الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٢
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

سورة البقرة
مدنية إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجة الوداع وآياتها مائتان وست وثمانون
* (آلم) *
تفسير آلم حروف الهجاء:
* (آلم) * فيه مسألتان: المسألة الأولى: -
اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة، لأن الضاد مثلا لفظة مفردة دالة بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى، وذلك المعنى هو الحرف الأول من " ضرب " فثبت أنها أسماء ولأنها يتصرف فيها بالأمالة والتفخيم والتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد والإضافة، فكانت لا محالة أسماء. فإن قيل قد روى أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف، لكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " الحديث، والاستدلال به يناقض ما ذكرتم قلنا: سماه حرفا مجازا لكونه اسما للحرف، وإطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور. معاني تسمية حروفها:
فروع: الأول: أنهم راعوا هذه التسمية لمعان لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظا كأساميها وهي حروف مفردة والأسامي ترتقي عدد حروفها إلى الثلاثة اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في الاسم على المسمى، فجعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكنا. حكمها ما لم تلها العوامل: الثاني: حكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز كأسماء الأعداد فيقال ألف لام ميم، كما تقول واحد اثنان ثلاثة فإذا وليتها العوامل أدركها الأعراب كقولك هذه ألف وكتبت ألفا ونظرت إلى ألف، وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية مسماه فحسب، لأن جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى، وحركات اللفظ دالة على أحوال المعنى، فإذا أريد إفادة جوهر المعنى وجب إخلاء اللفظ عن الحركات.
2

كونها معربة:
الثالث: هذه الأسماء معربة وإنما سكنت سكون سائر الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد موجبه، والدليل على أن سكونها وقف لا بناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو كيف وأين وهؤلاء ولم يقل صاد قاف نون مجموع فيها بين الساكنين. معاني آلم:
المسألة الثانية: للناس في قوله تعالى: * (آلم) * وما يجري مجراه من الفواتح قولان: أحدهما: أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لله في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور، وقال علي رضي الله عنه: إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وقال بعض العارفين: العلم بمنزلة البحر فأجرى منه واد ثم أجرى من الوادي نهر. ثم أجرى من النهر جدول، ثم أجرى من الجدول ساقية، فلو أجرى إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وأفسده، ولو سال البحر إلى الوادي لأفسده، وهو المراد من قوله تعالى: * (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) * (الرعد: 17) فبحور العلم عند الله تعالى، فأعطي الرسل منها أودية، ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنهارا إلى العلماء، ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغارا على قدر طاقتهم، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم. وعلى هذا ما روي في الخبر " للعلماء سر، وللخلفاء سر. وللأنبياء سر، وللملائكة سر، ولله من بعد ذلك كله سر، فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم، ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين، وبادوا بائرين. والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية، كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش، فلما زيدت الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة، ولما زيدت العلماء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه، وكذلك علماء الباطن، وهم الحكماء زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر. وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال: سر الله فلا تطلبوه، وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: عجزت العلماء عن إدراكها، وقال الحسين بن الفضل: هو من المتشابه.
واعلم أن المتكلمين أنكروا هذا القول هذا القول، وقالوا لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق، واحتجوا عليه بالآيات والأخبار والمعقول. حجج المتكلمين بالآيات:
أما الآيات فأربعة عشر. أحدها: قوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) * (محمد: 24) أمرهم بالتدبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه وثانيها: قوله: * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82) فكيف يأمرهم بالتدبر فيه لمعرفة نفي الناقص والاختلاف مع أنه غير مفهوم للخلق؟ وثالثها: قوله: * (وأنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) * (الشعراء: 192 - 195) فلو لم يكن مفهوما بطل كون الرسول صلى الله عليه وسلم منذرا به، وأيضا قوله: * (بلسان عربي مبين) * يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا
3

كان الأمر كذلك وجب أن يكون مفهوما. ورابعها: قوله: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه وخامسها: قوله: * (تبيانا لكل شيء) * (النحل: 89) وقوله: * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * وسادسها: قوله: * (هدى للناس) * (البقرة: 185)، * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) وغير المعلوم لا يكون هدى وسابعها: قوله: * (حكمة بالغة) * (القمر: 5) وقوله: * (وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) * (يونس
: 57) وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم وثامنها: قوله: * (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) * (المائدة: 15) وتاسعها: قوله: * (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم، إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) * (العنكبوت: 51) وكيف يكون الكتاب كافيا وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم؟ وعاشرها: قوله تعالى: * (هذا بلاغ للناس ولينذروا به) * فكيف يكون بلاغا، وكيف يقع الإنذار به مع أنه غير معلوم؟ وقال في آخر الآية * (وليذكر أولوا الألباب) * (إبراهيم: 52) وإنما يكون كذلك لو كان معلوما الحادي عشر: قوله: * (قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * (النساء: 174) فكيف يكون برهان ونورا مبينا مع أنه غير معلوم؟ الثاني عشر: قوله: * (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) * (طه: 123، 124) فكيف يمكن اتباعه والأعراض عنه غير معلوم؟ الثالث عشر: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * (الإسراء: 9) فكيف يكون هاديا مع أنه غير معلوم؟ الرابع عشر: قوله تعالى: * (آمن الرسول - إلى قوله سمعنا وأطعنا) * (البقرة: 285) والطاعة لا تمكن إلا بعد الفهم فوجب كون القرآن مفهوما.
الاحتجاج بالأخبار:
وأما الأخبار: فقوله عليه السلام: " إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي " فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟ وعن علي رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم والصراط المستقيم،
هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم. الاحتجاج بالمعقول:
أما المعقول فمن وجوه: أحدها: أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية، ولما لم يجز ذاك فكذا هذا وثانيها: أن المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوما لكانت المخاطبة به عبثا وسفها، وأنه لا يليق بالحكيم وثالثها: أن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوما لا يجوز وقوع التحدي به، فهذا مجموع كلام المتكلمين، واحتج مخالفوهم بالآية، والخبر، والمعقول. احتجاج مخالفي المتكلمين بالآيات:
أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن وأنه غير معلوم، لقوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * والوقف ههنا واجب لوجوه. أحدها: أن قوله تعالى: * (والراسخون في العلم) * (آل عمران: 7) لو كان معطوفا على قوله: * (إلا الله) * لبقي * (يقولون آمنا به) * منقطعا عنه وأنه غير جائز لأنه وحده لا يفيد، لا يقال أنه حال،
4

لأنا نقول حينئذ يرجع إلى كل ما تقدم، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلا آمنا به كل من عند ربنا وهذا كفر. وثانيها: أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه، فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح وثالثها: أن تأويلها لو كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذما، لكن قد جعله الله تعالى ذما حيث قال: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) * (آل عمران: 7). احتجاجهم بالخبر:
وأما الخبر فقد روينا في أول هذه المسألة خبرا يدل على قولنا، وروي أنه عليه السلام قال: " أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله " ولأن القول بأن هذه الفواتح غير معلومة مروي عن أكابر الصحابة فوجب أن يكون حقا، لقوله عليه السلام " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ". احتجاجهم بالمعقول:
وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان. منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة بعقولنا: كالصلاة والزكاة والصوم؛ فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق، والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير، والصوم سعي في كسر الشهوة. ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه: كأفعال الحج فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة، والرمل، والاضطباع، ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني، لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم، لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضا أن يكون الأمر كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمرنا الله تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارة بما لا نقف على معناه، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر، بل فيه فائدة أخرى، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه متلفتا إليه أبدا، ومتفكرا فيه أبدا، ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدا مصلحة عظيمة له، فيتعبده بذلك تحصيلا لهذه المصلحة، فهذا ملخص كلام الفريقين في هذا الباب. هل المراد من الفواتح معلوم: القول الثاني: قول من زعم أن المراد من هذه الفواتح معلوم، ثم اختلفوا فيه وذكروا وجوها. الأول: أنها أسماء السور، وهو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه وقال القفال: وقد سمت العرب بهذه الحروف أشياء، فسموا بلام والد حارثة بن لام الطائي، وكقولهم للنحاس: صاد، وللنقد عين، وللسحاب غين، وقالوا: جبل قاف، وسموا الحوت نونا، الثاني: أنها أسماء الله تعالى، روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول: " يا كهيعص، يا حم عسق " الثالث: أنها أبعاض
5

أسماء الله تعالى، قال سعيد بن جبير: قوله (آلر، حم، ن) مجموعها هو اسم الرحمن، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البواقي، الرابع: أنها أسماء القرآن، وهو قول الكلبي والسدي وقتادة الخامس: أن كل واحد منها دال على اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته، قال ابن عباس رضي الله عنهما في (آلم): الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد، أول، آخر، أزلي، أبدي، واللام إشارة إلى أنه لطيف، والميم إشارة إلى أنه ملك مجيد منان، وقال في: * (كهيعص) * إنه ثناء من الله تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافيا، والهاء يدل على كونه هاديا، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على الصادق وذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه حمل الكاف على الكبير والكريم، والياء على أنه يجير، والعين على العزيز والعدل. والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصص كل واحد من هذه الحروف باسم معين، وفي الثاني ليس كذلك، السادس: بعضها يدل على أسماء الذات، وبعضها على أسماء الصفات. قال ابن عباس في * (آلم) * أنا الله أعلم، وفي * (المص) * أنا الله أفصل، وفي * (آلر) * أنا الله أرى، وهذا رواية أبي صالح وسعيد بن جبير عنه. السابع: كل واحد منها يدل على صفات الأفعال، فالألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مجده. قاله محمد بن كعب القرظي. وقال الربيع بن أنس: ما منها حرف إلا في ذكر آلائه ونعمائه. الثامن: بعضها يدل على أسماء الله تعالى وبعضها يدل على أسماء غير الله، فقال الضحاك: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، أي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، التاسع: كل واحد من هذه الحروف يدل على فعل من الأفعال، فالألف معناه ألف الله محمدا فبعثه نبيا، واللام أي لامه الجاحدون، والميم أي ميم الكافرون غيظوا وكبتوا بظهور الحق. وقال بعض الصوفية: الألف معناه أنا، واللام معناه لي، والميم معناه مني، العاشر: ما قاله المبرد واختاره جمع عظيم من المحققين - إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجا على الكفار، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيها على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر، الحادي عشر: قال عبد العزيز بن يحيى: إن الله تعالى إنما ذكرها لأن في التقدير كأنه تعالى قال: اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، كما أن الصبيان يتعلمون هذه الحروف أولا مفردة ثم يتعلمون المركبات، الثاني عشر: قول ابن روق وقطرب: إن الكفار لما قالوا: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) وتواصلوا بالأعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سببا لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن؛ فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه السلام، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا إلى انتفاعهم، الثالث عشر: قول أبي العالية إن كل حرف منها في مدة أقوام، وآجال
6

آخرين، قال ابن عباس رضي الله عنه: مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو سورة البقرة * (آلم ذلك الكتاب) *، (البقرة: 1، 2) ثم أتى أخوه حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن آلم وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم كذلك نزلت "، فقال حيى إن كنت صادقا إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين، ثم قال كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال حيى فهل غير هذا؟ فقال: نعم * (المص) *، فقال يحيى: هذا أكثر من الأول هذا مائة وإحدى وستون سنة، فهل غير هذا، قال: نعم * (آلر) *، فقال حيى هذا أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد إن كنت صادقا ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة، فهل غير هذا؟ فقال: نعم * (المر) *، قال حيى: فنحن نشهد أن من الذين لا يؤمنون ولا ندري بأي أقوالك نأخذ. فقال أبو ياسر: أما أنا فاشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صادقا فيما يقول إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود، وقالوا اشتبه علينا أمرك كله، فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ فذلك قوله تعالى: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) *. (آل عمران: 7) الرابع عشر: هذه الحروف تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر، قال أحمد بن يحيى بن ثعلب: إن العرب إذا استأنفت كلاما فمن شأنهم أن يأتوا بشيء غير الكلام الذي يريدون استئنافه، فيجعلونه تنبيها للمخاطبين على قطع الكلام الأول واستئناف الكلام الجديد. الخامس عشر: روى ابن الجوزي عن ابن عباس أن هذه الحروف ثناء أثنى الله عز وجل به على نفسه، السادس عشر: قال الأخفش: إن الله تعالى أقسم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ثم إنه تعالى اقتصر على ذكر البعض وإن كان المراد، هو الكل، كما تقول قرأت الحمد، وتريد السورة بالكلية، فكأنه تعالى قال: أقسم بهذه الحروف إن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ، السابع عشر: أن التكلم بهذه الحروف، وإن كان معتادا لكل أحد، إلا أن كونها مسماة بهذه الأسماء لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة، فلما أخبر الرسول عليه السلام عنها من غير سبق تعلم واستفادة كان ذلك إخبارا عن الغيب؛ فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكرها ليكون أول ما يسمع من هذه السورة معجزة دالة على صدقه. الثامن عشر: قال أبو بكر التبريزي: إن الله تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن فذكر هذه الحروف تنبيها على أن كلامه مؤلف من هذه الحروف، فيجب أن لا يكون قديما. التاسع عشر: قال القاضي الماوردي: المراد من " آلم " أنه ألم بكم ذلك الكتاب. أي نزل عليكم، والإلمام الزيارة، وإنما قال تعالى ذلك لأن جبريل عليه السلام نزل به نزول الزائر العشرون: الألف إشارة إلى ما لا بد منه من الاستقامة في أول الأمر، وهو رعاية الشريعة، قال تعالى: * (ان
7

الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * (فصلت: 30) واللام إشارة إلى الانحناء الحاصل عند المجاهدات، وهو رعاية الطريقة، قال الله تعالى: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * (العنكبوت: 69) والميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام المحبة، كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وبدايتها عين نهايتها، وذلك إنما يكون بالفناء في الله تعالى بالكلية، وهو مقام الحقيقة، قال تعالى: * (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) * (الأنعام: 91) الحادي والعشرون: الألف من أقصى الحلق
، وهو أول مخارج الحروف، واللام من طرف اللسان، وهو وسط المخارج، والميم من الشفة، وهو آخر المخارج، فهذه إشارة إلى أنه لا بد وأن يكون أول ذكر العبد ووسطه وآخره ليس إلا الله تعالى، على ما قال: * (ففروا إلى الله) * (الذاريات: 50).
كون فواتح السور أسماءها:
والمختار عند أكثر المحققين من هذه الأقوال أنها أسماء السور، والدليل عليه أن هذه الألفاظ إما أن لا تكون مفهومة، أو تكون مفهومة، والأول باطل، أما أولا فلأنه لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج، وأما ثانيا فلأنه تعالى وصف القرآن أجمع بأنه هدى وذلك ينافي كونه غير معلوم. وأما القسم الثاني فنقول: إما أن يكون مراد الله تعالى منها جعلها أسماء الألقاب، أو أسماء المعني، والثاني باطل؛ لأن هذه الألفاظ غير موضوعة في لغة العرب لهذه المعاني التي ذكرها المفسرون، فيمتنع حملها عليها؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، فلا يجوز حملها على ما لا يكون حاصلا في لغة العرب؛ ولأن المفسرين ذكروا وجوها مختلفة، وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي فأما أن يعمل على الكل، وهو معتذر بالإجماع؛ لأن كل واحد من المفسرين إنما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة، وليس فيهم من حملها على الكل، أو لا يحمل على شيء منها، وهو الباقي، ولما بطل هذا القسم وجب الحكم بأنها من أسماء الألقاب. جعلها أسماء ألقاب أو معاني:
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذه الألفاظ غير معلومة، قوله: " لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج " قلنا: ولم لا يجوز ذلك؟ وبيانه أن الله تعالى تكلم بالمشكاة وهو بلسان الحبشة، والسجيل والإستبرق فارسيان، قوله: " وصف القرآن أجمع بأنه هدى وبيان " قلنا: لا نزاع في اشتمال القرآن على المجملات والمتشابهات، فإذا لم يقدح ذلك في كونه هدى وبيانا فكذا ههنا، سلمنا أنها مفهومة، لكن قولك: " إنها إما أن تكون من أسماء الألقاب أو من أسماء المعاني " إنما يصح لو ثبت كونها موضوعة لإفادة أمر ما وذلك ممنوع، ولعل الله تعالى تكلم بها لحكمة أخرى، مثل ما قال قطرب من أنهم لما تواضعوا في الابتداء على أن لا يلتفتوا إلى القرآن أمر الله تعالى رسوله بأن يتكلم بهذه الأحرف في الابتداء حتى يتعجبوا عند سماعها فيسكتوا، فحينئذ يهجم القرآن على أسماعهم، سلمنا أنها موضوعة لأمر ما، فلم لا يجوز أن يقال: إنها من أسماء المعاني؟ قوله
: " إنها في اللغة غير موضوعة لشيء البتة " قلنا لا نزاع في أنها وحدها غير موضوعة لشيء، ولكن لم لا يجوز أن يقال: إنها مع القرينة المخصوصة تفيد معنى معينا؟ وبيانه من وجوه:
8

أحدها: أنه عليه السلام كان يتحداهم بالقرآن مرة بعد أخرى فلما ذكر هذه الحروف دلت قرينة الحال على أن مراده تعالى من ذكرها أن يقول لهم: إن هذا القرآن إنما تركب من هذه الحروف التي أنتم قادرون عليها، فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله، وثانيها: أن حمل هذه الحروف على حساب الجمل عادة معلومة عند الناس، وثالثها: أن هذه الحروف لما كانت أصول الكلام كانت شريفة عزيزة، فالله تعالى أقسم بها كما أقسم بسائر الأشياء، ورابعها: أن الاكتفاء من الاسم الواحد بحرف واحد من حروفه عادة معلومة عند العرب، فذكر الله تعالى هذه الحروف تنبيها على أسمائه تعالى.
سلمنا دليلكم لكنه معارض بوجوه: أحدها: أنا وجدنا السور الكثيرة اتفقت في * (آلم) * و * (حم) * فالاشتباه حاصل فيها، والمقصود من اسم العلم إزالة الاشتباه.
فإن قيل: يشكل هذا بجماعة كثيرين يسمون بمحمد؛ فإن الاشتراك فيه لا ينافي العلمية. قلنا: قولنا * (آلم) * لا يفيد معنى البتة، فلو جعلناه علما لم يكن فيه فائدة سوى التعيين وإزالة الاشتباه فإذا لم يحصل هذا الغرض امتنع جعله علما، بخلاف التسمية بمحمد، فإن في التسمية به مقاصد أخرى سوى التعيين، وهو التبرك به لكونه إسما للرسول، ولكونه دالا على صفة من صفات الشرف، فجاز أن يقصد التسمية به لغرض آخر من هذه الأغراض سوى التعيين، بخلاف قولنا: * (آلم) * فإنه لا فائدة فيه سوى التعيين، فإذا لم يفد هذه الفائدة كانت التسمية به عبثا محضا. وثانيها: لو كانت هذه الألفاظ أسماء للسور لوجب أن يعلم ذلك بالنواثر؛ لأن هذه الأسماء ليست على قوانين أسماء العرب، والأمور العجيبة تتوفر الدواعي على نفلها لا سيما فيما لا يتعلق بإخفائه رغبة أو رهبة، ولو توفرت الدواعي على نقلها لصار ذلك معلوما بالتواتر وارتفع الخلاف فيه، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست من أسماء السور، وثالثها: أن القرآن نزل بلسان العرب، وهم ما تجاوزوا ما سموا به مجموع اسمين نحو معد يكرب وبعلبك، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغة العرب، وأنه غير جائز، ورابعها: أنها لو كانت أسماء هذه السور لوجب اشتهار هذه السور بها لا بسائر الأسماء، لكنها إنما اشتهرت بسائر الأسماء، كقولهم سورة البقرة وسورة آل عمران، وخامسها: هذه الألفاظ داخلة في السورة وجزء منها، وجزء الشيء مقدم على الشيء بالرتبة، واسم الشيء متأخر عن الشيء بالرتبة، فلو جعلناها اسما للسورة لزم التقدم والتأخر معا، وهو محال، فإن قيل: مجموع قولنا: " صاد " اسم للحرف الأول منه، فإذا جاز أن يكون المركب اسما لبعض مفرداته فلم لا يجوز أن تكون بعض مفردات ذلك المركب اسما لذلك المركب؟ قلنا: الفرق ظاهر؛ لأن المركب يتأخر عن المفرد، والاسم يتأخر عن المسمى، فلو جعلنا المركب اسما للمفرد لم يلزم إلا تأخر ذلك المركب عن ذلك المفرد من وجهين، وذلك غير مستحيل، أما لو جعلنا المفرد اسما للمركب لزم من حيث أنه مفرد كونه متقدما ومن حيث أنه اسم كونه متأخرا،
9

وذلك محال، وسادسها: لو كان كذلك لوجب أن لا تخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه، ومعلوم أنه غير حاصل.
الجواب: " قوله المشكاة والسجيل ليستا من لغة العرب " قلنا: عنه جوابان: أحدهما: أن كل ذلك عربي، لكنه موافق لسائر اللغات، وقد يتفق مثل ذلك في اللغتين: الثاني: أن المسمى بهذه الأسماء لم يوجد أولا في بلاد العرب، فلما عرفوه عرفوا منها أسماءها، فتكلموا بتلك الأسماء، فصارت تلك الألفاظ عربية أيضا.
قوله: " وجد أن المجمل في كتاب الله لا يقدح في كونه بيانا " قلنا: كل مجمل وجد في كتاب الله تعالى قد وجد في العقل، أو في الكتاب، أو في السنة بيانه، وحينئذ يخرج عن كونه غير مفيد، إنما البيان فيما لا يمكن معرفة مراد الله منه.
وقوله: " لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذكر هذه الألفاظ إسكاتهم عن الشغب؟ " قلنا: لو جاز ذكر هذه الألفاظ لهذا الغرض فليجز ذكر سائر الهذيانات لمثل هذا الغرض، وهو بالإجماع باطل.
وأما سائر الوجوه التي ذكروها فقد بينا أن قولنا: " آلم " غير موضوع في لغة العرب لإفادة تلك المعاني، فلا يجوز استعمالها فيه، لأن القرآن إنما نزل بلغة العرب، ولأنها متعارضة، فليس حمل اللفظ على بعضها أولى من البعض؛ ولأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت أبواب تأويلات الباطنية وسائر الهذيانات، وذلك مما لا سبيل إليه.
أما الجواب عن المعارضة الأولى: فهو أن لا يبعد أن يكون في تسمية السور الكثيرة باسم واحد - ثم يميز كل واحد منها عن الآخر بعلامة أخرى - حكمة خفية.
وعن الثاني: أن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام، فجاز أن لا يبلغ في الشهرة إلى حد التواتر.
وعن الثالث: أن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب إذا جعلت اسما واحدا على طريقة " حضرموت " فأما غير مركبة بل صورة نثر أسماء الأعداد فذاك جائز؛ فإن سيبويه نص على جواز التسمية بالجملة، والبيت من الشعر، والتسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم.
وعن الرابع: أنه لا يبعد أن يصير اللقب أكثر شهرة من الاسم الأصلي فكذا ههنا.
وعن الخامس: أن الاسم لفظ دال على أمر مستقل بنفسه من غير دلالة على زمانه المعين، ولفظ الاسم كذلك، فيكون الاسم اسما لنفسه، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون جزء الشيء اسما له.
وعن السادس: أن وضع الاسم إنما يكون بحسب الحكمة، ولا يبعد أن تقتضي الحكمة
10

وضع الاسم لبعض السور دون البعض. على أن القول الحق: أنه تعالى يفعل ما يشاء، فهذا منتهى الكلام في نصرة هذه الطريقة.
واعلم أن بعد هذا المذهب الذي نصرناه بالأقوال التي حكيناها قول قطرب: من أن المشركين قال بعضهم لبعض: " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " فكان إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئا، والإنسان حريص على ما منع، فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه؛ رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم، ويوضح ذلك المشكل. فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه. والذي يؤكد هذا المذهب أمران: أحدهما: أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور، وذلك يوهم أن الغرض ما ذكرنا والثاني: أن العلماء قالوا: أن الحكمة في إنزال المتشابهات هي أن المعلل لما علم اشتمال القرآن على المتشابهات فإنه يتأمل القرآن ويجتهد في التفكر فيه على رجاء أنه ربما وجد شيئا يقوي قوله وينصر مذهبه، فيصير ذلك سببا لوقوفه على المحكمات المخلصة له عن الضلالات، فإذا جاز إنزال المتشابهات التي توهم الضلالات لمثل هذا الغرض فلأن يجوز إنزال هذه الحروف التي لا توهم شيئا من الخطأ والضلال لمثل هذا الغرض كان أولى. أقصى ما في الباب أن يقال: لو جاز ذلك فليجز أن يتكلم بالزنجية مع العربي. وأن يتكلم بالهذيان لهذا الغرض، وأيضا فهذا يقدح في كون القرآن هدى وبيانا، لكنا نقول: لم لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى إذا تكلم بالزنجية مع العربي - وكان ذلك متضمنا لمثل هذه المصلحة - فإن ذلك يكون جائزا؟ وتحقيقه أن الكلام فعل من الأفعال، والداعي إليه قد يكون هو الإفادة، وقد يكون غيرها، قوله: " أنه يكون هذيانا " قلنا: إن عنيت بالهذيان الفعل الخالي عن المصلحة بالكلية فليس الأمر كذلك، وإن عنيت به الألفاظ الخالية عن الإفادة فلم قلت أن ذلك يقدح في الحكمة إذا كان فيها وجوه أخر من المصلحة سوى هذا الوجه؟ وأما وصف القرآن بكونه هدى وبيانا فذلك لا ينافي ما قلناه؛ لأنه إذا كان الغرض ما ذكرناه كان استماعها من أعظم وجوه البيان والهدى والله أعلم. القول بأنها أسماء السور:
فروع على القول بأنها أسماء السور: الأول: هذه الأسماء على ضربين: أحدهما: يتأتى فيه الإعراب، وهو أما أن يكون اسما مفردا " كصاد، وقاف، ونون " أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم، وطس ويس؛ فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وأما طسم فهو وإن كان مركبا من ثلاثة أسماء فهو كدر أبجرد، وهو من باب ما لا ينصرف، لاجتماع سببين فيها وهما العلمية والتأنيث. والثاني: ما لا يتأتى فيه الإعراب، نحو كهيعص، والمر، إذا عرفت هذا فنقول: أما المفردة ففيها قراءتان: إحداهما: قراءة من قرأ صاد وقاف ونون بالفتح، وهذه الحركة يحتمل أن تكون هي النصب بفعل مضمر نحو: أذكر، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف كما تقدم بيانه وأجاز
11

سيبويه مثله في حم وطس ويس لو قرىء به، وحكى السيرافي أن بعضهم قرأ " يس " بفتح النون؛ وأن يكون الفتح جرا، وذلك بأن يقدرها مجرورة بإضمار الباء القسمية، فقد جاء عنهم: " الله لأفعلن " غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، ويتأكد هذا بما روينا عن بعضهم " أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف "، وثانيتهما: قراءة بعضهم صاد بالكسر. وسببه التحريك لالتقاء الساكنين. أما القسم الثاني - وهو ما لا يتأتى الإعراب فيه - فهو يجب أن يكون محكيا، ومعناه أن يجاء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى كقولك: " دعني من تمرتان ".
الثاني: أن الله تعالى أورد في هذه الفواتح نصف أسامي حروف المعجم: أربعة عشر سواء، وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون في تسع وعشرين سورة.
الثالث: هذه الفواتح جاءت مختلفة الأعداد، فوردت " ص ق ن " على حرف، و " طه وطس ويس وحم " على حرفين، و " آلم والر وطسم " على ثلاثة أحرف،
والمص والمر على أربعة أحرف، و " كهعيص وحم عسق " على خمسة أخرف، والسبب فيه أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فقط فكذا ههنا. الرابع: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب أم لا؟ فنقول: إن جعلناها أسماء للسور فنعم، ثم يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع فعلى الابتداء، وأما النصب والجر فلما مر من صحة القسم بها، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل على قوله، كما لا محل للجمل المبتدأ وللمفردات المعدودة. الإشارة في " ذلك الكتاب ":
* (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) *.
قوله تعالى: * (ذلك الكتاب) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: المشار إليه ههنا حاضر، و " ذلك " اسم مبهم يشار به إلى البعيد، والجواب عنه من وجهين: الأول: لا نسلم أن المشار إليه حاضر، وبيانه من وجوه: أحدها: ما قاله الأصم: وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة، وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد، فقوله: * (ذلك) * إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة، وقد يسمى بعض القرآن قرآنا، قال الله تعالى: * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له) * (الأعراف: 204) وقال حاكيا عن الجن * (إنا سمعنا قرآنا عجبا) * (الجن: 1) وقوله: * (إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى) * (الأحقاف: 30) وهم ما سمعوا إلا البعض، وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت، وثانيها: أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي، وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه،
12

ويؤيده قوله: * (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) * (المزمل: 5) وهذا في سورة المزمل، وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث، وثالثها: أنه تعالى خاطب بني إسرائيل، لأن سورة البقرة مدنية، وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل، وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما السلام أن الله يرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وينزل عليه كتابا فقال تعالى: * (ذلك الكتاب) * أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن الله تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل، ورابعها: أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله: * (وإنه في أم الكتاب لدينا) * (الزخرف: 4) وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك، فغير ممتنع أن يقول تعالى: * (ذلك الكتاب) * ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ. وخامسها: أنه وقعت الإشارة بذلك إلى " آلم " بعد ما سبق التكلم به وانقضى، والمنقضي في حكم المتباعد، وسادسها: أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك - وقد أعطيته شيئا - احتفظ بذلك. وسابعها: أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها - والقرآن وإن كان حاضرا نظرا إلى صورته لكنه غائب نظرا إلى أسراره وحقائقه - فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب. " ذلك " يشار بها للقريب والبعيد:
المقام الثاني: سلمنا أن المشار إليه حاضر، لكن لا نسلم أن لفظة. " ذلك " لا يشار بها إلا إلى البعيد، بيانه أن ذلك، وهذا حرفا إشارة، وأصلهما " ذا "؛ لأنه حرف للإشارة، قال تعالى: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * (البقرة: 245) ومعنى " ها " تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي تنبه أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه، وقد تدخل الكاف على " ذا " للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل: " ذلك " فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه، فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيد البعد في أصل الوضع، بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها، فصارت كالدابة، فإنها مختصة في العرف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض، وإذا ثبت هذا فنقول: إنا نحمله ههنا على مقتضى الوضع اللغوي، لا على مقتضى الوضع. العرفي، وحينئذ لا يفيد البعد؛ ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر قال تعالى: * (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق - إلى قوله - وكل من الأخيار) * (ص: 45 - 48) ثم قال: * (هذا ذكر) * (الأنبياء: 24) وقال: * (وعندهم قاصرات الطرف أتراب هذا ما توعدون ليوم الحساب) * (ص: 52، 53) وقال: * (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) * (ق: 19) وقال: * (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) * (النازعات: 25، 26) وقال: * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) * (الأنبياء: 105) ثم قال: * (إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) * (الأنبياء: 106) وقال: * (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموت) * (البقرة: 73) أي هكذا يحيى الله الموتى، وقال: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * (طه: 17) أي ما هذه التي بيمينك والله أعلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث، وهو السورة،
13

الجواب: لا نسلم أن المشار إليه مؤنث؛ لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم، والأول باطل، لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث، وأما الاسم فهو (آلم) وهو ليس بمؤنث، نعم ذلك المسمى له اسم آخر - وهو السورة - وهو مؤنث، لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو (آلم)، لا الذي هو مؤنث وهو السورة. مدلول لفظ " كتاب ":
المسألة الثالثة: اعلم أن أسماء القرآن كثيرة: أحدها: الكتاب وهو مصدر كالقيام والصيام وقيل: فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس، واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال: * (كتاب أنزلناه إليك) * (ص: 29) والكتاب جاء في القرآن على وجوه: أحدها: الفرض * (كتب عليكم القصاص) * (البقرة: 178) * (كتب عليكم الصيام) * (البقرة: 183) * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * (النساء: 103) وثانيها: الحجة والبرهان * (فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) * (الصافات: 157) أي برهانكم. وثالثها: الأجل * (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) * (الحجر: 4) أي أجل. ورابعها: بمعنى مكاتبة
السيد عبده * (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم) * (النور: 33) وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة، واشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته، وسميت الكتيبة لاجتماعها، فسمي الكتاب كتابا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات، أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم، أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق. اشتقاق لفظ " قرآن ":
وثانيها: القرآن * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن) * (الإسراء: 88) * (إنا جعلناه قرآنا عربيا) * (الزخرف: 3) * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * (البقرة: 185). * (إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم) * (الإسراء: 9) وللمفسرين فيه قولان: أحدهما: قول ابن عباس أن القرآن والقراءة واحد، كالخسران والخسارة واحد، والدليل عليه قوله: * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) * (القيامة: 18) أي تلاوته، أي إذا تلوناه عليك فاتبع تلاوته: الثاني: وهو قول قتادة أنه مصدر من قول القائل: قرأت الماء في الحوض إذا جمعته، وقال سفيان بن عيينة: سمي القرآن قرآنا لأن الحروف جمعت فصارت كلمات، والكلمات جمعت فصارت آيات، والآيات جمعت فصارت سورا، والسور جمعت فصارت قرآنا، ثم جمع فيه علوم الأولين والآخرين. فالحاصل أن اشتقاق لفظ القرآن إما من التلاوة أو من الجمعية. معنى الفرقان:
وثالثها: الفرقان * (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) * (الفرقان: 1). * (وبينات من الهدى والفرقان) * (البقرة: 185) واختلفوا في تفسيره، فقيل: سمي بذلك لأن نزوله كان متفرقا أنزله في نيف وعشرين سنة، ودليله قوله تعالى: * (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) * (الإسراء: 106) ونزلت سائر الكتب جملة واحدة، ووجه الحكمة فيه ذكرناه في سورة الفرقان في قوله تعالى: * (وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك) * (الفرقان: 32) وقيل: وقال الذين كفروا سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والمجمل والمبين، والمحكم والمؤول، وقيل: الفرقان هو النجاة، وهو قول عكرمة والسدي، وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة،
14

وعليه حمل المفسرون قوله: * (وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) * (البقرة: 53). معنى تسميته بالذكر:
ورابعها: الذكر، والتذكرة، والذكرى، أما الذكر فقوله: * (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) * (الأنبياء: 50) * (إنا نحن نزلنا الذكر) * (الحجر: 9). * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (الزخرف: 44) وفيه وجهان: أحدهما: أنه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه وأوامره. والثاني: أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به، وأنه شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمته، وأما التذكرة فقوله: * (وإنه لتذكرة للمتقين) * (الحاقة: 48) وأما الذكرى فقوله تعالى: * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * (الذاريات: 55). تسميته تنزيلا وحديثا:
وخامسها: التنزيل * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين) * (الشعراء: 192 - 193).
وسادسها: الحديث * (الله نزل أحسن الحديث كتابا) * (الزمر: 23) سماه حديثا؛ لأن وصوله إليك حديث، ولأنه تعالى شبهه بما يتحدث به، فإن الله خاطب به المكلفين.
وسابعها: الموعظة * (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم) * (يونس: 57) وهو في الحقيقة موعظة لأن القائل هو الله تعالى، والآخذ جبريل، والمستملي محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف لا تقع به الموعظة. تسميته بالحكم والحكمة:
وثامنها: الحكم، والحكمة، والحكيم، والمحكم، أما الحكم فقوله: * (وكذلك أنزلناه حكما عربيا) * (الرعد: 37) وأما الحكمة فقوله: * (حكمة بالغة) * (القمر: 5) * (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) * (الأحزاب: 34) وأما الحكيم فقوله: * (يس والقرآن الحكيم) * (يس: 1، 2) وأما المحكم فقوله: * (كتاب أحكمت آياته) * (هود: 1). معنى الحكمة:
واختلفوا في معنى الحكمة، فقال الخليل: هو مأخوذ من الأحكام والإلزام، وقال المؤرخ: هو مأخوذ من حكمة اللجام؛ لأنها تضبط الدابة، والحكمة تمنع من السفه.
وتاسعها: الشفاء * (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) * (الإسراء: 82) وقوله: * (وشفاء لما في الصدور) * وفيه وجهان: أحدهما: أنه شفاء من الأمراض. والثاني: أنه شفاء من مرض الكفر، لأنه تعالى وصف الكفر والشك بالمرض، فقال: * (في قلوبهم مرض) * (البقرة: 10) وبالقرآن يزول كل شك عن القلب، فصح وصفه بأنه شفاء. كونه هدي وهاديا:
وعاشرها: الهدى، والهادي: أما الهدى فلقوله: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2). * (هدى للناس) * (آل عمران: 4، الأنعام: 91). * (وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) * (يونس: 57) وأما الهادي * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * (الإسراء: 9) وقالت الجن: * (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد) *.
الحادي عشر: الصراط المستقيم: قال ابن عباس في تفسيره: إنه القرآن، وقال: * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) *.
والثاني عشر: الحبل: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * (آل عمران: 103) في التفسير: إنه القرآن، وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة ونكال الدنيا، كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك، ومن ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم عصمة فقال: " إن هذا القرآن
15

عصمة لمن اعتصم به " لأنه يعصم الناس من المعاصي.
الثالث عشر: الرحمة * (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) * (الإسراء: 88) وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات. تسميته بالروح:
الرابع عشر: الروح * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52). * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النحل: 2) وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح، وسمي جبريل بالروح * (فأرسلنا إليها روحنا) * (مريم: 17) وعيسى بالروح * (ألقاها إلى مريم وروح منه) * (النساء: 171).
الخامس عشر: القصص * (نحن نقص عليك أحسن القصص) * (يوسف: 3) سمي به لأنه يجب اتباعه * (وقالت لأخته قصيه) * (القصص: 11) أي اتبعي أثره؛ أو لأن القرآن يتتبع قصص المتقدمين، ومنه قوله تعلى: * (إن هذا لهو القصص الحق) * (آل عمران: 62).
السادس عشر: البيان، والتبيان، والمبين: أما البيان فقوله: * (هذا بيان للناس) * (آل عمران: 138) والتبياني فهو قوله: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) * (النحل: 89) وأما المبين فقوله: * (تلك آيات الكتاب المبين) * (يوسف: 1).
السابع عشر: البصائر * (هذا بصائر من ربكم) * (الأعراف: 203) أي هي أدلة يبصر بها الحق تشبيها بالبصر الذي يرى طريق الخلاص.
الثامن عشر: الفصل * (إنه لقول فصل وما هو بالهزل) * (الطارق: 13، 14) واختلفوا فيه، فقيل معناه القضاء، لأن الله تعالى يقضي به بين الناس بالحق قيل لأنه يفصل بين الناس يوم القيامة فيهدي قوما إلى الجنة ويسوق آخرين إلى النار، فمن جعله إمامه في الدنيا قاده إلى الجنة، ومن جعله وراءه ساقه إلى النار.
سميته بالنجوم:
التاسع عشر: النجوم * (فلا أقسم بمواقع النجوم) * (الواقعة: 75) * (والنجم إذا هوى) * (النجم: 1) لأنه نزل نجما نجما.
العشرون: المثاني: * (مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) * (الزمر: 23) قيل لأنه ثنى فيه القصص والأخبار. تسميه القرآن نعمة وبرهانا:
الحادي والعشرون: النعمة: * (وأما بنعمة ربك فحدث) * (الضحى: 11) قال ابن عباس يعني به القرآن.
الثاني والعشرون: البرهان * (قد جاءكم برهان من ربكم) * (النساء: 174) وكيف لا يكون برهانا وقد عجزت الفصحاء عن أن يأتوا بمثله.
الثالث والعشرون: البشير والنذير، وبهذا الاسم وقعت المشاركة بينه وبين الأنبياء قال تعالى في صفة الرسل: * (مبشرين ومنذرين) * (النساء: 165، الأنعام: 48) وقال في صفة محمد صلى الله عليه وسلم: * (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) * (الفتح: 8) وقال في صفة القرآن في حم السجدة * (بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم) * (فصلت: 4) يعني مبشرا بالجنة لمن أطاع وبالنار منذرا لمن عصى، ومن ههنا نذكر الأسماء المشتركة بين الله تعالى وبين القرآن. تسميته قيما:
الرابع والعشرون: القيم * (قيما لينذر بأسا شديدا) * (الكهف: 2) والدين أيضا قيم * (ذلك الدين القيم) * (التوبة: 36) والله سبحانه هو القيوم * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * (البقرة: 255، آل عمران: 2) وإنما سمي قيما لأنه قائم بذاته في البيان والإفادة.
الخامس والعشرون: المهيمن * (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) * (المائدة: 48) وهو مأخوذ من الأمين، وإنما وصف به لأنه من تمسك بالقرآن أمن الضرر في
16

الدنيا والآخرة، والرب المهيمن أنزل الكتاب المهيمن على النبي الأمين لأجل قوم هم أمناء الله تعالى على خلقه كما قال: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) * (البقرة: 143).
السادس والعشرون: الهادي * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * (الإسراء: 9) وقال: * (يهدي إلى الرشد) * (الجن: 2) والله تعالى هو الهادي لأنه جاء في الخبر " النور الهادي ". تسميته نورا:
السابع والعشرون: النور * (الله نور السماوات والأرض) * (النور: 35) وفي القرآن * (واتبعوا النور الذي أنزل معه) * (الأعراف: 157) يعني القرآن وسمي الرسول نورا * (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) * (المائدة: 15) يعني محمد وسمي دينه نورا * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) * (الصف: 8) وسمي بيانه نورا * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) * (الزمر: 22) وسمي التوراة نورا * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) * (المائدة: 44) وسمي الإنجيل نورا * (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور) * (المائدة: 46) وسمي الإيمان نورا * (يسعى نورهم بين أيديهم) * (الحديد: 12).
الثامن والعشرون: الحق: ورد في الأسماء " الباعث الشهيد الحق " والقرآن حق * (وإنه لحق اليقين) * (الحاقة: 51) فسماه الله حقا؛ لأنه ضد الباطل فيزيل الباطل كما قال: * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) * (الأنبياء: 18) أي ذاهب زائل.
التاسع والعشرون: العزيز * (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) * (الشعراء: 9، 68) وفي صفة القرآن * (وإنه لكتاب عزيز) * (فصلت: 41) والنبي عزيز * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه) * والأمة عزيزة * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * (المنافقون: 8) فرب عزيز أنزل كتابا عزيزا على نبي عزيز لأمة عزيزة، وللعزيز معنيان: أحدهما: القاهر، والقرآن كذلك؛ لأنه هو الذي قهر الأعداء وامتنع على من أراد معارضته. والثاني: أن لا يوجد مثله. تسمية القرآن بالكريم:
الثلاثون: الكريم * (وإنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) * (الواقعة: 77) واعلم أنه تعالى سمي سبعة أشياء بالكريم * (ما غرك بربك الكريم) * (الانفطار: 60) إذ لا جواد أجود منه، والقرآن بالكريم، لأنه لا يستفاد من كتاب من الحكم والعلوم ما يستفاد منه، وسمي موسى كريما * (وجاءهم رسول كريم) * (الدخان: 17) وسمي ثواب الأعمال كريما * (فبشره بمغفرة وأجر كريم) * (يس: 11) وسمي عرشه كريما * (الله لا إله إلا هو رب العرش الكريم) * (النمل: 26) لأنه منزل الرحمة، وسمي جبريل كريما * (إنه لقول رسول كريم) * (التكوير: 19) ومعناه أنه عزيز، وسمي كتاب سليمان كريما * (إني ألقي إلى كتاب كريم) * (
النمل: 29) فهو كتاب كريم من رب كريم نزل به ملك كريم على نبي كريم لأجل أمة كريمة، فإذا تمسكوا به نالوا ثوابا كريما. ومن أسمائه " العظيم ":
الحادي والثلاثون: العظيم: * (ولقد أتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * (الحجر: 87) اعلم أنه تعالى سمى نفسه عظيما فقال: * (وهو العلي العظيم) * (البقرة: 255) وعرشه عظيما * (وهو رب العرش العظيم) * (التوبة: 129) وكتابه عظيما * (والقرآن العظيم) * (الحجر: 87) ويوم القيامة عظيما * (ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين) * (المطففين: 5، 6) والزلزلة عظيمة * (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) * (الحج: 1) وخلق الرسول عظيما * (وإنك لعلى خلق عظيم) * (القلم: 4) والعلم عظيما * (وكان فضل الله عليك عظيما) * (النساء: 113) وكيد النساء عظيما * (إن كيدكن عظيم) * (يوسف: 28) وسحر سحرة
17

فرعون عظيما * (وجاؤا بسحر عظيم) * (الأعراف: 116) وسمي نفس الثواب عظيما * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) * (الفتح: 29) وسمي عقاب المنافقين عظيما * (ولهم عذاب عظيم) * (البقرة: 7). ومنها المبارك:
الثاني والثلاثون: المبارك: * (وهذا ذكر مبارك) * (الأنبياء: 50) وسمى الله تعالى به أشياء، فسمي الموضع الذي كلم فيه موسى عليه السلام مباركا * (في البقعة المباركة من الشجرة) * (القصص: 30) وسمى شجرة الزيتون مباركة * (يوقد من شجرة مباركة زيتونة) * (التوبة: 35) لكثرة منافعها، وسمي عيسى مباركا * (وجعلني مباركا) * (مريم: 31) وسمي المطر مباركا * (ونزلنا من السماء ماء مباركا) * (ق: 9) لما فيه من المنافع، وسمي ليلة القدر مباركة * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) * (الدخان: 3) فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبي مبارك لأمة مباركة. اتصال " آلم " بقوله " ذلك الكتاب ":
المسألة الرابعة: في بيان اتصال قوله: * (آلم) * بقوله: * (ذلك الكتاب) * قال صاحب الكشاف: إن جعلت * (آلم) * اسما للسورة ففي التأليف وجوه:
الأول: أن يكون * (آلم) * مبتدأ و * (ذلك) * مبتدأ ثانيا و * (الكتاب) * خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وإنه الذي يستأهل أن يكون كتابا كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال، وأن يكون الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون * (آلم) * خبر مبتدأ محذوف أي هذه * (آلم * (ويكون * (ذلك الكتاب) * خبرا ثانيا أو بدلا على أن الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك، وأن تكون هذه * (آلم) * جملة و * (ذلك الكتاب) * جملة أخرى وإن جعلت * (آلم) * بمنزلة الصوت كان * (ذلك) * مبتدأ وخبره * (الكتاب) * أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو الكتاب صفة والخبر ما بعده أو قدر مبتدأ محذوف، أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرأ عبد الله * (آلم تنزيل الكتاب لا ريب فيه) * (السجدة: 2) وتأليف هذا ظاهر. تفسير قوله تعالى: * (لا ريب فيه) *:
قوله تعالى: * (لا ريب فيه) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: الريب قريب من الشك،. وفيه زيادة، كأنه ظن سوء تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء، ومنها قوله عليه السلام: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " فإن قيل: قد يستعمل الريب في قولهم: " ريب الدهر " و " ريب الزمان " أي حوادثه قال الله تعالى: * (نتربص به ريب المنون) * (الطور: 30) ويستعمل أيضا في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر: قضينا من تهامة كل ريب * وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
قلنا: هذان قد يرجعان إلى معنى الشك، لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك
18

فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى: * (لا ريب فيه) * المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شبهة في صحته، ولا في كونه من عند الله، ولا في كونه معجزا. ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزا على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) * (البقرة: 23) وها هنا سؤالات: السؤال الأول: طعن بعض الملحدة فيه فقال: إن عني أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عني أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه. الجواب: المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه. السؤال الثاني: لم قال ههنا: * (لا ريب فيه) * وفي موضع آخر * (لا فيها غول) * (الصافات: 47)؟ الجواب: لأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وههنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت: لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتابا آخر حصل الريب فيه لا ها هنا، كما قصد في قوله: * (لا فيها غول) * تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا السؤال الثالث: من أين يدل قوله: * (لا ريب فيه) * على نفي الريب بالكلية؟ الجواب: قرأ أبو الشعثاء * (لا ريب فيه) * بالرفع. واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدليل عليه أن قوله: * (لا ريب) * نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، وذلك يناقض نفي الماهية، ولهذا السر كان قولنا: " لا إله إلا الله " نفيا لجميع الآلهة سوى الله تعالى. وأما قولنا: " لا ريب فيه " بالرفع فهو نقيض لقولنا: " ريب فيه " وهو يفيد ثبوت فرد واحد، فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض. الوقف على " فيه ":
المسألة الثانية: الوقف على * (فيه) * هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على * (لا ريب) * ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا، ونظيره قوله: * (قالوا لا ضير) * وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز؛ والتقدير: * (لا ريب فيه) * * (فيه هدى) *. واعلم أن القراءة الأولى أولى؛ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم
. حقيقة الهدى:
قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: في حقيقة الهدى: الهدى عبارة عن الدلالة، وقال صاحب الكشاف: الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية، وقال آخرون: الهدى هو الاهتداء والعلم. والذي يدل
19

على صحة القول الأول وفساد القول الثاني والثالث أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبرا في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء، لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال
عدم الاهتداء محال، لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) * أثبت الهدى مع عدم الاهتداء، ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال: هديته فلم يهتد، وذلك يدل على قولنا، واحتج صاحب الكشاف بأمور ثلاثة: أولها: وقوع الضلالة في مقابلة الهدى، قال تعالى: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * (البقرة: 16) وقال: * (لعلى هدى) * أو * (في ضلال مبين) * (الأعراف: 60) وثانيها: يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهديا مدحا لاحتمال أنه هدى فلم يهتد وثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى يقال: هديته فاهتدى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع فكما أن الإنكسار والانقطاع لا زمان للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى. والجواب عن الأول: أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال، فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع، وعن الثاني: أن المنتفع بالهدى سمي مهديا، وغير منتفع به لا يسمى مهديا؛ ولأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم. وعن الثالث: أن الائتمار مطاوع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمرا حصول الائتمار، فكذا هذا لا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضيا إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد، ومما يدل على فساد قول من قال الهدى هو العلم خاصة أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدل على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.
معنى المتقي:
المسألة الثانية: المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقي، والوقاية فرط الصيانة، إذا عرفت هذا فنقول: إن الله تعالى ذكر المتقي ههنا في معرض المدح، ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقيا في أمور الدنيا، بل بأن يكون متقيا فيما يتصل بالدين، وذلك بأن يكون آتيا بالعبادات محترزا عن المحظورات. واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى؟ فقال بعضهم: يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد، وقال آخرون: لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟ فروي عنه عليه السلام أنه قال: " لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس " وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه. واعلم أن التقوى هي الخشية، قال في أول النساء: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم) * (النساء: 1) ومثله في أول الحج، وفي الشعراء * (إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون) * (هود: 106) يعني ألا تخشون الله، وكذلك قال هود وصالح، ولوط، وشعيب لقومهم، وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه * (اعبدوا الله واتقوه) * (نوح: 3) يعني اخشوه، وكذا قوله: * (اتقوا الله حق تقاته) * (آل عمران: 102) * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * (البقرة: 197) * (واتقوا يوما
20

لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * (البقرة: 48) واعلم أن حقيقة التقوى وإن كانت هي التي ذكرناها إلا أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة، والتوبة أخرى، والطاعة ثالثة، وترك المعصية رابعا: والإخلاص خامسا: أما الإيمان فقوله تعالى: * (وألزمهم كلمة التقوى) * (الفتح: 26) أي التوحيد * (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) * (الحجرات: 3) وفي الشعراء * (قوم فرعون ألا يتقون) * (الشعراء: 11) أي أو يؤمنون وأما التوبة فقوله: * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا) * (الأعراف: 96) أي تابوا، وأما الطاعة فقوله في النحل: * (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) * (النحل: 2) وفيه أيضا: * (أفغير الله تتقون) * (النحل: 52) وفي المؤمنين * (وأنا ربكم فاتقون) * (المؤمنون: 52) وأما ترك المعصية فقوله: * (وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله) * (البقرة: 189) أي فلا تعصوه، وأما الإخلاص فقوله في الحج: * (فإنها من تقوى القلوب) * (الحج: 32) أي من إخلاص القلوب، فكذا قوله: * (وإياي فاتقون) * (البقرة: 41) واعلم أن مقام التقوى مقام شريف قال تعالى: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * (النحل: 128) وقال: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * (الحجرات: 13) وعن ابن عباس قال عليه السلام: " من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده " وقال علي بن أبي طالب: التقوى ترك الإصرار عل المعصية، وترك الاغترار وبالطاعة. قال الحسن: التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله، وتعلم أن الأمور كلها بيد الله. وقال إبراهيم بن أدهم: التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيبا. ولا الملائكة في أفعالك عيبا ولا ملك العرش في سرك عيبا وقال الواقدي: التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق، ويقال: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك، ويقال: المتقي من سلك سبيل المصطفى، ونبذ الدنيا وراء القفا، وكلف نفسه الإخلاص والوفا، واجتنب الحرام والجفا، ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * كفاه، لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) * (البقرة: 185) ثم قال ههنا في القرآن: إنه هدي للمتقين، فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس، فمن لا يكون متقيا كأنه ليس بإنسان.
المسألة الثالثة: في السؤالات: السؤال الأول: كون الشيء هدى ودليلا لا يختلف بحسب شخص دون شخص، فلماذا جعل القرآن هدى للمتقين فقط؟ وأيضا فالمتقي مهتدي، والمهتدي لا يهتدي ثانيا والقرآن لا يكون هدى للمتقين. الجواب: القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى دينه وصدق رسوله، فهو أيضا دلالة للكافرين. إلا أن الله تعالى ذكر المتقين مدحا ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) وقال: * (إنما تنذر من اتبع الذكر) * (يس: 11) وقد كان عليه السلام منذرا لكل الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره. وأما من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه، لأن كون القرآن موصلا إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين. السؤال الثاني: كيف وصف القرآن كله بأنه هدى وفيه مجمل ومتشابه كثير؛ ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم عن المتشابه، فيكون الهدى
21

في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن، ومن هذا نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولا إلى الخوارج. لا تحتج عليهم بالقرآن، فإنه خصم ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب ذلك فيه؛ ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءا من آيات بعضها صريح في الجبر وبعضها صريح في القدر، فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد، فكيف يكون هدى؟.
الجواب: أن ذلك المتشابه والمجمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين - وهو إما دلالة العقل أو دلالة السمع - صار كله هدى. السؤال الثالث: كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى وصفاته، وفي معرفة النبوة، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق؟.
الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم، فإن الله تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم.
السؤال الرابع: الهدى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسرين ما يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالا كثيرة متعارضة، وما يكون كذلك لا يكون مبينا في نفسه فضلا عن أن يكون مبينا لغيره، فكيف يكون هدى؟ قلنا: من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المتعارضة، ولا يرجح واحدا منها على الباقي يتوجه عليه هو هذا السؤال، وأما نحن فقد رجحنا واحدا على البواقي بالدليل فلا يتوجه علينا هذا السؤال.
المسألة الرابعة: قال صاحب " الكشاف ": محل * (هدى للمتقين) * الرفع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع * (لا ريب فيه) * * (لذلك) *، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المتقدم خبرا عنه، ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه الإشارة، أو الظرف، والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذا المجال صفحا، وأن يقال: إن قوله: * (آلم) * جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و * (ذلك الكتاب) * جملة ثانية، و * (لا ريب فيه) * ثالثة و * (هدى للمتقين) * رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، والثانية متحدة بالأولى وهلم جرا إلى الثالثة، والرابعة.
بيانه: أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدي به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال
22

فكان تقرير الجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر - الذي هو هدى - موضع الوصف الذي هو هاد، وإيراده منكرا.
اعلم أن فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: * (الذين يؤمنون) * أما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو منصوب أو مدح مرفوع بتقدير أعني الذين يؤمنون، أو هم الذين، وإما منقطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه * (أولئك على هدى) * فإذا كان موصولا كان الوقف على المتقين حسنا غير تام، وإذا كان منقطعا كان وقفا تاما.
المسألة الثانية: قال بعضهم: * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) * يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلا للحسنات وتاركا للسيئات، أما الفعل فأما أن يكون فعل القلب - وهو قوله: * (الذين يؤمنون) * - وأما أن يكون فعل الجوارح، وأساسه الصلاة والزكاة والصدقة؛ لأن العبادة أما أن تكون بدنية وأجلها الصلاة، أو مالية، وأجلها الزكاة؛ ولهذا سمي الرسول عليه السلام: " الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام " وأما الترك فهو داخل في الصلاة لقوله تعالى: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (العنكبوت: 45) والأقرب أن لا تكون هذه الأشياء تفسيرا لكونهم متقين؛ وذلك لأن كمال السعادة لا يحصل إلا بترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي، فالترك هو التقوى، والفعل إما فعل القلب، وهو الإيمان، أو فعل الجوارح، وهو الصلاة والزكاة، وإنما قدم التقوى الذي هو الترك على الفعل الذي هو الإيمان والصلاة والزكاة، لأن القلب كاللوح القابل لنقوش العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة، والروح يجب تطهيره أولا عن النقوش الفاسدة، حتى يمكن إثبات النقوش الجيدة فيه، وكذا القول في الأخلاق، فلهذا السبب قدم التقوى وهو ترك ما لا ينبغي، ثم ذكر بعده فعل ما ينبغي.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: الإيمان إفعال من الأمن، ثم يقال آمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنه من التكذيب والمخالفة، وأما تعديته بالباء فلتضمنه معنى " أقر وأعترف " وأما ما حكى أبو زيد: ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت، فحقيقته صرت ذا أمن، أي ذا سكون وطمأنينة وكلا الوجهين حسن في * (يؤمنون بالغيب) * أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق. وأقول: اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع ويجمعهم فرق أربع.
23

الفرقة الأولى: الذين قالوا: الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح والإقرار باللسان، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية، وأهل الحديث، أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلا عقليا أو نقليا من الكتاب والسنة، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيرا كان أو كبيرا. فقالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر، وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد به التصديق، ولذلك يقال فلان آمن بالله وبرسوله، ويكون المراد التصديق، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، فلا يقال فلان آمن بكذا إذا صلى وصام، بل يقال فلان آمن بالله كما يقال صام وصلى لله، فالإيمان المعدي بالباء يجري على طريقة أهل اللغة، أما إذا ذكر مطلقا غير معدي فقد اتفقوا على أنه منقول من المسمى اللغوي - الذي هو التصديق - إلى معنى آخر، ثم اختلفوا فيه على وجوه: أحدها: أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة، أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات، وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار بن أحمد. وثانيها: أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم. وثالثها: أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد، فالمؤمن عند الله كل من اجتنب كل الكبائر، والمؤمن عندنا كل من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد، وهو قول النظام، ومن أصحابه من قال: شرط كونه مؤمنا عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها. وأما أهل الحديث فذكروا وجهين: الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيمانا إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة. وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعده كفر على حدة، ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار، لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب. الثاني: زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها وهو إيمان واحد وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان، ومن ترك شيئا من الفرائض فقد انتقص إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه، ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل.
الفرقة الثانية: الذين قالوا: الإيمان بالقلب واللسان معا، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب الأول: أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب، وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين. أحدهما: اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من فسرها بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقادا تقليديا أو كان علما صادرا عن الدليل - وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال. وثانيهما: اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا؟ قال بعض المتكلمين: هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ثم
24

أنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف. وقال أهل الإنصاف: المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالما بالعلم أو عالما لذاته وبكونه مرئيا أو غيره لا يكون داخلا في مسمى الإيمان. القول الثاني: أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا، وهو قول بشر بن عتاب المريسي، وأبي الحسن الأشعري، والمراد من التصديق بالقلب الكلام القائم بالنفس. القول الثالث: قول طائفة من الصوفية: الإيمان إقرار باللسان، وإخلاص بالقلب.
الفرقة الثالثة: الذين قالوا: الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط، وهؤلاء قد اختلفوا على قولين: أحدهما: أن الإيمان عبارة عن معرفة الله بالقلب، حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقربه فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان. أما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان. وحكى الكعبي عنه: أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم. وثانيهما: أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب وهو قول الحسين بن الفضل البجلي.
الفرقة الرابعة: الذين قالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط وهم فريقان: الأول: أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط، لكن شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب، فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيمانا، لا أنها داخلة في مسمى الإيمان، وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي وإن كان الكعبي قد أنكر كونه قولا لغيلان. الثاني: أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وهو قول الكرامية، وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع، والذي نذهب إليه أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ونفتقر ههنا إلى شرح ماهية التصديق بالقلب فنقول: أن من قال العالم محدث فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث، بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا، والحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو بالانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص، واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمرا واحدا يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات، ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول، ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم، لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به، فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم، فالمراد من التصديق بالقلب هو هذا الحكم الذهني، بقي ههنا بحث لفظي وهو أن المسمى بالتصديق في اللغة هو ذلك الحكم الذهني أم الصيغة الدالة على ذلك الحكم الذهني وتحقيق القول فيه قد ذكرناه في أصول الفقه، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم مع الاعتقاد فنفتقر في إثبات هذا المذهب إلى إثبات قيود أربعة.
25

القيد الأول: أن الإيمان عبارة عن التصديق ويدل عليه وجوه: الأول: أنه كان في أصل اللغة للتصديق، فلو صار في عرف الشرع لغير التصديق لزم أن يكون المتكلم به متكلما بغير كلام العرب، وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربيا. الثاني: أن الإيمان أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين فلو صار منقولا إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على معرفة ذلك المسمى، ولاشتهر وبلغ إلى حد التواتر، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه بقي على أصل الوضع. الثالث: أجمعنا على أن الإيمان المعدي بحرف الباء مبقي على أصل اللغة فوجب أن يكون غير المعدي كذلك. الرابع: أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب قال: * (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) * (البقرة: 41) وقوله: * (وقلبه مطمئن بالإيمان) * (النحل: 106) * (كتب في قلوبهم الإيمان) * (المجادلة: 22) * (ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * (الحجرات: 14) الخامس: أن الله تعالى أينما ذكر الإيمان قرن العمل الصالح به ولو كان العمل الصالح داخلا في الإيمان لكان ذلك تكرارا. السادس: أنه تعالى كثيرا ذكر الإيمان وقرنه وبالمعاصي، قال: * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * (الأنعام: 82) * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) * (الحجرات: 9) واحتج ابن عباس على هذا بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) * (البقرة: 78) من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن القصاص إنما يجب على القاتل المتعمد ثم أنه خاطبه بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا) * فدل على أنه مؤمن. وثانيها: قوله: * (فمن عفي له من أخيه شيء) * (البقرة: 178) وهذه الأخوة ليست إلا إخوة الإيمان، لقوله تعالى: * (إنما المؤمنون إخوة) * (الحجرات: 10) وثالثها: قوله: * (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) * (البقرة: 178) وهذا لا يليق إلا بالمؤمن، ومما يدل على المطلوب قوله تعالى: * (والذين آمنوا ولم يهاجروا) * (الأنفال: 72) هذا أبقى اسم الإيمان لمن لم يهاجر مع عظم الوعيد في ترك الهجرة في قوله تعالى: * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * (النحل: 28) وقوله: * (مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) * (الأنفال: 72) ومع هذا جعلهم مؤمنين ويدل أيضا عليه قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) * (الممتحنة: 1) وقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) * (الأنفال: 27) وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) * (التحريم: 8) والأمر بالتوبة لمن لا ذنب له محال وقوله: * (وتوبوا إلى الله جميعا أية المؤمنون) * (النور: 31) لا يقال فهذا يقتضي أن يكون كل مؤمن مذنبا وليس كذلك قولنا: هب أنه خص فيما عدا المذنب فبقي فيهم حجة.
القيد الثاني: أن الإيمان ليس عبارة عن التصديق اللساني، والدليل عليه قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) * (البقرة: 8) نفي كونهم مؤمنين، ولو كان الإيمان بالله عبارة عن التصديق اللساني لما صح هذا النفي.
القيد الثالث: أن الإيمان ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمنا.
26

القيد الرابع: ليس من شرط الإيمان التصديق بجميع صفات الله عز وجل؛ لأن الرسول عليه السلام كان يحكم بإيمان من لم يخطر بباله كونه تعالى عالما لذاته أو بالعلم، ولو كان هذا القيد وأمثاله شرطا معتبرا في تحقيق الإيمان لما جاز أن يحكم الرسول بإيمانه قبل أن يجربه في أنه هل يعرف ذلك أم لا. فهذا هو بيان القول في تحقيق الإيمان، فإن قال قائل: ها هنا صورتان: الصورة الأولى: من عرف الله تعالى بالدليل والبرهان ولما تم العرفان مات ولم يجد من الزمان والوقت ما يتلفظ فيه بكلمة الشهادة. فههنا أن حكمتم أنه مؤمن فقد حكمتم بأن الإقرار اللساني غير معتبر في تحقيق الإيمان، وهو خرق للإجماع، وإن حكمتم بأنه غير مؤمن فهو باطل؛ لقوله عليه السلام: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " وهذا قلب طافح بالإيمان، فكيف لا يكون مؤمنا؟ الصورة الثانية: من عرف الله تعالى بالدليل ووجد من الوقت ما أمكنه أن يتلفظ بكلمة الشهادة ولكنه لم يتلفظ بها فإن قلتم إنه مؤمن فهو خرق للإجماع، وإن قلتم ليس بمؤمن فهو باطل؛ لقوله عليه السلام: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان " ولا ينتقي الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق.
والجواب: أن الغزالي منع من هذا الإجماع في الصورتين، وحكم بكونهما مؤمنين، وإن الامتناع عن النطق يجري مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان.
المسألة الرابعة: قيل: * (الغيب) * مصدر أقيم مقام اسم الفاعل، كالصوم بمعنى الصائم، والزور بمعنى الزائر، ثم في قوله تعالى: * (يؤمنون بالغيب) * قولان: الأول: وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني - أن قوله: * (بالغيب) * صفة المؤمنين معناه أنهم يؤمنون بالله حال الغيب كما يؤمنون به حال الحضور، لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزءون. ونظيره قوله تعالى: * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * (يوسف: 52) ويقول الرجل لغيره: نعم الصديق لك فلان بظهر الغيب، وكل ذلك مدح للمؤمنين بكون ظاهرهم موافقا لباطنهم ومباينتهم لحال المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والثاني: وهو قول جمهور المفسرين أن الغيب هو الذي يكون غائبا عن الحاسة ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل، وإلى ما ليس عليه دليل. فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب الذي دل عليه دليل بأن يتفكروا ويستدلوا فيؤمنوا به، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله تعالى وبصفاته والعلم بالآخرة والعلم بالنبوة والعلم بالأحكام وبالشرائع فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقة فيصلح أن يكون سببا لاستحقاق الثناء العظيم. واحتج أبو مسلم على قوله بأمور: الأول: أن قوله: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) * (البقرة: 4) إيمان بالأشياء الغائبة فلو كان المراد من قوله: * (الذين يؤمنون بالغيب) * هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه، وأنه غير جائز: الثاني: لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن
27

الإنسان يعلم الغيب، وهو خلاف قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * (الأنعام: 59) أما لو فسرنا الآية بما قلنا لا يلزم هذا المحذور الثالث: لفظ الغيب إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحضور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله تعالى وصفاته، فقوله: * (الذين يؤمنون بالغيب) * لو
كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذات الله تعالى وصفاته، ولا يبقى فيه إلا الإيمان بالآخرة، وذلك غير جائز لأن الركن العظيم في الإيمان هو الإيمان بذات الله وصفاته، فكيف يجوز حمل اللفظ على معنى يقتضي خروج الأصل أما لو حملناه على التفسير الذي اخترناه لم يلزمنا هذا المحذور.
والجواب عن الأول: أن قوله: * (يؤمنون بالغيب) * يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ثم بعد ذلك قوله: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * يتناول الإيمان ببعض الغائبات فكان هذا من باب عطف التفصيل على الجملة، وهو جائز كما في قوله: * (وملائكته وجبريل ورسله وميكال) * (البقرة: 98) وعن الثاني: أنه لا نزاع في أنا نؤمن بالأشياء الغائبة عنا، فكان ذلك التخصيص لازما على الوجهين جميعا. فإن قيل أفتقولون: العبد يعلم الغيب أم لا؟ قلنا قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل وإلى ما لا دليل عليه أما الذي لا دليل عليه فهو سبحانه وتعالى العالم به لا غيره، وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن تقول: نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل، ويفيد الكلام فلا يلتبس، وعلى هذا الوجه قال العلماء: الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة. وعن الثالث: لا نسلم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور، والدليل على ذلك أن المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد. ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته والله أعلم.
المسألة الخامسة: قال بعض الشيعة: المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله تعالى به في القرآن والخبر، أما القرآن فقوله: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) * (النور: 55) وأما الخبر فقوله عليه السلام: " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما " واعلم أن تخصيص المطلق من غير الدليل باطل.
المسألة السادسة: ذكروا في تفسير إقامة الصلاة وجوها: أحدها: أن إقامتها عبارة عن تعديل أركانها وحفظها من أن يقع خلل في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود إذا قومه. وثانيها: أنها عبارة عن المداومة عليها كما قال تعالى: * (والذين هم على صلاتهم يحافظون) * وقال: * (الذين هم على صلاتهم دائمون) * (المعارج: 34) من قامت السوق إذا نفقت، وأقامتها نفاقها؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشئ النافق الذي نتوجه إليه الرغبات، وإذا أضيعت كانت كالشئ الكاسد الذي لا يرغب فيه وثالثها: أنها عبارة عن التجرد لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور من قولهم: قام
28

بالأمر، وقامت الحرب على ساقها، وفي ضده: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبط. ورابعها: إقامتها عبارة عن أدائها، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنها بالقنوت وبالركوع وبالسجود، وقالوا: سبح إذا صلى، لوجود التسبيح فيها، قال تعالى: * (فلولا أنه كان من المسبحين) * (الصافات: 143) واعلم أن الأولى حمل الكلام على ما يحصل معه من الثناء العظيم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل في أركانها وشرائطها؛ ولذلك فإن القيم بأرزاق الجند إنما يوصف بكونه قيما إذا أعطي الحقوق من دون بخس ونقص؛ ولهذا يوصف الله تعالى بأنه قائم وقيوم؛ لأنه يجب دوام وجوده؛ ولأنه يديم إدرار الرزق على عباده.
المسألة السابعة: ذكروا في لفظ الصلاة في أصل اللغة وجوها. أحدها: أنها الدعاء قال الشاعر: وقابلها الريح في دنها * وصلى على دنها وارتشم
وثانيها: قال الخارزنجي. اشتقاقها من الصلى، وهي النار، من قولهم: صليت العصا إذا قومتها بالصلى، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل باطنه وظاهره مثل من يحاول تقويم الخشبة بعرضها على النار. وثالثها: أن الصلاة عبارة عن الملازمة من قوله تعالى: * (تصلي نارا حامية) * (الغاشية: 4) * (سيصلى نارا ذات لهب) * (المسد: 3) وسمي الفرس الثاني من أفراس المسابقة مصليا. ورابعها: قال صاحب الكشاف: الصلاة فعلة من " صلى " كالزكاة من " زكى " وكتبتها بالواو على لفظ المفخم، وحقيقة صلى حرك الصلوين، لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل الداعي مصلى تشبيها له في تخشعه بالراكع والساجد، وأقول ها هنا بحثان:
الأول: إن هذا الاشتقاق الذي ذكره صاحب الكشاف يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة، وذلك لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة وأكثرها دورانا على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهارا فيما بين أهل النقل، ولو جوزنا أن يقال: مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره، ثم أنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلا الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزا، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا هذا، لاحتمال أنها كانت في زمان الرسول موضوعة لمعان أخر، وكان مراد الله تعالى منها تلك المعاني، إلا أن تلك المعاني خفيت في زماننا واندرست كما وقع مثله في هذه اللفظة، فلما كان ذلك باطلا بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل.
الثاني: الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة يتلو بعضها بعضا مفتتحة بالتحريم، مختتمة بالتحليل، وهذا الاسم يقع على الفرض والنفل. لكن المراد بهذه الآية الفرض خاصة؛ لأنه الذي يقف الصلاح عليه؛ لأنه عليه السلام لما بين للأعرابي صفة الصلاة المفروضة قال والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفلح إن صدق ".
29

المسألة الثامنة: الرزق في كلام العرب هو الحظ قال تعالى: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (الواقعة: 82) أي حظكم من هذا الأمر، والحظ هو نصيب الرجل وما هو خاص له دون غيره ثم قال بعضهم: الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل، وهو باطل، لأن الله تعالى أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال: * (وأنفقوا مما رزقناكم) * (الرعد: 22) فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه. وقال آخرون: الرزق هو ما يملك وهو أيضا باطل، لأن الإنسان قد يقول: اللهم ارزقني ولدا صالحا أو زوجة صالحة وهو لا يملك الولد ولا الزوجة، ويقول: اللهم ارزقني عقلا أعيش به وليس العقل بمملوك، وأيضا البهيمة يكون لها رزق ولا يكون لها ملك. وأما في عرف الشرع فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحسين البصري: الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به،
فإذا قلنا: قد رزقنا الله تعالى الأموال، فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها، وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالا فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص، وإذا سألناه أن يرزق البهيمة فإنا نقصد بذلك أن يجعلها به أخص، وإنما تكون به أخص إذا مكنها من الانتفاع به، ولم يكن لأحد أن يمنعها من الانتفاع به، واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا: الحرام لا يكون رزقا. وقال أصحابنا: الحرام قد يكون رزقا، فحجة الأصحاب من وجهين: الأول: أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظا ونصيبا، فوجب أن يكون رزقا له الثاني: أنه تعالى قال: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * (هود: 6) وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال: أنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا. أما المعتزلة فقد احتجوا بالكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب فوجوه: أحدها: قوله تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) * مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى، فلو كان الحرام رزقا لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق. وثانيها: لو كان الحرام رزقا لجاز أن ينفق الغاصب منه، لقوله تعالى: * (وأنفقوا مما رزقناكم) * (البقرة: 254) وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه بل يجب عليه رده، فدل على أن الحرم لا يكون رزقا. وثالثها: قوله تعالى: * (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم) * (يونس: 59) فبين أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله، فثبت أن الحرام لا يكون رزقا، وأما السنة فما رواه أبو الحسين في كتاب الغرر بإسناده عن صفوان بن أمية قال. كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرة فقال له يا رسول الله إن الله كتب على الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأئذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال عليه السلام: " لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله رزقا طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئا ضربتك ضربا وجيعا " وأما المعنى فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام وأمر غيره بمنعه منه والانتفاع به، من منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال أنه رزقه إياه، ألا ترى أنه لا يقال. أن
30

السلطان قد رزق جنده مالا قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه، أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان لكل من الله، لكنه كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكلاب والخنازير، وقال: * (عينا يشرب بها عباد الله) * (الإنسان: 6) فخص اسم العباد بالمتقين، وإن كان الكفار أيضا من العباد، وكذلك ها هنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقا أيضا، وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا، لأن قوله عليه السلام: " فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه " صريح في أن الرزق قد يكون حراما وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض للغة وهو أن الحرام هل يسمى رزقا أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ والله أعلم.
المسألة التاسعة: أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ومنه نفق المبيع نفاقا إذا كثر المشترون له، ونفقت الدابة إذا ماتت أي خرج روحها، ونافقاء الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى: * (أن تبتغي نفقا في الأرض) * (الأنعام: 35).
المسألة العاشرة: في قوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) * فوائد: أحدها: أدخل من التبعيضية صيانة لهم، وكفى عن: الإسراف والتبذير المنهي عنه. وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال ويخصون بعض المال بالتصدق به. وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية، الإنفاق الواجب، والإنفاق المندوب، والإنفاق الواجب أقسام: أحدها: الزكاة وهي قوله في آية الكنز: * (ولا ينفقونها في سبيل الله) * (التوبة: 34).
وثانيها: الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته. وثالثها: الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضا إنفاق لقوله: * (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) * وأراد به الصدقة لقوله بعده: * (فأصدق وأكن من الصالحين) * (المنافقون: 10) فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح.
* (والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون) *.
اعلم أن قوله: * (الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3) عام يتناول كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، سواء كان قبل ذلك مؤمنا بموسى وعيسى عليهما السلام، أو ما كان مؤمنا بهما، ودلالة اللفظ العام على بعض ما دخل فيه التخصيص أضعف من دلالة اللفظ الخاص على ذلك البعض، لأن العام يحتمل التخصيص والخاص لا يحتمله فلما كانت هذه السورة مدنية، وقد شرف الله تعالى المسلمين بقوله: * (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 2، 3) فذكر بعد ذلك أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسول: كعبد الله بن سلام وأمثاله بقوله: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * لأن في هذا التخصيص بالذكر مزيد تشريف لهم كما في قوله تعالى: * (من كان عدو الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (البقرة: 98) ثم تخصيص
31

عبد الله بن سلام وأمثاله بهذا التشريف ترغيب لأمثاله في الدين، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذلك العام، ثم نقول. أما قوله: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد منه التصديق، فإذا قلنا فلان آمن بكذا، فالمراد أنه صدق به ولا يكون المراد أنه صام وصلى، فالمراد بالإيمان ها هنا التصديق بالاتفاق لكن لا بد معه من المعرفة لأن الإيمان ها هنا خرج مخرج المدح والمصدق مع الشك لا يأمن أن يكن كاذبا فهو إلى الذم أقرب.
المسألة الثانية: المراد من إنزال الوحي وكون القرآن منزلا، ومنزلا، ومنزولا به، أن جبريل عليه السلام سمع في السماء كلام الله تعالى فنزل على الرسول به، وهذا كما يقال: نزلت رسالة الأمير من القصر، والرسالة لا تنزل لكن المستمع يسمع الرسالة من علو فينزل ويؤدي في سفل. وقوله الأمير لا يفارق ذاته، ولكن السامع
يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه، ويقال فلان ينقل الكلام إذا سمع في موضع وأداه في موضع آخر. فإن قيل كيف سمع جبريل كلام الله تعالى، وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم؟ قلنا يحتمل أن يخلق الله تعالى له سمعا لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم، ويجوز أن يكون الله خلق في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص فقرأه جبريل عليه السلام فحفظه، ويجوز أن يخلق الله أصواتا مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلقفه جبريل عليه السلام ويخلق له علما ضروريا بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام القديم.
المسألة الثالثة: قوله: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) * هذا الإيمان واجب، لأنه قال في آخره: * (وأولئك هم المفلحون) * (البقرة: 5) فثبت أن من لم يكن له هذا الإيمان وجب أن لا يكون مفلحا، وإذا ثبت أنه واجب وجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل التفصيل، لأن المرء لا يمكنه أن يقوم بما أوجبه الله عليه علما وعملا إلا إذا علمه على سبيل التفصيل، لأنه إن لم يعلمه كذلك امتنع عليه القيام به، إلا أن تحصيل هذا العلم واجب على سبيل الكفاية، فإن تحصيل العلم بالشرائع النازلة على محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل التفصيل غير واجب على العامة، وأما قوله: * (وما أنزل من قبلك) * فالمراد به ما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد، والإيمان به واجب على الجملة، لأن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفته على التفصيل، بل إن عرفنا شيئا من تفاصيله فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل، وأما قوله: * (وبالآخرة هم يوقنون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الآخرة صفة الدار الآخرة، وسميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا وقيل للدنيا دنيا لأنها أدنى من الآخرة.
المسألة الثانية: اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه، فلذلك لا يقول القائل: تيقنت وجود نفسي، وتيقنت أن السماء فرقي لما أن العلم به غير مستدرك، ويقال ذلك في العلم
32

الحادث بالأمور سواء كان ذلك العلم ضروريا أو استدلاليا، فيقول القائل: تيقنت ما أردته بهذا الكلام وإن كان قد علم مراده بالاضطرار، ويقول تيقنت أن الإله واحد وإن كان قد علمه بالاكتساب؛ ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه يتيقن الأشياء.
المسألة الثالثة: أن الله تعالى مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بأن يتيقن وجود الآخرة فقط، بل لا يستحق المدح إلا إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة، والكافرين النار. روى عنه عليه السلام أنه قال: " يا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه، وعجبا ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة، وعجبا ممن ينكر البعث والنشور وهو في كل يوم وليلة يموت ويحيا - يعني النوم واليقظة - وعجبا ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور، وعجبا من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة ".
* (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) *.
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه ثلاثة: أحدها: أن ينوي الابتداء * (بالذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3) وذلك لأنه لما قيل: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) فخص المتقين بأن الكتاب هدى لهم كان لسائل أن يسأل فيقول: ما السبب في اختصاص المتقين بذلك؟ فوقع قوله: * (الذين يؤمنون بالغيب) * إلى قوله: * (وأولئك هم المفلحون) * جوابا عن هذا السؤال، كأنه قيل: الذي يكون مشتغلا
بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والفوز بالفلاح والنجاة لا بد وأن يكون على هدى من ربه. وثانيها: أن لا ينوي الابتداء به بل يجعله تابعا * (للمتقين) * ثم يقع الابتداء من قوله: * (أولئك على هدى من ربهم) * كأنه قيل أي سبب في أن صار الموصوفون بهذه الصفات مختصين بالهدى؟ فأجيب بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا. وثالثها: أن يجعل الموصول الأول صفة * (المتقين) * ويرفع الثاني على الابتداء و * (أولئك) * خبره ويكون المراد جعل اختصاصهم بالفلاح والهدى تعريضا بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله تعالى.
المسألة الثانية: معنى الاستعلاء في قوله: * (على هدى) * بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه حيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونظيره " فلان على الحق، أو على الباطل " وقد صرحوا به في قولهم: " جعل الغواية مركبا، وامتطى الجهل " وتحقيق القول في كونهم على الهدى تمسكهم بموجب الدليل، لأن الواجب على المتمسك بالدليل أن يدوم على ذلك ويحرسه
33

عن المطاعن والشبه فكأنه تعالى ومدحهم بالإيمان بما أنزل عليه أولا، مدحهم بالإقامة على ذلك والمواظبة على حراسته عن الشبه ثانيا، وذلك واجب على المكلف، لأنه إذا كان متشددا في الدين خائفا وجلا فلا بد من أن يحاسب نفسه في علمه وعمله، ويتأمل حاله فيهما فإذا حرس نفسه عن الإخلال كان ممدوحا بأنه على هدى وبصيرة، وإنما نكر * (هدى) * ليفيد ضربا مبهما لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره كما يقال لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا. قال عون بن عبد الله: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا بصير، ولا يعمل به إلا يسير. ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء، ولا يهتدى بها إلا العلماء.
المسألة الثالثة: في تكرير * (أولئك) * تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح أيضا، فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين. فإن قيل: فلم جاء مع العاطف وما الفرق بينه وبين قوله: * (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) * (الأعراف: 179) قلنا: قد اختلف الخبران هنا فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمت فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، وكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من
العطف بمعزل.
المسألة الرابعة: * (هم) * فصل وله فائدتان: إحداهما: الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة وثانيتهما: حصر الخبر في المبتدأ، فإنك لو قلت الإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان، أما لو قلت: الإنسان هو الضاحك فهذا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان.
المسألة الخامسة: معنى التعريف في * (المفلحون) * الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنسانا قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو؟ فقيل زيد التائب، أي هو الذي أخبرت بتوبته، أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحون فهم هم، كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيدا هو هو.
المسألة السادسة: المفلح الظافر بالمطلوب كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه، والمفلح بالجيم مثله، والتركيب دال على معنى الشق والفتح، ولهذا سمي الزراع فلاحا، ومشقوق الشفة السفلى أفلح، وفي المثل " الحديد بالحديد يفلح " وتحقيقه أن الله تعالى لما وصفهم بالقيام بما يلزمهم علما وعملا بين نتيجة ذلك وهو الظفر بالمطلوب الذي هو النعيم الدائم من غير شوب على وجه الإجلال والإعظام، لأن ذلك هو الثواب المطلوب للعبادات.
المسألة السابعة: هذه الآيات يتمسك الوعيدية بها من وجه، والمرجئة من وجه آخر. أما الوعيدية فمن وجهين: الأول: أن قوله: * (وأولئك هم المفلحون) * يقتضي الحصر، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحا، وذلك يوجب القطع على وعيد تارك الصلاة
34

والزكاة. الثاني: أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فيلزم أن تكون علة الفلاح هي فعل الإيمان والصلاة والزكاة، فمن أخل بهذه الأشياء لم يحصل له علة الفلاح، فوجب أن لا يحصل الفلاح. أما المرجئة فقد احتجوا بأن الله حكم بالفلاح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحا وإن زنى وسرق وشرب الخمر، وإذا ثبت في هذه الطائفة تحقق العفو ثبت في غيرهم ضرورة، إذ لا قائل بالفرق. والجواب: أن كل واحد من الاحتجاجين معارض بالآخر فيتساقطان، ثم الجواب عن قول الوعيدية: أن قوله: * (وأولئك هم المفلحون) * يدل على أنهم الكاملون في الفلاح، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل في الفلاح، ونحن نقول بموجب، فإنه كيف يكون كاملا في الفلاح وهو غير جازم بالخلاص من العذاب، بل يجوز له أن يكون خائفا منه، وعن الثاني: أن نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تعالى. والجواب عن قول المرجئة: أن وصفهم بالتقوى يكفي في نيل الثواب لأنه يتضمن اتقاء المعاصي، وإتقاء ترك الواجبات والله أعلم.
* (إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *.
اعلم أن في الآية مسائل نحوية، ومسائل أصولية، ونحن نأتي عليها إن شاء الله تعالى، أما قوله: * (إن) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن * (إن) * حرف والحرف لا أصل له في العمل، لكن هذا الحرف أشبه الفعل صورة ومعنى، وتلك المشابهة تقتضي كونها عاملة، وفيه مقدمات: المقدمة الأولى: في بيان المشابهة، واعلم أن هذه المشابهة حاصلة في اللفظ والمعنى، أما في اللفظ فلأنها تركبت من ثلاثة أحرف وانفتح آخرها ولزمت الأسماء كالأفعال، ويدخلها نون الوقاية نحو إنني وكأنني، كما يدخل على الفعل نحو: أعطاني وأكرمني، وأما المعنى فلأنها تفيد حصول معنى في الاسم وهو تأكد موصوفيته بالخبر، كما أنك إذا قلت: قام زيد، فقولك قام أفاد حصول معنى في الاسم المقدمة الثانية: أنها لما أشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل وذلك ظاهر بناء على الدوران المقدمة الثالثة: في أنها لم نصبت الاسم ورفعت الخبر؟ وتقريره أن يقال: إنها لما صارت عاملة فأما أن ترفع المبتدأ والخبر معا، أو تنصبهما معا، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر وبالعكس، والأول باطل؛ لأن المبتدأ والخبر كانا قبل دخول * (إن) * عليهما مرفوعين، فلو بقيا كذلك بعد دخولها عليهما لما ظهر له أثر البتة، ولأنها أعطيت عمل الفعل، والفعل لا يرفع الإسمين فلا معنى للاشتراك والفزع لا يكون أقوى من الأصل، والقسم الثاني: أيضا باطل؛ لأن هذا أيضا مخالف لعمل الفعل،
35

