الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٩
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التى أعدت للكافرين * وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) *.
اعلم أن من الناس من قال: انه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بارشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد، أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا) * وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء كلام ولا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الاقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، فلا جرم نهاهم الله عن ذلك وفي قوله: * (أضعافا مضاعفة) * مسألتان:
المسألة الأولى: كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل ذلك، ثم إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله: * (أضعافا مضاعفة) *.
المسألة الثانية: انتصب * (أضعافا) * على الحال.
ثم قال تعالى: * (واتقوا الله لعلكم تفلحون) *.
اعلم أن اتقاء الله في هذا النهي واجب، وأن الفلاح يتوقف عليه، فلو أكل ولم يتق زال الفلاح
2

وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر وتفسير قوله: * (لعلكم) * تقدم في سورة البقرة في قوله: * (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * وتمام الكلام في الربا أيضا مر في سورة البقرة.
ثم قال: * (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) * وفيه سؤالات: الأول: أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه، فكيف قال: * (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) *.
والجواب: تقدير الآية: اتقوا أن تجحدوا تحريم الربا فتصيروا كافرين.
السؤال الثاني: ظاهر قوله: * (أعدت للكافرين) * يقتضي أنها ما أعدت إلا للكافرين، وهذا يقتضي القطع بأن أحدا من المؤمنين لا يدخل النار وهو على خلاف سائر الآيات.
والجواب من وجوه: الأول: أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات أعد بعضها للكفار وبعضها للفساق فقوله: * (النار التي أعدت للكافرين) * إشارة إلى تلك الدركات المخصوصة التي أعدها الله للكافرين، وهذا لا يمنع ثبوت دركات أخرى في النار أعدها الله لغير الكافرين. الثاني: أن كون النار معدة للكافرين، لا يمنع دخول المؤمنين، فيها لأنه لما كان أكثر أهل النار هم الكفار فلأجل الغلبة لا يبعد أن يقال: انها معدة لهم، كما أن الرجل يقول: لدابة ركبها الحاجة من الحوائج، إنما أعددت هذه الدابة للقاء المشركين، فيكون صادقا في ذلك وان كان هو قد ركبها في تلك الساعة لغرض آخر فكذا ههنا.
الوجه الثالث: في الجواب: أن القرآن كالسورة الواحدة فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين وسائر الآيات دالة أيضا على أنها معدة لمن سرق وقتل وزنى وقذف، ومثاله قوله تعالى: * (كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير) * (الملك: 8) وليس لجميع الكفار يقال ذلك، وأيضا قال تعالى: * (فكبكبوا فيها هم والغاوون) * (الشعراء: 94) إلى قوله: * (إذ نسويكم برب العالمين) * (الشعراء: 98) وليس هذا صفة جميعهم ولكن لما كانت هذه الشرائط مذكورة في سائر السور، كانت كالمذكورة ههنا، فكذا فيما ذكرناه والله أعلم.
الوجه الرابع: ان قوله: * (أعدت للكافرين) * اثبات كونها معدة لهم ولا يدل على الحصر كما أن قوله: في الجنة * (أعدت للمتقين) * (آل عمران: 133) لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين والحور العين.
الوجه الخامس: أن المقصود من وصف النار بأنها أعدت للكافرين تعظيم الزجر، وذلك لأن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا بأنهم متى فارقوا التقوى أدخلوا النار المعدة للكافرين، وقد تقرر في عقولهم عظم عقوبة الكفار، كان انزجارهم عن المعاصي أتم،
3

وهذا بمنزلة أن يخوف الوالد ولده بأنك ان عصيتني أدخلتك دار السباع، ولا يدل ذلك على أن تلك الدار لا يدخلها غيرهم فكذا ههنا.
السؤال الثالث: هل تدل الآية على أن النار مخلوقة الآن أم لا؟
الجواب: نعم لأن قوله: * (أعدت) * إخبار عن الماضي فلا بد أن يكون قد دخل ذلك الشيء في الوجود.
ثم قال تعالى: * (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) * ولما ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرة في القرآن، وقال: محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد، وقالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن حصول الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا عام فيدل الظاهر على أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء أنه ليس أهلا للرحمة وذلك يدل على قول أصحاب الوعيد.
* (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض أعدت للمتقين) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر * (سارعوا) * بغير واو، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام، والباقون بالواو، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق
ومصحف عثمان، فمن قرأ بالواو عطفها على ما قبلها والتقدير أطيعوا الله والرسول وسارعوا، ومن ترك الواو فلأنه جعل قوله: * (سارعوا) * وقوله: * (أطيعوا الله) * (آل عمران: 32) كالشئ الواحد، ولقرب كل واحد منها من الآخر في المعنى أسقط العاطف.
المسألة الثانية: روي عن الكسائي الإمالة في * (سارعوا) * * (أولئك يسارعون) * (المؤمنون: 61) * (ونسارع) * (المؤمنون: 65) وذلك جائز لمكان الراء المسكورة، ويمنع كما المفتوحة الإمالة، كذلك المسكورة يميلها.
المسألة الثالثة: قالوا: في الكلام حذف والمعنى: وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم ولا شك أن الموجب للمغفرة ليس الا فعل المأمورات وترك المنهيات، فكان هذا أمرا بالمسارعة إلى فعل المأمورات وترك المنهيات، وتمسك كثير من الأصوليين بهذه الآية في أن ظاهر الأمر يوجب الفور ويمنع من التراخي ووجهه ظاهر، وللمفسرين فيه كلمات: إحداها: قال ابن عباس: هو الاسلام
4

أقول وجهه ظاهر، لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير، والمراد منه المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الاسلام. الثاني: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: هو أداء الفرائض، ووجهه أن اللفظ مطلق فيجب أن يعم الكل. والثالث: انه الاخلاص وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه: ووجهه أن المقصود من جميع العبادات الاخلاص، كما قال: * (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * (البينة: 5) الرابع: قال أبو العالية: هو الهجرة. والخامس: أنه الجهاد وهو قول الضحاك ومحمد بن إسحاق، قال: لأن من قوله: * (وإذ غدوت من أهلك) * (آل عمران: 121) إلى تمام ستين آية نزل في يوم أحد فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصة بما يتعلق بباب الجهاد. السادس: قال سعيد بن جبير: انها التكبيرة الأولى. والسابع: قال عثمان: انها الصلوات الخمس. والثامن: قال عكرمة: إنها جميع الطاعات. لأن اللفظ عام فيتناول الكل. والتاسع: قال الأصم: سارعوا، أي بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب، والوجه فيه أنه تعالى نهى أولا عن الربا، ثم قال: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) * فهذا يدل على أن المراد منه المسارعة في ترك ما تقدم النهي عنه، والأولى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات والتوبة عن جميع المحظورات، لأن اللفظ عام فلا وجه في تخصيصه، ثم أنه تعالى بين أنه كما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة، وإنما فصل بينهما لأن الغفران معناه إزالة العقاب، والجنة معناها إيصال الثواب، فجمع بينهما للأشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين، فأما وصف الجنة بأن عرضها السماوات: فمعلوم أن ذلك ليس بحقيقة لأن نفس السماوات لا تكون عرضا للجنة، فالمراد كعرض السماوات والأرض وههنا سؤالات.
السؤال الأول: ما معنى أن عرضها مثل عرض السماوات والأرض وفيه وجوه: الأول: أن المراد لو جعلت السماوات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة، وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله. والثاني: أن الجنة التي يكون عرضها مثل عرض السماوات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الانسان إنما يرغب فيما يصير ملكا، فلا بد وأن تكون الجنة المملوكة لكل
واحد مقدارها هذا. الثالث: قال أبو مسلم: وفيه وجه آخر وهو أن الجنة لو عرضت بالسموات والأرض على سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة، تقول إذا بعت الشيء بالشيء الآخر: عرضته عليه وعارضته به، فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر، وكذا أيضا معنى القيمة لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء بالشيء حتى يكون كل واحد منهما
5

مثلا للآخر. الرابع: المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله: * (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) * (هود: 107) فان أطول الأشياء بقاء عندنا هو السماوات والأرض، فخوطبنا على وفق ما عرفناه، فكذا ههنا.
السؤال الثاني: لم خص العرض بالذكر.
والجواب فيه وجهان: الأول: أنه لما كان العرض ذلك فالظاهر أن الطول يكون أعظم ونظيره قوله: * (بطائنها من إستبرق) * (الرحمن: 54) وإنما ذكر البطائن لأن من المعلوم أنها تكون أقل حالا من الظهارة، فإذا كانت البطانة هكذا فكيف الظهارة؟ فكذا ههنا إذا كان العرض هكذا فكيف الطول والثاني: قال القفال: ليس المراد بالعرض ههنا ما هو خلاف الطول، بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب: بلاد عريضة، ويقال هذه دعوى عريضة، أي واسعة عظيمة، والأصل فيه ان ما اتسع عرضه لم يضق، وما ضاق عرضه دق، فجعل العرض كناية عن السعة.
السؤال الثالث: أنتم تقولون: الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء؟
والجواب من وجهين: الأول: أن المراد من قولنا انها فوق السماوات وتحت العرش، قال عليه السلام: في صفة الفردوس " سقفها عرش الرحمن " وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: انك تدعو إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار. والمعنى والله أعلم أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل، وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة، قيل فأين هي؟ قال: فوق السماوات السبع تحت العرش.
والوجه الثاني: أن الذين يقولون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن، بل الله تعالى يخلقهما بعد قيام القيامة، فعلى هذا التقدير لا يبعد أن تكون الجنة مخلوقة في مكان السماوات والنار في مكان الأرض والله أعلم.
أما قوله: * (أعدت للمتقين) * فظاهره يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وقد سبق تقرير ذلك قوله تعالى:
* (الذين ينفقون فى السرآء والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) *
6

اعلم أنه تعالى لما بين أن الجنة معدة للمتقين ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الانسان من اكتساب لجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات. فالصفة الأولى: قوله: * (الذين ينفقون في السراء والضراء) * وفيه وجوه: الأول: أن المعنى أنهم في حال الرخاء واليسر والقدرة والعسر لا يتركون الانفاق، وبالجملة فالسراء هو الغنى، والضراء هو الفقر. يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة، وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب، والثاني: أن المعنى أنهم سواء كانوا في سرور أو في حزن أو في عسر أو في يسر فإنهم لا يدعون الاحسان إلى الناس، الثالث: المعنى أن ذلك الاحسان والانفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم، أو ساءهم بأن كان على خلاف طبعهم فإنهم لا يتركونه، وإنما افتتح الله بذكر الانفاق لأنه طاعة شاقة ولأنه كان في ذلك الوقت أشرف الطاعات لأجل الحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين.
الصفة الثانية: قوله تعالى: * (والكاظمين الغيظ) * وفيه مسئلتان.
المسألة الأولى: يقال: كظم غيظة إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل قال: المبرد تأويله أنه كتم على امتلائه منه، يقال: كظمت السقاء إذا ملأته وسددت عليه، ويقال: فلان لا يكظم على جرته إذا كان لا يحتمل شيئا، وكل ما سددت من مجرى ماء أو باب أو طريق فهو كظم، والذي يسد به يقال له الكظامة والسدادة، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض كظامة، لامتلائها بالماء كامتلاء القرب المكظومة، ويقال: أخذ فلان بكظم فلان إذا أخذ بمجرى نفسه، لأنه موضع الامتلاء بالنفس، وكظم البعير كظوما إذا أمسك على ما في جوفه ولم يجتر، ومعنى قوله: * (والكاظمين الغيظ) * الذين يكفون غيظهم عن الامضاء يردون غيظهم في أجوافهم، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم وهو كقوله: * (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) * (الشورى: 37).
المسألة الثانية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا " وقال عليه السلام: لأصحابه " تصدقوا " فتصدقوا بالذهب والفضة والطعام، وأتاه الرجل بقشور التمر فتصدق به، وجاءه آخر فقال والله ما عندي ما أتصدق به، ولكن أتصدق بعرضي فلا أعاقب أحدا بما يقوله في حديثه، فوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوم ذلك الرجل وفد، فقال عليه السلام: " لقد تصدق منكم رجل بصدقة ولقد قبلها الله منه تصدق بعرضه " وقال عليه السلام: " من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء " وقال عليه السلام: " ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن
7

عزاء ومن جرعة غيظ كظمها " وقال عليه السلام " ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب ".
الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (والعافين عن الناس) * قال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهى المؤمنون عن ذلك وندبوا إلى العفو عن المعسرين. قال تعالى: عقيب قصة الربا والتداين * (وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) * (البقرة: 280) ويحتمل أن يكون كما قال في الدية: * (فمن عفى له من أخيه شيء) * (البقرة: 178) إلى قوله: * (وأن تصدقوا خير لكم) * (البقرة: 280) ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مثلوا بحمزة وقال: " لأمثلن بهم " فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة، فكان تركه فعل ذلك عفوا، قال تعالى: في هذه القصة * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * (النحل: 126) قال صلى الله عليه وسلم: " لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه " وروي عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه: ليس الاحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة انما الاحسان أن تحسن إلى من أساء إليك.
أما قوله تعالى: * (والله يحب المحسنين) * فاعلم أنه يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون، وأن تكون للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء.
واعلم أن الاحسان إلى الغير إما أن يكون بايصال النفع إليه أو بدفع الضرر عنه. أما إيصال النفع إليه فهو المراد بقوله: * (الذين ينفقون في السراء والضراء) * ويدخل فيه انفاق العلم، وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة باساءة أخرى، وهو المراد بكظم الغيظ، وإما في الآخرة وهو أن يبرئ ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة، وهو المراد بقوله تعالى: * (والعافين عن الناس) * فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الاحسان إلى الغير، ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال: * (والله يحب المحسنين) * فان محبة الله للعبد أعم درجات الثواب.
وقال تعالى
* (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فا ستغفروا لذنوبهم ومن
8

يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزآؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) *.
واعلم أن وجه النظم من وجهين: الأول: أنه تعالى لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان: أحدهما: الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات، وهم الذين وصفهم الله بالانفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس. وثانيهما: الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله: * (والذين إذا فعلوا فاحشة) * وبين تعالى أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى في كونها متقية، وذلك لأن المذنب إذا تاب عن الذنب صار حاله كحال من لم يذنب قط في استحقاق المنزلة والكرامة عند الله.
والوجه الثاني: أنه تعالى ندب في الآية الأولى إلى الاحسان إلى الغير، وندب في هذه الآية إلى الاحسان إلى النفس، فان المذنب العاصي إذا تاب كانت تلك التوبة إحسانا منه إلى نفسه، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: روى ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في رجلين، أنصاري وثقفي، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قد آخى بينهما، وكانا لا يفترقان في أحوالهما، فخرج الثقفي مع الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرعة في السفر، وخلف الأنصاري على أهله ليتعاهدهم، فكان يفعل ذلك. ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها، فندم الرجل، فلما وافى الثقفي مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير الأنصاري، وكان قد هام في الجبال للتوبة، فلما عرف الرسول صلى الله عليه وسلم سكت حتى نزلت هذه الآية. وقال ابن مسعود: قال المؤمنون للنبي صلى الله عليه وسلم: كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا، فكان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: أجدع أنفك، افعل كذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار.
المسألة الثانية: الفاحشة ههنا نعت محذوف والتقدير: فعلوا فعلة فاحشة، وذكروا في الفرق بين الفاحشة وبين ظلم النفس وجوها: الأول: قال صاحب " الكشاف ": الفاحشة ما يكون فعله
9

كاملا في القبح، وظلم النفس: هو أي ذنب كان مما يؤاخذ الانسان به. والثاني: أن الفاحشة هي الكبيرة، وظلم النفس. هي الصغيرة، والصغيرة يجب الاستغفار منها، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالاستغفار وهو قوله: * (واستغفر لذنبك) * (محمد: 19) وما كان استغفاره دالا على الصغائر بل على ترك الأفضل. الثالث: الفاحشة: هي الزنا، وظلم النفس: هي القبلة واللمسة والنظرة، وهذا على قول من حمل الآية على السبب الذي رويناه، ولأنه تعالى سمى الزنا فاحشة، فقال تعالى: * (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة) * (الإسراء: 32).
أما قوله: * (ذكروا الله) * ففيه وجهان: أحدهما: أن المعنى ذكروا وعيد الله أو عقابه أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه، فيكون من باب حذف المضاف، والذكر ههنا هو الذي ضد النسيان وهذا معنى قول الضحاك، ومقاتل، والواقدي، فان الضحاك قال: ذكروا العرض الأكبر على الله، ومقاتل، والواقدي. قال: تفكروا أن الله سائلهم، وذلك لأنه قال: بعد هذه الآية * (فاستغفروا لذنوبهم) * وهذا يدل على أن الاستغفار كالأثر، والنتيجة لذلك: الذكر، ومعلوم أن الذكر الذي يوجب الاستغفار ليس إلا ذكر عقاب الله، ونهيه ووعيده، ونظير هذه الآية قوله: * (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) * (الأعراف: 201)
والقول الثاني: أن المراد بهذا الذكر ذكر الله بالثناء والتعظيم والاجلال، وذلك لأن من أراد أن يسأل الله مسألة، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله، فهنا لما كان المراد الاستغفار من الذنوب قدموا عليه الثناء على الله تعالى، ثم اشتغلوا بالاستغفار عن الذنوب.
ثم قال: * (فاستغفروا لذنوبهم) * والمراد منه الاتيان بالتوبة على الوجه الصحيح، وهو الندم على فعل ما مضى مع العز على ترك مثله في المستقبل، فهذا هو حقيقة التوبة، فأما الاستغفار باللسان، فذاك لا أثر له في إزالة الذنب، بل يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة، ولاظهار كونه منقطعا إلى الله تعالى، وقوله: * (لذنوبهم) * أي لأجل ذنوبهم.
ثم قال: * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * والمقصود منه أن لا يطلب العبد المغفرة إلا منه، وذلك لأنه تعالى هو القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة، فكان هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه، فصح أنه لا يجوز طلب الاستغفار إلا منه.
ثم قال: * (ولم يصروا على ما فعلوا) * واعلم أن قوله: * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، والتقدير: فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا على ما فعلوا.
وقوله: * (وهم يعلمون) * فيه وجهان: الأول: أنه حال من فعل الاصرار، والتقدير: ولم يصروا
10

على ما فعلوا من الذنوب حال ما كانوا عالمين بكونها محظورة محرمة لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بحرمته فإنه لا يعذر في فعله البتة. الثاني: أن يكون المراد منه العقل والتمييز والتمكين من الاحتراز من الفواحش فيجري مجرى قوله صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاث ".
ثم قال: * (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الانهار) * والمعنى أن المطلوب أمران: الأول: الأمن من العقاب واليه الإشارة بقوله: * (مغفرة من ربهم) * والثاني: إيصال الثواب إليه وهو المراد بقوله: * (جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها) * ثم بين تعالى أن الذي يحصل لهم من ذلك وهو الغفران والجنات يكون أجرا لعملهم وجزاء عليه بقوله: * (ونعم أجر العاملين) * قال القاضي: وهذا يبطل قول من قال إن الثواب تفضل من الله وليس بجزاء على عملهم.
* (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) *.
اعلم أن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال: * (قد خلت من قبلكم سنن) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه، وكذا الأمم الخالية، وأما السنة فهي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع، وفي اشتقاق هذه اللفظة وجوه: الأول: أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا
والى صبه، والسن الصب للماء، والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فإنه لتوالي أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشئ الواحد، والسنة فعلة بمعنى مفعول، وثانيها: أن تكون من: سننت النصل والسنان أسنه سنا فهو مسنون إذا حددته على المسن، فالفعل المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمي سنة على معنى أنه مسنون، وثالثها: أن يكون من قولهم: سن الإبل إذا أحسن الرعي، والفعل الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم سمي سنة بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام أحسن رعايته وادامته.
المسألة الثانية: المراد من الآية: قد انقضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة، واختلفوا
11

في ذلك، فالأكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى: * (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم، فرغب الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم إلى الايمان بالله ورسله والاعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه، وقال مجاهد: بل المراد سنن الله تعالى في الكافرين والمؤمنين؛ فان الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى، والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى ثم إنه تعالى قال: * (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر، وأيضا يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك انما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * انهم لهم المنصورون * وان جندنا لهم الغالبون) * (الصافات: 171 - 173) وقوله: * (والعاقبة للمتقين) * (الأعراف: 128، القصص: 83) وقوله: * (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) * (الأنبياء: 105).
المسألة الثالثة: ليس المراد بقوله * (فسيروا في الأرض فانظروا) * (النحل: 36) الأمر بذلك لا محالة، بل المقصود تعرف أحوالهم، فان حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا، ولا يمتنع أن يقال أيضا: ان لمشاهدة آثار المتقدمين أثرا أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر: إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
ثم قال تعالى: * (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) * ويعني بقوله: * (هذا) * ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده وذكره لأنواع البينات والآيات، ولا بد من الفرق بين البيان وبين الهدى وبين الموعظة، لأن العطف يقتضي المغايرة فنقول فيه وجهان: الأول: أن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت الشبهة حاصلة، فالفرق أن البيان عام في أي معنى كان، وأما الهدى فهو بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي. وأما الموعظة فهي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين، فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان: أحدهما: الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى. الثاني: الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة.
الوجه الثاني: أن البيان هو الدلالة، وأما الهدى فهو الدلالة بشرط كونها مفضية إلى الاهتداء، وقد تقدم هذا البحث في تفسير قوله: * (هدى للمتقين) * في سورة البقرة.
المسألة الرابعة: في تخصيص هذا البيان والهدى والموعظة للمتقين وجهان. أحدهما: أنهم
12

هم المنتفعون به، فكانت هذه الأشياء في حق غير المتقين كالمعدومة ونظيره قوله تعالى: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) * (إنما تنذر مع من اتبع الذكر) * (يس: 11) * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) وقد تقدم تقريره في تفسير قوله: * (هدى للمتقين) * الثاني: أن قوله: * (هذا بيان للناس) * كلام عام ثم قوله: * (وهدى وموعظة) * للمتقين مخصوص بالمتقين، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية، ولا شك أن هذا المعنى لا يحصل إلا في حق المتقين والله أعلم بالصواب.
* (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) *.
اعلم أن الذي قدمه من قوله: * (قد خلت من قبلكم سنن) * (آل عمران: 137) وقوله: هذا بيان للناس كالمقدمة لقوله: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا) * (آل عمران: 139) كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة، لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور، وصارت دولة أهل الحق عالية، وصولة أهل الباطل مندرسة، فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سببا لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم، بل يجب أن يقوى قلبكم فان الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة إليكم.
ثم نقول قوله: * (ولا تهنوا) * أي لا تضعفوا عن الجهاد، والوهن الضعف قال تعالى: حكاية عن زكريا عليه السلام * (إني وهن العظم مني) * وقوله: * (ولا تحزنوا) * أي على من قتل منكم أو جرح وقوله: * (وأنتم الأعلون) * فيه وجوه: الأول: أن حالكم أعلى من حالهم في القتل لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد، وهو كقوله تعالى: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا) * (آل عمران: 165) أو لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان، أو لأن قتالهم للدين الباطل وقتالكم للدين الحق، وكل ذلك يوجب كونكم أعلى حالا منهم. الثاني: أن يكون المراد وأنتم الأعلون بالحجة والتمسك بالدين والعاقبة الحميدة. الثالث: أن يكون المعنى وأنتم الأعلون من حيث أنكم في العاقبة تظفرون بهم وتستولون عليهم وهذا شديد المناسبة لما قبله، لأن القوم انكسرت قلوبهم بسبب ذلك الوهن فهم كانوا محتاجين إلى ما يفيدهم قوة في القلب، وفرحا في النفس، فبشرهم الله تعالى بذلك، فأما قوله: * (ان كنتم مؤمنين) * ففيه وجوه: الأول: وأنتم الأعلون ان
بقيتم على إيمانكم، والمقصود بيان أن الله تعالى إنما تكفل باعلاء درجتهم لأجل تمسكهم بدين الاسلام. الثاني: وأنتم الأعلون فكونوا مصدقين لهذه البشارة ان كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة. والثالث:
13

التقدير: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين، فان الله تعالى وعد بنصرة هذا الدين، فان كنتم من المؤمنين علمتم أن هذه الواقعة لا تبقى بحالها، وأن الدولة تصير للمسلمين والاستيلاء على العدو يحصل لهم.
* (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهدآء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين ءامنوا ويمحق الكافرين) *.
واعلم أن هذا من تمام قوله: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون) * (آل عمران: 139) فبين تعالى أن الذي يصيبهم من القرح لا يجب أن يزيل جدهم واجتهادهم في جهاد العدو، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم، وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم * (قرح) * بضم القاف وكذلك قوله: * (من بعد ما أصابهم القرح) * (آل عمران: 172) والباقون بفتح القاف فيهما واختلفوا على وجوه: فالأول: معناهما واحد، وهما لغتان: كالجهد والجهد، والوجد والوجد، والضعف والضعف. والثاني: أن الفتح لغة تهامة والحجاز والضم لغة نجد. والثالث: أنه بالفتح مصدر وبالضم اسم. والرابع: وهو قول الفرار انه بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألم الجراحة. والخامس: قال ابن مقسم: هما لغتان الا أن المفتوحة توهم انها جمع قرحة.
المسألة الثانية: في الآية قولان: أحدهما: إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مسهم يوم بدر، وهو كقوله تعالى: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا) * (آل عمران: 165) والثاني: أن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجرح والقتل، لأنه قتل منهم نيف وعشرون رجلا، وقتل صاحب لوائهم والجراحات كثرت فيهم وعقر عامة خيلهم بالنبل، وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار.
فان قيل كيف قال: * (قرح مثله) * وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟
14

قلنا: يجب أن يفسر القرح في هذا التأويل بمجرد الانهزام لا بكثرة القتلى.
ثم قال تعالى: * (وتلك الأيام نداولها بين الناس) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: * (تلك) * مبتدأ * (والأيام) * صفة * (ونداولها) * خبره ويجوز أن يقال: تلك الأيام مبتدأ وخبر كما تقول: هي الأيام تبلي كل جديد، فقوله: * (تلك الأيام) * إشارة إلى جميع أيام الوقائع العجيبة، فبين أنها دول تكون على الرجل حينا وله حينا والحرب سجال.
المسألة الثانية: قال القفال: المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي إذا تناقلته ومنه قوله تعالى: * (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) * (الحشر: 7) أي تتداولونها ولا تجعلون للفقراء منها نصيبا، ويقال: الدنيا دول، أي تنتقل من قوم إلى آخرين، ثم عنهم إلى غيرهم، ويقال: دال له الدهر بكذا إذا انتقل إليه، والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس لا يدوم مسارها ولا مضارها، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوه، ويوم آخر بالعكس من ذلك، ولا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها. واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين وذلك لأن نصرة الله منصب شريف وإعزاز عظيم، فلا يليق بالكافر، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه: الأول: أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الايمان حق وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الايمان، وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الاسلام فيعظم ثوابه عند الله. والثاني: أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي، فيكون عند الله تشديد المحنة عليه في الدنيا أدبا له وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضبا من الله عليه. والثالث: وهو أن لذات الدنيا وآلامها غير باقية وأحوالها غير مستمرة، وإنما تحصل السعادات المستمرة في دار الآخرة، ولذلك فإنه تعالى يميت بعد الاحياء، ويسقم بعد الصحة، فإذا حسن ذلك فلم لا يحسن أن يبدل السراء بالضراء، والقدرة بالعجز، وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ثم قال: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب، فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال، فقال عمر رضي الله عنه لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال: ان كان كما تزعمون، فقد خبنا اذن وخسرنا.
15

أما قوله تعالى: * (وليعلم الله الذين آمنوا) * ففيه مسائل.
المسألة الأولى: اللام في قوله: * (وليعلم الله) * متعلق بفعل مضمر، اما بعده أو قبله، أما الاضمار بعده فعلى تقدير * (وليعلم الله الذين آمنوا) * فعلنا هذه المداولة، وأما الاضمار قبله فعلى تقدير * (وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور، منها ليعلم الله الذين آمنوا، ومنها ليتخذ منكم شهداء، ومنها ليمحص الله الذين آمنوا، ومنها ليمحق الكافرين، فكل ذلك كالسبب والعلة في تلك المداولة.
المسألة الثانية: الواو في قوله: * (وليعلم الله الذين آمنوا) * نظائره كثيرة في القرآن، قال تعالى: * (وليكون من الموقنين) * (الأنعام: 75) وقال تعالى: * (ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون) * (الأنعام: 113) والتقدير: وتلك الأيام نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم الله، وإنما حذف المعطوف عليه للايذان بأن
المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة، ليسليهم عما جرى، وليعرفهم أن تلك الواقعة وأن شأنهم فيها، فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرهم.
المسألة الثالثة: ظاهر قوله تعالى: * (وليعلم الله الذين آمنوا) * مشعر بأنه تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى، ونظير هذه الآية في الاشكال قوله تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * (آل عمران: 142) وقوله: * (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) * (العنكبوت: 30) وقوله: * (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) * (الكهف: 12) وقوله: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) * وقوله: * (إلا لنعلم من يتبع الرسول وقوله: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * (هود: 7، الملك: 2) وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها، فقال: كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها.
أجاب المتكلمون عنه: بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها، فثبت أن التغيير في العلم محالا الا أن اطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور، يقال: هذا علم فلان والمراد معلومه، وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم، فالمراد تجدد المعلوم.
إذا عرفت هذا، فنقول: في هذه الآية وجوه: أحدها: ليظهر الاخلاص من النفاق والمؤمن من الكافر. والثاني: ليعلم أولياء الله، فأضاف إلى نفسه تفخيما. وثالثها: ليحكم بالامتياز، فوضع العلم مكان الحكم بالامتياز، لأن الحكم بالامتياز لا يحصل إلا بعد العلم. ورابعها: ليعلم ذلك واقعا منهم كما كان يعلم أنه سيقع، لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد.
16

المسألة الرابعة: العلم قد يكون بحيث يكتفي فيه بمفعول واحد، كما يقال: علمت زيدا، أي علمت ذاته وعرفته، وقد يفتقر إلى مفعولين، كما يقال: علمت زيدا كريما، والمراد منه في هذه الآية هذا القسم الثاني، إلا أن المفعول الثاني محذوف والتقدير: وليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالايمان من غيرهم، أي الحكمة في هذه المداولة أن يصير الذين آمنوا متميزين عمن يدعي الايمان بسبب صبرهم وثباتهم على الاسلام، ويحتمل أن يكون العلم ههنا من القسم الأول، بمعنى معرفة الذات، والمعنى وليعلم الله الذين آمنوا لما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم، أي ليعرفهم بأعيانهم إلا أن سبب حدوث هذا العلم، وهو ظهور الصبر حذف ههنا.
أما قوله: * (ويتخذ منكم شهداء) * فالمراد منه ذكر الحكمة الثانية في تلك المداولة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية قولان: الأول: يتخذ منكم شهداء على الناس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي، فان كونهم شهداء على الناس منصب عال ودرجة عالية. والثاني: المراد منه وليكرم قوما بالشهادة، وذلك لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر، وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر يقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة، وأيضا القرآن مملوء من تعظيم حال الشهداء قال تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 169) وقال: * (وجئ بالنبيين والشهداء) * (الزمر: 69) وقال: * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) * (النساء: 69) فكانت هذه المنزلة هي المنزلة الثالثة للنبوة، وإذا كان كذلك فكان من جملة الفوائد المطلوبة من تلك المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى فقالوا: منصب الشهادة على ما ذكرتم، فان كان يمكن تحصيلها بدون تسليط الكفار على المؤمنين لم يبق لحسن التعليل وجه، وإن كان لا يمكن فحينئذ يكون قتل الكفار للمؤمنين من لوازم تلك الشهادة، فإذا كان تحصيل تلك الشهادة للعبد مطلوبا لله تعالى وجب أن يكون ذلك القتل مطلوبا لله تعالى، وأيضا فقوله: * (ويتخذ منكم شهداء) * تنصيص على أن ما به حصلت تلك الشهادة هو من الله تعالى، وذلك يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى.
المسألة الثالثة: الشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء، والمقتول من المسلمين بسيف الكفار شهيدا، وفي تعليل هذا الاسم وجوه: الأول: قال النضر بن شميل: الشهداء أحياء لقوله: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 169) فأرواحهم حية وقد حضرت دار السلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها، الثاني: قال ابن الأنباري: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة، فالشهيد فعيل بمعنى مفعول، الثالث: سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين، كما قال تعالى: * (لتكونوا شهداء
17

على الناس) * (البقرة: 143) الرابع: سموا شهداء لأنهم كما قتلوا أدخلوا الجنة، بدليل أن الكفار كما ماتوا أدخلوا النار بدليل قوله: * (أغرقوا فأدخلوا نارا) * (نوح: 25) فكذا ههنا يجب أن يقال: هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله، كما ماتوا دخلوا الجنة.
ثم قال تعالى: * (والله لا يحب الظالمين) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي المشركين، لقوله تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) وهو اعتراض بين بعض التعليل وبعض، وفيه وجوه: الأول: والله لا يحب من لا يكون ثابتا على الايمان صابرا على الجهاد. الثاني: فيه إشارة إلى أنه تعالى إنما يؤيد الكافرين على المؤمنين لما ذكر من الفوائد، لا لأنه يحبهم.
ثم قال: * (وليمحص الله الذين آمنوا) * أي ليطهرهم من ذنوبهم ويزيلها عنهم، والمحص: في اللغة التنقية، والمحق في اللغة النقصان، وقال المفضل: هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء، ومنه قوله تعالى: * (يمحق الله الربا) * (البقرة: 276) أي يستأصله. قال الزجاج: معنى الآية أن الله تعالى جعل الأيام مداولة بين المسلمين والكافرين، فان حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين، وإن كانت الغلبة للمؤمنين على هؤلاء الكافرين كان المراد محق آثار الكافرين ومحوهم، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين، لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك باهلاك أنفسهم، وهذه مقابلة لطيفة في
المعنى. والأقرب أن المراد بالكافرين ههنا طائفة مخصوصة منهم وهم الذين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وإنما قلنا ذلك لعلمنا بأنه تعالى لم يمحق كل الكفار، بل كثير منهم بقي على كفره والله أعلم.
* (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين * ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى الوجوه التي هي الموجبات والمؤثرات في مداولة الأيام ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصلي لذلك، فقال * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) * بدون تحمل المشاق وفي الآية مسائل:
18

المسألة الأولى: أم: منقطعة، وتفسير كونها منقطعة تقدم في سورة البقرة. قال أبو مسلم: في * (أم حسبتم) * إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله: * (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) * (العنكبوت: 1 - 2) وافتتح الكلام بذكر " أم " التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما لا بعينه، يقولون: أزيدا ضربت أم عمروا، مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما، قال: وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا، فلما قال: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا) * (آل عمران: 139) كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر، وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها، وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا، فلما كان كذلك، فمن البعيد أن يصل الانسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة.
المسألة الثانية: قال الزجاج: إذا قيل فعل فلان، فجوابه أنه لم يفعل، وإذا قيل قد فعل فلان، فجوابه لما يفعل. لأنه لما أكد في جانب الثبوت بقد، لا جرم أكد في جانب النفي بكلمة " لما ".
المسألة الثالثة: ظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم، والمراد وقوعه على نفي المعلوم، والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم، وتقريره أن العلم متعلق بالمعلوم، كما هو عليه، فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم. حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر، وتمام الكلام فيه قد تقدم.
أما قوله: * (ويعلم الصابرين) * فاعلم أنه قرأ الحسن * (ويعلم الصابرين) * بالجزم عطفا على * (ولما يعلم الله) * وأما النصب فباضمار أن، وهذه الواو تسمى واو الصرف، كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، أي لا تجمع بينهما، وكذا ههنا المراد أن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان، وقرأ أبو عمرو * (ويعلم) * بالرفع على تقدير أن الواو للحال. كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.
واعلم أن حاصل الكلام أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة، فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر، وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا، والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله، وهذان الأمران مما لا يجتمعان، فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما، وأيضا حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى، فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا، ولكن الفصل فيه تسليط
19

المكروهات والمحبوبات، فان الحب هو الذي لا ينتقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء، فان بقي الحب عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحب كان حقيقيا، فلهذه الحكمة قال: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) * بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة والله أعلم.
* (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل، وأن لا ينتقلوا عن ذلك سواء كان الأمر لهم أو عليهم، فلما وقفوا وحملوا على الكفار وهزموهم وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم، والزبير والمقداد شدا على المشركين ثم حمل الرسول مع أصحابه فهزموا أبا سفيان، ثم إن بعض القوم لما أن رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتل في المسلمين، ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه، وأقبل يريد قتله، فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة، فظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قد قتلت محمدا، وصرخ صارح ألا ان محمدا قد قتل، وكان الصارخ الشيطان، ففشا في الناس خبر قتله، فهنالك قال بعض المسلمين: ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقال قوم من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم والى دينكم، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: يا قوم ان كان قد قتل محمد فان رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، ثم سل سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى، ومر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل، فقال: ان
20

كان قد قتل فقد بلغ، قاتلوا على دينكم، ولما شج ذلك الكافر وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته، احتمله طلحة بن عبيد الله، ودافع عنه أبو بكر وعلي رضي الله عنهم ونفر آخرون معهم، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ينادي ويقول: إلى عباد الله حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم، فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين، ومعنى الآية * (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل) * فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة والزام الحجة، لا وجودهم بين أظهر قومهم أبدا.
المسألة الثانية: قال أبو علي: الرسول جاء على ضربين: أحدهما: يراد به المرسل، والآخر الرسالة، وههنا المراد به المرسل بدليل قوله: * (إنك لمن المرسلين) * (البقرة: 252) وقوله: * (يا أيها الرسول بلغ) * (المائدة: 67) وفعول قد يراد به المفعول، كالركوب والحلوب لما يركب ويحلب والرسول بمعنى الرسالة كقوله: لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة، قال: ومن هذا قوله تعالى: * (انا رسولا ربك) * ونذكره في موضعه إن شاء الله تعالى ثم قال: * (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: حرف الاستفهام دخل على الشرط وهو في الحقيقة داخل على الجزاء، والمعنى أتنقلبون على أعقابكم ان مات محمد أو قتل، ونظيره قوله: هل زيد قائم، فأنت أنما تستخبر عن قيامه، الا انك أدخلت هل على الاسم والله أعلم.
المسألة الثانية: أنه تعالى بين في آيات كثيرة انه عليه السلام لا يقتل قال: * (انك ميت وإنهم ميتون) * (الزمر: 30) وقال: * (والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 67) وقال: * (ليظهره على الدين كله) * (الصف: 9) فليس لقائل أن يقول: لما علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل؟ فان الجواب عنه من وجوه: الأول: أن صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق جزأيها، فإنك تقول: ان كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين، فالشرطية صادقة وجزآها كاذبان، وقال تعالى: * (لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) فهذا حق مع أنه ليس فيهما آلهة، وليس فيهما فساد، فكذا ههنا. والثاني: ان هذا ورد على سبيل الالزام، فان موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك، والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لا يرجعون عن دينه، فكذا ههنا، والثالث: ان الموت لا يوجب رجوع الأمة عن دينه، فكذا القتل وجب أن لا يوجب الرجوع عن دينه، لأنه فارق بين الأمرين، فلما رجع إلى هذا المعنى كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين وهموا بالارتداد.
21

المسألة الثالثة: قوله: * (انقلبتم على أعقابكم) * أي صرتم كفارا بعد إيمانكم، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه: رجع وراءه وانقلب على عقبه ونكص على عقبيه، وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين: ان كان محمد قتل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار: ان كان محمد قتل فان رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد. وحاصل الكلام انه تعالى بين أن قلته لا يوجب ضعفا في دينه بدليلين: الأول: بالقياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم، والثاني: أن الحاجة إلى الرسول لتبليغ الدين وبعد ذلك فلا حاجة إليه، فلم يلزم من قتله فساد الدين والله أعلم.
المسألة الرابعة: ليس لقائل أن يقول: ان قوله: * (أفإن مات أو قتل) * شك وهو على الله تعالى لا يجوز، فانا نقول: المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الارتداد.
ثم قال تعالى: * (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) * والغرض منه تأكيد الوعيد، لأن كل عاقل يعلم أن الله تعالى لا يضره كفر الكافرين، بل المراد أنه لا يضر الا نفسه، وهذا كما إذا قال الرجل لولده عند العتاب: ان هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض، ويريد به أنه يعود ضرره عليه فكذا ههنا، ثم أتبع الوعيد بالوعد فقال: * (وسيجزي الله الشاكرين) * فالمراد أنه لما وقعت الشبهة في قلوب بعضهم بسبب تلك الهزيمة ولم تقع الشبهة في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين، فهم شكروا الله على ثباتهم على الايمان وشدة تمسكهم به، فلا جرم مدحهم الله تعالى بقوله: * (وسيجزي الله الشاكرين) * وروى محمد بن جرير الطبري عن علي رضي الله عنه أنه قال: المراد بقوله: * (وسيجزي الله الشاكرين) * أبو بكر وأصحابه، وروي عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين وهو من أحباء الله والله أعلم بالصواب.
* (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الاخرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية تعلق هذه الآية بما قبله وجوه: الأول: أن المنافقين أرجفوا أن محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل، فالله تعالى يقول: انه لا تموت نفس الا بإذن الله وقضائه وقدره،
22

فكان قتله مثل موته في أنه لا يحصل الا في الوقت المقدر المعين، فكما أنه لو مات في داره لم يدل ذلك على فساد دينه، فكذا إذا قتل وجب أن لا يؤثر ذلك في فساد دينه، والمقصود منه ابطال قول المنافقين لضعفة المسلمين انه لما قتل محمد فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الأديان. الثاني: أن يكون المراد تحريض المسلمين على الجهاد باعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر، وان أحدا لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء، فلا فائدة في الجبن والخوف. والثالث: أن يكون المراد حفظ الله للرسول صلى الله عليه وسلم وتخليصه من تلك المعركة المخوفة، فان تلك الواقعة ما بقي سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل فيها، ولكن لما كان الله تعالى حافظا وناصرا ما ضره شيء من ذلك وفيه تنبيه على أن أصحابه قصروا في الذب عنه. والرابع: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله، فليس في ارجاف من أرجف بموت النبي صلى الله عليه وسلم ما يحقق ذلك فيه أو يعين في تقوية الكفر، بل يبقيه الله إلى أن يظهر على الدين كله. الخامس: أن المقصود منه الجواب عما قاله المنافقون، فان الصحابة لما رجعوا وقد قتل منهم من قتل قالوا: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فأخبر الله تعالى ان الموت والقتل كلاهما لا يكونان الا بإذن الله وحضور الأجل والله أعلم بالصواب. المسألة الثانية: أخلفوا في تفسير الاذن على أقوال: الأول: أن يكون الاذن هو الامر وهو قول أبي مسلم، والمعنى ان الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلا بهذا الامر. الثاني: ان المراد من هذا الاذن ما هو المراد بقوله: * (انما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن
فيكون) * (النحل: 40) والمراد من هذا الأمر انما هو التكوين والتخليق والايجاد، لأنه لا يقدر على الموت والحياة أحد الا الله تعالى، فاذن المراد: أن نفسا لن تموت الا بما أماتها الله تعالى. الثالث: أن يكون الاذن هو التخلية والاطلاق وترك المنع بالقهر والاجبار، وبه فسر قوله تعالى: * (وما هم بضارين به من أحد الا بإذن الله) * (البقرة: 102) أي بتخليته فإنه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر، فيكون المعنى: ما كان لنفس أن تموت الا بإذن الله بتخلي الله بين القاتل والمقتول، ولكنه تعالى يحفظ نبيه ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به، ولا يخلي بين أحد وبين قتله حتى ينتهي إلى الاجل الذي كتبه الله له، فلا تنكسروا بعد ذلك في غزواتكم بأن يرجف مرجف أن محمدا قد قتل. الرابع: أن يكون الاذن بمعنى العلم ومعناه أن نفسا لن تموت إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه، وإذا جاء ذلك الوقت لزم الموت، كما قال * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * (النحل: 61) الخامس: قال ابن عباس: الاذن هو قضاء الله وقدره، فإنه لا يحدث شيء إلا بمشيئته وارادته فيجعل ذلك على سبيل التمثيل، كأنه فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله.
23

المسألة الثالثة: قال الأخفش والزجاج: اللام في * (وما كان لنفس) * معناها النفي، والتقدير وما كانت نفس لتموت الا بإذن الله.
المسألة الرابعة: دلت الآية على أن المقتول ميت بأجله، وأن تغيير الآجال ممتنع.
وقوله تعالى: * (كتابا مؤجلا) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (كتابا مؤجلا) * منصوب بفعل دل عليه ما قبله فان قوله: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) * قام مقام أن يقال: كتب الله، فالتقدير كتب الله كتابا مؤجلا ونظيره قوله: * (كتاب الله عليكم) * لأن في قوله * (حرمت عليكم أمهاتكم) * (النساء: 23) دلالة على أنه كتب هذا التحريم عليكم ومثله: صنع الله، ووعد الله، وفطرة الله، وصبغة الله.
المسألة الثانية: المراد بالكتاب المؤجل الكتاب المشتمل على الآجال، ويقال: انه هو اللوح المحفوظ، كما ورد في الأحاديث أنه تعالى قال للقلم " اكتب فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ".
واعلم أن جميع الحوادث لا بد أن تكون معلومة لله تعالى، وجميع حوادث هذا العالم من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة لا بد وأن تكون مكتوبة في اللوح المحفوظ، فلو وقعت بخلاف علم الله لانقلب علمه جهلا، ولانقلب ذلك الكتاب كذبا، وكل ذلك محال، وإذا كان الأمر كذلك ثبت ان الكل بقاء الله وقدره. وقد ذكر بعض العلماء هذا المعنى في تفسير هذه الآية وأكده بحديث الصادق المصدوق، وبالحديث المشهور من قوله عليه السلام " فحج آدم موسى " قال القاضي: أما الأجل والرزق فهما مضافان إلى الله، وأما الكفر والفسق والايمان والطاعة فكل ذلك مضاف إلى العبد، فإذا كتب تعالى ذلك فإنما يكتب بعلمه من اختيار العبد، وذلك لا يخرج العبد من أن يكون هو المذموم أو الممدوح.
واعلم أنه ما كان من حق القاضي أن يتغافل عن موضع الاشكال، وذلك لأنا نقول: إذا علم الله من العبد الكفر وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر، فلو أتى بالايمان لكان ذلك جمعا بين المتناقضين، لأن العلم بالكفر والخبر الصدق عن الكفر مع عدم الكفر جمع بين النقيضين وهو محال، وإذا كان موضع الالزام هو هذا فأنى ينفعه الفرار من ذلك إلى الكلمات الأجنبية عن هذا الالزام.
وأما قوله تعالى: * (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين) *.
فاعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين، منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة
24

كما ذكره الله تعالى فيما بعد من هذه السورة، فالذين حضروا القتال للدنيا، هم الذين حضروا لطلب الغنائم والذكر والثناء، وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا، والذين حضروا للدين، فلا بد وأن لا ينهزموا ثم أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد وأن يصل إلى بعض مقصوده ومن طلب الآخرة فكذلك، وتقريره قوله عليه السلام: " إنما الأعمال بالنيات " إلى آخر الحديث.
واعلم أن هذه الآية وان وردت في الجهاد خاصة، لكنها عامة في جميع الأعمال، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب، والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال، فان من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه، فان قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الاسلام، وان قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر. وروى أبو هريرة عنه عليه السلام ان الله تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل الله " في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى: كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك " ثم إن الله تعالى يأمر به إلى النار.
* (وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لمآ أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) *.
واعلم أنه تعالى من تمام تأديبه قال للمنهزمين يوم أحد: إن لكم بالأنبياء المتقدمين وأتباعهم أسوة حسنة، فلما كانت طريقة أتباع الأنبياء المتقدمين الصبر على الجهاد وترك الفرار، فكيف يليق بكم هذا الفرار والانهزام، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير " وكائن " على وزن كاعن ممدودا مهموزا مخففا، وقرأ الباقون " كأين " مشدودا بوزن كعين وهي لغة قريش، ومن اللغة الأولى قول جرير:
وكائن بالأباطح من صديق * يراني لو أصيب هو المصاب
وأنشد المفضل: وكائن ترى في الحي من ذي قرابة. (c)
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (قتل معه) والباقون (قاتل معه) فعلى القراءة الأولى يكون المعنى أن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم، بل استمروا
25

على جهاد عدوهم ونصرة دينهم، فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة محمد هكذا. قال القفال رحمه الله: والوقف على هذا التأويل على قوله: (قتل) وقوله: (معه ربيون) حال بمعنى قتل حال ما كان معه ربيون، أو يكون على معنى التقديم والتأخير، أي وكأين من نبي معه ربيون كثير قتل فما وهن الربيون على كثرتهم، وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المعنى وكأين من نبي قتل من إخوانهم، بل مضوا على جهاد عدوهم، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك، وحجة هذه القراءة أن المقصود من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم، وقد قال تعالى: * (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) * (آل عمران: 144) فيجب أن يكون المذكور قتل سائر الأنبياء لا قتالهم، ومن قرأ (قاتل معه) فالمعنى: وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا، لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة رسوله، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد. وحجة هذه القراءة ان المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال، فوجب أن يكون المذكور هو القتال. وأيضا روي عن سعيد بن جبير أنه قال: ما سمعنا بنبي قتل في القتال.
المسألة الثالثة: قال الواحدي رحمه الله: أجمعوا على أن معنى " كأين " كم، وتأويلها التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم، ونظيره قوله: * (فكأين من قرية أهلكناها) * (الحج: 45) * (وكأين من قرية أمليت لها) * (الحج: 48) والكافي في " كأين " كاف التشبيه دخلت على " أي " التي هي للاستفهام كما دخلت على " ذا " من " كذا " و " أن " من كأن، ولا معنى للتشبيه فيه كما لا معنى للتشبيه في كذا، تقول: لي عليه كذا وكذا: معناه لي عليه عدد ما، فلا معنى للتشبيه، الا أنها زيادة لازمة لا يجوز حذفها، واعلم أنه لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة، وكذا استعمال هذه الكلمة فصارت كلمة واحدة موضوعة للتكثير.
المسألة الرابعة: قال صاحب " الكشاف ": الربيون الربانيون، وقرئ بالحركات الثلاث والفتح على القياس، والضم والكسر من تغييرات النسب. وحكى الواحدي عن الفراء أنه قال: الربيون: الأولون، وقال الزجاج: هم الجماعات الكثيرة، الواحد ربي، قال ابن قتيبة: أصله من الربة وهي الجماعة، يقال: ربي كأنه نسب إلى الربة. وقال الأخفش: الربيون الذين يعبدون الرب، وطعن فيه ثعلب، وقال: كان يجب أن يقال: ربي ليكون منسوبا إلى الرب، وأجاب من نصر الأخفش وقال: العرب إذا نسبت شيئا إلى شيء غيرت حركته، كما يقال: بصري في النسب إلى البصرة،
26

ودهري في النسبة إلى الدهر، وقال ابن زيد: الربانيون الأئمة والولاة، والربيون الرعية، وهم المنتسبون إلى الرب.
واعلم أنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بنوعين: أولا بصفات النفي، وثانيا بصفات الاثبات، أما المدح بصفات النبي فهو قوله تعالى: * (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا) * ولا بد من الفرق بين هذه الأمور الثلاثة، قال صاحب " الكشاف ": ما وهنوا عند قتل النبي وما ضعفوا عن الجهاد بعده وما استكانوا للعدو، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار، عند الارجاف بقتل رسولهم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين، واستكانتهم للكفار حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي، وطلب الأمان من أبي سفيان، ويحتمل أيضا أن يفسر الوهن باستيلاء الخوف عليهم، ويفسر الضعف بأن يضعف إيمانهم، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم، والاستكانة هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم، وفيه وجه ثالث وهو ان الوهن ضعف يلحق القلب. والضعف المطلق هو اختلال القوة والقدرة بالجسم، والاستكانة هي إظهار ذلك العجز وذلك الضعف، وكل هذه الوجوه حسنة محتملة، قال الواحدي: الاستكانة الخضوع، وهو أن يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريد.
ثم قال تعالى: * (والله يحب الصابرين) * والمعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طريق الله ولم يظهر الجزع والعجز والهلع فان الله يحبه، ومحبة الله تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه واعزازه وتعظيمه، والحكم له بالثواب والجنة، وذلك نهاية المطلوب.
ثم انه تعالى أتبع ذلك بأن مدحهم بصفات الثبوت فقال:
* (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين 1) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: * (وثبت أقدامنا) * يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى، والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف.
المسألة الثانية: بين تعالى أنهم كانوا مستعدين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع بطلب
27

الامداد والاعانة من الله، والغرض منه أن يقتدى بهم في هذه الطريقة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فان من عول في تحصيل مهماته على نفسه ذل، ومن اعتصم بالله فاز بالمطلوب، قال القاضي: إنما قدموا قولهم: * (ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا) * لأنه تعالى لما ضمن النصرة للمؤمنين، فإذا لم تحصل النصرة وظهر أمارات استيلاء العدو، دل ذلك ظاهرا على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين؛ فلهذا المعنى يجب عليهم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة، فبين تعالى أنهم بدأوا بالتوبة عن كل المعاصي وهو المراد بقوله: * (ربنا اغفر لنا ذنوبنا) * فدخل فيه كل الذنوب، سواء كانت من الصغائر أو من الكبائر، ثم انهم خصوا الذنوب العظيمة الكبيرة منها بالذكر بعد ذلك لعظمها وعظم عقابها وهو المراد من قوله: * (وإسرافنا في أمرنا) * لان الاسراف في كل شيء هو الافراط فيه، قال تعالى: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * (الزمر: 53) وقال: * (فلا يسرف في القتل) * (الإسراء: 33) وقال: * (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) * (الأعراف: 31) ويقال: فلان مسرف إذا كان مكثرا في النفقة وغيرها، ثم انهم لما فرغوا من ذلك سألوا ربهم أن يثبت أقدامهم، وذلك بإزالة الخوف عن قلوبهم، وإزالة
الخواطر الفاسدة عن صدورهم، ثم سألوا بعد ذلك أن ينصرهم على القوم الكافرين، لان هذه النصرة لا بد فيها من أمور زائدة على ثبات أقدامهم، وهو كالرعب الذي يلقيه في قلوبهم، واحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم، مثل هبوب رياح تثير الغبار في وجوههم، ومثل جريان سيل في موضع وقوفهم، ثم قال القاضي: وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره.
* (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الاخرة والله يحب المحسنين) *.
واعلم أنه تعالى لما شرح طريقة الربيين في الصبر، وطريقتهم في الدعاء ذكر أيضا ما ضمن لهم في مقابلة ذلك في الدنيا والآخرة فقال: * (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (فآتاهم الله) * يقتضي أنه تعالى أعطاهم الامرين، أما ثواب الدنيا فهو النصرة والغنيمة وقهر العدو والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الايمان وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والسيئات، وأما ثواب الآخرة فلا شك أنه هو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم، وذلك غير حاصل في الحال، فيكون المراد أنه تعالى حكم لهم بحصولها في الآخرة، فأقام حكم الله بذلك مقام نفس الحصول، كما أن الكذب في وعد الله والظلم في عدله محال، أو يحمل قوله: * (فآتاهم) * على أنه سيؤتيهم على قياس قوله: * (أتي أمر الله) * أي سيأتي أمر الله. قال
28

القاضي: ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداء، وقد أخبر الله تعالى عن بعضهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فيكون حال هؤلاء الربيين أيضا كذلك، فإنه تعالى في حال انزال هذه الآية كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة في جنان السماء.
المسألة الثانية: خص تعالى ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على جلالة ثوابهم، وذلك لأن ثواب الآخرة كله في غاية الحسن، فما خصه الله بأنه حسن من هذا الجنس فانظر كيف يكون حسنه، ولم يصف ثواب الدنيا بذلك لقلتها وامتزاجها بالمضار وكونها، منقطعة زائلة، قال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله: * (وقولوا للناس حسنا) * (البقرة: 83) أي حسنا، والغرض منه المبالغة كأن تلك الأشياء الحسنة لكونها عظيمة في الحسن صارت نفس الحسن، كما يقال: فلان جود وكرم، إذا كان في غاية الجود والكرم والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال فيما تقدم: * (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) * (آل عمران: 145) فذكر لفظة " من " الدالة على التبعيض فقال في الآية: * (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة) * ولم يذكر كلمة " من " والفرق: أن الذين يريدون ثواب الآخرة انما اشتغلوا بالعبودية لطلب الثواب، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلة، وأما المذكورون في هذه الآية فإنهم لم يذكروا في أنفسهم الا الذنب والقصور، وهو المراد من قوله: * (اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا) * (آل عمران: 147) ولم يروا التدبير والنصرة والاعانة الا من ربهم، وهو المراد بقوله: * (وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) * (آل عمران: 147) فكان مقام هؤلاء في العبودية في غاية الكمال، فلا جرم أولئك فازوا ببعض الثواب، وهؤلاء فازوا بالكل، وأيضا أولئك أرادوا الثواب، وهؤلاء ما أرادوا الثواب. وإنما أرادوا خدمة مولاهم فلا جرم أولئك حرموا وهؤلاء أعطوا، ليعلم أن كل من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله.
ثم قال: * (والله يحب المحسنين) * وفيه دقيقة لطيفة وهي أن هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا: * (ربنا أغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا) * فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين، كأن الله تعالى يقول لهم:
إذا اعترفت باساءتك وعجزك فأنا أصفك بالاحسان وأجعلك حبيبا لنفسي، حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله الا باظهار الذلة والمسكنة والعجز. وأيضا: انهم لما أرادوا الاقدام على الجهاد طلبوا تثبيت أقدامهم في دينه ونصرتهم على العدو من الله تعالى، فعند ذلك سماهم بالمحسنين، وهذا يدل على أن العبد لا يمكنه الاتيان بالفعل الحسن، الا إذا أعطاه الله ذلك الفعل
29

الحسن وأعانه عليه، ثم إنه تعالى قال: * (هل جزاء الاحسان الا الاحسان) * (الرحمن: 60) وقال: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * (يونس: 26) وكل ذلك يدل على أنه سبحانه هو الذي يعطي الفعل الحسن للعبد، ثم أنه يثيبه عليه ليعلم العبد ان الكل من الله وباعانة الله.
* (يا أيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) *.
واعلم أن هذه الآية من تمام الكلام الأول، وذلك لأن الكفار لما أرجفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، ودعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر، منع الله المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين. فقال: * (يا أيها الذين آمنوا ان تطيعوا الذين كفروا) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قيل: * (ان تطيعوا الذين كفروا) * المراد أبو سفيان، فإنه كان كبير القوم في ذلك اليوم، قال السدي: المراد أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن، وقال آخرون: المراد عبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين، وهم الذين ألقوا الشبهات في قلوب الضعفة وقالوا لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة، وإنما هو رجل كسائر الناس، يوما له ويوما عليه، فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم فيه، وقال آخرون: المراد اليهود لأنه كان بالمدينة قوم من اليهود، وكانوا يلقون الشبهة في قلوب المسلمين، ولا سيما عند وقوع هذه الواقعة، والأقرب أنه يتناول كل الكفار، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ.
المسألة الثانية: قوله: * (ان تطيعوا الذين كفروا) * لا يمكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه بل لا بد من التخصيص فقيل: ان تطيعوهم فيما أمروكم به يوم أحد من ترك الاسلام، وقيل: ان تطيعوهم في كل ما يأمرونكم من الضلال، وقيل في المشورة، وقيل في ترك المحاربة وهو قولهم: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا).
ثم قال: * (يردوكم على أعقابكم) * يعني يردوكم إلى الكفر بعد الإيمان، لأن قبول قولهم في الدعوة إلى الكفر كفر.
30

ثم قال: * (فتنقلبوا خاسرين) *.
واعلم أن اللفظ لما كان عاما وجب أن يدخل فيه خسران الدنيا والآخرة، أما خسران الدنيا فلأن أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له وإظهار الحاجة إليه، وأما خسران الآخرة فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد.
ثم قال تعالى: * (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) * والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا جهل، لأنهم عاجزون متحيرون، والعاقل يطلب النصرة من الله تعالى، لأنه هو الذي ينصركم على العدو ويدفع عنكم كيده، ثم بين أنه خير الناصرين، ولو لم يكن المراد بقوله: * (مولاكم وهو خير الناصرين) * النصرة، لم يصح أن يتبعه بهذا القول، وإنما كان تعالى خير الناصرين لوجوه: الأول: أنه تعالى هو القادر على نصرتك في كل ما تريد، والعالم الذي لا يخفى عليه دعاؤك وتضرعك، والكريم الذي لا يبخل في جوده، ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه، والثاني: أنه ينصرك في الدنيا والآخرة، وغيره ليس كذلك، والثالث: أنه ينصرك قبل سؤالك ومعرفتك بالحاجة، كما قال: * (قل من يكلؤكم بالليل والنهار) * (الأنبياء: 42) وغيره ليس كذلك.
واعلم أن قوله: * (وهو خير الناصرين) * ظاهره يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصرين وهو منزه عن ذلك، لكنه ورد الكلام على حسب تعارفهم كقوله: * (وهو أهون عليه) * (الروم: 27).
* (سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب بمآ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) *.
اعلم أن هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره، فإنه تعالى ذكر وجوها كثيرة في الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار، ومن جملتها ما ذكر في هذه الآية أنه تعالى يلقي الخوف في قلوب الكفار، ولا شك أن ذلك مما يوجب استيلاء المسلمين عليهم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اختلفوا في أن هذا الوعد هل هو مختص بيوم أحد، أو هو عام في جميع الأوقات؟ قال كثير من المفسرين: إنه مختص بهذا اليوم، وذلك لأن جميع الآيات المتقدمة إنما
31

