الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ١٣
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (وإذا جآءك الذين يؤمنون باياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في قوله * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا) * فقال بعضهم هو على إطلاقه في كل من هذه صفته. وقال آخرون: بل نزل في أهل الصفة الذين سأل المشركون الرسول عليه السلام طردهم وإبعادهم، فأكرمهم الله بهذا الإكرام. وذلك لأنه تعالى نهى الرسول عليه السلام أولا عن طردهم، ثم أمره بأن يكرمهم بهذا النوع من الإكرام. قال عكرمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام ويقول: " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأه بالسلام " وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عمر لما اعتذر من مقالته واستغفر الله منها. وقال للرسول عليه السلام، ما أردت بذلك إلا الخير نزلت هذه الآية. وقال بعضهم: بل نزلت في قوم أقدموا على ذنوب، ثم جاؤه صلى الله عليه وسلم مظهرين للندامة والأسف، فنزلت هذه الآية فيهم والأقرب من هذه الأقاويل أن تحمل هذه الآية على عمومها، فكل من آمن بالله دخل تحت هذا التشريف.
ولي ههنا إشكال، وهو: أن الناس اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة، وإذا
2

كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من آيات السورة أن سبب نزولها هو الأمر الفلاني بعينه؟
المسألة الثانية: قوله: * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا) * مشتمل على أسرار عالية، وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى، وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه، وآيات وحدانيته، وما سوى الله فلا نهاية له، وما لا نهاية له فلا سبيل للعقل في الوقوف عليه على التفصيل التام، إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسائح في تلك القفار، وكالسابح في تلك البحار. ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات، وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله. ثم إن العبد إذا صار موصوفا بهذه الصفة فعند هذا أمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم * (سلام عليكم) * فيكون هذا التسليم بشارة لحصول السلامة. وقوله: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * بشارة لحصول الرحمة عقيب تلك السلامة. أما السلامة فالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخالفات وموضع التغييرات والتبديلات، وأما الكرامات فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات المقدسات، والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال.
المسألة الثالثة: ذكر الزجاج عن المبرد. أن السلامة في اللغة أربعة أشياء، فمنها سلمت سلاما وهو معنى الدعاء، ومنها أنه اسم من أسماء الله تعالى، ومنها الإسلام، ومنها اسم للشجر العظيم، أحسبه سمي بذلك لسلامته من الآفات، وهو أيضا اسم للحجارة الصلبة، وذلك أيضا لسلامتها من الرخاوة. ثم قال الزجاج: قوله: * (سلام عليكم) * السلام ههنا يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون مصدر سلمت تسليما وسلاما مثل السراح من التسريح، ومعنى سلمت عليه سلاما، دعوت له بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه. فالسلام بمعنى التسليم، والثاني: أن يكون السلام جمع السلامة، فمعنى قولك السلام عليكم، السلامة عليكم. وقال أبو بكر بن الأنباري: قال قوم السلام هو الله تعالى فمعنى السلام عليكم يعني الله عليكم أي على حفظكم وهذا بعيد في هذه الآية لتنكير السلام في قوله * (فقل سلام عليكم) * ولو كان معرفا لصح هذا الوجه. وأقول كتبت فصولا مشبعة كاملة في قولنا سلام عليكم وكتبتها في سورة التوبة، وهي أجنبية عن هذا الموضع فإذا نقلته إلى هذا الموضع كمل البحث والله أعلم.
أما قوله * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * ففيه مسائل:
3

المسألة الأولى: قوله كتب كذا على فلان يفيد الإيجاب. ولكمة " على " أيضا تفيد الإيجاب ومجموعهما مبالغة في الإيجاب. فهذا يقتضي كونه سبحانه راحما لعباده رحيما بهم على سبيل الوجوب واختلف العقلاء في سبب ذلك الوجوب فقال أصحابنا: له سبحانه أن يتصرف في عبيده كيف شاء وأراد، إلا أنه أوجب الرحمة على نفسه على سبيل الفضل والكرم. وقالت المعتزلة: إن كونه عالما بقبح القبائح وعالما بكونه غنيا عنها، يمنعه من الإقدام على القبائح ولو فعله كان ظلما، والظلم قبيح، والقبيح منه محال. وهذه المسألة من المسائل الجلية في علم الأصول.
المسألة الثانية: دلت هذه الآية على أنه لا يمتنع تسمية ذات الله تعالى بالنفس وأيضا قوله تعالى: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * (المائدة: 116) يدل عليه، والنفس ههنا بمعنى الذات والحقيقة، وأما بمعنى الجسم والدم فالله سبحانه وتعالى مقدس عنه. لأنه لو كان جسما لكان مركبا والمركب ممكن وأيضا أنه أحد، والأحد لا يكون مركبا، وما لا يكون مركبا لا يكون جسما وأيضا أنه غني كما قال * (والله الغني) * والغني لا يكون مركبا وما لا يكون مركبا لا يكون جسما وأيضا الأجسام متماثلة في تمام الماهية، فلو كان جسما لحصل له مثل، وذلك باطل لقوله * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) فأما الدلائل العقلية فكثيرة ظاهرة باهرة قوية جلية والحمد لله عليه.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة قوله: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * ينافي أن يقال: إنه تعالى يخلق الكفر في الكافر، ثم يعذبه عليه أبد الآباد، وينافي أن يقال: إنه يمنعه عن الإيمان، ثم يأمره حال ذلك المنع بالإيمان، ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان. وجواب أصحابنا: أنه ضار نافع محيي مميت، فهو تعالى فعل تلك الرحمة البالغة وفعل هذا القهر البالغ ولا منافاة بين الأمرين.
المسألة الرابعة: من الناس من قال: إنه تعالى لما أمر الرسول بأن يقول لهم: * (سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) * كان هذا من قول الله تعالى ومن كلامه، فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قال لهم في الدنيا: * (سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) * وتحقيق هذا الكلام أنه تعالى وعد أقواما بأنه يقول لهم بعد
الموت * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) ثم إن أقواما أفنوا أعمارهم في العبودية حتى صاروا في حياتهم الدنيوية كأنهم انتقلوا إلى عالم القيامة، لا جرم صار التسليم الموعود به بعد الموت في حق هؤلاء حال كونهم في الدنيا، ومنهم من قال: لا، بل هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. وقوله: وعلى التقديرين فهو درجة عالية.
ثم قال تعالى: * (إنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا لا يتناول التوبة من الكفر، لأن هذا الكلام خطاب مع الذين
4

وصفهم بقوله: * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا) * فثبت أن المراد منه توبة المسلم عن المعصية، والمراد من قوله * (بجهالة) * ليس هو الخطأ والغلط، لأن ذلك لا حاجة به إلى التوبة، بل المراد منه، أن تقدم على المعصية بسبب الشهوة، فكان المراد منه بيان أن المسلم إذا أقدم على الذنب مع العلم بكونه ذنبا ثم تاب منه توبة حقيقية فإن الله تعالى يقبل توبته.
المسألة الثانية: قرأ نافع * (أنه من عمل منكم) * بفتح الألف * (فإنه غفور) * بكسر الألف، وقرأ عاصم وابن عامر بالفتح فيهما، والباقون بالكسر فيهما. أما فتح الأولى فعلى التفسير للرحمة، كأنه قيل: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل منكم. وأما فتح الثانية فعلى أن يجعله بدلا من الأولى كقوله * (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) * (المؤمنون: 85) وقوله * (كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله) * (الحج: 4) وقوله * (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم) * (التوبة: 63) قال أبو علي الفارسي: من فتح الأولى فقد جعلها بدلا من الرحمة، وأما التي بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبرا تقديره، فله أنه غفور رحيم، أي فله غفرانه، أو أضمر مبتدأ يكون " أن " خبره كأنه قيل: فأمره أنه غفور رحيم. وأما من كسرهما جميعا فلأنه لما قال * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * فقد تم هذا الكلام، ثم ابتدأ وقال * (إنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم) * فدخلت الفاء جوابا للجزاء، وكسرت إن لأنها دخلت على مبتدأ وخبر كأنك قلت فهو غفور رحيم. إلا أن الكلام بأن أوكد هذا قول الزجاج. وقرأ نافع الأولى بالفتح والثانية بالكسر، لأنه أبدل الأولى من الرحمة، واستأنف ما بعد الفاء. والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: * (من عمل منكم سوءا بجهالة) * قال الحسن: كل من عمل معصية فهو جاهل، ثم اختلفوا فقيل: إنه جاهل بمقدار ما فاته من الثواب وما استحقه من العقاب، وقيل: إنه وإن علم أن عاقبة ذلك الفعل مذمومة، إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل، ومن آثر القليل على الكثير قيل في العرف إنه جاهل.
وحاصل الكلام أنه وإن لم يكن جاهلا إلا أنه لما فعل ما يليق بالجهال أطلق عليه لفظ الجاهل، وقيل نزلت هذه الآية في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما اقترحوه، ولم يعلم بأنها مفسدة ونظير هذه الآية قوله: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) * (النساء: 17).
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (ثم تاب من بعده وأصلح) * فقوله * (تاب) * إشارة إلى الندم على الماضي وقوله * (وأصلح) * إشارة إلى كونه آتيا بالأعمال الصالحة في الزمان المستقبل. ثم قال: * (فإنه غفور رحيم) * فهو غفور بسبب إزالة العقاب، رحيم بسبب إيصال الثواب الذي هو النهاية في الرحمة. والله أعلم.
* (وكذلك نفصل الايات ولتستبين سبيل المجرمين * قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهوآءكم قد ضللت إذا ومآ أنا من المهتدين * قل إنى على بينة من ربى وكذبتم به ما عندى ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) *.
5

قوله تعالى: * (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) *.
المراد كما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد والنبوة والقضاء والقدر، فكذلك نميز ونفصل لك دلائلنا وحججنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وقوله: * (وليستبين سبيل المجرمين) * عطف على المعنى كأنه قيل ليظهر الحق وليستبين، وحسن هذا الحذف لكونه معلوما واختلف القراء في قوله * (ليستبين) * فقرأ نافع * (لتستبين) * بالتاء * (وسبيل) * بالنصب والمعنى لتستبين يا محمد سبيل هؤلاء المجرمين. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم * (ليستبين) * بالياء * (سبيل) * بالرفع والباقون بالتاء * (وسبيل) * بالرفع على تأنيث سبيل. وأهل الحجاز يؤنثون السبيل، وبنو تميم يذكرونه. وقد نطق القرآن بهما فقال سبحانه * (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) * (الأعراف: 146) وقال * (ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) * (إبراهيم: 3).
فإن قيل: لم قال * (ليستبين سبيل المجرمين) * ولم يذكر سبيل المؤمنين.
قلنا: ذكر أحد القسمين يدل على الثاني. كقوله * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 81) ولم يذكر البرد. وأيضا فالضدان إذا كانا بحيث لا يحصل بينهما واسطة، فمتى بانت خاصية أحد القسمين بانت خاصية القسم الآخر والحق والباطل لا واسطة بينهما، فمتى استبانت طريقة المجرمين فقد استبانت طريقة المحقين أيضا لا محالة.
قوله تعالى: * (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين، ذكر في هذه الآية أنه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم. فقال: * (قل إني نهيت أن أعبد الذين
6

تدعون من دون الله وبين أن الذين يعبدونها إنما يعبدونها بناء على محض الهوى والتقليد، لا على سبيل الحجة والدليل، لأنها جمادات وأحجار وهي أخس مرتبة من
الإنسان بكثير، وكون الأشرف مشتغلا بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل. وأيضا أن القوم كانوا ينحتون تلك الأصنام ويركبونها، ومن المعلوم بالبديهة أنه يقبح من هذا العامل الصانع أن يعبد معموله ومصنوعه. فثبت أن عبادتها مبنية على الهوى. ومضادة للهدى، وهذا هو المراد من قوله * (قل لا أتبع أهواءكم) * ثم قال: * (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) * أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من المهتدين في شيء. والمقصود كأنه يقول لهم أنتم كذلك. ولما نفى أن يكون الهوى متبعا، على ما يجب اتباعه بقوله: * (قل إني على بينة من ربي) * أي في أنه لا معبود سواه. وكذبتم أنتم حيث أشركتم به غيره.
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام، كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك. والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب. فقال تعالى قل يا محمد: * (ما عندي ما تستعجلون به) * يعني قولهم * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) * (الأنفال: 32) والمراد أن ذلك العذاب ينزله الله في الوقت الذي أراد إنزاله فيه. ولا قدرة لي على تقديمه أو تأخيره. ثم قال: * (إن الحكم إلا لله) * وهذا مطلق يتناول الكل. والمراد ههنا إن الحكم إلا لله فقط في تأخير عذابهم * (يقضي الحق) * أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل * (وهو خير الفاصلين) * أي القاضين، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بقوله: * (إن الحكم إلا لله) * على أنه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله به، فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله به وحكم به. وكذلك في جميع الأفعال. والدليل عليه أنه تعالى قال: * (إن الحكم إلا لله) * وهذا يفيد الحصر، بمعنى أنه لا حكم إلا لله. واحتج المعتزلة بقوله: * (يقضي الحق) * ومعناه أن كل ما قضى به فهو الحق. وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر. ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس الحق. والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير ونافع وعاصم * (يقص الحق) * بالصاد من القصص، يعني أن كل ما أنبأ الله به وأمر به فهو من أقاصيص الحق، كقوله: * (نحن نقص عليك أحسن القصص) * (يوسف: 3) وقرأ الباقون * (يقض الحق) * والمكتوب في المصاحف " يقض " بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين كما كتبوا * (سندع الزبانية) * (العلق: 18) فما تغن النذر) * وقوله: * (يقضى الحق) * قال الزجاج: فيه وجهان: جائز أن يكون * (الحق) * صفة المصدر والتقدير: يقض القضاء الحق. ويجوز أن يكون * (يقض الحق) * يصنع الحق، لأن كل شيء صنعه الله فهو حق. وعلى هذا التقدير * (الحق) * يكون مفعولا به وقضى
7

بمعنى صنع. قال الهذلي: وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع
أي صنعهما داود واحتج أبو عمرو على هذه القراءة بقوله: * (وهو خير الفاصلين) * قال والفصل يكون في القضاء، لا في القصص.
أجاب أبو علي الفارسي فقال القصص ههنا بمعنى القول. وقد جاء الفصل في القول قال تعالى: * (إنه لقول فصل) * وقال: * (أحكمت آياته ثم فصلت) * (هود: 1) وقال: * (نفصل الآيات) * (الأعراف: 32).
* (قل لو أن عندى ما تستعجلون به لقضى الامر بينى وبينكم والله أعلم بالظالمين * وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو ويعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين) *.
قوله تعالى: * (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين) *.
اعلم أن المعنى * (لو أن عندي) * أي في قدرتي وإمكاني * (ما تستعجلون به) * من العذاب * (لقضي الأمر بيني وبينكم) * لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي، واقتصاصا من تكذيبكم به. ولتخلصت سريعا * (والله أعلم بالظالمين) * وبما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره، والمعنى: إني لا أعلم وقت عقوبة الظالمين. والله تعالى يعلم ذلك فهو يؤخره إلى وقته، والله أعلم.
قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) *.
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى * (والله أعلم بالظالمين) * يعني أنه سبحانه هو العالم بكل شيء فهو يعجل ما تعجيله أصلح ويؤخر ما تأخيره أصلح. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المفاتح جمع مفتح. ومفتح، والمفتح بالكسر المفتاح الذي يفتح به والمفتح بفتح الميم الخزانة وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح، قال الفراء في قوله تعالى: * (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة) * (القصص: 76) يعني خزائنه فلفظ المفاتح يمكن أن يكون المراد منه المفاتيح ويمكن أن يراد
8

منه الخزائن، أما على التقدير الأول. فقد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال فالعالم بتلك المفاتيح وكيفية استعمالها في فتح تلك الأغلاق والأقفال يمكنه أن يتوصل بتلك المفاتيح إلى ما في تلك الخزائن فكذلك ههنا الحق سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات عبر عن هذا المعنى بالعبارة المذكورة وقرئ * (مفاتيح) * وأما على التقدير الثاني فالمعنى وعنده خزائن الغيب. فعلى التقدير الأول يكون المراد العلم بالغيب، وعلى التقدير الثاني المراد منه القدرة على كل الممكنات في قوله: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * (الحجر: 21) وللحكماء في تفسير هذه الآية كلام عجيب مفرع على أصولهم فإنهم قالوا: ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول وأن العلم بالمعلول لا يكون علة للعلم بالعلة. قالوا: وإذا ثبت هذا فنقول: الموجود إما أن يكون واجبا لذاته، وإما أن يكون ممكنا لذاته، والواجب لذاته ليس إلا الله سبحانه وتعالى. وكل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا
يوجد إلا بتأثير الواجب لذاته وكل ما سوى الحق سبحانه فهو موجود بإيجاده كائن بتكوينه واقع بإيقاعه. إما بغير واسطة وإما بواسطة واحدة وإما بوسائط كثيرة على الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا. إذا ثبت هذا فنقول: علمه بذاته يوجب عمله بالأثر الأول الصادر منه، ثم علمه بذلك الأثر الأول يوجب عمله بالأثر الثاني لأن الأثر الأول علة قريبة للأثر الثاني. وقد ذكرنا أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فبهذا علم الغيب ليس إلا علم الحق بذاته المخصوصة ثم يحصل له من علمه بذاته علمه بالآثار الصادرة عنه على ترتيبها المعتبر، ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاته لا جرم صح أن يقال: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * فهذا هو طريقة هؤلاء الفرقة الذين فسروا هذه الآية بناء على هذه الطريقة.
ثم اعلم أن ههنا دقيقة أخرى، وهي: أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة، ومثل هذا الإنسان يكون كالنادر وقوله: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * قضية عقلية محضة مجردة فالإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدا. والقرآن إنما أنزل لينتفع به جميع الخلق. فههنا طريق آخر وهو أن من ذكر القضية العقلية المحضة المجردة، فإذا أراد إيصالها إلى عقل كل أحد ذكر لها مثالا من الأمور المحسوسة الداخلة تحت القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوما لكل أحد، والأمر في هذه الآية ورد على هذا القانون، لأنه قال أولا: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها
9

إلا هو) * ثم أكد هذا المعقول الكلي المجرد بجزئي محسوس فقال: * (ويعلم ما في البر والبحر) * وذلك لأن أحد أقسام معلومات الله هو جميع دواب البر، والبحر، والحس، والخيال قد وقف على عظمة أحوال البر والبحر، فذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظمة ذلك المعقول. وفيه دقيقة أخرى وهي: إنه تعالى قدم ذكر البر، لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر، وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال، وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات والمعادن. وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب. فإذا استحضر الخيال صورة البحر والبر على هذه الوجوه. ثم عرف أن مجموعها قسم حقير من الأقسام الداخلة تحت قوله: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * فيصير هذا المثال المحسوس مقويا ومكملا للعظمة الحاصلة تحت قوله: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * ثم إنه تعالى كما كشف عن عظمة قوله * (وعنده مفاتح الغيب) * بذكر البر والبحر كشف عن عظمة البر والبحر بقوله: * (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) * وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في وجه الأرض من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال، ثم يستحضركم فيها من النجم والشجر ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق سبحانه يعلمها ثم يتجاوز من هذا المثال إلى مثال آخر أشد هيئة منه وهو قوله: * (ولا حبة في ظلمات الأرض) * وذلك لأن الحبة في غاية الصغر وظلمات الأرض موضع يبقى أكبر الأجسام وأعظمها مخفيا فيها فإذا سمع أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظلمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج عن علم الله تعالى البتة، صارت هذه الأمثلة منبهة على عظمة عظيمة وجلالة عالية من المعنى المشار إليه بقوله: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * بحيث تتحير العقول فيها وتتقاصر الأفكار والألباب عن الوصول إلى مباديها، ثم إنه تعالى لما قوى أمر ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة فبعد ذكرها عاد إلى ذكر تلك القضية العقلية المحضة المجردة بعبارة أخرى فقال: * (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) * وهو عين المذكور في قوله: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * فهذا ما عقلناه في تفسير هذه الآية الشريفة العالية. ومن الله التوفيق.
(المسألة الثانية) المتكلمون قالوا إنه تعالى فاعل العالم بجواهره وأعراضه على سبيل الاحكام
والاتقان، ومن كان كذلك كان عالما بها فوجب كونه تعالى عالما بها والحكماء قالوا: أنه تعالى
مبدأ لجميع الممكنات، والعلم بالمبدأ يوجب العلم بالأثر فوجب كونه تعالى عالما بكلها:
واعلم أن هذا الكلام من أدل الدلائل على كونه تعالى عالما بجميع الجزئيات الزمانية وذلك
10

لأنه لما ثبت أنه تعالى مبدأ لكل ما سواه وجب كونه مبدأ لهذه الجزئيات بالأثر. فوجب كونه
تعالى عالما بهذه التغيرات والزمانيات من حيث أنها متغيرة وزمانية وذلك هو المطلوب.
(المسألة الثالثة) قوله تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) يدل على كونه تعالى منزها
عن الضد والند وتقريره: أن قوله (وعنده مفاتح الغيب) يفيد الحصر، أي عنده لا عند غيره. ولو
حصل موجود آخر واجب الوجود لكان مفاتح الغيب حاصلة أيضا عند ذلك الآخر، وحينئذ
يبطل الحص، وأيضا فكما أن لفظ الآية يدل على هذا التوحيد، فكذلك البرهان العقلي يساعد
عليه. وتقريره: أن المبدأ الحصول العلم بالآثار والنتائج والصنائع هو العلم به سبحانه لكن العلم
به ليس إلا له لان ما سواه أثر والعلم بالأثر لا يفيد العلم بالمؤثر. فظهر بهذا البرهان أن مفاتح الغيب
ليست إلا عند الحق سبحانه. والله العلم.
(المسألة الرابعة) قرىء (ولا حبة ولا رطب ولا يابس) بالرفع وفيه وجهان: الأول: أن
يكون عطفا على محل من ورقة وأن يكون رفعا على الابتداء وخبره (إلا في كتاب مبين) كقولك:
لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار.
(المسألة الخامسة) قوله (إلا في كتاب مبين) فيه قولان: الأول: أن ذلك الكتاب المبين هو
علم الله تعالى لا غير. وهذا هو الصواب. والثاني: قال الزجاج: يجوز أن يكون الله جل ثناؤه أثبت
كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال عز وجل (ما أصاب من مصيبة في
الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) وفائدة هذا الكتاب أمور: أحدها: أنه
تعالى انما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاد علم الله تعالى في المعلومات
وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شئ فيكون في ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين
باللوح المحفوظ لانهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقا له، وثانيها: يجوز
أن يقال إنه تعالى ما ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيها للمكلفين على أمر الحساب واعلاما بأنه لا يفوته
من كل ما يصنعون في الدنيا شئ: لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب
ولا تكليف فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى. ثالثها: أنه تعالى علم
أحوال جميع الموجودات فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم، وإلا لزم الجهل. فإذا كتب أحوال
جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع أيضا تغييرها وإلا لزم الكذب فتصير
كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا تاما وسببا كاملا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر
11

* (وهو الذى يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) *.
ما تقدم كما قال صلوات الله عليه جف القلم بما هو كائن إلي يوم القيامة والله أعلم.
قوله تعالى (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى
ثم إليه مرجعكم ثم بينكم بما كنت تعملون)
اعلم أنه تعالى لما بين كمال علمه بالآية الأولى بين كمال قدرته بهذه الآية وهو كونه قادرا على نقل الذوات من الموت إلى الحياة ومن النوم إلى اليقظة واستقلاله بحفظها في جميع الأحوال وتدبيرها على أحسن الوجوه حالة النوم واليقظة.
فأما قوله: * (الذي يتوفاكم بالليل) * فالمعنى أنه تعالى ينيمكم فيتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز كما قال جل جلاله * (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) * (الزمر: 42)، فالله جل جلاله يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت، وههنا بحث: وهو أن النائم لا شك أنه حي ومتى كان حيا لم تكن روحه مقبوضة البتة، وإذا كان كذلك لم يصح أن يقال إن الله توفاه فلا بد ههنا من تأويل وهو أن حال النوم تغور الأرواح الحساسة من الظاهر في الباطن فصارت الحواس الظاهرة معطلة عن أعمالها، فعند النوم صار ظاهر الجسد معطلا عن بعض الأعمال، وعند الموت صارت جملة البدن معطلة عن كل الأعمال، فحصل بين النوم وبين الموت مشابهة من هذا الاعتبار، فصح إطلاق لفظ الوفاة والموت على النوم من هذا الوجه. ثم قال: * (ويعلم ما جرحتم بالنهار) * يريد ما كسبتم من العمل بالنهار قال تعالى: * (وما علمتم من الجوارح) * والمراد منها الكواسب من الطير والسباع واحدتها جارحة. قال تعالى: * (والذين اجترحوا السيئات) * أي اكتسبوا. وبالجملة فالمراد منه أعمال الجوارح.
ثم قال تعالى: * (ثم يبعثكم فيه) * أي يرد إليكم أرواحكم في النهار، والبعث ههنا اليقظة. ثم قال: * (ليقضي أجل مسمى) * أي أعماركم المكتوبة، وهي قوله: * (وأجل مسمى عنده) * والمعنى يبعثكم من نومكم إلى أن تبلغوا آجالكم، ومعنى القضاء فصل الأمر على سبيل التمام، ومعنى قضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت.
12

واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه ينيمهم أولا ثم يوقظهم ثانيا كان ذلك جاريا مجرى الإحياء بعد الإماتة، لا جرم استدل بذلك على صحة البعث والقيامة. فقال: * (ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون) * في ليلكم ونهاركم وفي جميع أحوالكم وأعمالكم.
قوله تعالى
* (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جآء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) *.
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته. وتقريره أنا بينا فيما سبق أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية الفوقية بالمكان والجهة بل يجب أن يكون المراد منها الفوقية بالقهر والقدرة، كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان بمعنى أنه أعلى وأنفذ ومنه قوله تعالى: * (يد الله فوق أيديهم) * (الفتح: 10) ومما يؤكد أن المراد ذلك أن قوله: * (وهو القاهر فوق عباده) * مشعر بأن هذا القهر إنما حصل بسبب هذه الفوقية، والفوقية المفيدة لصفة القهر هي الفوقية بالقدرة لا الفوقية بالجهة، إذ المعلوم أن المرتفع في المكان قد يكون مقهورا. وتقرير هذا القهر من وجوه: الأول: إنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد، والثاني:
أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد فإنه تعالى هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى. فلا وجود إلا بإيجاده ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات. والثالث: أنه قهار لكل ضده بضده فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور، والنهار بالليل والليل بالنهار. وتمام تقريره في قوله: * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) * (آل عمران: 26).
وإذا عرفت منهج الكلام. فاعلم أنه بحر لا ساحل له لأن كل مخلوق فله ضد، فالفوق ضده التحت، والماضي ضده المستقبل، والنور ضده الظلمة، والحياة ضدها الموت، والقدرة ضدها العجز. وتأمل في سائل الأحوال والصفات لتعرف أن حصول التضاد بينها يقضي عليها بالمقهورية والعجز والنقصان، وحصول هذه الصفات في الممكنات يدل على أن لها مدبرا قادرا قاهرا منزها عن الضد والند، مقدسا عن الشبيه والشكل. كما قال: * (وهو القاهر فوق عباده) * والرابع: أن هذا
13

البدن مؤلف من الطبائع الأربع. وهي متنافرة متباغضة متباعدة بالطبع والخاصة فاجتماعها لا بد وأن يكون بقسر قاسر وأخطأ من قال إن ذلك القاسر هو النفس الإنسانية، وهو الذي ذكره ابن سينا في الإشارات لأن تعلق النفس بالبدن إنما يكون بعد حصول المزاج واعتدال الأمشاج، والقاهر لهذه الطبائع على الاجتماع سابق على هذا الاجتماع، والسابق على حصول الاجتماع مغاير للمتأخر عن حصول الاجتماع. فثبت أن القاهر لهذه الطبائع على الاجتماع ليس إلا الله تعالى، كما قال: * (وهو القاهر فوق عباده) * وأيضا فالجسد كثيف سفلي ظلماني فاسد عفن، والروح لطيف علوي نوراني مشرق باق طاهر نظيف، فبينهما أشد المنافرة والمباعدة. ثم إنه سبحانه جمع بينهما على سبيل القهر والقدرة، وجعل كل واحد منهما مستكملا بصاحبه منتفعا بالآخر. فالروح تصون البدن عن العفونة والفساد والتفرق، والبدن يصير آلة للروح في تحصيل السعادات الأبدية، والمعارف الإلهية، فهذا الاجتماع وهذا الانتفاع ليس إلا بقهر الله تعالى لهذه الطبائع، كما قال * (وهو القاهر فوق عباده) * وأيضا فعند دخول الروح في الجسد أعطى الروح قدرة على فعل الضدين، ومكنة من الطرفين إلا أنه يمتنع رجحان الفعل على الترك تارة والترك على الفعل أخرى إلا عند حصول الداعية الجازمة الخالية عن المعارض. فلما لم تحصل تلك الداعية امتنع الفعل والترك فكان إقدام الفاعل على الفعل تارة وعلى الترك أخرى بسبب حصول تلك الداعية في قلبه من الله يجري مجرى القهر فكان قاهرا لعباده من هذه الجهة، وإذا تأملت هذه الأبواب علمت أن الممكنات والمبدعات والعلويات والسفليات والذوات والصفات كلها مقهورة تحت قهر الله مسخرة تحت تسخير الله تعالى، كما قال: * (وهو القاهر فوق عباده) *.
وأما قوله تعالى: * (ويرسل عليكم حفظة) * فالمراد أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم وهؤلاء الحفظة هم المشار إليهم بقوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) * (الرعد: 11) وقوله: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) * (ق: 18) وقوله: * (وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين) * (الانفطار: 10، 11) واتفقوا على أن المقصود من حضور هؤلاء الحفظة ضبط الأعمال. ثم اختلفوا فمنهم من يقول: إنهم يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها بدليل قوله تعالى: * (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * (الكهف: 49) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن مع كل إنسان ملكين: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار انتظره لعله يتوب منها، فإن لم يتب كتب عليه. والقول الأول: أقوى لأن قوله تعالى: * (ويرسل عليكم حفظة) * يفيد حفظة الكل من غير تخصيص.
14

والبحث الثاني: أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال، أما على صفات القلوب وهي العلم والجهل فليس في هذه الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها. أما في الأقوال، فلقوله تعالى: * (ما يلفظ من قوله إلا لديه رقيب عتيد) * وأما في الأعمال فلقوله تعالى: * (وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) * (الانفطار: 10، 11، 12) فأما الإيمان والكفر والإخلاص والإشراك فلم يدل الدليل على اطلاع الملائكة عليها.
البحث الثالث: ذكروا في فائدة جعل الملائكة موكلين على بني آدم وجوها: الأول: أن المكلف إذا علم أن الملائكة موكلون به يحصون عليه أعماله ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك أزجر له عن القبائح. الثاني: يحتمل في الكتابة أن يكون الفائدة فيها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن، أما وزن الصحائف فممكن. الثالث: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد. ويجب علينا الإيمان بكل ما ورد به الشرع سواء عقلنا الوجه فيه أو لم نعقل، فهذا حاصل ما قاله أهل الشريعة وأما أهل الحكمة فقد اختلفت أقوالهم في هذا الباب على وجوه:
الوجه الأول: قال المتأخرون منهم: * (وهو القاهر فوق عباده) * ومن جملة ذلك القهر أنه خلط الطبائع المتضادة ومزج بين العناصر المتنافرة، فلما حصل بينها امتزاج استعد ذلك الممتزج بسبب ذلك الامتزاج لقبول النفس المدبرة والقوى الحسية والحركية والنطقية فقالوا المراد من قوله: * (ويرسل عليكم حفظة) * تلك النفوس والقوى، فإنها هي التي تحفظ تلك الطبائع المقهورة على امتزاجاتها.
والوجه الثاني: وهو قول بعض القدماء أن هذه النفوس البشرية والأرواح الإنسانية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها، فبعضها خيرة وبعضها شريرة وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والدناءة وغيرها من الصفات ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب الشفيق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظاتها ومناماتها تارة على سبيل الرؤيا، وأخرى على سبيل الإلهامات فالأرواح الشريرة لها مبادئ من عالم الأفلاك، وكذا الأرواح الخيرة وتلك المبادىء تسمى في مصطلحهم بالطباع التام يعني تلك الأرواح الفلكية في تلك الطبائع والأخلاق تامة كاملة، وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته ولأصحاب الطلسمات والعزائم الروحانية في هذا الباب كلام كثير.
والقول الثالث: النفس المتعلقة بهذا الجسد. لا شك في أن النفوس المفارقة عن الأجساد
15

لما كانت مساوية لهذه في الطبيعة والماهية فتلك النفوس المفارقة تميل إلى هذه النفس بسبب ما بينهما من المشاكلة والموافقة وهي أيضا تتعلق بوجه ما بهذا البدن وتصير
معاونة لهذه النفس على مقتضيات طبيعتها فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الذي جاءت الشريعة الحقة به ليس للفلاسفة أن يمتنعوا عنها لأن كلهم قد أقروا بما يقرب منه وإذا كان الأمر كذلك كان إصرار الجهال منهم على التكذيب باطلا والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) * فهنا بحثان:
البحث الأول: أنه تعالى قال: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * (الزمر: 42) وقال: * (الذي خلق الموت والحياة) * (الملك: 2) فهذا النصان يدلان على أن توفي الأرواح ليس إلا من الله تعالى. ثم قال: * (قل يتوفاكم ملك الموت) * (السجدة: 11) وهذا يقتضي أن الوفاة لا تحصل إلا من ملك الموت. ثم قال في هذه الآية: * (توفته رسلنا) * فهذه النصوص الثلاثة كالمتناقضة.
والجواب: أن التوفي في الحقيقة يحصل بقدرة الله تعالى، وهو في عالم الظاهر مفوض إلى ملك الموت، وهو الرئيس المطلق في هذا الباب، وله أعوان وخدم وأنصار، فحسنت إضافة التوفي إلى هذه الثلاثة بحسب الاعتبارات الثلاثة والله أعلم.
البحث الثاني: من الناس من قال: هؤلاء الرسل الذين بهم تحصل الوفاة، وهم أعيان أولئك الحفظة فهم في مدة الحياة يحفظونهم من أمر الله، وعند مجيء الموت يتوفونهم، والأكثرون أن الذين يتولون الحفظ غير الذين يتولون أمر الوفاة، ولا دلالة في لفظ الآية تدل على الفرق، إلا أن الذي مال إليه الأكثرون هو القول الثاني، وأيضا فقد ثبت بالمقاييس العقلية أن الملائكة الذين هم معادن الرحمة والخير والراحة مغايرون للذين هم أصول الحزن والغم فطائفة من الملائكة هم المسمون بالروحانيين لإفادتهم الروح والراحة والريحان، وبعضهم يسمون بالكروبيين لكونهم مبادئ الكرب والغم والأحزان.
البحث الثالث: الظاهر من قوله تعالى: * (قل يتوفاكم ملك الموت) * أنه ملك واحد هو رئيس الملائكة الموكلين بقبض الأرواح، والمراد بالحفظة المذكورين في هذه الآية: أتباعه، وأشياعه عن مجاهد: جعل الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين، وجاء في الأخبار من صفات ملك الموت ومن كيفية موته عند فناء الدنيا وانقضائها أحوال عجيبة.
والبحث الرابع: قرأ حمزة: توفاه بالألف ممالة والباقون بالتاء، فالأول لتقديم الفعل،
16

ولأن الجمع قد يذكر، والثاني على تأنيث الجمع.
أما قوله تعالى: * (وهم لا يفرطون) * أي لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به، وهذا يدل على أن الملائكة الموكلين بقبض الأرواح لا يقصرون فيما أمروا به. وقوله في صفة ملائكة النار: * (لا يعصون الله ما أمرهم) * يدل على أن ملائكة العذاب لا يقصرون في تلك التكاليف، وكل من أثبت عصمة الملائكة في هذه الأحوال أثبت عصمتهم على الإطلاق، فدلت هذه الآية على ثبوت عصمة الملائكة على الإطلاق. أما قوله تعالى: * (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) * ففيه مباحث: الأول: قيل المردودون هم الملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أيضا أولئك الملائكة. وقيل: بل المردودون البشر، يعني أنهم بعد موتهم يردون إلى الله. واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية، لأن صريح هذه الآية يدل على حصول الموت للعبد ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله، والميت مع كونه ميتا لا يمكن أن يرد إلى الله لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة، لكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة، بل يجب أن يكون ذلك الرد مفسرا بكونه منقادا لحكم الله مطيعا لقضاء الله، وما لم يكن حيا لم يصح هذا المعنى فيه، فثبت أنه حصل ههنا موت وحياة أما الموت، فنصيب البدن: فبقي أن تكون الحياة نصيبا للنفس والروح ولما قال تعالى: * (ثم ردوا إلى الله) * وثبت أن المرد وهو النفس والروح، ثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح، وهو المطلوب.
واعلم أن قوله: * (ثم ردوا إلى الله) * مشعر بكون الروح موجودة قبل البدن، لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال: إنما يكون لو أنها كانت موجودة قبل التعلق بالبدن، ونظيره قوله تعالى: * (ارجعي إلى ربك) * (الفجر: 28) وقوله: * (إليه مرجعكم جميعا) * (يونس: 4) ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام " وحجة الفلاسفة على إثبات أن النفوس البشرية غير موجودة قبل وجود البدن حجة ضعيفة بينا ضعفها في " الكتب العقلية ".
البحث الثاني: كلمة " إلى " تفيد انتهاء الغاية فقوله إلى الله يشعر بإثبات المكان والجهة لله تعالى وذلك باطل فوجب حمله على أنهم ردوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه.
البحث الثالث: أنه تعالى سمى نفسه في هذه الآية باسمين: أحدهما المولى، وقد عرفت أن لفظ المولى، ولفظ الولي مشتقان من الولي: أي القرب، وهو سبحانه القريب البعيد الظاهر الباطن لقوله تعالى: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * وقوله: * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) * (المجادلة: 7) وأيضا المعتق يسمى بالمولى، وذلك كالمشعر بأنه أعتقهم من العذاب، وهو المراد من قوله: " سبقت
17

رحمتي غضبي " وأيضا أضاف نفسه إلى العبد فقال: * (مولاهم الحق) * وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة، وأيضا قال: مولاهم الحق، والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * (الجاثية: 23) فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة، وانتقل إلى تصرفات المولى الحق.
والاسم الثاني الحق: واختلفوا هل هو من أسماء الله تعالى، فقيل: الحق مصدر. وهو نقيض الباطل، وأسماء المصادر لا تجري على الفاعلين إلا مجازا كقولنا فلان عدل ورجاء وغياث وكرم وفضل، ويمكن أن يقال: الحق هو الموجود وأحق الأشياء بالموجودية هو الله سبحانه لكونه واجبا لذاته، فكان أحق الأشياء بكونه حقا هو هو
، واعلم أنه قرىء الحق بالنصب على المدح كقولك الحمد لله الحق.
أما قوله: * (ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (ألا له الحكم) * معناه أنه لا حكم إلا لله. ويتأكد ذلك بقوله: * (إن الحكم إلا لله، وذلك يوجب أنه لا حكم لأحد على شيء إلا الله، وذلك يوجب أن الخير والشر كله يحكم الله وقضائه، فلولا أن الله حكم للسعيد بالسعادة والشقي بالشقاوة، وإلا لما حصل ذلك.
المسألة الثانية: قال أصحابنا هذه الآية تدل على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب، إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله حكم، وهو أخذ الثواب، وذلك ينافي ما دلت الآية عليه أنه لا حكم إلا لله.
المسألة الثالثة: احتج الجبائي بهذه الآية على حدوث كلام الله تعالى. قال لو كان كلامه قديما لوجب أن يكون متكلما بالمحاسبة. الآن: وقبل خلقه، وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم وأصحابنا عارضوه بالعلم، فإنه تعالى كان قبل الخلق عالما بأنه سيوجد، وبعد وجوده صار عالما بأنه قبل ذلك وجد، فلم يلزم منه تغير العلم، فلم لا يجوز مثله في الكلام. والله أعلم.
المسألة الرابعة: اختلفوا في كيفية هذا الحساب، فمنهم من قال: إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة، لا يشغله كلام عن كلام، ومنهم من قال بل يأمر الملائكة حتى أن كل واحد من الملائكة يحاسب واحدا من العباد، لأنه تعالى لو حاسب الكفار بنفسه لتكلم معهم، وذلك باطل لقوله تعالى في صفة الكفار، * (ولا يكلمهم) * (آل عمران: 77)، وأما الحكماء فلهم كلام في تفسير هذا الحساب، وهو أنه إنما يتخلص بتقديم مقدمتين.
فالمقدمة الأولى: أن كثرة الأفعال وتكررها توجب حدوث الملكات الراسخة القوية الثابتة والاستقراء التام يكشف ع ن صحة ما ذكرناه. ألا ترى أن كل من كانت مواظبته على عمل من
18

الأعمال أكثر كان رسوخ الملكة التامة على ذلك العمل منه فيه أقوى.
المقدمة الثانية: إنه لما كان تكرر العمل يوجب حصول الملائكة الراسخة، وجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة، بل كان يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في حصول تلك الملكة، والعقلاء ضربوا لهذا الباب أمثلة.
المثال الأول: أنا لو فرضنا سفينة عظيمة بحيث لو ألقي فيها مائة ألف من فإنها تغوص في الماء بقدر شبر واحد، فلو لم يلق فيها إلا حبة واحدة من الحنطة، فهذا القدر من إلقاء الجم الثقيل في تلك السفينة يوجب غوصها في الماء بمقدار قليل، وإن قلت وبلغت في القلة إلى حيث لا يدركها الحس ولا يضبطها الخيال.
المثال الثاني: أنه ثبت عند الحكماء أن البسائط أشكالها الطبيعية كرات فسطح الماء يجب أن يكون كرة والقسي المشابهة من الدوائر المحيطة بالمركز الواحد متفاوتة، فإن تحدب القوس الحاصل من الدائرة العظمى يكون أقل من تحدب القوس المشابهة للأولى من الدائرة الصغرى وإذا كان الأمر كذلك فالكوز إذا ملئ من الماء، ووضع تحت الجبل كانت حدبة سطح ذلك الماء أعظم من حدبته عندما يوضع الكوز فوق الجبل، ومتى كانت الحدبة أعظم وأكثر كان احتمال الماء بالكوز أكثر، فهذا يوجب أن احتمال الكوز للماء حال كونه تحت الجبل أكثر من احتماله للماء حال كونه فوق الجبل، إلا أن هذا القدر من التفاوت بحيث لا يفي بإدراكه الحس والخيال لكونه في غاية القلة.
والمثال الثالث: إن الإنسانين اللذين يقف أحدهما بالقرب من الآخر، فإن رجليهما يكونان أقرب إلى مركز العالم من رأسيهما، لأن الأجرام الثقيلة تنزل من فضاء المحيط إلى ضيق المركز، إلا أن ذلك القدر من التفاوت لا يفي بإدراكه الحس والخيال.
فإذا عرفت هذه الأمثلة: وعرفت أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات فنقول: لا فعل من أفعال الخير والشر بقليل ولا كثير، إلا ويفيد حصول أثر في النفس. إما في السعادة، وإما في الشقاوة، وعند هذا ينكشف بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7، 8) ولما ثبت أن الأفعال توجب حصول الملكات والأفعال الصادرة من اليد، فهي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة، وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل، فلا جرم تكون الأيدي والأرجل شاهدة يوم القيامة على الإنسان، بمعنى أن تلك الآثار النفسانية، إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح، فكان صدور تلك
19

الأفعال من تلك الجارحة المخصوصة جاريا مجرى الشهادة لحصول تلك الآثار المخصوصة في جوهر النفس، وأما الحساب: فالمقصود منه معرفة ما بقي من الدخل والخرج، ولما بينا أن لكل ذرة من أعمال الخير والشر أثرا في حصول هيئة من هذه الهيئات في جوهر النفس، إما من الهيئات الزاكية الطاهرة أو من الهيئات المذمومة الخسيسة، ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة. فلا جرم كان بعضها يتعارض بالبعض، وبعد حصول تلك المعارضات بقي في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد، وقدر آخر من الخلق الذميم، فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك الخلق الحميد، ومقدار ذلك الخلق الذميم، وذلك الظهور إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم، وهو الآن الذي فيه ينقطع تعلق النفس من البدن، فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب، فهذه أقوال ذكرت في تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية، والله العالم بحقائق الأمور.
قوله تعالى
* (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) *.
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية، وكمال الرحمة والفضل والإحسان. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (قل من ينجيكم) * بالتشديد في الكلمتين، والباقون بالتخفيف. قال الواحدي: والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا، فن شئت نقلت بالهمزة، وإن شئت نقلت بتضعيف العين: مثل: أفرحته وفرحته، وأغرمته وغرمته، وفي القرآن * (فأنجيناه والذين معه) * (الأعراف: 72) وفي آية أخرى * (ونجينا الذين آمنوا) * (فصلت: 18) ولما جاء التنزيل باللغتين معا ظهر استواء القراءتين في الحسن، غير أن الاختيار التشديد، لأن ذلك من الله كان غير مرة، وأيضا قرأ عاصم في رواية أبي بكر خفية بكسر الخاء والباقون بالضم، وهما لغتان، وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف، وعن الأخفش في خفية وخفية أنهما لغتان، وأيضا الخفية من الإخفاء،
20

والخيفة من الرهب، وأيضا (* (لئن أنجيتنا) * من هذه. قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (لئن أنجانا) * على المغايبة، والباقون * (لئن أنجيتنا) * على الخطاب، فأما الأولون: وهم الذين قرؤا على المغايبة، فقد اختلفوا. قرأ عاصم بالتفخيم، والباقون بالأمالة، وحجة من قرأ على المغايبة أن ما قبل هذا اللفظ، وما بعده مذكور بلفظ المغايبة، فأما ما قبله فقوله: * (تدعونه) * وأما ما بعده فقوله: * (قل الله ينجيكم منها) * وأيضا فالقراءة بلفظ الخطاب توجب الإضمار، والتقدير: يقولون لئن أنجيتنا، والإضمار خلاف الأصل. وحجة من قرأ على المخاطبة قوله تعالى في آية أخرى: * (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) *.
المسألة الثانية: * (ظلمات البر والبحر) * مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما. يقال: لليوم الشديد يوم مظلم. ويوم ذو كواكب أي اشتدت ظلمته حتى عادت كالليل، وحقيقة الكلام فيه أنه يشتد الأمر عليه، ويشتبه عليه كيفية الخروج، ويظلم عليه طريق الخلاص، ومنهم من حمله على حقيقته فقال: أما ظلمات البحر فهي أن تجتمع ظلمة الليل، وظلمة البحر وظلمة السحاب، ويضاف الرياح الصعبة والأمواج الهائلة إليها، فلم يعرفوا كيفية الخلاص وعظم الخوف، وأما ظلمات البر فهي ظلمة الليل وظلمة السحاب والخوف الشديد من هجوم الأعداء، والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب، والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى، وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى، وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى، وهو المراد من قوله: * (تضرعا وخفية) * فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات، لكنه ليس كذلك، فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة. يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية، ويقدم على الشرك، ومن المفسرين من يقول: المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان، وأنا أقول: التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية يقرب من أن يكون تعلقا بالوثن، فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي، ولفظ الآية يدل على أن عند حصول هذه الشدائد يأتي الإنسان بأمور: أحدها: الدعاء. وثانيها: التضرع. وثالثها: الإخلاص بالقلب، وهو المراد من قوله: * (وخفية) * ورابعها: التزام الاشتغال بالشكر، وهو المراد من قوله: * (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) * ثم بين تعالى أنه ينجيهم من تلك المخاوف، ومن سائر موجبات الخوف والكرب. ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك، ونظير هذه الآية قوله:
21

* (ضل من تدعون إلا إياه) * وقوله) * (وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين) * وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك. إذا شاهدوا الأمر الهائل أخلصوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به.
* (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الايات لعلهم يفقهون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد وهو ممزوج بنوع من التخويف فبين كونه تعالى قادرا على إيصال العذاب إليهم من هذه الطرق المختلفة، وأما إرسال العذاب عليهم تارة من فوقهم، وتارة من تحت أرجلهم ففيه قولان: الأول: حمل اللفظ على حقيقته فنقول: العذاب النازل عليهم من فوق مثل المطر النازل عليهم من فوق، كما في قصة نوح والصاعقة النازلة عليهم من فوق. وكذا الصيحة النازلة عليهم من فوق. كما حصب قوم لوط، وكما رمى أصحاب الفيل، وأما العذاب الذي ظهر من تحت أرجلهم. فمثل الرجفة، ومثل خسف قارون. وقيل: هو حبس المطر والنبات وبالجملة فهذه الآية تتناول جميع أنواع العذاب التي يمكن نزولها من فوق، وظهورها من أسفل.
القول الثاني: أن يحمل هذا اللفظ على مجازه. قال ابن عباس: في رواية عن عكرمة عذابا من فوقكم أي من الأمراء، ومن تحت أرجلكم من العبيد والسفلة. أما قوله: * (أو يلبسكم شيعا) * فاعلم أن الشيع جمع الشيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة والجمع شيع وأشياع. قال تعالى: * (كما فعل بأشياعهم من قبل) * (سبأ: 54) وأصله من الشيع وهو التبع، ومعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضا. قال الزجاج قوله: * (يلبسكم شيعا) * يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق، فيجعلكم فرقا ولا تكونون فرقة واحدة، فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضا وهو معنى قوله: * (ويذيق بعضكم بأس بعض) * عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية شق ذلك على الرسول عليه
22

الصلاة والسلام وقال: " ما بقاء أمتي إن عوملوا بذلك " فقال له جبريل: إنما أنا عبد مثلك فادع ربك لأمتك، فسأل ربه أن لا يفعل بهم ذلك. فقال جبريل: إن الله قد أمنهم من خصلتين أن لا يبعث عليهم عذابا من فوقهم كما بعثه على قوم نوح ولوط، ولا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون ولم يجرهم من أن يلبسهم شيعا بالأهواء المختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض بالسيف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة الناجية فرقة " وفي رواية أخرى كلهم في الجنة
إلا الزنادقة.
المسألة الثانية: ظاهر قوله: * (أو يلبسكم شيعا) * هو أنه تعالى يحملهم على الأهواء المختلفة والمذاهب المتنافية. وظاهر أن الحق منها ليس إلا الواحد، وما سواه فهو باطل فهذا يقتضي أنه تعالى قد يحمل المكلف على الاعتقاد الباطل وقوله: * (ويذيق بعضكم بأس بعض) * لا شك أن أكثرها ظلم ومعصية، فهذا يدل على كونه تعالى خالقا للخير والشر، أجاب الخصم عنه بأن الآية تدل على أن الله تعالى قادر عليه وعندنا الله قادر على القبيح. إنما النزاع في أنه تعالى هل يفعل ذلك أم لا؟
والجواب: أن وجه التمسك بالآية شيء آخر فإنه قال: * (هو القادر) * على ذلك وهذا يفيد الحصر فوجب أن يكون غير الله غير قادر على ذلك وهذا الاختلاف بين الناس حاصل وثبت بمقتضى الحصر المذكور أن لا يكون ذلك صادرا عن غير الله فوجب أن يكون صادرا عن الله وذلك يفيد المطلوب.
المسألة الثالثة: قالت المقلدة والحشوية: هذه الآية من أدل الدلائل على المنع من النظر والاستدلال، وذلك لأن فتح تلك الأبواب يفيد وقوع الاختلاف والمنازعة في الأديان وتفرق الخلق إلى المذاهب والأديان وذلك مذموم بحكم هذه الآية، والمفضي إلى المذموم مذموم، فوجب أن يكون فتح باب النظر والاستدلال في الدين مذموما وجوابه سهل والله أعلم.
ثم قال تعالى في آخر الآية: * (انظر كيف نصرف الآيات لعلم يفقهون) * قال القاضي: هذا يدل على أنه تعالى أراد بتصريف هذه الآيات وتقرير هذه البينات، أن يفهم الكل تلك الدلائل ويفقه الكل تلك البينات. وجوابنا: بل ظاهر الآية يدل على أنه تعالى ما صرف هذه الآيات إلا لمن فقه وفهم، فأما من أعرض وتمرد فهو تعالى ما صرف هذه الآيات لهم والله أعلم.
قوله تعالى
* (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل * لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون) *.
23

الضمير في قوله: * (وكذب به) * إلى ماذا يرجع فيه أقوال: الأول: أنه راجع إلى العذاب المذكور في الآية السابقة * (وهو الحق) * أي لا بد وأن ينزل بهم. الثاني: الضمير في " به " للقرآن وهو الحق أي في كونه كتابا منزلا من عند الله. الثالث: يعود إلى تصريف الآيات وهو الحق لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات، ثم قال: * (قل لست عليكم بوكيل) * أي لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل. إنما أنا منذر والله هو المجازي لكم بأعمالكم قال ابن عباس والمفسرون: نسختها آية القتال وهو بعيد، ثم قال تعالى: * (لكل نبأ مستقر) * والمستقر يجوز أن يكون موضع الاستقرار، ويجوز أن يكون نفس الاستقرار لأن ما زاد على الثلاثي كان المصدر منه على زنة اسم المفعول نحو المدخل والمخرج، بمعنى الإدخال والإخراج، والمعنى: أن لكل خبر يخبره الله تعالى وقتا أو مكانا يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير وإن جعلت المستقر بمعنى الاستقرار، كان المعنى لكل وعد ووعيد من الله تعالى استقرار ولا بد أن يعلموا أن الأمر كما أخبر الله تعالى عنه عند ظهوره ونزوله. وهذا الذي خوف الكفار به، يجوز أن يكون المراد منه عذاب الآخرة، ويجوز أن يكون المراد منه استيلاء المسلمين على الكفار بالحرب والقتل والقهر في الدنيا.
قوله تعالى
* (وإذا رأيت الذين يخوضون فى ءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا فى حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *.
قوله تعالى: * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *.
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى: * (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل) * فبين به أن الذين يكذبون بهذا الدين فإنه لا يجب على الرسول أن يلازمهم وأن يكون حفيظا عليهم ثم بين في هذه الآية أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مقارنتهم وترك مجالستهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وإذا رأيت) * قيل إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره،
24

وقيل: الخطاب لغيره أي إذا رأيت أيها السامع الذين يخوضون في آياتنا. ونقل الواحدي أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، فشتموا واستهزؤوا فأمرهم أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. ولفظ الخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه العبث واللعب، قال تعالى حكاية عن الكفار: * (وكنا نخوض مع الخائضين) * وإذا سئل الرجل عن قوم فقال: تركتهم يخوضون أفاد ذلك أنهم شرعوا في كلمات لا ينبغي ذكرها ومن الحشوية من تمسك بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته. قال: لأن ذلك خوض في آيات الله، والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية، والجواب عنه: أنا نقلنا عن المفسرين أن المراد من " الخوض " الشروع في آيات الله تعالى على سبيل الطعن والاستهزاء. وبينا أيضا أن لفظ " الخوض " وضع في أصل اللغة لهذا المعنى فسقط هذا الاستدلال والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ ابن عامر * (ينسينك) * بالتشديد وفعل وأفعل يجريان مجرى واحد كما بينا ذلك في مواضع. وفي التنزيل * (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) * (الطارق: 17) والاختيار قراءة العامة لقوله تعالى: * (وما أنسانيه إلا الشيطان) * (الكهف: 63) ومعنى الآية: إن نسيت وقعدت فلا تقعد بعد الذكرى، وقم إذا ذكرت. والذكرى اسم للتذكرة قاله الليث. وقال الفراء: الذكرى يكون بمعنى الذكر، وقوله: * (مع القوم الظالمين) * يعني مع المشركين.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (فأعرض عنهم) * وهذا الإعراض يحتمل أن يحصل بالقيام عنهم ويحتمل بغيره. فلما قال بعد ذلك * (فلا تقعد بعد الذكرى) * صار
ذلك دليلا على أن المراد أن يعرض عنهم بالقيام من عندهم وههنا سؤالات:
السؤال الأول: هل يجوز هذا الإعراض بطريق آخر سوى القيام عنهم؟ والجواب: الذين يتمسكوا بظواهر الألفاظ ويزعمون وجوب إجرائها على ظواهرها لا يجوزون ذلك، والذين يقولون المعنى هو المعتبر جوزوا ذلك قالوا: لأن المطلوب إظهار الإنكار، فكل طريق أفاد هذا المقصود فإنه يجوز المصير إليه. السؤال الثاني: لو خاف الرسول من القيام عنهم، هل يجب عليه القيام مع ذلك؟
الجواب: كل ما أوجب على الرسول فعله وجب عليه ذلك سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر فإنا إن جوزنا منه ترك الواجب بسبب الخوف، سقط الاعتماد عن التكاليف التي بلغها إلينا أما غير الرسول فإنه عند شدة الخوف قد يسقط عنه الفرض، لأنه إقدامه على الترك لا يفضي إلى المحذور المذكور.
25

المسألة الرابعة: قوله: * (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى) * يفيد أن التكليف ساقط عن الناسي قال الجبائي: إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف. وهذا يدل على أن تكليف مالا يطاق لا يقع، ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لما كانت حاصلة قبل الفعل. فوجب أن لا يكون الكافر قادرا على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان. واعلم أن هذه الكلمات كثر ذكرها في هذا الكتاب مع الجواب فلا نطول الكلام بذكر الجواب. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وما على الذين يتقون من حسابهم من شىء ولكن ذكرى لعلهم يتقون * وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *.
قال ابن عباس: قال المسلمون لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لما قدرنا على أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية وحصلت الرخصة فيها للمؤمنين بأن يقعدوا معهم ويذكرونهم ويفهمونهم. قال ومعنى الآية: * (وما على الذين يتقون) * الشرك والكبائر والفواحش * (من حسابهم) * من آثامهم * (من شيء ولكن ذكرى) * قال الزجاج: قوله * (ذكرى) * يجوز أن يكون في موضع رفع، وأن يكون في موضع نصب. أما كونه في موضع رفع فمن وجهين: الأول: ولكن عليكم ذكرى أي أن تذكروهم وجائز أن يكون ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى، فعلى الوجه الأولى الذكرى بمعنى التذكير، وعلى الوجه الثاني الذكرى تكون بمعنى الذكر وأما كونه في موضع النصب، فالتقدير ذكروهم ذكرى لعلهم يتقون. والمعنى لعل ذلك الذكرى يمنعهم من الخوض في ذلك الفضول.
قوله تعالى: * (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس
26

بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *.
اعلم أن هؤلاء هم المذكورون بقوله: * (الذين يخوضون في آياتنا) * ومعنى * (ذرهم) * أعرض عنهم وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه تعالى قال بعده: * (وذكر به) * ونظيره قوله تعالى: * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم) * والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم ولا يترك إنذارهم وتخويفهم. واعلم أنه تعالى أمر الرسول بأن يترك من كان موصوفا بصفتين:
الصفة الأولى: أن يكون من صفتهم أنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وفي تفسيره وجوه: الأول: المراد أنهم اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا به واستهزؤوا به. الثاني: اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها دينا لهم. الثالث: أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهي والتمني، مثل تحريم السوائب والبحائر وما كانوا يحتاطون في أمر الدين البتة، ويكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله تعالى عنهم أنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا. والرابع: قال ابن عباس جعل الله لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله تعالى. ثم إن الناس أكثرهم من المشركين، وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لهوا ولعبا غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى. والخامس: وهو الأقرب، أن المحقق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أنه قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب. فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا، وقد حكم الله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو. فالمراد من قوله: * (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) * هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه. وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الحالة. والله أعلم.
الصفة الثانية: قوله تعالى: * (وغرتهم الحياة الدنيا) * وهذا يؤكد الوجه الخامس الذي ذكرناه كأنه تعالى يقول إنما اتخذوا دينهم لعبا ولهوا لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا. فلأجل استيلاء حب الدنيا على قلوبهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا.
إذا عرفت هذا، فقوله: * (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) * معناه أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في نظرك وزنا * (وذكر به) * واختلفوا في أن الضمير في قوله: * (به) * إلى ماذا يعود؟ قيل: وذكر بالقرآن وقيل إه تعالى قال: * (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) *
27

والمراد الدين الذي يجب عليهم أن يتدينوا به ويعتقدوا صحته. فقوله: * (وذكر به) * أي بذلك الدين لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكور. والدين أقرب المذكور، فوجب عود الضمير إليه. أما قوله * (أن تبسل نفس بما كسبت) * فقال صاحب " الكشاف ": أصل الإبسال المنع ومنه، هذا عليك بسل أي حرام محظور، والباسل الشجاع لامتناعه من خصمه، أو لأنه شديد البسور، يقال بسر الرجل إذا اشتد عبوسه، وإذا زاد قالوا بسل، والعابس منقبض الوجه.
إذا عرفت هذا فنقول: قال ابن عباس: * (تبسل نفس بما كسبت) * أي ترتهن في جهنم بما كسبت في الدنيا. وقال الحسن ومجاهد: تسلم للمهلكة أي تمنع عن مرادها وتخذل. وقال قتادة: تحبس في جهنم، وعن ابن عباس * (تبسل) * تفضح و * (أبسلوا) * فضحوا، ومعنى الآية وذكرهم بالقرآن، ومقتضى الدين مخافة احتباسهم في نار جهنم بسبب جناياتهم لعلهم يخافون فيتقون. ثم قال تعالى: * (ليس لها) * أي ليس للنفس * (من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) * أي وإن تفد كل فداء، والعدل الفدية لا يؤخذ ذلك العدل وتلك الفدية منها. قال صاحب " الكشاف ": فاعل يؤخذ ليس هو قوله: * (عدل) * لأن العدل ههنا مصدر، فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله: * (ولا يؤخذ منها عدل) * فبمعنى المفدى به، فصح إسناده إليه. فنقول: الأخذ بمعنى القبول وارد. قال تعالى: * (ويأخذ الصدقات) * أي يقبلها. وإذا ثبت هذا فيحمل الأخذ ههنا على القبول، ويزول السؤال. والله أعلم.
والمقصود من هذه الآية: بيان أن وجوه الخلاص على تلك النفس منسدة، فلا ولي يتولى دفع ذلك المحذور، ولا شفيع يشفع فيها، ولا فدية تقبل ليحصل الخلاص بسبب قبولها حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع. فإذا كانت وجوه الخلاص هي هذه الثلاثة في الدنيا، وثبت أنها لا تفيد في الآخرة البتة، وظهر أنه ليس هناك إلا الإبسال الذي هو الارتهان والانغلاق والاستسلام، فليس لها البتة دافع من عذاب الله تعالى، وإذا تصور المرء كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصي الله تعالى. ثم إنه تعالى بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين، فقال * (لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) * وذلك هو النهاية في صفة الإيلام. والله أعلم.
قوله تعالى
* (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله
28

كالذى استهوته الشياطين فى الارض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين * وأن أقيموا الصلوة واتقوه وهو الذى إليه تحشرون) *.
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على عبدة الأصنام وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك: * (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) * فقال: * (قل أندعوا من دون الله) * أي أنعبد من دون الله النافع الضار ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا، ونرد على أعقابنا راجعين إلى الشرك بعد أن أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام؟ ويقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل أنه رجع إلى خلف، ورجع على عقبيه ورجع القهقرى، والسبب فيه أن الأصل في الإنسان هو الجهل، ثم إذا ترقى وتكامل حصل له العلم. قال تعالى: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) * (النحل: 78) فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى فكأنه رجع إلى أول مرة، فلهذا السبب يقال: فلان رد على عقبيه.
وأما قوله: * (كالذي استهوته الشياطين في الأرض) * فاعلم أنه تعالى وصف هذا الإنسان بثلاثة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: قوله: * (استهوته الشياطين) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ حمزة * (استهواه) * بألف ممالة على التذكير والباقون بالتاء، لأن الجمع يصلح أن يذكر على معنى الجمع، ويصلح أن يؤنث على معنى الجماعة.
المسألة الثانية: اختلفوا في اشتقاق * (استهوته) * على قولين:
القول الأول: أنه مشتق من الهوى في الأرض، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة في قعر الأرض، فشبه الله تعالى حال هذا الضال به وهو قوله: * (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء) * ولا شك أن حال هذا الإنسان عند هويه من المكان العالي إلى الوهدة العميقة المظلمة يكون في غاية الاضطراب والضعف والدهشة.
والقول الثاني: أنه مشتق من اتباع الهوى والميل، فإن من كان كذلك فإنه ربما بلغ
29

النهاية في الحيرة، والقول الأول أولى، لأنه أكمل في الدلالة على الدهشة والضعف.
الصفة الثانية: قوله: * (حيران) * قال الأصمعي: يقال حار يحار حيرة وحيرا، وزاد الفراء حيرانا وحيرورة، ومعنى الحيرة هي التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه. ومنه يقال: الماء يتحير في الغيم أي يتردد، وتحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء. واعلم أن هذا المثل في غاية الحسن، وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه، لأن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة، وذلك يوجب كمال التردد والتحير، وأيضا فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقل، فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالا للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا) * قالوا: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كان يدعو أباه إلى الكفر وأبوه كان يدعوه إلى الإيمان ويأمره بأن يرجع من طريق الجهالة إلى الهداية ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان. وقيل: المراد أن لذلك الكافر الضال أصحابا يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى وهذا بعيد. والقول الصحيح هو الأول.
ثم قال تعالى: * (قل إن هدى الله هو الهدى) * يعني هو الهدى الكامل النافع الشريف كما إذا قلت علم زيد هو العلم وملك عمرو هو الملك كان معناه ما ذكرناه من
تقرير أمر الكمال والشرف.
ثم قال تعالى: * (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) * واعلم أن قوله: * (إن هدى الله هو الهدى) * دخل فيه جميع أقسام المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات، وتقرير الكلام أن كل ما تعلق أمر الله به، فإما أن يكون من باب الأفعال، وإما أن يكون من باب التروك.
أما القسم الأول: فإما أن يكون من باب أعمال القلوب وإما أن يكون من باب أفعال الجوارح، ورئيس أعمال القلوب الإيمان بالله والإسلام له، ورئيس أعمال الجوارح الصلاة، وأما الذي يكون من باب التروك فهو التقوى وهو عبارة عن الاتقاء عن كل ما لا ينبغي، والله سبحانه لما بين أولا أن الهدى النافع هو هدى الله، أردف ذلك الكلام الكلي بذكر أشرف أقسامه على الترتيب وهو الإسلام الذي هو رئيس الطاعات الروحانية، والصلاة التي هي رئيسة الطاعات الجسمانية، والتقوى التي هي رئيسة لباب التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي، ثم بين منافع هذه الأعمال فقال: * (وهو الذي إليه تحشرون) * يعني أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر والبعث والقيامة.
30

فإن قيل: كيف حسن عطف قوله: * (وأن أقيموا الصلاة) * على قوله: * (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) *؟
قلنا: ذكر الزجاج فيه وجهين: الأول: أن يكون التقدير، وأمرنا فقيل لنا أسلموا لرب العالمين وأقيموا الصلاة.
فإن قيل: هب أن المراد ما ذكرتم، لكن ما الحكمة في العدول عن هذا اللفظ الظاهر والتركيب الموافق للعقل إلى ذلك اللفظ الذي لا يهتدي العقل إلى معناه إلا بالتأويل؟
قلنا: وذلك لأن الكافر ما دام يبقى على كفره، كان كالغائب الأجنبي فلا جرم يخاطب بخطاب الغائبين، فيقال له: * (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) * وإذا أسلم وآمن ودخل في الإيمان صار كالقريب الحاضر، فلا جرم يخاطب بخطاب الحاضرين، ويقال له: * (وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون) * فالمقصود من ذكر هذين النوعين من الخطاب التنبيه على الفرق بين حالتي الكفر والإيمان، وتقريره أن الكافر بعيد غائب والمؤمن قريب حاضر. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وهو الذى خلق السماوات والارض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ فى الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات المتقدمة فساد طريقة عبدة الأصنام، ذكر ههنا ما يدل على أنه لا معبود إلا الله وحده وهو هذه الآية، وذكر فيها أنواعا كثيرة من الدلائل. أولها: قوله * (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق) * أما كونه خالقا للسموات والأرض، فقد شرحنا في قوله: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * وأما أنه تعالى خلقهما بالحق فهو نظير لقوله تعالى في سورة آل عمران * (ربنا ما خلقت هذا باطلا) * (آل عمران: 191) وقوله: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) * (الأنبياء: 16) * (ما خلقناهما إلا بالحق) * (الدخان: 39) وفيه قولان.
القول الأول: وهو قول أهل السنة أنه تعالى مالك لجميع المحدثات مالك لكل الكائنات وتصرف للمالك في ملكه حسن وصواب على الإطلاق، فكان ذلك التصرف حسنا على الإطلاق وحقا على الإطلاق.
31

والقول الثاني: وهو قول المعتزلة أن معنى كونه حقا أنه واقع على وفق مصالح المكلفين مطابق لمنافعهم. قال القاضي: ويدخل في هذه الآية أنه خلق المكلف أولا حتى يمكنه الانتفاع بخلق السماوات والأرض، ولحكماء الإسلام في هذا الباب طريقة أخرى، وهي أنه يقال: أودع في هذه الأجرام العظيمة قوى وخواص يصدر بسببها عنها آثار وحركات مطابقة لمصالح هذا العالم ومنافعه. وثانيها: قوله: * (ويوم يقول كن فيكون) * في تأويل هذه الآية قولان. الأول: التقدير وهو الذي خلق السماوات والأرض وخلق يوم يقول كن فيكون، والمراد من هذا اليوم يوم القيامة، والمعنى أنه تعالى هو الخالق للدنيا ولكل ما فيها من الأفلاك والطبائع والعناصر والخالق ليوم القيامة والبعث ولرد الأرواح إلى الأجساد على سبيل كن فيكون.
والوجه الثاني: في التأويل أن نقول قوله: * (الحق) * مبتدأ و * (يوم يقول كن فيكون) * ظرف دال على الخبر، والتقدير: قوله: * (الحق) * واقع * (يوم يقول كن فيكون) * كقولك يوم الجمعة القتال، ومعناه القتال واقع يوم الجمعة. والمراد من كون قوله حقا في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يقضي إلا بالحق والصدق، لأن أقضيته منزهة عن الجور والعبث. وثالثها: قوله: * (وله الملك يوم ينفخ في الصور) * فقوله: * (وله الملك) * يفيد الحصر، والمعنى: أنه لا ملك في يوم ينفخ في الصور إلا الحق سبحانه وتعالى، فالمراد بالكلام الثاني تقريرا لحكم الحق المبرأ عن العبث والباطل، والمراد بهذا الكلام تقرير القدرة التامة الكاملة التي لا دافع لها ولا معارض.
فإن قال قائل: قول الله حق في كل وقت، وقدرته كاملة في كل وقت، فما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين؟
قلنا: لأن هذا اليوم هو اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد نفع ولا ضر، فكان الأمر كما قال سبحانه: * (والأمر يومئذ لله) * فلهذا السبب حسن هذا التخصيص، ورابعها: قوله: * (عالم الغيب والشهادة) * تقديره، وهو عالم الغيب والشهادة.
واعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب الكامل أنه سبحانه ما ذكر أحوال البعث في القيامة إلا وقرر فيه أصلين: أحدهما: كونه قادرا على كل الممكنات، والثاني: كونه عالما بكل المعلومات لأن بتقدير أن لا يكون قادرا على كل الممكنات لم يقدر على البعث والحشر ورد الأرواح إلى الأجساد وبتقدير أن لا يكون عالما بجميع الجزئيات لم يصح ذلك أيضا منه لأنه ربما اشتبه عليه المطيع بالعاصي. والمؤمن بالكافر، والصديق بالزنديق، فلا يحصل المقصود الأصلي من البعث والقيامة. أما إذا ثبت بالدليل حصول هاتين الصفتين كمل الغرض والمقصود، فقوله: * (وله الملك يوم ينفخ في الصور) *
32