لأن الفعل لا ينصب شيئا مع خلوه عما يرفعه. والقسم الثالث: أيضا باطل، لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع، فإن الفعل يكون عمله في الفاعل أولا بالرفع ثم في المفعول بالنصب، فلو جعل الحرف ههنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع. ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعين القسم الرابع: وهو أنها تنصب الاسم وترفع الخبر، وهذا مما ينبه على أن هذه الحروف دخيلة في العمل لا أصلية، لأن تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل فذلك يدل ههنا على أن العمل لهذه الحروف ليس بثابت بطريق الأصالة بل بطريق عارض. المسألة الثانية: قال البصريون: هذا الحرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، وقال الكوفيون لا أثر له في رفع الخبر بل هو مرتفع بما كان مرتفعا به قبل ذلك. حجة البصريين: أن هذه الحروف تشبه الفعل مشابهة تامة على ما تقدم بيانه، والفعل له تأثير في الرفع والنصب، فهذه الحروف يجب أن تكون كذلك. وحجة الكوفيين من وجهين: الأول: أن معنى الخبرية باق في خبر المبتدأ وهو أولى باقتضاء الرفع فتكون الخبرية رافعة، وإذا كانت الخبرية رافعة استحال ارتفاعه بهذه الحروف، فهذه مقدمات ثلاثة: إحداها: قولنا: الخبرية باقية، وذلك ظاهر، لأن المراد من الخبرية كون الخبر مسندا إلى المبتدأ، وبعد دخول حرف " إن " عليه فذاك الإسناد باق. وثانيها: قولنا: الخبرية ههنا مقتضية للرفع: وذلك لأن الخبرية كانت قبل دخول " إن " مقتضية للرفع ولم يكن عدم الحرف هناك جزءا من المقتضى. لأن العدم لا يصلح أن يكون جزء العلة، فبعد دخول هذه الحروف كانت الخبرية مقتضية للرفع، لأن المقتضى بتمامه لو حصل ولم يؤثر لكان ذلك لمانع وهو خلاف الأصل. وثالثها: قولنا: الخبرية أولى بالاقتضاء، وبيانه من وجهين: الأول: أن كونه خبرا وصف حقيقي قائم بذاته، وذلك الحرف أجنبي مباين عنه وكما أنه مباين عنه فغير مجاور له لأن الاسم يتخللهما. الثاني: أن الخبر يشابه الفعل مشابهة حقيقية معنوية وهو كون كل واحد منهما مسندا
إلى الغير، أما الحرف فإنه لا يشابه الفعل في وصف حقيقي معنوي، فإنه ليس فيه إسناد، فكانت مشابهة الخبر للفعل أقوى من مشابهة هذا الحرف للفعل، فإذا ثبت ذلك كانت الخبرية باقتضاء الرفع لأجل مشابهة الفعل أولى من الحرف بسبب مشابهته للفعل ورابعها: لما كانت الخبرية أقوى في اقتضاء الرفع استحال كون هذا الحرف رافعا، لأن الخبرية بالنسبة إلى هذا الحرف أولى، وإذا كان كذلك فقد حصل الحكم بالخبرية قبل حصول هذا الحرف، فيعد وجود هذا الحرف لو أسند هذا الحكم إليه لكان ذلك تحصيلا للحاصل، وهو محال. الوجه الثاني: أن سيبويه وافق على أن الحرف غير أصل في العمل فيكون إعماله على خلاف الدليل، وما ثبت على خلاف الدليل يقدر بقدر الضرورة. والضرورة تندفع بأعمالها في الاسم، فوجب أن لا يعملها في الخبر.
المسألة الثالثة: روى الأنباري أن الكندي المتفلسف ركب إلى المبرد وقال: إني أجد
36

في كلام العرب حشوا، أجد العرب تقول: عبد الله قائم، ثم تقول إن عبد الله قائم، ثم تقول إن عبد الله لقائم، فقال المبرد: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه، وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل، وقولهم إن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر لقيامه، واحتج عبد القاهر على صحة قوله بأنها إنما تذكر جوابا لسؤال السائل بأن قال إنا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كان جوابا للقسم نحو والله إن زيدا منطلق ويدل عليه من التنزيل قوله: * (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض) * (الكهف: 83) وقوله في أول السورة: * (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم) * (الكهف: 13) وقوله: * (فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون) * (الشعراء: 216) وقوله: * (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) * (الأنعام: 56) وقوله: * (وقل إني أنا النذير المبين) * (الحج: 89) وأشباه ذلك مما يعلم أنه يدل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا ونظروا فيه، وعليه قوله: * (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) * (الشعراء: 16) وقوله: * (وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين) * (الأعراف: 104) وفي قصة السحرة * (إنا إلى ابنا منقلبون) * (الأعراف: 125) إذ من الظاهر أنه جواب فرعون عن قوله: * (آمنتم له قبل أن آذن لكم) * (طه: 71 الشعراء: 49) وقال عبد القاهر: والتحقيق أنها للتأكيد وإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه لم يحتج هناك إلى " إن " وإنما يحتاج إليها إذا كان السامع ظن الخلاف، ولذلك تراها تزداد حسنا إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله كقول أبي نواس: عليك باليأس من الناس * إن غنى نفسك في الياس
وإنما حسن موقعها لأن الغالب أن الناس لا يحملون أنفسهم على اليأس. وأما جعلها مع اللام جوابا للمنكر في قولك: " إن زيدا لقائم " فجيد لأنه إذا كان الكلام مع المنكر كانت الحاجة إلى التأكيد أشد، وكما يحتمل أن يكون الإنكار من السامع احتمل أيضا أن يكون من الحاضرين. واعلم أنها قد تجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لا يوجد مثل قولك: إنه كان مني إليه إحسان فعاملني بالسوء، فكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ في الذي توهمت، وعليه قوله تعالى حكاية عن أم مريم * (قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت) * (آل عمران: 36) وكذلك قول نوح عليه السلام: * (قال رب إن قومي كذبون) * (الشعراء: 117).
أما قوله تعالى: * (الذين كفروا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه صعب على المتكلمين ذكر حد الكفر، وتحقيق القول فيه أن كل ما ينقل عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إليه وقال به فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة أو بالاستدلال أو بخبر الواحد. أما القسم الأول: وهو الذي عرف بالضرورة مجيء الرسول عليه السلام به فمن صدقه في كل ذلك فهو مؤمن، ومن لم يصدقه في ذلك، فأما بأن لا يصدقه في جميعها أو بأن لا يصدقه في البعض دون البعض، فذلك هو الكافر، فإذن الكفر عدم تصديق
37

الرسول في شيء مما علم بالضرورة مجيئه به، ومثاله من أنكر وجود الصانع، أو كونه عالما قادرا مختارا أو كونه واحدا أو كونه منزها عن النقائص والآفات، أو أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو صحة القرآن الكريم أو أنكر الشرائع التي علمنا بالضرورة كونها من دين محمد صلى الله عليه وسلم كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر، فذلك يكون كافرا؛ لأنه ترك تصديق الرسول فيما علم بالضرورة أنه من دينه. فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دينه مثل كونه عالما بالعلم أو لذاته وأنه مرئي أو غير مرئي، وأنه خالق أعمال العباد أم لا فلم ينقل بالتواتر القاطع لعذر مجيئه عليه السلام بأحد القولين دون الثاني، بل إنما يعلم صحة أحد القولين وبطلان الثاني بالاستدلال، فلا جرم لم يكن إنكاره، ولا الإقرار به داخلا في ماهية الإيمان فلا يكون موجبا للكفر، والدليل عليه أنه لو كان ذلك جزء ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنه هل يعرف الحق في تلك المسألة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمة، ولنقل ذلك على سبيل التواتر، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه عليه السلام ما وقف الإيمان عليها، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجبا للكفر، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من هذه الأمة ولا نكفر أرباب التأويل. وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد فظاهر أنه لا يمكن توقف الكفر والإيمان عليه. فهذا قولنا في حقيقة الكفر. فإن قيل يبطل ما ذكرتم من جهة العكس بلبس الغيار وشد الزنار وأمثالهما فإنه كفر مع أن ذلك شيء آخر سوى ترك تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما علم بالضرورة مجيئه به، قلنا هذه الأشياء في الحقيقة ليست كفرا لأن التصديق وعدمه أمر باطن لا اطلاع للخلق عليه، ومن عادة الشرع أنه لا يبني الحكم في أمثال هذه الأمور على نفس المعنى، لأنه لا سبيل إلى الاطلاع، بل يجعل لها معرفات وعلامات ظاهرة ويجعل تلك المظان الظاهرة مدارا للأحكام الشرعية، وليس الغيار وشد الزنار من هذا الباب، فإن الظاهر أن من يصدق الرسول عليه السلام فإنه لا يأتي بهذه الأفعال، فحيث أتى بها دل على عدم التصديق فلا جرم الشرع يفرع الأحكام عليها، لا أنها في أنفسها كفر، فهذا هو الكلام الملخص في هذا الباب والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (إن الذين كفروا) * إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي والأخبار عن الشيء بصيغة الماضي يقتضي كون المخبر عنه متقدما على ذلك الأخبار، إذا عرفت هذا فنقول: احتجت المعتزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماض مثل قوله: * (إن الذين كفروا) * أو * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (
الحجر: 9)، * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1)، * (إنا أرسلنا نوحا) * (نوح: 1) على أن كلام الله محدث سواء كان الكلام هذه الحروف والأصوات أو كان شيئا آخر. قالوا لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقا إلا إذا كان مسبوقا بالخبر عنه، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقا بالغير فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديما فيجب أن يكون محدثا، أجاب القائلون بقدم الكلام عنه من وجهين: الأول: أن
38

الله تعالى كان في الأزل عالما بأن العالم سيوجد، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علما بأنه قد حدث في الماضي ولم يلزم حدوث علم لله تعالى، فلم لا يجوز أيضا أن يقال: إن خبر الله تعالى في الأزل كان خبرا بأنهم سيكفرون فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبرا عن أنهم قد كفروا ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى. الثاني: أن الله تعالى قال: * (لتدخلن المسجد الحرام) * (الفتح: 27) فلما دخلوا المسجد لا بد وأن ينقلب ذلك الخبر إلى أنهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا مثله؟ أجاب المستدل أولا عن السؤال الأول فقال: عند أبي الحسين البصري وأصحابه العلم يتغير عند تغير المعلومات، وكيف لا والعلم بأن العالم غير موجود وأنه سيوجد لو بقي حال وجود العالم لكان ذلك جهلا لا علما، وإذا كان كذلك وجب تغير ذلك العلم، وعلى هذا سقطت هذه المعارضة. وعن الثاني: أن خبر الله تعالى وكلامه أصوات مخصوصة، فقوله تعالى: * (لتدخلن المسجد الحرام) * معناه أن الله تعالى تكلم بهذا الكلام في الوقت المتقدم على دخول المسجد لا أنه تكلم به بعد دخول المسجد، فنظيره في مسألتنا أن يقال إن قوله: * (إن الذين كفروا) * تكلم الله تعالى به بعد صدور الكفر عنهم لا قبله إلا أنه متى قيل ذلك كان اعترافا بأن تكلمه بذلك لم يكن حاصلا في الأزل وهذا هو المقصود، أجاب القائلون بالقدم بأنا لو قلنا إن العلم يتغير بتغير المعلوم لكنا إما أن نقول بأن العالم سيوجد كان حاصلا في الأزل أو ما كان، فإن لم يكن حاصلا في الأزل كان ذلك تصريحا بالجهل. وذلك كفر، وإن قلنا إنه كان حاصلا فزواله يقتضي زوال القديم، وذلك سد باب إثبات حدوث العالم والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: * (إن الذين كفروا) * صيغة للجمع مع لام التعريف وهي للاستغراق بظاهره ثم إنه لا نزاع في أنه ليس المراد منها هذا الظاهر، لأن كثيرا من الكفار أسلموا فعلمنا أن الله تعالى قد يتكلم بالعام ويكون مراده الخاص، إما لأجل أن القرينة الدالة على أن المراد من ذلك العموم ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فحسن ذلك لعدم التلبيس وظهور المقصود، ومثاله ما إذا كان للإنسان في البلد جمع مخصوص من الأعداء، فإذا قال " إن الناس يؤذونني " فهم كل أحد أن مراده من الناس ذلك الجمع على التعيين، وإما لأجل أن التكلم بالعام لإرادة الخاص جائز وإن لم يكن البيان مقرونا به عند من يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق لاحتمال أن المراد منها هو الخاص وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا جرم حسن ذلك، وأقصى ما في الباب أن يقال: لو وجدت هذه القرينة لعرفناها وحيث لم نعرفها علمنا أنها ما وجدت إلا أن هذا الكلام ضعيف، لأن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود من أضعف الإمارات المفيدة للظن فضلا عن القطع، وإذا ثبت ذلك ظهر أن استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف والله أعلم ومن المعتزلة من
39

احتال في دفع ذلك فقال إن قوله: إن الذين كفروا لا يؤمنون كالنقيض لقوله: إن الذين كفروا يؤمنون، وقوله: إن الذين كفروا يؤمنون لا يصدق إلا إذا آمن كل واحد منهم، فإذا ثبت أنه في جانب الثبوت يقتضي العموم وجب أن لا يتوقف في جانب النفي على العموم بل يكفي في صدقه أن لا يصدر الإيمان عن واحد منهم؛ لأنه متى لم يؤمن واحد من ذلك الجمع ثبت أن ذلك الجمع لم يصدر منهم الإيمان، فثبت أن قوله: إن الذين كفروا لا يؤمنون يكفي في إجرائه على ظاهره أن لا يؤمن واحد منهم فكيف إذا لم يؤمن الكثير منهم والجواب: أن قوله: * (إن الذين كفروا) * صيغة الجمع وقوله: * (لا يؤمنون) * أيضا صيغة جمع والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد فمعناه أن كل واحد منهم لا يؤمن وحينئذ يعود الكلام المذكور.
المسألة الرابعة: اختلف أهل التفسير في المراد ههنا بقوله: * (الذين كفروا) * فقال قائلون: إنهم رؤساء اليهود المعاندون الذين وصفهم الله تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وقال آخرون: بل المراد قوم من المشركين، كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وهم الذين جحد وأبعد البينة، وأنكروا بعد المعرفة ونظيره ما قال الله تعالى: * (فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) * (فصلت: 4، 5) وكان عليه السلام حريصا على أن يؤمن قومه جميعا حيث قال الله تعالى له: * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) * (الكهف: 6) وقال: * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) * (يونس: 99) ثم إنه سبحانه وتعالى بين له عليه السلام أنهم لا يؤمنون ليقطع طمعه عنهم ولا يتأذى بسبب ذلك، فإن اليأس إحدى الراحتين.
أما قوله تعالى: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف * (سواء) * اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر منه قوله تعالى: * (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * (آل عمران: 64) * (في أربعة أيام سواء للسائلين) * (فصلت: 10) بمعنى مستوية، فكأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه.
المسألة الثانية: في ارتفاع سواء قولان: أحدهما: أن ارتفاعه على أنه خبر لأن و * (أنذرتهم أم لم تنذرهم) * في موضع الرفع به على الفاعلية، كأنه قيل، إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كما تقول: إن زيدا مختصم أخوه وابن عمه. الثاني: أن تكون أنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء وسواء خبره مقدما بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لأن، واعلم أن الوجه الثاني أولى؛ لأن " سواء " اسم، وتنزيله بمنزلة الفعل يكون تركا للظاهر من غير ضرورة وأنه لا يجوز، وإذا ثبت هذا فنقول: من المعلوم أن المراد وصف الإنذار وعدم الإنذار بالاستواء، فوجب أن يكون سواء خبرا فيكون الخبر مقدما. وذلك يدل على أن تقديم الخبر
على المبتدأ جائز، ونظيره قوله تعالى: * (سواء محياهم ومماتهم) * (الجاثية: 21) وروى سيبويه قولهم: " تميمي أنا "
40

" ومشنوء من يشنؤك " أما الكوفيون فأنهم لا يجوزونه واحتجوا عليه من وجهين: الأول: المبتدأ ذات، والخبر صفة، والذات قبل الصفة بالاستحقاق، فوجب أن يكون قبلها في اللفظ قياسا على توابع الإعراب والجامع التبعية المعنوية. الثاني: أن الخبر لا بد وأن يتضمن الضمير، فلو قدم الخبر على المبتدأ لوجد الضمير قبل الذكر، وأنه غير جائز، لأن الضمير هو اللفظ الذي أشير به إلى أم معلوم، فقبل العلم به امتنعت الإشارة إليه، فكان الإضمار قبل الذكر محالا، أجاب البصريون على الأول بأن ما ذكرتم يقتضي أن يكون تقدم المبتدأ أولى، لا أن يكون واجبا وعن الثاني: أن الإضمار قبل الذكر واقع في كلام العرب، كقولهم: " في بيته يؤتى الحكم " قال تعالى: * (فأوجس في نفسه خيفة موسى) * (طه: 67) وقال زهير:
فمن يلق يوما على علاته هرما * يلق السماحة منه والندى خلقا
والله أعلم.
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن الفعل لا يخبر عنه، لأن من قال: خرج ضرب لم يكن آتيا بكلام منتظم، ومنهم من قدح فيه بوجوه: أحدها: أن قوله: * (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * فعل وقد أخبر عنه بقوله: * (سواء عليهم) * ونظيره قوله: * (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) * (يوسف: 35) فاعل " بدا " هو " ليسجننه " وثانيها: أن المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكون فعلا، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل فإن قيل: المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة، وتلك الكلمة اسم قلنا فعلى هذا: المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلا بل إسما كان هذا الخبر كذبا، والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسما أو لا يكون، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذبا، لأن الاسم لا يكون فعلا، وإن كان فعلا فقد صار الفعل مخبرا عنه وثالثها: أنا إذا قلنا: الفعل لا يخبر عنه فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسما لزم أنا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه، وهذا خطأ وإن كان فعلا صار الفعل مخبرا عنه ثم قال هؤلاء: لما ثبت أنه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجة إلى ترك الظاهر. أما جمهور النحويين فقد أطبقوا على أنه لا يجوز الإخبار عن الفعل، فلا جرم كان التقدير: سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك، فإن قيل العدول عن الحقيقة إلى المجاز لا بد وأن يكون لفائدة زائدة إما في المعنى أو في اللفظ فما تلك الفائدة ههنا؟ قلنا قوله: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * معناه سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لهم بعد ذلك لأن القوم كانوا قد بلغوا في الإصرار واللجاج والأعراض عن الآيات والدلائل إلى حالة ما بقي فيهم البتة رجاء القبول بوجه. وقبل ذلك ما كانوا كذلك، ولو قال سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لما أفاد أن هذا المعنى إنما حصل في هذا الوقت دون ما قبله، ولما قال: * (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * أفاد أن هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت فكان ذلك يفيد حصول اليأس وقطع الرجاء منهم، وقد بينا أن المقصود من هذه الآية ذلك.
41

المسألة الرابعة: قال صاحب الكشاف: " الهمزة " و " أم " مجردتان لمعنى الاستفهام وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا، قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء كقوله: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء.
المسألة الخامسة: في قوله: * (أأنذرتهم) * ست قراءات: إما بهمزتين محققتين بينهما ألف، أولا ألف بينهما، أو بأن تكون الهمزة الأولى قوية والثانية بين بين بينهما ألف، أولا ألف بينهما وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله كما قرىء " قد أفلح " فإن قيل: فما تقول فيمن يقلب الثانية ألفا؟ قال صاحب الكشاف: هو لاحن خارج عن كلام العرب.
المسألة السادسة: الإنذار هو التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن تأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى من تأثير البشارة؛ لأن اشتغال الإنسان بدفع الضرر أشد من اشتغاله بجلب المنفعة، وهذا الموضع موضع المبالغة وكان ذكر الإنذار أولى. أما قوله: * (لا يؤمنون) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: هذه إما أن تكون جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبرا " لأن " والجملة قبلها اعتراض. المسألة الثانية: احتج أهل السنة بهذه الآية وكل ما أشبهها من قوله: * (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) * (يس: 7) وقوله: * (ذرني ومن خلقت وحيدا) * إلى قوله: * (سأرهقه صعودا) * (المدثر: 11، 17) وقوله: * (تبت يدا أبي لهب) * (المسد: 1) على تكليف ما لا يطلق، وتقريره أنه تعالى أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قط، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر لله تعالى الصدق كذبا، والكذب عند الخصم قبيح وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة، وهما محالان على الله، والمفضي إلى المحال محال، فصدور الإيمان منه محال فالتكليف به تكليف بالمحال، وقد يذكر هذا في صورة العلم، هو أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله تعالى جهلا، وذلك محال ومستلزم المحال محال. فالأمر واقع بالمحال. ونذكر هذا على وجه ثالث: وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بعدم الإيمان؛ لأنه إنما يكون علما لو كان مطابقا للمعلوم، والعلم بعدم الإيمان إنما يكون مطابقا لو حصل عدم الإيمان، فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان لزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجودا ومعدوما معا وهو محال، فالأمر بالإيمان مع وجود علم الله تعالى بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضدين، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود، وكل ذلك محال ونذكر هذا على وجه رابع: وهو أنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون بالإيمان البتة، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط، وهذا تكليف بالجمع بين النفي
42

والإثبات، ونذكر هذا على وجه خامس: وهو أنه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله: * (يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) * (الفتح: 15) فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله تعالى عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله تعالى، وذلك منهي عنه. ثم
ههنا أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة فمحاولة الإيمان منهم تكون قصدا إلى تبديل كلام الله، وذلك منهي عنه، وترك محاولة الإيمان يكون أيضا مخالفة لأمر الله تعالى، فيكون الذم حاصلا على الترك والفعل، فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع، وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال. ولقد كان السلف والخلف من المحققين معولين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم، ولقد قاموا وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع، وأنا أذكر أقصى ما ذكروه بعون الله تعالى وتوفيقه: قالت المعتزلة: لنا في هذه الآية مقامان: المقام الأول: بيان أنه لا يجوز أن يكون علم الله تعالى وخبر الله تعالى عن عدم الإيمان مانعا من الإيمان، والمقام الثاني: بيان الجواب العقلي على سبيل التفصيل، أما المقام الأول فقالوا: الذي يدل عليه وجوه: أحدها: أن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان قال: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) * (الإسراء: 94) وهو إنكار بلفظ الاستفهام ومعلوم أن رجلا لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثم يقول ما منعك من التصرف في حوائجي كان ذلك منه مستقبحا وكذا قوله: * (وماذا عليهم لو آمنوا) * (الأعراف: 12) وقوله لإبليس: * (ما منعك أن تسجد) * (النساء: 39) وقول موسى لأخيه: * (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا) * (طه: 92) وقوله: * (فما لهم لا يؤمنون) * (الانشقاق: 20) * (فما لهم عن التذكرة معرضين) * (المدثر: 49) * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * (التوبة: 43) * (لم تحرم ما أحل الله لك) * (التحريم: 1) قال الصاحب بن عباد في فصل له في هذا الباب: كيف يأمره بالإيمان وقد منعه عنه؟ وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أنى تصرفون؟ ويخلق فيهم الإفك ثم يقول أنى تؤفكون؟ وأنشأ فيهم الكفر ثم يقوم لم تكفرون؟ وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول * (لم تلبسون الحق بالباطل) * (آل عمران: 71) وصدهم عن السبيل ثم يقول: * (لم تصدون عن سبيل الله) * (آل عمران: 99) وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال: * (وماذا عليهم لو آمنوا) * وذهب بهم عن الرشد ثم قال: * (فأين تذهبون) * (التكوير: 26) وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال: * (فما لهم عن التذكرة معرضين) *. (المدثر: 49) وثانيها: أن الله تعالى قال: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * (السناء: 165) وقال: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزي) * (طه: 134) فلما بين أنه ما أبقي لهم عذرا إلا وقد أزاله عنهم، فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مانعا لهم عن الإيمان لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عنهم فلما لم يكن كذلك علمنا أنه غير مانع. وثالثها: أنه تعالى حكى عن الكفار في سورة " حم السجدة " أنهم قالوا: قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر، وإنما ذكر الله تعالى ذلك ذما لهم في هذا القول، فلو كان العلم مانعا لكانوا صادقين
43

في ذلك فلم ذمهم عليه؟ ورابعها: أنه تعالى أنزل قوله: * (إن الذين كفروا - إلى آخره) * ذما لهم وزجرا عن الكفر وتقبيحا لفعلهم، فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان غير قادرين عليه لما استحقوا الذم البتة، بل كانوا معذورين كما يكون الأعمى معذورا في أن لا يمشي. وخامسها: القرآن إنما أنزل ليكون حجة لله ولرسوله عليهم، لا أن يكون لهم حجة على الله وعلى رسوله، فلو كان العلم والخبر مانعا لكان لهم أن يقولوا: إذا علمت الكفر وأخبرت عنه كان ترك الكفر محالا منا، فلم تطلب المحال منا ولم تأمرنا بالمحال؟ ومعلوم أن هذا مما لا جواب لله ولا لرسوله عنه لو ثبت أن العلم والخبر يمنع وسادسها: قوله تعالى: * (نعم المولى ونعم النصير) * (الأنفال: 40) ولو كان مع قيام المانع عن الإيمان كلف به لما كان نعم المولى، بل كان بئس المولى ومعلوم أن ذلك كفر، قالوا: فثبت بهذه الوجوه أنه ليس عن الإيمان والطاعة مانع البتة، فوجب القطع بأن علم الله تعالى بعدم الإيمان وخبره عن عدمه لا يكون مانعا عن الإيمان. المقام الثاني: قالوا إن الذي يدل على أن العلم بعدم الإيمان لا يمنع من وجود الإيمان وجوه: أحدها: أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يكون الله تعالى قادرا على شيء؛ لأن الذي علم وقوعه يكون واجب الوقوع، والذي علم عدم وقوعه يكون ممتنع الوقوع، والواجب لا قدرة له عليه؛ لأنه إذا كان واجب الوقوع، لا بالقدرة فسواء حصلت القدرة أو لم تحصل كان واجب الوقوع، والذي يكون كذلك لم يكن للقدرة فيه أثر، وأما الممتنع فلا قدرة عليه، فيلزم أن لا يكون الله تعالى قادرا على شيء أصلا، وذلك كفر بالاتفاق فثبت أنا لعلم بعدم الشيء لا يمنع من إمكان وجوده. وثانيها: أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فإن كان ممكنا علمه ممكنا وإن كان واجبا علمه واجبا، ولا شك أن الإيمان والكفر بالنظر إلى ذاته ممكن الوجود، فلو صار واجب الوجود بسبب العلم كان العلم مؤثرا في المعلوم، وقد بينا أنه محال. وثالثها: لو كان الخبر والعلم مانعا لما كان العبد قادرا على شيء أصلا؛ لأن الذي علم الله تعالى وقوعه كان واجب الوقوع، والواجب لا قدرة عليه؛ والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع، والممتنع لا قدره عليه، فوجب أن لا يكون العبد قادرا على شيء أصلا، فكانت حركاته وسكناته جارية مجرى حركات الجمادات، والحركات الاضطرارية للحيوانات، لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك، فإن رمى إنسان إنسانا بالآجرة حتى شجه فإنا نذم الرامي ولا نذم الآجرة، وندرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه، وبين ما إذا لكمه إنسان بالاختيار: ولذلك فإن العقلاء ببداءة عقولهم يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسئ، ويلتمسون ويأمرون ويعاتبون ويقولون لم فعلت ولم تركت؟ فدل على أن العلم والخبر غير مانع من الفعل والترك. ورابعها: لو كان العلم بالعدم مانعا للوجود لكان أمر الله تعالى للكافر بالإيمان أمرا بإعدام علمه، وكما أنه لا يليق به أن يأمر عباده بأن يعدموه فكذلك لا يليق به أن يأمرهم، بأن يعدموا علمه؛ لأن إعدام ذات الله وصفاته غير معقول، والأمر به سفه وعبث، فدل على أن العلم بالعدم لا يكون مانعا من الوجود. وخامسها: أن الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات الجائزات
44

نظرا إلى ذاته وعينه، فوجب أن يعلمه الله تعالى من الممكنات الجائزات، إذ لو لم يعلمه كذلك لكان ذلك العلم جهلا، وهو محال، وإذا علمه الله تعالى من الممكنات الجائزات التي لا يمتنع وجودها وعدمها البتة، فلو صار بسبب العلم واجبا لزم أن يجتمع على الشيء الواحد كونه من الممكنات، وكونه ليس من الممكنات وذلك محال. وسادسها: أن الأمر بالمحال سفه وعبث، فلو جاز ورود الشرع به لجاز وروده أيضا بكل أنواع السفه، فما كان يمتنع وروده بإظهار المعجزة على يد الكاذبين ولا إنزال الأكاذيب والأباطيل، وعلى هذا التقدير لا يبقى وثوق بصحة نبوة الأنبياء ولا بصحة القرآن، بل يجوز أن يكون كله كذبا وسفها، ولما بطل ذلك علمنا أن العلم بعدم
الإيمان والخبر عن عدم الإيمان لا يمنع من الإيمان. وسابعها: أنه لو جاز ورود الأمر بالمحال في هذه الصورة لجاز ورود أمر الأعمى بنقط المصاحف. والمزمن بالطيران في الهواء، وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه وألقي من شاهق جبل: لم لا تطير إلى فوق؟ ولما لم يجز شيء من ذلك في العقول علمنا أنه لا يجوز الأمر بالمحال، فثبت أن العلم بالعدم لا يمنع من الوجود، وثامنها: لو جاز ورود الأمر بذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات وإنزال الكتب عليها، وإنزال الملائكة لتبليغ التكاليف إليها حالا بعد حال، ومعلوم أن ذلك سخرية وتلاعب بالدين. وتاسعها: أن العلم بوجود الشيء لو اقتضى وجوبه لأغنى العلم عن القدرة والإرادة، فوجب أن لا يكون الله تعالى قادرا مريدا مختارا، وذلك قول الفلاسفة القائلين بالموجب. وعاشرها: الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم يوجد، قال الله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) وقال: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وقال: * (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) * (الأعراف: 157) وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال المقام الثالث الجواب على سبيل التفصيل، للمعتزلة فيه طريقان: الأول: طريقة أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار، فإنا لما قلنا: لو وقع خلاف معلوم الله تعالى لانقلب علمه جهلا قالوا خطأ: قول من يقول: إنه ينقلب علمه جهلا، وخطأ أيضا قول من يقول: إنه لا ينقلب، ولكن يجب الإمساك عن القولين: والثاني: طريقة الكعبي واختيار أبي الحسين البصري: أن العلم تبع المعلوم، فإذا فرضت الواقع من العبد من الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل لله تعالى هو العلم بالإيمان، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلا عن الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلا عن الإيمان، فهذا فرض علم بدلا عن علم أخر، لا أنه تغير العلم. فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد جمهور المعتزلة. واعلم أن هذا المبحث صار منشأ لضلالات عظيمة: فمنها أن منكري التكاليف والنبوات قالوا: قد سمعنا كلام أهل الجبر فوجدناه قويا قاطعا، وهذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ولا يلتفت العاقل إليهما، وسمعنا كلام المعتزلة في أن مع القول بالجبر لا يجوز التكليف ويقبح، والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جدا فصار مجموع الكلامين كلاما قويا في نفي التكاليف، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات. ومنها أن الطاعنين
45

في القرآن قالوا: الذي قاله المعتزلة من الآيات الكثيرة الدالة على أنه لا منع من الإيمان ومن الطاعة فقد صدقوا فيه، والذي قاله الجبرية: من أن العلم بعدم الإيمان مانع منه فقد صدقوا فيه، فدل على أن القرآن ورد على ضد العقل وعلى خلافه، وذلك من أعظم المطاعن وأقوى القوادح فيه، ثم من سلم من هؤلاء أن هذا القرآن هو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم توسل به إلى الطعن فيه، وقال قوم من الرافضة: إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به محمد بل غير وبدل. والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب هذه المناظرة الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر. ومنها أن المقلدة الطاعنين في النظر والاستدلال احتجوا بهذه المناظرة وقالوا: لو جوزنا التمسك بالدلائل العقلية لزم القدح في التكليف والنبوة بسبب هذه المناظرة، فإن كلام أهل الجبر في نهاية القوة في إثبات الجبر، وكلام أهل القدر في بيان أنه متى ثبت الجبر بطل التكليف بالكلية في نهاية القوة، فيتولد من مجموع الكلامين أعظم شبهة في القدح والتكليف والنبوة، فثبت أن الرجوع إلى العقليات يورث الكفر والضلال، وعند هذا قيل من تعمق في الكلام تزندق. ومنها أن هشام بن الحكم زعم أنه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل وقوعها وجوز البداء على الله تعالى وقال: أن قوله: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * إنما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة، ويجوز له أن يظهر خلاف ما ذكره، وإنما قال بهذا المذهب فرارا من تلك الإشكالات المتقدمة. واعلم أن جملة الوجوه التي رويناها عن المعتزلة كلمات لا تعلق لها بالكشف عن وجه الجواب. بل هي جارية مجرى التشنيعات. فأما الجوابان اللذان عليهما اعتماد القوم ففي نهاية الضعف. أما قول أبي علي وأبي هشام والقاضي: خطأ قول من يقول إنه يدل، وخطأ قول من يقول: إنه لا يدل: إن كان المراد منه الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكما بفساد النفي والإثبات وذلك لا يرتضيه العقل وإن كان معناه أن أحدهما حق لكن لا أعرف أن الحق هو أنه يدل أو لا يدل كفي في دفعه تقرير وجه الاستدلال، فإنا لما بينا أن العلم بالعدم لا يحصل إلا مع العدم، فلو حصل الوجود معه لكان قد اجتمع العدم والوجود معا ولا يتمكن العقل من تقرير كلام أوضح من هذا وأقل مقدمات فيه. وأما قول الكعبي ففي نهاية الضعف، لأنا وإن كنا لا ندري أن الله تعالى كان في الأزل عالما بوجود الإيمان أو بعدمه لكنا نعلم أن العلم بأحد هذين الأمرين كان حاصلا، وهو الآن أيضا حاضر، فلو حصل مع العلم بأحد النقيضين ذلك النقيض الآخر لزم اجتماع النقيضين، ولو قيل بأن ذلك العلم لا يبقى كان ذلك اعترافا بانقلاب العلم جهلا، وهذا آخر الكلام في هذا البحث. واعلم أن الكلام المعنوي هو الذي تقدم، وبقي في هذا الباب أمور أخرى إقناعية ولا بد من ذكرها وهي خمسة: أحدها: روى الخطيب في كتاب تاريخ بغداد عن معاذ بن معاذ العنبري قال: كنت جالسا عند عمرو بن عبيد فأتاه رجل فقال: يا أبا عثمان سمعت والله اليوم بالكفر، فقال: لا تعجل بالكفر، وما سمعت؟ قال: سمعت هاشما الأوقص يقول: إن * (تبت يدا أبي لهب) * (المسد: 1) وقوله: * (ذرني ومن خلقت وحيدا) * (المدثر: 11) إلى قوله: * (سأصليه سقر) * (المدثر: 26) إن هذا
46

ليس في أم الكتاب والله تعالى يقول: * (حم والكتاب المبين) * (الدخان: 2) إلى قوله: * (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) * (الزخرف: 4) فما الكفر إلا هذا يا أبا عثمان، فسكت عمرو هنيهة ثم أقبل علي فقال والله لو كان القول كما يقول ما كان على أبي لهب من لوم، ولا على الوليد من لوم، فلما سمع الرجل ذلك قال أتقول يا أبا عثمان ذلك، هذا والله الذي قال معاذ فدخل بالإسلام وخرج بالكفر. وحكي أيضا أنه دخل رجل على عمرو بن عبيد وقرأ عنده: * (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) * (البروج: 22) فقال له أخبرني عن * (تبت) * أكانت في اللوح المحفوظ؟ فقال عمرو: ليس هكذا كانت، بل كانت: تبت يدا من عمل بمثل ما عمل أبو لهب فقال له الرجل، هكذا ينبغي أن تقرأ إذا قمنا إلى الصلاة: فغضب عمرو وقال: إن علم الله ليس بشيطان، إن علم الله لا يضر ولا ينفع. وهذه الحكاية تدل على شك عمرو بن عبيد في صحة القرآن. وثانيها: روى القاضي في كتاب طبقات المعتزلة عن ابن عمر، أن رجلا قام إليه فقال: يا أبا عبد الرحمن أن أقواما يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويقولون كان ذلك في علم الله فلم نجد منه بدا، فغضب ثم قال سبحان الله العظيم، قد كان في علمه
أنهم يفعلونها فلم يحملهم على الله على فعلها. حدثني أبي عمر بن الخطاب أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم، والأرض التي أقلتكم، فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض فكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله تعالى، وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب فكذلك لا يحملكم علم الله تعالى عليها. واعلم أن في الأخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة، والغرض من رواية هذا الحديث بيان أنه لا يليق بالرسول أن يقول مثل ذلك، وذلك لأنه متناقض وفاسد، أما المتناقض فلأن قوله: " وكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله " صريح في الجبر وما قبله صريح في القدر فهو متناقض، وأما أنه فاسد، فلأنا بينا أن العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان متنافيان، فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدم الإيمان تكليف بالجمع بين النفي والإثبات، أما السماء والأرض فإنهما لا ينافيان شيئا من الأعمال، فظهر أن تشبيه إحدى الصورتين بالأخرى لا يصدر إلا عن جاهل أو متجاهل، وجل منصب الرسالة عنه. وثالثها: الحديثان المشهوران في هذا الباب: أما الحديث الأول: فهو ما روي في الصحيحين عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه ملكا فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن عمرو بن عبيد
47

أنه قال: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أحببته، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله عز وجل يقول هذا لقلت ليس على هذا أخذت ميثاقنا. وأما الحديث الثاني: فهو مناظرة آدم وموسى عليهما السلام، فإن موسى قال لآدم: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال آدم: أنت الذي اصطفاك الله لرسالاته ولكلامه وأنزل عليك التوراة فهل تجد الله قدره على؟ قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى، والمعتزلة طعنوا فيه من وجوه: أحدها: أن هذا الخبر يقتضي أن يكون موسى قد ذم آدم على الصغيرة وذلك يقتضي الجهل في حق موسى عليه السلام، وأنه غير جائز. وثانيها: أن الولد كيف يشافه والده بالقول الغليظ. وثالثها: أنه قال: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة، وقد علم موسى أن شقاء الخلق وإخراجهم من الجنة لم يكن من جهة آدم، بل الله أخرجه منها، ورابعها: أن آدم عليه السلام احتج بما ليس بحجة إذ لو كن حجة لكان لفرعون وهامان وسائر الكفار أن يحتجوا بها، ولما بطل ذلك علمنا فساد هذه الحجة. وخامسها: أن الرسول عليه السلام صوب آدم في ذلك مع أنا بينا أنه ليس بصواب. إذا ثبت هذا وجب حمل الحديث على أحد ثلاثة أوجه. أحدها: أنه عليه السلام حكى ذلك عن اليهود لا أنه حكاه عن الله تعالى أو عن نفسه، والرسول عليه السلام كان قد ذكر هذه الحكاية إلا أن الراوي حين دخل ما سمع إلا هذا الكلام، فظن أنه عليه السلام ذكره عن نفسه لا عن اليهود. وثانيها: أنه قال: فحج آدم منصوبا أي أن موسى عليه السلام غلبه وجعله محجوبا وأن الذي أتى به آدم ليس بحجة ولا بعذر. وثالثها: وهو المعتمد أنه ليس المراد من المناظرة الذم على المعصية، ولا الاعتذار منه بعلم الله بل موسى عليه السلام سأله عن السبب الذي حمله على تلك الزلة حتى خرج بسببها من الجنة، فقال آدم: إن خروجي من الجنة لم يكن بسبب تلك الزلة، بل بسبب أن الله تعالى كان قد كتب علي أن أخرج من الجنة إلى الأرض وأكون خليفة فيها، وهذا المعنى كان مكتوبا في التوراة، فلا جرم كانت حجة آدم قوية وصار موسى عليه السلام في ذلك كالمغلوب واعلم أن الكلام في هذه المسألة طويل جدا والقرآن مملوء منه وسنستقصي القول فيها في هذا التفسير إن قدر الله تعالى ذلك؛ وفيما ذكرنا ههنا كفاية.
* (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنهم لا يؤمنون أخبر في هذه الآية بالسبب الذي لأجله لم يؤمنوا، وهو الختم، والكلام ههنا يقع في مسائل:
48

المسألة الأولى: الختم والكتم أخوان؛ لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية، لئلا يتوصل إليه أو يطلع عليه، والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة. المسألة الثانية: اختلف الناس في هذا الختم، أما القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر، ثم لهم قولان، منهم من قال: الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار، ومنهم من قال هو خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سببا موجبا لوقوع الكفر، وتقريره أن القادر على الكفر إما أن يكون قادرا على تركه أو لا يكون، فإن لم يقدر على تركه كانت القدرة على الكفر موجبة للكفر، فخلق القدرة على الكفر يقتضي خلق الكفر، وإن قدر على الترك كانت نسبة تلك القدرة إلى فعل الكفر وإلى تركه على سواء، فإما أن يكون صيرورتها مصدرا للفعل بدلا عن الترك يتوقف على انضمام مرجح إليها أولا يتوقف، فإن لم يتوقف فقد وقع الممكن لا عن مرجح، وتجويز يقتضي القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثر، وذلك يقتضي نفي الصانع وهو محال، وأما إن توقف على المرجح فذلك المرجح إما أن يكون من فعل الله أو من فعل العبد أولا من فعل الله ولا من فعل العبد، لا جائز أن يكون من فعل العبد وإلا لزم التسلسل، ولا جائز أن يكون لا بفعل الله ولا بفعل العبد؛ لأنه يلزم حدوث شيء لا لمؤثر، وذلك يبطل القول بالصانع. فثبت أن كون قدرة العبد مصدرا للمقدور المعين يتوقف على أن ينضم إليها مرجح هو من فعل الله تعالى. فنقول: إذا انضم ذلك المرجح إلى تلك القدرة فإما أن يصير تأثير القدرة في ذلك الأثر واجبا أو جائزا أو ممتنعا، والثاني والثالث، باطل فتعين الأول، وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون جائزا لأنه لو كان جائزا لكان يصح في العقل أن يحصل مجموع القدرة مع ذلك المرجح تارة مع ذلك الأثر، وأخرى منفكا عنه، فلنفرض وقوع ذلك؛ لأن كل ما كان جائزا لا يلزم من فرض وقوعه محال، فذاك المجموع تارة يترتب عليه الأثر، وأخرى لا يترتب عليه الأثر، فاختصاص أحد الوقتين يترتب ذلك الأثر عليه إما أن يتوقف على انضمام قرينة إليه، أو لا يتوقف، فإن توقف
كان المؤثر هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة، لا ذلك المجموع، وكنا قد فرضنا أن ذلك المجموع هو المستقل خلف هذا، وأيضا فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني، فإن توقف على قيد آخر لزم التسلسل وهو محال، وإن لم يتوقف فحينئذ حصل ذلك المجموع تارة بحيث يكون مصدرا للأثر، وأخرى بحيث لا يكون مصدرا له مع أنه لم يتميز أحد الوقتين عن الآخر بأمر ما البتة، فيكون هذا قولا بترجح الممكن لا عن مرجح وهو محال. فثبت أن عند حصول ذلك المرجح يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزا، وأما أنه لا يكون ممتنعا فظاهر، وإلا لكان مرجح الوجود مرجحا للعدم وهو محال، وإذا بطل القسمان ثبت أن عند حصول مرجح الوجود يكون الأثر واجب الوجود عن
49

المجموع الحاصل من القدرة، ومن ذلك المرجح، وإذا ثبت هذا كان القول بالجبر لازما: لأن قبل
حصول ذلك المرجح كان صدور الفعل ممتنعا وبعد حصوله يكون واجبا، وإذ عرفت هذا كان خلق الداعية الموجبة للكفر في القلب ختما على القلب ومنعا له عن قبول الإيمان؛ فإنه سبحانه لما حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون ذكر عقيبة ما يجري مجرى السبب الموجب له، لأن العلم بالعلة يفيد العلم بالمعلول، والعلم بالمعلول لا يكمل إلا إذا استفيد من العلم بالعلة، فهذا قول من أضاف جميع المحدثات إلى الله تعالى. وأما المعتزلة فقد قالوا: إنه لا يجوز أجراء هذه الآية على المنع من الإيمان واحتجوا فيه بالوجوه التي حكيناها عنهم في الآية الأولى وزادوا ههنا بأن الله تعالى قد كذب الكفار الذين قالوا إن على قلوبهم كنان وغطاء يمنعهم عن الإيمان * (وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) * (النساء: 155) وقال: * (فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) * (فصلت: 4، 5) وهذا كله عيب وذم من الله تعالى فيما ادعوا أنهم ممنوعون عن الإيمان ثم قالوا: بل لا بد من حمل الختم والغشاوة على أمور أخر ثم ذكروا فيه وجوها: أحدها: أن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله تعالى حتى صار ذلك كالألف والطبيعة لهم أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وكذلك هذا في عيونهم حتى كأنها مسدودة لا تبصر شيئا وكأن بآذانهم وقرأ حتى لا يخلص إليها الذكر، وإنما أضيف ذلك إلى الله تعالى لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشئ الخلقي؛ ولهذا قال تعالى: * (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون) * (النساء: 155) * (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) * (المطففين: 14) * (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) *. (لتوبة: 77) وثانيها: أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب. وثالثها: أنهم لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى الذكر وكان ذلك عند إيراد الله تعالى عليهم الدلائل أضيف ما فعلوا إلى الله تعالى؛ لأن حدوثه إنما اتفق عند إيراده تعالى دلائله عليهم كقوله تعالى في سورة براءة: * (زادتهم رجسا إلى رجسهم) * (التوبة: 125) أي ازدادوا بها كفرا إلى كفرهم. ورابعها: أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء إلا أن الله تعالى ما أقرهم عليه لئلا يبطل التكليف فعبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم إشعارا بأنهم الذين انتهوا في الكفر إلى حيث لا يتناهون عنه إلا بالقسر وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي. وخامسها: أن يكون ذلك حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما به من قولهم: * (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) * (فصلت: 5) ونظيره في الحكاية والتهكم قوله: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) * (البينة: 1). وسادسها: الختم على قلوب الكفار من الله تعالى هو الشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحق، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق كما يقول الرجل لصاحبه أريد أن تختم على
50

ما يقوله فلان، أي تصدقه وتشهد بأنه حق، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون، وأخبر في هذه الآية بأنه قد شهد بذلك وحفظه عليهم. وسابعها: قال بعضهم: هذه الآية إنما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل الله تعالى بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقابا لهم في العاجل، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا فقال: * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) * (البقرة: 65) وقال: * (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) * (المائدة: 26) ونحو هذا من العقوبات المعجلة لما علم الله تعالى فيها من العبرة لعبادة والصلاح لهم، فيكون هذا مثل ما فعل بهؤلاء من الختم والطبع، إلا أنهم إذا صاروا بذلك إلى أن لا يفهموا سقط عنهم التكليف كسقوطه عمن مسخ، وقد أسقط الله التكليف عمن يعقل بعض العقل كمن قارب البلوغ، ولسنا ننكر أن يخلق الله في قلوب الكافرين مانعا يمنعهم عن الفهم والاعتبار إذا علم أن ذلك أصلح لهم كما قد يذهب بعقولهم ويعمي أبصارهم ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلفين. وثامنها: يجوز أن يجعل الله على قلوبهم الختم وعلى أبصارهم الغشاوة من غير أن يكون ذلك حائلا بينهم وبين الإيمان بل يكون ذلك كالبلادة التي يجدها الإنسان في قلبه والقذي في عينيه والطنين في أذنه، فيفعل الله كل ذلك بهم ليضيق صدورهم ويورثهم الكرب والغم فيكون ذلك عقوبة مانعة من الإيمان كما قد فعل ببني إسرائيل فتاهوا ثم يكون هذا الفعل في بعض الكفار ويكون ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم ودلالة له كالرجز الذي أنزل على قوم فرعون حتى استغاثوا منه، وهذا كله مقيد بما يعلم الله تعالى أنه أصلح للعباد. وتاسعها: يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة كما قد أخبر أنه يعميهم قال: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) * (الإسراء: 97) وقال: * (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) * (طه: 102) وقال: * (اليوم نختم على أفواههم) * (يس: 65) وقال: * (لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون) * (الأنبياء: 100). وعاشرها: ما حكوه عن الحسن البصري - وهو اختيار أبي على الجبائي والقاضي - أن المراد بذلك علامة وسمة يجعلها في قلب الكفار وسمعهم فتستدل الملائكة بذلك على أنهم كفار، وعلى أنهم لا يؤمنون أبدا فلا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة تعرف الملائكة بها كونهم مؤمنين عند الله كما قال: * (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) * وحينئذ الملائكة يحبونه ويستغفرون له، ويكون لقلوب الكفار علامة تعرف الملائكة بها كونهم ملعونين عند الله فيبغضونه ويلعنونه، والفائدة في تلك العلامة إما مصلحة عائدة إلى الملائكة؛ لأنهم متى علموا بتلك العلامة كونه كافرا ملعونا عند الله تعالى صار ذلك
منفرا لهم عن الكفر أو إلى المكلف، فإنه إذا علم أنه متى آمن فقد أحبه أهل السماوات صار ذلك مرغبا له في الإيمان وإذا علم أنه متى أقدم على الكفر عرف الملائكة منه ذلك فيبغضونه ويلعنونه صار ذلك زاجرا له عن الكفر. قالوا: والختم بهذا المعنى لا يمنع، لأنا نتمكن بعد ختم الكتاب أن نفكه ونقرأه، ولأن الختم هو بمنزلة
51

أن يكتب على جبين الكافر أنه كافر، فإذا لم يمنع ذلك من الإيمان فكذا هذا الكافر يمكنه أن يزيل تلك السمة عن قلبه بأن يأتي بالإيمان ويترك الكفر. قالوا: وإنما خص القلب والسمع بذلك؛ لأن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع، والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جانب القلب، ولهذا خصهما بالذكر. فإن قيل: فيتحملون الغشاوة في البصر أيضا على معنى العلامة؟ قلنا لا، لأنا إنما حملنا ما تقدم على السمة والعلامة، لأن حقيقة اللغة تقتضي ذلك، ولا مانع منه فوجب إثباته. أما الغشاوة فحقيقتها الغطاء المانع من الإبصار ومعلوم من حال الكفار خلاف ذلك فلا بد من حمله على المجاز، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية. فهذا مجموع أقوال الناس في هذا الموضع.
المسألة الثالثة: الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي: الطبع، والكنان، والرين على القلب، والوقر في الآذان، والغشاوة في البصر ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة فالقسم الأول: وردت دلالة على حصول هذه الأشياء قال: * (كلا بل ران على قلوبهم) * (المطففين: 14) * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي أذانهم وقرا) * (الأنعام: 25) * (وطبع على قلوبهم) * (التوبة: 87) * (بل طبع الله عليها بكفرهم) * (النساء: 155) * (فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) * (فصلت: 4) * (لينذر من كان حيا) * (يس: 70) * (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء) * النحل: 80) * (أموات غير أحياء) * * (في قلوبهم مرض) * (البقرة: 10) والقسم الثاني: وردت دلالة على أنه لا مانع البتة * (وما منع الناس أن يؤمنوا) * (الأسراء: 94) * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 29) * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) * (كيف تكفرون بالله) * (البقرة: 28) * (لم تلبسون الحق بالباطل) * (آل عمران: 71) والقرآن مملوء من هذين القسمين، وصار كل قسم منهما متمسكا لطائفة، فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض. أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها، وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعبا وأشدها شغبا، ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال لا، لأنهم نزهوه، فسئل عن أهل السنة فقال لا، لأنهم عظموه، والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه، إلا أن أهل السنة وقع نظرهم على العظمة فقالوا: ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه، والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح، وأقول: ههنا سر آخر، وهو أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر، لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح، وهو نفي الصانع، ولو توقفت لزم الجبر. وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدرة. بل ههنا سر آخر هو فوق الكل، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح، وهذا يقتضي الجبر، ونجد أيضا تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزما بديهيا بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة، فكأن
52

هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية، وبحسب العلوم النظرية، وبحسب تعظيم الله تعالى نظرا إلى قدرته وحكمته، وبحسب التوحيد والتنزيه وبحسب الدلائل السمعية، فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين.
المسألة الخامسة: قال صاحب الكشاف: اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم، وفي حكم التغشية، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم، لقوله تعالى: * (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) * (الجاثية: 23) ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم.
المسألة السادسة: الفائدة في تكرير الجار في قوله: * (وعلى سمعهم) * أنها لما أعيدت للأسماع كان أدل على شدة الختم في الموضعين.
المسألة السادسة: إنما جمع القلوب والأبصار ووحد السمع لوجوه: أحدها: أنه وحد السمع، لأن لكل واحد منهم سمعا واحدا، كما يقال: أتاني برأس الكبشين، يعني رأس كل واحد منهما، كما وحد البطن في قوله: " كلوا في بعض بطنكم تعيشوا " يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس، فإذا لم يؤمن كقولك. فرشهم وثوبهم وأنت تريد الجمع رفضوه. الثاني: أن السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع يقال: رجلان صوم، ورجال صوم، فروعي الأصل، يدل على ذلك جمع الأذن في قوله: * (وفي آذاننا وقر) * (فصلت: 5) الثالث: أن نقدر مضافا محذوفا أي وعلى حواس سمعهم. الرابع قال سيبويه: إنه وحد لفظ السمع إلا أنه ذكر ما قبلة وما بعده بلفظ الجمع، وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضا، قال تعالى: * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) * (البقرة: 257) * (عن اليمين وعن الشمال) * (المعارج: 37) قال الراعي:
فبها جيف الحيدي فأما عظامها * فبيض وأما جلدها فصليب
وإنما أراد جلودها، وقرأ ابن أبي عبلة (وعلى أسماعهم).
المسألة السابعة: من الناس من قال: السمع أفضل من البصر، لأن الله تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر، والتقديم دليل على الفضيل، ولأن السمع شرط النبوة بخلاف البصر، ولذلك ما بعث الله رسولا أصم، وقد كان فيهم من كان مبتلي بالعمى، ولأن بالسمع تصل نتائج عقول البعض إلى البعض، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات، ولأن السمع متصرف في الجهات الست بخلاف البصر، ولأن السمع متى بطل بطل النطق،
والبصر إذا بطل لم يبطل النطق. ومنهم من قدم البصر، لأن آلة القوة الباصرة أشرف، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور، ومتعلق القوة السامعة الريح.
المسألة الثامنة: قوله: * (ختم الله على قلوبهم) * يدل على أن محل العلم هو القلب. واستقصينا بيانه في قوله: * (نزل به الروح الأمين على قلبك) * (الشعراء: 193) في سورة الشعراء.
53

المسألة التاسعة: قال صاحب الكشاف: البصر نور العين وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات، كما أن البصيرة نور القلب، وهو ما يستبصر به ويتأمل، فكأنهما جوهران لطيفان خلق الله تعالى فيهما آلتين للأبصار والاستبصار، أقول: إن أصحابه من المعتزلة لا يرضون منه بهذا الكلام: وتحقيق القول في الأبصار يستدعي أبحاثا غامضة لا تليق بهذا الموضع.
المسألة العاشرة: قرىء * (غشاوة) * بالكسر والنصب، وغشاوة بالضم والرفع، وغشاوة بالفتح والنصب، وغشوة بالكسر والرفع، وغشوة بالفتح والرفع والنصب، وغشاوة بالعين غير المعجمة والرفع من الغشا، والغشاوة هي الغطاء، ومنه الغاشية، ومنه غشي عليه إذا زال عقله والغشيان كناية عن الجماع.
المسألة الحادية عشرة: العذاب مثل النكال بناء ومعنى، لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول نكل عنه، ومنه العذب، لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا، لأنه ينقخ العطش أي يكسره، وقراتا لأنه برقته عن القلب، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا وإن لم يكن نكالا أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة، والفرق بين العظيم الكبير: أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكأن العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير، ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا، تقول: رجل عظيم وكبير تريد جئته أو خطره، ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله تعالى.
المسألة الثانية عشرة: اتفق المسلمون على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار، وقال بعضهم لا يحسن وفسروا قوله: * (ولهم عذاب عظيم) * بأنهم يستحقون ذلك لكن كرمه يوجب عليه العفو، ولنذكر ههنا دلائل الفريقين، أما الذين لا يجوزون التعذيب فقد تمسكوا بأمور. أحدها: أن ذلك التعذيب ضرر خال عن جهات المنفعة، فوجب أن يكون قبيحا، أما أنه ضرر فلا شك،
وأما أنه خال عن جهات المنفعة، فلأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى، أو إلى غيره، والأول باطل، لأنه سبحانه متعال عن النفع والضرر بخلاف الواحد منا في الشاهد، فإن عبده إذا أساء إليه أدبه، لأنه يستلذ بذلك التأديب لما كان في قلبه من حب الانتقام ولأنه إذا أدبه فإنه ينزجر بعد ذلك عما يضره. والثاني: أيضا باطل، لأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى المعذب أو إلى غيره أما إلى المعذب فهو محال، لأن الاضرار لا يكون عين الانتفاع وأما إلى غيره فمحال، لأن دفع الضرر أولى بالرعاية من إيصال النفع، فإيصال الضرر إلى شخص لغرض إيصال النفع إلى شخص آخر ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو باطل وأيضا فلا منفعة يريد الله تعالى إيصالها إلى أحد إلا وهو قادر على ذلك الاتصال من غير توسيط الإضرار بالغير،
54

فيكون توسيط ذلك الإضرار عديم الفائدة. فثبت أن التعذيب ضرر خال عن جميع جهات المنفعة وأنه معلوم القبح ببديهة العقل، بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الذي لا يكون ضارا، والجهل الذي لا يكون ضارا، بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار، لأن ذلك الكذب الضار وسيلة إلى الضرر وقبح ما يكون وسيلة إلى الضرر، دون قبيح نفس الضرر، وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من الله تعالى، لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح، وثانيها: أنه تعالى كان عالما بأن الكافر لا يؤمن على ما قال: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6) إذا ثبت هذا ثبت أنه متى كلف الكافر لم يظهر منه إلا العصيان، فلو كان ذلك العصيان سببا للعقاب لكان ذلك التكليف مستعقبا لاستحقاق العقاب، إما لأنه تمام العلة، أو لأنه شطر العلة، وعلى الجملة فذلك التكليف أمر متى حصل حصل عقيبة لا محالة العقاب، وما كان مستعقبا للضرر الخالي عن النفع كان قبيحا، فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحا، والقبيح لا يفعله الحكيم، فلم يبق ها هنا إلا أحد أمرين، إما أن يقال لم يوجد هذا التكليف أو إن وجد لكنه لا يستعقب العقاب، وكيف كان فالمقصود حاصل وثالثها: أنه تعالى إما أن يقال خلق الخلق للإنفاع، أو للإضرار، أولا للإنفاع ولا للإضرار، فإن خلقهم للإنفاع وجب أن لا يكلفهم ما يؤدي به إلى ضد مقصوده مع علمه بكونه كذلك، ولما علم إقدامهم على العصيان لو كلفهم كان التكليف فعلا يؤدي بهم إلى العقاب، فإذا كان قاصدا لإنفاعهم وجب أن لا يكلفهم، وحيث كلفهم دل على أن العصيان لا يكون سببا لاستحقاق العذاب، ولا جائز أن يقال. خلقهم لا للإنفاع ولا للإضرار، لأن الترك على العدم يكفي في ذلك، ولأنه على هذا التقدير يكون عبثا، ولا جائز أن يقال: خلقهم للإضرار، لأن مثل هذا لا يكون رحيما كريما، وقد تطابقت العقول والشرائع على كونه رحيما كريما، وعلى أنه نعم المولى ونعم النصير، وكل ذلك يدل على عدم العقاب. ورابعها: أنه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي، فيكون هو الملجئ إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها، إنما قلنا إنه هو الخالق لتلك الدواعي، لما بينا أن صدور الفعل عن مقدرة يتوقف على انضمام الداعية التي يخلقها الله تعالى إليها، وبينا أن ذلك يوجب الجبر، وتعذيب المجبور قبيح في العقول، وربما قرروا هذا من وجه آخر فقالوا: إذا كانت الأوامر والنواهي الشرعية قد جاءت إلى شخصين من الناس فقبلها أحدهما وخالفها الآخر فأثيب أحدهما وعوقب الآخر، فإذا قيل لم قيل هذا وخالف الآخر؟ فيقال لأن القابل أحب الثواب وحذر العقاب فأطاع، والآخر لم يحب ولم يحذر فعصى، أو أن هذا أصغى إلي من وعظه وفهم عنه مقالته فأطاع، وهذا لم يصغ ولم يفهم فعصي، فيقال: ولم أصغي هذا وفهم ولم يصغ ذلك ولم يفهم؟ فنقول: لأن هذا لبيب حازم فطن، وذلك أخرق جاهل غبي فيقال ولم اختص هذا بالحزم والفطنة دون ذاك، ولا شك أن الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزية. فإن الإنسان لا يختار الغباوة والخرق ولا يفعلهما في نفسه بنفسه؟ فإذا تناهت
55

التعليلات إلى أمور خلقها الله تعالى اضطرارا علمنا أن كل هذه الأمور بقضاء الله تعالى وليس يمكنك أن تسوي بين الشخصين اللذين أطاع أحدهما وعصى الآخر في كل
حال أعني في العقل والجهل، والفطانة والغباوة، والحزم والخرق، والمعلمين والباعثين والزاجرين، ولا يمكنك أن تقول إنهما لو استويا في ذلك كله لما استويا في الطاعة والمعصية، فإذن سبب الطاعة والمعصية من الأشخاص أمور وقعت بتخليق الله تعالى وقضائه، وعند هذا يقال: أين من العدل والرحمة والكرم أن يخلق العاصي على ما خلقه الله عليه من الفظاظة والجسارة، والغباوة والقساوة، والطيش والخرق، ثم يعاقبه عليه، وهلا خلقه مثل ما خلق الطائع لبيبا حازما عارفا عالما، وأين من العدل أن يسخن قلبه ويقوي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه ولا يرزقه ما رزق غيره من مؤدب أديب ومعلم عالم وواعظ مبلغ، بل يقيض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم فيتعلم منهم ثم يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيب الحازم، والعاقل العالم، البارد الرأس، المعتدل مزاج القلب، اللطيف الروح الذي رزقه مربيا شفيقا، ومعلما كاملا؟ ما هذا من العدل والرحمة والكرم والرأفة في شيء! فثبت بهذه الوجوه أن القول بالعقاب على خلاف قضايا العقول. وخامسها: أنه تعالى إنما كلفنا النفع لعوده إلينا، لأنه قال: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنسانا ويقول له إني أعذبك العذاب الشديد، لأنك فوت على نفسك بعض المنافع، فإنه يقال له إن تحصيل النفع مرجوح بالنسبة إلى دفع الضرر فهب أني فوت على نفسي أدون المطلوبين أفتفوت علي لأجل ذلك أعظمها وهل يحسن من السيد أن يأخذ عبده ويقول إنك قدرت على أن تكتسب دينارا لنفسك ولتنتفع به خاصة من غير أن يكون لي فيه غرض البتة، فلما لم تكتسب ذلك الدينار ولم تنتفع به آخذك وأقطع أعضاءك إربا إربا، لا شك أن هذا نهاية السفاهة، فكيف يليق بأحكم الحاكمين! ثم قالوا هب أن سلمنا هذا العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وذلك لأن أقسى الناس قلبا وأشدهم غلظة وفظاظة وبعدا عن الخير إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه يوما أو شهرا أو سنة فإنه يشبع منه ويمل، فلو بقي مواظبا عليه لامه كل أحد، ويقال هب أنه بالغ هذا في اضرارك، ولكن إلى متى هذا التعذيب، فإما أن تقتله وتريحه، وإما أن تخلصه، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام الذي يقال! وسادسها: أنه سبحانه نهى عباده عن استيفاء الزيادة، فقال: * (فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) * (الإسراء: 33) وقال: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) ثم إن العبد هب أنه عصى الله تعالى طول عمره فأين عمره من الأبد؟ فيكون العقاب المؤبد ظلما. وسابعها: أن العبد لو واظب على الكفر طول عمره، فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه وأجاب دعاءه وقبل توبته، ألا ترى أن هذا الكريم العظيم ما بقي في الآخرة، أو عقول أولئك المعذبين ما بقيت فلم لا يتوبون عن معاصيهم؟ وإذا تابوا فلم لا يقبل الله تعالى منهم توبتهم، ولم لا يسمع نداءهم،
56

ولم يخيب رجاءهم؟ ولم كان في الدنيا في الرحمة والكرم إلى حيث قال: * (ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) * (النحل: 62) وفي الآخرة صار بحيث كلما كان تضرعهم إليه أشد فإنه لا يخاطبهم إلا بقوله: * (اخسئوا فيها ولا تكلمون) * (المؤمنون: 10) قالوا: فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب. ثم قال من آمن من هؤلاء بالقرآن: العذر عما ورد في القرآن من أنواع العذاب من وجوه: أحدها: أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين، والدلائل العقلية تفيد اليقين، والمظنون لا يعارض المقطوع. وإنما قلنا: إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين، لأن الدلائل اللفظية مبنية على أصول كلها ظنية والمبني على الظني ظني، وإنما قلنا إنها مبنية على أصول ظنية، لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف، ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم إلى حد التواتر، فكانت روايتهم مظنونة، وأيضا فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير، وكل ذلك أمور ظنية، وأيضا فهي مبنية على عدم المعارض العقلي، فإنه بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معا، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل لأن العقل أصل النقل، والطعن في العقل يوجب الطعن في العقل والنقل معا، لكن عدم المعارض العقلي مظنون، هذا إذا لم يوجد فكيف وقد وجدنا ههنا دلائل عقلية على خلاف هذه الظواهر، فثبت أن دلالة هذه الدلائل النقلية ظنية، وأما أن الظني لا يعارض اليقيني فلا شك فيه. وثانيها: وهو أن التجاوز عن الوعيد مستحسن فيما بين الناس، قال الشاعر:
وإني إذا أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعاد ومنجز موعدي
بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه بعد لؤما، وإذا كان كذلك وجب أن لا يصلح من الله تعالى، وهذا بناء على حرف وهو أهل السنة جوزوا نسخ الفعل قبل مدة الامتثال وحاصل حروفهم فيه أن الأمر يسن تارة لحكمة تنشأ من نفس المأمور به، وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر، فإن السيد قد يقول لعبده إفعل الفعل الفلاني غدا وإن كان يعلم في الحال أنه سينهاه عنه غدا، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يظهر العبد الانقياد لسيده في ذلك ويوطن نفسه على طاعته، فكذلك إذا علم الله من العبد أنه سيموت غدا فإنه يحسن عند أهل السنة أن يقول: صل غدا إن عشت، ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل المأمور به، لأنه ههنا محال بل المقصود حكمة تنشأ من نفس الأمر فقط، وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرد. إذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يقال الخبر أيضا كذلك؟ فتارة يكون منشأ الحكمة من الأخبار هو الشيء المخبر عنه وذلك في الوعد، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر لا المخبر عنه كما في الوعيد، فإن الأخبار على سبيل الوعيد مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات، فإذا حصل هذا المقصود جاز أن لا يوجد المخبر عنه كما في الوعيد، وعند هذا قالوا إن وعد الله بالثواب حق لازم؛ وأما توعده بالعقاب فغير لازم، وإنما قصد به صلاح المكلفين مع رحمته الشاملة لهم، كالوالد يهدد ولده
57

بالقتل والسمل والقطع والضرب، فإن قبل الولد أمره فقد انتفع وإن لم يفعل فما في قلب الوالد من الشفقة يرده عن قتله وعقوبته، فإن قيل فعلى جميع التقادير يكون ذلك كذبا والكذب قبيح قلنا لا نسلم أن كل كذب قبيح بل القبيح هو الكذب الضار، فأما الكذب النافع فلا، ثم إن سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أنه كذب، أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا يسمى ذلك كذبا، أليس أن كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها، ولا يسمى ذلك كذبا فكذا ههنا. وثالثها: أليس أن آيات الوعيد في حق العصاة مشروطة بعدم التوبة وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا في صريح النص، فهي أيضا عندنا مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا بصريح النص صريحا، أو نقول: معناه أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب فيحمل الأخبار عن الوقوع على الأخبار عن استحقاق الوقوع فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب. وأما
الذين أثبتوا وقوع العذاب، فقالوا إنه نقل إلينا على سبيل التواتر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوع العذاب فإنكاره يكون تكذيبا للرسول وأما الشبه التي تمسكتم بها في نفي العقاب فهي مبنية على الحسن والقبح وذلك مما لا نقول به والله أعلم.
* (ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) *.
اعلم أن المفسرين أجمعوا على أن ذلك في وصف المنافقين قالوا: وصف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بالمؤمنين المخلصين الذين صحت سرائرهم وسلمت ضمائرهم، ثم أتبعهم بالكافرين الذين من صفتهم الإقامة على الجحود والعناد، ثم وصف حال من يقول بلسانه إنه مؤمن وضميره يخالف ذلك، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أعلم أن الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلص إلا بتقسيم نذكره فنقول:
أحوال القلب أربعة، وهي الاعتقاد المطابق المستفاد عن الدليل وهو العلم؛ والاعتقاد المطابق المستفاد لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد، والاعتقاد الغير المطابق وهو الجهل، وخلو القلب عن كل ذلك. فهذه أقسام أربعة، وأما أحوال اللسان فثلاثة: الإقرار؛ والإنكار، والسكوت. فيحصل من تركيباتها اثنا عشر قسما. النوع الأول: ما إذا حصل العرفان القلبي فههنا إما أن ينضم إليه الإقرار باللسان أو الإنكار باللسان أو السكوت. القسم الأول: ما إذا حصل العرفان بالقلب والإقرار باللسان فهذا الإقرار إن كان اختياريا فصاحبه مؤمن حقا بالإتفاق، وإن كان اضطراريا وهو ما إذا عرف بقلبه ولكنه يجد من نفسه أنه لولا الخوف لما أقر، بل أنكر، فهذا يجب أن يعد منافقا؛ لأنه بقلبه منكر مكذب، فإذا كان باللسان مقرا مصداقا وجب أن يعد منافقا لأنه بقلبه منكر مكذب بوجوب الإقرار. القسم الثاني: أن يحصل العرفان القلبي والإنكار اللساني
58

فهذا الإنكار إن كان اضطراريا كان صاحبه مسلما، لقوله تعالى: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (النحل: 106) وإن كان اختياريا كان كافرا معاندا. القسم الثالث: أن يحصل العرفان القلبي ويكون اللسان خاليا عن الإقرار والإنكار، فهذا السكوت إما أن يكون اضطراريا أو اختياريا، فإن كان اضطراريا فذلك إذا خاف ذكره باللسان فهذا مسلم حقا أو كما إذا عرف الله بدليله ثم لما تمم النظر مات فجأة، فهذا مؤمن قطعا، لأنه أتى بكل ما كلف به ولم يجد زمان الإقرار والإنكار فكان معذورا فيه، وأما إن كان اختياريا فهو كمن عرف الله بدليله ثم إنه لم يأت بالإقرار، فهذا محل البحث، وميل الغزالي رحمه الله إلى أنه يكون مؤمنا لقوله عليه السلام: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان " وهذا الرجل قلبه مملوء من نور الإيمان فكيف لا يخرج من النار. النوع الثاني: أن يحصل في القلب الاعتقاد التقليدي، فإما أن يوجد معه الإقرار، أو الإنكار أو السكوت. القسم الأول: أن يوجد معه الإقرار، ثم ذلك الإقرار إن كان اختياريا فهذا هو المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا؟ وإن كان اضطراريا فهذا يفرع على الصورة الأولى، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر، فها هنا لا كلام، وإن حكمنا هناك بالإيمان وجب أن يحكم ها هنا بالنفاق، لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفا لكان هذا الشخص منافقا، فبأن يكون منافقا عند التقليد كان أولى. القسم الثاني: الاعتقاد التقليدي مع الإنكار اللساني، ثم هذا الإنكار إن كان اختياريا فلا شك في الكفر، وإن كان اضطراريا وحكمنا بإيمان المقلد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصورة. القسم الثالث: الاعتقاد التقليدي مع السكوت اضطراريا كان أو اختياريا، وحكمه حكم القسم الثالث من النوع الأول إذا حكمنا بإيمان المقلد. النوع الثالث: الإنكار القلبي فإما أن يوجد معه الإقرار اللساني، أو الإنكار اللساني، أو السكوت. القسم الأول: أن يوجد معه الإقرار اللساني، فذلك الإقرار إن كان اضطراريا فهو المنافق وإن كان اختياريا فهو مثل أن يعتقد بناء على شبهة أن العالم قديم ثم بالاختيار أقر باللسان أن العالم محدث، وهذا غير مستبعد، لأنه إذا جاز أن يعرف بالقلب ثم ينكر باللسان وهو كفر الجحود والعناد، فلم لا يجوز أن يجهل بالقلب ثم يقر باللسان؟ فهذا القسم أيضا من النفاق. القسم الثاني: أن يوجد الإنكار القلبي ويوجد الإنكار اللساني فهذا كافر وليس بمنافق، لأنه ما أظهر شيئا بخلاف باطنه. القسم الثالث: أن يوجد الإنكار القلبي مع السكوت اللساني فهذا كافر وليس بمنافق لأنه ما أظهر شيئا. النوع الرابع: القلب الخالي عن جميع الاعتقادات فهذا إما أن يوجد معه الإقرار أو الإنكار أو السكوت. القسم الأول: إذا وجد الإقرار فهذا الإقرار إما أن يكون اختياريا أو اضطراريا، فإن كان اختياريا، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا؟ وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر، أما إذا كان اضطراريا لم يكفر صاحبه، لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن
59

عمله قبيحا. القسم الثاني: القلب الخالي مع الإنكار باللسان وحكمه على العكس من حكم القسم العاشر القسم الثالث: القلب الخالي مع اللسان الخالي، فهذا إن كان في مهلة النظر فذاك هو الواجب، وإن كان خارجا عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا يحكم عليه بالنفاق البتة، فهذه هي الأقسام الممكنة في هذا الباب، وقد ظهر منه أن النفاق ما هو، وأنه الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ما في ظاهره أو كان باطنه خاليا عما يشعر به ظاهره، وإذ عرفت هذا ظهر أن قوله: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) * المراد منه المنافقون والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المنافق؟ قال قوم كفر الكافر الأصلي أقبح، لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان. وقال آخرون بل المنافق أيضا كاذب باللسان، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه، ولذلك قال تعالى: * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * (الحجرات: 14) وقال: * (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) * (المنافقون: 1) ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة. أحدها: أنه قصد التلبيس والكافر الأصلي ما قصد ذلك. وثانيها: أن الكافر على طبع الرجال، والمنافق على طبع الخنوثة. وثالثها: أن الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ولم يرض إلا بالصدق، والمنافق رضي بذلك. ورابعها: أن المنافق ضم إلى كفره الاستهزاء بخلاف الكافر الأصلي، ولأجل غلظ
كفره قال تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) * (النساء: 145). وخامسها: قال مجاهد: إنه تعالى ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ثنى بذكر الكفار في آيتين ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية، وذلك يدل على أن المنافق أعظم جرما. وهذا بعيد، لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم، فإن عظم فلغير ذلك، وهو ضمهم إلى الكفر وجوها من المعاصي كالمخادعة والاستهزاء، وطلب الغوائل إلى غير ذلك، ويمكن أن يجاب عنه بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدل على أن الاهتمام بدفع شرهم أشد من الاهتمام بدفع شر الكفار، وذلك يدل على أنهم أعظم جرما من الكفار.
المسألة الثالثة: هذه الآية دالة على أمرين: الأول: أنها تدل على أن من لا يعرف الله تعالى وأقر به فإنه لا يكون مؤمنا، لقوله: * (وما هم بمؤمنين) * وقالت الكرامية: إنه يكون مؤمنا الثاني: أنها تدل على بطلان قول من زعم أن كل المكلفين عارفون بالله، ومن لم يكن به عارفا لا يكون مكلفا أما الأول فلأن هؤلاء المنافقين لو كانوا عارفين بالله وقد أقروا به لكان يجب أن يكون إقرارهم بذلك إيمانا، لأن من عرف الله تعالى وأقر به لا بد وأن يكون مؤمنا وأما الثاني فلأن غير العارف لو كان معذورا لما ذم الله هؤلاء على عدم العرفان، فبطل قول من قال من المتكلمين: أن من لا يعرف هذه الأشياء يكون معذورا.
المسألة الرابعة: ذكروا في اشتقاق لفظ الإنسان وجوها: أحدها: يروى عن ابن عباس
60

أنه قال: سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي، وقال الشاعر. سميت إنسانا لأنك ناسي.
وقال أبو الفتح البستي: يا أكثر الناس إحسانا إلى الناس * وأكثر الناس إفضالا على الناس
نسيت عهدك والنسيان مغتفر * فاغفر فأول ناس أول الناس
وثانيها: سمي إنسانا لاستئناسه بمثله. وثالثها: قالوا: الإنسان إنما سمي إنسانا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون من قوله: * (آنس من جانب الطور نارا) * (القصص: 29) كما سمي الجن لاجتنانهم. واعلم أنه لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا من شيء آخر وإلا لزم التسلسل، وعلى هذا لا حاجة إلى جعل لفظ الإنسان مشتقا من شيء آخر.
المسألة الخامسة: قال ابن عباس: أنها نزلت في منافقي أهل الكتاب، منهم عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير، وجد ابن قيس، كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ويقولون إنا لنجد في كتابنا نعته وصفته ولم يكونوا كذلك إذا خلا بعضهم إلى بعض.
المسألة السادسة: لفظة " من " لفظة صالحة للتثنية، والجمع، والواحد. أما في الواحد فقوله تعالى: * (ومنهم من يستمع إليك) * (الأنعام: 25) وفي الجمع كقوله: * (ومنهم من يستمعون إليك) * (يونس: 42) والسبب فيه أنه موحد اللفظ مجموع المعنى، فعند التوحيد يرجع إلى اللفظ. وعند الجمع يرجع إلى المعنى، وحصل الأمران في هذه الآية؛ لأن قوله تعالى: * (يقول) * لفظ الواحد و * (آمنا) * لفظ الجمع وبقي من مباحث الآية أسئلة. السؤال الأول: المنافقون كانوا مؤمنين بالله وباليوم الآخر ولكنهم كانوا منكرين لنبوته عليه السلام فلم كذبهم في ادعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر؟ والجواب: إن حملنا هذه الآية على منافقي المشركين فلا إشكال، لأن أكثرهم كانوا جاهلين بالله ومنكرين البعث والنشور وإن حملناها على منافقي أهل الكتاب - وهم اليهود - فإنما كذبهم الله تعالى لأن إيمان اليهود بالله ليس بإيمان، لأنهم يعتقدونه جسما، وقالوا عزيز بن الله، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان، فلما قالوا آمنا بالله كان خبثهم فيه مضاعفا لأنهم كانوا بقلوبهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل، وباللسان يوهمون المسلمين بهذا الكلام إنا آمنا لله مثل إيمانكم، فلهذا كذبهم الله تعالى فيه. السؤال الثاني: كيف طابق قوله: * (وما هم بمؤمنين) * قولهم: * (آمنا بالله) * والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ والجواب: أن من قال فلان ناظر في المسألة الفلانية، فلو قلت إنه لم يناظر في تلك المسألة كنت قد كذبته، أما لو قلت إنه ليس من الناظرين كنت قد بالغت في تكذيبه، يعني أنه ليس من هذا الجنس، فكيف يظن به ذلك؟ فكذا ههنا لما قالوا آمنا بالله فلو قال الله ما آمنوا كان ذلك تكذيبا لهم أما لما قال: * (وما هم بمؤمنين) * كان ذلك مبالغة في تكذيبهم، ونظيره قوله: * (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها) * هو أبلغ من قولهم: وما يخرجون منها. السؤال الثالث: ما المراد باليوم الآخر؟ الجواب: يجوز أن يراد به
61

الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم، الذي لا ينقطع له أمد، ويجوز أن يراد به الوقت المحدود من النشور إلى أن تدخل أهل الجنة الجنة. وأهل النار النار؛ لأنه آخر الأوقات المحدودة، وما بعده فلا حد له.
* (يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) *.
اعلم أن الله تعالى من قبائح المنافقين أربعة أشياء: أحدها: ما ذكره في هذه الآية، وهو أنهم * (يخادعون الله والذين آمنوا) * فيجب أن يعلم أولا: ما المخادعة، ثم ثانيا: ما المراد، بمخادعة الله؟ وثالثا: أنهم لماذا كانوا يخادعون الله؟ ورابعا: أنه ما المراد بقوله وما يخدعون إلا أنفسهم؟.
المسألة الأولى: اعلم أنه لا شبهة في أن الخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يميز من غيره لكي لا يفعل، وأصل هذه اللفظة الإخفاء، وسميت الخزانة المخدع، والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيان. وقالوا: خدع الضب خدعا إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلا، وطريق خيدع وخداع، إذا كان مخالفا للمقصد بحيث لا يفطن له، ومنه المخدع. وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه، فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين؛ لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغرور والإساءة، كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة، ومن هذا الجنس وصفهم المرائي بأنه مدلس إذا أظهر خلاف مراده، ومنه أخذ التدليس في الحديث، لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع؛ وإذا أعلن ذلك لا يقال إنه مدلس.
المسألة الثانية: وهي أنهم كيف خادعوا الله تعالى؟ فلقائل أن يقول: إن مخادعة الله تعالى ممتنعة من وجهين: الأول: أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر فلا يجوز أن
يخادع، لأن الذي فعلوه لو أظهروا أن الباطن بخلاف الظاهر لم يكن ذلك خداعا، فإذا كان الله تعالى لا يخفي عليه البواطن لم يصح أن يخادع. الثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نافقهم مخادعة الله تعالى، فثبت أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره بل لا بد من التأويل وهو من وجهين: الأول: أنه تعالى ذكر نفسه وأراد به رسولة على عادته في تفخيم وتعظيم شأنه. قال: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) * (الفتح: 10) وقال في عكسه * (واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه) * (الأنفال: 41) أضاف السهم الذي يأخذه الرسول إلى نفسه فالمنافقون لما خادعوا
62

الرسول قيل إنهم خادعوا الله تعالى. الثاني: أن يقال صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد الكفرة صورة صنيع الله معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم.
المسألة الثالثة: فهي في بيان الغرض من ذلك الخداع وفيه وجوه: الأول: أنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يجرونهم في التعظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان وإن أسروا خلافه فمقصودهم من الخداع هذا. الثاني: يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أسراره، وإفشاء المؤمنين أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم من الكفار. الثالث: أنهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار مثل القتل، لقوله عليه الصلاة والسلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ". الرابع: أنهم كانوا يطمعون في أموال الغنائم، فإن قيل: فالله تعالى كان قادرا على أن يوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم كيفية مكرهم وخداعهم، فلم لم يفعل ذلك هتكا لسترهم؟ قلنا: إنه تعالى قادر على استئصال إبليس وذريته ولكنه تعالى أبقاهم وقواهم، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو. فإن قيل هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح؟ قلنا قال صاحب " الكشاف " وجهه أن يقال: عنى به فعلت إلا أنه أخرج في زنة فاعلت، لأن الزنة في أصلها للمبالغة والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب، لزيادة قوة الداعي إليه، ويعضده قراءة أبي حياة " يخدعون الله " ثم قال: * (يخادعون) * بيانا ليقول ويجوز أن يكون مستأنفا كأنه قيل ولم يدعون الإيمان كاذبين. وما نفعهم فيه؟ فقيل * (يخادعون) *.
المسألة الرابعة: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر " وما يخادعون " والباقون " يخدعون " وحجة الأولين: مطابقة اللفظ حتى يكون مطابقا للفظ الأول، وحجة الباقين أن المخادعة إنما تكون بين اثنين، فلا يكون الإنسان الواحد مخادعا لنفسه، ثم ذكروا في قوله: * (وما يخدعون إلا أنفسهم) * وجهين: الأول: أنه تعالى يجازيهم على ذلك ويعاقبهم عليه فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلا أنفسهم عن الحسن. والثاني: ما ذكره أكثر المفسرين، وهو أن وبال ذلك راجع إليهم في الدنيا، لأن الله تعالى كان يدفع ضرر خداعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم، وهو كقوله: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * (النساء: 142) وقوله: * (إنما نحن مستهزءون، الله يستهزئ بهم) * (البقرة: 14، 15) * (أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء) * (البقرة: 13) * (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا) * (النحل: 50) * (إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا) * (الطارق: 15، 16) * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * (المائدة: 33) * (إن الذين يؤذون الله ورسوله) * (الأحزاب: 57) وبقي في الآية بعد ذلك أبحاث. أحدها: قرىء " وما يخادعون " من أخدع و " يخدعون " بفتح الياء بمعنى يختدعون " ويخدعون " و " يخادعون " على لفظ ما لم يسم فاعله. وثانيها: النفس ذات الشيء وحقيقته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * (المائدة: 116) والمراد بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع
63

لا يعدوهم إلى غيرهم. وثالثها: أن الشعور علم الشيء إذا حصل بالحس، ومشاعر الإنسان حواسه، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، لكنهم لتماديهم في الغفلة كالذي لا يحس.
أما قوله تعالى: * (في قلوبهم مرض) * فاعلم أن المرض صفة توجب وقوع الضرر في الأفعال الصادرة عن موضع تلك الصفة، ولما كان الأثر الخاص بالقلب إنما هو معرفة الله تعالى وطاعته وعبوديته، فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعا من هذه الآثار كانت تلك الصفات أمراضا للقلب. فإن قيل: الزيادة من جنس المزيد عليه، فلو كان المراد من المرض ههنا الكفر والجهل لكان قوله: * (فزادهم الله مرضا) * محمولا على الكفر والجهل، فيلزم أن يكون الله تعالى فاعلا للكفر والجهل. قالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى منه فعل الكفر والجهل لوجوه: أحدها: أن الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف تأمرنا بالإيمان؟ وثانيها: أنه تعالى لو كان فاعلا للكفر لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكذاب، فكان لا يبقى كون القرآن حجة فكيف نتشاغل بمعانيه وتفسيره. وثالثها: أنه تعالى ذكر هذه الآيات في معرض الذم لهم على كفرهم فكيف يذمهم على شيء خلقه فيهم. ورابعها: قوله: * (ولهم عذاب أليم) * فإن كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأي ذنب لهم حتى يعذبهم؟ وخامسها: أنه تعالى أضافه إليهم بقوله: * (بما كانوا يكذبون) * وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الأرض، وأنهم هم السفهاء، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إذا ثبت هذا فنقول: لا بد من التأويل وهو من وجوه: الأول: يحمل المرض على الغم، لأنه يقال مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا ثبات أمر النبي صلى الله عليه وسلم واستعلاء شأنه يوما فيوما. وذلك كان يؤثر في زوال رياستهم، كما روي أنه عليه السلام مر بعبد الله بن أبي بن سلول على حمار، فقال له نح حمارك يا محمد فقد آذتني ريحه، فقال له بعض الأنصار اعذره يا رسول الله، فقد كنا عزمنا على أن نتوجه الرياسة قبل أن تقدم علينا: فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف الله تعالى ذلك فقال: * (فزادهم الله مرضا) * أي زادهم الله غما على غمهم بما يزيد في إعلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم شأنه. الثاني: أن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف، فهو كقوله تعالى في سورة التوبة: * (فزادهم رجسا إلى رجسهم) * (التوبة: 125) والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم لما ازدادوا رجسا عند نزولها لما كفروا بها قيل ذلك، وكقوله تعالى حكاية عن نوح * (إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) * (نوح: 5
، 6) والدعاء لم يفعل شيئا من هذا، ولكنهم ازدادوا فرارا عنده، وقال: * (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) * (التوبة: 49) والنبي عليه السلام إن لم يأذن له لم يفتنه، ولكنه كان يفتتن عند خروجه فنسبت الفتنة إليه * (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) * (المادة: 64) وقال: * (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا) * (فاطر: 42) وقولك لمن وعظته فلم يتعظ وتمادى في فساده: ما زادتك موعظتي إلا
64

شرا، وما زادتك إلا فسادا فكذا هؤلاء المنافقون لما كانوا كافرين ثم دعاهم الله إلى شرائع دينه فكفروا بتلك الشرائع وازدادوا بسبب ذلك كفرا لا جرم أضيفت زيادة كفرهم إلى الله. الثالث: المراد من قوله: * (فزادهم الله مرضا) * المنع من زيادة الألطاف، فيكون بسبب ذلك المنع خاذلا لهم وهو كقوله: * (قاتلهم الله أنى يؤفكون) * (المنافقون: 4) الرابع: أن العرب تصف فتور الطرف بالمرض، فيقولون: جارية مريضة الطرف. قال جرير: إن العيون التي في طرفها مرض * قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فكذا المرض ههنا إنما هو الفتور في النية، وذلك لأنهم في أول الأمر كانت قلوبهم قوية على المحاربة والمنازعة وإظهار الخصومة، ثم انكسرت شوكتهم فأخذوا في النفاق بسبب ذلك الخوف والإنكسار، فقال تعالى: * (فزادهم الله مرضا) * أي زادهم ذلك الانكسار والجبن والضعف، ولقد حقق الله تعالى ذلك بقوله: * (وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) *
(الحشر: 2) الخامس: أن يحمل المرض على ألم القلب، وذلك أن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك فربما صار ذلك سببا لغير مزاج القلب وتألمه، وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته، فكان أولى من سائر الوجوه. أما قوله: * (ولهم عذاب أليم) * قال صاحب " الكشاف ": ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع، ووصف العذاب به فهو نحو قوله: تحية بينهم ضرب وجيع. وهذا على طريقة قولهم: جد جده، والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد، أما قوله: * (بما كانوا يكذبون) * ففيه أبحاث. أحدها: أن الكذب هو الخبر عن شيء على خلاف ما هو به والجاحظ لا يسميه كذبا إلا إذا علم المخبر كون المخبر عنه مخالفا للخبر، وهذا الآية حجة عليه. وثانيها: أن قوله: * (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) * صريح في أن كذبهم علة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراما فأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به. وثالثها: في هذه الآية قراءتان. إحداهما: * (يكذبون) * والمراد بكذبهم قوله: * (آمنا بالله وباليوم الآخر) *. والثانية: " يكذبون " من كذبه الذي هو نقيض صدقه، ومن كذب الذي هو مبالغة في كذب، كما بولغ في صدق فقيل صدق.
* (وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) *.
65

إعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين، والكلام فيه من وجوه: أحدها: أن يقال: من القائل * (لا تفسدوا في الأرض) *؟ وثانيها: ما الفساد في الأرض؟ وثالثها: من القائل: * (إنما نحن مصلحون) *؟ ورابعها: ما الصلاح؟.
أما المسألة الأولى: فمنهم من قال: ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال: هو الرسول عليه السلام، ومنهم من قال بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل، ولا يجوز أن يكون القائل بذلك من لا يختص بالدين والنصيحة، وإن كان الأقرب هو أن القائل لهم ذلك من شافههم بذلك، فإما أن يكون الرسول عليه السلام بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين، وإما أن يقال: إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم وكان ينقلب واعظا لهم قائلا لهم: * (لا تفسدوا) * فإن قيل: أفما كانوا يخبرون الرسول عليه السلام بذلك؟ قلنا: نعم، إلا أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا عادوا إلى إظهار الإسلام والندم وكذبوا الناقلين عنهم وحلفوا بالله عليه كما أخبر تعالى عنهم في قوله: * (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) * (التوبة: 74) وقال: * (يحلفون لكم لترضوا عنهم) * (التوبة: 96).
المسألة الثانية: الفساد خروج الشيء عن كونه منتفعا به، ونقيضه الصلاح فأما كونه فسادا في الأرض فإنه يفيد أمرا زائدا، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: أن المراد بالفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى، وتقريره ما ذكره القفال رحمه الله وهو أن إظهار معصية الله تعالى إنما كان إفسادا في الأرض، لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه، فحقنت الدماء وسكنت الفتن، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه لزم الهرج والمرج والاضطراب، ولذلك قال تعالى: * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) * (محمد: 22) نبههم على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به، وثانيها: أن يقال ذلك الفساد هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم، لأنهم لما مالوا إلى الكفر مع أنهم في الظاهر مؤمنون أوهم ذلك ضعف الرسول صلى الله عليه وسلم وضعف أنصاره، فكان ذلك يجرئ الكفرة على إظهار عداوة الرسول ونصب الحرب له وطمعهم في الغلبة، وفيه فساد عظيم في الأرض. وثالثها: قال الأصم: كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه، وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه.
المسألة الثالثة: الذين قالوا إنما نحن مصلحون هم المنافقون، والأقرب في مرادهم أن يكون نقيضا لما نهوا عنه، فلما كان الذي نهوا عنه هو الإفساد في الأرض كان قولهم: * (إنما نحن مصلحون) * كالمقابل له، وعند ذلك يظهر احتمالان: أحدهما: أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب، وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، لا جرم قالوا: إنما نحن مصلحون، لأنهم في اعتقادهم ما سعوا إلا لتطهير وجه الأرض عن الفساد. وثانيهما: أنا إذا فسرنا * (لا تفسدوا) * بمداراة المنافقين للكفار
66

فقولهم: * (إنما نحن مصلحون) * يعني به أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار، ولذلك حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا: * (إن أردنا إلا إحسانا
وتوفيقا) * (النساء: 62) فقولهم: * (إنما نحن مصلحون) * أي نحن نصلح أمور أنفسنا.
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أن من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه، وتجويز خلافه لا يطعن فيه، وتوبة الزنديق مقبولة والله أعلم. وأما قوله: * (ألا إنهم هم المفسدون) * فخارج على وجوه ثلاثة: أحدها: أنهم مفسدون لأن الكفر فساد في الأرض، إذ فيه كفران نعمة الله، وإقدام كل أحد على ما يهواه، لأنه إذا كان لا يعتقد وجود الإله ولا يرجو ثوابا ولا عقابا تهارج الناس، ومن هذا ثبت أن النفاق فساد؛ ولهذا قال: * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) * على ما تقدم تقريره.
* (وإذا قيل لهم ءامنوا كمآ ءامن الناس قالوا أنؤمن كمآ آمن السفهآء ألا إنهم هم السفهآء ولكن لا يعلمون) *.
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين، وذلك لأنه سبحانه لما نهاهم في الآية المتقدمة عن الفساد في الأرض أمرهم في هذه الآية بالإيمان، لأن كمال حال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين: أولهما: ترك ما لا ينبغي وهو قوله: * (آمنوا) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (آمنوا كما آمن الناس) * أي إيمانا مقرونا بالإخلاص بعيدا عن النفاق، ولقائل أن يستدل بهذه الآية على أن مجرد الإقرار إيمان، فإنه لو لم يكن إيمانا لما تحقق مسمى الإيمان إلا إذا حصل فيه الإخلاص، فكان قوله: * (آمنوا) * كافيا في تحصيل المطلوب، وكان ذكر قوله: * (كما آمن الناس) * لغوا، والجواب: أن الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص، أما في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بإقرار الظاهر فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده بقوله: * (كما آمن الناس) *.
المسألة الثانية: اللام في * (الناس) * فيها وجهان: أحدهما: أنها للعهد أي كما آمن رسول الله ومن معه، وهم ناس معهودون، أو عبد الله بن سلام وأشياعه. لأنهم من أبناء جنسهم والثاني: أنها للجنس ثم ها هنا أيضا وجهان: أحدهما: أن الأوس والخزرج أكثرهم كانوا مسلمين، وهؤلاء المنافقون كانوا، منهم وكانوا قليلين، ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر. والثاني: أن المؤمنين هم
67

الناس في الحقيقة، لأنهم هم الذين أعطوا الإنسانية حقها لأن فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد والفكر الهادي.
المسألة الثالثة: القائل: * (آمنوا كما آمن الناس) * إما الرسول، أو المؤمنون، ثم كان بعضهم يقول لبعض: أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان، والرسول لا يعرف ذلك فقال تعالى: * (ألا إنهم هم السفهاء) *.
المسألة الرابعة: السفه الخفة يقال: سفهت الريح الشيء إذا حركته، قال ذو الرمة:
فجرين كما اهتزت رياح تسفهت * أعاليها مر الرياح الرواسم
وقال أبو تمام الطائي:
فسفيه الرمح جاهله إذا ما * بدا فضل السفيه على الحليم
أراد به سريع الطعن بالرمح خفيفه، وإنما قيل لبذئ اللسان سفيه؛ لأنه خفيف لا رزانة له وقال تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * (النساء: 5) وقال عليه السلام: " شارب الخمر سفيه " لقلة عقله وإنما سمي المنافقون المسلمين بالسفهاء؛ لأن المنافقين كانوا من أهل الخطر والرياسة، وأكثر المؤمنين كانوا فقراء، وكان عند المنافقين أن دين محمد صلى الله عليه وسلم باطل، والباطل لا يقبله إلا السفيه؛ فلهذه الأسباب نسبوهم إلى السفاهة ثم إن الله تعالى قلب عليهم هذا اللقب - وقوله الحق - لوجوه: أحدها: أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه. وثانيها: أن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه. وثالثها: أن من عادى محمدا عليه الصلاة والسلام فقد عادى الله، وذلك هو السفيه.
المسألة الخامسة: إنما قال في آخر هذه الآية: * (لا يعلمون) * وفيما قبلها: * (لا يشعرون) * لوجهين: الأول: أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري، وأما أن النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد في الأرض فضروري جار مجرى المحسوس. الثاني: أنه ذكر السفه وهو جهل، فكان ذكر العلم أحسن طباقا له والله أعلم.
* (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون * الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) *.
هذا هو النوع الرابع من أفعالهم القبيحة، يقال: لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريبا منه، وقرأ أبو حنيفة: " وإذا لاقوا " أما قوله: * (قالوا آمنا) * فالمراد أخلصنا بالقلب، والدليل عليه وجهان:
68

الأول: أن الإقرار باللسان كان معلوما منهم فما كانوا يحتاجون إلى بيانه، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب، فيجب أن يكون مرادهم من هذا الكلام ذلك. الثاني: أن قولهم للمؤمنين " آمنا " يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم، وإذا كانوا يظهرون لهم التكذيب بالقلب فيجب أن يكون مرادهم فيما ذكروه للمؤمنين التصديق بالقلب، أما قوله: * (وإذا خلوا إلى شياطينهم) * فقال صاحب " الكشاف ": يقال خلوت بفلان وإليه، وإذا انفردت معه ويجوز أن يكون من " خلا " بمعنى مضى، ومنه القرون الخالية، ومن " خلوت به " إذا سخرت منه، من قولك: " خلا فلان بعرض فلان " أي: يعبث به، ومعناه أنهم أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول: أحمد إليك فلانا وأذمه إليك. وأما شياطينهم فهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم، أما قوله: * (إنا معكم) * ففيه سؤالان: السؤال الأول: هذا القائل أهم كل المنافقين أو بعضهم. الجواب: في هذا خلاف، لأن من يحمل الشياطين على كبار المنافقين يحمل هذا القول على أنه من صغارهم وكانوا
يقولون للمؤمنين آمنا وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا إنا معكم؛ لئلا يتوهموا فيهم المباينة، ومن يقول في الشياطين: المراد بهم الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كل المنافقين، ولا شبهة في أن المراد بشياطينهم أكابرهم، وهم إما الكفار وإما أكابر المنافقين، لأنهم هم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض، وأما أصاغرهم فلا. السؤال الثاني: لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالجملة الإسمية محققة " بأن " الجواب: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديرا بأقوى الكلامين، لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم في الدرجة الكاملة منه، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة لأن القول الصادر عن النفاق والكراهة قلما يحصل معه المبالغة؛ وإما لعلمهم بأن ادعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين، وأما كلامهم مع إخوانهم فهم كانوا يقولونه عن الاعتقاد وعلموا أن المستمعين يقبلون ذلك منهم، فلا جرم كان التأكيد لائقا به. أما قوله: * (إنما نحن مستهزئون) * ففيه سؤالان. السؤال الأول: ما الاستهزاء؟ الجواب: أصل الباب الخفة من الهزء وهو العدو السريع، وهزأ يهزأ مات على مكانه، وناقته تهزأ به أي تسرع، وحده أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية، فعلى هذا قولهم: * (إنما نحن مستهزئون) * يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم ونقف على أسرارهم، ونأخذ من صدقاتهم وغنائمهم. السؤال الثاني: كيف تعلق قوله: * (إنما نحن مستهزئون) * بقوله: * (إنا معكم) * الجواب: هو توكيد له؛ لأن قوله: * (إنا معكم) * معناه الثبات على الكفر وقوله: * (إنما نحن مستهزئون) * رد للإسلام، ورد نقيض الشيء تأكيد لثباته، أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليه حين قالوا: إنا معكم، فقالوا إن صح ذلك فكيف توافقون أهل الإسلام؟ فقالوا: إنما نحن مستهزئون.
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكى عنهم ذلك أجابهم بأشياء. أحدها: قوله: * (الله يستهزئ بهم) *
69

وفيه أسئلة. الأول: كيف يجوز وصف الله تعالى بأنه يستهزئ وقد ثبت أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس، وهو على الله محال، ولأنه لا ينفك عن الجهل، لقوله: * (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * (البقرة: 67) والجهل على الله محال والجواب: ذكروا في التأويل خمسة أوجه: أحدها: أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء قال تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194) * (يخادعون الله وهو خادعهم) * (النساء: 144) * (ومكروا ومكر الله) * (آل عمران: 54) وقال عليه السلام: " اللهم إن فلانا هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه، اللهم والعنه عدد ما هجاني " أي أجزه جزاء هجائه، وقال عليه السلام: " تكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا " وثانيها: أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم. وثالثها: أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة فذكر الاستهزاء، والمراد حصول الهوان لهم تعبيرا بالسبب عن المسبب. ورابعها: إن استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة، كما أنهم أظهروا للنبي والمؤمنين أمرا مع أن الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا التأويل ضعيف، لأنه تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا. وخامسها: أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه، وأما في الآخرة فقال ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار فتح الله من الجنة بابا على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحا أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى: * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) * إلى قوله: * (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) * (المطففين: 34) فهذا هو الاستهزاء بهم. السؤال الثاني: كيف ابتدأ قوله: * (الله يستهزئ بهم) * ولم يعطف على الكلام الذي قبله؟ الجواب: هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة. وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزئ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم، وفيه أيضا أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله.
السؤال الثالث: هل قيل: إن الله مستهزئ بهم ليكون مطابقا لقوله: * (إنما نحن مستهزئون) * الجواب. لأن " يستهزئ " يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت، وهذا كانت نكايات الله فيهم: * (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) * (التوبة: 126) وأيضا فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار واستشعار حذر من أن تنزل عليهم آية * (يحذر
70

المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون) * الجواب الثاني: قوله تعالى: * (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * (البقرة: 15) قال صاحب الكشاف إنه من مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره، وكذلك مد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها؛ ومددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد، ومده الشيطان في الغي، وأمده إذا واصله بالوسواس، ومد وأمد بمعنى واحد.
وقال بعضهم: مد يستعمل في الشر، وأمد في الخير قال تعالى: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين) * (المؤمنين: 55) ومن الناس من زعم أنه من المد في العمر والإملاء والإمهال وهذا خطأ لوجهين: الأول: أن قراءة ابن كثير، وابن محيصن (ونمدهم) وقراءة نافع (وإخوانهم يمدونهم في الغي) يدل على أنه من المدد دون المد. الثاني: أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له، كأملي له. قالت المعتزلة: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه: أحدها: قوله تعالى: * (وإخوانهم يمدونهم في الغي) * أضاف ذلك الغي إلى إخوانهم، فكيف يكون مضافا إلى الله تعالى.
وثانيها: أن الله تعالى ذمهم على هذا الطغيان فلو كان فعلا لله تعالى فكيف يذمهم عليه.
وثالثها: لو كان فعلا لله تعالى لبطلت النبوة وبطل القرآن فكان الاشتغال بتفسيره عبثا.
ورابعها: أنه تعالى أضاف الطغيان إليهم بقوله: " في طغيانهم " ولو كان ذلك من الله لما أضافه إليهم، فظهر أنه تعالى إنما أضافه إليهم ليعرف أنه تعالى غير خالق لذلك، ومصداقه أنه حين أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله: * (وإخوانهم يمدونهم في الغي) * (الأعراف: 202) إذا ثبت هذا فنقول: التأويل من وجوه: أحدها: وهو تأويل الكعبي وأبي مسلم بن يحيى الأصفهاني أن الله تعالى لما منحهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مظلمة بتزايد الظلمة فيها وتزايد النور في قلوب المسلمين فسمي ذلك التزايد مددا وأسنده إلى الله تعالى لأنه مسبب عن فعله بهم. وثانيها: أن يحمل على منع القسر والإلجاء كما قيل: إن السفيه إذا لم ينه فهو مأمور. وثالثها: أن يسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده. ورابعا: ما قاله الجبائي فإنه قال ويمدهم أي يمد عمرهم ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون وهذا ضعيف من وجهين: الأول: لما تبينا أنه لا يجوز في اللغة تفسير ويمدهم بالمد في العمر. الثاني: هب أنه يصح ذلك ولكنه يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون وذلك يفيد الإشكال أجاب القاضي عن ذلك بأنه ليس المراد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في الطغيان، بل المراد، أنه تعالى يبقيهم ويلطف بهم في الطاعة فيأبون إلا أن يعمهوا. واعلم أن الكلام في هذا الباب تقدم في قوله: * (ختم الله على قلوبهم) * فلا فائدة في الإعادة. واعلم أن الطغيان هو الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو، قال تعالى: * (إنا لما طغا الماء) * (الحاقة: 11) أي جاوز قدره، وقال: * (إذهب إلى فرعون إنه طغى) * (طه: 24) أي أسرف وتجاوز الحد. وقرأ زيد بن علي في طغيانهم بالكسر وهما لغتان كلقيان ولقيان، والعمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه.
71

* (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) *.
واعلم أن تراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه واستبدالها به، فإن قيل كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى قلنا جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه ومالوا إلى الضلالة فقد استبدلوها به، والضلالة الجور والخروج عن القصد وفقد الاهتداء، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين، أما قوله: * (فما ربحت تجارتهم) * فالمعنى أنهم ما ربحوا في تجارتهم،
وفيه سؤالان: السؤال الأول: كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها؟ الجواب: هو من الإسناد المجازي وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشتري. السؤال الثاني: هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال فما معنى ذكر الربح والتجارة وما كان ثم مبايعة على الحقيقة والجواب: هذا مما يقوي أمر المجاز ويحسنه كما قال الشاعر: ولما رأيت النسر عز ابن دأية * وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب أتبعه بذكر التعشيش والوكر فكذا ههنا لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه، تمثيلا لخسارتهم وتصويرا لحقيقته. أما قوله: * (وما كانوا مهتدين) * فالمعنى أن الذي تطلبه التجار في متصرفاتهم أمران: سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأن رأس مالهم هو العقل الخالي عن المانع، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة الكسبية مانعة من الاشتغال بطلب العقائد الحقة. وقال قتادة: انتقلوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الطاعة إلى المعصية، ومن الجماعة إلى التفرقة ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة، والله أعلم.
* (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) *.
اعلم أنا قبل الخوض في تفسير ألفاظ هذه الآية نتكلم في شيئين: أحدها: أن المقصود من ضرب الأمثال أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقا للعقل وذلك في نهاية الإيضاح، ألا ترى أن الترغيب إذا وقع في الإيمان مجردا عن ضرب مثل له
72

لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مثل بالنور، وإذا زهد في الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول كما يتأكد إذا مثل بالظلمة، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الأخبار بضعفه مجردا، ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، قال تعالى: * (وتلك الأمثال نضربها للناس) * (العنكبوت: 43، الحشر: 21) ومن سور الإنجيل سورة الأمثال، وفي الآية مسائل: -
المسألة الأولى: المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل وهو النظير، ويقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه، ثم قيل للقول الثائر الممثل مضر به بمورده: مثل، وشرطه أن يكون قولا فيه غرابة من بعض الوجوه.
المسألة الثانية: أنه تعالى لما بين حقيقة صفات المنافقين عقبها بضرب مثلين زيادة في الكشف والبيان. أحدهما: هذا المثل وفيه إشكالات. أحدها: أن يقال: ما وجه التمثيل بمن أعطي نورا ثم سلب ذلك النور منه مع أن المنافق ليس له نور. وثانيها: أن يقال: إن من استوقد نارا فأضاءت قليلا فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم، فأما المنافقون فلا انتفاع لهم البتة بالإيمان فما وجه التمثيل؟ وثالثها: أن مستوقد النار قد اكتسب لنفسه النور، والله تعالى ذهب بنوره وتركه في الظلمات، والمنافق لم يكتسب خيرا وما حصل له من الخيبة والحيرة فقد أتى فيه من قبل نفسه، فما وجه التشبيه؟ والجواب: أن العلماء ذكروا في كيفية التشبيه وجوها: أحدها: قال السدي: إن ناسا دخلوا في الإسلام عند وصوله عليه السلام إلى المدينة ثم إنهم نافقوا، والتشبيه ههنا في نهاية الصحة لأنهم بإيمانهم أولا اكتسبوا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك النور ووقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين لأن المتحير في طريقه لأجل الظلمة لا يخسر إلا القليل من الدنيا، وأما المتحير في الدين فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبد الآبدين. وثانيها: إن لم يصح ما قاله السدي بل كانوا منافقين أبدا من أول أمرهم فههنا تأويل آخر ذكره الحسن رحمه الله، وهو أنهم لما أظهروا الإسلام
فقد ظفروا بحقن دمائهم وسلامة أموالهم عن الغنيمة وأولادهم عن السبي وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين، وعد ذلك نورا من أنوار الإيمان، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليلا قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتفع بضوئها قليلا ثم سلب ذلك فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءته في أعقاب النور، فكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة. وثالثها: أن نقول ليس وجه التشبيه أن للمنافق نورا، بل وجه التشبيه بهذا المستوقد أنه لما زال النور عنه تحير، والتحير فيمن كان في نور ثم زال عنه أشد من تحير سالك الطريق في ظلمة مستمرة، لكنه تعالى ذكر النور في مستوقد النار لكي يصح أن يوصف بهذه الظلمة الشديدة، لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة. ورابعها: أن الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق، ومن قال بهذا قال إن المثل إنما عطف على قوله: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا
73

آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) * فالنار مثل لقولهم: " آمنا " وذهابه مثل لقولهم للكفار: " إنا معكم " فإن قيل وكيف صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان مثلا بالنور وهو حين تكلم بها أضمر خلافها؟ قلنا إنه لو ضم إلى القول اعتقادا له وعملا به لأتم النور لنفسه، ولكنه لما لم يفعل لم يتم نوره، وإنما سمى مجرد ذلك القول نورا لأنه قول حق في نفسه. وخامسها: يجوز أن يكون استيقاد النار عبارة عن إظهار المنافق كلمة الإيمان وإنما سماه نورا لأنه يتزين به ظاهره فيهم ويصير ممدوحا بسببه فيما بينهم، ثم إن الله تعالى يذهب ذلك النور بهتك ستر المنافق بتعريف نبيه والمؤمنين حقيقة أمره فيظهر له اسم النفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان فبقي في ظلمات لا يبصر، إذ النور الذي كان له قبل قد كشف الله أمره فزال. وسادسها: أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات. وسابعها: يجوز أن يكون المستوقد ههنا مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار، فإن الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) * (المائدة: 64) وثامنها: قال سعيد بن جبير: نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به فكان انتظارهم لمحمد صلى الله عليه وسلم كإيقاد النار، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور. المسألة الثالثة: فأما تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة فهو في كتاب الله تعالى كثير، والوجه فيه أن النور قد بلغ النهاية في كونه هاديا إلى المحجة وإلى طريق المنفعة وإزالة الحيرة وهذا حال الإيمان في باب الدين، فشبه ما هو النهاية في إزالة الحيرة ووجدان المنفعة في باب الدين بما هو الغاية في باب الدنيا، وكذلك القول في تشبيه الكفر بالظلمة، لأن الضال عن الطريق المحتاج إلى سلوكه لا يرد عليه من أسباب الحرمان والتحير أعظم من الظلمة، ولا شيء كذلك في باب الدين أعظم من الكفر، فشبه تعالى أحدهما بالآخر، فهذا هو الكلام فيما هو المقصود الكلي من هذه الآية، بقيت ههنا أسئلة وأجوبة تتعلق بالتعلق بالتفاصيل: السؤال الأول: قوله تعالى: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) * يقتضى تشبيه مثلهم بمثل المستوقد، فما مثل المنافقين ومثل المستوقد حتى شبه أحدهما بالآخر؟ والجواب: استعير المثل للقصة أو للصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد نارا، وكذا قوله: * (مثل الجنة التي وعد المتقون) * (الرعد: 35) أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة * (ولله المثل الأعلى) * (النحل: 60) أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة * (مثلهم في التوراة) * (الفتح: 29) أي وصفهم وشأنهم المتعجب منه ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا: فلان مثله في الخير والشر، فاشتقوا
74

منه صفة للعجيب الشأن. السؤال الثاني: كيف مثلت الجماعة بالواحد؟ والجواب من وجوه: أحدها: أنه يجوز في اللغة وضع " الذي " موضع " الذين " كقوله: * (وخضتم كالذي خاضوا) * (التوبة: 69) وإنما جاز ذلك لأن " الذي " لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة مجملة وكثرة وقوعه في كلامهم، ولكونه مستطالا بصلته فهو حقيق بالتخفيف، ولذلك أعلوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا فيه على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين. وثانيها: أن يكون المراد جنس المستوقدين أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارا. وثالثها: وهو الأقوى: أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد. ومثله قوله تعالى: * (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار) * (الجمعة: 5) وقوله: * (ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) * (محمد: 20) ورابعها: المعنى ومثل كل واحد منهم كقوله: * (يخرجكم طفلا) * (غافر: 67) أي يخرج كل واحد منكم. السؤال الثالث: ما الوقود؟ وما النار؟ وما الإضاءة؟ وما النور؟ ما الظلمة؟ الجواب: أما وقود النار فهو سطوعها وارتفاع لهبها، وأما النار فهو جوهر لطيف مضيء، حار محرق، واشتقاقها من " نار ينور " إذا نفر؛ لأن فيها حركة واضطرابا، والنور مشتق منها وهو ضوؤها، والمنار العلامة، والمنارة هي الشيء الذي يؤذن عليه. ويقال أيضا للشيء الذي يوضع السراج عليه، ومنه النورة لأنها تطهر البدن والإضاءة فرط الإنارة، ومصداق ذلك قوله تعالى: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) * (يونس: 5) و " أضاء " يرد لازما ومتعديا. تقول: أضاء القمر الظلمة، وأضاء القمر بمعنى استضاء قال الشاعر: _
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم * دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وأما ما حول الشيء فهو الذي يتصل به، تقول دار حوله وحواليه، والحول السنة لأنها تحول، وحال عن العهد أي تغير، وحال لونه أي تغير لونه، والحوالة انقلاب الحق من شخص إلى شخص، والمحاولة طلب الفعل بعد أن لم يكن طالبا له، والحول انقلاب العين، والحول الانقلاب، قال الله تعالى: * (لا يبغون عنها حولا) * والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير،
والظلمة في أصل اللغة عبارة عن النقصان قال الله تعالى: * (آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) * (الكهف: 33) أي لم تنقص وفي المثل: من أشبه أباه فما ظلم، أي فما نقص حق الشبه، والظلم الثلج لأنه ينتقص سريعا والظلم ماء السن وطراوته وبياضه تشبيها له بالثلج. السؤال الرابع: أضاءت متعدية أم لا؟ الجواب: كلاهما جائز
، يقال: أضاءت النار بنفسها وأضاءت غيرها وكذلك أظلم الشيء بنفسه وأظلم غيره أي صيره مظلما، وههنا الأقرب أنها متعدية، ويحتمل أن تكون غير متعدية مستندة إلى ما حوله والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة " ضاء " السؤال الخامس: هلا قيل ذهب الله بضوئهم لقوله: * (فلما أضاءت) *؟ الجواب: ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة، فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم
75

ذهاب الكمال وبقاء ما يسمى نورا والغرض إزالة النور عنهم بالكلية. ألا ترى كيف ذكر عقيبه: * (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) * والظلمة عبارة عن عدم النور، وكيف جمعها، وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله: * (لا يبصرون) * السؤال السادس: لم قال: * (ذهب الله بنورهم) * ولم يقل أذهب الله نورهم والجواب: الفرق بين أذهب وذهب به أن معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبا، ويقال ذهب به إذا استصحبه، ومعنى به معه، وذهب السلطان بماله أخذه قال تعالى: * (فلما ذهبوا به) * (يوسف: 15) * (إذا لذهب كل إله بما خلق) * (المؤمنون: 91) والمعنى أخذ الله نورهم وأمسكه * (وما يمسك فلا مرسل له) * (فاطر: 2) فهو أبلغ من الإذهاب وقرأ اليماني " أذهب الله نورهم ". السؤال السابع: ما معنى (وتركهم)؟ والجواب: ترك إذا علق بواحد فهو بمعنى طرح وإذا علق بشيئين كان بمعنى صير، فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه قوله: * (وتركهم في ظلمات) * أصله هم في ظلمات ثم دخل ترك فنصبت الجزئين. السؤال الثامن: لم حذف أحد المفعولين من لا يبصرون؟ الجواب: أنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأن الفعل غير متعد أصلا.
* (صم بكم عمى فهم لا يرجعون) *.
اعلم أنه لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون وينطقون ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يبق إلا تشبيه حالهم لشدة تمسكهم بالعناد وإعراضهم عما يطرق سمعهم من القرآن وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصم في الحقيقة فلا يسمع، وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب، فلذلك جعله بمنزلة الأبكم، وإذا لم ينتفع بالأدلة ولم يبصر طريق الرشد فهو بمنزلة الأعمى، أما قوله: * (فهم لا يرجعون) * ففيه وجوه: أحدها: أنهم لا يرجعون عما تقدم ذكره وهو التمسك بالنفاق الذي لأجل تمسكهم به وصفهم الله تعالى بهذه الصفات فصار ذلك دلالة على أنهم يستمرون على نفاقهم أبدا. وثانيها: أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، وعن الضلالة بعد أن اشتروها. وثالثها: أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا خامدين في مكانهم لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه.
* (أو كصيب من السمآء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم فى ءاذانهم من الصواعق حذر الموت
76

والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلمآ أضآء لهم مشوا فيه وإذآ أظلم عليهم قاموا ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شىء قدير) *.
اعلم أن هذا هو المثل الثاني للمنافقين وكيفية المشابهة من وجوه: أحدها: أنه إذا حصل السحاب الذي فيه الظلمات والرعد والبرق واجتمع مع ظلمة السحاب ظلمة الليل وظلمة المطر عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم، فإذا أضاء لهم مشوا فيه، وإذا ذهب بقوا في ظلمة عظيمة فوقفوا متحيرين لأن من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذهب عنه تشتد حيرته. وتعظم الظلمة في عينه، وتكون له مزية على من لم يزل في الظلمة، فشبه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدين بهؤلاء الذين وصفهم، إذ كانوا لا يرون طريقا ولا يهتدون، وثانيها: أن المطر وإن كان نافعا إلا أنه لما وجد في هذه الصورة مع هذه الأحوال الضارة صار النفع به زائلا، فكذا إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن: فإذا فقد منه الإخلاص وحصل معه النفاق صار ضررا في الدين. وثالثها: أن من نزل به هذه الأمور مع الصواعق ظن المخلص منها أن يجعل أصابعه في أذنيه وذلك لا ينجيه مما يريده تعالى به من هلاك وموت، فلما تقرر ذلك في العادات شبه تعالى حال المنافقين في ظنهم أن إظهارهم للمؤمنين ما أظهروه ينفعهم، مع أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك بما ذكر ورابعها: أن عادة المنافقين كانت هي التأخر عن الجهاد فرارا من الموت والقتل، فشبه الله حالهم في ذلك بحال من نزلت هذه الأمور به وأراد دفعها يجعل إصبعيه في أذنيه وخامسها: أن هؤلاء الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم وإن تخلصوا عن الموت في تلك الساعة فإن الموت والهلاك من ورائهم لا مخلص لهم منه فكذلك حال المنافقين في أن الذي يخوضون فيه لا يخلصهم من عذاب النار. وسادسها: أن من هذا حاله فقد بلغ النهاية في الحيرة لاجتماع أنواع الظلمات وحصول أنواع المخافة، وحصل في المنافقين نهاية الحيرة في باب الدين ونهاية الخوف في الدنيا لأن المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل، فلا يكاد الوجل والخوف يزول عن قلبه مع النفاق. وسابعها: المراد من الصيب هو الإيمان والقرآن، والظلمات والرعد والبرق هو الأشياء الشاقة على المنافقين، وهي التكاليف الشاقة من الصلاة والصوم وترك الرياسات
77

والجهاد مع الآباء والأمهات، وترك الأديان القديمة، والانقياد لمحمد صلى الله عليه وسلم مع شدة استنكافهم عن الانقياد له فكما أن الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المطر الصيب الذي هو أشد الأشياء نفعا بسبب هذه الأمور المقارنة، فكذا المنافقون يحترزون عن الإيمان والقرآن بسبب هذه الأمور المقارنة، والمراد من قوله: * (كلما أضاء لهم مشوا فيه) * أنه متى حصل لهم شيء من المنافع، وهي عصمة أموالهم ودمائهم وحصول الغنائم لهم فإنهم يرغبون في الدين: * (وإذا أظلم عليهم قاموا) * أي متى لم يجدوا شيئا من تلك المنافع فحينئذ يكرهون الإيمان ولا يرغبون فيه، فهذه الوجوه ظاهرة في التشبيه. وبقي على الآية أسئلة وأجوبة. السؤال الأول: أي التمثيلين أبلغ؟ والجواب: التمثيل الثاني، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأغاليظ؛ ولذلك تراهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. السؤال الثاني: لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف الشك؟ الجواب من وجوه: أحدها: لأن " أو " في أصلها تساوي شيئين فصاعدا في الشك، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك. كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين تريد أنهما سيان في استصواب أن تجالس أيهما شئت، ومنه قوله تعالى: * (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) * (
الإنسان: 24) أي أن الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، فكذا قوله: * (أو كصيب) * معناه أن كيفية المنافقين شبيهة بكيفتي هاتين القصتين، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك. وثانيها: إنما ذكر تعالى ذلك لأن المنافقين قسمان بعضهم يشبهون أصحاب النار، وبعضهم يشبهون أصحاب المطر، ونظيره قوله تعالى: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى) * (البقرة: 135) وقوله: * (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون) * (الأعراف: 4) وثالثها: أو بمعنى بل قال تعالى: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * (الصافات: 147) ورابعها: أو بمعنى الواو كأنه قال وكصيب من السماء نظيره قوله تعالى: * (أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم) * (النور: 61) وقال الشاعر:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر * لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وهذه الوجوه مطردة في قوله: * (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) * (البقرة: 74) السؤال الثالث: المشبه بالصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق ما هو؟ الجواب: لعلماء البيان ههنا قولان: أحدهما: أن هذا تشبيه مفرق ومعناه أن يكون المثل مركبا من أمور والممثل يكون أيضا مركبا من أمور ويكون كل واحد من المثل شبيها بكل واحد من الممثل، فههنا شبه دين الإسلام بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من شبهات الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالبرق والرعد؛ وما يصيب الكفرة من الفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق، والمعنى أو كمثل ذوي صيب، والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة: والقول الثاني: أنه تشبيه مركب، وهو الذي يشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر
78

من الأمور وإن لم تكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى وههنا المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدنيا والدين بحيرة من انطفت ناره بعد إيقادها، وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق، فإن قيل الذي كنت تقدره في التشبيه المفرق من حذف المضاف وهو قولك: أو كمثل ذوي صيب هل يقدر مثله في المركب، قلنا لولا طلب الراجع في قوله: * (يجعلون أصابعهم في آذانهم) * ما يرجع إليه لما كان بنا حاجة إلى تقديره: السؤال الرابع: ما الصيب؟ الجواب: أنه المطر الذي يصوب، أي ينزل من صاب يصوب إذا نزل ومنه صوب رأسه إذا خفضه وقيل إنه من صاب يصوب إذا قصد، ولا يقال صيب إلا للمطر الجود. كان عليه الصلاة والسلام يقول: " اللهم اجعله صيبا هنيئا " أي مطرا جودا وأيضا يقال للسحاب صيب قال الشماخ:
وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل، كما تنكرت النار في التمثيل الأول، وقرئ " أو كصائب " وصيب أبلغ: والسماء هذه المظلة. السؤال الخامس: قوله من السماء. ما الفائدة فيه والصيب لا يكون إلا من السماء؟ الجواب من وجهين: الأول: لو قال. أو كصيب فيه ظلمات. احتمل أن يكون ذلك الصيب نازلا من بعض جوانب السماء دون بعض، أما لما قال من السماء دل على أنه عام مطبق آخذ بآفاق السماء فكما حصل في لفظ الصيب مبالغات من جهة التركيب والتنكير أيد ذلك بأن جعله مطبقا، الثاني: من الناس من قال: المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء فتنعقد هناك من شدة برد الهواء ثم تنزل مرة أخرى، فذاك هو المطر ثم إن الله سبحانه وتعالى أبطل ذلك المذهب ههنا بأن بين أن ذلك الصيب نزل من السماء، كذا قوله: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * (الفرقان: 48) وقوله: * (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) * (النور: 43) السؤال السادس: ما الرعد والبرق؟ الجواب: الرعد الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتقض وترتعد إذا أخذتها الريح فصوت عند ذلك من الارتعاد والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقا إذا لمع. السؤال السابع: الصيب هو المطر والسحاب فأيهما أريد فما ظلماته؟ الجواب: أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقا فظلمته سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل، وأما ظلمة المطر فظلمته تكاثفه وانسجامه بتتابع القطر وظلمته إظلال الغمامة مع ظلمة الليل. السؤال الثامن: كيف يكون المطر مكانا للرعد والبرق وإنما مكانهما السحاب. الجواب: لما كان التعليق بين السحاب والمطر شديدا جاز إجراء أحدهما مجرى الآخر في الأحكام. السؤال التاسع: هلا قيل رعود وبروق كما قيل ظلمات؟ الجواب: الفرق أنه حصلت أنواع مختلفة من الظلمات على الاجتماع فاحتيج إلى صيغة الجمع، أما الرعد فإنه نوع واحد، وكذا البرق ولا يمكن اجتماع أنواع الرعد والبرق في السحاب الواحد فلا جرم لم يذكر فيه لفظ الجمع. السؤال العاشر: لم جاءت هذه الأشياء منكرات. الجواب: لأن المراد أنواع منها، كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف
79

وبرق خاطف. السؤال الحادي عشر: إلى ماذا يرجع الضمير في " يجعلون ". الجواب: إلى أصحاب الصيب وهو وإن كان محذوفا في اللفظ لكنه باق في المعنى ولا محل لقوله يجعلون لكونه مستأنفا لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلا قال فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم ثم قال فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقال: * (يكاد البرق يخطف أبصارهم) * (البقرة: 20) السؤال الثاني عشر: رؤوس الأصابع هي التي تجعل في الآذان فهلا قيل أناملهم؟ الجواب المذكور وإن كان هو الأصبع لكن المراد بعضه كما في قوله: * (فاقطعوا أيديهما) * (المائدة: 38) المراد بعضهما. السؤال الثالث عشر: ما الصاعقة؟ الجواب: إنها قصف رعد ينقض منها شعلة من نار وهي نار لطيفة قوية لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع قوتها سريعة الخمود. السؤال الرابع عشر: ما إحاطة الله بالكافرين. الجواب: إنه مجاز والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عالم بهم قال تعالى: * (وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) * (الطلاق: 12) وثانيها: قدرته مستولية عليهم * (والله من وراءهم محيط) * (البروج: 20) وثالثها: يهلكهم من قوله تعالى: * (إلا أن يحاط بكم) * (يوسف: 66) السؤال الخامس عشر: ما الخطف. الجواب: إنه الأخذ بسرعة، وقرأ مجاهد " يخطف " بكسر الطاء، والفتح أفصح، وعن ابن مسعود " يختطف " وعن الحسن " يخطف " بفتح الياء والخاء وأصله يختطف، وعنه يخطف بكسرهما على اتباع الياء الخاء، وعن زيد بن علي: يخطف من خطف وعن أبي يتخطف من قوله: * (ويتخطف الناس من حولهم) * (العنكبوت: 67) أما قوله تعالى: * (كلما أضاء لهم مشوا فيه) * (البقرة: 20) فهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول كيف يصنعون في حالتي ظهور البرق وخفائه، والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من
غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم، وفي ضوء البرد فأعماهم. وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم مسلكا أخذوه، فالمفعول محذوف، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة " كلما ضاء " فإن قيل كيف قال مع الإضاءة كلما، ومع الإظلام إذا: قلنا لأنهم حراص على إمكان المشي، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها وليس كذلك التوقف، والأقرب في أظلم أن يكون غير متعد وهو الظاهر، ومعنى قاموا وقفوا وثبتوا في مكانهم، ومنه قامت السوق، وقام الماء جمد، ومفعول شاء محذوف لأن الجواب يدل عليه والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما وههنا مسألة، وهي أن المشهور أن " لو " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ومنهم من أنكر ذلك وزعم أنها لا تفيد إلا الربط واحتج عليه بالآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى: * (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) * (الأنفال: 23) فلو أفادت كلمة لو انتفاء الشيء لا انتفاء غيره للزم التناقض لأن قوله: * (ولو علم الله فيهم
80

خيرا لأسمعهم) * يقتضي أنه ما علم فيهم خيرا وما أسمعهم وقوله: * (ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) * يفيد أنه تعالى ما أسمعهم وأنهم ما تولوا ولكن عدم التولي خير فلزم أن يكون قد علم فيهم خيرا، وما علم فيهم خيرا وأما الخبر فقوله عليه السلام: " نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " فعلى مقتضى قولهم يلزم أنه خاف الله وعصاه وذلك متناقض، فقد علمنا أن كلمة " لو " لا تفيد إلا الربط والله أعلم.
وأما قوله: * (إن الله على كل شيء قدير) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: منهم من استدل به على أن المعدوم شيء، قال: لأنه تعالى أثبت القدرة على الشيء، والموجود لا قدرة عليه لاستحالة إيجاد الموجود، فالذي عليه القدرة معدوم وهو شيء فالمعدوم شيء. والجواب: لو صح هذا الكلام لزم أن ما لا يقدر الله عليه لا يكون شيئا، فالموجود لما لم يقدر الله عليه وجب أن لا يكون شيئا.
المسألة الثانية: احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء، قال لأنها تدل على أن كل شيء مقدور لله والله تعالى ليس بمقدور له، فوجب أن لا يكون شيئا، واحتج أيضا على ذلك بقوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) قال لو كان هو تعالى شيئا لكان تعالى مثل نفسه فكان يكذب قوله: * (ليس كمثله شيء) * فوجب أن لا يكون شيئا حتى لا تتناقض هذه الآية، واعلم أن هذا الخلاف في الاسم، لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم، واحتج أصحابنا بوجهين: الأول: قوله تعالى: * (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله) *. (الأنعام: 19) والثاني: قوله تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) والمستثنى داخل في المستثنى منه فيجب أن يكون شيئا.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى خلافا لأبي علي وأبي هاشم، وجه الاستدلال أن مقدور العبد شيء، وكل شيء مقدور لله تعالى بهذه الآية فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدورا لله تعالى.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المحدث حال حدوثه مقدور لله خلافا للمعتزلة، فإنهم يقولون: الاستطاعة قبل الفعل محال، فالشئ إنما يكون مقدورا قبل حدوثه، وبيان استدلال الأصحاب أن المحدث حال وجوده شيء، وكل شيء مقدور، وهذا الدليل يقتضي كون الباقي مقدورا ترك العمل به فبقي معمولا به في محل النزاع، لأنه حال البقاء مقدوره، على معنى أنه تعالى قادر على إعدامه، أما حال الحدوث، فيستحيل أن يقدر الله على إعدامه لاستحالة أن يصير معدوما في أول زمان وجوده، فلم يبق إلا أن يكون قادرا على إيجاده.
المسألة الخامسة: تخصيص العام جائز في الجملة، وأيضا تخصيص العام جائز بدليل العقل، لأن قوله: * (والله على كل شيء قدير) * (البقرة: 284) يقتضي أن يكون قادرا على نفسه ثم خص بدليل العقل، فإن قيل إذا كان اللفظ موضوعا للكل ثم تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذبا، وذلك يوجب الطعن في القرآن، قلنا: لفظ الكل كما أنه يستعمل في المجموع. فقد يستعمل مجازا في الأكثر،
81

وإذا كان ذلك مجازا مشهورا في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذبا والله أعلم. القول في إقامة الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد.
* (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذى جعل لكم الارض فراشا والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرت رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *.
اعلم أن في هذه الآيات مسائل: -
المسألة الأولى: أن الله تعالى لما قدم أحكام الفرق الثلاثة، أعني المؤمنين والكفار والمنافقين. أقبل عليهم بالخطاب، وهو من باب الالتفات المذكور في قوله تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * وفيه فوائد: أحدها: أن فيه مزيد هز وتحريك من السامع كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث: إن فلانا من قصته كيت وكيت، ثم تخاطب ذلك الثالث فقلت: يا فلان من حقك أن تسلك الطريقة الحميدة في مجاري أمورك، فهذا الانتقال من الغيبة إلى الحضور يوجب مزبد تحريك لذلك الثالث. وثانيها: كأنه سبحانه وتعالى يقول. جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولا ثم الآن أزيد في إكرامك وتقريبك، فأخاطبك من غير واسطة، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة، شرف المخاطبة والمكالمة. وثالثها: أنه مشعر بأن العبد إذا كان مشتغلا بالعبودية فإنه يكون أبدا في الترقي، بدليل أنه في هذه الآية، انتقل من الغيبة إلى الحضور. ورابعها: أن الآيات المتقدمة كانت في حكاية أحوالهم، وأما هذه الآيات فإنها أمر وتكليف، ففيه كلفة ومشقة فلا بد من راحة تقابل هذه الكلفة، وتلك الراحة هي أن
يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته، كما أن العبد إذا ألزم تكليفا شاقا فلو شافهه المولى وقال: أريد منك أن تفعل كذا فإنه يصير ذلك الشاق لذيذا لأجل ذلك الخطاب.
المسألة الثانية: حكي عن علقمة والحسن أنه قال: كل شيء في القرآن: * (يا أيها الناس) * فإنه مكي، وما كان * (يا أيها الذين آمنوا) * فبالمدينة، قال القاضي: هذا الذي ذكروه إن كان الرجوع فيه إلى النقل فمسلم، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة
82

فهذا ضعيف، لأنه يجوز أن يخاطب المؤمنين مرة بصفتهم، ومرة باسم جنسهم، وقد يؤمر من ليس بمؤمن بالعبادة، كما يؤمر المؤمن بالاستمرار على العبادة والازدياد منها، فالخطاب في الجميع ممكن.
المسألة الثالثة: اعلم أن الألفاظ في الأغلب عبارات دالة على أمور هي: إما الألفاظ أو غيرها، أما الألفاظ فهي: كالاسم والفعل والحرف، فإن هذه الألفاظ الثلاثة يدل كل واحد منها على شيء، هو في نفسه لفظ مخصوص، وغير الألفاظ: فكالحجر والسماء والأرض، ولفظ النداء لم يجعل دليلا على شيء آخر، بل هو لفظ يجري مجرى عمل يعمله عامل لأجل التنبيه. فأما الذين فسروا قولنا: " يا زيد " بأنادي زيدا، أو أخاطب زيدا فهو خطأ من وجوه: أحدها: أن قولنا. أنادي زيدا، خبر يحتمل التصديق والتكذيب، وقولنا يا زيد، لا يحتملها. وثانيها: أن قولنا يا زيد، يقتضي صيرورة زيد منادى في الحال، وقولنا أنادي زيدا، لا يقتضي ذلك، وثالثها: أن قولنا يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطبا بهذا الخطاب وقولنا أنادي زيدا لا يقتضي ذلك لأنه لا يمتنع أنه يخبر إنسانا آخر بأني أنادي زيدا. ورابعها: أن قولنا أنادي زيدا، إخبار عن النداء، والأخبار عن النداء غير النداء، والنداء هو قولنا: يا زيد، فإذن قولنا: أنادي زيدا، غير قولنا يا زيد، فثبت بهذه الوجوه فساد هذا القول. ثم ههنا نكتة نذكرها وهي: أن أقوى المراتب الاسم، وأضعفها الحرف، فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف، وكذا أعظم الموجودات هو الحق سبحانه وتعالى، وأضعفها البشر * (وخلق الإنسان ضعيفا) * فقالت الملائكة: أي مناسبة بينهما * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * فقيل قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء، فكذا البشر يصلح لخدمة الرب حال النداء والتضرع * (ربنا ظلمنا أنفسنا) *، * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) *.
المسألة الرابعة: " ياء " حرف وضع في أصله لنداء البعيد وإن كان لنداء القريب لكن لسبب أمر مهم جدا، وأما نداء القريب فله: أي والهمزة، ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب تنزيلا له منزلة البعيد. فإن قيل فلم يقول الداعي يا رب يا الله * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * (ق: 16) قلنا هو استبعاد لنفسه من مظان الزلفى وما يقربه إلى منازل المقربين هضما لنفسه وإقرارا عليها بالتنقيص حتى يتحقق الإجابة بمقتضى قوله: " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي " أو لأجل أن إجابة الدعاء من أهم المهمات للداعي.
المسألة الخامسة: " أي " وصلة إلى نداء ما فيه الألف اللام كما أن " ذو " و " الذي " وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل، وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهامه، فلا بد وأن يردفه اسم جنس، أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء فالذي يعمل فيه حرف النداء هو أي والاسم التابع له صفة كقولك يا زيد الظريف إلا أن أيا لا يستقل بنفسه استقلال زيد فلم ينفك عن الصفة وموصوفها وأما كلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها ففيها فائدتان: الأولى: معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه. والثانية: وقوعها عوضا
83

مما يستحقه أي من الإضافة وإنما كثر في كتاب الله تعالى النداء على هذه الطريقة لاستقلاله بهذه التأكيدات والمبالغات فإن كل ما نادى الله تعالى به عباده من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، واقتصاص أخبار المتقدمين بأمور عظام، وأشياء يجب على المستمعين أن يتيقظوا لها مع أنهم غافلون عنها، فلهذا وجب أن ينادوا بالأبلغ الآكد.
المسألة السادسة: اعلم أن قوله: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) * يقتضي أن الله تعالى أمر كل الناس بالعبادة فلو خرج البعض عن هذا الخطاب لكان ذلك تخصيصا للعموم. وههنا أبحاث. البحث الأول: أن لفظ الجمع المعرف بلام التعريف يفيد العموم، والخلاف فيه مع الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي هاشم، لنا أنه يصح تأكيده بما يفيد العموم كقوله: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * (الحجر: 15) ولو لم يكن اللفظ في أصله للعموم لما كان قوله: * (كلهم) * تأكيدا بل بيانا ولأنه يصح استثناء كل واحد من الناس عنه والاستثناء يخرج ما لولاه لدخل فوجب أن يفيد العموم وتمام تقريره في أصول الفقه. البحث الثاني: لما ثبت أن قوله تعالى: * (يا أيها الناس) * يتناول جميع الناس الذين كانوا موجودين في ذلك العصر فهل يتناول الذين سيوجدون بعد ذلك أم لا؟ والأقرب أنه لا يتناولهم؛ لأن قوله: * (يا أيها الناس) * خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز، وأيضا فالذين سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في تلك الحالة، وما لا يكون موجودا لا يكون إنسانا وما لا يكون إنسانا لا يدخل تحت قوله: * (يا أيها الناس) * فإن قيل: فوجب أن لا يتناول شيء من هذه الخطابات الذين وجدوا بعد ذلك الزمان وأنه باطل قطعا. قلنا: لو لم يوجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك إلا أنا عرفنا بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن تلك الخطابات ثابتة في حق من سيوجد بعد ذلك إلى قيام الساعة فلهذه الدلالة المنفصلة حكمنا بالعموم. البحث الثالث: قوله: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) * أمر للكل بالعبادة فهل يفيد أمر الكل بكل عبادة؟ الحق لا، لأن قوله اعبدوا معناه ادخلوا هذه الماهية في الوجود، فإذا أتوا بفرد من أفراد الماهية في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية لأن هذه العبادة عبارة عن العبادة مع قيد كونها هذه ومتى وجد المركب فقد وجد قيداه، فالآتي بفرد من أفراد العبادة آت بالعبادة، والآتي بالعبادة آت بتمام ما اقتضاه قوله: * (اعبدوا) * وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة فإن أردنا أن نجعله دالا على العموم نقول: الأمر بالعبادة لا بد وأن يكون لأجل كونها عبادة لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف، لا سيما إذا كان الوصف مناسبا للحكم، وههنا كون العبادة عبادة يناسب الأمر بها، لما أن العبادة عبارة عن تعظيم الله تعالى وإظهار
الخضوع له وكل ذلك مناسب في العقول، وإذا ثبت أن كون عبادة علة للأمر بها وجب في كل عبادة أن يكون مأمورا بها، لأنه أينما حصلت العلة وجب حصول الحكم لا محالة. البحث الرابع: لقائل أن يقول: قوله: * (يا أيها الناس اعبدوا) * لا يتناول الكفار البتة لأن الكفار لا يمكن أن
84

يكونوا مأمورين بالإيمان، وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكونوا مأمورين بالعبادة، أما أنه لا يمكن أن يكونوا مأمورين بالإيمان فلأن الأمر بمعرفة الله تعالى إما أن يتناوله حال كونه غير عارف بالله تعالى أو حال كونه عارفا بالله تعالى، أما إن تناوله حال كونه غير عارف بالله فيستحيل أن يكون عارفا بأمر الله تعالى لأن العلم بالصفة مع الجهل بالذات محال فلو تناوله الأمر في هذه الحالة لكان قد تناوله الأمر في حال يستحيل منه أن يعرف كونه مأمورا بذلك الأمر، وذلك تكليف ما لا يطاق، وإن تناوله الأمر بالمعرفة حال كونه عارفا بالله فذلك محال، لأنه أمر بتحصيل الحاصل، وذلك غير ممكن. فثبت أن الكافر يستحيل أن يكون مأمورا بتحصيل المعرفة، وإذا استحال ذلك استحال أن يكون مأمورا بالعبادة لأنه إما أن يؤمر بالعبادة قبل المعرفة وهو محال لأن عبادة من لا يعرف ممتنعة أو يؤمر بالعبادة بعد المعرفة إلا أن على هذا التقدير يكون الأمر بالعبادة موقوفا على الأمر بالمعرفة فلما كان الأمر بالمعرفة ممتنعا كان الأمر بالعبادة أيضا ممتنعا، وأيضا يستحيل أن يكون هذا الخطاب مع المؤمنين، لأنهم يعبدون الله فأمرهم بالعبادة يكون أمرا بتحصيل الحاصل وهو محال. والجواب: من الناس من قال: الأمر بالعبادة مشروط بحصول المعرفة، كما أن الأمر بالزكاة مشروط بحصول ملك النصاب، وهؤلاء هم القائلون بأن المعارف ضرورية، وأما من لم يقل بذلك استدل بهذه الآية على أن المعارف ليست ضرورية فقال: الأمر بالعبادة حاصل، والعبادة لا تمكن إلا بالمعرفة، والأمر بالشيء أمر بما هو من ضرورياته، كما أن الطهارة إذا لم تصح إلا بإحضار الماء كان إحضار الماء واجبا، والدهري لا يصح منه تصديق الرسول إلا بتقديم معرفة الله تعالى، فوجبت، والمحدث لا تصح منه الصلاة إلا بتقديم الطهارة فوجبت، والمودع لا يمكنه رد الوديعة إلا بالسعي إليها، فكان السعي واجبا، فكذا ههنا يصح أن يكون الكافر مخاطبا بالعبادة وشرط الإتيان بها الإتيان بالإيمان أولا ثم الإتيان بالعبادة بعد ذلك. بقي لهم: الأمر بتحصيل المعرفة محال، قلنا هذه المسألة مستقصاة في الأصول والذي نقول ههنا إن هذا الكلام وإن تم في كل ما يتوقف العلم يكون الله آمرا على العلم به، فإنه لا يجري فيما عدا ذلك من الصفات. فلم لا يجوز ورود الأمر بذلك؟ سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يقال هذا الأمر بتناول المؤمنين؟ قوله لأنه يصير ذلك أمرا بتحصيل الحاصل وهو محال، قلنا لما تعذر ذلك فنحمله إما على الأمر بالاستمرار على العبادة أو على الأمر بالازدياد منها، ومعلوم أن الزيادة على العبادة عبادة، فصح تفسير قوله: " اعبدوا " بالزيادة في العبادة. البحث الخامس: قال منكرو التكليف: لا يجوز ورود الأمر من الله تعالى بالتكليف لوجوه: أحدها: أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء دواعيه إلى الفعل أو الترك أو حال رجحان أحدهما على الآخر، فإن كان الأول فهو محال، لأن في حال الاستواء يمتنع حصول الترجيح لأن الاستواء يناقض الترجيح فالجمع بينهما محال والتكليف بالفعل حال استواء الداعيين تكليف بما لا يطاق، وإن كان الثاني فالراجح واجب الوقوع؛ لأن المرجوح حال ما كان مساويا للراجح كان ممتنع الوقوع، وإلا فقد
85

وقع الممكن لا عن مرجح، وإذا كان حال الاستواء ممتنع الوقوع فبأن يصير حال المرجوحية ممتنع الوقوع أولى وإذا كان المرجوح ممتنع الوقوع كان الراجح واجب الوقوع ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين إذا ثبت هذا فالتكليف إن وقع بالراجح كان التكليف تكليفا بإيجاد ما يجب وقوعه، وإن وقع بالمرجوح كان التكليف تكليفا بما يمتنع وقوعه، وكلاهما تكليف ما لا يطاق. وثانيها: أن الذي ورد به التكليف إما أن يكون قد علم الله في الأزل وقوعه، أو علم أنه لا يقع أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك، فإن كان الأول كان واجب الوقوع ممتنع العدم فلا فائدة في ورود الأمر به، وإن علم لا وقوعه كان ممتنع الوقوع واجب العدم، فكان الأمر بإيقاعه أمرا بإيقاع الممتنع وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولا بالجهل على الله تعالى وهو محال، ولأن بتقدير أن يكون الأمر كذلك فإنه لا يتميز المطيع عن العاصي، وحينئذ لا يكون في الطاعة فائدة. وثالثها: أن ورود الأمر بالتكاليف إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة، فإن كان لفائدة فهي إما عائدة إلى المعبود أو إلى العابد أما إلى المعبود فمحال لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته لا يكون كاملا بغيره، ولأنا نعلم بالضرورة أن الإله العالي على الدهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده، وأما إلى العابد فمحال؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللذة ودفع الألم، وهو سبحانه وتعالى قادر على تحصيل كل ذلك للعبد ابتداء من غير توسط هذه المشاق فيكون توسطها عبثا، والعبث غير جائز على الحكيم. ورابعها: أن العبد غير موجد لأفعاله لأنه غير عالم بتفاصيلها ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجدا له وإذا لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه فإن أمره بذلك الفعل حال ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل، وإن أمره به حال ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال وكل ذلك باطل. وخامسها: أن المقصود من التكليف إنما هو تطهير القلب على ما دلت عليه ظواهر القرآن فلو قدرنا إنسانا مشتغل القلب دائما بالله تعالى وبحيث لو اشتغل بهذه الأفعال الظاهرة لصار ذلك عائقا له عن الاستغراق في معرفة الله تعالى وجب أن يسقط عنه هذه التكاليف الظاهرة، فإن الفقهاء والقياسيين قالوا إذا لاح المقصود والحكمة في التكاليف وجب اتباع الأحكام المعقولة لا اتباع الظواهر. والجواب: عن الشبه الثلاثة الأول من وجهين: الأول: أن أصحاب هذه الشبه أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التكاليف فهذا تكليف ينفي التكليف وأنه متناقض. الثاني: أن عندنا يحسن من الله تعالى كل شيء سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره لأنه تعالى خالق مالك، والمالك لا اعتراض عليه في فعله. البحث السادس: قالوا: الأمر بالعبادة وإن كان عاما لكل الناس لكنه مخصوص في حق من لا يفهم كالصبي والمجنون والغافل والناسي، وفي حق من لا يقدر لقوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 233).
ومنهم من قال إنه مخصوص في حق العبيد، لأن الله تعالى أوجب عليهم طاعة مواليهم، واشتغالهم بطاعة الموالي يمنعهم عن الاشتغال بالعبادة، والأمر الدال على وجوب طاعة المولى
86

أخص من الأمر الدال على وجوب العبادة والخاص يقدم على العام والكلام في هذا المعنى مذكور في أصول الفقه.
المسألة السابعة: قال القاضي: الآية تدل على أن سبب وجود العبادة ما بينه من خلقه لنا والإنعام علينا. واعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أن العبد لا يستحق بفعله الثواب لأنه لما كان خلقه إيانا وإنعامه علينا سببا لوجوب العبادة فحينئذ يكون اشتغالنا بالعبادة أداء للواجب، والإنسان لا يستحق بأداء الواجب شيئا فوجب أن لا يستحق العبد على العبادة ثوابا على الله تعالى أما قوله: * (ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه سبحانه لما أمر بعبادة الرب أردفه بما يدل على وجود الصانع وهو خلق المكلفين وخلق من قبلهم، وهذا يدل على أنه لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال وطعن قوم من الحشوية في هذه الطريقة وقالوا الاشتغال بهذا العلم بدعة ولنا في إثبات مذهبنا وجوه نقلية وعقلية وههنا ثلاث مقامات: المقام الأول: في بيان فضل هذا العلم وهو من وجوه: أحدها: أن شرف العلم بشرف المعلوم فمهما كان المعلوم أشرف كان العلم الحاصل به أشرف فلما كان أشرف المعلومات ذات الله تعالى وصفاته وجب أن يكون العلم المتعلق به أشرف العلوم. وثانيها: أن العلم إما أن يكون دينيا أو غير ديني، ولا شك أن العلم الديني أشرف من غير الديني، وأما العلم الديني فإما أن يكون هو علم الأصول، أو ما عداه، أما ما عداه فإنه تتوقف صحته على علم الأصول، لأن المفسر إنما يبحث عن معاني كلام الله تعالى، وذلك فرع على وجود الصانع المختار المتكلم، وأما المحدث فإنما يبحث عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك فرع على ثبوت نبوته صلى الله عليه وسلم، والفقيه إنما يبحث عن أحكام الله، وذلك فرع على التوحيد والنبوة، فثبت أن هذه العلوم مفتقرة إلى علم الأصول، والظاهر أن علم الأصول غني عنها فوجب أن يكون علم الأصول أشرف العلوم. وثالثها: أن شرف الشيء قد يظهر بواسطة خساسة ضده، فكلما كان ضده أخس كان هو أشرف وضد علم الأصول هو الكفر والبدعة، وهما من أخس الأشياء، فوجب أن يكون علم الأصول أشرف الأشياء. ورابعها: أن شرف الشيء قد يكون بشرف موضوعه وقد يكون لأجل شدة الحاجة إليه، وقد يكون لقوة براهينه، وعلم الأصول مشتمل على الكل وذلك لأن علم الهيئة أشرف من علم الطب نظرا إلى أن موضوع علم الهيئة أشرف من موضوع علم الطب، وإن كان الطب أشرف منه نظرا إلى أن الحاجة إلى الطب أكثر من الحاجة إلى الهيئة، وعلم الحساب أشرف منهما نظرا إلى أن براهين علم الحساب أقوى. أما علم الأصول فالمطلوب منه معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، ومعرفة أقسام المعلومات من المعدومات والموجودات، ولا شك أن ذلك أشرف الأمور، وأما الحاجة إليه فشديدة لأن الحاجة إما في الدين أو في الدنيا، أما في الدين فشديدة لأن من عرف هذه الأشياء استوجب الثواب العظيم والتحق بالملائكة، ومن جهلها
87

استوجب العقاب العظيم والتحق بالشياطين. وأما في الدنيا فلأن مصالح العالم إنما تنتظم عند الإيمان بالصانع والبعث والحشر، إذ لو لم يحصل هذا الإيمان لوقع الهرج والمرج في العالم، وأما قوة البراهين فبراهين هذا العلم يجب أن تكون مركبة من مقدمات يقينية تركيبا يقينيا وهذا هو النهاية في القوة فثبت أن هذا العلم مشتمل على جميع جهات الشرف والفضل فوجب أن يكون أشرف العلوم. وخامسها: أن هذا العلم لا يتطرق إليه النسخ ولا التغيير، ولا يختلف باختلاف الأمم والنواحي بخلاف سائر العلوم، فوجب أن يكون أشرف العلوم. وسادسها: أن الآيات المشتملة على مطالب هذا العلم وبراهينها أشرف من الآيات المشتملة على المطالب الفقهية بدليل أنه جاء في فضيلة * (قل هو الله أحد) * (الإخلاص: 1) و * (آمن الرسول) * (البقرة: 285) وآية الكرسي ما لم يجيء مثله في فضيلة قوله: * (ويسئلونك عن المحيض) * (البقرة: 222) وقوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين) * (البقرة: 282) وذلك يدل على أن هذا العلم أفضل. وسابعها: أن الآيات الواردة في ا لأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية، وأما البواقي ففي بيان التوحيد والنبوة والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين، وأما الآيات الواردة في القصص فالمقصود منها معرفة حكمة الله تعالى وقدرته على ما قال: * (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) * (يوسف: 111) فدل ذلك على أن هذا العلم أفضل، ونشير إلى معاقد الدلائل: أما الذي يدل على وجود الصانع فالقرآن مملوء منه. أولها: ما ذكر ههنا من الدلائل الخمسة وهي خلق المكلفين وخلق من قبلهم، وخلق السماء وخلق الأرض، وخلق الثمرات من الماء النازل من السماء إلى الأرض، وكل ما ورد في القرآن من عجائب السماوات والأرض، فالمقصود منه ذلك، وأما الذي يدل على الصفات. أما العلم فقوله: * (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) * ثم أردفه بقوله: * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) * (آل عمران: 5، 6) وهذا هو عين دليل المتكلمين فإنهم يستدلون بأحكام الأفعال واتقانها على علم الصانع، وههنا استدل الصانع سبحانه بتصوير الصور في الأرحام على كونه عالما بالأشياء، وقال: * (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) * (الملك: 14) وهو عين تلك الدلالة وقال: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * (الأنعام: 59) وذلك تنبيه على كونه تعالى عالما بكل المعلومات، لأنه تعالى مخبر عن المغيبات فتقع تلك الأشياء على وفق ذلك الخبر، فلولا كونه عالما بالمغيبات وإلا لما وقع كذلك، وأما صفة القدرة فكل ما ذكر سبحانه من حدوث الثمار المختلفة والحيوانات المختلفة مع استواء الكل في الطبائع الأربع فذاك يدل على كونه سبحانه قادرا مختارا لا موجبا بالذات، وأما التنزيه فالذي يدل على أنه ليس بجسم، ولا في مكان قوله: * (قل هو الله أحد) * فإن المركب مفتقر إلى أجزائه والمحتاج محدث، وإذا كان أحدا وجب أن لا يكون جسما وإذا لم يكن جسما لم يكن في المكان، وأما التوحيد فالذي يدل عليه قوله: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * و (الأنبياء: 22) قوله: * (إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * (الإسراء: 42) وقوله: * (ولعلا بعضهم على بعض) * (المؤمنون: 91) وأما النبوة فالذي يدل عليها قوله ههنا: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فائتوا بسورة من مثله) * (البقرة: 23) وأما المعاد فقوله: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * (يس: 79) وأنت لو فتشت علم
88

الكلام لم تجد فيه إلا تقرير هذه الدلائل والذب عنها ودفع المطاعن والشبهات القادحة فيها، أفترى أن علم الكلام يذم لاشتماله على هذه الأدلة التي ذكرها الله أو لاشتماله على دفع المطاعن والقوادح عن هذه الأدلة ما أرى أن عاقلا مسلما يقول ذلك ويرضى به. وثانيها: أن الله تعالى حكى الاستدلال بهذه الدلائل عن الملائكة وأكثر الأنبياء أما الملائكة فلأنهم لما قالوا: * (أتجعل فيها) * (البقرة: 30) من يفسد فيها كان المراد أن خلق مثل هذا الشيء قبيح، والحكيم لا يفعل القبيح، فأجابهم الله تعالى
بقوله: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * والمراد إني لما كنت عالما بكل المعلومات كنت قد علمت في خلقهم وتكوينهم حكمة لا تعلمونها أنتم، ولا شك أن هذا هو المناظرة، وأما مناظرة الله تعالى مع إبليس فهي أيضا ظاهرة وأما الأنبياء عليهم السلام فأولهم آدم عليه السلام وقد أظهر الله تعالى حجته على فضله بأن أظهر علمه على الملائكة وذلك محض الاستدلال، وأما نوح عليه السلام فقد حكى الله تعالى عن الكفار قولهم: * (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) * (هود: 32) ومعلوم أن تلك المجادلة ما كانت في تفاصيل الأحكام الشرعية بل كانت في التوحيد والنبوة، فالمجادلة في نصرة الحق في هذا العلم هي حرفة الأنبياء، وأما إبراهيم عليه السلام فالاستقصاء في شرح أحواله في هذا الباب يطول وله مقامات: أحدها: مع نفسه وهو قوله: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) وهذا هو طريقة المتكلمين في الاستدلال بتغيرها على حدوثها، ثم إن الله تعالى مدحه على ذلك فقال: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) * (الأنعام: 82) وثانيها: حاله مع أبيه وهو قوله: * (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) * (مريم: 42) وثالثها: حاله مع قومه تارة بالقول وأخرى بالفعل، أما بالقول فقوله: * (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) * (الأنبياء: 52) وأما بالفعل فقوله: * (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) * (الأنبياء: 58). ورابعها: حاله مع ملك زمانه في قوله: * (ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت) * (البقرة: 258) إلى آخره وكل من سلمت فطرته علم أن علم الكلام ليسي إلا تقرير هذه الدلائل ودفع الأسئلة والمعارضات عنها، فهذا كله بحث إبراهيم عليه السلام في المبدأ، وأما بحثه في المعاد فقال: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) * (البقرة: 26) إلى آخره وأما موسى عليه السلام فانظر إلى مناظرته مع فرعون في التوحيد والنبوة، أما التوحيد فاعلم أن موسى عليه السلام إنما يعول في أكثر الأمر على دلائل إبراهيم عليه السلام وذلك لأن الله تعالى حكى في سوطه طه: * (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * (طه: 49، 50) وهذا هو الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله: * (الذي خلقني فهو يهدين) * (الشعراء: 78) وقال في سورة الشعراء * (ربكم ورب آبائكم الأولين) * (الشعراء: 26) وهذا هو الذي قاله إبراهيم: * (ربي الذي يحيي ويميت) * (فلما لم يكتف فرعون بذلك وطالبه بشيء آخر قال موسى: * (رب المشرق والمغرب) * (الشعراء: 28) فهذا ينبهك على أن التمسك بهذه الدلائل حرفة هؤلاء المعصومين وأنهم كما استفادوها من عقولهم فقد توارثوها من أسلافهم الطاهرين، وأما استدلال موسى على النبوة
89

بالمعجزة ففي قوله: * (أو لو جئتك بشيء مبين) * وهذا هو الاستدلال بالمعجزة على الصدق، وأما محمد عليه الصلاة والسلام فاشتغاله بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل، فإن القرآن مملوء منه ولقد كان عليه السلام مبتلى بجميع فرق الكفار فالأول: الدهرية الذين كانوا يقولون: * (وما يهلكنا إلا الدهر) * (الجاثية: 24) والله تعالى أبطل قولهم بأنواع الدلائل. والثاني: الذين ينكرون القادر المختار، والله تعالى أبطل قولهم بحدوث أنواع النبات وأصناف الحيوانات مع اشتراك الكل في الطبائع وتأثيرات الأفلاك، وذلك يدل على وجود القادر. والثالث: الذين أثبتوا شريكا مع الله تعالى، وذلك الشريك إما أن يكون علويا أو سفليا، أما الشريك العلوي فمثل من جعل الكواكب مؤثرة في هذا العالم، والله تعالى أبطله بدليل الخليل في قوله: * (فلما جن عليه الليل) * وأما الشريك السفلي فالنصارى قالوا بإلاهية المسيح وعبدة الأوثان قالوا: بإلاهية الأوثان، والله تعالى أكثر من الدلائل على فساد قولهم. الرابع: الذين طعنوا في النبوة وهم فريقان: أحدهما: الذين طعنوا في أصل النبوة وهم الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا: * (أبعث الله بشرا رسولا) * (الإسراء: 94). والثاني: الذين سلموا أصل النبوة وطعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم اليهود والنصارى، والقرآن مملوء من الرد عليهم، ثم إن طعنهم من وجوه تارة بالطعن في القرآن فأجاب الله بقوله: * (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة) * (البقرة: 26) وتارة بالتماس سائر المعجزات كقوله: * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90) وتارة بأن هذا القرآن نزل نجما نجما وذلك يوجب تطرق التهمة إليه فأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (كذلك لنثبت به فؤادك) * (الفرقان: 32).
الخامس: الذين نازعوا في الحشر والنشر، والله تعالى أورد على صحة ذلك وعلى إبطال قول المنكرين أنواعا كثيرة من الدلائل. السادس: الذين طعنوا في التكليف تارة بأنه لا فائدة فيه، فأجاب الله عنه بقوله: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) وتارة بأن الحق هو الجبر، وأنه ينافي صحة التكليف، وأجاب الله تعالى عنه بأنه * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * (الأنبياء: 23) وإنما اكتفينا في هذا المقام بهذه الإشارات المختصرة لأن الاستقصاء فيها مذكور في جملة هذا الكتاب وإذا ثبت أن هذه الحرفة هي حرفة كل الأنبياء والرسل علمنا أن الطاعن فيها إما أن يكون كافرا أو جاهلا. المقام الثاني: في بيان أن تحصيل هذا العلم من الواجبات، ويدل عليه المعقول والمنقول. أما المعقول: فهو أنه ليس تقليد البعض أولى من تقليد الباقي، فأما أن يجوز تقليد الكل فيلزمنا تقليد الكفار، وإما أن يوجب تقليد البعض دون البعض فيلزم أن يصير الرجل مكلفا بتقليد البعض دون البعض من غير أن يكون له سبيل إلى أنه لم قلد أحدهما دون الآخر، وإما أن لا يجوز التقليد أصلا وهو المطلوب، فإذا بطل التقليد لم يبق إلا هذه الطريقة النظرية. وأما المنقول فيدل عليه الآيات والأخبار أما الآيات. فأحدها: قوله: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) * (النحل: 125) ولا شك أن المراد بقوله بالحكمة أي بالبرهان والحجة، فكانت الدعوة
90

بالحجة والبرهان إلى الله تعالى مأمورا بها، وقوله: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * ليس المراد منه المجادلة في فروع الشرع لأن من أنكر نبوته فلا فائدة في الخوض معه في تفاريع الشرع، ومن أثبت نبوته فإنه لا يخالفه، فعلمنا أن هذا الجدال كان في التوحيد والنبوة، فكان الجدال فيه مأمورا به ثم إنا مأمورون باتباعه عليه السلام لقوله: * (فاتبعوني يحببكم الله) * (آل عمران: 31) ولقوله: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الأحزاب: 21) فوجب كوننا مأمورين بذلك الجدال. وثانيها: قوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) * (الحج: 3، 8 لقمان: 20) ذم من يجادل في الله بغير علم وذلك يقتضي أن المجادل بالعلم لا يكون مذموما بل يكون ممدوحا وأيضا حكى الله تعالى ذلك عن نوح في قوله: * (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) * (هود: 32) وثالثها: أن الله تعالى
أمر بالنظر فقال: * (أفلا يتدبرون القرآن) * (النساء: 82)، * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) * (الغاشية: 17)، * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * (فصلت: 53)، * (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) * (الرعد: 41)، * (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) * (يونس: 10)، أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض) * ورابعها: أن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال: * (إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب) * (الزمر: 21)، * (إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار) * (آل عمران: 13)، * (إن في ذلك لآيات لأولى النهي) * (طه: 54، 128) وأيضا ذم المعرضين فقال: * (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) * (يوسف: 105)، * (لهم قلوب لا يفقهون بها) * (الأعراف: 179) وخامسها: أنه تعالى ذم التقليد، فقال حكاية عن الكفار * (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) * (الزخرف: 23) وقال: * (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) * (لقمان: 21) وقال: * (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) * (الشعراء: 74) وقال: * (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها) * (الفرقان: 42) وقال عن والد إبراهيم عليه السلام: * (لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا) * وكل ذلك يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد فمن دعا إلى النظر والاستدلال، كان على وفق القرآن ودين الأنبياء ومن دعا إلى التقليد كان على خلاف القرآن وعلى وفاق دين الكفار. وأما الأخبار ففيها كثرة، ولنذكر منها وجوها: أحدها: ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: " جاء من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال إن امرأتي وضعت غلاما أسود فقال له هل لك من إبل، فقال: نعم قال: فما ألوانها قال حمر قال: فهل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنى ذلك، قال: عسى أن يكون قد نزعه عرق قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق " واعلم أن هذا هو التمسك بالإلزام والقياس. وثانيها: عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: " قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وشتمني ابن آدم ولم يكن له أن يشتمني. أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول خلقه بأهون على من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الله الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد " فانظر كيف احتج الله تعالى في المقام الأول بالقدرة على الابتداء، على القدرة على الإعادة، وفي المقام الثاني احتج بالأحدية على نفي الجسمية والوالدية والمولودية. وثالثها: روى عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن
91

كره لقاء الله كره الله لقاءه " فقالت عائشة: يا رسول الله إنا نكره الموت فذاك كراهتنا لقاء الله؟ فقال عليه السلام: " لا ولكن المؤمن أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، والكافر كره لقاء الله فكره الله لقاءه وكل ذلك يدل على أن النظر والفكر في الدلائل مأمور به. واعلم أن للخصم مقامات. أحدها: أن النظر لا يفيد العلم. وثانيها: أن النظر المفيد للعلم غير مقدور. وثالثها: أنه لا يجوز الإقدام عليه. ورابعها: أن الرسول ما أمر به. وخامسها: أنه بدعة.
أما المقام الأول: فاحتج الخصم عليه بأمور: أحدها: أنا إذا تفكرنا وحصل لنا عقيب فكرنا اعتقاد فعلمنا بكون ذلك الاعتقاد علما، إما أن يكون ضروريا أو نظريا، والأول باطل لأن الإنسان إذا تأمل في اعتقاده في كون ذلك الاعتقاد علما، وفي اعتقاده في أن الواحد نصف الاثنين، وأن الشمس مضيئة والنار محرقة وجد الأول أضعف من الثاني، وذلك يدل على أن تطرق الضعف إلى الأول والثاني باطل، لأن الكلام في ذلك الفكر الثاني كالكلام في الأول فيلزم التسلسل وهو محال. وثانيها: إنا رأينا عالما من الناس قد تفكروا واجتهدوا وحصل لهم عقيب فكرهم اعتقاد، وكانوا جازمين بأنه علم ثم ظهر لهم أو لغيرهم أن ذلك كان جهلا فرجعوا عنه وتركوه وإذا شاهدنا ذلك في الوقت الأول جاز أن يكون الاعتقاد الحاصل ثانيا كذلك، وعلى هذا الطريق لا يمكن الجزم بصحة شيء من العقائد المستفادة من الفكر والنظر. وثالثها: أن المطلوب إن كان مشعورا به استحال طلبه، لأن تحصيل الحاصل محال، وإن كان غير مشعور به كان الذهن غافلا عنه، والمغفول عنه يستحيل أن يتوجه الطلب إليه. ورابعها: أن العلم يكون النظر مفيدا للعلم إما أن يكون ضروريا أو نظريا فإن كان ضروريا وجب اشتراك العقلاء فيه وليس كذلك. وإن كان نظريا لزم إثبات جنس الشيء بفرد من أفراده وذلك محال لأن النزاع لما وقع في الماهية كان واقعا في ذلك الفرد أيضا فيلزم إثبات الشيء بنفسه وهو محال لأنه من حيث أنه وسيلة الإثبات يجب أن يكون معلوما قبل. ومن حيث أنه مطلوب يجب أن لا يكون معلوما قبل، فيلزم اجتماع النفي والإثبات وهو محال. وخامسها: أن المقدمة الواحدة لا تنتج بل المنتج مجموع المقدمتين، لكن حضور المقدمتين دفعة واحدة في الذهن محال لأنا جربنا أنفسنا فوجدنا أنا متى وجهنا الخاطر نحو معلوم استحال في ذلك الوقت توجيهه نحو معلوم آخر، وربما سلم بعضهم أن النظر في الجملة يفيد العلم لكنه يقول النظر في الإلهيات لا يفيد واحتج عليه بوجهين: الأول: أن حقيقة الإله غير متصورة وإذا لم تكن الحقيقة متصورة استحال التصديق لا بثبوته ولا بثبوت صفة من صفاته. بيان الأول أن المعلوم عند البشر كون واجب الوجود منزها عن الحيز والجهة، وكونه موصوفا بالعلم والقدرة. أما الوجوب والتنزيه فهو قيد سلبي وليست حقيقته نفس هذا السلب. فلم يكن العلم بهذا السلب علما بحقيقته، وأما الموصوفية بالعلم والقدرة فهو عبارة عن انتساب ذاته إلى هذه الصفات وليست ذاته نفس هذا الانتساب فالعلم بهذا الانتساب ليس
92

علما بذاته. بيان الثاني أن التصديق موقوف على التصور، فإذا فقد التصور امتنع التصديق، ولا يقال ذاته تعالى وإن لم تكن متصورة بحسب الحقيقة المخصوصة التي له لكنها متصورة بحسب لوازمها، أعني أنا نعلم أنه شيء ما، يلزمه الوجوب والتنزيه والدوام فيحكم على هذا المتصور، قلنا هذه الأمور المعلومة إما أن يقال إنها نفس الذات وهو محال أو أمور خارجة عن الذات فلما لم نعلم الذات لا يمكننا أن نعلم كونها موصوفة بهذه الصفات فإن كان التصور الذي هو شرط إسناد هذه الصفات إلى ذاته هو أيضا تصور بحسب صفات آخر، فحينئذ يكون الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال. الوجه الثاني: أن أظهر الأشياء عندنا ذاتنا وحقيقتنا التي إليها نشير بقولنا أنا ثم الناس تحيروا في ماهية المشار إليه يقول أنا، فمنهم من يقول هو هذا البنية، ومنهم من يقول هو المزاج، ومنهم من يقول بعض الأجزاء الداخلة في هذه البنية، ومنهم من يقول شيء لا داخل هذا البدن ولا خارجه، فإذا كان الحال في أظهر الأشياء كذلك فما ظنك بأبعد الأشياء مناسبة عنا وعن أحوالنا.
أما المقام الثاني: وهو أن النظر المفيد للعلم غير مقدور لنا فقد احتجوا عليه بوجوه: أحدها: أن تحصيل التصورات غير مقدور فالتصديقات البديهية غير مقدورة فجميع
التصديقات غير مقدورة وإنما قلنا إن التصورات غير مقدورة لأن طالب تحصيلها إن كان عارفا بها استحال منه طلبها لأن تحصيل الحاصل محال، فإن كان غافلا عنها استحال كونه طالبا لها لأن الغافل عن الشيء لا يكون طالبا له. فإن قيل لم لا يجوز أن يكون معلوما من وجه ومجهولا من وجه. قلنا لأن الوجه الذي يصدق عليه أنه معلوم غير الوجه الذي يصدق عليه أنه غير معلوم، وإلا فقد صدق النفي والإثبات على الشيء الواحد وهو محال وحينئذ نقول الوجه المعلوم استحال طلبه لاستحالة تحصيل الحاصل والوجه الذي هو غير معلوم استحال طلبه لأن المغفول عنه لا يكون مطلوبا، وإنما قلنا إن التصورات لما كانت غير كسبية استحال كون التصديقات البديهية كسبية وذلك لأن عند حضور طرفي الموضوع والمحمول في الذهن من القضية البديهية إما أن يلزم من مجرد حضورهما جزم الذهن بإسناد أحدهما إلى الآخر بالنفي أو الإثبات، أو لا يلزم، فإن لم يلزم لم تكن القضية بديهية بل كانت مشكوكة. وإن لزم كان التصديق واجب الحصول عند حضور ذينك التصورين وممتنع الحصول عند عدم حضورهما، وما يكون واجب الدوران نفيا وإثباتا مع ما لا يكون مقدورا نفيا وإثباتا وجب أن يكون أيضا كذلك فثبت أن التصديقات البديهية غير كسبية؛ وإنما قلنا إن هذه التصديقات لما لم تكن كسبية لم يكن شيء من التصديقات كسبيا لأن التصديق الذي لا يكون بديهيا، لا بد وأن يكون نظريا فلا يخلو إما أن يكون واجب اللزوم عند حضور تلك التصديقات البديهية أو لا يكون فإن لم يكن واجب اللزوم منها لم يلزم من صدق تلك المقدمات صدق ذلك المطلوب، فلم يكن ذلك استدلالا يقينيا بل إما ظنا أو اعتقادا
93

تقليديا، وإن كان واجبا فكانت تلك النظريات واجبة الدوران نفيا وإثباتا مع تلك القضايا الضرورية، فوجب أن لا يكون شيء من تلك النظريات مقدورا للعبد أصلا. وثانيها: أن الإنسان إنما يكون قادرا على إدخال الشيء في الوجود لو كان يمكنه أن يميز ذلك المطلوب عن غيره والعلم إنما يتميز عن الجهل بكونه مطابقا للمعلوم دون الجهل وإنما يعلم ذلك لو علم المعلوم على ما هو عليه، فإذن لا يمكنه إيجاد العلم بذلك الشيء إلا إذا كان عالما بذلك الشيء لكن ذلك محال لاستحالة تحصيل الحاصل، فوجب أن لا يكون العبد متمكنا من إيجاد العلم ولا من طلبه. وثالثها: أن الموجب للنظر، إما ضرورة العقل، أو النظر أو السمع. والأول: باطل لأن الضروري لم يشترط العقل فيه، ووجوب الفكر والنظر ليس كذلك، بل كثير من العقلاء يستقبحونه، ويقولون إنه في الأكثر يفضي بصاحبه إلى الجهل، فوجب الاحتراز منه، والثاني: أيضا باطل، لأنه إذا كان العلم بوجوبه يكون نظريا، فحينئذ لا يمكنه العلم بوجوب النظر قبل النظر، فتكليفه بذلك يكون تكليف ما لا يطاق، وأما بعد النظر فلا يمكنه النظر، لأنه لا فائدة فيه، والثالث: باطل، لأنه قبل النظر لا يكون متمكنا من معرفة وجوب النظر، وبعد النظر لا يمكنه إيجابه أيضا لعدم الفائدة، وإذا بطلت الأقسام ثبت نفي الوجوب. المقام الثالث: وهو أن بتقدير كون النظر مفيدا للعلم ومقدورا للمكلف، لكنه يقبح من الله أن يأمر المكلف به، وبيانه من وجوه: أحدها: أن النظر في أكثر الأمر يفضي بصاحبه إلى الجهل فالمقدم عليه مقدم على أمر يفضي به غالبا إلى الجهل. وما يكون كذلك يكون قبيحا، فوجب أن يكون الفكر قبيحا، والله تعالى لا يأمر بالقبيح. وثانيها: أن الواحد منا مع ما هو عليه من النقص وضعف الخاطر وما يعتريه من الشبهات الكثيرة المتعارضة، لا يجوز أن يعتمد على عقله في التمييز بين الحق والباطل. فلما رأينا أرباب المذاهب كل واحد منهم يدعي أن الحق معه، وأن الباطل مع خصمه ثم إذا تركوا التعصب واللجاج وأنصفوا، وجدوا الكلمات متعارضة، وذلك يدل على عجز العقل عن إدراك هذه الحقائق. وثالثها: أن مدار الدين لو كان على النظر في حقائق الدلائل لوجب أن لا يستقر الإنسان على الإيمان ساعة واحدة، لأن صاحب النظر إذا خطر بباله سؤال على مقدمة من مقدمات دليل الدين، فقد صار بسبب ذلك السؤال شاكا في تلك المقدمة، وإذا صار بعض مقدمات الدليل مشكوكا فيه. صارت النتيجة ظنية. لأن المظنون لا يفيد اليقين، فيلزم أن يخرج الإنسان في كل ساعة عن الدين، بسبب كل ما يخطر بباله من الأسئلة والمباحث. ورابعها: أنه اشتهر في الألسنة أن من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق، وذلك يدل على أنه لا يجوز فتح الباب فيه: المقام الرابع: أن بتقدير أنه في نفسه غير قبيح، ولكنا نقيم الدلالة على أن الله ورسوله ما أمرا بذلك، والذي يدل عليه أن هذه المطالب لا تخلو، إما أن يكون العلم بدلائلها علما ضروريا غنيا عن التعلم والاستفادة، وإما أن لا يكون كذلك، بل يحتاج في تحصيلها إلى
94