وردت في هذه الواقعة، ثم القائلون بهذا القول ذكروا في كيفية إلقاء الرعب في قلوب المشركين في هذا اليوم وجهين: الأول: أن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم، فتركوهم وفروا منهم من غير سبب، حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل، وقال: أين ابن أبي كبشة، وأين ابن أبي قحافة، وأين ابن الخطاب، فأجابه عمر، ودارت بينهما كلمات، وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم، والثاني: أن الكفار لما ذهبوا إلى مكة، فلما كانوا في بعض الطريق قالوا: ما صنعنا شيئا، قتلنا الأكثرين منهم، ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم.
والقول الثاني: أن هذا الوعد غير مختص بيوم أحد، بل هو عام. قال القفال رحمه الله: كأنه قيل إنه وان وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك في قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار، ويظهر دينكم على سائر الأديان. وقد فعل الله ذلك حتى صار دين الاسلام قاهرا لجميع الأديان والملل، ونظير هذه الآية قوله عليه السلام " نصرت بالرعب مسيرة شهر ".
المسألة الثانية: قرأ ابن عامر والكسائي * (الرعب) * بضم العين، والباقون بتخفيفها في كل القرآن، قال الواحدي: هما لغتان، يقال: رعبته رعبا ورعبا وهو مرعوب، ويجوز أن يكون الرعب مصدرا، والرعب اسم منه.
المسألة الثالثة: الرعب: الخوف الذي يحصل في القلب، وأصل الرعب الملء، يقال سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار، وإنما سمي الفزع رعبا لأنه يملأ القلب خوفا.
المسألة الرابعة: ظاهر قوله: * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) * يقتضي وقوع الرعب في جميع الكفار، فذهب بعض العلماء إلى اجراء هذا العموم على ظاهره، لأنه لا أحد يخالف دين الاسلام إلا وفي قلبه ضرب من الرعب من المسلمين، إما في الحرب، وإما عند المحاجة.
وقوله تعالى: * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) * لا يقتضي وقوع جميع أنواع الرعب في قلوب الكفار، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوه، وذهب جمع من المفسرين إلى أنه مخصوص بأولئك الكفار.
أما قوله: * (بما أشركوا بالله) * فاعلم أن " ما " مصدرية، والمعنى: بسبب إشراكهم بالله.
واعلم أن تقدير هذا بالوجه المعقول هو أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار كما قال: * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) * (النحل: 62) ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار، لأنه يقول:
32

إن كان هذا المعبود لا ينصرني، فذاك الآخر ينصرني، وإن لم يحصل في قلبه الاضطرار لم تحصل الإجابة ولا النصرة، وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعب والخوف في قلبه، فثبت أن الاشراك بالله يوجب الرعب.
أما قوله: * (ما لم ينزل به سلطانا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: السلطان ههنا هو الحجة والبرهان، وفي اشتقاقه وجوه: الأول: قال الزجاج: إنه من السليط وهو الذي يضاء به السراج، وقيل للأمراء سلاطين لأنهم
الذين بهم يتوصل الناس إلى تحصيل الحقوق. الثاني: أن السلطان في اللغة هو الحجة، وإنما قيل للأمير سلطان، لأن معناه أنه ذو الحجة. الثالث: قال الليث: السلطان القدرة، لأن أصل بنائه من التسليط وعلى هذا سلطان الملك: قوته وقدرته، ويسمى البرهان سلطانا لقوته على دفع الباطل. الرابع: قابل ابن دريد: سلطان كل شيء حدته، وهو مأخوذ من اللسان السليط، والسلاطة بمعنى الحدة.
المسألة الثانية: قوله: * (ما لم ينزل به سلطانا) * يوهم أن فيه سلطانا إلا أن الله تعالى ما أنزله وما أظهره، إلا أن الجواب عنه أنه لو كان لأنزل الله به سلطانا، فلما لم ينزل به سلطانا وجب عدمه، وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون: أن هذا مما لا دليل علي فلم يجز إثباته، ومنهم من يبالغ فيقول: لا دليل عليه فيجب نفيه، ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع، فقال: لا سبيل إلى اثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات إليه، ويكفي في دفع هذه الحاجة اثبات الصانع الواحد، فما زاد عليه لا سبيل إلى اثباته فلم يجز اثباته.
المسألة الثالثة: هذه الآية دالة على فساد التقليد، وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه، فوجب أن يكون القول به باطلا، وهذا إنما يصح إذا كان القول باثبات ما لا دليل على ثبوته يكون باطلا، فيلزم فساد القول بالتقليد.
ثم قال تعالى: * (ومأواهم النار) *.
واعلم أنه تعالى بين أن أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا هو وقوع الخوف في قلوبهم، وبين أحوالهم في الآخرة، وهي أن مأواهم ومسكنهم النار.
ثم قال: * (وبئس مثوى الظالمين) * المثوى: المكان الذي يكون مقر الانسان ومأواه، من قولهم: ثوى يثوي ثويا، وجمع المثوى مثاوي.
* (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الامر
33

وعصيتم من بعد مآ أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) *.
اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها من وجوه: الأول: أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر! فأنزل الله تعالى هذه الآية. الثاني: قال بعضهم كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق الله رؤياه بقتل طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين يوم أحد، وقتل بعده تسعة نفر على اللواء فذاك قوله: * (ولقد صدقكم الله وعده) * يريد تصديق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم. الثالث: يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى: * (بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم) * (آل عمران: 125) إلا أن هذا كان مشروطا بشرط الصبر والتقوى. والرابع: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: * (ولينصرن الله من ينصره) * إلا أن هذا أيضا مشروط بشرط. والخامس: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) * (آل عمران: 151) والسادس: قيل: الوعد هو ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للرماة: " لا تبرحوا من هذا المكان، فانا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان " السابع: قال أبو مسلم: لما وعدهم الله في الآية المتقدمة إلقاء الرعب في قلوبهم أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعد بالنصر في واقعة أحد، فإنه لما وعدهم بالنصرة بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتوا بذلك الشرط لا جرم، وفى الله تعالى بالمشروط وأعطاهم النصرة، فلما تركوا الشرط لا جرم فاتهم المشروط.
إذا عرفت وجه النظم ففي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: الصدق يتعدى إلى مفعولين، تقول: صدقته الوعد والوعيد.
المسألة الثانية: قد ذكرنا في قصة أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أحدا خلف ظهره
34

واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل، وأمرهم أن يثبتوا هناك ولا يبرحوا، سواء كانت النصرة للمسلمين أو عليهم، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا، والمسلمون على آثارهم يحسونهم، قال الليث: الحس: القتل الذريع، تحسونهم: أي تقتلونهم قتلا كثيرا، قال أبو عبيد، والزجاج، وابن قتيبة: الحس: الاستئصال بالقتل، يقال: جراد محسوس. إذا قتله البرد. وسنة حسوس: إذا أتت على كل شيء، ومعنى " تحسونهم " أي تستأصلونهم قتلا، قال أصحاب الاشتقاق: " حسه " إذا قتله لأنه أبطل حسه بالقتل، كما يقال: بطنه إذا أصاب بطنه، ورأسه، إذا أصاب رأسه، وقوله: * (باذنه) * أي بعلمه، ومعنى الكلام أنه تعالى لما وعدكم النصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة فما دمتم وافين بهذا الشرط أنجز وعده ونصركم على أعدائكم، فلما تركتم الشرط وعصيتم أمر ربكم لا جرم زالت تلك النصرة. أما قوله تعالى: * (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول ظاهر قوله: * (حتى إذا فشلتم) * بمنزلة الشرط، ولا بد له من الجواب فأين جوابه؟
واعلم أن للعلماء ههنا طريقين: الأول: أن هذا ليس بشرط، بل المعنى، ولقد صدقكم الله وعده حتى إذا فشلتم، أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع، لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر، وعلى هذا القول تكون كلمة " حتى " غاية بمعنى " إلى " فيكون معنى قوله: * (حتى إذا) * إلى أن، أو إلى حين.
الطريق الثاني: أن يساعد على أن قوله: * (حتى إذا فشلتم) * شرط، وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه: الأول: وهو قول البصريين أن جوابه محذوف، والتقدير: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم الله نصره، وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله: * (ولقد صدقكم الله وعده) * عليه، ونظائره في القرآن كثيرة، قال تعالى: * (فان استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية) * (الأنعام: 35)
والتقدير: فافعل، ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه، وقال: * (أمن هو قانت آناء الليل) * (الزمر: 9) والتقدير: أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك؟
الوجه الثاني: وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء: أن جوابه هو قوله: * (وعصيتم) * والواو زائدة كما قال: * (فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه) * (الصافات: 103 - 104) والمعنى ناديناه، كذا ههنا، الفشل والتنازع صار موجبا للعصيان، فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم، فالواو زائدة، وبعض
35

من نصر هذا القول زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب " حتى إذا " بدليل قوله تعالى: * (حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها) * (الزمر: 71) والتقدير حتى إذا جاؤها فتحت لهم أبوابها.
فان قيل: إن فشلتم وتنازعتم معصية، فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه وذلك فاسد.
قلنا: المراد من العصيان ههنا خروجهم عن ذلك المكان، ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عن ذلك المكان، فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه.
واعلم أن البصريين إنما لم يقبلوا هذا الجواب لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة.
الوجه الثالث في الجواب: أن يقال تقدير الآية: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون، صرتم فريقين، منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة.
فالجواب: هو قوله: صرتم فريقين، إلا أنه أسقط لأن قوله: * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) * يفيد فائدته ويؤدي معناه، لأن كلمة " من " للتبعيض فهي تفيد هذا الانقسام، وهذا احتمال خطر ببالي.
الوجه الرابع: قال أبو مسلم: جواب قوله: * (حتى إذا فشلتم) * هو قوله: * (صرفكم عنهم) * والتقدير حتى إذا فشلتم وكذا وكذا صرفكم عنهم ليبتليكم وكلمة " ثم " ههنا كالساقطة وهذا الوجه في غاية العبد. والله أعلم.
المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة: أولها: الفشل وهو الضعف، وقيل الفشل هو الجبن، وهذا باطل بدليل قوله تعالى: * (ولا تنازعوا فتفشلوا) * (الأنفال: 46) أي فتضعفوا، لأنه لا يليق به أن يكون المعنى فتجنبوا. ثانيها: التنازع في الأمر وفيه بحثان.
البحث الأول: المراد من التنازع انه عليه الصلاة والسلام أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم البتة، وجعل أميرهم عبد الله بن جبير؛ فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون، ثم إن الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن، فقالوا الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله: عهد الرسول إلينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة، وبقي عبد الله مع طائفة قليلة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون فهذا هو التنازع.
البحث الثاني: قوله: * (في الأمر) * فيه وجهان: الأول: أن الأمر ههنا بمعنى الشأن والقصة، أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن. والثاني: أنه الأمر الذي يضاده النهي. والمعنى: وتنازعتم فيما أمركم
36

الرسول به من ملازمة ذلك المكان. وثالثها: وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، والمراد عصيتم بترك ملازمة ذلك المكان. بقي في هذه الآية سؤالات: الأول: لم قدم ذكر الفشل على ذكر التنازع والمعصية؟
والجواب: ان القوم لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة، ثم تنازعوا بطريق القول في أنا: هل نذهب لطلب الغنيمة أم لا؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة.
السؤال الثاني: لما كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصة بالبعض فلم جاء هذا العتاب باللفظ العام؟ والجواب: هذا اللفظ وان كان عاما الا أنه جاء المخصص بعده، وهو قوله: * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) *.
السؤال الثالث: ما الفائدة في قوله: * (من بعد ما أراكم ما تحبون) *.
والجواب عنه: أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بانجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الاكرام وأذاقهم وبال أمرهم.
ثم قال تعالى: * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) * وقد اختلف قول أصحابنا وقول المعتزلة في تفسير هذه الآية، وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية، فكيف أضافه إلى نفسه؟ أما أصحابنا فهذا الاشكال غير وارد عليهم، لأن مذهبهم أن الخير والشر بإرادة الله وتخليقه، فعلى هذا قالوا معنى هذا الصرف أن الله تعالى رد المسلمين عن الكفار، وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم، وهذا قول جمهور المفسرين. قالت المعتزلة: هذا التأويل غير جائز ويدل عليه القرآن والعقل، أما القرآن فهو قوله تعالى: * (ان الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) * (آل عمران: 155) فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان، فكيف يضيفه بعد هذا إلى نفسه؟ وأما المعقول فهو أنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف، ولو كان ذلك بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه، كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم، ثم عند هذا ذكروا وجوها من التأويل: الأول: قال الجبائي: ان الرماة كانوا فريقين، بعضهم فارقوا المكان أولا لطلب الغنائم، وبعضهم بقوا هناك، ثم هؤلاء الذين بقوا أحاط بهم العدو، فلو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو، ألا ترى أن النبي
37

صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه وتحصنوا به ولم يكونوا عصاة بذلك، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه إلى نفسه بمعنى أنه كان بأمره وإذنه، ثم قال: * (ليبتليكم) * والمراد أنه تعالى لما صرفهم إلى ذلك المكان وتحصنوا به أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين، ولا شك أن الاقدام على الجهاد بعد الانهزام، وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقربائهم وأحبائهم هو من أعظم أنواع الابتلاء.
فان قيل: فعلى هذا التأويل هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مذنبين، فلم قال: * (ولقد عفا عنكم) *.
قلنا: الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ومن لم يكن، وهم الذين بدؤا بالهزيمة فمضوا وعصوا فقوله: * (ثم صرفكم عنهم) * راجع إلى المعذورين، لأن الآية لما اشتملت على قسمين وعلى حكمين رجع كل حكم إلى القسم الذي يليق به، ونظيره قوله تعالى: * (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه) * (التوبة: 40) والمراد الذي قال له: * (لا تحزن) * وهو أبو بكر، لأنه كان خائفا قبل هذا القول، فلما سمع هذا سكن، ثم قال: * (وأيده بجنود لم تروها) * (التوبة: 40) وعنى بذلك الرسول دون أبي بكر، لأنه كان قد جرى ذكرهما جميعا، فهذا جملة ما ذكره الجبائي في هذا المقام.
والوجه الثاني: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو ان المراد من قوله: * (ثم صرفكم عنهم) * أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم، ثم قال: * (ليبتليكم) * أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله وترجعوا إليه وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة، ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم.
والوجه الثالث: قال الكعبي: * (ثم صرفكم عنهم) * بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم * (ليبتليكم) * بكثرة الانعام عليكم والتخفيف عنكم، فهذا ما قيل في هذا الموضع والله أعلم.
ثم قال: * (ولقد عفا عنكم) * فظاهره يقتضي تقدم ذنب منهم. قال القاضي: إن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بأنه عفا عنهم من غير توبة، وإن كان من باب الكبائر، فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو والمغفرة.
واعلم أن الذنب لا شك أنه كان كبيرة، لأنهم خالفوا صريح نص الرسول، وصارت تلك المخالفة سببا لانهزام المسلمين، وقتل جمع عظيم من أكابرهم، ومعلوم أن كل ذلك من باب الكبائر وأيضا: ظاهر قوله تعالى: * (ومن يولهم يومئذ دبره) * (الأنفال: 16) يدل على كونه كبيرة، وقول من قال: إنه خاص
38

في بدر ضعيف، لأن اللفظ عام، ولا تفاوت في المقصود، فكان التخصيص ممتنعا، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة، لأن التوبة غير مذكورة، فصار هذا دليلا على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر، وأما دليل المعتزلة في المنع عن ذلك، فقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة.
ثم قال: * (والله ذو فضل على المؤمنين) * وهو راجع إلى ما تقدم من ذكر نعمه سبحانه وتعالى بالنصر أولا، ثم بالعفو عن المذنبين ثانيا. وهذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن، لأنا بينا أن هذا الذنب كان من الكبائر، ثم انه تعالى سماهم المؤمنين، فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما تقوله المعتزلة، والله أعلم.
* (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم فى أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا مآ أصابكم والله خبير بما تعملون) *.
فيه قولان:
أحدهما: أنه متعلق بما قبله، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه: أحدها: كأنه قال وعفا عنكم إذ تصعدون، لأن عفوه عنهم لا بد وان يتعلق بأمر اقترفوه، وذلك الأمر هو ما بينه بقوله: * (إذ تصعدون) * والمراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين لا يلوون على أحد وثانيها: التقدير: ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون. وثالثها: التقدير: ليبتليكم إذ تصعدون.
والقول الثاني: أنه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله، والتقدير: أذكر إذ تصعدون وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": قرأ الحسن * (إذ تصعدون في الجبل) *، وقرأ أبي * (إذ تصعدون في الوادي) * وقرأ أبو حياة * (إذ تصعدون) * بفتح التاء وتشديد العين، من تصعد في السلم.
المسألة الثانية: الاصعاد: الذهاب في الأرض والابعاد فيه، يقال صعد في الجبل، وأصعد في
39

الأرض، ويقال أصعدنا من مكة إلى المدينة، قال أبو معاذ النحوي: كل شيء له أسفل وأعلى مثل الوادي والنهر والأزقة، فإنك تقول: صعد فلان يصعد في الوادي إذا أخذ من أسفله إلى أعلاه، وأما ما ارتفع كالسلم فإنه يقال صعدت.
المسألة الثالثة: ولا تلوون على أحد: أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب، وأصله أن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته، فإذا مضى ولم يعرج قيل لم يلوه، ثم استعمل اللي في ترك التعريج على الشيء وترك الالتفات إلى الشيء، يقال: فلان لا يلوي على شيء، أي لا يعطف عليه ولا يبالي به.
ثم قال تعالى: * (والرسول يدعوكم) * كان يقول: " إلى عباد الله أنا رسول الله من كر فله الجنة " فيحتمل أن يكون المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده، ولا يتفرقوا، ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يدعوهم إلى المحاربة مع العدو.
ثم قال: * (في أخراكم) * أي آخركم، يقال: جئت في آخر الناس وأخراهم، كما يقال: في أولهم وأولاهم، ويقال: جاء فلان في أخريات الناس، أي آخرهم،
والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم وهو واقف في آخرهم، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه.
ثم قال: * (فأثابكم غما بغم) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب الا في الخير، ويجوز أيضا استعماله في الشر، لأنه مأخوذ من قولهم: ثاب إليه عقله، أي رجع إليه، قال تعالى: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) * (البقرة: 125) والمرأة تسمى ثيبا لأن الواطئ عائد إليها، وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا، الا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير، فان حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام، وان حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم، كما يقال: تحيتك الضرب، وعتابك السيف، أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب قال تعالى: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (التوبة: 34، الإنشقاق: 24).
المسألة الثانية: الباء في قوله: * (غما بغم) * يحتمل أن تكون بمعنى المعارضة، كما يقال: هذا بهذا أي هذا عوض عن ذاك، ويحتمل أن تكون بمعنى " مع " والتقدير: أثابهم غما مع غم، أما على التقدير الأول ففيه وجوه: الأول: وهو قول الزجاج أنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب أن عصيتم أمره، فالله تعالى أذاقكم هذا الغم، وهو الغم الذي حصل لهم بسبب الانهزام وقتل الأحباب، والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم. الثاني: قال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم
40

بدر للمشركين، والمقصود منه أن لا يبقى في قلبكم التفات إلى الدنيا، فلا تفرحوا باقبالها ولا تحزنوا بادبارها، وهو المعنى بقوله: * (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) * في واقعة أحد * (ولا تفرحوا بما آتاكم) * (الحديد: 23) في واقعة بدر، طعن القاضي في هذا الوجه وقال: إن غمهم يوم أحد انما كان من جهة استيلاء الكفار، وذلك كفر ومعصية، فكيف يضيفه الله إلى نفسه؟ ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في تسليط الكفار على المسلمين نوع مصلحة، وهو أن لا يفرحوا باقبال الدنيا ولا يحزنوا بادبارها، فلا يبقى في قلوبهم اشتغال بغير الله. الثالث: يجوز أن يكون الضمير في قوله * (فأثابكم) * يعود للرسول، والمعنى أن الصحابة لما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم شج وجهه وكسرت رباعيته وقتل عمه، اغتموا لأجله، والرسول عليه السلام لما رأى أنهم عصوا ربهم لطلب الغنيمة ثم بقوا محرومين من الغنيمة، وقتل أقاربهم اغتم لأجلهم، فكان المراد من قوله * (فأنابكم غما بغم) * هو هذا، أما على التقدير الثاني وهو أن تكون الباء في قوله: * (غما بغم) * بمعنى " مع " أي غما مع غم، أو غما على غم، فهذا جائز لأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض، تقول: ما زلت به حتى فعل، وما زلت معه حتى فعل، وتقول: نزلت ببني فلان، وعلى بني فلان.
واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة: فأحدها: غمهم بما نالهم من العدو في الأنفس والأموال. وثانيها: غمهم بما لحق سائر المؤمنين من ذلك، وثالثها: غمهم بما وصل إلى الرسول من الشجة وكسر الرباعية، ورابعها: ما أرجف به من قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وخامسها: بما وقع منهم من المعصية وما يخافون من عقابها، وسادسها: غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم، وذلك لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام، وذلك من أشق الأشياء، لأن الانسان بعد صيرورته منهزما يصير ضعيف القلب جبانا، فإذا أمر بالمعاودة، فان فعل خاف القتل، وإن لم يفعل خاف الكفر أو عقاب الآخرة، وهذا الغم لا شك أنه أعظم الغموم والأحزان، وإذا عرفت هذه الجملة فكل واحد من المفسرين فسر هذه الآية بواحد من هذه الوجوه ونحن نعدها: الوجه الأول: أن الغم الأول ما أصابهم عند الفشل والتنازع، والغم الثاني ما حصل عند الهزيمة.
الوجه الثاني: ان الغم الأول ما حصل بسب فوت الغنائم، والغم الثاني ما حصل بسبب أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعا عظيما.
الوجه الثالث: أن الغم الأول ما كان عند توجه أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم بالقتل والغم الثاني هو أن المشركين لما رجعوا خاف الباقون من المسلمين من أنهم لو رجعوا لقتلوا
41

الكل فصار هذا الغم بحيث أذهلهم عن الغم الأول.
والوجه الرابع: أن الغم الأول ما وصل إليهم بسبب أنفسهم وأموالهم، والغم الثاني ما وصل إليهم بسبب الارجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الآية قول ثالث اختاره القفال رحمه الله تعالى قال: وعندنا أن الله تعالى ما أراد بقوله: * (غما بغم) * اثنين، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها، أي ان الله عاقبكم بغموم كثيرة، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم، ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، ومثل إقدامكم على المعصية، فكأنه تعالى قال: أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زاجرا لكم عن الاقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى.
المسألة الثالثة: معنى أن الله أثابهم غم بغم: أنه خلق الغم فيهم، وأما المعتزلة فهذا لا يليق بأصولهم، فذكروا في علة هذه الإضافة وجوها: الأول: قال الكعبي: ان المنافقين لما أرجفوا أن محمدا عليه الصلاة والسلام قد قتل ولم يبين الله تعالى كذب ذلك القائل، صار كأنه تعالى هو الذي فعل ذلك الغم، وهذا كالرجل الذي يبلغه الخبر الذي يغمه ويكون معه من يعلم أن ذلك الخبر كذب، فإذا لم يكشفه له سريعا وتركه يتفكر فيه ثم أعلمه فإنه يقول له: لقد غممتني وأطلت حزني وهو لم يفعل شيئا من ذلك، بل سكت وكف عن اعلامه، فكذا ههنا. الثاني: أن الغم وان كان من فعل البعد فسببه فعل الله تعالى، لأن الله طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب التي تنالهم وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون. الثالث: أنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى الغم في قلب بعض المكلفين لرعاية بعض المصالح.
ثم قال تعالى: * (لكيلا تحزنوا) * وفيه وجهان: الأول: انها متصلة بقوله: * (ولقد عفا عنكم) * (آل عمران: 152) كأنه قال: ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا، لان في عفوه تعالى ما يزيل كل غم وحزن، والثاني: أن اللام متصلة بقوله: * (فأثابكم) * ثم على هذا القول ذكروا وجوها: الأول: قال الزجاج: المعنى أثابكم غم
الهزيمة من غمكم النبي صلى الله عليه وسلم بسبب مخالفته، ليكون غمكم بأن خالفتموه فقط، لا بأن فاتتكم الغنيمة وأصابتكم الهزيمة، وذلك لان الغم الحاصل بسبب الاقدام على المعصية ينسي الغم الحاصل بسبب مصائب الدنيا. الثاني: قال الحسن: جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلتموهم مغمومين يوم بدر، لأجل أن يسهل أمر الدنيا في أعينكم فلا تحزنوا بفواتها ولا تفرحوا باقبالها، وهذان الوجهان مفرعان على قولنا الباء في قوله: * (غما بغم) * للمجازاة، أما إذا قلنا انها بمعنى " مع " فالمعنى أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا أمر الرسول لوقعنا في غم فوات الغنيمة، فاعلموا أنكم
42

لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في هذه الغموم العظيمة التي كل واحد منها أعظم من ذلك الغم أضعافا مضاعفة، والعاقل إذا تعارض عنده الضرران، وجب أن يخص أعظمهما بالدفع، فصارت إثابة الغم على الغم مانعا لكم من أن تحزنوا بسبب فوات الغنيمة، وزاجرا لكم عن ذلك، ثم كما زجرهم عن تلك المعصية بهذا الزجر الحاصل في الدنيا، زجرهم عنها بسبب الزواجر الموجودة في الغنيمة فقال: * (والله خبير بما تعملون) * أي هو عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم، قادر على مجازاتها، ان خيرا فخير وان شرا فشر، وذلك من أعظم الزواجر للعبد عن الاقدام على المعصية والله أعلم.
* (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طآئفة منكم وطآئفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الامر من شىء قل إن الامر كله لله يخفون فى أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شىء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله ما فى صدوركم وليمحص ما فى قلوبكم والله عليم بذات الصدور) *.
في كيفية النظم وجهان: الأول: أنه تعالى لما وعد نصر المؤمنين على الكافرين، وهذا النصر لا بد وأن يكون مسبوقا بإزالة الخوف عن المؤمنين، بين في هذه الآية أنه تعالى أزال الخوف عنهم
43

ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى ينجز وعده في نصر المؤمنين. الثاني: أنه تعالى بين أنه نصر المؤمنين أولا، فلما عصى بعضهم سلط الخوف عليهم، ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلب من كان صادقا في إيمانه مستقرا على دينه بحيث غلب النعاس عليه.
واعلم أن الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان: أحدهما: الذين كانوا جازمين بأن محمدا عليه الصلاة والسلام نبي حق من عند الله وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وكانوا قد سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان، فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال، فلا جرم كانوا آمنين، وبلغ ذلك الامن إلى حيث غشيهم النعاس، فان النوم لا يجيء مع الخوف، فمجئ النوم يدل على زوال الخوف بالكلية، فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) * وقال في قصة بدر * (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) * (الأنفال: 11) ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس، وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة، وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا شاكين في نبوته عليه الصلاة والسلام، وما حضروا إلا لطلب الغنيمة، فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم، ثم انه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين، فقال في صفة المؤمنين: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: " الأمنة " مصدر كالامن، ومثله من المصادر: العظمة والغلبة، وقال الجبائي: يقال: أمن فلان يأمن أمنا وأمانا.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: قرىء (أمنة) بسكون الميم، لأنها المرة من الأمن.
المسألة الثالثة: في قوله تعالى: * (نعاسا) * وجهان: أحدهما: أن يكون بدلا من أمنة، والثاني: إن يكون مفعولا، وعلى هذا التقدير ففي قوله: * (أمنة) * وجوه: أحدها: أن تكون حالا منه مقدمة عليه، كقولك: رأيت راكبا رجلا، وثانيها: أن يكون مفعولا له بمعنى نعستم أمنة، وثالثها: أن يكون حالا من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة.
ثم قال تعالى: * (يغشى طائفة منكم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قد ذكرنا أن هذه الطائفة هم المؤمنون الذين كانوا على البصيرة في إيمانهم قال أبو طلحة، غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه. ثم يسقط فيأخذه، وعن الزبير قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف، فأرسل الله علينا النوم، وإني لأسمع قول معتب بن قشير: والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا
44

ههنا. وقال عبد الرحمن بن عوف: ألقى النوم علينا يوم أحد، وعن ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله.
واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد: أحدها: أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد، فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو ووثوقهم بأن الله منجز وعده، وثانيها: أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال، والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة، وثالثها: أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم، فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم، ورابعها: أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى، ومن الناس من قال: ذكر النعاس في هذا الموضع كناية عن غاية الامن، وهذا ضعيف لأن صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام الدليل المعارض، فكيف يجوز ترك حقيقة اللفظ مع اشتمالها
على هذه الفوائد والحكم.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي * (تغشى) * بالتاء ردا إلى الأمنة، والباقون بالياء ردا، إلى النعاس، وهو اختيار أبي حاتم وخلف وأبي عبيد.
واعلم أن الأمنة والنعاس كل واحد منهما يدل على الآخر، فلا جرم يحسن رد الكناية إلى أيهما شئت، كقوله تعالى: * (إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون) * (الدخان: 43 - 45) وتغلي، إذا عرفت جوازهما فنقول: مما يقوي القراءة بالتاء أن الأصل الأمنة، والنعاس بدل، ورد الكناية إلى الأصل أحسن، وأيضا الأمنة هي المقصود، وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس لأنها سببه، فان الخائف لا يكاد ينعس، وأما من قرأ بالياء فحجته أن النعاس هو الغاشي، فان العرب يقولون غشينا النعاس، وقلما يقولون غشيني من النعاس أمنة، وأيضا فان النعاس مذكور بالغشيان في قوله: * (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) * (الأنفال: 11) وأيضا: النعاس يلي الفعل، وهو أقرب في اللفظ إلى ذكر الغشيان من الأمنة فالتذكير أولى.
ثم قال تعالى: * (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) * وفيه مسألتان.
المسألة الأولى: هؤلاء هم المنافقون عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما، كان همهم
45

خلاص أنفسهم، يقال: همني الشيء أي كان من همي وقصدي، قال أبو مسلم: من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف، قد أهمته نفسه، فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم، وقيل المؤمنون، كان همهم النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانهم من المؤمنين، والمنافقون كان همهم أنفسهم وتحقيق القول فيه: أن الانسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه، صار غافلا عما سواه، فلما كان أحب الأشياء إلى الانسان نفسه، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها، فهذا هو المراد من قوله: * (أهمتهم أنفسهم) * وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ووعد رسوله ما كان معتبرا عندهم، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم، فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم.
المسألة الثانية: " طائفة " رفع بالابتداء وخبره " يظنون " وقيل خبره " أهمتهم أنفسهم " ثم انه تعالى وصف هذه الطائفة بأنواع من الصفات.
الصفة الأولى: من صفاتهم قوله تعالى: * (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذا الظن احتمالان: أحدهما: وهو الأظهر: هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد، أما على قول أهل السنة والجماعة، فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه، فان النبوة خلعة من الله سبحانه يشرف عبده بها، وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى، بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الإلهية، وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه، فلا يبعد أن يكون لله تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم، بحيث يقهر الكافر المسلم، حكم خفية وألطاف مرعية، فان الدنيا دار الامتحان والابتلاء، ووجوه المصالح مستورة عن العقول، فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن، وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين. قال القفال: لو كان كون المؤمن محقا يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر، وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب، بل الانسان إنما يعرف كونه محقا بما معه من الدلائل والبينات، فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق، ومن المحق للمبطل، وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق. الثاني: أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات، وينكرون النبوة والبعث، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله يقويهم وينصرهم.
46

المسألة الثانية: * (غير المحق) * في حكم المصدر، ومعناه: يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به (وظن الجاهلية) بدل منه، والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق: أديان كثيرة، وأقبحها مقالات أهل الجاهلية، فذكر أولا أنهم يظنون بالله غير الظن الحق، ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا، وهو ظن أهل الجاهلية، كما يقال: فلان دينه ليس بحق، دينه دين الملاحدة.
المسألة الثالثة: في قوله: * (ظن الجاهلية) * قولان: أحدهما: أنه كقولك: حاتم الجود، وعمر العدل، يريد الظن المختص بالملة الجاهلية، والثاني: المراد ظن أهل الجاهلية.
الصفة الثانية: من الصفات التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء المنافقين قوله تعالى: * (يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله) *.
واعلم أن قوله) * (هل لنا من الأمر من شيء) * حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها، وهو يحتمل وجوها: الأول: أن عبد الله بن أبي لما شاوره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم، فغضب عبد الله بن أبي من ذلك، فقال عصاني وأطاع الولدان، ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع عبد الله بن أبي قيل له: قتل بنو الخزرج، فقال: هل لنا من الأمر من شيء، يعني أن محمدا لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها، ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا: * (لو أطاعونا ما قتلوا) * (آل عمران: 168) والمعنى: هل لنا من أمر يطاع وهو استفهام على سبيل الانكار.
الوجه الثاني في التأويل: أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا: عليه الأمر، فقوله: * (هل لنا من الأمر من شيء) * أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد، وهو النصرة والقوة شيء وهذا استفهام على سبيل الانكار، وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان كاذبا في ادعاء النصرة والعصمة من الله تعالى لأمته، وهذا استفهام على سبيل الانكار. الثالث: أن يكون التقدير: أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء، والغرض منه تصبير
المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار، ثم إن الله سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله: * (قل إن الأمر كله لله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو (كله) برفع اللام، والباقون بالنصب، أما وجه الرفع فهو أن قوله: (كله) مبتدأ وقوله: (لله) خبره، ثم صارت هذه الجملة خبرا لان، وأما النصب فلان لفظة " كل " للتأكيد، فكانت كلفظة أجمع، ولو قيل: ان الأمر أجمع، لم يكن إلا النصب، فكذا إذا قال " كله ".
47

المسألة الثانية: الوجه في تقرير هذا الجواب ما بينا: انا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على الله اعتراض في شيء من أفعاله في الإماتة والاحياء، والفقر والاغناء والسراء والضراء، وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح، فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا الله تعالى، فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة، وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام، فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع المحدثات بقضاء الله وقدره، وذلك لأن المنافقين قالوا: ان محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا، لما وقع في هذه المحنة، فأجاب الله عنه بأن الأمر كله لله، وهذا الجواب: إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء الله وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين، فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا. وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي، وذلك لأن الموجود، إما واجب لذاته أو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه الا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته، فثبت أن كل ما سوى الله تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه، وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث، أو ممكن دون ممكن، فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم، وذلك هو المراد بقوله: * (قل إن الأمر كله لله) * وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه الله للانصاف.
ثم انه تعالى قال: * (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك) *. واعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: هل لنا من الأمر من شيء، وهذا الكلام محتمل، فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين، وكان غرضه منه إظهار الشفقة، وانه متى يكون الفرج؟ ومن أين تحصل النصرة؟ ولعله كان من المنافقين، وإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي الاسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني، والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم متحرزا عن مكرهم وكيدهم.
النوع الثالث: من الأشياء التي حكى الله عن المنافقين، قولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا. وفيه إشكال، وهو أن لقائل أن يقول: ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله: * (هل لنا من الأمر من شيء) * ويمكن أن يجاب عنه من وجهين: الأول: أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم: * (هل لنا من الأمر من شيء) * فأجاب عنه بقوله: * (الامر كله لله) * واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من المدينة وما قتلنا ههنا، فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله لله، وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال
48

فان السني يقول: الأمر كله في الطاعة والمعصية والايمان والكفر بيد الله، فيقول المعتزلي: ليس الأمر كذلك، فان الانسان مختار مستقل بالفعل، ان شاء آمن، وإن شاء كفر، فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جوابا عن الشبهة الأولى.
والوجه الثاني: أن يكون المراد من قوله: * (هل لنا من الأمر من شيء) * هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها محمد شيء، ويكون المراد من قوله: * (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا) * هو ما كان يقوله عبد الله بن أبي من أن محمدا لو أطاعني وما خرج من المدينة ما قتلنا ههنا.
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول من الجواب: قوله: * (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) * والمعنى أن الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير، فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات، لأن الله تعالى لما أخبر أنه يقتل، فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا؛ وقد بينا أيضا أنه ممكن فلا بد من انتهائه إلى إيجاد الله تعالى، فلو لم يجد لانقلبت قدرته عجزا، وكل ذلك محال، ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قوله: * (الذين كتب عليهم القتل) * وهذه الكلمة تفيد الوجوب، فان هذه الكلمة في قوله: * (كتب عليكم الصيام) * * (كتب عليكم القصاص) * (البقرة: 178) تفيد وجوب الفعل، وها هنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل، فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده الله بالتوفيق. ثم نقول للمفسرين: فيه قولان: الأول: لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل إلى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد، والثاني: كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم، ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم.
الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة: قوله: * (وليبتلي الله ما في صدوركم) * وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة، ولو كان الأمر إليهم لما خرجوا إليها، فقال تعالى: بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة: أن يتميز الموافق من المنافق، وفي المثل المشهور: لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين، ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين، ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة.
فان قيل: لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله: * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) * (آل عمران: 152).
قلنا: لما طال الكلام أعاد ذكره، وقيل الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين، والثاني سائر الأحوال.
والوجه الثالث في الجواب: قوله: * (وليمحص ما في قلوبكم) * وفيه وجهان: أحدهما: أن هذه
49

الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات، والثاني: أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات، وذكر في الابتلاء الصدور، وفي التمحيص القلوب، وفيه بحث ثم قال: * (والله عليم بذات الصدور) *.
واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور، وهي الأسرار والضمائر، وهي ذات الصدور، لأنها حالة فيها مصاحبة لها، وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته، وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفي عليه ما في الصدور، أو غير ذلك، لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم اما لمحض الإلهية، أو للاستصلاح.
* (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم) *.
واعلم أن المراد: أن القوم الذين تولوا يوم أحد عند التقاء الجمعين وفارقوا المكان وانهزموا قد عفا الله عنهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن تولى، فذكر محمد بن إسحاق أن ثلث الناس كانوا مجروحين، وثلثهم انهزموا، وثلثهم ثبتوا، واختلفوا في المنهزمين، فقيل: ان بعضهم ورد المدينة وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، وهو سعد بن عثمان، ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم، وجعل النساء يقلن: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرون! وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن: هاك المغزل اغزل به، ومنهم قال: ان المسلمين لم يعدوا الجبل. قال القفال: والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا، فمنهم من دخل المدينة، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب، وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك. ومن المنهزمين عمر، الا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما سعد وعقبة، انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " لقد ذهبتم فيها عريضة " وقالت فاطمة لعلي: ما فعل عثمان؟ فنقصه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا علي أعياني أزواج الأخوات
50

أن يتحابوا " وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، وسبعة من الأنصار، فمن المهاجرين أبو بكر، وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام، ومن الأنصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير وسعد ابن معاذ، وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين: علي وطلحة والزبير، وخمسة من الأنصار: أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل ابن حنيف، ثم لم يقتل منهم أحد. وروى ابن عيينة أنه أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول: وجهي لوجهك الفداء، ونفسي لنفسك الفداء، وعليك السلام غير مودع.
المسألة الثانية: قوله: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) * هذا خطاب للمؤمنين خاصة يعني الذين انهزموا يوم أحد * (إنما استزلهم الشيطان) * أي حملهم على الزلة. وأزل واستزل بمعنى واحد، قال تعالى: * (فأزلهما الشيطان عنها) * وقال ابن قتيبة: استزلهم طلب زلتهم، كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته، واستعملته طلبت عمله.
المسألة الثالثة: قال الكعبي: الآية تدل على أن المعاصي لا تنسب إلى الله، فإنه تعالى نسبها في هذه الآية إلى الشيطان وهو كقوله تعالى عن موسى: * (هذا من عمل الشيطان) * (القصص: 15) وكقول يوسف. (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) وكقول صاحب موسى: (وما أنسانيه إلا الشيطان) (الكهف: 63).
المسألة الرابعة: أنه تعالى لم يبين أن الشيطان في أي شيء استزلهم، وذلك لأن مع العفو لا حاجة إلى تعيين المعصية، لكن العلماء جوزوا أن يكون المراد بذلك تحولهم عن ذلك الموضع، بأن يكون رغبتهم في الغنيمة، وأن يكون فشلهم في الجهاد وعدو لهم عن الاخلاص، وأي ذلك كان، فقد صح أن الله تعالى عفا عنهم. وروي أن عثمان عوتب في هزيمته يوم أحد، فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله عفا عنه، وقرأ هذه الآية.
أما قوله تعالى: * (ببعض ما كسبوا) * ففيه وجهان: أحدهما: أن الباء للالصاق كقولك: كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين، والمعنى أنه كان قد صدرت عنهم جنايات، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه، الأول: قال الزجاج: انهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها، وإلا بعد الاخلاص في التوبة، فهذا
51

خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه. الثاني: انهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة، لأن الذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة. ويكون لطفا فيها. الثالث: لما أذنبوا بسبب الفشل ومنازعة بعضهم مع بعض وقعوا في ذلك الذنب.
والوجه الثاني: أن يكون المعنى: استزلهم الشيطان في بعض ما كسبوا، لا في كل ما كسبوا، والمراد منه بيان انهم ما كفروا وما تركوا دينهم، بل هذه زلة وقعت لهم في بعض أعمالهم.
ثم قال تعالى: * (ولقد عفا الله عنهم) *.
واعلم أن هذه الآية دلت على أن تلك الزلة ما كانت بسبب الكفر، فان العفو عن الكفر لا يجوز لقوله تعالى: * (ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) ثم قالت المعتزلة: ذلك الذنب ان كان من الصغائر جاز العفو عنه من غير توبة، وان كان من الكبائر لم يجز الا مع التوبة، فههنا لا بد من تقدم التوبة منهم، وان كان ذلك غير مذكور في الآية، قال القاضي: والأقرب أن ذلك الذنب كان من الصغائر ويدل عليه وجهان: الأول: أنه لا يكاد في الكبائر يقال انها زلة، إنما يقال ذلك في الصغائر. الثاني: أن القوم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق إلى ثباتهم في ذلك المكان حاجة، فلا جرم انتقلوا عنه وتحولوا
لطلب الغنيمة، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مدخلا، وأما على قول أصحابنا فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز، فلا حاجة إلى هذه التكلفات.
ثم قال تعالى: * (ان الله غفور حليم) * أي غفور لمن تاب وأناب، حليم لا يعجل بالعقوبة. وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ذلك الذنب كان من الكبائر، لأنه لو كان من الصغائر لوجب على قول المعتزلة أن يعفو عنه، ولو كان العفو عنه واجبا لما حسن التمدح به، لأن من يظلم إنسانا فإنه لا يحسن أن يتمدح بأنه عفا عنه وغفر له، فلما ذكر هذا التمدح علمنا أن ذلك الذنب كان من الكبائر، ولما عفا عنه علمنا أن العفو عن الكبائر واقع والله أعلم.
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا فى
52

الارض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة فى قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير * ولئن قتلتم فى سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون * ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) *.
اعلم أن المنافقين كانوا يعيرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار بقولهم: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، ثم انه لما ظهر عن بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد حتى وقع يوم أحد ما وقع وعفا الله بفضله عنهم، ذكر في هذه الآية ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يريد الخروج إلى الجهاد: لو لم تخرجوا لما متم وما قتلتم فان الله هو المحيي والمميت، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد، ومن قدر له الموت لم يبق وان لم يجاهد، وهو المراد من قوله: * (والله يحيى ويميت) * وأيضا الذي قتل في الجهاد، لو أنه ما خرج إلى الجهاد لكان يموت لا محالة، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم، كان ذلك خيرا له من أن يموت من غير فائدة، وهو المراد من قوله: * (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) * فهذا هو المقصود من الكلام، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في المراد بقوله: * (كالذين كفروا) * فقال بعضهم: هو على إطلاقه، فيدخل فيه كل كافر يقول مثل هذا القول سواء كان منافقا أو لم يكن، وقال آخرون: انه مخصوص بالمنافقين لأن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مختصة بشرح أحوالهم، وقال آخرون: هذا مختص بعبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، وسائر أصحابه، وعلى هذين القولين فالآية تدل على أن الايمان ليس عبارة عن الاقرار باللسان، كما تقول الكرامية: إذ لو كان كذلك لكان المنافق مؤمنا، ولو كان مؤمنا لما سماه الله كافرا.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": قوله: * (وقالوا لإخوانهم) * أي لأجل إخراجهم كقوله: * (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) * (الأحقاف: 11) وأقول: تقرير هذا الوجه أنهم
53

لما قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فهذا يدل على أن أولئك الاخوان كانوا ميتين ومقتولين عند هذا القول، فوجب أن يكون المراد من قوله: * (وقالوا لإخوانهم) * هو أنهم قالوا ذلك لأجل إخوانهم، ولا يكون المراد هو أنهم ذكروا هذا القول مع إخوانهم.
المسألة الثالثة: قوله: * (إخوانهم) * يحتمل أن يكون المراد منه الاخوة في النسب وان كانوا مسلمين، كقوله تعالى: * (وأغلى عاد أخاهم هودا) * (الأعراف: 65) * (والى ثمود أخاهم صالحا) * (الأعراف: 73) فان الاخوة في هذه الآيات أخوة النسب لا أخوة الدين، فلعل أولئك المقتولين من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين، فالمنافقون ذكروا هذا الكلام، ويحتمل أن يكون المراد من هذه الأخوة المشاكلة في الدين، واتفق إلى أن صار بعض المنافقين مقتولا في بعض الغزوات فالذين بقوا من المنافقين قالوا ذلك.
المسألة الرابعة: المنافقون كانوا يظنون أن الخارج منهم لسفر بعيد، وهو المراد بقوله: * (إذا ضربوا في الأرض) * والخارج إلى الغزو، وهو المراد بقوله: * (أو كانوا غزى) * إذا نالهم موت أو قتل فذلك إنما نالهم بسبب السفر والغزو، وجعلوا ذلك سببا لتنفير الناس عن الجهاد، وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل، فإذا قيل للمرء: ان تحرزت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش، وان تقحمت أحدهما وصلت إلى الموت أو القتل، فالغالب أنه ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت، وكان ذلك من مكايد المنافقين في تنفير المؤمنين عن الجهاد.
فان قيل: فلماذا ذكر بعض الضرب في الأرض الغزو وهو داخل فيه؟
قلنا: لأن الضرب في الأرض يراد به الابعاد في السفر، لا ما يقرب منه، وفي الغزو لا فرق بين بعيده وقريبه، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض مع قرب المسافة وان كان غازيا، فهذا فائدة إفراد الغزو عن الضرب في الأرض.
المسألة الخامسة: في الآية إشكال وهو أن قوله: * (وقالوا لإخوانهم) * يدل على الماضي، وقوله: * (إذا ضربوا) * يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما؟ بل لو قال: وقالوا لإخوانهم إذ ضربوا في الأرض، أي حين ضربوا لم يكن فيه إشكال.
والجواب عنه من وجوه: الأول: أن قوله: * (قالوا) * تقديره: يقولون فكأنه قيل: لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لإخوانهم كذا وكذا، وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين: أحدهما: أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل فقد يعبر عنه بأنه حدث أو هو حادث قال تعالى: * (أتى أمر الله) * وقال: * (إنك ميت) * (الزمر: 30) فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقل لم يكن فيه مبالغة أما لما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي، دل ذلك على أن جدهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ
54

الغاية، وصار بسبب ذلك الجد هذا المستقبل كالكائن الواقع.
الفائدة الثانية: انه تعالى لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل ذلك على أنه ليس المقصود الاخبار عن صدور هذا الكلام، بل المقصود الاخبار عن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة، فهذا هو الجواب المعتمد عندي والله أعلم.
الوجه الثاني في الجواب: أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية، والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا في الأرض، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد وأن يقول: قالوا، فهذا هو المراد بقولنا: خرج هذا الكلام على سبيل حكاية الحال الماضية.
الوجه الثالث: قال قطرب: كلمة " إذ " وإذا، يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى، وأقول: هذا الذي قاله قطرب كلام حسن، وذلك لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول، فلأن يجوز اثباتها بالقرآن العظيم، كان ذلك أولى، أقصى ما في الباب أن يقال " إذ " حقيقة في المستقبل، ولكن لم لا يحوز استعماله في الماضي على سبيل المجاز لما بينه وبين كلمة " إذ " من المشابهة الشديدة؟ وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى.
المسألة السادسة: * (غزى) * جمع غاز، كالقول والركع والسجد، جمع قائل وراكع وساجد، ومثله من الناقص " عفا " ويجوز أيضا: غزاة، مثل قضاة ورماة في جمع القاضي والرامي، ومعنى الغزو في كلام العرب قصد العدو، والمغزى المقصد.
المسألة السابعة: قال الواحدي: في الآية محذوف يدل عليه الكلام، والتقدير: إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا، لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فقوله: * (ما ماتوا وما قتلوا) * يدل على موتهم وقتلهم،
ثم قال تعالى: * (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) * وفيه وجهان: الأول: أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله ذلك الكلام حسرة في قلوبهم، مثل ما يقال: ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها: الأول: أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم، لان أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي، فذلك الشخص انما مات أو قتل بسبب أن هذا الانسان قصر في
55

منعه، فيعتقد السامع لهذا الكلام انه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله، ومتى اعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه، أما المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه، لم يحصل البتة في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة، فثبت ان تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة.
الوجه الثاني: ان المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الأعداء. والفوز بالأماني، بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة.
الوجه الثالث: ان هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات واعلاء الدرجات، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب.
الوجه الرابع: ان المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها، فرحوا بذلك، من حيث أنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة، فالله تعالى يقول: إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة.
الوجه الخامس: ان جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر، وهو المراد بالحسرة، كقوله: * (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) * (الأنعام: 125).
الوجه السادس: انهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم.
والقول الثاني في تفسير الآية: أن اللام في قوله: * (ليجعل الله) * متعلقة بما دل عليه النهي، والتقدير: لا تكونوا مثلهم حتى يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم. ثم قال تعالى: * (والله يحيى ويميت) * وفيه وجهان: الأول: أن المقصود منه بيان الجواب عن هذه الشبهة، وتقريره أن المحيي والمميت هو الله، ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت، وان علم الله لا يتغير، وان حكمه لا ينقلب، وان قضاءه لا يتبدل، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت؟
فان قيل: إن كان القول بأن قضاء الله لا يتبدل يمنة من كون الجد والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت، فكذا القول بأن قضاء الله لا يتبدل وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في
56

الاحتراز عن عقاب الآخرة، وهذا يمنع من لزوم التكليف، والمقصود من هذه الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف، وإذا كان الجواب يفضي بالآخرة إلى سقوط التكليف كان هذا الكلام يقضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلا.
الجواب: ان حسن التكليف عندنا غير معلل بعلة ورعاية مصلحة، بل عندنا أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
والوجه الثاني: في تأويل الآية: أنه ليس الغرض من هذا الكلام الجواب عن تلك الشبهة بل المقصود أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل قول المنافقين، قال: * (والله يحيى ويميت) * يريد: يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان، ويميت قلوب أعدائه من المنافقين.
ثم قال تعالى: * (والله بما تعملون بصير) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المقصود منه الترغيب والترهيب فيما تقدم ذكره من طريقة المؤمنين وطريقة المنافقين.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي * (يعملون) * كناية عن الغائبين، والتقدير * (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير) * والباقون بالتاء على الخطاب ليكون وفقا لما قبله في قوله: * (لا تكونوا كالذين كفروا) * ولما بعده في قوله: * (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم) *.
ثم قال تعالى: * (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما تجمعون) *.
واعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين، وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للانسان من أن يقتل أو يموت، فإذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه، فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الانسان بها بعد الموت البتة، وهذا جواب في غاية الحسن والقوة، وذلك لأن الانسان إذا توجه إلى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة، فإذا مات فكأنه تخلص عن العدو ووصل إلى المحبوب، وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا، فإذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة، ولا شك في كمال سعادة الأول، وكمال شقاوة الثاني.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وحمزة والكسائي (متم) بكسر الميم، والباقون بضم الميم، والأولون أخذوه من: مات يمات مت، مثل هاب يهاب هبت، وخاف يخاف خفت، وروى المبرد هذه اللغة فان صح فقد صحت هذه القراءة، وأما قراءة الجمهور فهو مأخوذ من، مات يموت مت: مثل قال يقول قلت.
57

المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه الله: اللام في قوله: * (ولئن قتلتم) * لام القسم، بتقدير الله لئن قتلتم في سبيل الله، واللام في قوله: * (لمغفرة من الله ورحمة) * جواب القسم، ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء، والأصوب عندي أن يقال: هذه اللام للتأكيد، فيكون المعنى ان وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا، فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل: ان الموت والقتل غير لازم الحصول، ثم بتقدير أن يكون لازما فإنه يستعقب لزوم المغفرة، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه؟
المسألة الثالثة: قرأ حفص عن عاصم (يجمعون) بالياء على سبيل الغيبة، والباقون بالتاء على وجه الخطاب، أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني، وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا.
المسألة الرابعة: إنما قلنا: ان رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه: أحدها: ان من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال، ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فإنه لا بد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده، وقد قال: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * (الزلزلة: 7) وثانيها: هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد، فكم من انسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا، وخيرات الآخرة لا تزول لقوله: * (والباقيات الصالحات خير عند ربك) * (الكهف: 46) ولقوله: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) * (النحل: 96) وثالثها: بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد، لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما، ومنافع الآخرة ليست كذلك. ورابعها: بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال، ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار، وذلك مما لا يخفي، وأما منافع الآخرة فليست كذلك. وخامسها: هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر، بل تنقطع وتفنى، وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل، كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم، ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال. وسادسها: أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية، والحسية خسيسة، والعقلية شريفة، أترى ان انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند اشراقها بالأنوار الإلهية، فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لا نهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى: * (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) *.
فان قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون، ولا خير فيما تجمعون أصلا.
58

قلنا: ان الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا، وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات، فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
ثم قال: * (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) *.
واعلم أنه سبحانه وتعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالحشر إلى مغفرة الله، وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم ههنا بالحشر إلى الله، يروى أن عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم، ورأى عليهم آثار العبادة، فقال ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب الله، فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه، ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم، فقالوا: نطلب الجنة والرحمة، فقال: هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر، فسألهم فقالوا: نعبده لأنه إلهنا، ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون، فانظر في ترتيب هذه الآيات فإنه قال في الآية الأولى: * (لمغفرة من الله) * وهو إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه، ثم قال * (ورحمة) * وهو إشارة إلى من يعبده
لطلب ثوابه، ثم قال في خاتمة الآية: * (لإلى الله تحشرون) * وهو إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية، وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة، ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال: * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) * (الأنبياء: 19) وقال للمقربين من أهل الثواب: * (عند مليك مقتدر) * (القمر: 55) فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه، واستئناسهم بكرمه، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته، وهذا مقام فيه إطناب، والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه.
ولنرجع إلى التفسير: كأنه قيل إن تركتم الجهاد واحترزتم عن القتل والموت بقيتم أياما قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة، ثم تتركونها لا محالة، فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم، أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها، وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى الله، ووقوفكم على عتبة رحمة الله، وتلذذكم بذكر الله، فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلتين.
واعلم أن في قوله: * (لإلى الله تحشرون) * دقائق: أحدها: أنه لم يقل: تحشرون إلى الله بل قال: لإلى الله تحشرون، وهذا يفيد الحصر، معناه إلى الله يحشر العالمون لا إلى غيره، وهذا يدل على أنه لا حاكم في ذلك اليوم ولا ضار ولا نافع إلا هو، قال تعالى: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * (غافر: 16) وقال تعالى: * (والأمر يومئذ لله) * (الإنفطار: 19) وثانيها: أنه ذكر من أسماء الله هذا الاسم، وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال
59

على كمال الرحمة وكمال القهر، فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد. وثالثها: إدخال لام التأكيد في اسم الله حيث قال: * (لإلى الله) * وهذا ينبهك على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر والنشر، كما قال: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) * (طه: 15) ورابعها: أن قوله: * (تحشرون) * فعل ما لم يسم فاعله، مع أن فاعل ذلك الحشر هو الله، وإنما لم يقع التصريح به لأنه تعالى هو العظيم الكبير الذي، شهدت العقول بأنه هو الله الذي يبدئ ويعيد، ومنه الانشاء والإعادة، فترك التصريح في مثل هذا الموضع أدل على العظمة، ونظيره قوله تعالى: * (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) * (هود: 44) وخامسها: أنه أضاف حشرهم إلى غيرهم، وذلك ينبه العقل على أن جميع الخلق مضطرون في قبضة القدرة ونفاذ المشيئة، فهم سواء كانوا أحياء أم أمواتا لا يخرجون عن قهر الربوبية وكبرياء الإلهية. وسادسها: أن قوله: * (تحشرون) * خطاب مع الكل، فهو يدل على أن جميع العالمين يحشرون ويوقفون في عرصة القيامة وبساط العدل، فيجتمع المظلوم مع الظالم، والمقتول مع القاتل، والحق سبحانه وتعالى يحكم بين عبيده بالعدل المبرأ عن الجور، كما قال: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) * (الأنبياء: 47) فمن تأمل في قوله تعالى: * (لإلى الله تحشرون) * وساعده التوفيق علم أن هذه الفوائد التي ذكرناها كالقطرة من بحار الأسرار المودعة في هذه الآية، وتمسك القاضي بهذه الآية على أن المقتول ليس بميت، قال: لأن قوله: * (ولئن متم أو قتلتم) * يقتضي عطف المقتول على الميت، وعطف الشيء على نفسه ممتنع.
* (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) *.
واعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتغليظ والتشديد، وإنما خاطبهم بالكلام اللين، ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم، زاد
60

في الفضل والاحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم على عفوه عنهم، وتركه التغليظ عليهم فقال: * (فبما رحمة من الله لنت لهم) * ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن لينه صلى الله عليه وسلم مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى: * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) * (الشعراء: 215) وقال: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *، وقال: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * (القلم: 4) وقال: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (التوبة: 128) وقال عليه الصلاة والسلام: " لا حلم أحب إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه " فلما كان عليه الصلاة والسلام إمام العالمين، وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقا. وروى أن امرأة عثمان دخلت عليه صلى الله عليه وسلم، وكان النبي وعلي يغسلان السلاح، فقالت: ما فعل ابن عفان؟ أما والله لا تجدونه امام القوم، فقال لها علي: ألا إن عثمان فضح الزمان اليوم، فقال عليه الصلاة والسلام " مه " وروي أنه قال حينئذ: أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا، ولما دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال: " لقد ذهبتم فيها عريضة " وروي عن بعض الصحابة أنه قال: لقد أحسن الله إلينا كل الاحسان، كنا مشركين، فلو جاءنا رسول الله بهذا الدين جملة، وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا، فما كنا ندخل في الاسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الايمان، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة. وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إنما أنا لكم مثل الوالد فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها " واعلم أن سر الأمر في حسن الخلق أمران: اعتبار حال القائل، واعتبار حال الفاعل، أما اعتبار حال القائل فلأن جواهر النفوس مختلفة بالماهية، كما قال عليه الصلاة والسلام: " الأرواح جنود مجندة " وقال: " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " وكما أنها في جانب النقصان تنتهي إلى غاية البلادة والمهانة والنذالة، واستيلاء الشهوة والغضب عليها واستيلاء حب المال واللذات، فكذلك في جانب الكمال قد تنتهي إلى غاية القوة والجلالة، أما في القوة النظرية فيكون كما وصفه الله تعالى بقوله: * (نور على نور) * (النور: 35) وقوله: * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * (النساء: 113) وأما في القوة العملية، فكما وصفه الله بقوله: * (وإنك لعلى خلق عظيم)
* كأنها من جنس أرواح الملائكة، فلا تنقاد للشهوة ولا تميل لدواعي الغضب، ولا تتأثر من حب المال والجاه، فان من تأثر عن شيء كان المتأثر أضعف من المؤثر، فالنفس إذا مالت إلى هذه المحسوسات
61

