الكتاب: أحكام القرآن
المؤلف: ابن العربي
الجزء: ٢
الوفاة: ٥٤٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد عبد القادر عطا
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: لبنان - دار الفكر للطباعة والنشر
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

سورة المائدة فيها أربع وثلاثون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد) *)
فيها عشرون مسألة
المسألة الأولى
قال علماؤنا قال علقمة إذا سمعت (* (يا أيها الذين آمنوا) *) فهي مدنية وإذا سمعت (* (يا أيها الناس) *) فهي مكية وهذا ربما خرج على الأكثر
المسألة الثانية
روى أبو سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لما رجع من الحديبية قال لعلي يا علي أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة وهي نعمت الفائدة
قال الإمام القاضي هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده أما أنا نقول سورة المائدة نعمت الفائدة فلا نؤثره عن أحد ولكنه كلام حسن
المسألة الثالثة
قال أبو ميسرة في المائدة ثماني عشرة فريضة وقال غيره فيها (* (يا أيها الذين) *
3

آمنوا) في ستة عشر موضعا فأما قول أبي ميسرة إن فيها ثماني عشرة فريضة فربما كان ألف فريضة وقد ذكرناها نحن في هذا المختصر للأحكام
المسألة الرابعة
شاهدت المائدة بطور زيتا مرارا وأكلت عليها ليلا ونهارا وذكرت الله سبحانه فيها سرا وجهارا وكان ارتفاعها أسفل من القامة بنحو الشبر وكان لها درجتان قلبيا وجوفيا وكانت صخرة صلداء لا تؤثر فيها المعاول فكان الناس يقولون مسخت صخرة إذ مسخ أربابها قردة وخنازير
والذي عندي أنها كانت في الأصل صخرة قطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء وكل ما حولها حجارة مثلها وكان ما حولها محفوفا بقصور وقد نحت في ذلك الحجر الصلد بيوت أبوابها منها ومجالسها منها مقطوعة فيها وحناياها في جوانبها وبيوت خدمتها قد صورت من الحجر كما تصور من الطين والخشب فإذا دخلت في قصر من قصورها ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة كثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه بالأرض فإذا هبت الريح وحثت تحته التراب لم يفتح إلا بعد صب الماء تحته والإكثار منه حتى يسيل بالتراب وينفرج منعرج الباب وقد مات بها قوم بهذه العلة وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس ولكني كنت
4

في كل حين أكنس حول الباب مخافة مما جرى لغيري فيها وقد شرحت أمرها في كتاب ترتيب الرحلة بأكثر من هذا
المسألة الخامسة
قوله تعال (* (أوفوا) *)
يقال وفي وأوفى قال أهل العربية واللغتان في القرآن قال الله تعالى (* (ومن أوفى بعهده من الله) *) وقال شاعر العرب
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته
* كما وفى بقلاص النجم حاديها
فجمع بين اللغتين
وقال الله تعالى (* (وإبراهيم الذي وفى) *) وقال النبي صلى الله عليه وسلم من وفى منكم فأجره على الله
المسألة السادسة العقود
واحدها عقد وفي ذلك خمسة أقوال
القول الأول العقود العهود قال ابن عباس
5

الثاني حلف الجاهلية قال قتادة وروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد والثوري
الثالث الذي عقد الله عليكم وعقدتم بعضكم على بعض قاله الزجاج
الرابع عقد النكاح والشركة واليمين والعهد والحلف وزاد بعضهم البيع قاله زيد ابن أسلم
الخامس الفرائض قاله الكسائي وروى الطبري أنه أمر بالوفاء بجميع ذلك
قال ابن العربي وهذا الذي قاله الطبري صحيح ولكنه يحتاج إلى تنقيح وهي
المسألة السابعة في تنقيح قول الطبري
قال وذلك أن أصل عهد في اللغة الإعلام بالشيء وأصل العقد الربط
6

والوثيقة قال الله سبحانه (* (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) *)
وقال عبد الله بن عمر الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم
وتقول العرب عهدنا أمر كذا وكذا أي عرفناه وعقدنا أمر كذا وكذا أي ربطناه بالقول كربط الحبل بالحبل قال الشاعر
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم
* شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
*
وعهد الله إلى الخلق إعلامه بما ألزمهم وتعاهد القوم أي أعلن بعضهم لبعض بما التزمه له وارتبط معه إليه وأعلمه به فبهذا دخل أحد اللفظين في الآخر فإذا عرفت هذا علمت أن الذي قرطس على الصواب هو أبو إسحاق الزجاج فكل عهد لله سبحانه أعلمنا به ابتداء والتزمناه نحن له وتعاقدنا فيه بيننا فالوفاء به لازم بعموم هذا القول المطلق الوارد منه سبحانه علينا في الأمر بالوفاء به
وأما من خص حلف الجاهلية فلا قوة له إلا أن يريد أنه إذا لزم الوفاء به وهو من عقد الجاهلية فالوفاء بعقد الإسلام أولى وقد أمر الله سبحانه بالوفاء به قال
7

الله تعالى (* (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) *) قال ابن عباس يعني من النصيحة والرفادة والنصرة وسقط الميراث خاصة بآية الفرائض وآية الأنفال وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون عند شروطهم
وأما من قال عقد البيع وما ذكر معه فإنما أشار إلى عقود المعاملات وأسقط غيرها وعقود الله والنذور وهذا تقصير
وأما قول الكسائي الفرائض فهو أخو قول الزجاج ولكن قول الزجاج أوعب إذ دخل فيه الفرض المبتدأ والفرض الملتزم والندب ولم يتضمن قول الكسائي ذلك كله
المسألة الثامنة
إذا ثبت هذا فربط العقد تارة يكون مع الله وتارة يكون مع الآدمي وتارة يكون بالقول وتارة بالفعل فمن قال لله علي صوم يوم فقد عقده بقوله مع ربه ومن قام إلى الصلاة فنوى وكبر فقد عقدها لربه بالفعل فيلزم الأول ابتداء الصوم ويلزم هذا تمام الصلاة لأن كل واحد منهما قد عقدها مع ربه والتزم والعقد بالفعل أقوى منه بالقول وكما قال سبحانه (* (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) *) كذلك قال (* (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) *) وما قال القائل علي صوم يوم أو صلاة ركعتين إلا ليفعل فإذا فعل كان أقوى من القبول فإن القول عقد وهذا نقد وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف وشرح الحديث على الشافعي تمهيدا بليغا فلينظر هنالك
8

فإن قيل فكيف يلزم الوفاء بعقد الجاهلية حين كانوا يقولون هدمي هدمك ودمي دمك وهم إنما كانوا يتعاقدون على النصرة في الباطل
قلنا كذبتم إنما كانوا يتعاقدون على ما كانوا يعتقدونه حقا وفيما كانوا يعتقدونه حقا ما هو حق كنصرة المظلوم وحمل الكل وقرى الضيف والتعاون على نوائب الحق وفيه أيضا باطل فرفع الإسلام من ذلك الباطل بالبيان وأوثق عرى الجائز وألحق منه بالأمر بالوفاء بإتيانهم نصيبهم فيه كما تقدم من النصيحة والرفادة والنصرة وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم المؤمنون عند شروطهم معناه إنما تظهر حقيقة إيمانهم عند الوفاء بشروطهم
وقال صلى الله عليه وسلم أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج ثم قال ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله فهو من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان اشترط مائة شرط
فبين أن الشرط الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله تعالى أي دين الله تعالى كذلك لا يلزم الوفاء بعقد إلا أن يعقد على ما في كتاب الله وعلى المسلمين أن يلتزموا الوفاء بعهودهم وشروطهم إلا أن يظهر فيها ما يخالف كتاب الله فيسقط
9

ولا يمنع هذا التعلق بعموم القولين ولذلك حث على فعل الخير فقال (* (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) *) وأمر بالكف عن الشر فقال لا ضرر ولا ضرار
فهذا حث على فعل كل خير واجتناب كل شر فأما اجتناب الشر فجميعه واجب وأما فعل الخير فينقسم إلى ما يجب وإلى ما لا يجب وكذلك الوفاء بالعقود ولكن الأصل فيها الوجوب إلا ما قام الدليل على ندبه وقد جهل بعضهم فقال لما كانت العقود الباطلة والشروط الباطلة لا نهاية لها والجائز منها محصور فصار مجهولا فلا يجوز الاحتجاج على الوفاء بالعقود ولا بالشروط لأجل ذلك وهي عبارة عظيمة وهي
المسألة التاسعة
قلنا وما لا يجوز كيف يدخل تحت مطلق أمر الله سبحانه حتى يجعله مجملا والله لا يأمر بالفحشاء ولا بالباطل لقد ضلت إمامتك وخابت أمانتك وعلى هذا لا دليل في الشرع لأمر يفعل فإن منه كله ما لا يجوز ومنه ما يجوز فيؤدي إلى تعطيل أدلة الشرع وأوامره والذين قالوا بالوقف لم يرتكبوا هذا الخطر ولا سلكوا هذا الوعر فدع هذا وعد القول إلى العلم إن كنت من أهله
فإن قيل محمول قوله (* (أوفوا بالعقود) *) على المقيد لما بينا وهي
10

المسألة العاشرة
قلنا فقد أبطلنا ما يثبت محمول قوله (* (أوفوا بالعقود) *) على كل عقد مطلق ومقيد
وماذا تريد بقولك مقيدا تريد قيد بالجواز أم قيد بقربة أو قيد بشرط فإن أردت به قيد بشرط لزمك فيه ما لزمك في المطلق من أن الشرط منه ما لا يجوز كما تقدم لك وإن قلت مقيد بقربة فيبطل بالمعاملات وإن قلت مقيد بالدليل فالدليل هو قول الله سبحانه وقد قال (* (أوفوا بالعقود) *)
فإن قيل هذا عقد اليمين لا يجب الوفاء به وهي
المسألة الحادية عشرة
قلنا لا يجب الوفاء بشيء أكثر مما يجب الوفاء باليمين وكيف لا يجب الوفاء به وهو عقد أكد باسم الله سبحانه حاشى لله أن نقول هذا ولكن الشرع أذن رحمة ورخصة في إخراج الكفارة بدلا من البر وخلفا من المعقود عليه الذي فوته الحنث وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف وستراه في آية الكفارة من هذه السورة إن شاء الله تعالى
فإن قيل فقد قال الشافعي إذا نذر قربة لا يدفع بها بلية ولا يستنجح بها طلبة فإنه لا يلزم الوفاء بها
قلنا من قال بهذا فقد خفيت عليه دلائل الشرع وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر أوف بنذرك
وقد بينا قول الله عز وجل فيه وماذا على الشريعة أو ماذا يقدح في الأدلة من رأي الشافعي وأمثاله من العلماء
11

وأما نذر المباح فلم يلزم بإجماع الأمة ونص النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح وهي شيء جهلته يا هذا العالم فادرج عن هذه الأغراض فليس بوكر إلا لمن أمنته معرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من المكر ولم يتكلم برأيه وحده ولا أعجب بطرق من النظر حصلها ولم يتمرس فيها بكتاب الله عز وجل ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فافهم هذا والله يوفقكم وإيانا بتوفيقه لتوفية عهود الشريعة حقها
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (أحلت لكم بهيمة الأنعام) *)
اختلف فيها على ثلاثة أقوال
الأول إنه كل الأنعام قاله السدي والربيع والضحاك
الثاني إنه الإبل والبقر والغنم قاله ابن عباس والحسن
الثالث إنه الظباء والبقر والحمر الوحشيان
المسألة الثالثة عشرة في المختار
أما من قال إن النعم هي الإبل والبقر والغنم فقد علمت صحة ذلك دليلا وهو أن النعم عند بعض أهل اللغة اسم خاص للإبل يذكر ويؤنث قاله ابن دريد وغيره
وقد قال الله تعالى (* (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم) *) وقال تعالى (* (ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) *) وقال (* (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) *)
فهذا مرتبط بقوله ومن الأنعام حمولة وفرشا أي خلق جنات وخلق من الأنعام
12

حمولة وفرشا يعني كبارا وصغارا ثم فسرها فقال ثمانية أزواج إلى قوله (* (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا) *) وقال تعالى (* (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) *)
فهذه ثلاثة أدلة تنبئ عن تضمن اسم النعم لهذه الأجناس الثلاثة الإبل والبقر والغنم لتأنيس ذلك كله فأما الوحشية فلم أعلمه إلى الآن إلا اتباعا لأهل اللغة
أما أنه قد قال بعض العلماء إن قوله سبحانه (* (غير محلي الصيد وأنتم حرم) *) يقتضي دخول البقر والحمر والظباء تحت قوله بهيمة الأنعام فصار تقدير الكلام أحلت لكم بهيمة الأنعام إنسيها ووحشيها غير محلي الصيد وأنتم حرم أي ما لم تكونوا محرمين فإن كان هذا متعلقا فقد قال (* (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) *)
فجعل الصيد والنعم صنفين وأيضا فإن من أراد أن يدخل الظباء والبقر والحمر الوحشية فيه ليعم ذلك كله في الإحلال ماذا يصنع بصنف الصيد الطائر كله
فالدليل الذي أحله ولم يدخل في هذه الآية محل الظباء والبقر والحمر الوحشية وإن لم يدخل في الآية
وقد ينتهي العي ببعضهم إلى أن يقول إن الأنعام هي الإبل لنعمة أخفافها في الوطء ولا يدخل فيه الحافر ولا الظلف لجساوته وتحدده ويقال له إن الأنعام إنما سميت به لما يتنعم به من لحومها وأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين
وبهذه الآية كان يدخل صنف الوحشي فيها لأنها ذات أشعار من جهة أنه يتأتى ذلك فيه حسا وإن لم يكن يتناول ذلك منها عرفا
13

فإن قلنا أن اللفظ يحمل على الحقيقة الأصلية فيدخل في هذا اللفظ في النحل ويتناولها اللفظ في سورة المائدة
وإن قلنا أن الألفاظ تحمل على الأحوال المعتادة العرفية لم يدخل فيها إذ لا يعتاد ذلك من أوبارها
وها هنا انتهى تحقيق ذلك في هذا المختصر
المسألة الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (إلا ما يتلى عليكم) *) قالوا من قوله تعالى (* (حرمت عليكم الميتة) *) وقيل من قوله (* (غير محلي الصيد) *) والصحيح أنه من قوله في كل محرم في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم
فإن قيل فقد قال (* (إلا ما يتلى عليكم) *) والذي يتلى هو القرآن ليس السنة
قلنا كل كتاب يتلى كما قال تعالى (* (وما كنت تتلو من قبله من كتاب) *) وكل سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من كتاب الله
والدليل عليه أمران
أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف لأقضين بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام
وليس هذا في القرآن ولكنه في كتاب الله الذي أوحاه إلى رسوله علما من كتابه المحفوظ عنده
والدليل الثاني في حديث عبد الله بن مسعود قال لعن الله الواشمات
14

والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن والمغيرات لخلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت فقالت إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هو في كتاب الله فقال لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أو ما قرأت (* (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *) قالت بلى قال فإنه قد نهى عنه قالت فإني أرى أهلك يفعلونه قال فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئا فقال لو كانت كذلك ما جامعتها
المسألة الخامسة عشرة
يحتمل قوله إلا ما يتلى عليكم الآن أو إلا ما يتلى عليكم فيما بعد من مستقبل الزمان وفي هذا دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة وهي مسألة أصولية وقد بيناها في المحصول ومعناه أن الله سبحانه أباح لنا شيئا وحرم علينا شيئا استثناء منه فأما الذي أباح لنا فسماه وبينه وأما الذي استثناه فوعد بذكره في حين الإباحة ثم بينه بعد ذلك في وقت واحد أو في أوقات متفرقة على اختلاف التأويلين المتقدمين وكل ذلك تأخير للبيان والله أعلم
المسألة السادسة عشرة
قوله تعالى (* (غير محلي الصيد) *)
فيه ثلاثة أقوال
الأول معناه أوفوا بالعقود غير محلي الصيد
الثاني أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية غير محلي الصيد وأنتم حرم
15

الثالث أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد لا يحل لكم وأنتم حرم
المسألة السابعة عشرة في تنقيحها
أما قوله إن معناه أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأنتم حرم فاختاره الطبري والأخفش وقالا فيه تقديم وتأخير وهو جائز في نظام الكلام وإعرابه وهذا فاسد إذ لا خلاف أن الاستثناء إذا كان باسم الفاعل فإنه حال فيكون تقدير الآية أوفوا بالعقود لا محلين للصيد في إحرامكم ونكث العهد ونقض العقد محرم والأمر بالوفاء مستمر في هذه الحال وفي كل حال ولو اختص الوفاء بها في هذه الحال لكان ما عداها بخلاف على رأي القائلين بدليل الخطاب وذلك باطل أو يكون مسكوتا عنه وإنما ذكر الأقل من أحوال الوفاء وهو مأمور به في كل حال وهذا تهجين للكلام وتحقير للوفاء بالعقود
وأما من قال أحلت لكم الوحشية فهو خطأ من وجهين
أحدهما أن فيه تخصيص بعض المحللات وهو تخصيص للعموم بغير دليل لا سيما عموم متفق عليه
والثاني أنه حمل للفظ بهيمة الأنعام على الوحشية دون الإنسية وذلك تفسير للفظ بالمعنى التابع لمعانيه المختلف منها فيه
وأما من قال معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد ولا يحل لكم الصيد وأنتم حرم وهذا أشبهها معنى إلا أن نظام تقديره ليس بجار على قوانين العربية فإنه أضمر فيه ما لا يحتاج إليه وإنما ينبغي أن يقال تقديره أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلين صيدها وأنتم حرم فيصح المعنى ويقل فضول الكلام ويجري على قانون النحو وفيها مسألة بديعة وهي
16

المسألة الثامنة عشرة مسألة بديعة تثنية الاستثناء في الجملة الواحدة
وهي تثنية الاستثناء في الجملة الواحدة وهي ترد على قسمين
أحدهما أن يتكرر ويكون الثاني من الأول كقوله تعالى (* (إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته) *)
الثاني أن يكون جميعا من الأول كقوله ها هنا إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون فقوله (* (إلا ما يتلى عليكم) *) استثناء من بهيمة الأنعام على أحد القولين وأظهرهما وقوله إلا الصيد استثناء آخر أيضا معه وقد مهدنا ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين
المسألة التاسعة عشرة في تمثيل لهذا التقدير من حديث النبي صلى الله عليه وسلم
وذلك ما روي أن أبا قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة وهم محرمون وأنا حل على فرس لي فكنت أرقى على الجبال فبينا أنا كذلك إذ رأيت الناس مشرفين لشيء فذهبت لأنظر فإذا هو حمار وحشي فقلت لهم ما هذا فقالوا لا ندري فقلت هو حمار وحشي قالوا هو ما رأيت وكنت نسيت سوطي فقلت لهم ناولوني سوطي فقالوا لا نعينك عليه فنزلت وأخذته ثم صرت في أثره فلم يكن إلا ذاك حتى عقرته فأتيت إليهم فقلت قوموا فاحتملوا فقالوا لا نمسه
فحملته حتى جئتهم به فأبى بعضهم وأكل بعضهم قلت أنا استوقف لكم النبي صلى الله عليه وسلم فأدركته فحدثته الحديث فقال لي أبقي معكم منه شيء قلت نعم قال فكلوا فهو طعمة أطعمكموها الله
فأحل لهم الحمر مطلقا إلا ما يتلى عليهم إلا ما صادوه وهم محرمون منها وما صاده غيرهم فهو حلال لهم فإنما حرم عليهم منه ما وقع إليهم بصيدهم إلى تفصيل يأتي بيانه إذا صيد لهم فإن حرم فإنما هو بدليل آخر غير هذه الآية
17

المسألة الموفية عشرين
مضى في سرد هذه الأقوال أن من الصحابة من قال في جنين الناقة أو الشاة أو البقرة أو نحوها إنها من بهيمة الأنعام المحللة وللعلماء فيه ثلاثة أقوال
الأول أنه حلال بكل حال قاله الشافعي
الثاني أنه حرام بكل حال إلا أن يذكى قاله أبو حنيفة
الثالث الفرق بين أن يكون قد استقل ونبت شعره وبين أن يكون بضعة كالكبد والطحال قاله مالك
وتعلق بعضهم بالحديث المشهور ذكاة الجنين ذكاة أمه ولم يصح عند الأكثر وصححه الدارقطني واختلفوا في ذكر ذكاة الثانية هل هي برفع التاء فيكون الأول الثاني ولا يفتقر الجنين إلى ذكاة أو هو بنصب التاء فيكون الأول غير الثاني ويفتقر إلى الذكاة وقد مهدناه في الرسالة الملجئة وبينا في مسائل الخلاف أن المعول فيه على اعتبار الجنين بجزء من أجزائها أم يعتبر مستقلا بنفسه وقد بينا في كتاب الإنصاف الحق فيها وأنه في مذهبنا باعتبار ذكاة المستقبل والله أعلم وسنشير إلى شيء من ذلك في الآية بعدها إن شاء الله
الآية الثانية
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) *
18

)
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (شعائر) *)
وزنها فعائل واحدتها شعيرة فيها قولان
أحدهما أنه الهدي
الثاني أنه كل متعبد منها الحرام في قول السدي ومنها اجتناب سخط الله في قول عطاء ومنها مناسك الحج في قول ابن عباس ومجاهد
وقال علماء النحويين هو من أشعر أي أعلم وهذا فيه نظر فإن فعيلا بمعنى مفعول بأن يكون من فعل لا من أفعل ولكنه جرى على غير فعله كمصدر جرى على غير فعله وقد بيناه في رسالة الملجئة
والصحيح من الأقوال هو الثاني وأفسدها من قال إنه الهدي لأنه قد تكرر فلا معنى لإبهامه والتصريح بعد ذلك به
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ولا الشهر الحرام) *) قد بينا في كل مصنف أن الألف واللام تأتي للعهد وتأتي للجنس فهذه لام الجنس وهي أربعة أشهر يأتي بيانها مفصلة في سورة براءة إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ولا الهدي) *) وهي كل حيوان يهدى إلى الله في بيته والأصل فيه عمومه في كل مهدى كان حيوانا أو جمادا وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض وقد جاء في الحديث الصحيح من راح في الساعة الأولى إلى الجمعة فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة السادسة فكأنما قرب بيضة وفي بعض الألفاظ فكأنما أهدى بدنة وكأنما
19

أهدى بيضة وقد اتفق الفقهاء على أن من قال ثوبي هدي أنه يبعث بثمنه إلى مكة في اختلاف يأتي بيانه
المسألة الرابعة
وأما القلائد فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا علامة على أنها لله سبحانه من نعل أو غيره وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام في الحج وأنكرها أبو حنيفة وقد ثبت في الصحيح وذلك مبين في مسائل الخلاف إن شاء الله تعالى
المسألة الخامسة (* (ولا آمين البيت الحرام) *))
يعني قاصدين له من قولهم أممت كذا أي قصدته وهذا عام في كل من قصده باسم العبادة وإن لم يكن من أهلها كالكافر وهذا قد نسخ بقوله تعالى (* (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *) في قول المفسرين وهو تخصيص غير نسخ على ما بيناه في القسم الثاني فإنه إن كان أمر بقتل الكفار قد بقيت الحرمة للمؤمنين
المسألة السادسة قوله تعالى (* (وإذا حللتم فاصطادوا) *))
وكان سبحانه حرم الصيد في حال الإحرام بقوله تعالى (* (غير محلي الصيد) *) ثم أباحه بعد الإحلال وهو زيادة بيان لأن ربطه التحريم بالإحرام يدل على أنه إذا
زال الإحرام زال التحريم ولكن يجوز أن يبقى التحريم لعلة أخرى غير الإحرام فبين الله سبحانه عدم العلة بما صرح به من الإباحة فكان نصا في موضع الاستثناء وهو محمول على الإباحة اتفاقا وقد توهم قوم أن حمله على الإباحة إنما كان لأجل تقديم الحظر عليه وقد بيناه في أصول الفقه
20

المسألة السابعة قوله تعالى (* (ولا يجرمنكم شنآن قوم) *))
على العدوان على الآخرين نزلت هذه الكلمة في الحكم رجل من ربيعة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بم تأمرنا فسمع منه وقال ارجع إلى قومي فأخبرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد جاء بوجه كافر ورجع بقفا غادر ورجع فأغار على سرح من سروح المدينة فانطلق به وقدم بتجارة أيام الحج يريد مكة فأراد ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إليه فنزلت هذه الآية أي لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين بقطع سبل الحج وكونوا ممن يعين في التقوى لا في التعدي وهذا من معنى الآية منسوخ وظاهر عمومها باق في كل حال ومع كل أحد فلا ينبغي لمسلم أن يحمله بغض آخر على الاعتداء عليه إن كان ظالما فالعقاب معلوم على قدر الظلم ولا سبيل إلى الاعتداء عليه إن ظلم غيره فلا يجوز أخذ أحد عن أحد قال الله تعالى (* (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *) وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور) *)
فيها إحدى وعشرون مسألة
المسألة الأولى (* (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) *))
فقد تقدم بيان ذلك في سورة البقرة
21

وأما قوله (* (وما أهل لغير الله به) *) فسيأتي في سورة الأنعام إن شاء الله
المسألة الثانية وهو قوله (* (والمنخنقة) *) فهي التي تخنق بحبل بقصد أو بغير قصد أو بغير حبل
المسألة الثالثة الموقوذة
التي تقتل ضربا بالخشب أو بالحجر ومنه المقتول بقوس البندق
المسألة الرابعة المتردية
وهي الساقطة من جبل أو بئر وأما المتندية وهي
المسألة الخامسة المتندية
فيقال ندت الدابة إذا انفلتت من وثاق فندت فخرج وراءها فرميت برمح أو سيف فماتت فهل يكون رميها ذكاة أم لا
فاختلف العلماء في ذلك فذهب بعضهم إلى أنه يكون ذلك ذكاة فيه وهو اختيار الشافعي وابن حبيب
وقال آخرون لا يذكى به وهو اختيار مالك
وقد روى البخاري وغيره عن رافع بن خديج قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة وأصاب الناس جوع فأصبنا إبلا وغنما فند منها بعير فطلبوه فلم يقدروا عليه فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا
فقال الشافعي وغيره إن تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة له
وقال الآخرون إنما هو تسليط على حبسه لا على ذكاته فإنه مقدور عليه في
22

غالب الأحوال فلا يراعى النادر منه وإنما يكون ذلك في الصيد حسبما يأتي بيانه إن شاء الله
وقد روى أبو العشراء عن أبيه قال قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة قال لو طعنت فخذها لأجزأ عنك قال يزيد بن هارون هذا في الضرورة وهو حديث صحيح أعجب أحمد ابن حنبل ورواه عن أبي داود وأشار على من دخل عليه من الحفاظ أن يكتبه
المسألة السادسة النطيحة
وهي الشاة تنطحها الأخرى بقرونها وقرأ أبو ميسرة المنطوحة وهي فعيلة بمعنى مفعولة
المسألة السابعة قوله تعالى (* (وما أكل السبع) *))
وكان أهل الجاهلية إذا أكل السبع شاة أكلوا بقيتها قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (إلا ما ذكيتم) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول أنه استثناء مقطوع عما قبله غير عائد إلى شيء من المذكورات وذلك مشهور في لسان العرب يجعلون إلا بمعنى لكن من ذلك قوله (* (وما كان لمؤمن أن يقتل
مؤمنا إلا خطأ) *) معناه لكن إن قتله خطأ وقد تقدم كلامنا عليه وأنشد بعضهم لأبي خراش الهذلي
أمسى سقام خلاء لا أنيس به
* إلا السباع ومر الريح بالغرف
23

أراد إلا أن يكون به السباع أو لكن به السباع وسقام واد لهذيل ومنه قول الشاعر
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
وقال النابغة
* وقفت بها أصيلانا أسائلها
* عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها
* والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
ومن أبدعه قول جرير
من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ
* من الأرض إلا ذيل برد مرحل
كأنه قال لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل برد مرحل أخبرنا بذلك كله أبو الحسن الطيوري عن البرمكي والقزويني عن أبي عمر بن حيوة عن أبي عمر محمد ابن عبد الواحد ومن أصله نقلته
الثاني أنه استثناء متصل وهو ظاهر الاستثناء ولكنه يرجع إلى ما بعد قوله تعالى وما أهل لغير الله به من المنخنقة إلى ما أكله السبع
الثالث أنه يرجع الاستثناء إلى التحريم لا إلى المحرم ويبقى على ظاهره
المسألة التاسعة في المختار
وذلك أنا نقول إن الاستثناء المنقطع لا ينكر في اللغة ولا في الشريعة في
24

القرآن ولا في الحديث حسبما أشرنا إليه في سورة النساء كما أنه لا يخفى أن الاستثناء المتصل هو أصل اللغة وجمهور الكلام ولا يرجع إلى المنقطع إلا إذا تعذر المتصل وتعذر المتصل يكون من وجهين إما عقليا وإما شرعيا فتعذر الاتصال العقلي هو ما قدمناه من الأمثلة قبل هذا في الأول وأما التعذر الشرعي فكقوله تعالى (* (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس) *) فإن قوله (* (إلا قوم يونس) *) ليس رفعا لمتقدم وإنما هو بمعنى لكن وقوله (* (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى) *) وقوله (* (إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم) *)
عدنا إلى قوله (* (إلا ما ذكيتم) *) قلنا فأما الذي يمنع أن يعود إلى ما يمكن إعادته إليه وهو قوله (* (والمنخنقة) *) إلى آخرها كما قال علي رضي الله عنه إذا أدركت ذكاة الموقوذة وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها وبه قال ابن عباس وزيد بن ثابت وهو خال عن مانع شرعي يرده بل قد أحله الشرع فقد ثبت أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بالجبل الذي بالسوق وهو سلع فأصيبت منها شاة فكسرت حجرا فذبحتها فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر بأكلها
وروى النسائي عن زيد بن ثابت أن ذئبا نيب شاة فذبحوها بمروة فرخص النبي صلى الله عليه وسلم في أكلها
25

المسألة العاشرة
اختلف قول مالك في هذه الأشياء فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما كان بذكاة صحيحة والذي في الموطأ عنه أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري وهي تطرف فليأكلها وهذا هو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد عمره فهو أولى من الروايات الغابرة لا سيما والذكاة عبادة كلفها الله سبحانه عباده للحكمة التي يأتي بيانها في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى
وهذا هو أحد متعلقات الذكاة وهو القول في الذكاة وهو يتعلق بأربعة أنواع المذكي والمذكى والآلة والتذكية نفسها
فأما المذكى فيتعلق القول فيه بأنواع المحللات والمحرمات وسيأتي ذلك في سورة الأنعام إن شاء الله
وأما المذكي وهو الذابح فبيانه فيها إن شاء الله وأما التذكية نفسها والآلة فهذا موضع ذلك
المسألة الحادية عشرة في التذكية
وهي في اللغة عبارة عن التمام ومنه ذكاء السن ويقال ذكيت النار إذا أتممت اشتعالها فقال بعضهم لا بد أن تبقى في المذكاة بقية تشخب معها الأوداج ويضطرب اضطراب المذبوح
وقد تقدم قوله في الحديث المتقدم الذي صرح فيه بأن الشاة أدركها الموت وهذا يمنع من شخب أوداجها وإنما أصاب الغرض مالك في قوله إذا ذبحها ونفسها تجري وهي تضطرب إشارة إلى أنها وجد فيها قتل صار باسم الله المذكور عليها ذكاة أي
26

تمام يحلها وتطهير لها كما جاء في الحديث في الأرض النجسة ذكاة الأرض يبسها
وهي في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور عليه كما تقدم مقرونا ذلك بنية القصد إليه وذكر الله تعالى عليه كما يأتي بيانه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى
والأصل في ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفروسأخبركم أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة
وروى النسائي وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عدي بن حاتم قال له أرأيت إن أصاب أحدنا صيدا وليس معه سكين أنذبح بالمروة وشقة العصا قال أنهر الدم بما شئت واذكر اسم الله تعالى وقد تقدم في حديث جارية كعب بن مالك
27

والصحيح أنها ذبحت بمروة وأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسألة الثانية عشرة
ليس في الحديث الصحيح ذكر الذكاة بغير انهار الدم فأما فري الأوداج وقطع الحلقوم والمريء فلم يصح فيه شيء
وقال مالك وجماعة لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين
وقال الشافعي يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين بتفصيل قد ذكرناه في المسائل وتعلق علماؤنا بحديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفر الودجين واذكر اسم الله
ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء لا لنا ولا لهم وإنما المعول على المعنى فالشافعي اعتبر قطع مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معه حياة وهو الغرض من الموت وعلماؤنا اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم ويفترق فيه الحلال وهو اللحم من الحرام وهو الدم بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة وعليه يدل صحيح الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم ما أنهر الدم وهذا بين لا غبار عليه
المسألة الثالثة عشرة لا تصح الذكاة إلا بنية
ولذلك قلنا لا تصح من المجنون ومن لا يعقل لأن الله تعالى منعها من المجوسي وهذا يدل على اعتبار النية ولو لم يعتبر القصد لم يبال ممن وقعت وسنكمل القول فيه في سورة الأنعام
المسألة الرابعة عشرة
ولو ذبحها من القفا ثم استوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل عند علمائنا
28

وقال الشافعي تؤكل لأن المقصود قد حصل وهذا ينبني على أصل نحققه لكم وهو أن الذكاة وإن كان المقصود بها انهار الدم ولكن فيها ضرب من التعبد والتقرب إلى الله سبحانه لأن الجاهلية كانت تتقرب بذلك لأصنامها وأنصابها وتهل لغير الله فيها وتجعلها قربتها وعبادتها فأمر الله تعالى بردها إليه والتعبد بها له وهذا يقتضي أن يكون لها نية ومحل مخصوص
وقد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال إنما الذكاة في الحلق واللبة فبين محلها وقال مبينا لفائدتها ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل فإذا أهمل ذلك ولم يقع بنية ولا شرط ولا صفة مخصوصة زال منها حظ التعبد
المسألة الخامسة عشرة في الآلة
وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف في قوله ما أنهر الدم وتجويزه الذبح بالقصب والحجر إذا وجد ذلك بصفة الحدة يقطع ويريح الذبيحة ولا يكون معراضا يخنق ولا يقطع أو يجرح ولا يفصل فإن كان كذلك لم يؤكل
وأما السن والظفر ففيه ثلاثة أقوال
الأول يجوز بالعظم قاله في المدونة
والثاني لا يجوز بالعظم والسن قاله في كتاب محمد وبه قال الشافعي
الثالث إن كانا مركبين لم يذبح بهما وإن كان كل واحد منهما منفصلا ذبح بهما قاله ابن حبيب وأبو حنيفة
فأما الشافعي فأخذ بمطلق النهي وجعله عاما في حال الانفصال والاتصال وأما ابن حبيب وأبو حنيفة فأخذا بالمعنى وذلك أنه إذا كانا متصلين كان الذبح بهما
29

خنقا وأما إذا كانا منفصلين كانا بمنزلة الحجر والقصب وهذا أشبه بمذهب الشافعي كما أن مذهبنا أولى بمذهب الشافعي لأن الذكاة عندنا عبادة فكانت باتباع النص في الآلة أولى وعنده أنها معقولة المعنى فكان بأنهار الدم بكل شيء أولى ولكن معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نص على السن والظفر وقف الشافعي عنده وقفة قاطع للنظر حين قطع الشرع به عنه
ورأى علماؤنا أن النهي عن السن والظفر إنما هو لأجل أن من كان يفعله لم يبال أن تخلط الذكاة بالخنق فإذا كانت على يدي من يفصلهما جاز ذلك إذا انفصلا
المسألة السادسة عشرة
أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض أو بقية حياة من سبع
لو اتسق النظر وسلمت عن الشبه الفكر وقد بينا ذلك في المسائل
المسألة السابعة عشرة
قولهم إن الاستثناء يرجع إلى التحريم لا إلى المحرم وهو كلام من لم يفهم ما التحريم
وقد ثبت أن التحريم حكم من أحكام الله تعالى وقد شرحنا في غير موضع أن الأحكام ليست بصفات للأعيان وإنما هي عبارة عن قول الله سبحانه وليس في القول استثناء إنما الاستثناء في المقول فيه وهو المخبر عنه
30

المسألة الثامنة عشرة قوله تعالى (* (وأن تستقسموا بالأزلام) *))
معناه تطلبوا ما قسم لكم وجعله من حظوظكم وآمالكم ومنافعكم وهو محرم فسق ممن فعله فإنه تعرض لعلم الغيب ولا يجوز لأحد من خلق الله أن يتعرض للغيب ولا يطلبه فإن الله سبحانه قد رفعه بعد نبيه إلا في الرؤيا
فإن قيل فهل يجوز طلب ذلك في المصحف قلنا لا يجوز فإنه لم يكن المصحف ليعلم به الغيب إنما بينت آياته ورسمت كلماته ليمنع عن الغيب فلا تشتغلوا به ولا يتعرض أحدكم له
المسألة التاسعة عشرة
فإن قيل فالفأل والزجر كيف حالهما عندك
قلنا أما الفأل فمستحسن باتفاق وأما الزجر فمختلف فيه والفرق بينهما أن الفأل فيما يحسن والزجر فيما يكره وإنما نهى الشارع عن الزجر لئلا تمرض به النفس ويدخل على القلب منه الهم وإلا فقد ورد ذلك في الشرع عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأسماء والأفعال وقد بينا ذلك في شرح الحديث حيث ورد ذكره فيه
المسألة الموفية عشرين الأزلام
كانت قداحا لقوم وحجارة لآخرين وقراطيس لأناس يكون أحدها غفلا وفي الثاني افعل أو ما في معناه وفي الثالث لا تفعل أو ما في معناه ثم يخلطها في جعبة أو تحته ثم يخرجها مخلوطة مجهولة فإن خرج الغفل أعاد الضرب حتى يخرج له افعل أو لا تفعل وذلك بحضرة أصنامهم فيمتثلون ما يخرج لهم ويعتقدون أن ذلك هداية من الصنم لمطلبهم
وكذا روى ابن القاسم عن مالك كما سردناه لكم
31

المسألة الحادية والعشرون قوله تعالى (* (فمن اضطر في مخمصة) *))
وقد تقدم ذكره في سورة البقرة
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب) *)
فيها خمس عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله تعالى (* (الطيبات) *))
روى أبو رافع قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه فأذن له وقال قد أذنا لك يا رسول الله قال أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب قال أبو رافع فأمر أن نقتل الكلاب بالمدينة فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته وجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته فجاؤوا فقالوا يا رسول ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت فأنزل الله هذه الآية
المسألة الثانية في قوله تعالى (* (الطيبات) *))
وهي ضد الخبيثات وقد أشرنا إليه في سورة البقرة والطيب ينطلق على معنيين أحدهما ما يلائم النفس ويلذها
والثاني ما أحل الله والخبيث ضده وسيأتي تحقيقه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (من الجوارح مكلبين) *))
قيل معناه الكواسب يقال جرح إذا كسب ومنه قوله تعالى (* (ويعلم ما جرحتم بالنهار) *
32

) فكل كاسب جارح إذا كسب كيفما كان وممن كان إلا أن هاهنا نكتة وهي أن الله تعالى قال (* (أحل لكم الطيبات) *) فنحن فريق والطيبات فريق وما علمتم من الجوارح فريق غير الاثنين وذلك من البهائم التي يعلمها بنو آدم وقد كانت عندهم معلومة وهي الكلاب المعلمة فأذن الله سبحانه وتعالى لهم في أكل ما صيد بها على ما بيناه آنفا إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة
فإن قيل فما يبين ذلك تحقيقا
قلنا يبينه ظاهر القرآن والسنة أما ظاهر القرآن فقوله (* (مكلبين) *) كلب الرجل وأكلب إذا اقتنى كلبا وأما السنة فالحديث الصحيح لجميع الأئمة قال النبي صلى الله عليه وسلم من اقتنى كلبا ليس بكلب ماشية أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان والضاري هو الذي ضري الصيد في اللغة
وروى جميعهم عن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي واذكر الله تعالى فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك فإن ذكاته أخذه وإن قتل ما لم يشركه كلبا آخر قال وإن أدركته حيا فاذبحه وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل منه فإنك لا تدري أيهما قتله وعند جميعهم فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه
33

وروى أبو داود عن أبي ثعلبة أنه قال وإن أكل منه قال وإن أكل منه وروى جميعهم عنه نحو الأول عن عدي وفيه فإن صدت بكلب غير معلم فأدركت ذكاته فكل فقد فسرت هذه الأحاديث التكليب والتعليم وهي
المسألة الخامسة
فإنه قال فيه إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك والمعلم هو الذي إذا أشليته انشلى وإذا زجرته انزجر فهذا ركن التعليم وقد حققناه في المسائل فلو استرسل على الصيد بنفسه ثم أغراه صاحبه ففيها روايتان
إحداهما يؤكل به وبه قال أبو حنيفة
والثانية لا يؤكل
والصحيح جواز أكلها لأنه قد أثر فيه الانشلاء وانزجر عند الانزجار والقول الأول ضعيف
المسألة السادسة النية شرط في الصيد
لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فاعتبر الاسترسال منه والذكر ولذلك قلنا إنه إذا استرسل بنفسه ثم أغراه فغرى في سيره إنها نية أثرت في الكلب فإنه عاد إلى رأي صاحبه بعد أن كان خرج لنفسه
المسألة السابعة إن أكل الكلب
ففيها روايتان أحداهما أنها لا تؤكل وبه قال أبو حنيفة
34

وللشافعي قولان أحدهما مثله والثاني يؤكل
والروايتان مبنيتان على حديثي عدي وأبي ثعلبة وحديث عدي أصح وهو الذي يعضده ظاهر القرآن لقوله تعالى (* (فكلوا مما أمسكن عليكم) *)
وفي المسألة معان كثيرة منها أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي يحمل على الكراهية بدليل قوله فيه فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه فجعله خوفا وذلك لا يستقل بالتحريم
وقال علماؤنا الأصل في الحيوان التحريم لا يحل إلا بالذكاة والصيد وهو مشكوك فيه فبقي على أصل التحريم
وقال آخرون منهم القول الثاني لأن ذلك لو كان معتبرا لما جاز البدار إلى هجم الصيد من فم الكلب فإنا نخاف أن يكون أمسك على نفسه ليأكل فيجب إذا التوقف حتى نعلم حال فعل الكلب به وذلك لا يقول به أحد وأيضا فإن الكلب قد يأكل لفرط جوع أو نسيان وقد يذهل العالم النحرير عن المسألة فكيف بالبهيمة العجماء أن تستقصي عليها هذا الاستقصاء وقد أخذنا أطراف الكلام في مسائل الخلاف على المسألة فلينظر هناك
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (وما علمتم من الجوارح مكلبين) *))
عام في الكلب الأسود والأبيض وقال من لا يعرف إن صيد الكلب الأسود لا يؤكل لقول النبي صلى الله عليه وسلم فإن الكلب الأسود شيطان وهذا إنما قاله النبي
35

صلى الله عليه وسلم في قطع الصلاة فلو كان الصيد مثله لقاله ونحن على العموم حتى يأتي من النبي صلى الله عليه وسلم لفظ يقتضي صرفنا عنه
المسألة التاسعة إن أدركت ذكاة الصيد فذكه دون تفريط فإن فرطت لم يؤكل
لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرط ذلك عليك وفي قوله إن وجدت معه كلبا آخر فلا تأكله فإنك لا تدري من قتله نص على اعتبار النية في الذكاة إلا أن يظهر صاحبه إليك وتجتمعا فيقول كل واحد منكما قد سميت فيكونان شريكين فيه
المسألة العاشرة
في قول النبي صلى الله عليه وسلم فإن أرسلت كلبا غير معلم فأدركت ذكاته فكل دليل على أن الحديث بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكله إنما هو على معنى العبث لا على معنى طلب الأكل فإنه لا ندري أنا إذا أرسلنا غير المعلم هل يدرك ذكاته أم يعقره
المسألة الحادية عشرة
أما الفهد ونحوه إذا علم فيجوز الاصطياد به قال ابن عباس لو صاد علي ابن عرس لأكلته وذلك لأنه كلب كله في مطلق اللغة وقد بيناه في ملجئة المتفقهين فأما جوارح الطير وهي المسألة الثانية عشرة
المسألة الثانية عشرة جوارح الطير
فقد روى أشهب وغيره عن مالك أن البازي والصقر والعقاب وما أشبه ذلك من الطير إذا كان معلما يفقه ما يفقه الكلب فإنه يجوز صيده وبه قال عامة العلماء وفيه خلاف عن علي لا نبالي به
36

واختلف علماؤنا هل يؤخذ صيدها من ظاهر القرآن أو من الحديث فقالت طائفة يؤخذ من ظاهر القرآن من قوله (* (مكلبين) *) والتكليب هو التضرية بالشيء والتسليط عليه لغة وهذا يعم كل معلم مكلب ضار
وقال أخذ من الحديث وروى عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل عن صيد البازي فقال ما أمسك عليك فكل رواه الترمذي وغيره فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الأكل في صيد البازي على ما علق الله سبحانه الأكل في صيد الكلب وهو الأكل مما أمسك عليك حسبما بيناه
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (وما علمتم من الجوارح مكلبين) *))
اتفقت الأمة على أن الآية لم تأت لبيان التحليل في المعلم من الجوارح الأكل وإنما مساقها تحليل صيده وقالوا في تأويله أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح فحذف صيد وهو المضاف وأقام ما بعده وهو المضاف إليه مقامه
ويحتمل أن يكون معناه أحل لكم الطيبات والذي علمتم من الجوارح مبتدأ والخبر في قوله فكلوا مما أمسكن عليكم وقد تدخل الفاء في خبر المبتدأ كما قال الشاعر
(وقائلة خولان فانكح فتاتهم) وأكرومة الحيين خلو كما هيا
* وقد حققنا ذلك في رسالة ملجئة المتفقهين
المسألة الرابعة عشرة قوله تعالى (* (فكلوا مما أمسكن عليكم) *))
عام بمطلقة في كل ما أمسك الكلب عليه إلا أنه خاص بالدليل في كل ما أحله الله من جنس كالظباء والبقر والحمر أو من جزء كاللحم والجلد دون الدم وهذا عموم دخله التخصيص بدليل سابق له
37

المسألة الخامسة عشرة قوله تعالى (* (فكلوا مما أمسكن عليكم) *)
هل يتضمن ما إذا غاب عنك الصيد أم لا فقال مالك إذا غاب عنك فليس بممسك عليك وإذا بات فلا تأكله في أشهر القولين
وقال الشافعي يؤكل وتعلق علماؤنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم كل ما أصميت ودع ما أنميت فالاصماء في اللغة الاسراع أي كل ما قتل مسرعا وأنت تراه ودع ما أنميت أي ما مضى من الصيد وسهمك فيه قال امرؤ القيس
(فهو لا تنمي رميته
* ما له لا عد من نفره)
والصحيح أكله وإن غاب ما لا تجده غريقا في الماء أو عليه أثر غير أثر سهمك
والأصل في ذلك حديث عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له كله ما لم تجده غريقا في الماء فإنك لا تدري أسهمك قتله أم لا كما أخرجه مسلم والبخاري وغيرهما وفي حديث أبي ثعلبة الخشني إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكله بعد ثلاث ما لم ينتن رواه البخاري ومسلم وغيرهما زاد النسائي ولم يأكل منه سبع فكله
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) *
38

)
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (اليوم أحل لكم) *
قد تكرر ذلك اليوم ثلاث مرات وفي تأويل ذلك ثلاث أقوال
الأول أنه يوم الاثنين بالمدينة
الثاني أنه بمعنى الآن لأن العرب تقول اليوم كذا بمعنى الآن كأنه وقت الزمان
الثالث أنه يوم عرفة
المسألة الثانية في تنخيل هذه الأقوال
وبيانه أن كونه يوم الاثنين ضعيف
وأما كونه بمعنى الزمان فصحيح محتمل لأن ذلك لا يناقض غيره
والصحيح أن قوله (* (اليوم أكملت لكم دينكم) *) هو يوم عرفة لما ثبت في الصحاح أن يهوديا قال لعمر لو نزلت علينا هذه الآية لاتخذنا ذلك عيدا فقال عمر قد
علمت في أي يوم نزلت هذه الآية نزلت بعرفة يوم جمعة
وثبت في صحيح الترمذي أن يهوديا قال لابن عباس ذلك فراجعه ابن عباس بمثل ما راجعه عمر فيحتمل أن يكون اليومان قبله وبعده راجعة إليه ويحتمل أن يكون أياما سواها والظاهر أنها هي بعينها
39

المسألة الثالثة في معنى كمال الدين وتمام النعمة فيه
وفي ذلك كلام طويل لبابه في سبعة أقوال
الأول أنه معرفة الله أراد اليوم عرفتكم بنفسي بأسمائي وصفاتي وأفعالي فاعرفوني
الثاني اليوم قبلتكم وكتبت رضائي عنكم لرضائي لدينكم فإن تمام الدين إنما يكون بالقبول
الثالث اليوم أكملت لكم دعاءكم أي استجبت لكم دعاءكم ودعاء نبيكم لكم ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة
الرابع اليوم أظهرتكم على العدو بجمع الحرمين له أو بتعريف ذلك فيه
الخامس اليوم طهرت لكم الحرم عن دخول المشركين فيه معكم فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولا طاف بالبيت عريان ولا كان الناس صنفين في موقفهم بل وقفوا كلهم في موقف واحد
السادس اليوم أكملت لكم الفرائض وانقطع النسخ
السابع أنه بكمال الدين لم ينزل بعد هذه الآية شيء وذلك أن الله سبحانه لم يزل يصرف نبيه وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه درجة درجة حتى أكمل شرائعه ومعالمه وبلغ أقصى درجاته فلما أكمله تمت به النعمة ورضيه دينا كما هو عليه الآن يريد فالزموه ولا تفارقوه ولا تغيروه كما فعل سواكم بدينه
المسألة الرابعة في المختار من هذه الأقوال
كلها صحيحة وقد فعلها الله سبحانه فلا يختص بعضها دون بعض بل يقال إن جميعها مراد الله سبحانه وما تعلق بها مما كان في معناها إلا أن قوله إنه لم ينزل
40

بعده آية ولا ذكر بعده حكم لا يصح وقد ثبت عن البراء في الصحيح أن البراء قال آخر آية نزلت يستفتونك وآخر سورة نزلت براءة
وفي الصحيح عن ابن عباس قال آخر آية نزلت آية الربا وقد روي أنها نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيسير
والذي ثبت في تاريخه حديث عمر وابن عباس في قوله (* (اليوم أكملت لكم دينكم) *) أنه يوم عرفة فهذا تاريخ صحيح لا غبار عليه ويأتي تمامه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) *))
في ذكر الطعام قولان
أحدهما أنه كل مطعوم على ما يقتضيه مطلق اللفظ وظاهر الاشتقاق وكان حالهم يقتضي ألا يؤكل طعامهم لقلة احتراسهم عن النجاسات لكن الشرع سمح في ذلك لأنهم أيضا يتوقون القاذورات ولهم في دينهم مروءة يوصلونها ألا ترى أن المجوس الذين لا تؤكل ذبائحهم لا يؤكل طعامهم ويستقذرون ويستنجسون في أوانيهم روي عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس فقال أنقوها غسلا واطبخوها فيها وهو حديث مشهور وذكره الترمذي وغيره عن أبي ثعلبة وصححه أنه قال يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب فنطبخ في قدورهم ونشرب في آنيتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء قال وهو صحيح خرجه البخاري وغيره
41

وغسل آنية المجوس فرض وغسل آنية أهل الكتاب فضل وندب فإن أكل ما في آنيتهم يبيح الأكل بعد ذلك فيها والدليل على صحة ما روى الدارقطني أن عمر توضأ من جرة نصرانية وصححه وأدخله البخاري في التراجم
وربما ظن بعضهم أن أكل طعامهم رخصة فإذا احتجت إلى آنيتهم فغسلها عزيمة لأنه ليس بموضع للرخصة
قلنا رخصة أكل طعامهم حل تأصل في الشريعة واستقر فلا يقف على موضعه بل يسترسل على محاله كلها كسائر الأصول في الشريعة
الثاني أن المراد به ذبائحهم وقد أذن الله سبحانه في طعامهم قال لي شيخنا الإمام الزاهد أبو الفتح نصر بن إبراهيم النابلسي في ذلك كلاما كثيرا لبابه أن الله سبحانه قد أذن في طعامهم وقد علم أنهم يسمون غيره على ذبائحهم ولكنهم لما تمسكوا بكتاب الله وعلقوا بذيل نبي جعلت لهم حرمة على أهل الأنصاب
وقد قال مالك تؤكل ذبائحهم المطلقة إلا ما ذبحوا يوم عيدهم أو لأنصابهم
وقال جماعة العلماء تؤكل ذبائحهم وإن ذكروا عليها اسم غير المسيح وهي مسألة حسنة نذكر لكم منها قولا بديعا وذلك أن الله سبحانه حرم ما لم يسم الله عليه من الذبائح وأذن في طعام أهل الكتاب وهم يقولون إن الله هو المسيح ابن مريم وأنه ثالث ثلاثة تعالى الله
42

عن قولهم علوا كبيرا فإن لم يذكروا اسم الله سبحانه أكل طعامهم وإن ذكروا فقد علم ربك ما ذكروا وأنه غير الإله وقد سمح فيه فلا ينبغي أن يخالف أمر الله ولا يقبل عليه ولا تضرب الأمثال له
وقد قلت لشيخنا أبي الفتح المقدسي إنهم يذكرون غير الله فقال لي هم من آبائهم وقد جعلهم الله تبعا لمن كان قبلهم مع علمه بحالهم
وبهذا استدل بعض الشافعية على أن التسمية على الذبيحة ليست بشرط قال لو سمى النصراني الإله حقيقة لم تكن تسميتهم على شرط العبادة لأنهم لا يعرفون المعبود فليست تسميتهم على طريق العبادة واشتراطهم التسمية على غير وجه العبادة لا يعقل
قلناتعقل صورة التسمية ولها حرمة وإن لم يعلم المسمي من يسمي ولو شرطنا العلم بحقيقة الإيمان ما جاز أكل كثير من ذبح من يسمي من المسلمين وإنما حرم الشرع ذبحا يذكر عليه غير الله تصريحا فأما من يقصد الله فيصيب قصده فهو الذي لا كلام فيه وأما الذي يسميه فيخطئ قصده فذلك الذي رخص فيه فإذا قال الله وهو يقصد المسيح أو المسيخ وهو يقصد الله فيرجع أمره إلى الله سبحانه ولكنه ضل عن الطريق وسمح لك فيه الإله الذي ضل أهل الكتاب عنه وخفف حالهم بهذه الشعبة الخفية من القصد إليه فلا يعترض عليه
فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس
فالجواب أن هذه ميتة وهي حرام بالنص وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا فهذه أمثلة والله أعلم
وأما ذبائح الكتابيين فقد سئل أبو الدرداء عما يذبح لكنيسة اسمها سرجس فأمر بأكله ولذلك قال عبادة بن الصامت وقال الشافعي وعطاء تؤكل ذبائحهم وإن
43

ذكر غير الله عليها وهذا ناسخ لقوله تعالى (* (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *) وقد بينا في القسم الثاني أنه ليس بنسخ وسنشير إليه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى
المسألة السادسة
لما قال الله سبحانه (* (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) *) تضمن أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل فهل يدخل عليهم من دان بدينهم وإن لم يكن منهم ينبني على أصل من أصول الفقه وهو أن من لم يدعه النبي فاتبعه هل يكون له حكم من دعائه أم لا وقد بينا في موضعه أنه إن لم يكن على شرع دخل في حكمهم أو كان على شرع درس عنه إذا ثبت هذا فنصارى بني تغلب من العرب مما اختلف فيه العلماء فروي عن ابن عباس أنه تؤكل ذبائحهم وألحقهم بالكتابيين لقوله تعالى (* (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) *) وبه قال الشعبي والشافعي وقرأ الشعبي (* (وما كان ربك نسيا) * وقاله ابن شهاب وقال لأنهم يذكرون اسم الله سبحانه إشارة إلى ما قلناه من تعلقهم باللفظ وبهذا قال جماعة كثيرة وعن علمائنا روايتان إحداهما ما تقدم والثانية لا تؤكل ذبائحهم وبه قال ابن عمر وعائشة وعلي وقال لأنهم لا يحللون ما تحلل النصارى ولا يحرمون ما يحرمون وهذا دليل أنهم لم يلحقهم بهم لأنهم لم يتولوهم ولا دانوا بدينهم ولو تعلقوا به لوافق ابن عباس في حالهم وحكمهم لما قدمناه من الأدلة
المسألة السابعة قوله تعالى (* (أحل لكم الطيبات وما علمتم) *) إلى قوله (* (أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب) *))
دليل قاطع على أن الصيد وطعام أهل الكتاب من الطيبات التي أباحها الله عز وجل وهو الحلال المطلق وإنما كرره الله سبحانه ليرفع الشكوك ويزيل
44

الاعتراضات ولكن الخواطر الفاسدة هي التي توجب الاعتراضات ويخرج إلى تطويل القول ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل يؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه وهي
المسألة الثامنة
فقلت تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا إلا ما كذبهم الله سبحانه فيه
ولقد قال علماؤنا إنهم يعطوننا أولادهم ونساءهم ملكا في الصلح فيحل لنا وطؤهن فكيف لا تحل ذبائحهم والأكل دون الوطء في الحل والحرمة
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (والمحصنات من المؤمنات) *))
قد تقدم ذكر ذلك في سورة النساء وبينا اختلاف العلماء واحتمال اللفظ لأن يكون المحصنات من المؤمنات الحرائر والعفائف وقد روي عن عمر في ذلك روايات كثيرة في قصص مختلفة منها أن امرأة من همدان يقال لها نبيشة بغت فأرادت أن تذبح نفسها فأدركوها فقدوها فذكروه أيضا لعمر بن الخطاب فقال انكحوها نكاح الحرة العفيفة المسلمة
وقال الشعبي إحصانها أن تغتسل من الجنابة وتحصن فرجها من الزنا
وسئل ابن عباس عن هذه النازلة فقال من نساء أهل الكتاب من يحل لنا ومنهم من لا يحل لنا ثم تلا (* (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) *) إلى قوله (* (حتى يعطوا الجزية عن يد) *)
قال فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤهم ومن لم يعط لم يحل لنا نساؤه
ومن ها هنا يخرج أن نكاح إماء أهل الكتاب لا يجوز لأنهن لا جزية عليهن
45

فإن قيل وكذلك الحرائر
قلنا حلوا بدليل آخر
وقيل عنى بذلك نساء بني إسرائيل دون سائر الأمم الذين دانوا بدين بني إسرائيل
والصحيح أنهم داخلون معهم في ذبائحهم ونكاحهم لقوله فإنه منهم
فإن قيل فما المراد بقوله تعالى (* (حتى يعطوا الجزية عن يد) *) هل المراد بذلك نفس الإعطاء والالتزام أو يكون المراد من تقبل منهم الجزية
قلنا أما مذهب ابن عباس فلقد تلوته عليكم وأما سائر العلماء فيقولون إنما المراد من يقبل منه الجزية لقوله تعالى (* (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) *) وذكر الجزية إنما هو في القتال لا في النكاح إلا أن العلماء كرهوا نكاح الحربية لئلا يولد له فيهم فيتنصروا وتجري عليهم أحكامهم
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (محصنين غير مسافحين) *))
قد تقدم في سورة النساء وأراد به في قول علمائنا غير متعالنين بالزنا كالبغايا ولا ممن يتخذ أخدانا معناه يختص بزان معلوم وبزانية معلومة وفي هذا تخصيص قوله تعالى (* (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) *) الآية كما تقدم بيانه
الآية السادسة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) *
46

)
فيها اثنتان وخمسون مسألة
المسألة الأولى
ذكر العلماء أن هذه الآية من أعظم آيات القرآن مسائل وأكثرها أحكاما في العبادات وبحق ذلك فإنها شطر الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء شطر الإيمان في صحيح الخبر عنه
ولقد قال بعض العلماء إن فيها ألف مسألة واجتمع أصحابنا بمدينة السلام فتتبعوها فبلغوها ثمانمائة مسألة ولم يقدروا أن يبلغوها الألف وهذا التتبع إنما يليق بمن يريد طرق استخراج العلوم من خبايا الزوايا والذي يليق الآن في هذه العجالة مما نحن فيه الانتداب إلى انتزاع الجلي وأن نتعرض لما يسنح خاصة من ظاهر مسائلها
المسألة الثانية في سبب نزولها
لا خلاف بين العلماء أن الآية مدنية كما تقدم ذكره في سورة النساء وأنها نزلت في قصة عائشة كما أنه لا خلاف أن الوضوء كان مفعولا قبل نزولها غير متلو ولذلك قال علماؤنا إن الوضوء كان بمكة سنة معناه كان مفعولا بالسنة فأما حكمه فلم يكن قط إلا فرضا
وقد روى ابن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرض الله سبحانه عليه الصلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظهر ذلك اليوم ليصلي به فغمز الأرض بعقبه فأنبعت ماء وتوضأ معلما له وتوضأ هو معه وصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح وإن كان لم يروه أهل الصحيح ولكنهم تركوه لأنهم لم يحتاجوا إليه وقد كان الصحابة
47

والعلماء يتغافلون عن الحديث الذي لا يحتاجون إليه وإن ذهب ويكرهون أن يبتدئوا بذكره حتى يحتاج إليه بخلاف القرآن حسبما تقدم بيانه
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا) *))
هذا الخطاب وإن كان مصرحا بالمؤمنين فإن الكافرين داخلون فيه لما ثبت من أنهم يدخلون في فروع الشريعة بالأدلة القاطعة ولكن الله ها هنا خص الخطاب الملزم للإيمان لأن النازلة عرضت له والقصة دارت عليه
المسألة الرابعة قال لنا شيخنا فخر الإسلام بمدينة السلام قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) *))
معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة لأن الوضوء حالة القيام إلى الصلاة لا يمكن والإرادة هي النية فدل على أن النية في الطهارة واجبة فيه وبه قال مالك والشافعي وأكثر العلماء
وروى الوليد بن مسلم عن مالك أنها غير واجبة وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي وهي من طيوليات مسائل الخلاف وقد بيناها فيه
والأصل المحقق أنها عبادة مقصودة بدليل أنها شطر الإيمان والعبادات لا يتعبد بها إلا مع النية ويخالف الشعبي إلا الجمعة فإنه ليس بعبادة مقصودة والله أعلم
المسألة الخامسة
قال زيد بن أسلم معناه إذا قمتم إلى الصلاة من النوم وفي ذلك نزلت الآية
وبين هذا أن النوم حدث وبه قال جملة الأمة سمعت عن أبي موسى الأشعري أنه لم يكن يراه حدثا ولم يثبت ذلك عندي عنه
وروي لي عن بعض التابعين أنه لم يره حدثا والدليل على بطلان قوله أن هذه الآية نزلت في النائمين فلا بد أن يتناولهم لأن
48

الآية والخبر إذا كان الذي أثارهما سببا فلا بد من دخول السبب فيهما وإن كان الخلاف وراء ذلك هل يقتصر عليها الحكم بهما أم يكونان على عمومهما وثبت عن صفوان بن عسال قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا في سفر ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من بول أو غائط ونوم والأمر أظهر من ذلك ولكن أردنا أن نعرفكم وجود ذلك في القرآن وفي صحيح حديث النبي صلى الله عليه وسلم
قال الترمذي حديث صفوان حديث صحيح
المسألة السادسة
إذا ثبت أن النوم حدث فهو حدث لما يصحبه غالبا من خروج الخارج
وقال المزني هو حدث بعينه وهذا باطل فإنه ثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينامون ولا يتوضؤون ومنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء ذات ليلة حتى رقد الناس واستيقظوا وفيه أنه قال أقيمت صلاة العشاء فقام رجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم حتى نام القوم ثم صلوا
المسألة السابعة
وإذا ثبت الفرق بين قليله وكثيره فقد استوفينا تفصيله في النوازل الفقهية وبينا أن من استثقل نوما على أي حال كان من الأحوال فإن عليه الوضوء
وقال أبو حنيفة إن نام على هيئة من هيئات الصلاة لم يبطل وضوءه ووافقه ابن حبيب في الركوع واحتج بحديثين أحدهما عن ابن عباس أنه قال نام النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد حتى نفخ ثم قام فصلى فقلت يا رسول الله إنك قد نمت فقال إن الوضوء إنما يجب على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله
49

خرجه الترمذي وأبو داود أنكره فقال كان النبي صلى الله عليه وسلم محفوظا واحتج بقوله تنام عيناي ولا ينام قلبي
والحديث الثاني قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الوضوء على من نام قائما أوراكعا أو ساجدا إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله وهو باطل قد بيناه في مسائل الخلاف وأوضحنا خلله
وأما ابن حبيب في الركوع فإنما بنى على أن الراكع لا يصح أن يستثقل نوما ويثبت راكعا فدل أن نومه ثبات وخلس لا شيء فيها
المسألة الثامنة إذا ثبت الوضوء في النوم فالإغماء فوقه أو مثله
المسألة التاسعة
ظاهر الآية يقتضي الوضوء على كل قائم إليها وإن كانت قد نزلت في النائمين وإياهم صادف الخطاب ولكنا ممن يأخذ بمطلق الخطاب ولا يربط الحكم بالأسباب وكذلك كنا نقول إن الوضوء يلزم لكل قائم إلى الصلاة محدثا كان أو غير محدث إلا أن أنس بن مالك روى كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة
50

قلت كيف كنتم تصنعون أنتم قال كان يجزي أحدنا الوضوء ما لم يحدث خرجه جميع الأئمة
وروى أبي بردة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي فإن قيل فهل يتكرر الحكم بتكرر الشرط أم لا فإن قلتم بتكرره أحلتم وإن قلتم لا يتكرر فما وجهه
قلنا من المتعجرفين من تكلف فقال إنما يتكرر بتكرر العلة وهو الحدث وهذا لا يصح فإن الحدث لا يوجب الطهارة لنفسه وإنما وجوب الصلاة يوجب الطهارة بشرط أن يكون المكلف محدثا فالحدث شرط في وجوب الطهارة بوجوب الصلاة لا علته والحكم علة للحكم شرعا وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف وأصول الفقه
وقد أحدث بعض المبتدعة في الإسلام بدعة شنعاء فقال إن المحدث لا يؤمر بالصلاة إنما يؤمر بالوضوء وعليه يثاب وعليه يعاقب ولا يتوجه عليه الأمر بالصلاة حتى يتوضأ
وهذا خرق لإجماع الأمة وهتك لحجاب الشريعة وهذه الآية وأمثالها رد عليه إن أقر بثبوته وإن أنكره فإن من ينكر التوحيد مخاطب بتصديق الرسول ولا يصح ذلك منه إلا بعد توحيد الرب وهذا ما لا جواب لهم عنه
51

المسألة العاشرة قوله تعالى (* (فاغسلوا) *
الفاء حرف يقتضي الربط والسبب وهو بمعنى التعقيب وقد بينا ذلك في رسالة الملجئة وهي ها هنا جواب للشرط ربطت المشروط به وجعلته جوابه أو جزاءه ولا خلاف فيه بيد أن الشافعي ومن قال بقوله من علمائنا في وجوب الترتيب في الوضوء قال إن في هذا دليلا على وجوب البداءة بالوجه إذ هو جزاء الشرط وجوابه
وقال الآخرون الذين لا يرون ترتيب الوضوء إن هذا القول صحيح فيما إذا كان جواب الشرط معنى واحدا فأما إذا كانت جملا كلها جوابا وجزاء لم نبال بأيهما بدأت إذ المطلوب تحصيلها وهذا قول له رونق وليس بمحقق قال الله سبحانه وتعالى (* (فاغسلوا وجوهكم) *) فبدأ بالوجه وعطف عليه غيره فالنظر الصحيح في ذلك أن يقال تجب البداءة بما بدأ الله به وهو الوجه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين حج وجاء إلى الصفا نبدأ بما بدأ الله به وكانت البداءة بالصفا واجبة
ويعضد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ عمره كله مرتبا ترتيب القرآن وفعله هذا بيان مجمل كتاب الله تعالى وبيان المجمل الواجب واجب وهي مسألة خلاف عظمى قد بيناها في مسائل الخلاف وهذا هو الذي يختار فيها
المسألة الحادية عشرة قوله عز وجل (* (فاغسلوا) *))
وظن الشافعي وهو عند أصحابه معد بن عدنان في الفصاحة بله أبي حنيفة وسواه أن الغسل صب الماء على المغسول من غير عرك وقد بينا فساد ذلك في
52

مسائل الخلاف وفي سورة النساء وحققنا أن الغسل مر اليد مع إمرار الماء أو ما في معنى اليد
المسألة الثانية عشرة الغسل يقتضي مغسولا مطلقا ومغسولا به
وسيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (وجوهكم) *))
والوجه في اللغة ما برز من بدنه وواجه غيره به وهو أبين من أن يبين وأوجه من أن يوجه وهو عند العرب عضو يشتمل على جملة أعضاء ومحل من الجسد فيه أربع طرق للعلوم وله طول وعرض وهو أيضا بين إلا أنه أشكل على الفقهاء منه ستة معان
الأول إذا اكتسى الذقن بالشعر فإنه قد انتقل الفرض فيما يقابله إلى الشعر قطعا ونفي الزائد عليه وهو ما استرسل من اللحية ويحتمل أن يكون فرضا لأنه قد اتصل بالوجه وواجه كما يواجه فيكون فرضا غسله مثل الوجه ويحتمل أن يكون ندبا وبالأول أقول لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل لحيته خرجه الترمذي وغيره فعين المحتمل بالفعل
الثاني إذا دار العذار على الخد هل يلزم غسل ما وراءه إلى الأذن أم لا وفيه خلاف بيننا في أنفسنا وبين العلماء أيضا غيرنا والصحيح عندي أنه لا يلزم غسله لا للأمرد ولا للمعذر
الثالث الفم قال أحمد بن حنبل وجماعة أن غسله في الوضوء واجب لأنه من الوجه وقد واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليه وقال إذا تمضمض خرجت الخطايا من فيه
53

الرابع الأنف وقد ورد الأمر به في الحديث الصحيح فقال إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر ومن استجمر فليوتر وقال أيضا فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه
الخامس العين والحكم فيها واحد أثرا ونظرا ولغة ولكن سقط غسلها للتأذي بذلك والحرج به ولذلك كان عبد الله ابن عمر لما عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى بذلك
السادس لا خلاف أنه لا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير تحديد فيه كما أنه لابد على القول بوجوب عموم مسح الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدر وهذا ينبني على أصل من أصول الفقه وهو أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب مثله وقد مهدناه في موضعه فهذه تتمة تسع عشرة مسألة
المسألة الموفية عشرين
قال لنا فخر الإسلام بمدينة السلام في الدرس لما قال الله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) *) كان معناه ضرورة اللغة فاغسلوا وجوهكم لأجل الصلاة وذكر أمثلة بيناها في مسائل الخلاف فاقتضى الأمر بظاهره غسل الوجه للصلاة فمن غسله لغير ذلك لم يكن ممتثلا للأمر
وقد قال بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ها هنا كلاما مختلا وهي
المسألة الحادية والعشرون
ونصه ظن ظانون من أصحاب الشافعي الذين يوجبون النية في الوضوء أنه لما أوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة دل على أنه أوجبه لأجله وأنه أوجب به النية وهذا لا يصح فإن إيجاب الله سبحانه الوضوء لأجل الحدث لا يدل على أنه يجب
54

عليه أن ينوي ذلك بل يجوز أن يجب لأجله ويحصل دون قصد تعليق الطهارة بالصلاة وبنيتها لأجله إلى تخليط زيد عليه لا أرضى ذكره
قلنا قوله ظن ظان أن الوضوء لما وجد عند القيام إلى الصلاة أنه وجب لأجله لم يظن أحد ذلك إنما قطع الاعتقاد به لقيام الدليل عليه
وقوله إنه أوجب له النية
قلنا له هذا تلبيس وجوبه لأجله هو الذي يقتضي النية ضرورة فيه فإنه يلزمه أن يأتي بما أمر لمأمور به له
وقوله هذا لا يصح
قلنا لا يصح إلا هو
قوله فإن إيجاب الله الوضوء لأجل الحدث
قلنا هذا هوس لم يجب الوضوء لأجل الحدث
وقوله إنه لا يجب عليه أن ينوي ذلك
قلنا لا يجب عليه أن ينوي ماذا إن أردت الحدث فمن ذا الذي يقول به وإن أردت الصلاة فلا يعطي اللفظ والمعنى إلا وجوب النية لها
وقوله يجوز أن يجب لأجله ويحصل دون قصد
قلنا هذا لا نسلمه مطلقا إن أردت في العبادات فلا وإن أردت في غيرها فلا نبالي به وقوله دون قصد
إلى هنا انتهى كلامه المعقول لفظا المختل معنى وأما قوله بعد ذلك تعليق الطهارة بالصلاة فكلام لا يعقل معناه لفظا فكيف معنى
55

المسألة الثانية والعشرون
هذا الذي زمزم به أنا أعرفه
قوله (* (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) *) لا يخلو من ستة أقسام
الأول أنه لا يربط غسل الوجه وما بعده بشيء مما تقدم
الثاني أنه يربطه بالقيام إلى الصلاة أو الحدث وبالصلاة وهو الثالث أو بالصلاة وهو الرابع أو بالكل وهو الخامس أو ببعضه وهو السادس
فإن قيل لم نربطه بشيء كان محالا لغة كما تقدم محالا بالإجماع فإنه قد ربط بما ربط على الاختلاف فيه وإن ربطه بالقيام إلى الصلاة فمحال ضرورة لأنه لا يمكن الجمع بينهما ومحال معنى لأن نفس القيام لا يقصد بذلك من الوضوء وقد بينا أن معناه إذا أردتم القيام ونفس الإرادة هي النية
وأما إن أردت ربطه بالحديث فبالإجماع أن الوضوء يجب به لا من أجله وإن قلتم بالصلاة فكذلك هو
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله لا يقبل الله صلاة بغير طهور وإذا أمر بغسل الصلاة فلم يكن كذلك لم يمتثل ما أمر به وإن قال إنه وجب لأجل الكل فقد تبين فساده وهذا تحقيق من كلامه في غرضه بعينه
المسألة الثالثة والعشرون
إذا وجبت النية للوضوء أو الصلاة أو الصيام أي لأي عبادة وجبت فمحلها أن
56

تكون مقترنة مع أولها لا تجوز قبلها ولا بعدها لأن القصد بالفعل حقيقته أن يقترن به وإلا لم يكن قصدا له فنية الوضوء مع أول جزء منه وكذلك الصلاة وكذلك الصيام وهذه حقيقة لا خلاف فيها بين العقلاء بيد أن العلماء قالوا إن من خرج إلى النهر من منزله بنية الغسل أجزأه ذلك وإن عزبت نيته في أثناء الطريق وإن خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بطلت النية
فركب على هذا سفاسفة المفتين أن نية الصلاة تتخرج على القولين وأوردوا فيها نصا عمن لا يفرق بين الظن واليقين بأنه قال يجوز أن يقدم النية فيها على التكبير
ويا لله ويا للعالمين من أمة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة فما وفقها الله ولا سددها
اعلموا رحمكم الله أن النية في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء وقد اختلف فيها قول مالك فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح في تقديمها في بعض المواضع لأن أصلها قد لا يجب
فأما الصلاة فلم يختلف أحد من الأئمة فيها وهي أصل مقصود فكيف يحمل الأصل المقصود المتفق عليه على الفرع التابع المختلف فيه هل هذا إلا غاية الغباوة فلا تجزئ صلاة عند أحد من الأئمة حتى تكون النية فيها مقارنة للتكبير
وأما الصوم فإن الشرع رفع الحرج فيه لما كان ابتداؤه في وقت الغفلة بتقديم النية عليه
المسألة الرابعة والعشرون قوله تعالى (* (وأيديكم) *))
اليد عبارة عما بين المنكب والظفر وهي ذات أجزاء وأسماء منها المنكب ومنها الكف والأصابع وهو محل البطش والتصرف العام في المنافع وهو معنى
57

اليد وغسلهما في الوضوء مرتين إحداهما عند أول محاولة الوضوء وهو سنة والثانية في أثناء الوضوء وهو فرض
ومعنى غسلهما عند الوضوء تنظيف اليدين لإدخالهما في الإناء ومحاولة نقل الماء بهما ولا سيما عند الاستيقاظ من النوم فقد روى جميع الأئمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده
وروى عثمان وغيره صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلهم ذكروا أنه غسل يديه ثلاث مرات ثم مضمض واستنثر حتى بلغ مكانهما من علمائنا أن جعلوهما من سنن الوضوء
فقال ابن القاسم إذا غسل يديه ثم تمضمض ثم تمادى في الوضوء ثم أحدث في أثنائه فإنه يعيد غسل يديه كما يعيد ما سبق من الوضوء
المسألة الخامسة والعشرون قوله تعالى (* (إلى المرافق) *))
فذكرها واختلف العلماء في وجوب إدخالهما في الغسل وعن مالك روايتان وذكر أهل التأويل في ذلك ثلاثة أقاويل
الأول أن (* (إلى) *) بمعنى مع كما قال الله تعالى (* (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) *) معناه مع أموالكم
الثاني أن (* (إلى) *) حد والحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه تقول
58

بعتك هذا الفدان من ها هنا إلى ها هنا فيدخل الحد فيه ولو قلت من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة ما دخل الحد في الفدان
الثالث أن المرافق حد الساقط لا حد المفروض قاله القاضي عبد الوهاب وما رأيته لغيره
وتحقيقه أن قوله (* (وأيديكم) *) يقتضي بمطلقه من الظفر إلى المنكب فلما قال (* (إلى المرافق) *) أسقط ما بين المنكب والمرفق وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر وهذا كلام صحيح يجري على الأصول لغة ومعنى
وأما قولهم إن (* (إلى) *) بمعنى مع فلا سبيل إلى وضع حرف موضع حرف إنما يكون كل حرف بمعناه وتتصرف معاني الأفعال ويكون معنى التأويل فيها لا في الحروف ومعنى قوله (* (إلى المرافق) *) على التأويل الأول فاغسلوا أيديكم مضافة إلى المرافق وكذلك قوله (* (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) *) معناه مضافة إلى أموالكم
وقد روى الدارقطني وغيره عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توضأ أدار الماء على مرفقيه
المسألة السادسة والعشرون قوله تعالى (* (وامسحوا) *))
المسح عبارة عن إمرار اليد على الممسوح خاصة وهو في الوضوء عبارة عن إيصال الماء إلى الآلة الممسوح بها والغسل عبارة عن إيصال الماء إلى المغسول وهذا
معلوم من ضرورة اللغة وبيانه يأتي إن شاء الله
المسألة السابعة والعشرون قوله تعالى (* (برؤوسكم) *))
والرأس عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه فلما ذكره الله سبحانه في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح ولو لم يذكر الغسل أولا فيه
59

للزم مسح جميعه ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم وهذا انتزاع بديع من الآية
وقد أشار مالك إلى نحوه فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال أرأيت لو ترك بعض وجهه أكان يجزئه ومسألة مسح الرأس في الوضوء معضلة ويا طالما تتبعتها لأحيط بها حتى علمني الله تعالى بفضله إياها فخذوها مجملة في علمها مسجلة بالصواب في حكمها واستيفاؤها في كتب المسائل
اختلف العلماء في مسح الرأس على أحد عشر قولا
الأول إنه إن مسح منه شعرة واحدة أجزأه
الثاني ثلاث شعرات
الثالث ما يقع عليه الاسم ذكر لنا هذه الأقوال الثلاثة فخر الإسلام بمدينة السلام في الدرس عن الشافعي
الرابع قال أبو حنيفة يمسح الناصية
الخامس قال أبو حنيفة إن الفرض أن يمسح الربع
السادس قال أيضا في روايته الثالثة لا يجزيه إلا أن يمسح الناصية بثلاث أصابع أو أربع
السابع يمسح الجميع قاله مالك
الثامن إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه أملاه علي الفهري
التاسع قال محمد بن مسلمة إن ترك الثلث أجزأه
العاشر قال أبو الفرج إن مسح ثلثه أجزأه
الحادي عشر قال أشهب إن مسح مقدمه أجزأه
فهذه أحد عشر قولا ومنزلة الرأس في الأحكام منزلته في الأبدان وهو عظيم الخطر فيهما جميعا ولكل قول من هذه الأقوال مطلع من القرآن والسنة
60

فمطلع الأول أن الرأس وإن كان عبارة عن العضو فإنه ينطلق على الشعر بلفظه قال الله تعالى (* (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) *) وقال النبي صلى الله عليه وسلم احلق رأسك والحلق إنما هو في الشعر إذا ثبت هذا تركب عليه
المطلع الثاني وهو أن إضافة الفعل إلى الرأس ينقسم في العرف والإطلاق إلى قسمين
أحدهما أنه يقتضي استيفاء الاسم
والثاني يقتضي بعضه فإذا قلت حلقت رأسي اقتضى في الإطلاق العرفي الجميع وإذا قلت مسحت الجدار أو رأس اليتيم أو رأسي اقتضى البعض فيتركب عليه
المطلع الثالث وهو أن البعض لا حد له مجزئ منه ما كان قال لنا الشاشي لما قال الله تعالى (* (ولا تحلقوا رؤوسكم) *) وكان معناه شعر رؤوسكم وكان أقل الجمع ثلاثا
قلنا إن حلق ثلاث شعرات أجزأه وإن مسحها أجزأه والمسح أظهر وما يقع عليه الاسم أقله شعرة واحدة
المطلع الرابع نظر أبو حنيفة إلى أن الوضوء إنما شرعه الله سبحانه فيما يبدو من الأعضاء في الغالب والذي يبدو من الرأس تحت العمامة الناصية ولا سيما وهذا يعتضد بالحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح ناصيته وعمامته
61

المطلع الخامس أنه إذا ثبت مسح الناصية فلا يتيقن موضعها وإنما المقصود تعلق العبادة بالرأس فقد ثبت مسح النبي صلى الله عليه وسلم الناصية وهي نحو الربع فيتقدر الربع منه أين كان ومطلع الربع بتقدير الأصابع يأتي إن شاء الله ومطلع الجميع أن الله سبحانه وتعالى علق عبادة المسح بالرأس كما علق عبادة الغسل بالوجه فوجب الإيعاب فيهما بمطلق اللفظ
وقول الشافعي إن مطلق القول في المسح لا يقتضي الإيعاب عرفا فما علق به ليس بصحيح إنما هو مبني على الأغراض وبحسب الأحوال تقول مسحت الجدار فيقتضي بعضه من أجل أن الجدار لا يمكن تعميمه بالمسح حسا ولا غرض في استيعابه قصدا وتقول مسحت رأس اليتيم لأجل الرأفة فيجزئ منه أقله بحصول الغرض به
وتقول مسحت الدابة فلا يجزئ إلا جميعها لأجل مقصد النظافة فيها فتعلق الوظيفة بالرأس يقتضي عمومه بقصد التطهير فيه ولأن مطلق اللفظ يقتضيه ألا ترى أنك تقول مسحت رأسي كله فتؤكده ولو كان يقتضي البعض لما تأكد بالكل فإن التأكيد لرفع الاحتمال المتطرق إلى الظاهر في إطلاق اللفظ
ومطلع من قال إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه إن تحقق عموم الوجه بالغسل ممكن بالحس وتحقق عموم المسح غير ممكن فسومح بترك اليسير منه دفعا للحرج
وهذا لا يصح فإن مرور اليد على الجميع ممكن تحصيله حسا وعادة
ومطلع من قال إن ترك الثلث من غير قصد أجزأه قريب مما قبله إلا أنه رأى الثلث يسيرا فجعله في حد المتروك لما رأى الشريعة سامحت به في الثلث وغيره
ومطلع من قال إن مسح ثلثه أجزأه إلى أن الشرع قد أطلق اسم الكثير على الثلث في قوله - من حديث سعد الثلث والثلث كثير
62

ولحظ مطلع أبي حنيفة في الناصية حسبما جاء في الحديث ودل عليه ظاهر القرآن في تعلق العبادات بالظاهر
ومطلع قول أشهب في أن من مسح مقدمه أجزأه إلى نحو من ذلك تناصف ليس يخفى على اللبيب عند اطلاعه على هذه الأقوال والأنحاء والمطلعات أن القوم لم يخرج اجتهادهم عن سبيل الدلالات في مقصود الشريعة ولا جاوزوا طرفيها إلى الإفراط فإن للشريعة طرفين
أحدهما طرق التخفيف في التكليف
والآخر طرف الاحتياط في العبادات فمن احتاط استوفى الكل ومن خفف أخذ بالبعض
قلنا في إيجاب الكل ترجيح من ثلاثة أوجه
أحدهما الاحتياط
الثاني التنظير بالوجه لا من طريق القياس بل من مطلق اللفظ في ذكر الفعل وهو الغسل أو المسح وذكر المحل وهو الوجه أو الرأس
الثالث أن كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنه مسح رأسه كله
فإن قيل فقد ثبت أنه مسح ناصيته وعمامته وهذا نص على البعض
قلنا بل هو نص على الجميع لأنه لو لم يلزم الجميع لم يجمع بين العمامة والرأس فلما مسح بيده على ما أدرك من رأسه وأمر يده على الحائل بينه وبين باقيه أجراه مجرى الحائل من جبيرة أو خف ونقل الفرض إليه كما نقله في هذين
63

جواب آخر وهو أن هذا الخبر حكاية حال وقضية في عين فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مزكوما فلم يمكنه كشف رأسه فمسح البعض ومر بيده على جميع البعض فانتهى آخر الكف إلى آخر الناصية فأمر اليد على العمامة فظن الراوي أنه قصد مسح العمامة وإنما قصد مسح الناصية بإمرار اليد وهذا مما يعرف مشاهدة ولهذا لم يرو عنه قط شيء من ذلك في أطواره بأسفاره على كثرتها
المسألة الثامنة والعشرون
ظن بعض الشافعية وحشوية النحوية أن الباء للتبعيض ولم يبق ذو لسان رطب إلا وقد أفاض في ذلك حتى صار الكلام فيها إجلالا بالمتكلم ولا يجوز لمن شدا طرفا من العربية أن يعتقد في الباء ذلك وإن كانت ترد في موضع لا يحتاج إليها فيه لربط الفعل بالاسم فليس ذلك إلا لمعنى تقول مررت بزيد فهذا لإلصاق الفعل بالاسم ثم تقول مررت زيدا فيبقى المعنى وفي ذلك خلاف بيانه في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين وقد طال القول في هذا الباب وترامت فيه الخواطر في المختصر حتى أفادني فيه بعض أشياخي في المذاكرة والمطالعة فائدة بديعة
وذلك أن قوله (* (فامسحوا) *) يقتضي ممسوحا وممسوحا به والممسوح الأول هو ما كان والممسوح الثاني هو الآلة التي بين الماسح والممسوح كاليد والمحصل للمقصود من المسح وهو المنديل وهذا ظاهر لا خفاء به فإذا ثبت هذا فلو قال امسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس لا ماء ولا سواه فجاء بالباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء فكأنه قال فامسحوا برؤوسكم الماء من باب المقلوب والعرب تستعمله وقد أنشد سيبويه
(كنواح ريش حمامة نجدية
* ومسحت باللثتين عصف الأثمد) مثله مثل القنافذ ومثله (* (من فضة قدروها تقديرا) *)
64

واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد فقلب ولكن الأمر بين والفصاحة قائمة وإلى هذا النحو أشار أبو حنيفة في شرطه الرابع بالثلاثة الأصابع أو الأربع فإنه قال لا بد أن يكون هنالك ممسوح به لأجل الباء فكأنه تعالى قال فامسحوا بأكفكم رؤوسكم والكف خمس أصابع ومعظمها ثلاث وأربع والمعظم قائم مقام الكل على مذهبه في أصول الشريعة ففطن أن إدخال الباء لمعنى وغفل عن لفظ أن المسح يقتضي اليد لغة وحقيقة فجعل فائدة الباء التعلق باليد
وهذه عثرة لفهمه لا يقالها ووفق الله هذا الإمام الذي أفادني هذه الفائدة فيها إن شاء الله والله ينفعني وإياكم بها برحمته
المسألة التاسعة والعشرون
من أغرب شيء أن الشافعي رأى مسح شعر القفا وليس من الرأس في ورد ولا صدر فإن الرأس جزء من الإنسان واليد جزء والبدن جزء والعين جزء والعنق جزء ومقدم الرقبة العنق ومؤخرها القفا وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه حتى بلغ قفاه
وروى أبو داود عن المقدام بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه حتى بلغ إلى قفاه
المسألة الموفية ثلاثين
قال الله تعالى (* (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) * ثم توضأ النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره الله فنقل أصحابه ما شاهدوا من صفة وضوئه ولم يذكروا لكيفية المغسول صفة ونقلوا كيفية مسح رأسه باهتبال كثير وتحصيل عظيم واختلاف في الروايات متفاوت نشأت منه مسائل لم يكن بد من الإشارة إلى معظمها لأنها مفسرة لما أطلق في كتاب الله سبحانه مبهما
65

المسألة الحادية والثلاثون قال الله تعالى في كتابه الكريم (* (وامسحوا برؤوسكم) *))
وقال الراوي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه فلو غسله المتوضئ بدل المسح فلا نعلم خلافا أن ذلك يجزئه إلا ما أخبرنا فخر الإسلام في الدرس أن أبا العباس بن القاص من أصحابهم قال لا يجزئه وهذا تولج في مذهب الداودية الفاسد من اتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمه الله تعالى في قوله (* (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) * وكما قال (* (أم بظاهر من القول) *) وإلا فقد جاء هذا الغاسل لرأسه بما أمر به وزيادة عليه
فإن قيل هذه زيادة خرجت عن اللفظ المتعبد به
قلنا ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل وتحقيق التكليف في التطهير
المسألة الثانية والثلاثون في تجديد الماء لكل عضو
وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه أدخل يده في الإناء فغسل وجهه ثم أدخل يده فغسل يده ثم أدخل يده فمسح رأسه ثم أدخل يده فغسل رجليه
وعن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح رأسه بماء غير ماء فضل يديه قال الترمذي وهو صحيح وصح أيضا عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه مطلقا وكذلك وردت الأخبار كلها في أعضاء الوضوء وردت مقيدة والمقيد أولى من المطلق لاحتمال المطلق وتنصيص المقيد
وقد قال عبد الملك من أصحابنا يمسح رأسه ببلل لحيته وهذا ينبني عل أصلين
66

أحدهما جواز استعمال الماء المستعمل
والثاني وجوب نقل الماء وهي
المسألة الثالثة والثلاثون
نشأ من أصحابنا من يرى نفسه من أهل الاستنباط وليس منه من قول عبد الملك أنه يمسح رأسه من بلل لحيته نقل الماء إلى العضو وليس فيه من الفقه أكثر من أن المسح مبني على التخفيف فيكفي منه ما يظهر على اليد وعلى العضو الممسوح فأما نقل الماء إلى العضو فلا خلاف فيه بين الأئمة
المسألة الرابعة والثلاثون تكرار مسح الرأس
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ كما وصف أصحابه فأما الأحاديث الصحاح كلها حيثما وردت فاختلفت صفات وضوئه فيها وكثرة الأعداد في الأعضاء وقلتها حاشا الرأس وجاء في بعضها عن عثمان وغيره توضأ ومسح برأسه ثلاثا قال أبو داود وأحاديث عثمان الصحاح على أنه مسح رأسه مسحة واحدة وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف
المسألة الخامسة والثلاثون
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة مسح الرأس أنه أقبل بيديه وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه
وفي البخاري فأدبر بهما وأقبل وهما صحيحان متوافقان وقد بينا ذلك في شرح الصحيح وهي مسألة من أصول الفقه في تسمية الفعل بابتدائه وبغايته
67

المسألة السادسة والثلاثون
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح لرأسه بيديه فلو مسح بيد واحدة أجزأه قال ابن سفيان حتى لو مسح رأسه بإصبع واحدة لأجزأه قاله ابن القاسم في العتبية وذلك لأن هيئة الأفعال في العبادات هل هي ركن فيها أم لا وقد بينا في كتابنا أنها على ثلاثة أقسام منها ما يتعين في العبادة كأصلها والثاني كوضع الإناء بين يدي المتوضئ والثالث كاغتراف الماء باليد وغسل الأعضاء ومسح الرأس
والمقصود من الهيئة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح تفسير الأمر وهو أولى في التعميم وأقرب إلى التحصيل لأن ما فاته في الإقبال أدركه في الإدبار
المسألة السابعة والثلاثون
لما قال علماؤنا أن جميع الرأس أصل في إيجاب عمومه وكانت الجبهة خارجة عنه بالسنة وإن كانت منه بالحقيقة والخلقة نشأت عليه مسألة وهي منزلة الأصلع والأنزع من الأغم وقد بيناه في المسائل وحكمه الأظهر أن يمسح من الرأس مقدار العادة على القول بالتعميم
المسألة الثامنة والثلاثون
الخطاب للمرأة بالعبادة كما هو للرجل في الوضوء حتى في مسح الرأس لكن المرأة تميزت عن الرجل باسترسال الدلالين فاختلف آراء متأخري علمائنا فمنهم من أوجب مسح جميع شعر رأس المرأة لأن الفرض انتقل من الجلدة وبه تعلق ومنهم من قال تمسح منه ما يوازي الفرض من مقدار الرأس كما قلناه في اللحية آنفا وكما يلزم في الخفين مسح ما يقابل محل الفرض من غسل الرجلين
المسألة التاسعة والثلاثون
القول في الأذنين
68

وهما إن كانتا من الرأس فإنهما في الإشكال رأس وقد تفاقم الخطب بين العلماء فيهما وقد بسطنا القول فيهما في كتب المسائل في التفريع وفي كتب الحديث في الآثار
والذي يهون عليك الخطب أن الباري تعالى قال (* (برؤوسكم) *) ولم يذكر الأذنين ولولا أنهما داخلتان في حكم الرأس ما أهملهما وما كان ربك نسيا
وقد روى صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم جماعة لم أجد ذكر الأذنين فيها إلا اليسير من الصحابة منهم عبد الله بن زيد قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
توضأ فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي أخذ لرأسه
ومنهم عبد الله بن عباس روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأذنيه باطنهما بالسبابتين وظاهرهما بإبهاميه وصححه الترمذي
ومنهم الربيع بنت معوذ قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر ومسح صدغيه وأذنيه مرة واحدة صححه الترمذي
ومنهم عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الوضوء لمن سأله بأن توضأ له ثم مسح رأسه وأدخل أصبعيه السبابتين في أذنيه ومسح بإبهاميه ظاهرهما
وقد اختلف الناس في حكم الأذنين على ثلاثة أقوال
الأول أنهما من الرأس حكما قاله ابن المبارك والثوري وغيرهما
الثاني أنهما من الوجه قاله الزهري
الثالث قال الشعبي والحسن بن صالح يغسل ما أقبل منهما مع الوجه ويمسح ما أدبر منهما مع الرأس واختاره الطبري
69

أما من قال أنهما من الرأس فلأن الصحابة لم تذكرهما في الوضوء وهذا ضعيف قد بينا أنها ذكرتها
وأما من قال إنهما من الوجه فنزع بقول النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه جملته والسمع وإن كان في الرأس والبصر وإن كان في الوجه فالكل مضاف إلى الوجه لأنه اسم للجارحة وللقصد فأضافه إلى الاسم العام للمعنيين
وأما من قال بالفرق فلا معنى له فإنه تحكم لا تعضده لغة ولا تشهد له شريعة
والصحيح ألا يشتغل بهما هل هما من الرأس أو من الوجه وأن يعتمد على أن النبي صلى الله عليه وسلم مسحهما فبين مسح الرأس وأنهما يمسحان كما يمسح الرأس وهما مضافان إليه شرعا لأنه قال فإذا مسح رأسه خرجت خطايا رأسه حتى تخرج من أذنيه
المسألة الموفية أربعين البياض الذي بين الأذنين والرأس الخالي من الشعر
اختلف فيه علماؤنا هل يمسح أم لا وليس عندي بمقصود لا في الرأس ولا في الأذنين لكنه يمكن أن يتركه من يستوثق في مسح رأسه ولا يلزمه أن يقصده لأنه ليس عندي منه
المسألة الحادية والأربعون قوله تعالى (* (وأرجلكم) *)
ثبتت القراءة فيها بثلاث روايات الرفع قرأ به نافع رواه عنه الوليد بن مسلم وهي قراءة الأعمش والحسن والنصب روى أبو عبد الرحمن السلمي قال قرأ علي
70

