الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٢٠
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

قوله تعالى
* (وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون * وما ذرأ لكم فى الارض مختلفا ألوانه إن فى ذلك لآية لقوم يذكرون) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الله تعالى لما أجاب في هذه الآية عن السؤال الذي ذكرناه من وجهين: الأول: أن نقول: إن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مسندة إلى الاتصالات الفلكية والتشكلات الكوكبية إلا أنه لا بد لحركاتها واتصالاتها من أسباب، وأسباب تلك الحركات إما ذواتها وإما أمور مغايرة لها، والأول باطل لوجهين: الأول: أن الأجسام متماثلة، فلو كان جسم علة لصفة لكان كل جسم واجب الاتصاف بتلك الصفة وهو محال، والثاني: أن ذات الجسم لو كانت علة لحصول هذا الجزء من الحركة لوجب دوام هذا الجزء من الحركة بدوام تلك الذات، ولو كان كذلك، لوجب بقاء الجسم على حالة واحدة من غير تغير أصلا، وذلك يوجب كونه ساكنا، ويمنع من كونه متحركا، فثبت أن القول بأن الجسم متحرك لذاته يوجب كونه ساكنا لذاته وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلا، فثبت أن الجسم يمتنع أن يكون متحركا لكونه جسما، فبقي أن يكون متحركا لغيره، وذلك الغير إما أن يكون ساريا فيه أو مباينا عنه، والأول باطل، لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام، فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها، وذلك المباين إن كان جسما أو جسمانيا عاد التقسم
2

الأول فيه، وإن لم يكن جسما ولا جسمانيا فإما أن يكون موجبا بالذات أو فاعلا مختارا والأول باطل، لأن نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على السوية، فلم يكن بعض الأجسام بقبول بعض الآثار المعينة أولى من بعض، ولما بطل هذا ثبت أن محرك الأفلاك والكواكب هو الفاعل المختار القادر المنزه عن كونه جسما وجسمانيا، وذلك هو الله تعالى، فالحاصل أنا ولو حكمنا بإسناد حوادث العالم السفلي إلى الحركات الفلكية والكوكبية فهذه الحركات الكوكبية والفلكية لا يمكن إسنادها إلى أفلاك أخرى وإلا لزم التسلسل وهو محال، فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله تعالى، وإذا كانت الحوادث السفلية مستندة إلى الحركات الفلكية، وثبت أن الحركات الفلكية حادثة بتخليق الله تعالى وتقديره وتكوينه، فكان هذا اعترافا بأن الكل من الله تعالى وبإحداثه وتخليقه، وهذا هو المراد من قوله: * (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر) * يعني إن كانت تلك الحوادث السفلية لأجل تعاقب الليل والنهار وحركات الشمس والقمر، فهذه الأشياء لا بد وأن يكون حدوثها بتخليق الله تعالى وتسخيره قطعا للتسلسل، ولما تم هذا الدليل في هذا المقام لا جرم ختم هذه الآية بقوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) * يعني أن كل من كان عاقلا علم أن القول بالتسلسل باطل ولا بد من الانتهاء في آخر الأمر إلى الفاعل المختار القدير فهذا تقرير أحد الجوابين.
والجواب الثاني عن ذلك السؤال أن نقول: نحن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث النبات والحيوان لأجل تأثير الطباع والأفلاك والأنجم، وذلك لأن تأثير الطبائع والأفلاك والأنجم والشمس والقمر بالنسبة إلى الكل واحد، ثم نرى أنه إذا تولد العنب كان قشره على طبع وعجمه على طبع ولحمه على طبع ثالث وماؤه على طبع رابع، بل نقول: إنا نرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصفرة، والوجه الثاني من تلك الورقة في غاية الحمرة وتلك الورقة تكون في غاية الرقة واللطافة، ونعلم بالضرورة أن نسبة الأنجم والأفلاك إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة، نسبة واحدة، والطبيعة الواحدة في المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلا واحدا، ألا ترى أنهم قالوا: شكل البسيط هو الكرة لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابها، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة، وأيضا إذا وضعنا الشمع فإذا استضاء خمسة أذرع من ذلك الشمع من أحد الجوانب، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب، لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب.
إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أن نسبة الشمس والقمر والأنجم والأفلاك والطبائع إلى وجهي
3

تلك الورقة اللطيفة الرقيقة نسبة واحدة، وثبت أن الطبيعة المؤثرة متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابها وثبت أن الأثر غير متشابه، لأن أحد جانبي تلك الورقة في غاية الصفرة، والوجه الثاني في غاية الحمرة فهذا يفيد القطع بأن المؤثر في حصول هذه الصفات والألوان والأحوال ليس هو الطبيعة، بل المؤثر فيها هو الفاعل المختار الحكيم، وهو الله سبحانه وتعالى، وهذا هو المراد من قوله: * (وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه) *.
واعلم أنه لما كان مدار هذه الحجة على أن المؤثر الموجب بالذات وبالطبيعة يجب أن يكون نسبته إلى الكل نسبة واحدة، فلما دل الحس في هذه الأجسام النباتية على اختلاف صفاتها وتنافر أحوالها ظهر أن المؤثر فيها ليس واجبا بالذات بل فاعلا مختارا فهذا تمام تقرير هذه الدلائل وثبت أن ختم الآية الأولى بقوله: * (لقوم يتفكرون) * والآية الثانية بقوله: * (لقوم يعقلون) * والآية الثالثة بقوله: * (لقوم يذكرون) * هو الذي نبه على هذه الفوائد النفيسة والدلائل الظاهرة والحمد لله على ألطافه في الدين والدنيا.
المسألة الثانية: قرأ ابن عامر: * (والشمس والقمر والنجوم) * كلها بالرفع على الابتداء والخبر هو قوله: * (مسخرات) * وقرأ حفص عن عاصم: * (والنجوم) * بالرفع على أن يكون قوله: * (والنجوم) * ابتداء وإنما حملها على هذا لئلا يتكرر لفظ التسخير، إذ العرب لا تقول سخرت هذا الشيء مسخرا فجوابه أن المعنى أنه تعالى سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرة تحت قدرته وإرادته، وهذا هو الكلام الصحيح، والتقدير: أنه تعالى سخر للناس هذه الأشياء وجعلها موافقة لمصالحها حال كونها مسخرة تحت قدرة الله تعالى وأمره وإذنه، وعلى هذا التقدير فالتكرير الخالي عن الفائدة غير لازم والله علم. بقي في الآية سؤالات:
السؤال الأول: التسخير عبارة عن القهر والقسر، ولا يليق ذلك إلا بمن هو قادر يجوز أن يقهر، فكيف يصح ذلك في الليل والنهار وفي الجمادات والشمس والقمر؟
والجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى لما دبر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد صارت شبيهة بالعبد المنقاد المطواع، فلهذا المعنى أطلق على هذا النوع من التدبير لفظ التسخير. وعن الوجه الثاني في الجواب: وهو لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب علم الهيئة، وذلك لأنهم يقولون: الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من المغرب إلى المشرق والله تعالى يحرك هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب، فكانت هذه الحركة قسرية، فلهذا السبب ورد فيها اللفظ التسخير.
السؤال الثاني: إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس كان ذكر
4

النهار والليل مغنيا عن ذكر الشمس.
والجواب: أن حدوث النهار والليل ليس بسبب حركة الشمس، بل حدوثهما بسبب حركة الفلك الأعظم الذي دللنا على أن حركته ليست إلا بتحريك الله سبحانه، وأما حركة الشمس فإنها علة لحدوث السنة لا لحدوث اليوم.
السؤال الثالث: ما معنى قوله: * (مسخرات بأمره) * والمؤثر في التسخير هو القدرة لا الأمر.
والجواب: أن هذه الآية مبنية على أن الأفلاك والكواكب جمادات أم لا، وأكثر المسلمين عليها أنها جمادات، فلا جرم حملوا الأمر في هذه الآية على الخلق والتقدير، ولفظ الأمر بمعنى الشأن والفعل كثير قال تعالى: * (إنما قولنا إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) ومن الناس من يقول إنها ليست جمادات فههنا يحمل الأمر على الأذن والتكليف والله أعلم.
* (وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *
اعلم أنه تعالى لما احتج على إثبات الإله في المرتبة الأولى بأجرام السماوات، وفي المرتبة الثانية ببدن الإنسان ونفسه، وفي المرتبة الثالثة بعجائب خلقة الحيوانات، وفي المرتبة الرابعة بعجائب طبائع النبات ذكر في المرتبة الخامسة الاستدلال على وجود الصانع بعجائب أحوال العناصر فبدأ منها بالاستدلال بعنصر الماء.
واعلم أن علماء الهيئة قالوا: ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة في الماء وذاك هو البحر المحيط وهو كلية عنصر الماء وحصل في هذا الربع المسكون سبعة من البحار كما قال بعده: * (والبحر يمده من بعده سبعة أبحر) * (لقمان: 27) والبحر الذي سخره الله تعالى للناس هو هذه البحار، ومعنى تسخير الله تعالى إياها للخلق جعلها بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها إما بالركوب أو بالغوص.
واعلم أن منافع البحار كثيرة والله تعالى ذكر منها في هذه الآية ثلاثة أنواع:
المنفعة الأولى: قوله تعالى: * (لتأكلوا منه لحما طريا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن الأعرابي لحم طري غير مهموز، وقد طرو يطرو طراوة، وقال
5

الفراء: طرا يطرا طراء ممدودا وطراوة كما يقال شقى يشقى شقاء وشقاوة.
واعلم أن في ذكر الطري مزيد فائدة، وذلك لأنه لو كان السمك كله مالحا، لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري فإنه لما خرج من البحر الملح الزعاق الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث لا بحسب الطبيعة، بل بقدرة الله وحكمته حيث أظهر الضد من الضد.
المسألة الثانية: قال أبو حنيفة رحمه الله: لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السمك لا يحنث قالوا: لأن لحم السمك ليس بلحم، وقال آخرون: إنه يحنث لأنه تعالى نص على كونه لحما في هذه الآية وليس فوق بيان الله بيان. روي أن أبا حنيفة رحمه الله لما قال بهذا القول وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك، واحتج عليه بهذه الآية بعث إليه رجلا وسأله عن رجل حلف لا يصلي على البساط فصلى على الأرض هل يحنث أم لا؟ قال سفيان: لا يحنث فقال السائل: أليس أن الله تعالى قال: * (والله جعل لكم الأرض بساطا) * (نوح: 19) قال فعرف سفيان أن ذلك كان بتلقين أبي حنيفة. ولقائل أن يقول: هذا الكلام ليس بقوي، لأن أقصى ما في الباب أنا تركنا العمل بظاهر القرآن في لفظ البساط للدليل الذي قام عليه فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى والفرق بين الصورتين من وجهين: الأول: أنه لما حلف لا يصلي على البساط فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساط لزمنا أن نمنعه من الصلاة، لأنه إن صلى على الأرض المفروشة بالبساط لزمه الحنث لا محالة، ولو صلى على الأرض التي لا تكون مفروشة لزمه الحنث أيضا على تقدير أن يدخل الأرض تحت لفظ البساط، فهذا يقتضي منعه من الصلاة، وذلك مما لا سبيل إليه بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظ اللحم، لأنه ليس في منعه من أكل اللحم على الإطلاق محذور فظهر الفرق. الثاني: أنا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة أن وقوع اسم البساط على الأرض الخالصة مجاز أما وقوع اسم اللحم على لحم السمك فلم يعرف أنه مجاز، فظهر الفرق والله أعلم.
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن: مبنى الأيمان على العادة، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه لحم السمك بدليل أنه إذا قال الرجل لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحما فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار.
والجواب: أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ وتارة تعتبرون العرف، وما رأيناكم ذكرتم ضابطا بين القسمين والدليل عليه أنه إذا قال لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحما فجاء بلحم العصفور كان حقيقا بالإنكار عليه، مع أنكم تقولون إنه يحنث بأكل لحم العصفور، فثبت أن العرف
6

مضطرب، والرجوع إلى نص القرآن متعين. والله أعلم.
المنفعة الثانية: من منافع البحر قوله تعالى: * (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) * والمراد بالحلية اللؤلؤ والمرجان كما قال تعالى: * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان
) * (الرحمن: 22) والمراد: بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم، ولأن إقدامهن على التزين بها إنما يكون من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم، ورأيت بعض أصحابنا تمسكوا في مسألة أنه لا يجب الزكاة في الحلي المباح بحديث عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا زكاة في الحلي " فقلت هذا الحديث ضعيف الرواية وبتقدير الصحة فيمكن أن يقال فيه لفظ الحلي لفظ مفرد محلى بالألف واللام، وقد بينا في أصول الفقه أن هذا اللفظ يجب حمله على المعهود السابق، والحلي الذي هو المعهود السابق هو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في هذه الآية وهو قوله: * (وتستخرجون منه حلية تلبسونها) * فصار بتقدير صحة ذلك الخبر لا زكاة في اللألئ، وحينئذ يسقط الاستدلال به. والله أعلم.
المنفعة الثالثة: قوله تعالى: * (وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله) * قال أهل اللغة: مخر السفينة شقها الماء بصدرها، وعن الفراء: أنه صوت جري الفلك بالرياح.
إذا عرفت هذا فقول ابن عباس: * (مواخر) * أي جواري، إنما حسن التفسير به، لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية. وقوله تعالى: * (ولتبتغوا من فضله) * يعني لتركبوه للتجارة فتطلبوا الربح من فضل الله وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وألقى فى الارض رواسى أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون * وعلامات وبالنجم هم يهتدون) *
اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر بعض النعم التي خلقها الله تعالى في الأرض.
فالنعمة الأولى: قوله: * (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: * (أن تميد بكم) * يعني لئلا تميد بكم على قول الكوفيين وكراهة أن تميد بكم على قول البصريين، وذكرنا هذا عند قوله تعالى: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * (النساء: 176) والميد الحركة والاضطراب يمينا وشمالا يقال: ماد يميد ميدا.
7

المسألة الثانية: المشهور عن الجمهور في تفسير هذه الآية أن قالوا: إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء، فإنها تميد من جانب إلى جانب، وتضطرب، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فاستوت. قالوا فكذلك لما خلق الله تعالى الأرض على وجه الماء اضطربت ومادت، فخلق الله تعالى عليها هذه الجبال الثقال فاستقرت على وجه الماء بسبب ثقل هذه الجبال.
ولقائل أن يقول: هذا يشكل من وجوه: الأول: أن هذا التعليل إما أن يذكر مع تسليم كون الأرض والماء ثقيلة بالطبع أو مع المنع من هذا الأصل ومع القول بأن حركات هذه الأجسام بطباعها أو ليست بطباعها بل هي واقعة بتخليق الفاعل المختار، أما على التقدير الأول فهذا التعليل مشكل، لأن على هذا الأصل لا شك أن الأرض أثقل من الماء، والأثقل من الماء يغوص في الماء ولا يبقى طافيا عليه وإذا لم يبق طافيا عليه امتنع أن يقال: إنها تميد وتميل وتضطرب، وهذا بخلاف السفينة لأنها متخذة من الخشب وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء، فلهذا السبب تبقى الخشبة طافية على الماء فحينئذ تضطرب وتميد وتميل على وجه الماء فإذا أرسيت بالأجسام الثقيلة استقرت وسكنت فظهر الفرق، وأما على التقدير الثاني وهو أن يقال: ليس للأرض ولا للماء طبائع توجب الثقل والرسوب والأرض إنما تنزل، لأن الله تعالى أجرى عادته بجعلها كذلك وإنما صار الماء محيطا بالأرض لمجرد إجراء العادة، وليس ههنا طبيعة للأرض ولا للماء توجب حالة مخصوصة فنقول: فعلى هذا التقدير علة سكون الأرض هي أن الله تعالى يخلق فيها السكون وعلة كونها مائدة مضطربة هي أن الله تعالى يخلق فيها الحركة وعلى هذا التقدير فإنه يفسد القول بأن الأرض كانت مائلة فخلق الله الجال وأرساها عليها لتبقى ساكنة، لأن هذا إنما يصح إذا كان طبيعة الأرض توجب الميدان وطبيعة الجبال توجب الإرساء والثبات، ونحن إنما نتكلم الآن على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال، فثبت أن هذا التعليل مشكل على كل التقديرات.
السؤال الثاني: هو أن إرساء الأرض بالجبال إنما يعقل لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء من غير أن تميد وتميل من جانب إلى جانب، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفا فنقول: فما المقتضى لسكون ذلك الماء ووقوفه في حيزه المخصوص، فإن قلت: المقتضي لسكونه في ذلك الحيز المخصوص هو أن طبيعته المخصوصة توجب وقوفه في ذلك المعين، فلم لا تقول: مثله في الأرض وهو أن الطبيعة المخصوصة التي للأرض توجب وقوفها في ذلك الحيز المعين وذلك يفيد القول بأن الأرض إنما وقفت بسبب أن الله تعالى
8

أرساها بالجبال. فإن قلت: المقتضى لسكون الماء في حيزه المعين هو أن الله تعالى سكن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص، فلم لا تقول مثله في سكون الأرض، وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضا.
السؤال الثالث: أن مجموع الأرض جسم عظيم، فبتقدير أن تميد كليته وتضطرب على وجه البحر المحيط لم تظهر تلك الحالة للناس.
فإن قيل: أليس أن الأرض تحركها البخارات المحتقنة في داخلها عند الزلازل، وتظهر تلك الحركات للناس فبم تنكرون على من يقول: إنه لولا الجبال لتحركت الأرض، إلا أنه تعالى لما أرساها بالجبال الثقال لم تقو الرياح على تحريكها.
قلنا: تلك البخارات إنما احتقنت في داخل قطعة صغيرة من الأرض، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة ظهرت تلك الحركة. قال القائلون بهذا القول: إن ظهور الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضو معين من بدن الإنسان أما لو حركت كلية الأرض لم تظهر تلك الحركة، ألا ترى أن الساكن في السفينة لا يحس بحركة كلية السفينة وإن كانت واقعة على أسرع الوجوه وأقواها فكذا ههنا، فهذا ما في هذا الموضع من المباحث الدقيقة العميقة
والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة، وثبت أن هذه الجبال على سطح هذه الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة.
إذا ثبت هذا فنقول: لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت الأرض كرة حقيقية خالية عن الخشونات والتضريسات لصارت بحيث تتحرك بالاستدارة بأدنى سبب لأن الجرم البسيط المستدير إما أن يجب كونه متحركا بالاستدارة على نفسه وإن لم يجب ذلك عقلا إلا أنه بأدنى سبب يتحرك على هذا الوجه، أما لما حصل على ظاهر سطح كرة الأرض هذه الجبال وكانت كالخشونات الواقعة على وجه الكرة فكل واحد من هذه الجبال إنما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم وتوجه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم وقوته الشديدة يكون جاريا مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة، فكان تخليق هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتاد المغروزة في الكرة المانعة لها عن الحركة المستديرة، فكانت مانعة للأرض من الميد والميل والاضطراب بمعنى أنها منعت الأرض من الحركة المستديرة، فهذا ما وصل إليه بحثي في هذا الباب. والله أعلم بمراده.
النعمة الثانية: من النعم التي أظهرها الله تعالى على وجه الأرض هي أنه تعالى أجرى الأنهار على وجه الأرض واعلم أنه حصل ههنا بحثان:
9

البحث الأول: أن قوله: * (وأنهار) * معطوف على قوله: * (وألقى في الأرض رواسي) * والتقدير ألقى رواسي وأنهارا. وخلق الأنهار لا يبعد أن يسمى بالإلقاء فيقال: ألقى في الأرض أنهارا كما قال: * (وألقينا فيها رواسي) * (ق: 7) والإلقاء معناه الجعل ألا تر أنه تعالى قال في آية أخرى: * (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها) * (فصلت: 10) * والإلقاء يقارب الإنوال، لأن الإلقاء يدل على طرح الشيء من الأعلى إلى الأسفل، إلا أن المراد من هذا الإلقاء الجعل والخلق قال تعالى: * (وألقيت عليك محبة مني) * (طه: 39).
البحث الثاني: أنه ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال، فلهذا السبب لما ذكر الله تعالى الجبال أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار.
النعمة الثالثة: قوله: * (وسبلا لعلكم تهتدون) * وهي أيضا على قوله: * (وألقى في الأرض رواسي) * والتقدير: وألقى في الأرض سبلا ومعناه: أنه تعالى أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم ونظيره قوله تعالى في آية أخرى: * (وسلك لكم فيها سبلا) * (طه: 53) وقوله: * (لعلكم تهتدون) * أي لكي تهتدوا.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلا معينة ذكر أنه أظهر فيها علامات مخصوصة حتى يتمكن المكلف من الاستدلال بها فيصل بواسطتها إلى مقصوده فقال: * (وعلامات) * وهي أيضا معطوفة على قوله: * (في الأرض رواسي) * والتقدير: وألقى في الأرض رواسي وألقى فيها أنهارا وسبلا وألقى فيها علامات والمراد بالعلامات معالم الطرق وهي الأشياء التي بها يهتدي، وهذه العلامات هي الجبال والرياح ورأيت جماعة يشمون التراب وبواسطة ذلك الشم يتعرفون الطرق. قال الأخفش تم الكلام عند قوله: * (وعلامات) * وقوله: * (وبالنجم هم يهتدون) * كلام منفصل عن الأول، والمراد بالنجم الجنس كقولك: كثر الدرهم في أيدي الناس. وعن السدي هو الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدي، وقرأ الحسن: * (وبالنجم) * بضمتين وبضمة فسكون، وهو جمع نجم كرهن ورهن والسكون تخفيف. وقيل: حذف الواو من النجم تخفيفا.
فإن قيل: قوله: * (أن تميد بكم) * خطاب الحاضرين وقوله: * (وبالنجم هم يهتدون) * خطاب للغائبين فما السبب فيه؟.
قلنا: إن قريشا كانت تكثر أسفارها لطلب المال، ومن كثرت أسفاره كان علمه بالمنافع الحاصلة من الاهتداء بالنجوم أكثر وأتم فقوله: * (وبالنجم هم يهتدون) * إشارة إلى قريش للسبب الذي ذكرناه. والله أعلم.
واختلف المفسرون فمنهم من قال قوله: * (وبالنجم هم يهتدون) * مختص بالبحر، لأنه تعالى لما
10

ذكر صفة البحر وما فيه من المنافع بين أن من يسيرون فيه يهتدون بالنجم، ومنهم من قال: بل هو مطلق يدخل فيه السير في البر والبحر وهذا القول أولى، لأنه أعم في كونه نعمة ولأن الاهتداء بالنجم قد يحصل في الوقتين معا، ومن الفقهاء من يجعل ذلك دليلا على أن المسافر إذا عميت عليه القبلة فإنه يجب عليه أن يستدل بالنجوم وبالعلامات التي في الأرض، وهي الجبال والرياح، وذلك صحيح، لأنه كما يمكن الاهتداء بهذه العلامات في معرفة الطرق والمسالك فكذلك يمكن الاستدلال بها في معرفة طلب القبلة.
واعلم أن اشتباه القبلة إما أن يكون بعلامات لائحة أو لا يكون، فإن كانت لائحة وجب أن يجب الاجتهاد ويتوجه إلى حيث غلب على الظن أنه هو القبلة، فإن تبين الخطأ وجب الإعادة، لأنه كان مقصرا فيما وجب عليه، وإن لم تظهر العلامات فههنا طريقان:
الطريق الأول: أن يكون مخيرا في الصلاة إلى أي جهة شاء لأن الجهات لما تساوت وامتنع الترجيح لم يبق إلا التخيير.
والطريق الثاني: أن يصلي إلى جميع الجهات فحينئذ يعلم بيقين أنه خرج عن العهدة وهذا كما يقوله الفقهاء: فيمن نسي صلاة لا يعرفها بعينها أن الواجب عليه في القضاء أن يأتي بالصلوات الخمس ليكون على يقين من قضاء ما لزمه، ومنهم من يقول: الواجب منها واحدة فقط وهذا غلط لأنه لما لزمه أن يفعل الكل كان الكل واجبا وإن كان سبب وجوب كل هذه الصلوات فوت الصلاة الواحدة والله أعلم.
قوله تعالى
* (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون * وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ إن الله لغفور رحيم * والله يعلم ما تسرون وما تعلنون * والذين يدعون من دون الله لا
يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحيآء وما يشعرون أيان يبعثون) *
في الآية مسائل:
11

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على وجود القادر الحكيم على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت تلك الدلائل كما أنها كانت دلائل، فكذلك أيضا كانت شرحا وتفصيلا لأنواع نعم الله تعالى وأقسام إحسانه أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله تعالى والمقصود أنه لما دلت هذه الدلائل الباهرة، والبينات الزاهرة القاهرة على وجود إله قادر حكيم، وثبت أنه هو المولي لجميع هذه النعم والمعطي لكل هذه الخيرات فكيف يحسن في العقول الاشتغال بعبادة موجود سواه لا سيما إذا كان الموجود جمادا لا يفهم ولا يدر، فلهذا الوجه قال بعد تلك الآيات: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) * والمعنى: أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها كمن لا يخلق بل لا يقدر البتة على شيء أفلا تذكرون فإن هذا القدر لا يحتاج إلى تدبر وتفكر ونظر. ويكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم من أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، وأنتم ترون في الشاهد إنسانا عاقلا فاهما ينعم بالنعمة العظيمة، ومع ذلك فتعلمون أنه يقبح عبادته فهذه الأصنام جمادات محضة، وليس لها فهم ولا قدرة ولا اختيار فكيف تقدمون على عبادتها، وكيف تجوزون الاشتغال بخدمتها وطاعتها.
المسألة الثانية: المراد بقوله: * (من لا يخلق) * الأصنام، وأنها جمادات فلا يليق بها لفظة " من " لأنها لأولي العلم. وأجيب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن الكفار لما سموها آلهة وعبدوها، لا جرم أجريت مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله على أثره: * (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *.
والوجه الثاني: في الجواب أن السبب فيه المشاكلة بينه وبين من يخلق.
والوجه الثالث: أن يكون المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف من لا علم عنده كقوله: * (ألهم أرجل يمشون بها) * يعني أن الآلهة التي تدعونها حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب، لأن هؤلاء أحياء وهم أموات فكيف يصح منهم عبادتها، وليس المراد أنه لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا.
فإن قيل: قوله: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * المقصود منه إلزام عبدة الأوثان، حيث جعلوا غير الخالق مثل الخالق في التسمية بالإله، وفي الاشتغال بعبادتها، فكان حق الإلزام أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق.
والجواب: المراد منه أن من يخلق هذه الأشياء العظيمة ويعطي هذه المنافع الجليلة كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية باسم الإله، وفي الاشتغال بعبادتها والإقدام على غاية تعظيمها فوقع التعبير عن هذا المعنى بقوله: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *.
12

المسألة الثالثة: احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه فقال: إنه تعالى ميز نفسه عن سائر الأشياء التي كانوا يعبدونها بصفة الخالقية لأن قوله: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * الغرض منه بيان كونه ممتازا عن الأنداد بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والمعبودية بسبب كونه خالقا، فهذا يقتضي أن العبد لو كان خالقا لبعض الأشياء لوجب كونه إلها معبودا، ولما كان ذلك باطلا علمنا أن العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد قالت المعتزلة الجواب: عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السماوات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والنجوم والجبال كمن لا يقدر على خلق شيء أصلا، فهذا يقتضي أن من كان خالقا لهذه الأشياء فإنه يكون إلها ولم يلزم منه أن من يقدر على أفعال نفسه أن يكون إلها.
والوجه الثاني: أن معنى الآية: أن من كان خالقا كان أفضل ممن لا يكون خالقا، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقا فإنه يجب أن يكون إلها. والدليل عليه قوله تعالى: * (ألهم أرجل يمشون بها) * (الأعراف: 195) ومعناه: أن الذي حصل له رجل يمشي بها يكون أفضل من الذي حصل له رجل لا يقدر أن يمشي بها، وهذا يوجب أن يكون الإنسان أفضل من الصنم، والأفضل لا يليق به عبادة الأخس، فهذا هو المقصود من هذه الآية، ثم إنها لا تدل على أن من حصل له رجل يمشي بها أن يكون إلها، فكذلك ههنا المقصود من هذه الآية بيان أن الخالق أفضل من غير الخالق، فيمتنع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية، ولا يلزم منه أن بمجرد حصول صفة الخالقية يكون إلها.
والوجه الثالث في الجواب: أن كثيرا من المعتزلة لا يطلقون لفظ الخالق على العبد. قال الكعبي في " تفسيره " إنا لا نقول: إنا نخلق أفعالنا: قال ومن أطلق ذلك فقد أخطأ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله: * (وإذا تخلق من الطين كهيئة الطير) * (المائدة: 110) وقوله: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14).
واعلم أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد، حتى أن أبا عبد الله البصير بالغ وقال: إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز، لأن الخالق عبارة عن التقدير، وذلك عبارة عن الظن والحسبان، وهو في حق العبد حاصل وفي حق الله تعالى محال.
واعلم أن هذه الأجوبة قوية والاستدلال بهذه الآية على صحة مذهبنا ليس بقوي، والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بين بالآية المتقدمة أن الاشتغال بعبادة غير الله باطل وخطأ
13

بين بهذه الآية أن العبد لا يمكنه الإتيان بعبادة الله تعالى وشكر نعمه والقيام بحقوق كرمه على سبيل الكمال والتمام، بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعات والعبادات
، وبالغ في شكر نعمة الله تعالى فإنه يكون مقصرا، وذلك لأن الاشتغال بشكر النعم مشروط بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل والتحصيل، فإن من لا يكون متصورا ولا مفهوما ولا معلوما امتنع الاشتغال بشكره، إلا أن العلم بنعم الله تعالى على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد، لأن نعم الله تعالى كثيرة وأقسامها وشعبها واسعة عظيمة، وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمباديها فضلا عن غاياتها وأنها غير معلومة على سبيل التفصيل، وما كان كذلك امتنع الاشتغال بشكره على الوجه الذي يكون ذلك الشكر لائقا بتلك النعم. فهذا هو المفهوم من قوله: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * يعني: أنكم لا تعرفونها على سبيل التمام والكمال، وإذا لم تعرفوها امتنع منكم القيام بشكرها على سبيل التمام والكمال، وذلك يدل على أن شكر الخالق قاصر عن نعم الحق، وعلى أن طاعات الخلق قاصرة عن ربوبية الحق وعلى أن معارف الخلق قاصرة عن كنه جلال الحق، ومما يدل قطعا على أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة أقسام نعم الله تعالى أن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لتنغص العيش على الإنسان، ولتمنى أن ينفق كل الدنيا حتى يزول عنه ذلك الخلل. ثم إنه تعالى يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الأكمل الأصلح، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بكيفية مصالحه ولا بدفع مفاسده، فليكن هذا المثال حاضرا في ذهنك، ثم تأمل في جميع ما خلق الله في هذا العالم من المعادن والنبات والحيوان، وجعلها مهيأة لانتفاعك بها، حتى تعلم أن عقول الخلق تفنى في معرفة حكمة الرحمن في خلق الإنسان فضلا عن سائر وجوه الفضل والإحسان.
فإن قيل: فلما قررتم أن الاشتغال بالشكر موقوف على حصول العلم بأقسام النعم، ودللتم على أن حصول العالم بأقسام النعم محال أو غير واقع، فكيف أمر الله الخلق بالقيام بشكر النعم؟.
قلنا: الطريق إليه أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها. فهذا هو الطريق الذي به يمكن الخروج عن عهدة الشكر. والله أعلم. المسألة الثانية: قال بعضهم: إنه ليس لله على الكفار نعمة وقال الأكثرون: لله على الكافر والمؤمن نعم كثيرة. والدليل عليه: أن الإنعام بخلق السماوات والأرض والإنعام بخلق الإنسان من النطفة، والإنعام بخلق الإنعام ويخلق الخيل والبغال والحمير، ويخلق أصناف النعم من الزرع والزيتون والنخيل والأعناب، وبتسخير البحر ليأكل الإنسان منه لحما طريا ويستخرج منه حلية يلبسها كل ذلك مشترك فيه بين المؤمن والكافر، ثم أكد تعالى ذلك بقوله تعالى: * (وإن تعدوا نعمة
14

الله لا تحصوها) * وذلك يدل على أن كل هذه الأشياء نعم من الله تعالى في حق الكل، وهذا يدل على أن نعم الله واصلة إلى الكفار، والله أعلم.
أما قوله: * (إن الله لغفور رحيم) * اعلم أنه تعالى قال في سورة إبراهيم: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) * (إبراهيم: 34) وقال ههنا: * (إن الله لغفور رحيم) والمعنى: أنه لما بين أن الإنسان لا يمكنه القيام بأداء الشكر على سبيل التفصيل: قال: (إن الله لغفور رحيم) أي غفور للتقصير الصادر عنكم في القيام بشكر نعمه، رحيم بكم حيث لم يقطع نعمه عليكم بسبب تقصيركم.
أما قوله: * (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) * ففيه وجهان: الأول: أن الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله تعالى يسرون ضروبا من الكفر في مكايد الرسول عليه السلام فجعل هذا زجرا لهم عنها. والثاني: أنه تعالى زيف في الآية الأولى عبادة الأصنام بسبب أنه لا قدرة لها على الخلق والإنعام وزيف في هذه الآية أيضا عبادتها بسبب أن الإله يجب أن يكون عالما بالسر والعلانية، وهذه الأصنام جمادات لا معرفة لها بشيء أصلا فكيف تحسن عبادتها؟.
أما قوله: * (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) * فاعلم أنه تعالى وصف هذه الأصنام بصفات كثيرة.
فالصفة الأولى: أنهم لا يخلقون شيئا وهم يخلقون قرأ حفص عن عاصم يسرون ويعلنون ويدعون كلها بالياء على الحكاية عن الغائب، وقرأ أبو بكر عن عاصم * (يدعون) * بالياء خاصة على المغايبة وتسرون وتعلنون بالتاء على الخطاب، والباقون كلها بالتاء على الخطاب عطفا على ما قبله.
فإن قيل: أليس أن قوله في أول الآية: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئا وقوله ههنا: * (لا يخلقون شيئا) * يدل على نفس هذا المعنى، فكان هذا محض التكرير.
وجوابه: أن المذكور في أول الآية أنهم لا يخلقون شيئا، والمذكور ههنا أنهم لا يخلقون شيئا وأنهم مخلوقون لغيرهم، فكان هذا زيادة في المعنى، وكأنه تعالى بدأ بشرح نقصهم في ذواتهم وصفاتهم فبين أولا أنها لا تخلق شيئا، ثم ثانيا أنها كما لا تخلق غيرها فهي مخلوقة لغيرها.
والصفة الثانية: قوله: * (أموات غير أحياء) * والمعنى: أنها لو كانت آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات، أي غير جائز عليها الموت كالحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى وأمر هذه الأصنام على العكس من ذلك.
فإن قيل: لما قال: * (أموات) * علم أنها غير أحياء فما القائدة في قوله: * (غير أحياء) *.
والجواب من وجهين: الأول: أن الإله هو الحي الذي لا يحصل عقيب حياته موت، وهذه
15

الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها الحياة. والثاني: أن هذا الكلام مع الكفار الذين يعبدون الأوثان، وهم في نهاية الجهالة والضلالة، ومن تكلم مع الجاهل الغر الغبي فقد يحسن أن يعبر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة، وغرضه منه الإعلام بكون ذلك المخاطب في غاية الغباوة وأنه إنما يعيد تلك الكلمات لكون ذلك السامع في نهاية الجهالة، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة.
الصفة الثالثة: قوله: * (وما يشعرون أيان يبعثون) * والضمير في قوله: * (وما يشعرون) * عائد إلى الأصنام، وفي الضمير في قوله, * (يبعثون) * قولان: أحدهما: أنه عائد إلى العابدين للأصنام يعني أن الأصنام لا يشعرون متى تبعث عبدتهم، وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم. والثاني: أنه عائد إلى الأصنام يعني أن هذه الأصنام لا تعرف متى يبعثها الله تعالى قال ابن عباس: إن الله يبعث الأصنام ولها أرواح ومعها
شياطينها فيؤمر بها إلى النار.
فإن قيل: الأصنام جمادات، والجمادات لا توصف بأنها أموات، ولا توصف بأنهم لا يشعرون كذا وكذا.
والجواب عنه من وجوه: الأول: أن الجماد قد يوصف بكونه ميتا قال تعالى: * (يخرج الحي من الميت) * (الروم: 19). والثاني: أن القوم لما وصفوا تلك الأصنام بالإلهية والمعبودية قيل لهم؛ ليس الأمر كذلك، بل هي أموات ولا يعرفون شيئا، فنزلت هذه العبارات على وفق معتقدهم. والثالث: أن يكون المراد بقوله: * (والذين يدعون من دون الله) * الملائكة، وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله إنهم أموات لا بد لهم من الموت غير أحياء، أي غير باقية حياتهم: * (وما يشعرون أيان يبعثون) * أي لا علم لهم بوقت بعثهم والله أعلم.
قوله تعالى
* (إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون * لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين) *
16

اعلم أنه تعالى لما زيف فيما تقدم طريقة عبدة الأوثان والأصنام وبين فساد مذهبهم بالدلائل القاهرة قال: * (إلهكم إله واحد) * ثم ذكر الله تعالى ما لأجله أصر الكفار على القول بالشرك وإنكار التوحيد فقال: * (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون) * والمعنى أن الذين يؤمنون بالآخرة ويرغبون في الفوز بالثواب الدائم ويخافون الوقوع في العقاب الدائم إذا سمعوا الدلائل والترغيب والترهيب، خافوا العقاب فتأملوا وتفكروا فيما يسمعونه، فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل، ويرجعون من الباطل إلى الحق، أما الذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها فإنهم لا يرغبون في حصول الثواب ولا يرهبون من الوقوع في العقاب فيبقون منكرين لكل كلام يخالف قولهم ويستكبرون عن الرجوع إلى قول غيرهم، فلا جرم يبقون مصرين على ما كانوا عليه من الجهل والضلال.
ثم قال تعالى: * (لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) * والمعنى أنه تعالى يعلم أن إصرارهم على هذه المذاهب الفاسدة ليس لأجل شبهة تصوروها أو إشكال تخيلوه، بل ذلك لأجل التقليد والنفرة عن الرجوع إلى الحق والشغف بنصرة مذاهب الأسلاف والتكبر والنخوة. فلهذا قال: * (إنه لا يحب المستكبرين) * وهذا الوعيد يتناول كل المتكبرين.
* (وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوا أساطير الاولين * ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون) *
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير دلائل التوحيد وأورد الدلائل القاهرة في إبطال مذاهب عبدة الأصنام، ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها.
فالشبهة الأولى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما احتج على صحة نبوة نفسه بكون القرآن معجزة طعنوا في القرآن وقالوا: إنه أساطير الأولين، وليس هو من جنس المعجزات، وفي الآية مسائل:
17

المسألة الأولى: اختلفوا في أن ذلك السائل من كان؟ قيل هو كلام بعضهم لبعض، وقيل هو قول المسلمين لهم، وقيل: هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: كيف يكون تنزيل ربهم أساطير الأولين؟.
وجوابه من وجوه: الأول: أنه مذكور على سبيل السخرية كقوله تعالى عنهم: * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لجنون) * (الشعراء: 27)، وقوله: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * (الحجر: 6) وقوله: * (يا أيه الساحر ادع لنا ربك) * (الزخرف: 49). الثاني: أن يكون التقدير هذا الذي تذكرون أنه منزل من ربكم هو أساطير الأولين. الثالث: يحتمل أن يكون المراد أن هذا القرآن بتقدير أن يكون مما أنزله الله لكنه أساطير الأولين ليس فيه شيء من العلوم والفصاحة والدقائق والحقائق.
واعلم أنه تعالى لما حكى شبههم قال: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة) * اللام في ليحملوا لام العاقبة، وذلك أنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين لأجل أن يحملوا الأوزار، ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك حسن ذكر هذه اللام كقوله: * (التقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) وقوله: * (كاملة) * معناه: أنه تعالى لا يخفف من عقابهم شيئا، بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم، وأقول: هذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلا في حق الكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل معنى، وقوله: * (ومن أوزار الذين يضلونهم) * معناه: ويحصل للرؤساء مثل أوزار الأتباع، والسبب فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع كان له مثل أجر من اتبعه لا ينقص من أجورهم شيء وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع كان عليه مثل وزر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء ".
واعلم أنه ليس المراد منه أنه تعالى يوصل العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء، وذلك لأن هذا لا يليق بعدل الله تعالى، والدليل عليه قوله تعالى: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * (النجم: 39) وقوله: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الإسراء: 15) بل المعنى: أن الرئيس إذا وضع سنة قبيحة عظم عقابه، حتى أن ذلك العقاب يكون مساويا لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع، قال الواحدي: ولفظه: * (من) * في قوله, * (ومن أوزار الذين يضلونهم) * ليست للتبعيض، لأنها لو كانت للتبعيض لخف عن الأتباع بعض أوزارهم، وذلك غير جائز، لقوله عليه السلام: " من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ". ولكنها للجنس، أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع. وقوله: * (بغير علم) * يعني أن هؤلاء الرؤساء إنما يقدمون على هذا الإضلال جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال ثم إنه تعالى ختم الكلام بقوله: * (ألا ساء ما يزرون) * والمقصود المبالغة في الزجر.
18

فإن قيل: إنه تعالى لما حكى عن القوم هذه الشبهة لم يجب عليها، بل اقتصر على محض الوعيد؛ فما السبب فيه؟.
قلنا: السبب فيه أنه تعالى بين كون القرآن معجزا بطريقين: الأول: أنه صلى الله عليه وسلم تحداهم بكل القرآن، وتارة بعشر سور، وتارة بسورة واحدة، وتارة بحديث واحد، وعجزوا عن المعارضة، وذلك يدل على كونه معجزا. الثاني: أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهو قوله: * (اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) * (الفرقان: 5) وأبطلها بقوله: * (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض) * (الفرقان: 6) ومعناه أن القرآن مشتمل على الأخبار عن الغيوب، وذلك لا يتأتى إلا ممن يكون عالما بأسرار السماوات والأرض، فلما ثبت كون القرآن معجزا بهذين الطريقين، وتكرر شرح هذين الطريقين مرارا كثيرة لا جرم اقتصر في هذه الآية على مجرد الوعيد ولم يذكر ما يجري مجرى الجواب عن هذه الشبهة، والله أعلم.
قوله تعالى
* (قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركآئى الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزى اليوم والسوء على الكافرين * الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون) *
اعلم أن المقصود من الآية المبالغة في وصف وعيد أولئك الكفار، وفي المراد بالذين من قبلهم قولان:
القول الأول: وهو قول الأكثر من المفسرين أن المراد منه نمروذ بن كنعان بنى صرحا
19

عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع. وقيل فرسخان، ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فالمراد بالمكر ههنا بناء الصرح لمقاتلة أهل السماء.
والقول الثاني: وهو الأصح، أن هذا عام في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالمحقين.
أما قوله تعالى: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: أن الإتيان والحركة على الله محال، فالمراد أنهم لما كفروا أتاهم الله بزلازل قلع بها بنيانهم من القواعد والأساس.
المسألة الثانية: في قوله: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) * قولان:
القول الأول: أن هذا محض التمثيل، والمعنى أنهم رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى فجعل الله تعالى حالهم في تلك المنصوبات مثل حال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فانهدم ذلك البناء، وضعفت تلك الأساطين، فسقط السقف عليهم. ونظيره قولهم: من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه. والقول الثاني: أن المراد منه ما دل عليه الظاهر، وهو أنه تعالى أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته، والأول أقرب إلى المعنى.
أما قوله تعالى: * (فخر عليهم السقف من فوقهم) * ففيه سؤال: وهو أن السقف لا يخر إلا من فوقهم، فما معنى هذا الكلام.
وجوابه من وجهين: الأول: أن يكون المقصود بالتأكيد. والثاني: ربما خر السقف، ولا يكون تحته أحد، فلما قال: * (فخر عليهم السقف من فوقهم) * دل هذا الكلام على أنهم كانوا تحته، وحينئذ يفيد هذا الكلام أن الأبنية قد تهدمت وهم ماتوا تحتها. وقوله: * (وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) * إن حملنا هذا الكلام على محض التمثيل فالأمر ظاهر. والمعنى: أنهم اعتمدوا على منصوباتهم. ثم تولد البلاء منها بأعيانها، وإن حملناه على الظاهر فالمعنى أنه نزل ذلك السقف عليهم بغتة، لأنه إذا كان كذلك كان أعظم في الزجر لمن سلك مثل سبيلهم، ثم بين تعالى أن عذابهم لا يكون مقصورا على هذا القدر، بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة، والخزي هو العذاب مع الهوان، وفسر تعالى ذلك الهوان بأنه تعالى يقول لهم: * (أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: قال الزجاج: قوله: * (أين شركائي) * معناه: أين شركائي في زعمكم واعتقادكم. ونظيره قوله تعالى: * (أين شركاؤهم الذين كنتم تزعمون) * (الأنعام: 22) وقال أيضا: * (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا
20

تعبدون) * (يونس: 28) وإنما حسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، وهذا كما يقال لمن يحمل خشبة خذ طرفك وآخذ طرفي، فأضيف الطرف إليه.
البحث الثاني: قوله: * (تشاقون فيهم) * أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، وقيل: المشاقة عبارة عن كون أحد الخصمين في شق وكون الآخر في الشق الآخر.
البحث الثالث: قرأ نافع: * (تشاقون) * بكسر النون على الإضافة، والباقون بفتح النون على الجمع.
ثم قال تعالى: * (قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) * وفيه بحثان:
البحث الأول: * (قال الذين أوتوا العلم) * قال ابن عباس: يريد الملائكة، وقال آخرون هم المؤمنون يقولون حين يرون خزي الكفار يوم القيامة إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين، والفائدة فيه أن الكفار كانوا ينكرون على المؤمنين في الدنيا فإذا ذكر المؤمن هذا الكلام يوم القيامة في معرض إهانة الكافر كان وقع هذا الكلام على الكافر وتأثيره في إيذائه أكمل وحصول الشماتة به أقوى.
البحث الثاني: المرجئة احتجوا بهذه الآية على أن العذاب مختص بالكافر قالوا لأن قوله تعالى: * (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) * يدل على أن ماهية الخزي والسوء في يوم القيامة مختصة بالكافر، وذلك ينفي حصول هذه الماهية في حق غيرهم، وتأكد هذا بقول موسى عليه السلام: * (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب
على من كذب وتولى) * (طه: 48) ثم أنه تعالى وصف عذاب هؤلاء الكفار من وجه آخر فقال: * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * قرأ حمزة: * (يتوفاهم الملائكة) * بالياء لأن الملائكة ذكور، والباقون بالتاء للفظ.
ثم قال: * (فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء) * وفيه قولان:
القول الأول: أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت، قال ابن عباس: أسلموا وأقروا لله بالعبودية عند الموت. وقوله: * (ما كنا نعمل من سوء) * أي قالوا ما كنا نعمل من سوء! والمراد من هذا السوء الشرك، فقالت الملائكة ردا عليهم وتكذيبا: بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون من التكذيب والشرك، ومعنى بلى ردا لقولهم: * (ما كنا نعمل من سوء) * وفيه قولان:
القول الأول: أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت.
والقول الثاني: أنه تم الكلام عند قوله: * (ظالمي أنفسهم) * ثم عاد الكلام إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة، والمعنى: أنهم يوم القيامة ألقوا السلم وقالوا ما كنا نعمل في الدنيا من سوء، ثم ههنا اختلفوا، فالذين جوزوا الكذب على أهل القيامة، قالوا: هذا القول منهم على سبيل الكذب
21

وإنما أقدموا على هذا الكذب لغاية الخوف، والذين قالوا إن الكذب لا يجوز عليهم قالوا: معنى الآية، ما كنا نعمل من سوء عند أنفسنا أو في اعتقادنا، وأما بيان أن الكذب على أهل القيامة هل يجوز أم لا؟ فقد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا: ما كنا نعمل من سوء قال بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون، ولا يبعد أن يكون قائل هذا القول هو الله تعالى أو بعض الملائكة ردا عليهم وتكذيبا لهم، ومعنى بلى الرد لقولهم: * (ما كنا نعمل من سوء) * وقوله: * (إن الله عليم بما كنتم تعملون) * يعني أنه عالم بما كنتم عليه في الدنيا فلا ينفعكم هذا الكذب فإنه يجازيكم على الكفر الذي علمه منكم. ثم صرح بذكر العقاب فقال:
قوله تعالى
* (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) *
وهذا يدل على تفاوت منازلهم في العقاب، فيكون عقاب بعضم أعظم من عقاب بعض، وإنما صرح تعالى بذكر الخلود ليكون الغم والحزن أعظم.
ثم قال: * (فلبئس مثوى المتكبرين) * على قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء، وتفسير التكبر قد مر في هذا الكتاب غير مرة. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا فى هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين * جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشآءون كذلك يجزى الله المتقين * الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) *
22

اعلم أنه تعالى لما بين أحوال الأقوام الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أساطير الأولين. وذكر أنهم يحملون أوزارهم ومن أوزار أتباعهم، وذكر أن الملائكة تتوفاهم ظالمي أنفسهم، وذكر أنهم في الآخرة يلقون السلم، وذكر أنه تعالى يقول لهم ادخلوا أبواب جهنم، أتبعه بذكر وصف المؤمنين الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم؟ قالوا خيرا، وذكر ما أعده لهم في الدنيا والآخرة من منازل الخيرات ودرجات السعادات ليكون وعد هؤلاء مذكورا مع وعيد أولئك وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال القاضي: يدخل تحت التقوى أن يكون تاركا لكل المحرمات فاعلا لكل الواجبات، ومن جمع بين هذين الأمرين فهو مؤمن كامل الإيمان، وقال أصحابنا: يريد الذين اتقوا الشرك وأيقنوا أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأقول: هذا أولى مما قاله القاضي، لأنا بينا أنه يكفي في صدق قوله فلان قاتل أو ضارب كونه آتيا بقتل واحد وضرب واحد، ولا يتوقف صدق هذا الكلام على كونه آتيا بجميع أنواع القتل وجميع أنواع الضرب، فعلى هذا قوله: * (وقيل للذين اتقوا) * يتناول كل من أتى بنوع واحد من أنواع التقوى إلا أنا أجمعنا على أنه لا بد من التقوى عن الكفر والشرك فوجب أن لا يزيد على هذا القيد لأنه لما كان تقييد المطلق خلاف الأصل، كان تقييد المقيد أكثر مخالفة، وأيضا فلأنه تعالى إنما ذكر هؤلاء في مقابلة أولئك الذين كفروا وأشركوا، فوجب أن يكون المراد من اتقى عن ذلك الكفر والشرك. والله أعلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إنه قال في الآية الأولى، قالوا أساطير الأولين، وفي هذه الآية قالوا خيرا، فلم رفع الأول ونصب هذا؟.
أجاب صاحب " الكشاف " عنه بأن قال: المقصود منه الفصل بين جواب المقر وجواب الجاحد يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للإنزال فقالوا خيرا أي أنزل خيرا، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شيء.
المسألة الثالثة: قال المفسرون هذا كان في أيام الموسم، يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون إنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه فيقولون خيرا، والمعنى: أنزل خيرا. ويحتمل أن يكون المراد الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خير، وقولهم خير جامع لكونه حقا وصوابا، ولكونهم معترفين بصحته ولزومه فهو بالضد من قول الذين لا يؤمنون بالآخرة، أن ذلك أساطير الأولين على وجه التكذيب.
23

المسألة الرابعة: قوله: * (للذين أحسنوا) * وما بعده بدل من قوله: * (خيرا) * وهو حكاية لقول الذين اتقوا، أي قالوا هذا القول، ويجوز أيضا أن يكون قوله: * (للذين أحسنوا) * إخبارا عن الله، والتقدير: إن المتقين لما قيل لهم: * (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) * ثم إنه تعالى أكد قولهم وقال: * (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) * وفي المراد بقوله: * (للذين أحسنوا) * قولان، أما الذين يقولون: إن أهل لا إله إلا الله يخرجون من النار فإنهم يحملونه على قول لا إله إلا الله مع
الاعتقاد الحق، وأما المعتزلة الذين يقولون: إن فساق أهل الصلاة لا يخرجون من النار يحملون قوله: * (أحسنوا) * على من أتى بالإيمان وجميع الواجبات واحترز عن كل المحرمات. وأما قوله: * (في هذه الدنيا) * ففيه قولان:
القول الأول: أنه متعلق بقوله: * (أحسنوا) * والتقدير: للذين اتقوا بعمل الحسنة في الدنيا فلهم في الآخرة حسنة، وتلك الحسنة هي الثواب العظيم، وقيل: تلك الحسنة هو أن ثوابها يضاعف بعشر مرات وبسبعمائة وإلى ما لا نهاية له.
والقول الثاني: أن قوله: * (في هذه الدنيا) * متعلق بقوله: * (حسنة) * والتقدير: للذين أحسنوا أن تحصل لهم الحسنة في الدنيا، وهذا القول أولى، لأنه قال بعده: * (ولدار الآخرة خير) * وعلى هذا التقدير ففي تفسير هذه الحسنة الحاصلة في الدنيا وجوه: الأول: يحتمل أن يكون المراد ما يستحقونه من المدح والتعظيم والثناء والرفعة، وجميع ذلك جزاء على ما عملوه. والثاني: يحتمل أن يكون المراد به الظفر على أعداء الدين بالحجة وبالغلبة لهم، وباستغنام أموالهم وفتح بلادهم، كما جرى ببدر وعند فتح مكة، وقد أجلوهم عنها وأخرجوهم إلى الهجرة، وإخلاء الوطن، ومفارقة الأهل والولد وكل ذلك مما يعظم موقعه. والثالث: يحتمل أن يكون المراد أنهم لما أحسنوا بمعنى أنهم أتوا بالطاعات فتح الله عليهم أبواب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (محمد: 17).
وأما قوله: * (ولدار الآخرة خير) * فقد بينا في سورة الأنعام في قوله: * (وللدار الآخرة خير للذين يتقون) * (الأنعام: 32) بالدلائل القطعية العقلية حصول هذا الخير، ثم قال: * (ولنعم دار المتقين) * أي لنعم دار المتقين دار الآخرة، فحذفت لسبق ذكرها، هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها، فإن وصلتها بما بعدها قلت: ولنعم دار المتقين جنات عدن فترفع جنات على أنها اسم لنعم، كما تقول: نعم الدار دار ينزلها زيد. وأما قوله: * (جنات عدن) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنها إن كانت موصولة بما قبلها، فقد ذكرنا وجه ارتفاعها، وأما إن كانت مقطوعة، فقال الزجاج: جنات عدن مرفوعة بإضمار " هي " كأنك لما قلت ولنعم دار المتقين
24

قيل: أي دار هي هذه الممدوحة فقلت: هي جنات عدن، وإن شئت قلت: جنات عدن رفع بالابتداء، ويدخلونها خبره، وإن شئت قلت: نعم دار المتقين خبره، والتقدير: جنات عدن نعم دار المتقين.
المسألة الثانية: قوله: * (جنات) * يدل على القصور والبساتين وقوله: * (عدن) * يدل على الدوام، وقوله: * (تجري من تحتها الأنهار) * يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها وتكون الأنهار جارية من تحتهم، ثم إنه تعالى قال: * (لهم فيها ما يشاؤون) * وفيه بحثان: الأول: أن هذه الكلمة تدل على حصول كل الخيرات والسعادات، وهذا أبلغ من قوله: * (فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) * (الزخرف: 71) لأن هذين القسمين داخلان في قوله: * (لهم فيها ما يشاؤن) * مع أقسام أخرى. الثاني: قوله: * (لهم فيها ما يشاؤن) * يعني هذه الحالة لا تحصل إلا في الجنة، لأن قوله: * (لهم فيها ما يشاؤن) * يفيد الحصر، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا.
ثم قال تعالى: * (كذلك يجزي الله المتقين) * أي هكذا جزاء التقوى، ثم إنه تعالى عاد إلى وصف المتقين فقال: * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) * وهذا مذكور في مقابلة قوله: * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * (النخل: 28) وقوله: * (الذين تتوفاهم الملائكة) صفة للمتقين في قوله: * (كذلك يجزي الله المتقين) * وقوله: * (طيبين) * كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة، وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به، واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة مبرئين عن الأخلاق المذمومة، ويدخل فيه كونهم مبرئين عن العلائق الجسمانية متوجهين إلى حضرة القدس والطهارة، ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح وأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله لا يتألم بالموت، وأكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح، وإن كان الحسن يقول: إنه وفاة الحشر، ثم بين تعالى أنه يقال لهم عند هذه الحالة: * (ادخلوا الجنة) * فاحتج الحسن بهذا على أن المراد بذلك التوفي وفاة الحشر، لأنه لا يقال عند قبض الأرواح في الدنيا ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، ومن ذهب إلى القول الأول وهم الأكثرون يقولون: إن الملائكة لما بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم، ادخلوا الجنة أي هي خاصة لكم كأنكم فيها.
قوله تعالى
* (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم
25

وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) *
اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية لمنكري النبوة، فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله تعالى ملكا من السماء يشهد على صدقه في ادعاء النبوة فقال تعالى: * (هل ينظرون) * في التصديق بنبوتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك، ويحتمل أن يقال: إن القوم لما طعنوا في القرآن بأن قالوا: إنه أساطير الأولين، وذكر الله تعالى أنواع التهديد والوعيد لهم، ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيرا وصدقا وصوابا، عاد إلى بيان أن أولئك الكفار لا ينزجرون عن الكفر بسبب البيانات التي ذكرناها، بل كانوا لا ينزجرون عن تلك الأقوال الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد وأتاهم أمر ربك وهو عذاب الاستئصال.
واعلم أن على كلا التقديرين فقد قال تعالى: * (كذلك فعل الذين من قبلهم) * أي كلام هؤلاء وأفعالهم يشبه كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم.
ثم قال: * (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * والتقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم الهلاك المعجل وما ظلمهم الله بذلك، فإنه أنزل بهم ما استحقوه
بكفرهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم بأن كفروا، وكذبوا الرسول فاستوجبوا ما نزل بهم.
ثم قال: * (فأصابهم سيئات ما عملوا) * والمراد أصابهم عقاب سيئات ما عملوا * (وحاق بهم) * أي نزل بهم على وجه أحاط بجوانبهم: * (ما كانوا به يستهزئون) * أي عقاب استهزائهم.
قوله تعالى
* (وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شىء نحن ولا ءاباؤنا ولا حرمنا من دونه من شىء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين * ولقد بعثنا
26

فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين) *
اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لمنكري النبوة، وتقريرها: أنهم تمسكوا بصحة القول بالجبر على الطعن في النبوة فقالوا: لو شاء الله الإيمان لحصل الإيمان، سواء جئت أو لم تجئ، ولو شاء الله الكفر فإنه يحصل الكفر سواء جئت أو لم تجئ، وإذا كان الأمر كذلك فالكل من الله تعالى، ولا فائدة في مجيئك وإرسالك، فكان القول بالنبوة باطلا، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله: * (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم) * (الأنعام: 148) واستدلال المعتزلة به مثل استدلالهم بتلك الآية. والكلام فيه استدلالا واعتراضا عين ما تقدم هناك فلا فائدة في الإعادة، ولا بأس بأن نذكر منه القليل فنقول: الجواب عن هذه الشبهة هي أنهم قالوا: لما كان الكل من الله تعالى كان بعثة الأنبياء عبثا. فنقول: هذا اعتراض على الله تعالى، فإن قولهم: إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان ودفع الكفر كانت بعثة الأنبياء غير جائزة من الله تعالى، فهذا القول جار مجرى طلب العلة في أحكام الله تعالى وفي أفعاله، وذلك باطل، بل الله تعالى أن يحكم في ملكه وملكوته ما يشاء ويفعل ما يريد، ولا يجوز أن يقال له: لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك؟ والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح في آخر هذه الآية بهذا المعنى فقال: * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاعات) * فبين تعالى أن سنته في عبيده إرسال الرسل إليهم، وأمرهم بعبادة الله ونهيهم عن عبادة الطاغوت.
ثم قال: * (فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) * والمعنى: أنه تعالى وإن أمر الكل بالإيمان، ونهى الكل عن الكفر، إلا أنه تعالى هدى البعض وأضل البعض، فهذه سنة قديمة لله
27

تعالى مع العباد، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان وينهاهم عن الكفر، ثم يخلق الإيمان في البعض والكفر في البعض. ولما كانت سنة الله تعالى في هذا المعنى سنة قديمة في حق كل الأنبياء وكل الأمم والملل وإنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين، كان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن الله فثبت أن الله تعالى إنما حكم على هؤلاء باستحقاق الخزي واللعن، لا لأنهم كذبوا في قولهم: * (لو شاء الله ما عبدنا من دونه شئ) * بل لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الأنبياء والرسل وهذا باطل، فلا جرم استحقوا على هذا الاعتقاد مزيد الذم واللعن. فهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب. وأما من تقدمنا من المتكلمين والمفسرين فقد ذكروا فيه وجها آخر فقالوا: إن المشركين ذكروا هذا الكلام على جهة الاستهزاء كما قال قوم شعيب عليه السلام له: * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * (هود: 87) ولو قالوا ذلك معتقدين لكانوا مؤمنين. والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى لما حكى هذه الشبهة قال: * (كذلك فعل الذين من قبلهم) * أي هؤلاء الكفار الذين كانوا متمسكين بهذه الشبهة.
ثم قال: * (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) * أما المعتزلة فقالوا: معناه أن الله تعالى ما منع أحدا من الإيمان وما أوقعه في الكفر، والرسل ليس عليهم إلا التبليغ، فلما بلغوا التكاليف وثبت أنه تعالى ما منع أحدا عن الحق كانت هذه الشبهة ساقطة. أما أصحابنا فقالوا: معناه أنه تعالى أمر الرسل بالتبليغ. فهذا التبليغ واجب عليهم، فأما أن الإيمان هل يحصل أم لا يحصل فذلك لا تعلق للرسول به، ولكنه تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا في بيان أن الهدي والضلال من الله بقوله: * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) * وهذا يدل على أنه تعالى كان أبدا في جميع الملل والأمم آمرا بالإيمان وناهيا عن الكفر.
ثم قال: * (فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) * يعني: فمنهم من هداه الله إلى الإيمان والصدق والحق، ومنهم من أضله عن الحق وأعماه عن الصدق وأوقعه في الكفر والضلال، وهذا يدل على أن أمر الله تعالى لا يوافق إرادته، بل قد يأمر بالشيء ولا يريده وينهى عن الشيء ويريده كما هو مذهبنا. والحاصل أن المعتزلة يقولون: الأمر والإرادة متطابقان أما العلم والإرادة فقد يختلفان، ولفظ هذه الآية صريح في قولنا وهو أن الأمر بالإيمان عام في حق الكل أما إرادة الإيمان فخاصة بالبعض دون البعض.
28