التأمل والتدبر والاستفادة، والأول باطل، وإلا لوجب أن يحصل ذلك لكل الناس وهو مكابرة ولأنا نجرب أذكى الناس في هذا العلم فلا يمكنه تحصيله في السنين المتطاولة بعد الاستعانة بالأستاذ والتصانيف. وإن كان الثاني وجب أن لا يحصل ذلك العلم للإنسان، إلا بعد الممارسة الشديدة والمباحثة الكثيرة، فلو كان الدين مبنيا عليه، لوجب أن لا يحكم الرسول بصحة إسلام الرجل إلا بعد أن يسأله عن هذه المسائل، ويجربه في معرفة هذه الدلائل على الاستقصاء. ولو فعل الرسول ذلك لاشتهر ولما لم يشتهر بل المشهور المنقول عنه بالتواتر أنه كان يحكم بإسلام من يعلم بالضرورة أنه لم يخطر بباله شيء من ذلك، علمنا أن ذلك غير معتبر في صحة الدين، فإن قيل: معرفة أصول الدلائل حاصلة لأكثر العقلاء، إنما المحتاج إلى التدقيق دفع الأسئلة والجواب عن الشبهات وذلك غير معتبر في صحة أصل الدين، قلنا هذا ضعيف لأن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان البتة، وذلك لأن الدليل إذا كان مبنيا على مقدمات عشرة فإن كان الرجل جاز ما بصحة تلك المقدمات كان عارفا بالدليل معرفة لا يمكن الزيادة عليها، لأن الزيادة عل تلك العشرة إن كان معتبرا في تحقق ذلك الدليل بطل قولنا إن ذلك الدليل مركب من العشرة فقط، وإلا لم يكن معتبرا لم يكن العلم به علما بزيادة شيء في الدليل، بل يكون علما منفصلا. فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان أيضا، لأن تسعة منها لو كانت يقينية وكانت المقدمة العاشرة ظنية استحال كون المطلوب يقينيا لأن المبني على الظني أولى أن يكون ظنيا فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان وبطل ببطلانه ذلك السؤال مثاله إذا رأى الإنسان حدوث مطر ورعد وبرق بعد أن كان الهواء صافيا قال سبحان الله، فمن الناس من قال: إن قوله سبحان الله يدل على أنه عرف الله بدليله، وهذا باطل لأنه إنما يكون عارفا بالله إذا عرف بالدليل أن ذلك الحادث لا بد له من مؤثر ثم يعرف بالدليل أنه يستحيل أن يكون المؤثر فيه سوى الله تعالى، وهذه المقدمة الثانية إنما تستقيم لو عرف بالدليل أنه يستحيل إسناد هذا الحدوث إلى الفلك والنجوم، والطبيعة والعلة الموجبة. فإنه لو لم يعرف بطلان ذلك بالدليل لكان معتقدا لهذه المقدمة الثانية من غير دليل
فتكون المقدمة تقليدية ويكون المبني عليها تقليدا لا يقينا فثبت بهذا فساد ما قلتموه. المقام الخامس: أن نقول الاشتغال بعلم الكلام بدعة، والدليل عليه القرآن والخبر والإجماع وقول السلف والحكم. أما القرآن فقوله تعالى: * (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) * (الزخرف: 58) ذم الجدل وقال أيضا: * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) * (الأنعام: 68) قالوا: فأمر بالإعراض عنهم عند خوضهم في آيات الله تعالى وأما الخبر فقوله عليه السلام: " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق " وقوله عليه السلام: " عليكم بدين العجائز " وقوله: " إذا ذكر القدر فأمسكوا " وأما الإجماع فهو أن هذا علم لم تتكلم فيه الصحابة فيكون بدعة فيكون حراما، أما أن الصحابة ما تكلموا فيه فظاهر، لأنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نصب نفسه للاستدلال في
95

هذه الأشياء، بل كانوا من أشد الناس إنكارا على من خاض فيه، وإذا ثبت هذا ثبت أنه بدعة وكل بدعة حرام بالاتفاق، أما الأثر، قال مالك بن أنس: إياكم والبدع قيل وما البدع يا أبا عبد الله؟ قال أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون. وسئل سفيان بن عيينة عن الكلام فقال اتبع السنة ودع البدعة. وقال الشافعي رضي الله عنه: لأن يبتلي الله العبد بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام وقال: لو أوصى رجل بكتبه العلمية لآخر وكان فيها كتب الكلام لم تدخل تلك الكتب في الوصية وأما الحكم فهو أنه لو أوصى للعلماء لا يدخل المتكلم فيه والله أعلم فهذا مجموع كلام الطاعنين في النظر والاستدلال. والجواب: أما الشبه التي تمسكوا بها في أن النظر لا يفيد العلم فهي فاسدة، لأن الشبه التي ذكروها ليست ضرورية بل نظرية، فهم أبطلوا كل النظر ببعض أنواعه وهو متناقض، وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن النظر غير مقدور فهي فاسدة، لأنهم مختارون في استخراج تلك الشبه فيبطل قولهم إنها ليست اختيارية، وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن التعاويل على النظر قبيح فهي متناقضة، لأنه يلزمهم أن يكون إيرادهم لهذه الشبه التي أوردوها قبيحا، وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن الرسول ما أمر بذلك فهو باطل، لأنا بينا أن الأنبياء بأسرهم ما جاءوا إلا بالأمر بالنظر والاستدلال. وأما قوله تعالى: * (ما ضربوه لك إلا جدلا) * فهو محمول على الجدل بالباطل، توفيقا بينه وبين قوله: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * وأما قوله: * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) * (الأنعام: 68) فجوابه أن الخوض ليس هو النظر، بل الخوض في الشيء هو اللجاج، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: " تفكروا في الخالق " فذاك إنما أمر به ليستفاد منه معرفة الخالق وهو المطلوب. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: " عليكم بدين العجائز " فليس المراد، إلا تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأمور على الله على ما قلنا وأما قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا ذكر القدر فأمسكوا " فضعيف، لأن النهي الجزئي لا يفيد النهي الكلي، وأما الإجماع فنقول: إن عنيتم أن الصحابة لم يستعملوا ألفاظ المتكلمين فمسلم، لكنه لا يلزم منه القدح في الكلام، كما أنهم لم يستعملوا ألفاظ الفقهاء، ولا يلزم منه القدح في الفقه البتة، وإن عنيتم أنهم ما عرفوا الله تعالى ورسوله بالدليل، فبئس ما قلتم، وأما تشديد السلف على الكلام فهو محمول على أهل البدعة، وأما مسألة الوصية فهي معارضة بما أنه لو أوصى لمن كان عارفا بذات الله وصفاته وأفعاله وأنبيائه ورسله لا يدخل فيه الفقيه. ولأن مبنى الوصايا على العرف فهذا إتمام هذه المسألة والله أعلم.
المسألة الثانية: أما حقيقة العبادة فذكرناها في قوله: * (إياك نعبد) * وأما الخلق فحكى الأزهري صاحب " التهذيب " عن ابن الأنباري أنه التقدير والتسوية، واحتجوا فيه بالآية والشعر والاستشهاد، أما الآية فقوله تعالى: * (أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14) أي المقدرين * (وتخلقون إفكا) * (العنكبوت: 17) أي
96

تقدرون كذبا * (وإذ تخلق من الطين) * (المائدة: 110) أي تقدر. وأما الشعر فقول زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وقال آخر: ولا يئط بأيدي الخالقين ولا * أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وأما الاستشهاد يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس، ومنه قول العرب للأحاديث التي لا يصدق بها، أحاديث الخلق، ومنه قوله تعالى: * (إن هذا إلا خلق الأولين) * (الشعراء: 137) والخلاق المقدار من الخير، وهو خليق أي جدير كأنه الذي منه الخلاق، والصخرة الخلقاء الملساء لأن في الملاسة استواء، وفي الخشونة اختلاف ومنه " أخلق الثوب " لأنه إذا بلي صار أملس واستوى نتوه واعوجاجه، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والاستواء قال القاضي عبد الجبار: الخلق فعل بمعنى التقدير واللغة لا تقتضي أن ذلك لا يتأتى إلا من الله تعالى بل الكتاب نطق بخلافه في قوله: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14)، * (وإذ تخلق من طين كهيئة الطير) * (المائدة: 110) لكنه تعالى لما كان يفعل الأفعال لعلمه بالعواقب وكيفية المصلحة ولا فعل له إلا كذلك لا جرم اختص بهذا الاسم وقال أستاذه أبو عبد الله البصري إطلاق اسم خالق على الله محال لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والنظر والحسبان وذلك في حق الله محال، وقال جمهور أهل السنة والجماعة: الخلق عبارة عن الإيجاد والإنشاء واحتجوا عليه بقول المسلمين لا خالق إلا الله، ولو كان الخلق عبارة عن التقدير لما صح ذلك.
المسألة الثالثة: اعلم أنه سبحانه أمر بعبادته والأمر بعبادته موقوف على معرفة وجوده، ولما لم يكن العلم بوجوده ضروريا بل استدلاليا لا جرم أورد ههنا ما يدل على وجوده، واعلم أننا بينا في " الكتب العقلية " أن الطريق إلى إثباته سبحانه وتعالى إما الإمكان، وإما الحدوث. وإما مجموعهما، وكل ذلك إما في الجواهر أو في الأعراض، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجوده سبحانه وتعالى ستة لا مزيد عليها. أحدها: الاستدلال بإمكان الذوات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (والله الغني وأنتم الفقراء) * (محمد: 38) وبقوله حكاية عن إبراهيم: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) * (الشعراء: 77) وبقوله: * (وأن إلى ربك المنتهى) * (النجم: 42) وقوله: * (قل الله ثم ذرهم، ففروا إلى الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * وثانيها: الاستدلال بإمكان الصفات وإليه الإشارة بقوله: * (خلق السماوات والأرض) * وبقوله: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) * على ما سيأتي تقريره. وثالثها: الاستدلال بحدوث الأجسام. وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) ورابعها: الاستدلال بحدوث الأعراض، وهذه الطريقة أقرب الطرق إلى أفهام الخلق، وذلك محصور في أمرين: دلائل الأنفس، ودلائل الآفاق، " والكتب الإلهية " في الأكثر مشتملة على هذين البابين، والله تعالى جمع ههنا بين هذين الوجهين. أما دلائل الأنفس، فهي
أن كل أحد يعلم بالضرورة
97

أنه ما كان موجودا قبل ذلك وأنه صار الآن موجودا وأن كل ما وجد بعد العدم فلا بد له من موجد وذلك الموجد ليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس، لأن عجز الخلق عن مثل هذا التركيب معلوم بالضرورة فلا بد من موجد يخالف هذه الموجودات حتى يصح منه إيجاد هذه الأشخاص إلا أن لقائل أن يقول ههنا: لم لا يجوز أن يكون المؤثر طبائع الفصول والأفلاك والنجوم؟ ولما كان هذا السؤال محتملا ذكر الله تعالى عقيبه ما يدل على افتقار هذه الأشياء إلى المحدث والموجد وهو قوله: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) * وهو المراد من دلائل الآفاق ويندرج فيها كل ما يوجد من تغييرات أحوال العالم من الرعد والبرق والرياح والسحاب واختلاف الفصول، وحاصلها يرجع إلى أن الأجسام الفلكية والأجسام العنصرية مشتركة في الجسمية، فاختصاص بعضها ببعض الصفات من المقادير والأشكال والأحياز لا يمكن أن يكون للجسمية ولا لشيء من لوازمها. وإلا وجب اشتراك الكل في تلك الصفات فلا بد وأن يكون لأمر منفصل، وذلك الأمر إن كان جسما عاد البحث في أنه لم اختص بتلك المؤثرية من بين تلك الأجسام، وإن لم يكن جسما فإما أن يكون موجبا أو مختارا. والأول باطل، وإلا لم يكن اختصاص بعض الأجسام ببعض الصفات أولى من العكس فلا بد وأن يكون قادرا، فثبت بهذه الدلالة افتقار جميع الأجسام إلى مؤثر قادر ليس بجسم، ولا بجسماني، وعند هذا ظهر أن الاستدلال بحدوث الأعراض على وجود الصانع لا يكفي إلا بعد الاستعانة بإمكان الأعراض والصفات، وإذا عرفت هذا فنقول: إن الله تعالى إنما خص هذا النوع من الأدلة بالإيراد في أول كتابه لوجهين: الأول: أن هذا الطريق لما كان أقرب الطرق إلى أفهام الخلق وأشدها التصاقا بالعقول، وكانت الأدلة المذكورة في القرآن يجب أن تكون أبعدها عن الدقة وأقربها إلى الأفهام لينتفع به كل أحد من الخواص والعوام لا جرم ذكر الله تعالى في أول كتابه ذلك. الثاني: أنه ليس الغرض من الدلائل القرآنية المجادلة، بل الغرض منها تحصيل العقائد الحقة في القلوب، وهذا النوع من الدلائل أقوى من سائر الطرق في هذا الباب، لأن هذا النوع من الدلائل كما يفيد العلم بوجود الخالق فهو يذكر نعم الخالق علينا، فإن الوجود والحياة من النعم العظيمة علينا، وتذكير النعم مما يوجب المحبة وترك المنازعة وحصول الانقياد، فلهذا السبب كان ذكر هذا النوع من الأدلة أولى من سائر الأنواع. واعلم أن للسلف طرقا لطيفة في هذا الباب، أحدها: يروى أن بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر الصادق رضي الله عنه. فقال جعفر: هل ركبت البحر؟ قال نعم. قال هل رأيت أهواله؟ قال بلى؛ هاجت يوما رياح هائلة فكسرت السفن وغرقت الملاحين، فتعلقت أنا ببعض ألواحها ثم ذهب عني ذلك اللوح فإذا أنا مدفوع في تلاطم الأمواج حتى دفعت إلى الساحل، فقال جعفر قد كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح ثم على اللوح حتى تنجيك، فلما ذهبت هذه الأشياء عنك هل أسلمت
98

نفسك للهلاك أم كنت ترجو السلامة بعد؟ قال بل رجوت السلامة، قال ممن كنت ترجوها فسكت الرجل فقال جعفر: إن الصانع هو الذي كنت ترجوه في ذلك الوقت، وهو الذي أنجاك من الغرق فأسلم الرجل على يده. وثانيها: جاء في " كتاب ديانات العرب " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمران بن حصين " كم لك من إله " قال عشرة، قال فمن لغمك وكربك ودفع الأمر العظيم إذا نزل بك من جملتهم؟ قال الله، قال عليه السلام: " مالك من إله إلا الله "، وثالثها: كان أبو حنيفة رحمه الله سيفا على الدهرية، وكانوا ينتهزون الفرصة ليقتلوه فبينما هو يوما في مسجده قاعد إذ هجم عليه جماعة بسيوف مسلولة وهموا بقتله فقال لهم: أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم فقالوا له هات، فقال: ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا: لا، هذا شيء لا يقبله العقل؟ فقال أبو حنيفة: يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجري فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ؟ فبكوا جميعا وقالوا: صدقت وأغمدوا سيوفهم وتابوا. ورابعها: سألوا الشافعي رضي الله عنه ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال: ورقة الفرصاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ قالوا: نعم، قال: فتأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم، والنحل فيخرج منها العسل. والشاة فيخرج منها البعر، ويأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك مع أن الطبع واحد؟ فاستحسنوا منه ذلك وأسلموا على يده وكان عددهم سبعة عشر. وخامسها: سئل أبو حنيفة رضي الله عنه مرة أخرى فتمسك بأن الوالد يريد الذكر فيكون أنثى، وبالعكس فدل على الصانع، وسادسها: تمسك أحمد بن حنبل رضي الله عنه بقلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها ظاهرها كالفضة المذابة وباطنها كالذهب الإبريز، ثم انشقت الجدران وخرج من القلعة حيوان سميع بصير فلا بد من الفاعل، عنى بالقلعة البيضة وبالحيوان الفرخ، وسابعها: سأل هارون الرشيد مالكا عن ذلك فاستدل باختلاف الأصوات وتردد النغمات وتفاوت اللغات. وثامنها: سئل أبو نواس عنه، فقال:
تأمل في نبات الأرض وانظر * إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات * وأزهار كما الذهب السبيك
على قضب الزبر جد شاهدات * بأن الله ليس له شريك
وتاسعها: سئل أعرابي عن الدليل فقال: البعرة تدل على البعير. والروث على الحمير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج. وبحار ذات أمواج، أما تدل
99

على الصانع الحليم العليم القدير؟ وعاشرها: قيل لطبيب: بم عرفت ربك؟ قال باهليلج مجفف أطلق، ولعاب ملين أمسك! وقال آخر: عرفته بنحلة بأحد طرفيها تعسل، والآخر تلسع! والعسل مقلوب اللسع. وحادي عشرها: حكم البديهية في قوله: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) * (الزخرف: 87)، * (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) * (غافر: 87).
المسألة الرابعة: قال القاضي: الفائدة في قوله: * (الذي خلقكم) * أن العبادة لا تستحق إلا بذلك، فلما ألزم عباده بالعبادة بين ماله ولأجله تلزم العبادة. فإن قيل فما الفائدة في قوله: * (والذين من قبلكم) * وخلق الله من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم، قلنا الجواب من وجهين: الأول: إن الأمر وإن كان على ما ذكرت ولكن علمهم بأن الله تعالى خلقهم كعلمهم بأنه تعالى خلق من قبلهم لأن طريقة العلم بذلك واحدة. الثاني: أن من قبلهم كالأصول لهم، وخلق الأصول يجري مجرى الأنعام على الفروع فكأنه تعالى يذكرهم عظيم إنعامه عليهم، كأنه تعالى يقول: لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت بل كنت منعما عليك قبل أن وجدت بألوف سنين بسبب أني كنت خالقا لأصولك وآبائك.
المسألة الخامسة: في قوله تعالى: * (لعلكم تتقون) * بحثان: البحث الأول: أن كلمة لعل للترجي والإشفاق، تقول لعل زيدا يكرمني وقال تعالى: * (لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44)، * (لعل الساعة قريب) * (الشورى: 17) ألا ترى إلى قوله: * (والذين آمنوا مشفقون منها) * (الشورى: 18) والترجي والإشفاق لا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة وذلك على الله تعالى محال، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجوه: أحدها: أن معنى " لعل " راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى فقوله: * (لعله يتذكر أو يخشى) * أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه، ثم الله تعالى عالم بما يؤول إليه أمره. وثانيها: أن من عادة الملوك والعظماء أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا لعل وعسى ونحوهما من الكلمات، أو للظفر منهم بالرمزة، أو الابتسامة أو النظرة الحلوة فإذا عثر على شيء من ذلك لم يبق للطالب شك في الفوز بالمطلوب فعلى هذا الطريق ورد لفظ لعل في كلام الله تعالى. وثالثها: ما قيل أن لعل بمعنى كي، قال صاحب " الكشاف ": ولعل لا يكون بمعنى كي، ولكن كلمة لعل للأطماع، والكريم الرحيم إذا أطمع فعلى ما يطمع فيه لا محالة تجري أطماعه مجرى وعده المحتوم، فلهذا السبب قيل لعل في كلام الله تعالى بمعنى كي. ورابعها: أنه تعالى فعل بالمكلفين ما لو فعله غيره لاقتضى رجاء حصول المقصود، لأنه تعالى لما أعطاهم القدرة على الخير والشر وخلق لهم العقول الهادية وأزاح أعذارهم، فكل من فعل بغيره ذلك فإنه يرجو منه حصول المقصود، فالمراد من لفظة لعل فعل ما لو فعله غيره لكان موجبا للرجاء. خامسها: قال القفال: لعل مأخوذ من تكرر الشيء كقولهم عللا بعد نهل، واللام فيها هي لام التأكيد كاللام التي تدخل في لقد، فأصل لعل عل، لأنهم يقولون علك أن تفعل كذا، أي
100

لعلك، فإذا كانت حقيقته التكرير والتأكيد كان قول القائل: افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك معنا. افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه. البحث الثاني: أن لقائل أن يقول: إذا كانت العبادة تقوى فقوله: * (اعبدوا ربكم لعلكم تتقون) * جار مجرى قوله: اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون. أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، والجواب من وجهين: الأول: لا نسلم أن العبادة نفس التقوى، بل العبادة فعل يحصل به التقوى، لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار، والعبادة فعل المأمور به، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز عن المضار بل يوجب الاحتراز، فكأنه تعالى قال: اعبدوا ربكم لتحترزوا به عن عقابه، وإذا قيل في نفس الفعل إنه اتقاء فذلك مجاز لأن الاتقاء غير ما يحصل به الاتقاء، لكن لاتصال أحد الأمرين بالآخر أجرى اسمه عليه. الثاني: أنه تعالى إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا على ما قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) فكأنه تعالى أمر بعبادة الرب الذي خلقهم لهذا الغرض، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة.
المسألة السادسة: قرأ أبو عمرو: خلقكم بالإدغام وقرأ أبو السميفع: وخلق من قبلكم وقرأ زيد بن علي: والذين من قبلكم. قال صاحب " الكشاف ": الوجه فيه أنه أفحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا كما أقحم جرير في قوله: يا تيم تيم عدي لا أبا لكموا تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه.
أما قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: لفظ " الذي " وهو موصول مع صلته، إما أن يكون في محل النصب وصفا للذي خلقكم أو على المدح والتعظيم، وإما أن يكون رفعا على الابتداء، وفيه ما في النصب من المدح.
المسألة الثانية: " الذي " كلمة موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة، كقولك ذهب الرجل الذي أبوه منطلق، فأبوه منطلق قضية معلومة، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الذي، وهو تحقيق قولهم. إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل، إذا ثبت هذا فقوله: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) * يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشا والسماء بناء وذلك تحقيق قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25، الزمر: 38).
المسألة الثالثة: أن الله تعالى ذكر ههنا خمسة أنواع من الدلائل اثنين من الأنفس وثلاثة من الآفاق، فبدأ أولا بقوله: * (خلقكم) * وثانيا: بالآباء والأمهات، وهو قوله: * (والذين من قبلكم) * وثالثا: بكون الأرض فراشا، ورابعا: بكون السماء بناء، وخامسا: بالأمور الحاصلة من مجموع السماء
101

والأرض، وهو قوله: * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * ولهذا الترتيب أسباب. الأول: أن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم، فكل ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة، وكان أولى بالذكر. فلهذا السبب قدم ذكر نفس الإنسان، ثم ثناه بآبائه وأمهاته ثم ثلث بالأرض، لأن الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء، وإنما قدم ذكر السماء على نزول الماء من السماء وخروج الثمرات بسببه لأن ذلك كالأمر المتولد من السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر، فلهذا السبب أخر الله ذكره عن ذكر الأرض والسماء. الثاني: هو أن خلق المكلفين أحياء قادرين أصل لجميع النعم، وأما خلق الأرض والسماء والماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق
والحياة والقدرة والشهوة، فلا جرم قدم ذكر الأصول على الفروع. الثالث: أن كل ما في الأرض والسماء من دلائل الصانع فهو حاصل في الإنسان، وقد حصل في الإنسان من الدلائل ما لم يحصل فيهما؟ لأن الإنسان حصل فيه الحياة والقدرة والشهوة والعقل، وكل ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى. فلما كانت وجوه الدلائل له ههنا أتم كان أولى بالتقديم، واعلم أنا كما ذكرنا السبب في الترتيب فلنذكر في كل واحد من هذه الثلاثة من المنافع.
المسألة الرابعة: اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر ههنا أنه جعل الأرض فراشا، ونظيره قوله: * (أم من جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا) * (النحل: 61) وقوله: * (الذي جعل لكم الأرض مهادا) * (الزخرف: 10) واعلم أن كون الأرض فراشا مشروط بأمور: الشرط الأول: كونها ساكنة، وذلك لأنها لو كانت متحركة لكانت حركتها إما بالإستقامة أو بالاستدارة، فإن كانت بالاستقامة لما كانت فراشا لنا على الإطلاق لأن من طفر من موضع عال كان يجب أن لا يصل إلى الأرض لأن الأرض هاوية، وذلك الإنسان هاو، والأرض أثقل من الإنسان، والثقيلان إذا نزلا كان أثقلهما أسرعهما والأبطأ لا يلحق الأسرع فكان يجب أن لا يصل الإنسان إلى الأرض فثبت أنها لو كانت هاوية لما كانت فراشا، أما لو كانت حركتها بالاستدارة لم يكمل انتفاعنا بها؛ لأن حركة الأرض مثلا إذا كانت إلى المشرق والإنسان يريد أن يتحرك إلى جانب المغرب ولا شك أن حركة الأرض أسرع فكان يجب أن يبقى الإنسان على مكانه وأنه لا يمكنه الوصول إلى حيث يريد، فلما أمكنه ذلك علمنا أن الأرض غير متحركة لا بالاستدارة ولا بالاستقامة فهي ساكنة، ثم اختلفوا في سبب ذلك السكون على وجوه: أحدها: أن الأرض لا نهاية لها من جانب السفل، وإذا كان كذلك لم يكن لها مهبط فلا تنزل وهذا فاسد لما ثبت بالدليل تناهي الأجسام. وثانيها: الذين سلموا تناهي الأجسام قالوا الأرض ليست بكرة بل هي كنصف كرة وحدبتها فوق وسطحها أسفل وذلك السطح موضوع على الماء والهواء، ومن شأن الثقيل إذا انبسط أن يندغم على الماء والهواء مثل
102

الرصاصة فإنها إذا انبسطت طفت على الماء، وإن جمعت رسبت وهذا باطل الوجهين: الأول: أن البحث عن سبب وقوف الماء والهواء كالبحث عن سبب وقوف الأرض. والثاني: لم صار ذلك الجانب من الأرض منبسطا حتى وقف على الماء وصار هذا الجانب متحدبا؟. وثالثها: الذين قالوا سبب سكون الأرض جذب الفلك لها من كل الجوانب فلم يكن انجذابها إلى بعض الجوانب أولى من بعض فبقيت في الوسط وهذا باطل لوجهين: الأول: أن الأصغر أسرع انجذابا من الأكبر، فما بال الذرة لا تنجذب إلى الفلك. الثاني: الأقرب أولى بالانجذاب فالذرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب وكان يجب أن لا تعود. ورابعها: قول من جعل سبب سكونها دفع الفلك لها من كل الجوانب، كما إذا جعل شيء من التراب في قنينة ثم أديرت القنينة على قطبها إدارة سريعة، فإنه يقف التراب في وسط القنينة لتساوي الدفع من كل الجوانب. وهذا أيضا باطل من وجوه خمسة. الأول: الدفع إذا بلغ في القوة إلى هذا الحد فلم لا يحس به الواحد منا؟ الثاني: ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة السحب والرياح إلى جهة بعينها. الثالث: ما باله لم يجعل انتقالها إلى المغرب أسهل من انتقالها إلى المشرق. الرابع: يجب أن يكون الثقيل كلما كان أعظم أن تكون حركته أبطأ، لأن اندفاع الأعظم من الدافع القاسر، أبطأ من اندفاع الأصغر. الخامس: يجب أن تكون حركة الثقيل النازل من الابتداء أسرع من حركته عند الانتهاء، لأنه عند الابتداء، أبعد من الفلك. وخامسها: أن الأرض بالطبع تطلب وسط الفلك، وهو قول أرسطاطاليس وجمهور أتباعه، وهذا أيضا ضعيف؛ لأن الأجسام متساوية في الجسمية، فاختصاص البعض بالصفة التي لأجلها تطلب تلك الحالة لا بد وأن يكون جائزا، فيفتقر فيه إلى الفاعل المختار. وسادسها: قال أبو هاشم: النصف الأسفل من الأرض فيه اعتمادات صاعدة، والنصف الأعلى فيه اعتمادات هابطة فتدافع الاعتمادان فلزم الوقوف. والسؤال عليه: أن اختصاص كل واحد من النصفين بصفة مخصوصة لا يمكن إلا بالفاعل المختار. فثبت بما ذكرنا أن سكون الأرض ليس إلا من الله تعالى. وعند هذا نقول: انظر إلى الأرض لتعرف أنها مستقرة بلا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها أما أنها لا علاقة فوقها فمشاهد، على أنها لو كانت معلقة بعلاقة لاحتاجت العلاقة إلى علاقة أخرى لا إلى نهاية، وبهذا الوجه ثبت أنه لا دعامة تحتها فعلمنا أنه لا بد من ممسك يمسكها بقدرته واختياره ولهذا قال الله تعالى: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) * (فاطر: 41). الشرط الثاني: في كون الأرض فراشا لنا أن لا تكون في غاية الصلابة كالحجر، فإن النوم والمشي عليه مما يؤلم البدن، وأيضا فلو كانت الأرض من الذهب مثلا لتعذرت الزراعة عليها، ولا يمكن اتخاذ الأبنية منه لتعذر حفرها وتركيبها كما يراد؛ وأن لا تكون في غاية اللين، كالماء الذي تغوص فيه الرجل: الشرط الثالث: أن لا تكون في غاية اللطافة والشفافية فإن الشفاف لا يستقر النور عليه، وما كان كذلك فإنه لا يتسخن من الكواكب والشمس، فكان يبرد جدا
103

فجعل الله كونه أغبر، ليستقر النور عليه فيتسخن فيصلح أن يكون فراشا للحيوانات. الشرط الرابع: أن تكون بارزة من الماء، لأن طبع الأرض أن يكون غائصا في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطة بالأرض، ولو كانت كذلك لما كانت فراشا لنا، فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض جوانبها من الماء كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشا لنا، ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشا أن لا تكون كرة، واستدل بهذه الآية على أن الأرض ليست كرة، وهذا بعيد جدا، لأن الكرة إذا عظمت جدا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه، والذي يزيده تقريرا أن الجبال أوتاد الأرض ثم يمكن الاستقرار عليها، فهذا أولى والله أعلم.
المسألة الخامسة: في سائر منافع الأرض وصفاتها. فالمنفعة الأولى: الأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية لا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى الثانية: أن يتخمر الرطب بها فيحصل التماسك في أبدان المركبات. الثالثة: اختلاف بقاع الأرض، فمنها أرض رخوة، وصلبة، ورملة، وسبخة، وحرة، وهي قوله تعالى: * (وفي الأرض قطع متجاورات) * (الرعد: 4) وقال: * (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) * (الأعراف: 58) الرابعة: اختلاف ألوانها فأحمر، وأبيض، وأسود، ورمادي اللون، وأغبر، على ما قال تعالى: * (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) *. الخامسة: انصداعها بالنبات، قال تعالى: * (والأرض ذات الصدع) * (الطارق: 12). السادسة: كونها خازنة للماء المنزل من السماء وإليه الإشارة
بقوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون) * (المؤمنون: 18) وقوله: * (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) * (الملك: 30) السابعة: العيون والأنهار العظام التي فيها وإليه الإشارة بقوله) * (وجعل فيها رواسي وأنهارا) *. الثامنة: ما فيها من المعادن والفلزات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون) * (الحجر: 19) ثم بين بعد ذلك تمام البيان، فقال: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * (الحجر: 21). التاسعة: الخبء الذي تخرجه الأرض من الحب والنوى قال تعالى: * (إن الله فالق الحب والنوى) * (الأنعام: 95) وقال: * (يخرج الخبء في السماوات والأرض) * (النحل: 25) ثم إن الأر لها طبع الكرم لأنك تدفع إليها حبة واحدة، وهي تردها عليك سبعمائة * (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) * (البقرة: 261). العاشرة: حياتها بعد موتها؛ قال تعالى: * (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا) * (السجدة: 27) وقال: * (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون) * (يس: 33) الحادية عشرة: ما عليها من الدواب المختلفة الألوان والصور والخلق، وإليه الإشارة بقوله: * (خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة) * (لقمان: 10). والثانية عشر: ما فيها من النبات المختلف ألوانه وأنواعه ومنافعه، وإليه الإشارة بقوله: * (وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) * (ق: 7) فاختلاف ألوانها دلالة، واختلاف طعومها دلالة، واختلاف روائحها دلالة، فمنها قوت البشر، ومنها قوت البهائم، كما قال: * (كلوا
104

وارعوا أنعامكم) * (طه: 54) أما مطعوم البشر، فمنها الطعام، ومنها الأدام، ومنها الدواء، ومنها الفاكهة، ومنها الأنواع المختلفة في الحلاوة والحموضة. قال تعالى: * (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) * (فصلت: 10) وأيضا فمنها كسوة البشر، لأن الكسوة إما نباتية، وهي القطن والكتان، وإما حيوانية وهي الشعر والصوف والإبريسم والجلود، وهي من الحيوانات التي بثها الله تعالى في الأرض، فالمطعوم من الأرض، والملبوس من الأرض. ثم قال: * (ويخلق ما لا تعلمون) * وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى. ثم إنه سبحانه وتعالى جعل الأرض ساترة لقبائحك بعد مماتك، فقال: * (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا. منها خلقناكم وفيها نعيدكم) * (المرسلات: 25) ثم إنه سبحانه وتعالى جمع هذه المنافع العظيمة للسماء والأرض فقال: * (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) * (الجاثية: 13). الثالثة عشرة: ما فيها من الأحجار المختلفة، ففي صغارها ما يصلح للزينة فتجعل فصوصها للخواتم وفي كبارها ما يتخذ للأبنية، فانظر إلى الحجر الذي تخرج النار منه مع كثرته، وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته. ثم انظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير، وقلة النفع بهذا الشريف. الرابعة عشرة: ما أودع الله تعالى فيها من المعادن الشريفة، كالذهب والفضة، ثم تأمل فإن البشر استخرجوا الحرف الدقيقة والصنائع الجليلة واستخرجوا السمكة من قعر البحر، واستنزلوا الطير من أوج الهواء ثم عجزوا عن إيجاد الذهب والفضة، والسبب فيه أنه لا فائدة في وجودهما إلا الثمينة، وهذه الفائدة لا تحصل إلا عند العزة فالقادر على إيجادهما يبطل هذه الحكمة، فلذلك ضرب الله دونهما بابا مسدودا، إظهار لهذه الحكمة وإبقاء لهذه النعمة، ولذلك فإن ما لا مضرة على الخلق فيه مكنهم منه فصاروا متمكنين من اتخاذ الشبه من النحاس، والزجاج من الرمل، وإذا تأمل العاقل في هذه اللطائف والعجائب اضطر في افتقار هذه التدابير إلى صانع حكيم مقتدر عليم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. الخامسة عشرة: كثرة ما يوجد على الجبال والأراضي من الأشجار التي تصلح للبناء، والسقف، ثم الحطب. وما أشد الحاجة إليه في الخبز والطبخ قد نبه الله تعالى على دلائل الأرض ومنافعها بألفاظ لا يبلغها البلغاء ويعجز عنها الفصحاء فقال: * (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) * (الرعد: 3) وأما الأنهار فمنها العظيمة كالنيل، وسيحون، وجيحون، والفرات، ومنها الصغار، وهي كثيرة وكلها تحمل مياه عذبة للسقي والزراعة وسائر الفوائد.
المسألة السادسة: في أن السماء أفضل أم الأرض؟ قال بعضهم: السماء أفضل لوجوه: أحدها: أن السماء متعبد الملائكة، وما فيها بقعة عصى الله فيها أحد. وثانيها: لما أتى آدم عليه السلام في الجنة بتلك المعصية قيل له اهبط من الجنة، وقال الله تعالى لا يسكن في جواري من عصاني. وثالثها: قوله تعالى: * (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) * (المؤمنون: 32) وقوله: * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) * (الفرقان: 61) ولم يذكر في الأرض مثل ذلك. ورابعها: أن في أكثر الأمر ورد ذكر السماء مقدما
105

على الأرض في الذكر. وقال آخرون: بل الأرض أفضل لوجوه " ا " أنه تعالى وصف بقاعا من الأرض بالبركة بقوله: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) * (آل عمران: 96) " ب " * (في البقعة المباركة من الشجرة) * (القصص: 30) " ج " * (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) * (الإسراء: 1) " د " وصف أرض الشام بالبركة فقال: * (مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) * (الأعراف: 137) وخامسها: وصف جملة الأرض بالبركة فقال: * (قل أئنكم لتكفرون) * (فصلت: 9) إلى قوله: * (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها) * (فصلت: 10) فإن قيل: وأي بركة في الفلوات الخالية والمفاوز المهلكة؟ قلنا إنها مساكن للوحوش ومرعاها، ثم إنها مساكن للناس إذا احتاجوا إليها، فلهذه البركات قال تعالى: * (وفي الأرض آيات للموقنين) * (الذاريات: 20) وهذه الآيات وإن كانت حاصلة لغير الموقنين لكن لما لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للموقنين تشريفا لهم كما قال: * (هدى للمتقين) * وسادسها: أنه سبحانه وتعالى خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال: * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) * (طه: 55) ولم يخلق من السماوات شيئا لأنه قال: * (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) * (الأنبياء: 32). وسابعها: أن الله تعالى أكرم نبيه بها فجعل الأرض كلها مساجد له وجعل ترابها طهورا. أما قوله: * (السماء بناء) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى ذكر أمر السماوات والأرض في كتابه في مواضع، ولا شك أن إكثار ذكر الله تعالى من ذكر السماوات والأرض يدل على عظم شأنهما، وعلى أن له سبحانه وتعالى فيهما أسرارا عظيمة، وحكما بالغة لا يصل إليها أفهام الخلق ولا عقولهم.
المسألة الثانية: في فضائل السماء وهي من وجوه: الأول: أن الله تعالى زينها بسبعة أشياء بالمصابيح * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) * (الملك: 5) وبالقمر * (وجعل القمر فيهن نورا) * وبالشمس * (وجعل الشمس سراجا) * (نوج: 16) وبالعرش * (رب العرش العظيم) * (التوبة: 29) وبالكرسي * (وسع كرسيه السماوات والأرض) * (البقرة: 255) وباللوح * (في لوح محفوظ) * (البروج: 22) وبالقلم * (نون والقلم) * (القلم: 1) فهذه سبعة: ثلاثة منها ظاهرة، وأربعة خفية: ثبتت بالدلائل السمعية من الآيات والأخبار. الثاني: أنه تعالى سمى السماوات بأسماء تدل على عظم شأنها: سماء، وسقفا محفوظا، وسبعا طباقا، وسبعا شدادا. ثم ذكر عاقبة أمرها فقال: * (وإذا السماء فرجت) * (المرسلات: 9)، * (وإذا السماء كشطت) * (التكوير: 11)، * (يوم نطوي السماء) * (الأنبياء: 104)، * (يوم تكون السماء كالمهل) * (المعارج: 8)، * (يوم تمور السماء مورا) * (الطور: 9)، * (فكانت وردة كالدهان) * (الرحمن: 37) وذكر مبدأها في آيتين فقال: * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) * (فصلت: 11) وقال: * (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) * (الأنبياء: 30) فهذا الاستقصاء الشديد في كيفية حدوثهما وفنائهما يدل على أنه سبحانه خلقهما لحكمة بالغة على ما قال: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا) * (ص: 27)، والثالث: أنه تعالى جعل السماء قبلة الدعاء: فالأيدي ترفع إليها، والوجوه تتوجه نحوها، وهي منزل الأنوار ومحل الصفاء والأضواء والطهارة والعصمة عن الخلل والفساد. الرابع: قال بعضهم السماوات والأرضون على صفتين، فالسماوات مؤثرة غير متأثرة. والأرضون متأثرة غير مؤثرة
106

والمؤثر أشرف من القابل، فلهذا السبب قدم ذكر السماء على الأرض في الأكثر، وأيضا ففي أكثر الأمر ذكر السماوات بلفظ الجمع، والأرض بلفظ الواحد، فإنه لا بد من السماوات الكثيرة ليحصل بسببها الاتصالات المختلفة للكواكب وتغير مطارح الشعاعات، وأما الأرض فقابلة فكانت الأرض الواحدة كافية. الخامس: تفكر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير، فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر وتقوية له، حتى أن الأطباء يأمرون من أصابه وجع العين بالنظر إلى الزرقة، فانظر كيف جعل الله تعالى أديم السماء ملونا بهذا اللون الأزرق، لتنتفع به الأبصار الناظرة إليها، فهو سبحانه وتعالى جعل لونها أنفع الألوان، وهو المستنير وشكلها أفضل الأشكال، وهو المستدير، ولهذا قال: * (أو لم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج) * يعني ما فيها من فصول، ولو كانت سقفا غير محيط بالأرض لكانت الفروج حاصلة.
المسألة الثالثة: في بيان فضائل السماء وبيان فضائل ما فيها، وهي الشمس والقمر والنجوم أما الشمس فتفكر في طلوعها وغروبها، فلولا ذلك لبطل أمر العالم كله، فكيف كان الناس يسعون في معايشهم، ثم المنفعة في طلوع الشمس ظاهرة، ولكن تأمل النفع في غروبها فلولا غروبها لم يكن للناس هدو ولا قرار مع احتياجهم إلى الهدو والقرار لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء على ما قال تعالى: * (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) * (يونس: 67) وأيضا فلولا الغروب لكان الحرص يحملهم على المداومة على العمل على ما قال: * (وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا) * والثالث: أنه لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بشروق الشمس عليها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان، ويهلك ما عليها من نبات على ما قال: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا) * (الفرقان: 45) فصارت الشمس بحكمة الحق سبحانه وتعالى تطلع في وقت وتغيب في وقت، بمنزلة سراج يدفع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم هذا كله في طلوع الشمس وغروبها. أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله تعالى سببا لإقامة الفصول الأربعة ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر، ويقوي أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن، وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وينور الشجر ويهيج الحيوان للسفاد، وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار، وتنحل فضول الأبدان، ويجف وجه الأرض، ويتهيأ للبناء والعمارات، وفي الخريف يظهر اليبس والبرد فتنتقل الأبدان قليلا قليلا إلى الشتاء، فإنه إن وقع الانتقال دفعة واحدة هلكت الأبدان وفسدت، وأما حركة الشمس فتأمل في منافعها، فإنها لو كانت واقفة في موضع
107

واحد لاشتدت السخونة في ذلك الموضع واشتد البرد في سائر المواضع، لكنها تطلع في أول النهار من المشرق فتقع على ما يحاذيها من وجه المغرب، ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغروب فتشرق على الجوانب الشرقية فلا يبقى موضع مكشوف إلا ويأخذ حظا من شعاع الشمس، وأيضا كأن الله تعالى يقول لو وقفت في جانب الشرق والغنى قد رفع بناءه على كوة الفقير، فكان لا يصل النور إلى الفقير، لكنه تعالى يقول إن كان الغني منعه نور الشمس فأنا أدير الفلك وأديرها عليه حتى يأخذ الفقير نصيبه. وأما منافع ميلها في حركتها عن خط الاستواء، فنقول: لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصا ببقعة واحدة فكان سائر الجوانب يخلو عن المنافع الحاصلة منه وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال، وكانت القوة هناك لكيفية واحدة، فإن كانت حارة أفنت الرطوبات وأحالتها كلها إلى النارية ولم تتكون المتولدات فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية، وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى وخط متوسط بينهما على كيفية متوسطة فيكون في موضع شتاء دائم يكون فيه الهواء والعجاجة وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق، وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم يكن عودات متتالية؛ وكانت الكواكب تتحرك بطيئا لكان الميل قليل المنفعة وكان التأثير شديد الإفراط، وكان يعرض قريبا مما لم يكن ميل، ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت، فأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة، ثم تنتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة وتبقى في كل جهة برهة من الدهر تم بذلك تأثيره وكثرت منفعته، فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية. هذا أما القمر، وهو المسمى بآية الليل: فاعلم أنه سبحانه وتعالى جعل طلوعه وغيبته مصلحة، وجعل طلوعه في وقت مصلحة، وغروبه في وقت آخر مصلحة، أما غروبه ففيه نفع لمن هرب من عدوه فيستره الليل يخفيه فلا يلحقه طالب فينجو، ولولا
الظلام لأدركه العدو، وهو المراد من قول المتنبي:
وكم لظلام الليل عندي من يد * تخبر أن المانوية تكذب
وأما طلوعه ففيه نفع لمن ضل عنه شيء أخفاه الظلام وأظهره القمر. ومن الحكايات: أن أعرابيا نام عن جمله ليلا ففقده، فلما طلع القمر وجده فنظر إلى القمر وقال: إن الله صورك ونورك، وعلى البروج دورك، فإذا شاء نورك، وإذا شاء كورك، فلا أعلم مزيدا أسأله لك، ولئن أهديت إلي سرورا لقد أهدى الله إليك نورا، ثم أنشأ يقول:
ماذا أقول وقولي فيك ذو قصر * وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا * أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا
ولقد كان في العرب من يذم القمر ويقول: القمر يقرب الأجل، ويفضح السارق،
108

ويدرك الهارب. ويهتك العاشق، ويبلي الكتان، ويهرم الشبان، وينسى ذكر الأحباب، ويقرب الدين، ويدني الحين. وكان فيهم أيضا من يفضل القمر على الشمس من وجوه: أحدها: أن القمر مذكر. والشمس مؤنث لكن المتنبي طعن فيه بقوله:
فما التأنيث لاسم الشمس عيب * ولا التذكير فخر للهلال
وثانيها: أنهم قالوا: القمران، فجعلوا الشمس تابعة للقمر، ومنهم من فضل الشمس على القمر بأن الله تعالى قدمها على القمر في قوله: * (الشمس والقمر بحسبان) * (الرحمن:)، والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها) * (الشمس: 21) إلا أن هذه الحجة منقوضة بقوله: * (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) * (التغابن: 2) وقال: * (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) * (الحشر: 20) وقال: * (خلق الموت والحياة) * (الملك: 2) وقال: * (إن مع العسر يسرا) * (الشرح: 6) وقال: * (فمنهم ظالم) * الآية. أما النجوم: ففيها منافع. المنفعة الأولى: كونها رجوما للشياطين، والثانية: معرفة القبلة بها، والثالثة: أن يهتدي بها المسافر في البر والبحر، قال تعالى: * (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) * (الأنعام: 97) ثم النجوم على ثلاثة أقسام: غاربة لا تطلع كالكواكب الجنوبية، وطالعة لا تغرب كالشمالية، ومنها ما يغرب تارة ويطلع أخرى، وأيضا منها ثوابت، ومنها سيارات، ومنها شرقية، ومنها غربية والكلام فيها طويل. أما الذي تدعيه الفلاسفة من معرفة الأجرام والأبعاد. فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح
قال تعالى: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) * (الجن: 26، 27) وقال: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسراء: 85) وقال: * (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) * (هود: 31) وقال: * (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) * (الكهف: 51) فقد عجز الخلق عن معرفة ذواتهم وصفاتهم فكيف يقدرون على معرفة أبعد الأشياء عنهم، والعرب مع بعدهم عن معرفة الحقائق عرفوا ذلك، قال قائلهم:
وأعرف ما في اليوم والأمس قبله * ولكنني عن علم ما في غد عمي
وقال لبيد:
فوالله ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع
المسألة الرابعة: في شرح كون السماء بناء، قال الجاحظ: إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منورة كالمصابيح والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه، وضروب النبات مهيأة لمنافعه وضروب الحيوانات مصرفة في مصالحه، فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * فاعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض وكانت كالصدف والدرة المودعة فيه آدم وأولاده، ثم علم الله أصناف حاجاتهم فكأنه قال يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال: * (أنا صبينا الماء
109

صبا ثم شققنا الأرض شقا) * (عبس: 25، 26) فانظر يا عبدي أن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة، ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع، ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها سجن، فكيف الحال في الجنة، فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم؛ لأن الأم تسقيك لونا واحدا من اللبن، والأرض تطعمك كذا وكذا لونا من الأطعمة، ثم قال: * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) * (طه: 55) معناه نردكم إلى هذه الأم، وهذا ليس بوعيد؛ لأن المرء لا يوعد بأمه وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض، ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى، ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى، كما كنت في بطن الأم الصغرى؛ لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة، فضلا عن أن تكون لك كبيرة، بل كنت مطيعا لله بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض والإخراج به من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان، ومن أنواع الثمار رزقا لبني آدم ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم، ويعرفوا أن شيئا من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليفها إلا من كان مخالفا لها في الذات والصفات، وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى. وههنا سؤالات: السؤال الأول: هل تقولون إن الله تعالى هو الخالق لهذه الثمرات عقيب وصول الماء إليها بمجرى العادة، أو تقولون إن الله تعالى خلق في الماء طبيعة مؤثرة، وفي الأرض طبيعة قابلة، فإذا اجتمعا حصل الأثر من تلك
القوة التي خلقها الله تعالى؟ والجواب: لا شك أن على كلا القولين لا بد من الصانع الحكيم وأما التفصيل فنقول: لا شك أنه تعالى قادر على خلق هذه الثمار ابتداء من غير هذه الوسائط لأن الثمرة لا معنى لها إلا جسم قام به طعم ولون ورائحة ورطوبة، والجسم قابل لهذه الصفات، وهذه الصفات مقدورة لله تعالى ابتداء لأن المصحح للمقدورية إما الحدوث، أو الإمكان، وإما هما وعلى التقديرات فإنه يلزم أن يكون الله تعالى قادرا على خلق هذه الأعراض في الجسم ابتداء بدون هذه الوسائط، ومما يؤكد هذا الدليل العقلي من الدلائل النقلية ما ورد الخبر بأنه تعالى يخترع نعيم أهل الجنة للمثابين من غير هذه الوسائط، إلا أنا نقول قدرته على خلقها ابتداء لا تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام، وظاهر قول المتأخرين من المتكلمين إنكار ذلك ولا بد فيه من دليل. السؤال الثاني: لما كان قادرا على خلق هذه الثمار بدون هذه الوسائط فما الحكمة في خلقها بهذه الوسائط في هذه المدة الطويلة؟ والجواب: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد. ثم ذكروا من الحكم المفصلة وجوها: أحدها: أنه تعالى إنما أجرى العادة بأن لا يفعل ذلك إلا على ترتيب وتدريج، لأن المكلفين إذا تحلوا المشقة في الحرث والغرس طلبا
110

للثمرات وكدوا أنفسهم في ذلك حالا بعد حال علموا أنهم لما احتاجوا إلى تحمل هذه المشاق لطلب هذه المنافع الدنيوية، فلأن يتحملوا مشاق أقل من المشاق الدنيوية لطلب المنافع الأخروية التي هي أعظم من المنافع الدنيوية كان أولى، وصار هذا كما قلنا أنه تعالى قادر على خلق الشفاء من غير تناول الدواء لكنه أجرى عادته بتوقيفه عليه لأنه إذا تحمل مرارة الأدوية دفعا لضرر المرض، فلأن يتحمل مشاق التكليف دفعا لضرر العقاب كان أولى وثانيها: أنه تعالى لو خلقها دفعة من غير هذه الوسائط لحصل العلم الضروري بإسنادها إلى القادر الحكيم، وذلك كالمنافي للتكليف والابتلاء أما لو خلقها بهذه الوسائط فحينئذ يفتقر المكلف في إسنادها إلى القادر إلى نظر دقيق، وفكر غامض فيستوجب الثواب، ولهذا قيل: لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب. وثالثها: أنه ربما كان للملائكة ولأهل الاستبصار عبر في ذلك وأفكار صائبة. السؤال الثالث: قوله: * (وأنزل من السماء ماء) * يقتضي نزول المطر من السماء وليس الأمر كذلك فإن الأمطار إنما تتولد من أبخرة ترتفع من الأرض وتتصاعد إلى الطبقة الباردة من الهواء فتجتمع هناك بسبب البرد وتنزل بعد اجتماعها وذلك هو المطر. والجواب من وجوه: أحدها: أن السماء إنما سميت سماء لسموها فكل ما سماك فهو سماء فإذا نزل من السحاب فقد نزل من السماء وثانيها: أن المحرك لإثارة تلك الأجزاء الرطبة من عمق الأرض الأجزاء الرطبة * (أنزل من السماء ماء) * وثالثها: أن قول الله هو الصدق وقد أخبر أنه تعالى ينزل المطر من السماء، فإذا علمنا أنه مع ذلك ينزل من السحاب فيجب أن يقال ينزل من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض. السؤال الرابع: ما معنى من في قوله: * (من الثمرات) * الجواب فيه وجهان: أحدهما: التبعيض لأن المنكرين أعني ماء ورزقا يكتنفانه وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم. والثاني: أن يكون للبيان كقولك أنفقت من الدراهم إنفاقا، فإن قيل فيم انتصب رزقا؟ قلنا إن كان من للتبعيض كان انتصابه بأنه مفعول له. وإن كانت مبينة كان مفعولا لأخرج. السؤال الخامس: الثمر المخرج بماء السماء كثير، فلم قيل الثمرات دون الثمر أو الثمار؟ الجواب: تنبيها على قلة ثمار الدنيا وإشعارا بتعظيم أمر الآخرة والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) * ففيه سؤالات: السؤال الأول: بم تعلق قوله: * (فلا تجعلوا) * الجواب فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتعلق بالأمر، أي اعبدوا فلا تجعلوا لله أندادا فإن أصل العبادة وأساسها التوحيد. وثانيها: بلعل، والمعنى خلقكم لكي تنقوا وتخافوا عقابه فلا تثبتوا له ندا فإنه من أعظم موجبات العقاب.
وثالثها: بقوله: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا) * أي هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شركاء السؤال الثاني: ما الند؟ الجواب: أنه المثل المنازع وناددت الرجل نافرته من ند ندودا إذا نفر كأن كل واحد من الندين يناد صاحبه أي ينافره ويعانده، فإن قيل إنهم لم يقولوا إن الأصنام
111

تنازع الله.
قلنا لما عبدوها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم وكما تهكم بلفظ الند شنع عليهم بأنهم جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصلح أن يكون له ند قط، وقرأ محمد بن السميفع فلا تجعلوا لله ندا. السؤال الثالث: ما معنى * (وأنتم تعلمون) * الجواب: معناه إنكم لكمال عقولكم تعلمون أن هذه الأشياء لا يصح جعلها أندادا لله تعالى، فلا تقولوا ذلك فإن القول القبيح ممن علم قبحه يكون أقبح وههنا مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكا يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة، وهذا مما لم يوجد إلى الآن لكن الثنوية يثبتون إلهين: أحدهما: حليم يفعل الخير والثاني: سفيه يفعل الشر، وأما اتخاذ معبود سوى الله تعالى ففي الذاهبين إلى ذلك كثرة، الفريق الأول: عبدة الكواكب وهم الصابئة، فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق هذه الكواكب، وهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم، قالوا فيجب علينا أن نعبد الكواكب، والكواكب تعبد الله تعالى. والفريق الثاني: النصارى الذين يعبدون المسيح عليه السلام. والفريق الثالث: عبدة الأوثان، واعلم أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان، وذلك لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه السلام، وهو إنما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله تعالى عن قومه في قوله: * (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) * (نوح: 23) فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودة قبل نوح عليه السلام. وهي باقية إلى الآن بل أكثر أهل العالم مستمرون على هذه المقالة. والدين والمذهب الذي هذا شأنه يستحيل أن يكون بحيث يعرف فساده بالضرورة لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماوات والأرض علم ضروري فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه، فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك والعلماء ذكروا فيه وجوها: أحدها: ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض مصنفاته أن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ويعتقدون أن الله تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور، وهكذا حال الملائكة أيضا في صورهم الحسنة، وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر حسنة الرواء على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة، فيعكفون على
عبادتها قاصدين طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه. وثانيها: ما ذكره أكثر العلماء وهو أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب فإن بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس تحدث الفصول المختلفة والأحوال المتباينة، ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها، فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواتها وهي التي خلقت هذه العوالم، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم، فالأولون
112

اعتقدوا أنها هي الإله في الحقيقة والفريق الثاني: أنها هي الوسائط بين الله تعالى وبين البشر، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها، ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصناما وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات تلك الأجرام العالية، ومتقربين إلى أشباحها الغائبة، ثم لما طالت المدة ألغوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل، فهؤلاء في الحقيقة عبدة الكواكب. وثالثها: أن أصحاب الأحكام كانوا يعينون أوقاتا في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين ويزعمون أن من اتخذ طلسما في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أحوال مخصوصة نحو السعادة والخصب ودفع الآفات وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة ولما طالت مدة ذلك الفعل نسوا مبدأ الأمر واشتغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر. ورابعها: أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله تعالى اتخذوا صنما على صورته يعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعا لهم يوم القيامة عند الله تعالى على ما أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة في قوله: * (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * (يونس: 18) وخامسها: لعلهم اتخذوها محاريب لصلواتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ولما استمرت هذه الحالة ظن الجهال من القوم أنه يجب عبادتها. وسادسها: لعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل، فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل هذه المقالة عليها حتى ليصير بحيث يعلم بطلانه بضرورة العقل.
المسألة الثانية: فإن قال قائل: لما رجع حاصل مذهب عبدة الأوثان إلى هذه الوجوه التي ذكرتموها فمن أين يلزم من إثبات خالق العالم أن لا يجوز عبادة الأوثان؟ الجواب قلنا: إنه تعالى إنما نبه على كون الأرض والسماء مخلوقتين بما بينا أن الأرض والسماء يشاركون سائر الأجسام في الجسمية فلا بد وأن يكون اختصاص كل واحد منهما بما اختص به من الأشكال والصفات والأخبار بتخصيص مخصص وبينا أن ذلك المخصص لو كان جسما لافتقر هو أيضا إلى مخصص آخر، فوجب أن لا يكون جسما، إذا ثبت هذا فنقول: أما قول من ذهب إلى عبادة الأوثان بناء على اعتقاد الشبه فلما دللنا بهذه الدلالة على نفي الجسمية فقد بطل قوله، وأما القول الثاني: وهو أن هذه الكواكب هي المدبرة لهذا العالم فلما أقمنا الدلالة على أن كل جسم يفتقر في اتصافه بكل ما اتصف به إلى الفاعل المختار بطل كونها آلهة، وثبت أنها عبيد لا أرباب، وأما القول الثالث: وهو قول أصحاب الطلسمات فقد بطل أيضا لأن تأثير الطلسمات إنما يكون بواسطة قوى الكواكب، فلما دللنا على حدوث الكواكب ثبت قولنا وبطل قولهم. وأما القول الرابع والخامس: فليس في العقل ما يوجه أو يحيله، لكن الشرع لما منع منه وجب الامتناع عنه. وأما القول السادس: فهو أيضا بناء على التشبيه فثبت بما قدمنا أن إقامة الدلالة على افتقار
113

العالم إلى الصانع المختار المنزه عن الجسمية يبطل القول بعبادة الأوثان على كل التأويلات والله أعلم.
المسألة الثالثة: اعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج الإسكندر عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة واتخذوها معبودا لهم على حدة، وقد كان هيكل العلة الأولى - وهي عندهم الأمر الإلهي - وهيكل العقل الصريح، وهيكل السياسة المطلقة. وهيكل النفس والصورة مدورات كلها، وكان هيكل زحل مسدسا. وهيكل المشتري مثلثا.
وهيكل المريخ مستطيلا، وهيكل الشمس مربعا، وكان هيكل الزهرة مثلثا في جوفه مربع وهيكل عطارد مثلثا في جوفه مستطيل، وهيكل القمر مثمنا فزعم أصحاب التاريخ أن عمرو بن لحي لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام اتفقت له سفرة إلى البلقاء فرأى قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب نستنصر بها فننصر، ونستستقي بها فنسقى. فالتمس إليهم أن يكرموه بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف بهبل فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة ودعا الناس إلى تعظيمه، وذلك في أول ملك سابور ذي الأكتاف. واعلم أن من بيوت الأصنام المشهورة " غمدان " الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة صنعاء وخربه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، ومنها " نوبهار بلخ " الذي بناه منهو شهر الملك على اسم القمر ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل " ود " بدومة الجندل لكلب و " سواع " لبني هذيل و " يغوث " لبني مذحج و " يعوق " لهمدان و " نسر " بأرض حمير لذي الكلاع و " اللات " بالطائف لثقيف و " مناة " بيثرب للخزرج و " العزى " لكنانة بنواحي مكة و " أساف " ونائلة " على الصفا والمروة وكان قصي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن عبادتها ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل وهو الذي يقول:
أربا واحدا أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا * كذلك يفعل الرجل البصير
الكلام في النبوة
* (وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدآءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) *.
114

في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أقام الدلائل القاهرة على إثبات الصانع وأبطل القول بالشريك عقبه بما يدل على النبوة، وذلك يدل على فساد قول التعليمية الذين جعلوا معرفة الله مستفادة من معرفة الرسول، وقول الحشوية الذين يقولون لا تحصل معرفة الله إلا من القرآن والأخبار، ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مبنية على كون القرآن معجزا أقام الدلالة على كونه معجزا. واعلم أن كونه معجزا يمكن بيانه من طريقين: الأول: أن يقال إن هذا القرآن لا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون مساويا لسائر كلام الفصحاء، أو زائدا على سائر كلام الفصحاء بقدر لا ينقض العادة أو زائدا عليه بقدر ينقض، والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث، وإنما قلنا إنهما باطلان، لأنه لو كان كذلك لكان من الواجب أن يأتوا بمثل سورة منه إما مجتمعين أو منفردين، فإن وقع التنازع وحصل الخوف من عدم القبول فالشهود والحكام يزيلون الشبهة، وذلك نهاية في الاحتجاج لأنهم كانوا في معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية. وكانوا في محبة أبطال أمره في الغاية حتى بذلوا النفوس والأموال وارتكبوا ضروب المهالك والمحن، وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقبلون الحق فكيف الباطل، وكل ذلك يوجب الاتيان بما يقدح في قوله والمعارضة أقوى القوادح، فلما لم يأتوا بها علمنا عجزهم عنها فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم، وأن التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتا معتادا فهو إذن تفاوت ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزا، فهذا هو المراد من تقرير هذه الدلالة فظهر أنه سبحانه كما لم يكتف في معرفة التوحيد بالتقليد فكذا في معرفة النبوة لم يكتف بالتقليد؛ واعلم أنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان فصاحته، ومع ذلك فإنه في الفصاحة بلغ النهاية التي لا غاية لها وراءها فدل ذلك على كونه معجزا، أحدها: أن فصاحة العرب أكثرها في وصف مشاهدات مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة وليس في القرآن من هذه الأشياء شيء فكان يجب أن لا تحصل فيه الألفاظ الفصيحة التي اتفقت العرب عليها في كلامهم، وثانيها: أنه تعالى راعى فيه طريقة الصدق وتنزه عن الكذب في جميعه وكل شاعر ترك الكذب والتزم الصدق نزل شعره ولم يكن جيدا ألا ترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما نزل شعرهما. ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي وأن الله تعالى مع ما تنزه عن الكذب والمجازفة جاء بالقرآن فصيحا كما ترى. وثالثها: أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنما يتفق في القصيدة في البيت والبيتين. والباقي لا يكون كذلك، وليس كذلك القرآن لأنه كله فصيح بحيث يعجز الخلق عنه كما عجزوا عن جملته. ورابعها: أن كل من قال شعرا فصيحا في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول. وفي القرآن التكرار الكثير
115

ومع ذلك كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولم يظهر التفاوت أصلا. وخامسا: أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة، وأمثال هذه الكلمات توجب تقليل الفصاحة. وسادسها: أنهم قالوا إن شعر امرئ القيس يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل. وشعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فن فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن، أما القرآن فإنه جاء فصيحا في كل الفنون على غاية الفصاحة، ألا ترى أنه سبحانه وتعالى قال في الترغيب: * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) * (السجدة: 17) وقال تعالى: * (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) * (الزخرف 71) وقال في الترهيب: * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر الآيات) * (الإسراء: 68) وقال: * (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور. أم أمنتم) * (الملك: 16، 17) الآية وقال: * (وخاب كل جبار عنيد) * (إبراهيم: 15) إلى قوله: * (فكلا أخذنا بذنبه) * إلى قوله: * (ومنهم من أغرقنا) * (العنكبوت: 40) وقال في الوعظ ما لا مزيد عليه * (أفرأيت إن متعناهم سنين) * وقال في الإلهيات: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى ما تغيض الأرحام وما تزداد) * (الرعد: 8) إلى آخره) *. وسابعها: أن القرآن أصل العلوم كلها فعلم الكلام كله في القرآن، وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن، وكذا علم أصول الفقه. وعلم النحو واللغة، وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة، واستعمال مكارم الأخلاق، ومن تأمل " كتابنا في دلائل الإعجاز " علم أن القرآن قد بلغ في جميع وجوه الفصاحة إلى النهاية القصوى، الطريق الثاني: أن نقول: القرآن لا يخلوا إما أن يقال إنه كان بالغا في الفصاحة إلى حد الإعجاز، أو لم يكن كذلك فإن كان الأول ثبت أنه معجز. وإن كان الثاني كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة فعدم إتيانهم بالمعارضة مع كون المعارضة ممكنة ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها أمر خارق العادة فكان ذلك معجزا فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب.
المسألة الثانية: إنما قال: * (نزلنا) * على لفظ التنزيل دون الإنزال لأن المراد النزول على سبيل التدريج، وذكر هذا اللفظ هو اللائق بهذا المكان لأنهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند الله ومخالفا لما يكون من عند الناس لم ينزل هكذا نجوما سورة بعد سورة على حسب النوازل ووقوع الحوادث وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقا حينا فحينا بحسب ما يظهر من الأحوال المتجددة والحاجات المختلفة فإن الشاعر لا يظهر ديوان شعره دفعة والمترسل لا يظهر ديوان رسائله وخطبه دفعة فلو أنزله الله تعالى لأنزله على خلاف هذه العادة جملة * (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) * (الفرقان: 32) والله سبحانه وتعالى ذكر ههنا ما يدل على أن القرآن معجز مع ما يزيل هذه الشبهة وتقريره أن هذا القرآن النازل على هذا التدريج إما أن يكون من جنس مقدور البشر أو لا يكون، فإن كان
116

الأول وجب إتيانهم بمثله أو بما يقرب منه على التدريج، وإن كان الثاني ثبت أنه مع نزوله على التدريج معجز وقرئ " على عبادنا " يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.
المسألة الثالثة: السورة هي طائفة من القرآن، وواوها إن كانت أصلا فإما أن تسمى بسور المدينة وهو حائطها لأنها طائفة من القرآن محدودة كالبلد المسور أو لأنها
محتوية على فنون من العلم كاحتواء سور المدينة على ما فيها، وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة لأن السورة بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارئ وهي أيضا في أنفسها طوال وأوساط وقصار. أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين، وإن جعلت واوها منقلبة عن همزة فلأنها قطعة وطائفة من القرآن كالسورة التي هي البقية من الشيء والفضلة منه. فإن قيل فما فائدة تقطيع القرآن سورا قلنا من وجوه: أحدها: ما لأجله بوب المصنفون كتبهم أبوابا وفصولا. وثانيها: أن الجنس إذا حصل تحته أنواع كان أفراد كل نوع عن صاحبه أحسن. وثالثها: أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأثبت على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله، ومثله المسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى فرسخا نفس ذلك عنه ونشطه للسير. ورابعها: أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيجل في نفسه ذلك ويغتبط به، ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل.
المسألة الرابعة: قوله: * (فأتوا بسورة من مثله) * يدل على القرآن أن وما هو عليه من كونه سورا هو على حد ما أنزله الله تعالى بخلاف قول كثير من أهل الحديث: إنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان فلذلك صح التحدي مرة بسورة ومرة بكل القرآن.
المسألة الخامسة: اعلم أن التحدي بالقرآن جاء على وجوه: أحدها: قوله: * (فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى) * (القصص: 49). وثانيها: قوله: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (الإسراء: 88). وثالثها: قوله: * (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) * (هود: 13) ورابعها: قوله: * (فأتوا بسورة من مثله) * ونظير هذا كمن يتحدى صاحبه بتصنيفه فيقول ائتني بمثله، ائتني بنصفه، ائتني بربعه، ائتني بمسألة منه، فإن هذا هو النهاية في التحدي وإزالة العذر فإن قيل قوله: * (فأتوا بسورة من مثله) * يتناول سورة الكوثر، وسورة العصر وسورة قل يا أيها الكافرون، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الإتيان بأمثال هذه السور خارج عن مقدور البشر كان ذلك مكابرة والإقدام على أمثال هذه المكابرات مما يطرق التهمة إلى الدين، قلنا فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا إن بلغت هذه السورة في الفصاحة إلى حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن الأمر كذلك كان امتناعهم عن المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزا. فعلى هذين التقديرين يحصل المعجز.
117

المسألة السادسة: الضمير في قوله: * (من مثله) * إلى ماذا يعود وفيه وجهان: أحدهما: أنه عائد إلى " ما " في قوله: * (مما نزلنا على عبدنا) * أي فأتوا بسورة مما هو على صفته في الفصاحة وحسن النظم والثاني: أنه عائد إلى " عبدنا " أي فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشرا أميا لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء، والأول مروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن وأكثر المحققين، ويدل على الترجيح له وجوه: أحدها: أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لا سيما ما ذكره في يونس * (فأتوا بسورة مثله) *. وثانيها: أن البحث إنما وقع في المنزل لأنه قال: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا) * فوجب صرف الضمير إليه، ألا ترى أن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا شيئا مما يماثله وقضية الترتيب لو كان الضمير مردودا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال: وإن ارتبتم في أن محمد منزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله. وثالثها: أن الضمير لو كان عائدا إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا وسواء كانوا أميين أو كانوا عالمين محصلين، أما لو كان عائدا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فذلك لا يقتضي إلا كون أحدهم من الأميين عاجزين عنه لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الواحد الأمي فأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد، لأن الجماعة لا تماثل الواحد، والقارئ لا يكون مثل الأمي، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى. ورابعها: أنا لو صرفنا الضمير إلى القرآن فكونه معجزا إنما يحصل لكمال حاله في الفصاحة أما لو صرفناه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فكونه معجزا إنما يكمل بتقرير كمال حاله في كونه أميا بعيدا عن العلم. وهذا وإن كان معجزا أيضا إلا أنه لما كان لا يتم إلا بتقرير نوع من النقصان في حق محمد عليه السلام كان الأول أولى. وخامسها: أنا لو صرفنا الضمير إلى محمد عليه السلام لكان ذلك يوهم أن صدور مثله القرآن ممن لم يكن مثل محمد في كونه أميا ممكن. ولو صرفناه إلى القرآن لدل ذلك على أن صدور مثل من الأمي وغير الأمي ممتنع فكان هذا أولى. المسألة السابعة: في المراد من الشهداء وجهان: الأول: المراد من ادعوا فيه الإلهية وهي الأوثان، فكأنه قيل لهم إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر فقد دفعتم في منازعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى فاقة شديدة وحاجة عظيمة في التخلص عنها فتعجلوا الاستعانة بها وإلا فاعلموا أنكم مبطلون في ادعاء كونها آلهة وأنها تنفع وتضر، فيكون في الكلام محاجة من وجهين: أحدهما: في إبطال كونها آلهة. والثاني: في إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن وأنه من قبله. الثاني: المراد من الشهداء أكابرهم أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد عليه السلام، والمعنى وادعوا أكابركم ورؤساءكم ليعينوكم على المعارضة وليحكموا لكم وعليكم فيما يمكن ويتعذر. فإن قيل هل يمكن حمل اللفظ عليهما معا وبتقدير التعذر فأيهما فأولى؟ قلنا أما الأول فممكن لأن الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة فيمكن جعله مجازا عن
118

المعين والناصر، وأوثانهم وأكابرهم مشتركة في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصارا لهم وأعوانا، وإذا حملنا اللفظ على هذا المفهوم المشترك دخل الكل فيه وأما الثاني فنقول: الأولى حمله على الأكابر، وذلك لأن لفظ الشهداء لا يطلق ظاهرا إلا على من يصح أن يشاهد ويشهد فيتحمل بالمشاهدة ويؤدي الشهادة، وذلك لا يتحقق إلا في حق رؤسائهم، أما إذا حملناه على الأوثان لزم المجاز، في إطلاق لفظ الشهداء على الأوثان أو يقال: المراد وادعوا من تزعمون أنهم شهداؤكم، والإضمار خلاف الأصل، أما إذا حملنا على الوجه الأول صح الكلام، لأنه يصير كأنه قال: وادعوا من يشهد بعضكم لبعض لاتفاقكم على هذا الإنكار. فإن المتفقين على المذهب يشهد بعضهم لبعض لمكان الموافقة فصحت الإضافة في قوله شهداءكم، ولأنه كان في العرب أكابر يشهدون على المتنازعين في الفصاحة بأن أيهما أعلى درجة من الآخر، وإذا ثبت ذلك ظهر أن حمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.
المسألة الثامنة: أما (دون) فهو أدنى مكان من الشيء ومنه الشيء الدون، وهو الحقير الدني، ودون الكتب إذا جمعها لأن جمع الشيء أدناه بعضه من بعض ويقال:
هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلا، ودونك هذا، أصله خذه من دونك أي من أدنى مكان منك فاختصر ثم استعير هذا اللفظ للتفاوت في الأحوال، فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل ما يجاوز حدا إلى حد، قال الله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * (آل عمران: 28) أي لا يتجاوزون ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين فإن قيل فما متعلق من دون الله قلنا فيه وجهان: أحدهما: أن متعلقه " شهداءكم " وهذا فيه احتمالان: الأول: المعنى ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم، والثاني: ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله، وهذا من المساهلة والإشعار بأن شهداءهم وهم فرسان الفصاحة تأبى عليهم الطبائع السليمة أن يرضوا لأنفسهم بالشهادة الكاذبة وثانيهما: أن متعلقه هو الدعاء، والمعنى ادعوا من دون الله شهداءكم، يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله يشهد أن ما ندعيه حق، كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينه تصحح بها الدعاوى عند الحكام، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم، وأنه لم يبق لهم متشبث عن قولهم: الله يشهد إنا لصادقون.
المسألة التاسعة: قال القاضي هذا التحدي يبطل القول بالجبر من وجوه: أحدها: أنه مبني على تعذر مثله ممن يصح الفعل منه، فمن ينفي كون العبد فاعلا لم يمكنه إثبات التحدي أصلا وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز. وثانيها: أن تعذره على قولهم يكون لفقد القدرة
119

الموجبة ويستوي في ذلك ما يكون معجزا. وما لا يكون فلا يصح معنى التحدي على قولهم وثالثها: أن ما يضاف إلى العبد فالله تعالى هو الخالق له فتحديه تعالى لهم يعود في التحقيق إلى أنه متحد لنفسه وهو قادر على مثله من غير شك فيجب أن لا يثبت الإعجاز على هذا القول ورابعها: أن المعجز إنما يدل بما فيه من نقض العادة، فإذا كان قولهم: إن المعتاد أيضا ليس بفعل لم يثبت هذا الفرق فلا يصح الاستدلال بالمعجز. وخامسها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحتج بأنه تعالى خصه بذلك تصديقا له فيما ادعاه ولو لم يكن ذلك من قبله تعالى لم يكن داخلا في الإعجاز. وعلى قولهم بالجبر لا يصح هذا الفرق، لأن المعتاد وغير المعتاد لا يكون إلا من قبله، والجواب. أن المطلوب من التحدي إما أن يأتي الخصم بالمتحدى به قصدا أو أن يقع ذلك منه اتفاقا، والثاني باطل، لأن الاتفاقيات لا تكون في وسعه، فثبت الأول وإذا كان كذلك ثبت أن إتيانه بالتحدي موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه، فذلك القصد إن كان منه لزم التسلسل وهو محال، وإن كان من الله تعالى فحينئذ يعود الجبر ويلزمه كل ما أورده علينا فيبطل كل ما قال.
أما قوله تعالى: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) * فاعلم أن هذه الآية دالة على المعجز من وجوه أربعة: أحدها: أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا في غاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي غاية الحرص على إبطال أمره، لأن مفارقة الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج من أقوى ما يدل على ذلك، فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله تعالى: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) * فلو كان في وسعهم وإمكانهم الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به، فحيث ما أتوا به ظهر المعجز. وثانيها: وهو أنه عليه السلام وإن كان متهما عندهم فيما يتصل بالنبوة فقد كان معلوم الحال في وفور العقل والفضل والمعرفة بالعواقب، فلو تطرقت التهمة إلى ما ادعاه من النبوة لما استجاز أن يتحداهم ويبلغ في التحدي إلى نهايته، بل كان يكون وجلا خائفا مما يتوقعه من فضيحة يعود وبالها على جميع أموره، حاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم، فلولا معرفته بالاضطرار من حالهم أنهم عاجزون عن المعارضة لما جوز من نفسه أن يحملهم على المعارضة بأبلغ الطرق. وثالثها: أنه عليه السلام لو لم يكن قاطعا بصحة نبوته لما قطع في الخبر بأنهم لا يأتون بمثله، لأنه إذا لم يكن قاطعا بصحة نبوته كان يجوز خلافه، وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه، فالمبطل المزور البتة لا يقطع في الكلام. ولا يجزم به، فلما جزم دل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قاطعا في أمره، ورابعها: أنه وجد مخبر هذا الخبر على ذلك الوجه لأن من أيامه عليه الصلاة والسلام إلى عصرنا هذا لم يخل وقت من الأوقات ممن يعادي الدين والإسلام وتشتد دواعيه في الوقيعة فيه. ثم إنه مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة قط، فهذه الوجوه الأربعة في الدلالة على المعجز مما تشتمل عليها هذه الآية، وذلك يدل
120

على فساد قول الجهال الذين يقولون إن كتاب الله لا يشتمل على الحجة والاستدلال، وههنا سؤالات. السؤال الأول: انتفاء إتيانهم بالسورة واجب، فهلا جيء بإذا الذي للوجوب دون " إن " الذي للشك الجواب فيه وجهان: أحدهما: أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم، فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام. الثاني: أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاومه: إن غلبتك، وهو يعلم أنه غالبه تهكما به. السؤال الثاني: لم قال: * (فإن لم تفعلوا) * ولم يقل فإن لم تأتوا به؟ الجواب: لأن هذا أخصر من أن يقال فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله. السؤال الثالث: * (ولن تفعلوا) * ما محلها؟ الجواب لا محل لها لأنها جملة اعتراضية. السؤال الرابع: ما حقيقة لن في باب النفي؟ الجواب: لا ولن أختان في نفي المستقبل إلا أن في " لن " توكيدا وتشديدا تقول لصاحبك: لا أقيم غدا عندك، فإن أنكر عليك قلت لن أقيم غدا، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أصله لا أن، وهو قول الخليل. وثانيها: لا، أبدلت ألفها نونا، وهو قول الفراء، وثالثها: حرف نصب لتأكيد نفي المستقبل وهو قول سيبويه، وإحدى الروايتين عن الخليل. السؤال الخامس: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ الجواب: إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار، فاتقاء النار يوجب ترك العناد، فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله: * (فاتقوا النار) * قائما مقام قوله فاتركوا العناد، وهذا هو الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة وفيه تهويل لشأن العناد؛ لإنابة اتقاء النار منابه متبعا ذلك بتهويل صفة النار. السؤال السادس: ما الوقود؟ الجواب: هو ما يوقد به النار وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح، قال سيبويه: وسمعنا من العرب من يقول وقدنا النار وقودا عاليا، ثم قال والوقود أكثر، والوقود الحطب وقرأ عيسى بن عمر بالضم تسمية بالمصدر كما يقال فلان فخر قومه وزين بلده. السؤال السابع: صلة الذي يجب أن تكون قضية معلومة فكيف علم أولئك أن نار الآخرة
توقد بالناس والحجارة؟ الجواب، لا يمنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب، أو سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سمعوا من قبل هذه الآية قوله في سورة التحريم: * (نارا وقودها الناس والحجارة) * (التحريم: 6). السؤال الثامن: فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم وههنا معرفة؟ الجواب: تلك الآية نزلت بمكة فعرفوا منها نارا موصوفة بهذه الصفة ثم نزلت هذه بالمدينة مستندة إلى ما عرفوه أولا. السؤال التاسع: ما معنى قوله: * (وقودها الناس والحجارة) * الجواب: أنها نار ممتازة من النيران بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة، وذلك يدل على قوتها من وجهين: الأول: أن سائر النيران إذا أريد إحراق الناس بها أو إجماء الحجارة أوقدت أولا بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه، وتلك أعاذنا الله منها برحمته الواسعة توقد بنفس ما تحرق. الثاني: أنها لإفراط حرها تتقد في الحجر.
121

السؤال العاشر: لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقودا؟ الجواب: لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث نحتوها أصناما وجعلوها لله أندادا وعبدوها من دونه قال تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * (الأنبياء: 98) وهذه الآية مفسرة لها فقوله: * (إنكم وما تعبدون من دون الله) * في معنى الناس والحجارة وحصب جهنم في معنى وقودها ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكا بهم، وجعلها الله عذابهم فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغا وإغرابا في تحسرهم، ونحوه ما يفعله بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم، وقيل هي حجارة الكبريت، وهو تخصيص بغير دليل، بل فيه ما يدل على فساده، وذلك لأن الغرض ههنا تعظيم صفة هذه النار والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد فلا يدل الإيقاد بها على قوة النار، أما لو حملناه على سائر الأحجار دل ذلك على عظم أمر النار فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران فكأنه قال تلك النيران بلغت لقوتها أن تتعلق في أول أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدنيا، أما قوله: * (أعدت للكافرين) * فإنه يدل على أن هذه النار الموصوفة معدة للكافرين، وليس فيه ما يدل على أن هناك نيرانا أخرى غير موصوفة بهذه الصفات معدة لفساق أهل الصلاة. الكلام في المعاد
* (وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذى رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيهآ أزوج مطهرة وهم فيها خالدون) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة تكلم بعدهما في المعاد وبين عقاب الكافر وثواب المطيع ومن عادة الله تعالى أنه إذا ذكر آية في الوعيد أن يعقبها بآية في الوعد وههنا مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن مسألة الحشر والنشر من المسائل المعتبرة في صحة الدين والبحث
122

عن هذه المسألة إما أن يقع عن إمكانها أو عن وقوعها، أما الإمكان فيجوز إثباته تارة بالعقل، وبالنقل أخرى، وأما الوقوع فلا سبيل إليه إلا بالنقل، وإن الله ذكر هاتين المسألتين في كتابه وبين الحق فيهما من وجوه: الوجه الأول: أن كثيرا ما حكى عن المنكرين إنكار الحشر والنشر، ثم إنه تعالى حكم بأنه واقع كائن من غير ذكر الدليل فيه، وإنما جاز ذلك لأن كل ما لا يتوقف صحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه أمكن إثباته بالدليل النقلي، وهذه المسألة كذلك فجاز إثباتها بالنقل، مثاله ما حكم ههنا بالنار للكفار، والجنة للأبرار، وما أقام عليه دليلا بل اكتفى بالدعوى، وأما في إثبات الصانع وإثبات النبوة فلم يكتف فيه بالدعوى بل ذكر فيه الدليل، وسبب الفرق ما ذكرناه وقال في سورة النحل: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * (النحل: 38) وقال في سورة التغابن: * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤون بما عملتم) * (التغابن: 7). الوجه الثاني: أنه تعالى أثبت إمكان الحشر والنشر بناء على أنه تعالى قادر على أمور تشبه الحشر والنشر، وقد قرر الله تعالى هذه الطريقة على وجوه، فأجمعها ما جاء في سورة الواقعة فإنه تعالى ذكر فيها حكاية عن أصحاب الشمال أنهم كانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون، فأجابهم الله تعالى بقوله: * (قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) * (الواقعة: 49) ثم إنه تعالى احتج على إمكانه بأمور أربعة: أولها: قوله: * (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) * (الواقعة: 58) وجه الاستدلال بذلك أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في آفاق أطراف الأعضاء ولهذا تشترك الأعضاء في الالتذاذ بالوقاع بحصول الانحلال عنها كلها، ثم إن الله تعالى سلط قوة الشهوة على البقية حتى أنها تجمع تلك الأجزاء الطلية، فالحاصل أن تلك الأجزاء كانت متفرقة جدا، أولا في أطراف العالم، ثم أنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان، ثم إنها كانت متفرقة في أطراف بدن ذلك الحيوان فجمعها الله سبحانه وتعالى في أوعية المني، ثم إنه تعالى أخرجها ماء دافقا إلى قرار الرحم فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكون منها ذلك الشخص، فإذا افترقت بالموت مرة أخرى فكيف يمتنع عليه جمعها مرة أخرى؟ فهذا تقرير هذه الحجة، وإن الله تعالى ذكرها في مواضع من كتابه، منها في سورة الحج: * (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) * إلى قوله: * (وترى الأرض هامدة) * ثم قال: * (ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) * (الحج: 6، 7) وقال في سورة قد أفلح المؤمنون بعد ذكر مراتب الخلقة: * (ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) * (المؤمنون: 15، 16) وقال في سورة لا أقسم: * (ألم يك نطفة من مني يمني ثم كان علقة فخلق فسوى) * (القيامة: 37، 38) وقال في سورة الطارق: * (فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج) * إلى قوله: * (إنه على رجعه لقادر) * (الطارق: 5 - 8). وثانيها: قوله: * (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه) * إلى قوله: * (بل نحن محرومون) * (الواقعة: 67) وجه الاستدلال به أن الحب وأقسامه
123

من مطول مشقوق وغير مشقوق، كالأرز والشعير، ومدور ومثلث ومربع، وغير ذلك على اختلاف أشكاله إذا وقع في الأرض الندية واستولى عليه الماء والتراب، فالنظر العقلي يقتضي أن يتعفن ويفسد، لأن أحدهما يكفي في حصول العفونة، ففيهما جميعا أولى، ثم إنه لا يفسد بل يبقى محفوظا، ثم إذا ازدادت الرطوبة تنفلق الحبة فلقتين فيخرج منها ورقتان، وأما المطول فيظهر في رأسه ثقب وتظهر الورقة الطويلة كما في الزرع، وأما النوى فما فيه من الصلابة العظيمة التي بسببها يعجز عن فلقه أكثر الناس إذا وقع في الأرض الندية ينفلق بإذن الله، ونواة التمر تنفلق من نقرة على ظهرها ويصير مجموع النواة من نصفين يخرج من أحد النصفين الجزء الصاعد، ومن الثاني الجزء الهابط، أما الصاعد فيصعد، وأما الهابط فيغوص في أعماق الأرض، والحاصل أنه يخرج من النواة الصغيرة شجرتان: إحداهما: خفيف صاعد، والأخرى ثقيل هابط مع اتحاد العنصر واتحاد طبع النواة والماء والهواء والتربة أفلا يدل ذلك على قدرة كاملة وحكمة شاملة فهذا القادر كيف يعجز عن جمع الأجزاء وتركيب الأعضاء. ونظيره قوله تعالى في الحج: * (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) * (الحج: 5) وثالثها: قوله تعالى: * (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون؟) * (الواقعة: 68، 69) وتقديره أن الماء جسم ثقيل بالطبع، وإصعاد الثقيل أمر على خلاف الطبع، فلا بد من قادر قاهر يقهر الطبع ويبطل الخاصية ويصعد ما من شأنه الهبوط والنزول. وثانيها: أن تلك الذرات المائية اجتمعت بعد تفرقها. وثالثها: تسييرها بالرياح ورابعها: إنزالها في مظان الحاجة والأرض الجرز، وكل ذلك يدل على جواز الحشر. أما صعود الثقيل فلأنه قلب الطبيعة، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يظهر الحياة والرطوبة من حساوة التراب والماء؟ والثاني: لما قدر على جمع تلك الذرات المائية بعد تفرقها فلم لا يجوز جمع الأجزاء الترابية بعد تفرقها؟ والثالث: تسيير الرياح فإذا قدر على تحريك الرياح التي تضم بعض تلك الأجزاء المتجانسة إلى بعض فلم لا يجوز ههنا؟ والرابع: أنه تعالى أنشأ السحاب لحاجة الناس إليه فههنا الحاجة إلى إنشاء المكلفين مرة أخرى ليصلوا إلى ما استحقوه من الثواب والعقاب أولى واعلم أن الله تعالى عبر عن هذه الدلالة في موضع آخر من كتابه فقال في الأعراف لما ذكر دلالة التوحيد: * (إن ربكم الله الذي) * إلى قوله: * (قريب من المحسنين) * (الأعراف: 56) ثم ذكر دليل الحشر فقال: * (وهو الذي يرسل الرياح) * إلى قوله: * (كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) * (الأعراف: 57) ورابعها: قوله: * (أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) * وجه الاستدلال أن النار صاعدة والشجرة هابطة، وأيضا النار لطيفة، والشجرة كثيفة. وأيضا النار نورانية والشجرة ظلمانية، والنار حارة يابسة والشجرة باردة رطبة، فإذا أمسك الله تعالى في داخل تلك الشجرة الأجزاء النورانية النارية فقد جمع بقدرته بين هذه الأشياء المتنافرة، فإذا لم يعجز عن ذلك فكيف يعجز عن تركيب الحيوانات وتأليفها؟ والله تعالى ذكر هذه الدلالة في سورة يس فقال: * (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) * (يس: 58).
124

واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة أمر الماء والنار وذكر في النمل أمر الهواء بقوله: * (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) * إلى قوله: * (أمن يبدؤ الخلق ثم يعيده) * (النمل: 64) وذكر الأرض في الحج في قوله: * (وترى الأرض هامدة) * (الحج: 5) فكأنه سبحانه وتعالى بين أن العناصر الأربعة على جميع أحوالها شاهدة بإمكان الحشر والنشر.
النوع الثاني: من الدلائل الدالة على إمكان الحشر: هو أنه تعالى يقول: لما كنت قادرا على الإيجاد أولا فلأن أكون قادرا على الإعادة أولى. وهذه الدلالة تقريرها في العقل ظاهر، وأنه تعالى ذكرها في مواضع من كتابه، منها في البقرة: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * (البقرة: 28) ومنها قوله في سبحان الذي: * (وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة) * (الإسراء: 49، 50) إلى قوله: * (قل الذي فطركم أول مرة) * ومنها في العنكبوت: * (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده) * (العنكبوت: 19) ومنها قوله في الروم: * (وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى) * (الروم: 27) ومنها في يس: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * (يس: 79)، النوع الثالث: الاستدلال باقتداره على السماوات على اقتداره على الحشر. وذلك في آيات منها في سورة سبحان: * (أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم) * (الإسراء: 99) وقال في يس: * (أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) * (يس: 81) وقال في الأحقاف: * (أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعيي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير) * (الأحقاف: 33) ومنها في سورة ق: * (أئذا متنا وكنا ترابا) * إلى قوله: * (رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج) * (ق: 11) ثم قال: * (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد) * (ق: 15) النوع الرابع: الاستدلال على وقوع الحشر بأنه لا بد من إثابة المحسن وتعذيب العاصي وتمييز أحدهما من الآخر بآيات، منها في يونس * (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) * (يونس: 4) ومنها في طه: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى) * (طه: 15) ومنها في ص: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل الذين كفروا من النار. أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) * (ص: 27، 28) النوع الخامس: الاستدلال بإحياء الموتى في الدنيا على صحة الحشر والنشر فمنها خلقه آدم عليه الصلاة والسلام ابتداء ومنها قصة البقرة وهي قوله: * (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى) * (البقرة: 73) ومنها قصة إبراهيم عليه السلام * (رب أرني كيف تحيي الموتى) * (البقرة: 26) ومنها قوله: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) * (البقرة: 259) ومنها قصة يحيى وعيسى عليهما السلام فإنه تعالى استدل على إمكانهما بعين ما استدل به على جواز الحشر حيث قال: * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) * (مريم: 9) ومنها في قصة أصحاب الكهف ولذلك قال: * (ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها) * (الكهف: 21) ومنها قصة أيوب عليه السلام وهي قوله: * (وآتيناه أهله) * يدل على
125

أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا ومنها ما أظهر الله تعالى على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى حيث قال: * (ويحيي الموتى) * (الحج: 6) وقال: * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني) * (المائدة: 110) ومنها قوله: * (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * (مريم: 67) فهذا هو الإشارة إلى أصول الدلائل التي ذكرها الله تعالى في كتابه على صحة القول بالحشر، وسيأتي الاستقصاء في تفسير كل آية من هذه الآيات عند الوصول إليها إن شاء الله تعالى، ثم إنه تعالى نص في القرآن على أن منكر الحشر والنشر كافر، والدليل عليه قوله: * (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب) * ووجه إلزام الكفر أن دخول هذا الشيء في الوجود ممكن الوجود في نفسه، إذ لو كان ممتنع الوجود لما وجد في المرة الأولى فحيث وجد في المرة الأولى علمنا أنه ممكن الوجود في ذاته، فلو لم يصح ذلك من الله تعالى لدل ذلك إما على عجزه حيث لم يقدر على إيجاد ما هو جائز الوجود في نفسه، أو على جهله حيث تعذر عليه تمييز أجزاء بدن كل واحد من المكلفين عن أجزاء بدن المكلف الآخر، ومع القول بالعجز والجهل لا يصح إثبات النبوة فكان ذلك موجبا للكفر قطعا والله أعلم.
المسألة الثانية: هذه الآيات صريحة في كون الجنة والنار مخلوقتين، أما النار فلأنه تعالى قال في صفتها: * (أعدت للكافرين) * فهذا صريحة في أنها مخلوقة وأما الجنة فلأنه تعالى قال في آية أخرى: * (أعدت للمتقين) * ولأنه تعالى قال ههنا: * (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) * وهذا إخبار عن وقوع هذا الملك وحصوله وحصول الملك في الحال يقتضي حصول المملوك في الحال فدل على أن الجنة والنار مخلوقتان.
المسألة الثالثة: اعلم أن مجامع اللذات إما المسكن أو المطعم أو المنكح فوصف الله تعالى المسكن بقوله: * (جنات تجري من تحتها الأنهار) * والمطعم بقوله: * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) * والمنكح بقوله: * (ولهم فيها أزواج مطهرة) * ثم إن هذه الأشياء إذا حصلت وقارنها خوف الزوال كان التنعم منغصا فبين تعالى أن هذا الخوف زائل عنهم فقال: * (وهم فيها خالدون) * فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرر. ولنتكلم الآن في ألفاظ الآية.
أما قوله تعالى: * (وبشر الذين آمنوا) * ففيه سؤالات: الأول: علام عطف هذا الأمر؟ والجواب من وجوه: أحدها: أنه ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه. إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والضرب، وبشر عمرا بالعفو والإطلاق. وثانيها: أنه معطوف على قوله: * (فاتقوا) * كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم
126

وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم. وثالثها: قرأ زيد بن علي * (وبشر) * على لفظ المبني للمفعول عطفا على أعدت. السؤال الثاني: من المأمور بقوله وبشر؟ والجواب يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يكون كل أحد كما قال عليه الصلاة والسلام: " بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة " لم يأمر بذلك واحد بعينه، وإنما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل، لأنه يؤذن بأن هذا الأمر لعظمته وفخامته حقيق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به. السؤال الثالث: ما البشارة؟ الجواب: أنها الخبر الذي يظهر السرور، ولهذا قال الفقهاء إذا قال لعبيده: أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى عتق أولهم، لأنه هو الذي أفاد خبره السرور ولو قال مكان بشرني أخبرني عتقوا جميعا لأنهم جميعا أخبروه، ومنه البشرة لظاهر الجلد، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه، وأما * (فبشرهم بعذاب أليم) * فمن الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك. أما قوله: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) * ففيه مسائل: -
المسألة الأولى: هذه الآية تدل على أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان لأنه لما ذكر الإيمان ثم عطف عليه العمل الصالح وجب التغاير وإلا لزم التكرار وهو خلاف الأصل.
المسألة الثانية: من الناس من أجرى هذه الآية على ظاهرها فقال: كل من أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فله الجنة. فإذا قيل له ما قولك فيمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة ثم كفر قال إن هذا ممتنع لأن فعل الإيمان والطاعة، يوجب استحقاق الثواب الدائم، وفعل الكفر استحقاق العقاب الدائم، والجمع بينهما محال، والقول أيضا بالتحابط محال فلم يبق إلا أن يقال هذا الفرض الذي فرضتموه ممتنع، وإنما قلنا إن القول بالتحابط محال لوجوه: أحدها: أن الاستحقاقين إما أن يتضادا أو لا يتضادا فإن تضادا كان طريان الطارئ مشروطا بزوال الباقي، فلو كان زوال الباقي معللا بطريان الطارئ لزم الدور وهو محال. وثانيها: أن المنافاة حاصلة من الجانبين فليس زوال الباقي لطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ بقيام الباقي، فإما أن يوجدا معا وهو محال أو يتدافعا فحينئذ يبطل القول بالمحابطة، وثالثها: أن الاستحقاقين إما أن يتساويا أو كان المقدم أكثر أو أقل، فإن تعادلا مثل أن يقال كان قد حصل استحقاق عشرة أجزاء من الثواب فطرأ استحقاق عشرة أجزاء من العقاب فنقول: استحقاق كل واحد من أجزاء العقاب مستقل بإزالة كل واحد من أجزاء استحقاق الثواب. وإذا كان كذلك لم يكن تأثير هذا الجزء في إزالة هذا الجزء أولى من تأثيره في إزالة ذلك الجزء ومن تأثير جزء آخر في إزالته فأما أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء الطارئة مؤثرا في إزالة كل واحد من الأجزاء المتقدمة فيلزم أن يكون لكل واحد من العلل معلولات كثيرة ولكل واحد من المعلولات علل كثيرة
127

مستقلة، وكل ذلك محال، وإما أن يختص كل واحد من الأجزاء الطارئة بواحد من الباقي من غير مخصص فذلك محال لامتناع ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، وأما إن كان المقدم أكثر فالطارئ لا يزيل إلا بعض أجزاء الباقي، فلم يكن بعض أجزاء الباقي أن يزول به أولى من سائر الأجزاء فأما أن يزول الكل وهو محال، لأن الزائل لا يزول إلا بالناقص. أو يتعين البعض للزوال من غير مخصص، وهو محال، أو لا يزول شيء منها وهو المطلوب، وأيضا فهذا الطارئ إذا أزال بعض أجزاء الباقي فإما أن يبقى الطارئ، أو يزول. أما القول ببقاء الطارئ فلم يقل به أحد من العقلاء. وأما القول بزواله فباطل، لأنه إما أن يكون تأثير كل واحد
منهما في إزالة الآخر معا أو على الترتيب، والأول باطل لأن المزيل لا بد وأن يكون موجودا حال الإزالة، فلو وجد الزوالان معا لوجد المزيلان معا، فيلزم أن يوجدا حال ما عدما وهو محال وإن كان على الترتيب فالمغلوب يستحيل أن ينقلب غالبا، وأما إن كان المتقدم أقل فأما أن يكون المؤثر في زواله بعض أجزاء الطارئ، وذلك محال لأن جميع أجزائه صالح للإزالة، واختصاص البعض بذلك ترجيح من غير مرجح وهو محال، وإما أن يصير الكل مؤثرا في الإزالة فيلزم أن يجتمع على المعلول الواحد علل مستقلة وذلك محال، فقد ثبت بهذه الوجوه العقلية فساد القول بالإحباط، وعند هذا تعين في الجواب قولان: الأول: قول من اعتبر الموافاة، وهو أن شرط حصول الإيمان أن لا يموت على الكفر فلو مات على الكفر علمنا أن ما أتى به أولا كان كفرا وهذا قول ظاهر السقوط، الثاني: أن العبد لا يستحق على الطاعة ثوابا ولا على المعصية عقابا استحقاقا عقليا واجبا، وهو قول أهل السنة واختيارنا، وبه يحصل الخلاص من هذه الظلمات.
المسألة الثالثة: احتج المعتزلة على أن الطاعة توجب الثواب فإن في حال ما بشرهم بأن لهم جنات لم يحصل ذلك لهم على طريق الوقوع، ولما لم يمكن حمل الآية عليه وجب حملها على استحقاق الوقوع لأنه يجوز التعبير بالوقوع عن استحقاق الوقوع مجازا.
المسألة الرابعة: الجنة: البستان من النخل والشجر المتكاتف المظلل بالتفاف أغصانه والتركيب دائر على معنى الستر وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره كأنها سترة واحدة لفرط التفافها وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان، فإن قيل لم نكرت الجنات وعرفت الأنهار؟ الجواب: أما الأول فلأن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنات، وأما تعريف الأنهار فالمراد به الجنس كما يقال لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب يشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب، أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله: * (فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) * (محمد: 15) وأما قوله: * (كلما رزقوا) * فهذا لا يخلو إما أن يكون صفة ثانية لجنات. أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة لأنه لما
128

قيل: إن لهم جنات لم يخل قلب السامع أن يقع فيه أن ثمار تلك الجنات أشباه ثمار الدنيا أم لا؟ وههنا سؤالات: السؤال الأول: ما وقع من ثمرة؟ الجواب فيه وجهان: الأول: هو كقولك كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئا حمدتك فموقع من ثمرة موقع قولك من الرمان فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية، لأن الرزق قد ابتدأ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفردة على هذا التفسير، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار. الثاني: وهو أن يكون من ثمرة بيانا على منهاج قولك رأيت منك أسدا تريد أنت أسد، وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمرة أو الحبة الواحدة. السؤال الثاني: كيف يصح أن يقولوا هذا الذي رزقنا الآن هو الذي رزقنا من قبل، الجواب: لما اتحد في الماهية وإن تغاير بالعدد صح أن يقال هذا هو ذاك أي بحسب الماهية فإن الوحدة النوعية لا تنافيها الكثرة بالشخص ولذلك إذا اشتدت مشابهة الابن بالأب قالوا إنه الأب. السؤال الثالث: الآية تدل على أنهم شبهوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنة برزق آخر جاءهم قبل ذلك، فالمشبه به أهو من أرزاق الدنيا، أم من أرزاق الجنة؟ والجواب فيه وجهان: الأول: أنه من أرزاق الدنيا، ويدل عليه وجهان: الأول: أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل، فإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه ثم إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد ثم وجده أشرف مما ألفه أولا عظم ابتهاجه وفرحه به، فأهل الجنة إذ أبصروا الرمانة في الدنيا ثم أبصروها في الآخرة ووجدوا رمانة الجنة أطيب وأشرف من رمانة الدنيا كان فرحهم بها أشد من فرحهم بشيء مما شاهدوه في الدنيا، والدليل الثاني: أن قوله: * (كلما رزقوا منها) * يتناول جميع المرات فيتناول المرة الأولى فلهم في المرة الأولى من أرزاق الجنة شيء لا بد وأن يقولوا هذا الذي رزقنا من قبل، ولا يكون قبل المرة الأولى شيء من أرزاق الجنة حتى يشبه ذلك به فوجب حمله على أرزاق الدنيا، القول الثاني: أن المشبه به رزق الجنة أيضا والمراد تشابه أرزاقهم ثم اختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين: الأول: المراد تساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص. الثاني: المراد تشابهها في المنظر فيكون الثاني كأنه الأول على ما روي عن الحسن ثم هؤلاء مختلفون فمنهم من يقول الاشتباه كما يقع في المنظر يقع في المطعم، فإن الرجل إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق به نفسه إلا بمثله، فإذا جاء ما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة ومنهم من يقول إنه وإن حصل الاشتباه في اللون لكنها تكون مختلفة في الطعم، قال الحسن يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم مختلف، وفي الآية قول ثالث على لسان أهل المعرفة، وهو أن كمال السعادة ليس إلا في معرفة ذات الله تعالى: ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات لأرواح وعالم السماوات وبالجملة يجب أن يصير روح الإنسان
129

كالمرآة المحاذية لعالم القدس ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا ولا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج، لما أن العلائق البدنية تعوق عن ظهور تلك السعادات واللذات، فإذا زال هذا العائق حصلت السعادة العظيمة والغبطة الكبرى، فالحاصل أن كل سعادة روحانية يجدها الإنسان بعد الموت فإنه يقول هذه هي التي كانت حاصلة لي حين كنت في الدنيا وذلك إشارة إلى أن الكمالات النفسانية الحاصلة في الآخرة هي التي كانت حاصلة في الدنيا إلا أنها في الدنيا ما أفادت اللذة والبهجة والسرورة وفي الآخرة أفادت هذه الأشياء لزوال العائق. أما قوله: * (وأتوا به متشابها) * ففيه سؤالان: السؤال الأول: إلام يرجح الضمير في قوله: * (وأتوا به) *؟ الجواب: إن قلنا المشبه به هو رزق الدنيا فإلى الشيء المرزوق في الدنيا والآخرة يعني أتوا بذلك النوع متشابها يشبه الحاصل منه في الآخرة ما كان حاصلا منه في الدنيا، وإن قلنا المشبه به هو رزق الجنة أيضا، فإلى الشيء المرزوق في الجنة، يعني أتوا بذلك النوع في الجنة بحيث يشبه بعضه بعضا. السؤال الثاني: كيف موقع قوله: * (وأتوا به متشابها) * من نظم الكلام؟ والجواب: أن الله تعالى لما حكى عن أهل الجنة ادعاء تشابه الأرزاق في قوله: * (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) * فالله تعالى صدقهم في تلك الدعوة بقوله: * (وأتوا به متشابها) * أما قوله: * (ولهم فيها أزواج مطهرة) * فالمراد طهارة أبدانهن من الحيض والاستحاضة وجميع الأقذار
وطهارة أزواجهن من جميع الخصال الذميمة، ولا سيما ما يختص بالنساء، وإنما حملنا اللفظ على الكل لاشتراك القسمين في قدر مشترك، قال أهل الإشارة. وهذا يدل على أنه لا بد من التنبه لمسائل. أحدها: أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى منعك عن مباشرتها قال الله تعالى: * (قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) * (البقرة: 222) فإذا منعك عن مقاربتها لما عليها من النجاسة التي هي معذورة فيها فإذا كانت الأزواج اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن حال كونك ملوثا بنجاسات المعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى. وثانيها: أن من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر، فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون ولذلك فإن آدم لما أتى بالزلة أخرج منها. وثالثها: من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تصح صلاته عند الشافعي رضي الله عنه، فمن كان على قلبه من نجاسات المعاصي أعظم من الدنيا كيف تقبل صلاته وههنا سؤالان: الأول: هلا جاءت الصفة مجموعة كالموصوف؟ الجواب: هما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلن والنساء فعلت. ومنه بيت الحماسة:
وإذا العذارى بالدخان تقنعت * واستعملت نصب القدور فملت
والمعنى وجماعة أزواج مطهرة، وقرأ زيد بن علي: مطهرات وقرأ عبيد بن عمير: مطهرة يعني متطهرة. السؤال الثاني: هلا قيل طاهرة؟ الجواب: في المطهرة إشعار بأن مطهرا طهرهن وليس ذلك إلا الله تعالى، وذلك يفيد فخامة أمر أهل الثواب كأنه قيل إن الله تعالى هو الذي زينهن
130

لأهل الثواب.
أما قوله: * (وهم فيها خالدون) * فقالت المعتزلة الخلد ههنا هو الثبات اللازم والبقاء الدائم الذي لا ينقطع واحتجوا عليه بالآية والشعر، أما الآية فقوله: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون) * (الأنبياء: 34) فنفي الخلد عن البشر مع أنه تعالى أعطى بعضهم العمر الطويل، والمنفي غير المثبت، فالخلد هو البقاء الدائم وأما الشعر فقول امرئ القيس:
وهل يعمن إلا سعيد مخلد * قليل هموم ما يبيت بأوجال
وقال أصحابنا: الخلد هو الثبات الطويل سواء دام أو لم يدم واحتجوا فيه بالآية والعرف أما الآية فقوله تعالى: * (خالدين فيها أبدا) * ولو كان التأبيد داخلا في مفهوم الخلد لكان ذلك تكرارا وأما العرف فيقال حبس فلان فلانا حبسا مخلدا ولأنه يكتب في صكوك الأوقاف وقف فلان وقفا مخلدا فهذا هو الكلام في أن هذا اللفظ هل يدل على دوام الثواب أم لا؟ وقال آخرون العقل يدل على دوامه لأنه لو لم يجب دوامه لجوزوا انقطاعه فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة لأن النعمة كلما كانت أعظم كان خوف انقطاعها أعظم وقعا في القلب وذلك يقتضي أن لا ينفك أهل الثواب البتة من الغم والحسرة والله تعالى أعلم.
* (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون) *.
اعلم أنه بين بالدليل كون القرآن معجزا أورد ههنا شبهة أوردها الكفار قدحا في ذلك وأجاب عنها وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلا عن
131

كونه معجزا، فأجاب الله تعالى عنه بأن صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها ثم في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: عن ابن عباس أنه لما نزل: * (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) * (الحج: 73) فطعن في أصنامهم ثم شبه عبادتها ببيت العنكبوت قالت اليهود أي قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله المثل بهما فنزلت هذه الآية. والقول الثاني: أن المنافقين طعنوا في ضرب الأمثال بالنار والظلمات والرعد والبرق في قوله: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) * والقول الثالث: أن هذا الطعن كان من المشركين قال القفال: الكل محتمل ههنا، أما اليهود فلأنه قيل في آخر الآية: * (وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) * وهذا صفة اليهود، لأن الخطاب بالوفاء وبالعهد فيما بعد إنما هو لبني إسرائيل وأما الكفار والمنافقون فقد ذكروا في سورة المدثر * (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) * الآية فأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، والذين كفروا يحتمل المشركين لأن السورة مكية فقد جمع الفريقان ههنا. إذا ثبت هذا فنقول. احتمال الكل ههنا قائم لأن الكافرين والمنافقين واليهود كانوا متوافقين في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مضى من أول السورة إلى هذا الموضع ذكر اليهود، وذكر المنافقين، وذكر المشركين. وكلهم من الذين كفروا ثم قال القفال: وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب لأن معناه في نفسه مفيد.
المسألة الثانية: اعلم أن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم واشتقاقه من الحياة يقال حيي الرجل كما يقول نسي وخشي وشظي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء. جعل الحيي لما يعتريه الانكسار والتغير منكسر القوة منغص الحياة، كما قالوا فلان هلك حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء، وذاب حياء، وإذا ثبت هذا استحال الحياء على الله تعالى لأنه تغير يلحق البدن، وذلك لا يعقل إلا في حق الجسم، ولكنه وارد في الأحاديث. روى سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا " وإذا كان كذلك وجب تأويله وفيه وجهان: الأول: وهو القانون في أمثال هذه الأشياء؛ أن كل صفة ثبتت للعبد مما يختص بالأجسام فإذا وصف الله تعالى بذلك فذلك محمول على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض مثاله أن الحياء حالة تحصل للإنسان لكن لها مبدأ ومنتهى، أما المبدأ فهو التغير الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب
إلى القبيح، وأما النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل، فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته، وكذلك الغضب له، علامة ومقدمة وهي غليان دم القلب، وشهوة الانتقام وله غاية وهو إنزال العقاب بالمغضوب عليه، فإذا وصفنا الله تعالى
132

بالغضب فليس المراد ذلك المبدأ أعني شهوة الانتقام وغليان دم القلب، بل المراد تلك النهاية وهو أنزل العقاب، فهذا هو القانون الكلي في هذا الباب. الثاني: يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت، فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال، وهذا فن بديع من الكلام، ثم قال القاضي ما لا يجوز على الله من هذا الجنس إثباتا فيجب أن لا يطلق على طريق النفي أيضا عليه، وإنما يقال إنه لا يوصف به فأما أن يقال لا يستحي ويطلق عليه ذلك فمحال، لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه وما ذكره الله تعالى من كتابه في قوله: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * وقوله: * (لم يلد ولم يولد) * فهو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة وكذلك قوله: * (ما اتخذ الله من ولد) * وكذلك قولك: * (وهو يطعم ولا يطعم) * وليس كل ما ورد في القرآن إطلاقه جائزا أن يطلق في المخاطبة فلا يجوز أن يطلق ذلك إلا مع بيان أن ذلك محال، ولقائل أن يقول: لا شك في أن هذه الصفات منفية عن الله سبحانه فكان الإخبار عن انتفائها صدقا فوجب أن يجوز. بقي أن يقال إن الإخبار عن انتفائها يدل على صحتها عليه فنقول: هذه الدلالة ممنوعة وذلك لأن تخصيص هذا النفي بالذكر لا يدل على ثبوت غيره بل لو قرن باللفظ ما يدل على انتفاء الصحة أيضا كان ذلك أحسن من حيث أنه يكون مبالغة في البيان وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحا.
المسألة الثالثة: اعلم أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول ويدل عليه وجوه: أحدها: إطباق العرب والعجم على ذلك أما العرب فذلك مشهور عندهم وقد تمثلوا بأحقر الأشياء، فقالوا في التمثيل بالذرة: أجمع من ذرة، وأضبط من ذرة، وأخفى من الذرة وفي التمثيل بالذباب: أجرأ من الذباب، وأخطأ من الذباب، وأطيش من الذباب، وأشبه من الذباب بالذباب، وألح من الذباب. وفي التمثيل بالقراد، أسمع من قراد، وأصغر من قراد. وأعلق من قراد. وأغم من قراد، وأدب من قراد، وقالوا في الجراد: أطير من جرادة، وأحطم من جرادة، وأفسد من جرادة. وأصفى من لعاب الجراد، وفي الفراشة: أضعف من فراشة، وأطيش من فراشة، وأجهل من فراشة، وفي البعوضة. أضعف من بعوضة، وأعز من مخ البعوضة، وكلفني مخ البعوضة، في مثل تكليف ما لا يطاق: وأما العجم فيدل عليه " كتاب كليلة ودمنة " وأمثاله، وفي بعضها: قالت البعوضة، وقد وقعت على نخلة عالية وأرادت أن تطير عنها؛ يا هذه استمسكي فإني أريد أن أطير، فقالت النخلة: والله ما شعرت بوقوعك فكيف أشعر بطيرانك، وثانيها: أنه ضرب الأمثال في إنجيل عيسى عليه السلام بالأشياء المستحقرة، قال: مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة، فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان، فقال عبيد الزراع؛ يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك؟ قال: بلى، قالوا: فمن أين هذا الزوان؟ قال: لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان فتقلعوا معه الحنطة فدعوهما يتربيان
133

جميعا حتى الحصاد فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزما ثم يحرقوه بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن. وأفسر لكم ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة هو أبو البشر، والقرية هي العالم، والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذي يعملون بطاعة الله تعالى، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس، والزوان هو المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه، والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنوا آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله، وأهل الشر إلى الهاوية وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار كذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين، وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنا لك البكاء، وصريف الأسنان، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم، من كانت له أذن تسمع فليسمع، وأضرب لكم مثلا آخر يشبه ملكوت السماء: لو أن رجلا أخذ حبة من خردل وهي أصغر الحبوب وزرعها في قريته، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول وجاء طير من السماء فعشش في فروعها فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله أجره وعظمه ورفع ذكره، ونجى من اقتدى به، وقال: لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة، وكذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم، وقال: قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح، وقال لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ولكن ادخروا ذخائركم عند الله وقال: نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يزرعن ولا يحصدن ومنهن من هو في جوف الحجر الأصم أو في جوف العود، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله؟ أفلا تعقلون، وقال: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ولا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم، فظهر أن الله تعالى ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة وأما العقل فلأن من طبع الخيال المحاكاة والتشبه فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال، وإذا ذكر معه الشبه أدركه العقل مع معاونة الخيال، ولا شك أن الثاني يكون أكمل وأيضا فنحن نرى أن الإنسان يذكر معنى ولا يلوح له كما ينبغي فإذا ذكر المثال اتضح وصار مبينا مكشوفا، وإن كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح، وجب ذكره في الكتاب الذي لا يراد منه إلا الإيضاح والبيان، أما قولهم: ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى، قلنا هذا جهل، لأنه تعالى هو الذي خلق الصغير والكبير وحكمه في كل ما خلق وبرأ عام لأنه قد أحكم جميعه، وليس الصغير أخف عليه من الكبير والعظيم أصعب من الصغير، وإذا كان الكل بمنزلة واحدة لم يكن الكبير أولى أن يضربه مثلا لعباده من الصغير بل المعتبر فيه ما يليق بالقصة، فإذا كان الأليق بها الذباب والعنكبوت يضرب المثل بهما لا بالفيل والجمل، فإذا أراد تعالى أن يقبح عبادتهم الأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن صلح أن يضرب المثل
134

بالذباب، ليبين أن قدر مضرتها لا يندفع بهذه الأصنام، ويضرب المثل لبيت العنكبوت ليبين أن عبادتها أوهن وأضعف من ذلك وفي مثل ذلك كل ما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح.
المسألة الرابعة: قال الأصم: " ما " في قوله مثلا ما صلة زائدة كقوله: * (فبما رحمة من الله) * وقال أبو مسلم معاذ الله أن يكون في القرآن زيادة ولغو والأصح
قول أبي مسلم لأن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وبيانا وكونه لغوا ينافي ذلك، وفي بعوضة قراءتان: إحداهما: النصب وفي لفظة ما على هذه القراءة وجهان: الأول: أنها مبنية وهي التي إذا قرنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته شيوعا وبعدا عن الخصوصية.
بيانه أن الرجل إذا قال لصاحبه أعطني كتابا أنظر فيه فأعطاه بعض الكتب صح له أن يقول أردت كتابا آخر ولم أرد هذا ولو قاله مع ما لم يصح له ذلك لأن تقدير الكلام أعطني كتابا أي كتاب كان. الثاني: أنها نكرة قام تفسيرها باسم الجنس مقام الصفة، أما على قراءة الرفع ففيها وجهان: الأول: أنها موصولة صلتها الجملة لأن التقدير هو بعوضة فحذف المبتدأ كما حذف في " تماما على الذي أحسن ". الثاني: أن تكون استفهامية فإنه لما قال: * (إن لله لا يستحي أن يضرب مثلا) * كأنه قال بعده ما بعوضة فما فوقها حتى يضرب المثل به، بل له أن يمثل بما هو أقل من ذلك كثيرا كما يقال فلان لا يبالي بما وهب، ما دينار وديناران، أي يهب ما هو أكثر من ذلك بكثير.
المسألة الخامسة: قال صاحب " الكشاف ": ضرب المثل اعتماده وتكوينه من ضرب اللبن وضرب الخاتم.
المسألة السادسة: انتصب بعوضة بأنه عطف بيان لمثلا أو مفعول ليضرب ومثلا حال من النكرة مقدم عليه أو ثاني مفعولين ليضرب مضمنا معنى يجعل، وهذا إذا كانت ما صلة أو إبهامية، فإن كانت مفسرة ببعوضة فهي تابعة لما هي تفسير له، والمفسر والمفسر معا لمجموعهما عطف بيان أو مفعول، ومثلا حال مقدمة، وأما رفعها فبكونها خبر مبتدأ، أما إذا كانت ما موصولة أو موصوفة أو استفهامية فأمرها ظاهر، فإذا كانت إبهامية فهي على الجواب كأن قائلا قال ما هو فقيل بعوضة.
المسألة السابعة: قال صاحب " الكشاف ": اشتقاق البعوض من البعض وهو القطع كالبضع والعضب يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت أسميته، وعن بعضهم اشتقاقه من بعض الشيء سمي به لقلة جرمه وصغره ولأن بعض الشيء قليل بالقياس إلى كله، والوجه القوي هو الأول، قال وهو من عجائب خلق الله تعالى فإنه صغير جدا وخرطومه في غاية الصغر ثم إنه مع ذلك مجوف ثم ذلك الخرطوم مع فرط صغره وكونه جوفا يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته كما يضرب الرجل إصبعه في الخبيص،
135

وذلك لما ركب الله في رأس خرطومه من السم.
المسألة الثامنة: في قوله: * (فما فوقها) * وجهان: أحدهما: أن يكون المراد فما هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب، فإن القوم أنكروا تمثيل الله تعالى بكل هذه الأشياء. والثاني: أراد بما فوقها في الصغر أي بما هو أصغر منها والمحققون مالوا إلى هذا القول لوجوه: أحدها: أن المقصد من هذا التمثيل تحقير الأوثان، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود في هذا الباب أكمل حصولا. وثانيها: أن الغرض ههنا بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير، وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون المذكور ثانيا أشد حقارة من الأول يقال إن فلانا يتحمل الذل في اكتساب الدينار، وفي اكتساب ما فوقه، يعني في القلة لأن تحمل الذل في اكتساب أقل من الدينار أشد من تحمله في اكتساب الدينار. وثالثها: أن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب، فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله تعالى، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير، واحتج الأولون بوجهين: الأول: بأن لفظ " فوق " يدل على العلو، فإذا قيل هذا فوق ذاك، فإنما معناه أنه أكبر منه ويروى أن رجلا مدح عليا رضي الله عنه والرجل متهم فيه، فقال علي: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك، أراد بهذا أعلى مما في نفسك. الثاني: كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر؟ والجواب عن الأول: أن كل شيء كان ثبوت صفة فيه أقوى من ثبوتها في شيء آخر كان ذلك الأقوى فوق الأضعف في تلك الصفة يقال إن فلانا فوق فلان في اللؤم والدناءة. أي هو أكثر لؤما ودناءة منه، وكذا إذا قيل هذا فوق ذلك في الصغر وجب أن يكون أكثر صغرا منه، والجواب عن الثاني أن جناح البعوضة أقل منها وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا للدنيا.
المسألة التاسعة: " أما " حرف فيه معنى الشرط، ولذلك يجاب بالفاء وهذا يفيد التأكيد تقول زيد ذاهب فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محالة ذاهب قلت أما زيد فذاهب، إذا ثبت هذا فنقول: إيراد الجملتين مصدرتين به أحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم أنه الحق وذم عظيم للكافرين على ما قالوه وذكروه.
المسألة العاشرة: " الحق " الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب وحقت كلمة ربك، وثوب محقق محكم النسج.
المسألة الحادية عشرة: " ماذا " فيه وجهان أن يكون ذا اسما موصولا بمعنى الذي فيكون كلمتين وأن يكون ذا مركبة مع ما مجعولين اسما واحدا فيكون كلمة واحدة فهو على الوجهين: الأول: مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته، وعلى الثاني: منصوب المحل في حكم ما وحده كما لو قلت ما أراد الله.
136

المسألة الثانية عشرة: الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته. وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجا إلى التعريف، وقال المتكلمون إنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر لا في الوقوع بل في الإيقاع، واحترزنا بهذا القيد الأخير عن القدرة، واختلفوا في كونه تعالى مريدا مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى فقال النجارية إنه معنى سلبي ومعناه أنه غير مغلوب ولا مستكره، ومنهم من قال إنه أمر ثبوتي وهؤلاء اختلفوا فقال الجاحظ والكعبي وأبو الحسن البصري: معناه علمه تعالى باشتماله الفعل على المصلحة أو المفسدة، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف، وقال أصحابنا وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهما إنه صفة زائدة على العلم ثم القسمة في تلك الصفة إما أن تكون ذاتية وهو القول الثاني للنجارية، وإما أن تكون معنوية، وذلك المعنى إما أن يكون قديما وهو قول الأشعرية أو محدثا وذلك المحدث إما أن يكون قائما بالله تعالى، وهو قول الكرامية، أو قائما بجسم آخر وهذا القول لم يقل به أحد، أو يكون موجودا لا في محل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما.
المسألة الثالثة عشرة: الضمير في " أنه الحق " للمثل أو لأن يضرب، وفي قولهم ماذا أراد الله بهذا استحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله بن عمرو بن
العاص: يا عجبا لابن عمرو هذا.
المسألة الرابعة عشرة: " مثلا " نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث ماذا أردت بهذا جوابا؟ ولمن حمل سلاحا رديئا كيف تنتفع بهذا سلاحا؟ أو على الحال كقوله: * (هذه ناقة الله لكم آية) *.
المسألة الخامسة عشرة: اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكي عنهم كفرهم واستحقارهم كلام الله بقوله: * (ماذا أراد الله بهذا مثلا) * أجاب عنه بقوله: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) * ونريد أن نتكلم ههنا في الهداية والإضلال ليكون هذا الموضع كالأصل الذي يرجع إليه في كل ما يجيء في هذا المعنى من الآيات فنتكلم أولا في الإضلال فنقول: إن الهمزة تارة تجيء لنقل الفعل من غير المتعدي إلى التعدي كقولك خرج فإنه غير متعد، فإذا قلت أخرج فقد جعلته معتديا وقد تجيء لنقل الفعل من المتعدي إلى غير المتعدي كقولك كببته فأكب، وقد تجيء لمجرد الوجدان. حكي عن عمرو بن معد يكرب أنه قال لبني سليم: قاتلناكم فما أجبناكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم، وسألناكم فما أبخلناكم. أي فما وجدناكم جبناء ولا مفحمين ولا بخلاء. ويقال أتيت أرض فلان فأعمرتها أي وجدتها عامرة قال المخبل:
تمنى حصين أن يسود خزاعة * فأمسى حصين قد أذل وأقهرا
أي وجد ذليلا مقهورا، ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال الهمزة لا تفيد إلا نقل الفعل
137

من غير المتعدي إلى المتعدي فأما قوله: كببته فأكب، فلعل المراد كببته فأكب نفسه على وجهه فيكون قد ذكر الفعل مع حذف المفعولين وهذا ليس بعزيز. وأما قوله. قاتلناكم فما أجبناكم، فالمراد ما أثر قتالنا في صيرورتكم جبناء. وما أثر هجاؤنا لكم في صيرورتكم مفحمين، وكذا القول في البواقي، وهذا القول الذي قلناه أولى دفعا للاشتراك. إذا ثبت هذا فنقول قولنا: أضله الله لا يمكن حمله إلا على وجهين: أحدهما: أنه صيره ضالا، والثاني: أنه وحده ضالا أما التقدير الأول وهو أنه صيره ضالا فليس في اللفظ دلالة على أنه تعالى صيره ضالا عما ذا وفيه وجهان: أحدهما: أنه صيره ضالا عن الدين. والثاني: أنه صيره ضالا عن الجنة، أما الأول وهو أنه تعالى صيره ضالا عن الدين فاعلم أن معنى الإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى ترك الدين وتقبيحه في عينه وهذا هو الإضلال الذي أضافه الله تعالى إلى إبليس فقال: * (إنه عدو مضل مبين) * (القصص: 15) وقال: * (ولأضلنهم ولأمنينهم) * (النساء: 119) و * (قال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا) * (فصلت: 29) وقال: * (فزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل) * (النمل: 24 العنكبوت: 38))، وقال الشيطان إلى قوله: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22) وأيضا أضاف الله تعالى هذا الإضلال إلى فرعون فقال: * (وأضل فرعون قومه وما هدى) * واعلم أن الأمة مجمعة على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله تعالى لأنه تعالى ما دعا إلى الكفر وما رغب فيه بل نهى عنه وزجر وتوعد بالعقاب عليه، وإذا كان المعنى الأصلي للإضلال في اللغة ليس إلا هذا وهذا المعنى منفي بالإجماع ثبت انعقاد الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللفظ على ظاهره. وعند هذا افتقر أهل الجبر والقدر إلى التأويل أما أهل الجبر فقد حملوه على أنه تعالى خلق الضلال والكفر فيهم وصدهم عن الإيمان وحال بينهم وبينه، وربما قالوا هذا هو حقيقة اللفظ في أصل اللغة، لأن الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالا كما أن الإخراج والإدخال عبارة عن جعل الشيء خارجا وداخلا، وقالت المعتزلة هذا التأويل غير جائز لا بحسب الأوضاع اللغوية ولا بحسب الدلائل العقلية، أما الأوضاع اللغوية فبيانه من وجوه: أحدها: أنه لا يصح من طريق اللغة أن يقال لمن منع غيره من سلوك الطريق كرها وجبرا أنه أضله بل يقال منعه منه وصرفه عنه وإنما يقولون إنه أضله عن الطريق إذا لبس عليه وأورد من الشبهة ما يلبس عليه الطريق فلا يهتدي له، وثانيها: أنه تعالى وصف إبليس وفرعون بكونهما مضللين، مع أن فرعون وإبليس ما كان خالقين للضلال في قلوب المستجيبين لهما بالاتفاق، وأما عند الجبرية فلأن العبد لا يقدر على الإيجاد، وأما عند القدرية فلأن العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد، فلما حصل اسم المضل حقيقة مع نفي الخالقية بالاتفاق، علمنا أن اسم المضل غير موضوع في اللغة لخالق الضلال: وثالثها: أن الإضلال في مقابلة الهداية فكما صح أن يقال هديته فما اهتدى وجب صحة أن يقال أضللته فما ضل، وإذا كان كذلك استحال حمل الإضلال على خلق الضلال، وأما بحسب الدلائل العقلية
138

فمن وجوه: أحدها: أنه تعالى لو خلق الضلال في العبد ثم كلفه بالإيمان لكان قد كلفه بالجمع بين الضدين وهو سفه وظلم، وقال تعالى: * (وما ربك بظلام للعبيد) * (فصلت: 46) وقال: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) وقال: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وثانيها: لو كان تعالى خالقا للجهل وملبسا على المكلفين لما كان مبينا لما كلف العبد به، وقد أجمعت الأمة على كونه تعالى مبينا، وثالثها: أنه تعالى لو خلق فيهم الضلال وصدهم عن الإيمان لم يكن لإنزال الكتب عليهم وبعثة الرسل إليهم فائدة لأن الشيء الذي لا يكون ممكن الحصول كان السعي في تحصيله عبثا وسفها. ورابعها: أنه على مضادة كبيرة من الآيات نحو قوله: * (فما لهم لا يؤمنون) * (الانشقاق: 20) * (فما لهم عن التذكرة معرضين) * (المدثر: 49)، * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) * (الإسراء: 94) فبين أنه لا مانع لهم من الإيمان البتة. وإنما امتنعوا لأجل إنكارهم بعثة الرسل من البشر وقال: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم) * (الكهف: 55) وقال: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * (لبقرة: 28) وقال: * (أنى تصرفون) * وقال: * (أنى تؤفكون) * فلو كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين وصرفهم عن الإيمان لكانت هذه الآيات باطلة. وخامسها: أنه تعالى ذم إبليس وحزبه ومن سلك سبيله في إضلال الناس عن الدين وصرفهم عن الحق وأمر عباده ورسوله بالاستعاذة منهم بقوله تعالى: * (قل أعوذ برب الناس) * إلى قوله: * (من شر الوسواس) * و * (قل أعوذ برب الفلق) *، * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) * (المؤمنين: 97)، * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * (النحل: 98) فلو كان الله تعالى يضل عباده عن الدين كما تضل الشياطين لاستحق من المذمة مثل ما استحقوه ولوجب الاستعاذة منه كما وجب
منهم، ولوجب أن يتخذوه عدوا من حيث أضل أكثر خلقه كما وجب اتخاذ إبليس عدوا لأجل ذلك، قالوا بل خصيصية الله تعالى في ذلك أكثر إذ تضليل إبليس سواء وجوده وعدمه فيما يرجع إلى حصول الضلال بخلاف تضليل الله فإنه هو المؤثر في الضلال فيلزم من هذا تنزيه إبليس عن جميع القبائح وإحالتها كلها على الله تعالى فيكون الذم منقطعا بالكلية عن إبليس وعائدا إلى الله سبحانه وتعالى عن قول الظالمين. وسادسها: أنه تعالى أضاف الإضلال عن الدين إلى غيره وذمهم لأجل ذلك، فقال: * (وأضل فرعون قومه وما هدى) * (طه: 79)، * (وأضلهم السامري) * (طه: 85)، * (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) * (الأنعام: 116)، * (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) * (ص: 26) وقوله تعالى حاكيا عن إبليس: * (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم) * (النساء: 119) فهؤلاء إما أن يكونوا قد أضلوا غيرهم عن الدين في الحقيقة أو يكون الله هو الذي أضلهم أو حصل الإضلال بالله وبهم على سبيل الشركة فإن كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين دون هؤلاء فهو سبحانه وتعالى قد تقول عليهم إذ قد رماهم بدأبه وعابهم بما فيه وذمهم بما لم يفعلوه، والله متعال عن ذلك وإن كان الله تعالى مشاركا لهم في ذلك فكيف يجوز أن يذمهم على فعل هو شريك فيه ومساو لهم فيه وإذا فسد الوجهان صح أن لا يضاف خلق الضلال إلى الله
139

تعالى. وسابعها: أنه تعالى ذكر أكثر الآيات التي فيها ذكر الضلال منسوبا إلى العصاة على ما قال: * (وما يضل به إلا الفاسقين) * (البقرة: 26). * (ويضل الله الظالمين) * (إبراهيم: 27)، * (إن الله لا يهدي القوم الكافرين) * (المائدة: 67)، * (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) * (غافر: 34)، * (كذلك يضل الله من هو مسرف كذاب) * (غافر: 28) فلو كان المراد بالضلال المضاف إليه تعالى هو ما هم فيه كان كذلك إثباتا للثابت وهذا محال. وثامنها: أنه تعالى نفى إلهية الأشياء التي كانوا يعبدونها من حيث أنهم لا يهدون إلى الحق قال: * (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى) * (يونس: 35) فنفي ربوبية تلك الأشياء من حيث أنها لا تهدي وأوجب ربوبية نفسه من حيث أنه سبحانه وتعالى يهدي فلو كان سبحانه وتعالى يضل عن الحق لكان قد ساواهم في الضلال وفيما لأجله نهى عن اتباعهم، بل كان قد أربى عليهم، لأن الأوثان كما أنها لا تهدي فهي لا تضل، وهو سبحانه وتعالى مع أنه إله يهدي فهو يضل. وتاسعها: أنه تعالى يذكر هذا الضلال جزاء لهم على سوء صنيعهم وعقوبة عليه، فلو كان المراد ما هم عليه من الضلال كان ذلك عقوبة وتهديدا بأمرهم له ملابسون، وعليه مقبولون، وبه ملتذون ومغتبطون، ولو جاز ذلك لجازت العقوبة بالزنا على الزنا وبشرب الخمر على شرب الخمر، وهذا لا يجوز. وعاشرها: أن قوله تعالى: * (وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) * (البقرة: 26، 27) صريح في أنه تعالى إنما يفعل به هذا الإضلال بعد أن صار هو من الفاسقين الناقضين لعهد الله باختيار نفسه، فدل ذلك على أن هذا الإضلال الذي يحصل بعد صيرورته فاسقا وناقضا للعهد مغاير لفسقه ونقضه، وحادي عاشرها: أنه تعالى فسر الإضلال المنسوب إليه في كتابه، إما بكونه ابتلاء وامتحانا، أو بكونه عقوبة ونكالا، فقال في الابتلاء: * (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) * أي امتحانا إلى أن قال: * (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) * (المدثر: 31) فبين أن إضلاله للعبد يكون على هذا الوجه من إنزاله آية متشابهة أو فعلا متشابها لا يعرف حقيقة الغرض فيه؛ والضال به هو الذي لا يقف على المقصود ولا يتفكر في وجه الحكمة فيه بل يتمسك بالشبهات في تقرير المجمل الباطل كما قال تعالى: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) * (آل عمران: 7) وأما العقوبة والنكال فكقوله: * (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون) * (غافر: 71) إلى أن قال: * (كذلك يضل الله الكافرين) * فبين أن إضلاله لا يعدوا أحد هذين الوجهين وإذا كان الإضلال مفسرا بأحد هذين الوجهين وجب أن لا يكون مفسرا بغيرهما دفعا للاشتراك، فثبت أنه لا يجوز حمل الإضلال على خلق الكفر والضلال وإذا ثبت ذلك فنقول بينا أن الإضلال في أصل اللغة الدعاء إلى الباطل والترغيب فيه والسعي في إخفاء مقابحه وذلك لا يجوز على الله تعالى فوجب المصير إلى التأويل، والتأويل الذي ذهبت الجبرية إليه قد أبطلناه فوجب المصير إلى وجوه أخر من التأويلات. أحدها: أن الرجل إذا ضل باختياره عند حصول شيء من غير أن يكون ذلك الشيء أثر في إضلاله فيقال لذلك الشيء إنه أضله قال تعالى في
140

حق الأصنام * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * (إبراهيم: 36) أي ضلوا بهن، وقال: * (ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا) * (نوح: 23، 24) أي ضل كثير من الناس بهم وقال: * (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) * (المائدة: 64) وقال: * (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) * (نوح: 6) أي لم يزدادوا بدعائي لهم إلا فرارا وقال: * (فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري) * (المؤمنون: 110) وهم لم ينسوهم في الحقيقة بل كانوا يذكرونهم الله ويدعونهم إليه ولكن لما كان اشتغالهم بالسخرية منهم سببا لنسيانهم أضيف الإنساء إليهم وقال في براءة: * (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * (التوبة: 124، 125) فأخبر سبحانه أن نزول السورة المشتملة على الشرائع يعرف أحوالهم فمنهم من يصلح عليها فيزداد بها إيمانا، ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كفرا، فإذن أضيفت الزيادة في الإيمان والزيادة في الكفر إلى السورة، إذ كانوا إنما صلحوا عند نزولها وفسدوا كذلك أيضا، فكذا أضيف الهدى والإضلال إلى الله تعالى إذا كان إحداثهما عند ضربه تعالى الأمثال لهم وقال في سورة المدثر: * (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا) * (المدثر: 31) فأخبر تعالى أن ذكره لعدة خزنة النار امتحان منه لعباده ليتميز المخلص من المرتاب فآلت العاقبة إلى أن صلح عليها المؤمنون وفسد الكافرون وأضاف زيادة الإيمان وضدها إلى الممتحنين فقال ليزداد وليقول ثم قال بعد قوله: * (ماذا أراد الله بهذا مثلا، كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) * (المدثر: 31) فأضاف إلى نفسه إضلالهم وهداهم بعد أن أضاف إليهم الأمرين معا، فبين تعالى أن الإضلال مفسر بهذا الامتحان ويقال في العرف أيضا. أمرضني الحب أي مرضت به: ويقال قد أفسدت فلانة فلانا وهي لم تعلم به، وقال
الشاعر:
أي يغري الملوم باللوم، والإضلال على هذا المعنى يجوز أن يضاف إلى الله تعالى على معنى أن الكافرين ضلوا بسبب الآيات المشتملة على الامتحانات ففي هذه الآية الكفار لما قالوا: ما الحاجة إلى الأمثال وما الفائدة فيها واشتد عليهم هذا الامتحان حسنت هذه الإضافة. وثانيها: أن الإضلال هو التسمية بالضلال فيقال أضله أي سماه ضالا وحكم عليه به وأكفر فلان فلانا إذا سماه كافرا وأنشدوا بيت الكميت:
وطائفة قد أكفروني بحبكم * وطائفة قالوا مسيء ومذنب
وقال طرفة: وما زال شربي الراح حتى أضلني * صديقي وحتى ساءني بعض ذلكا
أراد سماني ضالا وهذا الوجه مما ذهب إليه قطرب وكثير من المعتزلة، ومن أهل اللغة من أنكره وقال إنما يقال ضللته تضليلا إذا سميته ضالا، وكذلك فسقته وفجرته إذا سميته فاجرا فاسقا، وأجيب عنه بأنه متى صيره في نفسه ضالا لزمه أن يصير محكوما عليه بالضلال فهذا الحكم
141

من لوازم ذلك التصيير، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم مجاز مشهور وأنه مستعمل أيضا لأن الرجل إذا قال لآخر: فلان ضال جاز أن يقال له لم جعلته ضالا ويكون المعنى لم سميته بذلك ولم حكمت به عليه فعلى هذا الوجه حملوا الإضلال على الحكم والتسمية. وثالثها: أن يكون الإضلال هو التخلية وترك المنع بالقهر والجبر، فيقال أضله إذا خلاه وضلاله قالوا ومن مجازه قولهم: أفسد فلان ابنه وأهلكه ودمر عليه إذا لم يتعهده بالتأديب، ومثله قول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا * ليوم كريهة وسداد ثغر
ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية حتى فسد وصدئ: أفسدت سيفك وأصدأته. ورابعها: الضلال والإضلال هو العذاب والتعذيب بدليل قوله تعالى: * (إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر) * (القمر: 47، 48) فوصفهم الله تعالى بأنهم يوم القيامة في ضلال وذلك لا يكون إلا عذابهم وقال تعالى: * (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين) * (غافر: 71 - 74) فسر ذلك الضلال بالعذاب. وخامسها: أن يحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال كقوله: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) * (محمد: 1) قيل أبطلها وأهلكها ومن مجازه قولهم: ضل الماء في اللبن إذا صار مستهلكا فيه ويقال أضللته أنا إذا فعلت ذلك به فأهلكته وصيرته كالمعدوم ومنه يقال أضل القوم ميتهم إذا واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يرى، قال النابغة:
وآب مضلوه بعين جلية * وغودر بالجولان حزم ونائل
وقال تعالى: * (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد) * (السجدة: 10) أي أئذا اندفنا فيها فخفيت أشخاصنا فيحتمل على هذا المعنى يضل الله إنسانا أي يهلكه ويعدمه فتجوز إضافة الإضلال إليه تعالى على هذا الوجه، فهذه الوجوه الخمسة إذا حملنا الإضلال على الإضلال عن الدين. وسادسها: أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجنة، قالت المعتزلة: وهذا في الحقيقة ليس تأويلا بل حملا للفظ على ظاهره فإن الآية تدل على أنه تعالى يضلهم وليس فيها دلالة على أنه عما ذا يضلهم، فنحن نحملها على أنه تعالى يضلهم عن طريق الجنة ثم حملوا كل ما في القرآن من هذا الجنس على هذا المحمل وهو اختيار الجبائي قال تعالى: * (كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) * أي يضله عن الجنة وثوابها. هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية. وسابعها: أن نحمل الهمزة لا على التعدية بل على الوجدان على ما تقدم في أول هذه المسألة بيانه فيقال أضل فلان بعيره أي ضل عنه فمعنى إضلال الله تعالى لهم أنه تعالى وجدهم ضالين. وثامنها: أن يكون قوله تعالى: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) * من تمام قول الكفار فإنهم قالوا ماذا أراد الله بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه ثم قالوا: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وذكروه على
142

سبيل التهكم فهذا من قول الكفار ثم قال تعالى جوابا لهم: * (وما يضل به إلا الفاسقين) * أي ما أضل به إلا الفاسق. هذا مجموع كلام المعتزلة، وقالت الجبرية لقد سمعنا كلامكم واعترفنا لكم بجودة الإيراد وحسن الترتيب وقوة الكلام ولكن ماذا نعمل ولكم أعداء ثلاثة يشوشون عليكم هذه الوجوه الحسن؟ والدلائل اللطيفة: أحدها: مسألة الداعي وهي أن القادر على العلم والجهل والإهداء والإضلال لم فعل أحدهما دون الآخر؟ وثانيها: مسألة العلم على ما سبق تقريرها في قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم) * وما رأينا لكم في دفع هذين الكلامين كلاما محيلا قويا ونحن لا شك نعلم أنه لا يخفى عليكم مع ما معكم من الذكاء الضعف عن تلك الأجوبة التي تكلموا بها فكما أنصفنا واعترافنا لكم بحسن الكلام الذي ذكرتموه فأنصفوا أيضا واعترفوا بأنه لا وجه لكم عن هذين الوجهين فإن التعامي والتغافل لا يليق بالعقلاء. وثالثها: أن فعل العبد لو كان بإيجاده لما حصل إلا الذي قصد إيجاده لكن أحدا لا يريد إلا تحصيل العلم والاهتداء، ويحترز كل الاحتراز عن الجهل والضلال فكيف يحصل الجهل والإضلال للعبد مع أنه ما قصد إلا تحصيل العلم والاهتداء؟ فإن قيل إنه اشتبه عليه الكفر بالإيمان والعلم بالجهل فظن في الجهل أنه علم فقصد إيقاعه فلذلك حصل له الجهل قلنا ظنه في الجهل أنه علم ظن خطأ فإن كان اختاره أولا فقد اختار الجهل والخطأ لنفسه وذلك غير ممكن وإن قلنا إنه اشتبه عليه ذلك بسبب ظن آخر متقدم عليه لزم أن يكون قبل كل ظن ظن لا إلى نهاية وهو محال. ورابعها: أن التصورات غير كسبية والتصديقات البديهية غير كسبية والتصديقات بأسرها غير كسبية فهذه مقدمات ثلاثة.
المقدمة الأولى: في بيان أن التصورات غير كسبية، وذلك لأن من يحاول اكتسابها فإما أن يكون متصورا لها أو لا يكون متصورا لها فإن كان متصورا لها استحال أن يطلب تحصيل تصورها لأن تحصيل الحاصل محال، وإن لم يكن متصورا لها كان ذهنه غافلا عنها والغافل عن الشيء يستحيل أن يكون طالبه.
المقدمة الثانية: في بيان أن التصديقات البديهية غير كسبية لأن حصول طرفي التصديق إما أن يكون كافيا في جزم الذهن بذلك التصديق أولا يكون كافيا فإن كان الأول كان ذلك التصديق دائرا مع ذينك التصورين على سبيل الوجوب نفيا وإثباتا وما كان كذلك لم يكن مقدورا، وإن كان الثاني لم يكن التصديق بديهيا بل متوقفا فيه. المقدمة الثالثة: في بيان أن التصديقات بأسرها غير كسبية وذلك لأن هذه النظريات إن كانت واجبة اللزوم عن تلك البديهيات التي هي غير مقدورة كانت تلك النظريات أيضا غير مقدورة. وإن لم تكن واجبة اللزوم عن تلك البديهيات لم يمكن الاستدلال بتلك البديهيات على تلك النظريات، فلم تكن تلك الاعتقادات الحاصلة في تلك النظريات علوما، بل لا تكون إلا اعتقادا حاصلا للمقلد وليس كلامنا فيه، فثبت أن كلامكم في عدم إسناد الاهتداء والضلال إلى الله
143

تعالى معارض بهذه الوجوه العقلية القاطعة التي لا جواب عنها. ولنتكلم الآن فيما ذكروه من التأويلات أما التأويل الأول فساقط لأن إنزال هذه المتشابهات هل لها أثر في تحريك الدواعي أوليس لها أثر في ذلك؟ فإن كان الأول وجب على قولكم أن يقبح لوجهين، الأول: أنا قد دللنا في تفسير قوله: * (ختم الله على قلوبهم) * على أنه متى حصل الرجحان فلا بد وأن يحصل الوجوب وأنه ليس بين الاستواء وبين الوجوب المانع من النقيض واسطة، فإذا أثر إنزال هذه المتشابهات في الترجيح وثبت أنه متى حصل الترجيح فقد حصل الوجوب فحينئذ جاء الجبر وبطل ما قلتموه. الثاني: هب أنه لا ينتهي إلى حد الوجوب إلا أن المكلف ينبغي أن يكون مزاح العذر والعلة وإنزال هذه المتشابهات عليه مع أن لها أثرا في ترجيح جانب الضلال على جانب الاهتداء كالعذر للمكلف في عدم الإقدام على الطاعة فوجب أن يقبح ذلك من الله تعالى، وأما إن لم يكن لذلك أثر في إقدامهم على ترجيح جانب الضلال على جانب بالاهتداء كانت نسبة هذه المتشابهات إلى ضلالهم كصرير الباب ونعيق الغراب فكما أن ضلالهم لا ينسب إلى هذه الأمور الأجنبية كذلك وجب أن لا ينسب إلى هذه المتشابهات بوجه ما، وحينئذ يبطل تأويلهم، أما التأويل الثاني وهو التسمية والحكم فهو وإن كان في غاية البعد لكن الإشكال معه باق لأنه إذا سماه الله بذلك وحكم به عليه فلو لم يأت المكلف به لانقلب خبر الله الصدق كذبا وعلمه جهلا، وكل ذلك محال والمفضي إلى المحال محال، فكان عدم إتيان المكلف به محالا وإتيانه به واجبا وهذا عين الجبر الذي تفرون منه وأنه ملاقيكم لا محالة، وههنا ينتهي البحث إلى الجوابين المشهورين لهما في هذا المقام وكل عاقل يعلم ببديهة عقله سقوط ذلك، وأما التأويل الثالث وهو التخلية وترك المنع فهذا إنما يسمى إضلالا إذا كان الأنول والأحسن بالوالد أن يمنعه عن ذلك فأما إذا كان الولد بحيث لو منعه والده عن ذلك لوقع في مفسدة أعظم من تلك المفسدة الأولى لم يقل أحد أنه أفسد ولده وأضله، وههنا الأمر بخلاف ذلك لأنه تعالى لو منع المكلف جبرا عن هذه المفسدة لزمت مفسدة أخرى أعظم من الأولى، فكيف يقال إنه تعالى أفسد المكلف وأضله بمعنى أنه ما منعه عن الضلال مع أنه لو منعه لكانت تلك المفسدة أعظم وأما التأويل الرابع فقد اعتراض القفال عليه فقال: لا نسلم بأن الضلال جاء بمعنى العذاب أما قوله تعالى: * (إن المجرمين في ضلال وسعر) * (القمر: 47) فيمكن أن يكون المراد في ضلال عن الحق في الدنيا وفي سعر: أي في عذاب جهنم في الآخرة ويكون قوله: * (يوم يسحبون) * من صلة سعر وأما قوله تعالى: * (إذا الأغلال في أعناقهم) * إلى قوله: * (كذلك يضل الله الكافرين) * فمعنى قوله ضلوا عنا أي بطلوا فلم ينتفع بهم في هذا اليوم الذي كنا نرجو شفاعتهم فيه ثم قوله: * (كذلك يضل الله الكافرين) * قد يكون على معنى كذلك يضل الله أعمالهم أي يحبطها يوم القيامة، ويحتمل كذلك يخذلهم الله تعالى في الدنيا فلا يوفقهم لقبول الحق إذ ألفوا الباطل وأعرضوا عن التدبر، فإذا خذلهم الله تعالى وأتوا يوم القيامة فقد بطلت أعمالهم التي كانوا يرجون الانتفاع بها في الدنيا، وأما
144

التأويل الخامس: وهو الإهلاك فغير لائق بهذا الموضع لأن قوله تعالى: * (ويهدي به كثيرا) * يمنع من حمل الإضلال على الإهلاك. وأما التأويل السادس: وهو أنه يضله عن طريق الجنة فضعيف لأنه تعالى قال: * (يضل به) * أي يضل بسبب استماع هذه الآيات والإضلال عن طريق الجنة ليس بسبب استماع هذه الآيات بل بسبب إقدامه على القبائح فكيف يجوز حمله عليه. وأما التأويل السابع: وهو أن قوله: * (يضله) * أي يجده ضالا قد بينا أن إثبات هذه اللغة لا دليل عليه وأيضا فلأنه عدى الإضلال بحرف الباء فقال: * (يضل به) * والإضلال بمعنى الوجدان لا يكون معدى بحرف الباء. وأما التأويل الثامن: فهو في هذه الآية يوجب تفكيك النظم لأنه إلى قوله يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا من كلام الكفار ثم قوله: * (وما يضل به إلا الفاسقين) * كلام الله تعالى من غير فصل بينهما بل مع حرف العطف وهو الواو، ثم هب أنه ههنا كذلك لكنه في سورة المدثر وهو قوله: * (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) * لا شك أنه قول الله تعالى فهذا هو الكلام في الإضلال.
أما الهدى فقد جاء على وجوه: أحدها: الدلالة والبيان قال تعالى: * (أو لم يهد لهم كم أهلكنا) * (السجدة: 26) وقال: * (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي) * (البقرة: 38) وهذا إنما يصح لو كان الهدى عبارة عن البيان وقال: * (إن يتبعوا إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) * (النجم: 23) وقال: * (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) * (الإنسان: 3) أي سواء شكر أو كفر فالهداية قد جاءته في الحالتين وقال: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) * (فصلت: 17) وقال: * (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) * (الأنعام: 154) وهذا لا يقال للمؤمن وقال تعالى حكاية عن خصوم داود عليه السلام: * (ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط) * (ص: 22) أي أرشدنا وقال: * (إن الذين ارتدوا على إدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم) * (محمد: 25) وقال: * (أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) * (الزمر: 56) إلى قوله: * (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) * (الزمر: 57) إلى قوله: * (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت) * الزمر: 59) أخبر أنه قد هدى الكافر مما جاءه من الآيات وقال: * (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى وحرمة) * (الأنعام: 157) وهذه مخاطبة للكافرين. وثانيها: قالوا في قوله: * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * (الشورى: 52) أي لتدعو وقوله: * (ولكل قوم هاد) * (الرعد: 7) أي داع يدعوهم إلى ضلال أو هدى. وثالثها: التوفيق من الله بالألطاف المشروطة بالإيمان يؤتيها المؤمنين جزاء على إيمانهم ومعونة عليه وعلى الازدياد من طاعته، فهذا ثواب لهم وبإزائه ضده للكافرين وهو أن يسلبهم ذلك فيكون مع أنه تعالى ما هداهم يكون قد أضلهم، والدليل على هذا الوجه قوله تعالى: * (والذين
اهتدوا زادهم هدى) * (محمد: 17)، * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * (مريم: 76)، * (والله لا يهدي القوم الظالمين) * (آل عمران: 86)، * (يثبت الله
145

الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخر ويضل الله الظالمين) * (إبراهيم: 27)، * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين) * (آل عمران: 86) فأخبر أنه لا يهديهم وأنهم قد جاءهم البينات، فهذا الهدى غير البيان لا محالة، وقال تعالى: * (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) * (التغابن: 11) أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) * (المجادلة: 22). ورابعها: الهدى إلى طريق الجنة قال تعالى: * (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) * (النساء: 175) وقال: * (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) * (المائدة: 15، 16) وقال: * (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة) * (محمد: 4 - 6) والهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الجنة، وقال تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار) * (يونس: 90) وهذا تأويل الجبائي، وخامسها: الهدى بمعنى التقديم يقال هدى فلان فلانا أي قدمه أمامه، وأصل هدى من هداية الطريق؛ لأن الدليل يتقدم المدلول، وتقول العرب أقبلت هوادي الخيل. أي متقدماتها ويقال للعنق هادي وهوادي الخيل أعناقها لأنها تتقدمها، وسادسها: يهدي أي يحكم بأن المؤمن مهتد وتسميته بذلك لأن حقيقة قول القائل هداه جعله مهتديا، وهذا اللفظ قد يطلق على الحكم والتسمية قال تعالى: * (ما جعل الله من بحيرة) * (المائدة: 103) أي ما حكم ولا شرع، وقال: * (إن الهدى هدى الله) * (آل عمران: 73) معناه أن الهدى ما حكم الله بأنه هدى وقال: * (من يهد الله فهو المهتد) * أي من حكم الله عليه بالهدى فهو المستحق لأن يسمى مهتديا فهذه هي الوجوه التي ذكرها المعتزلة: وقد تكلمنا عليها فيما تقدم في باب الإضلال. قالت الجبرية: وههنا وجه آخر وهو أن يكون الهدى بمعنى خلق الهداية والعلم، قال الله تعالى: * (والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * (يونس: 25) قالت القدرية هذا غير جائز لوجوه: أحدها: أنه لا يصح في اللغة أن يقال لمن حمل غيره على سلوك الطريق كرها وجبرا أنه هداه إليه وإنما يقال رده إلى الطريق المستقيم وحمله عليه وجره إليه فأما أن يقال إنه هداه إليه فلا، وثانيها: لو حصل ذلك بخلق الله تعالى لبطل الأمر والنهي والمدح والذم والثواب والعقاب، فإن قيل هب أنه خلق الله تعالى إلا أنه كسب العبد قلنا هذا الكسب مدفوع من وجهين: الأول: أن وقوع هذه الحركة إما أن يكون بتخليق الله تعالى أو لا يكون بتخليقه، فإن كان بتخليقه، فمتى خلقه الله تعالى استحال من العبد أن يمتنع منه، ومتى لم يخلقه استحال من العبد الإتيان به، فحينئذ تتوجه الإشكالات المذكورة وإن لم يكن بتخليق الله تعالى بل من العبد فهذا هو القول بالاعتزال، الثاني: أنه لو كان خلقا لله تعالى وكسبا للعبد لم يخل من أحد وجوه ثلاثة، إما أن يكون الله بخلقه أولا ثم يكتسبه العبد أو يكتسبه العبد أولا ثم يخلقه الله تعالى. أو يقع الأمران معا، فإن خلقه الله تعالى كان العبد مجبورا على اكتسابه فيعود الإلزام وإن اكتسبه العبد أولا فالله مجبور على
146

خلقه، وإن وقعا معا وجب أن لا يحصل هذا الأمر إلا بعد اتفاقهما لكن هذا الاتفاق غير معلوم لنا فوجب أن لا يحصل هذا الاتفاق، وأيضا فهذا الاتفاق وجب أن لا يحصل إلا باتفاق آخر، لأنه من كسبه وفعله، وذلك يؤدي إلى ما لا نهاية له من الاتفاق وهو محال هذا مجموع كلام المعتزلة قالت الجبرية: إنا قد دللنا بالدلائل العقلية التي لا تقبل الاحتمال، والتأويل على أن خالق هذه الأفعال هو الله تعالى، إما بواسطة أو بغير واسطة، والوجوه التي تمسكتم بها وجوه نقلية قابلة للاحتمال والقاطع لا يعارضه المحتمل فوجب المصير إلى ما قلناه وبالله التوفيق.
المسألة السادسة عشرة: لقائل أن يقول لم وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم لقوله: * (وقليل من عبادي الشكور) * (سبأ: 13)، وقليل ما هم ولحديث " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة " وحديث " الناس أخبر قلة "، والجواب: أهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال، وأيضا فإن القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة فسموا بالكثير ذهابا إلى الحقيقة.
المسألة السابعة عشرة: قال الفراء: الفاسق أصله من قولهم فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت، فكأن الفاسق هو الخارج عن الطاعة، وتسمى الفأرة فويسقة لخروجها لأجل المضرة، واختلف أهل القبلة في أنه هل هو مؤمن أو كافر، فعند أصحابنا أنه مؤمن، وعند الخوارج أنه كافر، وعند المعتزلة أنه لا مؤمن ولا كافر، واحتج المخالف بقوله تعالى: * (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) * (الحجرات: 11) وقال: * (إن المنافقين هم الفاسقون) * (التوبة: 17) وقال: * (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) * الحجرات: 7) وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام.
المسألة الثامنة عشرة: اختلفوا في المراد، من قوله تعالى: * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) * وذكروا وجوها: أحدها: أن المراد بهذا الميثاق حججه القائمة على عباده الدالة لهم على صحة توحيده وصدق رسله، فكان ذلك ميثاقا وعهدا على التمسك بالتوحيد إذا كان يلزم بهذه الحجج ما ذكرنا من التمسك بالتوحيد وغيره، ولذلك صح قوله: * (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40)، وثانيها: يحتمل أن يعني به ما دل عليه بقوله: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا) * (فاطر: 42) فلما لم يفعلوا ما حلفوا عليه وصفهم بنقض عهده وميثاقه، والتأويل الأول يمكن فيه العموم في كل من ضل وكفر، والثاني: لا يمكن إلا فيمن اختص بهذا القسم، إذا ثبت هذا ظهر رجحان التأويل الأول على الثاني من وجهين: الأول: أن على التقدير الأول يمكن إجراء الآية على عمومها، وعلى الثاني يلزم التخصيص، الثاني: أن على التقدير الأول يلزمهم الذم لأنهم نقضوا عهدا أبرمه الله وأحكمه بما أنزل من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وأوضحها وأزال التلبيس عنها، ولما أودع في العقول من دلائلها وبعث الأنبياء وأنزل الكتب مؤكدا لها: وأما على التقدير الثاني
147

فإنه يلزمهم الذم لأجل أنهم تركوا شيئا هم بأنفسهم التزموه ومعلوم أن ترتيب الذم على الوجه الأول أولى، وثالثها: قال القفال: يحتمل أن يكون المقصود بالآية قوما من
أهل الكتاب قد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وبين لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته. ورابعا: قال بعضهم، إنه عنى به ميثاقا أخذه من الناس وهم على صورة الذر وأخرجهم من صلب آدم كذلك، وهو معنى قوله تعالى: * (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) * (الأعراف: 172) قال المتكلمون هذا ساقط لأنه تعالى لا يحتج على العباد بعهد وميثاق لا يشعرون به كما لا يؤاخذهم بما ذهب علمه عن قلبهم بالسهو والنسيان فكيف يجوز أن يعيبهم بذلك؟ وخامسها: عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود. العهد الأول: الذي أخذه على جميع ذرية آدم وهو الإقرار بربوبيته وهو قوله: * (وإذ أخذ ربك) * وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهو قوله: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) * وعهد خص به العلماء، وهو قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * (آل عمران: 187) قال صاحب " الكشاف ": الضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله ويجوز أن يكون بمعنى توثيقه كما أن الميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه ورسله.
المسألة التاسعة عشرة: اختلفوا في المراد من قوله تعالى: * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) * فذكروا وجوها: أحدها: أراد به قطيعة الرحم وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها وهو كقوله تعالى: * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) * وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة، وعلى هذا التأويل تكون الآية خاصة. وثانيها: أن الله تعالى أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل المؤمنين فهم انقطعوا عن المؤمنين واتصلوا بالكفار فذاك هو المراد من قوله: * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) *. وثالثها: أنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن وهم كانوا مشتغلين بذلك.
المسألة العشرون: أما قوله تعالى: * (ويفسدون في الأرض) * فالأظهر أن يراد به الفساد الذي يتعدى دون ما يقف عليهم. والأظهر أن المراد منه الصد عن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام لأن تمام الصلاح في الأرض بالطاعة لأن بالتزام الشرائع يلتزم الإنسان كل ما لزمه، ويترك التعدي إلى الغير، ومنه زوال التظالم وفي زواله العدل الذي قامت به السماوات والأرض، قال تعالى فيما حكى عن فرعون أنه قال: * (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) * (غافر: 26) ثم إنه سبحانه وتعالى أخبر أن من فعل هذه الأفاعيل خاسر فقال: * (أولئك هم الخاسرون) * وفي هذا الخسران وجوه: أحدها: أنهم خسروا نعيم الجنة لأنه لا أحد إلا وله في الجنة أهل ومنزل، فإن أطاع الله وجده، وإن عصاه ورثه المؤمنون، فذلك قوله تعالى: * (أولئك
148

هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) * (المؤمنون: 10 - 11) وقال: * (إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) * وثانيها: أنهم خسروا حسناتهم التي عملوها لأنهم أحبطوها بكفرهم فلم يصل لهم منها خير ولا ثواب، والآية في اليهود ولهم أعمال في شريعتهم، وفي المنافقين وهم يعملون في الظاهر ما يعمله المخلصون فحبط ذلك كله، وثالثها: أنهم إنما أصروا على الكفر خوفا من أن تفوتهم اللذات العاجلة، ثم إنها تفوتهم إما عندما يصير الرسول صلى الله عليه وسلم مأذونا في الجهاد أو عند موتهم، وقال القفال رحمه الله تعالى: وبالجملة أن الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملا لا يجزي عليه فيقال له خاسر، كالرجل الذي إذا تعنى وتصرف في أمر فلم يحصل منه على نفع قيل له خاب وخسر لأنه كمن أعطى شيئا ولم يأخذ بإزائه ما يقوم مقامه، فسمى الكفار الذين يعملون بمعاصي الله خاسرين قال تعالى: * (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (العصر: 2، 3) وقال: * (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا) * (الكهف: 103، 104) والله أعلم.
* (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد إلى هذا الموضع فمن هذا الموضع إلى قوله: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * (البقرة: 40) في شرح النعم التي عمت جميع المكلفين وهي أربعة: أولها: نعمة الأحياء وهي المذكورة في هذه الآية. واعلم أن قوله: * (كيف تكفرون بالله) * وإن كان بصورة الاستخبار فالمراد به التبكيت والتعنيف، لأن عظم النعمة يقتضي عظم معصية المنعم، يبين ذلك أن الوالد كلما عظمت نعمته على الولد بأن رباه وعلمه وخرجه وموله وعرضه للأمور الحسان، كانت معصيته لأبيه أعظم، فبين سبحانه وتعالى بذلك عظم ما أقدموا عليه من الكفر، بأن ذكرهم نعمه العظيمة عليهم ليزجرهم بذلك عما أقدموا عليه من التمسك بالكفر ويبعثهم على اكتساب الإيمان، فذكر تعالى من نعمه ما هو الأصل في النعم وهو الأحياء، فهذا هو المقصود الكلي، فإن قيل لم كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم؟ قلنا لأن الأحياء الأول قد يعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الأحياء والأحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخيا ظاهرا، وههنا مسائل: المسألة الأولى: قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن الكفر من قبل العباد من وجوه: أحدها: أنه تعالى لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز أن يقول: * (كيف تكفرون بالله) *
149

موبخا لهم، كما لا يجوز أن يقول كيف تسودون وتبيضون وتصحون وتسقمون لما كان ذلك أجمع من خلقه فيهم. وثانيها: إذا كان خلقهم أولا للشقاء والنار وما أراد بخلقهم إلا الكفر وإرادة الوقوع في النار، فكيف يصح أن يقول موبخا لهم كيف تكفرون؟. وثالثها: أنه كيف يعقل من الحكيم أن يقول لهم: * (كيف تكفرون بالله) * حال ما يخلق الكفر فيهم ويقول: * (وما منع الناس أن يؤمنوا) * حال ما منعهم عن الإيمان ويقول: * (فما لهم لا يؤمنون) * (الانشقاق: 20)، * (فما لهم عن التذكرة معرضين) * (المدثر: 49) وهو يخلق فيهم الأعراض ويقول: * (أنى تؤفكون. فأنى تصرفون) * ويخلق فيهم الإفك والصرف ومثل هذا الكلام بأن يعد من السخرية أولى من أن يذكر في باب إلزام الحجة على العباد. ورابعها: أن الله تعالى إذا قال للعبيد: * (كيف تكفرون بالله) * فهل ذكر هذا الكلام توجيها للحجة على العبد وطلبا للجواب منه أوليس كذلك؟ فإن لم يكن لطلب هذا المعنى لم يكن في ذكره فائدة فكان هذا الخطاب عبثا، وإن ذكره لتوجيه الحجة على العبد، فللعبد أن يقول
حصل في حقي أمور كثيرة موجبة للكفر. فالأول: أنك علمت بالكفر مني والعلم بالكفر يوجب الكفر. والثاني: أنك أردت الكفر مني وهذه الإرادة موجبة له. والثالث: أنك خلقت الكفر في وأنا لا أقدر على إزالة فعلك. والرابع: أنك خلقت في قدرة موجبة للكفر. والخامس: أنك خلقت في إرادة موجبة للكفر. والسادس: أنك خلقت في قدرة موجبة للإرادة الموجبة للكفر ثم لما حصلت هذه الأسباب الستة في حصول الكفر والإيمان يوقف على حصول هذه الأسباب الستة في طرف الإيمان وهي بأسرها كانت مفقودة، فقد حصل لعدم الإيمان اثنا عشر سببا كل واحد منها مستقل بالمنع من الإيمان، ومع قيام هذه الأسباب الكثيرة كيف يعقل أن يقال كيف تكفرون بالله؟ وخامسها: أنه تعالى قال لرسوله قل لهم كيف تكفرون بالله الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة أعني نعمة الحياة وعلى قول أهل الجبر لا نعمة له تعالى على الكافر، وذلك لأن عندهم كل ما فعله الله تعالى بالكافر فإنما فعله ليستدرجه إلى الكفر ويحرقه بالنار، فأي نعمة تكون لله على العبد على هذا التقدير وهل يكون ذلك إلا بمنزلة من قدم إلى غيره صحفة فالوذج مسموم فإن ظاهره وإن كان لذيذا ويعد نعمة لكن لما كان باطنه مهلكا فإن أحدا لا يعده نعمة، ومعلوم أن العذاب الدائم أشد ضررا من ذلك السم فلا يكون لله تعالى نعمة على الكافر، فكيف يأمر رسوله بأن يقول لهم كيف تكفرون بمن أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة، والجواب: أن هذه الوجوه عند البحث يرجع حاصلها إلى التمسك بطريقة المدح والذم والأمر والنهي والثواب والعقاب، فنحن أيضا نقابلها بالكلام المعتمد في هذه الشبهة، وهو أن الله سبحانه وتعالى علم أنه لا يكون، فلو وجد لانقلب علمه جهلا وهو محال ومستلزم المحال محال، فوقوعه محال مع أنه قال: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * وأيضا فالقدرة على الكفر إن كانت صالحة للإيمان امتنع كونها مصدرا للإيمان على التعيين إلا لمرجح، وذلك المرجح إن كان من العبد عاد السؤال، وإن
150

كان من الله فما لم يحصل ذلك المرجح من الله امتنع حصول الكفر، وإذا حصل ذلك المرجح وجب، وعلى هذا كيف لا يعقل قوله: * (كيف تكفرون بالله) * واعلم أن المعتزلي إذا طول كلامه وفرع وجوهه في المدح والذم فعليك بمقابلتها بهذين الوجهين فإنهما يهدمان جميع كلامه ويشوشان كل شبهاته وبالله التوفيق.
المسألة الثانية: اتفقوا على أن قوله: * (وكنتم أمواتا) * المراد به وكنتم ترابا ونطفا، لأن ابتداء خلق آدم من التراب وخلق سائر المكلفين من أولاده إلا عيسى عليه السلام من النطف، لكنهم اختلفوا في أن إطلاق اسم الميت على الجماد حقيقة أو مجاز والأكثرون على أنه مجاز لأنه شبه الموات بالميت وليس أحدهما من الآخر بسبيل لأن الميت ما يحل به الموت ولا بد وأن يكون بصفة من يجوز أن يكون حيا في العادة فيكون اللحمية والرطوبة وقال الأولون هو حقيقة فيه وهو مروي عن قتادة، قال كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى ثم أخرجهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم بعد الموت. فهما حياتان وموتتان واحتجوا بقوله: * (خلق الموت والحياة) * والموت المقدم على الحياة هو كونه مواتا فدل على أن إطلاق الميت على الموات ثابت على سبيل الحقيقة والأول هو الأقرب، لأنه يقال في الجماد إنه موات وليس بميت فيشبه أن يكون استعمال أحدهما في الآخر على سبيل التشبيه قال القفال: وهو كقوله تعالى: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) * (الإنسان: 1) فبين سبحانه وتعالى أن الإنسان كان لا شيء يذكر فجعله الله حيا وجعله سميعا بصيرا ومجازه من قولهم فلان ميت الذكر. وهذا أمر ميت، وهذه سلعة ميتة، إذا لم يكن لها طالب ولا ذاكر قال المخبل السعدي:
وأحييت لي ذكرى وما خاملا * ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
فكذا معنى الآية: * (وكنتم أمواتا) * أي خاملين ولا ذكر لكم لأنكم لم تكونوا شيئا * (فأحياكم) * أي فجعلكم خلقا سميعا بصيرا.
المسألة الثالثة: احتج قوم بهذه الآية على بطلان عذاب القبر، قالوا لأنه تعالى بين أنه يحييهم مرة في الدنيا وأخرى في الآخرة ولم يذكر حياة القبر ويؤكده قوله: * (ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) * (المؤمنون: 15، 16) ولم يذكر حياة فيما بين هاتين الحالتين، قالوا ولا يجوز الاستدلال بقوله تعالى: * (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) * (غافر: 11) لأنه قول الكفار، ولأن كثيرا من الناس أثبتوا حياة الذر في حلب آدم عليه السلام حين استخرجهم وقال: * (ألست بربكم) * وعلى هذا التقدير حصل حياتان وموتتان من غير حاجة إلى إثبات حياة في القبر، فالجواب لم يلزم من عدم الذكر في هذه الآية أن لا تكون حاصلة، وأيضا فلقائل أن يقول: إن الله تعالى ذكر حياة القبر في هذه الآية. لأن قوله في يحييكم ليس هو الحياة الدائمة وإلا لما صح أن يقول: * (ثم إليه ترجعون) * لأن كلمة ثم تقتضي التراخي، والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة
151

الدائمة من غير تراخ فلو جعلنا الآية من هذا الوجه دليلا على حياة القبر كان قريبا.
المسألة الرابعة: قال الحسن رحمه الله قوله: * (كيف تكفرون بالله) * يعني به العامة، وأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات نحو ما حكى في قوله: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) * (البقرة: 259) إلى قوله: * (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) * وكقوله: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) * (البقرة: 243) وكقوله: * (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم) * وكقوله: * (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى) * وكقوله: * (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها) * (الكهف: 21) وكقوله في قصة أيوب عليه السلام: * (وآتيناه أهله ومثلهم معهم) * فإن الله تعالى رد عليه أهله بعد ما أماتهم.
المسألة الخامسة: تمسك المجسمة بقوله تعالى: * (ثم إليه ترجعون) * على أنه تعالى في مكان وهذا ضعيف، والمراد أنهم إلى حكمة يرجعون لأنه تعالى يبعث من في القبور ويجمعهم في المحشر وذلك هو الرجوع إلى الله تعالى وإنما وصف بذلك لأنه رجوع إلى حيث لا يتولى الحكم غيره كقولهم رجع أمره إلى الأمير، أي إلى حيث لا يحكم غيره.
المسألة السادسة: هذه الآية دالة على أمور: الأول: أنها دالة على أنه لا يقدر على الإحياء والإماتة إلا الله تعالى فيبطل به قول أهل الطبائع من أن المؤثر في الحياة
والموت كذا وكذا من الأفلاك والكواكب والأركان والمزاجات كما حكى عن قوم في قوله: * (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) * (الجاثية: 24) الثاني: أنها تدل على صحة الحشر النشر مع التنبيه على الدليل العقلي الدال عليه، لأنه تعالى بين أنه أحيا هذه الأشياء بعد موتها في المرة الأولى فوجب أن يصح ذلك في المرة الثانية، الثالث: أنها تدل على التكليف والترغيب والترهيب. الرابع: أنها دالة على الجبر والقدر كما تقدم بيانه، الخامس: أنها دالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال: * (فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) * فبين أنه لا بد من الموت ثم بين أنه لا يترك على هذا الموت. بل لا بد من الرجوع إليه أما أنه لا بد من الموت، فقد بين سبحانه وتعالى أنه بعد ما كان نطفة فإن الله أحياه وصوره أحسن صورة وجعله بشرا سويا وأكمل عقله وصيره بصيرا بأنواع المنافع والمضار وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور، ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئا ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ويبقى مدة طويلة في اللحود كما قال تعالى: * (ومن ورائهم برزخ) * (المؤمنون: 100) ينادي فلا يجيب ويستنطق فلا يتكلم ثم لا يزوره الأقربون، بل ينساه الأهل والبنون. كما قال يحيى بن معاذ الرازي: يمر أقاربي بحذاء قبري كأن أقاربي لم يعرفوني
وقال أيضا: إلهي كأني بنفسي وقد أضجعوها في حفرتها، وانصرف المشيعون عن تشييعها، وبكى الغريب عليها لغربتها، وناداها من شفير القبر ذو مودتها، ورحمتها الأعادي عند جزعتها،
152

ولم يخف على الناظرين عجز حيلتها، فما رجائي إلا أن نقول: ما تقول ملائكتي انظروا إلى فريد قد نأى عنه الأقربون، ووحيد قد جفاه المحبون، أصبح مني قريبا وفي اللحد غريبا، وكان لي في الدنيا داعيا ومجيبا، ولإحساني إليه عند وصوله إلى هذا البيت راجيا، فأحسن إلى هناك يا قديم الإحسان، وحقق رجائي فيك يا واسع الغفران. وأما أنه لا بد من الرجوع إلى الله فلأن سبحانه يأمر بأن ينفخ في الصور * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * (الزمر: 68) وقال: * (يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون) * (المعارج: 43) ثم يعرضون على الله كما قال: * (وعرضوا على ربك صفا) * (الكهف: 48) فيقومون خاشعين خاضعين كما قال: * (وخشعت الأصوات للرحمن) * (طه: 108) وقال بعضهم: إلهنا إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا. ومن شدة الخوف شاحبة وجوهنا، ومن هول القيامة مطرقة رؤوسنا. وجائعة لطول القيامة بطوننا، وبادية لأهل الموقف سوآتنا، وموقرة من ثقل الأوزار ظهورنا، وبقينا متحيرين في أمورنا نادمين على ذنوبنا، فلا تضعف المصائب بإعراضك عنا، ووسع رحمتك وغفرانك لنا، يا عظيم الرحمة يا واسع المغفرة.
* (هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شىء عليم) *.
اعلم أن هذا هو النعمة الثانية التي عمت المكلفين بأسرهم وما أحسن ما رعى الله سبحانه وتعالى هذا الترتيب فإن الانتفاع بالأرض والسماء إنما يكون بعد حصول الحياة فلهذا ذكر الله أمر الحياة أولا ثم أتبعه بذكر السماء والأرض، أما قوله: * (خلق) * فقد مر تفسيره في قوله: * (اعبدوا ربكم الذي خلقكم) * وأما قوله: * (لكم) * فهو يدل على أن المذكور بعد قوله خلق لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا، أما في الدنيا فليصلح أبداننا ولنتقوى به على الطاعات وأما في الدين فللاستدلال بهذه الأشياء والاعتبار بها وجمع بقوله: * (ما في الأرض جميعا) * جميع المنافع، فمنها ما يتصل بالحيوان والنبات والمعادن والجبال ومنها ما يتصل بضروب الحرف والأمور التي استنبطها العقلاء وبين تعالى أن كل ذلك إنما خلقها كي ينتفع بها كما قال: * (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) * فكأنه سبحانه وتعالى قال كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم وكيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا أو يقال كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة وقد أحياكم بعد موتكم ولأنه خلق لكم ما في الأرض
153