الحسن أو الحسين فقرأ قوله (* (وأرجلكم) *) فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال وأرجلكم بالنصب هذا من مقدم الكلام ومؤخره وقرأ ابن عباس مثله
وقرأ أنس وعلقمة وأبو جعفر بالخفض
وقال موسى بن أنس لأنس يا أبا حمزة إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه فذكر الطهور فقال اغسلوا حتى ذكر الرجلين وغسلهما وغسل العراقيب والعراقب فقال أنس صدق الله وكذب الحجاج قال الله سبحانه (* (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) *) قال فكان أنس إذا مسح قدميه بلهما وقال نزل القرآن بالمسح وجاءت السنة بالغسل
وعن ابن عباس وقتادة افترض الله مسحين وغسلين وبه قال عكرمة والشعبي وقال ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم وما كان عليه المسح أسقط
واختار الطبري التخيير بين الغسل والمسح وجعل القراءتين كالروايتين في الخبر يعمل بهما إذا لم يتناقضا
وجملة القول في ذلك أن الله سبحانه عطف الرجلين على الرأس فقد ينصب على خلاف إعراب الرأس أو يخفض مثله والقرآن نزل بلغة العرب وأصحابه رؤوسهم وعلماؤهم لغة وشرعا وقد اختلفوا في ذلك فدل على أن المسألة محتملة لغة محتملة شرعا لكن تعضد حالة النصب على حالة الخفض بأن النبي صلى الله عليه وسلم غسل وما مسح قط وبأنه رأى قوما تلوح أعقابهم فقال ويل للأعقاب من النار و ويل
71

للعراقيب من النار فتوعد بالنار على ترك إيعاب غسل الرجلين فدل ذلك على الوجوب بلا خلاف وتبين أن من قال من الصحابة إن الرجلين ممسوحتان لم يعلم بوعيد النبي صلى الله عليه وسلم على ترك إيعابهما
وطريق النظر البديع أن القراءتين محتملتان وأن اللغة تقضي بأنهما جائزتان فردهما الصحابة إلى الرأس مسحا فلما قطع بنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ووقف في وجوهنا وعيده قلنا جاءت السنة قاضية بأن النصب يوجب العطف على الوجه واليدين ودخل بينهما مسح الرأس وإن لم تكن وظيفته كوظيفتهما لأنه مفعول قبل الرجلين لا بعدهما فذكر لبيان الترتيب لا ليشركا في صفة التطهير وجاء الخفض ليبين أن الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل وهما الخفان بخلاف سائر الأعضاء فعطف بالنصب مغسولا على مغسول وعطف بالخفض ممسوحا على ممسوح وصح المعنى فيه
فإن قيل أنتم وإن قرأتموها بالنصب فهي عطف على الرؤوس موضعا فإن الرؤوس وإن كانت مجرورة لفظا فهي منصوبة معنى لأنها مفعولة فكيف قرأتها خفضا أو نصبا فوظيفتها المسح مثل الذي عطف عليه
قلنا يعارضه أنا وإن قرأناها خفضا وظهر أنها معطوفة على الرؤوس فقد يعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما كقوله
72

(علفتها تبنا وماء باردا) (ورأيت زوجك في الوغى
* متقلدا سيفا ورمحا) (فعلا فروع الأيهقان وأطفلت
* بالجلهتين ظباؤها ونعامها)
وكقوله (شراب ألبان وتمر وأقط)
تقديره علفتها تبنا وسقيتها ماء ومتقلدا سيفا وحاملا رمحا وأطفلت بالجلهتين ظباؤها وفرخت نعامها وشراب ألبان وآكل تمر وأقط
فإن قيل ها هنا عطف وشرك في الفعل وإن لم يكن به مفعولا اتكالا على فهم السامع للحقيقة
قلنا وهاهنا عطف الرجلين على الرؤوس وشركهما في فعلهما وإن لم يكن به مفعوله تعويلا على بيان المبلغ فقد بلغ وقد بينا أيضا أنها تكون ممسوحة تحت الخفين وذلك ظاهر في البيان وقد أفردناها مستقلة في جزء
المسألة الثانية والأربعون
إذا ثبت وجه التأويل في المسح عبى الخفين فإنها أصل في الشريعة وعلامة مفرقة بين أهل السنة والبدعة وردت به الأخبار
فإن قيل هي أخبار آحاد وخبر الواحد عند المبتدعة باطل
قلنا خبر الواحد أصل عظيم لا ينكره إلا زائغ وقد أجمعت الصحابة على الرجوع إليه وقد جمعناه في جزء
الجواب الثاني أنها مروية تواترا لأن الأمة اتفقت على نقلها خلفا عن سلف وإن أضيفت إلى آحاد كما أضيف اختلاف القراءات إلى القراء في نقل القرآن وهو متواتر وقد استوفينا الكلام فيها في شرح الحديث
73

المسألة الثالثة والأربعون قوله تعالى (* (إلى الكعبين) *))
اختلف فيهما فقال مالك والشافعي والجماعة إنهما العظمان الناتئان في المفصل بين الساق والرجل
وقد قال القاضي عبد الوهاب عن ابن القاسم إنهما العظمان الناتئان في وجه القدم وبه قال محمد بن الحسن
وقال الخليل الكعب هو الذي بين الساق والقدم والعقب هو معقد الشراك وتقتضي لغة العرب أن كل ناتئ كعب يقال كعب ثدي المرأة إذا برز عن صدرها
ولا يجوز أن يراد به الذي يعقد فيه الشراك لوجهين
أحدهما أنه ليس مشهورا في اللغة
والثاني أنه لا يتحصل به غسل الرجلين لأنه ليس بغاية لهما ولا ببعض معلوم منهما والإحالة على المجهول في التكليف لا تجوز إلا بالبيان وإن لم يكن قرآنا ولا من النبي صلى الله عليه وسلم سنة فبطل بل جاءت السنة بضدها قال النبي صلى الله عليه وسلم ويل للعراقيب من النار وهذا يبطل أن يكون معقد الشراك حذاءه لا فوقه يعضده أن الله سبحانه قال (* (وأرجلكم إلى الكعبين) *) ولو قال أراد معقل الشراك لقال إلى الكعاب كما قال (* (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) * لما كان لكل واحدة قلب واحد فدل على أن في كل رجل كعبين اثنين
المسألة الرابعة والأربعون
القول في دخول الرجلين في الكعبين كالقول في دخول المرافق في الوضوء سواء لأن الكعب في الساق كما أن المرفق في العضد وكل واحد منهما هو في غير المذكور منهما لأنك إذا غسلت الساعد إلى المرفق فالمرفق آخر العضد وإذا غسلت القدم إلى الكعبين فالكعبان آخر الساقين فركبه عليه وأفهمه منه
74

المسألة الخامسة والأربعون في تخليل الأصابع في الوضوء
وذلك في اليدين والرجلين قال ابن وهب وهو واجب في اليدين مستحب في الرجلين وبه قال أكثر العلماء
وقيل إن ذلك واجب في الجميع لما روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خللوا بين الأصابع لا تتخللها النار
وقال المستورد بن شداد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه
والحق أنه واجب في اليدين على القول بالدلك غير واجب في الرجلين لأن تخليلها بالماء يقرح باطنها وقد شاهدنا ذلك وما علينا في الدين من حرج في أقل من ذلك فكيف في تخليل تتقرح به الأقدام
المسألة السادسة والأربعون
نزع علماؤنا بهذه الآية إلى أن إزالة النجاسة غير واجبة لأنه قال (* (إذا قمتم إلى الصلاة) *) تقديره كما سبق وأنتم محدثون فاغسلوا وجوهكم وأيديكم فلم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء ولو كان واجبا لكان أول مبدوء به وهي رواية أشهب عن مالك
وقال ابن وهب لا تجزئ الصلاة بها لا ذاكرا ولا ناسيا وبه قال الشافعي
وقال ابن القاسم عنه تجب مع الذكر وتسقط مع النسيان
75

وقال أبو حنيفة تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال قياسا على فم المخرج المعتاد الذي عفي عنه وتوجيه ذلك
وتفريعه في مسائل الخلاف وكتب الفروع
والصحيح رواية ابن وهب ولا حجة في ظاهر القرآن لأن الله سبحانه وتعالى إنما بين في آية الوضوء صفة الوضوء خاصة وللصلاة شروط من استقبال الكعبة وستر العورة وإزالة النجاسة وبيان كل شرط منها في موضعه وسنتكلم على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى
المسألة السابعة والأربعون
ذكر الله تعالى أعضاء الوضوء وترتيبها وأمر بغسلها معقبة فهل يلزم كل مكلف أن تكون مفعولة مجموعة في الفعل كجمعها في الذكر أو يجزئ التفريق فيها
فقال في المدونة وكتاب محمد إن التوالي ساقط وبه قال الشافعي
وقال مالك وابن القاسم إن فرقه متعمدا لم يجزه ويجزيه ناسيا وقال ابن وهب لا يجزيه ناسيا ولا متعمدا
وقال مالك في رواية ابن حبيب يجزيه في المغسول ولا يجزيه في الممسوح
وقال ابن عبد الحكم يجزيه ناسيا ومتعمدا
فهذه خمسة أقوال الأصل فيها أن الله سبحانه أمر أمرا مطلقا فوال أو فرق وليس لهذه المسألة متعلق بالفور إنما يتعلق بالفور الأمر بأصل الوضوء خاصة والأصل الثاني أنها عبادة ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصلاة وبهذا نقول إنه يلزم الموالاة مع الذكر والنسيان كالصلاة إلا أن يكون يسيرا فهو معفو عنه
وأما متعلق الفرق بين الذكر والنسيان فإن التوالي صفة من صفات الطهارة فافترق فيها الذكر والنسيان كالترتيب واعتبار صفة من صفات العبادة بصفة أولى من اعتبار عبادة بعبادة
76

المسألة الثامنة والأربعون
في تحقيق معنى لم يتفطن له أحد حاشا مالك بن أنس لعظيم إمامته وسعة درايته وثاقب فطنته وذلك أن الله تعالى قال (* (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا ومرتين في بعض أعضائه وثلاثا في بعضها في وضوء واحد فظن بعض الناس بل كلهم أن الواحدة فرض والثانية فضل والثالثة مثلها والرابعة تعد وأعلنوا بذلك في المجالس ودونوه في القراطيس وليس كما زعموا وإن كثروا فالحق لا يكال بالقفزان وليس سواء في دركه الرجال والولدان
اعلموا وفقكم الله أن قول الراوي إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين وثلاثا أنه أوعب بواحدة وجاء بالثانية والثالثة زائدة فإن هذا غيب لا يدركه بشر وإنما رأى الراوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غرف لكل عضو مرة فقال توضأ مرة وهذا صحيح صورة ومعنى ضرورة أنا نعلم قطعا أنه لو لم يوعب العضو بمرة لأعاد وأما إذا زاد على غرفة واحدة في العضو أو غرفتين فإننا لا نتحقق أنه أوعب الفرض في الغرفة الواحدة وجاء ما بعدها فضلا أو لم يوعب في الواحدة ولا في الاثنتين حتى زاد عليها بحسب الماء وحال الأعضاء في النظافة وتأتي حصول التلطف في إدارة الماء القليل والكثير عليها فيشبه والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يوسع على أمته بأن يكرر لهم الفعل فإن أكثرهم لا يستطيع أن يوعب بغرفة واحدة فجرى مع اللطف بهم والأخذ لهم بأدنى أحوالهم إلى التخلص ولأجل هذا لم يوقت مالك في الوضوء مرة ولا مرتين ولا ثلاثا إلا ما أسبغ
قال وقد اختلفت الآثار في التوقيت يريد اختلافا يبين أن المراد معنى الإسباغ لا صورة الأعداد وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم فغسل وجهه بثلاث غرفات ويده بغرفتين لأن الوجه ذو غضون ودحرجة واحديداب فلا يسترسل الماء عليه في
77

الأغلب من مرة بخلاف الذراع فإنه مسطح فيسهل تعميمه بالماء وإسالته عليها أكثر مما يكون ذلك في الوجه
فإن قيل فقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به وتوضأ مرتين مرتين وقال من توضأ مرتين مرتين آتاه الله أجره مرتين ثم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء أبي إبراهيم وهذا يدل على أنها أعداد متفاوتة زائدة على الإسباغ يتعلق الأجر بها مضاعفا على حسب مراتبها
قلنا هذه الأحاديث لم تصح وقد ألقيت إليكم وصيتي في كل وقت ومجلس ألا تشتغلوا من الأحاديث بما لا يصح سنده فكيف ينبني مثل هذا الأصل على أخبار ليس لها أصل على أن له تأويلا صحيحا وهو أنه توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فإنه أقل ما يلزم وهو الإيعاب على ظاهر هذه الأحاديث بحالها ثم توضأ بغرفتين وقال له أجره مرتين في كل تكلف غرفة ثواب وتوضأ ثلاثا وقال هذا وضوئي معناه الذي فعلته رفقا بأمتي وسنة لهم ولذلك يكره أن يزاد على ثلاث لأن الغرفة الأولى تسن العضو للماء وتذهب عنه شعث التصرف والثانية ترحض وضر العضو وتدحض وهجه والثالثة تنظفه فإن قصرت دربة أحد عن هذا كان بدويا جافيا فيعلم الرفق حتى يتعلم ويشرع له سبيل الطهارة حتى ينهض إليها ويتقدم ولهذا قال من قال فمن زاد على الثلاث فقد أساء وظلم
78

المسألة التاسعة والأربعون
لما ذكر الله سبحانه غسل الوجه مطلقا وتمضمض النبي صلى الله عليه وسلم فبين وجه النظافة فتعين في ذلك ما قدمنا بيانه ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم السواك فعلا وندب إليه أمرا حتى قال في الحديث الصحيح لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك وما غفل عنه قط بل كان يتعاهده ليلا ونهارا فهو مندوب إليه ومن سنن الوضوء لا من فضائله وقد بيناه في شرح الحديث الصحيح
المسألة الموفية خمسين قوله تعالى (* (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) *))
في التيمم فأدخل الباء فيه كما أدخلها في قوله تعالى (* (برؤوسكم) *) وهو مستغنى عنه ليبين وجوب الممسوح به وأكده بعد ذلك بقوله (* (منه) *) وقد كان مستغنى عنه ولكنه تأكيد للبيان
79

وزعم الشافعية أن قوله (* (منه) *) إنما جاء ليبين وجوب نقل التراب إلى الوجه واليدين في التيمم وذلك يقتضي أن يكون التيمم على التراب لا على الحجارة
وقال علماؤنا إنما أفادت (* (منه) *) وجوب ضرب الأرض باليدين فلولا ذلك وتركنا ظاهر القرآن لجازت الإشارة إلى الصعيد وضرب الوجه واليدين بعد الإشارة باليدين إلى الأرض ولكنه أكد بقوله (* (منه) *) ليكون الابتداء بوضع اليدين على الأرض تعبدا ثم ضرب الوجه واليدين بعد ذلك بهما وقد بينا ذلك في سورة النساء وقررنا أن الصعيد وجه الأرض كيفما كان
المسألة الحادية والخمسون فإن قيل فبينوا لنا بقية الآية
قلنا أما قوله (* (وإن كنتم جنبا فاطهروا) *) وحكم المرض والسفر والمجيء من الغائط ولمس النساء وعدم الماء والتيمم بالصعيد الطيب فقد تقدم ذكره في سورة النساء فلا وجه لإعادته والقول فيها واحد وإن كانت اثنتين فلينظر فيهما فينتظم المعنى بهما
المسألة الثانية والخمسون في تقدير الآية ونظامها
التقدير الأول روي عن زيد بن أسلم أنه قال في الآية تقديم وتأخير تقديره إذا قمتم إلى الصلاة من نوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا
الثاني تقديرها إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون واستمر عليها تلاوة وتقديرا إلى آخرها
الثالث تقديرها إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا وجوهكم وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط وتكون أو بمعنى الواو
80

الآية السابعة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) *)
تقدم أكثر معناها في سورة النساء عند ذكرنا لنظيرتها ونحن نعيد ذكر ما تجدد ها هنا منها ونعيد ما تحسن إعادته فيها في ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
نزلت في اليهود ذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستعين بهم في دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية فوعدوه ثم هموا بغدره فأعلمه الله سبحانه بذلك فخرج عنهم وأمره الله سبحانه ألا يحمله ما كانوا عليه من الحالة المبغضة لهم على أن يخرج عن الحق فيها قضاء أو شهادة
المسألة الثانية قوله تعالى (* (كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) *))
أو قوامين بالقسط شهداء لله سواء في المعنى لأن من كان قيامه لله فشهادته وعمله يكون بالعدل ومن كان قيامه بالعدل فشهادته وعمله لله سبحانه لارتباط أحدهما بالآخر ارتباط الأصل بالفرع والأصل هو القيام لله والعدل مرتبط به
المسألة الثالثة قوله (* (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا) *))
يريد لا يحملنكم بغض قوم على العدول عن الحق وفي هذا دليل على نفوذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى ونفوذ شهادته عليه لأنه أمر بالعدل وإن أبغضه ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له لما كان لأمره بالعدل فيه وجه
81

فإن قيل البغض ورد مطلقا فلم خصصتموه بما يكون في الله تعالى
قلنا لأن البغض في غيره لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء ولا يجوز أن يأمر الله أحدا بقول الحق على عدوه مع عداوة لا تحل فيكون تقريرا للوصف وفيه أمر بالمعصية وذلك محال على الله سبحانه
الآية الثامنة
قوله سبحانه (* (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
هذا خطاب أخبر الله به عن فعل موسى مع إسرائيل وبعثه النقباء منهم إلى الأرض المقدسة ليختبروا حال من بها ويعلموه بما اطلعوه عليه فيها حتى ينظروا في الغزو إليها وشرع من قبلنا شرع لنا على ما بيناه في أصول الفقه وفي كتابنا هذا عندما عرض منها ما يكون مثلها ولما كان أصل مالك ذلك وهو الصحيح ركبنا عليه المسائل لكونه
من واضحات الدلائل
المسألة الثانية
في هذا دليل على أنه يقبل خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الدينية والدنيوية فيركب عليه الأحكام ويربط به الحلال والحرام
وقد جاء أيضا مثله في الإسلام فقد روي أن وفد هوازن لما جاؤوا تائبين إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وسألهم أن يتركوا نصيبهم لهم من السبي
82

فقالوا قد طيبنا ذلك يا رسول الله قال ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم واحدها عريف وهي
المسألة الثالثة
وهو فعيل بمعنى فاعل أي يعرف بما عند من كلف أن يعرف ما عنده ومن حديث وفد هوازن أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤوا تائبين وإني رأيت أن أرد عليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل
فقال الناس قد طيبنا ذلك يا رسول الله لهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا
لفظ البخاري وهو النقيب أو ما فوقه وينطلق بالمعنيين وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيب الأنصار وينطلق في اللغة على الأمين والكفيل واشتقاقه يقال نقب الرجل على القوم ينقب إذا صار نقيبا وما كان الرجل نقيبا ولقد نقب وكذلك عرف عليهم إذا صار عريفا ولقد عرف وإنما قيل له نقيب لأنه يعرف دخيلة أمر القوم ومناقبهم والمناقب تطلق على الخلقة الجميلة وعلى الأخلاق الحسنة
المسألة الرابعة
وعلى هذا انبنى قبول المرأة لزوجها في الذي يبلغه إياها من مسائل الشريعة
83

وأحكام الدين ودخول الدار بإذن الآذن وأحكام كثيرة لا نطول بها ففي هذا تنبيه عليها وعلى أنواعها فألحق كل شيء بجنسه منها ومن ها هنا اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم النقباء ليلة العقبة
قال ابن وهب سمعت مالكا يقول كانت الأنصار سبعين رجلا يعني مالك يوم العقبة وكان منهم اثنا عشر نقيبا فكان أسيد بن الحضير أحد النقباء نقيبا
قال مالك النقباء تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس منهم أسيد ابن الحضير وعمرو بن الجموح
وقال أشهب عن مالك كان أسعد بن زرارة أحد النقباء
وقال ابن القاسم عنه عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريين ثم المسلمين من النقباء
قال علماؤنا التسعة من الخزرج هم أبو أمامة أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع بن عمرو وعبد الله بن رواحة بن امرئ القيس والبراء بن معرور بن صخر وعبد الله بن عمرو بن حرام وعبادة بن الصامت وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وعمرو بن الجموح
ومن الأوس أسيد بن الحضير وسعد بن حيثمة ورفاعة بن عبد المنذر ومن الناس من يعد فيهم أبا الهيثم بن التيهان فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم نقباء على من كان معهم وعلى من يأتي بعدهم
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) *)
84

قال أشهب عن مالك هو أن يكون للرجل مسكن يأوي إليه وامرأة يتزوجها وخادم يخدمه
وكذلك روي عن ابن عباس وعبد الله بن عمر ومجاهد والحكم وقتادة زاد قتادة كان بنو إسرائيل أول من اتخذ الخدمة وفائدة ذلك أن الرجل إذا وجبت عليه كفارة وملك دارا وخادما باعهما في الكفارة ولم يجزه الصيام لأنه قادر على الرقبة ببيع خادمه أو داره وهو ملك والملوك لا يكفرون بالصيام ولا يوصفون بالعجز عن الاعتاق
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون) *)
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (فبعث الله غرابا) *)
اختلف في المجني عليه على قولين
أحدهما أنه من بني إسرائيل
الثاني أنه ولد آدم لصلبه وهما قابيل وهابيل وهو الأصح وقاله ابن عباس والأكثر من الناس جرى من أمرهما ما قص الله سبحانه في كتابه
والدليل على أنه الأصح ما روي في الحديث الثابت الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من قتيل يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل
85

المسألة الثانية قوله سبحانه (* (فبعث الله غرابا) *))
فيه قولان
أحدهما أن قابيل لم يدر كيف يفعل بهابيل حتى بعث الله الغرابين فتنازعا فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر
الثاني أن الغراب إنما بعث ليري ابن آدم كيفية المواراة لهابيل خاصة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (سوأة أخيه) *))
قيل هي العورة وقيل لما أنتن صار كله عورة وإنما سميت سوءة لأنها تسوء الناظر إليها عادة
المسألة الرابعة
دفن الميت لوجهين أحدهما لستره الثاني لئلا يؤذي الأحياء بجيفته
وقيل إنهما كانا ملكين في صورة الغرابين
وقال ابن مسعود كانا غرابين أخوين فبحث الأرض على سوءة أخيه حتى عرف كيف يدفنه
وروى ابن القاسم عن مالك أن ابن آدم الذي قتل أخاه حمله على عنقه سنة يدور به فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ودفن فتعلم وعمل مثل ما رأى وقال أخبر الله سبحانه عنه وكان ذلك كله في علم الله تعالى وخبره ألا ترى إلى قوله عز وجل (* (ثم أماته فأقبره) *) وقال تعالى (* (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا) *) ويأتي تحقيقه إن شاء الله فصار ذلك سنة باقية في الخلق وفرضا على جميع الناس على الكفاية من فعله منهم سقط عن الباقين فرضه وأخص الخلق به الأقربون ثم الذين يلونهم من الجيرة ثم سائر الناس المسلمين وهو حق في الكافر أيضا وهي
86

المسألة الخامسة
روى ناجية بن كعب عن علي قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال مات فمن يواريه قال اذهب فوار أباك ولا تحدثن حدثا حتى تأتيني فواريته ثم جئت فأمرني أن أغتسل ودعا لي
المسألة السادسة قوله تعالى (* (أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) *))
فيه دليل على قياس الشبه وقد حققناه في الأصول
المسألة السابعة قوله تعالى (* (فأصبح من النادمين) *
وهي تابعة للأحكام ها هنا لأنها من الأصول لكنا نشير إليها لتعلق القلوب بها فنقول
من الغريب أن الله سبحانه قد أخبر عنه أنه ندم وهو في النار وقال صلى الله عليه وسلم الندم توبة
قلنا عن هذه ثلاثة أجوبة
الأول أن الحديث ليس يصح لكن المعنى صحيح وكل من ندم فقد سلم لكن الندم له شروط فكل من جاء بشروطه قبل منه ومن أخل بها أو بشيء منها لم يقبل
87

الثاني أن معناه ندم ولم يستمر ندمه وإنما يقبل الندم إذا استمر
الثالث أن الندم على الماضي إنما ينفع بشرط العزم على ألا يفعل في المستقبل
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل) *))
تعلق بهذا من قال إن ابني آدم كانا من بني إسرائيل ولم يكن قبلهم وهذا لا يصح لأن القتل قد جرى قبل ذلك ولم يخل زمان آدم ولا زمن من بعده من شرع وأهم قواعد الشرائع حماية الدماء عن الاعتداء وحياطته بالقصاص كفا وردعا للظالمين والجائرين وهذا من القواعد التي لا تخلو عنها الشرائع والأصول التي لا تختلف فيها الملل وإنما خص الله بني إسرائيل بالذكر للكتاب فيه عليهم لأنه ما كان ينزل قبل ذلك من الملل والشرائع كان قولا مطلقا غير مكتوب بعث الله إبراهيم فكتب له الصحف وشرع له دين الإسلام وقسم ولديه بين الحجاز والشام فوضع الله إسماعيل بالحجاز مقدمة لمحمد صلى الله عليه وسلم وأخلاها عن الجبابرة تمهيدا له وأقر إسحاق بالشام وجاء منه يعقوب وكثرت الإسرائيلية فامتلأت الأرض بالباطل في كل فج وبغوا فبعث الله سبحانه موسى وكلمه وأيده بالآيات الباهرة وخط له التوراة بيده وأمره بالقتال ووعده النصر ووفى له بما وعده وتفرقت بنو إسرائيل بعقائدها وكتب الله جل جلاله في التوراة القصاص محددا مؤكدا مشروعا في سائر أنواع الحدود إلى سائر الشرائع من العبادات وأحكام المعاملات وقد أخبر الله في كتابنا بكثير من ذلك
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) *))
هذه مسألة مشكلة لأن من قتل نفسا واحدة ليس كمن قتل الناس في الحقيقة وإنما سبيل هذا الكلام المجاز وله وجه وفائدة فأما وجه التشبيه فقد قال علماؤنا في ذلك أربعة
أقوال
الأول أن معناه من قتل نبيا لأن النبي من الخلق يعادل الخلق وكذلك الإمام العادل بعده قاله ابن عباس في النبي
الثاني أنه بمنزلة من قتل الناس جميعا عند المقتول إما لأنه فقد نفسه فلا يعنيه
88

بقاء الخلق بعده وإما لأنه مأثوم ومخلد كمن قتل الناس جميعا على أحد القولين واختاره مجاهد وإليه أشار الطبري في الجملة وعكسه في الإحياء مثله
الثالث قد قال بعض المتأخرين إن معناه يقتل بمن قتل كما لو قتل الخلق أجمعين ومن أحياها بالعفو فكأنما أحيا الناس أجمعين
الرابع أن على جميع الخلق ذم القاتل كما عليهم إذا عفا مدحه وكل واحد منهما مجاز
وبعضها أقرب من بعض
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
هذا مبني على الأصل المتقدم من أن شرع من قبلنا شرع لنا أعلمنا الله به وأمرنا باتباعه
المسألة الثانية قوله تعالى (* (أو فساد في الأرض) *))
اختلف فيه فقيل هو الكفر وقيل هو إخافة السبيل وقيل غير ذلك مما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وأصل فسد في لسان العرب تعذر المقصود وزوال المنفعة فإن كان فيه ضرر كان أبلغ والمعنى ثابت بدونه قال الله سبحانه (* (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * أي لعدمتا وذهب المقصود وقال الله سبحانه (* (والله لا يحب الفساد) *) وهو الشرك أو الإذاية للخلق والإذاية أعظم من سد السبيل ومنع الطريق
ويشبه أن يكون الفساد المطلق ما يزيف مقصود المفسد أو يضره أو ما يتعلق بغيره
89

والفساد في الأرض هو الإذاية للغير والإذاية للغير على قسمين خاص وعام ولكل نوع منها جزاؤه الواقع وحده الرادع حسبما عينه الشرع وإن كان على العموم فجزاؤه ما في الآية بعد هذه من القتل والصلب
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) *))
ظاهره خلاف مشاهدته فإنه لم يقتل إلا واحدا ولكنه تحمل أوجها من المجاز
منها أن عليه إثم من قتل جميع الناس وله أجر من أحيا جميع الناس إذا أصروا على الهلكة
ومنها أن من قتل واحدا فهو متعرض لأن يقتل جميع الناس ومن أنقذ واحدا من غرق أو حرق أو عدو فهو معرض لأن يفعل مع جميع الناس ذلك فالخير عادة والشر لجاجة
وروي في الصحيح أن رجلا قتل تسعة وتسعين ثم جاء عالما فسأله هل لي من توبة فقال له لا فكمل المائة به ثم جاء غيره فسأله فقال لك توبة الحديث إلى أن قبضه الله عز وجل على التوبة والرحمة
ومنها أن من قتل واحدا فقد سن لغيره أن يقتدي به فكل من يقتل يأخذ بحظه من إثم وكذلك من أحيا مثله في الأجر ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من نفس تقتل إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) *
90

)
فيها اثنتا عشرة مسألة
المسألة الأولى
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ظاهرها محال فإن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب ولا يشاق ولا يحاد لوجهين
أحدهما ما هو عليه من صفات الجلال وعموم القدرة والإرادة على الكمال وما وجب له من التنزه عن الأضداد والأنداد
الثاني أن ذلك يقتضي أن يكون كل واحد من المتحاربين في جهة وفريق عن الآخر والجهة على الله تعالى محال وقد قال جماعة من المفسرين لما وجب من حمل الآية على المجاز معناه يحاربون أولياء الله وعبر بنفسه العزيزة سبحانه عن أوليائه إكبارا لإذايتهم كما عبر بنفسه عن الفقراء في قوله تعالى (* (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) *) لطفا بهم ورحمة لهم وكشفا للغطاء عنه بقوله في الحديث الصحيح عبدي مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني وعطشت فلم تسقني فيقول وكيف ذلك
وأنت رب العالمين فيقول مرض عبدي فلان ولو عدته لوجدتني عنده وذلك كله على الباري سبحانه محال ولكنه كنى بذلك عنه تشريفا له كذلك في مسألتنا مثله
وقد قال المفسرون إن الحرابة هي الكفر وهي معنى صحيح لأن الكفر يبعث على الحرب وهذا مبين في مسائل الخلاف
المسألة الثانية في سبب نزولها
وفيها خمسة أقوال
91

الأول أنها نزلت في أهل الكتاب نقضوا العهد وأخافوا السبيل وأفسدوا في الأرض فخير الله نبيه فيهم
الثاني نزلت في المشركين قاله الحسن
الثالث نزلت في عكل أو عرينه قدم منهم نفر على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وتكلموا بالإسلام فقالوا يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسملوا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالتهم
وقال قتادة فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة
هذا في الصحيح من قصتهم وتمامها على الاستيفاء في صريح الصحيح زاد الطبري وفي ذلك نزلت هذه الآية ورواه جماعة
الرابع أن هذه الآية نزلت معاتبة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن العرنيين قاله الليث
الخامس قال قتادة هي ناسخة لما فعل في العرنيين
المسألة الثالثة في تحقيق ذلك
لو ثبت أن هذه الآية نزلت في شأن عكل أو عرينة لكان غرضا ثابتا ونصا صريحا
واختار الطبري أنها نزلت في يهود ودخل تحتها كل ذمي وملي وهذا ما لم يصح فإنه لم يبلغنا أن أحدا من اليهود حارب ولا أنه جوزي بهذا الجزاء
92

ومن قال أنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب لأن عكلا وعرينه ارتدوا وقتلوا وأفسدوا ولكن يبعد لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما يسقط قبلها وقد قيل للكفار (* (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *) وقال في المحاربين (* (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) *) وكذلك المرتد يقتل بالردة دون المحاربة وفي الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة والمرتد لا ينفى وفيها قطع اليد والرجل والمرتد لا تقطع له يد ولا رجل فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون
فإن قيل وكيف يصح أن يقال إنها في شأن العرنيين أقوى ولا يمكن أن يحكم فيهم بحكم العرنيين من سمل الأعين وقطع الأيدي
قلنا ذلك ممكن لأن الحربي إذا قطع الأيدي وسمل الأعين فعل به مثل ذلك إذا تعين فاعل ذلك
فإن قيل لم يكن هؤلاء حربيين وإنما كانوا مرتدين والمرتد يلزم استتابته وعند إصراره على الكفر يقتل
قلنا فيه روايتان إحداهما أنه يستتاب والأخرى لا يستتاب
وقد اختلف العلماء على القولين فقيل لا يستتاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل هؤلاء ولم يستتبهم
وقيل يستتاب المرتد وهو مشهور المذهب وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم استتابة هؤلاء لما أحدثوا من القتل والمثلة والحرب وإنما يستتاب المرتد الذي يرتاب فيستريب به ويرشد ويبين له المشكل وتجلى له الشبهة
فإن قيل فكيف يقال إن هذه الآية تناولت المسلمين وقد قال إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله وتلك صفة الكفار
93

قلنا الحرابة تكون بالاعتقاد الفاسد وقد تكون بالمعصية فيجازى بمثلها وقد قال تعالى (* (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) *
فإن قيل ذلك فيمن يستحل الربا
قلنا نعم وفيمن فعله فقد اتفقت الأمة على أن من يفعل المعصية يحارب كما لو اتفق أهل بلد على العمل بالربا وعلى ترك الجمعة والجماعة
المسألة الرابعة في تحقيق المحاربة
وهي إشهار السلاح قصد السلب مأخوذ من الحرب وهو استلاب ما على المسلم بإظهار السلاح عليه والمسلمون أولياء الله بقوله تعالى (* (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا) *) وقد شرح ذلك مالك شرحا بالغا فيما رواه ابن وهب عنه قال ابن وهب قال مالك المحارب الذي يقطع السبيل وينفر بالناس في كل مكان ويظهر الفساد في الأرض وإن لم يقتل أحدا إذا ظهر عليه يقتل وإن لم يقتل فللإمام أن يرى فيه رأيه بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي قال مالك والمستتر في ذلك والمعلن بحرابته سواء وإن استخفى بذلك وظهر في الناس إذا أراد الأموال وأخاف فقطع السبيل أو قتل فذلك إلى الإمام يجتهد أي هذه الخصال شاء وفي رواية عن ابن وهب أن ذلك إن كان قريبا وأخذ بحدثانه فليأخذ الإمام فيه بأشد العقوبة وفي ذلك أربعة أقوال
الأول ما تقدم ذكره لمالك
الثاني أنها الزنا والسرقة والقتل قاله مجاهد
الثالث أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية في المصر وغيره قاله الشافعي ومالك في رواية والأوزاعي
الرابع أنه المجاهر في الطريق لا في المصر قاله أبو حنيفة وعطاء
94

المسألة الخامسة في التنقيح
أما قول مجاهد فساقط إلا أن يريد به أن يفعله مجاهرة مغالبة فإن ذلك أفحش في الحرابة
قال القاضي رضي الله عنه ولقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي قوم خرجوا محاربين إلى رفقة فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها ومن جملة المسلمين معه فيها فاحتملوها ثم جد فيهم الطلب فأخذوا وجئ بهم فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين فقالوا ليسوا محاربين لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج
فقلت لهم إنا لله وإنا إليه راجعون ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال وأن الناس كلهم ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب من بين أيديهم ولا يحرب المرء من زوجته وبنته ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج وحسبكم من بلاء صحبة الجهال وخصوصا في الفتيا والقضاء
وأما قول من قال إنه سواء في المصر والبيداء فإنه أخذ بمطلق القرآن وأما من فرق فإنه رأى أن الحرابة في البيداء أفحش منها في المصر لعدم الغوث في البيداء وإمكانه في المصر
والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر وإن كان بعضها أفحش من بعض ولكن اسم الحرابة يتناولها ومعنى الحرابة موجود فيها ولو خرج بعضا من في المصر لقتل بالسيف ويؤخذ فيه بأشد ذلك لا بأيسره فإنه سلب غيلة وفعل الغيلة أقبح من فعل الظاهرة ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة فكان قصاصا ولم يدخل في قتل الغيلة وكان حدا فتحرر أن قطع السبيل موجب للقتل في أصح أقوالنا خلافا للشافعي وغيره
95

فإن قيل هذا لا يوجب إجراء الباغي بالفساد في الأرض خاصة مجرى الذي يضم إليه القتل وأخذ المال لعظيم الزيادة من أحدهما على الآخر
والذي يدل على عدم التسوية بينهما أن الذي يضم إلى السعي بالفساد في الأرض القتل وأخذ المال يجب القتل عليه ولا يجوز اسقاطه عنه والذي ينفرد بالسعي في إخافة السبيل خاصة يجوز ترك قتله يؤكده أن المحارب إذا قتل قوبل بالقتل وإذا أخذ المال قطعت يده لأخذه المال ورجله لإخافته السبيل وهذه عمدة الشافعية علينا وخصوصا أهل خراسان منهم وهي باطلة لا يقولها مبتدئ
أما قولهم كيف يسوى بين من أخاف السبيل وقتل وبين من أخاف السبيل ولم يقتل وقد وجدت منه الزيادة العظمى وهي القتل
قلنا وما الذي يمنع من استواء الجريمتين في العقوبة وإن كانت إحداهما أفحش من الأخرى ولم أحلتم ذلك أعقلا فعلتم ذلك أم شرعا
أما العقل فلا مجال له في هذا وإن عولتم على الشرع فأين الشرع بل قد شاهدنا ذلك في الشرع فإن عقوبة القاتل كعقوبة الكافر وإحداهما أفحش
وأما قوله لو استوى حكمهما لم يجز إسقاط القتل عمن أخاف السبيل ولم يقتل كما لم يجز إسقاطه عمن أخاف وقتل قلنا هذه غفلة منكم فإن الذي يخيف ويقتل أجمعت الأمة على تعين القتل عليه فلم يجز مخالفته
أما إذا أخاف ولم يقتل فهي مسألة مختلف فيها ومحل اجتهاد فمن أداه اجتهاده إلى القتل حكم به ومن أداه اجتهاده إلى إسقاطه أسقطه ولهذه النكتة قال مالك وليستشر ليعلم الحقيقة من الإجماع والخلاف وطرق الاجتهاد لئلا يقدم على جهالة كما أقدمتم
وأما قولهم إن القتل يقابل القتل وقطع اليد يقابل السرقة وقطع الرجل يقابل
96

المال فهو تحكم منهم ومزج للقصاص والسرقة بالحرابة وهو حكم منفرد بنفسه خارج عن جميع حدود الشريعة لفحشه وقبح أمره
المسألة السادسة قوله تعالى (* (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) *))
فيها قولان
الأول أنها على التخيير قاله سعد بن المسيب ومجاهد وعطاء وإبراهيم
الثاني أنها على التفصيل
واختلفوا في كيفية التفصيل على سبعة أقوال
الأول أن المعنى أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل قاله ابن عباس والحسن وقتادة والشافعي وجماعة
الثاني المعنى إن حارب فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب فإن قتل ولم يأخذ مالا قتل وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإذا لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي وهذا يقارب الأول إلا في الجمع بين قطع الأيدي والأرجل والقتل والصلب
الثالث أنه إن قتل وأخذ المال وقطع الطريق يخير فيه الإمام إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ورجله وإن شاء قتله ولم يقطع رجله ويده ولم يصلبه فإن أخذ بالأول فقتل قطع من خلاف وإن لم يأخذ بالأول غرب ونفي من الأرض
الرابع قال الحسن مثله إلا في الآخر فإنه قال يؤدب ويسجن حتى يموت
الخامس قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن إن اقتصروا على القتل قتلوا وإن اقتصروا على أخذ المال قطعوا من خلاف وإن أخذوا المال وقتلوا فإن أبا حنيفة
97

قال يخير فيهم بأربع جهات قتل صلب قطع وقتل قطع وصلب وهذا نحو ما تقدم وهذا سادس
السابع قال ابن المسيب ومالك في إحدى روايتيه بتخيير الإمام بمجرد الخروج أما من قال لأن (* (أو) *) على التخيير فهو أصلها وموردها في كتاب الله تعالى وأما من قال إنها للتفصيل فهو اختيار الطبري وقال هذا كما لو قال إن جزاء المؤمنين إذا دخلوا الجنة أن ترفع منازلهم أو يكونوا مع الأنبياء في منازلهم وليس المراد حلول المؤمنين معهم في مرتبة واحدة وهذا الذي قاله الطبري لا يكفي إلا بدليل ومعولهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل زنى بعد إحصان أو كفر بعد إيمان أو قتل نفسا بغير نفس فمن لم يقتل كيف يقتل
قالوا وأما قولكم إنها على التخيير فإن التخيير يبدأ فيه بالأخف ثم ينتقل فيه إلى الأثقل وها هنا بدأ بالأثقل ثم انتقل إلى الأخف فدل على أنه قرر ترتيب الجزاء على الأفعال فترتب عليه بالمعنى فمن قتل قتل فإن زاد وأخذ المال صلب فإن الفعل جاء أفحش فإن أخذ المال وحده قطع من خلاف وإن أخاف نفي
الجواب الآية نص في التخيير وصرفها إلى التعقيب والتفصيل تحكم على الآية وتخصيص لها وما تعلقوا منه بالحديث لا يصح لأنهم قالوا يقتل الردء ولم يقتل وقد جاء القتل بأكثر من عشرة أشياء منها متفق عليها ومنها مختلف فيها
98

فلا تعلق بهذا الحديث لأحد وتحرير الجواب القطع لتشغيبهم أن الله تعالى رتب التخيير على المحاربة والفساد وقد بينا أن الفساد وحده موجب للقتل ومع المحاربة أشد
المسألة السابعة قوله تعالى (* (أو ينفوا من الأرض) *))
فيه أربعة أقوال
الأول يسجن قاله أبو حنيفة وأهل الكوفة وهو مشهور مذهب مالك في غير بلد الجناية
الثاني ينفى إلى بلد الشرك قاله أنس والشافعي والزهري وقتادة وغيرهم
الثالث يخرجون من مدينة إلى مدينة أبدا قاله ابن جرير وعمر بن عبد العزيز
الرابع يطلبون بالحدود أبدا فيهربون منها قاله ابن عباس والزهري وقتادة ومالك
والحق أن يسجن فيكون السجن له نفيا من الأرض وأما نفيه إلى بلد الشرك فعون له على الفتك وأما نفيه من بلد إلى بلد فشغل لا يدان به لأحد وربما فر فقطع الطريق ثانية
وأما قول من قال يطلب أبدا وهو يهرب من الحد فليس بشيء فإن هذا ليس بجزاء وإنما هو محاولة طلب الجزاء
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (أو تقطع أيديهم) *))
قال الشافعي إذا أخذ في الحرابة نصابا
قلنا أنصف من نفسك أبا عبد الله ووف شيخك حقه لله إن ربنا تبارك وتعالى قال (* (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *) فاقتضى هذا قطعه في حقه وقال في المحاربة (* (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) *) فاقتضى
99

بذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حقه فبين النبي صلى الله عليه وسلم في السارق أن قطعه في نصاب وهو ربع دينار وبقيت المحاربة على عمومها فإن أردت أن ترد المحاربة إلى السرقة كنت ملحقا الأعلى بالأدنى وخافضا الأرفع إلى الأسفل وذلك عكس القياس وكيف يصح أن يقاس المحارب
وهو يطلب النفس إن وقى المال بها على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صيح عليه وحارب عليه فهو محارب يحكم عليه بحكم المحارب
قال القاضي وكنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق وقد دخل الدار بسكين يسحبه على قلب صاحب الدار وهو نائم وأصحابه يأخذون مال الرجل حكمت فيهم بحكم المحاربين فافهموا هذا من أصل الدين وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين
والمسكت للشافعي أنه لم يعتبر الحرز فلو كان المحارب ملحقا بالسارق لما كان ذلك إلا على حرز
وتحريره أن يقول أحد شرطي السرقة فلا يعتبر في المحارب كالحرز والتعليل النصاب
المسألة التاسعة إذا صلب الإمام المحارب فإنه يصلبه حيا
وقال الشافعي يصلبه ميتا ثلاثة أيام لأن الله تعالى قال (* (يقتلوا أو يصلبوا) *) فبدأ بالقتل
قلنا نعم القتل مذكور أولا ولكن بقي أنا إذا جمعنا بينهما كيف يكون الحكم ها هنا هو الخلاف والصلب حيا أصح لأنه أنكى وأفضح وهو مقتضى معنى الردع الأصلح
100

المسألة العاشرة
لا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل
وللشافعي قولان منهما أنه تعتبر المكافأة في الدماء لأنه قتل فاعتبرت فيه المكافأة كالقصاص وهذا ضعيف لأن القتل ها هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال فإن انضافت إليه إراقة الدم فحش ولأجل هذا لا يراعى مال مسلم من كافر
المسألة الحادية عشرة
إذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع
وقال الشافعي لا يقتل إلا من قتل وهذا مبني على تخيير الإمام وتفصيل الأحكام وقد تقدم
ويعضد هذا أن من حضر الوقعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطالع فالمحارب أولى
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) *))
فيه خمسة أقوال
الأول إلا الذين تابوا من أهل الكفر قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة
الثاني إلا الذين تابوا وقد حاربوا بأرض الشرك
الثالث إلا المؤمنين الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم
الرابع إلا الذين تابوا في حقوق الله قاله الشافعي ومالك إلا أن مالكا قال وفي حقوق الآدميين إلا أن يكون بيده مال يعرف أو يقوم ولي يطلب دمه فله أخذه والقصاص منه
الخامس قال الليث بن سعد لا يطلب بشيء لا من حقوق الله ولا من حقوق الآدميين
101

أما قول من قال إن الآية في المشركين فهو الذي يقول أن قوله تعالى (* (إلا الذين تابوا) *) عائدة عليهم وقد بينا ضعفه
وأما من قال إنه أراد إلا الذين تابوا ممن هو بأرض الشرك فهو تخصيص طريف وله وجه طريف وهو أن قوله (* (من قبل أن تقدروا عليهم) *) يعطي أنهم بغير أرض أهل الإسلام ولكن كل من هو في دار الإسلام تأخذه الأحكام وتستولي عليه القدرة وهذا إذا تبينته لم يصح تنزيله فإن الذي يقدر عليه هو الذي يكون بين المسلمين فأما الذي خرج إلى الجبل وتوسط البيداء في منعة فلا تتفق القدرة عليه إلا بجر جيش ونفير قوم فلا يقال إنا قادرون عليه
وأما من قال أراد به المؤمنين فيرجع إلى الرابع والخامس قلنا إنا نقول هو على عمومه في الحقوق كلها أو في بعضها
فأما من قال إنه على عمومه في الحقوق كلها فقد علمنا بطلان ذلك بما قام من الدليل على أن حقوق الآدميين لا يغفرها الباري سبحانه إلا بمغفرة صاحبها ولا يسقطها إلا بإسقاطه
فإن قيل فقد قال تعالى (* (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *) فكانت هذه المغفرة عامة في كل حق
قلنا هذه مغفرة عامة بلا خلاف للمصلحة في التحريض لأهل الكفر على الدخول في الإسلام فأما من التزم حكم الإسلام فلا يسقط عنه حقوق المسلمين إلا أربابها
وقد قال النبي في الشهادة إنها تكفر كل خطيئة إلا الدين
وأما من قال إن حكمها أنها تكفر حقوق الله تعالى فهو صحيح لقوله تعالى (* (فاعلموا أن الله غفور رحيم) *)
وأما من قال في حقوق الآدميين إن الإمام لا يتولى طلبها وإنما يطلبها
102

أربابها وهو مذهب مالك فصحيح لأن الإمام ليس بوكيل لمعينين من الناس في حقوقهم المعينة وإنما هو نائبهم في حقوقهم المجملة المبهمة التي ليست بمعينة
وأما إن عرفنا بيده مالا لأحد أخذه في الحرابة فلا نبقيه في يده لأنه غصب ونحن نشاهده والإقرار على المنكر لا يجوز فيكون بيد صاحبه المسلم حتى يأخذه مالكه من يد صاحبه وأخيه الذي يوقفه الإمام عنده
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) *)
فيها تسع وعشرون مسألة
المسألة الأولى في شرح حقيقة السرقة
وهي أخذ المال على خفية من الأعين وقد بينا ذلك في مسألة قطع النباش من مسائل الخلاف فلينظر هنالك في كتبه
وقد قال محمد بن يزيد السارق هو المعلن والمختفي
وقال ثعلب هو المختفي والمعلن عاد وبه نقول وقد بيناه في الملجئة
المسألة الثانية
الألف واللام من السارق والسارقة بينا معناهما في الرسالة الملجئة وقلنا إن الألف واللام يجتمعان في الاسم ويردان عليه للتخصيص وللتعيين وكلاهما تعريف بمنكور على مراتب فإن دخلت لتخصيص الجنس فمن فوائدها صلاحية الاسم للابتداء له كقوله تعالى (* (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *) و (* (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *)
وإن دخلت للتعيين ففوائده مقررة هنالك وهي إذا اقتضت تخصيص الجنس
103

أفادت التعميم فيه بحكم حصرها له عن غيره إذا كان الخبر عنها والمتعلق بها صالحا في ربطه بها دون ما سواها وهذا معلوم لغة
وقد أنكره أهل الوقف في هذا الباب وغيره كما أنكروا جميع الأوامر والنواهي وقد بيناه عليهم في التلخيص
وإذا ثبت هذا فقوله تعالى (* (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *) عام في كل سارق وسارقة وهي
المسألة الثالثة
ردا على من يرى أنه من الألفاظ المجملة وذلك من لم يفهم المجمل ولا العام فإن السرقة إذا كانت معروفة لغة إذ ليست لفظة شرعية باتفاق ربطت الألف واللام تخصيصا وعلق عليها الخبر بالحكم ربطا فقد أفادت المقصود وجرت على الاسترسال والعموم
إلا فيما خصه الدليل وكذلك يروى عن ابن مسعود أنه قرأها والسارقون والسارقات ليبين إرادة العموم والذي يقطع لك بصحة إرادة العموم أنه لا يخلو أن يريد به المعنى وذلك محال لأنه لم يتقدم فيه شيء من ذلك فلم يبق إلا أنه لحصر الجنس وهو العموم
المسألة الرابعة
قرأها ابن مسعود (* (والسارق والسارقة) * بالنصب وروي عن عيسى بن عمر مثله قال سيبويه هي الأقوى لأن الوجه في الأمر والنهي في هذا النصب لأن حد
104

الكلام تقدم الفعل وهو فيه أوجب وإنما قلت زيدا أضربه وأضربه مشغوله لأن الأمر والنهي لا يكونان إلا بالفعل فلا بد من الإضمار وإن لم يظهر
قال القاضي أصل الباب قد أحكمناه في الملجئة ونخبته أن كل فعل لا بد له من فاعل ومفعول فإذا أخبرت بهم أو عنهم خبرا غريبا كان على ست صيغ
الأول ضرب زيد عمرا
الثانية زيد ضرب عمرا
الثالث عمرا ضرب زيد
الرابعة ضرب عمرا زيد
الخامسة زيد عمرا ضرب
السادسة عمرا زيد ضرب
فالخامسة والسادسة نظم مهمل لا معنى له في العربية وجاء من هذا جواز تقديم المفعول كما جاز تقدم الفاعل بيد أنه إذا قدمت المفعول به بقي بحاله إعرابا فإذا قدمت الفاعل خرج عن ذلك الحد في الإعراب وبقي المعنى المخبر عنه وحدث في ترتيب الخبر ما أوجب تغيير الإعراب وهو المعنى الذي يسمى الابتداء ثم يدخل على هذا الباب الأدوات التي وضعت لترتيب المعاني وهي كثيرة أو المقاصد وهي أصل في التغيير ومنها وضع الأمر موضع الخبر تقول اضرب زيدا
ولما كان الأمر استدعاء إيقاع الفعل بالمفعول ولم يكن بعد هنالك فاعل سقط في إسناد الفعل وثبت في تعلق الخطاب به وارتباطه وتكون له صيغتان إحداهما هذه والثانية زيدا اضرب كما كان في الخبر ولا يتصور صيغة ثالثة فلما جاز تقديمه مفعولا كان ظاهر أمره ألا يأتي إلا منصوبا على حكم تقدير المفعول ولكن رفعوه لأن الفعل لم يقع عليه بعد وإنما يطلب وقوعه به فيخبر عنه ثم يقتضي الفعل فيه فإن اقتضى ولم يخبر لم يكن إلا منصوبا وإن أخبر ولم يقتض لم يكن إلا مرفوعا فهما إعرابان لمعنيين فلم يكن أحدهما أقوى من الآخر
105

تتميم
فإذا ثبت هذا فقلت زيد فأضربه فإن نصبته فعلى تقدير فعل وإن رفعته فعلى تقدير الابتداء ويترتب على قصد المخبر ويكون تقديره مع النصب اضرب زيدا فاضربه فأما إذا طال الكلام فقلت زيدا فاقطع يده كان النصب أقوى لأن الكلام يطول فيقبح الإضمار فيه لطوله وهذا قالب سيبويه أفرغنا عليه
وأقول إن الكلام إذا كان فيه معنى الجزاء أو كانت الفاء فيه منزلة على تقدير جوابه فإن الرفع فيه أعلى لأن الابتداء يكون له فلا يبقى لتقدير المفعول إلا وجه بعيد فهذا منتهى القول على الاختصاص والله عز وجل أعلم
المسألة الخامسة
قد بينا أن هذه الآية عامة لا طريق للإجمال إليها فالسرقة تتعلق بخمسة معان فعل هو السرقة وسارق ومسروق مطلق ومسروق منه ومسروق فيه فهذه خمسة متعلقات يتناول الجميع عمومها إلا ما خصه الدليل
أما السرقة فقد تقدم ذكرها
وأما السارق وهي المسألة السادسة
المسألة السادسة السارق
فهو فاعل من السرقة وهو كل من أخذ شيئا على طريق الاختفاء عن الأعين لكن الشريعة شرطت فيه ستة معان
العقل لأن من لا يعقل لا يخاطب عقلا
والبلوغ لأن من لم يبلغ لا يتوجه إليه الخطاب شرعا
وبلوغ الدعوة لأن من كان حديث عهد بالإسلام ولم يثافن حتى يعرف الأحكام وادعى الجهل فيما أتى من السرقة والزنا وظهر صدقه لم تجب عليه عقوبة
106

كالأب في مال ابنه لما قدمناه من قوله إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه
ولذلك قلنا إذا وطئ أمة ابنه لا حد عليه للشبهة التي له فيها والحدود تسقط بالشبهات فهذا الأب وإن كان جاء بصورة السرقة في أخذ المال خفية فإن له فيه سلطان الأبوة وتبسط الاستيلاء فانتصب ذلك شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات وأما متعلق المسروق وهي المسألة السابعة
المسألة السابعة متعلق المسروق
فهو كل مال تمتد إليه الأطماع ويصلح عادة وشرعا للانتفاع به فإن منع منه الشرع لم ينفع تعلق الطماعية فيه ولا يتصور الانتفاع منه كالخمر والخنزير مثلا
وقد كان ظاهر الآية يقتضي قطع سارق القليل والكثير لإطلاق الاسم عليه وتصور المعنى فيه وقد قال به قوم منهم ابن الزبير فإنه يروى أنه قطع في درهم ولو صح ذلك عنه لم يلتفت إليه لأنه كان ذا شواذ ولا يستريب اللبيب بل يقطع المنصف أن سرقة التافه لغو وسرقة الكثير قدرا أو صفة محسوب والعقل لا يهتدي إلى الفصل فيه بحد تقف المعرفة عنده فتولى الشرع تحديده بربع دينار
وفي الصحيح عن عائشة ما طال علي ولا نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا وهذا نص
وقال أبو حنيفة لا قطع في أقل من عشرة دراهم وروى أصحابه في ذلك حديثا قد بينا ضعفه في مسائل الخلاف وشرح الحديث
107

فإن قيل قد ثبت عن النبي أنه قال لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده قلنا هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير كما جاء في معرض الترغيب بالقليل عن الكثير في قوله من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة
108

وقيل إن هذا مجاز من وجه آخر وذلك أنه إذا ظفر بسرقة القليل سرق الكثير فقطعت يده فبهذا تنتظم الأحاديث ويجتمع المعنى والنص في نظام الصواب
المسألة الثامنة
ومنه كل مال يسرع إليه الفساد من الأطعمة والفواكه لأنه يباع ويبتاع وتمتد إليه الأطماع وتبذل فيه نفائس الأموال وشبهة أبي حنيفة ما يؤول إليه من التغير والفساد ولو اعتبر ذلك فيه لما لزم الضمان لمتلفه
المسألة التاسعة
ومنه كل ما كان أصله على الإباحة كجواهر الأرض ومعادنها وشبه ذلك لأنه كان مباح الأصل ثم طرأ عليه الملك فتنتصب إباحة أصله شبهة في إسقاط القطع بسرقته
قلنا لا تضر إباحة متقدمة إذا طرأ التحريم كالجارية المشتركة بين قوم فإن وطأها حرام يوجب الحد عند خلوصها لأحدهم ولا توجب الإباحة المتقدمة شبهة وقد قال النبي لا قطع في ثمر ولا كثر إلا ما أواه الجرين رواه النسائي وأبو داود وانفرد النسائي ولا في حريسة جبل إلا فيما أواه المراح
المسألة العاشرة
ومنه ما إذا سرق حرا صغيرا قال مالك عليه القطع وقيل لا قطع عليه وبه قال الشافعي وأبو حنيفة لأنه ليس بمال
قلنا هو أعظم من المال ولم يقطع السارق في المال لعينه وإنما قطع لتعلق النفوس به وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد
المسألة الحادية عشرة متعلق المسروق منه
وهو على أقسام يرجع إلى أنه ما كان ماله محترما بحرمة الإسلام لقوله
109

فقد حرم ماله ودمه وحسابه على الله إن مال الزوجين محترم لكل واحد منهما عن صاحبه وإن كانت أبدانهما حلالا لهما لأنهما لم يتعاقدا بعقد يتعدى إلى المال وقال أبو حنيفة وأحد قولي الشافعي لا يقطع لأن الزوجية تقتضي الخلطة والتبسط وهذا باطل من وجهين
أحدهما أن الكلام فيما يجوز كل واحد منهما عن صاحبه
والثاني أنه لو كان في مال زوجه تبسط لسقط عنه الحد بوطء جاريتها ولذلك قلنا وهي المسألة الثانية عشرة
المسألة الثانية عشرة حكم السارق من ذي رحم
إن من سرق من ذي رحم محرم لمثله وجب عليه القطع خلافا لأبي حنيفة لأن ذات الرحم لو وطئها لوجب عليه الحد فكذلك إذا سرق مالها وشبهة المحرمية لا تعلق لها بالمال وإنما هي في غير ذلك من الأحكام
المسألة الثالثة عشرة إذا سرق العبد من مال سيده أو السيد من عبده
فلا قطع بحال لأن العبد وماله لسيده فلم يقطع أحد بأخذ مال عبده لأنه أخذ لماله وإنما إذا سرق العبد يسقط القطع بإجماع الصحابة وبقول الخليفة غلامكم سرق متاعكم وهذا يشترك مع الأب في البابين وقد بينا كل واحد في موضعه
وأما متعلق المسروق منه وهي المسألة الرابعة عشرة
المسألة الرابعة عشرة متعلق المسروق منه
فهو الحرز الذي نصب عادة لحفظ الأموال وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله والأصل في اعتبار الحرز الأثر والنظر
أما الأثر فقوله لا قطع في ثمر ولا كثر إلا ما أواه الجرين
110

وأما النظر فهو أن الأموال خلقت مهيأة للانتفاع للخلق أجمعين ثم بالحكمة الأولية التي بيناها في سورة البقرة حكم فيها بالاختصاص الذي هو الملك شرعا وبقيت الأطماع معلقة بها والآمال محومة عليها فتكفها المروءة والديانة في أقل الخلق ويكفها الصون والحرز عن أكثرهم فإذا أحرزها مالكها فقد أجتمع بها الصونان فإذا هتكا فحشت الجريمة فعظمت العقوبة وإذا هتك أحد الصونين وهو الملك وجب الضمان والأدب وذلك لأن المالك لا يمكنه بعد الحرز في الصون شيء لما كان غاية الإمكان ركب عليه الشرع غاية العقوبة من عنده ردعا وصونا والأمة متفقة على اعتبار الحرز في القطع في السرقة لاقتضاء لفظها ولا تضمن حكمتها وجوبه ولم أعلم من ترك اعتباره من العلماء ولا تحصل لي من يهمله من الفقهاء وإنما هو خلاف يذكر وربما نسب إلى من لا قدر له فلذلك أعرضت عن ذكره ولهذا المعنى أجمعت الأمة أنه لا قطع على المختلس والمنتهب لعدم الحرز فيه فلما لم يهتك حرزا لم يلزمه أحد قطعا
المسألة الخامسة عشرة حكم الشريك
لما ثبت اعتبار النصاب في القطع قال علماؤنا إذا اجتمع جماعة فاجتمعوا على إخراج نصاب من حرزه فلا يخلو أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه أو يكون مما لا يمكن إخراجه إلا بتعاونهم فإن كان مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون فإنه يقطع جميعهم باتفاق من علمائنا وإن كان مما يخرجه واحد واشتركوا في إخراجه فاختلف علماؤنا فيه على قولين أحدهما لا قطع فيه والثاني فيه قطع
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يقطع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكل واحد منهم في حصته نصاب لقول النبي في النصاب ومحله حين لم يقطع إلا من سرق نصابا وكل واحد من هؤلاء لم يسرق نصابا فلا قطع عليهم
ودليلنا الاشتراك في الجناية لا يسقط عقوبتها كالاشتراك في القتل وما أقرب ما بينهما فإنا قتلنا الجماعة بقتل الواحد صيانة للدماء لئلا يتعاون على سفكها الأعداء وكذلك في الأموال مثله لا سيما وقد ساعدنا الشافعي على أن الجماعة إذا اشتركوا في قطع يد رجل قطعوا ولا فرق بينهما
111

المسألة السادسة عشرة
إذا اشتركوا في السرقة فإن نقب واحد الحرز وأخرج آخر فلا قطع على واحد منهما عند الشافعي لأن هذا نقب ولم يسرق والآخر سرق من حرز مهتوك الحرمة وقال أبو حنيفة إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع
وأما علماؤنا فقالوا إن كان بينهما تعاون واتفاق قطعا وإن نقب سارق وجاء آخر لم يشعر به فدخل النقب وسرق فلا قطع عليه لعدم شرط القطع وهو الحرز وفصل التعاون قد تقدم ودليلنا عليه فلينظر هنالك
المسألة السابعة عشرة في النباش
قال علماء الأمصار يقطع وقال أبو حنيفة لا قطع عليه لأنه سرق من غير حرز مالا معرضا للتلف لا مالك له لأن الميت لا يملك ومنهم من ينكر السرقة لأنه في موضع ليس فيه ساكن وإنما تكون السرقة بحيث تتقى الأعين ويتحفظ من الناس وعلى نفي السرقة عول أهل ما وراء النهر
وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف وقلنا إنه سارق لأنه تدرع الليل لباسا واتقى الأعين وتعمد وقتا لا ناظر فيه ولا مار عليه فكان بمنزلة ما لو سرق في وقت تبرز الناس للعيد وخلو البلد من جميعهم
وأما قولهم إن القبر غير حرز فباطل لأن حرز كل شيء بحسب حاله الممكنة فيه كما قدمناه ولا يمكن ترك الميت عاريا ولا يتفق فيه أكثر من دفنه ولا يمكن أن يدفن إلا مع أصحابه فصارت هذه الحاجة قاضية بأن ذلك حرزه وقد نبه الله تعالى عليه بقوله تعالى (* (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا) *) ليسكن فيها حيا ويدفن فيها ميتا
وأما قولهم إنه عرضة للتلف فكل ما يلبسه الحي أيضا معرض للتلف والإخلاق بلباسه إلا أن أحد الأمرين أعجل من الثاني
112

المسألة الثامنة عشرة
قال علماؤنا إذا سرق السارق وجب القطع عليه ورد العين فإن تلفت فعليه مع القطع القيمة إن كان موسرا وإن كان معسرا فلا شيء عليه
وقال الشافعي الغرم ثابت في ذمته في الحالين وقال أبو حنيفة لا يجتمع القطع مع الغرم بحال لأن الله سبحانه وتعالى قال (* (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله) *) ولم يذكر غرما والزيادة على النص وهي نسخ ونسخ القرآن لا يجوز إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر وأما بنظر فلا يجوز
قلنا لا نسلم أن الزيادة على النص نسخ وقد بينا ذلك في مسائل الأصول فلينظر هنالك وقد قال الله تعالى (* (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) *) مطلقا
وقال أبو حنيفة يعطى لذوي القربى إلا أن يكونوا فقراء فزاد على النص بغير نص مثله من قرآن أو خبر متواتر
وأما علماء الشافعية فعولوا على أن القطع والغرم حقان لمستحقين مختلفين فلا يسقط أحدهما الآخر كالدية والكفارة
وأما المالكية فليس لهم متعلق قوي ونازع بعضهم بأن النبي قال إذا أقيم على السارق الحد فلا ضمان ' وهذا حديث باطل
وقال بعضهم لأن الاتباع بالغرم عقوبة والقطع عقوبة ولا تجتمع عقوبتان وعليه عول القاضي عبد الوهاب وهو كلام مختل اللفظ
وصوابه ما بيناه في مسائل الخلاف من أن القطع واجب في البدن والغرم على الموسر واجب في المال فصارا حقين في محلين
113

وإذا كان معسرا فقلنا يثبت الغرم عليه في ذمته كما أوجبنا عليه القطع في البدن والغرم وهو محل واحد فلم يجز ألا ترى أن الدية على العاقلة والكفارة في ماله أو ذمته والجزاء في الصيد المملوك ينقض هذا الأصل لأنه يجمع مع القيمة وكذلك الحد والمهر إلا أن يطرد أصلنا فنقول إذا وجب الحد وكان معسرا لم يجب المهر وإن الجزاء إذا وجب عليه وهو معسر سقطت القيمة عنه فحينئذ تطرد المسألة ويصح المذهب أما أنه قد روى النسائي أن النبي قال لا يغرم صاحب سرقة إذا أقمتم عليه الحد فلو صح هذا لحملناه على المعسر
المسألة التاسعة عشرة
قال أبو حنيفة إن شاء أغرم السارق ولم يقطعه وإن شاء قطعه ولم يغرمه فجعل الخيار إليه والخيار إنما يكون للمرء بين حقين هما له والقطع في السرقة حق الله تعالى فلم يجز أن يخير العبد فيه كالحد والمهر
المسألة الموفية عشرين
إذا سرق المال من الذي سرقه وجب عليه القطع خلافا للشافعي لأنه وإن كان سرق من غير المالك فإن حرمة المالك الأول باقية عليه لم تنقطع عنه ويد السارق كلا يد
فإن قيل اجعلوا حرزه كلا حرز
قلنا الحرز قائم والملك قائم ولم يبطل الملك فيه فيقولوا لنا أبطلوا الحرز
المسألة الحادية والعشرون
إذا تكررت السرقة بعد القطع في العين المسروقة قطع ثانيا فيها
114

وقال أبو حنيفة لا قطع عليه وليس للقوم دليل يحكى ولا سيما وقد قال معنا إذا تكرر الزنا يحد وقد استوفينا اعتراضهم في مسائل الخلاف وأبطلناه وعموم القرآن يوجب عليه القطع
المسألة الثانية والعشرون
إذا ملك السارق العين المسروقة إذا ملك السارق قبل أن يقطع العين المسروقة بشراء أو هبة سقط القطع عند أبي حنيفة والله تعالى يقول (* (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *) فإذا وجب القطع حقا لله تعالى لم يسقطه شيء ولا توبة السارق وهي
المسألة الثالثة والعشرون
وقد قال بعض الشافعية إن التوبة تسقط حقوق الله وحدوده وعزوه إلى الشافعي قولا وتعلقوا بقول الله تعالى (* (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) *) وذلك استثناء من الوجوب فوجب حمل جميع الحدود عليه
وقال علماؤنا هذا بعينه هو دليلنا لأن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حد المحارب قال (* (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) *) وعطف عليه حد السارق وقال فيه (* (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) *) فلو كان ظلمه في الحكم ما غاير الحكم بينهما ويا معشر الشافعية سبحان الله أين الدقائق الفقهية والحكم الشرعية التي تستنبطونها في غوامض المسائل ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه المجترئ بسلاحه الذي يفتقر الإمام معه إلى الإيجاف بالخيل والركاب كيف أسقط جزاءه بالتوبة استنزالا عن تلك الحالة كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام
فأما السارق والزاني وهم في قبضة المسلمين وتحت حكم الإمام فما الذي يسقط عنهم ما وجب عليهم أو كيف يجوز أن يقال على المحارب وقد فرقت بينهما الحالة والحكمة هذا لا يليق بمثلكم يا معشر المحققين
115

وأما ملك السارق المسروق فقد قال صفوان للنبي هو له يا رسول الله فقال فهلا قبل أن تأتيني به خرجه الدارقطني وغيره
المسألة الرابعة والعشرون حكم سارق المصحف
قال أبو حنيفة لا يقطع سارق المصحف وليس له فيه ما ينفع إلا أن منع بيعه وتملكه فإن فعل ذلك قلنا له إذا اشترى رجل ورقا وكتب فيه القرآن لا يبطل ما ثبت فيه من كلام الله ملكه كما لم يبطل ملكه لو كتب فيه حديث رسول الله وإذا ثبت الملك ترتب عليه وجوب القطع والله عز وجل أعلم
المسألة الخامسة والعشرون قوله تعالى (* (فاقطعوا أيديهما) *))
اعلموا أن هذه المسائل المتقدمة في هذه الآية لم يتعرض في القرآن لذكرها ولكن العموم لما كان يتناول كل ذلك ونظراءه ذكرنا أمهات النظائر لئلا يطول عليكم الاستيفاء وبينا كيفية التخصيص لهذا العموم لتعلموا كيفية استنباط الأحكام من كتاب الله تعالى وهكذا عقدنا في كل آية وسردنا فافهموه من آيات هذا الكتاب إذ لو ذهبنا إلى ذكر كل ما يتعلق بها من الأحكام لصعب المرام
ومن أهم المسائل في هذه الآية ما وقع التنصيص عليه فيها وهو قوله تعالى (* (فاقطعوا أيديهما) *) فنذكر وجه إيرادها لغة وهي
المسألة السادسة والعشرون
ثم نفيض بعد ذلك في تمامها فإنها عظيمة الإشكال لغة لا فقها فنقول إن قيل كيف قال فاقطعوا أيديهما وإنما هما يمينان
116

قلت لما توجه هذا السؤال وسمعه الناس لم يحل أحد منهم بطائل من فهمه
أما أهل اللغة فتقبلوه وتكلموا عليه وتابعهم الفقهاء على ما ذكروه حسن ظن بهم من غير تحقيق لكلامهم وذكروا في ذلك خمسة أوجه
الوجه الأول أن أكثر ما في الإنسان من الأعضاء اثنان فحمل الأقل على الأكثر ألا ترى أنك تقول بطونهما وعيونهما وهما اثنان فجعل ذلك مثله
الثاني أن العرب فعلت ذلك للفصل بين ما في الشيء منه واحد وبين ما فيه منه اثنان فجعل ما في الشيء منه واحد جمعا إذا ثني ومعنى ذلك أنه وإن جعل جمعا فالإضافة تثنية لا سيما والتثنية جمع وكان الأصل أن يقال اثنان رجلان ولكن رجلان يدل على الجنس والتثنية جميعا وذكر كذلك اختصارا وكذلك إذا قلت قلوبهما فالتثنية فيهما قد بينت لك عدد قلب وقد قال الشاعر فجمع بين الأمرين
(ومهمهين قذفين مرتين) ظهراهما مثل ظهور الترسين
*
الثالث قال سيبويه إذا كان مفردا قد يجمع إذا أردت به التثنية كقول العرب وضعا رحالهما وتريد رحلي راحلتيهما وإلى معنى الثاني يرجع في البيان الرابع ويشترك الفقهاء معهم فيه أنه في كل جسد يدان فهي أيديهما معا حقيقة ولكن لما أراد اليمنى من كل جسد وهي واحدة جرى هذا الجمع على هذه الصفة وتأول كذلك
الخامس أن ذكر الواحد بلفظ الجميع عند التثنية أفصح من ذكره بلفظ التثنية مع التثنية فهذا منتهى ما تحصل لي من أقوالهم وقد تتقارب وتتباعد وهذا كله بناء على ما أشرنا إليه عنهم في الخامس من أنهم بنوا الأمر على أن اليمين وحدها هي التي تقطع وليس كذلك بل تقطع الأيدي والأرجل فيعود قوله أيديهما إلى أربعة وهي جمع في الآيتين وهي تثنية فيأتي الكلام على فصاحته ولو قال فاقطعوا
117

أيديهم لكان وجها لأن السارق والسارقة لم يرد بهما شخصين خاصة وإنما هما اسما جنس يعمان ما لا يحصى إلا بالفعل المنسوب إليه ولكنه جمع لحقيقة الجمع فيه
وبيان ما قلنا من قطع الأيدي والأرجل أن الناس اختلفوا في ذلك كثيرا مآله إلى ثلاثة أقوال
الأول أنه تقطع يمين السارق خاصة ولا يعود عليه القطع قاله عطاء
الثاني أنه تقطع اليسرى ولا يعود عليه القطع في رجل رجل قاله أبو حنيفة
الثالث تقطع يده اليمنى فإن عاد قطعت رجله اليسرى فإن عاد قطعت يده اليسرى فإن عاد قطعت رجله اليمنى قاله مالك والشافعي
وأما قول عطاء فليس على غلطه غطاء فإن الصحابة قبله قالوا خلافه وقد قال الله تعالى (* (فاقطعوا أيديهما) *) فجاء بالجمع فإن تعلق بأقوال النحاة قلنا ذلك يكون تأويلا مع الضرورة إذا جاء دليل يدل على خلاف الظاهر فيرجع إليه فبطل ما قاله
وأما قول أبي حنيفة فإنه يرده حديث الحارث بن حاطب أن رسول الله أتي بلص فقال اقتلوه قالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوا يده قالوا ثم سرق فقطعت رجله ثم سرق على عهد أبي بكر فقطعت يده حتى قطعت قوائمه كلها رواه النسائي وأبو داود والدارقطني أن النبي أتي بسارق فقطع يده ثم أتي به الثانية فقطع رجله ثم أتي به ثالثة فقطع يده ثم أتي به رابعة فقطع رجله أما النسائي وأبو داود فروياه عن الحارث بن حاطب وأما الدارقطني فرواه عن جابر بن عبد الله عن النبيفعلا ورواه عن أبي هريرة عن النبي قولا
وقال الحارث إن أبا بكر تمم قطعه واتفقوا على قتله في الخامسة وهذا يسقط قول أبي حنيفة
وكذا روي في حديث أبي بكر الصديق في قطع اليمين أنه قطع رجله اليمنى
118

وروي أيضا أنه أمر بذلك فقال له عمر لا بل تقطع يده كما قال تعالى قال له دونك
والرواية الأولى أصح وأثبت رجالا
وروي عن عمر أيضا أنه قال إذا سرق فاقطعوا يده فإن عاد فاقطعوا رجله واتركوا له يدا يأكل بها الطعام ويستنجي بها من الغائط ويحقق ذلك أن في الموطأ عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن رجلا من أهل اليمن كان أقطع اليد والرجل فإنما قطعت يده اليسرى لعدم اليمنى
المسألة السابعة والعشرون
من توابعها أن عموم قوله تعالى (* (والسارق والسارقة) * يقتضي قطع يد الآبق وقد روى الترمذي وأبو داود عن بسر بن أرطأة أن النبي قال لا تقطع الأيدي في السفر وروى النسائي في الغزو فأما قوله في السفر فحمله بعضهم على الآبق وهو غلط بين لأجل أن مثل هذا اللفظ العام لا يقال فيه يراد به هذا المعنى الشاذ النادر الذي يجوز أن يذكر المعمم لفظه ولا يخطر بباله فضلا عن أن يقال إنه قصده
وأما قوله في الغزو فإن العلماء اختلفوا فيه فقالوا إن معناه أن الغانمين لكل واحد منهم حظه في الغنيمة فلا يقطع ولا يحد عند بعض العلماء
وقيل يقطع ويحد لعدم تعيين حظه والأول أصح لأن ملكه مستقر يورث عنه وتؤدى منه ديونه فصار كالجارية المشتركة
119

المسألة الثامنة والعشرون
إذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا ووجب عليه القصاص قال مالك يقتل ويدخل القطع فيه وقال الشافعي يقطع لأنهما حقان للمستحقين فوجب أن يوفى كل واحد منهما حقه
فإن قيل أحدهما يدخل في الآخر كما قال مالك القتل يأتي على ذلك كله
قلنا إن الذي نختار أن حدا لا يسقط حدا
المسألة التاسعة والعشرون
تكلم الناس في قطع السرقة هل هو شرعنا خاصة أم شرع من قبلنا
فقيل كان شرع من قبلنا استرقاق السارق وقيل كان ذلك إلى زمن موسى فعلى الأول القطع في شرعنا ناسخا للرق وعلى الثاني يكون توكيدا له وسيأتي القول على المسألة في سورة يوسف إن شاء الله تعالى
والصحيح أن الحد كان مطلقا في الأمم كلها قبلنا ولم يبن النبي كيفيته إذ قال يا أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنه كان إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإذا سرق فيهم الشريف تركوه وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *
120

)
فيها إحدى عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
فيه ثلاثة أقوال
الأول أنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي إلى بني قريظة فخانه
الثاني نزلت في شأن بني قريظة والنضير وذلك أنهم شكوا إلى النبي فقالوا له إن النضير يجعلون خراجنا على النصف من خراجهم ويقتلون منا من قتل منهم وإن قتل أحد منهم أحدا منا ودوه أربعين وسقا من تمر
الثالث أنها نزلت في اليهود جاؤوا إلى رسول الله فقالوا له إن رجلا منا وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله ما تجدون في التوراة في شأن الرجم فقالوا نفضحهم ويجلدون
قال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فأتوا بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم تلوح فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر
121

بهما رسول الله فرجما هكذا رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود
قال أبو داود عن جابر بن عبد الله إن النبي قال لهم ائتوني أعلم رجلين فيكم فجاؤوا بابني صوريا فنشدهما الله كيف تجدان أمر هذين في التوراة قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة رجما قال فما يمنعكما أن ترجموهما قال ذهب سلطاننا فكرهنا القتل فدعا النبي بالشهود فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر النبي برجمهما فرجما
المسألة الثانية في المختار من ذلك
وأما من قال إنها في شأن أبي لبابة وما قال علي عن النبي لبني قريظة فضعيف لا أصل له
وأما من قال إنها نزلت في شأن قريظة والنضير وما شكوه من التفضيل بينهم فإنه ضعيف لأن الله تعالى أخبر أنه كان تحكيما منهم للنبي لا شكوى
والصحيح ما رواه الجماعة عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله كلاهما في وصف القصة كما تقدم أن اليهود جاؤوا إلى النبي وحكموه فكان ما ذكرنا في الأمر
122

المسألة الثالثة
ثبت كما تقدم أن اليهود جاؤوا إلى النبي فذكروا له أمر الزانيين
وجملة الأمر أن أهل الكتاب مصالحون وعمدة الصلح ألا يعرض لهم في شيء وإن تعرضوا لنا ورفعوا أمرهم إلينا فلا يخلو أن يكون ما رفعوه ظلما لا يجوز في شريعة أو مما تختلف فيه الشريعة فإن كان مما لا تختلف في الشرائع كالغصب والقتل وشبهه لم يمكن بعضهم من بعض فيه وإذا كان مما تختلف فيه الشرائع ويحكموننا فيه ويتراضوا بحكمنا عليهم فيه فإن الإمام مخير إن شاء أن يحكم بينهم حكم وإن شاء أن يعرض عنهم أعرض
قال ابن القاسم والأفضل له أن يعرض عنهم
قلت وإنما أنفذ النبي الحكم بينهم ليحقق تحريفهم وتبديلهم وتكذيبهم وكتمهم ما في التوراة
ومنه صفة النبي والرجم على من زنا منهم
وعنه أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله (* (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير) * فيكون ذلك من آياته الباهرة وحججه البينة وبراهينه المثبتة للأمة المخزية لليهود والمشركين
المسألة الرابعة في التحكيم من اليهود
قال ابن القاسم إذا جاء الأساقفة والزانيان فالحاكم مخير إن شاء حكم أو لا لأن إنفاذ الحكم حق الأساقفة
وقال غيره إذا حكم الزانيان الإمام جاز إنفاذه الحكم ولا يلتفت إلى الأساقفة وهو الأصح لأن مسلمين لو حكما بينهما رجلا لنفذ حكمه ولم يعتبر رضا
123

الحاكم فالكتابيون بذلك أولى إذ الحكم ليس بحق للحاكم على الناس وإنما هو حق للناس عليه
وقال عيسى عن ابن القاسم لم يكونوا أهل ذمة إنما كانوا أهل حرب وهذا الذي قاله عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري وغيره أن الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك وكانوا حربا لرسول الله واسم المرأة الزانية يسرة وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم اسألوا محمد عن هذا فإن أفتاكم بغير الرجم فخذوه منه واقبلوه وإن أفتى به فاحذروه وهذه فتنة أرادها الله فيهم فنفذت فأتوا النبي فسألوه فقال لهم من أعلم يهود فيكم قالوا ابن صوريا فأرسل إليه في فدك فجاء فنشده الله فانتشد له وصدقه بالرجم كما تقدم وقال له والله يا محمد إنهم ليعلمون أنك رسول الله ثم طبع الله على قلبه فبقي على كفره
وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا وأمانا وإن لم يكن عهد ذمة ودار لكان لهم حكم الكف عنهم والعدل فيهم فلا حجة لرواية عيسى في هذا وعنهم أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله (* (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) *) قال سفيان بن عيينة وهي
المسألة الخامسة
أن الله ذكر الجاسوس بقوله (* (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) *) فهؤلاء هم الجواسيس ولم يعرض النبي لهم مع علمه بهم لأنه لم يكن حينئذ تقررت الأحكام ولا تمكن الإسلام وسنبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى
المسألة السادسة
لما حكموا النبي أنفذ عليهم الحكم ولم يكن لهم الرجوع وكل من حكم رجلا في الدين فأصله هذه الآية قال مالك إذا حكم رجل رجلا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه إلا أن يكون جورا بينا
124

وقال سحنون يمضيه إن رآه
قال ابن العربي وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان
والضابط أن كل حق اختص به الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكم به
وقال الشافعي التحكيم جائز وهو غير لازم وإنما هو فتوى قال لأنه لا يقدم آحاد الناس الولاة والحكام ولا يأخذ آحاد الناس الولاية من أيديهم وسنعقد في تعليم التحكيم مقالا يشفي إن شاء الله تعالى إشارته إلى أن كل محكم فإنه هو مفعل من حكم فإذا قال حكمت فلا يخلو أن يقع لغوا أو مفيدا ولا بد أن يقع مفيدا فإذا أفاد فلا يخلو أن يفيد التكثير كقولك كلمته وقللته أو يكون بمعنى جعلت له كقولك ركبته وحسنته أي جعلت له مركوبا وحسنا وهذا يفيد جعلته حكما
وتحقيقه أن الحكم بين الناس إنما هو حقهم لا حق الحاكم بيد أن الاسترسال على التحكيم خرم لقاعدة الولاية ومؤد إلى تهارج الناس تهارج الحمر فلا بد من نصب فاصل فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج وأذن في التحكيم تخفيفا عنه وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان وتحصل الفائدتان
والشافعي ومن سواه لا يلحظون الشريعة بعين مالك رحمه الله ولا يلتفتون إلى المصالح ولا يعتبرون المقاصد وإنما يلحظون الظواهر وما يستنبطون منها وقد بينا ذلك في أصول الفقه والقبس في شرح موطأ مالك بن أنس
ولم أرو في التحكيم حديثا حضرني ذكره الآن إلا ما أخبرني به القاضي العراقي أخبرنا الجوني أخبرنا النيسابوري أخبرنا النسائي أخبرنا قتيبة بن سعيد حدثنا يزيد يعني ابن المقدام بن شريح عن أبيه شريح عن أبيه هانئ قال لما وفد إلى رسول الله مع قومه سمعهم وهم يكنونه أبا الحكم فدعاه رسول الله
125

فقال إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم فقال إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين فقال ما أحسن هذا فما لك من الولد قال لي شريح وعبد الله ومسلم قال فمن أكبرهم قال شريح قال فأنت أبو شريح ودعا له ولولده
المسألة السابعة كيف أنفذ النبي الحكم بينهم
اختلف في ذلك جواب العلماء على ثلاثة أقوال
الأول أنه حكم بينهم بحكم الإسلام وأن أهل الكتاب من زنى منهم وقد تزوج عليه الرجم فيحكم عليهم به الإمام ولا يشترط الإسلام في الإحصان قاله الشافعي
الثاني حكم النبي عليه السلام عليهم بشريعة موسى عليه السلام وشهادة اليهود إذ شرع من قبلنا شرع لنا فيلزم العمل بها حتى يقوم الدليل على تركها وقد بينا ذلك في أصول الفقه وفيما تقدم من قولنا وإنه الصحيح من المذهب الحق في الدليل حسبما تقدم قاله عيسى عن ابن القاسم
الثالث إنما حكم النبي بينهم لأن الحدود لم تكن نزلت ولا يحكم الحاكم اليوم بحكم التوراة قاله في كتاب محمد
المسألة الثامنة في المختار
أما قول الشافعي فلا يصح فإن اليهود جاؤوا إلى النبي باختيارهم وسألوه عن أمرهم ففي هذا يكون النظر وقد قال الله سبحانه وتعالى مخبرا عن الحقيقة فيه (* (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك) *) وأخبر أنهم جاؤوا من قبل أنفسهم فقال (* (فإن جاؤوك) *) ثم خيره
126

فقال (* (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) *) ثم قال له (* (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) *) وهي
المسألة التاسعة
والقسط هو العدل وذلك حكم الإسلام وحكم الإسلام شهود منا عدول إذ ليس في الكفار عدل كما تقدم
وإنما أراد النبي إقامة الحجة عليهم وفضيحة اليهود حسبما شرحنا وذلك بين من سياق الآية والحديث
ولو نظر إلى الحكم بدين الإسلام لما أرسل إلى ابن صوريا ولكنه اجتمعت للنبي الوجوه فيه من قبول التحكيم وانفاذه عليهم بحكم التوراة وهي الحق حتى ينسخ وبشهادة اليهود وذلك دين قبل أن يرفع بالعدول منا
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (يحكم بها النبيون) *) قال أبو هريرة وغيره ومحمد منهم يحكمون بما فيها من الحق وكذلك قال الحسن وهو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ ومطلقه في قوله (* (النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار) *) آخرهم عبد الله بن سلام
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *)
اختلف فيه المفسرون فمنهم من قال الكافرون والظالمون والفاسقون كله لليهود ومنهم من قال الكافرون للمشركين والظالمون لليهود والفاسقون للنصارى وبه أقول لأنه ظاهر الآيات وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة
قال طاوس وغيره ليس بكفر ينقل عن الملة ولكنه كفر دون كفر وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين
127

الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) *)
فيها اثنتان وعشرون مسألة
المسألة الأولى في سبب النزول
قال ابن جريج لما رأت قريظة النبي قد حكم بالرجم وكانوا يخفونه في كتابهم قالوا يا محمد اقض بيننا وبين إخواننا بني النضير وكان بينهم دم وكانت النضير تتعزز على قريظة في دمائها ودياتها كم تقدم وقالوا لا نطيعك في الرجم ولكنا نأخذ بحدودنا التي كنا عليها فنزلت (* (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) *) ونزلت (* (أفحكم الجاهلية يبغون) *)
قال ابن عباس المعنى فما بالهم يخالفون فيقتلون النفسي بالنفس ويفقؤون العينين بالعين وكانت بنو إسرائيل عندهم القصاص خاصة فشرف الله هذه الأمة بالدية
المسألة الثانية
تعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية فقال يقتل المسلم بالذمي لأنه نفس بنفس
قالت له الشافعية هذا خبر عن شرع من قبلنا وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا
وقلنا نحن له هذه الآية إنما جاءت للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل وأخذهم من قبيلة رجل برجل ونفسا بنفس وأخذهم من قبيلة أخرى نفسين بنفس فأما اعتبار أحوال النفس الواحدة بالنفس الواحدة فليس له تعرض في ذلك ولا سيقت الآية له وإنما تحمل الألفاظ على المقاصد
128

جواب آخر
وذلك أن هذا عموم يدخله التخصيص بما روى أبو داود والترمذي والنسائي وبعضهم أوعب من بعض عن علي وقد سئل هل خصه رسول الله بشيء قال لا إلا ما في هذا وأخرج كتابا من قراب سيفه وإذا فيه المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده
جواب ثالث
وذلك أن الله سبحانه قال في سورة البقرة (* (ولكم في القصاص حياة) *) وقال (* (كتب عليكم القصاص في القتلى) *) فاقتضى لفظ القصاص المساواة ولا مساواة بين مسلم وكافر لأن نقص الكفر المبيح للدم موجود به فلا تستوي نفس مبيحها معها مع نفس قد تطهرت عن المبيحات واعتصمت بالإيمان الذي هو أعلى العصم
وقد ذكر بعض علمائنا في ذلك نكتة حسنة قال إن الله تعالى قال (* (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) *) فأخبر أنه فرض عليهم في ملتهم أن كل نفس منهم تعادل نفسا فإذا التزمنا نحن ذلك في ملتنا على أحد القولين وهو الصحيح كان معناه أن في ملتنا نحن أيضا أن كل نفس منا تقابل نفسا فأما مقابلة كل نفس منا بنفس منهم فليس من مقتضى الآية ولا من مواردها
المسألة الثالثة
قال أبو حنيفة وغيره قوله تعالى (* (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) *) يوجب قتل الحر بالعبد خاصة
129

وقال غيره يوجب ذلك أخذ نفسه بنفسه وأخذ أطرافه بأطرافه لقوله تعالى (* (والعين بالعين) *) وقد تقدم الجواب عن ذلك في المسألة قبلها ونخص هذا مع أبي حنيفة أنهما شخصان لا يجري بينهما القصاص في الأطراف مع السلامة في الخلقة فلا يجري بينهما في الأنفس ويقال للآخرين إن نقص الرق الباقي في العبد من آثار الكفر يمنع المساواة بينه وبين الحر فلا يصح أن يؤخذ أحدهما بالآخر فإن العبد سلعة من السلع يصرفه الحر كما يصرف الأموال
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) *))
يوجب قتل الرجل الحر بالمرأة الحرة مطلقا وبه قال كافة العلماء وقال عطاء يحكم بينهم بالتراجع فإذا قتل الرجل المرأة خير وليها فإن شاء أخذ ديتها وإن شاء أعطى نصف العقل وقتل الرجل وعموم الآية يرد عليه وقد قال النبي من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين فإن أحبوا أن يقتلوا أو يأخذوا العقل
والمعنى يعضده فإن الرجل إذا قتل المرأة فقد قتل مكافئا له في الدم فلا يجب فيه زيادة كالرجلين
المسألة الخامسة
قال أحمد بن حنبل لا تقتل الجماعة بالواحد لأن الله تعالى قال (* (النفس بالنفس) *)
قلنا هذا عموم تخصه حكمته فإن الله سبحانه إنما قتل من قتل صيانة للأنفس عن القتل فلو علم الأعداء أنهم بالاجتماع يسقط القصاص عنهم لقتلوا عدوهم في جماعتهم فحكمنا بإيجاب القصاص عليهم ردعا للأعداء وحسبما لهذا الداء ولا كلام لهم على هذا
130

المسألة السادسة
قال أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إذا جرح أو قطع اليد أو الأذن ثم قتل فعل به كذلك لأن الله تعالى قال (* (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) *) فيؤخذ منه ما أخذ ويفعل به كما فعل
وقال علماؤنا إن قصد بذلك المثلة فعل به مثله وإن كان ذلك في أثناء مضاربته لم يمثل به لأن المقصود بالقصاص إما أن يكون التشفي وإما إبطال العضو وأي ذلك كان فالقتل يأتي عليه وهذا ليس بقصاص ولا انتصاف لأن المقتول تألم بقطع الأعضاء كلها وبالقتل فلا بد في تحقيق القصاص من أن يألم كما آلم وبه أقول
المسألة السابعة قوله تبارك وتعالى (* (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) *))
وذكر العين والأنف والأذن والسن وترك اليد فقيل في ذلك ثلاثة معان
الأول أن ذلك لأن اليد آلة بها يفعل كل ذلك
الثاني أن ذلك لاختلاف حال اليدين بخلاف العينين والأذنين فإن اليسرى لا تساوي اليمنى فترك القول فيها لتدخل تحت قوله تعالى (* (والجروح قصاص) *) ثم يقع النظر فيها بدليل آخر
الثالث أن اليد باليد لا تفتقر إلى نظر والعين بالعين والأنف بالأنف والسن بالسن يفتقر إلى نظر وفيه إشكال يأتي بيانه إن شاء الله
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (والعين بالعين) *))
قرئ بالرفع والنصب فالنصب اتباع للفظه ومعناه والرفع وفيه وجهان أحدهما أن يكون عطفا على حال النفس قبل دخول أن
131

والثاني أن يكون استئناف كلام ولم يكن هذا مما كتب في التوراة والأول أصح
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (والعين بالعين) *))
لا يخلو أن يكون فقأها أو أذهب بصرها وبقيت صورتها أو أذهب بعض البصر وقد أفادنا كيفية القصاص منها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وذلك أنه أمر بمرآة فحميت ثم وضع على العين الأخرى قطنا ثم أخذت المرآة بكلبتين فأدنيت من عينه حتى سال إنسان عينه
فلو أذهب رجل بعض بصره فإنه تعصب عينه وتكشف الأخرى ثم يذهب رجل بالبيضة ويذهب حتى ينتهي بصر المضروب فيعلم ثم تغطي عينه وتكشف الأخرى ثم يذهب رجل بالبيضة ويذهب ويذهب فحيث انتهى البصر علم ثم يقاس كل واحد منهما بالمساحة فكيف كان الفضل نسب ويجب من الدية بحساب ذلك مع الأدب الوجيع والسجن الطويل إذ القصاص في مثل هذا غير ممكن ولا يزال هذا يختبر في مواضع مختلفة لئلا يتداهى المضروب فينتقص من بصره ليكثر حظه من مال الضارب ولا خلاف في هذا
المسألة العاشرة لو فقأ أعور عين صحيح
قيل لا قود عليه وعليه الدية روي ذلك عن عمر وعثمان
وقيل عليه القصاص وهو قول علي والشافعي
وقال مالك إن شاء فقأ عينه وإن شاء أخذ دية كاملة
ومتعلق عثمان أنه في القصاص منه أخذ جميع البصر ببعضه وذلك ليس بمساواة
ومتعلق الشافعي قوله تعالى (* (والعين بالعين) *)
132

ومتعلق مالك أن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه والأخذ بعموم القرآن أولى فإنه أسلم عند الله تعالى
المسألة الحادية عشرة إذا فقأ صحيح عين أعور
فعليه الدية كاملة عند علمائنا
وقال الشافعي وأبو حنيفة فيه نصف الدية وهو القياس الظاهر ولكن علماؤنا قالوا إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك فوجب عليه مثل ديته
المسألة الثانية عشرة
قالوا إذا ضرب سنه فاسودت ففيها ديتها كاملة وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي فيها حكومة وهذا عندي خلاف يؤول إلى وفاق فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها وإنما بقيت صورتها كاليد الشلاء والعين العمياء فلا خلاف في وجوب الدية وإن كان بقي من منفعتها شيء أو جميعها لم يجب إلا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة
وروي عن عمر أنه قال إذا ضرب سنه فاسودت ففيها ثلث ديتها وهذا مما لا يصح عنه سندا ولا فقها
المسألة الثالثة عشرة
قال مالك إذا أخذ الكبير دية ضرسه ثم ثبتت فلا يردها وقال الكوفيون يردها لأن عوضها قد ثبت أصله سن الصغير ودليلنا أن هذا ثبات لم تجر به عادة ولا يثبت الحكم بالنادر كسائر أصول الشريعة فلو قلع رجل سن رجل فردها صاحبها فالتحمت فلا شيء عليه عندنا
وقال ابن المسيب وجماعة منهم عطاء ليس له أن يردها ثانية وإن ردها أعاد كل صلاة صلاها لأنها ميتة وكذلك لو قطعت أذنه فألصقها بحرارة الدم فالتزقت مثله وهي
133