أجاب الجبائي: بأن المراد: * (فمنهم من هدى الله) * لنيل ثوابه وجنته: * (ومنهم من حقت عليه الضلالة) * أي العقاب. قال: وفي صفة قوله: * (حقت عليه) * دلالة على أنها العذاب دون كلمة الكفر لأن الكفر والمعصية لا يجوز وصفهما بأنه حق. وأيضا قال تعالى بعده: * (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * وهذه العاقبة هي آثار الهلاك لمن تقدم من الأمم الذين استأصلهم الله تعالى بالعذاب، وذلك يدل على أن المراد بالضلال المذكور هو عذاب الاستئصال.
وأجاب الكعبي عنه بأنه قال: قوله: * (فمنهم من هدى الله) * أي من اهتدى فكان في حكم الله مهتديا، * (ومنهم من حقت عليه الضلالة) * يريد: من ظهرت ضلالته، كما يقال للظالم: حق ظلمك وتبين، ويجوز أن يكون المراد: حق عليهم من الله أن يضلهم إذا ضلوا كقوله: * (ويضل الله الظالمين) * (إبراهيم: 27).
واعلم أنا بينا في آيات كثيرة بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والإضلال لا يكونان إلا من الله تعالى فلا فائدة في الإعادة، وهذه الوجوه المتعسفة والتأويلات المستكرهة قد بينا ضعفها وسقوطها مرارا، فلا حاجة إلى الإعادة. والله أعلم.
المسألة الرابعة: في الطاغوت قولان: أحدهما: أن المراد به: اجتنبوا عبادة ما تعبدون من دون الله، فسمى الكل طاغوتا، ولا يمتنع أن يكون المراد: اجتنبوا طاعة الشيطان في دعائه لكم.
المسألة الخامسة: قوله تعالى: * (ومنهم من حقت عليه الضلالة) * يدل على مذهبنا، لأنه تعالى لما أخبر عنه أنه حقت عليه الضلالة امتنع أن لا يصدر منه الضلالة، وإلا لانقلب خبر الله الصدق كذبا، وذلك محال ومستلزم المحال محال، فكان عدم الضلالة منهم محالا، ووجود الضلالة منهم واجبا عقلا، فهذه الآية دالة على صحة مذهبنا في هذه الوجوه الكثيرة والله أعلم. ونظائر هذه الآية كثيرة منها قوله: * (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) * (الأعراف: 30) وقوله: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) * (يونس: 96) وقوله: * (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) * (يس: 7).
ثم قال تعالى: * (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * والمعنى: سيروا في الأرض معتبرين لتعرفوا أن العذاب نازل بكم كما نزل بهم، ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة فإنه لا يهتدي، فقال: * (إن تحرص على هداهم) * أي إن تطلب بجهدك ذلك، فإن الله لا يهدي من يضل، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (يهدي) * بفتح الياء وكسر الذال والباقون: * (لا يهدي) * بضم الياء وفتح الدال.
29

أما القراءة الأولى: ففيها وجهان: الأول: فإن الله لا يرشد أحدا أضله، وبهذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما. والثاني: أن يهدي بمعنى يهتدي. قال الفراء: العرب تقول: قد هدى الرجل يريدون قد اهتدى، والمعنى أن الله إذا أضل أحدا لم يصر ذلك مهتديا.
وأما القراءة المشهورة: فالوجه فيها إن الله لا يهدي من يضل، أي من يضله، فالراجع إلى الموصول الذي هو من محذوف مقدر وهذا كقوله: * (من يضلل الله فلا هادي له) * (الأعراف: 186) وكقوله: * (فمن يهديه من بعد الله) * (الجاثية: 23) أي من بعد إضلال الله إياه.
ثم قال تعالى: * (وما لهم من ناصرين) * أي وليس لهم أحد ينصرهم أي يعينهم على مطلوبهم في الدنيا والآخرة. وأقول أول هذه الآيات موهم لمذهب المعتزلة، وآخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة الدالة على قولنا، وأكثر الآيات كذلك مشتملة على الوجهين، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون * ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين * إنما قولنا لشىء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون) *
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو الشبهة الرابعة لمنكري النبوة فقالوا القول بالبعث والحشر والنشر باطل، فكان القول بالنبوة باطلا.
أما المقام الأول: فتقريره أن الإنسان ليس إلا هذه البينة المخصوصة، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبطل ذلك المزاج والاعتدال امتنع عوده بعينه، لأن الشيء إذا عدم فقد فنى ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فالذي يعود يجب أن يكون شيئا مغايرا للأول فلا يكون عينه.
وأما المقام الثاني: وهو أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة وتقريره من وجهين:
30

الأول: أن محمدا كان داعيا إلى تقرير القول بالمعاد، فإذا بطل ذلك ثبت أنه كان داعيا إلى القول الباطل ومن كان كذلك لم يكن رسولا صادقا. الثاني: أنه يقرر نبوة نفسه ووجوب طاعته بناء على الترغيب في الثواب والترهيب عن العقاب، وإذا بطل ذلك بطلت نبوته.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) * معناه أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن الشيء إذا فنى وصار عدما محضا ونفيا صرفا، فإنه بعد هذا العدم الصرف لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئا آخر غيره. وهذا القسم واليمين إشارة إلى أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن عوده بعينه بعد عدمه محال في بديهة العقل: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) * على أنهم يجحدون في قلوبهم وعقولهم هذا العلم الضروري، وأما بيان أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة فلم يذكره على سبيل التصريح، لأنه كلام جلي متبادر إلى العقول فتركوه لهذا العذر. ثم إنه تعالى بين أن القول بالبعث ممكن ويدل عليه وجهان: الوجه الأول: أنه وعد حق على الله تعالى، فوجب تحقيقه، ثم بين السبب الذي لأجله كان وعدا حقا على الله تعالى، وهو التمييز بين المطيع وبين العاصي، وبين المحقق والمبطل، وبين الظالم والمظلوم، وهو قوله: * (ليبين لهم الذين يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) * وهذه الطريقة قد بالغنا في شرحها وتقريرها في سورة يونس.
والوجه الثاني: في بيان إمكان الحشر والنشر أن كونه تعالى موجدا للأشياء ومكونا لها لا يتوقف على سبق مادة ولا مدة ولا آلة، وهو تعالى إنما يكونها بمحض قدرته ومشيئته، وليس لقدرته دافع ولا لمشيئته مانع فعبر تعالى عن هذا النفاذ الخالي عن المعارض بقوله: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * وإذا كان كذلك، فكما أنه تعالى قدر على الإيجاد في الابتداء وجب أن يكون قادرا عليه في الإعادة، فثبت بهذين الدليلين القاطعين أن القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة حق
وصدق، والقول إنما طعنوا في صحة النبوة بناء على الطعن في هذا الأصل، فلما بطل هذا الطعن بطل أيضا طعنهم في النبوة. والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) * حكاية عن الذين أشركوا، وقوله: * (بلى) * إثبات لما بعد النفي، أي بلى يبعثهم، وقوله: * (وعدا عليه حقا) * مصدر مؤكد أي وعد بالبعث وعدا حقا لا خلف فيه، لأن قوله يبعثهم دل على قوله وعد بالبعث، وقوله: * (ليبين لهم الذي يختلفون فيه) * من أمور البعث أي بلى يبعثهم ليبين لهم وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فيما أقسموا فيه.
ثم قال تعالى: * (إنما قولنا لشيء إذا أردنا أن نقول له كن فيكون) * وفيه مسائل:
31

المسألة الأولى: لقائل أن يقول: قوله: * (كن) * إن كان خطابا مع المعدوم فهو محال، وإن كان خطابا مع الموجود كان هذا أمرا بتحصيل الحاصل وهو محال.
والجواب: أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع الخلق بما يعقلون، وليس خطابا للمعدوم، لأن ما أراده الله تعالى فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع، ولو أراد خلق الدنيا والآخرة بما فيهما من السماوات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك، ولكن العباد خوطبوا بذلك على قدر عقولهم.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (قولنا) * مبتدأ و * (أن نقول) * خبره و * (كن فيكون) * من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا حدوث شيء فليس إلا أن نقول له أحدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقف.
المسألة الثالثة: قرأ ابن عامر والكسائي * (فيكون) * بنصب النون، والباقون بالرفع قال الفراء: القراءة بالرفع وجهها أن يجعل قوله: * (أن نقول له) * كلاما تاما ثم يخبر عنه بأنه سيكون كما يقال: إن زيدا يكفيه إن أمر فيفعل فترفع قولك فيفعل على أن تجعله كلاما مبتدأ، وأما القراءة بالنصب فوجهه أن تجعله عطفا على أن نقول، والمعنى: أن نقول كن فيكون هذا قول جميع النحويين، قال الزجاج: ويجوز أن يكون نصبا على جواب * (كن) * قال أبو علي لفظة " كن " وإن كانت على لفظة الأمر فليس القصد بها ههنا الأمر إنما هو والله أعلم الإخبار عن كون الشيء وحدوثه، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يبطل قوله إنه نصب على جواب * (كن) * والله أعلم.
المسألة الرابعة: احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على قدم القرآن فقالوا قوله تعالى: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * يدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون، فلو كان قوله * (كن) * حادثا لافتقر إحداثه إلى أن يقول له كن وذلك يوجب التسلسل، وهو محال فثبت أن كلام الله قديم.
واعلم أن هذا الدليل عندي ليس في غاية القوة، وبيانه من وجوه:
الوجه الأول: أن كلمة * (إذا) * لا تفيد التكرار، والدليل عليه أن الرجل إذا قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار مرة طلقت طلقة واحدة فلو دخلت ثانيا لم تطلق طلقة ثانية فعلمنا أن كلمة إذا لا تفيد التكرار، وإذا كان كذلك ثبت أنه لا يلزم في كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له كن فلم يلزم التسلسل.
والوجه الثاني: أن هذا الدليل إن صح لزم القول بقدم لفظه " كن " وهذا معلوم البطلان
32

بالضرورة، لأن لفظة: كن، مركبة من الكاف والنون، وعند حضور الكاف لم تكن النون حاضرة وعند مجيء النون تتولى الكاف، وذلك يدل على أن كلمة كن يمتنع كونها قديمة، وإنما الذي يدعي أصحابنا كونه قديما صفة مغايرة للفظة كن، فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا، والذي يقولون به لا تدل عليه الآية فسقط التمسك به.
والوجه الثالث: أن الرجل إذا قال إن فلانا لا يقدم على قول، ولا على فعل إلا ويستعين فيه بالله تعالى فإن عاقلا لا يقول: إن استعانته بالله فعل من أفعاله فيلزم أن يكون كل استعانة مسبوقة باستعانة أخرى إلى غير النهاية لأن هذا الكلام بحسب العرف باطل فكذلك ما قالوه.
والوجه الرابع: أن هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه:
الوجه الأول: أن قوله تعالى: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه) * يقتضي كون القول واقعا بالإرادة، وما كان كذلك فهو محدث.
والوجه الثاني: أنه علق القول بكلمة إذا، ولا شك أن لفظة " إذا " تدخل للاستقبال.
والوجه الثالث: أن قوله: * (أن نقول له) * لا خلاف أن ذلك ينبئ عن الاستقبال.
والوجه الرابع: أن قوله: * (كن فيكون) * يدل على أن حدوث الكون حاصل عقيب قوله: * (كن) * فتكون كلمة * (كن) * متقدمة على حدوث الكون بزمان واحد، والمتقدم على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثا.
والوجه الخامس: أنه معارض بقوله تعالى: * (وكان أمر الله مفعولا) * (النساء: 47)، * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) * (الأحزاب: 38). * (الله نزل أحسن الحديث) * (الزمر: 23). * (فليأتوا بحديث مثله) * (الطيور: 34)، * (ومن قبله كتاب موسى وإماما ورحمة) * (الأحقاف: 12).
فإن قيل: فهب أن هذه الآية لا تدل على قدم الكلام، ولكنكم ذكرتم أنها تدل على حدوث الكلام فما الجواب عنه؟.
قلنا: نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف والأصوات، ونحن نقول بكونه محدثا مخلوقا. والله أعلم.
قوله تعالى
* (والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة ولاجر الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) *
33

اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي، والجهل، والضلال، وفي مثل هذه الحالة
لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وضرهم، وإنزال العقوبات بهم، وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن تلك الديار والمساكن، فذكر تعالى في هذه الآية حكم تلك الهجرة وبين ما لهؤلاء المهاجرين من الحسنات في الدنيا، والأجر في الآخرة من حيث هاجروا وصبروا وتوكلوا على الله، وذلك ترغيب لغيرهم في طاعة الله تعالى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير موليين لقريش فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام، أما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبير إن كنت لكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله فلما رآه أبو بكر قال: ربح البيع يا صهيب، وقال عمر: نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، وهو ثناء عظيم يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه فكيف ظنك به وقد خلقها؟ وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر والرجوع عن الإسلام فتركوا عذابهم، ثم هاجروا فنزلت هذه الآية، وبين الله تعالى بهذه الآية عظم محل الهجرة، ومحل المهاجرين فالوجه فيه ظاهر، لأن بسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام، كما أن بنصرة الأنصار قويت شوكتهم، ودل تعالى بقوله: * (والذين هاجروا في الله) * أن الهجرة إذا لم تكن لله بل لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى بلد، وقوله: * (من بعد ما ظلموا) * معناه أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار، لأنهم كانوا يعذبونهم. ثم قال: * (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) * وفيه وجوه: الأول: أن قوله: * (حسنة) * صفة للمصدر من قوله: * (لنبوئنهم في الدنيا) * والتقدير: لنبوئنهم تبوئة حسنة، وفي قراءة علي عليه السلام: (لنبوئنهم إبواءة حسنة). الثاني: لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب، وعن عمر أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أكبر.
والقول الثالث: لنبوئنهم مباءة حسنة وهي المدينة حيث آواهم أهلها ونصروهم، وهذا قول الحسن والشعبي وقتادة، والتقدير: لنبوئنهم في الدنيا دارا حسنة أو بلدة حسنة يعني المدينة.
ثم قال تعالى: * (ولأجر الآخرة أكبر) * وأعظم وأشرف؛ * (ولو كانوا يعلمون) * والضمير إلى من يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى الكفار، أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم. والثاني: أنه راجع إلى المهاجرين، أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.
34

ثم قال: * (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) * وفي محل: * (الذين) * وجوه: الأول: أنه بدل من قوله: * (والذين هاجروا) * والثاني: أن يكون التقدير: هم الذين صبروا. والثالث: أن يكون التقدير: أعني الذين صبروا وكلا الوجهين مدح، والمعنى: أنهم صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله، وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله، وبالجملة فقد ذكر فيه الصبر والتوكل. أما الصبر فللسعي في قهر النفس، وأما التوكل فللانقطاع بالكلية من الخلق والتوجه بالكلية إلى الحق، فالأول: هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى. والثاني: آخر هذا الطريق ونهايته، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون * أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم فى تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم) *
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري النبوة كانوا يقولون: الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدا من البشر، بل لو أراد بعثة رسول إلينا لكان يبعث ملكا، وقد ذكرنا تقرير هذه الشبهة في سورة الأنعام فلا نعيده ههنا، ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عنهم: * (وقالوا لولا أنزل عليه ملك) * (الأنعام: 8) وقالوا: * (أنؤمن لبشرين مثلنا) * (المؤمنون: 47) وقالوا: * (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم) * (المؤمنون: 33، 34) وقال: * (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل
35

منهم) * (يونس: 2) وقالوا: * (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) * (الفرقان: 7).
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) * والمعنى: أن عادة الله تعالى من أول زمان الخلق والتكليف أنه لم يبعث رسولا إلا من البشر، فهذه العادة مستمرة لله سبحانه وتعالى، وطعن هؤلاء الجهال بهذا السؤال الركيك أيضا طعن قديم فلا يلتفت إليه.
المسألة الثانية: دلت الآية على أنه تعالى ما أرسل أحدا من النساء، ودلت أيضا على أنه ما أرسل ملكا، لكن ظاهر قوله: * (جاعل الملائكة رسلا) * (فاطر: 1) يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الملائكة، فكان ظاهر هذه الآية دليلا على أنه ما أرسل رسولا من الملائكة إلى الناس. قال القاضي: وزعم أبو علي الجبائي أنه لم يبعث إلى الأنبياء عليهم السلام إلا من هو بصورة الرجال من الملائكة. ثم قال القاضي: لعله أراد أن الملك الذي يرسل إلى الأنبياء عليهم السلام بحضرة أممهم، لأنه إذا كان كذلك فلا بد من أن يكون أيضا بصورة الرجال، كما روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة، وإنما قلنا ذلك لأن المعلوم من حال الملائكة أن عند إبلاغ الرسالة من الله تعالى إلى الرسول قد يبقون على صورتهم الأصلية الملكية، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين، وعليه تأولوا قوله تعالى: * (ولقد رآه نزلة أخرى) * (النجم: 13) ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام أتبعه بقوله: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في المراد بأهل الذكر وجوه: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أهل التوراة، والذكر هو التوراة. والدليل عليه قوله تعالى: * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) * (الأنبياء: 105) يعني التوراة. الثاني: قال الزجاج: فاسألوا أهل الكتب الذين يعرفون معاني كتب الله تعالى، فإنهم يعرفون أن الأنبياء كلهم بشر، والثالث: أهل الذكر أهل العلم بأخبار الماضين، إذ العالم بالشيء يكون ذاكرا له. والرابع: قال الزجاج: معناه سلوا كل من يذكر بعلم وتحقيق. وأقول: الظاهر أن هذه الشبهة وهي قولهم: الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدا من البشر إنما تمسك بها كفار مكة، ثم إنهم كانوا مقرين بأن اليهود والنصارى أصحاب العلوم والكتب فأمرهم الله بأن يرجعوا في هذه المسألة إلى اليهود والنصارى ليبينوا لهم ضعف هذه الشبهة وسقوطها، فإن اليهودي والنصراني لا بد لهما من تزييف هذه الشبهة وبيان سقوطها.
المسألة الثانية: اختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد؟ منهم من حكم بالجواز
36

واحتج بهذه الآية فقال: لما لم يكن أحد المجتهدين عالما وجب عليه الرجوع إلى المجتهد الآخر الذي يكون عالما لقوله تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * فإن لم يجب فلا أقل من الجواز.
المسألة الثالثة: احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس، وإن لم يكن عالما بحكمها وجب عليه سؤال من كان عالما بها لظاهر هذه الآية، ولو كان القياس حجة لما وجب عليه سؤال العالم لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بواسطة القياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية فوجب أن لا يجوز. والله أعلم.
وجوابه: أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة، والإجماع أقوى من هذا الدليل، والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (بالبينات والزبر) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكروا في الجالب لهذه الباء وجوها: الأول: أن التقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا يوحى إليهم، وأنكر الفراء ذلك وقال: إن صلة ما قبل إلا لا يتأخر إلى بعد، والدليل عليه: أن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته، فما لم يصر هذا المجموع مذكورا بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه. الثاني: أن التقدير: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم بالبينات والزبر، وعلى هذا التقدير فقوله: * (بالبينات والزبر) * متعلق بالمستثنى. والثالث: أن الجالب لهذا الباء محذوف، والتقدير أرسلناهم بالبينات وهذا قول الفراء. قال: ونظيره ما مر إلا أخوك بزيد ما مر إلا أخوك ثم يقول مر بزيد. الرابع: أن يقال: الذكر بمعنى العلم، والتقدير فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون. الخامس: أن يكون التقدير: إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر فاسألوا أهل الذكر.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (بالبينات والزبر) * لفظة جامعة لكل ما تكامل به الرسالة، لأن مدار أمرها على المعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وهي البينات وعلى التكاليف التي يبلغها الرسول من الله تعالى إلى العباد وهي الزبر.
ثم قال تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر هذا الكلام يقتضي أن هذا الذكر مفتقر إلى بيان رسول الله والمفتقر إلى البيان مجمل، فظاهر هذا النص يقتضي أن القرآن كله مجمل، فلهذا المعنى قال بعضهم متى وقع التعارض بين القرآن وبين الخبر وجب تقديم الخبر لأن القرآن مجمل والدليل عليه هذه الآية، والخبر مبين له بدلالة هذه الآية، والمبين مقدم على المجمل.
37

والجواب: أن القرآن منه محكم، ومنه متشابه، والمحكم يجب كونه مبينا فثبت أن القرآن ليس كله مجملا بل فيه ما يكون مجملا فقوله: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * محمول على المجملات.
المسألة الثانية: ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لكل ما أنزله الله تعالى على المكلفين، فعند هذا قال نفاة القياس لو كان القياس حجة لما وجب على الرسول بيان كل ما أنزله الله تعالى على المكلفين من الأحكام، لاحتمال أن بين المكلف ذلك الحكم بطريقة القياس، ولما دلت هذه الآية على أن المبين لكل التكاليف والأحكام، هو الرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن القياس ليس بحجة.
وأجيب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم لما بين أن القياس حجة، فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس، كان ذلك في الحقيقة رجوعا إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: * (أفأمن الذين مكروا السيئات) * المكر في اللغة عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء، ولا بد ههنا من إضمار، والتقدير: المكرات السيئات، والمراد أهل مكة ومن حول المدينة. قال الكلبي: المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله تعالى، والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على سبيل الخفية، ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أمورا أربعة: الأول: أن يخسف الله بهم الأرض كما خسف بقارون. الثاني: أن يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، والمراد أن يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط. والثالث: أن يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين، وفي تفسير هذا التقلب وجوه: الأول: أنه يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم، فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر وهم لا يعجزون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله حيث كانوا، وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) * (آل عمران: 196). وثانيهما: تفسير هذا اللفظ بأنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف
فيها أمثالهم. وثالثها: أن يكون المعنى أو يأخذهم في حال ما ينقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل قسرا كما قال: * (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون) * (يس: 66) وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله: * (وقلبوا لك الأمور) * (التوبة: 48) فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها.
والنوع الرابع: من الأشياء التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية على سبيل التهديد قوله تعالى: * (أو يأخذهم على تخوف) * وفي تفسير التخوف قولان:
38

القول الأول: التخوف تفعل من الخوف، يقال خفت الشيء وتخوفته والمعنى أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أولا بل يخيفهم أولا ثم يعذبهم بعده، وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك فرقة فتخاف التي تليها فيكون هذا أخذا ورد عليهم بعد أن يمر بهم قبل ذلك زمانا طويلا في الخوف والوحشة.
والقول الثاني: أن التخوف هو التنقص قال ابن الأعرابي يقال: تخوفت الشيء وتخفيته إذا تنقصته، وعن عمر أنه قال على المنبر: ما تقولون في هذه الآية؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص، فقال عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم. قال شاعرنا وأنشد: تخوف الرحل منها تامكا قردا * كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر: أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا التنقص يحتمل أن يكون المراد منه ما يقع في أطراف بلادهم كما قال تعالى: * (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) * (الأنبياء: 44) والمعنى أنه تعالى لا يعاجلهم بالعذاب ولكن ينقص من أطراف بلادهم إلى القرى التي تجاورهم حتى يخلص الأمر إليهم فحينئذ يهلكهم، ويحتمل أن يكون المراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلا قليلا حتى يأتي الفناء على الكل فهذا تفسير هذه الأمور الأربعة، والحاصل أنه تعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة واحدة حال ما لا يكونون عالمين بعلاماتها ودلائلها، أو بآفات تحدث قليلا قليلا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ثم ختم الآية بقوله: * (فإن ربكم لرؤوف رحيم) * والمعنى أنه يمهل في أكثر الأمور لأنه رؤوف رحيم فلا يعاجل بالعذاب.
قوله تعالى
* (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شىء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله وهم
39

داخرون * ولله يسجد ما فى السماوات وما فى الارض من دآبة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما خوف المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام، ليظهر لهم أن مع كمال هذه القدرة القاهرة، والقوة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأقسام الأربعة.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي: * (أو لم تروا) * بالتاء على الخطاب، وكذلك في سورة العنكبوت: * (أو لم تروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده) * (العنكبوت: 19) بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء فيهما كناية عن الذين مكروا السيئات، وأيضا أن ما قبله غيبة وهو قوله: * (أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب * أو يأخذهم) * (النحل: 45، 46) فكذا قوله: * (أو لم يروا) * وقرأ أبو عمرو وحده: * (تتفيؤ) * بالتاء والباقون بالياء، وكلاهما جائز لتقدم الفعل على الجمع. المسألة الثالثة: قوله: * (أو لم يروا إلى ما خلق الله) * لما كانت الرؤية ههنا بمعنى النظر وصلت بإلى، لأن المراد به الاعتبار ولاعتبار لا يكون بنفس الرؤية حتى يكون معها نظر إلى الشيء وتأمل لأحواله، وقوله: * (إلى ما خلق الله من شيء) * قال أهل المعاني: أراد من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، ولفظ الآية يشعر بهذا القيد، لأن قوله: * (من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل) * يدل على أن ذلك الشيء كثيف يقع له ظل على الأرض. وقوله: * (يتفيؤا ظلاله) * إخبار عن قوله: * (شيء) * وليس بوصف له، ويتفيأ يتفعل من الفيء يقال: فاء الظل يفيء فيئا إذا رجع وعاد بعد ما نسخه ضياء الشمس، وأصل الفيء الرجوع، ومنه فيء المولي وذكرنا ذلك في قوله تعالى: * (فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم) * (البقرة: 226) وكذلك فيء المسلمين لما يعود على المسلمين من مال من خالف دينهم، ومنه قوله تعالى: * (ما أفاء الله على رسوله منهم) * (الحشر: 6) وأصل هذا كله من الرجوع.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا عدي فاء فإنه يعدى إما بزيادة الهمزة أو بتضعيف العين. أما التعدية بزيادة الهمزة كقوله: * (ما أفاء الله) * وأما بتضعيف العين فكقوله فيأ الله الظل فتفيأ وتفيأ مطاوع فيأ. قال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي بعدما انصرفت عنه الشمس والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس كمال قال الشاعر: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق قال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء
40

وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل، ومنهم من أنكر ذلك، فإن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي: فلام الإله يغدو عليهم وفيؤ الغروس ذات الظلال فهذا الشعر قد أوقع فيه لفظ الفيء على ما لم تنسخه الشمس، لأن ما في الجنة من الظل ما صحل بعد أن كان زائلا بسبب نور الشمس وتقول العرب في جمع في أفياء وهي للعدد القليل، وفيؤ للكثير كالنفوس والعيون، وقوله: * (ظلاله) * أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال، وإنما حسن هذا، لأن الذي عاد إليه الضمير وإن كان واحدا في اللفظ وهو قوله إلى ما خلق الله، إلا أنه كثير في المعنى، ونظيره قوله تعالى: * (لتستووا على ظهوره) * (الزخرف: 13) فأضاف الظهور وهو جمع، إلى ضمير مفرد، لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو قوله: * (ما تركبون) * هذا كله كلام الواحدي وهو بحث حسن. أما قوله: * (عن اليمين والشمائل)
* ففيه بحثان: البحث الأول: في المراد باليمين والشمائل قولان:
القول الأول: أن يمين الفلك هو المشرق وشماله هو المغرب، والسبب في تخصيص هذين الاسمين بهذين الجانبين أن أقوى جانبي الإنساني يمينه، ومنه تظهر الحركة القوية، فلما كانت الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله. إذا عرفت هذا فنقول: إن الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الإظلال إلى الجانب الغربي، فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقع الإظلال في الجانب الشرقي، فهذا هو المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال وبالعكس، وعلى هذا التقدير: فالإظلال في أول النهار تبتدئ من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض، ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدئ الإظلال من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض.
القول الثاني: أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل، فإن في الصيف تحصل الشمس على يسارها، وحينئذ يقع الإظلال على يمينهم، فهذا هو المراد من انتقال الإظلال عن الأيمان إلى الشمائل وبالعكس. هذا ما حصلته في هذا الباب، وكلام المفسرين فيه غير ملخص.
البحث الثاني: لقائل أن يقول: ما السبب في أن ذكر اليمين بلفظ الواحد، والشمائل بصيغة الجمع؟.
وأجيب عنه بأشياء: أحدها: أنه وحد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر في اللفظ على الواحد
41

كقوله تعالى: * (ويولون الدبر) * (القمر: 45). وثانيها: قال الفراء: كأنه إذا وحد ذهب إلى واحدة من ذوات الأظلال، وإذا جمع ذهب إلى كلها، وذلك لأن قوله: * (ما خلق الله من شيء) * لفظه واحد، ومعناه الجمع على ما بيناه فيحتمل كلا الأمرين. وثالثها: أن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله تعالى: * (وجعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1) وقوله: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) * (البقرة: 7). ورابعها: أنا إذا فسرنا اليمين بالمشرق كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها، فكانت اليمين واحدة. وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة، فلذلك عبر الله تعالى عنها بصيغة الجمع والله أعلم.
المسألة الرابعة: أما قوله: * (سجدا لله) * ففيه احتمالات: الأول: أن يكون المراد من السجود الاستسلام والانقياد يقال: سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال: أسجد لقرد السوء في زمانه، أي أخضع له قال الشاعر: ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
أي متواضعة إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى دبر النيرات الفلكية، والأشخاص الكوكبية بحيث يقع أضواؤها على هذا العالم السفلي على وجوه مخصوصة. ثم إنا نشاهد أن تلك الأضواء، وتلك الإظلال لا تقع في هذا العالم إلا على وفق تدبير الله تعالى وتقديره، فنشاهد أن الشمس إذا طلعت وقعت الأجسام الكثيفة أظلال ممتدة في الجانب الغربي من الأرض، ثم كلما ازدادت الشمس طلوعا وارتفاعا، ازدادت تلك الأظلال تقلصا وانتقاصا إلى الجانب الشرقي إلى أن تصل الشمس إلى وسط الفلك، فإذا انحدرت إلى الجانب الغربي ابتدأت الأظلال بالوقوع في الجانب الشرقي، وكلما ازدادت الشمس انحدارا ازدادت الأظلال تمددا وتزايدا في الجانب الشرقي. وكما أنا نشاهد هذه الحالة في اليوم الواحد، فكذلك نشاهد أحوال الأظلال مختلفة في التيامن والتياسر في طول السنة، بسبب اختلاف أحوال الشمس في الحركة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس، فلما شاهدنا أحوال هذه الأظلال مختلفة بسبب الاختلافات اليومية الواقعة في شرق الأرض وغربها، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة في يمين الفلك ويساره، ورأينا أنها واقعة على وجه مخصوص وترتيب معين، علمنا أنها منقادة لقدرة الله خاضعة لتقديره وتدبيره، فكانت السجدة عبارة عن هذه الحالة.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: اختلاف حال هذه الأظلال معلل باختلاف سير النير الأعظم الذي هو الشمس، لا لأجل تقدير الله تعالى وتدبيره؟.
42

قلنا: قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركا لذاته، إذ لو كانت ذاته علة لهذا الجزء المخصوص من الحركة، لبقي هذا الجزء من الحركة لبقاء ذاته، ولو بقي ذلك الجزء من الحركة لامتنع حصول الجزء الآخر من الحركة، ولو كان الأمر كذلك لكان هذا سكونا لا حركة، فالقول بأن الجسم المتحرك لذاته يوجب القول بكونه ساكنا لذاته وأنه محال، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا، فعلمنا أن الجسم يمتنع كونه متحركا لذاته، وأيضا فقد دللنا على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية، فاختصاص جرم الشمس بالقوة المعينة والخاصية المعينة لا بد وأن يكون بتدبير الخالق المختار الحكيم.
إذا ثبت هذا فنقول: هب أن اختلاف أحوال الأظلال إنما كان لأجل حركات الشمس، إلا أنا لما دللنا على أن محرك الشمس بالحركة الخاصة ليس إلا الله سبحانه كان هذا دليلا على أن اختلاف أحوال الأظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى وتخليقه، فثبت أن المراد بهذا السجود الانقياد والتواضع، ونظيره قوله: * (والنجم والشجر يسجدان) * (الرحمن: 6) وقوله: * (وظلالهم بالغدو والآصال) * (الرعد: 15) قد مر بيانه وشرحه.
والقول الثاني: في تفسير هذا السجود، أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد. قال أبو العلاء المعري في صفة واد: بحرف يطيل الجنح فيه سجوده وللأرض زي الراهب المتعبد فلما كانت الأظلال تشبه بشكلها شكل الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ، وكان الحسن يقول: أما ظلك فسجد لربك، وأما أنت فلا تسجد له بئسما صنعت، وقال مجاهد: ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي، وقيل: ظل كل شيء يسجد لله سواء كان ذلك ساجدا أم لا.
واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى الحقائق العقلية، والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة.
المسألة الخامسة: وقوله: * (سجدا) * حال من الظلال وقوله: * (وهم داخرون) * أي صاغرون، يقال: دخر يدخر دخورا، أي صغر يصغر صغارا، وهو الذي يفعل ما تأمره شاء أم أبى، وذلك لأن هذه الأشياء منقادة لقدرة الله تعالى وتدبيره وقوله: * (وهم داخرون) * حال أيضا من الظلال.
فإن قيل: الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون؟.
قلنا: لأنه تعالى لما وصفهم بالطاعة والدخور أشبهوا العقلاء.
أما قوله تعالى: * (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا أن السجود على نوعين: سجود هو عبادة كسجود المسلمين لله تعالى، وسجود هو عبارة عن الانقياد لله تعالى والخضوع، ويرجع حاصل هذا السجود إلى أنها
43

في نفسها ممكنة الوجود والعدم قابلة لهما، وأنه لا يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح.
إذا عرفت هذا فنقول: من الناس من قال: المراد بالسجود المذكور في هذه الآية السجود بالمعنى الثاني وهو التواضع والانقياد، والدليل عليه أن اللائق بالدابة ليس إلا هذا السجود ومنهم من قال: المراد بالسجود ههنا هو المعنى الأول، لأن اللائق بالملائكة هو السجود بهذا المعنى لأن السجود بالمعنى الثاني حاصل في كل الحيوانات والنباتات والجمادات، ومنهم من قال: السجود لفظ مشترك بين المعنيين، وحمل اللفظ المشترك لإفادة مجموع معنييه جائز، فحمل لفظ السجود في هذه الآية على الأمرين معا، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع، وأما في حق الملائكة فبمعنى سجود المسلمين لله تعالى، وهذا القول ضعيف، لأنه ثبت أن استعمال اللفظ المشترك لإفادة جميع مفهوماته معا غير جائز.
المسألة الثانية: قوله: * (من دابة) * قال الأخفش: يريد من الدواب وأخبر بالواحد كما تقول ما أتاني من رجل مثله، وما أتاني من الرجال مثله، وقال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: ما الوجه في تخصيص الدواب والملائكة بالذكر؟ فنقول فيه وجوه:
الوجه الأول: أنه تعاني بين في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى وبين بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى، لأن أخسها الدواب وأشرفها الملائكة، فلما بين في أخسها وفي أشرفها كونها منقادة لله تعالى كان ذلك دليلا على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى.
والوجه الثاني: قال حكماء الإسلام: الدابة اشتقاقها من الدبيب، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانية، فالدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب، فلما بين الله تعالى الملائكة عن الدابة علمنا أنها ليست مما يدب، بل هي أرواح محضة مجردة، ويمكن الجواب عنه بأن الجناح للطيران مغاير للدبيب بدليل قوله تعالى: * (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) * (الأنعام: 38) والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المقصود من هذه الآية شرح صفات الملائكة وهي دلالة قاهرة قاطعة على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب، لأن قوله: * (وهم لا يستكبرون) * يدل على أنهم منقادون لصانعهم وخالقهم وأنهم ما خالفوه في أمر من الأمور، ونظيره قوله تعالى: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * (مريم: 64) وقوله: * (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * (الأنبياء: 27) وأما قوله: * (ويفعلون ما يؤمرون) * فهذا أيضا
44

يدل على أنهم فعلوا كل ما كانوا مأمورين به، وذلك يدل على عصمتهم عن كل الذنوب.
فإن قالوا: هب أن هذه الآية تدل على أنهم فعلوا كل ما أمروا به فلم قلتم إنها تدل على أنهم تركوا كل ما نهوا عنه؟.
قلنا: لأن كل ما نهي عن شيء فقد أمر بتركه، وحينئذ يدخل في اللفظ، وإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كل الذنوب، وثبت أن إبليس ما كان معصوما من الذنوب بل كان كافرا، لزم القطع بأن إبليس ما كان من الملائكة.
والوجه الثاني: في بيان هذا المقصود أنه تعالى قال في صفة الملائكة: * (وهم لا يستكبرون) * ثم قال لإبليس: * (استكبرت أم كنت من العالين) * (ص: 75) وقال أيضا له: * (فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها) * (الأعراف: 13) فثبت أن الملائكة لا يستكبرون وثبت أن إبليس تكبر واستكبر فوجب أن لا يكون من الملائكة وأيضا لما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة، ثبت أن القصة الخبيثة التي يذكرونها في حق هاروت وماروت كلام باطل، فإن الله تعالى وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم عن كل ذنب، وجب القطع بأن تلك القصة كاذبة باطلة والله أعلم. واحتج الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا: إنه تعالى وصفهم بالخوف، ولولا أنهم يجوزون على أنفسهم الإقدام على الكبائر والذنوب وإلا لم يحصل الخوف.
والجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى منذرهم من العقاب فقال: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم) * (الأنبياء: 29) وهم لهذا الخوف يتركون الذنب. والثاني: وهو الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال هكذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما، والدليل على صحته قوله تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) وهذا يدل على أنه كلما كانت معرفة الله تعالى أتم، كان الخوف منه أعظم، وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء والله أعلم.
المسألة الثانية: قالت المشبهة قوله تعالى: * (يخافون ربهم من فوقهم) * هذا يدل على أن الإله تعالى فوقهم بالذات.
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهة في تفسير قوله تعالى: * (وهو القاهر فوق عباده) * (الأنعام: 18) والذي نزيده ههنا أن قوله: * (يخافون ربهم من فوقهم) * معناه يخافون ربهم من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم، وإذا كان اللفظ محتملا لهذا المعنى سقط قولهم، وأيضا يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة والقهر كقوله: * (وإنا فوقهم قاهرون) * (الأعراف: 127) والذي يقوي هذا الوجه أنه تعالى لما قال: * (يخافون ربهم من فوقهم) * وجب أن يكون المقتضى لهذا الخوف هو كون ربهم فوقهم لما ثبت
45

في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بكون الحكم معللا بذلك الوصف.
إذا ثبت هذا فنقول: هذا التعطيل إنما يصح لو كان المراد بالفوقية الفوقية بالقهر والقدرة لأنها هي الموجبة للخوف، أما الفوقية بالجهة والمكان فهي لا توجب الخوف بدليل أن حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنه أخس عبيده فسقطت هذه الشبهة.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أن الملائكة مكلفون من قبل الله تعالى وأن الأمر والنهي متوجه عليهم كسائر المكلفين، ومتى كانوا كذلك وجب أن يكونوا قادرين على الخير والشر.
المسألة الرابعة: تمسك قوم بهذه الآية في بيان أن الملك أفضل من البشر في وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى قال: * (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة) * وذكرنا أن تخصيص هذين النوعين بالذكر إنما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخس المراتب وكان الطرف الثاني أشرفها حتى يكون ذكر هذين الطرفين منبها على الباقي، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله تعالى.
الوجه الثاني: أن قوله تعالى: * (وهم لا يستكبرون) * يدل على أنه ليس في قلوبهم تكبر وترفع وقوله: * (ويفعلون ما يؤمرون) * يدل على أن أعمالهم خالية عن الذنب والمعصية، فمجموع هذين الكلامين يدل على أن بواطنهم وظواهرهم مبرأة عن الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة، وأما البشر فليسوا كذلك. ويدل عليه القرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى: * (قتل الإنسان ما أكفره) * (عبس: 17) وهذا الحكم عام في الإنسان، وأقل مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذميمة، وأما الخبر فقوله عليه السلام: " ما منا إلا وقد عصى أو هم بالمعصية غير يحيى بن زكريا " ومن المعلوم بالضرورة أن المبرأ عن المعصية والهم بها أفضل ممن عصى أو هم بها.
الوجه الثالث: أنه لا شك أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بأدوار متطاولة وأزمان ممتدة، ثم إنه وصفهم بالطاعة والخضوع والخشوع طول هذه المدة، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين: الأول: قوله عليه السلام: " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " فضل الشيخ على الشاب، وما ذاك إلا لأنه لما كان عمره أطول فالظاهر أن طاعته أكثر فكان أفضل. والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها لزم أن يقال إنهم هم الذين سنوا هذه السنة الحسنة، وهي طاعة الخالق القديم الرحيم، والبشر إنما جاؤوا بعدهم واستنوا سنتهم، فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كل ما حصل للبشر من الثواب فقد حصل مثله للملائكة ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة فوجب كونهم أفضل من غيرهم.
46

الوجه الرابع: في دلالة الآية على هذا المعنى قوله: * (يخافون ربهم من فوقهم) * وقد بينا بالدليل أن هذه الفوقية عبارة عن الفوقية بالرتبة والشرف والقدرة والقوة، فظاهر الآية يدل على أنه لا شيء فوقهم في الشرف والرتبة إلا الله تعالى، وذلك يدل على كونهم أفضل المخلوقات والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون * وله ما فى السماوات والارض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون * وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجارون * ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بمآ ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) *
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن كل ما سوى الله سواء كان من عالم الأرواح أو من عالم الأجسام، فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى وكبريائه، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك وبالأمر بأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وأنه غني عن الكل فقال: * (لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إن الإلهين لا بد وأن يكونا اثنين، فما الفائدة في قوله: * (إلهين اثنين) *.
وجوابه من وجوه: أحدها: قال صاحب " النظم ": فيه تقديم وتأخير، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين. وثانيها: وهو الأقرب عندي أن الشيء إذا كان مستنكرا مستقبحا، فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سببا لوقوف العقل على ما فيه من القبح.
47

إذا عرفت هذا القول بوجود الإلهين قول مستقبح في العقول، ولهذا المعنى فإن أحدا من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجوب والقدم وصفات الكمال، فقوله: * (لا تتخذوا إلهين اثنين) * المقصود من تكريره تأكيد التنفير عنه وتكميل وقوف العقل على ما فيه من القبح. وثالثها: أن قوله: * (إلهين) * لفظ واحد يدل على أمرين: ثبوت الإله وثبوت التعدد، فإذا قيل: لا تتخذوا إلهين لم يعرف من هذا الفظ أن النهي وقع عن إثبات الإله أو عن إثبات التعدد أو عن مجموعهما. فلما قال: * (لا تتخذوا إلهين اثنين) * ثبت أن قوله: * (لا تتخذوا إلهين) * نهي عن إثبات التعدد فقط. ورابعها: أن الأثنينية منافية للإلهية، وتقريره من وجوه: الأول: أنا لو فرضنا موجودين يكون كل واحد منهما واجبا لذاته لكانا مشتركين في الوجوب الذاتي ومتباينين بالتعين وما به المشاركة غير ما به المباينة، فكل واحد منهما مركب من جزأين، وكل مركب فهو ممكن، فثبت أن القول بأن واجب الوجود أكثر من واحد ينفي القول بكونهما واجبي الوجود. والثاني: أنا لو فرضنا إلهين وحاول أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني، لأن الحركة الواحدة والسكون الواحد لا يقبل القسمة أصلا ولا التفاوت أصلا، وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني، وإذا ثبت هذا امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية، وإذا ثبت هذا فإما أن يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال، أو لا يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال أو لا يحصل مراد كل واحد منهما البتة. فحينئذ يكون كل واحد منهما عاجزا والعاجز لا يكون إلها. فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلها. الثالث: أنا لو فرضنا إلهين اثنين لكان إما أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر، فإن قدر ذاك إله والآخر ضعيف، وإن لم يقدر فهو ضعيف، والرابع: وهو أن أحدهما إما أن يقوى على مخالفة الآخر، أو لا يقوى عليه فإن لم يقو عليه فهو ضعيف، وإن
قوي عليه فذاك الآخر إن لم يقو على الدفع فهو ضعيف، وإن قوي عليه فالأول المغلوب ضعيف. فثبت أن الأثنينية والإلهية متضادتان. فقوله: * (لا تتخذوا إلهين اثنين) * المقصود منه التنبيه على حصول المنافاة والمضادة بين الإلهية وبين الأثنينية. والله أعلم.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال: * (إنما هو إله واحد) * والمعنى: أنه لما دلت الدلائل السابقة على أنه لا بد للعالم من الإله، وثبت أن القول بوجود الإلهين محال، ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الحق الصمد.
ثم قال بعده: * (فإياي فارهبون) * وهذا رجوع من الغيبة إلى الحضور، والتقدير: أنه لما ثبت
48

أن الإله واحد وثبت أن المتكلم بهذا الكلام إله، فحينئذ ثبت إنه لا إله للعالم إلا المتكلم بهذا الكلام، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور، ويقول: * (فإياي فارهبون) * وفيه دقيقة أخرى وهو أن قوله: * (فإياي فارهبون) * يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه، وأن لا يرغبوا إلا في فضله وإحسانه، وذلك لأن الموجود إما قديم وإما محدث، أما القديم الذي هو الإله فهو واحد، وأما ما سواه فمحدث، وإنما حدث بتخليق ذلك القديم وبإيجاده، وإذا كان كذلك فلا رغبة إلا إليه ولا رهبة إلا منه، فبفضله تندفع الحاجات وبتكوينه وبتخليقه تنقطع الضرورات.
ثم قال بعده: * (وله ما في السماوات والأرض) * وهذا حق، لأنه لما كان الإله واحدا، والواجب لذاته واحدا، كان كل ما سواه حاصلا بتخليقه وتكوينه وإيجاده، فثبت بهذا البرهان صحة قوله: * (وله ما في السماوات والأرض) * واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، لأن أفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض، فوجب أن تكون أفعال العباد لله تعالى، وليس المراد من كونها لله تعالى أنها مفعولة لله لأجله ولغرض طاعته، لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة، لا لغرض الطاعة، فوجب أن يكون المراد من قولنا إنها لله أنها واقعة بتكوينه وتخليقه وهو المطلوب.
ثم قال بعده: * (وله الدين واصبا) * الدين ههنا الطاعة، والواصب الدائم. يقال: وصب الشيء يصب وصوبا إذا دام، قال تعالى: * (ولهم عذاب واصب) * (الصافات: 9) ويقال: واظب على الشيء وواصب عليه إذا داوم، ومفازة واصبة أي بعيدة لا غاية لها. ويقال للعليل واصب، ليكون ذلك المرض لازما له. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع، إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه، فإن طاعته واجبة أبدا.
وأعلم أن قوله (واصبا) حال، والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل. وأقول: الدين قد يعنى
به الانقياد. يقال: ما من دانت له الرقاب أي انقادت. فقوله (وله الدين واصبا) أي انقياد كل
ما سواه له لازم أبدا. لان انقياد غيره له معلل بأن غيره ممكن لذاته، والممكن لذاته يلزمه أن يكون
محتاجا إلي السبب في طرف الوجود والعدم. والماهيات يلزمها الامكان لزوما ذاتيا، والامكان يلزمه
الاحتياج إلى المؤثر لزوما ذاتيا. ينتج أن الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثر لزومها ذاتيا. فهذه
الماهيات موصوفة بالانقياد لله تعالى اتصافا دائما واجبا لازما ممتنع التغير. وأقول: في الآية
دقيقة أخرى، وهي أن العقلاء اتفقوا على أن الممكن حال حدوثه محتاج إلى السبب المرجح. واختلفوا
في الممكن حال بقائه هل هو محتاج إلى السبب؟ قال المحققون: إنه محتاج لأن علة الحاجة هي
49

الامكان. والامكان من لوازم ا لماهية فيكون حاصلا للماهية حال حدوثها وحال بقائها فتكون علة
الحاجة حال حدوث الممكن وحال بقائه، فوجب أن تكون الحاجة حاصلة حال حدوثها وحال بقائها.
إذا عرفت هذا فقوله (وله ما في السماوات والأرض) معناه: أن كل ما سوى الحق فإنه
محتاج في انقلابه من العدم إلى الوجود أومن الوجود إلى العدم إلى مرجح ومخصص، وقوله (وله
الدين واصبا) معناه أن هذا الانقياد وهذا الاحتياج حاصل دائما أبدا، وهو إشارة إلى ما ذكرناه
من أن الممكن حال بقائه لا يستغنى عن المرجح والمخصص، وهذه دقائق من أسرار العلوم الإلهية
مودعة في هذه الألفاظ الفائضة من عالم الوحي والنبوة.
ثم قال تعالى (أفغير الله تتقون) والمعنى: أنكم بعد ما عرفتم أن اله العالم واحد وعرفتم أن كل
ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه، ومحتاج إليه أيضا في وقت دوامه وبقائه، فبعد العلم بهذه الأصول
كيف يعقل أن يكون للانسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة عن غير الله تعالى؟ فلهذا المعنى قال
على سبيل التعجب (أفغير الله تتقون)
ثم قال (وما بكم من نعمة فمن الله) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) أنه لما بين بالآية الأولى أن الواجب على العاقل أن لا يتقى غير الله، بين
في هذه الآية أن يجب عليه أن لا يشكر أحدا إلا الله تعالى، لان الشكر إنما يلزم على النعمة، وكل
نعمة يعقل أن يكون للانسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة عن غير الله تعالى؟ فلهذا المعنى قال
على سبيل التعجب (أفغير الله تتقون)
ثم قال (وما بكم من نعمة فمن الله) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) أنه لما بين بالآية الأولى أن الواجب على العاقل أن لا يتقى غير الله، بين
في هذه الآية أن يجب عليه أن لا يشكر أحدا إلا الله تعالى، لان الشكر إنما يلزم على النعمة، وكل
نعمة حصلت للانسان فهي من الله تعالى لقوله (وما بكم من نعمة فمن الله) فثبت بهذا أن العاقل يجب
عليه أن لا يخاف وأن لا يتقى أحدا إلا الله وأن لا يشكر أحدا إلا الله تعالى.
(المسألة الثانية) احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الايمان حصل بخلق الله تعالى فقالوا الايمان
نعمة، وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله (وما بكم من نعمة فمن الله) ينتج أن الايمان من الله وإنما
قلنا: إن الايمان نعمة، لان المسلمين مطبقون على قولهم: الحمد لله على نعمة الايمان، وأيضا فالنعمة
عبارة عن كل ما يكون منتفعا به، وأعظم الأشياء في النفع هو الايمان، فثبت أن الايمان نعمة.
وإذا ثبت هذا فنقول: وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله تعالى (وما بكم من نعمة فمن الله)
وهذه اللفظة تفيد العموم. وأيضا مما يدل على أن كل نعمة فهي من الله، لان كل ما كان موجودا
فهو إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، والواجب لذاته ليس إلا الله تعالى، والممكن لذاته
لا يوجد إلا لمرجح، وذلك المرجح إن كان واجبا لذاته كان حصول ذلك الممكن بايجاد الله تعالى
وإن كان ممكنا لذاته عاد التقسيم الأول فيه، ولا يذهب إلى التسلسل، بل ينتهى إلى إيجاد الواجب
لذاته، فثبت بهذا البيان أن كل نعمة فهي من الله تعالى.
50

(المسألة الثالثة) النعم إما دينية، وإما دنيوية، أما النعم الدينية فهي أما معرفة الحق لذاته
وإما معرفة الخير لأجل العمل به، وأما النعم الدنيوية فهي إما نفسانية، وإما بدنية وإما خارجية
وكل واحد من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد كما قال (وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها) والإشارة إلى تفصيل تلك الأنواع قد ذكرناها مرار فلا نعيدها.
(المسألة الرابعة) إنما دخلت الفاء في قوله (فمن الله) لان الباء في قوله (بكم) متصلة بفعل
مضمر، والمعنى: ما يكن بكم أو ما حل بكم من نعمة فمن الله.
ثم قال تعالى (ثم إذا مسكم الضر) قال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة (فإليه
تجأرون) أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، وتتضرعون إليه بالدعاء يقال. جأر يجأر جؤارا وهو
الصوت الشديد كصوت البقرة، وقال الأعشى يصف راهبا:
يراوح من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا
والمعنى: أنه تعالى بين أن جميع النعم من الله تعالى: ثم إذا اتفق لأحد مضرة توجب زوال
شئ من تلك النعم قال الله يجأر، أي يجار، أي لا يستغيث أحدا إلا الله تعالى لعمله، بأنه لا مفزع للخلق إلا هو،
فكأنه تعالى قال لهم فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاء والسلامة، ثم قال بعده (ثم إذا كشف
الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) فبين تعالى أن عند كشف الضر وسلامة الأحوال يفترقون
ففريق منهم يبقى على مثل ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى الله تعالى، وفريق منهم عند
ذلك يتغيرون فيشركون بالله غيره، وهذا جهل وضلال، أنه لما شهدت فطرته الأصلية وخلقته
العزيزية عند نزول البلاء والضر والآفات والمخافات أن لا مفزع إلا إلى الواحد، ولا مستغاث
إلا الواحد فعند زوال البلاء والضراء وجب أن يبقى على ذلك الاعتقاد، فأما أنه عند نزول البلاء
يقر بأنه لا مستغاث إلا الله تعالى، وعند زوال البلاء يثبت الأضداد والشركاء، فهذا جهل عظيم
وضلال كاملا, ونظير هذه الآية قوله تعالى (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)
ثم قال تعالى (ليكفروا بما آتيناهم) وفى هذه اللام وجهان: الأول: أنها لام كي والمعنى
أنهم أشركوا بالله غيره في كشف ذلك الضر عنهم، وغرضهم من ذلك الاشراك أن ينكروا كون
ذلك الانعام من الله تعالى، الا ترى أن العليل إذا اشتد وجعه تضرع إلى الله تعالى في إزالة ذلك
الوجع، فإذا زال أحال زوال على الدواء الفلاني والعلاج الفلاني، وهذا أكثر أحوال الخلق.
وقال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله: في اليوم الذي كنت أكتب هذه الأوراق
وهو اليوم الأول من محرم سنة اثنتين وستمائة حصلت زلزلة شديدة، وهذه عظيمة وقت الصبح
51

ويجعلون لما يعملون نصيبا مما رزقناهم تا لله لتسألن عما كنتم
تفترون (56) ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون (57) وإذا بشر
أحدهم بالاثني ظل وجهه مسودا وهو كظيم (58) يتوارى من القوم من سوء
ما بشر به أتمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (59)
للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز
الحكيم (60)
ورأيت الناس يصيحون الدعاء والتضرع، فلما سكتت وطاب الهواء، وحسن أنواع الوقت نسوا
في الحال تلك الزلزلة وعادوا إلى ما كانوا عليه من تلك السفاهة والجهالة، وكان هذه الحالة التي
شرحها الله تعالى في هذه الآية تجرى تجرى الصفة اللازمة لجوهر نفس الاتيان.
(والقول الثاني) أن هذه اللام العاقبة كقوله تعالى (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم
عدوا وحزنا) يعنى أن عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفر.
واعلم أن المراد بقوله (بما آتيناهم) فيه قولان: الأول: أنه عبارة عن كشف الضر وإزالة
المكروه. والثاني: قال بعضهم: المراد به القرآن وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
من النبوة والشرائع.
واعلم أنه تعالى توعدهم بعد ذلك فقال (فتمتعوا) وهذا لفظ أمر، والمراد منه التهديد، كقوله
(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وقوله (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا)
ثم قال تعالى (فسوف تعلمون) أي عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب والله أعلم.
قوله تعالى (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون
لله النبات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالاثني ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى
من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون
بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم)
52

اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل القاهرة فساد أقوال الشرك والتشبيه، شرح في هذه الآية
تفاصيل أقوالهم وبين فسادها وسخافتها.
(فالنوع الأول) من كلماتهم الفاسدة أنهم يجعلون لما لا يعملون نصيبا وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى) الضمير في قوله (لما لا يعلمون) إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد
إلى المشركين المذكورين في قوله (إذا فريق منكم بربهم يشركون) والمعنى أن المشركين لا يعلمون
والثاني: أنه عائد إلى الأصنام أي لا يعلم الأصنام ما يفعل عبادها قال بعضهم: الأول أولى لوجوه:
أحدها: أن نفى العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز. وثانيها. أن الضمير في قوله (ويجعلون) عائد
إلى المشركين فكذلك في قوله (لما لا يعملون) يجب أن يكون عائد إليهم وثالثها: أن قوله (لما لا يعلمون)
جمع بالواو والنون، وهو بالعقلاء أليق منه بالأصنام التي هي جمادات، ومنهم من قال بال القوم الثاني
أولى لوجوه: الأول: أنا إذا قلنا إنه عائد إلى المشركين افتقرنا إضمار، فان التقدير: ويجعلون
لما لا يعلمون إلها، أولها لا يعلمون كونه نافعا ضارا، وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام، لم نفتقر إلى
الاضمار لان التقدير: ويجعلون لما لا علم لها ولا فهم، والثاني، أنه لو كان العلم مضافا
إلى المشركين لفسد المعنى، لان من المحال أن يجعلوا نصيبا من رزقهم لما لا يعلمونه، فهذا ما قيل
في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر.
واعلم أنا إذا قلنا بالقول الأول افتقرنا فيه إلى الاضمار، وذلك يحتمل وجوها: أحدها:
ويجعلون لما لا يعلمون له حقا، ولا يعلمون في طاعته نفعا ولا في الاعراض عنه ضررا، قال مجاهد:
يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم ثم يجعلون لما لا يعلمون أن ينفعهم ويضرهم نصيبا.
وثانيها: ويجعلون لما لا يعلمون إلهيتها. وثالثها: ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها
معبودة. ورابعها: المراد استحقار الأصنام حتى كا، ها لقلبتها لا تعلم.
(المسألة الثانية) في تفسير ذلك النصيب احتمالات: الأول: المراد منه أنهم جعلوا لله نصيبا
من الحرث والانعام يتقربون إلى الله تعالى به، ونصيبا إلى الأصنام يتقربون به إليها، وقد شرحنا
ذلك في آخر سورة الأنعام. والثاني: أن المراد من هذا النصيب، البحيرة، والسائبة، والوصيلة،
والحام، وهو قول الحسن. والثالث: ربما اعتقدوا في بعض الأشياء إنما حصل بإعانة بعض
تلك الأصنام، كما أن المنجمعين يوزعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة، فيقولون
لزحل كذا من المعادن والنبات والحيوانات، وللمشتري أشياء أخرى فكذا ههنا.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين هذا المذهب قال (تالله لتسألن) وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة
53

بمنزلة قوله (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) وعلى التقديرين فأقسم الله تعالى بنفسه أنه
يسألهم، وهذا تهديد منه شديد، لان المراد أنه يسألهم سؤال توبيخ وتهديد، وفى وقت هذا السؤال
احتمالان: الأول: أنه يقع ذلك السؤال عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب، وقيل
عند عذاب القبر. والثاني: أنه يقع ذلك في الآخرة، وهذا أولى لأنه تعالى قد أخبر بما يجرى
هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة فهو إلى الوعيد أقرب.
(النوع الثاني) من كلماتهم الفاسدة أنهم يجعلون لله البنات، ونظيره قوله تعالى (وجعلوا الملائكة
الذين هم عباد الرحمن إناثا) كانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله. أقول أظن أن العرب
إنما أطلقوا لفظ البنات لان الملائكة لما كانوا مستترين عن العيون أشبهوا النساء في الاستتار
فأطلقوا عليهم لفظ البنات. وأيضا قرص الشمس يجرى مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر
ونوره القاهر فأطلقوا عليه لفظ التأنيث فهذا ما يغلب على الظن في سبب إقدامهم على هذا القول
الفاسد والمذهب الباطل، ولما حكى الله تعالى عنهم هذا القول قال (سبحانه) وفيه وجوه: الأول:
أن يكون المراد تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه. والثاني: تعجب الخلق من هذا الجهل القبيح، وهو
وصف الملائكة بالأنثوية ثم نسبتها بالولد إلى الله تعالى. والثالث: قيل في التفسير معناه معاذ الله
وذلك مقارب للوجه الأول.
ثم قال تعالى (ولم ما يشتهون) أجاز الفراء في ما وجهين: الأول: أن يكون في محل النصب
على معنى، ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون. والثاني: أن يكون رفعا على الابتداء كأنه تم الكلام عند
قوله (سبحانه) ثم ابتدأ فقال (ولهم ما يشتهون) يعنى البنين وهو كقوله (أم له البنات ولكم البنون)
ثم اختار الوجه الثاني وقال: لو كان نصيبا، لقال ولأنفسهم ما يشتهون، لأنك تقول جعلت لنفسك
كذا، وكذا، ولا تقول جعلت لك، وأبى الزجاج إجازة الوجه الأول، وقال ما في موضع رفع
لا غير، والتقدير: ولهم الشئ الذي يشتهونه، ولا يجوز النصب لان العرب تقول جعل لنفسه
ما تشهى، ولا تقول جعل له ما يشتهى وهو يعنى نفسه. ثم إنه تعالى ذكر أن الواحد من هؤلاء
المشركين لا يرضى الولد البنت لنفسه فمالا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله تعالى فقال؟ وإذا بشر
أحدهم بالأنثى ظل وجه مسودا وهو كظيم وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) التبشير في عرف اللغة مختص بالخبر الذي يفيد السرور إلا أنه بحسب أصل
اللغة عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه، ومعلوم أن السرور كما يوجب تغير البشرة
فكذلك الحزن يوجبه. فوجب أن لفظة التبشير حقيقة في القسمين، ويتأكد هذا بقوله
54

(فبشرهم بعذاب أليم) ومنهم من قال: المراد بالتبشير ههنا الاخبار، والقول الأول أدخل في التحقيق
أما قوله (ظل وجهه مسودا) فالمعنى أنه يصير متغيرا تغير مغتم، ويقال لمن لقى مكروها قد
اسود وجه غمار وحزنا، وأقول إنما جعل اسوداد الوجه كناية عن النعم، وذلك لان الانسان
إذا قوى فرحه انشرح صدره وانبسط روح قلبه من داخل القلب، ووصل إلى الأطراف،
ولا سيما إلى الوجه لما بينهما من التعلق الشديد، وإذا وصل الروح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه
وتلألأ واستنار، وأما إذا قوى غم الانسان احتقن الروح في باطن القلب ولم يبق منهم أثر قوى
في ظاهر الوجه، فلا جرم يريد الوجه ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية والكثافة، فثبت أن
من لوازم الفرح استنارة الوجه وإشرافه، ومن لوازم الغم كمودة الوجه وغبرته وسواده، فلهذا
السبب جعل بياض الوجه وإشرافه كناية عن الفرج وغبرته وكمودته وسواده كناية عن الغم والحزن
والكراهية، ولهذا المعنى قال (ظل وجهه مسودا وهو كظيم) أي ممتلئ غما وحزنا.
ثم قال تعالى (يتوارى من القول من سوء) أي يتخفى ويتغيب من سوء ما بشر به، قال
المفسرون: كان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن
يعلم ما يولد له فان كان ذكرا ابتهج به، وإن كان أثنى حزن ولم يظهر للناس أيا ما بدير فيه أنه ماذا
يصنع بها؟ وهو قوله (أيمسكه على دون أم يدسه في التراب) والمعنى: أيحسبه؟ والامساك ههنا بمعنى
الحبس كقوله (أمسك عليك زوجك) وإنما قال (أيمسكه) ذكره بضمير الذكران لان هذا الضمير
عائد على ما في قوله (ما بشر به) والهون الهوان قال النضر بن شميل يقال إنه أهون عليه هونا وهوانا،
وأهنته هونا وهانا، وذكرنا هذا في سورة الأنعام عند قوله (عذاب الهون) وفى أن هذا الهون
صفة من؟ قولان: الأول: أنه صفة المولودة، ومعناه أنه يمسكها عن هون منه لها، والثاني. قال عطاء
عن ابن عباس: أنه صفة للأب. ومعناه أنه يمسكها مع الرضا بهوان نفسه وعلى رغم أنفه.
ثم قال (أم يدسه في التراب) والدس إخفاء الشئ في الشئ. يروى أن العرب كانوا يحفرون
حفيرة ويجعلونها فيها حتى تموت، وروى عن قيس بن عاصم أنه قال: يا رسول الله إني واريت
ثماني بنات في الجاهلية فقال عليه السلام أعتق عن كل واحدة منهن رقبة فقال: يا نبي الله إني
ذو إبل، فقال اهد عن كل واحدة منهن هديا وروى أن رجلا قال يا رسول الله: ما أجد حلاوة
الاسلام منذ أسلمت، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة فأمرت امرأتي أن تزينها فأخرجتها إلى فانتهيت بها
إلى واد بعيد القعر فألقيتها فيه، فقالت: يا أبت قتلتني، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شئ، فقال عليه السلام
ما كان في الجاهلية فقد هدمه الاسلام وما كان في الاسلام يهدمه الاستغفار واعلم أنهم كانوا
55

مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحقيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل،
ومنهم من يغرقها ومنهم من يذبحها، وهم كانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية، وتارة خوفا من الفقر
والفاقة ولزوم النفقة، ثم إنه قال (ألا ساء ما يحكمون) وذلك لانهم بلغوا في الاستنكاف من النبت إلى
أعظم الغايات، فأولها: أنه يسود وجهه، وثانيها: أنه يختفي عن القوم من شدة نفرته عن النبت،
وثالثها: أن الولد محبوب بحسب الطبيعة، ثم إنه بسبب شدة نفرته عنها يقدم على قتلها، وذلك يدل
على أن النفرة عن النبت والاستنكاف عنها قد بلغ مبلغا لا يزداد عليه. إذا ثبت هذا فالشئ الذي
بلغ الاستنكاف منه إلى هذ 1 الحد العظيم كيف يليق بالعاقل أن ينسبه لإله العالم المقدس العالي عن
مشابهة جميع المخلوقات؟ ونظير هذه الآية قوله تعالى (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى)
(المسألة الثانية) قال القاضي: هذه الآية تدل على بطلان الجبر. لانهم يضيفون إلى الله تعالى
من الظلم والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه والتباعد عنه، فحكمهم في ذلك
مشابه لحكم هؤلاء المشركين، ثم قال: بل أعظم، لان إضافة البنات إليه إضافة قبح واحد، وذلك
أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله تعالى. فيقال للقاضي: إنه لما ثبت بالدليل استحالة
الصاحبة والولد على الله تعالى أردفه الله تعالى بذكر هذا الوجه الإقناعي، والا فليس كل ما قبح منا
في العرف قبح من الله تعالى. ألا ترى أن رجلا زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن ثم
بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن، ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع فان هذا بالاتفاق حسن
من الله تعالى وقبيح من كل الخلق، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبينة على العرف، إنما
يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطيعة اليقينية، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله
فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الاقناعية. أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية القاطعة
أن خالقها هو الله تعالى، فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا شدة التعصب؟ والله أعلم.
ثم قال تعالى (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى) والمثل السوء عبارة
عن الصفة السوء وهي احتياجهم إلى الولد، وكراهتهم الإناث خوف الفقر والعار (ولله المثل الأعلى)
أي الصفة العالية المقدسة، وهي كونه تعالى منزها عن الولد.
فان قيل: كيف جاء (ولله المثل الأعلى) مع قوله (فلا تضربوا لله الأمثال)
قلنا: المثل الذي يذكره الله حق وصدق والذي يذكره غيره فهو الباطل، والله أعلم.
56

ولو يؤاخذ الله الناس بظلمه ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم
إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (61)
ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم
أن لهم النار وأنهم مفرطون (62) تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم
الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم (63) وما أنزلنا عليك
الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (64)
قوله تعالى (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلي أجل مسمى
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم
الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون تا لله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين
لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي
اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)
اعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم عظيم كفرهم وقبيح قولهم، بين أنه يهمل هؤلاء الكفار
ولا يعاجلهم بالعقوبة، إظهارا للفضل والرحمة والكرم، وفى الآية مسائل:
(المسألة الأولى) احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى (ولو يؤاخذ
الله الناس بظلهم ما ترك عليها من دابة) من وجهين: الأول: أنه قال (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم)
فأضاف الظلم إلي كل الناس، ولا شك أن الظلم من المعاصي، فهذا يقتضى كون كل إنسان آتيا
بالذنب والمعصية، والأنبياء عليهم السلام من الناس، فوجب كونهم آتين بالذنب والمعصية. والثاني:
أنه تعالى قال: ما ترك على ظهرها من دابة. وهذا يقتضى أن كل من كان على ظهر الأرض فهو آت
بالظلم والذنب، حتى يلزم من إفناء كل من كان ظالما كل الناس. أما إذا قلنا: الأنبياء عليهم السلام
لم يصدر عنهم ظلم فلا يجب إفناؤهم، وحينئذ لا يلزم من إفناء كل الظالمين إفناء كل الناس، وأن لا يبقى
على ظهر الأرض دابة، ولما لزم علمنا أن كل البشر ظالمون سواء كانوا ن الأنبياء أو لم يكونوا كذلك.
57

والجواب: ثبت بالدليل أن كل الناس ليسوا ظالمين لأنه تعالى قال (ثم أورثنا الكتاب الذين
اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) أي فمن العباد من هو ظالم
لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق، ولو كان المقتصد والسابق ظالما لفسد ذلك التقسيم، فعلمنا أن
المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز أن يقال كل الخلق ظالمون.
وإذا ثبت هذا فنقول: الناس المذكورون في قوله (ولو يؤاخذ الله الناس) إما كل العصاة
المستحقين للعقاب أو الذين تقدم ذكرهم من المشركين ومن الذين أثبتوا لله البنات. على هذا
التقدير فيسقط الاستدلال. والله أعلم.
(المسألة الثانية) من الناس من احتج بهذه الآية على أن الأصل في المضار الحرمة، فقال:
لو كان الضرر مشروعا لكان إما أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء على جرم صادر منهم
أولا على هذا الوجه، والقسمان باطلان، فوجب أن لا يكون مشروعا أصلا.
أما بيان فساد القسم الأول، فلقوله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها
من دابة. والاستدلال به من وجهين: الأول: أن كلمة لو وضعت الانتفاء الشئ لانتفاء غيره.
فقوله: ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة. يقتضى أنع تعالى ما أخذهم بظلمهم
وأنه ترك على ظهرها من دابة. والثاني: أنه لما دلت الآية على أن لازمة أخذ الله الناس بظلمهم
هو أن لا يترك على ظهرها دابة، ثم إنا نشاهد أنه تعالى ترك على ظهرها دواب كثيرين، فوجب
القطع بأنه تعالى لا يؤاخذ الناس بظلمهم، فثبت بهذا أنه لا يجوز أن تكون المضار مشروعة على
وجه تقع أجزية عن الجرائم.
(وأما القسم الثاني) وهو أن يكون مشروعا ابتداء لا على وجه يقع أجزية عن جرم سابق،
فهذا باطل الاجماع، فثبت أن مقتضى هذه الآية تحريم المضار مطلقا، ويتأكد هذا أيضا بآيات
أخرى كقوله تعالى (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) وكقوله (وما جعل عليكم في الدين
من حرج) وكقوله (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم السر) وكقوله عليه السلام لا ضرر ولا ضرار
في الاسلام وكقوله ملعون من ضر مسلما فثبت بمجموع هذه الآيات والاخبار أن الأصل
في المضار الحرمة، فنقول: إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من كل الوجوه، فان وجدنا نصا
خاصا يدل على كونه مشروعا قضينا به تقديما للخاص على العام، وإلا قضينا عليه بالحرمة بناء
على هذا الأصل الذي قررناه. ومنهم من قال هذه القاعدة تدل على أن كل ما يريده الانسان وجب
أن يكون مشروعا في حقه، لان المنع منه ضرر، والضرر غير مشروع بمقتضى هذا الأصل وكل ما يكرهه
الانسان وجب أن يحرم لان وجوده ضرر والضرر غير مشروع، فثبت أن هذا الأصل يتناول
58

جميع الوقائع الممكنة إلى يوم القيامة، ثم نقول القياس الذي يتمسك به في اثبات الاحكام إما أن
يكون على وفق هذه القاعدة أو على خلافها، والأول باطل، لان هذا الأصل يغنى عنه، والثاني
باطل، لان النص راجح على القياس والله أعلم.
(المسألة الثالثة) قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على أن الظلم والمعاصي ليست فعلا لله تعالى،
بل تكون أفعالا للعباد، لأنه تعالى أضاف ظلم العباد إليهم، وما أضافه إلى نفسه. فقال (ولو يؤاخذ
الله الناس بظلمهم) وأيضا فلو كان خلقا الله تعالى لكانت مؤاخذتهم بها ظلما من الله تعالى، ولما منع
الله تعالى العباد من الظلم في هذه الآية، فبأن يكون منزها عن الظلم كان أولى، قالوا: ويدل أيضا
على أن أعمالهم مؤثرة في وجوب الثواب والعقاب أن قوله (بظلمهم) الباء فيه تدل على العلية كما
في قوله (ذلك بأنهم شاقوا الله)
واعلم أن الكلام في هذه المسائل قد ذكرناه مرارا فلا نعيده. والله أعلم.
(المسألة الرابعة) ظاهر الآية يدل على أن إقدام الناس على الظلم يوجب إهلاك جميع الدواب
وذلك غير جائز، لان الدابة لم يصدر عنها ذنب، فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم الناس؟
والجواب عنه من وجهين:
(الوجه الأول) أنا لا نسلم أن قوله: ما ترك على ظهرها من دابة. يتناول جميع الدواب.
وأجاب أبو على الجبائي عنه: أن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر ومعصية لعجل
هلاكهم، وحينئذ لا يبقى لهم نسل، ثم من المعلوم أنه لا أحدا إلا وفى أحد آبائه من يستحق العذاب
وإذا هلكوا فقد بطل نسلهم، فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من الناس، وإذا بطلوا وجب
أن لا يبقى أحد من الدواب أيضا، لان الدواب مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم، فهذا
وجه لطيف حسن.
(والوجه الثاني) أن الهلاك إذا ورد على الظلة ورد أيضا على سائر الناس والدواب، فكان
ذلك الهلاك في حق الظلمة عذابا، وفى حق غيرهم امتحانا، وقد وقعت هذه الواقعة في زمان
نوح عليه السلام.
(والوجه الثالث) أنه تعالى لو آخذهم لانقطع القطر وفى انقطاعه انقطاع النبت فكان لا تبقى
على ظهرها دابة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سمع رجلا يقول إن الظالم لا يضر إلا نفسه،
فقال: لا والله بل إن الحبارى في وكرها لتموت بظلم الظالم، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كاد
الجعل يهلك في حجره بذنب ابن آدم، فهذه الوجوه الثلاثة من الجواب مفرعة على تسليم أن لفظة
الدابة يتناول جميع الدواب.
59

(والجواب الثاني) أن المراد من قوله: ما ترك على ظهرها من دابة. أي ما ترك على ظهرها من
كافر، فالمراد بالدابة الكافر، والدليل عليه قوله تعالى (أولئك كالانعام بل هو أضل) والله أعلم.
(المسألة الخامسة) الكناية في قوله (عليها) عائدة إلى الأرض، ولم يسبق لها ذكر، إلا أن
ذكر الدابة يدل على الأرض، فان الدابة إنما تدب عليها. وكثيرا ما يكنى عن الأرض، وإن لم
يتقدم ذكرها لانهم يقولون ما عليها مثل فلان وما عليها أكرم من فلان، يعنون على الأرض.
ثم قال تعالى (ولكن يؤخرهم إلي أجل مسمى) ليتوالدوا، وفى تفسير هذا الاجل قولان:
(القول الأول) وهو قول عطاء: عن ابن عباس أنه يريد أجل القيامة:
(والقول الثاني) أن المراد منتهى العمر. وجه القول الأول: أن معظم العذاب يوافيهم
يوم القيامة، ووجه القول الثاني: أن المشركين يؤاخذون بالعقوبة إذا نقضت أعمارهم
وخرجوا من الدنيا.
(النوع الثالث) من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار وحكاها الله تعالى عنهم، قوله
(ويجعلون لله ما يكرهون)
واعلم أن المراد من قوله (ويجعلون) أي النبات التي يكرهونها لأنفسهم، ومعنى قوله (يجعلون)
يصفون الله بذلك ويحكمون به لو كقوله جعلت زيدا على الناس أي حكمت بهذا الحكم وذكرنا معنى
الجعل عند قوله (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة)
ثم قال تعالى (وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى) قال الفراء والزجاج: موضع أن
نصب لان قوله (أن لهم الحسنى) بدل من الكذب، وتقدير الكلام وتصف ألسنتهم أن لهم الحسنى.
وفى تفسير (الحسنى) ههنا قولان: الأول: المراد منهم البنون، يعنى أنهم قالوا لله البنات ولنا البنون.
والثاني: أنهم مع قولهم باثبات البنات لله تعالى، يصفون أنفسهم بأنهم فازوا برضوان الله تعالى
بسبب هذا القول، وأنهم على الدين الحق والمذهب الحسن. الثالث: أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة
والثواب من الله تعالى.
فان قيل: كيف يحكمون بذلك وهم كانوا منكرين للقيامة؟
قلنا: كلهم ما كانوا منكرين للقيامة، فقد قيل: إنه كان في العرب جمع يقرون بالبعث
والقيامة، ولذلك فإنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت
ويقولون إن ذلك الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه، وأيضا فتبقدير أنهم كانوا منكرين للقيامة
فلعلهم قالوا: إن كان محمد صادقا في قوله بالبعث والنشور فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا
60

الدين الحق الذي نحن عليه، ومن الناس من قال: الأولى أن يحمل (الحسنى) على هذا الوجه بدليل
أنه تعالى قال بعده (لا جرم أن لهم النار) فرد عليهم قولهم وأثبت لهم النار، فدل هذا على أنهم
حكموا لأنفسهم بالجنة. قال الزجاج: لأرد لقولهم، والمعنى ليس الامر كما وصفوا جرم فعلهم أي
كسب ذلك القول لهم النار، فعلى هذا لفظ أن في محل النصب بوقوع الكسب عليه. وقال
قطرب (أن) في موضع رفع، والمعنى: وجب أن لهم النار وكيف كان الاعراب فالمعنى هو أنه يحق
لهم النار ويجب ويثبت. وقوله (وأنهم مفرطون) قرأ نافع وقتيبة عن الكسائي (مفرطون) بكسر
الراء والباقون (مفرطون) بفتح الراء. أما قراءة نافع فقال الفراء: المعنى أنهم كانوا مفرطين على
أنفسهم في الذنوب، وقيل: أفرطوا في الافتراء على الله تعالى، وقال أبو على الفارسي: كأنه من
أفرط، أي صار ذا فرط مثل أجرب، أي صار ذا جرب والمعنى: أنهم ذوو فرط إلى النار كأنهم
قد أرسلوا من يهئ لهم مواضع فيها. وأما قراءة قوله (مفرطون) بفتح الراء ففيه قولان:
(القول الأول) المعنى: أنهم متروكون في النار، قال الكسائي: يقال ما أفرطت من القوم
أحدا، أي ما تركت. وقال الفراء: تقول العرب أفرطت منهم ناسا، أي خلفتهم وأنسيتهم.
(والقول الثاني) (مفرطون) أي معجلون. قال الواحدي رحمه الله: وهو الاختيار ووجهه
ما قال أبو زيد وغيره فرط القوم الفارط، وفرطوه إذا قدموه فمعنى قوله (مفرطون) على هذا التقدير كأنهم
قدموا إلى النار فهم فيها فرط للذين يدخلون بعدهم، ثم بين تعالى أن مثل هذا الصنع الذي يصدر
من مشركي قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، فقال
تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم) وهذا يجرى مجرى التسلية للرسول
صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم. قالت المعتزلة: الآية تدل على فساد
قول المجبرة من وجوه: الأول: أنه إذا كان خالق أعمالهم هو الله تعالى، فلا فائدة في التزيين. والثاني:
أن ذلك التزيين لما كان بخلق الله تعالى لم يجز ذم الشيطان بسببه. والثالث: أن التزيين هو الذي
يدعو الانسان إلى الفعل، وإذا كان حصول الفعل فيه بخلق الله تعالى كان ضروريا فلم يكن التزيين
داعيا. الرابع: أن على قولهم، الخالق لذلك العمل. أجدر أن يكون ولياهم من الداعي إليه.
والخامس: أنه أضاف التزيين إلى الشيطان ولو كان ذلك المزين هو الله تعالى لكانت إضافته
إلى الشيطان كذبا.
وجوابه: إن كان مزين القبائح في أعين الكفار هو الشيطان، فمزين تلك الوساوس في عين
61

الشيطان إن كان شيطانا آخر لزم التسلسل. وإن كان هو الله تعالى فهو المطلوب. ثم قال تعالى: * (فهو وليهم اليوم) * وفيه احتمالان: الأول: أن المراد منه كفار مكة وبقوله: * (فهو وليهم اليوم) * أي الشيطان ويتولى إغواءهم وصرفهم عنك، كما فعل بكفار الأمم قبلك فيكون على هذا التقدير رجع عن أخبار الأمم الماضية إلى الأخبار عن كفار مكة. الثاني: أنه أراد باليوم يوم القيامة، يقول فهو ولي أولئك الذين كفروا يزين لهم أعمالهم يوم القيامة، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم، والمقصود من قوله: * (فهو وليهم اليوم) * هو أنه لا ولي لهم ذلك اليوم ولا ناصر، وذلك لأنهم إذا عاينوا العذاب وقد نزل بالشيطان كنزوله بهم، ورأوا أنه لا مخلص له منه، كما لا مخلص لهم منه، جاز أن يوبخوا بأن يقال لهم: هذا وليكم اليوم على وجه السخرية، ثم ذكر تعالى أن مع هذا الوعيد الشديد أقام الحجة وأزاح العلة فقال: * (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المعنى: أنا ما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين لهم بواسطة بيانات هذا القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها، والمختلفون هم أهل الملل والأهواء، وما اختلفوا فيه، هو الدين، مثل التوحيد والشرك والجبر والقدر، وإثبات المعاد ونفيه، ومثل الأحكام، مثل أنهم حرموا أشياء تحل كالبحيرة والسائبة وغيرهما وحللوا أشياء تحرم كالميتة.
المسألة الثانية: اللام في قوله: * (لتبين) * تدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض، ونظيره آيات كثيرة منها قوله: * (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس) * (إبراهيم: 1) وقوله: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56).
وجوابه: أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل وجب صرفه إلى التأويل.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف " قوله: * (هدى ورحمة) * معطوفان على محل قوله: * (لتبين) * إلا أنهما انتصبا على أنه مفعول لهما، لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب، ودخلت اللام في قوله: * (لتبين) * لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل، وإنما ينتصب مفعولا له ما كان فعلا لذلك الفاعل.
المسألة الرابعة: قال الكلبي: وصف القرآن بكونه هدى ورحمة لقوم يؤمنون، لا ينفي كونه كذلك في حق الكل، كما أن قوله تعالى في أول سورة البقرة: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) لا ينفي كونه هدى لكل الناس، كما ذكره في قوله: * (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) * (البقرة: 185) وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث إنهم قبلوه فانتفعوا به، كما في قوله: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (النازعات: 45) لأنه إنما انتفع بإنذاره هذا القوم فقط، والله أعلم.
62

قوله تعالى
* (والله أنزل من السمآء مآء فأحيا به الارض بعد موتهآ إن فى ذلك لآية لقوم يسمعون * وإن لكم فى الانعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين * ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن فى ذلك لآية لقوم يعقلون) *
اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول أربعة: الإلهيات والنبوات والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، والمقصود الأعظم من هذه الأصول
الأربعة تقرير الإلهيات، فلهذا السبب كلما امتد الكلام في فصل من الفصول في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات، وقد ذكرنا في أول هذه السورة أنه تعالى لما أراد ذكر دلائل الإلهيات ابتدأ بالأجرام الفلكية، وثنى بالإنسان، وثلث بالحيوان، وربع بالنبات، وخمس بذكر أحوال البحر والأرض، فههنا في هذه الآية لما عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات بدأ أولا بذكر الفلكيات فقال: * (والله أنزل من السماء ماء فأحيى به الأرض بعد موتها) * والمعنى: أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء ويصير ذلك الماء سببا لحياة الأرض، والمراد بحياة الأرض نبات الزرع والشجر والنور والثمر بعد أن كان لا يثمر، وينفع بعد أن كان لا ينفع، وتقرير هذه الدلائل قد ذكرناه مرارا كثيرة.
ثم قال: * (إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) * سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع.
والنوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الآيات الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله: * (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه) * قد ذكرنا معنى العبرة في قوله: * (لعبرة لأولي الأبصار) * (آل عمران: 13) وفيه مسائل:
63

المسألة الأولى: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي: * (نسقيكم) * بضم النون، والباقون بالفتح، أما من فتح النون فحجته ظاهرة تقول سقيته حتى روى أسقيه قال تعالى: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * (الإنسان: 21) وقال: * (والذي هو يطعمني ويسقين) * (الشعراء: 79) وقال: * (وسقوا ماء حميما) * (محمد: 15) ومن ضم النون فهو من قولك أسقاه إذا جعل له شرابا كقوله: * (وأسقيناكم ماء فراتا) * (المرسلات: 27) وقوله: * (فأسقيناكموه) * (الحجر: 22) والمعنى ههنا أنا جعلناه في كثرته وإدامته كالسقيا، واختار أبو عبيد الضم قال لأنه شرب دائم، وأكثر ما يقال في هذا المقام أسقيت.
المسألة الثانية: قوله: 6 مما في بطونه) * الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها، وذكر النحويون فيه وجوها: الأول: أن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة جمع، كالرهط والقوم والبقر والنعم، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو التذكير، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو التأنيث، فلهذا السبب قال ههنا * (في بطونه) *، وقال في سورة المؤمنين: * (في بطونها) * (المؤمنون: 21). الثاني: قوله: * (في بطونه) * أي في بطون ما ذكرنا، وهذا جواب الكسائي. قال المبرد: هذا شائع في القرآن. قال تعالى: * (فلما رأى الشمس بارعة قال هذا ربي) * (الأنعام: 78) يعني هذا الشيء الطالع ربي. وقال: * (كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره) * (المدثر: 54، 55) أي ذكر هذا الشيء.
واعلم أن هذا إنما يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي، أما الذي يكون تأنيثه حقيقيا، فلا يجوز، فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال جاريتك ذهب، ولا غلامك ذهب على تقدير أن نحمله على النسمة. الثالث: أن فيه إضمارا، والتقدير: نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن.
المسألة الثالثة: الفرث: سرجين الكرش. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه لبنا، فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو، فذاك هو قوله تعالى: * (من بين فرث ودم لبنا خالصا) * لا يشوبه الدم ولا الفرث.
ولقائل أن يقول: الدم واللبن لا يتولدان البتة في الكرش، والدليل عليه الحس فإن هذه الحيوانات تذبح ذبحا متواليا، وما رأى أحد في كرشها لا دما ولا لبنا، ولو كان تولد الدم واللبن في الكرش لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال، والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه، بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنسانا، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها، فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء، ثم ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها
64

ويصير دما، وذلك هو الهضم الثاني، ويكون ذلك الدم مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة، والسوداء إلى الطحال، والماء إلى الكلية، ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة، وهي العروق النابتة من الكبد، وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض من صورة الدم إلى صورة اللبن فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن.
فإن قيل: فهذه المعاني حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن؟.
قلنا: الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته، فمزاج الذكر من كل حيوان يجب أن يكون حارا يابسا، ومزاج الأنثى يجب أن يكون باردا رطبا، والحكمة فيه أن الولد إنما يتكون في داخل بدن الأنثى، فوجب أن تكون الأنثى مختصة بمزيد الرطوبات لوجهين: الأول: أن الولد إنما يتولد من الرطوبات، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة التولد الولد. والثاني: أن الولد إذا كبر وجب أن يكون بدن الأم قابلا للتمدد حتى يتسع لذلك الولد، فإذا كانت الرطوبات غالبة على بدن الأم كان بدنها قابلا للتمدد، فيتسع للولد، فثبت بما ذكرنا أنه تعالى خص بدن الأنثى من كل حيوان بمزيد الرطوبات لهذه الحكمة، ثم إن الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم، فعند انفصال الجنين تنصب إلى الثدي والضرع ليصير مادة لغذاء ذلك الطفل الصغير.
إذا عرفت هذا فاعلم أن السبب الذي من أجله يتولد اللبن من الدم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذكر فظهر الفرق.
إذا عرفت هذا التصوير فنقول: المفسرون قالوا: المراد من قوله: * (من بين فرث ودم) * هو أن هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد، فالفرث يكون في أسفل الكرش، والدم يكون في أعلاه، واللبن يكون في الوسط، وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة، ولأن الدم لو كان يتولد في أعلى المعدة والكرش كان يجب
إذا قاء أن يقيء الدم وذلك باطل قطعا. وأما نحن فنقول: المراد من الآية هو أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهو الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش، وهذا اللبن متولد من الأجزاء التي كانت حاصلة فيما بين الفرث أولا، ثم كانت حاصلة فيما بين الدم ثانيا، فصفاه الله تعالى عن تلك الأجزاء الكثيفة الغليظة، وخلق فيها الصفات التي باعتبارها صارت لبنا موافقا لبدن الطفل، فهذا ما حصلناه في هذا المقام، والله أعلم.
65

المسألة الرابعة: اعلم أن حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقا لتغذية الصبي مشتمل على حكم عجيبة وأسرار بديعة، يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم والمدبر الرحيم، وبيانه من وجوه: الأول: أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذا يخرج منه ثقل الغذاء، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنقذ انطباقا كليا لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ويبقى الثقل هناك، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ويترك منه ذلك الثقل، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم، لأنه متى كانت الحاجة إلى بقاء الغذاء في المعدة حاصلة انطبق ذلك المنفذ، وإذا حصلت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم عن المعدة انفتح، فحصول الانطباق تارة والانفتاح أخرى، بحسب الحاجة وتقدير المنفعة، مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم. الثاني: أنه تعالى أودع في الكبد قوة تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول أو المشروب، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة، وخلق في الأمعاء قوة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل، ولا تجذب الأجزاء اللطيفة البتة. ولو كان الأمر بالعكس لاختلفت مصلحة البدن ولفسد نظام هذا التركيب. الثالث: أنه تعالى أودع في الكبد قوة هاضمة طابخة، حتى أن تلك الأجزاء اللطيفة تنطبخ في الكبد وتنقلب دما، ثم إنه تعالى أودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء، وفي الطحال قوة جاذبة للسوداء، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية، حتى يبقى الدم الصافي الموافق لتغذية البدن. وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بتلك القوة والخاصية لا يمكن إلا بتقدير الحكيم العليم. الرابع: أن في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة لنمو أعضاء ذلك الولد وازدياده، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرحم ينصب ذلك النصيب إلى جانب الثدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له، فإذا كبر الولد لم ينصب ذلك النصيب لا إلى الرحم ولا إلى الثدي، بل ينصب على مجموع بدن المغتذي، فانصباب ذلك الدم في كل وقت إلى عضو آخر انصبابا موافقا للمصلحة والحكمة لا يتأتى إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم. والخامس: أن عند تولد اللبن في الضرع أحدث تعالى في حلمة الثدي ثقوبا صغيرة ومسام ضيقة، وجعلها بحيث إذا اتصل المص أو الحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها في تلك المسام الضيقة، ولما كانت تلك المسام ضيقة جدا، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة، وأما الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل، والحكمة في إحداث تلك الثقوب الصغيرة، والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أن يكون ذلك كالمصفاة، فكل ما كان لطيفا
66

خرج، وكل ما كان كثيفا احتبس في الداخل ولم يخرج، فبهذا الطريق يصير ذلك اللبن خالصا موافقا لبدن الصبي سائغا للشاربين. السادس: أنه تعالى ألهم ذلك الصبي إلى المص، فإن الأم كلما ألقمت حلمة الثدي في فم الصبي فذلك الصبي في الحال يأخذ في المص، فلولا أن الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص، وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي. السابع: أنا بينا أنه تعالى إنما خلق اللبن من فضلة الدم، وإنما خلق الدم من لطيف تلك الأجزاء، ثم خلق اللبن من بعض أجزاء ذلك الدم، ثم إن اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة، فما فيه من الدهن يكون حارا رطبا، وما فيه من المائية يكون باردا رطبا، وما فيه من الجبنية يكون باردا يابسا، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في ذلك العشب الذي تناولته الشاة، فظهر بهذا أن هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة، مع أنه لا يناسب بعضها بعضا ولا يشاكل بعضها بعضا، وعند ذلك يظهر أن هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل حكيم رحيم يدبر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العباد، فسبحان من تشهد جميع ذرات العالم الأعلى والأسفل بكمال قدرته ونهاية حكمته ورحمته، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
أما قوله: * (سائغا للشاربين) * فمعناه: جاريا في حلوقهم لذيذا هنيئا. يقال: ساغ الشراب في الحلق وأساغه صاحبه، ومنه قوله: * (ولا يكاد يسيغه) * (إبراهيم: 17).
المسألة الخامسة: قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار سبحانه، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض، فخالق العالم دبر تدبيرا، فقلب ذلك الطين نباتا وعشبا، ثم إذا أكله الحيوان دبر تدبيرا آخر فقلب ذلك العشب دما، ثم دبر تدبيرا آخر فقلب ذلك الدم لبنا، ثم دبر تدبيرا آخر فحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن، فهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة، ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك، فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) * اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض منافع الحيوانات في الآية المتقدمة، ذكر في هذه الآية بعض منافع النبات، وفيه مسائل:
67

المسألة الأولى: فإن قيل: بم تعلق قوله: * (ومن ثمرات النخيل والأعناب) *.
قلنا: بمحذوف تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرها وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه. وقوله: * (تتخذون منه سكرا) * بيان وكشف عن كنه الإسقاء.
المسألة الثانية: قال الواحدي: * (الأعناب) * عطف على الثمرات لا على النخيل، لأنه يصير التقدير: ومن ثمرات الأعناب، والعنب نفسه ثمرة وليست له ثمرة
أخرى.
المسألة الثالثة: في تفسير السكر وجوه: الأول: السكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو: رشد رشدا ورشدا، وأما الرزق الحسن فسائر ما يتخذ من النخيل والأعناب كالرب والخل والدبس والتمر والزبيب.
فإن قيل: الخمر محرمة فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام؟.
أجابوا عنه من وجهين: الأول: أن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة، فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة. الثاني: أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من النافع، وخاطب المشركين بها، والخمر من أشربتهم فهي منفعة في حقهم، ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضا على تحريمها، وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أن لا يكون السكر رزقا حسنا، ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة، فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسنا بحسب الشريعة، وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة.
القول الثاني: أن السكر هو النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله إلى حد السكر، ويحتج بأن هذه الآية تدل على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة، ودل الحديث على أن الخمر حرام قال عليه السلام: " الخمر حرام لعينها " وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئا غير الخمر، وكل من أثبت هذه المغايرة قال إنه النبيذ المطبوخ.
والقول الثالث: أن السكر هو الطعام قاله أبو عبيدة: واحتج عليه بقول الشاعر: جعلت أعراض الكرام سكرا
أي جعلت ذمهم طعاما لك، قال الزجاج: هذا بالخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى أنك جعلت تتخمر بأغراض الكرام، والمعنى: أنه جعل شغفه بغيبة الناس وتمزيق أعراضهم جاريا مجرى شرب الخمر.
68

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه التي هي دلائل من وجه، وتعديد للنعم العظيمة من وجه آخر، قال: * (إن في ذلك لآية لقوم يعقلون) * والمعنى: أن من كان عاقلا، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر الحكيم. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلى من كل الثمرات فاسلكى سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفآء للناس إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون) *
اعلم أنه تعالى لما بين أن إخراج الألبان من النعم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دلائل قاهرة، وبينات باهرة على أن لهذا العالم إلها قادرا مختارا حكيما، فكذلك إخراج العسل من النحل دليل قاطع وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وأوحى ربك إلى النحل) * يقال وحى وأوحى، وهو الإلهام، والمراد من الإلهام أنه تعالى قرر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر، وبيانه من وجوه: الأول: أنها تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل المسطر والفرجار. والثاني: أنه ثبت في الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة، أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة فإنه لا يبقى فيما بينها فرج ضائعة، فإهداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة
69

من الأعاجيب. والثالث: أن النحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرئيس للبقية، وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي، ويكون نافذ الحكم على تلك البقية، وهم يخدمونه ويحملونه عند الطيران، وذلك أيضا من الأعاجيب. والرابع: أنها إذا نفرت من وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطنبور والملاهي وآلات الموسيقى، وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى وكرها، وهذا أيضا حالة عجيبة، فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة، وكان حصول هذه الأنواع من الكياسة ليس إلا على سبيل الإلهام وهي حالة شبيهة بالوحي، لا جرم قال تعالى في حقها: * (وأوحى ربك إلى النحل) *.
واعلم أن الوحي قد ورد في حق الأنبياء لقوله تعالى: * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا) * (الشورى: 51) وفي حق الأولياء أيضا قال تعالى: * (وإذ أوحيت إلى الحواريين) * (المائدة: 111) وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى: * (وأوحينا إلى أم موسى) * (القصص: 7) وفي حق سائر الحيوانات كما في قوله: * (وأوحى ربك إلى النحل) * ولكل واحد من هذه الأقسام معنى خاص. والله أعلم. المسألة الثانية: قال الزجاج: يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلا، لأن الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها، وقال غيره النحل يذكر ويؤنث، وهي مؤنثة في لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله تعالى، وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء.
ثم قال تعالى: * (أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": * (أن اتخذي) * هي " أن " المفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول، وقرئ: * (بيوتا) * بكسر الباء * (ومن الشجر ومما يعرشون) * أي يبنون ويسقفون، وفيه لغتان قرىء بهما، ضم الراء وكسرها مثل يعكفون ويعكفون.
واعلم أن النحل نوعان:
النوع الأول: ما يسكن في الجبال والغياض ولا يتعهدها أحد من الناس.
والنوع الثاني: التي تسكن بيوت الناس وتكون في تعهدات الناس، فالأول هو المراد بقوله: * (أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر) *. والثاني: هو المراد بقوله: * (ومما يعرشون) * وهو خلايا النحل.
فإن قيل: ما معنى " من " في قوله: * (أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) * وهلا قيل في الجبال وفي الشجر؟.
70

قلنا: أريد به معنى البعضية، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وشجر، بل في مساكن توافق مصالحها وتليق بها.
المسألة الثانية: ظاهر قوله تعالى: * (أن اتخذي من الجبال بيوتا) * أمر، وقد اختلفوا فيه، فمن الناس من يقول لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول، ولا يبعد أن يتوجه عليها من الله تعالى أمر ونهي. وقال آخرون: ليس الأمر كذلك بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال، والكلام المستقصى في هذه المسألة مذكور في تفسير قوله تعالى: * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) * (النمل: 18).
ثم قال تعالى: * (ثم كلي من كل الثمرات) * لفظة " من " ههنا للتبعيض أو لابتداء الغاية، ورأيت في " كتب الطب " أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه، وهو أنه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع ذلك الطل على أوراق الأشجار، فقد تكون تلك الأجزاء الطلية لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار، وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة.
أما القسم الثاني: فهو مثل الترنجبين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على أطراف الطرفاء في بعض البلدان وذلك محسوس.
وأما القسم الأول: فهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل حتى أنها تلتقط تلك الذرات من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها، فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء وذهبت بها إلى بيوتها ووضعتها هناك، لأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذاك هو العسل، ومن الناس من يقول: إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق المعطرة أشياء، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلا، ثم إنها تقئ مرة أخرى فذاك هو العسل، والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة إلى الاستقراء، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل، ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا ههنا. وأيضا فنحن نشاهد أن هذا النحل إنما يتغذى بالعسل، ولذلك فإنا إذا استخرجنا العسل من بيوت النحل نترك لها بقية من ذلك لأجل أن تغتذي بها فعلمنا أنها إنما تغتذي بالعسل وأنها إنما تقع على الأشجار والأزهار لأنها تغتذي بتلك الأجزاء الطلية العسلية الواقعة من الهواء عليها.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله تعالى: * (ثم كلي من كل الثمرات) * كلمة (من) ههنا تكون لابتداء الغاية، ولا تكون للتبعيض على هذا القول.
71

ثم قال تعالى: * (فاسلكي سبل ربك) * والمعنى: ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها فاسلكي سبل ربك في الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو يكون المراد: فاسلكي في طلب تلك الثمرات سبل ربك. أما قوله: * (ذللا) * ففيه قولان: الأول: أنه حال من السبل لأن الله تعالى ذللها لها ووطأها وسهلها، كقوله: * (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا) * (الملك: 15) الثاني: أنه حال من الضمير في * (فاسلكي) * أي وأنت أيها النحل ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة.
ثم قال تعالى: * (يخرج من بطونها) * وفيه بحثان:
البحث الأول: أن هذا رجوع من الخطاب إلى الغيبة والسبب فيه أن المقصود من ذكر هذه الأحوال أن يحتج الإنسان المكلف به على قدرة الله تعالى وحكمته وحسن تدبيره لأحوال العالم العلوي والسفلي، فكأنه تعالى لما خاطب النحل بما سبق ذكره خاطب الإنسان وقال: إنا ألهمنا هذا النحل لهذه العجائب، لأجل أن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه.
البحث الثاني: أنه قد ذكرنا أن من الناس من يقول: العسل عبارة عن أجزاء طلية تحدث في الهواء وتقع على أطراف الأشجار وعلى الأوراق والأزهار، فيلقطها الزنبور بفمه، فإذا ذهبنا إلى هذا الوجه كان المراد من قوله: * (يخرج من بطونها) * أي من أفواهها، وكل تجويف في داخل البدن فإنه يسمى بطنا، ألا ترى أنهم يقولون: بطون الدماغ وعنوا أنها تجاويف الدماغ، وكذا ههنا يخرج من بطونها أي من أفواهها، وأما على قول أهل الظاهر، وهو أن النحلة تأكل الأوراق والثمرات ثم تقئ فذلك هو العسل فالكلام ظاهر.
ثم قال تعالى: * (شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) * اعلم أنه تعالى وصف العسل بهذه الصفات الثلاثة:
فالصفة الأولى: كونه شرابا والأمر كذلك، لأنه تارة يشرب وحده وتارة يتخذ من الأشربة.
والصفة الثانية: قوله: * (مختلف ألوانه) * والمعنى: أن منه أحمر وأبيض وأصفر. ونظيره قوله تعالى: * (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) * (فاطر: 27) والمقصود منه: إبطال القول بالطبع، لأن هذا الجسم مع كونه متساوي الطبيعة لما حدث على ألوان مختلفة، دل ذلك على أن حدوث تلك الألوان بتدبير الفاعل المختار، لا لأجل إيجاد الطبيعة.
والصفة الثالثة: قوله: * (فيه شفاء للناس) * وفيه قولان:
القول الأول: وهو الصحيح أنه صفة للعسل.
فإن قالوا: كيف يكون شفاء للناس وهو يضر بالصفراء ويهيج المرارة؟.
قلنا: إنه تعالى لم يقل إنه شفاء لكل الناس ولكل داء وفي كل حال، بل لما كان شفاء للبعض
72

ومن بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاء، والذي يدل على أنه شفاء في الجملة أنه قال معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل، وأيضا فالأشربة المتخذة منه في الأمراض البلغمية عظيمة النفع.
والقول الثاني: وهو قول مجاهد أن المراد: أن القرآن شفاء للناس، وعلى هذا التقدير فقصة تولد العسل من النحل تمت عند قوله: * (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه) * ثم ابتدأ وقال: * (فيه شفاء للناس) * أي في هذا القرآن حصل ما هو شفاء للناس من الكفر والبدعة، مثل هذا الذي في قصة النحل. وعن ابن مسعود: أن العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور.
واعلم أن هذا القول ضعيف ويدل عليه وجهان: الأول: أن الضمير في قوله: * (فيه شفاء للناس) * يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله: * (شراب مختلف ألوانه) * وأما الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق، فهو غير مناسب. والثاني: ما روى أبو سعيد الخدري: أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن أخي يشتكي بطنه فقال: " اسقه عسلا " فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فلم يغن عنه شيئا، فقال عليه الصلاة والسلام: " اذهب واسقه عسلا " فذهب فسقاه، فكأنما نشط من عقال، فقال: " صدق الله وكذب بطن أخيك " وحملوا قوله: " صدق الله وكذب بطن أخيك " على قوله: * (فيه شفاء للناس) * وذلك إنما يصح لو كان هذا صفة للعسل.
فإن قال قائل: ما المراد بقوله عليه السلام: " صدق الله وكذب بطن أخيك ".
قلنا: لعله عليه السلام علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال مع أنه عليه السلام كان عالما بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك، كان هذا جاريا مجرى الكذب، فلهذا السبب أطلق عليه هذا اللفظ.
ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله: * (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) * واعلم أن تقرير هذه الآية من وجوه: الأول: اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة مثل بناء البيوت المسدسة وسائر الأحوال التي ذكرناها. والثاني: اهتداؤها إلى جميع تلك الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق. والثالث: خلق الله تعالى الأجزاء النافعة في جو الهواء، ثم إلقاؤها على أطراف الأشجار والأوراق، ثم إلهام النحل إلى جمعها بعد تفريقها وكل ذلك أمور عجيبة دالة على أن إله العالم بنى ترتيبه على رعاية الحكمة والمصلحة، والله أعلم.
73

قوله تعالى
* (والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: لما ذكر تعالى بعض عجائب أحوال الحيوانات، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس، فمنها ما هو مذكور في هذه الآية وهو إشارة إلى مراتب عمر الإنسان، والعقلاء ضبطوها في أربع مراتب: أولها: سن النشو والنماء. وثانيهما: سن الوقوف وهو سن الشباب. وثالثها: سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة. ورابعها: سن الانحطاط الكبير وهو سن الشيخوخة. فاحتج تعالى بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض، على أن ذلك الناقل هو الله تعالى والأطباء الطبائعيون قالوا: المقتضي لهذا الانتقال هو طبيعة الإنسان، وأنا أحكي كلامهم على الوجه الملخص وأبين ضعفه وفساده، وحينئذ يبقى أن ذلك الناقل هو الله سبحانه، وعند ذلك يصح بالدليل العقلي ما ذكر الله تعالى في هذه الآية. قال الطبائعيون: إن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث، والمني والدم جوهران حاران رطبان، والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قللت رطوبته وأفادته نوع يبس، وهذا مشاهد معلوم، قالوا: فلا يزال ما في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما فيه من الرطوبة حتى تتصلب الأعضاء ويظهر فيه الانعقاد، ويحدث العظم والغضروف والعصب والوتر والرباط وسائر الأعضاء فإذا تم تكون البدن وكمل فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم الأم ومع ذلك فالرطوبات زائدة، والدليل عليه أنك ترى أعضاء الطفل بعد انفصاله من الأم لينة لطيفة وعظامه لينة قريبة الطبع من الغضاريف، ثم إن ما في البدن من الحرارة يعمل في تلك الرطوبات ويقللها، قالوا: ويحصل للبدن ثلاثة أحوال.
الحالة الأولى: أن تكون رطوبة البدن زائدة على حرارته، وحينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء، وذلك هو سن النشو والنماء ونهايته إلى ثلاثين سنة أو خمس وثلاثين سنة.
الحالة الثانية: أن تصير رطوبات البدن أقل ما كانت فتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية إلا أنها لا تكون زائدة على هذا القدر، وهذا هو سن الوقوف وسن الشباب وغايته خمس سنين، وعند تمامه يتم الأربعون.
74

والحالة الثالثة: أن تقل الرطوبات وتصير بحيث لا تكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية، وعند ذلك يظهر النقصان، ثم هذا النقصان قد يكون خفيا وهو سن الكهولة وتمامه إلى ستين سنة وقد يكون ظاهرا وهو سن الشيخوخة وتمامه إلى مائة وعشرين سنة فهذا هو الذي حصله الأطباء في هذا الباب، وعندي أن هذا التعليل ضعيف ويدل على ضعفه وجوه:
الوجه الأول: أنا نقول إن في أول ما كان المني منيا وكان الدم دما كانت الرطوبات غالبة وكانت الحرارة الغريزية مغمورة وكانت ضعيفة بهذا السبب، ثم إنها مع
ضعفها قويت على تحليل أكثر تلك الرطوبات وأبانتها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظما وغضروفا وعصبا ورباطا، وعندما تولدت الأعضاء وكمل البدن قلت الرطوبات فوجب أن تكون للحرارة الغريزية قوة أزيد مما كانت قبل ذلك، فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أزيد من تحللها قبل تولد البدن، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك، لأن قبل تولد البدن انتقل جسم المني والدم إلى أن صار عظما وعصبا، وأما بعد تولد البدن فلم يحصل مثل هذا الانتقال ولا عشر عشره فلو كان تولد هذه الأعضاء بسبب تأثير الحرارة في الرطوبة لوجب أن يكون تحلل الرطوبات بعد كمال البدن أكثر من تحللها قبل تكون البدن، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن تولد البدن إنما كان بتدبير قادر حكيم يدبر أبدان الحيوانات على وفق مصالحها، وأنه ما كان تولد البدن لأجل ما قالوه من تأثير الحرارة في الرطوبة.
والوجه الثاني: في إبطال هذا الكلام أن نقول: إن الحرارة الغريزية الحاصلة في بدن الإنسان الكامل إما أن تكون هي عين ما كان حاصلا في جوهر النطفة أو صارت أزيد مما كانت، والأول باطل، لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطفة كان بمقدار جرم النفطة ولا شك أن جرم النطفة كان قليلا صغيرا، فهذا البدن بعد كبره لو لم يحصل فيه من الحرارة الغريزية إلا ذلك القدر كان في غاية القلة، ولم يظهر منه في هذا البدن أثر أصلا، وأما الثاني: ففيه تسليم أن الحرارة الغريزية تتزايد بحسب تزايد الجثة والبدن، وإذا تزايدت الحرارة الغريزية ساعة فساعة، وثبت أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة، فوجب أن يبقى البدن الحيواني أبدا في التزايد والتكامل، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن ازدياد حال البدن الحيواني وانتقاصه ليس بحسب الطبيعة، بل بسبب تدبير الفاعل المختار.
والوجه الثالث: وهو الذي أوردناه على الأطباء في " كتابنا الكبير في الطب " فقلنا هي أن الرطوبة الغريزية صارت معادلة للحرارة الغريزية فلم قلتم إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما
75

كانت؟ وأن ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان. قالوا: السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء، فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تخفيف الرطوبة الغريزية، فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحيث لا تقي بحفظ الحرارة الغريزية، وإذا حصلت هذه الحالة ضعفت الحرارة الغريزية أيضا، لأن الرطوبة الغريزية كالغذاء للحرارة الغريزية، فإذا قل الغذاء ضعف المغتذي. فالحاصل: أن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية، وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية، ويلم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى إلى أن تنتهي إلى حيث لا يبقى من الرطوبة الغريزية شيء، وحينئذ تنطفئ الحرارة الغريزية، ويحصل الموت هذا منتهى ما قالوه في هذا الباب، وهو ضعيف، لأنا نقول: إن الحرارة الغريزية إذا أثرت في تجفيف الرطوبة الغريزية وقلتها، فلم لا يجوز أن يقال: إن القوة الغاذية تورد بدلها. فعند هذا قالوا: القوة الغاذية إنما تقوى على إيراد بدلها لو كانت الحرارة الغريزية قوية، فأما عند ضعفها فلا، فنقول: فههنا لزم الدور، لأن الرطوبة الغريزية إنما تقل وتنقص لو لم تكن القوة الغاذية وافية بإيراد بدلها، وإنما تعجز القوة الغاذية عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة، وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة أن لو قلت الرطوبة الغريزية، وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل، فثبت أن على القول الذي قالوه بلزوم الدور وأنه باطل فثبت أن تعليل انتقال الإنسان من سن إلى سن بما ذكروه من اعتبار الطبائع يوجب عليهم هذه المحاولات المذكورة فكان القول به باطلا، ولما بطل هذا القول وجب القطع بإسناد هذه الأحوال إلى الإله القادر المختار الحكيم الرحيم الذي يدبر أبدان الحيوانات على الوجه الموافق لمصالحها، وذلك هو المطلوب. وقد كنت أقرأ يوما من الأيام سورة المرسلات فلما وصلت إلى قوله تعالى: * (ألم نخلقكم من ماء مهين * فجعلناه في قرار مكين * إلى قدر معلوم * فقدرنا فنعم القادرون * ويل يومئذ للمكذبين) * (المرسلات: 20 - 24) فقلت: لا شك أن المراد بهؤلاء المكذبين هم الذين نسبوا تكون الأبدان الحيوانية إلى الطبائع وتأثير الحرارة في الرطوبة، وأنا أؤمن من صميم قلبي يا رب العزة بأن هذه التدبيرات ليست من الطبائع بل من خالق العالم الذي هو أحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين.
إذا عرفت هذا فقد صح بالدليل العقلي صدق قوله: * (والله خلقكم) * لأنه ثبت أن خالق أبدان الناس وسائر الحيوانات ليس هو الطبائع بل هو الله سبحانه وتعالى، وقوله: * (ثم يتوفاكم) * قد بينا أن السبب الذي ذكروه في صيرورة الموت فاسد باطل، وأنه يلزم عليه القول بالدور، ولما بطل ذلك ثبت أن الحياة والموت إنما حصلا بتخليق الله، وبتقديره، وقوله: * (ومنكم من يرد إلى أرذل
76

العمر) * قد بينا بالدليل أن الطبائع لا يجوز أن تكون علة لانتقال الإنسان من الكمال إلى النقصان ومن القوة إلى الضعف فلزم القطع بأن انتقال الإنسان من الشباب إلى الشيخوخة، ومن الصحة إلى الهرم، ومن العقل الكامل إلى أن صار حرفا غافلا ليس بمقتضى الطبيعة بل بفعل الفاعل المختار، وإذا ثبت ما ذكرنا ظهر أن الذي دل عليه لفظ القرآن قد ثبت صحته بقاطع القرآن.
ثم قال تعالى: * (إن الله عليم قدير) * وهذا كالأصل الذي عليه تفريع كل ما ذكرناه، وذلك لأن الطبيعة جاهلة لا تميز بين وقت المصلحة ووقت المفسدة، فهذه الإنفعالات في هذا الإنسان لا يمكن إسنادها إليها. أما إله العالم ومدبره وخالقه، فهو الكامل في العلم، الكامل في القدرة، فلأجل كمال علمه يعلم مقادير المصالح والمفاسد، ولأجل كمال قدرته يقدر على تحصيل المصالح ودفع المفاسد، فلا جرم أمكن إسناد تخليق الحيوانات إلى إله العالم، فلا يمكن إسناده إلى الطبائع والله أعلم.
المسألة الثانية: في تفسير ألفاظ الآية قال المفسرون: والله خلقكم ولم تكونوا شيئا ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، وهو أردؤه وأضعفه. يقال: رذل الشيء يرذل رذالة وأرذلة غيره، ومنه قوله: * (إلا الذين هم أرذلنا * ((هود: 27) ومنه قوله: * (واتبعك الأرذلون) * (الشعراء: 111) وقوله: * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) * هل يتناول المسلم أو هو مختص بالكافر؟ فيه قولان:
القول الأول: أنه يتناوله، قيل: إنه العمر الطويل، وعلى هذا الوجه نقل عن علي عليه السلام أنه قال: أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وقال قتادة: تسعون سنة. وقال السدي: إنه الخرف. والقول الأول أولى؛ لأن الخرف معناه زوال العقل، فقوله: * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا) * يدل على أنه
تعالى إنما رده إلى أرذل العمر لأجل أن يزيل عقله، فلو كان المراد من أرذل العمر هو زوال العقل لصار الشيء عين الغاية المطلوبة منه وأنه باطل.
والقول الثاني: أن هذا ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب طول العمر إلا كرامة على الله تعالى ولا يجوز أن يقال في حقه إنه يرد إلى أرذل العمر، والدليل عليه قوله تعالى: * (ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (التبين: 5، 6) فبين تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردوا إلى أسفل سافلين. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وقوله: * (إن الله عليم) * قال ابن عباس: يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه * (قدير 5 على ما يريد.
المسألة الثالثة: هذه الآية كما تدل على وجود إله العالم الفاعل المختار، فهي أيضا تدل على صحة البعث والقيامة، وذلك لأن الإنسان كان عدما محضا فأوجده الله ثم أعدمه مرة ثانية، فدل هذا على أنه لما كان معدوما في المرة الأولى، وكان عوده إلى العدم في المرة الثانية جائزا، فكذلك لما
77

صار موجودا، ثم عدم وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرة الثانية جائزا، وأيضا كان ميتا حين كان نطفة ثم صار حيا ثم مات فلما كان الموت الأول جائزا كان عود الموت جائزا، فكذلك لما كانت الحياة الأولى جائزة، وجب أن يكون عود الحياة جائزا في المرة الثانية، وأيضا الإنسان في أول طفوليته جاهل لا يعرف شيئا، ثم صار عالما عاقلا فاهما، فلما بلغ أرذل العمر عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولية، وهو عدم العقل والفهم، فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر، فكذلك العقل الذي حصل، ثم زال وجب أن يكون جائز العود في المرة الثانية، وإذا ثبتت هذه الجملة ثبت أن الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده وعود حياته وعود عقله مرة أخرى ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنشر حق والله أعلم.
قوله تعالى
* (والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سوآء أفبنعمة الله يجحدون) *
اعلم أن هذا اعتبار حال أخرى من أحوال الإنسان، وذلك أنا نرى أكيس الناس وأكثرهم عقلا وفهما يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجهل الخلق وأقلهم عقلا وفهما تنفتح عليه أبواب الدنيا، وكل شيء خطر بباله ودار في خياله فإنه يحصل له في الحال، ولو كان السبب جهد الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال، فلما رأينا أن الأعقل أقل نصيبا، وأن الأجهل الأخس أوفر نصيبا، علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام، كما قال تعالى: * (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) * (الزخرف: 32) وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
ومن الدليل على القضاء وكونه * بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
واعلم أن هذا التفاوت غير مختص بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والسقم والاسم الحسن والاسم القبيح، وهذا بحر لا ساحل له وقد كنت مصاحبا لبعض الملوك في بعض الأسفار، وكان ذلك الملك كثير المال والجاه، وكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه، وما كان يمكنه ركوب واحد منها، وربما حضرت الأطعمة الشهية
78

والفواكه العطرة عنده، وما كان يمكنه تناول شيء منها، وكان الواحد منا صحيح المزاج قوي البنية كامل القوة، وما كان يجد ملء بطنه طعاما، فذلك الملك وإن كان يفضل على هذا الفقير في المال، إلا أن هذا الفقير كان يفضل على ذلك الملك في الصحة والقوة، وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه منه.
أما قوله: * (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) * ففيه قولان:
القول الأول: أن المراد من هذا الكلام تقرير ما سبق في الآية المتقدمة من أن السعادة والنحوسة لا يحصلان إلا من الله تعالى، والمعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعا فهم في رزقي سواء فلا يحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئا من الرزق، وأن المالك لا يرزق العبد بل الرازق للعبد والمولى هو الله تعالى، وتحقيق القول أنه ربما كان العبد أكمل عقلا وأقوى جسما وأكثر وقوفا على المصالح والمفاسد من المولى، وذلك يدل على أن ذلة ذلك العبد وعزة ذلك المولى من الله تعالى كما قال: * (تعز من تشاء وتذل من تشاء) * (آل عمران: 26).
والقول الثاني: أن المراد من هذه الآية الرد على من أثبت شريكا لله تعالى، ثم على هذا القول ففيه وجهان: الأول: أن يكون هذا ردا على عبدة الأوثان والأصنام، كأنه قيل: إنه تعالى فضل الملوك على مماليكهم، فجعل المملوك لا يقدر على ملك مع مولاه، فلما لم تجعلوا عبيدكم معكم سواء في الملك، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في المعبودية، والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: إن عيسى ابن مريم ابن الله، فالمعنى أنكم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء، فكيف جعلتم عبدي ولدا لي وشريكا في الإلهية؟.
ثم قال تعالى: * (فهم فيه سواء) * معنى الفاء في قوله: * (فهم) * حتى، والمعنى: فما الذين فضلوا بجاعلي رزقهم لعبيدهم، حتى تكون عبيدهم فيه معهم سواء في الملك.
ثم قال: * (أفبنعمة الله يجحدون) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ عاصم في رواية أبي بكر: * (يجحدون) * بالتاء على الخطاب لقوله: * (خلقكم وفضل بعضكم) * والباقون بالياء لقوله: * (فهم فيه سواء) * واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقرب الخبر عنه، وأيضا فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين، والمسلمون لا يخاطبون بجحد نعمة الله تعالى.
المسألة الثانية: لا شبهة في أن المراد من قوله: * (أفبنعمة الله يجحدون) * الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم.
فإن قيل: كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام؟.
79

قلنا: فيه وجهان:
الوجه الأول: أنه لما كان المعطي لكل الخيرات هو الله تعالى فمن أثبت لله شريكا فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات فكان جاحدا لكونها من عند الله تعالى، وأيضا فإن أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النعم إلى الطبائع وإلى النجوم، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من الله تعالى.
والوجه الثاني: قال الزجاج: المراد أنه تعالى لما قرر هذه الدلائل وبينها وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل، كان ذلك إنعاما عظيما منه على الخلق، فعند هذا قال: * (أفبنعمة الله) * في تقريره هذه البيانات وإيضاح هذه البينات * (يجحدون) *.
المسألة الثالثة: الباء في قوله: * (أفبنعمة الله) * يجوز أن تكون زائدة لأن الجحود لا يعدى بالباء كما تقول: خذ الخطام وبالخطام، وتعلقت زيدا وبزيد، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر فعدي بالباء لكونه بمعنى الكفر والله أعلم.
قوله تعالى
* (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون) *
اعلم أن هذا نوع آخر من أحوال الناس، ذكره الله تعالى ليستدل به على وجود الإله المختار الكريم، وليكون ذلك تنبيها على إنعام الله تعالى على عبيده بمثل هذه النعم، فقوله: * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * قال بعضهم: المراد أنه تعالى خلق حواء من ضلع آدم، وهذا ضعيف، لأن قوله: * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * خطاب مع الكل، فتخصيصه بآدم وحواء خلاف الدليل، بل هذا الحكم عام في جميع الذكور والإناث. والمعنى: أنه تعالى خلق النساء ليتزوج بهن الذكور، ومعنى: * (من أنفسكم) * مثل قوله: * (فاقتلوا أنفسكم) * (البقرة: 54) وقوله: * (فسلموا على أنفسكم) * (النور: 61) أي بعضكم على بعض، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا) * الروم: 21) قال الأطباء وأهل الطبيعة: التفاوت بين الذكر والأنثى إنما كان لأجل أن كل من كان أسخن مزاجا فهو الذكر، وكل من كان
80

أكثر بردا ورطوبة فهو المرأة. ثم قالوا: المني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الذكر، ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكرا تاما في الذكورة، وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل، ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم، كان الولد أنثى تاما في الأنوثة، وإن انصب إلى الخصية اليمنى، ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم، كان الولد ذكرا في طبيعة الإناث وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم، كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذكور.
واعلم أن حاصل هذا الكلام أن الذكورة علتها الحرارة واليبوسة، والأنوثة علتها البرودة والرطوبة، وهذه العلة في غاية الضعف، فقد رأينا في النساء من كان مزاجه في غاية السخونة وفي الرجال من كان مزاجه في غاية البرودة، ولو كان الموجب للذكورة والأنوثة ذلك لامتنع ذلك، فثبت أن خالق الذكر والأنثى هو الإله القديم الحكيم وظهر بالدليل الذي ذكرناه صحة قوله تعالى: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) *.
ثم قال تعالى: * (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) * قال الواحدي: أصل الحفدة من الحفد وهو الخفة في الخدمة والعمل. يقال: حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا إذا أسرع، ومنه في دعاء القنوت وإليك نسعى ونحفد، والحفدة جمع الحافد، والحافد كل من يخف في خدمتك ويسرع في العمل بطاعتك، يقال في جمعه الحفد بغير هاء كما يقال الرصد، فمعنى الحفدة في اللغة الأعوان والخدام، ثم يجب أن يكون المراد من الحفدة في هذه الآية الأعوان الذين حصلوا للرجل من قبل المرأة، أنه تعالى قال: * (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) * فالأعوان الذين لا يكونون من قبل المرأة لا يدخلون تحت هذه الآية.
إذا عرفت هذا فنقول: قيل هم الأختان، وقيل: هم الأصهار، وقيل: ولد الولد، والأولى دخول الكل فيه، لما بينا أن اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك الذي ذكرناه.
ثم قال تعالى: * (ورزقكم من الطيبات) * لما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح وما فيه من المنافع والمصالح ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة، سواء كانت من النبات وهي الثمار والحبوب والأشربة أو كانت من الحيوان، ثم قال: * (أفبالباطل يؤمنون) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني بالأصنام، وقال مقاتل: يعني بالشيطان، وقال عطاء: يصدقون أن لي شريكا وصاحبة وولدا: * (وبنعمة الله هم يكفرون) * أي بأن يضيفوها إلى غير الله ويتركوا إضافتها إلى الله تعالى. وفي الآية قول آخر وهو أنه تعالى لما قال: * (ورزقكم من الطيبات) * قال بعده: * (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون) * والمراد منه أنهم يحرمون على أنفسهم طيبات أحلها الله لهم مثل البحيرة والسائبة والوصيلة
81

ويبيحون لأنفسهم محرمات حرمها الله عليهم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب يعني لم يحكمون بتلك الأحكام الباطلة، وبإنعام الله في تحليل الطيبات، وتحريم الخبيثات يجحدون ويكفرون والله أعلم.
قوله تعالى
* (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والارض شيئا ولا يستطيعون * فلا تضربوا الله الامثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) *
اعلم أنه تعالى لما شرح أنواعا كثيرة في دلائل التوحيد، وتلك الأنواع كما أنها دلائل على صحة التوحيد، فكذلك بدأ بذكر أقسام النعم الجليلة الشريفة، ثم أتبعها في هذه الآية بالرد على عبدة الأصنام فقال: * (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون) * أما الرزق الذي يأتي من جانب
السماء فيعني به الغيث الذي يأتي من جهة السماء، وأما الذي يأتي من جانب الأرض فهو النبات والثمار التي تخرج منها وقوله: * (من السماوات والأرض) * من صفة النكرة التي هي قوله: * (رزقا) * كأنه قيل: لا يملك لهم رزقا من الغيث والنبات وقوله, * (شيئا) * قال الأخفش: جعل قوله: * (شيئا) * بدلا من قوله: * (رزقا) * والمعنى: لا يملكون رزقا لا قليلا ولا كثيرا، ثم قال: * (ولا يستطيعون) * والفائدة في هذه اللفظة أن من لا يملك شيئا قد يكون موصوفا باستطاعته أن يتملكه بطريق من الطرق، فبين تعالى أن هذه الأصنام لا تملك وليس لها أيضا استطاعة تحصيل الملك.
فإن قيل: إنه تعالى قال: * (ويعبدون من دون الله ما لا يملك) * فعبر عن الأصنام بصيغة " ما " وهي لغير أولي العلم، ثم قال: * (ولا يستطيعون) * والجمع بالواو والنون مختص بأولى العلم فكيف الجمع بين الأمرين؟.
والجواب: أنه عبر عنها بلفظ " ما " اعتبارا لما هو الحقيقة في نفس الأمر وذكر الجمع بالواو والنون اعتبارا لما يعتقدون فيها أنها آلهة.
ثم قال تعالى: * (فلا تضربوا لله الأمثال) * وفيه وجوه: الأول: قال المفسرون: يعني لا تشبهوه
82