يدل على كمال القدرة، وقوله: * (عالم الغيب والشهادة) * يدل على كمال العلم فلا جرم لزم من مجموعهما أن يكون قوله حقا، وأن يكون حكمه صدقا، وأن تكون قضاياه مبرأة عن الجور والعبث والباطل.
ثم قال: * (وهو الحكيم الخبير) * والمراد من كونه حكيما أن يكون مصيبا في أفعاله، ومن كونه خبيرا، كونه عالما بحقائقها من غير اشتباه ومن غير التباس. والله أعلم.
المسألة الثانية: قد ذكرنا في كثير من هذا الكتاب أنه ليس المراد بقوله: * (كن فيكون) * خطابا وأمرا لأن ذلك الأمر إن كان للمعدوم فهو محال، وإن كان للموجود فهو أمر بأن يصير الموجود موجودا وهو محال، بل المراد منه التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات وإيجاد الموجودات.
المسألة الثالثة: قوله: * (يوم ينفخ في الصور) * ولا شبهة أن المراد منه يوم الحشر، ولا شبهة عند أهل الإسلام أن الله سبحانه خلق قرنا ينفخ فيه ملك من الملائكة وذلك القرن يسمى بالصور على ما ذكر الله تعالى هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم ولكنهم اختلفوا في المراد بالصور في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أن المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه وصفته مذكورة في سائر السور.
والقول الثاني: إن الصور جمع صورة والنفخ في الصور عبارة عن النفخ في صور الموتى، وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة. قال الواحدي رحمه الله: أخبرني أبو الفضل العروضي عن الأزهري عن المنذري عن أبي الهيثم: أنه قال ادعى قوم أن الصور جمع الصورة كما أن الصوف جمع الصوفة والثوم جمع الثومة، وروى ذلك عن أبي عبيدة قال أبو الهيثم، وهذا خطأ فاحش لأن الله تعالى قال: * (وصوركم فأحسن صوركم) * (غافر: 64) وقال: * (ونفخ في الصور) * (يس: 51، الزمر: 68) فمن قرأ ونفخ في الصور، وقرأ * (فأحسن صوركم) * فقد افترى الكذب، وبدل كتاب الله، وكان أبو عبيدة صاحب أخبار وغرائب، ولم يكن له معرفة بالنحو، قال الفراء: كل جمع على لفظ الواحد المذكر سبق جمعه واحده، فواحده بزيادة هاء فيه، وذلك مثل الصوف والوبر والشعر والقطن والعشب فكل واحد من هذه الأسماء اسم لجميع جنسه، وإذا أفردت واحدته زيدت فيها هاء لأن جمع هذا الباب سبق واحده، ولو أن الصوفة كانت سابقة للصوف لقالوا صوفة وصوف وبسرة وبسر كما قالوا غرفة وغرف، وزلفة وزلف، وأما الصور القرن فهو واحد لا يجوز أن يقال واحدته صورة وإنما تجمع صورة الإنسان صورا لأن واحدته سبقت جمعه، قال الأزهري: قد أحسن أبو الهيثم في هذا الكلام، ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه، وأقول: ومما يقوي هذا الوجه أنه لو كان
33

المراد نفخ الروح في تلك الصور لأضاف تعالى ذلك النفخ إلى نفسه لأن نفخ الأرواح في الصور يضيفه الله إلى نفسه، كما قال: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) * (الحجر: 29) وقال: * (فنفخنا فيها من روحنا) * وقال: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * وأما نفح الصور بمعنى النفخ في القرن، فإنه تعالى يضيفه لا إلى نفسه كما قال: * (فإذا نقر في الناقور) * (المدثر: 8) وقال: * (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * (الزمر: 68) فهذا تمام القول في هذا البحث، والله أعلم بالصواب.
قوله تعالى
* (وإذ قال إبرهيم لابيه ءازر أتتخذ أصناما ءالهة إنى أراك وقومك فى ضلال مبين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه سبحانه كثيرا يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم عليه السلام وذلك لأنه يعترف بفضله جميع الطوائف والملل فالمشركون كانوا معترفين بفضله مقرين بأنهم من أولاده واليهود والنصارى والمسلمون كلهم معظمون له معترفون بجلالة قدره. فلا جرم ذكر الله حكاية حاله في معرض الاحتجاج على المشركين.
واعلم أن هذا المنصب العظيم وهو اعتراف أكثر أهل العلم بفضله وعلو مرتبته لم يتفق لأحد كما اتفق للخليل عليه السلام، والسبب فيه أنه حصل بين الرب وبين العبد معاهدة. كما قال: * (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40) فإبراهيم وفى بعهد العبودية، والله تعالى شهد بذلك على سبيل الإجمال تارة وعلى سبيل التفصيل أخرى. أما الإجمال ففي آيتين إحداهما قوله: * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) * (البقرة: 124) وهذا شهادة من الله تعالى بأنه تمم عهد العبودية. والثانية قوله تعالى: * (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) * (البقرة: 131) وأما التفصيل: فهو أنه عليه السلام ناظر في إثبات التوحيد وإبطال القول بالشركاء والأنداد في مقامات كثيرة.
فالمقام الأول: في هذا الباب مناظراته مع أبيه حيث قال له: * (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) * (مريم: 42).
والمقام الثاني: مناظرته مع قومه وهو قوله: * (فلما جن عليه الليل) * (الأنعام: 76).
34

والمقام الثالث: مناظرته مع ملك زمانه، فقال: * (ربي الذي يحيي ويميت) *. والمقام الرابع: مناظرته مع الكفارة بالفعل، وهو قوله تعالى: * (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم) * (الأنبياء: 58) ثم إن القوم قالوا: * (حرقوه وانصروا آلهتكم) * (الأنبياء: 68) ثم إنه عليه السلام بعد هذه الواقعة بذل ولده فقال: * (إني أرى في المنام أني أذبحك) * (الصافات: 102) فعند هذا ثبت أن إبراهيم عليه السلام كان من الفتيان، لأنه سلم قلبه للعرفان ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان، ثم إنه عليه السلام سأل ربه فقال: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * (الشعراء: 84) فوجب في كرم الله تعالى أنه يجيب دعاءه ويحقق مطلوبه في هذا السؤال، فلا جرم أجاب دعاءه، وقبل نداءه وجعله مقبولا لجميع الفرق والطوائف إلى قيام القيامة، ولما كان العرب معترفين بفضله لا جرم جعل الله
تعالى مناظرته مع قومه حجة على مشركي العرب.
المسألة الثانية: اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكا يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة، لكن الثنوية يثبتون إلهين، أحدهما حكيم يفعل الخير، والثاني سفيه يفعل الشر، وأما الاشتغال بعبادة غير الله. ففي الذاهبين إليه كثرة. فمنهم عبدة الكواكب، وهم فريقان منهم من يقول إنه سبحانه خلق هذه الكواكب، وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها، فهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم، قالوا: فيجب علينا أن نعبد هذه الكواكب، ثم إن هذه الأفلاك والكواكب تعبد الله وتطبعه، ومنهم قوم غلاة ينكرون الصانع، ويقولون هذه الأفلاك والكواكب أجسام واجبة الوجود لذواتها ويمتنع عليها العدم والفناء، وهي المدبرة لأحوال هذا العالم الأسفل، وهؤلاء هم الدهرية الخالصة، وممن يعبد غير الله النصارى الذين يعبدون المسيح ومنهم أيضا عبدة الأصنام.
واعلم أن هنا بحثا لا بد منه وهو أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأصنام، والدليل عليه أن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا تواريخهم على سبيل التفصيل هو نوح عليه السلام، وهو إنما جاء بالرد على عبدة الأصنام كما قال تعالى حكاية عن قومه أنهم قالوا: * (لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) * (نوح: 23) وذلك يدل على أن دين عبدة الأصنام قد كان موجودا قبل نوح عليه السلام وقد بقي ذلك الدين إلى هذا الزمان فإن أكثر سكان أطراف الأرض مستمرون على هذا الدين والمذهب الذي هذا شأنه يمتنع أن يكون معلوم البطلان في بديهة العقل، لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري، والعلم الضروري يمتنع إطباق الخلق الكثير على إنكاره، فظهر أنه ليس دين عبدة الأصنام كون الصنم
35

خالقا للسماء والأرض، بل لا بد وأن يكون لهم فيه تأويل، والعلماء ذكروا فيه وجوها كثيرة وقد ذكرنا هذا البحث في أول سورة البقرة، ولا بأس بأن نعيده ههنا تكثيرا للفوائد.
فالتأويل الأول: وهو الأقوى أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب، فإن بحسب قرب الشمس وبعدها من سمت الرأس تحدث الفصول الأربعة، وبسبب حدوث الفصول الأربعة تحدث الأحوال المختلفة في هذا العالم، ثم إن الناس ترصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادات والنحوسات بكيفية وقوعها في طوالع الناس على أحوال مختلفة فلما اعتقدوا ذلك غلب على ظنون أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر، إلا أنهم قالوا إنها وإن كانت مخلوقة للإله الأكبر، إلا أنها هي المدبرة لأحوال هذا العالم وهؤلاء هم الذين أثبتوا الوسائط بين الإله الأكبر، وبين أحوال هذا العالم. وعلى كلا التقديرين فالقوم اشتغلوا بعبادتها وتعظيمها ثم إنهم لما رأوا أن هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتخذوا لكل كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه واتخذوا صنم الشمس من الذهب وزينوه بالأحجار المنسوبة إلى الشمس وهي الياقوت والألماس واتخذوا صنم القمر من الفضة وعلى هذا القياس ثم أقبلوا على عبادة هذه الأصنام وغرضهم من عبادة هذه الأصنام هو عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها وعند هذا البحث يظهر أن المقصود الأصلي من عبادة هذه الأصنام هو عبادة الكواكب. وأما الأنبياء صلوات الله عليهم فلهم ههنا مقامان: أحدهما: إقامة الدلائل على أن هذه الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم كما قال الله تعالى: * (ألا له الخلق والأمر) * (الأعراف: 54) بعد أن بين في الكواكب أنها مسخرة. والثاني: أنها بتقدير أنها تفعل شيئا ويصدر عنها تأثيرات في هذا العالم إلا أن دلائل الحدوث حاصلة فيها فوجب كونها مخلوقة والاشتغال بعبادة الأصل أولى من الاشتغال بعبادة الفرع، والدليل على أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكرناه أنه تعالى لما حكى عن الخليل صلوات الله عليه أنه قال لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين فأفتى بهذا الكلام أن عبادة الأصنام جهل، ثم لما اشتغل بذكر الدليل أقام الدليل على أن الكواكب والقمر والشمس لا يصلح شيء منها للإلهية وهذا يدل على أن دين عبدة الأصنام حاصله يرجع إلى القول بإلهية هذه الكواكب وإلا لصارت هذه الآية متنافية متنافرة. وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا طريق إلى إبطال القول بعبادة الأصنام إلا بإبطال كون الشمس والقمر
36

وسائر الكواكب آلهة لهذا العالم مدبرة له.
الوجه الثاني: في شرح حقيقة مذهب عبدة الأصنام ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي رحمه الله فقال في بعض كتبه: إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضا صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون عنا بالسموات، فلا جرم اتخذوا صورا وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرؤيا والهيكل فيتخذون صورة في غاية الحسن ويقولون إنها هيكل الإله، وصورة أخرى دون الصورة الأولى ويجعلونها على صورة الملائكة، ثم يواظبون على عبادتها قاصدين بتلك العبادة طلب الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة، فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد أن الله تعالى جسم وفي مكان.
الوجه الثالث: في هذا الباب أن القوم يعتقدون أن الله تعالى فوض تدبير كل واحد من الأقاليم إلى ملك بعينه. وفوض تدبير كل قسم من أقسام ملك العالم إلى روح سماوي بعينه فيقولون مدبر البحار ملك، ومدبر الجبال ملك آخر، ومدبر الغيوم والأمطار ملك، ومدبر الأرزاق ملك، ومدبر الحروب والمقاتلات ملك آخر، فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا لكل واحد من أولئك الملائكة صنما مخصوصا وهيكلا مخصوصا ويطلبون من كل صنم ما يليق بذلك الروح الفلكي من الآثار والتدبيرات، وللقوم تأويلات أخرى سوى هذه الثلاثة ذكرناها في أول سورة البقرة، ولنكتف ههنا بهذا القدر من البيان والله أعلم.
المسألة الثالثة: ظاهر هذه الآية يدل على أن اسم والد إبراهيم هو آزر، ومنهم من قال اسمه تارح. قال الزجاج: لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح، ومن الملحدة من جعل هذا طعنا في القرآن. وقال هذا النسب خطأ وليس بصواب، وللعلماء ههنا مقامان:
المقام الأول: أن اسم والد إبراهيم عليه السلام هو آزر، وأما قولهم أجمع النسابون على أن اسمه كان تارح. فنقول هذا ضعيف لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضا، وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وغيرهما، وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى، ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن.
المقام الثاني: سلمنا أن اسمه كان تارح ثم لنا ههنا وجوه:
الوجه الأول: لعل والد إبراهيم كان مسمى بهذين الاسمين، فيحتمل أن يقال إن اسمه الأصلي كان آزر وجعل تارح لقباله، فاشتهر هذا اللقب وخفي الاسم. فالله تعالى ذكره بالاسم،
37

ويحتمل أن يكون بالعكس، وهو أن تارح كان اسما أصليا وآزر كان لقبا غالبا. فذكره الله تعالى بهذا اللقب الغالب.
الوجه الثاني: أن يكون لفظة آزر صفة مخصوصة في لغتهم، فقيل إن آزر اسم ذم في لغتهم وهو المخطئ كأنه قيل، وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطئ كأنه عابه بزيغه وكفره وانحرافه عن الحق، وقيل آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية، وهو أيضا فارسية أصلية.
واعلم أن هذين الوجهين إنما يجوز المصير إليهما عند من يقول بجواز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب.
والوجه الثالث: أن آزر كان اسم صنم يعبده والد إبراهيم، وإنما سماه الله بهذا الاسم لوجهين: أحدهما: أنه جعل نفسه مختصا بعبادته ومن بالغ في محبة أحد فقد يجعل اسم المحبوب اسما للمحب. قال الله تعالى: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) * (الإسراء: 71) وثانيها: أن يكون المراد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
الوجه الرابع: أن والد إبراهيم عليه السلام كان تارح وآزر كان عماله، والعم قد يطلق عليه اسم الأب، كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب أنهم قالوا: * (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق) * (البقرة: 133) ومعلوم أن إسماعيل كان عما ليعقوب. وقد أطلقوا عليه لفظ الأب فكذا ههنا. واعلم أن هذه التكلفات إنما يجب المصير إليها لو دل دليل باهر على أن والد إبراهيم ما كان اسمه آزر وهذا الدليل لم يوجد البتة، فأي حاجة تحملنا على هذه التأويلات، والدليل القوي على صحة أن الأمر على ما يدل عليه ظاهر هذه الآية، أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحرص على تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام وإظهار بغضه، فلو كان هذا النسب كذبا لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه وحيث لم يكذبوه علمنا أن هذا النسب صحيح والله أعلم.
المسألة الرابعة: قالت الشيعة: إن أحدا من آباء الرسول عليه الصلاة والسلام وأجداده ما كان كافرا وأنكروا أن يقال أن والد إبراهيم كان كافرا وذكروا أن آزر كان عم إبراهيم عليه السلام. وما كان والدا له واحتجوا على قولهم بوجوه:
الحجة الأولى: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارا ويدل عليه وجوه: منها قوله تعالى: * (الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين) * (الشعراء: 218، 219).
قيل معناه: إنه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد وبهذا التقدير: فالآية دالة على أن جميع آباء محمد عليه السلام كانوا مسلمين. وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام كان مسلما.
فإن قيل: قوله: * (وتقلبك في الساجدين) * يحتمل وجوها أخر: أحدها: إنه لما نسخ فرض
38

قيام الليل طاف الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الليلة على بيوت الصحابة لينظر ماذا يصنعون لشدة حرصه على ما يظهر منهم من الطاعات فوجدها كبيوت الزنانير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتهليلهم. فالمراد من قوله: * (وتقلبك في الساجدين) * طوافه صلوات الله عليه تلك الليلة على الساجدين. وثانيها: المراد أنه عليه السلام كان يصلي بالجماعة فتقلبه في الساجدين معناه: كونه فيما بينهم ومختلطا بهم حال القيام والركوع والسجود. وثالثها: أن يكون المراد أنه ما يخفى حالك على الله كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في الاشتغال بأمور الدين. ورابعها: المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه، والدليل عليه قوله عليه السلام: " أتموا الركوع والسجود فإني أراكم من وراء ظهري " فهذه الوجوه الأربعة مما يحتملها ظاهر الآية، فسقط ما ذكرتم.
والجواب: لفظ الآية محتمل للكل، فليس حمل الآية على البعض أولى من حملها على الباقي. فوجب أن نحملها على الكل وحينئذ يحصل المقصود، ومما يدل أيضا على أن أحدا من آباء محمد عليه السلام ما كان من المشركين قوله عليه السلام: " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " وقال تعالى: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) وذلك يوجب أن يقال: إن أحدا من أجداده ما كان من المشركين.
إذا ثبت هذا فنقول: ثبت بما ذكرنا أن والد إبراهيم عليه السلام ما كان مشركا، وثبت أن آزر كان مشركا. فوجب القطع بأن والد إبراهيم كان إنسانا آخر غير آزر.
الحجة الثانية: على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام. أن هذه الآية دالة على أن إبراهيم عليه السلام شافه آزر بالغلظة والجفاء. ومشافهة الأب بالجفاء لا تجوز، وهذا يدل على أن آزر ما كان والد إبراهيم، إنما قلنا: إن إبراهيم شافه آزر بالغلظة والجفاء في هذه الآية لوجهين: الأول: أنه قرىء * (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) * بضم آزر وهذا يكون محمولا على النداء ونداء الأب بالاسم الأصلي من أعظم أنواع الجفاء. الثاني: أنه قال لآزر: * (إني أراك وقومك في ضلال مبين) * (الأنعام: 74) وهذا من أعظم أنواع الجفاء والإيذاء. فثبت أنه عليه السلام شافه آزر بالجفاء، وإنما قلنا: أن مشافهة الأب بالجفاء لا تجوز لوجوه: الأول: قوله تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) * (الإسراء: 23) وهذا عام في حق الأب الكافر والمسلم، قال تعالى: * (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما) * (الإسراء: 23) وهذا أيضا عام. والثاني: أنه تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه فقال * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) *
(طه: 44) والسبب فيه أن يصير ذلك رعاية لحق تربية فرعون. فههنا الوالد أولى بالرفق. الثالث: أن الدعوة مع الرفق أكثر تأثيرا في القلب، أما التغليظ فإنه يوجب
39

التنفير والبعد عن القبول. ولهذا المعنى قال تعالى لمحمد عليه السلام: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * (النحل: 125) فكيف يليق بإبراهيم عليه السلام مثل هذه الخشونة مع أبيه في الدعوة؟ الرابع: أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام الحلم، فقال: * (إن إبراهيم لحليم أواه) * وكيف يليق بالرجل الحليم مثل هذا الجفاء مع الآب؟ فثبت بهذه الوجوه أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام بل كان عما له، فأما والده فهو تارح والعم قد يسمى بالأب على ما ذكرنا أن أولاد يعقوب سموا إسماعيل بكونه أبا ليعقوب مع أنه كان عما له. وقال عليه السلام: " ردوا علي أبي " يعني العم العباس وأيضا يحتمل أن آزر كان والد أم إبراهيم عليه السلام وهذا قد يقال له الأب. والدليل عليه قوله تعالى: * (ومن ذريته داود وسليمان) * (الأنعام: 84) إلى قوله: * (عيسى) * فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم عليه السلام كان جدا لعيسى من قبل الأم. وأما أصحابنا فقد زعموا أن والد رسول الله كان كافرا وذكروا أن نص الكتاب في هذه الآية تدل على أن آزر كان كافرا وكان والد إبراهيم عليه السلام. وأيضا قوله تعالى: * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه) * إلى قوله: * (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) * (التوبة: 114) وذلك يدل على قولنا، وأما قوله * (وتقلبك في الساجدين) * قلنا: قد بينا أن هذه الآية تحتمل سائر الوجوه قوله تحمل هذه الآية على الكل، قلنا هذا محال لأن حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه لا يجوز، وأيضا حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معا لا يجوز، وأما قوله عليه السلام: " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " فذلك محمول على أنه ما وقع في نسبه ما كان سفاحا، أما قوله التغليظ مع الأب لا يليق بإبراهيم عليه السلام. قلنا: لعله أصر على كفره فلأجل الإصرار استحق ذلك التغليط. والله أعلم.
المسألة الخامسة: قرىء * (آزر) * بالنصب وهو عطف بيان لقوله: * (لأبيه) * وبالضم على النداء، وسألني واحد فقال: قرىء * (آزر) * بهاتين القراءتين، وأما قوله: * (وإذ قال موسى لأخيه هارون) * قرىء * (هارون) * بالنصب وما قرىء البتة بالضم فما الفرق؟ قلت القراءة بالضم محمولة على النداء والنداء بالاسم استخفاف بالمنادى. وذلك لائق بقصة إبراهيم عليه السلام لأنه كان مصرا على كفره فحسن أن يخاطب بالغلظة زجرا له عن ذلك القبيح، وأما قصة موسى عليه السلام فقد كان موسى عليه السلام يستخلف هارون على قومه فما كان الاستخفاف لائقا بذلك الموضع، فلا جرم ما كانت القراءة بالضم جائزة.
المسألة السادسة: اختلف الناس في تفسير لفظ " الإله " والأصح أنه هو المعبود، وهذه الآية تدل على هذا القول لأنهم ما أثبتوا للأصنام إلا كونها معبودة، ولأجل هذا قال إبراهيم لأبيه: * (أتتخذ أصناما آلهة) * وذلك يدل على أن تفسير لفظ " الإله " هو المعبود.
40

المسألة السابعة: اشتمل كلام إبراهيم عليه السلام في هذه الآية على ذكر الحجة العقلية على فساد قول عبدة الأصنام من وجهين: الأول: أن قوله: * (أتتخذ أصناما آلهة) * يدل على أنهم كانوا يقولون بكثرة الآلهة؛ إلا أن القول بكثرة الآلهة باطل بالدليل العقلي الذي فهم من قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * والثاني: أن هذه الأصنام لو حصلت لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافيا، فلما لم يكن الواحد كافيا دل ذلك على أنها وإن كثرت فلا نفع فيها البتة.
المسألة الثامنة: احتج بعضهم بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى ووجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع. قال لأن إبراهيم عليه السلام حكم عليهم بالضلال، ولولا الوجوب العقلي لما حكم عليهم بالضلال. لأن ذلك المذهب كان متقدما على دعوة إبراهيم. ولقائل أن يقول: إنه كان ضلالا بحكم شرع الأنبياء الذين كانوا متقدمين على إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى
* (وكذلك نرى إبرهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين) *.
المسألة الأولى: " الكاف " في كذلك للتشبيه، وذلك إشارة إلى غائب جرى ذكره والمذكور ههنا فيما قبل هو أنه عليه السلام استقبح عبادة الأصنام، وهو قوله: * (إني أراك وقومك في ضلال مبين) * والمعنى: ومثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام نريه ملكوت السماوات والأرض. وههنا دقيقة عقلية، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غير منقطع ولا زائل البتة، والأرواح البشرية لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى، فإذا كان الأمر كذلك فبقدر ما يزول ذلك الحجاب يحصل هذا التجلي فقول إبراهيم عليه السلام: * (أتتخذ أصناما آلهة) * إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى، لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى، فلما زال ذلك الحجاب لا جرم تجلى له ملكوت السماوات بالتمام، فقوله: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات) * معناه: وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلى جلال الله تعالى، فكان قوله: * (وكذلك) * منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول هذه الإراءة قد حصلت فيما تقدم من الزمان، فكان الأولى
41

أن يقال: وكذلك أرينا إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، فلم عدل عن هذه اللفظة إلى قوله * (وكذلك نرى) *.
قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن يكون تقدير الآية، وكذلك كنا نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، فيكون هذا على سبيل الحكاية عن الماضي. والمعنى أنه تعالى لما حكى عنه أنه شافه أباه الكلام الخشن تعصبا للدين الحق. فكأنه قيل: وكيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ العظيم في قوة الدين، فأجيب بأنا كنا نريه ملكوت السماوات والأرض من وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه. الوجه الثاني في الجواب: وهو أعلى وأشرف مما تقدم، وهو أنا نقول: إنه ليس المقصود من إراءة الله إبراهيم ملكوت السماوات والأرض هو مجرد أن يرى إبراهيم هذا الملكوت، بل المقصود أن يراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه
وعلوه وعظمته. ومعلوم أن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات وفي الصفات، إلا أن جهات دلالاتها على الذوات والصفات غير متناهية. وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر ضياء الدين رحمه الله تعالى قال: سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول: سمعت إمام الحرمين يقول: معلومات الله تعالى غير متناهية، ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات أيضا غير متناهية، وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، ويمكن إنصافه بصفات لا نهاية لها على البدل، وكل تلك الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله تعالى وقدرته أيضا، وإذا كان الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ كذلك؛ فكيف القول في كل ملكوت الله تعالى، فثبت أن دلالة ملك الله تعالى، وملكوته على نعوت جلاله وسمات عظمته وعزته غير متناهية، وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال، فإذن لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقيب البعض لا إلى نهاية ولا إلى آخر في المستقبل، فلهذا السبب والله أعلم لم يقل، وكذلك أريناه ملكوت السماوات والأرض، بل قال: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت والأرض) * وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية، وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له والله أعلم.
المسألة الثالثة: * (الملكوت) * هو الملك، و " التاء " للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت من الرهبة.
واعلم أن في تفسيره هذه الإراءة قولين: الأول: أن الله أراه الملكوت بالعين، قالوا إن الله تعالى شق له السماوات حتى رأى العرش والكرسي وإلى حيث ينتهي إليه فوقية العالم الجسماني،
42

وشق له الأرض إلى حيث ينتهي إلى السطح الآخر من العالم الجسماني، ورأى ما في السماوات من العجائب والبدائع، ورأى ما في باطن الأرض من العجائب والبدائع. وعن ابن عباس أنه قال: لما أسرى بإبراهيم إلى السماء ورأى ما في السماوات وما في الأرض فأبصر عبدا على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك، فقال الله تعالى له: كف عن عبادي فهم بين حالين إما أن أجعل منهم ذرية طيبة أو يتوبون فأغفر لهم أو النار من ورائهم، وطعن القاضي في هذه الرواية من وجوه: الأول: أن أهل السماء هم الملائكة المقربون وهم لا يعصون الله، فلا يليق أن يقال: إنه لما رفع إلى السماء أبصر عبدا على فاحشة. الثاني: أن الأنبياء لا يدعون بهلاك المذنب إلا عن أمر الله تعالى، وإذا أذن الله تعالى فيه لم يجز أن يمنعه من إجابة دعائه. الثالث: أن ذلك الدعاء إما أن يكون صوابا أو خطأ فإن كان صوابا فلم رده في المرة الثانية، وإن كان خطأ فلم قبله في المرة الأولى. ثم قال: وأخبار الآحاد إذا وردت على خلاف دلائل العقول وجب التوقف فيها.
والقول الثاني: أن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة والعقل، لا بالبصر الظاهر والحس الظاهر. واحتج القائلون بهذا القول بوجوه:
الحجة الأولى: أن ملكوت السماوات عبارة عن ملك السماء، والملك عبارة عن القدرة، وقدرة الله لا ترى، وإنما تعرف بالعقل، وهذا كلام قاطع، إلا أن يقال المراد بملكوت السماوات والأرض نفس السماوات والأرض، إلا أن على هذا التقدير يضيع لفظ الملكوت ولا يحصل منه فائدة.
والحجة الثانية: أنه تعالى ذكر هذه الإراءة في أول الآية على سبيل الإجمال وهو قوله: * (وكذلك نرى إبراهيم) * ثم فسرها بعد ذلك بقوله: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) * (الأنعام: 76) فجرى ذكر هذا الاستدلال كالشرح والتفسير لتلك الإراءة فوجب أن يقال إن تلك الإراءة كانت عبارة عن هذا الاستدلال.
والحجة الثالثة: أنه تعالى قال في آخر الآية: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) * والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه لأنهم كانوا غائبين عنها وكانوا يكذبون إبراهيم فيها وما كان يجوز لهم تصديق إبراهيم في تلك الدعوى إلا بدليل منفصل ومعجزة باهرة، وإنما كانت الحجة التي أوردها إبراهيم على قومه في الاستدلال بالنجوم من الطريق الذي نطق به القرآن. فإن تلك الأدلة كانت ظاهرة لهم كما أنها كانت ظاهرة لإبراهيم.
والحجة الرابعة: أن إراءة جميع العالم تفيد العلم الضروري بأن للعالم إلها قادرا على كل
43

الممكنات. ومثل هذه الحالة لا يحصل للإنسان بسببها استحقاق المدح والتعظيم. ألا ترى أن الكفار في الآخرة يعرفون الله تعالى بالضرورة وليس لهم في تلك المعرفة مدح ولا ثواب. وأما الاستدلال بصفات المخلوقات على وجود الصانع وقدرته وحكمته فذاك هو الذي يفيد المدح والتعظيم.
والحجة الخامسة: أنه تعالى كما قال في حق إبراهيم عليه السلام * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * فكذلك قال في حق هذه الأمة: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * (فصلت: 53) فكما كانت هذه الإراءة بالبصيرة الباطنة لا بالبصر الظاهر فكذلك في حق إبراهيم لا يبعد أن يكون الأمر كذلك.
الحجة السادسة: أنه عليه السلام لما تمم الاستدلال بالنجم والقمر والشمس قال بعده: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) * (الأنعام: 79) فحكم على السماوات والأرض بكونها مخلوقة لأجل الدليل الذي ذكره في النجم والقمر والشمس. وذلك الدليل لو لم يكن عاما في كل السماوات والأرض لكان الحكم العام بناء على دليل خاص وأنه خطأ، فثبت أن ذلك الدليل كان عاما فكان ذكر النجم والقمر والشمس كالمثال لإراءة الملكوت. فوجب أن يكون المراد من إراءة الملكوت تعريف كيفية دلالتها بحسب تغيرها وإمكانها وحدوثها على وجود الإله العالم القادر الحكيم فتكون هذه الإراءة بالقلب لا بالعين.
الحجة السابعة: أن اليقين عبارة عن العلم المستفاد بالتأمل إذا كان مسبوقا بالشك وقوله تعالى: * (وليكون من الموقنين) * كالغرض من تلك الإراءة فيصير تقدير الآية نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض لأجل أن يصير من الموقنين. فلما كان اليقين هو العلم المستفاد من الدليل، وجب أن تكون تلك الإراءة عبارة عن الاستدلال.
الحجة الثامنة: أن جميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته باعتبار واحد وهو أنها محدثة ممكنة وكل محدث ممكن فهو محتاج إلى الصانع. وإذا عرف الإنسان هذا الوجه الواحد فقد كفاه ذلك في الاستدلال على الصانع وكأنه بمعرفة هاتين المقدمتين قد طالع جميع الملكوت بعين عقله وسمع بأذن عقله شهادتها بالاحتياج والافتقار وهذه الرؤية رؤية باقية غير زائلة البتة. ثم إنها غير شاملة عن الله تعالى بل هي شاغلة للقلب والروح بالله. أما رؤية العين فالإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين
أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال. ألا ترى أن من نظر إلى صحيفة مكتوبة فإنه لا يرى من تلك الصحيفة رؤية كاملة تامة إلا حرفا واحدا فإن حدق نظره إلى حرف آخر وشغل بصره به صار محروما عن إدراك الحرف الأول، أو عن إبصاره. فثبت أن رؤية الأشياء
44

الكثيرة دفعة واحدة غير ممكنة. وبتقدير أن تكون ممكنة هي غير باقية وبتقدير أن تكون باقية هي شاغلة عن الله تعالى. ألا ترى أنه تعالى مدح محمدا عليه الصلاة والسلام في ترك هذه الرؤية فقال: * (ما زاغ البصر وما طغى) * (النجم: 17) فثبت بجملة هذه الدلائل أن تلك الإراءة كانت إراءة بحسب بصيرة العقل، لا بحسب البصر الظاهر.
فإن قيل: فرؤية القلب على هذا التفسير حاصلة لجميع الموحدين فأي فضيلة تحصل لإبراهيم بسببها.
قلنا: جميع الموحدين وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن الاطلاع على آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وأحوالها مما لا يحصل إلا للأكابر من الأنبياء عليهم السلام. ولهذا المعنى كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: " اللهم أرنا الأشياء كما هي " فزال هذا الإشكال. والله أعلم.
المسألة الرابعة: اختلفوا في " الواو " في قوله: * (وليكون من الموقنين) * وذكروا فيه وجوها: الأول: الواو زائدة والتقدير: نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليستدل بها ليكون من الموقنين. الثاني: أن يكون هذا كلاما مستأنفا لبيان علة الإراءة والتقدير وليكون من الموقنين نريه ملكوت السماوات والأرض. الثالث: أن الإراءة قد تحصل وتصير سببا لمزيد الضلال كما في حق فرعون قال تعالى: * (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) * (طه: 56) وقد تصير سببا لمزيد الهداية واليقين. فلما احتملت الإراءة هذين الاحتمالين قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: إنا أريناه هذه الآيات ليراها ولأجل أن يكون من الموقنين لا من الجاحدين والله أعلم.
المسألة الخامسة: اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقينا لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل. واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سببا لحصول اليقين وذلك لوجوه: الأول: أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة فلا تزال القوة تتزايد حتى ننتهي إلى الجزم. الثاني: أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد جار مجرى تكرار الدرس الواحد، فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب، فكذا ههنا. الثالث: أن القلب عند الاستدلال كان مظلما جدا فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة، فإذا حصل الاستدلال
45

الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى، فيصير الإشراق واللمعان أتم. وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر نورها في أول الأمر وهو الصبح. فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح، ثم كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام، فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى. إلا أن الفرق بين شمس العلم وبين شمس العالم أن شمس العالم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حد معين لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود، وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد، فلا نهاية لتصاعدها ولا غاية لازديادها فقوله: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات، وقوله: * (وليكون من الموقنين) * إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد. والله أعلم.
قوله تعالى (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما
رأى القمر بازغا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم الضالين فلما رأى
الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم انى برى مما تشركون إني وجهت
وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين).
في هذه الآية مسائل:
(المسألة الأولي) قال صاحب الكشاف (فلما جن عليه الليل) عطف على قوله (قال إبراهيم
لأبيه آزر) وقوله (وكذلك ترى) جملة وقعت اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه
(المسألة الثانية) قال الواحدي رحمه الله: يقال حين الليل وأجنه الليل ويقال: لكل
46

ما سترته جن وأجن، ويقال أيضا جنه الليل، ولكن الاختيار جن عليه الليل، وأجنه الليل، هذا
قول جميع أهل اللغة، ومعنى (جن) ستر ومنه الجنة والجن والجنون والجان والجنين والمجن والجنن
والمجن، وهو المقبور، والمجنة كل هذا يعود أصله إلى الستر والاستتار، وقال بعض النحويين (جن
عليه الليل) إذا أظلم عليه الليل. ولهذا دخلت على عليه كما تقول في أظلم. فاما جنه فستره من
غير تضمين معنى (أظلم)
المسألة الثالثة) أعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها
المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد فحبلت أم إبراهيم
به وما أظهرت حبلها للناس فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت
الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام ووضع أصبعه في قمه فمضه فخرج منه رزقه وكان يتعهده جبريل
عليه السلام، فكانت الام تأتيه أحيانا وترضعه وبقى على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له
ربا، فسأل الام فقال لها: من ربى؟ فقال أنا فقال: ومن ربك؟ قال أبوك فقال للأب:
ومن ربك؟ فقال: ملك البلد. فعرف إبراهيم عليه السلام جهلها بربهما فنظر من باب ذلك الغار
ليرى شيئا يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي هو أضواء النجوم في السماء فقال:
هذا ربى إلى آخر القصة. ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال: ان هذا كان بعد البلوغ
وجريان قلم التكليف عليه، ومنهم من قال: ان هذا كان قبل البلوغ. واتفق أكثر المحققين على
فساد القول الأول واحتجوا عليه بوجوه:
(الحجة الأولي) أن القول بربوبية النجم كفر بالاجماع والكفر غير جائز بالاجماع
على الأنبياء.
(الحجة الثانية) أن إبراهيم عليه السلام كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة بالدليل. الدليل
على صحة ما ذكرناه أنه تعالى أخبر عنه أنه قال قبل هذه الواقعة لأبيه آزر (أتتخذ أصناما آلهة إني
أراك وقومك في ضلال مبين)
(الحجة الثالثة) أنه تعالى حكى عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالرفق حيث
قال (يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) وحكى في هذا الموضع أنه دعاء أباه
إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالكلام الخشن واللفظ الموحش. ومن المعلوم أن من دعا غيره
إلى الله تعالى فإنه يقدم الرفق على العنف واللين على الغلظ ولا يخوض في التعنيف وال تغليط إلا بعد
المدة المديدة واليأس التام. فدل هذا على أن هذا الواقعة انما وقعت بعد أن دعا أباه إلى التوحيد
47

مرارا وأطوارا، ولا شك أنه انما اشتغل بدعوة أبيه بعد فراغه من مهم نفسه فثبت أن هذه
الواقعة انما وقعت بعد أن عرف الله بمدة
(الحجة الرابعة) أن هذه الواقعة انما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السماوات والأرض
حتى رأى من فوق العرش والكرسي وما تحتهما إلى ما تحت الثرى، ومن كان منصبه في الدين
كذلك، وعلمه بالله كذلك، كيف يليق به أن يعتقد الهية الكواكب؟
(الحجة الخامسة) أن دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من خمسة عشر وجها وأكثر ومع
هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقل العقلاء نصيبا من العقل والفهم أن يقول بربوبية الكواكب
فضلا عن أعقل العقلاء وأعلم العلماء؟
(الحجة السادسة) أنه تعالى قال في صفة إبراهيم عليه السلام (إذ جاء بقلب سليم) وأقل
مراتب القلب السليم أن يكون سليمان عن الكفر، وأيضا مدحه فقال (ولقد آتينا إبراهيم رشده
من قبل وكنا به عالمين) أي آتيناه رشده من قبل من أول زمان الفكرة. وقوله (وكنا به عالمين)
أي بطهارته وكماله ونظيره قوله تعالى (الله أعلم حيث يجعل رسالاته)
(الحجة السابعة) قوله (وكذلك ترى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من
الموقنين) أي وليكون بسبب تلك الاراءة من الموقنين
ثم قال بعده (فلما جن عليه الليل) والفاء تقتضى الترتيب، فثبت أن هذه الواقعة انما وقعت
بعد أن صار إبراهيم م الموقنين العارفين بربه
(الحجة الثامنة) أن هذه الواقعة انما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه السلام مع قومه،
والدليل عليه أنه تعالى لما ذكر هذه القصة قال (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) ولم يقل
على نفسه، فعلم أن هذه المباحثة انما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الايمان والتوحيد.
لا لأجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه
(الحجة التاسعة) أن القوم يقولون إن إبراهيم عليه السلام انما اشتغل بالنظر في الكواكب
والقمر والشمس حال ما كان في الغار، وهذا باطل. لأنه لو كان الامر كذلك، فكيف يقول
(يا قوم انى برى مما تشركون) مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا ضم
(الحجة العاشرة) قال تعالى (وحاجة قومه قال أتحاجوني في الله) وكيف يحاجونه وهم بعد
ما رأوه وهو ما رآهم وهذا يدل على أنه عليه السلام انما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر
والشمس بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوة إلى عبادتها فذكر قوله (لا أحب
الآفلين) ردا عليهم وتنبيها لهم على فساد قولهم.
48

الحجة الحادية عشر: أنه تعالى حكى عنه أنه قال للقوم: * (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله) * وهذا يدل على أن القوم كانوا خوفوه بالأصنام، كما حكى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له: * (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) * (هود: 54) ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالغار.
الحجة الثانية عشرة: أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار، ولا شك أن الشمس كانت طالعة في اليوم المتقدم، ثم غربت، فكان ينبغي أن يستدل بغروبها السابق على أنها لا تصلح للإلهية، وإذا بطل بهذا الدليل صلاحية الشمس للإلهية بطل ذلك أيضا في القمر والكوكب بطريق الأولى هذا إذا قلنا: إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المعرفة لنفسه. أما إذا قلنا المقصود منها إلزام القوم وإلجاؤهم، فهذا السؤال غير وارد لأنه يمكن أن يقال أنه إنما اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم، ثم امتدت المناظرة إلى أن طلع القمر وطلعت الشمس بعده وعلى هذا التقدير، فالسؤال غير وارد، فثبت بهذه الدلائل الظاهرة أنه لا يجوز أن يقال إن إبراهيم عليه السلام قال على سبيل الجزم: هذا ربي. وإذا بطل هذا بقي ههنا احتمالان: الأول: أن يقال هذا كلام إبراهيم عليه السلام بعد البلوغ ولكن ليس الغرض منه إثبات ربوبية الكوكب بل الغرض منه أحد أمور سبعة. الأول: أن يقال إن إبراهيم عليه السلام لم يقل هذا ربي، على سبيل الأخبار، بل الغرض منه أنه كان يناظر عبدة الكوكب وكان مذهبهم أن الكوكب ربهم وإلههم، فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك القول الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم حتى يرجع إليه فيبطله، ومثاله: أن الواحد منا إذا ناظر من يقول بقدم الجسم، فيقول: الجسم قديم؟ فإذا كان كذلك، فلم نراه ونشاهده مركبا متغيرا؟ فهو إنما قال الجسم قديم إعادة لكلام الخصم حتى يلزم المحال عليه، فكذا ههنا قال: * (هذا ربي) * والمقصود منه حكاية قول الخصم، ثم ذكر عقيبه ما يدل على فساده وهو قوله: * (لا أحب الآفلين) * وهذا الوجه هو المتعمد في الجواب، والدليل عليه: أنه تعالى دل في أول الآية على هذه المناظرة بقوله تعالى: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) *.
والوجه الثاني في التأويل: أن نقول قوله: * (هذا ربي) * معناه هذا ربي في زعمكم واعتقادكم ونظيره أن يقول الموحد للمجسم على سبيل الاستهزاء: أن إلهه جسم محدود أي في زعمه واعتقاده قال تعالى: * (وانظر إلى الهك الذي ظلت عليه عاكفا) * (طه: 97) وقال تعالى: * (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي) * (القصص: 62) وكان صلوات الله تعالى عليه يقول: " يا إله الآلهة ". والمراد أنه تعالى إله الآلهة في زعمهم وقال: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49) أي عند نفسك.
والوجه الثالث في الجواب: أن المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط
49

حرف الاستفهام استغناء عنه لدلالة الكلام عليه.
والوجه الرابع: أن يكون القول مضمرا فيه، والتقدير: قال يقولون هذا ربي. وإضمار القول كثير، كقوله تعالى: * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا) * (البقرة: 127) أي يقولون ربنا وقوله: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلى ليقربونا إلا الله زلفى) * (الزمر: 3) أي يقولون ما نعبدهم، فكذا ههنا التقدير: إن إبراهيم عليه السلام قال لقومه: يقولون هذا ربي. أي هذا هو الذي يدبرني ويربيني.
والوجه الخامس: أن يكون إبراهيم ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوما هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء. الوجه السادس: أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه، فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة. وذلك بأن ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم بربوبية الكواكب مع أن قلبه صلوات الله عليه كان مطمئنا بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده وأن يقبلوا قوله وتمام التقرير أنه لما يجد إلى الدعوة طريقا سوى هذا الطريق، وكان عليه السلام مأمورا بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر، ومعلوم أن عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان قال تعالى: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (النحل: 106) فإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة بقاء شخص واحد فبأن يجوز إظهار كلمة الكفر لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى وأيضا المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر العظيم، ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال. حتى لو صلى وترك القتال أثم ولو ترك الصلاة وقاتل استحق الثواب، بل نقول: أن من كان في الصلاة فرأى طفلا أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذ ذلك الطفل أو ذلك الأعمى عن ذلك البلاء. فكذا ههنا أن إبراهيم عليه
السلام تكلم بهذه الكلمة ليظهر من نفسه موافقة القوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم لذلك الدليل أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل، ومما يقوي هذا الوجه: أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله: * (فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم * فتولوا عنه مدبرين) * (الصافات: 88 - 90) وذلك لأنهم كانوا يستدلون بعلم النجم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم
50

على هذا الطريق في الظاهر مع أنه كان بريئا عنه في الباطن، ومقصوده أن يتوسل بهذا الطريق إلى كسر الأصنام، فإذا جازت الموافقة في الظاهر ههنا. مع أنه كان بريئا عنه في الباطن، فلم لا يجوز أن يكون في مسألتنا كذلك؟ وأيضا المتكلمون قالوا: إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعى الإلهية لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يحصل فيه التلبيس بسبب ظهور تلك الخوارق على يده، ولكن لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوة لأنه يوجب التلبيس فكذا ههنا. وقوله: * (هذا ربي) * لا يوجب الضلال، لأن دلائل بطلانه جلية وفي إظهاره هذه الكلمة منفعة عظيمة وهي استدراجهم لقبول الدليل فكان جائزا والله أعلم.
الوجه السابع: أن القوم لما دعوه إلى عبادة النجوم فكانوا في تلك المناظرة إلى أن طلع النجم الدري فقال إبراهيم عليه السلام * (هذا ربي) * أي هذا هو الرب الذي تدعونني إليه ثم سكت زمانا حتى أفل ثم قال: * (لا أحب الآفلين) * فهذا تمام تقرير هذه الأجوبة على الاحتمال الأول وهو أنه صلوات الله عليه ذكر هذا الكلام بعد البلوغ.
أما الاحتمال الثاني: وهو أنه ذكره قبل البلوغ وعند القرب منه فتقريره أنه تعالى كان قد خص إبراهيم بالعقل الكامل والقريحة الصافية، فخطر بباله قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم، فقال: * (هذا ربي) * فلما شاهد حركته قال: * (لا أحب الآفلين) * ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا البحث فقال في الحال: * (إني بريء مما تشركون) * فهذا الاحتمال لا بأس به، وإن كان الاحتمال الأول أولى بالقبول لما ذكرنا من الدلائل الكثيرة، على أن هذه المناظرة إنما جرت لإبراهيم عليه السلام وقت اشتغاله بدعوة القوم إلى التوحيد والله أعلم.
المسألة الرابعة: قرأ أبو عمرو وورش عن نافع * (رئي) * بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسرهما فإذا كان بعد الألف كاف أو هاء نحو: رآك ورآها فحينئذ يكسرها حمزة والكسائي ويفتحها ابن عامر. وروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم مثل حمزة والكسائي فإذا تلته ألف وصل نحو: رأى الشمس، ورأى القمر. فإن حمزة ويحيى عن أبي بكر ونصر عن الكسائي يكسرون الراء ويفتحون الهمزة والباقون يقرؤن جميع ذلك بفتح الراء والهمزة، واتفقوا في رأوك، ورأوه أنه بالفتح. قال الواحدي: أما من فتح الراء والهمزة فعلته واضحة وهي ترك الألف على الأصل نحو: رعى ورمى. وأما من فتح الراء وكسر الهمزة فإنه أمال الهمزة نحو الكسر ليميل الألف التي في رأى نحو الياء ترك الراء مفتوحة على الأصل. وأما من كسرهما جميعا فلأجل أن تصير حركة الراء مشابهة لحركة الهمزة، والواحدي طول في هذا الباب في " كتاب البسيط " فليرجع إليه. والله أعلم.
51

المسألة الخامسة: القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل عليه السلام يربيه كل ذلك محتمل في الجملة. وقال القاضي: كل ما يجري مجرى المعجزات فإنه لا يجوز لأن تقديم المعجز على وقت الدعوى غير جائز عندهم، وهذا هو المسمى بالإرهاص إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله فتجعل تلك الخوارق معجزة لذلك النبي. وأما عند أصحابنا فالإرهاص جائز فزالت الشبهة والله أعلم.
المسألة السادسة: أن إبراهيم عليه السلام استدل بأفول الكوكب على أنه لا يجوز أن يكون ربا له وخالقا له. ويجب علينا ههنا أن نبحث عن أمرين: أحدهما: أن الأفول ما هو؟ والثاني: أن الأفول كيف يدل على عدم ربوبية الكوكب؟ فنقول: الأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره.
وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل، فيقول: الأفول إنما يدل على الحدوث من حيث إنه حركة وعلى هذا التقدير، فيكون الطلوع أيضا دليلا على الحدوث، فلم ترك إبراهيم عليه السلام الاستدلال على حدوثها بالطلوع وعول في إثبات هذا المطلوب على الأفول؟
والجواب: لا شك أن الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون ظاهرا جليا بحيث يشترك في فهمه الذكي والغبي والعاقل. ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق. أما دلالة الأفول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد، فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتم. وأيضا قال بعض المحققين: الهوى في خطرة الإمكان أفول، وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان، وكل ممكن محتاج، والمحتاج: لا يكون مقطوع الحاجة، فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال: * (وأن إلى ربك المنتهى) * (النجم: 42) وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة، فكل متحرك محدث، وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر. فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل. وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوءه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية، فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله: * (لا أحب الآفلين) * كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين.
52

وفيه دقيقة أخرى: وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين. ومذهب أهل النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعدا إلى وسط السماء كان قويا عظيما التأثير. أما إذا كان غريبا وقريبا من الأفول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل القوة. فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز
وكماله إلى النقصان، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي، يكون ضعيف القوة، ناقص التأثير، عاجزا عن التدبير، وذلك يدل على القدح في إلهيته، فظهر على قول المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته والله أعلم.
أما المقام الثاني: وهو بيان أن كوكب الكوكب آفلا يمنع من ربوبيته. فلقائل أيضا أن يقول: أقصى ما في الباب أن يكون أفوله دالا على حدوثه إلا أن حدوثه لا يمنع من كونه ربا لإبراهيم ومعبودا له، ألا ترى أن المنجمين وأصحاب الوسايط يقولون أن الإله الأكبر خلق الكواكب وأبدعها وأحدثها، ثم أن هذه الكواكب تخلق النبات والحيوان في هذا العالم الأسفل، فثبت أن أفول الكواكب وإن دل على حدوثها إلا أنه لا يمنع من كونها أربابا للإنسان وآلهة لهذا العالم. والجواب: لنا ههنا مقامان:
المقام الأول: أن يكون المراد من الرب والإله الموجود الذي عنده تنقطع الحاجات، ومتى ثبت بأفول الكواكب حدوثها، وثبت في بداهة العقول أن كل ما كان محدثا، فإنه يكون في وجوده محتاجا إلى الغير. وجب القطع باحتياج هذه الكواكب في وجودها إلى غيرها، ومتى ثبت هذا المعنى امتنع كونها أربابا وآلهة. بمعنى أنه تنقطع الحاجات عند وجودها، فثبت أن كونها آفلة يوجب القدح في كونها أربابا وآلهة بهذا التفسير.
المقام الثاني: أن يكون المراد من الرب والإله. من يكون خالقا لنا وموجدا لذواتنا وصفاتنا. فنقول: أفول الكواكب يدل على كونها عاجزة عن الخلق والإيجاد وعلى أنه لا يجوز عبادتها وبيانه من وجوه: الأول: أن أفولها يدل على حدوثها. وحدوثها يدل على افتقارها إلى فاعل قديم قادر ويجب أن تكون قادرية ذلك القادر أزلية. وإلا لافتقرت قادريته إلى قادر آخر، ولزم التسلسل وهو محال، فثبت أن قادريته أزلية.
وإذا ثبت هذا فنقول: الشيء الذي هو مقدور له إنما صح كونه مقدورا له باعتبار إمكانه والإمكان واحد في كل الممكنات. فثبت أن ما لأجله صار بعض الممكنات مقدورا لله تعالى فهو حاصل في كل الممكنات، فوجب في كل الممكنات أن تكون مقدروة لله تعالى.
53

وإذا ثبت هذا امتنع وقوع شيء من الممكنات بغيره على ما بينا صحة هذه المقامات بالدلائل اليقينية في علم الأصول.
فالحاصل أنه ثبت بالدليل أن كون الكواكب آفلة يدل على كونها محدثة، وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة، وأيضا فكونها في نفسها محدثة يوجب القول بامتناع كونها قادرة على الإيجاد والإبداع، وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة. ودلائل القرآن إنما يذكر فيها أصول المقدمات، فأما التفريع والتفصيل، فذاك إنما يليق بعلم الجدل. فلما ذكر الله تعالى هاتين المقدمتين على سبيل الرمز لا جرم اكتفى بذكرهما في بيان أن الكواكب لا قدرة لها على الإيجاد والإبداع، فلهذا السبب استدل إبراهيم عليه السلام بأفولها على امتناع كونها أربابا وآلهة لحوادث هذا العالم.
الوجه الثاني: أن أفول الكواكب يدل على حدوثها وحدوثها يدل على افتقارها في وجودها إلى القادر المختار، فيكون ذلك الفاعل هو الخالق للأفلاك والكواكب، ومن كان قادرا على خلق الكواكب والأفلاك من دون واسطة أي شيء كان فبأن يكون قادرا على خلق الإنسان أولى لأن القادر على خلق الشيء الأعظم لا بد وأن يكون قادرا على خلق الشيء الأضعف، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) * (غافر: 57) وبقوله: * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) * فثبت بهذا الطريق أن الإله الأكبر يجب أن يكون قادرا على خلق البشر، وعلى تدبير العالم الأسفل بدون واسطة الأجرام الفلكية وإذا كان الأمر كذلك كان الاشتغال بعبادة الإله الأكبر أولى من الاشتغال بعبادة الشمس والنجوم والقمر.
الوجه الثالث: أنه لو صح كون بعض الكواكب موجدة وخالقة، لبقي هذا الاحتمال في الكل وحينئذ لا يعرف الإنسان أن خالقه هذا الكوكب. أو ذلك الآخر أو مجموع الكواكب فيبقى شاكا في معرفة خالقه. أما لو عرفنا الكل وأسندنا الخلق والإيجاد والتدبير إلى خالق الكل فحينئذ يمكننا معرفة الخالق والموجد ويمكننا الاشتغال بعبادته وشكره، فثبت بهذه الوجوه أن أفول الكواكب كما يدل على امتناع كونها قديمة فكذلك يدل على امتناع كونها آلهة لهذا العالم وأربابا للحيوان والإنسان. والله أعلم. فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل.
فإن قيل: لا شك أن تلك الليلة كانت مسبوقة بنهار وليل، وكان أفول الكواكب والقمر والشمس حاصلا في الليل السابق والنهار السابق وبهذا التقرير لا يبقى للأفول الحاصل في تلك الليلة مزيد فائدة.
54

والجواب أنا بينا أنه صلوات الله عليه إنما أورد هذا الدليل على الأقوام الذين كان يدعوهم من عبادة النجوم إلى التوحيد. فلا يبعد أن يقال أنه عليه السلام كان جالسا مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي وزجرهم عن عبادة الكواكب فبينما هو في تقرير ذلك الكلام إذ وقع بصره على كوكب مضيء. فلما أفل قال إبراهيم عليه السلام لو كان هذا الكوكب إلها لما انتقل من الصعود إلى الأفول ومن القوة إلى الضعف. ثم في أثناء ذلك الكلام طلع القمر وأفل. فأعاد عليهم ذلك الكلام، وكذا القول في الشمس، فهذا جملة ما يحضرنا في تقرير دليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.
المسألة السادسة: تفلسف الغزالي في بعض كتبه وحمل الكوكب على النفس الناطقة الحيوانية التي لكل كوكب، والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك، والشمس على العقل المجرد الذي لكل ذلك، وكان أبو علي بن سيناء يفسر الأفول بالإمكان، فزعم الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها في نفسها، وزعم أن المراد من قوله: * (لا أحب الآفلين) * أن هذه الأشياء بأسرها ممكنة الوجود لذواتها، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر، ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود.
واعلم أن هذا الكلام لا بأس به. إلا أنه يبعد حمل لفظ الآية عليه، ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم، والشمس على العقل، والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها والله أعلم.
المسألة السابعة: دل قوله: * (لا أحب الآفلين) * على أحكام: الحكم الأول
هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس بجسم إذ لو كان جسما لكان غائبا عنا أبدا فكان آفلا أبدا، وأيضا يمتنع أن يكون تعالى ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى، وإلا لحصل معنى الأفول. الحكم الثاني
هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس محلا للصفات المحدثة كما تقوله الكرامية، وإلا لكان متغيرا، وحينئذ يحصل معنى الأفول، وذلك محال. الحكم الثالث
تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة.
55

الحكم الرابع
تدل هذه الآية على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية، وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال. الحكم الخامس
تدل على هذه الآية على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته، إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) *.
ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع، وبزغت الشمس إذا بدأ منها طلوع. ونجوم بوازغ. قال الأزهري: كأنه مأخوذ في البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا، ومعنى الآية أنه اعتبر في القمر مثل ما اعتبر في الكوكب.
المسألة الثانية: دل قوله: * (لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) * على أن الهداية ليست إلا من الله تعالى. ولا يمكن حمل لفظ الهداية على التمكن وإزاحة الأعذار ونصب الدلائل. لأن كل ذلك كان حاصلا، فالهداية التي كان يطلبها بعد حصول تلك الأشياء لا بد وأن تكون زائدة عليها.
واعلم أن كون إبراهيم عليه السلام على مذهبنا أظهر من أن يشتبه على العاقل لأنه في هذه الآية أضاف الهداية إلى الله تعالى، وكذا في قوله: * (الذي خلقني فهو يهدين) * وكذا في قوله: * (واجنبني وبني أن نبعد الأصنام) *.
أما قوله: * (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إنما قال في الشمس هذا مع أنها مؤنثة، ولم يقل هذه لوجوه: أحدها: أن الشمس بمعنى الضياء والنور، فحمل اللفظ على التأويل فذكر. وثانيها: أن الشمس لم يحصل فيها علامة التأنيث، فلما أشبه لفظها لفظ المذكر وكان تأويلها تأويل النور صلح التذكير من هاتين الجهتين، وثالثها: أراد هذا الطالع أو هذا الذي أراه، ورابعها: المقصود منه رعاية الأدب، وهو ترك التأنيث عند ذكر اللفظ الدال على الربوبية.
56

المسألة الثانية: قوله: * (هذا أكبر) * المراد منه أكبر الكواكب جرما وأقواها قوة، فكان أولى بالإلهية.
فإن قيل: لما كان الأفول حاصلا في الشمس والأفول يمنع من صفة الربوبية، وإذا ثبت امتناع صفة الربوبية للشمس كان امتناع حصولها للقمر ولسائر الكواكب أولى. وبهذا الطريق يظهر أن ذكر هذا الكلام في الشمس يغني عن ذكره في القمر والكواكب. فلم لم يقتصر على ذكر الشمس رعاية للإيجاز والاختصار؟
قلنا: إن الأخذ من الأدون فالأدون، مترقيا إلى الأعلى فالأعلى، له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد لا يحصل من غيره، فكان ذكره على هذا الوجه أولى.
أما قوله: * (قال يا قوم إني بريء مما تشركون) * فالمعنى أنه لما ثبت بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للربوبية والإلهية، لا جرم تبرأ من الشرك.
ولقائل أن يقول: هب أنه ثبت بالدليل أن الكواكب والشمس والقمر لا تصلح للربوبية والإلهية لكن لا يلزم من هذا القدر نفي الشريك مطلقا وإثبات التوحيد، فلم فرع على قيام الدليل على كون هذه الكواكب غير صالحة للربوبية الجزم بإثبات التوحيد مطلقا.
والجواب: أن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل أن هذه الأشياء ليست أربابا ولا آلهة، وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الإطلاق.
أما قوله: * (إني وجهت وجهي) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: فتح الياء من * (وجهي) * نافع وابن عامر وحفص عن عاصم، والباقون تركوا هذا الفتح.
المسألة الثانية: هذا الكلام لا يمكن حمله على ظاهره. بل المراد وجهت عبادتي وطاعتي، وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره، فإنه يتوجه بوجهه إليه، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة.
وأما قوله: * (للذي فطر السماوات والأرض) * ففيه دقيقة: وهي أنه لم يقل وجهت وجهي إلى الذي فطر السماوات والأرض. بل ترك هذا اللفظ وذكر قوله: * (وجهت وجهي للذي) * والمعنى: أن توجيه وجه القلب ليس إليه، لأنه متعال عن الحيز والجهة، بل توجيه وجه القلب إلى خدمته وطاعته لأجل عبوديته، فترك كلمة " إلى " هنا والاكتفاء بحرف اللام دليل ظاهر على كون المعبود
57

متعاليا عن الحيز والجهة، ومعنى فطر أخرجهما إلى الوجود، وأصله من الشق، يقال: تفطر الشجر بالورق والورد إذا أظهرهما، وأما الحنيف فهو المائل قال أبو العالية: الحنيف الذي يستقبل البيت في صلاته، وقيل إنه العادل عن كل معبود دون الله تعالى.
قوله تعالى
* (وحآجه قومه قال أتحاجونى فى الله وقد هدانى ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشآء ربى شيئا وسع ربى كل شىء علما أفلا تتذكرون) *.
اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما أورد عليهم الحجة المذكورة، فالقوم أوردوا عليه حججا على صحة أقوالهم، منها أنهم تمسكوا بالتقليد كقولهم: * (إنا وجدنا آبائنا على أمة) * (الزخرف: 23) وكقولهم للرسول عليه السلام: * (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) * (ص: 5) ومنها: أنهم خوفوه بأنك لما طعنت في إلهية هذه الأصنام وقعت من جهة هذه الأصنام في الآفات والبليات، ونظيره ما حكاه الله تعالى في قصة قوم هود: * (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) * (هود: 54) فذكروا هذا الجنس من الكلام مع إبراهيم عليه السلام.
فأجاب الله عن حجتهم بقوله: * (قال أتحاجوني في الله وقد هداني) *، يعني لما ثبت بالدليل الموجب للهداية واليقين صحة قولي، فكيف يلتفت إلى حجتكم العليلة، وكلماتكم الباطلة. وأجاب عن حجتهم الثانية وهي: أنهم خوفوه بالأصنام بقوله: * (ولا أخاف ما تشركون به) * لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر، والأصنام جمادات لا تقدر ولا قدرة لها على النفع والضر، فكيف يحصل الخوف منها؟
فإن قيل: لا شك أن للطلسمات آثارا مخصوصة، فلم لا يجوز أن يحصل الخوف منها من هذه الجهة؟
قلنا: الطلسم يرجع حاصله إلى تأثيرات الكواكب، وقد دللنا على أن قوى الكواكب على التأثيرات إنما يحصل من خلق الله تعالى فيكون الرجاء والخوف في الحقيقة ليس إلا من الله تعالى.
وأما قوله: * (إلا أن يشاء ربي) * ففيه وجوه: أحدها: إلا أن أذنب فيشاء إنزال العقوبة بي.
58

وثانيها: إلا أن يشاء أن يبتليني بمحن الدنيا فيقطع عني بعض عادات نعمه. وثالثها: إلا أن يشاء ربي فأخاف ما تشركون به بأن يحييها ويمكنها من ضري ونفعي ويقدرها على إيصال الخير والشر إلي، واللفظ يحتمل كل هذه الوجوه، وحاصل الأمر أنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المكاره، والحمقى من الناس يحملون ذلك على أنه إنما حدث ذلك المكروه بسبب أنه طعن في إلهية الأصنام، فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك حتى لو أنه حدث به شيء من المكاره لم يحمل على هذا السبب.
ثم قال عليه السلام: * (وسع ربي كل شيء علما) * يعني أنه علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والخير والحكمة، فبتقدير: أن يحدث من مكاره الدنيا فذاك، لأنه تعالى عرف وجه الصلاح والخير فيه لا لأجل أنه عقوبة على الطعن في إلهية الأصنام.
ثم قال: * (أفلا تتذكرون) * والمعنى: أفلا تتذكرون أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله تعالى لا يوجب حلول العقاب ونزول العذاب، والسعي في إثبات التوحيد والتنزيه لا يوجب استحقاق العقاب. والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ نافع وابن عامر * (أتحاجوني) * خفيفة النون على حذف أحد النونين والباقون على التشديد على الإدغام. وأما قوله: * (وقد هداني) * قرأ نافع وابن عامر * (هداني) * بإثبات الياء على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف.
المسألة الثالثة: أن إبراهيم عليه السلام حاجهم في الله وهو قوله: * (لا أحب الآفلين) * والقوم أيضا حاجوه في الله، وهو قوله تعالى خبرا عنهم: * (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله) * فحصل لنا من هذه الآية أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للمدح العظيم والثناء البالغ، وهي المحاجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام، وذلك المدح والثناء هو قوله تعالى: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) * وتارة تكون موجبة للذم وهو قوله: * (قال أتحاجوني في الله) * ولا فرق بين هذين البابين إلا أن المحاجة في تقرير الدين الحق توجب أعظم أنواح المدح والثناء، والمحاجة في تقرير الدين الباطل توجب أعظم أنواع الذم والزجر.
وإذا ثبت هذا الأصل صار هذا قانونا معتبرا، فكل موضع جاء في القرآن والأخبار يدل على تهجين أمر المحاجة والمناظرة فهو محمول على تقرير الدين الباطل، وكل موضع جاء يدل على مدحه فهو محمول على تقرير الدين الحق والمذهب الصدق. والله أعلم.
59

قوله تعالى
* (وكيف أخاف مآ أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأى الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون * الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) *.
اعلم أن هذا من بقية الجواب عن الكلام الأول، والتقدير: وكيف أخاف الأصنام التي لا قدرة لها على النفع والضر، وأنتم لا تخافون من الشرك الذي هو أعظم الذنوب. وقوله: * (ما لم ينزل به عليكم سلطانا) * فيه وجهان: الأول: أن قوله: * (ما لم ينزل به عليكم سلطانا) * كناية عن امتناع وجود الحجة والسلطان في مثل هذه القصة. ونظيره قوله تعالى: * (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) * (المؤمنون: 117) والمراد منه امتناع حصول البرهان فيه، والثاني: أنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء والصلاة فقوله: * (ما لم ينزل به سلطانا) * معناه: عدم ورود الأمر به. وحاصل هذا الكلام: مالكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف؟ ولم يقل: فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم؟ احترازا من تزكية نفسه فعدل عنه إلى قوله: * (فأي الفريقين) * يعني فريقي المشركين والموحدين. ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله: * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * وهذا من تمام كلام إبراهيم في المحاجة، والمعنى: أن الذين حصل لهم الأمن المطلق هم الذين يكونون مستجمعين لهذين الوصفين: أولهما: الإيمان وهو كمال القوة النظرية. وثانيهما: * (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * وهو كمال القوة العملية.
ثم قال: * (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) * اعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية من وجه والمعتزلة يتمسكون بها من وجه آخر. أما وجه تمسك أصحابنا فهو أن نقول إنه تعالى شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم، ولو كان ترك الظلم أحد أجزاء مسمى الإيمان لكان هذا التقييد عبثا، فثبت أن الفاسق مؤمن وبطل به قول المعتزلة، وأما وجه تمسك المعتزلة بها فهو أنه تعالى شرط في حصول الأمن حصول الأمرين، الإيمان وعدم الظلم، فوجب أن لا يحصل الأمن للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له.
60

وأجاب أصحابنا عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن قوله: * (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * المراد من الظلم الشرك، لقوله تعالى حكاية عن لقمان إذ قال لابنه: * (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) فالمراد ههنا الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا لله شريكا في المعبودية.
والدليل على أن هذا هو المراد أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات، فوجب حمل الظلم ههنا على ذلك.
الوجه الثاني: في الجواب: أن وعيد الفاسق من أهل الصلاة يحتمل أن يعذبه الله، ويحتمل أن يعفو عنه، وعلى كلا التقديرين: فالأمن زائل والخوف حاصل، فلم يلزم من عدم الأمن القطع بحصول العذاب؟ والله أعلم.
قوله تعالى
* (وتلك حجتنآ ءاتيناهآ إبرهيم على قومه نرفع درجات من نشآء إن ربك حكيم عليم) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وتلك) * إشارة إلى كلام تقدم وفيه وجوه: الأول: أنه إشارة إلى قوله: * (لا أحب الآفلين) * والثاني: أنه إشارة إلى أن القوم قالوا له: أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لأجل أنك شتمتهم. فقال لهم: أفلا تخافون أنتم حيث أقدمتم على الشرك بالله وسويتم في العبادة بين خالق العالم ومدبره وبين الخشب المنحوت والصنم المعمول؟ والثالث: أن المراد هو الكل.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (وتلك) * مبتدأ وقوله: * (حجتنا) * خبره وقوله: * (آتيناها إبراهيم) * صفة لذلك الخبر.
المسألة الثانية: قوله: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم) * يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل إبراهيم عليه السلام بإيتاء الله وبإظهاره تلك الحجة في عقله، وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى. ويتأكد هذا أيضا بقوله: * (نرفع درجات من نشاء) * فإن المراد أنه تعالى رفع درجات إبراهيم بسبب أنه تعالى آتاه تلك الحجة، ولو كان حصول العلم بتلك الحجة إنما كان من قبل إبراهيم لا من قبل الله تعالى لكان إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع درجات نفسه
61