المسألة الرابعة عشرة
قال ذلك علماؤنا وقال عطاء يجبره السلطان على قلعها لأنها ميتة ألصقها وهذا غلط بين وقد جهل من خفي عليه أن ردها وعودها لصورتها موجب عودها لحكمها لأن النجاسة كانت فيها للانفصال وقد عادت متصلة وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها
وقال الشافعي لا تسقط عن قالع السن ديتها وإن رجعت لأن الدية إنما وجبت لقلعها وذلك لا ينجبر
قلنا إنما وجبت لفقدها وذهاب منفعتها فإذا عادت لم يكن عليه شيء كما لو ضرب عينه ففقد بصره فلما قضى عليه عاد بصره لم يجب له شيء
المسألة الخامسة عشرة حكم قلع السن الزائد
فلو كانت له سن زائدة فقلعت ففيها حكومة وبه قال فقهاء الأمصار
وقال زيد بن ثابت فيها ثلث الدية وليس في التقدير دليل فالحكومة أعدل
المسألة السادسة عشرة حكم قطع أذني رجل
قال علماؤنا في الذي يقطع أذني رجل عليه حكومة وإنما تكون عليه الدية في السمع ويقاس كما يقاس البصر فإن أجاب جواب من يسمع لم يقبل قوله وإن لم يجب أحلف لقد صمت من ضرب هذا وأغرم ديته ومثله في اليمين في البصر
المسألة السابعة عشرة اللسان
اختلف قول مالك في القود فيه وكذلك اختلف العلماء والعلة في التوقف عن القود فيه عدم الإحاطة باستيفاء القود فإن أمكن فالقود هو الأصل ويختبر بالكلام فما نقص من الحروف فبحسابه من الدية تجب على الضارب فإن قلع لسان أخرس وهي
134

المسألة الثامنة عشرة إذا قلع لسان أخرس
ففيه حكومة
وقال النخعي فيه الدية يقال له إذا أسقطت القود فلا يبقى إلا الحكومة لأن الدية قرينة القود
المسألة التاسعة عشرة اليمين باليمين واليسار باليسار
إذا قطع يمين رجل أو يساره لم يؤخذ اليمين إلا باليمين واليسار إلا باليسار عند كافة الفقهاء
وقال ابن شبرمة تؤخذ اليمين باليسار واليسار باليمين نظرا إلى استوائهما في الصورة والاسم ولم ينظر إلى المنفعة وهما فيها متفاوتتان أشد تفاوتا مما بين اليد والرجل فإذا لم تؤخذ اليد بالرجل فلا تؤخذ يمنى بيسرى
المسألة الموفية عشرين
نص الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها وكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت وكذلك كل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه وفيه تفصيل في الأعضاء والصور بيناها في أصول الفقه
المسألة الحادية والعشرون حكم الجروح
لما بينا أن الله سبحانه ذكر ما ذكر وخص ما خص قال بعد ذلك (* (والجروح قصاص) *) فعم بما نبه فيه من ذلك وبينه النبي ففي الصحيح عن أنس قال كسرت الربيع وهي عمة أنس بن مالك ثنية جارية من الأنصار فطلب القوم القصاص فأتوا النبي فأمر النبي بالقصاص فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك لا والله لا تكسر ثنيتها يا رسول الله فقال رسول الله يا أنس كتاب الله القصاص فرضي القوم وقبلوا الأرش فقال رسول الله إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره
135

المسألة الثانية والعشرون قوله تعالى (* (فمن تصدق به فهو كفارة له) *))
اختلف العلماء فيه على قولين
أحدهما فهو كفارة له هو المجروح
والثاني أنه الجارح
وحقيقة الكلام هل هو في الضميرين واحد أو كل ضمير يعود إلى مضمر ثان
وظاهر الكلام أنه يعود إلى واحد الضميران جميعا وذلك يقتضي أنه من وجب له القصاص فأسقطه كفر من ذنوبه بقدره وعليه أكثر الصحابة
وعن أبي الدرداء عن النبي ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة
والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل فلا معنى له
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
قيل نزلت فيما تقدم
136

وقيل جاء ابن صوريا وشأس بن قيس وكعب بن أسيد إلى النبي يريدون أن يفتنوه عن دينه فقالوا له نحن أحبار يهود إن آمنا لك آمن الناس جميعهم بك وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك لتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك فأبى النبي فأنزل الله سبحانه الآية وهي قوله تعالى (* (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) *) بمعنى واحد
المسألة الثانية
قال قوم هذا ناسخ للتخيير وهذه دعوى عريضة فإن شروط النسخ أربعة منها معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر وهذا مجهول من هاتين الآيتين فامتنع أن يدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى وبقي الأمر على حاله
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) *))
قال قوم معناه عن كل ما أنزل الله إليك والبعض يستعمل بمعنى الكل قال الشاعر
(تراك أمكنة إذا لم أرضها
* أو يغتبط بعض النفوس حمامها)
ويروى أو يرتبط أراد كل النفوس وعليه حملوا قوله تعالى (* (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) *)
والصحيح أن (* (بعض) *) على حالها في هذه الآية وأن المراد به الرجم أو الحكم الذي كانوا أرادوه ولم يقصدوا أن يفتنوه عن الكل
الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *
137

)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) *))
اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقوال
الأول أنها نزلت في عبادة وابن أبي وذلك أن عبادة تبرأ إلى رسول الله من حلف قوم من اليهود كان له من حلفهم مثل ما لعبد الله بن أبي وتمسك ابن أبي بهم وقال إني رجل أخاف الدوائر
الثاني كان المنافقون يوازرون يهود قريظة ونصارى نجران لأنهم كانوا أهل ريف وكانوا يميرونهم ويقرضونهم فقالوا كيف نقطع مودة قوم إذا أصابتنا سنة فاحتجنا إليهم وسعوا علينا المنازل وعرضوا علينا الثمار إلى أجل فنزلت وذلك قوله تعالى (* (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) *)
الثالث أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر والزبير وطلحة فأما نزولها في أبي لبابة فممكن لأنه أشار إلى يهود بني قريظة إلى حلقه بأنهم إن نزلوا إلى رسول الله هو
الذبح فخانه ثم تاب الله عليه
وأما الزبير وطلحة فلم يلتفتوا إلى ذلك فيهما
وهذه الآية عامة في كل من ذكر أنها نزلت فيه لا تخص به أحدا دون أحد
المسألة الثانية
بلغ عمر بن الخطاب أن أبا موسى الأشعري اتخذ باليمن كاتبا ذميا فكتب إليه
138

هذه الآية وأمره أن يعزله وذلك أنه لا ينبغي لأحد من المسلمين ولي ولاية أن يتخذ من أهل الذمة وليا فيها لنهي الله عن ذلك وذلك أنهم لا يخلصون النصيحة ولا يؤدون الأمانة بعضهم أولياء بعض
المسألة الثالثة
سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب فقرأ (* (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) *) وقد بيناه فيما تقدم موضحا وعلى هذا جاء بيان تمام الآية ثم جاءت الآية الأخرى عامة في نفي اتخاذ الأولياء من الكفار أجمعين
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
كان المشركون واليهود والمنافقون إذا سمعوا النداء إلى الصلاة وقعوا في ذلك وسخروا منه فأخبر الله سبحانه بذلك عنهم وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذه الآية أما إنه ذكرت الجمعة على الاختصاص
المسألة الثانية
روي أن رجلا من النصارى وكان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله قال حرق الكاذب فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم فتعلقت النار بالبيت فأحرقته وأحرقت ذلك الكافر معه فكانت عبرة للخلق والبلاء موكل بالمنطق
وقد كانوا يمهلون مع النبي حتى يستفتحوا فلا يؤخروا بعد ذلك
139

المسألة الثالثة
كان النبي إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار رواه البخاري وغيره عن أنس بن مالك
المسألة الرابعة
روى الأئمة بأجمعهم عن ابن عمر أنه قال كان المسلمون إذا قدموا المدينة يتجنبون الصلاة فيجتمعون وليس ينادي بها أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم لبعض اتخذوا ناقوسا مثل النصارى وقال بعضهم لبعض اتخذوا قرنا مثل قرن اليهود فقال عمر ألا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة قال رسول الله يا بلال قم فناد بالصلاة
وفي الموطأ وأبي داود عن عبد الله بن زيد قال لما أمر رسول الله بالناقوس ليعمل حتى يضرب به فيجتمع الناس للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا فقلت له يا عبد الله تبيع هذا الناقوس فقال لي ما تصنع به فقلت ندعو به للصلاة قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك فقلت بلى فقال تقول الله أكبر الله أكبر فذكر الأذان والإقامة
فلما أصبحنا أتيت النبي فأخبرته بما رأيت فقال إنها لرؤية حق إن شاء الله تعالى قم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به ففعلت
فلما سمع عمر الأذان خرج مسرعا فسأل عن ذلك فأخبر الخبر فقال يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله الحمد لله
140

وفي ذلك أحاديث كثيرة وقد استوفينا الكلام على أخبار الأذان في شرح الحديث ومسائله في كتب الفروع
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
نهى الله سبحانه أهل الكتاب عن الغلو في الدين من طريقيه في التوحيد وفي العمل فغلوهم في التوحيد نسبتهم له الولد سبحانه وغلوهم في العمل ما ابتدعوه من الرهبانية في التحليل والتحريم والعبادة والتكليف
وقال لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه
وهذا صحيح لا كلام فيه وقد ثبت في الصحاح أن النبي سمع امرأة من الليل تصلي فقال من هذه قيل الحولاء بنت تويت لا تنام الليل كله فكره ذلك رسول الله حتى عرفت الكراهية في وجهه وقال إن الله لا يمل حتى تملوا اكلفوا من العمل ما تطيقون
141

وروي فيه أيضا أنه قال إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى
المسألة الثانية
لما أخبر النبي بأنا نتبع من قبلنا في سننه وكانت الكفرة قد شبهت الله سبحانه بالخلق في الولد وشبهت هذه الأمة الباري تعالى بالخلق في مصائب قد بيناها في الأصول لا تقصر في الباطل عن الولد وغلت طائفة في العمل حتى ترهبت وتركت النكاح وواظبت على الصوم وتركت الطيبات وقد قال من رغب عن سنتي فليس مني وسنكشف ذلك في موضعه ها هنا بالاختصار إذ قد بيناه بالطول في كتب الحديث وخصوصا في قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) *) وهي
الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) *)
فيها أربع مسائل
142

المسألة الأولى في سبب نزولها
فيه ثلاثة أقوال
الأول أن جماعة من أصحاب النبي منهم علي والمقداد وعبد الله بن عمر وعثمان بن مظعون وابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة جلسوا في البيوت وأرادوا أن يفعلوا كفعل النصارى من تحريم طيبات الطعام واللباس واعتزال النساء وهم بعضهم أن يجب نفسه وأن عثمان بن مظعون كان ممن حرم النساء والزينة على نفسه وأرادوا أن يترهبوا ولا يأكلوا لحما ولا ودكا وقالوا نقطع مذاكيرنا ونسيح في الأرض كما فعل الرهبان
فلما بلغ ذلك النبي نهاهم عنه وأعلمهم أنه ينكح النساء ويأكل من الأطعمة وينام ويقوم ويفطر ويصوم وأنه من رغب عن سنتي فليس مني وقال لهم إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد فشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم أولئك بقاياهم في الديار والصوامع اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم لكم وإن هذه الآية نزلت فيهم روي ذلك عن ابن عباس وغيره
الثاني روي أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف فانقلب ابن رواحة ولم يتعش فقال لزوجته ما عشيتيه فقالت كان الطعام قليلا فانتظرتك أن تأتي قال حرمت ضيفي من أجلي فطعامك علي حرام إن ذقته فقالت هي وهو علي حرام إن لم تذقه وقال الضيف هو علي حرام إن ذقته إن لم تذوقوه فلما رأى ذلك ابن رواحة قال قربي طعامك كلوا باسم الله وغدا إلى رسول الله فأخبره فقال أحسنت ونزلت الآية فكلوا مما رزقكم الله
قال ابن عباس في حديثه فقالوا يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا فنزلت (* (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) *)
143

الثالث روى الترمذي عن ابن عباس أن رجلا جاء إلى النبي فقال له يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوة فحرمت علي اللحم فنزلت (* (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) *) إلى (* (مؤمنين) *)
قال الترمذي صحيحة الإرسال
المسألة الثانية
ظن أصحاب النبي أن المطلوب منهم طريق من قبلهم من رفض الطعام والشراب والنساء وقد قال الله سبحانه (* (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) *) فكانت شريعة من قبلنا بالرهبانية وشريعتنا بالسمحة الحنيفية
وفي الصحيح أن عثمان بن مظعون نهاه النبي عن التبتل ولو أذن له لاختصينا
والذي يوجب في ذلك العلم ويقطع العذر ويوضح الأمر أن الله سبحانه قال لنبيه (* (وتبتل إليه تبتيلا) *) فبين النبي التبتل بفعله وشرح أنه امتثال الأمر واجتناب النهي وليس بترك المباحات وكان النبي يأكل اللحم إذا وجده ويلبس الثياب تبتاع بعشرين جملا ويكثر من الوطء ويصبر إذا عدم ذلك ومن رغب عن سنته لسنة عيسى فليس منه
المسألة الثالثة
قال علماؤنا هذا إذا كان الدين قواما ولم يكن المال حراما فأما إذا فسد الدين عند الناس وعم الحرام فالتبتل وترك اللذات أولى وإذا وجد الحلال فحال النبي أفضل وكان ذا تشمند رحمه الله يقول إذا عم الحرام وطبق البلاد ولم
144

يوجد حلال استؤنف الحكم وصار الكل معفوا عنه وكان كل واحد أحق بما في يده ما لم يعلم صاحبه
وأنا أقول إن هذا الكلام منقاس إذا انقطع الحرام فأما والغصب متماد والمعاملات الفاسدة مستمرة ولا يخرج المرء من حرام إلا إلى حرام فأشبه المعاش من كان له عقار قديم الميراث يأكل من غلته وما رأيت في رحلتي أحدا يأكل مالا حلالا محضا إلا سعيدا المغربي كان يخرج في صائفة الخطمي فيجمع من زريعته قوته ويطحنها ويأكلها بزيت يجلبه الروم من بلادهم
المسألة الرابعة
إذا قال هذا علي حرام لشيء من الحلال عدا الزوجة فإنه كذبة لا شيء عليه فيها ويستغفر الله ولا يحرم عليه شيء مما حرمه
هذا مذهب مالك والشافعي وأكثر الصحابة وروي أنه قول يوجب الكفارة وبه قال أبو حنيفة ويدل عليه حديث عبد الله بن رواحة المتقدم
وفي حديث الجماعة من أصحاب رسول الله مثله
وروي أيضا عنهم أنهم حلفوا بالله فأذن لهم في الكفارة فتعلق أصحاب أبي حنيفة بمسألة اليمين وتأتي إن شاء الله
وأما إذا قال لزوجته أنت علي حرام فموضعها سورة التحريم والله يسهل في البلوغ إليها بعونه
الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى (* (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) *)
فيها سبع وعشرون مسألة
145

المسألة الأولى اليمين على ضربين
لغو ومنعقدة وقد بينا لغو اليمين في سورة البقرة
وأما اليمين المنعقدة فهي المنفعلة من العقد والعقد على ضربين حسي كعقد الحبل وحكمي كعقد البيع وهو ربط القول بالقصد القائم بالقلب يعزم بقلبه أولا متواصلا منتظما ثم يخبر عما انعقد من ذلك بلسانه
فإن قيل صورة اليمين اللغو والمنعقدة على هذا واحدة فما الفرق بينهما
قلنا قد آن الآن أن نلتزم بذلك الاحتفاء ونكشف عنه الخفاء فنقول إن اليمين المنعقدة ما قلناه
واللغو ضده واليمين اللغو سبع متعلقات في اختلاف الناس
المتعلق الأول اليمين مع النسيان فلا شك في إلغائها لأنه إذ قصد زيدا فتلفظ بعمرو فلا شك في أنها جاءت على خلاف قصده فهي لغو محض وأما من قال إنه اليمين المكفرة فلا متعلق له يحكى
والمتعلق الثالث في دعاء الإنسان على نفسه إن لم يكن كذا فينزل به كذا فهذا قول لغو في طريق الكفارة ولكنه منعقد في العقد مكروه وربما يؤاخذ به فإن النبي قال لا يدعون أحدكم على نفسه فربما صادف ساعة لا يسأل الله فيها أحد شيئا إلا أعطاه إياها
والمتعلق الرابع في يمين المعصية باطل لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة والحالف على فعل المعصية تنعقد يمينه معصية ويقال له لا تفعل فكفر فإن أقدم على الفعل فجر في إقدامه وبر في يمينه
وإنما قلنا إنها تنعقد لأنه قصد بقلبه الفعل أو الكف في زمان مستقبل يتأتى فيه كل واحد منهما وهذا ظاهر
146

والمتعلق الخامس في يمين الغضب موضع فتنة فإن بعض الناس يقول يمين الغضب لا يلزم وينظر في ذلك إلى حديث يروى لا يمين في إغلاق وهذا لم يصح والإغلاق الإكراه لأنه تغلق الأبواب على المكره وترده إلى مقصده وقد حلف النبي غاضبا ألا يحمل الأشعريين وحملهم وقال والله إن شاء الله إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني وهذا بين ظاهر جدا
وأما من قال إنه قول الرجل لا والله وبلى والله ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت نزلت (* (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) *) في قول الرجل لا والله وبلى والله
قلنا هذا صحيح ومعناه إذا أكثر الرجل في يمينه من قول لا والله وبلى والله على أشياء يظنها كما قال فتخرج بخلافه
أو على حقيقة فهي تنقسم قسمين قسما يظن وقسما يعقد فلا يؤاخذ منها فيما وقع على ظن ويؤاخذ فيما عقد وكيف يجوز أن يظن أحد أن قوله لا والله وبلى والله فيما يعتقده ويعقده أنه لغو وهو منهي عن الاسترسال فيه والتهافت به قال الله سبحانه (* (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) *) فنهي عنها ولا يؤاخذ إذا فعلها
هذا لعمر الله هو القول اللغو وهذا يبين لك أن القول ما قاله مالك وأنه اليمين على ظن يخرج بخلافه
فإن قيل وهي
المسألة الثانية فاليمين الغموس في أي قسم هي
قلنا هي مسألة عظمى وداهية كبرى تكلم فيها العلماء وقد أفضنا فيها في مسائل الخلاف
147

ووجه إشكالها أنها إن كانت لا كفارة فيها فهي في قسم اللغو فلا تقع فيها مؤاخذة وإن كانت مما يؤاخذ بها فهي في قسم المنعقدة تلزم فيها الكفارة
وحله طويل اختصاره أن الآية وردت بقسمين لغو ومنعقدة خرجت على الغالب في أيمان الناس فأما اليمين الغموس فلا يرضى بها ذو دين أو مروءة ويحل الإشكال أيضا أن الله سبحانه علق الكفارة على قسمي اليمين المنعقدة فدع ما بعدها يكون مائة قسم فإن لم تعلق عليه كفارة
فإن قيل اليمين الغموس منعقدة والدليل عليه أنها مكتسبة بالقلب معقودة بخبر مقرونة باسم الله تعالى
قلنا عقد القلب إنما يكون عقدا إذا تصور حله واليمين الغموس مكر وخديعة
والدليل عليه أن هذا الذي صوره أصحاب الشافعي موجود في يمين الاستثناء ولا كفارة فيها فثبت أن مجرد القصد لا يكفي في الكفارة هذا وقد فارق اليمين الغموس الحل وكيف تنعقد وقد مهدنا القول فيها في تخليص التلخيص فلينظر هنالك
المسألة الثالثة في حقيقة اليمين
قد بيناها في المسائل وهي ربط العقد بالامتناع والترك أو بالإقدام على فعل بمعنى معظم حقيقة أو اعتقادا
والمعظم حقيقة كقوله والله لا دخلت الدار أو لأدخلن والمعظم اعتقادا كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق أو أنت حر والحرية معظمة عنده لاعتقاده عظيم ما يخرج عن يده في الحرية والصلاق
ودليله قوله من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت فسمى الحالف بغير الله حالفا
148

وقد اتفق علماؤنا على أن من قال إن دخلت الدار فعلي كفارة يمين أنه يلزمه ذلك ولكنه من جهة النذر لا من جهة اليمين والنذر يمين حقيقة ولأجله قال النبي كفارة النذر كفارة اليمين وقد بيناه في مسائل الخلاف
المسألة الرابعة
إذا قال أقسمت عليك أو أقسمت ليكونن كذا وكذا فإنه يكون يمينا إذا قصد بالله وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي لا يكون يمينا حتى يذكر به اسم الله تعالى قال لأنه لم يحلف بالله فلا يكون يمينا
قلنا إن كان لم يتلفظ به فقد نواه واللفظ يحتمله فوجب أن يقضى به لقوله إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى
المسألة الخامسة
إذا حلف بالله تعالى أو بصفاته العليا وأسمائه الحسنى فهي يمين
وقال أبو حنيفة إذا قال وعلم الله لم يكن يمينا وظن قوم ممن لم يحصل مذهبه أنه ينكر صفات الله تعالى وليس كما ظن لأنه قد قال إذا حلف وقدرة الله كانت يمينا وإنما الذي أوقعه في ذلك أن العلم قد ينطلق على المعلوم وهو المحدث فلا يكون يمينا وذهل عن أن القدرة أيضا تنطلق على المقدور وكل كلام له في المقدور فهو حجتنا في المعلوم
149

المسألة السادسة
لا ينعقد اليمين بغير الله وصفاته وأسمائه
وقال أحمد بن حنبل إذا حلف بالنبي انعقدت يمينه ولزمته الكفارة لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلا به فلزمته الكفارة كما لو حلف بالله ودليلنا قوله من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ولأن هذا ينتقض بمن قال وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه وقد حلف بما لا يتم الإيمان إلا به
المسألة السابعة قوله تعالى (* (عقدتم الأيمان) *))
فيه ثلاث قراءات عقدتم بتشديد القاف وعقدتم بتخفيف القاف وعاقدتم بالألف
فأما التخفيف فهو أضعفها رواية وأقواها معنى لأنه فعلتم من العقد وهو المطلوب وإذا قرئ عاقدتم فهو فاعلتم وذلك يكون من اثنين وقد يكون الثاني من حلف لأجله في كلام وقع معه وقد يعود ذلك إلى المحلوف عليه فإنه ربط به اليمين وقد يكون فاعل بمعنى فعل كقولك طارق النعل وعاقب اللص في أحد الوجهين في اللص خاصة
وإذا قرئ عقدتم بتشديد القاف فقد اختلف العلماء في تأويله على أربعة أقوال
الأول قال مجاهد تعمدتم
الثاني قال الحسن معناه ما تعمدت به المأثم فعليك فيه الكفارة
الثالث قال ابن عمر التشديد يقتضي التكرار فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر اليمين
الرابع قال مجاهد التشديد للتأكيد وهو قوله والله الذي لا إله إلا هو
قال ابن العربي أما قول مجاهد ما تعمدتم فهو صحيح يعني ما قصدتم إليه احترازا من اللغو
وأما قول الحسن ما تعمدتم فيه المأثم فيعني به مخالفة اليمين فحينئذ تكون الكفارة
150

وهذان قولان حسنان يفتقران إلى تحقيق وهو بيان وجه التشديد فإن ابن عمر حمله على التكرار وهو قول لم يصح عنه لضعفه فقد قال النبي وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر
وأما قول مجاهد إن التشديد في التأكيد محمول على تكرار الصفات فإن قولنا والله يقتضي جميع أسماء الله الحسنى وصفاته العليا فإذا ذكر شيئا من ذلك فقد تضمنه قوله والله
فإن قيل فما فائدة التغليظ بالألفاظ
قلنا لا تغليظ عندنا بالألفاظ وقد تقدم بيانه وإن غلظنا فليس على معنى أن ما ليس بمغلظ ليس بيمين ولكن على معنى الارهاب على الحالف فإنه كلما ذكر بلسانه الله تعالى
حدث له غلبة حال من الخوف وربما اقتضت له رعدة وقد يرهب بها على المحلوف له كقوله لليهود والله الذي لا إله إلا هو فأرهب عليهم بالتوحيد لاعتقادهم أن عزيرا ابن الله
والذي يتحصل من ذلك أن التشديد على وجه صحيح فإن المرء يعقد على المعنى بالقصد إليه ثم يؤكد الحلف بقصد آخر فهذا هو العقد الثاني الذي حصل به التكرار أو التأكيد بخلاف اللغو فإنه قصد اليمين وفاته التأكيد بالقصد الصحيح إلى المحلوف عليه
المسألة الثامنة
اليمين لا يقتضي تحريم المحلوف عليه عند علمائنا وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يقتضي تحريم المحلوف عليه وقد بينا هذه المسألة في تلخيص الطريقتين العراقية والخراسانية على التمام
وعند أبي حنيفة أن من قال حرمت على نفسي هذا الطعام أو هذا الثوب لزمته الكفارة لاعتقاده أن اليمين تحرم فركب عليه هذه المسألة
151

ولما رأى علماؤنا أن مسألة أبي حنيفة في تحريم الحلال مركبة على اليمين أنكروا له أن اليمين تحرم وكان هذا لأن النظار تحملهم مقارعة الخصوم على النظر في المناقضات وترك التحقيق والنظار المحقق يتفقد الحقائق ولا يبالي على من دار النظر ولا ما صح من مذهب
والذي نعتقده أن اليمين تحرم المحلوف عليه فإنه إذا قال والله لا دخلت الدار فإن هذا القول قد منعه من الدخول حتى يكفر فإن أقدم على الفعل قبل الكفارة لزمه أداؤها والامتناع هو التحريم بعينه والباري تعالى هم المحرم وهو المحلل ولكن تحريمه يكون ابتداء كمحرمات الشريعة وقد يكون بأسباب يعلقها عليه من أفعال المكلفين كتعليق التحريم بالطلاق والتحريم باليمين ويرفع التحريم الكفارة مفعولة أو معزوما عليها ويرفع تحريم الطلاق النكاح بحسب ما رتب سبحانه من الأحكام وبين من الشروط هذا لبابه وتمامه في التلخيص فلينظر فيه باقي قسمي هذا الباب فإن فيه لغنية الألباب
وأصحاب النبي الذين كانوا قد اجتمعوا واعتقدوا تحريم الأطايب من الطعام والزينة من الثياب واللذة من النساء حلفوا على ذلك ولأجله نزلت الآية فيهم وإن كانوا لم يحلفوا ولكنهم اعتقدوا فقد دخلت مسألتهم في قسم اللغو وإذا أراد أبو حنيفة أن يلحق قوله حرمت على نفسي الأكل بقوله والله لا أكلت تبين لكم نقصان هذا الالحاق وفساده لأنه باليمين حرم وأكد التحريم بذكر الله تعالى وإذا قال حرمت على نفسي الأكل فتحريمه وحده دون ذكر الله تعالى كيف يلحق بالتحريم المقرون بذكر الله تعالى بعد إسقاطه هذا الإلحاق لا يخفى تهاتره على أحد
المسألة التاسعة
روى نافع عن ابن عمر إذا لم يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين وإذا أكدها
152

أعتق رقبة قيل لنافع ما التأكيد قال أن تحلف على الشيء مرارا وهذا تحكم لا يشهد له شيء من الأثر ولا من النظر
المسألة العاشرة
إذا انعقدت اليمين كما قدمنا حلتها الكفارة أو الاستثناء وكلاهما رخصة من الله سبحانه
فأما الاستثناء فقال العلماء إنه يكون متصلا باليمين واختلف فيه على ثلاثة أقوال
الأول أنه يكون متصلا باليمين نسقا عليها لا يكون متراخيا عنها
الثاني قال محمد بن المواز يكون مقترنا باليمين اعتقادا أو بآخر حرف منها فإن بدا له بعد الفراغ منها فاستثنى لم ينفعه ذلك
الثالث أنه يدرك اليمين الاستثناء ولو بعد سنة قاله ابن عباس وتعلق بقوله تعالى (* (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) *) إلى آخر الآية إلى قوله (* (مهانا) *) فإنها نزلت فلما كان بعد عام نزل قوله تعالى (* (إلا من تاب) *)
وأما قول محمد فإنه ينبني على أن الاستثناء هل يحل اليمين بعد عقدها أو يمنعها من الانعقاد والصحيح أنه موضوع لحل اليمين لأن النبي قال إني والله إن شاء الله فجاء فيها بالاستثناء بعد اليمين لفظا فكذلك يكون عقدا
وأما قول ابن عباس فخارج عن اللغة
وأما قوله تعالى (* (إلا من تاب) *) فإن الآيتين كانتا متصلتين في علم الله تعالى وفي لوحه وإنما تأخر نزولها لحكمة علم الله تعالى ذلك فيها فلا يتعلق بها أما إنه
153

يتركب عليها فرع حسن وهو أن الحالف إذا قال والله لا دخلت الدار أو أنت طالق إن دخلت الدار واستثنى في يمينه الأول إن شاء الله في قلبه واستثنى في اليمين الثانية في قلبه أيضا ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدة ولسبب أو لمشيئة أحد ولم يظهر شيئا من الاستثناء إرهابا على المحلوف له فإن ذلك ينفعه ولا ينعقد اليمينان عليه وهذا في الطلاق ما لم تحضره البينة فإن حضرته بينة لم يقبل منه دعواه لئلا يكون ندما
وقد تيقنا التحريم بوقوع الطلاق فلا ينفعه دعواه الاستثناء وإنما يكون ذلك نافعا له وحده إذا جاء مستفتيا
نكتة
كان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام فكانت الكتب تأتي إليه من بلده فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحدا مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه أو يقطع به عن طلبه فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضا من الطلب وعزم على الرحيل شد رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل وقرأ منها ما لو أن واحدة منها قرأها في وقت
وصولها ما تمكن بعدها من تحصيل حرف من العلم فحمد الله تعالى ورحل على دابتة قماشة وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان وتقدمه الكري بالدابة وأقام هو على فامي يبتاع منه سفرته فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر أي فل أما سمعت العالم يقول يعني الواعظ إن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة لقد اشتغل بالي بذلك منه منذ سمعته يقوله وظللت فيه متفكرا ولو كان ذلك صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب (* (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) *) وما الذي كان يمنعه من أن يقول حينئذ قل إن شاء الله فلما سمعته يقول ذلك قلت بلد يكون الفاميون به من العلم في هذه المرتبة اخرج عنه إلى المراغة لا أفعله أبدا واقتفى أثر الكري وحلله من الكراء وصرف رحله وأقام بها حتى مات رحمه الله
154

المسألة الحادية عشرة في الأفضل
من استمرار البر في اليمين أو الحنث إلى الكفارة
في صحيح مسلم لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي عنها كفارته التي فرض الله عليه
وذلك يختلف بحسب اختلاف حال المحلوف عليه فإن حلف ألا يأتي أمرا لا يجوز فالبر واجب لقوله في الصحيحين حين نبذ خاتم الذهب من يده وقال والله لا ألبسه أبدا ونبذ الناس خواتيمهم
وإن حلف على مكروه فالبر مكروه وإن حلف على واجب عصى والحنث واجب وإن حلف على مباح فإنه يجب النظر إليه فإن كان تركه مضرا وجب عليه الحنث وإن كان في فعله منفعة استحب له الحنث وفيه جاء قوله لأن يلج أحدكم في أهله بيمينه إلى آخره حسبما ثبت في الصحيحين
المسألة الثانية عشرة في تقديم الكفارة على الحنث
لعلمائنا روايتان إحداهما يجوز ذلك له وبه قال الشافعي وقال في الرواية الأخرى لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة والمسألة طيولية قد أفضنا فيها عند ذكرنا مسائل الخلاف بالتحقيق الكامل وها هنا ما يحتمل بعض ذلك فنذكر منه ما يتعلق بظاهر القرآن
قال ربنا سبحانه وتعالى (* (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) * فعلق الكفارة على سبب وهو الحلف
155

وقال بعض العلماء منا ومنهم معناه إذا حلفتم وحنثتم لأن الكفارة إنما هي لرفع الإثم وما لم يحنث لم يكن هنالك ما يرفع فلا معنى لفعلها لأن الكفارة لا ترفع المستقبل وإنما ترفع الماضي من الإثم فهذا الذي يقتضيه ظاهر قولنا الكفارة وهو الذي أوجب أن تقدر الآية بقوله ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم
وتعلق الذين جوزوا التقديم بأن اليمين سبب الكفارة والدليل عليه قوله تعالى (* (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) *) فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها وأكدوا ذلك بوجهين
أحدهما أن الحنث قد يكون من غير فعله كقوله والله لا جاء فلان غدا من سفره ولا طلعت الشمس غدا
الثاني أن شهود اليمين بالطلاق على الزوج إذا رجعوا وجب عليهم الصداق ولولا كون اليمين سببا ما ضمنوا ما لا تعلق به بالتفويت لأن التفويت على قولهم إنما يتعلق بالسبب الذي هو الحنث لا باليمين
وتعين علينا أن ننظر في حديث النبي الذي هو آكد من النظر في الأداء لأنه أولى وهي المحل الثاني فوجدنا الآثار في صحيح الحديث مختلفة في ذلك
روى أبو موسى الأشعري وأبو هريرة وعدي بن حاتم وسمرة بن جندب قال أبو موسى قال رسول الله وإني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير وقد روي لنا فليأتها وليكفر عن يمينه وفي رواية فليكفر عن يمينه وليفعل
قال عدي فليكفرها وليأت الذي هو خير فوجب الترجيح فكان تقديم الحنث أولى لأنا إذا رددنا تقديم الحنث إلى حديث تقديم الكفارة يسقطه ورد حديث تقديم الكفارة إلى تقديم الحنث يثبتهما جميعا
وأما المعاني فهي متعارضة فمن أراد التلخيص منها فلينظرها في التلخيص
156

المسألة الثالثة عشرة ذكر الله عز وجل في الكتاب الخلال الثلاث مخيرا فيها وعقب عند عدمها بالصيام فالخلة الأولى هي الإطعام وبدأ بها لأنها كانت الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة فيها على الخلق وعدم شبعهم ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير وإنما اختلفوا في الأفضل من خلالها
وعندي أنها تكون بحسب الحال فإن علمت محتاجا فالاطعام أفضل لأنك إذا أعتقت لم ترفع حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم وكذلك الكسوة تليه ولما علم الله غلبة الحاجة بدأ بالمهم المقدم
المسألة الرابعة عشرة قوله تعالى (* (من أوسط ما تطعمون أهليكم) *))
وقوله (* (تطعمون) *) يحتمل طعامهم بقية عمرهم ويحتمل غداء وعشاء وأجمعت الأمة على أكلة اليوم وسطا في كفارة اليمين وشبعا في غيرها إلا أن أبا حنيفة قال تتقدر كفارة اليمين في البر بنصف صاع وفي التمر والشعير بصاع وأصل الكلام في المسألة أن الوسط في لسان العرب ينطلق على الأعلى والخيار ومنه قوله تعالى (* (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) *) أي عدولا خيارا وينطلق على منزلة بين منزلتين ونصفا بين طرفين وإليه يعزى المثل المضروب خير الأمور أوساطها
وقد أجمعت الأمة على أن الوسط بمعنى الخيار ها هنا متروك واتفقوا على أنه المنزلة بين الطرفين فمنهم من جعلها معلومة عادة ومنه من قدها كأبي حنيفة وإنما حمله على ذلك حديث رواه أبو داود عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال قام فينا رسول الله خطيبا فأمر بصدقة الفطر صاع من تمر أو صاع من شعير على كل رأس أو صاع
بر بين اثنين وبه أخذ سفيان وابن المبارك
157

والذي ثبت في الصحاح صاع من الكل من طريق بن عمر وأبي سعيد وذلك كله مشهور والذي أوقعه في ذلك أنه أراد به الوسط من الجنس وذلك باطل بقوله تعالى (* (ما تطعمون أهليكم) *) وإنما يخرج الرجل مما يأكل
وقد زلت ها هنا جملة من العلماء فقالوا إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البر فليخرج مما يأكل الناس وهذا سهو بين فإن المكفر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلف أن يعطي لغيره سواه وقد قال النبي صاعا من طعام صاعا من شعير صاعا من تمر في موضع كان فيه الشعير والتمر أكثر من البر والبر أكثر من الشعير والتمر فإنما فصل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل منها وهذا مما لا خفاء به
ونحن نقول أراد به الجنس والقدر جميعا وذلك مد بمد النبي وهو العدل من القدر وقد بين النبي في كفارة الأذى فرقا بين ستة مساكين والفرق ثلاثة آصع مجمل قوله صدقة ولم يجمل الله سبحانه وتعالى في كفارة اليمين بل قال (* (من أوسط ما تطعمون أهليكم) *) وقد كان عندهم جنس ما يطعمون وقدره معلوما ووسط القدر مد وأطلق في كفارة الظهار فقال (* (فإطعام ستين مسكينا) *) فحمل على الأكثر وهذه سبيل مهيع ولم يرد مطلق ذلك إلى مقيده ولا عامه إلى خاصه ولا مجمله إلى مفسره
المسألة الخامسة عشرة
لا بد عندنا وعند الشافعي من تمليك المساكين ما يخرج لهم ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه
وقال أبو حنيفة لو غداهم وعشاهم جاز وقد روي عن مالك مثله وهو اختيار ابن الماجشون وهي طيولية تكلمنا عليها في مسائل الخلاف وحقيقة المسألة أن عبد الملك قال إن التمكين من الطعام إطعام قال الله تعالى (* (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *) فبأي وجه أطعمه دخل في الآية
158

وأما غيره فقال إن الإطعام هو التمليك حقيقة قال تعالى (* (وهو يطعم ولا يطعم) *) وفي الحديث أطعم رسول الله الجدة السدس وذلك لأن (أطعم) من الأفعال المتعدية إلى مفعولين كقولنا أعطيته فيقول طعم زيد وأطعمته أي جعلته يطعم وحقيقته بالتمليك هذه بنية النظر للفريقين
وتحريره أن الآية محتملة للوجهين فمن يدعي التمليك هو الذي يخصص العموم فعليه الدليل ونخصه نحن بالقياس حملا على زكاة الفطر قال النبي اغنوهم عن سؤال هذا اليوم فلم يجز فيه إلا التمليك وهذا بالغ ولا سيما والمقصود من الإطعام التمليك التام الذي يتمكن منه المسكين من الطعام تمكن المالك كالكسوة وذلك لأنها أحد نوعي الكفارة المدفوعة إلى المسكين فلم يجز فيها إلا التمليك أصله الكسوة وما أقرب ما بينهما
المسألة السادسة عشرة
إذا دفعها إلى المسكين واحد لم يجزه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة تجزيه وكذلك في كفارة الظهار وتعلق بالآية وهي عكس الأولى لأن العموم معهم ونحن نفتقر إلى تخصيصه بالقياس ومعنا نحن ظاهر العدد وذكره وهم يحاولون إسقاطه بالمعنى وتحريره أن الله سبحانه قال (* (فإطعام ستين مسكينا) *) فذكر الإطعام والمطعوم فتعينا
فإن قيل أراد فعليه إطعام طعام ستين مسكينا
قلنا الإطعام مصدر والمصدر مقدر مع الفعل كما سبق في التحرير والصيام وكذلك هنا وما قالوه من أن معناه فعليه إطعام طعام ستين مسكينا كلام من لا خبرة له باللسان فإن الإطعام يتعدى إلى مفعولين ولا ينتظم منهما مبتدأ وخبر بخلاف مفعولي ظننت وما كان كذلك فيجوز فيه الاقتصار على أحدهما ولا يجوز
159

في مفعولي ظننت أن يقتصر على أحدهما أصلا فإن صرح بأحدهما وترك الآخر فهو مضمر فأما أن يقدر ما أضمر ويسقط ما صرح فكلام غبي
المسألة السابعة عشرة قوله تعالى (* (أو كسوتهم) *))
قال الشافعي وأبو حنيفة أقل ما يقع عليه الاسم وقال علماؤنا أقل ما تجزئ فيه الصلاة وفي رواية أبي الفرج عن مالك وبه قال إبراهيم ومغيرة ما يستر جميع البدن بناء على أن الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك ولعل قول المخالف ما يقع عليه الاسم يماثل ما تجزئ فيه الصلاة فإن مئزرا واحدا تجزئ فيه الصلاة ويقع به الاسم عندهم على الأقل وما كان أحرصني على أن يقال إنه لا يجزئ فيه إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبرد كما أن عليه طعاما يشبعه من الجوع فأقول به
وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه والله يفتح لي ولكم في المعرفة بمعونته
المسألة الثامنة عشرة لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة
وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وهو يقول تجزئ القيمة في الزكاة فكيف في الكفارة وعمدته أن الغرض سد الخلة ورفع الحاجة فالقيمة تجزئ فيه
قلنا إن نظرتم إلى سد الخلة فأين العبادة وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع ولو كان المراد القيمة لكان في ذكر نوع واحد ما يرشد إليه ويغني عن ذكر غيره
المسألة التاسعة عشرة إذا دفع الكسوة إلى ذمي أو الطعام لم يجزه
وقال أبو حنيفة يجزئ لأنه مسكين يتناوله لفظ المسكنة ويشتمل عليه عموم الآية فعلينا التخصيص فتخصيصه بوجهين
أحدهما أن نقول هو كافر فلا يستحق في الكفارة حقا كالحربي
أو نقول جزء من مال يجب إخراجه للمساكين فلا يجوز للكافر أصله الزكاة وقد اتفقنا معه على أنه لا يجوز دفعها للمرتد فكل دليل خص به المرتد فهو دليلنا في الذمي
160

المسألة الموفية عشرين قوله تعالى (* (أو تحرير رقبة) *))
سمعت عن البائس أنه قال يجزئ المعيب فإن أراد به العيب اليسير الذي لا يفسد جارحة ولا معظم منفعتها كثلاثة أصابع من كف فلا بأس به وإن أراد العيب المطلق فقد خسرت صفقته لأن النبي قال ما من امرئ مسلم يعتق امرأ مسلما إلا كان فكاكه من النار كل عضو منه بعضوا حتى الفرج بالفرج ولأنا لا نسلم أن المعيب رقبة مطلقة
المسألة الحادية والعشرون
ولا تكون كافرة وإن كان مطلق اللفظ يقتضيها لأنها قربة واجبة فلا يكون الكافر محلا لها كالزكاة وقد بيناها في التلخيص وهي طيولية فلتنظر هناك
المسألة الثانية والعشرون قوله تعالى (* (فمن لم يجد) *))
المعدم للقدرة على ما ذكر الله سبحانه يكون لوجهين إما لمغيب المال عن الحالف أو لعدم ذات اليد فإن كان لمغيب المال فحيث كان ثاويا كان كعدمه وإن كان في بلد آخر ووجد من يسلفه لم يجزه الصوم وإن لم يجد من يسلفه اختلف فيه فقيل ينتظر إلى بلده وذلك لا يلزمه بل يكفر بالصيام في موضعه ولا ينبغي أن يلتفت إلى غيره لأن الوجوب قد تقرر في الذمة والشرط من العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الأمر
المسألة الثالثة والعشرون في تحديد العدم
قال سعيد بن جبير من لم يجد من لم يكن عنده إلا ثلاثة دراهم وقال الحسن درهمان وقيل من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش منه مع عياله فهو الذي لم يجد
وقيل من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته وبه قال الشافعي واختاره الطبري فهذه أربعة أقوال ليس لواحد منها دليل يقوم عليه ولا سيما من قال بدرهم ودرهمين
161

والذي عندي أنه إن لم يقدر أطعم كل يوم أو كل جمعة مسكينا حتى يتم كفارته وأما الكسوة فلا يعطيها إلا من كان له فوق قوت سنة
وأما الرقبة فقد تفطن مالك للحق فقال إن من لم يملك إلا رقبة أو دارا لا فضل فيهما أو عرضا ثمن رقبة لم يجزه إلا العتق فذكر الدار والعرض والرقبة
وهذا يدل على أن هنالك رمقا لكن لم يذكر ما معه غيرهما هل يعتق الرقبة التي كانت تعيشه بخراجها وكسبها أم عنده فضل غيرها فإن كانت الرقبة هي التي كانت تعيشه بخراجها فلا سبيل إلى عتقها
وبالجملة المغنية عن التفصيل ذلك على التراخي وليس على الفور فليتريث في ذلك حتى يفتح الله له أو يغلب على ظنه الفوت أو يؤثر العتق أو الإطعام بسبب يدعوه إلى ذلك
المسألة الرابعة والعشرون قوله تعالى (* (فصيام ثلاثة أيام) *))
قرأها ابن مسعود وأبي متتابعات وقال مالك والشافعي يجزئ التفريق وهو الصحيح إذ التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما في مسألتنا
المسألة الخامسة والعشرون
قال علماؤنا يعطى في الكفارة الخبز والإدام زيت أو كشك أو كامخ أو ما تيسر وهذه زيادة م أراها عليه واجبة
أما إنه يستحب له أن يطعم مع الخبز السكر نعم واللحم وأما تضمين الإدام للطعام معنى يتضمنه لفظه فلا سبيل إليه
المسألة السادسة والعشرون
قال أحمد بن حنبل بدأ الله في كفارة اليمين بالأهون لأنها على التخيير فإذا
162

شاء انتقل إلى الأعلى وهو الإعتاق وبدأ في الظهار بالأشد لأنه على الترتيب فإن شاء أن ينتقل لم يقدر وهذا إنما يصح له تأويلا بالعراق حيث البر ثلاثمائة رطل بدينار إذا طلب فإذا زهد فيه لم يكن له ثمن فأما بالحجاز حيث البر فيه إذا رخص أربعة آصع وخمسة آصع بدينار فإن العبد فيه أرخص والحاجة إلى الطعام أعظم فقد يوجد فيها عبد بدينار ولكن يخرجه من الرق إلى الجوع ويتفادى منه سيده
المسألة السابعة والعشرون قوله تعالى (* (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم) *))
يحتمل ثلاثة معان
الأول احفظوها فلا تحلفوا فتتوجه عليكم هذه التكليفات
الثاني احفظوها إذا حنثتم فبادروا إلى ما لزمكم
الثالث احفظوها فلا تحنثوا وهذا إنما يصح إذا كان البر أفضل أو الواجب
والكل على هذا من الحفظ صحيح على وجهه المذكور وصفته المنقسمة إليه فليركب على ذلك والله أعلم
الآية الثانية والعشرون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أن عمر قال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب العقل والمال فنزلت الآية التي في البقرة (* (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) *)
فدعي عمر فقرئت عليه فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في النساء (* (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) *) فدعي عمر فقرئت
163

عليه فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآية (* (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) * إلى قوله (* (منتهون) *) فدعي عمر فقرئت عليه فقال انتهينا انتهينا
وروي أن الآية نزلت في ملاحاة جرت بين سعد بن أبي وقاص ورجل من الأنصار وهما على شراب لهما وقد انتشيا فتفاخرت الأنصار وقريش فأخذ الأنصاري لحيي جمل فضرب به أنف سعد بن أبي وقاص ففزره فنزلت الآية
وروي أن ذلك الأنصاري كان عتبان بن مالك روى ذلك الطبري والترمذي وغيرهما
وهذا ليس بمتعارض لأنه يمكن أن يجري بين سعد وبين عتبان ما يوجب نزول الآية كما روى الطبري فيدعى عمر فتقرأ عليه كما روى الترمذي
المسألة الثانية في تحقيق اسم الخمر والأنصاب والأزلام
وقد تقدم بيان ذلك في سورة البقرة وصدر هذه السورة
وأما الميسر فهو شيء محرم لا سبيل إلى عمله فلا فائدة في ذكره بل ينبغي أن يموت ذكره ويمحى رسمه
المسألة الثالثة في قوله تعالى (* (رجس) *))
وهو النجس وقد روي في صحيح حديث الاستنجاء أن النبي أ تى بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال إنها ركس أي نجس
ولا خلاف في ذلك بين الناس إلا ما يؤثر عن ربيعة أنه قال إنها محرمة وهي طاهرة كالحرير عند مالك محرم مع أنه طاهر وقد روي عن النبي أنه قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الرجس النجس الخبيث المخبث
164

ويعضد ذلك من طريق المعنى أن تمام تحريمها وكمال الردع عنها الحكم بنجاستها حتى يتقذرها العبد فيكف عنها قربانا بالنجاسة وشربا بالتحريم فالحكم بنجاستها يوجب التحريم
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (فاجتنبوه) *))
يريد أبعدوه واجعلوه ناحية وهذا أمر باجتنابها والأمر على الوجوب لا سيما وقد علق به الفلاح
الآية الثالثة والعشرون
قوله تعالى (* (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى نزلت في قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا فعبث بعضهم ببعض فلما صحوا ورأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن فجعل الرجل يقول لو كان أخي بي رحيما ما فعل هذا بي فحدثت بينهم الضغائن فأنزل الله تعالى (* (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم) *))
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) *))
كما فعل بعلي وروي بعبد الرحمن بن عوف في الصلاة حين أم الناس فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنا عابد ما عبدتم
165

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فهل أنتم منتهون) *))
فقال عمر انتهينا حين علم أن هذا وعيد شديد وأمر النبي مناديه أن ينادي في سكك المدينة ألا إن الخمر قد حرمت فكسرت الدنان وأريقت الخمر حتى جرت في سكك المدينة وما كان خمرهم يومئذ إلا من البسر والتمر وهذا ثابت صحيح
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا) *))
وهذا تأكيد للتحريم وتشديد في الوعيد قال فإن توليتم فليس على الرسول إلا البلاغ فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين أما عقاب التولية والمعصية فعلى المرسل لا على الرسول
الآية الرابعة والعشرون
قوله تعالى (* (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى البخاري عن أنس قال كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر فأمر مناديا ينادي فقال أبو طلحة اخرج فانظر ما هذا الصوت قال فخرجت فقلت هذا
مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت فقال لي اذهب فاهرقها وكان الخمر من الفضيخ قال فجرت في سكك المدينة فقال بعض القوم قتل قوم وهي في بطونهم قال فأنزل الله تعالى (* (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) *) إلى قوله (* (المحسنين) *) وقد روي نحوه صحيحا عن البراء أيضا
166

المسألة الثانية
نزلت الآية فيمن شرب الخمر ثم قال فيه إذا ما طعموا فكان ذلك دليلا على أن تسمية الشرب طعاما وقد قدمنا ذلك في سورة البقرة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) *) إلى (* (المحسنين) *))
اختلف فيها على ثلاثة أقوال
الأول اتقوا في اتباع الأمر واجتناب النهي واتقوا في الثبات على ذلك واتقوا في لزوم النوافل وهو الاحسان إلى آخر العمر
الثاني اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات ثم اتقوا بعد تحريمها شربها ثم اتقوا في الذي بقي من أعمارهم فاجتنبوا العمل المحرم
الثالث اتقوا الشرك وآمنوا ثم اتقوا الحرام ثم اتقوا ترك الاحسان فيعبدون الله وإن لم يروه كأنهم يرونه
وقد صرفت فيها أقوال على قدر وظائف الشريعة يكثر تعدادها وأشبهها بالقرآن والسنة ما رواه الدارقطني عن ابن عباس أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله بالأيدي والنعال وبالعصي حتى توفي رسول الله فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي فكان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين ثم أتي برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب فأمر به أن يجلد فقال أتجلدني بيني وبينك كتاب الله فقال عمر أفي كتاب الله تجد ألا أجلدك فقال إن الله تعالى يقول (* (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) *) فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها
فقال عمر ألا تردون عليه ما يقول فقال ابن عباس إن هذه الآيات أنزلت
167

عذرا لمن صبر وحجة على الناس لأن الله تعالى يقول (* (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) *) الآية ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإن الله تعالى قد نهاه أن يشرب الخمر
فقال عمر صدقت ماذا ترون فقال علي إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري جلد ثمانين فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة
وروى البخاري عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال استعمل عمر قدامة بن مظعون على البحرين وقد كان شهد بدرا وهو خال ابن عمر وحفصة زوج النبي زاد البرقاني فقدم الجارود من البحرين فقال يا أمير المؤمنين إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرا وإني إذا رأيت حدا من حدود الله تعالى حق علي أن أرفعه إليك فقال له عمر من يشهد لي على ما تقول فقال أبو هريرة
فدعا عمر أبا هريرة فقال علام تشهد يا أبا هريرة فقال لم أره حين شرب وقد رأيته سكران يقيء فقال عمر لقد تنطعت في الشهادة
ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود عمر فقال له أقم على هذا كتاب الله فقال عمر للجارود أشهيد أنت أم خصم فقال الجارود أنا شهيد قال قد كنت أديت الشهادة فسكت الجارود ثم قال لتعلمن أني أنشدك الله فقال عمر أما والله لتملكن لسانك أو لأسوءنك فقال الجارود أما والله ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءني فتوعده عمر
فقال أبو هريرة وهو جالس يا أمير المؤمنين إن كنت تشك في شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله فأقامت هند على زوجها قدامة الشهادة فقال عمر يا قدامة إني جالدك فقال قدامة والله لو شربت كما تقولون ما كان لك أن تجلدني يا عمر قال لم يا قدامة قال لأن
168

الله سبحانه يقول (* (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) *) الآية إلى (* (المحسنين) *) فقال عمر إنك أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله
ثم أقبل عمر على القوم فقال ما ترون في جلد قدامة فقال القوم لا نرى أن تجلده ما دام وجعا فسكت عمر عن جلده أياما ثم أصبح يوما وقد عزم على جلده فقال لأصحابه ما ترون في جلد قدامة فقالوا لا نرى أن تجلده ما دام وجعا فقال عمر إنه والله لأن يلقى الله وهو تحت السوط أحب إلي من أن ألقى الله وهي في عنقي والله لأجلدنه ائتوني بسوط فجاء مولاه أسلم بسوط رقيق صغير فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم قد أخذتك بإقرار أهلك ائتوني بسوط غير هذا قال فجاءه أسلم بسوط تام فأمر عمر بقدامة فجلد فغاضب قدامة عمر وهجره فحجا وقدامة مهاجر لعمر حتى قفلوا من حجهم ونزل عمر بالسقيا ونام بها فلما استيقظ عمر قال عجلوا علي بقدامة انطلقوا فاتوني به فوالله إني لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال لي سالم قدامة فإنه أخوك فلما جاؤوا قدامة أبى أن يأتيه فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرا حتى كلمه عمر واستغفر له فكان أول صلحهما
فهذا يدلك على تأويل الآية وما ذكر فيه عن ابن عباس في حديث الدارقطني وعمر في حديث البرقاني وهو صحيح وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره لا يحد على الخمر ما حد أحد فكان هذا من أفسد تأويل وقد خفي على قدامة وعرفه من وفقه الله له كعمر وابن عباس والله أعلم
(وإن حراما لا أرى الدهر باكيا
* على شجوه إلا بكيت على عمر))
الآية الخامسة والعشرون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) *
169

)
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وقد قيل أنها نزلت في غزوة الحديبية أحرم بعض الناس مع النبي ولم يحرم بعضهم فكان إذا عرض صيد اختلفت فيه أحوالهم واشتبهت أحكامه عليهم فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لأحكام أحوالهم وأفعالهم ومحظورات حجهم وعمرتهم
المسألة الثانية
هذه الآية عامة في الذكور والإناث خاطب الله سبحانه بها كل مسلم منهم وكذلك الآية التي بعدها وقد ذكرنا في مسائل الأصول هذه الترجمة وبينا حقيقتها وأوضحنا فيما تقدم معناها في كل آية تجري عليها
المسألة الثالثة
اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية على قولين
أحدهما أنهم المحلون قاله مالك
الثاني أنهم المحرمون قاله ابن عباس وغيره وتعلق من عمم بأن قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا) *) مطلق في الجميع
وتعلق من خص بأن قوله (* (ليبلونكم) *) يقتضي أنهم المحرمون فإن تكليف الامتناع الذي يتحقق به الابتلاء هو مع الإحرام
وهذا لا يلزم لأن قوله ليبلونكم الذي يقتضي التكليف يتحقق في المحل بما شرط له من أمور الصيد وما شرع له من وظيفة في كيفية الاصطياد والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في الكثرة والقلة وتباين في الضعف والشدة
170

المسألة الرابعة
قال قوم الأصل في الصيد التحريم والإباحة فرعه المرتب عليه وهذا ينعكس فيقال الأصل في الصيد الإباحة والتحريم فرعه المرتب عليه ولا دليل يرجح أحد القولين به
ونحن نقول لا أصل في شيء إلا ما أصله الشرع بتبيان حكمه وإيضاح الدليل عليه من حل أو تحريم ووجوب أو ندب أو كراهية وقد بينا هذا في مسألة الأكل لما أكله الكلب من الصيد حتى قيل الأصل في الصيد التحريم وإذا أكل الكلب من الصيد فهو مشكوك فيه وقلنا إن الأصل في الصيد الإباحة فلا يحرمه أكل الكلب منه إلا بدليل ثم ذكرنا التعارض فيه والانفصال عنه فلينظر في موضعه
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (تناله أيديكم ورماحكم) *))
بيان لحكم صغار الصيد وكباره
قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم) *) فكل شيء يناله الإنسان بيده أو برمحه أو بشيء من سلاحه فقتله فهو صيد كما قال الله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *) وهذا بيان شاف
المسألة السادسة صيد الذمي
قال مالك لا يحل صيد الذمي بناء على أن الله خاطب المؤمنين المحلين في أول الآية فخرج عنهم أهل الذمة لاختصاص المخاطبين بالإيمان فيقتضي ذلك اقتصاره عليهم إلا بدليل يقتضي التعميم
وليس هذا من باب دليل الخطاب الذي هو تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء ليدل على أن الآخر بخلافه ولكنه من باب أن أحد الوصفين منطوق به مبين حكمه والثاني مسكوت عنه وليس في معنى ما نطق به
فإن قيل إن كان مسكوتا عنه فحمله عليه بدليل قوله تعالى (* (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) *
171

قلنا هذا يدل على جواز أكل طعامهم والصيد باب آخر فلا يدخل في عموم ذكر الطعام ولا يتناوله مطلق لفظه
فإن قيل نقيسه عليه فإنه نوع ذكاة فجاز من الذمي كذبح الإنسي
قلنا للمقدور عليه مما يذكى شروط ولما لا يقدر عليه شروط أخر ولكل واحد منهما موضوع وضع عليه ومنصب جعل عليه ولا يجوز الالحاق فيما اختلف موضوعه في الأصل وهذا فن من أصول الفقه بيناه في موضعه
المسألة السابعة أما صيد المجوسي
فإنه لا يؤكل إجماعا لأن الصيد الواقع منه داخل تحت قوله تعالى (* (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * والمجوسي إنما يزعم أنه يأكل ويشرب ويتحرك ويسكن ويفعل جميع أفعاله لغير الله سبحانه وقال النبي إذا ذكرت اسم الله على كلبك المعلم فكل
فإن قيل فالذمي لا يذكر اسم الله ويؤكل صيده
قلنا لا يؤكل صيد الذمي في أحد القولين فيسقط عنا هذا الالتزام
وإن قلنا إنه يؤكل فلمطلق قوله تعالى (* (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) *) على أحد الأدلة وعلى الدليل الثاني نأكله لأنهم لم يخاطبوا بفروع الشريعة وعلى الدليل الثالث يكون كمتروك التسمية عمدا على أحد القولين وهذا كله متردد على الآيات بحكم التعارض فيها
والصحيح عندي جواز أكل صيده وأن الخطاب في الآية لجميع الناس محلهم ومحرمهم ولأجل هذا قال قاضي القضاة ابن حبيب إن معنى قوله (* (ليبلونكم) *) ليكلفنكم ثم بين التكليف بعده فقال وهي
172

الآية السادسة والعشرون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) *)
فيها ثمان وثلاثون مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
وقد تقدم
المسألة الثانية في قوله (* (لا تقتلوا الصيد) *))
والقتل كل فعل يفيت الروح وهو أنواع منها الذبح والنحر والخنق والرضخ وشبهه فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مفيتا للروح وحرم في الآية الأخرى نفس الاصطياد فقال (* (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) *) فاقتضى ذلك تحريم كل فعل يتعلق بعين الصيد لأن التحريم ليس بصفة للأعيان والذوات وإنما هو عبارة عن تعلق خطاب الشارع بالأعيان فالمحرم هو القول فيه لا تقربوه والواجب هو المقول فيه لا تتركوه كما بيناه في أصول الفقه
المسألة الثالثة
لما نهى الله سبحانه المحرم عن قتل الصيد على كل وجه وقع عاما قال علماؤنا لا يجوز ذبح المحرم للصيد على وجه التذكية وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي ذبح المحرم للصيد ذكاة وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو
173

المسلم مضافا إلى محله وهو الأنعام فأفاد مقصوده من حل الأكل من أصله ذبح الحلال
والجواب أن هذا بناء على دعوى فإن المحرم ليس بأهل لذبح الصيد إذ الأهلية لا تستفاد عقلا وإنما يفيدها الشرع وذلك بإذنه في الذبح أو ينفيها الشرع أيضا وذلك بنهيه عن الذبح والمحرم منهي عن ذبح الصيد بقوله تعالى (* (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *) فقد انتفت الأهلية بالنهي
وأما قولهم فأفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحل له أكله وإنما يأكل منه عندهم غيره فإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح فأولى وأحرى ألا يفيده لغيره لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله
وإذا بطل منزع الشافعي ومأخذه فقد اعتمد علماؤنا سوى ما تقدم ذكره على أنه ذبح محرم لحق الله تعالى لمعنى في الذابح فلا يجوز كذبح المجوسي وهذا صحيح فإن الذي قال (* (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *) هو القائل (* (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *)
والأول نهي عن المقصود بالسبب فدل على عدم السبب
والثاني نهي عن السبب فدل على عدمه شرعا فلا يفيد مقصوده حكما وهذا من نفيس الأصول فتأملوه
وقول علمائنا لمعنى في الذابح فيه احتراز من السكين المغصوبة والكالة وملك الغير فإن كل ذلك من التذكية منهي عنه ولكنه لما لم يكن لمعنى في الذابح ولا في المذبوح لم يحرم
المسألة الرابعة
لما قال الله تعالى (* (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *) فجعل القتل منافيا للتذكية
174

خارجا عن حكم الذبح للأكل قال علماؤنا إذا قال لله علي أن أقتل ولدي فهو عاص ولا شيء عليه وإذا قال لله علي أن أذبح ولدي فإنه يفتديه بشاة على تفصيل بيانه في مسائل الخلاف وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الصافات بيانه
والمقدار المتعلق منه ها هنا بهذا الموضع أن القتل ليس من أنواع التذكية بمطلقه ولا الخنق ولا يعد من باب الذبح أو النحر اللذين شرعا في الحيوان المأكول لتطييبه
المسألة الخامسة
لما قال الله تعالى (* (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *) جرى عمومه على كل صيد بري وبحري حتى جاء قوله تعالى (* (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) *) فأباح صيد البحر إباحة مطلقة وحرم صيد البر على المحرمين فصار هذا التقسيم والتنويع دليلا على خروج صيد البحر من النهي
المسألة السادسة قوله تعالى (* (وأنتم حرم) *))
عام في التحريم بالزمان وفي التحريم بالمكان وفي التحريم بحالة الإحرام إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرا وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف
المسألة السابعة قوله تعالى (* (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *))
عام في كل صيد كان مأكولا أو غير مأكول سبعا أو غير سبع ضاريا أو غير ضار صائلا أو ساكنا بيد أن العلماء اختلفوا في خروج السباع عنه وتخصيصه منها فقال علماؤنا يجوز للمحرم قتل السباع العادية المبتدئة بالمضرة كالأسد والنمر والذئب والفهد والكلب العقور وما في معناها ومن الطير كالغراب والحدأة ولا جزاء عليه فيه
وقال أبو حنيفة بقولنا في الكلب العقور والذئب والغراب والحدأة وخالفنا في السبع والفهد والنمر وغيرها من السباع فأوجب على المحرم الجزاء بقتلها
وقال الشافعي كل ما لا يؤكل لحمه فلا جزاء فيه إلا السمع وهو المتولد بين الذئب والضبع
175

ودليلنا قوله خمس ليس على المحرم في قتلهن جناح وفي رواية يقتلن في الحل والحرم الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور وفي رواية الحية والكلب العقور خرجه الأئمة بأجمعهم وفيه الغراب الأبقع خرجه مسلم وفيه السبع العادي خرجه أبو داود والترمذي وهذا تنبيه على العلة وعلى الأجناس
أما العلة فهي الفسق بالإذاية وأما الأجناس فنبه بكل مذكور على نوع من الجنس وذكر الكلب العقور وذلك مما يدخل تحته بعلة العقر الفهد والسبع ولا سيما بالنص عليه من طريق السجزي والترمذي
والعجب من أبي حنيفة في أن يحمل التراب على البر بعلة الكيل ولا يحمل السباع العادية على الكلب العقور بعلة الفسق والعقر
176

وأما الشافعي فإذا قلنا بأن لحمها لا يؤكل فهي معقورة لا جزاء فيها لأن ما لا يؤكل لحمه لا جزاء فيه كالخنزير
وأما إن قلنا إنها تؤكل ففيها الجزاء لأنها صيد مأكول
وسيأتي القول في أكلها في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى
وتعلق أبو حنيفة بأنه صيد تتناوله الآية بالنهي والجزاء بعد ارتكاب النهي والدليل على أنه صيد أنه يقصد لأجل جلده والجلد مقصود في المالية كما أن اللحم مقصود في الأكل
قلنا لا تسمي العرب صيدا إلا ما يؤكل لحمه
فإن قيل بل كانت الحيوانات كلها عند العرب صيدا
فإنها كانت تأكل ما دب ودرج ثم جاء الشرع بالتحريم فغير الشرع الأحكام دون الأسماء
قلنا هذا جهل عظيم إن الصيد لا يعرف إلا فيما يؤكل وقولهم إن الشرع غير الأحكام دون الأسماء باطل لأن الأحكام تابعة للأسماء وقد روى ابن أبي عمار أنه قال لجابر بن عبد الله الضبع أصيد هي قال نعم قال فيها جزاء قال نعم كبش
وهذا يدل على أنه سأله عن جواز أكلها وبعد ذلك سأله عن جزائها
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (وأنتم حرم) *))
عام في الرجال والنساء لقوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا) * ولقوله (* (وأنتم حرم) *) وقوله (* (يا أيها الذين آمنوا) *) عام في النوعين
وقوله (* (وأنتم حرم) *) يقال رجل حرام وامرأة حرام وجمع ذلك حرم كقولنا قذال وقذل وكذلك يدخل في عمومه الأحرار والعبيد وهي
177

المسألة التاسعة
وقد بينا هذه المعاني في كتب الأصول
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (ومن قتله منكم متعمدا) *))
فذكر الله سبحانه وتعالى المتعمد في وجوب الجزاء خاصة وفي ذلك ثلاثة أقسام متعمد ومخطئ وناس فالمتعمد هو القاصد للصيد مع العلم بالإحرام والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه
واختلف الناس في ذلك على ثلاثة أقوال
الأول أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان قاله ابن عباس ويروى عن عمر وعطاء والحسن وإبراهيم النخعي والزهري
الثاني إذا قتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه فأما إذا كان ذاكرا لإحرامه فقد حل ولا حج له ومن أخطأ فذلك الذي يجزي
الثالث لا شيء على المخطئ والناسي وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه
واختلف الذين قالوا بعموم الكفارة في توجيه ذلك على أربعة أقوال
الأول أنه ورد القرآن بالعمد وجعل الخطأ تغليظا قاله سعيد بن جبير
والثاني أن قوله (* (متعمدا) * خرج على الغالب فألحق به النادر كسائر أصول الشريعة
الثالث قال الزهري إنه وجب الجزاء في العمد بالقرآن وفي الخطأ والنسيان بالسنة
الرابع أنه وجب بالقياس على قاتل الخطأ بعلة أنها كفارة إتلاف نفس فتعلقت بالخطأ ككفارة القتل وتعلق مجاهد بأنه أراد متعمدا للقتل ناسيا لإحرامه لقوله بعد ذلك (* (ومن عاد فينتقم الله منه) *) ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة
178

وتعلق أحمد في إحدى روايتيه ومن تابعه عليها بأنه خص المتعمد بالذكر فدل على أن غيره بخلافه وزاد بأن قال الأصل براءة الذمة فمن ادعى شغلها فعليه الدليل
وأما متعلق من قال وجب في النسيان تغليظا فدعوى تحتاج إلى دليل وأما من قال إنه خرج على الغالب فحكمة الآية وفائدة التخصيص ما قالوه فأين دليله
وأما من قال إنه وجب في النسيان بالسنة فإن كان يريد به الآثار التي وردت عن ابن عباس وابن عمر فنعما هي وما أحسنها أسوة
وأما من تعلق بالقياس على كفارة القتل فيصح ذلك للشافعي الذي يرى الكفارة في قتل الآدمي عمدا وخطأ فأما نحن وقد عقدنا أصلنا على أن قتل العمد في الآدمي لا كفارة فيه وفي قتل الصيد عمدا الكفارة فلا يصح ذلك منا لوجود المناقضة منا بالمخالفة فيه بينه وبينه عندنا
والذي يتحقق من الآية أن معناها أن من قتل الصيد منكم متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه أو جاهلا بتحريمه فعليه الجزاء لأن ذلك يكفي لوصف التعمد فتعلق الحكم به لاكتفاء المعنى معه وهذا دقيق فتأملوه
فأما إذا قتله متعمدا للقتل والإحرام فذلك أبلغ في وصف العمدية لكن من الناس من قال لا حج له
وهذه دعوى لا يدلك عليها دليل من ظاهر القرآن ولا من السنة ولا من المعنى وسنستوفي بقية القول في آخر الآية إن شاء الله
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (فجزاء مثل ما قتل من النعم) *))
الجزاء في اللغة هو المقابل للشيء وتقدير الكلام فعليه جزاء في مقابل ما أتلف وبدل منه وقد حققنا ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض
179

النحويين وقد تقدم أمثاله قبل هذا وعليه يحمل جزاء الأعمال لأنه في مقابلتها ثوابا بثواب وعقابا بعقاب ودرجات ودركات وذلك محقق في كتاب المشكلين
المسألة الثانية عشرة (* (مثل) *))
قرئ بخفض مثل على الإضافة إلى (* (فجزاء) *) وبرفعه وتنوينه صفة للجزاء وكلاهما صحيح رواية صواب معنى فإذا كان على الإضافة اقتضى ذلك أن يكون الجزاء غير المثل إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه وإذا كان على الصفة برفعه وتنوينه اقتضى ذلك أن يكون المثل هو الجزاء بعينه لوجوب كون الصفة عين الموصوف وسترى ذلك فيما بعد مشروحا إن شاء الله
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (من النعم) *))
قد بينا في ملجئة المتفقهين درجات حرف من وأن من جملتها بيان الجنس كقولك خاتم من حديد وقدمنا قول أبي بكر السراج في شرح كتاب سيبويه الذي أوقفنا عليه شيخ السنة في وقته أبو علي الحضرمي رحمه الله إنها لا تكون للتبعيض بحال ولا في موضع وإنما يقع التبعيض فيها بالقرينة فجاءت مقترنة بقوله (* (من النعم) *) لبيان جنس مثل المقتول المفدى وأنه من الإبل والبقر والغنم والله أعلم
المسألة الرابعة عشرة قوله تعالى (* (فجزاء مثل ما قتل من النعم) *))
قد تقدم تحقيقه ومثل الشيء حقيقته وهو شبهه في الخلقة الظاهرة ويكون مثله في معنى وهو مجازه فإذا أطلق المثل اقتضى بظاهره حمله على الشبه الصوري دون المعنى لوجوب الابتداء بالحقيقة في مطلق الألفاظ قبل المجاز حتى يقتضي الدليل ما يقضي فيه من صرفه عن حقيقته إلى مجازه فالواجب هو المثل الخلقي وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة إنما يعتبر بالمثل في القيمة دون الخلقة
180

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الآية المتقدمة وذلك من أربعة أوجه
الأول ما قدمناه من أن المثل حقيقة هو المثل من طريق الخلقة
الثاني أنه قال (* (من النعم) * فبين جنس المثل ولا اعتبار عند المخالف بالنعم بحال
الثالث أنه قال (* (يحكم به ذوا عدل منكم) *) وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم لأنه لم يتقدم ذكر سواه يرجع الضمير إليه والقيمة التي يزعم المخالف أنه يرجع الضمير إليها لم يتقدم لها ذكر
الرابع أنه قال (* (هديا بالغ الكعبة) * والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا
فإن قيل القيمة مثل شرعي من طريق المعنى في الحيوان وغيره حتى يقال القيمة مثل للعبد ولا يجعل في الإتلاف مثله عبدا يغرم فيه وأوجبنا في ذوات الأمثال في المتلفات المثل خلقة لأن الطعام كالطعام والدهن كالدهن ولم يوجب في العبد عبد مثله لأن الخلقة لم تقم بالمثلية فكيف أن يجعل البدنة مثلا للنعامة
قلنا هذا مزلق ينبغي أن يتثبت فيه قدم الناظر قليلا ولا يطيش حلمه فاسمع ما نقول فلا خفاء بواضح الدليل الذي قدمناه من كتاب الله وليس يعارضه الآن ما موهوا به من أن النعامة لا تماثلها البدنة فإن الصحابة قضوا بها فيها وهم بكتاب الله أفهم وبالمثل من طريق الخلقة والمعنى أعلم فلا يتوهم متوهم سواه إلا وهم ولا يتهمهم في قصور النظر إلا من ليس بمسلم
والدقيقة فيه أن مراعاة ظاهر القرآن مع شبه واحد من طريق الخلقة أولى من إسقاط ظاهر القرآن مع التوفر على مراعاة الشبه المعنوي وهذا ما لا يستقل بدركه في مطرح النظر إلا نافذ البصيرة والبصر
فإن قيل يحتمل أنهم قوموا النعامة بدراهم ثم قوموا البدنة بدراهم قلنا هذا جهل من وجهين
أحدهما أن سرد الروايات على ما سنورده يبطل هذا فإنه ليس فيه شيء منه
181

الثاني أن قيمة النعامة لم تساو قط قيمة البدنة في عصر من الأعصار لا متقدم ولا متأخر علم ذلك ضرورة وعادة فلا ينطق بمثل هذا إلا متساخف بالنظر وإنما سقطت المثلية في الاعتداء على الحيوان من باب المزابنة وقد بيناه في كتب الفقه
فإن قيل لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا في النعامة بدنة وفي الحمار بقرة وفي الظبي شاة لما أوقفه على عدلين يحكمان به لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر وإنما يفتقر إلى العدول والحكم ما يشكل الحال فيه ويضطرب وجه النظر عليه
والجواب أن اعتبار الحكمين إنما وجب في حال المصيد من صغر وكبر وماله جنس مما لا جنس له وليعتبر ما وقع التنصيص عليه من الصحابة فليلحق به ما لم يقع بينهم نص عليه
فإن قيل فقد قال (* (أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) *) فشرك بينهما ب أو فصار تقدير الكلام فجزاء مثل ما قتل من النعم أو من الطعام أو من الصيام وتقدير المثلية في الطعام والصيام بالمعنى وكذلك في المثل الأول
قلنا هذا جهل أو تجاهل فإن قوله تعالى (* (فجزاء مثل ما قتل من النعم) *) ظاهر كما قدمنا في مثل الخلقة وما عداه يمتنع فيه مثلية الخلقة حسا فرجع إلى مثلية المعنى حكما وليس إذا عدم المعنى المطلوب في موضع ويرجع إلى بدله يلزم أن يرجع إلى بدله مع وجوده
تكملة
ومن يعجب فعجب من قراءة المكي والمدني والبصري والشامي فجزاء مثل بالإضافة وهذا يقتضي الغيرية بين المضاف والمضاف إليه وأن يكون الجزاء لمثل
182

المقتول لا المقتول ومن قراءة الكوفيين فجزاء مثل على الوصف وذلك يقتضي أن يكون الجزاء هو المثل
ويقول أهل الكوفة من الفقهاء إن الجزاء غير المثل ويقول المدنيون والمكيون والشاميون من الفقهاء إن الجزاء هو المثل فيبني كل واحد منهم مذهبه على خلاف مقتضى ظاهر قراءة قراء بلده
وقد قال لنا القاضي أبو الحسن القرافي الزاهد إن ابن معقل الكاتب أخبره عن أبي علي النحوي أنه قال إنما يجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول قال ومن أضاف الجزاء إلى المثل فإنه يخرج على تقدير إقحام المثل وذلك كقولهم أنا أكرم مثلك أي أكرمك
قال القاضي أبو بكر بن العربي وذلك سائغ في اللغة وعليه يخرج أحد التأويلات في قوله تعالى (* (ليس كمثله شيء) *) وقد حققناه في كتاب المشكلين
المسألة الخامسة عشرة في سرد الآثار عن السلف في الباب
وفي ذلك آثار كثيرة لبابها سبعة أقوال
الأول قال السدي في النعامة والحمار بدنة وفي بقرة الوحش أو الإبل أو الأروى بقرة وفي الغزال والأرنب شاة وفي الضب واليربوع سخلة قد أكلت العشب وشربت الماء ففرق بين صغير الصيد وكبيره
الثاني قال عطاء صغير الصيد وكبيره سواء لقوله تعالى (* (فجزاء مثل ما قتل من النعم) *) مطلقا ولا يفصل بين صغير وكبير
الثالث قال ابن عباس تطلب صفة الصيد فإن لم توجد قوم بالدراهم ثم قومت الدراهم بالحنطة ثم صام مكان كل نصف صاع يوما
الرابع قال ابن عباس تذبح عن الظبي شاة فإن لم يجد أطعم ستة مساكين فإن لم يجد صام ستة أيام
183

الخامس قال الضحاك المثل ما كان له قرن كوعل وأيل فداه ببقرة وما لم يكن له قرن كالنعامة والحمار ففيه بدنة وما كان من ظبي فمن النعم مثله وفي الأرنب ثنية وما كان من يربوع ففيه جمل صغير فإن أصاب فرخ صيد أو بيضه تصدق بثمنه أو صام مكان كل نصف صاع يوما
السادس قال النخعي يقوم الصيد المقتول بقيمته من الدراهم ثم يشتري القاتل بقيمته فداء من النعم ثم يهديه إلى الكعبة
السابع قال ابن وهب قال مالك أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أنه يقوم الصيد الذي أصاب فينظر كم ثمنه من الطعام فيطعم لكل مسكين مدا أو يصوم مكان كل مد يوما
وقال ابن القاسم عنه إن قوم الصيد دراهم ثم قومها طعاما أجزأه
والصواب الأول
وقال عبد الله بن عبد الحكم مثله قال عنه وهو في هذه الثلاثة بالخيار أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا وبه قال عطاء وجمهور الفقهاء
فأما الفرق بين صغير الصيد وكبيره وهي المسألة السادسة عشرة
المسألة السادسة عشرة الفرق بين صغير الصيد وكبيره
فصحيح فإن الله تعالى حكم بالمثلية في الخلقة والصغير والكبير متفاوتان فيها فوجب اعتبار التفاوت فإنه أمر يعود إلى التقويم فوجب اعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفات وهو اختيار علمائنا ولذلك قالوا لو كان الصيد أعور أو أعرج أو كسيرا لكان المثل على صفته لتحقيق المثلية ولا يلزم المتلف فوق ما أتلف وهي
المسألة السابعة عشرة
وأما ترتيب الثلاثة الواجبات في هذه المثلية وهي
184

المسألة الثامنة عشرة
فالذي اختاره علماؤنا كما تقدم أن يكون بالخيار فيها واحتجوا بأنه ظاهر القرآن وقالوا كل شيء يكون فيه أو فهو فيه بالخيار
وتحقيق المسألة عندي أن الأمر مصروف إلى الحكمين فما رأياه من ذلك لزمه والله أعلم وأما تقدير الطعام والصيام وهي
المسألة التاسعة عشرة
فذلك ظاهر في كتاب الله تعالى حيث قدره في كفارة الظهار مسكينا بيوم ولا يعدل عن تقديره تعالى وتقدس وغير ذلك من التقديرات تتعارض فيه الأقوال ولا يشهد له أصل فالاقتصار على الشاهد الجلي أولى
المسألة الموفية عشرين (* (يحكم به ذوا عدل منكم) *))
قال علماؤنا يقيم المتلف رجلين عدلين فقهين بما يحتاج إليه في ذلك فينظران فيما أصاب ويحكمان عليه بما رأياه في ذلك فما حكما عليه لزمه
والذي عندي أنه إن كان الإمام حاضرا أو نائبه أنه يكون الحكم إليه وإن لم يكن حاضرا أقام حينئذ المتلف من يحكم عليه وهذا دليل على التحكيم وهي
المسألة الحادية والعشرون
وقد تقدم الذكر فيه ولأجله قال علماؤنا إنه يجوز حكمهما بغير إذن الإمام وذلك عندي صحيح إذ يتعذر أمره
وقد روى جرير بن عبد الله البجلي قال أصبت صيدا وأنا محرم فأتيت عمر بن الخطاب فأخبرته فقال ائت رجلين من أصحابك فليحكما عليك فأتيت عبد الرحمن بن عوف وسعدا فحكما علي بتيس أعفر
وهو أيضا دليل على أنه يجوز أن يتولى فصل القضاء رجلان وقد منعته الجهلة لأن اختلاف اجتهادهما يوجب توقف الأحكام بينهما وقد بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن كل واحد على مخلاف وبعث أنيسا إلى المرأة المرجومة ولم
185

يأت الاشتراك في الحكم إلا في هذه النازلة لأجل أنها عبادة لا خصومة فيها فإن اتفقنا لزم الحكم كما تقدم وإن اختلفا نظر في غيرهما
وقال محمد بن المواز ولا يؤخذ بأرفع قولهما يريد لأنه عمل بغير تحكيم وكذلك لا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام لأنه أمر قد لزم قاله ابن شعبان وقال ابن القاسم إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز
وفي هذه الرواية تجاوز من وجهين
أحدهما قوله إن أمرهما أن يحكما بالمثل وليس الأمر إليه وإنما يحكمهما ثم ينظران في القضية فما أدى إليه اجتهادهما لزمه ولا يجوز له أن ينتقل عنه وهو الثاني لأنه نقض لحكمهما وذلك لا يجوز لالتزامه لحكمهما
المسألة الثانية والعشرون قوله تعالى (* (هديا بالغ الكعبة) *
المعنى إذا حكما بالمثل يفعل به ما يفعل بالهدي يقلده ويشعره ويرسله إلى مكة وينحره بها ويتصدق به فيها لقوله تعالى (* (هديا بالغ الكعبة) *) وهي
المسألة الثالثة والعشرون
ولا خلاف في أن الهدي لا بد له من الحرم واختلف هل يفتقر إلى حل معه فقال مالك لا بد له من ذلك يبتاع بالحل ويقلد ويشعر ويدفع إلى الحرم
وقال الشافعي لا يحتاج إلى الحل
وحقيقة قوله تعالى (* (بالغ الكعبة) *) يقتضي أن يهدي من مكان يبلغ منه إلى الكعبة ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها إذ هي في المسجد وإنما أراد الحرم ولهذا قال الشافعي إن الصغير من الهدي يجب في الصغير من الصيد لأنه يبتاعه في الحرم ويهديه فيه
186

وقال مالك لا يكون الجزاء في الصغير إلا بالقيمة لأن الهدي الصغير لا يمكن حمله إلى الحرم وهذا لا يغني فإن الصحابة قضت في الصغير صغيرا وفي الكبير كبيرا وإذا تعذر حمله إلى الحرم حملت قيمته كما لو قال بالمغرب بعيري هذا هدي فإنه يباع ويحمل ثمنه إلى مكة وكذلك يجب أن يكون في صغير الهدي مثله
وروي عن مالك أن صغير الهدي مثل كبيره في القيمة كما أن صغير الآدمي مثل كبيره في الدية
وهذا غير صحيح فإن الدية مقدرة جبرا وهذا مقدر نظرا يحكم به ذوا عدل منكم فافترقا
المسألة الرابعة والعشرون قوله تعالى (* (أو كفارة) *))
سماه بهذا ليبين أن الطعام عن الصيد لا عن الهدي وليلحقها بأمثالها ونظائرها على ما يأتي بيانه إن شاء الله
المسألة الخامسة والعشرون قوله تعالى (* (طعام مساكين) *))
قال ابن عباس إذا قتل المحرم ظبيا ونحوه فعليه شاة تذبح بمكة فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام فإن قتل أيلا أو نحوه فعليه بقرة فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا فإن لم يجد صام عشرين يوما وإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة من الإبل فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكينا فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوما والطعام مد
مد لشبعهم
وروي عنه أيضا إن لم يجد جزاء قوم الجزاء دراهم ثم قومت الدراهم حنطة ثم صام مكان كل نصف صاع يوما
وقال إنما أريد بالطعام الصوم فإذا وجد طعاما وجب جزاء
وروي نحوه عن النخعي ومجاهد والسدي وحماد وغيرهم
187

فأما قوله فإن لم يجد هديا فإطعام ستة مساكين فقد قدمنا أنه على التخيير لا على الترتيب بما يقتضيه حرف أو في لسان العرب
وأما تقدير الطعام في الظبي بستة مساكين وفي البدنة بثلاثين مسكينا فليس بتقدير نافذ وإنما هو تحكم باختيار قيمة الطعام بالدراهم أصلا أو بدلا كما تقدم ثم يعطى عن كل مد يوما لا نصف صاع
وقد روى بكر بن عبد الله المزني كان رجلان من الأعراب محرمين فحاش أحدهما صيدا فقتله الآخر فأتيا عمر وعنده عبد الرحمن بن عوف فقال له عمر ما ترى قال شاة قال وأنا أرى ذلك اذهبا فاهديا شاة فلما مضيا قال أحدهما لصاحبه ما درى أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه فسمعه عمر فردهما فقال هل تقرآن سورة المائدة فقالا لا فقرأ عليهما (* (يحكم به ذوا عدل منكم هديا) *) ثم قال استعنت بصاحبي هذا
وعن قبيصة وصاحب له أنهما أصابا وذكر الحديث فقال لصاحبه إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول فسمعهما عمر فأقبل عليه ضربا بالدرة وقال تقتل الصيد وأنت محرم وتغمص الفتيا إن الله سبحانه قال في كتابه (* (يحكم به ذوا عدل منكم) *) وهذا عبد الرحمن بن عوف وأنا عمر
وهذا يدل على أن الاشتراك في قتل الصيد المحرم يوجب على المشتركين كفارة واحدة لقضاء عمر وعبد الرحمن بن عوف بشاة واحدة على رجلين وبه قال الشافعي
وقال مالك وأبو حنيفة على كل واحد منهم جزاء كامل وهي
المسألة السادسة والعشرون
وهي تنبني على أصلين
أحدهما لغوي قرآني والآخر معنوي
أما اللغوي القرآني فإن كل واحد من القاتلين قاتل نفسا على الكمال
188

والتمام بدليل قتل الجماعة بالواحد لأن كل واحد متلف نفسا على الكمال ومذهب روحا على التمام ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص وقد قلنا بوجوبه اجماعا منا ومنهم فثبت ما قلنا
وأما المعنوي فإن عندنا أن الجزاء كفارة وعند الشافعي أنه قيمة
وتحقيق القول في ذلك أن هذا الجزاء كفارة ومقابل للجناية وكل واحد جنى على إحرامه جناية كاملة وكل واحد منهم يسمى قاتلا والدليل على صحة ذلك كله أن الله سبحانه سمى الجزاء كفارة في كتابه
وأما كمال الجناية لكل واحد منهم على الإحرام فصحيح لأن كل واحد منهم ارتكب محظور إحرامه في قتل الصيد وسمي قاتلا حقيقة فوجب على كل واحد منهم جزاء
فإن قيل إنه يقوم بقيمة الصيد ويلحظ فيه شبهة ولو كان كفارة لاعتبر مطلقا من اعتبار ذلك كله كما في كفارة القتل فلما كان كذلك صار كالدية
قلنا هذا باطل والدليل عليه دخول الصوم عليه ولو كان بدل متلف ما دخل الصيام عليه فإن الصيام إنما موضعه وموضوعه الكفارات لا أبدال المتلفات
جواب آخر وذلك أنه إنما تقدر بقدر المحل لأن الجناية لها محل فيزيد بزيادته وينقص بنقصانه بخلاف كفارة الآدمي فإنه حد لا يتقدر حقيقة فيقدر كفارة
جواب ثالث وذلك أن الجزاء لا يجوز إسقاطه والدية يجوز إسقاطها فدل على اختلافهما بالصفة والموضوع
جواب رابع وذلك أن الذكر والأنثى يستوي في الجزاء ويختلف في الدية وقيمة الإتلاف فدل ذلك كله على الفرق بينهما وظهر أن ذلك من قول الشافعي ضعيف جدا والله عز وجل أعلم
189

المسألة السابعة والعشرون
خالف أبو حنيفة مالكا في فرع وهو إذا قتل جماعة صيدا في حرم وهم محلون فعليهم جزاء واحد بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل وهو ضعيف لأن كل واحد منهم قتل نفسا محرمة فسواء كانت في الحل أو في الحرم فإن ذلك لا يختلف
وأما القاضي أبو زيد فبناه في أسرار الله على أصل وهو أنه قال السر فيه أن الجناية في الإحرام على العباد فقد ارتكب كل واحد منهم محظورا في إحرامه وإذا قتل صيدا في الحرم فإنما أتلف نفسا محترمة فكان بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة فإن كل واحد منهم قاتل دابة ويشتركون في القيمة وهذا مما يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال
وقد عول علماؤنا على أن الرجل يكون محرما بدخوله في الحرم كما يكون محرما بتلبيتة بالإحرام وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي فهو هاتك لها في الحالين وأبو حنيفة أقوى منا على أن علماءنا قالوا إذا قتل الصيد في الحل وهو محرم فعليه الجزاء وإن قتله في الحرم فعليه حكومة وهي
المسألة الثامنة والعشرون
وقال بعضهم لا جزاء في صيد الحرم أصلا
وقال سائر العلماء حرمة الحرم كالإحرام واللفظ فيهما واحد يقال أحرم الرجل إذا تلبس بالإحرام كما يقال أحرم إذا دخل في الحرم حسبما تقدم بيانه فلا معنى لما قاله من أسقط الجزاء فيه ويضعف قول علماءنا لاقتضاء اللفظ لوجوب الجزاء وعموم الحكم في ذلك كله
190

المسألة التاسعة والعشرون
وكذلك كفارة العبد إذا أحرم أو دخل الحرم ككفارة الحر سواء لكن يكون حكمه في الكفارة المالية والبدنية مختلف الحال كما سيأتي في آية الظهار إن شاء الله تعالى
المسألة الموفية ثلاثين
إذا قوم الطعام فاختلف العلماء أين يقوم فقال قوم يقوم في موضع الجناية قاله حماد وأبو حنيفة ومالك وسواهم ومنهم من قال يقوم حيث يكفر بمكة وروي عن الشعبي
وهذه مسألة مشكلة جدا فإن العلماء اختلفوا في الوقت الذي تعتبر به قيمة المتلف فقال قوم يوم الإتلاف وقال آخر يوم القضاء وقال آخرون يلزم المتلف أكثر القيمتين من الإتلاف إلى يوم الحكم واختلف علماؤنا كاختلافهم
والصحيح أنه يلزم القيمة يوم الإتلاف وهذه مسألة محمولة عليها والدليل على ذلك أن الوجوب كان حقا للمتلف عليه فإذا أعدمه المتلف لزمه إيجاده بمثله وذلك في وقت العدم فالقضاء يظهر الواجب في ذمة المتلف ولا يستأنف القاضي إيجابا لم يكن وهذا يعضد مسألتنا الوجوب في موضع الإتلاف فأما في موضع فعل الكفارة فلا وجه له
المسألة الحادية والثلاثون
قال علماؤنا فأما الهدي فلا بد له من مكة
وأما الإطعام فاختلف فيه قول مالك هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة
وأما الصوم فلم يختلف قوله إنه يصوم حيث يشاء وقال حماد وأبو حنيفة يكفر بموضع الإصابة وقال عطاء ما كان من دم أو طعام بمكة ويصوم حيث شاء
وقال الطبري يكفر حيث شاء فأما قول أبي حنيفة إنه يكفر حيث أصاب فلا
191

وجه له في النظر ولا أثر فيه وأما من قال إنه يصوم حيث شاء فلأن الصوم عبادة تختص بالصائم فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات في الحج وغيرها
وأما وجه القول بأن الطعام يكون بمكة فلأنه بدل من الهدي أو نظير له والهدي حق لمساكين مكة فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره وأما من قال إنه يكون بكل موضع وهو المختار فإنه اعتبار بكل طعام وفدية فإنها تجوز بكل موضع والله أعلم
المسألة الثانية والثلاثون قوله تعالى (* (أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره) *))
قال علماؤنا العدل والعدل بفتح العين وكسرها هو المثل ويؤثر عن السكاكي أنه قال عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه وبفتح العين مثله من غير جنسه وأراد أو يصوم صوما مماثلا للطعام ولا يصح أن يماثل الطعام الطعام في وجه أقرب من العدد وقد تقدم توجيهه
ومن العلماء من قال يصوم على عدد المساكين في الطعام لا على عدد الأمداد الأشهر وهو عند علمائنا والكافة ومنهم من قدره بالأمداد وقد قال الشافعي عن كل مد يوما وهو القول الثاني لمالك
وقال أبو حنيفة يصوم عن كل مدين يوما اعتبارا بفدية الأذى واعتبار الكفارة بالفدية لا وجه في الشريعة كما تقدم في نظرائه
المسألة الثالثة والثلاثون
قال بعض علمائنا إنما يفتقر إلى الحكمين في موضعين في الجزاء من النعم والإطعام وليس كذلك بل يحتاج إليهما في الحال كلها وهي تنحصر في مواضع سبعة
الأول هل يحكم في العمد والخطأ أو في العمد وحده
الثاني هل يحكم في قتل الصيد في الحرم كما يكون في الإحرام
الثالث هل يحكم بالجزاء حيوانا أو قيمة
192

الرابع إذا رأى الحيوان جزاء عن حيوان في تعيين الحيوان خلاف كثير لا بد من تسليط نظره عليه حسبما تقدم من اختلاف العلماء فيه هل يستوي صغيره وكبيره كما قال مالك في الكتاب حين جعله كالدية أم لا وهل يراعى صفاته أجمع حتى الجمال والحسن أم تراعى الأصول أو يراعى العيب والسلامة أو هما واحد وهل يكون في النعامة بدنة كما في كتاب محمد وغيره أم يكون فيها القيمة لأنها لا تقارب خلق البقر ولا تبلغ خلق الإبل
الخامس هل الحيوانات كلها تجزئ أم بعضها
السادس هل يقوم المثل بالطعام أو بالدراهم
السابع هل يكون التقويم بموضع الإصابة أم بموضع الكفارة
وهكذا إلى آخر فصول الاختلاف فيرفع الأمر إلى الحكمين حتى يخلص اجتهادهما ما يجب عليه من الوجوه المختلفة فيلزمه ما قالا والله عز وجل أعلم
المسألة الرابعة والثلاثون
إذا قتل محرم صيدا فجزاه ثم قتله ثانية وجب عليه الجزاء
قال علماؤنا لقوله تعالى (* (ومن قتله منكم متعمدا) *) ولم يفصل بين المرة الأولى والثانية وممن تعلق بهذا الدليل أحبار ممن لا يليق بمرتبتهم إيراد هذا الدليل على هذا الوجه فإن كل حكم علق بشرط لا يتكرر بتكرار الشرط فمن قال لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق فإن الطلاق لا يتكرر بتكرار الدخول فإن قام دليل على تكرار الحكم بتكرار الشرط فذلك مأخوذ من الدليل القائم عليه لا من جهة الشرط المضاف إليه كقوله تعالى (* (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) *) فإن الوضوء يتكرر بتكرر القيام مع الحدث بدليل قوله لا يقبل الله صلاة بغير طهور وها هنا تكرر الاسم بتكرر الشرط بقوله (* (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) *
193