بخلقه. الثاني: قال الزجاج: أي لا تجعلوا لله مثلا، إنه واحد لا مثل له. والثالث: أقول يحتمل أن يكون المراد أن عبدة الأوثان كانوا يقولون: إن إله العالم أجل وأعظم من أن يعبده الواحد منا بل نحن نعبد الكواكب أو نعبد هذه الأصنام، ثم إن الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم، والدليل عليه العرف، فإن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فكذا ههنا فعند هذا هذا قال الله تعالى لهم اتركوا عبادة هذا الأصنام والكواكب ولا تضربوا الله الأمثال التي ذكرتموها وكونوا مخلصين في عبادة الإله الحكيم القدير.
ثم قال: * (إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * وفيه وجهان: الأول: أن الله تعالى يعلم ما عليكم من العقاب العظيم، بسبب عبادة هذه الأصنام وأنتم لا تعلمون ذلك، ولو علمتموه لتركتم عبادتها. الثاني: أن الله تعالى لما نهاكم عن عبادة هذه الأصنام فاتركوا عبادتها، واتركوا دليلكم الذي عولتم عليه وهو قولكم الاشتغال بعبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من الاشتغال بعبادة نفس الملك، لأن هذا قياس، والقياس يجب تركه عند ورود النص، فلهذا قال: * (إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * ثم قال تعالى:
قوله تعالى
* (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شىء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون لحمد الله بل أكثرهم لا يعلمون) *
اعلم أنه تعالى أكد إبطال مذهب عبدة الأصنام بهذا المثال وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير هذ المثل قولان:
القول الأول: أن المراد أنا لو فرضنا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء، وفرضنا حرا كريما غنيا كثير الإنفاق سرا وجهرا، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال لما لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة والبشرية، فكيف يجوز للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق والإفضال، وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر البتة.
والقول الثاني: أن المراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر، فإنه من حيث
83

إنه بقي محروما عن عبودية الله تعالى وعن طاعته صار كالعبد الذليل الفقير العاجز، والمراد بقوله: * (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) * هو المؤمن فإنه مشتغل بالتعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله فبين تعالى أنهما لا يستويان في المرتبة والشرف والقرب من رضوان الله تعالى.
واعلم أن القول الأول أقرب، لان ما قبل هذه الآية وما بعدها أنما ورد في اثبات التوحيد،
وفى الرد على القائلين بالشرك فحمل هذه الآية على هذا المعنى أولى.
(المسألة الثانية) اختلفوا في المراد بقوله (عبدا مملوكا لا يقدر على شئ) فقيل: المراد به الضم
لأنه عبد بدليل قوله (إن كل من في السماوات والأرض إلا آت الرحمن عبدا) وأما أنه مملوك
ولا يقدر على شئ فظاهر، والمراد بقوله (ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا)
عابد الضم لان الله تعالى رزقه المال وهو ينفق من ذلك المال على نفسه وعلى أتباعه سرا وجهرا)
إذا ثبت هذا فنقول: هما لا يستويان في بديهة العقل، بل صريح العقل يشهد بأن ذلك القادر
أكمل حالا وأفضل مرتبة من ذلك العاجز، فهنا صريح العقل يشهد بأن عابد الصنم أفضل من ذلك
الصنم فكيف يجوز الحكم بكونه مساويا لرب العالمين في العبودية.
(والقول الثاني) أن المراد بقوله (عبدا مملوكا) عبد معين، وقيل: هو عبد لعثمان بن عفان،
وحملوا قوله (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) على عثمان خاصة
(والقول الثالث) أنه عام في كل عبد بهذه الصفة وفى كل حر بهذه الصفة، وهذا القول
هو الأظهر، لأنه هو الموافق لما أراده الله تعالى في هذه الآية، الله أعلم.
المسألة الثانية) احتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئا.
فان قالوا: ظاهر الآية يدل على أن عبدا من العبيد لا يقدر على شئ، فلم قلتم، إن كل عبد
كذلك؟ فنقول: الذي يدل عليه جهان: الأول: أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور
عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وكونه عبدا وصف مشعر
بالذل والمقهورية. وقوله (لا يقدر على شئ) حكم مذكور عقيبه. فهذا يقتضى أن العلة لعدم
القدرة على شئ هو كونه عبدا، بهذا الطريق يثبت العموم. الثاني: أنه تعالى قال بعده (ومن رزقناه
منا رزقا حسنا) فميز هذا القسم الثاني عن القسم الأول وهو العبد بهذه الصفة وهو أنه يرزقه رزقا،
فوجب أن لا يحصل هذا الوصف للعبد حتى يحصل الامتياز بين القسم الثاني وبين القسم الأول،
ولو ملك العبد لكان الله قد آتاه رزقا حسنا، لان الملك الحلال رزق حسن سواء كان قليلا أو كثيرا.
فثبت بهذين الوجهين أن ظاهر الآية يقتضى أن العبد لا يقدر على شئ ولا يملك. ثم اختلفوا
84

وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على
مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على
صراط مستقيم (76)
فروى عن ابن عباس وغيره التشدد في ذلك حتى قال: لا يملك الطلاق أيضا. وأكثر الفقهاء قالوا
يملك الطلاق إنما لا يملك المال ولا ماله تعلق بالمال. واختلفوا في أن المالك إذا ملكه شيئا فهل
يملكه أم لا؟ وظاهر الآية ينفيه، بقى في الآية سؤالات:
(السؤال الأول) لم قال (مملو كان لا يقدر على شئ) وكل عبد فهو مملوك وغير قادر على التصرف؟
قلنا: أما ذكر المملوك فليحصل الامتياز بينه وبين الحر. لان الحر قد يقال: إنه عبد الله،
وأما قوله (لا يقدر على شئ) قد يحصل الامتياز بينه وبين المكاتب وبين العبد المأذون، لأنهما
لا يقدر ان على التصرف
(السؤال الثاني) (من) في قوله (ومن رزقناه) ما هي؟
قلنا: الظاهر إنها موصوفة كأنه قيل: وحرا رزقناه ليطابق عبدا، ولا يمتنع أن تكون موصولة.
(السؤال الثالث) لم قال (يستون) على الجميع؟
قلنا: معناه على يستوي الأحرار والعبيد، ثم قال (الحمد لله) وفيه وجوه: الأول: قال
ابن عباس: الحمد لله على ما فعل بأولياء وأنعم بالتوحيد، والثاني: المعنى أن كل الحمد لله،
وليس شئ من الحمد للأصنام، لأنها لا نعمة لها على أحد. وقوله (بل أكثرهم لا يعلمون) يعنى أنهم
لا يعلمون أن كل الحمد لله وليس شئ منه الأصنام. الثالث: قال القاضي في التفسير: قال للرسول
عليه الصلاة والسلام (قل الحمد لله) ويحتمل أن يكون خطابا لمن رزقه الله رزقا حسنا أن يقول:
الحمد لله على أن ميزه في هذه القدرة عن ذلك العبد الضعيف. الرابع: يحتمل أن يكون المراد أنه
تعالى لما ذكر هذا المثل، وكان هذا مثلا مطابقا للغرض كاشفا عن المقصود قال بعده (الحمد لله)
يعنى الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور هذه البينة. ثم قال (بل أكثرهم لا يعلمون) يعنى أنها مع
غاية ظهورها ونهاية وضوحها لا يعلمها ولا يفهمها هؤلاء الظلال.
قوله تعالى (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه أينما
بوجه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم)
85

اعلم أنه تعالى أبطل قول عبده الأوثان الأصنام بهذا المثل، وتقريره: انه كما تقرر
في أوائل العقول أ الأبكم العاجز لا يكون مساويا في الفضل والشرف للناطق القادر الكامل مع
استوائهما في البشرية، فلان يحكم بأن الجماد لا يكون مساويا لرب العالمين في المعبودية كان أولى، ثم
نقول: في الآية مسألتان:
(المسألة الأولى) أنه تعالى وصف الرجل الأول بصفات:
(الصفة الأولى) الأبكم وفى تفسيره أقوال نقلها الواحدي. الأول: قال أبو زيد رجل أبكم،
وهو العيي المقحم، وقد بكم بكما وبكامة، وقال أيضا: الأبكم الأقطع اللسان وهو الذي لا يحسن
الكلام. الثاني: روى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأبكم الذي لا يعقل. الثالث: قال الزجاج: الأبكم
المطبق الذي لا يسمع ولا يبصر.
(الصفة الثانية) قوله (لا يقدر على شئ) وهو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل.
(والصفة الثالثة) قوله (كل على مولاه) أي هذا الأبكم العاجز كل على مولاه. قال أهل
المعاني: أصله من الغلط الذي هو نقيض الحدة. يقال: كل السكين إذا غلظت شفرته فلم يقطع،
وكل لسانه إذا غلظ فلم يقدر على الكلام، وكل فلان عن الامر إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه. فقوله
(كل على مولاه) أي غليظ وثقيل على مولاه.
(الصفة الرابعة) قوله (أينما يوجهه لا يأت بخير) أي أينما يرسله، ومعنى التوجيه أن ترسل
صاحبك في وجه معين من الطريق. يقال: وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه. وقوله (لا يأت
بخير) معناه لأنه عاجز لا يحسن ولا يفهم. ثم قال تعالى (هل يستوي هو) أي هذا الموصوف بهذه
الصفات الأربع (ومن يأمر بالعدل) واعلم أن الآمر بالعدل يجب أن يكون موصوفا بالنطق وإلا
لم يكن آمرا. ويجب أن يكون قادرا، لان الامر مشعر بعلو المرتبة. وذلك لا يحصل إلا مع كونه
قادرا، ويجب أن يكون عالما حتى يمكنه التمييز بين العدل وبين الجوز، فثبت أن وصفه بأنه
يأمر بالعدل يتضمن وصفه بكون قادرا عالما، وكونه آمرا يناقض كون الأول أبكم، وكونه
قادر يناقض وصف الأول بأنه لا يقدر على شئ وبأنه كل على مولاه، وكونه عالما يناقض وصف
الأول بأنه لا يأت بخير،
ثم قال (وهو على صراط مستقيم) معناه كونه عادلا مبرأ عن الجور والعبث.
إذا ثبت هذا فنقول: ظاهر في بديهة العقل أن الأول والثاني لا يستويان، فكذا
86

ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو
أقرب إن الله على كل شئ قدير (77) والله أخرجكم من بطون أمهاتكم
لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة لعلكم
تشكرون (78) ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله
(المسألة الثانية) في المراد بهذا المثل أقوال كما في المثل المتقدم،
(فالقول الأول) قال مجاهد: كل هذا مثل إله الخلق وما يدعى من دونه من الباطل. وأما
الأبكم فمثل الصنم، لأنه لا ينطق البتة. وكذلك لا يقدر على شئ وأيضا كل على عابديه لأنه لا ينفق
عليهم وهم ينفقون عليه، وأيضا إلي أن مهم توجه الصنم لم يأت بخير. وأما الذي يأمر بالعدل
فهو الله سبحانه وتعالى.
(والقول الثاني) أن المراد من هذا الأبكم: هو عبد لعثمان بن عفان كان ذلك العبد يكره
الاسلام، وما كان فيه خير، ومولاه وهو عثمان بن عفان كان يأمر بالعدل، وكان على الدين
القويم والصراط المستقيم.
(والقول الثالث) أن المقصود منه: كل عبد موصوف بهذه الصفات المذمومة. وكل حر
موصوف بتلك الصفات الحميدة، وهذا القول أولى من القول الأول، لان وصفه تعالى إياهما
بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن، وكذلك بالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع
وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله تعالى، وأيضا فالمقصود تشبيه
صورة بصورة في أمر من الأمور، وذلك التشبيه لا يتم إلا عند كون إحدى الصورتين مغايرة للأخرى
(وأما القول الثاني) فضعيف أيضا، لان المقصود إبانة التفرقة بين رجلين موصوفين بالصفات
المذكورة، وذلك غير مختص بشخص معين، بل أيما حصل التفاوت في الصفات المذكورة حصل
المقصود. والله أعلم.
قوله تعالى (ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب
إن الله على كل شئ قدير والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع
87

إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (79)
والابصار الأفئدة لعلكم تشكرون ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله
إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون)
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى مثل الكفار بالأبكم العاجز، ومثل نفسه بالذي يأمر
بالعدل، وهو على صراط مستقيم، ومعلوم أن يمتنع أن يكون آمرا بالعدل، وأن يكون على صراط
مستقيم إلا إذا كان كاملا في العلم والقدرة، ذكر في هذه الآية بيان كونه كاملا في العلم والقدرة، أما
بيان كمال العلم فهو قوله (ولله غيب السماوات والأرض) والمعنى: علم الله غيب السماوات والأرض
وأيضا فقوله (ولله غيب السماوات والأرض) يفيد الحصر معناه: أن العلم بهذه الغيوب ليس إلا لله
وأما بيان كمال القدرة فقوله (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) والساعة هي الوقت
الذي تقوم فيه القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الانسان في ساعة فيموت الخلق بصيحة واحدة،
وقوله (إلا كلمح البصر) اللمح النظر بسرعة يقال لمحه ببصره لمحا ولمحانا، والمعنى: ما أمر قيام
القيامة في السرعة إلا كطرف العين، والمراد منه تقرير كمال القدرة وقوله (أمر هو أقرب) معناه
أن لمح البصر عبارة عن انتقال الجسم المسمى بالطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، ولا شك أن الحدقة
مؤلفة من أجزاء لا تتجزأ، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة تلك الأجزاء التي منها تألف سطح
الحدقة، ولا شك أن تلك الأجزاء كثيرة والزمان الذي يحصل فيه لمح البصر مركب من آنات متعاقبة،
والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآنات فلهذا قال (أو هو أقرب) إلا أنه لما كان أسرع
الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر لا جرم ذكره. ثم قال (أو هو أقرب) تنبيها على
ما ذكرناه، ولا شبهة في أنه ليس المراد طريقة الشك، بل المراد: بل هو أقرب، وقال الزجاج: المراد به
الابهام عن المخاطبين أنه تعالى يأتي بالساعة إما بقدر لمح البصر أو بما هو أسرع. قال القاضي: هذا
لا يصح، لان إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال إنه تعالى يأتي بها في زمان، بل الواجب أن
يخلقها دفعة واحدة في وقت واحد، ويفارق ما ذكرناه في ابتداء خلق السماوات والأرض
لان تلك الحال حال تكليف، فلم يمتنع أن يخلقهما كذلك لما فيه من مصلحة الملائكة.
واعلم أن هذا الاعتراض إنما يستقيم على مذهب القاضي، أما على قولنا في أنه تعالى يفعل
ما يشاء ويحكم ما يريد فليس له قوة والله أعلم، ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع
المختار فقال (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) وفيه مسائل:
88

(المسألة الأولى) قرأ حمزة والكسائي (إمهاتكم) بكسر الهمزة، والباقون بضمها.
(المسألة الثانية) أمهاتكم أصله أماتكم: إلا أنه زيد الهاء فيه كما زيد في اراق فقيل: اهراق
وشذت زيادتها في الواحدة في قوله:
أمهتى خندف واليأس أبى
(المسألة الثالثة) الانسان في خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء.
ثم قال (وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة) والمعنى: أن النفس الانسانية لما كانت
في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله، فالله أعطاه هذه الحواس ليستفيد بها المعارف
والعلوم، وتمام الكلام في هذا الباب يستدعى مزيد تقرير فنقول: التصورات والتصديقات
إما أن تكون كسبية، وإما أن تكون بديهية، والكسيات انما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات
البديهيات، فلا بد من من سبق هذه العلوم البديهية، وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول: هذه العلوم
البديهية إما أن يقال إنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة. والأول باطل لأنا بالضرورة
نعلم أنا حين كنا جنينا في رحم الام ما كنا نعرف أن النفي والاثبات لا يجتمعان، وما كنا نعرف
أن الكل أعظم من الجزء.
(وأما القسم الثاني) فإنه يقتضى أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت
حاصلة، فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب، وكل ما كان كسبيا فهو مسبوق بعلوم أخرى
فهذه العلوم البديهية تصير كسبية، ويجب أن تكون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية، وكل
ذلك محال، وهذا سؤال قوى مشكل.
وجوابه أن نقول: الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا، ثم إنها حدثت
وحصلت، أما قوله فيلزم أن تكون كسبية.
قلنا: هذه المقدمة ممنوعة، بل نقول: إنها انما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة
الحواس التي هي السمع والبصر، وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم
إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر، فإذا أبصر الطفل شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في خياله ماهية ذلك
المبصر، وكذلك إذا سمع شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع وكذا
القول في سائر الحواس، فيصير حصول الحواس سببا لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل
ثم إن تلك الماهيات على قسمين: أحد القسمين: ما يكون نفس حضوره موجبا تاما في جزم
الذهن باسناد بعضها إلى بعض أو الاثبات: مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الواحد ما هو،
89

وأن نصف الاثنين ما هو كان حضور هذين التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بان
الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين، وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.
(والقسم الثاني) ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم
ما هو وأن المحدث ما هو، فان مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم
محدث، بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة. والحاصل: أن العلوم الكسبية إنما يمكن
اكتسابها بواسطة العلوم البديهية، وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور
موضوعاتها وتصور محمولاتها. وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على
جزئياتها، فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى
هذه الحواس، فلهذا السبب قال تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم
السمع والابصار والأفئدة) ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم
بالطريق الذي ذكرناه، وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات. وقال المفسرون:
(وجعل لكم السمع) لتسمعوا مواعظ الله (والابصار) لتبصروا دلائل الله، والأفئدة لتعقلوا عظمة
الله، والأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة وغراب. قال الزجاج: ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد، وما قيل
فيه فئدان كما قيل: غراب وغربان. وأقول: لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيها على أن
السمع والبصر كثير ان وأن الفؤاد قليل، لان الفؤاد إنما خلق للمعارف الحقيقة والعلوم اليقينية،
وأكثر الخلق ليسوا كذلك بل يكونون مشغولين بالافعال البهيمية والصفات السبعية، فكأن فؤادهم
ليس بفؤاد، فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة
فان قيل: قوله تعالى (وجعل لكم السمع والابصار) عطف على قوله (أخرجكم) وهذا يقتضى
أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الاخراج عن البطن، ومعلوم أنه ليس كذلك.
والجواب: أن حرف الواو لا يوجب الترتيب: وأيضا إذا حملنا السمع على الاستماع والابصار
على الرؤية زال السؤال، والله أعلم.
أما قوله (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله) ففيه مسألتان:
(المسألة الأولى) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (ألم تروا) بالتاء والباقون بالياء على الحكاية
لمن تقدم ذكره من الكفار.
(المسألة الثانية) هذا دليل آخر على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، فإنه لولا أنه تعالى خلق
الطير خلقة معها يمكنه الطيران. وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران فيه لما أمكن ذلك. فإنه تعالى
90

والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا
تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها
أثاثا ومتاعا إلى حين (80)
أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويكسره أخرى مثل ما يعمله السابح في الماء، وخلق الهواء خلقة
لطيفة رقيقة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا. وأما قوله تعالى
(ما يمسكهن إلا الله) فالمعنى: أن جسد الطير جسم ثقيل، والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقا
من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجو هو الله تعالى، ثم
من الظاهر أن بقاءه في الجو معلقا فعله وحاصل باختياره، فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى.
قال القاضي: إنما أضاف الله تعالى هذا الامساك إلى نفسه، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات
التي لاجلها يمكن الطير من تلك الأفعال، فلما كان تعالى هو المسبب لذلك لا جرم صحت هذه
الإضافة إلى تعالى.
والجواب: أن هذا ترك للظاهر بغير دليل وأنه لا يجوز، لا سيما والدلائل العقلية دلت على أن
أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
ثم قال تعالى في آخر الآية (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) وخص هذه الآيات بالمؤمنين
لانهم هم المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات آيات لكل العقلاء، والله أعلم،
قوله تعالى (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها
يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين)
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد، وأقسام النعم والفضل، والسكن المسكن،
وأنشد الفراء:
جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا... يا ويح كفى من حفر القراميص
والسكن ما سكنت إليه وما سكنت فيه. قال صاحب الكشاف: السكن فعل بمعنى مفعول،.
وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو الف.
واعلم أن البيوت التي يسكن الانسان فيها على قسمين:
(القسم الأول) البيوت المتخذة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت،
91

والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل
لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم
لعلكم تسلمون (81) فان تولوا فإنما عليك البلاغ المبين (82) يعرفون
وإليها الإشارة بقوله (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقله.
بل الانسان ينتقل إليه.
(والقسم الثاني) القباب والخيام والفساطيط، وإليها الإشارة بقوله (وجعل لكم من جلود
الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم) وهذا القسم من البيوت يمكن نقله وتحويله من
مكان إلى مكان. واعلم أن المراد الأنطاع، وقد تعمل العرب البيوت من الأدم وهي جلود الانعام
أي يخف عليكم حملها في أسفاركم. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (يوم ظعنكم) بفتح العين والباقون
ساكنة العين. قال الواحدي: وهما لغتان كالشعر والشعر والنهر والنهر.
واعلم أن الظعن سير البادية لنجعة، أو حضور ماء، أو طلب مرتع، وقد يقال لكل شاخص
لسفر: ظاعن، وهو ضد الخافض. وقوله (ويوم إقامتكم) بمعنى لا يثقل عليكم في الحالين. وقوله
(ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها) قال المفسرون وأهل اللغة: الأصواف للضان والأوبار
للإبل والاشعار للمعز. وقوله (أثاثا) الأثاث أنواع متاع البيت من الفرش والأكسية. قال الفراء:
ولا واحد له، كما أن المتاع لا واحد له. قال ولو جمعت، فقلت آثثة في القليل وأثث في الكثير لم
يبعد. وقال أبو زيد: واحدها أثاثة. قال ابن عباس في قوله (أثاثا) يريد طنافس وبسطا وثيابا
وكسوة. قال الخليل: وأصله من قولهم: أث النبات والشعر إذا كثر. وقوله (متاعا) أي
ما يتمتعون به. وقوله (إلى حين) يريد إلى حين البلا، وقيل: إلى حين الموت، وقيل: إلي حين
بعد الحين، وقيل: إلى يوم القيامة.
فان قيل: عطف المتاع على الأثاث والعطف يقتضى المغايرة، وما الفرق بين الأثاث والمتاع؟
قلنا: الأقرب أن الأثاث ما يكتسى به المرء ويستعمله في الغطاء الوطاء والمتاع ما يفرش
في المنازل ويزين به.
قوله تعالى (والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم
سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فان تولوا فإنما
92

نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون (83)
عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون)
اعلم أن الانسان إما أن يكون مقيما أو مسافر إما أن يكون غنيا يمكنه استصحاب
الخيام والفساطيط، أو لا يمكنه ذلك فهذه أقسام ثلاثة:
(أما القسم الأول) فإليه الإشارة بقوله (والله جعل لكم م بيوتكم سكنا)
(وأما القسم الثاني) فإليه الإشارة بقوله (وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا)
(وأما القسم الثالث) فإليه الإشارة بقوله (والله جعل لكم مما خلق ظلالا) وذلك لان
المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها فإنه لابد وأن يستظل بشئ آخر كالجدران والأشجار وقد
يستظل بالغمام كما قال (وظللنا عليكم الغمام)
ثم قال (وجعل لكم من الجبال أكنانا) واحد الأكنان كن على قياس أحمال وحمل،
ولكن المراد كل شئ وقى شيئا، ويقال استكن وأكن إذا صار في كن.
واعلم أن بلاد العرب شديدة الحر، وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة، فلهذا السبب ذكر
الله تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة، وأيضا البلاد المعتدلة والأوقات المعتدلة نادرة جدا
والغالب إما غلبة الحر أو علبة البرد. وعلى كل التقديرات فلا بد للانسان من مسكن يأوى إليه،
فكان الانعام بتحصيله عظيما، ولما ذكر تعالى أمر السكن ذكر بعده أمر الملبوس فقال
(وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) السرابيل القمص واحدها سربال، قال
الزجاج: كل ما ألبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره، والذي يدل على صحة
هذا القول أنه جعل السرابيل على قسمين: أحدهما: ما يكون واقيا من الحر والبرد. والثاني:
ما يتقى به عن البأس والحروب، وذلك هو الجوشن وغيره، وذلك يدل على أن كل واحد من
القسمين من السرابيل.
فان قيل: لم ذكر الحر ولم يذكر البرد؟
أجابوا عنه من وجوه:
(الوجه الأول) قال عطاء الخراساني: المخاطبون بهذا الكلام هم العرب وبلادهم حارة فكانت
حاجتهم إلى ما يدفع الحر فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها)
وسائر أنواع الثياب أشرف، إلا أنه تعالى ذكر ذلك النوع لأنه كان إلفتهم بها أشد، واعتيادهم للبسها
93

أكثر، ولذلك قال (وننزل من السماء من جبال فيها من برد) لمعرفتهم بذلك وما أنزل من الثلج
أعظم ولكنهم كانوا لا يعرفونه.
(والوجه الثاني) في الجواب قال المبرد: إن ذكر أحد الضدين تنبيه على الآخر، قلت ثبت
في العلوم العقلية أن العلم بأحد الضدين يستلزم العلم بالضد الآخر، فان الانسان متى خطر بباله الحر
خطر بباله أيضا البرد، وكذا القول في النور والظلمة والسواد والبياض، فلما الشعور بأحدهما
مستتبعا للشعور بالآخر، كان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر.
(والوجه الثالث) قال الزجاج: ما وقى من الحر وقى من البرد، فكان ذكر أحدهما مغنيا
عن ذكر الآخر.
فان قيل: هذا بالضد أولى، لان دفع الحر يكفي فيه السرابيل التي هي القمص من دون تكلف
زيادة، وأما البرد فإنه لا يندفع إلا بتكلف زائد.
قلنا: القميص الواحد لما كان دافعا للحر كان الاستكثار من القميص دافعا للبرد فصح
ما ذكرناه، وقوله (وسرابيل تقيكم بأسكم) يعنى دروع الحديد، ومعنى البأس الشدة، ويريد ههنا
شدة الطعن والضرب والرمي.
واعلم أنه تعالى لما عدد أقسام نعمة الدنيا قال (كذلك يتم نعمته عليكم) أي مثل ما خلق هذه
الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعمة الدنيا والدين عليكم (لعلكم تسلمون) قال ابن عباس: لعلكم
يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية، وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الانعامات أحد سواه، ونقل عن
ابن عباس أنه قرأ (لعلكم تسلمون) بفتح التاء، والمعنى: أنا أعطيناكم هذه السرابيلات لتسلموا عن
بأس الحرب، وقيل أعطيتكم هذه النعم لتتفكروا فيها فتؤمنوا فتسلموا من عذاب الله.
ثم قال تعالى (فان تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) أي فان تولوا يا محمد وأعرضوا وآثروا
لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر فعلى أنفسهم جنوا ذلك وليس عليك إلا ما فعلت
من التبليغ التاء، ثم إنه تعالى دمهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وذلك نهاية في كفران النعمة.
فان قيل: ما معنى ثم؟
قلنا: الدلالة على أن إنكارهم أمر يستبعد بعد حصول المعرفة، لان حق من عرف النعمة أن
يعترف لا أن ينكر، وفى المراد بهذه النعمة وجوه: الأول: قال القاضي المراد بها جميع ما ذكره
الله تعالى في الآيات المتقدمة من جميع أنواع النعم، ومعنى أنهم أنكروه هو أنهم ما أفردوه تعالى
بالشكر والعبادة بل شكروا على تلك النعم غير الله تعالى. ولأنهم قالوا إنما حصلت هذه النعم بشفاعة
94

ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولاهم
يستعتبون (84) وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولاهم
ينظرون (85)
هذه الأصنام. والثاني: أن المراد أنهم عرفوا أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حق ثم ينكرونها،
وبنوته نعمة عظيمة كما قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الثالث: يعرفون نعمة الله ثم
ينكرونها، أي لا يستعملونها في طلب رضوان الله تعالى.
ثم قال تعالى (وأكثرهم الكافرون)
فان قيل: ما معنى قوله (وأكثرهم الكافرون) مع أنه كان كلهم كافرين.
قلنا: الجواب من وجوه: الأول: إنما قال (وأكثرهم) لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجة
ممن لم يبلغ حد التكليف. أو كان ناقص العقل معتوها، فأراد بالأكثر البالغين الأصحاء. الثاني: أن
يكون المراد بالكافر الجاحد المعاند، وحينئذ نقول إنما قال (وأكثرهم) لأنه كان فيه من لم يكن
معاندا بل كان جاهلا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام وما ظهر له كونه نبيا حقا من عند الله
الثالث: أنه ذكر الأكثر والمراد الجميع، لان أكثر الشئ يقوم مقام الكل، فذكر الأكثر كذكر
الجميع، وهذا كقوله (الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) والله أعلم.
قوله تعالى (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن اللذين كفروا ولاهم يستعتبون وإذا
رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولاهم ينظرون)
اعلم أنه تعالى لما بين من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وذكر أيضا من حالهم
أن أكثرهم الكافرون أتبعه بالوعيد، فذكر حال يوم القيامة فقال (ويوم نبعث من كل أمة
شهيدا) وذلك يدل على أن أولئك الشهداء يشهدون عليهم بذلك الانكار وبذلك الكفر، والمراد
بهؤلاء الشهداء الأنبياء كما قال تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء
شهيدا وقوله (ثم لا يؤذن للذين كفروا) فيه وجوه: أحدها: لا يؤذن لهم في الاعتذار لقوله
(ولا يؤذن لهم فيعتذرون) وثانيها: لا يؤذن لهم في كثرة الكلام. وثالثها: لا يؤذن لهم
في الرجوع إلى دار الدنيا وإلى التكليف. ورابعها: لا يؤذن لهم في حال شهادة الشهود، بل
يسكت أهل الجمع كلهم ليشهد الشهود. وخامسها: لا يؤذن لهم في كثرة الكلام ليظهر لهم كونهم
95

* (وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم قالوا ربنا هؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون * وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون) *
آيسين من رحمة الله تعالى. ثم قال (ولاهم يستعتبون) الاستعتاب طلب العتاب، والرجل يطلب
العتاب من خصمه إذا كان على جزم أنه إذا عاتبه رجع إلى الرضا، فإذا لم يطلب العتاب منه دل على
أنه راسخ في غضبه وسطوته، ثم إنه تعالى أكد هذا الوعيد فقال (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب
فلا يخفف عنهم) والمعنى أن المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه، فعند ذلك لا يخفف عنهم
العذاب (ولاهم) أيضا (ينظرون) أي لا يؤخرون ولا يمهلون، لان التوبة هناك غير موجودة،
وتحقيقه ما يقوله المتكلمون من أن العذاب يجب أن يكون خالصا عن شرائب النفع، وهو المراد من
قوله (لا يخفف عنهم العذاب) ويجب أن يكون العذاب دائما وهو المراد من قوله (ولاهم ينظرون)
قوله تعالى (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا
من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون)
اعلم أن هذا أيضا من بقية وعيد المشركين، وفي الشركاء قولان:
القول الأول: أنه تعالى يبعث الأصنام التي كان يعبدها المشركون، والمقصود من إعادتها أن المشركين يشاهدونها في غاية الذلة والحقارة. وأيضا أنها تكذب المشركين، وكل ذلك مما يوجب زيادة الغم والحسرة في قلوبهم، وإنما وصفهم الله بكونهم شركاء لوجهين: الأول: أن الكفار كانوا يسمونها بأنها شركاء الله. والثاني: أن الكفار جعلوا لهم نصيبا من أموالهم.
والقول الثاني: أن المراد بالشركاء الشياطين الذين دعوا الكفار إلى الكفر، وهو قول الحسن، وإنما ذهب إلى هذا القول، لأنه تعالى حكى عن أولئك الشركاء أنهم ألقوا إلى الذين أشركوا إنهم لكاذبون، والأصنام جمادات فلا يصح منهم هذا القول، فوجب أن يكون المراد من الشركاء الشياطين حتى يصح منهم هذا القول وهذا بعيد، لأنه تعالى قادر على خلق الحياة في تلك الأصنام وعلى خلق العقل والنطق فيها، وحينئذ يصح منها هذا القول، ثم حكى تعالى عن المشركين أنهم إذا رأوا تلك الشركاء قالوا: ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك.
فإن قيل: فما فائدتهم في هذا القول؟
96

قلنا: فيه وجهان: الأول: قال أبو مسلم الأصفهاني: مقصود المشركين إحالة الذنب على هذه الأصنام وظنوا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم، فعند هذا تكذبهم تلك الأصنام. قال القاضي: هذا بعيد، لأن الكفار يعلمون علما ضروريا في الآخرة أن العذاب سينزل بهم وأنه لا نصرة ولا فدية ولا شفاعة.
والقول الثاني: أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجبا من حضور تلك الأصنام مع أنه لا ذنب لها واعترافا بأنهم كانوا مخطئين في عبادتها. ثم حكى تعالى أن الأصنام يكذبونهم، فقال: * (فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) * والمعنى: أنه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام حتى تقول هذا القول، وقوله: * (إنكم لكاذبون) * بدل من القول، والتقدير: فألقوا إليهم إنكم لكاذبون.
فإن قيل: إن المشركين ما قالوا إلا أنهم لما أشاروا إلى الأصنام قالوا: إن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك وقد كانوا صادقين في كل ذلك، فكيف قالت الأصنام إنكم لكاذبون؟.
قلنا: فيه وجوه: والأصح أن يقال المراد من قولهم هؤلاء شركاؤنا هو أن هؤلاء الذين كنا نقول إنهم شركاء الله في المعبودية، فالأصنام كذبوهم في إثبات هذه الشركة. وقيل: المراد إنكم لكاذبون في قولكم إنا نستحق العبادة ويدل عليه قوله تعالى: * (كلا سيكفرون بعبادتهم) * (مريم: 82).
ثم قال تعالى: * (وألقوا إلى الله يومئذ السلم) * قال الكلبي: استسلم العابد والمعبود وأقروا لله بالربوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد: * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * وفيه وجهان: وقيل: ذهب عنهم ما زين لهم الشيطان من أن لله شريكا وصاحبة وولدا. وقيل: بطل ما كانوا يأملون من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى.
قوله تعالى
* (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الذين كفروا، أتبعه بوعيد من ضم إلى كفره صد الغير عن سبيل الله. وفي تفسير قوله: * (وصدوا عن سبيل الله) * وجهان: قيل: معناه الصد عن المسجد الحرام، والأصح أنه يتناول جملة الإيمان بالله والرسول وبالشرائع، لأن اللفظ عام فلا معنى للتخصيص
97

وقوله: * (زدناهم عذابا فوق العذاب) * فالمعنى أنهم زادوا على كفرهم صد غيرهم عن الإيمان فهم في الحقيقة ازدادوا كفرا على كفر، فلا جرم يزيدهم الله تعالى عذابا على عذاب، وأيضا أتباعهم إنما اقتدوا بهم في الكفر، فوجب أن يحصل لهم مثل عقاب أتباعهم لقوله تعالى: * (ليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) * (العنكبوت: 13) ولقوله عليه السلام: " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "، ومن المفسرين من ذكر تفصيل تلك الزيادة فقال ابن عباس: المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنهار، وقال بعضهم زدناهم عذابا بحيات وعقارب كأمثال البخت، فيستغيثون بالهرب منها إلى النار ومنهم من ذكر لكل عقرب ثلثمائة فقرة في ثلثمائة قلة من سلم. وقيل: عقارب لها أنياب كالنخل الطوال.
ثم قال تعالى: * (بما كانوا يفسدون) * أي هذه الزيادة من العذاب إنما حصلت معللة بذلك الصد، وهذا يدل على أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال فقد عظم عذابه، فكذلك إذا دعا إلى الدين واليقين، فقد عظم قدره عند الله تعالى والله أعلم.
قوله تعالى
* (ويوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) *
اعلم أن هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلفين عن المعاصي. واعلم أن الأمة عبارة عن الفرن والجماعة.
إذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان: الأول: أن المراد أن كل نبي شاهد على أمته. والثاني: أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا فلا بد وأن يحصل فيهم واحد يكون شهيدا عليهم. أما الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الرسول بدليل قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143) وثبت أيضا أنه لا بد في كل زمان بعد زمان الرسول من الشهيد فحصل من هذا أن عصرا من الإعصار لا يخلو
98

من شهيد على الناس وذلك الشهيد لا بد وأن يكون غير جائز الخطأ، وإلا لافتقر إلى شهيد آخر ويمتد ذلك إلى غير النهاية وذلك باطل، فثبت أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة. قال أبو بكر الأصم: المراد بذلك الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى أنها تشهد عليه وهي: الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان. قال: والدليل عليه أنه قال في صفة الشهيد أنه من أنفسهم وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم.
أجاب القاضي عنه من وجوه: الأول: أنه تعالى قال: * (شهيدا عليهم) * أي على الأمة فيجب أن يكون غيرهم. الثاني: أنه قال: * (من كل أمة) * فوجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمة وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمة، وأما حمل هؤلاء الشهداء على الأنبياء فبعيد، وذلك لأن كونهم أنبياء مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضرورة فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه.
ثم قال تعالى: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: وجه تعلق هذا الكلام بما قبله أنه تعالى لما قال: * (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) * بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فلا حجة لهم ولا معذرة.
المسألة الثانية: من الناس من قال: القرآن تبيان لكل شيء وذلك لأن العلوم إما دينية أو غير دينية، أما العلوم التي ليست دينية فلا تعلق لها بهذه الآية، لأن من المعلوم بالضرورة أن الله تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملا على علوم الدين فأما ما لا يكون من علوم الدين فلا التفات إليه، وأما علوم الدين فإما الأصول، وإما الفروع، أما علم الأصول فهو بتمامه موجود في القرآن وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب، وذلك يدل على أنه لا تكليف من الله تعالى إلا ما ورد في هذا القرآن، وإذا كان كذلك كان القول بالقياس باطلا، وكان القرآن وافيا ببيان كل الأحكام، وأما الفقهاء فإنهم قالوا: القرآن إنما كان تبيانا لكل شيء، لأنه يدل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأصول كان ذلك الحكم ثابتا بالقرآن، وهذه المسألة قد سبق ذكرها بالاستقصاء في سورة الأعراف، والله أعلم.
المسألة الثالثة: روى الواحدي بإسناده عن الزجاج أنه قال: تبيانا في معنى اسم البيان ومثل التبيان التلقاء، وروى ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين أنهم قالوا: لم يأت من المصادر على تفعل إلا حرفان تبيانا وتلقاء، وإذا تركت هذين اللفظين استوى لك القياس فقلت: في كل
99

مصدر تفعال بفتح التاء مثل تسيار وتذكار وتكرار، وقلت: في كل اسم تفعال بكسر التاء مثل تقصار وتمثال.
قوله تعالى
* (إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتآء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون) *
واعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح الوعد والوعيد والترغيب والترهيب أتبعه بقوله: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) * فجمع في هذه الآية ما يتصل بالتكليف فرضا ونفلا، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموما وخصوصا، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في بيان فضائل هذه الآية روي عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال: ما أسلمت أولا إلا حياء من محمد عليه السلام ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم فبينما هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه، ثم عاد لمثل ذلك فسألته فقال: " بينما أنا أحدثك إذا بجبريل نزل عن
يميني فقال: يا محمد إن الله يأمر بالعدل والإحسان، العدل شهادة أن لا إله إلا الله والإحسان القيام بالفرائض وإيتاء ذي القربى، أي صلة ذي القرابة وينهى عن الفحشاء والزنا، والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة والبغي الاستطالة ". قال عثمان: فوقع الإيمان في قلبي فأتيت أبا طالب فأخبرته فقال: يا معشر قريش اتبعوا ابن أخي ترشدوا ولئن كان صادقا أو كاذبا فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمه اللين قال: يا عماه أتأمر الناس أن يتبعوني وتدع نفسك وجهد عليه، فأبى أن يسلم فنزل قوله: * (إنك لا تهدي من أحببت) * (القصص: 56) وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية، وعن قتادة ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحب إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية وليس من خلق سئ إلا نهى الله عنه في هذه الآية، وروى القاضي في " تفسيره " عن ابن ماجة عن علي عليه السلام أنه قال: أمر الله تعالى نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب، فخرج وأنا معه وأبو بكر فوقفنا على مجلس عليهم الوقار فقال أبو بكر: ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشهادتين وإلى أن ينصروه فإن قريشا كذبوه فقال
100

مقرون بن عمرو: إلام تدعونا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) * الآية فقال مقرون بن عمرو: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، وعن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على الوليد فاستعاده، ثم قال: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " والله أعلم.
المسألة الثانية: في تفسير هذه الآية، أكثر الناس في تفسير هذه الآية قال ابن عباس في بعض الروايات العدل شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض وقال في رواية أخرى: العدل خلع الأنداد والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحب للناس ما تحب لنفسك فإن كان مؤمنا أحببت أن يزداد إيمانا، وإن كان كافرا أحببت أن يصير أخاك في الإسلام. وقال في رواية ثالثة: العدل هو التوحيد والإحسان الإخلاص فيه. وقال آخرون: يعني بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال، فلا تفعل إلا ما هو عدل ولا تقل إلا ما هو إحسان وقوله: * (وإيتاء ذي القربى) * يريد صلة الرحم بالمال فإن لم يكن فبالدعاء، روى أبو مسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم إن أهل البيت لكونوا فجارا فتنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم " وقوله: * (وينهى عن الفحشاء) * قيل: الزنا، وقيل: البخل، وقيل: كل الذنوب سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وسواء كانت في القول أو في الفعل، وأما المنكر فقيل: إنه الكفر بالله تعالى، وقيل: المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة، وأما البغي فقيل: الكبر والظلم، وقيل: أن تبغي على أخيك.
واعلم أن في المأمورات كثرة وفي المنهيات أيضا كثرة، وإنما حسن تفسير لفظ معين لشيء معين إذا حصل بين ذلك اللفظ وبين ذلك المعنى مناسبة. أما إذا لم تحصل هذه الحالة كان ذلك التفسير فاسدا، فإذا فسرنا العدل بشيء والإحسان بشيء آخر وجب أن نبين أن لفظ العدل يناسب ذلك المعنى، ولفظ الإحسان يناسب هذا المعنى، فلما لم نبين هذا المعنى كان ذلك مجرد التحكم، ولم يكن جعل بعض تلك المعنى تفسيرا لبعض تلك الألفاظ أولى من العكس، فثبت أن هذه الوجود التي ذكرناها ليست قوية في تفسير هذه الآية، وأقول ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى أمر بثلاثة أشياء، وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن ثلاثة أشياء هي: الفحشاء، والمنكر، والبغي فوجب أن يكون العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ثلاثة أشياء متغايرة ووجب أن تكون الفحشاء والمنكر والبغي ثلاثة أشياء متغايرة، لأن العطف يوجب المغايرة فنقول:
101

أما العدل فهو عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وذلك أمر واجب الرعاية في جميع الأشياء، ولا بد من تفصيل القول فيه فنقول: الأحوال التي وقع التكليف بها إما الاعتقادات وإما أعمال الجوارح. أما الاعتقادات: فالعدل في كلها واجب الرعاية فأحدها: قال ابن عباس: إن المراد بالعدل هو قول لا إله إلا الله، وتحقيق القول فيه أن نفي الإله تعطيل محض وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتشبيه وهما مذمومان، والعدل هو إثبات الإله الواحد وهو قول لا إله إلا الله. وثانيها: أن القول بأن الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محض، والقول بأنه جسم وجوهر مركب من الأعضاء، ومختص بالمكان تشبيه محض، والعدل إثبات إله موجود متحقق بشرط أن يكون منزها عن الجسمية والجوهرية والأعضاء والأجزاء والمكان، وثالثها: أن القول بأن الإله غير موصوف بالصفات من العلم والقدرة تعطيل محض، والقول بأن صفاته حادثة متغيرة تشبيه محض. والعدل هو إثبات أن الإله عالم قادر حي مع الإعتراف بأن صفاته ليست حادثة ولا متغيرة. ورابعها: أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محض، والقول بأن العبد مستقل بأفعاله قدر محض وهما مذمومان، والعدل أن يقال: إن العبد يفعل الفعل لكن بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله تعالى فيه، وخامسها: القول أن الله تعالى لا يؤاخذ عبده على شيء من الذنوب مساهلة عظيمة، والقول بأنه تعالى يخلد في النار عبده العارف بالمعصية الواحدة تشديد عظيم، والعدل أنه يخرج من النار كل من قال واعتقد أنه لا إله إلا الله، فهذه أمثلة ذكرناها في رعاية معنى العدل في الاعتقادات، وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح، فنذكر ستة أمثلة منها: أحدها: أن قوما من نفاة التكاليف يقولون: لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي، وليس لله عليه تكليف أصلا وقال قوم من الهند؛ ومن المانوية إنه يجب على الإنسان أن يجتنب عن كل الطيبات وأن يبالغ في تعذيب نفسه وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى أن المانوية يخصون أنفسهم ويحترزون عن التزوج ويحترزون عن أكل الطعام الطيب والهند يحرقون أنفسهم ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل، فهذان الطريقان مذمومان، والوسط المعتدل هو هذا الشرع الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم. وثانيها: أن التشديد في دين موسى عليه السلام غالب جدا، والتساهل في دين عيسى عليه السلام غالب جدا والوسط العدل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: كان شرع موسى عليه السلام في القتل العمد استيفاء القصاص لا محالة، وفي شرع عيسى عليه السلام العفو. أما في شرعنا فإن شاء استوفى القصاص على سبيل المماثلة، وإن شاء استوفى الدية وإن شاء عفا،
وأيضا شرع موسى يقتضي
102

الاحتراز العظيم عن المرأة حال حيضها وشرع عيسى يقتضي حل وطء الحائض، والعدل ما حكم به شرعنا وهو أنه محرم وطؤها احترازا عن التلطخ بتلك الدماء الخبيثة أما لا يجب إخراجها عن الدار. وثالثها: أنه تعالى قال: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) يعني متباعدين عن طرفي الإفراط والتفريط في كل الأمور، وقال: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) * (الفرقان: 67) وقال: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) * (الإسراء: 29) ولما بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات قال تعالى: * (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * (طه: 1، 2) ولما أخذ قوم في المساهلة قال: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) * (المؤمنون: 115) والمراد من الكل رعاية العدل والوسط. ورابعها: أن شريعتنا أمرت بالختان، والحكمة فيه أن رأس العضو جسم شديد الحس ولأجله عظم الالتذاذ عند الوقاع، فلو بقيت الجلدة على ذلك العضو بقي ذلك العضو على كمال القوة وشدة الإحساس فيعظم الإلتذاذ أما إذا قطعت تلك الجلدة وبقي ذلك العضو عاريا فيلقى الثياب وسائر الأجسام فيتصلب ويضعف حسه ويقل شعوره فيقل الالتذاذ بالوقاع فتقل الرغبة فيه، فكأن الشريعة إنما أمرت بالختان سعيا في تقليل تلك اللذة، حتى يصير ميل الإنسان إلى قضاء شهوة الجماع إلى حد الاعتدال، وأن لا تصير الرغبة فيه غالبة على الطبع، فالإخصاء وقطع الآلات على ما تذهب إليه المانوية مذموم لأنه إفراط، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة، والعدل الوسط هو الإتيان بالختان، فظهر بهذه الأمثلة أن العدل واجب الرعاية في جميع الأحوال، ومن الكلمات المشهورة قولهم: وبالعدل قامت السماوات والأرض، ومعناه: أن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة متكافئة، بل كان بعضها أزيد بحسب الكمية وبحسب الكيفية من الآخر، لاستولى الغالب على المغلوب ووهى المغلوب، وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن، لعظمت السخونة في هذا العالم واحترق كل ما في هذا العالم، ولو كان بعدها أزيد مما هو الآن لاستولى البرد والجمود على هذا العالم، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وبطئها، فإن الواحد منها لو كان أزيد مما هو الآن أو كان أنقص مما هو الآن لاختلت مصالح هذا العالم فظهر بهذا السبب الذي ذكرناه صدق قولهم: وبالعدل قامت السماوات والأرض، فهذه إشارة مختصرة إلى شرح حقيقة العدل. وأما الإحسان فاعلم أن الزيادة على العدل قد تكون إحسانا وقد تكون إساءة مثاله: أن العدل في الطاعات هو أداء الواجبات أما الزيادة على الواجبات فهي أيضا طاعات وذلك من باب الإحسان، وبالجملة فالمبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية هو الإحسان. والدليل عليه: أن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
103

فإن قالوا: لم سمي هذا المعنى بالإحسان؟.
قلنا: كأنه بالمبالغة في الطاعة يحسن إلى نفسه ويوصل الخير والفعل الحسن إلى نفسه، والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات، والإحسان عبارة عن الزيادة في تلك الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية، وبحسب الدواعي والصوارف، وبحسب الاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية، فهذا هو الإحسان.
واعلم أن الإحسان بالتفسير الذي ذكرنا دخل فيه التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله، ومن الظاهر أن الشفقة على خلق الله أقسام كثيرة وأشرفها وأجلها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر فقال: * (وإيتاء ذي القربى) * فهذا تفصيل القول في هذه الثلاثة التي أمر الله تعالى بها. وأما الثلاثة التي نهى الله عنها، وهي الفحشاء والمنكر والبغي فنقول: إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة، وهي الشهوانية البهيمية والعصبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية وهذه القوة الرابعة أعني العقلية الملكية لا يحتاج الإنسان إلى تأديبها وتهذيبها، لأنها من جواهر الملائكة، ومن نتائج الأرواح القدسية العلوية، إنما المحتاج إلى التأديب والتهذيب تلك القوى الثلاثة الأولى. أما القوة الشهوانية، فهي إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية، وهذا النوع مخصوص باسم الفحش، إلا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة فقال: * (إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) * (النساء: 22) فقوله تعالى: * (وينهى عن الفحشاء) * المراد منه المنع من تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة، وأما القوة الغضبية السبعية فهي: أبدا تسعى في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس، ولا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة، فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية. وأما القوة الوهمية الشيطانية فهي أبدا تسعى في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم، وذلك هو المراد من البغي، فإنه لا معنى للبغي إلا التطاول على الناس والترفع عليهم، فظهر بما ذكرنا أن هذه الألفاظ الثلاثة منطبقة على أحوال هذه القوى الثلاثة، ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا: أخس هذه القوى الثلاثة هي الشهوانية، وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية. والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ بالفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية، ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية، ثم بالبغي الذي هو نتيجة القوة الوهمية، فهذا ما وصل إليه عقلي وخاطري في تفسير هذه الألفاظ، فإن يك صوابا فمن الرحمن، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله عنه بريئان والحمد لله على ما خصنا بهذا النوع من الفضل والإحسان إنه الملك الديان.
ثم قال تعالى: * (يعظكم لعلكم تذكرون) * والمراد بقوله تعالى: * (يعظكم) * أمره تعالى بتلك الثلاثة ونهيه عن هذه الثلاثة: * (لعلكم تذكرون) * وفيه مسألتان:
104

المسألة الأولى: أنه تعالى لما قال في الآية الأولى: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) * (النحل: 89) أردفه بهذه الآية مشتملة على الأمر بهذه الثلاثة، والنهي عن هذه الثلاثة، كان ذك تنبيها على أن المراد بكون القرآن تبيانا لكل شيء هو هذه التكاليف الستة وهي في الحقيقة كذلك، لأن جوهر النفس من زمرة الملائكة ومن نتائج الأرواح العالية القدسية إلا أنه دخل في هذا العالم خاليا عاريا عن التعلقات فتلك الثلاثة التي أمر الله بها هي التي ترقيها بالمعارف الإلهية والأعمال الصالحة، وتلك المعارف والأعمال هي التي ترقيها إلى عالم الغيب وسرادقات القدس، ومجاورة الملائكة المقربين في جوار رب العالمين، وتلك الثلاثة التي نهى الله عنها هي التي
تصدها عن تلك السعادات وتمنعها عن الفوز بتلك الخيرات، فلما أمر الله تعالى بتلك الثلاثة، ونهى عن هذه الثلاثة فقد نبه على كل ما يحتاج إليه المسافرون من عالم الدنيا إلى مبدأ عرصة القيامة.
المسألة الثانية: قال الكعبي: الآية تدل على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء، وذلك من وجوه: الأول: أنه تعالى كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم، وكيف ينهى عما يريد تحصيله فيهم ولو كان الأمر كما قالوا لكان كأنه تعالى قال: إن الله يأمركم أن تفعلوا خلاف ما خلقه فيكم وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم، ومعلوم أن ذلك باطل في بديهة العقل. والثاني: أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فلو أنه تعالى أمر بتلك الثلاثة ثم إنه ما فعلها لدخل تحت قوله: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) * (البقرة: 2، 3). الثالث: أن قوله: * (لعلكم تذكرون) * ليس المراد منه الترجي والتمني، فإن ذلك محال على الله تعالى، فوجب أن يكون معناه أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تتذكروا طاعته، وذلك يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل. الرابع: أنه تعالى لو صرح وقال: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ولكنه تمنع منه ويصد عنه ولا يمكن العبد منه. ثم قال: * (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) * ولكنه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى وأراده منه ومنعه من تركه، ومن الاحتراز عنه لحكم كل أحد عليه بالركاكة وفساد النظم والتركيب، وذلك يدل على كونه سبحانه متعاليا عن فعل القبائح.
واعلم أن هذا النوع من الاستدلال كثير، وقد مر الجواب عنه والمعتمد في دفع هذه المشاغبات التعويل على سؤال الداعي وسؤال العلم والله أعلم.
المسألة الثالثة: اتفق المتكلمون من أهل السنة ومن المعتزلة على أن تذكر الأشياء من فعل
105

الله لا من فعل العبد، والدليل عليه هو أن التذكرة عبارة عن طلب المتذكر فحال الطلب إما أن يكون له به شعور أو لا يكون له به شعور. فإن كان له شعور فذلك الذكر حاصل، والحاصل لا يطلب تحصيله. وإن لم يكن له به شعور فكيف يطلبه بعينه، لأن توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون هو بعينه متصورا محال.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (لعلكم تذكرون) * معناه أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكر، فإذا لم يكن التذكر فعلا له فكيف طلب منه تحصيله، وهذا هو الذي يحتج به أصحابنا على أن قوله تعالى: * (لعلكم تذكرون) * لا يدل على أنه تعالى يريد منه ذلك، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم لله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هى أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) *
اعلم أنه تعالى لما جمع كل المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام، فبدأ تعالى بالأمر بالوفاء بالعهد وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير قوله: * (بعهد الله) * وجوها: الأول: قال صاحب " الكشاف ": عهد الله هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام لقوله: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) * (الفتح: 10) أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توكيدها، أي بعد توثيقها باسم الله. الثاني: أن المراد منه كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره قال ابن عباس: والوعد من العهد، وقال
106

ميمون بن مهران من عاهدته وف بعهده مسلما كان أو كافرا فإنما العهد صلى الله عليه وسلم تعالى. الثالث: قال الأصم: المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق. الرابع: عهد الله هو اليمين بالله، وقال هذا القائل: إنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه، لأنه عليه السلام قال: " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر ". الخامس: قال القاضي: العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه، ومعلوم أن أدلة العقل والسمع أوكد في لزوم الوفاء بما يدلان على وجوبه من اليمين ولذلك لا يصح في هذين الدليلين التغير والاختلاف، ويصح ذلك في اليمين وربما ندب فيه خلاف الوفاء.
ولقائل أن يقول: إنه تعالى قال: * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) * فهذا يجب أن يكون مختصا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه لأن قوله: * (إذا عاهدتم) * يدل على هذا المعنى وحينئذ لا يبقى المعنى الذي ذكره القاضي معتبرا ولأنه تعالى قال في آخر الآية: * (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) * وهذا يدل على أن الآية واردة فيمن آمن بالله والرسول، وأيضا يجب أن لا يحمل هذا العهد على اليمين، لأنا لو حملناه عليه لكان قوله بعد ذلك: * (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) * تكرارا لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان، لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك إلا إذا قيل إن الوفاء بالعهد عام فدخل تحته اليمين، ثم إنه تعالى خص اليمين بالذر تنبيها على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية، وعند هذا نقول الأولى أن يحمل هذا العهد على ما يلتزمه الإنسان باختياره ويدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله ويدخل فيه عهد الجهاد، وعهد الوفاء بالملتزمات من المنذورات، والأشياء التي أكدها بالحلف واليمين، وفي قوله: * (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) * مباحث:
البحث الأول: قال الزجاج: يقال وكدت وأكدت لغتان جيدتان، والأصل الواو، والهمزة بدل منها.
البحث الثاني: قال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: يمين اللغو هي يمين الغموس، والدليل عليه أنه تعالى قال: * (لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) * فنهى في هذه الآية عن نقض الأيمان، فوجب أن يكون كل يمين قابلا للبر والحنث، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث فوجب أن لا تكون من الأيمان. واحتج الواحدي بهذه الآية على أن يمين اللغو هي قول العرب لا والله وبلى والله. قال إنما قال تعالى: * (بعد توكيدها) * للفرق بين الأيمان المؤكدة بالعزم وبالعقد وبين لغو اليمين.
البحث الثالث: قوله: * (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) * عام دخله التخصيص، لأنا بينا
107

أن الخبر دل على أنه متى كان الصلاح في نقض الأيمان جاز نقضها.
ثم قال: * (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) * هذه واو الحال، أي لا تنقضوها وقد جعلتم الله كفيلا عليكم بالوفاء، وذلك أن من حلف بالله تعالى فكأنه قد جعل الله كفيلا بالوفاء بسبب ذلك الحلف.
ثم قال: * (إن الله يعلم ما تفعلون) * وفيه ترغيب وترهيب، والمراد فيجازيكم على ما تفعلون إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم إنه تعالى أكد وجوب الوفاء، وتحريم النقض وقال: * (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في المشبه به قولان: القول الأول: أنها امرأة من قريش يقال لها رايطة، وقيل ريطة، وقيل تلقب جعراء وكانت حمقاء تغزل الغزل هي وجواريها فإذا غزلت وأبرمت أمرتهن فنقضن ما غزلن.
والقول الثاني: أن المراد بالمثل الوصف دون التعين، لأن القصد بالأمثال صرف المكلف عنه إذا كان قبيحا، والدعاء إليه إذا كان حسنا، وذلك يتم به من دون التعيين.
المسألة الثانية: قوله: * (من بعد قوة) * أي من به قوة الغزل بإبرامها وفتلها.
المسألة الثالثة: قوله: * (أنكاثا) * قال الأزهري: واحدها: نكث وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم وينسج فإذا أحكمت النسيجة قطعتها ونكثت خيوطها المبرمة ونفشت تلك الخيوط وخلطت بالصوف ثم غزلت ثانية، والنكث المصدر، ومنه يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه.
المسألة الرابعة: في انتصاب قوله: * (أنكاثا) * وجوه: الأول: قال الزجاج: أنكاثا منصوب لأنه بمعنى المصدر لأن معنى نكثت نقضت ومعنى نقضت نكثت، وهذا غلط منه، لأن الأنكاث جمع نكث وهو اسم لا مصدر فكيف يكون قوله: * (أنكاثا) * بمعنى المصدر؟ الثاني: قال الواحدي: أنكاثا مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعا وفرقه أجزاء على معنى جعله أقطاعا وأجزاء فكذا ههنا قوله: نقضت غزلها أنكاثا أي جعلت غزلها أنكاثا. الثالث: إن قوله: * (أنكاثا) * حال مؤكدة.
المسألة الخامسة: قال ابن قتيبة: هذه الآية متصلة بما قبلها، والتقدير: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل المرأة التي غزلت غزلا وأحكمته فلما استحكم نقضته فجعلته أنكاثا.
ثم قال تعالى: * (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) * قال الواحدي: الدخل والدغل الغش والخيانة. قال الزجاج: كل ما دخله عيب قيل هو مدخول وفيه دخل، وقال غيره: الدخل ما أدخل في الشيء على فساد.
108

ثم قال: * (أن تكون أمة هي أربى من أمة) * أربى أي أكثر من ربا الشيء يربو إذا زاد، وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوة وفي الشرف. قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء ثم يحدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز، فنهاهم الله تعالى عن ذلك. وقوله: * (أن تكون) * معناه أنكم تتخذون أيمانكم دخلا بينكم بسبب أن تكون أمة أربى من أمة في العدد والقوة والشرف. فقوله: * (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) * استفهام على سبيل الإنكار، والمعنى: أتتخذون أيمانكم دخلا بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى.
ثم قال تعالى: * (إنما يبلوكم الله به) * أي بما يأمركم وينهاكم، وقد تقدم ذكر الأمر والنهي: * (وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) * فيتميز المحق من المبطل بما يظهر من درجات الثواب والعقاب، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشآء ويهدى من يشآء ولتسالن عما كنتم تعملون) *
اعلم أنه تعالى لما كلف القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه تعالى قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الأيمان، ولكنه سبحانه بحكم الإلهية يضل من يشاء ويهدي من يشاء. أما المعتزلة: فإنهم حملوا ذلك على الإلجاء، أي لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر لقدر عليه، إلا أن ذلك يبطل التكليف، فلا جرم ما ألجأهم إليه وفوض الأمر إلى اختيارهم في هذه التكاليف، وأما قول أصحابنا فيه فهو ظاهر، وهذه المناظرة قد تكررت مرارا كثيرة، وروى الواحدي أن عزيرا قال: يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزيز أعرض عن هذا، فأعاده ثانيا: فقال: أعرض عن هذا، فأعاده ثالثا، فقال: أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة. قالت المعتزلة: ومما يدل على أن المراد من هذه المشيئة مشيئة الإلجاء، أنه تعالى قال بعده: * (ولتسألن عما كنتم تعملون) * فلو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عنها عبثا، والجواب عنه قد سبق مرارا، والله أعلم.
109

قوله تعالى
* (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم * ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون * ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون * من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيوة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *
اعلم أنه تعالى لما حذر في الآية الأولى عن نقض العهود والإيمان على الإطلاق، حذر في هذه الآية فقال: * (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم) * وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الإيمان، وإلا لزم التكرير الخالي عن الفائدة في موضع واحد، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة
أقدموا عليها، فلهذا المعنى قال المفسرون: المراد من هذه الآية نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقض عهده، لأن هذا الوعيد هو قوله: * (فتزل قدم بعد ثبوتها) * لا يليق بنقض عهده قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وشرائعه. وقوله: * (فتزل قدم بعد ثبوتها) * مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية، فإن من نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في مثل هذه الضلالة، ويدل على هذا قوله تعالى: * (وتذوقوا السوء) * أي العذاب: * (بما صددتم) * أي بصدكم: * (عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) * أي ذلك السوء الذي تذوقونه سوء عظيم وعقاب شديد،
110