كانت روحانياتها أضعف من الجسمانيات، وإذا لم تمل إليها ولم تلتفت إليها كانت روحانياتها مستعلية على الجسمانيات، وهذه الخواص نظرية، وكانت نفسه المقدسة في غاية الجلالة والكمال في هذه الخصال. وأما اعتبار حال الفاعل فقوله عليه الصلاة والسلام: " من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب " فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية مستندة إلى الأسباب الإلهية، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر، فلا جرم إذا فاته مطلوب لم يغضب، وإذا حصل له محبوب لم يأنس به، لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات، فلا ينازع أحدا من هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها، ولا يغضب على أحد بسبب فوت شيء من مطالبها، ومتى كان الانسان كذلك كان حسن الخلق، طيب العشرة مع الخلق، ولما كان صلوات الله وسلامه عليه أكمل البشر في هذه الصفات الموجبة لحسن الخلق، لا جرم كان أكمل الخلق في حسن الخلق.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله: * (فبما رحمة من الله لنت لهم) * وجه الاستدلال أنه تعالى بين أن حسن خلقه مع الخلق، إنما كان بسبب رحمة الله تعالى، فنقول: رحمة الله عند المعتزلة عامة في حق المكلفين، فكل ما فعله مع محمد عليه الصلاة والسلام من الهداية والدعوة والبيان والارشاد، فقد فعل مثل ذلك مع إبليس وفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب، فإذا كان على هذا القول كل ما فعله الله تعالى مع المكلفين في هذا الباب مشتركا فيه بين أصفى الأصفياء، وبين أشقى الأشقياء لم يكن اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفادا من رحمة الله، فكان على هذا القول تعليل حسن خلق الرسول عليه الصلاة والسلام برحمة الله باطلا، ولما كان هذا باطلا علمنا أن جميع أفعال العباد بقضاء الله وبقدره، والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف وهذا في غاية البعد، لأن كل ما كان ممكنا من الألطاف، فقد فعله في حق المكلفين، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف، فذاك في الحقيقة إنما اكتسبه من نفسه لا من الله، لأنه متى فعل الطاعة استحق ذلك المزيد من اللطف، ووجب إيصاله إليه، ومتى لم يفعل امتنع ايصاله، فكان ذلك للعبد من نفسه لا من الله.
المسألة الثالثة: ذهب الأكثرون إلى أن (ما) في قوله: * (فبما رحمة من الله) * صلة زائدة ومثله في القرآن كثير، كقوله: * (عما قليل) * و * (جند ما هنالك) * (ص: 11) * (فبما نقضهم) * (النساء: 155، المائدة: 13) * (من خطاياهم) * (العنكبوت: 12) قالوا: والعرب قد تزيد في الكلام للتأكيد على ما يستغنى عنه، قال تعالى: * (فلما أن جاء البشير) * (يوسف: 96) أراد فلما جاء، فأكد بأن، وقال المحققون: دخول اللفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين غير جائر، وههنا يجوز أن تكون (ما) استفهاما للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم، وذلك لأن جنايتهم لما كانت عظيمة
62

ثم انه ما أظهر البتة، تغليظا في القول، ولا خشونة في الكلام، علموا أن هذا لا يتأتى الا بتأييد رباني وتسديد إلهي، فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد والتسديد، فقيل: فبأي رحمة من الله لنت لهم، وهذا هو الأصوب عندي.
المسألة الرابعة: اعلم أن هذه الآية دلت على أن رحمة الله هي المؤثرة في صيرورة محمد عليه الصلاة والسلام رحيما بالأمة، فإذا تأملت حقيقة هذه الآية عرفت دلالتها على أنه لا رحمة الا لله سبحانه، والذي يقرر ذلك وجوه: أحدها: أنه لولا أن الله ألقى في قلب عبده داعية الخير والرحمة واللطف لم يفعل شيئا من ذلك، وإذا ألقى في قلبه هذه الداعية فعل هذه الأفعال لا محالة، وعلى هذا التقدير فلا رحمة إلا لله: ان كل رحيم سوى الله تعالى فإنه يستفيد برحمته عوضا، اما هربا من العقاب، أو طلبا للثواب، أو طلبا للذكر الجميل، فإذا فرضنا صورة خالية عن هذه الأمور كان السبب هو الرقة الجنسية، فان من رأى حيوانا في الألم رق قلبه، وتألم بسبب مشاهدته إياه في الألم، فيخلصه عن ذلك الألم دفعا لتلك الرقة عن قلبه، فلو لم يوجد شيء من هذه الاعراض لم يرحم البتة، أما الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يرحم لا لغرض من الأغراض، فلا رحمة إلا لله، وثالثها: ان كل من رحم غيره فإنه إنما يرحمه بأن يعطيه مالا، أو يبعد عنه سببا من أسباب المكروه والبلاء، إلا أن المرحوم لا ينتفع بذلك المال إلا مع سلامة الأعضاء، وهي ليست إلا من الله تعالى، فلا رحمة في الحقيقة إلا لله، وأما في الظاهر فكل من أعانه الله على الرحمة سمي رحيما، قال عليه السلام: " الراحمون يرحمهم الرحمن " وقال في صفة محمد عليه السلام: * (بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (التوبة: 128) ثم قال تعالى: * (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) *.
واعلم أن كمال رحمة الله في حق محمد صلى الله عليه وسلم أنه عرفه مفاسد الفظاظة والغلظة وفيه مسائل.
المسألة الأولى: قال الواحدي: رحمه الله تعالى: الفظ، الغليظ الجانب السيء الخلق، يقال: فظظت تفظ فظاظة فأنت فظ، وأصله فظظ، كقوله: حذر من حذرت، وفرق من فرقت، الا أن ما كان من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحن رجل صب، وأصله صبب، وأما " الفض " بالضاد فهو تفريق الشيء، وانفض القوم تفرقوا، قال تعالى: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) * (الجمعة: 11) ومنه: فضضت الكتاب، ومنه يقال: لا يفضض الله فاك.
فان قيل: ما الفرق بين الفظ وبين غليظ القلب؟
قلنا: الفظ الذي يكون سئ الخلق، وغليظ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء، فقد
63

لا يكون الانسان سئ الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم، فظهر الفرق من هذا الوجه.
المسألة الثانية: ان المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم إليه وسكنت نفوسهم لديه، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما كريما، يتجاوز عن ذنبهم، ويعفو عن إساءتهم، ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق
، وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب، بل يكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء، كثير القيام بإعانة الفقراء، كثير التجاوز عن سيآتهم، كثير الصفح عن زلاتهم، فلهذا المعنى قال: * (ولو كنت فظا القلب لانفضوا من حولك) * ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة. وحمل القفال رحمه الله هذه الآية على واقعة أحد قال: * (فبما رحمة من الله لنت لهم) * يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام * (ولو كنت فظا غليظ القلب) * وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك، هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام، فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم.
المسألة الثالثة: اللين والرفق انما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله، فأما إذا أدى إلى ذلك لم يجز، قال تعالى: * (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) * (التوبة: 73) وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا: * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) * (النور: 2). وههنا دقيقة أخرى: وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية، وأمره بالغلظة في قوله: * (واغلظ عليهم) * فههنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين، وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين، فهو كقوله: * (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * (المائدة: 54) وقوله: * (أشداء على الكفار رحماء بينهم) * (الفتح: 29) وتحقيق القول فيه ان طرفي الافراط والتفريط مذمومان، والفضيلة في الوسط، فورود الامر بالتغليظ تارة، وأخرى بالنهي عنه، إنما كان لأجل أن يتباعد عن الافراط والتفريط، فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم، فلهذا السر مدح الله الوسط فقال: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143).
ثم قال تعالى: * (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) * واعلم أنه تعالى أمره في هذه الآية بثلاثة أشياء: أولها: بالعفو عنهم وفيه مسائل.
المسألة الأولى: ان كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى، قال عليه السلام: " تخلقوا بأخلاق الله " ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله.
64

المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": (فاعف عنهم) فيما يتعلق بحقك (واستغفر لهم) فيما يتعلق بحق الله تعالى.
المسألة الثالثة: ظاهر الأمر للوجوب، والفاء في قوله تعالى: * (فاعف عنهم) * يدل على التعقيب، فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال، وهذا يدل على كمال الرحمة الإلهية حيث عفا هو عنهم، ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم.
واعلم أن قوله: * (فاعف عنهم) * إيجاب للعفو على الرسول عليه السلام، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم، بل ندبهم إليه فقال تعالى: * (والعافين عن الناس) * ليعلم أن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وثانيها: قوله تعالى: * (واستغفر لهم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر، وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى: * (ومن يولهم يومئذ دبره) * إلى قوله: * (فقد باء بغضب من الله) * (الأنفال: 16) فثبت أن انهزام أهل أحد كان من الكبائر، ثم انه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالعفو عنهم، ثم أمره بالاستغفار لهم، وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (واستغفر لهم) * أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر، وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه إليه، لأن ذلك لا يليق بالكريم، فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا في حق أصحاب الكبائر، فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى.
المسألة الثالثة: أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم أولا بقوله: * (ولقد عفا الله عنهم) * (آل عمران: 155) ثم أمر محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم، كأنه قيل له: يا محمد استغفر لهم فاني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم، واعف عنهم فاني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم، وهذا يدل على كمال رحمة الله لهذه الأمة، وثالثها: قوله تعالى: * (وشاورهم في الأمر) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يقال: شاورهم مشاورة وشوارا ومشورة، والقوم شورى، وهي مصدر سمي القوم بها كقوله: * (وإذ هم نجوى) * (الإسراء: 47) قيل: المشاورة مأخوذة من قولهم: شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته، وقيل مأخوذة من قولهم: شرت الدابة شورا إذا عرضتها، والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشوارا، كأنه بالعرض يعلم خيره وشره، فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها.
65

المسألة الثانية: الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه: الأول: أن مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة. الثاني: أنه عليه السلام وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله، لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا فإنه عليه السلام قال: " أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم " ولهذا السبب قال عليه السلام: " ما تشاور قوم قط الا هدوا لأرشد أمرهم " الثالث: قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته. الرابع: أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج، وكان ميله إلى أن يخرج، فلما خرج وقع ما وقع، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر. فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة. الخامس: وشاورهم في الأمر، لا لتستفيد منهم رأيا وعلما، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم. السادس: وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج إليهم، ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات. وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد. السابع: لما أمر الله محمدا عليه
السلام بمشاورتهم ذل ذلك على أن لهم عند الله قدرا وقيمة، فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق. الثامن: الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده، فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم، فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وان عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة، فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة، بل أنا أزيد فيها، وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم، وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم، لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك، والسبب فيه انكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم، والآن تعولون على فضلي وعفوي، فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك، لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم وكرمي أكثر من طاعتكم. والوجوه الثلاثة الأول مذكورة، والبقية مما خطر ببالي عند هذا الموضع والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
66

المسألة الثالثة: اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس، فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا؟ قال الكلبي وكثير من العلماء: هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته ان الألف واللام في لفظ " الأمر " ليسا للاستغراق، لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه، فوجب حمل الألف واللام ههنا على المعهود السابق، والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو، فكان قوله: * (وشاورهم في الأمر) * مختصا بذلك، ثم قال القائلون بهذا القول: قد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه، فأشار عليه السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا، فقبل منهما وخرق الصحيفة، ومنهم من قال: اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي، والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال: * (فاعتبروا يا أولي الأبصار) * (الحشر: 2) وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار، ومدح المستنبطين فقال: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * (النساء: 83) وكان أكثر الناس عقلا وذكاء، وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة. وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان من أمور الدين، والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم، ثم إن إبليس خص نفسه بالقياس وهو قوله: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) * (الأعراف: 12) فصار ملعونا، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب.
المسألة الرابعة: ظاهر الأمر للوجوب فقوله: * (وشاورهم) * يقتضي الوجوب، وحمل الشافعي رحمه الله ذلك على الندب فقال هذا كقوله عليه الصلاة والسلام: " البكر تستأمر في نفسها " ولو أكرهها الأب على النكاح جاز، لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا ههنا.
المسألة الخامسة: روى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال: الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وعندي فيه اشكال، لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون، فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية، إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية والله أعلم.
ثم قال: * (فإذا عزمت فتوكل على الله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه
67

بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته، والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله في جميع الأمور.
المسألة الثانية: دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الانسان نفسه، كما يقوله بعض الجهال، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل هو أن يراعي الانسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها، بل يعول على عصمة الحق.
المسألة الثالثة: حكي عن جابر بن زيد أنه قرأ * (فإذا عزمت) * بضم التاء، كأن الله تعالى قال للرسول إذا عزمت أنا فتوكل، وهذا ضعيف من وجهين: الأول: وصف الله بالعزم غير جائز، ويمكن أن يقال: هذا العزم بمعنى الايجاب والالزام، والمعنى وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه. فتوكل علي، ولا تشاور بعد ذلك أحدا. والثاني: أن القراءة التي لم يقرأ بها أحد من الصحابة لا يجوز إلحاقها بالقرآن والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (ان الله يحب المتوكلين) * والغرض منه ترغيب المكلفين في الرجوع إلى الله تعالى والاعراض عن كل ما سوى الله.
* (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *.
قال ابن عباس: ان ينصركم الله كما نصركم يوم بدر. فلا يغلبكم أحد، وان يخذلكم كما خذلكم يوم أحد لم ينصركم أحد. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قيل المقصود من الآية الترغيب في الطاعة، والتحذير عن المعصية، وذلك لأنه تعالى بين فيما تقدم أن من اتقى معاصي الله تعالى نصره الله، وهو قوله: * (بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة) * (آل عمران: 125) ثم بين في هذه الآية أن من نصره الله فلا غالب له، فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين، ان من اتقى الله فقد فاز بسعادة الدنيا والآخرة فإنه يفوز بسعادة لا شقاوة معها وبعز لا ذل معه، ويصير غالبا لا يغلبه أحد، وأما من أتى بالمعصية فان الله يخذله، ومن خذله الله فقد وقع في شقاوة لا سعادة معها، وذل لا عز معه.
68

المسألة الثانية: احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الايمان لا يحصل الا بإعانة الله، والكفر لا يحصل الا بخذلانه، والوجه فيه ظاهر لأنها دالة على أن الأمر كله لله.
المسألة الثالثة: قرأ عبيد بن عمير * (وان يخذلكم) * من أخذله إذا جعله مخذولا.
المسألة الرابعة: قوله: * (من بعده) * فيه وجهان: الأول: يعني من بعد خذلانه، والثاني: أنه مثل قولك: ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان.
ثم قال: * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * يعني لما ثبت أن الأمر كله بيد الله، وأنه لا راد لقضائه ولا دافع لحكمه، وجب أن لا يتوكل المؤمن الا عليه، وقوله: * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * يفيد الحصر، أي على الله فليتوكل المؤمنون لا على غيره.
* (وما كان لنبى أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما بلغ في الحث على الجهاد أتبعه بذكر أحكام الجهاد. ومن جملتها المنع من الغلول، فذكر هذه الآية في هذا المعنى وفيها مسائل:
المسألة الأولى: الغلول هو الخيانة، وأصله أخذ الشيء في الخفية، يقال أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم على طريق الخيانة، والغل الحقد الكامن في الصدر. والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الثياب، والغلل الماء الذي يجري في أصول الشجرة لأنه مستتر بالأشجار وتغلل الشيء إذا تخلل وخفى، وقال عليه الصلاة والسلام: " من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه " وقال: " هدايا الولاة غلول " وقال: " ليس على المستعير غير المغل ضمان " وقال: " لا إغلال ولا إسلال " وأيضا يقال: أغله إذا وجده غالا، كقولك: أبخلته وأفحمته. أي وجدته كذلك.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو (يغل) بفتح الياء وضم الغين، أي ما كان للنبي أن يخون، وقرأ الباقون من السبعة " يغل " بضم الياء وفتح الغين، أي ما كان للنبي أن يخان.
واختلفوا في أسباب النزول، فبعضها يوافق القراءة الأولى. وبعضها يوافق القراءة الثانية.
69

أما النوع الأول: ففيه روايات: الأولى: أنه عليه الصلاة والسلام غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم، وتأخرت القسمة لبعض الموانع، فجاء قوم وقالوا: ألا تقسم غنائمنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم منه درهما أتحسبون أني أغلكم مغنمكم " فأنزل الله هذه الآية. الثاني: أن هذه الآية نزلت في أداء الوحي، كان عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتم، فسألوه أن يترك ذلك فنزلت هذه الآية. الثالث: روى عكرمة وسعيد بن جبير: أن الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الجهال لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها فنزلت هذه الآية. الرابع: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق آخر أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي عليه الصلاة والسلام من الغنائم بشيء زائد فنزلت هذه الآية. الخامس: روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث طلائع فغنموا غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الآية. السادس: قال الكلبي ومقاتل: نزلت هذه الآية حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر، فقال عليه الصلاة والسلام: " ظننتم أنا نغل فلا نقسم لكم " فنزلت هذه الآية.
واعلم أن على الرواية الأولى المراد من الآية النهي عن أن يكتم الرسول شيئا من الغنيمة عن أصحابه لنفسه، وعلى الروايات الثلاثة يكون المقصود نهيه عن الغلول، بأن يعطى للبعض دون البعض.
وأما ما يوافق القراءة الثانية: فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقعت غنائم هوازن في يده يوم حنين، غل رجل بمخيط فنزلت هذه الآية. واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر الغلول وجعله من الكبائر، عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين " وعن عبد الله بن عمرو: أن رجلا كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم، يقال له: كركرة فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو في النار، فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء وعباءة قد غلهما، وقال عليه الصلاة والسلام: " أدوا الخيط والمخيط فإنه عار ونار وشنار يوم القيامة " وروي رويفع بن ثابت الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا حتى إذا أخلقه رده " وروي أنه صلى الله عليه وسلم جعل سلمان علي الغنيمة فجاءه رجل وقال يا سلمان
70

كان في ثوبي خرق فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطته به، فهل علي جناح؟ فقال سلمان: كل شيء بقدره فسل الرجل الخيط من ثوبه ثم ألقاه في المتاع، وروي أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين من المغنم، فقال أصبت هذا يوم خيبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " شراك أو شراكان من نار " ورمى رجل بسهم في خيبر، فقال القوم لما مات: هنيئا له الشهادة فقال عليه الصلاة والسلام: " كلا والذي نفس محمد بيده أن الشملة التي أخذها من الغنائم قبل قسمتها لتلتهب عليه نارا " واعلم أنه يستثنى عن هذ النهي حالتان.
الحالة الأولى: أخذ الطعام وأخذ علف الدابة بقدر الحاجة، قال عبد الله بن أبي أوفى: أصبنا طعاما يوم حنين، فكان الرجل يأتي فيأخذ منه قدر الكفاية ثم ينصرف، وعن سلمان أنه أصاب يوم المدائن أرغفة وجبنا وسكينا، فجعل يقطع من الجبن ويقول: كلوا على اسم الله.
الحالة الثانية: إذا احتاج إليه، روي عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به.
المسألة الثالثة: أما القراءة بفتح الياء وضم الغين، بمعنى: ما كان لنبي أن يخون، فله تأويلان: الأول: أن يكون المراد أن النبوة والخيانة لا يجتمعان، وذلك لأن الخيانة سبب للعار في الدنيا والنار في الآخرة، فالنفس الراغبة فيها تكون في نهاية الدناءة، والنبوة أعلى المناصب الانسانية فلا تليق إلا بالنفس التي تكون في غاية الجلالة والشرف، والجمع بين الصفتين في النفس الواحدة ممتنع، فثبت أن النبوة والخيانة لا تجتمعان، فنظير هذه الآية قوله: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * (مريم: 35) يعني: الإلهية واتخاذ الولد لا يجتمعان، وقيل: اللام منقولة، والتقدير: وما كان النبي ليغل، كقوله: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * أي ما كان الله
ليتخذ ولدا. الوجه الثاني: في تأويل هذه الآية على هذه القراءة أن يقال: ان القوم قد التمسوا منه أن يخصهم بحصة زائدة من الغنائم، ولا شك أنه لو فعل ذلك لكان ذلك غلولا، فأنزل الله تعالى هذه الآية مبالغة في النهي له عن ذلك، ونظيره قوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) وقوله: * (ولو نقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين) * (الحاقة: 44) فقوله: * (وما كان لنبي أن يغل) * أي ما كان يحل له ذلك، وإذا لم يحل له لم يفعله، ونظيره قوله: * (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) * (النور: 16) أي ما يحل لنا.
وإذا عرفت تأويل الآية على هذه القراءة فنقول: حجة هذه القراءة وجوه: أحدها: أن أكثر الروايات في سبب نزول هذه الآية أنهم نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الغلول، فبين الله بهذه الآية أن هذه الخصلة لا تليق به. وثانيها: أن ما هو من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه
71

إلى الفاعل كقوله: * (ما كان لنا أن نشرك بالله) * و * (ما كان ليأخذ أخاه) * (يوسف: 76) * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) * (آل عمران: 145) * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم) * (يوسف: 38) * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * (آل عمران: 179) وقل أن يقال: ما كان زيد ليضرب، وإذا كان كذلك وجب إلحاق هذه الآية بالأعم الأغلب، ويؤكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة، وقال: ليس في الكلام ما كان لك أن تضرب، بضم التاء. وثالثها: أن هذه القراءة اختيار ابن عباس: فقيل له ان ابن مسعود يقرأ (يغل) فقال ابن عباس: كان النبي يقصدون قتله، فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة؟ وأما القراءة الثانية وهي (يغل) بضم الياء وفتح الغين ففي تأويلها وجهان: الأول: أن يكون المعنى: ما كان للنبي أن يخان.
واعلم أن الخيانة مع كل أحد محرمة، وتخصيص النبي بهذه الحرمة فيه فوائد: أحدها: أن المجني عليه كلما كان أشرف وأعظم درجة كانت الخيانة في حقه أفحش، والرسول أفضل البشر فكانت الخيانة في حقه أفحش. وثانيها: أن الوحي كان يأتيه حالا فحالا، فمن خانه فربما نزل الوحي فيه فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا. وثالثها: ان المسلمين كانوا في غاية الفقر في ذلك الوقت فكانت تلك الخيانة هناك أفحش. الوجه الثاني: في التأويل: أن يكون من الغل: أن يخون، أي ينسب إلى الخيانة، قال المبرد تقول العرب: أكفرت الرجل جعلته كافرا ونسبته إلى الكفر، قال العتبي: لو كان هذا هو المراد لقيل: يعلل، كما قيل: يفسق ويفجر ويكفر، والأولى: أن يقال: إنه من أغللته، أي وجدته غالا، كما يقال أبخلته وأفحمته، أي وجدته كذلك. قال صاحب " الكشاف ": وهذه القراءة بهذا التأويل يقرب معناها من معنى القراءة الأولى، لأن هذا المعنى لهذه القراءة هو أنه لا يصح أن يوجد النبي غالا، لأنه يوجد غالا إلا إذا كان غالا.
المسألة الرابعة: قد ذكرنا ان الغلول هو الخيانة، إلا أنه في عرف الاستعمال صار مخصوصا بالخيانة في الغنيمة، وقد جاء هذا أيضا في غير الغنيمة، قال صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأكبر الغلول الرجلان يكون بينهما الدار والأرض فان اقتطع أحدهما من صاحبه موضع حصاة طوقها من الأرضين السبع " وعلى هذا التأويل يكون المعنى كونه صلوات الله وسلامه عليه مبرأ عن جميع الخيانات، وكيف لا نقول ذلك والكفار كانوا يبذلون له الأموال العظيمة لترك ادعاء الرسالة فكيف يليق بمن كان كذلك وكان أمينا لله في الوحي النازل إليه من فوق سبع سماوات أن يخون الناس!
ثم قال تعالى: * (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) * وفيه وجهان: الأول: وهو قول أكثر
72

المفسرين إجراء هذه الآية على ظاهرها، قالوا: وهي نظير قوله في مانع الزكاة * (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا) * (التوبة: 35) ويدل عليه قوله: " لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك " وعن ابن عباس أنه قال: يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم، ثم يقال له: انزل إليه فخذه فينزل إليه، فإذا انتهى إليه حمله على ظهره فلا يقبل منه. قال المحققون: والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته.
الوجه الثاني: أن يقال: ليس المقصود منه ظاهره، بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل والتصوير، ونظيره قوله تعالى: * (إنها ان تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله) * (لقمان: 16) فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهر: بل المقصود إثبات أن الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد، ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجهين: الأول: قال أبو مسلم: المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه، لأنه لا يخفى عليه خافية. الثاني: قال أبو القاسم الكعبي: المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء، واعلم أن هذا التأويل يحتمل إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة، إلا إذا قام دليل يمنع منه، وههنا لا مانع من هذا الظاهر، فوجب اثباته.
ثم قال تعالى: * (ثم توفى كل نفس ما كسبت) * وفيه سؤالان:
السؤال الأول: هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل بما قبله؟
والجواب: الفائدة في ذكر هذا العموم أن صاحب الغلول إذا علم أن ههنا مجازيا يجازي كل أحد على عمله سواء كان خيرا أو شرا، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب.
السؤال الثاني: المعتزلة يتمسكون بهذا في إثبات كون العبد فاعلا، وفي إثبات وعيد الفساق.
أما الأول: فلأنه تعالى أثبت الجزاء على كسبه، فلو كان كسبه خلقا لله لكان الله تعالى يجازيه على ما خلقه فيه.
وأما الثاني: فلأنه تعالى قال في القاتل المتعمد: * (فجزاؤه جهنم) * (النساء: 93) وأثبت في هذه الآية أن كل عامل يصل إليه جزاؤه فيحصل من مجموع الآيتين
القطع بوعيد الفساق.
والجواب: أما سؤال الفعل فجوابه المعارضة بالعلم، وأما سؤال الوعيد فهذا العموم مخصوص
73

في صورة التوبة، فكذلك يجب أن يكون مخصوصا في صورة العفو للدلائل الدالة على العفو.
ثم قال تعالى: * (وهم لا يظلمون) * قال القاضي: هذا يدل على أن الظلم ممكن في أفعال الله وذلك بأن ينقص من الثواب أو يزيد في العقاب، قال: ولا يتأتى ذلك إلا على قولنا دون قول من يقول من المجبرة: ان أي شيء فعله تعالى فهو عدل وحكمة لأنه المالك.
الجواب: نفي الظلم عنه لا يدل على صحته عليه، كما أن قوله: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * (البقرة: 255) لا يدل على صحتهما عليه.
* (أفمن اتبع رضوان الله كمن بآء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (ثم توفى كل نفس ما كسبت) * (البقرة: 281، آل عمران: 161) أتبعه بتفصيل هذه الجملة، وبين ان جزاء المطيعين ما هو، وجزاء المسيئين ما هو، فقال: * (أفمن اتبع رضوان الله) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: للمفسرين فيه وجوه: الأول: * (أفمن اتبع رضوان الله) * في ترك الغلول * (كمن باء بسخط من الله) * في فعل الغلول، وهو قول الكلبي والضحاك. الثاني: أفمن اتبع رضوان الله بالايمان به والعمل بطاعته، كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته، الثالث: * (أفمن اتبع رضوان الله) * وهم المهاجرون، * (كمن باء بسخط من الله) * وهم المنافقون، الرابع: قال الزجاج: لما حمل المشركون على المسلمين دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن يحملوا على المشركين، ففعله بعضهم وتركه آخرون. فقال: * (أفمن اتبع رضوان الله) * وهم الذين امتثلوا أمره * (كمن باء بسخط من الله) * وهم الذين لم يقبلوا قوله، وقال القاضي: كل واحد من هذه الوجوه صحيح، ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه * (أفمن اتبع رضوان الله) * وكل من أخلد إلى متابعة النفس والشهوة فهو داخل تحت قوله: * (كمن باء بسخط من الله) * أقصى ما في الباب أن الآية نازلة في واقعة معينة، لكنك تعلم أن عموم اللفظ لا يبطل لأجل خصوص السبب.
المسألة الثانية: قوله: * (أفمن اتبع) * الهمزة فيه للانكار، والفاء للعطف على محذوف تقديره: أمن اتقى فاتبع رضوان الله.
74

المسألة الثالثة: قوله: * (باء بسخط) * أي احتمله ورجع به، وقد ذكرناه في سورة البقرة.
المسألة الرابعة: قرأ عاصم في إحدى الروايتين عنه: * (رضوان الله) * بضم الراء، والباقون بالكسر وهما مصدران، فالضم كالكفران، والكسر كالحسبان.
المسألة الخامسة: قوله: * (ومأواه جهنم) * من صلة ما قبله والتقدير: كمن باء بسخط من الله وكان مأواه جهنم، فأما قوله: * (وبئس المصير) * فمنقطع عما قبله وهو كلام مبتدأ، كأنه لما ذكر جهنم أتبعه بذكر صفتها.
المسألة السادسة: نظير هذه الآية قوله تعالى: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم) * (الجاثية: 21) وقوله: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) * (السجدة: 18) وقوله: * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) * (ص: 28) واحتج القوم بهذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يدخل المطيعين في النار، وأن يدخل المذنبين الجنة، وقالوا: انه تعالى ذكر ذلك على سبيل الاستبعاد، ولولا أنه ممتنع في العقول، والا لما حسن هذا الاستبعاد، وأكد القفال ذلك فقال: لا يجوز في الحكمة أن يسوى المسئ بالمحسن، فان فيه إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات.
* (هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون) *.
وفيه مسائل.
المسألة الأولى: تقدير الكلام: لهم درجات عند الله، الا أنه حسن هذا الحذف، لان اختلاف أعمالهم قد صيرتهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها. فكان هذا المجاز أبلغ من الحقيقة والحكماء يقولون: ان النفوس الانسانية مختلفة بالماهية والحقيقة، فبعضها ذكية وبعضها بليدة، وبعضها مشرقة نورانية، وبعضها كدرة ظلمانية، وبعضها خيرة وبعضها نذلة، واختلاف هذه الصفات ليس لاختلاف الأمزجة البدنية، بل لاختلاف ماهيات النفوس، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " وقال: " الأرواح جنود مجندة " وإذا كان كذلك ثبت أن الناس في أنفسهم درجات، لا أن لهم درجات.
المسألة الثانية: هم: عائد إلى لفظ " من " في قوله: * (أفمن اتبع رضوان الله) * (آل عمران: 162) ولفظ " من " يفيد الجمع في المعنى، فلهذا صح أن يكون قوله: * (هم) * عائدا إليه، ونظيره قوله: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) * فان قوله: * (يستوون) * صيغة الجمع وهو عائد إلى " من ".
75

المسألة الثالثة: هم: ضمير عائد إلى شيء قد تقدم ذكره، وقد تقدم ذكر من اتبع رضوان الله وذكر من باء بسخط من الله، فهذا الضمير يحتمل أن يكون عائدا إلى الأول، أو إلى الثاني، أو إليهما معا، والاحتمالات ليست الا هذه الثلاثة.
الوجه الأول: أن يكون عائدا إلى * (من اتبع رضوان الله) * وتقديره: أفمن اتبع رضوان الله سواء، لا بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم، والذي يدل على أن هذا الضمير عائد إلى من اتبع الرضوان وأنه أولى، وجوه: الأول: ان الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب، والدركات في أهل العقاب. الثاني: أنه تعالى وصف من باء بسخط من الله، وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصير، فوجب أن يكون قوله: * (هم درجات) * وصفا لمن اتبع رضوان الله. الثالث: أن عادة القرآن في الأكثر جارية بأن ما كان من الثواب والرحمة فان الله يضيفه إلى نفسه، وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه، قال تعالى: * (كتب ربكم على نفسه
الرحمة) * وقال: * (كتب عليكم القصاص) * (البقرة: 178) * (كتب عليكم الصيام) * (البقرة: 183) فما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه حيث قال: * (هم درجات عند الله) * علمنا أن ذلك صفة أهل الثواب. ورابعها: أنه متأكد بقوله تعالى: * (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * (الإسراء: 21).
والوجه الثاني: أن يكون قوله: * (هم درجات) * عائدا على * (من باء بسخط من الله) * والحجة أن الضمير عائد إلى الأقرب وهو قول الحسن، قال: والمراد أن أهل النار متفاوتون في مراتب العذاب، وهو كقوله: * (ولكل درجات مما عملوا) * (الأحقاف: 19) وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ان فيها أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يعلى من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل أحد يعذب عذابي ".
الوجه الثالث: أن يكون قوله: * (هم) * عائدا إلى الكل، وذلك لأن درجات أهل الثواب متفاوتة، ودرجات أهل العقاب أيضا متفاوتة على حسب تفاوت أعمال الخلق، لأنه تعالى قال: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7 - 8) فلما تفاوتت مراتب الخلق في أعمال المعاصي والطاعات وجب أن تتفاوت مراتبهم في درجات العقاب والثواب.
المسألة الرابعة: قوله: * (عند الله) * أي في حكم الله وعلمه، فهو كما يقال: هذه المسألة عند الشافعي كذا، وعند أبي حنيفة كذا، وبهذا يظهر فساد استدلال المشبهة بقوله: * (ومن عنده لا يستكبرون) * (الأنبياء: 19) وقوله: * (عند مليك مقتدر) * (القمر: 55).
76

ثم قال تعالى: * (والله بصير بما يعملون) * والمقصود أنه تعالى لما ذكر أنه يوفى لكل أحد بقدر عمله جزاء، وهذا لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع أفعال العباد على التفصيل الخالي عن الظن والريب والحسبان، أتبعه ببيان كونه عالما بالكل تأكيدا لذلك المعنى، وهو قوله: * (والله بصير بما يعملون) * وذكر محمد بن إسحاق صاحب المغازي في تأويل قوله: * (وما كان لنبي أن يغل) * (آل عمران: 161) وجها آخر فقال: ما كان لنبي أن يغل أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم رغبة في الناس أو رهبة عنهم ثم قال: * (أفمن اتبع رضوان الله) * يعني رجح رضوان الله على رضوان الخلق، وسخط الله على سخط الخلق، * (كمن باء بسخط من الله) * فرجح سخط الخلق على سخط الله، ورضوان الخلق على رضوان الله، ووجه النظم على هذا التقرير أنه تعالى لما قال: * (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) * (آل عمران: 159) بين أن ذلك إنما يكون معتبرا إذا كان على وفق الدين، فأما إذا كان على خلاف الدين فإنه غير جائز، فكيف يمكن التسوية بين من اتبع رضوان الله وطاعته، وبين من اتبع رضوان الخلق، وهذا الذي ذكره محتمل، لأنا بينا أن الغلول عبارة عن الخيانة على سبيل الخفية، وأما أن اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة فهو عرف حادث.
* (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين) *.
اعلم أن في وجه النظم وجوها: الأول: أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه إلى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية، وذلك لان هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم، ولم يظهر منه طول عمره الا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والاعراض عن الدنيا، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة.
الوجه الثاني: أنه لما بين خطأهم في نسبته إلى الخيانة والغلول قال: لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول، ولكني أقول: ان وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فإنه يزكيكم عن الطريق الباطلة، ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم، فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الانسان إلى الخيانة. الوجه الثالث: كأنه تعالى يقول: انه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم، وأنتم أرباب الخمول
77

والدناءة، فإذا شرفه الله تعالى وخصه بمزايا الفضل والاحسان من جميع العالمين، حصل لكم شرف عظيم بسبب كونه فيكم، فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح إليه على خلاف العقل.
الوجه الرابع: انه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن الله به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه، فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان، والمقصود منه العود إلى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: للمن في كلام العرب معان: أحدها: الذي يسقط من السماء وهو قوله: * (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) * (البقرة: 57) وثانيها: أن تمن بما أعطيت وهو قوله: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) * (البقرة: 264) وثالثها: القطع وهو قوله: * (لهم أجر غير منون) * (فصلت: 8) * (وان لك لأجرا غير ممنون) * ورابعها: الانعام والاحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه، ومنه قوله: * (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك) * (ص: 39) وقوله: * (ولا تمنن تستكثر) * والمنان في صفة الله تعالى: المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله: * (لقد من الله على المؤمنين) * أي أنعم عليهم وأحسن إليهم ببعثه هذا الرسول.
المسألة الثانية: أن بعثة الرسول إحسان إلى كل العالمين، وذلك لأن وجه الاحسان في بعثته كونه داعيا لهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم إلى ثواب الله، وهذا عام في حق العالمين، لأنه مبعوث إلى كل العالمين، كما قال تعالى: * (وما أرسلناك الا كافة للناس) * (سبأ: 28) إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الانعام الا أهل الاسلام، فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين، ونظيره قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) مع أنه هدى للكل، كما قال: * (هدى للناس) * (البقرة: 185) وقوله: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45).
المسألة الثالثة: اعلم أن بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق ثم انه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الانعام في بعثة الرسل أكثر، وبعثة محمد صلى الله عليه
وسلم كانت مشتملة على الأمرين: أحدهما: المنافع الحاصلة من أصل البعثة، والثاني: المنافع الحاصلة بسب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره.
أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها الله تعالى في قوله: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * (النساء: 165) قال أبو عبد الله الحليمي: وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلا في طريق الدين وهو من وجوه: الأول: أن الخلق جبلوا على النقصان وقلة الفهم وعدم الدراية، فهو صلوات الله عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقحها، وكلما خطر ببالهم شك أو شبهة أزالها وأجاب عنها. والثاني: ان الخلق وان كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم، ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة، فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من
78

الغلط ومن الاقدام على ما لا ينبغي. والثالث: أن الخلق جبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات حتى أنه كلما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم للطاعة ورغبهم فيها. الرابع: أن أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر، ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل الا عند سطوع نور الشمس، ونوره عقلي إلهي يجري مجرى طلوع الشمس، فيقوي العقول بنور عقله، ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترا عنهم قبل ظهوره، فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة.
وأما المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد صلى الله عليه وسلم من الصفات، فأمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية أولها قوله: * (من أنفسهم) *.
واعلم أن وجه الانتفاع بهذا من وجوه: الأول: أنه عليه السلام ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله مطلعين على جميع أفعاله وأقواله، فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلا الصدق والعفاف، وعدم الالتفات إلى الدنيا والبعد عن الكذب، والملازمة على الصدق، ومن عرف من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة، وبعده عن الخيانة والكذب، ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب، يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى. الثاني: أنهم كانوا عالمين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابا ولم يمارس درسا ولا تكرارا، وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق البتة بحديث النبوة والرسالة، ثم انه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين، ثم انه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم، فكل من له عقل سليم علم أن هذا لا يتأتى إلا بالوحي السماوي والالهام الإلهي. الثالث: أنه بعد ادعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك، بل قنع بالفقر وصبر على المشقة، ولما علا أمره وعظم شأنه وأخذ البلاد وعظمت الغنائم لم يغير طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى الله، والكاذب إنما يقدم على الكذب ليجد الدنيا، فإذا وجدها تمتع بها وتوسع فيها، فلما لم يفعل شيئا من ذلك علم أنه كان صادقا. الرابع: أن الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلا تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات، ومعلوم أن كمال الانسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، ولما كان كتابه ليس إلا في تقرير هذين الأمرين علم كل عاقل أنه صادق فيما يقوله. الخامس: أن قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان وهو عبادة الأوثان،
79

وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة. ثم لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم نقلهم الله ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها. ولا شك أن فيه أعظم المنة.
إذا عرفت هذه الوجوه فنقول: ان محمدا عليه الصلاة والسلام ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال، مطلعين على هذه الدلائل، فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال. فلهذه المعاني من الله عليهم بكونه مبعوثا منهم فقال: * (إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) * وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لهم، كما قال: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (الزخرف: 44) وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب. ثم إن اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل، فما كان للعرب ما يقابل ذلك، فلما بعث الله محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم، فهذا هو وجه الفائدة في قوله: * (من أنفسهم) *.
ثم قال بعد ذلك: * (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) *. واعلم أن كمال حال الانسان في أمرين: في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وبعبارة أخرى: للنفس الانسانية قوتان، نظرية وعملية، والله تعالى أنزل الكتاب على محمد عليه السلام ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين، فقوله: * (يتلو عليهم آياته) * إشارة إلى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند الله إلى الخلق، وقوله: * (ويزكيهم) * إشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الإلهية * (والكتاب) * إشارة إلى معرفة التأويل، وبعبارة أخرى * (الكتاب) * إشارة إلى ظواهر الشرعية * (والحكمة) * إشارة إلى محاسن الشريعة وأسرارها وعللها ومنافعها، ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة. وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين، لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم، فإذا كان وجه النعمة العلم والاعلام، ووردا عقيب الجهل والذهاب عن الدين، كان أعظم ونظيره قوله: * (ووجدك ضالا فهدى) * (الضحى: 7).
80

قوله تعالى
* (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شىء قدير) *.
اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم طعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم: لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار في يوم أحد: وهو المراد من قولهم: أنى هذا، وأجاب الله عنه بقوله: * (قل هو من عند أنفسكم) * أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم فهذا بيان وجه النظم.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: تقرير الآية: * (أو لما أصابتكم مصيبة) * المراد منها واقعة أحد، وفي قوله: * (قد أصبتم مثليها) * قولان: الأول: وهو قول الأكثرين أن معناه قد أصبتم يوم بدر، وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. والثاني: أن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر، وهزموهم أيضا في الأول يوم أحد، ثم لما عصوا هزمهم المشركون، فانهزام المشركين حصل مرتين، وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة، وهذا اختيار الزجاج: وطعن الواحدي في هذا الوجه فقال: كما أن المسلمين نالوا من المشركين يوم بدر، فكذلك المشركون نالوا من المسلمين يوم أحد، ولكنهم ما هزموا المسلمين البتة، أما يوم أحد فالمسلمون هزموا المشركين أولا ثم انقلب الأمر.
المسألة الثانية: الفائدة في قوله: * (قد أصبتم مثليها) * هو التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على نهج واحد، فلما هزمتموهم مرتين فأي استبعاد في أن يهزموكم مرة واحدة، أما قوله: * (قلتم أنى هذا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: سبب تعجبهم أنهم قالوا نحن ننصر الاسلام الذي هو دين الحق، ومعنا الرسول، وهم ينصرون دين الشرك بالله والكفر، فكيف صاروا منصورين علينا!
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين: الأول: ما أدرجه عند حكاية السؤال وهو قوله * (قد أصبتم مثليها) * يعني أن أحوال الدنيا لا تبقى على نهج واحد، فإذا أصبتم منهم مثل هذه
81

الواقعة.. فكيف تستبعدون هذه الواقعة؟ والثاني: قوله قل: * (هو من عند أنفسكم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تقرير هذا الجواب من وجهين: الأول: أنكم إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم وذلك لأنهم عصوا الرسول في أمور: أولها: أن الرسول عليه السلام قال: المصلحة في أن لا نخرج من المدينة بل نبقى ههنا، وهم أبوا إلا الخروج، فلما خالفوه توجه إلى أحد. وثانيها: ما حكى الله عنهم من فشلهم. وثالثها: ما وقع بينهم من المنازعة. ورابعها: أنهم فارقوا المكان وفرقوا الجمع. وخامسها: اشتغالهم بطلب الغنيمة وإعراضهم عن طاعة الرسول عليه السلام في محاربة العدو، فهذه الوجوه كلها ذنوب ومعاصي، والله تعالى إنما وعدهم النصر بشرط ترك المعصية، كما قال: * (إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم) * (آل عمران: 125) فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط.
الوجه الثاني: في التأويل: ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقتل منهم عدتهم، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لقومه، فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم، فنتقوى به على قتال العدو، ونرضى أن يستشهد منا بعددهم، فقتل يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر، فهو معنى قوله: * (قل هو من عند أنفسكم) * أي بأخذ الفداء واختياركم القتل.
المسألة الثانية: استدلت المعتزلة على أن أفعال العبد غير مخلوقة لله تعالى بقوله: * (قل هو من عند أنفسكم) * من وجوه: أحدها: أن بتقدير أن يكون ذلك حاصلا بخلق الله ولا تأثير لقدرة العبد فيه، كان قوله: * (من عند أنفسكم) * كذبا، وثانيها: أن القوم تعجبوا أن الله كيف يسلط الكافر على المؤمن، فالله تعالى أزال التعجب بأن ذكر أنكم إنما وقعتم في هذا المكروه بسبب شؤم فعلكم، فلو كان فعلهم خلقا لله لم يصح هذا الجواب. وثالثها: أن القوم قالوا: * (أنى هذا) *، أي من أين هذا فهذا طلب لسبب الحدوث، فلو لم يكن المحدث لها هو العبد لم يكن الجواب مطابقا للسؤال.
والجواب: أنه معارض بالآيات الدالة على كون أفعال العبد بايجاد الله تعالى.
ثم قال تعالى: * (إن الله على كل شيء قدير) * (فاطر: 1) أي انه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم، كما أنه قادر على التخلية إذا خالفتم وعصيتم، واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا: إن فعل العبد شيء فيكون مخلوقا لله تعالى قادرا عليه، وإذا كان الله قادرا على إيجاده، فلو أوجده العبد امتنع كونه تعالى قادرا على إيجاده لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده، لأن إيجاد الموجود محال
82

فلما كان كون العبد موجدا له يفضي إلى هذا المحال، وجب أن لا يكون العبد موجدا له والله أعلم.
* (ومآ أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا فى سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم والله أعلم بما يكتمون) *.
اعلم أن هذا متعلق بما تقدم من قوله: * (أو لما أصابتكم مصيبة) * (آل عمران: 165) فذكر في هذه الآية الأولى أنها أصابتهم بذنبهم ومن عند أنفسهم، وذكر في هذه الآية أنها أصابتهم لوجه آخر، وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (يوم التقى الجمعان) * (الفرقان: 41) المراد يوم أحد، والجمعان: أحدهما جمع المسلمين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني: جمع المشركين الذين كانوا مع أبي سفيان.
المسألة الثانية: في قوله: * (فبإذن الله) * وجوه: الأول: أن اذن الله عبارة عن التخلية وترك المدافعة، استعار الاذن لتخلية الكفار فإنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم، لأن الاذن في الشيء لا يدفع المأذون عن مراده، فلما كان ترك المدافعة من لوازم الاذن أطلق لفظ الاذن على ترك المدافعة على سبيل المجاز.
الوجه الثاني: فبإذن الله: أي بعلمه كقوله: * (وأذان من الله) * (التوبة: 3) أي إعلام، وكقوله: * (آذناك ما منا من شهيد) * (فصلت: 47) وقوله: * (فأذنوا بحرب من الله) * (البقرة: 279) وكل ذلك بمعنى العلم. طعن الواحدي فيه فقال: الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ولا تقع التسلية إلا إذا كان واقعا بعلمه، لأن علمه عام في جميع المعلومات بدليل قوله تعالى: * (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) * (فاطر: 11).
الوجه الثالث: أن المراد من الاذن الأمر، بدليل قوله: * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) * (آل عمران: 152) والمعنى أنه
83

تعالى لما أمر بالمحاربة، ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام، صح على سبيل المجاز أن يقال حصل ذلك بأمره.
الوجه الرابع: وهو المنقول عن ابن عباس: أن المراد من الاذن قضاء الله بذلك وحكمه به وهذا أولى لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم، والتسلية إنما تحصل إذا قيل إن ذلك وقع بقضاء الله وقدره، فحينئذ يرضون بما قضى الله.
ثم قال: * (وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا) * والمعنى ليميز المؤمنين عن المنافقين وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: يقال: نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الايمان وأضمر خلافها، والنفاق اسم إسلامي اختلف في اشتقاقه على وجوه: الأول: قال أبو عبيدة: هو من نافقاء اليربوع، وذلك لأن حجر اليربوع له بابان: القاصعاء والنافقاء، فإذا طلب من أيهما كان خرج من الآخر فقيل للمنافق أنه منافق، لأنه وضع لنفسه طريقين، إظهار الاسلام وإضمار الكفر، فمن أيهما طلبته خرج من الآخر: الثاني: قال ابن الأنباري: المنافق من النفق وهو السرب، ومعناه أنه يتستر بالاسلام كما يتستر الرجل في السرب. الثالث: أنه مأخوذ من النافقاء، لكن على غير هذا الوجه الذي ذكره أبو عبيدة، وهو أن النافقاء جحر يحفره اليربوع في داخل الأرض، ثم انه يرقق بما فوق الجحر، حتى إذا رابه ريب دفع التراب برأسه وخرج، فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالاسلام.
المسألة الثانية: قوله: * (وليعلم المؤمنين) * ظاهره يشعر بأنه لأجل أن يحصل له هذا العلم أذن في تلك المصيبة، وهذا يشعر بتجدد علم الله، وهذا محال في حق علم الله تعالى، فالمراد ههنا من العلم المعلوم، والتقدير: ليتبين المؤمن من المنافق، وليتميز أحدهما عن الآخر حصل الاذن في تلك المصيبة، وقد تقدم تقرير هذا المعنى في الآيات المتقدمة والله أعلم.
المسألة الثالثة: في الآية حذف، تقديره: وليعلم إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين.
فان قيل: لم قال: * (وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا) * ولم يقل: وليعلم المنافقين.
قلنا: الاسم يدل على تأكيد ذلك المعنى، والفعل يدل على تجدده، وقوله: * (وليعلم المؤمنين) * يدل على كونهم مستقرين على إيمانهم متثبتين فيه، وأما * (نافقوا) * فيدل على كونهم إنما شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت.
ثم قال تعالى: * (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) * وفيه مسائل:
84

المسألة الأولى: في أن هذا القائل من هو؟ وجهان: الأول: قال الأصم: انه الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى القتال. الثاني: روي أن عبد الله بن أبي بن سلول لما خرج بعسكره إلى أحد قالوا: لم نلقي أنفسنا في القتل، فرجعوا وكانوا ثلثمائة من جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبد الله الأنصاري: أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو، فهذا هو المراد من قوله تعالى: * (وقيل لهم) * يعني قول عبد الله هذا.
المسألة الثانية: قوله: * (قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) * يعني إن كان في قلبكم حب الدين والاسلام فقاتلوا للدين والاسلام، وإن لم تكونوا كذلك، فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم، يعني كونوا إما من رجال الدين، أو من رجال الدنيا. قال السدي وابن جريج: ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا، قالوا: لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والعظمة، والأول هو الوجه.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) * تصريح بأنهم قدموا طلب الدين على طلب الدنيا، وذلك يدل على أن المسلم لا بد وأن يقدم الدين على الدنيا في كل المهمات.
ثم قال تعالى: * (قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان) * وهذا هو الجواب الذي ذكره المنافقون وفيه وجهان: الأول: أن يكون المراد أن الفريقين لا يقتتلان البتة، فلهذا رجعنا. الثاني: أن يكون المعنى لو نعلم ما يصلح أن يسمى قتالا لاتبعناكم، يعني أن الذي يقدمون عليه لا يقال له قتال، وإنما هو إلقاء النفس في التهلكة لأن رأي عبد الله كان في الإقامة بالمدينة، وما كان يستصوب الخروج.
واعلم أنه إن كان المراد من هذا الكلام هو الوجه الأول فهو فاسد، وذلك لأن الظن في أحوال الدنيا قائم مقام العلم، وأمارات حصول القتال كانت ظاهرة في ذلك اليوم، ولو قيل لهذا المنافق الذي ذكر هذا الجواب: فينبغي لك لو شاهدت من شهر سيفه في الحرب أن لا تقدم على مقاتلته لأنك لا تعلم منه قتالا، وكذا القول في سائر التصرفات في أمور الدنيا، بل الحق أن الجهاد واجب عند ظهور أمارات المحاربة، ولا أمارات أقوى من قربهم من المدينة عند جبل أحد، فدل ذكر هذا الجواب على غاية الخزي والنفاق، وإنه كان غرضهم من ذكر هذا الجواب إما التلبيس، واما الاستهزاء. وأما إن كان مراد المنافق هو الوجه الثاني فهو أيضا باطل، لأن الله تعالى لما وعدهم بالنصرة والاعانة لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء للنفس في التهلكة.
85

ثم انه بين حالهم عندما ذكروا هذا الجواب فقال: * (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في التأويل وجهان: الأول: أنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الايمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم، فلما رجعوا عن عسكر المؤمنين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين.
واعلم أن رجوعهم عن معاونة المسلمين دل على أنهم ليسوا من المسلمين، وأيضا قولهم: * (لو نعلم قتالا لاتبعناكم) * يدل على أنهم ليسوا من المسلمين، وذلك لأنا بينا أن هذا الكلام يدل إما على السخرية بالمسلمين، وإما على عدم الوثوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهما كفر.
الوجه الثاني: في التأويل أن يكون المراد أنهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الايمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانعزال يجر إلى تقوية المشركين.
المسألة الثانية: قال أكثر العلماء: ان هذا تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار، قال الحسن إذا قال الله تعالى: * (أقرب) * فهو اليقين بأنهم مشركون، وهو مثل قوله: * (مائة ألف أو يزيدون) * فهذه الزيادة لا شك فيها، وأيضا المكلف لا يمكن أن ينفك عن الايمان والكفر، فلما دلت الآية على القرب لزم حصول الكفر. وقال الواحدي في " البسيط ": هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ولم يطلق القول بتكفيره، لأنه تعالى لم يطلق القول بكفرهم مع أنهم كانوا كافرين، لاظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثم قال تعالى: * (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) * والمراد أن لسانهم مخالف لقلبهم، فهم وإن كانوا يظهرون الايمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر.
ثم قال: * (والله أعلم بما يكتمون) *.
فان قيل: إن المعلوم إذا علمه عالمان لا يكون أحدهما أعلم به من الآخر، فما معنى قوله: * (والله أعلم بما يكتمون) *.
قلنا: المراد أن الله تعالى يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره.
86

* (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) *.
اعلم أن الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا: * (لو نعلم قتالا لاتبعناكم) * (آل عمران: 167) وصفهم الله تعالى بأنهم كما قعدوا واحتجوا لقعودهم، فكذلك ثبطوا غيرهم واحتجوا لذلك، فحكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا لإخوانهم إن الخارجين لو أطاعونا ما قتلوا، فخوفوا من مراده موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في محاربة الكفار بالقتل لما عرفوا ما جرى يوم أحد من الكفار على المسلمين من القتل، لأن المعلوم من الطباع محبة الحياة فكان وقوع هذه الشبهة في القلوب يجري مجرى ما يورده الشيطان من الوسواس، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في محل * (الذين) * وجوه: أحدها: النصب على البدل من * (الذين نافقوا) * وثانيها: الرفع على البدل من الضمير في * (يكتمون) * وثالثها: الرفع على خبر الابتداء بتقدير: هم الذين، ورابعها: أن يكون نصبا على الذم.
المسألة الثانية: قال المفسرون: المراد * (بالذين قالوا) * عبد الله بن أبي وأصحابه، وقال الأصم: هذا لا يجوز لأن عبد الله بن أبي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد يوم أحد، وهذا القول فهو واقع فيمن قد تخلف لأنه قال: * (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا) * أي في القعود ما قتلوا فهو كلام متأخر عن الجهاد، قاله لمن خرج إلى الجهاد ولمن هو قوي النية في ذلك ليجعله شبهة فيما بعده صارفا لهم عن الجهاد.
المسألة الثالثة: قالوا لإخوانهم: أي قالوا لأجل إخوانهم، وقد سبق بيان المراد من هذه الاخوة، الاخوة في النسب، أو الاخوة بسبب المشاركة في الدار، أو في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عبادة الأوثان؟ والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال الواحدي: الواو في قوله: * (وقعدوا) * للحال ومعنى هذا القعود القعود عن الجهاد يعني من قتل بأحد لو قعدوا كما قعدنا وفعلوا كما فعلنا لسلموا ولم يقتلوا، ثم أجاب الله عن ذلك بقوله: * (قل فادرؤا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين
87

فان قيل: ما وجه الاستدلال بذلك مع أن الفرق ظاهر فان التحرز عن القتل ممكن، أما التحرز عن الموت فهو غير ممكن البتة؟
والجواب: هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى لا يتمشى إلا إذا اعترفنا بالقضاء والقدر، وذلك لأنا إذا قلنا لا يدخل الشيء في الوجود إلا بقضاء الله وقدره، اعترفنا بأن الكافر لا يقتل المسلم إلا بقضاء الله، وحينئذ لا يبقى بين القتل وبين الموت فرق، فيصح الاستدلال. أما إذا قلنا بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه، كان الفرق بين الموت والقتل ظاهرا من الوجه الذي ذكرتم، فتفضي إلى فساد الدليل الذي ذكره الله تعالى، ومعلوم أن المفضي إلى ذلك يكون باطلا، فثبت أن هذه الآية دالة على أن الكل بقضاء الله. وقوله: * (ان كنتم صادقين) * يعني: إن كنتم صادقين في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره، والوصول إلى المطالب.
* (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بمآ ءاتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
اعلم أن القول لما ثبطوا الراغبين في الجهاد بأن قالوا: الجهاد يفضي إلى القتل، كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد، والقتل شيء مكروه، فوجب الحذر عن الجهاد، ثم إن الله تعالى بين أن قولهم: الجهاد يقضي إلى القتل باطل، بأن القتل إنما يحصل بقضاء الله وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء الله وقدره، فمن قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه، ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل، ثم أجاب عن تلك الشبهة في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم ان القتل في سبيل الله شيء مكروه، وكيف يقال ذلك والمقتول في سبيل الله أحياه الله بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة، وأعطاه أفضل أنواع الرزق وأوصله إلى أجل مراتب
الفرح والسرور؟ فأي عاقل يقول إن مثل هذا القتل يكون مكروها، فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل:
88

المسألة الأولى: هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد، لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين، والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين، والله تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين إلى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل، وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل إلى نعيم الدنيا وربما لم يصل، وبتقدير أن يصل إليه فهو حقير وقليل، ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم، ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن الاقبال على الجهاد أفضل من تركه.
المسألة الثانية: اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء، فاما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا، فان كان المراد منه هو الحقيقة، فاما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، أو المراد أنهم أحياء في الحال، وبتقدير أن يكون هذا هو المراد، فاما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية، فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية.
الاحتمال الأول: أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، قد ذهب إليه جماعة من متكلمي المعتزلة، منهم أبو القاسم الكعبي قال: وذلك لأن المنافقين الذين حكى الله عنهم ما حكى، كانوا يقولون: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون إلى خير، وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد، فكذبهم الله تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل إليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة.
واعلم أن هذا القول عندنا باطل، ويدل عليه وجوه: الحجة الأولى: ان قوله: * (بل أحياء) * ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية، فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر.
الحجة الثانية: انه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والاحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة، ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فإنه تعالى قال: * (أغرقوا فأدخلوا نارا) * (25: نوح) والفاء للتعقيب، والتعذيب مشروط بالحياة، وأيضا قال تعالى: * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) * (غافر: 46) وإذا جعل الله أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب، فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الاحسان والاثابة كان ذلك أولى.
الحجة الثالثة: أنه لو أراد أنه سيجعلهم أحياء عند البعث في الجنة لما قال للرسول عليه
89

الصلاة والسلام: * (ولا تحسبن) * مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك، أما إذا حملناه على ثواب القبر حسن قوله: * (ولا تحسبن) * لأنه عليه الصلاة والسلام لعله ما كان يعلم أنه تعالى يشرف المطيعين والمخلصين بهذا التشريف، وهو أنه يحييهم قبل قيام القيامة لأجل إيصال الثواب إليهم.
فان قيل: إنه عليه الصلاة والسلام وان كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند ربهم عند البعث ولكنه غير عالم بأنهم من أهل الجنة، فجاز أن يبشره الله بأنهم سيصيرون أحياء ويصلون إلى الثواب والسرور.
قلنا: قوله: * (ولا تحسبن) * إنما يتناول الموت لأنه قال: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) * فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال لأنه لا حسبان هناك في صيرورتهم أحياء يوم القيامة، وقوله: * (يرزقون * فرحين) * فهو خبر مبتدأ ولا تعلق له بذلك الحسبان فزال هذا السؤال.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) * والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة، والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة، فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة، وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي ذكره.
الحجة الخامسة: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفة الشهداء: " ان أرواحهم في أجواف طير خضر وانها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله تعالى بنا كي يرغبوا في الجهاد فقال الله تعالى: أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى هذه الآية " وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية، فقال: سألنا عنها فقيل لنا ان الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء، وفي رواية في روضة خضراء، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله ثم قال: ما تريد يا عبد الله بن عمرو أن فعل بك فقال يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيها مرة أخرى " والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التوتر، فكيف يمكن انكارها؟ طعن الكعبي في هذه الروايات وقال: إنها غير جائزة لان الأرواح لا تتنعم، وانما يتنعم الجسم إذا كان فيه روح لا الروح، ومنزلة الروح من البدن منزلة القوة، وأيضا: الخبر المروي ظاهره يقتضي أن هذه الأرواح
90

في حواصل الطير، وأيضا ظاهره يقتضي أنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح، وهذا يناقض كونها في حواصل الطير.
والجواب: أما الطعن الأول: فهو مبني على أن الروح عرض قائم بالجسم، وسنبين أن الأمر ليس كذلك، وأما الطعن الثاني: فهو مدفوع لان القصد من أمثال هذه الكلمات الكنايات عن حصول الراحات والمسرات وزوال المخافات والآفات، فهذا جملة الكلام في هذا الاحتمال.
وأما الوجه الثاني: من الوجوه المحتملة في هذه الآية هو أن المراد أن الشهداء أحياء في الحال، والقائلون بهذا القول منهم من أثبت هذه الحياة للروح، ومنهم من أثبتها للبدن، وقبل الخوض في هذا الباب يجب تقديم مقدمة، وهي أن الانسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية، ويدل عليه أمران: أحدهما: أن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال، والتبدل، والانسان المخصوص شيء باق من أول عمره إلى آخره، والباقي مغاير للمتبدل، والذي يؤكد ما قلناه: أنه تارة يصير سمينا وأخرى هزيلا،
وأنه يكون في أول الامر صغير الجثة، ثم انه يكبر وينمو، ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره إلى آخره فصح ما قلناه. الثاني: أن الانسان قد يكون عالما بنفسه حال ما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم، فثبت بهذين الوجهين أنه شيء مغاير لهذا البدن المحسوس، ثم بعد ذلك يحتمل أن يكون جسما مخصوصا ساريا في هذه الجثة سريان النار في الفحم. والدهن في السمسم، وماء الورد في الورد. ويحتمل أن يكون جوهرا قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم، وعلى كلا المذهبين فإنه لا يبعد أنه لما مات البدن انفصل ذلك الشيء حيا، وان قلنا أنه أماته الله الا أنه تعالى يعيد الحياة إليه، وعلى هذا التقدير تزول الشبهات بالكلية عن ثواب القبر، كما في هذه الآية، وعن عذاب القبر كما في قوله: * (أغرقوا فأدخلوا نارا) * (نوح: 25) فثبت بما ذكرناه أنه لا امتناع في ذلك، فظاهر الآية دال عليه، فوجب المصير إليه، والذي يؤكد ما ذكرناه القرآن والحديث والعقل. أما القرآن فآيات: إحداها: * (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) * (الفجر: 27 - 30) ولا شك أن المراد من قوله: * (ارجعي إلى ربك) * الموت. ثم قال: * (فادخلي في عبادي) * وفاء التعقيب تدل على أن حصول هذه الحالة يكون عقيب الموت، وهذا يدل على ما ذكرناه، وثانيها: * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) * (الأنعام: 61) وهذا عبارة عن موت البدن.
ثم قال: * (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) * (الأنعام: 62) فقوله: * (ردوا) * ضمير عنه. وإنما هو بحياته وذاته المخصوصة، فدل على أن ذلك باق بعد موت البدن، وثالثها: قوله: * (فأما إن كان من المقربين * فروح
91