) والنهي دائم مستمر عليه فالجزاء لأجل ذلك متوجه لازم ذمته
فإن قيل فقد قال (* (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه) *) ولم يذكر جزاء وهي
المسألة الخامسة والثلاثون
قلنا قوله سبحانه (* (عفا الله عما سلف) *) يعني في الجاهلية لا الإسلام أو عما قبل بيان الحكم فإن الواقع قبله عفو وقوله تعالى (* (ومن عاد) *) وهي
المسألة السادسة والثلاثون
يعني فينتقم الله منه وعليه بما تقدم من الدليل الكفارة
وقال ابن عباس لا يحكم عليه مرتين في الإسلام وهذا لا يصح لما تقدم من تمادي التحريم في الإحرام وتوجه الخطاب عليه في دين الإسلام
ووجه آخر من الدليل وهو قوله (* (ومن قتله منكم متعمدا) *) يعني وهو محرم (* (فجزاء مثل ما قتل من النعم) *
وقد قال بقول ابن عباس الحسن وإبراهيم ومجاهد وشريح ويروى عن سعيد بن جبير أنه سئل عن ذلك فقال نعم نحكم عليه أفيخلع يعني يخرج عن حكم المحرمين كما قال مجاهد إنه إذا قتله متعمدا فقد حل إحرامه لأنه ارتكب محظورا ينافي عبادة فيها فأبطلها كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها
ودليلنا أن الله تعالى أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد وقد بينا في كتب المسائل ما يفسد الحج من محظوراته بما يغني عن إعادته فلا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان شرطا ووصفا ووضعا في الأصل فلا يعتبر أحدهما بالآخر بحال
وقد بينا ذلك في أصول الفقه وفيما تقدم كما أنه قد روي عن زيد بن المعلى
194

أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز عنه ثم عاد فأنزل الله عز وجل نارا من السماء فأحرقته وهذه عبرة للأمة وكف للمعتدين عن المعصية
المسألة السابعة والثلاثون
ما تقدم فيه للصحابة حكم من الجزاء في صيد يبتدئ الآن الحكمان النظر فيه
وقال الشافعي لا ينظر فيما نظرت فيه الصحابة لأنه حكم نفذ وهذا يبطل بقضايا الدين فإن كل حكم أنفذته الصحابة يجوز الاجتهاد فيه ثانيا وذلك فيما لم يرد فيه نص ولا انعقد عليه إجماع وهذا أبين من إطناب فيه
المسألة الثامنة والثلاثون
لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي في أحد قوليه يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين وهذا تسامح منه فإن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين فحذف بعض العدد إسقاط للظاهر وإفساد للمعنى لأن حكم المرء لنفسه لا يجوز ولو كان ذلك جائزا لاستغنى بنفسه عن غيره لأنه حكم بينه وبين الله فزيادة ثان إليه غيره دليل على استئناف الحكم برجلين سواه
الآية السابعة والعشرون
قوله تعالى (* (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون) *)
فيها ثلاث عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله (* (أحل لكم صيد البحر) *))
عام في المحل والمحرم على ما تقدم بيانه من جهة التقسيم والتنويع قبل هذا
المسألة الثانية قوله (* (البحر) *))
هو كل ماء كثير وأصله الاجتماع ولذلك سميت المدائن بحارا ويقال للبلدة
195

البحرة والبحيرة لاجتماع الناس فيها وقد قيل في قوله تعالى (* (ظهر الفساد في البر والبحر) *) إن البحر البلاد والبر الفيافي والقفار
وفائدته أن الله سبحانه خلق برا وبحرا وهواء وجعل لكل مخلوق من هذه المخلوقات الثلاثة فعمارة عمار الهواء الطير وعمارة الماء الحيتان وعمارة الأرض سائر الحيوان وجعل كل ذلك مباحا للإنسان على شروط وتنويع هي مبينة في مسائل الأحكام لقوله تعالى (* (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) *))
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (صيد البحر) *)
وفيه ثلاثة أقوال
الأول ما صيد منه على معنى تسمية المفعول بالفعل حسبما تقدم بيانه
الثاني هو حيتانه قاله مجاهد
الثالث السمك الجري قاله ابن جبير
وهذه الأقوال الثلاثة ترجع إلى قول واحد وهي حيتانه تفسيرا ويرجع من طريق الاشتقاق إلى أنه أراد ما حوول أخذه بحيلة وعمل ويدخل تحت قوله ما صيد منه وهو أصل المسألة فكأنه قال أحل لكم أخذ ما في البحر من الحيتان بالمحاولة وأحل لكم طعامه وهو ما أخذ بغير محاولة وهي
المسألة الرابعة
والذي يؤخذ بغير محاولة ولا حيلة على قسمين
أحدهما ما طفا عليه ميتا
والثاني ما جزر عنه الماء فأخذه الناس
وكذلك اختلف الناس في قوله تعالى (* (وطعامه) *)
على ثلاثة أقوال
الأول ما جزر عنه
196

والثاني ما طفا عليه قاله أبو بكر وعمر وقتادة وهي رواية معن عن سفيان قال صيد البحر ما صيد وطعامه ميتته
الثالث مملوحه قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقد روى أبو داود عن جابر ابن عبد الله قال قال رسول الله ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه
وقال أبو داود الصحيح أنه موقوف على جابر
وروى مالك والنسائي أن رسول الله قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وهذا نص لا غبار عليه ولا كلام بعده والله أعلم
وتعلق أصحاب أبي حنيفة الذين قالوا إن ميتة البحر حرام بعموم قوله تعالى (* (حرمت عليكم الميتة) *) وهي كل حيوان مات حتف أنفه من غير ذكاة
وقد بينا أن هذا الحديث يخص هذا العموم لا سيما وقد قال به الخليفتان أبو بكر وعمر وثبت بحديث جابر عن أبي عبيدة ما تقدم من أكلهم الحوت الميت في غزاة سيف البحر ومن ادخارهم منه جزءا حتى لقوا النبي فأكل منه
197

فإن قيل هذه الآية إنما سيقت لبيان ما يحرم بالإحرام وما لا يحرم به لا لبيان ما حرم بنفسه وإنما بيان هذه الحرمة في قوله تعالى (* (حرمت عليكم الميتة) *) إلى آخرها والمراد بالحديث السمك المذكور وفي الحديث الآخر وهو قوله أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالسمك والجراد وهذه أعمدة أصحاب أبي حنيفة
قلنا هذا قلب المبنى وإفساد المعنى لأن هذه الآية التي نحن فيها إنما جاءت لبيان تحليل الصيد وهو أخذ ما لا قدرة للعبد عليه ولا أنس له به وصفة تذكيته حتى يحل ولهذا قلنا إن الله سبحانه خاطب به المحلين فبين ركن التحليل في ذلك وأخذه بالقهر والحيلة في كباره وباليسر في صغاره ثم أطلق تحليل صيد البحر في بابه وزاد ما لا يصاد منه وإنما يرميه البحر رميا ثم قيد تحريم صيد البر خاصة بالإحرام وبقي الباقي على أصل الإباحة
فأما المحرمات وأجناسها فقد تقدم في صدر السورة وغيرها
وأما قوله تعالى (* (حرمت عليكم الميتة) *) فهو عام خصصه هو الطهور ماؤه الحل ميتته في ميتة الماء خاصة
وأما حديث أحلت لنا ميتتان ودمان فلم يصح فلا يلزمنا عنه جواب ثم نقول إنه لو كان صحيحا لكان قوله السمك عبارة عن كل ما في البحر اسم عام وقد يطلق بالعرف في بعضها فيحمل على أصل الإطلاق ألا ترى إلى قولهم عندنا لبعض الحوت في بعض البلدان سمك دون سائرها
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وللسيارة) *
فيه قولان
أحدهما للمقيم والمسافر كما جاء في حديث أبي عبيدة إنهم أكلوه وهم
198

مسافرون وأكل النبي وهو مقيم فبين الله تعالى أنه حلال لمن أقام كما أحله في حديث أبي عبيدة لمن سافر
الثاني أن السيارة هم الذين يركبونه كما ثبت في أصل الحديث أن رجلا يقال له العركي سأل رسول الله فقال إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ له بماء البحر فقال رسول الله هو الطهور ماؤه الحل ميتته
قال علماؤنا فلو قال له النبي نعم لما جاز الوضوء به إلا عند خوف العطش لأن الجواب مرتبط بالسؤال ولكن النبي ابتدأ بتأسيس الحكم وبيان الشرع فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته فزاد في جواب السائل جوابين
أحدهما قوله هو الطهور ماؤه ابتداء
الثاني الحل ميتته
المسألة السادسة قوله تعالى (* (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) *))
قد بينا أن التحريم ليس بصفة للأعيان وإنما يتعلق بأفعال فمعنى قوله تعالى (* (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) *) إن كان الصيد الفعل فمعناه مع الاصطياد كله على أنواعه وإن كان معنى الصيد المصيد على معنى تسمية المفعول بالفعل فيكون معناه حرم عليكم صيد البر وهذا من غريب المتعلقات للتكلف بالأفعال وتفسير وجه التعلق فصار الصيد في البر في حق المحرم ممتنعا بكل وجه وكانت إضافته إليه كإضافة الخمر إلى المكلفين والميتة إذ إن التحريم لا يختلف باختلاف المحرمات
وقد روى الأئمة عن أبي قتادة أنه قال خرجنا مع رسول الله حتى إذا كنا بالقاحة ومنا المحرم ومنا غير المحرم إذ أبصرت أصحابي يتراءون فنظرت فإذا حمار وحش فأسرجت فرسي وأخذت رمحي ثم ركبت فسقط سوطي فقلت
199

لأصحابي وكانوا محرمين ناولوني السوط فقالوا والله لا نعينك عليه بشيء فنزلت فتناولته ثم ركبت فأدركته من خلفه وهو وراء أكمة فطعنته برمحي فعقرته فأتيت به أصحابي فقال بعضهم كلوه وقال بعضهم لا نأكله وكان النبي معنا فحركت دابتي فأدركته فقال هو حلال فكلوه
وفي بعض الروايات هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء قالوا لا قال فكلوا هل معكم من لحمه شيء قالوا معنا رجله قال فأخذها رسول الله فأكلها
وروى الأئمة عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى إلى النبي حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه قال فلما رأى رسول الله ما في وجهه من الكراهة قال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم
وروى الترمذي والنسائي عن جابر أن النبي قال صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم
قال أبو عيسى هو أحسن حديث في الباب
200

وروي عن علي أنه كان عند عثمان فأتي عثمان بلحم صيد صاده حلال فأكل عثمان وأبى علي أن يأكل فقال والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا فقال علي وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وفي بعض الراوايات إنما صيد قبل أن نحرم فقال علي ونحن قد بدأنا وأهللنا ونحن حلال أفيحل لنا اليوم
وعن ابن عباس أنه كره لحم الصيد وهو محرم أخذ له أو لم يأخذ وإن صاده الحلال
وعن أبي هريرة مثله وعن سعيد بن جبير وطاوس مثله
وهذا ينبني على أن المحرم الفعل بقوله صيد البر أو المحرم مضمر والمراد بالصيد المصيد والذي ثبت على الدليل أن حكم التحريم إنما تعلق بالمصيد لا بالصيد فيكون التحريم يتعلق بتناول الحيلة في تحصيله أو بقصد تناول الحيلة في تحصيله له بين ذلك حديثه صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم فإذا لم يتناول المحرم صيده بنفسه ولا قصد به حل له أكله ولا يحل له أخذه ولا ملكه لأن النبي رده على الصعب بن جثامة لأنه كان حيا والمحرم لا يملك الصيد
وقيل إنما رده لأنه صيد له ويكون بذلك داخلا في الحديث المذكور
وقال أبو حنيفة إذا لم يعن فيه بدلالة ولا سلاح جاز له أكله وإن كان صيد من أجله
والحديث المتقدم يرد عليه وهو قوله ما لم تصيدوه أو يصد لكم
المسألة السابعة إذا أحرم وفي ملكه صيد
ففيه قولان
أحدهما لا يحل له إمساكه ويلزمه إرساله
والآخر يمسكه حتى يحل فيه تفصيل بيانه في كتب المسائل
وللشافعي قولان مثلهما
وجه القول بإرساله قوله تعالى (* (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) *
201

وهذا عام في منع الملك والتصرف كله
وجه القول بإمساكه أنه معنى يمتنع مع ابتداء الإحرام فلا يمتنع من استدامة ملكه أصله النكاح
المسألة الثامنة
فإن صاده الحلال في الحل فأدخله في الحرم جاز له التصرف فيه بكل نوع من ذبحه وأكل لحمه
وقال أبو حنيفة لا يجوز ودليلنا أنه معنى يفعل في الصيد فجاز في الحرم الحلال كالإمساك والشراء ولا خلاف فيهما
قال علماؤنا ولأن المقام في الحرم يدوم والإحرام ينقطع فلو حرمنا عليه ذلك في الحرم لأدى إلى مشقة عظيمة فسقط التكليف عنه فيه لذلك
وهذا من باب تخصيص العموم بالمصالح وقد مهدناه في أصول الفقه والمصلحة من أقوى أنواع القياس
المسألة التاسعة
إذا كان المحرم محرما بدخول حرم المدينة لم يجز له الاصطياد فيه
وقال أبو حنيفة يجوز له ذلك
ودليلنا قوله اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك حرم مكة وإني أحرم المدينة بمثل ما حرم به إبراهيم مكة ومثله معه لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها
وهذا نص صحيح صريح خرجه الأئمة واللفظ لمسلم
202

المسألة العاشرة
إذا صاد بالمدينة كان آثما ولم يكن عليه جزاء إن قتله بها
وقال سعد جزاؤه أخذ سلبه وقال ابن أبي ذئب عليه الجزاء
أما قول سعد فإن مسلما خرج عنه أن رجلا صاد بالمدينة فلقيه سعد فأخذ سلبه فكلم في رده فقال ما كنت لأرد شيئا نفلنيه رسول الله وهذا مخصوص بسعد لأن النبي لم يقل من لقي صائدا بالمدينة فليستلبه ثيابه كائنا من كان
وأما ابن أبي ذئب فاحتج به بأنه حرم فكان الجزاء على من قتل فيه صيدا كما يفعل في حرم مكة
وقال علماؤنا لو كان حرم المدينة كحرم مكة ما جاز دخولها إلا بالإحرام فافترقا
وقد جعل النبي جزاء المتعدي فيه ما روي أن من أحدث أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا فأرسل الوعيد الشديد ولم يذكر الكفارة
المسألة الحادية عشرة
إذا دل الحرام حلالا على صيد فقتله الحلال فقد اختلف فيه علماؤنا والمشهور أنه لا ضمان عليه وبه قال الشافعي
وقال أشهب يلزمه الضمان وبه قال أبو حنيفة
203

والمسألة غامضة المأخذ بعيدة الغور ولعلمائنا فيها ثلاثة طرق بيناها في مسائل الخلاف
أقواها طريق منشأ غور
وقال الجوني الضمان إنما يجب في الشريعة بأحد ثلاثة أشياء إما بإتلاف مباشر كالقتل أو بتلف تحت يد عادية كما لو مات الحيوان في يد الغاصب أو بسبب يتعلق بالفاعل كحفر البئر في جهة التعدي ولم يوجد ها هنا شيء من ذلك فبطل تعلق الجزاء به
وعول من أوجب الجزاء بقول النبي في حديث أبي قتادة المتقدم هل أشرتم هل أعنتم وهذا يدل على وجوب الجزاء لو أشار أو أعان عليه
قلنا إنما يدل على تحريم ذلك فأما على وجوب الجزاء فلا
المسألة الثانية عشرة
اختلف علماؤنا في الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم لأنه من حيوان البحر أم لا يحل لأنه من حيوان البر على قولين ولذلك اختلف الصدر الأول
والصحيح منعه لأنه تعارض فيه دليلان دليل تحليل ودليل تحريم فغلبنا دليل التحريم احتياطا والله عز وجل أعلم
المسألة الثالثة عشرة
قال أبو يوسف ما أخرج من اللؤلؤ والعنبر من البحر يخمس وهو مذهب عمر لأن البحر شبيه البر وقسيمه ونظيره إذ الدنيا بر وبحر فنقول فائدة أخرجت من الباطن فوجب فيه الخمس أصله الركاز أو لأنه أحد قسمي المخلوقات الأرضية فجاز أن يجب حق الله فيما يوجد في باطنه أصله الركاز والتعليل للبحر
ودليلنا ما روى عن ابن عباس أنه قال لا زكاة في العنبر إنما هو شيء يقذفه البحر ولأنه من فوائد البحر فلا يجب فيه حق أصله السمك
204

وهذا الفقه صحيح وذلك لأن البحر لم يكن في أيدي الكفرة فتجري فيه الغنيمة وإنما هو من جملة المباح المطلق كالصيد
فإن قيل فما تقولون في ذهب يوجد في البحر
قلنا لا رواية فيه ويحتمل أن يقال إنه يجب لأن البحر ليس بمعدن للذهب فوجوده فيه دليل على أن السيول قذفته فيه
وقال بعض الحنفية يحتمل ألا يجب فيه شيء لأن في البحر جبالا لا يد لأحد عليها
الآية الثامنة والعشرون
قوله تعالى (* (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) *)
فيه تسع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (جعل الله) *)
وهو يتصرف على ثلاثة أوجه
الأول بمعنى سمى ومنه قوله تعالى (* (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) *) وقد بيناه في كتاب المشكلين بما ينبغي
الثاني بمعنى خلق كما ورد في القرآن كثيرا منها قوله سبحانه (* (وجعل الظلمات والنور) *)
الثالث بمعنى صير كقولك جعلت المتاع بعضه على بعض
وتحقيقه ها هنا خلق ثانيا وصفا لشيء مخلوق أولا وذلك أنه خلق الكعبة وجودا أولا ثم خلق فيها صفات ثانيا فخلق عام في الأول والثاني وجعل خاص في الثاني خبر عن الصفات التي فيها على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
205

المسألة الثانية قوله تعالى (* (الكعبة) *)
وفيها قولان أحدهما أنها سميت كعبة لتربعها قاله مجاهد وعكرمة
الثاني أنها سميت كعبة لنتوئها وبروزها فكل ناتئ بارز كعب مستديرا كان أو غير مستدير وهذا هو الأصح يقال كعب ثدي المرأة وهذه صفتها هنا وقد شرحنا أمرها في إيضاح الصحيحين
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (البيت الحرام) *))
سماها الله سبحانه بيتا لأنها ذات سقف وجدار وهي حقيقة البيتية وإن لم يكن بها ساكن ولكن جعل لها شرف الإضافة بقوله (أن طهرا بيتي للطائفين) وقال (* (وليطوفوا بالبيت العتيق) *) على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة قوله (* (الحرام) *)
سماها الله حراما بتحريمه إياها قال النبي إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فهي حرام بحرمة الله تعالى لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرا فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا له إن الله سبحانه إذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب
رواه الكل من الأئمة وثبت عنه في رواية الأئمة أنه قال في حجة الوداع أي شهر هذا فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس ذا الحجة قلنا بلى قال أي بلد هذا فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه
206

فقال أليس البلدة يعني قوله تعالى (* (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء) *)
وفي رواية أنه قال أليس البلد الحرام قلنا الله ورسوله أعلم
ومعنى قوله تعالى حرمها أي بعلمه وكتابه وكلامه وإخباره بتحريمها وخلقه لتحريمها كل ذلك منه صحيح وإليه منسوب
فإن قيل ومن أي شيء حرمها
قلنا من سطوة الجبابرة ومن ظلمة الكفرة فيها بعد محمد
فإن قيل فقد قال في الحديث الصحيح ليخربن الكعبة ذو السويقتين من الحبشة
قلنا هذا عند انقلاب الحال وانقضاء الزمن وإقبال الساعة وسيأتي بيانه الآن إن شاء الله تعالى
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (قياما للناس) *
قيام الشيء قوامه وملاكه أي يقومون به قياما كما قال (* (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * أي يقومون بها
المسألة السادسة في معناها الحقيقي
فيه ثلاثة أقوال
207

الأول قال سعيد بن جبير قياما للناس أي صلاحا
الثاني قياما للناس أي أمنا
الثالث يعني في المناسك والمتعبدات قاله الزجاج وغيره
والقول الأول يدخل في الثاني لأن الأمن من الصلاح ويدخل التمكن من المناسك والعبادات فإن لكل مصلحة
وفائدة ذلك وحكمته أن الله سبحانه خلق الخلق في الجبلة أخيافا يتقاطعون تدابرا واختلافا ويتنافسون في لف الحطام إسرافا لا يبتغون فيه انصافا ولا يأتمرون فيه برشد اعترافا فأمرهم الله سبحانه بالخلافة وجعل فيهم المملكة وصرف أمورهم إلى تدبير واحد يزعهم عن التنازع ويحملهم على التألف من التقاطع ويردع الظالم عن المظلوم ويقرر كل يد على ما تستولي عليه حقا ويسوسهم في أحوالهم لطفا ورفقا وأوقع في قلوبهم صدق ذلك وصوابه وأراهم بالمعاينة والتجربة صلاح ذلك في ابتداء الأمر ومآله ولقد يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن فالرياسة للسياسة والملك لنفي الملك وجور السلطان عاما واحدا أقل إذاية من كون الناس فوضى لحظة واحدة فأنشأ الله الخليقة لهذه الفائدة والمصلحة على الملوك والخلفاء كلما بان خليفة خلفه آخر وكلما هلك ملك ملك بعده غيره ليستتب به التدبير وتجري على مقتضى رأيه الأمور ويكف الله سبحانه عادية الجمهور فإذا بعث نبيا سخر الله سبحانه له الملك في وقته إن كان ضعيفا فكان صغوه إليه وعونه معه كما فعل بدانيال وأمثاله
وإن بعثه قويا يسر له الاستيلاء على الزمان وأهله وأعرى أرض السلطان عن ظله وجعل الأمر في الدين وأهله كما فعل بموسى ولما أراده الله من التيسير على نبيه محمد والتقديم له والتشريف لقومه أسكن أباه إسماعيل البلدة الحرام حيث لا إنس ولا أنيس واستخرج فيها ذريته وساق إليه من الجوار من عمرت به تلك البلاد والديار وجردهم عن الملك تقدمة لرئاسة الملة وكانوا على جبلة الخليقة
208

وسليقة الآدمية من التحاسد والتنافس والتقاطع والتدابر والسلب والغارة والقتل والثارة ولم يكن بد في الحكمة الإلهية والمشيئة الأولية من كاف يدوم مع الحال ورادع يحمد معه المآل فعظم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام لحقه وأوقع في نفوسهم هيبته لحكمته وعظم بينهم حرمته لقهره فكان من لجأ إليه معصوما به وكان من اضطهد محميا بالكون فيه ولذلك قال تعالى (* (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) *) بيد أنه لما كان موضعا مخصوصا لا يدركه كل مظلوم ولا يناله كل خائف جعل الشهر الحرام
وهي
المسألة السابعة
ملجأ آخر فقرر في قلوبهم وأوقع في نفوسهم حرمة الأشهر الحرم فكانوا لا يروعون فيها سربا ولا يطلبون فيها ذنيا ولا يتوقعون فيها ثأرا حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه
واقتطعوا فيها ثلث الزمان ووصلوا منها ثلاثة متوالية فسحة وراحة ومجالا للسياحة في الأمن واستراحة وجعلوا منها واحدا مفردا في نصف العام دركا للاحترام ثم يسر لهم الإلهام وشرع على ألسنة الرسل الكرام الهدي والقلائد فكانوا إذا أخذوا بعيرا أشعروه دما وعلقوا عليه نعلا روى ابن القاسم وابن عبد الحكم عن مالك وهي
المسألة الثامنة
أن القلائد حبل يفتله ونعلان يقلدهما والنعل الواحد تجزي ولذلك روى ابن وهب عن ابن عمر أنه كان يقلد نعلين وربما قلد نعلا واحدا فإذا فعل الرجل ذلك في بعيره أو في نفسه لم يرعه ذلك حيث لقيه وكان الفيصل بينه وبين من طلبه أو ظلمه حتى جاء الله بالإسلام وبين الحق بمحمد عليه السلام فانتظم الدين في سلكه وعاد الحق إلى نصابه وبهذا وجبت الخلافة هدى ومنع الله الخلق بعد ذلك أن يترك
209

سدى فأسندت الإمامة إليه وانبنى وجوبها على الخلق عليه وهو قوله سبحانه وتعالى (* (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) *))
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض) * إلى آخر الآية
المعنى أنه دبر ذلك من حكمه وأنفذه من قضائه بقدرته على مقتضى علمه ليعلموا بظهور هذا التقدير وانتظامه في التدبير عموم علمه وشمول قدرته وإحاطته بذلك كله كيفما تصرف أو تقدر
الآية التاسعة والعشرون
قوله سبحانه وتعالى (* (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون) *)
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في الخبيث
وفيه قولان
أحدهما الكافر والثاني الحرام
وأما الطيب وهي المسألة الثانية
المسألة الثانية الطيب
ففيه أيضا قولان
أحدهما المؤمن الثاني الحلال
210

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ولو أعجبك كثرة الخبيث) *))
وفي معناه قولان
أحدهما أن الخطاب للنبي والمراد أمته فإن النبي لا يعجبه الكفار ولا الحرام وإنما يعجب ذلك الناس
الثاني أن المراد به النبي وإعجابا به له أنه صار عنده عجبا مما يشاهد من كثرة الكفار والمال الحرام وقلة المؤمنين وقلة المال الحلال وقد سبق علم الله تعالى وحكمه بذلك
والدليل عليه الحديث الصحيح قال النبي يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم ابعث بعث النار فيقول يا رب وما بعث النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون للنار وواحد للجنة
المسألة الرابعة في وجه عدم استوائه ووجوب تفاوته
إن الحرام يؤذي في الدين ويجب فسخه ورده والحلال ينفع ويجب إمضاؤه ويصح تنفيذه قال الله تعالى (* (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) *) وقال (* (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) *) وقال سبحانه وتعالى (* (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) *) فلا يعجبنك كثرة المال الربوي ونقصان المال بصدقته التي تخرج منه فإن الله يمحق ذلك الكثير في
العاقبة وينمي المال الزكاتي بالصدقة وبهذا احتج من علمائنا من رأى أن البيع الفاسد يفسخ ولا يمضى بحوالة سوق ولا بتغير بدن فيستوي في إمضائه مع البيع الصحيح بل يفسخ أبدا
211

وقد احتج أيضا من زعم أن من اكترى قاعة إلى أمد فكمل أمده وقد بنى بها وأسس فأراد صاحب الأرض أن يخرجه فإنه يدفع إليه قيمة بنائه قائما ولا يهدمه عليه كما يفعل بالغاصب إذا بنى في البقعة المغصوبة
ونظر آخرون إلى أن البيع إذا فسخ بعد الفوت يكون فيه غبن على أحد المتعاقدين ولا عقوبة في الأموال وكذلك إذا كمل أمد الباني فأي حجة له وهو يعلم أن البنيان إلى أمد فإن صاحب العرصة سيحتاج إلى عرصته لمثل ما هي عليه من البناء أو لغيره فيحمله ذلك على أن يلزمه إخلاءها مما شغلها به وهذه كلها حقوق مرتبطة بحقائق وأدلة تتفق تارة وتفترق أخرى وتتباين تارة وتتماثل أخرى
وتحقيق ذلك على التفصيل في مسائل الخلاف
المسألة الخامسة حقيقة الاستواء
الاستمرار في جهة واحدة ومثله الإستقامة وضده الاعوجاج وذلك يتصرف إلى أربعة أوجه
الأول الاستواء في المقدار ولا يتساوى الخبيث والطيب مقدارا في الدنيا لأن الخبيث أوزن والطيب دنيا أوزن أخرى
الثاني الاستواء في المكان ولا يستويان أيضا فيه لأن الخبيث في النار والطيب في الجنة
الثالث الاستواء في الذهاب ولا يتساويان أيضا فيه لأن الخبيث يأخذ جهة الشمال والطيب يأخذ في جهة اليمين
الرابع الاستواء في الانفاق ولا يستويان أيضا فيه لأن منفق الخبيث يعود عليه الخسران في الدارين ومنفق الطيب يربح في الدارين أما خسران الأول فنقص ماله
212

في الدنيا ونقص ماله في الآخرة وربح منفق الطيب في الدنيا حسن النية وصدق الرجاء في العوض وربحه في الآخرة ثقل الميزان
الآية الموفية ثلاثين
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) *)
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك أربعة أقوال
الأول روي في الصحيح عن أنس قال خطبنا رسول الله خطبة ما سمعنا مثلها قال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثرا قال فغطى أصحاب رسول الله وجوههم ولهم حنين فقال رجل من أبي فقال أبوك فلان فنزلت (* (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) *)
الثاني ثبت في الصحيح عن ابن عباس كانوا يسألون رسول الله استهزاء فيقول الرجل من أبي ويقول الرجل تضل ناقته أين ناقتي فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية (* (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) *)
الثالث روى الترمذي عن علي قال لما نزلت (* (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *) قالوا يا رسول الله أفي كل عام قال لا ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله تبارك وتعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) *) وقد تقدم في سورة آل عمران بعضه
213

الرابع أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام قاله ابن عباس
المسألة الثانية قوله تعالى (* (إن تبد لكم تسؤكم) *))
هذا المساق يعضد من هذه الأسباب رواية من روى أن سببها سؤال ذلك الرجل من أبي لأنه لو كشف له عن سر أمه ربما كانت قد بغت عليه فيلحق العار بهم ولذلك روي أن أم السائل قالت له يا بني أرأيت أمك لو قارفت بعض ما كان يقارفه أهل الجاهلية أكنت تفضحها فكان الستر أفضل
ويعضده أيضا رواية من روى عن تفسير فرض الحج فإن تكراره مستثنى لعظيم المشقة فيه وعظيم الاستطاعة عليه وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال إن الله أمركم بأشياء فامتثلوها ونهاكم عن أشياء فاجتنبوها وسكت لكم عن أشياء رحمة منه فلا تسألوا عنها
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) *
وهذا يشهد لكونها من باب التكليف الذي لا يبينه إلا نزول القرآن وجعل نزول القرآن سببا لوجوب الجواب إذ لا شرع بعد موت النبي يحقق ذلك قوله تعالى (* (عفا الله عنها) *) أي أسقطها وهي
المسألة الرابعة
والذي يسقط لعدم بيان الله سبحانه فيه وسكوته عنه هو باب التكليف فإنه بعد موت النبي تختلف العلماء فيه فيحرم عالم ويحلل آخر ويوجب مجتهد ويسقط آخر واختلاف العلماء رحمة للخلق وفسحة في الحق وطريق مهيع إلى الرفق
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (قد سألها قوم من قبلكم) *))
فيه أربعة أقوال
214

الأول قوم عيسى عليه السلام في المائدة
الثاني قوم صالح في الناقة
الثالث قريش في الصفا ذهبا
الرابع بنو إسرائيل كانت تسأل فإذا عرفت بالحكم لم تقر ولم تمتثل
والصحيح أنه عام في الكل ولقد كفرت العيسوية بعيسى وبالمائدة والصالحية بالناقة والمكية بكل ما شهدت من آية وعاينت من معجزة مما سألته ومما لم تسأله على كثرتها وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم
المسألة السادسة
اعتقد قوم من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية وهو جهل لأن هذه الآية قد صرحت بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه ولا مساءة في جواب نوازل الوقت وقد كان من سلف من السلف الصالح يكرهها أيضا ويقول فيما يسأل عنه من ذلك دعوه دعوه حتى يقع يريد فإن الله سبحانه وتعالى حينئذ يعين على جوابه ويفتح إلى الصواب ما استبهم من بابه وتعاطيه قبل ذلك غلو في القصد وسرف من المجتهد وقد وقف أعرابي على ربيعة الرأي وهو يفرع المسائل فقال ما العي عندنا إلا ما هذا فيه منذ اليوم وإنما ينبغي أن يعتنى ببسط الأدلة وإيضاح سبل النظر وتحصيل مقدمات الاجتهاد وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد فإذا عرضت النازلة أتيت من بابها ونشدت في مظانها والله يفتح في صوابها
المسألة السابعة
وهم بعض المفسرين في هذه الآية في ثلاثة فصول
الأول قال إن قوله (* (لا تسألوا) *) إلى قوله (* (تسؤكم) * سؤال عما لا يعني وليس كذلك بل هو سؤال عما يضر ويسوء ففرق بين أن يكون النهي عن شيء يضر وبين أن يكون عما لا يعني وهذا بين
215

الثاني قال (* (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) *) يعني وإن تسألوا عن غيرها لأنه نهاهم فكيف ينهاهم ويقول إنه يبين لهم إن سألوه عنها وهذا استبعاد محض عار عن البرهان وأي فرق أو أي استحالة في أن يقال لا تسأل فإنك إن سألت يبين لك ما يسوءك فالسكوت عنه أولى بك وإن الله تعالى قد عفا عنها لك
الثالث قوله (* (قد سألها قوم من قبلكم) *)
قال فهذا السؤال لغير الشيء والأول والثاني هو سؤال عن غير الشيء وهذا كلام فاتر مع أنه قد تقدم ضده حين قال إن السؤال الثاني هو سؤال عن الشيء وفيما قدمناه بلاغ في الآية والله عز وجل أعلم وبه التوفيق
الآية الحادية والثلاثون
قوله تعالى (* (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون) *)
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (جعل) *))
وقد تقدم تقسيمه وتفسيره ومعنى اللفظ ها هنا ما سمى الله ذلك حكما ولا يعتد به شرعا بيد أنه قضى به علما وأوجده بقدرته وإرادته خلقا فإن الله سبحانه خالق كل شيء من خير وشر ونفع وضر وطاعة ومعصية
المسألة الثانية في تفسير المسميات فيها لغة
فالبحيرة هي الناقة المشقوقة الأذن لغة يقال بحرت أذن الناقة أي شققتها
والسائبة هي المخلاة لا قيد عليها ولا راعي لها
والوصيلة في الغنم كانت العرب إذا ولدت الشاة أنثى كانت لهم وإن ولدت
216

ذكرا كانت لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فكان الكل للآلهة ولم يذبحوا الذكر
والحامي كانت العرب إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا حمى ظهره فسيبوه لا يركب ولا يهاج
ولهذه الآية تفسير طويل باختلاف كثير يرجع إلى ما أوضحه مالك ومحمد بن إسحاق
قال ابن وهب قال مالك كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيبونها فأما الحامي فمن الإبل كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه وأما الوصيلة فمن الغنم ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها
وروى ابن القاسم وغيره عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله قال أول من نصب النصب وسيب السوائب وغير عهد إبراهيم عمرو بن
لحي ولقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار بريحه
قال وأول من بحر البحائر رجل من بني مدلج عمد إلى ناقتين له فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما فقال رسول الله لقد رأيتهما في النار يخبطانه بأخفافهما ويعضانه بأفواههما
ونحوه علي بن نافع عن مالك قال لقد رأيته يؤذي أهل النار بريحه ولم يزد
وروى أشهب عن مالك السوائب الغنم وقال محمد بن إسحاق البحيرة بنت السائبة والسائبة وهي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها وخلي سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها فهي البحيرة بنت السائبة
217

والوصيلة الشاة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر جعلت وصيلة قالوا قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم
وروي عن غير ابن إسحاق فكان ما ولدت بعد ذلك لذكورهم دون إناثهم
قال ابن إسحاق والحامي الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره فلم يركب ظهره ولم يجز وبره وخلي في إبله يضرب لا ينتفع منه بشيء بغير ذلك
وقال ابن عباس البحيرة الناقة والوصيلة الشاة والحامي الفحل وسائبة يقول يسيبونها لأصنامهم
وروي أن رسول الله رأى عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار قال فسألته عمن بيني وبينه من الناس قال هلكوا
وروي أن سبب نصب الأوثان وتغيير دين إبراهيم أنه خرج من مكة إلى الشام فلما قدم مأرب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق أولاد عمليق ويقال عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون قالوا هذه أصنام نستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال لهم أفلا تعطوني منها صنما أسير به إلى أرض العرب فيعبدوه فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأخذ الناس بعبادته وتعظيمه فلما بعث الله سبحانه محمدا بالحق أنزل عليه (* (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) *) وذلك لأنهم كانوا بزعمهم يفعلون ذلك لرضا ربهم وفي طاعته وطاعة الله ورضاه إنما تعلم من قوله ولم يكن
218

عندهم لله بذلك قول فكان ذلك مما يفترونه على الله وأنزل الله عليه (* (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم) *) وأنزل عليه (* (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون) *) وأنزل عليه (* (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *) وأنزل عليه (* (وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) *))
المسألة الثالثة
روى أبو هريرة قال سمعت رسول الله يقول لأكثم بن الجون رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله قال لا لأنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي
وروى أبو الأحوص عون بن مالك بن نضلة الجشمي عن أبيه أنه وفد على
219

النبي فقال أرب إبل أنت أم رب غنم فقال من كل المال آتاني الله فأكثر وأطيب فقال هل تنتج إبلك صحاحا آذانها فتعمد إلى المواسي فتقطع آذانها فتقول هذه بحر وتشق جلودها فتقول هذه صرم فتحرمها عليك وعلى أهلك قال نعم قال فإن الله تعالى قد أحل لك ما آتاك وموسى الله أحد وساعد الله أشد
المسألة الرابعة
لما ذم الله تعالى العرب على ما كانت تفعله من ذلك كان ذلك تحذيرا للأمة عن الوقوع في مثل ذلك من الباطل ولزمهم الانقياد إلى ما بين الله تعالى من التحليل والتحريم دون التعلق بما كان يلقيه إليهم الشيطان من الأباطيل
قال محمد بن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول قال مالك بن أنس الحبس الذي جاء محمد بإطلاقها التي في كتاب الله تعالى (* (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) *)
قال الشافعي هذا الذي كلم به مالك بن أنس أبا يوسف عند هارون وهذه إشارة إلى أن أبا يوسف خالف مالكا في الأحباس ورأى رأي شيخه أبي حنيفة في أن الحبس باطل
وروى عبد الملك بن عبد العزيز قال حضرت مالكا وقد قال له رجل من أهل العراق عن صدقة الحبس فقال إذا حيزت مضت قال العراقي إن شريحا قال لا حبس عن كتاب الله فضحك مالك وكان قليل الضحك وقال يرحم الله شريحا لو درى ما صنع أصحاب رسول الله ها هنا
220

وقد روي أن مالكا قال له أبو يوسف بحضرة الرشيد إن الحبس لا يجوز فقال له مالك فهذه الأحباس أحباس رسول الله بخيبر وفدك وأحباس أصحابه
فأما حظ رسول الله فثبت عنه أنه قال إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة
وأما أصحابه فروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة وزيد بن ثابت ورافع بن خديج وخالد بن الوليد وجابر بن عبد الله وابن عمر وأم سلمة وحفصة وقد روى حديث عمر جماعة قالوا إن عمر جاء إلى النبي فقال يا رسول الله إني أصبت مالا بخيبر لم أصب قط مالا أنفس منه يعني بسمع وإني أريد أن أتصدق به فقال النبي احبس الأصل وسبل الثمرات وأشار به إلى الصدقة الدائمة فإنه لو تصدق به عمر صدقة فبيع لانقطع أجره في الحبس وكتب عمر في شرطه هذا ما تصدق به عمر بن الخطاب صدقة لا تباع ولا تورث ولا توهب للفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف غير متأثل مالا وجاء بألفاظ مختلفة هذه أمهاتها
وتعلق أبو حنيفة بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعل من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفسها عنها وهذا لا حجة فيه لأن الله سبحانه عاب عليهم أن يتصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم أو تكليف فرض عليهم فإن قيل إنما عاب عليهم أن نقلوا الملك إلى غير مالك والملك قد عينه الله تعالى في الأموال وجعل الأيدي تتبادل فيه بوجوه شرعية أو تبطل في الأعيان بمعان قريبة كالعتق والهدي فأما هذه الطريق فبدعة
قلنا بل سنة كما تقدم
221

جواب ثان وذلك أن الحبس عندنا لا ينقل الملك بل يبقى على حكم مالكه وإنما يكون الحبس في الغلة والمنفعة على أحد القولين وفي القول الثاني ينقل الملك إلى المحبوس عليه وهو مالك
فإن قيل إنما كان يصح هذا لو كانوا معينين فأما المجهول والمعدوم فلا ينتقل الملك إليه
قلنا هذا يبطل بأربعة مسائل الأول المسجد الثانية المقبرة الثالثة القنطرة قالوا يصح هذا وهو حبس على معدوم ومجهول وهو الرابع
جواب خامس وذلك أن أبا حنيفة ناقض فقال إذا أوصى بالحبس جاز وهذه المناقضات الخمس لا جواب له عنها إلا وينعكس عليهم في مسألتنا ولهم آثار لم نرض ذكرها لبطلانها
المسألة الخامسة في عتق السائبة
قال أصبغ عن ابن القاسم في العتبية أكره عتق السائبة لأنه كهبة الولاء
وقال عيسى أكرهه وأنهى عنه
قال سحنون لا يعجبنا كراهيته له وهو جائز كما يجوز أن يعتق عن غيره يريدان ولا يكون ذلك هبة للولاء كذلك في السائبة وهذا الذي قالاه صحيح على تعليله وأما لو علل الكراهة بأنها لفظة مذمومة شرعا فلا يتقرب بها إذ له في غيرها من ألفاظ العتق في كنايته وصرائحه مندوحة لكان له وجه وتبينت المسألة وبالكراهة أقول للمعنى الذي نبهت عليه
المسألة السادسة في تصويره
وهو أن يقول للعبد أنت سائبة وينوي العتق أو يقول أعتقك سائبة
222

فقال علماؤنا ولاؤه للمسلمين وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس وابن شهاب رواه عنه ابن القاسم ومطرف
وقال الشافعي وأبو حنيفة ولاؤه لمعتقه وبه قال عمر بن عبد العزيز وابن نافع وابن الماجشون
وجه الأول أن اللفظ يقتضي أن يزول عنه الملك واليد ويبقى كالجمل المسيب الذي لا يعرض له ولو تبين الولاء لأحد لم يتحقق هذا المعنى
ووجه الثاني وبه أقول إنه لا سائبة في الإسلام وقد قال النبي الولاء لمن أعتق
وتحقيق القول فيه أنه لم يعتق عن معين فلا يخرج الولاء عنه كما لو أطلق العتق
المسألة السابعة قوله تعالى (* (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) *))
هذا عام فيهم لكن افتراؤهم على قسمين منهم افتراء معاند يعلم أن هذا كذب وزور ومنهم من لا يعلمه وهم الأتباع لرؤسائهم وأهل الغفلة منهم وهم الأكثر والعذاب يشركهم ويعمهم والعناد أعظم عذابا
الآية الثانية والثلاثون
قوله تعالى (* (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في ارتباطها بما قبلها
وذلك بين فإن الله تعالى أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السقيمة في البحائر والسوائب والحوامي واحتجاجهم في ذلك بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك وتركوا ما أنزل الله على رسوله وأمر به من دينه
223

المسألة الثانية
قد قدمنا أن العقول لا حكم لها بتحسين ولا تقبيح ولا تحليل ولا تحريم وإنما ذلك إلى الشرع إذ العقول لا تهتدي إلى المنافع التي ترشد من ضلال الخواطر وتنجي من أهوال الآخرة بما لا يهتدي العقل إلى تفصيله ولا يتمكن من تحصيله فكيف أن تغير ما مهده الشرع وتبدل ما سنه وأوضحه وذلك كله من غرور الشيطان ووساوسه وتحكمه على الخلق بالوعد الصادق لأجلبن عليهم ولأشاركنهم ولأعدنهم قال الله عز وجل (* (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *))
المسألة الثالثة
تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد وقد ذكر الله سبحانه ذم الكفار باتباعهم لآبائهم بالباطل واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية في مواضع من القرآن وأكد النبي ذلك وإنما يكون كما فسرناه في الباطل فأما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين وعصمة من عصم المسلمون يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر
وقد اختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول فأما جوازه بل وجوبه في مسائل الفروع فصحيح وهو قبول قول العالم من غير معرفة بدليله ولذلك منع العلماء أن يقال إنا نقلد النبي لأنا إنما قبلنا قوله بدليل ظاهر وأصل مقطوع به وهو المعجزة التي ظهرت على يده موافقة لدعواه ودالة على صدقه
وقد بينا أحكام التقليد ووجهه في كتب الأصول
لبابه أنه فرض على العامي إذا نزلت به نازلة أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه وعليه الاجتهاد في معرفة أعلم أهل وقته
224

بالبحث عن ذلك حتى يتصل له الحديث بذلك ويقطع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر وأراد أن يردد فيها الفكر حتى يقف على المطلوب فضاق الوقت عن ذلك وخيف على العبادة أن تفوت أو على الحكم أن يذهب في تفصيل طويل واختلاف كثير عولوا منه على ما أشرنا لكم إليه
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) *))
هذه إشارة إلى أن الأدلة والاحتجاجات لا تكون بمحتمل وإنما يقع الاتباع فيها بما خرج من الاحتمال ووجبت له الصحة في طرق الاستدلال لأن قولهم وجدنا عليه آباءنا فنحن نقتدي بهم في أفعالهم ونمتثل ما شاهدناه من أعمالهم ولم يثبت عندهم أن آباءهم بالهدى عاملون وعن غير الحق معصومون ونسوا أن الباطل جائز عليهم والخطأ والجهل لاحق بهم فبطل وجه الحجة فيه ووضح العمل بالدليل بشروطه حسبما قررناه من شروط الأدلة في كتب الأصول
الآية الثالثة والثلاثون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
قال بعض علمائنا في هذه الآية غريبة من القرآن ليس لها أخت في كتاب الله تعالى وذلك أنها آية ينسخ آخرها أولها نسخ قوله (* (إذا اهتديتم) *) قوله (* (عليكم أنفسكم) *) وقد حققنا القول في ذلك في القسم الثاني من علوم القرآن الناسخ والمنسوخ فالحظوه هناك إن شاء الله تعلموه
225

المسألة الثانية
روي أن أبا بكر الصديق قال أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها (* (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) *) وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله سبحانه بعذاب من عنده
وروى أبو أمية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له كيف تصنع بهذه الآية فقال أية آية قلت قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) *) فقال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع أمر العامة فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم الحديث إلى آخره
المسألة الثالثة
هذه الآية من أصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو أصل الدين وخلافة المسلمين وقد ذكر علماؤنا أبوابه ومسائله في أصول الدين وهي من فروعه وقد تقدم ذكرنا لها في آيات قبل هذا وذكرنا بعض شروطه وحققنا أن القيام به فرض على جميع الخلق وعرضت هذه الآية الموهمة في ابتداء الحال لمعارضتها لما تقدم أو لما يتأخر في كتاب الله تعالى من الآيات المؤكدة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعند سداد النظر وانتهائه إلى الغاية يتبين المطلوب
226

وقد قال تعالى (* (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) *) وأخبر تعالى أن العذاب واقع بهم لأجل سكوتهم عن المنكر المفعول والمعروف المتروك وهذا يدل على مخاطبة الكفار بفروع الشريعة وأنهم يعذبون على تركها وإلى هذا المعنى أشار الصديق رضي الله عنه آنفا بقوله عن رسول الله إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده وذلك إنما يكون مع القدرة على ذلك بيقين الأمن من الضرر عند القيام به يدل عليه قوله في حديث أبي ثعلبة الخشني فإذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع أمر العامة ' وذلك لعدم الاستطاعة على معارضة الخلق والخوف على النفس
أو المال من القيام بالحق وتلك رخصة من الله عز وجل يسرها علينا وفضله العميم آتاناه وقد بينا كيفية العمل فيه والاختلاف عليه
ويعضد ذلك الحديث الصحيح عنه أنه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه وذلك أضعف الإيمان ولهذا المعنى حدث أبو سعيد الخدري مروان بن الحكم حين أراد أن يصعد المنبر قبل الصلاة في خطبة العيدين فقال له مروان ذهب ما كنت تعلم فسكت أبو سعيد وذكر نحو الحديث المتقدم إذ لم يقدر على مخالفة الملك ولا استطاع منازعة الإمارة وسكت
227

فإن قيل لم لم يخرج عن الناس ولم يحضر بدعة ويقيم سنة مبدلة
قلنا في الجواب وجهان
أحدهما ما قال عثمان حين قيل له إنه يصلي لنا إمام فتنة قال الصلاة أحسن ما يفعل الناس فإذا أحسن الناس فأحسن معهم وإذا أساؤوا فتجنب إساءتهم
الثاني أن أبا سعيد لم يستطع الخروج فإن الموضع كان محاطا به من الحرس مشحونا بحاشية مروان يحفظون أعمال الناس ويلحظون حركاتهم فلو خرج أبو سعيد لخاف أن يلقى هوانا فأقام مع الناس في الطاعة وخلص بنفسه من التباعة
المسألة الرابعة
تذاكرت بالمسجد الأقصى طهره الله مع شيخنا أبي بكر الفهري هذا الحديث عن أبي ثعلبة وقوله فيه إن من ورائكم أيام الصبر للعامل فيها أجر خمسين منكم فقالوا بل منهم فقال بل منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون عليه أعوانا وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم أسسوا الإسلام وعضدوا الدين وأقاموا المنار وافتتحوا الأمصار وحموا البيضة ومهدوا الملة وقد قال النبي في الحديث الصحيح دعوا لي أصحابي فلو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه
فتراجعنا القول فكان الذي تنخل من القول وتحصل من المعنى لبابا أوضحناه في شرح الحديث الصحيح الإشارة إليه أن الصحابة كان لهم أعمال كثيرة فيها ما تقدم سرده وذلك لا يلحقهم فيه أحد ولا يداني شأوهم فيها بشر والأعمال سواها من
228

فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام وهو أيضا انتهاؤه وقد كان قليلا في ابتداء الإسلام صعب المرام لغلبة الكفار على الحق وفي آخر الزمان أيضا يعود كذلك بوعد الصادق بفساد الزمان وظهور الفتن وغلبة الباطل واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب كما قال لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه
وقال بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ
قال علماؤنا فلا بد والله أعلم بحكم هذا الوعد الصادق أن يرجع الإسلام إلى واحد كما بدأ من واحد ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معانا عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى وذلك لقوله لأنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون إليه أعوانا حتى ينقطع ذلك انقطاعا باتا لضعف اليقين وقلة الدين كما قال لا تقوم
229

الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله يروى برفع الهاء ونصبها من المكتوبة فإن رويت برفع الهاء كان معناه لا تقوم الساعة حتى لا يبقى موحد يذكر الله عز وجل وإذا نصبت الهاء كان معناه لا تقوم الساعة حتى لا يبقى آمر بالمعروف ولا ناه عن منكر يقول خافوا الله وحينئذ يتمنى العاقل الموت كما قال لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه
الآية الرابعة والثلاثون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين) *)
وإنما نظمناها لأنها في قصة واحدة وهذه الآية من المشكلات وقد عسر القول فيها على المتبحرين فأما الشادون فالحجاب بيننا وبينهم معزف والسبيل الموصلة إليها لا تعرف وما زلنا مدة الطلب نقرع بابها ونجذب حجابها إلى أن فتح الله تعالى منها بما سردناه لكم وجلوناه عليكم في تسع وثلاثين مسألة
230

المسألة الأولى في سبب نزولها
وفيه روايات مختلفة من طرق كثيرة لو سردناها بطرقها وسطرناها بنصوصها وكشفنا عن أحوال رواتها بالتجريح والتعديل لاتسع الشرح وطال على القارئ البرح فلذا نذكر لكم أيسره وورد في الكتاب الكبير أكثره فنقول
روى الترمذي عن محمد بن إسحاق عن أبي النضر عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية (* (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) *) برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة
ومعه جام فضة يريد به الملك وهو عظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغ ما ترك أهله
قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناها أنا وعدي بن بداء فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره
قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم النبي المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه فحلف فأنزل الله عز وجل (* (يا أيها الذين آمنوا) *) إلى قوله تعالى (* (أيمان بعد أيمانهم) *) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء
قال أبو عيسى هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح
وقد روي شيء من هذا عن ابن عباس على الاختصار قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله ثم وجدوا
231

الجام بمكة فقالوا اشتريناه من عدي بن بداء وتميم فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم قال وفيهم نزلت (* (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) *)
قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب وكذلك خرجه البخاري بلفظه والدارقطني فهو صحيح
وذكر يحيى بن سليمان الجعفي صاحب التفسير الكبير حدثنا محمد بن فضيل حدثنا الكلبي أن أبا صالح حدثه عن ابن عباس أنه قال وأما قوله (* (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) *) قال بلغنا والله أعلم أنها نزلت في مولى من موالي قريش ثم لآل العاص بن وائل انطلق في تجارة نحو الشام ومعه تميم بن أوس الداري وعدي بن بداء ويروى بيداء وهما نصرانيان يومئذ فتوفي المولى في مسيره فلما حضره الموت كتب وصيته ثم جعلها في ماله ومتاعه ثم دفعها إليهما وقال لهما أبلغا أهلي مالي ومتاعي فانطلقا لوجههما الذي توجها إليه ففتشا متاع المولى المتوفى بعد موته فأخذا ما أعجبهما منه ثم رجعا بالمال والمتاع الذي بقي إلى أهل الميت فدفعاه إليهم فلما فتش القوم المال والمتاع الذي بقي فقدوا بعض ما خرج به صاحبهم معه من عندهم فنظروا إلى الوصية وهي في المتاع فوجدوا المال والمتاع فيهما مسمى فدعوا تميما وصاحبه فقالوا لهما هل باع صاحبنا شيئا مما كان عنده أو اشترى فقالوا لا قالوا فهل مرض فطال مرضه فأنفق منه على نفسه قالوا لا قالوا فإنا نفقد بعض الذي مضى به صاحبنا معه قالوا ما لنا عما مضى به من علم ولا بما كان في وصيته ولكن دفع إلينا هذا المال والمتاع فبلغناكموه كما دفعه إلينا فرفعوا أمرهم إلى النبي وذكروا له الأمر فنزل قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) *) إلى (* (الآثمين) *) فقاما فحلفا على منبر رسول الله إدبار صلاة العصر فخلى سبيلهما ثم طلعوا بعد ذلك على إناء من فضة منقوش مموه بالذهب عند تميم الداري فقالوا هذا من آنية صاحبنا التي مضى بها معه وقد قلتما
232

إنه لم يبع من متاعه شيئا فقالا إنا كنا قد اشتريناه منه فنسينا أن نخبركم به فرفعوا أمرهم إلى النبي فنزل (* (فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما) *) إلى (* (الفاسقين) *) فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله إنه في وصيته وإنها لحق ولقد خانه تميم وعدي فأخذ تميم وعدي بكل ما وجد في الوصية لما اطلع عندهما من الخيانة
وقد ذكره مقاتل بن حبان عن الحسن وعن الضحاك وعن ابن عباس نحوه إلا أنه قال ركبوا البحر مع المولى بمال معلوم وقد علمه أولياؤه وعرفوه من بين آنية وورق وهي الفضة فمرض المولى فجعل وصيته إلى تميم وعدي النصرانيين وذكر معنى ما تقدم وقال أمرهما رسول الله فقاما بعد صلاة العصر فحلفا بالله رب السماوات ورب الأرض ما ترك مولاكم من المتاع إلا ما أتيناكم به وإنا لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلا من الدنيا قال ثم وجد عندهما بعد ذلك إناء من آنية الذهب فأخذا به فقالا اشتريناه منه في حياته وكذبا فكلفهما رسول الله البينة فلم يقدرا على بينة فرفعا ذلك إلى النبي فأنزل الله تعالى (* (فإن عثر على أنهما استحقا إثما) *) إلى (* (الفاسقين) *) فحلف وليان من أولياء الميت إن مال صاحبنا كذا وإن الذي نطلبه قبل الداريين حق
وعن مجاهد إن رجلين نصرانيين من أهل دارين أحدهما تميمي والآخر يمان صحبهما مولى لقريش في تجارة ومع القرشي مال معلوم قد علمه أهله من بين آنية وورق فمرض فجعل وصيته إلى الداريين فمات وقبضها الداريان فدفعاها إلى أولياء الميت وخاناه ببعض ماله فقالوا إن صاحبنا قد خرج وذكر نحو حديث الجعفي
وذكر سنيد أن الآية نزلت في تميم الداري وعدي بن بداء النصرانيين وكانا يختلفان إلى مكة والمدينة بعدما هاجر النبي إلى المدينة فبعث عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة السهمي معهما رجلا يقال له بديل بن أبي مارية الرومي مولى العاص
233

ابن وائل بمتاع إلى أرض الشام فيه آنية من ذهب وآنية من فضة وآنية مموهة بالذهب فلما قدموا الشام مرض بديل وكان مسلما فكتب وصيته ولم يعلم بها تميم الداري ولا عدي وأدخلها في متاعه ثم توفي ولم يبع شيئا من متاعه فقدم تميم الداري وعدي المدينة ودفعا المتاع إلى عمرو بن العاص وإلى المطلب وأخبراهما بموت بديل فقال عمرو والمطلب لقد مضى من عندنا بأكثر من هذا فهل باع شيئا قالا لا فمضوا إلى النبي فأحلف لهما تميما وعديا بعد صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما ترك عندنا غير هذا
ثم إن عمرا والمطلب ظهرا على آنية عند تميم الداري وعدي فقالا هذه الآنية لنا وهي مما مضى به بديل من عندنا فقال لهم تميم وصاحبه عدي اشترينا هذه الآنية منه فقال عمرو والمطلب قد سألناكما هل باع شيئا فقلتما لا وقد كانت وصية بديل أنه لم يبع شيئا فحلف عمرو والمطلب واستحقا الآنية
وذكر الواقدي أن الآيات الثلاث نزلت في تميم الداري وأخيه عدي وكانا نصرانيين وكان متجرهما إلى مكة فلما هاجر النبي إلى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدية وهو يريد الشام تاجرا فخرج مع تميم الداري وأخيه عدي حتى إذا كانا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية وكتب وصيته ودسها في متاعه وأوصى إلى تميم وعدي فلما مات فتحا متاعه وأخذا منه ما أرادا وأوصلا بقية التركة إلى ورثة الميت ففتحوا فوجدوا وصيته وقد كتب فيها ما خرج به ففقدوا أشياء فسألوا تميما وعديا عن ذلك فقال ما ندري هذا الذي قبضنا له فرفعوهما إلى رسول الله فنزلت الآية (* (يا أيها الذين آمنوا) *) الآية فأمر رسول الله أن يستحلفا بالله ما قبضنا له غير هذا وما كتمناه شيئا فحلفا بعد العصر ثم ظهر على إناء من فضة منقوش بذهب معهما فقالا اشتريناه منه فارتفعوا إلى رسول الله فنزلت الآية الآخرى (* (فإن عثر على أنهما استحقا إثما) *) فأمر رسول الله رجلين من أهل بيت الميت فحلفا واستحقا الإناء ثم إن تميما أسلم فكان يقول صدق الله وبلغ رسوله أنا أخذت الإناء
وروى الشعبي أن رجلا من جثعم خرج من الكوفة إلى السواد فمات بدقوقاء
234

فلم يجد أحدا يشهد على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال أبو موسى الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله فأحلفهما وأمضى شهادتهما بعد صلاة العصر بمسجد الكوفة بالله الذي لا إله إلا هو ما كتما ولا غيرا
قال ابن عباس كأني أنظر إلى العلجين حتى انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعري ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وجوههما فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد صلاة العصر فقلت لا يبالون بعد العصر ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما وقد روي عن ابن مسعود
المسألة الثانية قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا) *))
قد تقدم في سورة البقرة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (شهادة بينكم) *))
وقد تقدم معنى (* (شهيد) *) في هذه السورة أيضا بعينها وبينا اختلاف أنواعها وقد وردت في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة منها قوله (* (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * قيل معناه احضروا
ومنها قوله تعالى (* (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * قضى ومنها شهد أي أقر كقوله (* (والملائكة يشهدون) *)
ومنها شهد بمعنى حكم قال تعالى (* (وشهد شاهد من أهلها) *)
ومنها شهد بمعنى حلف كما جاء في اللعان
ومنها شهد بمعنى علم كما قال (* (ولا نكتم شهادة الله) *) أي علم الله
ومنها شهد بمعنى وصى كقوله تعالى ها هنا (* (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) *) انتهى كلامه
وقد نقص موارد منه منها قوله (* (وما شهدنا إلا بما علمنا) *)
235

المسألة الرابعة في تحقيق ذلك
وهو أن بناء شهد موضوع للعبارة عما يعلم بدرك الحواس كما أن غيب موضوع للعبارة عما لم يدرك بها ولذلك قلنا إن الباري تعالى وتقدس عالم الغيب والشهادة فمعنى شهدت أدركت بحواسي أي علمت بهذه الطريق التي جعلها الله سبحانه طرقا لعلمي ثم ينقل مجازا إلى متعلقاته فمعنى شهد الله علم مشاهدة وأخبر عما علم بكلامه وهذا يكون في المحدث فإذا ثبت هذا فقوله تعالى (* (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * أي أحضروا من يعلم لكم ما يشاهد من عقدكم
وقوله (* (شهد الله) * أي علم وأخبر عن علمه وبين ما علم لنا حتى نتبينه فأخبر عن حكمه فيرجع إلى علمه سبحانه عما يخبر عنه لارتباط الخبر والعلم وشهد بمعنى حلف مثله لأنه أخبر عن حاله وقرن بخبره تعظيم الله سبحانه وتعالى
وقوله (* (ولا نكتم شهادة الله) *) يريد ما علمناه وعلمه الله معنا فإن صدق وإلا كان خبره عن علم الله كذبا والله سبحانه العالم الذي لا يجهل والصادق المتقدس عن الكذب
وأما شهد بمعنى وصى فلا معنى له إلا على بعد لا يحتاج إليه وأما قوله تعالى (* (شهادة بينكم) *) في هذه الآية فهي عند العلماء على ثلاثة أقوال
أحدها بمعنى حلف والثاني بمعنى حضر للتحمل والثالث بمعنى الأداء عند الحاكم تقول أشهد عندك أي حضرت لأؤدي عندك ما علمت وأداؤها بلفظ الشهادة بعيد لا درك عند العلماء لمعناه ولا يجزي غيره عنه
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (بينكم) *))
قال بعض علمائنا معناه شهادة ما بينكم فحذفت ما وأضيفت الشهادة إلى الظرف استعمل البين اسما على الحقيقة كما قال تعالى (* (بل مكر الليل والنهار) *) وأنشدوا
(تصافح من لاقيت لي ذا عداوة
* صفاحا وعني غيب عينيك منزوي))
236

وأنشدوا
(وأهل خباء صالح ذات بينهم
* قد احتربوا في عاجل أتى آجله)
وتحقيق القول فيه أن بين في أصله مصدر قولك بان يبين بينا أي فارق ما كان مجتمعا معه وانفصل عما كان متصلا به ومنه حديث النبي ما أبين من حي فهو ميت المعنى ما فصل من أعضاء الحيوان عنه حال حياته فهو ميتة يعني لا يحل أكله واستعمل ظرفا على معنى المصدر وهو باب من أبواب النحو تقول بين الدار والمسجد مسافة ولو كانا مجتمعين لم يكن بينهما بين أي موضع خال منهما ولما كان الاجتماع على ضربين اجتماع أجسام واجتماع معان وهي الأخلاق والأهواء جعل افتراق الأهواء كافتراق الأجسام واستعمل فيه بين الذي هو الافتراق فيهما جميعا
والدليل عليه قوله تعالى (* (ومن بيننا وبينك حجاب) *) وعلى هذا يحمل قوله بيني وبينك رحم أي ما افترقنا إلا على أصل واحد وبيني وبينه شركة أي افترقنا في كل شيء إلا عن جمع المال المخصوص
فقال أهل الصناعة هو مصدر في المعاني ظرف في الأجسام لما كانت ذوات مساحات محسوسات فرقا بينها وبين المعاني والكل في الحقيقة تباين وتباعد وفرقة ومنه قوله تعالى (* (لقد تقطع بينكم) *) مرفوعا ومنصوبا
المعنى لقد تقطع تباعدكم وافتراقكم بحيث لا يكون له اتصال فإن الذي يبين على قسمين منه ما يرجى له اتصال ومنه ما لا يرجى له اتصال فيعبر عنه بالتقطع
وقد جعل أهل الصناعة هنا بين للظرف وكثر ذلك حتى جعل اسما في الأهواء المتباينة مجازا يعبر به عنها وعليه يخرج (* (لقد تقطع بينكم) *) على قراءة الرفع المعنى لقد تفرقت أهواؤكم وأخلاقكم
237

وتارة تضاف بالكناية إليه فيقال ذات البين قال الله سبحانه (* (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) *)
قال الشاعر
(وأهل خباء صالح ذات بينهم)
كما تقدم
ويقال الأمر الذي بينكم وما بينكم مبهم معناه الأمر الذي فرقكم فإذا ثبت هذا فمعنى قوله (* (شهادة بينكم) *) أي شهادة اختلافكم وتنازعكم فتكون الشهادة مضافة إلى المصدر لا إلى الظرف ولا على تقدير محذوف وهذه غاية البيان ولو هدي له من تكلم على الآية ما تخبط فيها ولا خلط معانيها
المسألة السادسة قوله تعالى (* (إذا حضر أحدكم الموت) *))
ولفظ (* (حضر) *) يعبر به عن الوجود مشاهدة وضده غاب وهو أيضا عبارة عن الوجود الذي لم يشاهد وقد يعبر بقولك غاب عن المعدوم والباري سبحانه عالم الغيب والشهادة أي عالم الموجود والمعدوم لأنه مثل الوجود في عدم المشاهدة
وقد وردت هذه اللفظة عبارة عن الموت في كتاب الله حقيقة وهو في قوله تعالى (* (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت) *) وفي قوله (* (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون) *) فهو في هذين الموضعين حقيقة الوجود مشاهدة
وأما ورودها مجازا فبأن يعبر عن حضور سببه بحضوره وهو المرض فيعبر عن المسبب بالسبب وهو أحد قسمي المجاز كما بيناه في غير موضع
المسألة السابعة قوله تعالى (* (حين الوصية اثنان) *))
ومعنى (* (حين) *) وقت وتقدير الآية شهادة بينكم إذا أردتم الوصية وقد مرضتم وذلك أن الوصية تكون في ثلاثة أحوال
238

الأول حال البدار إلى السنة لقول النبي ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده
وقد تقدم شرح وقت ذلك وسببه وحقيقة الوصية وهي المسألة الثامنة
المسألة التاسعة في وقت الوصية وسننها بالإيضاح والبسط
وذلك عند السفر للمخافة فيه والمرض لأنه رائد المنية ومظنتها وقد قال مالك في كتاب العتق إذا قال لعبده في مرضه أنت حر بعد موتي كان له الرجوع عنه لأنها حالة مرض فاقتضت ذلك قرينة في الحكم بأنه وصية فجاز له الرجوع فيه
وقد كنت أردت بسطه فلما ذكرت طوله قبضت عنه العنان وأحلت على مسائل الفقه بالبيان
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (اثنان) *))
وكان بمطلقه يقتضي شخصين ويحتمل رجلين إلا أنه قال بعد ذلك ذوا عدل فبين أنه أراد رجلين لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر كما أن ذواتي لا تصلح إلا للمؤنث
المسألة الحادية عشرة إعرابه
وفيه أربعة أقوال
الأول أن يكون شهادة مرتفعا بالابتداء واثنان خبره التقدير شهادة اثنين
الثاني أن يرتفع اثنان بشهادة التقدير وفيما أنزل عليكم أن يشهد اثنان
الثالث أن يكون اثنان مفعولا لم يسم فاعله بشهادة
الرابع تقديره شهود شهادة بينكم اثنان ويجوز الحذف مع الابتداء كما يجوز مع الخبر
239

وفي الثالث بعد لأن شهادة مصدر شهد وهو بناء لا يتعدى وقد مهدناه في الملجئة
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (ذوا عدل منكم) *))
وقد تقدم شرحه في سورة البقرة
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (منكم) *))
فيه ثلاثة أقوال
أحدها من المسلمين والكاف والميم لضميرهما قاله ابن عباس ومجاهد
الثاني من قبيلتكم قاله الحسن وسعيد بن المسيب
الثالث منكم من أهل البيت
المسألة الرابعة عشرة قوله تعالى (* (أو) *))
قيل هي للتخيير وقيل للتفصيل
معناه أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم قاله ابن المسيب ويحيى بن يعمر وأبو مجلز وإبراهيم وابن جبير وشريح ويروى عن أبي موسى الأشعري وابن عباس
وتحقيق النظر في هذا الفصل أن قوله (* (منكم) *) قد تقدم فيه الخلاف وعليه يتركب قوله أو آخران وقوله غيركم وهي مسألتان تتم بهما ست عشرة مسألة فإن كان منكم من أهل ملتكم كان قوله غيركم للكافرين وكان الآخران من ليس بمسلم وإن كان المراد به من غير قبيلتكم كان كما قال الزهري والحسن وغيرهما فقبيل الميت وعشيرته أعلم بحاله
وتعلق من قال بأنه من غير ملتكم بأن الله سبحانه خاطب المؤمنين ثم قال لهم من غيركم وغير المؤمنين هم الكافرون
وأما من قال من أهل الميت فلأن الحجة لهم والكلام منهم ومعهم ويؤكده أيضا
240

بأنه قال في أول الآية (* (يا أيها الذين آمنوا) *) ثم قال (* (من غيركم) *) يعني أو آخران عدلان من غيركم وبه يصح العطف وقال (* (تحبسونهما من بعد الصلاة) *) فدل على أنهما من أهل الصلاة وإذا كانا مؤمنين احتمل أن يكون ذلك من القبيلة أو من الورثة ويترجح ذلك بحسب ما تقدم
المسألة السابعة عشرة قوله تعالى (* (إن أنتم ضربتم في الأرض) *))
وقد تقدم بيانه في سورة النساء
المسألة الثامنة عشرة
إن ذلك يتضمن الشهادة في الحضر والسفر وتقدم أيضا ذكر ذلك في سورة البقرة ويتخصص به ها هنا أن الله تعالى لما قال (* (فأصابتكم مصيبة الموت) *))
يعني وقد أسندتم النظر إليها واستشهدتموها أو ارتبتم بهما على ما تقدم بيانه في سرد القصص والروايات وذكر الآثار والمقالات
المسألة الموفية عشرين قوله تعالى (* (تحبسونهما من بعد الصلاة) *))
وفي ذلك دليل على حبس من وجب عليه الحق وهو أصل من أصول الحكومة وحكم من أحكام الدين فإن الحقوق المتوجهة على قسمين منها ما يصح استيفاؤه معجلا ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا فإن خلي من عليه الحق وغاب واختفى بطل الحق وتوي فلم يكن بد من التوثق منه فإما بعوض عن الحق ويكون
241

بمالية موجودة فيه وهي المسمى رهنا وهو الأولى والأوكد وإما شخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو دون الأول لأنه يجوز أن يغيب كغيبته ويتعذر وجوده كتعذره ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلا لم يبق إلا التوثق بسجنه ولأجل هذه الحكمة شرع السجن
وقد روى الترمذي وأبو داود أن النبي حبس في تهمة رجلا ثم خلى عنه وفي مصنف عبد الرزاق أن النبي أتي بسارق فقال احبسوه فإن مات صاحبه فاقتلوه
وهذا دليل على أن الشهادة يمين وأنه عنى بهم المتنازعين في الحق لا القائمين بالشهادة فيه لأن القائم بالشهادة لا حبس عليه
المسألة الحادية والعشرون قوله تعالى (* (من بعد الصلاة) *)
وفيه أربعة أقوال
أحدهما بعد العصر قاله شريح والشعبي وسعيد بن جبير وقتادة
الثاني من بعد الظهر قاله الحسن
الثالث أي صلاة كانت
الرابع من بعد صلاتهما على أنهما كافران
وقد روي في الصحيح أن النبي حلف المتلاعنين بعد العصر وروي بعد الظهر
242

وفي الصحيح من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله سبحانه وهو عليه غضبان وهذا على طريق التغليظ بالزمان
وقد اختلف العلماء فيه اختلافا كثيرا بيناه في مسائل الخلاف وشرحنا أن حكم التغليظ يتعلق بثلاثة أوجه
أحدها تغليظ بالألفاظ
الثاني تغليظ بالمكان كالمسجد والمنبر لأنه مجتمع الناس فيكون له أخزى ولفضيحته أشهر
الثالث التغليظ بالزمان كما بعد العصر وسيأتي ذكر ذلك في سورة النور إن شاء الله
ومن علمائنا من قال إن التغليظ يكون بستة أوجه
الأول باللفظ الثاني بالتكرار الثالث بالمصحف الرابع بالحال الخامس بالمكان السادس بالزمان
أما التغليظ بالألفاظ ففيه ثلاثة أقوال
الأول الاكتفاء بقوله بالله وقال أشهب لا تجزئه
الثاني الاكتفاء بقوله بالله الذي لا إله إلا هو وقال ابن كنانة عن مالك أما ربع دينار والقسامة واللعان فلا بد من أن يقول فيه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم وهو القول الثالث وبه قال الشافعي
ولقد شاهدت القضاة من أهل مذهبه يحلفون بالله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم
وهذا ما لا آخر له إلا التسعة والتسعون اسما وغير هذه الأسماء التي حلفوا بها أرهب وأعظم معنى من غيرها
243

وقد ثبت عن النبي في الصحيح الحلف بالله وبالذي لا إله إلا هو وهو التغليظ وبالمصحف وهو مذهب الشافعي وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة وكل فصل يستوفى بموضعه إن شاء الله تعالى
المسألة الثانية والعشرون قوله تعالى (* (فيقسمان بالله) *))
قيل هما الوصيان إذا ارتيب بقولهما وقيل هما الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بهما الحاكم حلفهما
والذي سمعت وهو بدعة عن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق وحينئذ يقضي للمدعي بالحق
وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض للحق فيحلف إنه لباق وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه هذا في المدعي فكيف يحبس الشاهد أو يحلف هذا مما لا يلتفت إليه
المسألة الثالثة والعشرون قوله (* (بالله) *))
وهذا نص من كتاب الله في ترك التغليظ بالألفاظ
والذي أقول إنه إن كان الحالف كافرا كما تقدم في سرد الأقوال والروايات وقلنا بالتغليظ فلا يقال له في التغليظ قل بالله الذي لا إله إلا هو لأنهم لا يقرون بها وعلى إقرارهم على هذا الإنكار بذلوا الجزية ولكنهم يحلفون كما روى أبو داود وغيره أن النبي قال لليهود أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى وتغلظ عليهم بالمكان في كنائسهم وبالزمان بعد صلاتهم كما تقدم
244

ذكره في قصة دقوقاء فإن الغرض من هذا التغليظ كله زجر الحالف عن الباطل والرجوع إلى الحق ورهبته بما يحل من ذلك حتى يكون ذلك داعية للانكفاف عن الباطل والرجوع إلى الحق وهو معنى (* (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها) *)
وقد حققنا هذا الغرض فقلنا إن الله سبحانه ما غلظ في كتابه يمينا إنما قال فيقسمان بالله وقال تعالى (* (قل إي وربي إنه لحق) *) وقال مخبرا عن خليله (* (وتالله لأكيدن أصنامكم) * وقال النبي من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت
ولكن قد روى البخاري أن النبي قال اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو لتعلمن أني رسول الله حقا
وروى النسائي وأبو داود أن خصمين أتيا النبي فقال النبي للمدعي البينة قال يا رسول الله ليس لي بينة فقال للآخر احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عليك شيء أو ما له عندك شيء
وتغليظ العدد في اللعان وهو التكرار وفي القسامة مثله
وزعم الشافعي أنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء يحلف بالمصحف ويؤثر أصحابه ذلك عن ابن عباس ولم يصح
وأما التغليظ بالحال فروي عن مطرف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعي أنه يحلف قائما مستقبل القبلة
وروى ابن كنانة عن مالك يحلف جالسا والذي عندي يحلف كما يحكم عليه بها إن قائما فقائما وإن جالسا فجالسا لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار قيام أو جلوس
245

وتغليظ المكان كما قلنا في مسائل الخلاف وقد قال النبي من حلف على منبري بيمين كاذبة فليتبوأ مقعده من النار
فقيل أراد أن يبين الحال لأنه مقطع الحقوق وقيل أراد أن يخبر عن قوم عاهدوا وحلفوا على المنبر للناس ثم غدروا
وروي أن عبد الرحمن بن عوف رأى رجلا يحلف بين الركن والمقام فقال أعلى دم أو على مال عظيم فدل ذلك على أنه عندهم من المستقر في الشرع ألا يحلف هنالك إلا على ما وصف فكل مال تقطع فيه اليد وتسقط فيه حرمة العضو فهو عظيم
المسألة الرابعة والعشرون قوله تعالى (* (إن ارتبتم) *))
والريبة هي التهمة يعني من ادعى عليهما بخيانة واختلف في المرتاب فقيل هو الحاكم وقيل هم الورثة وهو الصحيح
ويمين التهمة والريبة على قسمين
أحدهما ما تقع الريبة فيه بعد ثبوت الحق أو توجه الدعوى فهذا لا خلاف في وجوب اليمين
الثاني التهمة المطلقة في الحقوق والحدود وهو تفصيل طويل بيانه في أصول المسائل وصورها من المذهب وقد تحققت ها هنا الدعوى وثبتت على ما سطر في الروايات
المسألة الخامسة والعشرون قوله تعالى (* (لا نشتري به ثمنا) *
قال علماؤنا معناه لا نشتري به ذا ثمن ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه
وهذا ما لا يحتاج إليه فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى فكل
246

واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض أو نقض أو على عرضين أو تقدين وعلى هذا الأصل تنبني مسألة ما إذا أفلس المشتري ووجد متاعه عند البائع هل يكون أولى به قال أبو حنيفة لا يكون أولى به وبناه على هذا الأصل وقد بيناه في مسائل الخلاف
المسألة السادسة والعشرون قوله تعالى (* (به) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول يعني القول الذي قلناه
الثاني أن الهاء تعود على الله تعالى المعنى لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض
الثالث هو ضمير الجماعة وهم الورثة وهو المتهمون الذين لهم الطلب ولهم التحليف والحاكم يقتضي لهم وينوب عنهم في إيفاء الحق
والصحيح عندي أنه يعود على القول فيه يتمكن المعنى ولا يحتاج إلى سواه
المسألة السابعة والعشرون قوله تعالى (* (ولو كان ذا قربى) *))
معناه لا نشهد الزور ولا نأخذ رشوة لنكذب ولو كان المشهود له ذا قربى قاله ابن زيد وهذا بناء على أنها شهادة ومن قال إنها يمين قال التقدير لا نأخذ بيميننا بدلا منفعة ولو كان ذلك لذي القربى فكيف لأجنبي
المسألة الثامنة والعشرون قوله تعالى (* (ولا نكتم شهادة الله) *))
يحتمل أن يريد ما علم الله ويحتمل أن يريد به لا نكتم ما أعلمنا الله من الشهادة إضافها إليه لعلمه بها وأمره بأدائها ونهيه عن كتمانها قال علماؤنا ويقولان في يمينهما بالله إن صاحبكم بهذا أوصى أن هذه تركته
المسألة التاسعة والعشرون قوله تعالى (* (ولا نكتم شهادة الله) *))
يحتمل أن هذه الألفاظ لا تتعين لليمين ولا للشهادة وإنما تكون اليمين على نفي
247

الدعوى كيفما كانت وتكون الشهادة بصفة الحال كما جرت فأما أن يقول الشاهد إني لا أشتري بشهادتي شيئا ولو كان ا قرابتي أو يقولها الحالف في يمينه فلا يلزم ذلك عندي ولا عند أحد ولكن يحلف أو يشهد كما وصفنا ويعتقد ما قال الله تعالى فهذا الذي أخبر الله تعالى به يكون في اعتقاده لا في لفظه في شهادة أو يمين
المسألة الموفية ثلاثين قوله تعالى (* (فإن عثر على أنهما استحقا إثما) *))
يريد ظهر وأظهر شيء في الطريق ما عثر عليه فيها ويستعمل فيما كان غائبا عنك وكنت جاهلا به ثم حضر لديك واطلعت عليه ومنه قوله تعالى (* (وكذلك أعثرنا عليهم) *) لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفي عليهم موضعهم التقدير إذا نفذ الحكم عليهم في الظاهر باليمين ثم ظهر وتبين بعد ذلك كذبهم
المسألة الحادية والثلاثون قوله تعالى (* (أنهما) *) قيل هما الشاهدان قاله ابن عباس وقيل هما الوصيان قاله ابن جبير وهو مبني على ما تقدم ويتركب عليه ويختلف التقدير بحسب اختلافه كما تقدم
المسألة الثانية والثلاثون قوله تعالى (* (إثما) *))
يحتمل أن يريد به عقوبة ويحتمل أن يريد به غرما وظاهر الإثم العقوبة لكن صرف عن هذا الظاهر قوله استحقا والعقوبة لا تستحق بالمعاصي ولا يستحق على الله شيء حسبما تقرر في الأصول فيكون معناه استوجبا غرما بطريقة
ويدل على صحة هذا الاحتمال قوله تعالى (* (من الذين استحق عليهم) * فإنما يستحق على هؤلاء ما كانا استحقاه ويدل عليه أيضا أن القوم ادعوا أنه كان للميت دعوى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك مما يكون فيه اليمين على ورثة الميت دون المدعي وتكون البينة فيه على المدعي
المسألة الثالثة والثلاثون قوله تعالى (* (فآخران) *))
إنما هو بحسب الاتفاق أن الوارثين كانا اثنين ولو كان واحدا لأجزأه
248

المسألة الرابعة والثلاثون قوله تعالى (* (من الذين استحق عليهم الأوليان) *))
معناه ممن كان نفذ عليهم القضاء قبل ذلك بوصية أو دين أو غير ذلك مما كان الميت ذكره وهم الورثة
ومن يعجب فعجب قول علمائنا إن في قوله (* (عليهم) *) ثلاثة أقوال لا نطول بذكرها ولا نحفل بها لأن قوله (* (استحق) *) مع قوله على متلائم فلا يحتاج إليها
المسألة الخامسة والثلاثون قوله تعالى (* (الأوليان) *))
وهذا فصل مشكل المعنى مشكل الإعراب كثر فيه الاختلاط
أما إعرابه ففيه أربعة أقوال
الأول أنه بدل من الضمير في يقومان ويكون التقدير فالأوليان يقومان مقام الأولين
وهذا حسن لكنه فيه رد البعيد إلى القريب في البدلية بعدما حال بينهما من طويل الكلام ويكون فاعل استحق بضم التاء مضمرا تقديره الحق أو الوصية أو الإيصاء أو المال
وقيل فاعل استحق عائد على الإثم المتقدم ذكره وهو الغرم للمال كما قدمناه
الثاني أن الأوليان فاعل باستحق يريد الأوليان باليمين بأن يحلفا من يشهد بعدهما فإن جازت شهادة النصرانيين كان الأوليان النصرانيين والآخران من غير بيت أهل الميت
هذا قول بعضهم ولا أقول به وإنما يكون تقدير الآية على هذا من الذين استحق عليهم الأول وبالحق
الثالث أن يكون بدلا من قوله آخران
249

الرابع أن يكون على الابتداء والخبر مقدم تقديره فالأوليان آخران
والصحيح من هذا هو الأول وقد بيناه في الملجئة وأكملنا تقدير الآية فيه
وأما من قرأ الأولين وهو حمزة وأبو بكر فيرجع الأولين وهو حسن وقرأ حفص استحق بمعنى حق عليهم
ومن الغريب أنهم اختلفوا في قوله (* (عليهم) * فقيل فيهم كما قال تعالى (* (على ملك سليمان) *) أي في ملك سليمان وهذا كثير
وقال قوم معناه منهم كما قال تعالى (* (إذا اكتالوا على الناس يستوفون) *) وهذه دعاوى وضرورات لا يحتاج إليها ولا يصح مرادهم في بعض ما استشهد به منها
المسألة السادسة والثلاثون في معنى الأوليان
فيه ثلاثة أقوال
الأول قال ابن عباس الأولى بالشهادة
الثاني قال ابن جبير الأولى بالميت من الورثة
الثالث الأولى بتحليف غيره قاله ابن فورك وهو يرجع إلى الثاني وهو أصح من الأول
المسألة السابعة والثلاثون قوله تعالى (* (لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا) *))
المعنى لقولنا أحق من قولهما
وهذا القول كما قدمناه محمول على المعنى وأن يمين الحالف لا تكون إلا بلفظ الدعوى والحكمة في ذلك أن اليمين إذا كانت بأن قولي أصدق من قولك ربما ورد في يمينه بأن يكون مدعيه قد كذب من كل وجه وكذب هو من وجه واحد فيلزم التصريح حتى يتحقق الكذب وتحصل المجاهرة إن خالف ليأتي بالصدق
250

على وجهه فإذا صرح بالقول في اليمين لم ينفعه ما نوى إذا أضمر من معنى اليمين خلاف الظاهر منها لقول النبي يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك وهو حديث صحيح ومعنى قويم متفق عليه قررناه في مسائل الفقه
المسألة الثامنة والثلاثون في بقاء معنى هذه الآية أو ارتفاعه
قال ابن عباس حكمها منسوخ وقال الحسن حكمها ثابت فمن قال إنها منسوخة قال إن اليمين الآن لا تجب على الشاهد لأنه إن ارتيب به لم تجز شهادته وإن لم تكن هناك ريبة ولا في حالة خلة لم يحتج إلى اليمين وعلى هذا عول جمهور العلماء ونخبتهم وقد قرر الله تعالى ذلك وحققه بأمره في قوله تعالى (* (وأشهدوا ذوي عدل منكم) *) و (* (ممن ترضون من الشهداء) *) فوقعت الشهادة على العدالة واقتضيت اليمين منها إن كانت فيها
وأما من قال إنها ثابتة فاختلفوا فيه فمنهم من قال إن شهادة أهل الذمة جائزة في السفر منهم أحمد كما تقدم يجوزها في السفر عند عدم المسلمين بغير يمين وصار بعض أشياخنا إلى أن ذلك باق باليمين وهو خرق للإجماع وجهل بالتأويل وقصور عن النظر وإذا أسقط أحمد اليمين فلا حجة له في الآية ولا في الحديث لأن اليمين تثبت فيهما جميعا
والصحيح أن الشهادة اليمين وهي ها هنا يمين الوصيين كما سميت اليمين في اللعان شهادة وقال الطبري إنما حكم الله سبحانه باليمين على الشاهدين في هذا الموضع من أجل دعوى ورثة الميت على المسند إليهما الوصية بالخيانة أو غير ذلك ما لا يبرأ فيه
251

المدعي ذلك قبله إلا باليمين فإن نقل اليمين إلى ورثة الميت إنما أوجبه الله تعالى بعد أن عثر على الشاهدين في أيمانهما بإثم وظهر على كذبهما في ذلك بما ادعوا من مال الميت أنه باعه منهما وهذا بناء على أن الخيانة ظهرت في أداء المال ولذلك حلفا مع الشهادة
قال القاضي ابن العربي وهذا يصح على إحدى الروايات التي ذكر فيها أنهما ادعيا بيع الجام منهما
وأما على الرواية الأخرى فلا يستقيم هذا التأويل لأن الشاهدين ادعيا التركة فيما ذكر فيها وانقلبا على ستر وسلامة ثم بعد ذلك ظهرت الخيانة في الجام إما بأنه وجد يباع وإما بتحرج تميم الداري وتأثمه وأدائه ما كان أخذه منه
وتحقيق الكلام فيه أن كل رواية من تلك الروايات عضدتها صيغة القصة في كتاب الله وسردوها فإنها صحيحة وكل ما يعضده منها فهو مردود
أما إنه إذا فسرت الكلام في كتاب الله فاحتجت إلى تجويز أو تقديم أو تأخير فكلما كان أقل في ذلك من التأويلات فهو أرجح وكلما كان من خلاف الأصول فيه أقل فهو أرجح كتأويل فيه إجازة شهادة الكافر وإحلاف الشاهد على شهادته فإن التأويل الذي يخرج عنه هذا هو أرجح ولا يسلم تأويل من اعتراض فإن البيان من الله تعالى في هذه الآية للأحكام جاء على صفة غريبة وهو سياقه على الإشارة إلى القصة ولذلك جاء بانتقالات كثيرة منها أنه قال (* (فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما) *)
وربما كان المدعي واحدا فليس قوله تعالى (* (فآخران) *) خارجا مخرج الشرط وإنما هو كناية عما جرى من العدد في القصة والواحد كالاثنين فيها فيطلب الناظر مخرجا أو تأويلا للفظ لا يحتاج إليه فيدخل الإشكال على نفسه من حيث لا يشعر به فلا يساحل عن هذا البحر أبدا وكذلك ما جرى من التعديد لا يمنع من كون
252

الشهادة بمعنى اليمين كما في اللعان وإن كان لم يذكر في اللعان عددا وجرى ذكره ها هنا لاتفاقه في القصة لا لأنه شرط في الحكم
وكذلك ذكر العدالة تنبيها على ما يجب لأنه إن أشهده وجب أن يكون عدلا لتحمل الشهادة فإن ائتمنه وجب أن يكون عدلا لأداء الأمانة
المسألة التاسعة والثلاثون في تقدير الآية
وهو يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في الأرض وحضركم المرض الذي هو سبب الموت وأردتم الوصية فأشهدوا ذوي عدل منكم من قرابتكم أو آخران من غيركم فإن خافا فاحبسوهما على اليمين إن عدمتم البينة فإن تبينت بعد ذلك خيانتهم حلف ممن حلفوا له وهو أولى باستحقاق ما يجب باليمين
وعلى مذهب أحمد يكون تقدير الآية فأشهدوا ذوي عدل من المسلمين فإن لم تجدوا فأشهدوا الكفار فإن أديا ما أحضرا له ائتمنا عليه فبها ونعمت وإن أدركتهم تهمة أو تبينت عليهم خيانة حلفوا وليس في الآية ما يدل على قبول شهادتهم في الوصية على مذهب أحمد
وإنما قبلنا نحن شهادة العدل في الوصية بدليل آخر غير هذه الآية وكذلك قوله إنما يكون ذلك من قبول شهادة الكفار إذا عدم المسلمون وليس في هذه الآية إلا التسوية بينهما فكل شيء يعترضكم من الإشكال على دليلنا وتقديرنا الذي قدرناه آنفا فانظروه في موضعه ها هنا تجدوه مبينا إن شاء الله تعالى
253

سورة الأنعام
فيها ثمان عشرة آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) *)
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وعنده) *))
اعلموا أنا قد بينا هذه الآية في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين بما المقصود منه ها هنا أن عنده كلمة يعبر بها عما قرب منك وتحقيقه أن دنو الشيء من الشيء يقال فيه قريب ونأيه عنه يقال فيه بعيد وأصله المكان في المساحة تقول زيد قريب منك وعمرو بعيد عنك
ويوضع الفعل موضع الاسم فتقول زيد قربك ثم ينقل إلى المكانة المعقولة غير المحسوسة فيقال العلم منك قريب وعليه يتأول ما يخبر به عن الباري سبحانه من ذلك وبه يفسر قوله سبحانه (* (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) *) بعشرين معنى جائزة على الله سبحانه مما يصح أن يوصف بها ويخبر عنه بمعناها على ما بينا في كتاب المشكلي
254

وتقول زيد قدامك وعمر وراءك فإذا قلت زيد قدامك احتمل المسافة من لدن جسمه إلى ما لا ينحصر منتهاه قدما وكذلك وراءك فصغروه إذا أرادوا قرب المسافة من المخبر عنه فقالوا قديديمة وإذا أرادوا تخليص القرب بغاية الدنو قالوا زيد عندك عبروا به عن نهاية القرب ولذلك لم يصغروه فيقولوا فيه عنيد
وقد يعبر بها أيضا عما في ملك الإنسان فيقال عنده كذا وكذا أي في ملكه لأن الملك يختص بالمرء اختصاص الصفة بالموصوف فعبروا بأقرب الوجوه إليه بقوله عنده وهو المراد بقوله في الحديث نهى النبي عن بيع ما ليس عندك يعني في ملكك إذا ثبت هذا وهي
المسألة الثانية
فقوله تعالى (* (وعنده مفاتح الغيب) *) يحتمل أن يريد به قربها منه قرب مكانة وتيسير لا قرب مكان ويحتمل أن يريد أنها في ملكه يظهر منها ما يشاء ويخفي ما يشاء
المسألة الثالثة
هذه الآية أصل من أصول عقائد المسلمين وركن من قواعد الدين معظمها يتفسر بها وفيها من الأحكام نكتة واحدة فأما منزعها في الأصول فقد أوضحناه في كتاب المشكلين وأما نكتتها الأحكامية فنشير إليها في هذا المجموع لأنها من جنس مضمونه ومع هذا فلا بد من الإشارة إلى ما تضمنه كتاب المشكلين لينفتح بذلك غلق الحكم المطلوب في هذا المجموع
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (مفاتح الغيب) *))
واحدها مفتح ومفتاح وجمعه مفاتح ومفاتيح وهو في اللغة عبارة عن كل معنى يحل غلقا محسوسا كان كالقفل على البيت أو معقولا كالنظر والخبر يفتح قفل الجهل عن العلم والغيب وهي
255

المسألة الخامسة
عبارة عن متعلق لا يدرك حسا أو عقلا وكما لا يدرك البصر ما وراء الجدار أو ما في البيت المقفل كذلك لا تدرك البصير ما وراء المحسوسات الخمس والمحسوسات منحصرة الطرق بانحصار الحواس والمعقولات لا تنحصر طرقها إلا من جهة قسمين
أحدهما ما يدرك ببديهية النظر
الثاني ما يتحصل من سبيل النظر
أما إنه لها أمهات خمس وقعت الإشارة إليها وجاءت العبارة عنها بقوله تعالى (* (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) *)
فالأم الكبرى الساعة وما تضمنت من الحشر والنشر والموقف وما فيه من الأهوال وحال الخلق في الحساب ومنقلبهم بعد تفضيل وحط وتفصيل الثواب والعقاب
الأم الثانية تنزيل الغيث وما يترتب عليه من الإحياء والإنبات وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل وضع ذلك علي يدي ميكائيل وتحت نظره ملائكة لا يحصيها إلا الله سبحانه تصدر عن أمره في تنفيذ المقادير المتعلقة بذلك من إنشاء الرياح وتأليف السحاب وإلقاحها بالماء وفتقها بالقطر وعلى يدي كل ملك قطرة ينزلها إلى بقعة معلومة لينمي بها شجرة مخصوصة ليكون رزقا لحيوان معين حتى ينتهي إليه
الأم الثالثة ما تحويه الأرحام وقد وكل الله سبحانه بذلك في مورد الأمر ملكا يقال له إسرافيل وفي زمامه من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله تعالى وقرن بكل رحم ملكا يجري على يديه تدبير النطفة في أطوار الخلقة
256

الأم الرابعة قوله تعالى (* (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) *)
وهو معنى خبأه الله سبحانه عن الخلق تحت أستار الأقدار بحكمته القائمة وحجته البالغة وقدرته القاهرة ومشيئته النافذة فكائنات غد تحت حجاب الله ونبه بالكسب عن تعميها لأنه أوكد ما عند المرء للمعرفة وأولاه للتحصيل وعليه يتركب العمر والرزق والأجل والنجاة والهلكة والسرور والغم والغرائز المزدوجة في جبلة الآدمي من مفروح به أو مكروه له
الأم الخامسة قوله تعالى (* (وما تدري نفس بأي أرض تموت) *) نبأ به عن العاقبة التي انفرد بالاطلاع عليها رب العزة
وقد روينا عن النبي في تأكيد هذه الجملة عن جماعة من الصحابة منهم أبو ذر وأبو هريرة قالا كان النبي يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل عنه فطلبنا إلى رسول الله أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه وكنا نجلس جانبيه فإنا لجلوس ورسول الله في مجلسه إذ أقبل رجل من أحسن الناس وجها وأطيب الناس ريحا وأنقى الناس ثوبا كأن ثيابه لم يمسها دنس إذ وقف في طرف السماط فقال السلام عليك يا رسول الله فرد عليه السلام ثم قال يا محمد أدنو قال ادنه فما زال به يقول أدنوا ورسول الله يقول له ادنه حتى وضع يديه على ركبتي رسول الله فقال يا رسول الله أخبرني ما الإسلام قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان ' قال فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت قال نعم قال صدقت
قال فلما أن سمعنا قوله يسأله ويصدقه أنكرنا ذلك
ثم قال يا محمد أخبرني ما الإيمان قال أن تؤمن بالله والملائكة والكتاب والنبيين وتؤمن بالقدر كله
257