وحينئذ كان قوله: * (نرفع درجات من نشاء) * باطلا. فثبت أن هذا صريح قولنا في مسألة الهدى والضلال.
المسألة الثالثة: هذه الآية من أدل الدلائل على فساد قول الحشوية في الطعن في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل. لأنه تعالى أثبت لإبراهيم عليه السلام حصول الرفعة والفوز بالدرجات العالية، لأجل أنه ذكر الحجة في التوحيد وقررها وذب عنها وذلك يدل على أنه لا مرتبة بعد النبوة والرسالة أعلى وأشرف من هذه المرتبة.
المسألة الرابعة: قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (درجات) * بالتنوين من غير إضافة والباقون بالإضافة، فالقراءة الأولى معناها: نرفع من نشاء درجات كثيرة، فيكون " من " في موضع النصب. قال ابن مقسم: هذه القراءة أدل على تفضيل بعضهم على بعض في المنزلة والرفعة. وقال أبو عمرو: الإضافة تدل على الدرجة الواحدة وعلى الدرجات الكثيرة والتنوين لا يدل إلا على الدرجات الكثيرة.
المسألة الخامسة: اختلفوا في تلك الدرجات. قيل: درجات أعماله في الآخرة، وقيل: تلك الحجج درجات رفيعة، لأنها توجب الثواب العظيم. وقيل: نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة، وفي الآخرة بالجنة والثواب. وقيل: نرفع درجات من نشاء بالعلم. واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية وفي البعد عن الصفات الجسمانية.
والدليل عليه: أنه تعالى قال: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) *.
ثم قال بعده: * (نرفع درجات من نشاء) * وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة، وهذا يقتضي أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة وإطلاعها على إشراقها اقتضت ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني، إلى أعالي العالم الروحاني، وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات. والله أعلم.
وأما معنى * (حكيم عليم) * فالمعنى أنه إنما يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم، لا بموجب الشهوة والمجازفة. فإن أفعال الله منزهة عن العبث والفساد والباطل.
قوله تعالى
* (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود
62

وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا
على العالمين * ومن ءابائهم وذرياتهم وإخونهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صرط مستقيم * ذلك هدى الله يهدى به من يشآء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه أظهر حجة الله تعالى في التوحيد ونصرها وذب عنها عدد وجوه نعمه وإحسانه عليه. فأولها: قوله: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم) * والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها وأوقفنا عقله على حقيقتها. وذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة وهو كناية الجمع على وفق ما يقوله عظماء الملوك. فعلنا، وقلنا، وذكرنا. ولما ذكر نفسه تعالى ههنا باللفظ الدال على العظمة وجب أن تكون تلك العظمة عظمة كاملة رفيعة شريفة، وذلك يدل على أن إيتاء الله تعالى إبراهيم عليه السلام تلك الحجة من أشرف النعم، ومن أجل مراتب العطايا والمواهب. وثانيها: أنه تعالى خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية الرفيعة. وهي قوله: * (نرفع درجات من نشاء) * وثالثها: أنه جعله عزيزا في الدنيا، وذلك لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله، ومن ذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة، لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك، والمقصود من هذه الآيات تعديد أنواع نعم الله على إبراهيم عليه السلام جزاء على قيامه بالذب عن دلائل التوحيد، فقال: * (ووهبنا له إسحق) * لصلبه * (ويعقوب) * بعده من إسحق.
فإن قالوا: لم لم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحق، بل أخر ذكره عنه بدرجات؟ قلنا: لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب. وأما إسماعيل فإنه
63

ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في هذا المقام، لأنه تعالى أمر محمدا عليه الصلاة والسلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على التوحيد رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا، ومن النعم العظيمة في الدنيا أن آتاه الله أولادا كانوا أنبياء وملوكا، فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد عليه الصلاة والسلام امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض، فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحق.
وأما قوله: * (ونوحا هدينا من قبل) * فالمراد أنه سبحانه جعل إبراهيم في أشرف الأنساب، وذلك لأنه رزقه أولادا مثل إسحق، ويعقوب. وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل نوح. وإدريس، وشيث. فالمقصود بيان كرامة إبراهيم عليه السلام بحسب الأولاد وبحسب الآباء.
أما قوله: * (ومن ذريته داود وسليمان) * فقيل المراد ومن ذرية نوح، ويدل عليه وجوه: الأول: أن نوحا أقرب المذكورين وعود الضمير إلى الأقرب واجب. الثاني: أنه تعالى ذكر في جملتهم لوطا وهو كان ابن أخ إبراهيم وما كان من ذريته، بل كان من ذرية نوح عليه السلام، وكان رسولا في زمان إبراهيم. الثالث: أن ولد الإنسان لا يقال أنه ذريته، فعلى هذا إسماعيل عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم، بل هو من ذرية نوح عليه السلام. الرابع: قيل إن يونس عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم عليه السلام، وكان من ذرية نوح عليه السلام.
والقول الثاني: أن الضمير عائد إلى إبراهيم عليه السلام، والتقدير: ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان. واحتج القائلون بهذا القول: بأن إبراهيم هو المقصود بالذكر في هذه الآيات وإنما ذكر الله تعالى نوحا لأن كون إبراهيم عليه السلام من أولاده أحد موجبات رفعة إبراهيم.
واعلم أنه تعالى ذكر أولا أربعة من الأنبياء، وهم: نوح، وإبراهيم، وإسحق، ويعقوب. ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء: داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوطا، والمجموع ثمانية عشر.
فإن قيل: رعاية الترتيب واجبة، والترتيب إما أن يعتبر بحسب الفضل والدرجة وإما أن يعتبر بحسب الزمان والمدة، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر في هذه الآية فما السبب فيه؟
قلنا: الحق أن حرف الواو لا يوجب الترتيب، وأحد الدلائل على صحة هذا المطلوب هذه الآية فإن حرف الواو حاصل ههنا مع أنه لا يفيد الترتيب البتة، لا بحسب الشرف ولا بحسب الزمان
64

وأقول عندي فيه وجه من وجوه الترتيب، وذلك لأنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الإكرام والفضل.
فمن المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق: الملك والسلطان والقدرة، والله تعالى قد أعطى داود وسليمان من هذا الباب نصيبا عظيما.
والمرتبة الثانية: البلاء الشديد والمحنة العظيمة، وقد خص الله أيوب بهذه المرتبة والخاصية.
والمرتبة الثالثة: من كان مستجمعا لهاتين الحالتين، وهو يوسف عليه السلام، فإنه نال البلاء الشديد الكثير في أول الأمر، ثم وصل إلى الملك في آخر الأمر.
والمرتبة الرابعة: من فضائل الأنبياء عليهم السلام وخواصهم قوة المعجزات وكثرة البراهين والمهابة العظيمة والصولة الشديدة وتخصيص الله تعالى إياهم بالتقريب العظيم والتكريم التام، وذلك كان في حق موسى وهارون.
والمرتبة الخامسة: الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا، وترك مخالطة الخلق، وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين.
والمرتبة السادسة: الأنبياء الذين لم يبق لهم فيما بين الخلق أتباع وأشياع، وهم إسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط. فإذا اعتبرنا هذا الوجه الذي راعيناه ظهر أن
الترتيب حاصل في ذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام بحسب هذا الوجه الذي شرحناه.
المسألة الثانية: قال تعالى: * (ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا) * اختلفوا في أنه تعالى إلى ماذا هداهم؟ وكذا الكلام في قوله: * (ونوحا هدينا من قبل) * وكذا قوله في آخر الآية: * (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده) *.
قال بعض المحققين: المراد من هذه الهداية الثواب العظيم، وهي الهداية إلى طريق الجنة، وذلك لأنه تعالى لما ذكر هذه الهداية قال بعدها: * (وكذلك نجزي المحسنين) * وذلك يدل على أن تلك الهداية كانت جزاء المحسنين على إحسانهم وجزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب، فثبت أن المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الجنة. فأما الإرشاد إلى الدين وتحصيل المعرفة في قلبه، فإنه لا يكون جزاء له على عمله، وأيضا لا يبعد أن يقال: المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الدين والمعرفة، وإنما ذلك كان جزاء على الإحسان الصادر منهم، لأنهم اجتهدوا في طلب الحق، فالله تعالى جازاهم على حسن طلبهم بإيصالهم إلى الحق، كما قال: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سلبنا) * (العنكبوت: 69).
والقول الثالث: أن المراد من هذه الهداية: الإرشاد إلى النبوة والرسالة، لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك.
65

فإن قالوا: لو كان الأمر كذلك لكان قوله: * (وكذلك نجزي المحسنين) * يقتضي أن تكون الرسالة جزاء على عمل، وذلك عندكم باطل.
قلنا: يحمل قوله: * (وكذلك نجزي المحسنين) * على الجزاء الذي هو الثواب والكرامة، فيزول الإشكال. والله أعلم.
المسألة الثالثة: احتج القائلون بأن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة بقوله تعالى بعد ذكر هؤلاء عليهم السلام: * (وكلا فضلنا على العالمين) * وذلك لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى، فيدخل في لفظ العالم الملائكة، فقوله تعالى: * (وكلا فضلنا على العالمين) * يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين. وذلك يقتضي كونهم أفضل من الملائكة، ومن الأحكام المستنبطة من هذه الآية: أن الأنبياء عليهم السلام يجب أن يكونوا أفضل من كل الأولياء، لأن عموم قوله تعالى: * (وكلا فضلنا على العالمين) * يوجب ذلك. قال بعضهم: * (وكلا فضلنا على العالمين) * معناه فضلناه على عالمي زمانهم. قال القاضي: ويمكن أن يقال المراد: وكلا من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين. ثم الكلام بعد ذلك في أن أي الأنبياء أفضل من بعض، كلام واقع في نوع آخر لا تعلق به بالأول والله أعلم.
المسألة الرابعة: قرأ حمزة والكسائي * (والليسع) * بتشديد اللام وسكون الياء، والباقون * (واليسع) * بلام واحدة. قال الزجاج: يقال فيه الليسع واليسع بتشديد اللام وتخفيفها.
المسألة الخامسة: الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى جعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أنه لا ينتسب إلى إبراهيم إلا بالأم، فكذلك الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن انتسبا إلى رسول الله بالأم وجب كونهما من ذريته، ويقال: إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف.
المسألة السادسة: قوله تعالى: * (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) * يفيد أحكاما كثيرة: الأول: أنه تعالى ذكر الآباء والذريات والأخوان، فالآباء هم الأصول، والذريات هم الفروع، والأخوان فروع الأصول، وذلك يدل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء الأنبياء بنوع من الشرف والكرامة، والثاني: أنه تعالى قال: * (ومن آبائهم) * وكلمة " من " للتبعيض.
فإن قلنا: المراد من تلك الهداية الهداية إلى الثواب والجنة والهداية إلى الإيمان والمعرفة، فهذه الكلمة تدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة. أما لو قلنا: المراد بهذه الهداية النبوة لم يفد ذلك. الثالث: أنا إذا فسرنا هذه الهداية بالنبوة كان
66

قوله: * (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) * كالدلالة على أن شرط كون الإنسان رسولا من عند الله أن يكون رجلا، وأن المرأة لا يجوز أن تكون رسولا من عند الله تعالى، وقوله تعالى بعد ذلك: * (واجتبيناهم) * يفيد النبوة، لأن الاجتباء إذا ذكر في حق الأنبياء عليهم السلام لا يليق به إلا الحمل على النبوة والرسالة.
ثم قال تعالى: * (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده) * واعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الهدى هو معرفة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشرك، لأنه قال بعده: * (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) * (الأنعام: 88) وذلك يدل على أن المراد من ذلك الهدي ما يكون جاريا مجرى الأمر المضاد للشرك.
وإذا ثبت أن المراد بهذا الهدى معرفة الله بوحدانيته. ثم إنه تعالى صرح بأن ذلك الهدى من الله تعالى، ثبت أن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى، ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بنفي الشرك فقال: * (ولو أشركوا) * والمعنى أن هؤلاء الأنبياء لو أشركوا لحبط عنهم طاعاتهم وعباداتهم. والمقصود منه تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك. وأما الكلام في حقيقة الإحباط فقد ذكرناه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة. والله أعلم.
* (أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) *.
اعلم أن قوله: * (أولئك) * إشارة إلى الذين مضى ذكرهم قبل ذلك وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى قبل ذلك، ثم ذكر تعالى أنه آتاهم الكتاب والحكم والنبوة.
واعلم أن العطف يوجب المغايرة، فهذه الألفاظ الثلاثة لا بد وأن تدل على أمور ثلاثة متغايرة. واعلم أن الحكام على الخلق ثلاث طوائف: أحدها: الذين يحكمون على بواطن الناس وعلى أرواحهم، وهم العلماء. وثانيها: الذين يحكمون على ظواهر الخلق، وهم السلاطين يحكمون على الناس بالقهر والسلطنة، وثالثها: الأنبياء، وهم الذين أعطاهم الله تعالى من العلوم والمعارف ما لأجله بها يقدرون على التصرف في بواطن الخلق وأرواحهم، وأيضا أعطاهم من القدرة والمكنة ما لأجله
67

يقدرون على التصرف في ظواهر الخلق، ولما استجمعوا هذين الوصفين لا جرم كانوا هم الحكام على الإطلاق.
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله: * (آتيناهم الكتاب) * إشارة إلى أنه تعالى أعطاهم العلم الكثير وقوله: * (والحكم) * إشارة إلى أنه تعالى جعلهم حكاما على الناس نافذي الحكم فيهم بحسب الظاهر. وقوله: * (والنبوة) * إشارة إلى المرتبة الثالثة، وهي الدرجة العالية الرفيعة الشريفة التي يتفرع على حصولها حصول المرتبتين المقدمتين المذكورتين، وللناس في هذه الألفاظ الثلاثة تفسيرات كثيرة، والمختار عندنا ما ذكرناه.
واعلم أن قوله: * (آتيناهم الكتاب) * يحتمل أن يكون المراد من هذا الإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل عليه كما في صحف إبراهيم وتوراة موسى، وإنجيل عيسى عليه السلام، وقرآن محمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون المراد منه أن يؤتيه الله تعالى فهما تاما لما في الكتاب وعلما محيطا بحقائقه وأسراره، وهذا هو الأولى. لأن الأنبياء الثمانية عشر المذكورين ما أنزل الله تعالى على كل واحد منهم كتابا إلهيا على التعيين والتخصيص.
ثم قال تعالى: * (فإن يكفر بها هؤلاء) * والمراد فان يكفر بهذا التوحيد والطعن في الشرك كفار قريش * (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن ذلك القوم من هم؟ على وجوه، فقيل: هم أهل المدينة وهم الأنصار، وقيل: المهاجرون والأنصار، وقال الحسن: هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم وهو اختيار الزجاج. قال الزجاج: والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * وقال أبو رجاء: يعني الملائكة وهو بعيد لأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم، وقال مجاهد هم الفرس، وقال ابن زيد: كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكا أو نبيا أو من الصحابة أو من التابعين.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) * يدل على أنه إنما خلقهم للإيمان. وأما غيرهم فهو تعالى ما خلقهم للإيمان، لأنه تعالى لو خلق الكل للإيمان كان البيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركا فيه بين المؤمن وغير المؤمن، وحينئذ لا يبقى لقوله: * (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) * معنى!.
وأجاب الكعبي عنه من وجهين: الأول: أنه تعالى زاد المؤمنين عند إيمانهم وبعده من ألطافه وفوائده وشريف أحكامه ما لا يحصيه إلا الله، وذكر في الجواب وجها ثانيا، فقال:
68

وبتقدير: أن يسوى لكان بعضهم إذا قصر ولم ينتفع صح أن يقال بحسب الظاهر أن لم يحصل له نعم الله كالوالد الذي يسوي بين الولدين في العطية، فإنه يصح أن يقال: إنه أعطى أحدهما دون الآخر إذا كان ذلك الآخر ضيعه وأفسده.
واعلم أن الجواب الأول ضعيف، لأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشتركة فيما بين الكافر والمؤمن؛ والتخصيص عند المعتزلة غير جائز، والثاني: أيضا فاسد. لأن الوالد لما سوى بين الولدين في العطية، ثم إن أحدهما ضيع نصيبه، فأي عاقل يجوز أن يقال أن الأب ما أنعم عليه، وما أعطاه شيئا.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه ويقوي دينه، ويجعله مستعليا على كل من عاداه، قاهرا لكل من نازعه، وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع، فكان هذا جاريا مجرى الأخبار عن الغيب، فيكون معجزا. والله أعلم.
قوله تعالى
* (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: لا شبهة في أن قوله: * (أولئك الذين هدى الله) * هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء، ولا شك في أن قوله: * (فبهداهم اقتده) * أمر لمحمد عليه الصلاة والسلام، وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمدا أن يقتدي فيه بهم، فمن الناس من قال: المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات، وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم، وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل، وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلا على أن شرع من قبلنا يلزمنا، وقال آخرون: إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك مجاهدين بإبطاله بدليل أنه ختم الآية بقوله: * (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) * (الأنعام: 88) ثم أكد
69

إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله: * (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) *.
ثم قال في هذه الآية: * (أولئك الذين هدى الله) * أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد * (فبهداهم اقتده) * أي اقتد بهم في نفس الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب. وقال آخرون: اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل. قال القاضي: يبعد حمل هذه الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء عليهم السلام المتقدمين في شرائعهم لوجوه: أحدها: أن شرائعهم مختلفة متناقضة فلا يصح مع تناقضها أن يكون مأمورا بالاقتداء بهم في تلك الأحكام المتناقضة. وثانيها: أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل.
وإذا ثبت هذا فنقول: دليل ثبات شرعهم كان مخصوصا بتلك الأوقات لا في غير ذلك الأوقات. فكان الاقتداء بهم في ذلك الهدى هو أن يعلم وجوب تلك الأفعال في تلك الأوقات فقط، وكيف يستدل بذلك على اتباعهم في شرائعهم في كل الأوقات؟ وثالثها: أن كونه عليه الصلاة والسلام متبعا لهم في شرائعهم يوجب أن يكون منصبه أقل
من منصبهم وذلك باطل بالإجماع، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على وجوب الاقتداء بهم في شرائعهم.
والجواب عن الأول: أن قوله: * (فبهداهم اقتده) * يتناول الكل. فأما ما ذكرتم من كون بعض الأحكام متناقضة بحسب شرائعهم. فنقول: ذلك العام يجب تخصيصه في هذه الصورة فيبقى فيما عداها حجة.
وعن الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام لو كان مأمورا بأن يستدل بالدليل الذي استدل به الأنبياء المتقدمون لم يكن ذلك متابعة، لأن المسلمين لما استدلوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال: إنهم متبعون لليهود والنصارى في هذا الباب، وذلك لأن المستدل بالدليل يكون أصيلا في ذلك الحكم، ولا تعلق له بمن قبله البتة، والاقتداء والاتباع لا يحصل إلا إذا كان فعل الأول سببا لوجوب الفعل على الثاني، وبهذا التقرير يسقط السؤال.
وعن الثالث: أنه تعالى أمر الرسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصفات الحميدة والأخلاق الشريفة، وذلك لا يوجب كونه أقل مرتبة منهم، بل يوجب كونه أعلى مرتبة من الكل على ما سيجيء تقريره بعد ذلك إن شاء الله تعالى، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا.
المسألة الثانية: احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام، وتقريره: هو أنا بينا أن خصال الكمال، وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم
70

بأجمعهم، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ويوسف كان مستجمعا لهاتين الحالتين. وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، كانوا أصحاب الزهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس صاحب التضرع، فثبت إنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف، ثم أنه تعالى لما ذكر الكل أمر محمدا عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهم بأسرهم، فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ولما أمره الله تعالى بذلك، امتنع أن يقال: إنه قصر في تحصيلها، فثبت أنه حصلها، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أنه اجتمع فيه من فصال الخير ما كان متفرقا فبهم بإسرهم، ومتى كان الأمر كذلك، وجب أن يقال: إنه أفضل منهم بكليتهم. والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال الواحدي: قوله: * (هدى الله) * دليل على أنهم مخصوصون بالهدى، لأنه لو هدى جميع المكلفين لم يكن لقوله: * (أولئك الذين هدى الله) * فائدة تخصيص.
المسألة الرابعة: قال الواحدي: الاقتداء في اللغة إتيان الثاني بمثل فعل الأول لأجل أنه فعله. روى اللحياني عن الكسائي أنه قال: يقال لي بك قدوة وقدوة.
المسألة الخامسة: قال الواحدي: قرأ ابن عامر * (اقتده) * بكسر الدال وبشم الهاء للكسر من غير بلوغ ياء، والباقون * (اقتده) * ساكنة الهاء، غير أن حمزة والكسائي يحذفانها في الوصل ويثبتانها في الوقف، والباقون يثبتونها في الوصل والوقف.
والحاصل: أنه حصل الإجماع على إثباتها في الوقف. قال الواحدي: الوجه الإثبات في الوقف والحذف في الوصل، لأن هذه الهاء هاء وقعت في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء، وذلك لأن الهاء للوقف، كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن، فكما لا تثبت الهمزة حال الوصل، كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء إلا أن هؤلاء الذين أثبتوا راموا موافقة المصحف، فإن الهاء ثابتة في الخط فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل فأثبتوا. وأما قراءة ابن عامر: فقال أبو بكر ومجاهد: هذا غلط، لأن هذه الهاء هاء وقف، فلا تعرب في حال من الأحوال، وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها. قال أبو علي الفارسي: ليس بغلط، ووجهها أن تجعل الهاء كناية عن المصدر، والتقدير: فبهداهم اقتد الاقتداء، فيضمر الاقتداء لدلالة الفعل عليه، وقياسه إذا وقف أن تسكن الهاء، لأن هاء الضمير تسكن في الوقف، كما تقول: اشتره. والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا) * فالمراد به أنه تعالى لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء
71

عليهم السلام المتقدمين، وكان من جملة هداهم ترك طلب الأجر في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة. لا جرم اقتدى بهم في ذلك، فقال: * (لا أسألكم عليه أجرا) * ولا أطلب منكم مالا ولا جعلا * (إن هو) * يعني القرآن * (إلا ذكرى للعالمين) * يريد كونه مشتملا على كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم وقوله: * (إن هو إلا ذكرى للعالمين) * يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كل أهل الدنيا لا إلى قوم دون قوم. والله أعلم.
* (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا مآ أنزل الله على بشر من شىء قل من أنزل الكتاب الذى جآء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءاباؤكم قل الله ثم ذرهم فى خوضهم يلعبون) *.
اعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد. وأنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد، وإبطال الشرك، وقرر تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة شرع بعده في تقرير أمر النبوة، فقال: * (وما قدروا الله حق قدره) * حيث أنكروا النبوة والرسالة، فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات وأنه في غاية الحسن. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير قوله تعالى: * (ما قدروا الله حق قدره) * وجوه: قال ابن عباس: ما عظموا الله حق تعظيمه. وروى عنه أيضا أنه قال معناه: ما آمنوا إن الله على كل شيء قدير. وقال أبو العالية: ما وصفوه حق صفته. وقال الأخفش: ما عرفوه حق معرفته، وحقق الواحدي رحمه الله ذلك، فقال يقال: قدر الشيء إذا سبره وحرره، وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدرا ومنه قوله عليه السلام: " وإن غم عليكم فاقدروا له " أي فاطلبوا أن تعرفوه هذا أصله في اللغة، ثم قال يقال
لمن عرف شيئا هو يقدر قدره، وإذا لم يعرفه بصفاته أنه لا يقدر قدره، فقوله: * (وما قدروا الله حق قدره) * صحيح في كل المعاني المذكورة.
72

المسألة الثانية: أنه تعالى لما حكى عنهم * (أنهم ما قدروا الله حق قدره) * بين السبب فيه، وذلك هو قولهم ما أنزل الله علي بشر من شيء.
واعلم أن كل من أنكر النبوة والرسالة فهو في الحقيقة ما عرف الله حق معرفته، وتقريره من وجوه: الأول: أن منكر البعثة والرسالة إما أن يقول: إنه تعالى ما كلف أحدا من الخلق تكليفا أصلا، أو يقول: إنه تعالى كلفهم التكاليف، والأول باطل، لأن ذلك يقتضي أنه تعالى أباح لهم جميع المنكرات والقبائح نحو شتم الله، ووصفه بما لا يليق به، والاستخفاف بالأنبياء والرسل وأهل الدين، والإعراض عن شكر النعم، ومقابلة الإنعام بالإساءة. ومعلوم أن كل ذلك باطل. وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي، فههنا لا بد من مبلغ وشارع ومبين، وما ذاك إلا الرسول.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: العقل كاف في إيجاب الواجبات واجتناب المقبحات؟
قلنا: هب أن الأمر كما قلتم. إلا أنه لا يمتنع تأكيد التعريف العقلي بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء والرسل عليهم السلام. فثبت أن كل من منع البعثة والرسالة فقد طعن في حكمة الله تعالى. وكان ذلك جهلا بصفة الإلهية، وحينئذ يصدق في حقه قوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره) *.
الوجه الثاني: في تقرير هذا المعنى أن من الناس من يقول إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل، لأنه يمتنع إظهار المعجزة على وفق دعواه تصديقا له، والقائلون بهذا القول لهم مقامان:
المقام الأول: أن يقولوا إنه ليس في الإمكان خرق العادات ولا إيجاد شيء على خلاف ما جرت به العادة.
والمقام الثاني: الذين يسلمون إمكان ذلك. إلا أنهم يقولون إن بتقدير حصول هذه الأفعال الخارقة للعادات لا دلالة لها على صدق مدعي الرسالة، وكلا الوجهين يوجب القدح في كمال قدرة الله تعالى.
أما المقام الأول: فهو أنه ثبت أن الأجسام متماثلة. وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمله مثله، وإذا كان كذلك كان جرم الشمس والقمر قابلا للتمزق والتفرق.
فإن قلنا: إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وصفا له بالعجز ونقصان القدرة، وحينئذ يصدق في حق هذا القائل: أنه ما قدر الله حق قدره.
وإن قلنا: إنه تعالى قادر عليه، فحينئذ لا يمتنع عقلا انشقاق القمر، ولا حصول سائر المعجزات.
73

وأما المقام الثاني: وهو أن حدوث هذه الأفعال الخارقة للعادة عند دعوى مدعي النبوة تدل على صدقهم، فهذا أيضا ظاهر على ما مقرر في كتب الأصول. فثبت أن كل من أنكر إمكان البعثة والرسالة، فقد وصف الله بالعجز ونقصان القدرة، وكل من قال ذلك فهو ما قدر الله حق قدره.
والوجه الثالث: أنه لما ثبت حدوث العالم، فنقول: حدوثه يدل على أن إله العالم قادر عالم حكيم، وأن الخلق كلهم عبيده وهو مالك لهم على الإطلاق، وملك لهم على الإطلاق، والملك المطاع يجب أن يكون له أمر ونهي وتكليف على عباده، وأن يكون له وعد على الطاعة، ووعيد على المعصية، وذلك لا يتم ولا يكمل إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فكل من أنكر ذلك فقد طعن في كونه تعالى ملكا مطاعا، ومن اعتقد ذلك فهو ما قدر الله حق قدره، فثبت أن كل من قال ما أنزل الله علي بشر من شيء فهو ما قدر الله حق قدره.
المسألة الثالثة: في هذه الآية بحث صعب، وهو أن يقال: هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا: * (ما أنزل الله علي بشر من شيء) * إما أن يقال: إنهم كفار قريش أو يقال إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فإن كان الأول، فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله تعالى: * (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) * وذلك لأن كفار قريش والبراهمة كما ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء، فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم، وأما إن كان الثاني وهو أن قائل هذا القول قوم من اليهود والنصارى، فهذا أيضا صعب مشكل، لأنهم لا يقولون هذا القول، وكيف يقولونه مع أن مذهبهم أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى، والإنجيل: كتاب أنزله الله على عيسى؛ وأيضا فهذه السورة مكية، والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود والنصارى كلها مدنية، فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها، فهذا تقرير الإشكال القائم في هذه الآية. واعلم أن الناس اختلفوا فيه على قولين:
فالقول الأول: إن هذه الآية نزلت في حق اليهود وهو القول المشهور عند الجمهور. قال ابن عباس: إن مالك بن الصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم، وكان رجلا سمينا فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها إن الله يبغض الحبر السمين وأنت الحبر السمين وقد سمنت من الأشياء التي تطعمك اليهود " فضحك القوم، فغضب مالك بن الصيف، ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له قومه: ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال: إنه أغضبني،
74

ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه عن رياستهم، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف، فهذا هو الرواية المشهورة في سبب نزول هذه الآية، وفيها سؤالات:
السؤال الأول: اللفظ وإن كان مطلقا بحسب أصل اللغة إلا أنه قد يتقيد بحسب العرف. ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار فغضب الزوج، وقال: إن خرجت من الدار فأنت طالق، فإن كثيرا من الفقهاء. قالوا: اللفظ وإن كان مطلقا إلا أنه بحسب العرف يتقيد لتلك المرة فكذا ههنا قوله: * (ما أنزل الله على بشر من شيء) * وإن كان مطلقا بحسب أصل اللغة، إلا أنه بحسب العرف يتقيد بتلك الواقعة فكان قوله: * (ما أنزل الله على بشر من شيء) * مراده منه أنه ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين، وإذا صار هذا المطلق محمولا على هذا المقيد لم يكن قوله: * (من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) * مبطلا لكلامه، فهذا أحد السؤالات:
السؤال الثاني: أن مالك بن الصيف كان مفتخرا بكونه يهوديا متظاهرا بذلك ومع هذا المذهب البتة أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغضب المدهش للعقل أو على سبيل لا يمكنه طغيان اللسان، ومثل هذا الكلام لا يليق بالله سبحانه وتعالى إنزال القرآن الباقي على وجه الدهر في إبطاله.
والسؤال الثالث: أن الأكثرين اتفقوا على أن هذه السورة مكية وأنها أنزلت دفعة واحدة، ومناظرات اليهود مع الرسول عليه الصلاة والسلام كانت مدنية، فكيف يمكن حمل هذه الآية على تلك المناظرة؟ وأيضا لما نزلت السورة دفعة واحدة، فكيف يمكن أن يقال: هذه الآية المعينة إنما نزلت في الواقعة الفلانية؟ فهذه هي السؤالات الواردة على هذا القول، والأقرب عندي أن يقال: لعل مالك بن الصيف لما تأذى من هذا الكلام طعن في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: ما أنزل الله عليك شيئا البتة، ولست رسولا من قبل الله البتة، فعند هذا الكلام نزلت هذه الآية، والمقصود منها أنك لما سلمت أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام، فعند هذا لا يمكنك الإصرار على أنه تعالى ما أنزل علي شيئا لأني بشر وموسى بشر أيضا، فلما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر امتنع عليك أن تقطع وتجزم بأنه ما أنزل الله علي شيئا، فكان المقصود من هذه الآية بيان أن الذي ادعاه محمد عليه الصلاة والسلام ليس من قبيل الممتنعات، وأنه ليس للخصم اليهودي أن يصر على إنكاره، بل أقصى ما في الباب أن يطالبه بالمعجز فإن أتى به فهو المقصود، وإلا فلا فإما أن يصر اليهودي على أنه تعالى ما أنزل على محمد شيئا البتة مع أنه معترف بأن الله تعالى أنزل الكتاب على موسى، فذاك
75

محض الجهالة والتقليد، وبهذا التقدير يظهر الجواب عن السؤالين الأولين.
فأما السؤال الثالث: وهو قوله: هذه السورة مكية ونزلت دفعة واحدة وكل واحد من هذين الوجهين يمنع من القول بأن سبب نزول هذه الآية مناظرة اليهودي.
قلنا: القائلون بهذا القول قالوا: السورة كلها مكية ونزلت دفعة واحدة إلا هذه الآية، فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة، فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا الوجه.
والقول الثاني: أن قائل هذا القول أعني ما أنزل الله على بشر من شيء قوم من كفار قريش فهذا القول قد ذكره بعضهم. بقي أن يقال: كفار قريش ينكرون نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام، فكيف يمكن إلزام نبوة موسى عليهم؟ وأيضا فما بعد هذه الآية لا يليق بكفار قريش، وإنما يليق باليهود وهو قوله: * (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم وما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) * (الأنعام: 91) فمن المعلوم بالضرورة أن هذه الأحوال لا تليق إلا باليهود، وهو قول من يقول: إن أول الآية خطاب مع الكفار، وآخرها خطاب مع اليهود فاسد، لأنه يوجب تفكيك نظم الآية وفساد تركيبها، وذلك لا يليق بأحسن الكلام فضلا عن كلام رب العالمين، فهذا تقرير الإشكال على هذا القول.
أما السؤال الأول: فيمكن دفعه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات القاهرة على يد موسى عليه السلام مثل انقلاب العصا ثعبانا، وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها والكفار كانوا يطعنون في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بسبب أنهم كانوا يطلبون منه أمثال هذه المعجزات وكانوا يقولون لو جئتنا بأمثال هذه المعجزات لآمنا بك، فكان مجموع هذه الكلمات جاريا مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى عليه السلام، وإذا كان الأمر كذلك لم يبعد إيراد نبوة موسى عليه السلام إلزاما عليهم في قولهم: * (ما أنزل الله على بشر من شيء) *.
وأما السؤال الثاني: فجوابه: أن كفار قريش واليهود والنصارى، لما كانوا متشاركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لم يبعد أن يكون الكلام الواحد واردا على سبيل أن يكون بعضه خطابا مع كفار مكة وبقيته يكون خطابا مع اليهود والنصارى، فهذا ما يحضرنا في هذا البحث الصعب، وبالله التوفيق.
المسألة الرابعة: مذهب كثير من المحققين أن عقول الخلق لا تصل إلى كنه معرفة الله تعالى
76

البتة، ثم إن الكثير من أهل هذا المذهب يحتجون على صحته بقوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره) * أي وما عرفوا الله حق معرفته، وهذا الاستدلال بعيد، لأنه تعالى ذكر هذه اللفظة في القرآن في ثلاثة مواضع، وكلها وردت في حق الكفار فههنا ورد في حق اليهود أو كفار مكة، وكذا القول في الموضعين الآخرين، وحينئذ لا يبقى في هذا الاستدلال فائدة. والله أعلم.
المسألة الخامسة: في هذه الآية أحكام. الحكم الأول
أن النكرة في موضع النفي تفيد العموم، والدليل عليه هذه الآية فإن قوله: * (ما أنزل الله على بشر من شيء) * نكرة في موضع النفي، فلو لم تفد العموم لما كان قوله تعالى: * (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) * إبطالا له، ونقضا عليه، ولو لم يكن كذلك لفسد هذا الاستدلال، ولما كان ذلك باطلا، ثبت أن النكرة في موضع النفي تعم. والله أعلم. الحكم الثاني
النقض يقدح في صحة الكلام، وذلك لأنه تعالى نقض قولهم: * (ما أنزل الله على بشر من شيء) * بقوله: * (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) * فلو لم يدل النقض على فساد الكلام لما كانت حجة الله مفيدة لهذا المطلوب.
واعلم أن قول من يقول: إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقص مبطلا ضعيف، إذ لو كان الأمر كذلك لسقطت حجة الله في هذه الآية لأن اليهودي كان يقول معجزات موسى أظهر، وأبهر من معجزاتك، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثباتها هنا، ولو كان الفرق مقبولا لسقطت هذه الحجة، وحيث لا يجوز القول بسقوطها علمنا أن النقض على الإطلاق مبطل والله أعلم.
الحكم الثالث
تفلسف الغزالي فزعم أن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية، وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئا وأحد من البشر ما
أنزل الله عليه شيئا ينتج من الشكل الثاني: أن موسى ما كان من البشر، وهذا خلف محال، وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس، ولا بحسب صحة المقدمة الأولى، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية، وهي قولهم: ما أنزل الله على بشر من شيء، فوجب القول بكونها كاذبة، فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب، إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف. والله أعلم.
77

واعلم أنه تعالى لما قال: * (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) * وصف بعده كتاب موسى بالصفات.
فالصفة الأولى: كونه نورا وهدى للناس.
واعلم أنه تعالى سماه نورا تشبيها له بالنور الذي به يبين الطريق.
فإن قالوا: فعلى هذا التفسير لا يبقى بين كونه نورا وبين كونه هدى للناس فرق، وعطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير.
قلنا: النور له صفتان: إحداهما: كونه في نفسه ظاهرا جليا، والثانية: كونه بحيث يكون سببا لظهور غيره، فالمراد من كونه نورا وهدى هذان الأمران.
واعلم أنه تعالى وصف القرآن أيضا بهذين الوصفين في آية أخرى، فقال: * (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) *.
الصفة الثانية: قوله: * (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) * وفيه مسائل:
المسألة الأول: قرأ أبو عمرو وابن كثير * (يجعلونه) * على لفظ الغيبة، وكذلك يبدونها ويخفون لأجل أنهم غائبون ويدل عليه قوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره، إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) * فلما وردت هذه الألفاظ على لفظ المغايبة، فكذلك القول في البواقي، ومن قرأ بالتاء على الخطاب، فالتقدير: قل لهم تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا، والدليل عليه قوله تعالى: * (وعلمتم ما لم تعلموا) * فجاء على الخطاب، فكذلك ما قبله.
المسألة الثانية: قال أبو علي الفارسي: قوله: * (يجعلونه قراطيس) * أي يجعلونه ذات قراطيس. أي يودعونه إياها.
فإن قيل: إن كل كتاب فلا بد وأن يودع في القراطيس، فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب، فما السبب، في أن حكى الله تعالى هذا المعنى في معرض الذم لهم.
قلنا: الذم لم يقع على هذا المعنى فقط، بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس، وفرقوه وبعضوه، لا جرم قدروا على إبداء البعض، وإخفاء البعض، وهو الذي فيه صفة محمد عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل: كيف يقدرون على ذلك مع أن التوراة كتاب وصل إلى أهل المشرق والمغرب، وعرفه أكثر أهل العلم وحفظوه، ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه، والدليل عليه أن الرجل في هذا الزمان لو أراد إدخال الزيادة والنقصان في القرآن لم يقدر عليه، فكذا القول في التوراة.
78

قلنا: قد ذكرنا في سورة البقرة أن المراد من التحريف تفسير آيات التوراة بالوجوه الباطلة الفاسدة كما يفعله المبطلون في زماننا هذا بآيات القرآن.
فإن قيل: هب أنه حصل في التوراة آيات دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام. إلا أنها قليلة، والقوم ما كانوا يخفون من التوراة إلا تلك الآيات، فلم قال: ويخفون كثيرا.
قلنا: القوم كما يخفون الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فكذلك يخفون الآيات المشتملة على الأحكام، ألا ترى أنهم حاولوا على إخفاء الآية المشتملة على رجم الزاني المحصن.
الصفة الثالثة: قوله: * (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) * والمراد أن التوراة كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد واليهود قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرؤن تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها، فلما بعث الله محمدا ظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعثه صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المراد من قوله: * (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) *.
واعلم أنه تعالى لما وصف التوراة بهذه الصفات الثلاث، قال: * (قل الله) * والمعنى أنه تعالى قال في أول الآية: * (قل من أنزل الكتاب) * الذي صفته كذا وكذا فقال بعده: * (قل الله) * والمعنى أن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف بالصفات المذكورة المؤيد قول صاحبه بالمعجزات القاهرة الباهرة مثل معجزات موسى عليه السلام لا يكون إلا من الله تعالى، فلما صار هذا المعنى ظاهرا بسبب ظهور الحجة القاطعة، لا جرم قال تعالى لمحمد قل المنزل لهذا الكتاب هو الله تعالى، ونظيره قوله: * (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله) * وأيضا إن الرجل الذي حاول إقامة الدلالة على وجود الصانع يقول من الذي أحدث الحياة بعد عدمها، ومن الذي أحدث العقل بعد الجهالة، ومن الذي أودع في الحدقة القوة الباصرة، وفي الصماخ القوة السامعة، ثم إن ذلك القائل نفسه يقول * (الله) * والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة والبينة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالمقصود حاصل فكذا ههنا.
ثم قال تعالى بعده: * (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والأنذار وهذا المبلغ العظيم فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء البتة، ونظيره قوله تعالى: * (إن عليك إلا البلاغ) *.
المسألة الثانية: قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد لأن قوله * (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) * مذكور لأجل التهديد، وذلك لا ينافي حصول المقاتلة، فلم يكن ورود الآية
79

الدالة على وجوب المقاتلة، رافعا لشيء من مدلولات هذه الآية، فلم يحصل النسخ فيه. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذى بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالاخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون) *.
اعلم أنه تعالى لما أبطل بالدليل قول من قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، ذكر بعده أن القرآن كتاب الله، أنزله الله تعالى على محمد عليه الصلاة والسلام.
واعلم أن قوله: * (وهذا) * إشارة إلى القرآن وأخبر عنه بأنه كتاب وتفسير الكتاب قد تقدم في أول سورة البقرة ثم وصفه بصفات كثيرة.
الصفة الأولى: قوله: * (أنزلناه) * والمقصود أن يعلم أنه من عند الله تعالى لا من عند الرسول لأنه لا يبعد أن يخص الله محمدا عليه الصلاة والسلام بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب ألفاظ القرآن على هذه الصفة من الفصاحة فبين تعالى أنه ليس الأمر على هذه الصفة، وأنه تعالى هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه السلام.
الصفة الثانية: قوله تعالى: * (مبارك) * قال أهل المعاني كتاب مبارك أي كثير خيره دائم بركته ومنفعته، يبشر بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية، وأقول: العلوم إما نظرية، وإما عملية أما العلوم النظرية، فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب وأما العلوم العملية، فالمطلوب، إما أعمال الجوارح وإما أعمال القلوب، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب، ثم قد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة.
يقول مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي: وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النقلية والعقلية، فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم.
80

الصفة الثالثة: قوله: * (مصدق الذي بين يديه) * فالمراد كونه مصدقا لما قبله من الكتب والأمر في الحقيقة كذلك، لأن الموجود في سائر الكتب الإلهية إما علم الأصول، وإما علم الفروع.
أما علوم الأصول: فيمتنع وقوع التفاوت فيه بسبب اختلاف الأزمنة والأمكنة، فوجب القطع بأن المذكور في القرآن موافق ومطابق لما في التوراة والزبور والإنجيل وسائر الكتب الإلهية.
وأما علم الفروع: فقد كانت الكتب الإلهية المتقدمة على القرآن مشتملة على البشارة بمقدم محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل في تلك الكتب أن التكاليف الموجودة فيها، إنما تبقى إلى وقت ظهور محمد عليه الصلاة والسلام، وأما بعد ظهور شرعه فإنها تصير منسوخة، فثبت أن تلك الكتب دلت على ثبوت تلك الأحكام على هذا الوجه، والقرآن مطابق لهذا المعنى وموافق، فثبت كون القرآن مصدقا لكل الكتب الإلهية في جملة علم الأصول والفروع.
الصفة الرابعة: قوله تعالى: * (ولتنذر أم القرى ومن حولها) * وههنا أبحاث:
البحث الأول: اتفقوا على أن ههنا محذوفا، والتقدير: ولتنذر أهل أم القرى. واتفقوا على أن أم القرى هي مكة، واختلفوا في السبب الذي لأجله سميت مكة بهذا الاسم. فقال ابن عباس: سميت بذلك، لأن الأرضين دحيت من تحتها ومن حولها، وقال أبو بكر الأصم: سميت بذلك لأنها قبل أهل الدنيا، فصارت هي كالأصل وسائر البلاد والقرى تابعة لها، وأيضا من أصول عبادات أهل الدنيا الحج، وهو إنما يحصل في تلك البلدة، فلهذا السبب يجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الأم، وأيضا فلما كان أهل الدنيا يجتمعون هناك بسبب الحج، لا جرم يحصل هناك أنواع من التجارات والمنافع ما لا يحصل في سائر البلاد، ولا شك أن الكسب والتجارة من أصول المعيشة، فلهذا السبب سميت مكة أم القرى. وقيل: إنما سميت مكة أم القرى لأن الكعبة أول بيت وضع للناس، وقيل أيضا: إن مكة أول بلدة سكنت في الأرض.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (ومن حولها) * دخل فيه سائر البلدان والقرى.
والبحث الثاني: زعمت طائفة من اليهود أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان رسولا إلى العرب فقط. واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية وقالوا إنه تعالى بين أنه إنما أنزل عليه هذا القرآن ليبلغه إلى أهل مكة وإلى القرى المحيطة بها، والمراد منها جزيرة العرب، ولو كان مبعوثا إلى كل العالمين لكان التقييد بقوله: * (لتنذر أم القرى ومن حولها) * باطلا.
والجواب: أن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على انتفاء الحكم فيما سواها إلا بدلالة
81

المفهوم وهي ضعيفة، لا سيما وقد ثبت بالتواتر الظاهر، المقطوع به من دين محمد عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعي كونه رسولا إلى كل العالمين، وأيضا قوله: * (ومن حولها) * يتناول جميع البلاد والقرى المحيطة بها، وبهذا التقدير: فيدخل فيه جمع بلاد العالم، والله أعلم.
البحث الثالث: قرأ عاصم في رواية أبي بكر * (لينذر) * بالياء جعل الكتاب هو المنذر، لأن فيه إنذارا، ألا ترى أنه قال: * (لينذروا به) * أي بالكتاب، وقال: * (وأنذر به) * وقال: * (إنما أنذركم بالوحي) * فلا يمتنع إسناد الإنذار إليه على سبيل الاتساع، وأما الباقون: فإنهم قرؤا * (ولتنذر) * بالتاء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن المأمور والموصوف بالإنذار هو. قال تعالى: * (إنما أنت منذر) * وقال: * (وأنذر الذين يخافون) *.
ثم قال تعالى: * (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به) * وظاهر هذا يقتضي أن الإيمان بالآخرة جار مجرى السبب للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم. والعلماء ذكروا في تقرير هذه السببية وجوها: الأول: أن الذي يؤمن بالآخرة هو الذي يؤمن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب، ومن كان كذلك فإنه يعظم رغبته في تحصيل الثواب، ورهبته عن حلول العقاب، ويبالغ في النظر والتأمل في دلائل التوحيد والنبوة، فيصل إلى العلم والإيمان. والثاني: أن دين محمد عليه الصلاة والسلام مبني
على الإيمان بالبعث والقيامة، وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير هذه القاعدة مثل ما في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فلهذا السبب كان الإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبصحة الآخرة أمرين متلازمين، والثالث: يحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام التنبيه على إخراج أهل مكة من قبول هذا الدين، لأن الحامل على تحمل مشقة النظر والاستدلال، وترك رياسة الدنيا، وترك الحقد والحسد ليس إلا الرغبة في الثواب، والرهبة عن العقاب. وكفار مكة لما لم يعتقدوا في البعث والقيامة، امتنع منهم ترك الحسد وترك الرياسة، فلا جرم يبعد قبولهم لهذا الدين واعترافهم بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: * (وهم على صلاتهم يحافظون) * والمراد أن الإيمان بالآخرة كما يحمل الرجل على الإيمان بالنبوة، فكذلك يحمله على المحافظة على الصلوات، وليس لقائل أن يقول: الإيمان بالآخرة يحمل على كل الطاعات، فما الفائدة في تخصيص الصلاة بالذكر؟ لأنا نقول: المقصود منه التنبيه على أن الصلاة أشرف العبادات بعد الإيمان بالله وأعظمها خطرا، ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة كما قال تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * (البقرة: 143) أي صلاتكم، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة. قال عليه الصلاة
82

والسلام: " من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر " فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف، لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام. والله أعلم.
قوله تعالى
* (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شىء ومن قال سأنزل مثل مآ أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون فى غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءاياته تستكبرون) *.
اعلم أنه تعالى لما شرح كون القرآن كتابا نازلا من عند الله وبين ما فيه من صفات الجلالة والشرف والرفعة، ذكر عقيبه ما يدل على وعيد من ادعى النبوة والرسالة على سبيل الكذب والافتراء فقال: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى عظم وعيد من ذكر أحد الأشياء الثلاثة: فأولها: أن يفتري على الله كذبا. قال المفسرون: نزل هذا في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة، وفي الأسود العنسي صاحب صنعاء، فإنهما كانا يدعيان النبوة والرسالة من عند الله على سبيل الكذب والافتراء، وكان مسيلمة يقول: محمد رسول قريش، وأنا رسول بني حنيفة. قال القاضي: الذي يفتري على الله الكذب يدخل فيه من يدعي الرسالة كذبا، ولكن لا يقتصر عليه، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو برئ منه، إما في الذات، وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلا تحت هذا الوعيد. قال: والافتراء على الله في صفاته، كالمجسمة، وفي عدله كالمجبرة، لأن هؤلاء قد ظلموا أعظم أنواع الظلم بأن افتروا على الله الكذب، وأقول: أما قوله: المجسمة قد افتروا على الله الكذب، فهو حق. وأما قوله: إن هذا افتراء على الله في صفاته، فليس بصحيح.
83

لأن كون الذات جسما ومتحيزا ليس بصفة، بل هو نفس الذات المخصوصة، فمن زعم أن إله العالم ليس بجسم، كان معناه أنه يقول: جميع الأجسام والمتحيزات محدثة، ولها بأسرها خالق هو موجود ليس بمتحيز، والمجسم ينفي هذه الذات، فكان الخلاف بين الموحد والمجسم ليس في الصفة بل في نفس الذات، لأن الموحد يثبت هذه الذات والمجسم ينفيها، فثبت أن هذا الخلاف لم يقع في الصفة، بل في الذات. وأما قول: المجبرة قد افتروا على الله تعالى في صفاته، فليس بصحيح، لأنه يقال له المجبرة ما زادوا على قولهم الممكن لا بد له من مرجح، فإن كذبوا في هذه القضية، فكيف يمكنهم أن يعرفوا وجود الإله؟ وإن صدقوا في ذلك لزمهم الإقرار بتوقيف صدور الفعل على حصول الداعي بتخليق الله تعالى، وذلك عين ما نسميه بالجبر، فثبت أن الذي وصفه بكونه افتراء على الله باطل، بل المفتري على الله من يقول الممكن لا يتوقف رجحان أحد طرفيه على الآخر على حصول المرجح. فإن من قال هذا الكلام لزمه نفي الصانع بالكلية، بل يلزمه نفي الآثار والمؤثرات بالكلية.
والنوع الثاني: من الأشياء التي وصفها الله تعالى بكونها افتراء قوله: * (أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شيء) * والفرق بين هذا القول وبين ما قبله، أن في الأول كان يدعي أنه أوحى إليه وما كان يكذب بنزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، وأما في هذا القول، فقد أثبت الوحي لنفسه ونفاه عن محمد عليه الصلاة والسلام، وكان هذا جمعا بين نوعين عظيمين من الكذب، وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود.
والنوع الثالث: قوله: * (سأنزل مثل ما أنزل الله) * قال المفسرون: المراد ما قاله النضر بن الحرث وهو قوله: * (لو نشاء لقلنا مثل هذا) * وقوله في القرآن: إنه من أساطير الأولين، وكل أحد يمكنه الإتيان بمثله، وحاصله: أن هذا القائل يدعي معارضة القرآن. وروى أيضا أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام، فلما نزل قوله: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنون: 12) إملاء الرسول عليه السلام، فلما انتهى إلى قوله: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * عجب عبد الله منه فقال: فتبارك الله أحسن الخالقين! فقال الرسول هكذا أنزلت الآية، فسكت عبد الله وقال: إن كان محمد صادقا، فقد أوحى إلي، وإن كان كاذبا فقد عارضته، فهذا هو المراد من قوله: * (سأنزل مثل ما أنزل) *. أما قوله تعالى: * (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) * فاعلم أن أول الآية وهو قوله: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * يفيد التخويف العظيم على سبيل الإجمال وقوله بعد ذلك: * (ولو ترى
84

إذ الظالمون في غمرات الموت) * كالتفصيل لذلك المجمل، والمراد بالظالمين الذين ذكرهم، وغمرات الموت جمع غمرة وهي شدة الموت، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه، ومنه غمرة الماء، وغمرة الحرب، ويقال غمره الشيء إذا علاه وغطاه. وقال الزجاج: يقال لكل من كان في شيء كثير قد غمره ذلك. وغمره الدين إذا كثر عليه هذا هو الأصل، ثم يقال للشدائد والمكاره: الغمرات، وجواب " لو " محذوف، أي لرأيت أمرا عظيما، والملائكة باسطو أيديهم قال ابن عباس: ملائكة العذاب باسطو أيديهم يضربونهم ويعذبونهم، كما يقال بسط إليه يده بالمكروه أخرجوا أنفسكم. ههنا محذوف، والتقدير: يقولون أخرجوا أنفسكم، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية سؤال: وهو أنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الكلام؟
فنقول: في تفسير هذه الكلمة وجوه:
الوجه الأول: ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة فأدخلوا جهنم فغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات، والملائكة باسطو أيديهم عليهم بالعذاب يبكتونهم، ويقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد إن قدرتم.
الوجه الثاني: أن يكون المعنى: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت عند نزول الموت بهم في الدنيا والملائكة باسطو أيديهم لقبض أرواحهم يقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام.
والوجه الثالث: أن قوله: * (أخرجوا أنفسكم) * أي أخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله، ويقول له: أخرج إلي ما لي عليك الساعة ولا أبرح من مكاني حتى أنزعه من أحداقك.
والوجه الرابع: أن هذه اللفظة كناية عن شدة حالهم وأنهم بلغوا في البلاء والشدة إلى حيث تولى بنفسه إزهاق روحه.
والوجه الخامس: أن قوله: * (أخرجوا أنفسكم) * ليس بأمر، بل هو وعيد وتقريع، كقول القائل: امض الآن لترى ما يحل بك. قال المفسرون: إن نفس المؤمن تنشط في الخروج للقاء ربه ونفس الكافر تكره ذلك فيشق عليها الخروج، لأنها تصير إلى أشد العذاب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " وذلك
85

عند نزع الروح، فهؤلاء الكفار تكرههم الملائكة على نزع الروح:
المسألة الثانية: الذين قالوا إن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل وغير هذا الجسد احتجوا عليه بهذه الآية، وقالوا: لا شك أن قوله: * (أخرجوا أنفسكم) * معناه: أخرجوا أنفسكم عن أجسادكم، وهذا يدل على أن النفس مغايرة للأجساد إلا أنا لو حملنا الآية على الوجهين الأولين من التأويلات الخمسة المذكورة، لم يتم هذا الاستدلال.
ثم قال تعالى: * (اليوم تجزون عذاب الهون) * قال الزجاج: عذاب الهون أي العذاب الذي يقع به الهوان الشديد. قال تعالى: * (أيمسكه على هون أم يدسه في التراب) * (النحل: 59) والمراد منه أنه تعالى جمع هناك بين الإيلام وبين الإهانة، فإن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم، فكذلك العقاب شرطه أن يكون مضرة مقرونة بالإهانة. قال بعضهم: الهون هو الهوان، والهون هو الرفق والدعة. قال تعالى: * (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) * (الفرقان: 63) وقوله: * (بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) * (الأنعام: 93) وذلك يدل أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بسبب مجموع الأمرين الافتراء على الله، والتكبر على آيات الله. وأقول: هذان النوعان من الآفات والبلاء ترى أكثر المتوسمين بالعلم متوغلين فيه مواظبين عليه نعوذ بالله منه ومن آثاره ونتائجه. وذكر الواحدي: أن المراد بقوله: * (وكنتم عن آياته تستكبرون) * أي لا تصلون له قال عليه السلام: " من سجد لله سجدة بنية صادقة فقد برئ من الكبر ".
قوله تعالى
* (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعآءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركآء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) *.
اعلم أن قوله: * (ولقد جئتمونا فرادى) * يحتمل وجهين: الأول: أن يكون هذا معطوفا على قول الملائكة * (أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون) * فبين تعالى أنهم كما يقولون ذلك على وجه التوبيخ، كذلك يقولون حكاية عن الله تعالى: * (ولقد جئتمونا فرادى) * فيكون الكلام أجمع حكاية عنهم وأنهم يوردون ذلك على هؤلاء الكفار، وعلى هذا التقدير،
86

فيحتمل أن يكون قائل هذا القول الملائكة الموكلين بقبض أرواحهم، ويحتمل أن يكون القائل هم الملائكة الموكلون بعقابهم.
والقول الثاني: أن قائل هذا القول هو الله تعالى ومنشأ هذا الاختلاف إن الله تعالى هل يتكلم مع الكفار أو لا؟ فقوله تعالى في صفة الكفار: * (ولا يكلمهم) * يوجب أن لا يتكلم معهم وقوله: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) * (الحجر: 92) وقوله: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) * (الأعراف: 6) يقتضي أن أن يكون تعالى يتكلم معهم، فلهذا السبب وقع هذا الاختلاف، والقول الأول أقوى، لأن هذه الآية معطوفة على ما قبلها، والعطف يوجب التشريك.
المسألة الثانية: * (فرادى) * لفظ جمع وفي واحده قولان. قال ابن قتيبة: فرادى جمع فردان، مثل سكارى وسكران، وكسالى وكسلان. وقال غيره فرادى: جمع فريد، مثل ردافى ورديف. وقال الفراء: فرادى جمع واحده فرد وفردة وفريد وفردان.
إذا عرفت هذا فقوله: * (ولقد جئتمونا فرادى) * المراد منه التقريع والتوبيخ، وذلك لأنهم صرفوا جدهم وجهدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين: أحدهما: تحصيل المال والجاه. والثاني: أنهم عبدوا الأصنام لاعتقادهم أنها تكون شفعاء لهم عند الله، ثم إنهم لما وردوا محفل القيامة لم يبق معهم شيء من تلك الأموال ولم يجدوا من تلك الأصنام شفاعة لهم عند الله تعالى فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا وعولوا عليه، بخلاف أهل الإيمان فإنهم صرفوا عمرهم إلى تحصيل المعارف الحقة والأعمال
الصالحة، وتلك المعارف والأعمال الصالحة بقيت معهم في قبورهم وحضرت معهم في مشهد القيامة، فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى، بل حضروا مع الزاد ليوم المعاد:
ثم قال تعالى: * (لقد تقطع بينكم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ نافع وحفص عن عاصم والكسائي * (بينكم) * بالنصب، والباقون بالرفع قال الزجاج: الرفع أجود، ومعناه، لقد تقطع وصلكم، والنصب جائز والمعنى: لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم. قال أبو علي: هذا الاسم يستعمل على ضربين: أحدهما: أن يكون اسما منصرفا كالافتراق، والأجود أن يكون ظرفا والمرفوع في قراءة من قرأ * (بينكم) * هو الذي كان ظرفا ثم استعمل اسما، والدليل على جواز كونه اسما قوله تعالى: * (ومن بيننا وبينك حجاب) * (فصلت: 5) و * (هذا فراق بيني وبينك) * (الكهف: 78) فلما استعمل اسما في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو * (تقطع) * في قول من رفع. قال: ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتسع فيه أو يكون الذي هو مصدر. والقسم الثاني باطل، وإلا لصار تقدير الآية: لقد
87

تقطع افتراقكم وهذا ضد المراد، لأن المراد من الآية لقد تقطع وصلكم وما كنتم سالفون عليه.
فإن قيل: كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل مع أن أصله الافتراق والتباين؟
قلنا: هذا اللفظ إنما يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه، كقولهم بيني وبينه شركة، وبيني وبينه رحم، فلهذا السبب حسن استعمال هذا اللفظ في معنى الوصلة فقوله: * (لقد تقطع بينكم) * معناه لقد تقطع وصلكم. أما من قرأ * (لقد تقطع بينكم) * بالنصب فوجهه أنه أضمر الفاعل والتقدير: لقد تقطع وصلكم بينكم وقال سيبويه: إنهم قالوا إذا كان غدا فأتني والتقدير: إذا كان الرجاء أو البلاء غدا فأتني، فأضمر لدلالة الحال. فكذا ههنا. وقال ابن الأنباري: التقدير: لقد تقطع ما بينكم. فحذفت لوضوح معناها.
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية مشتملة على قانون شريف في معرفة أحوال القيامة فأولها: أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بهذا الجسد آلة له في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة فإذا فارقت النفس الجسد ولم يحصل هذين المطلوبين البتة عظمت حسراته وقويت آفاته حيث وجد مثل هذه الآلة الشريفة التي يمكن اكتساب السعادة الأبدية بها، ثم إنه ضيعها وأبطلها ولم ينتفع بها البتة، وهذا هو المراد من قوله: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) * وثانيها: أن هذه النفس مع أنها لم تكتسب بهذه الآلة الجسدانية سعادة روحانية، وكمالا روحانيا، فقد عملت عملا آخر أردأ من الأول، وذلك لأنها طول العمر كانت في الرغبة في تحصيل الماء والجاه وفي تقوية العشق عليها، وتأكيد المحبة، وفي تحصيلها. والإنسان في الحقيقة متوجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني، فهذا المسكين قلب القضية وعكس القضية وأخذ يتوجه من المقصد الروحاني إلى العالم الجسماني ونسي مقصده واغتر باللذات الجسمانية، فلما مات انقلبت القضية شاء أم أبى توجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني، فبقيت الأموال التي اكتسبها وأفنى عمره في تحصيلها وراء ظهره والشيء الذي يبقى وراء ظهر الإنسان لا يمكنه أن ينتفع به، وربما بقي منقطع المنفعة معوج الرقبة معوج الرأس بسبب التفاته إليها مع الهجر عن الانتفاع بها، وذلك يوجب نهاية الخيبة والغم والحسرة وهو المراد من قوله: * (وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) * وهذا يدل على أن كل مال يكتسبه الإنسان ولم يصرفه في مصارف الخيرات فصفته هذه التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، أما إذا صرفها إلى الجهات الموجبة للتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فما ترك تلك الأموال وراء ظهره ولكنه قدمها تلقاء وجهه، كما قال تعالى: * (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) * (البقرة: 110) وثالثها: أن أولئك المساكين أتعبوا أنفسهم في نصرة الأديان الباطلة، والمذاهب الفاسدة
88

وظنوا أنهم ينتفعون بها عند الورود في محفل القيامة، فإذا وردوه وشاهدوا ما في تلك المذاهب من العذاب الشديد والعقاب الدائم حصلت فيه جهات كثيرة من العذاب. منها عذاب الحسرة والندامة: وهو أنه كيف أنفق ماله في تحمل العناء الشديد والبلاء العظيم في تحصيل ما لم يحصل له منه إلا العذاب والعناء، ومنها عذاب الخجلة: وهو أنه ظهر له أن كل ما كان يعتقده في دار الدنيا كان محض الجهالة وصريح الضلالة، ومنها حصول اليأس الشديد مع الطمع العظيم، ولا شك أن مجموع هذه الأحوال يوجب العذاب الشديد والآلام العظيمة الروحانية، وهو المراد من قوله: * (وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء) * ورابعها: أنه لما بدا له أنه فاته الأمر الذي به يقدر على اكتساب الخيرات، وحصل عنده الأمر الذي يوجب حصول المضرات، فإذن بقي له رجاء في التدارك من بعض الوجوه فههنا يحف ذلك الألم ويضعف ذلك الحزن. أما إذا حصل الجزم واليقين بأن التدارك ممتنع، وجبر ذلك النقصان متعذر فههنا يعظم الحزن ويقوى البلاء جدا، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (لقد تقطع بينكم) * والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد تقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى. وعند الوقوف على حقائق هذه المراتب يظهر أنه لا بيان فوق هذا البيان في شرح أحوال هؤلاء الضالين.
* (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى ذلكم الله فأنى تؤفكون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما تكلم في التوحيد ثم أردفه بتقرير أمر النبوة، ثم تكلم في بعض تفاريع هذا الأصل، عاد ههنا إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع، وكمال علمه وحكمته وقدرته تنبيها على أن المقصود الأصلي من جميع المباحث العقلية والنقلية، وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله بذاته وصفاته وأفعاله. وفي قوله: * (فالق الحب والنوى) * قولان:
القول الأول: وهو مروي عن ابن عباس وقول الضحاك ومقاتل: * (فالق الحب والنوى) * أي خالق الحب والنوى. قال الواحدي: ذهبوا بفالق مذهب فاطر، وأقول: الفطر هو الشق،
89

وكذلك الفلق، فالشئ قبل أن دخل في الوجود كان معدوما محضا ونفيا صرفا، والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق ولا انشقاق، فإذا أخرجه المبدع الموجد من العدم إلى الوجود، فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه. وأخرج ذلك المحدث من ذلك الشق. فبهذا التأويل لا يبعد حمل الفالق على الموجد والمحدث والمبدع.
والقول الثاني: وهو قول الأكثرين: أن الفلق هو الشق، والحب هو الذي يكون مقصودا بذاته مثل حبة الحنطة والشعير وسائر الأنواع، والنوى هو الشيء الموجود في داخل الثمرة مثل نوى الخوخ والتمر وغيرهما.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة، ثم مر به قدر من المدة أظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقا ومن أسفلها شقا آخر. أما الشق الذي يظهر في أعلى الحبة والنواة فإنه يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء، وأما الشق الذي يظهر في أسفل تلك الحبة فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة، وتصير تلك الحبة والنواة سببا لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض.
ثم إن ههنا عجائب: فإحداها: أن طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضي الهوى في عمق الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء، فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض؟ فلما تولد منها هاتان الشجرتان مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى، علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع. وثانيها: أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلة القوية فيه ولا يغوص السكين الحاد القوي فيه، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة بحيث لو دلكها الإنسان بأصبعه بأدنى قوة لصارت كالماء، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة، فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لا بد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم. وثالثها: أنه يتولد من تلك النواة شجرة ويحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة، فإن قشر الخشبة له طبيعة مخصوصة، وفي داخل ذلك القشر جرم الخشبة وفي وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش، ثم إنه يتولد من ساق الشجرة أغصانها ويتولد على الأغصان الأوراق أولا، ثم الأزهار والأنوار ثانيا، ثم الفاكهة ثالثا، ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر: مثل الجوز، فإن قشره على الأعلى هو ذلك الأخضر، وتحت ذلك القشر الذي
90

يشبه الخشب، وتحته ذلك القشر الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب، وتحته ذلك اللب، وذلك اللب مشتمل على جرم كثيف هو أيضا كالقشر، وعلى جرم لطيف وهو الدهن، وهو المقصود الأصلي، فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والفصول الأربعة والطبائع الأربع، يدل على أنها إنما حدثت بتدبير الحكيم الرحيم المختار القادر لا بتدبير الطبائع والعناصر. ورابعها: أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة، فالأترنج قشره حار يابس، ولحمه بارد رطب، وحماضه بارد يابس، وبذره حار يابس، وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس، وماؤه ولحمه حار رطب، فتولد هذه الطبائع المضادة والخواص المتنافرة عن الحبة الواحدة لا بد وأن يكون بإيجاد الفاعل المختار. وخامسها: أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة فبعضها يكون اللب في الداخل والقشر في الخارج كما في الجوز واللوز وبعضها يكون الفاكهة المطلوبة في الخارج، وتكون الخشبة في الداخل كالخوخ والمشمس، وبعضها يكون النواة لها لب كما في نوى المشمش والخوخ، وبعضها لا لب له، كما في نوى التمر وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر، بل يكون كله مطلوبا كالتين، فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه وأيضا هذه الحبوب مختلفة في الأشكال والصور فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما، وشكل العدس كأنه دائرة، وشكل الحمص على وجه آخر، فهذه الأشكال المختلفة، لا بد وأن تكون لأسرار وحكم علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل، وأيضا فقد أودع الخالق تعالى في كل نوع من أنواع الحبوب خاصية أخرى ومنفعة أخرى وأيضا فقد تكون الثمرة الواحدة غذاء لحيوان وسما لحيوان آخر، فاختلاف هذه الصفات والأشكال والأحوال مع اتحاد الطبائع وتأثيرات الكواكب يدل على أن كلها إنما حصلت بتخليق الفاعل المختار الحكيم. وسادسها: أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت خطا واحدا مستقيما في وسطها، كأنه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان، وكما أنه ينفصل من النخاع أعصاب كثيرة يمنة ويسرة في بدن الإنسان. ثم لا يزال ينفصل عن كل شعبة شعب أخر، ولا تزال تستدق حتى تخرج عن الحس والأبصار بسبب الصغر، فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخط الكبير الوسطاني خطوط منفصلة، وعن كل واحد منها خطوط مختلفة أخرى أدق من الأولى، ولا يزال يبقى على هذا المنهج حتى تخرج تلك الخطوط عن الحس والبصر والخالق تعالى إنما فعل ذلك حتى أن القوى الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة تقوى على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة، فلما وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك
91

الورقة الواحدة علمت أن عنايته في تخليق جملة تلك الشجرة أكمل، وعرفت أن عنايته في تكوين جملة النبات أكمل.
ثم إذا عرفت أنه تعالى إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان علمت أن عنايته بتخليق الحيوان أكمل، ولما علمت أن المقصود من تخليق جملة الحيوانات هو الإنسان علمت أن عنايته في تخليق الإنسان أكمل، ثم إنه تعالى إنما خلق النبات والحيوان في هذا العالم ليكون غذاء ودواء للإنسان بحسب جسده والمقصود من تخليق الإنسان هو المعرفة والمحبة والخدمة، كما قال تعالى: * (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) *. (الذاريات: 56)
فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة، واعرف كيفية خلقة تلك العروق والأوتار فيها، ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية، فحينئذ ينفتح عليك باب من المكاشفات لا آخر لها، ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية، كما قال: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34) وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقة تلك الورقة من الحبة والنواة، فهذا كلام مختصر في تفسير قوله: * (إن الله فالق الحب والنوى) * ومتى وقف الإنسان عليه أمكنه تفريقها وتشعيبها إلى ما لا آخر له، ونسأل الله التوفيق والهداية.
المسألة الثانية: أما قوله تعالى: * (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) * ففيه مباحث: الأول: أن * (الحي) * اسم لما يكون موصوفا بالحياة، و * (الميت) * اسم لما كان خاليا عن صفة الحياة فيه، وعلى هذا التقدير: النبات لا يكون حيا.
إذا عرفت هذا فللناس في تفسير هذا * (الحي) * و * (الميت) * قولان: الأول: حمل هذين اللفظين على الحقيقة. قال ابن عباس: يخرج من النطفة بشرا حيا، ثم يخرج من البشر الحي نطفة ميتة، وكذلك يخرج من البيضة فروجة حية، ثم يخرج من الدجاجة بيضة ميتة، والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان، فحصول المثل عن المثل يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية. أما حصول الضد من الضد، فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية، بل لا بد وأن يكون بتقدير المقدر الحكيم، والمدبر العليم. والقول الثاني: أن يحمل * (الحي) * و * (الميت) * على ما ذكرناه، وعلى الوجوه المجازية أيضا، وفيه وجوه: الأول: قال الزجاج: يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس ويخرج اليابس من النبات الحي النامي. الثاني: قال ابن عباس: يخرج المؤمن من الكافر، كما في حق إبراهيم، والكافر من المؤمن
92

