالى أن للعبد مقامين أحدهما: قيامه بظاهر الشريعة والثاني: شروعه في بدء المكاشفات، وذلك هو أن يشتغل بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمته
159

ففي المقام الأول طلب ترك التشديد، وفي المقام الثاني قال: لا تطلب مني حمدا يليق بجلالك، ولا شكرا يليق بآلائك ونعمائك، ولا معرفة تليق بقدس عظمتك، فإن ذلك لا يليق بذكري وشكري وفكري ولا طاقة لي بذلك، ولما كانت الشريعة متقدمة على الحقيقة لا جرم كان قوله * (ولا تحمل علينا إصرا) * مقدما في الذكر على قوله * (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) *.
السؤال الثالث: أنه تعالى حكى عن المؤمنين هذه الأدعية بصيغة الجمع بأنهم قالوا * (لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * فما الفائدة في هذه الجمعية وقت الدعاء؟
والجواب: المقصود منه ببيان أن قبول الدعاء عند الاجتماع أكمل وذلك لأن للهمم تأثيرات فإذا اجتمعت الأرواح والدواعي على شيء واحد كان حصوله أكمل.
قوله تعالى: * (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) *.
إعلم أن تلك الأنواع الثلاثة من الأدعية كان المطلوب فيها الترك وكانت مقرونة بلفظ * (ربنا) * وأما هذا الدعاء الرابع، فقد حذف منه لفظ * (ربنا) * وظاهره يدل على طلب الفعل ففيه سؤالان:
السؤال الأول: لم لم يذكر ههنا لفظ ربنا؟.
الجواب: النداء إنما يحتاج إليه عند البعد، أما عند القرب فلا وإنما حذف النداء إشعارا بأن العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى وهذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أخر.
السؤال الثاني: ما الفرق بين العفو والمغفرة والرحمة؟.
الجواب: أن العفو أن يسقط عنه العقاب، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صونا له من عذاب التخجيل والفضيحة، كأن العبد يقول: أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة، والأول: هو العذاب الجسماني، والثاني: هو العذاب الروحاني، فلما تخلص منهما أقبل على طلب الثواب، وهو أيضا
160

قسمان: ثواب جسماني وهو نعيم الجنة ولذاتها وطيباتها، وثواب روحاني وغايته أن يتجلى له نور جلال الله تعالى، وينكشف له بقدر الطاقة علو كبرياء الله وذلك بأن يصير غائبا عن كل ما سوى الله تعالى، مستغرقا بالكلية في نور حضور جلال الله تعالى، فقوله * (وارحمنا) * طلب للثواب الجسماني وقوله بعد ذلك * (أنت مولانا) * طلب للثواب الروحاني، ولأن يصير العبد مقبلا بكليته على الله تعالى لأن قوله * (أنت مولانا) * خطاب الحاضرين، ولعل كثيرا من المتكلمين يستبعدون هذه الكلمات، ويقولون: إنها من باب الطاعات، ولقد صدقوا فيما يقولون، فذلك مبلغهم من العلم * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) * (النجم: 30).
وفي قوله * (أنت مولانا) * فائدة أخرى، وذلك أن هذه الكلمة تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة يصلون إليها، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنهم في كونهم متكلمين على فضله وإحسانه بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه، فهو سبحانه قيوم السماوات والأرض، والقائم بإصلاح مهمات الكل، وهو المتولي في الحقيقة للكل، على ما قال: * (نعم المولى ونعم النصير) * (الأنفال: 40) ونظير هذه الآية * (الله ولي الذين آمنوا) * (البقرة: 257) أي ناصرهم، وقوله * (فإن الله هو مولاه) * (التحريم: 4) أي ناصره، وقوله * (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) * (محمد: 11).
ثم قال: * (فانصرنا على القوم الكافرين) * أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال: * (ليظهره على الدين كله) * (التوبة: 33) ومن المحققين من قال: * (فانصرنا على القوم الكافرين) * المراد منه إعانة الله بالقوة الروحانية الملكية على قهر القوى الجسمانية الداعية إلى ما سوى الله، وهذا آخر السورة.
وروى الواحدي رحمه الله عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أعطى خواتيم سورة البقرة، فقالت الملائكة: إن الله عز وجل قد أكرمك بحسن الثناء عليك بقوله * (آمن الرسول) * فسله وارغب إليه، فعلمه جبريل عليهما الصلاة والسلام كيف يدعو، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: * (غفرانك ربنا وإليك المصير) * فقال الله تعالى: " قد غفرت لكم " فقال: * (لا تؤاخذنا) * فقال الله: * (لا أؤاخذكم) * فقال: * (ولا تحمل علينا إصرا) * فقال: " لا أشدد عليكم " فقال محمد * (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * فقال: " لا أحملكم ذلك " فقال محمد * (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا) * فقال الله تعالى: " قد
عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم وأنصركم على القوم الكافرين " وفي بعض الروايات أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذه الدعوات، والملائكة كانوا يقولون آمين.
161

وهذا المسكين البائس الفقير كاتب هذه الكلمات يقول: إلهي وسيدي كل ما للبته وكتبته ما أردت به إلا وجهك ومرضاتك، فإن أصبت فبتوفيقك أصبت فاقبله من هذا المكدي بفضلك وإن أخطأت فتجاوز عني بفضلك ورحمتك يا من لا يبرمه إلحاح الملحين، ولا يشغله سؤال السائلين وهذا آخر الكلام في تفسير هذه والسورة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وأصحابه وسلم.
162

سورة آل عمران
مائتا آية مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ألم * الله لا اله إلا هو الحى القيوم) *.
أما تفسير * (ألم) * فقد تقدم في سورة البقرة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو بكر عن عاصم * (ألم، الله) * بسكون الميم، ونصب همزة: الله، والباقون موصولا بفتح الميم، أما قراءة عاصم فلها وجهان الأول: نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء والثاني: أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل، فمن فصل وأظهر الهمزة فللتفخيم والتعظيم، وأما من نصب الميم ففيه قولان:
القول الأول: وهو قول الفراء واختيار كثير من البصريين أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر، يقول: ألف، لام، ميم، كما تقول: واحد، اثنان، ثلاثة، وعلى هذا التقدير وجب الابتداء بقوله: الله، فإذا ابتدأنا به نثبت الهمزة متحركة، إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف، ثم ألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها.
163

فإن قيل: إن كان التقدير فصل إحدى الكلمتين عن الأخرى امتنع إسقاط الهمزة، وإن كان التقدير هو الوصل امتنع بقاء الهمزة مع حركتها، وإذا امتنع بقاؤها امتنعت حركتها، وامتنع إلقاء حركتها على الميم.
قلنا: لم لا يجوز أن يكون ساقطا بصورته باقيا بمعناه فأبقيت حركتها لتدل على بقائها في المعنى هذا تمام تقرير قول الفراء.
والقول الثاني: قول سيبويه، وهو أن السبب في حركة الميم التقاء الساكنين، وهذا القول رده كثير من الناس، وفيه دقة ولطف، والكلام في تلخيصه طويل.
وأقول: فيه بحثان أحدهما: سبب أصل الحركة والثاني: كون تلك الحركة فتحة.
أما البحث الأول: فهو بناء على مقدمات:
المقدمة الأولى: أن الساكنين إذا اجتمعا فإن كان السابق منهما حرفا من حروف المد واللين لم يجب التحريك، لأنه يسهل النطق بمثل هذين الساكنين، كقولك: هذا إبراهيم وإسحاق ويعقوب موقوفة الأواخر، أما إذا لم يكن كذلك وجب التحريك لأنه لا يسهل النطق بمثل هذين، لأنه لا يمكن النطق إلا بالحركة.
المقدمة الثانية: مذهب سيبويه أن حرف التعريف هي اللام، وهي ساكنة، والساكن لا يمكن الابتداء به فقدموا عليها همزة الوصل وحركوها ليتوصلوا بها إلى النطق باللام، فعلى هذا إن وجدوا قبل لام التعريف حرفا آخر فإن كان متحركا توصلوا به إلى النطق بهذه اللام الساكنة وإن كان ساكنا حركوه وتوصلوا به إلى النطق بهذه اللام، وعلى هذا التقدير يحصل الاستغناء عن همزة الوصل لأن الحاجة إليها أن يتوصل بحركتها إلى النطق باللام، فإذا حصل حرف آخر توصلوا بحركته إلى النطق بهذه اللام، فتحذف هذه الهمزة صورة ومعنى، حقيقة وحكما، وإذا كان كذلك امتنع أن يقال: ألقيت حركتها على الميم لتدل تلك الحركة عل كونها باقية حكما، لأن هذا إنما يصار إليه حيث يتعلق بوجوده حكم من الأحكام، أو أثر من الآثار، لكنا بينا أنه ليس الأمر كذلك فعلمنا أن تلك الهمزة سقطت بذاتها وبآثارها سقوطا كليا، وبهذا يبطل قول الفراء.
المقدمة الثالثة: أسماء هذه الحروف موقوفة الأواخر، وذلك متفق عليه.
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: الميم من قولنا * (ألم) * ساكن ولام التعريف من قولنا * (الله) * ساكن، وقد اجتمعا فوجب تحريك الميم، ولزم سقوط الهمزة بالكلية صورة ومعنى، وصح بهذا
164

البيان قول سيبويه، وبطل قول الفراء.
أما البحث الثاني: فلقائل أن يقول: الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر، فلم اختير الفتح ههنا، قال الزجاج في الجواب عنه: الكسر ههنا لا يليق، لأن الميم من قولنا * (ألم) * مسبوقة بالياء فلو جعلت الميم مكسورة لاجتمعت الكسرة مع الياء وذلك ثقيل، فتركت الكسرة واختيرت الفتحة، وطعن أبو علي الفارسي في كلام الزجاج، وقال: ينتقض قوله بقولنا: جير، فإن الراء مكسورة مع أنها مسبوقة بالياء، وهذا الطعن عندي ضعيف، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها، فإذا اجتمعا عظم الثقل، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك * (الله) * وهو في غاية الخفة، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا * (الله) * فكان النطق به سهلا، فهذا
وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم.
المسألة الثانية: في سبب نزول أول هذه السورة قولان:
القول الأول: وهو قول مقاتل بن سليمان: أن بعض أول هذه السورة في اليهود، وقد ذكرناه في تفسير * (ألم، ذلك الكتاب) * (البقرة: 1، 2).
والقول الثاني: من ابتداء السورة إلى آية المباهلة في النصارى، وهو قول محمد بن إسحاق قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم، أحدهم: أميرهم، واسمه عبد المسيح، والثاني: مشيرهم وذو رأيهم، وكانوا يقولون له: السيد، واسمه الأيهم، والثالث: حبرهم وأسقفهم وصاحب مدراسهم، يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، وملوك الروم كانوا شرفوه ومولوه وأكرموه لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما قدموا من بحران ركب أبو حارثة بغلته، وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة، فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت، فقال كرز أخوه: تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو حارثة: بل تعست أمك، فقال: ولم يا أخي؟ فقال: إنه والله النبي الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه كرز: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا، قال: لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة وأكرمونا، فلو آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم لأخذوا منا كل هذه الأشياء، فوقع ذلك في قلب أخيه كرز، وكان يضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك، ثم تكلم أولئك الثلاثة: الأمير، والسيد والحبر، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على اختلاف من أديانهم، فتارة يقولون عيسى هو الله، وتارة يقولون: هو ابن الله، وتارة يقولون: ثالث ثلاثة،
165

ويحتجون لقولهم: هو الله، بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير، ويحتجون في قولهم: إنه ولد الله بأنه لم يكن له أب يعلم، ويحتجون على ثالث ثلاثة بقول الله تعالى: فعلنا وجعلنا، ولو كان واحدا لقال فعلت فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلموا، فقالوا: قد أسلمنا، فقال صلى الله عليه وسلم كذبتم كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولدا، وتعبدون الصليب، وتأكلون الخنزير، قالوا: فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يناظر معهم، فقال: ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه، فهل يملك عيسى شيئا من ذلك؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئا من ذلك إلا ما علم؟ قالوا: لا، قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وتعلمون أن عيسى حملته امرأة كحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب، ويحدث الحدث قالوا: بلى فقال صلى الله عليه وسلم: " فكيف يكون كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، ثم قالوا: يا محمد ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال: بلى "، قالوا: فحسبنا فأنزل الله تعالى: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه) * الآية.
ثم إن الله تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بملاعنتهم إذ ردوا عليه ذلك، فدعاهم رسول الله إلى الملاعنة، فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما تريد أن نفعل، فانصرفوا ثم قال بعض أولئك الثلاثة لبعض: ما ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيا قط إلا وفى كبيرهم وصغيرهم، وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم، وأنتم قد أبيتم إلا دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك، ونرجع نحن على ديننا، فابعث رجلا من أصحابك معنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا، فقال عليه السلام: آتوني العشية أبعث معكم الحكم القوي الأمين وكان عمر يقول: ما أحببت الإمارة قط إلا يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فلما صلينا مع رسول الله صلى
166

الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره، وجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يردد بصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه فقال: اخرج معهم واقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه، قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة.
واعلم أن هذه الرواية دالة على أن المناظرة فيي تقرير الدين وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأن مذهب الحشوية في إنكار البحث والنظر باطل قطعا، والله أعلم.
المسألة الثالثة: إعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب، وذلك لأن أولئك النصارى الذين نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل لهم: إما أن تنازعوه في معرفة الإله، أو في النبوة، فإن كان النزاع في معرفة الإله وهو أنكم تثبتون له ولدا وأن محمدا لا يثبت له ولدا فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم، والحي القيوم يستحيل عقلا أن يكون له ولد وإن كان النزاع في النبوة، فهذا أيضا باطل، لأن بالطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى فهو بعينه قائم في محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا بالمعجزة وهو حاصل ههنا، فكيف يمكن منازعته في صحة النبوة، فهذا هو وجه النظم وهو مضبوط حسن جدا فلننظر ههنا إلى بحثين.
البحث الأول: ما يتعلق بالإلهيات فنقول: إنه تعالى حي قيوم، وكل من كان حيا قيوما يمتنع أن يكون له ولد، وإنما قلنا: إنه حي قيوم، لأنه واجب الوجود لذاته، وكل ما سواه فإنه ممكن لذاته محدث حصل تكوينه وتخليقه وإيجاده على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى: * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * وإذا كان الكل محدثا مخلوقا امتنع كون شيء منها ولدا له وإلها، كما قال: * (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * (مريم: 93) وأيضا لما ثبت أن الإله
يجب أن يكون حيا قيوما، وثبت أن عيسى ما كان حيا قيوما لأنه ولد، وكان يأكل ويشرب ويحدث، والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه، فثبت أنه ما كان حيا قيوما، وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلها، فهذه الكلمة وهي قوله * (الحي القيوم) * جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث.
وأما البحث الثاني: وهو ما يتعلق بالنبوة، فقد ذكره الله تعالى ههنا في غاية الحسن ونهاية الجودة، وذلك لأنه قال: * (نزل عليك الكتاب بالحق) * (آل عمران: 3) وهذا يجري مجرى الدعوى، ثم إنه تعالى أقام الدلالة على صحة هذه الدعوى، فقال: وافقتمونا أيها اليهود والنصارى على أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، فإنما عرفتم أن التوراة والإنجيل كتابان إلهيان، لأنه تعالى قرن
167

بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قول المحق وقول المبطل والمعجز لما حصل به الفرق بين الدعوى الصادقة والدعوى الكاذبة كان فرقا لا محالة، ثم أن الفرقان الذي هو المعجز كما حصل في كون التوراة والإنجيل نازلين من عند الله، فكذلك حصل في كون القرآن نازلا من عند الله وإذا كان الطريق مشتركا، فإما أن يكون الواجب تكذيب الكل على ما هو قول البراهمة، أو تصديق الكل على ما هو قول المسلمين، وأما قبول البعض ورد البعض فذلك جهل وتقليد، ثم إنه تعالى لما ذكر ما هو العمدة في معرفة الإله على ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، وما هو العمدة في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم أردفه بالتهديد والوعيد فقال: * (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) * (آل عمران: 4) فقد ظهر أنه لا يمكن أن يكون كلام أقرب إلى الضبط، وإلى حسن الترتيب وجودة التأليف من هذا الكلام، والحمد لله على ما هدى هذا المسكين إليه، وله الشكر على نعمه التي لا حد لها ولا حصر.
ولما لخصنا ما هو المقصود الكلي من الكلام فلنرجع إلى تفسير كل واحد من الألفاظ.
أما قوله * (الله لا إله إلا هو) * فهو رد على النصارى لأنهم كانوا يقولون بعبادة عيسى عليه السلام فبين الله تعالى أن أحدا لا يستحق العبادة سواه.
ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقال: * (الحي القيوم) * فأما الحي فهو الفعال الدراك وأما القيوم فهو القائم بذاته، والقائم بتدبير الخلق والمصالح لما يحتاجون إليه في معاشهم، من الليل والنهار، والحر والبرد، والرياح والأمطار، والنعم التي لا يقدر عليها سواه، ولا يحصيها غيره، كما قال تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34) وقرأ عمر رضي الله عنه * (الحي القيوم) * قال قتادة، الحي الذي لا يموت، والقيوم القائم على خلقه بأعمالهم، وآجالهم، وأرزاقهم، وعن سعيد بن جبير: الحي قبل كل حي، والقيوم الذي لا ند له، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن قولنا: الحي القيوم محيط بجميع الصفات المعتبرة في الإلهية، ولما ثبت أن المعبود يجب أن يكون حيا قيوما ودلت البديهة والحسن على أن عيسى عليه السلام ما كان حيا قيوما، وكيف وهم يقولون بأنه قتل وأظهر الجزع من الموت. علمنا قطعا أن عيسى ما كان إلها، ولا ولدا للإله تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وأما قوله تعالى
* (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) *.
168