قال فإذا فعلت ذلك فقد آمنت قال نعم قال صدقت
قال فما الإحسان قال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت
قال فمتى الساعة قال فنكس فلم يجبه ثم دعاه فلم يجبه ثم رفع رأسه فحلف بالله وقال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن لها علامات يجئن إذا رأيت رعاء الغنم يتطاولون في البنيان ورأيت الحفاة العراة ملوك الأرض ورأيت المرأة تلد ربها هن خمس لا يعلمهن إلا الله (* (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت) *) وذكر كلمة معناها ثم صعد إلى السماء فقال النبي والذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق ما كنت بأعلم به من رجل منكم وإنه لجبريل نزل عليكم في صورة دحية الكلبي يعلمكم أمر دينكم
المسألة السادسة
قال السدي المراد بهذا خزائن الغيب
وقال ابن عباس مفاتيح الغيب خمس وقرأ الآيات الخمس المتقدمة
وقال بعضهم هو ما يتوصل به إلى علم الغيب من قول الناس افتح علي كذا أي أعطني أو علمني ما أتوصل به إليه
فأما قول السدي إن المراد بالمفاتح الخزائن فمجاز بعيد وأما قول ابن عباس فعلم سديد من فك شديد
258

وأما قول الثالث فأنكره شيخنا النحوي نزيل مكة وقال أجمعت أي الفرقة السالفة الصالحة من الأمة على غيره وذلك من قولهم أصح وأولى
وأظنه لم يفهم المقصود من هذا القول ولا اغتزى فيه المغزى ولقد ألحم فيه الصواب وسدى وإذا منحته نقدا لم تعدم فيه هدى عند الله تعالى علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه ومن شاء حجبه عنها حجبه فلا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله بدليل قوله سبحانه (* (وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) *))
المسألة السابعة
مقامات الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله لا أمارة عليها ولا علامة عليها إلا ما أخبر به الصادق المجتبى لاطلاع الغيب من أمارات الساعة والأربعة سواها لا أمارة عليها فكل من قال إنه ينزل الغيث غدا فهو كافر أخبر عنه بأمارات ادعاها أو بقول مطلق ومن قال إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر فأما الأمارة على هذا فتختلف فمنها كفر ومنها تجربة والتجربة منها أن يقول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر وإن كان ذلك في الثدي الأيسر فهو أنثى وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فهو ذكر وإن وجدت الجنب الأشأم أثقل فالولد أنثى وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم نكفره ولم نفسقه
وأما من ادعى علم الكسب في مستقبل العمر فهو كافر أو أخبر عن الكوائن الجملية أو المفصلة فيما يكون قبل أن يكون فلا ريبة في كفره أيضا فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا يؤدب ويسجن ولا يكفر أما عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسبما أخبر الله سبحانه في قوله جل وعلا (* (والقمر قدرناه منازل) *) فلحسابهم له وإخبارهم عنه وصدقهم فيه توقفت علماؤنا عن الحكم بتكفيرهم
259

وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة في تعليق العلم بالغيب المستأنف ولا يدرون قدر الفرق بين هذا وغيره فتشوش عقائدهم في الدين وتتزلزل قواعدهم في اليقين فأدبوا حتى يسروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال علماؤنا أمر الله سبحانه نبيه بالإعراض عن المشركين الذين يخوضون في آيات الله وفي ذلك نزلت
والخوض هو المشي فيما لا يتحصل حقيقة من الخائض في الماء الذي لا يدري باطنه استعير من المحسوس للمعقول على ما لبهنا عليه في الأصول وحرم الله سبحانه المشاركة لهم في ذلك على رسوله بالمجالسة سواء تكلم معهم في ذلك أو كرهه
وهذا دليل على أن مجالسة أهل المنكر لا تحل
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *))
قال قوم هذا خطاب من الله سبحانه لنبيه والمراد بذلك الأمة وكأن القائلين بذلك ذهبوا إلى تنزيه النبي عن النسيان وهم كبار الرافضة قبحهم الله وإن عذرنا أصحابنا في قولهم إن قوله تعالى (* (لئن أشركت ليحبطن عملك) *) خطاب للأمة باسم النبي لاستحالة الإشراك عليه
260

فلا عذر لهم في هذا لجواز النسيان على النبي قال الله تعالى (* (سنقرئك فلا تنسى) *)
وقال مخبرا عن نفسه إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون وقال وقد سمع قراءة رجل يقرأ لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها وقال في ليلة القدر تلاحى رجلان فنسيتها
وقال لا يقولن أحدكم نسيت آية كذا بل نسيتها كراهية إضافة اللفظ إلى القرآن لقوله تعالى (* (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) *)
وفائدته أن لفظ نسيت ينطلق على تركت انطلاقا طبقيا ثم نقول في تقسيم وجهي متعلقه سهوت إذا كان تركه عن غير قصد وعمدت إذا كان تركه عن قصد ولذلك قال علماؤنا إن قوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها عام في وجهي النسيان العمد والسهو
وقوله إذا ذكرها يعني أن الساهي يطرأ عليه الذكر فيتوجه عليه الخطاب وأن العامد ذاكرا أبدا فلا يزال الخطاب يتوجه عليه أبدا والله أعلم
261

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) *)
روى ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم والوليد بن مسلم عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه (* (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) *) قال بالعلم
قال ابن وهب عن مالك ليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو نور يضعه الله في قلب من يشاء
وقال ابن مسعود ليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو خشية الله تعالى
وروى المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس عن النبي همة السفهاء الرواية وهمة العلماء الدراية
وقال مالك لابني أخته أبي بكر وإسماعيل إن أحببتما أن ينفعكما الله بهذا الشأن فأقلا منه وتفقها فيه
وروى ابن القاسم عن مالك نرفع درجات من نشاء في الدنيا قال القاضي وصدق علم الدنيا عنوان الآخرة وسبيلها
والذي أوتيه إبراهيم من العلم بالحجة وهي التي تذكر للخصم على طريق المقابلة كان في الدنيا بظهور دلالة التوحيد وبيان عصمة إبراهيم عن الجهل بالله تعالى والشك فيه والإخبار أن ما جرى بينه وبين قومه إنما كان احتجاجا ولم يكن اعتقادا وقد مهدنا ذلك في المشكلين
262

الآية الرابعة
قوله تعالى (* (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) *)
قال القاضي أبو بكر بن العربي هذه الآية أصولية فإنها تفيد مسألة من الأصول وهي أن النبي وأمته هل تعبدوا بشريعة من قبلهم أم لا وقد حققناه في الأصول فلتنظر هناك
وفيها من الأحكام العمل بما ظهر من أفعالهم وأخبرنا عنهم النبي وثبت في الصحيح عن النبي واللفظ للبخاري عن العوام قال سألت مجاهدا عن سجدة ص فقال سألت ابن عباس من أين سجدت فقال أو ما تقرأ (* (ومن ذريته داود وسليمان) *) إلى قوله (* (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) *) وكان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها رسول الله وستراها مستوفاة في سورة ص إن شاء الله تعالى
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الينع
فيه ثلاثة أقوال
الأول الطيب والنضج يقال أينع الثمر يينع ويونع والثمر يانع ومونع إذا أدرك
الثاني قال ابن الأنباري الينع جمع يانع وهو المدرك البالغ
الثالث قال الفراء ينع أقل من أينع ومعناه احمر ومنه ما روي في حديث
263

الملاعنة إن ولدته أحمر مثل الينعة وهي خرزة حمراء يقال إنه العقيق أو نوع منه وهو الذي عليه يقف جواز بيع الثمر وبه يطيب أكلها ويأمن العاهة وذلك عند طلوع الثريا مع الفجر بما أجرى الله سبحانه في ذلك من العادة وأحكمه من العلم والقدرة وفصله من الحكم والشريعة ومن ألفاظ الحديث نهى عن بيع الثمر قبل أن يشقح قال الأصمعي إذا تغير البسر إلى الحمرة قيل هذه شقحة وقد أشقحت وقد قال ابن وهب قال مالك وهي
المسألة الثانية (* (إلى ثمره إذا أثمر وينعه) *))
الإيناع الطيب بغير فساد ولا نقش
قال مالك والنقش أن تنقش أسفل البسرة حتى ترطب يريد يثقب فيها بحيث يسرع دخول الهواء إليه فيرطب معجلا فليس ذلك الينع المراد في القرآن ولا هو الذي ربط به رسول الله البيع وإنما هو ما يكون من ذاته بغير محاولة وفي بعض بلاد التين وهي البلاد الباردة لا ينضج حتى يدخل في فمه عمود قد دهن بزيت فإذا طاب حل بيعه لأن ذلك ضرورة الهواء وعادة البلاد ولولا ذلك ما طاب في وقت الطيب
وقال الزبير بن بكار قلت لعبد الملك بن الماجشون وقد رأيته يأكل الرطب يقصعه كيف تفعل هذا وقد نهى رسول الله عن تقصيع الرطب فقال إنما نهى رسول الله عن تقصيع الرطب حيث كان أكله يتشبع به وقد جاء الله بالرخاء والخير والمراد ها هنا بالتقصيع أكل الرطبة في لقمة وذلك يكون مع الشبع فإذا لم يكن غيرها فأكلها في لقم أثبت للشبع
264

الآية السادسة
قوله تعالى (* (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
اتفق العلماء على أن معنى الآية لا تسبوا آلهة الكفار فيسبوا إلهكم وكذلك هو فإن السب في غير الحجة فعل الأدنياء
وقال النبي لعن الله الرجل يسب أبويه قيل يا رسول الله وكيف يسب أبويه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه فمنع الله تعالى في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور ولأجل هذا تعلق علماؤنا بهذه الآية في سد الذرائع وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور وسترى هذه المسألة مستوفاة في سورة الأعراف
وقد قيل إن المشركين قالوا لئن لم تنتهن عن سب آلهتنا لنسبن إلهكم فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثانية
هذا يدل على أن للمحق أن يكف عن حق يكون له إذا أدى ذلك إلى
265

ضرر يكون في الدين وهذا فيه نظر طويل اختصاره أن الحق إن كان واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول والله أعلم
الآية السابعة
قوله تعالى (* (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) *
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أن قريشا كلمهم النبي فقالوا يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك
فقال رسول الله أي شيء تحبون أن آتيكم به قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا قال لهم فإن فعلت تصدقوني قالوا نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله يدعو فجاءه جبريل فقال ما شئت إن شئت أصبح ذهبا ولئن أرسل الله تعالى آية ولم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم
فقال رسول الله بل يتوب تائبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله (* (يجهلون) *))
المسألة الثانية قوله تعالى (* (جهد أيمانهم) *))
يعني غاية أيمانهم التي بلغها علمهم وانتهت إليه قدرتهم وذلك أنهم كانوا
266

يعتقدون أن الله تعالى هو الإله الأعظم وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (بالله) *))
وإن كان غاية أيمان الكفار على اعتقادهم الذي قدمنا فإن غاية أيمان المسلمين لقوله من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وهذا يفيد المنع من الحلف بغير الله
والحلف بغير الله على وجهين
أحدهما على وجه التحريم بأن يحلف بغير الله سبحانه وتعالى معظما له مع الله أو معظما له من دونه فهذا كفر
الثاني أن يكون على وجه الكراهية بأن يلزم نفسه معنى مما يلزمه جنسه في الشرع ابتداء بوجه ما إذا ربطه بفعل أو ترك وهو معنى اتفقت عليه الأمة فيما إذا قال إن دخلت الدار فامرأتي طالق أو عبدي حر فهذه يمين منعقدة وهي أصل لغيرها من الأيمان وقد تكررت في كتب الفقه وتركب عليها مسألة رابعة
المسألة الرابعة
وهي ما إذا قال الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة كانوا يقولون علي أشد ما أخذه أحد على أحد فقال مالك يطلق نساءه ثم تكاثرت الصور حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها
وقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يقول يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث
267

فيها لأن قوله الأيمان جمع يمين وهو لو قال علي يمين وحنث للزمته كفارة ولو قال علي يمينان للزمته كفارتان إذا حنث والأيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات
وكان أهل القيروان قد اختلفوا فيها اختلافا كثيرا مرجعه إلى قولين
أحدهما أن الطلاق فيها ثلاث
والثاني أن الطلاق فيها واحدة بائنة
وقد جمعت في المسألة رسالة إبان كنت بإفريقية وقد كثر السؤال فيها علي فاستخرت الله سبحانه وتعالى على متوسط من الأقوال لم أخرج فيه عن جادة الأدلة ولا عن أصل إمام الأئمة مالك بن أنس
أما أصل مالك فقوله فيمن قال علي أشد ما أخذ أحد على أحد قال علماؤنا يطلق نساءه وذلك لأن الناس كانوا في زمانه وقبل ذلك يحلفون في البيعة ويتوثقون فيما يحتاجون إليه من العهود في المحالفة ويدخلون في اليمين بالله اليمين بالعتق والطلاق والحج وغيره فلما سئل مالك عن هذه النازلة وأصحابه رأوا أن الحرج عليهم في أن يتركوا معه أزواجه محتبسين في النكاح ومما يأخذه الناس بعضهم على بعض الطلاق فتحرجوا في ذلك وقالوا يطلق نساءه
وأما طريق الأدلة فلأن الألف واللام لا يخلو أن يراد بها ها هنا الجنس أو العهد فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك بالله فيكون ما قاله الفهري وإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده فإن الذي يكفي أن يدخل من كل جنس معنى واحد فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ماله إذ قد تكون الصدقة بجميع المال يمينا ونافذة فيما إذا كان المال معينا في دار أو عبد أو دابة أو كبش وتصدق بذلك فإنه ينفذ إجماعا فتبصرنا ذلك وأخذنا
268

بالوسط منه وقد بسطنا ذلك في الرسالة الحاكمة على الأيمان اللازمة وهناك يستوفي الناظر غرضه منها والله عز وجل أعلم وبه التوفيق
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) *)
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى
روى الترمذي وغيره عن ابن عباس قال أتى أناس النبي فقالوا يا رسول الله أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما قتل الله فأنزل الله تعالى (* (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم) *) إلى قوله (* (لمشركون) *
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) *))
يقضي بدليل الخطاب على رأي من قرأ ألا يؤكل ما لم يذكر اسم الله عليه لأنه علق الحكم وهو جواز الأكل على أحد وصفي الشيء وهو ما ذكر اسم الله عليه فيدل على أن الآخر بخلافه بيد أن الله تعالى بين الحكمين بنصين وتكلم فيهما بكلامين صريحين فقال في المقابل الثاني (* (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *))
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) *))
المعنى ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم وقد بين الله لكم المحرم وأوضح لكم المحلل فإن من حرم عليك معنى خاصيا أباح ما سواه فكيف وقد أذن له في القتل والتسمية عليه وأكله فكيف يقابل ذلك من
269

تفصيل الله وحكمه وإيضاحه وشرحه بهوى باطل ورأي فاسد صدرا عن غير علم وكانا باعتداء وإثم وربك أعلم بالمعتدين
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) *))
المعنى قد فصل لكم المحرم فذروه وهو الإثم ظاهرا وباطنا وفي ذلك للعلماء ستة أقوال
الأول ظاهره وباطنه سره وعلانيته قاله مجاهد وقتادة
الثاني قال سعيد بن جبير ظاهر الإثم نكاح ذوات المحارم وباطنه الزنا
الثالث ظاهر الإثم أصحاب الرايات من الزواني وباطنه ذوات الأخدان قاله السدي وغيره
الرابع ظاهر الإثم طواف العربان وباطنه الزنا قاله ابن زيد
وقد قالت طائفة إن الإثم اسم من أسماء الخمر فعلى هذا يكون معنى الآية في القول الخامس ظاهر الإثم الخمر وباطنه المثلث والمنصف وسنبين ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى
ويحتمل وجها سادسا وهو أن يكون ظاهر الإثم واضح المحرمات وباطنه الشبهات ومنها الذرائع وهي المباحات التي يتوصل بها إلى المحرمات وسيأتي ذلك في موضعه
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *))
يعني فمطلق سبب الآية الميتة وهي التي قالوا هم فيها ولا نأكل مما قتل الله فقال الله لهم لا تأكلوا منها فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها فإن قيل وهي
المسألة السادسة
هذا هو السبب الذي خرجت عليه الآية وقصر اللفظ الوارد على السبب المورود عليه إذا كان اللفظ مستقلا دون عطفه عليه لا يجوز لغة ولا حكما
270

قلنا قد آن أن نكشف لكم نكتة أصولية وقعت تفاريق في أقوال العلماء تلقفتها جملة من فك شديد وذلك أنا نقول مهما قلنا إن اللفظ الوارد على سبب هل يقصر عليه أم لا فإنا لا نخرج السبب عنه بل نقره فيه ونعطف به عليه ولا نمتنع أن يضاف غيره إليه إذا احتمله اللفظ أو قام عليه الدليل فقوله (* (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *) ظاهر في تناول الميتة بعموم لفظه وكونها سببا لوروده ويدخل فيه ما ذكر اسم الله عليه اسم غير الله من الآلهة المبطلة وهي
المسألة السابعة
بعموم أنه لم يذكر اسم الله عليه وبزيادة ذكر غير الله عليه الذي يقتضي تحريمه هذا اللفظ عموما ومعناه تنبيها من طريق الأولى ويقتضي تحريمه نصا قوله (* (وما أهل لغير الله به) *) فقد توارد على تحريم ذلك النص والعموم والتنبيه من طريق الأولى بالتحريم لظاهر أدلة الشرع عليه أولا
وهذا من بديع الاستنباط في موارد الأدلة المماثلة في اقتضاء الحكم الواحد عليه وهل يدخل فيه ما ترك المسلم التسمية عليه عمدا من الذبائح أم لا مسألة مشكلة جدا قد مهدنا القول فيها في تخليص الطريقتين ولكننا نشير فيها ها هنا إلى نكتة تتعلق بالمقصود فنقول اختلف العلماء في متروك التسمية على ستة أقوال
الأول إن تركها سهوا أكلت وإن تركها عمدا لم تؤكل قاله في الكتاب مالك وابن القاسم وأبو حنيفة وعيسى وأصبغ
الثاني إن تركها عامدا أو ناسيا تؤكل قاله الحسن والشافعي
الثالث أنه إن تركها عامدا أو ناسيا حرم أكلها قاله ابن سيرين وأحمد
الرابع إن تركها متعمدا كره أكلها ولم تحرم قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من أصحابنا وهو ظاهر قول الشافعي
271

الخامس قال أحمد بن حنبل التسمية شرط في إرسال الكلب دون السهم في إحدى روايتيه
السادس قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه يجب أن تعلق هذه الأحكام بالقرآن والسنة والدلائل المعنوية التي أسستها الشريعة
فأما القرآن فقد قال تعالى (* (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) فبين الحالين وأوضح الحكمين
وقوله (* (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) *) نهي محمول على التحريم ولا يجوز حمله على الكراهة لتناوله في بعض مقتضياته الحرام المحض ولا يجوز أن يتبعض وهذا من نفيس علم الأصول
وأما السنة فقوله في الصحاح ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل وقال أيضا إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وقال أيضا وإن وجدت مع كلبك كلبا آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر
272

وهذه أدلة ظاهرة غالبة عالية وذلك من أظهر الأدلة وأعجب لرأس المحققين إمام الحرمين يقول في معارضة هذا وذكر الله إنما شرع في القرب والذبح ليس بقربة
قلنا هذا فاسد من ثلاثة أوجه
أحدها أنه يعارضه القرآن والسنة كما قلنا
الثاني أن ذكر الله مشروع في كل حركة وسكنة حتى في خطبة النكاح وإنما تختلف درجاته بالوجوب والاستحباب
الثالث أن الذبيحة قربة بدليل افتقارها إلى النية عندنا وعندك وقد قال الله تعالى (* (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) *) فإن قيل المراد بذكر اسم الله بالقلب لأن الذكر يضاد النسيان ومحل النسيان القلب فمحل الذكر القلب
وقد روى البراء بن عازب وغيره عن النبي اسم الله على قلب كل مؤمن يسمي أو لم يسم ولهذا تجزئه الذبيحة إذا نسي التسمية تعويلا على ما في قلبه من اسم الله سبحانه
273

قلنا الذكر يكون باللسان ويكون بالقلب والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان فنسخ الله ذلك بذكر الله في الألسنة واستمر ذلك في الشريعة حتى قيل لمالك هل يسمي الله إذا توضأ فقال أيريد أن يذبح إشارة إلى أن موضع التسمية وموضوعها إنما هو في الذبائح لا في الطهارة
وأما الحديث الذي تعلقوا به في قوله اسم الله على قلب كل مؤمن فحديث ضعيف لا تلتفتوا إليه
وأما الناسي للتسمية على الذبيحة فإنها لم تحرم عليه لأن الله تعالى قال (* (وإنه لفسق) *) وليس الناسي فاسقا بإجماع فلا تحرم عليه
فإن قيل وكذلك المتعمد ليس بفاسق إن أكلها إجماعا لأنها مسألة اجتهاد اختلف العلماء فيها
قلنا قد أجبنا عن هذه النكتة في مسائل الخلاف وصرحنا فيه بالحق من وجوه أظهرها أن تارك التسمية عمدا لا يخلو من ثلاثة أحوال
أحدها أن يترك التسمية إذا أضجع الذبيحة لأنه يقول قلبي مملوء من أسماء الله وتوحيده فلا أفتقر إلى ذكر ذلك بلساني فذلك يجزيه لأنه قد ذكر الله وعظمه
وإن قال ليس هذا موضع التسمية صريحة فإنها ليست بقربة فهذا يجزيه لكونه على مذهب يصح اعتقاده اجتهادا للمجتهد فيه وتقليدا لمن قلده وإن قال لا أسمي وأي قدر للتسمية فهذا متهاون كافر فاسق لا تؤكل ذبيحته فإنما يتصور الخلاف في المسألة على الصورتين الأوليين فأما على الصورة الثالثة فلا تشخيص لها
والذي نعتمد عليه في صورة الناسي أن الخطاب لا يتوجه إليه لاستحالة خطاب الناسي فالشرط ليس بواجب عليه
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) *
سمى الله تعالى ما يقع في القلوب من إلهام وحيا وهذا مما يطلقه شيوخ
274

التصوف وينكره جهال المتوسمين بالعلم ولم يعلموا أن الوحي على ثلاثة أقسام وأن إطلاقه في جميعها جائز في دين الله أولستم ترون أن الله سبحانه قد سمى إلهام الشياطين وحيا وكل ما يقوم بالقلب من الخواطر فهو خلق الله فكل ما كان من الشر أضافه الله إلى الشيطان وما كان من الخير أضافه الله إلى الملك وفي الحديث إن القلب بين لمتين لمة من الملك ولمة من الشيطان فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (ليجادلوكم) *))
المجادلة دفع القول على القول على طريق الحجة بالقوة مأخوذ من الأجدل طائر قوي أو لقصد المغالبة كأنه يطرحه على الجدالة ويكون حقا في نصرة الحق وباطلا في نصرة الباطل قال تعالى (* (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) *))
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) *))
إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركا إذا أطاعه في اعتقاده الذي هو محل الكفر والإيمان فإذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص فافهموا ذلك في كل موضع والله أعلم
الآية التاسعة والعاشرة والحادية عشرة
قوله تعالى (* (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) *
275

)
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال من أراد أن يعلم جهل العرب فليقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام إلى قوله تعالى (* (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم) *)
وهذا الذي قاله رضي الله عنه كلام صحيح فإنها تصرفت بعقولها القاصرة في تنويع الحلال والحرام سفاهة بغير معرفة ولا عدل والذي تصرفت بالجهل فيه من اتخاذ آلهة أعظم جهلا وأكبر جرما فإن الاعتداء على الله أعظم من الاعتداء على المخلوقين
والدليل على أن الله تعالى واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في مخلوقاته أبين وأوضح من الدليل على أن هذا حلال وهذا حرام
وقد روي أن رجلا قال لعمرو بن العاص إنكم على كمال عقولكم ووفور أحلامكم كنتم تعبدون الحجر فقال عمرو تلك عقول كادها باريها
المسألة الثانية
هذا الذي أخبر الله تعالى عنه من سخافة العرب وجهلها أمر أذهبه الله تعالى بالإسلام وأبطله ببعثة الرسول وكان من الظاهر لنا أن نميته حتى لا
276

يظهر وننساه حتى لا يذكر إلا أن ربنا تبارك وتعالى ذكره بنصه وأورده بشرحه كما ذكر كفر الكافرين به وكانت الحكمة في ذلك والله أعلم أن قضاءه قد سبق وحكمه قد نفذ بأن الكفر والتخليط لا ينقطعان إلى يوم القيامة وقد قضى الله ألا يصد كافر عن ذكر الكفر ولا مبتدع عن تغيير الدين قصده ببيان الأدلة ثم وفق من سبق له عنده الخير فيسر له معرفتها فآمن وأطاع وخذل من سبق له عنده الشر فصدفه عنها فكفر وعصى (* (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) *) فتعين علينا أن نشير إلى بسط ما ذكر الله تعالى من ذلك وهي
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث) *))
أي أظهر بالخلق والإيجاد من الحرث والأنعام نصيبا وجميعه له لا شريك معه في خلقه فكيف فعلوا له شريكا في القربان به من الأوثان التي نصبوها للعبادة معه وشر العبيد كما يأتي بيانه في الأثر من أنعم عليه سيده بنعمة فجعل يشكر غيره عليها وكان هذا النصيب الذي للأوثان جعلوه لله من الحرث مصروفا في النفقة عليها وعلى خدامها وكذلك نصيب الأنعام أنهم كانوا يجعلونها قربانا للآلهة
وقيل كان لله البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكان ما جعلوه لله إذا اختلط بأموالهم لم يردوه وإذا اختلط ما للأوثان بها ردوه وذلك قوله (* (فما كان لشركائهم) *)
وقيل كان ذلك إذا هلك ما جعلوه لله لم يغرموه وإذا هلك ما جعل للأوثان غرموه
وقيل كانوا يذكرون اسم الأوثان على نصيب الله ولا يذكرون الله على نصيب الأوثان وهي
277

المسألة الرابعة
فإن تركهم لذكر اسم الله مذموم منهم وفيهم فكان ذلك أصلا في ترك أكل ما لم يسم الله عليه
المسألة الخامسة ثم قال بعد ذلك (* (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) *))
يعني في الوأد للبنات مخافة السباء وعدم الحاجة وما حرمن من النصرة كما كانت الجاهلية تفعله
وقيل كما فعل عبد المطلب حين نذر ذبح ولده عبد الله
وحقيقة التزيين إظهار الجميل وإخفاء القبيح وقد يتغلب بخذلان الله للعبد كما يتحقق بتوفيقه له ومن الباطل الذي ارتكبوه بتزيين الشيطان تصويره عندهم جواز أكل الذكور من القرابين ومنع الإناث من أكلها كالأولاد والألبان وكان تفضيلهم للذكور لأحد وجهين أو بمجموعهما إما لفضل الذكر في نفسه على الأنثى وإما لأن الذكور كانوا سدنة بيوت الأصنام فكانوا يأكلون مما جعل لهم منها وذلك كله تعد في الأفعال وابتداء في الأقوال وعمل بغير دليل من الشرع ولذلك أنكر جمهور من الناس على أبي حنيفة القول بالاستحسان وهي
المسألة السادسة
فقالوا إنه يحرم ويحلل بالهوى من غير دليل وما كان ليفعل ذلك أحد من اتباع المسلمين فكيف أبو حنيفة
وعلماؤنا من المالكية كثيرا ما يقولون القياس كذا في مسألة والاستحسان كذا والاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين
وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف نكتته المجزئة ههنا أن العموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من
278

ظاهر أو معنى ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس
ويرى مالك وأبو حنيفة تخصيص القياس ببعض العلة ولا يرى الشافعي العلة الشرع إذا ثبت تخصيصا ولم يفهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة ولا رأى تخصيص العلة وقد رام الجويني رد ذلك في كتبه المتأخرة التي هي نخبة عقيدته ونخيلة فكرته فلم يستطعه وفاوضت الطوسي الأكبر في ذلك وراجعته حتى وقف وقد بينت ذلك في المحصول والاستيفاء بما في تحصيله شفاء إن شاء الله تعالى
فإن قال أصحاب الشافعي فقد تاخمتم هذه المهواة وأشرفتم على التردي في المغواة فإنكم زعمتم أن اليمين يحرم الحلال ويقلب الأوصاف الشرعية ونحن براء من ذلك قلنا هيهات ما حرمنا إلا ما حرم الله ولا قلنا إلا ما قال الله ألم تسمعوا قوله (* (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) *) وهي
المسألة السابعة
وسنبينها في سورة التحريم إن شاء الله
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) *)
فيها خمس عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله تعالى (* (أنشأ) *))
أي ابتداء الفعل من غير احتذاء مثال وكان ذلك في يوم الاثنين على ما ورد في
279

الخبر الصحيح وأوضحناه في كتاب المشكلين وقد يستعمل أنشأ في كل فعل كان على مثال أو لم يكن
المسألة الثانية الجنات
هي البساتين التي يجنها الشجر أي يسترها ومنه جن عليه الليل ومنه سمي الجن لاجتنانهم عن الأبصار وكذلك الجنة في قوله تعالى (* (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) *) سموا بذلك لاجتنانهم
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (معروشات وغير معروشات) *))
يعني رفعت على الأعواد وصينت عن تدلي الثمر على الأرض وأظهرت للإدراك وسهل جمعها دون انحناء
والعرش كل ما ارتفع فوق غيره وقيل تعريشها حياطتها بالجذر وما قام مقامها حتى لا يكون فيها مدخل لأحد والأول أقوى في الاشتقاق
وقد قيل في قوله (* (خاوية على عروشها) * ويعني على أعاليها ولعله على جدرانها وأشار بذلك إلى حدائق الأعناب التي هي الكروم في ألسنة العرب ثم قال بعد ذلك وهي
المسألة الرابعة (* (والنخل والزرع مختلفا أكله) *))
وفرق بينهما لأنهما أصلا المعاش وعمادا القوت ثم فرق بين الزيتون والرمان في وزان آخر وهي
المسألة الخامسة
ووصفها بأنها متشابهة وغير متشابهة يعني أن منها ما يتشابه في الظاهر ويخالفه في الباطن ومنها ما يشتبه في اللون ويختلف في الطعم وفي ذلك دليلان عظيمان أحدهما على المنة منه سبحانه علينا والنعمة التي هيأها لنا وهي
المسألة السادسة
فلو شاء ربنا إذ خلقنا أحياء ألا يخلق لنا غذاء أو إذ خلقه ألا يكون جميل المنظر
280

طيب الطعم أو إذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء لأنه لا يجب عليه شيء وإن فعله فبفضله كابتداء خلقه في تعديد النعم وتقرير الفضل والكرم والشهادة على الابتداء بالثواب قبل العقاب وبالعطاء قبل العمل
الدليل الثاني على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الواحد القادر علام الغيوب من أسافل الشجر على أعاليها ويترقى من أصولها إلى فروعها حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراق ليست من جنسها وثمار خارجة عن صفتها فيها الجرم الوافر واللون الزاهر والجني الجديد والطعم اللذيد فأين الطبائع وأجناسها وأين الفلاسفة وأناسها هل في قدرة الطبيعة إذا سلمنا وقلنا لها قدرة على طريق الجدل أن تتقن هذا الإتقان البديع أو ترتب هذا الترتيب العجيب كلا لا يتم ذلك في المعقول إلا لحي عالم قادر مريد فقد علم الألباء أن أميا لا ينظم سطور الكتابة وأن سواديا لا يقدر على ما في الديباج من التزين والنساجة فسبحان من له في كل شيء آية بداية ونهاية فمن الله الابتداء وإن إلى ربك المنتهى تقدس وتعالى
المسألة السابعة قوله تعالى (* (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) *))
فهذان بناءان جاءا بصيغة أفعل وأحدهما مباح لقوله (* (فانتشروا في الأرض) *) والثاني واجب على ما يأتي تفصيله إن شاء الله وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب لما يأتي في ذلك من الفوائد ويتركب عليه من الأحكام فأما الأكل فلقضاء اللذة وأما إيتاء الحق فلقضاء حق النعمة فلله تعالى على العبد نعمة في البدن بالصحة واستقامة الأعضاء وسلامة الحواس ونعمة في المال بالتمليك والاستغناء وقضاء اللذات وبلوغ الآمال ففرض الصلاة كفاء نعمة البدن وفرض الزكاة كفاء نعمة المال وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ليبين أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف
281

المسألة الثامنة قوله تعالى (* (وآتوا حقه) *))
اختلف في تفسير هذا الحق على ثلاثة أقوال
الأول أنه الصدقة المفروضة قاله سعيد بن المسيب وغيره ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية
الثاني أنها الصدقة غير المفروضة تكون يوم الحصاد وعند الصرام وهي إطعام من حضر والإيتاء لمن غبر قاله مجاهد
الثالث أن هذا منسوخ بالزكاة قاله ابن عباس وسعيد بن جبير
وقد زعم قوم أن هذا اللفظ مجمل ولم يخلصوا القول فيه وحقيقة الكلام عليه أن قوله (* (أتوا) *) مفسر وقوله (* (حقه) *) مفسر في المؤتى مجمل في المقدار وإنما يقع النظر في رفع الإشكال الذي أنشأه احتمال هذه الأقوال وقد بينا فيما سبق وجه أنه ليس في المال حق سوى الزكاة وتحقيقه في القسم الثاني من علوم القرآن وفي سورة البقرة من هذا التأليف وثبت أن المراد بذلك ها هنا الصدقة المفروضة
قد أفادت هذه الآية وجوب الزكاة فيما سمى الله سبحانه وأفادت بيان ما يجب فيه من مخرجات الأرض التي أجملها في قوله (* (ومما أخرجنا لكم من الأرض) *) وفسرها ها هنا فكانت آية البقرة عامة في المخرج كله مجملة في القدر وهذه الآية خاصة في مخرجات الأرض مجملة في القدر فبينه رسول الله الذي أمر بأن يبين للناس ما نزل إليهم فقال فيما سقت السماء العشر وما سقي بنضح أو دالية نصف العشر فكان هذا بيانا لمقدار الحق المجمل في هذه الآية
282

وقال أيضا ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة خرجه مسلم وغيره فكان هذا بيانا للمقدار الذي يؤخذ منه الحق والذي يسمى في ألسنة العلماء نصابا
وقد اختلف العلماء اختلافا متباينا قديما وحديثا فروي عن مالك وأصحابه أن الزكاة في كل مقتات لا قول له سواه وقد أوردناه في كتب الفقه وشرحناه وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة تجب في كل ما تنبته الأرض من المأكولات من القوت والفاكهة والخضر وبه قال عبد الملك بن الماجشون في أصول الثمار دون البقول
وقال أحمد أقوالا أظهرها أن الزكاة تجب في كل ما قال أبو حنيفة إذا كان يوسق فأوجبها في اللوز لأنه مكيل دون الجوز لأنه معدود معولا على قول النبي ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة فبين النبي أن محل الواجب هو الموسق وبين القدر الذي يجب إخراج الحق منه
وتعلق الشافعي بالقوت وذلك لأن التوسيق إنما يكون في المقتات غالبا دائما وأما الخضر فأمرها نادر
وأما المالكية فتعلقت بأن النبي لم يأخذ من خضر المدينة صدقة
وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق وقال إن الله أوجب الزكاة في المأكول قوتا كان أو غيره وبين النبي ذلك في عموم قوله فيما سقت السماء العشر وقد أشرنا في مسائل الخلاف إلى مسالك النظر فيها في كتاب الإنصاف والتخليص وقد آن تحديد النظر فيها كما يلزم كل مجتهد
283

فالذي لاح بعد التردد في مسالكه أن الله سبحانه لما ذكر الإنسان بنعمه في المأكولات التي هي قوام الأبدان وأصل اللذات في الإنسان عليها تنبني الحياة وبها يتم طيب المعيشة عدد أصولها تنبيها على توابعها فذكر منها خمسة الكرم والنخل والزرع والزيتون والرمان فالكرم والنخل يؤكل في حالين فاكهة وقوتا والزرع يؤكل في نوعين فاكهة وقوتا والزيت يؤكل قوتا واستصباحا والرمان يؤكل فاكهة محضة وما لم يذكر مما يؤكل لا يخرج عن هذه الأقسام الخمسة
فقال تعالى هذه نعمتي فكلوها طيبة شرعا بالحل طيبة حسا باللذة وآتوا الحق منها يوم الحصاد وكان ذلك بيانا لوقت الإخراج وجعل كما أشرنا إليه الحق الواجب مختلفا بكثرة المؤونة وقلتها فما كان خفيف المؤونة قد تولى الله سقيه ففيه العشر وما عظمت مؤونته بالسقي الذي هو أصل الإتيان ففيه نصف العشر
فأما قول أحمد إنه فيما يوسق لقوله ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة فضعيف لأن الذي يقتضي ظاهر الحديث أن يكون النصاب معتبرا في التمر والحب فأما سقوط الحق عما عداها فليس في قوة الكلام وأما التعليق بالقوت فدعوى ومعنى ليس له أصل يرجع إليه وإنما تكون المعاني موجبة لأحكامها بأصولها على ما بيناه في كتاب القياس
وكيف يذكر الله سبحانه النعمة في القوت والفاكهة وأوجب الحق منها كلها فيما تنوع حاله كالكرم والنخيل وفيما تنوع جنسه كالزرع وفيما ينضاف إلى القوت من الاستسراج الذي به تمام النعمة في المتاع بلذة البصر إلى استيفاء النعم في الظلم
فإن قيل إنما تجب الزكاة في المقتات الذي يدوم فأما في الخضر فلا بقاء لها ولذلك لم تؤخذ الزكاة في الأقوات من أخضرها وإنما أخذت من يابسها
قلنا إنما تؤخذ الزكاة من كل نوع عند انتهائه باليبس وانتهاء اليابس والطيب انتهاء الأخضر ولذلك إذا كان الرطب لا يثمر والعنب لا يتزبب تؤخذ الزكاة
284

منهما على حالهما ولو لم تكن الفاكهة الخضرية أصلا في اللذة وركنا في النعمة ما وقع الامتنان بها في الجنة ألا تراه وصف جمالها ولذتها فقال (* (فيهما فاكهة ونخل ورمان) *) فذكر النخل أصلا في المقتات والرمان أصلا في الخضروات
أولا ينظرون إلى وجه امتنانه على العموم لكم ولأنعامكم بقوله (* (أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا) *)
فإن قيل فقد قال تعالى (* (وآتوا حقه يوم حصاده) *) والذي يحصد الزرع
قلنا جهلتم بل هو عام في كل نبت في الأرض وأصل الحصاد إذهاب الشيء عن موضعه الذي هو فيه قال تعالى (* (منها قائم وحصيد) *) وقال (* (حتى جعلناهم حصيدا خامدين) *) وقال (* (فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس) *) وفي الحديث وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم
فإن قيل هذا مجاز وأصله في الزرع
قلنا هذا كله حقيقة وأصلها الذهاب
فإن قيل أليس يقال جداد النخل وحصاد الزرع وجذاذ البقل
قلنا الاسم العام الحصاد وهذه خواص العام على بعض متناولاته وقد أجاب عنه العلماء بأنه ذكر الحصاد فيما يحصد دليلا على الجداد فيما يجد لأن أحدهما يكفي عن الآخر ولكن النبات كان أصلا لقوله فأنبتنا به جنات فجعلها قسما
285

وحب الحصيد فجعله قسما آخر فلما عادل الجميع اكتفى بذكره عن ذكر غيره
فإن قيل فلم ينقل عن النبي أنه أخذ الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر
قلنا كذلك عول علماؤنا وتحقيقه أنه عدم دليل لا وجود دليل
فإن قيل لو أخذها لنقل
قلنا وأي حاجة إلى نقله والقرآن يكفي عنه
فإن قيل الآية منسوخة بأنها مكية وآية الزكاة مدنية
قلنا قد قال مالك أن المراد به الزكاة المفروضة وتحقيقه في نكتة بديعة وهي أن القول في أنها مكية أو مدنية يطول فهبكم أنها مكية إن الله أوجب الزكاة بها إيجابا مجملا فتعين فرض اعتقادها ووقف العمل بها على بيان الجنس والقدر والوقت فلم تكن بمكة حتى تمهد الإسلام بالمدينة فوقع البيان فتعين الامتثال وهذا لا يفقهه إلا العلماء بالأصول
فإن قيل قول النبي فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر ' كلام جاء لبيان تفصيل قدر الواجب بحال الموجب فيه وليس القصد منه العموم حتى يقع التعويل عليه في استعمام ما سقت السماء
قلنا هذا هو كلام إمام الحرمين وهو من مذهباته التي بنى عليها كتاب البرهان وظن أنها لم تدرك في غابر الأزمان وليس لها في الدلائل مكان
نحن نقول إن الحديث جاء للعموم في كل مسقي ولتفصيل قدر الواجب باختلاف حال الموجب فيه ولا يتعارض ذلك فيمتنع اجتماعه وقد مهدناه في أصول الفقه
فإن قيل فقد خصصتم الحديث في المأكولات من المقتات فنحن نخصه في المأكولات أيضا
286

قلنا نحن خصصناه في المأكولات من المقتات بدليل الإجماع ولا دليل لكم على تخصيصه في المقتات فإن أعادوا لما تقدم من أقوالهم أعدنا ما سبق عليها من الأجوبة
المسألة التاسعة
قال الشافعي لا زكاة في الزيتون في أحد قوليه قال لأنه يؤكل إداما وأيضا فإن التين أنفع منه في القوت ولا زكاة فيه
قلنا له الزكاة تجب عندنا في التين فلا قول لك في ذلك وأي فرق بين التين والزبيب والزيتون قوت يدخر ذاته ويدخر زيته فلا كلام عليه
المسألة العاشرة
قال مالك في أظهر قوليه إنما تكون الزكاة فيما يقتات في حال الاختيار دون ما يقتات به في حال الضرورة فلا زكاة في القطاني وبه قال الحسن والشعبي وابن سيرين وابن أبي ليلى والحسن بن صالح والثوري وابن المبارك ويحيى بن آدم وأبو عبيد ولذلك اختلف قوله في التين فكان لا يوجب فيه الزكاة لأنه لا يدريه فإذا أخبر عنه ورأى موقعه في بلاده أوجب فيه الزكاة وهذا بناء على أصل من أصول الفقه وهو أن كلام الله تعالى إذا ورد هل يحمل على العموم المطلق أو الغالب من المتناول فيه والصحيح حمله على العموم المطلق حسبما بيناه في موضعه والله أعلم
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (وآتوا حقه يوم حصاده) *))
اختلف العلماء في وقت وجوب الزكاة في هذه الأموال النباتية على ثلاثة أقوال
الأول أنها تجب وقت الجداد قاله محمد بن مسلمة بقوله (* (وآتوا حقه يوم حصاده) *
287

الثاني أنها تجب يوم الطيب لأن ما قبل الطيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما فإذا طابت وكان الأكل الذي أنعم الله به وجب الحق الذي أمر الله به إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة ويكون الإيتاء يوم الحصاد لما قد وجب يوم الطيب
الثالث أنه يكون بعد تمام الخرص قاله المغيرة لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطا لوجوبها أصله مجيء الساعي في الغنم
ولكل قول وجه كما ترون لكن الصحيح وجوب الزكاة بالطيب لما بيناه من الدليل وإنما خرص عليهم ليعلم قدر الواجب في ثمارهم
والأصل في الخرص حديث الموطأ أن النبي بعث عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر فخرص عليهم وخيرهم بين أن يأخذوا وله ما قال أو ينخلوا ولهم ما قال فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض ويا ويح البخاري يتخير على مالك ولا يدخل هذا الحديث في باب الخرص ويدخل منه حديث النبي أنه مر في غزوة تبوك بحديقة فقال اخرصوا هذه فخرصوا فلما رجع عن الغزو وسأل المرأة كم جاءت حديقتك فأخبرته أنها جاءت كما قال فكانت إحدى معجزاته في قول
فإن تلفت بعد الطيب فلا شيء فيها على المالك وهي
المسألة الثانية عشرة
إن الله ذهب بماله وما عليه ولم يلزمه أن يخرصها من غيره وإن تلفت بعد الخرص وهي
المسألة الثالثة عشرة
فلا بد له أن يقيم البينة على تلفها
288

وقال الشافعي يحلف لأنها أمانة عنده وليس كذلك بل هي واجبة عليه فلا يبرئه منها إلا إيجاد البراءة وإنما ذلك في الأمانات التي تكون مستحفظة عنده من غيره وفي ذلك تفصيل ذكره في الفروع
المسألة الرابعة عشرة
تركبت على هذه الأصول مسألة وهي أن الله تعالى أوجب الزكاة في الكرم والزرع والنخل مطلقا ثم فسر النصاب بقوله ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة فمن حصل له من تمر خمسة أوسق أو من زبيب خمسة أوسق وجبت عليه الزكاة فيها فإن حصل له من تمر وزبيب معا خمسة أوسق لم تلزمه زكاة إجماعا في الوجهين لأنهما صنفان مختلفان فإن حصل له من طعام بر وشعير معا خمسة أوسق زكاهما معا عند مالك
وقال الشافعي لا يجمعان وكذلك غيرهما وإنما هي أنواع كلها يعتبر النصاب في كل واحد منها على الانفراد لأنهما يختلفان في الاسم الخاص وفي حالة الطعم
والصحيح ضمهما لأنهما قوتان يتقاربان فلا يضر اختلاف الاسم وقد بيناه في كتب الفروع
المسألة الخامسة عشرة قوله تعالى (* (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) *))
الإسراف هو الزيادة فقيل لهم لا تسرفوا في الأكل بزيادة الحرام على ما أحله الله لكم ولا تسرفوا في أخذ زيادة عل حقكم وهو التسعة الأعشار حاسبوا أنفسكم بما تأكلون وأدوا ما يتعين عليكم بالخرص أو بالجذاذ على ما تقدم والله أعلم
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) *
289

)
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى (* (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) *))
قد بينا في كتب الحديث أن الوحي ينقسم على ثمانية أقسام منها مجيء الملك إلى النبي عن الله بالأمر والنهي والخبر فأخبر النبي أن الملك لم يأت إليه الآن إلا بهذا إذ قد جاء إليه قبل ذلك بالمحرمات وقد ثبت ذلك
المسألة الثانية
هذه الآية مدنية مكية في قول الأكثر نزلت على النبي يوم نزل عليه قوله (* (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) *) وذلك يوم ولم ينزل بعدها ناسخ عرفة فهي محكمة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (على طاعم) *))
المحرمات على ثلاثة أقسام مطعومات منكوحات ملبوسات
فأما المطعومات والمنكوحات فقد استوفى الله بيانها في القرآن كثيرا ومنها في السنة توابع
وأما الملبوسات فمنها في القرآن إشارات وتمام ذلك في السنة وقال الله (* (قل لا أجد فيما أوحي إلي) *)
فأما الميتة والدم فقد تقدم الكلام عليهما في البقرة والمائدة وكذلك قوله (* (ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) *) وكان ورود ذكر الدم مطلقا هنالك وورد ها هنا مقيدا بالسفح
واختلف الناس في حمل المطلق ها هنا على المقيد على قولين
290

فمنهم من قال أن كل دم محرم إلا الكبد والطحال باستثناء السنة كما تقدم
ومنهم من قال إن التحريم يختص بالمسفوح قالته عائشة وعكرمة وقتادة وروي عن عائشة أنها قالت لولا أن الله قال (* (أو دما مسفوحا) *) لتتبع الناس ما في العروق
قال الإمام الحافظ الصحيح أن الدم إذا كان مفردا حرم منه كل شيء وإن خالط اللحم جاز لأنه لا يمكن الاحتراز منه وإنما حرم الدم بالقصد إليه
المسألة الرابعة
اختلف العلماء في هذه الآية على ثلاثة أقوال
الأول أنها منسوخة بالسنة وحرم النبي لحوم الحمر الأهلية وحرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير خرجه الأئمة كلهم
الثاني أنها محكمة لا حرام فيها إلا فيما قالته عائشة
الثالث قال الزهري ومالك في أحد قوليه هي محكمة ويضم إليها بالسنة ما فيها من محرم فأما من قال إنها منسوخة بالسنة فقد اختلف الناس في ذلك كما اختلفوا في نسخ السنة بها
والصحيح جواز ذلك كله كما في تفصيل الأصول لكن لو ثبت بالسنة محرم غير هذه لما كان ذلك نسخا لأن زيادة محرم على المحرمات أو فرض على المفروضات لا يكون نسخا بإجماع من المسلمين لا سيما وما ورد عن النبي في الحمر الأهلية مختلف في تأويله غلى أربعة أقوال
الأول أنها محرمة كما قالوا
الثاني أنها حرمت بعلة أن جائيا جاء إلى النبي فقال فنيت الحمر فنيت
291

الحمر فقال النبي ينادى بتحريمها لعلة خوف الفناء عليها فإذا كثرت ولم يضر فقدها بالحمولة جاز أكلها فإن الحكم يزول بزوال العلة
الثالث أنها محرمة لأنها طبخت قبل القسمة
الرابع أنها حرمت لأنها كانت جلالة خرجه أبو داود
وقد نهى النبي عن أكل جلالة البقر وهذا بديع في وجه الاحتجاج بها وقد استوفيناه في شرح الحديث الصحيح
وكذلك ما روي عنه في كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير إنما ورد في المسند الصحيح بقوله نهى ويحتمل ذلك النهي التحريم ويحتمل الكراهية مع اختلاف أحوال السباع في الافتراس ألا ترى إلى الكلب والهر والضبع فإنها سباع وقد وقع الأنس بالهر مطلقا وببعض الكلاب وجاء الحديث عن جابر أن الضبع صيد وفيها كبش
ولسنا نمنع أن يضاف إليها بالسنة ما صح سنده وتبين مورده وجاء في الحديث عن النبي لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل زنى بعد إحصان أو كفر بعد إيمان أو قتل نفسا بغير نفس وهذا كله على أن مورد الآية
292

مجهول فأما إذا تبينا أن موردها يوم عرفة فلا يحرم إلا ما فيها وإليه أميل وبه أقول
قال عمرو بن دينار قلت لجابر بن زيد إنهم يزعمون أن النبي نهى عن لحوم الحمر الأهلية قال قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري ولكن أبى ذلك الحبر يعني ابن عباس وقرأ (* (قل لا أجد فيما أوحي) *) الآية وكذلك يروى عن عائشة مثله وقرأت الآية كما قرأها ابن عباس
المسألة الخامسة
قال أصحاب الشافعي تقدير الآية قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما مما كنتم تستخبثونه وتجتنبونه إلا أن يكون ميتة الآية فأما غير ذلك من المحرمات فلا بدليل أن الله حرم أشياء منها المنخنقة وأخواتها وأجمعت الأمة على تحريم أشياء غير ذلك منها القاذورات ومنها الخمر والآدمي
الجواب عنه من سبعة أوجه
الجواب الأول أن ابن عباس قد رد هذا وأوضح المراد منه والحق فيه وهو الحبر البحر الترجمان
الجواب الثاني دعوى ورود الآية على سؤال لا يقبل من غير نقل يعول عليه
الجواب الثالث لو صح السؤال لما آثر خصوص السؤال في عموم الجواب الوارد عليه وقد أجمعنا عليه وبيناه فيما قبل
الجواب الرابع وأما قولهم إن الله حرم غير ذلك كالمنخنقة وأخواتها فإن ذلك داخل في الميتة إلا أنه بين أنواع الميتة وشرح ما يستدرك ذكاته مما تفوت ذكاته لئلا يشكل أمره ويمزج الحلال بالحرام في حكمها
الجواب الخامس وأما قولهم أجمعت الأمة على تحريم القاذورات فلا قاذور محرم عندنا إلا أن يكون رجسا فيدخل في علة تحريم لحم الخنزير وكذلك الخمر وهو
293

الجواب السادس دخلت في تعليل الرجسية
وأما الجواب السابع عن الآدمي فهيهات أيها المتكلم لقد حططت مسماك إذ أبعدت مرماك من أدخل الآدمي في هذا وهو المحلل له المحرم المخاطب المثاب المعاقب الممتثل المخالف فبينما كان متصرفا جعلته مصرفا انصرف عن المقام فلست فيه بإمام فإن الإمام ها هنا وراء والوراء أمام وقد اندرجت
المسألة السادسة في هذا الكلام
المسألة السابعة
روى مجاهد أن النبي كره من الشاء سبعا الدم والمرار والحياء والغدة والذكر والأنثيين وهذه زيادات على هذه المحرمات
قلنا عنه جوابان
الأول أن الكراهية غير التحريم وهو بالنسبة إليه كالندب بالنسبة إلى الوجوب
الثاني أن هذه الكراهية إنما هي عيافة نفس وتقزز جبلة وتقذر من نوع المحلل
فإن قيل فقد قال الدم
قلنا عنه جوابان
أحدهما أن هذا استدلال بالقرائن فكم من مكروه قرن بمحرم كقوله تعالى نهى النبي عن كل مسكر ومفتر وكم من غير واجب قرن بواجب كقوله (* (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) *) وقوله (* (وأتموا الحج والعمرة لله) *)
الثاني أنه أراد الدم المخالط للحم الذي عفي عنه للخلق وأما المرار المذكور في
294

الحديث فهو من قول بعضهم الأمر وهو المصارين ولا أراه أراد إلا المرار بعينه ونبه بذكره على علة كراهة غيره بأنه محل المستخبث فكره لأجله والله أعلم
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) *)
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله (* (وعلى الذين هادوا حرمنا) *))
فيها أربعة أقوال
الأول هادوا تابوا هاد يهود تاب
الثاني هاد إذا سكن
الثالث هاد فتر
الرابع هاد دخل في اليهودية وقد قيل في قوله تعالى (* (كونوا هودا) *) أي يهودا ثم حذف الياء
فأما من قال إنه التائب يشهد له قوله (* (إنا هدنا إليك) * أي تبنا وكل تائب إلى ربه ساكن إليه فاتر عن معصيته وهذا معنى متقارب
المسألة الثانية أخبر الله سبحانه وتعالى في قوله (* (كل ذي ظفر) *))
يعني ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والإوز والبط قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ويدخل في ذلك ما يصيد بظفره من سباع الطير والكلاب
والحوايا واحدها حاوياء أو حوية وهي عند العلماء على ثلاثة أقوال
الأول المباعر
295

الثاني أنها خزائن اللبن
الثالث أنها الأمعاء التي عليها الشحوم
المسألة الثالثة
أخبر الله سبحانه وتعالى أنه كتب عليهم تحريم هذا في التوراة وقد نسخ الله ذلك كله بشريعة محمد وأباح لهم ما كان محرما عليهم عقوبة لهم على طريق التشديد في التكليف لعظيم الحرم وزوال الحرج بمحمد وأمته وألزم جميع الخليقة دين الإسلام بحله وحرمه وأمره ونهيه فإذا ذبحوا أنعامهم فأكلوا ما أحل الله في التوراة وتركوا ما حرم فهل يحل لنا فقال مالك في كتاب محمد هي محرمة عليهم
وقال في سماع المبسوط هي محللة وبه قال ابن نافع وقال ابن القاسم أكرهه والصحيح أكلها لأن الله رفع ذلك التحريم بالإسلام
فإن قيل فقد بقي اعتقادهم فيه عند الذكاة
قلنا هذا لا يؤثر لأنه اعتقاد فاسد
المسألة الرابعة
فلو ذبحوا كل ذي ظفر فقال أصبغ كل ما كان محرما في كتاب الله من ذبائحهم فلا يحل أكله وقاله أشهب وابن القاسم وأجازه ابن وهب والصحيح تحريمه لأن ذبحه منهم ليس بذكاة
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (ذلك جزيناهم ببغيهم) *))
دليل على أن التحريم إنما يكون عن ذنب لأنه ضيق فلا يعدل عن السعة إليه إلا عند الموجدة
296

الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون) *)
قال علماؤنا فيه دليل على أن الرجل إذا قال رضيت بفلان فإذا شهد أنكره وقال ظننت أنه يقول الحق أنه لا يلزمه
وقد اختلف فيه الفقهاء فمنهم من قال يلزمه ذلك وقال آخرون لا يلزمه ما قال وللمالكية القولان ومشهور قول ابن القاسم أنه لا يلزمه وليس في الآية الرضا بالشهادة ثم الإنكار إنما فيها طلب الدليل واستدعاء البرهان على الدعوى فإن العرب تحكمت بالتحريم والتحليل فقال الله لنبيه قل لهم هاتوا شهداءكم بأن هذا من عند الله أي حجتكم حتى
نسمعها وننظر فيها
فإن قيل فما فائدة قوله (* (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) *)
قلنا هذا تحذير من الله لنبيه لتعلم أمته المعنى فإن قال شهداؤهم مثل ما يقولون فلا تقله معهم فهذا دليل على أن الشاهد إذا قال ما قام الدليل على بطلانه فلا تقبل شهادته
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قد تقدم حال الولي مع اليتيم في ماله في سورة البقرة وآل عمران وهذا يدل على
297

جواز عمل الوصي في مال اليتيم إذا كان حسنا حتى يبلغ الغلام أشده زاد في سورة النساء ويونس رشده
المسألة الثانية
هذا يدل على أن البلوغ أشد ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة
قال أبو حنيفة الأشد خمسة وعشرون عاما وعجبا من أبي حنيفة فإنه يرى أن المقدرات لا تثبت نظرا ولا قياسا وإنما تثبت نقلا على ما بيناه في أصول الفقه وهو يثبتها بالأحاديث الضعيفة ولكنه سكن دار الضرب فكثر عنده المدلس ولو سكن المعدن كما قيض الله لمالك لما صدر عنه إلا إبريز الدين وإكسير الملة كما صدر عن مالك
الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (إن صلاتي) *) الآية
مقام التسليم لله ودرجة التفويض إلى الله بناء عن مشاهدة توحيد ومعاينة يقين وتحقيق فإن الكل من الإنسان لله أصل ووصف وظاهر وباطن واعتقاد وعمل وابتداء وانتهاء وتوقف وتصرف وتقدم وتخلف لا شريك له فيه لا منه ولا من غيره يضاهيه أو يدانيه
المسألة الثانية
ثبت في الحديث الصحيح أن النبي كان يستفتح به صلاته وثبت أنه كان يقول في استفتاحها أيضا سبحانك اللهم وبحمدك
298

واختلف قول مالك بذلك فقال ابن القاسم لم ير مالك هذا الذي يقوله الناس قبل القراءة سبحانك اللهم وبحمدك
وفي مختصر ما ليس في المختصر أن مالكا يقول وإنما كان يقول في خاصته لصحة الحديث به وكان لا يريه للناس مخافة أن يعتقدوا وجوبه
ورآه الشافعي من سنن الصلوات وهو الصواب لصحة الحديث والله أعلم
المسألة الثالثة
إذا قلنا إنه يقولها في افتتاح الصلاة على الوجه المتقدم فإنه يقول في آخرها وأنا من المسلمين ولا يقول وأنا أول المسلمين إذ ليس أحد بأولهم إلا محمد
فإن قيل أوليس إبراهيم قبله
قلنا عنه أجوبة أظهرها الآن أنه أول المسلمين من أهل ملته والله أعلم
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى استدل بعض علمائنا المخالفين على أن بيع الفضولي لا يصح بقوله (* (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) *))
وعارضهم علماؤنا بأن المراد بالآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا
ويحتمل أن يكون المراد بذلك كسب الإلزام والالتزام لا كسب المعونة والاستخدام فقد يتعاون المسلمون ويتعاملون بحكم العادة والمروءة والمشاركة هذا رسول الله قد باع له واشترى عروة البارقي في دينار وتصرف بغير أمره فأجازه النبي وأمضاه نصه أن النبي دفع إلى عروة البارقي دينارا وأمره أن يشتري له شاة من الجلب فاشترى له به شاتين وباع إحداهما بدينار وجاءه بالدينار وبالشاة
299

فدعا له النبي بالبركة فكان لا يتجر في سوق إلا ربح فيها حتى لو اتجر في التراب لربح فيه
قال ولقد كنت أخرج إلى الكناسة بالكوفة فلا أرجع إلا وقد ربحت ربحا عظيما وقد مهدنا الكلام عليه في صريح الحديث وتلخيص الطريقتين فانظروه تجدوه إن شاء الله
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *
للوزر معنيان
أحدهما الثقل وهو المراد ها هنا يقال وزره يزره إذا حمل ثقله ومنه قوله تعالى (* (ووضعنا عنك وزرك) *) والمراد به ها هنا الذنب قال تعالى (* (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) *) يعني ذنوبهم (* (ألا ساء ما يزرون) *) أي بئس الشيء شيئا يحملون
والمعنى لا تحمل نفس مذنبة عقوبة الأخرى وإنما تؤخذ كل نفس منهم بجريرتها التي اكتسبتها كما قال تعالى (* (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *)
وقد وفد أبو رمثة رفاعة بن يثربي التميمي مع ابنه على النبي قال فقال أما إنه لا تجني عليك ولا يجني عليه
وهذا إنما بينه لهم ردا على اعتقادهم في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بابنه وبأبيه وبجريرة حليفه
المسألة الثالثة
وهذا حكم من الله تعالى نافذ في الدنيا والآخرة وهو ألا يؤخذ أحد بجرم أحد بيد أنه يتعلق ببعض الناس من بعض أحكام في مصالح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى وحماية النفس والأهل عن العذاب كما قال تعالى
300

(قوا أنفسكم وأهليكم نارا) والأصل في ذلك كله أن المرء كما يفترض عليه أن يصلح نفسه باكتساب الخير فواجب عليه أن يصلح غيره بالأمر به والدعاء إليه والحمل عليه وهذه فائدة الصحبة وثمرة المعاشرة وبركة المخالطة وحسن المجاورة فإن حسن في ذلك كله كان معافى في الدنيا والآخرة وإن قصر في ذلك كله كان معاقبا في الدنيا والآخرة فعليه أولا إصلاح أهله وولده ثم إصلاح خليطه وجاره ثم سائر الناس بعده بما بيناه من أمرهم ودعائهم وحملهم فإن فعلوا وإلا استعان بالخليفة لله في الأرض عليهم فهو يحملهم على ذلك قسرا ومتى أغفل الخلق هذا فسدت المصالح وتشتت الأمر واتسع الخرق وفات الترقيع وانتشر التدمير ولذلك يرون أن عمر بن الخطاب كفل المتهمين عشائرهم وذلك بالتزامهم كفهم أو رفعهم إليه حتى ينظر فيهم والله يتولى التوفيق برحمته
301

سورة الأعراف
فيها سبع وعشرون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال بعضهم قوله (فلا يكن في صدرك حرج منه) نهي في الظاهر ولكنه لنفي الحرج وعجبا له مع عمل يقع في مثله والنهي عن الشيء لا يقتضي نفيه فإن الله سبحانه ينهى عن أشياء وتوجد ويأمر بأشياء فلا توجد والصحيح أنه نهي على حاله قيل لمحمد (فلا يكن في صدرك حرج منه) وأعين على امتثال النهي بخلق القدرة له عليه كما فعل به في سائر التكليفات
المسألة الثانية الحرج
هو الضيق وقيل هو الشك وقيل هو التبرم وإلى الأول يرجع فإن كان هو الشك فقد أنار الله فؤاده باليقين وإن كان التبرم فقد حبب الله إليه الدين وإن كان الضيق فقد وسع الله قلبه بالعلوم وشرح صدره بالمعارف وذلك مما فتح الله عليه من علوم القرآن وخفف عليه ثقل العبادة حتى جعلت قرة عينه في الصلاة
302

فكان يقول أرحنا بها يا بلال
ومن تمام النية في العبادة النشاط إليها والخفة إلى فعلها وخصوصا الصبح والعشاء فهما أثقل الصلوات على المنافقين حسبما رواه أبو داود وغيره أن النبي قال فذكر من حديث أن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا على الركب وليس يخلو أحد عن وجود الثقل ولذلك كان تكليفا بيد أن المؤمن يحتمله ويخرج بالفعل عنه والمنافق يسقطه
فإن قيل وهي
المسألة الثالثة
فالعاصي إذا أسقطه أمنافق هو قلنا لا ولكنه فاعل فعل المنافقين والكافرين وإلى هذا المعنى أشار النبي بقوله من ترك الصلاة فقد كفر أي فعل فعل الكفار في أحد الأقوال
الآية الثانية
قوله تعالى (* (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون) *)
303

فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال علماؤنا معناه أحلوا حلاله وحرموا حرامه وامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه واستبيحوا مباحه وارجوا وعده وخافوا وعيده واقتضوا حكمه وانشروا من علمه علمه واستجسوا خباياه ولجوا زواياه واستثيروا جاثمة وفضوا خاتمه وألحقوا به ملائمه وهي
المسألة الثانية
باتباع ما يؤثر عن رسول الله وإن عارضه إذا وضح مسلكه فتارة يكون ناسخا له وأخرى خاصا ومتمما في حكم على طرق موارده المعلومة بشروطها المحصورة حسبما بيناه في أصول الفقه
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) *)
فيها إحدى عشرة مسألة
المسألة الأولى في نزولها
قيل إنها نزلت في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة أمروا باللباس وستر العورة قاله ابن عباس وجماعة معه
وقال مجاهد و الزجاج نزلت في ستر العورة في الصلاة وهذا ليس يدافع الأول لأن الطواف بالبيت صلاة
وفي الصحيح عن ابن عباس قال كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة فتقول من تعيرني تطوافا فتجعله على فرجها وتقول
304

(اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
* جهم من الجهم عظيم ظله
* كم من لبيب عقله يضله)
(وناظر ينظر ما يمله)
فنزلت (خذوا زينتكم عند كل مسجد)
قال ابن العربي وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط
وقد روى أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس قريش وأحلافهم فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه في ثوب أحمسي فيحل له أن يلبس ثيابه فإن لم يجد من يعيره ما يلبس من الحمس فإنه يلقي ثوبه ويطوف عريانا وتحرم عليه ثيابه فنزلت الآية
وثبت في الصحيح أن النبي أرسل ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فنودي بهذا في الموسم
المسألة الثانية في سبب فعل الجاهلية لذلك
إن قريشا كانت رأت رأيا تكيد به العرب فقالوا يا معشر قريش لا تعظموا شيئا من البلدان كتعظيم حرمكم فتزهد العرب في حرمكم إذا رأوكم قد عظمتم من البلدان غيره كتعظيمه فعظموا أمركم في العرب فإنكم ولاة البيت وأهله دون الناس فوضعوا لذلك الأمر أن قالوا نحن أهل الحرم فلا ينبغي لنا أن نعظم غيره ولا نخرج منه فكانوا يقفون بالمزدلفة دون عرفة لأنها خارج من الحرم وكانت سنة إبراهيم وعهدا من عهده ثم قالوا لا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا ولا يأكل الأقط ولا يستظل بالأدم إلا الحمس وهم قريش وما ولدت من العرب ومن كان يليها من حلفائها من بني كنانة فكان الرجل من العرب أو المرأة يأتيان حاجين حتى إذا أتيا الحرم وضعا ثيابهما وزادهما وحرم عليهما أن يدخلا مكة بشيء من ذلك فإن كان لأحد
305

منهم صديق من الحمس استعار من ثيابه وطاف بها ومن لم يكن له صديق منهم وكان له يسار استأجر من رجل من الحمس ثيابه فإن لم يكن له صديق ولا يسار يستأجر به كان بين أحد أمرين إما أن يطوف بالبيت عريانا وإما أن يتكرم أن يطوف بالبيت عريانا فيطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه ولم يمسه أحد من الناس فكان ذلك الثوب يسمى اللقى قال قائل من العرب
(كفى حزنا كري عليه كأنه
* لقى بين أيدي الطائفين حريم)
وإن كانت امرأة ولم تجد من يعيرها ولا كان لها يسار تستأجر به خلعت ثيابها كلها إلا درعا مفردا ثم طافت فيه فقالت امرأة من العرب كانت جميلة تامة ذات هيئة وهي تطوف
(اليوم يبدو بعضه أو كله
* وما بدا منه فلا أحله)
فكانوا على ذلك من البدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا وأنزل فيمن كان يطوف بالبيت عريانا (يا بني آدم خذوا زينتكم) إلى آخر الآية ووضع الله ما كانت قريش ابتدعت من ذلك وقد أنزل الله في تركهم الوقوف بعرفة (* (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) *) يعني بذلك قريشا ومن كان على دينهم
المسألة الثالثة
اختلف الناس في ستر العورة هل هي فرض في الصلاة أم مستحبة؟ فأما أبو حنيفة والشافعي وأحمد فقالوا إنها فرض فيها وأما مالك فالمشهور من قوله أنها فرض إسلامي لا تختص بالصلاة وهو أشهر أقوالنا والقول الآخر مثل قول من تقدم وهو الصحيح لما ثبت من أمر النبي بستر العورة في الصلاة والأمر على الوجوب وهو وإن كان فرضا إسلاميا فإنه يتأكد في الصلاة
306

المسألة الرابعة العورة على ثلاثة أقسام
الأول جميع البدن فيجب ستره في الصلاة قاله أبو الفرج عنه
الثان أنها من السرة إلى الركبة ولا خلاف فيه إنما الخلاف وهو القسم الثالث في أن ما زاد على القبل والدبر هل هو عورة مثقلة أم مخففة فقال علماؤنا وأبو حنيفة إن القبل والدبر عورة مثقلة والفخذ عورة مخففة
والصحيح أن الفخذ ليس بعورة لأنها ظهرت من النبي يوم جرى في زقاق خيبر ولأن النبي كان يصلها بأفخاذ أصحابه ولو كانت عورة ما وصلها بها
قال زيد نزل على النبي الوحي وفخذه على فخذي حتى كادت أن ترض فخذي أما إنه يكره كشفها فإن مالكا وغيره قد روى حديث جرهد أن النبي قال له غط فخذك فإن الفخذ عورة وهو حديث مشهور
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (خذوا زينتكم) *))
وإن كان واردا على طواف العريان فإنه عندنا عام في كل مسجد للصلاة ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد والذي يعم كل مسجد هو الصلاة وهذا قول من خفي عليه مقاصد اللغة والشريعة
وبيانه أنهم كانوا يطوفون عراة في المسجد فنزلت (* (خذوا زينتكم عند كل مسجد) *) ليكون العموم شاملا لكل مسجد والسبب الذي أثار ذلك ما كانوا يفعلونه في أفضل المساجد والصحابة الذين هم أرباب اللغة والشريعة أخبروا بذلك ولم يخف عليهم نظام الكلام ولا كيف كان وروده اجتزؤوا بورود الآية ومنحاها فلا مطمع لعالم في أن يسبق شأوهم في تفسير أو تقدير
307

المسألة السادسة قوله تعالى (* (عند كل مسجد) *))
قال بعضهم ظاهر هذا الكلام الورود بأخذ الزينة للفعل الواقع في المسجد تعظيما للمسجد ولا يدل ذلك على وجوب الستر خارج المسجد فزاد الناس فقالوا هذا يدل على وجوب الستر للعورة في الصلاة فإنه ليس الأمر بالستر في المسجد لبين المسجد وإنما هو للفعل الواقع في المسجد
والفعل الواقع في المسجد على ثلاثة أقسام طواف ولا يعم كل مسجد واعتكاف ولم يشرف لأجله فلم يبق إلا الصلاة وقد ألزم الستر لها فكان ذلك شرطا فيها
وقد قام الدليل على سقوط ما زاد على العورة وبقي ما قابل العورة على ظاهره وقد بينا فساد هذا من قبل فإن الأمر بالزينة عند كل مسجد يحتمل أن يكون لأجل ما فيه من اجتماع الناس
فإن قيل ويجتمعون في الأسواق
قلنا ليس ذلك اجتماعا مشروعا بل يجوز تفرقهم وها هنا إن تفرقوا في المساجد كان ذلك قطعا للجماعة وخرقا للصفوف إذ قال النبي في الحديث الصحيح لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة خرجه مسلم وغيره
وأما قوله إن الطواف لا يعم كل مسجد فقد تقدم الجواب عنه
المسألة الرابعة
إذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه وغطاه أجزأه قاله ابن القاسم
308

وقال سحنون وكل من نظر إليه من المأمومين أعاد وقد روى سحنون أنه يعيد ويعيدون لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة فإن بطل بطلت الصلاة أصله الطهارة فهذا طريق من طرق النظر
وأما أن يقال إن صلاتهم لا تبطل لأنهم لم يفقدوا شرطا وأما من قال إن أخذه مكانه صحت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه فصحيفة يجب محوها ولا يجوز الاشتغال بها
المسألة الثامنة
قال علماؤنا إذا صلى في جماعة أو كان إماما فلا يصلي إلا بردائه أو شيء يجعله على منكبه ولو طرف عمامة لأنه من الزينة وقد أمر الله بها عند كل مسجد وكذلك قالت طائفة وهي
المسألة التاسعة
إنه يصلي في نعليه وقد روى أنس عن النبي في قوله (* (خذوا زينتكم عند كل مسجد) *) قالوا صلوا في النعال ولم يصح ذلك
المسألة العاشرة
هذا خطاب للرجال والنساء إلا أنهم يختلفون في العورة فعورة الرجل قد تقدم ذكرها وعورة المرأة جميع بدنها إلا وجهها وكفيها وفي المصنفين أن النبي قال لا تقبل صلاة
حائض إلا بخمار وهذا في الحرة فقد ثبت عن أم سلمة أنها
309

سألت النبي أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار قال إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها فأما الأمة فإنها تصلي كما تمشي حاسرة الرأس
وقال علماؤنا تستر في الصلاة ما يستر الرجل حتى لو انكشف بطنها لم يضرها وقال أصبغ إن انكشفت فخذها أعادت في الوقت وقد بينا ذلك في مسائل الفقه
المسألة الحادية عشرة قوله (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا))
الإسراف تعدي الحد فنهاهم عن تعدي الحلال إلى الحرام
وقيل ألا يزيدوا على قدر الحاجة
وقد اختلف فيه على قولين فقيل هو حرام وقيل هو مكروه وهو الأصح فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان وقد ثبت في الصحيح أن النبي أمر لرجل كافر بحلاب سبع شياه فشربها ثم آمن فلم يقدر على أكثر من حلب شاة قال النبي المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء وذلك أن القلب لما تنور بالتوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوى على الطاعة فأخذ منه قدر الحاجة وحين كان مظلما بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط
310

وقد قال بعض شيوخ الصوفية إن الأمعاء السبعة كناية عن أسباب سبعة يأكل بها النهم يأكل للحاجة والخبر والنظر والشم واللمس والذوق ويزيد استغناما وقد مهدناه في شرح الصحيح والله أعلم
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (زينة الله) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول ستر العورة إذ كانت العرب تطوف عراة إذ كانت لا تجد من يعيرها من الحمس
الثاني جمال الدنيا في ثيابها وحسن النظرة في ملابسها ولذاتها
الثالث جمع الثياب عند السعة في الحال كما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال إذا وسع الله عليكم فأوسعوا جمع رجل عليه ثيابه وصلى رجل في إزار أو رداء في إزار وقميص في إزار وقباء في سراويل ورداء في سراويل وقميص في سراويل وقباء في تبان وقباء في تبان وقميص وأحسبه قال في تبان ورداء والتبان ثوب يشبه السراويل فسره أبو علي القالي كذلك وعليه نقل الحديث فلعله أخذه منه فكثيرا ما يفسر الأعرابيون من لحن الحديث ما لم يجدوه في العربية وهو الذي امتن به في قوله (* (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا) *) وهي
الآية الخامسة
ولولا وجوب سترها ما وقع الامتنان باللباس الذي يواريها
311

فإن قيل إنما وقع الامتنان في سترها لقبح ظهورها
قلنا ماذا يريدون بهذا القبح أيريدون به قبحا عقلا فنحن لا نقبح بالعقل ولا نحسن وإنما القبيح عندنا ما قبحه الشرع والحسن ما حسنه الشرع
المسألة الثانية قوله تعالى (* (والطيبات من الرزق) *))
قيل هي الحلال وقيل هي اللذات وكل لذة وإن لم تكن محرمة فإن استدامتها والاسترسال عليها مكروه ويأتي بيانه إن شاء الله
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) *))
يعني بحقها من توحيد الله والتصديق له فإن الله ينعم ويرزق فإن وحده المنعم عليه وصدقه فقد قام بحق النعمة وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه وفي الحديث الصحيح لا أحد أصبر على أذى من الله يعاقبهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (خالصة يوم القيامة) *))
يعني أن الكفار يشركون المؤمنين في استعمال الطيبات في الدنيا فإذا كان في القيامة خلصت للمؤمنين في النعيم وكان للكفار العذاب الأليم
الآية السادسة
قوله تعالى ()
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
قد قدمنا ذكر الفواحش في سورة النساء وأما ما ظهر منها وما بطن وهي المسألة الثانية
312

المسألة الثانية
فإن كل فاحشة ظاهرة للأعين أو ظاهرة بالأدلة كما ورد النص فيه أو وقع الإجماع عليه أو قام الدليل الجلي به فينطلق عليها اسم الظاهرة
والباطنة كل ما خفي عن الأعين ويقصد به الاستتار عن الخلق أو خفي بالدليل كتحريم نكاح المتعة والنبيذ على أحد القولين ونحو ذلك في الصنفين فإن النبيذ وإن كان مختلفا فيه فإن تحريمه جلي في الدليل قوي في التأويل وفي الحديث الصحيح لا أحد أغير من الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (الإثم) *))
وهو عيارة عن الذم الوارد في الفعل أو الوعيد المتناول له فكل مذموم شرعا أو فعل وارد على الوعيد فيه فإنه محرم وهو حد المحرم وحقيقته وأما البغي وهو المسألة الرابعة
المسألة الرابعة البغي
فهو تجاوز الحد ووجه ذكرهما بعد دخولهما في جملة الفواحش للتأكيد لأمرها بالاسم الخاص بعد دخولهما في الاسم العام قصد الزجر كما قال تعالى (* (فيهما فاكهة ونخل ورمان) *) فذكر النخل والرمان بالاسم الخاص بعد دخولهما في الاسم العام على معنى الحث
المسألة الخامسة
لما قال الله في سورة البقرة (* (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) *) قال قوم إن الإثم اسم من أسماء الخمر وإن المراد بقوله (* (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم) *) الخمر حتى قال الشاعر
313

(شربت الإثم حتى زال عقلي
* كذاك الإثم يذهب بالعقول)
وهذا لا حجة فيه لأنه لو قال شربت الذنب أو شربت الوزر لكان كذلك ولم يوجب قوله أن يكون الوزر والذنب اسما من أسماء الخمر كذلك هذا والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهل باللغة وبطريق الأدلة في المعاني والله الموفق
الآية السابعة
قوله تعالى (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
الأصل في الأعمال الفرضية الجهر والأصل في الأعمال النفلية السر وذلك لما يتطرق إلى النفل من الرياء والتظاهر بها في الدنيا والتفاخر على الأصحاب بالأعمال وجبلت قلوب الخلق بالميل إلى أهل الطاعة وقد جعل الباري سبحانه في العبادات ذكرا وجهرا وذكرا وسرا بحكمة بالغة أنشأها بها ورتبها عليها وذلك لما عليه قلوب الخلق من الاختلاف بين الحالين
المسألة الثانية
أما الذكر بالقراءة في الصلاة فانقسم حاله إلى سر وجهر وأما الدعاء فلم يشرع منه شيء جهرا لا في حالة القيام ولا في حالة الركوع ولا في حالة السجود لكن اختلف العلماء في قول قارئ الفاتحة (آمين) هل يسر بها أن يجهر وقد قدمناه في هذا الكتاب وفي مسائل الخلاف
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) *)
فيها ثلاث مسائل
314

المسألة الأولى
نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر الفرائض كذلك في صحيح الأثر عن النبي
ومن قال من المؤرخين إن إدريس كان قبله فقد وهم والدليل على صحة وهمه في اتباعه صحف اليهود وكتب الإسرائيليات الحديث الصحيح في الإسراء حين لقي النبي آدم وإدريس فقال له آدم مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح وقال له إدريس مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ولو كان إدريس أبا لنوح على صلب محمد لقال له مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح فلما قال له مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح دل على أنه يجتمع معه في أبيهم نوح ولا كلام لمنصف بعد هذا
المسألة الثانية
روي أن نوحا سمي به لأنه ناح على قومه وأكثر ذلك من فعله معهم والنوح هو البكاء على الميت وكانوا موتى في أديانهم لعدم إجابتهم دعاءه لهم إلى الإيمان وإبايتهم عن قبولهم للتوحيد وهذا وإن كان الاشتقاق يعضده من وجه فإنه يرده أن ما تقدم من الأسماء قبل إسماعيل لم تكن عربية أما إن ذكر العلماء لذلك يدل على مسألة وهي جواز اشتقاق الأسماء للرجال والنساء من الأفعال التي يتكسبونها إذا لم تكن على طريق الذم وهذا رسول الله قد كنى الدوسي من أصحابه بهرة كان يكتسب لزومها معه ودعاه
لذلك بأبي هريرة في أمثال لهذا كثيرة من آثار النبي والصحابة والعلماء نبهنا عليه
فإن قيل وأي مدح في لزوم الهرة
قلنا لأنها من الطوافين والطوافات يصغى لها الإناء ولا تفسد الماء إذا ولغت فيه وفيها منفعة عظيمة تكف إذاية الفأر وما يؤذي الإنسان من الحشرات
315

الم سألة الثالثة
قال ابن وهب سمعت مالكا يقول الطوفان الماء والجراد كان يأكل المسامير وإن سفينة نوح أتت البيت في جريانها فطافت به سبعا
وإنما قال مالك هذا لوجهين
أحدهما أن جماعة من المفسرين روت عن عائشة عن النبي أن الطوفان هو الموت
وحقيقة الطوفان وهو الثاني أنه مصدر من طاف أو جمع واحدته طوفانة فقد قال سبحانه (* (فطاف عليها) *))
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى الفاحشة
قد تقدم بيانها وإنما ذكر الله هذه المعصية وهي إتيان الرجال باسم الفاحشة ليبين أنها زنا كما قال (* (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة) *))
المسألة الثانية
أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لما ارتكبوا هذه الفاحشة أرسل عليهم حجارة من سجيل جزاء على فعلهم
وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال
الأول أنه يعزر قاله أبو حنيفة
الثاني قال الشافعي وجماعة يحد حد الزاني محصنا بجزائه وبكرا بجزائه
316

الثالث قال مالك يرجم أحصن أو لم يحصن وقاله ابن المسيب والنخعي وعطاء وجماعة
أما من قال إنه يعزر فتعلق بأن هذا لم يزن وعقوبة الزاني معلومة فلما كانت هذه المعصية غيرها وجب ألا يشاركها في حدها
وأما من قال إنه زنا فنحن الآن نثبته مع الشافعي ردا على أبي حنيفة الذي يجعله بمنزلة الوطء بين الفخذين فيقول قد بينا مساواته للزنا في الاسم وهي الفاحشة وهي مشاركة له في المعنى لأنه معنى محرم شرعا مشتهى طبعا فجاز أن يتعلق به الحد إذا كان معه إيلاج وهذا الفقه صحيح وذلك أن الحد للزجر عن الموضع المشتهى وقد وجد ذلك المعنى كاملا بل هذا أحرم وأفحش فكان بالعقوبة أولى وأحرى
فإن قيل هذا وطء في فرج لا يتعلق به إحلال ولا إحصان ولا وجوب مهر ولا ثبوت نسب فلم يتعلق به حد
قلنا هذا بيان لمذهب مالك فإن بقاء هذه المعاني فيه لا يلحقه بوطء البهيمة إنما يعظم أمره على الوطء في القبل تعظيما يوجب عليه العقوبة فيه أحصن أو لم يحصن ألا ترى إلى عقوبة الله عليه ما أعظمها
فإن قيل عقوبة الله لا حجة فيها لوجهين
أحدهما أن قوم لوط إنما عوقبوا على الكفر
الثاني أن صغيرهم وكبيرهم دخل فيها فدل على خروجها عن باب الحدود
فالجواب أنا نقول أما قولهم إن الله عاقبهم على الكفر فهذا غلط فإن الله أخبر أنهم كانوا على معاص فأخذهم منها بهذه ألا تسمعه يقول (* (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) *) قالوا له لئن لم تنته لنفعلن بك يا لوط ففعل الله بهم قبل ذلك
الثاني أنه إنما أخذ الصغير والكبير لسكوت الجملة عليه والجماهير فكان منهم
317

فاعل وكان منهم راض فعوقب الجميع وبقي الأمر في العقوبة على الفاعلين مستمرا
وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم أن رسول الله قال من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به
فإن قيل فقد روى هؤلاء الأئمة وغيرهم أن النبي قال من وجدتموه قد أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة
قلنا هذا الحديث متروك بالإجماع فلا يلتفت إليه وليس يلزم إذا سقط حديث بالإجماع أن يسقط ما لم يجمع عليه
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
البخس في لسان العرب هو النقص بالتعييب والتزهيد أو المخادعة عن القيمة أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقصان منه
318

المسألة الثانية
إنما أذن الله سبحانه في الأموال بالأكل بالحق والتعامل بالصدق وطلب التجارة بذلك فمتى خرج عن يد أحد شيء من ماله بعلمه لأخيه فقد أكل كل واحد منهما ما يرضي الله ويرتضيه وإن خرج شيء من ماله عن يده بغير علمه فلا يخلو أن يكون مما يتغابن الناس بمثله مما لا غنى عنه في ارتفاع الأسواق وانخفاضها عنه فإنه حلال جائز بغير خلاف إذ لا يمكن الاحتراز منه وإن كان بأكثر من ذلك فقد اختلف الناس فيه فقال علماؤنا إذا جرى ذلك في بيع كان صاحبه بالخيار إن شاء أمضاه بعد العلم به وإن شاء رده
وقال بعضهم وآخرون غيرهم إنه لا رد فيه
والصحيح هو الأول فقد ثبت أن النبي قال لرجل كان يخدع في البيوع إذا بايعت فقل لا خلابة
وفي غير الصحيح واشترط الخيار ثلاثا وفي رواية ولك الخيار ثلاثا فإن قيل وهي
المسألة الثالثة
كان هذا الرجل قد أصابته مأمومة في الجاهلية أثرت في عقله فكان يخدع لأجل ذلك في بيعه فقال له النبي ما قال لما كان عليه من الحال حتى كان يقول لما أصابه لا خلابة لا خلابة
319

فالجواب أن النبي لو كان الذي قاله له من حكمه لما أصابه من عقله لما جوز بيعه لأن بيع المعتوه لا يجوز بخيار ولا يغير خيار ولكنه أمره بأن يصرح عن قوله حتى يقع الاحتراز منه
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين) *) هذا يدل على أن الصلب وقطع اليد والرجل من خلاف كانت عقوبة متأصلة عند الخلق تلقفوها من شرع متقدم فحرفوها حتى أوضحها الله في ملة الإسلام وجعلها أعظم العقوبات لأعظم الإجرام حسبما تقدم بيانه
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
ثبت في الحديث الصحيح أن النبي قال في معرض الذم لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه
وثبت أنه قال في بعض مغازيه لأصحابه وقد قالوا له اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط يعني المشركين فقال هذا كما قال من قبلكم (* (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) *) فحذر النبي من اتباع البدع وأمر بإحياء السنن وحث على
320

الاقتداء وعن هذا قلنا إن أهل الكتاب زادوا في صيامهم بعلة رأوها وجعلوه أكثر من العدد المعروف
وقد روي أن عثمان بلغه أن رجلا من أهل الكوفة رجع إلى بلده بعد أن حضر الموسم فصلى معه الظهر ركعتين فقيل له ما هذا فقال رأيت أمير المؤمنين عثمان يفعله فكان عثمان يتم في السفر لأنه رأى ذلك مفسدا لعقائد العامة فرأى حفظ ذلك بترك يسير من السنة
المسألة الثانية
رأى قوم من أهل الجفاء أن يصوموا ثاني عيد الفطر ستة أيام متواليات إتماما لرمضان لما روي في الحديث من صام رمضان وستا من شوال فكأنما صام الدهر خرجه مسلم
وهذه الأيام متى صيمت متصلة كانت احتذاء لفعل النصارى والنبي لم يرد هذا إنما أراد أن من صام رمضان فهو بعشرة أشهر ومن صام ستة أيام فهي بشهرين وذلك الدهر ولو كانت من غير شوال لكان الحكم فيها كذلك وإنما أشار النبي بذكر شوال لا على طريق التعيين لوجوب مساواة غيرها لها في ذلك وإنما ذكر شوال على معنى التمثيل وهذا من بديع النظر فاعلموه
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) *)
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
ضرب الأجل للمواعيد سنة ماضية ومعنى قديم أسسه الله في القضايا وحكم به
321

للأمم وعرفهم به مقادير التأني في الأعمال وإن أول أجل ضربه الأيام الستة التي مدها لجميع الخليقة فيها وقد كان قادرا في أن يجعل ذلك لهم في لحظة واحدة لأن قوله لشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون بيد أنه أراد تعليم الخلق التأني وتقسيم الأوقات على أعيان المخلوقات ليكون لكل عمل وقت وقد أشبعنا القول فيه في كتاب المشكلين
المسألة الثانية
إذا ضرب الأجل لمعنى يحاول فيه تحصيل المؤجل لأجله فجاء الأجل ولم يتيسر زيد فيه تبصرة ومعذرة وقد بين الله ذلك في قصة موسى فضرب له أجلا ثلاثين ليلة فخرج لوعد ربه فزاد الله عشرا تتمة أربعين ليلة وأبطأ موسى في هذه العشر على قومه فما عقلوا جواز التأخر لعذر حتى قالوا إن موسى ضل أو نسي ونكثوا عهده وبدلوا بعده وعبدوا إلها غير الله
المسألة الثالثة
الزيادة التي لا تكون على الأجل غير مقدرة كما أن الأجل غير مقدر وإنما يكون ذلك باجتهاد الحاكم بعد النظر إلى المعاني المتعلقة بالأمر من وقت وحال وعمل فيكون الأجل بحسب ذلك فإذا قدر الزيادة باجتهاده فيستحب له أن تكون الزيادة مثل ثلث المدة السالفة كما أجل الله لموسى في الزيادة ثلث ما ضربه له من المدة وإن رأى الحاكم أن يجمع له الأصل في الأجل والزيادة في مدة واحدة جاز ولكن لا بد من التربص بعدها لما يطرأ من العذر على البشر
المسألة الرابعة
التاريخ إنما يكون بالليالي دون الأيام لأن الليالي أوائل الشهور وبها كانت الصحابة تخبر عن الأيام حتى روي عنها أنها كانت تقول صمنا خمسا مع رسول الله والعجم تخالفنا ذلك فتحسب بالأيام لأن معولها على الشمس وحساب
322

الشمس للمنافع وحساب القمر للمناسك ولهذا قال تعالى (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة))
المسألة الخامسة
اتفق كثير من المفسرين على أن الأربعين ليلة هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة وكان كلام الله لموسى غداة يوم النحر حين فدى إسماعيل من الذبح وأكمل لمحمد الحج وجعل يوم الحج الأكبر
وهذا إن ثبت من طريق الخبر فلا بأس به وإن كان غير ثابت فالأيام العشر ذات فضل يبين في موضعه إن شاء الله تعالى
المسألة السادسة
الوقت معنى غير مقدر والميقات هو الوقت الذي يقدر بعمل
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى القول في الحسن والأحسن
قد بينا في غير موضع أن الحسن ما وافق الشرع والقبيح ما خالفه وفي الشرع حسن وأحسن فقيل كل ما كان أرفق فهو أحسن وقيل كل ما كان أحوط للعبادة فهو أحسن
والصحيح عندي أن أحسن ما فيها امتثال الأوامر واجتناب النواهي والدليل عليه قول النبي للأعرابي حين قال له والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال أفلح إن صدق دخل الجنة إن صدق
323

المسألة الثانية
المباح من جملة الحسن في الشريعة بلا خلاف وإن اختلفوا في كونه من المأمورات لأنه مما حسنه الشرع وأذن فيه
وأما المكروه فلا خلاف أنه ليس من الحسن لأن المباح يمدح فاعله بالاقتصار عليه ولا يمدح فاعل المكروه بل هو داخل في السرف المنهي عنه
المسألة الثالثة
هذه المسألة تدخل في الأحكام إذا قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا فأما الشافعية التي لا ترى ذلك فلم تدخلها في أحكامها ونحن نتكلم عليها هنا من التبسط الذي لا يحسن
والذي يحقق ذلك ما قدمناه من أن الله إنما ذكرها في القرآن من حسن الاقتداء ومن سيئ الاجتناب وإذا مدح قوما على فعل فهو حث عليه أو ذمهم على آخر فهو زجر عنه وكله يدخل لنا في الاهتداء بالاقتداء
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
كان موسى من أعظم الناس غضبا لكنه كان سريع الفيئة فتلك بتلك
324

قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول كان موسى إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته وذلك لأن الغضب جمرة تتوقد في القلب ولأجله أمر النبي من غضب أن يضطجع فإن لم يذهب غضبه فليغتسل فيخمدها اضطجاعه ويطفئها اغتساله
وقد روى البخاري وغيره عن ابن طاوس عن أبيه و غيره عن أبي هريرة قال أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاء صكه ففقأ فيها عينه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فقال ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل شعرة سنة قال أي رب ثم ماذا قال الموت قال فالآن الحديث
وهذا كله من غضب موسى فلذلك ألقى الألواح عند رؤية عبادة العجل وما أوقع الغضب ها هنا وأخذ برأس أخيه يجره إليه فإن قيل وهي
المسألة الثانية
ما معنى أخذه برأس أخيه يجره
قلنا في ذلك قولان
أحدهما كان ذلك فيما مضى ثم نسخ
الثاني أنه ضم أخاه إليه ليعلم ما لديه فبين له أخوه أنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه وفي هذا دليل على أن لمن خشي القتل عند تغيير المنكر أن يسكت عنه وهي
325

المسألة الثالثة
هذا دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام كما زعمه بعض الناس فإن موسى لم يغير غضبه شيئا من أفعاله بل اطردت على مجراها من إلقاء لواح وعتاب أخ وصك ملك وقد استوفينا ذلك في شرح الحديث
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال ابن وهب قال مالك بلغني أن طائفة من اليهود نزلوا المدينة طائفة خيبر وطائفة فدك لما كانوا يسمعون من صفة النبي وخروجه في أرض بين حرتين ورجوا أن يكون منهم فأخلفهم الله ذلك وقد كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بأسمائه وصفاته
وقد روى البخاري عن عطاء بن يسار أنه قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فسألته عن صفة رسول الله في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به
326

الملة العوجاء حتى يقولوا لا إله إلا الله ويفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا
المسألة الثانية
روى البخاري وغيره عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء أنه قال كانت بين أبي بكر وعمر محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه عمر مغضبا فاتبعه أبو بكر ليسأله أن يستغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى رسول الله قال أبو الدرداء ونحن عنده فقال رسول الله أما صاحبكم هذا فقد غامر
قال وندم عمر على ما كان منه فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي فقص عليه الخبر
قال أبو الدرداء وغضب رسول الله وجعل أبو بكر يقول والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم فقال رسول الله هل أنتم تاركو لي صاحبي إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ويضع عنهم إصرهم) *))
الإصر هو الثقل وكان فيما سبق من الشرائع تكاليف كثيرة فيها مشاق عظيمة فخفف تلك المشاق لمحمد فمنها مشقتان عظيمتان الأولى في البول كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه فخفف الله ذلك عن هذه الأمة بالغسل بالماء
وروى مسلم عن أبي وائل قال كان أبو موسى يشدد في البول ويبول في قارورة ويقول إن بني إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدهم بول قرضه بالمقاريض
327

فقال حذيفة لوددت أن صاحبكم لا يشدد هذا التشديد لقد رأيتني أنا ورسول الله نتماشى فأتى سباطة خلف حائط فقام كما يقوم أحدكم فبال فانتبذت منه فأشار إلي فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ
ومن الإصر الذي وضع إحلال الغنائم وكانت حراما على سائر الأمم
ومنها ألا تجالس الحائض ولا تؤاكل فخفف الله ذلك في دينه فقال لتشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها في أعداد لأمثالها
الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون) *)
هذه الآية من أمهات الشريعة وفيها مسائل أصولها تسع
المسألة الأولى
إن الله أمر رسوله أن يسأل اليهود إخوة القردة والخنازير عن القرية البحرية التي اعتدوا فيها يوم السبت فمسخهم الله باعتدائهم قردة وخنازير ليعرفهم ما نزل بهم من العقوبة بتغيير فرع من فروع الشريعة فكيف بتغيير أصل الشريعة
المسألة الثانية قوله تعالى (* (واسألهم عن القرية) *))
يعني أهل القرية فعبر بها عنهم لما كانت مستقرا لهم وسبب اجتماعهم كما قال تعالى (* (واسأل القرية التي كنا فيها) *) وكما قال
328