وريحان وجنة نعيم) * (الواقعة: 88 - 89) وفاء التعقيب تدل على أن هذا الروح والريحان والجنة حاصل عقيب الموت، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام: " من مات فقد قامت قيامته " والفاء فاء التعقيب تدل على أن قيامة كل أحد حاصلة بعد موته، وأما القيامة الكبرى فهي حاصلة في الوقت المعلوم عند الله، وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام: " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " وأيضا روي أنه عليه الصلاة والسلام يوم بدر كان ينادي المقتولين ويقول: " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا " فقيل له: يا رسول الله إنهم أموات، فكيف تناديهم، فقال عليه الصلاة والسلام: " إنهم أسمع منكم " أو لفظا هذا معناه، وأيضا قال عليه الصلاة والسلام: " أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار " وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الجسد.
وأما المعقول فمن وجوه: الأول: وهو أن وقت النوم يضعف البدن، وضعفه لا يقتضي ضعف النفس، بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات، فإذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس، فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس. الثاني: وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ، وجفافه يؤدي إلى الموت، وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الإلهية، وهو غاية كمال النفس، فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن، وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن. الثالث: أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن، وذلك لأن النفس انما تفرح وتبتهج بالمعارف الإلهية، والدليل عليه قوله تعالى: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) وقال عليه الصلاة والسلام: " أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس الا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا، فانا نرى أن الانسان إذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان، أو بالفوز بمنصب، أو بالوصول إلى معشوقه، قد ينسى الطعام والشراب، بل يصير بحيث لو دعي إلى الأكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه، والعارفون المتوغلون في معرفة الله تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم إذا لاح لهم شيء من تلك الأنوار، وانكشف لهم شيء من تلك الاسرار، لم يحسوا البتة بالجوع والعطش وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية، وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن، وإذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن، ولتكن هذه الاقناعيات كافية في هذا المقام.
واعلم أنه متى تقررت هذه القاعدة زالت الاشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه، وإذا عرفت هذه القاعدة فنقول: قال بعض المفسرين: أرواح الشهداء أحياء
92

وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة، والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي.
واعلم أن الآية دالة على ذلك وهي قوله: * (أحياء عند ربهم) * ولفظ " عند " فكما أنه مذكور ههنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله: * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) * (الأنبياء: 19) فإذا فهمت السعادة الحاصلة للملائكة بكونهم عند الله، فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند الله، وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة.
الوجه الثالث: في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للأجساد، والقائلون بهذا القول اختلفوا، فقال بعضهم: انه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السماوات والى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات إليها، ومنهم من قال: يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها، ومن الناس من طعن فيه وقال: انا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع، فاما أن يقال إن الله تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب إليها، أو يقال: إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله تعالى، ويؤلفها ويرد الحياة إليها ويوصل الثواب إليها، وكل ذلك مستبعد، ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد، فان جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة.
الوجه الرابع: في تفسير هذه الآية أن نقول: ليس المراد من كونها أحياء حصول الحياة فيهم، بل المراد بعض المجازات وبيانه من وجوه: الأول: قال الأصم البلخي
: إن الميت إذا كان عظيم المنزلة في الدين، وكانت عاقبته يوم القيامة البهجة والسعادة والكرامة، صح أن يقال: إنه حي وليس بميت، كما يقال في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا ينتقع به أحد: إنه ميت وليس بحي، وكما يقال للبليد: إنه حمار، وللمؤذي إنه سبع، وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال له: ما مات من خلف مثلك، وبالجملة فلا شك أن الانسان إذا مات وخلف ثناء جميلا وذكرا حسنا، فإنه يقال على سبيل المجاز إنه ما مات بل هو حي. الثاني: قال بعضهم مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم، وانها لا تبلى تحت الأرض البتة. واحتج هؤلاء بما روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشهداء، أمر بأن ينادي: من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع، قال جابر: فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما. والثالث: أن المراد بكونهم أحياء أنهم لا يغسلون كما تغسل الأموات، فهذا
93

مجموع ما قيل في هذه الآية والله أعلم بأسرار المخلوقات.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": * (ولا تحسبن) * الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد وقرئ بالياء، وفيه وجوه: أحدها: ولا يحسبن رسول الله. والثاني: ولا يحسبن حاسب، والثالث: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا قال: وقرئ * (تحسبن) * بفتح السين، وقرأ ابن عامر * (قتلوا) * بالتشديد والباقون بالتخفيف.
المسألة الرابعة: قوله: * (بل أحياء) * قال الواحدي: التقدير: بل هم أحياء، قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (أحياء) * بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء. وأقول: إن الزجاج قال: ولو قرىء * (أحياء) * بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياء، وطعن أبو علي الفارسي فيه فقال: لا يجوز ذلك لأنه أمر بالشك والأمر بالشك غير جائز على الله، ولا يجوز تفسير الحسبان بالعلم لأن ذلك لم يذهب إليه أحد من علماء أهل اللغة، وللزجاج أن يجيب فيقول: الحسبان ظن لا شك، فلم قلتم انه لا يجوز أن يأمر الله بالظن، أليس أن تكليفه في جميع المجتهدات ليس إلا بالظن.
وأقول: هذه المناظرة من الزجاج وأبي علي الفارسي تدل على أنه ما قرىء * (أحياء) * بالنصب بل الزجاج كان يدعي أن لها وجها في اللغة، والفارسي نازعه فيه، وليس كل ما له وجه في الاعراب جازت القراءة به.
أما قوله تعالى: * (عند ربهم) * ففيه وجوه: أحدها: بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا الله تعالى. والثاني: هم أحياء عند ربهم، أي هم أحياء في علمه وحكمه، كما يقال: هذا عند الشافعي كذا، وعند أبي حنيفة بخلافه. والثالث: ان * (عند) * معناه القرب والاكرام، كقوله: * (ومن عنده لا يستكبرون) * (الأنبياء: 19) وقوله: * (الذين عند ربك) * (الأعراف: 206).
أما قوله: * (يرزقون * فرحين بما آتاهم الله) * فاعلم أن المتكلمين قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله: * (يرزقون) * إشارة إلى المنفعة، وقوله: * (فرحين) * إشارة إلى الفرح الحاصل بسبب ذلك التعظيم، وأما الحكماء فإنهم قالوا: إذا أشرقت جواهر الأرواح القدسية بالأنوار الإلهية كانت مبتهجة من وجهين: أحدهما: ان تكون ذواتها منيرة مشرقة متلألئة بتلك الجلايا القدسية والمعارف الإلهية. والثاني: بكونها ناظرة إلى ينبوع النور ومصدر الرحمة والجلالة، قالوا: وابتهاجها بهذا القسم الثاني أتم من ابتهاجها بالأول، فقوله: * (يرزقون) * إشارة إلى الدرجة الأولى وقوله: * (فرحين) * إشارة إلى الدرجة الثانية، ولهذا قال: * (فرحين بما آتاهم الله من فضله) * يعني ان فرحهم ليس بالرزق، بل بايتاء الرزق لأن المشغول بالرزق مشغول بنفسه، والناظر إلى إيتاء الرزق مشغول بالرازق، ومن
94

طلب الحق لغيره فهو محجوب.
ثم قال تعالى: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
واعلم أن قوله: * (ألا خوف) * في محل الخفض بدل من * (الذين) * والتقدير: ويستبشرون بأن لا خوف ولا حزن بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الاستبشار السرور الحاصل بالبشارة، وأصل الاستفعال طلب الفعل، فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة.
المسألة الثانية: اعلم أن الذين سلموا كون الشهداء أحياء قبل قيام القيامة ذكروا لهذه الآية تأويلات أخر.
أما الأول: فهو أن يقال: ان الشهداء يقول بعضهم لبعض: تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا، فهو قوله: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم) *.
وأما الثاني: فهو أن يقال: ان الشهداء إذا دخلوا الجنة بعد قيام القيامة يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، والمراد بقوله: * (لم يلحقوا بهم من خلفهم) * هم إخوانهم من المؤمنين الذين ليس لهم مثل درجة الشهداء، لأن الشهداء يدخلون الجنة قبلهم، دليله قوله تعالى: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة) * (النساء: 95 - 96) فيفرحون بما يرون من مأوى المؤمنين والنعيم المعد لهم، وبما يرجونه من الاجتماع بهم وتقر بذلك أعينهم، هذا اختيار أبي مسلم الأصفهاني والزجاج.
واعلم أن التأويل الأول أقوى من الثاني، وذلك لأن حاصل الثاني يرجع إلى استبشار بعض المؤمنين ببعض بسبب اجتماعهم في الجنة، وهذا أمر عام في حق كل المؤمنين، فلا معنى لتخصيص الشهداء بذلك، وأيضا: فهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، فكذلك يستبشرون بمن تقدمهم في الدخول، لأن منازل الأنبياء
والصديقين فوق منازل الشهداء، قال تعالى: * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) * (النساء: 69) وعلى هذا التقدير لا يبقى فائدة في التخصيص. أما إذا فسرنا الآية بالوجه الأول ففي تخصيص المجاهدين بهذه الخاصية أعظم الفوائد فكان ذلك أولى والله أعلم.
المسألة الثالثة: الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل، والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي، فبين سبحانه أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم
95

من أحوال القيامة، ولا حزن لهم فيما فاتهم من نعيم الدنيا.
قوله تعالى
* (يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى بين أنهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم على ما ذكر فهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم، وانما أعاد لفظ * (يستبشرون) * لأن الاستبشار الأول كان بأحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، والاستبشار الثاني كان بأحوال أنفسهم خاصة.
فان قيل: أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار؟
قلنا: الجواب من وجهين: الأول: ان الاستبشار هو الفرح التام فلا يلزم التكرار. والثاني: لعل المراد حصول الفرح بما حصل في الحال، وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة.
المسألة الثانية: قوله: * (بنعمة من الله وفضل) * النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد.
المسألة الثالثة: الآية تدل على أن استبشارهم بسعادة إخوانهم أتم من استبشارهم بسعادة أنفسهم، لأن الاستبشار الأول في الذكر هو بأحوال الاخوان، وهذا، تنبيه من الله تعالى على أن فرح الانسان بصلاح أحوال اخوانه ومتعلقيه، يجب أن يكون أتم وأكمل من فرحه بصلاح أحوال نفسه.
ثم قال: * (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الكسائي * (وان الله) * بكسر الألف على الاستئناف. وقرأ الباقون بفتحها على معنى: وبأن الله، والتقدير: يستبشرون بنعمة من الله وفضل وبأن الله لا يضيع أجر المؤمنين والقراءة الأولى أتم وأكمل لأن على هذه القراءة يكون الاستبشار بفضل الله وبرحمته فقط، وعلى القراءة الثانية يكون الاستبشار بالفضل والرحمة وطلب الأجر، ولا شك أن المقام الأول أكمل لأن كون العبد مشتغلا بطلب الله أتم من اشتغاله بطلب أجر عمله.
المسألة الثانية: المقصود من الآية بيان أن الذي تقدم من ايصال الثواب والسرور العظيم إلى الشهداء ليس حكما مخصوصا بهم، بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب، فان الله سبحانه يوصل إليه ذلك الأجر والثواب ولا يضيعه البتة.
المسألة الثالثة: الآية عندنا دالة على العفو عن فساق أهل الصلاة لأنه بايمانه استحق الجنة
96

فلو بقي بسبب فسقه في النار مؤبدا مخلدا لما وصل إليه أجر إيمانه، فحينئذ يضيع أجر المؤمنين على إيمانهم وذلك خلاف الآية.
* (الذين استجابوا لله والرسول من بعد مآ أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) *.
اعلم أن الله تعالى مدح المؤمنين على غزوتين، تعرف إحداهما بغزوة حمراء الأسد، والثانية بغزوة بدر الصغرى، وكلاهما متصلة بغزوة أحد، أما غزوة حمراء الأسد فهي المراد من هذه الآية على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في محل * (الذين) * وجوه: الأول: وهو قول الزجاج أنه رفع بالابتداء وخبره * (للذين أحسنوا منهم) * إلى آخر هذه الآية: أن يكون محله هو الخفض على النعت للمؤمنين الثالث: أن يكون نصبا على المدح. المسألة الثانية: في سبب نزول هذه الآية قولان: الأول: وهو الأصح أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا، وقالوا إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم، فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة، فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال: لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه، قيل كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد. وهو من المدينة على ثلاثة أميال، فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا، وروي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى، وكان كل ذلك لاثخان الجراحات فيهم، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة. والثاني: قال أبو بكر الأصم: نزلت هذه الآية في يوم أحد لما رجع الناس إليه صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم، وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنها بعد أن مثلوا بحمزة، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا، وصلى عليهم، صلى الله عليه وسلم ودفنهم بدمائهم، وذكروا
97

أن صفية جاءت لتنظر إلى أخيها حمزة فقال عليه الصلاة والسلام للزبير: ردها لئلا تجزع من مثلة أخيها، فقالت: قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى، فقال للزبير: فدعها تنظر إليه، فقالت خيرا واستغفرت له. وجاءت امرأة قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي قالت: إن كل مصيبة بعدك هدر، فهذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية، وأكثر الروايات على الوجه الأول.
المسألة الثالثة: استجاب: بمعنى أجاب، ومنه قوله: * (فليستجيبوا إلى) * (البقرة: 186) وقيل: أجاب، فعل الإجابة واستجاب طلب أن يفعل الإجابة، لأن الأصل في الاستفعال طلب الفعل، والمعنى أجابوا وأطاعوا الله في أوامره وأطاعوا الرسول من بعد ما أصابهم الجراحات القوية.
أما قوله تعالى: * (للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) * ففيه مسألتان.
المسألة الأولى: في قوله: * (للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) * وجوه: الأول: * (أحسنوا) * دخل تحته الائتمار بجميع المأمورات، وقوله: * (واتقوا) * دخل تحته الانتهاء عن جميع المنهيات، والمكلف عند هذين الأمرين يستحق الثواب العظيم. الثاني: أحسنوا في طاعة الرسول في ذلك الوقت، واتقوا الله في التخلف عن الرسول، وذلك يدل على أنه يلزمهم الاستجابة للرسول وإن بلغ الأمر بهم في الجراحات ما بلغ من بعد أن يتمكنوا معه من النهوض. الثالث: أحسنوا: فيما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، واتقوا ارتكاب شيء من المنهيات بعد ذلك.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف " من " في قوله: * (للذين أحسنوا منهم) * للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا واتقوا كلهم لا بعضهم.
قوله تعالى
* (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) *.
98

وفي الآية مسائل.
المسألة الأولى: هذه الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى، روى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى فنقتتل بها إن شئت، فقال عليه الصلاة والسلام لعمر: قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى، فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه، فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم نعيم معتمرا، فقال: يا نعيم إني وعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأي، أتوكم في دياركم وقتلوا أكثرهم فان ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد، فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم، فلما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك قال: " والذي نفس محمد بيده لأخرجن إليهم ولو وحدي " ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه نحو من سبعين رجلا فيهم ابن مسعود، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى، وهي ماء لبني كنانة، وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام، ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين، ووافقوا السوق، وكانت معهم نفقات وتجارات، فباعوا واشتروا أدما وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق، وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق، فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية.
المسألة الثانية: في محل * (الذين) * وجوه: أحدها: أنه جر، صفة للمؤمنين بتقدير: والله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس. الثاني: أنه بدل من قوله: * (للذين أحسنوا) * الثالث: أنه رفع بالابتداء وخبره * (فزادهم إيمانا) *.
المسألة الثالثة: المراد بقوله: * (الذين) * من تقدم ذكرهم، وهم الذين استجابوا لله والرسول، وفي المراد بقوله: * (قال لهم الناس) * وجوه: الأول: أن هذا القائل هو نعيم بن مسعود كما ذكرناه في سبب نزول هذه الآية، وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الانسان الواحد، لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله أو يرضون بقوله، حسن حينئذ إضافة ذلك الفعل إلى الكل، قال الله تعالى: * (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) * (البقرة: 72) * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * (البقرة: 55) وهم لم يفعلوا ذلك وإنما فعله أسلافهم، إلا أنه أضيف إليهم لمتابعتهم لهم على تصويبهم في تلك الأفعال
99

فكذا ههنا يجوز أن يضاف القول إلى الجماعة الراضين بقول ذلك الواحد. الثاني: وهو قول ابن عباس، ومحمد بن إسحاق: أن ركبا من عبد القيس مروا بأبي سفيان، فدسهم إلى المسلمين ليجبنوهم وضمن لهم عليه جعلا. الثالث: قال السدي: هم المنافقون، قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير إلى بعد لميعاد أبي سفيان: القوم قد أتوكم في دياركم، فقتلوا الأكثرين منكم، فان ذهبتم إليهم لم يبق منكم أحد.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (إن الناس قد جمعوا لكم) * المراد بالناس هو أبو سفيان وأصحابه ورؤساء عسكره، وقوله: * (قد جمعوا لكم) * أي جمعوا لكم الجموع، فحذف المفعول لأن العرب تسمي الجيش جمعا ويجمعونه جموعا، وقوله: * (فاخشوهم) * أي فكونوا خائفين منهم، ثم انه تعالى أخبر أن المسلمين لما سمعوا هذا الكلام لم يلتفتوا إليه ولم يقيموا له وزنا، فقال تعالى: * (فزادهم إيمانا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الضمير في قوله: * (فزادهم) * إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: عائد إلى الذين ذكروا هذه التخويفات. والثاني: أنه عائد إلى نفس قولهم، والتقدير: فزادهم ذلك القول إيمانا، وإنما حسنت هذه الإضافة لأن هذه الزيادة في الايمان لما حصلت عند سماع هذا القول حسنت إضافتها إلى هذا القول وإلى هذا القائل، ونظيره قوله تعالى: * (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) * (نوح: 6) وقوله تعالى: * (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا) * (فاطر: 42)
المسألة الثانية: المراد بالزيادة في الايمان أنهم لما سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا إليه، بل حدث في قلوبهم عزم متأكد على محاربة الكفار، وعلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهي عنه ثقل ذلك أو خف، لأنه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة، وكانوا محتاجين إلى المداواة، وحدث في قلوبهم وثوق
بأن الله ينصرهم على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة، فهذا هو المراد من قوله تعالى: * (فزادهم إيمانا) *.
المسألة الثالثة: الذين يقولون ان الايمان عبارة لا عن التصديق بل عن الطاعات، وإنه يقبل الزيادة والنقصان، احتجوا بهذه الآية، فإنه تعالى نص على وقوع الزيادة، والذين لا يقولون بهذا القول قالوا: الزيادة إنما وقعت في مراتب الايمان وفي شعائره، فصح القول بوقوع الزيادة في الايمان مجازا.
المسألة الرابعة: هذه الواقعة تدل دلالة ظاهرة على أن الكل بقضاء الله وقدره، وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحد، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمين عن
100

الآخر فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف، ثم انه سبحانه قلب القضية ههنا، فأودع قلوب الغالبين وهم المشركون الخوف والرعب، وأودع قلوب المغلوبين القوة والحمية والصلابة، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارف من الله تعالى، وإنها متى حدثت في القلوب وقعت الأفعال على وفقها.
ثم قال تعالى: * (وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) * والمراد أنهم كلما ازدادوا إيمانا في قلوبهم أظهروا ما يطابقه فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. قال ابن الأنباري: * (حسبنا الله) * أي كافينا الله، ومثله قول امرئ القيس:
وحسبك من غنى شبع وري
أي يكفيك الشبع والري، وأما (الوكيل) ففيه أقوال: أحدها: أنه الكفيل. قال الشاعر: ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل
أراد كأنني برد الأمور كفيل. الثاني: قال الفراء: الوكيل: الكافي، والذي يدل على صحة هذا القول أن " نعم " سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقا للذي قبلها، تقول: رازقنا الله ونعم الرازق، وخالقنا الله ونعم الخالق، وهذا أحسن من قول من يقول: خالقنا الله ونعم الرازق، فكذا ههنا تقدير الآية: يكفينا الله ونعم الكافي. الثالث: الوكيل، فعيل بمعنى مفعول، وهو الموكول إليه، والكافي والكفيل يجوز أن يسمى وكيلا، لأن الكافي يكون الأمر موكولا إليه، وكذا الكفيل يكون الأمر موكولا إليه.
ثم قال تعالى: * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) * وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج والمعنى: وخرجوا فانقلبوا، فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه، كقوله: * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * (الشعراء: 63) أي فضرب فانفلق، وقوله: * (بنعمة من الله وفضل) * قال مجاهد والسدي: النعمة ههنا العافية، والفضل التجارة، وقيل: النعمة منافع الدنيا، والفضل ثواب الآخرة، وقوله: * (لم يمسسهم سوء) * لم يصبهم قتل ولا جراح في قول الجميع * (واتبعوا رضوان الله) * في طاعة رسوله * (والله ذو فضل عظيم) * قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا، وفي ذلك إلقاء الحسرة في قلوب المتخلفين عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم مما فاز به هؤلاء، وروي أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا، فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم.
واعلم أن أهل المغازي اختلفوا، فذهب الواقدي إلى تخصيص الآية الأولى بواقعة حمراء الأسد، والآية الثانية ببدر الصغرى، ومنهم من يجعل الآيتين في وقعة بدر الصغرى، والأول أولى لأن قوله تعالى: * (من بعد ما أصابهم القرح) * كأنه يدل على قرب عهد بالقرح، فالمدح فيه أكثر من المدح
101

على الخروج على العدو من وقت إصابة القرح لمسه، والقول الآخر أيضا محتمل. والقرح على هذا القول يجب أن يفسر بالهزيمة، فكأنه قيل: إن الذين انهزموا ثم أحسنوا الأعمال بالتوبة واتقوا الله في سائر أمورهم، ثم استجابوا لله وللرسول عازمين على الثواب موطنين أنفسهم على لقاء العدو، بحيث لما بلغهم كثرة جموعهم لم يفتروا ولم يفشلوا، وتوكلوا على الله ورضوا به كافيا ومعينا فلهم أجر عظيم لا يحجبهم عنه ما كان منهم من الهزيمة إذ كانوا قد تابوا عنها والله أعلم.
* (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) *.
اعلم أن قوله: * (الشيطان) * خبر * (ذلكم) * بمعنى: انما ذلكم المثبط هو الشيطان * (ويخوف أولياءه) * جملة مستأنفة بيان لتثبيطه، أو * (الشيطان) * صفة لاسم الإشارة و * (يخوف) * الخبر، والمراد بالشيطان الركب، وقيل: نعيم بن مسعود، وسمي شيطانا لعتوه وتمرده في الكفر، كقوله: * (شياطين الإنس والجن) * (الأنعام: 112) وقيل: هو الشيطان يخوف بالوسوسة.
أما قوله تعالى: * (يخوف أولياءه) * ففيه سؤال: وهو أن الذين سماهم الله بالشيطان إنما خوفوا المؤمنين، فما معنى قوله: * (الشيطان يخوف أولياءه) * والمفسرون ذكروا فيه ثلاثة أوجه: الأول: تقدير الكلام: ذلكم الشيطان يخوفكم بأوليائه، فحذف المفعول الثاني وحذف الجار، ومثال حذف المفعول الثاني قوله تعالى: * (فإذا خفت عليه فألقيه في اليم) * (القصص: 7) أي فإذا خفت عليه فرعون، ومثال حذف الجار قوله تعالى: * (لينذر بأسا شديدا) * (الكهف: 2) معناه: لينذركم ببأس وقوله: * (لينذر يوم التلاق) * (غافر: 15) أي لينذركم بيوم التلاق، وهذا قول الفراء، والزجاج، وأبي علي. قالوا: ويدل عليه قراءة أبي بن كعب * (يخوفكم بأوليائه) *.
القول الثاني: أن هذا على قول القائل: خوفت زيدا عمرا، وتقدير الآية: يخوفكم أولياءه، فحذف المفعول الأول، كما تقول: أعطيت الأموال، أي أعطيت القوم الأموال، قال ابن الأنباري: وهذا أولى من ادعاء جار لا دليل عليه وقوله: * (لينذر بأسا) * أي لينذركم بأسا وقوله: * (لينذر يوم التلاق) * أي لينذركم يوم التلاق والتخويف يتعدى إلى مفعولين من غير حرف جر تقول: خاف زيد القتال، وخوفته القتال وهذا الوجه يدل عليه قراءة ابن مسعود * (يخوفكم أولياءه) *.
102

القول الثالث: أن معنى الآية: يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين، والمعنى الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره، فأما أولياء الله، فإنهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا ينقادون لأمره ومراده منهم، وهذا قول الحسن والسدي، فالقول الأول فيه محذوفان، والثاني فيه محذوف واحد، والثالث لا حذف فيه. وأما
الأولياء فهم المشركون والكفار، وقوله: * (فلا تخافوهم) * الكناية في القولين الأولين عائدة إلى الأولياء. وفي القول الثالث عائدة إلى * (الناس) * في قوله: * (ان الناس قد جمعوا لكم) * (آل عمران: 173) * (فلا تخافوهم) * فتقعدوا عن القتال وتجنبوا * (وخافون) * فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به * (ان كنتم مؤمنين) * يعني أن الايمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس.
* (ولا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا فى الاخرة ولهم عذاب عظيم) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع * (يحزنك) * بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك في جميع ما في القرآن إلا قوله: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * (الأنبياء: 103) في سورة الأنبياء، فإنه فتح الياء وضم الزاي، والباقون كلهم بفتح الياء وضم الزاي. قال الأزهري: اللغة الجيدة: حزنه يحزنه على ما قرأ به أكثر القراء، وحجة نافع أنهما لغتان يقال: حزن يحزن كنصر ينصر، وأحزن يحزن كأكرم يكرم لغتان.
المسألة الثانية: اختلفوا في سبب نزول الآية على وجوه: الأول: أنها نزلت في كفار قريش، والله تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم، والمعنى: لا يحزنك من يسارع في الكفر بأن يقصد جمع العساكر لمحاربتك، فإنهم بهذا الصنيع إنما يضرون أنفسهم ولا يضرون الله، ولا بد من حمل ذلك على أنهم لن يضروا النبي وأصحابه من المؤمنين شيئا، وإذا حمل على ذلك فلا بد من حمله على ضرر مخصوص، لأن من المشهور أنهم بعد ذلك ألحقوا أنواعا من الضرر بالنبي عليه الصلاة والسلام، والأولى أن يكون ذلك محمولا على أن مقصودهم من جمع العساكر إبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة، وهذا المقصود لا يحصل لهم، بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم، ويعظم أمرك ويعلو شأنك. الثاني: أنها نزلت في المنافقين، ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوفون المؤمنين
103

بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصرة والظفر، أو بسبب أنهم كانوا يقولون ان محمدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب، وهذا كان ينفر المسلمين عن الاسلام، فكان الرسول يحزن بسببه. قال بعضهم: ان قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش فوقع الغم في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك السبب، فإنه عليه السلام ظن أنهم بسبب تلك الردة يلحقون به مضرة. فبين الله أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك قال القاضي: ويمكن أن يقوي هذا الوجه بأمور: الأول: أن المستمر على الكفر لا يوصف بأنه يسارع في الكفر، وإنما يوصف بذلك من يكفر بعد الايمان. الثاني: أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة لا يليق إلا بمن قد آمن، فاستوجب ذلك، ثم أحبط. الثالث: أن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود، فلما قدر النبي صلى الله عليه وسلم الانتفاع بايمانهم، ثم كفروا حزن صلى الله عليه وسلم عند ذلك لفوات التكثير بهم، فآمنه الله من ذلك وعرفه أن وجود إيمانهم كعدمه في أن أحواله لا تتغير.
القول الرابع: أن المراد رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم لمتاع الدنيا. قال القفال رحمه الله: ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار بدليل قوله تعالى: * (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) * إلى قوله: * (ومن الذين هادوا) * (المائدة: 41) فدلت هذه الآية على أن حزنه كان حاصلا من كل هؤلاء الكفار.
المسألة الثالثة: في الآية سؤال: وهو أن الحزن على كفر الكافر ومعصية العاصي طاعة، فكيف نهى الله عن الطاعة؟
والجواب من وجهين: الأول: أنه كان يفرط ويسرف في الحزن على كفر قومه حتى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به، فنهاه الله تعالى عن الاسراف فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) * (فاطر: 8) الثاني: أن المعنى لا يحزنوك بخوف أن يضروك ويعينوا عليك، ألا ترى إلى قوله: * (إنهم لن يضروا الله شيئا) * يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم البتة.
ثم قال: * (إنهم لن يضروا الله شيئا) * والمعنى أنهم لن يضروا النبي وأصحابه شيئا، وقال عطاء: يريد: لن يضروا أولياء الله شيئا.
ثم قال تعالى: * (يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه رد على المعتزلة، وتنصيص على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى، قال القاضي: المراد أنه يريد الاخبار بذلك والحكم به.
104

واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين: الأول: أنه عدول عن الظاهر، والثاني: بتقدير أن يكون الأمر كما قال، لكن الاتيان بضد ما أخبر الله عنه وحكم به محال فيعود الاشكال.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: الإرادة لا تتعلق بالعدم، وقال أصحابنا ذلك جائز، والآية دالة على قول أصحابنا لأنه قال: * (يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة) * فبين أن إرادته متعلقة بهذا العدم. قالت المعتزلة: المعنى أنه تعالى ما أراد ذلك كما قال: * (ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) قلنا: هذا عدول عن الظاهر.
المسألة الثالثة: الآية تدل على أن النكرة في موضع النفي تعم، إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل تهديد الكفار بهذه الآية ثم قال: * (ولهم عذاب عظيم) * وهذا كلام مبتدأ والمعنى أنه كما لاحظ لهم البتة من منافع الآخرة فلهم الحظ العظيم من مضار الآخرة.
* (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم) *.
اعلم أنا لو حملنا الآية الأولى على المنافقين واليهود، وحملنا هذه الآية على المرتدين لا يبعد أيضا حمل الآية الأولى على المرتدين، وحمل هذه الآية على اليهود، ومعنى اشتراء الكفر بالايمان منهم، أنهم كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنون به قبل مبعثه ويستنصرون به على أعدائهم، فلما بعث كفروا به وتركوا ما
كانوا عليه، فكأنهم أعطوا الايمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه، ولا يبعد أيضا حمل هذه الآية على المنافقين، وذلك لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الايمان، فإذا خلوا إلى شياطينهم كفروا وتركوا الايمان، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالايمان. واعلم أنه تعالى. قال في الآية الأولى: * (ان الذين يسارعون في الكفر لن يضروا الله شيئا) * (آل عمران: 176) وقال في هذه الآية: * (ان الذين اشتروا الكفر بالايمان لن يضروا الله شيئا) * والفائدة في هذا التكرار أمور: أحدها: أن الذين اشتروا الكفر بالايمان لا شك أنهم كانوا كافرين أولا، ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك، وهذا يدل على شدة الاضطراب وضعف الرأي وقلة الثبات، ومثل هذا الانسان لا خوف منه ولا هيبة له ولا قدرة له البتة على الحاق الضرر بالغير. وثانيها: أن أمر الدين أهم
105

الأمور وأعظمها، ومثل هذا مما لا يقدم الانسان فيه على الفعل أو على الترك إلا بعد إمعان النظر وكثرة الفكر، وهؤلاء يقدمون على الفعل أو على الترك في مثل هذا المهم العظيم بأهون الأسباب وأضعف الموجبات، وذلك يدل على قلة عقلهم وشدة حماقتهم، فأمثال هؤلاء لا يلتفت العاقل إليهم. وثالثها: ان أكثرهم إنما ينازعونك في الدين، لا بناء على الشبهات، بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا، ومن كان عقله هذا القدر، وهو أنه يبيع بالقليل من الدنيا السعادة العظيمة في الآخرة كان في غاية الحماقة، ومثله لا يقدر في إلحاق الضرر بالغير، فهذا هو الفائدة في إعادة هذه الآية والله أعلم بمراده.
* (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) *.
اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد، والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت إليها، وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله، ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد، لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة، وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل. فهذا بيان وجه النظم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ولا تحسبن الذين كفروا) * * (ولا تحسبن الذين يبخلون) * (آل عمران: 18) * (لا تحسبن الذين يفرحون. فلا تحسبنهم) * (آل عمران: 188) في الأربعة بالتاء وضم الباء في قوله: * (تحسبنهم) * وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله: * (فلا تحسبنهم) * فإنه بالتاء، وقرأ حمزة كلها بالتاء، واختلاف القراء في فتح السين وكسرها قدمناه في سورة البقرة، أما الذين قرأوا بالياء المنقطة من تحت: فقوله: * (يحسبن) * فعل، وقوله: * (الذين كفروا) * فاعل يقتضي مفعولين أو مفعولا يسد مسد مفعولين نحو حسبت، وقوله: حسبت أن زيدا منطلق، وحسبت أن يقوم عمرو، فقوله في الآية: * (إنما نملي
106

لهم خير لأنفسهم) * يسد مسد المفعولين، ونظيره قوله تعالى: * (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون) * (الفرقان: 44) وأما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فأحسن ما قيل فيه ما ذكره الزجاج، وهو أن * (الذين كفروا) * نصب بأنه المفعول الأول، و * (أنما نملي لهم) * بدل عنه. و * (خير لأنفسهم) * هو المفعول الثاني والتقدير: ولا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا لهم. ومثله مما جعل " أن " مع الفعل بدلا من المفعول قوله تعالى: * (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) * (الأنفال: 7) فقوله: * (أنها لكم) * بدل من إحدى الطائفتين.
المسألة الثانية: " ما " في قوله: * (أنما) * يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى الذي فيكون التقدير: لا تحسبن الذين كفروا أن الذين نمليه خير لأنفسهم، وحذف الهاء من " نملي " لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك: الذي رأيت زيد، والآخر: أن يقال: " ما " مع ما بعدها في تقدير المصدر، والتقدير: لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": " ما " مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة، واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب، وأما في قوله: * (إنما نملي لهم) * فههنا يجب أن تكون متصلة لأنها كافة بخلاف الأولى.
المسألة الرابعة: معنى " نملي " نطيل ونؤخر، والاملاء الامهال والتأخير، قال الواحدي رحمه الله: واشتقاقه من الملوة وهي المدة من الزمان، يقال: ملوت من الدهر ملوة وملوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد، قال الأصمعي: يقال: أملى عليه الزمان أي طال، وأملى له أي طول له وأمهله، قال أبو عبيدة: ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة والملوان الليل والنهار.
المسألة الخامسة: احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر من وجوه: الأول: أن هذا الاملاء عبارة عن إطالة المدة، وهي لا شك أنها من فعل الله تعالى، والآية نص في بيان أن هذا الاملاء ليس بخير، وهذا يدل على أنه سبحانه فاعل الخير والشر. الثاني: أنه تعالى نص على أن المقصود من هذا الاملاء هو أن يزدادوا الاثم والبغي والعدوان، وذلك يدل على أن الكفر والمعاصي بإرادة الله، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: * (ولهم عذاب مهين) * أي إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وليكون لهم عذاب مهين. الثالث: أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا خير لهم في هذا الاملاء، أنهم لا يحصلون إلا على ازدياد البغي والطغيان، والاتيان بخلاف مخبر الله تعالى مع بقاء ذلك الخير جمع بين النقيضين وهو محال، وإذا لم يكونوا قادرين مع ذلك الاملاء على الخير والطاعة مع أنهم مكلفون بذلك لزم في نفسه بطلان مذهب القوم. قالت المعتزلة:
107

أما الوجه الأول: فليس المراد من هذه الآية أن هذا الاملاء ليس بخير، إنما المراد أن هذا الاملاء ليس خيرا لهم من أن يموتوا كما مات الشهداء يوم أحد، لأن كل هذه
الآيات في شأن أحد وفي تثبيط المنافقين المؤمنين عن الجهاد على ما تقدم شرحه في الآيات المتقدمة، فبين تعالى أن إبقاء الكافرين في الدنيا وإملاءه لهم ليس بخير لهم من أن يموتوا كموت الشهداء، ولا يلزم من نفي كون هذا الاملاء أكثر خيرية من ذلك القتل، أن لا يكون هذا الاملاء في نفسه خيرا.
وأما الوجه الثاني: فقد قالوا: ليس المراد من الآية أن الغرض من الاملاء إقدامهم على الكفر والفسق بدليل قوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) وقوله: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * (النساء: 64) بل الآية تحتمل وجوها من التأويل: أحدها: أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة كقوله تعالى: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) وقوله: * (ولقد ذرأنا لجهنم) * (الأعراف: 179) وقوله: * (وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله) * (إبراهيم: 30) وهم ما فعلوا ذلك لطلب الاضلال، بل لطلب الاهتداء، ويقال: ما كانت موعظتي لك إلا لزيادة في تماديك في الفسق إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك، وثانيها: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم وثالثها: أنه تعالى لما أمهلهم مع علمه بأنهم لا يزدادون عند هذا الامهال إلا تماديا في الغي والطغيان، أشبه هذا حال من فعل الاملاء لهذا الغرض والمشابهة أحد أسباب حسن المجاز. ورابعها: وهو السؤال الذي ذكرته للقوم وهو أن اللام في قوله: * (ليزدادوا إثما) * غير محمول على الغرض باجماع الأمة، أما على قول أهل السنة فلأنهم يحيلون تعليل أفعال الله بالأغراض، وأما على قولنا فلأنا لا نقول بأن فعل الله معلل بغرض التعب والايلام، بل عندنا أنه تعالى لم يفعل فعلا إلا لغرض الاحسان، وإذا كان كذلك فقد حصل الاجماع على أن هذه اللام غير محمولة على التعليل والغرض، وعند هذا يسقط ما ذكرتم من الاستدلال، ثم بعد هذا: قول القائل: ما المراد من هذه اللام غير ملتفت إليه، لأن المستدل إنما بنى استدلاله على أن هذه اللام للتعليل، فإذا بطل ذلك سقط استدلاله.
وأما الوجه الثالث: وهو الاخبار والعلم فهو معارض بأن هذا لو منع العبد من الفعل لمنع الله منه، ويلزم أن يكون الله موجبا لا مختارا، وهو بالاجماع باطل.
والجواب عن الأول: أن قوله: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير) * معناه نفي الخيرية في نفس الأمر، وليس معناه أنه ليس خيرا من شيء آخر، لأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا عند ذكر الراجح والمرجوح، فلما لم يذكر الله ههنا إلا أحد الأمرين عرفنا أنه لنفي الخيرية
108

لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر. وأما السؤال الثاني: وهو تمسكهم بقوله: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * وبقوله تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع) * (النساء: 64).
فجوابه: أن الآية التي تمسكنا بها خاص، والآية التي ذكرتموها عام، والخاص مقدم على العام.
وأما السؤال الثالث: وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو عدول عن الظاهر، وأيضا فان البرهان العقلي يبطله؛ لأنه تعالى لما علم أنهم لا بد وأن يصيروا موصوفين بازدياد الغي والطغيان، كان ذلك واجب الحصول لأن حصول معلوم الله واجب، وعدم حصوله محال، وإرادة المحال محال، فيمتنع أن يريد منهم الايمان، ويجب أن يريد منهم ازدياد الغي والطغيان، وحينئذ ثبت أن المقصود هو التعليل وأنه لا يجوز المصير إلى لام العاقبة.
وأما السؤال الرابع: وهو التقديم والتأخير.
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن التقديم والتأخير ترك للظاهر. وثانيها: قال الواحدي رحمه الله: هذا إنما يحسن لو جازت قراءة * (أنما نملي لهم خير لأنفسهم) * بكسر " إنما " وقراءة * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * بالفتح. ولم توجد هذه القراءة البتة. وثالثها: أنا بينا بالبرهان القاطع العقلي أنه يجب أن يكون مراد الله من هذا الاملاء حصول الطغيان لا حصول الايمان، فالقول بالتقديم والتأخير ترك للظاهر والتزام لما هو على خلاف البرهان القاطع.
وأما السؤال الخامس: وهو قوله: هذه اللام لا يمكن حملها على التعليل.
فجوابه أن عندنا يمتنع تعليل أفعال الله لغرض يصدر من العباد، فأما أن يفعل تعالى فعلا ليحصل منه شيء آخر فهذا غير ممتنع، وأيضا قوله: * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * تنصيص على أنه ليس المقصود من هذا الاملاء إيصال الخير لهم والاحسان إليهم، والقوم لا يقولون بذلك، فتصير الآية حجة عليهم من هذا الوجه.
وأما السؤال السادس: وهو المعارضة بفعل الله تعالى.
فالجواب: أن تأثير قدرة الله في إيجاد المحدثات متقدم على تعلق علمه بعدمه، فلم يمكن أن يكون العلم مانعا عن القدرة. أما في حق العبد فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلق علم الله بعدمه، فصلح أن يكون هذا العلم مانعا للعبد عن الفعل، فهذا تمام المناظرة في هذه الآية.
المسألة السادسة: اتفق أصحابنا أنه ليس لله تعالى في حق الكافر شيء من النعم الدينية، وهل له في حقه شيء من النعم الدنيوية، اختلف فيه قول أصحابنا، فالذين قالوا ليس له في حقه شيء من
109

النعم الدنيوية تمسكوا بهذه الآية، وقالوا هذه الآية دالة على أن إطالة العمر وإيصاله إلى مراداته في الدنيا ليس شيء منها نعمة، لأنه تعالى نص على أن شيئا من ذلك ليس بخير، والعقل أيضا يقرره وذلك لان من أطعم إنسانا خبيصا مسموما فإنه لا يعد ذلك الا طعام إنعاما، فإذا كان المقصود من إعطاء نعم الدنيا عقاب الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقة، وأما الآيات الواردة في تكثير النعم في حق الكفار فهي محمولة على ما يكون نعما في الظاهر، وانه لا طريق إلى التوفيق بين هذه الآية وبين تلك الآيات الا أن نقول: تلك النعم نعم في الظاهر ولكنها نقم وآفات في الحقيقة والله أعلم.
* (ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشآء فامنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) *.
اعلم أن هذه الآية من بقية الكلام في قصة أحد، فأخبر تعالى ان الأحوال التي وقعت في تلك الحادثة من القتل والهزيمة، ثم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم مع ما كان بهم من الجراحات إلى الخروج لطلب العدو، ثم دعائه إياهم مرة أخرى إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان، فأخبر تعالى أن كل هذه الأحوال صار دليلا على امتياز المؤمن من المنافق، لان المنافقين خافوا ورجعوا وشمتوا بكثرة القتلى منكم، ثم ثبطوا وزهدوا المؤمنين عن العود إلى الجهاد، فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم وإظهارهم أنهم منكم ومن أهل الايمان بل كان يجب في حكمته إلقاء هذه الحوادث والوقائع حتى يحصل هذا الامتياز، فهذا وجه النظم. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: * (حتى يميز الخبيث) * بالتشديد، وكذلك في الافعال والباقون * (يميز) * بالتخفيف وفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الأخيرة، قال الواحدي رحمه الله: وهما لغتان يقال مزت الشيء بعضه من بعض فأنا أميزه ميزا أو أميزه تمييزا، ومنه الحديث " من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة " وحجة من قرأ بالتخفيف وفتح الباء أن الميز يفيد فائدة التمييز وهو أخف
110

في اللفظ فكان أولى، وحكى أبو زيد عن أبي عمرو أنه كان يقول: التشديد للكثرة، فاما واحد من واحد فيميز بالتخفيف، والله تعالى قال: * (حتى يميز الخبيث من الطيب) * فذكر شيئين، وهذا كما قال بعضهم في الفرق والتفريق، وأيضا قال تعالى: * (وامتازوا اليوم) * (يس: 59) وهو مطاوع الميز، وحجة من قرأ بالتشديد: أن التشديد للتكثير والمبالغة، وفي المؤمنين والمنافقين كثرة، فلفظ التمييز ههنا أولى، ولفظ الطيب والخبيث وان كان مفردا إلا أنه للجنس، فالمراد بهما جميع المؤمنين والمنافقين لا اثنان منهما.
المسألة الثانية: قد ذكرنا أن معنى الآية: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق وأشباهه حتى يميز الخبيث من الطيب، أي المنافق من المؤمن. واختلفوا بأي شيء ميز بينهم وذكروا وجوها: أحدها: بالقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة، فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وعلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره. وثانيها: أن الله وعد بنصرة المؤمنين وإذلال الكافرين، فلما قوي الاسلام عظمت دولته وذل الكفر وأهله، وعند ذلك حصل هذا الامتياز. وثالثها: القرائن الدالة على ذلك، مثل ان المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الاسلام وقوته، والمنافقين كانوا يغتمون بسبب ذلك.
المسألة الثالثة: ههنا سأل، وهو أن هذا التمييز إن ظهر وانكشف فقد ظهر كفر المنافقين، وظهور الكفر منهم ينفي كونهم منافقين، وان لم يظهر لم يحصل موعود الله.
وجوابه: أنه ظهر بحيث يفيد الامتياز الظني، لا الامتياز القطعي.
ثم قال تعالى: * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * معناه أنه سبحانه حكم بأن يظهر هذا التمييز، ثم بين بهذه الآية أنه لا يجوز أن يحصل ذلك التمييز بأن يطلعكم الله على غيبه فيقول: إن فلانا منافق وفلانا مؤمن، وفلانا من أهل الجنة وفلانا من أهل النار، فان سنة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه، بل لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات مثل ما ذكرنا من وقوع المحن والآفات، حتى يتميز عندها الموافق من المنافق، فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع من الغيب فهو من خواص الأنبياء، فلهذا قال: * (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) * أي ولكن الله يصطفى من رسله من يشاء فخصهم باعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق. ويحتمل ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان، ويحتمل أيضا أن يكون المعنى: وما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول، بل الله يخص من يشاء من عباده بالرسالة، ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل.
ثم قال: * (فآمنوا بالله ورسله) * والمقصود أن المنافقين طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بوقوع
111

الحوادث المكروهة في قصة أحد، فبين الله تعالى انه كان فيها مصالح. منها تمييز الخبيث من الطيب، فلما أجاب عن هذه الشبهة التي ذكرتموها قال: * (فآمنوا بالله ورسله) * يعني لما دلت الدلائل على نبوته وهذه الشبهة التي ذكرتموها في الطعن في نبوته فقد أجبنا عنها، فلم يبق إلا أن تؤمنوا بالله ورسله، وإنما قال: * (ورسله) * ولم يقل: ورسوله لدقيقة، وهي أن الطريق الذي به يتوصل إلى الاقرار بنبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام ليس إلا المعجز وهو حاصل في حق محمد صلى الله عليه وسلم، فوجب الاقرار بنبوة كل واحد من الأنبياء، فلهذه الدقيقة قال: * (ورسله) * والمقصود التنبيه على أن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحد، فمن أقر بنبوة واحد منهم لزمه الاقرار بنبوة الكل، ولما أمرهم بذلك قرن به الوعد بالثواب فقال: * (وان تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) * وهو ظاهر.
* (ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ ءاتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والارض والله بما تعملون خبير) *.
اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع ههنا في التحريض على بذل المال في الجهاد، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة * (ولا تحسبن) * بالتاء والباقون بالياء، أما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فقال الزجاج: معناه ولا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم، فحذف المضاف لدلالة يبخلون عليه، وأما من قرأ بالياء المنقطة من تحت ففيه وجهان: الأول: أن يكون فاعل * (يحسبن) * ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ضمير أحد، والتقدير: ولا يحسبن رسول الله أو لا يحسبن أحد بخل الذين يبخلون خيرا لهم. الثاني: أن يكون فاعل * (يحسبن) * هم الذين يبخلون، وعلى هذا التقدير يكون المفعول محذوفا، وتقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيرا لهم، وانما جاز حذفه لدلالة يبخلون عليه، كقوله: من كذب كان شرا له، أي الكذب، ومثله:
112

إذا نهى السفيه جرى إليه
أي السفه وأنشد الفراء هم الملوك وأبناء الملوك هم والآخذون به والسادة الأول
فقوله به: يريد بالملك ولكنه اكتفى عنه بذكر الملوك.
المسألة الثانية: هو في قوله: * (هو خيرا لهم) * تسميه البصريون فصلا، والكوفيون عمادا، وذلك لأنه لما ذكر " يبخلون " فهو بمنزلة ما إذا ذكر البخل، فكأنه قيل: ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم، وتحقيق القول فيه أن للمبتدأ حقيقة، وللخبر حقيقة، وكون حقيقة المبتدأ موصوفا بحقيقة الخبر أمر زائد على حقيقة المبتدأ وحقيقة الخبر، فإذا كانت هذه الموصوفية أمرا زائدا على الذاتين فلا بد من صيغة ثالثة دالة على هذه الموصوفية وهي كلمة " هو ".
المسألة الثالثة: اعلم أن الآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع، وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا، وأن يكون علما.
فالقول الأول: ان هذا الوعيد ورد على البخل بالمال، والمعنى: لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم، بل هو شر لهم، وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم، وهو المراد من قوله: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله: * (ولله ميراث السماوات والأرض) *.
والقول الثاني: أن المراد من هذا البخل: البخل بالعلم، وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته، فكان ذلك الكتمان بخلا، يقال فلان يبخل بعلمه، ولا شك أن العلم فضل من الله تعالى قال الله تعالى: * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * (النساء: 113) ثم أنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والأنجيل، فإذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك بخلا.
واعلم أن القول الأول أولى، ويدل عليه وجهان: الأول: أنه تعالى قال: * (سيطوقون ما بخلوا به) * ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا إلى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية، ولو فسرناها بالمال لم نحتج إلى المجاز فكان هذا أولى. الثاني: أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في بذل المال في الجهاد فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن، ولو حملناها على أن اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم، إلا على سبيل التكلف، فكان الأول أولى. المسألة الرابعة: أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب، وان منع التطوع
113

لا يكون بخلا، واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: ان الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل، والوعيد لا يليق إلا الواجب. وثانيها: أنه تعالى ذم البخل وعابه، ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله وأن يعاب به. وثالثها: وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل، وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه، فيكون لا محالة تاركا التفضل، فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون الله تعالى موصوفا بالبخل لا محالة، تعالى الله عز وجل عنه علوا كبيرا. ورابعها: قال عليه الصلاة والسلام: " وأي داء أدوأ من البخل " ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف. وخامسها: أنه كان لو تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا باخراج الكل. وسادسها: أنه تعالى قال: * (ومما رزقناهم ينفقون) * (البقرة: 3) وكلمة " من " للتبعيض، فكان المراد من هذه الآية: الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله، ثم إنه تعالى قال في صفتهم: * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * (البقرة: 5) فوصفهم بالهدى والفلاح، ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك. فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب، إلا أن الانفاق الواجب أقسام كثيرة، منها انفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم، ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة، ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم، فههنا يجب عليهم انفاق الأموال على من يدفعه عنهم، لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس، ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرا فإنه يجب عليه أن يدفع إليه مقدار ما يستبقي به رمقه، فكل هذه الاتفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير هذا الوعيد وجوه: الأول: أن يحمل هذا على ظاهره وهو أنه تعالى يطوقهم بطوق يكون سببا لعذابهم. قيل: انه تعالى يصير تلك الأموال في أعناقهم حياة تكون لهم كالأطواق تلتوي في أعناقهم، ويجوز أيضا أن تلتوي تلك الحيات في سائر أبدانهم، فأما ما يصير من ذلك في أعناقهم فعلى جهة أنهم كانوا التزموا أداء الزكاة ثم امتنعوا عنها، وأما ما يلتوي منها في سائر أبدانهم فعلى وجهة أنهم كانوا يضمون تلك الأموال إلى أنفسهم، فعوضوا منها بأن جعلت حيات التوت عليهم كأنهم قد التزموها وضموها إلى أنفسهم. ويمكن أن يكون الطوق طوقا من نار يجعل في أعناقهم، ونظيره قوله تعالى: * (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) * (التوبة: 35) وعن ابن عباس رضي الله عنهما: تجعل تلك الزكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خديه ويقول: أنا الزكاة التي بخلت في الدنيا بي.
114

القول الثاني: في تفسير قوله: * (سيطوقون) * قال مجاهد: سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ * (وعلى الذين يطوقونه فدية) * (البقرة: 184) قال المفسرون: يكلفونه ولا يطيقونه، فكذا قوله: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * (آل عمران: 180) أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الاتيان به، فيكون ذلك توبيخا على معنى: هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا.
والقول الثالث: أن قوله: * (سيطوقون ما بخلوا به) * أي سيلزمون إثمه في الآخرة، وهذا على طريق التمثيل لا على أن ثم أطواقا، يقال منه: فلان كالطوق في رقبة فلان، والعرب يعبرون عن تأكيد الزام الشيء بتصييره في العنق، ومنه يقال: قلدتك هذا الأمر، وجعلت هذا الأمر في عنقك قال تعالى: * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) * (الإسراء: 13).
القول الرابع: إذا فسرنا هذا البخل بالبخل بالعلم كان معنى * (سيطوقون) * أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار، قال عليه الصلاة والسلام: " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة " والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق.
واعلم أن تفسير هذا البخل بكتمان دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم غير بعيد، وذلك لأن اليهود والنصارى موصوفون بالبخل في القرآن مذمومون به. قال تعالى في صفتهم: * (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * (النساء: 53) وقال أيضا فيهم: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * (النساء: 37) وأيضا ذكر عقيب هذه الآية قوله: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) * (آل عمران: 181) وذلك من أقوال اليهود، ولا يبعد أيضا أن تكون الآية عامة في البخل بالعلم، وفي البخل بالمال، ويكون الوعيد حاصلا عليهما معا.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على القطع بوعيد الفساق، وذلك لأن من يلزمه هذه الحقوق ولا تسقط عنه هو المصدق بالرسول وبالشريعة، أما قوله: * (بل هو شر لهم) * فلأنه يؤدي إلى حرمان الثواب وحصول النار، وأما قوله: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * فهو صريح بالوعيد.
واعلم أن الكلام في هذه المسألة تقدم في سورة البقرة.
ثم قال تعالى: * (ولله ميراث السماوات والأرض) * وفيه وجهان: الأول: وله ما فيها مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره. فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله، ونظيره قوله تعالى: * (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) * (الحديد: 7) والثاني: وهو قول الأكثرين: المراد أنه يفنى أهل
115

السماوات والأرض وتبقى الأملاك ولا مالك لها إلا الله، فجرى هذا مجرى الوراثة إذ كان الخلق يدعون الأملاك، فلما ماتوا عنها ولم يخلفوا أحدا كان هو الوارث لها، والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جمع المالكين إلا ملك الله سبحانه وتعالى، فيصير كالميراث. قال ابن الأنباري: يقال: ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركا فيه، وقال تعالى: * (وورث سليمان داود) * (النمل: 16) وكان المعنى انفراده بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه وغالبا عليه.
ثم قال تعالى: * (والله بما تعملون خبير) * قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (بما يعملون) * بالياء على المغايبة كناية عن الذين يبخلون، والمعنى والله بما يعملون خبير من منعهم الحقوق فيجازيهم عليه، والباقون قرؤا بالتاء على الخطاب، وذلك لأن ما قبل هذه الآية خطاب وهو قوله: * (وان تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) * (آل عمران: 179) والله بما تعملون خبير فيجازيكم عليه، والغيبة أقرب إليه من الخطاب قال صاحب الكشاف: الياء على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد.
* (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنيآء سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) *.
اعلم أن في كيفية النظم وجهين: الأول: أنه تعالى لما أمر المكلفين في هذه الآيات ببذل النفس وبذل المال في سبيل الله وبالغ في تقرير ذلك، شرع بعد ذلك في حكاية شبهات القوم في الطعن في نبوته.
فالشبهة الأولى: أنه تعالى لما أمر بانفاق الأموال في سبيله قالت الكفار: انه تعالى لو طلب الانفاق في تحصيل مطلوبه لكان فقيرا عاجزا، لأن الذي يطلب المال من غيره يكون فقيرا، ولما كان الفقر على الله تعالى محالا، كان كونه طالبا للمال من عبيده محالا، وذلك يدل على أن محمدا كاذب في إسناد هذا الطلب إلى الله تعالى.
116

الوجه الثاني: في طريق النظم أن أمة موسى عليه السلام كانوا إذا أرادوا التقرب بأموالهم إلى الله تعالى، فكانت تجيء نار من السماء فتحرقها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم بذل الأموال في سبيل الله قالوا له لو كنت نبيا لما طلبت الأموال لهذا الغرض، فإنه تعالى ليس بفقير حتى يحتاج في اصلاح دينه إلى أموالنا، بل لو كنت نبيا لكنت تطلب أموالنا لأجل أن تجيئها نار من السماء فتحرقها، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لست بنبي، فهذا هو وجه النظم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه يبعد من العاقل أن يقول إن الله فقير ونحن أغنياء، بل الانسان إنما يذكر ذلك إما على سبيل الاستهزاء أو على سبيل الالزام، وأكثر الروايات أن هذا القول إنما صدر عن اليهود، روي أنه صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الاسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا، فقال فنحاص اليهودي: إن الله فقير حتى سألنا القرض، فلطمه أبو بكر في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله، فنزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر رضي الله عنه. وقال آخرون: لما أنزل الله تعالى * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) * (البقرة: 245) قالت اليهود: نرى إله محمد يستقرض منا، فنحن إذن أغنياء وهو فقير، وهو ينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا، وأرادوا قوله: * (فيضاعفه له أضعافا كثيرة) *.
واعلم أنه ليس في الآية تعيين هذا القائل، إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: أن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: إن يد الله مغلولة: يعنون أنه بخيل بالعطاء وذلك الجهل مناسب للجهل المذكور في هذه الآية. وثانيها: ما روي في الخبر أنهم تكلموا بذلك على ما رويناه في قصة أبي بكر. وثالثها: أن القول بالتشبيه غالب على اليهود، ومن قال بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني وليس بفقير.
والوجه الرابع: أن موسى عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم أن يوافقوه في مجاهدة الأعداء قالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. فموسى عليه السلام لما طلب منهم الجهاد بالنفس قالوا: لما كان الاله قادرا فأي حاجة به إلى جهادنا، وكذا ههنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم الجهاد ببذل المال قالوا: لما كان الاله غنيا فأي حاجة به إلى أموالنا. فكان إسنادهم هذه الشبهة إلى اليهود لائقا من هذا الوجه، وإن كان لا يمتنع أن يكون غيرهم من الجهال قد قال ذلك. والأظهر أنهم
قالوه على سبيل الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني لو صدق محمد في
117

أن الاله يطلب المال من عبيده لكان فقيرا، ولما كان ذلك محالا ثبت أنه كاذب في هذا الاخبار، أو ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية، فأما أن يقول العاقل مثل هذا الكلام عن اعتقاد فهو بعيد.
المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أنه تعالى سميع للأقوال، ونظيره قوله تعالى: * (قد سمع الله قول التي تجادلك) * (المجادلة: 1).
المسألة الثالثة: ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعة، لأنه تعالى قال: * (الذين قالوا) * وظاهر هذا القول يفيد الجميع. وأما ما روي أن قائل هذا القول هو فنحاص اليهودي، فهذا يدل على أن غيره لم يقل ذلك، فلما شهد الكتاب أن القائلين كانوا جماعة وجب القطع بذلك.
ثم قال تعالى: * (سنكتب ما قالوا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة * (سيكتب) * بالياء وضمها على ما لم يسم فاعله * (وقتلهم الأنبياء) * برفع اللام على معنى سيكتب قتلهم، والباقون بالنون وفتح اللام إضافة إليه تعالى. قال صاحب " الكشاف ": وقرأ الحسن والأعرج * (سيكتب) * بالياء وتسمية الفاعل.
المسألة الثانية: هذا وعيد على ذلك القول وهو يحتمل وجوها: أحدها: أن يكون المراد من كتبه عليهم إثبات ذلك عليهم وأن لا يلغي ولا يطرح، وذلك لأن الناس إذا أرادوا إثبات الشيء على وجه لا يزول ولا ينسى ولا يتغير كتبوه، والله تعالى جعل الكتبة مجازا عن إثبات حكم ذلك عليهم. الثاني: سنكتب ما قالوا في الكتب التي تكتب فيها أعمالهم ليقرؤا ذلك في جرائد أعمالهم يوم القيامة، والثالث: عندي فيه احتمال آخر، وهو أن المراد: سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق إلى يوم القيامة شدة تعنت هؤلاء وجهلهم وجهدهم في الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما قدروا عليه.
ثم قال: * (وقتلهم الأنبياء بغير حق) * أي ونكتب قتلهم الأنبياء بغير حق، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الفائدة في ضم أنهم قتلوا الأنبياء إلى أنهم وصفوا الله تعالى بالفقر، هي بيان أن جهل هؤلاء ليس مخصوصا بهذا الوقت، بل هم منذ كانوا، مصرون على الجهالات والحماقات.
المسألة الثانية: في إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء وجهان: أحدهما: سنكتب ما قال هؤلاء ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي الفريقين بما هو أهله، كقوله تعالى: * (وإذ قتلتم نفسا) * أي قتلها أسلافكم * (وإذ نجيناكم من آل فرعون) * (البقرة: 49) * (وإذ فرقنا بكم البحر) * (البقرة: 50) والفاعل لهذه الأشياء هو أسلافهم، والمعنى أنه سيحفظ على الفريقين معا أقوالهم وأفعالهم.
والوجه الثاني: سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم، ونكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم
118

الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وعن الشعبي أن رجلا ذكر عنه عثمان رضي الله عنه وحسن قتله، فقال الشعبي: صرت شريكا في دمه، ثم قرأ الشعبي * (قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم) * (آل عمران: 183) فنسب لهؤلاء قتلهم وكان بينهما قريب من سبعمائة سنة.
ثم قال تعالى: * (ونقول ذوقوا عذاب الحريق) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة * (سيكتب) * على لفظ ما لم يسم فاعله * (وقتلهم الأنبياء) * برفع اللام * (ويقول ذوقوا) * بالياء المنقطة من تحت، والباقون * (سنكتب ونقول) * بالنون.
المسألة الثانية: المراد أنه تعالى ينتقم من هذا القائل بأن يقول له ذق عذاب الحريق، كما أذقت المسلمين الغصص، والحريق هو المحرق كالأليم بمعنى المؤلم.
المسألة الثالثة: يحتمل أن يقال له هذا القول عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب ويحتمل أن يكون هذا كناية عن حصول الوعيد، وإن لم يكن هناك قول:
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: إنهم أوردوا سؤالا وهو أن من يطلب المال من غيره كان فقيرا محتاجا، فلو طلب الله المال من عبيده لكان فقيرا وذلك محال، فوجب أن يقال: إنه لم يطلب المال من عبيده، وذلك يقدح في كون محمد عليه الصلاة والسلام صادقا في ادعاء النبوة فهو هو شبهة القوم فأين الجواب عنها؟ وكيف يحسن ذكر الوعيد على ذكرها قبل ذكر الجواب عنها؟
فنقول: إذا فرعنا على قول أصحابنا من أهل السنة والجماعة قلنا: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر الله تعالى عبيده ببذل الأموال مع كونه تعالى أغنى الأغنياء.
وإن فرعنا على قول المعتزلة في أنه تعالى يراعي المصالح لم يبعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد: منها: أن إنفاق المال يوجب زوال حب المال عن القلب، وذلك من أعظم المنافع، فإنه إذا مات فلو بقي في قلبه حب المال مع أنه ترك المال لكان ذلك سببا لتألم روحه بتلك المفارقة، ومنها: أن يتوسل بذلك الانفاق إلى الثواب المخلد المؤبد، ومنها: أن بسبب الانفاق يصير القلب فارغا عن حب ما سوى الله، وبقدر ما يزول عن القلب حب غير الله فإنه يقوى في حب الله، وذلك رأس السعادات، وكل هذه الوجوه قد ذكرها الله في القرآن وبينها مرارا وأطوارا، كما قال: * (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا) * (الكهف: 46) وقال: * (والآخرة خير وأبقى) * (الأعلى: 17) وقال: * (ورضوان من الله أكبر) * (التوبة: 72) وقال: * (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) * (يونس: 58) فلما تقدم ذكر هذه الوجوه على الاستقصاء كان إيراد هذه الشبهة بعد تقدم هذه البينات محض التعنت، فلهذا اقتصر الله تعالى عند ذكرها على مجرد الوعيد.
119

ثم قال تعالى: * (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد ذكر سببه فقال: * (ذلك بما قدمت أيديكم) * أي هذا العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله وأقدمتم على قتل الأنبياء، فيكون هذا العقاب عدلا لا جورا.
المسألة الثانية: قال الجبائي: الآية تدل على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم تلك الذنوب، وفيه بطلان قول المجبرة: ان الله يعذب الأطفال بغير جرم، ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب، ويدل على كون العبد فاعلا، وإلا لكان الظلم حاصلا.
والجواب: ان ما ذكرتم معارض بمسألة الداعي ومسألة العلم على ما شرحناه مرارا وأطوارا.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: * (وما ربك بظلام للعبيد) * (فصلت: 46) يفيد نفي كونه ظلاما، ونفي الصفة يوهم بقاء الأصل، فهذا يقتضي ثبوت أصل الظلم.
أجاب القاضي عنه بأن العذاب الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما، فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا، وهذا يؤكد ما ذكرنا أن إيصال العقاب إليهم يكون ظلما لو لم يكونوا مذنبين.
المسألة الرابعة: اعلم أن ذكر الأيدي على سبيل المجاز، لأن الفاعل هو الانسان لا اليد، إلا أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل إليها على سبيل المجاز، ثم في هذه الآية ذكر اليد بلفظ الجمع فقال: * (بما قدمت أيديكم) * وفي آية أخرى ذكر بلفظ التثنية فقال: * (ذلك بما قدمت يداك) * (الحج: 10) والكل حسن متعارف في اللغة.
* (الذين قالو ان الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جآءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) *.
قوله تعالى: * (الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم ان كنتم صادقين) *.
اعلم أن هذه هي الشبهة الثانية للكفار في الطعن في نبوته صلى الله عليه وسلم، وتقريرها أنهم قالوا: ان الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، وأنت يا محمد ما فعلت ذلك
120

فوجب أن لا تكون من الأنبياء، فهذا بيان وجه النظم، وفي الآية مسائل.
المسألة الأولى: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وزيد بن التابوب، وفنحاص بن عازوراء وغيرهم، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتابا، وقد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، ويكون لها دوي خفيف، تنزل من السماء، فان جئتنا بهذا صدقناك، فنزلت هذه الآية. قال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت، والسقف مكشوف فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه، وبنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي خفيف ولا دخان لها فتأكل كل ذلك القربان.
واعلم أن للعلماء فيما ادعاه اليهود قولين: الأول وهو قول السدى: أن هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط، وذلك أنه تعالى قال في التوراة: من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام. فإنهما إذا أتيا فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان تأكله النار. قال: وكانت هذه العادة باقية إلى مبعث المسيح عليه السلام، فلما بعث الله المسيح ارتفعت وزالت.
القول الثاني: ان ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة، ويدل عليه وجوه: أحدها: أنه لو كان ذلك حقا لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان، ومعلوم أنه ما كان الأمر كذلك، فان معجزات موسى عليه السلام عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان. وثانيها: أن نزول هذه النار وأكلها للقربان معجزة فكانت هي وسائر المعجزات على السواء، فلم يكن في تعيين هذه المعجزة وتخصيصها فائدة، بل لما ظهرت المعجزة القاهرة على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب القطع بنبوته سواء ظهرت هذه المعجزة أو لم تظهر. وثالثها: أنه إما أن يقال إنه جاء في التوراة أن مدعي النبوة وإن جاء بجميع المعجزات فلا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه المعجزة المعينة، أو يقال جاء في التوراة أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة سواء كانت المعجزة هي مجيء النار، أو شيء آخر، والأول باطل، لأن على هذا التقدير لم يكن الاتيان بسائر المعجزات دالا على الصدق، وإذا جاز الطعن في سائر المعجزات جاز الطعن أيضا في هذه المعجزة المعينة.
وأما الثاني: فإنه يقتضي توقيت الصدق على ظهور مطلق المعجزة، لا على ظهور هذه المعجزة المعينة، فكان اعتبار هذه المعجزة عبثا ولغوا، فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الشبهة بالكلية والله أعلم.
121

المسألة الثانية: في محل * (الذين) * وجوه: أحدها: قال الزجاج: الجر، وهذا نعت العبيد، والتقدير: وما ربك بظلام للعبيد الذين قالوا كذا وكذا. وثانيها: أن التقدير: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير، وقول الذين قالوا إن الله عهد إلينا. وثالثها: أن يكون رفعا بالابتداء والتقدير: هم الذين قالوا ذلك.
المسألة الثالثة: قال الواحدي رحمه الله: القربان البر الذي يتقرب به إلى الله، وأصله المصدر من قولك قرب قربانا، كالكفران والرجحان والخسران، ثم سمى به نفس المتقرب به، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لكعب بن عجرة " يا كعب الصوم جنة والصلاة قربان " أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه.
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة فقال: * (قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى بين بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد، بل على سبيل التعنت، وذلك لأن أسلاف هؤلاء اليهود طلبوا هذا المعجز من الأنبياء المتقدمين مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام، وهم أظهروا هذا المعجز، ثم إن اليهود سعوا في قتل زكرياء ويحيى، ويزعمون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام أيضا، وذلك يدل على أن أولئك القوم إنما طلبوا هذا المعجز من أولئك الأنبياء على سبيل التعنت، إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم، ثم إن المتأخرين راضون بأفعال أولئك المتقدمين ومصوبون لهم في كل ما فعلوه، وهذا يقتضي كون هؤلاء في طلب هذا المعجز من محمد عليه الصلاة والسلام متعنتين، وإذا ثبت أن طلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد، لم يجب في حكمة الله إسعافهم بذلك، لا سيما وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الجواب شاف عن هذه الشبهة.
المسألة الثانية: إنما قال: * (قد جاءكم رسل من قبلي) * ولم يقل جاءتكم رسل لأن فعل المؤنث يذكر إذا تقدمه.
المسألة الثالثة: المراد بقوله: * (وبالذي قلتم) * هو ما طلبوه منه، وهو القربان الذي تأكله النار.
واعلم أنه تعالى لم يقل: قد جاءكم رسل من قبلي بالذي قلتم، بل قال: * (قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم) * والفائدة: أن القوم قالوا: ان الله تعالى وقف التصديق بالنبوة على ظهور القربان الذي تأكله النار، فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: ان الأنبياء المتقدمين أتوا
122

بهذا القربان، لم يلزم من هذا القدر وجوب الاعتراف بنبوتهم، لاحتمال أن الاتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها، والشرط هو الذي يلزم عند عدمه عدم المشروط، لكن لا يلزم عند وجوده وجود المشروط، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الالزام واردا، أما لما قال: * (قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم) * كان الالزام واردا، لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للتصديق، ولما أتوا بهذا القربان فقد أتوا بالشرط، وعند الاتيان بهما كان الاقرار بالنبوة واجبا، فثبت أنه لولا قوله: * (جاءكم بالبينات) * (غافر: 28) لم يكن الالزام واردا على القوم والله أعلم.
* (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جآءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير * كل نفس ذآئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور) *.
في قوله: * (فان كذبوك) * وجوه: أحدها: فان كذبوك في قولك ان الأنبياء المتقدمين جاؤوا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم، فقد كذب رسل من قبلك: نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وغيرهم. والثاني: ان المراد: فان كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك، ولعل هذا الوجه أوجه، لأنه تعالى لم يخصص، ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم، ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج. والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء، بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم، مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك، ومع هذا فإنهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة، فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى، وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت، فأما البينات فهي الحجج والمعجزات، وأما الزبر فهي الكتب، وهي جمع زبور، والزبور الكتاب، بمعنى المزبور أي المكتوب، يقال: زبرت الكتاب
123

أي كتبته، وكل كتاب زبور. قال الزجاج: الزبور كل كتاب ذي حكمة، وعلى هذا: الأشبه أن يكون معنى الزبور من الزبر الذي هو الزجر، يقال: زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل، وسمي الكتاب زبورا لما فيه من الزبر عن خلاف الحق، وبه سمي زبور داود لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ. وقرأ ابن عباس * (وبالزبر) * أعاد الباء للتأكيد وأما " المنير " فهو من قولك أنرت الشيء أي أوضحته، وفي الآية مسألتان.
المسألة الأولى: المراد من البينات المعجزات ثم عطف عليها الزبر والكتاب، وهذا يقتضي أن يقال إن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم، وذلك يدل على أن أحدا من الأنبياء ما كانت كتبهم معجزة لهم، فالتوراة والإنجيل والزبور والصحف ما كان شيء منها معجزة، وأما القرآن فهو وحده كتاب ومعجزة، وهذا أحد خواص الرسول عليه الصلاة والسلام.
المسألة الثانية: عطف " الكتاب المنير " على " الزبر " مع أن الكتاب المنير لا بد وأن يكون من الزبر، وإنما حسن هذا العطف لأن الكتاب المنير أشرف الكتب وأحسن الزبر، فحسن العطف كما في قوله: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) * (الأحزاب: 7) وقال: * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (البقرة: 98) ووجه زيادة الشرف فيه إما كونه مشتملا على جميع الشريعة، أو كونه باقيا على وجه الدهر، ويحتمل أن يكون المراد بالزبر: الصحف، وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل والزبور.
قوله تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت) *.
اعلم أن المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام والمبالغة في إزالة الحزن من قلبه وذلك من وجهين: أحدهما: أن عاقبة الكل الموت، وهذه الغموم والأحزان تذهب وتزول ولا يبقى شيء منها، والحزن متى كان كذلك لم يلتفت العاقل إليه. والثاني: ان بعد هذه الدار دار يتميز فيها المحسن عن المسئ، ويتوفر على عمل كل واحد ما يليق به من الجزاء، وكل واحد من هذين الوجهين في غاية القوة في إزالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (كل نفس ذائقة الموت) * سؤال: وهو أن الله تعالى يسمى بالنفس قال: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * وأيضا النفس والذات واحد فعلى هذا يدخل الجمادات تحت اسم النفس، ويلزم على هذا عموم الموت في الجمادات، وأيضا قال تعالى: * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض
إلا من شاء الله) * (الزمر: 68) وذلك يقتضي أن لا يموت الداخلون في هذا
124

الاستثناء، وهذا العموم يقتضي موت الكل، وأيضا يقتضي وقوع الموت لأهل الجنة ولأهل النار لأن كلهم نفوس.
وجوابه: أن المراد بالآية المكلفون الحاضرون في دار التكليف بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية: * (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) * فان هذا المعنى لا يتأتى إلا فيهم، وأيضا العام بعد التخصيص يبقى حجة.
المسألة الثانية: * (ذائقة) * فاعلة من الذوق، واسم الفاعل إذا أضيف إلى اسم وأريد به الماضي لم يجز فيه إلا الجر، كقولك: زيد ضارب عمرو أمس، فان أردت به الحال والاستقبال جاز الجر والنصب تقول: هو ضارب زيد غدا، وضارب زيدا غدا، قال تعالى: * (هل هن كاشفات ضره) * (الزمر: 38) قرىء بالوجهين لأنه للاستقبال. وروي عن الحسن أنه قرأ * (ذائقة الموت) * بالتنوين ونصب " الموت " وهذا هو الأصل وقرأ الأعمش * (ذائقة الموت) * بطرح التنوين مع النصب كقوله: ولا ذاكر الله إلا قليلا
وتمام الكلام في هذه المسألة يأتي في سورة النساء عند قوله: * (ظالمي أنفسهم) * (النساء: 97، النحل: 28) إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة: زعمت الفلاسفة ان الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية، وذلك لأن هذه الحياة الجسمانية لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية، ثم إن الحرارة الغريزية تؤثر في تحليل الرطوبة الغريزية، ولا تزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفئ الحرارة الغريزية ويحصل الموت، فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة. قالوا وقوله: * (كل نفس ذائقة الموت) * يدل على أن النفوس لا تموت بموت البدن، لأنه جعل النفس ذائقة الموت، والذائق لا بد وأن يكون باقيا حال حصول الذوق، والمعنى أن كل نفس ذائقة موت البدن، وهذا يدل على أن النفس غير البدن، وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن، وأيضا: لفظ النفس مختص بالأجسام، وفيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختصة بالحياة الجسمانية، فأما الأرواح المجردة فلا، وقد جاء في الروايات ما هو خلاف ذلك، فإنه روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل قوله تعالى: * (كل من عليها فان) * (الرحمن: 26) قالت الملائكة مات أهل الأرض، ولما نزل قوله تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت) * قالت الملائكة متنا.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت) * يدل على أن المقتول يسمى بالميت وإنما لا يسمى المذكى بالميت بسبب التخصيص بالعرف.
125

ثم قال تعالى: * (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) * بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة لأن هناك يحصل السرور بلا غم، والأمن بلا خوف، واللذة بلا ألم. والسعادة بلا خوف الانقطاع، وكذا القول في جانب العقاب فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة، بل يمتزج به راحات وتخفيفات، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة، نعوذ بالله منه.
ثم قال تعالى: * (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) * الزحزحة التنحية والابعاد، وهو تكرير الزح، والزح هو الجذب بعجلة، وهذا تنبيه على أن الانسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار، وما ذاك إلا لكثرة آفاتها وشدة بلياتها، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " الدنيا سجن المؤمن ".
واعلم أنه لا مقصود للانسان وراء هذين الأمرين، الخلاص عن العذاب، والوصول إلى الثواب، فبين تعالى أن من وصل إلى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى والغاية التي لا مطلوب بعدها. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " وقرأ قوله تعالى: * (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد حاز) * وقال عليه الصلاة والسلام: " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ".
ثم قال: * (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) * الغرور مصدر من قولك: غررت فلانا غرورا شبه الله الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر عليه حتى يشتريه ثم يظهر له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور، وعن سعيد بن جبير: أن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة، وأما من طلب الآخرة بها فإنها نعم المتاع والله أعلم.
واعلم أن فساد الدنيا من وجوه: أولها: أنه لو حصل للانسان جميع مراداته لكان غمه وهمه أزيد من سروره، لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا، وثانيها: أن الانسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر كان حرصه في طلبها أكثر، ولكما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد، فان الانسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك، بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته، وثالثها: أن الانسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات، ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة
126

علمت أن الدنيا متاع الغرور، وأنها كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: لين مسها قاتل سمها. وقال بعضهم: الدنيا ظاهرها مطية السرور، وباطنها مطية الشرور.
* (لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور) *.
اعلم أنه تعالى لما سلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: * (كل نفس ذائقة الموت) * (آل عمران: 185) زاد في تسليته بهذه الآية، فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد، فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم، من الايذاء بالنفس والإيذاء بالمال، والغرض من هذا الاعلام أن يوطنوا أنفسهم على
الصبر وترك الجزع، وذلك لأن الانسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فإذا انزل البلاء عليه شق ذلك عليه، أما إذا كان عالما بأنه سينزل، فإذا نزل لم يعظم وقعه عليه.
أما قوله: * (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: اللام لام القسم، والنون دخلت مؤكدة وضمت الواو لسكونها وسكون النون، ولم تكسر لالتقاء الساكنين لأنها واو جمع فحركت بما كان يجب لما قبلها من الضم، ومثله * (اشتروا الضلالة) * (البقرة: 16).
المسألة الثانية: * (لتبلون) * لتختبرن، ومعلوم أنه لا يجوز في وصف الله تعالى الاختبار لأنه طلب المعرفة ليعرف الجيد من الردئ، ولكن معناه في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر.
المسألة الثالثة: اختلفوا في معنى هذا الابتلاء فقال بعضهم: المراد ما ينالهم من الشدة والفقر وما ينالهم من القتل والجرح والهزيمة من جهة الكفار، ومن حيث ألزموا الصبر في الجهاد. وقال الحسن: المراد به التكاليف الشديدة المتعلقة بالبدن والمال، وهي الصلاة والزكاة والجهاد. قال القاضي: والظاهر يحتمل كل واحد من الأمرين فلا يمتنع حمله عليهما.
127

وأما قوله: * (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) * فالمراد منه أنواع الايذاء الحاصلة من اليهود والنصارى والمشركين للمسلمين، وذلك لأنهم كانوا يقولون عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، وكانوا يطعنون في الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ما يقدرون عليه، ولقد هجاه كعب بن الأشرف، وكانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما المشركون فهم كانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ويجمعون العساكر على محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ويثبطون المسلمين عن نصرته، فيجب أن يكون الكلام محمولا على الكل إذ ليس حمله على البعض أولى من حمله على الثاني.
ثم قال عطفا على الأمرين: * (وإن تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الأمور) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال المفسرون: بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى فنحاص اليهودي يستمده، فقال فنحاص قد احتاج ربك إلى أن نمده، فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه: لا تغلبن على شيء حتى ترجع إلي، فتذكر أبو بكر رضي الله عنه ذلك وكف عن الضرب ونزلت هذه الآية.
المسألة الثانية: للآية تأويلان: الأول: أن المراد منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال، والمصابرة على تحمل الأذى وترك المعارضة والمقابلة، وإنما أوجب الله تعالى ذلك لأنه أقرب إلى دخول المخالف في الدين، كما قال: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) وقال: * (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) * (الجاثية: 14) والمراد بهذا الغفران الصبر. وترك الانتقام وقال تعالى: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72) وقال: * (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) * (الأحقاف: 35) وقال: * (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) * (فصلت: 34) قال الواحدي رحمه الله: كان هذا قبل نزول آية السيف. قال القفال رحمه الله: الذي عندي أن هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقيب قصة أحد، والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول صلى الله عليه وسلم على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال. والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه، واعلم أن قول الواحدي ضعيف، والقول ما قاله القفال.
الوجه الثاني في التأويل: أن يكون المراد من الصبر والتقوى: الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والانكار عليهم، فأمروا بالصبر على مشاق الجهاد، والجري على نهج أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الانكار على اليهود والاتقاء عن المداهنة مع الكفار، والسكوت عن إظهار الانكار. المسألة الثالثة: الصبر عبارة عن احتمال المكروه، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي
128

فقدم ذكر الصبر ثم ذكر عقبه التقوى، لأن الانسان إنما يقدم على الصبر لأجل أنه يريد الاتقاء عما لا ينبغي، وفيه وجه آخر: وهو أن المراد من الصبر هو أن مقابلة الإساءة بالإساءة تفضي إلى ازدياد الإساءة، فأمر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا، وأمر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة، فكانت الآية على هذا التأويل جامعة لآداب الدنيا والآخرة.
المسألة الرابعة: قوله: * (من عزم الأمور) * أي من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه، وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه، فتأخذ نفسه لا محالة به، والعزم كأنه من جملة الحزم وأصله من قول الرجل: عزمت عليك أن تفعل كذا، أي ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه، فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفا بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه، ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون معناه: فان ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به والله أعلم.
* (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه ورآء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) *.
اعلم أن في كيفية النظم وجهين: الأول: أنه تعالى لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وأجاب عنه أتبعه بهذه الآية، وذلك لأنه تعالى أوجب عليهم في التوراة والإنجيل على أمة موسى وعيسى عليهما السلام، أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على صحة دينه وصدق نبوته ورسالته، والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل: كيف يليق بكم ايراد الطعن في نبوته ودينه مع أن كتبكم ناطقة ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوته
ودينه. الثاني: أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد صلى الله عليه وسلم احتمال الأذى من أهل الكتاب، وكان من جملة ايذائهم للرسول صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة والإنجيل من الدلائل الدالة على نبوته، فكانوا يحرفونها ويذكرون لها تأويلات فاسدة، فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو بكر وعاصم وأبو عمرو * (ليبيننه ولا يكتمونه) * بالياء فيهما
129

كناية عن أهل الكتاب، وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب الذي كان حاصلا في وقت أخذ الميثاق، أي فقال لهم: لتبيننه، ونظير هذه الآية قوله: * (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) * (البقرة: 83) بالتاء والياء وأيضا قوله: * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض) * (الأسراء: 4).
المسألة الثانية: الكلام في كيفية أخذ الميثاق قد تقدم في الآية المتقدمة، وذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوردوا الدلائل في جميع أبواب التكاليف وألزموهم قبولها، فالله سبحانه وتعالى إنما أخذ الميثاق منهم على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فذلك التوكيد والالزام هو المراد بأخذ الميثاق. وعن سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ان أصحاب عبد الله يقرؤن * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * (آل عمران: 81) فقال أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. واعلم أن الزام هذا الاظهار لا شك أنه مخصوص بعلماء القوم الذين يعرفون ما في الكتاب والله أعلم.
المسألة الثالثة: الضمير في قوله: * (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: قال سعيد بن جبير والسدي: هو عائد إلى محمد عليه السلام، وعلى هذا التقدير يكون الضمير عائدا إلى معلوم غير مذكور، وقال الحسن وقتادة: يعود إلى الكتاب في قوله: * (أوتوا الكتاب) * أي أخذنا ميثاقهم بأن يبينوا للناس ما في التوراة والإنجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة: اللام لام التأكيد يدخل على اليمين، تقديره: استحلفهم ليبيننه.
المسألة الخامسة: إنما قال: ولا تكتمونه ولم يقل: ولا تكتمنه، لأن الواو واو الحال دون واو العطف، والمعنى لتبيننه للناس غير كاتمين. فان قيل: البيان يضاد الكتمان، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهيا عن الكتمان، فما الفائدة في ذكر النهي عن الكتمان؟
قلنا: المراد من البيان ذكر تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل، والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المعطلة.
المسألة السادسة: اعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مختصا باليهود والنصارى فإنه لا يبعد أيضا دخول المسلمين فيه، لأنه أهل القرآن وهو أشرف الكتب. حكي أن الحجاج أرسل إلى الحسن وقال: ما الذي بلغني عنك؟ فقال: ما كل الذي بلغك عني قلته: ولا كل ما قلته بلغك، قال: أنت الذي قلت: إن النفاق كان مقموعا فأصبح قد تعمم وتقلد سيفا، فقال: نعم، فقال: وما الذي حملك على هذا ونحن نكرهه، قال: لأن الله أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه. وقال قتادة: مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه، ومثل حكمة لا تخرج كمثل
130

صنم قائم لا يأكل ولا يشرب، وكان يقول: طوبى لعالم ناطق، ولمستمع واع، هذا علم علما فبذله، وهذا سمع خيرا فوعاه، قال عليه الصلاة والسلام: " من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار " وعن علي رضي الله عنه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.
ثم قال تعالى: * (فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) * والمراد أنهم لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه، والنبذ وراء الظهر مثل الطرح وترك الاعتداد، ونقيضه: جعله نصب عينه وإلقاؤه بين عينيه وقوله: * (واشتروا به ثمنا قليلا) * معناه أنهم أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا، فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيئا منه لغرض فاسد، من تسهيل على الظلمة وتطييب لقلوبهم، أو لجر منفعة، أو لتقية وخوف، أو لبخل بالعلم دخل تحت هذا الوعيد.
* (لا تحسبن الذين يفرحون بمآ أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم * ولله ملك السماوات والارض والله على كل شىء قدير) *.
اعلم أن هذا من جملة ما دخل تحت قوله: * (ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) * (آل عمران: 186) فبين تعالى ان من جملة أنواع هذا الأذى أنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين، ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البر والتقوى والصدق والديانة، ولا شك أن الانسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمصابرة عليها، وبين ما لهم من الوعيد الشديد وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتاء المنقطة من فوق، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء المنقطة من تحت، وكذا في قوله: * (فلا تحسبنهم) * أما القراءة الأولى ففيها وجهان: أحدهما: أن يقرأ كلاهما بفتح الباء. والثاني: أن يقرأ كلاهما بضم الباء، فمن قرأ بالتاء وفتح الباء فيهما جعل التقدير: لا تحسبن يا محمد، أو أيها السامع، ومن ضم الباء فيهما جعل الخطاب للمؤمنين: وجعل أحد المفعولين الذين يفرحون، والثاني: بمفازة وقوله: * (فلا تحسبنهم بمفازة) * تأكيد
131

للأول وحسنت اعادته لطول الكلام، كقولك: لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك في كذا وكذا فلا تظنه صادقا، وأما القراءة الثانية وهي بالياء المنقطة من تحت في قوله: * (لا يحسبن) * ففيها أيضا وجهان: الأول: بفتح الباء وبضمها فيهما جعل الفعل للرسول صلى الله عليه وسلم والباقي كما علمت.
والوجه الثاني: بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو، ووجهه أنه جعل الفعل للذين يفرحون ولم يذكر واحدا من مفعوليه، ثم أعاد قوله: * (
فلا تحسبن) * بضم الباء وقوله: * (هم) * رفع باسناد الفعل إليه، والمفعول الأول محذوف والتقدير: ولا تحسبن هؤلاء الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف هؤلاء القوم بأنهم يفرحون بفعلهم ويحبون أيضا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، والمفسرون ذكروا فيه وجوها: الأول: أن هؤلاء اليهود يحرفون نصوص التوراة ويفسرونها بتفسيرات باطلة ويروجونها على الأغمار من الناس، ويفرحون بهذا الصنع ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل الدين والديانة والعفاف والصدق والبعد عن الكذب، وهو قول ابن عباس، وأنت إذا أنصفت عرفت أن أحوال أكثر الخلق كذلك، فإنهم يأتون بجميع وجوه الحيل في تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان مطلوبهم، ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل العفاف والصدق والدين والثاني: روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروا بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بذلك التلبيس، وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يثني عليهم بذلك، فأطلع رسول الله على هذا السر. والمعنى أن هؤلاء اليهود فرحوا بما فعلوا من التلبيس وتوقعوا منك أن تثني عليهم بالصدق والوفاء. والثالث: يفرحون بما فعلوا من كتمان النصوص الدالة على مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم، حيث ادعوا أن إبراهيم عليه السلام كان على اليهودية وأنهم على دينه. الرابع: أنه نزل في المنافقين فإنهم يفرحون بما أتوا من إظهار الايمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث أنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا، ثم كانوا يتوقعون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحمدهم على الايمان الذي ما كان موجودا في قلوبهم. الخامس: قال أبو سعيد الخدري نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، ويفرحون بقعودهم عنه فإذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم، ثم طمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني عن المسلمين المجاهدين. السادس: المراد منه كتمانهم ما في التوراة من أخذ الميثاق عليهم بالاعتراف بمحمد صلى
132

الله عليه وسلم،
وبالاقرار بنبوته ودينه، ثم أنهم فرحوا بكتمانهم لذلك وإعراضهم عن نصوص الله تعالى، ثم زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.
واعلم أن الأولى أن يحمل على الكل، لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد، وهو أن الانسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والاقبال على طاعة الله.
المسألة الثالثة: في قوله: * (بما أتوا) * بحثان: الأول: قال الفراء: قوله: * (بما أتوا) * يريد فعلوه كقوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * (النساء: 16) وقوله: * (لقد جئت شيئا فريا) * (مريم: 27) أي فعلت. قال صاحب " الكشاف ": أتى وجاء، يستعملان بمعنى فعل، قال تعالى: * (إنه كان وعده مأتيا) * (مريم: 61) * (لقد جئت شيئا فريا) * ويدل عليه قراءة أبي * (يفرحون بما فعلوا) *.
البحث الثاني: قرىء آتوا بمعنى أعطوا، وعن علي رضي الله عنه * (بما أوتوا) *.
المسألة الرابعة: قوله: * (بمفازة من العذاب) * أي بمنجاة منه، من قولهم: فاز فلان إذا نجا، وقال الفراء: أي ببعد من العذاب، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه، وذكر ذلك في قوله: * (فقد فاز) * ثم حقق ذلك بقوله: * (ولهم عذاب أليم) * ولا شبهة أن الآية، واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذاهم.
ثم قال: * (ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير) * أي لهم عذاب أليم ممن له ملك السماوات والأرض، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب.
* (إن فى خلق السماوات والارض واختلاف اليل والنهار لايات لاولى الالباب) *.
اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الاحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والإلهية والكبرياء والجلال، فذكر هذه الآية. قال ابن عمر: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي،
133

ثم قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي، فقلت: يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب مرادك قد أذنت لك. فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ثم قام يصلي، فقرأ من القرآن وجعل يبكي، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال له: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، ثم قال: ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة: * (إن في خلق السماوات والأرض) * ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وروي: ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها. وعن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر إلى السماء ويقول: إن في خلق السماوات والأرض. وحكى أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة. فعبدها فتى من فتيانهم فما أظلته السحابة، فقالت له أمه: لعل فرطة صدرت منك في مدتك، قال: ما أذكر، قالت: لعلك نظرة مرة إلى السماء ولم تعتبر قال نعم، قالت: فما أتيت إلا من ذلك.
واعلم أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة البقرة، وذكرها هنا أيضا، وختم هذه الآية في سورة البقرة بقوله: * (لآيات لقوم يعقلون) * (البقرة: 164) وختمها ههنا بقوله: * (لآيات لأولي الألباب) * وذكر في سورة البقرة مع هذه الدلائل الثلاثة خمسة أنواع أخرى، حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل، وههنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة: وهي السماوات والأرض، والليل والنهار، فهذه أسئلة ثلاثة:
السؤال الأول: ما الفائدة في إعادة الآية الواحدة باللفظ الواحد في سورتين؟
والسؤال الثاني: لم اكتفي ههنا بإعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف الخمسة الباقية؟
والسؤال الثالث: لم قال هناك: * (لقوم يعقلون) * (البقرة: 164) وقال ههنا: * (لأولي الألباب) *.
فأقول والله أعلم بأسرار كتابه: إن سويداء البصيرة تجري مجرى سواد البصر فكما أن سواد البصر لا يقدر أن يستقصي في النظر إلى شيئين، بل إذا حدق بصره نحو شيء تعذر عليه في تلك الحالة تحديق البصر نحو شيء آخر، فكذلك ههنا إذا حدق الانسان حدقة عقله نحو ملاحظة معقول امتنع عليه في تلك الحالة تحديق حدقة العقل نحو معقول آخر، فعلى هذا كلما كان اشتغال العقل بالالتفات إلى المعقولات المختلفة أكثر، كان حرمانه عن الاستقصاء في تلك التعقلات والادراكات أكثر، فعلى هذا: السالك إلى الله لا بد له في أول الأمر من تكثير الدلائل، فإذا استنار القلب بنور معرفة الله صار اشتغاله بتلك الدلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في معرفة الله، فالسالك في أول أمره كان طالبا لتكثير الدلائل، فعند وقوع هذا النور في القلب يصير طالبا لتقليل الدلائل، حتى إذا زالت
134

الظلمة المتولدة من اشتغال القلب بغير الله كمل فيه تجلى أنوار معرفة الله، واليه الإشارة بقوله: * (فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) * (طه: 12) والنعلان هما المقدمتان اللتان بهما يتوصل العقل إلى المعرفة فلما وصل إلى المعرفة أمر بخلعهما، وقيل له: إنك تريد أن تضع قدميك في وادي قدس الوحدانية فاترك الاشتغال بالدلائل. إذا عرفت هذه القاعدة، فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل، ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها، تنبيها على أن العارف بعد صيرورته عارفا لا بد له من تقليل الالتفات إلى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول، فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية، التنبيه على ما ذكرناه، ثم انه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية، التي هي الدلائل الأرضية، وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر، والعجائب فيها أكثر، وانتقال القلب منها إلى عظمة الله وكبريائه أشد، ثم ختم تلك الآية بقوله: * (لقوم يعقلون) * وختم هذه الآية بقوله: * (لأولي الألباب) * لأن العقل له ظاهر وله لب، ففي أول الأمر يكون عقلا، وفي كمال الحال يكون لبا، وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه، فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم.
* (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات والارض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار * ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الإلهية والقدرة والحكمة وهو ما يتصل بتقرير الربوبية ذكر بعدها ما يتصل بالعبودية، وأصناف العبودية ثلاثة أقسام: التصديق بالقلب، والاقرار باللسان، والعمل بالجوارح، فقوله تعالى: * (يذكرون الله) * إشارة إلى عبودية اللسان، وقوله: * (قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * إشارة إلى عبودية الجوارح والأعضاء، وقوله: * (ويتفكرون في خلق السماوات
135

والأرض) * إشارة إلى عبودية القلب والفكر والروح، والانسان ليس إلى هذا المجموع، فإذا كان اللسان مستغرقا في الذكر، والأركان في الشكر، والجنان في الفكر، كان هذا العبد مستغرقا بجميع أجزائه في العبودية، فالآية الأولى دالة على كمال الربوبية، وهذه الآية دالة على كمال العبودية، فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق إلى الحق، وفي نقل الأسرار من جانب عالم الغرور إلى جناب الملك الغفور، ونقول في الآية مسائل:
المسألة الأولى: للمفسرين في هذه الآية قولان: الأول: أن يكون المراد منه كون الانسان دائم الذكر لربه، فان الأحوال ليست إلا هذه الثلاثة، ثم لما وصفهم بكونهم ذاكرين فيها كان ذلك دليلا على كونهم مواظبين على الذكر غير فاترين عنه البتة.
والقول الثاني: أن المراد من الذكر الصلاة، والمعنى أنهم يصلون في حال القيام، فان عجزوا ففي حال القعود، فان عجزوا ففي حال الاضطجاع، والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في شيء من الأحوال، والحمل على الأول أولى لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر، وقال عليه الصلاة والسلام: " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله ".
المسألة الثانية: يحتمل أن يكون المراد بهذا الذكر هو الذكر باللسان، وأن يكون المراد منه الذكر بالقلب، والأكمل أن يكون المراد الجمع بين الأمرين.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رضي الله عنه: إذا صلى المريض مضطجعا وجب أن يصلي على جنبه، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: بل يصلى مستلقيا حتى إذا وجد خفة قعد، وحجة الشافعي رضي الله عنه ظاهر هذه الآية، وهو أنه تعالى مدح من ذكره على حال الاضطجاع على الجنب، فكان هذا الوضع أولى.
واعلم أن فيه دقيقة طبية وهو أنه ثبت في المباحث الطبية أن كون الانسان مستلقيا على قفاه يمنع من استكمال الفكر والتدبر، وأما كونه مضطجعا على الجنب فإنه غير مانع منه، وهذا المقام يراد فيه التدبر والتفكر، ولأن الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق، فكان هذا الوضع أولى، لكونه أقرب إلى اليقظة، وإلى الاشتغال بالذكر.
المسألة الرابعة: محل * (على جنوبهم) * نصب على الحال عطفا على ما قبله، كأنه قيل: قياما وقعودا ومضطجعين.
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالذكر وثبت أن الذكر لا يكمل إلا مع الفكر، لا جرم قال بعده: * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) * وفيه مسائل:
136

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى رغب في ذكر الله، ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله، بل رغب في الفكر في أحوال السماوات والأرض، وعلى وفق هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام: " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق " والسبب في ذلك أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة، إنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة، فاذن نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها، وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية
والشكل، وقوله عليه الصلاة والسلام: " من عرف نفسه عرف ربه " معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم، ومن عرف نفسه بالامكان عرف ربه بالوجوب، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء، فكان التفكر في الخلق ممكنا من هذا الوجه، أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن البتة، فاذن لا يتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول: إنه ليس بجوهر ولا عرض، ولا مركب ولا مؤلف، ولا في الجهة، ولا شك أن حقيقته المخصوصة مغايرة لهذه السلوب، وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله المدهوش المتحير في هذا الموقف فلهذا السبب نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكر في الله، وأمر بالتفكر في المخلوقات، فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآيات بذكره، ولما ذكر الفكر لم يأمر بالتفكر فيه، بل أمر بالفكر في مخلوقاته.
المسألة الثانية: اعلم أن الشيء الذي لا يمكن معرفته بحقيقته المخصوصة إنما يمكن معرفته بآثاره وأفعاله، فكلما كانت أفعاله أشرف وأعلى كان وقوف العقل على كمال ذلك الفاعل أكمل، ولذلك ان العامي يعظم اعتقاده في القرآن ولكنه يكون اعتقادا تقليديا إجماليا، أما المفسر المحقق الذي لا يزال يطلع في كل آية على أسرار عجيبة، ودقائق لطيفة، فإنه يكون اعتقاده في عظمة القرآن أكمل.
إذا عرفت هذا فنقول: دلائل التوحيد محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم كما قال تعالى: * (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) * (غافر: 57) ولما كان الأمر كذلك لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السماوات والأرض لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم، وكيف لا نقول ذلك ولو أن الانسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة، رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة. ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه
137

الخلقة حكما بالغة وأسرارا عجيبة، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ثم أن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم، ولو أراد الانسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة وكيفية التدبير في إيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السماوات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، عرف ان تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السماوات والأرض، وإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين، بل يسلم ان كل ما خلقه ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة وان كان لا سبيل له إلى معرفتها، فعند هذا يقول: سبحانك! والمراد منه اشتغاله بالتسبيح والتهليل والتحميد والتعظيم، ثم عند ذلك يشتغل بالدعاء فيقول: فقنا عذاب النار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال: أشهد أن لك ربا وخالقا، اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا عبادة كالتفكر " وقيل: الفكرة تذهب الغفلة وتجذب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض " قالوا: وكان ذلك العمل هو التفكر في معرفة الله، لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه مثل عمل أهل الأرض.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر في دلائل الذات والصفات وأن التقليد أمر باطل لا عبرة به ولا التفات إليه.
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء العباد الصالحين المواظبين على الذكر والفكر أنهم ذكروا خمسة أنواع من الدعاء.
النوع الأول: قوله: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية إضمار وفيه وجهان، قال الواحدي رحمه الله: التقدير: يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا، وقال صاحب " الكشاف ": انه في محال الحال بمعنى يتفكرون قائلين.
المسألة الثانية: هذا: في قوله: * (ما خلقت هذا) * كناية عن المخلوق، يعني ما خلقت هذا المخلوق
138

العجيب باطلا، وفي كلمة * (هذا) * ضرب من التعظيم كقوله: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * (الإسراء: 9). المسألة الثالثة: في نصب قوله * (باطلا) * وجوه: الأول: أنه نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا. الثاني: أنه بنزع الخافض تقديره: بالباطل أو للباطل. الثالث: قال صاحب " الكشاف ": يجوز أن يكون " باطلا " حالا من " هذا ".
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: إن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الاحسان إلى البعيد البعيد ولأجل الحكمة، والمراد منها رعاية مصالح العباد، واحتجوا عليه بهذه الآية لأنه تعالى لو لم يخلق السماوات والأرض لغرض لكان قد خلقها باطلا، وذلك ضد هذه الآية قالوا: وظهر بهذه الآية أن الذي تقوله المجبرة: ان الله تعالى أراد بخلق السماوات والأرض صدور الظلم والباطل من أكثر عباده وليكفروا بخالقها، وذلك رد لهذه الآية، قالوا: وقوله: * (سبحانك) * تنزيه له عن خلقه لهما باطلا، وعن كل قبيح، وذكر الواحدي كلاما يصلح أن يكون جوابا عن هذه الشبهة فقال: الباطل عبارة عن الزائل الذاهب الذي لا يكون له قوة ولا صلابة ولا بقاء، وخلق السماوات والأرض خلق متقن محكم، ألا ترى إلى قوله: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور) * (الملك: 3) وقال: * (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) * (النبأ: 12) فكان المراد من قوله: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا) * هذا المعنى، لا ما ذكره المعتزلة.
فان قيل: هذا الوجه مدفوع بوجوه: الأول: لو كان المراد بالباطل الرخو المتلاشي لكان قوله: * (سبحانك) * تنزيها له عن أن يخلق مثل هذا الخلق، ومعلوم أن ذلك باطل. الثاني: أنه إنما يحسن وصل قوله: * (فقنا عذاب النار) * به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه لأن التقدير: ما خلقته باطلا بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة، وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك، فقنا عذاب النار، لأنه جزاء من عصي ولم يطع، فثبت أنا إذا فسرنا قوله: * (وما خلقت هذا باطلا) * بما ذكرنا حسن هذا النظم، أما إذا فسرناه بأنك خلقته محكما شديد التركيب لم يحسن هذا النظم. الثالث: أنه تعالى ذكر هذا في آية أخرى فقال: * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا) * وقال في آية أخرى: * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق) * (الدخان: 38 - 39) وقال في آية أخرى: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا إلى) * (المؤمنون: 115) قوله: * (فتعالى الله الملك الحق) * (المؤمنون: 116) أي فتعالى الملك الحق عن أن يكون فعله عباث، وإذا امتنع أن يكون عبثا فبأن يمتنع كونه باطلا أولى.
والجواب: اعلم أن بديهة العقل شاهدة بأن الموجود إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، وشاهده
139

أن كل ممكن لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته، وليس في هذه القضية تخصيص بكون ذلك الممكن مغايرا لأفعال العباد، بل هذه القضية على عمومها قضية يشهد العقل بصحتها، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الخير والشر بقضاء الله. وإذا كان كذلك امتنع يكون المراد من هذه الآية تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح، إذا عرفت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يكون تأويل الآية ما حكيناه عن الواحدي: قوله: ولو كان كذلك لكان قوله: * (سبحانك) * تنزيها له عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة وذلك باطل. قلنا: لم لا يجوز أن يكون المراد: ربنا ما خلقت هذا رخوا فاسد التركيب بل خلقته صلبا محكما، وقوله: * (سبحانك) * معناه انك وان خلقت السماوات والأرض صلبة شديدة باقية فأنت منزه عن الاحتياج إليه والانتفاع به فيكون قوله: * (سبحانك) * معناه هذا. قوله ثانيا: إنما حسن وصل قوله: * (فقنا عذاب النار) * به إذا فسرناه بقولنا، قلنا لا نسلم بل وجه النظم انه لما قال: * (سبحانك) * اعترف بكونه غنيا عن كل ما سواه، فعندما وصفه بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة فقال: * (فقنا عذاب النار) * وهذا الوجه في حسن النظم ان لم يكن أحسن مما ذكرتم لم يكن أقل منه، وأما سائر الآيات التي ذكرتموها فهي دالة على أن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بكونها عبثا ولعبا وباطلا، ونحن نقول بموجبه، وان أفعال الله كلها حكمة وصواب، لأنه تعالى لا يتصرف إلا في ملكه وملكه، فكان حكمه صوابا على الاطلاق فهذا ما في هذه المناظرة والله أعلم.
المسألة الخامسة: احتج حكماء الاسلام بهذه الآية على أنه سبحانه خلق هذه الأفلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة، وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع سكان هذه البقعة الأرضية، قالوا: لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة، وذلك رد للآية. قالوا: وليس لقائل أن يقول الفائدة فيها الاستدلال بها على وجود الصانع المختار، وذلك لأن كل واحد من كرات الهواء والماء يشارك الأفلاك والكواكب في هذا المعنى، فحينئذ لا يبقى لخصوص كونه فلكا وشمسا وقمرا فائدة، فيكون باطلا وهو خلاف هذا النص.
أجاب المتكلمون عنه: بأن قالوا: لم لا يكفي في هذا المعنى كونها أسبابا على مجرى العادة لا على سبيل الحقيقة.
أما قوله تعالى: * (سبحانك) * فقيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا إقرار بعجز العقول عن الإحاطة بآثار حكمة الله في خلق السماوات
140

والأرض، يعني: أن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر، وهو أن خالقها ما خلقها باطلا، بل خلقها لحكم عجيبة، وأسرار عظيمة، وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها.
المسألة الثانية: المقصود منه تعليم الله عباده كيفية الدعاء، وذلك أن من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم الثناء ثم يذكر بعده الدعاء كما في هذه الآية.
أما قوله تعالى: * (فقنا عذاب النار) * فاعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى، وأبدانهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار، ولولا أنه يحسن من الله تعذيبهم وإلا لكان هذا الدعاء عبثا، فان كان المعتزلة ظنوا أن أول الآية حجة لهم، فليعلموا أن آخر هذه الآية حجة لنا في أنه لا يقبح من الله شيء أصلا، ومثل هذا التضرع ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم في قوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * (الشعراء: 82).
النوع الثاني من دعواتهم: قوله تعالى حكاية عنهم: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي، ليكون موقع السؤال أعظم، لأن من سأل ربه أن يفعل شيئا أو أن لا يفعله، إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد، والدعاء لا يتصل بالإجابة إلا إذا كان مقرونا بالأخص، فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء.
المسألة الثانية: قال الواحدي: الاخزاء في اللغة يرد على معان يقرب بعضها من بعض. قال الزجاج: أخزى الله العدو، أي أبعده وقال غيره: أخزاه الله. أي أهانه، وقال شمر بن حمدويه أخزاه الله أي فضحه الله، وفي القرآن * (ولا تخزون في ضيفي) * (هود: 78) وقال المفضل: أخزاه الله. أي أهلكه وقال ابن الأنباري: الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء، وكل هذه الوجوه متقاربة. ثم قال صاحب " الكشاف ": * (فقد أخزيته) * أي قد أبلغت في إخزائه وهو نظير ما يقال: من سبق فلانا فقد سبق، ومن تعلم من فلان فقد تعلم.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن، وذلك لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاه الله لدلالة هذه الآية، والمؤمن
141

لا يخزى لقوله تعالى: * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * فوجب من مجموع هاتين الآيتين أن لا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا. والجواب: أن قوله * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * (التحريم: 8) لا يقتضي نفي الاخزاء مطلقا، وإنما يقتضي أن لا يحصل الاخزاء حال ما يكون مع النبي، وهذا النفي لا يناقضه إثبات الاخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الاثبات في وقت آخر، هذا هو الذي صح عندي في الجواب، وذكر الواحدي في البسيط أجوبة ثلاثة سوى ما ذكرناه: أحدها: أنه نقل عن سعيد بن المسيب والثوري وقتادة أن قوله: * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * مخصوص بمن يدخل النار للخلود، وهذا الجواب عندي ضعيف، لأن مذهب المعتزلة أن كل فاسق دخل النار فإنما دخلها للخلود، فهذا لا يكون سؤالا عنهم. ثانيها: قال: المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها، وهذا ضعيف أيضا لأن موضع الاستدلال أن قوله: * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * (التحريم: 8) يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الاطلاق، وهذه الآية دلت على حصول الخزي لكل من دخل النار، فحصل بحكم هاتين الآيتين بين كونه مؤمنا وبين كونه كافرا ممن يدخل النار منافاة، وثالثها: قال: الاخزاء يحتمل وجهين: أحدهما: الاهانة والاهلاك، والثاني: التخجيل، يقال: خزي خزاية إذا استحيا، وأخزاه غيره إذا عمل به عملا يخجله ويستحيى منه.
واعلم أن حاصل هذا الجواب: أن لفظ الاخزاء لفظ مشترك بين التخجيل وبين الاهلاك، واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والاثبات على معنييه جميعا، وإذا كان كذلك جاز أن يكون المنفى بقوله: * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * غير المثبت في قوله: * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * وعلى هذا يسقط الاستدلال، إلا أن هذا الجواب إنما يتمشى إذا كان لفظ الاخزاء مشتركا بين هذين المفهومين، أما إذا كان لفظا متواطئا مفيدا لمعنى واحد، وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحدي نوعين تحت جنس واحد، سقط هذا الجواب لأن قوله: * (لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * لنفي الجنس وقوله: * (فقد أخزيته) * لاثبات النوع، وحينئذ يحصل بينهما منافاة.
المسألة الرابعة: احتجت المرجئة بهذه الآية في القطع على أن صاحب الكبيرة لا يخزي. وكل من دخل النار فإنه يخزي، فيلزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار، إنما قلنا صاحب الكبيرة لا يخزى. لأن صاحب الكبيرة مؤمن، والمؤمن لا يخزى. إنما قلنا إنه مؤمن لقوله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) * (الحجرات: 9) سمي الباغي حال كونه باغيا مؤمنا، والبغي من الكبائر بالاجماع، وأيضا
142

قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) * (البقرة: 178) سمي القاتل بالعمد العدوان مؤمنا، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لقوله: * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * (التحريم: 8) ولقوله: * (ولا تخزنا يوم القيامة) * (آل عمران: 194).
ثم قال تعالى: * (فاستجاب لهم ربهم) * (آل عمران: 195) وهذه الاستجابة تدل على أنه تعالى لا يخزي المؤمنين، فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يخزى بالنار، وإنما قلنا إن كل من دخل النار فإنه يخزى لقوله تعالى: * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * وحينئذ يتولد من هاتين المقدمتين القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار.
والجواب عنه ما تقدم: أن قوله: * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * (التحريم: 8) لا يدل على نفي الاخزاء مطلقا، بل يدل على نفي الاخزاء حال كونهم مع النبي، وذلك لا ينافي حصول الاخزاء في وقت آخر.
المسألة الخامسة: قوله: * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * عام دخله الخصوص في مواضع منها: أن قوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا) * (مريم: 71 - 72) يدل على أن كل المؤمنين يدخلون النار، وأهل الثواب يصانون عن الخزي. وثانيها: أن الملائكة الذين هم خزنة جهنم يكونون في النار، وهم أيضا يصانون عن الخزي. قال تعالى: * (عليها ملائكة غلاظ شداد) * (التحريم: 6).
المسألة السادسة: احتج حكماء الاسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أشد وأقوى من العذاب الجسماني، قالوا: لأن الآية دالة على التهديد بعد عذاب النار بالخزي، والخزي عبارة عن التخجيل وهو عذاب روحاني، فلولا أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وإلا لما حسن تهديد من عذب بالنار بعذاب الخزي والخجالة.
المسألة السابعة: احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الفساق الذين دخلوا النار لا يخرجون منها بل يبقون هناك مخلدين، وقالوا: الخزي هو الهلاك، فقوله: * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * معناه فقد أهلكته، ولو كانوا يخرجون من النار إلى الجنة لما صح أن كل من دخل النار فقد هلك. والجواب: أنا لا نفسر الخزي بالاهلاك بل نفسره بالإهانة والتخجيل، وعند هذا يزول كلامكم.
أما قوله تعالى: * (وما للظالمين من أنصار) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المعتزلة تمسكوا به في نفي الشفاعة للفساق، وذلك لأن الشفاعة نوع نصرة، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع.
143

والجواب من وجوه: الأول: أن القرآن دل على أن الظالم بالاطلاق هو الكافر، قال تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) * (البقرة: 254) ومما يؤكد هذا أنه تعالى
حكى عن الكفار أنهم خصصوا أنفسهم بنفي الشفعاء والأنصار حيث قالوا: * (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) * وثانيها: إن الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن الله، قال تعالى: * (من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه) * (البقرة: 255) وإذا كان كذلك لم يكن الشفيع قادرا على النصرة إلا بعد الاذن، وإذا حصل الاذن لم يكن في شفاعته فائدة في الحقيقة، وعند ذلك يظهر أن العفو إنما حصل من الله تعالى، وتلك الشفاعة ما كان لها تأثير في نفس الأمر، وليس الحكم إلا لله، فقوله: * (وما للظالمين من أنصار) * يفيد أنه لا حكم إلا الله كما قال: * (ألا له الحكم) * وقال: * (والأمر يومئذ لله) * (الإنفطار: 19) لا يقال: فعلى هذا التقدير لا يبقى لتخصيص الظالمين بهذا الحكم فائدة، لأنا نقول: بل فيه فائدة لأنه وعد المؤمنين المتقين في الدنيا بالفوز بالثواب والنجاة من العقاب، فلهم يوم القيامة هذه الحجة. اما الفساق فليس لهم ذلك، فصح تخصيصهم بنفي الأنصار على الاطلاق. الثالث: أن هذه الآية عامة وواردة بثبوت الشفاعة خاصة والخاص مقدم على العام والله أعلم.
المسألة الثانية: المعتزلة تمسكوا في أن الفاسق لا يخرج من النار، قالوا: لو خرج من النار لكان من أخرجه منها ناصرا له، والآية دالة على أنه لا ناصر له البتة.
والجواب: المعارضة بالآيات الدالة على العفو كما ذكرناه في سورة البقرة.
النوع الثالث: من دعواتهم.
* (ربنآ إننآ سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن ءامنوا بربكم فامنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الابرار) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في المنادى قولان: أحدهما: أنه محمد عليه الصلاة والسلام وهو قول الأكثرين، والدليل عليه قوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك) * (النحل: 125) * (وداعيا إلى الله باذنه) * (الأحزاب: 46) * (أدعو إلى الله) * (يوسف: 108) والثاني: أنه هو القرآن، قالوا إنه تعالى حكى عن مؤمني الانس ذلك كما حكى عن مؤمني الجن قوله: * (إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به) * (الجن: 1 - 2) قالوا: والدليل على أن تفسير الآية بهذا الوجه أولى لأنه ليس كل أحد لقي النبي صلى الله عليه وسلم، أما القرآن فكل أحد سمعه وفهمه، قالوا: وهذا
144

وان كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف، لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد، وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه الله تعالى لذلك، فصار كأنه يدعو إلى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل، كما قيل في جهنم: * (تدعوا من أدبر وتولى) * (المعارج: 17) إذ كان مصيرهم إليها، والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ، ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان، قال الشاعر: يا واضع الميت في قبره خاطبك الدهر فلم تسمع
المسألة الثانية: في قوله: * (ينادي للايمان) * وجوه: الأول: ان اللام بمعنى " إلى " كقوله: * (ثم يعودون لما نهوا عنه) * (المجادلة: 3) * (ثم يعودون لما قالوا) * (المجادلة: 8) * (بأن ربك أوحى لها) * (الزلزلة: 5) * (الحمد لله الذي هدانا لهذا) * (الأعراف: 43) ويقال: دعاه لكذا والى كذا، وندبه له واليه، وناداه له وإليه، وهداه للطريق واليه، والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى: أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا. الثاني: قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، أي سمعنا مناديا للايمان ينادي بأن آمنوا، كما يقال: جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا. والثالث: أن هذه اللام لام الأجل والمعنى: سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس، أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض، ألا تراه قال: * (أن آمنوا بربكم) * أي لتؤمن الناس، وهو كقوله: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * (النساء: 64).
المسألة الثالثة: قوله: * (سمعنا مناديا ينادي) * نظيره قولك: سمعت رجلا يقول كذا، وسمعت زيدا يتكلم، فيوقع الفعل على الرجل ويحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع وجعلته حالا عنه فأغناك عن ذكره، ولأن الوصف أو الحال لم يكن بد منه، وانه يقال: سمعت كلام فلان أو قوله.
المسألة الرابعة: ههنا سؤال وهو أن يقال: ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي؟
وجوابه: ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالايمان تفخيما لشأن المنادي، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للايمان، ونظيره قولك: مررت بهاد يهدي للاسلام، وذلك لأن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لاطفاء النائرة، أو لإغاثة المكروب، أو الكفاية لبعض النوازل، وكذلك الهادي، وقد يطلق على من يهدي للطريق، ويهدي لسداد الرأي، فإذا قلت ينادي للايمان ويهدي للاسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته.
المسألة الخامسة: قوله: * (أن آمنوا) * فيه حذف أو إضمار، والتقدير: آمنوا أو بأن آمنوا، ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا بعد ذلك: * (فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) * وفي الآية مسائل:
145

المسألة الأولى: أعلم أنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء: أولها: غفران الذنوب، وثانيها: تكفير السيئات، وثالثها: أن تكون وفاتهم مع الأبرار. أما الغفران فهو الستر والتغطية، والتكفير أيضا هو التغطية، يقال: رجل مكفر بالسلاح، أي مغطى به، والكفر منه أيضا، وقال لبيد: في ليلة كفر النجوم ظلامها
إذا عرفت هذا: فالمغفرة والتكفير بحسب اللغة معناهما شيء واحد.
أما المفسرون فذكروا فيه وجوها: أحدها: أن المراد بهما شيء واحد وإنما أعيد ذلك للتأكيد لأن الالحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب، وثانيها: المراد بالأول ما تقدم من الذنوب، وبالثاني المستأنف، وثالثها: أن يريد بالغفران ما يزول بالتوبة، وبالكفران ما تكفره الطاعة العظيمة، ورابعها: أن يكون المراد بالأول ما أتى به الانسان مع العلم بكونه معصية وذنبا، وبالثاني: ما أتى به الانسان مع جهله بكونه معصية وذنبا.
وأما قوله: * (وتوفنا مع الأبرار) * ففيه بحثان: الأول: أن الأبرار جمع بر أو بار، كرب وأرباب، وصاحب وأصحاب، الثاني: ذكر القفال في تفسير هذه المعية
وجهين: الأول: أن وفاتهم معهم هي أن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة، قد يقول الرجل أنا مع الشافعي في هذه المسألة، ويريد به كونه مساويا له في ذلك الاعتقاد، والثاني: يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف، أي هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفا. والثالث: أن يكون المراد منه كونهم في جملة أتباع الأبرار وأشياعهم، ومنه قوله: * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين) * (النساء: 69). المسألة الثانية: احتج أصحابنا على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية أعني قوله تعالى حكاية عنهم: * (فاغفر لنا ذنوبنا) * (آل عمران: 16) والاستدلال به من وجهين: الأول: أنهم طلبوا غفران الذنوب ولم يكن للتوبة فيه ذكر، فدل على أنهم طلبوا المغفرة مطلقا، ثم إن الله تعالى أجابهم إليه لأنه قال في آخر الآية: * (فاستجاب لهم ربهم) * (آل عمران: 195) وهذا صريح في أنه تعالى قد يعفو عن الذنب وان لم توجد التوبة. والثاني: وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أخبروا عن أنفسهم بأنهم آمنوا، فعند هذا قالوا: فاغفر لنا ذنوبنا، والفاء في قوله: * (فاغفر) * فاء الجزاء وهذا يدل على أن مجرد الايمان سبب لحسن طلب المغفرة من الله، ثم إن الله تعالى أجابهم إليه بقوله: * (فاستجاب لهم ربهم) * فدلت هذه الآية على أن مجرد الايمان سبب لحصول الغفران، إما من الابتداء وهو بأن يعفو عنهم ولا يدخلهم النار أو بأن يدخلهم النار ويعذبهم مدة ثم يعفو عنهم ويخرجهم من النار، فثبت دلالة هذه الآية من
146