فاعلم أن الكتاب ههنا هو القرآن، وقد ذكرنا في أول سورة البقرة اشتقاقه، وإنما خص القرآن بالتنزيل، والتوراة والإنجيل بالإنزال، لأن التنزيل للتكثير، والله تعالى نزل القرآن نجما نجما، فكان معنى التكثير حاصلا فيه، وأما التوراة والإنجيل فإنه تعالى أنزلهما دفعة واحدة، فلهذا خصهما بالإنزال، ولقائل أن يقول: هذا يشكل بقوله تعالى: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) * (الكهف: 1) وبقوله * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) * (الإسراء: 105).
واعلم أنه تعالى وصف القرآن المنزل بوصفين:
الوصف الأول: قوله * (بالحق) * قال أبو مسلم: إنه يحتمل وجوها أحدها: أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة وثانيها: أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال، ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل وثالثها: أنه حق بمعنى أنه قول فصل، وليس بالهزل ورابعها: قال الأصم: المعنى أنه تعالى أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية، وشكر النعمة، وإظهار الخضوع، وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات وخامسها: أنزله بالحق لا بالمعاني الفاسدة المتناقضة، كما قال: * (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) * وقال: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82). والوصف الثاني: لهذا الكتاب قوله * (مصدقا لما بين يديه) * والمعنى أنه مصدق لكتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولما أخبروا به عن الله عز وجل، ثم في الآية وجهان الأول: أنه تعالى دل بذلك على صحة القرآن، لأنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقا لسائر الكتب، لأنه كان أميا لم يختلط بأحد من العلماء، ولا تتلمذ لأحد، ولا قرأ على أحد شيئا، والمفتري إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب والتحريف، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص بوحي الله تعالى الثاني: قال أبو مسلم: المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبيا قط إلا بالدعاء إلى توحيده، والإيمان به، وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان، فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك، بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه.
والجواب: أن تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم.
السؤال الثاني: كيف يكون مصدقا لما تقدمه من الكتب، مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام؟.
والجواب: إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثه، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن، كانت موافقة للقرآن، فكان
القرآن مصدقا لها،
169

وأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها، لأن دلائل المباحث الإلهية لا تختلف في ذلك، فهو مصدق لها في الأخبار الواردة في التوراة والإنجيل.
ثم قال الله تعالى: * (وأنزل التوراة والإنجيل) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": التوراة والإنجيل اسمان أعجميان، والاشتغال باشتقاقهما غير مفيد، وقرأ الحسن * (والأنجيل) * بفتح الهمزة، وهو دليل على العجمية، لأن أفعيل بفتح الهمزة معدوم في أوزان العرب، واعلم أن هذا القول هو الحق الذي لا محيد عنه، ومع ذلك فننقل كلام الأدباء فيه.
أما لفظ * (التوراة) * ففيه أبحاث ثلاثة:
البحث الأول: في اشتقاقه، قال الفراء * (التوراة) * معناها الضياء والنور، من قول العرب ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت النار، قال الله تعالى: * (فالموريات قدحا) * (العاديات: 2) ويقولون: وريت بك زنادي، ومعناه: ظهر بك الخير لي، فالتوراة سميت بهذا الاسم لظهور الحق بها، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء) * (الأنبياء: 48).
البحث الثاني: لهم في وزنه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال الفراء: أصل * (التوراة) * تورية تفعلة بفتح التاء، وسكون الواو، وفتح الراء والياء، إلا أنه صارت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
القول الثاني: قال الفراء: ويجوز أن تكون تفعلة على وزن ترفية وتوصية، فيكون أصلها تورية، إلا أن الراء نقلت من الكسر إلى الفتح على لغة طيئ، فإنهم يقولون في جارية: جاراة، وفي ناصية: ناصاة، قال الشاعر: فما الدنيا بباقاة لحيو * ما حي على الدنيا بباق
والقول الثالث: وهو قول الخليل والبصريين: إن أصلها: وورية، فوعلة، ثم قلبت الواو الأولى تاء، وهذا القلب كثير في كلامهم، نحو: تجاه، وتراث، وتخمة، وتكلان، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت * (توراة) * وكتبت بالياء على أصل الكلمة، ثم طعنوا في قول الفراء، أما الأول: فقالوا: هذا البناء نادر، وأما فوعلة فكثير، نحو: صومعة، وحوصلة، ودوسرة والحمل على الأكثر أولى، وأما الثاني: فلأنه لا يتم إلا بحمل اللفظ على لغة طيئ، والقرآن ما نزل بها البتة.
البحث الثالث: في التوراة قراءتان: الإمالة والتفخيم، فمن فخم فلأن الراء حرف يمنع الإمالة لما فيه من التكرير، والله أعلم.
170

وأما الإنجيل ففيه أقوال الأول: قال الزجاج: إنه افعيل من النجل، وهو الأصل، يقال: لعن الله ناجليه، أي والديه، فسمي ذلك الكتاب بهذا الاسم، لأن الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين والثاني: قال قوم: الإنجيل مأخوذ من قول العرب: نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته ويقال للماء الذي يخرج من البئر: نجل، ويقال: قد استنجل الوادي، إذا خرج الماء من النز فسمي الإنجيل إنجيلا لأنه تعالى أظهر الحق بواسطته والثالث: قال أبو عمرو الشيباني: التناجل التنازع، فسمي ذلك الكتاب بالإنجيل لأن القوم تنازعوا فيه والرابع: أنه من النجل الذي هو سعة العين، ومنه طعنة نجلاء، سمي بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه لهم.
وأقول: أمر هؤلاء الأدباء عجيب كأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذا من شيء آخر، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل وإما الدور، ولما كانا باطلين وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وضعا أولا: حتى يجعل سائر الألفاظ مشتقة منها، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقا من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا، والفرع هو ذاك الآخر ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل، وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعا ومشتقا في غاية الشهرة، وذاك الذي يجعلونه أصلا في غاية الخفاء، وأيضا فلو كانت التوراة إنما سميت توراة لظهورها، والإنجيل إنما سمي إنجيلا لكونه أصلا وجب في كل ما ظهر أن يسمى بالتوراة فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة، ووجب في كل ما كان أصلا لشيء آخر أن يسمى بالإنجيل، والطين أصل الكوز، فوجب أن يكون الطين إنجيلا والذهب أصل الخاتم والغزل أصل الثوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل، ومعلوم أنه ليس كذلك، ثم أنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع، ويقولوا: العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة، فلم لا نتمسك به في أول الأمر ونريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات، وأيضا فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب، فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (من قبل هدى للناس) *.
فاعلم أنه تعالى بين أنه أنزل التوراة والإنجيل قبل أن أنزل القرآن، ثم بين أنه إنما أنزلهما هدى
171

للناس، قال الكعبي: هذه الآية دالة على بطلان قول من يزعم أن القرآن عمي على الكافرين وليس بهدى لهم، ويدل على معنى قوله * (وهو عليهم عمى) * (فصلت: 44) أن عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز، كقول نوح عليه السلام * (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) * (نوح: 6) لما فروا عنده.
واعلم أن قوله * (هدى للناس) * فيه احتمالان الأول: أن يكون ذلك عائدا إلى التوراة والإنجيل فقط، وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى والوصفان متقاربان.
فإن قيل: إنه وصف القرآن في أول سورة البقرة بأنه هدى للمتقين، فلم لم يصفه ههنا به؟.
قلنا: فيه لطيفة، وذلك لأنا ذكرنا في سورة البقرة أنه إنما قال: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) لأنهم هم المنتفعون به، فصار من الوجه هدى لهم لا لغيرهم، أما
ههنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يهتدون بالقرآن فلا جرم لم يقل ههنا في القرآن أنه هدى بل قال: إنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون في صحتهما ويدعون بأنا إنما نتقول في ديننا عليهما فلا جرم وصفهما الله تعالى لأجل هذا التأويل بأنهما هدى، فهذا ما خطر بالبال والله أعلم. القول الثاني: وهو قول الأكثرين: أنه تعالى وصف الكتب الثلاثة بأنها هدى، فهذا الوصف عائد إلى كل ما تقدم وغير مخصوص بالتوراة والإنجيل والله أعلم بمراده.
ثم قال: * (وأنزل الفرقان) *.
ولجمهور المفسرين فيه أقوال الأول: أن المراد هو الزبور، كما قال: * (وآتينا داود زبورا) * (النساء: 163) والثاني: أن المراد هو القرآن، وإنما أعاده تعظيما لشأنه ومدحا بكونه فارقا بين الحق والباطل أو يقال: إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فرقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير فلا تكرار.
والقول الثالث: وهو قول الأكثرين: أن المراد أنه تعالى كما جعل الكتب الثلاثة هدى ودلالة، فقد جعلها فارقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع، فصار هذا الكلام دالا على أن الله تعالى بين بهذه الكتب ما يلزم عقلا وسمعا، هذا جملة ما قاله أهل التفسير
172

في هذه الآية وهي عندي مشكلة أما حمله على الزبور فهو بعيد، لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، بل ليس فيه إلا المواعظ، ووصف التوراة والإنجيل مع اشتمالهما على الدلائل، وبيان الأحكام بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك، وأما القول الثاني: وهو حمله على القرآن فبعيد من حيث إن قوله * (وأنزل الفرقان) * عطف على ما قبله، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه والقرآن مذكور قبل هذا فهذا يقتضي أن يكون هذا الفرقان مغايرا للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث، لأن كون هذه الكتب فارقة بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب وعطف الصفة على الموصوف وإن كان قد ورد في بعض الأشعار النادرة إلا أنه ضعيف بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام الله تعالى، والمختار عندي في تفسير هذه الآية وجه رابع، وهو أن المراد من هذا الفرقان المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب، وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله تعالى افتقروا في إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين، فلما أظهر الله تعالى على وفق دعواهم تلك المعجزات حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر الله تعالى أنه أنزل الكتاب بالحق، وأنه أنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك، بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا هو ما عندي في تفسير هذه الآية، وهب أن أحدا من المفسرين ما ذكره إلا أن حمل كلام الله تعالى عليه يفيد قوة المعنى، وجزالة اللفظ، واستقامة الترتيب والنظم، والوجوه التي ذكروها تنافي كل ذلك، فكان ما ذكرناه أولى والله أعلم بمراده.
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر في هذه الألفاظ القليلة جميع ما يتعلق بمعرفة الإله، وجميع ما يتعلق بتقرير النبوة أتبع ذلك بالوعيد زجرا للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال:
* (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) *.
واعلم أن بعض المفسرين خصص ذلك بالنصارى، فقصر اللفظ العام على سبب نزوله، والمحققون من المفسرين قالوا: خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله تعالى.
173

ثم قال: * (والله عزيز ذو انتقام) *.
والعزيز الغالب الذي لا يغلب والانتقام العقوبة، يقال انتقم منه انتقاما أي عاقبه، وقال الليث يقال: لم أرض عنه حتى نقمت منه وانتقمت إذا كافأه عقوب بما صنع، والعزيز أشار إلى القدرة التامة على العقاب، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب، فالأول: صفة الذات، والثاني: صفة الفعل، والله أعلم.
قوله تعالى
* (إن الله لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السمآء * هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشآء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) *.
إعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين:
الاحتمال الأول: أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم، وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين أحدهما: أن يكون عالما بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية والثاني: أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها، والأول: لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات، والثاني: لا يتم إلا إذا كان قادرا على جميع الممكنات، فقوله * (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) * إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات، فحينئذ يكون عالما لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات، لا يشغله سؤال عن سؤال، ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين ثم قوله * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) * إشارة إلى كونه تعالى قادرا على جميع الممكنات، وحينئذ يكون قادرا على تحصيل مصالح جميع الخلق ومنافعهم، وعند حصول هذين الأمرين يظهر كونه قائما بالقسط قيوما بجميع الممكنات والكائنات، ثم فيه لطيفة أخرى، وهي أن قوله * (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) * كما ذكرناه إشارة إلى كمال علمه سبحانه، والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالما لا يجوز أن يكون هو السمع، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى
174

عالما بجميع المعلومات، بل الطريق إليه ليس إلا الدليل العقلي، وذلك هو أن نقول: إن أفعال الله تعالى محكمة متقنة، والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالما
، فلما كان دليل كونه تعالى عالما هو ما ذكرنا، فحين ادعى كونه عالما بكل المعلومات بقوله * (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) * أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك، وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة، والتركيب الغريب، وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، فبعضها عظام، وبعضها غضاريف، وبعضها شرايين، وبعضها أوردة، وبعضها عضلات، ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن، والتأليف الأكمل، وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون، ويدل على كونه عالما من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم، فكان قوله * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) * دالا على كونه قادرا على كل الممكنات، ودالا على صحة ما تقدم من قوله * (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) * وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، وقادر على كل الممكنات، ثبت أنه قيوم المحدثات والممكنات، فظهر أن هذا كالتقرير لما ذكره تعالى أولا من أنه هو الحي القيوم، ومن تأمل في هذه اللطائف علم أنه لا يعقل كلام أكثر فائدة، ولا أحسن ترتيبا، ولا أكثر تأثيرا في القلوب من هذه الكلمات.
والاحتمال الثاني: أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها، وذلك لأن النصارى ادعوا إلهية عيسى عليه السلام، وعولوا في ذلك على نوعين من الشبه، أحد النوعين شبه مستخرجة من مقدمات مشاهدة، والنوع الثاني: شبه مستخرجة من مقدمات إلزامية.
أما النوع الأول من الشبه: فاعتمادهم في ذلك على أمرين أحدهما: يتعلق بالعلم والثاني: يتعلق بالقدرة.
أما ما يتعلق بالعلم فهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب، وكان يقول لهذا: أنت أكلت في دارك كذا، ويقول لذاك: إنك صنعت في دارك كذا، فهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالعلم.
وأما الأمر الثاني من شبههم، فهو متعلق بالقدرة، وهو أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالقدرة، وليس للنصارى شبه في المسألة سوى هذين النوعين، ثم إنه تعالى لما استدل على بطلان قولهم في إلهية عيسى وفي التثليث بقوله * (الحي القيوم) * (البقرة: 255) يعني الإله
175

يجب أن يكون حيا قيوما، وعيسى ما كان حيا قيوما، لزم القطع إنه ما كان إلها، فأتبعه بهذه الآية ليقرر فيها ما يكون جوابا عن هاتين الشبهتين:
أما الشبهة الأولى: وهي المتعلقة بالعلم، وهي قولهم: إنه أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلها، فأجاب الله تعالى عنه بقوله * (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) * وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالما ببعض المغيبات أن يكون إلها لاحتمال أنه إنما علم ذلك بوحي من الله إليه، وتعليم الله تعالى له ذلك، لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات يدل دلالة قاطعة على أنه ليس بإله لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإن الإله هو الذي يكون خالقا، والخالق لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى عليه السلام ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات، فكيف والنصارى يقولون: إنه أظهر الجزع من الموت فلو كان عالما بالغيب كله، لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله، وأنه يتأذى بذلك ويتألم، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه، فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات والإله هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات، فوجب القطع بأن عيسى عليه السلام ما كان إلها فثبت أن الاستدلال بمعرفة بعض الغيب لا يدل على حصول الإلهية، وأما الجهل ببعض الغيب يدل قطعا على عدم الإلهية، فهذا هو الجواب عن النوع الأول من الشبه المتعلقة بالعلم.
أما النوع الثاني: من الشبه، وهو الشبهة المتعلقة بالقدرة فأجاب الله تعالى عنها بقوله * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) * والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلها، لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهارا لمعجزته وإكراما له.
أما العجز عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم الإلهية، وذلك لأن الإله هو الذي يكون قادرا على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب، والتأليف الغريب ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادرا على الإحياء والإماتة على هذا الوجه وكيف، ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه، فثبت أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلها، أما عدم حصولهما على وفق مراده في سائر الصور يدل على أنه ما كان إلها، فظهر بما ذكر أن هذه الشبهة الثانية أيضا ساقطة.
وأما النوع الثاني من الشبه: فهي الشبه المبنية على مقدمات إلزامية، وحاصلها يرجع إلى نوعين.
176

النوع الأول: أن النصارى يقولون: أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر، فوجب أن يكون ابنا له فأجاب الله تعالى عنه أيضا بقوله * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) * لأن هذا التصوير لما كان منه فإن شاء صوره من نطفة الأب وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب.
والنوع الثاني: أن النصارى قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم ألست تقول: إن عيسى روح الله وكلمته، فهذا يدل على أنه ابن الله، فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي، واللفظ محتمل للحقيقة والمجاز، فإذا ورد اللفظ بحيث يكون ظاهره مخالفا للدليل العقلي كان من باب المتشابهات، فوجب رده إلى التأويل، وذلك هو المراد بقوله * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) * (آل عمران: 7) فظهر بما ذكرنا أن قوله * (الحي القيوم) * إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإله ولا ابن له، وأما قوله * (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) * فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم، وقوله * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) * جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة، وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر، فوجب أن يكون ابنا لله،
وأما قوله * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * (آل عمران: 7) فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن أن عيسى روح الله وكلمته، ومن أحاط علما بما ذكرناه ولخصناه علم أن هذا الكلام على اختصاره أكثر تحصيلا من كل ما ذكره المتكلمون في هذا الباب، وأنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت هذه الآية عليه، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأما كلام من قبلنا من المفسرين في تفسير هذه الآيات فلم نذكره لأنه لا حاجة إليه فمن أراد ذلك طالع الكتب، ثم أنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد زجرا للنصارى عن قولهم بالتثليث، فقال: * (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم، وهو تقرير لما تقدم من أن علم المسيح ببعض الغيوب، وقدرته على الإحياء والإماتة في بعض الصور لا يكفي في كونه إلها فإن الإله لا بد وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز، وكامل العلم وهو الحكيم، وبقي في الآية أبحاث لطيفة، أما قوله * (لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) * فالمراد أنه لا يخفى عليه شيء.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله * (في الأرض ولا في السماء) * مع أنه لو أطلق كان أبلغ.
قلنا: الغرض بذلك إفهام العباد كمال علمه، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السماوات والأرض أقوى، وذلك لأن الحس يرى عظمة السماوات والأرض، فيعين العقل على معرفة عظمة علم الله
177

عز وجل والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل، ولذلك فإن المعاني الدقيقة إذا أريد إيضاحها ذكر لها مثال، فإن المثال يعين على الفهم.
أما قوله * (هو الذي يصوركم) * قال الواحدي: التصوير جعل الشيء على صورة، والصورة هيأة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه وأصله من صاره يصوره إذا أماله، فهي صورة لأنها مائلة إلى شكل أبويه وتمام الكلام فيه ذكرناه في قوله تعالى: * (فصرهن إليك) * (البقرة: 260) وأما * (الأرحام) * فهي جمع رحم وأصلها من الرحمة، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة والعطف، فلهذا سمي ذلك العضو رحما والله أعلم.
قوله تعالى
* (هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه بتغآء الفتنة وابتغآء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الالباب) *.
إعلم أن في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا في اتصال قوله * (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) * بما قبله احتمالين أحدهما: أن ذلك كالتقرير لكونه قيوما والثاني: أن ذلك الجواب عن شبه النصارى، فأما على الاحتمال الأول فنقول: إنه تعالى أراد أن يبين أنه قيوم وقائم بمصالح الخلق ومصالح الخلق قسمان: جسمانية وروحانية، أما الجسمانية فأشرفها تعديل البنية، وتسوية المزاج على أحسن الصور وأكمل الأشكال، وهو المراد بقوله * (هو الذي يصوركم في الأرحام) * (آل عمران: 6) وأما الروحانية فأشرفها العلم الذي تصير الروح معه كالمرآة المجلوة التي تجلت صور جميع الموجودات فيها وهو المراد بقوله * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * وأما على الاحتمال الثاني فقد ذكرنا أن من جملة
178