اهتز العرش لموت سعد يعني أهل العرش من الملائكة يريد استبشارهم به وكما قال أيضا في المدينة هذا جبل يحبنا ونحبه
المسألة الثالثة
قيل كانت هذه المدينة أيلة من أعمال مصر
وقيل كانت طبرية من أعمال الشام
وقيل مدين وربك أعلم
المسألة الرابعة
اختلف الناس في سبب مسخهم فقيل إن الله حرم عليهم الصيد يوم السبت ثم ابتلاهم بأن تكون الحيتان تأتي يوم السبت شرعا أي رافعة رؤوسها في الماء ينظرون إليها فإذا كان يوم الأحد وما بعده من الأيام طلبوا منها حوتا واحدا للصيد فلم يجدوه فصور عندهم إبليس أن يسدوا أفواه الخلجان يوم السبت حتى إذا أمسوا وأرادت الحيتان أن ترجع إلى النهر الأعظم وإلى غمرة البحر لم تجد مسلكا فيأخذونها في سائر الأيام ففعلوا ذلك فمسخوا
329

وروى أشهب عن مالك في القصة عن بعض أشياخه قال كانت تأتيهم يوم السبت فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شيء إلى السبت الآخر فاتخذ لذلك رجل منهم خيطا ووتدا فربطوا حوتا منها في الماء يوم السبت حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه فوجد الناس ريحه فأتوه فسألوه عن ذلك فجحدهم فلم يزالوا به حتى قال لهم إنه جلد حوت وجدناه فلما كان يوم السبت الآخر فعل مثل ذلك ولا أدري لعله قال ثم ربط حوتين فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه واشتواه فوجدوا ريحه فجاؤوه فقال لهم لو شئتم صنعتم كما أصنع قالوا وما صنعت فأخبرهم ففعلوا مثل ما فعل حتى كثر ذلك وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم فأصابهم من المسخ ما أصابهم فغدا إليهم جيرانهم ممن كان حولهم يطلبون منهم ما يطلب الناس فوجدوا المدينة مغلقة عليهم فنادوا فلم يجبهم أحد فتسوروا عليهم المدينة فإذا هم قردة فجعل القرد منهم يدنو فيتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك
قال الحسن فأكلوا والله أوخم أكلة أكلها قوم وعوقبوا أسوأ عقوبة في الدنيا وأشدها عذابا في الآخرة ثم قال الحسن والله لقتل المؤمن أعظم عند الله من أكل الحيتان
المسألة الخامسة
لما فعلوا هذا نهاهم كبراؤهم ووعظهم أحبارهم فلم يقبلوا منهم فاستمروا على نهيهم لهم ولم يمنع من التمادي على الوعظ والنهي عدم قبولهم لأنه فرض قبل أو لم يقبل حتى قال لهم بعضهم (* (لم تعظون قوما الله مهلكهم) *) يعني في الدنيا (* (أو معذبهم عذابا شديدا) *) في الآخرة قال لهم الناهون معذرة إلى ربكم أي نقوم بفرضنا ليثبت عذرنا عند ربنا
المسألة السادسة قوله تعالى (* (فلما نسوا ما ذكروا به) *))
أي تركوه عن قصد
330

وهذا يدل على أن النسيان لفظ ينطلق على الساهي والعامد ردا على أهل جهالة زعموا أن الناسي والساهي لمعنى واحد وهؤلاء قوم لا معرفة لهم باللغة وقصدهم هدم الشريعة وقد بينا ذلك في غير موضع وحققنا معنى قوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وقلنا معناه من نام عن صلاة أو تركها فليصلها متى ذكرها فالساهي له حالة ذكر والعامد هو أبدا ذاكر وكل واحد منهم يتوجه عليه فرض القضاء متى حضره الذكر دائما أو في حال دون حال وبهذا استقام نظام الكلام واستقر حكم شريعة الإسلام
المسألة السابعة
قال علماؤنا هذه الآية أصل من أصول إثبات الذرائع التي انفرد بها مالك وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته وخفيت على الشافعي وأبي حنيفة مع تبحرهما في الشريعة وهو كل عمل ظاهر الجواز يتوصل به إلى محظور كما فعل اليهود حين حرم عليهم صيد السبت فسكروا الأنهار وربطوا الحيتان فيه إلى يوم الأحد
وقد بينا أدلة المسألة في كتب الخلاف وبسطناها قرآنا وسنة ودلالة من الأصول في الشريعة
فإن قيل هذا الذي فعلت اليهود لم يكن توسلا إلى الصيد بل كان نفس الصيد قلنا إنما حقيقة الصيد إخراج الحوت من الماء وتحصيله عند الصائد فأما التحيل عليه إلى حين الصيد فهو سبب الصيد لا نفس الصيد وسبب الشيء غير الشيء إنما هو الذي يتوصل به إليه ويتوسل به في تحصيله وهذا هو الذي فعله أصحاب السبت
المسألة الثامنة
قال علماؤنا إنما هلكوا باتباع الظاهر لأن الصيد حرم عليهم فقالوا لا نصيد بل نأتي بسبب الصيد وليس سبب الشيء نفس الشيء فنحن لا نرتكب عين ما نهينا عنه فنعوذ بالله من الأخذ بالظاهر المطلق في الشريعة
331

المسألة التاسعة
قال علماؤنا اختلف الناس في الممسوخ هل ينسل أم لا فمنهم من قال إن الممسوخ لا ينسل ومنهم من قال ينسل وهو الصحيح عندي والدليل عليه أمران
أحدهما حديث النبي في الصحيح حين سئل عن الضب فقال إن أمة مسخت فأخشى أن يكون الضب منها
وثبت عنه أنه قال إن الفأر مسخ ألا تراه إذا وضع له ألبان الإبل لم يشربها
وروى البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال رأيت في الجاهلية قردة قد رجموا قردة ونص الحديث قد رأيت في الجاهلية قردة قد اجتمع عليها قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها وثبت في بعض الحديث قد زنت وسقط هذا اللفظ عند بعضهم
فإن قيل وكأن البهائم قد بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفا عن سلف إلى زمان عمر
وقلنا نعم كذلك كان لأن اليهود غيروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون إبلاغا في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم حتى يعلموا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ويحصي ما يبدلون وما يغيرون ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون وينصر نبيه وهم لا ينصرون
332

الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
روى مالك وغيره أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية (* (وإذ أخذ ربك من بني آدم) *) فقال عمر سمعت رسول الله سئل عن هذه الآية فقال إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون
فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار
وقد تكلم في سند هذا الحديث بكلام قد بيناه في كتاب المشكلين
وقد ثبت وصح عن أبي هريرة أنه قال إن رسول الله قال لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل رجل منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال يا رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال يا
333

رب من هذا قال رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت فقال أولم يبق من عمري أربعين سنة قال أولم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فأخطأت ذريته
خرجه أبو عيسى وصححه ومن رواية غيره فمن حينئذ أمر بالكتاب والشهود وفي رواية أنه رأى فيهم الضعيف والغني والفقير والمبتلى والصحيح فقال له آدم يا رب ما هذا ألا سويت بينهم قال أردت أن أشكر
وفي رواية أخرى أنه أخرجهم من صلب آدم كهيئة الذر ثم أخذ عليهم الميثاق ثم أعيدوا في صلبه وفي رواية أن عمر خطب بالجابية فقال من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له فقال الجاثليق تركست تركست فقال الراوي يقول معاذ الله لا يضل الله أحدا فقال عمر بل الله خلقك ثم أضلك ثم يميتك ثم يدخلك النار والله لولا ولث من عهدك لضربت عنقك فقال إن الله لما خلق نثر ذرية آدم في كفيه فقال هؤلاء للجنة وما هم عاملون وهؤلاء للنار وما هم عاملون وهذه لهذه وهذه لهذه قال فتفرق الناس وما يختلف اثنان في القدر
وفي رواية عن ابن عمرخرج النبي وهو قابض على شيئين في يديه ففتح اليمين فقال بسم الله الرحمن الرحيم كتاب من الرحمن الرحيم فيه أسماء أهل الجنة بأعدادهم وأعمالهم وأحسابهم فجمع عليهم إلى يوم القيامة لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم وقد يسلك السعداء طريق أهل الشقاء حتى يقال هم منهم هم منهم ثم
334

تدرك أحدهم سعادته ولو قبل موته بفواق ناقة ثم قال النبي العمل بخواتمه العمل بخواتمه
وفي الحديث الصحيح أن النبي قال أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فكتب مقادير الخلق إلى يوم القيامة
وثبت في الصحيح أنه قيل يا رسول الله هذا الأمر الذي نحن فيه أمر مستأنف أم أمر قد فرغ منه فقال فرغ ربكم قالوا ففيم العمل قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من
كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء ثم قرأ (* (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) *)
وثبت عنه أنه قال إن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها
335

فإن قيل فكيف يجوز أن يعذب الخلق وهم لم يذنبوا أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم وساقهم إليه
قلنا ومن أين يمتنع ذلك أعقلا أم شرعا
فإن قيل لأن الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك
قلنا لأن فوقه آمر يأمره وناه ينهاه وربنا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولا يجوز أن يقاس الخالق بالمخلوق ولا تحمل أفعال الإله على أفعال العباد وبالحقيقة الأفعال كلها لله والخلق بأجمعهم له صرفهم كيف شاء وحكم فيهم كيف أراد وهذا الذي يجده الآدمي إنما تبعث عليه رقة الجبلة وشفقة الجنسية وحب الثناء والمدح لما يتوقع في ذلك من الانتفاع والباري متقدس عن ذلك كله فلا يجوز أن يعتبر به وقد مهدناه في كتاب المشكلين وفي كتب الأصول
المسألة الثانية
اختلف العلماء في الكفار المتأولين على قولين فمذهب شيخ السنة وإليه صغى القاضي في أشهر قوليهما أن الكفر يختص بالجاحد والمتأول ليس بكافر
والذي نختاره كفر من أنكر أصول الإيمان فمن أعظمها موقعا وأبينها منصفا وأوقعها موضعا القول بالقدر فمن أنكره فقد كفر وقد بيناه في كتاب المقسط والمشكلين
المسألة الثالثة
اختلف علماء المالكية في تكفيرهم على قولين فالصريح من أقوال مالك تكفيرهم لقد سئل عن نكاح القدرية فقال قد قال الله (* (ولعبد مؤمن خير من مشرك) *) ومن قال من أصحابنا أن ذلك أدب لهم وليسوا بكفار أو حكى في ذلك غير ما أوردناه من الأقوال فذلك لضعف معرفته
336

بالأصول فلا يناكحوا ولا يصلى عليهم فإن خيف عليهم الضيعة دفنوا كما يدفن الكلب
فإن قيل وأين يدفنون
قلنا لا يؤذى بجوارهم مسلم وإن قدر عليهم الإمام استتابهم فإن تابوا وإلا قتلهم كفرا
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) *) هذه آية عظيمة من الآي التي جمعت العقائد والأعمال وقد كنا تكلمنا عليها في مجالس أنوار الفجر أزمنة كثيرة ثم أنعم الله بأن أخرجنا نكتها المقصودة من الوجهين جميعا في كتاب الأمد الأقصى
وفيها سبع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (الأسماء) *))
حقيقة الاسم كل لفظ جعل للدلالة على المعنى إن لم يكن مشتقا فإن كان مشتقا فليس باسم وإنما هو صفة هذا قول النحاة أخبرنا الأستاذ الرئيس الأجل المعظم فخر الرؤساء أبو المظفر محمد بن العباس لفظا قال سمعت الأستاذ المعظم عبد القاهر الجرجاني يقول سمعت أبا الحسن ابن أخت أبي علي يقول سمعت خالي أبا علي يقول كنت بمجلس سيف الدولة بحلب وبالحضرة جماعة من أهل المعرفة فيهم ابن خالويه إلى أن قال ابن خالويه أحفظ للسيف خمسين اسما فتبسم أبو علي وقال ما أحفظ له إلا اسما واحدا وهو السيف فقال ابن خالويه فأين المهند وأين الصارم وأين الرسوب وأين المخذم وجعل يعدد فقال أبو علي هذه صفات وكأن الشيخ لا يفرق بين الاسم والصفة
وهذه قاعدة أسسها سيبويه ليرتب عليها قانونا من الصناعة في التصريف والجمع والتصغير والحذف والزيادة والنسبة وغير ذلك من الأبواب إذ لحظ ذلك في مجاري
337

العربية وهو أمر لا تحتاج إليه الشريعة بعضد ولا ترده بقصد فلا معنى لإنكارها للقوم أو اقرارها
المسألة الثانية
قال سخيف من جملة المغاربة عددت أسماء الله فوجدتها ثمانين وجعل يعدد الصفات النحوية ويا ليتني أدركته فلقد كانت فيه حشاشة لو تفاوضت معه في الحقائق لم يكن بد من قبوله والله أعلم
وليس العجب منه إنما العجب من الطوسي أن يقول وقد عدد بعض حفاظ المغرب الأسماء فوجدها ثمانين حسبما نقله إليه طريد طريق ببورقة الحميدي وإنما وقع في ذلك أبو حامد بجهله بالصناعة أما إنه كان فصيحا ذرب القول ذرب اللسان في الاسترسال على الكلمات الصائبة لكن القانون كان عنه نائيا والعالم عندنا اسم كزيد اسم وأحدهما يدل على الوجود والآخر يدل على الوجود ومعنى معه زائد عليه والذي يعضد ذلك أن الصحابة وعلماء الإسلام حين عددوا الأسماء ذكروا المشتق والمضاف والمطلق في مساق واحد إجراء على الأصل ونبذا للقاعدة النحوية
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (الحسنى) *))
وفي وصفها بذلك خمسة أقوال
الأول ما فيها من معنى التعظيم فكل معنى معظم يسمى به سبحانه
الثاني ما وعد عليها من الثواب بدخول الجنة
الثالث ما مالت إليه القلوب من الكرم والرحمة
الرابع أن حسبها شرف العلم بها فإن شرف العلم بشرف المعلوم والباري أشرف المعلومات فالعلم بأسمائه أشرف العلوم
الخامس أنه معرفة الواجب في وصفه والجائز والمستحيل عليه فيأتي بكل ذلك على وجهه ويقرره في نصابه وقد بينا في المقسط حقيقة الحسن وأقسامه ومن حصل هذه المعاني في أسماء الله نال الحسن من كل طريق وحصل له القطع بالتوفيق
338

المسألة الرابعة في سبب نزولها
روي أن المشركين سمعوا المسلمين يدعون الله مرة و الرحمن أخرى و القادر بعد ذلك فقالوا أينهانا محمد عن الأصنام وهو يدعو آلهة كثيرة فنزلت ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها أي هذه الأسماء إله واحد وليست بآلهة متعددة
المسألة الخامسة ما هذه الأسماء التي أضافها الله
وفي ذلك ثلاثة أقوال
الأول أنها أسماؤه كلها التي فيها التعظيم والإكبار
الثاني أنها الأسماء التسعة والتسعون التي ورد فيها الحديث الصحيح إن لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة
الثالث أنها الأسماء التي دلت عليها أدلة الوحدانية وهي سبعة تترتب على الوجود العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة تقول القادر العالم المريد الحي المتكلم السميع البصير وفي ترتيبها تقريب بيناه في كتب الأصول وكل اسم لله فإلى هذه الأصول يرجع لكن الصحيح عندي أن المراد بها التسعة والتسعون التي عددها في الحديث الصحيح
فإن قيل وهل إلى معرفتها سبيل
339

قلنا حلق العلماء عليها وساروا إليها فمن جائر وقاصد والقاصد في الأكثر واقف دون المرام والجائر ليس فيه كلام فأما من وقف على الأمر فما عرفته إلا الأسفرايني والطوسي إلا أن الطوسي تقلقل فيها فتزلزل عنها وأما الأسفرايني فأسند طريقه ووضح تحقيقه
والذي أدلكم عليه أن تطلبوها في القرآن والسنة فإنها مخبوءة فيهما كما خبئت ساعة الجمعة في اليوم وليلة القدر في الشهر رغبة والكبائر في الذنوب رهبة لتعم العبادات اليوم بجميعه والشهر بكليته وليقع الاجتناب لجميع الذنوب وكذلك أخفيت هذه الأسماء المتعددة في جملة الأسماء الكلية لندعوه بجميعها فنصيب العدد الموعود به فيها فأما تعديدها بالقرآن فقد وهم فيه إمامان سفيان وابن شعبان وقد سقناه بغاية البيان ونصه
سورة الحمد فيها خمسة أسماء
الله الرب الرحمن الرحيم مالك
سورة البقرة فيها ثلاثون اسما
محيط قدير عليم حكيم ذو الفضل العظيم بصير واسع بديع السماوات سميع التواب العزيز رؤوف شاكر إله واحد غفور شديد العذاب قريب شديد العقاب سريع الحساب حليم خبير حي قيوم علي عظيم ولي غني حميد مولى
سورة آل عمران فيها عشرة أسماء
عزيز ذو انتقام وهاب قائم بالقسط جامع الناس مالك الملك خير الماكرين شهيد خير الناصرين وكيل
سورة النساء فيها سبعة أسماء
الرقيب الحسيب كثير العفو النصير مقيت جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا
سورة المائدة فيها اسمان علام الغيوب خير الرازقين
سورة الأنعام فيها سبعة عشر اسما
فاطر قاهر شهيد شفيع خير الفاصلين الحق أسرع الحاسبين القادر فالق الحب والنوى فالق الإصباح جاعل الليل
340

سكنا مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي سريع العقاب خالق كل شيء اللطيف الحكيم
سورة الأعراف فيها أربعة أسماء
خير الحاكمين خير الفاتحين أرحم الراحمين خير الغافرين
سورة براءة فيها اسم
مخزي الكافرين
سورة هود فيها سبعة أسماء
أحكم الحاكمين حفيظ مجيب قوي مجيد ودود فعال لما يريد
سورة يوسف فيها ثلاثة أسماء
المستعان القاهر الحافظ
سورة الرعد فيها ستة أسماء
ذو المغفرة عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال شديد المحال القائم على كل نفس بما كسبت
سورة الحجر فيها اسمان
الوارث الخلاق
سورة النحل فيها اسم واحد
كفيل
سورة الكهف فيها ثلاثة أسماء
مقتدر ذو الرحمة الموئل
سورة مريم فيها اسم واحد
وهو حفي
سورة طه فيها اسمان
الملك خير وأبقى
سورة اقترب فيها ثلاثة أسماء
الحاسب خير الوارثين الفاعل
سورة الحج فيها اسم واحد
المكرم
سورة المؤمنين فيها اسمان
أحسن الخالقين خير المنزلين
سورة النور فيها اسمان
نور السماوات والأرض المبين
سورة الفرقان فيها اسم
الهادي
سورة النمل
الكريم
سورة الروم
محي الموتى
سورة سبأ فيها
الفتاح
سورة فاطر اسم واحد
شكور
سورة ص اسم واحد
الغفار
341

سورة الزمر فيها اسمان
سالم كاف
سورة المؤمن فيها خمسة أسماء
غافر الذنب وقابل التوب ذو الطول رفيع الدرجات ذو العرش
سورة فصلت
ذو عقاب
سورة الزخرف فيها
المبرم
سورة الدخان فيها ثلاثة أسماء
المنذر المرسل المنتقم
سورة ق
أقرب إليه من حبل الوريد
سورة والذاريات فيها خمسة أسماء
الموسع الماهد الرزاق ذو القوة المتين
سورة والطور فيها اسم واحد
البر
سورة اقترب فيها اسم واحد
المليك المقتدر
سورة الرحمن فيها اسم واحد
ذو الجلال والإكرام
سورة الواقعة فيها ثلاثة أسماء
الخالق الزارع المنشئ
سورة الحديد فيها أربعة أسماء
الأول الآخر الظاهر الباطن
سورة المجادلة فيها اسمان
رابع ثلاثة سادس خمسة
سورة الحشر فيها ثمانية أسماء
القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر البارئ المصور
سورة المعارج
فيها ذو المعارج
سورة المدثر فيها اسم واحد
أهل التقوى وأهل المغفرة
سورة سبح فيها اسم واحد
الأعلى
سورة القلم فيها اسم واحد
الأكرم
سورة التوحيد فيها اسمان
أحد صمد
وقد زاد بعض علمائنا فيها شيء موجود كائن ثابت نفس عين ذات داع مستجيب مملي قائم متكلم مبق مغن غيور قاض مقدر فرد مبل جاعل موجد مبدع دارئ
342

قال الإمام الحافظ ابن العربي ومن هذا ما جاء على لفظه في كتاب الله وسنة رسوله ومنها ما أخذ من فعل ومنها ما جاء مضافا فذكره مجردا عن الإضافة وكذلك وجدناه في سائر الأسماء المتقدمة فهذه هي الأسماء المعدودة بصفاتها قرآنا وسنة
وفي الحديث المطلق أسماء غير ذلك كقولنا الطيب والسيد والطبيب وأعداد سواها
وما منها اسم إلا جميعه مشتق حتى إن أهل اللغة اتفقوا عن بكرة أبيهم على أن الله مشتق
وقد بيناه في الأمد فلا وجه لقولهم الفاسد المتقدم وقد شرحنا معنى كل اسم في الأمد على الاستيفاء فلينظر هنالك وعددناها على ما ورد في الكتاب والسنة وذكره الأئمة فانتهت إلى ستة وأربعين ومائة
الأول
الله وهو اسمه الأعظم الذي يرجع إليه كل اسم ويضاف إلى تفسيره كل معنى وحقيقته المنفرد في ذاته وصفاته وأفعاله عن نظير فهذه حقيقة الإلهية ومن كان كذلك فهو الله
الثاني
الواحد وهو الذي لا نظير له في صفات ولا ذات ولا أفعال
الثالث
الكائن وهو الموجود قبل كل شيء وبعده كل شيء
الرابع
القائم إذا ذكرته مطلقا فهو الذي يستغني عن كل شيء وإن ذكرته مضافا فهو قائم على كل شيء بالوجود فما وراءه
الخامس والسادس والسابع
القيوم والقيام والقيم وهو الدائم القائم على شيء
الثامن
الكافي من كفى إذا قام بالأمر أو دفع عنه ما يتوقع
التاسع
الحق وهو الذي لا يتغير
343

العاشر والحادي عشر والثاني عشر
الملك المالك المليك وهو الحاكم لكل شيء من غير حاجة إليه
الثالث عشر
القدوس وهو المطهر عن كل نقصان
الرابع عشر
السلام الذي لا يتطرق إليه عيب وسلم الخلق من ظلمه وغبنه وبه زاد عليه
الخامس عشر
العزيز الذي لا يغالب ولا يكون معه غالب
السادس عشر
الجبار الذي يستغني عن الأتباع ولا يحنو عند التعذيب ولا يحنق عند الغضب
السابع عشر
المتكبر وهو الذي لا مقدار لشيء عنده
الثامن عشر
العلي الذي لامكان له
التاسع عشر
الكبير الذي لا يتصور عليه مقدار
الموفي عشرين
العظيم الذي يستحيل عليه التحديد
الحادي والعشرون
الجليل وهو الذي لا يليق به ما يدل على الحدوث
الثاني والعشرون
المجيد هو الذي لا يساوي فيما له من صفات المدح
الثالث والعشرون
الجميل هو الذي لا يشبهه شيء
الرابع والعشرون
الحسيب وهو الذي يستحق الحمد على الانفراد ويحصي كل شيء ويقوم عليه
الخامس والعشرون
الصمد الذي لا يجري في الوهم ولا يقصد في المطالب غيره
السادس والعشرون
الغني الذي لا يحتاج إلى شيء
السابع والعشرون
رفيع الدرجات لا يلحق مرتبته أحد بحال
الثامن والعشرون
ذو الطول يقال فيه القادر والغني والمنعم
344

التاسع والعشرون
ذو الفضل وهو المنعم يؤتي من يشاء
الموفي ثلاثين
السيد المنفرد بالكمال
الحادي والثلاثون
الكريم وهو الذي تعم إرادته
الثاني والثلاثون
الطيب المتقدس عن الآفات
الثالث والثلاثون
الأول الذي لا ابتداء له
الرابع والثلاثون
الآخر الذي لا انتهاء له
الخامس والثلاثون
الباقي هو الذي لا يفنى وهو الوارث وهو الدائم وهما
السادس والثلاثون والسابع والثلاثون
الثامن والثلاثون
الظاهر وهو الذي يدرك بالدليل
التاسع والثلاثون
الباطن وهو الذي لا يدرك بالحواس
الموفي أربعين
اللطيف العالم بالخبايا المهتبل بالعطايا القادر والمقتدر والقدير والقوي فكمل بها أربعة وأربعين
الخامس والأربعون
المقيت وهو القادر الذي لا يعجزه شيء المؤتي لكل شيء قوته
السادس والأربعون
المتين وهو الذي لا يلحقه ضعف
الثامن والأربعون
المحيط وهو الذي لا يخرج شيء عن علمه وقدرته وإرادته
التاسع والأربعون والموفي خمسين
الواسع والموسع وهو الذي عمت قدرته وإرادته وعلمه كل شيء وكذلك بصره وسمعه وكلامه العليم والعالم والعلام فهذه
ثلاثة وخمسون اسما
الرابع والخمسون والخامس والخمسون
السميع وهو الذي يسمع كل موجود والبصير وهو الذي يرى كل موجود ويعلم المعدوم والموجود
السادس والخمسون
الشهيد الحاضر مع كل موجود بالقدرة والعلم والسمع والبصر
السابع والخمسون
الخبير العالم بالخبايا
الثامن والخمسون
الطبيب وهو العالم بالمنافع
345

التاسع والخمسون
المحصي وهو الذي ضبط علمه وقدرته وإرادته كل شيء
الموفي ستين
المقدر وهو الذي رتب مقادير الأشياء بحكمة متناسبة
الحادي والستون
الرقيب الذي لا يشغله شأن عن شأن
الثاني والستون
القريب بالعلم الذي لا يختص بمكان
الثالث والستون
الحي
الرابع والستون
المريد
الخامس والستون
الحكم وهو يتصرف في الدعاء فعلا تقول يا من يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد صرفني بطاعتك واحكم بيني وبين من يخاصمني فيك
السادس والستون والسابع والستون
الرحمن الرحيم الذي يريد الخير لعباده على العموم والخصوص
الثامن والستون
المحب ويتصرف فعلا قال تعالى (* (يحبهم ويحبونه) *) وكذلك المبغض فالذي يرجعان إليه إرادة الثواب والعقاب وهو
التاسع والستون
الموفي سبعين
الرضا يتصرف فعلا وهو إرادة ما يكون فوق الاستحقاق
الحادي والسبعون
السخط يتصرف فعلا وهو إرادة خلاف الرضا كما بيناه في الكراهية في كتب الأصول
الثاني والسبعون
الودود وهو الذي يفعل الخير مع من يستحقه ومع من لا يستحقه
الثالث والسبعون
العفو وهو الذي يريد تسهيل الأمور
الرابع والسبعون
الرؤوف وهو الكثير الرحمة
الخامس والسبعون
عدو الكافرين وهو البعيد بالعقاب
346

السادس والسبعون
الولي وهو القريب بالثواب والنعم
السابع والسبعون
الصبور الذي يريد تأخير العقاب
الثامن والسبعون
الحليم الذي يريد إسقاط العقاب
التاسع والسبعون
المعز وهو الذي يعز أولياءه
الموفي ثمانين
الحفي وهو غاية البر
الحادي والثمانون
الولي وهو المحب لأوليائه
الثاني والثمانون
خير الفاصلين الذي يميز المختلفات بقوله
الثالث والثمانون
المبين وهو الذي يعرف عباده بكلامه مراده وذلك لأهل السنة خاصة
الرابع والثمانون
الصادق من لا يوجد خبره بخلاف مخبره
الخامس والثمانون
الهادي وهو الذي يعرف المراشد ويوفق لها
السادس والثمانون
الرشيد بمعنى المرشد ويرجع إلى الهادي
السابع والثمانون
نور السماوات والأرض ويرجع إلى الهدى
الثامن والثمانون
المؤمن يصدق نفسه وأولياءه ويخلصهم من العقاب
التاسع والثمانون
المهيمن فيه كلام كثير يرجع إلى الرقيب
الموفي تسعين
الحميد يثني على أوليائه ويثنون عليه
الحادي والتسعون
الشكور وهو الذي يمدح على الفعل خاصة
الثاني والتسعون
غيور وهو الذي لا يحرم سواه
الثالث والتسعون
الحكيم محكم الأشياء بخلقها على نظام وتدبير
الرابع والتسعون
التواب الذي يرجع بالعبد من حال المعصية إلى حال الطاعة
الخامس والتسعون
الفتاح يفتح غلق العدم بالوجود وغلق الجهل بالعلم وغلق الرزق بالعطاء وذلك كثير
ومثله الحكم قال الله تعالى (* (أفغير الله أبتغي حكما) *) وهو الخامس والتسعون
السادس والتسعون
القاضي وهو الذي لا يرد حكمه
347

السابع والتسعون
الكفيل الملتزم لثواب عباده ورزقهم
الثامن والتسعون
المبرم وهو الذي إذا عقد لم يحل عقده
التاسع والتسعون
المنذر وهو الذي يعرف بكلامه عباده وعيده
الموفي مائة
المدبر وهو الذي يعلم الانتهاء قبل الابتداء فيرده عليه الممتحن البالي المبلي المبتلي هو الذي يكلف عباده الوظائف ليعلم من حالهم في القبول والرد مشاهدة ما علم غيبا وبها تمت
مائة وأربعة
الخامس بعد المائة
الفاتن وهو المبتلي لأنه يرجع إلى الاختبار
السادس بعد المائة
الرب وهو الذي ينقل الأشياء من حال إلى حال ويبدلهم بصفة بعد صفة في طريق النمو والإنشاء
السابع بعد المائة
العدل وهو الذي تأتي أفعاله على مقتضى إرادته
الثامن بعد المائة
الخالق وهو الذي يوجد بعد العدم ويقدر الأشياء على الأحوال
التاسع بعد المائة
البارئ منشئ البرية من البرى وهو التراب
العاشر بعد المائة
المصور وهو الذي يرتب الموجودات على صفات مختلفات وهيئات متغايرات
الحادي عشر بعد المائة
المبدئ وهو الذي يأتي بأوائل الأشياء من غير شيء
الثاني عشر بعد المائة
المعيد وهو الذي يردها بعد الفناء كما كانت وجودا وصفة ووقتا
الثالث عشر بعد المائة
فاطر السماوات والأرض الذي أنشأها من غير مثال وقبل كل منشئ
الرابع عشر بعد المائة
المحيي ويقابله المميت وهو
الخامس عشر بعد المائة
يحي الخلق بالوجود والحركة والعلم والإيمان والهدى ويميتهم بذلك إلى سائر متعلقات الإحياء حسبما رتبناه في كتاب الأمد الأقصى
السادس عشر بعد المائة
الجامع وهو تأليف المفترق
السابع عشر بعد المائة
المعز وفي مقابلته المذل وهو الذي يرفع مقدار أوليائه ويحط مقدار أعدائه
348

الثامن عشر بعد المائة
مخزي الكافرين والخزي هو فعل ما يستحي منه
التاسع عشر بعد المائة
العفو وهو الذي يسقط حقه بعد الوجوب
العشرون بعد المائة
القهار وهو الذي يغلب العباد
الحادي والعشرون بعد المائة
الوهاب وهو الذي يعطي من غير توقع عوض
الثاني والعشرون بعد المائة
الرزاق وهو الذي يهب الغذاء والاكتساء من رياش ومعاش
الثالث والعشرون بعد المائة
جواد وهو الكثير العطاء
الرابع والعشرون والخامس والعشرون بعد المائة
الخافض الرافع وهو الذي يحط درجة أعدائه ويعلي منازل أوليائه ومقاديرهم دنيا وآخرة جاها ومالا وعملا واعتقادا
السادس والعشرون والسابع والعشرون بعد المائة
القابض الباسط وهو الذي لا يتصرف عبده ولا ينبسط إلا بقدرته وفي حيز مشيئته فإن خلق له القدرة على العموم تبسطت على ما خلقت له وإن خلقها على الخصوص تعلقت بما خلقت له وقدرت به
الثامن والعشرون والتاسع والعشرون بعد المائة
المقدم والمؤخر وذلك معنى يرجع إلى الأوقات يخلق شيئا بعد شيء بحسب ما علمه وقضاه وقدره ليس لأحد ذلك إلا له
الثلاثون بعد المائة
المقسط وهو الذي تجري أحكامه على مقتضى إرادته
الحادي والثلاثون بعد المائة
النصير وهو الذي يتابع آلاءه على أوليائه ويكف عنهم عادية أعدائه
الثاني والثلاثون بعد المائة
الشافي وهو الذي يهب الصحة بعد المرض
الثالث والثلاثون بعد المائة
مقلب القلوب وهو اسم عظيم معناه مصرفها أسرع من مر الريح على اختلاف في القبول والرد واليقين والشك والإرادة والكراهية وغير ذلك من الأوصاف
الرابع والثلاثون والخامس والثلاثون بعد المائة
الضار النافع وهو خالق الألم
349

الذي يقع به موازنة والنفع هو كل ما لا ألم فيه وهو نعيم الجنة فأما الدنيا فلا تخلو منهما عن الاشتراك
السادس والثلاثون بعد المائة
ذو المعارج يعني الذي يؤتي المنازل ويصرف الأمور على المراتب وينزل المأمورين على المقادير
السابع والثلاثون بعد المائة
خير المنزلين المنازل لله يؤتيها محمودة لمن يحب ومذمومة لمن يبغض
الثامن والثلاثون بعد المائة
خير الماكرين و الذي يظهر خلاف ما يبطن
التاسع والثلاثون بعد المائة
متم نوره أي يدوم ولا ينقطع ويظهر ولا يخفى في قلوب أوليائه بالإيمان وبين أيديهم يوم القيامة بالجواز على الصراط وفي الجنة بالنعيم الدائم
الموفي أربعين بعد المائة
الوكيل وهو الذي يلقي إليه الخلق مقاليدهم فلا يقوم بها أحد غيره
الحادي والأربعون بعد المائة
المستعان وهو الذي لا يطلب العون وهو خلق القدرة على الطاعة إلا منه
الثاني والأربعون بعد المائة
المعبود وهو الذي لا يتذلل إلا له
الثالث والأربعون بعد المائة
المذكور وهو الذي لا يجري لسان إلا به ولا يعمر خاطر إلا بذكره ولا يرى شيء إلا وهو فيه بأدلته وآثار صنعته
الخامس والأربعون والسادس والأربعون ومائة
أهل التقوى وأهل المغفرة الذي لا يتقى سواه ولا يغفر الذنوب غيره
المسألة السادسة
هذا منتهى ما حضر من ذكر الأسماء للتضرع والابتهال وقد بقي نحو من ثلاثين اسما ضمناها كتاب الأمد هذه أصولها
وأما قوله (* (فادعوه بها) *) فهذا هو قسم العمل والدعاء في اللغة والحقيقة
350

هو الطلب أي اطلبوا منه بأسمائه فيطلب بكل اسم ما يليق به تقول يا رحيم ارحمني يا حكيم احكم لي يا رزاق ارزقني يا هادي اهدني
وإن دعوت باسم عام قلت يا مالك ارحمني يا عزيز احكم لي يا لطيف ارزقني
وإن دعوت بالاسم الأعظم قلت يا الله فهو متضمن لكل اسم حسبما بيناه في كتاب الأمد ولا تقل يا رازق اهدني إلا أن تريد يا رازق ارزقني الهدى وهكذا رتب دعاءك على اعتقادك تكن من المحسنين إن شاء الله
المسألة السابعة قوله تعالى (* (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) *))
يقال ألحد ولحد إذا مال والإلحاد يكون بوجهين بالزيادة فيها والنقصان منها كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الباري بغير أسمائه ويذكرونه بما لم يذكره من أفعاله إلى غير ذلك مما لا يليق به فحذار منها ولا يدعون أحد منكم إلا بما في الكتب الخمسة وهي كتاب البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي فهذه الكتب هي بدء الإسلام وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف وذروا سواها ولا يقولن أحد اختار دعاء كذا فإن الله قد اختار له وأرسل بذلك إلى الخلق رسوله
الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
أمر الله تعالى بالنظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته في أعداد كثيرة من آي القرآن أراد بذلك زيادة في اليقين وقولا في الإيمان وتثبيتا للقلوب على التوحيد وقد روى
351

ابن القاسم عن مالك قال قيل لأم الدرداء ما كان أكثر شأن أبي الدرداء قالت كان أكثر شأنه التفكر قيل له أفترى الفكر عملا من الأعمال قال نعم هو اليقين
وقيل لابن المسيب في الصلاة بين الظهر والعصر فقال ليست هذه عبادة إنما العبادة الورع عما حرم الله والفكر في أمر الله
وقال الحسن تفكر ساعة خير من قيام ليلة
المسألة الثانية حقيقة التفكر
حقيقة التفكر هنا ترديد العلم في القلب بالخبر عنه
والكلام حقيقة هو ما يجري في النفس والحروف والأصوات عبارة عنه وأقل ما يحضر في القلب من العلم علمان اثنان أحدهما نسق الآخر ومثاله أن يعلم أن الجنة مطلوبة وأن الموصل إليها آكد العمل الصالح فحينئذ يجتهد في العمل وآكد من هذا أن تعلم الإيمان بالله بمعرفته ومعرفة صفاته وأفعاله وملكوته في أرضه وسمائه ولا يحصل ذلك إلا بالنظر في مخلوقاته وهي لا تحصى كثرة وأمهاتها السماوات فترى كيف بنيت وزينت من غير فطور ورفعت بغير عمد وخولف مقدار كواكبها ونصبت سائرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة كل ذلك بحكمة ومنفعة
والأرض فانظر إليها كيف وضعت فراشا ووطئت مهادا وجعلت كفاتا وأنبتت معاشا وأرسيت بالجبال وزينت بالنبات وكرمت بالأقوات وأرصدت لتصرف الحيوانات
ومعاشها وكل جزء من ذلك فيه عبرة تستغرق الفكرة
والحيوان أحد قسمي المخلوقات والثاني الجمادات فانظر في أصنافها واختلاف أنواعها وأجناسها وانقيادها وشرسها وتسخيرها في الانتفاع بها زينة وقوتا وتقلبا في الأرض
352

والبحار أعظم المخلوقات عبرة وأدلها على سعة القدرة في سعتها واختلاف خلقها وتسيير الفلك فيها وخروج الرزق منها والانتفاع في الانتقال إلى البلاد البعيدة بالأثقال الوئيدة بها
والهواء فإنه خلق محسوس به قوام الروح في الآدمي وحيوان البر كما أن الماء قوام لروح حيوان البحر فإذا فارق كل واحد منهما قوامه هلك وانظر إلى ركوده ثم اضطرابه وهو بالريح
والإنسان أقربها إليها نظرا وأكثرها إن بحث عبرا فلينظر إلى نفسه من حين كونها ماء دافقا إلى كونه خلقا سويا يعان بالأغذية ويربى بالرفق ويحفظ باللبن حتى يكتسب القوى ويبلغ الأشد فإذا به قد قال أنا وأنا ونسي حين أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا وسيعود مقبورا وهذا زمان وسط بينهما فيا ويحه إن كان محسورا فينظر حينئذ أنه عبد مربوب مكلف مخوف بالعذاب إن قصر مرجى بالثواب إن ائتمر فيقبل على عبادة مولاه فإنه وإن كان لا يراه يراه ولا يخشى الناس فالله أحق أن يخشاه ولا يتكبر على أحد من عباد الله فإنه مؤلف من أقذار مشحون من أوضار صائر إلى جنة إن طاع أو إلى نار ولذلك كان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات الحكمية ا لتي جمعت هذه الأوصاف العلمية
(كيف يزهى من رجيعه
* أبد الدهر ضجيعه) فهو منه وإليه
* وأخوه ورضيعه) وهو يدعوه إلى الحش
* بصغر فيطيعه))
المسألة الثالثة أي العلمين أفضل التفكر أم الصلاة
اختلف في ذلك الناس فصغو أي ميل الصوفية إلى أن الفكرة أفضل فإنها تثمر المعرفة وهي أفضل المقامات الشرعية
وصغو الفقهاء إلى أن الصلاة والذكر أفضل لما روي في ذلك من الحث والدعاء إليها والترغيب فيها والإيعاز بمنازلها وثوابها والذي عندي فيه أن الناس مختلفون
353

فمن كان شديد الفكر قوي النظر مستمر المرر قادرا على الأدلة متبحرا في المعارف فالفكر له أفضل ومن كان دون ذلك فالأعمال أقوى لنفسه وأثبت لعوده
ثبت عن ابن عباس عن النبي في الصحيح أنه بات عند زوجه ميمونة وبات ابن عباس معه في ليلة لم تكن ميمونة تصلي فيها فاضطجع رسول الله وزوجه في طول الوسادة واضطجع ابن عباس في عرضها فلما انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده قام رسول الله فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران (* (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) *) حتى ختم السورة ثم قام إلى شن معلق فتوضأ منه وضوءا خفيفا ثم صلى خمس عشرة ركعة
فانظروا رحمكم الله إلى جمعه بين الفكرة في المخلوقات لتأكيد المعرفة وتحديدها حتى تجددت له حياة بالهب من النوم ثم اقباله على الصلاة بعدها فهذه هي السنة التي تعتمدون عليها
فأما طريقة الصوفية فأن يكون الشيخ منهم يبقى يوما وليلة أو شهرا مفكرا لا يفتر فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالشرع ولا مستمرة على السنن
الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى (* (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) *)
فيها خمس مسائل
354

المسألة الأولى في المعني بها
وفي ذلك قولان
أحدهما أن المراد بذلك حواء الأم الأولى حملت بولدها فلم تجد له ثقلا ولا قطع بها عن عمل فكلما استمر بها ثقل عليها فجاءها الشيطان وقال لها إن كنت تعلمين أن هذا الذي يضطرب في بطنك من أين يخرج من جسمك إنه ليخرج من أنفك أو من عينك أو من فمك وربما كان بهيمة فإن خرج سليما يشبهك تطيعينني فيه قالت له نعم فذكرت ذلك لآدم فقال لها هو صاحبك الذي أخرجك من الجنة فلما ولدت في حديث طويل سمته عبد الحارث بإشارة إبليس بذلك عليها وكان اسمه في الملائكة الحارث فذلك قوله تعالى (* (جعلا له شركاء فيما آتاهما) *) وذلك مذكور ونحوه في ضعيف الحديث في الترمذي وغيره
وفي الإسرائيليات كثير ليس لها ثبات ولا يعول عليها من له قلب فإن آدم وحواء وإن كان غرهما بالله الغرور فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين وما كان بعد ذلك ليقبلا له نصحا ولا يسمعا منه قولا
الثاني أن المراد بهذا جنس الآدميين فإن حالهم في الحمل وخفته وثقله إلى صفة واحدة وإذا خف عليهم الحمل استمروا به فإذا ثقل عليهم نذروا كل نذر فيه فإذا ولد لهم
ذلك الولد جعلوا فيه لغير الله شركاء في تسميته وعمله حتى إن منهم من ينسبه إلى الأصنام ويجعله لغير الله وعلى غير دين الإسلام وهذا القول أشبه بالحق وأقرب إلى الصدق وهو ظاهر الآية وعمومها الذي يشمل جميع متناولاتها ويسلم فيها الأنبياء عن النقص الذي لا يليق بجهال البشر فكيف بسادتهم وأنبيائهم
355

المسألة الثانية
روى ابن القاسم عن مالك قال أول الحمل بشر وسرور وآخره مرض من الأمراض قال الله عز وجل (* (حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما) *) وقال عز وجل (* (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) *)
وهذا الذي قاله مالك إنه مرض من الأمراض يعطيه ظاهر قوله فلما أثقلت دعوا الله ربهما ولا يدعو المرء هذا الدعاء إلا إذا نزلت به شدة
وهذه الحال مشاهدة في الحوامل ولأجل عظم الأمر وشدة الخطب جعل موتها شهادة فقال الشهداء سبعة سواء القتل في سبيل الله وذكر المرأة تموت بجمع شهيد
المسألة الثالثة
إذا ثبت هذا من ظاهر الآية فحال الحامل حال المريض في أفعالها ولا خلاف بين علماء الأمصار أن فعل المريض فيما يهب أو يحابي في ثلثه
وقال أبو حنيفة والشافعي إنما ذلك فيما يكون حال الطلق فأما قبل ذلك فلا واحتجوا بأن الحمل عادة وأن الغالب فيه السلامة
قلنا كذلك أكثر المرض الغالب عليه السلامة وقد يموت من لم يمرض ولكن أخذا بظاهر الحال كذلك في مسألتنا
وبالجملة فإن إنكار مرض الحامل عناد ظاهر فإذا ثبت هذا فقد حمل العلماء عليه المحبوس في قود أو قصاص وحاضر الزحف
356

وأنكره الإمامان المذكوران وغيرهما فإذا استوعبت النظر لم ترتب في أن المحبوس على القتل أشد حالا من المريض وإنكار ذلك غفلة في النظر فإن سبب الموت موجود عندهما كما أن المرض سبب الموت وقد قال سبحانه (* (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) *) وهي
الآية الثانية والعشرون
في الأحكام من غير السورة وذكرت ها هنا لاقتضاء القول إياها وإنما رأوا أسبابه وكذلك قال رويشد الطائي
(يا أيها الراكب المزجي مطيته
* سائل بني أسد ما هذه الصوت) (وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا
* قولا يبرئكم إني أنا الموت
وقال سبحانه في سورة الأحزاب وهي
الآية الثالثة والعشرون
في الأحكام من غير السورة اقتضاها القول ها هنا (* (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) *)
فكيف يقول الشافعي وأبو حنيفة إن الحالة الشديدة إنما هي المبارزة وقد أخبر الله عن منازلة العدو وتداني الفريقين بهذه الحالة العظمى من بلوغ القلوب الحناجر ومن سوء الظنون بالله ومن زلزلة القلوب واضطرابها هل هذه الحال ترى على المريض أم لا فهذا كله لا يشك فيه منصف
قال علماؤنا هذا لمن ثبت في اعتقاده وجاهد في الله حق جهاده وشاهد الرسول وآياته فكيف بنا وإنما هو عندنا خبر من الأخبار لم يعرفه إلا الأحبار ولا
357

قدره حق قدره إلا الأخيار وهذا كله يعرفكم قدر مالك على سائر العلماء في النظر ويبصركم استداده على سواء الفكر
المسألة الرابعة
إذا ثبت هذا فقد اختلف علماؤنا في راكب البحر هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل
فقال ابن القاسم حكمه حكم الصحيح وقال أشهب حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر وابن القاسم لم يركب البحر ولا رأى أنهم دود على عود ومن أراد أن يوقن بأن الله هو الفاعل وحده لا فاعل معه وأن الأسباب ضعيفة لا تعلق لموقن بها ويتحقق التوكل والتفويض فليركب البحر ولو عاين ذلك سبعين من الدهر وتطلع له الشمس في الماء وتغرب فيه ويتبعها القمر كذلك ولا يسمع للأرض خبرا ولا تصفو ساعة من كدر ويعطب في آخر الحال كان رأيه كرأي أشهب والله يوفق المقال ويسدد بعزته المذهب
المسألة الخامسة
إذا ثبت أنها مريضة فقد تقدم القول في فطرها وفديتها في سورة البقرة فلينظر هنالك
الآية الرابعة والعشرون
قوله تعالى (* (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *)
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى في العفو
قد تقدم شرحه في سورة البقرة على الاستيفاء في الإطلاق والاشتقاق واختلف إيراد المفسرين في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال
358

الأول أنه الفضل من أموال الناس نسخته الزكاة قال ذلك ابن عباس
الثاني أنه الزكاة قاله مجاهد وسماها عفوا لأنه فضل المال وجزء يسير منه
الثالث أنه أمر بالاحتمال وترك الغلظة ثم نسخ ذلك بآية القتال
الرابع خذ العفو من أخلاق الناس قاله ابنا الزبير معا وروى ذلك في الصحيح عنهما
المسألة الثانية
روى سفيان بن عيينة عن الشعبي أنه قال إن جبريل نزل على النبي بهذه الآية فقال له النبي ما هذا يا جبريل قال جبريل لا أدري حتى أسأل العالم فذهب فمكث ساعة ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك
المسألة الثالثة قوله (* (وأمر بالعرف) *))
فيه أربعة أقوال
الأول العرف المعروف قاله عروة
الثاني قول لا إله إلا الله
الثالث ما يعرف أنه من الدين
الرابع ما لا ينكره الناس من المحاسن التي اتفقت عليها الشرائع
المسألة الرابعة (* (وأعرض عن الجاهلين) *))
فيه قولان أحدهما أنه محكم أمر باللين
الثاني أنه منسوخ بآية القتال قاله ابن زيد
المسألة الخامسة
روى جابر بن سليم قال ركبت قعودي ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله فأنخت قعودي بباب المسجد فدلوني على رسول الله فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر فقلت السلام عليك يا رسول الله فقال وعليك السلام فقلت إنا معشر أهل البادية قوم فينا الجفاء فعلمني كلمات ينفعني الله بها
359

قال ادن منا فدنوت فقال أعد علي فأعدت فقال اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك وإن أحد سبك بما يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله
فوالذي نفسي بيده ما سببت بعده لا شاة ولا بعيرا
المسألة السادسة
في صحيح البخاري عن ابن عباس قال قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الجد بن قيس وكان من النفر الذي يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا فقال عيينة لابن أخيه يا بن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه قال سأستأذن لك
قال ابن عباس فاستأذن الجد لعيينة فأذن له عمر فلما دخل قال هيه يا بن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له العفو يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه (* (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *) وإن هذا من الجاهلين والله ما جاوزها عمر حتى تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله
المسألة السابعة في تنقيح الأقوال
أما العفو فإنه عام في متناولاته ويصح أن يراد به خذ ما خف وسهل مما تعطى فقد كان رسول الله يقبل من الصدقة التمرة والقبضة والحبة والدرهم والسمل ولا يلمز شيئا من ذلك ولا يعيبه ولقد كان يسقط من الحقوق ما يقبل الإسقاط حتى قالت عائشة في الصحيح ما انتقم رسول الله لنفسه قط
360

وأما الاحتمال فقد كان يصبر على الأذى ويحتمل الجفاء حتى قال يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر
وأما مخالفة الناس فهو كان أقدر الخلق عليها وأولاهم بها فإنه كان يلقى كل أحد بما يليق به من شيخ وعجوز وصغير وكبير وبدوي وحضري وعالم وجاهل ولقد كانت المرأة توقفه في السكة من سكك المدينة ولقد كان يقول لأخ لأنس صغير يا أبا عمير ما فعل النغير
ولقد كان يكلم الناس بلغاتهم فيقول لمن سأله أمن امبرامصيام في امسفر فيقول له ليس من امبر امصيام في امسفر
361

المسألة الثامنة في تنقيح الأقوال بالعرف
أما العرف فالمراد به ها هنا المعروف من الدين المعلوم من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال المتفق عليه في كل شريعة التي أمهاتها وأصولها الثلاث التي يقال إن جبريل نزل بها أن تصل من قطعك فلا شيء أفضل من صلة القاطع فإنه يدل على كرم النفس وشرف الحلم وخلق الصبر الذي هو مفتاح خيري الدنيا والآخرة
وفي الأثر ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها وقال أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح
والذي يبين ذلك الحديث الصحيح الذي خرجه الأئمة واللفظ للبخاري قال علي بن أبي طالب بعث النبي سرية استعمل عليها رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه فغضب فقال أليس أمركم النبي أن تطيعوني قالوا بلى قال فاجمعوا حطبا فجمعوا فقال أوقدوا لي نارا فأوقدوها فقال ادخلوها فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون فررنا إلى النبي من النار فما زالوا حتى خمدت النار وسكن غضبه فبلغ النبي فقال لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف يريد الذي يجوز في الدين موقعه ويثبت فيه حكمه
362

المسألة التاسعة الإعراض عن الجاهلين
وأما الإعراض عن الجاهلين فإنه مخصوص في الكفار الذين أمر بقتالهم عام في كل الذي يبقى بعدهم وقد قال سبحانه (* (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) *)
وقالت أسماء إن أمي قدمت علي راغبة وهي مشركة أفأصلها قال نعم صلي أمك
المسألة العاشرة
قال علماؤنا هذه الآية من ثلاث كلمات قد تضمنت قواعد الشريعة المأمورات والمنهيات حتى لم يبق فيه حسنة إلا أوضحتها ولا فضيلة إلا شرحتها ولا أكرومة إلا افتتحتها وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة
فقوله (* (خذ العفو) *) تولى بالبيان جانب اللين ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتكليف
وقوله (* (وأمر بالعرف) *) تناول جميع المأمورات والمنهيات وإنهما ما عرف حكمه واستقر في الشريعة موضعه واتفقت القلوب على علمه
وقوله (* (وأعرض عن الجاهلين) *) تناول جانب الصفح بالصبر الذي به يتأتى للعبد كل مراد في نفسه وغيره ولو شرحنا ذلك على التفصيل لكان أسفارا
الآية الخامسة والعشرون
قوله تعالى (* (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) *)
فيها ثلاث مسائل
363

المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أن النبي صلى بأصحابه فقرأ أناس من خلفه فنزلت هذه الآية (* (وإذا قرئ القرآن) *) الآية فسكت الناس خلفه وقرأ رسول الله
المسألة الثانية
روى الأئمة مالك وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال هل قرأ أحد منكم معي آنفا فقال رجل نعم يا رسول الله فقال إني أقول ما لي أنازع القرآن قال فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله فيما جهر فيه رسول الله من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله
وروى مسلم عن عمران بن حصين قال صلى رسول الله بنا صلاة الظهر أو العصر فقال وأيكم قرأ خلفي بسبح اسم ربك الأعلى فقال رجل أنا فقال رسول الله قد علمت أن بعضكم خالجنيها
وروى الترمذي وأبو داود عن عبادة بن الصامت قال صلى رسول الله الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال إني لا أراكم تقرؤون وراء إمامكم قال قلنا يا رسول الله إي والله قال فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها
364

وقد روى الناس في قراءة المأموم خلف الإمام بفاتحة الكتاب أحاديث كثيرة أعظمهم في ذلك اهتبالا الدارقطني
وقد جمع البخاري في ذلك جزءا وكان رأيه قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية وهي إحدى روايات مالك وهو اختيار الشافعي
وقد روى مالك وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله قال من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام
فقلت يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام فغمز ذراعي وقال اقرأ بها يا فارسي في نفسك فإني سمعت رسول الله يقول قال الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل قال رسول الله اقرؤوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي يقول العبد الرحمن الرحيم يقول الله أثنى علي عبدي يقول العبد مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
365

وقد اختلف في ذلك الآثار عن الصحابة والتابعين اختلافا متباينا فروي عن زيد بن أسلم أن النبي وأصحابه كانوا ينهون عن القراءة خلف الإمام وقد روي عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فقرأ قوم خلفه فقال ما لكم لا تعقلون (* (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) *) وقد قال أبو هريرة نزلت الآية في الصلاة وقيل كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت الآية في النهي عن ذلك
وروي أن فتى كان يقرأ خلف النبي فيما قرأ فيه النبي فأنزل الله الآية فيه
وقال مجاهد نزلت في خطبة الجمعة وهو قول ضعيف لأن القران فيها قليل والإنصات واجب في جميعها
وقد روي أن عبادة بن الصامت قرأ بها وسئل عن ذلك فقال لا صلاة إلا بها
وأصح منه قول جابر لا يقرأ بها خلف الإمام خرجه مالك في الموطأ وروى مسلم في صحيحه أن النبي قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا قرأ فأنصتوا وهذا نص لا مطعن فيه يعضده القرآن والسنة وقد غمزه الدارقطني بما لا يقدح فيه
المسألة الثالثة
الأحاديث في ذلك كثيرة قد أشرنا إلى بعضها وذكرنا نبذا منها والترجيح أولى ما اتبع فيها
366

والذي نرجحه وجوب القراءة في الإسرار لعموم الأخبار وأما الجهر فلا سبيل إلى القراءة فيه لثلاثة أوجه أحدها أنه عمل أهل المدينة الثاني أنه حكم القرآن قال الله سبحانه (* (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) *) وقد عضدته السنة بحديثين
أحدهما حديث عمران بن حصين قد علمت أن بعضكم خالجنيها
الثاني قوله (وإذا قرأ فأنصتوا)
الوجه الثالث في الترجيح إن القراءة مع جهر الإمام لا سبيل إليها فمتى يقرأ فإن قيل يقرأ في سكتة الإمام قلنا السكوت لا يلزم الإمام فكيف يركب فرض على ما ليس بفرض لا سيما وقد وجدنا وجها للقراءة مع الجهر وهي قراءة القلب بالتدبر والتفكر وهذا نظام القرآن والحديث وحفظ العبادة ومراعاة السنة وعمل بالترجيح والله أعلم وهو المراد بقوله تعالى (* (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) *) وهي
الآية السادسة والعشرون
فقوله (* (في نفسك) *) يعني صلاة الجهر وقوله (* (ودون الجهر من القول) *) يعني صلاة السر فإنه يسمع فيه نفسه ومن يليه قليلا بحركة اللسان
فإن قيل فقد قال بعض الشافعية إنما خرجت الآية على سبب وهو أن قوما كانوا يكثرون اللغط في قراءة رسول الله ويمنعون من استماع الأحداث لهم كما قال تعالى (* (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) *) فأمر المسلمين بالإنصات حالة أداء الوحي ليكون على خلاف حال الكفار
قلنا عنه جوابان
367

أحدهما أن هذا لم يصح سنده فلا ينفع معتمده
الثاني أن سبب الآية والحديث إذا كان خاصا لا يمنع من التعلق بظاهره إذا كان عاما مستقلا بنفسه وبالجملة فليس للبخاري ولا للشافعية كلام ينفع بعدما رجحنا به واحتججنا بمنصوصه وقد مهدنا القول في مسائل الخلاف تمهيدا يسكن كل جأش نافر
الآية السابعة والعشرون
قوله تعالى (* (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) *)
فيها أربع عشرة مسألة
المسألة الأولى
هذه الآية مرتبطة بما قبلها ومنتظمة مع ما سبقها وهي إخبار من الله تعالى عن الملائكة بأنهم في عبادتهم التي أمروا بها دائمون وعليها قائمون وبها عاملون فلا تكن من الغافلين فيما أمرت به وكلفته وهذا خطابه والمراد بذلك جميع الأمة
المسألة الثانية
هذه أول سجود القرآن وفيه خمسة عشرة سجدة
الأولى
هذه خاتمة الأعراف
الثانية
في الرعد (* (وظلالهم بالغدو والآصال) *)
الثالثة
في النحل (* (ويفعلون ما يؤمرون) *)
الرابعة
في بني إسرائيل (* (ويزيدهم خشوعا) *)
الخامسة
في مريم (* (خروا سجدا وبكيا) *)
السادسة
في أول الحج (* (يفعل ما يشاء) *)
السابعة
في آخر الحج (* (تفلحون) *)
368

الثامنة
في الفرقان (* (نفورا) *)
التاسعة
في النمل (* (رب العرش العظيم) *)
العاشرة
في تنزيل (* (وهم لا يستكبرون) *)
الحادية عشرة
في ص (* (وخر راكعا وأناب) *)
الثانية عشرة
في حم (* (إن كنتم إياه تعبدون) *)
الثالثة عشرة
في آخر النجم (* (واعبدوا) *)
الرابعة عشرة
في الانشقاق قوله (* (لا يسجدون) *)
الخامسة عشرة
خاتمة القلم
المسألة الثالثة
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال رسول الله إذا قرأ ابن آدم السجدة وسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا مكانا لجبهته ليسجد فيه
وروى أبو داود عن ابن عمر أن رسول الله قرأ عام الحج سجدة فسجد
369

الناس كلهم منهم الراكب والساجد في الأرض حتى أن الراكب يسجد على ثوبه
المسألة الرابعة
اختلف الناس في سجود التلاوة فقال مالك والشافعي ليس بواجب
وقال أبو حنيفة هو واجب وهي مسألة مشكلة عول فيها أبو حنيفة على أن مطلق الأمر بالسجود على الوجوب ولقوله أمر ابن آدم بالسجود فسجد له فله الجنة
والأمر على الوجوب لأن رسول الله كان يحافظ عليها إذا قرأها وعول علماؤنا على حديث عمر الثابت أن عمر قرأ سجدة وهو على المنبر فنزل فسجد فسجد الناس معه ثم قرأ بها في الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود فقال على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وذلك بحضرة الصحابة أجمعين من المهاجرين والأنصار فلم ينكر ذلك عليه أحد فثبت الإجماع به في ذلك ولهذا حملنا جميع قول النبي وفعله على الندب والترغيب
وقوله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة إخبار عن السجود الواجب ومواظبة النبي تدل على الاستحباب وقد استوعبنا القول فيها في مسائل الخلاف
المسألة الخامسة
لا بد فيها من الطهارة لأنها صلاة فوجبت فيها الطهارة كسجود الصلاة وكذلك التكبير مثله فقد روي في الأثر عن ابن عمر أن النبي كان إذا سجد كبر وكذلك إذا رفع كبر واختلف علماؤنا هل فيها تحليل بالسلام أم لا والصحيح أن فيها تحليلا
370

بالسلام لأنه عبادة لها تكبير فكان فيها سلام كصلاة الجنازة بل أولى لأن هذا فعل وصلاة الجنازة قول
المسألة السادسة
اختلف قول مالك في صلاتها في الأوقات المنهي عنها فإحدى الروايتين أنها تصلى فيها وبه قال الشافعي
الثانية لا تصلى وبه قال أبو حنيفة متعلق القول الأول عموم الأمر بالسجود ومتعلق القول الثاني عموم النهي عن الصلوات
والقول الثاني أقوى لأن الأمر بالسجود عام في الأوقات والنهي خاص في الأوقات والخاص يقضي على العام
وقد روي عن مالك في المدونة أنه يصليها ما لم تصفر الشمس وهذا لا وجه له عندي والله أعلم
المسألة السابعة سجدة الحج الثانية
قال الشافعي وابن وهب عنه وغيرهما هي عزيمة وقال في المدونة وغيرها إنها ليست سجود عزيمة لأنه خبر عن ركوع الصلاة وسجودها ودليلنا أن عمر سجد فيها وهو يفهم الأمر أقعد وبين قوم كانوا أفهم وأسد فبهم فاقتد
المسألة الثامنة
قال الشافعي يسجد في النمل عند قوله (* (وما يعلنون) *) عند تمام الآية التي فيها الأمر وقال مالك وأبو حنيفة يسجد عند قوله (* (العليم) *) الذي فيه تمام الكلام وهو أقوى
المسألة التاسعة سجدة ص
عند الشافعي سجدة شكر وليست بعزيمة وقد روى أبو داود والترمذي
371

وخرجه البخاري عن ابن عباس قال سجدة ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله سجدها
وقال مالك هذا قول ابن عباس وهي عزيمة لأن النبي قال الله له أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري أن النبي قرأ وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود فقال رسول الله إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود ونزل فسجد وسجدوا
المسألة العاشرة
السجود فيها عند تمام قوله (* (وخر راكعا وأناب) *) لأنه تمام الكلام وموضع الخضوع والإنابة
وقال الشافعي عند قوله (* (وحسن مآب) *) لأنه خبر عن التوبة وحسن المآبة والأول أصوب رجاء الاهتداء في الاقتداء والمغفرة عند الامتثال كما غفر لمن سبق من الأنبياء
المسألة الحادية عشرة السجود في فصلت
عند قوله (* (إن كنتم إياه تعبدون) *) لأنه انتهاء الأمر
وعند الشافعي (* (وهم لا يسأمون) *) لأنه خبر عن امتثال من أمر عند ذكر من استكبر فيكون هذا منهم والأول الأولى لأنه يمتثل الأمر ويخرج عمن استكبر
372

المسألة الثانية عشرة أما سجدة النجم
فقد روى الترمذي أن النبي قرأ والنجم فلم يسجد فيها
والصحيح ما روى العلماء الأئمة عن عبد الله أن النبي قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه فأخذ رجل من القوم كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال يكفيني هذا وقال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافرا
وروى ابن عباس أن النبي سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس فكيف يتأخر أحد عنها
المسألة الثالثة عشرة
روى الأئمة عن أبي هريرة أنه قرأ لهم (* (إذا السماء انشقت) *) فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله سجد فيها وفي (* (اقرأ باسم ربك) *)
فإن قيل فقد روى أبو داود أن النبي لم يسجد في شيء من المفصل مذ تحول إلى المدينة قلنا هذا خبر لم يصح إسناده ولو صح فليس فيه أنه قرأه ولم يسجد فيه فلعله لم يقرأ به في صلاة جماعة
المسألة الرابعة عشرة
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر (* (ألم تنزيل) *) السجدة وهل أتى على الإنسان حين من الدهر
373

سورة الأنفال
فيها خمس وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم
الآية الأول
قوله تعالى (* (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) *)
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى
في سبب نزولها
روي أن سعد بن أبي وقاص قال نزلت في ثلاث آيات النفل وبر الوالدين والثلث
وروى مصعب بن سعد عن أبيه قال إذا كان يوم بدر جئت بسيف فقلت يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين أو نحو هذا هب لي هذا السيف فقال هذا ليس لك ولا لي فقلت عسى أن يعطى هذا من لا يبلي بلائي فجاءني الرسول فقال إنك سألتني وليس لي ولقد صار لي وهو لك فنزلت (* (يسألونك عن الأنفال) *) الآية
374

قال الترمذي هو صحيح
وروى سعيد بن جبير أن سعد بن أبي وقاص ورجلا من الأنصار خرجا يتنفلان نفلا فوجدا سيفا ملقى يقال كان لأبي سعيد بن العاص فخرا عليه جميعا فقال سعد هو لي وقال الأنصاري هو لي فتنازعا في ذلك فقال الأنصاري يكون بيني وبينك رأيناه جميعا وخررنا عليه جميعا فقال لا أسلمه إليك حتى نأتي رسول الله فلما عرضا عليه القصة قال ليس لك يا سعد ولا للأنصاري ولكنه لي فنزلت (* (يسألونك عن الأنفال) *) الآية فاتق الله يا سعد والأنصاري وأصلحا ذات بينكما وأطيعا الله ورسوله يقول أسلم السيف إليه ثم نسخت بقوله (* (واعلموا أنما غنمتم) *) الآية
المسألة الثانية
النفل في اللغة هو الزيادة ومنها نفل الصلاة وهو الزيادة على فرضها وولد الولد نافلة لأنه زيادة على الولد والغنيمة نافلة لأنها زيادة فيما أحل لهذه الأمة مما كان محرما على غيرها ثبت عن النبي أنه قال أحلت لي الغنائم
وروى أبو هريرة أن النبي قال فضلت على الأنبياء بست أعطيت
375

جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون
وروى البخاري عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال قال رسول الله غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها فغزا فدنا من القرية أو قريبا من ذلك فقال للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله بجمع الغنائم فجاءت النار لتأكلها فلم تطعمها فقال إن فيكم غلولا قبليا فليبايعني من كل قبيلة رجل فلزقت يد رجل بيده فقال فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده فقال فيكم الغلول فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها فجاءت النار فأكلتها ثم أحل الله لنا الغنائم ورأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا
المسألة الرابعة
قال ابن القاسم وابن وهب عن مالك كانت بدر في سبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان
376

وروى ابن وهب أنها كانت بعد عام ونصف من الهجرة وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين
وقد سئل مالك في رواية ابن وهب عن عدة المسلمين يوم بدر فقال كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدة أصحاب طالوت
وروى أيضا ابن وهب عن مالك قال سأل رسول الله عن عدة المشركين يوم بدر كم يطعمون كل يوم فقيل له يوما عشرا ويوما تسع جزائر فقال القوم ما بين الألف إلى التسعمائة
وروى ابن القاسم عن مالك قال لما كان يوم بدر قال رسول الله أشيروا علي فقام أبو بكر فتكلم ثم قعد ثم قال أشيروا علي فقام عمر فتكلم ثم قعد فقال رسول الله أشيروا علي فقام سعد بن معاذ فقال كأنك إيانا تريد يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون لو أتيت اليمن لسللنا سيوفنا واتبعناك فقال رسول الله خذوا مصافكم
المسألة الخامسة
قال علماؤنا رحمهم الله ها هنا ثلاثة أسماء الأنفال الغنائم الفيء
فالنفل الزيادة كما بينا وتدخل فيه الغنيمة فإنها زيادة الحلال لهذه الأمة والغنيمة ما أخذ من أموال الكفار بقتال والفيء ما أخذ بغير قتال لأنه رجع إلى موضعه الذي يستحقه وهو انتفاع المؤمن به
المسألة السادسة في محل الأنفال
اختلف الناس فيها على ثلاثة أقوال
الأول محلها الخمس
377

الثاني محلها ما عاد من المشركين أو أخذ بغير حرب
الثالث رأس الغنيمة حسبما يراه الإمام
قال القاسم بن محمد قال ابن عباس كان ابن عمر إذا سئل عن شيء قال لا آمرك ولا أنهاك فكان ابن عباس يقول والله ما بعث الله محمدا إلا محللا ومحرما
قال القاسم فسلط على ابن عباس رجل يسأله عن النفل فقال ابن عباس الفرس من النفل والسلاح من النفل وأعاد عليه الرجل فقال له مثل ذلك حتى أغضبه فقال ابن عباس أتدرون ما مثل هذا مثل صنيع الذي ضربه عمر بالدرة حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه فقال الرجل أما أنت فقد انتقم الله منك لابن عمر
وقال السدي وعطاء هي ما شذ من المشركين
وعن مجاهد سئل النبي عن الخمس بعد الأربعة الأخماس فقال المهاجرون لمن يدفع هذا الخمس لم يخرج منا فنزلت (* (يسألونك عن الأنفال) *) والصحيح أنه من الخمس
كما روى في صحيح مسلم أن الإمام يعطي منه ما شاء من سلب أو غيره خلافا للشافعي ومن قال بقوله من فقهاء الأمصار فأما هذا السؤال ها هنا فإنما هو عن أصل الغنيمة التي نفل على ما أنزل الله لنا من الحلال على الأمم المعنى يسألك أصحابك يا محمد عن هذه الغنيمة التي نفلتكها قل لهم هي لله وللرسول فاتقوا الله ولا تختلفوا وأصلحوا ذات بينكم لئلا يرفع تحليلها عنكم باختلافكم
وقد روي عن ابن عباس أنه قال يوم بدر من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا فتسارع إلى ذلك الشبان وثبت الشيوخ تحت الرايات فلما فتح عليهم جاؤوا يطلبون شرطهم فقال الشيوخ لا تستأثروا به علينا كنا ردءا لكم لو انهزمتم لانحزتم إلينا فأبى الشبان وقالوا جعله رسول الله لنا فتنازعوا فأنزل الله
378

(* (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) *)
وروي أنهم اختلفوا فيها على ثلاث فرق فقال قوم هو لنا حرسنا رسول الله
وقال آخرون هو لنا اتبعنا أعداء رسول الله وقالت أخرى نحن أولى بها أخذناها فنزلت (* (يسألونك عن الأنفال) *) الآية
وروى أبو أمامة الباهلي قال سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله فقسمها رسول الله بين المسلمين على بواء أي على السواء
المسألة السابعة
قال علماؤنا فسلموا لرسول الله الأمر فيها فأنزل الله (* (واعلموا أنما غنمتم) *) الآية ثم قال رسول الله ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم فلم يكن بعد هذا أن يكون النفل من حق أحد وإنما يكون من حق رسول الله وهو الخمس والدليل عليه الحديث الصحيح عن ابن عمر خرجنا في سرية قبل نجد فأصبنا إبلا فقسمناها فبلغت سهماننا أحد عشر بعيرا ونفلنا بعيرا بعيرا فأما
المسألة الثامنة وهي سلب القتيل
فإنه من الخمس عندنا وبه قال أبو حنيفة إذا رأى ذلك الإمام لغناء في المعطى أو منفعة تجلب أو ائتلاف يرغب
وقال الشافعي هو من رأس المال وظاهر القرآن يمنع من ذلك لأنه حق المالكين
379

فأما الأخبار في ذلك فمتعارضة روي في الصحيح أن النبي قضى بسلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح وقال يوم حنين من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه فأعطى السلب لأبي قتادة بما أقام من الشهادة وقضى بالسلب أجمع لسلمة بن الأكوع يوم ذي قرد
قلنا هذه الأخبار ليس فيها أكثر من إعطاء السلب للقاتل وهل إعطاء ذلك له من رأس مال الغنيمة أو من حق النبي وهو الخمس ذلك إنما يؤخذ من دليل آخر
وقد قسم الله الغنيمة قسمة حق على الأخماس فجعل خمسها لرسوله وأربعة أخماسها لسائر المسلمين وهم الذين قاتلوا وقتلوا فهم فيها شرع سواء لاشتراكهم في السبب الذي استحقوها به والاشتراك في السبب يوجب الاشتراك في المسبب ويمنع من التفاضل في المسبب مع الاستواء في السبب هذه حكمة الشرع وحكمه وقضاء الله في خلقه وعلمه الذي أنزله عليهم
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه ما روى مسلم أن عوف بن مالك قال قتل رجل من حمير رجلا من العدو فأراد سلبه فمنعه خالد وكان واليا عليهم فأخبر عوف رسول الله فقال لخالد ما منعك أن تعطيه سلبه قال استكثرته يا رسول الله قال ادفعه إليه فلقي عوف خالدا فجره بردائه وقال هل أنجزت ما ذكرت لك عن رسول الله فسمعه رسول الله فاستغضب فقال لا
380

تعطه يا خالد هل أنتم تاركوا لي إمرتي ولو كان السلب حقا له من رأس الغنيمة لما رده رسول الله لأنها عقوبة في الأموال وذلك أمر لا يجوز بحال
وقد ثبت أن ابن المسيب قال ما كان الناس ينفلون إلا من الخمس وروي عنه أنه قال لا نفل بعد رسول الله ولم يصح
المسألة التاسعة
قال علماؤنا النفل على قسمين جائز ومكروه فالجائز بعد القتال كما قال النبي يوم حنين من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه والمكروه أن يقال قبل القتل من فعل كذا وكذا فله كذا وإنما كره هذا لأنه يكون القتال فيه للغنيمة
وقال رجل للنبي الرجل يقاتل للمغنم ويقاتل ليرى مكانه من في سبيل الله قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ويحق للرجل أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وإن نوى في ذلك الغنيمة وإنما المكروه في الحديث أن يكون مقصده المغنم خاصة
المسألة العاشرة
قال علماؤنا قوله تعالى (* (قل الأنفال لله والرسول) *))
قوله (* (لله) *) استفتاح كلام وابتداء بالحق الذي ليس وراءه مرمى الكل لله وقوله بعد ذلك (* (والرسول) *) قيل أراد به ملكا وقيل أراد به ولاية قسم وبيان
حكم
381

والأول أصح لقوله ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ' وليس يستحيل أن يملكه الله لنبيه تشريفا وتقديما بالحقيقة ويرده رسول الله تفضلا على الخليقة
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) *)
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
روى ابن عباس لما أخبر رسول الله بأبي سفيان أنه مقبل من الشام ندب المسلمين إليهم وقال ' هذه عير قريش فيها الأموال فأخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها ' فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم لأنهم لم يظنوا أن رسول الله يلقى حربا وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر لك فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه فمضى ضمضم وخرج النبي في أصحابه وأتاه الخبر عن قريش بخروجهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر فقال فأحسن وقام عمر فقال فأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون والذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد يعني مدينة الحبشة لجالدنا معك دونه
382

ثم قال الأنصار بعد أن أمض يا رسول الله لما أمرت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك فمضى رسول الله حين التقى بالمشركين ببدر فمنعوا الماء والتقوا ونصر الله النبي وأصحابه فقتل من المشركين سبعين وأسر منهم سبعين وغنم المسلمون ما كان معهم
المسألة الثانية
روى عكرمة عن ابن عباس قال قالوا للنبي حين فرغ من بدر عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس وهو في الأسرى لا يصلح هذا فقال له النبي لم قال لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك قال النبي صدقت وعلم ذلك العباس من تحدث أصحاب النبي بما كان من شأن بدر فسمع ذلك في أثناء الحديث
المسألة الثالثة
خروج النبي ليتلقى العير بالأموال دليل على جواز النفر للغنيمة لأنه كسب حلال وما جاء في الحديث ' إن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله دون من يقاتل للغنيمة يراد به إذا كان ذلك قصده وحده ليس للدين فيه حظ
المسألة الرابعة
قال ابن القاسم وابن وهب عن مالك في قول الله تعالى (* (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) *) فقال مالك قال رسول الله لأهل قليب بدر من المشركين قد وجدنا ما
383

وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ' قالوا يا رسول الله إنهم أموات أفيسمعون فقال رسول الله إنهم ليسمعون ما أقول قال قتادة أحياهم الله له
وهذه مسألة بديعة بيناها في كتاب المشكلين وحققنا أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف وإنما هو تبدل حال وانتقال من دار إلى دار والروح إن كان جسما فينفصل بذاته عن الجسد وإن كان عرضا فلا بد من جزء من الجسد يقوم به يفارق الجسد معه ولعله عجب الذنب الذي ورد في الحديث الصحيح إن كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب والروح هي السامعة الواعية العالمة القابلة إلا أن الباري لا يخلق الإدراك إلا كما يشاء فلا يخلق إدراك الآخرة لأهل الدنيا ولا يخلق إدراك الدنيا لأهل الآخرة فإذا أراد سبحانه أسمع أهل الآخرة حال أهل الدنيا
وقد ورد في الحديث أن الميت إذا انصرف عنه أهله وإنه ليسمع خفق نعالهم إذ أتاه ملكان الحديث وقد ثبت أن النبي قيل له في أهل بدر أتكلم قوما قد جيفوا فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنه لم يؤذن لهم في الجواب
384

المسألة الخامسة
قال مالك بلغني أن جبريل عليه السلام قال للنبي كيف أهل بدر فيكم قال خيارنا فقال جبريل إنهم كذلك فينا
وفي هذا من الفقه أن شرف المخلوقات ليس بالذوات وإنما هو بالأفعال وللملائكة أفعالها الشريفة من المواظبة على التسبيح الدائم ولنا نحن أفعالنا بالإخلاص في الطاعة
وتتفاضل الطاعات بتفضيل الشرع لها وأفضلها الجهاد وأفضل الجهاد يوم بدر فأنجز الله لرسوله وعده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده وصرع صناديد المشركين وانتقم منهم للمؤمنين وشفى صدر رسوله وصدورهم من غيظهم وفي ذلك يقول حسان
(عرفت ديار زينب بالكثيب
* كخط الوحي في الورق القشيب) (تداولها الرياح وكل جون
* من الوسمي منهمر سكوب) (فأمسى ربعها خلقا وأمست
* يبابا بعد ساكنها الحبيب) (فدع عنك التذكر كل يوم
* ورو حرارة الصدر الكئيب) (وخبر بالذي لا عيب فيه
* بصدق غير أخبار الكذوب) (بما صنع المليك غداة بدر
* لنا في المشركين من النصيب) (غداة كأن جمعهم حراء
* بدت أركانه جنح الغروب) (فلاقيناهم منا بجمع
* كأسد الغاب مردان وشيب) (أمام محمد قد وازروه
* على الأعداء في لفح الحروب)
385

(بأيديهم صوارم مرهفات
* وكل مجرب خاظي الكعوب) (بنو الأوس الغطارف وازرتها
* بنو النجار في الدين الصليب) (فغادرنا أبا جهل صريعا
* وعتبة قد تركنا بالجبوب) (وشيبة قد تركنا في رجال
* ذوي حسب إذا نسبوا حسيب) (يناديهم رسول الله لما
* قذفناهم كباكب في القليب) (ألم تجدوا كلامي كان حقا
* وأمر الله يأخذ بالقلوب) (فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا
* صدقت وكنت ذا رأي مصيب))
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (زحفا) *))
يعني متدانين والتزاحف هو التداني والتقارب يقول إذا تدانيتم وتعاينتم فلا تفروا عنهم ولا تعطوهم أدباركم حرم الله ذلك على المؤمنين حين فرض عليهم الجهاد وقتل الكفار لعنادهم لدين الله وإبايتهم عن قول لا إله إلا الله فأما المقدار الذي يكون هذا معه فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
المسألة الثانية
اختلف الناس هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة
فروي عن أبي سعيد الخدري أن ذلك يوم بدر لم يكن لهم فئة إلا رسول الله وبه قال نافع والحسن وقتادة ويزيد بن أبي حبيب والضحاك
386

ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة وإنما شذ من شذ بخصوص ذلك يوم بدر بقوله (* (ومن يولهم يومئذ دبره) *) فظن قوم أن ذلك إشارة إلى يوم بدر وليس به وإنما ذلك إشارة إلى يوم الزحف والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب وذهاب اليوم بما فيه وقد ثبت عن النبي حسبما قدمناه في الحديث الصحيح أن الكبائر كذا وعد الفرار يوم الزحف وهذا نص في المسألة يرفع الخلاف ويبين الحكم وقد نبهنا على النكتة التي وقع الإشكال فيها لمن وقع باختصاصه بيوم بدر
المسألة الثالثة
أما يوم بدر مع النبي فلم يجز لهم أن يفروا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ولا يسلموه لأعدائه حتى لا يبقى منهم على الأرض عين تطرف وأما سائر الجيوش وأيام القتال فلها أحكام تستقصى في مواضعها إن شاء الله تعالى
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم) *) هي من توابع ما تقدم وروابطه فإن السورة هي سورة بدر كلها وكلها مدنية إلا سبع آيات فإنها نزلت بمكة وهي قوله (* (وإذ يمكر بك الذين كفروا) *) إلى آخر الآيات السبع
وقد روى ابن وهب قال أخبرني مالك في قوله (* (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) *) هذا في حصب رسول الله المشركين يوم حنين قال مالك ولم يبق في ذلك اليوم أحد إلا وقد أصابه ذلك وذكر ما قالت له أم سليم
وكذلك روى عنه ابن القاسم أيضا وقد روى عن محمد بن إسحاق أنها كانت في
387

يوم بدر لما استوت الصفوف ونزل جبريل آخذا بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع فأخذ رسول الله حثية من الحصباء فاستقبل بها قريشا فقال شاهت الوجوه ثم نفخهم بها وأمر أصحابه فقال شدوا فكانت الهزيمة وقتل الله من قتل من صناديد قريش وأسر من أسر من أشرافهم
وقال ابن المسيب كان هذا يوم أحد حين رمى أبي بن خلف الحربة فكسر ضلعا من أضلاعه فرجع أبي بن خلف إلى أصحابه ثقيلا فأحفظوه حين ولوا قافلين يقولون لا بأس فقال والله لو كانت بالناس لقتلتهم ألم يقل أنا أقتلك
وقول ابن إسحاق أصح في ذلك لأن السورة بدرية
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) *)
هذه الآية بيان شاف وإيضاح كاف في أن القول لا يكون إلا بالعمل وأنه لا معنى لقول المؤمن سمعت وأطعت ما لم يظهر أثر قوله بامتثال فعله فأما إذا قصر في الأوامر فلم يأتها واعتمد النواهي باقتحامها فأي سمع عنده أو أي طاعة له
388

وإنما يكون حينئذ بمنزلة المنافق الذي يظهر الإيمان ويسر الكفر وذلك هو المراد بقوله (* (ولا تكونوا كالذين) *) الآية يعني بذلك المنافقين فالخبرة تكشف التلبيس والفعل يظهر كمائن النفوس
الآية السادسة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى الاستجابة
هي الإجابة وقد يكون استفعل بمعنى أفعل حسبما بيناه في غير موضع وقد قال شاعر العرب
(وداع دعا يا من يجيب إلى الندى
* فلم يستجبه عند ذاك مجيب))
المسألة الثانية قوله تعالى (* (لما يحييكم) *))
ليس يريد به حياة المشاهدة والأجسام وإنما يريد به حياة المعاني والقلوب بالإفهام بدعائه إياهم إلى الإسلام والقرآن والحق والجهاد والطاعة والألفة وقيل المراد به لما يحييكم في الآخرة الحياة الدائمة في النعيم المقيم
المسألة الثالثة
ثبت في صحيح الحديث أن النبي دعا أبيا وهو يصلي فلم يجبه أبي فخفف الصلاة ثم انصرف إلى النبي فقال له ما منعك إذ دعوتك أن
389

تجيبني قال يا رسول الله كنت أصلي قال له أفلم تجد فيما أوحي إلي (* (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) *) قال بلى يا رسول الله ولا أعود
فقال الشافعي هذا دليل على أن الفعل للفرض أو القول الفرض إذا أتي به في الصلاة لا يبطل الصلاة لأمر النبي لأبي بالإجابة وإن كان في الصلاة
وقد بينا في غير موضع أن هذه الآية دليل على وجوب إجابة النبي وتقديمها على الصلاة وهل تبقى الصلاة معها أم تبطل مسألة أخرى وقد قررناه على وجهه في مسائل الخلاف
الآية السابعة
قوله تعالى (* (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في تأويل الفتنة
فيها ثلاثة أقوال
الأول الفتنة المناكير نهى الناس أن يقروها بين أظهرهم فيعمهم العذاب قاله ابن عباس
الثاني أنها فتنة الأموال والأولاد كما قال (* (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) *) رواه عبد الله بن مسعود وقد روى حذيفة في الحديث الصحيح حين سأله عمر عن الفتنة فقال له حذيفة فتنة الرجل في جاره وماله وأهله يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
390

الثالث أنها البلاء الذي يبتلى به المرء قاله الحسن
المسألة الثانية المختار عندنا
أنها فتنة المناكير بالسكوت عليها أو التراضي بها وكل ذلك مهلك وهو كان داء الأمم السالفة قال الله سبحانه (* (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) *)
وقد قدمنا من تفسير قوله (* (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) *) أن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله
بعذاب من عنده
وثبت أن أم سلمة قالت للنبي أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث
وقال عمر إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحلوا العقوبة كلهم
وتحقيق القول في ذلك أن الله قال (* (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *) وقال (* (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *) فقد أخبرنا ربنا أن كل نفس بما كسبت رهينة وأنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد وإنما تتعلق كل عقوبة بصاحب الذنب بيد أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره فإذا سكت عنه فكلهم عاص هذا بفعله وهذا برضاه به وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل فانتظم الذنب بالعقوبة ولم يتعد موضعه وهذا نفيس لمن تأمله فإن قيل وهي
391

المسألة الثالثة فما معنى هذه الآية
قلنا هي آية بديعة ومعناها على الناس مرتبك وقد بيناها في قبس الموطأ وفي ملجئة المتفقهين لبابه أن قوله (* (اتقوا) *) أمر وقوله (* (لا تصيبن الذين ظلموا) *) نهي ولا يصلح أن يكون النهي جواب الأمر فيبقى الأمر بغير جواب فيشكل الخطاب
والدليل على أن قوله (* (لا تصيبن الذين ظلموا) *) نهي دخول النون الثقيلة فيه وهي لا تدخل إلا على فعل النهي أو جواب القسم
ولا تظنوا أن إشكال هذه الآية حدث بين المتأخرين بل هو أمر سالف عند المتقدمين ولذلك قرأها قوم واتقوا فتنة أن تصيب الذين ظلموا منكم خاصة وقرأها آخرون واتقوا فتنة لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وهكذا يروى فيها عن أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وكان يقول بن مسعود إذا قرأها ما منكم من أحد إلا وله فتنة في أهله وماله
وكان الزبير يقول كنا نظنها لغيرنا فإذا بها قد أصابتنا وكذلك كان يرى ابن عباس
وأما فتنة الرجل في أهله فلا تتعداه ولا تأخذ بالعقوبة سواه وإنما المعنى في الآية ما ذكرناه فأما اعتراضهم بالإعراب وهي
المسألة الرابعة
فقد أوضحناها في الرسالة الملجئة وقلنا فيها ثلاثة أقوال
الأول أنه أمر ثم نهي كل واحد مستقل بنفسه كما تقول قم غدا لا تتكلم اليوم
الثاني الإعراب اتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم
فأما الأول فضعيف لأن قوله (* (واتقوا فتنة) *) ليس بكلام مستقل فيصح أن يتركب عليه غيره
392

وأما الثاني وهو جواب الطبري فلا يشبه منزلته في العلم لأن مجازه لا تصيب الذين ظلموا ولم يرد كذلك
الثالث قال لنا شيخنا أبو عبد الله النحوي هذا نهي فيه معنى جواب الأمر كما يقال لا تزال من الدابة لا تطرحنك وقد جاء مثله في القرآن (* (ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) *) وهذا منتهى الاختصار وقد طولناه في مكانه
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله تعالى (* (إن تتقوا الله) *))
وقد تقدم القول في التقوى وحقيقتها وأنها فعلى من وقى يقي وقاية وواقية أبدلت الواو تاء لغة وذلك بأن يجعل بينه وبين مخالفة الله ومعصيته وقاية وحجابا ولها فيه محال
المحل الأول العين
رائد القلب وربيئته فما تطلع عليه أرسلته إليه فهو يفصل منه الجائز مما لا يجوز وإذا جللتها بحجاب التقوى لم ترسل إلى القلب إلا ما يجوز فيستريح من شغب ذلك الإلقاء وربما أصابت هذا المعنى الشعراء كقولهم
(وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا
* لقلبك يوما أسلمتك المناظر) (رأيت الذي لا كله أنت قادر
* عليه ولا عن بعضه أنت صابر)
وهذا وإن كان أخذ طرفا من المعنى فإن شيخنا عطاء المقدسي شيخ الفقهاء والصوفية ببيت المقدس استوفى المعنى في بيتين أنشدناهما
393

(إذا لمت عيني اللتين أضرتا
* بجسمي وقلبي قالتا لم القلبا) (فإن لمت قلبي قال عيناك جرتا
* علي الرزايا ثم لي تجعل الذنبا)
وقد قال النبي إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر واليدان تزنيان وزناهما البطش
المحل الثاني الأذن
وهي رائد عظيم في قبيل الأصوات يلقى إلى القلب منها ما يغبيه وقد كانت البواطل فيه أكثر من الحقائق فعلى العبد أن يمتنع من الخوض في الباطل أولا وينزه نفسه عن مجالسة أهله وإذا سمع القول اتبع أحسنه ووعى أسلمه وصان عن غيره أذنه أو قذفه عن قلبه إن وصل إليه
المحل الثالث اللسان
وفيه نيف على عشرين آفة وخصلة واحدة وهي الصدق وبها ينتفي عنه جميع الخصال الذميمة وعن بدنه جميع الأفعال القبيحة فإذا حجبه بالصدق فقد كملت له التقوى ونال المرتبة القصوى
المحل الرابع اليد
وهي للبطش والتناول وفيها معاص منها الغصب والسرقة ومحاولة الزنا والإذاية للحيوان والناس وحجابها الكف إلا عما أراد الله
المحل الخامس الرجل
وهي للمشي إلى ما يحل وإلى ما يجب وحجابها الكف عما لا يجوز
المحل السادس القلب
وهو البحر الخضم وفي القلب الفوائد الدينية والآفات المهلكة والتقوى فيه حجاب يسلخ الآفات عنه وشحنه بالنية الخالصة وشرحه بالتوحيد وخلع الكبر والعجب بمعرفته بأوله وآخره والتبري من الحسد والتحفظ من شوائب الشرك الظاهر والخفي بمراعاة غير الله في الأعمال والركون إلى الدنيا
394

بالغفلة عن المال فإذا انتهى العبد إلى هذا المقام مهد له في قبوله مكانا ورزقه فيما يريده من الخير إمكانا وجعل له بين الحق والباطل والطاعة والمعصية فرقانا وهي
المسألة الثانية في قسم العمل في هذه الآية والإشارة إليه
أن يمتثل ما أمر ويجتنب كيف استطاع ما عنه نهي لقوله إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه
وقد قال ابن وهب سألت مالكا عن قوله (* (يجعل لكم فرقانا) *) قال مخرجا ثم قرأ (* (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) *) إلى (* (فهو حسبه) *)
وقال ابن القاسم سألت مالكا عن قوله (* (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) *) قال يعني مخرجا
وقال أشهب سألت مالكا عنها فذكر معنى ما تقدم
وقال ابن إسحاق يجعل لكم فصلا بين الحق والباطل وهذه كلها أبواب العمل في القلوب والأبدان
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قد بينا أنها مكية وسبب نزولها والمراد بها ما روي أن قريشا اجتمعت في دار
395

الندوة وقالت إن أمر محمد قد طال علينا فماذا ترون فأخذوا في كل جانب من القول فقال قائل نرى أن يقيد ويحبس
وقال آخر نرى أن ينفى ويخرج
وقال آخر نرى أن يأخذ من كل قبيلة رجل سيفا فيضربونه ضربة واحدة فلا يقدر بنو هاشم على مطالبة القبائل وكان القائل هذا أبا جهل فاتفقوا عليه وجاء جبريل النبي فأعلمه بذلك وأذن له في الخروج فأمر النبي علي بن أبي طالب بأن يضطجع على فراشه ويتسجى ببرده الحضرمي وخرج النبي عليهم حتى وضع التراب على رؤوسهم ولم يعلموا به وأخذ مع أبي بكر إلى الغار فلما أصبحوا نظروا إلى علي في موضعه وقد فاتهم ووجدوا التراب على رؤوسهم ولم يعلموا تحت خزي وذلة فامتن الله على رسوله بذلك من نعمته عليه وسلامته من مكرهم بما أظهر عليهم من نوم علي على السرير كأنه النبي ومن وضع التراب على رؤوسهم وهذا كله مكر من فعله جزاء على مكرهم والله خير الماكرين
المسألة الثانية
قام علي على فراش النبي فداء له وخرج أبو بكر مع النبي مؤنسا له وقد روي أن عليا قال له النبي إنه لن يخلص إليك وهذا تأمين يقين ويجب على الخلق أجمعين أن يقوا بأنفسهم النبي وأن يهلكوا أجمعين في نجاته فلن يؤمن أحد حتى يكون النبي أحب إليه من نفسه وأهله والخلق أجمعين ومن وقى مسلما بنفسه فليس له جزاء إلا الجنة وذلك جائز
والدليل عليه وجوب مدافعة المطالب والصائل على أخيك المسلم
396

الآية العاشرة
قوله تعالى (* (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
ثبت عن ابن شماسة المهري قال حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار فجعل ابنه يقول ما يبكيك يا أبتاه أما بشرك رسول الله بكذا أما بشرك رسول الله بكذا قال فأقبل بوجهه فقال إن أفضل ما بعد الشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أني كنت على أطباق ثلاث لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله مني ولا أحب إلي أن يكون قد استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي فقلت ابسط يمينك لأبايعك فبسط يمينه قال فقبضت يدي قال ' ما لك يا عمرو ' قال قلت أردت أن أشترط قال تشترط ماذا قلت أن يغفر لي قال أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما قبله وما كان أحد أحب إلي من رسول الله ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه ولو مت على ذلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي
397

المسألة الثانية
قال علماؤنا هذه لطيفة من الله سبحانه من بها على الخليقة وذلك أن الكفار يقتحمون الكفر والجرائم ويرتكبون المعاصي ويرتكبون المآثم فلو كان ذلك يوجب مؤاخذتهم لما استدركوا أبدا توبة ولا نالتهم مغفرة فيسر الله عليهم قبول التوبة عند الإنابة وبذل المغفرة بالإسلام وهدم جميع ما تقدم ليكون ذلك أقرب إلى دخولهم في الدين وأدعى إلى قبولهم كلمة الإسلام وتأليفا على الملة وترغيبا في الشريعة فإنهم لو علموا أنهم يؤاخذون لما أنابوا ولا أسلموا
فقد روى مسلم أن رجلا كان فيمن كان قبلكم قتل تسعة وتسعين نفسا سأل هل له توبة فجاء عالما فسأله فقال لا توبة لك فقتله وكمل به مائة ثم جاء عالما آخر فسأله فقال ومن يسد عليك باب التوبة ائت الأرض المقدسة فمشى إليها فحضره الأجل في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله أن قيسوا إلى أي الأرضين هو أقرب أرضه التي خرج منها أم الأرض المقدسة فألفوه أقرب إلى الأرض المقدسة بشبر فقبضته ملائكة الرحمة
وفي رواية فقاسموه فوجدوه قد دنا بصدره فانظروا إلى قول العالم له لا توبة له فلما علم أنه قد أيأسه قتله فعل اليائس من الرحمة والتنفيرمفسدة للخليقة والتيسير مصلحة لهم
وقد قدمنا عن ابن عباس أنه كان إذا جاء إليه رجل لم يقتل فسأله هل للقاتل توبة فيقول له لا توبة له تخويفا وتحذيرا فإذا جاءه من قتل فسأله هل لقاتل من توبة قال له لك توبة تيسيرا وتأليفا
المسألة الثالثة
قال ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك في هذه الآية من طلق في الشرك ثم أسلم فلا طلاق له وكذلك من حلف فأسلم فلا حنث عليه وكذلك من وجب عليه مثل هذه الأشياء ثم أسلم فذلك مغفور له
398