هذين الوجهين على حصول العفو.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في حق أصحاب الكبائر مقبولة يوم القيامة، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن هؤلاء المؤمنين طلبوا من الله غفران الذنوب مطلقا من غير أن قيدوا ذلك بالتوبة، فأجاب الله قولهم وأعطاهم مطلوبهم فإذا قبل شفاعة المؤمنين في العفو عن الذنب، فلأن يقبل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيه كان أولى.
النوع الرابع: من دعائهم.
* (ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وآتنا ما وعدتنا على رسلك) * فيه حذف المضاف ثم فيه وجوه أحدها: وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك. وثانيها: وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك، والدليل عليه أن هذه الآية مذكورة عقيب ذكر المنادي للايمان وهو، الرسول وعقيب قوله: * (آمنا) * وهو التصديق.
المسألة الثانية: ههنا سؤال: وهو أن الخلف في وعد الله محال، فكيف طلبوا بالدعاء ما علموا أنه لا محالة واقع؟
والجواب عنه من وجوه: الأول: أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعل، بل المقصود منه إظهار الخضوع والذلة والعبودية، وقد أمرنا بالدعاء في أشياء نعلم قطعا أنها توجد لا محالة، كقوله: * (قل رب احكم بالحق) * (الأنبياء: 112) وقوله: * (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) * (غافر: 7).
والوجه الثاني في الجواب: أن وعد الله لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم، بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم، فإنه تعالى وعد المتقين بالثواب، ووعد الفساق بالعقاب، فقوله: * (وآتنا ما وعدتنا) * معناه: وفقنا للأعمال التي بها نصير أهلا لوعدك، واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب
147

والخزي، وعلى هذا التقدير يكون المقصود من هذه الآية طلب التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية.
الوجه الثالث: ان الله تعالى وعد المؤمنين بأن ينصرهم في الدنيا ويقهر عدوهم، فهم طلبوا تعجيل ذلك، وعلى هذا التقدير يزول الاشكال.
المسألة الثالثة: الآية دلت على أنهم إنما طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق لأنهم قالوا: ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، وفي آخر الكلام قالوا: * (إنك لا تخلف الميعاد) * وهذا يدل على أن المقتضى لحصول منافع الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق.
المسألة الرابعة: ههنا سؤال آخر: وهو أنه متى حصل الثواب كان اندفاع العقاب لازما لا محالة، فقوله: * (آتنا ما وعدتنا على رسلك) * طلب للثواب، فبعد طلب الثواب كيف طلب ترك العقاب؟ وهو قوله: * (ولا تخزنا يوم القيامة) * بل لو طلب ترك العقاب أولا ثم طلب إيصال الثواب كان الكلام مستقيما.
والجواب من وجهين: الأول: أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور فقوله: * (آتنا ما وعدتنا على رسلك) * المراد منه المنافع، وقوله: * (ولا تخزنا) * المراد منه التعظيم، الثاني: أنا قد بينا أن المقصود من هذه الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن المعصية، وعلى هذا التقدير يحسن النظم كأنه قيل: وفقنا للطاعات، وإذا وفقنا لها فاعصمنا عما يبطلها ويزيلها ويوقعنا في الخزي والهلاك، والحاصل كأنه قيل: وفقنا لطاعتك فانا لا نقدر على شيء من الطاعات إلا بتوفيقك، وإذا وفقت لفعلها فوفقنا لاستبقائها فانا لا نقدر على استبقائها واستدامتها إلا بتوفيقك، وهو إشارة إلى أن العبد لا يمكنه عمل من الأعمال، ولا فعل من الأفعال، ولا لمحة ولا حركة إلا بإعانة الله وتوفيقه.
المسألة الخامسة: قوله: * (ولا تخزنا يوم القيامة) * شبيه بقوله: * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) * (الزمر: 47) فإنه ربما ظن الانسان أنه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح، ثم انه يوم القيامة يظهر له أن اعتقاده كان ضلالا وعمله كان ذنبا، فهناك تحصل الخجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد، ثم قال حكماء الاسلام: وذلك هو العذاب الروحاني. قالوا: وهذا العذاب أشد من العذاب الجسماني، ومما يدل على هذا أنه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين أنهم طلبوا في هذا الدعاء أشياء فأول مطالبهم الاحتراز عن العذاب الجسماني وهو قوله: * (فقنا عذاب النار) * (آل عمران: 191) وآخرها الاحتراز عن العذاب الروحاني وهو قوله: * (ولا تخزنا يوم القيامة) * وذلك يدل على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني.
148

قوله تعالى
* (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولادخلنهم جنات تجرى من تحتها الانهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عرفوا الله بالدليل وهو قوله: * (إن في خلق السماوات والأرض) * (البقرة: 164) إلى قوله: * (لآيات لأولي الألباب) * (آل عمران: 190) ثم حكى عنهم مواظبتهم على الذكر وهو قوله: * (الذين يذكرون الله قياما) * وعلى التفكر وهو قوله: * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) * ثم حكى عنهم أنهم أثنوا على الله تعالى وهو قولهم: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) * (آل عمران: 191) ثم حكى عنهم أنهم بعد الثناء اشتغلوا بالدعاء وهو من قولهم: * (فقنا عذاب النار) * (آل عمران: 191) إلى قوله: * (إنك لا تخلف الميعاد) * (آل عمران: 194) بين في هذه الآية أنه استجاب دعاءهم فقال: * (فاستجاب لهم ربهم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في الآية تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور، فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا، لا جرم كان الشخص الذي يكون مجاب الدعاء عزيزا.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: يقال استجابه واستجاب له، قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا * فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) * (الأنفال: 34).
المسألة الثالثة: أني لا أضيع: قرىء بالفتح، والتقدير: بأني لا أضيع، وبالكسر على إرادة القول، وقرئ * (لا أضيع) * بالتشديد.
المسألة الرابعة: من: في قوله: * (من ذكر) * قيل للتبيين كقوله: * (فاجتبوا الرجس من الأوثان) * (الحج: 30) وقيل: إنها مؤكدة للنفي بمعنى: عمل عامل منكم ذكر أو أنثى.
149

المسألة الخامسة: اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل، لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل، والإضاعة عبارة عن ترك الاثابة فقوله: * (لا أضيع) * نفي للنفي فيكون اثباتا، فيصير المعنى: اني أوصل ثواب جميع أعمالهم إليكم، إذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا، والدليل عليه أنه بايمانه استحق ثوابا، وبمعصيته استحق عقابا، فلا بد من وصولهما إليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال، فاما أن يقدم الثواب ثم ينقله إلى العقاب وهو باطل بالاجماع، أو يقدم العقاب ثم ينقله إلى الثواب وهو المطلوب.
المسألة السادسة: جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الأعمال إليهم.
فان قيل: القوم أولا طلبوا غفران الذنوب، وثانيا إعطاء الثواب فقوله: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم) * إجابة لهم في إعطاء الثواب، فأين الإجابة في طلب غفران الذنوب؟
قلنا: إنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب، لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب فصار قوله: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم) * إجابة لدعائهم في المطلوبين. وعندي في الآية وجه آخر: وهو أن المراد من قوله: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم) * أني لا أضيع دعاءكم، وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه.
وأما قوله تعالى: * (من ذكر أو أنثى) * فالمعنى: أنه لا تفاوت في الإجابة وفي الثواب بين الذكر والأنثى إذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية، وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين بالاعمال، لا بسائر صفات العاملين، لان كون بعضهم ذكرا أو أنثى، أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب، ومثله قوله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوأ يجز به) * (النساء: 123) وروي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية.
أما قوله تعالى: * (بعضكم من بعض) * ففيه وجوه: أحسنا أن يقال: * (من) * بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض، ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. قال القفال: هذا من قولهم: فلان مني أي على خلقي وسيرتي، قال تعالى: * (فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني) * (البقرة: 249) وقال عليه الصلاة والسلام: " من غشنا فليس منا " وقال: " ليس منا من حمل علينا السلاح " فقوله: * (بعضكم من بعض) * أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه؟
150

ثم قال تعالى: * (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الانهار ثوابا من عند الله) * والمراد من قوله: * (الذين هاجروا) * الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد من * (الذين أخرجوا من ديارهم) * الذين ألجأهم الكفار إلى الخروج، ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لانهم اختاروا خدمة الرسول عليه السلام وملازمته على الاختيار، فكانوا أفضل وقوله: * (وأوذوا في سبيلي) * أي من أجله وسببه * (وقاتلوا وقتلوا) * لان المقاتلة تكون قبل القتال، قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو * (وقاتلوا) * بالألف أولا * (وقتلوا) * مخففة، والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا، وقرأ ابن كثير وابن عامر * (وقاتلوا) * أولا * (وقتلوا) * مشددة قيل: التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله: * (
مفتحة لهم الأبواب) * (ص: 50) وقيل: قطعوا عن الحسن، وقرأ حمزة والكسائي * (وقتلوا) * بغير ألف أولا * (وقاتلوا) * بالألف بعده وفيه وجوه: الأول: أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله: * (واسجدي واركعي) * (آل عمران: 43) والثاني: على قولهم: قتلنا ورب الكعبة، إذا ظهرت أمارات القتل، أو إذا قتل قومه وعشائره. والثالث: باضمار " قد " أي قتلوا وقد قاتلوا.
ثم إن الله تعالى وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة: أولها: محو السيئات وغفران الذنوب وهو قوله: * (لأكفرن عنهم سيئاتهم) * وذلك هو الذي طلبوه بقولهم: * (فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا) * (آل عمران: 193) وثانيها إعطاء الثواب العظيم وهو قوله: * (ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الانهار) * وهو الذي طلبوه بقولهم: وآتنا ما وعدتنا على رسلك، وثالثها: أن يكون ذلك الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم والاجلال وهو قوله: * (من عند الله) * وهو الذي قالوه: * (ولا تخزنا يوم القيامة) * لأنه سبحانه هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته، وإذا قال السلطان العظيم لعبده: اني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف وقوله: * (ثوابا) * مصدر مؤكد، والتقدير: لأثيبنهم ثوابا من عند الله، أي لأثيبنهم إثابة أو تثويبا من عند الله، لان قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم. ثم قال: * (والله عنده حسن الثواب) * وهو تأكيد ليكون ذلك الثواب في غاية الشرف لأنه تعالى لما كان قادرا على كل المقدورات، عالما بكل المعلومات، غنيا عن الحاجات، كان لا محالة في غاية الكرم والجود والاحسان، فكان عنده حسن الثواب. روي عن جعفر الصادق أنه قال: من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية، قال: لأن الله حكى عنهم أنهم قالوا خمس مرات: ربنا، ثم أخبر أنه استجاب لهم.
151

قوله تعالى
* (لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) *.
واعلم أنه تعالى لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم، وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة، والكفار كانوا في النعم، ذكر الله تعالى هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة، فقال: * (لا يغرنك) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا أن الغرور مصدر قولك: غررت الرجل بما يستحسنه في الظاهر ثم يجده عند التفتيش على خلاف ما يحبه، فيقول: غرني ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه، وتقول العرب في الثواب إذا نشر ثم أعيد إلى طيه: رددته على غرة.
المسألة الثانية: المخاطب في قوله: * (لا يغرنك) * من هو؟ فيه قولان: الأول: أنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن المراد هو الأمة. قال قتادة: والله ما غروا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله، والخطاب وإن كان له إلا أن المراد غيره، ويمكن أن يقال: السبب لعدم إغرار الرسول عليه السلام بذلك هو تواتر هذه الآيات عليه، كما قال: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * (الإسراء: 74) فسقط قول قتادة، ونظيره قوله: * (ولا تكع من الكافرين) * (هود: 42) * (ولا تكونن من المشركين) * (الأنعام: 14) * (ولا تطع المكذبين) * (القلم: 8) والثاني: وهو أن هذا خطاب لكل من سمعه من المكلفين، كأنه قيل: لا يغرنك أيها السامع:
المسألة الثالثة: تقلب الذين كفروا في البلاد، فيه وجهان: الأول: نزلت في مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية. والثاني: قال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية، والمراد بتقلب الذين كفروا في البلاد، تصرفهم في التجارات والمكاسب، أي لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاؤوا، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محضورون، فان ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب.
ثم قال تعالى: * (متاع قليل) * قيل: أي تقلبهم متاع قليل، وقال الفراء: ذلك متاع قليل، وقال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل، وإنما وصفه الله تعالى بالقلة لأن نعيم الدنيا مشوب
152

بالآفات والحسرات، ثم أنه بالعاقبة ينقطع وينقضي، وكيف لا يكون قليلا وقد كان معدوما من الأزل إلى الآن، وسيصير معدوما من الأزل إلى الأبد، فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي وهو الأزل والأبد، كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل.
ثم قال تعالى: * (ثم مأواهم جهنم) * يعني أنه مع قلته يسبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة، وهو كقوله: * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * (آل عمران: 178) وقوله: * (وأملي لهم ان كيدي متين) * (الأعراف: 183).
ثم قال: * (وبئس المهاد) * أي الفراش، والدليل على أنه بئس المهاد قوله تعالى: * (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) * (الزمر: 16) فهم بين أطباق النيران، ومن فوقهم غواش يأكلون النار ويشربون النار.
* (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد بالنزل، والنزل ما يهيأ للضيف وقوله: * (لكن الذين اتقوا ربهم) * يتناول جميع الطاعات، لأنه يدخل في التقوى الاحتراز عن المنهيات، وعن ترك المأمورات. واحتج بعض أصحابنا بهذه الآية على الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا، فلا بد من الرؤية لتكون خلعة، ونظيره قوله تعالى: * (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) * (الكهف: 107) وقوله: * (نزلا) * نصب على الحال من * (جنات) * لتخصيصها بالوصف، والعامل اللام، ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد، لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها أو نزولهم، وقال الفراء: هو نصب على التفسير كما تقول: هو لك هبة
وبيعا وصدقة ثم قال: * (وما عند الله) * من الكثير الدائم * (خير للأبرار) * مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل، وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش * (نزلا) * بسكون الزاي، وقرأ يزيد بن القعقاع * (لكن الذين اتقوا) * بالتشديد.
153

قوله تعالى
* (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ومآ أنزل إليكم ومآ أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بايات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب * يا أيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار من قبل، بأن مصيرهم إلى النار بين في هذه الآية أن من آمن منهم كان داخلا في صفة الذين اتقوا فقال: * (وإن من أهل الكتاب) * واختلفوا في نزولها، فقال ابن عباس وجابر وقتادة: نزلت في النجاشي حين مات وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال المنافقون: إنه يصلي على نصراني لم يره قط، وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا. وقال مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم، وهذا هو الأولى لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب، بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب.
واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات: أولها: الايمان بالله، وثانيها: الايمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم. وثالثها: الايمان بما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد عليه الصلاة والسلام. ورابعها: كونهم خاشعين لله وهو حال من فاعل * (يؤمن) * لأن * (من يؤمن) * في معنى الجمع. وخامسها: أنهم لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا كما يفعله أهل الكتاب ممن كان يكتم أمر الرسول وصحة نبوته.
ثم قال تعالى في صفتهم: * (أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) * والفائدة في كونه سريع الحساب كونه عالما بجميع المعلومات، فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) *.
154

واعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع، أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما، ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب، وذلك لأن أحوال الانسان قسمان: منها ما يتعلق به وحده، ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره، أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة.
أما الصبر فيندرج تحته أنواع: أولها: أن يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين. وثانيها: أن يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات. وثالثها: أن يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات. ورابعها: الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف، فقوله: * (اصبروا) * يدخل تحته هذه الأقسام، وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها، وأما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير، ويدخل فيه تحمل الأخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب، ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء إليك كما قال: * (وأعرض عن الجاهلين) * (الأعراف: 199) وقال: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72) ويدخل فيه الايثار على الغير كما قال: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) * (الحشر: 9) ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (البقرة: 237) ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فان المقدم عليه ربما وصل إليه بسببه ضرر، ويدخل فيه الجهاد فإنه تعريض النفس للهلاك، ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين، وحل شكوكهم والجواب عن شبههم، والاحتيال في إزالة تلك الأباطيل عن قلوبهم، فثبت ان قوله * (اصبروا) * تناول كل ما تعلق به وحده * (وصابروا) * تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره. واعلم أن الانسان وان تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص، والانسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الاتيان بالصبر والمصابرة، فلهذا قال: * (ورابطوا) * ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للانسان في كل فعل يفعله من داعية وغرض، وجب أن يكون للانسان في هذه المجاهدة غرض وباعث، وذلك هو تقوى الله لنيل الفلاح والنجاح، فلهذا قال: * (واتقوا الله لعلكم تفلحون) * وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى، فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة، وذلك عبارة عن الاتيان بالافعال الحسنة، والاحتراز عن الافعال الذميمة، ولما كانت الافعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الافعال الذميمة، وذلك هو المراد بالمرابطة، ثم
155

ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات، وذلك هو تقوى الله، ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى الله على سائر القوى والأخلاق، وهو الفلاح، فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والاسرار الروحانية، وانها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع فهذا ما عندي فيه.
ولنذكر ما قاله المفسرون: قال الحسن: اصبروا على دينكم ولا تتركوه بسبب الفقر والجوع، وصابروا على عدوكم ولا تفشلوا بسبب وقوع الهزيمة يوم أحد، وقال الفراء: اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم فلا ينبغي أن يكون أصبر منكم، وقال الأصم: لما كثرت تكاليف الله في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها، ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد في هذه السورة أمرهم بمصابرة الأعداء.
وأما قوله: * (ورابطوا) * ففيه قولان: الأول: أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضا، بحيث يكون كل واحد من الخصمين
مستعدا لقتال الآخر، قال تعالى: * (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) * (الأنفال: 60) وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة " الثاني: أن معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ويدل عليه وجهان: الأول: ما روي عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه قال: لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة. الثاني: ما روي من حديث أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال: " فذلكم الرباط " ثلاث مرات.
واعلم أنه يمكن حمل اللفظ على الكل، وأصل الرباط من الربط وهو الشد، يقال: لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه، وقال آخرون: الرباط هو اللزوم والثبات، وهذا المعنى أيضا راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس، ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد، ويجوز أن يكون على الصلاة والله أعلم.
قال الامام رضي الله تعالى عنه: تم تفسير هذه السورة بفضل الله وإحسانه يوم الخميس أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة.
156

سورة النساء
مائة وسبعون وست آيات مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء واتقوا الله الذى تسآءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا) *.
اعلم أن هذه السورة مشتملة على أنواع كثيرة من التكاليف، وذلك لأنه تعالى أمر الناس في أول هذه السورة بالتعطف على الأولاد والنساء والأيتام، والرأفة بهم وإيصال حقوقهم إليهم وحفظ أموالهم عليهم، وبهذا المعنى ختمت السورة، وهو قوله: * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) * (النساء: 176) وذكر في أثناء هذه السورة أنواعا أخر من التكاليف، وهي الأمر بالطهارة والصلاة وقتال المشركين ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس لثقلها على الطباع، لا جرم افتتح السورة بالعلة التي لأجلها يجب حمل هذه التكاليف الشاقة، وهي تقوى الرب الذي خلقنا والإله الذي أوجدنا، فلهذا قال: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: روى الواحدي عن ابن عباس في قوله: * (يا أيها الناس) * أن هذا الخطاب لأهل
157

مكة، وأما الأصوليون من المفسرين فقد اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين، وهذا هو الأصح لوجوه: أحدها: أن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق. وثانيها: أنه تعالى علل الأمر بالاتقاء بكونه تعالى خالقا لهم من نفس واحدة، وهذه العلة عامة في حق جميع المكلفين بأنهم من آدم عليه السلام خلقوا بأسرهم، وإذا كانت العلة عامة كان الحكم عاما. وثالثها: أن التكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة، بل هو عام في حق جميع العالمين، وإذا كان لفظ الناس عاما في الكل، وكان الأمر بالتقوى عاما في الكل، وكانت علة هذا التكليف، وهي كونهم خلقوا من النفس الواحدة عامة في حق الكل، كان القول بالتخصيص في غاية البعد. وحجة ابن عباس أن قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) * مختص بالعرب لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم. فيقولون أسألك بالله وبالرحم، وأنشدك الله والرحم، وإذا كان كذلك كان قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) * مختصا بالعرب، فكان أول الآية وهو قوله: * (يا أيها الناس) * مختصا بهم لأن قوله في أول الآية: * (اتقوا ربكم) * وقوله بعد ذلك: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) * وردا متوجهين إلى مخاطب واحد، ويمكن أن يجاب عنه بأنه ثبت في أصول الفقه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها، فكان قوله: * (يا أيها الناس) * عاما في الكل، وقوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) *. خاصا بالعرب.
المسألة الثانية: أنه تعالى جعل هذا المطلع مطلعا لسورتين في القرآن: إحداهما: هذه السورة وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن. والثانية: سورة الحج، وهي أيضا السورة الرابعة من النصف الثاني من القرآن، ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى في هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ، وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وكمال حكمته وجلاله، وعلل الأمر بالتقوى في سورة الحج بما يدل على كمال معرفة المعاد، وهو قوله: * (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) * (الحج: 1) فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد، ثم قدم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد، وتحت هذا البحث أسرار كثيرة.
المسألة الثالثة: اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقبيه أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة، وهذا مشعر بأن الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة، ولا بد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف، فنقول: قولنا إنه تعالى خلقنا من نفس واحدة، مشتمل على قيدين: أحدهما: أنه تعالى خلقنا، والثاني: كيفية ذلك التخليق، وهو أنه تعالي إنما خلقنا من نفس
158

واحدة، ولكل واحد من هذين القيدين أثر في وجوب التقوى.
أما القيد الأول: وهو أنه تعالى خلقنا، فلا شك أن هذا المعنى علة لأن يجب علينا الانقياد لتكاليف الله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه، وبيان ذلك من وجوه: الأول: أنه لما كان خالقا لنا وموجدا لذواتنا وصفاتنا فنحن عبيده وهو مولى لنا، والربوبية توجب نفاذ أوامره على عبيده، والعبودية توجب الانقياد للرب والموجد والخالق، الثاني: أن الايجاد غاية الانعام ونهاية الاحسان، فإنك كنت معدوما فأوجدك، وميتا فأحياك، وعاجزا فأقدرك. وجاهلا فعلمك، كما قال إبراهيم عليه السلام: (الذي خلقني فهو يهدين والذين هو يطعمني ويسقين) فلما كانت النعم بأسرها من الله سبحانه وجب على العبد أن يقابل تلك النعم باظهار الخضوع والانقياد، وترك التمرد والعناد
، وهذا هو المراد بقوله: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) * (البقرة: 28) الثالث: وهو أنه لما ثبت كونه موجدا وخالقا وإلها وربا لنا. وجب علينا أن نشتغل بعبوديته وأن نتقي كل ما نهى عنه وزجر عنه، ووجب أن لا يكون شيء من هذه الأفعال موجبا ثوابا البتة، لأن هذه الطاعات لما وجبت في مقابلة النعم السالفة امتنع أن تصير موجبة للثواب، لأن أداء الحق إلى المستحق لا يوجب شيئا آخر، هذا إذا سلمنا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ابتداء، فكيف وهذا محال، لأن فعل الطاعات لا يحصل إلا إذا خلق الله القدرة على الطاعة، وخلق الداعية على الطاعة، ومتى حصلت القدرة والداعي كان مجموعهما موجبا لصدور الطاعة عن العبد، وإذا كان كذلك كانت تلك الطاعة إنعاما من الله على عبده، والمولى إذا خص عبده بانعام لم يصر ذلك الانعام موجبا عليه إنعاما آخر، فهذا هو الإشارة إلى بيان أن كونه خالقا لنا يوجب علينا عبوديته والاحتراز عن مناهيه.
وأما القيد الثاني: وهو أن خصوص كونه خالقا لنا من نفس واحدة يوجب علينا الطاعة والاحتراز عن المعصية، فبيانه من وجوه: الأول: أن خلق جميع الأشخاص الانسانية من الانسان الواحد أدل على كمال القدرة، من حيث أنه لو كان الأمر بالطبيعة والخاصية لكان المتولد من الانسان الواحد، لم يكن إلا أشياء متشاكلة في الصفة متشابهة في الخلقة والطبيعة، فلما رأينا في أشخاص الناس الأبيض والأسود والأحمر والأسمر والحسن والقبيح والطويل والقصير، دل ذلك على أن مدبرها وخالقها فاعل مختار، لا طبيعة مؤثرة، ولا علة موجبة، ولما دلت هذه الدقيقة على أن مدبر العالم فاعل مختار قادر على كل الممكنات عالم بكل المعلومات، فحينئذ يجب الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه، فكان ارتباط قوله: * (اتقوا ربكم) * بقوله: * (خلقكم من نفس واحدة) * في غاية الحسن والانتظام.
159

والوجه الثاني: وهو أنه تعالى لما ذكر الأمر بالتقوى ذكر عقبيه الأمر بالاحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء، وكون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى، وذلك لأن الأقارب لا بد وأن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة، ولذلك ان الانسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه، ويحزن بذمهم والطعن فيهم، وقال عليه الصلاة والسلام: " فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها " وإذا كان الأمر كذلك، فالفائدة في ذكر هذا المعنى أن يصير ذلك سببا لزيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض.
الوجه الثالث: أن الناس إذا عرفوا كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق.
الوجه الرابع: أن هذا يدل على المعاد، لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخرج من صلب شخص واحد أشخاصا مختلفين، وأن يخلق من قطرة من النطفة شخصا عجيب التركيب لطيف الصورة، فكيف يستبعد إحياء الأموات وبعثهم ونشورهم، فتكون الآية دالة على المعاد من هذا الوجه * (ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * (النجم: 31).
الوجه الخامس: قال الأصم: الفائدة فيه: أن العقل لا دليل فيه على أن الخلق يجب أن يكونوا مخلوقين من نفس واحدة، بل ذلك إنما يعرف بالدلائل السمعية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أميا ما قرأ كتابا ولا تلمذ لأستاذ، فلما أخبر عن هذا المعنى كان إخبارا عن الغيب فكان معجزا، فالحاصل أن قوله: * (خلقكم) * دليل على معرفة التوحيد، وقوله: * (من نفس واحدة) * دليل على معرفة النبوة.
فان قيل: كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس؟
قلنا: قد بين الله المراد بذلك لأن زوج آدم إذا خلقت من بعضه، ثم حصل خلق أولاده من نطفتهما ثم كذلك أبدا، جازت إضافة الخلق أجمع إلى آدم.
المسألة الرابعة: أجمع المسلمون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا هو آدم عليه السلام، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس، ونظيره قوله تعالى: * (أقتلت نفسا زكية بغير نفس) * (الكهف: 74) وقال الشاعر: أبوك خليفة ولدته أخرى * فأنت خليفة ذاك الكمال
قالوا فهذا التأنيث على لفظ الخليفة.
قوله تعالى: * (وخلق منها زوجها) * فيه مسائل:
160

المسألة الأولى: المراد من هذا الزوج هو حواء، وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان: الأول: وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى، فلما استيقظ رآها ومال إليها وألفها، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه، واحتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ان المرأة خلقت من ضلع أعوج فان ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها ".
والقول الثاني: وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني: أن المراد من قوله: * (وخلق منها زوجها) * أي من جنسها وهو كقوله تعالى: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * (النحل: 72) وكقوله: * (إذ بعث فيهم رسول من أنفسهم) * (آل عمران: 164) وقوله: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * (التوبة: 128) قال القاضي: والقول الأول أقوى، لكي يصح قوله: * (خلقكم من نفس واحدة) * إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين، لا من نفس واحدة، ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة " من " لابتداء الغاية، فلما كان ابتداء التخليق والايجاد وقع بآدم عليه السلام صح أن يقال: خلقكم من نفس واحدة، وأيضا فلما ثبت أنه تعالى قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب، وإذا كان الأمر كذلك، فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم.
المسألة الثانية: قال ابن عباس: إنما سمي آدم بهذا الاسم لأنه تعالى خلقه من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها؛ فلذلك كان في ولده الأحمر والأسود والطيب والخبيث والمرأة إنما سميت بحواء لأنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم فكانت مخلوقة من شيء حي، فلا جرم سميت بحواء.
المسألة الثالثة: احتج جمع من الطبائعيين بهذه الآية فقالوا: قوله تعالى: * (خلقكم من نفس واحدة) * يدل على أن الخلق كلهم مخلوقون من النفس الواحدة، وقوله:
* (وخلق منها زوجها) * يدل على أن زوجها مخلوقة منها، ثم قال في صفة آدم: * (خلقه من تراب) * (آل عمران: 59) فدل على أن آدم مخلوق من التراب، ثم قال في حق الخلائق: * (منها خلقناكم) * (طه: 55) وهذه الآيات كلها دالة على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة يصير الشيء مخلوقا منها، وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال.
أجاب المتكلمون فقالوا: خلق الشيء من الشيء محال في العقول، لأن هذا المخلوق ان كان عين ذلك الشيء الذي كان موجودا قبل ذلك لم يكن هذا مخلوقا البتة، وإذا لم يكن مخلوقا امتنع كونه مخلوقا من شيء آخر، وان قلنا: ان هذا المخلوق مغاير للذي كان موجودا قبل ذلك، فحينئذ هذا المخلوق وهذا المحدث إنما حدث وحصل عن العدم المحض، فثبت أن كون الشيء مخلوقا من
161

غيره محال في العقول، وأما كلمة * (من) * في هذه الآية فهو مفيد ابتداء الغاية، على معنى أن ابتداء حدوث هذه الأشياء من تلك الأشياء لا على وجه الحاجة والافتقار، بل على وجه الوقوع فقط.
المسألة الرابعة: قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (وخالق منها زوجها وبث منهما) * بلفظ اسم الفاعل، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خالق.
قوله تعالى: * (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: بث منهما: يريد فرق ونشر، قال ابن المظفر: البث تفريقك الأشياء، يقال: بث الخيل في الغارة وبث الصياد كلابه، وخلق الله الخلق فبثهم في الأرض، وبثثت البسط إذا نشرتها، قال الله تعالى: * (وزر أبي مبثوثة) * قال الفراء والزجاج: وبعض العرب يقول: أبث الله الخلق.
المسألة الثانية: لم يقل: وبث منهما الرجال والنساء لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك محال، فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله: * (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) *.
فان قيل: لم لم يقل: وبث منهما رجالا كثيرا ونساء كثيرا؟ ولم خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء؟
قلنا: السبب فيه والله أعلم أن شهرة الرجال أتم، فكانت كثرتهم أظهر، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة، وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز، واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول.
المسألة الثالثة: الذين يقولون: إن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر، وكانوا مجتمعين في صلب آدم عليه السلام، حملوا قوله: * (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) * على ظاهره، والذين أنكروا ذلك قالوا: المراد بث منهما أولادهما ومن أولادهما جمعا آخرين، فكان الكل مضافا إليهما على سبيل المجاز.
قوله تعالى: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) *.
162

فيه مسائل.
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي: * (تساءلون) * بالتخفيف والباقون بالتشديد، فمن شدد أراد: تتساءلون فأدغم التاء في السين لاجتماعهما في أنهما من حروف اللسان وأصول الثنايا واجتماعهما في الهمس، ومن خفف حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة، فأعلها بالحذف كما أعلها الأولون بالادغام، وذلك لأن الحروف المتقاربة إذا اجتمعت خففت تارة بالحذف وأخرى بالادغام.
المسألة الثانية: قرأ حمزة وحده * (والأرحام) * بجر الميم قال القفال رحمه الله: وقد رويت هذه القراءة عن غير القراء السبعة عن مجاهد وغيره، وأما الباقون من القراء فكلهم قرؤا بنصب الميم. وقال صاحب " الكشاف ": قرىء * (والأرحام) * بالحركات الثلاث، أما قراءة حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة، قالوا: لأن هذا يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور وذلك غير جائز. واحتجوا على عدم جوازه بوجوه: أولها: قال أبو علي الفارسي: المضمر المجرور بمنزلة الحرف، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه، إنما قلنا المضمر المجرور بمنزلة الحرف لوجوه: الأول: أنه لا ينفصل البتة كما أن التنوين لا ينفصل، وذلك أن الهاء والكاف في قوله: به، وبك لا ترى واحدا منفصلا عن الجار البتة فصار كالتنوين. الثاني: أنهم يحذفون الياء من المنادى المضاف في الاختيار كحذفهم التنوين من المفرد، وذلك كقولهم: يا غلام، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه، فإذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف. وثانيها: قال علي بن عيسى: انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع. فلا يجوز أن يقال: اذهب وزيد، وذهبت وزيد بل يقولون: يا غلام، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه، فإذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف. وثانيها: قال علي بن عيسى: انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع. فلا يجوز أن يقال: اذهب وزيد، وذهبت وزيد بل يقولون: اذهب أنت وزيد، وذهبت أنا وزيد. قال تعالى: * (فاذهب أنت وربك فقاتلا) * مع أن المضمر المرفوع قد ينفصل، فإذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه أقوى من المضمر المجرور بسبب أنه قد ينفصل، فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه البتة لا ينفصل كان أولى. وثالثها: قال أبو عثمان المازني: المعطوف والمعطوف عليه متشاركان، وإنما يجوز عطف الأول على الثاني لو جاز عطف الثاني على الأول، وههنا هذا المعنى غير حاصل، وذلك لأنك لا تقول: مررت بزيدوك، فكذلك لا تقول مررت بك وزيد.
واعلم أن هذه الوجوه ليست وجوها قوية في دفع الروايات الواردة في اللغات، وذلك لأن
163

حمزة أحد القراء السبعة، والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة، والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت، وأيضا فلهذه القراءة وجهان: أحدهما: أنها على تقدير تكرير الجار، كأنه قيل تساءلون به وبالأرحام. وثانيها: أنه ورد ذلك في الشعر وأنشد سيبويه في ذلك: فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا * فاذهب فما بك والأيام من عجب
وأنشد أيضا: نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف
والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن. واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة من جهة المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحلفوا بآبائكم " فإذا عطفت الأرحام على المكنى عن اسم الله اقتضى ذلك جواز الحلف بالأرحام، ويمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية لأنهم كانوا يقولون: أسألك بالله والرحم، وحكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل، وأيضا فالحديث نهي عن الحلف بالآباء فقط، وههنا ليس كذلك، بل هو حلف بالله أولا ثم يقرن به بعده ذكر الرحم، فهذا لا ينافي مدلول ذلك الحديث، فهذا جملة الكلام في قراءة قوله: * (والأرحام) * بالجر. أما قراءته بالنصب ففيه وجهان: الأول: وهو اختيار أبي علي الفارسي وعلي بن عيسى أنه عطف على موضع الجار والمجرور كقوله: فلسنا بالجبال ولا الحديدا
والثاني: وهو قول أكثر المفسرين: أن التقدير: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج، وعلى هذا الوجه فنصب الأرحام بالعطف على قوله: * (الله) * أي: اتقوا الله واتقوا الأرحام أي اتقوا حق الأرحام فصلوها ولا تقطعوها قال الواحدي رحمه الله: ويجوز أيضا أن يكون منصوبا بالاغراء، أي والأرحام فاحفظوها وصلوها كقولك: الأسد الأسد، وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم، ويدل على وجوب صلتها. وأما القراءة بالرفع فقال صاحب " الكشاف ": الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل: والأرحام كذلك على معنى والأرحام مما يتقى، أو والأرحام مما يتساءل به.
المسألة الثالثة: أنه تعالى قال أولا: * (اتقوا ربكم) * ثم قال بعده: * (واتقوا الله) * وفي هذا التكرير وجوه: الأول: تأكيد الأمر والحث عليه كقولك للرجل: أعجل أعجل فيكون أبلغ من قولك: أعجل
164

الثاني: أنه أمر بالتقوى في الأول لمكان الانعام بالخلق وغيره، وفي الثاني أمر بالتقوى لمكان وقوع التساؤل به فيما يلتمس البعض من البعض. الثالث: قال أولا: * (اتقوا ربكم) * وقال ثانيا: * (واتقوا الله) * والرب لفظ يدل على التربية والاحسان، والإله لفظ يدل على القهر والهيبة، فأمرهم بالتقوى بناء على الترغيب، ثم أعاد الأمر به بناء على الترهيب كما قال: * (يدعون ربهم خوفا وطمعا) * (السجدة: 16) وقال: * (ويدعوننا رغبا ورهبا) * (الأنبياء: 90) كأنه قيل: انه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته لأنه شديد العقاب عظيم السطوة.
المسألة الرابعة: اعلم أن التساؤل بالله وبالأرحام قيل هو مثل أن يقال: بالله أسألك، وبالله أشفع إليك، وبالله أحلف عليك، إلى غير ذلك مما يؤكد المرء به مراده بمسألة الغير، ويستعطف ذلك الغير في التماس حقه منه أو نواله ومعونته ونصرته، وأما قراءة حمزة فهي ظاهرة من حيث المعنى، والتقدير: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول: أسألك بالله والرحم، وربما أفرد ذلك فقال: أسألك بالرحم، وكان يكتب المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: نناشدك الله والرحم أن لا تبعث إلينا فلانا وفلانا، وأما القراءة بالنصب فالمعنى يرجع إلى ذلك، والتقدير: واتقوا الله واتقوا الأرحام، قال القاضي: وهذا أحد ما يدل على أنه قد يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة، لأن معنى تقوى الله مخالف لمعنى تقوى الأرحام، فتقوى الله إنما يكون بالتزام طاعته واجتناب معاصيه، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يتصل بالبر والافضال والاحسان، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لعله تكلم بهذه اللفظة مرتين، وعلى هذا التقدير يزول الاشكال.
المسألة الخامسة: قال بعضهم: اسم الرحم مشتق من الرحمة التي هي النعمة، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي " ووجه التشبيه ان لمكان هذه الحالة تقع الرحمة من بعض الناس لبعض. وقال آخرون: بل اسم الرحم مشتق من الرحم الذي عنده يقع الانعام وانه الأصل، وقال بعضهم: بل كل واحد منهما أصل بنفسه، والنزاع في مثل هذا قريب.
المسألة السادسة: دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى. روى مجاهد عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سألكم بالله فأعطوه " وعن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: منها أبرار القسم.
المسألة السابعة: دل قوله تعالى: * (والأرحام) * على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها، قال
165

تعالى: * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) * (محمد: 22) وقال: * (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) * قيل في الأول: إنه القرابة، وقال: * (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) * (الإسراء: 23) وقال: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين) * (النساء: 36) وعن عبد الرحمن بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصى الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة " وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ان الصدقة وصلة الرحم
يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه " وقال عليه الصلاة والسلام: " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح " قيل الكاشح العدو، فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها، ثم إن أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه بنوا على هذا الأصل مسألتين: إحداهما: أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والأخت، والعم والخال، قال لأنه لو بقي الملك لحل الاستخدام بالاجماع، لكن الاستخدام إيحاش يورث قطيعة الرحم، وذلك حرام بناء على هذا الأصل، فوجب أن لا يبقى الملك، وثانيهما: أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها لان ذلك الرجوع ايحاش يورث قطيعة الرحم، فوجب أن لا يجوز، والكلام في هاتين المسألتين مذكور في الخلافيات.
ثم أنه تعالى ختم هذه الآية بما يكون كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال: * (ان الله كان عليكم رقيبا) * والرقيب هو المراقب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك. ومن هذا صفته فإنه يجب أن يخاف ويرجى، فبين تعالى أنه يعلم السر وأخفى، وانه إذا كان كذلك يجب أن يكون المرء حذرا خائفا فيما يأتي ويترك.
* (وءاتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) *.
166

اعلم أنه لما افتتح السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقادا لتكاليف الله سبحانه، محترزا عن مساخطه، شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف.
فالنوع الأول: ما يتعلق بأموال اليتامى، وهو هذه الآية، وأيضا أنه تعالى وصى في الآية السابقة بالأرحام، فكذلك في هذه الآية وصى بالأيتام، لأنهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق شديد الاشفاق عليهم، ففارق حالهم حال من له رحم ماسة عاطفة عليه لمكان الولادة أو لمكان الرحم فقال: * (وآتوا اليتامى أموالهم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": اليتامى الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم، واليتم الانفراد، ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة، وقيل: اليتم في الأناسي من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات. قال: وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء الانفراد عن الآباء، إلا أن في العرف اختص هذا الاسم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال، فإذا صار بحيث يستغني بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره، زال عنه هذا الاسم، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب، إما على القياس، وإما على حكاية الحال التي كان عليها حين كان صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يتم بعد حلم " فهو تعليم الشريعة لا تعليم اللغة، يعني إذا احتلم فإنه لا تجرى عليه أحكام الصغار. وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب إليه: إذا أونس منه الرشد انقطع يتمه، وفي بعض الروايات: أن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد، فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد، ثم قال أبو بكر: واسم اليتيم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تستأمر اليتيمة " وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة، قال الشاعر:
ان القبور تنكح الأيامى * النسوة الأرامل اليتامى
فالحاصل من كل ما ذكرنا أن اسم اليتيم بحسب أصل اللغة يتناول الصغير والكبير، إلا أنه بحسب العرف مختص بالصغير.
المسألة الثانية: ههنا سؤال وهو أن يقال: كيف جمع اليتيم على يتامى؟ واليتيم فعيل، والفعيل يجمع على فعلى، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى وجريح وجرحى، قال صاحب " الكشاف ": فيه وجهان: أحدهما: أن يقال: جمع اليتيم يتمى، ثم يجمع فعلى على فعالى، كأسير وأسرى وأسارى، والثاني: أن يقال: جمع يتيم يتائم، لأن اليتيم جار مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس، ثم يقلب
167

اليتائم يتامى. قال القفال رحمه الله: ويجوز يتيم ويتامى، كنديم وندامى، ويجوز أيضا يتيم وأيتام كشريف وأشراف.
المسألة الثالثة: ههنا سؤال ثان: وهو أنا ذكرنا أن اسم اليتيم مختص بالصغير، فما دام يتيما لا يجوز دفع ماله إليه، وإذا صار كبيرا بحيث يجوز دفع ماليه إليه لم يبق يتيما، فكيف قال: * (وآتوا اليتامى أموالهم) * والجواب عنه على طريقين: الأول: أن نقول المراد من اليتامى الذين بلغوا أو كبروا ثم فيه وجهان: أحدهما: أنه تعالى سماهم يتامى على مقتضى أصل اللغة، والثاني: أنه تعالى سماهم باليتامى لقرب عهدهم باليتم وان كان قد زال في هذا الوقت كقوله تعالى: * (فألقى السحرة ساجدين) * (الأعراف: 120) أي الذين كانوا سحرة قبل السجود، وأيضا سمى الله تعالى مقاربة انقضاء العدة، بلوغ الاجل في قوله: * (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن) * (الطلاق: 2) والمعنى مقاربة البلوغ، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) * (النساء: 6) والاشهاد لا يصح قبل البلوغ وانما يصح بعد البلوغ.
الطريق الثاني: أن نقول: المراد باليتامى الصغار، وعلى هذا الطريق ففي الآية وجهان: أحدهما: ان قوله: * (وآتوا) * أمر، والامر انما يتناول المستقبل، فكان المعنى أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم، وعلى هذا الوجه زالت المناقضة. والثاني: المراد: وآتوا اليتامى حال كونهم يتامى ما يحتاجون إليه لنفقتهم وكسوتهم، والفائدة فيه انه كان يجوز أن يظن أنه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال كونه صغيرا، فأباح الله تعالى ذلك، وفيه إشكال وهو انه لو كان المراد ذلك لقال: وآتوهم من أموالهم، فلما أوجب إيتاءهم كل أموالهم سقط ذلك.
المسألة الرابعة: نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: * (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وان تخالطوهم فإخوانكم) * (البقرة: 220) قال أبو بكر الرازي: وأظن أنه غلط من الراوي، لان المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى، وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: لما أنزل الله * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * (البقرة: 152) و * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * (النساء: 10) ذهب من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فاشتد ذلك على اليتامى، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى شرابه، * (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم) * فخلطوا عند ذلك طعامهم
168

بطعامهم وشرابهم بشرابهم. قال المفسرون: الصحيح أنها نزلت في رجل من غطفان، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه، فتراجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير، ودفع ماله إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره " أي جنته، فلما قبض الصبي ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثبت الأجر وبقي الوزر " فقالوا: يا رسول الله لقد عرفنا أنه ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده.
المسألة الخامسة: احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن السفيه، لا يحجر عليه بعد الخمس والعشرين، قال لأن قوله: * (وآتوا اليتامى أموالهم) * مطلق يتناول السفيه أونس منه الرشد أو لم يؤنس ترك العمل به قبل الخمس والعشرين سنة لاتفاق العلماء على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن، شرط في وجوب دفع المال إليه، وهذا الاجماع لم يوجد بعد هذا السن، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهر هذه الآية.
أجاب أصحابنا عنه: بأن هذه الآية عامة، لأنه تعالى ذكر اليتامى فيها جملة، ثم إنهم ميزوا بعد ذلك بقوله: * (وابتلوا اليتامى) * (النساء: 6) وبقوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * (النساء: 5) حرم بهاتين الآيتين إيتاءهم أموالهم إذا كانوا سفهاء، ولا شك أن الخاص مقدم على العام.
ثم قال تعالى: * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) *. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": ولا تتبدلوا، أي ولا تستبدلوا، والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز، ومنه التعجل بمعنى الاستعجال، والتأخر بمعنى الاستئخار. وقال الواحدي رحمه الله: يقال: تبدل الشيء بالشيء إذا أخذه مكانه.
المسألة الثانية: في تفسير هذا التبدل وجوه:
الوجه الأول: قال الفراء والزجاج: لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى، بالحلال وهو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض، فتأكلوه مكانه. الثاني: لا تستبدلوا الأمر الخبيث، وهو اختزال أموال اليتامى، بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها وهو قول الأكثرين انه كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الدون، يجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين، وطعن صاحب " الكشاف " في هذا الوجه، فقال: ليس هذا بتبدل إنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي. الرابع:
169

هو أن هذا التبدل معناه: أن يأكلوا مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك، وفي هذا يكون متبدلا الخبيث بالطيب.
ثم قال تعالى: * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * وفيه وجهان: الأول: معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الانفاق حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الانتفاع بها. والثاني: أن يكون " إلى " بمعنى " مع " قال تعالى: * (من أنصاري إلى الله) * (آل عمران: 52) أي مع الله، والأول: أصح.
واعلم أنه تعالى وان ذكر الأكل، فالمراد به التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم، فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة، والدليل عليه أن في المال ما لا يصح ان يؤكل، فثبت ان المراد منه التصرف، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف.
فان قيل: انه تعالى لما حرم عليهم أكل أموال اليتامى ظلما في الآية الأولى المتقدمة دخل فيها أكلها وحدها وأكلها مع غيرها، فما الفائدة في إعادة النهي عن أكلها مع أموالهم؟
قلنا: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من حلال وهم مع ذلك يطمعون في أموال اليتامى، كان القبح أبلغ والذم أحق.
واعلم أنه تعالى عرف الخلق بعد ذلك أن أكل مال اليتيم من جميع الجهات المحرمة إثم عظيم فقال: * (انه كان حوبا كبيرا) * قال الواحدي رحمه الله: الكناية تعود إلى الأكل، وذلك لأن قوله: * (ولا تأكلوا) * دل على الأكل * (والحوب) * الاثم الكبير. قال عليه الصلاة والسلام: " ان طلاق أم أيوب لحوب " وكذلك الحوب والحاب ثلاث لغات في الاسم والمصدر قال الفراء: الحوب لأهل الحجاز، والحاب لتميم، ومعناه الاثم قال عليه الصلاة والسلام: " رب تقبل توبتي واغسل حوبتي " قال صاحب " الكشاف ": الحوب والحاب كالقول والقال. قال القفال: وكأن أصل الكلمة من التحوب وهو التوجع، فالحوب هو ارتكاب ما يتوجع المرتكب منه، وقال البصريون: الحوب بفتح الحاء مصدر، والحوب بالضم الاسم، والحوبة، المرة الواحدة، ثم يدخل بعضها في البعض كالكلام فإنه اسم، ثم يقال: قد كلمته كلاما فيصير مصدرا. قال صاحب " الكشاف ": قرأ الحسن حوبا، وقرئ: حابا.
* (وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) *.
اعلم أن هذا من النوع الثاني من الأحكام التي ذكرها في هذه السورة وهو حكم الأنكحة وفي
170

الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: الأقساط العدل، يقال أقسط الرجل إذا عدل، قال الله تعالى: * (وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) * (الحجرات: 9) والقسط العدل والنصفة، قال تعالى: * (كونوا قوامين بالقسط) * (النساء: 135) قال الزجاج: وأصل قسط وأقسط جميعا من القسط وهو النصيب، فإذا قالوا:
قسط بمعنى جار أرادوا أنه ظلم صاحبه في قسطه الذي يصيبه، ألا ترى أنهم قالوا: قاسطته إذا غلبته على قسطه، فبنى قسط على بناء ظلم وجار وغلب، وإذا قالوا أقسط فالمراد أنه صار ذا قسط عدل، فبنى على بناء أنصف إذا أتى بالنصف والعدل في قوله وفعله وقسمه.
المسألة الثانية: اعلم أن قوله: * (وإن خفتم أن لا تقسطوا) * شرط وقوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * جزاء، ولا بد من بيان أنه كيف يتعلق هذا الجزاء بهذا الشرط، وللمفسرين فيه وجوه: الأول: روي عن عروة أنه قال: قلت لعائشة: ما معنى قول الله: * (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى) * فقالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها، إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها، فقال تعالى: " وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء، قالت عائشة رضي الله عنها: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله تعالى: * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء) * قالت: وقوله تعالى: * (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء) * (النساء: 127) المراد منه هذه الآية وهي قوله: * (وإن خفتم أن لا تقسطوا) *.
الوجه الثاني: في تأويل الآية: انه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الأقساط في حقوق اليتامى، فتحرجوا من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر، فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها، فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء، فقالوا عدد المنكوحات، لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج.
الوجه الثالث: في التأويل: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات.
الوجه الرابع: في التأويل: ما روي عن عكرمة أنه قال: كان الرجل عنده النسوة ويكون
171

عنده الأيتام، فإذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى: * (وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى) * عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف، فان خفتم في الأربع أيضا فواحدة، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع، والناقص وهو الواحدة، ونبه بذلك على ما بينهما، فكأنه تعالى قال: فان خفتم من الأربع فثلاث، فان خفتم فاثنتان، فان خفتم فواحدة، وهذا القول أقرب، فكأنه تعالى خوف من الاكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة إلى الانفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير.
أما قوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا) *.
ففيه مسائل: المسألة الأولى: قال أصحاب الظاهر: النكاح واجب وتمسكوا بهذه الآية، وذلك لأن قوله * (فانكحوا) * أمر، وظاهر الأمر للوجوب، وتمسك الشافعي في بيان انه ليس بواجب بقوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فممن ما ملكت إيمانكم) * (النساء: 25) إلى قوله: * (ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم) * فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله، وذلك يدل على أنه ليس بمندوب، فضلا عن أن يقال إنه واجب.
المسألة الثانية: إنما قال: * (ما طاب) * ولم يقل: من طاب لوجوه: أحدها: أنه أراد به الجنس تقول: ما عندك؟ فيقول رجل أو امرأة، والمعنى ما ذلك الشيء الذي عندك، وما تلك الحقيقة التي عندك، وثانيها: أن (ما) مع ما بعده في تقدير المصدر، وتقديره: فانكحوا الطيب من النساء، وثالثها: ان " ما " و " من " ربما يتعاقبان. قال تعالى: * (والسماء وما بناها) * (الشمس: 5) وقال: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * (الكافرون: 2) وحكى أبو عمرو بن العلاء: سبحان ما سبح له الرعد، وقال: * (فمنهم من يمشي على بطنه) * (النور: 45) ورابعها: إنما ذكر " ما " تنزيلا للإناث منزلة غير العقلاء. ومنه: قوله: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المعارج: 30).
172

المسألة الثالثة: قال الواحدي وصاحب " الكشاف ": قوله * (ما طاب لكم) * أي ما حل لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها، وهي الأنواع المذكورة في قوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) * (النساء: 23) وهذا عندي فيه نظر، وذلك لأنا بينا أن قوله: * (فانكحوا) * أمر إباحة. فلو كان المراد بقوله: * (ما طاب لكم) * أي ما حل لكم لنزلت الآية منزلة ما يقال: أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم: وذلك يخرج الآية عن الفائدة، وأيضا فبتقدير أن تحمل الآية على ما ذكروه تصير الآية مجملة، لأن أسباب الحل والإباحة لما لم تكن مذكورة في هذه الآية صارت الآية مجملة لا محالة، أما إذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب، كانت الآية عاما دخله التخصيص. وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين الاجمال والتخصيص كان رفع الاجمال أولى، لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص، والمجمل لا يكون حجة أصلا.
المسألة الرابعة: * (مثنى وثلاث ورباع) * معناه: اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، وهو غير منصرف وفيه وجهان: الأول: أنه اجتمع فيها أمران: العدل والوصف، أما العدل فلأن العدل عبارة عن أنك تذكر كلمة وتريد بها كلمة أخرى، كما تقول: عمر وزفر وتريد به عامرا وزافرا، فكذا ههنا تريد بقولك: مثنى: ثنتين ثنتين فكان معدولا، وأما أنه وصف، فدليله قوله تعالى: * (أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع) * (فاطر: 1) ولا شك أنه وصف.
الوجه الثاني: في بيان أن هذه الأسماء غير منصرفة أن فيها عدلين لأنها معدولة عن أصولها كما بيناه، وأيضا انها معدولة عن تكررها فإنك لا تريد بقولك: مثنى ثنتين فقط، بل ثنتين ثنتين، فإذا قلت: جاءني اثنان أو ثلاثة كان غرضك الاخبار عن مجيء هذا العدد فقط، أما إذا قلت: جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين، فثبت أنه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد فوجب أن يمنع من الصرف، وذلك لأنه إذا اجتمع في الاسم سببان أوجب ذلك منع الصرف، لأنه يصير لأجل ذلك نائبا من جهتين فيصير مشابها للفعل فيمتنع صرفه، وكذا إذا حصل فيه العدل من جهتين فوجب أن يمنع صرفه والله أعلم.
المسألة الخامسة: قال أهل التحقيق: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * لا يتناول العبيد وذلك لأن الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها، والعبد ليس كذلك بدليل أنه لا يتمكن من النكاح إلا باذن مولاه، ويدل عليه القرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى: * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) * (النحل: 75) فقوله: * (لا يقدر على شيء) * ينفي كونه مستقلا بالنكاح، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام: " أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر " فثبت بما ذكرناه أن
173

هذه الآية لا يندرج فيها العبد.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: ذهب أكثر الفقهاء إلى أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون العبيد، وقال مالك: يحل للعبد أن يتزوج بالأربع وتمسك بظاهر هذه الآية.
والجواب الذي يعتمد عليه: أن الشافعي احتج على أن هذه الآية مختصة بالأحرار بوجهين آخرين سوى ما ذكرناه: الأول: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: * (فان خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * وهذا لا يكون إلا للأحرار، والثاني: أنه تعالى قال: * (فان طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * (النساء: 4) والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر، بل يكون لسيده قال مالك: إذا ورد عمومان مستقلان، فدخول التقييد في الأخير لا يوجب دخوله في السابق.
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن هذه الخطابات في هذه الآيات وردت متوالية على نسق واحد فلما عرف في بعضها اختصاصها بالأحرار عرف أن الكل كذلك، ومن الفقهاء من علم أن ظاهر هذه الآية متناول للعبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس، قالوا: أجمعنا على أن للرق تأثيرا في نقصان حقوق النكاح، كالطلاق والعدة، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر، والجواب الأول أولى وأقوى والله أعلم.
المسألة السادسة: ذهب قوم سدى إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد، واحتجوا بالقرآن والخبر، أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه: الأول: أن قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا. والثاني: أن قوله: * (مثنى وثلاث ورباع) * لا يصلح تخصيصا لذلك العموم، لأن تخصيص بعض الاعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي، بل نقول: ان ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا، فان الانسان إذا قال لولده: افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان، كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقا، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقا، ولا يكون ذلك تخصيصا للاذن بتلك الأشياء المذكورة، بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا ههنا، وأيضا فذكر جميع الأعداد متعذر، فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * كان ذلك تنبيها على حصول الاذن في جميع الأعداد. والثالث: أن الواو للجمع المطلق فقوله: * (مثنى وثلاث ورباع) * يفيد حل هذا المجموع، وهو يفيد تسعة، بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر، لان قوله: مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط، بل عن اثنين اثنين وكذا القول في البقية. وأما الخبر فمن وجهين: الأول: أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن
174

تسع، ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال: * (فاتبعوه) * وأقل مراتب الأمر الإباحة. الثاني: أن سنة الرجل طريقته، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان ذلك سنة له، ثم انه عليه السلام قال: " فمن رغب عن سنتي فليس مني " فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز.
واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين: الأول: الخبر، وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أمسك أربعا وفارق باقيهن، وروي ان نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه السلام: " أمسك أربعا وفارق واحدة ".
واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين: الأول: أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز. والثاني: وهو أن الخبر واقعة حال، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بامساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز، إما بسبب النسب، أو بسبب الرضاع، وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله.
الطريق الثاني: وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد، وفيه سؤالان: الأول: أن الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ، فكيف يقال: الاجماع نسخ هذه الآية. الثاني: أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع، والاجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد.
والجواب عن الأول: الاجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الثاني، أن مخالف هذا الاجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته.
فان قيل: فإذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال: مثنى أو ثلاث أو رباع، فلم جاء بواو العطف دون " أو "؟
قلنا: لو جاء بكلمة " أو " لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك الا على أحد هذه الأقسام، وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية، والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام، ونظيره أن يقول الرجل للجماعة
: اقتسموا هذا المال وهو ألف، درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين، ولبعض
175

آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة، فكذا ههنا الفائدة في ترك " أو " وذكر الواو ما ذكرناه والله أعلم.
المسألة السابعة: قوله: * (مثنى وثلاث ورباع) * محله النصب على الحال مما طاب، تقديره: فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا.
قوله تعالى: * (فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المعنى: فان خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها، فاكتفوا بزوجة واحدة أو بالمملوكة، سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر، ولعمري إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهم أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل.
المسألة الثانية: قرىء * (فواحدة) * بنصب التاء والمعنى: فالتزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا، فان الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به، وقرئ * (فواحدة) * بالرفع والتقدير: فكفت واحدة، أو فحسبكم واحدة أو ما ملكت أيمانكم.
المسألة الثالثة: للشافعي رحمة الله أن يحتج بهذه الآية في بيان الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من النكاح، وذلك لأن الله تعالى خير في هذه الآية بين التزوج بالواحدة وبين التسري، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة، كما إذا قال الطبيب: كل التفاح أو الرمان، فان ذلك يشعر بكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر في تمام الغرض، وكما أن الآية دلت على هذه التسوية، فكذلك العقل يدل عليها، لأن المقصود هو السكن والازدواج وتحصين الدين ومصالح البيت، وكل ذلك حاصل بالطريقين، وأيضا إن فرضنا الكلام فيما إذا كانت المرأة مملوكة ثم أعتقها وتزوج بها، فههنا يظهر جدا حصول الاستواء بين التزوج وبين التسري، وإذا ثبت بهذه الآية ان التزوج والتسري متساويان. فنقول: أجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري فوجب أن يكون أفضل من النكاح؛ لان الزائد على أحد المتساويين يكون زائد على المساوي الثاني لا محالة.
ثم قال تعالى: * (ذلك أدنى أن لا تعولوا) * وفيه مسألتان.
المسألة الأولى: المراد من الأدنى ههنا الأقرب، والتقدير: ذلك أقرب من أن لا تعولوا وحسن حذف " من " لدلالة الكلام عليه.
المسألة الثانية: في تفسير * (أن لا تعولوا) * وجوه: الأول: معناه: لا تجوروا ولا تميلوا،
176

وهذا هو المختار عند أكثر المفسرين، وروي ذلك مرفوعا، روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) * قال: (لا تجوروا) وفي رواية أخرى " أن لا تميلوا " قال الواحدي رحمه الله: كلا اللفظين مروي، وأصل العول الميل يقال: عال الميزان عولا، إذا مال، وعال الحاكم في حكمه إذا جار، لأنه إذا جار فقد مال. وأنشدوا لأبي طالب. بميزان قسط لا يغل شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل
وروي أن أعرابيا حكم عليه حاكم، فقال له: أتعول علي، ويقال: عالت الفريضة إذا زادت سهامها، وقد أعلتها أنا إذا أزدت في سهامها، ومعلوم أنها إذا زادت سهامها فقد مالت عن الاعتدال فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ الميل، ثم اختص بحسب العرف بالميل إلى الجور والظلم. فهذا هو الكلام في تقرير هذا الوجه الذي ذهب إليه الأكثرون.
الوجه الثاني: قال بعضهم: المراد أن لا تفتقروا، يقال: رجل عائل أي فقير، وذلك لأنه إذا قل عياله قلت نفقاته، وإذا قلت نفقاته لم يفتقر.
الوجه الثالث: نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: (ذلك أدنى أن لا تعولوا) * معناه: ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية: أن معناه: أن لا تميلوا ولا تجوروا، وثانيها: أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل: ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما، فأما تفسير * (تعولوا) * بتعيلوا فإنه خطأ في اللغة، وثالثها: أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والإماء في العيال بمنزلة النساء، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين، فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال. وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا، وهو أنه تعالى قال في أول الآية: * (فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة) * ولم يقل أن تفتقروا، فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل، وذلك هو الجور لا كثرة العيال. وأنا أقول:
أما السؤال الأول: فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة الله عليه أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية: أن لا تجوروا ولا تميلوا، ولكنه ذكر فيه وجها آخر، وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها، ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام الله مردودة باطلة، ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف، وأيضا: فمن الذي
177