ثم أكد هذا التحذير فقال: * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) * يريد عرض الدنيا وإن كان كثيرا، إلا أن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون، يعني أنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيرا من خيرات الدنيا، فلا تلتفتوا إليه، لأن الذي أعهد الله تعالى على البقاء على الإسلام خير وأفضل وأكمل مما يجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إن كنتم تعلمون التفاوت بين خيرات الدنيا وبين خيرات الآخرة، ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) * وفيه بحثان:
البحث الأول: الحس شاهد بأن خيرات الدنيا منقطعة، والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية، والباقي خير من المنقطع، والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال: إنه كان خيرا عاليا شريفا أو كان خيرا دنيا خسيسا، فإن قلنا: إنه كان خيرا عاليا شريفا فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصا حال حصوله، وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن، وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها وتفتر الرغبة فيها، وأما إن قلنا: إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع، فثبت بهذا أن قوله تعالى: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) * برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا.
البحث الثاني: أن قوله: * (وما عند الله باق) * يدل على أن نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع. وقال جهم بن صفوان: إنه منقطع والآية حجة عليه.
واعلم أن المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان، وحينئذ يجب عليه أمران: أحدهما: أن يصبر على ذلك الإلتزام وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته. والثاني: أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه. إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه، فقال: * (ولنجزين الذين صبروا) * أي على ما ألزموه من شرائع الإسلام * (بأحسن ما كانوا يعملون) * أي يجزيهم على أحسن أعمالهم، وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحثات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب لا على فعل المباحثات، فلهذا قال: * (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الثاني وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام فقال: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * وفي الآية سؤالات:
111

السؤال الأول: لفظة " من " في قوله: * (من عمل صالحا) * تفيد العموم فما الفائدة في ذكر الذكر والأنثى؟.
والجواب: أن هذه الآية للوعد بالخيرات والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتا للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص.
السؤال الثاني: هل تدل هذه الآية على أن الأيمان مغاير للعمل الصالح؟.
والجواب: نعم لأنه تعالى جعل الإيمان شرطا في كون العمل الصالح موجبا للثواب. وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء.
السؤال الثالث: ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان، فظاهر قوله: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو كان مع عدمه.
والجواب: أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان، أما إفادته لأثر غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان.
السؤال الرابع: هذه الحياة الطيبة تحصل في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة.
والجواب فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال القاضي: الأقرب أنها تحصل في الدنيا بدليل أنه تعالى أعقبه بقوله: * (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * ولا شبهة في أن المراد منه ما يكون في الآخرة.
ولقائل أن يقول: لا يبعد أن يكون المراد من الحياة الطيبة ما يحصل في الآخرة، ثم إنه مع ذلك وعدهم الله على أنه إنما يجزيهم على ما هو أحسن أعمالهم فهذا لا امتناع فيه.
فإن قيل: بتقدير أن تكون هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في الدنيا فما هي؟.
والجواب: ذكروا فيه وجوها قيل: هو الرزق الحلال الطيب. وقيل: عبادة الله مع أكل الحلال، وقيل: القناعة، وقيل: رزق يوم بيوم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: " قنعني بما رزقني " وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: " اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا " قال الواحدي وقول من يقول: إن القناعة حسن مختار لأنه لا يطيب عيش أحد في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه يكون أبدا في الكد والعناء.
واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه: الأول: أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى، وعرف أنه تعالى محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضيا
112

بكل ما قضاه وقدره، وعلم أن مصلحته في ذلك، أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبدا في الحزن والشقاء. وثانيها: أن المؤمن أبدا يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها وعلى تقدير وقوعها يرضى بها، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، فعند وقوعها لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلا عن تلك المعارف، فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه. وثالثها: أن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى، والقلب إذا كان مملوءا من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا، أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فلا جرم يصير مملوءا من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا. ورابعها: أن المؤمن عارف بأن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها، أما الجاهل فإنه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فلا جرم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها. وخامسها: أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة التقلب فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه.
واعلم أن ما كان واجب التغير فإنه عند وصوله إليه لا تنقلب حقيقته ولا تتبدل ماهيته، فعند وصوله إليه يكون أيضا واجب التغير، فعند ذلك لا يطبع العاقل قلبه عليه ولا يقيم له في قلبه وزنا بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلا عن هذه المعارف فيطبع قلبه عليها ويعانقها معانقة العاشق لمعشوقه فعند فوته وزواله يحترق قلبه ويعظم البلاء عنده، فهذه وجوه كافية في بيان أن عيش المؤمن العارف أطيب من عيش الكافر هذا كله إذا فسرنا الحياة الطيبة بأنها في الدنيا.
والقول الثاني: وهو قول السدي إن هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر.
والقول الثالث: وهو قول الحسن وسعيد بن جبير إن هذه الحياة الطيبة لا تحصل إلا في الآخرة والدليل عليه قوله تعالى: * (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) * (الإنشقاق: 6) فبين أن هذا الكدح باق إلى أن يصل إلى ربه وذلك ما قلناه، وأما بيان أن الحياة الطيبة في الجنة فلأنها حياة بلا موت وغنى بلا فقر، وصحة بلا مرض، وملك بلا زوال، وسعادة بلا شقاء، فثبت أن الحياة الطيبة ليست إلا تلك الحياة، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: * (ولنجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * وقد سبق تفسيره والله أعلم.
قوله تعالى
* (فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين
113

ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) *
اعلم أنه لما قال قبل هذه الآية: * (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * (النحل: 97) أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعماله عن الوساوس فقال: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الشيطان ساع في إلقاء الوسوسة في القلب حتى في حق الأنبياء بدليل قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * (الحج: 52) والاستعاذة بالله مانعة للشيطان من إلقاء الوسوسة بدليل قوله تعالى: * (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) * (الأعراف: 201) فلهذا السبب أمر الله تعالى رسوله بالاستعاذة عند القراءة حتى تبقى تلك القراءة مصونة عن الوسوسة.
المسألة الثانية: قوله: * (فإذا قرأت القرآن) * خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد به الكل، لأن الرسول لما كان محتاجا إلى الاستعاذة عند القراءة فغير الرسول أولى بها.
المسألة الثالثة: الفاء في قوله: * (فاستعذ بالله) * للتعقيب فظاهر هذه الآية يدل على أن الاستعاذة بعد قراءة القرآن وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين قال الواحدي: وهو قول أبي هريرة ومالك وداود قالوا: والفائدة فيه أنه إذا قرأ القرآن استحق به ثوابا عظيما، فإن لم يأت بالاستعاذة وقعت الوسوسة في قلبه، وتلك الوسوسة تحبط ثواب القراءة أما إذا استعاذ بعد القراءة اندفعت الوساوس وبقي الثواب مصونا عن الإحباط. أما الأكثرون من علماء الصحابة والتابعين فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة، وقالوا: معنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ، وليس معناه استعذ بعد القراءة، ومثله إذا أكلت فقل: * (بسم الله) * وإذا سافرت فتأهب، ونظيره قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) * (المائدة: 6) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا، وأيضا لما ثبت أن الشيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرسول بدليل قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * (الحج: 52) ومن الظاهر أنه تعالى إنما أمر الرسول بالاستعاذة عند القراءة لدفع تلك الوساوس، فهذا المقصود إنما يحصل عند تقديم الإستعاذة.
المسألة الرابعة: مذهب عطاء: أنه تجب الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت القراءة
114

في الصلاة أو غيرها، وسائر الفقهاء اتفقوا على أنه ليس كذلك، لأنه لا خلاف بينهم أنه إن لم يتعوذ قبل القراءة في الصلاة، فصلاته ماضية، وكذلك حال القراءة في غير الصلاة لكن حال القراءة في الصلاة آكد.
المسألة الخامسة: المراد بالشيطان في هذه الآية قيل إبليس، والأقرب أنه للجنس، لأن لجميع المردة من الشياطين حظا في الوسوسة.
واعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالاستعاذة من الشيطان وكان ذلك يوهم أن للشيطان قدرة على التصرف في أبدان الناس، فأزال الله تعالى هذا الوهم، وبين أنه لا قدرة له البتة إلا على الوسوسة فقال: * (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) * ويظهر من هذا أن الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفا وأنه لا يمكنه التحفظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى، ولهذا المعنى قال المحققون: لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله تعالى، والتفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله: * (وعلى ربهم يتوكلون) *.
ثم قال: * (إنما سلطانه على الذين يتولونه) * قال ابن عباس: يطيعونه يقال: توليته أي أطعته وتوليت عنه أي أعرضت عنه: * (والذين هم به مشركون) * الضمير في قوله: (به) إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه راجع إلى ربهم. والثاني: أنه راجع إلى الشيطان والمعنى بسببه، وهذا كما تقول للرجل إذا تكلم بكلمة مؤدية إلى الكفر كفرت بهذه الكلمة أي من أجلها، فكذلك قوله: * (والذين هم به مشركون) * أي من أجله ومن أجل حمله إياهم على الشرك بالله صاروا مشركين.
قوله تعالى
* (وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنمآ أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين ءامنوا وهدى وبشرى للمسلمين) *
اعلم أنه تعالى شرع من هذا الموضوع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وفيه مسائل:
115

المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها تقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه، فأنزل الله تعالى قوله: * (وإذا بدلنا آية مكان آية) * ومعنى التبديل، رفع الشيء مع وضع غيره مكانه. وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها، وهو نسخها بآية سواها، وقوله: * (والله أعلم بما ينزل) * اعتراض دخل في الكلام، والمعنى: والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف، أي هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، وهذا توبيخ للكفار على قوله: * (إنما أنت مفتر) * أي إذا كان هو أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمد صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ، وقوله: * (بل أكثرهم لا يعلمون) * أي لا يعلمون حقيقة القرآن وفائدة النسخ والتبديل وأن ذلك لمصالح العباد كما أن الطبيب يأمر المريض بشربة، ثم بعد مدة ينهاه عنها، ويأمره بضد تلك الشربة، وقوله: * (قل نزله روح القدس من ربك) * تفسير روح القدس مر ذكره في سورة البقرة. وقال صاحب " الكشاف ": روح القدس جبريل عليه السلام أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال: حاتم الجود وزيد الخير، والمراد الروح المقدس، وحاتم الجواد وزيد الخير، والمقدس المطهر من الماء و " من " في قوله: * (من ربك) * صلة للقرآن أي أن جبريل نزل القرآن من ربك ليثبت الذين آمنوا أي ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا حكم لهم بثبات القدم في الدين وصحة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب: * (وهدى وبشرى) * مفعول لهما معطوف على محل ليثبت، والتقدير: تثبيتا لهم وإرشادا وبشارة. وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم.
المسألة الثانية: قد ذكرنا أن مذهب أبي مسلم الأصفهاني: أن النسخ غير واقع في هذه الشريعة، فقال المراد ههنا: إذا بدلنا آية مكان آية في الكتب المتقدمة مثل أنه حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال المشركون: أنت مفتر في هذا التبديل، وأما سائر المفسرين فقالوا: النسخ واقع في هذه الشريعة، والكلام فيه على الاستقصاء في سائر السور.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله: القرآن لا ينسخ بالسنة، واحتج على صحته بقوله تعالى: * (وإذا بدلنا آية مكان آية) * وهذا يقتضي أن الآية لا تصير منسوخة إلا بآية أخرى، وهذا ضعيف لأن هذه تدل على أنه تعالى يبدل آية بآية أخرى ولا دلالة فيها على أنه تعالى لا يبدل آية إلا بآية، وأيضا فجبريل عليه السلام قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية، وأيضا فالسنة قد تكون مثبتة للآية، وأيضا فهذا حكاية كلام الكفار، فكيف يصح التعلق به؟ والله أعلم.
116

قوله تعالى
* (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهاذا لسان عربى مبين * إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم * إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) *
اعلم أن المراد من هذه الآية حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنهم كانوا يقولون إن محمدا إنما يذكر هذه القصص وهذه الكلمات لأنه يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمها منه. واختلفوا في هذا البشر الذي نسب المشركون النبي صلى الله عليه وسلم إلى التعلم منه قيل: هو عبد لبني عامر بن لؤي يقال له يعيش، وكان يقرأ الكتب، وقيل: عداس غلام عتبة بن ربيعة، وقيل: عبد لبني الحضرمي صاحب كتب، وكان اسمه جبرا، وكانت قريش تقول: عبد بني الحضرمي يعلم خديجة وخديجة تعلم محمدا، وقيل: كان بمكة نصراني أعجمي اللسان اسمه بلعام ويقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية وقيل: سلمان الفارسي، وبالجملة فلا فائدة في العديد هذه الأسماء والحاصل أن القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه. ثم إنه تعالى أجاب عنه بأن قال: * (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) * ومعنى الإلحاد في اللغة الميل يقال: لحد وألحد إذا مال عن القصد، ومنه يقال للعادل عن الحق ملحد. وقرأ حمزة والكسائي: * (يلحدون) * بفتح الياء والحاء، والباقون بضم الياء وكسر الحاء قال الواحدي: والأولى ضم الياء لأنه لغة القرآن، والدليل عليه قوله: * (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) * (الحج: 25) والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة، ومنه يقال: ألحدت له لحدا إذا حفرته في جانب القبر مائلا عن الاستواء وقبر ملحد وملحود، ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها لم يمله عن دين إلى دين آخر وفسر الإلحاد
117

في هذه الآية بالقولين: قال الفراء: يميلون من الميل، وقال الزجاج: يميلون من الإمالة، أي لسان الذين يميلون القول إليه أعجمي، وأما قوله: * (أعجمي) * فقال أبو الفتح الموصلي: تركيب ع ج م وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء، وضد الباين والإيضاح، ومنه قولهم: رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان، وعجم الذنب سمي بذلك لاستتاره واختفائه، والعجماء البهيمة لأنها لا توضح ما في نفسها، وسموا صلاتي الظهر والعصر عجماوين، لأن القراءة حاصلة فيهما بالسر لا
بالجهر، فأما قولهم: أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته، وأفعلت قد يأتي والمراد منه السلب كقولهم: أشكيت فلانا إذا أزلت ما يشكوه، فهذا هو الأصل في هذه الكلمة، ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بلسانهم أعجم وأعجميا. قال الفراء وأحمد بن يحيى: الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والأعجمي والعجمي الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي: الأعجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم، ألا ترى أنهم قالوا: زيادة الأعجم لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنه كان عربيا، وأما معنى العربي واشتقاقه فقد ذكرناه عند قوله: * (الأعراب أشد كفرا ونفاقا) * (التوبة: 97) وقال الفراء والزجاج: في هذه الآية يقال عرب لسانه عرباة وعروبة هذا تفسير ألفاظ الآية:
وأما تقرير ووجه الجواب فاعلم أنه إنما يظهر إذا قلنا: القرآن إنما كان معجزا لما فيه من الفصاحة العائدة إلى اللفظ وكأنه قيل: هب أنه يتعلم المعاني من ذلك الأعجمي إلا أن القرآن إنما كان معجزا لما في ألفاظه من الفصاحة فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمدا صلى الله عليه وسلم يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح ذلك في المقصود إذ القرآن إنما كان معجزا لفصاحته وما ذكرتموه لا يقدح في ذلك المقصود، ولما ذكر الله تعالى هذا الجواب أردفه بالتهديد والوعيد، فقال: * (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله) * أما تفسير أصحابنا لهذه الآية فظاهر، وقال القاضي: أقوى ما قيل في ذلك إنه لا يهديهم إلى طريق الجنة، ولذلك قال بعده: * (ولهم عذاب أليم) * والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار، ثم إنه تعالى بين كونهم كذابين في ذلك القول فقال: * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المقصود منه أنه تعالى بين في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح فيه المقصود، ثم إنه تعالى في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصح وهم كذبوا فيه، والدليل على كونهم كاذبين في ذلك القول وجوه: الأول: أنهم لا يؤمنون بآيات الله وهم كافرون، ومتى كان
118

الأمر كذلك كانوا أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم. والثاني: أن أمر التعلم لا يتأتى في جلسة واحدة ولا يتم في الخفية، بل التعلم إنما يتم إذا اختلف المعلم إلى المتعلم أزمنة متطاولة ومددا متباعدة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أن محمدا عليه السلام يتعلم العلوم من فلان وفلان. الثالث: أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة وتعلمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في التعليم والتحقيق إلى هذا الحد لكان مشارا إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان؟
واعلم أن الطعن في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمثال هذه الكلمات الركيكة يدل على أن الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة باهرة، فإن الخصوم كانوا عاجزين عن الطعن فيها، ولأجل غاية عجزهم عدلوا إلى هذه الكلمات الركيكة.
المسألة الثانية: في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش والدليل عليه أن كلمة " إنما " للحصر، والمعنى: أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله تعالى، وإلا من كان كافرا وهذا تهديد في النهاية.
فإن قيل: قوله: * (لا يؤمنون بآيات الله) * فعل وقوله: * (وأولئك هم الكاذبون) * اسم وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية قبيح فما السبب في حصوله ههنا؟
قلنا: الفعل قد يكون لازما وقد يكون مفارقا، والدليل عليه قوله تعالى: * (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) * (يوسف: 35) ذكره بلفظ الفعل، تنبيها على أن ذلك السجن لا يدوم. وقال فرعون لموسى عليه السلام: * (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) * (الشعراء: 29) ذكره بصيغة الاسم تنبيها على الدوام، وقال أصحابنا: إنه تعالى قال: * (وعصى آدم ربه فغوى) * (طه: 121) ولا يجوز أن يقال إن آدم عاص وغاو، لأن صيغة الفعل لا تفيد الدوام، وصيغة الاسم تفيده.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: قوله: * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) * ذكر ذلك تنبيها على أن من أقدم على الكذب فكأنه دخل في الكفر، ثم قال: * (وأولئك هم الكاذبون) * تنبيها على أن صفة الكذب فيهم ثابتة راسخة دائمة. وهذا كما تقول: كذبت وأنت كاذب فيكون قولك وأنت كاذب زيادة في الوصف بالكذب. ومعناه: أن عادتك أن تكون كاذبا.
المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أن الكاذب المفتري الذي لا يؤمن بآيات الله والأمر كذلك، لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهية ونبوة الأنبياء، وهذا الإنكار مشتمل على
119

الكذب والافتراء. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: هل يكذب المؤمن؟ قال: " لا " ثم قرأ هذه الآية، والله أعلم.
قوله تعالى
* (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم * ذلك بأنهم استحبوا الحيوة الدنيا على الاخرة وأن الله لا يهدى القوم الكافرين * أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون * لا جرم أنهم فى الاخرة هم الخاسرون) *
اعلم أنه تعالى لما عظم تهديد الكافرين ذكر في هذه الآية تفصيلا في بيان من يكفر بلسانه لا بقلبه، ومن يكفر بلسان وقلبه معا، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (من كفر بالله من بعد إيمانه) * مبتدأ خبره غير مذكور، فلهذا السبب اختلف المفسرون وذكروا فيه وجوها: الأول: أن يكون قوله: * (من كفر) * بدلا من قوله: * (الذين لا يؤمنون بآيات الله) * والتقدير: إنما يفتري من كفر بالله من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء،
وعلى هذا التقدير: فقوله: * (وأولئك هم الكاذبون) * اعتراض وقع بين البدل والمبدل منه. الثاني: يجوز أيضا أن يكون بدلا من الخبر الذي هو الكاذبون والتقدير: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والثالث: يجوز أن ينتصب على الذم، والتقدير: وأولئك هم الكاذبون، أعني من كفر بالله من بعد إيمانه وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها عن التعسف، والرابع: أن يكون قوله: * (من كفر بالله من بعد إيمانه) * شرطا مبتدأ ويحذف جوابه، لأن جواب الشرط المذكور بعده يدل على جوابه كأنه قيل: من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب من الله
120

إلا من أكره: ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله.
المسألة الثانية: أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بالكفر يدل عليه وجوه: أحدها: أنا روينا أن بلالا صبر على ذلك العذاب، وكان يقول: أحد أحد. روي ناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه، مع أنه كان بقلبه مصرا على الإيمان، منهم: عمار، وأبواه ياسر وسمية، وصهيب، وبلال، وخباب، وسالم، عذبوا، فأما سمية فقيل: ربطت بين بعيرين ووخزت في قبلها بحربة وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت، وقتل ياسر وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فقيل: يا رسول الله إن عمارا كفر، فقال: كلا إن عمارا مليء إيمانا من فرقه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول: " ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت " ومنهم جبر مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر، ثم أسلم مولاه وأسلم وحسن إسلامهما وهاجرا.
المسألة الثالثة: قوله: * (إلا من أكره) * ليس باستثناء، لأن المكره ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر، لكن المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعا صح هذا الاستثناء لهذه المشاكلة.
المسألة الرابعة: يجب ههنا بيان الإكراه الذي عنده يجوز التلفظ بكلمة الكفر، وهو أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به، مثل التخويف بالقتل، ومثل الضرب الشديد والإيلامات القوية. قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وخباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وسمية. أما الرسول عليه السلام فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد، ثم أجلسوا في الشمس فبلغ منهم الجهد بحر الحديد والشمس، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم ويشتم سمية، ثم طعن الحربة في فرجها. وقال الآخرون: ما نالوا منهم غير بلال فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول: أحد أحد، حتى ملوا فكتفوه وجعلوا في عنقه حبلا من ليف ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به حتى ملوه فتركوه. قال عمار: كلنا تكلم بالذي أرادوا غير بلال، فهانت عليه نفسه فتركوه. قال خباب: لقد أوقدوا لي نارا ما أطفأها إلا ودك ظهري.
المسألة الخامسة: أجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرئ قلبه من الرضا به وأن يقتصر على التعريضات مثل أن يقول: إن محمدا كذاب، ويعني عند الكفار أو يعني به محمدا
121

آخر أو يذكره على نية الاستفهام بمعنى الإنكار وههنا بحثان:
البحث الأول: أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية كان ملوما وعفو الله متوقع.
البحث الثاني: لو ضيق المكره الأمر عليه وشرح له كل أقسام التعريضات وطلب منه أن يصرح بأنه ما أراد شيئا منها، وما أراد إلا ذلك المعنى، فههنا يتعين إما التزام الكذب، وإما تعريض النفس للقتل. فمن الناس من قال: يباح له الكذب هنا، ومنهم من يقول: ليس له ذلك وهو الذي اختاره القاضي. قال: لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذبا، فوجب أن يقبح على كل حال، ولو جاز أن يخرج عن القبيح لرعاية بعض المصالح لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح وحينئذ لا يبقى وثوق بوعد الله تعالى ولا بوعيده لاحتمال أنه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله تعالى.
المسألة السادسة: أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر، ويدل عليه وجوه: أحدها: أنا روينا أن بلالا صبر على ذلك العذاب، وكان يقول: أحد أحد، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئيس ما صنعت بل عظمه عليه، فدل ذلك على أنه لا يجب التكلم بكلمة الكفر، وثانيها: ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تقول في؟ قال أنت أيضا، فخلاه وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال رسول الله، قال: ما تقول في؟ قال: أنا أصم فأعاد عليه ثلاثا فأعاد جوابه فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئا له ". وجه الاستدلال بهذا الخبر من وجهين: الأول: أنه سمى التلفظ بكلمة الكفر رخصة. والثاني: أنه عظم حال من أمسك عنه حتى فتل. وثالثها: أن بذل النفس في تقرير الحق أشق، فوجب أن يكون أكثر ثوابا لقوله عليه السلام: " أفضل العبادات أحمزها " أي أشقها. ورابعها: أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهر قلبه ولسانه عن الكفر. أما الذي تلفظ بها فهب أن قلبه طاهر عنه إلا أن لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة، فوجب أن يكون حال الأول أفضل، والله أعلم.
المسألة السابعة: اعلم أن للإكراه مراتب.
المرتبة الأولى: أن يجب الفعل المكره عليه مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة فإذا أكرهه عليه بالسيف فههنا يجب الأكل، وذلك لأن صون الروح عن الفوات واجب، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بهذا الأكل، وليس في هذا الأكل ضرر على حيوان ولا فيه إهانة لحق الله تعالى، فوجب أن يجب لقوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (البقرة: 195).
122

المرتبة الثانية: أن يصير ذلك الفعل مباحا ولا يصير واجبا، ومثاله ما إذا أكرهه على التلفظ بكلمة الكفر فههنا يباح له ولكنه لا يجب كما قررناه.
المرتبة الثالثة: أن لا يجب ولا يباح بل يحرم، وهذا مثل ما إذا أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية، وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا؟ قال الشافعي رحمه الله: في أحد قوليه يجب القصاص ويدل عليه وجهان. الأول: أنه قتله عمدا عدوانا فيجب عليه القصاص لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) * (البقرة: 178). والثاني: أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنه يحل له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل، فلما كان توهم إقدامه على القتل يوجب إهدار دمه، فلأن يكون عند صدور القتل منه حقيقة يصير دمه مهدرا كان أولى والله أعلم.
المسألة الثامنة: من الأفعال ما يقبل الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر، ومنه ما لا يقبل الإكراه عليه قيل: وهو الزنا. لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة، فحيث دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه.
المسألة التاسعة: قال الشافعي رحمه الله: طلاق المكره لا يقع، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يقع، وحجة الشافعي رحمه الله: قوله: * (لا إكراه في الدين) * ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره، والمعنى: أنه لا أثر له ولا عبرة به، وأيضا قوله عليه السلام: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وأيضا قوله عليه السلام: " لا طلاق في إغلاق " أي إكراه فإن قالوا: طلقها فتدخل تحت قوله: * (فإن طلقها فلا تحل له) * (البقرة: 230) فالجواب لما تعارضت الدلائل، وجب أن يبقى ما كان على ما كان على ما هو قولنا والله أعلم.
المسألة العاشرة: قوله: * (وقلبه مطمئن بالإيمان) * يدل على أنه محل الإيمان هو القلب والذي محله القلب إما الاعتقاد، وإما كلام النفس، فوجب أن يكون الإيمان عبارة إما عن المعرفة وإما عن التصديق بكلام النفس والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (ولكن من شرح بالكفر صدرا) * أي فتحه ووسعه لقبول الكفر وانتصب صدرا على أنه مفعول لشرح، والتقدير: ولكن من شرح بالكفر صدره، وحذف الضمير لأنه لا يشكل بصدر غيره إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره فهو نكرة يراد بها المعرفة.
ثم قال: * (فعليهم غضب من الله) * والمعنى أنه تعالى حكم عليهم بالعذاب ثم وصف ذلك العذاب فقال: * (ولهم عذاب عظيم) *.
123

ثم قال تعالى: * (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) * أي رجحوا الدنيا على الآخرة، والمعنى: أن ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر لأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر. قال القاضي: المراد أن الله لا يهديهم إلى الجنة فيقال له هذا ضعيف، لأن قوله: * (وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) * معطوف على قوله: * (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) * فوجب أن يكون قوله: * (وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) * علة وسببا موجبا لإقدامهم على ذلك الارتداد، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سببا لذلك الارتداد، ولا علة له بل مسببا عنه ومعلولا له فبطل هذا التأويل، ثم أكد بيان أنه تعالى صرفهم عن الإيمان فقال: * (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) * قال القاضي: الطبع ليس يمنع من الإيمان ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم لهم، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذم بتركه. والثاني: أنه تعالى أشرك بين السمع والبصر وبين القلب في هذا الطبع ومعلوم من حال السمع والبصر أن مع فقدهما قد يصح أن يكون مؤمنا فضلا عن طبع يلحقهما في القلب. والثالث: وصفهم بالغفلة. ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه، فثبت أن المراد بهذا الطبع السمة والعلامة التي يخلقها في القلب، وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الطبع والختم، وأقول هذه الكلمات مع التقريرات الكثيرة، ومع الجوابات القوية مذكورة في أول سورة البقرة وفي سائر الآيات فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى: * (وأولئك هم الغافلون) * قال ابن عباس: أي عما يراد بهم في الآخرة.
ثم قال: * (لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) * واعلم أن الموجب لهذا الخسران هو أن الله تعالى وصفهم في الآيات المتقدمة بصفات ستة.
الصفة الأولى: أنهم استوجبوا غضب الله.
والصفة الثانية: أنهم استحقوا العذاب الأليم.
والصفة الثالثة: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
والصفة الرابعة: أنه تعالى حرمهم من الهداية.
والصفة الخامسة: أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
والصفة السادسة: أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة فلا جرم لا يسعون في دفعها، فثبت أنه حصل في حقهم هذه الصفات الستة التي كل واحد منها من أعظم الأحوال المانعة عن الفوز بالخيرات والسعادات، ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا
124

ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه، فلهذا السبب قال: * (لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) * أي هم الخاسرون لا غيرهم، والمقصود التنبيه على عظم خسرانهم والله أعلم.
قوله تعالى
* (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم * يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه وحال من أكره على الكفر، فذكر بسبب الخوف كلمة الكفر وحال من لم يذكرها، ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن فقال: * (إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) *.
المسألة الثانية: قرأ ابن عامر: * (فتنوا) * بفتح الفاء على إسناد الفعل إلى الفاعل، والباقون بضم الفاء على فعل ما لم يسم فاعله. أما وجه القراءة الأولى فأمور. الأول: أن يكون المراد أن أكابر المشركين وهم الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم. والثاني: أن فتن وأفتن بمعنى واحد، كما يقال: مان وأمان بمعنى واحد، والثالث: أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم، وإنما جعل ذلك فتنة، لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت. وأما وجه القراءة بفعل ما لم يسم فاعله فظاهر، لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان، فبين تعالى أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر.
المسألة الثانية: قوله: * (من بعد ما فتنوا) * يحتمل أن يكون المراد بالفتنة هو أنهم عذبوا، ويحتمل أن يكون المراد هو أنهم خوفوا بالتعذيب، ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك المسلمين ارتدوا. قال الحسن: هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة، فعرضت لهم فتنة فارتدوا
125

وشكوا في الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنهم أسلموا وهاجروا فنزلت هذه الآية فيهم، وقيل: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنية، ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك الضعفاء المعذبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقية، فقوله: * (من بعد ما فتنوا) * يحتمل كل واحد من هذه الوجوه الأربعة، وليس في اللفظ ما يدل على التعيين. إذا عرفت هذا فنقول: إن كانت هذه الآية نازلة فيمن أظهر الكفر، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره، وإن كانت واردة فيمن ارتد فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ويحصل له الغفران والرحمة، فالهاء في قوله: * (من بعدها) * تعود إلى الأعمال المذكورة فيما قبل، وهي الهجرة والجهاد والصبر.
أما قوله: * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: قال الزجاج: (يوم) منصوب على وجهين. أحدهما: أن يكون المعنى: * (إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي) * يعني أنه تعالى يعطي الرحمة والغفران في ذلك اليوم الذي يعظم احتياج الإنسان فيه إلى الرحمة والغفران. والثاني: أن يكون التقدير: وذكرهم أو أذكر يوم كذا وكذا، لأن معنى القرآن العظمة والإنذار والتذكير.
البحث الثاني: لقائل أن يقول: النفس لا تكون لها نفس أخرى، فما معنى قوله: * (كل نفس تجادل عن نفسها) *.
والجواب: النفس قد يراد به بدن الحي وقد يراد به ذات الشيء وحقيقته، فالنفس الأولى هي الجثة والبدن. والثانية: عينها وذاتها، فكأنه قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ولا يهمه شأن غيره. قال تعالى: * (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) * (عبس: 37) وعن بعضهم: تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول: يا رب نفسي نفسي حتى أن إبراهيم الخليل عليه السلام يفعل ذلك. ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم: * (هؤلاء أضلونا) * (الأعراف: 38) وقولهم: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23).
ثم قال تعالى: * (وتوفى كل نفس ما عملت) * فيه محذوف، والمعنى: توفى كل نفس جزاء ما عملت من غير بخس ولا نقصان، وقوله: * (وهم لا يظلمون) * قال الواحدي: معناه لا ينقضون. قال القاضي: هذه الآية من أقوى ما يدل على ما نذهب إليه في الوعيد، لأنها تدل على أنه تعالى يوصل إلى كل أحد
126

حقه من غير نقصان، ولو أنه تعالى أزال عقاب المذنب بسبب الشفاعة لم يصح ذلك.
والجواب: لا نزاع أن ظاهر العمومات يدل على قولكم، إلا أن مذهبنا أن التمسك بظواهر العمومات لا يفيد القطع، وأيضا فظواهر الوعيد معارضة بظواهر الوعد، ثم بينا في سورة البقرة في تفسير قوله: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) * (البقرة: 81) أن جانب الوعد راجح على جانب الوعيد من وجوه كثيرة، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هددهم أيضا بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف، كما ذكره في هذه الآية.
المسألة الثانية: المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن موجودا وقد يضرب بشيء موجود معين، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئا مفروضا ويحتمل أن تكون قرية معينة، وعلى هذا التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها، والأكثرون من المفسرين على أنها مكة، والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلا لمكة، ومثل مكة يكون غير مكة.
المسألة الثالثة: ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات:
الصفة الأولى: كونها آمنة أي ذات أمن لا يغار عليهم كما قال: * (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) * (العنكبوت: 67) والأمر في مكة كان كذلك، لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض. أما أهل مكة، فإنهم كانوا أهل حرم الله، والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم.
واعلم أنه يجوز وصف القرية بالأمن، وإن كان ذلك لأهلها لأجل أنها مكان الأمن وظرف
127

له، والظروف من الأزمنة والأمكنة توصف بما حلها، كما يقال: طيب وحار وبارد.
والصفة الثانية: قوله: * (مطمئنة) * قال الواحدي: معناه أنها قارة ساكنة فأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق. أقول: إن كان المراد من كونها مطمئنة أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف، فهذا هو معنى كونها آمنة، وإن كان المراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الضيق، فهذا هو معنى قوله: * (يأتيها رزقها رغدا من كل مكان) * وعلى كلا التقديرين فإنه يلزم التكرار.
والجواب: أن العقلاء قالوا: ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية قوله: * (آمنة) * إشارة إلى الأمن، وقوله: * (مطمئنة) * إشارة إلى الصحة، لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائما لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه، وقوله: * (يأتيها رزقها رغدا من كل مكان) * إشارة إلى الكفاية. قال المفسرون وقوله: * (من كل مكان) * السبب فيه إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام وهو قوله: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات) * (إبراهيم: 37) ثم إنه تعالى لما وصف القرية بهذه الصفات الثلاثة قال: * (فكفرت بأنعم الله) * الأنعم جمع نعمة مثل أشد وشدة أقول ههنا سؤال: وهو أن الأنعم جمع قلة، فكان المعنى: أن أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من النعم فعذبها الله، وكان اللائق أن يقال: إنهم كفروا بنعم عظيمة لله فاستوجبوا العذاب، فما السبب في ذكر جمع القلة؟.
والجواب: المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى يعني أن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب، وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به وبالغوا في إيذائه فلا جرم سلط الله عليهم البلاد. قال المفسرون: عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والقد، أما الخوف فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم. ونقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللباس؟ قال ابن الأعرابي: لا باس ولا لباس يا أيها النسناس، هب أنك تشك أن محمدا ما كان نبيا أما كان عربيا وكان مقصود ابن الراوندي الطعن في هذه الآية، وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس فكان الواجب أن يقال: فكساهم الله لباس الجوع، أو يقال: فأذاقهم الله طعم الجوع. وأقول جوابه من وجوه:
الوجه الأول: أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان. أحدهما: أن المذوق هو
128

الطعم فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع. والثاني: أن ذلك الجوع كان شديدا كاملا فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات، فأشبه اللباس. فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر الله تعالى كلا الاعتبارين، فقال: * (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) *.
والوجه الثاني: أن التقدير أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة وأصل الذوق بالفم، ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف وهو الاختبار، تقول: ناظر فلانا وذق ما عنده. قال الشاعر: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها ولباس الجوع والخوف هو ما ظهر عليهم من الضمور وشحوب اللون ونهكة البدن وتغير الحال وكسوف البال فكما تقول: تعرفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان، كذلك يجوز أن تقول: ذقت لباس الجوع والخوف على فلان.
والوجه الثالث: أن يحمل لفظ اللبس على المماسة، فصار التقدير: فأذاقها الله مساس الجوع والخوف.
ثم قال تعالى: * (بما كانوا يصنعون) * قال ابن عباس: يريد بفعلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم حين كذبوه وأخرجوه من مكة وهموا بقتله. قال الفراء: ولم يقل بما صنعت، ومثله في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى: * (فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون) * (الأعراف: 4) ولم يقل قائلة، وتحقيق الكلام أنه تعالى وصف القرية بأنها مطمئنة يأتيها رزقها رغدا فكفرت بأنعم الله، فكل هذه الصفات، وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية، إلا أن المراد في الحقيقة أهلها، فلا جرم قال في آخر الآية: * (بما كانوا يصنعون) * والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولقد جآءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون * فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون) *.
129

اعلم أنه تعالى لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال: * (ولقد جاءهم) * يعني أهل مكة * (رسول منهم) * يعني من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه * (فكذبوه فأخذهم العذاب) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني الجوع الذي كان بمكة. وقيل: القتل يوم بدر، وأقول قول ابن عباس أولى لأنه تعالى قال بعده: * (فكلوا مما رزقكم الله إن كنتم إياه تعبدون) * يعني أن ذلك الجوع إنما كان بسبب كفركم فاتركوا الكفر حتى تأكلوا، فلهذا السبب قال: * (فكلوا مما رزقكم الله) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: فكلوا يا معشر المسلمين مما رزقكم الله يريد من الغنائم. وقال الكلبي: إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا عاديت الرجال فما بال النسوان والصبيان. وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن في حمل الطعام إليهم فحمل إليهم العظام فقال الله تعالى: * (فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) * والقول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ويدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل) * (النحل: 115) الآية يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم.
قوله تعالى
* (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) *.
اعلم أن هذه الآية إلى آخرها مذكورة في سورة البقرة مفسرة هناك ولا فائدة في الإعادة وأقول: إنه تعالى حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة في هذه السورة لأن لفظة: * (إنما) * تفيد الحصر وحصرها أيضا في هذه الأربعة في سورة الأنعام في قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم) * (الأنعام: 145) وهاتان السورتان مكيتان، وحصرها أيضا في هذه الأربعة في سورة البقرة لأن هذه الآية بهذه اللفظة وردت في سورة البقرة وحصرها أيضا في سورة المائدة فإنه تعالى قال في أول هذه السورة: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) * (المائدة: 1) فأباح الكل إلا ما يتلى عليهم. وأجمعوا على أن المراد بقوله: * (عليكم) * هو قوله تعالى في تلك السورة: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) * (المائدة: 3) فذكر تلك الأربعة المذكورة في تلك السور الثلاثة ثم قال: * (والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم) * (المائدة: 3) وهذه الأشياء داخلة في الميتة، ثم قال: * (وما ذبح على النصب) * وهو أحد الأقسام الداخلة تحت قوله: * (وما أهل به لغير الله) * فثبت أن هذه السور الأربعة دالة على
130

حصر المحرمات في هذه الأربع سورتان مكيتان، وسورتان مدنيتان، فإن سورة البقرة مدنية. وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه، لأن هذه السورة دلت على أن حصر المحرمات في هذه الأربع كان شرعا ثابتا في أول أمر مكة وآخرها، وأول المدينة وآخرها وأنه تعالى أعاد هذا البيان في هذه السور الأربع قطعا للأعذار وإزالة للشبهة، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما حصر المحرمات في تلك الأربع بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه الأربع، وفي النقصان عنها أخرى، فإنهم كانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وكانوا يقولون ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، فقد زادوا في المحرمات وزادوا أيضا في المحللات وذلك لأنهم حللوا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى، فالله تعالى بين أن المحرمات هي هذه الأربعة، وبين أن الأشياء التي يقولون إن هذا حلال وهذا حرام كذب وافتراء على الله، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب، وأقول: إنه تعالى لما بين هذا الحصر في هذه السور الأربع، ثم ذكر في هذه الآية أن الزيادة عليها والنقصان عنها كذب وافتراء على الله تعالى وموجب للوعيد الشديد علمنا أنه لا مزيد على هذا الحصر، والله أعلم.
المسألة الثانية: في انتصاب الكذب في قوله: * (لما تصف ألسنتكم الكذب) * وجهان. الأول: قال الكسائي والزجاج: (ما) مصدرية، والتقدير: ولا تقولوا: لأجل وصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام نظيره أن يقال: لا تقولوا: لكذا كذا وكذا.
131

فإن قالوا: حمل الآية عليه يؤدي إلى التكرار، لأن قوله تعالى: * (لتفتروا على الله الكذب) * عين ذلك.
والجواب: أن قوله: * (لما تصف ألسنتكم الكذب) * ليس فيه بيان كذب على الله تعالى فأعاد قوله: * (لتفتروا على الله الكذب) * ليحصل فيه هذا البيان الزائد ونظائره في القرآن كثيرة. وهو أنه تعالى يذكر كلاما ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة. الثاني: أن تكون (ما) موصولة، والتقدير ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام، وحذف لفظ فيه لكونه معلوما.
المسألة الثالثة: قوله تعال: * (تصف ألسنتكم الكذب) * من فصيح الكلام وبليغه كأن ماهية الكذب وحقيقته مجهولة وكلامهم الكذب يكشف حقيقة الكذب ويوضح ماهيته، وهذا مبالغ في وصف كلامهم بكونه كذبا، ونظيره قول أبي العلاء المعري:
سرى برق المعرة بعد وهن * فبات برامة يصف الكلالا
والمعنى: أن سرى ذلك البرق يصف الكلال فكذا ههنا، والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (لتفتروا على الله الكذب) * المعنى: أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله تعالى ويقولون: إنه أمرنا بذلك. وأظن أن هذا اللام ليس لام الغرض، لأن ذلك الافتراء ما كان غرضا لهم بل كان لام العاقبة كقوله تعالى: * (ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) قال الواحدي: وقوله: * (لتفتروا على الله الكذب) * بدل من قوله: * (لما تصف ألسنتكم الكذب) * لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى، ففسر وصفهم الكذب بالافتراء على الله تعالى، ثم أوعد المفترين، وقال: * (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) * ثم بين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم من قريب، فقال: * (متاع قليل) * قال الزجاج: المعنى متاعهم متاع قليل، وقال ابن عباس: بل متاع كل الدنيا متاع قليل، ثم يردون إلى عذاب أليم، وهو قوله: * (ولهم عذاب أليم) *.
قوله تعالى
* (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام، أتبعه ببيان ما خص اليهود به من المحرمات
132

فقال: * (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) * وهو الذي سبق ذكره في سورة الأنعام.
ثم قال تعالى: * (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * وتفسيره هو المذكور في قوله تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * (النساء: 160).
قوله تعالى
* (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) *.
اعلم أن المقصود بيان أن الافتراء على الله ومخالفة أمر الله لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة. ولفظ السوء يتناول كل ما لا ينبغي وهو الكفر والمعاصي، وكل من عمل السوء فإنما يفعله بالجهالة، أما الكفر فلأن أحدا لا يرضى به مع العلم بكونه كفرا، فإنه ما لم يعتقد كون ذلك المذهب حقا وصدقا، فإنه لا يختاره ولا يرتضيه، وأما المعصية فما لم تصر الشهوة غالبة للعقل والعلم لم تصدر عنه تلك المعصية، فثبت أن كل من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة، فقال تعالى: إنا قد بالغنا في تهديد أولئك الكفار الذين يحللون ويحرمون بمقتضى السهوة والفرية على الله تعالى، ثم إنا بعد ذلك نقول: إن ربك في حق الذين عملوا السوء بسبب الجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك، أي من بعد تلك السيئة، وقيل: من بعد تلك الجهالة، ثم إنهم بعد التوبة عن تلك السيئات أصلحوا، أي آمنوا وأطاعوا الله.
ثم أعاد قوله: * (إن ربك من بعدها) * على سبيل التأكيد. ثم قال: * (لغفور رحيم) * والمعنى: إنه لغفور رحيم لذلك السوء الذي صدر عنهم بسبب الجهالة، وحاصل الكلام أن الإنسان وإن كان قد أقدم على الكفر والمعاصي دهرا دهيرا وأمدا مديدا، فإذا تاب عنه وآمن وأتى بالأعمال الصالحة فإن الله غفور رحيم، يقبل توبته ويخلصه من العذاب.
133

قوله تعالى
* (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وءاتيناه فى الدنيا حسنة وإنه فى الاخرة لمن الصالحين * ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *.
اعلم أنه تعالى لما زيف في هذه السورة مذاهب المشركين في أشياء، منها قولهم بإثبات الشركاء والأنداد لله تعالى، ومنها طعنهم في نبوة الأنبياء والرسل عليهم السلام، وقولهم لو أرسل الله رسولا لكان ذلك الرسول من الملائكة. ومنها قولهم بتحليل أشياء حرمها الله، وتحريم أشياء أباحها الله تعالى، فلما بالغ في إبطال مذاهبهم في هذه الأقوال، وكان إبراهيم عليه السلام رئيس الموحدين وقدوة الأصوليين، وهو الذي دعا الناس إلى التوحيد وإبطال الشرك وإلى الشرائع. والمشركون كانوا مفتخرين به معترفين بحسن طريقته مقرين بوجوب الاقتداء به، لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة، وحكى عنه طريقته في التوحيد ليصير ذلك حاملا لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك، واعلم أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بصفات:
الصفة الأول: أنه كان أمة، وفي تفسيره وجوه: الأول: أنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في صفات الخير كقوله: ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد الثاني: قال مجاهد، كان مؤمنا وحده، والناس كلهم كانوا كفارا فلهذا المعنى كان وحده أمة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل: " يبعثه الله أمة وحدة ". الثالث: أن يكون أمة فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والبغية، فالأمة هو الذي يؤتم به، ودليله قوله: * (إني جاعلك للناس إماما) * (البقرة: 124). الرابع: أنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ممتازين عمن سواهم بالتوحيد والدين الحقا، ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سماه الله تعالى بالأمة إطلاقا
134

لاسم المسبب على السبب، وعن شهر بن حوشب لم تبق أرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم عليه السلام فإنه كان وحده.
الصفة الثانية: كونه قانتا لله، والقانت هو القائم بما أمره الله تعالى به قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه كونه مطيعا لله.
الصفة الثالثة: كونه حنيفا والحنيف المائل إلى ملة الإسلام ميلا لا يزول عنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى، وهذه صفة الحنيفية.
الصفة الرابعة: قوله: * (ولم يك من المشركين) * معناه: أنه كان من الموحدين في الصغر والكبر والذي يقرر كونه كذلك أن أكثر همته عليه السلام كان في تقرير علم الأصول فذكر دليل إثبات الصانع مع ملك زمانه وهو قوله: * (ربي الذي يحيي ويميت) * (البقرة: 258) ثم أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) ثم كسر تلك الأصنام حتى آل الأمر إلى أن ألقوه في النار، ثم طلب من الله أن يريه كيفية إحياء الموتى ليحصل له مزيد الطمأنينة، ومن وقف على علم القرآن علم أن إبراهيم عليه السلام كان غارقا في بحر التوحيد.
الصفة الخامسة: قوله: * (شاكرا لأنعمه) * روي أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداءه فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فأظهروا أن بهم علة الجذام فقال: الآن يجب علي مؤاكلتكم فلولا عزتكم على الله تعالى لما ابتلاكم بهذا البلاء.
فإن قيل: لفظ الأنعم جمع قلة، ونعم الله تعالى على إبراهيم عليه السلام كانت كثيرة. فلم قال: * (شاكرا لأنعمه) *.
قلنا: المراد أنه كان شاكرا لجميع نعم الله إن كانت قليلة فكيف الكثيرة.
الصفة السادسة: قوله: * (اجتباه) * أي اصطفاه للنبوة. والاجتباء هو أن تأخذ الشيء بالكلية وهو افتعال من جبيت، وأصله جمع المال في الحوض والجابية هي الحوض.
الصفة السابعة: قوله: * (وهداه إلى صراط مستقيم) * أي في الدعوة إلى الله والترغيب في الدين الحق والتنفير عن الدين الباطل، نظيره قوله تعالى: * (وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) * (الأنعام: 153).
الصفة الثامنة: قوله: * (وآتيناه في الدنيا حسنة) * قال قتادة: إن الله حببه إلى كل الخلق فكل أهل الأديان يقرون به، أما المسلمون واليهود والنصارى فظاهر، وأما كفار قريش وسائر العرب فلا فخر لهم إلا به، وتحقيق الكلام أن الله أجاب دعاءه في قوله: * (واجعل لي لسان صدق
135

في الآخرين) * (الشعراء: 84) وقال آخرون: هو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وقيل: الصدق، والوفاء والعبادة.
الصفة التاسعة: قوله: * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) *.
فإن قيل: لم قال: * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) * ولم يقل: وإنه في الآخرة في أعلى مقامات الصالحين؟. قلنا: لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: * (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) * (البقرة: 130) فقال ههنا: * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) * تنبيها على أنه تعالى أجاب دعاءه ثم إن كونه من الصالحين لا ينفي أن يكون في أعلى مقامات الصالحين فإن الله تعالى بين ذلك في آية أخرى وهي قوله: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء) * (الأنعام: 83).
واعلم أنه تعالى لما وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات العالية الشريفة قال: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قال قوم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان على شريعة إبراهيم عليه السلام، وليس له شرع هو به منفرد، بل المقصود من بعثته عليه السلام إحياء شرع إبراهيم عليه السلام وعول في إثبات مذهبه على هذه الآية وهذا القول ضعيف، لأنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال: * (اتبع ملة إبراهيم) * كان المراد ذلك.
فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية وإذا كان كذلك لم يكن متابعا له فيمتنع حمل قوله: * (أن اتبع) * على هذا المعنى فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.
قلنا: يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.
البحث الثاني: قال صاحب " الكشاف ": لفظة " ثم " في قوله: * (ثم أوحينا إليك) * تدل على تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته من قبل، إن هذه اللفظة دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة عن سائر المدائح التي مدحه الله بها.
136

قوله تعالى
* (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) *.
اعلم أنه تعالى لما أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بمتابعة إبراهيم عليه السلام، وكان محمد عليه السلام اختار يوم الجمعة، فهذه المتابعة إنما تحصل إذا قلنا إن إبراهيم عليه السلام كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة، وعند هذا لسائل أن يقول: فلم اختار اليهود يوم السبت؟.
فأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) * وفي الآية قولان:
القول الأول: روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أمرهم موسى بالجمعة وقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما واحدا وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئا من أعمالكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك، وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق وهو يوم السبت، فجعل الله تعالى السبت لهم وشدد عليهم فيه، ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضا بالجمعة، فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا واتخذوا الأحد. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد ".
إذا عرفت هذا فنقول: قوله تعالى: * (على الذين اختلفوا فيه) * أي على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فاختلافهم في السبت كان اختلافهم على نبيهم في ذلك اليوم أي لأجله، وليس معنى قوله: * (اختلفوا فيه) * أن اليهود اختلفوا فيه فمنهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به، لأن اليهود اتفقوا على ذلك فلا يمكن تفسير قوله: * (اختلفوا فيه) * بهذا، بل الصحيح ما قدمناه.
فإن قال قائل: هل في العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من يوم السبت؟ وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام، وبدأ تعالى بالخلق والتكوين من يوم الأحد وتم في يوم الجمعة، فكان يوم السبت يوم الفراغ، فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال، فعينوا السبت لهذا المعنى، وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين هو يوم الأحد، فنجعل هذا اليوم عيدا لنا، فهذان الوجهان معقولان، فما الوجه في جعل يوم الجمعة عيدا لنا؟.
137

قلنا: يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام وحصول التمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه، والله أعلم.
والقول الثاني: في اختلافهم في السبت، أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة.
ثم قال تعالى: * (وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * والمعنى: أنه تعالى سيحكم يوم القيامة للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب.
قوله تعالى
* (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) *.
اعلم أنه تعالى لما أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بإتباع إبراهيم عليه السلام، بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه، فقال: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) *.
واعلم أنه تعالى أمر رسوله أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالطريق الأحسن، وقد ذكر الله تعالى هذا الجدل في آية أخرى فقال: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) * (العنكبوت: 46) ولما ذكر الله تعالى هذه الطرق الثلاثة وعطف بعضها على بعض، وجب أن تكون طرقا متغايرة متباينة، وما رأيت للمفسرين فيه كلاما ملخصا مضبوطا.
واعلم أن الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بد وأن تكون مبنية على حجة وبينة، والمقصود من ذكر الحجة، إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب المستمعين، وإما أن يكون المقصود إلزام الخصم وإفحامه.
أما القسم الأول: فينقسم أيضا إلى قسمين: لأن الحجة إما أن تكون حجة حقيقية يقينية قطعية مبرأة عن احتمال النقيض، وإما أن لا تكون كذلك، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر والإقناع الكامل، فظهر بهذا التقسيم إنحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة. أولها: الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية، وذلك هو المسمى بالحكمة، وهذه أشرف الدرجات وأعلى المقامات، وهي التي قال الله في صفتها: * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * (البقرة: 269). وثانيها: الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية
138

وهي الموعظة الحسنة. وثالثها: الدلائل التي يكون المقصود من ذكرها إلزام الخصوم وإفحامهم، وذلك هو الجدل، ثم هذا الجدل على قسمين:
القسم الأول: أن يكون دليلا مركبا من مقدمات مسلمة في المشهور عند الجمهور، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك القائل، وهذا الجدل هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن.
القسم الثاني: أن يكون ذلك الدليل مركبا من مقدمات باطلة فاسدة إلا أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين بالسفاهة والشغب، والحيل الباطلة، والطرق الفاسدة، وهذا القسم لا يليق بأهل الفضل إنما اللائق بهم هو القسم الأول، وذلك هو المراد بقوله تعالى: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * فثبت بما ذكرنا انحصار الدلائل والحجج في هذه الأقسام الثلاثة المذكورة في هذه الآية.
إذا عرفت هذا فنقول: أهل العلم ثلاث طوائف: الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالدلائل القطعية اليقينية وهي الحكمة، والقسم الثاني الذي تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة لا طلب المعرفة الحقيقية والعلوم اليقينية، والمكالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التي تفيد الإفحام والإلزام، وهذان القسمان هما الطرفان. فالأول: هو طرف الكمال، والثاني: طرف النقصان.
وأما القسم الثاني: فهو الواسطة، وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالموعظة الحسنة، وأدناها المجادلة، وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققون، وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة، وفيهم الكثيرة والغلبة، وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة، فقوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) * معناه ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالحكمة، وهي البراهين القطعية اليقينية وعوام الخلق بالموعظة الحسنة، وهي الدلائل اليقينية الإقناعية الظنية، والتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل.
ومن لطائف هذه الآية أنه قال: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * فقصر الدعوة على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كانت بالدلائل القطعية فهي الحكمة، وإن كانت بالدلائل الظنية فهي الموعظة الحسنة، أما الجدل فليس من باب الدعوة، بل المقصود منه غرض آخر مغاير
139

للدعوة وهو الإلزام والإفحام فلهذا السبب لم يقل ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن، بل قطع الجدل عن باب الدعوة تنبيها على أنه لا يحصل الدعوة، وإنما الغرض منه شيء آخر، والله أعلم.
واعلم أن هذه المباحث تدل على أنه تعالى أدرج في هذه الآية هذه الأسرار العالية الشريفة مع أن أكثر الخلق كانوا غافلين عنها، فظهر أن هذا الكتاب الكريم لا يهتدي إلى ما فيه من الأسرار إلا من كان من خواص أولي الأبصار.
ثم قال تعالى: * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * والمعنى: أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة، فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك، فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين، والذي عندي في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية، فبعضها نفوس مشرقة صافية قلية التعلق بالجسمانيات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيات وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات عديمة الالتفات إلى الروحانيات، ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها، لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها، فلهذا قال تعالى: اشتغل أنت بالدعوة ولا تطمع في حصول الهداية للكل، فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة وبإشراق النفوس المشرقة الصافية فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة، كما قال: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) * (الروم: 30) والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: هذه الآية فيها ثلاثة أقوال:
140

القول الأول: وهو الذي عليه العامة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة وقد مثلوا به قال: " والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك " فنزل جبريل عليه السلام بخواتيم سورة النحل فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد. وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء، وأبي بن كعب والشعبي وعلى هذا قالوا: إن سورة النحل كلها مكية إلا هذه الآيات الثلاث.
والقول الثاني: أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد، حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) * (البقرة: 190) وفي هذه الآية أمر الله بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا.
والقول الثالث: أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم، وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين قال ابن سيرين: إن أخذ منك رجل شيئا فخذ منه مثله، وأقول: إن حمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله تعالى وذلك يطرق الطعن إليه وهو في غاية البعد، بل الأصوب عندي أن يقال: المراد أنه تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالطريق الأحسن، ثم إن تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم، وبالإعراض عنه والحكم عليه بالكفر والضلالة وذلك مما يشوش القلوب ويوحش الصدور، ويحمل أكثر المستمعين على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة، وبالضرب ثانيا وبالشتم ثالثا، ثم إن ذلك المحق إذا شاهد تلك السفاهات، وسمع تلك المشاغبات لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب، فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
فإن قيل: فهل تقدحون فيما روي أنه عليه السلام ترك العزم على المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية؟
قلنا: لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية، لأنا نقول: تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية، إنما الذي ينازع فيه أنه لا يجوز قصر هذه الآية على هذه الواقعة، لأن ذلك يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى.
المسألة الثالثة: اعلم أنه تعالى أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتب ذلك على أربع مراتب:
141

المرتبة الأولى: قوله: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * يعني إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه، فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته وفي قوله: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * دليل على أن الأولى له أن لا يفعلن، كما أنك إذا قلت للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح، كان معناه أن الأولى بك أن لا تأكله، فذكر تعالى بطريق الرمز والتعريض على أن الأولى تركه.
والمرتبة الثانية: الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله: * (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * وهذا تصريح بأن الأولى ترك ذلك الانتقام، لأن الرحمة أفضل من القسوة والإنفاع أفضل من الإيلام.
المرتبة الثالثة: وهو ورود الأمر بالجزم بالترك وهو قوله: * (واصبر) * لأنه في المرتبة الثانية ذكر أن الترك خير وأولى، وفي هذه المرتبة الثالثة صرح بالأمر بالصبر، ولما كان الصبر في هذا المقام شاقا شديدا ذكر بعده ما يفيد سهولته فقال: * (وما صبرك إلا بالله) * أي بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي المفيد في حصول الصبر وفي حصول جميع أنواع الطاعات. ولما ذكر هذا السبب الكلي الأصلي ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب فقال: * (ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) * وذلك لأن إقدام الإنسان على الانتقام، وعلى إنزال الضرر بالغير لا يكون إلا عند هيجان الغضب، وشدة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين: أحدهما: فوات نفع كان حاصلا في الماضي وإليه الإشارة بقوله: * (ولا تحزن عليهم) * قيل معناه: ولا تحزن على قتلى أحد، ومعناه لا تحزن بسبب فوت أولئك الأصدقاء. ويرجع حاصله إلى فوت النفع. والسبب الثاني: لشدة الغضب توقع ضرر في المستقبل، وإليه الإشارة بقوله: * (ولا تك في ضيق مما يمكرون) * ومن وقف على هذه اللطائف عرف أنه لا يمكن كلام أدخل في حسن والضبط من هذا الكلام بقي في لفظ الآية مباحث:
البحث الأول: قرأ ابن كثير: * (ولا تك في ضيق) * بكسر الضاد، وفي النمل مثله، والباقون: بفتح الضاد في الحرفين. أما الوجه في القراءة المشهورة فأمور: قال أبو عبيدة: الضيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن، وما كان في القلب فإنه الضيق. وقال أبو عمرو: الضيق بالكسر الشدة والضيق بفتح الضاد الغم. وقال القتيبي: ضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين. وبهذا الطريق قلنا: إنه تصح قراءة ابن كثير.
البحث الثاني: قرىء * (ولا تكن في ضيق) *.
142

البحث الثالث: هذا من كلام المقلوب، لأن الضيق صفة، والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون الموصف حاصلا في الصفة، فكان المعنى فلا يكون الضيق فيك، إلا أن الفائدة في قوله: * (ولا تك في ضيق) * هو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشئ المحيط بالأسنان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به، فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى والله أعلم.
المرتبة الرابعة: قوله: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * وهذا يجري مجرى التهديد لأن في المرتبة الأولى رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز، وفي المرتبة الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله: * (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * وفي المرتبة الثالثة أمرنا بالصبر على سبيل الجزم، وفي هذه المرتبة الرابعة كأنه ذكر الوعيد في فعل الانتقام فقال: * (إن الله مع الذين اتقوا) * عن استيفاء الزيادة: * (والذين هم محسنون) * في ترك أصل الانتقام، فإن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين. ومن وقف على هذا التريب عرف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون على سبيل الرفق واللطف مرتبة فمرتبة، ولما قال الله لرسوله: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * ذكر هذه المراتب الأربعة، تنبيها على أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يجب أن تكون واقعة على هذا الوجه، وعند الوقوف على هذه اللطائف يعلم العاقل أن هذا الكتاب الكريم بحر لا ساحل له.
المسألة الثالثة: قوله: * (إن الله مع الذين اتقوا) * معيته بالرحمة والفضل والرتبة، وقوله: * (الذين اتقوا) * إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى، وقوله: * (والذين هم محسنون) * إشارة إلى الشفقة على خلق الله، وذلك يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين أعني التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله، وعبر عنه بعض المشايخ فقال: كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق، وقال الحكماء: كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وعن هرم بن حيان أنه قيل له عند القرب من الوفاة أوص، فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي، ولكني أوصيكم بخواتيم سورة النحل.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: إن قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * منسوخ بآية السيف، وهذا في غاية البعد، لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى، وترك التعدي وطلب الزيادة، ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف، وأكثر المفسرين مشغوفون بتكثير القول بالنسخ، ولا أرى فيه فائدة والله أعلم بالصواب.
143

قال المصنف رحمه الله: تم تفسير هذه السورة ليلة الثلاثاء بعد العشاء الآخرة بزمان معتدل،
وقال رحمه الله: الحق عزيز. والطريق بعيد. والمركب ضعيف. والقرب بعد. والوصل هجر.
والحقائق مصونة. والمعاني في غيب الغيب محصونة. والأسرار فيما وراء العز مخزونة، وبيد الخلق
القيل والقال والكمال ليس الا لله ذي الاكرام والجلال، والحمد لله رب العالمين، وصلاته على سيدنا
محمد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم.
144

سورة الإسراء
مكية، إلا الآيات: 26 و 32 و 33 و 57 ومن آية 73 إلى غاية آية 80 فمدنية وآياتها: 111، نزلت بعض القصص
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى
* (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من ءاياتنآ إنه هو السميع البصير) *
سورة بني إسرائيل عددها: مائة آية وعشر آيات
عن ابن عباس أنها مكية، غير قوله: * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض) * (الإسراء: 71) إلى قوله: * (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) * (الإسراء: 80) فإنها مدنيات، نزلت حين جاء وفد ثقيف.
* (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع) *.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: قال النحويون: * (سبحان) * اسم علم للتسبيح يقال: سبحت الله تسبيحا وسبحانا، فالتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم علم للتسبيح كقولك: كفرت اليمين تكفيرا وكفرانا وتفسيره تنزيه الله تعالى من كل سوء. قال صاحب " النظم ": السبح في اللغة التباعد، يدل عليه قوله
145