فأما من افترى على مسلم ثم أسلم أو سرق ثم أسلم أقيم عليه الحد للفرية والسرقة ولو زنى وأسلم أو اغتصب مسلمة ثم أسلم لسقط عنه الحد
وروى أشهب عن مالك إنما يعني عز وجل ما قد مضى قبل الإسلام من مال أو دم أو شيء وهذا هو الصواب لما قدمنا من عموم قوله (* (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *) وقوله ' الإسلام يهدم ما كان قبله ' وما بيناه من المعنى في التيسير وعدم التنفير
المسألة الرابعة
إذا أسلم المرتد وقد فاتته صلوات وأصاب جنايات وأتلف أموالا فإن الشافعي قال يلزمه كل حق لله وللآدمي
وقال أبو حنيفة ما كان لله يسقط وما كان للآدمي يلزمه وقال به علماؤنا ودليلهم عموم قوله (* (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *) وقول النبي الإسلام يهدم ما كان قبله ' وهذا عام في الحقوق التي تتعلق بالله كلها
فإن قيل المراد بذلك الكفر الأصلي بدليل أن حقوق الآدميين تلزم المرتد فوجب أن تلزمه حقوق الله
فالجواب أنه لا يجوز اعتبار حقوق الآدميين بحقوق الله ولا حقوق الله بحقوق الآدميين في الإيجاب والإسقاط لأن حق الله يستغنى عنه وحق الآدميين يفتقر إليه ألا ترى أن حقوق الله لا تجب على الصبي وتلزمه حقوق الآدميين وفي ذلك تمهيد طويل بيناه في تخليص التلخيص فلينظر هنالك
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير) *)
399

يحتمل أن يريد به وقاتلوهم حتى لا يكون كفر ويحتمل أن يكون وقاتلوهم حتى لا يفتن أحد عن دينه وكلاهما يجوز أن يكون مرادا وهذه الغاية لا تتحقق إلا بنزول عيسى وقد بينا ذلك في سورة البقرة ومسائل الخلاف
وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال خرج علينا ابن عمر فرجونا أن يحدثنا حديثا حسنا قال فبادرنا إليه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن حدثنا عن القتال في الفتنة والله يقول (* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) *) فقال هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمك إنما كان محمد يقاتل المشركين وكان الدخول في دينهم فتنة وليس بقتالكم على الملك
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير) *)
فيها ثلاث عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله (* (واعلموا أنما غنمتم) *))
قد بينا القول في الغنيمة والفيء فأما الأحكاميون فقالوا إن الغنيمة من الأموال المنقولة والفيء الأرضون قاله مجاهد
وقيل إن الغنيمة ما أخذ عنوة والفيء ما أخذ على صلح قاله الشافعي
وقيل إن الفيء والغنيمة بمعنى واحد
وأما قول مجاهد فصار إليه لأن الله ذكر الفيء في القرى وذكر الغنيمة مطلقا ففصل الفرق هكذا
وأما قول الشافعي فبناه على العرف وأن الغنيمة تنطلق في العرف على الأموال القهرية وينطلق الفيء عرفا على ما أخذ من غير قهر وليس الأمر كذلك بل الفيء عبارة عن كل ما صار للمسلمين من الأموال بقهر وبغير قهر
400

وحقيقته أن الله خلق الخلق ليعبدوه وجعل الأموال لهم ليستعينوا بها على ما يرضيه وربما صارت في أيدي أهل الباطل فإذا صارت في أيدي أهل الحق فقد صرفها عن طريق الإرادة إلى طريق الأمر والعبادة
المسألة الثانية
إذا عرفتم أن الغنيمة هي ما أخذ من أموال الكفار فإن الله قد حكم فيها بحكمه وأنفذ فيها سابق علمه فجعل خمسها للخمسة الأسماء وأبقى سائرها لمن غنمها ونحن نسميها ثم نعطف على الواجب فيها فنقول
أما سهم الله ففيه قولان
أحدهما أنه وسهم الرسول واحد وقوله لله استفتاح كلام فلله الدنيا والآخرة والخلق أجمع
الثاني روي عن أبي العالية الرياحي قال كان رسول الله يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة يكون أربعة أخماسها لمن شهدها ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم
وأما سهم الرسول فقيل هو استفتاح كلام مثل قوله لله ليس لله منه شيء ولا للرسول ويقسم الخمس على أربعة أسهم سهم لبني هاشم ولبني المطلب سهم ولليتامى سهم والمساكين سهم ولابن السبيل سهم قاله ابن عباس
وقيل هو للرسول ففي كيفية كونه له أربعة أقوال فقيل لقرابته إرثا وقيل للخليفة بعده وقيل هو يلحق بالأسهم الأربع وقيل هو مصروف في الكراع والسلاح وقيل إنه مصروف في مصالح المسلمين العامة قاله الشافعي
401

وأما سهم ذوي القربى فقيل هم قريش وقيل بنو هاشم وبنو المطلب وهو قول الشافعي
وقيل ذهب ذلك بموت النبي ويكون لقرابة الإمام بعده وقيل هو للإمام يضعه حيث يشاء
وأما سهم اليتامى فإن اليتيم من فيه ثلاثة أوصاف موت الأب وعدم البلوغ ووجود الإسلام أصلا فيه أو تبعا لأحد أبويه وحاجته إلى الرفد
وأما المسكين فهو المحتاج وأما ابن السبيل فهو الذي يأخذه الطريق محتاجا وإن كان غنيا في بلده
المسألة الثالثة في التنقيح
أما قول أبي العالية فليس من النظر في المرتبة العالية فإن الأرض كلها لله ملكا وخلقا وهي لعباده رزقا وقسما وأما الرسول فهو ممن أنعم عليه وملكه ولكنه ثبت في الصحيح عنه قال ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم وهذا يعضد قول من قال إنه يرجع في مصالح العامة
وأما قول من قال إنه يرجع لقرابته إرثا فإنه باطل بإجماع من الصحابة فإن فاطمة رضي الله عنها أرسلت تطلب ميراثها من أبي بكر فقال لها سمعت رسول الله يقول نحن لا نورث ما تركناه صدقة
402

وقد بينا ذلك في مسائل الأصول وسائر الأقوال دعاوى لا برهان عليها
وأما سهم ذوي القربى فأصحها أنهم بنو هاشم وبنو المطلب وسائر الأقسام صحيحة في الأقوال والتوجيه
وقد روي عن ابن القاسم وأشهب وعبد الملك عن مالك أن الفيء والخمس يجعلان في بيت المال ويعطي الإمام قرابة رسول الله منهما
وروى ابن القاسم عن مالك أن الفيء والخمس واحد وروى داود بن سعيد عن مالك عن عمه عن عمر بن عبد العزيز أن القرابة لا يعطون منه إلا بالفقر وهي
المسألة الرابعة
قاله مالك وبه أقول وقد قال أبو حنيفة لا يعطى القرابة إلا أن يكونوا فقراء فزاد الفقر على النص والزيادة عنده على النص نسخ ولا يجوز نسخ القرآن إلا بقرآن مثله أو
بخبر متواتر
فأما مالك فاحتج بأن ذلك جعل لهم عوضا عن الصدقة
وقد قال عمر بن عبد العزيز قوله (* (فأن لله خمسه وللرسول) *) يعني في سبيل الله وهذا هو الصحيح كله
والدليل عليه ما روي في الصحيح أن النبي بعث سرية قبل نجد فأصابوا في سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا
وثبت عنه عليه السلام أنه قال في أسارى بدر لو كان المطعم بن عدي حيا وكلمني في هؤلاء الثني لتركتهم له وثبت عنه أنه رد سبي هوازن وفيه الخمس
403

وثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال آثر النبي يوم حنين أناسا في الغنيمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مائة من الإبل وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل والله إن هذه القسمة ما عدل فيها أو ما أريد بها وجه الله فقلت والله لأخبرن النبي فأخبرته فقال يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر
وفي الصحيح إنما أنا قاسم بعثت أن أقسم بينكم فالله حاكم والنبي قاسم والحق للخلق
وصح عن علي رضي الله عنه أنه قال كان لي شارف من نصيبي يوم بدر وأعطاني رسول الله شارفا من الخمس
وروى مسلم وغيره عن عبد المطلب بن ربيعة قال اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا والله لو بعثنا هذين فقالا لي وللفضل بن عباس اذهبا إلى رسول الله فكلماه يؤمنكما على هذه الصدقة فأديا ما يؤدي الناس وأصيبا مما يصيب الناس فبينما هما في ذلك إذ دخل علي بن أبي طالب فوقف عليهما فذكروا ذلك له فقال علي لا تفعلا فوالله ما هو بفاعل فابتدأه ربيعة بن الحارث فقال والله ما هذا إلا نفاسة منك علينا فوالله لقد نلت صهر رسول الله فما نفسناه عليك فقال علي أنا أبو حسن القوم أرسلوهما فانطلقا واضطجع علي فلما صلى رسول الله الظهر سبقناه إلى الحجرة فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا ثم قال أخرجا ما تصرران ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ عند زينب بنت جحش قال فتزايلنا الكلام ثم تكلم أحدنا فقال يا رسول الله أنت أبر الناس
404

وأوصل الناس وقد بلغنا النكاح فجئناك لتأمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي إليك ما يؤدي الناس ونصيب كما يصيبون قال فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه قال وجعلت زينب تلمع إلينا من وراء الحجاب ألا تكلماه ثم قال إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ادعوا لي محمية وكان على الخمس ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب قال فجاءاه فقال لمحمية أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل بن عباس يعني لي فأنكحه
وقال لنوفل بن الحارث أنكح هذا الغلام بنتك يعني لي فأنكحني وقال لمحمية أصدق عنهما من مال الخمس كذا وكذا وفي رواية أنه قال لهما إن الصدقة أوساخ الناس ولكن انظروا إذا أخذت بحلقة الجنة هل أوثر عليكم أحدا
وقد قال أصحاب الشافعي خمس الخمس للرسول والأربعة أخماس من الخمس للأربعة أصناف المسمين معه وله سهم كسائر سهام الغانمين إذا حضر الغنيمة وله سهم الصفي يصطفي سيفا أو خادما أو دابة
فأما سهم القتال فبكونه أشرف المقاتلين وأما سهم الصفي فمنصوص له في السير منه ذو الفقار وصفية وغير ذلك
وأما خمس الخمس فبحق التقسيم في الآية
قال الإمام الفاضل أبو بكر بن العربي رضي الله عنه قد بينا الرد عليه وأوضحنا أن الله إنما ذكر نفسه تشريفا لهذا المكتسب وأما رسوله فقد قال إنما أنا قاسم والله المعطي وقال ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم
405

وقد أعطى جميعه وبعضه وأعطى منه للمؤلفة قلوبهم وليسوا ممن ذكر الله في التقسيم ورده على المجاهدين بأعيانهم تارة أخرى فدل على أن ذكر هذه الأقسام بيان مصرف ومحل لا بيان استحقاق وملك وهذا ما لا جواب عنه لمنصف
وأما الصفي فحق في حياته وقد انقطع بعد موته إلا عند أبي ثور فإنه رآه باقيا للإمام فجعله مجعل سهم النبي وهذا ضعيف والحكمة فيه أن الجاهلية كانوا يرون للرئيس في الغنيمة ما قال الشاعر
* لك المرباع منها والصفايا
* وحكمك والنشيطة والفضول)
فكان يأخذ بغير شرع ولا دين الربع من الغنيمة ويصطفي منها ثم يتحكم بعد الصفي في أي شيء أراد وكان ما شذ منها له وما فضل من خرثي ومتاع فأحكم الله الدين بقوله (* (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) *) وأبقى سهم الصفي لرسوله وأسقط حكم الجاهلية ومن أحسن من الله حكما أو أوسع منه علما
المسألة الخامسة
ادعى المقصرون من أصحاب الشافعي أن خمس الخمس كان لرسول الله يصرفه في كفاية أولاده ونسائه ويدخر من ذلك قوت سنته ويصرف الباقي إلى الكراع والسلاح وهذا فاسد من وجهين
أحدهما أن الدليل قد تقدم على أن الخمس كله لرسوله بقوله ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم
الثاني ما ثبت في الصحيح عن مالك بن أوس بن الحدثان قال قال بينا أنا جالس عند عمر أتاه حاجبه يرفأ فقال هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف
406

والزبير وسعد بن أبي وقاص يستأذنون قال نعم فأذن لهم فدخلوا فسلموا وجلسوا ثم جلس يرفأ يسيرا ثم قال هل لك في علي وعباس قال نعم فأذن لهما فدخلا فسلما وجلسا فقال العباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من بني النضير فقال الرهط عثمان وأصحابه يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر
فقال عمر يا تيد كم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله قال لا نورث ما تركنا صدقة يريد رسول الله نفسه
قال الرهط قد قال ذلك فأقبل عمر على علي وعباس فقال أنشدكما بالله تعلمان أن رسول الله قد قال ذلك؟ قالا نعم قال عمر فإني أحدثكم عن هذا الأمر إن الله قد خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره قال (* (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء) *)
فكانت هذه خالصة لرسول الله والله ما اختارها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله
فهذا حديث مالك بن أوس قال فيه إن بني النضير كانت لرسول الله ينفق منها على أهله نفقة سنتهم
وفي حديث عائشة في الصحيح ترك رسول الله خيبر وفدك وصدقته بالمدينة فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال هما صدقة رسول الله كانت لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرها إلى من ولي الأمر بعده
فقد ثبت أن خيبر وفدك وبني النضير كانت لقوت رسول الله لنفسه وعياله
407

سنة ولحقوقه ونوائبه التي تعروه لا خمس الخمس الذي ادعاه أصحاب الشافعي وهذا نص لا غبار عليه ولا كلام لأحد فيه
المسألة السادسة
قال تعالى في هذه الآية (* (ولذي القربى) *) فنظر قوم إلى أنها قربى قريش لقوله في هذه الآية الأخرى (* (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) *) قال إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم
ولما نزلت (* (وأنذر عشيرتك الأقربين) *) ورهطك منهم المخلصين دعا رسول الله فاجتمعوا فعم وخص وقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطم أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك من الله شيئا
فهذه قراباته التي دعا على العموم والخصوص حين دعي إلى أن يدعوهم لكن ثبت في الصحيح أن عثمان قال له يا رسول الله أعطيت بني هاشم وبني المطلب وتركتنا وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة فقال إن بني عبد المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام
أما قوله وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة فلأن هاشما والمطلب وعبد شمس بنو عبد مناف
408

وقوله إن بني عبد المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إشارة إلى أن الألفة في الجاهلية كانت من بني هاشم وبني المطلب في الشعب وخرجت عنهم بنو عبد شمس إلى المباينة فاتصلت القرابة الجاهلية بالمودة فانتظما وهذا يعضد أن بيان الله للأصناف بيان للمصرف وليس بيانا للمستحق
المسألة السابعة
فأما الأربعة الأخماس فهي ملك للغانمين من غير خلاف بين الأمة بيد أن الإمام إن رأى أن يمن على الأسرى بالإطلاق فعل وتبطل حقوق الغانمين فيهم لقوله لو كان المطعم بن عدي حيا وكلمني في هؤلاء الثني لتركتهم له وله أن ينفل جميعهم ويبطل حق الغانمين بالقتال من غير خلاف وذلك بحكم ما يرى أنه نظر للمسلمين وأصلح لهم وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف
المسألة الثامنة
أطلق الله القول في الأربعة الأخماس للغانمين تضمينا وبينه النبي ففاضل بين الفارس والراجل واختلف الناس في ذلك على ثلاثة أقوال
الأول للفارس سهمان وللراجل سهم قاله أبو حنيفة
الثاني للفرس سهمان وللفارس سهم
الثالث يجتهد في ذلك الإمام فينفذ ما رأى منه وقد رويت الروايتان عن النبي في حديثين
والصحيح أن يعطى الفارس سهمين ويعطى للراجل سهم واحد وذلك لكثرة العناء وعظم المنفعة فجعل الله التقدير في الغنيمة بقدر العناء في أخذها حكمة منه سبحانه فيها
المسألة التاسعة
ولا يفاصل بين الفارس والراجل بأكثر من فرس واحد وبه قال الشافعي
409

وقال أبو حنيفة يسهم لأكثر من فرس واحد لأنه أكثر غناء وأعظم منفعة وهذا فاسد لوجهين
أحدهما أن الرواية لم ترد عن النبي بأن يسهم لأكثر من فرس واحد
الثاني أن المفاضلة في أصل الغناء والمنفعة قد روعيت فأما زيادتها فزيادة تفاصيلها فليس لها أصل في الشريعة يرجع إليه ولا ينضبط ذلك فيها لأن القتال لا يكون إلا على
فرس واحد فالزيادة عليه لا تؤثر في الحال وإنما يظهر تأثيرها في المال في بعض الأحوال فلاحظ في الاعتبار لذلك
المسألة العاشرة
لا حق في الغنائم للحشوة كالأجراء والصناع الذين يصحبون الجيوش للمعاش لأنهم لم يقصدوا قتالا ولا خرجوا مجاهدين
وقيل يسهم لهم لقول النبي الغنيمة لمن شهد الواقعة وهذا منه إنما جاء لبيان خروج من لم يحضر القتال عن الاستهام وإنما لمن باشره وخرج إليه
وقد بين الله سبحانه أحوال المقاتلين وأهل المعاش من المسلمين وجعلهم فرقتين متميزتين لكل واحدة حالها وحكمها فقال (* (علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله) *) إلا أن هؤلاء إذا قاتلوا لم يضرهم كونهم على معاشهم لأن سبب الاستحقاق قد وجد منهم
وتفصيل المذهب أن من قاتل أسهم له إلا أن يكون أجيرا للخدمة فقال ابن القصار لا سهم له حينئذ وإن قاتل والأول أصح
المسألة الحادية عشرة
العبد لا سهم له لأنه ليس ممن خوطب بالقتال لاستغراق بدنه بحقوق السيد
410

فأما الصبي فلا سهم له أيضا إلا أن يكون مراهقا للبلوغ مطيقا للقتال فيسهم له عندنا
وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يسهم له لأنه لم يبلغ حد التكليف فلا يكون من أهل الجهاد فلا يكون من أهل القتال وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال عرضت على رسول الله يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني فقال جماعة منهم الشافعي إنما ذلك حد البلوغ وقاله بعض أصحابنا منهم ابن وهب وابن حبيب
والصحيح أن النبي نظر في ذلك إلى إطاقتة للقتال فأما البلوغ فلا أثر له فيه وقد أمر في بني قريظة أن يقتل منهم من أنبت ويخلى من لم ينبت وهذه مراعاة لإطاقة القتال أيضا لا للبلوغ على ما بيناه في مسائل الخلاف
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) *))
هذا خطاب للمسلمين من غير خلاف لا مدخل فيه للكفار ولا للنساء وإنما خوطب به من قاتل الكفار وهم المسلمون وخوطب به من يقاتل من المسلمين دون من لا يقاتل
فأما المرأة فلا سهم لها فيه وإن قاتلت إلا عند ابن حبيب وهذا ضعيف لما ثبت في الصحيح إن النساء كن يحذين من الغنيمة ولا يسهم لهن فإن القتال لم يفرض عليهن والسهم لم يقض به لهن
وأما العبيد وأهل الذمة فإذا خرجوا لصوصا وأخذوا مال أهل الحرب فهم لهم ولا يخمس لأنه لم يدخل في الخطاب أحد منهم
وقال سحنون لا يخمس ما ينوب العبد وقال ابن القاسم يخمس لأنه يجوز أن
411

يأذن له سيده في القتال ويقاتل عن الدين بخلاف الكافر فأما إذا كانوا في جملة الجيش ففيه أربعة أقوال
الأول أنه لا يسهم لعبد ولا للكافر يكون في الجيش قاله مالك وابن القاسم
زاد ابن حبيب وهو القول الثاني ولا نصيب لهم
الثالث قال سحنون إن قدر المسلمين على الغنيمة دونهم لم يسهم لهم وإن لم يقدروا على الغنيمة إلا بأهل الذمة أسهم لهم وكذلك العبيد مع الأحرار
الرابع قال أشهب في كتاب محمد إذا خرج العبد والذمي من الجيش وغنم فالغنيمة للجيش دونهم
المسألة الثالثة عشرة
إذا ثبت أن الغنيمة لمن حضر فأما من غاب فلا شيء له
والمغيب على ثلاثة أوجه إما بمرض أو بضلال أو بأسر
فأما المريض فلا شيء له إلا أن يكون له رأي وقال المتأخرون من علمائنا إن مرض بعد القتال أسهم له وإن مرض بعد الإرادة وقبل القتال ففيه قولان والأصح وجوب ذلك له
واختلف في الضال على قولين
وقال أشهب يسهم للأسير وإن كان في الحديد
والصحيح أن لا سهم له لأنه ملك يستحق بالقتال فمن غاب خاب ومن حضر مريضا كمن لم يحضر
وأما الغائب المطلق فلم يسهم رسول الله قط لغائب إلا يوم خيبر قسم لأهل الحديبية من حضر منهم ومن غاب لقوله تعالى (* (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها) *) وقسم يوم بدر لعثمان لبقائه على ابنته وقسم لسعيد بن زيد وطلحة وكانا غائبين
فأما أهل الحديبية فكان ميعادا من الله اختص بأولئك النفر فلا يشاركهم فيه غيرهم
وأما عثمان وسعيد وطلحة فيحتمل أن يكون أسهم لهم من الخمس لأن الأمة أجمعت على أنه من بقي لعذر فلا شيء له بيد أن محمد بن المواز قال إذا أرسل
412

الإمام أحدا في مصلحة الجيش فإنه يشرك من غنم بسهمه قاله ابن وهب وابن نافع عن مالك وقيل عنه أيضا لا شيء له وهذا أحسن فإن الإمام يرضخ له ولا يعطى من
الغنيمة لعدم السبب الذي يستحق به عنده والله أعلم هذا لباب ما في الكتاب الكبير فمن تعذر عليه شيء فلينظره هنالك إن شاء الله
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله (* (إذا لقيتم فئة فاثبتوا) *))
ظاهر في اللقاء ظاهر في الأمر بالثبات مجمل في الفئتين التي تلقى منا والتي تكون من مخالفينا بين هذا الإجمال التي بعدها في تعديد المقاتلين وقد أمر الله ها هنا بالثبات عند قتالهم كما نهى في الآية قبلها عن الفرار عنهم فالتقى الأمر والنهي على شفا من الحكم بالوقوف للعدو والتجلد له
وثبت عن النبي أن رجلا قال للبراء أفررتم عن رسول الله يا أبا عمارة قال لا والله ما ولى رسول الله ولكن ولى سرعان من الناس فلقيتهم هوازن بالنبل ورسول الله على بغلته وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بلجامها ورسول الله يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
413

قال ابن عمر لقد رأيتنا يوم حنين وإن الفئتين لموليتان وما مع رسول الله مائة رجل وكلا الحديثين صحيح
المسألة الثانية قوله (* (واذكروا الله) *))
فيه ثلاث احتمالات
الأول اذكروا الله عند جزع قلوبكم فإن ذكره يثبت
الثاني اثبتوا بقلوبكم واذكروه بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان فأمر بذكر الله حتى يثبت القلب على اليقين ويثبت اللسان على الذكر
الثالث اذكروا ما عندكم من وعد الله لكم في ابتياعه أنفسكم منكم ومثامنته لكم
وكلها مراد وأقواها أوسطها فإن ذلك إنما يكون عن قوة المعرفة ونفاذ القريحة واتقاد البصيرة وهي الشجاعة المحمودة في الناس ولم يكن فيها أحد أقوى من الصديق رضي الله عنه فإنه كان أشجع الخليقة بعد رسول الله وأمضاهم عزيمة وأنفذهم قريحة وأنورهم بصيرة وأصدقهم فراسة وأصحهم رأيا وأثبتهم جأشا وأصفاهم إيمانا وأشرحهم صدرا وأسلمهم قلبا
414

والدليل عليه ظهور ذلك المقام في مقامات ستة
المقام الأول أن رسول الله مات ولم تكن مصيبة أعظم منها ولا تكون أبدا عنها تفرعت مصائبنا ومن أجلها فسدت أحوالنا فاختلفت الصحابة فأما علي فاستخفى وأما عثمان فبهت وأما عمر فاختلط وقال ما مات رسول الله وإنما واعده الله كما واعد موسى وليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي أناس وأرجلهم وكان أبو بكر غائبا بمنزله بالسنح فجاء فدخل على النبي في بيت عائشة وهو ميت مسجى بثوبه فكشف عن وجهه وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها وخرج فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ (* (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) *)
المقام الثاني لما توفي رسول الله واختلف الناس أين يدفن فقال القوم يدفن بمكة
وقال آخرون ببيت المقدس وقال آخرون بالمدينة فقال أبو بكر سمعت رسول الله يقول ما دفن قط نبي إلا حيث يموت
المقام الثالث لما توفي رسول الله أرسلت فاطمة إلى أبي بكر الصديق تقول له لو مت ألم تكن ابنتك ترثك قال نعم قالت له فأعطني ميراثي من رسول الله فقال أبو بكر سمعت رسول الله يقول لا نورث ما تركناه صدقة فتذكر ذلك جميع الصحابة وعلمه عمر وعثمان وعبد الرحمن وطلحة وسعد وسعيد وأقر به علي والعباس
415

المقام الرابع لما مات رسول الله ارتد العرب وانقاض الإسلام وتزلزلت الأفئدة وماج الناس فارتاع الصحابة فقال عمر وغيره لأبي بكر خذ منهم الصلاة ودع الزكاة حتى يتمكن الدين ويسكن جأش المسلمين فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه
المقام الخامس قالت الصحابة له يا خليفة رسول الله ابق جيش أسامة فإن من حولك قد اختلف عليه فإن أرسلت الجيش إلى الشام لم تأمن على نفسك ولا على من معك بالمدينة فقال والله لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء أهل المدينة ما رددت جيشا أنفذه رسول الله فقالوا له فمع من تقاتلهم قال وحدي حتى تنفرد سالفتي
المقام السادس وهو ضنك الحال ومأزق الاختلال وذلك أن رسول الله لما توفي اضطرب الأمر وماج الناس ومرج قولهم وتشوفوا إلى رأس يرجع إليه تدبيرهم واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ولهم الهجرة وفيهم الدوحة والمهاجرون عليهم نزل وانتدب الشيطان ليزيغ قلوب فريق منهم فسول للأنصار أن يعقدوا لرجل منهم الأمر فجاء المهاجرون فاجتمعوا إلى أبي بكر وقالوا نرسل إليهم قال أبو بكر لا ألا نأتيهم في موضعهم فنوزع في ذلك فصرم وتقدم واتبعته المهاجرون حتى جاء الأنصار في مكانهم وتقاولوا فقالت الأنصار في كلامها منا أمير ومنكم أمير فتصدر أبو بكر بحقه وتكلم على مقتضى الدين ووفقه وقال يا معشر الأنصار قد علمتم أنا رهط رسول الله وعترته الأدنون وأصل العرب وقطب الناس وقد قال النبي الأئمة من قريش إلى أن تقوم الساعة
416

وقد سمانا الله في كتابه الصادقين حين قال (* (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم
الصادقون) *) وسماكم المفلحين فقال (* (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) *) وأمركم الله أن تكونوا معنا حيث كنا فقال (* (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *)
وقال لكم النبي سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض وقال لنا في آخر خطبة خطبها أوصيكم بالأنصار خيرا أن تقبلوا من محسنهم وتتجاوزوا عن مسيئهم ولو كان لكم في الأمر شيء ما رأيتم أثرة ولا وصى بكم
فلما سمعوا ذلك من علمه ووعوه من قوله تذكروا الحق فانقادوا له والتزموا حكمه فبادر عمر إلى أبي عبيدة وقال له يا أبا عبيدة امدد يدك أبايعك فقال أبو عبيدة ما سمعت منك تهة في الإسلام قبلها أتبايعني وأبو بكر فيكم فقال له عمر امدد يدك أبايعك يا أبا بكر فمد أبو بكر يده وبايعه الناس وصار الحق في نصابه ودخل الدين من بابه
417

ولو هدوا لهذه الفرقة الأدبية التاريخية لما كانوا عن سبيل الحق جائرين وبحقيقته جاهلين ولكن الله ابتلاهم بقراءة كتب من الأدب والتاريخ قد تولاها جهال وضلال فقالوا فعل علي وقال علي ولا يقع علي من أبي بكر إلا نقطة من بحر أو لقطة في قفر لقد استقام الدين وعلي عنه في حجر وقد كان في حياة رسول الله أحد رجاله وفارسا من فرسانه ووليا من أوليائه وقريبا من أقربائه فلما استأثر الله برسوله وانفرد بنفسه لم يقم بالأمر ولا قعد وذلك أمر قضاه الله بالحق وقدره بالصدق وأنفذه بالحكمة والحكم وما وجد المسلمون أحدا ثبت على الدين وقرر ولاته في الأقطار وأنفذ الجيوش إلى الأمصار وقاتل على الحق وقدم عليهم غير خير الخلق الصديق فمهد الدين واستتب به أمر المسلمين والحمد لله رب العالمين
المسألة الثالثة قوله (* (وأطيعوا الله ورسوله) *))
وهذه الوصية هي العمدة التي يكون معها النصر ويظهر بها الحق ويسلم معها القلب وتستمر معها على الاستقامة الجوارح وذلك بأن يكون عمل المرء كله بالطاعة في امتثال الأمر واجتناب النهي فإنما يقاتل المسلمون بأعمالهم لا بأعدادهم وباعتقادهم لا بأمدادهم فلقد فتح الله الفتوح على قوم كانت حلية سيوفهم إلا الغلابي ولذلك قال إنما تنصرون بضعفائكم إشارة إلى أن الطاقة في الطاعة والمنة في الهداية
المسألة الرابعة قوله (* (ولا تنازعوا فتفشلوا) *))
وهذا أصل عظيم في المعقول والمشروع وذلك أن الله خلق القوة ليظهر بها الأفعال وقدرته سبحانه واحدة تعم المقدورات وقدر الخلق حادثة متعددة تتعلق بالمقدورات على اختلاف أنواعها وأجرى الله العادة بأن القدر إذا كثرت على رأي قوم
418

أو بقيت على رأي آخرين والأول أصح حسبما بيناه في الأصول ظهر المقدور بالنسبة إلى القدرة إن كان كثيرا فكثيرا أو قليلا فقليلا وكذلك تظهر المفعولات بحسب ما يلقي الله في القلوب من الطمأنينة فإذا ائتلفت القلوب على الأمر استتب وجوده واستمر مريره وإذا تخلخل القلب قصر عن النظر وضعفت الحواس عن القبول والائتلاف طمأنينة للنفس وقوة للقلب والاختلاف إضعاف له فتضعف الحواس فتقعد عن المطلوب فيفوت الغرض وذلك قوله (* (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) *) وكنى بالريح عن اطراد الأمر ومضائه بحكم استمرار القوة فيه والعزيمة عليه وأتبع ذلك بالأمر بالصبر الذي يبلغ العبد به إلى كل أمر متعذر بوعده الصادق في أنه مع الصابرين
الآية الرابعة عشرة
قوله (* (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (فإما تثقفنهم) *) يعني تصادفهم وتلقاهم يقال ثقفته أثقفته ثقفا إذا وجدته وفلان ثقف لقف أي سريع الوجود لما يحاول من القول وامرأة ثقاف هكذا قال أهل اللغة وهو عندي بمعنى الحبس ومنه رجل ثقف أي يقيد الأمور بمعرفته
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فشرد بهم من خلفهم) *))
أي افعل بهم فعلا من العقوبة يتفرق به من وراءهم ومنه شرد البعير والدابة إذا فارق صاحبه ومألفه ومرعاه وهذا أحد الأقسام الخمسة التي للإمام في الأسرى من المن والفداء والاسترقاق والجزية والقتل وقد مهدناها في مسائل الخلاف ويأتي ها هنا وفي سورة محمد عليه السلام وهذا يعتضد بالآية التاسعة عشرة (* (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) *) على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
419

الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
نزلت في بني قريظة حين أبدت من التحزب مع قريش ونقض العهد مع رسول الله
المسألة الثانية
إن قيل كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة والخوف ظن لا يقين معه فكيف يسقط يقين العهد بظن الخيانة فعنه جوابان
أحدهما أن الخوف ها هنا بمعنى اليقين كما يأتي الرجاء بمعنى العلم كقوله (* (لا ترجون لله وقارا) *)
الثاني إنه إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت دلائلها وجب نبذ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة وجاز إسقاط اليقين ها هنا بالظن للضرورة وإذا كان العهد قد وقع فهذا الشرط عادة وإن لم يصرح به لفظا إذ لا يمكن أكثر من هذا
المسألة الثالثة (* (فانبذ إليهم على سواء) *))
أي على مهل قاله الوليد بن مسلم وقيل على عدل معناه بالتقدم إليهم والإنذار لهم وهكذا يجب للإمام أن يفعل اليوم في كلا وجهي العقد أولا والنبذ على السواء ثانيا
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) *)
420

فيها تسع مسائل
المسألة الأولى
أمر الله سبحانه وتعالى بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد في تقدمه التقوى فإن الله تعالى لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في الوجوه وحفنة من تراب كما فعل رسول الله ولكنه أراد أن يبلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ فأمر بإعداد القوى والآلة في فنون الحرب التي تكون لنا عدة وعليهم قوة ووعد على الصبر والتقوى بأمداد الملائكة العليا
المسألة الثانية
روى الطبري وغيره عن عقبة بن عامر قال قرأ رسول الله على المنبر (* (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) *) فقال ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ثلاثا
وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع قال مر النبي على نفر من أسلم ينتضلون بالسهام فقال النبي ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا وأنا مع بني فلان قال فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال رسول الله ما لكم لا ترمون قالوا وكيف نرمي وأنت معهم فقال رسول الله ارموا وأنا معكم كلكم
زاد الحاكم في رواية فلقد رموا عامة يومهم ذلك ثم تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضا
421

وروى البخاري عن علي قال ما رأيت رسول الله يفدي رجلا بعد سعد سمعته يقول ارم فداك أبي وأمي
وروى الترمذي وأبو داود والنسائي عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله يقول إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله وفي رواية والممد به فارموا واركبوا ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ليس من اللهو ثلاث تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة كفرها وقد شاهدت القتال مرارا فلم أر في الآلة أنجع من السهم ولا أسرع منفعة منه
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ومن رباط الخيل) *))
الرباط هو حبس النفس في سبيل الله حراسة لثغور أو ملازمة للأعداء وقد تقدم بيان شيء منه في سورة آل عمران
وقد روى البخاري وغيره عن سهل بن سعد أنه قال ' رباط يوم في سبيل الله
422

خير من الدنيا وما فيها وموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها والروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما فيها
وروى الترمذي عن فضالة بن عبيد عن رسول الله قال كل ميت يختم على عمله إلا الذي يموت مرابطا في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر
المسألة الرابعة وأما رباط الخيل
فهو فضل عظيم ومنزلة شريفة
وروى الأئمة عن أبي هريرة أن رسول الله قال الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي هي عليه وزر فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء لأهل الإسلام فهي عليه وزر وأما الذي هي عليه ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في ظهورها فهي عليه ستر وأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب الله له عدد ما أكلت حسنات وكتب له أرواثها وأوبالها حسنات ولا يقطع طوالها فتستن شرفا أو شرفين إلا كتب الله له ذلك حسنات ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات
423

وروى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال رأيت رسول الله يلوي ناصية فرس بأصبعيه وهو يقول الخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة
وثبت عن أنس أنه قال لم يكن شيء أحب إلى رسول الله بعد النساء من الخيل ' خرجه النسائي
المسألة الخامسة
المستحب من رباط الخيل الإناث قبل الذكور
قاله عكرمة وجماعة وهذا صحيح فإن الأنثى بطنها كنز وظهرها عز وفرس جبريل أنثى
المسألة السادسة
يستحب من الخيل ما روى أبو وهب الجشمي وكانت له صحبة قال قال رسول الله عليكم بكل كميت أغر محجل أو أدهم أغر محجل أو أشقر أغر محجل
424

خرجه أبو داود والنسائي
وروى الترمذي عن أبي قتادة أن النبي قال خير الخيل الأدهم الأقرح المحجل الأرثم ثم الأقرح المحجل طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الهيئة
المسألة السابعة
روى مسلم والنسائي أنه يكره الشكال من الخيل
وثبت عن النبي من رواية عبد الله بن عمر أنه قال إنما الشؤم في المرأة والفرس والدار وقد بينا تحقيق ذلك في شرح الحديث
المسألة الثامنة
قوله (* (ترهبون به عدو الله وعدوكم) *))
يعني تخيفون بذلك أعداء الله وأعداءكم من اليهود وقريش وكفار العرب
425

(* (وآخرين من دونهم) *) يعني فارس والروم
وقد روي عن النبي أنه قال أما فارس فنطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها وأما الروم ذوات القرون فكلما هلك قرن خلفه آخر إلى يوم القيامة
المسألة التاسعة قوله (* (ومن رباط الخيل) *))
عام في الخيل كلها وأجودها وأعظمها أجرا
وقد قال ابن القاسم وابن عبد الحكم عن مالك قال الله (* (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) *) فأرى البراذين من الخيل إذا أجازها الوالي وكذلك قال سعيد بن المسيب
الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) *)
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى السلم
بفتح السين وكسرها وإسكان اللام وبفتح السين واللام وبزيادة الألف أيضا هو الصلح وقد يكون السلام بالألف واللام من التسليم وقد تقدم
المسألة الثانية في ذلك ثلاثة أقوال
الأول أنها منسوخة بقوله (* (فاقتلوا المشركين) *) ونحوه
الثاني إن دعوك إلى الصلح فأجبهم قاله ابن زيد والسدي
الثالث إن جنحوا إلى الإسلام فاجنح لها قاله ابن إسحاق قال مجاهد وعنى به قريظة لأن الجزية تقبل منهم فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء
426

المسألة الثالثة
أما قول من قال إنها منسوخة بقوله (* (فاقتلوا المشركين) *) فدعوى فإن شروط النسخ معدومة فيها كما بيناه في موضعه وأما من قال إن دعوك إلى الصلح فأجبهم فإن ذلك يختلف الجواب فيه وقد قال الله (* (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) *)
فإذا كان المسلمون على عزة وفي قوة ومنعة ومقانب عديدة وعدة شديدة
(فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا
* وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم)
وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به أو ضر يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه وأن يجيبوا إذا دعوا إليه وقد صالح النبي أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم وقد وادع الضمري وقد صالح أكيدر دومة وأهل نجران وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة وبالوجوه التي شرحناها عاملة
المسألة الرابعة عقد الصلح ليس بلازم للمسلمين وإنما هو جائز باتفاقهم أجمعين
إذ يجوز من غير خلاف للإمام أن يبعث إليهم فيقول نبذت إليكم عهدكم فخذوا مني حذركم وهذا عندي إذا كانوا هم الذين طلبوه فإن طلبه المسلمون لمدة لم يجز تركه قبلها إلا باتفاق
المسألة الخامسة ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو
والأصل في ذلك موادعة النبي لعيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب على أن يعطيه نصف تمر المدينة فقال له السعدان يا رسول الله إن كان هذا الأمر
427

من قبل الله فامض له وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فسمع وطاعة وإن كان هذا الرأي والمكيدة فأعلمنا به
فقال النبي إنما هو الرأي والمكيدة لأني رأيت العرب قد رمتكم بقوس واحدة فأردت أن أدفعها عنكم إلى يوم
فقال السعدان إنا كنا كفار وما طمعوا منها بتمرة إلا بشراء أو بقرى فإذا أكرمنا الله بك فلا نعطيهم إلا السيف وشقا الصحيفة التي كانت كتبت
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) *)
فيها ست مسائل
المسألة الأولى قوله (* (حرض) *) أي أكد الدعاء وواظب عليه يقال حارض على الأمر وواظب بالظاء المعجمة وواكب بالصاد غير المعجمة بالكاف إذا أكد فيه ولازمه
المسألة الثانية القتال
هو الصد عن الشيء بما يؤدي إلى القتل
المسألة الثالثة قوله (* (إن يكن منكم عشرون صابرون) *) الآية
قال قوم كان هذا يوم بدر ثم نسخ وهذا خطأ من قائله لأن المسلمين كانوا يوم بدر ثلاثمائة ونيفا والكفار كانوا تسعمائة ونيفا فكان للواحد ثلاثة وأما هذه المقابلة وهي الواحد بالعشرة فلم ينقل أن المسلمين صافوا المشركين عليها قط
428

ولكن الباري فرض ذلك عليهم أولا وعلله بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه وهو الثواب وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه ثم نسخ ذلك قال ابن عباس كان هذا ثم نسخ بعد ذلك بمدة طويلة وإن كانت إلى جنبها
المسألة الرابعة قوله (* (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) *))
أما التخفيف فهو حط الثقل
وأما قوله (* (وعلم أن فيكم ضعفا) *) فمعنى تعلق العلم بالآن وإن كان الباري لم يزل عالما ليس لعلمه أول ولكن وجهه أن الباري يعلم الشيء قبل أن يكون وهو عالم الغيب وهو به عالم إذا كان بذلك العلم الأول فإنه عالم الشهادة وبعد الشيء فيكون به عالما بذلك العلم بعد عدمه ويتعلق علمه الواحد الذي لا أول له بالمعلومات على اختلافها وتغير أحوالها وعلمه لا يختلف ولا يتغير
وقد ضربنا لذلك مثالا يستروح إليه الناظر وهو أن الواحد منا يعلم اليوم أن الشمس تطلع غدا ثم يراها طالعة ثم يراها غاربة ولكل واحدة من هذه الأحوال علم مجدد لما يتعلق بهذه الأحوال الثلاثة ولو قدرنا بقاء العلم الأول لكان واحدا يتعلق بها وعلم الباري واجب الأولية واجب البقاء يستحيل عليه التغير فانتظمت المسألة وتمكنت بها والحمد لله المعرفة
المسألة الخامسة
فلما خفف عنا أوجب على الرجل الثبات لرجلين وهكذا ما تزايدت النسبة الواحدة باثنين فإنه يتقدم إليهما ويتقدمان إليه وكل واحد منهما يحذره على نفسه فيهجم على الواحد فيطعنه فإذا قتله بقي واحد بواحد وإن اقتتلا فقد حصل دم واحد بواحد وبقي الزائد لغوا وهذا إنما يكون مع الصبر والله مع الصابرين
وقد روى ابن وهب عن مالك في الرجل يلقى عشرة قال واسع له أن ينصرف إلى معسكره إن لم تكن له قوة على قتالهم
429

وهذا دليل على أنه يجوز له أن يثبت معهم وهي
المسألة السادسة
وقد قال قوم لا يقتحم الواحد على العشرة ولا القليل على الكثير لأن في ذلك إلقاء اليد إلى التهلكة
وقد بينا بطلان ذلك في سورة البقرة قال أشهب قال مالك قال الله (* (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) *) فكان كل رجل باثنين
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
قال ابن عباس حتى يثخن في الأرض وذلك يوم بدر والمسلمون قليل فلما كثروا قال الله (* (فإما منا بعد وإما فداء) *) فخيرهم الله تعالى وهكذا قال كثير من المفسرين بعده
وعن عبد الله قال لما كان يوم بدر وجئ بالأسرى قال رسول الله ما تقولون في هؤلاء الأسرى فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم
قال عمر يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم واضرب أعناقهم
وقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم نارا
فقال له العباس قطعت رحمك
فسكت رسول الله فلم يجبهم ثم دخل فقال ناس يأخذ بقول أبي بكر
وقال ناس يأخذ بقول عمر وقال ناس يأخذ بقول عبد الله بن رواحة
430

ثم خرج عليهم رسول الله فقال إن الله ليلين قلوب قوم حتى تكون ألين من اللين ويشد قلوب قوم حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال (* (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) *) ومثل عيسى حين قال (* (إن تعذبهم فإنهم عبادك) *) الآية ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال (* (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) *) ومثل موسى إذ قال (* (ربنا اطمس على أموالهم) *) الآية ثم قال رسول الله أنتم اليوم عالة فلا يفلتن رجل منهم إلا بفداء أو ضربة عنق
فقال عبد الله يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت النبي فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله إلا سهيل بن بيضاء
رواه الترمذي مختصرا عن أقوال أبي بكر وعمر وابن رواحة ورواه مسلم عن عمر ابن الخطاب قال رسول الله لما أسروا الأسرى لأبي بكر وعمر ما ترون قال أبو بكر يا نبي الله هم بنوا العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام
فقال رسول الله ما ترى يا بن الخطاب قلت لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكنني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها
فهوي رسول الله ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت
فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال رسول الله أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من رسول الله
431

فأنزل الله (* (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) *)
إلى قوله (* (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) *) فأحل الله الغنيمة لهم وأنزل الله ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا يعني الفداء والله يريد الآخرة يعني إعزاز الدين وأهله وإذلال الكفر وأهله
المسألة الثانية
روى عبيدة السلماني عن علي أن جبريل أتى رسول الله يوم بدر فخيره بين أن يقرب الأسارى فيضرب أعناقهم أو يقبلوا منهم الفداء ويقتل منكم في العام المقبل بعدتهم فقال رسول الله هذا جبريل يخبركم أن تقدموا الأسارى فتضربوا أعناقهم أو تقبلوا منهم الفداء ويستشهد منكم في العام المقبل بعدتهم فقالوا يا رسول الله بل نأخذ الفداء فنقوى على عدونا ويقتل منا في العام المقبل بعدتهم ففعلوا
المسألة الثالثة
قال ابن وهب وابن القاسم عن مالك كان ببدر أسارى مشركون فأنزل الله ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض وكانوا يومئذ مشركين ففادوا ورجعوا ولو كانوا مسلمين لأنابوا ولم يرجعوا وكان عدة من قتل أربعة وأربعين رجلا ومثلهم أسرى وكان الشهداء قليلا
وقال أبو عمرو بن العلاء إن القتلى كانوا سبعين والأسرى كذلك وكذلك قال
432

ابن عباس وابن المسيب ويشهد له قوله (* (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها) *)
وأنشد أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك (فأقام بالعطن المعطن منهم
* سبعون عتبة منهم والأسود)
وإنما قال مالك وكانوا مشركين ولو كانوا مسلمين ل أقاموا ولم يرجعوا لأن المفسرين رووا أن العباس قال للنبي إني مسلم
وفي رواية لهم إن الأسرى قالوا للنبي آمنا بك وبما جئت به ولننصحن لك على قومنا فنزلت (* (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) *) قال العباس افتديت بأربعين أوقية وقد آتاني الله أربعين عبدا وإني لأرجو المغفرة وهذا كله ضعفه مالك واحتج على إبطاله بما ذكر من رجوعهم إلى موضعهم وزيادة عليه أنهم غزوه يوم أحد
المسألة الرابعة
قال بعضهم يدل قوله (* (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) *) على تكليف الجهاد لسائر الأنبياء
قلنا كان الجهاد واجبا على أنبياء قبل محمد لكن لم يكن لهم أسرى ولا غنيمة
ومعنى قوله (* (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) *) ما كان لك يا محمد أن يكون لك أسرى حتى يغلظ قتلك في الأرض وتثبت هيبتك في النفوس
الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) *)
433

فيها سبع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى أبو هريرة وغيره قال رسول الله غزا نبي من الأنبياء فقال لأصحابه لا يتبعني رجل بنى دارا ولم يسكنها أو تزوج امرأة ولم يبن بها أو له حاجة في الرجوع قال فلقي العدو عند غيبوبة الشمس فقال اللهم إنها مأمورة وإني مأمور فاحبسها حتى تقضي بيني وبينهم فحبسها الله عليه فجمعوا الغنائم فلم تأكلها النار
قال وكانوا إذا غنموا غنيمة بعث الله عليها نارا فأكلتها فقال لهم نبيهم إنكم غللتم فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه فلزقت يد رجل منهم بيده فقال له إن أصحابك قد غلوا فأتني بهم فليبايعوني فلزقت يد رجلين أو ثلاثة منهم بيده فقال لهما إنكما قد غللتما فقالا أجل قد غللنا صورة رأس بقرة من ذهب فجاءا بها فطرحت في الغنائم فبعث الله عليها النار فأكلتها فقال رسول الله إن الله أطعمنا الغنائم رحمة رحمنا بها وتخفيفا خفف عنا لما علم من ضعفنا
قال الإمام رضي الله عنه قد بينا في غير موضع وجه هذه النعمة وفائدة ما فيها من حكمة وأن الله جعل رزق نبيه محمد وأمته من أفضل وجوه الكسب وهي جهة القهر والاستعلاء
وقد روى أبو هريرة عن النبي أنه قال لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس من قبلكم كانت تنزل نار من السماء فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم فأنزل الله (* (لولا كتاب من الله سبق) *) إلى آخر الآيتين فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا
434

المسألة الثانية
اختلف الناس في كتاب الله السابق على ثلاثة أقوال
الأول سبق من الله ألا يعذب قوما حتى يتقدم إليهم
الثاني سبق منه ألا يعذبهم ومحمد فيهم
الثالث سبق منه إحلال الغنائم لهم ولكنهم استعجلوا قبل الإحلال وهذا كله ممكن صحيح لكن أقواه ما سبق من إحلال الغنيمة وقد كانوا غنموا أول غنيمة في الإسلام حين أسل النبي عبد الله بن جحش في رجب مقفله من بدر الأولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد إلى نخلة ما بين مكة والطائف فيرصد بها قريشا فمضى ومضى أصحابه معه حتى نزلوا بنخلة فمرت عليهم عير لقريش تحمل زيتا وأدما وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي فقتل عمرو وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسرى حتى قدموا على رسول الله وعزل عبد الله لرسول الله خمس الغنيمة وقسم سائرها بين أصحابه وذلك قبل أن يفرض الله لرسوله الخمس فأكلوا الغنيمة ونزل بعد ذلك فرض الغنيمة كما كان فعله عبد الله بن جحش من الخمس لرسول الله والأربعة الأخماس للغانمين
والذي ثبت من ذلك أكلهم الغنيمة التي غنموا وإحلال ما أخذ لهم والنبي ساكت عن ذلك مجيز له فكان وحيا بسكوته وإمضائه
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (لولا كتاب من الله سبق) *))
في إحلال الغنيمة لعذبتم بما اقتحمتم فيها مما ليس لكم اقتحامه إلا بشرع فكان هذا دليلا على أن العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراما مما هو في علم الله حلال إنه لا عقوبة عليه كالصائم إذا قال هذا يوم نوبي فأفطر الآن أو هذا يوم حيضي فأفطر
435

ففعلا ذلك وكأن النوب والحيض الموجبان للفطر ففي مشهور المذهب فيه الكفارة وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لا كفارة عليه وهي الرواية الأخرى
ولنا في إسقاط الكفارة عمدة فهو أن حرمة اليوم ساقطة عند الله فصادف الهتك محلا لا حرمة له في علم الله فكان بمنزلة ما لو قصد وطء امرأة قد زفت إليه وهو يعتقد أنها ليست بزوجه فإذا هي زوجه
وتعلق من أوجب الكفارة بأن طروء الإباحة لا ينتصب عذرا في عقوبة التحريم عند الهتك كما لو وطء امرأة ثم نكحها وهذا لا يلزم لأن علم الله تعالى مع علمنا قد استوى في هذه المسألة بالتحريم
وفي المسألة التي اختلفنا فيها اختلف علمنا وعلم الله فكان المعول على علم الله في إسقاط العقوبة كما قال (* (لولا كتاب من الله) *) الآية
المسألة الرابعة
قال النبي حين نزلت هذه الآية لو نزلت نار من السماء لأحرقتنا إلا عمر وفي رواية لو نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ لقوله يا نبي الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال وفي رواية لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك وفي رواية لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة
المسألة الخامسة
في هذا كله دليل على أن الإثخان في القتل واجب قبل كل شيء حتى إذا قوي المسلمون جاز الفداء للقوة على العدة لقتالهم أيضا فإنما يراعى الأنظر والأوكد والله أعلم
436

المسألة السادسة
فإن قيل تحقق لنا معصيتهم
قلنا فيها ثلاثة أقوال
الأول إسراعهم في الغنيمة قبل الإحلال
الثاني اختيارهم الفداء قبل الإثخان في القتل
الثالث قوله لهم (* (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) *) فأمروا بالقتل فاختاروا الفداء
قلنا أما القول الثالث فضعيف لأنه يحتمل أن يكون نزل قبل أن يبرر ويحتمل أن يكون نزل بعده ولا يحتج بمحتمل
وأما القول الأول والثاني فمحتمل أن يكون أحدهما ويحتمل أن يكون مجموعهما والأظهر أنه اختيار الفداء فإن النبي شاورهم فيه فمالوا إلى الفداء وكان الله قد عاتبهم على رأفتهم بالكفار مع إغلاظهم عليهم بالقتل والإذاية والإخراج وإلى تحقيق المعصية إلى تأخيرهم القتل حتى نزل العفو
فإن قيل وهي
لمسألة السابعة
فقد اختاره النبي معهم فهل يكون ذلك ذنبا منه
قلنا كذلك توهم بعض الناس فقال إنه كان من النبي فيه معصية غير معينة وحاشا لله من هذا القول إنما كان من النبي توقف وانتظار ولم يكن القتل ليفوت مع أنهم كانوا قد قتلوا الصناديد وأثخنوا في الأرض فانتظر النبي هل ذلك كاف فيه أم لا وهذا بين عند الإنصاف
الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى (* (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم وإن يريدوا) *
437

خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
لما أسر من أسارى المشركين روي أنه تكلم قوم منهم بالإسلام ولم يمضوا بذلك عزيمة ولا اعترفوا به اعترافا جازما ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين فنزلت الآية
المسألة الثانية
قال علماؤنا إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض به عزيمة لم يكن مؤمنا وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرا إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر المرء على دفعها فإن الله قد عفا عنها وأسقطها
وقد بين الله لرسوله الحقيقة فقال (* (وإن يريدوا خيانتك) *) أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا (* (فقد خانوا الله من قبل) *) بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك فأمكنك منهم وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله فيقبل ذلك منهم ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم
الآية الثانية والعشرون
قوله تعالى (* (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير) *)
فيها ثماني مسائل
المسألة الأولى قوله (* (الذين آمنوا) *) هم الذين علموا التوحيد وصدقوا به وأمنوا أنفسهم من الوعيد فيه
438

المسألة الثانية قوله (* (وهاجروا) *) هم الذين تركوا أوطانهم وأهليهم وأموالهم إيثارا لله ورسوله في إعلاء دينه وإظهار كلمته ولزوم طاعته وعموم دعوته
المسألة الثانية (* (جاهدوا) *))
أي التزموا الجهد وهي المشقة في أنفسهم بتعريضها للإذاية والنكاية والقتل وبأموالهم بإهلاكها فيما يرضي الله
المسألة الرابعة قوله (* (والذين آووا ونصروا) *))
هم الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان وانضوى إليهم النبي والمهاجرون
المسألة الخامسة (* (أولئك بعضهم أولياء بعض) *))
فيه قولان
أحدهما في النصرة الثاني في الميراث
قال ابن عباس وغيره جعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام
المسألة السادسة قال (* (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) *))
قيل من النصرة لبعد دارهم وقيل من الميراث لانقطاع ولايتهم
المسألة السابعة (* (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) *))
يريد إن دعوا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم فذلك عليكم فرض إلا على قوم بينكم وبينهم عهد فلا تقاتلوهم عليهم يريد حتى يتم العهد أو ينبذ على سواء
439

المسألة الثامنة أما قوله (* (أولئك بعضهم أولياء بعض) *))
يعني في النصرة أو في الميراث على الاختلاف المتقدم فلا يبالي به أن يكون المراد أحدهما أو كلاهما لأن النبي قد بين حكم الميراث بقوله ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى عصبة ذكر
وأما قوله (* (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) *) فإن ذلك عام في النصرة والميراث فإن من كان مقيما بمكة على إيمانه لم يكن ذلك معتدا له به ولا مثابا عليه حتى يهاجر ثم نسخ الله ذلك بفتح مكة والميراث بالقرابة سواء كان الوارث في دار الحرب أو في دار السلام لسقوط اعتبار الهجرة بالسنة إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة بالبدن بألا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم كذلك
قال مالك وجميع العلماء فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والعدة والعدد والقوة والجلد
الآية الثالثة والعشرون
قوله تعالى (* (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) *)
فيها مسألتان
440

المسألة الأولى
قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض وجعل المنافقين بعضهم أولياء بعض يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم وفي الصحيح مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمى والسهر
ويحتمل أن يريد به بعضهم أولياء بعض في الميراث في الصحيح أن النبي قال لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم
وقد تقدم قوله (* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) *) وقال بعد هذا (* (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) *))
المسألة الثانية قوله (* (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض) *))
يعني بضعف الإيمان وغلبة الكفر وهذه هي الفتنة والفساد في الأرض وفي هذا أمر بالخروج عن دار الكفر إلى دار الإيمان وهي الهجرة
الآية الرابعة والعشرون
قوله تعالى (* (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم) *)
441

روي أن النبي قال لحارثة يا حارثة كيف أصبحت قال مؤمنا حقا قال لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي حجرها وذهبها وكأني ناظر إلى عرش ربي
فقال له النبي عرفت فالزم
وفي الحديث الصحيح لا يدرك أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يعود في النار
وقد تقدم قوله (* (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) *) إلى قوله (* (كريم) *) وإذا كان الإيمان في القلب حقا ظهر ذلك في استقامة الأعمال بامتثال الأمر واجتناب النهي وإذا كان مجازا قصرت الجوارح في الأعمال إذ لم تبلغ قوته إليها
الآية الخامسة والعشرون
قوله تعالى (* (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (من بعد) *))
يعني من بعد ما أمرتكم بالموالاة هكذا قال جماعة من المفسرين إلا أنه يحتمل أن يكون يريد من بعد الإيمان الأول والهجرة الأولى فإن الهجرة طبقات المهاجرون
442

الأولون وبعدهم من هاجر في بحبوحة الإيمان وقبل الفتح وهم طبقات عندنا ودرجات عند الله
المسألة الثانية قوله (* (فأولئك منكم) *))
يعني في الموالاة والميراث على اختلاف الأقوال فإن من تولى قوما فهو منهم باعتقاده معهم والتزامه لهم وعمله بعملهم كما قال تعالى (* (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) *))
المسألة الثالثة قوله (* (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) *))
قال ابن عباس هذه الآية نسخ لما تقدم من الموالاة بالهجرة دون القرابة التي ليس معها هجرة
والذي عندي أنه عموم في كل قريب بينته السنة بقوله ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى عصبة ذكر حسبما ثبت في كتاب الله وقال رسول الله وكتاب الله الذي ثبت فيه هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء فتجري الأحكام على ما سطر فيه من نسخ وثبوت وإمضاء ورد
443

سورة التوبة
فيها إحدى وخمسون آية
تسميتها
قال علماؤنا هذه السورة من آخر ما نزل بالمدينة ولذلك قل فيها المنسوخ ولها ستة أسماء التوبة والمبعثرة والمقشقشة والفاضحة وسورة البحوث وسورة العذاب
فأما تسميتها بسورة التوبة فلأن الله ذكر فيها توبة الثلاثة الذين خلفوا بتبوك
فأما تسميتها بالفاضحة فلأنه نزل فيها ومنهم ومنهم قالت الصحابة حتى ظننا أنها لا تبقي أحدا
وأما تسميتها المبعثرة فمن هذا المعنى يقال بعثرت المتاع إذا جعلت أعلاه أسفله وقلبت جميعه وقلبته ومنه (* (وإذا القبور بعثرت) *)
وأما تسميتها المقشقشة فمن الجمع فإنها جمعت أوصاف المنافقين وكشفت أسرار الدين
وأما تسميتها سورة البحوث فمن بحث إذا اختبر واستقصى وذلك لما تضمنت أيضا من ذكر المنافقين والبحث عن أسرارهم
وأما تسميتها سورة العذاب فقد روي عن ثابت بن الحارث الأنصاري أنه قال ما كانوا يدعون سورة التوبة إلا المبعثرة فإنها تبعثر أخبار المنافقين
وروي عن ابن عمر أنه قال ما كنا ندعوها إلا المقشقشة
وروي عن قتادة أنه قال مثل براءة كمثل المرود ما يدري أسفله من أعلاه
444

القول في سقوط بسم الله الرحمن الرحيم
وفي ذلك للعلماء أغراض جماعها أربعة
الأول قال مالك فيما روى عنه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم إنه لما سقط أولها سقط بسم الله الرحمن الرحيم معه
وكذلك يروى عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة براءة كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها فلذلك لم يكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم
الثاني أن براءة سخط وبسم الله الرحمن الرحيم رحمة فلا يجمع بينهما
الثالث أن براءة نزلت برفع الأمان وبسم الله الرحمن الرحيم أمان وهذه كلها احتمالات منها بعيد ومنها قريب وأبعدها قول من قال إنها مفتتحة بذكر الكفار لأن سورا كثيرة من سور القرآن افتتحت بذكر الكفار كقوله (* (الذين كفروا) *) وقوله (* (ويل لكل همزة) *)
الرابع وهو الأصح ما ثبت عن يزيد الفارسي أنه قال قال لنا ابن عباس قلنا لعثمان ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال فما حملكم على ذلك
قال عثمان إن رسول الله كان إذا نزل عليه الوحي يدعو ببعض من يكتب عنه فيقول ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وتنزل عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أول ما نزل وبراءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
وروي عن أبي بن كعب آخر ما نزل براءة وكان رسول الله يأمرنا في أول كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم ولم يأمرنا في سورة براءة بشيء فلذلك ضمت إلى الأنفال وكانت شبيهة بها
445

وقد روي عن النبي أنه قال أعطيت السبع الطوال مكان التوراة وأعطيت المئين مكان الزبور وأعطيت المثاني مكان الإنجيل وفضلت بالمفصل
نكتة أصولية
في هذا كله دليل على أن تأليف القرآن كان منزلا من عند الله وأن تأليفه من تنزيله يبينه النبي لأصحابه ويميزه لكتابه ويرتبه على أبوابه إلا هذه السورة فلم يذكر لهم فيها شيئا ليتبين الخلق أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يسأل عن ذلك كله ولا يعترض عليه ولا يحاط بعلمه إلا بما أبرز منه إلى الخلق وأوضحه بالبيان ودل بذلك على أن القياس أصل في الدين ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجأوا إلى قياس الشبه عند عدم النص ورأوا أن قصة براءة شبيهة بقصة الأنفال فألحقوها بها؟ فإذا
كان الله قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائر الأحكام وفي
هذه السورة إحدى وخمسون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (براءة) *))
أي هذه الآيات براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين يقال برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه بريء إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينه وبينك
446

المسألة الثانية قوله تعالى (* (إلى الذين عاهدتم من المشركين) *))
ولم يعاهدهم إلا النبي وحده ولكنه كان الآمر والحاكم وكل ما أمر به أو أحكمه فهو لازم للأمة منسوب إليهم محسوب عليهم يؤاخذون به إذ لا يمكن غير ذلك فإن تحصيل الرضا في ذلك من الجميع متعذر لوجهين
أحدهما
اختلاف الآراء وامتناع الاتفاق على مذهب واحد
والثاني كثرة عددهم المانع من تحصيل رضا جميعهم فوقع الاجتزاء بالمقدم من الوجهين فإذا عقد الإمام بما يراه من المصلحة أمرا لزم الرعايا حكمه فإذا رضوا به كان أثبت لنسبته إليهم كما نسب عهد رسول الله إلى جميع المسلمين لكونهم به راضين
ويحتمل أن يكون الضمير للجماعة وهو مضاف إلى رسول الله على طريق التعظيم في الإخبار عن الواحد العظيم بلفظ الجمع
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (من المشركين) *))
وهذا نص في أن المعاهد كان مشركا ولم يكن أحد منهم من أهل الكتاب وإن كانوا أيضا مشركين لأن العهد كان مخصوصا بالعرب أهل الأوثان وكانوا على قسمين منهم من كان أجل عهده أقل من أربعة أشهر ومنهم من لم يكن له عهد فأمهل الكل أربعة أشهر
وقيل من لم يكن له عهد أجل خمسين ليلة عشرين من ذي الحجة والمحرم وذلك لقوله (* (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) *) وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
قال القاضي رضي الله عنه الذي عندي أن هذا عام في كل أحد ممن له عهد دون من لا عهد له لقوله (* (إلا الذين عاهدتم من المشركين) *) فمن كان له عهد أجل أربعة أشهر ويحل دمه ومن لم يكن له عهد فهو على أصل الإحلال لدمه بالكفر الموجود به
447

الم سألة الرابعة
يحتمل أن تكون الأربعة الأشهر أيضا أجلا لمن كانت مدته أكثر من أربعة أشهر ويكون إسقاط الزيادة تخصيصا للمدة كما أخرج الله النساء من أعداد من صولح عليه في الحديبية بحسب ما يظهر من المصلحة للإمام والتمادي على العهد أو الرجوع عنه حسبما بيناه قبل
الآية الثانية
قوله تعالى (* (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) *))
أي سيروا وهي السياحة قال ابن وهب قال مالك بلغني أن عيسى بن مريم انتهى إلى قرية خربت حصونها وجفت أنهارها وتشعب شجرها فنادى يا خرب أين أهلك فنودي يا عيسى بادوا فضمتهم الأرض وعادت أعمالهم قلائد في رقابهم إلى يوم القيمة عيسى ابن مريم فجد
قال علماؤنا يريد مالك بسياحته أنه المسيح عيسى ابن مريم
المعنى لكم في الأرض مسير أربعة أشهر واختبروا فيها وحرروا أعمالكم وانظروا مآلكم فإن دخلتم في الإسلام فلكم الأمان والاحترام وإن استمررتم على الكفر عوملتم بمعاملة الكفار من القتل والإسار
المسألة الثانية
قد روى جماعة أن علي بن أبي طالب كان يقول في أذانه ومن كان بينه وبين النبي عهد فعهده إلى مدته فإن صح هذا فإنه يدل على أن العهد المحدود لمدة موقوف على أمده وأن العهد المطلق أو الذي له أقل من أربعة أشهر فإن مدته أربعة أشهر إلا من لم ينقض فإن عهده إلى مدته من غير خلاف بنص القرآن بعد هذا
448

المسألة الثالثة
اختلف الناس في هذه الأشهر التي قدرت للسياحة على أربعة أقوال
الأول أنها من شوال في سنة ثمان إلى صفر من سنة تسع قاله الزهري وغيره
الثاني أنها عشرون من ذي الحجة أولها يوم النحر إلى تمام أربعة أشهر وذلك بمضي عشرة أيام من ربيع الأول سنة تسع وقيل هو الثالث من أول يوم من ذي القعدة وقيل في الرابع من يوم يبلغهم العلم
والصحيح أنه من يوم النحر فبذلك كان البدء وإليه كان المنتهى
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى الأذان
هو الإعلام لغة من غير خلاف المعنى براءة من الله ورسوله وأذان من الله ورسوله أي هذه براءة وهذا إعلام وإنذار (* (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل))
المسألة الثانية
روى البخاري وغيره أن النبي خطب بمنى فقال أيها الناس أتدرون أي يوم هذا قلنا الله ورسوله أعلم قال هذا يوم الحج الأكبر أتدرون أي شهر هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال شهر حرام قال أتدرون أي بلد هذا
449

قالوا الله ورسوله أعلم قال بلد حرام قال إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا
وروي عن أبي هريرة أيضا قال بعثني أبو بكر في تلك الحجة في المؤذنين الذين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان
قال أبو هريرة ثم أردفه النبي بعلي فأمره أن ينادي ببراءة
قال أبو هريرة فأذن معنا علي بمنى يوم النحر ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان
وروى الترمذي عن سليمان بن عمر وابن الأحوص حدثنا أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال أي يوم أحرم أي يوم أحرم أي يوم أحرم قال فقال الناس يوم الحج الأكبر يا رسول الله قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا لا يجني جان على نفسه لا يجني والد على ولده ولا ولد على والده ألا إن المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه إلا ما حل من نفسه ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ألا وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع وإن أول دم أضع من دماء الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهم عوار عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن
450

هذا حديث حسن صحيح وروي عن الحارث عن علي قال سألت رسول الله عن يوم الحج الأكبر فقال يوم النحر
وروي أيضا عن ابن عباس قال بعث النبي أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات وأتبعه عليا فبينما أبو بكر في بعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله القصواء فخرج أبو بكر فزعا يظن أنه رسول الله فإذا هو علي فدفع إليه كتاب رسول الله وأمر عليا أن ينادي بهذه الكلمات فانطلقا وحجا فقام علي فنادى أيام التشريق ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن
وكان علي ينادي فإذا أعيا قام أبو بكر ينادي بها
وروي عن زيد بن يثيع قال سألت عليا بأي شيء بعثت في الحجة قال بعثت بأربع ألا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي عهد فعهده إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا
قال أبو عيسى هذا حديث حسن
وروي أيضا عن سماك بن حرب عن أنس بن مالك قال بعث النبي ببراءة مع أبي بكر ثم دعاه فقال لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا عليا فأعطاه إياه
وهذا حديث غريب من حديث أنس بن مالك
451

المسألة الثالثة
اختلف الناس في يوم الحج الأكبر فروى ابن وهب عن مالك أن يوم الحج الأكبر يوم النحر
قال ابن وهب سمعت مالكا يقول لا نشك أن الحج الأكبر يوم النحر وذلك لأنه اليوم الذي ترمى فيه الجمرة وينحر فيه الهدي وتراق فيه الدماء وهذا اليوم الذي ينقضي فيه الحج من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل الفجر أدرك الحج وهو انقضاء الحج وهو الحج الأكبر
ونحوه روى ابن القاسم فأشهب وعبد الله بن الحكم عنه وبه قال ابن عمر وعلي وابن المسيب وكذلك يروى عن ابن أبي أوفى أنه سئل عن الحج الأكبر فقال هو يوم يحلق
فيه الشعر وتراق فيه الدماء ويحل فيه الحرام وتوضع فيه النواصي
وقال عبد الله بن الحارث بن نوفل ومحمد بن سيرين إنه يوم عرفة وبه قال الشافعي وقال مجاهد الحج الأكبر القران والحج الأصغر العمرة
قال القاضي إذا نظرنا في هذه الأقوال فالمنقح منها أن الحج الأكبر الحج كما قال مجاهد لكنا إذا بحثنا عن يوم الحج الأكبر فلا شك أن يوم عرفة يوم الحج الأكبر لأن الحج عرفة من أدرك الوقوف بها في يومها أدرك الحج ومن فاته الوقوف بها فلا حج له بيد أن المراد بالبحث عن يوم الحج الأكبر الذي ذكره الله في كتابه وذكره النبي في خطبته ولا شك في أنه يوم النحر لثبوت الحديث الصحيح
فإن النبي إنما أمر بالأذان يوم النحر ولثبوت الحديث الصحيح أيضا فإنه قال يوم النحر أي يوم هذا أليس يوم الحج الأكبر كما تقدم بيانه
وإن كان قد روي عن الزبير أن النبي خطب يوم عرفة فقال أتدرون أي يوم هذا فيقولون هو يوم الحج الأكبر وهذا مما لم يصح سنده
وقد احتج ابن أبي أوفى على أنه يوم الحج الأكبر بانقضاء الحج فيه من
452

النسك وإلقاء التفث وهو الذي قال الله فيه (* (ثم ليقضوا تفثهم) *) الآية
وغاض مالك على الحقيقة فجمع بين الدلائل وقال إن يوم النحر فيه الحج كله لأن الوقوف إنما هو في ليلتة وفي صبيحته الرمي والحلق والنحر والطواف فلا يبقى بعد هذا إشكال والله أعلم
وقد روى أبو جعفر محمد بن علي أنه قال لما نزلت براءة على رسول الله وقد كان بعث أبا بكر الصديق ليقيم للناس الحج قيل له يا رسول الله لو بعثت به إلى أبي بكر فقال إنه لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ثم دعا عليا فقال له اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدته
فخرج علي على ناقة رسول الله حتى أدرك أبا بكر الصديق فلما رآه أبو بكر قال أمير أم مأمور قال بل مأمور ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله
وقد سمعت بعض العلماء يقول إنما سمي يوم الحج الأكبر لأن الناس يجتمعون فيه من كان يقف بعرفة ومن كان يقف بالمزدلفة وكان النداء في اليوم الذي يجتمع الناس كلهم فيه أولى وأبلغ في المراد
وهذا وإن كان صحيحا في المعنى ولكن النبي قد سماه يوم الحج الأكبر في حجة الوداع بعد ذلك والوقوف كله بعرفة
سمعت أبا سعيد محمد بن طاهر الشهيد يقول سمعت الأستاذ أبا المظفر طاهر بن
453

محمد شاه بور يقول إنما أرسل النبي عليا ببراءة مع أبي بكر لأن براءة تضمنت نقض العهد الذي كان عقده النبي وكانت سيرة العرب أنه لا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من بيته فأراد النبي أن يقطع ألسنة العرب بالحجة وأن يرسل ابن عمه الهاشمي من بيته بنقض العهد حتى لا يبقى لهم متكلم وهذا بديع في فنه
المسألة الرابعة
اختلف في قول علي في التأذين هل كان بثلاث آيات أو تسع إلى قوله (* (إنما المشركون نجس) *) أو إلى قوله (* (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) *)
وهذا إنما نشأ من روايات وردت منها قوله ولا يحج بعد العام مشرك وفيها ما روي أنه أمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
والذي يصح من ذلك أن تأذينه إنما كان إلى قوله (* (غفور رحيم) *) وغير ذلك من الآيات إنما ورد بعد ذلك في وقت واحد أو في أوقات متباينة بأحكام مختلفة منها ما قاله في تأذينه ومنها ما زاد عليه
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) *)
قال علماؤنا هذا يدل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده وكان منهم من ثبت عليه فأذن الله لنبيه في نقض عهد من خاس وأمر بالوفاء لمن بقي على عهده إلى مدته وذلك قوله (* (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) *)
المعنى كيف يبقى لهم عهد عند الله وهم قد نقضوه والمراد بذلك قريش الذين عاهدهم النبي زمن الحديبية أمر أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم وكان قد بقي لهم
454

منها أربعة أشهر من يوم النحر وهذا وهم فإن قريشا قد كان عهدها منقوضا منهم ومن المسلمين وقد كان الفتح وإنما كان المراد به من كان عاهد من العرب كخزاعة وبني مدلج فلا بد من أن يوفي لهم بعدهم فإن الله يحب المتقين
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) *)
فيها إحدى عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله (* (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) *))
فيها أربعة أقوال
الأول أنها الأشهر الحرم المعلومة رجب الفرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم
الثاني أنها شوال من سنة تسع إلى آخر المحرم
الثالث أنها أربعة أشهر من يوم النحر من سنة تسع
الرابع أنها تمام تسعة أشهر كانت بقيت من عهدهم بناء على أن المراد بالمشركين الذين عاهدوا ثم لم ينقضوا
المسألة الثانية
أما القول الأول فساقط لا ينبغي أن نشتغل به لانعقاد الإجماع على فساده ويأتي تمامه إن شاء الله في هذه السورة
وأما سائر الأقوال فمحتملة إلا أن الصحيح عندنا أربعة أشهر من يوم النحر كما تقدم وهو الوقت الذي كان فيه الأذان وبه وقع الإعلام وعليه ترتب حل العقد المرتبط إليه وبناء الأجل المسمى عليه
455

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فاقتلوا المشركين) *))
هذا اللفظ وإن كان مختصا بكل كافر بالله عابد للوثن في العرف ولكنه عام في الحقيقة لكل من كفر بالله أما أنه بحكم قوة اللفظ يرجع تناوله إلى مشركي العرب الذين كان العهد لهم وفي جنسهم ويبقى الكلام فيمن كفر من أهل الكتاب غيرهم فيقتلون بوجود علة القتل وهي الإشراك فيهم إلا أنه قد وقع البيان بالنص عليهم في هذه السورة ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (فاقتلوا المشركين) *))
عام في كل مشرك لكن السنة خصت منه من تقدم ذكره قبل هذا من امرأة وصبي وراهب وحشوة حسبما تقدم بيانه وبقي تحت اللفظ من كان محاربا أو مستعدا للحرابة والإذاية وتبين أن المراد بالآية اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم
المسألة الخامسة قوله (* (حيث وجدتموهم) *))
هذا عام في كل موضع وقد قال أبو حنيفة إنه يخص منها المسجد الحرام بقوله في البقرة (* (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) *) وقرئ ولا تقتلوهم وقد تقدم القول فيها في سورة البقرة وقد قتل رسول الله فيها أربعة نفر منهم ابن خطل
فإن قيل قد قال النبي إن مكة حرمها الله فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وهذا نص
قلنا هذا خبر عن الله تعالى بأنه لا يملكها كافر أبدا لأن القتال إنما يكون للكفار فأما كافر يأوي إليها فلا تعصمه ولا قرة عين وليس في قوة الحديث ولا لفظه أنه لا يقتل فيها
456

المسألة السادسة قوله (* (وخذوهم واحصروهم) *))
دليل على جواز الإسار فيهم وقد تقدم ذكر ذلك
المسألة السابعة قوله (* (واقعدوا لهم كل مرصد) *))
قال علماؤنا في هذا دليل على جواز اغتيالهم قبل الدعوة وقد تقدم بيانه
المسألة الثامنة
قوله (* (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) *) الآية إلى (* (فخلوا سبيلهم) *))
إن الله غفور لما تقدم رحيم بخلقه في إمهالهم ثم المغفرة لهم وهذا مبين بقول النبي أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فانتظم القرآن والسنة واطردا
المسألة التاسعة قوله (* (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) *))
دليل صحيح على ما كان الصديق رضي الله عنه تعلق به على أهل الردة في قوله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال لأن الله تعالى علق العصمة بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فتعلق بهما
المسألة العاشرة قوله (* (فخلوا سبيلهم) *))
وهو إشارة إلى ترك قتالهم وحصرهم ومنعهم عن التصرف وألا يرصد لهم غيلة ولا يقطع على أحد فعل ذلك سبيله
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (واحصروهم) *))
قال بعض علمائنا امنعوهم عن التصرف إلى بلادكم والدخول إلا للقليل إليكم إلا أن تأذنوا لهم في ذلك فيدخلوا إليكم بأمان منكم فإن المحبوس تحت سلطان الإذن من الجانبين ولولا ذلك لم يكن حبس ولا حصر فإن ذلك حقيقته
457

الآية السادسة
قوله تعالى (* (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وإن أحد من المشركين استجارك) *))
معناه سأل جوارك أي أمانك وذمامك فأعطه إياه ليسمع القرآن فإن قبل أمرا فحسن وإن أبى فرده إلى مأمنه ولهذا قال مالك إذا وجد الحربي في طريق بلاد المسلمين فقال جئت أطلب الأمان فقال مالك هذه أمور مشكلة وأرى أن يرد إلى مأمنه والآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنظر في الإسلام فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين والنظر فيما يعود عليهم به منفعة وذلك يكون من أمير أو مأمور فأما الأمير فلا خلاف في أن إجارته جائزة لأنه مقدم للنظر والمصلحة نائب عن الجميع في جلب المنافع ودفع المضار
وأما إن كان رعية روي عن النبي أنه قال المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم والذي منهم غير الأمير وهو حر أو عبد أو امرأة أو صبي فأما الحر فيمضي أمانه عند كافة العلماء إلا أن ابن حبيب من أصحابنا قال ينظر الإمام فيه وهذا ليس بصحيح لأن النبي أجاز جواره في هذا الحديث وكذلك أمضاه عمر على الناس وتوعد بالقتل من رده فقال لا يقولن أحدكم للعلج إذا اشتد في الحبل مطرس فإذا سكن إلى قوله قتله فإني لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه
458

وأما العبد فله الأمان في مشهور المذهب وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لا أمان له وهو القول الثاني لعلمائنا وكأن أبا حنيفة رأى أن من لا يسهم له في الغنيمة من عبد أو امرأة أو صبي لا أمان له لأنه إسقاط فكيف يسقط ما ليس له فيه حق
وعمدة المالكية أن عموم الحديث يدخل فيه العبد والمرأة ولأن أبا حنيفة ناقض فقال إذا أذن له سيده في القتال جاز أمانه ولا يصح أن يسلب جواز الأمن من الإذن في القتال لأنه صده فدل على أنه إنما استفاده بالإسلام والآدمية
وأما الصبي فعدم تكليفه يسقط قوله بلا كلام إلا أن المالكية قالت إذا أطاق القتال صار في جملة الجيش وقد تقدم دليل ذلك وجاز أمانه لأنه قد صار من جملة المقاتلة ودخل في الفئة الحامية
المسألة الثانية قوله تعالى (* (حتى يسمع كلام الله) *))
ما من أحد من الخلق يسمع القرآن إلا وهو سامع لكلام الله لكن بواسطة اللغات وبدلالة الحروف والأصوات وكذلك يسمع كلام الله كل غائب لكن القدوس لا مثل له ولا لكلامه وإذا أراد الله تعالى أن يكرم أحدا من خلقه أسمعه كلامه بغير واسطة كما فعل بموسى ومحمد ليلة الإسراء
المسألة الثالثة
ليس يريد بقوله (* (حتى يسمع كلام الله) *) مجرد الإصغاء فيحصل العلم له بظاهر القول وإنما أراد به فهم المقصود من دلالته على النبوة وفهم المقصود به من التكليف ولم يكن يخفى على العرب وجه الإعجاز فيه وطريق الدلالة على النبوة لكونه خارجا عن أساليب فصاحة العرب في النظم والنثر والخطب والأراجيز والسجع والأمثال وأنواع فصل الخطاب فإن خلق الله له العلم بذلك والقبول له صار من جملة المسلمين فإن صد بالطبع ومنع بالختم وحق عليه بالكفر القول رد إلى مأمنه
459

المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) *))
نفى الله عنهم العلم لنفي فائدته من الاعتبار والاستبصار وقد ينتفى الشيء بانتفاء فائدته إذ الشيء إنما يراد لمقصوده فإذا عدم المقصود فكأنه لم يوجد فأمر الله بالرفق بهم والإمهال لهم حتى يقع الاعتبار أن من الله الهدى والاستبصار
الآية السابعة
قوله تعالى (* (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وطعنوا في دينكم) *))
دليل على أن الطاعن في الدين كافر وهو الذي ينسب إليه منسب إليه ما لا يليق به أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه
المسألة الثانية
إذا طعن الذمي في الدين انتقض عهده لقوله (* (وإن نكثوا أيمانهم) *) إلى (* (فقاتلوا أئمة الكفر) *) فأمر الله بقتلهم وقتالهم إذا طعنوا في دينكم
فإن قيل إنما أمرنا بقتالهم بشرطين
أحدهما نكثهم للعهد
والثاني طعنهم في الدين
قلنا الطعن في الدين نكث للعهد بل قال علماؤنا رحمة الله عليهم إن عملوا ما يخالف العهد انتقض عهدهم فقد روي أن عمر رفع إليه أن ذميا نخس دابة عليها امرأة مسلمة فرمحت فأسقطتها فانكشف بعض عورتها فأمر بصلبه في الموضع
460

قد قال علماؤنا إذا حارب الذمي نقض عهده وكان ماله وولده فيئا قال محمد بن مسلمة ولا يؤخذ ولده لأنه نقض وحده وقال أما ماله فيؤخذ
وهذا تعارض لا يشبه منصب محمد لأن عهده هو الذي حمى ولده وماله فإذا ذهب عنه ذهب عن ولده وماله
وقال أشهب إذا نقض الذمي العهد فهو على عهده ولا يعود الحر في الرق أبدا
وهذا من العجب وكأنه رأى العهد معنى محسوسا وإنما العهد حكم اقتضاه النظر والتزمه المسلمون فإذا نقضه انتقض كسائر العقود من البيع والنكاح فإنها تعقد فترتب عليها الأحكام فإذا نقضت ونسخت ذهبت تلك الأحكام
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
دلت الآية على أن الشهادة لعمار المساجد بالإيمان والصلاة صحيحة لأن الله ربطها بها وأخبر عنها بملازمتها والنفس تطمئن بها وتسكن إليها وهذا في ظاهر الصلاح ليس في مقاطع الشهادات فلها وجوه وللعارفين بها أحوال وإنما يؤخذ كل أحد بمقدار حاله وعلى مقتضى صفته فمنهم الذكي الفطن المحصل لما يعلم اعتقادا وإخبارا ومنهم المغفل فكل أحد ينزل على منزلته ويقدر على صفته
المسألة الثانية
روى بعضهم أن الآية إنما قصد بها قريش لأنهم كانوا يفخرون على سائر الناس
461

بأنهم سكان مكة وعمار المسجد الحرام ويرون بذلك فضلا لهم على غيرهم فنفى الله ذلك عنهم شرعا وفضيلة لا حسا ووجودا وأخبر أن العمارة لبيت الله لا تكون بالكفر به وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة سمعت الشيخ الإمام فخر الإسلام أبا بكر محمد بن أحمد الشاشي يقول كان القاضي الإمام أبو الطيب الطبري يسمي الشيخ الإمام أبا إسحاق الشيرازي إمام الشافعية وشيخ الصوفية بمدينة السلام حمامة المسجد لملازمته له لأنه لم يكن يجعل لنفسه بيتا سواه يلازم القاضي أبا الطيب ويواظب القراءة والتدريس حتى صار إمام الطريقتين الفقه والتصوف
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
نفى الله الموالاة بالكفر بين الآباء والأبناء خاصة ولا قربى أقرب منها كما نفاها بين الناس بعضهم من بعض بقوله (* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) *) ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الديار والأبدان ومثله تنشد الصوفية
(يقولون لي دار الأحبة قد دنت
* وأنت كئيب إن ذا لعجيب) (فقلت وما تغني ديار قريبة
* إذا لم يكن بين القلوب قريب))
المسألة الثانية
الإحسان بالهبة والصلة مستثنى من الولاية
لحديث أسماء قالت يا رسول الله إن أمي قدمت علي راغبة وهي مشركة
462

أفأصلها قال صلي أمك وتمامه يأتي في قوله (* (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) *) الآية
المسألة الثالثة
قوله تعالى (* (ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) *))
تفسير لقوله (* (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) *) إما بالمآل وسوء العاقبة وإما بالأحكام في العاجلة وذلك ظلم أي وضع الشيء في غير موضعه ويختلف الحكم فيه باختلاف الموضع الموضوع فيه كفرا وإيمانا
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله
وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قوله تعالى (* (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا) *))
هذا بيان فضل الجهاد وإشارة إلى راحة النفس وعلاقتها بالأهل والمال
وقال المفسرون هذه الآية في بيان حال من ترك الهجرة وآثر البقاء مع الأهل والمال
وفي الحديث الصحيح إن الشيطان قعد لابن آدم ثلاثة مقاعد قعد له في طريق الإسلام فقال أتذر دينك ودين آبائك وتسلم فخالفه وأسلم وقعد له في طريق الهجرة فقال له أتذر أهلك ومالك فتهاجر فخالفه ثم هاجر وقعد له في طريق
463

الجهاد فقال له تجاهد فتقتل وتنكح أهلك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل فحق على الله أن يدخله الجنة
المسألة الثانية
العشيرة
الجماعة التي تبلغ عقد العشرة فما زاد ومنه المعاشرة وهي الاجتماع على الأمر بالعزم الكثير وقوله (* (وأموال اقترفتموها) *) أي اقتطعتموها من غيرها
والكساد نقصان القيمة وقد تقدم حديث أبي هريرة في الصحيح أن رسول الله قال غزا نبي من الأنبياء فقال لا يتبعني رجل تزوج امرأة ولما يبن بها أو بنى دارا ولم يسكنها ' الحديث
المسألة الثالثة
قوله (* (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) *))
قوله (* (فتربصوا) *) صيغته الأمر ومعناه التهديد وأمر الله الذي يأتي فتح مكة على القول بأن المراد بمعنى الآية الهجرة ويكون أمر الله عقوبته التي تنزل بهم الذل والخزي حتى يغزوهم العدو في عقر دارهم ويسلبهم أموالهم
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) *)
فيها ثلاث مسائل
464

المسألة الأولى
قال ابن وهب وابن القاسم قال مالك لما انهزم أصحاب رسول الله يوم حنين قبضت أم سليم امرأة أبي طلحة على عنان بغلة رسول الله ثم قالت يا رسول الله مر بهؤلاء الذين انهزموا فنضرب رقابهم فقال لها رسول الله أوخير من ذلك يا أم سليم فقيل له أو قسم لها رسول الله ولمن خرج يداوي الجرحى فقال ما علمت أنه أسهم لامرأة في مغازيه
قال ابن وهب عن مالك وكانت حنين في حر شديد
قال ابن القاسم قال لنا مالك حدثني ابن شهاب قال قال رجل لصفوان يوم حنين والله لا نرتد أبدا فقال له صفوان والله لرب من قريش خير من رب من هوازن
وكان رسول الله قد أعطى صفوان مثنى مئين أو ثلاث وقال صفوان لقد حضرت حنينا وما أحد من الخلق أبغض إلي منه فما زال يعطيني حتى ما كان أحد أحب إلي من الخلق منه وكان صفوان من المؤلفة قلوبهم
المسألة الثانية
قال ابن القاسم وابن وهب سئل مالك عن صفوان حين أعطاه النبي ما أعطاه أكان مسلما أو مشركا قال ما سمعت شيئا وما أراه كان إلا مشركا ولقد قال رب من قريش خير من رب من هوازن وما هذا بكلام مسلم وكان من أشدهم قولا حين قال صفوان لقد أكرم الله أمية إذ لم ير هذا الأسود فوق الكعبة
قال ابن وهب قال مالك كان شعارهم يوم حنين يا أصحاب سورة البقرة
قال مالك كان النبي كتم وجهه ذلك فلما كان بالسقيا جاءه كعب بن مالك وكان شاعرا فأنشده شعره ليعلم ما عنده وينظر ما في نفسه فأنشده
465

(قضينا من تهامة كل إرب
* وخيبر ثم اجمعنا السيوفا)
(نسائلها ولو نطقت لقالت
* قواطعهن دوسا أو ثقيفا)
قال علماؤنا والقصيدة مشهورة وتمامها
(فلست لحاضن إن لم تروها
* بساحة داركم منا ألوفا)
(وتنتزع العروش ببطن وج
* وتصبح داركم منا خلوفا)
(وتأتيكم لنا سرعان خيل
* يغادر خلفه جمعا كثيفا)
(إذا نزلوا بساحتكم سمعتم
* لها مما أناخ بها رجيفا)
(بأيديهم قواضب مرهفات
* يزرن المصطلين بها الحتوفا)
(كأمثال العقائق أخلصتها
* قيون الهند لم تضرب كتيفا)
(تخال جدية الأبطال فيها
* غداة الزحف جاديا مدوفا)
(أجدهم أليس لهم نصيح
* من الأقوام كان بنا عريفا)
(فخبرهم بأنا قد جمعنا
* عتاق الخيل والنجب الطروفا)
(وأنا قد أتيناهم بزحف
* يحيط بسور حصنهم صفوفا)
(رئيسهم النبي وكان صلبا
* نقي الثوب مصطبرا عزوفا)
(رشيد الأمر ذا حكم وعلم
* وحلم لم يكن نزقا خفيفا)
(نطيع نبينا ونطيع ربا
* هو الرحمن كان بنا لطيفا)
(فإن يلقوا إلينا السلم نقبل
* ونجعلكم لنا عضدا وريفا)
(وإن تأبوا نجاهدكم ونصبر
* ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا)
(نجالد ما بقينا أو تنيبوا
* إلى الإسلام إذعانا مضيفا)
(نجاهد لا نبالي ما لقينا
* أأهلكنا التلاد أم الطريفا)
(وكم من معشر ألبوا علينا
* صميم الجذم منهم والحليفا)
(أتونا لا يرون لهم كفاء
* فجدعنا المسامع والأنوفا) (بكل مهند لين صقيل
* نسوقهم به سوقا عنيفا)
(لأمر الله والإسلام حتى
* يقوم الدين معتدلا حنيفا)
466

(وتنسى الللاة والعزى وود
* ونسلبها القلائد والشنوفا)
(فأمسوا قد أقروا واطمأنوا
* ومن لا يمتنع يقتل خسوفا)
فأجابه كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير فقال
(من كان يبغينا يريد قتالنا
* فإنا بدار معلم لا نريمها)
(وجدنا بها الآباء من قبل ما نرى
* وكانت لنا أطواؤها وكرومها)
(وقد جربتنا قبل عمرو بن عامر
* فأخبرها ذو رأيها وحليمها)
(وقد علمت أن قالت الحق أننا
* إذا ما أبت صعر الخدود نقيمها)
(نقومها حتى يلين شريسها
* ويعرف للحق المبين ظلومها)
(علينا دلاص من تراث محرق
* كلون السماء زينتها نجومها)
(نرفعها عنا بيض صوارم
* إذا جررت في غمرة لا نشيمها) (
قالوا فلما سمعت دوس بأبيات كعب هذه بادرت بإسلامها
المسألة الثالثة
قال ابن القاسم وأصحاب مالك قال مالك من قتل قتيلا لم يكن له سلبه إلا بإذن الإمام ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد ولم يبلغنا أن رسول الله نفل في مغازيه كلها
وقد بلغنا أنه نفل في بعضها يوم حنين ولم يبلغني أن رسول الله قال من قتل قتيلا فله سلبه إلا يوم حنين
وقد بينا فيما سبق أن نفل الأسلاب وغير ذلك إنما يكون من الخمس لا من رأس المال
وقد بينا أن الخمس يجوز أن يعطى للمؤلفة قلوبهم برأي الإمام في ذلك والله أعلم
467

الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم) *)
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى
في سبب نزولها
كان المشركون يقدمون للتجارة فنزلت هذه الآية (* (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) *) الآية رواه سعيد بن جبير
وروى غيره أنه لما أمر بإخراج المشركين من مكة شق ذلك على الناس فقالوا كيف بما نصيب منهم في التجارة في الميرة فأنزل الله (* (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) *) فأغناهم الله بالجزية
المسألة الثانية
لما نزلت الآية قال النبي لعلي ناد في أذانك ألا يحج بعد العام مشرك ويحتمل أن تكون التلاوة بعد الأذان فقد روي أن النبي لما أراد أن يحج في العام الثاني كرمه الله وكرم دينه عن أن يخالطهم مشرك
وقيل إذا امتنع دخول المشركين مكة لعزة الإسلام فلم يبقى الناس على ما كانوا عليه من الذل والهوان
المسألة الثالثة
قوله تعالى (* (إنما المشركون نجس) *) اعلموا وفقكم الله أن النجاسة ليست بعين حسية وإنما هي حكم شرعي أمر الله بإبعادها كما أمر بإبعاد البدن عن الصلاة عند الحدث وكلاهما أمر شرعي ليس بعين حسية
468

وقد ذهلت الحنفية عن هذه الحقيقة فظنوا أن إزالة النجاسة أمر حسي تعم زوال العين في بعض المواضع وهو إذا ظهرت حسي وكونها بعينها نجسة حكمي وبقاء المحل نجسا بعد زوال عينها حكمي وقد حققنا ذلك في مسائل الخلاف
المسألة الرابعة
قوله تعالى (* (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) *) دليل على أنهم لا يقربون مسجدا سواه لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم والحرمة موجودة في المسجد
وقد اختلف الناس في هذا كثيرا فرأى الشافعي أن هذا مخصوص بالمسجد الحرام لا يتعداه إلى غيره من المساجد وهذا جمود منه على الظاهر الذي يسقط هذا الظاهر فإن الله لم يقل لا يقرب هؤلاء المسجد الحرام فيكون الحكم مقصورا عليهم ولو قال لا يقرب المشركون والأنجاس المسجد الحرام لكان تنبيها على التعليل بالشرك أو النجاسة أو العلتين جميعا بل أكد الحال بيان العلة وكشفها فقال (* (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام) *) يريد ولا بد لنجاستهم فتعدت العلة إلى كل موضع محترم بالمسجدية
ومما قاله مع غيره من الناس أن الكافر يجوز له دخول المسجد بإذن المسلم واستدل عليه بأن النبي ربط ثمامة بن أثال في المسجد وهو مشرك
قال علماؤنا هذا الحديث صحيح لكن النبي قد كان علم إسلامه وهذا وإن سلمناه فلا يضرنا لأن علم النبي بإسلامه في المآل لا يحكم له به في الحال
وقال جابر بن عبد الله العموم بمنع المشركين عن قربان المسجد الحرام مخصوص في العبد والأمة
وهذا قول باطل وسند ضعيف لا يخص بمثله العمومات المطلقة فكيف المعللة بالعلة العامة المتناولة لجميعها وهي الشرك
469