جميعا فكيف يعجز عن إعادتكم ثم إنه تعالى ذكر تفاصيل هذه المنافع في سورة مختلفة كما قال: * (إنا صببنا الماء صبا) * وقال في أول سورة أتى أمر الله * (والأنعام خلقها لكم) * (النحل: 5) إلى آخره وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال أصحابنا: إنه سبحانه وتعالى لا يفعل فعلا لغرض لأنه لو كان كذلك كان مستكملا بذلك الغرض والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله تعالى محال فإن قيل: فعله تعالى معلل بغرض غير عائد إليه بل إلى غيره، قلنا: عود ذلك الغرض إلى ذلك الغير هل هو أولى لله تعالى من عود ذلك الغرض إليه أوليس أولى؟ فإن كان أولى فهو تعالى قد انتفع بذلك الفعل فيعود المحذور المذكور وإن كان الثاني لم يكن تحصيل ذلك الغرض المذكور لذلك الغير غرضا لله تعالى فلا يكون مؤثرا فيه. وثانيها: أن من فعل فعلا لغرض كان عاجزا عن تحصيل ذلك الغرض إلا بواسطة ذلك الفعل والعجز على الله تعالى محال. وثالثها: أنه تعالى لو فعل فعلا لغرض لكان ذلك الغرض إن كان قديما لزم قدم الفعل وإن كان محدثا كان فعله لذلك الغرض لغرض آخر ويلزم التسلسل وهو محال. ورابعها: أنه تعالى لو كان يفعل لغرض لكان ذلك الغرض هو رعاية مصلحة المكلفين ولو توقفت فاعليته على ذلك لما فعل ما كان مفسدة في حقهم لكنه قد فعل ذلك حيث كلف من علم أنه لا يؤمن ثم إنهم تكلموا في اللام في قوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * وفي قوله: * (إلا ليعبدون) * فقالوا إنه تعالى لما فعل ما لو فعله غيره لكان فعله لذلك الشيء لأجل الغرض لا جرم أطلق الله عليه لفظ الغرض بسبب هذه المشابهة.
المسألة الثانية: احتج أهل الإباحة بقوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * على أنه تعالى خلق الكل للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا وهو ضعيف لأنه تعالى قابل الكل بالكل، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، والتعيين يستفاد من دليل منفصل والفقهاء رحمهم الله استدلوا به على أن الأصل في المنافع الإباحة وقد بيناه في أصول الفقه.
المسألة الثالثة: قيل إنها تدل على حرمة أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض، ولقائل أن يقول في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض
فيكون جمعا للموضعين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى بعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه.
المسألة الرابعة: قوله: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * يقتضي أنه لا تصح الحاجة على الله تعالى وإلا لكان قد فعل هذه الأشياء لنفسه أيضا لا لغيره، وأما قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب وضده الإعوجاج ولما كان ذلك من صفات الأجسام، فالله تعالى يجب أن يكون منزها عن ذلك ولأن في الآية ما يدل على فساده لأن قوله: * (ثم استوى) * يقتضي التراخي ولو كان المراد من هذا الاستواء العلو
154

بالمكان لكان ذلك العلو حاصلا أولا ولو كان حاصلا أولا لما كان متأخرا عن خلق ما في الأرض لكن قوله: * (ثم استوى) * يقتضي التراخي، ولما ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن الاستواء هو الاستقامة يقال استوى العود إذا قام واعتدل ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلتفت إلى شيء آخر ومنه استعير قوله: * (ثم استوى إلى السماء) * أي خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زمانا ولم يقصد شيئا آخر بعد خلقه الأرض.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء) * مفسر بقوله: * (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) * (فصلت: 9، 10) بمعنى تقدير الأرض في يومين وتقدير الأقوات في يومين آخرين كما يقول القائل من الكوفة إلى المدينة عشرون يوما، وإلى مكة ثلاثون يوما يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ومجموع ذلك ستة أيام على ما قال: * (خلق السماوات والأرض في ستة أيام) *.
المسألة الثالثة: قال بعض الملحدة هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء وكذا قوله: * (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) * إلى قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء) * وقال في سورة النازعات: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها) * (النازعات: 27 - 30) وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء وذكر العلماء في الجواب عنه وجوها: أحدها: يجوز أن يكون خلق الأرض قبل خلق السماء إلا أنه ما دحاها حتى خلق السماء لأن التدحية هي البسط ولقائل أن يقول هذا أمر مشكل من وجهين: الأول: أن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية وإذا كانت التدحية متأخرة عن خلق السماء كان خلقها أيضا لا محالة متأخرا عن خلق السماء. الثاني: أن قوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء) * يدل على أن خلق الأرض وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء لكن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة فهذه الآية تقتضي تقدم كونها مدحوة قبل خلق السماء وحينئذ يتحقق التناقض. والجواب: أن قوله تعالى: * (والأرض بعد ذلك دحاها) * يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض، وعلى هذا التقدير يزول التناقض، ولقائل أن يقول: قوله تعالى: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها) * يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدم على تدحية الأرض ولكن تدحية الأرض ملازمة لخلق ذات الأرض فإن ذات السماء وتسويتها متقدمة على ذات الأرض وحينئذ يعود السؤال، وثالثها: وهو الجواب الصحيح أن قوله: " ثم " ليس للترتيب ههنا وإنما هو على جهة تعديد النعم، مثاله قول الرجل لغيره:
155

أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ثم رفعت قدرك ثم دفعت الخصوم عنك، ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الرابعة: الضمير في فسواهن ضمير مبهم، وسبع سماوات تفسير له كقوله ربه رجلا وفائدته أن المبهم إذا تبين كان أفخم وأعظم من أن يبين أولا لأنه إذا أبهم تشوفت النفوس إلى الاطلاع عليه وفي البيان بعد ذلك شفاء لها بعد التشوف، وقيل الضمير راجع إلى السماء، والسماء في معنى الجنس وقيل جمع سماءة، والوجه العربي هو الأول ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وإخلاؤه من العوج والفطور وإتمام خلقهن. المسألة الخامسة: اعلم أن القرآن ههنا قد دل على وجود سبع سماوات، وقال أصحاب الهيئة أقربها إلينا كرة القمر، وفوقها كرة عطارد، ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس. ثم كرة المريخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زحل، قالوا ولا طريق إلى معرفة هذا الترتيب إلا من وجهين: الأول: الستر وذلك أن الكوكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يصيران ككوكب واحد ويتميز الساتر عن المستور بكونه الغالب كحمرة المريخ وصفرة عطارد، وبياض الزهرة، وزرقة المشتري، وكدورة زحل كما أن القدماء وجدوا القمر يكسف الكواكب الستة. وكوكب عطارد يكسف الزهرة، والزهرة تكسف المريخ، وهذا الترتيب على هذا الطريق يدل على كون الشمس فوق القمر لانكسافها به ولكن لا يدل على كونها تحت سائر الكواكب أو فوقها لأنها لا تنكسف بشيء منها لاضمحلال سائر الكواكب عند طلوعها فعند هذا ذكروا طريقين: أحدهما: ذكر بعضهم أنه رأى الزهرة كشامة في صحيفة الشمس، وهذا ضعيف لأن منهم من زعم أن في وجه الشمس شامة كما أن حصل في وجه القمر المحو، الثاني: اختلاف المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل، وأما في حق الشمس فإنه قليل جدا فوجب أن تكون الشمس متوسطة بين القسمين هذا ما قاله الأكثرون إلا أن أبا الريحان قال في " تلخيصه لفصول الفرغاني ": إن اختلاف المنظر لا يحس إلا في القمر فبطلت هذه الوجوه وبقي موضع الشمس مشكوكا. واعلم أن أصحاب الأرصاد وأرباب الهيئة زعموا أن الأفلاك تسعة، فالسبعة هي هذه التي ذكرناها والفلك الثامن هو الذي حصلت هذه الكواكب الثابتة فيه، وأما الفلك التاسع فهو الفلك الأعظم وهو يتحرك في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب، واحتجوا على إثبات الفلك الثامن بأنا وجدنا لهذه الكواكب الثابتة حركات بطيئة وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة فلكها والأفلاك الحاملة لهذه السيارات تتحرك حركات سريعة فلا بد من جسم آخر يتحرك حركة بطيئة ويكون هو الحامل لهذه الثوابت، وهذه الدلالة ضعيفة من وجوه: أولها: لم لا يجوز أن يقال الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر وهذا الاحتمال لا يفسد إلا بإفساد المختار
156

ودونه خرط القتاد. وثانيها: سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال إن هذه الكواكب مركوزة في ممثلات السيارات والسيارات مركوزة في حواملها، وعند ذلك لا يحتاج إلى إثبات الفلك الثامن. وثالثها: لم لا يجوز أن يكون ذلك الفلك تحت فلك القمر فيكون تحت كرات السيارات لا فوقها فإن قيل إنا نرى هذه السيارات تكسف هذه الثوابت والكاسف تحت المكسوف لا محالة قلنا هذه السيارات إنما تكسف الثوابت القريبة من المنطقة فأما الثوابت القريبة من القطبين فلا، فلم لا يجوز أن يقال هذه الثوابت القريبة من المنطقة مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق كرة زحل وهذه الثوابت القريبة من القطبين التي لا يمكن انكسافها بالسيارات مركوزة في كرة أخرى تحت كرة القمر وهذا الاحتمال لا دافع له، ثم نقول هب أنكم أثبتم هذه الأفلاك التسعة فما الذي دلكم على نفي الفلك العاشر، أقصى ما في الباب أن الرصد ما دل إلا على هذا القدر إلا أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول، والذي يحقق ذلك أنه قال بعض المحققين منهم: إنه ما تبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطو بعضها على بعض وأقول هذا الاحتمال واقع، لأن الذي يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال إن حركاتها متشابهة ومتى كان الأمر كذلك كانت مركوزة في كرة واحدة وكلتا المقدمتين غير يقينيتين. أما الأولى: فلأن حركاتها وإن كانت في الحس واحدة ولكن لعلها لا تكون في الحقيقة واحدة، لأنا لو قدرنا أن واحدا منها يتمم الدورة في ستة وثلاثين ألف سنة. والآخر يتمم الدورة في مثل هذه المدة بنقصان سنة واحدة فإذا وزعنا ذلك النقصان على هذه السنين كان الذي هو حصة السنة الواحدة ثلاثة عشر جزءا من ألف ومائتي جزء من واحد، وهذا القدر مما لا يحس به بل العشر سنين والمائة والألف مما لا يحس به البتة، وإذا كان ذلك محتملا سقط القطع البتة عن استواء حركات الثوابت. وأما الثانية: فلأن استواء حركات الثوابت في مقادير حركاتها لا يوجب كونها بأسرها مركوزة في كرة واحدة لاحتمال كونها مركوزة في كرات متباينة وإن كانت مشتركة في مقادير حركاتها وهذا كما يقولون في ممثلات أكثر الكواكب فإنها في حركاتها مساوية لفلك الثوابت فكذا ههنا. وأقول إن هذا الاحتمال الذي ذكره هذا القائل غير مختص بفلك الثوابت فلعل الجرم المتحرك بالحركة اليومية ليس جرما واحدا بل أجراما كثيرة إما مختلفة الحركات لكن بتفاوت قليل لا تفي بإدراكها أعمارنا وأرصادنا وإما متساوية على الإطلاق ولكن تساويها لا يوجب وحدتها، ومن أصحاب الهيئة من قطع بإثبات أفلاك أخر غير هذه التسعة فإن من الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم واستدل عليه من وجوه: الأول: أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار فكل من كان رصده أقدم وجد مقدار الميل أعظم فإن بطليموس وجده " لحايا " ثم وجد في زمان المأمون " كحاله " ثم وجد بعد
157

المأمون قد تناقص بدقيقة وذلك يقتضي أن من شأن المنطقتين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل وتكون كرة الثوابت يدور قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضا وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعا فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج، وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب عندما يرتفع قطب فلك الثوابت إلى الجنوب، وتارة إلى الشمال. كما هو الآن. الثاني: أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطرابا شديدا في مقدار سير الشمس على ما هو مشروح في " كتب النجوم " حتى أن بطليموس حكى عن أبرخيس أنه كان شاكا في أن هذه العودة تكون في أزمنة متساوية أو مختلفة وأنه يقول في بعض أقاويله: إنها مختلفة، وفي بعضها: إنها متساوية في إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين: أحدهما: قول من يجعل أوج الشمس متحركا فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطة الاعتدال لاختلاف بعدها عن الأوج فيختلف زمان سير الشمس من أجله. الثاني: قول أهل الهند والصين وبابل وأكثر قدماء الروم ومصر والشام: إن السبب فيه انتقال فلك البروج وارتفاع قطبه وانحطاطه، وحكي عن أبرخيس أنه كان يعتقد هذا الرأي وذكر بارياء الإسكندراني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك وأن نقطة فلك البروج تتقدم عن موضعها وتتأخر ثمان درجات وقالوا إن ابتداء الحركة من " كب " درجة من الحوت إلى أول الحمل واعلم أن هذا الخبط مما ينبهك على أنه لا سبيل للعقول البشرية إلى إدراك هذه الأشياء وأنه لا يحيط بها إلا علم فاطرها وخالقها فوجب الاقتصار فيه على الدلائل السمعية، فإن قال قائل فهل يدل التنصيص على سبع سماوات على نفي العدد الزائد؟ قلنا الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد.
المسألة السادسة: قوله تعالى: * (وهو بكل شيء عليم) * يدل على أنه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون خالقا للأرض وما فيها وللسماوات وما فيها من العجائب والغرائب إلا إذا كان عالما بها محيطا بجزئياتها وكلياتها، وذلك يدل على أمور: أحدها: فساد قول الفلاسفة الذين قالوا إنه لا يعلم الجزئيات وصحة قول المتكلمين، وذلك لأن المتكلمين استدلوا على علم الله تعالى بالجزئيات بأن قالوا: إن الله تعالى فاعل لهذه الأجسام على سبيل الأحكام والاتقان وكل فاعل على هذا الوجه فإن لا بد وأن يكون عالما بما فعله وهذه الدلالة بعينها ذكرها الله تعالى في هذا الموضع لأنه ذكر خلق السماوات والأرض ثم فرع على ذلك كونه عالما، فثبت بهذا أن قول المتكلمين في هذا المذهب وفي هذا الاستدلال مطابق للقرآن.
وثانيها: فساد قول المعتزلة وذلك لأنه سبحانه وتعالى بين أن الخالق للشيء على سبيل التقدير والتحديد لا بد وأن يكون عالما به وبتفاصيله لأن خالقه قد خصه بقدر دون قدر والتخصيص بقدر معين لا بد وأن يكون بإرادة وإلا فقد حصل الرجحان من غير مرجح والإرادة مشروطة بالعلم فثبت أن خالق
158

الشيء لا بد وأن يكون عالما به على سبيل التفصيل. فلو كان العبد موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بها وبتفاصيلها في العدد والكمية والكيفية فلما لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجد نفسه. وثالثها: قالت المعتزلة: إذا جمعت بين هذه الآية وبين قوله: * (وفوق كل ذي علم عليم) * ظهر أنه تعالى عالم بذاته، والجواب: قوله تعالى: * (وفوق كل ذي علم عليم) * عام وقوله: * (أنزله بعلمه) * خاص والخاص مقدم على العام. والله تعالى أعلم.
* (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) *.
اعلم أن هذه الآية دالة على كيفية خلقة آدم عليه السلام وعلى كيفية تعظيم الله تعالى إياه فيكون ذلك إنعاما عاما على جميع بني آدم فيكون هذا هو النعمة الثالثة من تلك
النعم العامة التي أوردها في هذا الموضع ثم فيه مسائل:
المسألة الأولى: في إذ قولان: أحدهما: أنه صلة زائدة إلا أن العرب يعتادون التكلم بها والقرآن نزل بلغة العرب. الثاني: وهو الحق أنه ليس في القرآن ما لا معنى له وهو نصب بإضمار أذكر، والمعنى أذكر لهم قال ربك للملائكة فأضمر هذا لأمرين: أحدهما: أن المعنى معروف. والثاني: أن الله تعالى قد كشف ذلك في كثير من المواضع كقوله: * (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف) * (الأحقاف: 21) وقال: * (واذكر عبدنا داود) * (ص: 17)، * (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين) * (يس: 13، 14) والقرآن كله كالكلمة الواحدة ولا يبعد أن تكون هذه المواضع المصرحة نزلت قبل هذه السورة فلا جرم ترك ذلك ههنا اكتفاء بذلك المصرح. قال صاحب " الكشاف ": ويجوز أن ينتصب " إذ " بقالوا.
المسألة الثانية: الملك أصله من الرسالة، يقال ألكني إليه أي أرسلني إليه والمألكة والألوكة الرسالة وأصله الهمزة من " ملأكة " حذفت الهمزة وألقيت حركتها على ما قبلها طلبا للخفة لكثرة استعمالها، قال صاحب " الكشاف ": الملائك جمع ملأك على الأصل كالشمائل في جمع شمأل وإلحاق التاء لتأنيث الجمع.
159

المسألة الثالثة: من الناس من قال: الكلام في الملائكة ينبغي أن يكون مقدما على الكلام في الأنبياء لوجهين: الأول: أن الله تعالى قدم ذكر الإيمان بالملائكة على ذكر الإيمان بالرسل في قوله: * (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) * (المؤمنون: 285) ولقد قال عليه السلام: " ابدؤا بما بدأ الله به " الثاني: أن الملك واسطة بين الله وبين الرسول في تبليغ الوحي والشريعة فكان مقدما على الرسول، ومن الناس من قال: الكلام في النبوات مقدم على الكلام في الملائكة لأنه لا طريق لنا إلى معرفة وجود الملائكة بالعقل بل بالسمع، فكان الكلام في النبوات أصلا للكلام في الملائكة فلا جرم وجب تقديم الكلام في النبوات، والأولى أن يقال الملك قبل النبي بالشرف والعلية وبعده في عقولنا وأذهاننا بحسب وصولنا إليها بأفكارنا. واعلم أنه لا خلاف بين العقلاء في أن شرف الرتبة للعالم العلوي هو وجود الملائكة فيه كما أن شرف الرتبة للعالم السفلى هو وجود الإنسان فيه إلا أن الناس اختلفوا في ماهية الملائكة وحقيقتهم وطريق ضبط المذاهب أن يقال: الملائكة لا بد وأن تكون ذوات قائمة بأنفسها ثم إن تلك الذوات إما أن تكون متحيزة أولا تكون، أما الأول: وهو أن تكون الملائكة ذوات متحيزة فهنا أقوال: أحدها: أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السماوات، وهذا قول أكثر المسلمين. وثانيا: قول طوائف من عبدة الأوثان وهو أن الملائكة هي الحقيقة في هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والأنحاس فإنها بزعمهم أحياء ناطقة، وأن المسعدات منها ملائكة الرحمة والمنحسات منها ملائكة العذاب، وثالثها: قول معظم المجوس والثنوية وهو أن هذا العالم مركب من أصلين أزليين وهما النور والظلمة، وهما في الحقيقة جوهران شفافان مختاران قادران متضادا النفس والصورة مختلفا الفعل والتدبير، فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس يسر ولا يضر، وينفع ولا يمنع، ويحيى ولا يبلى وجوهر الظلمة على ضد ذلك. ثم إن جوهر النور لم يزل يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح بل على سبيل تولد الحكمة من الحكيم والضوء من المضئ. وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء وهم الشياطين على سبيل تولد السفه من السفيه لا على سبيل التناكح فهذه أقوال من جعل الملائكة أشياء متحيزة جسمانية. القول الثاني: أن الملائكة ذوات قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة ولا بأجسام فههنا قولان: أحدهما: قول طوائف من النصارى وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء والخيرية وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة، وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين. وثانيهما: قول الفلاسفة: وهي أنها جواهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة البتة، وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس الناطقة البشرية وأنها أكمل قوة منها وأكثر علما منها، وأنها للنفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى الأضواء، ثم إن هذه الجواهر على قسمين، منها ما هي بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب
160

كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا، ومنها ما هي لا على شيء من تدبير الأفلاك بل هي مستغرقة في معرفة الله ومحبته ومشتغلة بطاعته، وهذا القسم هم الملائكة المقربون ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبرون السماوات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة. فهذان القسمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما، ومنهم من أثبت أنواعا أخر من الملائكة وهي الملائكة الأرضية المدبرة لأحوال هذا العالم السفلي، ثم إن المدبرات لهذا العالم إن كانت خيرة فهم الملائكة وإن كانت شريرة فهم الشياطين، فهذا تفصيل مذاهب الناس في الملائكة واختلف أهل العلم في أنه هل يمكن الحكم بوجودها من حيث العقل أو لا سبيل إلى إثباتها إلا بالسمع؟ أما الفلاسفة فقد اتفقوا على أن في العقل دلائل تدل على وجود الملائكة، ولنا معهم في تلك الدلائل أبحاث دقيقة عميقة، ومن الناس من ذكر في ذلك وجوها عقلية اقناعية ولنشر إليها. أحدها: أن المراد من الملك الحي الناطق الذي لا يكون ميتا، فنقول القسمة العقلية تقتضي وجود أقسام ثلاثة فإن الحي إما أن يكون ناطقا وميتا معا وهو الإنسان، أو يكون ميتا ولا يكون ناطقا وهو البهائم، أو يكون ناطقا ولا يكون ميتا وهو الملك، ولا شك أن أخس المراتب هو الميت غير الناطق، وأوسطها الناطق الميت، وأشرفها الناطق الذي ليس بميت، فإذا اقتضت الحكمة الإلهية إيجاد أخس المراتب وأوسطها، فلأن تقتضي إيجاد أشرف المراتب وأعلاها كان ذلك أولى، وثانيا: أن الفطرة تشهد بأن عالم السماوات أشرف من هذا العالم السفلي وتشهد بأن الحياة والعقل والنطق أشرف من أضدادها ومقابلتها فيبعد في العقل أن تحصل الحياة والعقل والنطق في هذا العالم الكدر الظلماني، ولا تحصل البتة في ذلك العالم الذي هو عالم الضوء والنور والشرف. وثالثها: أن أصحاب المجاهدات أثبتوها من جهة المشاهدة والمكاشفة، وأصحاب الحاجات والضرورات أثبتوها من جهة أخرى وهي ما يشاهد من عجائب آثارها في الهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة وتركيب المعجونات واستخراج صنعة التريقات، ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة، فهذه وجوه إقناعية بالنسبة إلى من سمعها ولم يمارسها، وقطعية بالنسبة إلى من جربها وشاهدها واطلع على أسرارها، وأما الدلائل النقلية فلا نزاع البتة بين الأنبياء عليهم السلام في إثبات الملائكة، بل ذلك كالأمر المجمع عليه بينهم والله أعلم.
المسألة الرابعة: في شرح كثرتهم: قال عليه الصلاة والسلام: " أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع " وروي أن بني آدم عشر
الجن، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر، وهؤلاء كلهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين بها، وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثالثة، وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات
161

العرش التي عددها ستمائة ألف، طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السماوات والأرضون وما فيها وما بينها فإنها كلها تكون شيئا يسيرا وقدرا صغيرا، وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم، لهم زجل بالتسبيح والتقديس، ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعلم عددهم إلا الله. ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه السلام. والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السلام. وهم كلهم سامعون مطيعون لا يفترون مشتغلون بعبادته سبحانه وتعالى. رطاب الألسن بذكره وتعظيمه يتسابقون في ذلك مذ خلقهم، لا يستكبرون عن عبادته آناء الليل والنهار ولا يسأمون، لا يحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى، وهذا تحقيق حقيقة ملكوته جل جلاله على ما قال: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * (المدثر: 31). وأقول رأيت في بعض كتب التذكير أنه عليه الصلاة والسلام حين عرج به رأى ملائكة في موضع بمنزلة سوق بعضهم يمشي تجاه بعض فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهم إلى أين يذهبون. فقال جبريل عليه السلام. لا أدري إلا أني أراهم مذ خلقت ولا أرى واحدا منهم قد رأيته قبل ذلك ثم سألوا واحدا منهم وقيل له مذ كم خلقت؟ فقال لا أدري غير أن الله تعالى يخلق كوكبا في كل أربعمائة ألف سنة فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خلقني أربعمائة ألف مرة، فسبحانه من إله ما أعظم قدرته وما أجل كماله. واعلم أن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن أصنافهم وأوصافهم، أما الأصناف. فأحدها: حملة العرش وهو قوله: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17)، وثانيها: الحافون حول العرش على ما قال سبحانه: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم) * (الزمر: 75) وثالثها: أكابر الملائكة فمنهم جبريل وميكائيل صلوات الله عليهما لقوله تعالى: * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) * (البقرة: 98) ثم إنه سبحانه وتعالى وصف جبريل عليه السلام بأمور. الأول: أنه صاحب الوحي إلى الأنبياء قال تعالى: * (نزل به الروح الأمين على قلبك) * (الشعراء: 193، 194) الثاني: أنه تعالى ذكره قبل سائر الملائكة في القرآن * (قل من كان عدو لجبريل) * (البقرة: 97) ولأن جبريل صاحب الوحي والعلم، وميكائيل صاحب الأرزاق والأغذية، والعلم الذي هو الغذاء الروحاني أشرف من الغذاء الجسماني فوجب أن يكون جبريل عليه السلام أشرف من ميكائيل الثالث: أنه تعالى جعله ثاني نفسه * (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) *. الرابع: سماه روح القدس قال في حق عيسى عليه السلام: * (إذ أيدتك بروح القدس) * (المائدة: 110) الخامس: ينصر أولياء الله ويقهر أعداءه مع ألف من الملائكة مسومين، السادس: أنه تعالى مدحه بصفات ست في قوله: * (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين) * (التكوير: 19 - 20) فرسالته أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الأنبياء، فجميع الأنبياء والرسل أمته وكرمه على ربه أنه جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء، وقوته أنه رفع مدائن قوم لوط إلى السماء وقلبها، ومكانته عند الله أنه
162

جعله ثاني نفسه في قوله تعالى: * (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) * وكونه مطاعا أنه إمام الملائكة ومقتداهم، وأما كونه أمينا فهو قوله: * (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين) * (الشعراء: 193) ومن جملة أكابر الملائكة إسرافيل وعزرائيل صلوات الله عليهما وقد ثبت وجودهما بالأخبار وثبت بالخبر أن عزرائيل هو ملك الموت على ما قال تعالى: * (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) * (السجدة: 11) وأما قوله: * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) * (الأنعام: 61) فذلك يدل على وجود ملائكة موكلين بقبض الأرواح ويجوز أن يكون ملك الموت رئيس جماعة وكلوا على قبض الأرواح قال تعالى: * (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) * (الأنفال: 50). وأما إسرافيل عليها السلام فقد دلت الأخبار على أنه صاحب الصور على ما قال تعالى * (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * (الزمر: 68). ورابعها: ملائكة الجنة قال تعالى: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * (الرعد: 23، 24). وخامسها: ملائكة النار قال تعالى: * (عليها تسعة عشر) * (المدثر: 30) وقوله تعالى: * (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) * (المدثر: 31) ورئيسهم مالك، وهو قوله تعالى: * (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) * (الزخرف: 77) وأسماء جملتهم الزبانية قال تعالى: * (فليدع ناديه سندع الزبانية) * (العلق: 17، 18) وسادسها: الموكلون ببني آدم لقوله تعالى: * (عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) * (ق 17، 18) وقوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) * (الرعد: 11) وقوله تعالى: * (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة) * (الأنعام: 61). وسابعها: كتبة الأعمال وهو قوله تعالى: * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) * (الانفطار: 10 - 12). وثامنها: الموكلون بأحوال هذا العالم وهم المرادون بقوله تعالى: * (والصافات صفا) * (الصافات: 1) وبقوله: * (والذاريات ذروا) * إلى قوله: * (فالمقسمات أمرا) * (الذاريات: 1، 4) وبقوله: * (والنازعات غرقا) * (النازعات: 1). وعن ابن عباس قال: إن لله ملائكة سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الأشجار، فإذا أصاب أحدكم حركة بأرض فلاة فليناد: أعينوا عباد الله يرحمكم الله. وأما أوصاف الملائكة فمن وجوه: أحدها: أن الملائكة رسل الله، قال تعالى: * (جاعل الملائكة رسلا) * (فاطر: 1) أما قوله تعالى: * (الله يصطفى من الملائكة رسلا) * (الحج: 75) فهذا يدل على أن بعض الملائكة هم الرسل فقط، وجوابه أن من للتبيين لا للتبعيض. وثانيها: قربهم من الله تعالى، وذلك يمتنع أن يكون بالمكان والجهة فلم يبق إلا أن يكون ذلك القرب هو القرب بالشرف وهو المراد من قوله: * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) * (الأنبياء: 19) وقوله: * (بل عباد مكرمون) * (الأنبياء: 26) وقوله: * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * (الأنبياء: 20) وثالثها: وصف طاعاتهم وذلك من وجوه
: الأول: قوله تعالى حكاية عنهم * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * وقال في موضع آخر * (وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون) * (الصافات: 166) والله تعالى ما كذبهم في ذلك فثبت بها مواظبتهم على العبادة. الثاني: مبادرتهم إلى امتثال أمر الله تعظيما له وهو قوله: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * (الحجر: 30). الثالث: أنهم لا يفعلون شيئا إلا بوحيه وأمره وهو قوله:
163

* (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * (الأنبياء: 27). ورابعها: وصف قدرتهم وذلك من وجوه: الأول: أن حملة العرش وهم ثمانية يحملون العرش والكرسي ثم إن الكرسي الذي هو أصغر من العرش أعظم من جملة السماوات السبع لقوله: * (وسع كرسيه السماوات والأرض) * (البقرة: 255) فانظر إلى نهاية قدرتهم وقوتهم. الثاني: أن علو العرش شيء لا يحيط به الوهم ويدل عليه قوله: * (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) * (المعارج: 4) ثم إنهم لشدة قدرتهم ينزلون منه في لحظة واحدة. الثالث: قوله تعالى: * (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * (الزمر: 68) فصاحب الصور يبلغ في القوة إلى حيث أن بنفخة واحدة منه يصعق من في السماوات والأرض، وبالنفخة الثانية منه يعودون أحياء. فاعرف منه عظم هذه القوة. والرابع: أن جبريل عليه السلام بلغ في قوته إلى أن قلع جبال آل لوط وبلادهم دفعة واحدة. وخامسها: وصف خوفهم ويدل عليه وجوه: الأول: أنهم مع كثرة عباداتهم وعدم إقدامهم على الزلات البتة يكونون خائفين وجلين حتى كأن عبادتهم معاصي قال تعالى: * (يخافون ربهم من فوقهم) * (النحل: 50) وقال: * (وهم من خشيته مشفقون) * (الأنبياء: 28). الثاني: قوله تعالى: * (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير) * (سبأ: 23) روي في التفسير أن الله تعالى إذا تكلم بالوحي سمعه أهل السماوات مثل صوت السلسلة على الصفوان ففزعوا فإذا انقضى الوحي قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، الثالث: روى البيهقي في " شعب الإيمان " عن ابن عباس قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بناحية ومعه جبريل إذ انشق أفق السماء فأقبل جبريل يتضاءل ويدخل بعضه في بعض ويدنو من الأرض فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويخيرك بين أن تكون نبيا ملكا وبين أن تكون نبيا عبدا، قال عليه السلام: فأشار إلى جبريل بيده أن تواضع فعرفت أنه لي ناصح فقلت عبدا نبيا فعرج ذلك الملك إلى السماء فقلت يا جبريل قد كنت أردت أن أسألك عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة فمن هذا يا جبريل فقال هذا إسرافيل خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافا قدميه لا يرفع طرفه وبين الرب وبينه سبعون نورا ما منها نور يدنو منه إلا احترق وبين يديه اللوح المحفوظ فإذا أذن الله له في شيء من السماء أو من الأرض ارتفع ذلك اللوح بقرب جبينه فينظر فيه فإن كان من عملي أمرني به وإن كان من عمل ميكائيل أمره به وإن كان من عمل ملك الموت أمره به قلت يا جبريل على أي شيء أنت قال على الرياح والجنود قلت على أي شيء ميكائيل قال على النبات. قلت على أي شيء ملك الموت قال على قبض الأنفس وما ظننت أنه هبط إلا لقيام الساعة وما ذاك الذي رأيت مني إلا خوفا من قيام الساعة. واعلم أنه ليس بعد كلام الله وكلام رسوله كلام في وصف الملائكة أعلى وأجل من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام، قال في بعض خطبه: ثم فتق ما بين السماوات العلى فملأهن أطوارا من ملائكة فمنهم سجود لا يركعون
164

وركوع لا ينتصبون وصافون لا يتزايلون ومسبحون لا يسأمون لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان ومنهم أمناء على وحيه وألسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره ومنهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم والمارقة من السماء العليا أعناقهم والخارجة من الأقطار أركانهم والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ناكسة دونه أبصارهم متلفعون بأجنحتهم مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ولا يحدونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر.
المسألة الخامسة: اختلفوا في أن المراد من قوله: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) * كل الملائكة أو بعضهم فروى الضحاك عن ابن عباس أنه سبحانه وتعالى إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا بعث الله إبليس في جند من الملائكة فقتلهم إبليس بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر فقال تعالى لهم: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * وقال الأكثرون من الصحابة والتابعين أنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص لأن لفظ الملائكة يفيد العموم فيكون التخصيص خلاف الأصل.
المسألة السادسة: جاعل من جعل الذي له مفعولان دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله: * (في الأرض خليفة) * فكانا مفعولين ومعناه مصير في الأرض خليفة.
المسألة السابعة: الظاهر أن الأرض التي في الآية جميع الأرض من المشرق إلى المغرب وروى عبد الرحمن بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت وهم أول من طاف به وهو في الأرض التي قال الله تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * والأول أقرب إلى الظاهر.
المسألة الثامنة: الخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه قال الله تعالى: * (ثم جعلناكم خلائف في الأرض) * (يونس: 14). * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء) * (الأعراف: 69) فأما أن المراد بالخليفة من؟ ففيه قولان: أحدهما: أنه آدم عليه السلام. وقوله: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * المراد ذريته لا هو، والثاني: أنه ولد آدم، أما الذين قالوا المراد آدم عليه السلام فقد اختلفوا في أنه تعالى لم سماه خليفة وذكروا فيه وجهين: الأول: بأنه تعالى لما نفى الجن من الأرض وأسكن آدم الأرض كان آدم عليه السلام خليفة لأولئك الجن الذين تقدموه. يروى ذلك عن ابن عباس. الثاني: إنما سماه الله خليفة لأنه يخلف الله في الحكم بين المكلفين من خلقه وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والسدي وهذا الرأي متأكد بقوله: * (إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) * (ص: 26) أما الذين قالوا المراد ولد آدم فقالوا: إنما سماهم خليفة لأنهم يخلف بعضهم بعضا وهو
165

قول الحسن ويؤكده قوله: * (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) * والخليفة اسم يصلح للواحد والجمع كما يصلح للذكر والأنثى وقرئ خليقة بالقاف. فإن قيل ما الفائدة في أن قال الله تعالى للملائكة: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * مع أنه منزه عن الحاجة إلى المشورة والجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى علم أنهم إذا اطلعوا على ذلك السر أوردوا عليه ذلك السؤال فكانت المصلحة تقتضي إحاطتهم بذلك الجواب فعرفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السؤال ويسمعوا ذلك الجواب. الوجه الثاني: أنه تعالى علم عباده المشاورة. وأما قوله تعالى: * (قالوا أتجعل فيها) * إلى آخر الآية، ففيه مسائل: المسألة الأولى: الجمهور الأعظم من علماء الدين اتفقوا على عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب ومن الحشوية من خالف في ذلك ولنا وجوه: الأول: قوله تعالى: * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * (التحريم: 6) إلا أن هذه الآية مختصة بملائكة النار فإذا أردنا الدلالة العامة تمسكنا بقوله تعالى: * (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * (النحل: 50) فقوله ويفعلون ما يؤمرون يتناول جميع فعل المأمورات وترك المنهيات لأن المنهي عن الشيء مأمور بتركه. فإن قيل ما الدليل على أن قوله ويفعلون ما يؤمرون يفيد العموم قلنا لأنه لا شيء من المأمورات إلا ويصح الاستثناء منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل على ما بيناه في أصول الفقه. والثاني: قوله تعالى: * (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * (الأنبياء: 26 - 27) فهذا صريح في براءتهم عن المعاصي وكونهم متوقفين في كل الأمور إلا بمقتضى الأمر والوحي. والثالث: أنه تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في البشر بالمعصية ولو كانوا من العصاة لما حسن منهم ذلك الطعن الرابع: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ومن كان كذلك امتنع صدور المعصية منه واحتج المخالف بوجوه: الأول: أنه تعالى حكي عنهم أنهم قالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * وهذا يقتضي صدور الذنب عنهم ويدل على ذلك وجوه: أحدها: أن قولهم: أتجعل فيها. هذا اعتراض على الله تعالى وذلك من أعظم الذنوب. وثانيها: أنهم طعنوا في بني آدم بالفساد والقتل وذلك غيبة والغيبة من كبائر الذنوب. وثالثها: أنهم بعد أن طعنوا في بني آدم مدحوا أنفسهم بقولهم: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * وأنهم قالوا: * (وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون) * (الصافات: 165، 166) وهذا للحصر فكأنهم نفوا كون غيرهم كذلك وهذا يشبه العجب والغيبة وهو من الذنوب المهلكة قال عليه السلام. (ثلاث مهلكات، وذكر فيها إعجاب المرء بنفسه). وقال تعالى: * (فلا تزكوا أنفسكم) * (النجم: 32). ورابعها: أن قولهم لا علم لنا إلا ما علمتنا يشبه الاعتذار فلولا تقدم الذنب وإلا لما اشتغلوا بالعذر. وخامسها: أن قوله: * (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) * (البقرة: 31) يدل على أنهم كانوا كاذبين فيما قالوه أو لا. وسادسها: أن قوله: * (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * (البقرة: 33) يدل على
166

أن الملائكة ما كانوا عالمين بذلك قبل هذه الواقعة وأنهم كانوا شاكين في كون الله تعالى عالما بكل المعلومات، وسابعها: أن علمهم يفسدون ويسفكون الدماء، إما أن يكون قد حصل بالوحي إليهم في ذلك أو قالوه استنباطا والأول بعيد لأنه إذا أوحى الله تعالى ذلك إليهم لم يكن لإعادة ذلك الكلام فائدة فثبت أنهم قالوه عن الاستنباط والظن والقدح في الغير على سبيل الظن غير جائز لقوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (الإسراء: 36) وقال: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * (يونس: 36) وثامنها: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الله سبحانه وتعالى قال للملائكة الذين كانوا جند إبليس في محاربة الجن * (إني جاعل في الأرض خليفة) * فقالت الملائكة مجيبين له سبحانه: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * ثم علموا غضب الله عليهم: * (فقالوا سبحانك لا علم لنا) * وروي عن الجن وقتادة أن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم همست الملائكة فيما بينهم وقالوا ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق فلن يخلق خلقا إلا كنا أعظم منه وأكرم عليه فلما خلق آدم عليه السلام وفضله عليهم * (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) * (البقرة: 31) في أني لا أخلق خلقا إلا وأنتم أفضل منه ففزع القوم عند ذلك إلى التوبة و * (قالوا سبحانك لا علم لنا) * وفي بعض الروايات أنهم لما قالوا أتجعل فيها، أرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم. الشبهة الثانية: تمسكوا بقصة هاروت وماروت وزعموا أنهما كانا ملكين من الملائكة وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض فأوحى الله تعالى إليهما إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني فقالا يا رب لو ابتليتنا لم نفعل فجربنا فأهبطهما إلى الأرض وابتلاهما الله بشهوات بني آدم فمكثا في الأرض وأمر الله الكوكب المسمى بالزهرة والملك الموكل به فهبطا إلى الأرض فجعلت الزهرة في صورة امرأة والملك في صورة رجل ثم إن الزهرة اتخذت منزلا وزينت نفسها ودعتهما إلى نفسها ونصب الملك نفسه في منزلها في مثال صنم فأقبلا إلى منزلها ودعواها إلى الفاحشة فأبت عليهما إلا أن يشربا خمرا فقالا لا نشرب الخمر ثم غلبت الشهوة عليهما فشربا ثم دعواها إلى ذلك فقالت بقيت خصلة لست أمكنكما من نفسي حتى تفعلاها قالا وما هي؟ قالت: تسجدان لهم الصنم، فقالا: لا نشرك بالله، ثم غلبت الشهوة عليهما فقالا: نفعل ثم نستغفر فسجدا للصنم فارتفعت الزهرة وملكها إلى موضعهما من السماء فعرفا حينئذ أنه إنما أصابهما ذلك بسبب تعيير بني آدم وفي رواية أخرى أن الزهرة كانت فاجرة من أهل الأرض وإنما واقعاها بعد أن شربا الخمر وقتلا النفس وسجدا للصنم وعلماها الاسم الأعظم الذي كانا به يعرجان إلى السماء فتكلمت المرأة بذلك الاسم وعرجت إلى السماء فمسخها الله تعالى وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة ثم إن الله تعالى عرفت هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا ثم خيرهما بين عذاب الآخرة آجلا وبين عذاب الدنيا عاجلا فاختارا عذاب الدنيا فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى
167

يوم القيامة وهما يعلمان الناس السحر ويدعوان إليه ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة وتعلقوا في ذلك بقوله تعالى: * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) * (البقرة: 102) الشبهة الثالثة: أن إبليس كان من الملائكة المقربين ثم إنه عصى الله تعالى وكفر وذلك يدل على صدور المعصية من جنس الملائكة. الشبهة الرابعة: قوله تعالى: * (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) * (المدثر: 31) قالوا: فدل هذا على أن الملائكة يعذبون لأن أصحاب النار لا يكونون إلا ممن يعذب فيها كما قال: * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * والجواب عن الشبهة الأولى أن نقول: أما الوجه الأول وهو قولهم أنهم اعترضوا
على الله تعالى وهذا من أعظم الذنوب فنقول إنه ليس غرضهم من ذلك السؤال تنبيه الله على شيء كان غافلا عنه، فإن من اعتقد ذلك في الله فهو كافر، ولا الإنكار على الله تعالى في فعل فعله، بل المقصود من ذلك السؤال أمور: أحدها: أن الإنسان إذا كان قاطعا بحكمة غيره ثم رأى أن ذلك الغير يفعل فعلا لا يقف على وجه الحكمة فيه فيقول له أتفعل هذا! كأنه يتعجب من كمال حكمته وعلمه، ويقول إعطاء هذه النعم لمن يفسد من الأمور التي لا تهتدي العقول فيها إلى وجه الحكمة فإذا كنت تفعلها وأعلم أنك لا تفعلها إلا لوجه دقيق وسر غامض أنت مطلع عليه فما أعظم حكمتك وأجل علمك فالحاصل أن قوله: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * كأنه تعجب من كمال علم الله تعالى وإحاطة حكمته بما خفي على كل العقلاء. وثانيها: أن إيراد الإشكال طلبا للجواب غير محذور فكأنهم قالوا إلهنا أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه البتة ونحن نرى في العرف أن تمكين السفيه من السفه سفه فإذا خلقت قوما يفسدون ويقتلون وأنت مع علمك أن حالهم كذلك خلقتهم ومكنتهم وما منعتهم عن ذلك فهذا يوهم السفه وأنت الحكيم المطلق فكيف يمكن الجمع بين الأمرين فكأن الملائكة أوردوا هذا السؤال طلبا للجواب، وهذا جواب المعتزلة قالوا: وهذا يدل على أن الملائكة لم يجوزوا صدور القبيح من الله تعالى وكانوا على مذهب أهل العدل قالوا والذي يؤكد هذا الجواب وجهان: أحدهما: أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق. والثاني: أنهم قالوا: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * لأن التسبيح تنزيه ذاته عن صفة الأجسام والتقديس تنزيه أفعاله عن صفة الذم ونعت السفه، وثالثها: أن الشرور وإن كانت حاصلة في تركيب هذا العالم السفلي إلا أنها من لوازم الخيرات الحاصلة فيه وخيراتها غالبة على شرورها وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا تلك الشرور، فأجابهم الله تعالى بقوله: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * يعني أن الخيرات الحاصلة من أجل تراكيب العالم السفلي أكثر من الشرور الحاصلة فيها والحكمة تقتضي إيجاد ما هذا شأنه لا تركه وهذا جواب الحكماء. ورابعها: أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه. وخامسها: أن قول الملائكة: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * مسألة منهم
168

أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحا فكأنهم قالوا: يا إلهنا اجعل الأرض لنا لا لهم كما قال موسى عليه السلام: * (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) * (الأعراف: 155) والمعنى لا تهلكنا فقال تعالى: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * من صلاحكم وصلاح هؤلاء الذين أجعلهم في الأرض فبين ذلك أنه اختار لهم السماء خاصة ولهؤلاء الأرض خاصة لعلمه بصلاح ذلك في أديانهم ليرضى كل فريق بما اختاره الله له. وسادسها: أنهم طلبوا الحكمة التي لأجلها خلقهم مع هذا الفساد والقتل، وسابعها: قال القفال يحتمل أن الله تعالى لما أخبرهم أنه يجعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها، أي ستفعل ذلك فهو إيجاب خرج مخرج الاستفهام قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح
أي أنتم كذلك. ولو كان استفهاما لم يكن مدحا، ثم قالت الملائكة إنك تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبح بحمدك ونقدس لما أنا نعلم أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة فلما قالوا ذلك قال الله تعالى لهم: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * كأنه قال والله أعلم نعم ما فعلتم حيث لم تجعلوا ذلك قادحا في حكمتي فإني أعلم ما لا تعلمون فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل وما علمتم باطنهم وأنا أعلم ظاهرهم وباطنهم فأعلم من بواطنهم أسرارا خفية وحكما بالغة تقتضي خلقهم وإيجادهم. أما الوجه الثاني: وهو أنهم ذكروا بني آدم بما لا ينبغي وهو الغيبة، فالجواب أن محل الإشكال في خلق بني آدم إقدامهم على الفساد والقتل، ومن أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال لا لغيره فلهذا السبب ذكروا من بني آدم هاتين الصفتين وما ذكروا منهم عبادتهم وتوحيدهم لأن ذلك ليس محل الإشكال. أما الوجه الثالث: وهو أنهم مدحوا أنفسهم وذلك يوجب العجب وتزكية النفس. فالجواب: أن مدح النفس غير ممنوع منه مطلقا لقوله: * (وأما بنعمة ربك فحدث) * وأيضا فيحتمل أن يكون قولهم: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * ليس المراد مدح النفس، بل المراد بيان أن هذا السؤال ما أوردناه لنقدح به في حكمتك يا رب فإنا نسبح بحمدك ونعترف لك بالإلهية والحكمة فكأن الغرض من ذلك بيان أنهم ما أوردوا السؤال للطعن في الحكمة والإلهية. بل لطلب وجه الحكمة على سبيل التفصيل، أما الوجه الرابع: وهو أن قولهم: * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) * يشبه الاعتذار فلا بد من سبق الذنب، قلنا نحن نسلم أن الأولى للملائكة أن لا يوردوا ذلك السؤال، فلما تركوا هذا الأولى كان ذلك الاعتذار اعتذارا من ترك الأولى فإن قيل أليس أنه تعالى قال: * (لا يسبقونه بالقول) * (الأنبياء: 27) فهذا السؤال وجب أن يكون بإذن الله تعالى، وإذا كانوا مأذونين في هذا السؤال فكيف اعتذروا عنه؟ قلنا العام قد يتطرق إليه التخصيص. أما الوجه الخامس: وهو أن إخبار الملائكة عن الفساد وسفك الدماء، إما أن يكون حصل عن الوحي أو قالوه استنباطا وظنا، قلنا اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: إنهم ذكروا ذلك ظنا ثم ذكروا فيه وجهين: الأول: وهو مروي عن ابن عباس والكلبي أنهم قاسوه
169

على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض. الثاني: أنهم عرفوا خلقته وعرفوا أنه مركب من هذه الأخلاط الأربعة فلا بد وأن تتركب فيه الشهوة والغضب فيتولد الفساد عن الشهوة وسفك الدماء عن الغضب. ومنهم من قال إنهم قالوا ذلك على اليقين وهو مروي عن ابن مسعود وناس من الصحابة ثم ذكروا فيه وجوها: أحدها: أنه تعالى لما قال للملائكة: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا، فعند ذلك قالوا: ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. وثانيها: أنه تعالى كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء. وثالثها: قال ابن زيد لما خلق الله تعالى النار خافت الملائكة خوفا شديدا فقالوا: ربنا لمن خلقت هذه النار؟ قال لمن عصاني من خلقي ولم يكن لله يومئذ خلق إلا الملائكة ولم يكن في الأرض خلق البتة فلما قال: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * عرفوا أن المعصية تظهر منهم. ورابعها: لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك. وخامسها: إذا كان معنى الخليفة من يكون نائبا لله تعالى في الحكم والقضاء، والاحتجاج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع والتظالم كان الأخبار عن وجود الخليفة إخبارا عن وقوع الفساد والشر بطريق الالتزام قال أهل التحقيق والقول بأنه كان هذا الأخبار عن
مجرد الظن باطل لأنه قدح في الغير بما لا يأمن أن يكون كاذبا فيه، وذلك ينافي العصمة والطهارة. أما الوجه السادس: هو الأخبار التي ذكروها فهي من باب أخبار الآحاد فلا تعارض الدلائل التي ذكرناها.
أما الشبهة الثانية: وهي قصة هاروت وماروت، فالجواب عنها أن القصة التي ذكروها باطلة من وجوه: أحدها: أنهم ذكروا في القصة أن الله تعالى قال لهما لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني فقالا لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيناك، وهذا منهم تكذيب لله تعالى وتجهيل له وذلك من صريح الكفر، والحشوية سلموا أنهما كانا قبل الهبوط إلى الأرض معصومين، وثانيها: في القصة أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وذلك فاسد بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة وبين العذاب والله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره وبالغ في إيذاء أنبيائه. وثالثها: في القصة أنهما يعلمان السحر حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما معاقبان على المعصية. ورابعها: أن المرأة الفاجرة كيف يعقل أنها لما فجرت صعدت إلى السماء وجعلها الله تعالى كوكبا مضيئا وعظم قدره بحيث أقسم به حيث قال: * (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) * (التكوير: 15) فهذه القصة قصة ركيكة يشهد كل عقل سليم بنهاية ركاكتها، وأما الكلام في تعليم السحر فسيأتي في تفسير تلك الآية في موضعها إن شاء الله تعالى.
وأما الشبهة الثالثة: فسنتكلم في بيان أن إبليس ما كان من الملائكة.
170

وأما الشبهة الرابعة: وهي قوله: * (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) * (المدثر: 31) فهذا لا يدل على كونهم معذبين في النار وقوله: * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * لا يدل أيضا على كونهم معذبين بالنار بمجرد هذه الآية بل إنما عرف ذلك بدليل آخر فقوله: * (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) * يريد به خزنة النار والمتصرفين فيها والمدبرين لأمرها والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن الملائكة هل هم قادرون على المعاصي والشرور أم لا؟ فقال جمهور الفلاسفة وكثير من أهل الجبر: إنهم خيرات محض ولا قدرة لهم البتة على الشرور والفساد وقال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء: إنهم قادرون على الأمرين واحتجوا على ذلك بوجوه: أحدها: أن قولهم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * إما أن يكون معصية أو ترك الأولى وعلى التقديرين فالمقصود حاصل، وثانيها: قوله تعالى: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم) * (الأنبياء: 29) وذلك يقتضي كونهم مزجورين ممنوعين وقال أيضا: * (لا يستكبرون عن عبادته) * (الأعراف: 206) والمدح بترك الاستكبار إنما يجوز له كان قادرا على فعل الاستكبار. وثالثها: أنهم لو لم يكونوا قادرين على ترك الخيرات لما كانوا ممدوحين بفعلها لأن الملجأ إلى الشيء ومن لا يقدر على ترك الشيء لا يكون ممدوحا بفعل ذلك الشيء، ولقد استدل بهذا بعض المعتزلة فقلت له أليس أن الثواب والعوض واجبان على الله تعالى، ومعنى كونه واجبا عليه أنه لو تركه للزم من تركه إما الجهل وإما الحاجة وهما محالان والمفضي إلى المحال محال، فيكون ذلك الترك محالا من الله تعالى، وإذا كان الترك محالا كان الفعل واجبا فيكون الله تعالى فاعلا للثواب والعوض واجب وتركه محال مع أنه تعالى ممدوح على فعل ذلك، فثبت أن امتناع الترك لا يقدح في حصول المدح فانقطع وما قدر على الجواب.
المسألة الثالثة: الواو في * (ونحن) * للحال كما تقول أتحسن إلى فلان وأنا أحق بالإحسان والتسبيح تبعيد الله تعالى من السوء وكذا التقديس، من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد، واعلم أن التبعيد إن أريد به التبعيد عن السوء فهو التسبيح وإن أريد به التبعيد عن الخيرات فهو اللعن، فنقول التبعيد عن السوء يدخل فيه التبعيد عن السوء في الذات والصفات والأفعال، أما في الذات فأن لا تكون محلا للإمكان فإن منع السوء وإمكانه هو العدم ونفي الإمكان يستلزم نفي الكثرة، ونفيها يستلزم نفي الجسمية والعرضية ونفي الضد والند، وحصول الوحدة المطلقة والوجوب الذاتي وأما في الصفات فأن يكون منزها عن الجهل فيكون محيطا بكل المعلومات وقادرا على كل المقدورات وتكون صفاته منزهة عن التغييرات، وأما في الأفعال فأن لا تكون أفعاله لجلب المنافع ودفع المضار وأن لا يستكمل بشيء منها ولا ينتقص بعدم شيء منها فيكون مستغنيا عن كل الموجودات والمعدومات مستوليا بالإعدام والإيجاد على كل الموجودات والمعدومات، وقال أهل التذكير: التسبيح جاء تارة في القرآن بمعنى
171

التنزيه وأخرى بمعنى التعجب. أما الأول فجاء على وجوه: " ا " أنا المنزه عن النظير والشريك، هو الله الواحد القهار " ب " أنا المدبر للسموات والأرض سبحان رب السماوات والأرض " ج " أنا المدبر لكل العالمين سبحان الله رب العالمين " د " أنا المنزه عن قول الظالمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون (ه) أنا المستغني عن الكل سبحانه هو الغني " و " أنا السلطان الذي كل شيء سوائي فهو تحت قهري وتسخيري فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء " ز " أنا العالم بكل شيء، سبحان الله عما يصفون عالم الغيب " ح " أنا المنزه عن الصاحبة والولد سبحانه أنى يكون له ولد " ط " أنا المنزه عن وصفهم وقولهم، سبحانه وتعالى عما يشركون، عما يقولون، عما يصفون، أما التعجب فكذلك " ا " أنا الذي سخرت البهائم القوية للبشر الضعيف، سبحان الذي سخر لنا هذا " ب " أنا الذي خلقت العالم وكنت منزها عن التعب والنصب، سبحانه إذا قضى أمرا " ج " أنا الذي أعلم لا بتعليم المعلمين ولا بإرشاد المرشدين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " د " أنا الذي أزيل معصية سبعين سنة بتوبة ساعة فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس، ثم يقول إن أردت رضوان الله فسبح، وسبحوه بكرة وأصيلا. وإن أردت الفرج من البلاء فسبح لا إله أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وإن أردت رضا الحق فسبح، ومن الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى، وإن أردت الخلاص من النار فسبح، سبحانك فقنا عذاب النار، أيها العبد واظب على تسبيحي فسبحان الله فسبح وسبحوه فإن لم تفعل تسبيحي فالضرر عائد إليك، لأن لي من يسبحني، ومنهم حملة العرش * (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون) * (فصلت: 38) ومنهم المقربون * (قالوا سبحانك أنت ولينا) * (سبأ: 41) ومنهم سائر الملائكة * (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا) * (الفرقان: 18) ومنهم الأنبياء كما قال ذو النون * (لا إله إلا أنت سبحانك) * (يونس: 1) وقال موسى: * (سبحانك إني تبت إليك) * (الأعراف: 143) والصحابة
يسبحون في قوله: * (سبحانك فقنا عذاب النار) * (آل عمران: 191) والكل يسبحون ومنهم الحشرات والدواب والذرات * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44) وكذا الحجر والمدر والرمال والجبال والليل والنهار والظلمات والأنوار والجنة والنار والزمان والمكان والعناصر والأركان والأرواح والأجسام على ما قال: * (سبح لله ما في السماوات) * (الحديد: 1) ثم يقول أيها العبد: أنا الغني عن تسبيح هذه الأشياء، وهذه الأشياء ليست من الأحياء فلا حاجة بها إلى ثواب هذا التسبيح فقد صار ثواب هذه التسبيحات ضائعا وذلك لا يليق بي * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) * (ص: 27) لكني أوصل ثواب هذه الأشياء إليك ليعرف كل أحد أن من اجتهد في خدمتي أجعل كل العالم في خدمته. والنكتة الأخرى أذكرني بالعبودية لتنتفع به لا أنا * (سبحان ربك رب العزة) * (الصافات: 180) فإنك إذا ذكرتني بالتسبيح طهرتك عن المعاصي * (وسبحوه بكرة وأصيلا) * (الأحزاب: 42) أقرضني * (وأقرضوا الله قرضا حسنا) * (الحديد: 18) وإن كنت أنا الغني حتى أرد الواحد عليك عشرة * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له) * (البقرة: 245) كن معينا لي وإن كنت غنيا عن إعانتك
172

* (ولله جنود السماوات والأرض) * (الفتح: 4) وأيضا فلا حاجة بي إلى العسكر * (ولو يشاء الله لانتصر منهم) * لكنك إذا نصرتني نصرتك * (إن تنصروا الله ينصركم) * (محمد: 7) كن مواظبا على ذكرى * (واذكروا الله في أيام معدودات) * (البقرة: 203) ولا حاجة بي إلى ذكرك لأن الكل يذكروني * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25) لكنك إذا ذكرتني ذكرتك * (فاذكروني أذكركم) * (البقرة: 152) اخدمني: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) * لا لأني أحتاج إلى خدمتك فإني أنا الملك * (ولله ملك السماوات والأرض) * (آل عمران: 189). * (ولله يسجد من في السماوات والأرض) * (الرعد: 15) ولكن انصرف إلى خدمتي هذه الأيام القليلة لتنال الراحات الكثيرة * (قل الله ثم ذرهم) * (الأنعام: 91).
المسألة الرابعة: قوله: * (بحمدك) * قال صاحب " الكشاف " بحمدك في موضع الحال. أي نسبح لك حامدين لك ومتلبسين بحمدك، وأما المعنى ففيه وجهان: الأول: أنا إذا سبحناك فنحمدك سبحانك يعني ليس تسبيحنا تسبيحا من غير استحقاق بل تستحق بحمدك وجلالك هذا التسبيح الثاني: أنا نسبحك بحمدك فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك كما قال داود عليه السلام: يا رب كيف أقدر أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكر نعمتك إلا بنعمتك إلا بنعمتك، فأوحى الله تعالى إليه: " الآن قد شكرتني حيث عرفت أن كل ذلك مني " واختلف العلماء في المراد من هذا التسبيح فروي أنا أبا ذر دخل بالغداة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بالعكس، فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي: أي الكلام أحب إلى الله قال ما اصطفاه الله لملائكته: سبحان الله وبحمد رواه مسلم وروى سعيد بن جبير قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فمر رجل من المسلمين على رجل من المنافقين فقال له رسول الله يصلي وأنت جالس لا تصلي فقال له امض إلى عملك إن كان لك عمل، فقال ما أظن إلا سيمر بك من ينكر عليك فمر عليه عمر بن الخطاب قال يا فلان إن رسول الله يصلي وأنت جالس، فقال له مثلها فوثب عليه فضربه، وقال هذا من عملي ثم دخل المسجد وصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ رسول الله من صلاته قام إليه عمر فقال يا نبي الله مررت آنفا على فلان وأنت تصلي وهو جالس فقلت له: نبي الله يصلي وأنت جالس فقال لي مر إلى عملك فقال عليه الصلاة والسلام هلا ضربت عنقه، فقام عمر مسرعا ليلحقه فيقتله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر ارجع فإن غضبك عز ورضاك حكم إن لله في السماوات ملائكة له غنى بصلاتهم عن صلاة فلان، فقال عمر يا رسول الله وما صلاتهم، فلم يرد عليه شيئا فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله سألك عمر عن صلاة أهل السماء قال: نعم قال: أقرئه مني السلام وأخبره بأن أهل سماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون، سبحان الحي الذي لا يموت، فهذا هو تسبيح الملائكة ".
القول الثاني: أن المراد بقوله: * (نسبح) * أي نصلي والتسبيح هو الصلاة، وهو قول ابن عباس وابن مسعود.
173

المسألة الخامسة: التقديس التطهير، ومنه الأرض المقدسة ثم اختلفوا على وجوه: أحدها: نطهرك أي نصفك بما يليق بك من العلو والعزة، وثانيها: قول مجاهد نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء لمرضاتك. وثالثها: قول أبي مسلم نطهر أفعالنا من ذنوبنا حتى تكون خالصة لك. ورابعها: نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقة في أنوار معرفتك قالت المعتزلة هذه الآية تدل على العدل من وجوه: أحدها: قولهم: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * أضافوا هذه الأفعال إلى أنفسهم فلو كانت أفعالا لله تعالى لما حسن التمدح بذلك ولا فضل لذلك على سفك الدماء إذ كل ذلك من فعل الله تعالى. وثانيها: لو كان الفساد والقتل فعلا لله تعالى لكان يجب أن يكون الجواب أن يقول إني مالك أفعل ما أشاء. وثالثها: أن قوله: * (أعلم ما لا تعلمون) * يقتضي التبري من الفساد والقتل لكن التبري من فعل نفسه محال. ورابعها: إذا كان لا فاحشة ولا قبح ولا جور ولا ظلم ولا فساد إلا بصنعه وخلقه ومشيئته فكيف يصح التنزيه والتقديس؟ وخامسها: أن قوله: * (أعلم ما لا تعلمون) * يدل على مذهب العدل لأنه لو كان خالقا للكفر لكان خلقهم لذلك الكفر فكان ينبغي أن يكون الجواب نعم خلقهم ليفسدوا وليقتلوا. فلما لم يرضى بهذا الجواب سقط هذا المذهب. وسادسها: لو كان الفساد والقتل، من فعل الله تعالى لكان ذلك جاريا مجرى ألوانهم وأجسامهم وكما لا يصح التعجب من هذه الأشياء فكذا من الفساد والقتل والجواب عن هذه الوجوه المعارضة بمسألة الداعي والعلم والله أعلم.
المسألة السادسة: إن قيل قوله: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * كيف يصلح أن يكون جوابا عن السؤال الذي ذكروه قلنا قد ذكرنا أن السؤال يحتمل وجوها: أحدها: فيكون قوله: * (أعلم ما لا تعلمون) * جوابا له من حيث إنه قال تعالى لا تتعجبوا من أن يكون فيهم من يفسد ويقتل فإني أعلم مع هذا بأن فيهم جمعا من الصالحين والمتقين وأنتم لا تعلمون. وثانيها: أنه للغم فيكون الجواب لا تغتموا بسبب وجود المفسدين فإني أعلم أيضا أن فيهم جمعا من المتقين، ومن لم أقسم علي لأبره. وثالثها: أنه طلب الحكمة فجوابه أن مصلحتكم فيه أن تعرفوا وجه الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل. بل ربما كان ذلك التفصيل مفسدة لكم ورابعها: أنه التماس لأن
يتركهم في الأرض وجوابه إني أعلم أن مصلحتكم أن تكونوا في السماء لا في الأرض، وفيه وجه خامس: وهو أنهم لما قالوا: * (نسبح بحمدك ونقدس لك) * قال تعالى: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * وهو أن معكم إبليس وأن في قلبه حسدا وكبرا ونفاقا. ووجه سادس: وهو أني أعلم ما لا تعلمون فإنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فقد استعظمتم أنفسكم فكأنكم أنتم بهذا الكلام في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي ولكن اصبروا حتى يظهر البشر فيتضرعون إلى الله بقولهم: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * وبقوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي) * وبقوله: * (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) *.
174

* (وعلم ءادم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين) *.
اعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته وإسكانه تعالى إياهم في الأرض وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الأجمال بقوله تعالى: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * أراد تعالى أن يزيدهم بيانا وأن يفصل لهم ذلك المجمل، فبين تعالى لهم من فضل آدم عليه السلام ما لم يكن من ذلك معلوما لهم، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم فيتأكد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال الأشعري والجبائي والكعبي: اللغات كلها توقيفية. بمعنى أن الله تعالى خلق علما ضروريا بتلك الألفاظ وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني. واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (وعلم آدم والكلام على التمسك بهذه الآية سؤالا وجوابا ذكرناه في أصول الفقه. وقال أبو هاشم: إنه لا بد من تقدم لغة اصطلاحية واحتج على أنه لا بد وأن يكون الوضع مسبوقا بالاصطلاح بأمور: أحدها: أنه لو حصل العلم الضروري بأنه تعالى وضع هذه اللفظة لهذا المعنى لكان ذلك العلم إما أن يحصل للعاقل أو لغير العاقل، لا جائز أن يحصل للعاقل لأنه لو حصل العلم الضروري بأنه تعالى وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى لصارت صفة الله تعالى معلومة بالضرورة مع أن ذاته معلومة بالاستدلال وذلك محال ولا جائز أن يحصل لغير العاقل لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللغات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل، فثبت أن القول بالتوقيف فاسد. وثانيها: أنه تعالى خاطب الملائكة وذلك يوجب تقدم لغة على ذلك التكلم. وثالثها: أن قوله: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء. وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التعليم، وإذا كان كذلك كانت اللغات حاصلة قبل ذلك التعليم. ورابعها: أن آدم عليه السلام لما تحدى الملائكة بعلم الأسماء فلا بد وأن تعلم الملائكة كونه صادقا في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات، وإلا لم يحصل العلم بصدقه، وذلك يقتضي أن يكون وضع تلك الأسماء لتلك المسميات متقدما على ذلك التعليم. والجواب عن الأول: لم لا يجوز أن يقال بخلق العلم الضروري بأن واضعا وضع هذه الأسماء لهذه المسميات من غير تعيين أن ذلك الواضع هو الله تعالى أو الناس؟ وعلى هذا لا يلزم أن تصير الصفة معلومة بالضرورة حال كون الذات معلومة بالدليل. سلمنا أنه تعالى
175

ما خلق هذا العلم في العاقل، فلم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى خلقه في غير العاقل والتعويل على الاستعباد في هذا المقام مستبعد. وعن الثاني: لم لا يجوز أن يقال خاطب الملائكة بطريق آخر بالكتابة وغيرها. وعن الثالث: لا شك إن إرادة الله تعالى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني سابقة على التعليم فكفى ذلك في إضافة التعليم إلى الأسماء، وعن الرابع: ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: من الناس من قال قوله: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * أي علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها والدليل عليه أن الاسم اشتقاقه إما من السمة أو من السمو، فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها، فصح أن يكون المراد من الأسماء: الصفات، وإن كان من السمو فكذلك لأن دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول، فكان الدليل أسمى في الحقيقة، فثبت أنه لا امتناع في اللغة أن يكون المراد من الاسم الصفة، بقي أن أهل النحو خصصوا لفظ الاسم بالألفاظ المخصوصة، ولكن ذلك عرف حادث لا اعتبار به، وإذا ثبت أن هذا التفسير ممكن بحسب اللغة وجب أن يكون هو المراد لا غيره، لوجوه: أحدها: أن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها، وحمل الكلام المذكور لإظهار الفضيلة على ما يوجب مزيد الفضيلة، أولى من حمله على ما ليس كذلك، وثانيها: أن التحدي إنما يجوز ويحسن بما يتمكن السامع من مثله في الجملة، فإن من كان عالما باللغة والفصاحة، يحسن أن يقول له غيره على سبيل التحدي: ائت بكلام مثل كلامي في الفصاحة، أما العربي فلا يحسن منه أن يقول للزنجي في معرض التحدي: تكلم بلغتي، وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة: بل ذلك لا يحصل إلا بالتعليم، فإن حصل التعليم، حصل العلم به وإلا فلا، أما العلم بحقائق الأشياء، فالعقل متمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي فيه. القول الثاني: وهو الشمهور أن المراد أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولد آدم اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها، وكان ولد آدم عليه السلام يتكلمون بهذه اللغات فلما مات آدم وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد منهم بلغة معينة من تلك اللغات، فغلب عليه ذلك اللسان، فلما طالت المدة ومات منهم قرن بعد قرن نسوا سائر اللغات، فهذا هو السبب في تغير الألسنة في ولد آدم عليه السلام. قال أهل المعاني: قوله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء) * لا بد فيه من إضمار، فيحتمل أن يكون المراد وعلم آدم أسماء المسميات، ويحتمل أن يكون المراد وعلم آدم مسميات الأسماء، قالوا لكن الأول أولى لقوله: * (أنبئوني بأسماء هؤلاء) * وقوله تعالى: * (فلما أنبأهم بأسمائهم) * ولم يقل أنبئوني بهؤلاء وأنبأهم بهم، فإن قيل: فلما علمه الله تعالى أنواع جميع المسميات، وكان في المسميات ما لا يكون عاقلا، فلم قال عرضهم ولم يقل عرضها؟ قلنا لأنه لما
176

كان في جملتها الملائكة والإنس والجن وهم العقلاء، فغلب الأكمل، لأنه جرت عادة العرب بتغليب الكامل على الناقص كلما غلبوا.
المسألة الثالثة: من الناس من تمسك بقوله تعالى: * (أنبئوني بأسماء هؤلاء) * على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف، لأنه تعالى إنما استنبأهم مع علمه تعالى بعجزهم على سبيل التبكيت ويدل على ذلك قوله تعالى: * (إن كنتم صادقين) *.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: إن ما ظهر من آدم عليه السلام من علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته عليه السلام في ذلك الوقت، والأقرب أنه كان مبعوثا إلى حواء ولا يبعد أيضا أن يكون مبعوثا إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة لأن جميعهم وإن كانوا رسلا فقد يجوز الإرسال إلى الرسول كبعثة إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام واحتجوا عليه بأن حصول ذلك العلم له ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزا، وإذا ثبت كونه معجزا ثبت كونه رسولا في ذلك الوقت، ولقائل أن يقول لا نسلم أن ذلك العلم ناقض للعادة لأن حصول العلم باللغة لمن علمه الله تعالى وعدم حصوله لمن لم يعلمه الله ليس بناقض للعادة. وأيضا فأما أن يقال: الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو ما علموا ذلك فإن علموا ذلك فقد قدروا على أن يذكروا أسماء تلك المسميات فحينئذ تحصل المعارضة ولا تظهر المزية والفضيلة، وإن لم يعلموا ذلك فكيف عرفوا أن آدم عليه السلام أصاب فيما ذكر من كون كل واحد من تلك الألفاظ إسما لكل واحد من تلك المسميات، واعلم أنه يمكن دفع هذا السؤال من وجهين: الأول: ربما كان لكل صنف من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات. وكان كل صنف جاهلا بلغة الصنف الآخر ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا وأن آدم عليه السلام عد عليهم جميع تلك اللغات بأسرها فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة خاصة فعرفوا بهذا الطريق صدقه إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها فكان ذلك معجزا. الثاني: لا يمتنع أن يقال إنه تعالى عرفهم قبل أن سمعوا من آدم عليه السلام تلك الأسماء ما استدلوا به على صدق آدم فلما سمعوا منه عليه السلام تلك الأسماء عرفوا صدقه فيها فعرفوا كونه معجزا، سلمنا أنه ظهر عليه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان وحينئذ يصير الكلام في هذه المسألة فرعا على الكلام فيهما واحتج من قطع بأنه عليه السلام ما كان نبيا في ذلك الوقت بوجوه: أحدها: أنه لو كان نبيا في ذلك الزمان، لكان قد صدرت المعصية عنه بعد النبوة. وذلك غير جائز، فوجب أن لا يكون نبيا في ذلك الزمان أما الملازمة فلأن صدور الزلة عنه كان بعد هذه الواقعة بالاتفاق وتلك الزلة من باب الكبائر على ما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى والإقدام على الكبيرة يوجب استحقاق الطرد والتحقير واللعن وكل ذلك على الأنبياء غير جائز فيجب أن يقال وقعت تلك الواقعة قبل النبوة.
177

وثانيها: لو كان رسولا في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثا إلى أحد أو لا يكون فإن كان مبعوثا إلى أحد، فإما أن يكون مبعوثا إلى الملائكة أو الإنس أو الجن والأول باطل لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر ولا يجوز جعل الأدون رسولا إلى الأشرف لأن الرسول والأمة تبع، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل وأيضا فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ولهذا قال تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * (الأنعام: 9) ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى البشر، لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حواء، وأن حواء إنما عرفت التكليف لا بواسطة آدم لقوله تعالى: * (ولا تقربا هذه الشجرة) * (الأعراف: 19) شافههما بهذا التكليف وما جعل آدم واسطة ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى الجن لأنه ما كان في السماء أحد من الجن ولا جائز أيضا أن يكون مبعوثا إلى أحد لأن المقصود من جعله رسولا التبليغ فحيث لا مبلغ لم يكن في جعله رسولا فائدة وهذا الوجه ليس في غاية القوة. وثالثها: قوله تعالى: * (ثم اجتباه ربه) * فهذه الآية دل على أنه تعالى إنما اجتباه بعد الزلة فوجب أن يقال إنه قبل الزلة ما كان مجتبى، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب أن لا يكون رسولا لأن الرسالة والاجتباء متلازمان لأن الاجتباء لا معنى له إلا التخصيص بأنواع التشريفات وكل من جعله الله رسولا فقد خصه بذلك لقوله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124).
المسألة الخامسة: ذكروا في قوله: * (إن كنتم صادقين) * وجوها: أحدها: معناه أعلموني أسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الأعلام. وثانيها: معناه أخبروني ولا تقولوا إلا حقا وصدقا فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل علموا أن ذلك متعذر عليهم. وثالثها: إن كنتم صادقين في قولكم أنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود. ورابعها: إن كنتم صادقين في قولكم إني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء.
المسألة السادسة: هذه الآية دالة على فضل العلم فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم عليه السلام إلا بأن أظهر علمه فلو كان في الإمكان وجود شيء من العلم أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء. لا بالعلم، واعلم أنه يدل على فضيلة العلم الكتاب والسنة والمنقول، أما الكتاب فوجوه: الأول: أن الله تعالى سمى العلم بالحكمة ثم إنه تعالى عظم أمر الحكمة وذلك يدل على عظم شأن العلم، بيان أنه تعالى سمى العلم بالحكمة ما يروى عن مقاتل: أنه قال: تفسر الحكمة في القرآن على أربعة أوجه: أحدها: مواعظ القرآن قال في البقرة: * (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) * (البقرة: 231) يعني مواعظ القرآن وفي النساء: * (وأنزل عليكم الكتاب والحكمة) * يعني المواعظ ومثلها في آل عمران. وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم قوله تعالى
178

* (وآتيناه الحكم صبيا) * (مريم: 12) وفي لقمان * (ولقد آتينا لقمان الحكمة) * (لقمان: 12) يعني الفهم والعلم وفي الأنعام * (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم) * (الأنعام: 89) وثالثها: الحكمة بمعنى النبوة في النساء * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة) *، يعني النبوة وفي ص * (وآتيناه الحكمة) * يعني النبوة وفي البقرة * (وآتاه الله الملك والحكمة) *، ورابعها: القرآن في النحل * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) * (النساء: 54) وفي البقرة: * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * (البقرة: 269) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ثم تفكر أن الله تعالى ما أعطى من العلم إلا القليل قال: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسراء: 85) وسمى الدنيا بأسرها قليلا * (قل متاع الدنيا قليل) * (النساء: 77) فما سماه قليلا لا يمكننا أن ندرك كميته فما ظنك بما سماه كثيرا. ثم البرهان العقلي على قلة الدنيا وكثرة الحكمة أن الدنيا متناهي القدر متناهي العدد متناهي المدة. والعلم لا نهاية لقدره، وعدده ومدته ولا للسعادات الحاصلة منه، وذلك ينبهك على فضيلة العلم. الثاني: قوله تعالى: * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (الزمر: 9) وقد فرق بين سبع نفر في كتابه فرق بين الخبيث والطيب فقال: * (قل لا يستوي الخبيث والطيب) * (المائدة: 100) يعني الحلال والحرام، وفرق بين الأعمى والبصير فقال: * (قل هل
يستوي الأعمى والبصير) * (الأنعام: 50) وفرق بين النور والظلمة فقال: * (أم هل تستوي الظلمات والنور) * (الرعد: 16) وفرق بين الجنة والنار وبين الظل والحرور، وإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذا من الفرق بين العالم والجاهل. الثالث: قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * (النساء: 59) والمراد من أولي الأمر العلماء في أصح الأقوال لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ولا ينعكس، ثم انظر إلى هذه المرتبة فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) * (آل عمران: 18)، وقال: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين فقال تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) * (آل عمران: 7) وقال: * (قل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) * (الرعد: 43) الرابع: * (يرفع لله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) * (المجادلة: 11) واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف. أولها: للمؤمنين من أهل بدر قال: * (إنما المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) * (الأنفال: 2) إلى قوله: * (لهم درجات عند ربهم) * (الأنفال: 4)
والثانية: للمجاهدين قال: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين) * (النساء: 95). والثالثة: للصالحين قال: * (ومن يأته مؤمنا وقد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) *. الرابعة: للعلماء. قال: * (والذين أوتوا العلم درجات) * والله فضل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات وفضل المجاهدين على القاعدين بدرجات وفضل الصالحين على هؤلاء بدرجات ثم فضل العلماء على جميع الأصناف بدرجات، فوجب أن يكون العلماء أفضل الناس. الخامس: قوله تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) فإن الله تعالى وصف العلماء في كتابه بخمس مناقب، أحدها: الإيمان * (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) * (آل عمران: 7) وثانيها: التوحيد والشهادة * (شهد الله) * إلى قوله: * (وأولوا العلم) * وثالثها:
179

البكاء * (ويخرون للأذقان يبكون) * (الإسراء: 109). ورابعها: الخشوع * (إن الذين أوتوا العلم من قبله) * (الإسراء: 107) الآية. وخامسها: الخشية * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * أما الأخبار فوجوه: أحدها: روى ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب عالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ويمسي ويصبح مغفورا له وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار " وثانيها: عن أنس قال: قال عليه السلام: " من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره وكالقائم ليله وإن بابا من العلم يتعلمه الرجل خير من أن يكون له أبو قبيس ذهبا فينفقه في سبيل الله ". وثالثها: عن الحسن مرفوعا " من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة " ورابعها: أبو موسى الأشعري مرفوعا " يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم انطلقوا فقد غفرت لكم ". وخامسها: قال عليه السلام: " معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحور " وسادسها: أبو هريرة مرفوعا " من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء ". وسابعها: ابن عمر مرفوعا " فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة عدو الفرس سبعين عاما وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه ولا يتعرف لها ". وثامنها: الحسن مرفوعا قال عليه السلام: " رحمة الله على خلفائي فقيل من خلفاؤك يا رسول الله؟ قال الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله " وتاسعها: قال عليه السلام: " من خرج يطلب بابا من العلم ليرد به باطلا إلى حق أو ضلالا إلى هدى كان عمله كعبادة أربعين عاما "، وعاشرها: قال عليه السلام لعلي حين بعثه إلى اليمن " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب " الحادي عشر: ابن مسعود مرفوعا " من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه أجر سبعين نبيا ". الثاني عشر: عامر الجهني مرفوعا " يؤتى بمداد طالب العلم ودم الشهيد يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر " وفي رواية فيرجح مداد العلماء. الثالث عشر: أبو وافد الليثي: أنه عليه السلام بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر أما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فإنه رجع وفر فلما فرغ عليه السلام من كلامه قال: أخبركم عن النفر الثلاثة. أما الأول: فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني: فاستحيا من الله فاستحيا الله منه، وأما الثالث: فأعرض عن الله فأعرض الله عنه " رواه مسلم، وأما الآثار فمن وجوه " ا " العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم لأن الآباء والأمهات يحفظونه من نار الدنيا وآفاتها والعلماء يحفظونه من نار الآخرة وشدائدها " ب " قيل
180

لابن مسعود بم وجدت هذا العلم: قال بلسان سؤول، وقلب عقول " ج " قال بعضهم سل مسألة الحمقى، واحفظ حفظ الأكياس " د " مصعب بن الزبير قال لابنه: يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان العلم لك جمالا وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالا " ه " قال علي بن أبي طالب: لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل " و " قال بعض المحققين: العلماء ثلاثة عالم بالله غير عالم بأمر الله، وعالم بأمر الله غير عالم بالله، وعالم بالله وبأمر الله. أما الأول: فهو عبد قد استولت المعرفة الإلهية على قلبه فصار مستغرقا بمشاهدة نور الجلال وصفحات الكبرياء فلا يتفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لا بد منه. الثاني: هو الذي يكون عالما بأمر الله وغير عالم بالله وهو الذي عرف الحلال والحرام وحقائق الأحكام لكنه لا يعرف أسرار جلال الله. أما العالم بالله وبأحكام الله فهو جالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات فهو تارة مع الله بالحب له، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار معهم كواحد منهم كأنه لا يعرف الله وإذا خلا بربه مشتغلا بذكره وخدمته فكأنه لا يعرف الخلق فهذا سبيل المرسلين والصديقين وهذا هو المراد بقوله عليه السلام: " سائل العلماء وخالط الحكماء وجالس الكبراء " فالمراد من قوله عليه السلام: سائل العلماء أي العلماء بأمر الله غير العالمين بالله فأمر بمساءلتهم عند الحاجة إلى الله استفتاء منهم، وأما الحكماء فهم العالمون
بالله الذين لا يعلمون أوامر الله فأمر بمخالطتهم وأما الكبراء فهم العالمون بالله وبأحكام الله فأمر بمجالستهم لأن في تلك المجالسة منافع الدنيا والآخرة، ثم قال شقيق البلخي: لكل واحد من هؤلاء الثلاثة ثلاث علامات أما العالم بأمر الله فله ثلاث علامات أن يكون ذاكرا باللسان دون القلب، وأن يكون خائفا من الخلق دون الرب، وأن يستحي من الناس في الظاهر ولا يستحي من الله في السر، وأما العالم بالله فإنه يكون ذاكرا خائفا مستحييا. أما الذكر فذكر القلب لا ذكر اللسان، وأما الخوف فخوف الرياء لا خوف المعصية، وأما الحياء فحياء ما يخطر على القلب لا حياء الظاهر، وأما العالم بالله وبأمر الله فله ستة أشياء الثلاثة التي ذكرناها للعالم بالله فقط مع ثلاثة أخرى كونه جالسا على الحد المشترك بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وكونه معلما للقسمين الأولين، وكونه بحيث يحتاج الفريقان الأولان إليه وهو يستغني عنهما، ثم قال: مثل العالم بالله وبأمر الله كمثل الشمس لا يزيد ولا ينقص، ومثل العالم بالله فقد كمثل القمر يكمل تارة وينقص تارة أخرى، ومثل العالم بأمر الله فقد كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره " ز " قال فتح الموصلي: أليس المريض إذا امتنع عنه الطعام والشراب والدواء يموت؟ فكذا القلب إذا امتنع عنه العلم والفكر والحكمة يموت " ح " قال شقيق البليح: الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف: كافر محض، ومنافق محض، ومؤمن محض، وذلك لأني أفسر القرآن فأقول عن الله وعن الرسول فمن لا يصدقني فهو كافر محض، ومن ضاق قلبه منه فهو منافق محض، ومن ندم على ما صنع
181

وعزم على أن لا يذنب كان مؤمنا محضا. وقال أيضا: ثلاثة من النوم يبغضها الله تعالى. وثلاثة من الضحك: النوم بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العتمة. والنوم في الصلاة، والنوم عند مجلس الذكر، والضحك خلف الجنازة، والضحك في المقابر، والضحك في مجلس الذكر " ط " قال بعضهم في قوله تعالى: * (فاحتمل السيل زبدا رابيا) * (الرعد: 17) السيل ههنا العلم، شبهه الله تعالى بالماء لخمس خصال: أحدها: كما أن المطر ينزل من السماء كذلك العلم ينزل من السماء. والثاني: كما أن إصلاح الأرض بالمطر فإصلاح الخلق بالعلم، الثالث: كما أن الزرع والنبات لا يخرج بغير المطر كذلك الأعمال والطاعات لا تخرج بغير العلم. والرابع: كما أن المطر فرع الرعد والبرق كذلك العلم فإنه فرغ الوعد والوعيد. الخامس: كما أن المطر نافع وضار، كذلك العلم نافع وضار: نافع لمن عمل به ضار لمن لم يعمل به " ي " كم من مذكر بالله ناس لله، وكم من مخوف بالله، جريء على الله، وكم من مقرب إلى الله بعيد عن الله، وكم من داع إلى الله فار من الله، وكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات الله " يا " الدنيا بستان زينت بخمسة أشياء: علم العلماء وعدل الأمراء وعبادة العباد وأمانة التجار ونصيحة المحترفين. فجاء إبليس بخمسة أعلام فأقامها بجنب هذه الخمس جاء بالحسد فركزه في جنب العلم، وجاء بالجور فركزه بجنب العدل، وجاء بالرياء فركزه بجنب العبادة، وجاء بالخيانة فركزها بجنب الأمانة، وجاء بالغش فركزه بجنب النصيحة " يب " فضل الحسن البصري على التابعين بخمسة أشياء: أولها: لم يأمر أحدا بشيء حتى عمله، والثاني: لم ينه أحدا عن شيء حتى انتهى عنه، والثالث: كل من طلب منه شيئا مما رزقه الله تعالى لم يبخل به من العلم والمال. والرابع: كان يستغني بعلمه عن الناس، والخامس: كانت سريرته وعلانيته سواء. " يج " إذا أردت أن تعلم أن علمك ينفعك أم لا فاطلب من نفسك خمس خصال: حب الفقر لقلة المؤنة، وحب الطاعة طلبا للثواب، وحب الزهد في الدنيا طلبا للفراغ، وحب الحكمة طلبا لصلاح القلب، وحب الخلوة طلبا لمناجاة الرب " يد " اطلب خمسة في خمسة، الأول: أطلب العز في التواضع لا في المال والعشيرة. والثاني: أطلب الغنى في القناعة لا في الكثرة، والثالث: أطلب الأمن في الجنة لا في الدنيا. والرابع: اطلب الراحة في القلة لا في الكثرة. والخامس: أطلب منفعة العلم في العمل لا في كثرة الرواية " يه " قال ابن المبارك ما جاء فساد هذه الأمة إلا من قبل الخواص وهم خمسة: العلماء، والغزاة، والزهاد: والتجار، والولاة. أما العلماء فهم ورثة الأنبياء، وأما الزهاد فعماد أهل الأرض، وأما الغزاة فجند الله في الأرض، وأما التجار فأمناء الله في أرضه، وأما الولاة فهم الرعاة فإذا كان العالم للدين واضعا وللمال رافعا فبمن يقتدي الجاهل، وإذا كان الزاهد في الدنيا راغبا فبمن يقتدي التائب، وإذا كان الغازي طامعا مرائيا فكيف يظفر بالعدو. وإذا كان التاجر خائنا فكيف تحصل الأمانة، وإذا كان الراعي ذئبا فكيف تحصل الرعاية " يو " قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العلم أفضل من
182

المال بسبعة أوجه: أولها: العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة. الثاني: العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص، والثالث: يحتاج المال إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه. والرابع: إذا مات الرجل يبقى ماله والعلم يدخل مع صاحبه قبره. والخامس: المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن، والسادس: جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال. السابع: العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه " يز " قال الفقيه أبو الليث: إن من يجلس عند العالم ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئا فله سبع كرامات: أولها: ينال فضل المتعلمين. والثاني: ما دام جالسا عنده كان محبوسا عن الذنوب. والثالث: إذا خرج من منزله طلبا للعلم نزلت الرحمة عليه. والرابع: إذا جلس في حلقة العلم فإذا نزلت الرحمة عليهم حصل له منها نصيب. والخامس: ما دام يكون في الاستماع، تكتب له طاعة. والسادس: إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه لحرمانه عن إدراك العلم فيصير ذلك الغم وسيلة له إلى حضرة الله تعالى لقوله عز وجل: " أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي " والسابع: يرى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق فيرد قلبه عن الفسق ويميل طبعه إلى العلم فلهذا أمر عليه الصلاة والسلام بمجالسة الصالحين " يح " قيل من العلماء من يضن بعلمه ولا يحب أن يوجد عند غيره فذاك في الدرك الأول من النار، ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان فإن رد عليه شيء من حقه غضب، فذاك في الدرك الثاني من النار، ومن العلماء من يجعل حديثه وغرائب علمه لأهل الشرف واليسار ولا يرى الفقراء له أهلا، فذاك في الدرك الثالث من النار، ومن العلماء من كان معجبا بنفسه إن وعظ عنف وإن وعظ أنف فذاك في الدرك الرابع من النار. ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي خطأ فذاك في الدرك الخامس من النار، ومن العلماء من يتعلم كلام المبطلين فيمزجه بالدين فهو في الدرك السادس من النار، ومن العلماء من يطلب العلم لوجوه الناس فذاك في الدرك السابع من النار " يط " قال الفقيه أبو الليث: من جلس مع ثمانية أصناف من الناس زاده الله ثمانية أشياء. من جلس مع الأغنياء زاده الله حب الدنيا والرغبة فيها ومن جلس مع الفقراء جعل الله له الشكر والرضا بقسمة الله، ومن جلس مع السلطان زاده الله القسوة والكبر، ومن جلس مع النساء زاده الله الجهل
والشهوة، ومن جلس مع الصبيان ازداد من اللهو والمزاح، ومن جلس مع الفساق ازداد من الجرأة على الذنوب وتسويف التوبة، ومن جلس مع الصالحين ازداد رغبة في الطاعات، ومن جلس مع العلماء ازداد العلم والورع " يي " إن الله علم سبعة نفر سبعة أشياء " ا " علم آدم الأسماء * (وعلم آدم الأسماء كلها) * " ب " علم الخضر الفراسة * (وعلمناه من لدنا علما) * (الكهف: 65) " ج " وعلم يوسف علم التعبير * (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث) * (يوسف: 101) " د " علم داود صنعة الدرع * (وعلمناه صنعة لبوس لكم) * (الأنبياء: 80) " ه " علم سليمان منطق الطير * (يا أيها الناس علمنا منطق الطير) * (النمل: 16) " و " علم عيسى عليه السلام علم التوراة
183