كما في حق ولد نوح، والعاصي من المطيع، وبالعكس. الثالث: قد يصير بعض ما يقطع عليه بأنه يوجب المضرة سببا للنفع العظيم، وبالعكس. ذكروا في الطب أن إنسانا سقوه الأفيون الكثير في الشراب لأجل أن يموت، فلما تناوله وظن القوم أنه سيموت في الحال رفعوه من موضعه ووضعوه في بيت مظلم فخرجت حية عظيمة فلدغته فصارت تلك اللدغة سببا لاندفاع ضرر ذلك الأفيون منه، فإن الأفيون يقتل بقوة برده، وسم الأفعى يقتل بقوة حره فصارت تلك اللدغة سببا لاندفاع ضرر الأفيون، فههنا تولد عما يعتقد فيه كونه أعظم موجبات الشر أعظم الخيرات، وقد يكون بالعكس من ذلك، وكل هذه الأحوال المختلفة والأفعال المتدافعة تدل على أن لهذا العالم مدبرا حكيما ما أهمل مصالح الخلق وما تركهم سدى، وتحت هذه المباحث مباحث عالية شريفة.
البحث الثاني: من مباحث هذه الآية قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (الميت) * مشددة في الكلمتين والباقون بالتخفيف في الكلمتين، وكذلك كل هذا الجنس في القرآن.
البحث الثالث: أن لقائل أن يقول: إنه قال أولا: * (يخرج الحي من الميت) * ثم قال: * (ومخرج الميت من الحي) * وعطف الاسم على الفعل قبيح، فما السبب في اختيار ذلك؟
قلنا: قوله: * (ومخرج الميت من الحي) * معطوف على قوله: * (فالق الحب والنوى) * وقوله: * (يخرج الحي من الميت) * كالبيان والتفسير لقوله: * (فالق الحب والنوى) * لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامي من جنس إخراج الحي من الميت، لأن النامي في حكم الحيوان. ألا ترى إلى قوله * (ويحيي الأرض بعد موتها) * وفيه وجه آخر، وهو أن لفظ الفعل يدل على أن ذلك الفاعل يعتني بذلك الفعل في كل حين وأوان. وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة، وضرب الشيخ عبد القاهر الجرجاني لهذا مثلا في كتاب " دلائل الإعجاز " فقال: قوله: * (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء) * إنما ذكره بلفظ الفعل وهو قوله: * (يرزقكم) * لأن صيغة الفعل تفيد أنه تعالى يرزقهم حالا فحالا وساعة فساعة. وأما الاسم فمثاله قوله تعالى: * (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) * (الكهف: 18) فقوله: * (باسط) * يفيد البقاء على تلك الحالة الواحدة.
إذا ثبت هدا فنقول: الحي أشرف من الميت، فوجب أن يكون الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي، فلهذا المعنى وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل، وعن الثاني بصيغة الاسم؛ تنبيها على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي. والله أعلم بمراده.
ثم قال تعالى في آخر الآية: * (ذلكم الله فأنى تؤفكون) * وفيه مسألتان:
93

المسألة الأولى: قال بعضهم معناه: ذلكم الله المدبر الخالق النافع الضار المحيي المميت * (فأنى تؤفكون) * في إثبات القول بعبادة الأصنام، والثاني: أن المراد أنكم لما شاهدتم أنه تعالى يخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي، ثم شاهدتم أنه أخرج البدن الحي من النطفة الميتة مرة واحدة، فكيف تستبعدون أن يخرج البدن الحي من ميت التراب الرميم مرة أخرى؟ والمقصود الإنكار على تكذيبهم بالحشر والنشر، وأيضا الضدان متساويان في النسبة فكما لا يمتنع الانقلاب من أحد الضدين إلى الآخر، وجب أن لا يمتنع الانقلاب من الثاني إلى الأول، فكما لا يمتنع حصول الموت بعد الحياة. وجب أيضا أن لا يمتنع حصول الحياة بعد الموت، وعلى كلا التقديرين فيخرج منه جواز القول بالبعث والحشر والنشر.
المسألة الثانية: تمسك الصاحب بن عباد بقوله: * (فأنى تؤفكون) * على أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى. قال: لأنه تعالى لو خلق الأفك فيه، فكيف يليق به أن يقول مع ذلك: * (فأنى تؤفكون) *.
والجواب عنه: أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية، فإن ترجح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح، فحينئذ لا يكون هذا الرجحان من العبد، بل يكون محض الاتفاق، فكيف يحسن أن يقال له: * (فأنى تؤفكون) * وأن توقف ذلك المرجح على حصول مرجح، وهي الداعية الجاذبة إلى الفعل، فحصول تلك الداعية يكون من
الله تعالى، وعند حصولها يجب الفعل، وحينئذ يلزمكم كل ما ألزمتموه علينا. والله أعلم.
* (فالق الإصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم) *.
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته، فالنوع المتقدم كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان، والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية، وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية، وتقرير الحجة من وجوه: الأول: أن نقول: الصبح صبحان.
94

فالصبح الأول: هو الصبح المستطيل كذنب السرحان، ثم تعقبه ظلمة خالصة، ثم يطلع بعده الصبح المستطير في جميع الأفق فنقول: أما الصبح الأول: وهو المستطيل الذي يحصل عقيبه ظلمة خالصة فهو من أقوى الدلائل على قدرة الله وحكمته، وذلك لأنا نقول: إن ذلك النور إما أن يقال: إنه حصل من تأثير قرص الشمس أو ليس الأمر كذلك، والأول باطل، وذلك لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فأهل الموضع الذي تكون تلك الدائرة أفقا لهم قد طلعت الشمس من مشرقهم، وفي ذلك الموضع أيضا نصف كرة الأرض، وذلك يقتضي أنه حصل الضوء في الربع الشرقي من بلدتنا، وذلك الضوء يكون منتشرا مستطيرا في جميع أجزاء الجو، ويجب أن يكون ذلك الضوء في كل ساعة إلى القوة والزيادة والكمال، والصبح الأول لو كان أثر قرص الشمس لامتنع كونه خطا مستطيلا، بل يجب أن يكون مستطيرا في جميع الأفق منتشرا فيه بالكلية، وأن يكون متزايدا متكاملا بحسب كل حين ولحظة، ولما لم يكن الأمر كذلك بل علمنا أن الصبح الأول يبدو كالخيط الأبيض الصاعد حتى تشبهه العرب بذنب السرحان، ثم إنه يحصل عقيبه ظلمة خالصة، ثم يحصل الصبح المستطير بعد ذلك علمنا أن ذلك الصبح المستطيل ليس من تأثير قرص الشمس، ولا من جنس نوره، فوجب أن يكون ذلك حاصلا بتخليق الله تعالى ابتداء تنبيها على أن الأنوار ليس لها وجود إلا بتخليقه، وإن الظلمات لا ثبات لها إلا بتقديره كما قال في أول هذه السورة * (وجعل الظلمات والنور) *.
والوجه الثاني: في تقرير هذا الدليل أنا لما بحثنا وتأملنا علمنا أن الشمس والقمر وسائر الكواكب لا تقع أضواؤها إلى على الجرم المقابل لها. فأما الذي لا يكون مقابلا لها فيمتنع وقوع أضوائها عليه، وهذه مقدمة متفق عليها بين الفلاسفة وبين الرياضيين الباحثين عن أحوال الضوء المضئ، ولهم في تقريرها وجوه نفيسة.
إذا عرفت هذا نقول: الشمس عند طلوع الصبح غير مرتفعة من الأفق فلا يكون جرم الشمس مقابلا لجزء من أجزاء وجه الأرض، فيمتنع وقوع ضوء الشمس على وجه الأرض، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ضوء الصبح من تأثير قرص الشمس، فوجب أن يكون ذلك بتخليق الفاعل المختار.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال: الشمس حين كونها تحت الأرض توجب إضاءة ذلك الهواء المقابل له، ثم ذلك الهواء مقابل للهواء الواقف فوق الأرض، فيصيره ضوء الهواء الواقف تحت الأرض سببا لضوء الهواء الواقف فوق الأرض، ثم لا يزال يسري ذلك الضوء من هواء إلى هواء
95

آخر ملاصق له حتى يصل إلى الهواء المحيط بنا هذا هو الوجه الذي عول عليه أبو علي بن الهيثم في تقرير هذا المعنى في كتابه الذي سماه " بالمناظر الكثة ".
والجواب: أن هذا العذر باطل من وجهين: الأول: أن الهواء جرم شفاف عديم اللون، وما كان كذلك فإنه لا يقبل النور، واللون في ذاته وجوهره، وهذا متفق عليه بين الفلاسفة. واحتجوا عليه بأنه لو استقر النور على سطحه لوقف البصر على سطحه. ولو كان كذلك لما نفذ البصر فيما وراءه، ولصار إبصاره مانعا عن إبصار ما وراءه، فحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يقبل اللون والنور في ذاته وجوهره، وما كان كذلك امتنع أن ينعكس النور منه إلى غيره، فامتنع أن يصير ضوءه سببا لضوء هواء آخر مقابل له.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال: إنه حصل في الأفق أجزاء كثيفة من الأبخرة والأدخنة وهي لكثافتها تقبل النور عن قرص الشمس. ثم إن بحصول الضوء فيها يصير سببا لحصول الضوء في الهواء المقابل لها، فنقول: لو كان السبب ما ذكرتم لكان كلما كانت الأبخرة والأدخنة في الأفق أكثر، وجب أن يكون ضوء الصباح أقوى لكنه ليس الأمر كذلك، بل على العكس منه فبطل هذا العذر.
الوجه الثاني: في إبطال هذا الكلام الذي ذكره ابن الهيثم أن الدائرة التي هي دائرة الأفق لنا، فهي بعينها دائرة نصف النهار لقوم آخرين، فإذا كان كذلك، فالدائرة التي هي نصف النهار في بلدنا، وجب كونها دائرة الأفق لأولئك الأقوام.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا وصل مركز الشمس إلى دائرة نصف الليل وتجاوز عنها، فالشمس قد طلعت على أولئك الأقوام، واستنار نصف العام هناك، والربع من الفلك الذي هو ربع شرقي لأهل بلدنا فهو بعينه ربع غربي بالنسبة إلى تلك البلدة وإذا كان كذلك فالشمس إذا تجاوز مركزها عن دائرة نصف الليل قد صار جرمها محاذيا لهواء الربع الشرقي لأهل بلدنا. فلو كان الهواء يقبل كيفية النور من الشمس لوجب أن يحصل الضوء والنور في هواء الربع الشرقي من بلدنا بعد نصف الليل. وأن يصير هواء الربع الشرقي في غاية الإضاءة والإنارة بعد نصف الليل، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الهواء لا يقبل كيفية النور في ذاته. وإذا بطل هذا بطل العذر الذي ذكره ابن الهيثم فقد ذكرنا برهانين دقيقين عقليين محضين على أن خالق الضوء والظلمة هو الله تعالى لا قرص الشمس والله أعلم.
والوجه الثالث: هب أن النور الحاصل في العالم إنما كان بتأثير الشمس. إلا أنا نقول:
96

الأجسام متماثلة في تمام الماهية ومتى كان الأمر كذلك كان حصول هذه الخاصية لقرص الشمس يجب أن يكون بتخليق الفاعل المختار. أما بيان المقام الأول: فهو أن الأجسام متماثلة في كونها أجساما ومتحيزة. فلو حصل الاختلاف بينها لكان ذلك الاختلاف واقعا في مفهوم مغاير لمفهوم الجسمية ضرورة أن ما به المشاركة مغاير لما به المخالفة فنقول: ذلك الأمر إما أن يكون محلا للجسمية أو حالا فيها أو لا محلا لها ولا حالا فيها. والأول: باطل لأنه يقتضي كون الجسم صفة قائمة بذات أخرى
وذلك محال لأن ذلك المحل إن كان متحيزا ومختصا بحيز كان محل الجسم غير الجسم وهو محال، وإن لم يكن كذلك كان الحاصل في الحيز حالا في محل لا تعلق له بشيء من الأحياز والجهات، وذلك مدفوع في بديهة العقل. والثاني: أيضا باطل لأن على هذا التقدير: الذوات هي الأجسام وما به قد حصلت المخالفة هو الصفات وكل ما يصح على الشيء صح على مثله فلما كانت الذوات متماثلة في تمام الماهية وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر وهو المطلوب. والثالث: وهو القول بأن ما به حصلت المخالفة ليس محلا للجسم ولا حالا فيه، وفساد هذا القسم ظاهر. فثبت بهذا البرهان أن الأجسام متماثلة.
وإذا ثبت هذا فنقول: كل ما يصح على أحد المثلين فإنه يصح أيضا على المثل الثاني. وإذا استوت الأجسام بأسرها في قبول جميع الصفات على البدل كان اختصاص جسم الشمس لهذه الإضاءة وهذه الإنارة لا بد وأن يكون بتخصيص الفاعل المختار. وإذا ثبت هذا كان فالق الإصباح في الحقيقة هو الله تعالى وذلك هو المطلوب، والله أعلم.
الوجه الرابع: في تقرير هذا المطلوب أن الظلمة شبيهة بالعدم. بل البرهان القاطع قد دل على أنه مفهوم عدمي والنور محض الوجود. فإذا أظلم الليل حصل الخوف والفزع في قلب الكل فاستولى النوم عليهم وصاروا كالأموات وسكنت المتحركات وتعطلت التأثيرات ورفعت التفعيلات فإذا وصل نور الصباح إلى هذا العالم فكأنه نفخ في الصور مادة الحياة وقوة الإدراك فضعف النوم وابتدأت اليقظة بالظهور. وكلما كان نور الصباح أقوى وأكمل كان ظهور قوة الحس والحركة في الحيوانات أكمل. ومعلوم أن أعظم نعم الله على الخلق هو قوة الحياة والحس والحركة ولما كان النور هو السبب الأصلي لحصول هذه الأحوال كان تأثير قدرة الله تعالى في تخليق النور من أعظم أقسام النعم وأجل أنواع الفضل والكرم.
إذا عرفت هذا فكونه سبحانه فالقا للأصباح في كونه دليلا على كمال قدرة الله تعالى أجل أقسام الدلائل، وفي كونه فضلا ورحمة وإحسانا من الله تعالى على الخلق أجل الأقسام وأشرف الأنواع
97

فهذا ما حضرنا في تقرير دلالة قوله تعالى: * (فالق الإصباح) * على وجود الصانع القادر المختار الحكم. والله أعلم.
ولنختم هذه الدلائل بخاتمة شريفة فنقول: إنه تعالى فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد، وفالق ظلمة الجهالة بصباح العقل والإدراك، وفالق ظلمات العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صبحة عالم الأفلاك، وفالق ظلمات الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات.
المسألة الثالثة: في تفسير * (الإصباح) * وجوه: الأول: قال الليث: الصبح والصباح هما أول النهار وهو الإصباح أيضا. قال تعالى: * (فالق الإصباح) * يعني الصبح. قال الشاعر:
أفنى رياحا وبنى رياح * تناسخ الإمساء والإصباح
والقول الثاني: أن * (الإصباح) * مصدر سمي به الصبح.
فإن قيل: ظاهر الآية يدل على أنه تعالى فلق الصبح وليس الأمر كذلك فإن الحق أنه تعالى فلق الظلمة بالصبح فكيف الوجه فيه؟ فنقول فيه وجوه: الأول: أن يكون المراد فالق ظلمة الإصباح، وذلك لأن الأفق من الجانب الشمالي والغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور. وإنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحرا مملوءا من الظلمة. ثم إنه تعالى شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولا من النور فيه، والحاصل أن المراد فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح ولما كان المراد معلوما حسن الحذف. والثاني: أنه تعالى كما يشق بحر الظلمة عن نور الصبح فكذلك يشق نور الصبح عن بياض النهار فقوله: * (فالق الإصباح) * أي فالق الإصباح ببياض النهار. والثالث: أن ظهور النور في الصباح أنما كان لأجل أن الله تعالى فلق تلك الظلمة فقوله: * (فالق الإصباح) * أي مظهر الإصباح إلا أنه لما كان المقتضى لذلك الإظهار هو ذلك الفلق لا جرم ذكر اسم السبب والمراد منه المسبب. الرابع: قال بعضهم: الفالق هو الخالق فكان المعنى خالق الإصباح وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وجاعل الليل سكنا) * فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية ثلاثة أنواع من الدلائل الفلكية على التوحيد. فأولها: ظهور الصباح وقد فسرناه بمقدار الفهم. وثانيها: قوله * (وجاعل الليل سكنا) * وفيه مباحث:
المبحث الأول: قال صاحب " الكشاف ": السكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه استئناسا به واسترواحا إليه من زوج أو حبيب، ومنه قيل: للنار سكن لأنه يستأنس بها ألا تراهم سموها
98

المؤنسة. ثم إن الليل يطمئن إليه الإنسان لأنه أتعب نفسه بالنهار واحتاج إلى زمان يستريح فيه وذلك هو الليل.
فإن قيل: أليس أن الخلق يبقون في الجنة في أهنأ عيش، وألذ زمان مع أنه ليس هناك ليل؟ فعلمنا أن وجود الليل والنهار ليس من ضروريات اللذة والخير في الحياة قلنا: كلامنا في أن الليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم، أما في الدار الآخرة فهذه العادات غير باقية فيه فظهر الفرق.
المبحث الثاني: قرأ عاصم والكسائي * (وجعل الليل) * على صيغة الفعل، والباقون جاعل على صيغة اسم الفاعل حجة من قرأ باسم الفاعل أن المذكور قبله اسم الفاعل، وهو قوله: * (فالق الحب. وفالق الإصباح) * وجاعل أيضا اسم الفاعل. ويجب كون المعطوف مشاركا للمعطوف عليه، وحجة من قرأ بصيغة الفعل أن قوله: * (والشمس والقمر) * منصوبان ولا بد لهذا النصب من عامل، وما ذاك إلا أن يقدر قوله: * (وجعل) * بمعنى وجاعل الشمس والقمر حسبانا وذلك يفيد
المطلوب.
وأما قوله تعالى: * (والشمس والقمر حسبانا) * ففيه مباحث:
المبحث الأول: معناه أنه قدر حركة الشمس والقمر بحساب معين كما ذكره في سورة يونس في قوله: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) * (يونس: 5) وقال في سورة الرحمن: * (الشمس والقمر بحسبان) * (الرحمن: 5) وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى قدر حركة الشمس مخصوصة بمقدار من السرعة والبطء بحيث تتم الدورة في سنة، وقدر حركة القمر بحيث يتم الدورة في شهر، وبهذه المقادير تنتظم مصالح العالم في الفصول الأربعة، وبسببها يحصل ما يحتاج إليه من نضج الثمار، وحصول الغلات، ولو قدرنا كونها أسرع أو أبطأ مما وقع، لاختلت هذه المصالح فهذا هو المراد من قوله: * (والشمس والقمر حسبانا) *.
المبحث الثاني: في الحسبان قولان: الأول: وهو قول أبي الهيثم أنه جمع حساب مثل ركاب وركبان وشهاب وشهبان. والثاني: أن الحسبان مصدر كالرجحان والنقصان. وقال صاحب " الكشاف ": الحسبان بالضم مصدر حسب، كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب، ونظيره الكفران والغفران والشكران.
إذا عرفت هذا فنقول: معنى جعل الشمس والقمر حسبانا جعلهما على حساب. لأن حساب الأوقات لا يعلم إلا بدورهما وسيرهما.
المبحث الثالث: قال صاحب " الكشاف ": * (والشمس والقمر) * قرئا بالحركات الثلاث، فالنصب
99

على إضمار فعل دل عليه قوله: * (جاعل الليل) * أي وجعل الشمس والقمر حسبانا، والجر عطف على لفظ الليل، والرفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره، والشمس والقمر مجعولان حسبانا: أي محسوبان.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: * (ذلك تقدير العزيز العليم) * والعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه، ومعناه أن تقدير إجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيئاتها المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات، وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة، وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار. والله أعلم.
* (وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر قد فصلنا الايات لقوم يعلمون) *.
هذا هو النوع الثالث من الدلائل الدالة على كمال القدرة والرحمة والحكمة، وهو أنه تعالى خلق هذه النجوم لمنافع العباد وهي من وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى خلقها لتهتدي الخلق بها إلى الطرق والمسالك في ظلمات البر والبحر حيث لا يرون شمسا ولا قمرا لأن عند ذلك يهتدون بها إلى المسالك والطرق التي يريدون المرور فيها.
الوجه الثاني: وهو أن الناس يستدلون بأحوال حركة الشمس على معرفة أوقات الصلاة، وإنما يستدلون بحركة الشمس في النهار على القبلة، ويستدلون بأحوال الكواكب في الليالي على معرفة القبلة.
الوجه الثالث: أنه تعالى ذكر في غير هذه السورة كون هذه الكواكب زينة للسماء، فقال * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) * (الفرقان: 61) وقال تعالى: * (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) * (الصافات: 6) وقال: * (والسماء ذات البروج) * (البروج: 1).
الوجه الرابع: أنه تعالى ذكر في منافعها كونها رجوما للشياطين.
100

الوجه الخامس: يمكن أن يقال: لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر أي في ظلمات التعطيل والتشبيه، فإن المعطل ينفي كونه فاعلا مختارا، والمشبه يثبت كونه تعالى جسما مختصا بالمكان فهو تعالى خلق هذه النجوم ليهتدى بها في هذين النوعين من الظلمات، أما الاهتداء بها في ظلمات بر التعطيل، فذلك لأنا نشاهد هذه الكواكب مختلفة في صفات كثيرة فبعضها سيارة وبعضها ثابتة، والثوابت بعضها في المنطقة وبعضها في القطبين، وأيضا الثوابت لامعة والسيارة غير لامعة، وأيضا بعضها كبيرة درية عظيمة الضوء، وبعضها صغيرة خفية قليلة الضوء، وأيضا قدروا مقاديرها على سبع مراتب. إذا عرفت هذا فنقول: قد دللنا على أن الأجسام متماثلة، وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كان اختصاص كل واحد منها بصفة معينة دليلا على أن ذلك ليس إلا بتقدير الفاعل المختار فهذا وجه الاهتداء بها في ظلمات بر التعطيل. وأما وجه الاهتداء بها في ظلمات بحر التشبيه فلأنا نقول إنه لا عيب يقدح في إلهية هذه الكواكب إلا أنها أجسام فتكون مؤلفة من الأجزاء والأبعاض، وأيضا إنها متناهية ومحدودة، وأيضا إنها متغيرة ومتحركة ومنتقلة من حال إلى حال فهذه الأشياء إن لم تكن عيوبا في الإلهية امتنع الطعن في إلهيتها، وإن كانت عيوبا في الإلهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها فوجب الجزم بأن إله العالم والسماء والأرض منزه عن الجسمية والأعضاء والأبعاض والحد والنهاية والمكان والجهة، فهذا بيان الاهتداء بهذه الكواكب في بر التعطيل وبحر التشبيه، وهذا وإن كان عدولا عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا أنه قريب مناسب لعظمة كتاب الله تعالى.
الوجه السادس: في منافع هذه الكواكب ما ذكره الله تعالى في قوله: * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا) * (آل عمران: 191) فنبه على سبيل الإجمال على أن في وجود كل واحد منها حكمة عالية ومنفعة شريفة، وليس كل ما لا يحيط عقلنا به على التفصيل وجب نفيه فمن أراد أن يقدر حكمة الله تعالى في ملكه وملكوته بمكيال خياله ومقياس قياسه فقد ضل ضلالا مبينا، ثم إنه تعالى لما ذكر الاستدلال بأحوال هذه النجوم. قال: * (قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) * وفيه وجوه: الأول: المراد أن هذه النجوم كما يمكن أن يستدل بها على الطرقات في ظلمات البر والبحر، فكذلك يمكن أن يستدل بها على معرفة الصانع الحكيم، وكمال قدرته وعلمه. الثاني: أن يكون المراد من العلم ههنا العقل فقوله: * (قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) * نظير قوله تعالى في سورة البقرة: * (إن في خلق
السماوات والأرض) * (البقرة: 164) إلى قوله: * (لآيات لقوم يعقلون) * وفي آل عمران في قوله: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) * (آل عمران: 190) والثالث: أن يكون المراد من قوله:
101

وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات
لقوم يفقهون (98)
(لقوم يعلمون) لقوم يتفكرون ويتأملون ويستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من
الشاهد إلى الغائب.
قوله تعالى (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون)
هذا نوع رابع من دلائل وجود الاله وكمال قدرته وعلمه، وهو الاستدلال بأحوال الانسان
فنقول لا شبهة في أن النفس الواحدة هي آدم عليه السلام وهي نفس واحدة. وحواء مخلوقة من
ضلع من أضلاعه. فصار كل الناس من نفس واحدة وهي آدم.
فان قيل: قيل القول في عيسى؟
قلنا: هو أيضا مخلوق من مريم التي هي مخلوقة من أبويها.
فان قالوا: أليس أن القرآن قد دل على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المنفوخ فيها فكيف
يصح ذلك؟
قلنا: لكمة من تفيد ابتداء الغاية ولا نزاع أن نزاع أن ابتداء تكون عيسى عليه السلام كان من مريم
وهذا القدر كاف في صحة هذا اللفظ. قال القاضي: فرق بين قوله (أنشأكم) وبين قوله (خلقكم)
لان أنشأكم يفيد أنه خلقكم لا ابتداء. ولكن على وجه النمو والنشوء لا من مظهر من الأبوين، كما
يقال: في النبات إنه تعالى أنشأه بمعنى النمو والزيادة إلى وقت الانتهاء. وأما قوله (فمستقر ومستودع)
ففيه مباحث:
(البحث الأول) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (فمستقر) بكسر القاف والباقون بفتحها قال أبو على
الفارسي. قال سيبويه، يقال: قر في مكانه واستقر فمن كسر القاف كان المستقر بمعنى القار وإذا كان
كذلك وجب أن يكون خبره المضمر (منكم) أي منكم مستقر. ومن فتح القاف فليس على أنه مفعول
به لان استقر لا يتعدى فلا يكون له مفعول به فيكون اسم مكان فالمستقر بمنزلة المقر. وإذا كان
كذلك لم يجز أن يكون خبره المضر منكم بل يكون خبره لكم فيكون التقدير لكم مقرو أما المستودع
فان استودع فعل يتعدى إلى مفعولين تقول استودعت زيدا ألفا وأودعت مثله، فالمستودع يجوز
أن يكون اسما للانسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه.
102

إذا عرفت هذا فنقول: من قرأ مستقرأ بفتح القاف جعل المستودع مكانا ليكون مثل المعطوف
عليه والتقدير فلكم مكان استقرار ومكان استيداع ومن قرأ (فمستقر) بالكسر، فالمعنى: منكم مستقر
ومنكم مستودع، والتقدير: منكم من استقر ومنكم من استودع. والله أعلم.
(المبحث الثاني) الفرق بني المستقر والمستودع أن المستقر أقرب إلى النبات من المستودع
فالشئ الذي حصل في موضع ولا يكون على شرف الزوال يسمى مستقرأ فيه، وأما إذا حصل فيه
وكان على شرف الزوال يسمى مستودعا لان المستودع في معرض أن يسترد في كل حين وأوان.
إذا عرفت هذا فنقول: كثر اختلاف المفسرين في تفسير هذين اللفظين على أقوال: فالأول:
وهو المنقول عن ابن عباس في أكثر الروايات أن المستقر هو الأرحام والمستودع الأصلاب قال
كريب: كتب جرير إلى ابن عباس يسأله عن هذه الآية فأجاب المستودع الصلب والمستقر الرحم ثم
قرأ (ونقر في الأرحام ما نشاء) ومما يدل أيضا على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب
الأب: زمانا طويلا والجنين يبقى في رحم الامام زمانا طويلا، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما
في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى.
(والقول الثاني) أن المستقر صلب الأب والمستودع رحم الام، لان النطفة حصلت في صلب
الأب لا من قبل الغير وهي حصلت في رحم الام بفعل الغير، فحصول تلك النطفة في الرحم من
قبل الرجل مشبه بالوديعة لان قوله (فمستقر ومستودع) يقتضى كو المستقر متقدما على المستودع
وحصول النطفة في صلب الأب مقدم على حصولها في رحم الام، فوجب أن يكون المستقر ما في
أصلاب الآباء, المستودع ما في أرحام الأمهات.
(والقول الثالث) وهو قول الحسن المستقر حاله بعد الموت لأنه إن كان سعيدا فقد استقرت
تلك السعادة، وإن كان شقيا فقد استقرت تلك الشقاوة ولا تبديل في أحوال الانسان بعد الموت
وأما قبل الموت فالأحوال متبدلة. فالكافر قد ينقلب مؤمنا الزنديق قد ينقلب صديقا، فهذه الأحوال
لكونها على شرف الزوال والفناء لا يبعد تشبيهها بالوديعة التي تكون مشرفة على الزوال والذهاب.
(والقول الرابع) وهو قول الأصم. إن المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا
واستقر فيها، والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق.
(والقول الخامس) للأصم أيضا المستقر من استقر في قرار الدنيا والمستودع من في القبور
حتى يبعث. وعن قتادة على العكس منه فقال مستقر في القبر ومستودع في الدنيا.
(القول السادس) قول أبى مسلم الأصبهاني أن التقدير هو الذي أنشأكم من نفس واحدة
103

فمنكم مستقر ذكر ومنكم مستودع أنثى إلا أنه تعالى عبر عن الذكر بالمستقر لان النطفة إنما تتولد
في صلبه وإنما تستقر هناك وعبر عن الأنثى بالمستودع لان رحمها شبيهة بالمستودع لتلك
النطفة. والله أعلم.
(المبحث الثالث) مقصود الكلام أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه
السلام، ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول. الاشخاص الانسانية
متساوية في الجسمية ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع
والاختلاف في تلك الصفات لابد له من سبب ومؤثر وليس السبب هو الجسمية ولوازمها وإلا
لامتنع حصول التفاوت في الصفات، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم ونظير هذه
الآية في الدلالة قوله تعالى (واختلاف ألسنتكم وألوانكم)
ثم قال تعالى (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) والمراد من هذا التفصيل أنه بين هذه
الدلائل على وجه الفصل للبعض عن البعض. ألا ترى أنه تعالى تمسك أولا بتكوين النبات
والشجر من الحب والنوى، ثم ذكر بعده التمسك بالدلائل الفلكية من ثلاثة وجوه، ثم ذكر بعده
التمسك بأحوال تكوين الانسان فقد ميز تعالى بعض هذه الدلائل عن بعض، وفصل بعضها
عن بعض لقوم يفقهون، وفيه أبحاث: الأول: قوله (لقوم يفقهون) ظاهره مشعر بأنه تعالى قد
يفعل الفعل لغرض وحكمة.
وجواب أهل السنة: أن اللام لا العاقبة، أو يكون ذلك محمولا على التشبيه بحال من يفعل
الفعل لغرض. والثاني: أن هذه الآية تدل على أنه تعالى أراد من جميع الخلق الفقه، والفهم
والايمان. وما أراد بأحد منهم الكفر. وهذا قول المعتزلة.
وجواب أهل السنة: أن المراد منه كأنه تعالى يقول: إنما فصلت هذا البيان لمن عرف وفقه
وفهم، وهم المؤمنون لا غير. والثالث: أنه تعالى ختم الآية السابقة، وهي الآية التي استدل فيها
بأحوال النجوم بقوله (يعلمون) وختم آخر هذه الآية بقوله (يفقهون) والفرق أن إنشاء الانس من
واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا، فكان ذكر الفقه ههنا لأجل
أن الفقه يفيد مزيد فطنة وقوة ذكاء وفهم. والله أعلم.
104

قوله تعالى
* (وهو الذى أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به نبات كل شىء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنون دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه إن فى ذلكم لايات لقوم يؤمنون) *.
اعلم أن هذا النوع الخامس من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته ووجوه إحسانه إلى خلقه.
واعلم أن هذه الدلائل كما أنها دلائل فهي أيضا نعم بالغة، وإحسانات كاملة، والكلام إذا كان دليلا من بعض الوجوه، وكان إنعاما وإحسانا من سائر الوجوه. كان تأثيره في القلب عظيما، وعند هذا يظهر أن المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحق لا ينبغي أن يعدل عن هذه الطريقة. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر قوله تعالى: * (وهو الذي أنزل من السماء ماء) * يقتضي نزول المطر من السماء، وعند هذا اختلف الناس، فقال أبو علي الجبائي في " تفسيره ": إنه تعالى ينزل الماء من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض. قال لأن ظاهر النص يقتضي نزول المطر من السماء، والعدول عن الظاهر إلى التأويل، إنما يحتاج إليه عند قيام الدليل على أن إجراء اللفظ على ظاهره غير ممكن، وفي هذا الموضع لم يقم دليل على امتناع نزول المطر من السماء، فوجب إجراء اللفظ على ظاهره.
وأما قول من يقول: إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض. ثم تصعد وترتفع إلى الهواء، فينعقد الغيم منها ويتقاطر، وذلك هو المطر، فقد احتج الجبائي على فساده من وجوه: الأول: أن البرد قد يوجد في وقت الحر، بل في صميم الصيف، ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد، وذلك يبطل قولهم.
105

ولقائل أن يقول: إن القوم يجيبون عنه فيقولون: لا شك أن البخار أجزاء مائية وطبيعتها البرد، ففي وقت الصيف يستولي الحر على ظاهر السحاب، فيهرب البرد إلى باطنه، فيقوى البرد هناك بسبب الاجتماع، فيحدث البرد، وأما في وقت برد الهواء يستولي البرد على ظاهر السحاب، فلا يقوى البرد في باطنه، فلا جرم لا ينعقد جمدا بل ينزل ماء، هذا ما قالوه. ويمكن أن يجاب عنه بأن الطبقة العالية من الهواء باردة جدا عندكم، فإذا كان اليوم يوما باردا شديد البرد في صميم الشتاء، فتلك الطبقة باردة جدا، والهواء المحيط بالأرض أيضا بارد جدا، فوجب أن يشتد البرد، وأن لا يحدث المطر في الشتاء البتة، وحيث شاهدنا أنه قد يحدث فسد قولكم، والله أعلم.
الحجة الثانية: مما ذكره الجبائي أنه قال: إن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم يتولد منها قطرات الماء، بل البخار إنما يجتمع إذا اتصل بسقف متصل أملس كسقوف الحمامات المزججة. أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير، فإذا تصاعدت البخارات في الهواء، وليس فوقها سطح أملس متصل به تلك البخارات، وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء. ولقائل أن يقول: القوم يجيبون عنه: بأن هذه البخارات إذا تصاعدت وتفرقت، فإذا وصلت عند صعودها وتفرقها إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت، والبرد يوجب الثقل والنزول، فبسبب قوة ذلك البرد عادت من الصعود إلى النزول، والعالم كروي الشكل، فلما رجعت من الصعود إلى النزول، فقد رجعت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز، فتلك الذرات بهذا السبب تلاصقت وتواصلت، فحصل من اتصال بعض تلك الذرات بعض قطرات الأمطار.
الحجة الثالثة: ما ذكره الجبائي قال: لو كان تولد المطر من صعود البخارات، فالبخارات دائمة الارتفاع من البحار، فوجب أن يدوم هناك نزول المطر، وحيث لم يكن الأمر كذلك، علمنا فساد قولهم. قال: فثبت بهذه الوجوه، أنه ليس تولد المطر من بخار الأرض، ثم قال: والقوم إنما احتاجوا إلى هذا القول، لأنهم اعتقدوا أن الأجسام قديمة، وإذا كانت قديمة امتنع دخول الزيادة والنقصان فيها، وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلا اتصاف تلك الذرات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى، فلهذا السبب احتالوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة، وأما المسلمون. فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة، وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد، فعند هذا لا حاجة إلى استخراج هذه التكلفات، فثبت أن ظاهر القرآن يدل في هذه الآية على أن الماء إنما ينزل من السماء، ولا دليل على امتناع هذا الظاهر، فوجب القول بحمله على ظاهره، ومما يؤكد ما قلناه: أن جميع الآيات ناطقة بنزول المطر من السماء. قال تعالى:
106

السماء ماء طهورا) * (الفرقان: 48) وقال: * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) * (الأنفال: 11) وقال: * (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) * (النور: 43) فثبت أن الحق، أنه تعالى ينزل المطر من السماء بمعنى أنه يخلق هذه الأجسام في السماء. ثم ينزلها إلى السحاب. ثم من السحاب إلى الأرض.
والقول الثاني: المراد إنزال المطر من جانب السماء ماء.
والقول الثالث: أنزل من السحاب ماء وسمى الله تعالى السحاب سماء، لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت، فهذا ما قيل في هذا الباب.
المسألة الثانية: نقل الواحدي في " البسيط " عن ابن عباس: يريد بالماء ههنا المطر ولا ينزل نقطة من المطر إلا ومعها ملك، والفلاسفة يحملون ذلك الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول، فأما أن يكون معه ملك من ملائكة السماوات، فالقول به مشكل والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: * (فأخرجنا به نبات كل شيء) * فيه أبحاث:
البحث الأول: ظاهر قوله: * (فأخرجنا به نبات كل شيء) * يدل على أنه تعالى إنما أخرج النبات بواسطة الماء، وذلك يوجب القول بالطبع والمتكلمون ينكرونه، وقد بالغنا في تحقيق هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * فلا فائدة في الإعادة.
البحث الثاني: قال الفراء: قوله: * (فأخرجنا به نبات كل شيء) * ظاهره يقتضي أن يكون لكل شيء نبات. وليس الأمر كذلك، فكان المراد فأخرجنا به نبات كل شيء له نبات، فإذا كان كذلك، فالذي لا نبات له لا يكون داخلا فيه.
البحث الثالث: قوله: * (فأخرجنا به) * بعد قوله: * (أنزل) * يسمى التفاتا. ويعد ذلك من الفصاحة.
واعلم أن أصحاب العربية ادعوا أن ذلك يعد من الفصاحة. وما بينوا أنه من أي الوجوه يعد من هذا الباب؟ وأما نحن فقد أطنبنا فيه في تفسير قوله تعالى: * (حتى إذا
كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) * (يونس: 22) فلا فائدة في الإعادة.
والبحث الرابع: قوله: * (فأخرجنا) * صيغة الجمع. والله واحد فرد لا شريك له، إلا أن الملك العظيم إذا كنى عن نفسه، فإنما يكنى بصيغة الجمع، فكذلك ههنا. ونظيره قوله: * (إنا أنزلناه. إنا أرسلنا نوحا. إنا نحن نزلنا الذكر) *.
أما قوله: * (فأخرجنا منه خضرا) * فقال الزجاج: معنى خضر، كمعنى أخضر، يقال أخضر
107

فهو أخضر وخضر، مثل أعور فهو أعور وعور. وقال الليث: الخضر في كتاب الله هو الزرع وفي الكلام كل نبات من الخضر، وأقول إنه تعالى حصر النبت في الآية المتقدمة في قسمين: حيث قال: * (إن الله فالق الحب والنوى) * فالذي ينبت من الحب هو الزرع، والذي ينبت من النوى هو الشجر فاعتبر هذه القسمة أيضا في هذه الآية فابتدأ بذكر الزرع، وهو المراد بقوله: * (فأخرجنا منه خضرا) * وهو الزرع، كما رويناه عن الليث. وقال ابن عباس: يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز، والمراد من هذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أولا ويكون السنبل في أعلاه وقوله: * (نخرج منه حبا متراكبا) * يعني يخرج من ذلك الخضر حبا متراكبا بعضه على بعض في سنبلة واحدة، وذلك لأن الأصل هو ذلك العود الأخضر وتكون السنبلة مركبة عليه من فوقه وتكون الحبات متراكبة بعضها فوق بعض، ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الأبر، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة.
ولما ذكر ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى، وهو القسم الثاني فقال: * (ومن النخل من طلعها قنوان دانية) * وههنا مباحث:
البحث الأول: أنه تعالى قدم ذكر الزرع على ذكر النخل، وهذا يدل على أن الزرع أفضل من النخل. وهذا البحث قد أفرد الجاحظ فيه تصنيفا مطولا.
البحث الثاني: روى الواحدي عن أبي عبيدة أنه قال: أطلعت النخل إذا أخرجت طلعها وطلعها كيزانها قبل أن ينشق عن الأغريض، والأغريض يسمى طلعا أيضا. قال والطلع أول ما يرى من عذق النخلة، الواحدة طلعة. وأما * (قنوان) * فقال الزجاج: القنوان جمع قنو. مثل صنوان وصنو. وإذا ثنيت القنو قلت قنوان بكسر النون، فجاء هذا الجمع على لفظ الاثنين والإعراب في النون للجمع.
إذا عرفت تفسير اللفظ فنقول: قوله: * (قنوان دانية) * قال ابن عباس: يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية ممن يجتنيها. وروى عنه أيضا أنه قال: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض قال الزجاج: ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن ذكر أحد القسمين يدل على الثاني كما قال: * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 81) ولم يقل سرابيل تقيكم البرد، لأن ذكر أحد الضدين يدل على الثاني، فكذا ههنا وقيل أيضا: ذكر الدانية في القريبة، وترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأكثر.
والبحث الثالث: قال صاحب " الكشاف " * (قنوان) * رفع بالابتداء * (ومن النخل) * خبره * (ومن طلعها) * بدل منه كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قنوان، ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة
108

أخرجنا عليه تقديره، ومخرجه من طلع النخل قنوان. ومن قرأ يخرج منه * (حب متراكب) * كان * (قنوان) * عنده معطوفا على قوله: * (حب) * وقرئ * (قنوان) * بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع كركب لأن فعلان ليس من باب التكسير.
ثم قال تعالى: * (وجنات من أعناب والزيتون والرمان) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ عاصم: * (جنات) * بضم التاء، وهي قراءة علي رضي الله عنه: والباقون * (جنات) * بكسر التاء. أما القراءة الأولى فلها وجهان: الأول: أن يراد، وثم وجنات من أعناب أي مع النخل والثاني: أن يعطف على * (قنوان) * على معنى وحاصلة أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب وأما القراءة بالنصب فوجهها العطف على قوله: * (نبات كل شيء) * والتقدير: وأخرجنا به جنات من أعناب، وكذلك قوله: * (والزيتون والرمان) * (الأنعام: 141) قال صاحب " الكشاف ": والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص كقوله تعالى: * (والمقيمين الصلاة) * (النساء: 162) لفضل هذين الصنفين.
والبحث الثاني: قال الفراء: قوله: * (والزيتون والرمان) * يريد شجر الزيتون، وشجر الرمان كما قال: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) يريد أهلها. البحث الثالث: اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أنواع من الأشجار. النخل والعنب والزيتون والرمان، وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهة في خواص كثيرة بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات، ولهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام: " أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من بقية طينة آدم " وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن العنب أشرف أنواع الفواكه، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعا به إلى آخر الحال فأول ما يظهر على الشجر يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه، ثم بعده يظهر الحصرم، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة. ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها، ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر، وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة ثم يبقى منه أربعة أنواع من المتناولات، وهي الزبيب والدبس والخمر والخل، ومنافع هذه الأربعة لا يمكن ذكرها إلى في المجلدات، والخمر، وإن كان الشرع قد حرمها، ولكنه تعالى قال في صفتها: * (ومنافع للناس) * ثم قال: * (وإثمهما أكبر من نفعهما) * فأحسن ما في العنب عجمه. والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة، فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه، وأما الزيتون
109

فهو أيضا كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل أيضا عنه دهن كثير عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمال. وأما الرمان فحاله عجيب جدا، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام: قشره وشحمه وعجمه وماؤه.
أما الأقسام الثلاثة الأول وهي: القشر والشحم والعجم، فكلها باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات، وأما ماء الرمان، فبالضد من هذه الصفات. فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه، فإذا تأملت في الرمان وجدت الأقسام الثلاثة موصوفة بالكثافة التامة الأرضية، ووجدت القسم الرابع وهو ماء الرمان موصوفا باللطافة والاعتدال فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين، فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم.
واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفي بذكرها تنبيها على البواقي، ولما ذكرها قال تعالى: * (مشتبها وغير متشابه) * وفيه مباحث: الأول: في تفسير * (مشتبها) * وجوه: الأول: أن هذه الفواكه قد تكون متشابهة في اللون والشكل، مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذة، وقد تكون مختلفة في اللون والشكل، مع أنها تكون متشابهة في الطعم واللذة، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل. ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس. الثاني: أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابها في الطعم والخاصية. وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنه يكون مختلفا في الطعم، والثالث: قال قتادة: أوراق الأشجار تكون قريبة من التشابه. أما ثمارها فتكون مختلفة، ومنهم من يقول: الأشجار متشابهة والثمار مختلفة، والرابع: أقول إنك قد تأخذ العنقود من العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة منها بقيت على أول حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة. وعلى هذا التقدير: فبعض حبات ذلك العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه.
والبحث الثاني: يقال: اشتبه الشيئان وتشابها كقولك استويا وتساويا، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيرا، وقرئ * (متشابها وغير متشابه) *.
والبحث الثالث: إنما قال مشتبها ولم يقل مشتبهين إما اكتفاء بوصف أحدهما، أو على تقدير: والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك كقوله:
رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريا ومن أجل الطوى رماني
110

ثم قال تعالى: * (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قرأ حمزة والكسائي * (ثمره) * بضم الثاء والميم، وقرأ أبو عمرو * (ثمره) * بضم الثاء وسكون الميم والباقون بفتح الثاء والميم. أما قراءة حمزة والكسائي: فلها وجهان:
الوجه الأول: وهو الأبين أن يكون جمع ثمرة على ثمر كما قالوا: خشبة وخشب. قال تعالى: * (كأنهم خشب مسندة) * (المنافقون: 4) وكذلك أكمة وأكم. ثم يخففون فيقولون أكم. قال الشاعر: ترى الأكم فيها سجدا للحوافر (c)
والوجه الثاني: أن يكون جمع ثمرة على ثمار. ثم جمع ثمارا على ثمر فيكون ثمر جمع الجمع، وأما قراءة أبي عمرو فوجهها أن تخفيف ثمر ثمر كقولهم: رسل ورسل. وأما قراءة الباقين فوجهها: أن الثمر جمع ثمرة، مثل بقرة وبقر، وشجرة وشجر، وخرزة وخرز.
والبحث الثاني: قال الواحدي: الينع النضج. قال أبو عبيدة: يقال ينع يينع، بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل. وقال الليث: ينعت الثمرة بالكسر، وأينعت فهي تينع وتونع إيناعا وينعا بفتح الياء، وينعا بضم الياء، والنعت يانع ومونع. قال صاحب " الكشاف ": وقرئ * (وينعه) * بضم الياء، وقرأ ابن محيصن * (ويانعه) *.
والبحث الثالث: قوله: * (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) * أمر بالنظر في حال الثمر في أول حدوثها. وقوله: * (وينعه) * أمر بالنظر في حالها عند تمامها وكمالها، وهذا هو موضع الاستدلال والحجة التي هي تمام المقصود من هذه الآية. ذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد في أول حدوثها على صفات مخصوصة، وعند تمامها وكمالها لا تبقى على حالاتها الأولى، بل تنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة، مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد أو بلون الحمرة، وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة، وربما كانت في أول الأمر باردة بحسب الطبيعة، فتصير في آخر الأمر حارة بحسب الطبيعة، فحصول هذه التبدلات والتغيرات لا بد له من سبب، وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع والفصول والأنجم والأفلاك، لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة، والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسبابا لحدوث الحوادث المختلفة، ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك وجب إسنادها إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة والمصلحة والحكمة. ولما نبه الله سبحانه على ما في هذا الوجه اللطيف من الدلالة قال: * (إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) * قال القاضي: المراد لمن يطلب الإيمان بالله تعالى، لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن، ويحتمل أن يكون
111

وجه تخصيص المؤمنين بالذكر أنهم الذين انتفعوا به دون غيرهم كما تقدم تقريره في قوله * (هدى للمتقين) *.
ولقائل أن يقول: بل المراد منه أن دلالة هذا الدليل على إثبات الإله القادر المختار ظاهرة قوية جلية، فكأن قائلا قال: لم وقع الاختلاف بين الخلق في هذه المسألة مع وجود مثل هذه الدلالة الجلية الظاهرة القوية؟ فأجيب عنه بأن قوة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلا إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان، فكأنه قيل: هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله في حقه بالإيمان، فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينتفع بهذه الدلالة البتة أصلا، فكان المقصود من هذا التخصيص التنبيه على ما ذكرناه. والله أعلم.
* (وجعلوا لله شركآء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر هذه البراهين الخمسة من دلائل العالم الأسفل والعالم الأعلى على ثبوت الإلهية، وكمال القدرة والرحمة. ذكر بعد ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء، واعلم أن هذه المسألة قد تقدم ذكرها إلا أن المذكور ههنا غير ما تقدم ذكره وذلك لأن الذين أثبتوا الشريك لله فرق وطوائف.
فالطائفة الأولى: عبدة الأصنام فهم يقولون الأصنام شركاء لله في العبودية، ولكنهم معترفون بأن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين.
والطائفة الثانية: من المشركين الذين يقولون، مدبر هذا العالم هو الكواكب، وهؤلاء فريقان منهم من يقول: إنها واجبة الوجود لذاتها، ومنهم من يقول: إنها ممكنة الوجود لذواتها محدثة، وخالقها هو الله تعالى، إلا أنه سبحانه فوض تدبير هذا العالم الأسفل إليها وهؤلاء هم الذين حكى الله عنهم أن الخليل صلى الله عليه وسلم ناظرهم بقوله: * (لا أحب الآفلين) * وشرح هذا الدليل قد مضى.
والطائفة الثالثة: من المشركين الذين قالوا لجملة هذا العالم بما فيه من السماوات والأرضين إلهان:
112

أحدهما فاعل الخير. والثاني فاعل الشر، والمقصود من هذه الآية حكاية مذهب هؤلاء فهذا تقرير نظم الآية والتنبيه على ما فيها من الفوائد. فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قوله تعالى: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * نزلت في الزنادقة الذين قالوا إن الله وإبليس أخوان فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور.
واعلم أن هذا القول الذي ذكره ابن عباس أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية وذلك لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في الآيات المتقدمة، قال ابن عباس: والذي يقوي هذا الوجه قوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * (الصافات: 158) وإنما وصف بكونه من الجن لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار، والملائكة والروحانيون لا يرون بالعيون فصارت كأنها مستترة من العيون، فبهذا التأويل أطلق لفظ الجن عليها، وأقول: هذا مذهب المجوس، وإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة، لأن المجوس يلقبون بالزنادقة، لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى بالزند والمنسوب إليه يسمى زندي. ثم عرب فقيل زنديق. ثم جمع فقيل زنادقة.
واعلم أن المجوس قالوا: كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن، وهو المسمى بإبليس في شرعنا، ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة، والأقلون منهم قالوا: إنه قديم أزلي، وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك لله في تدبير هذا العالم فخيرات هذا العالم من الله تعالى وشروره من إبليس فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
فإن قيل: فعلى هذا التقدير: القوم أثبتوا لله شريكا واحدا وهو إبليس، فكيف حكى الله عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء؟
والجواب: أنهم يقولون عسكر الله هم الملائكة، وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة، وهم أرواح طاهرة مقدسة وهم يلهمون تلك الأرواح البشرية بالخيرات والطاعات. والشياطين أيضا فيهم كثرة عظيمة وهي تلقي الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية، والله مع عسكره من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين. فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن فهذا تفصيل هذا القول.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (وخلقهم) * إشارة إلى الدليل القاطع الدال على فساد كون إبليس شريكا لله تعالى في ملكه، وتقريره من وجهين: الأول: أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم
113

معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو محدث.
إذا ثبت هذا فنقول: إن كل محدث فله خالق وموجد، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى، ولما كان إبليس أصلا لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح، والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد، وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا لا بد من إلهين يكون أحدهما فاعلا للخيرات، والثاني يكون فاعلا للشرور لأن بهذا الطريق ثبت أن إله الخير هو بعينه الخالق لهذا الذي هو الشر الأعظم فقوله تعالى: * (وخلقهم) * إشارة إلى أن تعالى هو الخالق لهؤلاء الشياطين على مذهب المجوس، وإذا كان خالقا لهم فقد اعترفوا بكون إله الخير فاعلا لأعظم الشرور، وإذا اعترفوا بذلك وسقط قولهم: لا بد للخيرات من إله، وللشرور من إله آخر.
والوجه الثاني: في استنباط الحجة من قوله: * (وخلقهم) * ما بينا في هذا الكتاب وفي كتاب " الأربعين في أصول الدين " أن ما سوى الواحد ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محدث، ينتج أن ما سوى الواحد الأحد الحق فهو محدث، فيلزم القطع بأن إبليس وجميع جنوده يكونون موصوفين بالحدوث. وحصول الوجود بعدم العدم، وحينئذ يعود الإلزام المذكور على ما قررناه، فهذا تقرير المقصود الأصلي من هذه الآية وبالله التوفيق.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * معناه: وجعلوا الجن شركاء لله.
فإن قيل: فما الفائدة في التقديم؟
قلنا: قال سيبويه: إنهم يقدمون الأهم الذي هم بشأنه أعنى، فالفائدة في هذا التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك سواء كان ملكا أو جنيا أو إنسيا أو غير ذلك. فهذا هو السبب في تقديم اسم الله على الشركاء.
إذا عرفت هذا فنقول: قرىء * (الجن) * بالنصب والرفع والجر، أما وجه النصب فالمشهور أنه بدل من قوله: * (شركاء) * قال بعض المحققين: هذا ضعيف لأن البدل ما يقوم مقام المبدل، فلو قيل: وجعلوا لله الجن لم يكن كلاما مفهوما بل الأولى جعله عطف بيان. أما وجه القراءة بالرفع فهو أنه لما قيل: * (وجعلوا لله
شركاء) * فهذا الكلام لو وقع الاقتصار عليه لصح أن يراد به الجن والأنس والحجر والوثن فكأنه قيل ومن أولئك الشركاء؟ فقيل: الجن. وأما وجه القراءة بالجر فعلى الإضافة التي هي للتبيين.
114

المسألة الثالثة: اختلفوا في تفسير هذه الشركة على ثلاثة أوجه: فالأول: ما ذكرناه من أن المراد منه حكاية قول من يثبت للعالم إلهين أحدهما فاعل الخير والثاني فاعل الشر.
والقول الثاني: أن الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله وهؤلاء يقولون المراد من الجن الملائكة، وإنما حسن إطلاق هذا الاسم عليهم، لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار، والملائكة مستترون عن الأعين، وكان يجب على هذا القائل أن يبين أنه كيف يلزم من قولهم الملائكة بنات الله؟ قولهم بجعل الملائكة شركاء لله حتى يتم انطباق لفظ الآية على هذا المعنى، ولعله يقال: إن هؤلاء كانوا يقولون الملائكة مع أنها بنات الله فهي مدبرة لأحوال هذا العالم وحينئذ يحصل الشرك.
والقول الثالث: وهو قول الحسن وطائفة من المفسرين أن المراد: أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام، وإلى القول بالشرك، فقبلوا من الجن هذا القول وأطاعوهم، فصاروا من هذا الوجه قائلين: يكون الجن شركاء لله تعالى. وأقول: الحق هو القول الأول. والقولان الأخيران ضعيفان جدا. أما تفسير هذا الشرك بقول العرب الملائكة بنات الله، فهذا باطل من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا المذهب قد حكاه الله تعالى بقوله: * (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) * (الأنعام: 100) فالقول بإثبات البنات لله ليس إلا قول من يقول الملائكة بنات الله، فلو فسرنا قوله: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * بهذا المعنى يلزم منه التكرار في الموضع الواحد من غير فائدة، وأنه لا يجوز.
الوجه الثاني: في إبطال هذا التفسير أن العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وإثبات الولد لله غير، وإثبات الشريك له غير، والدليل على الفرق بين الأمرين أنه تعالى ميز بينهما في قوله: * (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) * (الإخلاص: 3، 4) ولو كان أحدهما عين الآخر لكان هذا التفصيل في هذه السورة عبثا.
الوجه الثالث: أن القائلين بيزدان وأهرمن يصرحون بإثبات شريك لإله العالم في تدبير هذا العالم، فصرف اللفظ عنه وحمله على إثبات البنات صرف للفظ عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز.
وأما القول الثاني: وهو قول من يقول المراد من هذه الشركة: أن الكفار قبلوا قول الجن في عبادة الأصنام، فهذا في غاية البعد لأن الداعي إلى القول بالشرك لا يجوز تسميته بكونه شريكا لله لا بحسب حقيقة اللفظ ولا بحسب مجازه، وأيضا فلو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لزم وقوع التكرير من غير فائدة، لأن الرد على عبدة الأصنام وعلى عبدة الكواكب قد سبق على سبيل الاستقصاء، فثبت سقوط هذين القولين، وظهر أن الحق هو القول الذي نصرناه وقويناه.
وأما قوله تعالى: * (وخلقهم) * ففيه بحثان:
115

البحث الأول: اختلفوا في أن الضمير في قوله: * (خلقهم) * إلى ماذا يعود؟ على قولين:
فالقول الأول: إنه عاد إلى * (الجن) * والمعنى أنهم قالوا الجن شركاء الله، ثم إن هؤلاء القوم اعترفوا بأن إهرمن محدث، ثم إن في المجوس من يقول إنه تعالى تفكر في مملكة نفسه واستعظمها فحصل نوع من العجب، فتولد الشيطان عن ذلك العجب، ومنهم من يقول شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان، فهؤلاء معترفون بأن إهرمن محدث، وأن محدثه هو الله تعالى فقوله تعالى: * (وخلقهم) * إشارة إلى هذا المعنى، ومتى ثبت أن هذا الشيطان مخلوق لله تعالى امتنع جعله شريكا لله في تدبير العالم، لأن الخالق أقوى وأكمل من المخلوق، وجعل الضعيف الناقص شريكا للقوي الكامل محال في العقول.
والقول الثاني: أن الضمير عائد إلى الجاعلين، وهم الذين أثبتوا الشركة بين الله تعالى وبين الجن، وهذا القول عندي ضعيف لوجهين: أحدهما: أنا إذا حملناه على ما ذكرناه صار ذلك اللفظ الواحد دليلا قاطعا تاما كاملا في إبطال ذلك المذهب، وإذا حملناه على هذا الوجه لم يظهر منه فائدة وثانيهما: أن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب، وأقرب المذكورات في هذه الآية هو الجن، فوجب أن يكون الضمير عائدا إليه.
البحث الثاني: قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (وخلقهم) * أي اختلاقهم للأفك. يعني: وجعلوا الله خلقهم حيث نسبوا ذبائحهم إلى الله في قولهم: * (والله أمرنا بها) *.
ثم قال: * (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) * وفيه مباحث:
البحث الأول: أقول إنه تعالى حكى عن قوم أنهم أثبتوا إبليس شريكا لله تعالى. ثم بعد ذلك حكى عن أقوام آخرين أنهم أثبتوا لله بنين وبنات. أما الذين أثبتوا البنين فهم النصارى وقوم من اليهود وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يقولون الملائكة بنات الله وقوله: * (بغير علم) * كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع في فساد هذا القول وفيه وجوه.
الحجة الأولى: أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته أو لا يكون، فإن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلا بنفسه قائما بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر، ومن كان كذلك لم يكن والد له البتة لأن الولد مشعر بالفرعية والحاجة وأما إن كان ذلك الولد ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بإيجاد واجب الوجود لذاته، ومن كان كذلك فيكون عبدا له ولا ولدا له، فثبت أن من عرف أن الإله ما هو، امتنع منه أن يثبت له البنات والبنين.
116

الحجة الثانية: أن الولد يحتاج إليه أن يقوم مقامه بعد فنائه، وهذا إنما يعقل في حق من يفنى، أما من تقدس عن ذلك لم يعقل الولد في حقه.
الحجة الثالثة: أن الولد مشعر بكونه متولدا عن جزء من أجزاء الوالد، وذلك إنما يعقل في حق من يكون مركبا ويمكن انفصال بعض أجزائه عنه، وذلك في حق الواحد
الفرد الواجب لذاته محال، فحاصل الكلام أن من علم أن الإله ما حقيقته استحال أن يقول له ولد فكان قوله: * (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) * إشارة إلى هذه الدقيقة.
البحث الثاني: قرأ نافع * (وخرقوا) * مشددة الراء. والباقون * (خرقوا) * خفيفة الراء. قال الواحدي: الاختيار التخفيف، لأنها أكثر والتشديد للمبالغة والتكثير.
البحث الثالث: قال الفراء: معنى * (خرقوا) * افتعلوا وافتروا. قال: وخرقوا واخترقوا وخلقوا واختلقوا، وافتروا واحد. وقال الليث: يقال: تخرق الكذب وتخلقه، وحكى صاحب " الكشاف ": أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة فقال: كلمة عربية كانت تقولها. كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم قد خرقها، والله أعلم. ثم قال: ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه. أي شقوا له بنين وبنات.
ثم إنه تعالى ختم الآية فقال: * (سبحانه وتعالى عما يصفون) * فقوله سبحانه تنزيه لله عن كل ما لا يليق به. وأما قوله: * (وتعالى) * فلا شك أنه لا يفيد العلو في المكان، لأن المقصود ههنا تنزيه الله تعالى عن هذه الأقوال الفاسدة، والعلو في المكان لا يفيد هذا المعنى. فثبت أن المراد ههنا التعالي عن كل اعتقاد باطل. وقول فاسد.
فإن قالوا: فعلى هذا التقدير لا يبقى بين قوله: " سبحانه " وبين قوله: " وتعالى " فرق.
قلنا: بل يبقى بينهما فرق ظاهر، فإن المراد بقوله سبحانه أن هذا القائل يسبحه وينزهه عما لا يليق به والمراد بقوله: * (وتعالى) * كونه في ذاته متعاليا متقدسا عن هذه الصفات سواء سبحه مسبح أو لم يسبحه، فالتسبيح يرجع إلى أقوال المسبحين، والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له لذاته لا لغيره.
قوله تعالى
* (بديع السماوات والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شىء
117

وهو بكل شىء عليم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين فساد قول طوائف أهل الدنيا من المشركين. شرع في إقامة الدلائل على فساد قول من يثبت له الولد فقال: * (بديع السماوات والأرض) *.
واعلم أن تفسير قوله: * (بديع السماوات والأرض) * قد تقدم في سورة البقرة إلا أنا نشير ههنا إلى ما هو المقصود الأصلي من هذه الآية. فنقول: الإبداع عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال، ولذلك فإن من أتى في فن من الفنون بطريقة لم يسبقه غيره فيها، يقال: إنه أبدع فيه.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الله تعالى سلم للنصارى أن عيسى حدث من غير أب ولا نطفة بل أنه إنما حدث ودخل في الوجود. لأن الله تعالى أخرجه إلى الوجود من غير سبق الأب.
إذا عرفت هذا فنقول: المقصود من الآية أن يقال إنكم إما أن تريدوا بكونه والدا لله تعالى أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ووالد. وإما أن تريدوا بكونه ولد الله تعالى كما هو المألوف المعهود من كون الإنسان ولدا لأبيه، وإما أن تريدوا بكونه ولدا لله مفهوما ثالثا مغايرا لهذين المفهومين.
أما الاحتمال الأول: فباطل، وذلك لأنه تعالى وإن كان يحدث الحوادث في مثل هذا العالم الأسفل بناء على أسباب معلومة ووسايط مخصوصة إلا أن النصارى يسلمون أن العالم الأسفل محدث، وإذا كان الأمر كذلك. لزمهم الاعتراف بأنه تعالى خلق السماوات والأرض من غير سابقة مادة ولا مدة، وإذا كان الأمر كذلك. وجب أن يكون إحداثه للسموات والأرض إبداعا فلو لزم من مجرد كونه مبدعا لإحداث عيسى عليه السلام كونه والدا له لزم من كونه مبدعا للسموات والأرض كونه والدا لهما. ومعلوم أن ذلك باطل بالاتفاق، فثبت أن مجرد كونه مبدعا لعيسى عليه السلام لا يقتضي كونه والدا له، فهذا هو المراد من قوله: * (بديع السماوات والأرض) * وإنما ذكر السماوات والأرض فقط ولم يذكر ما فيهما لأن حدوث ما في السماوات والأرض ليس على سبيل الإبداع، أما حدوث ذات السماوات والأرض فقد كان على سبيل الإبداع، فكان المقصود من الإلزام حاصلا بذكر السماوات والأرض. لا بذكر ما في السماوات والأرض، فهذا إبطال الوجه الأول.
وأما الاحتمال الثاني: وهو أن يكون مراد القوم من الولادة هو الأمر المعتاد المعروف من الولادة في الحيوانات، فهذا أيضا باطل ويدل عليه وجوه:
الوجه الأول: أن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة وشهوة، وينفصل عنه
118

جزء ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة، وكل ذلك على خالق العالم محال. وهذا هو المراد من قوله أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة.
والوجه الثاني: أن تحصيل الولد بهذا الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادرا على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة فلما أراد الولد وعجز عن تكوينه دفعة واحدة عدل إلى تحصيله بالطريق المعتاد. أما من كان خالقا لكل الممكنات قادرا على كل المحدثات، فإذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون، ومن كان هذا الذي ذكرنا صفته ونعته، امتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة وهذا هو المراد من قوله: * (وخلق كل شيء) *.
والوجه الثالث: وهو أن هذا الولد إما أن يكون قديما أو محدثا، لا جائز أن يكون قديما لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته. وما كان واجب الوجود لذاته كان غنيا عن غيره فامتنع كونه ولدا لغيره. فبقي أنه لو كان ولدا لوجب كونه حادثا، فنقول إنه تعالى عالم بجميع المعلومات فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالا ونفعا أو يعلم أنه ليس الأمر كذلك، فإن كان الأول فلا وقت يفرض أن الله تعالى خلق هذا الولد فيه إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلا قبل ذلك، ومتى كان الداعي إلى إيجاده حاصلا قبله وجب حصول الولد قبل ذلك، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزليا وهو محال، وإن كان الثاني فقد ثبت أنه تعالى عالم بأنه ليس له في تحصيل الولد
كمال حال ولا ازدياد مرتبة في الإلهية، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يحدثه البتة في وقت من الأوقات، وهذا هو المراد من قوله: * (وهو بكل شيء عليم) * وفيه وجه آخر وهو أن يقال الولد المعتاد إنما يحدث بقضاء الشهوة، وقضاء الشهوة يوجب اللذة، واللذة مطلوبة لذاتها، فلو صحت اللذة على الله تعالى مع أنها مطلوبة لذاتها، وجب أن يقال إنه لا وقت إلا وعلم الله بتحصيل تلك اللذة يدعوه إلى تحصيلها قبل ذلك الوقت لأنه تعالى لما كان عالما بكل المعلومات وجب أن يكون هذا المعنى معلوما، وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن يحصل تلك اللذة في الأزل، فلزم كون الولد أزليا، وقد بينا أنه محال فثبت أن كونه تعالى عالما بكل المعلومات مع كونه تعالى أزليا يمنع من صحة الولد عليه، وهذا هو المراد من قوله: * (وهو بكل شيء عليم) * فثبت بما ذكرنا أنه لا يمكن إثبات الولد لله تعالى بناء على هذين الاحتمالين المعلومين، فأما إثبات الولد لله تعالى بناء على احتمال ثالث فذلك باطل. لأنه غير متصور ولا مفهوم عند العقل، فكان القول بإثبات الولادة بناء على ذلك الاحتمال الذي هو غير متصور خوضا في محض الجهالة وأنه باطل، فهذا هو المقصود من هذه الآية
119

ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاما يساويه في القوة والكمال لعجزوا عنه، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
قوله تعالى
* (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شىء فاعبدوه وهو على كل شىء وكيل) *.
اعلم أنه تعالى لما أقام الحجة على وجود الإله القادر المختار الحكيم الرحيم وبين فساد قول من ذهب إلى الإشراك بالله، وفصل مذاهبهم على أحسن الوجوه وبين فساد كل واحد منها بالدلائل اللائقة به. ثم حكى مذهب من أثبت لله البنين والبنات، وبين بالدلائل القاطعة فساد القول بها فعند هذا ثبت أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والضد والند، ومنزه عن الأولاد والبنين والبنات، فعند هذا صرح بالنتيجة فقال: ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل ما سواه فاعبدوه ولا تعبدوا غيره أحدا فإنه هو المصلح لمهمات جميع العباد، وهو الذي يسمع دعاءهم ويرى ذلهم وخضوعهم، ويعلم حاجتهم، وهو الوكيل لكل أحد على حصول مهماته، ومن تأمل في هذا النظم والترتيب في تقرير الدعوة إلى التوحيد والتنزيه، وإظهار فساد الشرك، علم أنه لا طريق أوضح ولا أصلح منه. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": " ذلكم " إشارة إلى الموصوف بما تقدم من الصفات وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة، وهي: * (الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء) * أي ذلك الجامع لهذه الصفات فاعبدوه، على معنى أن من حصلت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه، ولا تعبدوا أحدا سواء.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى بين في هذه السورة بالدلائل الكثيرة افتقار الخلق إلى خالق وموجد، ومحدث، ومبدع، ومدبر، ولم يذكر دليلا منفصلا يدل على نفي الشركاء، والأضداد والأنداد، ثم إنه اتبع الدلائل الدالة على وجود الصانع بأن نقل قول من أثبت لله شريكا، فهذا القدر يكون أوجب الجزم بالتشريك من الجن، ثم أبطله، ثم إنه تعالى بعد ذلك أتى بالتوحيد المحض حيث قال: * (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه) * وعند هذا يتوجه السؤال وهو أن حاصل ما تقدم إقامة الدليل على وجود الخالق، وتزييف دليل من أثبت لله شريكا، فهذا
120

القدر كيف أوجب الجزم بالتوحيد المحض؟ فنقول: للعلماء في إثبات التوحيد طرق كثيرة، ومن جملتها هذه الطريقة. وتقريرها من وجوه: الأول: قال المتقدمون الصانع الواحد كاف وما زاد على الواحد فالقول فيه متكافئ، فوجب القول بالتوحيد أما قولنا: الصانع الواحد كاف فلأن الإله القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات كاف في كونه إلها للعالم، ومدبرا له. وأما أن الزائد على الواحد، فالقول فيه متكافئ، فلأن الزائد على الواحد لم يدل الدليل على ثبوته، فلم يكن إثبات عدد أولى من إثبات عدد آخر، فيلزم إما إثبات آلهة لا نهاية لها، وهو محال، أو إثبات عدد معين مع أنه ليس ذلك العدد أولى من سائر الأعداد، وهو أيضا محال، وإذا كان القسمان باطلين لم يبق إلا القول بالتوحيد.
الوجه الثاني: في تقرير هذه الطريقة أن الإله القادر على كل الممكنات العالم بكل المعلومات كاف في تدبير العالم، فلو قدرنا إلها ثانيا لكان ذلك الثاني إما أن يكون فاعلا وموجودا لشيء من حوادث هذا العالم أو لا يكون، والأول باطل، لأنه لما كان كل واحد منهما قادرا على جميع الممكنات فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلا لذلك الفعل مانعا للآخر عن تحصيل مقدوره، وذلك يوجب كون كل واحد منهما سببا لعجز الآخر وهو محال. وإن كان الثاني لا يفعل فعلا ولا يوجد شيئا كان ناقصا معطلا، وذلك لا يصلح للإلهية.
والوجه الثالث: في تقرير هذه الطريقة أن نقول: إن هذا الإله الواحد لا بد وأن يكون كاملا في صفات الإلهية، فلو فرضنا إلها ثانيا لكان ذلك الثاني إما أن يكون مشاركا للأول في جميع صفات الكمال أو لا يكون، فإن كان مشاركا للأول في جميع صفات الكمال فلا بد وأن يكون متميزا عن الأول بأمر ما، إذ لو لم يحصل الامتياز بأمر من الأمور لم يحصل التعدد والإثنينية، وإذا حصل الامتياز بأمر ما فذلك الأمر المميز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون. فإن كان من صفات الكمال مع أنه حصل الامتياز به لم يكن جميع صفات الكمال مشتركا فيه بينهما، وإن لم يكن ذلك المميز من صفات الكمال، فالموصوف به يكون موصوفا بصفة ليست من صفات الكمال، وذلك نقصان، فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الإله الواحد كاف في تدبير العالم والإيجاد، وأن الزائد يجب نفيه فهذه الطريقة هي التي ذكرها الله تعالى ههنا في تقرير التوحيد. وأما التمسك بدليل التمانع فقد ذكرناه في سورة البقرة.
المسألة الثالثة: تمسك أصحابنا بقوله: * (خالق كل شيء) * على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد قالوا: أعمال العباد أشياء، والله تعالى خالق كل شيء بحكم هذه الآية فوجب كونه تعالى خالقا لها
121