شبه النصارى تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام: إنه روح الله وكلمته، فبين الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكم وعلى متشابه، والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم، هو في غاية الحسن والاستقامة.
المسألة الثانية: إعلم أن القرآن دل على أنه بكليته محكم، ودل على أنه بكليته متشابه، ودل على أن بعضه محكم، وبعضه متشابه.
أما ما دل على أنه بكليته محكم، فهو قوله * (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) * (يونس: 1) * (الر كتاب أحكمت آياته) * (هود: 1) فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم، والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه كلاما حقا فصيح الألفاظ صحيح المعاني وكل قول وكلام يوجد كان القرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى ولا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذين الوصفين، والعرب تقول في البناء الوثيق والعقد الوثيق الذي لا يمكن حله: محكم، فهذا معنى وصف جميعه بأنه محكم.
وأما ما دل على أنه بكليته متشابه، فهو قوله تعالى: * (كتابا متشابها مثاني) * (الزمر: 23) والمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82) أي لكان بعضه واردا على نقيض الآخر، ولتفاوت نسق الكلام في الفصاحة والركاكة.
وأما ما دل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فهو هذه الآية التي نحن في تفسيرها، ولا بد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، ثم من تفسيرهما في عرف الشريعة: أما المحكم فالعرب تقول: حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت، ومنعت، والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحكمة اللجام التي هي تمنع الفرس عن الاضطراب، وفي حديث النخعي: احكم اليتيم كما تحكم ولدك أي امنعه عن الفساد، وقال جرير: أحكموا سفهاءكم، أي امنعوهم، وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له، وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي، وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز، قال الله تعالى: * (إن البقر تشابه علينا) * (البقرة: 70) وقال في وصف ثمار الجنة * (وأتوا به متشابها) * (البقرة: 25) أي متفق المنظر مختلف الطعوم، وقال الله تعالى: * (تشابهت قلوبهم) * (البقرة: 118) ومنه يقال: اشتبه علي الأمران إذا لم يفرق بينهما، ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، وقال عليه السلام: " الحلال بين
والحرام بين وبينهما أمور متشابهات " وفي رواية أخرى مشتبهات.
ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه، إطلاقا لاسم السبب على المسبب، ونظيره المشكل سمي بذلك، لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشابهه، ثم يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مشكل، ويحتمل أن يقال: إنه الذي لا يعرف أن الحق ثبوته أو عدمه، وكان الحكم بثبوته مساويا للحكم بعدمه في العقل
179

والذهن ومشابها بها له، وغير متميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان، فلا جرم سمي غير المعلوم بأنه متشابه، فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، فنقول:
الناس قد أكثروا من الوجوه في تفسير المحكم والمتشابه، ونحن نذكر الوجه الملخص الذي عليه أكثر المحققين، ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول:
اللفظ الذي جعل موضوعا لمعنى، فإما أن يكون محتملا لغير ذلك المعنى، وإما أن لا يكون فإذا كان اللفظ موضوعا لمعنى ولا يكون محتملا لغيره فهذا هو النص، وأما إن كان محتملا لغيره فلا يخلو إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحا على الآخر، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون احتماله لهما على السواء، فإن كان احتماله لأحدهما راجحا على الآخر سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهرا، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولا، وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معا مشتركا، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملا، فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه أن اللفظ إما أن يكون نصا، أو ظاهرا، أو مؤولا، أو مشتركا، أو مجملا، أما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح مانع من الغير، والظاهر راجح غير مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم.
وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة، وإن لم يكن راجحا لكنه غير مرجوح، والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعا وقد بينا أن ذلك يسمى متشابها إما لأن الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابها للإثبات في الذهن، وإما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم، فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقا لاسم السبب على المسبب، فهذا هو الكلام المحصل في المحكم والمتشابه، ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية، فههنا يتوقف الذهن، مثل: القرء، بالنسبة إلى الحيض والطهر، إنما المشكل بأن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحا في أحد المعنيين، ومرجوحا في الآخر، ثم كان الراجح باطلا، والمرجوح حقا، ومثاله من القرآن قوله تعالى: * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول) * (الإسراء: 16) فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا، ومحكمه قوله تعالى: * (إن الله لا يأمر بالفحشاء) * (الأعراف: 28) ردا على الكفار فيما حكى عنهم * (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) * (الأعراف: 28) وكذلك قوله تعالى: * (نسوا الله فنسيهم) * (التوبة: 67) وظاهر النسيان ما يكون ضدا للعلم، ومرجوحه الترك والآية المحكمة فيه قوله تعالى: * (وما كان ربك نسيا) * (مريم: 64) وقوله تعالى: * (لا يضل ربي ولا ينسى) * (طه: 52).
واعلم أن هذا موضع عظيم فنقول: إن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة
180

لمذهبه محكمة، وأن الآيات الموافقة لقول خصمه متشابهة، فالمعتزلي يقول قوله * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 29) محكم، وقوله * (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين) * (التكوير: 29) متشابه والسئ يقلب الأمر في ذلك فلا بد ههنا من قانون يرجع إليه في هذا الباب فنقول: اللفظ إذا كان محتملا لمعنيين وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحا، وبالنسبة إلى الآخر مرجوحا، فإن حملناه على الراجح ولم نحمله على المرجوح، فهذا هو المحكم وأما إن حملناه على المرجوح ولم نحمله على الراجح، فهذا هو المتشابه فنقول: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل، وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيا وإما أن يكون عقليا.
أما القسم الأول: فنقول: هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظيين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما رعاية لظاهر الآخر أولى من العكس، اللهم إلا أن يقال: إن أحدهما قاطع في دلالته والآخر غير قاطع فحينئذ يحصل الرجحان، أو يقال: كل واحد منهما وإن كان راجحا إلا أن أحدهما يكون أرجح، وحينئذ يحصل الرجحان إلا أنا نقول:
أما الأول فباطل، لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة البتة، لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز، وعدم التخصيص، وعدم الإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي، وكان ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا، فثبت أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعا.
وأما الثاني وهو أن يقال: أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائما فيهما معا، فهذا صحيح، ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنيا، ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية، بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهية فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال، وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره، فعند هذا يتعين التأويل، فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلا ثم إذا أقامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره، فعند هذا
181

لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف، وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال فلهذا التحقيق المتين مذهبا أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل، فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب، والله ولي الهداية والرشاد.
المسألة الثالثة: في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول: ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام * (قل تعالوا) * (الأنعام: 151) إلى آخر الآيات الثلاث، والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود، وهي أسماء حروف الهجاء المذكور في أوائل السور، وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه، وأقول: التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع، وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى، والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق، ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك، فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس، لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم.
وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل، وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية، فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة.
القول الثاني: وهو أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ.
والقول الثالث: قال الأصم: المحكم هو الذي يكون دليله واضحا لائحا، مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى: * (ثم خلقنا النطفة علقة) * (المؤمنون: 14) وقوله * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) * (الأنبياء: 30) وقوله * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * (البقرة: 22) والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا ترابا ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكما لأن من قدر على الإنشاء أو لا قدر على الإعادة ثانيا.
182

واعلم أن كلام الأصم غير ملخص، فإنه إن عني بقوله: المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة، والمتشابه ما لا يكون كذلك، وهو إما المجمل المتساوي، أو المؤول المرجوح، فهذا هو الذي ذكرناه أولا، وإن عني به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل، فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل، والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل، وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابها، لأن قوله * (فخلقنا النطفة علقة) * أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية، وإن أهل الطبيعة يقولون: السبب في ذلك الطبائع والفصول، أو تأثيرات الكواكب، وتركيبات العناصر وامتزاجاتها، فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل، فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله تعالى مفتقر إلى الدليل، ولعل الأصم يقول: هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل، إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهرا بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادرا، ومنها ما يكون الدليل فيه خفيا كثير المقدمات غير مرتبة فالقسم الأول: هو المحكم والثاني: هو المتشابه.
القول الرابع: أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي، أو بدليل خفي، فذاك هو المحكم، وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه، وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة، والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين، ونظيره قوله تعالى: * (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) * (الأعراف: 187) (النازعات: 42).
المسألة الرابعة: في الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن محكما وبعضه متشابها.
إعلم أن من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، وقال: إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر، كقوله تعالى: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) * (الأنعام: 103) والقدري يقول: بل هذا مذهب الكفار، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر) * (الأنعام: 25) وفي موضع آخر * (وقالوا قلوبنا غلف) * (الإسراء: 46) وأيضا مثبت الرؤية يتمسك بقوله * (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة) * (القيامة: 22، 23) والنافي يتمسك بقوله * (لا تدركه الأبصار) * (الأنعام: 103) ومثبت الجهة يتمسك بقوله * (يخافون ربهم من فوقهم) * (النحل: 50) وبقوله * (الرحمان على العرش استوى) * (طه: 5) والنافي يتمسك بقوله * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة
183

لمذهبه: محكمة، والآيات المخالفة لمذهبه: متشابهة وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام الساعة هكذا، أليس أنه لو جعله ظاهرا جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض.
واعلم أن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوها:
الوجه الأول: أنه متى كانت المتشابهات موجودة، كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب، قال الله تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * (آل عمران: 142).
الوجه الثاني: لو كان القرآن محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملا على المحكم وعلى المتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه، ويؤثر مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق.
الوجه الثالث: أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد.
الوجه الرابع: لما كان القرآن مشتملا على المحكم والمتشابه، افتقروا إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة.
الوجه الخامس: وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به
184

في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات، فهذا ما حضرنا في هذا الباب والله أعلم بمراده.
وإذا عرفت هذه المباحث فلنرجع إلى التفسير.
أما قوله تعالى: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * فالمراد به هو القرآن * (منه آيات محكمات) * وهي التي يكون مدلولاتها متأكدة إما بالدلائل العقلية القاطعة وذلك في المسائل القطعية، أو يكون مدلولاتها خالية عن معارضات أقوى منها.
ثم قال: * (هن أم الكتاب) * وفيه سؤالان:
السؤال الأول: ما معنى كون المحكم أما للمتشابه؟.
الجواب: الأم في حقيقة اللغة الأصل الذي منه يكون الشيء، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات وقيل: أن ما جرى في الإنجيل من ذكر الأب، وهو أنه قال: إن الباري القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق وبه ثبتت إلى أن يبعثها، فعبر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الابن، ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة، فكان قوله * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * (مريم: 35) محكما لأن معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية، وكان قوله: عيسى روح الله وكلمته من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم.
السؤال الثاني: لم قال: * (أم الكتاب) * ولم يقل: أمهات الكتاب؟.
الجواب: أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء آخر وأحدهما أم الآخر، ونظيره قوله تعالى: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) * (المؤمنون: 50) ولم يقل آيتين، وإنما قال ذلك على معنى أن مجموعهما آية واحدة، فكذلك ههنا. ثم قال: * (وأخر متشابهات) * وقد عرفت حقيقة المتشابهات، قال الخليل وسيبويه: أن * (أخر) * فارقت أخواتها في حكم واحد، وذلك لأن أخر جمع أخرى وأخرى تأنيث آخر وأخر على وزن أفعل وما كان على وزن أفعل فإنه يستعمل مع * (من) * أو بالألف واللام، فيقال: زيد أفضل من عمرو، وزيد الأفضل فالألف واللام معقبتان لمن في باب أفعل، فكان القياس أن يقال: زيد آخر من عمرو، أو يقال: زيد الآخر إلا أنهم حذفوا منه لفظ * (من) * لأن لفظه اقتضى معنى * (من) * فأسقطوها اكتفاء بدلالة اللفظ عليه والألف واللام معاقبتان لمن، فسقط الألف واللام أيضا
185

فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أخر فأخر جمعه، فصارت هذه اللفظة معدولة عن حكم نظائرها في سقوط الألف واللام عن جمعها ووحدانها.
ثم قال: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) * إعلم أنه تعالى لما بين أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه، بين أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه، والزيغ الميل عن الحق، يقال: زاغ زيغا: أي مال ميلا واختلفوا في هؤلاء الذين أريدوا بقوله * (في قلوبهم زيغ) * فقال الربيع: هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا: أليس هو كلمة الله وروح منه قال: بلى. فقالوا: حسبنا. فأنزل الله هذه الآية، ثم أنزل * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) * (آل عمران: 59) وقال الكلبي: هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور وقال قتادة والزجاج: هم الكفار الذين ينكرون البعث، لأنه قال في آخر الآية * (وما يعلم تأويله إلا الله) * وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقال المحققون: إن هذا يعم جميع المبطلين، وكل من احتج لباطله بالمتشابه، لأن اللفظ عام، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون * (ائتنا بعذاب الله) * (العنكبوت: 29) * (ومتى تأتينا الساعة) * (سبأ: 3)
* (لو ما تأتينا بالملائكة) * (الحجر: 7) فموهوا الأمر على الضعفة، ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * (طه: 5) فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصا بالحيز فإما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وإما أن يكون أكبر فيكون منقسما مركبا وكل مركب فإنه ممكن ومحدث، فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإله في مكان، فيكون قوله * (الرحمن على العرش استوى) * متشابها، فمن تمسك به كان متمسكا بالمتشابهات ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد، فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي، وثبت أن حصول ذلك الداعي من الله تعالى، وثبت متى كان الأمر كذلك كان حصول الفعل عند تلك الداعية واجبا، وعدمه عند عدم هذه الداعية واجبا، فحينئذ يبطل ذلك التفويض، وثبت أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته، فيصير استدلال المعتزلة بتلك الظواهر وإن كثرت استدلالا بالمتشابهات، فبين الله تعالى في كل هؤلاء الذين يعرضون عن الدلائل القاطعة ويقتصرون على الظواهر الموهمة أنهم يتمسكون بالمتشابهات لأجل أن في قلوبهم زيغا عن الحق وطلبا لتقرير الباطل.
186

واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة، والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة ثم هو الأمر في ذلك ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقوله: المجبرة الذين يضيفون الظلم والكذب، وتكليف ما لا يطاق إلى الله تعالى هم المتمسكون بالمتشابهات.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: الزائغ الطالب للفتنة هو من يتعلق بآيات الضلال، ولا يتأوله على المحكم الذي بينه الله تعالى بقوله * (وأضلهم السامري) * (طه: 85) * (وأضل فرعون قومه وما هدى) * (طه: 79) * (وما يضل به إلا الفاسقين) * (البقرة: 26) وفسروا أيضا قوله * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) * (الإسراء: 16) على أنه تعالى أهلكهم وأراد فسقهم، وأن الله تعالى يطلب العلل على خلقه ليهلكهم مع أنه تعالى قال: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) * (ويريد الله ليبين لكم ويهديكم) * (النساء: 26) وتأولوا قوله تعالى: * (زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) * (النمل: 4) على أنه تعالى زين لهم النعمة ونقضوا بذلك ما في القرآن كقوله تعالى: * (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * (الرعد: 11) * (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) * (القصص: 59) وقال: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) * (فصلت: 17) وقال: * (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) * (يونس: 108) وقال: * (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) * (الحجرات: 7) فكيف يزين النعمة؟ فهذا ما قاله أبو مسلم، وليت شعري لم حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات، وعلى الآيات المخالفة لمذهبه بأنها متشابهات؟ ولم أوجب في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها على الظاهر، وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر؟ ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية الباهرة، فإذا دل على بطلان مذهب المعتزلة الأدلة العقلية، فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من غير مرجح، وذلك تصريح بنفي الصانع، ولا يتم إلا إذا قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به، فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص، وذلك نفي للصانع، ولزم منه أيضا أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالما وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالما، ولو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها، فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه، فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة.
وأما المحقق المنصف، فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة أحدها: ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية، فذاك هو المحكم حقا وثانيها: الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها، فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره وثالثها: الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل
187

على طرفي ثبوته وانتفائه، فيكون من حقه التوقف فيه، ويكون ذلك متشابها بمعنى أن الأمر اشتبه فيه، ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم بمراده.
واعلم أنه تعالى لما بين أن الزائغين يتبعون المتشابه، بين أن لهم فيه غرضين، فالأول: هو قوله تعالى: * (ابتغاء الفتنة) * والثاني: هو قوله * (وابتغاء تأويله) *.
فأما الأول: فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه، يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر، وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوها: أولها: قال الأصم: إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين، صار بعضهم مخالفا للبعض في الدين، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة وثانيها: أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتونا بذلك الباطل عاكفا عليه لا ينقلع عنه بحيلة البتة وثالثها: أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه.
وأما الغرض الثاني لهم: وهو قوله تعالى: * (وابتغاء تأويله) * فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير، من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه، وأولته تأويلا إذا صيرته إليه، هذا معنى التأويل في اللغة، ثم يسمى التفسير تأويلا، قال تعالى: * (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) * (الكهف: 78) وقال تعالى: * (وأحسن تأويلا) * (النساء: 59) وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى، واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان، مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون؟ قال القاضي: هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما: أن يحملوه على غير الحق: وهو المراد من قوله * (ابتغاء الفتنة) * والثاني: أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه، وهو المراد من قوله * (وابتغاء تأويله) * ثم بين تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * واختلف الناس في هذا الموضع، فمنهم من قال:
تم الكلام ههنا، ثم الواو في قوله * (والراسخون في العلم) * واو الابتداء، وعلى هذا القول: لا يعلم المتشابه إلا الله، وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفراء، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي وهو المختار عندنا.
والقول الثاني: أن الكلام إنما يتم عند قوله * (والراسخون في العلم) * وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلا عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم وهذا القول أيضا مروي عن ابن
188

عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين والذي يدل على صحة القول الأول وجوه:
الحجة الأولى: أن اللفظ إذا كان له معنى راجح، ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد، علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة، وفي المجازات كثرة، وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية، والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف، فإذا كانت المسألة قطعية يقينية، كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز، مثاله قال الله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على ما بينا في البراهين الخمسة في تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد الله تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية، فلا بد من صرف اللفظ إلى بعض المجازات، وفي المجازات كثرة وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية، وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية، فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلا، وأيضا قال الله تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * (طه: 5) دل الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان، فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها، إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية، والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين، وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه، والفطرة الأصلية تشهد بصحته وبالله التوفيق. الحجة الثانية: وهو أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم، حيث قال: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) * ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزا لما ذم الله تعالى ذلك.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد منه طلب وقت قيام الساعة، كما في قوله * (يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي) * (الأعراف: 178) وأيضا طلب مقادير الثواب والعقاب، وطلب ظهور الفتح والنصرة كما قالوا * (لو ما تأتينا بالملائكة) * (الحجر: 7).
قلنا: إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين محكم ومتشابه، ودل العقل على صحة هذه القسمة من حيث إن حمل اللفظ على معناه الراجح هو المحكم، وحمله على معناه الذي ليس براجح هو المتشابه، ثم أنه تعالى ذم طريقة من طلب تأويل المتشابه كان تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض تركا للظاهر، وأنه لا يجوز.
الحجة الثالثة: أن الله مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به، وقال في أول سورة البقرة
189

* (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) * فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح، لأن كل من عرف شيئا على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به، إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى، وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القطعية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى، بل مراده منه غير ذلك الظاهر، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه، وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب، فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر، ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن.
الحجة الرابعة: لو كان قوله * (والراسخون في العلم) * معطوفا على قوله * (إلا الله) * لصار قوله * (يقولون آمنا به) * ابتداء، وأنه بعيد عن ذوق الفصاحة، بل كان الأولى أن يقال: وهم يقولون آمنا به، أو يقال: ويقولون آمنا به.
فإن قيل: في تصحيحه وجهان الأول: أن قوله * (يقولون) * كلام مبتدأ، والتقدير: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به والثاني: أن يكون * (يقولون) * حالا من الراسخين.
قلنا: أما الأول فمدفوع، لأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الاضمار أولى من تفسيره بما يحتاج معه إلى الاضمار والثاني: أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره، وههنا قد تقدم ذكر الله تعالى وذكر الراسخين في العلم فوجب أن يجعل قوله * (يقولون آمنا به) * حالا من الراسخين لا من الله تعالى، فيكون ذلك تركا للظاهر، فثبت أن ذلك المذهب لا يتم إلا بالعدول عن الظاهر ومذهبنا لا يحتاج إليه، فكان هذا القول أولى.
الحج الخامسة: قوله تعالى: * (كل من عند ربنا) * يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل، وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله، فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة.
الحجة السادسة: نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يسع أحدا جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى.
وسئل مالك بن أنس رحمه الله عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عند بدعة، وقد ذكرنا بعض هذه المسألة في أول سورة البقرة، فإذا ضم ما ذكرناه ههنا إلى ما ذكرنا هناك تم الكلام في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
190

ثم قال تعالى: * (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الرسوخ في اللغة الثبوت في الشيء.
واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية، فإذا رأى شيئا متشابها، ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى، علم حينئذ قطعا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دل عليه ظاهره، وأن ذلك المراد حق، ولا يصير كون ظاهره مردودا شبهة في الطعن في صحة القرآن.
ثم حكي عنهم أيضا أنهم يقولون * (كل من عند ربنا) * والمعنى: أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند ربنا، وفيه سؤالان:
السؤال الأول: لو قال: كل من ربنا كان صحيحا، فما الفائدة في لفظ * (عند) *؟.
الجواب؛ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد، فذكر كلمة * (عند) * لمزيد التأكيد.
السؤال الثاني: لم جاز حذف المضاف إليه من * (كل) *؟.
الجواب: لأن دلالة المضاف عليه قوية، فبعد الحذف الأمن من اللبس حاصل.
ثم قال: * (وما يذكر إلا أولوا الألباب) * وهذا ثناء من الله تعالى على الذين قالوا آمنا به، ومعناه: ما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة، فصار هذا اللفظ كالدلالة على أنهم يستعملون عقولهم في فهم القرآن، فيعلمون الذي يطابق ظاهره دلائل العقول فيكون محكما، وأما الذي يخالف ظاهره دلائل العقول فيكون متشابها، ثم يعلمون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض والباطل، فيعلمون أن ذلك المتشابه لا بد وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى، وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول، وتوافق اللغة والإعراب.
واعلم أن الشيء كلما كان أشرف كان ضده أخس، فكذلك مفسر القرآن متى كان موصوفا بهذه الصفة كانت درجته هذه الدرجة العظمى التي عظم الله الثناء عليه، ومتى تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحرا في علم الأصول، وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ".
191

قوله تعالى
* (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) *.
واعلم أنه تعالى كما حكى عن الراسخين أنهم يقولون آمنا به حكي عنهم أنهم يقولون * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا) * وحذف * (يقولون) * لدلالة الأول عليه، وكما في قوله * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا) * (آل عمران: 191) وفي هذه الآية اختلف كلام أهل السنة وكلام المعتزلة.
أما كلام أهل السنة فظاهر، وذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان، وصالح لأن يميل إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها الله تعالى، فإن كانت تلك الداعية داعية الكفر، فهي الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والطبع، والرين، والقسوة، والوقر، والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي: التوفيق، والرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن " والمراد من هذين الأصبعين الداعيتان، فكما أن الشيء الذي يكون بين أصبعي الإنسان يتقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الأصبعين، فكذلك القلب لكونه بين الداعيتين يتقلب كما يقلبه الحق بواسطة تينك الداعيتين، ومن أنصف ولم يتعسف، وجرب نفسه وجد هذا المعنى كالشئ المحسوس، ولو جوز حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ومؤثر لزمه نفي الصانع وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك " ومعناه ما ذكرنا فلما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إليه سبحانه وتعالى في أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل بعد أن جعلها مائلة إلى الحق، فهذا كلام برهاني متأكد بتحقيق قرآني.
ومما يؤكد ما ذكرناه أن الله تعالى مدح هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يتبعون المتشابهات، بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال، وترك الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه فلا بد وأن يكونوا قد تكلموا بهذا الدعاء لاعتقادهم أن من المحكمات، ثم إن الله تعالى حكى
192

ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم بسبب أنهم قالوا ذلك، وهذا يدل على أن هذه الآية من أقوى المحكمات، وهذا كلام متين.
وأما المعتزلة فقد قالوا: لما دلت الدلائل على أن الزيغ لا يجوز أن يكون بفعل الله تعالى، وجب صرف هذه الآية إلى التأويل، فأما دلائلهم فقد ذكرناها في تفسير قوله تعالى: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6). ومما احتجوا به في هذا الموضع خاصة قوله تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * وهو صريح في أن ابتداء الزيغ منهم، وأما تأويلاتهم في هذه الآية فمن وجوه الأول: وهو الذي قاله الجبائي واختاره القاضي: أن المراد بقوله * (لا تزغ قلوبنا) * (الصف: 5) يعني لا تمنعها الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان، وذلك لأنه تعالى لما منعهم ألطافه عند استحقاقهم منع ذلك جاز أن يقال: أزاغهم ويدل على هذا قوله تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * والثاني: قال الأصم: لا تبلنا ببلوى تزيغ عندها قلوبنا فهو كقوله * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) * (النساء: 66) وقال: * (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) * (الزخرف: 33) والمعنى لا تكلفنا من
العبادات ما لا نأمن معه الزيغ، وقد يقول القائل: لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذيا لك الثالث: قال الكعبي * (لا تزغ قلوبنا) * أي لا تسمنا باسم الزائغ، كما يقال: فلان يكفر فلانا إذا سماه كافرا، والرابع: قال الجبائي: أي لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك بعد إذ هديتنا؛ وهذا قريب من الوجه الأول إلا أن يحمل على شيء آخر، وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر، فقوله * (لا تزغ قلوبنا) * محمول على أن يميته قبل أن يصير كافرا، وذلك لأن إبقاءه حيا إلى السنة الثانية يجري مجرى ما إذا أزاغه عن طريق الجنة الخامس: قال الأصم * (لا تزغ قلوبنا) * عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل السادس: قال أبو مسلم: احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ، فهذا جمل ما ذكروه في تأويل هذه الآية وهي بأسرها ضعيفة.
أما الأول: فلأن من مذهبهم أن كل ما صح في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لطفا وجب عليه ذلك وجوبا لو تركه لبطلت إلهيته، ولصار جاهلا ومحتاجا والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجة إلى الدعاء في طلبه بل هذا القول يستمر على قول بشر بن المعتمر وأصحابه الذين لا يوجبون على الله فعل جميع الألطاف.
وأما الثاني: فضعيف، لأن التشديد في التكليف إن علم الله تعالى له أثرا في حمل
193

المكلف على القبيح قبح من الله تعالى، وإن علم الله تعالى أنه لا أثر له البتة في حمل المكلف على فعل القبيح كان وجوده كعدمه فيما يرجع إلى كون العبد مطيعا وعاصيا، فلا فائدة في صرف الدعاء إليه.
وأما الثالث: فهو أن التسمية بالزيغ والكفر دائر مع الكفر وجودا وعدما والكفر والزيغ باختيار العبد، فلا فائدة في قوله لا تسمنا باسم الزيغ والكفر.
وأما الرابع: فهو أنه لو كان علمه تعالى بأنه يكفر في السنة الثانية، يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأن لا يؤمن قط ويكفر طول عمره يوجب عليه لا يخلقه.
وأما الخامس: وهو حمله على إبقاء العقل فضعيف، لأن هذا متعلق بما قال قبل هذه الآية * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) * (آل عمران: 7).
وأما السادس: وهو أن الحراسة من الشيطان ومن شرور النفس إن كان مقدورا وجب فعله، فلا فائدة في الدعاء وإن لم يكن مقدورا تعذر فعله فلا فائدة في الدعاء، فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الوجوه، وأن الحق ما ذهبنا إليه.
فإن قيل: فعلى ذلك القول كيف الكلام في تفسير قوله تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * (الصف: 5).
قلنا: لا يبعد أن يقال إن الله تعالى يزيغهم ابتداء فعند ذلك يزيغون، ثم يترتب على هذا الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى وكل ذلك لا منافاة فيه.
أما قوله تعالى: * (بعد إذ هديتنا) * (آل عمران: 8) أي بعد أن جعلتنا مهتدين، وهذا أيضا صريح في أن حصول الهداية في القلب بتخليق الله تعالى.
ثم قال: * (وهب لنا من لدنك رحمة) * واعلم أن تطهير القلب عما لا ينبغي مقدم على تنويره مما ينبغي، فهؤلاء المؤمنون سألوا ربهم أولا أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل والعقائد الفاسدة، ثم أنهم ابتغوا ذلك بأن طلبوا من ربهم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة، وجوارحهم وأعضائهم بزينة الطاعة، وإنما قال: * (رحمة) * ليكون ذلك شاملا لجميع أنواع الرحمة، فأولها: أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة،
وثانيها: أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة، وثالثها: أن يحصل في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية
ورابعها: أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت
وخامسها: أن يحصل في القبر سهولة السؤال، وسهولة ظلمة القبر.
194

وسادسها: أن يحصل في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وترجيح الحسنات فقوله * (من لدنك رحمة) * يتناول جميع هذه الأقسام، ولما ثبت بالبراهين الباهرة القاهرة أنه لا رحيم إلا هو، ولا كريم إلا هو، لا جرم أكد ذلك بقوله * (من لدنك) * تنبيها للعقل والقلب والروح على أن المقصود لا يحصل إلا منه سبحانه، ولما كان هذا المطلوب في غاية العظمة بالنسبة إلى العبد لا جرم ذكرها على سبيل التنكير، كأنه يقول: أطلب رحمة وأية رحمة، أطلب رحمة من لدنك، وتليق بك، وذلك يوجب غاية العظمة.
ثم قال: * (إنك أنت الوهاب) * كأن العبد يقول: إلهي هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلي، لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك، وغاية جودك ورحمتك، فأنت الوهاب الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك وكرمك، يا دائم المعروف، يا قديم الإحسان، لا تخيب رجاء هذا المسكين، ولا ترد دعاءه، واجعله بفضلك أهلا لرحمتك يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
* (ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) *.
واعلم أن هذا الدعاء من بقية كلام الراسخين في العلم، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية منقرضة، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا وكلامك لا يكون كذبا، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد، ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين، بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد، فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة، بقي في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله * (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) * تقديره: جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه، فحذف لكون المراد ظاهرا.
المسألة الثانية: قال الجبائي: إن كلام المؤمنين تم عند قوله * (ليوم لا ريب فيه) * فأما قوله * (إن الله لا يخلف الميعاد) * فهو كلام الله عز وجل، كأن القوم لما قالوا * (إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) * صدقهم الله تعالى في ذلك وأيد كلامهم بقوله * (إن الله لا يخلف الميعاد) * كما قال حكاية
195

عن المؤمنين في آخر هذه السورة * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) * (آل عمران: 194) ومن الناس من قال: لا يبعد ورود هذا على طريقة العدول في الكلام من الغيبة إلى الحضور، ومثله في كتاب الله تعالى كثير، قال تعالى: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) * (يونس: 22).
فإن قيل: فلم قالوا في هذه الآية * (إن الله لا يخلف الميعاد) * وقالوا في تلك الآية * (إنك لا تخلف الميعاد) *.
قلت: الفرق والله أعلم أن هذه الآية في مقام الهيبة، يعني أن الإلهية تقتضي الحشر والنشر لينتصف المظلومين من الظالمين، فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام، أما قوله في آخر السورة * (إنك لا تخلف الميعاد) * (آل عمران: 194) فذاك المقام مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله، وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن المقام مقام الهيبة، فلا جرم قال: * (إنك لا تخلف الميعاد) *.
المسألة الثالثة: احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق، قال: وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد، بدليل قوله تعالى: * (أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا) * (الأعراف: 44) والوعد والموعد والميعاد واحد، وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد فكان هذا دليلا على أنه لا يخلف في الوعيد.
والجواب: لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقا، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل، سلمنا أنه يوعدهم، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد، أما قوله تعالى: * (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا) *.
قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك كما في قوله * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21) وقوله * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49) وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله، فكان المراد من الوعد تلك المنافع، وتمام الكلام في مسألة الوعيد قد مر في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (بل من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * (البقرة: 81) وذكر الواحدي في البسيط طريقة أخرى، فقال: لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء، دون وعيد الأعداء، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب، قال: والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك، قال الشاعر:
إذ وعد السراء أنجز وعده وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
196

وروي المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء، وبين عمرو بن عبيد، قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد: ما تقول في أصحاب الكبائر؟ قال: أقول إن الله وعد وعدا، وأوعد إيعادا، فهو منجز إيعاده، كما هو منجز وعده، فقال أبو عمرو بن العلاء: إنك رجل أعجم، لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب، إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما وأنشد: وإني وإن أوعدته أو وعدته * لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام قال له عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو فهل يسمى الله مكذب نفسه؟ فقال: لا، فقال عمرو بن عبيد: فقد سقطت حجتك، قالوا: فانقطع أبو عمرو بن العلاء.
وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول: إنك قست الوعيد على الوعد وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين، وذلك لأن الوعد حق عليه والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم، فظهر الفرق بين الوعد والوعيد، وبطل قياسك، وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق، فأما قولك: لو لم يفعل لصار كاذبا ومكذبا نفسه، فجوابه: أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتا جزما من غير شرط، وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى، فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية والله أعلم.
قوله تعالى
* (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار) *.
إعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم، حكى كيفية حال الكافرين وشديد عقابهم، فهذا هو وجه النظم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله * (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) * قولان الأول: المراد بهم وفد نجران، وذلك لأنا روينا في بعض قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه: إني لأعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا ولكنني إن أظهرت ذلك أخذ
197

ملوك الروم مني ما أعطوني من المال والجاه، فالله تعالى بين أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة.
والقول الثاني: أن اللفظ عام، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ.
المسألة الثانية: إعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعا به، ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة. أما الأول: فهو المراد بقوله * (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم) * وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد، فهما أقرب الأمور التي يفزع المرء إليها في دفع الخطوب فبين الله تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا لأن أقرب الطرق إلى دفع المضار إذا لم يتأت في ذلك اليوم، فما عداه بالتعذر أولى، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم) * (الشعراء: 88، 89) وقوله * (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا) * (الكهف: 46) وقوله * (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) * (مريم: 80) وقوله * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) *
(مريم: 80).
وأما القسم الثاني: من أسباب كمال العذاب، فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (وأولئك هم وقود النار) * وهذا هو النهاية في شرح العذاب فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس، والوقود بفتح الواو الحطب الذي توقد به النار، وبالضم هو مصدر وقدت النار وقودا كقوله: وردت ورودا.
المسألة الثالثة: في قوله * (من الله) * قولان أحدهما: التقدير: لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه والثاني: قال أبو عبيدة * (من) * بمعنى عند، والمعنى لن تغني عند الله شيئا.
قوله تعالى
* (كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بأياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب) *.
يقال: دأبت الشيء أدأب دأبا ودؤبا إذا أجهدت في الشيء وتعبت فيه، قال الله تعالى: * (سبع
198