تعالى: * (إن لك في النهار سبحا) * (المزمل: 7) أي تباعدا فمعنى: سبح الله تعالى، أي بعده ونزهه عما لا ينبغي وتمام المباحث العقلية في لفظ التسبيح قد ذكرناها في أول سورة الحديد، وقد جاء في لفظ التسبيح معان أخرى: أحدها: أن التسبيح يذكر بمعنى الصلاة، ومنه قوله تعالى: * (فلولا أنه كان من المسبحين) * (الصفات: 143) أي من المصلين، والسبحة الصلاة النافلة، وإنما قيل للمصلي مسبح، لأنه معظم لله بالصلاة ومنزه له عما لا ينبغي. وثانيها: ورد التسبيح بمعنى الاستثناء في قوله تعالى: * (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) * (القلم: 28) أي تستثنون وتأويله أيضا يعود إلى تعظيم الله تعالى في الاستثناء بمشيئته. وثالثها: جاء في الحديث: " لأحرقت سبحات وجهه ما أدركت من شيء " قيل معناه نور وجهه، وقيل: سبحات وجهه، نور وجهه الذي إذا رآه الرائي قال: سبحان الله، وقوله: * (أسرى) * قال أهل اللغة: أسرى وسرى لغتان: وقوله: * (بعبده) * أجمع المفسرون على أن المراد محمد عليه الصلاة والسلام، وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر بن الحسين رحمه الله قال: سمعت الشيخ الإمام أبا القاسم سليمان الأنصاري قال: لما وصل محمد صلوات الله عليه إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في العارج أوحى الله تعالى إليه: يا محمد بم أشرفك؟ قال: " رب بأن تنسبني إلى نفسك بالعبودية " فأنزل الله فيه: * (سبحان الذي أسرى بعبده) * وقوله: * (ليلا) * نصب على الظرف.
فإن قيل: الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل؟
قلنا: أراد بقوله: * (ليلا) * بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية، واختلفوا في ذلك الليل قال مقاتل: كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة، ونقل صاحب " الكشاف " عن أنس والحسن أنه كان ذلك قبل البعثة. وقوله: * (من المسجد الحرام) * اختلفوا في المكان الذي أسرى به منه، فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " وقيل أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب. والمراد على هذا القول بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به، وعن ابن عباس الحرم كله مسجد، وهذا قول الأكثرين وقوله: * (إلى المسجد الأقصى) * اتفقوا على أن المراد منه بيت المقدس وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام وقوله: * (الذي باركنا حوله) * قيل بالثمار والأزهار، وقيل بسبب أنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة.
واعلم أن كلمة * (إلى) * لانتهاء الغاية فمدلول قوله: * (إلى المسجد الأقصى) * أنه وصل إلى حد ذلك
146

المسجد فأما أنه دخل ذلك المسجد أم لا فليس في اللفظ دلالة عليه، وقوله: * (لنريه من آياتنا) * يعني ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى.
فإن قالوا: قوله: * (لنريه من آياتنا) * يدل على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات، لأن كلمة * (من) * تفيد التبعيض، وقال في حق إبراهيم: * (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * (الأنعام: 75) فيلزم أن يكون معراج إبراهيم عليه السلام أفضل من معراج محمد صلى الله عليه وسلم.
قلنا: الذي رآه إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، والذي رآه محمد صلى الله عليه وسلم بعض آيات الله تعالى، ولا شك أن آيات الله أفضل.
ثم قال: * (إنه هو السميع العليم) * أي أن الذي أسرى بعبده هو السميع لأقوال محمد، البصير بأفعاله، العالم بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الرياء، مقرونة بالصدق والصفاء، فلهذا السبب خصه الله تعالى بهذه الكرامات، وقيل: المراد سميع لما يقولون للرسول في هذا الأمر، بصير بما يعملون في هذه الواقعة.
المسألة الثانية: اختلف في كيفية ذلك الإسراء فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أسرى بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقلون قالوا: إنه ما أسري إلا بروحه حكي عن محمد بن جرير الطبري في " تفسيره " عن حذيفة أنه قال ذلك رؤيا. وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أسري بروحه، وحكي هذا القول أيضا عن عائشة رضي الله عنها، وعن معاوية رضي الله عنه. واعلم أن الكلام في هذا الباب يقع في مقامين: أحدهما: في إثبات الجواز العقلي. الثاني: في الوقوع.
أما المقام الأول: وهو إثبات الجواز العقلي، فنقول: الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها والله تعالى قادر على جميع الممكنات، وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع، فنفتقر ههنا إلى بيان مقدمتين:
المقدمة الأولى: في إثبات أن الحركة الواقعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها ويدل عليه وجوه:
الوجه الأول: أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر الواحد إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع، فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع وبتقدير أن يقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم فهو لم يتحرك إلا بمقدار نصف القطر فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر
147

أولى بالإمكان، فهذا برهان قاطع على أن الارتقاء من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه، وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان والله أعلم.
الوجه الثاني: وهو أنه ثبت في الهندسة أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين وكذا مرة ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع، وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه.
الوجه الثالث: أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم، فإن كان القول بمعراج محمد صلى الله عليه وسلم في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول، كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنا في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة، فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد، يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه الصلاة والسلام في اللحظة ممن العرش إلى مكة، ولما كان ذلك باطلا كان ما ذكروه أيضا باطلا.
فإن قالوا: نحن لا نقول إن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم ينتقل من مكان إلى مكان، وإنما نقول المراد من نزول جبريل عليه السلام هو زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد صلى الله عليه وسلم حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرا متجليا في ذات جبريل عليه الصلاة والسلام.
قلنا: تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء، فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة، وإذا كان كذلك كان الإلزام المذكور قويا، روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة المعراج كذبه الكل وذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له: إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر: إن كان قد قال ذلك فهو صادق، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الرسول له تلك التفاصيل، فكلما ذكر شيئا قال أبو بكر صدقت
فلما تمم الكلام قال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله حقا، فقال له الرسول: وأنا أشهد أنك الصديق حقا، وحاصل الكلام أن أبا بكر رضي الله عنه كأنه قال لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا؟
الوجه الرابع: أن أكثر أرباب الملل والنحل يسلمون وجود إبليس ويسلمون أنه هو الذي
148

يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم، ويسلمون أنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم، فلما سلموا جواز مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس فلأن يسلموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى، وهذا الإلزام قوي على من يسلم أن إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان، أما الذين يقولون إنه من الأرواح الخبيثة الشريرة وأنه ليس بجسم ولا جسماني، فهذا الإلزام غير وارد عليهم، إلا أن أكثر أرباب الملل والنحل يوافقون على أنه جسم لطيف متنقل.
فإن قالوا: هب أن الملائكة والشياطين يصح في حقهم حصول مثل هذه الحركة السريعة لأنهم أجسام لطيفة، ولا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها، أما الإنسان فإنه جسم كثيف فكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة السريعة فيه؟
قلنا: نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشياطين على أن حصول حركة منتهية في السرعة إلى هذا الحد ممكن في نفس الأمر، وأما بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها كانت أيضا ممكنة الحصول في جسم البدن الإنساني، فذاك مقام آخر سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى،
الوجه الخامس: أنه جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه الصلاة والسلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة قال تعالى في صفة مسير سليمان عليه الصلاة والسلام: * (غدوها شهر ورواحها شهر) * (سبأ: 12) بل نقول: الحس يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة، وذلك أيضا يدل على أن مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة.
الوجه السادس: أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى: * (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) * (النمل: 40) وإذا كان ممكنا في حق بعض الناس، علمنا أنه في نفسه ممكن الوجود.
الوجه السابع: إن من الناس من يقول: الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه ويتصل بالمبصر ثم إنا إذا فتحنا العين ونظرنا إلى رجل رأيناه فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة، وذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السريعة من الممكنات لا من الممتنعات، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه.
المقدمة الثانية: في بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها وجب أن لا يكون
149

حصولها في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممتنعا، والذي يدل عليه أنا بينا بالدلائل القطعية أن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها، فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام، وذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صلى الله عليه وسلم أمر ممكن الوجود في نفسه.
وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات، وثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممكن، فوجب كونه تعالى قادرا عليه وحينئذ يلزم من مجموع هذه المقدمات أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه، أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجب، إلا أن هذا التعجب غير مخصوص بهذا المقام، بل هو حاصل في جميع المعجزات، فانقلاب العصا ثعبانا تبلغ سبعين ألف حبل من الحبال والعصي، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب، وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم، وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب، وكذا القول في جميع المعجزات فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار والدفع، لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات وإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال فكذا ههنا، فهذا تمام القول في بيان أن القول بالمعراج ممكن غير ممتنع والله أعلم.
المقام الثاني: في البحث عن وقوع المعراج قال أهل التحقيق: الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد صلى الله عليه وسلم وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر، أما القرآن فهو هذه الآية، وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والروح، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا لمجموع الجسد والروح.
واعلم أن هذا الاستدلال موقوف على أن الإنسان هو الروح وحده أو الجسد وحده أو مجموع الجسد والروح، أما القائلون بأن الإنسان هو الروح وحده، فقد احتجوا عليه بوجوه: أحدها: أن الإنسان شيء واحد باق من أول عمره إلى آخر، والأجزاء البدنية في التبدل والتغير والانتقال والباقي غير متبدل، فالإنسان مغاير لهذا البدن. وثانيها: إن الإنسان قد يكون عارفا بذاته المخصوصة حال ما يكون غافلا عن جميع أجزائه البدنية، والمعلوم مغاير للمغفول عنه، فالإنسان مغاير لهذا البدن. وثالثها: أن الإنسان يقول بمقتضى فطرته السليمة يدي ورجلي ودماغي وقلبي، وكذا القول في سائر الأعضاء فيضيف كلها إلى ذاته المخصوصة والمضاف غير المضاف إليه فذاته المخصوصة وجب أن تكون مغايرة لكل هذه الأعضاء.
150

فإن قالوا: أليس أنه يضيف ذاته إلى نفسه، فيقول ذاتي ونفسي فيلزمكم أن تكون نفسه مغايرة لذاته، وهذا محال.
قلنا: نحن لا نتمسك بمجرد اللفظ حتى يلزمنا ما ذكرتموه، بل إنما نتمسك بمحض العقل، فإن صريح العقل يدل على أن الإنسان موجود واحد وذلك الشيء الواحد يأخذ بآله اليد ويبصر بآلة العين، ويسمع بآلة الأذن فالإنسان شيء واحد، وهذه الأعضاء آلات له في هذه الأفعال، وذلك يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء
والآلات، فثبت بهذه الوجوه أن الإنسان شيء مغاير لهذه البنية ولهذا الجسد.
إذا ثبت هذا فنقول: * (سبحان الذي أسرى بعبده) * المراد من العبد جوهر الروح وعلى هذا التقرير فلم يبقى في الآية دلالة على حصول الإسراء بالجسد.
فإن قالوا: فالإسراء بالروح ليس بأمر مخالف للعادة، فلا يليق به أن يقال: * (سبحان الذي أسرى بعبده) *.
قلنا: هذا أيضا بعيد، لأنه لا يبعد أن يقال: إنه حصل لروحه من أنواع المكاشفات والمشاهدات ما لم يحصل لغيره البتة، فلا جرم كان هذا الكلام لائقا به، فهذا تقرير وجه السؤال على الاستدلال بهذه الآية في إثبات المعراج بالروح والجسد معا.
والجواب: أن لفظ العبد لا يتناول إلا مجموع الروح والجسد، والدليل عليه قوله تعالى: * (أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى) * (العلق: 9، 10) ولا شك أن المراد من العبد ههنا مجموع الروح والجسد. وقال أيضا في سورة الجن: * (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) * (الجن: 19) والمراد مجموع الروح والجسد فكذا ههنا، وأما الخبر فهو الحديث المروي في الصحاح وهو مشهور وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس، ثم منه إلى السماوات، واحتج المنكرون له بوجوه: أحدها: بالوجوه العقلية وهي ثلاثة: أولها: أن الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة. وثانيها: أن صعود الجرم الثقيل إلى السماوات غير معقول. وثالثها: أن صعوده إلى السماوات يوجب انحراق الأفلاك، وذلك محال.
والشبهة الثانية: أن هذا المعنى لو صح لكان أعظم من سائر المعجزات وكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع الناس حتى يستدلوا به على صدقه في ادعاء النبوة، فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه أحد ولا يشاهده أحد، فإنه يكون ذلك عبثا، وذلك لا يليق بالحكيم.
والشبهة الثالثة: تمسكوا بقوله: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) * (الإسراء: 60) وما تلك الرؤيا إلا حديث المعراج، وإنما كان فتنة للناس؟ لأن كثيرا ممن آمن به لما سمع هذا الكلام كذبه وكفر
151

به فكان حديث المعراج سببا لفتنة الناس، فثبت أن ذلك رؤيا رآه في المنام. الشبهة الرابعة: أن حديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة، منها ما روي من شق بطنه وتطهيره بما زمزم وهو بعيد، لأن الذي يمكن غسله بالماء هو النجاسات العينية ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة والأخلاق المذمومة، ومنها ما روي من ركوب البراق وهو بعيد، لأنه تعالى لما سيره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك، فأي حاجة إلى البراق، ومنها ما روي أنه تعالى أوجب خمسين صلاة ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يزل يتردد بين الله تعالى وبين موسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه الصلاة والسلام. قال القاضي: وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضوره، وأنه يوجب البداء وذلك على الله تعالى محال، فثبت أن ذلك الحديث مشتمل على ما يجوز قبوله فكان مردودا.
والجواب عن الوجوه العقلية قد سبق فلا نعيدها.
والجواب عن الشبهة الثانية: ما ذكره الله تعالى وهو قوله: * (لنريه من آياتنا) * وهذا كلام مجمل وفي تفصيله وشرحه وجوه: الأول: أن خيرات الجنة عظيمة، وأهوال النار شديدة، فلو أنه عليه الصلاة والسلام ما شاهدهما في الدنيا، ثم شاهدهما في ابتداء يوم القيامة فربما رغب في خيرات الجنة أو خاف من أهوال النار، أما لما شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة فلا يبقى مشغول القلب بهما، وحينئذ يتفرغ للشفاعة. الثاني: لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة، صارت سببا لتكامل مصلحته أو مصلحتهم. الثالث: أنه لا يبعد أنه إذا صعد الفلك وشاهد أحوال السماوات والكرسي والعرش، صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه، فتحصل له زيادة قوة في القلب باعتبارها يكون في شروعه في الدعوة إلى الله تعالى أكمل وقلة التفاته إلى أعداء الله تعالى أقوى، يبين ذلك أن من عاين قدرة الله تعالى في هذا الباب، لا يكون حاله في قوة النفس وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما يكون عليه حال من لم يعاين.
واعلم أن قوله: * (لنريه من آياتنا) * كالدلالة على أن فائدة ذلك الإسراءة مختصة به وعائدة إلى على بسل التعيين.
والجواب عن الشبهة الثالثة: أنا عند الانتهاء إلى تفسير تلك الآية في هذه السورة نبين أن تلك الرؤيا رؤيا عيان لا رؤيا منام.
والجواب عن الشبهة الرابعة: لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والله أعلم.
152

المسألة الرابعة: أما العروج إلى السماوات وإلى ما فوق العرش، فهذه الآية لا تدل عليه، ومنهم من استدل عليه بأول سورة والنجم، ومنهم من استدل عليه بقوله تعالى: * (لتركبن طبقا عن طبق) * (الإنشقاق: 19) وتفسيرهما مذكور في موضعه، وأما دلالة الحديث فكما سلف والله أعلم.
* (وءاتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى إسراءيل ألا تتخذوا من دونى وكيلا * ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الكلام في الآية التي قبل هذه الآية، وفيها انتقل من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة، لأن قوله: * (سبحان الذي أسرى) * فيه ذكر الله على سبيل الغيبة وقوله: * (باركنا حوله لنريه من آياتنا) * فيه ثلاثة ألفاظ دالة على الحضور وقوله: * (إنه هو السميع البصير) * يدل على الغيبة وقوله: * (وآتينا موسى الكتاب) * الخ يدل على الحضور وانتقال الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس يسمى صنعة الالتفات.
المسألة الثانية: ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن أسرى به، وذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه فقال: * (وآتينا موسى الكتاب) * يعني التوراة: * (وجعلناه هدى) * أي يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق
وقوه: * (ألا تتخذوا من دوني وكيلا) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ أبو عمرو: * (ألا تتخذوا) * بالياء خبرا عن بني إسرائيل والباقون بالتاء على الخطاب، أي قلنا لهم لا تتخذوا.
البحث الثاني: قال أبو علي الفارسي: إن قوله: * (ألا تتخذوا) * فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون (أن) ناصبة للفعل فيكون المعنى: وجعلناه هدى لئلا تتخذوا. وثانيها: أن تكون (أن) بمعنى أي التي للتفسير وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قراءة العامة كما انصرف منها إلى الخطاب. والأمر في قوله: * (وانطلق الملأ منهم أن امشوا) * (ص: 6) فكذلك انصرف من الغيبة إلى النهي في قوله: * (ألا تتخذوا) *. وثالثها: أن تكون (أن) زائدة ويجعل تتخذوا على القول المضمر والتقدير: وجعلناه هدى لبني إسرائيل فقلنا لا تتخذوا من دوني وكيلا.
153

البحث الثالث: قوله: * (وكيلا) * أي ربا تكلون أموركم إليه. أقول حاصل الكلام في الآية: أنه تعالى ذكر تشريف محمد صلى الله عليه وسلم بالإسراء، ثم ذكر عقيبه تشريف موسى عليه الصلاة والسلام بإنزال التوراة عليه، ثم وصف التوراة بكونها هدى، ثم بين أن التوراة إنما كان هدى لاشتماله على النهي عن اتخاذ غير الله وكيلا، وذلك هو التوحيد، فرجع حاصل الكلام بعد رعاية هذه المراتب أنه لا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا منقبة أعظم من أن يصير المرء غرقا في بحر التوحيد وأن لا يعول في أمر من الأمور إلا على الله، فإن نطق، نطق بذكر الله، وإن تفكر، تفكر في دلائل تنزيه الله تعالى، وإن طلب طلب من الله، فيكون كله لله وبالله، ثم قال: * (ذرية من حملنا مع نوح) * وفي نصب * (ذرية) * وجهان:
الوجه الأول: أن يكون نصبا على النداء يعني: يا ذرية من حملنا مع نوح وهذا قول مجاهد لأنه قال: هذا نداء قال الواحدي: وإنما يصح هذا على قراءة من قرأ بالتاء كأنه قيل لهم: لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا مع نوح في السفينة قال قتادة: الناس كلهم ذرية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين: سام وحام ويافث فالناس كلهم من ذرية أولئك، فكان قوله: يا ذرية من حملنا مع نوح، قائما مقام قوله: * (يا أيها الناس) *.
الوجه الثاني: في نصب قوله: * (ذرية) * أن الاتخاذ فعل يتعدى إلى مفعولين كقوله: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * (النساء: 125) والتقدير: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلا، ثم إنه تعالى أثنى على نوح فقال: * (إنه كان عبدا شكورا) * (الإسراء: 3) أي كان كثير الشكر، روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أكل قال: " الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني " وإذا شرب قال: " الحمد لله الذي أسقاني ولو شاء أظمأني " وإذا اكتسى قال: " الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني " وإذا احتذى قال: " الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني " وإذا قضى حاجته قال: " الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه " وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا آثره به.
فإن قيل: قوله: * (إنه كان عبدا شكورا) * ما وجه ملايمته لما قبله؟
قلنا: التقدير كأنه قال: لا تتخذوا من دوني وكيلا ولا تشركوا بي، لأن نوحا عليه الصلاة والسلام كان عبدا شكورا، وإنما يكون العبد شكورا لو كان موحدا لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله وأنتم ذرية قومه فاقتدوا بنوح عليه السلام، كما أن آباءكم اقتدوا به والله أعلم.
154

قوله تعالى
* (وقضينآ إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدن فى الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنآ أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، وبأنه جعل التوراة هدى لهم، بين أنهم ما اهتدوا بهداه، بل وقعوا في الفساد فقال: * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: القضاء في اللغة عبارة عن قطع الأشياء عن إحكام، ومنه قوله: * (فقضاهن سبع سماوات) * (فصلت: 12) وقول الشاعر: وعليهما مسرودتان قضاهما داود
فقوله: * (وقضينا) * أي أعلمناهم وأخبرناهم بذلك وأوحينا إليهم. ولفظ * (إلى) * صلة للإيحاء، لأن معنى قضينا أوحينا إليهم كذا. وقوله: * (لتفسدن) * يريد المعاصي وخلاف أحكام التوراة وقوله: * (في الأرض) * يعني أرض مصر وقوله: * (ولتعلن علوا كبيرا) * يعني أنه يكون استعلاؤكم على الناس بغير الحق استعلاء عظيما، لأنه يقال لكل متجبر: قد علا وتعظم، ثم قال: * (فإذا جاء وعد أولاهما) * يعني أولى المرتين: * (بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد) * والمعنى: أنه إذا جاء وعد الفساق في المرة الأولى أرسلنا عليكم قوما أولى بأس شديد، ونجدة وشدة، والبأس القتال، ومنه قوله تعالى: * (وحين البأس) * (البقرة: 177) ومعنى بعثنا عليكم أرسلنا عليكم، وخلينا بينكم وبينهم خاذلين إياكم، واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم؟ قيل: إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء، وذلك أول الفسادين فسلط الله عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض الله ملكا آخر غزا أهل بابل واتفق أن
155

تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، فهو قوله: * (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) *.
والقول الثاني: إن المراد من قوله: * (بعثنا عليكم عبادا لنا) * أن الله تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله: * (ثم رددنا لكم الكرة) * هو أنه تعالى
قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة.
والقول الثالث: إن قوله: * (بعثنا عليكم عبادا لنا) * هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم.
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواما قتلوهم وأفنوهم.
ثم قال تعالى: * (فجاسوا خلال الديار) * قال الليث: الجوس والجوسان التردد خلال الديار، والبيوت في الفساد، والخلال هو الانفراج بين الشيئين، والديار ديار بيت المقدس، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فعن ابن عباس فتشوا وقال أبو عبيدة: طلبوا من فيها. وقال ابن قتيبة: عاثوا وأفسدوا. وقال الزجاج: طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه. قال الواحدي: الجوس هو التردد والطلب وذلك محتمل لكل ما قالوه.
ثم قال تعالى: * (وكان وعدا مفعولا) * أي كان قضاء الله بذلك قضاء جزما حتما لا يقبل النقض والنسخ، ثم قال تعالى: * (ثم رددنا لكم الكرة) * أي أهلكنا أعداءكم ورددنا الدولة والقوة عليكم: * (وجعلناكم أكثر نفيرا) * النفير العدد من الرجال وأصله من نفر مع الرجل من عشيرته وقومه، والنفير والنافر واحد، كالقدير والقادر، وذكرنا معنى نفر عند قوله: * (فلولا نفر من كل فرقة) * (التوبة: 122) وقوله: * (انفروا خفافا) * (التوبة: 41).
المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في مسألة القضاء والقدر من وجوه: الأول: أنه تعالى قال: * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا) * وهذا القضاء أقل احتمالاته الحكم الجزم، والخبر الحتم، فثبت أنه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبرا جزما لا يقبل النسخ، لأن القضاء معناه الحكم الجزم على ما شرحناه. ثم إنه تعالى أكد ذلك القضاء مزيد تأكيد فقال: * (وكان وعدا مفعولا) *.
156

إذا ثبت هذا فنقول: عدم وقوع ذلك الفساد عنهم يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذبا وانقلاب حكمه الجازم باطلا، وانقلاب علمه الحق جهلا، وكل ذلك محال، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالا، فكان إقدامهم عليه واجبا ضروريا لا يقبل النسخ والرفع، مع أنهم كلفوا بتركه ولعنوا على فعله، وذلك يدل على قولنا: إن الله قد يأمر بشيء ويصد عنه وقد ينهى عن شيء ويقضي بتحصيله، فهذا أحد وجوه الاستدلال بهذه الآية.
الوجه الثاني: في الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى: * (بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد) * والمراد أولئك الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنهب والأسر، فبين تعالى أنه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل، ولا شك أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملا على الظلم الكثير والمعاصي العظيمة. ثم إنه تعالى أضاف كل ذلك إلى نفسه بقوله: * (ثم بعثنا عليكم) * وذلك يدل على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى.
أجاب الجبائي عنه من وجهين: الأول: المراد من * (بعثنا عليكم) * هو أنه تعالى أمر أولئك الأقوام بغزو بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الفساد، فأضيف ذلك الفعل إلى الله تعالى من حيث الأمر. والثاني: أن يكون المراد خلينا بينهم وبين بني إسرائيل، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم. وحاصل الكلام أن المراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع.
واعلم أن الجواب الأول ضعيف؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظ التوراة لا يجوز أن يقال إنهم فعلوا ذلك بأمر الله تعالى. والجواب الثاني أيضا ضعيف، لأن البعث على الفعل عبارة عن التقوية عليه وإلقاء الدواعي القوية في القلب، وأما التخلية فعبارة عن عدم المنع، والأول فعل، والثاني ترك، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدين بالآخر وأنه لا يجوز، فثبت صحة ما ذكرناه والله أعلم.
قوله تعالى
* (إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جآء وعد الاخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن
157

عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواما قصدوهم بالقتل والنهب والسبي، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم، وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب، وأن الإساءة إليها قبيحة، فلهذا المعنى قال تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) *.
المسألة الثانية؛ قال الواحدي: لا بد ههنا من إضمار، والتقدير: وقلنا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، والمعنى: إن أحسنتم بفعل الطاعات فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات، وإن أسأتم بفعل المحرمات أسأتم إلى أنفسكم من حيث إن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات.
المسألة الثالثة: قال النحويون: إنما قال: * (وإن أسأتم فلها) * للتقابل والمعنى: فإليها أو فعليها مع أن حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض، كقوله تعالى: * (يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها) * (الزلزلة: 4، 5) أي إليها.
المسألة الرابعة؛ قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال: * (إن أحسنتم أحسنتم
لأنفسكم) * ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال: * (وإن أسأتم فلها) * ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك.
ثم قال تعالى: * (فإذا جاء وعد الآخرة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال المفسرون: معناه وعد المرة الأخيرة، وهذه المرة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام. قال الواحدي: فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وقتل وخرب بيت المقدس أقول: التواريخ تشهد بأن بختنصر كان قبل وقت عيسى عليه الصلاة والسلام ويحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام بسنين متطاولة، ومعلوم أن الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له:
158

قسطنطين الملك، والله أعلم بأحوالهم، ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام.
المسألة الثانية: جواب قوله: * (فإذا جاء) * محذوف تقديره: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسؤوا وجوهكم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ما تقدم عليه من قوله: * (بعثنا عليكم عبادا لنا) * (الإسراء: 5) ثم قال: * (ليسؤوا وجوهكم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: يقال: ساءه يسوءه أي أحزنه، وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه، لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والإسفار في الوجه. وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه، فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن.
المسألة الثانية: قرأ العامة: ليسؤوا على صيغة المغايبة، قال الواحدي: وهي موافقة للمعنى وللفظ. أما المعنى فهو أن المبعوثين هم الذين يسؤونهم في الحقيقة، لأنهم هم الذين يقتلون ويأسرون وأما اللفظ فلأنه يوافق قوله: * (وليدخلوا المسجد) * وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة: * (ليسوء) * على إسناد الفعل إلى الواحد، وذلك الواحد يحتمل أن يكون أحد أشياء ثلاثة: إما اسم الله سبحانه لأن الذي تقدم هو قوله: ثم ردنا وأمددنا، وكل ذلك ضمير عائد إلى الله تعالى، وإما أن يكون ذلك الواحد هو البعث ودل عليه قوله: * (بعثنا) * والفعل المتقدم يدل على المصدر كقوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم) * (آل عمران: 18) وقال الزجاج: ليسوء الوعد وجوهكم، وقرأ الكسائي بالنون وهذا على إسناد الفعل إلى الله تعالى كقوله: بعثنا عليكم وأمددنا.
ثم قال تعالى: * (وليتبروا ما علوا تتبيرا) * يقال: تبر الشيء تبرا إذا هلك وتبره أهلكه. قال الزجاج: كل شيء جعلته مكسرا ومفتتا فقد تبرته، ومنه قيل: تبر الزجاج وتبر الذهب لمكسره، ومنه قوله تعالى: * (إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) * (الأعراف: 139) وقوله: * (ولا تزد الظالمين إلا تبارا) * (نوح: 28) وقوله: * (ما علوا) * يحتمل ما غلبوا عليه وظفروا به، ويحتمل ويتبروا ما داموا غالبين، أي ما دام سلطانهم جاريا على بني إسرائيل، وقوله: * (تتبيرا) * ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر وإزالة الشك في صدقه كقوله: * (وكلم الله موسى تكليما) * (النساء: 164) أي حقا، والمعنى: وليدمروا ويخربوا ما غلبوا عليه.
ثم قال تعالى: * (عسى ربكم أن يرحمكم) * والمعنى: لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل.
159

ثم قال: * (وإن عدتم عدنا) * يعني: أن بعثنا عليكم من بعثنا، ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي، ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم، فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى. قال القفال: إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبرا عن بني إسرائيل: * (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) * (الأعراف: 167) ثم قال: * (وإن عدتم عدنا) * أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب. فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان.
ثم قال تعالى: * (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) * والحصير فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى الفاعل، أي وجعلنا جهنم حاصرة لهم، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول، أي جعلناها موضعا محصورا لهم، والمعنى أن عذاب الدنيا وإن كان شديدا قويا إلا أنه قد يتفلت بعض الناس عنه، والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص عنه، إما بالموت وإما بطريق آخر، وأما عذاب الآخرة فإنه يكون حاصرا للإنسان محيطا به لا رجاء في الخلاص عنه، فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطا بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبدا.
* (إن هذا القرءان يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا * وأن الذين لا يؤمنون بالاخرة أعتدنا لهم عذابا أليما) *
اعلم أنه تعالى لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين وهو الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيتاء الكتاب لموسى عليه الصلاة والسلام، وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم، كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته توجب كل بلية وغرامة، لا جرم أثنى على القرآن فقال: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) *.
160

واعلم أن قوله تعالى: * (دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا) * (إبراهيم: 161) يدل على كون هذا الدين مستقيما، وقوله في هذه الآية: * (للتي هي أقوم) * يدل على أن هذا الدين أقوم من سائر الأديان. وأقول: قولنا هذا الشيء أقوم من ذاك، إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية، وهذا محال لأن المراد من كونه مستقيما كونه حقا وصدقا، ودخول التفاوت في كون الشيء حقا وصدقا محال، فكان وصفه بأنه أقوم مجازا، إلا أن لفظ الأفعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا: الله أكبر أي الله كبير، وقولنا: الأشج والناقص أعدلا بني مروان، أي: عادلا
بني مروان، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف. والله أعلم.
البحث الثاني: قوله: * (للتي هي أقوم) * نعت لموصوف محذوف، والتقدير: يهدي للملة أو الشريعة أو الطريقة التي هي أقوم الملل والشرائع والطرق، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله: * (ادفع بالتي هي أحسن) * (فصلت: 34) أي بالخصلة التي هي أحسن.
أما قوله: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) * فاعلم أنه تعالى وصف القرآن بثلاثة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: أنه يهدي للتي هي أقوم، وقد مر تفسيره.
والصفة الثانية: أنه يبشر الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير، وذلك لأن الصفة الأولى لما دلت على كون القرآن هاديا إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح، وجب أن يظهر لهذا الصواب والصلاح أثر، وذلك هو الأجر الكبير لأن الطريق الأقوم لا بد وأن يفيد الربح الأكبر والنفع الأعظم.
والصفة الثالثة: قوله: * (وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما) * وذلك لأن الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح، كما يوجب لفاعله النفع الأكمل الأعظم، فكذلك تركه يوجب لتاركه الضرر الأعظم الأكمل.
واعلم أن قوله: * (وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة) * عطف على قوله: * (أن لهم أجرا كبيرا) * والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم، ونظيره قوله: بشرت زيدا أنه سيعطى وبأن عدوه سيمنع.
فإن قيل: كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب؟
قلنا: مذكور على سبيل التهكم، أو يقال: إنه من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر، كقوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40).
161

فإن قيل: هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة، فكيف يليق بهذا الموضع قوله: * (وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما) *.
قلنا عنه جوابان: أحدهما: أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين، والثاني: أن بعضهم قال: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) * (آل عمران: 24) فهم في هذا القول صاروا كالمنكرين للآخرة، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير وكان الإنسان عجولا) *
وفي الآية مباحث:
البحث الأول: اعلم أن وجه النظم هو أن الإنسان بعد أن أنزل الله عليه القرآن وخصه بهذه النعمة العظيمة والكرامة الكاملة، قد يعدل عن التمسك بشرائعه والرجوع إلى بياناته، ويقدم على ما لا فائدة فيه فقال: * (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير) *.
البحث الثاني: اختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشر على أقوال:
القول الأول: المراد منه: النضر بن الحرث حيث قال: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) * (الأنفال: 32) فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته، فكان بعضهم يقول: ائتنا بعذاب الله. وآخرون يقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. وإنما فعلوا ذلك للجهل واعتقاد أن محمدا كاذب فيما يقول.
والقول الثاني: المراد أنه في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئن بالليل فقالت له: ما لك تئن؟ فشكى ألم القيد فأرخت له من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي عليه الصلاة والسلام دعا به فأعلم بشأنه، فقال عليه الصلاة والسلام: " اللهم اقطع يدها " فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله يدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني سألت الله أن يجعل دعائي على من لا يستحق عذابا من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما تغضبون، فلترد سودة يدها ".
والقول الثالث: أقول: يحتمل أن يكون المراد: أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن خيره فيه، مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولا مغترا بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها.
162

البحث الرابع: القياس: إثبات الواو في قوله: * (ويدع) * إلا أنه حذف في المصحف من الكتابة، لأنه لا يظهر في اللفظ، أما لم تحذف في المعنى لأنها في موضع الرفع، ونظيره: * (سندع الزبانية) * (العلق: 18) * (وسوف يؤت الله المؤمنين) * (المؤمنين: 146) * (ويوم يناد المناد) * (ق: 41) * (فما تغن النذر) * (القمر: 5) ولو كان بالواو والياء لكان صوابا هذا كلام الفراء. وأقول: إن هذا يدل على أنه سبحانه قد عصم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإن إثبات الياء والواو في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتهما في هذه المواضع المعدودة يدل على أن هذا القرآن نقل كما سمع، وأن أحدا لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوة عقله.
ثم قال تعالى: * (وكان الإنسان عجولا) * وفي هذا الإنسان قولان:
القول الأول: آدم عليه السلام، وذلك لأنه لما انتهت الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قوله: * (وكان الإنسان عجولا) *.
والقول الثاني: أنه محمول على الجنس، لأن أحدا من الناس لا يعرى عن عجلة، ولو تركها لكان تركها أصلح له في الدين والدنيا، وأقول: بتقدير أن يكون المراد هو
القول الأول، كان المقصود عائدا إلى القول الثاني، لأنا إذا حملنا الإنسان على آدم عليه الصلاة والسلام كان المعنى أن آدم الذي كان أصل البشر لما كان موصوفا بهذه العجلة وجب أن تكون هذه صفة لازمة للكل، فكان المقصود عائدا إلى القول الثاني، والله أعلم.
* (وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شىء فصلناه تفصيلا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في تقرير النظم وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال: * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) * وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه، فكذلك الدهر مركب من النهار والليل. فالمحكم كالنهار، والمتشابه كالليل، وكما
163

أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه، فكذلك الوقت والزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل.
والوجه الثاني: في تقرير النظم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وذلك الأقوم ليس إلا ذكر الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة، لا جرم أردفه بذكر دلائل التوحيد، وهو عجائب العالم العلوي والسفلي.
الوجه الثالث: أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولا أي منتقلا من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة، بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك، وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد، وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد. والله أعلم.
المسألة الثانية؛ في قوله: * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) * قولان:
القول الأول: أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار. والمعنى: أنه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا. أما في الدين: فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير له، مع كونهما متعاقبين على الدوام، من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودين لذاتهما، بل لا بد لهما من فاعل يدبرهما ويقدرهما بالمقادير المخصوصة، وأما في الدنيا: فلأن مصالح الدنيا لا تتم إلا بالليل والنهار، فلولا الليل لما حصل السكون والراحة، ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرف في وجوه المعاش.
ثم قال تعالى: * (فمحونا آية الليل) * وعلى هذا القول: تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين، والتقدير: فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي نفس النهار مبصرة، ونظيره قولنا: نفس الشيء وذاته، فكذلك آية الليل هي نفس الليل. ويقال أيضا: دخلت بلاد خراسان أي دخلت البلاد التي هي خراسان، فكذلك ههنا.
القول الثاني: أن يكون المراد وجعلنا نيري الليل والنهر آيتين يريد الشمس والقمر، فمحونا آية الليل وهي القمر، وفي تفسير محو القمر قولان:
القول الأول: المراد منه ما يظهر في القمر من الزيادة والنقصان في النور، فيبدو في أول الأمر في صورة الهلال، ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدرا كاملا، ثم يأخذ في الانتقاص قليلا قليلا، وذلك هو المحو، إلى أن يعود إلى المحاق.
والقول الثاني: المراد من محو القمر الكلف الذي يظهر في وجهه يروى أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء، فأرسل الله جبريل عليه الصلاة والسلام فأمر جناحه على وجه القمر
164

فطمس عنه الضوء. ومعنى المحو في اللغة: إذهاب الأثر، تقول: محوته أمحوه وانمحى وامتحى إذا ذهب أثره، وأقول: حمل المحو في هذه الآية على الوجه الأول أولى، وذلك لأن اللام في قوله: * (لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب) * متعلق بما هو مذكور قبل، وهو محو آية الليل. وجعل آية النهار مبصرة ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله. إذا حملنا المحو على زيادة نور القمر ونقصانه، لأن سبب حصول هذه الحالة يختلف بأحوال نور القمر، وأهل التجارب يبنوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه، مثل أحوال البحار في المد والجزر، ومثل أحوال التجربات على ما تذكره الأطباء في كتبهم، وأيضا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور، وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الأهلة كما قال: * (ولتعلموا عدد السنين والحساب) * فثبت أن حمل المحو على ما ذكرناه أولى. وأقول أيضا: لو حملنا المحو على الكلف الحاصل في وجه القمر، فهو أيضا برهان عظيم قاهر على صحة قول المسلمين في المبدأ والمعاد، أما دلالته على صحة قولهم في المبدأ، فلأن جرم القمر جرم بسيط عند الفلاسفة، فوجب أن يكون متشابه الصفات، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدل على أنه ليس بسبب الطبيعة، بل لأجل أن الفاعل المختار خصص بعض أجزائه بالنور القوي، وبعض أجزائه بالنور الضعيف، وذلك يدل على أن مدبر العالم فاعل مختار لا موجب بالذات. وأحسن ما ذكره الفلاسفة في الاعتذار عنه، أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء، مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك، فلما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان، وهذا لا يفيد مقصود الخصم، لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء فلم ارتكزت تلك الأجرام الظلمانية في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء؟ وبمثل هذا الطريق يتمسك في أحوال الكواكب، وذلك لأن الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء فلم لم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب؟ وذلك يدل على أن اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعين من الفلك لأجل تخصيص الفاعل المختار، وكل هذه الدلائل إنما يراد من تقريرها وإيرادها التنبيه على أن المؤثر في العالم فاعل بالاختيار لا موجب بالذات، والله أعلم.
أما قوله: * (وجعلنا آية النهار مبصرة) * ففيه وجهان: الأول: أن معنى كونها مبصرة أي مضيئة وذلك لأن الإضاءة سبب لحصول الإبصار، فأطلق اسم الأبصار على الإضاءة إطلاقا لاسم المسبب على السبب. والثاني: قال أبو عبيدة يقال: قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون فيه، كقوله:
165

رجل مخبث إذا كان أصحابه خبثاء، ورجل مضعف إذا كانت ذراريه ضعافا، فكذا قوله: والنهار مبصرا، أي أهله بصراء.
واعلم أنه تعالى ذكر في آيات كثيرة منافع الليل والنهار، قال: * (وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا) * (النبأ: 10 و 11) وقال أيضا: * (جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) * (القصص: 73).
ثم قال تعالى: * (ولتبتغوا فضلا من ربكم) * أي لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم * (ولتعلموا عدد السنين والحساب) *.
واعلم أن الحساب مبني على أربع مراتب: الساعات والأيام والشهور والسنون، فالعدد للسنين، والحساب لما دون السنين، وهي الشهور والأيام والساعات، وبعد هذه المراتب الأربع لا يحصل إلا التكرار كما أنهم رتبوا العدد على أربع مراتب: الآحاد والعشرات والمئات والألوف، وليس بعدها إلا التكرار والله أعلم.
ثم قال: * (وكل شيء فصلناه تفصيلا) * والمعنى: أنه تعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد، ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من الله تعالى على أهل الدنيا، فلما شرح الله تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق، كان ذلك تفصيلا نافعا وبيانا كاملا، فلا جرم قال: * (وكل شيء فصلناه تفصيلا) * أي كل شيء بكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم، فقد فصلناه وشرحناه، وهو كقوله تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * (الأنعام: 38) وقوله: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) * (النحل: 89) وقوله: * (تدمر كل شيء بأمر ربها) * (الأحقاف: 25) وإنما ذكر المصدر وهو قوله: * (تفصيلا) * لأجل تأكيد الكلام وتقريره، كأنه قال: وفصلناه حقا وفصلناه على الوجه الذي لا مزيد عليه والله أعلم.
* (وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجوه:
166

الوجه الأول: أنه تعالى لما قال: * (وكل شيء فصلناه تفصيلا) * كان معناه أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد فقد صار مذكورا. وكل ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فقد صار مذكورا. وإذا كان الأمر كذلك فقد أزيحت الأعذار، وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه ونقول له: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *.
الوجه الثاني: أنه تعالى لما بين أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا، مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعما عليهم بأعظم وجوه النعم. وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولا عن أعماله وأقواله.
الوجه الثالث: في تقرير النظم أنه تعالى لما بين أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته كما قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) فلما شرح أحوال الشمس والقمر والليل والنهار، كان المعنى: إني إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي، وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته أنه هل أتى بتلك الخدمة والطاعة، أو تمرد وعصى وبغى، فهذا هو الوجه في تقرير النظم.
المسألة الثانية: في تفسير لفظ، الطائر، قولان:
القول الأول: أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه، أو يحتاج إلى ازعاجه، وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة، فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره قوله تعالى في سورة يس: * (قالوا إنا تطيرنا بكم) * (يس: 18) إلى قوله: * (قالوا طائركم معكم) * (يس: 19) فقوله: * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) * أي كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه. وتدل على صحة هذا الوجه قراءة الحسن ومجاهد: * (ألزمناه طائره في عنقه) *.
القول الثاني: قال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر، والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم، والعمر والرزق، والسعادة والشقاوة. والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه، بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية، فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه، فبهذا المعنى لا يبعد
167

أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر، فقوله: * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) * كناية عن أن كل ما قدره الله تعالى ومضى في علمه حصوله، فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه.
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على أن كل ما قدره الله تعالى للإنسان وحكم عليه به في سابق علمه فهو واجب الوقوع ممتنع العدم، وتقريره من وجهين:
الوجه الأول: أن تقدير الآية: وكل إنسان ألزمناه عمله في عنقه، فبين تعالى أن ذلك العمل لازم له، وما كان لازما للشيء كان ممتنع الزوال عنه واجب الحصول له وهو المقصود.
والوجه الثاني: أنه تعالى أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه، لأن قوله: * (ألزمناه) * تصريح بأن ذلك الإلزام إنما صدر منه، ونظيره قوله تعالى: * (وألزمهم كلمة التقوى) * (الفتح: 26) وهذه الآية دالة على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: * (في عنقه) * كناية عن اللزوم كما يقال: جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به، ويقال: قلدتك كذا وطوقتك كذا، أي صرفته إليك وألزمته إياك، ومنه قلده السلطان كذا. أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق، ومنه يقال: فلان يقلد فلانا أي جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه. قال أهل المعاني: وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء بهذا المعنى لأن الذي يكون عليه إما أن يكون خيرا يزينه أو شرا يشينه، وما يزين يكون كالطوق والحلي، والذي يشين فهو كالغل، فههنا عمله إن كان من الخيرات كان زينة له، وإن كان من المعاصي كان كالغل على رقبته.
ثم قال تعالى: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) * قال الحسن: يا ابن آدم بسطنا لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وشمالك. فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة. قوله: * (ونخرج له) * أي من قبره يجوز أن يكون معناه: نخرج له ذلك لأنه لم ير كتابه في الدنيا فإذا بعث أظهر له ذلك وأخرج من الستر، وقرأ يعقوب: (ويخرج له يوم القيامة كتابا) أي يخرج له الطائر أي عمله كتابا منشورا، كقوله تعالى: * (وإذا الصحف نشرت) * (التكوير: 10) وقرأ ابن عمر: (يلقاه) من قولهم: لقيت فلانا الشيء أي استقبلته به. قال تعالى: * (ولقاهم نضرة وسرورا) * (الإنسان: 11) وهو منقول بالتشديد من لقيت الشيء ولقانيه زيد.
ثم قال تعالى: * (اقرأ كتابك) * والتقدير يقال له: وهذا القائل هو الله تعالى على ألسنة الملائكة
168

* (اقرأ كتابك) * قال الحسن: يقرؤه أميا كان أو غير أمي، وقال بكر بن عبد الله: يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها، وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها، حتى إذا ظن أنها أوبقته قال الله تعالى: " اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك " فيعظم سروره، ويصير من الذين قال في حقهم: * (وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة) * (عبس: 38، 39) ثم يقول: * (هاؤم اقرؤا كتابيه) * (الحاقة: 19).
وأما قوله: * (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * أي محاسبا. قال الحسن: عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك. قال السدي: يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد، فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال حكماء الإسلام: هذه الآية في غاية الشرف، وفيها أسرار عجيبة في أبحاث:
البحث الأول: أنه تعالى جعل فعل العبد كالطير الذي يطير إليه، وذلك لأنه تعالى قدر لكل أحد في الأزل مقدارا من الخير والشر، فذلك الحكم الذي سبق في علمه الأزلي وحكمه الأزلي لا بد وأن يصل إليه، فذلك الحكم كأنه طائر يطير إليه من الأزل إلى ذلك الوقت، فإذا حضر ذلك الوقت وصل إليه ذلك الطائر وصولا لا خلاص له البتة ولا انحراف عنه البتة. وإذا علم الإنسان في كل قول وفعل ولمحة وفكرة أنه كان ذلك بمنزلة طائر طيره الله إليه على منهج معين وطريق معين، وأنه لا بد وأن يصل إليه ذلك الطائر، فعند ذلك عرف أن الكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية.
والبحث الثاني: أن هذه التقديرات إنما تقدرت بإلزام الله تعالى. وذلك باعتبار أنه تعالى جعل لكل حادث حادثا متقدما عليه لحصول الحادث المتأخر، فلما كان وضع هذه السلسلة من الله لا جرم كان الكل من الله، وعند هذا يتخيل الإنسان طيورا لا نهاية لها ولا غاية لأعدادها، فإنه تعالى طيرها من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب، وأنها صارت وطارت طيرانا لا بداية له ولا غاية له، وكان كل واحد منها متوجها إلى ذلك الإنسان المعين في الوقت المعين بالصفة المعينة، وهذا هو المراد من قوله: * (ألزمناه طائره في عنقه) *.
البحث الثالث: أن التجربة تدل على أن تكرار الأعمال الاختيارية تفيد حدوث الملكة النفسانية الراسخة في جوهر النفس، ألا ترى أن من واظب على تكرار قراءة درس واحد صار ذلك الدرس محفوظا، ومن واظب على عمل واحد مدة مديدة صار ذلك العمل ملكة له.
إذا عرفت هذا فنقول: لما كان التكرار الكثير يوجب حصول الملكة الراسخة وجب
169

أن يحصل لكل واحد من تلك الأعمال أثر ما في جوهر النفس، فإنا لما رأينا أن عند توالي القطرات الكثيرة من الماء على الحجر حصلت الثقبة في الحجر، علمنا أن لكل واحد من تلك القطرات أثرا ما في حصول ذلك الثقب وإن كان ضعيفا قليلا، وإن كانت الكتابة أيضا في عرف الناس عبارة عن نقوش مخصوصة اصطلح الناس على جعلها معرفات لألفاظ مخصوصة، فعلى هذا، دلالة تلك النقوش على تلك المعاني المخصوصة دلالة كائنة جوهرية واجبة الثبوت، ممتنعة الزوال، كان الكتاب المشتمل على تلك النقوش أولى باسم الكتاب من الصحيفة المشتملة على النقوش الدالة بالوضع والاصطلاح.
وإذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول: إن كل عمل يصدر من الإنسان كثيرا كان أو قليلا قويا كان أو ضعيفا، فإنه يحصل منه لا محالة في جوهر النفس الإنسانية أثر مخصوص، فإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب جوهر الروح من الخلق إلى حضرة الحق كان ذلك من موجبات السعادات والكرامات. وإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب الروح من حضرة الحق إلى الاشتغال بالخلق كان ذلك من موجبات الشقاوة والخذلان. إلا أن تلك الآثار تخفى ما دام الروح متعلقا بالبدن، لأن اشتغال الروح بتدبير البدن يمنع من انكشاف هذه الأحوال وتجليها وظهورها، فإذا انقطع تعلق الروح عن تدبير البدن فهناك تحصل القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام: " من مات فقد قامت قيامته " ومعنى كون هذه الحالة قيامة أن النفس الناطقة كأنها كانت ساكنة مستقرة في هذا الجسد السفلي، فإذا انقطع ذلك التعلق، قامت النفس وتوجهت نحو الصعود إلى العالم
العلوي، فهذا هو المراد من كون هذه الحالة قيامة، ثم عند حصول القيامة بهذا المعنى زال الغطاء وانكشف الوطاء، وقيل له * (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) * (ق: 22) وقوله: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) * معناه: ونخرج له عند حصول هذه القيامة من عمق البدن المظلم كتابا مشتملا على جميع تلك الآثار الحاصلة بسبب الأحوال الدنيوية، ويكون هذا الكتاب في هذا الوقت منشورا، لأن الروح حين كانت في البدن كانت هذه الأحوال فيه مخفية فكانت كالمطوية. أما بعد انقطاع التعلق الجسداني ظهرت هذه الأحوال وجلت وانكشفت فصارت كأنها مكشوفة منشورة بعد أن كانت مطوية، وظاهرة بعد أن كانت مخفية، وعند ذلك تشاهد القوة العقلية جميع تلك الآثار مكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح فيقال له في تلك الحالة: * (اقرأ كتابك) * ثم يقال له: * (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * فإن تلك الآثار إن كانت من موجبات السعادة حصلت السعادة لا محالة، وإن كانت من موجبات الشقاوة حصلت الشقاوة لا محالة، فهذا تفسير هذه الآية بحسب الأحوال الروحانية.
170

واعلم أن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها، واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضا، والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل. والله أعلم بحقائق الأمور.
قوله تعالى
* (من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *
في الآية مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى لما قال في الآية الأولى: * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) * (الإسراء: 13) ومعناه: أن كل أحد مختص بعمل نفسه، عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى أقرب إلى الأفهام وأبعد عن الغلط فقال: * (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها) * يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، ولا يتعدى منه إلى غيره، ويتأكد هذا بقوله: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى) * (النجم: 39، 40) قال الكعبي: الآية دالة على أن العبد متمكن من الخير والشر، وأنه غير مجبور على عمل بعينه أصلا لأن قوله: * (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها) * إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد، أما المجبور على أحد الطرفين، الممنوع من الطرف الثاني فهذا لا يليق به.
المسألة الثانية: أنه تعالى أعاد تقرير أن كل أحد مختص بأثر عل نفسه بقوله: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * قال الزجاج: يقال وزر يزر فهو وازر ووزر وزرا وزرة، ومعناه: أثم يأثم إثما قال: وفي تأويل الآية وجهان: الأول: أن المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره، وأيضا غيره لا يؤاخذ بذنبه بل كل أحد مختص بذنب نفسه. والثاني: أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم، لأن غيره عمله كما قال الكفار: * (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) * (الزخرف: 32).
واعلم أن الناس تمسكوا بهذه الآية في إثبات أحكام كثيرة.
171

الحكم الأول:
قال الجبائي في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم، وإلا لكان الطفل مؤاخذا بذنب أبيه، وذلك على خلاف ظاهر هذه الآية. الحكم الثاني:
روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الميت ليعذب ببكاء أهله " فعائشة طعنت في صحة هذا الخبر، واحتجت على صحة ذلك الطعن بقوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * فإن تعذيب الميت بسبب بكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره، وذلك خلاف هذه الآية. الحكم الثالث:
قال القاضي: دلت هذه الآية على أن الوزر والإثم ليس من فعل الله تعالى. وبيانه من وجوه: أحدها: أنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره. وثانيها: أنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلا، لأن الوزر إنما يصح أن يوصف بذلك إذا كان مختارا يمكنه التحرز، ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بهذا. الحكم الرابع:
أن جماعة من قدماء الفقهاء امتنعوا من ضرب الدية على العاقلة، وقالوا: لأن ذلك يقتضي مؤاخذة الإنسان بسبب فعل الغير، وذلك على مضادة هذه الآية.
وأجيب عنه بأن المخطئ ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل، فكيف يصير غيره مؤاخذا بسبب ذلك الفعل، بل ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء من الله تعالى.
المسألة الثالثة: قال أصحابنا وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع، والدليل عليه قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * وجه الاستدلال أن الوجوب لا تتقرر ماهيته إلا بترتيب العقاب على الترك، ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية، فوجب أن لا يتحقق الوجوب قبل الشرع. ثم أكدوا هذه الآية بقوله تعالى: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * (النساء: 165) وبقوله: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) * (طه: 134).
ولقائل أن يقول: هذا الاستدلال ضعيف، وبيانه من وجهين: الأول: أن نقول: لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي البتة، وهذا باطل فذاك باطل بيان الملازمة من وجوه:
172

أحدها: أنه إذا جاء المشرع وادعى كونه نبيا من عند الله تعالى وأظهر المعجزة، فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزاته أو لا يجب؟ فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة. وإن وجب، فإما أن يجب بالعقل أو بالشرع فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي، وإن وجب بالشرع فهو باطل، لأن ذلك الشرع إما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره، والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن ذلك الرجل يقول: الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول إنه يجب قبول قولي، وهذا إثبات للشيء بنفسه، وإن كان ذلك الشارع غيره كان الكلام فيه كما في الأول: ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان. وثانيها: أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال
، وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم، إلا أن يقول: لو تركت كذا وفعلت كذا لعاقبتك فنقول: إما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب، فلو لم يجب عليه الاحتراز عن العقاب لم يتقرر معنى الوجوب البتة، وهذا باطل فذاك باطل، وإن وجب عليه الاحتراز عن العقاب، فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع، فإن وجب بالعقل فهو المقصود، وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى هذا الوجوب إلا بسبب ترتيب العقاب عليه، وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال. وثالثها: أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب، فلم يبق إلا أن يقال: إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب، وهذا الخوف حاصل بمحض العقل، فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف، وثبت أن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل، فلزم أن يقال: الوجوب حاصل بمحض العقل.
فإن قالوا: ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم؟
قلنا: إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم، فعلى هذا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل، فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه.
وإذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان: الأول: أن نجري الآية على ظاهرها. ونقول: العقل هو رسول الله إلى الخلق، بل هو الرسول الذي لولاه لما تقررت رسالة أحد من الأنبياء، فالعقل هو الرسول الأصلي، فكان معنى الآية وما كنا معذبين حتى نبعث رسول العقل. والثاني: أن نخصص عموم الآية فنقول: المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع، وتخصيص العموم وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه عند قيام الدلائل، وقد بينا قيام الدلائل الثلاثة، على أنا لو نفينا الوجوب العقلي لزمنا نفي الوجوب الشرعي، والله أعلم.
173

واعلم أن الذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به، وترك ما يتضرر به، أما مجرد العقل لا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء. وذلك لأنا مجبولون على طلب النفع والاحتراز عن الضرر، فلا جرم كان العقل وحده كافيا في الوجوب في حقنا والله تعالى منزه عن طلب النفع والهرب من الضرر، فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعل أو ترك فعل والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإذآ أردنآ أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا * وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (أمرنا مترفيها) * في تفسير هذا الأمر قولان:
القول الأول: أن المراد منه الأمر بالفعل، ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه تعالى بماذا يأمرهم فقال الأكثرون: معناه أنه تعالى يأمرهم بالطاعات والخيرات، ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون وقال صاحب " الكشاف ": ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون، إلا أن هذا مجاز ومعناه أنه فتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا قال والدليل على أن ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه، أن المأمور به إنما حذف لأن قوله؛ * (ففسقوا) * يدل عليه يقال: أمرته فقام، وأمرته فقرأ لا يفهم منه، إلا أن المأمور به قيام أو قراءة فكذا ههنا لما قال: * (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) * وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة؛ لأنا نقول: إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به، كما أن كونها معصية ينافي كونها مأمورا بها، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق، وهذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصر صاحب " الكشاف " على قوله مع ظهور فساده، فثبت أن
174

الحق ما ذكره الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عنادا وأقدموا على الفسق.
القول الثاني: في تفسير قوله: * (أمرنا مترفيها) * أي أكثرنا فساقها. قال الواحدي: العرب تقول أمر القوم إذا كثروا. وأمرهم الله إذ كثرهم، وآمرهم أيضا بالمد، روى الجرمي عن أبي زيد أمر الله القوم وآمرهم، أي كثرهم. واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله صلى الله عليه وسلم: " خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة " والمعنى مهرة قد كثر نسلها يقولون: أمر الله المهرة أي كثر ولدها ومن الناس من أنكر أن يكون أمر بمعنى كثر وقالوا أمر القوم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي كثرهم، وحملوا قوله عليه الصلاة والسلام: " مهر مأمورة " على أن المراد كونها مأمورة بتكثير النسل على سبيل الاستعارة. وأما المترف: فمعناه في اللغة المتنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش * (ففسقوا فيها) * أي خرجوا عما أمرهم الله: * (فحق عليها القول) * يريد: استوجبت العذاب، وهذا كالتفسير لقوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسراء: 15) وقوله: * (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا) * (القصص: 59) وقوله: * (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) * (الأنعام: 131) فلما حكم تعالى في هذه الآيات أنه تعالى لا يهلك قرية حتى يخالفوا أمر الله، فلا جرم ذكر أنه ها هنا يأمرهم فإذا خالفوا الأمر، فعند ذلك استوجبوا الإهلاك المعبر عنه بقوله: * (فحق عليها القول) * وقوله: * (فدمرناها تدميرا) * أي أهلكناها إهلاك الاستئصال. والدمار هلاك على سبيل الاستئصال.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجوه: الأول: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أراد إيصال الضرر إليهم ابتداء ثم توسل إلى إهلاكهم بهذا الطريق. الثاني: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما خص المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنهم يفسقون، وذلك يدل على أنه تعالى أراد منهم الفسق، والثالث: أنه
تعالى قال: * (فحق عليها القول) * بالتعذيب والكفر، ومتى حق عليها القول بذلك امتنع صدور الإيمان منهم، لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذبا وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال. قال الكعبي: إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدئ بالتعذيب والإهلاك لقوله: * (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * (الرعد: 11) وقوله: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) * (النساء: 147) وقوله: * (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) * (القصص: 59) فكل هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يبتدئ بالإضرار، وأيضا ما قبل هذه الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله: * (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الإسراء: 15) ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض، فثبت أن الآيات التي تلوناها محكمة، وكذا الآية التي
175

نحن في تفسيرها، فيجب حمل هذه الآية على تلك الآيات هذا ما قاله الكعبي، واعلم أن أحسن الناس كلاما في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة: القفال. فإنه ذكر فيه وجهين:
الوجه الأول: قال إنه تعالى أخبر أنه لا يعذب أحدا بما يعلمه منه ما لم يعمل به، أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره فإذا ظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه فقوله: * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها) * معناه: وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم أمرنا المتنعمين المتعززين الظانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم ترد عنهم بأسنا بالإيمان بي والعمل بشرائع ديني على ما بلغهم عني رسولي، ففسقوا فحينئذ يحق عليهم القضاء السابق بإهلاكهم لظهور معاصيهم فحينئذ دمرناها، والحاصل أن المعنى: وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف في تحقيق ذلك الإهلاك بمجرد ذلك العلم، بل أمرنا مترفيها ففسقوا، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق فحينئذ نوقع عليهم العذاب الموعود به.
والوجه الثاني: في التأويل أن نقول: وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها لم نعاجلها بالعذاب في أول ظهور المعاصي منهم، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي، وإنما خص المترفين بذلك الأمر، لأن المترف هو المتنعم ومن كثرت نعم الله عليه كان قيامه بالشكر أوجب، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع مرة بعد أخرى مع أنه تعالى لا يقطع عنهم تلك النعم بل يزيدها حالا بعد حال فحينئذ يظهر عنادهم وتمردهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحق، فحينئذ يصب الله البلاء عليهم صبا، ثم قال القفال: وهذان التأويلان راجعان إلى أن الله تعالى أخبر عباده أنه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة حتى يعذر إليهم غاية الأعذار الذي يقع منه اليأس من إيمانهم، كما قال في قوم نوح: * (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * (نوح: 27) وقال: * (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) * (هود: 36) وقال في غيرهم: * (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) * (يونس: 74) فأخبر تعالى أولا أنه لا يظهر العذاب إلا بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام. ثم أخبر ثانيا في هذه الآية أنه إذا بعث الرسول أيضا فكذبوا لم يعاجلهم بالعذاب، بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ، فإن بقوا مصرين على الذنوب فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال، وهذا التأويل الذي ذكره القفال في تطبيق الآية على قول المعتزلة لم يتيسر لأحد من شيوخ المعتزلة مثله.
وأجاب الجبائي بأن قال: ليس المراد من الآية أنه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقوا، وذلك لأنه ظلم وهو على الله محال، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة فكان التقدير وإذا قرب وقت إهلاك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها وهو كقول القائل: إذا أراد المريض أن يموت
176

ازدادت أمراضه شدة، وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة، وليس المراد أن المريض يريد أن يموت، والتاجر يريد أن يفتقر وإنما يعنون أنه سيصير كذلك فكذا ههنا.
واعلم أن جميع الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في التمسك بهذه الآية، لا شك أن كلها عدول عن ظاهر اللفظ، أما الوجه الثاني والثالث فقد بقي سليما عن الطعن والله أعلم. المسألة الثالثة: المشهور عند القراء السبعة: * (أمرنا مترفيها) * بالتخفيف غير ممدودة الألف، وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس: * (آمرنا) * بالمد، وعن أبي عمرو * (أمرنا) * بالتشديد فالمد على الكثير يقال: أمر القوم بكسر الميم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد، أي كثرهم الله. والتشديد على التسليط، أي سلطنا مترفيها، ومعناه التخلية وزوال المنع بالقهر والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح) * فاعلم أن المراد أن الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ويتمردون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح. وهم عاد وثمود وغيرهم، ثم إنه تعالى خاطب رسوله بما يكون خطابا لغيره وردعا وزجرا للكل فقال: * (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) * وفيه بحثان:
البحث الأول: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق، وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادرا على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه. وأيضا أنه منزه عن العبث والظلم. ومجموع هذه الصفات الثلاث أعني العلم التام، والقدرة الكاملة، والبراءة عن الظلم بشارة عظيمة لأهل الطاعة. وخوف عظيم لأهل الكفر والمعصية.
البحث الثاني: قال الفراء: لو ألغيت الباء من قولك بربك جاز، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم. كقولك: كفاك به. وأكرم به رجلا. وطاب بطعامك طعاما. وجاد بثوبك ثوبا، أما إذا لم يكن مدحا أو ذما لم يجز دخولها، فلا يجوز أن يقال: قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك والله أعلم.
قوله تعالى
* (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها
177