والإنجيل * (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) * (آل عمران: 48) " ز " وعلم محمدا صلى الله عليه وسلم الشرع والتوحيد * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * (النساء: 113)، * (ويعلمهم الكتاب والحكمة) * (البقرة: 129)، * (الرحمن علم القرآن) * الرحمن: 1) فعلم آدم كان سببا له في حصول السجدة والتحية، وعلم الخضر كان سببا لأن وجد تلميذا مثل موسى ويوشع عليهما السلام، وعلم يوسف كان سببا لوجدان الأهل والمملكة، وعلم داود كان سببا لوجدان الرياسة والدرجة، وعلم سليمان كان سببا لوجدان بلقيس والغلبة، وعلم عيسى كان سببا لزوال التهمة عن أمه وعلم محمد صلى الله عليه وسلم كان سببا لوجود الشفاعة، ثم نقول من علم أسماء المخلوقات وجد التحية من الملائكة فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة؟ بل يجد تحية الرب * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى، فيا أمة الحبيب بعلم الحقيقة كيف لا تجدون صحبة محمد صلى الله عليه وسلم * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) * (النساء: 69) ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا، فمن كان عالما بتأويل كتاب الله كيف لا ينجو من حبس الشهوات * (ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * (يونس: 25) وأيضا فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال: * (وعلمتني من تأويل الأحاديث) * (يوسف: 101). فأنت يا عالم أما تذكر منة الله على نفسك حيث علمك تفسير كتابه فأي نعمة أجل مما أعطاك الله حيث جعلك مفسرا لكلامه وسميا لنفسه ووارثا لنبيه وداعيا لخلقه وواعظا لعباده وسراجا لأهل بلاده وقائدا للخلق إلى جنته وثوابه وزاجرا لهم عن ناره وعقابه، كما جاء في الحديث: العلماء سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة " كا " المؤمن لا يرغب في طلب العلم حتى يرى ست خصال من نفسه. أحدها: أن يقول إن الله أمرني بأداء الفرائض وأنا لا أقدر على أدائها إلا بالعلم. الثانية: أن يقول نهاني عن المعاصي وأنا لا أقدر على اجتنابها إلا بالعلم. الثالثة: أنه تعالى أوجب على شكر نعمه ولا أقدر عليه إلا بالعلم. والرابعة: أمرني بإنصاف الخلق وأنا لا أقدر أن أنصفهم إلا بالعلم. والخامسة: أن الله أمرني بالصبر على بلائه ولا أقدر عليه إلا بالعلم والسادسة: إن الله أمرني بالعداوة مع الشيطان ولا أقدر عليها إلا بالعلم " كب " طريق الجنة في أيدي أربعة: العالم والزاهد والعابد والمجاهد، فالزاهد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الأمن، والعابد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الخوف، والمجاهد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الثناء والحمد، والعالم إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الحكمة " كج " أطلب أربعة من أربعة: من الموضع السلامة، ومن الصاحب الكرامة، ومن المال الفراغة، ومن العلم المنفعة، فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه، وإذا لم تجد من صاحبك الكرامة فالكلب خير منه، وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه، وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه " كد " لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء: لا يتم الدين إلا بالتقوى، ولا يتم القول إلا بالفعل، ولا تتم
184

المروءة إلا بالتواضع، ولا يتم العلم إلا بالعمل، فالدين بلا تقوى على الخطر، والقول بلا فعل كالهدر، والمروءة بلا تواضع كشجر بلا ثمر، والعلم بلا عمل كغيث بلا مطر " كه " قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لجابر بن عبد الله الأنصاري: قوام الدنيا بأربعة بعالم يعمل بعلمه، وجاهل لا يستنكف من تعلمه، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه فالويل لهم والثبور سبعين مرة " كو " قال الخليل: الرجال أربعة رجل يدري ويدري أنه يدري فهو عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهو نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهو مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهو شيطان فاجتنبوه " كز " أربعة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها وإن كان أميرا: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته لضيفه، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه " كح " إذا اشتغل العلماء بجمع الحلال حار العوام آكلين للشبهات، وإذا صال العالم آكلا للشبهات صار العامي آكلا للحرام، وإذا صار العالم آكلا للحرام صار العامي كافرا يعني إذا استحلوا. أما الوجوه العقلية فأمور: أحدها: أن الأمور على أربعة أقسام، قسم يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة. وقسم ترضاه الشهوة ولا يرضاه العقل، وقسم يرضاه العقل والشهوة معا، وقسم لا يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة. أما الأول: فهو الأمراض والمكاره في الدنيا، وأما الثاني: فهو المعاصي أجمع، وأما الثالث: فهو العلم، وأما الرابع: فهو الجهل فينزل العلم من الجهل منزلة الجنة من النار، فكما أن العقل والشهوة لا يرضيان بالنار فكذلك لا يرضيان بالجهل وكما أنهما يرضيان بالجنة فكذا يرضيان بالعلم فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة، فكل من اختار العلم يقال له تعودت المقام في الجنة فأدخل الجنة، ومن اكتفى بالجهل يقال له تعودت النار فأدخل النار، والذي يدل على أن العلم جنة والجهل نار أن كمال اللذة في إدراك المحبوب وكمال الألم في البعد عن المحبوب، والجراحة إنما تؤلم لأنها تبعد جزءا من البدن عن جزء محبوب من تلك الأجزاء وهو الاجتماع فلما اقتضت الجراحة إزالة ذلك الاجتماع فقد اقتضت إزالة المحبوب وبعده، فلا جرم كان ذلك مؤلما والإحراق بالنار إنما كان أشد إيلاما من الجرح لأن الجرح لا يفيد إلا تبعيد جزء معين عن جزء معين، أما النار فإنها تغوص في جميع الأجزاء فاقتضت تبعيد جميع الأجزاء بعضها عن بعض، فلما كانت التفريقات في الإحراق أشد كان الألم هناك أصعب، أما اللذة فهي عبارة عن إدراك المحبوب، فلذة الأكل عبارة عن إدراك تلك الطعوم لموافقة للبدن، وكذلك لذة النظر إنما تحصل لأن القوة الباصرة مشتاقة إلى إدراك المرئيات، فلا جرم كان ذلك الإدراك لذة لها فقد ظهر بهذا أن اللذة عبارة عن إدراك المحبوب
، والألم عبارة عن إدراك المكروه وإذا عرفت هذا فنقول:
185

كلما كان الإدراك أغوص وأشد والمدرك أشرف وأكمل، والمدرك أنقى وأبقى. وجب أن تكون اللذة أشرف وأكمل. ولا شك أن محل العلم هو الروح وهو أشرف من البدن ولا شك أن الإدراك العقلي أغوص وأشرف على ما سيجيء بيانه في تفسير قوله: * (الله نور السماوات والأرض) * (النور: 35) وأما المعلوم فلا شك أنه أشرف لأنه هو الله رب العالمين وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والجمادات والنبات والحيوانات وجميع أحكامه وأوامره وتكاليفه وأي معلوم أشرف من ذلك فثبت أنه لا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذاته ولا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه، ومما يدل على ما قلناه أنه إذا سئل الواحد منا عن مسألة علمية فإن علمها وقدر على الجواب والصواب فيها فرح بذلك وابتهج به، وأن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك، وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بالعلم أكمل اللذات، والشقاء الحاصل بالجهل أكمل أنواع الشقاء، واعلم أن ههنا وجوها أخر من النصوص تدل على فضيلة العلم نسينا إيرادها قبل ذلك فلا بأس أن نذكرها ههنا. الوجه الأول: أن أول ما نزل قوله تعالى: * (إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم: الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) * (العلق: 1 - 5) فقيل فيه إنه لا بد من رعاية التناسب بين الآيات فأي مناسبة بين قوله: * (خلق الإنسان من علق) * وبين قوله: * (إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم) * فأجيب عنه بأن وجه المناسبة أنه تعالى ذكر أول حال الإنسان وهو كونه علقة. مع أنها أخس الأشياء وآخر حاله وهي صيرورته عالما وهو أجل المراتب كأنه تعالى قال كنت أنت في أول حالك في تلك الدرجة التي هي غاية الخساسة فصرت في آخر حالك في هذه الدرجة التي هي الغاية في الشرف. وهذا إنما يتم لو كان العلم أشرف المراتب إذ لو كان غيره أشرف لكان ذكر ذلك الشيء في هذا المقام أولى. الثاني: أنه قال: * (إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم) * وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى إنما استحق الوصف بالأكرمية لأنه أعطى العلم فلولا أن العلم أشرف من غيره وإلا لما كانت إفادته أشرف من إفادة غيره: الثالث: قوله سبحانه: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * وهذه الآية فيها وجوه من الدلائل على فضل العلم. أحدها: دلالتها على أمم من أهل الجنة وذلك لأن العلماء من أهل الخشية؛ ومن كان من أهل الخشية كان من أهل الجنة فالعلماء من أهل الجنة فبيان أن العلماء من أهل الخشية قوله تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) وبيان أن أهل الخشية من أهل الجنة قوله تعالى: * (جزاءهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار) * (البينة: 8) إلى قوله تعالى: * (ذلك لمن خشي ربه) * ويدل عليه أيضا قوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * ويدل عليه أيضا قوله تعالى: " وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة " واعلم أنه يمكن إثبات مقدمتي هذه
186

الدلالة بالعقل، أما بيان أن العالم بالله يجب أن يخشاه، فذلك لأن من لم يكن عالما بالشيء استحال أن يكون خائفا منه، ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف، بل لا بد له من العلم بأمور ثلاثة. منها: العلم بالقدرة، لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة، لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعها. ومنها: العلم بكونه عالما، لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته، ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه. ومنها العلم بكونه حكيما. فإن المسخر عند السلطان عالم بكون السلطان قادرا على منعه عالما بقبائح أفعاله، لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف؛ أما لو علم اطلاع السلطان على قبائح أفعاله وعلم قدرته على منعه وعلم أنه حكيم لا يرضى بشفاهته؛ صارت هذه العلوم الثلاثة موجبة لحصول الخوف في قلبه، فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات، قادرا على كل المقدورات، غير راض بالمنكرات والمحرمات، فثبت أن الخوف من لوازم العلم بالله، وإنما قلنا: أن الخوف سبب الفوز بالجنة، وذلك لأنه إذا سنح للعبد لذة عاجلة وكانت تلك اللذة على خلاف أمر الله، وفعل ذلك الشيء يكون مشتملا على منفعة ومضرة، فصريح العقل حاكم بترجيح الجانب الراجح على الجانب المرجوح، فإذا علم بنور الإيمان أن اللذة العاجلة حقيرة في مقابلة الألم الآجل، صار ذلك الإيمان سببا لفراره عن تلك اللذة العاجلة، وذلك هو الخشية، وإذا صار تاركا للمحظور فاعلا للواجب كان من أهل الثواب، فقد ثبت بالشواهد النقلية والعقلية أن العالم بالله خائف والخائف من أهل الجنة. وثانيها: أن ظاهر الآية يدل على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء، وذلك لأن كلمة إنما للحصر، فهذا يدل على أن خشية الله لا تحصل إلا للعلماء. والآية الثانية وهي قوله: * (ذلك لمن خشي ربه) * دالة على أن الجنة لأهل الخشية وكونها لأهل الخشية ينافي كونها لغيرهم، فدل مجموع الآيتين على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء واعلم أن هذه الآية فيها تخويف شديد، وذلك لأنه ثبت أن الخشية من الله تعالى من لوازم العلم بالله، فعند عدم الخشية يلزم عدم العلم بالله، وهذه الدقيقة تنبهك على أن العلم الذي هو سبب القرب من الله تعالى هو الذي يورث الخشية، وأن أنواع المجادلات وإن دقت وغمضت إذا خلت عن إفادة الخشية كانت من العلم المذموم. وثالثها: قرىء * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * برفعه الأول ونصب الثاني، ومعنى هذه القراءة: أنه تعالى لو جازت الخشية عليه؛ لما خشي العلماء، لأنهم هم الذين يميزون بين ما يجوز وبين ما لا يجوز. وأما الجاهل الذي لا يميز بين هذين البابين فأي مبالاة به وأي التفات إليه، ففي هذه القراءة نهاية النصب للعلماء والتعظيم. الرابع: قوله تعالى: * (وقل ربي زدني علما) * (طه: 114). وفيه أدل دليل على نفاسة العلم وعلو مرتبته وفرط محبة الله تعالى إياه، حيث أمر نبيه بالازدياد منه خاصة دون غيره. وقال قتادة: لو اكتفى أحد من العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام ولم يقل * (هل أتبعك على أن تعلمن
187

مما علمت رشدا) * (الكهف: 66). الخامس: كان لسليمان عليه السلام من ملك الدنيا ما كان حتى أنه قال: * (رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * ثم إنه لم يفتخر بالمملكة وافتخر بالعلم حيث قال: * (يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء) * (النمل: 16) فافتخر بكونه عالما بمنطق الطير فإذا حسن من سليمان أن يفتخر بذلك العلم فلأن يحسن بالمؤمن أن يفتخر بمعرفة رب العالمين كان أحسن ولأنه قدم ذلك على قوله: * (وأوتينا من كل شيء) * وأيضا فإنه تعالى لما ذكر كمال حالهم قدم العلم أولا وقال: * (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) * (الأنبياء: 78) إلى قوله: * (وكلا آتينا حكما وعلما) * (الأنبياء: 79)
ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحوال الدنيا فدل على أن العلم أشرف. السادس: قال بعضهم الهدهد مع أنه في نهاية الضعف ومع أنه كان في موقف المعاتبة قال لسليمان * (أحطت بما لم تحط به) * فلولا أن العلم أشرف الأشياء وإلا فمن أين للهدهد أن يتكلم في مجلس سليمان بمثل هذا الكلام ولذلك يرى الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول عند السلاطين وما ذاك إلا ببركة العلم، السابع: قال عليه الصلاة والسلام: " تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة " وفي التفضيل وجهان: أحدها: أن التفكر يوصلك إلى الله تعالى والعبادة توصلك إلى ثواب الله تعالى والذي يوصلك إلى الله خير مما يوصلك إلى غير الله. والثاني: أن التفكر عمل القلب والطاعة عمل الجوارح، والقلب أشرف من الجوارح فكان عمل القلب أشرف من عمل الجوارح والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى: * (وأقم الصلاة لذكري) * (طه: 14) جعل الصلاة وسيلة إلى ذكر القلب والمقصود أشرف من الوسيلة فدل ذلك على أن العلم أشرف من غيره. الثامن: قال تعالى: * (وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيما) * (النساء: 113) فسمى العلم عظيما وسمي الحكمة خيرا كثيرا فالحكمة هي العلم وقال أيضا: * (الرحمن علم القرآن) * (الرحمن: 1) فجعل هذه النعمة مقدمة على جميع النعم، فدل على أنه أفضل من غيره. التاسع: أن سائر كتب الله ناطقة بفضل العلم. أما التوراة فقال تعالى لموسى عليه السلام " عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له فتعلمها ثم اعمل بها ثم ابذلها كي تنال بها كرامتي في الدنيا والآخرة " وأما الزبور فقال سبحانه وتعالى: " يا داود قل لأحبار بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقياء فإن لم تجدوا فيهم تقيا فحادثوا العلماء فإن لم تجدوا عالما فحادثوا العقلاء فإن التقى والعلم والعقل ثلاث مرات بما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد إهلاكه " وأقول إنما قدم الله تعالى التقي على العلم لأن التقي لا يوجد بدون العلم كما بينا أن الخشية لا تحصل إلا مع العلم والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأمر واحد، وهذا السر أيضا قدم العالم على العاقل لأن العالم لا بد وأن يكون عاقلا، أما العاقل فقد لا يكون عالما فالعقل كالبذر والعلم كالشجرة والتقوى كالثمر. وأما الإنجيل قال الله تعالى في السورة السابعة عشر منه " ويل لمن سمع بالعلم فلم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم
188

وإن لم يرفعكم لم يضعكم وإن لم يغنكم لم يفقركم وإن لم ينفعكم لم يضركم ولا تقولوا نخاف أن نعلم فلا نعمل ولكن قولوا نرجوا أن نعلم فنعمل " والعلم شفيع لصاحبه وحق على الله تعالى أن لا يخزيه، إن الله تعالى يقول يوم القيامة: " يا معاشر العلماء ما ظنكم بربكم؟ يقولون. ظننا أن يرحمنا ويغفر لنا، فيقول: فأني قد فعلت، إني قد استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم، بل لخير أردته بكم، فأدخلوا في صالح عبادي إلى جنتي برحمتي " وقال مقاتل بن سليمان وجدت في الإنجيل. أن الله تعالى قال لعيسى بن مريم عليهما السلام: يا عيسى عظم العلماء واعرف فضلهم لأني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين والمرسلين كفضل الشمس على الكواكب، وكفضل الآخرة على الدنيا، وكفضلي على كل شيء، أما الأخبار: " ا " عن عبد الله بن عمر قال قال عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى للعلماء " إني لم أضع علمي فيكم وأنا أريد أن أعذبكم ادخلوا الجنة على ما كان منكم " " ب " قال أبو هريرة وابن عباس: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة قبل وفاته وهي آخر خطبة خطبها بالمدينة فقال: من تعلم العلم وتواضع في العلم وعلمه عباد الله يريد ما عند الله. لم يكن في الجنة أفضل ثوابا منه ولا أعظم منزلة، ولم يكن في الجنة منزلة ولا درجة رفيعة نفيسة إلا كان له فيها أوفر النصيب وأشرف المنازل ". " ج " ابن عمر مرفوعا إذا كان يوم القيامة صفت منابر من ذهب عليها فباب من فضة منضدة بالدر والياقوت والزمرد جلالها السندس والاستبرق، ثم ينادي منادى الرحمن: أين من حمل إلى أمة محمد علما يريد به وجه الله: اجلسوا على هذه المنابر فلا خوف عليكم حتى تدخلوا الجنة. " د " عن عيسى ابن مريم عليهما السلام: أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام علماء حكماء كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل، ويدخلون الجنة بلا إله إلا الله " ه " قال عليه السلام " من اغبرت قدماه في طلب العلم، حرم الله جسد على النار، واستغفر له ملكاه وإن مات في طلبه مات شهيدا، وكان قبره روضة من رياض الجنة، ويوسع له في قبره مد بصره، وينور على جيرانه أربعين قبرا عن يمينه. وأربعين قبرا عن يساره، وأربعين عن خلفه، وأربعين أمامه، ونوم العالم عبادة، ومذاكرته تسبيح، ونفسه صدقة، وكل قطرة نزلت من عينيه تطفئ بحرا من جهنم فمن أهان العالم فقد أهان العلم، ومن أهان العلم فقد أهان النبي، ومن أهان النبي فقد أهان جبريل ومن أهان جبريل أهان الله. ومن أهان الله أهانه الله يوم القيامة " " و " قال عليه الصلاة والسلام: " ألا أخبركم بأجود الأجواد. قالوا: نعم يا رسول الله، قال الله تعالى: " أجود الأجواد وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل عالم ينشر علمه فيبعث يوم القيامة أمة وحده ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل ". " ز " عن أبي هريرة مرفوعا " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة، ومن يسر على معسر يسر
189

الله عليه في الدنيا والآخرة، والله تعالى في عون العبد، ما دام العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يبتغي به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في مسجد من مساجد الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفت بهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده " رواه مسلم في الصحيح " ح " قال عليه الصلاة والسلام " يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ". قال الراوي: فأعظم مرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة " ط " معاذ بن جبل قال عليه الصلاة والسلام " تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل الجنة والأنيس من الوحشة والصاحب في الوحدة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء، والدين عند الاختلاف يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة هداة يهتدى بهم، وأئمة في الخير يقتفى بآثارهم ويقتدى بأفعالهم، وينتهي إلى آرائهم ترغب الملائكة في خلقتهم وبأجنحتها تمسحهم وفي صلاتها تستغفر لهم حتى كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه والسماء ونجومها. لأن العلم حياة القلوب من العمى ونور الأبصار من الظلمة وقوة الأبدان من الضعف يبلغ بالبعيد منازل الأحرار ومجالس الملوك والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام به يطاع الله
ويعبد وبه يمجد ويوحد وبه توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام " " ي " أبو هريرة قال عليه الصلاة والسلام " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية؛ أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له بالخير " " يا " قال عليه الصلاة والسلام " إذا سألتم الحوائج فاسألوها الناس قيل يا رسول الله ومن الناس؟ قال أهل القرآن قيل ثم من؟ قال أهل العلم قيل ثم من؟ قال الصباح الوجوه " قال الراوي والمراد بأهل القرآن من يحفظ معانيه " يب " قال عليه الصلاة والسلام: " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة كتابه وخليفة رسوله والدنيا سم الله القتال لعباده فخذوا منها بقدر السم في الأدوية لعلكم تنجون " قال الراوي والعلماء داخلون فيه لأنهم يقولون هذا حرام فاجتنبوه وهذا حلال فخذوه " يج " في الخبر: العالم نبي لم يوح إليه " يد " قال عليه الصلاة والسلام " كن عالما، أو متعلما، أو مستمعا، أو محبا، ولا تكن الخامس فتهلك " قال الراوي: وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى وهي قوله عليه الصلاة والسلام " الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيهم " إن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم وما أحسن قول بعض الأعراب لولده: كن سبعا خالسا أو ذئبا خانسا أو كلبا حارسا، وإياك وأن تكون إنسانا ناقصا، " يه " قال عليه الصلاة والسلام: " من اتكأ على يده عالم كتب الله له بكل خطوة عتق رقبة ومن قبل رأس عالم كتب الله له بكل شعرة حسنة " " يو " قال عليه الصلاة والسلام برواية أبي هريرة " بكت السماوات
190

السبع ومن فيهن ومن عليهن والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن لعزيز ذل وغني افتقر وعالم يلعب به الجهال " " يز " وقال عليه السلام: " حملة القرآن عرفاء أهل الجنة والشهداء قواد أهل الجنة والأنبياء سادة أهل الجنة " يح " وقال عليه السلام: " العلماء مفاتيح الجنة وخلفاء الأنبياء " قال الراوي الإنسان لا يكون مفتاحا إنما المعنى أن عندهم من العلم مفتاح الجنان والدليل عليه أن من رأى في النوم أن بيده مفاتيح الجنة فإنه يؤتى علما في الدين. " يط " وقال عليه الصلاة والسلام " إن لله تعالى في كل يوم وليلة ألف رحمة على جميع خلقه الغافلين والبالغين وغير البالغين، فتسعمائة وتسعة وتسعون رحمة للعلماء وطالبي العلم والمسلمين، والرحمة الواحدة لسائر الناس ". " ك " وقال عليه الصلاة والسلام: " قلت يا جبريل أي الأعمال أفضل لأمتي؟ قال: العلم، قلت ثم أي؟ قال: النظر إلى العالم، قلت: ثم أي؟ قال: زيارة العالم، ثم قال: ومن كسب العلم لله وأراد به صلاح نفسه وصلاح المسلمين، ولم يرد به عرضا من الدنيا، فأنا كفيله بالجنة " " كا " وقال عليه الصلاة والسلام " عشرة تستجاب لهم الدعوة العالم والمتعلم وصاحب حسن الخلق والمريض واليتيم والغازي والحاج والناصح للمسلمين والولد المطيع لأبويه والمرأة المطيعة لزوجها " " كب " " سئل النبي صلى الله عليه وسلم ما العلم؟ فقال: دليل العمل قيل: فما العقل؟ قال: قائد الخير، قيل: فما الهوى؟ قال: مركب المعاصي؛ قيل: فما المال؟ قال: رداء المتكبرين، قيل: فما الدنيا؟ قال: سوق الآخرة ".
" كج " أنه عليه الصلاة والسلام كان يحدث إنسانا فأوحى الله إليه أنه لم يبق من عمر هذا الرجل الذي تحدثه إلا ساعة، وكان هذا وقت العصر، فأخبره الرسول بذلك فاضطرب الرجل وقال: يا رسول الله دلني على أوفق عمل لي في هذه الساعة، قال اشتغل بالتعلم فاشتغل بالتعلم، وقبض قبل المغرب، قال الراوي: فلو كان شيء أفضل من العلم، لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك الوقت. " كد " قال عليه الصلاة والسلام: " الناس كلهم موتى إلا العالمون " والخبر مشهور " كه " عن أنس قال عليه الصلاة والسلام " سبعة للعبد تجري بعد موته: من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا صالحا يدعو له بالخير أو صدقة تجري له بعد موته " فقدم عليه الصلاة والسلام التعليم على جميع الانتفاعات لأنه روحاني والروحاني أبقى من الجسمانيات " كو " قال عليه الصلاة والسلام: " لا تجالسوا العلماء إلا إذا دعوكم من خمس إلى خمس: من الشك إلى اليقين ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد " " كز " أوصى النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا علي احفظ التوحيد فإنه رأس مالي والزم العمل فإنه حرفتي، وأقم الصلاة فإنها قرة عيني، واذكر الرب فإنه بصيرة فؤادي، واستعمل العلم فإنه ميراثي " كح " أبو كبشة الأنصاري قال ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الدنيا مثل أربعة رهط رجل آتاه الله علما وآتاه مالا فهو يعمل بعلمه في ماله، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فيقول لو أن الله تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا
191

ولم يؤته علما فهو يمنعه من الحق وينفقه في الباطل، ورجل لم يؤته الله علما ولم يؤته مالا فيقول: لو أن الله تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الوزر سواء. * (الآثار) * " ا " كميل بن زياد قال أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي فأخرجني إلى الجبانة فلما أصحر تنفس الصعداء ثم قال يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها فاحفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، يا كميل العلم خير من المال، والعلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله، يا كميل معرفة العلم زين يزان به يكتسب به الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه " ب " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبل تهامة فإذا سمع العلم وخاف واسترجع على ذنوبه انصرف إلى منزله وليس عليه ذنب فلا تفارقوا مجالس العلماء فإن الله لم يخلق تربة على وجه الأرض أكرم من مجالس العلماء " ج " عنم ابن عباس خير سليمان بين الملك والمال وبين العلم فاختار العلم فأعطي العلم والملك معا " د " سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه لما روي عن نافع بن الأرزق قال لابن عباس كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء قال ابن عباس لأن الأرض كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها فقال نافع فكيف بأوقات الفخ يغطي له بأصبع من تراب فلا يراه بل يقع فيه فقال ابن عباس إذا جاء القدر عمي البصر (ه) قال أبو سعيد الخدري تقسم الجنة على عشرة آلاف جزء تسعة آلاف وتسعمائة وتسعة وتسعون منها للذين عقلوا عن الله أمره فكان هذا ثوابهم على قدر ما قسم الله لهم من العقول يقتسمون المنازل فيها وجزء للمؤمنين الضعفاء الفقراء الصالحين " و " قال ابن عباس لولده يا بني عليك بالأدب فإنه دليل على المروءة وأنس في
الوحشة وصاحب في الغربة وقرين في الحضر وصدر في المجلس ووسيلة عند انقضاء الوسائل وغنى عند العدم ورفعة للخسيس وكمال للشريف وجلالة للملك " ز " عن الحسن البصري: صرير قلم العلماء تسبيح وكتابة العلم والنظر فيه عبادة وإذا أصاب من ذلك المداد ثوبه فكأنما أصابه دم الشهداء وإذا قطر منها على الأرض تلألأ نوره، وإذا قام من قبره نظر إليه أهل الجمع فيقال هذا عبد من عباد الله أكرمه الله وحشر مع الأنبياء عليهم السلام " ح " في " كتاب كليلة " ودمنة: أحق من لا يستخف بحقوقهم ثلاثة: العالم والسلطان والإخوان فإن من استخف بالعالم أهلك دينه ومن استخف بالسلطان أهلك دنياه ومن استخف بالإخوان أهلك مروءته " ط " قال سقراط من فضيلة العلم أنك لا تقدر على أن يخدمك فيه أحدكما تجد من يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك ولا يقدر أحد على سلبه عنك " ي " قيل لبعض الحكماء لا تنظر فأغمض عينيه، فقيل لا تسمع فسد أذنيه، فقيل لا تتكلم فوضع يده على فيه، فقيل له لا تعلم فقال: لا أقدر عليه " يا " إذا كان السارق عالما لا تقطع يده لأنه يقول كان المال وديعة لي وكذا
192

الشارب يقول حسبته خلا وكذا الزاني يقول تزوجتها فإنه لا يحد " يب " قال بعضهم أحيوا قلوب إخوانكم ببصائر بيانكم كما تحيون الموات بالنبات والنواة، فإن نفسا تبعد من الشهوات والشبهات أفضل من أرض تصلح للنبات. قال الشاعر:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله * وأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحيى بالعلم ميت * وليس له حتى النشور نشور
* (وأما النكت) * فمن وجوه: " ا " المعصية عند الجهل لا يرجى زوالها وعند الشهوة يرجى زوالها، انظر إلى زلة آدم فإنه بعلمه استغفر والشيطان غوى وبقي في غيه أبدا لأن ذلك كان بسبب الجهل " ب " إن يوسف عليه السلام لما صار ملكا احتاج إلى زير فسأل ربه عن ذلك فقال له جبريل إن ربك يقول لا تختر إلا فلانا فرآه يوسف في أسوء الأحوال فقال لجبريل إنه كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله فقال جبريل إن ربك عينه لذلك لأنه كان ذب عنك حيث قال: * (إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) * (يوسف: 27) والنكتة أن الذي ذب عن يوسف عليه السلام استحق الشركة في مملكته فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم كيف لا يستحق من الله الإحسان والتحسين " ج " أراد واحد خدمة ملك فقال الملك اذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم بعث الملك إليه وقال اترك التعلم فقد صرت أهلا لخدمتي فقال كنت أهلا لخدمتك حين لم ترني أهلا لخدمتك وحين رأيتني أهلا لخدمتك رأيت نفسي أهلا لخدمة الله تعالى وذلك أني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الرب " د " تحصيل العلم إنما يصعب عليك لفرط حبك للدنيا لأنه تعالى أعطاك سواد العين وسويداء القلب ولا شك أن السواد أكبر من السويداء في اللفظ لأن السويداء تصغير السواد ثم إذا وضعت على سواد عينك جزءا من الدنيا لا ترى شيئا فكيف إذا وضعت على السويداء كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئا " ه " قال حكيم: القلب ميت وحياته بالعالم والعلم ميت وحياته بالطلب والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب وإظهاره بالمناظرة وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم ونتاجه بالعمل فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكا أبديا لا آخر له " و " * (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) * (النمل: 18) إلى قوله: * (وهم لا يشعرون) * كانت رياسة تلك النملة على غيرها لم تكن إلا بسبب أنها علمت مسألة واحدة وهي قوله تعالى: * (وهم لا يشعرون) * كأنها قالت إن سليمان معصوم والمعصوم لا يجوز منه إيذاء البريء عن الجرم ولكنه لو حطمكم فإنما يصدر ذلك منه على سبيل السهو لأنه لا يعلم حالكم فقوله تعالى: * (وهم لا يشعرون) * إشارة إلى تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن المعصية فتلك النملة لما علمت هذه المسألة الواحدة استحقت الرياسة التامة فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات كيف لا يستوجب الرياسة في الدنيا والدين " ز " الكلب إذا تعلم وأرسله المالك على اسم الله تعالى صار صيده النجس طاهرا والنكتة أن
193

العلم هناك انضم إلى الكلب فصار النجس ببركة العلم طاهرا، فههنا النفس والروح طاهرتان في أصل الفطرة إلا أنهما تلوثتا بأقذار المعصية ثم انضم إليهما العلم بالله وبصفاته فنرجو من عميم لطفه أن يقلب النجس طاهرا ههنا والمردود مقبولا " ح " القلب رئيس الأعضاء ثم تلك الرياسة ليست للقوة فإن العظم أقوى منه ولا للعظم فإن الفخذ أعظم منه ولا للحدة فإن الظفر أحد منه وإنما تلك الرياسة بسبب العلم فدل على أن العلم أشرف الصفات.
أما الحكايات: " ا " حكي أن هارون الرشيد كان معه فقهاء وكان فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيته مالا بالليل فأقر الآخذ بذلك في المجلس فاتفق الفقهاء على أنه تقطع يده. فقال أبو يوسف: لا قطع عليه، قالوا لم؟ قال لأنه أقر بالأخذ والأخذ لا يوجب القطع بل لا بد من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في قوله، ثم قالوا للآخذ أسرقتها؟ قال: نعم، فأجمعوا كلهم على أنه وجب القطع لأنه أقر بالسرقة فقال أبو يوسف: لا قطع لأنه وإن أقر بالسرقة لكن بعد ما وجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ فإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل من ذلك " ب " عن الشعبي كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر فقيه خراسان مع بلخ مكبلا بالحديد فقال له الحجاج أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بلى فقال: الحجاج لتأتيني بها واضحة بينة من كتاب الله أو لأقطعنك عضوا عضوا فقال آتيك بها واضحة بينة من كتاب الله يا حجاج قال: فتعجبت من جرأته بقوله يا حجاج فقال له ولا تأتني بهذه الآية * (ندع أبناءنا وأبناءكم) * (آل عمران: 61) فقال: آتيك بها واضحة من كتاب الله وهو قوله: * (ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان) * (الأنعام: 84) إلى قوله: * (وزكريا ويحيى وعيسى) * فمن كان أبو عيسى وقد ألحق بذرية نوح؟ قال: فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا " ج " يحكى أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويشنعوا عليه فقال لهم: لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره فأشاروا إلى واحد فقال: هذا أعلمكم؟ قالوا: نعم قال: والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا: نعم قال: والإلزام عليه كالإلزام عليكم؟ قالوا: نعم قال: وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد لزمتكم الحجة؟ قالوا: نعم قال: كيف؟ قالوا: لأنا رضينا به إماما
فكان قوله قولا لنا قال: أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة كانت قراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالإلزام " د " هجا الفرزدق واحدا فقال:
لقد ضاع شعري على بابكم * كما ضاع در على خالصة
وكانت خالصة معشوقة سليمان بن عبد الملك وكانت ظريفة صاحبة أدب وكانت هيبة سليمان بن عبد الملك تفوق هيبة المروانيين فلما بلغها هذا البيت شق عليها فدخلت على سليمان وشكت
194

الفرزدق فأمر سليمان بإشخاص الفرزدق على أفظع الوجوه مكبلا مقيدا فلما حضر وما كان به من الرمق إلا مقدار ما يقيمه على الرجل من شدة الهيبة فقال له سليمان بن عبد الملك: أنت القائل: لقد ضاع شعري على بابكم * كما ضاع در على خالصة
فقال ما قلته هكذا وإنما غيره على من أراد بي مكروها وإنما قلت: وخالصة من وراء الستر تسمع: لقد ضاء شعري على بابكم * كما ضاء در على خالصة
فسرى عن خالصة فلم تملك نفسها أن خرجت من الستر فألقت على الفرزدق ما كان عليها من الحلي وهي زيادة على ألف ألف درهم فأتبعه سليمان بن عبد الملك حاجبه لما خرج من عنده حتى اشترى الحلي من الفرزدق بما ألف ورده على خالصة " ه " دعا المنصور أبا حنيفة يوما فقال الربيع وهو يعاديه يا أمير المؤمنين هذا يعني أبا حنيفة يخالف جدك حيث يقول: الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره فقال أبو حنيفة هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس فقال كيف؟ قال أنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل بيعتهم فضحك المنصور وقال: إياك يا ربيع وأبا حنيفة فلما خرج فقال الربيع يا أبا حنيفة سعيت في دمي فقال أبو حنيفة كنت البادي وأنا المدافع. ويحكى أن مسلما قتل ذميا عمدا فحكم أبو يوسف بقتل المسلم به فبلغ زبيدة ذلك فبعثت إلى أبي يوسف فقالت: إياك وأن تقتل المسلم وكانت في عناية عظيمة بأمر المسلمين فلما حضر أبو يوسف وحضر الفقهاء وجئ بأولياء الذمي والمسلم فقال له الرشيد أحكم بقتله فقال يا أمير المؤمنين هو مذهبي غير أني لست أقتل المسلم به حتى تقوم البينة العادلة أن الذمي يوم قتله المسلم كان ممن يؤدي الجزية فلم يقدروا عليه فبطل دمه " ز " دخل الغضبان على الحجاج بعدما قال لعدوه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك فقال له ما جواب السلام عليك؟ فقال وعليك السلام ثم فطن الحجاج، وقال: قاتلك الله يا غضبان، أخذت لنفسك أمانا بردي عليك أما والله لولا الوفاء والكرم، لما شربت الماء البارد بعد ساعتك هذه. فانظر إلى فائدة العلم في هذه الصورة فلله در العلم ومن به تردى، وتعسا للجهل ومن في أوديته تردى " ح " بلغ عبد الملك بن مروان قول الشاعر: ومنا سويد والبطين وقعنب * ومنا أمير المؤمنين شبيب
فأمر به فأدخل عليه، فقال أنت القائل ومنا أمير المؤمنين شبيب؟ فقال: إنما قلت ومنا أمير المؤمنين شبيب، بنصب الراء فناديتك واستغثت بك، فسرى عن عبد الملك وتخلص الرجل من الهلاك بصنعة يسيرة عملها بعلمه، وهو أنه حول الضمة فتحة. " ط " قال أبو مسلم: صاحب الدولة لسليمان بن كثير: بلغني أنك كنت في مجلس وقد جرى بين يديك ذكرى، فقلت: اللهم سود وجهه واقطع عنقه وأسقني من دمه، فقال: نعم قلته، ولكن في كرم كذا لما نظرت إلى الحصرم فاستحسن
195

قوله، وعفا عنه. " ي " قال رجل لأبي حنيفة: إني حلفت لا أكلم امرأتي حتى تكلمني وحلفت بصدقة ما تملك أن لا تكلمني أو أكلمها فتحير الفقهاء فيه فقال سفيان من كلم صاحبه حنث فقال أبو حنيفة: اذهب وكلمها ولا حنث عليكما. فذهب إلى سفيان وأخبره بما قال أبو حنيفة؛ فذهب سفيان إلى أبي حنيفة مغضبا وقال: تبيح الفروج! فقال أبو حنيفة: وما ذاك؟ قال سفيان: أعيدوا على أبي حنيفة السؤال، فأعادوا وأعاد أبو حنيفة الفتوى، فقال من أين قلت؟ قال: لما شافهته باليمين بعدما حلف كانت مكلمة فسقطت يمينه، وإن كلمها فلا حنث عليه ولا عليها؛ لأنه قد كلمها بعد اليمين فسقطت اليمين عنهما. قال سفيان: إنه ليكشف لك من العلم عن شيء كلنا عنه غافل. " يا " دخل اللصوص على رجل فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثا أن لا يعلم أحدا، فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه، فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة فقال: أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأحضرهم إياه، فقال لهم أبو حنيفة. هل تحبون أن يرد الله على هذا متاعه؟ قالوا: نعم، قال: فاجمعوا كلا منهم وأدخلوهم في دار ثم أخرجوهم واحدا واحدا، وقولوا أهذا لصك؟ فإن كان ليس بلصه قال: لا، وإن كان لصه فليسكت، وإذا سكت فاقبضوا عليه، ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة، فرد الله عليه جميع ما سرق منه " يب " كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلس أبي حنيفة، فقال يوما لأبي حنيفة: إني أريد أن أتزوج ابنة فلان وقد خطبتها، إلا أنهم قد طلبوا مني من المهر فوق طاقتي، فقال: احتل واقترض وادخل عليها، فإن الله تعالى يسهل الأمر عليك بعد ذلك، ثم أقرضه أبو حنيفة ذلك القدر؛ ثم قال له: بعد الدخول أظهر أنك تريد الخروج من هذا البلد إلى بلد بعيد، وأنك تسافر بأهلك معك: فأظهر الرجل ذلك. فاشتد ذلك على أهل المرأة وجاؤا إلى أبي حنيفة يشكونه ويستفتونه، فقال لهم أبو حنيفة: له ذلك، فقالوا: وكيف الطريق إلى دفع ذلك؟ فقال أبو حنيفة: الطريق أن ترضوه بأن تردوا عليه ما أخذتموه منه، فأجابوه إليه؛ فذكر أبو حنيفة ذلك للزوج، فقال الزوج: فأنا أريد منهم شيئا آخر فوق ذلك، فقال أبو حنيفة: أيما أحب إليك أن ترضى بهذا القدر وإلا أقرت لرجل بدين فلا تملك المسافرة بها حتى تقضي ما عليها من الدين فقال الرجل الله الله لا يسمعوا بهذا فلا آخذ منهم شيئا ورضي بذلك القدر فحصل ببركة علم أبي حنيفة فرج كل واحد من الخصمين " يج " عن الليث بن سعد قال: قال رجل لأبي حنيفة؛ لي ابن ليس بمحمود السيرة أشتري له الجارية بالمال العظيم فيعتقها وأزوجه المرأة بالمال العظيم فيطلقها فقال له أبو حنيفة: اذهب به معك إلى سوق النخاسين فإذا وقعت عينه على جارية فابتعها لنفسك ثم زوجها إياه فإن طلقها عادت إليك مملوكة وإن أعتقها لم يجز عتقه إياها، قال الليث: فوالله ما أعجبني جوابه كما أعجبني سرعة جوابه " يد " سئل أبو حنيفة عن رجل حلف ليقربن امرأته نهارا في رمضان فلم يعرف أحد وجه الجواب فقال أبو حنيفة: يسافر مع امرأته فيطؤها نهارا
196

في رمضان " يه " جاء رجل إلى الحجاج فقال: سرقت لي أربعة آلاف درهم فقال الحجاج: من تتهم؟ فقال: لا أتهم أحدا قال: لعلك أتيت من قبل أهلك؟ قال: سبحان الله امرأتي خير من ذلك قال الحجاج لعطاره إعمل لي طيبا ذكيا ليس له نظير فعمل له الطيب ثم دعا الشيخ فقال: ادهن من هذه القارورة ولا تدهن منها غيرك ثم قال
الحجاج لحرسه: اقعدوا على أبواب المساجد وأراهم الطيب وقال من وجد منه ريح هذا الطيب فخذوه فإذا رجل له وفرة فأخذوه فقال الحجاج من أين لك هذا الدهن؟ قال: اشتريته قال: أصدقني وإلا قتلتك فصدقه فدعا الشيخ وقال: هذا صاحب الأربعة آلاف عليك بامرأتك فأحسن أدبها، ثم أخذ الأربعة آلاف من الرجل، وردها إلى صاحبها " يو " قال الرشيد يوما لأبي يوسف: عند جعفر بن عيسى جارية هي أحب الناس إلي وقد عرف ذلك وقد حلف أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق، وهو الآن يطلب حل يمينه. فقال: يهب النصف ويبيع النصف ولا يحنث " يز " قال محمد بن الحسن: كنت نائما ذات ليلة، فإذا أنا بالباب يدق ويقرع فقلت: انظروا من ذاك؟ فقالوا: رسول الخليفة يدعوك فخفت على روحي فقمت ومضيت إليه، فلما دخلت عليه قال: دعوتك في مسألة: إن أم محمد يعني زبيدة قلت لها أنا الإمام العدل، والإمام العدل في الجنة، فقالت لي إنك ظالم عاص فقد شهدت لنفسك بالجنة فكفرت بكذبك على الله وحرمت عليك، فقلت له يا أمير المؤمنين إذا وقعت في معصية هل تخاف الله في تلك الحالة أو بعدها: فقال إي والله أخاف خوفا شديدا، فقلت: أنا أشهد أن لك جنتين، لا جنة واحدة قال تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (الرحمن: 46) فلاطفني وأمرني بالانصراف فلما رجعت إلى داري رأيت البدر متبادرة إلي " يح " يحكى أن أبا يوسف أتاه ذات ليلة رسول الرشيد يستعجله، فخاف أبو يوسف على نفسه، فلبس إزاره ومشى خائفا إلى دار الخليفة، فلما دخل عليه سلم فرد عليه الجواب وأدناه، فعند ذلك هدأ روعه، قال الرشيد إن حليا لنا فقد من الدار فاتهمت فيه جارية من جواري الدار الخاصة، فحلفت لتصدقيني أو لأقتلنك وقد ندمت فاطلب لي وجها؛ فقال أبو يوسف: فأذن لي في الدخول عليها فأذن له فرأى جارية كأنها فلقة قمر؛ فأخلى المجلس ثم قال لها: أمعك الحلي؟ فقالت: لا والله، فقال: لها احفظي ما أقول لك ولا تزيدي عليه ولا تنقصي عنه إذا دعاك الخليفة وقال لك أسرقت الحلي فقولي نعم، فإذا قال لك فهاتها فقولي ما سرقتها، ثم خرج أبو يوسف إلى مجلس الرشيد وأمر بإحضار الجارية فحضرت، فقال للخليفة: سلها عن الحلي، فقال لها الخليفة: أسرقت الحلي؟ قالت: نعم، قال لها: فهاتها، قالت: لم أسرقها والله، قال أبو يوسف: قد صدقت يا أمير المؤمنين في الإقرار أو الإنكار وخرجت من اليمين، فسكن غضب الرشيد وأمر أن يحمل إلى دار أبي يوسف مائة ألف درهم، فقالوا: إن الخزان غيب فلو أخرنا ذلك إلى الغد، فقال: إن القاضي أعتقنا الليلة
197

فلا نؤخر صلته إلى الغد، فأمر حتى حمل عشر بدر مع أبي يوسف إلى منزله. " يط " قال بشر المريسي للشافعي: كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أن أهل المشرق والمغرب لا يمكن معرفة وجود إجماعهم على الشيء الواحد وكانت هذه المناظرة عند الرشيد، فقال الشافعي: هل تعرف إجماع الناس على خلافة هذا الجالس؟ فأقر به خوفا وانقطع؛ " ك " أعرابي قصد الحسين بن علي رضي الله عنهما، فسلم عليه وسأله حاجة وقال: سمعت جدك يقول: إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة: إما عربي شريف، أو مولى كريم، أو حامل القرآن، أو صاحب وجه صبيح فأما العرب فشرفت بجدك، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل، وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أردتم أن تنظروا إلي فانظروا إلى الحسن والحسين، فقال الحسين: ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض، فقال الحسين سمعت أبي عليا يقول قيمة كل امرئ ما يحسنه. وسمعت جدي يقول: المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي وقد حمل إلي صرة مختومة من العراق فقال: سل ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال: أي الأعمال أفضل قال الأعرابي: الإيمان بالله. قال: فما نجاة العبد من الهلكة قال: الثقة بالله، قال: فما يزين المرء قال: علم معه حلم قال: فإن أخطأه ذلك قال: فمال معه كرم قال: فإن أخطأه ذلك قال: ففقر معه صبر قال: فإن أخطأه ذلك قال: فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه فضحك الحسين ورمى بالصرة إليه.
أما الشواهد العقلية في فضيلة العلم فنقول: اعلم أن كون العلم صفة شرف وكمال وكون الجهل صفة نقصان أمر معلوم للعقلاء بالضرورة ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل فإنه يتأذى بذلك وإن كان يعلم كذب ذلك ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فإنه يفرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك وكل ذلك دليل على أن العلم شريف لذاته ومحبوب لذاته والجهل نقصان لذاته وأيضا فالعلم أينما وجد كان صاحبه محترما معظما حتى أن الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان وكذلك جماعة الرعاة إذا رأوا من جنسهم من كان أوفر عقلا منهم وأغزر فضلا فيما هم فيه وبصدده انقادوا له طوعا فالعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من كان دونهم في العلم ولذلك فإن كثيرا ممن كانوا يعاندون النبي صلى الله عليه وسلم فصدوه ليقتلوه فما كان إلا أن وقع بصرهم عليه فألقى الله في قلوبهم منه روعة وهيبة فهابوه وانقادوا له صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الشاعر:
لو لم تكن فيه آيات مبينة * كانت بداهته تنبيك عن خبر
وأيضا فلا شك أن الإنسان أفضل من سائر الحيوانات وليست تلك الفضيلة لقوته وصولته فإن كثيرا من الحيوانات يساويه فيها أو يزيد عليه فأذن تلك الفضيلة ليست إلا لاختصاصه بالمزية
198

النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعدا لإدراك حقائق الأشياء والاطلاع عليها والاشتغال بعبادة الله على ما قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * () وأيضا الجاهل كأنه في ظلمة شديدة لا يرى شيئا البتة والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات فيطالع الموجود والمعدوم والواجب والممكن والمحال ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض والجوهر إلى البسيط والمركب ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره والجزء الذي به يمتاز عن غيره ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليه وجزئيه وواحده وكثيره حتى يصير عقله كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها فأي سعادة فوق هذه الدرجة ثم إنه بعد صيرورته كذلك تصير النفوس الجاهلة عالمة فتصير تلك النفس كالشمس في عالم الأرواح وسببا للحياة الأبدية لسائر النفوس فإنها كانت كاملة ثم صارت مكملة وتصير واسطة بين الله وبين عباده ولهذا قال تعالى: * (ينزل الملائكة
بالروح من أمره) * (النحل: 2) والمفسرون فسروا هذا الروح بالعلم والقرآن وكما أن البدن بلا روح ميت فاسد فكذا الروح بلا علم ميت ونظيره قوله تعالى: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52) فالعلم روح الروح ونور النور ولب اللب ومن خواص هذه السعادة أنها تكون باقية آمنة عن الفناء والتغير، فإن التصورات الكلية لا يتطرق إليها الزوال والتغير وإذا كانت هذه السعادة في نهاية الجلالة في ذاتها ثم إنها باقية أبد الآبدين ودهر الداهرين كانت لا محالة أكمل السعادات وأيضا فالأنبياء صلوات الله عليهم ما بعثوا إلا للدعوة إلى الحق قال تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) * (النحل: 125) إلى آخره، وقال: * (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) * ث (يوسف: 108) م خذ من أول الأمر فإنه سبحانه لما قال: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (البقرة: 30) قالت الملائكة: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * قال سبحانه: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * فأجابهم سبحانه بكونه عالما فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة. والإرادة، والسمع، والبصر، والوجود، والقدم، والاستغناء عن المكان والجهة جوابا لهم وموجبا لسكوتهم وإنما جعل صفة العلم جوابا لهم وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال وإن كانت بأسرها في نهاية الشرف إلا أن صفة العلم أشرف من غيرها ثم إنه سبحانه إنما أظهر فضل آدم عليه السلام بالعلم وذلك يدل أيضا على أن العلم أشرف من غيره ثم إنه سبحانه لما أظهر علمه جعله مسجود الملائكة وخليفة العالم السفلى وذلك يدل على أن تلك المنقبة إنما استحقها آدم عليه السلام بالعلم ثم إن الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس والافتخار بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم فإنهما إن حصلا بدون العلم كان ذلك نفاقا والنفاق أخس المراتب قال تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) * (النساء: 145) أو تقليدا والتقليد مذموم فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما صار موجبا للافتخار ببركة العلم. ثم إن آدم عليه السلام إنما وقع عليه اسم المعصية لأنه أخطأ
199

في مسألة واحدة اجتهادية على ما سيأتي بيانه ولأجل هذا الخطأ القليل وقع فيما وقع فيه والشيء كلما كان الخطر فيه أكثر كان أشرف فذلك يدل على غاية جلالة العلم. ثم إنه ببركة جلالة العلم لما تاب وأناب وترك الإصرار والاستكبار وجد خلعة الاجتباء، ثم انظر إلى إبراهيم عليه السلام كيف اشتغل في أول أمره بطلب العلم على ما قال تعالى: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) * (الأنعام: 76) ثم انتقل من الكواكب إلى القمر ومن القمر إلى الشمس ولم يزل ينتقل بفكره من شيء إلى شيء إلى أن وصل بالدليل الزاهر والبرهان الباهر إلى المقصود وأعرض عن الشرك فقال: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) * (الأنعام: 79) فلما وصل إلى هذه الدرجة مدحه الله تعالى بأشرف المدائح وعظمه على أتم الوجوه فقال تارة: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * (الأنعام: 75) وقال أخرى: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء) * (الأنعام: 83) ثم إنه عليه السلام بعد الفراغ من معرفة المبدأ اشتغل بمعرفة المعاد فقال: * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى) * (البقرة: 26) ثم لما فرغ من التعلم اشتغل بالتعليم والمحاجة تارة مع أبيه على ما قال: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر) * (مريم: 42) وتارة مع قومه فقال: * (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) * (الأنبياء: 52) وأخرى مع ملك زمانه فقال: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) * (البقرة: 258) وانظر إلى صالح وهود وشعيب كيف كان اشتغالهم في أوائل أمورهم وأواخرها بالتعلم والتعليم وإرشاد الخلق إلى النظر والتفكر في الدلائل وكذلك أحوال موسى عليه السلام مع فرعون وجنوده ووجوه دلائله معه، ثم انظر إلى حال سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم كيف من الله عليه بالعلم مرة بعد أخرى فقال: * (ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى) * (الضحى: 7 - 8) فقدم الامتنان بالعلم على الامتنان بالمال وقال أيضا: * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * (الشورى: 52) وقال: * (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) * (هود: 49) ثم إنه أول ما أوحى إليه قال: * (إقرأ باسم ربك) * (العلق: 1) ثم قال: * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * (النساء: 113) وهو عليه الصلاة والسلام كان أبدا يقول: أرنا الأشياء كما هي. فلو لم يظهر للإنسان مما ذكرنا من الدلائل النقلية والعقلية شرف العلم لاستحال أن يظهر له شيء أصلا وأيضا فإن الله تعالى سمى العلم في كتابه بالأسماء الشريفة. فمنها: الحياة * (أو من كان ميتا فأحييناه) * (الأنعام: 122). وثانيها: الروح * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52)، وثالثها: النور * (الله نور السماوات والأرض) * (النور: 35) وأيضا قال تعالى في صفة طالوت: * (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) * (البقرة: 247) فقدم العلم على الجسم ولا شك أن المقصود من سائر النعم سعادة البدن، فسعادة البدن أشرف من السعادة المالية فإذا كانت السعادة العلمية راجحة على السعادة الجسمانية فأولى أن تكون راجحة على السعادة المالية. وقال يوسف * (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) * (يوسف: 55) ولم يقل إني حسيب نسيب فصيح مليح، وأيضا فقد جاء في الخبر " المرء بأصغريه قلبه ولسانه " إن تكلم تكلم بلسانه، وإن قاتل قاتل بجنانه، قال الشاعر:
200

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وأيضا فإن الله تعالى قدم عذاب الجهل على عذاب النار فقال: * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم) * (المطففين: 15، 16) وقال بعضهم: العلوم مطالعها من ثلاثة أوجه، قلب متفكر، ولسان معبر، وبيان مصور، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " عين العلم من العلو، ولامه من اللطف، وميمه من المروءة " وأيضا قيل العلوم عشرة: علم التوحيد للأديان، وعلم السر لرد الشيطان، وعلم المعاشرة للإخوان، وعلم الشريعة للأركان، وعلم النجوم للأزمان، وعلم المبارزة للفرسان، وعلم السياسة للسلطان، وعلم الرؤيا للبيان، وعلم الفراسة للبرهان، وعلم الطب للأبدان، وعلم الحقيقة للرحمن، وأيضا قيل ضرب المثل في العلم بالماء قوله تعالى: * (أنزل من السماء ماء) * (البقرة: 22) والمياه أربعة: ماء المطر، وماء السيل، وماء القناة، وماء العين فكذا العلوم أربعة علم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر، وكذا لا ينبغي طلب معرفة كيفية الله عز وجل لئلا يحصل الكفر. وعلم الفقه يزداد بالاستنباط كماء القناة يزداد بالحفر، وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافيا ويتكدر بغبار الهواء كذلك علم الزهد صاف ويتكدر بالطمع وعلم البدع كماء السيل يميت الأحياء ويهلك الخلق فكذا البدع والله أعلم.
المسألة السابعة: في أقوال الناس في حد العلم قال أبو الحسن الأشعري العلم ما يعلم به وربما قال ما يصير الذات به عالما واعترضوا عليه بأن العالم والمعلوم لا يعرفان إلا بالعلم فتعريف العلم بهما دور وهو غير جائز أجاب عنه بأن علم الإنسان بكونه عالما بنفسه وبألمه ولذاته علم ضروري والعلم بكونه عالما بهذه الأشياء علم بأصل العلم لأن الماهية داخلة في الماهية المقيدة فكان علمه بكون العلم علما علم ضروري فكان الدور ساقطا وسيأتي مزيد تقريره إذا ذكرنا ما نختاره نحن في هذا الباب إن شاء الله تعالى وقال القاضي أبو بكر العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه وربما قال العلم هو المعرفة والاعتراض على الأول أن قوله معرفة المعلوم تعريف العلم بالمعلوم فيعود الدور أيضا فالمعرفة لا تكون إلا وفق المعلوم فقوله على ما هو عليه بعد ذكر المعرفة يكون حشوا، أما قوله العلم هو المعرفة ففيه وجوه من الخلل: أحدها: أن العلم هو نفس المعرفة فتعريفه بها تعريف للشيء بنفسه وهو محال. وثانيها: أن المعرفة عبارة عن حصول العلم بعد الالتباس ولهذا يقال ما كنت أعرف فلانا والآن فقد عرفته. وثالثها: أن الله تعالى يوصف بأنه عالم ولا يوصف بأنه عارف لأن المعرفة تستدعي سبق الجهل وهو على الله محال وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني: العلم تبيين المعلوم وربما قال إنه استبانة الحقائق وربما اقتصر على التبيين فقال العلم هو التبيين وهو أيضا ضعيف أما قول العلم هو التبيين فليس فيه إلا تبديل لفظ بلفظ أخفى منه ولأن التبيين والاستبانة يشعران بظهور الشيء بعد الخفاء وذلك لا يطرد في علم الله، وأما قوله تبيين المعلوم على ما هو به فيتوجه عليه الوجوه المذكورة على كلام القاضي قال الأستاذ أبو بكر بن فورك: العلم ما يصح من المتصف به
201

إحكام الفعل وإتقانه وهو ضعيف، لأن العلم بوجوب الواجبات وامتناع الممتنعات لا يفيد الأحكام. وقال القفال: العلم إثبات المعلوم على ما هو به وربما قيل العلم تصور المعلوم على ما هو به والوجوه السالفة متوجهة على هذه العبارة. وقال إمام الحرمين: الطريق إلى تصور ماهية العلم وتميزها عن غيرها أن نقول إنا نجد من أنفسنا بالضرورة كوننا معتقدين في بعض الأشياء، فنقول اعتقادنا في الشيء، إما أن يكون جازما أو لا يكون، فإن كان جازما فأما أن يكون مطابقا أو غير مطابق فإن كان مطابقا فأما أن يكون لموجب هو نفس طرفي الموضوع والمحمول وهو العلم البديهي أو لموجب حصل من تركيب تلك العلوم الضرورية وهو العلم النظري أولا لموجب وهو اعتقاد المقلد، وأما الجزم الذي لا يكون مطابقا فهو الجهل والذي لا يكون جازما فأما أن يكون الطرفان متساويين وهو الشك أو يكون أحدهما أرجح من الآخر فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه: أحدها: أن هذا التعريف لا يتم إلا إذا ادعينا أن علمنا بماهية الاعتقاد علم بديهي وإذا جاز ذلك فلم لا ندعي أن العلم بماهية العلم بديهي. وثانيها: أن هذا تعريف العلم بانتفاء أضداده وليست معرفة هذه الأضداد أقوى من معرفة العلم حتى يجعل عدم النقيض معرفا للنقيض فيرجع حاصل الأمر إلى تعريف الشيء بمثله أو بالأخفى. وثالثها: أن العلم قد يكون تصورا وقد يكون تصديقا والتصور لا يتطرق إليه الجزم ولا التردد ولا القوة ولا الضعف فإذا كان كذلك كانت العلوم التصورية خارجة عن هذا التعريف قالت المعتزلة العلم هو الاعتقاد المقتضى سكون النفس وربما قالوا العلم ما يقتضي سكون النفس قالوا: ولفظ السكون وإن كان مجازا ههنا إلا أن المقصود منه لما كان ظاهرا لم يكن ذكره قادحا في المقصود واعلم أن الأصحاب قالوا: الاعتقاد جنس مخالف للعلم فلا يجوز جعل العلم منه ولهم أن يقولوا لا شك أن بين العلم واعتقاد المقلد قدرا مشتركا فنحن نعني بالاعتقاد ذلك القدر قال الأصحاب وهذا التعريف يخرج عنه أيضا علم الله تعالى فإنه لا يجوز أن يقال فيه إنه يقتضي سكون النفس قالت الفلاسفة العلم صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم وفي هذا التعريف عيوب: أحدها: إطلاق لفظ الصورة على العلم لا شك أنه من المجازات فلا بد في ذلك من تلخيص الحقيقة والذي يقال إنه كما يحصل في المرآة صورة الوجه فكذلك تحصل صورة المعلوم في الذهن وهو ضعيف لأنا إذا عقلنا الجبل والبحر فإن حصلا في الذهن ففي الذهن جبل وبحر وهذا محال وإن لم يحصلا في الذهن ولكن الحاصل في الذهن صورتاهما فقط فحينئذ يكون المعلوم هو الصورة فالشئ الذي تلك الصورة صورته وجب أن لا يصير معلوما وإن قيل حصلت الصورة ومحلها في الذهن فحينئذ يعود ما ذكرنا من أنه يحصل الجبل والبحر في الذهن. وثانيها: أن قوله مطابقة للمعلوم يقتضي الدور، وثالثها: أن عندهم المعلومات قد تكون موجودة في الخارج وقد لا تكون وهي التي يسمونها بالأمور الاعتبارية والصور الذهنية والمعقولات الثانية والمطابقة في هذا القسم غير معقول. ورابعها:
202

أنا قد نعقل المعدوم ولا يمكن أن يقال الصورة العقلية مطابقة للمعدوم لأن المطابقة تقتضي كون المتطابقين أمرا ثبوتيا والمعدوم نفي محض يستحيل تحقق المطابقة فيه ولقد حاول الغزالي إيضاح كلام الفلاسفة في تعريف العلم فقال إدراك البصيرة الباطنة نفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة كما نتوهم انطباع الصورة في المرآة مثلا فكما أن البصر يأخذ صورة المبصرات أي ينطبع فيه مثالها المطابق لها لا عينها فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال مطابق صورتها فكذا العقل على مثال مرآة ينطبع فيها صور المعقولات وأعني بصورة المعقولات حقائقها وماهياتها ففي المرآة أمور ثلاثة: الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيه فكذا جوهر الآدمي كالحديد وعقله كالصقالة والمعلوم كالصورة واعلم أن هذا الكلام ساقط جدا أما قوله لا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة فباطل لوجوه: أحدها: أنه ذكر في تعريف الأبصار المبصر والباصر وهو دور. وثانيها: أنه لو كان الأبصار عبارة عن نفس هذا الانطباع لما أبصرنا إلا بمقدار نقطة الناظر لاستحالة انطباع العظيم في الصغير فإن قيل الصورة الصغيرة المنطبعة شرط لحصول إبصار الشيء العظيم في الخارج قلنا الشرط مغاير للمشروط فالإبصار مغاير للصورة المنطبعة. وثالثها: أنا نرى المرئي حيث هو، ولو كان المرئي هو الصورة المنطبعة لما رأيته في حيزه ومكانه، وأما قوله: فكذا العقل ينطبع فيه صور المعقولات فضعيف لأن الصورة المرتسمة من الحرارة في العقل، إما أن تكون مساوية للحرارة في الماهية أو لا تكون، فإن كان الأول لزم أن يصير العقل حارا عند تصور الحرارة لأن الحار لا معنى له إلا الموصوف بالحرارة، وإن كان الثاني لم يكن تعقل الماهية إلا عبارة عن حصول شيء في الذهن مخالف للحرارة في الماهية وذلك يبطل قوله، وأما الذي ذكر من انطباع الصور في المرآة فقد اتفق المحققون من الفلاسفة على أن صورة المرئي لا تنطبع في المرآة فثبت أن الذي ذكره في تقرير قولهم لا يوافق قولهم ولا يلائم أصولهم ولما ثبت أن التعريفات التي ذكرها الناس باطلة فاعلم أن العجز عن التعريف قد يكون لخفاء
المطلوب جدا وقد يكون لبلوغه في الجلاء إلى حيث لا يوجد شيء أعرف منه ليجعل معرفا له، والعجز عن تعريف ا لعلم لهذا الباب والحق أن ماهية العلم متصورة تصورا بديهيا جليا، فلا حاجة في معرفته إلى معرف، والدليل عليه أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه يعلم وجود نفسه وأنه يعلم أنه ليس على السماء ولا في لجة البحر، والعلم الضروري بكونه عالما بهذه الأشياء علم باتصاف ذاته بهذه العلوم والعالم بانتساب شيء إلى شيء عالم لا محالة بكلا الطرفين، فلما كان العلم الضروري بهذه المنسوبية حاصلا كان العلم الضروري بماهية العلم حاصلا وإذا كان كذلك كان تعريفه ممتنعا فهذا القدر كاف ههنا وسائر التدقيقات مذكورة في " الكتب العقلية " والله أعلم.
المسألة الثامنة: في البحث عن ألفاظ يظن بها أنها مرادفة للعلم وهي ثلاثون: أحدها:
203

الإدراك وهو اللقاء والوصول يقال أدرك الغلام وأدركت الثمرة قال تعالى: * (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) * (الشعراء: 61) فالقوة العاقلة إذا وصلت إلى ماهية المعقول وحصلتها كان ذلك إدراكا من هذه الجهة، وثانيها: الشعور وهو إدراك بغير استثبات وهو أول مراتب وصول المعلوم إلى القوة العاقلة وكأنه إدراك متزلزل ولهذا يقال في الله تعالى إنه يشعر بكذا كما يقال إنه يعلم كذا، وثالثها: التصور إذا حصل وقوف القوة العاقلة على المعنى وأدركه بتمامه فذلك هو التصور، واعلم أن التصور لفظ مشتق من الصورة ولفظ الصورة حيث وضع فإنما وضع للهيئة الجسمانية الحاصلة في الجسم المتشكل إلا أن الناس لما تخيلوا أن حقائق المعلومات تصير حالة في القوة العاقلة كما أن الشكل والهيئة يحلان في المادة الجسمانية أطلقوا لفظ التصور عليه بهذا التأويل. ورابعها: الحفظ فإذا حصلت الصورة في العقل وتأكدت واستحكمت وصارت بحيث لو زالت لتمكنت القوة العاقلة من استرجاعها واستعادتها سميت تلك الحالة حفظا ولما كان الحفظ مشعرا بالتأكد بعد الضعف لا جرم لا يسمى علم الله حفظا ولأنه إنما يحتاج إلى الحفظ ما يجوز زواله ولما كان ذلك في علم الله تعالى محالا لا جرم لا يسمى ذلك حفظا. وخامسها: التذكر وهو أن الصورة المحفوظة إذا زالت عن القوة العاقلة فإذا حاول الذهن استرجاعها فتلك المحاولة هي التذكر. واعلم أن للتذكر سرا لا يعلمه إلا الله تعالى وهو أن التذكر صار عبارة عن طلب رجوع تلك الصورة الممحية الزائلة فتلك الصورة إن كانت مشعورا بها فهي حاضرة حاصلة والحاصل لا يمكن تحصيله فلا يمكن حينئذ استرجاعها وإن لم تكن مشعورا بها كان الذهن غافلا عنها وإذا كان غافلا عنها استحال أن يكون طالبا لاسترجاعها لأن طلب ما لا يكون متصورا محال فعلى كلا التقديرين يكون التذكر المفسر بطلب الاسترجاع ممتنعا مع أنا نجد من أنفسنا أنا قد نطلبها ونسترجعها وهذه الأسرار إذا توغل العاقل فيها وتأملها عرف أنه لا يعرف كنهها مع أنها من أظهر الأشياء عند الناس فكيف القول في الأشياء التي هي أخفى الأمور وأعضلها على العقول والأذهان. وسادسها: الذكر فالصورة الزائلة إذا حاول استرجاعها فإذا عادت وحضرت بعد ذلك الطلب سمي ذلك الوجدان ذكرا فإن لم يكن هذا الإدراك مسبوقا بالزوال لم يسم ذلك الإدراك ذكرا ولهذا قال الشاعر:
الله يعلم أني لست أذكره * وكيف أذكره إذ لست أنساه
فجعل حصول النسيان شرطا لحصول الذكر ويوصف القول بأنه ذكر لأنه سبب حصول المعنى في النفس قال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9) وههنا دقيقة تفسيرية وهي أنه سبحانه وتعالى قال: * (فاذكروني أذكركم) * (البقرة: 52) فهذا الأمر هل يتوجه على العبد حال حصول النسيان أو بعد زواله فإن كان الأول فهو حال النسيان غافل عن الأمر وكيف يوجه عليه التكليف مع النسيان وإن كان الثاني فهو ذاكر والذكر حاصل وتحصيل الحاصل محال فكيف كلفه به
204

وهو أيضا متوجه على قوله: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * (محمد: 19) إلا أن الجواب في قوله فاعلم أن المأمور به إنما هو معرفة للتوحيد وهذا من باب التصديقات فلا يقوى فيه ذلك الإشكال وأما الذكر فهو من باب التصورات فيقوى فيه ذلك الإشكال وجوابه على الإطلاق أنا نجد من أنفسنا أنه يمكننا التذكر وإذا كان ذلك ممكنا كان ما ذكرته تشكيكا في الضروريات فلا يستحق الجواب. بقي أن يقال فكيف يتذكر فنقول لا نعرف كيف يتذكر لكن علمك بتمكنك في علمك بأن في الجملة يكفيك في الاشتغال بالمجاهدة وعجزك عن إدراك تلك الكيفية يكفيك من التذكر ذاك ليس منك بل ههنا سر آخر وهو أنك لما عجزت عن إدراك ماهية التذكر والذكر مع أنه صفتك فأنى يمكنك الوقوف على كنه المذكور مع أنه أبعد الأشياء مناسبة منك فسبحان من جعل أظهر الأشياء أخفاها ليتوصل العبد به إلى كنه عجزه ونهاية قصوره فحينئذ يطالع شيئا من مبادئ مقادير أسرار كونه ظاهرا باطنا. وسابعها: المعرفة وقد اختلفت الأقوال في تفسير هذه اللفظة فمنهم من قال المعرفة إدراك الجزئيات والعلم إدراك الكليات وآخرون قالوا المعرفة التصور والعلم هو التصديق وهؤلاء جعلوا العرفان أعظم درجة من العلم قالوا لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة فأما تصور حقيقته فأمر فوق الطاقة البشرية ولأن الشيء ما لم يعرف وجوده فلا تطلب ماهيته فعلى هذا الطريق كل عارف عالم وليس كل عالم عارفا ولذلك فإن الرجل لا يسمى بالعارف إلا إذا توغل في ميادين العلم وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غاياتها بحسب الطاقة البشرية وفي الحقيقة فإن أحدا من البشر لا يعرف الله تعالى لأن الاطلاع على كنه هويته وسر ألوهيته محال. وآخرون قالوا من أدرك شيئا وانحفظ أثره في نفسه ثم أدرك ذلك الشيء ثانيا وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانيا هو الذي أدركه أولا فهذا هو المعرفة فيقال: عرفت هذا الرجل وهو فلان الذي كنت رأيته وقت كذا. ثم في الناس من يقول بقدم الأرواح ومنهم من يقول بتقدمها على الأبدان ويقول إنها هي الذر المستخرج من صلب آدم عليه السلام وإنها أقرت بالإلهية واعترفت بالربوبية إلا أنها لظلمة العلاقة البدنية نسيت مولاها فإذا عادت إلى نفسها متخلصة من ظلمة البدن وهاوية الجسم عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة به فلا جرم سمى هذا الإدراك عرفانا. وثامنها: الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب والإفهام هو اتصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع، وتاسعها: الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه يقال فقهت كلامك أي وقفت على غرضك من هذا الخطاب ثم إن كفار قريش لما كانوا أرباب الشبهات والشهوات فما كانوا يقفون على ما في تكاليف الله تعالى من المنافع
العظيمة لا جرم قال تعالى: * (لا يكادون يفقهون قولا) * (الكهف: 93) أي لا يقفون على المقصود الأصلي والغرض الحقيقي. وعاشرها: العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها فإنك متى علمت ما فيها من المضار والمنافع صار علمك بما في
205

الشيء من النفع داعيا لك إلى الفعل وعلمك بما فيه من الضرر داعيا لك إلى الترك فصار ذلك العلم مانعا من الفعل مرة ومن الترك أخرى فيجري ذلك العلم مجرى عقال الناقة. ولهذا لما سئل بعض الصالحين عن العقل، قال هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين ولما سئل عن العاقل قال العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه، فهذا هو القدر اللائق بهذا المكان والاستقصاء فيه يجيء في موضع آخر إن شاء الله تعالى. الحادي عشر: الدراية وهي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيل وهو تقديم المقدمات واستعمال الروية وأصله من دريت الصيد والدرية لما يتعلم عليه الطعن والمدرى يقال لما يصلح به الشعر وهذا لا يصح إطلاقه على الله تعالى لامتناع الفكر والحيل عليه تعالى. الثاني عشر: الحكمة: وهي اسم لكل علم حسن، وعمل صالح وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري وفي العمل أكثر استعمالا منه في العلم، ومنها يقال أحكم العمل إحكاما إذا أتقنه وحكم بكذا حكما والحكمة من الله تعالى خلق ما فيه منفعة العباد ومصلحتهم في الحال وفي المآل ومن العباد أيضا كذلك ثم قد حدت الحكمة بألفاظ مختلفة فقيل هي معرفة الأشياء بحقائقها، وهذا إشارة إلى أن إدراك الجزئيات لا كمال فيه لأنها إدراكات متغيرة. فأما إدراك الماهية، فإنه باق مصون عن التغير والتبدل وقيل هي الإتيان بالفعل الذي عاقبته محمودة وقيل هي الاقتداء بالخالق سبحانه وتعالى في السياسة بقدر الطاقة البشرية وذلك بأن يجتهد بأن ينزه علمه عن الجهل وفعله عن الجور وجوده عن البخل وحلمه عن السفه. الثالث عشر: علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين قالوا إن اليقين لا يحصل إلا إذا اعتقد أن الشيء كذا وأنه يمتنع كون الأمر بخلاف معتقده إذا كان لذلك الاعتقاد موجب هو إما بديهية الفطرة وإما نظر العقل، الرابع عشر: الذهن وهو قوة النفس على اكتساب العلوم التي هي غير حاصلة وتحقيق القول فيه إنه سبحانه وتعالى خلق الروح خاليا عن تحقيق الأشياء وعن العلم بها كما قال تعالى: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) * لكنه سبحانه وتعالى إنما خلقها للطاعة على ما قال تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) والطاعة مشروطة بالعلم وقال في موضع آخر * (وأقم الصلاة لذكرى) * (طه: 14) فبين أنه أمر بالطاعة لغرض العلم والعلم لا بد منه على كل حال فلا بد وأن تكون النفس متمكنة من تحصيل هذه المعارف والعلوم فأعطاه الحق سبحانه من الحواس ما أعان على تحصيل هذا الغرض فقال في السمع: * (وهديناه النجدين) * (البلد: 10) وقال في البصر: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * فصلت: 53) وقال في الفكر: * (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) * (الذاريات: 21) فإذا تطابقت هذه القوى صار الروح الجاهل عالما وهو معنى قوله تعالى: * (الرحمن علم القرآن) * (الرحمن: 1) فالحاصل أن استعداد النفس لتحصيل هذه المعارف هو الذهن. الخامس عشر: الفكر وهو انتقال الروح من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة قال بعض المحققين إن الفكر يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلوم من عنده. السادس عشر: الحدس ولا
206

شك أن الفكر لا يتم عمله إلا بوجدان شيء يتوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة فإن النفس حال كونها جاهلة كأنها واقفة في ظلمة ولا بد لها من قائد يقودها وسائق يسوقها وذلك هو المتوسط بين الطرفين وله إلى كل واحد منهما نسبة خاصة فيتولد من نسبته إليهما مقدمتان فكل مجهول لا يحصل العلم به إلا بواسطة مقدمتين معلومتين والمقدمتان هما كالشاهدين فكم أنه لا بد في الشرع من شاهدين فكذا لا بد في العقل من شاهدين وهما المقدمتان اللتان تنتجان المطلوب فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط هو الحدس. السابع عشر: الذكاء وهو شدة الحدس وكماله وبلوغه الغاية القصوى وذلك لأن الذكاء هو المضاء في الأمر وسرعة القطع بالحق وأصله من ذكت النار وذكت الريح وشاة مذكاة أي مدرك ذبحها بحدة السكين. الثامن عشر: الفطنة وهي عبارة عن التنبه لشيء قصد تعريضه ولذلك فإنه يستعمل في الأكثر في استنباط الأحاجي والرموز. التاسع عشر: الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل الدليل وفي الحقيقة ذلك المعلوم هو الخاطر بالبال والحاضر في النفس ولذلك يقال: هذا خطر ببالي إلا أن النفس لما كانت محلا لذلك المعنى الخاطر جعلت خاطرا إطلاقا لاسم الحال على المحل. العشرون: الوهم وهو الاعتقاد المرجوح وقد يقال إنه عبارة عن الحكم بأمور جزئية غير محسوسية لأشخاص جزئية جسمانية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة المؤذي. الحادي والعشرون: الظن وهو الاعتقاد الراجح ولما كان قبول الاعتقاد للقوة والضعف غير مضبوط فكذا مراتب الظن غير مضبوطة فلهذا قيل أنه عبارة عن ترجيح أحد طرفي المعتقد في القلب على الآخر مع تجويز الطرف الآخر ثم إن الظن المتناهي في القوة قد يطلق عليه اسم العلم فلا جرم قد يطلق أيضا على العلم اسم الظن كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) * (البقرة: 46) قالوا: إنما أطلق لفظ الظن على العلم ههنا لوجهين: أحدهما: التنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالإضافة إلى علمه في الآخرة كالظن في جنب العلم. والثاني: أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى: * (الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) * (الحجرات: 15) واعلم أن الظن إن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال هذا العلم. وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم كقوله تعالى: * (إن الظن لا يغني عن الحق شيئا) * (النجم: 28) وقوله: * (إن بعض الظن إثم) * (الحجرات: 12) الثاني والعشرون: الخيال. وهو عبارة من الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته. ومنه الطيف الوارد من صورة المحبوب خيالا والخيال قد يقال لتلك الصورة في المنام وفي اليقظة، والطيف لا يقال إلا فيما كان في حال النوم. الثالث والعشرون: البديهة وهي المعرفة الحاصلة ابتداء في النفس لا بسبب الفكر كعلمك بأن الواحد نصف الاثنين. الرابع والعشرون: الأوليات وهي البديهيات بعينها والسبب في هذه التسمية أن الذهن يلحق محمول القضية بموضوعها أولا لا بتوسط شيء آخر فأما الذي يكون بتوسط شيء آخر. فذاك المتوسط هو المحمول أولا
207

الخامس والعشرون: الروية، وهي ما كان من المعرفة بعد فكر كثير، وهي من روى، السادس والعشرون: الكياسة. وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ". من حيث إنه لا خير يصل إليه الإنسان أفضل مما بعد الموت. السابع والعشرون: الخبرة، وهي معرفة يتوصل إليها بطريق التجربة، يقال خبرته قال أبو الدرداء: وجدت الناس أخبر تقله. وقيل هو من قولهم: ناقة خبرة. أي غزيرة اللبن، فكان الخبر هو غزارة المعرفة. ويجوز أن يكون قولهم ناقة خبرة: هي المخبر عنها بغزارتها. الثامن والعشرون: الرأي، وهو إحاطة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب، وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي، والرأي للفكر كالآلة للصانع، ولهذا قيل: إياك والرأي الفطير، وقيل: دع الرأي تصب. التاسع والعشرون: الفراسة وهي الاستدلال بالحق الظاهر على الخلق الباطن، وقد نبه الله تعالى على صدق هذا الطريق بقوله تعالى: * (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) * (الحجر: 75) وقوله تعالى: * (تعرفهم بسيماهم) * (البقرة: 273) وقوله تعالى: * (ولتعرفنهم في لحن القول) * (محمد: 30) واشتقاقها من قولهم: فرس السبع الشاة، فكأن الفراسة اختلاس المعارف، وذلك ضربان: ضرب يحصل للإنسان عن خاطره ولا يعرف له سبب، وذلك ضرب من الإلهام بل ضرب من الوحي، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن في أمتي لمحدثين وإن عمر لمنهم " ويسمى ذلك أيضا النفث في الروع، والضرب الثاني من الفراسة ما يكون بصناعة متعلمة وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة وقال أهل المعرفة في قوله تعالى: * (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) * (هود: 17) إن البينة هو القسم الأول وهو إشارة إلى صفاء جوهر الروح والشاهد هو القسم الثاني وهو الاستدلال بالأشكال على الأحوال.
المسألة التاسعة: قوله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * وقوله: * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) * وقوله: * (الرحمن علم القرآن) * لا يقتضي وصف الله تعالى بأنه معلم لأنه حصل في هذه اللفظة تعارف على وجه لا يجوز إطلاقه عليه وهو من يحترف بالتعليم والتلقين وكما لا يقال للمدرس معلم مطلقا حتى لو أوصى للمتعلمين لا يدخل فيه المدرس فكذا لا يقال لله إنه معلم إلا مع التقييد ولولا هذا التعارف لحسن إطلاقه عليه بل كان يجب أن لا يستعمل إلا فيه تعالى لأن المعلم هو الذي يحصل العلم في غيره ولا قدرة على ذلك لأحد إلا الله تعالى.
* (قالوا سبحانك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ إنك أنت العليم الحكيم * قال ياءادم أنبئهم
208

بأسمآئهم فلمآ أنبأهم بأسمآئهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) *.
اعلم أن الذين اعتقدوا أن الملائكة أتوا بالمعصية في قولهم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * قالوا: إنهم لما عرفوا خطأهم في هذا السؤال رجعوا وتابوا واعتذروا عن خطئهم بقولهم: * (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) * والذين أنكروا معصيتهم ذكروا في ذلك وجهين: الأول: أنهم إنما قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم بأنهم لا يعلمون ما سئلوا عنه وذلك لأنهم قالوا إنا لا نعلم إلا ما علمتنا فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه، الثاني: أن الملائكة إنما قالوا: * (أتجعل فيها) * لأن الله تعالى أعلمهم ذلك فكأنهم قالوا إنك أعلمتنا أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء فقلنا لك أتجعل فيها من يفسد فيها وأما هذه الأسماء فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فكيف نعلمها. وههنا مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بقوله تعالى: * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) * على أن المعارف مخلوقة لله تعالى وقالت المعتزلة المراد أنه لا علم لنا إلا من جهته إما بالتعليم وإما بنصب الدلالة والجواب أن التعليم عبارة عن تحصيل العلم في الغير كالتسويد فإنه عبارة عن تحصيل السواد في الغير لا يقال التعليم عبارة عن إفادة الأمر الذي يترتب عليه العلم لو حصل الشرط وانتفى المانع ولذلك يقال علمته فما تعلم والأمر الذي يترتب عليه العلم هو وضع الدليل والله تعالى قد فعل ذلك لأنا نقول المؤثر في وجود العلم ليس هو ذات الدليل بل النظر في الدليل وذلك النظر فعل العبد فلم يكن حصول ذلك العلم بتعليم الله تعالى وأنه يناقص قوله: * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) *.
المسألة الثانية: احتج أهل الإسلام بهذه الآية على أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله تعالى وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة والعرافة ونظيره قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * (الأنعام: 59) وقوله: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) * (الجن: 26، 27) وللمنجم أن يقول للمعتزلي إذا فسرت التعليم بوضع الدلائل فعندي حركات النجوم دلائل خلقها الله تعالى على أحوال هذا العالم فإذا استدللت بها على هذه كان ذلك أيضا بتعليم الله تعالى، ويمكن أن يقال أيضا إن الملائكة لما عجزوا عن معرفة الغيب فلأن يعجز عنه أحدنا كان أولى.
المسألة الثالثة: العليم من صفات المبالغة التامة في العلم، والمبالغة التامة لا تتحقق إلا عند الإحاطة بكل المعلومات، وما ذاك إلا هو سبحانه وتعالى، فلا جرم ليس العليم المطلق إلا هو، فلذلك قال إنك أنت العليم الحكيم) * على سبيل الحصر.
209

المسألة الرابعة: الحكيم يستعمل على وجهين: أحدهما: بمعنى العليم فيكون ذلك من صفات الذات، وعلى هذا التفسير نقول: إنه تعالى حكيم في الأزل. الآخر: أنه الذي يكون فاعلا لما لا اعتراض لأحد عليه. فيكون ذلك من صفات الفعل، فلا نقول إنه حكيم في الأزل والأقرب ههنا أن يكون المراد هو المعنى الثاني وإلا لزم التكرار، فكأن الملائكة قالت: أنت العالم بكل المعلومات فأمكنك تعليم آدم، وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه. وعن ابن عباس: أن مراد الملائكة من الحكيم، أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض.
المسألة الخامسة: أن الله تعالى لما أمر آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء وهو عليه الصلاة والسلام أخبرهم بها فلما أخبرهم بها قال سبحانه وتعالى لهم عند ذلك: * (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض) * والمراد من هذا الغيب أنه تعالى كان عالما بأحوال آدم عليه السلام قبل أن يخلقه وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها، وذلك يدل على بطلان مذهب هشام بن الحكم في أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها، فإن قيل الإيمان هو العلم، فقوله تعالى: * (
يؤمنون بالغيب) * يدل على أن العبد يعلم الغيب فكيف قال ههنا: * (إني أعلم غيب السماوات والأرض) * والأشعار بأن علم الغيب ليس إلا لي وأن كل من سواي فهم خالون عن علم الغيب وجوابه ما تقدم في قوله: * (الذين يؤمنون بالغيب) * أما قوله: * (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * ففيه وجوه: أحدها: ما روى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أن قوله: * (واعلم ما تبدون) * أراد به قولهم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * وقوله: * (وما كنتم تكتمون) * أراد به ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وأن لا يسجد: وثانيها: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * من الأمور الغائبة والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها ولكني لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أن المصلحة في خلقها. وثالثها: أنه تعالى لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجيبا فقالوا ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أكرم عليه منه فهذا الذي كتموا ويجوز أن يكون هذا القول سرا أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان. ورابعها: وهو قول الحكماء أن الأقسام خمسة لأن الشيء إما أن يكون خيرا محضا أو شرا محضا أو ممتزجا وعلى تقدير الامتزاج فأما أن يعتدل الأمر أن أو يكون الخير غالبا أو يكون الشر غالبا أما الخير المحض فالحكمة تقتضي إيجاده وأما الذي يكون فيه الخير غالبا فالحكمة تقتضي إيجاده لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا الفساد والقتل وهو شر قليل بالنسبة إلى ما يحصل منهم من الخيرات فقوله: * (إني أعلم غيب السماوات والأرض) * فأعرف أن خيرهم غالب على هذه الشرور فاقتضت الحكمة إيجادهم وتكوينهم. المسألة السادسة: اعلم أن في هذه الآية خوفا عظيما وفرحا عظيما أما الخوف فلأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال الضمائر فيجب أن يجتهد المرء في تصفية باطنه وأن لا يكون
210