سنين دأبا) * (يوسف: 47) أي بجد واجتهاد ودوام، ويقال: سار فلان يوما دائبا، إذا أجهد في السير يومه كله، هذا معناه في اللغة، ثم صار الدأب عبارة عن الشأن والأمر والعادة، يقال: هذا دأب فلان أي عادته، وقال بعضهم: الدؤب والدأب الدوام.
إذا عرفت هذا فنقول: في كيفية التشبيه وجوه الأول: أن يفسر الدأب بالاجتهاد، كما هو معناه في أصل اللغة، وهذا قول الأصم والزجاج، ووجه التشبيه أن دأب الكفار، أي جدهم واجتهادهم في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام، ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم، فكذا نهلك هؤلاء.
الوجه الثاني: أن يفسر الدأب بالشأن والصنع، وفيه وجوه الأول: * (كدأب آل فرعون) * أي شأن هؤلاء وصنعهم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، كشأن آل فرعون في التكذيب بموسى، ولا فرق بين هذا الوجه وبين ما قبله إلا أنا حملنا اللفظ في الوجه الأول على الاجتهاد، وفي هذا الوجه على الصنع والعادة والثاني: أن تقدير الآية: أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، ويجعلهم الله وقود النار كعادته وصنعه في آل فرعون، فإنهم لما كذبوا رسولهم أخذهم بذنوبهم، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل، وتارة إلى المفعول، والمراد ههنا، كدأب الله في آل فرعون، فإنهم لما كذبوا برسولهم أخذهم بذنوبهم، ونظيره قوله تعالى: * (يحبونهم كحب الله) * (البقرة: 165) أي كحبهم الله وقال: * (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا) * (الإسراء: 77) والمعنى: سنتي فيمن أرسلنا قبلك والثالث: قال القفال رحمه الله: يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى، والعادة المضافة إلى الكفار، كأنه قيل: إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم كعادة من قبلهم في إيذاء رسلهم، وعادتنا أيضا في إهلاك هؤلاء، كعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين، والمقصود على جميع التقديرات نصر النبي صلى الله عليه وسلم على إيذاء الكفرة وبشارته بأن الله سينتقم منهم.
الوجه الثالث: في تفسير الدأب والدؤب، وهو اللبث والدوام وطول البقاء في الشيء، وتقدير الآية، وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون، أي دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون.
والوجه الرابع: أن الدأب هو الاجتهاد، كما ذكرناه، ومن لوازم ذلك التعب والمشقة ليكون المعنى ومشقتهم وتعبهم من العذاب كمشقة آل فرعون بالعذاب وتعبهم به، فإنه تعالى بين أن عذابهم حصل في غاية القرب، وهو قوله تعالى: * (أغرقوا فأدخلوا نارا) * (نوح: 25) وفي غاية الشدة أيضا وهو قوله * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * (غافر: 46).
199

الوجه الخامس: أن المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب، فكان التشبيه بآل فرعون حاصلا في هذين الوجهين، والمعنى: أنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد، بل صاروا مضطرين إلى ما نزل بهم فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم في أنه ينزل بكم مثل ما نزل بالقوم تقدم أو تأخر ولا تغني عنكم الأموال والأولاد.
الوجه السادس: يحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال فكذلك ينزل بكم أيها الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك من القتل والسبي وسلب الأموال ويكون قوله تعالى: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم) * (آل عمران: 12) كالدلالة على ذلك فكأنه تعالى بين أنه كما نزل بالقوم العذاب المعجل، ثم يصيرون إلى دوام العذاب، فسينزل بمن كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم أمران أحدهما: المحن المعجلة وهي القتل والسبي والإذلال، ثم يكون بعده المصير إلى العذاب الأليم الدائم، وهذان الوجهان الأخيران ذكرهما القاضي رحمه الله تعالى.
أما قوله تعالى: * (والذين من قبلهم) * فالمعنى: والذين من قبلهم من مكذبي الرسل، وقوله * (كذبوا بآياتنا) * المراد بالآيات المعجزات ومتى كذبوا بها فقد كذبوا لا محالة بالأنبياء.
ثم قال: * (فأخذهم الله بذنوبهم) * وإنما استعمل فيه الأخذ لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على التخلص.
ثم قال: * (والله شديد العقاب) * وهو ظاهر.
قوله تعالى
* (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي * (سيغلبون ويحشرون) * بالياء فيهما، والباقون بالتاء المنقطة من فوق فيهما، فمن قرأ بالياء المنقطة من تحت، فالمعنى: بلغهم أنهم سيغلبون، ويدل على صحة الياء قوله تعالى: * (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) * (الجاثية: 14) و * (قل للمؤمنين يغضوا) * (النور: 30) ولم يقل غضوا، ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة، ويدل على حسن التاء قوله * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب) * (آل عمران: 81) والفرق بين القراءتين من حيث المعنى أن القراءة بالتاء أمر بأن يخبرهم بما سيجري
200

عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم، والقراءة بالياء أمر بأن يحكي لهم والله أعلم.
المسألة الثانية: ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها الأول: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر وقدم المدينة، جمع يهود في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا، فقالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك أن قتلت نفرا من قريش لا يعرفون القتال، لو قاتلتنا لعرفت، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الرواية الثانية: أن يهود أهل المدينة لما شاهدوا وقعة أهل بدر، قالوا: والله هو النبي الأمي الذي بشرنا به موسى في التوراة، ونعته وأنه لا ترد له راية، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا فلما كان يوم أحد ونكب أصحابه قالوا: ليس هذا هو ذاك، وغلب الشقاء عليهم فلم يسلموا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثالثة: أن هذه الآية واردة في جمع من الكفار بأعيانهم علم الله تعالى أنهم يموتون على كفرهم، وليس في الآية ما يدل على أنهم من هم.
المسألة الثالثة: احتج من قال بتكليف ما لا يطاق بهذه الآية، فقال: إن الله تعالى أخبر عن تلك الفرقة من الكفار أنهم يحشرون إلى جهنم، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب هذا الخبر كذبا وذلك محال، ومستلزم المحال محال، فكان الإيمان والطاعة محالا منهم، وقد أمروا به، فقد أمروا بالمحال وبما لا يطاق، وتمام تقريره قد تقدم في تفسير قوله تعالى: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6). المسألة الرابعة: قوله * (ستغلبون) * إخبار عن أمر يحصل في المستقبل، وقد وقع مخبره على موافقته، فكان هذا إخبارا عن الغيب وهو معجز، ونظيره قوله تعالى: * (غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) * (الروم: 2، 3) الآية، ونظيره في حق عيسى عليه السلام * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * (آل عمران: 49).
المسألة الخامسة: دلت الآية على حصول البعث في القيامة، وحصول الحشر والنشر، وأن مرد الكافرين إلى النار.
ثم قال: * (وبئس المهاد) * وذلك لأنه تعالى لما ذكر حشرهم إلى جهنم وصفه فقال: * (بئس المهاد) * والمهاد: الموضع الذي يتمهد فيه وينام عليه كالفراش، قال الله تعالى: * (والأرض فرشناها فنعم الماهدون) * (الذاريات: 48) فلما ذكر الله تعالى مصير الكافرين إلى جهنم أخبر عنها بالشر لأن بئس مأخوذ من البأساء هو الشر والشدة، قال الله تعالى: * (وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس) * (الأعراف: 165)
201

أي شديد وجهنم معروفة أعاذنا الله منها بفضله.
* (قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة تقاتل فى سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشآء إن فى ذلك لعبرة لاولى الابصار) *.
إعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: لم يقل: قد كانت لكم آية، بل قال: * (قد كان لكم آية) * وفيه وجهان:
الأول: أنه محمول على المعنى، والمراد: قد كان لكم إتيان هذا آية.
والثاني: قال الفراء: إنما ذكر للفصل الواقع بينهما، وهو قوله * (لكم) *.
المسألة الثانية: وجه النظم أنا ذكرنا أن الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: * (ستغلبون وتحشرون) * نزلت في اليهود، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا ألسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا فالله تعالى قال لهم إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدة والعدة فإنكم ستغلبون ثم ذكر الله تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الحكم، فقال: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة) * يعني واقعة بدر كانت كالدلالة على ذلك لأن الكثرة والعدة كانت من جانب الكفار والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ثم إن الله تعالى قهر الكفار وجعل المسلمين مظفرين منصورين وذلك يدل على أن تلك الغلبة كانت بتأييد الله ونصره، ومن كان كذلك فإنه يكون غالبا لجميع الخصوم، سواء كانوا أقوياء أو لم يكونوا كذلك فهذا ما يجري مجرى الدلالة على أنه عليه السلام يهزم هؤلاء اليهود ويقهرهم وإن كانوا أرباب السلاح والقوة، فصارت هذه الآية كالدلالة على صحة قوله * (قل للذين كفروا ستغلبون) * الآية، فهذا هو الكلام في وجه النظم.
المسألة الثالثة: * (الفئة) * الجماعة، وأجمع المفسرون على أن المراد بالفئتين: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر ومشركو مكة روي أن المشركين يوم بدر كانوا تسعمائة وخمسين رجلا، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وقادوا مائة فرس، وكانت معهم من الإبل سبعمائة بعير،
202

وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وهم مائة نفر، وكان في الرجال دروع سوى ذلك، وكان المسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا بين كل أربعة منهم بعير، ومعهم من الدروع ستة، ومن الخيل فرسان، ولا شك أن في غلبة المسلمين للكفار على هذه الصفة آية بينة ومعجزة قاهرة.
واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وجوها الأول: أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور، منها: قل العدد، ومنها: أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا، ومنها قلة السلاح والفرس، ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني منها: كثرة العدد، ومنها أنهم خرجوا متأهبين للحرب، ومنها كثرة سلاحهم وخيلهم، ومنها أن أولئك الأقوام كانوا ممارسين للمحاربة، والمقاتلة في الأزمنة الماضية، وإذا كان كذلك فلم تجر العادة أن مثل هؤلاء العدد في القلة والضعف وعدم السلاح وقلة المعرفة بأمر المحاربة يغلبون مثل ذلك الجمع الكثير مع كثرة سلاحهم وتأهبهم للمحاربة، ولما كان ذلك خارجا عن العادة كان معجزا.
والوجه الثاني: في كون هذه الواقعة آية أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش بقوله * (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) * (الأنفال: 7) يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان، وكان قد أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره كان ذلك إخبارا عن الغيب، فكان معجزا.
والوجه الثالث: في بيان كون هذه الواقعة آية ما ذكره تعالى بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى: * (يرونهم مثليهم رأي العين) * والأصح في تفسير هذه الآية أن الرائين هم المشركون والمرئيين هم المؤمنون، والمعنى أن المشركين كانوا يرون المؤمنون مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين، أو مثلي عدد المسلمين وهو ستمائة، وذلك معجز.
فإن قيل: تجويز رؤية ما ليس بموجود يفضي إلى السفسطة.
قلنا: نحمل الرؤية على الظن والحسبان، وذلك لأن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنهم في غاية الكثرة، وإما أن نقول إن الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرين والجواب الأول أقرب، لأن الكلام مقتصر على الفئتين ولم يدخل فيهما قصة الملائكة.
والوجه الرابع: في بيان كون هذه القصة آية، قال الحسن: إن الله تعالى أمد رسوله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة بخمسة آلاف من الملائكة لأنه قال: * (فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف) * (الأنفال: 9)
203

وقال: * (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة) * (آل عمران: 125) والألف مع الأربعة آلاف: خمسة آلاف من الملائكة وكان سيماهم هو أنه كان على أذناب خيولهم ونواصيها صوف أبيض، وهو المراد بقوله * (والله يؤيد بنصره من يشاء) * والله أعلم.
ثم قال الله تعالى: * (فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: القراءة المشهورة * (فئة) * بالرفع، وكذا قوله * (وأخرى كافرة) * وقرئ * (فئة فقاتل وأخرى كافرة) * بالجر على البدل من فئتين، وقرئ بالنصب إما على الاختصاص، أو على الحال من الضمير في التقتا، قال الواحدي رحمه الله: والرفع هو الوجه لأن المعنى إحداهما تقاتل في سبيل الله فهو رفع على استئناف الكلام.
المسألة الثانية: المراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله هم المسلمون، لأنهم قاتلوا لنصرة دين الله.
وقوله * (وأخرى كافرة) * المراد بها كفار قريش.
ثم قال تعالى: * (يرونهم مثليهم رأي العين) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ نافع وأبان عن عاصم * (ترونهم) * بالتاء المنقطة من فوق، والباقون بالياء فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب لليهود، والمعنى ترون أيها اليهود المسلمين مثل ما كانوا، أو مثلي الفئة الكافرة، أو تكون الآية خطابا مع مشركي قريش والمعنى: ترون يا مشركي قريش المسلمون مثلي فئتكم الكافرة، ومن قرأ بالياء فللمغالبة التي جاءت بعد الخطاب، وهو قوله * (فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم) * فقوله * (يرونهم) * يعود إلى الإخبار عن إحدى الفئتين.
المسألة الثانية: إعلم أنه قد تقدم في هذه الآية ذكر الفئة الكافرة وذكر الفئة المسلمة فقوله * (يرونهم مثلهم) * يحتمل أن يكون الراؤن هم الفئة الكافرة، والمرئيون هم الفئة المسلمة، ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك فهذان احتمالان، وأيضا فقوله * (مثليهم) * يحتمل أن يكون المراد مثلي الرائين وأن يكون المراد مثلي المرئين فإذن هذه الآية تحتمل وجوها أربعة الأول: أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين.
والاحتمال الثاني: أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين، والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم.
فإن قيل: هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال * (ويقللكم في أعينهم) * (الأنفال: 44).
فالجواب: أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين، فقللوا أولا في أعينهم حتى اجترؤا عليهم، فلما تلاقوا كثرهم الله في أعينهم حتى صاروا مغلوبين، ثم إن تقليلهم في أول الأمر، وتكثيرهم
204

في آخر الأمر، أبلغ في القدرة وإظهار الآية.
والاحتمال الثالث: أن الرائين هم المسلمون، والمرئيين هم المشركون، فالمسلمون رأوا المشركين مثلي المسلمين ستمائة وأزيد، والسبب فيه أن الله تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين قال الله تعالى: * (إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) * (الأنفال: 66).
فإن قيل: كيف يرونهم مثليهم رأي العين، وكانوا ثلاثة أمثالهم؟.
الجواب: أن الله تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم، وذلك لأنه تعالى قال: * (إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) * فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم، وإزالة للخوف عن صدورهم.
والاحتمال الرابع: أن الرائين هم المسلمون، وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد، لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين، والآية تنافي ذلك، وفي الآية احتمال خامس، وهو أنا أول الآية قد بينا أن الخطاب مع اليهود، فيكون المراد ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة.
فإن قيل: كيف رأوهم مثليهم فقد كانوا ثلاثة أمثالهم فقد سبق الجواب عنه.
بقي من مباحث هذا الموضع أمران:
البحث الأول: أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئيا، والاحتمال الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئيا أما الأول: فهو محال عقلا، لأن المعدوم لا يرى، فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي، وأما الثاني: فهو جائز عند أصحابنا، لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزا لا واجبا، وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات، فلم يبعد أن يقال: إنه حصل ذلك المعجز، وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد، فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه أحدها: أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام، فلا جرم يرى البعض دون البعض وثانيها: لعله يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعا عن إدراك البعض وثالثها: يجوز أن يقال: إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعا عن إدراك ثلث العسكر، وكل ذلك محتمل.
البحث الثاني: اللفظ وإن احتمل أن يكون الراؤن هم المشركون، وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر فقيل: إن كون المشرك رائيا أولى، ويدل عليه وجوه الأول: أن تعلق
205

الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول، فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا، وأبعدهما مفعولا أولى من العكس، وأقرب المذكورين هو قوله * (وأخرى كافرة) * والثاني: أن مقدمة الآية وهو قوله * (قد كان لكم آية) * خطاب مع الكفار فقراءة نافع بالتاء يكون خطابا مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم، فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركا الثالث: أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية الكفار، حيث قال: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا) * فوجب أن تكون هذه الحالة مما يشاهدها الكافر حتى تكون حجة عليه، أما لو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجة الكافر والله أعلم.
واحتج من قال: الراؤن هم المسلمون، وذلك لأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال، ولو كان الراؤن هم المؤمنون لزم أن لا يرى ما هو موجود وهذا ليس بمحال، وكان ذلك أولى والله أعلم.
ثم قال: * (رأي العين) * يقال: رأيته رأيا ورؤية، ورأيت في المنام رؤيا حسنة، فالرؤية مختص بالمنام، ويقول: هو مني مرأى العين حيث يقع عليه بصري، فقوله * (رأي العين) * يجوز أن ينتصب على المصدر، ويجوز أن يكون ظرفا للمكان، كما تقول: ترونهم أمامكم، ومثله: هو مني مناط العنق ومزجر الكلب.
ثم قال: * (والله يؤيد بنصره من يشاء) * نصر الله المسلمين على وجهين: نصر بالغلبة كنصر يوم بدر، ونصر بالحجة، فلهذا المعنى لو قدرنا أنه هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال: هم المنصورون لأنهم هم المنصورون بالحجة، وبالعاقبة الحميدة، والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان بتأييد الله ونصره، لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح.
ثم قال: * (إن في ذلك لعبرة) * والعبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم وأصله من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر، ومنه العبارة وهي كلام الذي يعبر بالمعنى إلى المخاطب، وعبارة الرؤيا من ذلك، لأنها تعبير لها، وقوله * (لأولي الأبصار) * أي لأولي العقول، كما يقال: لفلان بصر بهذا الأمر، أي علم ومعرفة، والله أعلم.
قوله سبحانه وتعالى
* (زين للناس حب الشهوات من النسآء والبنين والقناطير المقنطرة من
206

الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحيوة الدنيا والله عنده حسن المأب) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم قولان الأول: ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفا من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه، وأيضا روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح، فبين الله تعالى في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة باطلة، وأن الآخرة خير وأبقى.
القول الثاني: وهو على التأويل العام أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة * (والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) * ذكر بعد هذه الآية ما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة وذلك هو أنه تعالى بين أنه زين للناس حب الشهوات الجسمانية، واللذات الدنيوية، ثم أنها فانية منقضية تذهب لذاتها، وتبقى تبعاتها، ثم إنه
تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله * (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) * (آل عمران: 15) ثم بين طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن قوله * (زين للناس) * من الذي زين ذلك؟ أما أصحابنا فقولهم فيه ظاهر، وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال هو الله تعالى وأيضا قالوا: لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان، فإن كان ذلك شيطانا آخر لزم التسلسل، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان، وإن كان من الله تعالى، وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك، وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله * (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا) * (القصص: 63) يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا، وهذا الكلام ظاهر جدا.
أما المعتزلة فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال:
207