واعلم أنا أطنبنا الكلام في هذا الدليل في كتاب " الجبر والقدر "، ونكتفي ههنا من تلك الكلمات بنكت قليلة. قالت المعتزلة: هذا اللفظ وإن كان عاما إلا أنه حصل مع هذه الآية وجوه تدل على أن أعمال العباد خارجة عن هذا العموم. فأحدهما: أنه تعالى قال: * (خالق كل شيء فاعبدوه) * فلو دخلت أعمال العباد تحت قوله: * (خالق كل شيء) * لصار تقدير الآية: أنا خلقت أعمالكم فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى. ومعلوم أن ذلك فاسد. وثانيها: أنه تعالى إنما ذكر قوله: * (خالق كل شيء) * في معرض المدح والثناء على نفسه، فلو دخل تحته أعمال العباد لخرج عن كونه مدحا وثناء لأنه لا يليق به سبحانه أن يتمدح بخلق الزنا واللواط والسرقة والكفر. وثالثها: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: * (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها) *، وهذا تصريح بكون العبد مستقلا بالفعل والترك، وأنه لا مانع له البتة من الفعل والترك، وذلك يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى إذ لو كان مخلوقا لله تعالى لما كان العبد مستقلا به، لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع منه الدفع، وإذا لم يوجده الله تعالى امتنع منه التحصيل. فلما دلت هذه الآية على كون العبد مستقلا بالفعل والترك وثبت أن كونه كذلك يمنع أن يقال فعل العبد مخلوق لله تعالى، ثبت أن ذكر قوله: * (فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها) * يوجب تخصيص ذلك العموم. ورابعها: أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * وقد بينا أن المراد منه رواية مذهب المجوس في إثبات إلهين للعالم. أحدهما يفعل اللذات والخيرات، والآخر يفعل الآلام والآفات فقوله بعد ذلك: * (لا إله إلا هو خالق كل شيء) * يجب أن يكون محمولا على إبطال ذلك المذهب، وذلك إنما يكون إذا قلنا إنه تعالى هو الخالق لكل ما في هذا العالم من السباع والحشرات والأمراض والآلام، فإذا حملنا قوله: * (خالق كل شيء) * على هذا الوجه لم يدخل تحت أعمال العباد. قالوا: فثبت أن هذه الدلائل الأربعة توجب خروج أعمال العباد عن عموم قوله تعالى: * (خالق كل شيء) *.
والجواب: أن نقول الدليل العقلي القاطع قد ساعد على صحة ظاهر الآية. وتقريره أن
الفعل موقوف على الداعي وخالق الداعي هو الله تعالى، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل
وذلك يقتضي كونه تعالى خالقا لافعال العباد، وإذا تأكد هذا الظاهر بهذا البرهان العقلي القاطع
زالت الشكوك والشبهات.
(المسألة الرابعة) قوله تعالى (خالق كل شئ فاعبدوه) يدل على ترتيب الامر بالعبادة على
كونه تعالى خالقا لكل الأشياء بفاء التعقيب وترتيب الحكم على الوصف بحرف الفاء مشعر بالسبية،
فهذا يقتضى أن يكون كونه تعالى خالقا للأشياء هو الموجب لكونه معبودا على الاطلاق، والاله
122

هو المستحق للمعبودية، فهذا يشعر بصحة ما يذكره بعض أصحابنا من أن الاله عبارة عن القادر على
الخلق والابداع والايجاد والاختراع.
(المسألة الخامسة) احتج كثيرة م المعتزلة بقوله (خالق كل شئ) على نفى الصفات. وعلى
كون القرآن مخلوقا، أما نفى الصفات فلأنهم قالوا: لو كان تعالى عالما بالعلم قادرا بالقدرة، لكان
ذلك العلم والقدرة إما أن يقال: إنهما قديمان، أو محدثان. والأول باطل لان عموم قوله (خالق
كل شئ) يقتضى كونه خالقا لكل الأشياء أدخلنا التخصيص في هذا العموم بحسب ذاته تعالى
ضرورة أن يمتنع أن يكون خالقا لنفسه فوجب أن يبقى على عمومه فيما سواه. والقول باثبات
الصفات القديمة يقتضى مزيد التحصيص في هذا العموم وأنه لا يجوز والثاني: وهو القول بحدوث
علم الله وقدرته. فهو باطل بالاجماع. لأنه يلزم افتقار إيجاد ذلك العلم والقدرة إلى سبق علم آخر
وقدرة أخرى. وأن ذلك محال. وأما تمسكهم بهذه الآية على كون القرآن مخلوقا. فقالوا: القرآن
شئ وكل شئ فهو مخلوق لله تعالى بحكم هذا العموم. فلزم كون القرآن مخلوقا لله تعالى أقصى ما في هذا
الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في ذات الله تعالى، إلا أن العام المخصوص حجة في غير
محل التحصيص، ولذلك فان دخول هذا التحصيص في هذا العموم لم يمنع أهل السنة من التمسك به
في إثبات أ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
وجواب أصحابنا عنه: أنا نخصص هذا العموم بالدلائل الدالة على كونه تعالى عالما بالعلم
قادرا بالقدرة وبالدلائل الدالة على أن كلام الله تعالى قديم.
(المسألة السادسة) قوله تعالى (وهو على كل شئ وكيل) المراد منه أن يحصل للعبد كمال
التوحيد وتقريره، وهو أن العبد وإن كان يعتقد أن لا إله إلا هو، وأنه لا مدبر إلا الله تعالى،
إلا أن هذا العالم عالم الأسباب.
وسمعت الشيخ الامام الزاهد الوالد رحمه الله يقول: لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب.
وإذا كان الامر كذلك. فقد يعلق الرجل القلب بالأسباب الظاهرة، فتارة يعتمد على الأمير،
وتارة يجع في تحصيل مهماته إلي الوزير، فحينئذ إلى الوزير، فحينئذ لا ينال إلا الحرمان ولا يجد إلا تكثير الأحزان،
والحق تعالى قال (وهو على كل شئ وكيل) والمقصود أن يعلم الرجل أن لا حافظ إلا الله، ولا
مصلح للمهمات إلا الله، فحينئذ ينقطع طمعه عن كل ما سواء ولا يرجع في مهم من المهمات إلا اليه.
(المسألة السابعة) أن قال: قبل هذه الآية بقليل (وخلق كل شئ) وقال ههنا (خالق كل
شئ) وهذا كالتكرار.
123

* (لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير) *.
والجواب من وجوه: الأول: أن قوله (وخلق كل شئ) إشارة إلى الماضي.
أما قوله (خالق كل شئ) فهو اسم الفاعل، وهو يتناول الأوقات كلها والثاني: وهو
التحقيق أنه تعالى (ذكر هناك قوله (وخلق كل شئ) ليجعله مقدمة في بيان نفى الأولاد، وههنا
ذكر قوله (خالق كل شئ) ليجعله مقدمة في بيان أنه لا معبود إلا هو، والحاصل أن هذه المقدمة
مقدمة توجب أحكاما كثيرة ونتائج مختلفة، فهو تعالى يذكرها مرة بعد مرة ليفرع عليها في كل
موضع ما يليق بها من النتيجة.
(المسالة الثامنة) لقائل أن يقول: الاله هو الذي يستحق أن يكون معبودا فقوله (لا إله
إلا هو) معناه لا يستحق العبادة إلا هو، فما الفائدة في قوله بعد ذلك (فاعبدوه) فان هذا
يوهم التكرير.
والجواب: قوله (لا إله إلا هو) أي لا يستحق العبادة إلا هو، وقوله (فاعبدوه) أي
لا تعبدوا غيره.
(المسألة التاسعة) القوم كانوا معترفين بوجود الله تعالى كما قال (ولئن سألتهم من خلق
السماوات والأرض ليقولن الله) وما أطلقوا لفظ الله على أحد سوى الله سبحانه، كما قال تعالى
(هل تعلم له سيما) فقال (ذلكم الله ربكم) أي الشئ الموصوف بالصفات التي تقدم ذكرها هو الله
تعالى، ثم قال بعده (ربكم) يعنى الذي يريكم ويحسن إليكم بأصناف التربية ووجوه الاحسان، وهى
أقسام بلغت في الكثيرة إلى حيث يعجز العقل عن ضبطها، كما قال (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)
ثم قال (لا إله إلا هو) يعنى أنكم لما عرفتم وجود الاله المحسن المتفضل المتكرم فاعلموا أنه
لا إله سواه ولا معبود سواه.
ثم قال (خالق كل شئ) يعنى أنما صح قولنا: لا إله سواه لأنه لا خالق للخلق سواه، ولا
مدبر للعالم إلا هو، فهذا الترتيب ترتيب مناسب مفيد.
قوله تعالى (لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير)
في هذه الآية مسائل:
(المسألة الأولى) احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى تجوز رؤيته والمؤمنين. يرونه يوم
القيامة من وجوه: الأولى: في تقرير هذا المطلوب أن نقول: هذه الآية تدل على أنه تعالى
تجوز رؤيته.
124

وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة.
أما المقام الأول: فتقريره: أنه تعالى تمدح بقوله: * (لا تدركه الأبصار) * وذلك مما يساعد الخصم عليه، وعليه بنوا استدلالهم في إثبات مذهبهم في نفي الرؤية.
وإذا ثبت هذا فنقول: لو لم يكن تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله: * (لا تدركه الأبصار) * ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته. والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها، ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها، فثبت أن قوله: * (لا تدركه الأبصار) * يفيد المدح، وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية، وهذا يدل على أن قوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار) * يفيد كونه تعالى جائز الرؤية، وتمام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث يمتنع رؤيته، فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء. أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية، ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة. فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته.
وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة، والدليل عليه أن القائل قائلان: قائل قال بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه، وقائل قال لا يرونه ولا تجوز رؤيته. فأما القول بأنه تعالى تجوز رؤيته مع أنه لا يراه أحد من المؤمنين فهو قول لم يقل به أحد من الأمة فكان باطلا. فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية تدل على أنه تعالى جائز الرؤية في ذاته، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك، وجب القطع بأن المؤمنين يرونه، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على حصول الرؤية وهذا استدلال لطيف من هذه الآية. الوجه الثاني: أن نقول المراد بالأبصار في قوله: * (لا تدركه الأبصار) * ليس هو نفس الإبصار فإن البصر لا يدرك شيئا البتة في موضع من المواضع. بل المدرك هو المبصر فوجب القطع بأن المراد من قوله * (لا تدركه الأبصار) * هو أنه لا يدركه المبصرون وإذا كان كذلك كان قوله: * (وهو يدرك الأبصار) * المراد منه وهو يدرك المبصرين، ومعتزلة البصرة يوافقوننا على أنه تعالى يبصر الأشياء فكان هو تعالى من جملة المبصرين فقوله: * (وهو يدرك الأبصار) * يقتضي كونه تعالى مبصرا لنفسه، وإذا كان الأمر كذلك كان تعالى جائز الرؤية في ذاته، وكان تعالى يرى نفسه. وكل من قال إنه تعالى جائز الرؤية في نفسه، قال: إن المؤمنين يرونه يوم القيامة فصارت هذه الآية دالة على أنه جائز الرؤية وعلى أن المؤمنين يرونه يوم القيامة، وإن أردنا أن نزيد هذا الاستدلال اختصارا قلنا: قوله تعالى: * (وهو يدرك الأبصار) * المراد منه إما نفس البصر أو المبصر، وعلى
125

التقديرين: فيلزم كونه تعالى مبصرا لأبصار نفسه، وكونه مبصرا لذات نفسه. وإذا ثبت هذا وجب أن يراه المؤمنون يوم القيامة ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
الوجه الثالث: في الاستدلال بالآية أن لفظ * (الأبصار) * صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق فقوله: * (لا تدركه الأبصار) * يفيد أنه لا يراه جميع الأبصار، فهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب.
إذا عرفت هذا فنقول: تخصيص هذا السلب بالمجموع يدل على ثبوت الحكم في بعض أفراد المجموع، ألا ترى أن الرجل إذا قال إن زيدا ما ضربه كل الناس فإنه يفيد أنه ضربه بعضهم.
فإذا قيل: إن محمدا صلى الله عليه وسلم ما آمن به كل الناس أفاد أنه آمن به بعض الناس، وكذا قوله: * (لا تدركه الأبصار) * معناه: أنه لا تدركه جميع الأبصار، فوجب أن يفيد أنه تدركه بعض الأبصار. أقصى ما في الباب أن يقال: هذا تمسك بدليل الخطاب. فنقول: هب أنه كذلك إلا أنه دليل صحيح لأن بتقدير أن لا يحصل الإدراك لأحد البتة كان تخصيص هذا السلب بالمجموع من حيث هو مجموع عبثا، وصون كلام الله تعالى عن العبث واجب.
الوجه الرابع: في التمسك بهذه الآية ما نقل أن ضرار بن عمرو الكوفي كان يقول: إن الله تعالى لا يرى بالعين، وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة، واحتج عليه بهذه الآية فقال: دلت هذه الآية على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر، وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه، فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزا في الجملة، ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ثبت أن يقال: إنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه، فهذه وجوه أربعة مستنبطة من هذه الآية يمكن العويل عليها في إثبات أن المؤمنين يرون الله في القيامة.
المسألة الثانية: في حكاية استدلال المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية.
اعلم أنهم يحتجون بهذه الآية من وجهين: الأول: أنهم قالوا: الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية، بدليل أن قائلا لو قال أدركته ببصري وما رأيته، أو قال رأيته وما أدركته ببصري فإنه يكون كلامه متناقضا، فثبت أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار) * يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال، والدليل على صحة هذا العموم وجهان: الأول: يصح استثناء جميع الأشخاص وجميع الأحوال عنه فيقال: لا تدركه الأبصار إلا بصر فلان، وإلا في الحالة الفلانية والاستثناء
126

يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله. فثبت أن عموم هذه الآية يفيد عموم النفي عن كل الأشخاص في جميع الأحوال. وذلك يدل على أن أحدا لا يرى الله تعالى في شيء من الأحوال.
الوجه الثاني: في بيان أن هذه الآية تفيد العموم أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت قول ابن عباس في أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى به ليلة المعراج تمسكت في نصرة مذهب نفسها بهذه الآية، ولو لم تكن هذه الآية مفيدة للعموم بالنسبة إلى كل الأشخاص وكل الأحوال لما تم ذلك الاستدلال، ولا شك أنها كانت من أشد الناس علما بلغة العرب. فثبت أن هذه الآية دالة على النفي بالنسبة إلى كل الأشخاص وذلك يفيد المطلوب.
الوجه الثاني: في تقرير استدلال المعتزلة بهذه الآية أنهم قالوا: إن ما قبل هذه الآية إلى هذا الموضع مشتمل على المدح والثناء، وقوله بعد ذلك: * (وهو يدرك الأبصار) * أيضا مدح وثناء فوجب أن يكون قوله: * (لا تدركه الأبصار) * مدحا وثناء، وإلا لزم أن يقال: إن ما ليس بمدح وثناء وقع في خلال ما هو مدح وثناء، وذلك يوجب الركاكة وهي غير لائقة بكلام الله.
إذا ثبت هذا فنقول: كل ما كان عدمه مدحا ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصا في حق الله تعالى، والنقص على الله تعالى محال، لقوله: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * (البقرة: 255) وقوله: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) وقوله: * (لم يلد ولم يولد) * (الإخلاص: 3) إلى غير ذلك. فوجب أن يقال كونه تعالى مرئيا محال.
واعلم أن القوم إنما قيدوا ذلك بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى تمدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله: * (وما الله يريد ظلما للعالمين) * (آل عمران: 108) وقوله: * (وما ربك بظلام للعبيد) * (فصلت: 46) مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم، فذكروا هذا القيد دفعا لهذا النقض عن كلامهم. فهذا غاية تقرير كلامهم في هذا
الباب.
والجواب عن الوجه الأول من وجوه: الأول: لا نسلم أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية والدليل عليه: أن لفظ الإدراك في أصل اللغة عبارة عن اللحوق والوصول قال تعالى: * (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) * (الشعراء: 61) أي لملحقون وقال: * (حتى إذا أدركه الغرق) * (يونس: 90) أي لحقه، ويقال: أدرك فلان فلانا، وأدرك الغلام أي بلغ الحلم، وأدركت الثمرة أي نضجت. فثبت أن الإدراك هو الوصول إلى الشيء.
إذا عرفت هذا فنقول: المرئي إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياته. صار كأن ذلك الإبصار أحاط به فتسمى هذه الرؤية إدراكا، أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسم تلك الرؤية إدراكا. فالحاصل أن الرؤية جنس تحتها نوعان: رؤية مع الإحاطة. ورؤية لا مع الإحاطة. والرؤية مع الإحاطة هي المسماة بالإدراك فنفي الإدراك يفيد نفي نوع واحد من
127

نوعي الرؤية، ونفي النوع لا يوجب نفي الجنس. فلم يلزم من نفي الإدراك عن الله تعالى نفي الرؤية عن الله تعالى، فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على كلام الخصم.
فإن قالوا لما بينتم أن الإدراك أمر مغاير للرؤية فقد أفسدتم على أنفسكم الوجوه الأربعة التي تمسكتم بها في هذه الآية في إثبات الرؤية على الله تعالى.
قلنا: هذا بعيد لأن الإدراك أخص من الرؤية وإثبات الأخص يوجب إثبات الأعم. وأما نفي الأخص لا يوجب نفي الأعم. فثبت أن البيان الذي ذكرناه يبطل كلامكم ولا يبطل كلامنا.
الوجه الثاني: في الاعتراض أن نقول: هب أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية، لكن لم قلتم أن قوله لا تدركه الأبصار يفيد عموم النفي عن كل الأشخاص وعن كل الأحوال وفي كل الأوقات؟ وأما الاستدلال بصحة الاستثناء على عموم النفي فمعارض بصحة الاستثناء عن جمع القلة مع أنها لا تفيد عموم النفي بل نسلم أنه يفيد العموم إلا أن نفي العموم غير، وعموم النفي غير، وقد دللنا على أن هذا اللفظ لا يفيد إلا نفي العموم، وبينا أن نفي العموم يوجب ثبوت الخصوص، وهذا هو الذي قررناه في وجه الاستدلال. وأما قوله إن عائشة رضي الله عنها تمسكت بهذه الآية في نفي الرؤية فنقول: معرفة مفردات اللغة إنما تكتسب من علماء اللغة، فأما كيفية الاستدلال بالدليل فلا يرجع فيه إلى التقليد، وبالجملة فالدليل العقلي دل على أن قوله: * (لا تدركه الأبصار) * يفيد نفي العموم. وثبت بصريح العقل أن نفي العموم مغاير لعموم النفي ومقصودهم إنما يتم لو دلت الآية على عموم النفي، فسقط كلامهم.
الوجه الثالث: أن نقول صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضا، وإذا كان كذلك فقوله: * (لا تدركه الأبصار) * يفيد أن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه، ونحن نقول بموجبه فإن هذه الأبصار وهذه الأحداق ما دامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدرك الله تعالى إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها فلم قلتم أن عند حصول هذه التغيرات لا تدرك الله؟
الوجه الرابع: سلمنا أن الأبصار البتة لا تدرك الله تعالى فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما كان ضرار بن عمرو يقول به؟ وعلى هذا التقدير فلا يبقى في التمسك بهذه الآية فائدة.
الوجه الخامس: هب أن هذه الآية عامة إلا أن الآيات الدالة على إثبات رؤية الله تعالى خاصة والخاص مقدم على العام، وحينئذ ينتقل الكلام من هذا المقام إلى بيان أن تلك الآيات هل
128

تدل على حصول رؤية الله تعالى أم لا؟
الوجه السادس: أن نقول بموجب الآية فنقول: سلمنا أن الأبصار لا تدرك الله تعالى، فلم قلتم إن المبصرين لا يدركون الله تعالى؟ فهذا مجموع الأسئلة على الوجه الأول، وأما الوجه الثاني فقد بينا أنه يمتنع حصول التمدح بنفي الرؤية لو كان تعالى في ذاته بحيث تمتنع رؤيته، بل إنما يحصل التمدح لو كان بحيث تصح رؤيته، ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته، وبهذا الطريق يسقط كلامهم بالكلية، ثم نقول: إن النفي يمتنع أن يكون سببا لحصول المدح والثناء، وذلك لأن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجبا للمدح والثناء والعلم به ضروري، بل إذا كان النفي دليلا على حصول صفة ثابتة من صفات المدح والثناء. قيل: بأن ذلك النفي يوجب المدح. ومثاله أن قوله: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * لا يفيد المدح نظرا إلى هذا النفي. فإن الجماد لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه تعالى عالما بجميع المعلومات أبدا من غير تبدل ولا زوال وكذلك قوله: * (وهو يطعم ولا يطعم) * (الأنعام: 14) يدل على كونه قائما بنفسه غنيا في ذاته لأن الجماد أيضا لا يأكل ولا يطعم.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (لا تدركه الأبصار) * يمتنع أن يفيد المدح والثناء إلا إذا دل على معنى موجود يفيد المدح والثناء، وذلك هو الذي قلناه، فإنه يفيد كونه تعالى قادرا على حجب الأبصار ومنعها عن إدراكه ورؤيته. وبهذا التقرير فإن الكلام ينقلب عليهم حجة فسقط استدلال المعتزلة بهذه الآية من كل الوجوه.
المسألة الثالثة: اعلم أن القاضي ذكر في " تفسيره " وجوها أخرى تدل على نفي الرؤية وهي في الحقيقة خارجة عن التمسك بهذه الآية ومنفصلة عن علم التفسير وخوض في علم الأصول، ولما فعل القاضي ذلك فنحن ننقلها ونجيب عنها ثم نذكر لأصحابنا وجوها دالة على صحة الرؤية. أما القاضي فقد تمسك بوجوه عقلية أولها: أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضرا وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة وهي أن لا يحصل القرب القريب ولا البعد البعيد ولا يحصل الحجاب ويكون المرئي مقابلا أو في حكم المقابل فإنه يجب حصول الرؤية، إذ لو جاز مع حصول هذه الأمور أن لا تحصل الرؤية جاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ولا نسمعها ولا
نراها وذلك يوجب السفسطة.
قالوا إذا ثبت هذا فنقول: إن انتفاء القرب القريب والبعد البعيد والحجاب وحصول المقابلة في حق الله تعالى ممتنع، فلو صحت رؤيته لوجب أن يكون المقتضي لحصول تلك الرؤية هو سلامة الحاسة وكون المرئي تصح رؤيته. وهذان المعنيان حاصلان في هذا الوقت. فلو كان بحيث تصح رؤيته لوجب أن تحصل رؤيته في هذا الوقت. وحيث لم تحصل هذه الرؤية علمنا أنه ممتنع الرؤية.
129

والحجة الثانية: أن كل ما كان مرئيا كان مقابلا أو في حكم المقابل والله تعالى ليس كذلك، فوجب أن تمتنع رؤيته.
والحجة الثالثة: قال القاضي: ويقال لهم كيف يراه أهل الجنة دون أهل النار؟ إما أن يقرب منهم أو يقابلهم فيكون حالهم معه بخلاف أهل النار وهذا يوجب أنه جسم يجوز عليه القرب والبعد والحجاب.
والحجة الرابعة: قال القاضي: إن قلتم إن أهل الجنة يرونه في كل حال حتى عند الجماع وغيره فهو باطل، أو يرونه في حال دون حال وهذا أيضا باطل، لأن ذلك يوجب أنه تعالى مرة يقرب وأخرى يبعد. وأيضا فرؤيته أعظم اللذات، وإذا كان كذلك وجب أن يكونوا مشتهين لتلك الرؤية أبدا. فإذا لم يروه في بعض الأوقات وقعوا في الغم والحزن وذلك لا يليق بصفات أهل الجنة. فهذا مجموع ما ذكره في " كتاب التفسير ". واعلم أن هذه الوجوه في غاية الضعف.
أما الوجه الأول: فيقال له هب أن رؤية الأجسام والأعراض عند حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول سائر الشرائط واجبة، فلم قلتم إنه يلزم منه أن يكون رؤية الله تعالى عند سلامة الحاسة وعند كون المرئي بحيث يصح رؤيته واجبة؟ ألم تعلموا أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات، ولا يلزم من ثبوت حكم في شيء ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه، والعجب من هؤلاء المعتزلة أن أولهم وآخرهم عولوا على هذا الدليل وهم يدعون الفطنة التامة والكياسة الشديدة ولم يتنبه أحد منهم لهذا السؤال ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام.
وأما الوجه الثاني: فيقال له إن النزاع بيننا وبينك وقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا؟ فإما أن تدعوا أن العلم بامتناع رؤية هذا الموجود الموصوف بهذه الصفة علم بديهي أو تقولوا أنه علم استدلالي، والأول باطل لأنه لو كان العلم به بديهيا لما وقع الخلاف فيه بين العقلاء. وأيضا فبتقدير أن يكون هذا العلم بديهيا كان الاشتغال بذكر الدليل عبثا فاتركوا الاستدلال واكتفوا بادعاء البديهة. وإن كان الثاني فنقول: قولكم المرئي يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل إعادة لعين الدعوى، لأن حاصل الكلام أنكم قلتم: الدليل على أن ما لا يكون مقابلا ولا في حكم المقابل لا تجوز رؤيته، أن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل، ومعلوم أنه لا فائدة في هذا الكلام إلا إعادة الدعوى.
وأما الوجه الثالث: فيقال له لم لا يجوز أن يقال إن أهل الجنة يرونه وأهل النار لا يرونه؟ لا لأجل القرب والبعد كما ذكرت، بل لأنه تعالى يخلق الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها
130

في عيون أهل النار فلو رجعت في إبطال هذا الكلام إلى أن تجويزه يفضي إلى تجويز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ولا نراها ولا نسمعها، كان هذا رجوعا إلى الطريقة الأولى، وقد سبق جوابها.
وأما الوجه الرابع: فيقال لم لا يجوز أن يقال: إن المؤمنين يرون الله تعالى في حال دون حال. أما قوله فهذا يقتضي أن يقال: إنه تعالى مرة يقرب ومرة يبعد، فيقال هذا عود إلى أن الإبصار لا يحصل إلا عند الشرائط المذكورة، وهو عود إلى الطريق الأول، وقد سبق جوابه، وقوله ثانيا: الرؤية أعظم اللذات، فيقال له إنها وإن كانت كذلك إلا أنه لا يبعد أن يقال إنهم يشتهونها في حال دون حال، بدليل أن سائر لذات الجنة ومنافعها طيبة ولذيذة ثم إنها تحصل في حال دون حال فكذا ههنا. فهذا تمام الكلام في الجواب عن الوجوه التي ذكرها في هذا الباب.
المسألة الرابعة: في تقرير الوجوه الدالة على أن المؤمنين يرون الله تعالى ونحن بعدها هنا عدا، ونحيل تقريرها إلى المواضع اللائقة بها. فالأول: أن موسى عليه السلام طلب الرؤية من الله تعالى، وذلك يدل على جواز رؤية الله تعالى. والثاني: أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل حيث قال: * (فإن استقر مكانه فسوف تراني) * (الأعراف: 143) واستقرار الجبل جائز والمعلق على الجائز جائز، وهذان الدليلان سيأتي تقريرهما إن شاء الله تعالى في سورة الأعراف.
الحجة الثالثة: التمسك بقوله: * (لا تدركه الأبصار) * من الوجوه المذكورة.
الحجة الرابعة: التمسك بقوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى) * (يونس: 26) وزيادة وتقريره قد ذكرناه في سورة يونس.
الحجة الخامسة: التمسك بقوله تعالى: * (فمن كان يرجو لقاء ربه) * (الكهف: 110) وكذا القول في جميع الآيات المشتملة على اللقاء وتقريره قد مر في هذا التفسير مرارا وأطوارا.
الحجة السادسة: التمسك بقوله تعالى: * (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) * (الإنسان: 20) فإن إحدى القراءات في هذه الآية: * (ملكا) * بفتح الميم وكسر اللام، وأجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالى. وعندي التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها.
الحجة السابعة: التمسك بقوله تعالى: * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) * (المطففين: 15) وتخصيص الكفار بالحجب يدل على أن المؤمنين لا يكونون محجوبين عن رؤية الله عز وجل.
الحجة الثامنة: التمسك بقوله تعالى: * (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى) * (النجم: 13، 14) وتقرير هذه الحجة سيأتي في تفسير سورة النجم.
الحجة التاسعة: أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله تعالى على أكمل الوجوه، وأكمل
131

طرق المعرفة هو الرؤية. فوجب أن تكون رؤية الله تعالى مطلوبة لكل أحد، وإذا ثبت هذا وجب القطع بحصولها لقوله تعالى: * (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) * (فصلت: 31).
الحجة العاشرة: قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) * (الكهف: 107) دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل جميع جنات الفردوس نزلا للمؤمنين، والاقتصار فيها على النزل لا يجوز، بل لا بد وأن يحصل عقيب النزل تشريف أعظم حالا من ذلك النزل، وما ذاك إلا الرؤية.
الحجة الحادية عشرة: قوله تعالى: * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) * (القيامة: 22، 23) وتقرير كل واحد من هذه الوجوه سيأتي في الموضع اللائق به من هذا الكتاب. وأما الأخبار فكثيرة منها الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام: " سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته " واعلم أن التشبيه وقع في تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا في تشبيه المرئي بالمرئي، ومنها ما اتفق الجمهور عليه من أنه صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * (يونس: 26) فقال الحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، ومنها أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل رأى الله ليلة المعراج، ولم يكفر بعضهم بعضا بهذا السبب؟ وما نسبه إلى البدعة والضلالة، وذا يدل على أنهم كانوا مجمعين على أنه لا امتناع عقلا في رؤية الله تعالى، فهذا جملة الكلام في سمعيات مسألة الرؤية.
المسألة الخامسة: دل قوله تعالى: * (وهو يدرك الأبصار) * على أنه تعالى يرى الأشياء ويبصرها ويدركها. وذلك لأنه إما أن يكون المراد من الأبصار عين الأبصار. أو المراد منه المبصرين، فإن كان الأول وجب الحكم بكونه تعالى رائيا لرؤية الرائين ولأبصار المبصرين، وكل من قال ذلك قال إنه تعالى يرى جميع المرئيات والمبصرات. وإن كان الثاني وجب الحكم بكونه تعالى رائيا للمبصرين، فعلى كلا التقديرين تدل هذه الآية على كونه تعالى مبصرا للمبصرات رائيا للمرئيات.
المسألة السادسة: قوله تعالى: * (وهو يدرك الأبصار) * يفيد الحصر معناه أنه تعالى هو يدرك الأبصار ولا يدركها غير الله تعالى، والمعنى أن الأمر الذي به يصير الحي رائيا للمرئيات ومبصرا للمبصرات ومدركا للمدركات، أمر عجيب وماهية شريفة، لا يحيط العقل بكنهها. ومع ذلك فإن الله تعالى مدرك لحقيقتها مطلع على ماهيتها، فيكون المعنى من قوله: * (لا تدركه الأبصار) * هو أن شيئا من القوى المدركة لا تحيط بحقيقته، وأن عقلا من العقول لا يقف على كنه صمديته، فكلت الأبصار عن إدراكه، وارتدعت العقول عن الوصول إلى ميادين عزته،
132

وكما أن شيئا لا يحيط به، فعلمه محيط بالكل، وإدراكه متناول للكل، فهذا كيفية نظم هذه الآية.
المسألة السابعة: قوله: * (وهو اللطيف الخبير) * اللطافة ضد الكثافة، والمراد منه الرقة، وذلك في حق الله ممتنع، فوجب المصير فيه إلى التأويل، وهو من وجوه:
الوجه الأول: المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة، والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا الله تعالى.
الوجه الثاني: أنه سبحانه لطيف في الإنعام والرأفة والرحمة. والوجه الثالث: أنه لطيف بعباده، حيث يثني عليهم عند الطاعة، ويأمرهم بالتوبة عند المعصية، ولا يقطع عنهم سواد رحمته سواء كانوا مطيعين أو كانوا عصاة.
الوجه الرابع: أنه لطيف بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم، وينعم عليهم بما هو فوق استحقاقهم. وأما الخبير: فهو من الخبر وهو العلم، والمعنى أنه لطيف بعباده مع كونه عالما بما هم عليه من ارتكاب المعاصي والإقدام على القبائح، وقال صاحب " الكشاف " * (اللطيف) * معناه: أنه يلطف عن أن تدركه الأبصار * (الخبير) * بكل لطيف، فهو يدرك الأبصار، ولا يلطف شيء عن إدراكه، وهذا وجه حسن.
قوله تعالى
* (قد جآءكم بصآئر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها ومآ أنا عليكم بحفيظ) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قرر هذه البيانات الظاهرة، والدلائل القاهرة في هذه المطالب العالية الشريفة الإلهية. عاد إلى تقرير أمر الدعوى والتبليغ والرسالة فقال: * (قد جاءكم بصائر من ربكم) * والبصائر جمع البصيرة، وكما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين التي في الرأس، فالبصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب. قال تعالى: * (بل الإنسان على نفسه بصيرة) * (القيامة: 14) أي له من نفسه معرفة تامة، وأراد بقوله: * (قد جاءكم بصائر من ربكم) * الآيات المتقدمة، وهي في أنفسها ليست بصائر إلا أنها لقوتها وجلالتها توجب البصائر لمن عرفها، ووقف على حقائقها، فلما كانت هذه الآيات أسبابا لحصول البصائر. سميت هذه الآيات أنفسها بالبصائر، والمقصود من هذه الآية بيان ما يتعلق بالرسول وما لا يتعلق به.
133

أما القسم الأول: وهو الذي يتعلق بالرسول، فهو الدعوة إلى الدين الحق، وتبليغ الدلالة والبينات فيها، وهو أنه عليه السلام ما قصر في تبليغها وإيضاحها وإزالة الشبهات عنها، وهو المراد من قوله: * (قد جاءكم بصائر من ربكم) *.
وأما القسم الثاني: وهو الذي لا يتعلق بالرسول، فإقدامهم على الإيمان وترك الكفر، فإن هذا لا يتعلق بالرسول، بل يتعلق باختيارهم، ونفعه وضره عائد إليهم، والمعنى من أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر، وإياها نفع، ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر بالعمى * (وما أنا عليكم بحفيظ) * احفظ أعمالكم وأجازيكم عليها
. إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم.
المسألة الثانية: في أحكام هذه الآية، وهي أربعة ذكرها القاضي: فالأول: الغرض بهذه البصائر أن ينتفع بها اختيارا استحق بها الثواب لا أن يحمل عليها أو يلجأ إليها، لأن ذلك يبطل هذا الغرض. والثاني: أنه تعالى إنما دلنا وبين لنا منافع، وأغراض المنافع تعود إلينا لا لمنافع تعود إلى الله تعالى. والثالث: أن المرء بعدوله عن النظر والتدبر يضر بنفسه، ولم يؤت إلا من قبله لا من قبل ربه. والرابع: أنه متمكن من الأمرين، فلذلك قال: * (فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها) * قال: وفيه إبطال قول المجبرة في المخلوق، وفي أنه تعالى يكلف بلا قدرة.
واعلم أنه متى شرعت المعتزلة في الحكمة والفلسفة والأمر والنهي، فلا طريق فيه إلا معارضته بسؤال الداعي فإنه يهدم كل ما يذكرونه.
المسألة الثالثة: المراد من الإبصار ههنا العلم، ومن العمي الجهل، ونظيره قوله تعال: * (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) * (الحج: 46).
المسألة الرابعة: قال المفسرون قوله: * (فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها) * معناه لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم والوكيل. قالوا: وهذا إنما كان قبل الأمر بالقتال، فلما أمر بالقتال صار حفيظا عليهم، ومنهم من يقول آية القتال ناسخة لهذه الآية، وهو بعيد فكأن هؤلاء المفسرين مشغوفون بتكثير النسخ من غير حاجة إليه، والحق ما تقرره أصحاب أصول الفقه إن الأصل عدم النسخ، فوجب السعي في تقليله بقدر الإمكان.
* (وكذلك نصرف الايات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الإلهيات إلى هذا الموضع شرع من هذا الموضع في إثبات
134

النبوات فبدأ تعالى بحكاية شبهات المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فالشبهة الأولى: قولهم يا محمد إن هذا القرآن الذي جئتنا به كلام تستفيده من مدارسة العلماء ومباحثة الفضلاء، وتنظمه من عند نفسك، ثم تقرأه علينا، وتزعم أنه وحي نزل عليك من الله تعالى، ثم إنه تعالى أجاب عنه بالوجوه الكثيرة، فهذا تقرير النظم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المراد من قوله: * (وكذلك نصرف الآيات) * يعني أنه تعالى يأتي بها متواترة حالا بعد حال، ثم قال: * (وليقولوا درست) * وفيه مباحث:
البحث الأول: حكى الواحدي: في قوله درس الكتاب قولين: الأول: قال الأصمعي أصله من قولهم: درس الطعام إذا داسه، يدرسه دراسا والدراس الدياس بلغة أهل الشام قال: ودرس الكلام من هذا أي يدرسه فيخف على لسانه. والثاني: قال أبو الهيثم درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه، من قولهم درست الثوب أدرسه درسا فهو مدروس ودريس، أي أخلقته، ومنه قيل للثوب الخلق دريس لأنه قد لان، والدراسة الرياضة، ومنه درست السورة حتى حفظتها، ثم قال الواحدي: وهذا القول قريب مما قاله الأصمعي بل هو نفسه لأن المعنى يعود فيه إلى الدليل والتليين.
البحث الثاني: قرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست بالألف ونصب التاء، وهو قراءة ابن عباس ومجاهد وتفسيرها قرأت على اليهود وقرؤا عليك، وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة، ويقوى هذه القراءة قوله تعالى: * (إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون) * (الفرقان: 4) وقرأ ابن عامر * (درست) * أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا قديمة قد درست وانمحت، ومضت من الدرس الذي هو تعفى الأثر وإمحاء الرسم، قال الأزهري من قرأ * (درست) * فمعناه تقادمت أي هذا الذي تتلوه علينا قد تقادم وتطاول وهو من قولهم درس الأثر يدرس دروسا.
واعلم أن صاحب " الكشاف " روى ههنا قراآت أخرى: فإحداها: * (درست) * بضم الراء مبالغة في * (درست) * أي اشتد دروسها. وثانيها: * (درست) * على البناء للمفعول بمعنى قدمت وعفت. وثالثها: * (دارست) * وفسروها بدارست اليهود محمدا. ورابعها: * (درس) * أي درس محمد. وخامسها: * (دارسات) * على معنى هي دارسات أي قديمات أو ذات درس كعيشة راضية.
البحث الثالث: " الواو " في قوله: * (وليقولوا) * عطف على مضمر والتقدير وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا فحذف المعطوف عليه لوضوح معناه.
135

البحث الرابع: اعلم أنه تعالى قال: * (وكذلك نصرف الآيات) * ثم ذكر الوجه الذي لأجله صرف هذه الآيات وهو أمران: أحدهما قوله تعالى: * (وليقولوا دارست) * والثاني قوله: * (ولنبينه لقوم يعلمون) * أما هذا الوجه الثاني فلا إشكال فيه لأنه تعالى بين أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والفهم والعلم. وإنما الكلام في الوجه الأول وهو قوله: * (وليقولوا دارست) * لأن قولهم للرسول دارست كفر منهم بالقرآن والرسول، وعند هذا الكلام عاد بحث مسألة الجبر والقدر. فأما أصحابنا فإنهم أجروا الكلام على ظاهره فقالوا معناه إنا ذكرنا هذه الدلائل حالا بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزداد كفرا على كفر، وتثبيتا لبعضهم فيزداد إيمانا على إيمان، ونظيره قوله تعالى: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) * (البقرة: 26) وقوله: * (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * (التوبة: 125) وأما المعتزلة فقد تحيروا. قال الجبائي والقاضي: وليس فيه إلا أحد وجهين: الأول: أن يحمل هذا الإثبات على النفي، والتقدير: وكذلك نصرف الآيات لئلا يقولوا درست. ونظيره قوله تعالى: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * ومعناه: لئلا تضلوا. والثاني: أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة. والتقدير: أن عاقبة أمرهم عند تصريفنا هذه الآيات أن يقولوا هذا القول مستندين إلى اختيارهم، عادلين عما يلزم من النظر في هذه الدلائل. هذا غاية كلام القوم في هذا الباب.
ولقائل أن يقول: أما الجواب الأول فضعيف من وجهين: الأول: أن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وتغيير له، وفتح هذا الباب يوجب أن لا يبقى وثوق لا
بنفيه ولا بإثباته، وذلك يخرجه عن كونه حجة وأنه باطل. والثاني: أن بتقدير أن يجوز هذا النوع من التصرف في الجملة، إلا أنه غير لائق البتة بهذا الموضع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يظهر آيات القرآن نجما نجما، والكفار كانوا يقولون: إن محمدا يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض ويتفكر فيها ويصلحها آية فآية ثم يظهرها، ولو كان هذا بوحي نازل إليه من السماء، فلم لا يأتي بهذا القرآن دفعة واحدة؟ كما أن موسى عليه السلام أتى بالتوراة دفعة واحدة.
إذا عرفت هذا فنقول: إن تصريف هذه الآيات حالا فحالا هي التي أوقعت الشبهة للقوم في أن محمدا صلى الله عليه وسلم، إنما يأتي بهذا القرآن على سبيل المدارسة مع التفكر والمذاكرة مع أقوام آخرين وعلى ما يقول الجبائي والقاضي فإنه يقتضي أن يكون تصريف هذه الآيات حالا بعد حال يوجب أن يمتنعوا من القول بأن محمدا عليه الصلاة والسلام إنما أتى بهذا القرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة. فثبت أن الجواب الذي ذكره إنما يصح لو جعلنا تصريف الآيات علة لأن يمتنعوا من ذلك القول، مع أنا بينا أن تصريف الآيات، هو الموجب لذلك القول فسقط هذا الكلام.
136

وأما الجواب الثاني: وهو حمل اللام على لام العاقبة، فهو أيضا بعيد لأن حمل هذه اللام على لام العاقبة مجاز، وحمله على لام الغرض حقيقة، والحقيقة أقوى من المجاز فلو قلنا: " اللام " في قوله: * (وليقولوا درست) * لام العاقبة في قوله: * (ولنبينه لقوم يعلمون) * للحقيقة فقد حصل تقديم المجاز على الحقيقة في الذكر وأنه لا يجوز. فثبت بما ذكرنا ضعف هذين الجوابين وأن الحق ما ذكرنا أن المراد منه عين المذكور في قوله تعالى: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) * ومما يؤكد هذا التأويل قوله: * (ولنبينه لقوم يعلمون) * يعني أنا ما بيناه إلا لهؤلاء، فأما الذين لا يعلمون فما بينا هذه الآيات لهم، ولما دل هذا على أنه تعالى ما جعله بيانا إلا للمؤمنين ثبت أنه جعله ضلالا للكافرين وذلك ما قلنا. والله أعلم.
* (اتبع مآ أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين * ولو شآء الله مآ أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا ومآ أنت عليهم بوكيل) *.
قوله تعالى: * (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم ينسبونه في إظهار هذا القرآن إلى الافتراء أو إلى أنه يدارس أقواما ويستفيد هذه العلوم منهم ثم ينظمها قرآنا ويدعي أنه نزل عليه من الله تعالى، أتبعه بقوله: * (اتبع ما أوحي إليك من ربك) * لئلا يصير ذلك القول سببا لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة، والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي حصل بسبب سماع تلك الشبهة، ونبه بقوله: * (لا إله إلا هو) * على أنه تعالى لما كان واحدا في الإلهية فإنه يجب طاعته، ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين.
وأما قوله: * (وأعرض عن المشركين) * فقيل: المراد ترك المقابلة، فلذلك قالوا إنه منسوخ، وهذا ضعيف لأن الأمر بترك المقابلة في الحال لا يفيد الأمر بتركها دائما، وإذا كان الأمر كذلك لم يجب التزام النسخ. وقيل المراد ترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه، وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغليظ.
قوله تعالى: * (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل) *.
137

اعلم أن هذا الكلام أيضا متعلق بقولهم للرسول عليه السلام إنما جمعت هذا القرآن من مدارسة الناس ومذاكرتهم، فكأنه تعالى يقول له لا تلتفت إلى سفاهات هؤلاء الكفار، ولا يثقلن عليك كفرهم، فإني لو أردت إزالة الكفر عنهم لقدرت، ولكني تركتهم مع كفرهم، فلا ينبغي أن تشغل قلبك بكلماتهم.
واعلم أن أصحابنا تمسكوا بقوله تعالى: * (ولو شاء الله ما أشركوا) * والمعنى: ولو شاء الله أن لا يشركوا ما أشركوا، وحيث لم يحصل الجزاء علمنا أنه لم يحصل الشرط، فعلمنا أن مشيئة الله تعالى بعدم إشراكهم غير حاصلة. قالت المعتزلة: ثبت بالدليل أنه تعالى أراد من الكل الإيمان، وما شاء من أحد الكفر والشرك، وهذه الآية تقتضي أنه تعالى ما شاء من الكل الإيمان، فوجب التوفيق بين الدليلين فيحمل مشيئة الله تعالى لإيمانهم على مشيئة الإيمان الاختياري الموجب للثواب والثناء ويحمل عدم مشيئته لإيمانهم على الإيمان الحاصل بالقهر والجبر وللإلجاء. يعني أنه تعالى ما شاء منهم أن يحملهم على الإيمان على سبيل القهر والإلجاء، لأن ذلك يبطل التكليف ويخرج الإنسان عن استحقاق الثواب. هذا ما عول القوم عليه في هذا الباب، وهو في غاية الضعف ويدل عليه وجوه: الأول: لا شك أنه تعالى هو الذي أقدر الكافر على الكفر فقدرة الكفر إن لم تصلح للإيمان فخالق تلك القدرة لا شك أنه كان مريدا للكفر، وإن كانت صالحة للإيمان لم يترجح جانب الكفر على جانب الإيمان إلا عند حصول داع يدعوه إلى الإيمان، وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال، ومجموع القدرة مع الداعي إلى الكفر يوجب الكفر، وإذا كان خالق القدرة والداعي هو الله تعالى، وثبت أن مجموعهما يوجب الكفر. ثبت أنه تعالى قد أراد الكفر من الكافر. الثاني: في تقرير هذا الكلام أن نقول: إنه تعالى كان عالما بعدم الإيمان من الكافر، ووجود الإيمان مع العلم بعدم الإيمان متضادان ومع وجود أحد الضدين كان حصول الضد الثاني محالا، والمحال مع العلم بكونه محالا غير مراد، فامتنع أن يقال إنه تعالى يريد الإيمان من الكافر. الثالث: هب أن الإيمان الاختياري أفضل وأنفع من الإيمان الحاصل بالجبر والقهر إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك الأنفع لا يحصل البتة، فقد كان يجب في حكمته ورحمته أن يحلق فيه الإيمان على سبيل الإلجاء، لأن هذا الإيمان وإن كان لا يوجب الثواب العظيم، فأقل ما فيه أن يخلصه من العقاب العظيم، فترك إيجاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلجاء يوجب وقوعه في أشد العذاب، وذلك لا يليق بالرحمة والإحسان ومثاله أن من كان له ولد عزيز وكان هذا الأب في غاية الشفقة وكان هذا الولد واقفا على طرف البحر فيقول الوالد له: غص في
138

قعر هذا البحر لتستخرج اللآلي العظيمة الرفيعة العالية منه، وعلم الوالد قطعا أنه إذا غاص في البحر هلك وغرق، فهذا الأب إن كان ناظرا في حقه مشفقا عليه وجب عليه أن يمنعه من الغوص في قعر البحر ويقول له: اترك طلب تلك اللآلي فإنك لا تحدها وتهلك، ولكن الأولى لك أن تكتفي بالرزق القليل مع السلامة، فأما أن يأمره
بالغوص في قعر البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فهذا يدل على عدم الرحمة وعلى السعي في الإهلاك فكذا ههنا والله أعلم.
واعلم أنه تعالى لما بين أنه لا قدرة لأحد على إزالة الكفر عنهم ختم الكلام بما يكمل معه تبصير الرسول عليه السلام، وذلك أنه تعالى بين له قدر ما جعل إليه فذكر أنه تعالى ما جعله عليهم حفيظا ولا وكيلا على سبيل المنع لهم، وإنما فوض إليه البلاغ بالأمر والنهي في العمل والعلم وفي البيان بذكر الدلائل والتنبيه عليها فإن انقادوا للقبول فنفعه عائد إليه، وإلا فضرره عائد عليهم وعلى التقديرين فلا يخرج صلى الله عليه وسلم من الرسالة والنبوة والتبليغ.
قوله تعالى
* (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) *.
اعلم أن هذا الكلام أيضا متعلق بقولهم للرسول عليه السلام: إنما جمعت هذا القرآن من مدارسة الناس ومذاكرتهم، فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين إذا سمعوا ذلك الكلام من الكفار غضبوا وشتموا آلهتهم على سبيل المعارضة، فنهى الله تعالى عن هذا العمل، لأنك متى شتمت آلهتهم غضبوا فربما ذكروا الله تعالى بما لا ينبغي من القول، فلأجل الاحتراز عن هذا المحذور وجب الاحتراز عن ذلك المقال، وبالجملة فهو تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والسفاهة وذلك لا يليق بالعقلاء، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب نزول الآية وجوها: الأول: قال ابن عباس: لما نزل * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * (الأنبياء: 98) قال المشركون: لئن لم تنته عن سب آلهتنا وشتمها لنهجون إلهك فنزلت هذه الآية، أقول: لي ههنا إشكالان: الأول: أن الناس اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة فكيف يمكن أن يقال: إن سبب نزول هذه الآية كذا وكذا. الثاني: أن
139

الكفار كانوا مقرين بالإله تعالى وكانوا يقولون: إنما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند الله تعالى، وإذا كان كذلك، فكيف يعقل إقدامهم على شتم الله تعالى وسبه.
والقول الثاني: في سبب نزول هذه الآية. قال السدي: لما قربت وفاة أبي طالب قالت قريش: ندخل عليه ونطلب منه أن ينهى ابن أخيه عنا فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر الحرث مع جماعة إليه وقالوا له: أنت كبيرنا وخاطبوه بما أرادوا. فدعا محمدا عليه الصلاة والسلام وقال: هؤلاء قومك وبنو عمك يطلبون منك أن تتركهم على دينهم، وأن يتركوك على دينك فقال عليه الصلاة والسلام: " قولوا لا إله إلا الله " فأبوا فقال أبو طالب: قل غير هذه الكلمة فإن قومك يكرهونها. فقال عليه الصلاة والسلام: " ما أنا بالذي أقول غيرها حتى تأتوني بالشمس فتضعوها في يدي فقالوا له اترك شتم آلهتنا وإلا شتمناك، ومن يأمرك بذلك فذلك قوله تعالى: * (فيسبوا الله عدوا بغير علم) *.
واعلم أنا قد دللنا على أن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فاستحال إقدامهم على شتم الإله بل ههنا احتمالات: أحدها: أنه ربما كان بعضهم قائلا بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي بهذا النوع من السفاهة. وثانيها: أن الصحابة متى شتموا الأصنام فهم كانوا يشتمون الرسول عليه الصلاة والسلام فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى شتم الله تعالى كما في قوله: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) * (الفتح: 10) وكقوله: * (إن الذين يؤذون الله) * (الأحزاب: 57) وثالثها: أنه ربما كان في جهالهم من كان يعتقد أن شيطانا يحمله على ادعاء النبوة والرسالة، ثم إنه لجهله كان يسمي ذلك الشيطان بأنه إله محمد عليه الصلاة والسلام فكان يشتم إله محمد بناء على هذا التأويل.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إن شتم الأصنام من أصول الطاعات، فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنها.
والجواب: أن هذا الشتم، وإن كان طاعة. إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم وجود منكر عظيم، وجب الاحتراز منه، والأمر ههنا كذلك، لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله وشتم رسوله، وعلى فتح باب السفاهة، وعلى تنفيرهم عن قبول الدين، وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم، فلكونه مستلزما لهذه المنكرات، وقع النهي عنه.
المسألة الثالثة: قرأ الحسن: * (فيسبوا الله عدوا) * بضم العين وتشديد الواو، ويقال: عدا فلان عدوا وعدوا وعدوانا وعدا. أي ظلم ظلما جاوز القدر. قال الزجاج: وعدوا منصوب على المصدر، لأن المعنى فيعدوا عدوا. قال: ويجوز أن يكون بإرادة اللام، والمعنى: فينسبوا الله للظلم.
140

المسألة الرابعة: قال الجبائي: دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يفعل بالكفار ما يزدادون به بعدا عن الحق ونفورا. إذ لو جاز أن يفعله لجاز أن يأمر به، وكان لا ينهى عما ذكرنا، وكان لا يأمر بالرفق بهم عند الدعاء. كقوله لموسى وهارون: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) وذلك يبين بطلان مذهب المجبرة.
المسألة الخامسة: قالوا هذه الآية تدل على أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر، وغلبة الظن قائمة مقام العلم في هذا الباب وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين، لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب، لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها. وأما قوله تعالى: * (كذلك زينا لكل أمة عملهم) * فاحتج أصحابنا بهذا على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر، وللمؤمن الإيمان، وللعاصي المعصية، وللمطيع الطاعة. قال الكعبي: حمل الآية على هذا المعنى محال، لأنه تعالى هو الذي يقول: * (الشيطان سول لهم) * (محمد: 25) ويقول: * (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) * (البقرة: 257) ثم إن القوم ذكروا في الجواب وجوها: الأول: قال الجبائي:
المراد زينا لكل أمة تقدمت ما أمرناهم به من قبول الحق والكعبي أيضا ذكر عين هذا الجواب فقال: المراد أنه تعالى زين لهم ما ينبغي أن يعملوا وهم لا ينتهون. الثاني: قال آخرون: المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار سوء عملهم، أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم. والثالث: أمهلنا الشيطان حتى زين لهم، والرابع: زيناه في زعمهم وقولهم: إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا. هذا مجموع التأويلات المذكورة في هذه الآية والكل ضعيف وذلك لأن الدليل العقلي القاطع دل على صحة ما أشعر به ظاهر هذا النص، وذلك لأنا بينا غير مرة أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على حصول الداعي. وبينا أن تلك الداعية لا بد وأن تكون بخلق الله تعالى، ولا معنى لتلك الداعية إلا علمه واعتقاده أو ظنه باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد، ومصلحة راجحة، وإذا كانت تلك الداعية حصلت بفعل الله تعالى، وتلك الداعية لا معنى لها إلا كونه معتقدا لاشتمال ذلك الفعل على النفع الزائد، والمصلحة الراجحة.
ثبت أنه يمتنع أن يصدر عن العبد فعل، ولا قول ولا حركة ولا سكون، إلا إذا زين الله تعالى ذلك الفعل في قلبه وضميره واعتقاده، وأيضا الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفرا وجهلا، والعلم بذلك ضروري بل إنما يختاره لاعتقاده كونه إيمانا وعلما وصدقا وحقا فلولا سابقة الجهل الأول لما اختار هذا الجهل. الثاني: ثم إنا ننقل الكلام إلى أنه لم اختار ذلك
141

الجهل السابق، فإن كان ذلك لسابقة جهل آخر فقد لزم أن يستمر ذلك إلى ما لا نهاية له من الجهالات وذلك محال، ولما كان ذلك باطلا وجب انتهاء تلك الجهالات إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه ابتداء، وهو بسبب ذلك الجهل ظن في الكفر كونه إيمانا وحقا وعلما وصدقا، فثبت أنه يستحيل من الكافر اختيار الجهل والكفر إلا إذا زين الله تعالى ذلك الجهل في قلبه، فثبت بهذين البرهانين القاطعين القطعيين أن الذي يدل عليه ظاهر هذه الآية هو الحق الذي لا محيد عنه، وإذا كان الأمر كذلك، فقد بطلت التأويلات المذكورة بأسرها، لأن المصير إلى التأويل إنما يكون عند تعذر حمل الكلام على ظاهره. أما لما قام الدليل على أنه لا يمكن العدول عن الظاهر، فقد سقطت هذه التكليفات بأسرها والله أعلم. وأيضا فقوله تعالى: * (كذلك زينا لكل أمة عملهم) * بعد قوله: * (فيسبوا الله عدوا بغير علم) * مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى. فأما أن يحمل ذلك على أنه تعالى زين الأعمال الصالحة في قلوب الأمم، فهذا كلام منقطع عما قبله، وأيضا فقوله: * (كذلك زينا لكل أمة عملهم) * يتناول الأمم الكافرة والمؤمنة، فتخصيص هذا الكلام بالأمة المؤمنة ترك لظاهر العموم، وأما سائر التأويلات، فقد ذكرها صاحب " الكشاف ": وسقوطها لا يخفى، والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) * فالمقصود منه أن أمرهم مفوض إلى الله تعالى، وإن الله تعالى عالم بأحوالهم. مطلع على ضمائرهم. ورجوعهم يوم القيامة إلى الله فيجازي كل أحد بمقتضى عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
قوله تعالى
* (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءتهم ءاية ليؤمنن بها قل إنما الايات عند الله وما يشعركم أنهآ إذا جآءت لا يؤمنون) *.
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار شبهة توجب الطعن في نبوته، وهي قولهم إن هذا القرآن إنما جئتنا به لأنك تدارس العلماء، وتباحث الأقوام الذين عرفوا التوارة والإنجيل. ثم تجمع هذه السور وهذه الآيات بهذا الطريق. ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بما سبق، وهذه الآية مشتملة على شبهة أخرى وهي قولهم له إن هذا القرآن كيفما كان أمره، فليس من جنس المعجزات البتة، ولو
142

أنك يا محمد جئتنا بمعجزة قاهرة وبينة ظاهرة لآمنا بك، وحلفوا على ذلك وبالغوا في تأكيد ذلك الحلف، فالمقصود من هذه الآية تقرير هذه الشبهة. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضوعة لتوكيد الخبر الذي يخبر به الإنسان: إما مثبتا للشيء، وإما نافيا. ولما كان الخبر يدخله الصدق والكذب احتاج المخبر إلى طريق به يتوسل إلى ترجيح جانب الصدق على جانب الكذب، وذلك هو الحلف ولما كانت الحاجة إلى ذكر الحلف، إنما تحصل عند انقسام الناس عند سماع ذلك الخبر إلى مصدق به ومكذب به. سموا الحلف بالقسم، وبنوا تلك الصيغة على - أفعل - فقالوا: أقسم فلان يقسم إقساما: وأرادوا أنه أكد القسم الذي اختاره وأحال الصدق إلى القسم الذي اختاره بواسطة الحلف واليمين.
المسألة الثانية: ذكروا في سبب النزول وجوها: الأول: قالوا لما نزل قوله تعالى: * (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) * (الشعراء: 4) أقسم المشركون بالله لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها فنزلت هذه الآية. الثاني: قال محمد بن كعب القرظي: إن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: تخبرنا أن موسى ضرب الحجر بالعصا فانفجر الماء، وأن عيسى أحيا الميت، وأن صالحا أخرج الناقة من الجبل، فأتنا أيضا أنت بآية لنصدقك فقال عليه الصلاة والسلام: " ما الذي تحبون " فقالوا: أن تجعل لنا الصفا ذهبا، وحلفوا لئن فعل ليتبعونه أجمعون، فقام عليه الصلاة والسلام يدعو، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت كان ذلك، ولئن كان فلم يصدقوا عنده، ليعذبنهم، وإن تركوا تاب على بعضهم. فقال صلى الله عليه وسلم: " بل يتوب على بعضهم " فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المسألة الثالثة: ذكروا في تفسير قوله: * (جهد أيمانهم) * وجوها: قال الكلبي ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه. وقال الزجاج: بالغوا في الأيمان وقوله: * (لئن جاءتهم آية) * اختلفوا في المراد بهذه الآية. فقيل: ما روينا من جعل الصفا ذهبا، وقيل: هي الأشياء المذكورة في قوله تعالى: * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90) وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين الذين كذبوا أنبياءهم فالمشركون طلبوا مثلها.
وقوله: * (قل إنما الآيات عند الله) * ذكروا في تفسير لفظة * (عند) * وجوها، فيحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى هو المختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات دون
غيره لأن المعجزات الدالة على النبوات شرطها أن لا يقدر على تحصيلها أحد إلا الله سبحانه وتعالى؛ ويحتمل أن يكون المراد
143

بالعندية أن العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي إقدام هؤلاء الكفار على الإيمان أم لا ليس إلا عند الله؟ ولفظ العندية بهذا المعنى كما في قوله: * (وعنده مفاتح الغيب) * ويحتمل أن يكون المراد أنها وإن كانت في الحال معدومة؛ إلا أنه تعالى متى شاء إحداثها أحدثها، فهي جارية مجرى الأشياء الموضوعة عند الله يظهرها متى شاء، وليس لكم أن تتحكموا في طلبها ولفظ * (عند) * بهذا المعنى هنا كما في قوله: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) * (الحجر: 21).
ثم قال تعالى: * (وما يشعركم) * قال أبو علي " ما " استفهام وفاعل يشعركم ضمير " ما " والمعنى: وما يدريكم إيمانهم؟ فحذف المفعول، وحذف المفعول كثير. والتقدير: وما يدريكم إيمانهم، أي بتقدير أن تجيئهم هذه الآيات فهم لا يؤمنون. وقوله: * (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) * قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (إنها) * بكسر الهمزة على الاستئناف وهي القراءة الجيدة. والتقدير: أن الكلام تم عند قوله: * (وما يشعركم) * أي وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال: * (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) * قال سيبويه: سألت الخليل عن القراءة بفتح الهمزة في أن وقلت لم لا يجوز أن يكون التقدير ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال الخليل: إنه لا يحسن ذلك ههنا لأنه لو قال: * (وما يشعركم أنها) * بالفتح لصار ذلك عذرا لهم، هذا كلام الخليل. وتفسيره إنما يظهر بالمثال فإذا اتخذت ضيافة وطلبت من رئيس البلد أن يحضر فلم يحضر، فقيل لك لو ذهبت أنت بنفسك إليه لحضر، فإذا قلت: وما يشعركم أني لو ذهبت إليه لحضر كان المعنى: أني لو ذهبت إليه بنفسي فإنه لا يحضر أيضا فكذا ههنا قوله: * (وما يشعركم إنها إذا جاءت لا يؤمنون) * معناه أنها إذا جاءت آمنوا. وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذرا للكفار في طلب الآيات، والمقصود من الآية دفع حجتهم في طلب الآيات، فهذا تقرير كلام الخليل وقرأ الباقون من القراء * (أنها) * بالفتح وفي تفسيره وجوه: الأول: قال الخليل: * (أن) * بمعنى لعل تقول العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا أي لعلك، فكأنه تعالى قال لعلها إذا جاءت لا يؤمنون قال الواحدي: * (أن) * بمعنى لعل كثير في كلامهم قال الشاعر: أريني جوادا مات هولا لأنني * أرى ما تريني أو بخيلا مخلدا
وقال آخر: هل أنتم عاجلون بنا لأنا * نرى العرصات أو أثر الخيام
وقال عدي بن حاتم: أعاذل ما يدريك أن منيتي * إلى ساعة في اليوم أوفي ضحى الغد
وقال الواحدي: وفسر علي - لعل منيتي - روى صاحب " الكشاف " أيضا في هذا المعنى قول امرئ القيس:
عوجا على الطلل المحيل لأننا * نبكي الديار كما بكى ابن خذام
144

قال صاحب " الكشاف " ويقوي هذا الوجه قراءة أبي * (لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون) *.
الوجه الثاني: في هذه القراءة أن تجعل * (لا) * صلة ومثله * (ما منعك ألا تسجد) * (الأعراف: 12) معناه أن تسجد وكذلك قوله: * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) * (الأنبياء: 95) أي يرجعون فكذا ههنا التقدير وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون والمعنى: أنها لو جاءت لم يؤمنوا قال الزجاج، وهذا الوجه ضعيف لأن ما كان لغوا يكون لغوا على جميع التقديرات ومن قرأ * (إنها) * بالكسر فكلمة * (لا) * في هذه القراءة ليست بلغو فثبت أنه لا يجوز جعل هذا اللفظ لغوا. قال أبو علي الفارسي: لم لا يجوز أن يكون لغوا على أحد التقديرين ويكون مفيدا على التقدير الثاني؟ واختلف القراء أيضا في قوله: * (لا يؤمنون) * فقرأ بعضهم بالياء وهو الوجه لأن قوله: * (وأقسموا بالله) * إنما يراد به قوم مخصوصون، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) * وليس كل الناس بهذا الوصف، والمعنى وما يشعركم أيها المؤمنون لعلهم إذا جاءتهم الآية التي اقترحوها لم يؤمنوا فالوجه الياء وقرأ حمزة وابن عامر بالتاء وهو على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب، والمراد بالمخاطبين في * (تؤمنون) * هم الغائبون المقسمون الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون، وذهب مجاهد وابن زيد إلى أن الخطاب في قوله: * (وما يشعركم) * للكفار الذين أقسموا. قال مجاهد: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت، وهذا يقوي قراءة من قرأ * (تؤمنون) * بالتاء. على ما ذكرنا أولا: الخطاب في قوله: * (وما يشعركم) * للكفار الذين أقسموا. وعلى ما ذكرنا ثانيا: الخطاب في قوله: * (وما يشعركم) * للمؤمنين، وذلك لأنهم تمنوا نزول الآية ليؤمن المشركون وهو الوجه كأنه قيل للمؤمنين تتمنون ذلك وما يدريكم أنهم يؤمنون؟
المسألة الرابعة: حاصل الكلام أن القوم طلبوا من الرسول معجزات قوية وحلفوا أنها لو ظهرت لآمنوا، فبين الله تعالى أنهم وإن حلفوا على ذلك، إلا أنه تعالى عالم بأنها لو ظهرت لم يؤمنوا، وإذا كان الأمر كذلك لم يجب في الحكمة إجابتهم إلى هذا المطلوب. قال الجبائي والقاضي: هذه الآية تدل على أحكام كثيرة متعلقة بنصرة الاعتزال. الحكم الأول
أنها تدل على أنه لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده لفعله لا محالة، إذ لو جاز أن لا يفعله لم يكن لهذا الجواب فائدة، لأنه إذا كان تعالى لا يجيبهم إلى مطلوبهم سواء آمنوا أو لم يؤمنوا لم يكن تعليق ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون عنده منتظما مستقيما، فهذه الآية تدل على أنه تعالى يجب عليه أن يفعل كل ما هو في مقدوره من الألطاف والحكمة.
145

الحكم الثاني
أن هذا الكلام إنما يستقيم لو كان لإظهار هذه المعجزات أثر في حملهم على الإيمان، وعلى قول المجبرة ذلك باطل، لأن عندهم الإيمان إنما يحصل بخلق الله تعالى، فإذا خلقه حصل، وإذا لم يخلقه لم يحصل، فلم يكن لفعل الإلطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات.
وأقول هذا الذي قاله القاضي غير لازم. أما الأول: فلأن القوم قالوا: لو جئتنا يا محمد بآية لآمنا بك، فهذا الكلام في الحقيقة مشتمل على مقدمتين: إحداهما: أنك لو
جئتنا بهذه المعجزات لآمنا بك. والثانية: أنه متى كان الأمر كذلك وجب عليك أن تأتينا بها، والله تعالى كذبهم في المقام الأول، وبين أنه تعالى وإن أظهرها لهم فهم لا يؤمنون، ولم يتعرض البتة للمقام الثاني، ولكنه في الحقيقة باق.
فإن لقائل أن يقول: هب أنهم لا يؤمنون عند إظهار تلك المعجزات، فلم لم يجب على الله تعالى إظهارها؟ اللهم إلا إذا ثبت قبل هذا البحث أن اللطف واجب على الله تعالى، فحينئذ يحصل هذا المطلوب من هذه الآية، إلا أن القاضي جعل هذه الآية دليلا على وجوب اللطف، فثبت أن كلامه ضعيف.
وأما البحث الثاني: وهو قوله: إذا كان الكل بخلق الله تعالى لم يكن لهذه الألطاف أثر فيه، فنقول: الذي نقول به أن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي والعلم بحصول هذا اللطف أحد أجزاء الداعي وعلى هذا التقدير. فيكون لهذا اللطف أثر في حصول الفعل.
قوله تعالى
* (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم فى طغيانهم يعمهون) *.
هذا أيضا من الآيات الدالة على قولنا: إن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره، والتقلب والقلب واحد، وهو تحويل الشيء عن وجهه، ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار: هو أنه إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها وعرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول، إلا أنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات، والمقصود من هذه الآية تقرير ما ذكرناه في الآية الأولى من أن تلك الآيات القاهرة لو جاءتهم لما آمنوا بها ولما انتفعوا بظهورها البتة.
146

أجاب الجبائي عنه بأن قال: المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يأمنوا به أول مرة في دار الدنيا.
وأجاب الكعبي عنه: بأن المراد من قوله: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * بأنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم.
وأجاب القاضي: بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي قد ظهرت، فلا تجدهم يؤمنون بها آخرا كما لم يؤمنوا بها أولا.
واعلم أن كل هذه الوجوه في غاية الضعف، وليس لأحد أن يعيبنا، فيقول: إنكم تكررون هذه الوجوه في كل موضع، فإنا نقول: إن هؤلاء المعتزلة لهم وجوه معدودة في تأويلات آيات الجزاء، فهم يكررونها في كل آية، فنحن أيضا نكرر الجواب عنها في كل آية، فنقول: قد بينا أن القدرة الأصلية صالحة للضدين وللطرفين على السوية. فإذا لم ينضم على تلك القدرة داعية مرجحة امتنع حصول الرجحان، فإذا انضمت الداعية المرجحة إما إلى جانب الفعل أو إلى جانب الترك ظهر الرجحان، وتلك الداعية ليست إلا من الله تعالى قطعا للتسلسل. وقد ظهر صحة هذه المقدمات بالدلائل القاطعة اليقينية التي لا يشك فيها العاقل. وهذا هو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء " فالقلب كالموقوف بين داعية الفعل وبين داعية الترك، فإن حصل في القلب داعي الفعل ترجح جانب الفعل، وإن حصل فيه داعي الترك ترجح جانب الترك، وهاتان الداعيتان لما كانتا لا تحصلان إلا بإيجاد الله وتخليقه وتكوينه، عبر عنهما بأصبعي الرحمن، والسبب في حسن هذه الاستعارة أن الشيء الذي يحصل بين أصبعي الإنسان يكون كامل القدرة عليه. فإن شاء أمسكه وإن شاء أسقطه، فههنا أيضا كذلك القلب واقف بين هاتين الداعيتين، وهاتان الداعيتان حاصلتان بخلق الله تعالى، والقلب مسخر لهاتين الداعيتين، فلهذا السبب حسنت هذه الاستعارة، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: " يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك " والمراد من قوله - مقلب القلوب - أن الله تعالى يقلبه تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس.
إذا عرفت هذه القاعدة فقوله تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * محمول على هذا المعنى الظاهر الجلي الذي يشهد بصحته كل طبع سليم وعقل مستقيم، فلا حاجة البتة إلى ما ذكروه من التأويلات المستكرهة. وإنما قدم الله تعالى ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار، لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب. فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر إليه شاء أم أبى، وإذا حصلت الصوارف في القلب انصرف
147