بحيث يترك المعصية لاطلاع الخلائق عليها ولا يتركها عند اطلاع الخالق عليها والأخبار مؤكدة لذلك. أحدها: روى عدي بن حاتم أنه عليه الصلاة والسلام قال: " يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا: فنودوا ذاك أردت لكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم بالمحبة مخبتين تراءون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني أجللتم الناس ولم تجلوني تركتم المعاصي للناس ولم تتركوها لأجلي كنت أهون الناظرين عليكم فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع حرمتكم من النعيم " وثانيها: قال سليمان بن علي لحميد الطويل: عظني فقال إن كنت إذا عصيت الله خاليا ظننت أنه يراك فلقد اجترأت على أمر عظيم، وإن كنت ظننت أنه لا يراك فلقد كفرت. وثالثها: قال حاتم الأصم: طهر نفسك في ثلاثة أحوال: إذا كنت عاملا بالجوارح فاذكر نظر الله إليك. وإذا كنت قائلا فاذكر سمع الله إليك، وإذا كنت ساكتا عاملا بالضمير فاذكر علم الله بك إذ هو يقول: * (إنني معكما أسمع وأرى) * (طه: 46). ورابعها: اعلم أنه لا اطلاع لأحد على أسرار حكمة الله تعالى، فالملائكة وقع نظرهم على الفساد والقتل فاستحقروا البشر. ووقع نظرهم على طاعة إبليس فاستعظموه، أما علام الغيوب فإنه كان عالما بأنهم وإن أتوا بالفساد والقتل لكنهم سيأتون بعده بقولهم: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * (الأعراف: 23) وأن إبليس وإن أتى بالطاعات لكنه سيأتي بعدها بقوله: * (أنا خير منه) *، ومن شأن العقل أن لا يعتمد على ما يراه وأن يكون أبدا في الخوف والوجل، فقوله تعالى: * (إني أعلم غيب السماوات) * معناه أن الذي أعرف الظاهر والباطن والواقع والمتوقع وأعلم أنه ما ترونه عابدا مطيعا سيكفر ويبعد عن حضرتي، ومن ترونه فاسقا بعيدا سيقرب من خدمتي، فالخلق لا يمكنهم أن يخرجوا عن حجاب الجهل ولا يتيسر لهم أن يخرقوا أستار العجز فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه. ثم إنه سبحانه حقق من علم الغيب وعجز الملائكة أن أظهر من البشر كمال العبودية ومن أشد ساكني السماوات عبادة كمال الكفر لئلا يغتر أحد بعمله ويفوضوا معرفة الأشياء إلى حكمة الخالق ويزيلوا الاعتراض بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته.
* (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) *.
211

اعلم أن هذا هو النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر وهو أنه سبحانه وتعالى جعل أبانا مسجود الملائكة وذلك لأنه تعالى ذكر تخصيص آدم بالخلافة أولا ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانيا ثم بلوغه في العلم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم وذكر الآن كونه مسجودا للملائكة، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله تعالى خلقة آدم عليه السلام بدليل قوله: * (إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) * (ص: 71، 72) وظاهر هذه الآية يدل على أنه عليه السلام لما صار حيا صار مسجود الملائكة لأن الفاء في قوله: * (فقعوا) * للتعقيب وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد أن صار مسجود الملائكة.
المسألة الثانية: أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة لأن سجود العبادة لغير الله كفر والأمر لا يرد بالكفر ثم اختلفوا بعد ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: أن ذلك السجود كان لله تعالى وآدم عليه السلام كان كالقبلة ومن الناس من طعن في هذا القول من وجهين: الأول: أنه لا يقال صليت للقبلة بل يقال صليت إلى القبلة فلو كان آدم عليه السلام قبلة لذلك السجود لوجب أن
يقال اسجدوا إلى آدم فلما لم يرد الأمر هكذا بل قيل اسجدوا لآدم علمنا أن آدم عليه السلام لم يكن قبلة. الثاني: أن إبليس قال أرأيتك هذا الذي كرمت على أي أن كونه مسجودا يدل على أنه أعظم حالا من الساجد ولو كان قبلة لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة ولم يلزم أن تكون الكعبة أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم. والجواب عن الأول أنه كما لا يجوز أن يقال صليت إلى القبلة جاز أن يقال صليت للقبلة والدليل عليه القرآن والشعر، أما القرآن فقوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * (الإسراء: 78) والصلاة لله لا للدلوك. فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال صليت للقبلة مع أن الصلاة تكون لله تعالى لا للقبلة، وأما الشعر فقول حسان:
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعرف الناس بالقرآن والسنن
فقوله صلى لقبلتكم نص على المقصود. والجواب عن الثاني أن إبليس شكا تكريمه وذلك التكريم لا نسلم أنه حصل بمجرد تلك المسجودية بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر فهذا ما في القول الأول أما القول الثاني فهو أن السجدة كانت لآدم عليه السلام تعظيما له وتحية له كالسلام منهم عليه، وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك كما يحيي المسلمون بعضهم بعضا بالسلام وقال قتادة في قوله: * (وخروا له سجدا) * (يوسف: 100) كانت تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض. وعن صهيب أن معاذا لما قدم من اليمن سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا معاذ ما هذا قال: إن اليهود تسجد لعظمائها
212

وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها قلت: ما هذا قالوا: تحية الأنبياء فقال عليه السلام كذبوا على أنبيائهم وعن الثوري عن سماك بن هاني قال: دخل الجاثليق على علي بن أبي طالب فأراد أن يسجد له فقال له علي اسجد لله ولا تسجد لي. وقال عليه الصلاة والسلام لو أمرت أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها. القول الثالث: أن السجود في أصل اللغة هو الانقياد والخضوع قال الشاعر: (ترى الأكم فيها سجدا للحوافر)
أي تلك الجبال الصغار كانت مذللة لحوافر الخيل ومنه قوله تعالى: * (والنجم والشجر يسجدان) * (الرحمن: 6) واعلم أن القول الأول ضعيف لأن المقصود من هذه القصة شرح تعظيم آدم عليه السلام، وجعله مجرد القبلة لا يفيد تعظيم حاله وأما القول الثالث فضعيف أيضا لأن السجود لا شك أنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك لأن الأصل عدم التغيير فإن قيل السجود عبادة والعبادة لغير الله لا تجوز قلنا لا نسلم أنه عبادة، بيانه أن الفعل قد يصير بالمواضعة مفيدا كالقول يبين ذلك أن قيام أحدنا للغير يفيد من الإعظام ما يفيده القول وما ذاك إلا للعبادة وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأرض وإلصاقه الجبين بها مفيدا ضربا من التعظيم وإن لم يكن ذلك عبادة وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبد الله الملائكة بذلك إظهارا لرفعته وكرامته.
(المسألة الثالثة) اختلفوا في أن إبليس هل كان من الملائكة؟ قال بعض المتكلمين ولا
سيما المعتزلة انه لمن يكن منهم وقال كثير من الفقهاء انه كان منهم واحتج الأولون بوجوه. أحدها:
انه كان من الجن فوجب ان لا يكون من الملائكة وانما قلنا انه منن الجن لقوله تعالى في
سورة الكهف (ألا إبليس كان من الجن) واعلم أن من الناس من ظن أنه لما ثبت أنه كان من
الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لان الجن الجنس مخالف لملك وهذا للملك وهذا ضعيف أنه كان من
مأخوذ من الاجتنان وهو السر ولهذا سمى الجنين جنينا لاجتنانه ومنه الجنة لكونها ساترة والجنة
لكونها مستترة بالأغصان ومنه الجنون لاستتار العقل فيه، ولما ثبت هذا والملائكة مستورون
عن العيون وجب اطلاق لفظ الجن عليهم بحسب اللغة فثبت أن هذا القدر لا يفيد المقصود فنقول
لما ثبت أن إبليس كان من الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لقوله تعالى (ويوم نحشرهم
جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا
يعبدون الجن) وهذه الآية صريحة في الفرق بين الجن الملك. فان قيل لا نسلم أنه كان من الجن
أما قوله تعالى (كان من الجن) فلم لا يجوز أن يكون المراد كان من الجنة على ما روى عن ابن
مسعود أنه قال كان من الجن أي كان خازن الجنة؟ سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون قوله
من الجن أي صار من الجن كما أن قوله وكان من الكافرين أي صار من الكافرين سلمنا أن ما ذكرت

(1) ثبت أن معاذ رضي الله عنه حين بعثه النبي إلى اليمن لم يرجع منها إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
213

يدل على أنه من الجن فلم قلت إن كونه من الجن ينافي كونه من الملائكة وما ذكرتم من الآية
معارض بآية أخرى وهي قوله تعالى (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) وذلك لان قريشا قالت:
الملائكة بنات الله فهذه الآية تدل على أن الملك يسمى جنا؟ والجواب: لا يجوز أن يكون
المراد من قوله (كان من الجن) أنه كان خازن الجنة لان قوله إلا إبليس كان من الجن يشعر
بتعليل تركه للسجود لكونه جنيا ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازنا للجنة فيبطل ذلك
قوله كان من الجن أي صار من الجن. قلنا هذا خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا عند الضرورة
وأما قوله تعالى (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) قلنا يحتمل أن بعض الكفار أثبت ذلك النسب
في الجن كما أثبته في الملائكة وأيضا فقد بينا أن الملك يسى جنا بحسب أصل اللغة لكن فقط
الجن بحسب العرف اختص بغيرهم كما أن لفظ الدابة وإن كان بحسب اللغة الأصلية يتناول كل
ما يدب لكنه بحسب العرف اختص ببعض ما يدب فتحمل هذه الآية على اللغة الأصلية، والآية
التي ذكرناها على العرف الحارث. وثانيها: أن إبليس له ذرية والملائكة لا ذرية لهم، إنما
قلنا إن إبليس له ذرية لقوله تعالى في صفته (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) وهذا صريح
في إثبات الذرية له، وانما قلنا ان الملائكة لا ذرية لهم لان الذرية انما تحصل من الذكر والأنثى
والملائكة لا أنثى فيهم لقوله تعالى (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا
خلقهم ستكتب شهادتهم) أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة فإذا انتفت الأنوثة انتفى التوالد
لا محالة فانتفت الذرية، وثالثها: أن الملائكة معصومون على ما تقدم بيانه وإبليس لم يكن كذلك
فوجب أن لا يكون من الملائكة. ورابعها: أن إبليس مخلوق من النار والملائكة ليسوا كذلك
إنما قلنا أن إبليس مخلوق من النار لقوله تعالى حكاية عن إبليس (خلقتني من نار) وأيضا فلأنه
كان من الجن لقوله تعالى (كان من الجن) والجن مخلوقون من النار لقوله تعالى (الجان
خلقناه من قبل من نار السموم) وقال (خلق الانسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من
مارج من نار) وأما أن الملائكة ليسوا مخلوقين من النار بل من النور. فلما روى الزهري عن
عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج عن
نار، ولان من المشهور الذي لا يدفع أن الملائكة روحانيون، وقيل إنما سمعوا بذلك، لانهم خلقوا
من الريح أو الروح. وخامسها: أن الملائكة رسل لقوله تعالى (جاعل الملائكة رسلا)
ورسل الله معصومون، لقوله تعالى (الله أعلم حيث يجعل رسالته) فلما لم يكن إبليس كذلك
وجب أن لا يكون من الملائكة واحتج القائلون بكونه من الملائكة بأمرين: الأول: أن الله
تعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل أو لصح دخوله، وذلك يوجب
كونه من الملائكة لا يقال: الاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب، قال تعالى (وإذ قال
إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) وقال تعالى (لا يسمعون فيها
214

لغوا ولا تأثيما الا قيلا سلاما سلاما) وقال تعالى (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن
تكون تجارة عن تراض) وقال تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطا) وأيضا فلأنه
كان جنيا واحدا بين الألوف من الملائكة، فغلبوا عليه في قوله (فسجدوا) ثم استثنى هو منهم
استثناء واحد منهم، لأنا نقول: كل واحد من هذين الوجهين على خلاف الأصل، فلذلك إنما
يصار إليه عند الضرورة، والدلائل التي ذكرتموها في نفى كونه من الملائكة، ليس فيها إلا الاعتماد
على العمومات، فلو جلعناه من الملائكة لزم تخصيص ما عولتم عليه من العمومات، ولو قلنا إنه
ليس من الملائكة. لزمنا حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع، ومعلوم أن تخصيص العمومات
أكثر في كتاب الله تعالى من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع فكان أولى. وأيضا
فالاستثناء مشتق من الثنى والصرف ومعنى الصرف انما يتحقق حيث لولا الصرف لدخل والشيء
لا يدخل في غير جنسه فيمتنع تحقق معنى الاستثناء فيه، وأما قوله إنه جنى واحد بين الملائكة
فنقول إنما يحرز اجزاء حكم الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه
وأما إذا كان معظم الحديث لا يكون إلا عن ذلك الواحد لم يجز اجراء حكم غيره عليه (الحجة الثانية)
قالوا لم يكن إبليس من الملائكة لما كان قوله (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) متناولا له،
ولو لم يكن متناولا له لاستحال أن يكون تركه للسجود إباء واستكبارا ومعصية ولم اسحق
الذم والعقاب، وحيث حصلت هذه الأمور علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ولا يتناوله ذلك الخطاب
إلا إذا كان من الملائكة، لا يقال إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه نشأ معهم وطالت مخالطته
بهم والتصق بهم، فلا جرم يتناوله ذلك الخطاب وأيضا فلم لا يجوز أن يقال: إنه وإن لم يدخل في
هذا الامر، ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله (ما منعك أن
لا تسجد إذ أمرتك) لأنا نقول: أما الأول فجوابه أن المخالطة لا توجب ما ذكرتموه، ولهذا قلنا في
أصول الفقه إن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شده المخالطة بين الصنفين، وأيضا
فشده المخالطة بين الملائكة، وأما الثاني فجوابه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلما ذكر
قوله أبى واستكبر عقيب قوله (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) أشعر هذا التعقيب بأن هذا
الاباء إنما حصل بسبب مخالفة هذا الامر لا بسبب مخالفة أمر آخر فهذا ما عندي في الجانبين والله
أعلم بحقائق الأمور
(المسألة الرابعة) اعلم أن جماعة من أصحابنا يحتجون بأمر الله تعالى للملائكة بسجود آدم عليه
السلام على آدم أفضل من الملائكة فرأينا أن نذكر ههنا هذه المسألة فنقول: قال أكثر أهل
السنة: الأنبياء أفضل من الملائكة وقالت المعتزلة بل الملائكة أفضل من الأنبياء. وهو قول جمهور
الشيعة) وهذا القول اختيار القاضي أبى بكر الباقلاني من المتكلمين منا وأبى عبد الله الحليمي من
215

فقهائنا ونحن نذكر محصل الكلام من الجانبين: أما القائلون بأن الملائكة أفضل من البشر فقد
احتجوا بأمور. أحدها: قوله تعالى (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) إلى قوله (يسبحون
الليل والنهار لا يفترون) والاستدلال بهذه الآية من وجهين. الأول: أنه ليس المراد من هذه
العندية عندية المكان والجهة فان ذلك محال على الله تعالى بل عندية القرب والشرف ولما كانت
هذه الآية واردة في صفة الملائكة علمنا أن هذا النوع من القربة والشرف حاصل لهم لا لغيرهم
ولقائل أن يقول إنه تعالى أثبت هذه العندية في الآخرة لآحاد المؤمنين وهو قوله (في مقعد
صدق عند مليك مقتدر) وأما في الدنيا فقال عليه الصلاة والسلام حاكيا عند سبحانه أنا عند
المنكسرة قلوبهم لأجلي) وهذا أكثر إشعار بالتعظيم لان هذا الحديث يدل على أنه سبحانه
عند هؤلاء المنكسرة قلوبهم وما احتجوا به من الآية يدل على أن الملائكة عند الله تعالى، ولا
شك أن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم، من كون العبد عند الله تعالى. الوجه الثاني:
في الاستدلال بالآية: أن الله تعالى احتج بعدم استكبارهم على أن غيرهم وجب أن لا يستكبروا
ولو كان البشر أفضل منهم لما تم هذا الاحتجاج، فان السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته
وجوب طاعتهم له يقول: الملوك لا يستكبرون عن طاعتي، فمن هؤلاء المساكين حتى يتمردوا
عن طاعتي وبالجملة فمعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بالأقوى على الأضعف. ولقائل أن
يقول: لا نزاع في أن الملائكة أشد قوة وقدرة من البشر، ويكفي في صحة الاستدلال هذا القدر
من التفاوت، فإنه تعالى يقول إن الملائكة مع شده قوتهم واستيلائهم على أجرام السماوات
والأرض وأمنهم من الهرم والمرض وطول أعمارهم، لا يتركون العبودية لحظة واحدة، والبشر
مع نهاية ضعفهم ووقوعهم في أسرع الأحوال في المرض والهرم وأنواع الآفات، أولى أن
لا يتمردوا فهذا القدر من التفاوت كاف في صحة هذا الاستدلال، ولا نزاع في حصول التفاوت
في هذه المعنى، إنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب، فلم قلتم إن هذا الاستدلال لا يصح
إلا إذا كان الملك أكثر ثوابا من البشر، ولابد فيه من دليل؟ مع أن المتبادر إلى الفهم هو الذي
ذكرناه. وثانيها: أنهم قالوا عبادات الملائكة أشق من عبادات البشر، فتكون أكثر ثوابا
من عبادات البشر، وإنما قلنا إنها أشق لوجوه. أحدها: أن ميلهم إلى التمرد أشد فتكون طاعتهم
أشفق، وانما قلنا إن ميلهم إلى التمرد أشد، لان العبد السليم من الآفات، المستغنى عن طلب الحاجات،
يكون أميل إلى النعم والالتذاذ منا لمغمور في الحاجات، فإنه يكون كالمضطرب في الرجوع إلي
عبادة مولاه والالتجاء إليه، ولهذا قال تعالى (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين،
فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) ومعلوم أن الملائكة سكان السماوات وهي جنات وبساتين
ومواضع التنزه والراحة وهم آمنون من المرض والفقر ثم إنهم مع استكمال أسباب التنعم لهم أبدا
مذ خلقوا مشتغلون بالعبادة خاشعون وجلون مشفقون كأنهم مسجونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنان
216

واللذات بل هم مقبلون على الطاعات الشاقة موصوفون الخوف الشديد والفزع العظيم وكأنه
لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوما واحدا فضلا عن تلك الاعصار المتطاولة ويؤكده
قصة آدم عليه السلام، فإنه أطلق له في جميع مواضع الجنة بقوله (وكلا منها رغدا حيث شئتما)
ثم منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه حتى وقع في الشر، وذلك يدل على أن طاعتهم أشق من
طاعات البشر، وثانيها: أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من بستان إلى
بستان، أما الإقامة على نوح واحد فإنها تورث المشقة والملالة ولهذا السبب جعلت التصانيف
مقسومة بالأبواب والفصول، وجعل كتاب الله مقسوما بالسور والأحزاب والأعشار
والأخماس، ثم إن الملائكة كل واحد منهم مواظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره على
ما قاله سبحانه (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) وقال (وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن
المسبحون) وإذا كان كذلك كانت عبادتهم في نهاية المشقة، إذا ثبت ذلك وجب أن تكون
عباداتهم أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام أفضل الأعمال أحمزها أي أشقها، وقوله لعائشة
تحمله المشاق لأجل رضاه مولاه أكثر كان أحق بالتعظيم والتقديم. ولقائل أن يقول على
الوجهين: هب أن مشقتهم أكثر فلم قلتم يجب أن يكون ثوابهم أكثر؟ وذلك لأنا نرى بعض
الصوفية في زماننا هذا يتحملون في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم
ما كان يتحمل بعض ذلك ثم إنا نقطع با، النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه ومن أمثاله، بل يحكى عن عباد
الهند وزهادهم ورهبانهم أنهم يتحملون من المتاعب في التواضع لله تعالى ما لم يحك مثله عن أحد
من الأنبياء والأولياء مع أنا نقطع بكفرهم، فعلمنا أن كثرة المشقة في العبادة لا تقتضي زيادة
الثواب. وتحقيقه هو أن كثرة الثواب لا تحصل إلا بناء على الدواعي والقصود، فلعل الفعل
الواحد يأتي به مكلفان على السواء فيما يتعلق بالافعال الظاهرة ويستحق أحدهما به ثوابا عظيما
والآخر لا يستحق به إلا ثوابا قليلا، لما أن إخلاص أحدهما أشد وأكثر من إخلاص الثاني،
فإذن كثرة العبادات ومشقتها لا تقتضي التفاوت في الفضل ثم نقول: لا نسلم أن عبادات الملائكة
أشق، أما قوله في الوجه الأول: السماوات كالبساتين النزهة قلنا مسلم ولكن لم قلتم بأن الاتيان بالعبادة
في المواضع الطيبة أشق من الاتيان بها في المواضع الرديئة؟ أكثر ما في الباب أن يقال: إنه قد يهيأ
له أسباب التنعم فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعة على البشر
ثم إنهم مع اجتماعها عليهم يرضون بقضاء الله ولا تغيرهم تلك المحن والآفات عن الخشوع له والمواظبة
على عبوديته، وذلك أدخل في العبودية وذلك أن الخدم والعبيد تطيب قلوبهم بالخدمة حال ما يجدون
من النعم والرفاهية ولا يصير أحد منهم حال المشقة على الخدمة إلا من كان في نهاية الاخلاص فما ذكروه
بالعكس أولى، أما قوله، والمواظبة على نوح واحد من العبادة شاق، قلنا هذا معارض بوجه آخر
217

وهو أنهم لما اعتادوا نوعا واحدا من العبادة صاروا كالمجبورين على الشئ الذي لا يقدرون على خلافه
على ما قيل: العادة طبيعة خامسة، فيكون ذلك النوع في نهاية السهولة عليهم، ولذلك فان النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن الوصال في الصوم وقال (أفضل الصوم صوم داود عليه السلام) وهو أن يصوم يوما
ويفطر يوما. وثالثها: قالوا عبادات الملائكة أدوم فكانت أفضل بيان أنها أدوم قوله سبحانه وتعالى
(يسبحون الليل والنهار لا يفترون) وعلى هذا لو كانت أعمارهم مساوية لأعمار البشر لكانت طاعاتهم
أدوم وأكثر فكيف ولا نسبة لعمر لكل البشر إلى عمر الملائكة على ما تقدم بيانه في باب صفاته الملائكة
وعلى هذه الآية سؤال: روى في شعب الايمان عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: قلت لكعب
أرأيت قول الله تعالى (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) ثم قال (جاعل الملائكة والناس أجمعين)
فكيف يكونن مشتغلين باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح؟ أجاب كعب الاخبار فقال: التسبيح
لهم كالتنفس لنا فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم
من سائر الأعمال. وأقول: لقائل أن يقول الاشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام لان
آلة التنفس غير آلة الكلام أما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام فاجتماعهما في الآية الواحدة
محال. والجواب الأول، أي استبعاد في أن يخلق الله تعالى لهم ألسنة كثيرة يسبحون الله تعالى
ببعضها ويلعنون أعداء الله تعالى بالبعض الآخر. والجواب الثاني: اللعن هو الطرد والتبعيد،
والتسبيح هو الخوص في ثناء الله تعالى ولا شك أن ثناء الله يستلزم تبعيد من اعتقد في الله مالا
ينبغي فكان ذلك اللعن من لوازمه. والجواب الثالث، قوله (لا يفترون) معناه أنهم لا يفترون
عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال إن فلانا مواظب على الجماعات لا يفتر عنها لا يراد
به أنه أبدا مشتغل بها بل يراد به أنه مواظب على العزم أبدا على أدائها في أوقاتها وإذا ثبت أن
عباداتهم أدوم وجب أن تكون أفضل. أما أولا فلان الأدوم أشق فيكون أفضل على ما سبق
تقريره في الحجة الثانية. وأما ثانيا: فلقوله عليه السلام أفضل العباد من طال عمره وحسن عمله
والملائكة صلوات الله عليهم أطول العباد أعمارا وأحسنهم أعمالا فوجب أن يكونوا أفضل
العباد لأنه عليه السلام قال الشيخ في قومه كالنبي في أمته وهذا يقتضى أن يكونوا في البشر
كالنبي في الأمة وذلك يوجب فضلهم على البشر. ولقائل أن يقول إن نوحا عليه السلام وكذا
لقمان وكذا الخضر كانوا أطول عمرا من محمد صلى الله عليه وسلم فوجب أن يكونوا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم
وذلك
باطل بالاتفاق فبطل ما قالوه وقد نجد في الأمة من هو أطول عمرا وأشد اجتهادا من النبي صلى
الله عليه وسلم وهو منه أبعد في الدرجة من العرش إلى ما تحت الثرى. والتحقيق فيه ما بينا أن
كثرة الثواب إنما تحصل لأمر يرجع إلى الدواعي والقصود فيجوز أن تكون الطاعة القليلة تقع
من الانسان على وجه يستحق بها ثوابا كثيرا والطاعات الكثيرة تقع على وجه لا يستحق بها
218

إلا ثوابا قليلا. ورابعها: أنهم أسبق السابقين في كل العبادات، لا خصلة من خصال الدين
إلا وهم أئمة مقدمون فيها بل هم المنشئون العامرون لطريق الدين والسبق في العبادة جهة تفضيل
وتعظيم. أما أولا فبالاجماع. وأما ثانيا فلقوله تعالى (والسابقون السابقون أولئك المقربون)
وأما ثالثا فلقوله عليه السلام من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة
فهذا يقتضى أن يكون قد حصل الملائكة من الثواب كل ما حصل الأنبياء مع زيادة الثواب التي
استحقوها بأفعالهم التي أتوا بها قبل خلق البشر. ولقائل أن يقول، فهذا يقتضى أن يكون آدم
عليه السلام أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم لان أول من سن عبادة الله تعالى من البشر وأول من سن دعوة
الكفار إلى الله تعالى ولما كان ذلك باطلا بالاجماع بطل ما ذكروه والتحقيق فيه ما قدمناه أن
كثرة الثواب تكون بأمر يرجع إلى النية فيجوز أن تكون نية المتأخر أصفى فيستحق من الثواب
أكثر ما يستحقه المتقدم. وخامسها: أن الملائكة رسل الأنبياء والرسول أفضل من الأمة
فالملائكة أفضل من الأنبياء. أما أن الملائكة رسل إلى الأنبياء فلقوله تعالى (علمه شديد القوى
وقوله (نزل به الروح الأمين على قلبك) وأما أن الرسول أفضل من الأمة فبالقياس على أن الأنبياء
من البشر أفضل من أممه فكذا ههنا. فان قيل: العرف أن السلطان إذا أرسل واحدا إلى جمع
عظيم ليكون حاكما فيهم ومتوليا لأمورهم فذلك الرسول يكون أشرف من ذلك الجمع، أما إذا
أرسل واحدا إلى واحد فقد لا يكون الرسول أشرف من المرسل إليه كما إذا أرسل واحدا من
عبيدة إلى وزيره في مهم فإنه لا يلزم أن يكون ذلك العبد أشرف من الوزير. قلنا، لكن جبريل
عليه السلام مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر فلزم على هذا القانون الذي ذكره السائل
أن يكون جبريل عليه السلام أفضل منهم. واعلم أن هذه الحجة يمكن تقريرها على وجه آخر
وهو أن الملائكة رسل لقوله تعالى (جاعل الملائكة رسلا) ثم لا يخلوا الحال من أحد أمرين اما
أن يكون الملك رسولا إلى ملك آخرا إلى واحد من الأنبياء الذين هم من البشر وعلى التقديرين
فالملك رسول وأمته رسل وأما الرسول البشرى فهو رسول لكن أمته ليسوا برسل والرسول الذي
كل أمته رسل أفضل من الرسول الذي لا يكون كذلك فثبت فضل الملك على البشر من هذه الجهة
ولان إبراهيم عليه السلام كان رسولا إلى لوط عليه السلام فكان أفضل منه وموسى عليه السلام
كان رسولا إلى الأنبياء الذين كانوا في عسكره وكان أفضل منهم فكذا ههنا. ولقائل أن يقول
الملك إذا أرسل رسولا إلى بعض النواحي قد يكون ذلك لأنه جعل ذلك الرسول حاكما عليهم
ومتوليا لأمورهم ومتصرفا في أحوالهم وقد لا يكون لأنه يبعثه إليهم ليخبرهم عن بعض الأمور
مع أنه لا يجعله حاكما عليهم ومتوليا لأمورهم فالرسول في القسم من المرسل الأول يجب أن يكون أفضل من
المرسل إليه أما في القسم الثاني فظاهر أنه لا يجب ان يكون أفضل من المرسل إليه فالأنبياء المبعوثون
إلى أممهم من القسم الأول فلا جرم كانوا أفضل من الأمم فلم قلتم إن بعثة الملائكة إلى الأنبياء من
219

القسم الأول حتى يلزم أن يكونوا أفضل من الأنبياء، وسادسها أن الملائكة أتقى من البشر فوجب
أن يكونوا أفضل من البشر أما أنهم أتقى فلأنهم مبرؤون عن الزلات وعن الميل إليها لان خوفهم
دائم وإشفاق ينافيان العزم على العصية وأما الأنبياء عليهم السلام فهم مع أنهم أفضل البشر ما خلا
كل واحد منهم عن نوع زلة وقال عليه الصلاة والسلام ما منا من أحد إلا عصى أوهم بمعصية غير يحيى
ابن زكريا عليهما السلام فثبت أن تقوى الملائكة أشد فوجب أن يكونوا أفضل من البشر لقوله
تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فان قيل: إن قوله (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) خطاب مع
الآدميين فلا يتناول الملائكة وأيضا فالتقوى مشتق من الوقاية ولا شهوة في حق الملائكة فيستحيل
تحقق التقوى في حقهم. والجواب عن الأول: أن ترتيب الكرامة أكثر. وعن الثاني: لا نسلم عدم الشهوة
معللة بالتقوى فحيث كانت التقوى أكثر كانت الكرامة أكثر. وعن الثاني: لا نسلم عدم الشهوة
في حقهم لكن لا شهوة لهم إلى الاكل والمباشرة ولكن لا يلزم من عدم شهوة معينة عدم مطلق
الشهوة بل لهم شهوة التقدم والترفع ولهذا قالوا (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن
نسبح بحمدك ونقدس لك) وقال تعالى (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم)
ولقائل أن يقول الحديث الذي ذكرتم يدل على أن يحيى عليه السلام كان أتقى من سائر الأنبياء
فوجب أن يكون أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم وذلك باطل بالاجماع فعلمنا أن لا يلزم من زيادة التقوى
زيادة الفضل وتحقيقه ما قدمنا أن من المحتمل أن يكون إنسان لم تصدر عنه المعصية قط وصدر
عنه من الطاعات ما استحق به مائة جزء من الثواب وإنسان آخر صدرت عنه معصية ثم أتى بطاعة
استحق بها ألف جزء من الثواب فيقابل مائة جزء من الثواب بمائة جزء من العقاب فيبقى له تسعمائة
جزء من الثواب فهذا الانسان مع صدور المعصية منه يكون أفضل من الانسان الذي لم تصدر
المعصية عنه قط وأيضا فلا نسلم أن تقوى الملائكة أشد وذلك لان التقوى اشتق من الوقاية
والمقتضى للمعصية في حق بني آدم أكثر فكان تقوى المتقين منهم أكثر، قوله ان الملائكة لهم
شهوة الرياسة قلنا هذا لا يضرنا وذلك لان هذه الشهوة حاصلة للبشر أيضا وقد حصلت لهم أنواع
أخر من الشهوات وهي شهوة البطن والفرج وإذا كان كذلك كانت الشهوات الصارفة عن الطاعات
أكثر في بني آدم فوجب أن تكون تقوى المتقين منهم أشد. وسابعها: قوله تعالى (لن يستنكف
المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) وجه الاستدلال أن قوله تعالى (ولا الملائكة
المقربون) خرج مخرج التأكيد للأول ومثل هذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل يقال هذه
الخشبة لا يقدر على حملها العشرة ولا المائة ولا يقال لا يقدر على حملها العشرة ولا الواحد ويقال
هذا العالم لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا الملك ولا يقال لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا
البواب. ولقائل أن يقول هذه الآية إن دلت فإنما تدل على فضل الملائكة المقربين على المسيح
220

لكن لا يلزم منه فضل الملائكة المقربين على من هو أفضل من المسيح وهو محمد وموسى وإبراهيم
عليهم الصلاة والسلام وبالجملة فلو ثبت لهم أن المسيح أفضل من كل الأنبياء كان مقصودهم حاصلا
فأما إذا لم يقيموا الدلالة على ذلك فلا يحصل مقصودهم لا سيما وقد أجمع المسلمون قطع بفضل المسيح
على موسى وإبراهيم عليهما السلام ثم نقول قوله ولا الملائكة المقربون ليس فيه إلا واو العطف
والواو للجمع المطلق فيدل على أن المسيح لا يستنكف والملائكة لا يستنكفون فاما أن يدل على
أن الملائكة أفضل من المسيح فلا، وأما الأمثلة التي ذكروها فنقول المثال لا يكفي في إثبات الدعوى
الكلية ثم إن ذلك المثال معارض بأمثلة أخرى وهو قوله ما أعانني على هذا الامر زيد ولا عمرو
فهذا لا يفيد كون عمرو أفضل من زيد وكذا قوله تعالى (ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت
الحرام) ولما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها ثم التحقيق أنه إذا قال هذه الخشبة لا يقدر على
حملها الواحد ولا العشرة فنحن نعلم بعقولنا أن العشرة أقوى من الواحد فلا جرم عرفنا أن الغرض
من ذكر الثاني المبالغة فهذه المبالغة إنما عرفناها بهذا الطريق لا من مجرد اللفظ فههنا في الآية إنما
يمكننا أن نعرف أن المراد من قوله (ولا الملائكة المقربون) بيان المبالغة لو عرفنا قبل ذلك أن
الملائكة المقربين أفضل من المسيح وحينئذ تتوقف صحة الاستدلال بهذه الآية على ثبوت المطلوب
قبل هذا الدليل ويتوقف ثبوت المطلوب على دلالة هذه الآية عليه فليزم الدور وأنه باطل سلمنا
أن يفيد التفاوت لكنه لا يفيد التفاوت في كل الدرجات بل في بعض دون آخر بيانه أنه إذا قيل
هذا العالم لا يستنكف عن خدمته القاضي ولا السلطان فهذا لا يفيد إلا أن السلطان أكمل من
القاضي في بعض الأمور وهو القدرة والقوة والاستيلاء والسلطان ولا يدل على كونه أفضل من
القاضي في العلم والزهد والخضوع لله تعالى إذا ثبت هذا فنحن نقول بموجبه وذلك لان الملك أفضل
من البشر في القدرة والبطش فان جبريل عليه السلام قلع مدائن لوط والبشر لا يقدرون على شئ
من ذلك فلم قلتم إن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب الحاصل بسبب مزيد الخضوع والعبودية
وتمام التحقيق فيه أن الفضل المختلف فيه في هذه المسألة هو كثرة الثواب وكثرة الثواب لا تحصل
إلا بالعبودية والعبودية عبارة عن نهاية التواضع والخضوع وكون العبد موصوفا بنهاية التواضع لله
تعالى لا يناسب الاستنكاف عن عبودية الله ولا يلائمها البتة بل يناقضها وينافيها وإذا كان هذا الكلام
ظاهرا جليا كان حمل كلام الله تعالى عليه مخرجا له عن الفائدة، أما اتصاف الشخص بالقدرة
الشديد والاستيلاء العظيم فإنه مناسب للتمرد وترك العبودية فالنصارى لما شاهدوا من المسيح
عليه السلام إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أخرجوه عن العبودية بسبب هذا القدر من
القدرة فقال الله تعالى إن عيسى لا يستنكف بسبب هذا القدر من القدرة عن عبوديتي بل
ولا الملائكة المقربون الذين هم فوقه في القدرة والقوة والبطش والاستيلاء على عوالم السماوات
221

والأرضين وعلى هذا الوجه ينتظم وجه دلالة الآية على أن الملك أفضل من البشر في الشدة والبطش
لكنها لا تدل البتة على أنه أفضل من البشر في كثرة الثواب أو يقال إنهم إنما ادعوا إلهيته لأنه
حصل من غير أب فقيل لهم الملك ما حصل من أب ولا من أم يقال إنهم إنما ادعوا إلهيته لأنه
مع أنهم لا يستنكفون عن العبودية. فان قيل في الآية ما تدل على أن المراد وقوع التفاوت بين
المسيح والملائكة في العبودية لا في القدرة والقوة والبطش وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم
مقربين والقرب من الله تعالى لا يكون بالمكان والجهة بل الدرجة والمنزلة وصفهم ههنا
بكونهم مقربين علمنا أن المراد وقوع التفاوت بينهم وبين المسيح في درجات الفضل لا في الشدة
والبطش. قلنا إن كان مقصودك من هذا السؤال أنه تعالى وصف الملائكة بكونهم مقربين فوجب
أن لا يكون المسيح كذلك فهذا باطل لان تخصيص الشئ بالذكر لا يدل على نفسه عما عداه
وإن كان مقصود أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مقربين وجب أن يكون التفاوت واقعا في ذلك
فهذا باطل أيضا لاحتمال أن يكون المسيح والمقربون مع اشتراكهم في صفة القرب في الطاعة
يتباينون بأمور أخر فيكون المراد بيان التفاوت في تلك الأمور. سؤال آخر: وهو أنا نقول
بموجب الآية فنسلم أن عيسى عليه السلام دون مجموع الملائكة في الفضل فلم قلتم إنه دون كل
واحد من الملائكة في الفضل. سؤال آخر: لعله تعالى إنما ذكر هذا الخطاب مع أقوام
اعتقدوا أن الملك أفضل من البشر فأورد الكلام على حسب معتقدهم كما في قوله (وهو أهون
عليه). وثامنها: قوله تعالى حكاية عن إبليس) مانها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا
ملكين أو تكونا من الخالدين) ولو لم يكن متقررا عند آدم وحواء عليهما السلام يغتران
أفضل من البشر لم يقدر إبليس على أن يغرهما بذلك ولا كان آدم وحواء عليهما السلام يغتران
بذلك. ولقائل أن يقول هذا قول إبليس فلا يكون حجة، ولا يقال إن آدم اعتقد صحة ذلك
وإلا لما اغتر، واعتقاد آدم حجة لأنا نقول: لعل آدم عليه السلام أخطأ في ذلك إما لان
الزلة جائزة على الأنبياء أو لأنه ما كان نبيا في ذلك الوقت، وأيضا هب أنه حجة لكن آدم عليه
السلام لم يكن قبل الزلة نبيا فلم يلزم من فضل الملك عليه في ذلك الوقت فضل الملك عليه حال
ما صار نبيا، وأيضا هب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من البشر في بعض الأمور المرغوبة
فلم قلت: إنها تدل على فضل الملك على البشر في باب الثواب؟ وذلك لأنه لا نزاع أن الملك
أفضل من البشر في باب القدرة والقوة، وفى باب الحسن والجمال، وفى باب الصفاء والنقاء عن
الكدورات الحاصلة بسبب التركيبات فان الملائكة خلقوا من الأنوار، وآدم مخلوق من
التراب فلعل آدم عليه السلام وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلا إن رغب في أن يكون
مساويا لهم في تلك الأمور التي عددناها فكان التعزير حاصلا من هذا الوجه، وأيضا فقوله (إلا
أن تكونا ملكين) يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فحينئذ يصح استدلالكم ويحتمل
222

أن يكون المراد أن النهى مخص بالملائكة والخالدين دونكما، هذا كما يقول أحدنا لغيره ما نهيت
أنت عن كذا إلا أن تكون فلانا ويكون المعنى أن النهى هو فلان دونك ولم يرد إلا أن ينقلب
فيصير فلانا، ولما كان غرض إبليس إيقاع الشبهة بهما فمن أوكد الشبهة إبهام أنهما لم ينهيا وإنما
المنهي غيرهما، وأيضا فهب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من آدم فلم قلت إنها تدل على أن
الملك أفضل من محمد؟ وذلك لان المسلمين أجمعوا على أن محمدا أفضل من آدم عليهما السلام
ولا يلزم من كون الملك أفضل من المفضول كونه أفضل من الأفضل، وتاسعها: قوله تعالى
(قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك). ولقائل أن
يقول يحتمل أن يكون المراد ولا أقول لكم إني ملك في كثرة العلوم وشدة القدرة والذي يدل
على صحة هذا الاحتمال وجوه. الأول: وهو أن الكفار طالبوه بالأمور العظيمة نحو صعود
السماء ونقل الجبال وإحضار الأموال العظيمة وهذه الأمور لا يمكن تحصيلها إلا بالعلوم الكثيرة
والقدرة الشديدة. الثاني: أن قوله (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) هذا يدل على اعترافه
بأنه غير قادر على كل المقدورات وقوله (ولا أعلم الغيب) يدل على اعترافه بأنه غير عالم بكل
المعلومات ثم قوله (ولا أقول لكم إني ملك) معناه والله أعلم وكما لا أدعى القدرة على كل
المقدورات والعلم بكل المعلومات فكذلك لا أدعى قدرة مثل قدرة الملك ولا علما مثل علومهم
الثالث: قوله (ولا أقول لكم إني ملك) لم يرد به نفى الصورة لأنه لا يفيد الغرض وإنما نفى
أن يكون له مثل ما لهم من الصفات وهذا يكفي في صدقه أن لا يكون له مثل ما لهم ولا تكون
صفاته مساوية لصفاتهم من كل الوجوه ولا دلالة فيه على وقوع التفاوت في كل الصفات فان
عدم الاستواء في الكل غير، وحصول الاختلاف في الكل غير. وعاشرها: قوله تعالى (ما هذا
بشرا إن هذا إلا ملك كريم). فان قيل لم لا يجوز أن يكون المراد وقوع التشبيه في الصورة
والجمال. قلنا: الأولى أن يكون التشبيه واقعا في السيرة لا في الصورة لأنه قال (إن هذا
إلا ملك كريم) فشبه بالملك الكريم والملك إنما يكون كريما بسيرته المرضية لا بمجرد
صورته فثبت أن المراد تشبيه بالملك في نفى دواعي البشر من الشهوة والحرص على طلب المشهي
وإثبات ضد ذلك وهي حالة الملك وهي غض البصر وقمع النفس عن الميل إلى اختصاص الملائكة
بدرجة فائقة على درجات البشر. ولقائل أن يقول: إن قول المرأة (فذلكن الذي لمتنني فيه)
كالصريح في أن مراد النساء بقولهن (إن هذا إلا ملك كريم) تعظيم حال يوسف في الحسن
والجمال لا في السيرة، لان ظهور عذرها في شدة عشقها، إنما يحصل بسبب فرط يوسف
في الجمال لا بسبب فرط زهده وورعه. فان ذلك لا يناسب شدة عشقها له. سلمنا أن المراد تشبيه
يوسف عليه السلام بالملك في الاعراض عن المشتهيات، فلم قلت يجب أن يكون يوسف عليه
223

السلام أقل ثوابا من الملائكة؟ وذلك لأنه لا نزاع في أن عدم التفات البشر إلى المطاعم
والمناكح أقل نم عدم التفات الملائكة إلى هذه الأشياء، لكن لم قلتم إن ذلك يوجب بالمزيد
في الفضل بمعنى كثرة الثواب؟ فان تمسكوا بأن كل من كان أقل معصية وجب أن يكون أفضل،
فقد سبق الكلام عليه. الحجة الحادية عشرة: قوله تعالى (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)
ومخلوقات الله تعالى إما المكلفون أو من عداهم ولا شك أن المكلفين أفضل من غيرهم، أما المكلفون
فهم أربعة أنواع الملائكة والانس والجن والشياطين. ولا شك أن الانس أفضل من الجن
والشياطين، فلو كان أفضل من الملك أيضا لزم حينئذ أن يكون البشر أفضل من كل المخلوقات،
وحينئذ لا يبقى لقوله تعالى (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) فائدة: بل كان ينبغي أن يقال
وفضلناهم عل جميع من خلقنا تفضيلا، ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر، ولقائل
أن يقول حاصل هذا الكلام تمسك بدليل الخطاب، لان التصريح بأنه أفضل من كثير من
المخلوقات لا يدل على أنه ليس أفضل من الباقي إلا بواسطة دليل الخطاب، وأيضا فهب أن جنس
الملائكة أفضل من جنس بني آدم ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع
الثاني أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من المجموع الثاني، فانا إذا قدرنا عشرة
من العبيد كل واحد منهم يساوى مائة دينارا، وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوى مائتي دينار
والتسعة الباقية يساوى كل واحد منهم دينارا. فالجموع الأول أفضل من المجموع الثاني، إلا أنه
حصل في المجموع الثاني واحد هو أفضل من كل واحد من آحاد المجموع الأول، فكذا ههنا.
وأيضا فقوله (وفضلناهم) يجوز أن يكون المراد وفضلناهم في الكرامة التي ذكرناها في أول
الآية وهي قوله (ولقد كرمنا بني آدم) ويكون المراد من الكرامة حسن الصورة ومزيد الذكاء
والقدرة على الأعمال العجيبة والمبالغة في النظافة والطهارة، وإذا كان كذلك فنحن نسلم أن الملك
أزيد من البشر في هذه الأمور ولكن لم قلتم أن الملك أكثر ثوابا من البشر، وأيضا فقوله (خلق
السماوات بغير عمد ترونها) لا يقتضى أن يكون هناك إله آخر له برهان فكذلك ههنا،
الحجة الثانية عشرة: الأنبياء عليهم السلام ما استغفروا لأحد إلا بدأوا بالاستغفار لأنفسهم ثم
بعد ذلك لغيرهم من المؤمنين، قال آدم (ربنا ظلمنا أنفسنا) وقال نوح عليه السلام (رب اغفر لي
ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا) وقال إبراهيم عليه السلام (رب اغفر لي ولوالدي) وقال (رب
هب لي حكما وألحقني بالصالحين) وقال موسي (رب اغفر لي ولأخي) وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم
(واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) وقال (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)
أما الملائكة فإنهم لم يستغفروا لأنفسهم ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر يدل عليه
تعالى حكاية عنهم (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) وقال (ويستغفرون
224

للذين آمنوا) لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لبدأ وا في ذلك بأنفسهم لان دفع الضرر عن النفس
مقدم على دفع الضرر عن الغير، وقال عليه الصلاة والسلام ابدأ بنفسك ثم بمن تعول وهذا
يدل على أن الملك أفضل من البشر، ولقائل أن يقول: هذا الوجه لا يدل على أن الملائكة لم يصدر
عنهم الزلة البتة وأن البشر قد صدرت الزلات عنهم، لكنا بينا فيما تقدم أن التفاوت في ذلك
لا يوجب التفاوت في الفضيلة، ومن الناس من قال إن استغفار هم للبشر كالعذر عمن طعنوا فيهم
بقولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها) الحجة الثالثة عشرة: قوله تعالى (وإن عليكم الحافظين
كراما كاتبين) وهذا عام في حق جميع المكلفين من بني آدم فدخل فيه الأنبياء وغيرهم وهذا يقتضى
كونهم أفضل من البشر لوجهين. الأول: أنه تعالى جعلهم حفظة لبني آدم والحافظ للمكلف من
المعصية لا بد وأن يكون أبعد عن الخطا والزلل من المحفوظ، وذلك يقتضى كونهم أبعد من
المعاصي وأقرب إلى الطاعات من البشر وذلك يقتضى مزيد الفضل، والثاني: أنه سبحانه وتعالى
جعل كتابتهم حجة للبشر في الطاعات وعليهم في المعاصي، وذلك يقتضى أن يكون قولهم أولى
بالقبول من قول البشر ولو كان البشر أعظم حالا منهم لكان الامر بالعكس. ولقائل أن يقول
أما قوله الحافظ يجب أن يكون أكرم من المحفوظ فهذا بعيد فان الملك قد يوكل بعض عبيدة على
ولده ولا يلزم أن يكون الحافظ أشرف من المحفوظ هناك، أما قوله: جعل شهادتهم نافذة على
البشر فضعيف، لان الشاهد فد يكون أدون حالا من المشهود عليه. الحجة الرابعة عشرة: قوله
تعالى (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواب)
والمقصود من ذكر أحوالهم المبالغة في شرح عظمة الله تعالى وجلاله ولو كان في الخلق طائفة
أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى في الانباء عن عظمة الله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى
في هذا المقام، ثم كما أنهم سبحانه بين عظمة ذاته في الآخرة بذكر الملائكة فكذا بين عظمته في
الدنيا بذكر الملائكة وهو قوله (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم)
ولقائل أن يقول: كل ذلك يدل على أنهم أزيد حالا من البشر في بعض الأمور فلم لا يجوز أن
تلك الحالة هي قوتهم وشدتهم وبطشهم، وهذا كما يقال إن السلطان لما جلس وقف حول سريره
ملوك أطراف العالم خاضعين خاشعين فان عظمة السلطان إنما تشرح بذلك ثم إن هذا لا يدل
على أنهم أكرم عند السلطان من ولده فكذا ههنا. الحجة الخامسة عشرة: قوله تعالى (والمؤمنون
كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) فبين تعالى أنه لا بد في صحة الايمان من الايمان بهذه
الأشياء ثم بدأ بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بالكتب وربع بالرسل وكذا في قوله (شهد الله
أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) وقال (إن الله وملائكته يصلون على النبي) والتقديم
في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ويدل عليه أن تقديم الأدون على الأشرف في الذكر قبيح
عرفا، فوجب أن يكون قبيحا شرعا، أما أنه قبيح عرفا فلان الشاعر قال: -
225

عميرة ودع إن تجهزت غاديا... كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا
قال عمر بن الخطاب: لو قدمت السلام لأجزتك، ولأنهم لما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وقع التنازع في تقديم الاسم وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية، وهذا يدل على أن التقديم في الذكر يدل على مزيد الشرف وإذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في الشرع كذلك، لقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " فثبت أن تقديم الملائكة على الرسل في الذكر يدل على تقديمهم في الفضل ولقائل أن يقول: هذه الحجة ضعيفة لأن الاعتماد إن كان على الواو، فالواو لا تفيد الترتيب، وإن كان على التقديم في الذكر ينتقض بتقديم سورة تبت على سورة قل هو الله أحد. الحجة السادسة عشرة: قوله تعالى: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * فجعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك يدل على كون الملائكة أشرف من النبي صلى الله عليه وسلم. ولقائل أن يقول هذا ينتقض بقوله:
* (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه) * فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي عليه السلام فكذا في الملائكة. الحجة السابعة عشرة: أن نتكلم في جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم فنقول: إن جبريل عليه السلام أفضل من محمد والدليل عليه قوله تعالى: * (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون) * (التكوير: 19 - 22) وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بست من صفات الكمال، أحدها: كونه رسولا لله. وثانيها: كونه كريما على الله تعالى. وثالثها: كونه ذا قوة عند الله، وقوته عند الله لا تكون إلا قوته على الطاعات بحيث لا يقوى عليها غيره. ورابعها: كونه مكينا عند الله. وخامسها: كونه مطاعا في عالم السماوات. وسادسها: كونه أمينا في كل الطاعات مبرءا عن أنواع الخيانات. ثم إنه سبحانه وتعالى بعد أن وصف جبريل عليه السلام بهذه الصفات العالية وصف محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: * (وما صاحبكم بمجنون) * ولو كان محمد مساويا لجبريل عليه السلام في صفات الفضل أو مقارنا له لكان وصف محمد بهذه الصفة بعد وصف جبريل بتلك الصفات نقصا من منصب محمد صلى الله عليه وسلم وتحقيرا لشأنه وإبطالا لحقه وذلك غير جائز على الله، فدلت هذه الآية على أنه ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم عند الله من المنزلة إلا مقدار أن يقال إنه ليس بمجنون، وذلك يدل على أنه لا نسبة بين جبريل وبين محمد عليهما السلام في الفضل والدرجة. فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله: * (إنه لقول رسول كريم) * صفة لمحمد لا لجبريل عليهما السلام. قلنا لأن قوله: * (ولقد رآه بالأفق المبين) * يبطل ذلك. ولقائل أن يقول إنا توافقنا جميعا على أنه قد كان لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى سوى كونه ليس بمجنون وأن الله تعالى ما ذكر شيئا من تلك الفضائل في هذا الموضع فإذن عدم ذكر الله تعالى تلك الفضائل ههنا لا يدل على عدمها بالإجماع، أو إذا ثبت أن لمحمد عليه السلام فضائل
226

سوى الأمور المذكورة ههنا فلم لا يجوز أن يقال إن محمدا عليه السلام بسبب تلك الفضائل التي هي غير مذكورة ههنا يكون أفضل من جبريل عليه السلام فإنه سبحانه كما وصف جبريل عليه السلام ههنا بهذه الصفات الست وصف محمدا صلى الله عليه وسلم أيضا بصفات ست وهي قوله: * (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهد ومبشرا
ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) * (الأحزاب: 45، 46) فالوصف الأول: كونه نبيا والثاني: كونه رسولا والثالث: كونه شاهدا والرابع: كونه مبشرا والخامس: كونه نذيرا والسادس: كونه داعيا إلى الله تعالى بإذنه والسابع: كونه سراجا والثامن: كونه منيرا وبالجملة فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل البتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني. الحجة الثامنة عشرة: الملك أعلم من البشر والأعلم أفضل فالملك أفضل إنما قلنا إن الملك أعلم من البشر لأن جبريل عليه السلام كان معلما لمحمد عليه السلام بدليل قوله: * (علمه شديد القوى) * والمعلم لا بد وأن يكون أعلم من المتعلم، وأيضا فالعلوم قسمان: أحدهما: العلوم التي يتوصل إليها بالعقول كالعلم بذات الله تعالى وصفاته؛ فلا يجوز وقوع التقصير فيها لجبريل عليه السلام ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن التقصير في ذلك جهل وهو قادح في معرفة الله تعالى. وأما العلم بكيفية مخلوقات الله تعالى وما فيها من العجائب والعلم بأحوال العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وطباق السماوات وأصناف الملائكة وأنواع الحيوانات في المغاور والجبال والبحار فلا شك أن جبريل عليه السلام أعلم بها، لأنه عليه السلام أطول عمرا وأكثر مشاهدة لها فكان علمه بها أكثر وأتم. وثانيها: العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالوحي لا لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لسائر الأنبياء عليهم السلام إلا من جهة جبريل عليه السلام فيستحيل أن يكون لمحمد عليه الصلاة والسلام فضيلة فيها على جبريل عليه السلام، وأما جبريل عليه السلام فهو كان الواسطة بين الله تعالى وبين جميع الأنبياء فكان عالما بكل الشرائع الماضية والحاضرة، وهو أيضا عالم بشرائع الملائكة وتكاليفهم ومحمد عليه الصلاة والسلام، ما كان عالما بذلك، فثبت أن جبريل عليه السلام كان أكثر علما من محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون أفضل منه لقوله تعالى: * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (الزمر: 9). ولقائل أن يقول لا نسلم أنهم أعلم من البشر، والدليل عليه أنهم اعترفوا بأن آدم عليه السلام أكثر علما منهم بدليل قوله تعالى: * (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) * ثم إن سلمنا مزيد علمهم ولكن ذلك لا يقتضي كثرة الثواب، فإنا نرى الرجل المبتدع محيطا بكثير من دقائق العلم ولا يستحق شيئا من الثواب فضلا عن أن يكون ثوابه أكثر وسببه ما نبهنا مرارا عليه أن كثرة الثواب إنما تحصل بحسب الإخلاص في الأفعال ولم نعلم أن إخلاص الملائكة أكثر. الحجة التاسعة عشرة: قوله تعالى: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم) * (الأنبياء: 29) فهذه الآية دالة على أنهم
227

بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى أنهم لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا بادعاء الإلهية لا بشيء آخر من متابعة الشهوات وذلك يدل على نهاية جلالهم. ولقائل أن يقول لا نزاع في نهاية جلالهم، أما قوله: إنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى حيث لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية فهذا مسلم وذلك لأن علومهم كثيرة وقواهم شديدة وهم مبرؤون عن شهوة البطن والفرج ومن كان كذلك فلو خالف أمر الله لم يخالف إلا في هذا المعنى الذي ذكرته لكن لم قلتم إن ذلك يدل على أنهم أكثر ثوابا من البشر فإن محل الخلاف ليس إلا ذاك. الحجة العشرون: قوله عليه الصلاة والسلام رواية عن الله تعالى: " وإذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه " وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف. ولقائل أن يقول هذا خير واحد وأيضا فهذا يدل على أن ملأ الملائكة أفضل من ملأ البشر وملأ البشر عبارة عن العوام لا عن الأنبياء فلا يلزم من كون الملك أفضل من عامة البشر كونهم أفضل من الأنبياء، هذا آخر الكلام في الدلائل النقلية، واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة أفضل من الأرواح الناطقة البشرية واعتمدوا في هذا الباب على وجوه عقلية نحن نذكرها إن شاء الله تعالى. الحجة الأولى: قالوا الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة والبشر مركب من النفس والبدن والنفس مركبة من القوى الكثيرة
والبدن مركب من الأجزاء الكثيرة والبسيط خير من المركب لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط ولذلك فإن فردانية الله تعالى من صفات جلاله ونعوت كبريائه. الاعتراض عليه: لا نسلم أن البسيط أشرف من المركب وذلك لأن جانب الروحاني أمر واحد وجانب الجسماني أمران روحه وجسمه فهو من حيث الروح من عالم الروحانيات والأنوار ومن حيث الجسد من عالم الأجساد فهو لكونه مستجمعا للروحاني والجسماني يجب أن يكون أفضل من الروحاني الصرف والجسماني الصرف وهذا هو السر في أن جعل البشر الأول مسجودا للملائكة ومن جهة آخر وهو أن الأرواح الملكية مجردات مفارقة عن العلائق الجسمانية فكأن استغراقها في مقاماتها النورانية عاقها عن تدبير هذا العالم الجسداني أما النفوس البشرية النبوية فإنها قويت على الجمع بين العالمين فلا دوام ترقيها في معارج المعارف وعوالم القدس يعوقها عن تدبير العالم السفلي ولا التفاتها إلى مناظم عالم الأجسام يمنعها عن الاستكمال في عالم الأرواح فكانت قوتها وافية بتدبير العالمين محيطة بضبط الجنسين فوجب أن تكون أشرف وأعظم. الحجة الثانية: الجواهر الروحانية مبرأة عن الشهوة التي هي منشأ سفك الدماء والأرواح البشرية مقرونة بها والخالي عن منبع الشر أشرف من المبتلى به. الاعتراض: لا شك أن المواظبة على الخدمة مع كثرة الموانع والعوائق أدل على الإخلاص من المواظبة عليها من غير شيء من العوائق والموانع، وذلك يدل على أن مقام البشر في المحبة أعلى وأكمل وأيضا فالروحانيات لما أطاعت خالقها لم تكن طاعتها موجبة قهر الشياطين الذين
228

هم أعداء الله، أما الأرواح البشرية لما أطاعت خالقها لزم من تلك الطاعة قهر القوى الشهوانية والغضبية وهي شياطين الإنس فكانت طاعاتهم أكمل وأيضا فمن الظاهر أن درجات الروحانيات حين قالت: * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) * أكمل من درجاتهم حين قالت: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * (البقرة: 30) وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة وهذا في البشر أكمل ولهذا قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه تعالى: " لأنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين " الحجة الثالثة: الروحانيات مبرأة عن طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكنا لها بحسب أنواعها التي في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * (الشورى: 52) ولا شك أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة. الاعتراض: لا نسلم أنها بالفعل التام فلعلها بالقوة في بعض الأمور، ولهذا قيل إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعقلات من القوة إلى الفعل وهذه التحريكات بالنسبة إليها كالتحريكات العارضة للأرواح الحاملة لقوى الفكر والتخيل عند محاولة استخراج التعقلات التي هي بالقوة إلى الفعل. الحجة الرابعة:
الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن طبيعة التغير والقوة والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك. الاعتراض: المقدمتان ممنوعتان أليس أن الروحانيات ممكنة الوجود لذواتها واجبة الوجود بمادتها فهي محدثة سلمنا ذلك، فلا نسلم أن الأرواح البشرية حادثة، بل هي عند بعضهم أزلية وهؤلاء قالوا: هذه الأرواح كانت سرمدية موجودة كالأظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن المبدئ الأول أمرها حتى نزلت إلى عالم الأجسام وسكنات المواد، فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها. واستحكم إلفها بها فبعث من تلك الأظلال أكملها وأشرفها إلى هذا العالم ليحتال في تخليص تلك الأرواح عن تلك السكنات وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في " كتاب كليلة ودمنة ". الحجة الخامسة: الروحانيات
نورانية علوية لطيفة، والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة وبدائية العقول تشهد بأن النور أشرف من الظلمة، والعلوي خير من السفلي، واللطيف أكمل من الكثيف. الاعتراض: هذا كله إشارة إلى المادة وعندنا سبب الشرف الانقياد لأمر رب العالمين على ما قال: * (قل الروح من أمر ربي) * وادعاء الشرف بسبب شرف المادة هو حجة اللعين الأول وقد قيل له ما قيل، الحجة السادسة: الروحانيات السماوية فضلت الجسمانيات بقوى العلم والعمل. أما العلم فلاتفاق الحكماء على إحاطة الروحانيات السماوية بالمغيبات واطلاعها على مستقبل الأمور، وأيضا فعلومهم فعلية فطرية كلية دائمة. وعلوم البشر على الضد في كل ذلك، وأما العمل فلأنهم مواظبون على الخدمة دائما يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يلحقهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا غفلة الأبدان طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس والتحميد والتهليل وتنفسهم بذكر الله وفرحتهم بخدمة الله متجردون من العلائق البدنية
229

غير محجوبين بشيء من القوى الشهوانية والغضبية فأين أحد القسمين من الآخر: الاعتراض: لا نزاع في كل ما ذكرتموه إلا أن ههنا دقيقة وهي أن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع أياما كثيرة فالملائكة بسبب مواظبتهم على تلك الدرجات العالية لا يجدون من اللذة مثل ما يجد البشر الذين يكونون في أكثر الأوقات محجوبين بالعلائق الجسمانية والحجب الظلمانية فهذه المزية من اللذة مما يختص بها البشر ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى: * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) * (الأحزاب: 72) فإن إدراك الملايم بعد الابتلاء بالمنافي ألذ من إدراك الملايم على سبيل الدوام ولذلك قالت الأطباء: إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب لكن حرارة الحمى في الدق إذا دامت واستقرت بطل الشعور بها فهذه الحالة لم تحصل للملائة لأن كمالاتها دائمة ولم تحصل لسائر الأجسام لأنها كانت خالية عن القوة المستعدة لإدراك المجردات فلم يبق شيء ممن يقوى على تحمل هذه الأمانة إلا البشر. الحجة السابعة: الروحانيات لهم قوة على تصريف الأجسام وتقليب الأجرام والقوة التي هي لهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب، ثم إنك ترى الخامة اللطيفة من الزرع في بدء نموها تفتق الحجر وتشق الصخر
وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من جواهر القوى السماوية فما ظنك بتلك القوى السماوية والروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام السفلية تقليبا وتصريفا لا يستثقلون حمل الأثقال ولا يستصعبون تحريك الجبال فالرياح تهب بتحريكاتها والسحاب تعرض وتزول بتصريفها وكذا الزلازل تقع في الجبال بسبب من جهتها والشرائع ناطقة بذلك على ما قال تعالى: * (فالمقسمات أمرا) * (الذاريات: 4) والعقول أيضا دالة عليه والأرواح السفلية ليست كذلك فأين أحد القسمين من الآخر. والذي يقال أن الشياطين التي هي الأرواح الخبيثة تقدر على ذلك ممنوع وبتقدير التسليم فلا نزاع في أن قدرة الملائكة على ذلك أشد وأكمل ولأن الأرواح الطيبة الملكية تصرف قواها إلى مناظم هذا العالم السفلي ومصالحها والأرواح الخبيثة تصرف قواها إلى الشرور فأين أحدهما من الآخر.
الاعتراض: لا يبعد أن يتفق في النفوس الناطقة البشرية نفس قوية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف فما الدليل على امتناع مثل هذه النفس. الحجة الثامنة: الروحانيات لها اختيارات فائضة من أنوار جلال الله عز وجل متوجهة إلى الخيرات مقصورة على نظام هذا العالم لا يشوبها البتة شائبة الشر والفساد بخلاف اختيارات البشر فإنها مترددة بين جهتي العلو والسفالة وطرفي الخير
وميلهم إلى الخيرات إنما يحصل بإعانة الملائكة على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكا يسدده ويهديه. الاعتراض: هذا يدل على أن الملائكة كالمجبورين على طاعاتهم والأنبياء مترددون بين الطرفين والمختار أفضل من المجبور وهذا ضعيف لأن التردد ما دام يبقى استحال
230

صدور الفعل وإذا حصل الترجيح التحق بالموجب فكان للأنبياء خيرات بالقوة وبواسطة الملائكة تصير خيرات بالفعل،
أما الملائكة فهم خيرات بالفعل فأين هذا من ذاك الحجة التاسعة: الروحانيات مختصة بالهياكل وهي السيارات السبعة وسائر الثوابت والأفلاك كالأبدان والكواكب كالقلوب والملائكة كالأرواح فنسبة الأرواح إلى الأروح كنسبة الأبدان إلى الأبدان ثم إنا نعلم أن اختلافات أحوال الأفلاك مبادئ لحصول الاختلافات في أحوال هذا العالم فإنه يحصل من حركات الكواكب اتصالات مختلفة من
التسديس والتثليث والتربيع والمقابلة والمقاربة وكذا مناطق الأفلاك تارة تصير منطبقة بعضها على البعض وذلك هو الرتق فحينئذ يبطل عمارة العالم وأخرى ينفصل بعضها عن البعض فتنتقل العمارة من جانب من هذا العالم العلوي مستولية على هياكل العالم السفلي فكذا أرواح العالم السفلى لا سيما وقد دلت المباحث الحكمية والعلوم الفلسفية على أن أرواح هذا العالم معلولات لأرواح العالم العلوي
وكمالات هذه الأرواح معلولات لكمالات تلك الأرواح ونسبة هذه الأرواح إلى تلك الأرواح كالشعلة الصغيرة بالنسبة إلى قرص الشمس وكالقطرة الصغيرة بالنسبة إلى البحر الأعظم فهذه هي الآثار وهناك المبدأ والمعاد فكيف يليق القول بادعاء المساواة فضلا عن الزيادة. الاعتراض: كل ما ذكرتموه منازع فيه لكن بتقدير تسليمه فالبحث باق بعد لأنا بينا أن الوصول إلى اللذيذ بعد الحرمان ألذ من
الوصول إليه على سبيل الدوام فهذه الحالة غير حاصلة إلا للبشر. الحجة العاشرة: قالوا الروحانيات الفلكية مبادئ لروحانيات هذا العالم ومعادلها والمبدأ أشرف من ذي المبدأ لأن كل كمال يحصل لذي المبدأ فهو مستفاد من المبدأ والمستفيد أقل حالا من الواجب وكذلك المعاد يجب أن يكون أشرف، فعالم الروحانيات عالم الكمال فالمبدأ منها والمعاد إليها والمصدر عنها والمرجع إليها وأيضا فإن
الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان فتوسخت بأوضار الأجسام ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية حتى انفصلت عنها إلى عالمها الأول فالنزول هو النشأة الأولى والصعود هو النشأة الأخرى فعرف أن الروحانيات أشرف من الأشخاص البشرية. الاعتراض: هذه الكلمات بنيتموها على نفي المعاد ونفي حشر الأجساد ودونهما خرط القتاد. الحجة الحادية عشرة: أليس أن الأنبياء صلوات الله عليهم اتفقت كلمتهم على أنهم لا ينطقون بشيء من المعارف والعلوم إلا بعد الوحي فهذا اعتراف بأن علومهم مستفادة منهم أليس أنهم اتفقوا على أن الملائكة هم الذين يعينونهم على أعدائهم كما في قلع مدائن قوم لوط وفي يوم بدر وهم الذين يهدونهم إلى مصالحهم كما في قصة نوح في نجر السفينة فإذا اتفقوا على ذلك فمن أين وقع لكم أن فضلتموهم على الملائكة مع تصريحهم فافتقارهم إليهم في كل الأمور. الحجة الثانية عشرة: التقسيم العقلي قد دل على أن الأحياء إما أن تكون خيرة محضة أو شريرة محضة أو تكون خيرة من وجه شريرة من
231

وجه فالخير المحض هو النوع الملكي والشرير المحض هو النوع الشيطاني والمتوسط بين الأمرين هو النوع البشري وأيضا فإن الإنسان هو الناطق المائت وعلى جانبيه قسمان آخران: أحدهما: الناطق الذي لا يكون مائتا وهو الملك: والآخر المائت الذي لا يكون ناطقا وهم البهائم فقسمة العقل على هذا الوجه قد دلت على كون البشر في الدرجة المتوسطة من الكمال والملك يكون في الطرف الأقصى من الكمال فالقول بأن البشر أفضل قلب للقسمة العقلية ومنازعة في ترتيب الوجود. الاعتراض: أن المراد من الفضل هو كثرة الثواب فلم قلتم إن الملك أكثر ثوابا فهذا محصل ما قيل في هذا الباب من الوجوه العقلية وبالله التوفيق. واحتج من قال بفضل الأنبياء على الملائكة بأمور: أحدهما: أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة بل كانت السجدة في الحقيقة له، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون آدم أفضل منهم لأن السجود نهاية التواضع وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح في العقول فإنه يقبح أن يؤمر أبو حنيفة بأن يخدم أقل الناس بضاعة في الفقه فدل هذا على أن آدم عليه السلام كان أفضل من الملائكة. وثانيها: أن الله تعالى جعل آدم عليه السلام خليفة له والمراد منه خلافة الولاية لقوله تعالى: * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) * (ص: 26) ومعلوم أن أعلى الناس منصبا عند الملك من كان قائما مقامه في الولاية والتصرف، وكان خليفة له فهذا يدل على أن آدم عليه السلام كان أشرف الخلائق وهذا متأكد بقوله: * (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) * (الجاثية: 12) ثم أكد هذا التعميم بقوله: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (البقرة: 29) فبلغ آدم في منصب الخلافة إلى أعلى الدرجات فالدنيا خلقت متعة لبقائه والآخرة مملكة لجزائه وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبر عليه والجن رعيته والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاته ثم إنه سبحانه وتعالى يقول مع هذه المناصب العالية: * (ولدينا مزيد) * فإذن لا غاية لهذا الكمال والجلال. وثالثها: أن آدم عليه السلام كان أعلم والعلم أفضل، أم إنه أعلم فلأنه تعالى لما طلب منهم علم الأسماء: * (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) * (البقرة: 32) فعند ذلك قال الله تعالى: * (يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم) * وذلك يدل على أنه عليه السلام كان عالما بما لم يكونوا عالمين به وأما أن الأعلم أفضل فلقوله تعالى: * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * ورابعها: قوله تعالى: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * والعالم عبارة عن كل ما سوى الله تعالى وذلك لأن اشتقاق العالم على ما تقدم من العلم فكل ما كان علما على الله ودالا عليه فهو عالم ولا شك أن كل محدث فهو دليل على الله تعالى فكل محدث فهو عالم فقوله: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * منعاه أن الله تعالى اصطفاهم على كل المخلوقات ولا شك أن الملائكة من المخلوقات
232

فهذه الآية تقتضي أن الله تعالى اصطفى هؤلاء الأنبياء على الملائكة. فإن قيل: يشكل هذا بقوله تعالى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) * فإنه لا يلزم أن يكونوا أفضل من الملائكة ومن محمد صلى الله عليه وسلم فكذا ههنا قال الله تعالى في حق مريم عليها السلام: * (إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) * (آل عمران: 42) ولم يلزم كونها أفضل من فاطمة عليها السلام فكذا ههنا قلنا؛ الإشكال مدفوع لأن قوله تعالى: * (وأني فضلتكم على العالمين) * خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود وحين ما كانوا موجودين لم يكن محمد موجودا في ذلك الزمان ولما لم يكن موجودا لم يكن من العالمين لأن المعدوم لا يكون من العالمين وإذا كان كذلك لم يلزم من اصطفاء الله تعالى إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم وأما جبريل عليه السلام فإنه كان موجودا حين قال الله تعالى: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * فلزم أن يكون قد اصطفى الله تعالى هؤلاء على جبريل عليه السلام وأيضا فهب أن تلك الآية قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة وههنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم. وخامسها: قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * والملائكة من جملة العالمين فكان محمد عليه السلام رحمة لهم فوجب أن يكون محمد أفضل منهم. وسادسها: أن عبادة البشر أشق فوجب أن يكونوا أفضل وإنما قلنا إنها أشق لوجوه: الأول: أن الآدمي له شهوة داعية إلى المعصية والملك ليست له هذه الشهوة والفعل مع المعارض القوى أشد منه بدون المعارض فإن قيل الملائكة لهم شهوة تدعوهم إلى المعصية وهي شهوة الرياسة قلنا هب أن الأمر كذلك لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البطن والفرج والرياسة والملك ليس له من تلك الشهوات إلا شهوة واحدة وهي شهوة الرياسة والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشق من المبتلى بشهوة واحدة. الثاني: أن الملائكة لا يعملون إلا بالنص لقوله تعالى: * (لا علم لنا إلا ما
علمتنا) * (البقرة: 32) وقال: * (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * (الأنبياء: 27) والبشر لهم قوة الاستنباط والقياس قال تعالى: * (فاعتبروا يا أولي الأبصار) * (الحشر: 2) وقال معاذ اجتهدت برأيي فصوبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. ومعلوم أن العمل بالاستنباط أشق من العمل بالنص الثالث: أن الشبهات للبشر أكثر مما للملائكة لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السيارة أسبابا لحوادث هذا العالم فالبشر احتاجوا إلى دفع هذه الشبهة والملائكة لا يحتاجون لأنهم ساكنون في عالم السماوات فيشاهدون كيفية افتقارها إلى المدبر الصانع، الرابع: أن الشيطان لا سبيل له إلى وسوسة الملائكة وهو مسلط على البشر في الوسوسة وذلك تفاوت عظيم إذا ثبت أن طاعتهم أشق فوجب أن يكونوا أكثر ثوابا بالنص فقوله عليه الصلاة والسلام: " أفضل العبادات أحمزها " أي أشقها وأما القياس فلأنا نعلم أن الشيخ الذي لم يبق له ميل إلى
233

النساء إذا امتنع عن الزنا فليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنهن مع الميل الشديد والشوق العظيم فكذا ههنا وسابعها: أن الله تعالى خلق الملائكة عقولا بلا شهوة وخلق البهائم شهوات بلا عقل وخلق الآدمي وجمع فيه بين الأمرين فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجات لا حد لها فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله حتى صار يعمل بهواه دون عقله فإنه يصير دون البهيمة على ما قال تعالى: * (أولئك كالأنعام بل هم أضل) * (الأعراف: 179) ولذلك صار مصيرهم إلى النار دون البهائم فيجب أن يقال إذا غلب عقله هواه حتى صار لا يعمل بهوى نفسه شيئا بل يعمل بهوى عقله أن يكون فوق الملائكة اعتبارا لأحد الطرفين بالآخر. وثامنها: أن الملائكة حفظة وبنو آدم محفوظون والمحفوظ أعز وأشرف من الحافظ فيجب أن يكون بنو آدم أكرم وأشرف على الله تعالى من الملائكة.
وتاسعها: ما روى أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى أركبه على البراق ليلة المعراج وهذا يدل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل منه ولما وصل محمد عليه الصلاة والسلام إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل عليه السلام وقال: " لو دنوت أنملة لاحترقت " وعاشرها: قوله عليه الصلاة والسلام: " إن لي وزيرين في السماء وزيرين في الأرض، أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل، وأما اللذان في الأرض فأبو بكر وعمر " فدل هذا الخبر على أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان كالملك وجبريل وميكائيل كانا كالوزيرين له والملك أفضل من الوزير فلزم أن يكون محمدا أفضل من الملك. هذا تمام القول في دلائل من فضل البشر على الملك. أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الحجة الأولى فقالوا. قد سبق بيان أن من الناس من قال: المراد من السجود هو التواضع لا وضع الجبهة على الأرض ومنهم من سلم أنه عبارة عن وضع الجبهة على الأرض لكنه قال السجود لله وآدم قبلة السجود وعلى هذين القولين لا إشكال أما إذا سلمنا أن السجود كان لآدم عليه السلام فلم قلتم إن ذلك لا يجوز من الأشرف في حق الشريف وذلك لأن الحكمة قد تقتضي ذلك كثيرا من حب الأشرف وإظهار النهاية في الانقياد والطاعة فإن للسلطان أن يجلس أقل عبيده في الصدر وأن يأمر الأكابر بخدمته ويكون غرضه من ذلك إظهار كونهم مطيعين له في كل الأمور منقادين له في جميع الأحوال فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك وأيضا أليس من مذهبنا أنه (يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد) وأن أفعاله غير معللة ولذلك قلنا إنه لا اعتراض عليه في خلق الكفر في الإنسان ثم في تعذيبه عليه أبد الآباد وإذا كان كذلك فكيف يعترض عليه في أن يأمر الأعلى بالسجود للأدنى وأما الحجة الثانية: فجوابها أن آدم عليه السلام إنما جعل خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم عليه السلام كان أشرف من كل من في الأرض ولا يدل على كونه أشرف من ملائكة السماء فإن قيل فلم لم يجعل واحدا من ملائكة السماء خليفة له في الأرض قلنا لوجوه
234

منها أن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل ومنها أن الملائكة في نهاية الطهارة والعصمة وهذا هو المراد بقوله تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * (الأنعام: 9) وأما الحجة الثالثة: فلا نسلم أن آدم عليه السلام كان أعلم منهم أكثر ما في الباب أن آدم عليه السلام كان عالما بتلك اللغات وهم ما علموها لكن لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء مع أن آدم عليه السلام ما كان عالما بها والذي يحقق هذا أنا توافقنا على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من آدم عليه السلام مع أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما كان عالما بهذه اللغات بأسرها وأيضا فإن إبليس كان عالما بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم عن الجنة وآدم
عليه السلام لم يكن عالما ذلك ولم يلزم منه كون إبليس أفضل من آدم عليه السلام والهدهد قال لسليمان أحطت بما لم تحط به ولم يلزم أن يكون الهدهد أفضل من سليمان سلمنا أنه كان أعلم منهم ولكن لم لا يجوز أن يقال إن طاعاتهم أكثر إخلاصا من طاعة آدم فلا جرم كان ثوابهم أكثر. أما الحجة الرابعة: فهي أقوى الوجوه المذكورة. أما الحجة الخامسة: وهي قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) فلا يلزم من كون محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله: * (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها) * (الروم: 50) ولا يمتنع أن يكون هو عليه الصلاة والسلام رحمة لهم من وجه وهم يكونون رحمة له من وجه آخر. وأما الحجة السادسة: وهي أن عبادة البشر أشق فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصوفية يتحمل في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأنه عليه السلام لم يتحمل مثلها مع أنا نعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من الكل وما ذاك إلا أن كثرة الثواب مبنية على الإخلاص في النية ويجوز أن يكون الفعل أسهل إلا أن إخلاص الآتي به أكثر فكان الثواب عليه أكثر. أما الحجة السابعة: فهي جمع بين الطرفين من غير جامع. وأما الحجة الثامنة: وهي أن المحفوظ أشرف من الحافظ فهذا ممنوع على الإطلاق بل قد يكون الحافظ أشرف من المحفوظ كالأمير الكبير الموكل على المتهمين من الجند. وأما الوجهان الآخران: فهما من باب الآحاد وهما معارضان بما رويناه من شدة تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا آخر المسألة وبالله التوفيق.
المسألة الخامسة: اعلم أن الله تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين فكان يجوز أن يظن أنه كان معذورا في ترك السجود فبين تعالى أنه لم يسجد مع القدرة وزوال العذر بقوله أبى لأن الأباء هو الامتناع مع الاختيار، أما من لم يكن قادرا على الفعل لا يقال له إنه أبى ثم قد كان يجوز أن يكون كذلك ولا ينضم إليه الكبر فبين تعالى أن ذلك الإباء كان على وجه الاستكبار بقوله واستكبر ثم كان يجوز أن يوجد الإباء والاستكبار مع عدم الكفر فبين تعالى أنه كفر بقوله: * (وكان من الكافرين) * قال القاضي
هذه الآية تدل على بطلان قول أهل الجبر من وجوه: أحدها: أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السجود لأن عندهم القدرة
235

على الفعل منتفية ومن لا يقدر على الشيء يقال إنه أباه، وثانيها: أن من لا يقدر على الفعل لا يقال استكبر بأن لم يفعل لأنه إذا لم يقدر على الفعل لا يقال استكبر عن الفعل وإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع كونه لو أراد الفعل لأمكنه. وثالثها: قال تعالى: * (وكان من الكافرين) * ولا يجوز أن يكون كافرا بأن لا يفعل ما لا يقدر عليه. ورابعها: أن استكباره وامتناعه خلق من الله فيه فهو بأن يكون معذورا أولى من أن يكون مذموما قال ومن اعتقد مذهبا يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصفقة، والجواب عنه أن هذا القاضي لا يزال يطنب في تكثير هذه الوجوه وحاصلها يرجع إلى الأمر والنهي والثواب والعقاب فنقول له نحن أيضا: صدور ذلك الفعل عن إبليس عن قصد وداع أو لا عن قصد وداع؟ فإن كان عن قصد وداع فمن أين ذلك القصد؟ أوقع لا عن فاعل أو عن فاعل هو العبد أو عن فاعل هو الله؟ فإن وقع لا عن فاعل كيف يثبت الصانع وإن وقع عن العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل وإن كان لا عن قصد فقد وقع الفعل لا عن قصد وسنبطله وإن وقع عن فاعل هو الله فحينئذ يلزمك كل ما أوردته علينا، أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد وادع فقد ترجح الممكن من غير مرجح وهو يسد باب إثبات الصانع وأيضا فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقيا والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره فكيف يؤمر به وينهى عنه فيا أيها القاضي ما الفائدة في التمسك بالأمر والنهي، وتكثير الوجوه التي يرجع حاصلها إلى حرف واحد مع أن مثل هذا البرهان القاطع يقلع خلفك، ويستأصل عروق كلامك ولو أجمع الأولون والآخرون على هذا البرهان لما تخلصوا عنه إلا بالتزام وقوع الممكن لا عن مرجح وحينئذ ينسد باب إثبات الصانع أو بالتزام أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وهو جوابنا.
المسألة السادسة: للعقلاء في قوله تعالى: * (وكان من الكافرين) * قولان: أحدهما: أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقا كافرا وفي تقرير هذا القول وجهان: أحدهما: حكى محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول كتابه المسمى " بالملل والنحل " عن ماري شارح الأناجيل الأربعة وهي مذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس للملائكة إني أسلم أن لي إلها هو خالقي، وموجدي، وهو خالق الخلق، لكن لي على حكمة الله تعالى أسئلة سبعة، الأولى: ما الحكمة في الخلق لا سيما إن كان عالما بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام؟ الثاني: ثم ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود منه ضر ولا نفع وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟ الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني السجود لآدم؟ الرابع: ثم لما عصيته في ترك السجود لآدم فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه، ولي فيه أعظم الضرر؟ الخامس: ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوست لآدم عليه السلام؟ ثم لما فعلت ذلك
236

فلم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم؟ السابع: ثم لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك، فلم أمهلني. ومعلوم أن العالم لو كان خاليا عن الشر لكان ذلك خيرا؟ قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الجلال والكبرياء: يا إبليس إنك ما عرفتني، ولو عرفتني لعلمت أنه لاعتراض على في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل. واعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات مخلصا وكان الكل لازما، أما إذا أجبنا بذلك الجواب الذي ذكره الله تعالى زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات وكيف لا وكما أنه سبحانه واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في صفاته فهو مستغن في فاعليته عن المؤثرات والمرجحات إذ لو افتقر لكان فقيرا لا غنيا فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنتهى الرغبات ومن عنده نيل الطلبات وإذا كان كذلك لم تتطرق اللمية إلى أفعاله ولم يتوجه الاعتراض على خالقيته وما أحسن ما قال بعضهم: جل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال فهذا القائل أجرى قوله تعالى: * (وكان من الكافرين) * على ظاهره وقال إنه كان كافرا منافقا منذ كان. الوجه الثاني: في تقرير أنه كان كافرا أبدا قول أصحاب الموافاة وذلك لأن الإيمان يوجب استحقاق العقاب الدائم والجمع بين الثواب الدائم والعقاب الدائم محال فإذا صدر الإيمان من المكلف في وقت ثم صدر عنه والعياذ بالله بعد ذلك كفر فأما أن يبقى الاستحقاقان معا وهو محال على ما بيناه أو يكون الطارئ مزيلا للسابق وهو أيضا محال لأن القول بالإحباط باطل فلم يبق إلا أن يقال إن هذا الفرض محال وشرط حصول الإيمان أن لا يصدر الكفر عنه في وقت قط فإذا كانت الخاتمة على الكفر علمنا أن الذي صدر عنه أولا ما كان إيمانا إذا ثبت هذا فنقول: لما كان ختم إبليس على الكفر علمنا أنه ما كان مؤمنا قط، القول الثاني: أن إبليس كان مؤمنا ثم كفر بعد ذلك وهؤلاء اختلفوا في تفسير قوله تعالى: * (وكان من الكافرين) * فمنهم من قال معناه وكان من الكافرين في علم الله تعالى أي كان عالما في الأزل بأنه سيكفر فصيغة كان متعلقة بالعلم لا بالمعلوم، والوجه الثاني: أنه لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمنا قبل ذلك فبعد مضى كفره صدق عليه في ذلك الوقت أنه كان في ذلك الوقت من الكافرين ومتى صدق عليه ذلك وجب أن يصدق عليه أنه كان من الكافرين جزء من مفهوم قولنا كان من الكافرين في ذلك الوقت، ومتى صدق المركب صدق المفرد لا محالة. الوجه الثالث: المراد من كان صار، أي وصار من الكافرين، وههنا أبحاث، البحث الأول: اختلفوا في أن قوله تعالى: * (وكان من الكافرين) * هل يدل على أنه وجد قبله جمع من الكافرين حتى يصدق القول بأنه من الكافرين، قال قوم إنه يدل عليه لأن كلمة من للتبعيض، فالحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكافرين حتى يكون هو بعضا لهم والذي يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال: " إن الله تعالى خلق خلقا من الملائكة ثم قال لهم إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فقالوا لا نفعل ذلك فبعث
237

الله عليهم نارا فأحرقتهم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا " وقال آخرون هذه الآية لا تدل على ذلك ثم لهم في تفسير الآية وجهان: أحدهما: معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك وهو قول الأصم وذكر في مثاله قوله تعالى: * (والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) * (التوبة: 67) فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب الموافقة في الدين فكذا ههنا لما كان الكفر ظاهرا من أهل العالم عند نزول هذه الآية صح قوله وكان من الكافرين. وثانيها: أن هذا إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية وصحة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك الماهية كما أن الحيوان الذي خلقه الله تعالى أولا يصح أن يقال إنه فرد من أفراد الحيوان لا بمعنى أنه واحد من
الحيوانات الموجودة خارج الذهن بل بمعنى أنه فرد من أفراد هذه الماهية وواحد من آحاد هذه الحقيقة، واعلم أنه يتفرع على هذا البحث أن إبليس هل كان أول من كفر بالله، والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله.
البحث الثاني: أن المعصية عند المعتزلة وعندنا، لا توجب الكفر، أما عندنا فلأن صاحب الكبيرة مؤمن، وأما عند المعتزلة فلأنه وإن خرج عن الإيمان فلم يدخل في الكفر، وأما عند الخوارج فكل معصية كفر، وهم تمسكوا بهذه الآية، قالوا إن الله تعالى كفر إبليس بتلك المعصية فدل على أن المعصية كفر، الجواب إن قلنا إنه كافر من أول الأمر فهذا السؤال زائل، وإن قلنا إنه كان مؤمنا، فنقول إنه إنما كفر لاستكباره واعتقاده كونه محقا في ذلك التمرد واستدلاله على ذلك بقوله: * (أنا خير منه) * والله أعلم.
المسألة السابعة: قال الأكثرون إن جميع الملائكة مأمورون بالسجود لآدم واحتجوا عليه بوجهين: الأول: أن لفظ الملائكة صيغة الجمع وهي تفيد العموم لا سيما وقد وردت هذه اللفظة مقرونة بأكمل وجوه التأكيد في قوله: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) *. الثاني: هو أنه تعالى استثنى إبليس منهم واستثناء الشخص الواحد منهم يدل على أن من عدا ذلك الشخص كان داخلا في ذلك الحكم ومن الناس من أنكر ذلك وقال المأمورون بهذا السجود هم ملائكة الأرض واستعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك. وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية وقالوا يستحيل أن تكون الأرواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة إنما المراد من الملائكة المأمورين بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات.
تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث، وأوله قوله تعالى
" وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة "
238