مذموما مدحورا * ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطآء ربك وما كان عطآء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال القفال رحمه الله: هذه الآية داخلة في معنى قوله: * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) * (الإسراء: 13) ومعناه: أن الكمال في الدنيا قسمان، فمنهم من يريد بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم، اشفاقا من زوال الرياسة عنه، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤما لأنه في قبضة الله تعالى فيؤتيه الله في الدنيا منها قدرا لا كما يشاء ذلك الإنسان، بل كما يشاء الله إلا أن عاقبته جهنم يدخلها فيصلاها بحرها مذموما ملوما مدحورا منفيا مطرودا من رحمة الله تعالى. وفي لفظ هذه الآية فوائد.
الفائدة الأولى: أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة، فقوله: * (ثم جعلنا له جهنم يصلاها) * إشارة إلى المضرة العظيمة، وقوله: * (مذموما) * إشارة إلى الإهانة والذم، وقوله: * (مدحورا) * إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله، وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص.
الفائدة الثانية: أن من الجهال من إذا ساعدته الدنيا اغتر بها وظن أن ذلك لأجل كرامته على الله تعالى، وأنه تعالى بين أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى، لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها هي المصير إلى عذاب الله وإهانته، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السوء في لزومها له وكونها سائقة له إلى أشد العذاب.
الفائدة الثالثة: قوله تعالى: * (لمن نريد) * يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد، بل كثير من الكفار والضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا وعن الدين، وهذا أيضا فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضلال الذين يتركون الدين لطلب الدنيا، فإنه ربما فاتتهم الدنيا فهم الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
178

وأما القسم الثاني: وهو قوله تعالى: * (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن) * فشرط تعالى فيه شروطا ثلاثة:
الشرط الأول: أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة، فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة، وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * (النجم: 39) ولقوله عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنيات " ولأن المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته، وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته.
والشرط الثاني: قوله: * (وسعى لها سعيها) * وذلك هو أن يكون العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرب والطاعات، وكثير من الناس يتقربون إلى الله تعالى بأعمال باطلة، فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان، ولهم فيه تأويلان:
التأويل الأول: يقولون: إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته فليس لنا هذا القدر والدرجة ولكن غاية قدرنا أن نشتغل بعبودية بعض المقربين من عباد الله تعالى، مثل أن نشتغل بعبادة كوكب أو عبادة ملك من الملائكة، ثم إن الملك والكوكب يشتغلون بعبادة الله تعالى، فهؤلاء يتقربون إلى الله تعالى بهذا الطريق، إلا أنه لما كان فاسدا في نفسه لا جرم لم يحصل الانتفاع به.
والتأويل الثاني لهم: أنهم قالوا: نحن اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء، ومرادنا من عبادتها أن تصير أولئك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند الله تعالى. وهذا الطريق أيضا فاسد، وأيضا نقل عن الهند: أنهم يتقربون إلى الله تعالى بقتل أنفسهم تارة وبإحراق أنفسهم أخرى ويبالغون في تعظيم الله تعالى، إلا أنه لما كان الطريق فاسدا لا جرم لم ينتفع به، وكذلك القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقربون إلى الله تعالى بمذاهبهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة وأعمالهم المنحرفة عن قانون الصدق والصواب. والشرط الثالث: قوله تعالى: * (وهو مؤمن) * وهذا الشرط معتبر، لأن الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدم الإيمان، فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط، ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكورا والعمل مبرورا.
واعلم أن الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة: اعتقاد كونه محسنا في تلك الأعمال، والثناء عليه بالقول، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظما عن ذلك الشاكر، والله تعالى يعامل المطيعين
179

بهذه الأمور الثلاثة، فإنه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال، وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات دالة على كونهم معظمين عند الله تعالى، وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلا كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل الله تعالى، ورأيت في كتب المعتزلة أن جعفر بن حرب حضر عنده واحد من أهل السنة وقال: الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى أنا نشكر الله على الإيمان، ولو لم يكن الإيمان حاصلا بإيجاده لامتنع أن نشكره عليه، لأن مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيح. قال الله تعالى: * (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * (آل عمران: 188) فعجز الحاضرون عن الجواب، فدخل ثمامة بن الأشرس وقال: إنما نمدح الله تعالى ونشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل. وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل، والله تعالى يشكرنا على فعل الإيمان. قال تعالى: * (فأولئك كان سعيهم مشكورا) * قال فضحك جعفر بن حرب وقال: صعب المسألة فسهلت.
واعلم أن قولنا: مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل كلام واضح، لأنه تعالى هو الذي أعطى الموجب التام لحصول الإيمان فكان هو المستحق للشكر، ولما حصل
الإيمان للعبد وكان الإيمان موجبا للسعادة التامة صار العبد أيضا مشكورا ولا منافاة بين الأمرين.
المسألة الثانية: اعلم أن كل من أتى بفعل فإما أن يقصد بذلك الفعل تحصيل خيرات الدنيا، أو تحصيل خيرات الآخرة، أو يقصد به مجموعهما، أو لم يقصد به واحدا منهما، هذا هو التقسيم الصحيح، أما إن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط، فالله تعالى ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية.
أما القسم الثالث: فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام، لأنه إما أن يكون طلب الآخرة راجحا أو مرجوحا، أو يكون الطلبان متعادلين.
أما القسم الأول: وهو أن يكون طلب الآخرة راجحا، فهل يكون هذا العمل مقبولا عند الله تعالى فيه بحث، يحتمل أن يقال: إنه غير مقبول لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن رب العزة أنه قال: " أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشريكه " وأيضا فطلب رضوان الله إما أن يقال: إنه كان سببا مستقلا بكونه باعثا على ذلك الفعل أو داعيا إليه، وإما أن يقال: ما كان كذلك، فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء، لأن الحكم إذا حصل مسندا إلى سبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه، وإن كان الثاني فحينئذ يكون الحامل على ذلك الفعل والداعي إليه ذلك المجموع، وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله تعالى، لأن المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب كونه مغايرا لكل
180

واحد من جزئيه فهذا القسم التحق بالقسم الذي كان الداعي إليه مغايرا لطلب رضوان الله تعالى فوجب أن يكون مقبولا، ويمكن أن يقال لما كان طلب الآخرة راجحا على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولا، وأما إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين، أو كان طلب الدنيا راجحا فهذا قد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خاليا بالكلية عن طلب الآخرة.
وأما القسم الرابع: وهو أن يقال إنه أقدم على ذلك الفعل من غير داع فهذا بناء على أن صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا؟ فالذين يقولون إنه متوقف قالوا هذا القسم ممتنع الحصول، والذين قالوا: إنه لا يتوقف قالوا: هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث، والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (كلا) * أي كل واحد من الفريقين، والتنوين عوض من المضاف إليه: * (نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك) * أي أنه تعالى يمد الفريقين بالأموال ويوسع عليهما في الرزق مثل الأموال والأولاد، وغيرهما من أسباب العز والزينة في الدنيا، لأن عطاءنا ليس يضيق عن أحد مؤمنا كان أو كافرا لأن الكل مخلوقون في دار العمل، فوجب إزاحة العذر وإزالة العلة عن الكل وإيصال متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح فبين تعالى أن عطاءه ليس بمحظور، أي غير ممنوع يقال حظره يحظره، وكل من حال بينه وبين شيء فقد حظره عليك.
ثم قال تعالى: * (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) * وفيه قولان:
القول الأول: المعنى: انظر إلى عطائنا المباح إلى الفريقين في الدنيا، كيف فضلنا بعضهم على بعض فأوصلناه إلى مؤمن. وقبضناه عن مؤمن آخر، وأوصلناه إلى كافر، وقبضناه عن كافر آخر، وقد بين تعالى وجه الحكمة في هذا التفاوت فقال: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) * (الزخرف: 32) وقال في آخر سورة الأنعام: * (ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم) * (الأنعام: 165).
ثم قال: * (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * والمعنى: أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس، فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم، فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، فإذا كان الانسان تشتد رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب فضيلة الآخرة أولى.
القول الثاني: أن المراد أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا، والمعنى أن المؤمنين يدخلون
181

الجنة، والكافرين يدخلون النار، فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين، ونظيره قوله تعالى: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * (الفرقان: 24).
قوله تعالى
* (لا تجعل مع الله إلها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في بيان وجه النظم. فنقول: إنه تعالى لما بين أن الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العقاب والعذاب، ومنهم من يريد به طاعة الله وهم أهل الثواب. ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة: أولها: إرادة الآخرة. وثانيها: أن يعمل عملا ويسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة. وثالثها؛ أن يكون مؤمنا لا جرم فصل في هذه الآية تلك المجملات فبدأ أولا بشرح حقيقة الإيمان، وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشركاء والأضداد فقال: * (لا تجعل مع الله إلها آخر) * ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون المقدم عليها، والمشتغل بها ساعيا سعيا يليق بطلب الآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم وحسن بختهم وكملت أحوالهم.
المسألة الثانية: قال المفسرون: هذا في الظاهر خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في المعنى عام لجميع المكلفين كقوله: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * (الطلاق: 1) ويحتمل أيضا أن يكون الخطاب للإنسان كأنه قيل: أيها الإنسان لا تجعل مع الله إلها آخر، وهذا الاحتمال عندي أولى، لأنه تعالى عطف عليه قوله: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * (الإسراء: 23) إلى قوله: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) * (الإسراء: 23) وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام، لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده فعلمنا أن المخاطب بهذا هو نوع الإنسان.
المسألة الثالثة: معنى الآية أن من أشرك بالله كان مذموما مخذولا، والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوه: الأول: أن المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذم والخذلان. الثاني: أنه لما ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر ولا مقدر إلا الواحد الأحد، فعلى هذا التقدير تكون جميع النعم حاصلة من الله تعالى، فمن أشرك بالله فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير الله تعالى، مع أن الحق أن كلها من الله، فحينئذ يستحق الذم، لأن الخالق تعالى استحق الشكر بإعطاء تلك النعم فلما جحد كونها من الله، فقد قابل إحسان الله تعالى بالإساءة والجحود والكفران فاستوجب الذم وإنما قلنا إنه يستحق الخذلان، لأنه لما أثبت شريكا لله تعالى استحق أن يفوض أمره إلى ذلك الشريك، فلما كان ذلك الشريك معدوما بقي بلا ناصر ولا حافظ ولا معين. وذلك عين الخذلان. الثالث: أن الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة، فمن أثبت الشريك فقد وقع في جانب النقصان
182

واستوجب الذم والخذلان، واعلم أنه لما دل لفظ الآية على أن المشرك مذموم مخذول وجب بحكم الآية أن يكون الموحد ممدوحا منصورا. والله أعلم.
المسألة الرابعة: القعود المذكور في قوله: * (فتقعد مذموما مخذولا) * فيه وجوه: الأول: أن معناه: المكث أي فتمكث في الناس مذموما مخذولا، وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى، فإذا سأل الرجل غيره ما يصنع فلان في تلك البلدة فيقول المجيب: هو قاعد بأسوأ حال معناه: المكث سواء كان قائما أو جالسا. الثاني: إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما متفكرا على ما فرط منه. الثالث: أن المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها، والسعي إنما يتأتى بالقيام، وأما العاجز عن تحصيلها فإنه لا يسعى بل يبقى جالسا قاعدا عن الطلب فلما كان القيام على الرجل أحد الأمور التي بها يتم الفوز بالخيرات، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات. والقعود كناية عن العجز والضعف.
المسألة الخامسة: قال الواحدي: قوله: (فتقعد) انتصب لأنه وقع بعد الفاء جوابا للنهي وانتصابه بإضمار " أن " كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك، والتقدير: لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء التي هي حرف العطف. وإنما سماه النحويون جوابا لكونه مشابها للجزاء في أن الثاني مسبب عن الأول، ألا ترى أن المعنى إن انقطعت جفوتك كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلها آخر قعدت مذموما مخذولا.
* (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما) *
اعلم أنه لما ذكر في الآية الأولى ما هو الركن الأعظم في الأيمان، أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه وهي أنواع:
النوع الأول: أن يكون الإنسان مشتغلا بعبادة الله تعالى، وأن يكون محترزا عن عبادة غير الله تعالى، وهذا هو المراد من قوله: * (وقضى ربك ألا تبعدوا إلا إياه) * وفيه بحثان:
البحث الأول: القضاء معناه الحكم الجزم البت الذي لا يقبل النسخ. والدليل عليه أن الواحد منا إذا أمر غيره بشيء فإنه لا يقال: إنه قضى عليه، أما إذا أمره أمرا جزما وحكم عليه بذلك الحكم على سبيل البت والقطع، فههنا يقال: قضى عليه ولفظ القضاء في أصل اللغة يرجع إلى إتمام الشيء
183

وانقطاعه. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرئ: * (وقضى ربك) * ثم قال: ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط، لأن خلاف قضاء الله ممتنع، هكذا رواه عنه الضحاك وسعيد بن جبير، وهو قراءة علي وعبد الله.
واعلم أن هذا القول بعيد جدا لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن، ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين.
البحث الثاني: قد ذكرنا أن هذه الآية تدل على وجوب عبادة الله تعالى وتدل على المنع عن عبادة غير الله تعالى وهذا هو الحق، وذلك لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام، ونهاية الإنعام عبارة عن إعطاء الوجود والحياة، والقدرة والشهوة والعقل، وقد ثبت بالدلائل أن المعطي لهذه الأشياء هو الله تعالى لا غيره، وإذا كان المنعم بجميع النعم هو الله لا غيره، لا جرم كان المستحق للعبادة هو الله تعالى لا غيره، فثبت بالدليل العقلي صحة قوله: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) *.
قوله تعالى
* (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا * ربكم أعلم بما فى نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للاوابين غفورا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى أمر بعبادة نفسه، ثم أتبعه بالأمر ببر الوالدين وبيان المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى وبين الأمر ببر الوالدين من وجوه:
184

الوجه الأول: أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده، والسبب الظاهري هو الأبوان، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري.
الوجه الثاني: أن الموجود إما قديم وإما محدث، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية، ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله عليه السلام: " التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله " وأحق الخلق بصرف الشفقة إليه هو الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان فقوله: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله: * (وبالوالدين إحسانا) * إشارة إلى الشفقة على خلق الله.
الوجه الثالث: أن الاشتغال بشكر المنعم واجب، ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى. وقد يكون أحد من المخلوقين منعما عليك، وشكره أيضا واجب لقوله
عليه السلام: " من لم يشكر الناس لم يشكر الله " وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل ما للوالدين وتقريره من وجوه: أحدها: أن الولد قطعة من الوالدين، قال عليه السلام: " فاطمة بضعة مني ". وثانيها: أن شفقة الأبوين على الولد عظيمة وجدهما في إيصال الخير إلى الولد كالأمر الطبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه كالأمر الطبيعي، ومتى كانت الدواعي إلى إيصال الخير متوفرة، والصوارف عنه زائلة لا جرم كثر إيصال الخير، فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة أكثر من كل نعمة تصل من إنسان إلى إنسان. وثالثها: أن الإنسان حال ما يكون في غاية الضعف ونهاية العجز، يكون في إنعام الأبوين فأصناف نعمهما في ذلك الوقت واصلة إليه، وأصناف رحمة ذلك الولد واصلة إلى الوالدين في ذلك الوقت، ومن المعلوم أن الإنعام إذا كان واقعا على هذا الوجه كان موقعه عظيما. ورابعها: أن إيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه وقد يمتزج بهذا الغرض سائر الأغراض، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فقط. فكان الإنعام فيه أتم وأكمل، فثبت أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد، فبدأ الله تعالى بشكر نعمة الخالق وهو قوله: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله: * (وبالوالدين إحسانا) * والسبب فيه ما بينا أن أعظم النعم بعد إنعام الإله الخالق نعمة الوالدين.
فإن قيل: الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لنفسيهما فلزم منه دخول الولد في الوجود وحصوله في عالم الآفات والمخافات، فأي إنعام للأبوين على الولد؟ حكي أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد. وعرضني للموت والفقر والعمى
185

والزمانة، وقيل لأبي العلاء المعري: ماذا نكتب على قبرك؟ قال اكتبوا عليه: هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد وقال في ترك التزوج والولد: وتركت أولادي وهم في نعمة العدم التي سبقت نعيم العاجل ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة ترمي بهم في موبقات الآجل وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منة، لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي أرتعني في نور العلم، وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه، وأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد، ومن الكلمات المشهورة المأثورة، خير الآباء من علمك.
والجواب: هب أنهما في أول الأمر طلبا لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات، وفي دفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، فسقطت هذه الشبهات والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (وبالوالدين إحسانا) * قال أهل اللغة: تقدير الآية وقضى ربك ألا تعبدوا إلا الله وأن تحسنوا، أو يقال: وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وأحسنوا بالوالدين إحسانا. قال صاحب " الكشاف ": ولا يجوز أن تتعلق الباء في * (وبالوالدين) * بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ثم لم يذكر دليلا على أن المصدر لا يجوز أن تتقدم عليه صلته. وقال الواحدي في " البسيط ": الباء في * (وبالوالدين) * من صلة الإحسان وقدمت عليه كما تقول بزيد فامرر، وهذا المثال الذي ذكره الواحدي غير مطابق، لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه، والمثال المذكور ليس كذلك.
المسألة الثالثة: قال القفال: لفظ الإحسان قد يوصل بحرف الباء تارة، وبحرف إلى أخرى، وكذلك الإساءة، يقال: أحسنت به وإليه. وأسأت به وإليه. قال الله تعالى: * (وقد أحسن بي) * (يوسف: 100) وقال القائل: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت وأقول لفظ الآية مشتمل على قيود كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين: أحدها: أنه تعالى قال في الآية المتقدمة: * (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) * (الإسراء: 19) ثم إنه تعالى أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة فذكر من جملتها البر بالوالدين، وذلك يدل على أن هذه الطاعة من
186

أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة. وثانيها: أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى، وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة. وثالثها: أنه تعالى لم يقل: وإحسانا بالوالدين، بل قال: * (وبالوالدين إحسانا) * فتقديم ذكرهما يدل على شدة الاهتمام. ورابعها: أنه قال: * (إحسانا) * بلفظ التنكير والتنكير يدل على التعظيم، والمعنى: وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا عظيما كاملا، وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك، ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء، وفي الأمثال المشهورة أن البادي بالبر لا يكافأ.
ثم قال تعالى: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لفظ " إما " لفظة مركبة من لفظتين: إن، وما. أما كلمة إن فهي للشرط، وأما كلمة (ما) فهي أيضا للشرط كقوله تعالى: * (ما ننسخ من آية) * (البقرة: 106) فلما جمع بين هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط، إلا أن علامة الجزم لم تظهر مع نون التوكيد، لأن الفعل يبنى مع نون التأكيد وأقول لقائل أن يقول: إن نون التأكيد إنما يليق بالموضع الذي يكون اللائق به تأكيد ذلك الحكم المذكور وتقريره وإثباته على أقوى الوجوه، إلا أن هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع، لأن قول القائل: الشيء إما كذا وإما كذا، فالمطلوب منه ترديد الحكم بين ذينك الشيئين المذكورين، وهذا الموضع لا يليق به التقرير والتأكيد فكيف يليق الجمع بين كلمة إما وبين نون التأكيد؟
وجوابه: أن المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما أن لا يقع والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ الأكثرون: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) * وعلى هذا التقدير فقوله: * (يبلغن) * فعل وفاعله هو قوله: * (أحدهما) * وقوله: * (أو كلاهما) * عطف عليه كقولك: ضرب زيد أو عمرو: ولو أسند قوله: * (يبلغن) * إلى قوله: * (كلاهما) * جاز لتقدم الفعل، تقول قال رجل، وقال
رجلان، وقالت الرجال، وقرأ حمزة والكسائي: * (يبلغان) * وعلى هذه القراءة فقوله: * (أحدهما) * بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين وكلاهما عطف على أحدهما فاعلا أو بدلا.
فإن قيل: لو قيل إما يبلغان كلاهما كان كلاهما توكيدا لا بدلا، فلم زعمتم أنه بدل؟
قلنا: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للاثنين فانتظم في حكمه، فوجب أن يكون مثله في كونه بدلا.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال قوله: * (أحدهما) * بدل، وقوله: * (أو كلاهما) * توكيد، ويكون ذلك عطفا للتوكيد على البدل.
187

قلنا: العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلا والآخر توكيدا خلاف الأصل والله أعلم. المسألة الثالثة: قال أبو الهيثم الرازي، وأبو الفتح الموصلي، وأبو علي الجرجاني: إن كلا اسم مفرد يفيد معنى التثنية ووزنه فعل ولامه معتل بمنزلة لام حجي ورضي وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة ولا تكون إلا مضافة. والدليل عليه أنها لو كانت تثنية لوجب أن يقال في النصب والخفض مررت بكلي الرجلين بكسر الياء كما تقول: بين يدي الرجل ومن ثلثي الليل. ويا صاحبي السجن. وطرفي النهار ولما لم يكن الأمر كذلك، علمنا أنها ليست تثنية بل هي لفظة مفردة وضعت للدلالة على التثنية كما أن لفظة كل اسم واحد موضوع للجماعة، فاذن أخبرت عن لفظة كما تخبر عن الواحد كقوله تعالى: * (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) * (مريم: 95) وكذلك إذا أخبرت عن كلا أخبرت عن واحد فقلت كلا إخوتك كان قائما قال الله تعالى: * (كلتا الجنتين آتت أكلها) * (الكهف: 33) ولم يقل آتتا والله أعلم.
المسألة الرابعة: قوله: * (يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) * معناه: أنهما يبلغان إلى حالة الضعف والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الجملة فعند هذا الذكر كلف الإنسان في حق الوالدين بخمسة أشياء:
النوع الأول: قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: فيه سبع لغات: كسر الفاء وضمها وفتحها، وكل هذه الثلاثة بتنوين وبغير تنوين فهذه ستة واللغة السابعة أفي بالياء قال الأخفش: كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه فقال قولي هذا وذكر ابن الأنباري: من لغات هذه اللفظة ثلاثة زائدة على ما ذكره الزجاج: * (أف) * بكسر الألف وفتح الفاء وافه بضم الألف وادخال الهاء و * (أف) * بضم الألف وتسكين الفاء.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وابن عامر: بفتح الفاء من غير تنوين، ونافع وحفص: بكسر الفاء والتنوين، والباقون: بكسر الفاء من غير تنوين وكلها لغات، وعلى هذا الخلاف في سورة الأنبياء * (أف لكم) * (الأنبياء: 67) وفي الأحقاف: * (أف لكما) * (الأحقاف: 17) وأقول: البحث المشكل ههنا أنا لما نقلنا عشرة أنواع من اللغات في هذه اللفظة، فما السبب في أنهم تركوا أكثر تلك اللغات في قراءة هذه اللفظة، واقتصروا على وجوه قليلة منها؟
المسألة الثالثة: ذكروا في تفسير هذه اللفظة وجوها: الأول: قال الفراء: تقول العرب جعل فلان يتأفف من ريح وجدها، معناه يقول: أف أف. الثاني: قال الأصمعي: الأف وسخ الأذن. والتف وسخ الظفر. يقال ذلك عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوا عند كل ما يتأذون به.
188

الثالث: قال بعضهم أف معناه قلة، وهو مأخوذ من الأفيف وهو الشيء القليل وتف أتباع له، كقولهم: شيطان ليطان خبيث نبيث. الرابع: روى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأف الضجر. الخامس: قال القتبي: أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد نفخت فيه لتزيله والصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قولك أف، ثم إنهم توسعوا فذكروا هذه اللفظة عند كل مكروه يصل إليهم. السادس: قال الزجاج: أف معناه النتن وهذا قول مجاهد، لأنه قال معنى قوله: * (ولا تقل لهما أف) * أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك كنت تخر أو تبول، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف.
المسألة الرابعة: قول القائل: لا تقل لفلان أف، مثل يضرب للمنع من كل مكروه وأذية وإن خف وقل. واختلف الأصوليون في أن دلالة هذا للفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالة لفظية أو دلالة مفهومة بمقتضى القياس. قال بعضهم: إنها دلالة لفظية، لأن أهل العرف إذا قالوا: لا تقل لفلان أف عنوا به أنه لا يتعرض له بنوع من أنواع الإيذاء والايحاش، وجرى هذا مجرى قولهم فلان لا يملك نقيرا ولا قطميرا في أنه بحسب العرف يدل على أنه لا يملك شيئا.
والقول الثاني: أن هذا اللفظ إنما يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء بحسب القياس الجلي، وتقريره أن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن حكم صورة أخرى، فإذا أردنا إلحاق الصورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محل السكوت أولى من ثبوته في محل الذكر مثل هذه الصورة، فإن اللفظ إنما دل على المنع من التأفيف، والضرب أولى بالمنع من التأفيف. وثانيها: أن يكون الحكم في محل السكوت مساويا للحكم في محل الذكر، وهذا هو الذي يسميه الأصوليون القياس في معنى الأصل، وضربوا لهذا مثلا وهو قوله عليه السلام: " من أعتق نصيبا له من عبد قوم عليه الباقي " فإن الحكم في الأمة والعبد متساويان. وثالثها: أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكبر القياسات.
إذا عرفت هذا فنقول: المنع من التأفيف إنما يدل على المنع من الضرب بواسطة القياس الجلي الذي يكون من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى. والدليل عليه: أن التأفيف غير الضرب، فالمنع من التأفيف لا يكون منعا من الضرب، وأيضا المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلا، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكا عظيما كان عدوا له، فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته، وإذا كان هذا معقولا في الجملة علمنا أن المنع من
189

التأفيف مغاير للمنع من الضرب وغير مستلزم للمنع من الضرب عقلا في الجملة، إلا أنا علمنا في هذه الصورة أن المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين
بدليل قوله: * (وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) * فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب من باب القياس بالأدنى على الأعلى، والله أعلم.
النوع الثاني: من الأشياء التي كلف الله تعالى العباد بها في حق الأبوين قوله: * (ولا تنهرهما) * يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره. قال تعالى: * (وأما السائل فلا تنهر) * (الضحى: 10).
فإن قيل: المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بطريق الأولى، فلما قدم المنع من التأفيف كان ذكر المنع من الانتهار بعده عبثا. أما لو فرضنا أنه قدم المنع من الانتهار ثم أتبعه بالمنع من التأفيف كان مفيدا حسنا، لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف، فما السبب في رعاية هذا الترتيب؟
قلنا: المراد من قوله: * (فلا تقل لهما أف) * المنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير، والمراد من قوله: * (ولا تنهرهما) * المنه من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له.
النوع الثالث: قوله تعالى: * (وقل لهما قولا كريما) * واعلم أنه تعالى لما منع الإنسان بالآية المتقدمة عن ذكر القول المؤذي الموحش. والنهي عن القول المؤذي لا يكون أمرا بالقول الطيب، لا جرم أردفه بأن أمره بالقول الحسن والكلام الطيب فقال: * (وقل لهما قولا كريما) * والمراد منه أن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم والاحترام. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو أن يقول له: يا أبتاه يا أماه، وسئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ، وعن عطاء أن يقال: هو أن تتكلم معه بشرط أن لا ترفع عليهما صوتك ولا تشد إليهما نظرك، وذلك لأن هذين الفعلين ينافيان القول الكريم.
فإن قيل: إن إبراهيم عليه السلام كان أعظم الناس حلما وكرما وأدبا، فكيف قال لأبيه يا آزر على قراءة من قرأ: * (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) * بالضم: * (إني أراك وقومك في ضلال مبين) * (الأنعام: 74) فخاطبه بالاسم وهو إيذاء، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال وهو أعظم أنواع الإيذاء؟
قلنا: إن قوله تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) * يدل على أن حق الله تعالى مقدم على حق الأبوين، فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديما لحق الله تعالى على حق الأبوين.
النوع الرابع: قوله: * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) * والمقصود منه المبالغة في التواضع،
190

وذكر القفال رحمه الله في تقريره وجهين: الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك. والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه. فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه.
فإن قيل: كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له؟
قلنا: فيه وجهان: الأول: أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال: حاتم الجود فكما أن المراد هناك حاتم الجواد فكذلك ههنا المراد، واخفض لهما جناحك الذليل، أي المذلول. والثاني: أن مدار الاستعارة على الخيالات فههنا تخيل للذل جناحا وأثبت لذلك الجناح ضعفا تكميلا لأمر هذه الاستعارة كما قال لبيد: إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فأثبت للشمال يدا ووضع زمامها في يد الشمال فكذا ههنا وقوله: * (من الرحمة) * معناه: ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما.
والنوع الخامس: قوله: * (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قال القفال رحمه الله تعالى: إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول: * (رب ارحمهما) * ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا. ثم يقول: * (كما ربياني صغيرا) * يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي، والتربية هي التنمية، وهي من قولهم ربا الشيء إذا انتفع، ومنه قوله تعالى: * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) * (فصلت: 39).
البحث الثاني: اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها منسوخة بقوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * (التوبة: 113) فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين، ولا يقول: رب ارحمهما.
والقول الثاني: أن هذه الآية غير منسوخة، ولكنها مخصوصة في حق المشركين، وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ.
والقول الثالث: أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان.
191

البحث الثالث: ظاهر الأمر للوجوب فقوله: * (وقل رب ارحمهما) * أمر وظاهر الأمر لا يفيد التكرار فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرة واحدة، سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة؟ فقال: نرجو أن نجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قال: * (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه) * (الأحزاب: 56) فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن الله تعالى قال: * (واذكروا الله في أيام معدودات) * (البقرة: 203) فهم يكررون في أدبار الصلوات.
ثم قال تعالى: * (ربكم اعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين) * والمعنى أنا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله تعالى وبالإحسان بالوالدين، ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها، فاعلموا أن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها، لأن علوم البشر قد يختلط بها السهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل، فأما علم الله فمنزه عن كل هذه الأحوال، وإذا كان الأمر كذلك كان عالما بكل ما في قلوبكم والمقصود منه التحذير عن ترك الإخلاص.
ثم قال تعالى: * (إن تكونوا صالحين) * أي إن كنتم برآء عن جهات الفساد في أحوال قلوبكم كنتم أوابين، أي رجاعين إلى الله منقطعين إليه في كل الأعمال وسنة الله وحكمه في الأوابين أنه غفور لهم يكفر عنهم سيآتهم، والأواب هو الذي من عادته وديدنه الرجوع إلى أمر الله تعالى والالتجاء إلى فضله ولا يلتجئ إلى شفاعة شفيع كما يفعله المشركون الذين يعبدون من دون الله جمادا يزعمون أنه يشفع لهم، ولفظ الأواب على وزن فعال، وهو يفيد المداومة والكثرة كقولهم: قتال وضراب والمقصود من هذه الآية أن الآية الأولى لما دلت على وجوب تعظيم الوالدين من كل الوجوه ثم إن الولد قد يظهر منه نادرة مخلة بتعظيمهما فقال: * (ربكم أعلم بما في نفوسكم) * يعني أنه تعالى عالم بأحوال قلوبكم فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلة البشرية كانت في محل الغفران والله أعلم.
قوله تعالى
* (وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان
192

الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا * وإما تعرضن عنهم ابتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا) *
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من أعمال الخير والطاعة المذكورة في هذه الآيات وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وآت) * خطاب مع من؟ فيه قولان:
القول الأول: أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم فأمره الله أن يؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة، وأوجب عليه أيضا إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضا من هذين المثالين.
والقول الثاني: أنه خطاب للكل والدليل عليه أنه معطوف على قوله: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * (الإسراء: 23) والمعنى: أنك بعد فراغك من بر الوالدين، يجب أن تشتغل ببر سائر الأقارب الأقرب فالأقرب، ثم بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل.
واعلم أن قوله تعالى: * (وآت ذا القربى حقه) * مجمل وليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو؟ وعند الشافعي رحمه الله أنه لا يجب الانفاق إلا على الولد والوالدين، وقال قوم: يجب الإنفاق على المحارم بقدر الحاجة واتفقوا على أن من لم يكن من المحارم كأبناء العم فلا حق لهم إلا الموادة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة في السراء والضراء. أما المسكين وابن السبيل فقد تقدم وصفهما في سورة التوبة في تفسير آية الزكاة. ويجب أن يدفع إلى المسكين ما يفي بقوته وقوت عياله، وأن يدفع إلى ابن السبيل ما يكفيه من زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده.
ثم قال تعالى: * (ولا تبذر تبذيرا) * والتبذير في اللغة إفساد المال وإنفاقه في السرف. قال عثمان بن الأسود: كنت أطوف في المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قبيس وقال: لو أن رجلا أنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهما واحدا في معصية الله كان من المسرفين. وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقيل له لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير، وعن عبد الله بن عمر قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ فقال: أو في الوضوء سرف؟ قال: نعم: وإن كنت على نهر جار ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين فقال: * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) * والمراد من هذه الأخوة التشبه بهم في هذا الفعل القبيح، وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشيء أخا له، فيقولون: فلان أخو الكرم والجود، وأخو السفر إذا كان مواظبا على هذه الأعمال، وقيل قوله: * (إخوان
193

الشياطين) * أي قرناءهم في الدنيا والآخرة كما قال: * (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) * (الأعراف: 36) وقال تعالى: * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) * (الصافات: 22) أي قرناءهم من الشياطين، ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان فقال: * (وكان الشيطان لربه كفورا) * ومعنى كون الشيطان كفورا لربه، هو أنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض، والإضلال للناس. وكذلك كل من رزقه الله تعالى مالا أو جاها فصرفه إلى غير مرضاة الله تعالى كان كفورا لنعمة الله تعالى، والمقصود: أن المبذرين إخوان الشياطين، بمعنى كونهم موافقين للشياطين في الصفة والفعل، ثم الشيطان كفور لربه فيلزم كون المبذر أيضا كفورا لربه، وقال بعض العلماء: خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر، وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله، وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيها على قبح أعمالهم في هذا الباب.
ثم قال تعالى: * (وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) * والمعنى: أنك إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة: * (فقل لهم قولا ميسورا) * أي سهلا لينا وقوله: * (ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) * كناية عن الفقر، لأن فاقد المال يطلب رحمة الله وإحسانه. فلما كان فقد المال سببا لهذا الطلب ولهذا الابتغاء أطلق اسم السبب على المسبب فسمى الفقر بابتغاء رحمة الله تعالى، والمعنى: أن عند حصول الفقر والقلة لا تترك تعهدهم بالقول الجميل والكلام الحسن، بل تعدهم بالوعد الجميل وتذكر لهم العذر وهو حصول القلة وعدم المال، أو تقول لهم: الله يسهل، وفي تفسير القول
الميسور وجوه: الأول: القول الميسور هو الرد بالطريق الأحسن. والثاني: القول الميسور اللين السهل قال الكسائي: يسرت أيسر له القول أي لينته له. الثالث: قال بعضهم: القول الميسور مثل قوله: * (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) * (البقرة: 363) قالوا: والميسور هو المعروف، لأن القول المتعارف لا يحوج إلى تكلف، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا * إن
194

ربك يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) *
اعلم أنه تعالى لما أمره بالانفاق في الآية المتقدمة علمه في هذه الآية أدب الإنفاق، واعلم أنه تعالى شرح وصف عبادة المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) * (الفرقان: 67) فههنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، والمعنى: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط: * (ولا تبسطها كل البسط) * أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعا مفرطا بحيث لا يبقى في يدك شيء. وحاصل الكلام: أن الحكماء ذكروا في كتب " الأخلاق " أن لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان، فالبخل إفراط في الإمساك، والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان، والخلق الفاضل هو العدل والوسط كما قال تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) *.
ثم قال تعالى: * (فتقعد ملوما محسورا) * أما تفسير تقعد، فقد سبق في الآية المتقدمة. وأما كونه ملوما فلأنه يلوم نفسه. وأصحابه أيضا يلومونه على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة، وأما كونه محسورا فقال الفراء: تقول العرب للبعير: هو محسور إذا انقطع سيره وحسرت الدابة إذا سيرها حتى ينقطع سيرها، ومنه قوله تعالى: * (ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) * (الملك: 4) وجمع الحسير حسرى مثل قتلى وصرعى، وقال القفال: المقصود تشبيه حال من أنفق كل ماله ونفقاته بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته، لأن ذلك المقدار من المال كأنه مطية يحمل الإنسان ويبلغه إلى آخر الشهر أو السنة، كما أن ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزا متحيرا فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدة شهر بقي في وسط ذلك الشهر عاجزا متحيرا ومن فعل هذا لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره وترك الحزم في مهمات معاشه.
ثم قال تعالى: * (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * والمقصود أنه عرف رسوله صلى الله عليه وسلم كونه ربا. والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض. والقدر في اللغة التضييق، ومنه قوله تعالى: * (ومن قدر عليه رزقه) * (الطلاق: 7) وقوله تعالى: * (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه) * (الفجر: 16) أي ضيق وإنما وسع على البعض لأن ذلك هو الصلاح لهم قال تعالى: * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء) * (الشورى: 27).
195

ثم قال تعالى: * (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) * يعنى أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل، بل لأجل رعاية المصالح.
قوله تعالى
* (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا) *
هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في تقرير النظم وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال: * (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * (الإسراء: 30) أتبعه بقوله: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم) *. الوجه الثاني: أنه تعالى لما علم كيفية البر بالوالدين في الآية المتقدمة علم في هذه الآية كيفية البر بالأولاد، ولهذا قال بعضهم: إن الذين يسمون بالأبرار إنما سموا بذلك لأنهم بروا الآباء والأبناء وإنما وجب بر الآباء مكافأة على ما صدر منهما من أنواع البر بالأولاد. وإنما وجب البر بالأولاد لأنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين.
الوجه الثالث: أن امتناع الأولاد من البر بالآباء يوجب خراب العالم، لأن الآباء إذا علموا ذلك قلت رغبتهم في تربية الأولاد، فيلزم خراب العالم من الوجه الذي قررناه، فثبت أن عمارة العالم إنما تحصل إذا حصلت المبرة بين الآباء والأولاد من الجانبين.
الوجه الرابع: أن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم، فالأول ضد التعظيم لأمر الله تعالى، والثاني: ضد الشفقة على خلق الله تعالى وكلاهما مذموم. والله أعلم.
الوجه الخامس: أن قرابة الأولاد قرابة الجزئية والبعضية، وهي من أعظم الموجبات للمحبة. فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح، وقسوة في القلب، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة، فرغب الله في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة.
المسألة الثانية: العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب، وقدرة البنين عليه
196

بسبب إقدامهم على النهب والغارة، وأيضا كانوا يخافون أن فقرها ينفر كفأها عن الرغبة فيها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء، وفي ذلك عار شديد فقال تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم) * وهذا لفظ عام للذكور والإناث، والمعنى: أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولدا، وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور وبين الإناث. وأما ما يخاف من الفقر من البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر، وقد يخاف أيضا في العاجزين من البنين.
ثم قال تعالى: * (نحن نرزقهم وإياكم) * يعني الأرزاق بيد الله تعالى فكما أنه تعالى فتح أبواب الرزق على الرجال، فكذلك يفتح أبواب الرزق على النساء.
المسألة الثالثة: الجمهور قرؤا إن قتلهم كان خطأ كبيرا، أي إثما كبيرا يقال خطىء يخطأ خطأ مثل أثم يأثم إثما. قال تعالى: * (إنا كنا خاطئين) * (يوسف: 97) أي آثمين، وقرأ ابن عامر خطأ بالفتح يقال: أخطأ يخطئ إخطاء وخطأ إذا أتى بما لا ينبغي من غير قصد، ويكون الخطأ اسما للمصدر، والمعنى: على هذه القراءة أن قتلهم ليس بصواب. قال القفال رحمه الله، وقرأ ابن كثير: * (خطأ) * بكسر الخاء ممدودة ولعلهما لغتان مثل دفع ودفاع ولبس ولباس.
* (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا) *
اعلم أنه تعالى لما أمر بالأشياء الخمسة التي تقدم ذكرها، وحاصلها يرجع إلى شيئين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، أتبعها بذكر النهي عن أشياء. أولها: أنه تعالى نهى عن الزنا فقال: * (ولا تقربوا الزنا) * قال القفال: إذا قيل للإنسان لا تقربوا هذا فهذا آكد من أن يقول له لا تفعله ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه: * (فاحشة وساء سبيلا) *.
واعلم أن الناس قد اختلفوا في أنه تعالى إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء فهل يصح أن يقال إنه تعالى إنما أمر بذلك الشيء أو نهى عنه لوجه عائد إليه أم لا؟ فقال القائلون بتحسين العقل وتقبيحه الأمر كذلك. وقال المنكرون: لتحسين العقل وتقبيحه ليس الأمر كذلك، احتج القائلون بتحسين العقل وتقبيحه على صحة قولهم بهذه الآية قالوا إنه تعالى نهى عن الزنا، وعلل ذلك النهي بكونه فاحشة فيمتنع أن يكون كونه فاحشة عبارة عن كونه منهيا عنه. وإلا لزم تعليل الشيء بنفسه وهو محال، فوجب أن يقال: كونه فاحشة وصف حاصل له باعتبار كونه زنا، وذلك يدل على أن الأشياء تحسن وتقبح لوجوه عائدة إليها في أنفسها، ويدل أيضا على أن نهي
197

الله تعالى عنها معلل بوقوعها في أنفسها على تلك الوجوه، وهذا الاستدلال قريب، والأولى أن يقال: إن كون الشيء في نفسه مصلحة أو مفسدة أمر ثابت لذاته لا بالشرع، فإن تناول الغذاء الموافق مصلحة، والضرب المؤلم مفسدة، وكونه كذلك أمر ثابت بالعقل لا بالشرع.
وإذا ثبت هذا فنقول: تكاليف الله تعالى واقعة على وفق مصالح العالم في المعاش والمعاد فهذا هو الكلام الظاهري، وفيه مشكلات هائلة ومباحث عميقة نسأل الله التوفيق لبلوغ الغاية فيها.
إذا عرفت هذا فنقول: الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد: أولها: اختلاط الأنساب واشتباهها فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره، فلا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده، وذلك يوجب ضياع الأولاد، وذلك يوجب انقطاع النسل وخراب العالم. وثانيها: أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل أولى بهذه المرأة من غيره لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل، وذلك يفضي إلى فتح باب الهرج والمرج والمقاتلة، وكم سمعنا وقوع القتل الذريع بسبب إقدام المرأة الواحدة على الزنا. وثالثها: أن المرأة إذا باشرت الزنا وتمرنت عليه يستقذرها كل طبع سليم، وكل خاطر مستقيم، وحينئذ لا تحصل الألفة والمحبة ولا يتم السكن والإزدواج، ولذلك فإن المرأة إذا اشتهرت بالزنا تنفر عن مقارنتها طباع أكثر الخلق. ورابعها: أنه إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة، وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت. وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم فرق في هذا الباب. وخامسها: أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس، وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب وأن تكون قائمة بأمور الأولاد والعبيد، وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية. وسادسها: أن الوطء يوجب الذل الشديد، والدليل عليه أن أعظم أنواع الشتم عند الناس ذكر ألفاظ الوقاع، ولولا أن الوطء يوجب الذل، وإلا لما كان الأمر كذلك، وأيضا فإن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا في المواضع المستورة، وفي الأوقات التي لا يطلع عليهم أحد، وأن جميع العقلاء يستنكفون عن ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم لما يقدمون على وطئهن، ولولا أن الوطء ذل، وإلا لما كان كذلك.
وإذا ثبت هذا فنقول: لما كان الوطء ذلا كان السعي في تقليله موافقا للعقول، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعى في تقليل ذلك العمل، وأيضا ما فيه من الذل يصير مجبورا بالمنافع
198

الحاصلة في النكاح، أما الزنا فإنه فتح باب لذلك العمل القبيح ولم يصر مجبورا بشيء من المنافع فوجب بقاؤه على أصل المنع والحجر، فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضي على الزنا بالقبح.
وإذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى وصف الزنا بصفات ثلاثة كونه فاحشة، ومقتا في آية أخرى: * (وساء سبيلا) * أما كونه فاحشة فهو إشارة إلى اشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم وإلى اشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج وهو أيضا يوجب خراب العالم. وأما المقت: فقد ذكرنا أن الزانية تصير ممقوتة مكروهة، وذلك يوجب عدم حصول السكن والازدواج وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه. وأما أنه ساء سبيلا، فهو ما ذكرنا أنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث، وأيضا يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة من غير أن يصير مجبورا بشيء من المنافع، فقد ذكرنا في قبح الزنا ستة أوجه؛ والله تعالى ذكر ألفاظا ثلاثة، فحملنا كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة على وجهين من تلك الوجوه الستة، والله أعلم بمراده.
* (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل إنه كان منصورا) *
هذا هو النوع الثاني مما نهى الله عنه في هذه الآية، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله القتل، فما السبب في أن الله تعالى بدأ أولا بذكر النهي عن الزنا وثانيا بذكر النهي عن القتل.
وجوابه: أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود، والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود. ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده، فلهذا السبب ذكر الله تعالى الزنا أولا ثم ذكر القتل ثانيا.
المسألة الثانية: اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، والحل إنما يثبت بسبب عارضي، فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى الله عن القتل مطلقا بناء على حكم الأصل، ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال: * (إلا بالحق) *
199

فنفتقر ههنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم، والذي يدل عليه وجوه: الأول: أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) ولا يريد بكم العسر. ولا ضرر ولا ضرار. الثاني: قوله عليه السلام: " الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب ". الثالث: أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) ولقوله عليه السلام: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل. الرابع: أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى: * (ولا تفسدوا) * (الأعراف: 85). الخامس: أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح، ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحا لا لمرجح وهو محال. السادس: أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنسانا عاقلا حكمنا فيه بتحريم قتله، وما لم نعرف شيئا زائدا على كونه إنسانا لم نحكم فيه بحل دمه، ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل، وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم. وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية.
وإذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * فقوله: * (ولا تقتلوا) * نهي وتحريم، وقوله: * (حرم الله) * إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد، ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال: * (إلا بالحق) * ثم ههنا طريقان:
الطريق الأول: أن مجرد قوله: * (إلا بالحق) * مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو؟ ثم إنه تعالى قال: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * أي في استيفاء القصاص من القاتل، وهذا الكلام يصلح جعله بيانا لذلك المجمل، وتقريره كأنه تعالى قال: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * وذلك الحق هو أن من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا في استيفاء القصاص. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط، فصار تقدير الآية: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا عند القصاص، وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصا صريحا في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد، فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة.
والطريق الثاني: أن نقول: دلت السنة على أن ذلك الحق هو أحد أمور ثلاثة: وهو قوله عليه السلام: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق ".
واعلم أن هذا الخبر من باب الآحاد. فإن قلنا: إن قوله: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * تفسير لقوله: * (إلا بالحق) * كانت الآية صريحة في أنه لا يحل القتل إلا بهذا السبب الواحد،
200

فحينئذ يصير هذا الخبر مخصصا لهذه الآية ويصير ذلك فرعا لقولنا: إنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وأما إن قلنا: إن قوله: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * ليس تفسيرا لقوله: * (إلا بالحق) * فحينئذ يصير هذا الخبر مفسرا للحق المذكور في الآية، وعلى هذا التقدير لا يصير هذا فرعا على مسألة جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. فلتكن هذه الدقيقة معلومة والله أعلم.
المسألة الثالثة: ظاهر هذه الآية أنه لا سبب لحل القتل إلا قتل المظلوم، وظاهر الخبر يقتضي ضم شيئين آخرين إليه: وهو الكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، ودلت آية أخرى على حصول سبب رابع وهو قوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا) * (المائدة: 33) ودلت آية أخرى على حصول سبب خامس وهو الكفر. قال تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) * (التوبة: 29) وقال: * (واقتلوهم حيث وجدتموهم) * (النساء: 89) والفقهاء تكلموا واختلفوا في أشياء أخرى فمنها: أن تارك الصلاة هل يقتل أم لا؟ فعند الشافعي رحمه الله يقتل، وعن أبي حنيفة رحمه الله لا يقتل. وثانيها: أن فعل اللواط هل يوجب القتل؟ فعند الشافعي يوجب، وعند أبي حنيفة لا يوجب. وثالثها: أن الساحر إذا قال: قتلت بسحري فلانا فعند الشافعي يوجب القتل، وعند أبي حنيفة لا يوجب. ورابعها: أن القتل بالمثقل هل يوجب القصاص؟ فعند الشافعي يوجب. وعند أبي حنيفة لا يوجب. وخامسها: أن الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل أم لا؟ اختلفوا فيه في زمان أبي بكر. وسادسها: أن إتيان البهيمة هل يوجب القتل، فعند أكثر الفقهاء لا يوجب، وعند قوم يوجب، حجة القائلين بأنه لا يجوز القتل في هذه الصور هو أن الآية صريحة في منع القتل على الإطلاق، إلا لسبب واحد وهو قتل المظلوم، ففيما عدا هذا السبب الواحد، وجب البقاء على أصل الحرمة، ثم قالوا: وهذا النص قد تأكد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدم على الإطلاق، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارض، وذلك المعارض إما أن يكون نصا متواترا أو نصا من باب الآحاد أو يكون قياسا، أما النص المتواتر فمفقود، وإلا لما بقي الخلاف، وأما النص من باب الآحاد فهو مرجوح بالنسبة إلى هذه النصوص المتواترة الكثيرة، وأما القياس فلا يعارض النص. فثبت بمقتضى هذا الأصل القوي القاهر أن الأصل في الدماء الحرمة إلا في الصور
المعدودة والله أعلم.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف) * فيه بحثان:
البحث الأول: أن هذه الآية تدل على أنه أثبت لولي الدم سلطانا، فأما بيان أن هذه السلطنة تحصل فيما ذا فليس في قوله: * (فقد جعلنا لوليه سلطانا) * دلالة عليه ثم ههنا طريقان: الأول: أنه تعالى لما قال بعده: * (فلا يسرف في القتل) * عرف أن تلك السلطنة إنما حصلت في استيفاء القتل، وهذا
201

ضعيف لاحتمال أن يكون المراد: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * فلا ينبغي أن يسرف الظالم في ذلك القتل، لأن ذلك المقتول منصور بواسطة إثبات هذه السلطنة لوليه. والثاني: أن تلك السلطنة مجملة ثم صارت مفسرة بالآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى في سورة البقرة: * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) * (البقرة: 178) إلى قوله: * (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) * (البقرة: 178) وقد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن الواجب هو كون المكلف مخيرا بين القصاص وبين الدية. وأما الخبر فهو قوله عليه السلام يوم الفتح: " من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " وعلى هذا الطريق فقوله: * (فلا يسرف في القتل) * معناه: أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص إن شاء، وسلطنة استيفاء الدية إن شاء. قال بعده: * (فلا يسرف في القتل) * معناه أن الأولى أن لا يقدم على استيفاء القتل وأن يكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو وبالجملة فلفظة " في " محمولة على الباء، والمعنى: فلا يصير مسرفا بسبب إقدامه على القتل ويصير معناه الترغيب في العفو والاكتفاء بالدية كما قال: * (وأن تعفو أقرب للتقوى) * (البقرة: 237).
البحث الثاني: أن في قوله: * (ومن قتل مظلوما) * ذكر كونه مظلوما بصيغة التنكير، وصيغة التنكير على ما عرف تدل على الكمال، فالإنسان المقتول ما لم يكن كاملا في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص. قال الشافعي رحمه الله: قد دللنا على أن المسلم إذا قتل الذمي لم يدخل تحت هذه الآية، بدليل أن الذمي مشرك والمشرك يحل دمه، إنما قلنا: إنه مشرك لقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 116) حكم بأن ما سوى الشرك مغفور في حق البعض، فلو كان كفر اليهودي والنصراني شيئا مغايرا للشرك لوجب أن يصير مغفورا في حق بعض الناس بمقتضى هذه الآية، فلما لم يصر مغفورا في حق أحد دل على أن كفرهم شرك، ولأنه تعالى قال: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) * (البقرة: 73) فهذا التثليث الذي قال به هؤلاء، إما أن يكون تثليثا في الصفات وهو باطل، لأن ذلك هو الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة فلا يمكن جعله تثليثا للكفر، وإما أن يكون تثليثا في الذوات، وذلك هو الحق ولا شك أن القائل به مشرك، فثبت أن الذمي مشرك، وإنما قلنا: إن المشرك يجب قتله لقوله تعالى: * (اقتلوا المشركين) * (التوبة: 5) ومقتضى هذا الدليل إباحة دم الذمي فإن لم تثبت الإباحة فلا أقل من حصول شبهة الإباحة.
وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت أنه ليس كاملا في المظلومية فلم يندرج تحت قوله تعالى: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * وأما الحر إذا قتل عبدا فهو داخل تحت هذه الآية إلا أنا بينا أن قوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) * (البقرة: 178) يدل على المنع من قتل الحر بالعبد من وجوه كثيرة وتلك الآية أخص من قوله: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * والخاص
202

مقدم على العام، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص ولا في مسألة أنه يجب قتل المسلم بالذمي، ولا في مسألة أنه يجب قتل الحر بالعبد والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (فلا يسرف في القتل) * ففيه مباحث:
البحث الأول: فيه وجوه: الأول: المراد هو أن يقتل القاتل وغير القاتل، وذلك لأن الواحد منهم إذا قتل واحدا من قبيلة شريفة فأولياء ذلك المقتول كانوا يقتلون خلقا من القبيلة الدنيئة فنهى الله تعالى عنه وأمر بالاقتصار على قتل القاتل وحده. الثاني: هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإن أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشراف قبيلة القاتل ثم كانوا يقتلون منهم قوما معينين ويتركون القاتل. والثالث: هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يمثل به ويقطع أعضاؤه. قال القفال: ولا يبعد حمله على الكل، لأن جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافا.
البحث الثاني: قرأ الأكثرون: * (فلا يسرف) * بالياء وفيه وجهان: الأول: التقدير: فلا ينبغي أن يسرف الولي في القتل. الثاني: أن الضمير للقاتل الظالم ابتداء، أي فلا ينبغي أن يسرف ذلك الظالم وإسرافه عبارة عن إقدامه على ذلك القتل الظلم، وقرأ حمزة والكسائي: * (فلا تسرف) * بالتاء على الخطاب، وهذه القراءة تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الخطاب للمبتدئ القاتل ظلما كأنه قيل له: لا تسرف أيها الإنسان، وذلك الإسراف هو إقدامه على ذلك القتل الذي هو ظلم محض، والمعنى: لا تفعل فإنك إن قتلته مظلوما استوفى القصاص منك. والآخر: أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير: لا تسرف في القتل أيها الولي، أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة. وأما قوله: * (إنه كان منصورا) * ففيه ثلاثة أوجه: الأول: كأنه قيل للظالم المبتدئ بذلك القتل على سبيل الظلم لا تفعل ذلك، فإن ذلك المقتول يكون منصورا في الدنيا والآخرة، أما نصرته في الدنيا فبقتل قاتله، وأما في الآخرة فبكثرة الثواب له وكثرة العقاب لقاتله.
والقول الثاني: أن هذا الولي يكون منصورا في قتل ذلك القاتل الظالم فليكتف بهذا القدر فإنه يكون منصورا فيه ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منه، لأن من يكون منصورا من عند الله يحرم عليه طلب الزيادة.
والقول الثالث: أن هذا القاتل الظالم ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص وأن لا يطلب الزيادة.
واعلم أن على القول الأول والثاني ظهر أن المقتول وولي دمه يكونان منصورين من عند الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قلت لعلي بن أبي طالب عليه السلام وأيم الله ليظهرن عليكم ابن أبي سفيان، لأن الله تعالى يقول: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * وقال
203

الحسن: والله ما نصر معاوية على علي عليه السلام إلا بقول الله تعالى: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) *
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات.
اعلم أنا ذكرنا أن الزنا يوجب اختلاط الأنساب. وذلك يوجب منع الاهتمام بتربية الأولاد وذلك يوجب انقطاع النسل، وذلك يوجب المنع من دخول الناس في الوجود، وأما القتل فهو عبارة عن إعدام الناس بعد دخولهم في الوجود، فثبت أن النهي عن الزنا والنهي عن القتل يرجع حاصله إلى النهي عن إتلاف النفوس، فلما ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال، لأن أعز الأشياء بعد النفوس الأموال، وأحق الناس بالنهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم، لأنه لصغره وضعفه وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله، فلهذا السبب خصهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم فقال: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * ونظيره قوله تعالى: * (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * (النساء: 6) وفي تفسير قوله: * (إلا بالتي هي أحسن) * وجهان: الأول: إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره. الثاني: المراد هو أن تأكل معه إذا احتجت إليه، وروى مجاهد عن ابن عباس قال: إذا احتاج أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه، فإن لم يوسر فلا شيء عليه.
واعلم أن الولي إنما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشده وهو بلوغ النكاح، كما بينه الله تعالى في آية أخرى وهو قوله: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) * (النساء: 6) والمراد بالأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله، وعند ذلك تزول ولاية غيره عنه وذلك حد البلوغ، فأما إذا بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه والله أعلم. وبلوغ العقل هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية والله أعلم.
204

قوله تعالى
* (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا) *
اعلم أنه تعالى أمر بخمسة أشياء أولا، ثم أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي النهي عن الزنا، وعن القتل إلا بالحق، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ثم أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة فالأول قوله: * (وأوفوا بالعهد) *.
واعلم أن كل عقد تقدم لأجل توثيق الأمر وتوكيده فهو عهد فقوله: * (وأوفوا بالعهد) * نظير لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) فدخل في قوله: * (أوفوا بالعقود) * كل عقد من العقود كعقد البيع والشركة، وعقد اليمين والنذر، وعقد الصلح، وعقد النكاح. وحاصل القول فيه: أن مقتضى هذه الآية أن كل عقد وعهد جرى بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بمقتضى ذلك العقد والعهد، إلا إذا دل دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به فمقتضاه الحكم بصحة كل بيع وقع التراضي به وبصحة كل شركة وقع التراضي بها، ويؤكد هذا النص بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود كقوله: * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) * (البقرة: 177) وقوله: * (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) * (المؤمنون: 8) وقوله: * (وأحل الله البيع) * (البقرة: 275) وقوله: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * (النساء: 29) وقوله: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * (البقرة: 282) وقوله عليه السلام: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة من نفسه " وقوله: " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " وقوله: " من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه " فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أن الأصل في البيوعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام.
إذا ثبت هذا فنقول: إن وجدنا نصا أخص من هذه النصوص يدل على البطلان والفساد قضينا به تقديما للخاص على العام، وإلا قضينا بالصحة في الكل، وأما تخصيص النص بالقياس فقد أبطلناه، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها وأطنابها مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة، ويكون المكلف آمن القلب مطمئن النفس في العمل، لأنه لما دلت هذه النصوص على صحتها فليس بعد بيان الله بيان، وتصير الشريعة مضبوطة معلومة.
205

ثم قال تعالى: * (إن العهد كان مسؤلا) * وفيه وجوه: أحدها: أن يراد صاحب العهد كان مسؤولا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82). وثانيها: أن العهد كان مسؤلا أي مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به. وثالثها: أن يكون هذا تخييلا كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفي بك تبكيتا للناكث كما يقال للموؤدة: * (بأي ذنب قتلت) * (التكوير: 9) وكقوله: * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) * (المائدة: 116) الآية فالمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره.
النوع الثاني: من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله: * (وأوفوا الكل إذا كلتم) * والمقصود منه إتمام الكيل وذكر الوعيد الشديد في نقصانه في قوله: * (ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) * (المطففين: 1 - 3).
النوع الثالث: من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله: * (وزنوا بالقسطاس المستقيم) * فالآية المتقدمة في إتمام الكيل، وهذه الآية في إتمام الوزن، ونظيره قوله تعالى: * (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) * (الرحمن: 9) وقوله: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * (هود: 85).
واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل، والوزن قليل. والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم، فوجب على العاقل الاحتراز منه، وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، وقد يكون الإنسان غافلا لا يهتدي إلى حفظ ماله، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان، سعيا في إبقاء الأموال على الملاك، ومنعا من تلطيخ النفس بسرقة ذلك المقدار الحقير، والقسطاس في معنى الميزان إلا أنه في العرف أكبر منه، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنه القبان. وقيل أنه بلسان الروم أو السرياني. والأصح أنه لغة العرب وهو مأخوذ من القسط، وهو الذي يحصل فيه الاستقامة والاعتدال، وبالجملة فمعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين، وأجمعوا على جواز اللغتين فيه، ضم القاف وكسرها، فالكسر قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والباقون بالضم.
ثم قال تعالى: * (ذلك خير) * أي الإيفاء بالتمام والكمال خير من التطفيف القليل من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة: * (وأحسن تأويلا) * والتأويل ما يؤل إليه الأمر كما قال في موضع آخر: * (خير مردا) * (مريم: 76) * (خير عقبا) * (الكهف: 46) * (خير أملا) * (الكهف: 44) وإنما حكم تعالى بأن عاقبة هذا الأمر أحسن العواقب، لأنه في الدنيا إذا اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل، وكم قد رأينا من الفقراء لما اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة أقبلت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة
206

لهم في المدة القليلة. وأما في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم.
قوله تعالى
* (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما شرح الأوامر الثلاثة، عاد بعده إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء: أولها: قوله: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * وقوله: * (تقف) * مأخوذ من قولهم: قفوت أثر فلان أقفو قفوا وقفوا إذا اتبعت أثره، وسميت قافية الشعر قافية لأنها تقفو البيت، وسميت القبيلة المشهورة بالقافة، لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوال الإنسان، وقال تعالى: * (ثم قفينا على آثارهم برسلنا) * (الحديد: 27) وسمي القفا قفا لأنه مؤخر بدن الإنسان كأنه شيء يتبعه ويقفوه فقوله: * (ولا تقف) * أي ولا تتبع ولا تقتف ما لا علم لك به من قول أو فعل، وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما، وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة، وكل واحد من المفسرين حمله على واحد من تلك الأنواع وفيه وجوه:
الوجه الأول: المراد نهي المشركين عن المذاهب التي كانوا يعتقدونها في الإلهيات والنبوات بسبب تقليد أسلافهم، لأنه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) * (النجم: 23) وقال في إنكارهم البعث: * (بل أدارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون) * (النمل: 66) وحكي عنهم أنهم قالوا: * (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) * (الجاثية: 32) وقال: * (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) * (القصص: 50) وقال: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) * (النحل: 116) الآية وقال: * (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن) * (الأنعام: 148).
والقول الثاني: نقل عن محمد بن الحنفية أن المراد منه شهادة الزور، وقال ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك.
والقول الثالث: المراد منه: النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب، وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه.
207