البصر عنه، فهو وإن كان يبصره في الظاهر. إلا أنه لا يصير ذلك الإبصار سببا للوقوف على الفوائد المطلوبة. وهذا هو المراد من قوله تعالى: * (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) * فلما كان المعدن هو القلب، وأما السمع والبصر فهما آلتان للقلب، كانا لا محالة تابعين لأحوال القلب. فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر تقليب القلوب في هذه الآية، ثم أتبعه بذكر تقليب البصر، وفي الآية الأخرى وقع الابتداء بذكر تحصيل الكنان في القلب ثم أتبعه بذكر السمع، فهذا هو الكلام القوي العقلي البرهاني الذي ينطبق عليه لفظ القرآن، فكيف يحسن مع ذلك حمل هذا اللفظ على التكلفات التي ذكروها؟ ولنرجع إلى ما يليق بتلك الكلمات الضعيفة فنقول: أما الوجه الذي ذكره الجبائي فمدفوع لأن الله تعالى قال: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * ثم عطف عليه فقال * (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) * ولا شك أن قوله: * (ونذرهم) * إنما يحصل في الدنيا، فلو قلنا: المراد من قوله: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * إنما يحصل في الآخرة، كان هذا سوأ للنظم في كلام الله تعالى حيث قدم المؤخر وأخر المقدم من غير فائدة، وأما الوجه الذي ذكره الكعبي فضعيف أيضا لأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر، فهو الذي أوقع نفسه ذلك ذلك الحرمان والخذلان فكيف تحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) *.
وأما الوجه الثاني الذي ذكره القاضي فبعيد أيضا لأن المراد من قوله: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * تقليب القلب من حالة إلى حالة ونقله من صفة إلى صفة. وعلى ما يقوله القاضي فليس الأمر كذلك بل القلب باق على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل، فثبت أن الوجوه التي ذكروها فاسدة باطلة بالكلية.
أما قوله تعالى: * (كما لم يؤمنوا به أول مرة) * فقال الواحدي فيه وجهان:
الوجه الأول: دخلت الكاف على محذوف تقديره فلا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات، والتقدير فلا يؤمنون في المرة الثانية من ظهور الآيات كما لم يؤمنوا به في المرة الأولى، وأما الكناية في * (به) * فيجوز أن تكون عائدة إلى القرآن أو إلى محمد عليه الصلاة والسلام، أو إلى ما طلبوا من الآيات.
الوجه الثاني: قال بعضهم: الكاف في قوله: * (كما لم يؤمنوا به) * بمعنى الجزاء، ومعنى الآية ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على تركهم الإيمان في المرة الأولى، يعني كما لم يؤمنوا به أول مرة، فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم في المرة الثانية، وعلى هذا الوجه فليس في الآية محذوف ولا حاجة فيها إلى الإضمار.
148

وأما قوله تعالى: * (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) * فالجبائي قال: * (ونذرهم) * أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ولا نمنعهم من ذلك بمعاجلة الهلاك وغيره، لكنا نمهلهم فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم، وهو يوجب تأكيد الحجة عليهم، وقال أصحابنا: معناه إنا نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان وفي ذلك الضلال والعمه. ولقائل أن يقول للجبائي: إنك تقول إن إله العالم ما أراد بعبيده إلا الخير والرحمة، فلم ترك هذا المسكين حتى عمه في طغيانه؟ ولم لا يخلصه عنه على سبيل الإلجاء والقهر؟ أقصى ما في الباب أنه إن فعل به ذلك لم يكن مستحقا للثواب فيفوته الاستحقاق فقط، ولكن يسلم من العقاب، أما إذا تركه في ذلك العمة مع علمه بأنه يموت عليه، فإنه لا يحصل استحقاق الثواب. ويحصل له العقاب العظيم الدائم، فالمفسدة الحاصلة عند خلق الإيمان فيه على سبيل الإلجاء مفسدة واحدة وهي فوت استحقاق الثواب، أما المفسدة الحاصلة عند إبقائه على ذلك العمة والطغيان حتى يموت عليه فهي فوت استحقاق الثواب مع استحقاق العقاب الشديد، والرحيم المحسن الناظر لعباده لا بد وأن يرجح الجانب الذي هو أكثر صلاحا وأقل فسادا، فعلمنا أن إبقاء ذلك الكافر في ذلك العمة والطغيان يقدح في أنه لا يريد به إلا الخير والإحسان.
قوله تعالى
* (ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شىء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشآء الله ولكن أكثرهم يجهلون) *.
اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية تفصيل ما ذكره على سبيل الإجمال بقوله: * (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) * فبين أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من إنزال الملائكة وإحياء الموتى حتى كلموهم بل لو زاد في ذلك ما لا يبلغه اقتراحهم بأن يحشر عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: المستهزئون بالقرآن كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب، والحرث بن حنظلة، ثم إنهم أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم في رهط من أهل مكة، وقالوا له أرنا الملائكة
149

يشهدوا بأنك رسول الله أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقوله أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا أي كفيلا على ما تدعيه، فنزلت هذه الآية، وقد ذكرنا مرارا أنهم لما اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة كان القول بأن هذه الآية نزلت في الواقعة الفلانية مشكلا صعبا، فأما على الوجه الذي قررناه وهو أن المقصود منه جواب ما ذكره بعضهم وهو أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لو جاءتهم آية لآمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فذكر الله تعالى هذا الكلام بيانا لكذبهم، وأنه لا فائدة في إنزال الآيات بعد الآيات وإظهار المعجزات بعد المعجزات، بل المعجزة الواحدة لا بد منها ليتميز الصادق عن الكاذب، فأما الزيادة عليها فتحكم محض ولا حاجة إليه وإلا فلهم أن يطلبوا بعد ظهور المعجزة الثانية ثالثة، وبعد الثالثة رابعة، ويلزم أن لا تستقر الحجة وأن لا ينتهي الأمر إلى مقطع ومفصل، وذلك يوجب سد باب النبوات.
المسألة الثانية: قرأ نافع وابن عامر * (قبلا) * ههنا وفي الكهف بكسر القاف وفتح الباء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالضم فيهما في السورتين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ههنا وفي الكهف بالكسر، قال الواحدي: قال أبو زيد يقال لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا وقبلا وقبيلا كله واحد. وهو المواجهة. قال الواحدي: فعلى قول أبي زيد المعنى في القراءتين واحد وإن اختلف اللفظان، ومن الناس من أثبت بين اللفظين تفاوتا في المعنى، فقال أما من قرأ * (قبلا) * بكسر القاف وفتح الباء، فقال أبو عبيدة والفراء والزجاج: معناه عيانا، يقال لقيته قبلا أي معاينة، وروي عن أبي ذر قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أكان آدم نبيا؟ قال: " نعم كان نبيا كلمه الله تعالى قبلا " وأما من قرأ * (قبلا) * فله ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون جمع قبيل الذي يراد به الكفيل، يقال قبلت بالرجل أقبل قبالة أي كلفت به. ويكون المعنى لو حشر عليهم كل شيء وكفلوا بصحة ما يقول لما آمنوا، وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق، فإذا أنطق الله الكل وأطبقوا على قبول هذه الكفالة كان ذلك من أعظم المعجزات. وثانيها: أن يكون * (قبلا) * جمع قبيل بمعنى الصنف والمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلا قبيلا، وموضع الإعجاز فيه هو حشرها بعد موتها، ثم إنها على اختلاف طبائعها تكون مجتمعة في موقف واحد. وثالثها: أن يكون * (قبلا) * بمعنى قبلا أي مواجهة ومعاينة كما فسره أبو زيد.
أما قوله تعالى: * (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد من الآية أنه تعالى لو أظهر جميع تلك الأشياء العجيبة الغريبة لهؤلاء الكفار فإنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله إيمانهم. قال أصحابنا: فلما لم يؤمنوا دل ذلك الدليل على
150

أنه تعالى ما شاء منهم الإيمان، وهذا نص في المسألة. قالت المعتزلة: دل الدليل على أنه تعالى أراد الإيمان من جميع الكفار، والجبائي ذكر الوجوه المشهورة التي
لهم في هذه المسألة. أولها: أنه تعالى لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم لم يجب عليهم. وثانيها: لو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر مطيعا لله بفعل الكفر، لأنه لا معنى للطاعة إلا بفعل المراد، وثالثها: لو جاز من الله أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به، ورابعها: لو جاز أن يريد منهم الكفر لجاز أنه يأمرنا بأن نريد منهم الكفر. قالوا: فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما شاء إلا الإيمان منهم وظاهره هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء الإيمان منهم، والتناقض بين الدلائل ممتنع فوجب التوفيق، وطريقه أن نقول إنه تعالى شاء من الكل الإيمان الذي يفعلونه على سبيل الاختيار وأنه تعالى ما شاء منهم الإيمان الحاصل على سبيل الإلجاء والقهر وبهذا الطريق زال الإشكال.
واعلم أن هذا الكلام أيضا ضعيف من وجوه: الأول: أن الإيمان الذي سموه بالإيمان الاختياري إن عنوا به أن قدرته صالحة للإيمان والكفر على السوية، ثم إنه يصدر عنها الإيمان دون الكفر لا لداعية مرجحة ولا لإرادة مميزة، فهذا قول برجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال، وأيضا فبتقدير أن يكون ذلك معقولا في الجملة إلا أن حصول ذلك الإيمان لا يكون منه، بل يكون حادثا لا لسبب ولا مؤثر أصلا لأن الحاصل هناك ليس إلا القدرة وهي بالنسبة إلى الضدين على السوية، ولم يصدر من هذا القدر تخصيص لأحد الطرفين على الآخر بالوقوع والرجحان، ثم إن أحد الطرفين قد حصل بنفسه فهذا لا يكون صادرا منه بل يكون صادرا لا عن سبب البتة، وذلك يبطل القول بالفعل والفاعل والتأثير والمؤثر أصلا، ولا يقوله عاقل، وإما أن يكون هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري هو أن قدرته وإن كانت صالحة للضدين إلا أنها لا تصير مصدرا للإيمان إلا إذا انضم إلى تلك القدرة حصول داعية الإيمان كان هذا قولا بأن مصدر الإيمان هو مجموع القدرة مع الداعي، وذلك المجموع موجب للإيمان، فذلك هو عين ما يسمونه بالجبر وأنتم تنكرونه. فثبت أن هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري لم يحصل منه معنى معقول مفهوم، وقد عرفت أن هذا الكلام في غاية القوة.
والوجه الثاني: سلمنا أن الإيمان الاختياري مميز عن الإيمان الحاصل بتكوين الله تعالى إلا أنا نقول قوله تعالى: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) * وكذا وكذا ما كانوا ليؤمنوا، معناه: ما كانوا ليؤمنوا إيمانا اختياريا بدليل أن عند ظهور هذه الأشياء لا يبعد أن يؤمنوا إيمانا على سبيل الإلجاء والقهر. فثبت أن قوله: * (ما كانوا ليؤمنوا) * المراد: ما كانوا ليؤمنوا على سبيل الاختيار، ثم استثنى
151

عنه فقال: * (إلا أن يشاء الله) * والمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى عنه. والإيمان الحاصل بالإلجاء والقهر ليس من جنس الإيمان الاختياري. فثبت أنه لا يجوز أن يقال المراد بقولنا إلا أن يشاء الله، الإيمان الاضطراري بل يجب أن يكون المراد منه الإيمان الاختياري، وحينئذ يتوجه دليل أصحابنا ويسقط عنه سؤال المعتزلة بالكلية.
المسألة الثانية: قال الجبائي قوله تعالى: * (إلا أن يشاء الله) * يدل على حدوث مشيئة الله تعالى، لأنها لو كانت قديمة لم يجز أن يقال ذلك، كما لا يقال لا يذهب زيد إلى البصرة إلا أن يوحد الله تعالى، وتقريره، أنا إذا قلنا: لا يكون كذلك إلا أن يشاء الله فهذا يقتضي تعليق حدوث هذا الجزاء على حصول المشيئة فلو كانت المشيئة قديمة لكان الشرط قديما، ويلزم من حصول الشرط حصول المشروط، فيلزم كون الجزاء قديما. والحس دل على أنه محدث فوجب كون الشرط حادثا، وإذا كان الشرط هو المشيئة لزم القول بكون المشيئة حادثة. هذا تقرير هذا الكلام.
والجواب: أن المشيئة وإن كانت قديمة إلا أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة وهذا القدر يكفي لصحة هذ الكلام، ثم أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله: * (ولكن أكثرهم يجهلون) * قال أصحابنا: المراد، يجهلون بأن الكل من الله وبقضائه وقدره. وقال المعتزلة: المراد، أنهم جهلوا أنهم يبقون كفارا عند ظهور الآيات التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها وكان أكثرهم يظنون ذلك.
قوله تعالى
* (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شآء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وكذلك) * منسوق على شيء وفي تعيين ذلك الشيء قولان: الأول: أنه منسوق على قوله: * (وكذلك زينا لكل أمة عملهم) * أي كما فعلنا ذلك * (كذلك جعلنا لكل نبي عدوا) * الثاني: معناه: جعلنا لك عدوا كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء فيكون قوله: * (كذلك) * عطفا
152

على معنى ما تقدم من الكلام، لأن ما تقدم يدل على أنه تعالى جعل له أعداء.
المسألة الثانية: ظاهر قوله تعالى: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا) * أنه تعالى هو الذي جعل أولئك الأعداء أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن تلك العداوة معصية وكفر. فهذا يقتضي أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله تعالى، أجاب الجبائي عنه: بأن المراد بهذا الجعل الحكم والبيان، فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل: أنه كفره، وإذا أخبر عن عدالته قيل: أنه عدله، فكذا ههنا أنه تعالى لما بين للرسول عليه الصلاة والسلام كونهم أعداء له لا جرم قال إنه جعلهم أعداء له، وأجاب أبو بكر الأصم عنه: بأنه تعالى لما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العالمين وخصه بتلك المعجزة حسدوه، وصار ذلك الحسد سببا للعداوة القوية، فلهذا التأويل قال إنه تعالى جعلهم أعداء له ونظيره قول المتنبي: فأنت الذي صيرتهم لي حسدا (c)
وأجاب الكعبي عنه: بأنه تعالى أمر الأنبياء بعداوتهم وأعلمهم كونهم أعداء لهم، وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء. لأن العداوة لا تحصل إلا من الجانبين، فلهذا الوجه جاز أن يقال إنه تعالى جهلهم أعداء للأنبياء عليهم السلام.
واعلم أن هذه الأجوبة ضعيفة جدا لما بينا أن الأفعال مستندة إلى الدواعي، وهي حادثة من قبل الله تعالى، ومتى كان الأمر كذلك. فقد صح مذهبنا.
ثم ههنا بحث آخر: وهو أن العداوة والصداقة يمتنع أن تحصل باختيار الإنسان، فإن الرجل قد يبلغ في عداوة غيره إلى حيث لا يقدر البتة على إزالة تلك الحالة عن قلبه، بل قد لا يقدر على إخفاء آثار تلك العداوة، ولو أتى بكل تكلف وحيلة لعجز عنه، ولو كان حصول العداوة والصداقة في القلب باختيار الإنسان لوجب أن يكون الإنسان متمكنا من قلب العداوة بالصداقة وبالضد وكيف لا نقول ذلك والشعراء عرفوا أن ذلك خارج عن الوسع؟ قال المتنبي:
يراد من القلب نسيانكم * وتأبى الطباع على الناقل
والعاشق الذي يشتد عشقه قد يحتال بجميع الحيل في إزالة عشقه ولا يقدر عليه، ولو كان حصول ذلك الحب والبغض باختياره لما عجز عن إزالته.
المسألة الثالثة: النصب في قوله: * (شياطين) * فيه وجهان: الأول: أنه منصوب على البدل من قوله: * (عدوا) * والثاني: أن يكون قوله * (عدوا) * منصوبا على أنه مفعول ثان، والتقدير: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء الأنبياء.
153

المسألة الرابعة: اختلفوا في معنى شياطين الإنس والجن على قولين: الأول: أن المعنى مردة الإنس والجن، والشيطان؛ كل عات متمرد من الإنس والجن، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ومجاهد والحسن وقتادة وهؤلاء قالوا: إن من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، وإن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس، وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر: " هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس؟ " قال قلت: وهل للإنس من شياطين؟ قال: " نعم هم شر من شياطين الجن ".
والقول الثاني: أن الجميع من ولد إبليس إلا أنه جعل ولده قسمين، فأرسل أحد القسمين إلى وسوسة الإنس. والقسم الثاني إلى وسوسة الجن، فالفريقان شياطين الإنس والجن، ومن الناس من قال: القول الأول أولى لأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين، ومنهم من يقول: القول الثاني أولى، لأن لفظ الآية يقتضي إضافة الشياطين إلى الإنس والجن. والإضافة تقتضي المغايرة، وعلى هذا التقدير: فالشياطين نوع مغاير للجن وهم أولاد إبليس.
المسألة الخامسة: قال الزجاج وابن الأنباري: قوله: * (عدوا) * بمعنى أعداء وأنشد ابن الأنباري:
إذا أنا لم أنفع صديقي بوده * فإن عدوي لن يضرهمو بغضي
أراد أعدائي، فأدى الواحد عن الجمع، وله نظائر في القرآن. ومنها قوله: * (ضيف إبراهيم المكرمين) * (الذاريات: 24) جعل المكرمين وهو جمع نعتا للضيف وهو واحد، وثانيها: قوله: * (والنخل باسقات لها طلع) * (ق: 10) وثالثها: قوله: * (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) * (النور: 31) ورابعها: قوله: * (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا) * (العصر: 2) وخامسها: قوله: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) * (آل عمران: 93) أكد المفرد بما يؤكد الجمع به، ولقائل أن يقول لا حاجة إلى هذا التكلف، فإن التقدير: وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوا واحدا، إذ لا يجب لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد.
أما قوله تعالى: * (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * فالمراد أن أولئك الشياطين يوسوس بعضهم بعضا.
واعلم أنه لا يجب أن تكون كل معصية تصدر عن إنسان فإنها تكون بسبب وسوسة شيطان، وإلا لزم دخول التسلسل أو الدور في هؤلاء الشياطين، فوجب الاعتراف بانتهاء هذه القبائح والمعاصي إلى قبيح أول، ومعصية سابقة حصلت لا بوسوسة شيطان آخر.
154

إذا ثبت هذا الأصل فنقول: إن أولئك الشياطين كما أنهم يلقون الوساوس إلى الإنس والجن فقد يوسوس بعضهم بعضا. وللناس فيه مذاهب. منهم من قال الأرواح إما فلكية وإما أرضية، والأرواح الأرضية منها طيبة طاهرة خيرة آمرة بالطاعة والأفعال الحسنة، وهم الملائكة الأرضية. ومنها خبيثة قذرة شريرة، آمرة بالقبائح والمعاصي، وهم الشياطين. ثم إن تلك الأرواح الطيبة كما أنها تأمر الناس بالطاعات والخيرات، فكذلك قد يأمر بعضهم بعضا بالطاعات. والأرواح الخبيثة كما أنها تأمر الناس بالقبائح والمنكرات، فكذلك قد يأمر بعضهم بعضا بتلك القبائح والزيادة فيها. وما لم يحصل نوع من أنواع المناسبة بين النفوس البشرية، وبين تلك الأرواح لم يحصل ذلك الانضمام، فالنفوس البشرية، إذا كانت طاهرة نقية عن الصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الطاهرة فتنضم إليها، وإذا كانت خبيثة موصوفة بالصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الخبيثة فتنضم إليها. ثم إن صفات الطهارة كثيرة. وصفات الخبث والنقصان كثيرة، وبحسب كل نوع منها طوائف من البشر وطوائف من الأرواح الأرضية بحسب تلك المجانسة والمشابهة والمشاكلة ينضم الجنس إلى جنسه، فإن كان ذلك في أفعال الخير كان الحامل عليها ملكا وكان تقوية ذلك الخاطر إلهاما، وإن كان في باب الشر كان الحامل عليها شيطانا، وكان تقوية ذلك الخاطر وسوسة.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول: إنه تعالى عبر عن هذه الحالة المذكورة بقوله: * (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * فيجب علينا تفسير ألفاظ ثلاثة: الأول: الوحي وهو عبارة عن الإيماء والقول السريع. والثاني: الزخرف وهو الذي يكون باطنه باطلا، وظاهره مزينا ظاهرا، يقال: فلان يزخرف كلامه إذا زينه بالباطل والكذب، وكل شيء حسن مموه فهو مزخرف.
واعلم أن تحقيق الكلام فيه إن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور كونه مشتملا على خير راجح ونفع زائد، فإنه لا يرغب فيه، ولذلك سمي الفاعل المختار مختارا لكونه طالبا للخير والنفع، ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقا للمعتقد، فهو الحق والصدق والإلهام وإن كان صادرا من الملك، وإن لم يكن معتقدا مطابقا للمعتقد، فحينئذ يكون ظاهره مزينا، لأنه في اعتقاده سبب للنفع الزائد والصلاح الراجح، ويكون باطنه فاسدا باطلا. لأن هذا الاعتقاد غير مطابق للمعتقد فكان مزخرفا. فهذا تحقيق هذا
الكلام. والثالث: قوله * (غرورا) * قال الواحدي: * (غرورا) * منصوب على المصدر، وهذا المصدر محمول على المعنى. لأن معنى إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور، فكأنه قال
155

يغرون غرورا، وتحقيق القول فيه أن المغرور هو الذي يعتقد في الشيء كونه مطابقا للمنفعة والمصلحة مع أنه في نفسه ليس كذلك، فالغرور إما أن يكون عبارة عن عين هذا الجهل أو عن حالة متولدة عن هذا الجهل. فظهر بما ذكرنا أن تأثير هذه الأرواح الخبيثة بعضها في بعض لا يمكن أن يعبر عنه بعبارة أكمل ولا أقوى دلالة على تمام المقصود من قوله: * (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) *.
ثم قال تعالى: * (ولو شاء ربك ما فعلوه) * وأصحابنا يحتجون به على أن الكفر والإيمان بإرادة الله تعالى. والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء، وقد سبق تقرير هذه المسألة على الاستقصاء، فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى: * (فذرهم وما يفترون) * قال ابن عباس: معناه يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به قال القاضي: هذا القول يتضمن التحذير الشديد من الكفر والترغيب الكامل في الإيمان، ويقتضي زوال الغم عن قلب الرسول من حيث يتصور ما أعد الله للقوم على كفرهم من أنواع العذاب وما أعد له من منازل الثواب بسبب صبره على سفاهتهم ولطفه بهم.
قوله تعالى
* (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالاخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الصغو في اللغة معناه: الميل. يقال في المستمع إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت أنه يصغي، ويقال: أصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في البعض، ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى. فقوله: * (ولتصغى) * أي ولتميل.
المسألة الثانية: " اللام " * (ولتصغى) * لا بد له من متعلق. فقال أصحابنا: التقدير: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من شياطين الجن والإنس، ومن صفته أنه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، وإنما فعلنا ذلك لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون أي وإنما أوجدنا العداوة في قلب الشياطين الذين من صفتهم ما ذكرناه ليكون كلامهم المزخرف مقبولا عند هؤلاء الكفار، قالوا: وإذا حملنا الآية على هذا الوجه يظهر أنه تعالى يريد الكفر من الكافر أما المعتزلة فقد أجابوا عنه من ثلاثة أوجه.
156

الوجه الأول: وهو الذي ذكره الجبائي قال: إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر، كقوله تعالى: * (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب) * وكذلك قوله: * (وليرضوه وليقترفوا) * (الأنعام: 113) وتقدير الكلام كأنه قال للرسول: فذرهم وما يفترون ثم قال لهم على سبيل التهديد ولتصغى إليه أفئدتهم وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون.
والوجه الثاني: وهو الذي اختاره الكعبي أن هذه اللام لام العاقبة أي ستؤول عاقبة أمرهم إلى هذه الأحوال. قال القاضي: ويبعد أن يقال: هذه العاقبة تحصل في الآخرة، لأن الإلجاء حاصل في الآخرة، فلا يجوز أن تميل قلوب الكفار إلى قبول المذهب الباطل، ولا أن يرضوه ولا أن يقترفوا الذنب، بل يجب أن تحمل على أن عاقبة أمرهم تؤل إلى أن يقبلوا الأباطيل ويرضوا بها ويعملوا بها.
والوجه الثالث: وهو الذي اختاره أبو مسلم. قال: " اللام " في قوله: * (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) * متعلق بقوله: * (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * والتقدير أن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول ليغروا بذلك * (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا) * الذنوب ويكون المراد أن مقصود الشياطين من ذلك الإيحاء هو مجموع هذه المعاني. فهذا جملة ما ذكروه في هذا الباب. أما الوجه الأول: وهو الذي عول عليه الجبائي فضعيف من وجوه ذكرها القاضي. فأحدها: أن " الواو " في قوله: * (ولتصغى) * تقتضي تعلقه بما قبله فحمله على الابتداء بعيد. وثانيها: أن " اللام " في قوله: * (ولتصغى) * لام كي فيبعد أن يقال: إنها لام الأمر ويقرب ذلك من أن يكون تحريفا لكلام الله تعالى وأن لا يجوز.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يقال: هذه اللام لام العاقبة فهو ضعيف، لأنهم أجمعوا على أن هذا مجاز وحمله على " كي " حقيقة فكان قولنا أولى.
وأما الوجه الثالث: وهو الذي ذكره أبو مسلم فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب: لأنا نقول: إن قوله: * (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * يقتضي أن يكون الغرض من ذلك الإيحاء هو التغرير. وإذا عطفنا عليه قوله: * (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون) * فهذا أيضا عين التغرير لا معنى التغرير، إلا أنه يستميله إلى ما يكون باطنه قبيحا. وظاهره حسنا، وقوله: * (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون) * عين هذه الاستمالة فلو عطفنا لزم أن يكون المعطوف عين المعطوف عليه وأنه لا يجوز، أما إذا قلنا: تقدير الكلام وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من شأنه أن يوحي
157

زخرف القول لأجل التغرير وإنما جعلنا مثل هذا الشخص عدوا للنبي لتصغى إليه أفئدة الكفار، فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة ذلك النبي، وحينئذ لا يلزم على هذا التقدير عطف الشيء على نفسه. فثبت أن ما ذكرناه أولى.
المسألة الثالثة: زعم أصحابنا أن البنية ليست مشروطا للحياة، فالحي هو الجزء الذي قامت به الحياة، والعالم هو الجزء الذي قام به العلم، وقالت المعتزلة: الحي والعالم هو الجملة " لا " ذلك الجزء.
إذا عرفت هذا فنقول: احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم، لأنه قال تعالى: * (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون) * فجعل الموصوف بالميل والرغبة هو
القلب، لا جملة الحي، وذلك يدل على قولنا.
المسألة الرابعة: الذين قالوا الإنسان شيء مغاير للبدن اختلفوا. منهم من قال: المتعلق الأول هو القلب، وبواسطته تتعلق النفس بسائر الأعضاء كالدماغ والكبد. ومنهم من قال: القلب متعلق النفس الحيوانية، والدماغ متعلق النفس الناطقة، والكبد متعلق النفس الطبيعية، والأولون تعلقوا بهذه الآية، فإنه تعالى جعل محل الصغو الذي هو عبارة عن الميل والإرادة؛ القلب، وذلك يدل على أن المتعلق بالنفس القلب. المسألة الخامسة: الكناية في قوله: * (ولتصغى إليه أفئدة) * عائدة إلى زخرف القول، وكذلك في قوله: * (وليرضوه) *.
وأما قوله: * (وليقترفوا ما هم مقترفون) * فاعلم أن الاقتراف هو الاكتساب، يقال في المثل: الاعتراف يزيل الاقتراف، كما يقال: التوبة تمحو الحوبة. وقال الزجاج: * (ليقترفوا) * أي ليختلفوا وليكذبوا، والأول أصح.
قوله تعالى
* (أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين) *.
فيه مسائل:
158

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، أجاب عنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات، لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم. ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل، فكان ما يطلبونه طلبا للزيادة. وذلك مما لا يجب الالتفات إليه، وإنما قلنا: إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين:
الوجه الأول: أن الله قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة، وقد عجز الخلق عن معارضته. فظهور مثل هذا المعجز عليه يدل على أنه تعالى قد حكم بنبوته، فقوله: * (أفغير الله أبتغي حكما) * يعني قل يا محمد: إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكما؟ فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز. ثم قل: إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز.
والوجه الثاني: من الأمور الدالة على نبوته؛ اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أن محمدا عليه الصلاة والسلام رسول حق، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى، وهو المراد من قوله: * (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) * (الأنعام: 114) وبالجملة فالوجهان مذكوران في قوله تعالى: * (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) * (الرعد: 43).
أما قوله تعالى في آخر الآية: * (فلا تكونن من الممترين) * ففيه وجوه: الأول: أن هذا من باب التهييج والإلهاب كقوله: * (ولا تكونن من المشركين) * والثاني: التقدير * (فلا تكونن من الممترين) * في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق. والثالث: يجوز أن يكون قوله: * (فلا تكونن) * خطابا لكل واحد والمعنى أنه لما ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيها أحد. الرابع: قيل هذا الخطاب وإن كان في الظاهر للرسول إلا أن المراد منه أمته.
المسألة الثانية: قوله: * (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) * قرأ ابن عامر وحفص * (منزل) * بالتشديد والباقون بالتخفيف، والفرق بين التنزيل والإنزال قد ذكرناه مرارا.
المسألة الثالثة: قال الواحدي: * (أفغير الله أبتغي حكما) * الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة، غير أن بعض أهل التأويل قال الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم. وأما الحكم فهو الذي لا يحكم إلا بالحق والمعنى أنه تعالى حكم حق لا يحكم إلا بالحق. فلما أظهر المعجز الواحد وهو القرآن فقد حكم بصحة هذه النبوة، ولا مرتبة فوق حكمه فوجب القطع بصحة هذه النبوة. فأما
159

أنه هل يظهر سائر المعجزات أم لا؟ فلا تأثير له في هذا الباب بعد أن ثبت أنه تعالى حكم بصحة هذه النبوة بواسطة إظهار المعجز الواحد.
قوله تعالى
* (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي: * (وتمت كلمة ربك) * بغير ألف على الواحد، والباقون * (كلمات) * على الجمع، قال أهل المعاني، الكلمة والكلمات، معناهما ما جاء من وعد ووعيد وثواب وعقاب، فلا تبديل فيه ولا تغيير له كما قال: * (ما يبدل القول لدي) * (ق: 29) فمن قرأ * (كلمات) * بالجمع قال: لأن معناها الجمع فوجب أن يجمع في اللفظ، ومن قرأ على الوحدة فلأنهم قالوا: الكلمة، قد يراد بها الكلمات الكثيرة إذا كانت مضبوطة بضابط واحد، كقولهم: قال زهير في كلمته: يعني قصيدته، وقال قس في كلمته، أي خطبته، فكذلك مجموع القرآن كلمة واحدة في كونه حقا وصدقا ومعجزا.
المسألة الثانية: أن تعلق هذه الآية بما قبلها أنه تعالى بين في الآية السابقة أن القرآن معجز، فذكر في هذه الآية أنه تمت كلمة ربك، والمراد بالكلمة - القرآن - أي تم القرآن في كونه معجزا دالا على صدق محمد عليه السلام، وقوله: * (صدقا وعدلا) * أي تمت تماما صدقا وعدلا، وقال أبو علي الفارسي: * (صدقا وعدلا) * مصدران ينصبان على الحال من الكلمة تقديره صادقة عادلة، فهذا وجه تعلق هذه الآية بما قبلها.
المسألة الثالثة: اعلم أن هذه الآية تدل على أن كلمة ا لله تعالى موصوفة بصفات كثيرة.
فالصفة الأولى: كونها تامة وإليه الإشارة بقوله: * (وتمت كلمة ربك) * وفي تفسير هذا التمام وجوه: الأول: ما ذكرنا أنها كافية وافية بكونها معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، والثاني: أنها كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى قيام القيامة عملا وعلما، والثالث: أن حكم الله تعالى هو الذي حصل في الأزل، ولا يحدث بعد ذلك شيء، فذلك الذي حصل في الأزل هو التمام، والزيادة عليه ممتنعة، وهذا الوجه هو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ".
160

الصفة الثانية: من صفات كلمة الله كونها صدقا، والدليل عليه أن الكذب نقص والنقص على الله محال، ولا يجوز إثبات أن الكذب على الله محال بالدلائل السمعية، لأن صحة الدلائل السمعية موقوفة على أن الكذب على الله محال، فلو أثبتنا امتناع الكذب على الله بالدلائل السمعية لزم الدور وهو باطل. واعلم أن هذا الكلام كما يدل على أن الخلف في وعد الله تعالى محال. فهو أيضا يدل على أن الخلف في وعيده محال بخلاف ما قاله الواحدي في تفسير قوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * إن الخلق في وعيد الله جائز، وذلك لأن وعد الله ووعيده كلمة الله، فلما دلت هذه الآية على أن كلمة الله يجب كونها موصوفة بالصدق على أن الخلف كما أنه ممتنع في الوعد فكذلك ممتنع في الوعيد.
الصفة الثالثة: من صفات كلمات الله كونها عدلا وفيه وجهان: الأول: أن كل ما حصل في القرآن نوعان، الخبر والتكليف. أما الخبر فالمراد كل ما أخبر الله عن وجوده أو عن عدمه ويدخل فيه الخبر عن وجود ذات الله تعالى وعن حصول صفاته أعني كونه تعالى عالما قادرا سميعا بصيرا، ويدخل فيه الأخبار عن صفات التقديس والتنزيه كقوله: * (لم يلد ولم يولد) * (الإخلاص: 3) وكقوله: * (لا تأخذ سنة ولا نوم) * (البقرة: 255) ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله وكيفية تدبيره لملكوت السماوات والأرض وعالمي الأرواح والأجسام، ويدخل فيه كل أمر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب، ويدخل فيه الخبر عن أحوال المتقدمين، والخبر عن الغيوب المستقبلة، فكل هذه الأقسام داخلة تحت الخبر، وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبده سواء كان ذلك العبد ملكا أو بشر أو جنيا أو شيطانا وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء عليهم السلام المتقدمين، أو في شرائع الملائكة المقربين الذين هم سكان السماوات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى.
وإذا عرفت انحصار مباحث القرآن في هذين القسمين فنقول: قال تعالى: * (وتمت كلمة ربك صدقا) * إن كان من باب الخبر * (وعدلا) * إن كان من باب التكاليف، وهذا ضبط في غاية الحسن.
والقول الثاني: في تفسير قوله: * (وعدلا) * أن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد وأن يكون واقعا، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بصفة الظلمية.
الصفة الرابعة: من صفات كلمة الله قوله: * (لا مبدل لكلماته) * وفيه وجوه: الأول: أنا بينا أن المراد من قوله: * (وتمت كلمة ربك) * أنها تامة في كونها معجزة دالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم.
161

ثم قال: * (لا مبدل لكلماته) * والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبهات في كونها دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلائل التي لا تقبل التبديل البتة لأن تلك الدلالة ظاهرة باقية جلية قوية لا تزول بسبب ترهات الكفار وشبهات أولئك الجهال.
والوجه الثاني: أن يكون المراد أنها تبقى مصونة عن التحريف والتغيير كما قال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9).
والوجه الثالث: أن يكون المراد أنها مصونة عن التناقض كما قال: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82).
والوجه الرابع: أن يكون المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبديل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول.
واعلم أن هذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر، لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى عمرو بالشقاوة، ثم قال: * (لا مبدل لكلمات الله) * يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقيا وأن ينقلب الشقي سعيدا، فالسعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه.
* (وإن تطع أكثر من فى الارض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون * إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) *.
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات الكفار ثم بين بالدليل صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام
بين أن بعد زوال الشبهة وظهور الحجة لا ينبغي أن يلتفت العاقل إلى كلمات الجهال، ولا ينبغي أن
يتشوش بسبب كلماتهم الفاسدة فقال: * (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) *
وهذا يدل على أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا، لأن الإضلال لا بد وأن يكون مسبوقا بالضلال.
واعلم أن حصول هذا الضلال والإضلال لا يخرج عن أحد أمور ثلاثة: أولها: المباحث المتعلقة
بالإلهيات فإن الحق فيها واحد، وأما الباطل ففيه كثرة، ومنها القول بالشرك أما كما تقوله الزنادقة
162

وهو الذي أخبر الله عنه في قوله: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * وإما كما يقوله عبدة الكواكب. وإما كما يقوله عبدة الأصنام، وثانيها: المباحث المتعلقة بالنبوات. إما كما يقوله من ينكر النبوة مطلقا
أو كما يقوله من ينكر النشر. أو كما يقوله من ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ويدخل في
هذا الباب المباحث المتعلقة بالمعاد. وثالثها: المباحث المتعلقة بالأحكام، وهي كثيرة، فإن الكفار
كانوا يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة، فقال تعالى: * (وإن تطع أكثر
من في الأرض) * فيما يعتقدونه من الحكم على الباطل بأنه حق، وعلى الحق بأنه باطل يضلوك
عن سبيل الله، أي عن الطريق والمنهج الصدق.
ثم قال: * (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين
بصحة مذاهبهم، بل لا يتبعون إلا الظن وهم خراصون كذابون في ادعاء القطع وكثير من
المفسرين يقولون: المراد من ذلك الظن رجوعهم في إثبات مذاهبهم إلى تقليد أسلافهم لا إلى
تعليل أصلا.
المسألة الثانية: تمسك نفاة القياس بهذه الآية. فقالوا رأينا أن الله تعالى بالغ في ذم الكفار في كثير من آيات القرآن بسبب كونهم متبعين للظن، والشيء الذي يجعله الله تعالى موجبا لذم الكفار لا بد وأن يكون في أقصى مراتب الذم، والعمل بالقياس يوجب اتباع الظن، فوجب كونه مذموما محرما، لا يقال لما ورد الدليل القاطع بكونه حجة كان العمل به عملا بدليل مقطوع لا بدليل مظنون. لأنا نقول هذا مدفوع من وجوه: الأول: أن ذلك الدليل القاطع إما أن يكون عقليا، وإما أن يكون سمعيا، والأول باطل لأن العقل لا مجال له في أن العمل بالقياس جائز أو غير جائز، لا سيما عند من ينكر تحسين العقل وتقبيحه. والثاني: أيضا باطل لأن الدليل السمعي إنما يكون قاطعا لو كان متواترا وكانت ألفاظه غير محتملة لوجه آخر سوى هذا المعنى الواحد، ولو حصل مثل هذا الدليل لعلم الناس بالضرورة كون القياس حجة، ولارتفع الخلاف فيه بين الأمة، فحيث لم يوجد ذلك علمنا أن الدليل القاطع على صحة القياس مفقود. الثاني: هب أنه وجد الدليل القاطع على أن القياس حجة، إلا أن مع ذلك لا يتم العمل بالقياس إلا مع اتباع الظن وبيانه أن التمسك بالقياس مبني على مقامين: الأول: أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا. والثاني: أن ذلك المعنى حاصل في محل الخلاف، فهذان المقامان إن كانا معلومين على سبيل القطع واليقين فهذا ما لا خلاف فيه بين العقلاء في صحته وإن كان مجموعهما أو كان أحدهما ظنيا فحينئذ لا يتم العمل
163

بهذا القياس إلا بمتابعة الظن، وحينئذ يندرج تحت النص الدال على أن متابعة الظن مذمومة.
والجواب: لم لا يجوز أن يقال: الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل اعتقاد الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة، فهذا الاعتقاد لا يسمى ظنا. وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال.
ثم قال تعالى: * (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسيره قولان: الأول: أن يكون المراد أنك بعد ما عرفت أن الحق ما هو، وأن الباطل ما هو، فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم، لأنه تعالى عالم بأن المهتدي من هو؟ والضال من هو؟ فيجازي كل واحد بما يليق بعمله. والثاني: أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون، والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم، ومطلع على كونهم متحيرين في سبيل الضلال تائهين في أودية الجهل.
المسألة الثانية: قوله: * (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله) * فيه قولان: الأول: قال بعضهم * (أعلم) * ههنا بمعنى يعلم والتقدير: إن ربك يعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. فإن قيل: فهذا يوجب وقوع التفاوت في علم الله تعالى وهو محال.
قلنا: لا شك أن حصول التفاوت في علم الله تعالى محال. إلا أن المقصود من هذا اللفظ أن العناية بإظهار هداية المهتدين فوق العناية بإظهار ضلال الضالين، ونظيره قوله تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم، فلها) * فذكر الإحسان مرتين والإسارة مرة واحدة. والثاني: أن موضع * (من) * رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام، والمعنى إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله * (قال) * وهذا مثل قوله تعالى: * (لنعلم أي الحزبين أحصى وهذا قول: المبرد والزجاج والكسائي والفراء.
* (فكلوا مما ذكر سم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) *.
في الآية مباحث نذكرها في معرض السؤال والجواب.
السؤال الأول: " الفاء " في قوله: * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * يقتضي تعلقا بما تقدم، فما ذلك الشيء؟
والجواب: قوله: * (فكلوا) * مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحللون الحرام ويحرمون الحلال، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن
164

تأكلوه مما قتلتموه أنتم. فقال الله للمسلمين إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله.
السؤال الثاني: القوم كانوا يبيحون أكل ما ذبح على اسم الله ولا ينازعون فيه، وإنما النزاع في أنهم أيضا كانوا يبيحون أكل الميتة، والمسلمون كانوا يحرمونها، وإذا
كان كذلك كان ورود الأمر بإباحة ما ذكر اسم الله عليه عبثا لأنه يقتضي إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه.
والجواب: فيه وجهان: الأول: لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة، فالله تعالى رد عليهم في الأمرين، فحكم بحل المذكاة بقوله: * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * وبتحريم الميتة بقوله: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * الثاني: أن نحمل قوله: * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * على أن المراد اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه، فيكون المعنى على هذا الوجه تحريم أكل الميتة فقط.
السؤال الثالث: قوله: * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * صيغة الأمر، وهي للإباحة. وهذه الإباحة حاصلة في حق المؤمن وغير المؤمن، وكلمة * (إن) * في قوله: * (إن كنتم بآياته مؤمنين) * تفيد الاشتراط.
والجواب: التقدير ليكن أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين والمراد أنه لو حكم بإباحة أكل الميتة لقدح ذلك في كونه مؤمنا.
* (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وحفص عن عاصم * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) * بالفتح في الحرفين، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بالضم في الحرفين، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم
165

* (فصل) * بالفتح * (وحرم) * بالضم، فمن قرأ بالفتح في الحرفين فقد احتج بوجهين: الأول: أنه تمسك في فتح قوله: * (فصل) * بقوله: * (قد فصلنا الآيات) * وفي فتح قوله: * (حرم) * بقوله: * (أتل ما حرم ربكم) *.
والوجه الثاني: التمسك بقوله: * (مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم) * فيجب أن يكون الفعل مسندا إلى الفاعل لتقدم ذكر اسم الله تعالى، وأما الذين قرؤا بالضم في الحرفين فحجتهم قوله: * (حرمت عليكم الميتة والدم) * وقوله: * (حرمت) * تفصيل لما أجمل في هذه الآية، فلما وجب في التفصيل أن يقال: * (حرمت عليكم الميتة) * بفعل ما لم يسم فاعله وجب في الإجمال كذلك وهو قوله: * (ما حرم عليكم) * ولما ثبت وجوب * (حرم) * بضم الحاء فكذلك يجب * (فصل) * بضم الفاء لأن هذا المفصل هو ذلك المحرم المجمل بعينه. وأيضا فإنه تعالى قال: * (وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) * وقوله: * (مفصلا) * يدل على فصل. وأما من قرأ * (فصل) * بالفتح وحرم بالضم فحجته في قوله: * (فصل) * قوله: * (قد فصلنا الآيات) * وفي قوله: * (حرم) * قوله: * (حرمت عليكم الميتة) *. المسألة الثانية: قوله: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) * أكثر المفسرين قالوا: المراد منه قوله تعالى في أول سورة المائدة: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) * وفيه إشكال: وهو أن سورة الأنعام مكية وسورة المائدة مدنية، وهي آخر ما أنزل الله بالمدينة. وقوله: * (وقد فصل) * يقتضي أن يكون ذلك المفصل مقدما على هذا المجمل، والمدني متأخر عن المكي، والمتأخر يمتنع كونه متقدما. بل الأولى أن يقال المراد قوله بعد هذه الآية: * (قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طاعم) * يطعمه. وهذه الآية وإن كانت مذكورة بعد هذه الآية بقليل إلا أن هذا القدر من التأخير لا يمنع أن يكون هو المراد والله أعلم. وقوله: * (إلا ما اضطررتم إليه) * أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة.
ثم قال: * (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ليضلون) * بفتح الياء وكذلك في يونس * (ربنا ليضلوا) * وفي إبراهيم * (ليضلوا) * وفي الحج * (ثاني عطفه ليضل) * وفي لقمان * (لهو الحديث ليضل) * وفي الزمر * (أندادا ليضل) * وقرأ عاصم وحمزة والكسائي جميع ذلك بضم الياء. وقرأ نافع وابن عامر ههنا وفي يونس بفتح الياء، وفي سائر المواضع بالضم، فمن قرأ بالفتح أشار إلى كونه ضالا، ومن قرأ بالضم أشار إلى كونه مضلا. قال: وهذا أقوى في الذم لأن كل مضل فإنه يجب كونه ضالا، وقد يكون ضالا ولا يكون مضلا، فالمضل أكثر استحقاقا للذم من الضال.
المسألة الثانية: المراد من قوله: * (ليضلون) * قيل إنه عمرو بن لحي، فمن دونه من المشركين. لأنه أول من غير دين إسماعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة. وقوله: * (بغير علم) * يريد أن
166

عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة والضلالة المحضة. وقال الزجاج: المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرونكم في إحلالها، ويحتجون عليها بقولهم لما حل ما تذبحونه أنتم فبأن يحل ما يذبحه الله أولى. وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإنما يتبعون فيه الهوى والشهوة، ولا بصيرة عندهم ولا علم. المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام، لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام.
ثم قال تعالى: * (إن ربك هو أعلم بالمعتدين) * والمراد منه أنه هو العالم بما في قلوبهم وضمائرهم من التعدي وطلب نصرة الباطل والسعي في إخفاء الحق، وإذا كان عالما بأحوالهم وكان قادرا على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها، والمقصود من هذه الكلمة التهديد والتخويف. والله أعلم.
* (وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أنه فصل المحرمات أتبعه بما يوجب تركها بالكلية بقوله: * (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) * والمراد من الإثم ما يوجب الإثم، وذكروا في ظاهر الإثم وباطنه وجهين: الأول: أن * (ظاهر الإثم) * الإعلان بالزنا * (وباطنه) * الاستسرار به. قال الضحاك: كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالا ما كان سرا،
فحرم الله تعالى بهذه الآية السر منه والعلانية. الثاني: أن هذا النهي عام في جميع المحرمات وهو الأصح، لأن تخصيص اللفظ العام بصورة معينة من غير دليل غير جائز، ثم قيل: المراد ما أعلنتم وما أسررتم، وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقال ابن الأنباري: يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول: ما أخذت من هذا المال قليلا ولا كثيرا، تريد ما أخذت منه بوجه من الوجوه، وقال آخرون: معنى الآية النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج من كونه إثما بسبب إخفائه وكتمانه، ويمكن أن يقال: المراد من قوله: * (وذروا ظاهر الإثم) * النهي عن الإقدام على الإثم، ثم قال: * (وباطنه) * ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس. وقال آخرون: * (ظاهر الإثم) * أفعال الجوارح * (وباطنه) * أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة السوء للمسلمين، ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني واللوم على الخيرات، وبهذا
167

يظهر فساد قول من يقول: إن ما يوجد في القلب لا يؤاخذ به إذا لم يقترن به عمل فإنه تعالى نهى عن كل هذه الأقسام بهذه الآية.
ثم قال تعالى: * (إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون) * ومعنى الاقتراف قد تقدم ذكره. وظاهر النص يدل على أنه لا بد وأن يعاقب المذنب، إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب، وأصحابنا زادوا شرطا ثانيا، وهو أنه تعالى قد يعفو عن المذنب فيترك عقابه كما قال الله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48).
* (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أنه يحل أكل ما ذبح على اسم الله، ذكر بعده تحريم ما لم يذكر عليه اسم الله، ويدخل فيه الميتة، ويدخل فيه ما ذبح على ذكر الأصنام، والمقصود منه إبطال ما ذكره المشركون. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: نقل عن عطاء أنه قال: كل ما لم يذكر عليه اسم الله من طعام أو شراب، فهو حرام، تمسكا بعموم هذه الآية. وأما سائر الفقهاء فإنهم أجمعوا على تخصيص هذا العموم بالذبح، ثم اختلفوا فقال مالك: كل ذبح لم يذكر عليه اسم الله فهو حرام، سواء ترك ذلك الذكر عمدا أو نسيانا. وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إن ترك الذكر عمدا حرم، وإن ترك نسيانا حل. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: يحل متروك التسمية سواء ترك عمدا أو خطأ إذا كان الذابح أهلا للذبح، وقد ذكرنا هذه المسألة على الاستقصاء في تفسير قوله: * (إلا ما ذكيتم) * (المائدة: 3) فلا فائدة في الإعادة، قال الشافعي رحمه الله تعالى: هذا النهي مخصوص بما إذا ذبح على اسم النصب، ويدل عليه وجوه: أحدها: قوله تعالى: * (وإنه لفسق) * وأجمع المسلمون على أنه لا يفسق أكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية. وثانيها: قوله تعالى: * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) * (الأنعام: 121) وهذه المناظرة إنما كانت في مسألة الميتة، روي أن ناسا من المشركين قالوا للمسلمين: ما يقتله الصقر والكلب تأكلونه، وما يقتله الله فلا تأكلونه. وعن ابن عباس أنهم قالوا:
168

تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما يقتله الله، فهذه المناظرة مخصوصة بأكل الميتة، وثالثها: قوله تعالى: * (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * وهذا مخصوص بما ذبح على اسم النصب، يعني لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم إلهية الأوثان، فقد رضيتم بإلهيتها وذلك يوجب الشرك. قال الشافعي رحمه الله تعالى: فأول الآية وإن كان عاما بحسب الصيغة، إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة علمنا أن المراد من ذلك العموم هو هذا الخصوص، ومما يؤكد هذا المعنى هو أنه تعالى قال: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) * فقد صار هذا النهي مخصوصا بما إذا كان هذا الأمر فسقا، ثم طلبنا في كتاب الله تعالى أنه متى يصير فسقا؟ فرأينا هذا الفسق مفسرا في آية أخرى، وهو قوله: * (قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به) * (الأنعام: 145) فصار الفسق في هذه الآية مفسرا بما أهل به لغير الله، وإذا كان كذلك كان قوله: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) * مخصوصا بما أهل به لغير الله.
والمقام الثاني: أن نترك التمسك بهذه المخصصات، لكن نقول لم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله ههنا؟ والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل "، ويحمل هذا الذكر على ذكر القلب.
والمقام الثالث: وهو أن نقول: هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن سائر الدلائل المذكورة في هذه المسألة توجب الحل، ومتى تعارضت وجب أن يكون الراجح هو الحل، لأن الأصل في المأكولات الحل، وأيضا يدل عليه جميع العمومات المقتضية لحل الأكل والانتفاع كقوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (البقرة: 29) وقوله: * (كلوا واشربوا) * (البقرة: 60) لأنه مستطاب بحسب الحس فوجب أن يحل لقوله تعالى: * (أحل لكم الطيبات) * (المائدة: 4) ولأنه مال لأن الطبع يميل إليه، فوجب أن لا يحرم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن إضاعة المال، فهذا تقرير الكلام في هذه المسألة ومع ذلك فنقول: الأولى بالمسلم أن يحترز عنه لأن ظاهر هذا النص قوي.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: * (وإنه لفسق) * إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أن قوله * (لا تأكلوا) * يدل على الأكل، لأن الفعل يدل على المصدر، فهذا الضمير عائد إلى هذا المصدر. والثاني: كأنه جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقا، على سبيل المبالغة.
وأما قوله: * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) * ففيه قولان: الأول: أن المراد من الشياطين ههنا إبليس وجنوده، وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوا محمدا صلى الله
169

عليه وسلم
وأصحابه في أكل الميتة. والثاني: قال عكرمة: وإن الشياطين، يعني مردة المجوس، ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش، وذلك لأنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس، فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة، أن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه الله حرام. فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم قال: * (وإن أطعتموهم) * يعني في استحلال الميتة * (إنكم لمشركون) * قال الزجاج: وفيه دليل على أن كل من أهل شيئا مما حرم الله تعالى، أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى فهو مشرك، وإنما سمي مشركا لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى، وهذا هو الشرك.
المسألة الثالثة: قال الكعبي: الآية حجة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات وإن كان معناه في اللغة التصديق، كما جعل تعالى الشرك اسما لكل ما كان مخالفا لله تعالى، وإن كان في اللغة مختصا بمن يعتقد أن لله شريكا، بدليل أنه تعالى سمى طاعة المؤمنين للمشركين في إباحة الميتة شركا.
ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك ههنا اعتقاد أن الله تعالى شريكا في الحكم والتكليف؟ وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط.
* (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به فى الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المشركين يجادلون المؤمنين في دين الله ذكر مثلا يدل على حال المؤمن المهتدي، وعلى حال الكافر الضال، فبين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا، فجعل حيا بعد ذلك وأعطى نورا يهتدى به في مصالحه، وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها، فيكون متحيرا على الدوام.
ثم قال تعالى: * (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) * وعند هذا عادت مسألة الجبر والقدر
170

فقال أصحابنا: ذلك المزين هو الله تعالى، ودليله ما سبق ذكره من أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصوله لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى، والداعي عبارة عن علم أو اعتقاد أو ظن باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد وصلاح راجح، فهذا الداعي لا معنى له إلا هذا التزيين، فإذا كان موجد هذا الداعي هو الله تعالى كان المزين لا محالة هو الله تعالى، وقالت المعتزلة: ذلك المزين هو الشيطان، وحكوا عن الحسن أنه قال: زينه لهم والله الشيطان. واعلم أن هذا في غاية الضعف لوجوه: الأول: الدليل القاطع الذي ذكرناه. والثاني: أن هذا المثل مذكور ليميز الله حال المسلم من الكافر فيدخل فيه الشيطان. فإن كان إقدام ذلك الشيطان على ذلك الكفر لشيطان آخر، لزم الذهاب إلى مزين آخر غير النهاية. وإلا فلا بد من مزين آخر سوى الشيطان. الثالث: أنه تعالى صرح بأن ذلك المزين ليس إلا هو فيما قبل هذه الآية وما بعدها، أما قبلها فقوله: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم) * وأما بعد هذه الآية فقوله: * (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) *.
المسألة الثانية: قوله: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * قرأ نافع * (ميتا) * مشددا، والباقون مخففا قال أهل اللغة: الميت مخففا تخفيف ميت، ومعناهما واحد ثقل أو خفف.
المسألة الثالثة: قال أهل المعاني: قد وصف الكفار بأنهم أموات في قوله: * (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) * (النحل: 21) وأيضا في قوله: * (لينذر من كان حيا) * (يس: 70) وفي قوله: * (إنك لا تسمع الموتى) * (النمل: 80) وفي قوله: * (وما يستوي الأعمى والبصير * وما يستوي الأحياء ولا الأموات) * (فاطر: 19 و 22) فلما جعل الكفر موتا والكافر ميتا، جعل الهدى حياة والمهتدي حيا، وإنما جعل الكفر موتا لأنه جهل، والجهل يوجب الحيرة والوقفة، فهو كالموت الذي يوجب السكون، وأيضا الميت لا يهتدي إلى شيء، والجاهل كذلك، والهدى علم وبصر، والعلم والبصر سبب لحصول الرشد والفوز بالنجاة، وقوله: * (وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) * عطف على قوله * (فأحييناه) * فوجب أن يكون هذا النور مغايرا لتلك الحياة والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى أن الأرواح البشرية لها أربع مراتب في المعرفة. فأولها: كونها مستعدة لقبول هذه المعارف وذلك الاستعداد الأصلي يختلف في الأرواح، فربما كانت الروح موصوفة باستعداد كامل قوي شريف، وربما كان ذلك الاستعداد قليلا ضعيفا، ويكون صاحبه بليدا ناقصا.
والمرتبة الثانية: أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية، وهي المسماة بالعقل.
والمرتبة الثالثة: أن يحاول ذلك الإنسان تركيب تلك البديهيات: ويتوصل بتركيبها إلى
171

تعرف المجهولات الكسبية، إلا أن تلك المعارف ربما لا تكون حاضرة بالفعل، ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها، يقدر عليه.
والمرتبة الرابعة: أن تكون تلك المعارف القدسية والجلايا الروحانية حاضرة بالفعل، ويكون جوهر ذلك الروح مشرقا بتلك المعارف مستضيئا بها مستكملا بظهورها فيه.
إذا عرفت هذا فنقول:
المرتبة الأولى: وهي حصول الاستعداد فقط، هي المسماة بالموت.
والمرتبة الثانية: وهي أن تحصل العلوم البديهية الكلية فيه فهي المشار إليها بقوله: * (فأحييناه) *.
والمرتبة الثالثة: وهي تركيب البديهيات حتى يتوصل بتركيباتها إلى تعرف المجهولات النظرية، فهي المراد من قوله تعالى: * (وجعلنا له نورا) *.
والمرتبة الرابعة: وهي قوله: * (يمشي به في الناس) * إشارة إلى كونه مستحضرا لتلك الجلايا القدسية ناظرا إليها، وعند هذا تتم درجات سعادات النفس الإنسانية، ويمكن أن يقال أيضا الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح، والنور عبارة عن إيصال نور الوحي والتنزيل به. فإنه لا بد في الإبصار من أمرين: من سلامة الحاسة، ومن طلوع الشمس، فكذلك البصيرة لا بد فيها من أمرين: من سلامة حاسة العقل، ومن طلوع نور الوحي والتنزيل، فلهذا السبب قال المفسرون: المراد بهذا النور، القرآن. ومنهم من قال: هو نور الدين، ومنهم من قال: هو نور الحكمة، والأقوال بأسرها متقاربة، والتحقيق ما ذكرناه. وأما مثل الكافر * (فهو كمن في الظلمات ليس بخارج منها) * وفي قوله: * (ليس بخارج منها) * دقيقة عقلية، وهي أن الشيء إذا دام حصوله مع الشيء صار كالأمر الذاتي والصفة اللازمة له. فإذا دام كون الكافر في ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت تلك الظلمات كالصفة الذاتية اللازمة له يعسر إزالتها عنه، نعوذ بالله من هذه الحالة. وأيضا الواقف في الظلمات يبقى متحيرا لا يهتدي إلى وجه صلاحه فيستولي عليه الخوف والفزع، والعجز والوقوف.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن هذين المثلين المذكورين هل هما مخصوصان بإنسانين معينين أو عامان في كل مؤمن وكافر. فيه قولان: الأول: أنه خاص بإنسانين على التعيين، ثم فيه وجوه: الأول: قال ابن عباس: إن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بفرث وحمزة يومئذ لم يؤمن، فأخبر حمزة بذلك عند قدومه من صيد له والقوس بيده، فعمد إلى أبي جهل وتوخاه بالقوس، وجعل يضرب رأسه، فقال له أبو جهل: أما ترى ما جاء به؟ سفه عقولنا، وسب آلهتنا، فقال
172

حمزة: أنتم أسفه الناس، تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، فنزلت هذه الآية.
والرواية الثانية: قال مقاتل: نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وذلك أنه قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا منا نبي يوحى إليه. والله لا نؤمن به، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت هذه الآية.
والرواية الثالثة: قال عكرمة والكلبي: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل.
والرواية الرابعة: قال الضحاك: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل.
والقول الثاني: إن هذه الآية عامة في حق جميع المؤمنين والكافرين، وهذا هو الحق، لأن المعنى إذا كان حاصلا في الكل، كان التخصيص محض التحكم، وأيضا قد ذكرنا أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة، فالقول بأن سبب نزول هذه الآية المعينة، كذا وكذا مشكل، إلا إذا قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن مراد الله تعالى من هذه الآية العامة، فلان بعينه.
المسألة الخامسة: هذه الآية من أقوى الدلائل أيضا على أن الكفر والإيمان من الله تعالى، لأن قوله: * (فأحييناه) * وقوله: * (وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) * قد بينا أنه كناية عن المعرفة والهدى، وذلك يدل على أن كل هذه الأمور إنما تحصل من الله تعالى وبإذنه، والدلائل العقلية ساعدت على صحته، وهو دليل الداعي على ما لخصناه، وأيضا أن عاقلا لا يختار الجهل والكفر لنفسه، فمن المحال أن يختار الإنسان جعل نفسه جاهلا كافرا، فلما قصد تحصيل الإيمان والمعرفة، ولم يحصل ذلك، وإنما حصل ضده وهو الكفر والجهل، علمنا أن ذلك حصل بإيجاد غيره.
فإن قالوا إنما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل أنه علم.
قلنا: فحاصل هذا الكلام أنه إنما اختار هذا الجهل لسابقة جهل آخر، فإن كان الكلام في ذلك الجهل السابق كما في المسبوق لزم الذهاب إلى غير النهاية، وإلا فوجب الانتهاء إلى جهل يحصل فيه لإيجاده وتكوينه، وهو المطلوب.
قوله تعالى
* (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) *.
173

المسألة الأولى: " الكاف " في قوله: * (وكذلك) * يوجب التشبيه، وفيه قولان: الأول: وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها. الثاني: أنه معطوف على ما قبله، أي كما زينا للكافرين أعمالهم، كذلك جعلنا.
المسألة الثانية: الأكابر جمع الأكبر الذي هو اسم، والآية على التقديم والتأخير تقديره: جعلنا مجرميها أكابر، ولا يجوز أن يكون الأكابر مضافة، فإنه لا يتم المعنى، ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل، لأنك إذا قلت: جعلت زيدا، وسكت، لم يفد الكلام حتى تقول رئيسا أو ذليلا أو ما أشبه ذلك، لاقتضاء الجعل مفعولين، ولأنك إذا أضفت الأكابر، فقد أضفت الصفة إلى الموصوف، وذلك لا يجوز عند البصريين.
المسألة الثالثة: صار تقدير الآية: جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ليمكروا فيها، وذلك يقتضي أنه تعالى إنما جعلهم بهذه الصفة، لأنه أراد منهم أن يمكروا بالناس، فهذا أيضا يدل على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى.
أجاب الجبائي عنه: بأن حمل هذه اللام على لام العاقبة. وذكر غيره أنه تعالى لما لم يمنعهم عن المكر صار شبيها بما إذا أراد ذلك، فجاء الكلام على سبيل التشبيه، وهذا السؤال مع جوابه قد تكرر مرارا خارجة عن الحد والحصر.
المسألة الرابعة: قال الزجاج: إنما جعل المجرمين أكابر، لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم، ولأن كثرة المال وقوة الجاه تحمل الإنسان على المبالغة في حفظهما، وذلك الحفظ لا يتم إلا بجميع الأخلاق الذميمة من الغدر والمكر، والكذب، والغيبة، والنميمة، والإيمان الكاذبة، ولو لم يكن للمال والجاه عيب سوى أن الله تعالى حكم بأنه إنما وصف بهذه الصفات الذميمة من كان له مال وجاه، لكفى ذلك دليلا على خساسة المال والجاه. ثم قال تعالى: *
(وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) * والمراد منه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى، وهي قوله: * (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) * وقد ذكرنا حقيقة ذلك في أول سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (الله يستهزئ بهم) * قالت المعتزلة: لا شك أن قوله: * (وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) * مذكور في معرض التهديد والزجر، فلو كان ما قبل هذه الآية يدل على أنه تعالى أراد منهم أن يمكروا بالناس، فكيف يليق بالرحيم الكريم الحكيم الحليم أن يريد منهم المكر، ويخلق فيهم المكر، ثم يهددهم عليه ويعاقبهم أشد العقاب عليه؟ واعلم أن معارضة هذا الكلام
174

بالوجوه المشهورة قد ذكرناها مرارا.
قوله تعالى
* (وإذا جآءتهم ءاية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتى رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) *.
اعلم أنه تعالى حكى عن مكر هؤلاء الكفار وحسدهم أنهم متى ظهرت لهم معجزة قاهرة تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: لن نؤمن حتى يحصل لنا مثل هذا المنصب من عند الله، وهذا يدل على نهاية حسدهم، وأنهم إنما بقوا مصرين على الكفر لا لطلب الحجة والدلائل، بل لنهاية الحسد. قال المفسرون: قال الوليد بن المغيرة: والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد، فإني أكثر منه مالا وولدا، فنزلت هذه الآية. وقال الضحاك: أراد كل واحد منهم أن يخص بالوحي والرسالة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله: * (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) * فظاهر الآية التي نحن في تفسيرها يدل على ذلك أيضا لأنه تعالى قال: * (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) * وهذا يدل على أن جماعة منهم كانوا يقولون هذا الكلام. وأيضا فما قبل هذه الآية يدل على ذلك أيضا، وهو قوله: * (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها) * ثم ذكر عقيب تلك الآية أنهم قالوا: * (لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) * وظاهره يدل على أن المكر المذكور في الآية الأولى هو هذا الكلام الخبيث.
وأما قوله تعالى: * (لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) * ففيه قولان:
القول الأول: وهو المشهور، أراد القوم أن تحصل لهم النبوة والرسالة، كما حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام، وأن يكونوا متبوعين لا تابعين، ومخدومين لا خادمين.
والقول الثاني: وهو قول الحسن، ومنقول عن ابن عباس: أن المعنى، وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع النبي. قالوا: * (لن نؤمن حتى تؤتى مثل ما أوتي رسل الله) * وهو قول مشركي العرب * (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * إلى قوله: * (حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) *
175

من الله إلى أبي جهل، وإلى فلان وفلان كتابا على حدة، وعلى هذا التقدير: فالقوم ما طلبوا النبوة، وإنما طلبوا أن تأتيهم آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين كي تدل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام. قال المحققون: والقول الأول أقوى وأولى، لأن قوله: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * لا يليق إلا بالقول الأول، ولمن ينصر القول الثاني أن يقول: إنهم لما اقترحوا تلك الآيات القاهرة، فلو أجابهم الله إليها وأظهر تلك المعجزات على وفق التماسهم، لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة، وحينئذ يصلح أن يكون قوله: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * جوابا على هذا الكلام.
وأما قوله: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * فالمعنى أن للرسالة موضعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه، فمن كان مخصوصا موصوفا بتلك الصفات التي لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله تعالى.
واعلم أن الناس اختلفوا في هذه المسألة، فقال بعضهم: النفوس والأرواح متساوية في تمام الماهية، فحصول النبوة والرسالة لبعضها دون البعض تشريف من الله وإحسان وتفضل. وقال آخرون: بل النفوس البشرية مختلفة بجواهرها وماهياتها، فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة. وبعضها خسيسة كدرة محبة للجسمانيات، فالنفس ما لم تكن من القسم الأول، لم تصلح لقبول الوحي والرسالة. ثم إن القسم الأول يقع الاختلاف فيه بالزيادة والنقصان والقوة والضعف إلى مراتب لا نهاية لها، فلا جرم كانت مراتب الرسل مختلفة، فمنهم من حصلت له المعجزات القوية والتبع القليل، ومنهم من حصلت له معجزة واحدة أو اثنتان وحصل له تبع عظيم، ومنهم من كان الرفق غالبا عليه، ومنهم من كان التشديد غالبا عليه، وهذا النوع من البحث فيه استقصاء، ولا يليق ذكره بهذا الموضع وقوله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * فيه تنبيه على دقيقة أخرى. وهي: أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر، والغل والحسد. وقوله: * (لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) * عين المكر والغدر والحسد، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات؟ ثم بين تعالى أنهم لكونهم موصوفين بهذه الصفات الذميمة سيصيبهم صغار عند الله وعذاب شديد وتقريره أن الثواب لا يتم إلا بأمرين، التعظيم والمنفعة، والعقاب أيضا إنما يتم بأمرين: الإهانة والضرر. والله تعالى توعدهم بمجموع هذين الأمرين، في هذه الآية، أما الإهابة فقوله: * (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد) * (الأنعام: 124) وإنما قدم ذكر الصغار على ذكر الضرر، لأن القوم إنما تمردوا عن طاعة
176

محمد عليه الصلاة والسلام طلبا للعز والكرامة، فالله تعالى بين أنه يقابلهم بضد مطلوبهم، فأول ما يوصل إليهم إنما يوصل الصغار والذل والهوان، وفي قوله: * (صغار عند الله) * وجوه: الأول: أن يكون المراد أن هذا الصغار إنما يحصل في الآخرة، حيث لا حاكم ينفذ حكمه سواه. والثاني: أنهم يصيبهم صغار بحكم الله وإيجابه في در الدنيا، فلما كان ذلك الصغار هذا حاله، جاز أن يضاف إلى عند الله. الثالث: أن يكون المراد * (سيصيب الذين أجرموا صغار) * ثم استأنف. وقال
: * (عند الله) * أي معد لهم ذلك، والمقصود منه التأكيد، الرابع: أن يكون المراد صغار من عند الله، وعلى هذا التقدير: فلا بد من إضمار كلمة " من " وأما بيان الضرر والعذاب، فهو قوله: * (وعذاب شديد) * فحصل بهذا الكلام أنه تعالى أعد لهم الخزي العظيم والعذاب الشديد، ثم بين أن ذلك إنما يصيبهم لأجل مكرهم وكذبهم وحسدهم.
قوله تعالى
* (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد فى السمآء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن الضلال والهداية من الله تعالى.
واعلم أن هذه الآية كما أن لفظها يدل على قولنا، فلفظها أيضا يدل على الدليل القاطع العقلي الذي في هذه المسألة، وبيانه أن العبد قادر على الإيمان وقادر على الفكر، فقدرته بالنسبة إلى هذين الأمرين حاصلة على السوية، فيمتنع صدور الإيمان عنه بدلا من الكفر أو الكفر بدلا من الإيمان، إلا إذا حصل في القلب داعية إليه، وقد بينا ذلك مرارا كثيرة في هذا الكتاب، وتلك الداعية لا معنى لها إلا علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملا على مصلحة زائدة ومنفعة راجحة، فإنه إذا حصل هذا المعنى في القلب دعاه ذلك إلى فعل ذلك الشيء، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أن ظن بكون ذلك الفعل مشتملا على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى
177