أخبر الرازي أن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين، وكيف لا نقول ذلك، ومن المشهور أن طاوسا كان يقرأ: ذلك أدنى أن لا تعيلوا، وإذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة، فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى، فثبت بهذه الوجوه شدة جهل الرازي في هذا الطعن.
وأما السؤال الثاني: فنقول: انك نقلت هذه اللفظة في اللغة عن المبرد، لكنك بجهلك وحرصك على الطعن في رؤساء المجتهدين والاعلام، وشدة بلادتك، ما عرفت ان
هذا الطعن الذي ذكره المبرد فاسد، وبيان فساده من وجوه: الأول: أنه يقال: عالت المسألة إذا زادت سهامها وكثرة، وهذا المعنى قريب من الميل لأنه إذا مال فقد كثرت جهات الرغبة وموجبات الإرادة وإذا كان كذلك كان معنى الآية: ذلك أدنى أن لا تكثروا، وإذا لم تكثروا لم يقع الانسان في الجور والظلم لان مطية الجور والظلم هي الكثرة والمخالطة، وبهذا الطريق يرجع هذا التفسير إلى قريب من التفسير الأول الذي اختاره الجمهور.
الوجه الثاني: ان الانسان إذا قال: فلان طويل النجاد كثير الرماد، فإذا قيل له ما معناه؟ حسن أن يقال: معناه أنه طويل القامة كثير الضيافة، وليس المراد منه أن تفسير طويل النجاد هو أنه طويل القامة، بل المراد أن المقصود من ذلك الكلام هو هذا المعنى. وهذا الكلام تسميه علماء البيان التعبير عن الشيء بالكناية والتعريض، وحاصله يرجع إلى حرف واحد وهو الإشارة إلى الشيء بذكر لوازمه، فههنا كثرة العيال مستلزمة للميل والجور، والشافعي رضي الله عنه جعل كثرة العيال كناية عن الميل والجور، لما أن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور، فجعل هذا تفسيرا له لا على سبيل الكناية والاستلزام، وهذه طريقة مشهورة في كتاب الله، والشافعي لما كان محيطا بوجوه أساليب المطابقة، بل على سبيل الكلام العربي استحسن ذكر هذا الكلام، فأما أبو بكر الرازي لما كان بليد الطبع بعيدا عن أساليب كلام العرب، لا جرم لم يعرف الوجه الحسن فيه.
الوجه الثالث: ما ذكره صاحب " الكشاف " وهو أن هذا التفسير مأخوذ من قولك: عال الرجل عياله يعولهم. كقولهم: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم، لان من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب، فثبت بهذه الوجوه أن الذي ذكره إمام المسلمين الشافعي رضي الله عنه في غاية الحسن، وأن الطعن لا يصدر الا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة. وأما السؤال الثالث: وهو قوله: إن كثرة العيال لا تختلف بأن تكون المرأة زوجة أو
178

مملوكة فجوابه من وجهين: الأول: ما ذكره القفال رضي الله عنه، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا، وحينئذ تقل العيال أما إذا كانت المرأة حرة لم يكن الامر كذلك فظهر الفرق. الثاني: ان المرأة إذا كانت مملوكة فإذا عجز المولى عن الانفاق عليها باعها وتخلص منها، أما إذا كانت حرة فلا بد له من الانفاق عليها، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر، فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة.
وأما السؤال الرابع: وهو الذي ذكره الجرجاني صاحب النظم، فالجواب عنه من وجهين: الأول: ما ذكره القاضي وهو أن الوجه الذي ذكره الشافعي أرجح، لأنه لو حمل على الجور لكان تكرارا لأنه فهم ذلك من قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا) * أما إذا حملناه على ما ذكره الشافعي لم يلزم التكرار فكان أولى. الثاني: أن نقول: هب أن الامر كما ذكرتم لكنا بينا أن التفسير الذي ذكره الشافعي راجع عند التحقيق إلى ذكر التفسير الأول، لكن على سبيل الكناية والتعريض، وإذا كان الامر كذلك فقد زال هذا السؤال، فهذا تمام البحث في هذا الموضع وبالله التوفيق.
* (وءاتوا النسآء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وآتوا النساء) * خطاب لمن؟ فيه قولان: أحدهما: ان هذا خطاب لأولياء النساء، وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة، ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه، وقال ابن الاعرابي: النافجة يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة.
القول الثاني: ان الخطاب للأزواج. أمروا بايتاء النساء مهورهن، وهذا قول: علقمة والنخعي وقتادة واختيار الزجاج، قال لأنه لا ذكر للأولياء ههنا، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج.
المسألة الثانية: قال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون المراد من الايتاء المناولة، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام، قال تعالى: * (حتى يعطوا الجزية عن يد) * (التوبة: 29) والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها، فعلى هذا الوجه الأول كأن المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن، وعلى التقدير الثاني:
179

كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم سواء سمي ذلك أو لم يسم، إلا ما خص به الرسول صلى الله عليه وسلم في الموهوبة، ثم قال رحمه الله: ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": * (صدقاتهن) * مهورهن، وفي حديث شريح: قضى ابن عباس لها بالصدقة وقرأ * (صدقاتهن) * بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن و * (صدقاتهن) * بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة، وقرئ * (صدقتهن) * بضم الصاد والدل على التوحيد وهو مثقل صدقة كقوله في ظلمة: ظلمة، قال الواحدي: موضوع صدق على هذا الترتيب للكمال والصحة، فسمي المهر صداقا وصدقة لأن عقد النكاح به يتم ويكمل. المسألة الرابعة: في تفسير النحلة وجوه: الأول: قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد: فريضة، وإنما فسروا النحلة بالفريضة، لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب، يقال: فلان ينتحل كذا إذا كان يتدين به، ونحلته كذا أي دينه ومذهبه، فقوله: * (آتوا النساء صدقاتهن نحلة) * أي آتوهن مهورهن، فإنها نحلة أي شريعة ودين ومذهب وما هو دين ومذهب فهو فريضة. الثاني: قال الكلبي: نحلة أي عطية وهبة، يقال: نحلت فلانا شيئا أنحله نحلة ونحلا، قال القفال: وأصله إضافة الشيء إلى غير من هوله، يقال: هذا شعر منحول، أي مضاف إلى غير قائله، وانتحلت كذا إذا ادعيته وأضفته إلى نفسك، وعلى هذا القول فالمهر عطية ممن؟ فيه احتمالان: أحدهما: أنه عطية من الزوج، وذلك لأن الزوج لا يملك بدله شيئا لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله، فالزوج أعطاها المهر ولم يأخذ منها
عوضا يملكه، فكان في معنى النحلة التي ليس بإزائها بدل، وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك، وقال آخرون إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر فكان ذلك عطية من الله ابتداء.
والقول الثالث: في تفسير النحلة قال أبو عبيدة: معنى قوله * (نحلة) * أي عن طيب نفس، وذلك لأن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض، كما ينحل الرجل لولده شيئا من ماله، وما أعطى من غير طلب عوض لا يكون إلا عن طيب النفس، فأمر الله باعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن ولا مخاصمة، لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نحلة.
المسألة الخامسة: إن حملنا النحلة على الديانة ففي انتصابها وجهان: أحدهما: أن يكون مفعولا له، والمعنى آتوهن مهورهن ديانة. والثاني: أن يكون حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه، وأما إن حملنا النحلة على العطية ففي انتصابها أيضا وجهان: أحدهما: أنه نصب
180

على المصدر، وذلك لأن النحلة والايتاء بمعنى الاعطاء، فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم. والثاني: أنها نصب على الحال، ثم فيه وجهان: أحدهما: على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالاعطاء. والثاني: على الحال من الصدقات، أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس.
المسألة السادسة: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: الخلوة الصحيحة تقرر المهر، وقال الشافعي رضي الله عنه: لا تقرره احتج أبو حنيفة على صحة قوله بهذه الآية، وذلك لأن هذا النص يقتضي إيجاب إيتاء المهر بالكلية مطلقا، ترك العمل به فيما إذا لم يحصل المسيس ولا الخلوة، فعند حصولهما وجب البقاء على مقتضى الآية.
أجاب أصحابنا بأن هذه عامة وقوله تعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) * (البقرة: 237) يدل على أنه لا يجب فيها إلا نصف المهر، وهذه الآية خاصة ولا شك أن الخاص مقدم على العام.
قوله تعالى: * (فان طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *.
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بايتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له، لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: نفسا: نصب على التمييز والمعنى: طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق بنقل الفعل من الأنفس إليهن، فخرجت النفس مفسرة كما قالوا: أنت حسن وجها، والفعل في الأصل للوجه، فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسرا لموقع الفعل، ومثله: قررت به عينا وضقت به ذرعا.
المسألة الثانية: إنما وحد النفس لأن المراد به بيان موقع الفعل، وذلك يحصل بالواحد ومثله عشرون درهما. قال الفراء: لو جمعت كان صوابا كقوله: * (الأخسرين أعمالا) * (الكهف: 103).
المسألة الثالثة: من: في قوله: * (منه) * ليس للتبعيض، بل للتبيين والمعنى عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر كقوله: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) * (الحج: 30) وذلك أن المرأة لو طابت نفسها عن جميع المهر حل للزوج أن يأخذه بالكلية.
المسألة الرابعة: منه: أي من الصدقات أو من ذلك وهو كقوله تعالى: * (قل أؤنبئكم بخير من
181

ذلكم) * (آل عمران: 15) بعد ذكر الشهوات. وروي أنه لما قال رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له: الضمير في قوله " كأنه " ان عاد إلى الخطوط كان يجب أن تقول: كأنها، وان عاد إلى السواد والبلق كان يجب أن تقول: كأنهما، فقال: أردت كأن ذاك، وفيه وجه آخر وهو أن الصدقات في معنى الصداق لأنك لو قلت: وآتوا النساء صداقهن لكان المقصود حاصلا، وفيه وجه ثالث: وهو أن الفائدة في تذكير الضمير أن يعود ذلك إلى بعض الصداق، والغرض منه ترغيبها في أن لا تهب إلا بعض الصداق.
المسألة الخامسة: معنى الآية: فان وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن، أو سوء معاشرتكم معهن، فكلوه وأنفقوه، وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب، ووجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال: * (فان طبن) * ولم يقل: فان وهبن أو سمحن، إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة.
المسألة السادسة: الهنئ والمرئ: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وقيل: الهنئ ما يستلذه الآكل، والمرئ ما يحمد عاقبته، وقيل: ما ينساغ في مجراه، وقيل: لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة: المرئ لمروء الطعام فيه وهو انسياغه. وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهنئ من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران، فالهنئ شفاء من الجرب، قال المفسرون: المعنى أنهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وبالجملة فهو عبارة عن التحليل، والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة.
المسألة السابعة: قوله: * (هنيئا مريئا) * وصف للمصدر، أي أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء، وقد يوقف على قوله: * (فكلوه) * ثم يبتدأ بقوله: * (هنيئا مريئا) * على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل: هنأ مرأ.
المسألة الثامنة: دلت هذه الآية على أمور: منها: ان المهر لها ولا حق للولي فيه، ومنها جواز هبتها المهر للزوج، وجواز أن يأخذه الزوج، لأن قوله: * (فكلوه هنيئا مريئا) * يدل على المعنيين، ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض، لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين.
وههنا بحث وهو أن قوله: * (فكلوه هنيئا مريئا) * يتناول ما إذ كان المهر عينا، أما إذا كان دينا
182

فالآية غير متناولة له، فإنه لا يقال لما في الذمة: كله هنيئا مريئا.
قلنا: المراد بقوله: * (كلوه هنيئا مريئا) * ليس نفس الأكل، بل المراد منه حل التصرفات، وإنما خص الأكل بالذكر لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل، ونظيره قوله تعالى: * (ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * (النساء: 10) وقال: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) *.
المسألة التاسعة: قال بعض العلماء: ان وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفسا، وعن الشعبي: أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى: * (فان طبن لكم عن شيء) * فقال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وروي عنه أيضا: أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن، وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه، فلبث شهرا ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل: أعطتني طيبة به نفسها، فقال عبد الملك: فان الآية التي بعدها * (فلا تأخذوا منه شيئا) * أردد عليها. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته: ان النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها والله أعلم.
* (ولا تؤتوا السفهآء أموالكم التى جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) *.
واعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذه السورة.
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو كأنه تعالى يقول: إني وإن كنت أمرتكم بايتاء اليتامى أموالهم وبدفع صدقات النساء إليهن، فإنما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم، فأما إذا كانوا غير بالغين، أو غير عقلاء، أو ان كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين، فلا تدفعوا إليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه، والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين.
وفي الآية مسائل:
183

المسألة الأولى: في الآية قولان: الأول: أنها خطاب الأولياء فكأنه تعالى قال: أيها الأولياء لا تؤتوا الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم. والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله: * (وارزقوهم فيها واكسوهم) * وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها كما قررناه.
فان قيل: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، فلم قال أموالكم؟
قلنا: في الجواب وجهان: الأول: أنه تعالى أضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، الثاني: إنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص، ونظيره قوله تعالى: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * (التوبة: 128) وقوله: * (وما ملكت أيمانكم) * (النساء: 36) وقوله: * (فاقتلوا أنفسكم) * وقوله: * (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) * (البقرة: 85) ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه، ولكن كان بعضهم يقتل بعضا، وكان الكل من نوع واحد، فكذا ههنا المال شيء ينتفع به نوع الانسان ويحتاج إليه. فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم.
والقول الثاني: أن هذه الآية خطاب الآباء فنهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم، لما كان في ذلك من الافساد، فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال إليهم حقيقة، وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك، وذلك يدل على أنه ليس له أن يأكل جميع أمواله ويهلكها، وإذا قرب أجله فإنه يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظ ذلك المال على ورثته، وقد ذكرنا أن القول الأول أرجح لوجهين، ومما يدل على هذا الترجيح أن ظاهر النهي للتحريم، وأجمعت الأمة على أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله، وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السفهاء أموالهم، وإذا كان كذلك وجب حمل الآية على القول الأول لا على هذا القول الثاني والله أعلم. الثاني: أنه قال في آخر الآية: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * ولا شك أن هذه الوصية بالأيتام أشبه، لان المرء مشفق بطبعه على ولده، فلا يقول له إلا المعروف، وإنما يحتاج إلى هذه الوصية مع الأيتام الأجانب، ولا يمتنع أيضا حمل الآية على كلا الوجهين. قال القاضي: هذا بعيد لأنه يقتضي حمل قوله: * (أموالكم) * على الحقيقة والمجاز جميعا، ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله: * (أموالكم) * يفيد كون تلك الأموال مختصة بهم اختصاصا يمكنه التصرف فيها، ثم إن هذا الاختصاص حاصل في المال الذي يكون مملوكا له، وفي المال الذي يكون مملوكا للصبي، إلا أنه يجب تصرفه، فهذا التفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله:
184

* (أموالكم) * وإذا كان كذلك لم يبعد حمل اللفظ عليهما من حيث أن اللفظ أفاد معنى واحدا مشتركا بينهما. المسألة الثانية: ذكروا في المراد بالسفهاء أوجها: الأول: قال مجاهد وجويبر عن الضحاك السفهاء ههنا النساء سواء كن أزواجا أو أمهات أو بنات. وهذا مذهب ابن عمر، ويدل على هذا ما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا انما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثا ألا وإن السفهاء النساء الا امرأة أطاعت قيمها ".
فان قيل: لو كان المراد بالسفهاء النساء لقال: السفائه. أو السفيهات في جمع السفيهة نحو غرائب وغريبات في جمع الغريبة.
أجاب الزجاج: بأن السفهاء في جمع السفيهة جائز كما أن الفقراء في جمع الفقيرة جائز.
والقول الثاني: قال الزهري وابن زيد: عني بالسفهاء ههنا السفهاء من الأولاد، يقول: لا تعط مالك الذي هو قيامك، ولدك السفيه فيفسده.
القول الثالث: المراد بالسفهاء هم النساء والصبيان في قول ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد ابن جبير، قالوا إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة، وان ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده.
والقول الرابع: أن المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام كل من كان موصوفا بهذه الصفة، وهذا القول أولى لان التخصيص بغير دليل لا يجوز، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن السفه خفة العقل، ولذلك سمي الفاسق سفيها لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم، ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله.
المسألة الثالثة: أنه ليس السفه في هؤلاء صفة ذم، ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى، وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ الأموال.
المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال، قال تعالى: * (ولا تبذر تبذيرا ان المبذرين كانوا إخوان الشياطين) * (الإسراء: 26 - 27) وقال تعالى: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) * (الإسراء: 29) وقال تعالى: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) * (الفرقان: 67) وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن، والعقل أيضا يؤيد ذلك، لأن الانسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار، فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة، أما
185

من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة.
المسألة الخامسة: قوله تعالى: * (التي جعل الله لكم قياما) * معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة، يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم، وقرأ نافع وابن عامر * (التي جعل الله لكم قيما) * وقد يقال: هذا قيم وقيم، كما قال: (دينا قيما ملة إبراهيم) وقرأ عبد الله بن عمر (قواما) بالواو، وقوام الشيء ما يقام به كقولك: ملاك الأمر لما يملك به.
المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه الله: البالغ إذا كان مبذرا للمال مفسدا له يحجر عليه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يحجر عليه. حجة الشافعي: أنه سفيه، فوجب أن يحجر عليه، إنما قلنا إنه سفيه، لأن السفيه في اللغة، هو من خف وزنه. ولا شك أن من كان مبذرا للمال مفسدا له من غير فائدة، فإنه لا يكون له في القلب وقع عند العقلاء، فكان خفيف الوزن عندهم، فوجب أن يسمى بالسفيه، وإذا ثبت هذا لزم اندراجه تحت قوله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) *.
ثم قال تعالى: * (وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) *.
واعلم أنه تعالى لما نهى عن إيتاء المال السفيه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء: أولها: قوله: * (وارزقوهم) * ومعناه: وأنفقوا عليهم ومعنى الرزق من العباد هو الاجراء الموظف لوقت معلوم يقال: فلان رزق عياله أي أجرى عليهم، وإنما قال: * (فيها) * ولم يقل: منها لئلا يكون ذلك أمرا بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال، وثانيها: قوله: * (واكسوهم) * والمراد ظاهر، وثالثها: قوله: * (وقولوا لهم قولا معروفا) *.
واعلم أنه تعالى إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه، أما خلاف القول المعروف فإنه يزيد السفيه سفها ونقصانا.
والمفسرون ذكروا في تفسير القول المعروف وجوها: أحدها: قال ابن جريج ومجاهد: انه العدة الجميلة من البر والصلة، وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما أنت أهله، وان غنمت في غزاتي أعطيتك، وثانيها: قال ابن زيد: انه الدعاء مثل أن يقول: عافانا الله وإياك بارك الله فيك، وبالجملة كل ما سكنت إليه النفوس وأحبته من قول وعمل فهو معروف وكل ما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر، وثالثها: قال الزجاج: المعنى علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل، ورابعها: قال القفال رحمه الله القول المعروف
186

هو أنه ان كان المولى عليه صبيا، فالولي يعرفه ان المال ماله وهو خازن له، وأنه إذا زال صباه فإنه يرد المال إليه، ونظير هذه الآية قوله: * (فأما اليتيم فلا تقهر) * (الضحى: 9) معناه لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد، وكذا قوله: * (وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا) * (الإسراء: 28 (وان كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة، ورغبه في ترك التبذير والاسراف، وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام، وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه التي حكيناها.
* (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوهآ إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا) *.
واعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بدفع مال اليتيم إليه بقوله: * (وآتوا اليتامى أموالهم) * (النساء: 2) بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم، فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم إليهم شرطين: أحدهما: بلوغ النكاح، والثاني: إيناس الرشد، ولا بد من ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم إليهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: تصرفات الصبي العاقل المميز باذن الولي صحيحة، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: غير صحيحة، احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية، وذلك لان قوله: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح) * يقتضي ان هذا الابتلاء انما يحصل قبل البلوغ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء، وهذا الاختبار انما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار، فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء، يقال: وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه
187

لدخل، فثبت أن قوله: * (وابتلوا اليتامى) * أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم.
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قال: ليس المراد بقوله: * (وابتلوا اليتامى) * الاذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك: * (فان أنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) * فإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال إليه حال الصغر، وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر، لأنه لا قائل بالفرق، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي، وأما الذي احتجوا به، فجوابه: أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله، في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد، وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي، ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء، وأيضا: هب أنا سلمنا أنه يدفع إليه شيئا ليبيع أو يشتري، فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء، بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله، فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء، وهذا محتمل والله أعلم.
المسألة الثانية: المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله: * (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم) * (النور: 59) وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام، وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع. واعلم أن للبلوغ علامات خمسة: منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والإناث، وهو الاحتلام والسن المخصوص، ونبات الشعر الخشن على العانة، واثنان منها مختصان بالنساء، وهما: الحيض والحبل.
المسألة الثالثة: أما إيناس الرشد فلا بد فيه من تفسير الايناس ومن تفسير الرشد، أما الايناس فقوله: * (آنستم) * أي عرفتم وقيل: رأيتم، وأصل الايناس في اللغة الابصار، ومنه قوله: * (آنس من جانب الطور نارا) * (القصص: 29) وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله، بل لا بد وأن يكون هذا مرادا، وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته، ثم اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين؟ فعند الشافعي رضي الله عنه لا بد منه، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو غير معتبر، والأول أولى، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن أهل اللغة قالوا: الرشد هو إصابة الخير، والمفسد في دينه لا يكون مصيبا للخير. وثانيها: أن الرشد نقيض
188

الغي قال تعالى: * (قد تبين الرشد من الغي) * (البقرة: 256) والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى: * (وعصى آدم ربه فغوى) * (طه: 121) فجعل العاصي غويا، وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين، وثالثها: أنه تعالى قال: * (وما أمر فرعون برشيد) * (هود: 97) نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين والله أعلم.
إذا عرفت هذا فنقول: فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي رحمه الله يرى الحجر على الفاسق، وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه.
المسألة الرابعة: اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فإنه لا يدفع إليه ماله، ثم عند أبي حنيفة لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغ ذلك دفع إليه ماله على كل حال، وإنما اعتبر هذا السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة، فإذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبر في تغير أحوال الانسان لقوله عليه الصلاة والسلام: " مروهم بالصلاة لسبع " فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال، فعندها يدفع إليه ماله، أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يدفع إليه أبدا إلا بايناس الرشد، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقال: لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة، والله تعالى شرط رشدا منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية، فيلزم جواز دفع المال إليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة، فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال: * (وابتلوا اليتامى) * ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال، ثم قال: * (فان آنستم منهم رشدا فادفعوا) * ويجب أن يكون المراد: فان آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه، فإنه ان لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال، وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي، بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال إليه، فإذا كان هذا الشرط مفقودا بعد خمس وعشرين سنة، وجب أن لا يجوز دفع المال إليه، والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص، لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي، فثبت أنه لا وجه لقول من يقول: انه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع إليه ماله وان لم يؤنس منه الرشد.
189

المسألة الخامسة: إذا بلغ رشيدا ثم تغير وصار سفيها حجر عليه عند الشافعي ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة وقد مرت هذه المسألة عند قوله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * (النسار: 5) والقياس الجلي أيضا يدل عليه، لأن هذه الآية دالة على أنه إذا بلغ غير رشيد لم يدفع إليه ماله، وإنما لم يدفع إليه ماله لئلا يصير المال ضائعا فيكون باقيا مرصدا ليوم حاجته، وهذا المعنى قائم في السفه الطارئ، فوجب اعتباره والله أعلم.
المسألة السادسة: قال صاحب " الكشاف ": الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على أن المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة، أو على أن المعتبر هو حصول طرف من الرشد وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد.
المسألة السابعة: قال صاحب " الكشاف ": قرأ ابن مسعود فان أحستم، بمعنى أحسستم قال: أحسن به فهن إليه شوس
وقرئ رشدا بفتحتين ورشدا بضمتين.
ثم قال تعالى: * (فادفعوا إليهم أموالهم) * والمراد أن عند حصول الشرطين أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال إليهم، وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين
كمال العقل، لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل لأنه أمر زائد على العقل.
ثم قال تعالى: * (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) * أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا، ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا فقال: * (ومن كان غنيا فليستعفف) * قال الواحدي رحمه الله: استعف عن الشيء وعف إذا امتنع منه وتركه، وقال صاحب " الكشاف ": استعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة وقال: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * واختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم؟ وفي هذه المسألة أقوال: أحدهما: أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله، واحتج القائلون بهذا القول بوجوه: الأول: أن قوله تعالى: * (ولا تأكلوها إسرافا) * مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة، وثانيها: أنه قال: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * فقوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف) * ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه، بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم، وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة، وثالثها: قوله: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى
190

ظلما) * (النساء: 10) وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * فائدة، وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف، ورابعها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: ان تحت حجري يتيما أآكل من ماله؟ قال: بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله، قال: أفأضربه؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك، وخامسها: ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف: سلام عليكم أما بعد: فاني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار، وربعها لعبد الله ابن مسعود، وربعها لعثمان، ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم: من كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له: أفأشرب من لبن إبله؟ قال: إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب وعنه أيضا: يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها، وسادسها: أن الوصي لما تكفل باصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها، فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم، فكذا ههنا، فهذا تقرير هذا القول. والقول الثاني: أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية، وأكثر الروايات عن ابن عباس. وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها، فأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب، فمباح له إذا كان غير مضر بالمال، وهذا قول أبي العالية وغيره، واحتجوا بأن الله تعالى قال: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم) * فحكم في الأموال بدفعها إليهم.
والقول الثالث: قال أبو بكر الرازي: الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء، سواء كان غنيا أو فقيرا. واحتج عليه بآيات: منها: قوله تعالى: * (وآتوا اليتامى أموالهم) * إلى قوله: * (إنه كان حوبا كبيرا) * (النساء: 2) ومنها: قوله: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * (النساء: 10) ومنها: * (قوله: * (وإن تقوموا لليتامى بالقسط) * (النساء: 127) ومنها: قوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (البقرة: 188) قال: فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصية في حال الغنى والفقر، وقوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات، وعندي أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهب الرازي
191

إليه. أما قوله: * (وآتوا اليتامى أموالهم) * فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة، والخاص مقدم على العام. وقوله: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم، وهل النزاع الا فيه، وهو الجواب بعينه عن قوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * أما قوله: * (وأن تقوموا لليتامى بالقسط) * فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط، والنزاع ليس إلا فيه، فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) *.
واعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا، فان الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه: أحدها: أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له، وثانيها: أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله إليه. ثالثها: أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته، ونظيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب " فأمره بالاشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه، فثبت بما ذكرنا من الاجماع والمعقول أن الأحوط هو الاشهاد. واختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم انه قد دفع المال إليه هل هو مصدق؟ وكذلك لو قال: أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق؟ قال مالك والشافعي: لا يصدق، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصدق، واحتج الشافعي بهذه الآية فان قوله: * (فأشهدوا عليهم) * أمر، وظاهر الأمر الوجوب، وأيضا قال الشافعي: القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم، وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع، وطعن أبو بكر الرازي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال: لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم: قد دفعت إليك لأنه لم يأتمنه، وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي: قد دفعت مالك إليك أن لا يصدق لأنه لم يأتمنه، ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ انه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه، فيقال له: ان قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه، أما النقض بالقاضي فبعيد، لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا، ولولا ذلك لتمكن كل
من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة، وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر، ويلزم التسلسل، ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم، وأما الأب فالفرق ظاهر لوجهين: أحدهما: ان شفقته أتم من شفقة الأجنبي، ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي، وأما إذا تصادقوا بعد
192

البلوغ أنه قد هلك فنقول: ان كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فههنا يلزمه الضمان، أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره، فههنا يجب أن يقبل قوله، والا لصار ذلك مانعا للناس من قبول الوصاية، فيقع الخلل في هذا المهم العظيم، فأما الاشهاد عند الرد إليه بعد البلوغ فإنه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق، ومما يؤكد هذا الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة، وهو قوله: * (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) * وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الأيتام والصبيان، وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم:
ثم قال بعده: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا) * أشعر ذلك بأن الغرض منه رعاية جانب الصبي؛ لأنه إذا كان لا يتمكن من ادعاء دفع المال إليه إلا عند حضور الشاهد، صار ذلك مانعا له من الظلم والبخس والنقصان، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن قوله: * (فأشهدوا) * كما أنه يجب لظاهر الايجاب، فكذلك يجب أن القرائن والمصالح تقتضي الايجاب، ثم قال هذا الرازي، ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد، اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه، فهو بمنزلة الودائع والمضاربات، فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة، فيقال له: أما الفرق بين هذه الصورة وصورة الوديعة فقد ذكره الشافعي رضي الله تعالى عنه، واعتراضك على ذلك الفرق قد سبق إبطاله، وأيضا فعادتك ترك الالتفات إلى كتاب الله لقياس ركيك تتخيله، ومثل هذا الفقه مسلم لك، ولا يجب المشاركة فيه معك وبالله التوفيق.
ثم قال تعالى: * (وكفى بالله حسيبا) * قال ابن الأنباري والأزهري: يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، فمن الأول قولهم للرجل للتهديد: حسبه الله ومعناه يحاسبه الله على ما يفعل من الظلم، ونظير قولنا الحسيب بمعنى المحاسب، قولنا الشريب بمعنى المشارب، ومن الثاني قولهم: حسيبك الله أي كافيك الله.
واعلم أن هذا وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله، وهذا المقصود حاصل سواء فسرنا الحسيب بالمحاسب أو بالكافي.
واعلم أن الباء في قوله: * (وكفى بالله) * * (وكفى بربك) * (الإسراء: 65) في جميع القرآن زائدة، هكذا نقله الواحدي عن الزجاج و * (حسيبا) * نصب على الحال أي كفى الله حال كونه محاسبا، وحال كونه كافيا.
193

قوله تعالى
* (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنسآء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) *.
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة وهو ما يتعلق بالمواريث والفرائض وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس: ان أوس بن ثابت الأنصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة، فجاء رجلان من بني عمه وهما وصيان له يقال لهما: سويد، وعرفجة وأخذا ماله. فجاءت امرأة أوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت القصة، وذكرت أن الوصيين ما دفعا إلي شيئا، وما دفعا إلى بناته شيئا من المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ارجعي إلى بيتك حتى أنظر ما يحدث الله في أمرك " فنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، ودلت على أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا، ولكنه تعالى لم يبين المقدار في هذه الآية، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الوصيين وقال: " لا تقربا من مال أوس شيئا " ثم نزل بعد: * (يوصيكم الله في أولادكم) * (مريم: 11) ونزل فرض الزوج وفرض المرأة، فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام الوصيين أن يدفعا إلى المرأة الثمن ويمسكا نصيب البنات، وبعد ذلك أرسل عليه الصلاة والسلام إليهما أن ادفعا نصيب بناتها إليها فدفعاه إليها، فهذا هو الكلام في سبب النزول.
المسألة الثانية: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال، ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة، فبين تعالى أن الإرث غير مختص بالرجال، بل هو أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء، فذكر في هذه الآية هذا القدر، ثم ذكر التفصيل بعد ذلك ولا يمتنع إذا كان للقوم عادة في توريث الكبار دون الصغار ودون النساء، أن ينقلهم سبحانه وتعالى عن تلك العادة قليلا قليلا على التدريج، لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع، فإذا كان دفعة عظم وقعه على القلب، وإذا كان على التدريج سهل، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولا، ثم أردفه بالتفصيل.
المسألة الثالثة: احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قال:
194

لأن العمات والخالات والأخوال وأولاد البنات من الأقربين، فوجب دخولهم تحت قوله: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) * أقصى ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية، إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية، وأما المقدار فنستفيده من سائر الدلائل.
وأجاب أصحابنا عنه من وجهين: أحدهما: انه تعالى قال في آخر الآية * (نصيبا مفروضا) * أي نصيبا مقدرا، وبالاجماع ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر، فثبت أنهم ليسوا داخلين في هذه الآية، وثانيهما: أن هذه الآية مختصة بالأقربين، فلم قلتم إن ذوي الأرحام من الأقربين؟ وتحقيقه أنه إما أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب من شيء آخر، أو المراد منه من كان أقرب من جميع الأشياء، والأول باطل؛ لأنه يقتضي دخول أكثر الخلق فيه، لأن كل إنسان له نسب مع غيره إما بوجه
قريب أو بوجه بعيد، وهو الانتساب إلى آدم عليه السلام، ولا بد وأن يكون هو أقرب إليه من ولده، فيلزم دخول كل الخلق في هذا النص وهو باطل، ولما بطل هذا الاحتمال وجب حمل النص على الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب الناس إليه، وما ذاك إلا الوالدان والأولاد، فثبت أن هذا النص لا يدخل فيه ذو الأرحام، لا يقال: لو حملنا الأقربين على الوالدين لزم التكرار، لأنا نقول: الأقرب جنس يندرج تحته نوعان: الوالد والولد، فثبت أنه تعالى ذكر الوالد، ثم ذكر الأقربين، فيكون المعنى أنه ذكر النوع، ثم ذكر الجنس فلم يلزم التكرار.
المسألة الرابعة: قوله: * (نصيبا) * في نصبه وجوه: أحدها: أنه نصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا، والثاني: يجوز أن ينتصب انتصاب المصدر، لأن النصيب اسم في معنى المصدر كأنه قيل: قسما واجبا، كقوله: * (فريضة من الله) * (التوبة: 60، النساء: 11) أي قسمة مفروضة.
المسألة الخامسة: أصل الفرض الحز، ولذلك سمي الحز الذي في سية القوس فرضا، والحز الذي في القداح يسمى أيضا فرضا، وهو علامة لها تميز بينها وبين غيرها، والفرضة العلامة في مقسم الماء، يعرف بها كل ذي حق حقه من الشرب، فهذا هو أصل الفرض في اللغة، ثم إن أصحاب أبي حنيفة خصصوا لفظ الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع، واسم الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون، قالوا: لأن الفرض عبارة عن الحز والقطع، وأما الوجوب فإنه عبارة عن السقوط، يقال: وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط، وسمعت وجبة يعني سقطة قال الله تعالى: * (فإذا وجبت جنوبها) * (الحج: 36) يعني سقطت، فثبت أن الفرض عبارة عن الحز والقطع، وأن الوجوب عبارة عن السقوط، ولا شك أن تأثير الحز والقطع أقوى وأكمل من تأثير السقوط.
195

فلهذا السبب خصص أصحاب أبي حنيفة لفظة الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع، ولفظ الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا الذي قرروه يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل قاطع باجماع الأمة، فلم يكن توريثهم فرضا، والآية إنما تناولت التوريث المفروض، فلزم القطع بأن هذه الآية ما تناولت ذوي الأرحام، والله أعلم.
* (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فا رزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) *.
وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن قوله: * (وإذا حضر القسمة) * ليس فيه بيان أي قسمة هي، فلهذا المعنى حصل للمفسرين فيه أقوال: الأول: أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن النساء أسوة الرجال في أن لهن حظا من الميراث، وعلم تعالى أن في الأقارب من يرث ومن لا يرث، وأن الذين لا يرثون إذا حضروا وقت القسمة، فان تركوا محرومين بالكلية ثقل ذلك عليهم، فلا جرم أمر الله تعالى أن يدفع إليهم شيء عند القسمة حتى يحصل الأدب الجميل وحسن العشرة، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال: إن ذلك واجب، ومنهم من قال: إنه مندوب، أما القائلون بالوجوب، فقد اختلفوا في أمور: أحدها: أن منهم من قال: الوارث إن كان كبيرا وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر ما تطيب نفسه به، وإن كان صغيرا وجب على الولي إعطاؤهم من ذلك المال، ومنهم من قال: إن كان الوارث كبيرا، وجب عليه الاعطاء من ذلك المال، وإن كان صغيرا وجب على الولي أن يعتذر إليهم، ويقول: إني لا أملك هذا المال إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق، وان يكبروا فسيعرفون حقكم، فهذا هو القول المعروف، وثانيها: قال الحسن والنخعي: هذا الرضخ مختص بقسمة الأعيان، فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك، قال لهم قولا معروفا، مثل أن يقول لهم: ارجعوا بارك الله فيكم، وثالثها: قالوا: مقدار ما يجب فيه الرضخ شيء قليل، ولا تقدير
196

فيه بالاجماع. ورابعها: أن على تقدير وجوب هذا الحكم تكون هذه الآية منسوخة. قال ابن عباس في رواية عطاء: وهذه الآية منسوخة بآية المواريث، وهذا قول سعيد بن المسيب والضحاك وقال في رواية عكرمة: الآية محكمة غير منسوخة وهو مذهب أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي والزهري ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير، فهؤلاء كانوا يعطون من حضر شيئا من التركة. روي أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قسم ميراث أبيه وعائشة حية، فلم يترك في الدار أحدا إلا أعطاه، وتلا هذه الآية، فهذا كله تفصيل قول من قال بأن هذا الحكم ثبت على سبيل الوجوب، ومنهم من قال: انه ثبت على سبيل الندب والاستحباب، لا على سبيل الفرض والايجاب، وهذا الندب أيضا إنما يحصل إذا كانت الورثة كبارا، أما إذا كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف، وهذا المذهب هو الذي عليه فقهاء الأمصار. واحتجوا بأنه لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله تعالى قدر ذلك الحق كما في سائر الحقوق، وحيث لم يبين علمنا أنه غير واجب، ولأن ذلك لو كان واجبا لتوفرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين على تقديره، ولو كان ذلك لنقل على سبيل التواتر، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه غير واجب.
القول الثاني: في تفسير الآية: أن المراد بالقسمة الوصية، فإذا حضرها من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أمر الله تعالى أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية، ويقول لهم مع ذلك: قولا معروفا في الوقت، فيكون ذلك سببا لوصول السرور إليهم في الحال والاستقبال، والقول الأول أولى، لأنه تقدم ذكر الميراث ولم يتقدم ذكر الوصية، ويمكن أن يقال: هذا القول أولى لأن الآية التي تقدمت في الوصية.
القول الثالث: في تفسير الآية أن قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) * فالمراد من * (أولى القربى) * الذين يرثون والمراد من * (اليتامى والمساكين) * الذين لا يرثون.
ثم قال: * (فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) * فقوله: * (فارزقوهم) * راجع إلى القربى الذين يرثون وقوله: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * راجع إلى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون، وهذا القول محكى عن سعيد بن جبير.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: الضمير في قوله: * (فارزقوهم منه) * عائد إلى ما ترك الوالدان والأقربون، وقال الواحدي: الضمير عائد إلى الميراث
فتكون الكناية على هذا الوجه عائدة إلى معنى القسمة، لا إلى لفظها كقوله: * (ثم استخرجها من وعاء أخيه) * (يوسف: 76) والصواع مذكر لا يكنى عنه بالتأنيث، لكن أريد به المشربة فعادت الكناية إلى المعنى لا إلى اللفظ، وعلى هذا التقدير
197

فالمراد بالقسمة المقسوم، لأنه إنما يكون الرزق من المقسوم لا من نفس القسمة. المسألة الثالثة: إنما قدم اليتامى على المساكين لأن ضعف اليتامى أكثر، وحاجتهم أشد، فكان وضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم في الأجر.
المسألة الرابعة: الأشبه هو أن المراد بالقول المعروف أن لا يتبع العطية المن والأذى بالقول أو يكون المراد الوعد بالزيادة والاعتذار لمن لم يعطه شيئا.
* (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الجملة الشرطية وهو قوله: * (لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) * هي صلة لقوله: * (الذين) * والمعنى: وليخش الذين من صفتهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافا خافوا عليهم وأما الذي يخشى عليه فغير منصوص عليه، وسنذكر وجوه المفسرين فيه.
المسألة الثانية: لا شك أن قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) * يوجب الاحتياط للذرية الضعاف، وللمفسرين فيه وجوه: الأول: أن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون: ان ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا، فأوص بمالك لفلان وفلان، ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا، فقيل لهم: كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال، فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله. وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك، فلا ترضه لأخيك المسلم. عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
والقول الثاني: قال حبيب بن أبي ثابت: سألت مقسما عن هذه الآية فقال: هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب، فيقول له من كان عنده: اتق الله وأمسك على ولدك مالك، مع أن ذلك الانسان يحب أن يوصي له، ففي القول الأول الآية محمولة على نهي الحاضرين
198

عن الترغيب في الوصية، وفي القول الثاني محمولة على نهي الحاضرين عن النهي عن الوصية، والأولى أولى، لأن قوله: * (لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) * أشبه بالوجه الأول وأقرب إليه.
والقول الثالث: يحتمل أن تكون الآية خطابا لمن قرب أجله، ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته ضائعين جائعين بعد موته، ثم إن كانت هذه الآية إنما نزلت قبل تقدير الوصية بالثلث، كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية، وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث، كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية، وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث. كان المراد منها أن يوصي أيضا بالثلث، بل ينقص إذا خاف على ذريته والمروي عن كثير من الصحابة أنهم وصوا بالقليل لأجل ذلك، وكانوا يقولون: الخمس أفضل من الربع، والربع أفضل من الثلث، وخبر سعد يدل عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " الثلث والثلث كثير لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ".
والقول الرابع: أن هذا أمر لأولياء اليتيم، فكأنه تعالى قال: وليخش من يخاف على ولده بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره، والمقصود من الآية على هذا الوجه أن يبعثه سبحانه وتعالى على حفظ ماله، وأن يترك نفسه في حفظه والاحتياط في ذلك بمنزلة ما يحبه من غيره في ذريته لو خلفهم وخلف لهم مالا. قال القاضي: وهذا أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": قرىء ضعفاء، وضعافى، وضعافى: نحو سكارى وسكارى. قال الواحدي: قرأ حمزة * (ضعافا خافوا عليهم) * بالامالة فيهما ثم قال: ووجه إمالة ضعاف أن ما كان على وزن فعال، وكان أوله حرفا مستعليا مكسورا نحو ضعاف، وغلاب، وخباب، يحسن فيه الإمالة، وذلك لأنه تصعد بالحرف المستعلي ثم انحدر بالكسرة، فيستحب أن لا يتصعد بالتفخيم بعد الكسر حتى يوجد الصوت على طريقة واحدة، وأما الإمالة في * (خافوا) * فهي حسنة لأنها تطلب الكسرة التي في خفت، ثم قال: * (فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) * وهو كالتقرير لما تقدم، فكأنه قال: فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره والاحتياط فيه، وليقولوا قولا سديدا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل وعمل، والقول السديد هو العدل والصواب من القول. قال صاحب " الكشاف ": القول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب وإذا خاطبوهم قالوا يا بني، يا ولدي، والقول السديد من الجالسين إلى المريض أن يقولوا: إذا أردت
199

الوصية لا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد والقول السديد من الورثة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون، أن يلطفوا القول لهم ويخصوهم بالاكرام.
قوله تعالى
* (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) *.
اعلم أنه تعالى أكد الوعيد في أكل مال اليتيم ظلما، وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك، كقوله: * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم انه كان حوبا كبيرا) * (النساء: 2) * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) * (النساء: 9) ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة في وعيد
من يأكل أموالهم، وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة، وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم، والا لم يكن لهذا التخصيص فائدة، وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف.
المسألة الثانية: قوله: * (إنما يأكلون في بطونهم نارا) * فيه قولان: الأول: أن يجري ذلك على ظاهره قال السدي: إذا أكل الرجل مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومسامعه وأذنيه وعينيه، يعرف كل من رآه أنه أكل مال اليتيم. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليلة أسرى بي رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء: فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ".
والقول الثاني: ان ذلك توسع، والمراد: ان أكل مال اليتيم جار مجرى أكل النار من حيث إنه يفضي إليه ويستلزمه، وقد يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر، كقوله تعالى:
200

* (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) قال القاضي: وهذا أولى من الأول لأن قوله: * (ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * الإشارة فيه إلى كل واحد، فكان حمله على التوسع الذي ذكرناه أولى.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: الأكل لا يكون إلا في البطن فما فائدة قوله: * (إنما يأكلون في بطونهم نارا) *.
وجوابه: أنه كقوله: * (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) * (آل عمران: 167) والقول لا يكون إلا بالفهم، وقال: * (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) * (الحج: 46) والقلب لا يكون إلا في الصدر، وقال: * (ولا طائر يطير بجناحيه) * (الأنعام: 38) والطيران لا يكون إلا بالجناح، والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة.
المسألة الرابعة: انه تعالى وإن ذكر الأكل إلا أن المراد منه كل أنواع الاتلافات، فان ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل، أو بطريق آخر، وإنما ذكر الأكل وأراد به كل التصرفات المتلفة لوجوه: أحدها: أن عامة مال اليتيم في ذلك الوقت هو الأنعام التي يأكل لحومها ويشرب ألبانها. فخرج الكلام على عادتهم. وثانيها: أنه جرت العادة فيمن أنفق ماله في وجوه مراداته خيرا كانت أو شرا، أنه يقال: إنه أكل ماله. وثالثها: أن الأكل هو المعظم فيما يبتغي من التصرفات.
المسألة الخامسة: قالت المعتزلة: الآية دالة على وعيد كل من فعل هذا الفعل، سواء كان مسلما أو لم يكن؛ لأن قوله تعالى: * (ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * عام يدخل فيه الكل فهذا يدل على القطع بالوعيد وقوله: * (وسيصلون سعيرا) * يوجب القطع على أنهم إذا ماتوا على غير توبة يصلون هذا السعير لا محالة، والجواب عنه قد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة، ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون هذا الوعيد مخصوصا بالكفار لقوله تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) * (البقرة: 254) ثم قالت المعتزلة: ولا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد أكل اليسير من ماله لأن الوعيد مشروط بأن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم من تلك المعصية، وإذا كان كذلك، فالذي يقطع على أنه من أهل الوعيد من تكون معصيته كبيرة ولا يكون معها توبة، فلا جرم وجب أن يطلب قدر ما يكون كثيرا من أكل ماله، فقال أبو علي الجبائي: قدره خمسة دراهم لأنه هو القدر الذي وقع الوعيد عليه في آية الكنز في منع الزكاة، هذا جملة ما ذكره القاضي، فيقال له: فأنت قد خالفت ظاهر هذا العموم من وجهين أحدهما: أنك زدت فيه شرط عدم التوبة. والثاني: أنك زدت فيه عدم كونه صغيرا، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو؟ أقصى ما في الباب أن يقال: ما وجدنا دليلا يدل
201

على حصول العفو، لكنا نجيب عنه من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلم عدم دلائل العفو، بل هي كثيرة على ما قررناه في سورة البقرة. والثاني: هب أنكم ما وجدتموها لكن عدم الوجدان لا يفيد القطع بعدم الوجود، بل يبقى الاحتمال، وحينئذ يخرج التمسك بهذه الآية من إفادة القطع والجزم والله أعلم.
المسألة السادسة: أنه تعالى ذكر وعيد مانعي الزكاة بالكي فقال: * (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) * (التوبة: 35) وذكر وعيد آكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار، ولا شك أن هذا الوعيد أشد، والسبب فيه أن في باب الزكاة الفقير غير مالك لجزء من النصاب، بل يجب على المالك أن يملكه جزأ من ماله، أما ههنا اليتيم مالك لذلك المال فكان منعه من اليتيم أقبح، فكان الوعيد أشد، ولأن الفقير قد يكون كبيرا فيقدر على الاكتساب، أما اليتيم فإنه لصغره وضعفه عاجز فكان الوعيد في إتلاف ماله أشد.
ثم قال تعالى: * (وسيصلون سعيرا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم * (وسيصلون) * بضم الياء، أي يدخلون النار على ما لم يسم فاعله، والباقون بفتح الياء قال أبو زيد يقال: صلى الرجل النار يصلاها صلى وصلاء، وهو صالي النار، وقوم صالون وصلاء قال تعالى: * (الا من هو صال الجحيم) * (الصافات: 163) وقال: * (أولى بها صليا) * (مريم: 70) وقال: * (جهنم يصلونها) * (إبراهيم: 29، ص: 56، المجادلة: 8) قال الفراء: الصلي: اسم الوقود وهو الصلاء إذا كسرت مدت، وإذا فتحت قصرت، ومن ضم الياء فهو من قولهم: أصلاه الله حر النار اصلاء. قال: * (فسوف نصليه نارا) * (النساء: 30) وقال تعالى: * (سأصليه سقر) * (المدثر: 26) قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (سيصلون) * بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها.
المسألة الثانية: السعير: هو النار المستعرة يقال: سعرت النار أسعرها سعرا فهي مسعورة وسعير، والسعير معدول عن مسعورة كما عدل كف خضيب عن مخضوبة، وإنما قال: * (سعيرا) * لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى.
المسألة الثالثة: روي أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية، فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى: * (وإن تخالطوهم فإخوانكم) * (البقرة: 220) ومن الجهال من قال: صارت هذه الآية منسوخة بتلك، وهو بعيد لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كان على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الاثم كما في هذه الآية، وإن كان على سبيل التربية والاحسان فهو من أعظم أبواب البر، كما في قوله: * (وإن تخالطوهم فإخوانكم) * والله أعلم.
202

قوله تعالى
* (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نسآء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث فإن كان له إخوة فلامه السدس من بعد وصية يوصى بهآ أو دين ءابآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين: أحدهما: النسب، والآخر العهد، أما النسب فهم ما كانوا يورثون الصغار ولا الإناث. وإنما كانوا يورثون من الأقارب الرجال الذين يقاتلون على الخيل ويأخذون الغنيمة، وأما العهد فمن وجهين: الأول: الحلف، كان الرجل في الجاهلية يقول لغيره: دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فإذا تعاهدوا على هذا الوجه فأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت، والثاني: التبني، فان الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه، وهذا التبني نوع من أنواع المعاهدة، ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم تركهم في أول الأمر على ما كانوا عليه في الجاهلية، ومن العلماء من قال: بل قررهم الله على ذلك فقال: * (ولكل جملنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) * (النساء: 33) والمراد التوارث بالنسب. ثم قال: * (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) * (النساء: 33) والمراد به التوارث بالعهد، والأولون قالوا المراد بقوله: * (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) * ليس المراد منه النصيب من المال، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة والنصيحة وحسن العشرة، فهذا شرح أسباب التوارث في الجاهلية.
وأما أسباب التوارث في الاسلام، فقد ذكرنا أن في أول الأمر قرر الحلف والتبني، وزاد فيه أمرين آخرين: أحدهما: الهجرة، فكان المهاجر يرث من المهاجر. وان كان أجنبيا عنه، إذا كان كل واحد منهما مختصا بالآخر بمزيد المخالطة والمخالصة، ولا يرثه غير المهاجر، وإن كان من أقاربه. والثاني: المؤاخاة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل اثنين منهم، وكان ذلك سببا للتوارث، ثم إنه تعالى نسخ كل هذه الأسباب بقوله: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * (الأحزاب: 6) والذي تقرر عليه دين الاسلام أن أسباب التوريث ثلاثة: النسب، والنكاح، والولاء.
المسألة الثانية: روى عطاء قال: استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخا، فأخذ
203

الأخ المال كله، فأتت المرأة وقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد، وإن سعدا قتل وان عمهما أخذ مالهما، فقال عليه الصلاة والسلام: " ارجعي فلعل الله سيقضي فيه " ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما وقال: " أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن وما بقي فهو لك، فهذا أول ميراث قسم في الاسلام.
المسألة الثالثة: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان: الأول: أنه تعالى لما بين الحكم في مال الأيتام، وما على الأولياء فيه، بين كيف يملك هذا اليتيم المال بالإرث، ولم يكن ذلك إلا ببيان جملة أحكام الميراث، الثاني: أنه تعالى أثبت حكم الميراث بالاجمال في قوله: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) * (النساء: 7) فذكر عقيب ذلك المجمل، هذا المفصل فقال: * (يوصيكم الله في أولادكم) *.
المسألة الرابعة: قال القفال: قوله: * (يوصيكم الله في أولادكم) * أي يقول الله لكم قولا يوصلكم إلى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم، وأصل الايصاء هو الايصال يقال: وصى يصي إذا وصل، وأوصى يوصي إذا أوصل، فإذا قيل: أوصاني فمعناه أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه، وكذلك وصى وهو على المبالغة قال الزجاج: معنى قوله ههنا: * (يوصيكم) * أي يفرض عليكم، لأن الوصية من الله إيجاب والدليل عليه قوله: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به) * ولا شك في كون ذلك واجبا علينا.
فان قيل: انه لا يقال في اللغة أوصيك لكذا فكيف قال ههنا: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) *.
قلنا: لما كانت الوصية قولا، لا جرم ذكر بعد قوله: * (يوصيكم الله) * خبرا مستأنفا وقال: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * ونظيره قوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) * (الفتح: 29) أي قال الله: لهم مغفرة لأن الوعد قول. المسألة الخامسة: اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد وإنما فعل ذلك لأن تعلق الانسان بولده أشد التعلقات، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " فاطمة بضعة مني " فلهذا السبب قدم الله ذكر ميراثهم.
واعلم أن للأولاد حال انفراد، وحال اجتماع مع الوالدين: أما حال الانفراد فثلاثة، وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والإناث معا، وإما أن يخلف الإناث فقط، أو
الذكور فقط.
القسم الأول: ما إذا خلف الذكران والإناث معا، وقد بين الله الحكم فيه بقوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) *.
204

واعلم أن هذا يفيد أحكاما: أحدهما: إذا خلف الميت ذكرا واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم، وثانيها: إذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الإناث كان لكل ذكر سهمان، ولك أنثى سهم. وثالثها: إذا حصل مع الأولاد جمع آخرون من الوارثين كالأبوين والزوجين فهم يأخذون سهامهم، وكان الباقي بعد تلك السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فثبت أن قوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * يفيد هذه الأحكام الكثيرة.
القسم الثاني: ما إذا مات وخلف الإناث فقط: بين تعالى أنهم إن كن فوق اثنتين، فلهن الثلثان، وإن كانت واحدة فلها النصف، إلا أنه تعالى لم يبين حكم البنتين بالقول الصريح. واختلفوا فيه، فعن ابن عباس أنه قال: الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا، وأما فرض البنتين فهو النصف، واحتج عليه بأنه تعالى قال: * (فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) * وكلمة " إن " في اللغة للاشتراط، وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثا فصاعدا، وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين.
والجواب من وجوه: الأول: أن هذا الكلام لازم على ابن عباس، لأنه تعالى قال: * (وإن كانت واحدة فلها النصف) * فجعل حصول النصف مشروطا بكونها واحدة، وذلك ينفي حصول النصف نصيبا للبنتين، فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله. الثاني: أنا لا نسلم أن كلمة " ان " تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف؛ ويدل عليه أنه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين، لأن الاجماع دل على أن نصيب الثنتين إما النصف، وإما الثلثان، وبتقدير أن يكون كلمة " إن " للاشتراط وجب القول بفسادهما، فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلا، ولأنه تعالى قال: * (وان لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) * (البقرة: 283) وقال: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم، ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات.
الوجه الثالث: في الجواب: هو أن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير: فان كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان، فهذا هو الجواب عن حجة ابن عباس، وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان، قالوا: وإنما عرفنا ذلك بوجوه: الأول: قال أبو مسلم الأصفهاني: عرفناه من قوله تعالى: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * وذلك لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله تعالى: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * فإذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين، ونصيب الذكر ههنا هو الثلثان، وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين
205

الثلثين، الثاني: قال أبو بكر الرازي: إذا مات وخلف ابنا وبنتا فههنا نصيب البنت الثلث بدليل قوله تعالى: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث، فبأن يكون نصيبهما مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى، لأن الذكر أقوى من الأنثى. الثالث: أن قوله تعالى: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة، وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك على خلاف النص، وإذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فنقول وجب أن يكون ذلك هو الثلثان، لأنه لا قائل بالفرق، والرابع: أنا ذكرنا في سبب نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بنتي سعد بن الربيع الثلثين، وذلك يدل على ما قلناه. الخامس: أنه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن، ولم يذكر حكم الثنتين، وقال في شرح ميراث الأخوات: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك. فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) * فههنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة، فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملا من وجه ومبينا من وجه، فنقول: لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك، لأنهما أقرب إلى الميت من الأختين، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزداد على الثلثين وجب أن لا يزداد نصيب الأخوات الكثيرة على ذلك، لأن البنت لما كانت أشد اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى، فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذا الباب، فالوجوه الثلاثة الأول مستنبطة من الآية، والرابع مأخوذ من السنة، والخامس من القياس الجلي.
أما القسم الثالث: وهو إذا مات وخلف الأولاد الذكور فقط فنقول: أما الابن الواحد فإنه إذا انفرد أخذ كل المال، وبيانه من وجوه: الأول من دلالة قوله تعالى: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * (النساء: 176) فان هذا يدل على أن نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين.
ثم قال تعالى في البنات: * (وإن كانت واحدة فلها النصف) * فلزم من مجموع هاتين الآيتين ان نصيب الابن المفرد جميع المال. الثاني: أنا نستفيد ذلك من السنة وهي قوله عليه الصلاة والسلام: " ما أبقت السهام فلا ولى عصبة ذكر " ولا نزاع ان الابن عصبة ذكر، ولما كان الابن آخذا لكل ما بقي بعد السهام وجب فيما إذا لم يكن سهام أن يأخذ الكل. الثالث: ان أقرب العصبات إلى الميت هو الابن، وليس له بالاجماع قدر معين من الميراث، فإذا لم يكن معه صاحب فرض لم يكن له ان يأخذ قدرا أولى منه بأن يأخذ الزائد، فوجب أن يأخذ الكل.
فان قيل: حظ الأنثيين هو الثلثان فقوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * يقتضي أن يكون حظ
206

الذكر مطلقا هو الثلث، وذلك ينفي أن يأخذ كل المال.
قلنا: المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد، ويدل عليه وجهان: أحدهما: ان قوله: * (يوصيكم الله في أولادكم) * يقتضي حصول الأولاد، وقوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * يقتضي حصول الذكر والأنثى هناك. والثاني: أنه تعالى ذكر عقيبه حال الانفراد، هذا كله إذا مات وخلف ابنا واحدا فقط، أما إذا مات وخلف أبناء كانوا متشاركين في جهة الاستحقاق ولا رجحان، فوجب قسمة المال بينهم بالسوية والله أعلم. بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: لا شك أن المرأة أعجز من الرجل لوجوه: أما أولا فلعجزها عن الخروج والبروز، فان زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك. وأما ثانيا: فلنقصان عقلها
وكثرة اختداعها واغترارها. وأما ثالثا: فلأنها متى خالطت الرجال صارت متهمة، وإذا ثبت أن عجزها أكمل وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر، فان لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة، فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل.
والجواب عنه من وجوه: الأول: أن خرج المرأة أقل، لأن زوجها ينفق عليها، وخرج الرجل أكثر لأنه هو المنفق على زوجته، ومن كان خرجه أكثر فهو إلى المال أحوج. الثاني: أن الرجل أكمل حالا من المرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية، مثل صلاحية القضاء والإمامة، وأيضا شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، ومن كان كذلك وجب أن يكون الانعام عليه أزيد. الثالث: ان المرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفساد قال الشاعر: إن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده
وقال تعالى: * (إن الانسان ليطغى * أن رآه استغنى) * (العلق: 6 - 7) وحال الرجل بخلاف ذلك. والرابع: أن الرجل لكمال عقله يصرف المال إلى ما يفيده الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، نحو بناء الرباطات، وإعانة الملهوفين والنفقة على الأيتام والأرامل، وإنما يقدر الرجل على ذلك لأنه يخالط الناس كثيرا، والمرأة تقل مخالطتها مع الناس فلا تقدر على ذلك. الخامس: روي أن جعفر الصادق سئل عن هذه المسألة فقال: إن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها، ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم، فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها، فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل.
السؤال الثاني: لم لم يقل: للأنثيين مثل حظ الذكر، أو للأنثى مثلا نصف حظ الذكر؟
207