القول الأول: حكي عن الحسن أنه قال: الشيطان زين لهم، وكان يحلف على ذلك بالله، واحتج القاضي لهم بوجوه أحدها: أنه تعالى أطلق حب الشهوات، فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان وثانيها: أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه، ومنتهى مقصوده، لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة وثالثها: قوله تعالى: * (ذلك متاع الحياة الدنيا) * ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزينا له ورابعها: قوله بعد هذه الآية * (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) * (آل عمران: 15) والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه، وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه.
والقول الثاني: قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه أحدها: أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده، وإباحتها للعبيد تزيين لها، فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى، وخلق للمشتهي علما بما في تناول المشتهى من اللذة، ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزينا لها وثانيها: أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة، والله تعالى قد ندب إليها، فكان مزينا لها، وإنما قلنا: إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه الأول: أن يتصدق بها والثاني: أن يتقوى بها على طاعة الله تعالى والثالث: أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله تعالى وإعانته صار ذلك سببا لاشتغال العبد بالشكر العظيم، ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول: شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعرا هذا معناه والرابع: أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثوابا، فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس: قوله تعالى: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (البقرة: 29) وقال: * (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) * (الأعراف: 32) وقال: * (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) * (الكهف: 7) وقال: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * (الأعراف: 31) وقال في سورة البقرة * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * (البقرة: 22) وقال * (كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) * (البقرة: 168) وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى، ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد * (زين للناس) * على تسمية الفاعل.
والقول الثالث: وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل، وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجبا أو مندوبا كان التزيين فيه من الله تعالى، وكل ما كان حراما كان التزيين فيه
208

من الشيطان هذا ما ذكره القاضي، وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم، وكان من حقه أن يذكره ويبين أن التزيين فيه من الله تعالى، أو من الشيطان.
المسألة الثالثة: قوله * (حب الشهوات) * فيه أبحاث ثلاثة:
البحث الأول: أن الشهوات ههنا هي الأشياء المشتهيات سميت بذلك على الاستعارة للتعلق والاتصال، كما يقال للمقدور قدرة، وللمرجو رجاء وللمعلوم علم، وهذه استعارة مشهورة في اللغة، يقال: هذه شهوة فلان، أي مشتهاه، قال صاحب " الكشاف ": وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان: إحداهما: أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها والثانية: أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية، فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها.
البحث الثاني: قال المتكلمون: دلت هذه الآية على أن الحب غير الشهوة لأنه أضاف الحب إلى الشهوة والمضاف غير المضاف إليه، والشهوة من فعل الله تعالى، والمحبة من أفعال العباد وهي عبارة عن أن يجعل الإنسان كل غرضه وعيشه في طلب اللذات والطيبات.
البحث الثالث: قال الحكماء: الإنسان قد يحب شيئا ولكنه يحب أن لا يحبه مثل المسلم فإنه قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات لكنه يحب أن لا يحب، وأما من أحب شيئا وأحب إن يحبه فذاك هو كمال المحبة، فإن كان ذلك في جانب الخير فهو كمال السعادة، كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام * (إني أحببت حب الخير) * ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محبا للخير، وإن كان ذلك في جانب الشر، فهو كما قال في هذه الآية فإن قوله * (زين للناس حب الشهوات) * يدل على أمور ثلاثة مرتبة أولها: أنه يشتهي أنواع المشتهيات وثانيها: أنه يحب شهوته لها وثالثها: أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة وفضيلة، ولما اجتمعت في هذه القضية الدرجات الثلاثة بلغت الغاية القصوى في الشدة والقوة، ولا يكاد ينحل إلا بتوفيق عظيم من الله تعالى، ثم إنه تعالى أضاف ذلك إلى الناس، وهو لفظ عام دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس، والعقل أيضا يدل عليه، وهو أن كل ما كان لذيذا ونافعا فهو محبوب ومطلوب لذاته
واللذيذ النافع قسمان: جسماني وروحاني، والقسم الجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر، وأما القسم الروحاني فلا يكون إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة، ثم ذلك الإنسان إنما يحصل له تلك اللذة الروحانية بعد استئناس النفس باللذات الجسمانية، فيكون انجذاب النفس إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة المتأكدة، وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة
209

التي تزول بأدنى سبب فلا جرم كان الغالب على الخلق إنما هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية وأما الميل إلى طلب اللذات الروحانية فذاك لا يحصل إلا للشخص النادر، ثم حصوله لذلك النادر لا يتفق إلا في أوقات نادرة، فلهذا السبب عم الله هذا الحكم فقال: * (زين للناس حب الشهوات) *.
وأما قوله تعالى: * (من النساء والبنين) * ففيه بحثان:
البحث الأول: * (من) * في قوله * (من النساء والبنين) * كما في قوله * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) * (الحج: 30) فكما أن المعنى فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس فكذا أيضا معنى هذه الآية: زين للناس حب النساء وكذا وكذا التي هي مشتهاة.
البحث الثاني: إعلم أنه تعالى عدد ههنا من المشتهيات أمورا سبعة أولها: النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى: * (خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) * (الروم: 21) ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة.
المرتبة الثانية: حب الولد: ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى، لا جرم خصه الله تعالى بالذكر، ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك.
واعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة، فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات، والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل.
المرتبة الثالثة والرابعة: * (القناطير المقنطرة من الذهب والفضة) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: قال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه، والقنطرة مأخوذة من ذلك لتوثقها بعقد الطاق، فالقنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب، وحكى أبو عبيد عن العرب أنهم يقولون: إنه وزن لا يحد، واعلم أن هذا هو الصحيح، ومن الناس من حاول تحديده، وفيه روايات: فروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القنطار إثنا عشر ألف أوقية " وروى أنس عنه أيضا أن القنطار ألف دينار، وروى أبي بن كعب أنه عليه السلام قال: القنطار ألف ومائتا أوقية وقال ابن عباس: القنطار ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم، وهو مقدار الدية، وبه قاس الحسن، وقال الكلبي: القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة، وفيه أقوال سوى ما ذكرنا لكنا تركناها لأنها غير مقصودة بحجة البتة.
210

البحث الثاني: * (المقنطرة) * منفعلة من القنطار، وهو للتأكيد، كقولهم: ألف مؤلفة، وبدرة مبدرة، وإبل مؤبلة، ودراهم مدرهمة، وقال الكلبي: القناطير ثلاثة، والمقنطرة المضاعفة، فكان المجموع ستة.
البحث الثالث: الذهب والفضة إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء، وصفة المالكية هي القدرة، والقدرة صفة كمال، والكمال محبوب لذاته، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب، لا جرم كانا محبوبين.
المسألة الخامسة: * (الخيل المسومة) * قال الواحدي: الخيل جمع لا واحد له من لفظه، كالقوم والنساء والرهط، وسميت الأفراس خيلا لخيلائها في مشيها، وسميت حركة الإنسان على سبيل الجولان اختيالا، وسمي الخيال خيالا، والتخيل تخيلا، لجولان هذه القوة في استحضار تلك الصورة، والأخيل الشقراق، لأنه يتخيل تارة أخضر، وتارة أحمر، واختلفوا في معنى * (المسومة) * على ثلاثة أقوال الأول: أنها الراعية، يقال: أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مروجها للرعي، كما يقال: أقمت الشيء وقومته، وأجدته وجودته، وأنمته ونومته، والمقصود أنها إذا رعت ازدادت حسنا، ومنه قوله تعالى: * (فيه تسيمون) * (النحل: 10).
والقول الثاني: المسومة المعلمة قال أبو مسلم الأصفهاني: وهو مأخوذ من السيما بالقصر والسيماء بالمد، ومعناه واحد، وهو الهيئة الحسنة، قال الله تعالى: * (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) * (الفتح: 29) ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة، فقال أبو مسلم: المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل، وهي أن تكون الأفراس غرا محجلة، وقال الأصم: إنما هي البلق، وقال قتادة: الشية، وقال المؤرج: الكي، وقول أبي مسلم أحسن لأن الإشارة في هذه الآية إلى شرائف الأموال، وذلك هو أن يكون الفرس أغر محجلا، وأما سائر الوجوه التي ذكروها فإنها لا تفيد شرفا في الفرس.
القول الثالث: وهو قول مجاهد وعكرمة: أنها الخيل المطهمة الحسان، قال القفال: المطهمة المرأة الجميلة.
المرتبة السادسة: * (الأنعام) * وهي جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، ولا يقال للجنس الواحد منها: نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها.
المرتبة السابعة: * (الحرث) * وقد ذكرنا اشتقاقه في قوله * (ويهلك الحرث والنسل) * (البقرة: 205).
ثم إنه تعالى
211

لما عدد هذه السبعة قال: * (ذلك متاع الحياة الدنيا) * قال القاضي: ومعلوم أن متاعها إنما خلق ليستمتع به فكيف يقال إنه لا يجوز إضافة التزيين إلى الله تعالى، ثم
قال للاستمتاع بمتاع الدنيا وجوه: منها أن ينفرد به من خصه الله تعالى بهذه النعم فيكون مذموما ومنها أن يترك الانتفاع به مع الحاجة إليه فيكون أيضا مذموما، ومنها أن ينتفع به في وجه مباح من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة، وذلك لا ممدوح ولا مذموم، ومنها أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة وذلك هو الممدوح.
ثم قال تعالى: * (والله عنده حسن المآب) * اعلم أن المآب في اللغة المرجع، يقال: آب الرجل إيابا وأوبة وأبية ومآبا، قال الله تعالى: * (إن إلينا إيابهم) * والمقصود من هذا الكلام بيان أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها إلى ما يكون فيه عمارة لمعاده ويتوصل بها إلى سعادة آخرته، ثم لما كان الغرض الترغيب في المآب وصف المآب بالحسن.
فإن قيل: المآب قسما: الجنة وهي في غاية الحسن، والنار وهي خالية عن الحسن، فكيف وصف المآب المطلق بالحسن.
قلنا: المآب المقصود بالذات هو الجنة، فأما النار فهي المقصود بالغرض، لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، كما قال: سبقت رحمتي غضبي، وهذا سر يطلع منه على أسرار غامضة.
قوله تعالى
* (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي * (أؤنبئكم) * بهمزتين واختلفت الرواية عن نافع وأبي عمرو.
المسألة الثانية: ذكروا في متعلق الاستفهام ثلاثة أوجه الأول: أن يكون المعنى: هل
212

أؤنبئكم بخير من ذلكم، ثم يبتدأ فيقال: للذين اتقوا عند ربهم كذا وكذا والثاني: هل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا، ثم يبتدأ فيقال: عند ربهم جنات تجري والثالث: هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم، ثم يبتدى فيقال: جنات تجري.
المسألة الثالثة: في وجه النظم وجوه الأول: أنه تعالى لما قال: * (والله عنده حسن المآب) * (آل عمران: 14) بين في هذه الآية أن ذلك المآب، كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا، فقال * (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) * الثاني: أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها كما قال في آية أخرى * (والآخرة خير وأبقى) * (الأعلى: 7) الثالث: كأنه تعالى نبه على أن أمرك في الدنيا وإن كان حسنا منتظما إلا أن أمرك في الآخرة خير وأفضل، والمقصود منه أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأوسع وأفسح من بطن الأم، فكذلك الآخرة أطيب وأوسع وأفسح من الدنيا.
المسألة الرابعة: إنما قلنا: إن نعم الآخرة خير من نعم الدنيا، لأن نعم الدنيا مشوبة بالمضرة، ونعم الآخرة خالية عن شوب المضار بالكلية، وأيضا فنعم الدنيا منقطعة لا محالة، ونعم الآخرة باقية لا محالة.
أما قوله تعالى: * (للذين اتقوا) * فقد بينا في تفسير قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) أن التقوى ما هي وبالجملة، فإن الإنسان لا يكون متقيا إلا إذا كان آتيا بالواجبات، متحرزا عن المحظورات، وقال بعض أصحابنا: التقوى عبارة عن اتقاء الشرك، وذلك لأن التقوى صارت في عرف القرآن مختصة بالإيمان، قال تعالى: * (وألزمهم كلمة التقوى) * (الفتح: 26) وظاهر اللفظ أيضا مطابق له، لأن الاتقاء عن الشرك أعم من الاتقاء عن جميع المحظورات، ومن الاتقاء عن بعض المحظورات، لأن ماهية الاشتراك لا تدل على ماهية الامتياز، فحقيقة التقوى وماهيتها حاصلة عند حصول الاتقاء عن الشرك، وعرف القرآن مطابق لذلك، فوجب حمله عليه فكان قوله * (للذين اتقوا) * محمولا على كل من اتقى الكفر بالله.
أما قوله تعالى: * (للذين اتقوا عند ربهم) * ففيه احتمالان الأول: أن يكون ذلك صفة للخير، والتقدير: هل أنبئكم بخير من ذلكم عند ربهم للذين اتقوا والثاني: أن يكون ذلك صفة للذين اتقوا والتقدير: للذين اتقوا عند ربهم خير من منافع الدنيا ويكون ذلك إشارة إلى أن هذا الثواب العظيم لا يحصل إلا لمن كان متقيا عند الله تعالى، فيخرج عنه المنافق، ويدخل فيه من كان مؤمنا في علم الله.
وأما قوله * (جنات) * فالتقدير: هو جنات، وقرأ بعضهم * (جنات) * بالجر على البدل من خير،
213

واعلم أن قوله * (جنات تجري من تحتها الأنهار) * وصف لطيب الجنة ودخل تحته جميع النعم الموجودة فيها من المطعم والمشرب والملبس والمفرش والمنظر، وبالجملة فالجنة مشتملة على جميع المطالب، كما قال تعالى: * (فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) * (الزخرف: 71).
ثم قال: * (خالدين فيها) * والمراد كون تلك النعم دائمة.
ثم قال: * (وأزواج مطهرة ورضوان من الله) * وقد ذكرنا لطائفها عند قوله تعالى في سورة البقرة: * (ولهم فيها أزواج مطهرة) * (البقرة: 25) وتحقيق القول فيه أن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن، ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب، فقال * (مطهرة) * ويدخل في ذلك: الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع، ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة، ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة.
ثم قال تعالى: * (ورضوان من الله) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ عاصم * (ورضوان) * بضم الراء، والباقون بكسرها، أما الضم فهو لغة قيس وتميم، وقال الفراء: يقال رضيت رضا ورضوانا، ومثل الراضون بالكسر الحرمان والقربان وبالضم الطغيان والرجحان والكفران والشكران.
المسألة الثانية: قال المتكلمون: الثواب له ركنان أحدهما: المنفعة، وهي التي ذكرناها، والثاني: التعظيم، وهو المراد بالرضوان، وذلك لأن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم، حامد لهم، مثن عليهم، أزيد في إيجاب السرور من تلك المنافع، وأما الحكماء فإنهم قالوا: الجنات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية، والرضوان فهو إشارة إلى الجنة الروحانية وأعلى المقامات إنما هو الجنة الروحانية، وهو عبارة عن تجلي نور جلال الله تعالى في روح العبد واستغراق العبد في معرفته، ثم يصير في أول هذه المقامات راضيا عن الله تعالى، وفي آخرها مرضيا عند الله تعالى، والله الإشارة بقوله * (راضية مرضية) * (الفجر: 28) ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) * (التوبة: 72).
ثم قال: * (والله بصير بالعباد) * أي عالم بمصالحهم، فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا.
214

قوله تعالى
* (الذين يقولون ربنآ إننآ ءامنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في إعراب موضع * (الذين يقولون) * وجوه الأول: أنه خفض صفة للذين اتقوا، وتقدير الآية: للذين اتقوا الذين يقولون، ويجوز أن يكون صفة للعباد، والتقدير: والله بصير بالعباد وأولئك هم المتقون الذين لهم عند ربهم جنات هم الذين يقولون كذا وكذا والثاني: أن يكون نصبا على المدح والثالث: أن يكون رفعا على التخصيص، والتقدير: هم الذين يقول كذا وكذا.
المسألة الثانية: إعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا * (ربنا إننا آمنا) * ثم إنهم قالوا بعد ذلك * (فاغفر لنا ذنوبنا) * وذلك يدل على أنهم توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة والله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم، والثناء عليهم، فدل هذا على أن العبد بمجرد الإيمان يستوجب الرحمة والمغفرة من الله تعالى، فإن قالوا: الإيمان عبارة عن جميع الطاعات أبطلنا ذلك عليهم بالدلائل المذكورة في تفسير قوله * (الذين يؤمنون بالغيب) * وأيضا فمن أطاع الله تعالى في جميع الأمور، وتاب عن جميع الذنوب، كان إدخاله النار قبيحا من الله عندهم، والقبيح هو الذي يلزم من فعله، إما الجهل، وإما الحاجة فهما محالان، ومستلزم المحال محال، فإدخال الله تعالى إياهم النار محال، وما كان محال الوقوع عقلا كان الدعاء والتضرع في أن لا يفعله الله عبثا وقبيحا، ونظير هذه الآية قوله تعالى في آخر هذه السورة * (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) * (آل عمران: 193).
فإن قيل: أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة حيث اتبع هذه الآية بقوله * (الصابرين والصادقين) * (آل عمران: 17).
قلنا: تأويل هذه الآية ما ذكرناه، وذلك لأنه تعالى جعل مجرد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة، ثم ذكر بعدها صفات المطيعين وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائط لحصول هذه المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى، فلما رتب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعد ذلك هذه الصفات، علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات.
215

قوله تعالى
* (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: * (الصابرين) * قيل نصب على المدح بتقدير: أعني الصابرين، وقيل: الصابرين في موضع جر على البدل من الذين. المسألة الثانية: إعلم أنه تعالى ذكر ههنا صفات خمسة:
الصفة الأولى: كونهم صابرين، والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات، وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد، وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن الله تعالى، كما قال: * (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) * (البقرة: 156) قال سفيان بن عيينة في قوله * (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) * (السجدة: 24) إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من الله تعالى بسبب الصبر، ويروى أنه وقف رجل على الشلبي، فقال: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال الصبر في الله تعالى، فقال لا، فقال: الصبر لله تعالى فقال لا فقال: الصبر مع الله تعالى، قال لا قال فأيش؟ قال: الصبر عن الله تعالى، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف.
وقد كثر مدح الله تعالى للصابرين، فقال: * (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) * (البقرة: 177).
الصفة الثانية: كونهم صادقين، إعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنية، فالصدق في القول مشهور، وهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه، يقال: صدق فلان في القتال وصدق في الحملة، ويقال في ضده: كذب في القتال، وكذب في الحملة، والصدق في النية إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل.
الصفة الثالثة: كونهم قانتين، وقد فسرناه في قوله تعالى: * (وقوموا لله قانتين) * (البقرة: 238) وبالجملة فهو عبارة عن الدوام على العبادة والمواظبة عليها.
الصفة الرابعة: كونهم منفقين ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر.
الصفة الخامسة: كونهم مستغفرين بالأسحار، والسحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر،
216

وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت، واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلى قبل ذلك فقوله * (والمستغفرين بالأسحار) * يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كمال العبودية من وجوه الأول: أن في وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء، فهناك وقت الجود العام والفيض التام، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب والثاني: أن وقت السحر أطيب أوقات النوم، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبودية، كانت الطاعة أكمل والثالث: نقل عن ابن عباس * (والمستغفرين بالأسحار) * يريد المصلين صلاة الصبح.
المسألة الثالثة: قوله * (والصابرين والصادقين) * أكمل من قوله: الذين يصبرون ويصدقون، لأن قوله * (الصابرين) * يدل على أن هذا المعنى عادتهم وخلقهم، وأنهم لا ينفكون عنها.
المسألة الرابعة: اعلم أن لله تعالى على عباده أنواعا من التكليف، والصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها، ثم إن العبد قد يلتزم من عند نفسه أنواعا أخر من الطاعات، وإما بسبب الشروع فيه، وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه، وذلك بأن يأتي بذلك للملتزم من غير خلل البتة، ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى، لا جرم ذكر سبحانه الصابرين أولا ثم قال: * (الصادقين) * ثانيا، ثم إنه تعالى ندب إلى المواظبة على هذين النوعين من الطاعة، فقال: * (والقانتين) * فهذه الألفاظ الثلاثة للترغيب في المواظبة على جميع أنواع الطاعات، ثم بعد ذلك ذكر الطاعات المعينة، وكان أعظم الطاعات قدرا أمران أحدهما: الخدمة بالمال، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: " والشفقة على خلق الله " فذكر هنا بقوله * (والمنفقين) * والثانية: الخدمة بالنفس وإليه الإشارة بقوله " التعظيم لأمر الله " فذكره هنا بقوله * (والمستغفرين بالأسحار) *.
فإن قيل: فلم قدم ههنا ذكر المنفقين على ذكر المستغفرين، وأخر في قوله " التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ". قلنا: لأن هذه الآية في شرح عروج العبد من الأدنى إلى الأشرف، فلا جرم وقع الختم بذكر المستغفرين بالأسحار، وقوله " التعظيم لأمر الله " في شرح نزول العبد من الأشرف إلى الأدنى، فلا جرم كان الترتيب بالعكس.
المسألة الرابعة: هذه الخمسة إشارة إلى تعديد الصفات لموصوف واحد، فكان الواجب
217

حذف واو العطف عنها كما في قوله * (هو الله الخالق البارئ المصور) * (الحشر: 24) إلا أنه ذكر ههنا واو العطف وأظن والعلم عند الله أن كل من كان معه واحدة من هذه الخصال دخل تحت المدح العظيم واستوجب هذا الثواب الجزيل والله أعلم.
* (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) *.
إعلم أنه تعالى لما مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله * (الذين يقولون ربنا إننا آمنا) * (آل عمران: 16) أردفه بأن بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية، فقال: * (شهد الله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إعلم أن كل ما يتوقف العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم على العلم به، فإنه لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية أما ما يكون كذلك فإنه يجوز إثباته بالدلائل السمعية، وفي حق الملائكة، وفي حق أولي العلم، لكن العلم بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على العلم بكون الله تعالى واحدا فلا جرم يجوز إثبات كون الله تعالى واحدا بمجرد الدلائل السمعية القرآنية.
إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في قوله * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) * قولين: أحدهما: أن الشهادة من الله تعالى، ومن الملائكة، ومن أولي العلم بمعنى واحد الثاني: أنه ليس كذلك، أما القول الأول فيمكن تقريره من وجهين:
الوجه الأول: أن تجعل الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى، وفي حق الملائكة، وفي حق أولي العلم، أما من الله تعالى فقد أخبر في القرآن عن كونه واحدا لا إله معه، وقد بينا أن التمسك بالدلالة السمعية في هذه المسألة جائز، وأما من الملائكة وأولي العلم فكلهم أخبروا أيضا أن الله تعالى واحد لا شريك له، فثبت على هذا التقرير أن المفهوم من الشهادة معنى واحد في حق الله، وفي حق الملائكة، وفي حق أولي العلم.
الوجه الثاني: أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان، ثم نقول: إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك، أما الملائكة وأولوا العلم فقد أظهروا ذلك، وبينوه بتقرير الدلائل
218

والبراهين، أما الملائكة فقد بينوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل للعلماء، والعلماء لعامة الخلق، فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان، فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق الله سبحانه وتعالى، وفي حق أولي العلم، فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين، والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله تعالى، وشهادة جميع المعتبرين من خلقه، ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم، لا يضعف بخلاف بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان، فأثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام.
القول الثاني: قول من يقول: شهادة الله تعالى على توحيده، عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك، ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة، لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ، ونظيره قوله تعالى: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) * (الأحزاب: 56) ومعلوم أن الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة، ومن الملائكة غير الصلاة من الناس، مع أنه قد جمعهم في اللفظ.
فإن قيل: المدعي للوحدانية هو الله، فكيف يكون المدعي شاهدا؟.
الجواب: من وجوه الأول: وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله، وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة، ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل، ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد، وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده، ولهذا قال: * (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله) * (الأنعام: 19).
الوجه الثاني: في الجواب أنه هو الموجود أزلا وأبدا، وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدما صرفا، ونفيا محضا، والعدم يشبه الغائب، والموجود يشبه الحاضر، فكل ما سواه فقد كان غائبا، وبشهادة الحق صار شاهدا، فكان الحق شاهدا عل الكل، فلهذا قال: * (شهد الله أن لا إله إلا هو) *.
الوجه الثالث: أن هذا وإن كان في صورة الشهادة، إلا أنه في معنى الإقرار، لأنه لما أخبر أنه لا إله سواه، كان الكل عبيدا له، والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد، فكان هذا الكلام جاريا مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق.
الوجه الرابع: في الجواب قرأ ابن عباس * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * بكسر * (إنه) * ثم قرأ
219

* (إن الدين عند الله الإسلام) * (آل عمران: 19) بفتح * (أن) * فعلى هذا يكون المعنى: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله * (أنه لا إله إلا هو) * اعتراضا في الكلام، واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه، لأن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء، وبتقدير * (أن) * تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها، فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى.
المسألة الثانية: المراد من * (أولي العلم) * في هذه الآية الذين عرفوا وحدانيته بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة، إذا كان الإخبار مقرونا بالعلم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " إذا علمت مثل الشمس فاشهد " وهذا يدل على أن هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول.
أما قوله تعالى: * (قائما بالقسط) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: * (قائما بالقسط) * منتصب، وفيه وجوه:
الوجه الأول: نصب على الحال، ثم فيه وجوه أحدها: التقدير: شهد الله قائما بالقسط وثانيها: يجوز أن يكون حالا من هو تقديره: لا إله إلا هو قائما بالقسط، ويسمى هذا حالا مؤكدة كقولك: أتانا عبد الله شجاعا، وكقولك: لا رجل إلا عبد الله شجاعا.
الوجه الثاني: أن يكون صفة المنفي، كأنه قيل: لا إله قائما بالقسط إلا هو، وهذا غير بعيد لأنهم يفصلون بين الصفة والموصوف.
والوجه الثالث: أن يكون نصبا على المدح.
فإن قيل: أليس من حق المدح أن يكون معرفة، كقولك، الحمد لله الحميد.
قلنا: وقد جاء نكرة أيضا، وأنشد سيبويه:
ويأوي إلى نسوة عطل * وشعثا مراضع مثل السعالي
المسألة الثانية: قوله * (قائما بالقسط) * فيه وجهان الأول: أنه حال من المؤمنين والتقدير: وأولوا العلم حال كون كل واحد منهم قائما بالقسط في أداء هذه الشهادة والثاني: وهو قول جمهور المفسرين أنه حال من * (شهد الله) *.
المسألة الثالثة: معنى كونه * (قائما بالقسط) * قائما بالعدل، كما يقال: فلان قائم بالتدبير، أي يجريه على الاستقامة.
واعلم أن هذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا، ومنه ما هو متصل بباب الدين، أما المتصل بالدين، فانظر أولا في كيفية خلقة أعضاء الإنسان، حتى تعرف عدل الله تعالى فيها، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح، والغنى والفقر والصحة والسقم، وطول العمر وقصره
220

واللذة والآلام واقطع بأن كل ذلك عدل من الله وحكمة وصواب ثم انظر في كيفية خلقة العناصر وأجرام الأفلاك، وتقدير كل واحد منها بقدر معين وخاصية معينة، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب، أما ما يتصل بأمر الدين، فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل، والفطانة والبلادة والهداية والغواية، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط، ولقد خاض صاحب " الكشاف " ههنا في التعصب للاعتزال وزعم أن الآية دالة على أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وكان ذلك المسكين بعيدا عن معرفة هذه الأشياء إلا أنه فضولي كثير الخوض فيما لا يعرف، وزعم أن الآية دلت على أن من أجاز الرؤية، أو ذهب إلى الجبر لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام، والعجب أن أكابر المعتزلة وعظماءهم أفنوا أعمارهم في طلب الدليل على أنه لو كان مرئيا لكان جسما، وما وجدوا فيه سوى الرجوع إلى الشاهد من غير جامع عقلي قاطع، فهذا المسكين الذي ما شم رائحة العلم من أين وجد ذلك، وأما حديث الجبر فالخوض فيه من ذلك المسكين خوض فيما لا يعنيه، لأنه لما اعترف بأن الله تعالى عالم بجميع الجزئيات، واعترف بأن العبد لا يمكنه أن يقلب علم الله جهلا، فقد اعترف بهذا الجبر، فمن أين هو والخوض في أمثال هذه المباحث.
ثم قال الله تعالى: * (لا إله إلا هو) * والفائدة في إعادته وجوه الأول: أن تقدير الآية: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو، ونظيره قول من يقول: الدليل دل على وحدانية الله تعالى، ومتى كان كذلك صح القول بوحدانية الله تعالى الثاني: أنه تعالى لما أخبر أن الله شهد أنه لا إله إلا هو وشهدت الملائكة وأولوا العلم بذلك صار التقدير، كأنه قال: يا أمة محمد فقولوا أنتم على وفق شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم * (لا إله إلا هو) * فكان الغرض من الإعادة الأمر بذكر هذه الكلمة على وفق تلك الشهادات الثالث: فائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبدا في تكرير هذه الكلمة فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة، فإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلا بذكرها وبتكريرها كان مشتغلا بأعظم أنواع العبادات، فكان الغرض من التكرير في هذه الآية حث العباد على تكريرها الرابع: ذكر قوله * (لا إله إلا هو) * أولا: ليعلم أنه لا تحق العبادة إلا لله تعالى، وذكرها ثانيا: ليعلم أنه القائم بالقسط لا يجور ولا يظلم.
أما قوله * (العزيز الحكيم) * فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلا معهما لأن كونه قائما بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالما بمقادير الحاجات، وكان قادرا على تحصيل المهمات، وقدم العزيز على الحكيم في الذكر، لأن العلم بكونه تعالى قادرا متقدم على العلم بكونه عالما في طريق المعرفة الاستدلالية، فلما كان مقدما في المعرفة
221

الاستدلالية، وكان هذا الخطاب مع المستدلين، لا جرم قدم تعالى ذكر العزيز على الحكيم.
قوله تعالى
* (إن الدين عند الله الإسلام) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اتفق القراء على كسر * (إن) * إلا الكسائي فإنه فتح * (أن) * وقراءة الجمهور ظاهرة، لأن الكلام الذي قبله قد تم، وأما قراءة الكسائي فالنحويون ذكروا فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن التقدير: شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام وذلك لأن كونه تعالى واحدا موجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام لأن دين الإسلام هو المشتمل على هذه الوحدانية والثاني: أن التقدير: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأن الدين عند الله الإسلام الثالث: وهو قول البصريين أن يجعل الثاني بدلا من الأول، ثم إن قلنا بأن دين الإسلام مشتمل على التوحيد نفسه كان هذا من باب قولك: ضربت زيدا نفسه، وإن قلنا: دين الإسلام مشتمل على التوحيد كان هذا من باب بدل الاشتمال، كقولك: ضربت زيدا رأسه.
فإن قيل: فعلى هذا الوجه وجب أن لا يحسب إعادة اسم الله تعالى كما يقال: ضربت زيدا رأس زيد.
قلنا: قد يظهرون الاسم في موضع الكناية، قال الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شي
وأمثاله كثيرة.
المسألة الثانية: في كيفية النظم من قرأ * (أن الدين) * بفتح * (أن) * كان التقدير: شهد الله لأجل أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام، فإن الإسلام إذا كان هو الدين المشتمل على التوحيد، والله تعالى شهد بهذه الوحدانية كان اللازم من ذلك أن يكون الدين عند الله الإسلام، ومن قرأ * (إن الدين) * بكسر الهمزة، فوجه الاتصال هو أنه تعالى بين أن التوحيد أمر شهد الله بصحته، وشهد به الملائكة وأولوا العلم، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يقال * (إن الدين عند الله الإسلام) *.
المسألة الثالثة: أصل الدين في اللغة الجزاء، ثم الطاعة تسمى دينا لأنها سبب الجزاء، وأما الإسلام ففي معناه في أصل اللغة أوجه الأول: أنه عبارة عن الدخول في الإسلام أي في الانقياد والمتابعة، قال تعالى: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام) * (النساء: 94) أي لمن صار منقادا لكم ومتابعا لكم
222

والثاني: من أسلم أي دخل في السلم، كقولهم: أسنى وأقحط وأصل السلم السلامة الثالث: قال ابن الأنباري: المسلم معناه المخلص لله عبادته من قولهم: سلم الشيء لفلان، أي خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى، هذا ما يتعلق بتفسير لفظ الإسلام في أصل اللغة، أما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان، والدليل عليه وجهان الأول: هذه الآية فإن قوله * (إن الدين عند الله الإسلام) * يقتضي أن يكون الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام، فلو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان دينا مقبولا عند الله، ولا شك في أنه باطل الثاني: قوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) * (آل عمران: 85) فلو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان دينا مقبولا عند الله تعالى.
فإن قيل: قوله تعالى: * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) * (الحجرات: 14) هذا صريح في أن الإسلام مغاير للإيمان.
قلنا: الإسلام عبارة عن الانقياد في أصل اللغة على ما بينا، والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف، فلا جرم كان الإسلام حاصلا في حكم الظاهر، والإيمان كان أيضا حاصلا في حكم الظاهر، لأنه تعالى قال: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 221) والإيمان الذي يمكن إدارة الحكم عليه هو الإقرار الظاهر، فعلى هذا الإسلام والإيمان تارة يعتبران في الظاهر، وتارة في الحقيقة، والمنافق حصل له الإسلام الظاهر، ولم يحصل له الإسلام الباطن، لأن باطنه غير منقاد لدين الله، فكان تقدير الآية: لم تسلموا في القلب والباطن، ولكن قولوا: أسلمنا في الظاهر، والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: الغرض من الآية بيان إن الله تعالى أوضح الدلائل، وأزال الشبهات والقوم ما كفروا إلا لأجل التقصير، فقوله * (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب) * فيه وجوه:
223

الأول: المراد بهم اليهود، واختلافهم أن موسى عليه السلام لما قربت وفاته سلم التوراة إلى سبعين حبرا، وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين من بعد ما جاءهم العلم في التوراة بغيا بينهم، وتحاسدوا في طلب الدنيا والثاني: المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم بأنه عبد الله ورسوله والثالث: المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش، لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب.
المسألة الثانية: قوله * (إلا من بعد ما جاءهم العلم) * المراد منه إلا من بعد ما جاءتهم الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم، لأنا لو حملناه على العلم لصاروا معاندين والعناد على الجمع العظيم لا يصح، وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب وهم جمع عظيم.
المسألة الثالثة: في انتصاب قوله * (بغيا) * وجهان الأول: قول الأخفش إنه انتصب على أنه مفعول له أي للبغي كقولك: جئتك طلب الخير ومنع الشر والثاني: قول الزجاج إنه انتصب على المصدر من طريق المعنى، فإن قوله * (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب) * قائم مقام قوله: وما بغى الذين أوتوا الكتاب فجعل * (بغيا) * مصدرا، والفرق بين المفعول له وبين المصدر أن المفعول له غرض للفعل، وأما المصدر فهو المفعول المطلق الذي أحدثه الفاعل.
المسألة الرابعة: قال الأخفش قوله * (بغيا بينهم) * من صلة قوله * (اختلف) * والمعنى: وما اختلفوا بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، وقال غيره: المعنى وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم إلا للبغي بينهم، فيكون هذا إخبارا عن أنهم إنما اختلفوا للبغي، وقال القفال: وهذا أجود من الأول، لأن الأول: يوهم أنهم اختلفوا بسبب ما جاءهم من العلم، والثاني: يفيد أنهم إنما اختلفوا لأجل الحسد والبغي.
ثم قال تعالى: * (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) * وهذا تهديد، وفيه وجهان: الأول: المعنى فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعا فيحاسبه أي يجزيه على كفره والثاني: أن الله تعالى سيعلمه بأعماله ومعاصيه وأنواع كفره بإحصاء سريع مع كثرة الأعمال.
قوله تعالى
* (فإن حآجوك فقل أسلمت وجهى لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب
224

والاميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير با لعباد) *.
إعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بين الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم، فقال: * (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن) * وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان:
الطريق الأول: أن هذا إعراض عن المحاجة، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مرارا وأطوارا، فإن هذه السورة مدنية، وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن، ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها، وأيضا قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه، فأولها: أنه تعالى ذكر الحجة بقوله * (الحي القيوم) * على فساد قول النصارى في إلهية عيسى عليه السلام وبقوله * (نزل عليك الكتاب بالحق) * (آل عمران: 3) على صحة النبوة، وذكر شبه القوم، وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم، ثم ذكر لهم معجزة أخرى، وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا) * (آل عمران: 13) ثم بين صحة القول بالتوحيد، ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * (آل عمران: 18) ثم بين تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود والنصارى عن الحق، واختلافهم في الدين، إنما كان لأجل البغي والحسد، وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين، فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل، فبعد هذا قال: * (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن) * يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل، وإيضاح البينات، فإن تركتم الأنف والحسد، وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين، وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم، وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام، فإن المحق إذا ابتلى بالمبطل اللجوج، وأورد عليه الحجة حالا بعد حال، فقد يقول في آخر الأمر: أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق، مستسلمون له، مقبلون على عبودية الله تعالى، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد، فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه.
الطريق الثاني: وهو أن نقول: إن قوله * (أسلمت وجهي لله) * محاجة، وإظهار للدليل،
225