تركه، وبينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي لا بد وأن يكون من الله تعالى، وأن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل.
إذا ثبت هذا فنقول: يستحيل أن يصدر الإيمان عن العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة زائد المصلحة، وإذا حصل في القلب هذا الاعتقاد مال القلب، وحصل في النفس رغبة شديدة في تحصيله، وهذا هو انشراح الصدر للإيمان. فأما إذا حصل في القلب اعتقاد أن الإيمان بمحمد مثلا سبب مفسدة عظيمة في الدين والدنيا، ويوجب المضار الكثيرة فعند هذا يترتب على حصول هذا الاعتقاد نفرة شديدة عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، وهذا هو المراد من أنه تعالى يجعل صدره ضيقا حرجا، فصار تقدير الآية: أن من أراد الله تعالى منه الإيمان قوى دواعيه إلى الإيمان، ومن أراد الله منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان، وقوى دواعيه إلى الكفر. ولما ثبت بالدليل العقلي أن الأمر كذلك، ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية، وإذا انطبق قاطع البرهان على صريح لفظ القرآن، فليس وراءه بيان ولا برهان. قالت المعتزلة: لنا في هذه الآية مقامان:
المقام الأول: بيان أنه لا دلالة في هذه الآية على قولكم.
المقام الثاني: مقام التأويل المطابق لمذهبنا وقولنا.
أما المقام الأول: فتقريره من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الآية ليس فيها أنه تعالى أضل قوما أو يضلهم، لأنه ليس فيها أكثر من أنه متى أراد أن يهدي إنسانا فعل به كيت وكيت، وإذا أراد إضلاله فعل به كيت وكيت، وليس في الآية أنه تعالى يريد ذلك أو لا يريده. والدليل عليه أنه تعالى قال: * (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) * (الأنبياء: 17) فبين تعالى أنه يفعل اللهو لو أراده، ولا خلاف أنه تعالى لا يريد ذلك ولا يفعله.
الوجه الثاني: أنه تعالى لم يقل: ومن يرد أن يضله عن الإسلام، بل قال: * (ومن يرد أن يضله) * فلم قلتم أن المراد؟ ومن يرد أن يضله عن الإيمان.
والوجه الثالث: أنه تعالى بين في آخر الآية أنه إنما يفعل هذا الفعل بهذا الكافر جزاء على كفره، وأنه ليس ذلك على سبيل الابتداء، فقال: * (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) * (الأنعام: 125).
الوجه الرابع: أن قوله: * (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) * فهذا يشعر بأن جعل الصدر ضيقا حرجا يتقدم حصوله على حصول الضلالة، وأن لحصول ذلك المتقدم أثرا في حصول
178

الضلال وذلك باطل بالإجماع. أما عندنا: فلا نقول به. وأما عندكم: فلأن المقتضى لحصول الجهل والضلال هو أن الله تعالى يخلقه فيه لقدرته. فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن هذه الآية لا تدل على قولكم.
أما المقام الثاني: وهو أن تفسير هذه الآية على وجه يليق بقولنا، فتقريره من وجوه: الأول: وهو الذي اختاره الجبائي، ونصره القاضي، فنقول: تقدير الآية: ومن يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة، يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه، ولا يزول عنه، وتفسير هذا الشرح هو أنه تعالى يفعل به ألطافا تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه، وفي هذا النوع ألطاف لا يمكن فعلها بالمؤمن، إلا بعد أن يصير مؤمنا، وهي بعد أن يصير الرجل مؤمنا يدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) * (التغابن: 11) وبقوله: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * (العنكبوت: 69) فإذا آمن عبد وأراد الله ثباته فحينئذ يشرح صدره، أي يفعل به الألطاف التي تقتضي ثباته على الإيمان ودوامه عليه. فأما إذا كفر وعاند، وأراد الله تعالى أن يضله عن طريق الجنة، فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج. ثم سأل الجبائي نفسه وقال: كيف يصح ذلك ونجد الكفار طيبي النفوس لا غم لهم البتة ولا حزن؟
وأجاب عنه: بأنه تعالى لم يخبر بأنه يفعل بهم ذلك في كل وقت فلا يمتنع كونهم في بعض الأوقات طيبي القلوب. وسأل القاضي نفسه على هذا الجواب سؤالا آخر فقال: فيجب أن تقطعوا في كل كافر بأنه يجد من نفسه ذلك الضيق والحرج في بعض الأوقات.
وأجاب عنه بأن قال: وكذلك نقول ودفع ذلك لا يمكن خصوصا عند ورود أدلة الله تعالى وعند ظهور نصرة الله للمؤمنين، وعند ظهور الذلة والصغار فيهم، هذا غاية تقرير هذا الجواب.
والوجه الثاني: في التأويل قالوا لم لا يجوز أن يقال: المراد فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام؟ أي يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة، لأنه لما رأى أن بسبب الإيمان وجد هذه الدرجة العالية، والمرتبة الشريفة يزداد رغبة في الإيمان، ويحصل في قلبه مزيد انشراح وميل إليه، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة، ففي ذلك الوقت يضيق صدره، ويحرج صدره بسبب الحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنة والدخول في النار. قالوا: فهذا وجه قريب واللفظ محتمل له، فوجب حمل اللفظ عليه.
والوجه الثالث: في التأويل أن يقال: حصل في الكلام تقديم وتأخير، فيكون المعنى من شرح صدر نفسه بالإيمان فقد أراد الله أن يهديه أي يخصه بالألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان، أو يهديه بمعنى أنه يهديه إلى طريق الجنة، ومن جعل صدره ضيقا حرجا عن الإيمان،
179

فقد أراد الله أن يضله عن طريق الجنة، أو يضله بمعنى أنه يحرمه عن الألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان، فهذا هو مجموع كلامهم في هذا الباب.
والجواب عما قالوه أولا: من أن الله تعالى لم يقل في هذه الآية أنه يضله، بل المذكور فيه أنه لو أراد أن يضله لفعل كذا وكذا.
فنقول: قوله تعالى في آخر الآية: * (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) * تصريح بأنه يفعل بهم ذلك الإضلال لأن حرف " الكاف " في قوله: * (كذلك) * يفيد التشبيه، والتقدير: وكما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره، فكذلك نجعل الرجس على قلوب الذين لا يؤمنون.
والجواب عما قالوه ثانيا وهو قوله: ومن يرد الله أن يضله عن الدين.
فنقول: إن قوله في آخر الآية: * (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) * تصريح بأن المراد من قوله: * (ومن يرد أن يضله) * هو أنه يضله عن الدين.
والجواب عما قالوه ثالثا: من أن قوله: * (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) * يدل على أنه تعالى إنما يلقي ذلك الضيق والحرج في صدورهم جزاء على كفرهم.
فنقول: لا نسلم أن المراد ذلك، بل المراد كذلك يجعل الله الرجس على قلوب الذين قضي عليهم بأنهم لا يؤمنون، وإذا حملنا هذه الآية على هذا الوجه، سقط ما ذكروه.
والجواب عما قالوه رابعا: من أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون ضيق الصدر وحرجه شيئا متقدما على الضلال وموجبا له.
فنقول: الأمر كذلك، لأنه تعالى إذا خلق في قلبه اعتقادا بأن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يوجب الذم في الدنيا والعقوبة في الآخرة، فهذا الاعتقاد يوجب إعراض النفس ونفور القلب عن قبول ذلك الإيمان ويحصل في ذلك القلب نفرة ونبوة عن قبول ذلك الإيمان وهذه الحالة شبيهة بالضيق الشديد، لأن الطريق إذا كان ضيقا لم يقدر الداخل على أن يدخل فيه، فكذلك القلب إذا حصل فيه هذا الاعتقاد امتنع دخول الإيمان فيه، فلأجل حصول هذه المشابهة من هذا الوجه، أطلق لفظ الضيق والحرج عليه، فقد سقط هذا الكلام.
وأما الوجه الأول: من التأويلات الثلاثة التي ذكروها.
فالجواب عنه: أن حاصل ذلك الكلام يرجع إلى تفصيل الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر، وهذا بعيد، لأنه تعالى ميز الكافر عن المؤمن بهذا الضيق والحرج، فلو
180

كان المراد منه حصول الغم والحزن في قلب الكافر، لوجب أن يكون ما يحصل في قلب الكافر من الغموم والهموم والأحزان أزيد مما يحصل في قلب المؤمن زيادة يعرفها كل أحد، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك، بل الأمر في حزن الكافر والمؤمن على السوية، بل الحزم والبلاء في حق المؤمن أكثر. قال تعالى: * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) * وقال عليه السلام: " خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل ".
وأما الوجه الثاني: من التأويلات الثلاثة فهو أيضا مدفوع، لأنه يرجع حاصله إلى إيضاح الواضحات لأن كل أحد يعلم بالضرورة أن كل من هداه الله تعالى إلى الجنة بسبب الإيمان فإنه يفرح بسبب تلك الهداية وينشرح صدره للإيمان مزيد انشراح في ذلك الوقت. وكذلك القول في قوله: * (ومن يرد أن يضله) * (الزخرف: 33) المراد من يضله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت فإن حصول هذا المعنى معلوم بالضرورة، فحمل الآية عليه إخراج لهذه الآية من الفائدة.
وأما الوجه الثالث: من الوجوه الثلاثة، فهو يقتضي تفكيك نظم الآية، وذلك لأن الآية تقتضي أن يحصل انشراح الصدر من قبل الله أولا، ثم يترتب عليه حصول الهداية والإيمان، وأنتم عكستم القضية فقلتم العبد يجعل نفسه أولا منشرح الصدر، ثم إن الله تعالى بعد ذلك يهديه بمعنى أنه يخصه بمزيد الألطاف الداعية له إلى الثبات على الإيمان، والدلائل اللفظية إنما يمكن التمسك بها إذا أبقينا ما فيها من التركيبات والترتيبات فأما إذا أبطلناها وأزلناها لم يمكن التمسك بشيء منها أصلا، وفتح هذا الباب يوجب أن لا يمكن التمسك بشيء من الآيات، وإنه طعن في القرآن وإخراج له عن كونه حجة، فهذا هو الكلام الفصل في هذه السؤالات، ثم إنا نختم الكلام في هذه المسألة بهذه الخاتمة القاهرة، وهي أنا بينا أن فعل الإيمان يتوقف على أن يحصل في القلب داعية جازمة إلى فعل الإيمان وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى، وكذلك القول في جانب الكفر ولفظ الآية منطبق على هذا المعنى، لأن تقدير الآية فمن يرد الله أن يهديه قوى في قلبه ما يدعوه إلى الإيمان ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه
عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر، وقد ثبت بالبرهان العقلي أن الأمر يجب أن يكون كذلك، وعلى هذا التقدير: فجميع ما ذكرتموه من السؤالات ساقط، والله تعالى أعلم بالصواب.
المسألة الثالثة: في تفسير ألفاظ الآية، أما شرح الصدر ففي تفسير وجهان:
الوجه الأول: قال الليث: يقال شرح الله صدره فانشرح أي وسع صدره لقبول ذلك الأمر فتوسع. وأقول: إن الليث فسر شرح الصدر بتوسيع الصدر، ولا شك أنه ليس المراد منه أن
181

يوسع صدره على سبيل الحقيقة، لأنه لا شبهة أن ذلك محال، بل لا بد من تفسير توسيع الصدر فنقول: تحقيقه ما ذكرناه فيما تقدم ولا بأس بإعادته، فنقول إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إليه، وقويت رغبته في حصوله وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله، فتسمى هذه الحالة بسعة النفس، وإذا اعتقد في عمل من الأعمال أن شره زائد وضرره راجح عظمت النفرة عنه وحصل في الطبع نفرة ونبوة عن قبوله، ومعلوم أن الطريق إذا كان ضيقا لم يتمكن الداخل من الدخول فيه، وإذا كان واسعا قدر الداخل على الدخول فيه فإذا حصل اعتقاد أن الأمر الفلاني زائد النفع والخير وحصل الميل إليه، فقد حصل ذلك الميل في ذلك القلب، فقيل: اتسع الصدر له وإذا حصل اعتقاد أنه زائد الضرر والمفسدة لم يحصل في القلب ميل إليه فقيل إنه ضيق فقد صار الصدر شبيها بالطريق الضيق الذي لا يمكن الدخول فيه، فهذا تحقيق الكلام في سعة الصدر وضيقه.
والوجه الثاني: في تفسير الشرح يقال: شرح فلان أمره إذا أظهره وأوضحه وشرح المسألة إذا كانت مشكلة فبينها.
واعلم أن لفظ الشرح غير مختص بالجانب الحق، لأنه وارد في الإسلام في قوله: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) * (الزمر: 22) وفي الكفر في قوله: * (ولكن من شرح بالكفر صدرا) * (النحل: 106) قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل له: كيف يشرح الله صدره؟ فقال عليه السلام: " يقذف فيه نورا حتى ينفسح وينشرح " فقيل له وهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال عليه السلام: " الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت " وأقول هذا الحديث من أدل الدلائل على صحة ما ذكرناه في تفسير شرح الله الصدر، وتقريره أن الإنسان إذا تصور أن الاشتغال بعمل الآخرة زائد النفع والخير، وأن الاشتغال بعمل الدنيا زائد الضرر والشر، فإذا حصل الجزم بذلك إما بالبرهان أو بالتجربة أو التقليد لا بد وأن يترتب على حصول هذا الاعتقاد حصول الرغبة في الآخرة، وهو المراد من الإنابة إلى دار الخلود والنفرة عن دار الدنيا، وهو المراد من التجافي عن دار الغرور، وأما الاستعداد للموت قبل نزول الموت فهو مشتمل على الأمرين، أعني النفرة عن الدنيا والرغبة في الآخرة.
إذا عرفت هذا فنقول: الداعي إلى الفعل لا بد وأن يحصل قبل حصول الفعل، وشرح الصدر للإيمان عبارة عن حصول الداعي إلى الإيمان، فلهذا المعنى أشعر ظاهر هذه الآية بأن شرح الصدر متقدم على حصول الإسلام، وكذا القول في جانب الكفر.
أما قوله: * (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) * ففيه مباحث:
182

البحث الأول: قرأ ابن كثير * (ضيقا) * ساكنة الياء وكذا في كل القرآن، والباقون مشددة الياء مكسورة، فيحتمل أن يكون المشدد والمخفف بمعنى واحد، كسيد وسيد، وهين وهين ولين ولين، وميت وميت، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم * (حرجا) * بكسر الراء، والباقون بفتحها قال الفراء: وهو في كسره ونصبه بمنزلة الوجل والوجل، والقرد والقرد، والدنف والدنف. قال الزجاج: الحرج في اللغة أضيق الضيق ومعناه: أنه ضيق جدا، فمن قال: أنه رجل حرج الصدر بفتح الراء فمعناه: ذو حرج في صدره، ومن قال: حرج جعله فاعلا، وكذلك رجل دنف ذو دنف، ودنف نعت.
البحث الثاني: قال بعضهم: الحرج، بكسر الراء الضيق، والحرج بالفتح جمع حرجة، وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية. وحكى الواحدي في هذا الباب حكايتين: إحداهما: روى عن عبيد بن عمير عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال: هل ههنا أحد من بني بكر. قال رجل: نعم. قال: ما الحرجة فيكم. قال: الوادي الكثير الشجر المشتبك الذي لا طريق فيه. فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر. والثانية: روى الواحدي عن أبي الصلت الثقفي قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية، ثم قال: ائتوني برجل من كنانة جعلوه راعيا فأتوا به، فقال له عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم. قال: الحرجة فينا الشجرة تحدق بها الأشجار فلا يصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير.
أما قوله تعالى: * (كأنما يصعد في السماء) * ففيه بحثان:
البحث الأول: قرأ ابن كثير * (يصعد) * ساكنة الصاد وقرأ أبو بكر عن عاصم * (يصاعد) * بالألف وتشديد الصاد بمعنى يتصاعد، والباقون * (يصعد) * بتشديد الصاد والعين بغير ألف، أما قراءة ابن كثير * (يصعد) * فهي من الصعود، والمعنى: أنه في نفوره عن الإسلام وثقله عليه بمنزلة من تكلف الصعود إلى السماء، فكما أن ذلك التكليف ثقيل على القلب، فكذلك الإيمان ثقيل على قلب الكافر وأما قراءة أبي بكر * (يصاعد) * فهو مثل يتصاعد. وأما قراءة الباقين * (يصعد) * فهي بمعنى يتصعد، فأدغمت التاء في الصاد ومعنى يتصعد يتكلف ما يثقل عليه.
البحث الثاني: في كيفية هذا التشبيه وجهان: الأول: كما أن الإنسان إذا كلف الصعود إلى السماء ثقل ذلك التكليف عليه، وعظم وصعب عليه، وقويت نفرته عنه، فكذلك الكافر يثقل عليه الإيمان وتعظم نفرته عنه. والثاني: أن يكون التقدير أن قلبه ينبو عن الإسلام ويتباعد عن قبول الإيمان، فشبه ذلك البعد ببعد من يصعد من الأرض إلى السماء.
183

أما قوله: * (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) * ففيه بحثان:
البحث الأول: الكاف في قوله: * (كذلك) * يفيد التشبيه بشيء، وفيه وجهان: الأول: التقدير أن يجعل الله الرجس عليهم كجعله ضيق الصدر في قلوبهم. والثاني: قال الزجاج التقدير: مثل ما قصصنا عليك، يجعل الله الرجس.
البحث الثاني: اختلفوا في تفسير * (الرجس) * فقال ابن عباس: هو الشيطان يسلطه الله عليهم وقال مجاهد: * (الرجس) * مالا خير فيه. وقال عطاء: * (الرجس) * العذاب. وقال الزجاج: * (الرجس) * اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
ولنختم تفسير هذه الآية بما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال تذاكرنا في أمر القدرية عند ابن عمر. فقال: لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا، منهم نبينا صلى الله عليه وسلم. فإذا كان يوم القيامة نادى مناد، وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله، فتقوم القدرية وقد أورد القاضي هذا الحديث في تفسيره. وقال: هذا الحديث من أقوى ما يدل على أن القدرية هم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله تعالى قضاء وقدرا وخلقا، لأن الذين يقولون هذا القول، هم خصماء الله، لأنهم يقولون لله أي ذنب لنا حتى تعاقبنا، وأنت الذي خلقته فينا وإرادته منا، وقضيته علينا، ولم تخلقنا إلا له، وما يسرت لنا غيره، فهؤلاء لا بد وأن يكونوا خصماء الله بسبب هذه الحجة أما الذين قالوا: إن الله مكن وأزاح العلة، وإنما أتى العبد من قبل نفسه، فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة، فلا يكونون خصماء الله، بل يكونون منقادين لله هذا كلام القاضي وهو عجيب جدا وذلك لأنه يقال له يبعد منك أنك ما عرفت من مذاهب خصومك أنه ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه، وأن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب، وليس للعبد على الرب اعتراض ولا مناظرة، فكيف يصير الإنسان الذي هذا دينه واعتقاده خصما لله تعالى. أما الذين يكونون خصماء لله فهم المعتزلة وتقريره من وجوه: الأول: أنه يدعي عليه وجوب الثواب والعوض، ويقول: لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولا عن الربوبية وصرت من جملة السفهاء، فهذا الذي مذهبه واعتقاده ذلك هو الخصم لله تعالى. والثاني: أن من واظب على الكفر سبعين سنة، ثم إنه في آخر زمن حياته قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب، ثم مات، ثم إن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة والدرجات الزائدة ألف ألف سنة، ثم أراد أن يقطع تلك النعم عنه لحظة واحدة، فذلك العبد يقول: أيها الإله إياك، ثم إياك أن تترك ذلك لحظة واحدة، فإنك إن تركته لحظة واحدة صرت معزولا عن الإلهية
184

والحاصل: أن إقدام ذلك العبد على ذلك الإيمان لحظة واحدة أوجب على الإله إيصال تلك النعم مدة لا آخر لها، ولا طريق له البتة إلى الخلاص عن هذه العهدة، فهذا هو الخصومة. أما من يقول إنه لا حق لأحد من الملائكة والأنبياء على الله تعالى. وكل ما يوصل إليهم من الثواب فهو تفضل وإحسان من الله تعالى، فهذا لا يكون خصما.
والوجه الثالث: في تقرير هذه الخصومة ما حكى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن يوما من الأيام عقد الجبائي مجلس التذكير وحضر عنده عالم من الناس، وذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس، وجلس في بعض الجوانب مختفيا عن الجبائي، وقال لبعض من حضر هناك من العجائز إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد كان في غاية الدين والزهد، والثاني كان في غاية الكفر والفسق، والثالث كان صبيا لم يبلغ، فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم. فقال الجبائي: أما الزاهد، ففي درجات الجنة، وأما الكافر، ففي دركات النار، وأما الصبي، فمن أهل السلامة. قال قولي له: لو أن الصبي أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد هل يمكن منه. فقال الجبائي: لا لأن الله يقول له إنما وصل إلى تلك الدرجات العالية بسبب أنه أتعب نفسه في العلم والعمل. وأنت فليس معك ذاك فقال أبو الحسن: قولي له لو أن الصبي حينئذ يقول: يا رب العالمين ليس الذنب لي، لأنك أمتني قبل البلوغ ولو أمهلتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد والدين. فقال الجبائي: يقول الله له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار، فقبل أن تصل إلى تلك الحالة راعيت مصلحتك وأمتك حتى تنجو من العقاب، فقال أبو الحسن: قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار، فقال: يا رب العالمين، ويا أحكم الحاكمين، ويا أرحم الراحمين، كما علمت من ذلك الأخ الصغير أنه لو بلغ كفر علمت مني ذلك، فلم راعيت مصلحته وما راعيت مصلحتي؟ قال الراوي: فلما وصل الكلام إلى هذا الموضع انقطع الجبائي. فلما نظر رأى أبا الحسن، فعلم أن هذه المسألة منه، لا من العجوز، ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار أو أكثر من بعد الجبائي فأراد أن يجيب عن هذا السؤال، فقال: نحن لا نرضى في حق هؤلاء الأخوة الثلاثة بهذا الجواب الذي ذكرتم، بل لنا ههنا جوابان آخران سوى ما ذكرتم، ثم قال: وهو مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها، وهي أنه هل يجب على الله أن يكلف العبد أم لا؟ فقال البصريون: التكليف محض التفضل والإحسان، وهو غير واجب على الله تعالى. وقال البغداديون: إنه واجب
185

على الله تعالى. قال: فإن فرعنا على قول البصريين، فلله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد، وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلا على أخيك الزاهد بهذا الفضل أن أكون متفضلا عليك بمثله. وأما إن فرعنا على قول البغداديين. فالجواب أن يقال: إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف عليه كان إحسانا في حقه، ولم يلزم منه عود مفسدة إلى الغير فلا جرم فعلته وأما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك كان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك، فلهذا السبب ما فعلت ذلك في حقك فظهر الفرق. هذا تلخيص كلام أبي الحسين البصري سعيا منه في تخليص شيخه المتقدم عن سؤال الأشعري، بل سعيا منه في تخليص إلهه عن سؤال العبد، وأقول قبل الخوض في الجواب عن كلام أبي الحسين: صحة هذه المناظرة الدقيقة بين العبد وبين الله، إنما لزمت على قول المعتزلة. وأما على قول أصحابنا رحمهم الله فلا مناظرة البتة بين العبد وبين الرب، وليس للعبد أن يقول لربه، لم فعلت كذا؟ أو ما فعلت كذا. فثبت أن خصماء الله هم المعتزلة، لا أهل السنة
، وذلك يقوي غرضنا ويحصل مقصودنا، ثم نقول:
أما الجواب الأول: وهو أن إطالة العمر وتوجيه التكليف تفضل، فيجوز أن يخص به بعضا دون بعض. فنقول: هذا الكلام مدفوع، لأنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما، فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح من الله تعالى، لأن الإيصال إلى هذا الثاني، ليس فعلا شاقا على الله تعالى، ولا يوجب دخول نقصان في ملكه بوجه من الوجوه، وهذا الثاني يحتاج إلى ذلك التفضل ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد. ألا ترى أن من منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجدار لعامة الناس قبح ذلك منه، لأنه منع من النفع من غير اندفاع ضرر إليه، ولا وصول نفع إليه فإن كان حكم العقل بالتحسين والتقبيح مقبولا، فليكن مقبولا ههنا، وإن لم يكن مقبولا لم يكن مقبولا البتة في شيء من المواضع، وتبطل كلية مذهبكم. فثبت أن هذا الجواب فاسد.
وأما الجواب الثاني: فهو أيضا فاسد، وذلك لأن قولنا تكليفه يتضمن مفسدة ليس معناه أن هذا التكليف يوجب لذاته حصول تلك المفسدة، وإلا لزم أن تحصل هذه المفسدة أبدا في حق الكل وأنه باطل، بل معناه: أن الله تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص، فإن إنسانا آخر يختار من قبل نفسه فعلا قبيحا، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تكليفه، فكذلك قد علم من ذلك الكافر أنه إذا كلفه فإنه يختار الكفر عند ذلك التكليف، فوجب أن يترك تكليفه، وذلك يوجب قبح تكليف من علم الله من حاله أنه يكفر، وإن لم يجب ههنا لم يجب هنالك، وأما القول بأنه يجب عليه تعالى ترك التكليف إذا علم أن غيره يختار فعلا قبيحا عند ذلك التكليف، ولا يجب عليه تركه
186

إذا علم تعالى أن ذلك الشخص يختار القبيح عند ذلك التكليف، فهذا محض التحكم. فثبت أن الجواب الذي استخرجه أبو الحسين بلطيف فكره، ودقيق نظره بعد أربعة أدوار ضعيف، وظهر أن خصماء الله هم المعتزلة، لا أصحابنا، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وهذا) * إشارة إلى مذكور تقدم ذكره. وفيه قولان: الأول: وهو الأقوى عندي أنه إشارة إلى ما ذكره وقرره في الآية المتقدمة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى، فوجب كون الفعل من الله تعالى، وذلك يوجب التوحيد المحض وهو كونه تعالى مبدئا لجميع الكائنات والممكنات، وإنما سماه صراطا لأن العلم به يؤدي إلى العلم بالتوحيد الحق، وإنما وصفه بكونه مستقيما لأن قول المعتزلة غير مستقيم، وذلك لأن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إما أن يتوقف على المرجح أو لا يتوقف، فإن توقف على المرجح لزم أن يقال الفعل لا يصدر عن القادر إلا عند انضمام الداعي إليه، وحينئذ يتم قولنا ويكون الكل بقضاء الله وقدره ويبطل قول المعتزلة، وإما أن لا يتوقف رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر على مرجح وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات، وحينئذ يلزم نفي الصنع والصانع وإبطال القول بالفعل والفاعل والتأثير والمؤثر. فأما القول بأن هذا الرجحان يحتاج إلى المؤثر في بعض الصور دون البعض كما يقوله هؤلاء المعتزلة فهو معوج غير مستقيم، إنما المستقيم هو الحكم بثبوت الحاجة على الإطلاق، وذلك يوجب عين مذهبنا. فهذا القول هو المختار عندي في تفسير هذه الآية.
القول الثاني: أن قوله: * (وهذا صراط ربك مستقيما) * إشارة إلى كل ما سبق ذكره في كل القرآن قال ابن عباس: يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك مستقيما وقال ابن مسعود يعني القرآن. والقول الأول أولى. لأن عود الإشارة إلى أقرب المذكورات أولى.
وإذا ثبت هذا فنقول: لما أمر الله تعالى بمتابعة ما في الآية المتقدمة وجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى إذا ذكر شيئا وبالغ في الأمر بالتمسك به والرجوع إليه والتعويل عليه وجب أن يكون من المحكمات. فثبت أن الآية المتقدمة من المحكمات وأنه يجب إجراؤها
187

على ظاهرها ويحرم التصرف فيها بالتأويل.
المسألة الثانية: قال الواحدي: انتصب مستقيما على الحال، والعامل فيه معنى " هذا " وذلك لأن " ذا " يتضمن معنى الإشارة، كقولك: هذا زيد قائما معناه أشير إليه في حال قيامه، وإذا كان العامل في الحال معنى الفعل لا الفعل، لم يجز تقديم الحال عليه لا يجوز قائما هذا زيد، ويجوز ضاحكا جاء زيد.
أما قوله: * (قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) *.
فنقول: أما تفصيل الآيات فمعناه ذكرها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر، والله تعالى قد بين صحة القول بالقضاء والقدر في آيات كثيرة من هذه السورة متوالية متعاقبة، بطرق كثيرة ووجوه مختلفة. وأما قوله: * (لقوم يذكرون) * فالذي أظنه والعلم عند الله أنه تعالى إنما جعل مقطع هذه الآية هذه اللفظة لأنه تقرر في عقل كل واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجح على الآخر إلا لمرجح، فكأنه تعالى يقول للمعتزلي: أيها المعتزلي تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر، إلا لمرجح، حتى تزول الشبهة عن قلبك بالكلية في مسألة القضاء والقدر.
قوله تعالى
* (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين عظيم نعمه في الصراط المستقيم وبين أنه تعالى معد مهيئ لمن يكون من المذكورين بين الفائدة الشريفة التي تحصل من التمسك بذلك الصراط المستقيم، فقال: * (لهم دار السلام عند ربهم) * وفي هذه الآية تشريفات.
النوع الأول: قوله: * (لهم دار السلام) * وهذا يوجب الحصر، فمعناه: لهم دار السلام لا لغيرهم، وفي قوله: * (دار السلام) * قولان:
القول الأول: أن السلام من أسماء الله تعالى، فدار السلام هي الدار المضافة إلى الله تعالى، كما قيل للكعبة - بيت الله تعالى - وللخليفة - عبد الله -.
والقول الثاني: أن السلام صفة الدار، ثم فيه وجهان: الأول: المعنى دار السلامة، والعرب تلحق هذه الهاء في كثير من المصادر وتحذفها يقولون ضلال وضلالة، وسفاه وسفاهة، ولذاذ ولذاذة، ورضاع ورضاعة. الثاني: أن السلام جمع السلامة، وإنما سميت الجنة بهذا الاسم لأن
188

أنواع السلامة حاصلة فيها بأسرها.
إذا عرفت هذين القولين: فالقائلون بالقول الأول قالوا به لأنه أولى، لأن إضافة الدار إلى الله تعالى نهاية في تشريفها وتعظيمها وإكبار قدرها، فكان ذكر هذه الإضافة مبالغة في تعظيم الأمر والقائلون بالقول الثاني رجحوا قولهم من وجهين: الأول: أن وصف الدار بكونها دار السلامة أدخل في الترغيب من إضافة الدار إلى الله تعالى، والثاني: أن وصف الله تعالى بأنه السلام في الأصل مجاز، وإنما وصف بذلك لأنه تعالى ذو السلام، فإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته كان أولى.
النوع الثاني: من الفوائد المذكورة في هذه الآية قوله: * (عند ربهم) * وفي تفسيره وجوه:
الوجه الأول: المراد أنه معد عنده تعالى كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة، ونظيره قوله تعالى: * (جزاؤهم عند ربهم) * وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها، وكونهم على ثقة من ذلك.
الوجه الثاني: وهو الأقرب إلى التحقيق أن قوله: * (عند ربهم) * يشعر بأن ذلك الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله تعالى، وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة، فوجب كونه بالشرف والعلو والرتبة، وذلك يدل على أن ذلك الشيء بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يعرف كنهه إلا الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: * (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) * (السجدة: 17).
الوجه الثالث: أنه قال في صفة الملائكة: * (ومن عنده لا يستكبرون) * وقال في صفة المؤمنين في الدنيا - أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي - وقال أيضا - أنا عند ظن عبدي بي - وقال في صفتهم يوم القيامة: * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) * (القمر: 55) وقال في دارهم: * (لهم دار السلام عند ربهم) * وقال في ثوابهم: * (جزاؤهم عند ربهم) * (البينة: 8) وذلك يدل على أن حصول كمال صفة العبودية بواسطة صفة العندية.
النوع الثالث: من التشريفات المذكورة في هذه الآية قوله: * (وهو وليهم) * والولي معناه القريب، فقوله: * (عند ربهم) * يدل على قربهم من الله تعالى، وقوله: * (وهو وليهم) * يدل على قرب الله منهم، ولا نرى في العقل درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة، وأيضا فقوله: * (وهو وليهم) * يفيد الحصر، أي لا ولي لهم إلا هو، وكيف وهذا التشريف إنما حصل على التوحيد المذكور في قوله: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) * فهؤلاء الأقوام قد عرفوا من هذه الآية أن المدبر والمقدر ليس إلا هو، وأن النافع والضار ليس إلا هو، وأن المسعد والمشقي ليس إلا هو، وأنه لا مبدئ للكائنات والممكنات إلا هو، فلما عرفوا هذا انقطعوا عن كل ما سواه، فما كان رجوعهم إلا إليه، وما كان توكلهم إلا عليه، وما كان أنسهم إلا به،
189

وما كان خضوعهم إلا له، فلما صاروا بالكلية، لا جرم قال تعالى: * (وهو وليهم) * وهذا إخبار بأنه تعالى متكفل بجميع مصالحهم في الدين والدنيا، ويدخل فيها الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة وإيصال الخيرات ودفع الآفات والبليات.
ثم قال تعالى: * (بما كانوا يعملون) * وإنما ذكر ذلك لئلا ينقطع المرء عن العمل، فإن العمل لا بد منه، وتحقيق القول فيه: أن بين النفس والبدن تعلقا شديدا، فكما أن الهيئات النفسانية قد تنزل من النفس إلى البدن، مثل ما إذا تصور أمرا مغضبا ظهر الأثر عليه في البدن، فيسخن البدن ويحمى، فكذلك الهيئات البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس، فإذا واظب الإنسان على أعمال البر والخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس، وذلك يدل على أن السالك لا بد له من العمل، وأنه لا سبيل له إلى تركه البتة.
قوله تعالى
* (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أوليآؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنآ أجلنا الذى أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شآء الله إن ربك حكيم عليم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتمسك بالصراط المستقيم، بين بعده حال من يكون بالضد من ذلك لتكون قصة أهل الجنة مردفة بقصة أهل النار، وليكون الوعيد مذكورا بعد الوعد، وفيه مسائل: المسألة الأولى: * (ويوم يحشرهم) * منصوب بمحذوف، أي واذكر يوم نحشرهم، أو يوم نحشرهم قلنا يا معشر الجن، أو يوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن، كان ما لا يوصف لفظاعته.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: * (ويوم يحشرهم) * إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: يعود إلى المعلوم، لا إلى المذكور، وهو الثقلان، وجميع المكلفين الذين علم أن الله يبعثهم. والثاني: أنه عائد إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * (الأنعام: 112).
190

المسألة الثالثة: في الآية محذوف والتقدير: يوم نحشرهم جميعا فنقول: يا معشر الجن، فيكون هذا القائل هو الله تعالى، كما أنه الحاشر لجميعهم، وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا تبكيتا وبيانا لجهة أنهم وإن تمردوا في الدنيا فينتهي حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف بالجرم. وقال الزجاج: التقدير
فيقال لهم يا معشر الجن، لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار، بدليل قوله تعالى في صفة الكفار: * (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) * (البقرة: 174). أما قوله تعالى: * (قد استكثرتم من الإنس) * فنقول: هذا لا بد فيه من التأويل. لأن الجن لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس، لأن القادر على الجسم وعلى الأحياء والفعل ليس إلا الله تعالى، فوجب أن يكون المراد قد استكثرتم من الدعاء إلى الضلال مع مصادفة القبول.
أما قوله: * (وقال أولياؤهم من الأنس) * فالأقرب أن فيه حذفا، فكما قال للجن تبكيتا، فكذلك قال للإنس توبيخا. لأنه حصل من الجن الدعاء، ومن الإنس القبول، والمشاركة حاصلة بين الفريقين، فلما بكت تعالى كلا الفريقين حكى ههنا جواب الإنس، وهو قولهم: ربنا استمتع بعضنا ببعض فوصفوا أنفسهم بالتوفر على منافع الدنيا، والاستمتاع بلذاتها إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي عنده أيقنوا بسوء عاقبتهم. ثم ههنا قولان: الأول: أن قولهم استمتع بعضنا ببعض، المراد منه أنه استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن، وعلى هذا القول ففي المراد بذلك الاستمتاع قولان:
القول الأول: أن معنى هذا الاستمتاع هو أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت آمنا في نفسه، فهذا استمتاع الإنس بالجن، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني، كان ذلك تعظيما منهم للجن، وذلك الجني يقول: قد سدت الجن والإنس، لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه، وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج واحتجوا على صحته بقوله تعالى: * (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) * (الجن: 6).
والوجه الثاني: في تفسير هذا الاستمتاع أن الإنس كانوا يطيعون الجن وينقادون لحكمهم فصار الجن كالرؤساء، والإنس كالأتباع والخادمين المطيعين المنقادين الذين لا يخالفون رئيسهم ومخدومهم في قليل ولا كثير، ولا شك أن هذا الرئيس قد انتفع بهذا الخادم، فهذا استمتاع الجن بالإنس. وأما استمتاع الإنس بالجن، فهو أن الجن كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات واللذات والطيبات ويسهلون تلك الأمور عليهم، وهذا القول اختيار الزجاج. قال: وهذا أولى من الوجه المتقدم، والدليل عليه قوله تعالى: * (قد استكثرتم من الإنس) * ومن كان يقول من الإنس أعوذ بسيد هذا الوادي، قليل.
191

والقول الثاني: أن قوله تعالى: * (ربنا استمتع بعضنا ببعض) * هو كلام الإنس خاصة، لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر لا يكاد يظهر. أما استمتاع بعض الإنس ببعض، فهو أمر ظاهر. فوجب حمل الكلام عليه، وأيضا قوله تعالى: * (وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض) * كلام الإنس الذين هم أولياء الجن، فوجب أن يكون المراد من استمتاع بعضهم ببعض استمتاع بعض أولئك القوم ببعض.
ثم قال تعالى حكاية عنهم: * (وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) * فالمعنى: أن ذلك الاستمتاع كان حاصلا إلى أجل معين ووقت محدود، ثم جاءت الخيبة والحسرة والندامة من حيث لا تنفع، واختلفوا في أن ذلك الأجل أي الأوقات؟ فقال بعضهم: هو وقت الموت. وقال آخرون: هو وقت التخلية والتمكين. وقال قوم: المراد وقت المحاسبة في القيامة، والذين قالوا بالقول الأول قالوا إنه يدل على أن كل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله، لأنهم أقروا أنا بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، وفيهم المقتول وغير المقتول.
ثم قال تعالى: * (قال النار مثواكم) * المثوى: المقام والمقر والمصير، ثم لا يبعد أن يكون للإنسان مقام ومقر ثم يموت ويتخلص بالموت عن ذلك المثوى، فبين تعالى أن ذلك المقام والمثوى مخلد مؤبد وهو قوله: * (خالدين فيها) *.
ثم قال تعالى: * (إلا ما شاء الله) * وفيه وجوه: الأول: أن المراد منه استثناء أوقات المحاسبة، لأن في تلك الأحوال ليسوا بخالدين في النار: الثاني: المراد، الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير. وروي أنهم يدخلون واديا فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد إلى حر الجحيم. الثالث: قال ابن عباس: استثنى الله تعالى قوما سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا القول يجب أن تكون " ما " بمعنى " من " قال الزجاج: والقول الأول أولى. لأن معنى الاستثناء إنما هو من يوم القيامة، لأن قوله: * (ويوم يحشرهم جميعا) * هو يوم القيامة.
ثم قال تعالى: * (خالدين فيها) * منذ يبعثون * (إلا ما شاء الله) * من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم. الرابع: قال أبو مسلم: هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود، وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم، فكأنهم قالوا: وبلغنا الأجل الذي أجلت لنا، أي الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى. كقوله تعالى: * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) * (الأنعام: 6) وكما فعل في قوم نوح وعاد وثمود ممن أهلكه الله تعالى قبل الأجل الذي لو آمنوا، لبقوا إلى الوصول إليه فتلخيص الكلام
192

أن يقولوا: استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا ما سميت لنا من الأجل إلا من شئت أن تخترمه فاخترمته قبل ذلك بكفره وضلاله.
واعلم أن هذا الوجه وإن كان محتملا إلا أنه ترك لظاهر ترتيب ألفاظ هذه الآية. ولما أمكن إجراء الآية على ظاهرها فلا حاجة إلى هذا التكلف.
ثم قال: * (إن ربك حكيم عليم) * أي فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة، وكأنه تعالى يقول: إنما حكمت لهؤلاء الكفار بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك. والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال أبو علي الفارسي: قوله: * (النار مثواكم) * المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله: * (خالدين فيها) * حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فقوله: * (النار مثواكم) * معناه: النار أهل أن تقيموا فيها خالدين.
قوله تعالى
* (وكذلك نولى بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) *.
المسألة الأولى: في الآية فوائد:
الفائدة الأولى: اعلم أنه تعالى لما حكى عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضا بين أن ذلك إنما يحصل بتقديره وقضائه، فقال: * (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) * والدليل على أن الأمر كذلك. أن القدرة صالحة للطرفين أعني العداوة والصداقة، فلولا حصول الداعية إلى الصداقة لما حصلت الصداقة، وتلك الداعية لا تحصل إلا بخلق الله تعالى قطعا للتسلسل. فثبت بهذا البرهان أنه تعالى هو الذي يولي بعض الظالمين بعضا. وبهذا التقرير تصير هذه الآية دليلا لنا في مسألة الجبر والقدر.
الفائدة الثانية: أنه تعالى لما بين في أهل الجنة أن لهم دار السلام، بين أنه تعالى وليهم بمعنى الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة، فكذلك لما بين حال أهل النار ذكر أن مقرهم ومثواهم النار، ثم بين أن أولياءهم من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وهذه مناسبة حسنة لطيفة.
الفائدة الثالثة: كاف التشبيه في قوله: * (وكذلك نولي) * تقتضي شيئا تقدم ذكره، والتقدير: كأنه قال كما أنزلت بالجن والإنس الذين تقدم ذكرهم العذاب الأليم الدائم الذي لا مخلص منه * (كذلك نولي بعض الظالمين بعضا) *.
الفائدة الرابعة: * (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) * لأن الجنسية علة الضم، فالأرواح
193

الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث، وكذا القول في الأرواح الطاهرة، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية. والله أعلم.
المسألة الثانية: الآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين، فالله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم. وأيضا الآية تدل على أنه لا بد في الخلق من أمير وحاكم، لأنه تعالى إذا كان لا يخلي أهل الظلم من أمير ظالم، فبأن لا يخلي أهل الصلاح من أمير يحملهم على زيادة الصلاح كان أولى. قال علي رضي الله عنه: لا يصلح للناس إلا أمير عادل أو جائر، فأنكروا قوله: أو جائر فقال: نعم يؤمن السبيل، ويمكن من إقامة الصلوات، وحج البيت. وروي أن أبا ذر سأل الرسول صلى الله عليه وسلم الإمارة، فقال له: " إنك ضعيف وإنها أمانة وهي في القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها " وعن مالك بن دينار: جاء في بعض كتب الله تعالى - أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيها بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة لا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك لكن توبوا إلى أعطفهم عليكم -.
أما قوله * (بما كانوا يكسبون) * فالمعنى نولي بعض الظالمين بعضا بسبب كون ذلك البعض مكتسبا للظلم، والمراد منه ما بينا أن الجنسية علة للضم.
قوله تعالى
* (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحيوة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) *.
اعلم أن هذه الآية من بقية ما يذكره الله تعالى في توبيخ الكفار يوم القيامة، وبين تعالى أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل، فيشهدون على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين، وإنهم لم يعذبوا إلا بالحجة. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال أهل اللغة: المعشر. كل جماعة أمرهم واحد، ويحصل بينهم معاشرة
194

ومخالطة، والجمع: المعاشر. وقوله: * (رسل منكم) * اختلفوا هل كان من الجن رسول أم لا؟ فقال الضحاك: أرسل من الجن رسل كالإنس وتلا هذه الآية وتلا قوله: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * (فاطر: 24) ويمكن أن يحتج الضحاك بوجه آخر وهو قوله تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * (الأنعام: 9) قال المفسرون: السبب فيه أن استئناس الإنسان بالإنسان أكمل من استئناسه بالملك، فوجب في حكمة الله تعالى أن يجعل رسول الإنس من الإنس ليكمل هذا الاستئناس.
إذا ثبت هذا المعنى، فهذا السبب حاصل في الجن، فوجب أن يكون رسول الجن من الجن.
والقول الثاني: وهو قول الأكثرين: أنه ما كان من الجن رسول البتة، وإنما كان الرسل من الأنس. وما رأيت في تقرير هذا القول حجة إلا ادعاء الإجماع، وهو بعيد لأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف، ويمكن أن يستدل فيه بقوله تعالى: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * (آل عمران: 33) وأجمعوا على أن المراد بهذا الاصطفاء إنما هو النبوة، فوجب كون النبوة مخصوصة بهؤلاء القوم فقط، فأما تمسك الضحاك بظاهر هذه الآية، فالكلام عليه من وجوه: الأول: أنه تعالى قال: * (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) * فهذا يقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضا من أبعاض هذا المجموع، وإذا كان الرسل من الإنس كان الرسل بعضا من أبعاض ذلك المجموع، فكان هذا القدر كافيا في حمل اللفظ على ظاهره، فلم يلزم من ظاهر هذه الآية إثبات رسول من الجن. الثاني: لا يبعد أن يقال: إن الرسل كانوا من الأنس إلا أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب قوم من الجن حتى يسمعوا كلام الرسل ويأتوا قومهم من الجن ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل وينذرونهم به، كما قال تعالى: * (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) * (الأحقاف: 29) فأولئك الجن كانوا رسل الرسل، فكانوا رسلا لله تعالى، والدليل عليه: أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه. فقال: * (إذ أرسلنا إليهم اثنين) * (يس: 14) وتحقيق القول فيه أنه تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة، بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق، فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة، فكان المقصود حاصلا.
الوجه الثالث: في الجواب قال الواحدي: قوله تعالى: * (رسل منكم) * أراد من أحدكم وهو الأنس وهو كقوله: * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * (الرحمن: 22) أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب.
واعلم أن الوجهين الأولين لا حاجة معهما إلى ترك الظاهر. أما هذا الثالث فإنه يوجب ترك الظاهر، ولا يجوز المصير إليه إلا بالدليل المنفصل.
195

أما قوله: * (يقصون عليكم آياتي) * فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتلاوة وبالتأويل * (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) * أي يخوفونكم عذاب هذا اليوم فلم يجدوا عند ذلك إلا الاعتراف، فلذلك قالوا: شهدنا على أنفسنا.
فإن قالوا: ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر وجحدوه في قوله: * (والله ربنا ما كنا مشركين) *.
قلنا: يوم القيامة يوم طويل والأحوال فيه مختلفة، فتارة يقرون، وأخرى يجحدون، وذلك يدل على شدة خوفهم واضطراب أحوالهم، فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه.
ثم قال تعالى: * (وغرتهم الحياة الدنيا) * والمعنى أنهم لما أقروا على أنفسهم بالكفر، فكأنه تعالى يقول: وإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم غرتهم الحياة الدنيا.
ثم قال تعالى: * (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) * والمراد أنهم وإن بالغوا في عداوة الأنبياء والطعن في شرائعهم ومعجزاتهم، إلا أن عاقبة أمرهم أنهم أقروا على أنفسهم بالكفر، ومن الناس من حمل قوله: * (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) * بأن تشهد عليهم الجوارح بالشرك والكفر، ومقصودهم دفع التكرار عن الآية، وكيفما كان، فالمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجرهم في الدنيا عن الكفر والمعصية.
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بقوله تعالى: * (ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا) * على أنه لا يحصل الوجوب البتة قبل ورود الشرع، فإنه لو حصل الوجوب واستحقاق العقاب قبل ورود الشرع لم يكن لهذا التعليل والذكر فائدة.
قوله تعالى
* (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أنه ما عذب الكفار إلا بعد أن بعث إليهم الأنبياء والرسل بين بهذه الآية أن هذا هو العدل والحق والواجب، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": قوله: * (ذلك) * إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر ذلك.
وأما قوله: * (أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) * ففيه وجوه: أحدها: أنه تعليل، والمعنى:
196

الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم، وكلمة " أن " ههنا هي التي تنصب الأفعال، وثانيها: يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، والمعنى لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم والضمير في قوله لأنه ضمير الشأن والحديث والتقدير، لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم. وثالثها: أن يجعل قوله: * (أن لم يكن ربك) * بدلا من قوله: * (ذلك) * كقوله: * (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) * (الحجر: 66).
وأما قوله: * (بظلم) * ففيه وجهان: الأول: أن يكون المعنى، وما كان ربك مهلك القرى بسبب ظلم أقدموا عليه. والثاني: أن يكون المراد. وما كان ربك مهلك القرى ظلما عليهم، وهو كقوله: * (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) * (هود: 117) في سورة هود. فعلى الوجه الأول يكون الظلم فعلا للكفار، وعلى الثاني يكون عائدا إلى فعل الله تعالى، والوجه الأول أليق بقولنا، لأن القول الثاني يوهم أنه تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل كان ظالما، وليس الأمر عندنا كذلك، لأنه تعالى يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله. وأما المعتزلة: فهذا القول الثاني مطابق لمذهبهم موافق لمعتقدهم. وأما أصحابنا فمن فسر الآية بهذا الوجه الثاني. قال: إنه تعالى لو فعل ذلك لم يكن ظالما لكنه يكون في صورة الظالم فيما بينا، فوصف بكونه ظالما مجازا، وتمام الكلام في هذين القولين مذكور في سورة هود عند قوله: * (بظلم وأهلها مصلحون) *.
وأما قوله: * (وأهلها غافلون) * فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به، بل معناها أن لا يبين الله لهم كيفية الحال، ولا أن يزيل عذرهم وعلتهم.
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في إثبات أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع، وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب البتة. قالوا: لأنها تدل على أنه تعالى لا يعذب أحدا على أمر من الأمور إلا بعد البعثة للرسول. والمعتزلة قالوا: إنها تدل من وجه آخر على أن الوجوب قد يتقرر قبل مجيء الشرع، لأنه تعالى قال: * (أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) * فهذا الظلم إما أن يكون عائدا إلى العبد أو إلى الله تعالى، فإن كان الأول، فهذا يدل على إمكان أن يصدر منه الظلم قبل البعثة، وإنما يكون الفعل ظلما قبل البعثة، لو كان قبيحا وذنبا قبل بعثة الرسل، وذلك هو المطلوب، وإن كان الثاني فذلك يقتضي أن يكون هذا الفعل قبيحا من الله تعالى، وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه.
قوله تعالى
* (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون) *.
197

في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وحده * (تعملون) * بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الثواب والدرجات، وأحوال أهل العقاب والدركات ذكر كلاما كليا، فقال: * (ولكل درجات مما عملوا) * وفي الآية قولان:
القول الأول: أن قوله: * (ولكل درجات مما عملوا) * عام في المطيع والعاصي، والتقدير:
ولكل عامل عمل فله في عمله درجات، فتارة يكون في درجة ناقصة، وتارة يترقى منها إلى درجة كاملة، وأنه تعالى عالم بها على التفصيل التام، فرتب على كل درجة من تلك الدرجات ما يليق به من الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
والقول الثاني: أن قوله: * (ولكل درجات مما عملوا) * مختص بأهل الطاعة، لأن لفظ الدرجة لا يليق إلا بهم. وقوله: * (وما ربك بغافل عما تعملون) * مختص بأهل الكفر والمعصية والصواب هو الأول.
المسألة الثالثة: اعلم أن هذه الآية تدل أيضا على صحة قولنا في مسألة الجبر والقدر، وذلك لأنه تعالى حكم لكل واحد في وقت معين بحسب فعل معين بدرجة معينة، وعلم تلك الدرجة بعينها وأثبت تلك الدرجة المعينة في اللوح المحفوظ وأشهد عليه زمر الملائكة المقربين، فلو لم تحصل تلك الدرجة لذلك الإنسان لبطل ذلك الحكم، ولصار ذلك العلم جهلا، ولصار ذلك الإشهاد كذبا وكل ذلك محال. فثبت أن لكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما تعملون، وإذا كان الأمر كذلك، فقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه.
قوله تعالى
* (وربك الغنى ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشآء كمآ أنشأكم من ذرية قوم ءاخرين * إن ما توعدون لأت ومآ أنتم بمعجزين) *.
في الآية مسائل:
198

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات وعقاب أصحاب المعاصي والمحرمات وذكر أن لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة، بين أن تخصيص المطيعين بالثواب، والمذنبين بالعذاب، ليس لأجل أنه محتاج إلى طاعة المطيعين أو ينتقص بمعصية المذنبين. فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين، ومع كونه غنيا فإن رحمته عامة كاملة، ولا سبيل إلى ترتيب هذه الأرواح البشرية والنفوس الإنسانية وإيصالها إلى درجات السعداء الأبرار، إلا بترتيب الترغيب في الطاعات والترهيب عن المحظورات فقال: * (وربك الغني ذو الرحمة) * ومن رحمته على الخلق ترتيب الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية، فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين: الأول: إلى بيان كونه تعالى غنيا. فنقول: إنه تعالى غني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه، لأنه لو كان محتاجا لكان مستكملا بذلك الفعل، والمستكمل بغيره ناقص بذاته، وهو على الله محال، وأيضا فكل إيجاب أو سلب يفرض، فإن كان ذاته كافية في تحققه، وجب دوام ذلك الإيجاب أو ذلك السلب بدوام ذاته. وإن لم تكن كافية، فحينئذ يتوقف حصول تلك الحالة وعدمها على وجود سبب منفصل أو عدمه، فذاته لا تنفك عن ذلك الثبوت والعدم وهما موقوفان على وجود ذلك السبب المنفصل وعدمه، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فيلزم كون ذاته موقوفة على الغير، والموقوف على الغير ممكن لذاته، فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال. فثبت أنه تعالى غني على الإطلاق. واعلم أن قوله: * (وربك الغني) * يفيد الحصر، معناه: أنه لا غني إلا هو والأمر كذلك، لأن واجب الوجود لذاته واحد، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته محتاج، فثبت أنه لا غني إلا هو. فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله سبحانه: * (وربك الغني) * وأما إثبات أنه * (ذو الرحمة) * فالدليل عليه أنه لا شك في وجود خيرات وسعادات ولذات وراحات. إما بحسب الأحوال الجسمانية، وإما بحسب الأحوال الروحانية. فثبت بالبرهان الذي ذكرناه أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته، وإنما يدخل في الوجود بإيجاده وتكوينه وتخليقه. فثبت أن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات فهو من الحق سبحانه، وبإيجاده وتكوينه. ثم إن الاستقراء دل على أن الخير غالب على الشر فإن المريض وإن كان كثيرا فالصحيح أكثر منه، والجائع وإن كان كثيرا فالشبعان أكثر منه، والأعمى وإن كان كثيرا، إلا أن البصير أكثر منه. فثبت أنه لا بد من الاعتراف بحصول الرحمة والراحة، وثبت أن الخير أغلب من الشر والألم والآفة. وثبت أن مبدأ تلك الراحات والخيرات بأسرها هو الله تعالى. فثبت بهذا البرهان أنه تعالى هو * (ذو الرحمة) *.
199

واعلم أن قوله: * (وربك الغني ذو الرحمة) * يفيد الحصر، فإن معناه: أنه لا رحمة إلا منه، والأمر كذلك لأن الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته، والواجب لذاته واحد فكل ما سواه فهو منه، والرحمة داخلة فيما سواه. فثبت أنه لا رحمة إلا من الحق، فثبت بهذا البرهان صحة هذا الحصر فثبت أنه لا غني إلا هو. فثبت أنه لا رحيم إلا هو.
فإن قال قائل: فكيف يمكننا إنكار رحمة الوالدين على الولد والمولى على عبده، وكذلك سائر أنواع الرحمة؟
فالجواب: أن كلها عند التحقيق من الله. ويدل عليه وجوه: الأول: لولا أنه تعالى ألقى في قلب هذا الرحيم داعية الرحمة، لما أقدم على الرحمة، فلما كان موجد تلك الداعية هو الله، كان الرحيم هو الله. ألا ترى أن الإنسان قد يكون شديد الغضب على إنسان قاسي القلب عليه، ثم ينقلب رؤوفا رحيما عطوفا فانقلابه من الحالة الأولى إلى الثانية ليس إلا بانقلاب تلك الدواعي. فثبت أن مقلب القلوب هو الله تعالى بالبرهان قطعا للتسلسل، وبالقرآن وهو قوله: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * (الأنعام: 110) فثبت أنه لا رحمة إلا من الله. والثاني: هب أن ذلك الرحيم أعطى الطعام والثوب والذهب، ولكن لا صحة للمزاج والتمكن من الانتفاع بتلك الأشياء، وإلا فكيف الانتفاع؟ فالذي أعطى صحة المزاج والقدرة والمكنة هو الرحيم في الحقيقة. والثالث: أن كل من أعطى غيره شيئا فهو إنما يعطي لطلب عوض، وهو إما الثناء في الدنيا، أو الثواب في الآخرة، أو دفع الرقة الجنسية عن القلب، وهو تعالى يعطي لا لغرض أصلا، فكان تعالى هو الرحيم الكريم. فثبت بهذه البراهين اليقينية
القطعية صحة قوله سبحانه وتعالى: * (وربك الغني ذو الرحمة) * بمعنى أنه لا غني ولا رحيم إلا هو. فإذا ثبت أنه غني عن الكل. ثبت أنه لا يستكمل بطاعات المطيعين ولا ينتقص بمعاصي المذنبين. وإذا ثبت أنه ذو الرحمة؛ ثبت أنه ما رتب العذاب على الذنوب، ولا الثواب على الطاعات، إلا لأجل الرحمة والفضل والكرم والجود والإحسان، كما قال في آية أخرى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) فهذا البيان الإجمالي كاف في هذا الباب. وأما تفصيل تلك الحالة وشرحها على البيان التام، فمما لا يليق بهذا الموضع.
المسألة الثانية: أما المعتزلة فقالوا: هذه الآية إشارة إلى الدليل الدال على كونه عادلا منزها عن فعل القبيح، وعلى كونه رحيما محسنا بعباده. أما المطلوب الأول فقال: تقريره أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنيا عنه، وكل من كان كذلك فإنه يتعالى عن فعل القبيح.
أما المقدمة الأولى، فتقريرها إنما يتم بمجموع مقدمات ثلاثة. أولها: أن في الحوادث
200

ما يكون قبيحا، نحو: الظلم، والسفه، والكذب، والغيبة: وهذه المقدمة غير مذكورة في الآية لغاية ظهورها. وثانيها: كونه تعالى عالما بالمعلومات، وإليه الإشارة بقوله قبل هذه الآية: * (وما ربك بغافل عما يعملون) * وثالثها: كونه تعالى غنيا عن الحاجات وإليه الإشارة بقوله: * (وربك الغني) * وإذا ثبت مجموع هذه المقدمات الثلاثة، ثبت أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنيا عنها، فإذا ثبت هذا امتنع كونه فاعلا لها، لأن المقدم على فعل القبيح إنما يقدم عليه إما لجهله بكونه قبيحا، وإما لاحتياجه، فإذا كان عالما بالكل امتنع كونه جاهلا بقبح القبائح. وإذا كان غنيا عن الكل امتنع كونه محتاجا إلى فعل القبائح، وذلك يدل على أنه تعالى منزه عن فعل القبائح متعال عنها، فحينئذ يقطع بأنه لا يظلم أحدا، فلما كلف عبيده الأفعال الشاقة وجب أن يثيبهم عليها، ولما رتب العقاب والعذاب على فعل المعاصي، وجب أن يكون عادلا فيها، فبهذا الطريق ثبت كونه تعالى عادلا في الكل.
فان قال قائل: هب أن بهذا الطريق انتفى الظلم عنه تعالى. فما الفائدة في التكليف؟
فالجواب: أن التكليف إحسان ورحمة على ما هو مقرر في كتب الكلام فقوله (وربك الغنى)
إشارة إلى المقام الأول وقوله (ذو الرحمة) إشارة إلى المقام الثاني. فهذا تقرير الدلائل التي استنبطها
طوائف العقلاء من هذه الآية على صحة قولهم.
وأعلم يا أخي أن الكل لا يحاولون إلا التقديس والتعظيم وسمعت الشيخ الامام الوالد ضياء
الدين عمر بن الحسين رحمه الله قال: سمعت الشيخ أبا القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري، يقول:
نظر أهل السنة على تعظيم الله في جانب القدرة ونفاذ المشيئة. ونظر المعتزلة على تعظيم الله في جانب
العدل والبراءة عن فعل ما لا ينبغي فإذا تأملت علمت أن أحدا لم يصف الله إلا بالتعظيم
والاجلال والتقديس والتنزيه، ولكن منهم أخطأ ومنهم من أصاب ورجاء الكل متعلق بهذه
الكلمة وهى قوله (وربك الغنى ذو الرحمة)
ثم قال تعالى (ان يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدم ما يشاء) والمعنى أنه تعالى لما وصف نفسه
بأنه ذو الرحمة فقد كان يجوز أن يظن ظان أنه وان كان ذا الرحمة الا أن لرحمته معدنا مخصوصا
وموضعا معينا فبين تعالى أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق وقادر على أن يخلق قوما آخرين
ويضع رحمته فيهم وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم والمقصود التنبيه على
أن تخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا يخلق هؤلاء أما قوله (إن يشأ
يذهبكم) فالأقرب أن المراد به الاهلاك ويحتمل الأمانة أيضا ويحتمل أن لا يبلغهم مبلغ التكليف
201

قوله تعالى
* (قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون) *.
وأما قوله (ويستخلف من بعدكم) يعنى من بعد إذهابكم. لان الاستخلاف لا يكون إلا على طريق
البدل من فائت. وأما قوله (ما يشاء) فالمراد منه خلق ثالث ورابع، واختلفوا فقال بعضهم: خلقا
آخر من أمثال الجن والانس يكونون أطوع، وقال أبو مسلم: بل المراد أنه قادر على أن يخلق
خلقا ثالثا مخالفا للجن والانس قال القاضي: وهذا الوجه أقرب لان القوم يعلمون بالعادة أنه تعالى
قادر على إنشاء أمثال هذا الخلق فمتى حمل على خلق ثالث ورابع يكون أقوى في دلالة القدرة،
فكأنه تعالى نبه على أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس من الخلق الذين يصلحون
لرحمته العظيمة التي هي النواب، فبين بهذا الطريق أنه تعالى لرحمته لهؤلاء القوم الحاضرين أبقاهم
وأمهلهم ولو شاء لأمهلهم وأفناهم وأبدل بهم سواهم. ثم بين تعالى علة قدرته على ذلك فقال (كما
أنشأكم من ذرية قوم آخرين) لان المرء العاقل إذا تفكر على أنه تعالى خلق الانسان من نطفة ليس
فيها من صورته قليل ولا كثير، فوجب أن يكون ذلك بمحض القدرة والحكمة، وإذا كان الامر
كذلك فكما قدر تعالى على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة، فكذلك يقدر على تصويرهم
بصورة مخالفة لها. وقرأ القراء كلهم (ذرية) بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت بكسر الذال. قال
الكسائي: هما لغتان.
ثم قال تعالى (إنما توعدون لآت) قال الحسن: أي من مجىء الساعة، لأنهم كانوا ينكرون
القيامة، وأقول فيه احتمال آخر: وهو أن الوعد مخصوص بالاخبار عن الثواب، وأما الوعيد فهو
مخصوص بالاخبار عن العقاب فقوله (إنما توعدون لآت) يعنى كل ما تعلق بالوعد بالثواب فهو
آت لا محالة، فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوى هذا
الوجه آخر الآية، وهو أنه قال (وما أنتم بمعجزين) يعنى لا تخرجون عن قدرتنا وحكمنا، فالحاصل
أنه لما ذكر الوعد جزم بكونه آتيا، ولما ذكرا الوعيد، ما زاد على قوله (وما أنتم بمعجزين) وذلك
يدل على أن جانب الرحمة والاحسان غالب.
قوله تعالى (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار
إنه لا يفلح الظالمون)
202

اعلم أنه لما بين بقوله: * (إنما توعدون لآت) * أمر رسوله من بعده أن يهدد من ينكر البعث عن الكفار، فقال * (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قرأ أبو بكر عن عاصم * (مكاناتكم) * بالألف، على الجمع في كل القرآن، والباقون * (مكانتكم) * قال الواحدي: والوجه الإفراد، لأنه مصدر، والمصادر في أكثر الأمر مفردة، وقد تجمع أيضا في بعض الأحوال، إلا أن الغالب هو الأول.
البحث الثاني: قال صاحب " الكشاف ": المكانة تكون مصدرا، يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن، وبمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة، فقوله: * (اعملوا على مكانتكم) * يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، ويحتمل أيضا أن يراد اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة: على مكانتك يا فلان، أي أثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه * (إني عامل) * أي أنا عامل على مكانتي، التي عليها، والمعنى: أثبتوا على كفركم وعداوتكم، فأني ثابت على الإسلام، وعلى مضارتكم * (فسوف تعلمون) * أيناله العاقبة المحمودة، وطريقة هذا الأمر طريقة قوله: * (اعملوا ما شئتم) * وهي تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد.
البحث الثالث: من في قوله: * (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) * ذكر الفراء في موضعه من الإعراب وجهين: الأول: أنه نصب لوقوع العلم عليه. الثاني: أن يكون رفعا على معنى: تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار، كقوله تعالى: * (لنعلم أي الحزبين) * (الكهف: 12).
البحث الرابع: قوله: * (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) * يوهم أن الكافر ليست له عاقبة الدار، وذلك مشكل.
قلنا: العاقبة، تكون على الكافر ولا تكون له، كما يقال: له الكثرة ولهم الظفر، وفي ضده يقال: عليكم الكثرة والظفر.
البحث الخامس: قرأ حمزة والكسائي * (من يكون) * بالياء وفي القصص أيضا والباقون بالتاء في السورتين. قال الواحدي: العاقبة مصدر كالعافية، وتأنيثه غير حقيقي، فمن أنث، فكقوله: * (فأخذتهم الصيحة) * (المؤمنون: 41) ومن ذكر فكقوله: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) * (هود: 67) وقال: * (قد جاءتكم موعظة من ربكم) * (يونس: 57) وفي آية أخرى: * (فمن جاءه موعظة من ربه) * (البقرة: 275).
ثم قال تعالى: * (إنه لا يفلح الظالمون) * والغرض منه بيان أن قوله: * (اعملوا على مكانتكم) * تهديد وتخويف لا أنه أمر وطلب، ومعناه: أن هؤلاء الكفار لا يفلحون ولا يفوزون بمطالبهم البتة.
203

قوله تعالى
* (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركآئنا فما كان لشركآئهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركآئهم سآء ما يحكمون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين قبح طريقتهم في إنكارهم البعث، والقيامة ذكر عقيبه أنواعا من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيها على ضعف عقولهم، وقلة محصولهم، وتنفيرا للعقلاء عن الالتفات إلى كلماتهم، فمن جملتها أنهم يجعلون لله من حروثهم، كالتمر والقمح، ومن أنعامهم كالضأن والمعز والإبل والبقر، نصيبا، فقالوا: * (هذا لله بزعمهم) * يريد بكذبهم.
فإن قيل: أليس أن جميع الأشياء لله فكيف نسبوا إلى الكذب في قولهم: هذا لله؟
قلنا: إفرازهم النصيبين نصيبا لله؛ ونصيبا للشيطان هو الكذب. قال الزجاج: وتقدير الكلام جعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا ودل على هذا المحذوف تفصيله القسمين
فيما بعد، وهو قوله: * (هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) * وجعل الأوثان شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونها عليها.
ثم قال تعالى: * (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) * وفي تفسيره وجوه: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم نصيبا، وللأوثان نصيبا، فما كان للصنم أنفقوه عليه، وما كان لله أطعموه الصبيان والمساكين، ولا يأكلون منه البتة. ثم إن سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله أخذوه وردوه إلى نصيب الصنم، وقالوا: إنه فقير. الثاني: قال الحسن والسدي: كان إذا هلك ما لأوثانهم أخذوا بدله مما لله، ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله عز وجل. الثالث: قال مجاهد: المعنى أنه إذا انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدوه، وإن كان على ضد ذلك تركوه. الرابع: قال قتادة: إذا أصابهم القحط استعانوا بما لله ووفروا ما جعلوه لشركائهم. الخامس: قال مقاتل: إن زكا ونما نصيب
204

الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوا نصيب الآلهة لها، وقالوا لو شاء زكى نصيب نفسه وإن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة، قالوا لا بد لآلهتنا من نفقة، فأخذوا نصيب الله فأعطوه السدنة، فذلك قوله: * (فما كان لشركائهم) * يعني من نماء الحرث والأنعام * (فلا يصل إلى الله) * يعني المساكين وإنما قال: * (إلى الله) * لأنهم كانوا يفرزونه لله ويسمونه نصيب الله، وما كان لله فهو يصل إليهم، ثم إنه تعالى ذم هذا الفعل * (فقال ساء ما يحكمون) * وذكر العلماء في كيفية هذه الإساءة وجوها كثيرة: الأول: أنهم رجحوا جانب الأصنام في الرعاية والحفظ على جانب الله تعالى، وهو سفه. الثاني: أنهم جعلوا بعض النصيب لله وجعلوا بعضه لغيره مع أنه تعالى الخالق للجميع، وهذا أيضا سفه. الثالث: أن ذلك الحكم حكم أحدثوه من قبل أنفسهم، ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع، فكان أيضا سفها. الرابع: أنه لو حسن إفراز نصيب الأصنام لحسن إفراز النصيب لكل حجر ومدر، الخامس: أنه لا تأثير للأصنام في حصول الحرث والأنعام، ولا قدرة لها أيضا على الانتفاع بذلك النصيب فكان إفراز النصيب لها عبثا، فثبت بهذا الوجوه أنه * (ساء ما يحكمون) * والمقصود من حكاية أمثال هذه المذاهب الفاسدة، أن يعرف الناس قلة عقول القائلين بهذه المذاهب، وأن يصير ذلك سببا لتحقيرهم في أعين العقلاء، وأن لا يلتفت إلى كلامهم أحد البتة.
قوله تعالى
* (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركآؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شآء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة، ومذاهبهم الباطلة، وقوله: * (وكذلك) * عطف على قوله: * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام) * أي كما فعلوا ذلك، فكذلك زين لكثير منهم شركاؤهم قتل الأولاد، والمعنى: أن جعلهم لله نصيبا، وللشركاء نصيبا، نهاية في الجهل بمعرفة الخالق المنعم، وإقدامهم على قتل أولاد أنفسهم نهاية في الجهالة والضلالة، وذلك يفيد التنبيه على أن أحكام هؤلاء وأحوالهم يشاكل بعضها بعضا في الركاكة والخساسة.
المسألة الثانية: كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياء خوفا من الفقر أو من التزويج،
205