والجواب من وجوه: الأول: لما كان الذكر أفضل من الأنثى قدم ذكره على ذكر الأنثى، كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى. الثاني: أن قوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * يدل على فضل الذكر بالمطابقة وعلى نقص الأنثى بالالتزام، ولو قال: كما ذكرتم لدل ذلك على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذكر بالالتزام، فرجح الطريق الأول تنبيها على أن السعي في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحا على السعي في تشهير الرذائل، ولهذا قال: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) فذكر الاحسان مرتين والإساءة مرة واحدة. الثالث: أنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود هذه الآية، فقيل: كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى، فلا ينبغي له أن يطمع في جعل الأنثى محرومة عن الميراث بالكلية والله أعلم.
المسألة السادسة: لا شك أن اسم الولد واقع على ولد الصلب على سبيل الحقيقة، ولا شك أنه مستعمل في ولد الابن قال تعالى: * (يا بني آدم) * (الأعراف: 26) وقال للذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام: * (يا بني إسرائيل) * (البقرة: 40) الا أن البحث في أن لفظ الولد يقع على ولد الابن مجازا أو حقيقة.
فان قلنا: إنه مجاز فنقول: ثبت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعة واحدة في حقيقته وفي مجازه معا، فحينئذ يمتنع أن يريد الله بقوله: * (يوصيكم الله في أولادكم) * ولد الصلب وولد الابن معا.
واعلم أن الطريق في دفع هذا الاشكال أن يقال: انا لا نستفيد حكم ولد الابن من هذه الآية بل من السنة ومن القياس، وأما ان أردنا أن نستفيده من هذه الآية فنقول: الولد وولد الابن ما صارا مرادين من هذه الآية معا، وذلك لأن أولاد الابن لا يستحقون الميراث إلا في إحدى حالتين، إما عند عدم ولد الصلب رأسا، وإما عند ما لا يأخذ ولد الصلب كل الميراث، فحينئذ يقتسمون الباقي، وأما أن يستحق ولد الابن مع ولد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه أولاد الصلب بعضهم مع بعض فليس الأمر كذلك، وعلى هذا لا يلزم من دلالة هذه الآية على الولد وعلى ولد الابن أن يكون قد أريد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا، لأنه حين أريد به ولد الصلب ما أريد به ولد الابن، وحين أريد به ولد الابن ما أريد به ولد الصلب، فالحاصل ان هذه الآية تارة تكون خطابا مع ولد الصلب وأخرى مع ولد الابن، وفي كل واحدة من هاتين الحالتين يكون المراد به شيئا واحدا، أما إذا قلنا: ان وقوع اسم الولد على ولد الصلب وعلى ولد الابن يكون حقيقة، فان جعلنا اللفظ مشتركا بينهما عاد الاشكال، لأنه ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك لافادة معنييه معا، بل الواجب أن يجعله متواطئا فيهما كالحيوان بالنسبة إلى الانسان
208

والفرس. والذي يدل على صحة ذلك قوله تعالى: * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) * (النساء: 23) وأجمعوا أنه يدخل فيه ابن الصلب وأولاد الابن، فعلمنا أن لفظ الابن متواطئ بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الابن، وعلى هذا التقدير يزول الاشكال.
واعلم أن هذا البحث الذي ذكرناه في أن الابن هل يتناول أولاد الابن؟ قائم في أن لفظ الأب والأم هل يتناول الأجداد والجدات؟ ولا شك أن ذلك واقع بدليل قوله تعالى: * (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق) * (البقرة: 133) والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة، فان الصحابة اتفقوا على أنه ليس للجد حكم مذكور في القرآن، ولو كان اسم الأب يتناول الجد على سبيل الحقيقة لما صح ذلك والله أعلم.
المسألة السابعة: اعلم أن عموم قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) * زعموا أنه مخصوص في صور أربعة: أحدها: أن الحر والعبد لا يتوارثان. وثانيها: أن القاتل على سبيل العمد لا يرث. وثالثها: أنه لا يتوارث أهل ملتين، وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد المستفيض، ويتفرع عليه فرعان.
الفرع الأول: اتفقوا على أن الكافر لا يرث من المسلم، أما المسلم فهل يرث من الكافر؟ ذهب الأكثرون إلى أنه أيضا لا يرث، وقال بعضهم: إنه يرث قال الشعبي: قضى معاوية بذلك وكتب به إلى زياد، فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به، وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث، فلما أمره زياد بذلك كان يقضي به ويقول: هكذا قضى أمير المؤمنين.
حجة الأولين عموم قوله عليه السلام: " لا يتوارث أهل ملتين " وحجة القول الثاني: ما روي أن معاذا كان باليمن فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما فقال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " الاسلام يزيد ولا ينقص " ثم أكدوا ذلك بأن قالوا إن ظاهر قوله: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) * يقتضي توريث الكافر من المسلم، والمسلم من الكافر، إلا أنا خصصناه بقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يتوارث أهل ملتين " لأن هذا الخبر أخص من تلك الآية، والخاص مقدم على العام فكذا ههنا قوله: " الاسلام يزيد ولا ينقص " أخص من قوله: " لا يتوارث أهل ملتين " فوجب تقديمه عليه، بل هذا التخصيص أولى، لأن ظاهر هذا الخبر متأكد بعموم الآية، والخبر الأول ليس كذلك، وأقصى ما قيل في جوابه: أن قوله: " الاسلام يزيد ولا ينقص " ليس نصا في واقعة الميراث فوجب حمله على سائر الأحوال.
الفرع الثاني: المسلم إذا ارتد ثم مات أو قتل، فالمال الذي اكتسبه في زمان الردة أجمعوا
209

على أنه لا يورث، بل يكون لبيت المال، أما المال الذي اكتسبه حال كونه مسلما ففيه قولان: قال الشافعي: لا يورث بل يكون لبيت المال، وقال أبو حنيفة: يرثه ورثته من المسلمين، حجة الشافعي أنا أجمعنا على ترجيح قوله عليه السلام: " لا يتوارث أهل ملتين " على عموم قوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * والمرتد وورثته من المسلمين أهل ملتين، فوجب أن لا يحصل التوارث.
فان قيل: لا يجوز أن يقال: إن المرتد زال ملكه في آخر الاسلام وانتقل إلى الوارث، وعلى هذا التقدير فالمسلم انما ورث عن المسلم لا عن الكافر.
قلنا: لو ورث المسلم من المرتد لكان إما أن يرثه حال حياة المرتد أو بعد مماته، والأول باطل، ولا يحل له أن يتصرف في تلك الأموال لقوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المؤمنون: 6) وهو بالاجماع باطل. والثاني: باطل لأن المرتد عند مماته كافر فيفضي إلى حصول التوارث بين أهل ملتين، وهو خلاف الخبر. ولا يبقى ههنا إلا أن يقال: إنه يرثه بعد موته مستندا إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه، إلا أن القول بالاستناد باطل، لأنه لما لم يكن الملك حاصلا حال حياة المرتد، فلو حصل بعد موته على وجه صار حاصلا في زمن حياته لزم إيقاع التصرف في الزمان الماضي، وذلك باطل في بداهة العقول، وإن فسر الاستناد بالتبيين عاد الكلام إلى أن الوارث ورثه من المرتد حال حياة المرتد، وقد أبطلناه والله أعلم.
الموضع الرابع: من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون، والشيعة خالفوا فيه، روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه، احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد، ثم إن الشيعة قالوا: بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أنه غير جائز ههنا، وبيانه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه على خلاف قوله تعالى: حكاية عن زكريا عليه السلام * (يرثني ويرث من آل يعقوب) * (مريم: 6) وقوله تعالى: * (وورث سليمان داود) * (النمل: 16) قالوا: ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة. بل يكون كسبا جديدا مبتدأ، إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة، وثانيها: أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين، وأما أبو بكر فإنه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة، وثالثها: يحتمل أن قوله: " ما تركناه صدقة " صلة لقوله:
210

" لا نورث " والتقدير: أن الشيء الذي تركناه صدقة، فذلك الشيء لا يورث. فان قيل: فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك.
قلنا: بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم.
والجواب: أن فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة، وانعقد الاجماع على صحة ما ذهب إليه أبو بكر فسقط هذا السؤال والله أعلم.
المسألة الثامنة: من المسائل المتعلقة بهذه الآية أن قوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * معناه للذكر منهم، فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم، كقولك: السمن منوان بدرهم، والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) * المعنى إن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا ليس معهن ابن، وقوله: * (فوق اثنتين) * يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان، وأن يكون صفة لقوله: * (نساء) * أي نساء زائدات على اثنتين. وههنا سؤالات.
السؤال الأول: قوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * كلام مذكور لبيان حظ الذكر من الأولاد، لا لبيان حظ الأنثيين، فكيف يحسن إرادته بقوله: * (فان كن نساء) * وهو لبيان حظ الإناث.
والجواب من وجهين: الأول: أنا بينا أن قوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * دل على أن حظ الأنثيين هو الثلثان، فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قال بعده: * (فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) * على معنى: فان كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد، فلهن ما للثنتين وهو الثلثان، ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت، فثبت أن هذا العطف متناسب. الثاني: أنه قد تقدم ذكر الأنثيين، فكفى هذا القول في حسن هذا العطف.
السؤال الثاني: هل يصح أن يكون الضميران في " كن " و " كانت " مبهمين ويكون " نساء " و " واحدة " تفسيرا لهما على أن " كان " تامة؟
الجواب: ذكر صاحب " الكشاف ": أنه ليس ببعيد.
السؤال الثالث: النساء: جمع، وأقل الجمع ثلاثة، فالنساء يجب أن يكن فوق اثنتين فما الفائدة في التقييد بقوله فوق اثنتين؟
الجواب: من يقول أقل الجمع اثنان فهذه الآية حجته، ومن يقول: هو ثلاثة قال هذا للتأكيد، كما في قوله: * (إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (النساء: 10) وقوله: * (لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد) *.
أما قوله تعالى: * (وإن كانت واحدة فلها النصف) * فنقول: قرأ نافع (واحدة) بالرفع، والباقون
211

بالنصب، أما الرفع فعلى كان التامة، والاختيار النصب لأن التي قبلها لها خبر منصوب وهو قوله: * (فان كن نساء) * (النحل: 51) والتقدير: فان كان المتروكات أو الوارثات نساء فكذا ههنا، التقدير: وإن كانت المتروكة واحدة، وقرأ زيد بن علي: النصف، بضم النون.
قوله تعالى: * (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية ميراث الأولاد ذكر بعده ميراث الأبوين، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الحسن ونعيم بن أبي ميسر * (السدس) * بالتخفيف وكذلك الربع و * (الثمن) *.
المسألة الثانية: اعلم أن للأبوين ثلاثة أحوال. الحالة الأولى: أن يحصل معهما ولد وهو المراد من هذه الآية، واعلم أنه لا نزاع أن اسم لولد يقع على الذكر والأنثى، فهذه الحالة يمكن وقوعها على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يحصل مع الأبوين ولد ذكر واحد، أو أكثر من واحد، فههنا الأبوان لكل واحد منهما السدس. وثانيها: أن يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر، وههنا الحكم ما ذكرناه أيضا. وثالثها: أن يحصل مع الأبوين بنت واحدة فههنا للبنت النصف، وللأم السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية. والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب، وههنا سؤالات.
السؤال الأول: لا شك أن حق الوالدين على الانسان أعظم من حق ولده عليه، وقد بلغ حق الوالدين إلى أن قرن الله طاعته بطاعتهما فقال: * (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) * وإذا كان كذلك فما السبب في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل؟
والجواب عن هذا في نهاية الحسن والحكمة، وذلك لأن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل فكان احتياجهما إلى المال قليلا، أما الأولاد فهم في زمن الصبا فكان احتياجهم إلى المال كثيرا فظهر الفرق.
السؤال الثاني: الضمير في قوله: * (ولأبويه) * إلى ماذا يعود؟
الجواب: أنه ضمير عن غير مذكور، والمراد: ولأبوي الميت.
السؤال الثالث: ما المراد بالأبوين؟
والجواب: هما الأب والأم، والأصل في الأم أن يقال لها أبة، فأبوان تثنية أب وأبة.
212

السؤال الرابع: كيف تركيب هذه الآية.
الجواب: قوله: * (لكل واحد منهما) * بدل من قوله: * (لأبويه) * بتكرير العامل، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه.
فان قيل: فهلا قيل لكل واحد من أبويه السدس.
قلنا: لأن في الابدال والتفصيل بعد الاجمال تأكيدا وتشديدا، والسدس مبتدأ وخبره: لأبويه، والبدل متوسط بينهما للبيان.
قوله تعالى: * (فان لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) *.
وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو الحالة الثانية من أحوال الأبوين، وهو أن لا يحصل معهما أحد من الأولاد، ولا يكون هناك وارث سواهما، وهو المراد من قوله: * (وورثه أبواه) * فههنا للأم الثلث، وذلك فرض لها، والباقي للأب، وذلك لأن قوله: * (وورثه أبواه) * ظاهره مشعر بأنه لا وارث له سواهما، وإذا كان كذلك كان مجموع المال لهما، فإذا كان نصيب الأم هو الثلث وجب أن يكون الباقي وهو الثلثان للأب، فههنا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين كما في حق الأولاد، ويتفرع على ما ذكرنا فرعان: الأول: أن الآية السابقة دلت على أن فرض الأب هو السدس، وفي هذه الصورة يأخذ الثلثين إلا أنه ههنا يأخذ السدس بالفريضة، والنصف بالتعصيب. الثاني: لما ثبت أنه يأخذ النصف بالتعصيب في هذه الصورة وجب أن يكون الأب إذا انفرد أن يأخذ كل المال، لأن خاصية العصبة هو أن يأخذ الكل عند الانفراد، هذا كله إذا لم يكن للميت وارث سوى الأبوين، أما إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فذهب أكثر الصحابة إلى أن الزوج يأخذ نصيبه ثم يدفع ثلث ما بقي إلى الأم، ويدفع الباقي إلى الأب، وقال ابن عباس: يدفع إلى الزوج نصيبه، والى الأم الثلث، ويدفع الباقي إلى الأب، وقال: لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي، وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين، وخالفه في الزوج والأبوين، لأنه يفضي إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، وأما في الزوجة فإنه لا يفضي إلى ذلك، وحجة الجمهور وجوه: الأول: أن قاعدة الميراث أنه متى اجتمع الرجل والمرأة من جنس واحد كان للذكر مثل حظ الأنثيين، ألا ترى أن الابن مع البنت كذلك قال تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم
213

للذكر مثل حظ الأنثيين) * (النساء: 176) وأيضا الأخ مع الأخت كذلك قال تعالى: * (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) * وأيضا الأم مع الأب كذلك، لأنا بينا أنه إذا كان لا وارث غيرهما فللأم الثلث، وللأب الثلثان، إذا ثبت هذا فنقول: إذا أخذ الزوج نصيبه وجب أن يبقى الباقي بين الأبوين أثلاثا، للذكر
مثل حظ الأنثيين. الثاني: أن الأبوين يشبهان شريكين بينهما مال، فإذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأول، الثالث: أن الزوج إنما أخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة، فأشبه الوصية في قسمة الباقي، الرابع: أن المرأة إذا خلفت زوجا وأبوين فللزوج النصف، فلو دفعنا الثلث إلى الأم والسدس إلى الأب لزم أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، وهذا خلاف قوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) *.
واعلم أن الوجوه الثلاثة الأول: يرجع حاصلها إلى تخصيص عموم القرآن بالقياس.
وأما الوجه الرابع: فهو تخصيص لأحد العمومين بالعموم الثاني.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي * (فلأمه) * بكسر الهمزة والميم وشرطوا في جواز هذه الكسرة أن يكون ما قبلها حرفا مكسورا أو ياء.
أما الأول: فكقوله: * (في بطون أمهاتكم) * (الزمر: 6).
وأما الثاني: فكقوله: * (في أمها رسولا) * (القصص: 59) وإذا لم يوجد هذا الشرط فليس إلا الضم كقوله: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) * وأما الباقون فإنهم قرؤا بضم الهمزة، أما وجه من قرأ بالكسر قال الزجاج: انهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة في قوله: * (فلأمه) * وذلك لأن اللام لشدة اتصالها بالأم صار المجموع كأنه كلمة واحدة، وليس في كلام العرب فعل بكسر الفاء وضم العين، فلا جرم جعلت الضمة كسرة، وأما وجه من قرأ الهمزة بالضم فهو أتى بها على الأصل، ولا يلزم منه استعمال فعل لأن اللازم في حكم المنفصل والله أعلم.
قوله تعالى: * (فان كان له إخوة فلأمه السدس) *.
اعلم أن هذا هو الحالة الثالثة من أحوال الأبوين وهي أن يوجد معهما الاخوة، والأخوات وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اتفقوا على أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس، واتفقوا على أن الثلاثة يحجبون، واختلفوا في الأختين، فالأكثرون من الصحابة على القول باثبات
214

الحجب كما في الثلاثة، وقال ابن عباس: لا يحجبان كما في حق الواحدة، حجة ابن عباس أن الآية دالة على أن هذا الحجب مشروط بوجود الاخوة، ولفظ الاخوة جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما ثبت في أصول الفقه، فإذا لم توجد الثلاثة لم يحصل شرط الحجب، فوجب أن لا يحصل الحجب. روي أن ابن عباس قال لعثمان: بم صار الاخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس؟ وإنما قال الله تعالى: * (فان كان له إخوة) * والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار.
واعلم أن في هذه الحكاية دلالة على أن أقل الجمع ثلاثة لأن ابن عباس ذكر ذلك مع عثمان، وعثمان ما أنكره، وهما كانا من صميم العرب، ومن علماء اللسان، فكان اتفاقهما حجة في ذلك.
واعلم أن للعلماء في أقل الجمع قولين: الأول: أن أقل الجمع اثنان وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمة الله عليه، واحتجوا فيه بوجوه: أحدها: قوله تعالى: * (فقد صغت قلوبكما) * (التحريم: 4) ولا يكون للانسان الواحد أكثر من قلب واحد، وثانيها: قوله تعالى: * (فان كن نساء فوق اثنتين) * والتقييد بقوله: فوق اثنتين إنما يحسن لو كان لفظ النساء صالحا للثنتين، وثالثها: قوله: " الاثنان فما فوقهما جماعة " والقائلون بهذا المذهب زعموا أن ظاهر الكتاب يوجب الحجب بالأخوين، الا أن الذي نصرناه في أصول الفقه أن أقل الجمع ثلاثة، وعلى هذا التقدير فظاهر الكتاب لا يوجب الحجب بالأخوين، وإنما الموجب لذلك هو القياس، وتقريره أن نقول: الأختان يوجبان الحجب، وإذا كان كذلك فالأخوان وجب أن يحجبا أيضا، إنما قلنا إن الأختين يحجبان، وذلك لأنا رأينا أن الله تعالى نزل الاثنين من النساء منزلة الثلاثة في باب الميراث، ألا ترى أن نصيب البنتين ونصيب الثلاثة هو الثلثان، وأيضا نصيب الأختين من الأم ونصيب الثلاثة هو الثلث، فهذا الاستقراء يوجب أن يحصل الحجب بالأختين، كما أنه حصل بالأخوات الثلاثة، فثبت أن الأختين يحجبان، وإذا ثبت ذلك في الأختين لزم ثبوته في الأخوين، لأنه لا قائل بالفرق، فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع، وفيه إشكال لأن إجراء القياس في التقديرات صعب لأنه غير معقول المعنى، فيكون ذلك مجرد تشبيه من غير جامع، ويمكن أن يقال: لا يتمسك به على طريقة القياس، بل على طريقة الاستقراء لأن الكثرة أمارة العموم، إلا أن هذا الطريق في غاية الضعف والله أعلم، واعلم أنه تأكد هذا باجماع التابعين على سقوط مذهب ابن عباس، والأصح في أصول الفقه أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة والله أعلم.
المسألة الثانية: الاخوة إذا حجبوا الأم من الثلث إلى السدس فهم لا يرثون شيئا البتة، بل
215

يأخذ الأب كل الباقي وهو خمسة أسداس، سدس بالفرض، والباقي بالتعصيب، وقال ابن عباس: الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه، وما بقي فللأب، وحجته أن الاستقراء دل على أن من لا يرث لا يحجب، فهؤلاء الاخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا، وحجة الجمهور أن عند عدم الاخوة كان المال ملكا للأبوين، وعند وجود الاخوة لم يذكرهم الله تعالى إلا بأنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، ولا يلزم من كونه حاجبا كونه وارثا، فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين، كما كان قبل ذلك والله أعلم.
قوله تعالى: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) *.
اعلم أن مسائل الوصايا تذكر في خاتمة هذه الآية وههنا مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين، قال: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن
الوصية والدين، وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين، حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق، فأما إذا لم يكن دين، أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء، فان أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل، ثم قسم الباقي ميراثا على فرائض الله.
المسألة الثانية: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية.
واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ، وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة " أو " لا تفيد الترتيب البتة.
واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين: الأول: أن الوصية مال يؤخذ بغير عوض فكان اخراجها شاقا على الورثة، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين، فان نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في اخراجها، ثم أكد في ذلك الترغيب بادخال كلمة " أو " على الوصية والدين، تنبيها على أنهما في وجوب الاخراج على السوية. الثاني: أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له، فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية، ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة
216

بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين، بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى، وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الإرث، وليس كذلك الدين، فإنه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي، وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا، فالوصية تشبه الإرب من وجه، والدين من وجه آخر، أما مشابهتها بالإرث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والإرث، وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين والله أعلم. المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: ما معنى " أو " ههنا وهلا قيل: من بعد وصية يوصى بها ودين، والجواب من وجهين: الأول: أن " أو " معناها الإباحة كما لو قال قائل: جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس، فان جالست الحسن فأنت مصيب، أو ابن سيرين فأنت مصيب، وإن جمعتهما فأنت مصيب، أما لو قال: جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر، فكذا ههنا لو قال: من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران، ومعلوم أنه ليس كذلك، أما إذا ذكره بلفظ " أو " كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما. الثاني: أن كلمة " أو " إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله: * (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) * (الإنسان: 24) وقوله: * (حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم) * (الأنعام: 146) فكانت " أو " ههنا بمعنى الواو، فكذا قوله تعالى: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا.
المسألة الرابعة: قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم * (يوصى) * بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصى وهو الاختيار بدليل قوله تعالى: * (مما ترك إن كان له ولد) *.
قوله تعالى: * (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما) *.
اعلم أن هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله: * (فريضة من الله) * ومن حق
217

الاعتراض أن يكون ما اعترض مؤكدا ما اعترض بينه ومناسبه، فنقول: إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد وأنصباء الأبوين، وكانت تلك الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات، والانسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح، لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه، وانهم كانوا يورثون الرجال الأقوياء، وما كانوا يورثون الصبيان والنسوان والضعفاء، فالله تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال: إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم، فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة، وأما الاله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها، فكأنه قيل: أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم، وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم، فقوله: * (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) * إشارة إلى ترك ما يميل إليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة، وقوله: * (فريضة من الله) * إشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها، وذكروا في المراد من قوله: * (أيهم أقرب لكم نفعا) * وجوها: الأول: المراد أقرب لكم نفعا في الآخرة، قال ابن عباس: إن الله ليشفع بعضهم في بعض، فأطوعكم لله عز وجل من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة، وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده بمسألته ليقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه، فقال: * (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) * لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك. الثاني: المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة ما أوجب من الانفاق عليه والتربية له والذب عنه والثالث: المراد جواز أن يموت هذا قبل ذلك فيرثه وبالضد.
قوله تعالى: * (فريضة من الله) * هو منصوب نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما حكيما، والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل إليها طباعكم، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد، وأنه حكيم لا يأمر إلا بما هو الأصلح الأحسن، ومتى كان الأمر كذلك كانت قسمته لهذه المواريث أولى من القسمة التي تريدونها، وهذا نظير قوله للملائكة: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * (البقرة: 30).
فان قيل: لم قال: * (كان عليما حكيما) * مع أنه الآن كذلك.
قلنا: قال الخليل: الخبر عن الله بهذه الألفاظ كالخبر بالحال والاستقبال، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان، وقال سيبويه: القوم لما شاهدوا علما وحكمة وفضلا وإحسانا تعجبوا، فقيل
218

لهم: إن الله كان كذلك، ولم يزل موصوفا بهذه الصفات.
قوله تعالى
* (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بهآ أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بهآ أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو مرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركآء فى الثلث من بعد وصية يوصى بهآ أو دين غير مضآر وصية من الله والله عليم حليم) *.
اعلم أنه تعالى أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات، وذلك لأن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة، فان اتصل به بغير واسطة فسبب الاتصال اما أن يكون هو النسب أو الزوجية، فحصل ههنا أقسام ثلاثة، أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب، وذلك هو قرابة الولاد، ويدخل فيها الأولاد والوالدان فالله تعالى قدم حكم هذا القسم. وثانيها: الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية، وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي وهذا الثاني عرضي، والذاتي أشرف من العرضي، وهذا القسم هو المراد من هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها. وثالثها: الاتصال الحاصل بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة، وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه: أحدها: أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية، وأما الكلالة فقد يعرض لهم السقوط بالكلية. وثانيها: أن القسمين الأولين ينسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة، والكلالة تنسب إلى الميت بواسطة والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة. وثالثها: أن مخالطة الانسان بالوالدين والأولاد والزوج والزوجة أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة. وكثرة المخالطة مظنة الألفة والشفقة، وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم، فلهذه الأسباب الثلاثة وأشباهها أخر الله تعالى ذكر مواريث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشد انطباقه
219

على قوانين المعقولات وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما جعل في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الأنثيين كذلك جعل في الموجب السببي حظ الرجل مثل حظ الأنثيين، واعلم أن الواحد والجماعة سواء في الربع والثمن، والولد من ذلك الزوج ومن غيره سواء في الرد من النصف إلى الربع أو من الربع إلى الثمن، واعلم أنه لا فرق في الولد بين الذكر والأنثى ولا فرق بين الابن وبين ابن الابن ولا بين البنت وبين بنت الابن والله أعلم.
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: يجوز للزوج غسل زوجته، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز. حجة الشافعي أنها بعد الموت زوجته فيحل له غسلها، بيان أنها زوجته قوله تعالى: * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) * سماها زوجة حال ما أثبت للزوج نصف مالها عند موتها، إذا ثبت للزوج نصف مالها عند موتها، فوجب أن تكون زوجة له بعد موتها، إذا ثبت هذا وجب أن يحل له غسلها لأنه قبل الزوجية ما كان يحل له غسلها، وعند حصول الزوجية حل له غسلها، والدوران دليل العلية ظاهرا. وحجة أبي حنيفة أنها ليست زوجته ولا يحل له غسلها: بيان عدم الزوجية أنها لو كانت زوجته لحل له بعد الموت وطؤها لقوله: * (إلا على أزواجهم) * (المؤمنون: 6) وإذا ثبت هذا وجب أن لا يثبت حل الغسل، لأنه لو ثبت لثبت اما مع حل النظر وهو باطل لقوله عليه السلام: " غض بصرك إلا عن زوجتك " أو بدون حل النظر وهو باطل بالاجماع.
والجواب: لما تعارضت الآيتان في ثبوت الزوجية وعدمها وجب الترجيح فنقول: لو لم تكن زوجة لكان قوله: * (نصف ما ترك أزواجكم) * مجازا، ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل وطؤها لزم التخصيص، وقد ذكرنا في أصول الفقه أن التخصيص أولى، فكان الترجيح من جانبنا، وكيف وقد علمنا أن في صور كثيرة حصلت الزوجية ولم يحصل حل الوطء مثل زمان الحيض والنفاس ومثل نهار رمضان، وعند اشتغالها بأداء الصلاة المفروضة والحج المفروض، وعند كونها في العدة عن الوطء بالشبهة، وأيضا فقد بينا في الخلافيات أن حل الوطء ثبت على خلاف الدليل لما فيه من المصالح الكثيرة، فبعد الموت لم يبق شيء من تلك المصالح، فعاد إلى أصل الحرمة، أما حل الغسل فان ثبوته بعد الموت منشأ للمصالح الكثيرة فوجب القول ببقائه والله أعلم. المسألة الثالثة: في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة، وأيضا
220

خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء، وما أحسن ما راعى هذه الدقيقة لأنه تعالى فضل الرجال على النساء في النصيب، ونبه بهذه الدقيقة على مزيد فضلهم عليهن.
قوله تعالى: * (وان كان رجل يورث كلالة أن امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فان كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية الله والله عليم حليم) *.
اعلم أن هذه الآية في شرح توريث القسم الثالث من أقسام الورثة وهم الكلالة وهم الذين ينسبون إلى الميت بواسطة. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة، واختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها عبارة عمن سوى الوالدين والولد، وهذا هو المختار والقول الصحيح، وأما عمر رضي الله عنه فإنه كان يقول: الكلالة من سوى الولد، وروي أنه لما طعن قال: كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له، وأنا أستحي أن أخالف أبا
بكر، الكلالة من عدا الوالد والولد، وعن عمر فيه رواية أخرى: وهي التوقف، وكان يقول: ثلاثة، لأن يكون بينها الرسول صلى الله عليه وسلم لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، والربا. والذي يدل على صحة قول الصديق رضي الله عنه وجوه: الأول: التمسك باشتقاق لفظ الكلالة وفيه وجوه: الأول: يقال: كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة، وحمل فلان على فلان، ثم كل عنه إذا تباعد. فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه. الثاني: يقال: كل الرجل يكل كلا وكلالة إذا أعيا وذهبت قوته، ثم جعلوا هذا اللفظ استعارة من القرابة الحاصلة لا من جهة الولادة، وذلك لأنا بينا أن هذه القرابة حاصلة بواسطة الغير فيكون فيها ضعف، وبهذا يظهر أنه يبعد ادخال الوالدين في الكلالة لأن انتسابهما إلى الميت بغير واسطة. الثالث: الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الإحاطة، ومنه الإكليل لإحاطته
221

بالرأس، ومنه الكل لاحاطته بما يدخل فيه، ويقال تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب، إذا عرفت هذا فنقول: من عدا الوالد والولد إنما سموا بالكلالة، لأنهم كالدائرة المحيطة بالانسان وكالإكليل المحيط برأسه: أما قرية الولادة فليست كذلك فان فيها يتفرع البعض عن البعض: ويتولد البعض من البعض، كالشئ الواحد الذي يتزايد على نسق واحد، ولهذا قال الشاعر:
نسب تتابع كابرا عن كابر * كالرمح أنبوبا على أنبوب
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة، وهي كالأخوة والأخوات والأعمام والعمات، فإنما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب إليه، فثبت بهذه الوجوه الاشتقاقية أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالدين والولد.
الحجة الثانية: أنه تعالى ما ذكر لفظ الكلالة في كتابه إلا مرتين، في هذه السورة: أحدهما: في هذه الآية، والثاني: في آخر السورة وهو قوله: * (قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) * (النساء: 176) واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة من لا ولد له فقط، قال: لأن المذكور ههنا في تفسير الكلالة: هو أنه ليس له ولد، إلا أنا نقول: هذه الآية تدل على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد. وذلك لأن الله تعالى حكم بتوريث الاخوة والأخوات حال كون الميت كلالة، ولا شك أن الاخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فوجب أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين.
الحجة الثانية: انه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة ثم أتبعها بذكر الكلالة، وهذا الترتيب يقتضي أن تكون الكلالة من عدا الوالدين والولد.
الحجة الرابعة: قول الفرزدق:
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة * عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
دل هذا البيت على أنهم ما ورثوا الملك عن الكلالة، ودل على أنهم ورثوها عن آبائهم، وهذا يوجب أن لا يكون الأب داخلا في الكلالة والله أعلم.
المسألة الثانية: الكلالة قد تجعل وصفا للوارث وللمورث، فإذا جعلناها وصفا للوارث فالمراد من سوى الأولاد والوالدين، وإذا جعلناها وصفا للمورث، فالمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد، أما بيان أن هذا اللفظ مستعمل في الوارث فالدليل عليه ما روى جابر قال: مرضت مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة، وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد، وأما أنه مستعمل في المورث فالبيت الذي
222

رويناه عن الفرزدق، فان معناه أنكم ما ورثتم الملك عن الأعمام، بل عن الآباء فسمى العم كلالة وهو ههنا مورث لا وارث، إذا عرفت هذا فنقول: المراد من الكلالة في هذه الآية الميت، الذي لا يختلف الوالدين والولد، لأن هذا الوصف إنما كان معتبرا في الميت الذي هو المورث لا في الوارث الذي لا يختلف حاله بسب أن له ولدا أو والدا أم لا. المسألة الثالثة: يقال رجل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والوكالة.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا جعلناها صفة للوارث أو المورث كان بمعنى ذي كلالة، كما يقول: فلان من قرابتي يريد من ذوي قرابتي، قال صاحب " الكشاف ": ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق.
المسألة الرابعة: قوله: * (يورث) * فيه احتمالان: الأول: أن يكون ذلك مأخوذا من ورثه الرجل يرثه، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الموروث منه، وفي انتصاب كلالة وجوه: أحدها: النصب على الحال، والتقدير: يورث حال كونه كلالة، والكلالة مصدر وقع موقع الحال تقديره: يورث متكلل النسب، وثانيها: أن يكون قوله: * (يورث) * صفة لرجل، و * (كلالة) * خبر كان، والتقدير وإن كان رجل يورث منه كلالة، وثالثها: أن يكون مفعولا له، أي يورث لأجل كونه كلالة.
الاحتمال الثاني: في قوله: * (يورث) * أن يكون ذلك مأخوذا من أورث يورث، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الوارب، وانتصاب كلالة على هذا التقدير أيضا يكون على الوجوه المذكورة.
المسألة الخامسة: قرأ الحسن، وأبو رجاء العطاردي: يورث ويورث بالتخفيف والتشديد على الفاعل.
أما قوله تعالى: * (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: ههنا سؤال: وهو أنه تعالى قال: * (وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة) * ثم قال: * (وله أخ) * فكنى عن الرجل وما كنى عن المرأة فما السبب فيه؟
والجواب قال الفراء: هذا جائز فإنه إذا جاء حرفان في معنى واحد " بأو " جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد، ويجوز إسناده إليهما أيضا، تقول: من كان له أخ أو
أخت فليصله، يذهب إلى الأخ، أو فليصلها يذهب إلى الأخت، وإن قلت فليصلهما جاز أيضا.
المسألة الثانية: أجمع المفسرون ههنا على أن المراد من الأخ والأخت: الأخ والأخت من الأم، وكان سعد بن أبي قاص يقرأ: وله أخ أو أخت من أم، وإنما حكموا بذلك لأنه تعالى قال
223

في آخر السورة: * (قل الله يفتيكم في الكلالة) * (النساء: 176) فأثبت للأختين الثلثين، وللأخوة كل المال، وههنا أثبت للاخوة والأخوات الثلث، فوجب أن يكون المراد من الاخوة والأخوات ههنا غير الاخوة والأخوات في تلك الآية، فالمراد ههنا الاخوة والأخوات من الأم فقط، وهناك الاخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب.
ثم قال تعالى: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * (النساء: 11) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الوصية بكل المال وبأي بعض أريد، ومما يوافق هذه الآية من الأحاديث ما روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما حق امرئ مسلم له مال يوصى به ثم تمضي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده " فهذا الحديث أيضا يدل على الاطلاق في الوصية كيف أريد، إلا أنا نقول: هذه العمومات مخصوصة من وجهين: الأول: في قدر الوصية، فإنه لا يجوز الوصية بكل المال بدلالة القرآن والسنة، أما القرآن فالآيات الدالة على الميراث مجملا ومفصلا، أما المجمل فقوله تعالى: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) * (النساء: 7) ومعلوم أن الوصية بكل المال تقتضي نسخ هذا النص، وأما المفصل فهي آيات المواريث كقوله: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * (النساء: 11) ويدل عليه أيضا قوله تعالى: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) * (النساء: 9) وأما السنة فهي الحديث المشهور في هذا الباب، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " الثلث والثلث كثير إنك ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ".
واعلم أن هذا الحديث يدل على أحكام: أحدها: أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث، وثانيها: أن الأولى النقصان عن الثلث لقوله: " والثلث كثير " وثالثها: أنه إذا ترك القليل من المال وورثته فقراء فالأفضل له أن لا يوصي بشيء لقوله عليه الصلاة والسلام: " ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " ورابعها: فيه دلالة على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث لأن المنع منه لأجل الورثة، فعند عدمهم وجب الجواز.
الوجه الثاني: تخصيص عموم هذه الآية في الموصى له، وذلك لأنه لا يجوز الوصية لوارث، قال عليه الصلاة والسلام: " ألا لا وصية لوارث ".
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا أخر الزكاة والحج حتى مات يجب إخراجهما من التركة، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب، حجة الشافعي: أن الزكاة الواجبة والحج الواجب
224

دين فيجب اخراجه بهذه الآية، وإنما قلنا إنه دين، لأن اللغة تدل عليه، والشرع أيضا يدل عليه، أما اللغة فهو أن الدين عبارة عن الأمر الموجب للانقياد، قيل في الدعوات المشهورة؛ يا من دانت له الرقاب، أي انقادت، وأما الشرع فلأنه روي أن الخثعمية لما سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحج الذي كان على أبيها، فقال عليه الصلاة والسلام: " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ؟ فقالت نعم، فقال عليه الصلاة والسلام فدين الله أحق أن يقضي " إذا ثبت أنه دين وجب تقديمه على الميراث لقوله تعالى: * (من بعد وصية يوصى بها أو دين) * قال أبو بكر الرازي: المذكور في الآية الدين المطلق، والنبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج دينا لله، والاسم المطلق لا يتناول المقيد.
قلنا: هذا في غاية الركاكة لأنه لما ثبت أن هذا دين، وثبت بحكم الآية أن الدين مقدم على الميراث لزم المقصود لا محالة، وحديث الاطلاق والتقييد كلام مهمل لا يقدح في هذا المطلوب والله أعلم.
المسألة الثالثة: اعلم أن قوله تعالى: * (غير مضار) * نصب على الحال، أي يوصى بها وهو غير مضار لورثته.
واعلم أن الضرار في الوصية يقع على وجوه: أحدها: أن يوصي بأكثر من الثلث. وثانيها: أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي. وثالثها: أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة. ورابعها: أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل إليه. وخامسها: أن يبيع شيئا بثمن بخمس أو يشتري شيئا بثمن غال، كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة. وسادسها: أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة، فهذا هو وجه الاضرار في الوصية.
واعلم أن العلماء قالوا: الأولى أن يوصى بأقل من الثلث، قال علي: لأن أوصي بالخمس أحب إلى من الربع. ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث. وقال النخعي: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص، وقبض أبو بكر فوصى، فان أوصى الانسان فحسن، وإن لم يوص فحسن أيضا.
واعلم أن لأولى بالانسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فان كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة والله أعلم.
المسألة الرابعة: روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الاضرار في الوصية من الكبائر. واعلم أنه يدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى: * (تلك حدود الله ومن
225

يطع الله ورسوله) * (النساء: 13) قال ابن عباس في الوصية: * (ومن يعص الله ورسوله) * (النساء: 14) قال في الوصية، وأما السنة فروى عكرمة عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الاضرار في الوصية من الكبائر " وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة " وقال عليه الصلاة والسلام: " من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة " ومعلوم ان الزيادة في الوصية قطع من الميراث، وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى، وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه، وذلك من أكبر الكبائر.
ثم قال تعالى: * (وصية من الله) * وفيه سؤالان:
السؤال الأول: كيف انتصاب قوله: * (وصية) *.
والجواب فيه من وجوه: الأول: أنه مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية، كقوله: * (فريضة من الله) * (النساء: 11) الثاني: أن تكون منصوبة بقوله: * (غير مضار) * (النساء: 12) أي لا تضار وصية الله في أن الوصية يجب أن لا تزاد على الثلث. الثالث: أن يكون التقدير: وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة يتكففون وجوه الناس بسبب الاسراف في الوصية، وينصر هذا الوجه قراءة الحسن: غير مضار وصية بالإضافة.
السؤال الثاني: لم جعل خاتمة الآية الأولى: * (فريضة من الله) * وخاتمة هذه الآية * (وصية من الله) *.
الجواب: ان لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل، وان كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو رعاية حال الأولاد أولى، ثم قال: * (والله عليم حليم) * أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته * (حليم) * على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد والله أعلم.
قوله تعالى
* (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار
226

خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى بعد بيان سهام المواريث ذكر الوعد والوعيد ترغيبا في الطاعة وترهيبا عن المعصية فقال: * (تلك حدود الله) * وفيه بحثان.
البحث الأول: ان قوله: * (تلك) * إشارة إلى ماذا؟ فيه قولان: الأول: أنه إشارة إلى أحوال المواريث.
القول الثاني: أنه إشارة إلى كل ما ذكره من أول السورة إلى ههنا من بيان أموال الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث وهو قول الأصم، حجة القول الأول أن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات، وحجة القول الثاني أن عوده إلى الأقرب إذا لم يمنع من عوده إلى الأبعد مانع يوجب عوده إلى الكل.
البحث الثاني: أن المراد بحدود الله المقدرات التي ذكرها وبينها، وحد الشيء طرفه الذي يمتاز به عن غيره، ومنه حدود الدار، والقول الدال على حقيقة الشيء يسمى حدا له، لأن ذلك القول يمنع غيره من الدخول فيه، وغيره هو كل ما سواه.
المسألة الثانية: قال بعضهم: قوله: * (ومن يطع الله ورسوله) * وقوله: * (ومن يعص الله ورسوله) * مختص بمن أطاع أو عصى في هذه التكاليف المذكورة في هذه السورة، وقال المحققون: بل هو عام يدخل فيه هذا وغيره، وذلك لأن اللفظ عام فوجب أن يتناول الكل. أقصى ما في الباب ان هذا العام إنما ذكر عقيب تكاليف خاصة، إلا أن هذا القدر لا يقتضي تخصيص العموم، ألا ترى أن الوالد قد يقبل على ولده ويوبخه في أمر مخصوص، ثم يقول: احذر مخالفتي ومعصيتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور، فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الثالثة: قرأ نافع وابن عامر: * (ندخله جنات. ندخله نارا) * بالنون في الحرفين، والباقون بالياء.
أما الأول: فعلى طريقة الالتفات كما في قوله: * (بل الله مولاكم) * ثم قال: * (سنلقى) * بالنون.
وأما الثاني: فوجهه ظاهر.
المسألة الرابعة: ههنا سؤال وهو أن قوله: * (يدخله جنات) * إنما يليق بالواحد ثم قوله بعد
227

ذلك * (خالدين فيها) * إنما يليق بالجمع فكيف التوفيق بينهما؟
الجواب: أن كلمة (من) في قوله: * (ومن يطع الله) * مفرد في اللفظ جمع في المعنى فلهذا صح الوجهان.
المسألة الخامسة: انتصب " خالدين " " وخالدا " على الحال من الهاء في " ندخله " والتقدير: ندخله خالدا في النار.
المسألة السادسة: قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن فساق أهل الصلاة يبقون مخلدين في النار. وذلك لأن قوله: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده) * إما أن يكون مخصوصا بمن تعدى في الحدود التي سبق ذكرها وهي حدود المواريث، أو يدخل فيها ذلك وغيره، وعلى التقديرين يلزم دخول من تعدى في المواريث في هذا الوعيد، وذلك عام فيمن تعدى وهو من أهل الصلاة أو ليس من أهل الصلاة، فدلت هذه الآية على القطع بالوعيد، وعلى ان الوعيد مخلد، ولا يقال: هذا الوعيد مختص بمن تعدى حدود الله، وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر. فإنه هو الذي تعدى جميع حدود الله، فانا نقول: هذا مدفوع من وجهين: الأول: انا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود الله خرجت الآية عن الفائدة لأن الله تعالى نهى عن اليهودية والنصرانية والمجوسية، فتعدى جميع حدوده هو أن يترك جميع هذه النواهي،
وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والمجوسية والنصرانية معا وذلك محال، فثبت أن تعدى جميع حدود الله محال فلو كان المراد من الآية ذلك لخرجت الآية عن كونها مفيدة، فعلمنا ان المراد منه أي حد كان من حدود الله. الثاني: هو أن هذه الآية مذكورة عقيب آيات قسمة المواريث، فيكون المراد من قوله: * (ويتعد حدوده) * تعدى حدود الله في الأمور المذكورة في هذه الآيات. وعلى هذا التقدير يسقط هذا السؤال. هذا منتهى تقرير المعتزلة وقد ذكرنا هذه المسألة على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة. ولا بأس بأن نعيد طرفا منها في هذا الموضع فنقول: أجمعنا على أن هذا الوعيد مختص بعدم التوبة لأن الدليل دل على أنه إذا حصلت التوبة لم يبق هذا الوعيد، فكذا يجوز أن يكون مشروطا بعدم العفو، فان بتقدير قيام الدلالة على حصول العف امتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفو، ونحن قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على حصول العفو، ثم نقول: هذا العموم مخصوص بالكافر، ويدل عليه وجهان: الأول: انا إذا قلنا لكم: ما الدليل على أن كلمة (من) في معرض الشرط تفيد العموم؟ قلتم: الدليل عليه أنه يصح الاستثناء منه، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه، فنقول: ان صح هذا الدليل فهو يدل على أن قوله: * (ومن يعص الله ورسوله) * مختص بالكافر: لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ فيقال: ومن يعص الله ورسوله إلا في الكفر، والا في الفسق، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه
228

لدخل، فهذا يقتضي أن قوله: * (ومن يعص الله) * في جميع أنواع المعاصي والقبائح وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر، وقوله: الاتيان بجميع المعاصي محال لأن الاتيان باليهودية والنصرانية معا محال، فنقول: ظاهر اللفظ يقتضي العموم إلا إذا قام مخصص عقلي أو شرعي، وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم ويقوى ما ذكرناه.
الوجه الثاني: في بيان أن هذه الآية مختصة بالكافر: أن قوله: * (ومن يعص الله ورسوله) * يفيد كونه فاعلا للمعصية والذنب، وقوله: * (ويتعد حدوده) * لو كان المراد منه عين ذلك للزم التكرار، وهو خلاف الأصل، فوجب حمله على الكفر، وقوله: بأنا نحمل هذه الآية على تعدي الحدود المذكورة في المواريث.
قلنا: هب أنه كذلك إلا أنه يسقط ما ذكرناه من السؤال بهذا الكلام، لأن التعدي في حدود المواريث تارة يكون بأن يعتقد أن تلك التكاليف والأحكام حق وواجبة القبول إلا أنه يتركها، وتارة يكون بأن يعتقد أنها واقعة لا على وجه الحكمة والصواب، فيكون هذا هو الغاية في تعدي الحدود، وأما الأول فلا يكاد يطلق في حقه أنه تعدى حدود الله، وإلا لزم وقوع التكرار كما ذكرناه، فعلمنا أن هذا الوعيد مختص بالكافر الذي لا يرضى بما ذكره الله في هذه الآية من قسمة المواريث، فهذا ما يختص بهذه الآية من المباحث، وأما بقية الأسئلة فقد تقدم ذكرها في سورة البقرة والله أعلم.
* (واللاتى يأتين الفاحشة من نسآئكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة الأمر بالاحسان إلى النساء ومعاشرتهن بالجميل، وما يتصل بهذا الباب، ضم إلى ذلك التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، فان ذلك في الحقيقة إحسان إليهن ونظر لهن في أمر آخرتهن، وأيضا ففيه فائدة أخرى: وهو أن لا يجعل أمر الله الرجال
229

بالاحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن، فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد والمهالك، وأيضا فيه فائدة ثالثة، وهي بيان أن الله تعالى كما يستوفي لخلقه فكذلك يستوفي عليهم، وأنه ليس في أحكامه محاباة ولا بينه وبين أحد قرابة، وأن مدار هذا الشرع الانصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الافراط والتفريط، فقال: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اللاتي: جمع التي، وللعرب في جمع " التي " لغات: اللاتي واللات واللواتي واللوات. قال أبو بكر الأنباري: العرب تقول في الجمع من غير الحيوان: التي، ومن الحيوان: اللاتي، كقوله: * (أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * وقال في هذه: اللاتي واللائي، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد، وأما جمع الحيوان فليس كذلك، بل كل واحدة منها غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات، فهذا هو الفرق، ومن العرب من يسوي بين البابين، فيقول: ما فعلت الهندات التي من أمرها كذا، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا، والأول هو المختار.
المسألة الثانية: قوله: * (يأتين الفاحشة) * أي يفعلنها يقال: أتيت أمرا قبيحا، أي فعلته قال تعالى: * (لقد جئت شيئا فريا) * (مريم: 27) وقال: * (لقد جئتم شيئا إدا) * (مريم: 89) وفي التعبير عن الاقدام على الفواحش بهذه العبارة لطيفة، وهي أن الله تعالى لما نهى المكلف عن فعل هذه المعاصي، فهو تعالى لا يعين المكلف على فعلها، بل المكلف كأنه ذهب إليها من عند نفسه، واختارها بمجرد طبعه، فلهذه الفائدة يقال: إنه جاء إلى تلك الفاحشة وذهب إليها، إلا أن هذه الدقيقة لا تتم إلا على قول المعتزلة. وفي قراءة ابن مسعود: يأتين بالفاحشة، وأما الفاحشة فهي الفعلة القبيحة وهي مصدر عند أهل اللغة كالعاقبة يقال: فحش الرجل يفحش فحشا وفاحشة، وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل. وأجمعوا على أن الفاحشة ههنا الزنا، وإنما أطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.
فان قيل: الكفر أقبح منه، وقتل النفس أقبح منه، ولا يسمى ذلك فاحشة.
قلنا: السبب في ذلك أن القوى المدبرة لبدن الانسان ثلاثة: القوة الناطقة، والقوة الغضبية والقوة الشهوانية، ففساد القوة الناطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما، وفساد القوة الغضبية هو القتل والغضب وما يشبههما، وفساد القوة الشهوانية هو الزنا واللواط والسحق وما أشبهها، وأخس هذه القوى الثلاثة: القوة الشهوانية، فلا جرم كان فسادها أخس أنواع الفساد، فلهذا السبب خص هذا العمل بالفاحشة والله أعلم بمراده.
المسألة الثالثة: في المراد بقوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * قولان: الأول: المراد
230

منه الزنا، وذلك لأن المرأة إذا نسبت إلى الزنا فلا سبيل لأحد عليها إلا بأن يشهد أربعة رجال مسلمون على أنها ارتكبت الزنا، فإذا شهدوا عليها أمسكت في بيت
محبوسة إلى أن تموت أو يجعل الله لهن سبيلا، وهذا قول جمهور المفسرين.
والقول الثاني: وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني: أن المراد بقوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة) * السحاقات، وحدهن الحبس إلى الموت وبقوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * (النساء: 16) أهل اللواط، وحدهما الأذى بالقول والفعل، والمراد بالآية المذكورة في سورة النور: الزنا بين الرجل والمرأة، وحده في البكر الجلد، وفي المحصن الرجم، واحتج أبو مسلم عليه بوجوه: الأول: أن قوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * مخصوص بالنسوان، وقوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * مخصوص بالرجال، لأن قوله: * (واللذان) * تثنية الذكور.
فان قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: * (واللذان) * الذكر والأنثى إلا أنه غلب لفظ المذكر.
قلنا: لو كان كذلك لما أفرد ذكر النساء من قبل، فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعد قوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * سقط هذا الاحتمال. الثاني: هو أن على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات، بل يكون حكم كل واحدة منها باقيا مقررا، وعلى التقدير الذي ذكرتم يحتاج إلى التزام النسخ، فكان هذا القول أولى. والثالث: أن على الوجه الذي ذكرتم يكون قوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة) * في الزنا وقوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * يكون أيضا في الزنا، فيفضي إلى تكرار الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وإنه قبيح، وعلى الوجه الذي قلناه لا يفضي إلى ذلك فكان أولى. الرابع: أن القائلين بأن هذه الآية نزلت في الزنا فسروا قوله: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * بالرجم والجلد والتغريب، وهذا لا يصح لأن هذه الأشياء تكون عليهن لا لهن. قال تعالى: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * (البقرة: 286) وأما نحن فانا نفسر ذلك بأن يسهل الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح، ثم قال أبو مسلم: ومما يدل على صحة ما ذكرناه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان " واحتجوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه: الأول: أن هذا قول لم يقله أحد من المفسرين المتقدمين فكان باطلا، والثاني: أنه روي في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: " قد جعل الله لهن سبيلا الثيب ترجم والبكر تجلد " وهذا يدل على أن هذه الآية نازلة في حق الزناة. الثالث: أن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواط، ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، فعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم من أقوى الدلائل على أن هذه الآية ليست في اللواطة.
231

والجواب عن الأول: أن هذا اجماع ممنوع فلقد قال بهذا القول مجاهد، وهو من أكابر المفسرين، ولأنا بينا في أصول الفقه أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز.
والجواب عن الثاني: أن هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز.
والجواب عن الثالث: أن مطلوب الصحابة أنه هل يقام الحد على اللوطي؟ وليس في هذه الآية دلالة على ذلك بالنفي ولا بالاثبات، فلهذا لم يرجعوا إليها.
المسألة الرابعة: زعم جمهور المفسرين أن هذه الآية منسوخة، وقال أبو مسلم: إنها غير منسوخة، أما المفسرون: فقد بنوا هذا على أصلهم، وهو أن هذه الآية في بيان حكم الزنا، ومعلوم أن هذا الحكم لم يبق وكانت الآية منسوخة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين: فالأول: أن هذه الآية صارت منسوخة بالحديث وهو ما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم " ثم إن هذا الحديث صار منسوخا بقوله تعالى: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * (النور: 2) وعلى هذا الطريق يثبت أن القرآن قد ينسخ بالسنة وأن السنة قد تنسخ بالقرآن خلاف قول الشافعي: لا ينسخ واحد منهما بالآخر.
والقول الثاني: أن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد.
واعلم أن أبا بكر الرازي لشدة حرصه على الطعن في الشافعي قال: القول الأول أولى لأن آية الجلد لو كانت متقدمة على قوله: " خذوا عني " فائدة فوجب أن يكون قوله: " خذوا عني " متقدما على آية الجلد، وعلى هذا التقدير تكون آية الحبس منسوخة بالحديث ويكون الحديث منسوخا بآية الجلد، فحينئذ ثبت أن القرآن والسنة قد ينسخ كل واحد منهما بالآخر.
واعلم أن كلام الرازي ضعيف من وجهين: الأول: ما ذكره أبو سليمان الخطابي في معالم السنن فقال: لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في هذا الحديث البتة، وذلك لأن قوله تعالى: * (فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) * يدل على أن امساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا وذلك السبيل كان مجملا، فلما قال صلى الله عليه وسلم: " خذوا عني الثيب ترجم والبكر تجلد وتنفى " صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية لا ناسخا لها وصار أيضا مخصصا لعموم قوله تعالى: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * (النور: 2) ومن المعلوم أن جعل هذا الحديث بيانا لإحدى الآيتين ومخصصا للآية الأخرى، أولى من الحكم بوقوع النسخ مرارا، وكيف وآية الحبس مجملة قطعا فإنه ليس في الآية ما يدل على أن ذلك السبيل كيف هو؟ فلا بد لها من المبين، وآية الجلد مخصوصة ولا بد لها من المخصص، فنحن جعلنا هذا الحديث مبينا لآية
232

الحبس مخصصا لآية الجلد، وأما على قول أصحاب أبي حنيفة فقد وقع النسخ من ثلاثة أوجه: الأول: آية الحبس صارت منسوخة بدلائل الرجم، فظهر أن الذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه.
الوجه الثاني: في دفع كلام الرازي: انك تثبت أنه لا يجوز أن تكون آية الجلد متقدمة على قوله: " خذوا عني " فلم قلت إنه يجب أن تكون هذه الآية متأخرة عنه؟ ولم لا يجوز أن يقال: إنه لما نزلت هذه الآية ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؟ وتقديره أن قوله: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *
مخصوص بالاجماع في حق الثيب المسلم، وتأخير بيان المخصص عن العام المخصوص غير جائز عندك وعند أكثر المعتزلة، لما أنه يوهم التلبيس، وإذا كان كذلك فثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك مقارنا لنزول قوله: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * وعلى هذا التقدير سقط قولك: ان الحديث كان متقدما على آية الجلد. هذا كله تفريع على قول من يقول: هذه الآية أعني آية الحبس نازلة في حق الزناة، فثبت أن على هذا القول لم يثبت الدليل كونها منسوخة، وأما على قول أبي مسلم الأصفهاني فظاهر أنها غير منسوخة والله أعلم.
المسألة الخامسة: القائلون بأن هذه الآية نازلة في الزنا يتوجه عليهم سؤالات:
السؤال الأول: ما المراد من قوله: * (من نسائكم) *؟
الجواب فيه وجوه: أحدها: المراد، من زوجاتكم كقوله: * (والذين يظاهرون من نسائهم) * (المجادلة: 3) وقوله: * (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * (النساء: 23) وثانيها: من نسائكم، أي من الحرائر كقوله: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * (البقرة: 282) والغرض بيان أنه لا حد على الإماء. وثالثها: من نسائكم، أي من المؤمنات ورابعها: من نسائكم، أي من الثيبات دون الأبكار.
السؤال الثاني: ما معنى قوله: * (فأمسكوهن في البيوت) *؟
الجواب: فخلدوهن محبوسات في بيوتكم، والحكمة فيه ان المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز، فإذا حبست في البيت لم تقدر على الزنا، وإذا استمرت على هذه الحالة تعودت العفاف والفرار عن الزنا.
السؤال الثالث: ما معنى * (يتوفاهن الموت) * والموت والتوفي بمعنى واحد، فصار في التقدير: أو يميتهن الموت؟
الجواب: يجوز أن يراد. حتى يتوفاهن ملائكة الموت، كقوله: * (الذين تتوفاهم الملائكة) * (النحل: 38) * * (قل
233

يتوفاكم ملك الموت) * (السجدة: 11) أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن.
السؤال الرابع: انكم تفسرون قوله: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * بالحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " قد جعل الله لهن سبيلا البكر تجلد والثيب ترجم " وهذا بعيد، لأن هذا السبيل عليها لا لها، فان الرجم لا شك أنه أغلظ من الحبس.
والجواب: أن النبي عليه الصلاة والسلام فسر السبيل بذلك فقال: " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " ولما فسر الرسول صلى الله عليه وسلم السبيل بذلك وجب القطع بصحته، وأيضا: له وجه في اللغة فان المخلص من الشيء هو سبيل له، سواء كان أخف أو أثقل. (16)
قوله تعالى
* (واللذان يأتيانها منكم فاذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهمآ إن الله كان توابا رحيما) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير * (واللذان وهذان) * مشددة النون، والباقون بالتخفيف، وأما أبو عمرو فإنه وافق ابن كثير في قوله: * (فذانك) * أما وجه التشديد قال ابن مقسم: إنما شدد ابن كثير هذه النونات لأمرين: أحدهما: الفرق بين تثنية الأسماء المتمكنة وغير المتمكنة، والآخر: أن " الذي وهذا " مبنيان على حرف واحد وهو الذال، فأرادوا تقوية كل واحد منهما بأن زادوا على نونها نونا أخرى من جنسها، وقال غيره: سبب التشديد فيها ان النون فيها ليست نون التثنية، فأراد أن يفرق بينها وبين نون التثنية، وقيل زادوا النون تأكيدا، كما زادوا اللام، وأما تخصيص أبي عمرو التعويض في المبهمة دون الموصولة، فيشبه أن يكون ذلك لما رأى من أن الحذف للمبهمة ألزم، فكان استحقاقها العوض أشد.
المسألة الثانية: الذين قالوا: ان الآية الأولى في الزناة قالوا: هذه الآية أيضا في الزناة
234

فعند هذا اختلفوا في أنه ما السبب في هذا التكرير وما الفائدة فيه؟ وذكروا فيه وجوها: الأول: أن المراد من قوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * (النساء: 15) المراد منه الزواني، والمراد من قوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * الزناة، ثم انه تعالى خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الايذاء بالرجل، والسبب فيه أن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز، فإذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية، وأما الرجل فإنه لا يمكن حبسه في البيت، لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه وترتيب مهماته واكتساب قوت عياله، فلا جرم جعلت عقوبة المرأة الزانية الحبس في البيت، وجعلت عقوبة الرجل الزاني أن يؤذى، فإذا تاب ترك إيذاؤه، ويحتمل أيضا أن يقال إن الايذاء كان مشتركا بين الرجل والمرأة، والحبس كان من خواص المرأة، فإذا تابا أزيل الايذاء عنهما وبقي الحبس على المرأة، وهذا أحسن الوجوه المذكورة. الثاني: قال السدي: المراد بهذه الآية البكر من الرجل والنساء، وبالآية الأولى الثيب، وحينئذ يظهر التفاوت بين الآيتين. قالوا: ويدل على هذا التفسير وجوه: الأول: أنه تعالى قال: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * فأضافهن إلى الأزواج. والثاني: أنه سماهن نساء وهذا الاسم أليق بالثيب. والثالث: أن الأذى أخف من الحبس في البيت والأخف للبكر دون الثيب. والرابع: قال الحسن: هذه الآية نزلت قبل الآية المتقدمة والتقدير: واللذان يأتيان الفاحشة من النساء والرجال فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما. ثم نزل قوله: * (فأمسكوهن في البيوت) * (النساء: 15) يعني إن لم يتوبا وأصرا على هذا الفعل القبيح فأمسكوهن في البيوت إلى أن يتبين لكم أحوالهن، وهذا القول عندي في غاية البعد، لأنه يوجب فساد الترتيب في هذه الآيات. الخامس: ما نقلناه عن أبي مسلم أن الآية
الأولى في السحاقات، وهذه في أهل اللواط وقد تقدم تقريره. والسادس: أن يكون المراد هو أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الشهداء على الزنا لا بد وأن يكونوا أربعة، فبين في هذه الآية أنهم لو كانوا شاهدين فآذوهما وخوفوهما بالرفع إلى الامام والحد، فان تابا قبل الرفع إلى الامام فاتركوهما.
المسألة الثالثة: اتفقوا على أنه لا بد في تحقيق هذا الايذاء من الايذاء باللسان وهو التوبيخ والتعيير، مثل أن يقال: بئس ما فعلتما، وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه، وأخرجتما أنفسكما عن اسم العدالة، وأبطلتما عن أنفسكما أهلية الشهادة. واختلفوا في أنه هل يدخل فيه الضرب؟ فعن ابن عباس أنه يضرب بالنعال، والأول أولى لأن مدلول النص إنما هو الايذاء، وذلك حاصل بمجرد
235

الايذاء باللسان، ولا يكون في النص دلالة على الضرب فلا يجوز المصير إليه.
ثم قال تعالى: * (فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) * يعني فاتركوا ايذاءهما.
ثم قال: * (ان الله كان توابا رحيما) * معنى التواب: أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إليه من ذنبه، وأما قوله: * (كان توابا) * فقد تقدم الوجه فيه.
236