والقول الرابع: المراد منه النهي عن الكذب. قال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم.
والقول الخامس: أن القفو هو البهت وأصله من القفا، كأنه قول يقال خلفه وهو في معنى الغيبة وهو ذكر الرجل في غيبته بما يسوءه. وفي بعض الأخبار من قفا مسلما بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال، واعلم أن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقليد والله أعلم.
المسألة الثانية: احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: القياس لا يفيد إلا الظن والظن مغاير للعلم، فالحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم، فوجب أن لا يجوز لقوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *.
أجيب عنه من وجوه: الأول: أن الحكم في الدين بمجرد الظن جائز بإجماع الأمة في صور كثيرة: أحدها: أن العمل بالفتوى عمل بالظن وهو جائز. وثانيها: العمل بالشهادة عمل بالظن وأنه جائز. وثالثها: الاجتهاد في طلب القبلة لا يفيد إلا الظن وأنه جائز. ورابعها: قيم المتلفات وأروش الجنايات لا سبيل إليها إلا بالظن وأنه جائز. وخامسها: الفصد والحجامة وسائر المعالجات بناء على الظن وأنه جائز. وسادسها: كون هذه الذبيحة ذبيحة للمسلم مظنون لا معلوم، وبناء الحكم عليه جائز. وسابعها: قال تعالى: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * (النساء: 35) وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم. وثامنها: الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمنا مظنون ثم نبني على هذا الظن أحكاما كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين وغيرهما. وتاسعها: جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار، وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون جائز. وعاشرها: قال عليه السلام: " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " وذلك تصريح بأن الظن معتبر في هذه الأنواع العشرة فبطل قول من يقول: إنه لا يجوز بناء الأمر على الظن.
والجواب الثاني: أن الظن قد يسمى بالعلم. والدليل عليه قوله تعالى: * (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحونهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا
ترجعوهن إلى الكفار) * (الممتحنة: 10) ومن المعلوم أنه إنما يمكن العلم بإيمانهن بناء على اقرارهن، وذلك لا يفيد إلا الظن، فههنا الله تعالى سمى الظن علما.
والجواب الثالث: أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس، وكان ذلك الدليل دليلا على أنه متى حصل ظن أن حكم الله في هذه السورة يساوي حكمه في محل النص،
208

فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن، فههنا الظن وقع في طريق الحكم، فأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن.
أجاب نفاة القياس عن السؤال الأول فقالوا: قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * عام دخله التخصيص في الصور العشرة المذكورة، فيبقى هذا العموم فيما وراء هذه الصور حجة، ثم نقول: الفرق بين هذه الصور العشر وبين محل النزاع أن هذه الصور العشر مشتركة في أن تلك الأحكام أحكام مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة، فإن الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعين إلى المعنى المعين واقعة متعلقة بذلك الشخص المعين، وكذلك القول في الشهادة وفي طلب القبلة وفي سائر الصور. والتنصيص على وقائع الأشخاص المعينين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له، وذلك متعذر، فلهذه الضرورة اكتفينا بالظن. أما الأحكام المثبتة بالأقيسة فهي أحكام كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة قليلة، والتنصيص عليها ممكن ولذلك فإن الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها وذكروها في كتبهم.
إذا عرفت هذا فنقول: التنصيص على الأحكام في الصور العشر التي ذكرتموها غير ممكن فلا جرم اكتفى الشارع فيها بالظن، أما المسائل المثبتة بالطرق القياسية التنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن فظهر الفرق.
وأما الجواب الثاني: وهو قولهم الظن قد يسمى علما فنقول: هذا باطل فإنه يصح أن يقال هذا مظنون وغير معلوم، وهذا معلوم وغير مظنون، وذلك يدل على حصول المغايرة، ثم الذي يدل عليه قوله تعالى: * (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن) * (الأنعام: 148) نفي العلم، واثبات للظن، وذلك يدل على حصول المغايرة، وأما قوله تعالى: * (فإن علمتموهن مؤمنات) * (الممتحنة: 10) فالمؤمن هو المقر، وذلك الإقرار هو العلم.
وأما الجواب الثالث: فهو أيضا ضعيف، لأن ذلك الكلام إنما يتم لو ثبت أن القياس حجة بدليل قاطع وذلك باطل لأن تلك الحجة إما أن تكون عقلية أو نقلية، والأول باطل لأن القياس الذي يفيد الظن لا يجب عقلا أن يكون حجة، والدليل عليه أنه لا نزاع أن يصح من الشرع أن يقول: نهيتكم عن الرجوع إلى القياس ولو كان كونه حجة أمرا عقليا محضا لامتنع ذلك. والثاني: أيضا باطل، لأن الدليل النقلي في كون القياس حجة إنما يكون قطعيا لو كان منقولا نقلا متواترا وكانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعية غير محتملة النقيض ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولعرفه الكل ولارتفع الخلاف، وحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يحصل في هذه
209

المسألة دليل سمعي قاطع، فثبت أنه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطع البتة، فبطل قولكم كون الحكم المثبت بالقياس حجة معلوم لا مظنون، فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل. وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب عنه إن التمسك بهذه الآية التي عولتم عليها تمسك بعام مخصوص، والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن، فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بهذه الآية غير جائز، فالقول بكون هذه الآية حجة يفضي ثبوته إلى نفيه فكان تناقضا فسقط الاستدلال به والله أعلم. وللمجيب أن يجيب فيقول: نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: * (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا) * فيه بحثان:
البحث الأول: أن العلوم إما مستفادة من الحواس، أو من العقول. أما القسم الأول: فإليه الإشارة بذكر السمع والبصر، فإن الإنسان إذا سمع شيئا ورآه فإنه يرويه ويخبر عنه، وأما القسم الثاني: فهو العلوم المستفادة من العقل وهي قسمان: البديهية والكسبية، وإلى العلوم العقلية الإشارة بذكر الفؤاد.
البحث الثاني: ظاهر الآية يدل على أن هذه الجوارح مسؤولة وفيه وجوه:
الوجه الأول: أن المراد أن صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأن السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلا، وهذه الجوارح ليست كذلك، بل العاقل الفاهم هو الإنسان، فهو كقوله تعالى: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) والمراد أهلها يقال له لم سمعت ما لا يحل لك سماعه، ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لا يحل لك العزم عليه.
والوجه الثاني: أن تقرير الآية أن أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عن السمع والبصر والفؤاد فيقال لهم استعملتم السمع فيماذا أفي الطاعة أو في المعصية؟ وكذلك القول في بقية الأعضاء، وذلك لأن هذه الحواس آلات النفس، والنفس كالأمير لها والمستعمل لها في مصالحها فإن استعملتها النفس في الخيرات استوجبت الثواب، وإن استعملتها في المعاصي استحقت العقاب.
والوجه الثالث: أنه ثبت بالقرآن أنه تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم إنها تشهد على الإنسان والدليل عليه قوله تعالى: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) * (النور: 24) ولذلك لا يبعد أن يخلق الحياة والعقل والنطق في هذه الأعضاء. ثم إنه تعالى يوجه السؤال عليها.
210

قوله تعالى
* (ولا تمش فى الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) *
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المرح شدة الفرح يقال: مرح يمرح مرحا فهو مرح، والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشيا يدل على الكبرياء والعظمة. قال الزجاج: لا تمش في الأرض مختالا فخورا ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان: * (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) * (الفرقان: 63) وقال في سورة لقمان: * (واقصد في مشيك واغضض من صوتك) * (لقمان: 19) وقال أيضا فيها: * (ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور) * (لقمان: 18).
المسألة الثانية؛ قال الأخفش: ولو قرى: * (مرحا) * بالكسر كان أحسن في القراءة. قال الزجاج: مرحا مصدر ومرحا اسم الفاعل وكلاهما جائز، إلا أن المصدر أحسن ههنا وأوكد، تقول جاء زيد ركضا وراكضا فركضا أوكد لأنه يدل على توكيد الفعل، ثم إنه تعالى أكد النهي عن الخيلاء والتكبر فقال: * (إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) * والمراد من الخرق ههنا نقب الأرض، ثم ذكروا فيه وجوها: الأول: أن المشي إنما يتم بالارتفاع والانخفاض فكأنه قيل: إنك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رؤوس الجبال، والمراد التنبيه على كونه ضعيفا عاجزا فلا يليق به التكبر. الثاني: المراد منه أن تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها. وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها فأنت محاط بك من فوقك وتحتك بنوعين من الجماد، وأنت أضعف منهما بكثير، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له: تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله المحصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي:
ثم قال تعالى: * (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الأكثرون قرؤا سيئه بضم الهاء والهمزة وقرى نافع وابن كثير وأبو عمرو سيئه منصوبة أما وجه قراءة الأكثرين فظاهر من وجهين:
211

الوجه الأول: قال الحسن: إنه تعالى ذكر قبل هذا أشياء أمر ببعضا ونهى عن بعضها، فلو حكم على الكل بكونه سيئه لزم كون المأمور به سيئة وذلك لا يجوز، أما إذا قرأناه بالإضافة كان المعنى أن ما كان من تلك الأشياء المذكورة سيئة فهو مكروه عند الله واستقام الكلام.
والوجه الثاني: أنا لو حكمنا على كل ما تقدم ذكره بكونه سيئه لوجب أن يقال: إنها مكروهة وليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال: * (مكروها) * أما إذا قرأناه بصيغة الإضافة كان المعنى أن سيئ تلك الأقسام يكون مكروها، وحينئذ يستقيم الكلام. أما قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو: فيها وجوه: الأول: أن الكلام، تم عند قوله: * (ذلك خير وأحسن تأويلا) * (النساء: 59) ثم ابتدأ وقال: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (الإسراء: 36) * (ولا تمش في الأرض مرحا) * (الإسراء: 37). ثم قال: * (كل ذلك كان سيئه) * والمراد هذه الأشياء الأخيرة التي نهى الله عنها. والثاني: أن المراد بقوله: * (كل ذلك) * أي كل ما نهى الله عنه فيما تقدم. وأما قوله: * (مكروها) * فذكروا في تصحيحه على هذه القراءة وجوها: الأول: التقدير: كل ذلك كان سيئة وكان مكروها. الثاني: قال صاحب " الكشاف ": السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئه. ألا ترى أنك تقول: الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث. الثالث: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: كل ذلك كان مكروها وسيئة عند ربك. الرابع: أنه محمول على المعنى لأن السيئة هي الذنب وهو مذكر.
المسألة الثانية: قال القاضي: دلت هذه الآية على أن هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى، والمكروه لا يكون مرادا له، فهذه الأعمال غير مرادة لله تعالى فبطل قول من يقول: كل ما دخل في الوجود فهو مراد لله تعالى. وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى وجب أن لا تكون مخلوقة له لأنها لو كانت مخلوقة لله تعالى لكانت مرادة له لا يقال: المراد من كونها مكروهة أن الله تعالى نهى عنها، وأيضا معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها وعلى هذا التقدير فهذا لا يمنع أن الله تعالى أراد وجودها، لأن الجواب عن الأول أنه عدول عن الظاهر، وأيضا فكونها سيئة عند ربك يدل على كونها منهيا عنها فلو حملنا المكروه على النهي لزم التكرار.
والجواب عن الثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال، ولا يليق بهذا الموضع أن يقال: إنه يكره وقوعها هذا تمام هذا الاستدلال.
والجواب: أن المراد من المكروه المنهي عنه ولا بأس بالتكرير لأجل التأكيد والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال القاضي: دلت هذه الآية على أنه تعالى كما أنه موصوف بكونه مريدا فكذلك أيضا موصوف بكونه كارها. وقال أصحابنا: الكراهية في حقه تعالى محمولة إما على النهي أو على إرادة العدم. والله أعلم.
212

قوله تعالى
* (ذلك ممآ أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها ءاخر فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا * أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) *
اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعا من التكاليف. فأولها: قوله: * (ولا تجعل مع الله إلها آخر) * (الإسراء: 22) وقوله: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * (الإسراء: 23) مشتمل على تكليفين: الأمر بعبادة الله تعالى، والنهي عن عبادة غير الله، فكان المجموع ثلاثة. وقوله: * (وبالوالدين إحسانا) * (الإسراء: 23) هو الرابع، ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي: قوله: * (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما) * (الإسراء: 23، 24) فيكون المجموع تسعة، ثم قال: * (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) * وهو ثلاثة فيكون المجموع اثني عشر. ثم قال: * (ولا تبذر تبذيرا) * (الإسراء: 26) فيصير ثلاثة عشر. ثم قال: * (وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل
لهم قولا ميسورا) * وهو الرابع عشر ثم قال: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * (الإسراء: 28، 29) إلى آخر الآية وهو الخامس عشر، ثم قال: * (ولا تقتلوا أولادكم) * (الإسراء: 31) وهو السادس عشر، ثم قال: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * وهو السابع عشر ثم قال: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * وهو الثامن عشر، ثم قال: * (فلا يسرف في القتل) * (الإسراء: 33) وهو التاسع عشر، ثم قال: * (وأوفوا بالعهد) * (الإسراء: 34) وهو العشرون. ثم قال: * (وأوفوا الكيل إذا كلتم) * وهو الحادي والعشرون، ثم قال: * (وزنوا بالقسطاس المستقيم) * (الإسراء: 35) وهو الثاني والعشرون، ثم قال: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (الإسراء: 36) وهو الثالث والعشرون، ثم قال: * (ولا تمش في الأرض مرحا) * (الإسراء: 37) وهو الرابع والعشرون، ثم قال: * (ولا تجعل مع الله إلها آخر) * وهو الخامس والعشرون، فهذه خمسة وعشرون نوعا من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها الله تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله: * (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا) * (الإسراء: 22) وخاتمتها قوله: * (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهم ملوما مدحورا) *.
إذا عرفت هذا فنقول: ههنا فوائد:
الفائدة الأولى؛ قوله: * (ذلك) * إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة، وإنما
213

سماها بهذا الاسم لوجوه: أحدها: أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتها. فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعيا إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعيا إلى دين الرحمن، وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله: * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم) * (الشعراء: 221، 222). وثانيها: أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال، فكانت محكمة وحكمة من هذا الاعتبار. وثالثها: أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها، فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة، وعن ابن عباس: أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام: أولها: * (ولا تجعل مع الله إلها آخر) * قال تعالى: * (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء) * (الأعراف: 145).
والفائدة الثانية: من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك وختمها بعين هذا المعنى، والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد، وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد، تنبيها على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه، فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموما مخذولا، وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوما مدحورا، فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا، وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول، وبين الملوم المدحور. فنقول: أما الفرق بين المذموم وبين الملوم، فهو أن كونه مذموما معناه: أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر، فهذا معنى كونه مذموما، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل، وما الذي حملك عليه، وما استفدت من هذا لعمل إلا إلحاق الضرر بنفسك، وهذا هو اللوم. فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموما، وآخره أن يصير ملوما، وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال: تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، وأما المدحور فهو المطرود. والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى: * (ويخلد فيه مهانا) * فكونه مخذولا عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه، وكونه مدحورا عبارة عن إهانته والاستخفاف به، فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولا، وآخره أن يصير مدحورا والله أعلم بمراده.
214

وأما قوله: * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا) * فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة من أثبت لله شريكا ونظيرا نبه على طريقة من أثبت له الولد وعلى كمال جهل هذه الفرقة، وهي أنهم اعتقدوا أن الولد قسمان؛ فأشرف القسمين البنون، وأخسهما البنات. ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية عجزهم ونقصهم وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له والجلال الذي لا غاية له، وذلك يدل على نهاية جهل القائل بهذا القول ونظيره قوله تعالى: * (أم له البنات ولكم البنون) * (الطور: 39) وقوله: * (ألكم الذكر وله الأنثى) * (النجم: 21) وقوله: * (أفأصفاكم) * يقال أصفاه بالشيء إذا آثر به، ويقال للضياع التي يستخصها السلطان بخاصية الصوافي. قال أبو عبيدة في قوله: * (أفأصفاكم) * أفخصكم، وقال المفضل: أخلصكم. قال النحويون هذه الهمزة همزة تدل على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد لا جواب لصاحبه إلا بما فيه أعظم الفضيحة.
ثم قال تعالى: * (إنكم لتقولون قولا عظيما) * وبيان هذا التعظيم من وجهين: الأول: أن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض، وذلك يقدح في كونه قديما واجب الوجود لذاته. وذلك عظيم من القول ومنكر من الكلام. والثاني: أن بتقدير ثبوت الولد فقد جعلتم أشرف القسمين لأنفسكم وأخس القسمين لله. وهذا أيضا جهل عظيم.
قوله تعالى
* (ولقد صرفنا فى هذا القرءان ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا * قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا * سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا * تسبح له السماوات السبع والارض ومن فيهن وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) *
215

اعلم أن التصريف في اللغة عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة، نحو تصريف الرياح وتصريف الأمور هذا هو الأصل في اللغة، ثم جعل لفظ التصريف كناية
عن التبيين، لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ومن مثال إلى مثال آخر ليكمل الإيضاح ويقوي البيان فقوله: * (ولقد صرفنا) * أي بينا ومفعول التصريف محذوف وفيه وجوه: أحدها: ولقد صرفنا في هذا القرآن ضروبا من كل مثل. وثانيها: أن تكون لفظة " في " زائدة كقوله: * (وأصلح لي في ذريتي) * (الأحقاف: 15) أي أصلح لي ذريتي. أما قوله: * (ليذكروا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ الجمهور * (ليذكروا) * بفتح الذال والكاف وتشديدهما، والمعنى: ليتذكروا فأدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما، وقرأ حمزة والكسائي ليذكروا ساكنة الذال مضمومة الكاف، وفي سورة الفرقان مثله من الذكر قال الواحدي: والتذكر ههنا أشبه من الذكر، لأن المراد منه التدبر والتفكر، وليس المراد منه الذكر الذي يحصل بعد النسيان. ثم قال: وأما قراءة حمزة والكسائي ففيها وجهان: الأول: أن الذكر قد جاء بمعنى التأمل والتدبر كقوله تعالى: * (خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه) * (البقرة: 63) والمعنى: وافهموا ما فيه. والثاني: أن يكون المعنى صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه.
المسألة الثانية: قال الجبائي: قوله: * (ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا) * يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن، وإنما أكثر فيه من ذكر الدلائل لأنه تعالى أراد منهم فهمها والإيمان بها، وهذا يدل على أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية، ويدل على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل سواء آمنوا أو كفروا والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وما يزيدهم إلا نفورا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الأصم: شبههم بالدواب النافرة، أي ما ازدادوا من الحق إلا بعدا وهو كقوله: * (فزادتهم رجسا) * (التوبة: 125).
المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكفار، وقالوا: إنه تعالى عالم بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفورا، فلو أراد الإيمان منهم لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة ونبوة عنه، لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سببا لمزيد النفرة والنبوة عنه، فإنه عندما يحاول تحصيل ذلك المقصود يحترز عما يوجب مزيد النفرة والنبوة. فلما أخبر تعالى أن هذا التصريف يزيدهم نفورا، علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم. والله أعلم.
216

أما قوله تعالى: * (قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسيره وجهان:
الوجه الأول: أن المراد من قوله: * (إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى لغلب بعضهم بعضا، وحاصله يرجع إلى دليل التمانع وقد شرحناه في سورة الأنبياء في تفسير قوله: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) فلا فائدة في الإعادة.
الوجه الثاني: أن الكفار كانوا يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقال الله لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها أيضا قربة إلى الله تعالى وسبيلا إليه ولطلبت لأنفسها المراتب العالية، والدرجات الشريفة من الأحوال الرفيعة، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلا إلى الله فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير كما يقولون وعما يقولون ويسبح بالياء في هذه الثلاثة، والمعنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه فهو مثل قوله: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون) * (آل عمران: 12) وقرأ حمزة والكسائي كلها بالتاء، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في الأول بالتاء على الخطاب، وفي الثاني والثالث بالياء على الحكاية، وقرأ حفص عن عاصم الأولين بالياء، والأخير بالتاء، وقرأ أبو عمرو الأول والأخير بالتاء والأوسط بالياء.
ثم قال تعالى: * (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لما أقام الدليل القاطع على كونه منزها عن الشركاء. وعلى أن القول بإثبات الآلهة قول باطل، أردفه بما يدل على تنزيهه عن هذا القول الباطل فقال: * (سبحانه) * وقد ذكرنا أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، ثم قال: * (وتعالى) * والمراد من هذا التعالي الارتفاع وهو العلو، وظاهر أن المراد من هذا التعالي ليس هو التعالي في المكان والجهة، لأن التعالي عن الشريك والنظير والنقائص والآفات لا يمكن تفسيره بالتعالي بالمكان والجهة، فعلمنا أن لفظ التعالي في حق الله تعالى غير مفسر بالعلو بحسب المكان والجهة.
المسألة الثانية: جعل العلو مصدر التعالي فقال تعالى: * (علوا كبيرا) * وكان يجب أن يقال تعالى تعاليا كبيرا إلا أن نظيره قوله تعالى: * (والله أنبتكم من الأرض نباتا) * (نوح: 17).
فإن قيل: ما الفائدة في وصف ذلك العلو بالكبير؟
قلنا: لأن المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد منافاة بلغت في القوة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها، لأن المنافاة بين الواجب
217

لذاته والممكن لذاته، وبين القديم والمحدث، وبين الغني والمحتاج منافاة لا تعقل الزيادة عليها فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبير.
ثم قال تعالى: * (تسبح له السماوات والأرض ومن فيهن) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن الحي المكلف يسبح لله بوجهين: الأول: بالقول كقوله باللسان سبحان الله. والثاني: بدلالة أحواله على توحيد الله تعالى وتقديسه وعزته، فأما الذي لا يكون مكلفا مثل البهائم، ومن لا يكون حيا مثل الجمادات فهي إنما تسبح لله تعالى بالطريق الثاني، لأن التسبيح بالطريق الأول لا يحصل إلا مع الفهم والعلم
والإدراك والنطق وكل ذلك في الجماد محال، فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلا بالطريق الثاني.
واعلم أنا لو جوزنا في الجماد أن يكون عالما متكلما لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالما قادرا على كونه حيا وحينئذ يفسد علينا باب العلم بكونه حيا وذلك كفر فإنه يقال: إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله تعالى وصفاته وتسبحه مع أنها ليست بأحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشيء عالما قادرا متكلما كونه حيا فلم يلزم من كونه تعالى عالما قادرا كونه حيا وذلك جهل وكفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن من ليس بحي لم يكن عالما قادرا متكلما، هذا هو القول الذي أطبق العلماء المحققون عليه، ومن الناس من قال: إن الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلها تسبح الله تعالى، واحتجوا على صحة قولهم بأن قالوا: دل هذا النص على كونها مسبحة لله تعالى ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته لأنه تعالى قال: * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) * فهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا. ودلالتها على وجود قدرة الله وحكمته معلوم، والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم فدل على أنها تسبح الله تعالى وأن تسبيحها غير معلوم لنا، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايرا لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته.
والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثر من الأجزاء التي لا تتجزأ، وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله، ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ حفاة مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات فلا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم.
218

إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله وكل صفة من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضا دليل تام على وجود الإله تعالى، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم، وأحوال تلك الصفات غير معلومة، فلهذا المعنى قال تعالى: * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) *.
والوجه الثاني: هو أن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا يتفكرون في أنواع الدلائل، ولهذا المعنى قال تعالى: * (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) * فكان المراد من قوله: * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) * هذا المعنى.
والوجه الثالث: أن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته. ولذلك فإنهم استبعدوا كونه تعالى قادرا على الحشر والنشر فكان المراد ذلك. وأيضا فإنه تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل فلما ذكر هذا الدليل قال: * (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن) * فتسبيح السماوات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه، بل نقول: إن القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والعدل، والنبوة والمعاد، فكان المراد من قوله: * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) * ذلك ومما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله: * (إنه كان حليما غفورا) * فذكر الحليم والغفور ههنا يدل على أن كونهم بحيث لا يفقهون ذلك التسبيح جرم عظيم صدر عنهم وهذا إنما يكون جرما إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه دلالة تلك الدلائل. أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح الله بأقوالها وألفاظها لم يكن عدم الفقه لتلك التسبيحات جرما ولا ذنبا، وإذا لم يكن ذلك جرما ولا ذنبا لم يكن قوله: * (إنه كان حليما غفورا) * لائقا بهذا الموضع، فهذا وجه قوي في نصرة القول الذي اخترناه. واعلم أن القائلين بأن هذه الجمادات والحيوانات تسبح الله بألفاظها أضافوا إلى كل حيوان نوعا آخر من التسبيح. وقالوا: إنها إذا ذبحت لم تسبح مع أنهم يقولون إن الجمادات تسبح الله، فإذا كان كونه جمادا لا يمنع من كونه مسبحا، فكيف صار ذبح الحيوان مانعا له من التسبيح، وقالوا أيضا: إن غصن الشجرة إذا كسر لم يسبح، وإذا كان كونه جمادا لم يمنع من كونه مسبحا فكسره كيف يمنع من ذلك، فعلم أن هذه الكلمات ضعيفة والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن) * تصريح بإضافة التسبيح
219

إلى السماوات والأرض وإلى المكلفين الحاصلين فيهن وقد دللنا على أن التسبيح المضاف إلى الجمادات ليس إلا بمعنى الدلالة على تنزيه الله تعالى وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجاز، وأما التسبيح الصادر عن المكلفين وهو قولهم: سبحان الله، فهذا حقيقة، فيلزم أن يكون قوله: * (تسبح) * لفظا واحدا قد استعمل في الحقيقة والمجاز معا، وأنه باطل على ما ثبت دليله في أصول الفقه، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على الوجه المجازي في حق الجمادات لا في حق العقلاء لئلا يلزم ذلك المحذور والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا * وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى ءاذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك فى القرءان وحده ولوا على أدبارهم نفورا * نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) *
اعلم أنه تعالى لما تكلم في الآية المتقدمة في المسائل الإلهية تكلم في هذه الآية فيما يتعلق بتقرير النبوة. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (وإذا قرأت القرآن) * قولان: القول الأول: أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان
220

، وعن يساره آخران من ولد قصي يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار، وعن أسماء أنه صلى الله عليه وسلم كان جالسا ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب ومعها فهر تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: مذمما أتينا ودينه قلينا وأمره عصينا
فقال أبو بكر: يا رسول الله معها فهر أخشاها عليك، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فجاءت فما رأت رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالت: إن قريشا قد علمت أني ابنة سيدها وأن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك. وروى ابن عباس: أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوما: ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء. وقال أبو سفيان: أني لأرى بعض ما يقوله حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون. وقال أبو لهب هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى هو شاعر، فنزلت هذه الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاثة آيات وهي قوله في سورة الكهف: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) * (الكهف: 57) وفي النحل: * (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) * (النحل: 108) وفي حم الجاثية: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * (الجاثية: 23) إلى آخر الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين، وهو المراد من قوله تعالى: * (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) * وفيه سؤال: وهو أنه كان يجب أن يقال حجابا ساترا.
والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن ذلك الحجاب حجاب يخلقه الله تعالى في عيونهم بحيث يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وذلك الحجاب شيء لا يراه فكان مستورا من هذا الوجه، احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضرا مع أنه لا يراه ذلك الإنسان لأجل أن الله تعالى خلق في عينيه مانعا يمنعه عن رؤيته بهذه الآية قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاضرا وكانت حواس الكفار سليمة، ثم إنهم ما كانوا يرونه، وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أنه جعل بينه وبينهم حجابا مستورا، والحجاب المستور لا معنى له إلا المعنى الذي خلقه الله تعالى في عيونهم، وكان ذلك المعنى مانعا لهم من أن يروه ويبصروه.
والوجه الثاني: في الجواب أنه كما يجوز أن يقال لابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر فكذلك
221

لا يبعد أن يقال مستورا معناه ذو ستر والدليل عليه قوله مرطوب أي ذو رطوبة ولا يقال رطيبة ويقال مكان مهول أي فيه هول ولا يقال: هلت المكان بمعنى جعلت فيه الهول، ويقال: جارية مغنوجة ذات غنج ولا يقال غنجتها.
والوجه الثالث: في الجواب قال الأخفش: المستور ههنا بمعنى الساتر، فإن الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما يقال: إنك لمشؤم علينا وميمون وإنما هو شائم ويامن، لأنه من قولهم شأمهم ويمنهم، هذا قول الأخفش: وتابعه عليه قوم، إلا أن كثيرا منهم طعن في هذا القول، والحق هو الجواب الأول.
القول الثاني: أن معنى الحجاب الطبع الذي على قلوبهم والطبع والمنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده، فالمراد من الحجاب المستور ذلك الطبع الذي خلقه الله في قلوبهم.
ثم قال تعالى: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) * وهذه الآية مذكورة بعينها في سورة الأنعام وذكرنا استدلال أصحابنا بها وذكرنا سؤالات المعتزلة ولا بأس بإعادة بعضها قال الأصحاب: دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل قلوبهم في الأكنة. والأكنة جمع كنان وهو ما ستر الشيء مثل كنان النبل وقوله: * (أن يفقهوه) * أي لئلا يفقهوه. وجعل في آذانهم وقرا. ومعلوم أنهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين، فعلمنا أن المراد منعهم عن الإيمان ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره ولا يفهمون دقائقه وحقائقه. قالت المعتزلة: ليس المراد من الآية ما ذكرتم بل المراد منه وجوه أخرى. الأول: قال الجبائي: كانوا يطلبون موضعه في الليالي لينتهوا إليه ويؤذونه، ويستدلون على مبيته باستماع قراءته فأمنه الله تعالى من شرهم، وذكر له أنه جعل بينه وبينهم حجابا لا يمكنهم الوصول إليه معه، وبين أنه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته، ويجوز أن يكون ذلك مرضا شاغلا يمنعهم من المصير إليه والتفرغ له، لا أنه حصل هناك كن للقلب ووقر في الأذن. الثاني: قال الكعبي: إن القوم لشدة امتناعهم عن قبول دلائل محمد صلى الله عليه وسلم صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب مانع وساتر، وإنما نسب الله تعالى ذلك الحجاب إلى نفسه لأنه لما خلاهم مع أنفسهم، وما منعهم عن ذلك الأعراض صارت تلك التخلية كأنها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة، وهذا مثل أن السيد إذا لم يراقب أحوال عبده فإذا ساءت سيرته فالسيد يقول: أنا الذي ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك مع رأيك وما راقبت أحوالك. الثالث: قال القفال: إنه تعالى لما خذلهم بمعنى أنه لم يفعل
222

الألطاف الداعية لهم إلى الإيمان صح أن يقال: إنه فعل الحجاب السائر.
واعلم أن هذه الوجوه مع كلمات أخرى ذكرناها في سورة الأنعام وأجبنا عنها، فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى: * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا) * واعلم أن المراد أن القوم كانوا عند استماع القرآن على حالتين، لأنهم إذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين متحيرين لا يفهمون منه شيئا، وإذا سمعوا آية فيها ذكر الله تعالى وذم الشرك بالله ولوا نفورا وتركوا ذلك المجلس، وذكر الزجاج في قوله: * (ولوا على أدبارهم نفورا) * وجهين: الأول: المصدر والمعنى ولوا نافرين نفورا، والثاني: أن يكون نفورا جمع نافر مثل شهود وشاهد وركوع وراكع وسجود وساجد وقعود وقاعد.
ثم قال تعالى: * (نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك) * أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزؤ والتكذيب. و * (به) * في موضع الحال، كما تقول: مستمعين بالهزؤ و * (إذ يستمعون) * نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون * (وإذا هم نجوى) * أي وبما يتناجون به إذ هم ذو نجوى: * (إذ يقول الظالمون) * بدل من قوله: * (وإذ هم نجوى... إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * وفيه مباحث: الأول: قال المفسرون: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين، ففعل علي عليه السلام ذلك ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال: قولوا لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتدين لكم العجم فأبوا عليه ذلك، وكانوا عند استماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن والدعوة إلى الله تعالى يقولون: بينهم متناجين هو ساحر وهو مسحور وما أشبه ذلك من القول، فأخبر الله تعالى نبيه بأنهم يقولون: * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) *.
فإن قيل: إنهم لم يتبعوا رسول الله فكيف يصح أن يقولوا: * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) *.
قلنا: معناه أنكم إن اتبعتموه فقد اتبعتم رجلا مسحورا، والمسحور الذي قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء. هذا هو القول الصحيح، وقال بعضهم: المسحور هو الذي أفسد. يقال: طعام مسحور إذا أفسد عمله وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها. قال أبو عبيدة: يريد بشرا ذا سحر أي ذارئة. قال ابن قتيبة: ولا أدري ما الذي حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة، وقال مجاهد: * (مسحورا) * أي مخدوعا لأن السحر حيلة وخديعة، وذلك لأن المشركين كانوا يقولون: إن محمدا يتعلم من بعض الناس هذه الكلمات
223

وأولئك الناس يخدعونه بهذه الكلمات وهذه الحكايات، فلذلك قالوا: إنه مسحور أي مخدوع، وأيضا كانوا يقولون: إن الشيطان يتخيل له فيظن أنه ملك فقالوا: إنه مخدوع من قبل الشيطان.
ثم قال: * (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) * أي كل أحد شبهك بشيء آخر، فقالوا: إنه كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون، فضلوا عن الحق والطريق المستقيم فلا يستطيعون سبيلا إلى الهدى والحق.
قوله تعالى
* (وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر فى صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) *
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولا في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات، ذكر في هذه الآية شبهات القوم في إنكار المعاد والبعث والقيامة، وقد ذكرنا كثيرا أن مدار القرآن على المسائل الأربعة وهي: الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر، وأيضا أن القوم وصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونه مسحورا فاسد العقل، فذكروا من جملة ما يدل على فساد عقله أنه يدعي أن الإنسان بعدما يصير عظاما ورفاتا فإنه يعود حيا عاقلا كما كان، فذكروا هذا الكلام رواية عنه لتقرير كونه مختل العقل. قال الواحدي رحمه الله: الرفت كسر الشيء بيدك، تقول: رفته أرفته بالكسر كما يرفت المدر والعظم البالي، والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء يكسر. يقال: رفت عظام الجزور رفتا إذا كسرها، ويقال للتبن: الرفت لأنه دقاق الزرع. قال الأخفش: رفت رفتا،
224

فهو مرفوت نحو حطم حطما فهو محطوم والرفات والحطام الاسم، كالجذاذ والرضاض والفتات، فهذا ما يتعلق باللغة. أما تقرير شبهة القوم: فهي أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في حوالي العالم فاختلط بتلك الأجزاء سائر أجزاء العالم. أما الأجزاء المائية في البدن فتختلط بمياه العالم، وأما الأجزاء الترابية فتختلط بتراب العالم، وأما الأجزاء الهوائية فتختلط بهواء العالم، وأما الأجزاء النارية فتختلط بنار العالم وإذا صار الأمر كذلك فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرة أخرى. وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى، فهذا هو تقرير الشبهة.
والجواب عنها: أن هذا الإشكال لا يتم إلا بالقدح في كمال علم الله وفي كمال قدرته. أما إذا سلما كونه تعالى عالما بجميع الجزئيات فحينئذ هذه الأجزاء وإن اختلطت بأجزاء العالم إلا أنها متمايزة في علم الله تعالى ولما سلمنا كونه تعالى قادرا على كل الممكنات كان قادرا على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها، فثبت أنا متى سلمنا كمال علم الله وكمال قدرته زالت هذه الشبهة بالكلية.
أما قوله تعالى: * (قل كونوا حجارة أو حديدا) * فالمعنى أن القوم استبعدوا أن يردهم إلى حال الحياة بعد أن صاروا عظاما ورفاتا. وهي وإن كانت صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر لكن قدروا انتهاء هذه الأجسام بعد الموت إلى صفة أخرى أشد منافاة لقبول الحياة من كونها عظاما ورفاتا مثل أن تصير حجارة أو حديدا، فإن المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشد من المنافاة بين العظمية وبين قبول الحياة، وذلك أن العظم قد كان جزءا من بدن الحي. أما الحجارة والحديد فما كانا البتة موصوفين بالحياة، فبتقدير أن تصير أبدان الناس موصوفة بصفة الحجرية والحديدية بعد الموت، فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ويجعلها حيا عاقلا كما كان، والدليل على صحة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل إذ لو لم يكن هذا القبول حاصلا لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر. وإله العالم عالم بجميع الجزئيات فلا تشتبه عليه أجزاء بدن زيد المطيع بأجزاء بدن عمر والعاصي. وقادر على كل الممكنات، وإذا ثبت أن عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكن في نفسه وثبت أن إله العالم عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات، كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكنا قطعا، سواء صارت عظاما ورفاتا أو صارت شيئا أبعد من العظم في قبول الحياة وهي أن تصير حجارة أو حديدا، فهذا تقرير هذا الكلام بالدليل العقلي القاطع، وقوله: * (كونوا حجارة أو حديدا) * ليس المراد منه الأمر بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة، وذلك كقول القائل للرجل: أتطمع في وأنا فلان فيقول: كن من شئت كن ابن الخليفة، فسأطلب منك حقي.
225

فإن قيل: ما المراد بقوله: * (أو خلقا) *.
قلنا: المراد أن كون الحجر والحديد قابلا للحياة أمر مستبعد، فقيل لهم: فافرضوا شيئا آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث يستبعد عقلكم كونه قابلا للحياة وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى أن يتعين ذلك الشيء، لأن المراد أن أبدان الناس وإن انتهت بعد موتها إلى أي صفة فرضت وأي حالة قدرت وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة فإن الله تعالى قادر على إعادة الحياة إليها، وإذا كان المراد من الآية هذا المعنى فلا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء، وقال ابن عباس: المراد منه الموت، يعني لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها، واعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره على سبيل المبالغة مثل أن يقال: لو كنت عين الحياة فالله يميتك ولو كنت عين الغنى فإن الله يفقرك، فهذا قد ذكر على سبيل المبالغة، أما في نفس الأمر فهذا محال، لأن أبدان الناس أجسام والموت عرض والجسم لا ينقلب عرضا ثم بتقدير أن ينقلب عرضا فالموت لا يقبل الحياة لأن أحد الضدين يمتنع اتصافه بالضد الآخر، وقال مجاهد: يعني السماء والأرض.
ثم قال: * (فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة) * والمعنى أنه لما قال لهم: كونوا حجارة أو حديدا أو شيئا أبعد في قبول الحياة من هذين الشيئين فإن إعادة الحياة إليه ممكنة فعند ذلك قالوا: من هذا الذي يقدر على إعادة الحياة إليه، قال تعالى قل يا محمد: الذي فطركم أول مرة يعني أن القول بصحة الإعادة فرع على تسليم أن خالق الحيوانات هو الله تعالى.
فإذا ثبت ذلك فنقول: إن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل وإله العالم قادر لذاته عالم لذاته فلا يبطل علمه وقدرته البتة، فالقادر على الابتداء يجب أن يبقى قادرا على الإعادة، وهذا كلام تام وبرهان قوي.
ثم قال تعالى: * (فسينغضون إليك رؤسهم) * قال الفراء يقال: أنغض فلان رأسه ينغضه إنغاضا إذا حركه إلى فوق وإلى أسفل وسمي الظليم نغضا لأنه يحرك رأسه، وقال أبو الهيثم: يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكارا له قد أنغض رأسه فقوله: * (فسينغضون إليك رؤسهم) * يعني يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد. ثم قال تعالى: * (ويقولون متى هو) * واعلم أن هذا السؤال فاسد لأنهم حكموا بامتناع الحشر والنشر بناء على الشبهة التي حكيناها، ثم إن الله تعالى بين بالبرهان الباهر كونه ممكنا في نفسه، فقولهم متى هو كلام لا تعلق له بالبحث الأول، فإنه لما ثبت بالدليل العقلي كونه ممكن الوجود في نفسه وجب الاعتراف بامكانه، فأما أنه متى يوجد فذاك لا يمكن إثباته من طريق العقل، بل إنما يمكن إثباته بالدلائل السمعية فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعين عرف
226

وإلا فلا سبيل إلى معرفته.
واعلم أنه تعالى بين في القرآن أنه لا يطلع أحدا من الخلق على وقته المعين، فقال: * (إن الله عنده علم الساعة) * (لقمان: 34) وقال: * (إنما علمها عند ربي) * (الأعراف: 187) وقال: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) * (طه: 15) فلا جرم. قال تعالى: * (قل عسى أن يكون قريبا) * قال المفسرون عسى من الله واجب معناه أنه قريب.
فإن قالوا: كيف يكون قريبا وقد انقرض ستمائة سنة ولم يظهر؟
قلنا: إذا كان ما مضى أكثر مما بقي كان الباقي قريبا قليلا، ثم قال تعالى: * (يوم يدعوكم) * وفيه قولان: الأول: أنه خطاب مع الكفار بدليل أن ما قبل هذه الآية كله خطاب مع الكفار، ثم نقول انتصب يوما على البدل من قوله قريبا، والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفحة الأخيرة كما قال: * (يوم يناد المناد من مكان قريب) * (ق: 41) يقال: إن إسرافيل ينادي أيتها الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت بقدرة الله تعالى وبإذنه وتكوينه، وقال تعالى: * (يوم يدع الداع إلى شيء نكر) * (القمر: 6) وقوله: * (فتستجيبون بحمده) * أي تجيبون والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي أوكد من الإجابة، وقوله: * (بحمده) * قال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون: سبحانك وبحمدك، فهو قوله: * (فتستجيبون بحمده) * وقال قتادة بمعرفته وطاعته، وتوجيه هذا القول أنهم لما أجابوا بالتسبيح والتحميد كان ذلك معرفة منهم وطاعة ولكنهم لا ينفعهم ذلك في ذلك اليوم. فلهذا قال المفسرون: حمدوا حين لا ينفعهم الحمد، وقال أهل المعاني: تستجيبون بحمده. أي تستجيبون حامدين كما يقال: جاء بغضبه أي جاء غضبان وركب الأمير بسيفه أي وسيفه معه وقال صاحب " الكشاف ": بحمده حال منهم أي حامدين، وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بعمل يشق عليه ستأتي به وأنت حامد شاكر، أي ستنتهي إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفي منك بذلك العمل وهذا يذكر في معرض التهديد.
ثم قال: * (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) * قال ابن عباس يريد بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت، والدليل عليه قوله في سورة يس: * (من بعثنا من مرقدنا) * (يس: 52) فظنهم بأن هذا لبث قليل عائد إلى لبثهم فيما بين النفختين، وقال الحسن: معناه تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا وقيل المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة؛ لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول في النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة.
227

القول الثاني: أن الكلام مع الكفار تم عند قوله: * (عسى أن يكون قريبا) * وأما قوله: * (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) * فهو خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأن هذا الكلام هو اللائق بالمؤمنين لأنهم يستجيبون لله بحمده، ويحمدونه على إحسانه إليهم، والقول الأول هو المشهور، والثاني ظاهر الاحتمال.
قوله تعالي
* (وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا * ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم ومآ أرسلناك عليهم
وكيلا * وربك أعلم بمن فى السماوات والارض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وءاتينا داوود زبورا) *
اعلم أن قوله: * (قل لعبادي) * فيه قولان:
القول الأول: أن المراد به المؤمنون، وذلك لأن لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختص بالمؤمنين قال تعالى: * (فبشر عباد * الذين يستمعون القول) * (الزمر: 17، 18) وقال: * (فادخلي في عبادي) * (الفجر: 29) وقال: * (عينا يشرب بها عباد الله) * (الإنسان: 6).
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في إبطال الشرك وهو قوله: * (لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * (الإسراء: 42) وذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد وهو قوله: * (قل الذي فطركم أول مرة) * (الإسراء: 51) قال في هذه الآية وقل يا محمد لعبادي إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا تلك الدلائل بالطريق الأحسن. وهو أن لا يكون ذكر الحجة مخلوطا بالشتم والسب، ونظير هذه الآية قوله: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * (النحل: 125) وقوله: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) * (العنكبوت: 46) وذلك لأن ذكر الحجة لو اختلط به شيء من السب والشتم لقابلوكم بمثله كما قال: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) * (الأنعام: 108) ويزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود، أما إذا وقع الاقتصار على ذكر الحجة بالطريق الأحسن
228

الخالي عن الشتم والإيذاء أثر في القلب تأثيرا شديدا فهذا هو المراد من قوله: * (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) * ثم إنه تعالى نبه على وجه المنفعة في هذا الطريق فقال: * (إن الشيطان ينزغ بينهم) * جامعا للفريقين أي متى صارت الحجة مرة ممزوجة بالبذاءة صارت سببا لثوران الفتنة.
ثم قال: * (إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا) * والمعنى: أن العداوة الحاصلة بين الشيطان وبين الإنسان عداوة قديمة قال تعالى حكاية عنه: * (ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * (الأعراف: 17) وقال: * (كمثل الشيطان إذا قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) * (الحشر: 16) وقال: * (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) * (الأنفال: 48) وقال: * (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) * إلى قوله: * (إني بريء منكم) * (الأنفال: 48). ثم قال تعالى: * (ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم) * واعلم أنا إنما نتكلم الآن على تقدير أن قوله تعالى: * (قل لعبادي) * المراد به المؤمنون، وعلى هذا التقدير فقوله: * (ربكم أعلم بكم) * خطاب مع المؤمنين، والمعنى: إن يشأ يرحمكم، والمراد بتلك الرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم. ثم قال: * (وما أرسلناك) * يا محمد * (عليهم وكيلا) * أي حافظا وكفيلا فاشتغل أنت بالدعوة ولا شيء عليك من كفرهم فإن شاء الله هدايتهم هداهم، وإلا فلا.
والقول الثاني: أن المراد من قوله: * (وقل لعبادي) * الكفار، وذلك لأن المقصود من هذه الآيات الدعوة، فلا يبعد في مثل هذا الموضع أن يخاطبوا بالخطاب الحسن ليصير ذلك سببا لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين الحق، فكأنه تعالى قال: يا محمد قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عبادا لي يقولوا التي هي أحسن. وذلك لأنا قبل النظر في الدلائل والبينات نعلم بالضرورة أن وصف الله تعالى بالتوحيد والبراءة عن الشركاء والأضداد أحسن من إثبات الشركاء والأضداد، ووصفه بالقدرة على الحشر والنشر بعد الموت أحسن من وصفه بالعجز عن ذلك، وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على تلك المذاهب الباطلة تعصبا للأسلاف، لأن الحامل على مثل هذا التعصب هو الشيطان، والشيطان عدو، فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله ثم قال لهم: * (ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم) * بأن يوفقكم للإيمان والهداية والمعرفة. وإن يشأ يمتكم، على الكفر فيعذبكم، إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق، ولا تصروا على الباطل والجهل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية، ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (وما أرسلناك عليهم وكيلا) * أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم في القول، والمقصود من كل هذه الكلمات: إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة فإن ذلك هو الذي يؤثر في القلب ويفيد حصول المقصود.
229

ثم قال: * (وربك أعلم بمن في السماوات والأرض) * والمعنى أنه لما قال قبل ذلك: * (ربكم أعلم بكم) * قال بعده: * (ربك أعلم بمن في السماوات والأرض) * بمعنى أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذوات الأرضين والسماوات فيعلم حال كل واحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد، فلهذا السبب فضل بعض النبيين على بعض وآتى موسى التوراة وداود الزبور وعيسى الإنجيل، فلم يبعد أيضا أن يؤتي محمدا القرآن ولم يبعد أن يفضله على جميع الخلق.
فإن قيل: ما السبب في تخصيص داود عليه الصلاة والسلام في هذا المقام بالذكر 0.
قلنا: فيه وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض.
ثم قال: * (وآتينا داود زبورا) * يعني أن داود كان ملكا عظيما، ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك وذكر ما آتاه من الكتاب، تنبيها على أن التفضيل الذي ذكره قبل ذلك، المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال.
والوجه الثاني: أن السبب في تخصيصه بالذكر أنه تعالى كتب في الزبور أن محمدا خاتم النبيين وأن أمته خير الأمم قال تعالى: * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) * (الأنبياء: 105) وهم محمد وأمته.
فإن قيل: هل عرف كما في فقوله: * (ولقد كتبنا في الزبور 5.
قلنا: التنكير ههنا يدل على تعظيم حاله، لأن الزبور عبارة عن المزبور فكان معناه الكتاب فكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتابا.
والوجه الثالث: أن السبب فيه أن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات واليهود كانوا يقولون: إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة بنقض الله تعالى عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود، وقرأ حمزة: * (زبورا) * بضم الزاي، وذكرنا وجه ذلك في آخر سورة (النساء: 163).
قوله تعالى
* (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك
230

الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا) *
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على المشركين وقد ذكرنا أن المشركين كانوا يقولون ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى فنحن نعبد بعض المقربين من عباد الله وهم الملائكة، ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالا وصورة واشتغلوا بعبادته على هذا التأويل والله تعالى احتج على بطلان قولهم في هذه الآية فقال: * (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) * وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في صفتهم: * (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) * وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتة.
إذا ثبت هذا فنقول: إن قوما عبدوا الملائكة فنزلت هذه الآية فيهم، وقيل: إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيرا، وقيل: إن قوما عبدوا نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن، وبقي أولئك الناس متمسكين بعبادتهم فنزلت هذه الآية، قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه لفظ زعم فهو كذب، ثم إنه تعالى احتج على فساد مذهب هؤلاء أن الإله المعبود هو الذي يقدر على إزالة الضرر، وإيصال المنفعة، وهذه الأشياء التي يعبدونها وهي الملائكة والجن والمسيح وعزير لا يقدرون على كشف الضر ولا على تحصيل النفع، فوجب القطع بأنها ليست آلهة.
ولقائل أن يقول: هذا الدليل إنما يتم إذا دللتم على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فما الدليل على أن الأمر كذلك حتى يتم دليلكم؟ فإن قلتم: لأنا نرى أن أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها فلا تحصل الإجابة.
قلنا: معارضة لذلك قد نرى أيضا أن المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى فلا تحصل الإجابة، والمسلمون يقولون: إن القدر الحاصل من كشف الضر وتحصيل النفع إنما يحصل من الله تعالى لا من الملائكة، وأولئك الكفار يقولون إنه يحصل من الملائكة لا من الله تعالى، وعلى هذا التقدير فالدليل غير تام.
والجواب: أن الدليل تام كامل، وذلك لأن الكفار كانوا مقرين بأن الملائكة
231

عباد الله وخالق الملائكة، وخالق العالم لا بد وأن يكون أقدر من الملائكة، وأقوى منهم، وأكمل حالا منهم.
وإذا ثبت هذا فنقول: كمال قدرة الله تعالى معلوم متفق عليه، وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة، لأن كون الله مستحقا للعبادة معلوم، وكون الملائكة كذلك مجهول والأخذ بالمعلوم أولى، وأما أصحابنا المتكلمون من أهل السنة والجماعة فلهم في هذا الباب طريقة أخرى وهو أنهم يقيمون بالحجة العقلية على أنه لا موجد إلا الله تعالى ولا مخرج لشيء من العدم إلى الوجود إلا الله تعالى.
وإذا ثبت هذا ثبت أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة لأنهم لما جوزوا كون العبد موجدا لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة لا قدرة لها على الإحياء والإماتة وخلق الجسم. وإذا عجزوا عن ذلك لم يتم لهم هذا الدليل فهذا هو ذكر الدليل القاطع على صحة قوله: * (لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) * والتحويل عبارة عن النقل من حال إلى حال ومكان إلى مكان يقال: حوله فتحول.
ثم قال تعالى: * (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) * وفيه قولان: الأول: قال الفراء قوله: * (يدعون) * فعل الآدميين العابدين. وقوله: * (يبتغون) * فعل المعبودين ومعناه أولئك المعبودين يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فإنه لا نزاع أن الملائكة يرجعون إلى الله في طلب المنافع ودفع المضار ويرجون رحمته ويخافون عذابه وإذا كان كذلك كانوا موصوفين بالعجز والحاجة، والله تعالى أغنى الأغنياء فكان الاشتغال بعبادته أولى.
فإن قالوا: لا نسلم أن الملائكة محتاجون إلى رحمة الله وخائفون من عذابه، فنقول: هؤلاء الملائكة إما أن يقال: إنها واجبة الوجود لذواتها، أو يقال: ممكنة الوجود لذواتها، والأول باطل لأن جميع الكفار كانوا معترفين بأن الملائكة عباد الله ومحتاجون إليه، وأما الثاني فهو يوجب القول بكون الملائكة محتاجين في ذواتها وفي كمالاتها إلى الله تعالى، فكان الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة.
والقول الثاني: أن قوله: * (أولئك الذين يدعون) * هم الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: * (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) * (الإسراء: 55) وتعلق هذا الكلام بما سبق هو أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا الله تعالى ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه، فأنتم بالاقتداء بهم حق فلا تعبدوا غبر الله تعالى
232

واحتج القائلون بهذا القول على صحته بأن قالوا: الملائكة لا يعصون الله فلا يخافون عذابه، فثبت أن هذا غير لائق بالملائكة وإنما هو لائق بالأنبياء.
قلنا: الملائكة يخافون عذاب الله لو أقدموا على الذنب والدليل عليه قوله تعالى: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم) * (الأنبياء: 29).
أما قوله: * (إن عذاب ربك كان محذورا) * فالمراد أن من حقه أن يحذر، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله فهو لا يخرج من كونه بحيث يجب الحذر عنه.
قوله تعالى
* (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك فى الكتاب مسطورا) *
واعلم أنه تعالى لما قال: * (إن عذاب ربك كان محذورا) * (الإسراء: 57) بين أن كل قرية مع أهلها فلا بد وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين: إما الإهلاك وإما التعذيب قال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب، وقيل: المراد من قوله: * (وإن من قرية) * قرى الكفار، ولا بد أن تكون عاقبتها أحد أمرين: إما الاستئصال بالكلية وهو المراد من الإهلاك أو بعذاب شديد دون ذلك من قتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية، ثم بين تعالى أن هذا الحكم حكم مجزوم به واقع فقال: * (كان ذلك في الكتاب مسطورا) * ومعناه ظاهر.
قوله تعالى
* (وما منعنآ أن نرسل با لايات إلا أن كذب بها الاولون وءاتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالايات إلا تخويفا * وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرءيا التى
233

أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرءان ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا) *
اعلم تعالى أنه لما ذكر الدليل على فساد قول المشركين وأتبعه بالوعيد أتبعه بذكر مسألة النبوة، وذلك لأن كفار قريش اقترحوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهار معجزات عظيمة قاهرة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: * (لولا يأتينا بآية) * (طه: 133) * (كما أرسل الأولون) * (الأنبياء: 5) وقال آخرون: المراد ما طلبوه بقولهم: * (لن نؤمن ذلك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90) وعن سعيد بن جبير أن القوم قالوا: إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم: من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى فأتنا بشئ من هذه المعجزات فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: * (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون) * وفي تفسير هذا الجواب وجوه:
الوجه الأول: المعنى أنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم فحينئذ يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال، لكن إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمة غير جائز، لأن الله تعالى أعلم أن فيهم من سيؤمن أو يؤمن أولادهم، فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم وما أظهر تلك المعجزات القاهرة. روى ابن عباس أن أهل مكة سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن يزيل لهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك من الله تعالى فقال الله تعالى: إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط أنهم إن كفروا أهلكتهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا أريد ذلك بل تتأنى بهم " فنزلت هذه الآية.
الوجه الثاني: في تفسير هذا الجواب أنا لا نظهر هذه المعجزات لأن آباءكم الذين رأوها لم يؤمنوا بها وأنتم مقلدون لهم، فلو رأيتموها أنتم لم تؤمنوا بها أيضا.
الوجه الثالث: أن الأولين شاهدوا هذه المعجزات وكذبوا بها، فعلم الله منكم أيضا أنكم لو شاهدتموها لكذبتم فكان إظهارها عبثا، والعبث لا يفعله الحكيم.
ثم قال تعالى: 6 وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود، وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى.
البحث الثاني: قوله تعالى: * (مبصرة) * وفيه وجهان: الأول: قال الفراء: * (مبصرة) * أي مضيئة. قال تعالى: * (والنهار مبصرا) * (يونس: 67) أي مضيئا. والثاني: * (مبصرة) * أي ذات أبصار أي فيها أبصار لمن تأملها يبصر بها رشده ويستدل بها على صدق ذلك الرسول.
234

البحث الثالث: قوله: * (فظلموا بها) * أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها، وقال ابن قتيبة: * (ظلموا بها) * أي جحدوا بأنها من الله تعالى.
ثم قال تعالى: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * قيل: لا آية إلا وتتضمن التخويف بها عند التكذيب إما من العذاب المعجل أو من عذاب الآخرة.
فإن قيل: المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدعي فكيف حصر المقصود من إظهارها في التخويف.
قلنا: المقصود أن مدعي النبوة إذا أظهر الآية فإذا سمع الخلق أنه أظهر آية فهم لا يعلمون أن تلك الآية معجزة أو مخوفة، إلا أنهم يجوزون كونها معجزة، وبتقدير أن تكون معجزة فلو لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها على الصدق لاستحقوا العقاب الشديد، فهذا هو الخوف الذي يحملهم على التفكر والتأمل في تلك المعجزات، فالمراد من قوله: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * هذا الذي ذكرناه، والله أعلم.
واعلم أن القوم لما طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعجزات القاهرة، وأجاب الله تعالى بأن إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سببا لجرأة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له: لو كنت رسولا حقا من عند الله تعالى لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها منك، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعند هذا قوى الله قلبه وبين له أنه تعالى ينصره ويؤيده فقال: * (وإذا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) * وفيه قولان:
القول الأول: المعنى أن حكمته وقدرته محيطة بالناس فهم في قبضته وقدرته، ومتى كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره، والمقصود كأنه تعالى يقول له: ننصرك ونقويك حتى تبلغ رسالتنا وتظهر ديننا. قال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوه كما قال تعالى: * (والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 67).
والقول الثاني: أن المراد بالناس أهل مكة وإحاطة الله بهم هو أنه تعالى يفتحها للمؤمنين فكان المعنى: وإذ بشرناك بأن الله أحاط بأهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم، ونظيره قوله تعالى: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * (القمر: 45) وقال: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون) * (آل عمران: 12) إلى قوله: * (أحاط بالناس) * لما كان كل ما يخبر الله عن وقوعه فهو واجب الوقوع، فكان من هذا الاعتبار كالواقع فلا جرم قال: * (أحاط بالناس) * وروي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول: " اللهم إني أسألك عهدك ووعدك لي " ثم خرج
235

وعليه الدرع يحرض الناس ويقول: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) *.
ثم قال تعالى: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) * وفي هذه الرؤيا أقوال:
القول الأول: أن الله أرى محمدا في المنام مصارع كفار قريش فحين ورد ماء بدر قال: " والله كأني أنظر إلى مصارع القوم " ثم أخذ يقول: " هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان " فلما سمعت قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية، وكانوا يستعجلون بما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: أن المراد رؤياه التي رآها أنه يدخل مكة وأخبر بذلك أصحابه، فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم، وقال عمر لأبي بكر أليس قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ندخل البيت ونطوف به، فقال أبو بكر إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى، فلما جاء العام المقبل دخلها، وأنزل الله تعالى: * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) * (الفتح: 27) اعترضوا على هذين القولين فقالوا: هذه السورة مكية، وهاتان الواقعتان مدنيتان، وهذا السؤال ضعيف لأن هاتين الواقعتين مدنيتان أما رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولها في مكة.
والقول الثالث: قال سعيد بن المسيب رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والإشكال المذكور عائد فيه لأن هذه الآية مكية وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة منبر، ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يرى بمكة أن له بالمدينة منبرا يتداوله بنو أمية.
والقول الرابع: وهو الأصح وهو قول أكثر المفسرين أن المراد بها ما أراه الله تعالى ليلة الإسراء، واختلفوا في معنى هذه الرؤيا فقال الأكثرون: لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة، يقال رأيت بعيني رؤية ورؤيا، وقال الأقلون: هذا يدل على أن قصة الإسراء إنما حصلت في المنام، وهذا القول ضعيف باطل على ما قررناه في أول هذه السورة، وقوله: * (إلا فتنة للناس) * معناه: أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان آمن به وازداد المخلصون إيمانا فلهذا السبب كان امتحانا.
ثم قال تعالى: * (والشجرة الملعونة في القرآن) * وهذا على التقديم والتأخير، والتقدير: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس وقيل المعنى: والشجرة الملعونة في القرآن كذلك. واختلفوا في هذه الشجرة، فالأكثرون قالوا: إنها شجرة الزقوم المذكورة في القرآن في قوله: * (إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم) * (الدخان: 43، 44) وكانت هذه الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين: الأول:
236

أن أبا جهل قال: زعم صاحبكم بأن نار جهنم تحرق الحجر حيث قال: * (وقودها الناس والحجارة) * (التحريم: 6) ثم يقول: بأن في النار شجرا والنار تأكل الشجر فكيف تولد فيها الشجر. والثاني: قال ابن الزبعري ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه، فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر: * (إنا جعلناك فتنة للظالمين) * (الصافات: 63) الآيات.
فإن قيل: ليس في القرآن لعن هذه الشجرة.
قلنا: فيه وجوه: الأول: المراد لعن الكفار الذين يأكلونها. الثاني: العرب تقول لكل طعام مكروه ضار إنه ملعون. والثالث: أن اللعن في أصل اللغة هو التبعيد فلما كانت هذه الشجرة الملعونة في القرآن مبعدة عن جميع صفات الخير سميت ملعونة.
القول الثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشجرة بنو أمية يعني الحكم بن أبي العاص قال ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره فقص رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما فلما تفرقوا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم يخبر برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد ذلك عليه، واتهم عمر في إفشاء سره، ثم ظهر أن الحكم كان يتسمع إليهم فنفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الواحدي: هذه القصة كانت بالمدينة، والسورة مكية فيبعد هذا التفسير إلا أن يقال: هذه الآية مدنية ولم يقل به أحد، ومما يؤكد هذا التأويل قول عائشة لمروان لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنه الله.
والقول الثالث: أن الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى: * (لعن الذين كفروا) * (المائدة: 78).
فإن قال قائل: إن القوم لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإتيان بالمعجزات القاهرة فأجاب أنه لا مصلحة في إظهارها لأنها لو ظهرت ولم تؤمنوا نزل الله عليكم عذاب الاستئصال، وذلك غير جائز وأي تعلق لهذا الكلام بذكر الرؤيا التي صارت فتنة للناس وبذكر الشجرة التي صارت فتنة للناس.
قلنا: التقدير كأنه قيل: إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا يوهن أمرك ولا يصير سببا لضعف حالك ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا صار سببا لوقوع الشبهة العظيمة في القلوب ثم إن قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفا في أمرك ولا فتورا في اجتماع المحقين عليك فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا توجب فتورا في حالك، ولا ضعفا في أمرك، والله أعلم.
237

ثم قال تعالى: * (ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا) * والمقصود منه ذكر سبب آخر في أنه تعالى ما أظهر المعجزات التي اقترحوها، وذلك لأن هؤلاء خوفوا
بمخاوف الدنيا والآخرة وبشجرة الزقوم فما زادهم هذا التخويف إلا طغيانا كبيرا، وذلك يدل على قسوة قلوبهم وتماديهم في الغي والطغيان، وإذا كان الأمر كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها ولا يزدادون إلا تماديا في الجهل والعناد، وإذا كان كذلك، وجب في الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات والله أعلم.
238