وهو المراد من هذه الآية. واختلفوا في المراد بالشركاء، فقال مجاهد: شركاؤهم شياطينهم أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العيلة، وسميت الشياطين شركاء، لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى، وأضيفت الشركاء إليهم، لأنهم اتخذوها كقوله تعالى: * (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) * وقال الكلبي: كان لآلهتهم سدنة وخدام، وهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل أولادهم، وكان الرجل يقوم في الجاهلية فيحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله، وعلى هذا القول: الشركاء هم السدنة، سموا شركاء كما سميت الشياطين شركاء في قول مجاهد.
المسألة الثالثة: قرأ ابن عامر وحده * (زين) * بضم الزاء وكسر الياء، وبضم اللام من * (قتل) * و * (أولادهم) * بنصب الدال * (شركائهم) * بالخفض والباقون * (زين) * بفتح الزاي والياء * (قتل) * بفتح اللام * (أولادهم) * بالجر * (شركاؤهم) * بالرفع. أما وجه قراءة ابن عامر فالتقدير: زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم، إلا أنه فصل بين المضاف، والمضاف إليه بالمفعول به وهو الأولاد، وهو مكروه في الشعر كما في قوله: فزججتها بمزجة * زج القلوص أبي مزاده
وإذا كان مستكرها في الشعر فكيف في القرآن الذي هو معجز في الفصاحة. قالوا: والذي حمل ابن عامر على هذه القراءة أنه رأى في بعض المصاحف * (شركائهم) * مكتوبا بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء، لأجل أن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب. وأما القراءة المشهورة: فليس فيها إلا تقديم المفعول على الفاعل، ونظيره قوله: * (لا ينفع نفسا إيمانها) * (الأنعام: 158) وقوله: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه) * (البقرة: 124) والسبب في تقديم المفعول هو أنهم يقدمون الأهم، والذي هم بشأنه أعنى وموضع التعجب ههنا إقدامهم على قتل أولادهم، فلهذا السبب حصل هذا التقدير.
ثم قال تعالى: * (ليردوهم) * والإرداء في اللغة الإهلاك، وفي القرآن * (إن كدت لتردين) * (الصافات: 56) قال ابن عباس: ليردوهم في النار، واللام ههنا محمولة على لام العاقبة كما في قوله: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) * (وليلبسوا عليهم دينهم) * (الأنعام: 137) أي ليخلطوا، لأنهم كانوا على دين إسماعيل، فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة، أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق.
ثم قال تعالى: * (ولو شاء ربك ما فعلوه) * قال أصحابنا: إنه يدل على أن كل ما فعله المشركون فهو بمشيئة الله تعالى. قالت المعتزلة: إنه محمول على مشيئة الإلجاء، وقد سبق ذكره مرارا * (فذرهم
206

وما يفترون) * (الأنعام: 112) وهذا على قانون قوله تعالى: * (اعملوا ما شئتم) * وقوله: * (وما يفترون) * يدل على أنهم كانوا يقولون: إن الله أمرهم بقتل أولادهم، فكانوا كاذبين في ذلك القول.
قوله تعالى
* (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمهآ إلا من نشآء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افترآء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون) *.
اعلم أن هذا نوع ثالث من أحكامهم الفاسدة، وهي أنهم قسموا أنعامهم أقساما: فأولها: إن قالوا: * (هذه أنعام وحرث حجر) * فقوله: * (حجر) * فعل بمعنى مفعول، كالذبح والطحن، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات، وأصل الحجر المنع، وسمى العقل حجرا لمنعه عن القبائح، وفلان في حجر القاضي: أي في منعه، وقرأ الحسن وقتادة * (حجر) * بضم الحاء وعن ابن عباس * (حرج) * وهو من الضيق، وكانوا إذا عينوا شيئا من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا: * (لا يطعمها إلا من نشاء) * يعنون خدم الأوثان، والرجال دون النساء.
والقسم الثاني: من أنعامهم الذي قالوا فيه: * (وأنعام حرمت ظهورها) * وهي البحائر والسوائب والحوامي، وقد مر تفسيره في سورة المائدة.
والقسم الثالث: * (أنعام لا يذكرون اسم الله عليها) * في الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام، وقيل لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها.
ثم قال: * (افتراء عليه) * فانتصابه على أنه مفعول له أو حال أو مصدر مؤكد، لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء.
ثم قال تعالى: * (سيجزيهم بما كانوا يفترون) * والمقصود منه الوعيد.
207

قوله تعالى
* (وقالوا ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركآء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: هذا نوع رابع من أنواع قضاياهم الفاسدة. كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حيا فهو خالص لذكور لا تأكل منها الأناث، وما ولد ميتا اشترك فيه الذكور والإناث. سيجزيهم وصفهم، والمراد منه الوعيد * (إنه حكيم عليم) * ليكون الزجر واقعا على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق.
المسألة الثانية: ذكر ابن الأنباري في تأنيث * (خالصة) * ثلاثة أقوال: قولين للفراء وقولا للكسائي: أحدها: أن الهاء ليست للتأنيث. وإنما هي للمبالغة في الوصف كما قالوا: راوية، وعلامة، ونسابة، والداهية، والطاغية. كذلك يقول؛ هو خالصة لي، وخالص لي. هذا قول الكسائي. والقول الثاني: أن * (ما) * في قوله: * (ما في بطون هذه الأنعام) * عبارة عن الأجنة، وإذا كان عبارة عن مؤنث جاز تأنيثه على المعنى، وتذكيره على اللفظ، كما في هذه الآية، فإنه أنث خبره الذي هو * (خالصة) * لمعناه، وذكر في قوله: * (ومحرم) * على اللفظ. والثالث: أن يكون مصدرا والتقدير: ذو خالصة كقولهم: عطاؤك عافية، والمطر رحمة، والرخص نعمة.
المسألة الثالثة: قرأ ابن عامر * (وإن تكن) * بالتاء و * (ميتة) * بالنصب وقرأ ابن كثير * (يكن) * بالياء * (ميتة) * بالرفع، وقرأ أبو بكر عن عاصم * (تكن) * بالتاء * (ميتة) * بالنصب، والباقون * (يكن) * بالياء * (ميتة) * بالنصب. أما قراءة ابن عامر، فوجهها أنه ألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل مؤنثا في اللفظ وأما قراءة ابن كثير فوجهها أن قوله: * (ميتة) * اسم * (يكن) * وخبره مضمر. والتقدير: وإن يكن لهم ميتة أو وإن يكن هناك ميتة. وذكر لأن الميتة في معنى الميت. قال أبو علي: لم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل المسند إليه تأنيثه غير حقيقي، ولا يحتاج الكون إلى خبر، لأنه بمعنى حدث ووقع. وأما قراءة عاصم * (تكن) * بالتاء * (ميتة) * بالنصب فالتقدير وإن تكن المذكور ميته فأنث
208

الفعل لهذا السبب وأما قراءة الباقين * (وإن يكن) * بالياء * (ميتة) * بالنصب. فتأويلها، وإن يكن المذكور ميتة ذكروا الفعل لأنه مسند إلى ضمير ما تقدم في قوله: * (ما في بطون هذه الأنعام) * وهو مذكر، وانتصب قوله * (ميتة) * لما كان الفعل مسندا إلى الضمير.
قوله تعالى
* (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افترآء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى ذكر فيما تقدم قتلهم أولادهم وتحريمهم ما رزقهم الله. ثم إنه تعالى جمع هذين الأمرين في هذه الآية وبين ما لزمهم على هذا الحكم، وهو الخسران والسفاهة، وعدم العلم، وتحريم ما رزقهم الله، والافتراء على الله، والضلال وعدم الاهتداء، فهذه أمور سبعة وكل واحد منها سبب تام في حصول الذم.
أما الأول: وهو الخسران، وذلك لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد، فإذا سعى في إبطاله، فقد خسر خسرانا عظيما لا سيما ويستحق على ذلك الإبطال الذم العظيم في الدنيا، والعقاب العظيم في الآخرة. أما الذم في الدنيا فلأن الناس يقولون قتل ولده خوفا من أن يأكل طعامه وليس في الدنيا ذم أشد منه. وأما العقاب في الآخرة، فلأن قرابة الولادة أعظم موجبات المحبة فمع حصولها إذا أقدم على إلحاق أعظم المضار به كان ذلك أعظم أنواع الذنوب، فكان موجبا لأعظم أنواع العقاب.
والنوع الثاني: السفاهة وهي عبارة عن الخفة المذمومة، وذلك لأن قتل الولد إنما يكون للخوف من الفقر، والفقر وإن كان ضررا إلا أن القتل أعظم منه ضررا، وأيضا فهذا القتل ناجز وذلك الفقر موهوم فالتزام أعظم المضار على سبيل القطع حذرا من ضرر قليل موهوم، لا شك أنه سفاهة.
والنوع الثالث: قوله: * (بغير علم) * فالمقصود أن هذه السفاهة إنما تولدت من عدم العلم ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح.
209

والنوع الرابع: تحريم ما أحل الله لهم، وهو أيضا من أعظم أنواع الحماقة، لأنه يمنع نفسه تلك المنافع والطيبات، ويستوجب بسبب ذلك المنع أعظم أنواع العذاب والعقاب.
والنوع الخامس: الافتراء على الله، ومعلوم أن الجراءة على الله، والافتراء عليه أعظم الذنوب وأكبر الكبائر.
والنوع السادس: الضلال عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا.
والنوع السابع: أنهم ما كانوا مهتدين، والفائدة فيه أنه قد يضل الإنسان عن الحق إلا أن يعود إلى الاهتداء، فبين تعالى أنهم قد ضلوا ولم يحصل لهم الاهتداء قط. فثبت أنه تعالى ذم الموصوفين بقتل الأولاد وتحريم ما أحله الله تعالى لهم بهذه الصفات السبعة الموجبة لأعظم أنواع الذم، وذلك نهاية المبالغة.
قوله تعالى
* (وهو الذى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى جعل مدار هذا الكتاب الشريف على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر، وأنه تعالى بالغ في تقرير هذه الأصول، وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة من أنكر البعث والقيامة، ثم أتبعه بحكاية أقوالهم الركيكة، وكلماتهم الفاسدة في مسائل أربعة. والمقصود التنبيه على ضعف عقولهم، وقلة محصولهم، وتنفير الناس عن الالتفات إلى قولهم، والاغترار بشبهاتهم. فلما تمم هذه الأشياء عاد بعدها إلى ما هو المقصود الأصلي، وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد فقال: * (وهو الذي أنشأ جنات معروشات) *.
210

واعلم أنه قد سبق ذكر هذا الدليل في هذه السورة، وهو قوله: * (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) * (الأنعام: 99) فالآية المتقدمة ذكر تعالى فيها خمسة أنواع، وهي: الزرع والنخل، وجنات من أعناب والزيتون والرمان، وفي هذه الآية التي نحن في تفسيرها ذكر هذه الخمسة بأعيانها لكن على خلاف ذلك الترتيب لأنه ذكر العنب، ثم النخل، ثم الزرع، ثم الزيتون ثم الرمان. وذكر في الآية المتقدمة * (مشتبها وغير متشابه) * وفي هذه الآية * (متشابها وغير متشابه) * ثم ذكر في الآية المتقدمة * (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) * فأمر تعالى هناك بالنظر في أحوالها والاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم، وذكر في هذه الآية * (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) * فأذن في الانتفاع بها، وأمر بصرف جزء منها إلى الفقراء، فالذي حصل به الامتياز بين الآيتين أن هناك أمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم. وههنا أذن في الانتفاع بها، وذلك تنبيه على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم مقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الاستدلال بها سعادة روحانية أبدية. والحاصل من الانتفاع بهذه سعادة جسمانية سريعة الانقضاء، والأول أولى بالتقديم، فلهذا السبب قدم الله تعالى الأمر بالاستدلال بها على الإذن بالانتفاع بها.
المسألة الثانية: قوله: * (وهو الذي أنشأ) * أي خلق، يقال: نشأ الشيء ينشأ نشأة ونشاءة إذا ظهر وارتفع والله ينشئه إنشاء أي يظهره ويرفعه وقوله: * (جنات معروشات) * يقال عرشت الكرم أعرشه عرشا وعرشته تعريشا، إذا عطفت العيدان التي يرسل عليها قضبان الكرم، والواحد عرش، والجمع عروش، ويقال: عريش وجمعه عرش، واعترش العنب العريش اعتراشا إذا علاه.
إذا عرفت هذا فنقول: في قوله: * (معروشات وغير معروشات) * أقوال: الأول: أن المعروشات وغير المعروشات كلاهما الكرم، فإن بعض الأعناب يعرش وبعضها لا يعرش، بل يبقى على وجه الأرض منبسطا. والثاني: المعروشات العنب الذي يجعل لها عروش، وغير المعروشات كل ما ينبت منبسطا على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ. والثالث: المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه، وهو الكرم وما يجري مجراه، وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وذهابه علوا لقوة ساقه عن التعريش. والرابع: المعروشات ما يحصل في البساتين
211

والعمرانات مما يغرسه الناس واهتموا به فعرشوه * (وغير معروشات) * مما أنبته الله تعالى وحشيا في البراري والجبال فهو غير معروش وقوله: * (والنخل والزرع) * فسر ابن عباس * (الزرع) * ههنا بجميع الحبوب التي يقتات بها * (مختلفا أكله) * أي لكل شيء منها طعم غير طعم الآخر * (والأكل) * كل ما أكل، وههنا المراد ثمر النخل والزرع، ومضى القول في * (الأكل) * عند قوله: * (فآتت أكلها ضعفين) * (البقرة: 265) وقوله: * (مختلفا) * نصب على الحال. أي أنشأه في حال اختلاف أكله، وهو قد أنشأه من قبل ظهور أكله وأكل ثمره.
الجواب: أنه تعالى أنشأها حال اختلاف ثمرها وصدق هذا لا ينافي صدق أنه تعالى أنشأها قبل ذلك أيضا. وأيضا نصب على الحال مع أنه يؤكل بعد ذلك بزمان، لأن اختلاف أكله مقدر كما تقول: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أي مقدرا للصيد به غدا. وقرأ ابن كثير ونافع * (أكله) * بتخفيف الكاف والباقون * (أكله) * في كل القرآن. وأما توحيد الضمير في قوله: * (مختلفا أكله) * فالسبب فيه: أنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما جميعا كقوله تعالى: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) * (الجمعة: 11) والمعنى: إليهما وقوله: * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) * (التوبة: 62).
وأما قوله: * (متشابها وغير متشابه) * فقد سبق تفسيره في الآية المتقدمة.
ثم قال تعالى: * (كلوا من ثمره إذا أثمر) * وفيه مباحث.
البحث الأول: أنه تعالى لما ذكر كيفية خلقه لهذه الأشياء ذكر ما هو المقصود الأصلي من خلقها، وهو انتفاع المكلفين بها، فقال: * (كلوا من ثمره) * واختلفوا ما الفائدة منه؟ فقال بعضهم: الإباحة. وقال آخرون: بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق، لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه، كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المساكين فيه، بل هذا هو الظاهر فأباح تعالى هذا الأكل، وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعا من هذا التصرف. وقال بعضهم: بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم. إما الأكل وإما التصدق، وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق، لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير. قال تعالى: * (ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) * (القصص: 77).
البحث الثاني: تمسك بعضهم بقوله: * (كلوا من ثمره إذا أثمر) * بأن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق، لأن قوله: * (كلوا) * خطاب عام يتناول الكل، فصار هذا جاريا مجرى قوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * وأيضا يمكن التمسك به على أن الأصل عدم وجوب الصدقة، وأن من ادعى إيجابه كان هو المحتاج إلى الدليل، فيتمسك به في أن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر، لا يلزمه قضاء ما مضى، وفي أن الشارع في صوم النفل لا يجب عليه الإتمام.
212

البحث الثالث: قوله: * (كلوا من ثمره) * يدل على أن صيغة الأمر قد ترد في غير موضع الوجوب وفي غير موضع الندب، وعند هذا قال بعضهم: الأصل في الاستعمال الحقيقة، فوجب جعل هذه الصيغة مفيدة لرفع الحجر، فلهذا قالوا: الأمر مقتضاه الإباحة، إلا أنا نقول: نعلم بالضرورة من لغة العرب أن هذه الصيغة تفيد ترجيح جانب الفعل، وأن حملها على الإباحة لا يصار إليه إلا بدليل منفصل.
أما قوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم * (حصاده) * بفتح الحاء والباقون بكسر الحاء قال الواحدي: قال جميع أهل اللغة يقال: حصاد وحصاد، وجداد وجداد، وقطاف وقطاف، وجذاذ وجذاذ، وقال سيبويه جاؤوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال، وربما قالوا فيه فعال.
البحث الثاني: في تفسير قوله: * (وآتوا حقه) * ثلاثة أقوال.
القول الأول: قال ابن عباس في رواية عطاء يريد به العشر فيما سقت السماء، ونصف العشر فيما سقي بالدواليب، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك.
فإن قالوا: كيف يؤدي الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل؟ وأيضا هذه السورة مكية، وإيجاب الزكاة مدني.
قلنا: لما تعذر إجراء قوله: * (وآتوا حقه) * على ظاهره بالدليل الذي ذكرتم. لا جرم حملناه على تعلق حق الزكاة به في ذلك الوقت، والمعنى: اعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد ولا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.
والجواب عن السؤال الثاني: لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة، بل لا نزاع أن الآية المدنية وردت بإيجابها، إلا أن ذلك لا يمنع أنها كانت واجبة بمكة. وقيل أيضا: هذه الآية مدنية.
والقول الثاني: أن هذا حق في المال سوى الزكاة. وقال مجاهد: إذا حصدت فحضرت المساكين فاطرح لهم منه، وإذا درسته وذريته فاطرح لهم منه، وإذا كربلته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته.
والقول الثالث: أن هذا كان قبل وجوب الزكاة، فلما فرضت الزكاة نسخ هذا، وهذا قول سعيد بن جبير، والأصح هو القول الأول، والدليل عليه أن قوله تعالى: * (وآتوا حقه) * إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوما قبل ورود هذه الآية لئلا تبقى هذه الآية مجملة. وقد قال عليه الصلاة
213

والسلام: " ليس في المال حق سوى الزكاة " فوجب أن يكون المراد بهذا الحق حق الزكاة.
البحث الثالث: قوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * بعد ذكر الأنواع الخمسة، وهو العنب والنخل، والزيتون، والرمان؛ يدل على وجوب الزكاة في الكل، وهذا يقتضي وجوب الزكاة في الثمار، كما كان يقوله أبو حنيفة رحمه الله.
فإن قالوا: لفظ الحصاد مخصوص بالزرع. فنقول: لفظ الحصد في أصل اللغة غير مخصوص بالزرع، والدليل عليه، أن الحصد في اللغة عبارة عن القطع، وذلك يتناول الكل وأيضا الضمير في قوله حصاده يجب عوده إلى أقرب المذكورات وذلك هو الزيتون والرمان، فوجب أن يكون الضمير عائدا إليه.
البحث الرابع: قال أبو حنيفة رحمه الله: العشر واجب في القليل والكثير. وقال الأكثرون إنه لا يجب إلا إذا بلغ خمسة أوسق. واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية، فقال: قوله: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * يقتضي ثبوت حق في القليل والكثير، فإذا كان ذلك الحق هو الزكاة وجب القول بوجوب الزكاة في القليل والكثير.
أما قوله تعالى: * (ولا تسرفوا) * فاعلم أن لأهل اللغة في تفسير الإسراف قولين: الأول: قال ابن الأعرابي: السرف تجاوز ما حد لك. الثاني: قال شمر: سرف المال، ما ذهب منه من غير منفعة.
إذا عرفت هذا فنقول: للمفسرين فيه أقوال: الأول: أن الإنسان إذا أعطى كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف، لأنه جاء في الخبر، " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ". وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها، ثم قسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئا فأنزل الله تعالى قوله: * (وآتوا حقه
يوم حصاده ولا تسرفوا) * أي ولا تعطوا كله. والثاني: قال سعيد بن المسيب: * (لا تسرفوا) * أي لا تمنعوا الصدقة، وهذان القولان يشتركان في أن المراد من الإسراف مجاوزة الحد، إلا أن الأول مجاوزة في الإعطاء، والثاني: مجاوزة في المنع. الثالث: قال مقاتل: معناه: لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام، وهذا أيضا من باب المجاوزة، لأن من أشرك الأصنام في الحرث والأنعام، فقد جاوز ما حد له. الرابع: قال الزهري معناه: لا تنفقوا في معصية الله تعالى. قال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا، فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا. ولو أنفق درهما في معصية الله كان مسرفا. وهذا المعنى أراده حاتم الطائي حين قيل له: لا خير في السرف. فقال لا سرف في الخير، وهذا على القول الثاني في معنى السرف، فإن من أنفق
214

في معصية الله، فقد أنفق فيما لا نفع فيه.
ثم قال تعالى: * (إنه لا يحب المسرفين) * والمقصود منه الزجر، لأن كل مكلف لا يحبه الله تعالى فهو من أهل النار، والدليل عليه قوله تعالى: * (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم) * (المائدة: 18) فدل هذا على أن كل من أحبه الله فليس هو من أهل النار. وذلك يفيد من بعض الوجوه أن من لم يحبه الله فهو من أهل النار.
قوله تعالى
* (ومن الانعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما شتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين * ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهدآء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية إنعامه على عباده بالمنافع النباتية أتبعها بذكر إنعامه عليهم بالمنافع الحيوانية. فقال: * (ومن الأنعام حمولة وفرشا) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: " الواو " في قوله: * (ومن الأنعام حمولة وفرشا) * توجب العطف على ما تقدم
215

من قوله: * (وهو الذي أنشأ جنات معروشات) * والتقدير: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا وكثر أقوالهم في تفسير الحمولة والفرش وأقربها إلى التحصيل وجهان: الأول: أن الحمولة ما تحمل الأثقال والفرش ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش. والثاني: الحمولة - الكبار التي تصلح للحمل، والفرش - الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض بسبب صغر أجرامها مثل الفرش المفروش عليها.
ثم قال تعالى: * (كلوا مما رزقكم الله) * يريد ما أحلها لكم. قالت المعتزلة: إنه تعالى أمر بأكل الرزق، ومنع من أكل الحرام، ينتج أن الرزق ليس بحرام.
ثم قال: * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) * أي في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعله أهل الجاهلية * (خطوات) * جمع خطوة. وهي ما بين القدمين. قال الزجاج: وفي * (خطوات الشيطان) * ثلاثة أوجه: بضم الطاء وفتحها وبإسكانها، ومعناه: طرق الشيطان. أي لا تسلكوا الطريق الذي يسوله لكم الشيطان.
ثم قال تعالى: * (إنه لكم عدو مبين) * أي بين العداوة، أخرج آدم من الجنة، وهو القائل * (لأحتنكن ذريته إلا قليلا) * (الإسراء: 62).
ثم قال تعالى: * (ثمانية أزواج) * وفيه بحثان:
البحث الأول: في انتصاب قوله: * (ثمانية) * وجهان: الأول: قال الفراء: انتصب ثمانية بالبدل من قوله: * (حمولة وفرشا) * والثاني: أن يكون التقدير: كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج.
البحث الثاني: الواحد إذا كان وحده فهو فرد، فإذا كان معه غيره من جنسه سمي زوجا، وهما زوجان بدليل قوله: * (خلق الزوجين الذكر والأنثى) * (النجم: 45) وبدليل قوله: * (ثمانية أزواج) * ثم فسرها بقوله: * (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) *.
ثم قال: * (ومن الضأن اثنين) * يعني الذكر والأنثى، والضأن ذوات الصوف من الغنم. قال الزجاج: وهي جمع ضائن وضائنة مثل تاجر وتاجرة. ويجمع الضأن أيضا على الضئين بكسر الضاد وفتحها وقوله: * (ومن المعز اثنين) * قرىء * (ومن المعز) * بفتح العين، والمعز ذوات الشعر من الغنم. ويقال للواحد: ماعز. وللجمع: معزى. فمن قرأ * (المعز) * بفتح العين فهو جمع ماعز، مثل خادم وخدم وطالب وطلب، وحارس وحرس. ومن قرأ بسكون العين فهو أيضا جمع ماعز كصاحب وصحب، وتاجر وتجر، وراكب وركب. وأما انتصاب اثنين فلأن تقدير الآية أنشأ ثمانية أزواج أنشأ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين وقوله: * (قل آلذكرين حرم أم الأنثيين) * نصب الذكرين بقوله:
216

* (حرم) * والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله. قال المفسرون: إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام، فاحتج الله تعالى على إبطال قولهم بأن ذكر الضأن والمعز والإبل والبقر وذكر من كل واحد من هذه الأربعة زوجين، ذكرا وأنثى.
ثم قال إن كان حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما وإن كان حرم الأنثى، وجب أن يكون كل إناثها حراما، وقوله: * (أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) * تقديره: إن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث، هذا ما أطبق عليه المفسرون في تفسير هذه الآية، وهو عندي بعيد جدا، لأن لقائل أن يقول: هب أن هذه الأنواع الأربعة، أعني: الضأن، والمعز، والإبل، والبقر، محصورة في الذكور والإناث، إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة، بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حاما أو سائر الاعتبارات، كما أنا إذا قلنا: أنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل. فإذا قيل: إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر، وإن كان قد حرم لكونه
أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى، ولما لم يكن هذا الكلام لازما علينا، فكذا هذا الوجه الذي ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية، ويجب على العاقل أن يذكر في تفسير كلام الله تعالى وجها صحيحا فأما تفسيره بالوجوه الفاسدة فلا يجوز والأقرب عندي فيه وجهان: أحدهما: أن يقال: إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم، بل هو استفهام على سبيل الإنكار يعني أنكم لا تقرون بنبوة نبي، ولا تعرفون شريعة شارع، فكيف تحكمون بأن هذا يحل وأن ذلك يحرم؟ وثانيهما: أن حكمهم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام مخصوص بالإبل، فالله تعالى بين أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة، فلما لم تحكموا بهذه الأحكام في الأقسام الثلاثة، وهي: الضأن والمعز والبقر، فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم على التعيين؟ فهذا ما عندي في هذه الآية والله أعلم بمراده. ثم قال تعالى: * (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا) * والمراد هل شاهدتم الله حرم هذا إن كنتم لا تؤمنون برسول؟ وحاصل الكلام من هذه الآية: أنكم لا تعترفون بنبوة أحد من الأنبياء، فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة؟ ولما بين ذلك قال: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم) * قال ابن عباس: يريد عمرو بن لحي، لأنه هو الذي غير شريعة إسماعيل، والأقرب أن يكون هذا محمولا على كل من فعل ذلك، لأن اللفظ عام والعلة الموجبة لهذا الحكم عامة،
217

فالتخصيص تحكم محض. قال المحققون: إذا ثبت أن من افترى على الله الكذب في تحريم مباح استحق هذا الوعيد الشديد، فمن افترى على الله الكذب في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والنبوات والملائكة ومباحث المعاد كان وعيده أشد وأشق. قال القاضي: ودل ذلك على أن الإضلال عن الدين مذموم، لا يليق بالله، لأنه تعالى إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح، فالذي هو أعظم منه أولى بالذم.
وجوابه: أنه ليس كل ما كان مذموما منا كان مذموما من الله تعالى. ألا ترى أن الجمع بين العبيد والإماء وتسليط الشهوة عليهم وتمكينهم من أسباب الفجور مذموم منا وغير مذموم من الله تعالى فكذا ههنا.
ثم قال: * (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * قال القاضي: لا يهديهم إلا ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدي بها. وقال أصحابنا: المراد منه الإخبار بأنه تعالى لا يهدي أولئك المشركين، أي لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، والكلام في ترجيح أحد القولين على الآخر معلوم.
قوله تعالى
* (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم * وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهمآ أو الحوايآ أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون * فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين) *.
218

اعلم أنه تعالى لما بين فساد طريقة أهل الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في هذا الباب، فقال: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وحمزة * (إلا أن تكون) * بالتار * (ميتة) * بالنصب على تقدير: إلا أن تكون العين أو النفس أو الجثة ميتة. وقرأ ابن عامر إلا أن تكون بالتاء * (ميتة) * بالرفع على معنى إلا أن تقع ميتة أو تحدث ميتة والباقون * (إلا أن يكون ميتة) * أي إلا أن يكون المأكول ميتة، أو إلا أن يكون الموجود ميتة.
المسألة الثانية: لما بين الله تعالى أن التحريم والتحليل لا يثبت إلا بالوحي. قال: * (قل لا أجد فيما أوحي إلا محرما على طاعم يطعمه) * أي على آكل يأكله، وذكر هذا ليظهر أن المراد منه هو بيان ما يحل ويحرم من المأكولات. ثم ذكر أمورا أربعة. أولها: الميتة، وثانيها: الدم المسفوح، وثالثها: لحم الخنزير فإنه رجس، ورابعها: الفسق وهو الذي أهل به لغير الله، فقوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما) * إلا هذه الأربعة مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة وذلك لأنه لما ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرمات والمحللات إلا بالوحي، وثبت أنه لا وحي من الله تعالى إلا إلى محمد عليه الصلاة والسلام، وثبت أنه تعالى يأمره أن يقول: إني لا أجد فيما أوحي إلي محرما من المحرمات إلا هذه الأربعة كان هذا مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة.
واعلم أن هذه السورة مكية، فبين تعالى في هذه السورة المكية أنه لا محرم إلا هذه الأربعة ثم أكد ذلك بأن قال في سورة النحل: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) * (النحل: 115) وكلمة * (إنما) * تفيد الحصر فقد حصلت لنا آيتان مكيتان يدلان على حصر المحرمات في هذه الأربعة، فبين في سورة البقرة وهي مدنية أيضا أنه لا محرم إلا هذه الأربعة فقال: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) * وكلمة * (إنما) * تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة لتلك الآية المكية لأن كلمة * (إنما) * تفيد الحصر، فكلمة * (إنما) * في الآية المدنية مطابقة لقوله: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) * إلا كذا وكذا في الآية المكية، ثم ذكر تعالى في سورة المائدة قوله تعالى: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) * (المائدة: 1) وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله: * (إلا ما يتلى عليكم) * هو ما ذكره بعد هذه الآية بقليل، وهو قوله: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم) * وكل هذه الأشياء أقسام الميتة وأنه تعالى إنما أعادها بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل، فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها
219

كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر.
فإن قال قائل: فيلزمكم في التزام هذا الحصر تحليل النجاسات والمستقذرات، ويلزم عليه أيضا تحليل الخمر، وأيضا فيلزمكم تحليل المنخنقة والموقوذة والمتردية
والنطيحة مع أن الله تعالى حكم بتحريمها.
قلنا: هذا لا يلزمنا من وجوه: الأول: أنه تعالى قال في هذه الآية: * (أو لحم خنزير فإنه رجس) * ومعناه أنه تعالى إنما حرم لحم الخنزير لكونه نجسا، فهذا يقتضي أن النجاسة علة لتحريم الأكل. فوجب أن يكون كل نجس يحرم أكله، وإذا كان هذا مذكورا في الآية كان السؤال ساقطا. والثاني: أنه تعالى قال في آية أخرى: * (ويحرم عليهم الخبائث) * وذلك يقتضي تحريم كل الخبائث، والنجاسات خبائث، فوجب القول بتحريمها. الثالث: أن الأمة مجمعة على حرمة تناول النجاسات، فهب أنا التزمنا تخصيص هذه السورة بدلالة النقل المتواتر من دين محمد في باب النجاسات. فوجب أن يبقى ما سواها على وفق الأصل تمسكا بعموم كتاب الله في الآية المكية والآية المدنية، فهذا أصل مقرر كامل في باب ما يحل وما يحرم من المطعومات، وأما الخمر فالجواب عنه: أنها نجسة فيكون من الرجس فيدخل تحت قوله: * (رجس) * وتحت قوله: * (ويحرم عليهم الخبائث) * وأيضا ثبت تخصيصه بالنقل المتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم في تحريمه، وبقوله تعالى: * (فاجتنبوه) * وبقوله: * (وإثمهما أكبر من نفعهما) * والعام المخصوص حجة في غير محل التخصيص، فتبقى هذه الآية فيما عداها حجة. وأما قوله ويلزم تحليل الموقوذة والمتردية والنطيحة.
فالجواب عنه من وجوه: أولها: أنها ميتات. فكانت داخلة تحت هذه الآية. وثانيها: أنا نخص عموم هذه الآية بتلك الآية، وثالثها: أن نقول إنها إن كانت ميتة دخلت تحت هذه الآية، وإن لم تكن ميتة فنخصصها بتلك الآية. فإن قال قائل: المحرمات من المطعومات أكثر مما ذكر في هذه الآية فما وجهها؟
أجابوا عنه من وجوه: أحدها: أن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما ذكر في هذه الآية، وثانيها: أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن تحريم غير ما نص عليه في هذه الآية ثم وجدت محرمات أخرى بعد ذلك. وثالثها: هب أن اللفظ عام إلا أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز فنحن نخصص هذا العموم بأخبار الآحاد. ورابعها: أن مقتضى هذه الآية أن نقول إنه لا يجد في القرآن، ويجوز أن يحرم الله تعالى ما سوى هذه الأربعة على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. ولقائل أن يقول: هذه الأجوبة ضعيفة.
220

أما الجواب الأول: فضعيف لوجوه: أحدها: لا يجوز أن يكون المراد من قوله: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) * ما كان يحرمه أهل الجاهلية من السوائب والبحائر وغيرها إذ لو كان المراد ذلك لما كانت الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب داخلة تحته، ولو لم تكن هذه الأشياء داخلة تحت قوله: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) * لما حسن استثناؤها، ولما رأينا أن هذه الأشياء مستثناة عن تلك الكلمة، علمنا أنه ليس المراد من تلك الكلمة ما ذكروه. وثانيها: أنه تعالى حكم بفساد قولهم في تحريم تلك الأشياء، ثم إنه تعالى في هذه الآية خصص المحرمات في هذه الأربعة وتحليل تلك الأشياء التي حرمها أهل الجاهلية لا يمنع من تحليل غيرها، فوجب إبقاء هذه الآية على عمومها لأن تخصيصها يوجب ترك العمل بعمومها من غير دليل، وثالثها: أنه تعالى قال في سورة البقرة: * (إنما حرم عليكم) * وذكر هذه الأشياء الأربعة، وكلمة * (إنما) * تفيد الحصر وهذه الآية في سورة البقرة غير مسبوقة بحكاية أقوال أهل الجاهلية في تحريم البحائر والسوائب فسقط هذا العذر.
وأما جوابهم الثاني: وهو أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرما إلا هذه الأربعة.
فجوابه من وجوه: أولها: أن قوله تعالى في سورة البقرة: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) * (البقرة: 173) آية مدنية نزلت بعد استقرار الشريعة، وكلمة * (إنما) * تفيد الحصر فدل هاتان الآيتان على أن الحكم الثابت في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء، وثانيها: أنه لما ثبت بمقتضى هاتين الآيتين حصر المحرمات في هذه الأربعة كان هذا اعترافا بحل ما سواها، فالقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا، ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ، لأنه لو كان احتمال طريان الناسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان، فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال: إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال، ولما اتفق الكل على أن الأصل عدم النسخ، وأن القائل به والذاهب إليه هو المحتاج إلى الدليل علمنا فساد هذا السؤال.
وأما جوابهم الثالث: وهو أنا نخصص عموم القرآن بخبر الواحد. فنقول: ليس هذا من باب التخصيص، بل هو صريح النسخ، لأن قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه) * مبالغة في أنه لا يحرم سوى هذه الأربعة، وقوله في سورة البقرة: * (إنما حرم عليكم الميتة) * وكذا وكذا، تصريح بحصر المحرمات في هذه الأربعة، لأن كلمة * (إنما) * تفيد الحصر، فالقول بأنه ليس الأمر كذلك يكون دفعا لهذا الذي ثبت بمقتضى هاتين الآيتين أنه كان ثابتا في أول الشريعة بمكة،
221

وفي آخرها بالمدينة، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز.
وأما جوابهم الرابع: فضعيف أيضا، لأن قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحى إلي) * يتناول كل ما كان وحيا، سواء كان ذلك الوحي قرآنا أو غيره، وأيضا فقوله في سورة البقرة: * (إنما حرم عليكم الميتة) * يزيل هذا الاحتمال. فثبت بالتقرير الذي ذكرنا قوة هذا الكلام، وصحة هذا المذهب، وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس رحمه الله، ومن السؤالات الضعيفة أن كثيرا من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال: " ما استخبثه العرب فهو حرام " وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط، فسيد العرب بل سيد العالمين محمد صلوات الله عليه، لما رآهم يأكلون الضب قال: " يعافه طبعي " ثم إن هذا الاستقذار ما صار سببا لتحريم الضب. وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئا، وقد يختلفون في بعض الأشياء، فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون، فعلمنا أن أمر الاستقذار غير
مضبوط، بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم؟
المسألة الثالثة: اعلم أنا قد ذكرنا المسائل المتعلقة بهذه الأشياء الأربعة في سورة البقرة على سبيل الاستقصاء، فلا فائدة في الإعادة. فأولها: الميتة، ودخلها التخصيص في قوله عليه الصلاة والسلام: " أحلت لنا ميتتان السمك والجراد " وثانيها: الدم المسفوح، والسفح الصب. يقال: سفح الدم سفحا، وسفح هو سفوحا إذا سال. وأنشد أبو عبيدة لكثير:
أقول ودمعي واكف عند رسمها * عليك سلام الله والدمع يسفح
قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح، وعلى هذا التقدير: فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، ولا ما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل، وسئل أو مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم. وعن القدري: يرى فيها حمرة الدم، فقال لا بأس به، إنما نهى عن الدم المسفوح. وثالثها: لحم الخنزير فإنه رجس. ورابعها: قوله: * (أو فسقا أهل لغير الله به) * وهو منسوق على قوله: * (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) * فسمى ما أهل لغير الله به - فسقا - لتوغله في باب الفسق كما يقال: فلان كرم وجود إذا كان كاملا فيهما، ومنه قوله تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) * (الأنعام: 121).
وأما قوله تعالى: * (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) * فالمعنى أنه لما بين في هذه الأربعة أنها محرمة، بين أن عند الاضطرار يزول ذلك التحريم، وهذه الآية قد استقصينا تفسيرها في سورة البقرة. وقوله عقيب ذلك: * (فإن ربك غفور رحيم) * يدل على حصول الرخصة،
222

ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى سوى هذه الأربعة، وهي نوعان: الأول: أنه تعالى حرم عليهم كل ذي ظفر. وفيه مباحث:
البحث الأول: قال الواحدي: في الظفر لغات ظفر بضم الفاء، وهو أعلاها وظفر بسكون الفاء، وظفر بكسر الظاء وسكون الفاء، وهي قراءة الحسن وظفر بكسرهما وهي قراءة أبي السمال.
البحث الثاني: قال الواحدي: اختلفوا في كل ذي ظفر الذي حرمه الله تعالى على اليهود روي عن ابن عباس: أنه الإبل فقط. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أنه الإبل والنعامة، وهو قول مجاهد. وقال عبد الله بن مسلم: إنه كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب. ثم قال: * (كذلك) * قال المفسرون. وقال: وسمى الحافر ظفرا على الاستعارة. وأقول: أما حمل الظفر على الحافر فبعيد من وجهين: الأول: أن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا. والثاني: أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر، وذلك باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم من حصول الحافر لهما.
وإذا ثبت هذا فنقول: وجب حمل الظفر على المخالب والبراثن لأن المخالب آلات الجوارح في الاصطياد والبراثن آلات السباع في الاصطياد، وعلى هذا التقدير: يدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير، ويدخل فيه الطيور التي تصطاد لأن هذه الصفة تعم هذه الأجناس.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) * يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين: الأول: أن قوله: * (وعلى الذين هادوا حرمنا) * كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة. والثاني: أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله، * (وعلى الذين هادوا حرمنا) * فائدة. فثبت أن تحريم السباع وذوي المخالب من الطير مختص باليهود، فوجب أن لا تكون محرمة على المسلمين، فصارت هذه الآية دالة على هذه الحيوانات على المسلمين، وعند هذا نقول: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى، فوجب أن لا يكون مقبولا، وعلى هذا التقدير: يقوى قول مالك في هذه المسألة.
النوع الثاني: من الأشياء التي حرمها الله تعالى على اليهود خاصة، قوله تعالى: * (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) * فبين تعالى أنه حرم على اليهود شحوم البقر والغنم، ثم في الآية قولان: الأول: إنه تعالى استثنى عن هذا التحريم ثلاثة أنواع: أولها: قوله: * (إلا ما حملت ظهورهما) * قال ابن عباس: إلا ما علق بالظهر من الشحم، فإني لم أحرمه وقال قتادة: إلا ما علق بالظهر والجنب
223

من داخل بطونها، وأقول ليس على الظهر والجنب شحم إلا اللحم الأبيض السمين الملتصق باللحم الأحمر على هذا التقدير: فذلك اللحم السمين الملتصق مسمم بالشحم، وبهذا التقدير: لو حلف لا يأكل الشحم، وجب أن يحنث بأكل ذلك اللحم السمين.
والاستثناء الثاني: قوله تعالى: * (أو الحوايا) * قال الواحدي: وهي المباعر والمصارين، واحدتها حاوية وحوية. قال ابن الأعرابي: هي الحوية أو الحاوية، وهي الدوارة التي في بطن الشاة. وقال ابن السكيت: يقال حاوية وحوايا، مثل رواية وروايا.
إذا عرفت هذا: فالمراد أن الشحوم الملتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة.
والاستثناء الثالث: قوله: * (وما اختلط بعظم) * قالوا: إنه شحم الإلية في قول جميع المفسرين. وقال ابن جريج: كل شحم في القائم والجنب والرأس، وفي العينين والأذنيين. يقول: إنه اختلط بعظم فهو حلال لهم، وعلى هذا التقدير: فالشحم الذي حرمه الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية.
القول الثاني: في الآية أن قوله: * (أو الحوايا) * غير معطوف على المستثنى، بل على المستثنى منه والتقدير: حرمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرم قالوا: ودخلت كلمة " أو " كدخولها في قوله تعالى: * (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) * (الإنسان: 24) والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى، فاعص هذا واعص هذا، فكذا ههنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا.
ثم قال تعالى: * (ذلك جزيناهم ببغيهم) * والمعنى: أنا إنما خصصناهم بهذا التحريم جزاء على بغيهم، وهو قتلهم الأنبياء، وأخذهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل، ونظيره قوله تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * (النساء: 160).
ثم قال تعالى: * (وإنا لصادقون) * أي في الأخبار عن بغيهم وفي الأخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم. قال القاضي: نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم، لأن التكليف تعريض للثواب، والتعريض للثواب إحسان. فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم المتقدم.
فالجواب: أن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد استحقاق الثواب، ويمكن أيضا أن يكون للجرم المتقدم، وكل واحد منهما غير مستبعد.
ثم قال تعالى: * (فإن كذبوك) * يعني إن كذبوك في ادعاء النبوة والرسالة، وكذبوك في تبليغ هذه الأحكام * (فقل ربكم ذو رحمة واسعة) * فلذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة * (ولا يرد بأسه) * أي عذابه إذا جاء الوقت * (عن القوم المجرمين) * يعني الذين كذبوك فيما تقول. والله أعلم.
224

قوله تعالى
* (سيقول الذين أشركوا لو شآء الله مآ أشركنا ولا ابآؤنا ولا حرمنا من شىء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون * قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن أهل الجاهلية إقدامهم على الحكم في دين الله بغير حجة ولا دليل، حكى عنهم عذرهم في كل ما يقدمون عليه من الكفريات، فيقولون: لو شاء الله منا أن لا نكفر لمنعنا عن هذا الكفر، وحيث لم يمنعنا عنه، ثبت أنه مريد لذلك فإذا أراد الله ذلك منا امتنع منا تركه فكنا معذورين فيه، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المعتزلة زعموا أن هذه الآية تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه:
فالوجه الأول: أنه تعالى حكى عن الكفار صريح قول المجبرة وهو قولهم: لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك، وإنما حكى عنهم هذا القول في معرض الذم والتقبيح، فوجب كون هذا المذهب مذموما باطلا.
والوجه الثاني: أنه تعالى قال: * (كذب) * وفيه قراءتان بالتخفيف وبالتثقيل. أما القراءة بالتخفيف فهي تصريح بأنهم قد كذبوا في ذلك القول، وذلك يدل على أن الذي تقوله المجبرة في هذه المسألة كذب. وأما القراءة بالتشديد، فلا يمكن حملها على أن القول استوجبوا الذم بسبب أنهم كذبوا أهل المذاهب، لأنا لو حملنا الآية عليه لكان هذا المعنى ضدا لمعنى الذي يدل عليه قراءة * (كذب) * بالتخفيف، وحينئذ تصير إحدى القراءتين ضدا للقراءة الأخرى، وذلك يوجب دخول التناقض في كلام الله تعالى، وإذا بطل ذلك وجب حمله على أن المراد منه أن كل من كذب نبيا من الأنبياء في الزمان المتقدم، فإنه كذبه بهذا الطريق، لأنه يقول الكل بمشيئة الله تعالى، فهذا الذي
225

أنا عليه من الكفر، إنما حصل بمشيئة الله تعالى، فلم يمنعني منه، فهذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين والمتأخرين في تكذيب الأنبياء، وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم، فإذا حملنا الآية على هذا الوجه صارت القراءة بالتشديد مؤكدة للقراءة بالتخفيف ويصير مجموع القراءتين دالا على إبطال قول المجبرة.
الوجه الثالث: في دلالة الآية على قولنا قوله تعالى: * (حتى ذاقوا بأسنا) * وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في ذهابهم إلى هذا المذهب.
المذهب الرابع: قوله تعالى: * (قل هل عندكم من علم فتخرجون لنا) * ولا شك أنه استفهام على سبيل الإنكار، وذلك يدل على أن القائلين بهذا القول ليس لهم به علم ولا حجة، وهذا يدل على فساد هذا المذهب، لأن كل ما كان حقا كان القول به علما.
الوجه الخامس: قوله تعالى: * (إن يتبعون إلا الظن) * مع أنه تعالى قال في سائر الآيات: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) *. والوجه السادس: قوله تعالى: * (وإن هم إلا يخرصون) * والخرص أقبح أنواع الكذب، وأيضا قال تعالى: * (قتل الخراصون) *.
والوجه السابع: قوله تعالى: * (قل فلله الحجة البالغة) * وتقريره: أنهم احتجوا في دفع دعوة الأنبياء والرسل على أنفسهم بأن قالوا: كل ما حصل فهو بمشيئة الله تعالى، وإذا شاء الله منا ذلك، فكيف يمكننا تركه؟ وإذا كنا عاجزين عن تركه، فكيف يأمرنا بتركه؟ وهل في وسعنا وطاقتنا أن نأتي بفعل على خلاف مشيئة الله تعالى؟ فهذا هو حجة الكفار على الأنبياء، فقال تعالى: * (قل فلله الحجة البالغة) * وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنه تعالى أعطاكم عقولا كاملة، وأفهاما وافية، وآذانا سامعة، وعيونا باصرة، وأقدركم على الخير والشر، وأزال الأعذار والموانع بالكلية عنكم، فإن شئتم ذهبتم إلى عمل الخيرات، وإن شئتم إلى عمل المعاصي والمنكرات، وهذه القدرة والمكنة معلومة الثبوت بالضرورة، وزوال الموانع والعوائق معلوم الثبوت أيضا بالضرورة، وإذا كان الأمر كذلك كان ادعاؤكم أنكم عاجزون عن الإيمان والطاعة دعوى باطلة فثبت بما ذكرنا أنه ليس لكم على الله حجة بالغة! بل لله الحجة البالغة عليكم.
والوجه الثاني: أنكم تقولون: لو كانت أفعالنا واقعة على خلاف مشيئة الله تعالى، لكنه قد غلبنا الله وقهرناه، وأتينا بالفعل على مضادته ومخالفته، وذلك يوجب كونه عاجزا ضعيفا، وذلك يقدح في كونه إلها.
226

فأجاب تعالى عنه: بأن العجز والضعف إنما يلزم إذا لم أكن قادرا على حملهم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء، وأنا قادر على ذلك وهو المراد من قوله: * (ولو شاء لهداكم أجمعين) * إلا أني لا أحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء، لأن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف، فثبت بهذا البيان أن الذي يقولونه من أنا لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله، فإنه يلزم منه كونه تعالى عاجزا ضعيفا، كلام باطل. فهذا أقصى ما يمكن أن يذكر في تمسك المعتزلة بهذه
الآية.
والجواب المعتمد في هذا الباب أن نقول: إنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على صحة قولنا ومذهبنا، ونقلنا في كل آية ما يذكرونه من التأويلات. وأجبنا عنها بأجوبة واضحة قوية مؤكدة بالدلائل العقلية القاطعة.
وإذا ثبت هذا، فلو كان المراد من هذه الآية ما ذكرتم، لوقع التناقض الصريح في كتاب الله تعالى فإنه يوجب أعظم أنواع الطعن فيه.
إذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى حكى عن القوم أنهم قالوا * (لو شاء الله ما أشركنا) * ثم ذكر عقيبه * (كذلك كذب الذين من قبلهم) * فهذا يدل على أن القوم قالوا لما كان الكل بمشيئة الله تعالى وتقديره، كان التكليف عبثا، فكانت دعوى الأنبياء باطلة، ونبوتهم ورسالتهم باطلة، ثم إنه تعالى بين أن التمسك بهذا الطريق في إبطال النبوة باطل، وذلك لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا اعتراض عليه لأحد في فعله، فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر، ومع هذا فيبعث إليه الأنبياء ويأمره بالإيمان، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع.
فالحاصل: أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال نبوة الأنبياء، ثم إنه تعالى بين أن هذا الاستدلال فاسد باطل، فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء، وعلى هذا الطريق فقط سقط هذا الاستدلال بالكلية، وجميع الوجوه التي ذكرتموها في التقبيح والتهجين عائد إلى تمسككم بثبوت المشيئة لله على دفع دعوة الأنبياء، فيكون الحاصل: أن هذا الاستدلال باطل، وليس فيه البتة ما يدل على أن القول بالمشية باطل.
فإن قالوا: هذا العذر إنما يستقيم إذ قرأنا قوله تعالى: * (كذلك كذب) * بالتسديد. وأما إذا قرأناه بالتخفيف، فإنه يسقط هذا العذر بالكلية فنقول فيه وجهان. الأول: أنا نمنع صحة هذه القراءة، والدليل عليه أنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على قولنا: فلو كانت هذه الآية دالة على قولهم، لوقع التناقض، ولخرج القرآن عن كونه كلاما لله تعالى، ويندفع هذا التناقض
227

بأن لا تقبل هذه القراءة، فوجب المصير إليه. الثاني: سلمنا صحة هذه القراءة لكنا نحملها على أن القوم كذبوا في أنه يلزم من ثبوت مشيئة الله تعالى في كل أفعال العباد سقوط نبوة الأنبياء وبطلان دعوتهم، وإذا حملناه على هذا الوجه لم يبق للمعتزلة بهذه الآية تمسك البتة، والحمد لله الذي أعاننا على الخروج من هذه العهدة القوية، ومما يقوي ما ذكرناه ما روي أن ابن عباس قيل له بعد ذهاب بصره ما تقول فيمن يقول: لا قدر، فقال إن كان في البيت أحد منهم أتيت عليه ويله أما يقرأ * (إنا كل شيء خلقناه بقدر) * (القمر: 49) * (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم) * (يس: 12) وقال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم، قال له اكتب القدر، فجرى بما يكون إلى قيام الساعة، وقال صلوات الله عليه: " المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة ".
المسألة الثانية: زعم سيبويه أن عطف الظاهر على المضمر المرفوع في الفعل قبيح، فلا يجوز أن يقال: قمت وزيد، وذلك لأن المعطوف عليه أصل، والمعطوف فرع، والمضمر ضعيف، والمظهر قوي، وجعل القوي فرعا للضعيف، لا يجوز.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول: إن جاء الكلام في جانب الأثبات، وجب تأكيد الضمير فنقول: قمت أنا وزيد، وإن جاء في جانب النفي قلت ما قمت ولا زيد.
إذا ثبت هذا فنقول قوله: * (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) * فعطف قوله: * (ولا آباؤنا) * على الضمير في قوله: * (ما أشركنا) * إلا أنه تخلل بينهما كلمة لا فلا جرم حسن هذا العطف. قال في جامع الأصفهاني: إن حرف العطف يجب أن يكون متأخرا عن اللفظة المؤكدة للضمير حتى يحسن العطف ويندفع المحذور المذكور من عطف القوي على الضعيف، وهذا المقصود إنما يحصل إذا قلنا: * (ما أشركنا نحن ولا آباؤنا) * حتى تكون كلمة * (لا) * مقدمة على حرف العطف. أما ههنا حرف العطف مقدم على كلمة * (لا) * وحينئذ يعود المحذور المذكور.
فالجواب: أن كلمة * (لا) * لما أدخلت على قوله: * (آباؤنا) * كان ذلك موجبا إضمار فعل هناك، لأن صرف النفي إلى ذوات الآباء محال، بل يجب صرف هذا النفي إلى فعل يصدر منهم، وذلك هو الإشراك، فكان التقدير: ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا، وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا على قولهم الكل بمشيئة الله تعالى بقوله: * (فلو شاء لهداكم أجمعين) * فكلمة " لو " في اللغة تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فدل هذا على أنه تعالى ما شاء أن يهديهم، وما هداهم أيضا. وتقريره بحسب الدليل العقلي، أن قدرة الكافر على الكفر إن لم تكن قدرة على الإيمان. الله تعالى على هذا التقدير ما أقدره على الإيمان، فلو شاء الأيمان منه، فقد شاء الفعل
228

من غير قدرة على الفعل، وذلك محال ومشيئة المحال محال، وإن كانت القدرة على الكفر قدرة على الإيمان توقف رجحان أحد الطرفين على حصول الداعية المرجحة.
فإن قلنا: أنه تعالى خلق تلك الداعية فقد حصلت الداعية المرجحة مع القدرة، ومجموعهما موجب للفعل، فحيث لم يحصل الفعل علمنا أن تلك الداعية لم تحصل، وإذا لم تحصل امتنع منه فعل الإيمان، وإذا امتنع ذلك منه، امتنع أن يريده الله منه، لأن إرادة المحال محال ممتنع، فثبت أن ظاهر القرآن دل على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكافر، والبرهان العقلي الذي قررناه يدل عليه أيضا، فبطل قولهم من كل الوجوه، أوما قوله: تحمل هذه الآية على مشيئة الإلجاء فنقول: هذا التأويل إنما يحسن المصير إليه لو ثبت بالبرهان العقلي امتناع الحمل على ظاهر هذا الكلام، أما لو قام البرهان العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل عليه هذا الظاهر، فكيف يصار إليه؟ ثم نقول: هذا الدليل باطل من وجوه: الأول: أن هذا الكلام لا بد فيه من إضمار، فنحن نقول: التقدير: لو شاء الهداية لهداكم، وأنتم تقولون التقدير: لو شاء الهداية على سبيل الإلجاء لهداكم، فإضماركم أكثر فكان قولكم مرجوحا. الثاني: أنه تعالى يريد من الكافر الإيمان الاختياري، والإيمان الحاصل بالإلجاء غير الإيمان الحاصل بالاختيار، وعلى هذا التقدير يلزم كونه تعالى عاجزا عن تحصيل مراده، لأن مراده هو الإيمان الاختياري، وأنه لا يقدر البتة على تحصيله، فكان القول بالعجز لازما.
الثالث: أن هذا الكلام موقوف على الفرق بين الإيمان الحاصل بالاختيار، وبين الإيمان الحاصل بالإلجاء. أما الإيمان الحاصل بالاختيار. فإنه يمتنع حصوله إلا عند حصول داعية جازمة، وإرادة لازمة. فإن الداعية التي يترتب عليها حصول الفعل، إما أن تكون بحيث يجب ترتب الفعل عليها أو لا يجب. فإن وجب فهي الداعية الضرورية، وحينئذ لا يبقى بينها وبين الداعية الحاصلة بالإلجاء فرق. وإن لم تجب ترتب الفعل عليها، فحينئذ يمكن تخلف الفعل عنها، فلنفرض تارة ذلك الفعل متخلفا عنها، وتارة غير متخلف، فامتياز أحد الوقتين عن الآخر لا بد وأن يكون لمرجح زائد فالحاصل قبل ذلك ما كان تمام الداعية، وقد فرضناه كذلك، وهذا خلف، ثم عند انضمام هذا القيد الزائد إن وجب الفعل لم يبق بينه وبين الضرورية فرق، وإن لم يجب افتقر إلى قيد زائد ولزم التسلسل، وهو محال. فثبت أن الفرق الذي ذكروه بين الداعية الاختيارية وبين الداعية الضرورية وإن كان في الظاهر معتبرا، إلا أنه عند التحقيق والبحث لا يبقى له محصول.
229

قوله تعالى
* (قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهوآء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالاخرة وهم بربهم يعدلون) *.
اعلم أنه تعالى لما أبطل على الكفار جميع أنواع حجهم بين أنه ليس لهم على قولهم شهود البتة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: * (هلم) * كلمة دعوة إلى الشيء، والمعنى: هاتوا شهداءكم، وفيه قولان: الأول: أنه يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والذكر والأنثى. قال تعالى: * (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون) * وقال: * (والقائلين لأخوانهم هلم إلينا) * واللغة الثانية يقال للاثنين: هلما، وللجمع: هلموا، وللمرأة: هلمي، وللاثنين: هلما، وللجمع: هلمن. والأول أفصح.
المسألة الثانية: في أصل هذه الكلمة قولان: قال الخليل وسيبويه أنها " ها " ضمت إليها " لم " أي جمع، وتكون بمعنى؛ أدن. يقال: لفلان لمة، أي دنو، ثم جعلتا كالكلمة الواحدة، والفائدة في قولنا: " ها " استعطاف المأمور واستدعاء إقباله على الأمر، إلا أنه لما كثر استعماله حذف عنه الألف على سبيل التخفيف. كقولك: لم أبل، ولم أر، ولم تك، وقال الفراء: أصلها " هل " أم أرادوا " بهل " حرف الاستفهام. وبقولنا: " أم " أي أقصد؟ والتقدير: هل قصد؟ والمقصود من هذا الاستفهام الأمر بالقصد، كأنك تقول: أقصد، وفيه وجه آخر، وهو أن يقال: كان الأصل أن قالوا: هل لك في الطعام، أم أي قصد؟ ثم شاع في الكل كما أن كلمة " تعالى " كانت مخصوصة بصورة معينة، ثم عمت.
المسألة الثالثة: أنه تعالى نبه باستدعاء إقامة الشهداء من الكافرين ليظهر أن لا شاهد لهم على تحريم ما حرموه، ومعنى * (هلم) * أحضروا شهداءكم.
ثم قال: * (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) * تنبيها على كونهم كاذبين، ثم بين تعالى أنه إن وقعت منهم تلك الشهادة فعن اتباع الهوى، فأمر نبيه أن لا يتبع أهواءهم، ثم زاد في تقبيح ذلك بأنهم لا يؤمنون بالآخرة، وكانوا ممن ينكرون البعث والنشور، وزاد في تقبيحهم بأنهم يعدلون بربهم
230

فيجعلون له شركاء. والله أعلم.
قوله تعالى
* (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين فساد ما يقول الكفار أن الله حرم علينا كذا وكذا، أردفه تعالى ببيان الأشياء التي حرمها عليهم، وهي الأشياء المذكورة في هذه الآية، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": " تعال " من الخاص الذي صار عاما، وأصله أن يقوله من كان في مكان لمن هو أسفل منه، ثم كثر وعم، وما في قوله: * (ما حرم ربكم عليكم) * منصوب، وفي ناصبه وجهان: الأول: أنه منصوب بقوله: * (أتل) * والتقدير: أتل الذي حرمه عليكم، والثاني: أنه منصوب بحرم، والتقدير: أتل الأشياء التي حرم عليكم.
فإن قيل: قوله: * (أن تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) * كالتفصيل لما أجمله في قوله: * (ما حرم ربكم عليكم) * وهذا باطل، لأن ترك الشرك والإحسان بالوالدين واجب، لا محرم.
والجواب من وجوه: الأول: أن المراد من التحريم أن يجعل له حريما معينا، وذلك بأن بينه بيانا مضبوطا معينا، فقوله: * (أتل ما حرم ربكم عليكم) * معناه: أتل عليكم ما بينه بيانا شافيا بحيث يجعل له حريما معينا، وعلى هذا التقرير فالسؤال زائل، والثاني: أن الكلام تم وانقطع عند قوله * (أتل ما حرم ربكم) * ثم ابتدأ فقال: * (عليكم أن لا تشركوا) * كما يقال: عليكم السلام، أو أن الكلام تم وانقطع عند قوله: * (أتل ما حرم ربكم عليكم) * ثم ابتدأ فقال: * (ألا تشركوا به شيئا) * بمعنى لئلا تشركوا، والتقدير: أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا به شيئا. الثالث: أن تكون " أن "
231

في قوله: * (أن لا تشركوا) * مفسرة بمعنى: أي، وتقدير الآية: أتل ما حرم ربكم عليكم، أي لا تشركوا، أي ذلك التحريم هو قوله: * (لا تشركوا به شيئا) *.
فإن قيل: فقوله: * (وبالوالدين إحسانا) * معطوف على قوله: * (أن لا تشركوا به شيئا) * فوجب أن يكون قوله: * (وبالوالدين إحسانا) * مفسرا لقوله: * (أتل ما حرم ربكم عليكم) * فيلزم أن يكون الإحسان بالوالدين حراما، وهو باطل.
قلنا: لما أوجب الإحسان إليهما، فقد حرم الإساءة إليهما.
المسألة الثانية: أنه تعالى أوجب في هذه الآية أمور خمسة: أولها: قوله: * (أن لا تشركوا به شيئا) *.
واعلم أنه تعالى قد شرح فرق المشركين في هذه السورة على أحسن الوجوه، وذلك لأن طائفة من المشركين يجعلون الأصنام شركاء لله تعالى، وإليهم الإشارة بقوله حكاية عن إبراهيم * (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين) * (الأنعام: 74).
والطائفة الثانية: من المشركين عبدة الكواكب، وهم الذين حكى الله عنهم، أن إبراهيم عليه السلام أبطل قولهم بقوله: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76).
والطائفة الثالثة: الذين حكى الله تعالى عنهم: * (أنهم جعلوا لله شركاء الجن) * وهم القائلون بيزدان وأهرمن.
والطائفة الرابعة: الذين جعلوا لله بنين وبنات، وأقام الدلائل على فساد أقوال هؤلاء الطوائف والفرق، فلما بين بالدليل فساد قول هؤلاء الطوائف. قال ههنا: * (ألا تشركوا به شيئا) *.
النوع الثاني: من الأشياء التي أوجبها ههنا قوله: * (وبالوالدين إحسانا) * وإنما ثنى بهذا التكليف، لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى، ويتلوها نعمة الوالدين، لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه وفي الظاهر هو الأبوان، ثم نعمهما على الإنسان عظيمة وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ عن الضياع والهلاك في وقت الصغر.
النوع الثالث: قوله: * (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) * فأوجب بعد رعاية حقوق الأبوين رعاية حقوق الأولاد وقوله: * (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) * أي من خوف الفقر وقد صرح بذكر الخوف في قوله: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * والمراد منه النهي عن الوأد، إذ كانوا يدفنون البنات أحياء، بعضهم للغيرة، وبعضهم خوف الفقر، وهو السبب الغالب، فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله: * (نحن نرزقكم وإياهم) *، لأنه تعالى إذا كان متكفلا برزق الوالد والولد، فكما وجب على الوالدين تبقية النفس والاتكال في رزقها على الله، فكذلك القول في حال الولد، قال شمر: أملق، لازم ومتعد. يقال: أملق الرجل، فهو مملق، إذا افتقر، فهذا لازم، وأملق
232

الدهر ما عنده، إذا أفسده، والإملاق الفساد.
والنوع الرابع: قوله: * (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) * قال ابن عباس: كانوا يكرهون الزنا علانية، ويفعلون ذلك سرا، فنهاهم الله عن الزنا علانية وسرا، والأولى أن لا يخصص هذا النهي بنوع معين، بل يجري على عمومه في جميع الفواحش ظاهرها وباطنها لأن اللفظ عام. والمعنى الموجب لهذا النهي وهو كونه فاحشة عام أيضا ومع عموم اللفظ والمعنى يكون التخصيص على خلاف الدليل، وفي قوله: * (ما ظهر منها وما بطن) * دقيقة، وهي: أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله وطاعته، ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس، وذلك باطل، لأن من كان مذمة الناس عنده أعظم وقعا من عقاب الله ونحوه فإنه يخشى عليه من الكفر، ومن ترك المعصية ظاهرا وباطنا، دل ذلك على أنه إنما تركها تعظيما لأمر الله تعالى وخوفا من عذابه ورغبة في عبوديته.
والنوع الخامس: قوله: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) *.
واعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش إلا أنه تعالى أفرده بالذكر لفائدتين: إحداهما: أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم والتفخيم، كقوله: * (وملائكته وجبريل وميكال) * والثانية: أنه تعالى أراد أن يستثني منه، ولا يتأتى هذا الاستثناء في جملة الفواحش.
إذا عرفت هدا فنقول: قوله: * (إلا بالحق) * أي قتل النفس المحرمة قد يكون حقا لجرم يصدر منها. والحديث أيضا موافق له وهو قوله عليه السلام: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق " والقرآن دل على سبب رابع، وهو قوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا) * (المائدة: 33).
والحاصل: أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا بدليل منفصل. ثم إنه تعالى لما بين أحوال هذه الأقسام الخمسة أتبعه باللفظ الذي يقرب إلى القلب القبول، فقال: * (ذلكم وصاكم به) * لما في هذه اللفظة من اللطف والرأفة، وكل ذلك ليكون المكلف أقرب إلى القبول، ثم أتبعه بقوله: * (لعلكم تعقلون) * أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف، ومنافعها في الدين والدنيا.
قوله تعالى
* (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان
233

بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) *.
اعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى خمسة أنواع من التكاليف، وهي أمور ظاهرة جلية لا حاجة فيها إلى الفكر والاجتهاد، ثم ذكر تعالى في هذه الآية أربعة أنواع من التكاليف، وهي أمور خفية يحتاج المرء العاقل في معرفته بمقدارها إلى التفكر، والتأمل والاجتهاد.
فالنوع الأولى: من التكاليف المذكورة في هذه الآية قوله: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) *.
واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة: * (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير) * (البقرة: 220) والمعنى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بأن يسعى في تنميته
وتحصيل الربح به ورعاية وجوه الغبطة له، ثم إن كان القيم فقيرا محتاجا أخذ بالمعروف، وإن كان غنيا فاحترز عنه كان أولى فقوله: * (إلا بالتي هي أحسن) * معناه كمعنى قوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * (النساء: 6).
وأما قوله: * (حتى يبلغ أشده) * فالمعنى احفظوا ماله حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله. وأما معنى الأشد وتفسيره: قال الليث: الأشد. مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة. قال الفراء: الأشد. وأحدها شد في القياس، ولم أسمع لها بواحد. وقال أبو الهيثم: واحدة الأشد شدة كما أن واحدة الأنعم نعمة، والشدة: القوة والجلادة، والشديد الرجل القوي، وفسروا بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام بشرط أن يؤنس منه الرشد، وقد استقصينا في هذا الفصل في أول سورة النساء.
والنوع الثاني: قوله تعالى: * (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) *.
اعلم أن كل شيء بلغ تمام الكمال، فقد وفى وتم. يقال: درهم واف، وكيل واف، وأوفيته حقه، ووفيته إذا أتممته، وأوفى الكيل إذا أتمه ولم ينقص منه شيئا وقوله: * (والميزان) * أي الوزن بالميزان وقوله: * (بالقسط) * أي بالعدل لا بخس ولا نقصان.
فإن قيل: إيفاء الكيل والميزان، هو عين القسط، فما الفائدة في هذا التكرير؟
قلنا: أمر الله المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان، وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة.
234

واعلم أنه لما كان يجوز أن يتوهم الإنسان أنه يجب على التحقيق وذلك صعب شديد في العدل أتبعه الله تعالى بما يزيل هذا التشديد فقال: * (لا نكلف نفسا إلا وسعها) * أي الواجب في إيفاء الكيل والوزن هذا القدر الممكن في إيفاء الكيل والوزن. أما التحقيق فغير واجب. قال القاضي: إذا كان تعالى قد خفف على المكلف هذا التخفيف مع أن ما هو التضييق مقدور له، فكيف يتوهم أنه تعالى يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه؟ بل قالوا: يخلق الكفر فيه، ويريده منه، ويحكم به عليه، ويخلق فيه القدرة الموجبة لذلك الكفر، والداعية الموجبة له، ثم ينهاه عنه فهو تعالى لما لم يجوز ذلك القدر من التشديد والتضييق على العبد، وهو إيفاء الكيل والوزن على سبيل التحقيق، فكيف يجوز أن يضيف على العبد مثل هذا التضييق والتشديد؟
واعلم أنا نعارض القاضي وشيوخه في هذا الموضع بمسألة العلم ومسألة الداعي، وحينئذ ينقطع ولا يبقى لهذا الكلام رواء ولا رونق.
النوع الثالث: من التكاليف المذكورة في هذه الآية، قوله تعالى: * (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) * واعلم أن هذا أيضا من الأمور الخفية التي أوجب الله تعالى فيها أداء الأمانة، والمفسرون حملوه على أداء الشهادة فقط، والأمر والنهي فقط، قال القاضي وليس الأمر كذلك بل يدخل فيه كل ما يتصل بالقول، فيدخل فيه ما يقول المرء في الدعوة إلى الدين وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل ملخصا عن الحشو والزيادة بألفاظ مفهومة معتادة، قريبة من الأفهام، ويدخل فيه أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقعا على وجه العدل من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش، ونقصان عن القدر الواجب، ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص عنها، ومن جملتها تبليغ الرسالات عن الناس، فإنه يجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان، ويدخل فيه حكم الحاكم بالقول، ثم إنه تعالى بين أنه يجب أن يسوي فيه بين القريب والبعيد، لأنه لما كان المقصود منه طلب رضوان الله تعالى لم يختلف ذلك بالقريب والبعيد.
والنوع الرابع: من هذه التكاليف قوله تعالى: * (وبعهد الله أوفوا) * وهذا من خفيات الأمور لأن الرجل قد يحلف مع نفسه، فيكون ذلك الحلف خفيا، ويكون بره وحنثه أيضا خفيا، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام قال: * (ذلكم وصالكم به لعلكم تذكرون) *.
فإن قيل: فما السبب في أن جعل خاتمة الآية الأولى بقوله: * (لعلكم تعقلون) * وخاتمة هذه الآية بقوله: * (لعلكم تذكرون) *.
235

قلنا: لأن التكاليف الخمسة المذكورة في الأولى أمور ظاهرة جلية، فوجب تعقلها وتفهمها وأما التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية فأمور خفية غامضة، لا بد فيها من الاجتهاد والفكر حتى يقف على موضع الاعتدال، فلهذا السبب قال: * (لعلكم تذكرون) * قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (تذكرون) * بالتخفيف والباقون * (تذكرن) * بتشديد الذال في كل القرآن وهما بمعنى واحد.
236