وبيانه من وجوه:
الوجه الأول: أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع، وكونه مستحقا للعبادة، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم: هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الاثبات، فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية، والنصارى يدعون إلهية عيسى، والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها، وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طاعة الله تعالى وعبوديته، وهذا القدر متفق عليه، ونظيره هذه الآية قوله تعالى: * (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) * (آل عمران: 64). والوجه الثاني: في كيفية الاستدلال ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، والإقرار بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه، إلا في زيادات من الشرائع والأحكام، فأمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * (النحل: 123) ثم إنه تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال: * (إني وجهت وجهي
للذي فطر السماوات والأرض) * (الأنعام: 79) فقول محمد صلى الله عليه وسلم: * (أسلمت وجهي) * كقول إبراهيم عليه السلام * (وجهت وجهي) * أي اعترضت عن كل معبود سوى الله تعالى، وقصدته بالعبادة وأخلصت له، فتقدير الآية كأنه تعالى قال: فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل: أنا مستمسك بطريقة إبراهيم، وأنتم معترفون بأن طريقته حقة، بعيدة عن كل شبهة وتهمة، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات، وداخلا تحت قوله * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * (النحل: 125).
والوجه الثالث: في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع، وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير، ثم قال: * (فإن حاجوك) * يعني فإن نازعوك في قولك * (إن الدين عند الله الإسلام) * (آل عمران: 19) فقل: الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله، وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية، فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته، ولا أشرك به غيره، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية، فصح أن الدين الكامل هو الإسلام، وهذا الوجه يناسب الآية.
الوجه الرابع: في كيفية الاستدلال، ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * (مريم: 42) يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعا ضارا، ويكون أمري في يديه، وحكمي في قبضة قدرته، فإن كان كل واحد يعلم
226

أن عيسى ما كان قادرا على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له، وأن انقاد له، وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير، والشر، والنفع، والضر، والتدبير، والتقدير.
الوجه الخامس: يحتمل أيضا أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله * (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) * (البقرة: 131) وهذا مروي عن ابن عباس.
أما قوله * (أسلمت وجهي لله) * ففيه وجوه الأول: قال الفراء أسلمت وجهي لله، أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له، ولم يشاركه غيره قال: ويعني بالوجه ههنا العمل كقوله * (يريدون وجهه) * (الكهف: 28) أي عبادته، ويقال: هذا وجه الأمر أي خالص الأمر وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول: وجهت وجهي إليك، ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه: مر على وجهه الثاني: أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله، والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلهيته وحكمه الثالث: أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته، عادل عن كل ما سواه.
وأما قوله * (ومن اتبعن) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: حذف عاصم وحمزة والكسائي، الياء من اتبعن اجتزاء بالكسر واتباعا للمصحف، وأثبته الآخرون على الأصل:
المسألة الثانية: * (من) * في محل الرفع عطفا على التاء في قوله * (أسلمت) * أي ومعنى اتبعني أسلم أيضا.
فإن قيل: لم قال أسلمت ومن اتبعن، ولم يقل: أسلمت أنا ومن اتبعن.
قلنا: إن الكلام طال بقوله * (وجهي لله) * فصار عوضا من تأكيد الضمير المتصل، ولو قيل أسلمت وزيد لم يحسن حتى يقال: أسلمت أنا وزيد ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر، ومن جاء معي جاز وحسن.
ثم قال تعالى: * (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية متناولة لجميع المخالفين لدين محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن منهم من كان من أهل الكتاب، سواء كان محقا في تلك الدعوى كاليهود والنصارى، أو كان كاذبا فيه كالمجوس، ومنهم من لم يكن من أهل الكتاب وهم عبدة الأوثان.
المسألة الثانية: إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين الأول: أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلهي وصفوا بأنهم أميون تشبيها بمن لا يقرأ ولا يكتب والثاني: أن يكون المراد
227

أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم والله أعلم.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أن المراد بقوله * (فإن حاجوك) * عام في كل الكفار، لأنه دخل كل من يدعي الكتاب تحت قوله * (الذين أوتوا الكتاب) * ودخل من لا كتاب له تحت قوله * (الأميين) *.
ثم قال الله تعالى * (أأسلمتم) * فهو استفهام في معرض التقرير، والمقصود منه الأمر قال النحويون: إنما جاء بالأمر في صورة الاستفهام، لأنه بمنزلته في طلب الفعل والاستدعاء إليه إلا أن في التعبير عن معنى الأمر بلفظ الاستفهام فائدة زائدة، وهي التعبير بكون المخاطب معاندا بعيدا عن الانصاف، لأن المنصف إذا ظهرت له الحجة لم يتوقف بل في الحال يقبل ونظيره قولك لمن لخصت له المسألة في غاية التلخيص والكشف والبيان؛ هل فهمتها؟ فإن فيه الإشارة إلى كون المخاطب بليدا قليل الفهم، وقال الله تعالى في آية الخمر * (فهل أنتم منتهون) * (المائدة: 91) وفيه إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه.
ثم قال الله تعالى: * (فإن أسلموا فقد اهتدوا) * وذلك لأن هذا الإسلام تمسك بما هدي إليه، والمتمسك بهداية الله تعالى يكون مهتديا، ويحتمل أن يريد: فقد اهتدوا للفوز والنجاة في الآخرة إن ثبتوا عليه ثم قال: * (وإن تولوا) * عن الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم: * (فإنما عليك البلاغ) * والغرض منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعريفه أن الذي عليه ليس إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلغ ما جاء به فقد أدى ما عليه، وليس عليه قبولهم ثم قال: * (والله بصير
بالعباد) * وذلك يفيد الوعد والوعيد، وهو ظاهر.
قوله تعالى
* (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة وما لهم
228

من ناصرين) *.
إعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يعرض ويتولى بقوله * (إن تولوا فإنما عليك البلاغ) * أردفه بصفة هذا المتولي فذكر ثلاثة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: قوله * (إن الذين يكفرون بآيات الله) *.
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي كونهم كافرين بجميع آيات الله واليهود والنصارى ما كانوا كذلك لأنهم كانوا مقرين بالصانع وعلمه وقدرته والمعاد.
قلنا: الجواب من وجهين الأول: أن نصرف آيات الله إلى المعهود السابق وهو القرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم الثاني: أن نحمله على العموم، ونقول إن من كذب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يكذب بجميع آيات الله تعالى لأن من تناقض لا يكون مؤمنا بشيء من الآيات إذ لو كان مؤمنا بشيء منها لآمن بالجميع.
الصفة الثانية: قوله تعالى: * (ويقتلون النبيين بغير حق) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الحسن * (ويقتلون النبيين بغير حق) * وهو للمبالغة.
المسألة الثانية: روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرأ هذه الآية ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله تعالى، وأيضا القوم قتلوا يحيى بن ذكريا، وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم فعلى قولهم ثبت أنهم كانوا يقتلون الأنبياء.
وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: إذا كان قوله * (إن الذين يكفرون بآيات الله) * في حكم المستقبل، لأنه وعيد لمن كان في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط فكيف يصح ذلك؟.
والجواب من وجهين الأول: أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم، إذ كانوا مصوبين وبطريقتهم راضين، فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن إذا كان راضيا به وجاريا على طريقته الثاني: إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل والمؤمنين إلا أنه تعالى عصمه منهم، فلما كانوا في غاية الرغبة في ذلك صح إطلاق هذا الاسم عليهم على سبيل المجاز، كما يقال: النار محرقة، والسم قاتل، أي ذلك من شأنهما إذا وجد القابل، فكذا ههنا
229

لا يصح أن يكون إلا كذلك.
السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله * (ويقتلون النبيين بغير حق) * وقتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك.
والجواب: ذكرنا وجوه ذلك في سورة البقرة، والمراد منه شرح عظم ذنبهم، وأيضا يجوز أن يكون المراد أنهم قصدوا بطريقة الظلم في قتلهم طريقة العدل.
السؤال الثالث: قوله * (ويقتلون النبيين) * ظاهره مشعر بأنهم قتلوا الكل، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ولا الأكثر ولا النصف.
والجواب: الألف واللام محمولان على المعهود لا على الاستغراق.
الصفة الثالثة: قوله * (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة وحده * (ويقاتلون) * بالألف والباقون * (ويقتلون) * وهما سواء، لأنهم قد يقاتلون فيقتلون بالقتال، وقد يقتلون ابتداء من غير قتال وقرأ أبي * (ويقتلون النبيين والذين يأمرون) *.
المسألة الثانية: قال الحسن: هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف، تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء، وروي أن رجلا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الجهاد أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ".
واعلم أنه تعالى كما وصفهم بهذه الصفات الثلاثة، فقد ذكر وعيدهم من ثلاثة أوجه الأول: قوله * (فبشرهم بعذاب أليم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إنما دخلت الفاء في قوله * (فبشرهم) * مع أنه خبران، لأنه في معنى الجزاء والتقدير: من يكفر فبشرهم.
المسألة الثانية: هذا محمول على الاستعارة، وهو أن إنذار هؤلاء بالعذاب قائم مقام بشرى المحسنين بالنعيم، والكلام في حقيقة البشارة تقدم في قوله تعالى: * (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (البقرة: 25).
النوع الثاني من الوعيد: قوله * (أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) *.
إعلم أنه تعالى بين بهذا أن محاسن أعمال الكفار محبطة في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي، وأخذ الأموال منهم
230

غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم، وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب.
النوع الثالث من وعيدهم: قوله تعالى: * (وما لهم من ناصرين) *.
إعلم أنه تعالى بين بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبين بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وبين بهذا الوجه الثالث لزوم ذلك في حقهم على وجه لا يكون لهم ناصر ولا دافع والله أعلم. (23)
قوله تعالى
* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون * ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون * فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *.
إعلم أنه تعالى لما نبه على عناد القوم بقوله * (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله) * (آل عمران: 20) بين في هذه الآية غاية عنادهم، وهو أنهم يدعون إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به، وهو التوراة ثم إنهم يتمردون، ويتولون، وذلك يدل على غاية عنادهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر قوله * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * يتناول كلهم، ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم، إلا أنه قد دل دليل آخر، على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول * (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) * (آل عمران: 113).
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (أوتوا نصيبا من الكتاب المراد به غير القرآن لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار، وهم اليهود والنصارى، وإذا كان كذلك وجب حمله على الكتاب الذي كانوا مقرين بأنه حق، ومن عند الله.
231

المسألة الثالثة: ذكروا في سبب النزول وجوها أحدها: روي عن ابن عباس أن رجلا وامرأة من اليهود زنيا، وكانا ذوي شرف، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم؟ قالوا: عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابن سلام: قد جاوز موضعها يا رسول الله فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما فرجما، فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضبا شديدا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم دخل مدرسة اليهود، وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: على أي دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم، فقالوا: إن إبراهيم كان يهوديا فقال صلى الله عليه وسلم: هلموا إلى التوراة، فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثالثة: أن علامات بعثة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورة في التوراة، والدلائل الدالة على صحة نبوته موجودة فيها، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوراة، وإلى تلك الآيات الدالة على نبوته فأبوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم، فلا تعجب من مخالفتهم كتابك فلذلك قال الله تعالى: * (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) * (آل عمران: 93) وهذه الآية على هذه الرواية دلت على أنه وجد في التوراة دلائل صحة نبوته، إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إلى بيان ما فيها ولكنهم أسروا ذلك.
والرواية الرابعة: أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى، وذلك لأن دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل، وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون.
أما قوله * (نصيبا من الكتاب) * فالمراد منه نصيبا من علم الكتاب، لأنا لو أجريناه على ظاهره فهم أنهم قد أوتوا كل الكتاب والمراد بذلك العلماء منهم وهم الذين يدعون إلى الكتاب، لأن من لا علم له بذلك لا يدعي إليه.
أما قوله تعالى: * (يدعون إلى كتاب الله) * ففيه قولان:
القول الأول: وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما والحسن أنه القرآن.
232

فإن قيل: كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به؟.
قلنا: إنهم إنما دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالة على أنه كتاب من عند الله.
والقول الثاني: وهو قول أكثر المفسرين: إنه التوراة واحتج القائلون به بوجوه الأول: أن الروايات المذكورة في سبب النزول دالة على أن القوم كانوا يدعون إلى التوراة فكانوا يأبون والثاني: أنه تعالى عجب رسوله صلى الله عليه وسلم من تمردهم وإعراضهم، والتعجب إنما يحصل إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون في صحته، ويقرون بحقيته الثالث: أن هذا هو المناسب لما قبل الآية، وذلك لأنه تعالى لما بين أنه ليس عليه إلا البلاغ، وصبره على ما قالوه في تكذيبه مع ظهور الحجة بين أنهم إنما استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته فستروا ما فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهذا يدل على أنهم في غاية التعصب والبعد عن قبول الحق.
وأما قوله * (ليحكم بينهم) * فالمعنى: ليحكم الكتاب بينهم، وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور، وقرئ * (ليحكم) * على البناء للمفعول، قال صاحب " الكشاف ": وقوله * (ليحكم بينهم) * يقتضي أن يكون الاختلاف واقعا فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بين الله أنهم عند الدعاء يتولى
فريق منهم وهم الرؤساء الذين يزعمون أنهم هم العلماء.
ثم قال: * (وهم معرضون) * وفيه وجهان:
الأول: المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم، كأنه قيل: ثم يتولى العلماء والأتباع معرضون عن القبول من النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تولي علمائهم.
والثاني: أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق، والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب، كأنه قيل: لا تظن أنه تولى عن هذه المسألة بل هو معرض عن الكل.
وأما قوله تعالى: * (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) * (آل عمران: 24) فالكلام في تفسيره قد تقدم في سورة البقرة، ووجه النظم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى * (ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) * قال في هذه الآية: ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، قال الجبائي: وفيها دلالة على بطلان قول من يقول: إن أهل النار يخرجون من النار، قال: لأنه لو صح ذلك في هذه الأمة لصح في سائر الأمم، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذبا، ولما استحق الذم، فلما ذكر الله تعالى ذلك في معرض الذم علمنا أن القول بخروج أهل النار قول باطل.
233

وأقول: كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام، وذلك لأن مذهبه أن العفو حسن جائز من الله تعالى، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفو في هذه الأمة حصوله في سائر الأمم.
سلمنا أنه يلزم ذلك، لكن لم قلتم: إن القوم إنما استحقوا الذم على مجرد الإخبار بأن الفاسق يخرج من النار بل ههنا وجوه أخر الأول: لعلمهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة، فإنه روي أنهم كانوا يقولون: مدة عذابنا سبعة أيام، ومنهم من قال: بل أربعون ليلة على قدر مدة عبادة العجل والثاني: أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ويقولون بتقدير وقوع الخطأ منا فإن عذابنا قليل وهذا خطأ، لأن عندنا المخطئ في التوحيد والنبوة والمعاد عذابه دائم، لأنه كافر، والكافر عذابه دائم والثالث: أنهم لما قالوا * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) * فقد استحقروا تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه لا تأثير له في تغليظ العقاب فكان ذلك تصريحا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وذلك كفر والكافر المصر على كفره لا شك أن عذابه مخلد، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن احتجاج الجبائي بهذه الآية ضعيف وتمام الكلام على سبيل الاستقصاء مذكور في سورة البقرة.
أما قوله تعالى: * (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) * فاعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله * (ما كانوا يفترون) * فقيل: هو قولهم * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) وقيل: هو قولهم * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) * وقيل: غرهم قولهم: نحن على الحق وأنت على الباطل.
أما قوله تعالى: * (فكيف إذا جمعناهم ليوم ريب فيه) * فالمعنى أنه تعالى لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بين أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل، ويكشف فيه ذلك الغرور فقال * (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) * وفي الكلام حذف، والتقدير: فكيف صورتهم وحالهم ويحذف الحال كثيرا مع كيف لدلالته عليها تقول: كنت أكرمه وهو لم يزرني، فكيف لو زارني أي كيف حاله إذا زارني، واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل: لو زارني وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية.
أما قوله تعالى: * (إذا جمعناهم ليوم) * ولم يقل في يوم، لأن المراد: لجزاء يوم أو لحساب يوم فحذف المضاف ودلت اللام عليه، قال الفراء: اللام لفعل مضمر إذا قلت: جمعوا ليوم الخميس، كان المعنى جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس وإذا قلت: جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلا
234

وأيضا فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب، وقوله * (لا ريب فيه) * أي لا شك فيه.
ثم قال: * (ووفيت كل نفس ما كسبت) * فإن حملت ما كسبت على عمل العبد جعل في الكلام حذف، والتقدير: ووفيت كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب، وإن حملت ما كسبت على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار.
ثم قال: * (وهم لا يظلمون) * فلا ينقص من ثواب الطاعات، ولا يزاد على عقاب السيئات. واعلم أن قوله * (ووفيت كل نفس ما كسبت) * يستدل به القائلون بالوعيد، ويستدل به أصحابنا القائلون بأن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة لا يخلد في النار، أما الأولون قالوا: لأن صاحب الكبيرة لا شك أنه مستحق العقاب بتلك الكبيرة، والآية دلت على أن كل نفس توفي عملها وما كسبت، وذلك يقتضي وصول العقاب إلى صاحب الكبيرة.
وجوابنا: أن هذا من العمومات، وقد تكلمنا في تمسك المعتزلة بالعمومات.
وأما أصحابنا فإنهم يقولون: إن المؤمن استحق ثواب الإيمان فلا بد وأن يوفي عليه ذلك الثواب لقوله * (ووفيت كل نفس ما كسبت) * فإما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى دار العقاب وذلك باطل بالإجماع، وإما أن يقال: يعاقب بالنار ثم ينقل إلى دار الثواب أبدا مخلدا وهو المطلوب.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم؟.
قلنا: هذا باطل لأنا بينا أن القول بالمحابطة محال في سورة البقرة، وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أن ثواب توحيد سبعين سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر، والمنازع فيه مكابر، فبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط كل ثواب الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر، وكان يحيى بن معاذ رحمة الله عليه يقول: ثواب إيمان لحظة، يسقط كفر سبعين سنة، فثواب إيمان سبعين سنة كيف
يعقل أن يحبط بعقاب ذنب لحظة، ولا شك أنه كلام ظاهر.
235