المسألة الخامسة
قال سعيد بن المسيب هذا القول والحكم إنما هو في المسجد الحرام فأما مسجد المدينة فلا يزيد فضلا على غيره إذ قد دخل أبو سفيان مسجد رسول الله وهو مشرك عند إقباله لتجديد العهد قبل فتح مكة حين خشي نقض الصلح بما أحدثه بنو بكر على خزاعة
قال القاضي وهذا ضعيف ولو صح فإن الجواب عنه ظاهر وذلك أن دخول ثمامة في المسجد في الحديث الصحيح ودخول أبي سفيان فيه على الحديث الآخر كان قبل أن ينزل قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) *) فمنع الله المشركين من دخول المسجد الحرام نصا ومنع من دخول سائر المساجد تعليلا بالنجاسة ولوجوب صيانة المسجد عن كل نجس وهذا كله ظاهر لا خفاء به
المسألة السادسة
قال الشافعي لا يدخل الكافر المسجد الحرام بحال ويدخل غيره من المساجد للحاجة كما دخل ثمامة وأبو سفيان
وقال أبو حنيفة يدخل المسجد لحاجة أو لغير حاجة وهذا كله ضعيف خطأ أما دخوله للحاجة فقد أفسدناه كما تقدم وأما دخولهم كذلك مطلقا فهو أبعد من تعليل أبي حنيفة وتدقيقه
ولقد كنت أرى بدمشق عجبا كان لجامعها بابان باب شرقي وهو باب جيرون وباب غربي وكان الناس يجعلونه طريقا يمشون عليها نهارهم كله في حوائجهم وكان الذمي إذا أراد المرور وقف على الباب حتى يمر به مسلم مجتاز
470

فيقول له الذمي يا مسلم أتأذن لي أن أمر معك فيقول نعم فيدخل معه وعليه الغيار علامة أهل الذمة فإذا رآه القيم صاح به ارجع ارجع فيقول له المسلم أنا أذنت له فيتركه القيم
المسألة السابعة
قوله (* (بعد عامهم هذا) *))
فيه قولان
أحدهما أنه سنة تسع التي حج فيها أبو بكر
الثاني أنه سنة عشر قاله قتادة وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ
وإن من العجب أن يقال إنه سنة تسع وهو العام الذي وقع فيه الأذان ولو دخل غلام رجل داره يوما فقال له مولاه لا تدخل هذه الدار بعد يومك هذا لكان المراد به اليوم
الذي دخل فيه
فالصحيح أن النهي فيما يستقبل وأن المشار إليه هو الوقت الذي وقع فيه النداء ولو تناصف الناس في الحق وأمسك كل أحد عما لا يعلم ما وقع مثل هذا النزاع
المسألة الثامنة
قوله (* (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) *))
المعنى إن خفتم الفقر بانقطاع مادة المشركين عنكم بالتجارة التي كانوا يجلبونها فإن الله يعوض عنها فدل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز وإن كان الرزق مقدورا وأمر الله وقسمه له مفعولا ولكنه علقه بالأسباب حكمة لتعلم القلوب التي تتعلق بالأسباب من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب وليس ينافي النظر إلى السبب التوكل من حيث أنه مسخر مقدور وإنما يضاد التوكل النظر إليه بذاته والغفلة عن الذي سخره في أرضه وسماواته وفي الحديث الصحيح لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا
471

فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يضاده الغدو والرواح في طلب الرزق لكن شيوخ الصوفية قالوا إنما تغدو وتروح في الطاعة فهو السبب الذي يجلب الرزق
والدليل عليه أمران قوله (* (وأمر أهلك بالصلاة) *)
والثاني قوله (* (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) *) فليس ينزل الرزق من محله وهو السماء إلا ما يصعد إليها وهو الذكر الطيب والعمل الصالح وليس بالسعي في جهات الأرض فإنه ليس فيها رزق
والصحيح ما أحكمته السنة عند فقهاء الظاهر وهو العمل بالأسباب الدنيوية من الحرث والتجارة والغراسة ويدل عليه ما كانت الصحابة تعمله والنبي بين أظهرهم من التجارة في الأسواق والعمارة للأموال وغرس الثمار ومنهم من كان يضرب على الكفار لتكون كلمة الله هي العليا ويسترزق من أفضل وجوه رزق الله تعالى وهو الأغنام والنبي في ذلك كله راض عنهم وهذه كانت صفة الخلفاء الذين لم يكن أحد أفضل منهم يسلكون هذه السبيل في الاكتساب والتعلق بالأسباب
أما إنه لقد كان قوم يقعدون بصفة المسجد ما يحرثون ولا يتجرون ليس لهم كسب ولا مال إنما هم أضياف الإسلام إذا جاءت هدية أكلها النبي معهم وإن كانت صدقة خصهم بها ولم يكن ذلك بمعاب عليهم لإقبالهم على العبادة وملازمتهم للذكر والاعتكاف فصارت جادتين في الدين ومسلكين للمسلمين فمن آثر منهما واحدا لم يخرج عن سننه ولا اقتحم مكروها
المسألة التاسعة
قوله (* (من فضله) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول من حيث شاء وعلم لعموم فضله وسعة رزقه ورحمته
الثاني بالمطر والنبات وخصب الأرض فأخصب تبالة وجرش فحملوا إلى مكة الطعام والودك وأسلم أهل نجد وصنعاء
الثالث بالجزية
472

وهذا كله من المعاني التي يحتملها اللفظ ويراد به جميعها ويحتمل عندي أن يريد به يغنيكم الله عن الكفار فيما يجلبون من التجارة والرزق إليكم بجلبكم أنتم لها واستغنائكم عنها بأنفسكم في كل وجه
المسألة العاشرة
قوله (إن شاء))
قال علماؤنا ليعلم الخلق أن الرزق ليس بالاجتهاد وإنما هو فضل من الله تعالى تولى قسمته وذلك بين في قوله (* (نحن قسمنا بينهم معيشتهم) *) الآية
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) *)
فيها ثلاث عشرة مسألة
المسألة الأولى
قوله (* (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) *))
أمر بمقاتلة جميع الكفار فإن كلهم قد أطبق على هذا الوصف من الكفر بالله وباليوم الآخر
وقد قال في أول السورة (* (فاقتلوا المشركين) *) وقد قدمنا القول فيه وقال تعالى (* (جاهد الكفار والمنافقين) *) وقال سبحانه (* (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) *)
والكفر وإن كان أنواعا متعددة مذكورة في القرآن والسنة بألفاظ متفرقة فإن اسم الكفر يجمعها قال الله سبحانه (* (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى
والمجوس والذين أشركوا) *) وخص النبي المعنى
473

المقصود بالبيان فقال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ' وهو المقصود الأعظم والغاية القصوى
المسألة الثانية قوله (* (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) *))
الآية
نص في تحقيق الكفر وذلك أن نقول الكفر والإيمان أصلان في ترتيب الأحكام عليهما في الدين وهما في وضع اللغة معلومان
والإيمان هو التصديق لغة أو التأمين والكفر هو الستر وقد يكون بالفعل حسا وقد يكون بالإنكار والجحد معنى وكلاهما حقيقة أو حقيقة ومجاز حسبما بيناه في الأمد الأقصى وغيره
وقد قال شيخ السنة والقاضي أبو بكر إن الإيمان هو العلم بالله وذلك لا يصح لغة وقد أفدناه في موضعه فإذا ثبت أن كفر المعاني جحودها وإنكارها فالشرع لم يعلق الأحكام الشرعية على كل ما ينطلق عليه اسم كفر وإنما علقه على بعضها وهي الكفر بالله وصفاته وأفعاله
والدليل عليه قوله تعالى (* (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) *) الآية فقوله (* (لا يؤمنون بالله) *) نص في الكفر بذاته يقينا وفي الكفر بالصفات ظاهرا لأن الله هو الموجود الذي له الصفات العلا والأسماء الحسنى فكل من أنكر وجود الله فهو كافر وقوله (* (ولا باليوم الآخر) *) نص في صفاته فإن اليوم الآخر عرفناه بقدرته وبكلامه فأما علمنا له بقدرته فإن القدرة على اليوم الأول دليل على القدرة على اليوم الآخر وأما علمنا له بالكلام فبإخباره أنه فاعله فإذا أنكر أحد البعث فقد أنكر القدرة والكلام وكفر قطعا بغير كلام وقوله (* (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) *) نص في أفعاله التي من أمهاتها إرسال الرسل وتأييدهم بالمعجزات النازلة منزلة قوله صدقتم أيها الرسل فإذا أنكر أحد الرسل أو كذبهم فيما يخبرون عنه من التحليل والتحريم والأوامر والندب فهو
474

كافر وكل جملة من هذه الوجوه الثلاثة له تفصيل تدل عليه هذه الجملة التي أشرنا بها اختلف الناس في التكفير بذلك التفصيل والتفسيق والتخطئة والتصويب وذلك كالقول في التشبيه والتجسيم والجهة أو الخوض في إنكار العلم والقدرة والإرادة والكلام والحياة فهذه الأصول يكفر جاحدها بلا إشكال
وكقول المعتزلة إن العباد يخلقون أفعالهم وإنهم يفعلون ما لا يريده الله وإن نفوذ القضاء والقدر على الخلق بالنار جور
وكقول المشبهة إن الباري جسم وإنه يختص بجهة وإنه قادر على المحال وإنه تعالى قد نص على كل حادثة من الأحكام
وهذا كله كذب صراح وبعد هذا تفاصيل تنبني عليها ويجر إليها وفي التكفير بها تدقيق
ومن أعظم الإشارة بقوله ولا باليوم الآخر الإخبار عن النصارى الذين يقولون إن نعيم الجنة وعذاب النار معان كالسرور والهم وليست صورا ولا فيها أكل ولا شرب ولا وطء ولا حياة ولا مهل يشرب ولا نار تلظى
وقوله (* (ولا يدينون دين الحق) *) إشارة إلى هذه الجملة من الاعتقاد للحق والعمل بمقتضى الشرع
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (من الذين أوتوا الكتاب) *))
وفي ذكرهم ها هنا ثلاثة أقوال
الأول أنهم كانوا أمروا بقتال المشركين فأمروا أيضا بقتال أهل الكتاب مع
475

المشركين لما فيه من الحق من ذكر الرسول وغيره وكان تخصيصا لما تناوله اللفظ العام على معنى التأكيد
الثاني أن قوله (* (من الذين أوتوا الكتاب) *) تأكيد للحجة فإن المشركين من عبدة الأوثان لم تكن عندهم مقدمة من التوحيد والنبوة وشريعة الإسلام فجاءهم الأمر كله فجأة على جهالة
فأما أهل الكتاب فقد كانوا عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل وخصوصا ذكر محمد وملته وأمته فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة فنبه على محلهم بذلك
الثالث أن تخصيصهم بالذكر إنما كان لأجل قوله تعالى بعد ذلك (* (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) *) والذين يختصون بفرض الجزية عليهم هم أهل الكتاب دون غيرهم من صنف الكفار وهذا صحيح على أحد الأقوال على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة
فإن قيل
أليس النصارى واليهود يؤمنون بالله واليوم الآخر
قلنا عنه جوابان
أحدهما أنا قد بينا أن أحدا منهم لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر
الثاني أنهم وإن كانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر فإنهم قد كذبوا الرسول ولم يحرموا ما حرم الله ورسوله ولا دانوا بدين الحق
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (حتى يعطوا الجزية) *))
فيها ثلاثة أقوال
أحدهما أنها عطية مخصوصة
الثاني أنها جزاء على الكفر
الثالث أن اشتقاقها من الأجزاء بمعنى الكفاية كما تقول جزى كذا عني يجزي إذا قضى
476

المسألة السادسة في تقديرها
روى ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه وابن عبد الحكم عن مالك أنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على الورق وإن كانوا مجوسا
وكذلك روى مالك عن نافع عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام
وقيل إن ذلك غير مقدر وإنما هو على قدر ما يراه الإمام ويجتهد فيه من الغنى والفقر والقلة والكثرة والاقتداء بعمر أسوة
وقد روى البخاري عن ابن أبي لجيم قلت لمجاهد ما بال أهل الشام عليهم أربعة دنانير وعلى أهل اليمن دينار
قال إنما جعل ذلك من أجل اليسار
وقد روي عن النبي أنه قال لمعاذ خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافري ثم ضرب الجزية عمر في زمانه على ما تقدم فدل على أنه إنما يراعى في ذلك الثروة والقلة
المسألة السابعة في محل الجزية أربعة أقوال
الأول أنها تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو غيرهم
الثاني قال ابن القاسم إذا رضيت الأمم كلها بالجزية قبلت منهم
الثالث قال ابن الماجشون لا تقبل
الرابع قال ابن وهب لا تقبل من مجوس العرب وتقبل من غيرهم
477

وجه من قال إنها تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو غيرهم تخصيص الله بالذكر أهل الكتاب
وأما من قال أنها تقبل من الأمم كلها فالحديث الصحيح في كتاب مسلم وغيره عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المؤمنين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الدخول في الإسلام فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول عن دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم بأنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية وإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم
وذكرنا في الحديث في البخاري وغيره من الصحيح أن عمر توقف في أخذ الجزية من المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذها من مجوس هجر
ووجه قول ابن وهب أنه ليس في العرب مجوس لأن جميعهم أسلم فمن وجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتد يقتل بكل حال إن لم يسلم ولا يقبل منه جزية
478

والصحيح قبولها من كل أمة وفي كل حال عند الدعاء إليها والإجابة بها
المسألة الثامنة محل الجزية
ومحلها من المشركين الأحرار البالغون العقلاء دون المجانين وهم الذين يقاتلون دون النساء والصبيان لذلك
واختلف في الرهبان فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم قال مطرف وابن الماجشون هذا إذا لم يترهب بعد فرضها فإن فرضت لم يسقطها ترهبه وهذا مبني على قول أبي بكر وستجد قوما حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له فإذا لم يهيجوا ولم يقتلوا لم تطلب منهم جزية لأنها بدل عن القتل
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (حتى يعطوا الجزية عن يد) *))
فيه خمسة عشر قولا
الأول أن يعطيها وهو قائم والآخذ جالس قاله عكرمة
الثاني يعطونها عن أنفسهم بأيديهم يمشون بها قاله ابن عباس
الثالث يعني من يده إلى يد آخذه كما تقول كلمته فما لفم ولقيته كفة كفة وأعطيته يدا عن يد
الرابع عن قوة منهم
الخامس عن ظهور
السادس غير محمودين ولا مدعو لهم
السابع توجأ عنقه
الثامن عن ذل
التاسع عن غنى
العاشر عن عهد
479

الحادي عشر نقدا غير نسيئة
الثاني عشر اعترافا منهم أن يد المسلمين فوق أيديهم
الثالث عشر عن قهر
الرابع عشر عن إنعام بقبولها عليهم
الخامس عشر مبتدئا غير مكافئ
قال الإمام هذه الأقوال منها متداخلة ومنها متنافرة وترجع إلى معنيين
أحدهما أن يكون المراد باليد الحقيقة والآخر أن يكون المراد باليد المجاز
فإن كان المراد به الحقيقة فيرجع إلى من قال إنه يدفعها بنفسه غير مستنيب في دفعها أحدا
وأما جهة المجاز فيحتمل أن يريد به التعجيل ويحتمل أن يريد به القوة ويحتمل أن يريد به المنة والإنعام
وأما قول من قال وهو قائم والآخذ جالس فليس من قوله عن يد وإنما هو من قوله عن يد وهم صاغرون وهي
المسألة العاشرة
وكذلك قوله يمشون بها وهم كارهون من الصغار وكذلك قول أبي عبيدة ولا مقهورين يعود إلى الصغار واليد وحقيقة الصغار تقليل الكثير من الأجسام أو من المعاني في المراتب والدرجات
المسألة الحادية عشرة
اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه فقال علماء المالكية وجبت بدلا عن القتل بسبب الكفر وقال بعض الحنفية بقولنا
480

وقال الشافعي بدلا عن حقن الدم وسكنى الدار
وقال بعضهم من أهل ما وراء النهر إنما وجبت بدلا عن النصرة بالجهاد واختاره القاضي أبو زيد وزعم أنه سر الله في المسألة
واستدل علماؤنا على أنها عقوبة بأنها وجبت بسبب الكفر وهو جناية فوجب أن يكون مسببها عقوبة ولذلك وجبت على من يستحق العقوبة وهم البالغون العقلاء المقاتلون
وقال أصحاب الشافعي الدليل على أنها وجبت بدلا عن حقن الدم وسكنى الدار أنها تجب بالمعاقدة والتراضي ولا تقف العقوبات على الاتفاق والرضا وأيضا فإنها تختلف باليسار والإعسار ولا تختلف العقوبات بذلك وأيضا فإن الجزية تجب مؤجلة والعقوبات تجب معجلة وهذا لا يصح
وأما قولهم إنها وجبت بالرضا فغير مسلم لأن الله تعالى أمرنا بقتالهم حتى يعطوها قسرا
وأما إنكارهم اختلاف العقوبات بالقلة واليسار فذلك باطل من الإنكار لأن ذلك إنما يبعد في العقوبات البدنية دون المالية ألا ترى أن العقوبات البدنية تختلف بالثيوبة والبكارة والإنكار فكما اختلفت عقوبة البدن باختلاف صفة الموجب عليه لا يستنكر أن يختلف عقوبة المال باختلاف صفة المال في الكثرة والقلة
وأما تأجيلها فإنما هو بحسب ما يراه الإمام مصلحة وليس ذلك بضربة لازب فيها وقد استوفيناها في مسائل الخلاف
وفائدتها أنا إذا قلنا أنها بدل عن القتل فإذا أسلم سقطت عنه لسقوط القتل
وعند الشافعي أنها دين استقر في الذمة فلا يسقطه الإسلام كأجرة الدار
المسألة الثانية عشرة
شرط الله تعالى هذين الوصفين وهما قوله عن يد وهم صاغرون للفرق بين ما يؤدى عقوبة وهي الجزية وبين ما يؤدى طهرة وقربة وهي الصدقة حتى قال النبي
481

اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي السائلة فجعل يد المعطي في الصدقة عليا وجعل يد المعطي في الجزية صاغرة سفلى ويد الآخذ عليا ذلك بأنه الرافع الخافض يرفع من يشاء ويخفض من يشاء وكل فعل أو حكم يرجع إلى الأسماء حسبما مهدناه في الأمد الأقصى
فإن قيل وهي
المسألة الثالثة عشرة
إذا بذل الجزية فحقن دمه بمال يسير مع اقراره على الكفر بالله هل هذا إلا كالرضا به
فالجواب أنا نقول في ذلك وجهان من الحكمة
أحدهما أن في أخذها معونة للمسلمين وتقوية لهم ورزق حلال ساقه الله إليهم
الثاني أنه لو قتل الكافر ليئس من الفلاح ووجب عليه الهلكة فإذا أعطى الجزية وأمهل لعله أن يتدبر الحق ويرجع إلى الصواب لا سيما بمراقبة أهل الدين والتدرب بسماع ما عند المسلمين ألا ترى أن عظيم كفرهم لم يمنع من إدرار رزقه
482

سبحانه عليهم وقد قال النبي لا أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد
وقد بين علماء خراسان هذه المسألة فقالوا إن العقوبات تنقسم إلى قسمين
أحدهما ما فيه هلكة المعاقب
والثاني ما يعود بمصلحة عليه من زجره عما ارتكب ورده عما اعتقد وفعل
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) *)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
في هذا من قول ربنا دليل على أن من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ به لا حرج عليه لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له والرد عليه فلا يمنع ذلك منه ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد فإذا أمكن من انطلاق الألسنة به فقد أذن في الإخبار عنه على معنى إنكاره بالقلب واللسان والرد عليه بالحجة والبرهان
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ذلك قولهم بأفواههم) *))
كل قول أحد إنما هو بفيه ولكن الحكمة فيه أنه قول باطل لا يتجاوز الفم وهو الموضوع الذي تحرك به لأنه لا يعلم باضطرار ولا يقوم عليه برهان فيقف حيث
483

وجد ولا يتعداه بحد بخلاف الأقوال الصحيحة فإنها تنتظم وتطرد وتعضدها الأدلة وتقوم عليها البراهين وتنتشر بالحق وتظهر بالبيان والصدق
المسألة الثالثة قوله (* (يضاهئون) *))
يعني يشابهون ومنه قول العرب امرأة ضهياء للتي لا تحيض والتي لا ثدي لها كأنها أشبهت الرجال
المسألة الرابعة قوله ())
فيه ثلاث تأويلات
الأول قول عبدة الأوثان اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى
الثاني قول الكفرة الملائكة بنات الله
الثالث قول أسلافهم فقلدوهم في الباطل واتبعوهم في الكفر كما أخبر تعالى عنهم بقوله (* (إنا وجدنا آباءنا على أمة) *) وفي هذا ذم الاتباع في الباطل
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى الحبر
هو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه ومنه ثوب محبر أي جمع الزينة ويقال بكسر الحاء وفتحها وقد غلط فيه بعض الناس فقال إنما سمي به لحمل الحبر وهو المداد والكتابة
484

والراهب هو من الرهبة الذي حمله خوف الله على أن يخلص إليه النية دون الناس ويجعل زمامه له وعمله معه وأنسه به
المسألة الثانية قوله (* (أربابا من دون الله) *))
روى الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي وفي عنقي صليب من ذهب فقال ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة (* (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) *) قال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه
وفيه دليل على أن التحريم والتحليل لله وحده وهذا مثل قوله (* (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) *) بل يجعلون التحريم لغيره
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) *)
فيها إحدى عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله (* (ليأكلون أموال الناس بالباطل) *))
فيه قولان
أحدهما أكلها بالرشا وهي كل هدية قصد بها التوصل إلا باطل كأنها تسبب إليه من الرشاء وهو الحبل فإن كانت ثمنا للحكم فهو سحت وإن كانت
485

ثمنا للجاه فهي مكروهة قال النبي لعن الله الراشي والمرتشي والرائش وهو الذي يصل بينهما ويتوسط لذلك معهما
الثاني أخذها بغير الحق كما قال الله تعالى (* (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) *) وقد بيناه
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ويصدون عن سبيل الله) *))
إن قيل فيه يصدون عن سبيل الله في الحكم بالحق والقضاء بالعدل أو قيل فيه إن معناه صدهم لأهل دينهم عن الدخول في الإسلام بتبديلهم وتغييرهم وإغوائهم وتضليلهم فهذا كله صحيح لا يدفعه اللفظ
المسألة الثالثة قوله (* (والذين يكنزون الذهب والفضة) *))
الكنز في اللغة هو المال المجموع كان فوق الأرض أو تحتها يقال كنزه يكنزه إذا جمعه فأما في الشرع وهي
المسألة الرابعة
فنحن لا نقول إن الشرع غير اللغة وإنما نقول إنه تصرف فيها تصرفها في نفسها بتخصيص بعض مسمياتها وقصر بعض متناولاتها للأسماء كالقارورة والدابة في بعض العقار والدواب
وقد اختلف فيه على سبعة أقوال
الأول أنه المجموع من المال على كل حال
الثاني أنه المجموع من النقدين
الثالث أنه المجموع منهما ما لم يكن حليا
الرابع أنه المجموع منهما دفينا
486

الخامس أنه المجموع منهما لم تؤد زكاته
السادس أنه المجموع منهما لم تؤد منه الحقوق
السابع أنه المجموع منهما ما لم ينفق ويهلك في ذات الله
وجه القول الأول ما روى ابن هرمز عن أبي هريرة قال قال النبي تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط منها حقها تطؤه بأظلافها وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط منها حقها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها قال ومن حقها أن تحلب على الماء وليأتين أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت ويأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت
وفي رواية حتى ذكر الإبل فقال وحقها إطراق فحلها وافقار ظهرها وحلبها يوم وردها وهذا محتمل لكل جامع في كل موطن بكل حال ووجه القول الثاني أن الكنز إنما يستعمل لغة في النقدين وإنما يعرف تحريم ضبط غيره بالقياس عليه
ووجه القول الثالث أن الحلي مأذون في اتخاذه ولا حق فيه ويأتي بيانه إن شاء الله
ووجه القول الرابع وهو الدفين ما روى مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر أن رسول الله قال في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي التمر صدقته ومن دفن دينارا أو درهما أو تبرا أو فضة لا يدفعها بعدها لغريم ولا ينفقها في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة
ووجه القول الخامس ما روى البخاري وغيره عن ابن عمر أن أعرابيا قال له
487

أخبرني عن قول الله (* (والذين يكنزون الذهب والفضة) *) قال ابن عمر من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهرة للأموال
ووجه القول السادس قوله في حديثها ومن حقها حلبها يوم وردها وإطراق فحلها
ووجه القول السابع أن الحقوق أكثر من الأموال والمساكين لا تستقل بهم الزكاة وربما حبست عنهم فكنز المال دون ذلك ذنب
المسألة الخامسة
اختلف الصحابة في المراد بهذه الآية فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب وخالفه أبو ذر وغيره فقال المراد بها أهل الكتاب والمسلمون روى البخاري وغيره عن زيد بن وهب قال مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له ما أنزلك منزلك هذا قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في (* (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) *) فقال معاوية نزلت في أهل الكتاب
فقلت نزلت فينا وفيهم وكان بيني وبينه ريبة في ذلك
فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان وفي رواية قال حتى آذوني فقال لي عثمان إن شئت تنحيت فكنت قريبا فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت
وهذا يدل على أن الكفار عند الصحابة يخاطبون بفروع الشريعة
وذهب عمر إلى أنها منسوخة نسختها (* (خذ من أموالهم صدقة) *) قال عراك بن مالك ولا شك في أنها منسوخة
488

المسألة السادسة في تنقيح الأقوال وجلاء الحق
وذلك ينحصر في ثلاثة مدارك
المدرك الأول أن الكل من فقهاء الأمصار اتفقوا على أنه ليس في المال حق سوى الزكاة وقد بيناه وإذا لم يكن في المال حق سواها وقضيت بقي المال مطهرا كما قال عمر
المدرك الثاني أن الآية عامة في أهل الكتاب وغيرهم وقد أكد الله ذلك بقوله (* (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) *)
المدرك الثالث تخليص الحق من هذين الأصلين فنقول
أما الكنز فهو مال مجموع لكن ليس كل مال دين لله تعالى فيه حق ولا حق لله سوى الزكاة فإخراجها يخرج المال عن وصف الكنزية ثم إن الكنز لا يكون إلا في الدنانير والدراهم أو تبرها وهذا معلوم لغة ثم إن الحلي لا زكاة فيه فيتنخل من هذا أن كل ذهب أو فضة أديت زكاتهما أو اتخذت حليا فليسا بكنز وذلك قوله سبحانه (* (والذين يكنزون الذهب) *) الآية
وهذا يدل على أن الكنز في الذهب والفضة خاصة وأن المراد بالنفقة الواجب لقوله (* (فبشرهم بعذاب أليم) *) ولا يتوجه العذاب إلا على تارك الواجب
فإن قيل فما الدليل على أن الحلي لا زكاة فيه وهي
المسألة السابعة
قلنا اختلف العلماء في ذلك اختلافا كثيرا أصله قول مالك والشافعي لا زكاة في الحلي المباح
وقال أبو حنيفة تجب فيه الزكاة ولم يصح عن النبي فيه شيء
فأما أبو حنيفة فأخذ بعموم الألفاظ في إيجاب الزكاة في النقدين ولم يفرق بين حلي وغيره
489

وأما علماؤنا فقالوا إن قصد التملك لما أوجب الزكاة في العروض وهي ليست بمحل لإيجاب الزكاة كذلك قصد قطع النماء في الذهب والفضة باتخاذهما حليا يسقط الزكاة فإن ما أوجب ما لم يجب يصلح لإسقاط ما وجب وتخصيص ما عم وشمل وقد قال بعض الناس إن ما زاد على أربعة آلاف كنز وعزوه إلى علي وليس بشيء يذكر لبطلانه
أما إنه ثبت عن النبي أنه قال إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وأشار بيده يفرقها
قال أبو ذر الأكثرون أصحاب عشرة آلاف يريد أن الأكثرين مالا هم الأقلون يوم القيامة ثوابا إلا من فرقه في سبيل الله
هذا بيان لنقصان المرتبة بقلة الصدقة لا لوجوب التفرقة بجميع المال ما عدا الصدقة الواجبة يبينه ما روى الترمذي عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال لما نزلت
* (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) *) قال كنا مع النبي في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه أنزلت في الذهب والفضة لو علمنا أي المال خير فنتخذه فقال أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه
فجعل النبي هذا جوابا لمن علم رغبته في المال فرده إلى منفعة المال لما فيه من الفراغ وعدم الاشتغال
490

وقد بين أيضا في مواضع أخر أي المال خير في حالة أخرى لقوم آخرين فقال خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) *))
فذكر ضميرا واحدا عن مذكورين
وعنه جوابان
أحدهما أن قوله (* (والذين يكنزون) *) جماعة ولكل واحد كنز فمرجع قوله ها إلى جماعة الكنوز
لثاني إن ذكر أحد الضميرين يكفي عن الثاني كما قال تعالى (* (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) *) وهما شيئان كما قال الشاعر
(إن شرخ الشباب والشعر الأسود
* ما لم يعاص كان جنونا)
وطريق الكلام الظاهر أن يقال ما لم يعاصيا ولكنه اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لدلالة الكلام عليه
المسألة التاسعة
إنما وهم من زعم أن المراد بالآية أهل الكتاب لأجل قوله في أول الآية (* (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) *) يعني من أهل الكتاب فرجع قوله (* (والذين يكنزون الذهب والفضة) *) إليهم
وهذا لا يصح من وجهين أحدهما أن أول الكلام وخصوصه لا يؤثر في آخر الكلام وعمومه لا سيما إذا كان مستقلا بنفسه
491

الثاني أن هذا إنما كان يظهر لو قال ويكنزون الذهب والفضة أما وقد قال والذين يكنزون الذهب والفضة فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة لا وصفا لجملة على وصف لها
ويعضد ذلك الحديث الصحيح رواه البخاري وغيره أن الأحنف بن قيس قال جلست إلى ملأ من قريش فجاء رجل أخشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام فسلم عليهم ثم قال بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل ثم ولى فجلس إلى سارية وجلست إليه ولا أدري من هو فقلت له لا أرى القوم إلا قد كرهوا ما قلت لهم قال إنهم لا يعقلون شيئا قال لي خليلي قلت من خليلك قال النبي يا أبا ذر أتبصر أحدا فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى رسول الله يرسلني في حاجة له قلت نعم قال لي ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير وإن هؤلاء لا يعقلون إنما يجمعون للدنيا والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله
قال القاضي الحلمة طرف الثدي والنغض بارز عظم الكتف المحدد ورواية أبي ذر لهذا الحديث صحيحة وتأويله غير صحيح فإن أبا ذر حمله على كل جامع للمال محتجز له وإنما المراد به من احتجنه واكتنزه عن الزكاة والدليل عليه أمران
أحدهما ما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة قال من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوفه يوم القيامة يأخذبلهزمتيه يعني بشدقيه يقول أنا مالك أنا كنزك ثم قرأ (* (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله) *) الآية
وقد تقدم بيانه
492

قال القاضي قوله ما لم تؤد زكاته يريد أو حق يتعلق به كفك الأسير وحق الجائع والعطشان وقد بينا أن الحقوق العارضة كالحقوق الأصلية
وقوله مثل له ماله شجاعا يعني حية وهذا تمثيل حقيقة لأن الشجاع جسم والمال جسم فتغير الصفات والجسمية واحدة بخلاف قوله يؤتى بالموت فإن تلك طريقة أخرى وإنما خص الشجاع لأنه العدو الثاني للخلق وقد قال النبي فيهن ما سالمناهن منذ حاربناهن
وقوله أقرع يعني الذي ابيض رأسه من السم
والزبيبتان زبدتان في شدقي الإنسان إذا غضب وأكثر من الكلام قالت أم غيلان بنت جرير ربما أنشدت أبي حتى تزبب شدقاي
ضرب مثلا للشجاع الذي يتمثل كهيئة المال فيلقى صاحبه غضبان وقال ابن دريد هما نقطتان سوداوان فوق عينيه وقيل هو الشجاع الذي كثر سمه حتى ظهر على شدقيه منه كهيئة الزبيبتين
وكتب أهل الحديث شجاع بغير ألف بعد العين وذكر بعض العلماء أن أهل الكوفة كتبوه بغير ألف وقرؤوه منصوبا لئلا يشكل بالممدود وكذلك نظراؤه
واللهزمة الشدقان وفي رواية يأخذ بلهزمتيه وقيل هما في أصل الحنك
وفي حديث آخر إنه يمثل له ماله شجاعا يتبعه فيضطره فيعطيه يده فيقضمها كما يقضم الفحل
فأما حبسه ليده فلأنه شح بالمال وقبض بها عليه وأما أخذه بفمه فلأنه أكله وأما خروجه من حلمة ثديه إلى نغض كتفه فلتعذيب قلبه وباطنه حين امتلأ بالفرح بالكثرة في المال والسرور في الدنيا فعوقب في الآخرة بالهم والعذاب
493

المسألة العاشرة
فإن قيل فمن لم يكنز ولم ينفق في سبيل الله أليس يكون هذا حكمه فما فائدة ذكر الكنز
قلنا إذا لم ينفق في سبيل الله ولم يكنز ولكنه بذر ماله في السرف والمعاصي فهذا يعلم أن حاله يكون مثل هذا أو أكثر منه من طريق الأولى
فإن قيل وهي
المسألة الحادية عشرة
يحتمل أن تكون هذه الآية نزلت في وقت الحاجة وفقر الصحابة وفراغ خزانة بيت المال
قلنا هذا باطل فإن الزكاة قد كانت شرعت وقد كان بعض الصحابة أغنياء وبعضهم فقراء وقد كان الفقير منهم يربط بطنه بالحجارة من الجوع وبيوت الصحابة الأغنياء مملوءة من الرزق يشبع أولئك ويجوع هؤلاء فيندبهم النبي إلى الصدقة ويرغبهم في المواساة ولا يوجب عليهم الخروج عن جميع أموالهم
الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
روي عن أبي هريرة قال من ترك عشرة آلاف درهم جعلت صفائح يعذب بها صاحبها يوم القيامة قبل القضاء وعن ابن مسعود أنه قال والله لا يعذب الله رجلا بكنز فيمس درهم درهما ولا دينار دينارا ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم على حدته
وعن ثوبان قال قال رسول الله ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض
494

إلا جعل له بكل قيراط صفيحة من نار فيكوى بها من فرقه إلى قدمه مغفور له بعد ذلك أو معذب
قال القاضي هذه الأحاديث لم يصح سندها وهي بعد محمولة على ما لم تؤد زكاته فقد روي أن رجلا كان يسأل الناس فمات فوجدوا له عشرين ألفا فقال الناس كنز فقال ابن عمر لعله كان يؤدي زكاته من غيره وما أدى زكاته فليس بكنز ومثله عن جابر رضي الله عنه
وأما قول ابن مسعود أنه يوسع جلده فهذا إنما صح في الكافر أنه تعظم جثته زيادة في عذابه ويغلظ جلده يكبر ضرسه حتى يكون مثل أحد فأما المؤمن فلا يكون ذلك له بحال
المسألة الثانية قال علماؤنا
إنما كويت جبهته أولا لعله أنه كان يزويها للسائل كراهية لسؤاله كما قال الشاعر
(يزيد يغض الطرف عني كأنما
* زوى بين عينيه علي المحاجم)
(فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى
* ولا تلقني إلا وأنفك راغم)
ثم يلوي عن وجهه ويعطيه جنبه إذا زاده في السؤال فإن أكثر عليه ولاه ظهره فرتب الله العقوبة على حال المعصية
وقد روي عن عبد الله بن مسعود قال من كان له مال فلم يؤد زكاته طوقه يوم القيامة شجاعا أقرع ينقر رأسه
فلعله إن صح أن يكون الكي من خارج والنقر من داخل
وقالت الصوفية لما طلبوا بكثرة المال الجاه شان الله وجوههم ولما طووا كشحا
495

عن الفقير إذا جالسهم كويت جنوبهم ولما أسندوا بظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتمادا عليها دون الله كويت ظهورهم هذا والكل معنى صحيح
المسألة الثالثة
إن كان المكتنز كافرا فهذه بعض عقوباته وإن كان مؤمنا فهذه عقوبته إن لم يغفر له ويجوز أن يعفى عنه وقد بينا ذلك في غير موضع
وقال علماؤنا إنما عظم الوعيد في هذا الباب لما في اختلاف العباد من الشح على المال والبخل به فإذا خافوا من عظيم الوعيد لانوا في أداء الطاعة والله أعلم
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) *)
فيها ثمان مسائل
المسألة الأولى
اعلموا أنار الله أفئدتكم أن الله خلق السماوات والأرض وزينها بالشمس والقمر ورتب فيها النور والظلمة وركب عليها المصالح الدنيوية والعبادات الدينية وأحكم الشهور والأعوام ونظم بالكل من ذلك ما خلق من مصلحة ومنفعة وعبادة وطاعة وعلم ذلك الناس أولا وآخرا ابتداء وانتهاء فقال
((* (إن في خلق السماوات والأرض) *) إلى (* (الألباب) *) وقال (* (هو الذي جعل الشمس ضياء) *) إلى (* (بالحق) *) فأخذ كل فريق ذلك فاضطربوا في تفصيله فقال الروم السنة اثنا عشر شهرا والشهور مختلفة شهر ثمانية وعشرون يوما وشهر ثلاثون يوما وشهر واحد وثلاثون يوما
496

وقال الفرس الشهور كلها ثلاثون يوما إلا شهرا واحدا فإنه من خمسة وثلاثين يوما
وقالت القبط بقولها إن الشهر ثلاثون يوما إلا أنه إذا كمل العام ألغت خمسة أيام تنسئها بزعمها
واتفقوا على أنه لا بد في كل عام من ربع يوم مزيدا على العام ثم يجتمع منه في كل أربعة أعوام يوم فيكبس أي يلغى ويزاد في العدد ويستأنف العام بعده وهذا كله قصدا لترتيب المصالح والمنافع
المسألة الثانية تحقيق القول
إن الله خلق السنة اثني عشر شهرا لأن الله خلق البروج في السماء اثني عشر برجا ورتب فيها سير الشمس والقمر وجعل مسير القمر وقطعه للفلك في كل شهر وجعل سير الشمس فيها وقطعه في كل عام ويتقابلان في الاستعلاء فيعلو القمر إلى الاستواء وتسفل الشمس وتعلو الشمس ويسفل القمر وهكذا على الأزمنة الأربعة وفي الشهور الاثني عشر وجعل عدد أيام السنة القمرية ربع يوم وأربعة وخمسين يوما وثلاثمائة يوم وجعل أيام السنة الشمسية ربع يوم وخمسة وستين يوما وثلاثمائة يوم فركب العلماء على هذا مسألة وهي إذا قال لا أكلمه الشهور فلا يكلمه حولا مجرما كاملا قال بعض العلماء لقوله تعالى (* (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله) *) وقيل لا يكلمه أبدا
وأرى إن لم تكن له نية أن يقضي ذلك بثلاثة شهور لأنه أقل الجمع بيقين الذي تقتضيه صيغة فعول في جمع فعل
ومن الناس من جعل سنة من السنين ثلاثة عشر شهرا مقدار ما يجتمع من الكسر في الزيادة فيلغون منه شهرا في سنة وقصدهم بذلك كله ألا تغير الشهور عن أوقاتها التي تجري عليها في الأزمنة الأربعة الشتاء والصيف والقيظ والخريف
497

المسألة الثالثة
مما ضل فيه جهال الأمم أنهم وضعوا صومهم في زمان واحد وكان وضع الشريعة الحنيفية السمحة أن يكون بالأهلة حتى يخف تارة ويثقل أخرى حتى يعم الابتلاء الجهتين جميعا فيختلف الحال فيه على الواحد والنفس كثيرا ما تسكن إلى ذلك أو يختلف فيه الحال على الجماعة والأمة لذلك المعنى أيضا
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (في كتاب الله) *))
يريد قوله أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فكتب ما يكون إلى أن تقوم الساعة فعلم الله ما يكون في الأزل ثم كتبه ثم خلقه كما علم وكتب فانتظم العلم والكتاب والخلق
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (يوم خلق السماوات والأرض) *))
متعلق بالمصدر وهو قوله (* (كتاب الله) *) كما أن حرف الجر من قوله في كتاب الله وهو في لا يتعلق بقوله عدة لأن الخبر قد حال بينهما ولكنه يتعلق بمحذوف صفة للخبر كأنه قال معدودة أو مؤداة أو مكتوبة في كتاب الله كقولك زيد في الدار وذلك مبين في ملجئة المتفقهين
المسألة السادسة قوله تعالى (* (منها أربعة حرم) *))
وهي رجب الفرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وفي رواية ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان
وقوله (* (حرم) *) جمع حرام كأنه يوجد احترامها بما منع فيها من القتال وأوقع في قلوب الناس لها من التعظيم
498

ومعنى قوله رجب مضر فيما قاله القاضي أبو إسحاق أن بعض أحياء العرب وأحسبه من ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجب فأراد النبي تخصيصه بالبيان باقتصار مضر على تحريمه
وقد روي في الحديث ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذلك كله بيان لتحقيق الحال وتنبيه على رفع ما كان وقع فيها من الاختلال
المسألة السابعة قوله تعالى (* (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) *))
فيه قولان
أحدهما لا تظلموا أنفسكم في الشهور كلها
وقيل في الثاني المراد بذلك الأشهر الحرم
واختلف في المراد بالظلم على قولين أيضا
أحدهما لا تظلموا فيهن أنفسكم بتحليلهن وقيل بارتكاب الذنوب فيهن فإن الله إذا عظم شيئا من جهة صارت له حرمة واحدة وإذا عظمه من جهتين أو من جهات صارت له حرمته متعددة بعدد جهات التحريم ويتضاعف العقاب بالعمل السوء فيها كما ضاعف الثواب بالعمل الصالح فيها فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام والمسجد الحرام ليس كمن أطاعه في شهر حلال في بلد حلال في بقعة حلال وكذلك العصيان والعذاب مثله في الموضعين والحالين والصفتين وذلك كله بحكم الله وحكمته وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله (* (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) *) لعظمهن وشرفهن في أحد القولين
المسألة الثامنة
فإن قيل وكيف جعل بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض
قلنا عنه جوابان
499

أحدهما أن الباري تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ليس عليه حجر ولا لعمله علة بل كل ذلك بحكمة وقد يظهر للخلق وجه الحكمة فيه وقد يخفى
الثاني أن معنى ذلك أن النفس مجبولة على اقتضاء الشهوات فلما وجبت عليه تكاليف المحرمات جعل بعضها أغلظ من بعض ليعتاد بكفها عن الأخف الكف عن الأغلظ ويجعل بعض الأزمنة والأمكنة أعظم حرمة من بعض ليعتاد في الخفيف الامتثال فيسهل عليه في الغليظ والله أعلم
المسألة التاسعة
اختلف الناس في أول هذه الأشهر الحرم فقال بعضهم أولها المحرم وآخرها ذو الحجة لأنه على تقرير شهور العام الأول فالأول
الثاني أن أولها رجب وآخرها المحرم معدودة من عامين لأن رجب له فضل الإفراد
الثالث أن أولها ذو القعدة لأن فيه التوالي دون التقطيع وهو الصحيح لقوله في تعدادها ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وهذا نص صريح من رواية الصحيح
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) *)
فيها أربع مسائل
500

المسألة الأولى
قال الله تعالى (* (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) *) إلى قوله (* (من الذين أوتوا الكتاب) *) وقال ها هنا (* (وقاتلوا المشركين كافة) *) يعني محيطين بهم من كل جهة وحالة فمنعهم ذلك من الاسترسال
الم سألة الثانية قوله تعالى (* (كافة) *) مصدر حال ووزنه فاعلة وهو غريب في المصادر كالعافبة والعاقبة اشتق من كفة الشيء وهو حرفه الذي لا يبقى بعده زيادة عليه ومثله عامة وخاصة ولا يثنى شيء من ذلك ولا يجمع
المسألة الثالثة
قال الطبري معناه مؤتلفين غير مختلفين فرد ذلك إلى الاعتقاد ولا يمتنع أن يرجع إلى الفعل والاعتقاد
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (واعلموا أن الله مع المتقين) *))
يعني بالنصر وعدا مربوطا بالتقوى فإنما تنصرون بأعمالكم وقد تقدم بيانه
الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) *)
فيها ثماني مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (النسيء) *))
اختلف الناس فيه على قولين
أحدهما أنه الزيادة يقال نسأ ينسأ إذا زاد قاله الطبري
الثاني أنه التأخير قال الأزهري يقال أنسأت الشيء إنساء ونساء اسم وضع موضع المصدر وله معان كثيرة
501

أما الطبري فاحتج بأنه يتعدى بحرف الجر فيقال أنسأ الله في أجلك كما تقول زاد الله في أجلك وتقول أنسأ الله في أجلك أي زاده مدة واكتفى بأحد المفعولين عن الثاني ومنع من قراءته بغير الهمز ورد على نافع وقال لا يكون بترك الهمز إلا من النسيان كما قال (* (نسوا الله فنسيهم) *)
واحتج من زعم أنه التأخير بنقل العرب لهذا التفسير عن أوائلها وقيد ذلك عنهم مشيخة العرب وقد قال الله
((* (ما ننسخ من آية أو ننسها) *) أي نؤخرها مهموزة وقد تخفف الهمز كما يقال خطية وخطيئة والصابيون والصابئون وتخفيف الهمز أصل ونقل الحركة أصل والبدل والقلب أصل كله لغوي وما كان ينبغي أن يخفي هذا على الطبري
وأما فصل التعدي فضعيف فإن الأفعال المتعدية بالوجهين من وجوه حرف الجر وفي تعديها به وعدمه كثيرة
المسألة الثانية في كيفية النسيء
ثلاثة أقوال
الأول عن ابن عباس أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم كل عام فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يجاب ألا وإن صفرا العام الأول حلال فنحرمه عاما ونحله عاما وكانوا مع هوازن وغطفان وبني سليم
وفي لفظة أنه كان يقول إنا قدمنا المحرم وأخرنا صفر ثم يأتي العام الثاني فيقول إنا حرمنا صفرا وأخرنا المحرم فهو هذا التأخير
الثاني الزيادة قال قتادة عمد قوم من أهل الضلالة فزادوا صفرا في الأشهر الحرم فكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرم فيحرمونه ذلك العام ثم يقوم في العام المقبل فيقول ألا إن آلهتكم قد حرمت صفرا فيحرمونه ذلك العام ويقولون الصفران
502

وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك نحوه قال كان أهل الجاهلية يجعلونه صفرين فلذلك قال النبي لا صفر وكذلك روى أشهب عنه
الثالث تبديل الحج قال مجاهد بإسناد آخر إنما النسيء زيادة في الكفر قال حجوا في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافت حجة أبي بكر في ذي القعدة ثم حج النبي في ذي الحجة فذلك قول النبي في الحديث الصحيح في خطبته إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض رواه ابن عباس وغيره واللفظ له قال قال رسول الله أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا في هذا الموقف أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام إلى يوم تلقون ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن كل ربا موضوع ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أن لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع وإن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل فهو أول ما بدأ به من دماء الجاهلية
أما بعد أيها الناس فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فقد رضي به فاحذروه أيها الناس على دينكم وإن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا إلى قوله ما حرم الله وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ' وذكر سائر الحديث
503

المسألة الثالثة في أول من أنسأ
في ذلك كلام طويل لبابه عن ابن شهاب وغيره أن حيا من بني كنانة ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس واسمه حذيفة بن عبيد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة وكان ملكا فكان يحل المحرم عاما ويحرمه عاما فكان إذا حرمه كانت ثلاثة حرم متواليات وهذه العدة التي حرم الله في عهد إبراهيم فإذا أحله أدخل مكانه صفر ليواطئ العدة يقول قد أكملت الأربعة كما كانت لأني لم أحل شهرا إلا حرمت مكانه آخر وكانت العرب كذلك ممن كانت تدين بدين القلمس فكان يخطب بعرفة فيقول اللهم إني لا أعاب ولا أجاب ولا مرد لما قضيت اللهم إني قد أحللت دماء المحلين من طيء وخثعم فمن لقيهما فليقتلهما فرجع الناس وقد أخذوا بقوله
وإنما أحل دماء طيء وخثعم لأنهم كانوا لا يحجون مع العرب ولا يحرمون الحرم وكانوا يستحلونها وكان سائر العرب يحرمون الحرم ثم كان ابنه على الناس كما كان القلمس واسمه عباد ثم ابنه أقلع ثم ابنه أمية بن أقلع بن عباد ثم ابنه عوف بن أمية ثم ابنه جنادة بن عوف كما تقدم فحج نبي الله حجة الوداع وجنادة صاحب ذلك حتى بعث الله نبيه وأكمل الحرم ثلاثة متواليات ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان
وفي رواية العرب كانت إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فحرم الأشهر الحرم فإذا أراد أن يحل شيئا منها لغنيمة أو لغارة أحل المحرم وحرم مكانه صفر وفي ذلك يقول عمير بن قيس بن جذل الطعان
(لقد علمت معد أن قومي
* كرام الناس أن لهم كراما) فأي الناس فاتونا بوتر
* وأي الناس لم تعلك لجاما) ألسنا الناسئين على معد
* شهور الحل نجعلها حراما) وقد تقدم غير هذا بزيادة عليه في المسألة قبلها
504

المسألة الرابعة
وقد قدمنا أن الإنساء كان عند العرب زيادة وتأخيرا وتبديلا وأقله صحة الزيادة لقوله (* (ليواطئوا عدة ما حرم الله) *) فإنما ذكر الله في الإنساء ما كان تبديلا أو تأخيرا وأقله الزيادة
والمواطأة هي الموافقة تقول العرب واطأتك على الأمر أي وافقتك عليه فكانوا يحفظون عدة الأشهر الحرم التي هي أربعة لكنهم يبدلون ويؤخرون ويزعمون أنه المواطأة على العدة تكفي وإن خالفت في أعيان الأشهر المحرمات
ويحتمل أن يكون الإنساء عندهم بالثلاثة أوجه فذكر الله منها الوجهين ولم يذكر الزيادة وعظم التبديل والتأخير وإن وقعت الموافقة في العدد فكان تنبيها على أن المخالفة في وجه أزيد في الكفر وأعظم في الإثم
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (زيادة في الكفر) *))
قد بينا الكفر وحقيقته وذكرنا أنه راجع إلى الإنكار فمن أنكر شيئا من الشريعة فهو كافر ولأنه مكذب لله ورسوله والزيادة فيه والنقصان منه حق وصدق وكذلك الزيادة في الإيمان والنقصان منه حق وصدق وبينا حقيقة الإيمان والكفر واختلاف الناس فيهما والحق من ذلك في كتب الأصول على وجه مستوفى لبابه أن أهل السنة اختلفوا في الإيمان فمنهم من قال هو المعرفة قاله شيخ السنة واختاره لسان الأمة في مواضع
ومنهم من قال هو التصديق قاله لسان الأمة أيضا
ومنهم من قال هو الاعتقاد والقول والعمل فمن قال إنه المعرفة منهم فقد خالف اللغة وتجوز ظاهرها إلى وجه من التأويل فيها
505

ومن قال إنه التصديق فقد وافق مطلق اللغة لكنه قد يكون بمعنى التصديق وقد يكون بمعنى الأمان قال النابغة
(والمؤمن العائذات الطير يمسحها
* ركبان مكة بين الغيل والسند)
وأما من قال إنه الاعتقاد والقول والعمل فقد جمع الأقوال كلها وركب تحت اللفظ مختلفات كثيرة ولم يبعد من طريق التحقيق في جهة الأصول ولا في جهة اللغة أما في جهة اللغة فلأن الفعل يصدق القول أو يكذبه قال النبي العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والنفس تمني وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه
فإذا علم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فليتكلم بمقتضى علمه وإذا تكلم بما علم فليعمل بمقتضى علمه فيطرد الفعل والقول والعلم فيقع إيمانا لغويا شرعيا أما لغة فلأن العرب تجعل الفعل تصديقا قال تعالى (* (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا) *) وصدق الوعد اتصال الفعل بالقول
فإن قيل هذا مجاز قلنا هذه حقيقة وقد بيناه في كتب الأصول وعلى هذا المعنى جاء قوله (* (وما كان الله ليضيع إيمانكم) *))
وعلى ضده جاء قوله من ترك الصلاة فقد كفر
إذا ثبت هذا فاختلفوا أيضا في الزيادة فيهما والنقصان كما بيناه في موضعه وهي
المسألة السادسة
فأما من قال إنه المعرفة أو التصديق بالقلب فأبعد الزيادة فيه والنقصان لأنها
506

أعراض وزعموا أن الزيادة أو النقص لا يتصور في الأعراض وإنما يتأتى في الأجسام
وأما من قال إنه الأعمال فتصور فيها الزيادة والنقصان
وقد سئل مالك هل يزيد الإيمان وينقص فقال يزيد ولم يقل ينقص
وأطلق غيره الزيادة والنقص عليه
وتحقيق القول في ذلك أن العلم يزيد وينقص وكذلك القول وكذلك العمل والكل بأج واحد وحقيقة واحدة لا يختلف في ذلك ولا يخرج واحد منها عنه وإن كانت كلها أعراضا كما بينا وذلك لأن الشيء لا يزيد بذاته ولا ينقص بها وإنما له وجود أول فلذلك الوجود أصل ثم إذا انضاف إليه وجود مثله وأمثاله كان ذلك زيادة فيه وإن عدمت تلك الزيادة فهو النقص وإن عدم الوجود الأول الذي يتركب عليه المثل لم يكن زيادة ولا نقصان وقدر ذلك في العلم أو في الحركة فإن الله سبحانه إذا خلق علما فردا وخلق معه مثله أو أمثاله بمعلومات مقدرة فقد زاد علمه فإن أعدم الله الأمثال فقد نقص أي زالت الزيادة وكذلك لو خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها فإذا خلق الله للعبد العلم به من وجه وخلق له التصديق به بالقول النفسي أو الظاهر وخلق له الهدى للعمل به وليس العمل ثم خلق له مثل ذلك وأمثاله فقد زاد إيمانه
وبهذا المعنى على أحد الأقوال فضل الأنبياء على الخلق فإنهم علموه تعالى من وجوه أكثر من الوجوه التي علمه الخلق بها فمن عذيري ممن يقول إن الأعمال تزيد وتنقص ولا تزيد المعرفة ولا تنقص لأنها عرض ولا يعلم أن الأعمال أعراض
507

والحالة فيهما واحدة وقد صرح الله بالزيادة في الإيمان في مواضع من كتابه فقال (* (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) * ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) وقال (* (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) *)
وقال في جهة الكفار (* (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) *) الآية فأطلق الزيادة في الوجهين
وقد قال علماؤنا إن مالكا رضي الله عنه بعلمه وورعه امتنع من إطلاق النقص في الإيمان لوجوه بيناها في كتب الأصول منها أن الإيمان يتناول إيمان الله وإيمان العبد فإذا أطلق إضافة النقص إلى مطلق الإيمان دخل في ذلك إيمان الله ولا يجوز إضافة ذلك إليه سبحانه لاستحالته فيه عقلا وامتناعه شرعا وعلى هذا يجوز إضافة ذلك إلى إيمان العبد على التخصيص بأن يقول إيمان الخلق يزيد وينقص
ومنها أن الإيمان من المعاني التي يجب مدحها ويحرم ذمها شرعا والنقص صفة ذم فلا يجوز أن يطلق على ما يستحق المدح فيه ويحرم الذم فإذا تحرر لكم هذا ويسر الله قبول أفئدتكم له فإنه مقلب الأفئدة والأبصار فإن قوله تعالى وهي
المسألة السابعة (* (إنما النسيء زيادة في الكفر) *))
بيان لما فعلته العرب من جمعها بين أنواع الكفر فإنها أنكرت وجود الباري فقالت وما الرحمن في أصح الوجوه وأنكرت البعث فقالت (* (من يحيي العظام وهي رميم) *) وأنكرت بعثة الرسل فقالت (* (أبشرا منا واحدا نتبعه) *) الآية
وزعمت أن التحريم والتحليل إليها فابتدعت من ذاتها مقتفية لشهواتها التحريم والتحليل ثم زادت على ذلك كله بأن غيرت دين الله وأحلت ما حرم وحرمت ما
508

أحل تبديلا وتحريفا والله لا مبدل لكلماته ولو كره المشركون وهكذا في جميع ما فعلت من تغيير الدين وتبديل الشرع
المسألة الثامنة قوله (* (زين لهم سوء أعمالهم) *))
أي خلق لهم اعتقاد الحسن فيها وهي قبيحة فنظروا فيها بالعين العوراء لطمس أعينهم وفساد بصائرهم وذلك حكم الله في عدم الهدى للكافرين
الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) *)
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله (* (ما لكم) *))
ما حرف استفهام التقدير أي شيء يمنعكم عن كذا كما تقول ما لك عن فلان معرضا ونظامه الصناعي ما حصل لك مانعا لكذا أو كذا وكذا تقول ما لك تقوم وتقعد التقدير أي شيء حصل لك مانعا من الاستقرار
المسألة الثانية قوله (* (انفروا في سبيل الله) *))
يقال نفر إذا زال عن الشيء وتصريفه نفر ينفر نفيرا ونفرت الدابة تنفر نفورا وكأن النفور في الإباية والنفير في الإقبال والسعاية وقد يؤلفان على رأي من يرى تأليف
المعاني المختلفة تحت اللفظ الواحد بوجه يبعد تارة ويقرب أخرى ويكون تأويله ها هنا زولوا عن أرضيكم وأهليكم في سبيل الله
المسألة الثالثة في محل النفير
لا خلاف بين العلماء أن المراد به غزوة تبوك دعا رسول الله إليها في حمارة
509

القيظ وطيب الثمار وبرد الظلال فاستولى على الناس الكسل وغلبهم على الميل إليها الأمل فتقاعدوا عنه وتثاقلوا عليه فوبخهم الله على ذلك بقوله هذا وعاب عليهم الإيثار للدنيا على ثواب الآخرة
المسألة الرابعة قوله (* (اثاقلتم) *))
قال المفسرون معناه تثاقلتم وهذا توبيخ على ترك الجهاد وعتاب في التقاعد عن المبادرة إلى الخروج
ونحو قوله (* (ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله) *) هو قوله (* (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) *) المعنى لا تقبلوا على الأموال إيثارا لها على الأعمال الصالحة ولا تركنوا إلى التجارة الحاضرة تقديما لها على التجارة الرابحة التي تنجيكم من العذاب الأليم حسبما تقدم بيانه في سورة البقرة
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) *))
يعني بدلا من الآخرة ويرد ذلك في كلام العرب نثرا ونظما قال الشاعر
(فليت لنا من ماء زمزم شربة
* مبردة باتت على الطهيان)
أراد ليت لنا بدلا من ماء زمزم والطهيان عود ينصب في ساحة الدار للهواء ويعلق عليه إناء ليلا حتى يبرد
عاتبهم في إيثار الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا قال النبي لعائشة رضي الله عنها وقد طافت راكبة أجرك على قدر نصبك وهذا لا يصدر إلا عن قلب موقن بالبعث
510

الآية الثانية والعشرون
قوله تعالى (* (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير) *
فيها مسألتان
المسألة الأولى هذا تهديد شديد ووعيد مؤكد في ترك النفير
ومن محققات مسائل الأصول أن الأمر إذا ورد فليس في وروده أكثر من اقتضاء الفعل فأما العقاب عند الترك فلا يؤخذ من نفس الأمر ولا يقتضيه الاقتضاء وإنما يكون العقاب بالخبر عنه كقوله إن لم تفعل كذا عذبتك بكذا كما ورد في هذه الآية فوجب بمقتضاها النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقابلتهم على أن تكون كلمة الله هي العليا
المسألة الثانية في نوع العذاب
قال ابن عباس هو حبس المطر عنهم فإن صح ذلك فهو أعلم من أين قاله وإلا فالعذاب الأليم هو الذي في الدنيا باستيلاء العدو على من لم يستول عليه وبالنار في الآخرة وزيادة على ذلك استبدال غيركم كما قال الله سبحانه (* (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) *) الآية
الآية الثالثة والعشرون
قوله تعالى (* (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) *)
فيها ست مسائل
المسألة الأولى النصر
هو المعونة وقد تقدم بيانه
511

المسألة الثانية قوله (* (ثاني اثنين) *))
وللعرب في ذلك لغتان تقول ثاني اثنين وثالث ثلاثة ورابع أربعة بمعنى أحدهما مشتقة من المضاف إليه وتقول أيضا خامس أربعة أي الذي صيرهم خمسة
المسألة الثالثة قوله (* (إلا تنصروه) *))
يعني تعينوه بالنفير معه في غزوة تبوك فقد نصره الله بصاحبه أبي بكر وأيده بجنود الملائكة
روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا هو أبو بكر الصديق قال فرأيت مالكا يرفع بأبي بكر جدا لهذه الآية
قال وكانوا في الهجرة أربعة منهم عامر بن فهيرة ورقيط الدليل
قال غير مالك يقال أريقط قال القاضي رضي الله عنه فحق أن يرفع مالك أبا بكر بهذه الآية ففيها عدة فضائل مختصة لم تكن لغيره منها قوله إذ يقول لصاحبه فحقق له
تعالى قوله له بكلامه ووصف الصحبة في كتابه متلوا إلى يوم القيامة
ومنها قوله (* (إن الله معنا) *) وفي الحديث الصحيح أن النبي قال لأبي بكر في الغار يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما وهذه مرتبة عظمى وفضيلة شماء لم يكن لبشر أن يخبر عن الله سبحانه أنه ثالث اثنين أحدهما أبو بكر كما أنه قال مخبرا عن النبي وأبي بكر ثاني اثنين
512

ومنها قوله (* (لا تحزن إن الله معنا) *) وقال مخبرا عن موسى وبني إسرائيل (* (كلا إن معي ربي سيهدين) *)
قال لنا أبو الفضائل المعدل قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم قال موسى (* (كلا إن معي ربي سيهدين) *) وقال في محمد وصاحبه (* (لا تحزن إن الله معنا) *) لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده فرجع من عند ربه ووجدهم يعبدون العجل
ولما قال في محمد إن الله معنا بقي أبو بكر مهتديا موحدا عالما عازما قائما بالأمر لم يتطرق إليه اختلال
ومنها قوله (* (فأنزل الله سكينته عليه) *)
فيه قولان
أحدهما على النبي الثاني على أبي بكر
قال علماؤنا وهو الأقوى لأن الصديق خاف على النبي من القوم فأنزل الله سكينته ليأمن على النبي فسكن جأشه وذهب روعه وحصل له الأمن وأنبت الله شجر ثمامة وألهم الوكر هنالك حمامه وأرسل العنكبوت فنسجت عليه بيتا فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس وما أقواها في باطن المعنى ولهذا المعنى قال النبي في الحديث الصحيح لعمر حين تغامر مع أبي بكر الصديق هل أنتم تاركوا لي صاحبي إن الناس كلهم قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت ومنها أنه جعل أبا بكر في مقابلة الصحابة أجمع فقال إلا تنصروه فقد نصره الله بصاحبه في الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه ووفائه له بوقايته له بنفسه وبمواساته بماله وكذلك روي أن ميزانا نزل من السماء فوزن النبي
513

بالخلق فرجحهم وبهذه الفضائل استحق أن يقال فيه لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا وسبقت له بذلك كله الفضيلة على الناس
روى البخاري وغيره عن عبد الله بن عمر أنه قال كنا نخير بين الناس في زمن رسول الله فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان
وروي عن مالك أنه قال خير الناس بعد نبيهم أبو بكر وسيأتي في سورة النور بيان ذلك مستوفى إن شاء الله
المسألة الرابعة وهي عظمى في الفقه من قوله تعالى (* (إذ أخرجه الذين كفروا) *))
وهو خرج بنفسه فارا عن الكافرين بإلجائهم له إلى ذلك حتى فعله فنسب الفعل إليهم ورتب الحكم فيه عليهم وذمهم عليه وتوعدهم فلهذا يقتل المكره على القتل ويضمن المال المكره على إتلاف المال لإلجائه القاتل والمتلف إلى القتل والإتلاف وكذلك شهود الزنا المزورون باتفاق من المذهب وشهود القصاص إذا شهدوا بالقتل باطلا باختلاف بين علمائنا والمسألة عسيرة المأخذ وقد حققناها في مسائل الخلاف
وجملة الأمر أن نسبة الفعل إلى المكره لا خلاف فيه وكذلك تعلق الإثم به مع القصد إليه لا خلاف فيه فأما ما يترتب عليه من حكم فإن ذلك يختلف بحسب اختلاف المحال والأسباب حسبما تقتضيه الأدلة فلينظر هنالك
المسألة الخامسة
وفي هذه الآية دليل على جواز الفرار من خوف العدو وترك الصبر على ما ينزل من بلاء الله وعدم الاستسلام المؤدي إلى الآلام والهموم وألا يلقي بيده إلى العدو توكلا على الله ولو شاء ربكم لعصمه مع كونه معهم ولكنها سنة الأنبياء وسيرة الأمم حكم الله بها لتكون قدوة للخلق وأنموذجا في الرفق وعملا بالأسباب
514

المسألة السادسة
قالت الإمامية قبحها الله حزن أبي بكر في الغار مع كونه مع النبي دليل على جهله ونقصه وضعف قلبه وحيرته
أجاب على ذلك علماؤنا بثلاثة أجوبة
الأول أن قوله لا تحزن ليس بموجب بظاهره وجود الحزن إنما يقتضي منعه منه في المستقبل فلعل النبي قال له ذلك زيادة في طمأنينة قلبه فإن الصديق قال للنبي لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال له لا تحزن إن الله معنا لتطمئن نفسه
الثاني أن الصديق لا ينقصه إضافة الحزن إليه كما لم تنقص إبراهيم حين قيل عنه (* (نكرهم وأوجس منهم خيفة) *) ولم ينقص موسى قوله عنه (* (فأوجس في نفسه خيفة موسى) *)
وهذان العظيمان قد وجدت عندهم التقية نصا وإنما هي عند الصديق ها هنا باحتمال
الثالث أن حزن الصديق رضي الله عنه لم يكن لشك وحيرة وإنما كان خوفا على النبي أن يصل إليه ضرر ولم يكن النبي في ذلك الوقت معصوما من الضرر فكيف يكون الصديق رضي الله عنه ضعيف القلب وهو لم يستخف حين مات النبي بل ظهر وقام المقام المحمود الذي تقدم ذكرنا له بقوة يقين ووفور علم وثبوت جأش وفصل للخطبة التي تعيي المحتالين
الآية الرابعة والعشرون
قوله تعالى (* (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) *)
فيها خمس مسائل
515

المسألة الأولى في سبب نزولها قد تقدم ذكر نزول ذلك في غزوة تبوك إلى الروم وكانت غزوة بعيدة في وقت شديد من حمارة القيظ وعدوا كثيرا استنفر لها الناس كلهم على ما نبينه إن شاء الله
المسألة الثانية قوله (* (خفافا وثقالا) *))
فيه عشرة أقوال
الأول روي عن أنس عن أبي طلحة أنه قال شبان وكهول ما سمع الله عذر أحد فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات
الثاني شبانا وشيبا
الثالث في اليسر والعسر
الرابع في الفراغ والشغل
الخامس مع الكسل والنشاط
السادس رجالا وركبانا
السابع صاحب صنعة ومن لا صنعة له
الثامن جبانا وشجاعا
التاسع ذا عيال ومن لا عيال له
العاشر الثقيل الجيش كله والخفيف المقدمة
وقد يمكن أن يكون فيها غير هذه الأقوال إلا أن هذه جملة تدل على ما بقي والكل محتمل أن يكون مرادا بالآية لكن منه ما يقرب ومنه ما يبعد
المسألة الثالثة
قال علماؤنا اختلف في أحكام هذه الآية أو نسخها على قولين بيناهما في القسم الثاني
516

والصحيح أنها غير منسوخة وقد تكون حالة يجب فيها نفير الكل إذا تعين الجهاد على الأعيان بغلبة العدو على قطر من الأقطار أو بحلوله بالعقر فيجب على كافة الخلق الجهاد والخروج إليه فإن قصروا عصوا
ولقد نزل بنا العدو قصمه الله سنة سبع وعشرين وخمسمائة فجاس ديارنا وأسر جيرتنا وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده وكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه فقلت للوالي والمولى عليه هذا عدو الله وقد حصل في الشرك والشبكة فلتكن عندكم بركة ولتظهر منكم إلى نصرة دين الله المتعينة عليكم حركة فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع هذه الأقطار فيحاط به فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له فغلبت الذنوب ووجفت القلوب بالمعاصي وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره وإن رأى المكروه بجاره فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل
ومن الناس من قال إنها منسوخة بقوله (* (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) *) وذلك بين في موضعه
المسألة الرابعة
إذا كان النفير عاما لغلبة العدو على الحوزة أو استيلائه على الأسارى كان النفير عاما ووجب الخروج خفافا وثقالا وركبانا ورجالا عبيدا وأحرارا من كان له أب من غير إذنه ومن لا أب له حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو ويستنقذ الأسرى ولا خلاف في هذا
ولقد روي أن بعض الأمراء عاهد كفارا ألا يحبسوا أسيرا فدخل رجل من جهته بلادهم فمر على بيت مغلق فنادته امرأة إني أسيرة فأبلغ صاحبك خبري
فلما اجتمع به استطعمه عنده وتجاذبا ذيل الحديث انتهى الخبر إلى هذه المعذبة فألقاه إليه فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدمه وخرج غازيا من فوره ومشى
517

إلى البلد حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع فكيف بنا وعندنا عهد الله ألا نسلم إخواننا إلى الأعداء وننعم وهم في الشقاء أو نملك بالحرية وهو أرقاء يالله ولهذا الخطب الجسيم نسأل الله التوفيق للجمهور والمنة بصلاح الآمر والمأمور فإن قيل فكيف يصنع الواحد إذا قصر الجميع وهي
المسألة الخامسة
قلنا يقال له وأين يقعان مما أريد مكانك أيها الواحد لا يفتى ومالك لا يكفي والأمر لله فيما يريد من توفيق أو قطع للطريق وقد همهم الخاطر بهذه المسألة وزمزم اللسان بها مدة والذي يحدث أخبارها ويطفئ والله أعلم أوارها أن يعمد من رأى تقصير الخلق إلى أسير واحد فيفديه فإن الأغنياء لو اقتسموا فداء الأسرى ما لزم كل واحد منهم إلا أقل من درهم للرجل الواحد فإذا فدى الواحد فقد أدى في الواحد أكثر مما كان يلزمه في الجماعة ويغزو بنفسه إن قدر وإلا جهز غازيا فقد قال رسول الله من جهز غازيا فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا
الآية الخامسة والعشرون
قوله تعالى (* (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (ومنهم من يلمزك في الصدقات) *))
أي يعيبك وفيه قولان
أحدهما أنه العيب مطلقا ومنهم من قال إنه العيب بالغيب يقال لمزه يلمزه بكسر العين في المستقبل وضمها قال تعالى (* (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا) *
518

* (بالألقاب) *) ومنه قوله تعالى (* (ويل لكل همزة لمزة) *))
المسألة الثانية
قال أبو سعيد الخدري بعث إلى النبي بشيء فقسمه بين أربعة وقال تألفهم فقال رجل ما عدلت فقال يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين هكذا رواه البخاري وزاد غيره فأنزل الله (* (ومنهم من يلمزك في الصدقات) *) إذا ثبت هذا فهؤلاء الأربعة كانوا عيينة والأقرع وكانوا من المؤلفة قلوبهم فدل ذلك وهي
المسألة الثالثة
على دفع الزكاة إليهم ويأتي تمام المسألة بعد إن شاء الله تعالى
الآية السادسة والعشرون
قوله تعالى (* (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) *)
فيها ثمان وعشرون مسألة
المسألة الأولى
هذه الآية من أمهات الآيات إن الله بحكمته البالغة وأحكامه الماضية العالية خص بعض الناس بالأموال دون البعض نعمة منه عليهم وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له نيابة عنه سبحانه وتعالى فيما ضمنه بفضله لهم في قوله (* (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) *) وقدر
519

الصدقات على حسب أجناس الأموال فجعل في النقدين ربع العشر وجعل في النبات العشر ومع تكاثر المؤنة نصف العشر ويترتب على هذا القول في حقيقة الصدقة وهي
المسألة الثانية
على قولين أحدهما أنه جزء من المال مقدر معين وبه قال مالك والشافعي وأحمد
وقال أبو حنيفة إنها جزء من المال مقدر فجوز إخراج القيمة في الزكاة إذ زعم أن التكليف والابتلاء إنما هو في نقص الأموال وذهل عن التوفية لحق التكليف في تعيين الناقص وأن ذلك يوازي التكليف في قدر الناقص فإن المالك يريد أن يبقى ملكه بحاله ويخرج من غيره عنه فإذا مالت نفسه إلى ذلك وعلقت به كان التكليف قطع تلك العلاقة التي هي بين القلب وبين ذلك الجزء من المال فوجب إخراج ذلك الجزء بعينه
فإن قيل فقد روى البخاري وغيره في كتاب أبي بكر الصديق بالصدقة ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين
قلنا قد أجاب عنه علماؤنا بأربعة أجوبة
أحدهما أن هذا خبر واحد يخالف الأصول وعندهم إذا خالف خبر الواحد الأصول بطل في نفسه
الثاني أن هذا الحديث لم يخرج مخرج التقويم بدليل أنه لم يقل ومن بلغت صدقته بنت مخاض وعنده بنت لبون فإنها تؤخذ منه ويعطى عشرين درهما وإنما كان القياس أن يقول فإنها تؤخذ منه إذا عرفت قيمتها فلما عدل عن القيمة إلى التقدير والتحديد بتعين الشاتين أو العشرين درهما دل على أنه خرج مخرج العبادة
520

الثالث أن هذا إنما جوز في الجيران ضرورة اختلاف السنين ولا ضرورة إلى إجزائه في الأصل فبقي على حاله
الرابع إن كتاب عمر في الصدقة الذي رواه مالك وعمل به في الأقطار والأمصار أولى من كتاب أبي بكر الصديق الذي لم يجيء إلا من طريق واحدة ولعله كان لقضية في عين مخصوصة
المسألة الثالثة في معنى تسميتها صدقة
وذلك مأخوذ من الصدق في مساواة الفعل للقول والاعتقاد حسبما تقدم في الآية قبلها وبناء صدق يرجع إلى تحقيق شيء بشيء وعضده به ومنه صداق المرأة أي تحقيق الحل وتصديقه بإيجاب المال والنكاح على وجه مشروع
ويختلف في ذلك كله بتصريف الفعل يقال صدق في القول صداقا وتصديقا وتصدقت بالمال تصدقا وأصدقت المرأة إصداقا وأرادوا باختلاف الفعل الدلالة على المعنى المختص به في الكل ومشابهة الصدق ها هنا للصدقة أن من أيقن من دينه أن البعث حق وأن الدار الآخرة هي المصير وأن هذه الدار الدانية قنطرة إلى الآخرى وباب إلى السوأى أو الحسنى عمل لها وقدم ما يجده فيها فإن شك فيها أو تكاسل عنها وآثر عليها بخل بماله واستعد لآماله وغفل عن مآله وفي كتب الذكر تحقيق ذلك
المسألة الرابعة قوله تعلى (* (للفقراء) *))
واختلف العلماء في المعنى الذي أفادت هذه اللام فقيل لام الأجل كقولك هذا السرج للدابة والباب للدار وبه قال مالك وأبو حنيفة
ومنهم من قال إن هذه لام التمليك كقولك هذا المال لزيد وبه قال الشافعي واتفقوا على أنه لا يعطى جميعها للعاملين عليها واعتمد أصحاب الشافعي على أن
521

الله أضاف الصدقة بلام التمليك إلى مستحق حتى يصح منه الملك على وجه التشريك فكان ذلك بيانا للمستحقين وهذا كما لو أوصى لأصناف معينين أو لقوم معينين
وتعلق علماؤنا بقوله تعالى (* (إن تبدوا الصدقات) *) الآية والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض وقال النبي أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم وهذا نص في ذكر أحد الأصناف الثمانية قرآنا وسنة
وحقق علماؤنا المعنى فقالوا إن المستحق هو الله تعالى ولكنه أحال بحقه لمن ضمن لهم رزقهم بقوله (* (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) *) فكان كما لو قال زيد لعمرو إن لي حقا على خالد يماثل حقك يا عمرو أو يخالفه فخذه منه مكان حقك فإنه يكون بيانا لمصرف حق المستحق لا للمستحق والصنف الواحد في جهة المصرف والمحلية كالأصناف الثمانية
فإن قيل هذا يبطل بالكافر فإنه مضمون له الرزق بذلك الوعد الحق ثم ليس بمصرف للزكاة
قلنا كذلك كنا نقول إنه تصرف الزكاة إلى الذمي إلا أن النبي خصص هذا العموم بقوله أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم فخصصناه بما خصصه به صاحب الشريعة المبين للناس ما نزل إليهم وما فهم المقصود أحد فهم الطبري فإنه قال الصدقة لسد خلة المسلمين ولسد خلة الإسلام وذلك من مفهوم مأخذ القرآن في بيان الأصناف وتعديدهم
والذي جعلناه فصلا بيننا وبينهم أن الأمة اتفقت على أنه لو أعطي كل صنف حظه لم يجب تعميمه فكذلك تعميم الأصناف مثله
فإن قيل فقد روى زياد بن الحارث الصدائي أتيت رسول الله فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال له رسول الله إن الله لم يرض بحكم
522

نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم هو فيها فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من أهل تلك الأجزاء أعطيتك حقك
وقد قال النخعي إن كان المال كثيرا قسمه على الأصناف وإلا وضعه في صنف وقال أبو ثور إن أخرجه صاحبه جاز له أن يضعه في قسم وإن قسمه الإمام استوعب الأصناف وذلك فيما قالوا إنه إن كان كثيرا فليعمهم وإن كان قليلا كان قسمه ضررا عليهم
وكذلك إن قسمه صاحبه لم يقدر على النظر في جميع الأصناف فأما الإمام فحق كل واحد من الخلق متعلق به من بيت المال وغيره فيبحث عن الناس ويمكنه تحصيلهم والنظر في أمرهم
والذي صار إليه مالك من أنه يجتهد الإمام ويتحرى موضع الحجة هو الأقوى وتحقيق المسألة أن المتحصل من أصناف الآية ثلاثة أصناف وهم الفقراء والعاملون عليها وفي سبيل الله وسائر الأصناف داخلة فيما ذكرناه منها
فأما العاملون والمؤلفة قلوبهم فيأتي بيان حالهم إن شاء الله إذا ثبت هذا فإن بيان الأصناف من مهمات الأحكام فنقول وهي
المسألة الخامسة أما الفقير ففيه ثمانية أقوال
الأول أن الفقير المحتاج المتعفف والمسكين الفقير السائل وبه قال مالك في كتاب ابن سحنون وهي
المسألة السادسة
قاله ابن عباس والزهري واختاره ابن شعبان
الثاني الفقير هو المحتاج الزمن والمسكين هو المحتاج الصحيح قاله قتادة
523

الثالث أن الفقير المحتاج والمسكين سائر الناس قاله إبراهيم وغيره
الرابع الفقير المسلم والمسكين أهل الكتاب
الخامس الفقير الذي لا شيء له والمسكين الذي له شيء قاله الشافعي
السادس عكسه قاله أبو حنيفة والقاضي عبد الوهاب
السابع أنه واحد ذكره للتأكيد
الثامن الفقراء المهاجرون والمساكين الأعراب
المسألة السابعة قوله تعالى (* (والعاملين عليها) *))
وهم الذين يقدمون لتحصيلها ويوكلون على جمعها وهذا يدل على مسألة بديعة وهي أن ما كان من فروض الكفايات فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه ومن ذلك الإمامة فإن الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق فإن تقدم بعضهم بهم من فروض الكفاية فلا جرم يجوز أخذ الأجرة عليها
وهذا أصل الباب وإليه أشار النبي في الحديث الصحيح ما تركت بعد نفقة عيالي ومؤونة عاملي فهو صدقة
قال بعض العلماء العامل في الصدقة يستحق منها كفايته بالمعروف بسبب العمل وإن لم يكن بدلا عن العمل حتى لم يحل للهاشمي والأجرة تحل له قلنا بل هي أجرة صحيحة وإنما لم يدخل فيها الهاشمي تحريا للكرامة وتباعدا عن الذريعة وذلك مبين في شرح الحديث
والدليل على أنها أجرة أن الله سبحانه أملكها له وإن كان غنيا وليس له وصف يأخذ به منها سوى الخدمة في جمعها
524

المسألة الثامنة
اختلف الناس في المقدار الذي يأخذه العاملون من الصدقة على ثلاثة أقوال
الأول قيل هو الثمن بقسمة الله لها على ثمانية أجزاء قاله مجاهد والشافعي وهذا تعليق بالاستحقاق الذي سبق الخلاف فيه أو بالمحلية ومبني عليه
الثاني يعطون قدر عملهم من الأجرة قاله ابن عمر ومالك وقد تقدم القول في الأصل الذي انبنى عليه هذا والكلام على تحقيقه
الثالث أنهم يعطون من غير الزكاة وهو ما كان من بيت المال وهذا قول صحيح عن مالك بن أنس من رواية أبي أويس وداود بن سعيد وهو ضعيف دليلا فإن الله أخبر بسهمهم فيها نصا فكيف يخلفون عنه استقراء وسبرا
والصحيح الاجتهاد في قدره لأن البيان في تعديد الأصناف إنما كان للمحل لا للمستحق
المسألة التاسعة المؤلفة قلوبهم
فيه أربعة أقوال
الأول من قال إنهم مسلمون يعطون لضعف يقينهم حتى يقووا مثلهم بأبي سفيان بن حرب والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس
ومن قال إنهم كفار مثلهم بعامر بن الطفيل ومن قال إنهم كانوا مسلمين ولهم إلى الإسلام ميل مثلهم بصفوان بن أمية
الثاني قال يحيى بن أبي كثير المؤلفة قلوبهم من بني أمية أبو سفيان بن حرب ومن بني مخزوم الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن يربوع ومن بني جمح صفوان بن أمية ومن بني عامر بن لؤي سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومن بني أسد بن عبد العزى حكيم بن حزام ومن بني هاشم أبو سفيان ابن الحارث بن
525

عبد المطلب ومن بني فزارة عيينة بن حصن بن بدر ومن بني تميم الأقرع بن حابس ومن بني نصر مالك بن عوف ومن بني سليم العباس بن مرداس ومن ثقيف العلاء بن حارثة
الثالث روى ابن وهب عن مالك قال كان صفوان بن أمية وحكيم بن حزام والأقرع بن حابس وعيينة بن بدر وسهيل بن عمرو وأبو سفيان من المؤلفة قلوبهم وكان صفوان يوم العطية مشركا
وقال أصبغ عن ابن القاسم المؤلفة قلوبهم صفوان بن أمية ورجال من قريش
الرابع قال الشيخ أبو إسحاق المؤلفة قلوبهم أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس ومعاوية ابنه وحكيم بن حزام والحارث بن الحارث بن كلدة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى والمعلى ابن حارثة الثقفي وعيينة بن حصن ومالك بن عوف وصفوان بن أمية ومخرمة بن نوفل وعمير بن وهب ابن خلف الجمحي وهشام بن عمرو وسعد بن يربوع وعدي بن قيس السهمي والعباس بن مرداس وطليق بن أمية وخالد بن أسيد بن أبي العيص وشيبة بن عثمان وأبو السنابل بن بعكك وعكرمة بن سفيان بن عامر وزهير بن أبي أمية وخالد بن هشام وهشام بن الوليد بن المغيرة وسفيان بن عبد الأسد والسائب بن أبي السائب ومطيع بن الأسود وأبو جهم بن حذيفة بن غانم وأحيحة بن أمية بن خلف الجمحي وعدي بن قيس ونوفل بن معاوية بن عروة وعلقمة بن علاثة ولبيد بن ربيعة بن مالك وخالد ابن هوذة بن ربيعة وحرملة بن هوذة بن ربيعة والأقرع بن حابس بن عقال وقيس بن مخرمة وجبير ابن مطعم بن عدي وهشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب
قال القاضي رضي الله عنه أما أبو سفيان بن حرب فلا شك فيه ولا في ابنه
وأما حكيم بن حزام فعظيم القدر في الإسلام
قال مالك إن النبي أعطى المؤلفة قلوبهم فحسن إسلامهم
526

قال مالك وبلغني أن حكيم بن حزام أخرج ما كان أعطاه النبي في المؤلفة فتصدق بعد ذلك به
وأما الحارث بن الحارث بن كلدة فهو ابن طبيب العرب وكان منهم ولا خفاء بعيينة ولا بمالك بن عوف سيد هوازن
وأما سهيل بن عمرو فرجل عظيم إن كان مؤلفا بالعطية فلم يمت النبي إلا وهو مؤلف على الإسلام باليقين فإنه لما استأثر الله برسوله وبلغ الخبر إلى مكة ماج أهل مكة فقام سهيل بن عمرو خطيبا فقال والله إني لأعلم أن هذا الأمر سيمتد امتداد الشمس في طلوعها إلى غروبها فلا يغرنكم هذا من أنفسكم يعني أبا سفيان
وروي عنه أنه حبس على باب عمر فأذن لأهل بدر وصهيب ونوعه فقال له أبو سفيان ومشيخة قريش يأذن للعبيد ويذرنا فقال سهيل بن عمرو دعيتم فأجابوا وأسرعوا وأبطأتم أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم من هذا الذي تنافسون فيه إلى أمثال هذا الخبر مما يدل على قوة البصيرة في الدين والبصر
وأما حويطب بن عبد العزى فلم يثبت عندي أمره إنما هو من مسلمة الفتح واستقرض منه النبي أربعين ألف درهم وصح دينه ويقينه
وأما مخرمة بن نوفل بن أمية بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب فأمه رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف والد المسور بن مخرمة حسن إسلامه وهو الذي نصب أعلام الحرم لعمر مع حويطب بن عبد العزى وهو الذي خبأ له النبي القثاء فقال خبأت هذا لك خبأت هذا لك
وأما عمير بن وهب بن خلف أبو أمية الجمحي فليس منهم مسلم حنيفي أما إنه كان من أشدهم عداوة لرسول الله وجاء لقتله بما شرط له صفوان بن أمية فلما دخل المسجد دعاه النبي فأخبره بما كان بينه وبين صفوان فأسلم وحديثه طويل
وأما هشام بن عمرو فلا أعرف حاله
527

وأما الحارث بن هشام فكان في أول أمره كأبي جهل بن هشام وهي شنشنة أعرفها من أخزم ومن يشبه أخاه فلم يظلم حسن إسلامه وكان بالمسك ختامه
وأما سعيد بن يربوع فهو الملقب بالصرم مخزومي قال له النبي أينا أكبر قال أنا أقدم منك وأنت أكبر وخير مني ولم أعلم تأليفه
وأما عدي بن قيس فلم أعرفه
وأما العباس بن مرداس فكبير قومه حسن إسلامه وخبره مشهور
وأما طليق بن سفيان وابنه حكيم فهو وابنه مذكوران في المؤلفة قلوبهم
وأما خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية فلا أعرف قصته
وأما شيبة بن عثمان فكان في نفسه شيء ثم أراد أن يقتل النبي فلما دنا منهم عرفه رسول الله فدعاه فلما دنا منه أخذه أفكل فمسح صدره فأسلم وحسن إسلامه
وأما أبو السنابل بن بعكك العبدري فهو من مسلمة الفتح واسمه حبة لا أعرفه
وأما عكرمة بن عامر فلا أعرفه أما إنه من بني عبد الدار ولست أحصل حاله
وأما زهير بن أمية وخالد بن هشام فلا أعرفهما
وأما هشام بن الوليد فهو أخو خالد بن الوليد
وأما سفيان بن عبد الأسد فلا أعرفه
وأما أبو السائب فلم يكن منهم
وأما مطيع بن الأسود فلست أعلم حاله
وأما أبو جهم بن حذيفة بن غانم من بني عدي واسمه عامر فلا أعرفه منهم على أن النبي قال فيه في الصحيح وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه
528

رواه النسائي وقال فيه وأما أبو جهم بشر لا خير فيه وربك أعلم
وأما أحيحة فهو أخو صفوان ابن أمية لا أعرف حاله
وأما نوفل بن معاوية الديلي فلا أعرفه منهم
وأما علقمة بن علاثة العامري الكلابي فهو منهم وأسيد بن ربيعة وحسن الإسلام عندهما
وأما خالد بن هوذة فهو والد العداء بن خالد مبايع النبي في العبد أو الأمة من بني أنف الناقة غير ممدوح
والحطيئة لا أعرف حاله وكذلك أخوه حرملة
وأما الأقرع بن حابس فمشهور فيهم
وأما قيس بن مخرمة بن المطلب القرشي المطلبي فلا أعلمه منهم
وأما جبير بن مطعم فلم يكن منهم وأما هشام بن عمرو فلا أعرفه وقد عد فيهم زيد الخيل الطائبي وهم أكثر من هذا كله
استدراك
وأما معاوية فلم يكن منهم كيف يكون ذلك وقد ائتمنه النبي على وحي الله وقراءته وخلطه بنفسه وأما حاله في أيام أبي بكر وعمر فأشهر من هذا وأظهر وقد قدمنا أن أصناف المؤلفة قلوبهم مختلفة فمنهم ضعيف الإيمان قوي بالأدلة والعطاء ولم يكن جميعهم كافرا فحصلوا هذا فإنه مهم في القصة
529

المسألة العاشرة
اختلف في بقاء المؤلفة قلوبهم فمنهم من قال هم زائلون قاله جماعة وأخذ به مالك ومنهم من قال هم باقون لأن الإمام ربما احتاج أن يستأنف على الإسلام وقد قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين
والذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان يعطيه رسول الله فإن الصحيح قد روي فيه بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ
المسألة الحادية عشرة
إذا قلنا بزوالهم فإن سهمهم يعود إلى سائر الأصناف كلها أو ما يراه الإمام حسبما تقدم بيانه في أصل الخلاف
وقال الزهري يعطى نصف سهمهم لعمار المساجد ولا دليل عليه والأول أصح
وهذا مما يدلك على أن الأصناف الثمانية محل لا مستحقون إذ لو كانوا مستحقين لسقط سهمهم بسقوطه عن أرباب الأموال ولم يرجع إلى غيرهم كما لو أوصى لقوم معينين فمات أحدهم لم يرجع نصيبه إلى من بقي منهم
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (وفي الرقاب) *))
وفيه قولان
أحدهما أنهم المكاتبون قاله علي والشافعي وأبو حنيفة وجماعة
الثاني أنه العتق وذلك بأن يبتاع الإمام رقيقا فيعتقهم ويكون ولاءهم لجميع المسلمين قاله ابن عمر
وعن مالك أربع روايات
530

إحداها أنه لا يعين مكاتبا ولا في آخر نجم من نجومه ولو خرج به حرا وقد قال مرة فلمن يكون الولاء
وقال آخرا ما يعجبني ذلك وما بلغني أن أبا بكر ولا عمر ولا عثمان فعلوا ذلك
الثانية روى عنه مطرف أنه يعطى المكاتبون
الثالثة قال يشتري من زكاته رقبة فيعتقها يكون ولاؤها لجميع المسلمين
الرابعة قال مالك لا آمر أحدا أن يشتري رقبة من زكاة ماله فيعتقها وبه قال الشافعي وأبو حنيفة
والصحيح أنه شراء الرقاب وعتقها كذلك هو ظاهر القرآن فإن الله حيث ذكر الرقبة في كتابه إنما هو العتق ولو أراد المكاتبين لذكرهم باسمهم الأخص فلما عدل إلى الرقبة دل على أنه أراد العتق
وتحقيقه أن المكاتب قد دخل في جملة الغارمين بما عليه من دين الكتابة فلا يدخل في الرقاب وربما دخل في المكاتب بالعموم ولكن في آخر نجم يعتق به ويكون ولاؤه لسيده ولا حرج على معطي الصدقة في ذلك فإن تخليصه من الرق وفكه من حبس الملك هو المقصود ولا يتأتى عن الولاء فإن الغرض تخليص المكاتب من الرق وفكه من حبس الملك هو المقصود وكذلك قال مالك في كتاب محمد
المسألة الثالثة عشرة
لو اشترى الإمام من رجل أباه وأخذ المال ليعتقه عن نفسه فاختلف العلماء فيه على قولين وكذلك اختلف فيه قول مالك فمنعه في كتاب محمد وأجازه في المختصر والأول أصح لأن النبي قال الولاء لمن أعطى الثمن ولأنه إذا أعتقه عن نفسه لم يكن للثمن مقابل يوازيه
531

المسألة الرابعة عشرة
وكذلك اختلف العلماء في فك الأسارى منها فقد قال أصبغ لا يجوز ذلك وقال ابن حبيب يجوز ذلك
وإذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة وجائزا من الصدقة فأولى وأحرى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله
المسألة الخامسة عشرة
إذا قلنا إنه يعان منها المكاتب فهل نعتق منها بعض رقبة ينبني عليها فإذا كان نصف عبد أو عشره يكون فيه فكه عن الرق بما قد سبق من عتقه فإنه يجوز ذكره مطرف وكذلك أقول والله أعلم
المسألة السادسة عشرة
ويكون الولاء بين المعتقين كالشريكين وقد بيناه في كتب المسائل فإن فيه تفريعا كثيرا
المسألة السابعة عشرة قوله تعالى (* (والغارمين) *))
وهم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به ولا خلاف فيه اللهم إلا من ادان في سفاهة فإنه لا يعطى منها نعم ولا من غيرها إلا أن يتوب فإنه إن أخذها قبل التوبة عاد إلى سفاهة مثلها أو أكبر منها والديون وأصنافها كثيرة وتفصيله في كتب الفقه
المسألة الثامنة عشرة
فإن كان ميتا قضي منها دينه لأنه من الغارمين
وقال ابن المواز لا يقضى وقد ثبت في الصحيح عن البخاري وغيره ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم (* (النبي أولى بالمؤمنين) *
532

من أنفسهم) فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه
المسألة التاسعة عشرة قوله تعالى (* (وفي سبيل الله) *))
قال مالك سبل الله كثيرة ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله ها هنا الغزو من جملة سبيل الله إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا إنه الحج
والذي يصح عندي من قولهما أن الحج من جملة السبل مع الغزو لأنه طريق بر فأعطى منه باسم السبيل وهذا يحل عقد الباب ويخرم قانون الشريعة وينثر سلك النظر وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر
وقد قال علماؤنا ويعطى منها الفقير بغير خلاف لأنه قد سمي في أول الآية ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله تعالى ولو كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه قال النبي لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة غاز في سبيل الله
وقال أبو حنيفة لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا إذا كان فقيرا وهذه زيادة على النص وعنده أن الزيادة على النص نسخ ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر
وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس في قوله (* (ولذي القربى) *) فشرط في قرابة رسول الله الفقر وحينئذ يعطون من الخمس وهذا كله ضعيف حسبما بيناه
533

وقال محمد بن عبد الحكم يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته وقد أعطى
النبي من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن أبي حثمة إطفاء للثائرة
المسألة الموفية عشرين قوله تعالى (* (وابن السبيل) *))
يريد الذي انقطعت به الأسباب في سفره وغاب عن بلده ومستقر ماله وحاله فإنه يعطى منها
قال مالك في كتاب ابن سحنون إذا وجد من يسلفه فلا يعطى وليس يلزمه أن يدخل تحت منة أحد وقد وجد منة الله ونعمته
المسألة الحادية والعشرون
إذا جاء الرجل وقال أنا فقير أو مسكين أو غارم أو في سبيل الله أو ابن السبيل هل يقبل قوله أم يقال له أثبت ما تقول
فأما الدين فلا بد من أن يثبت وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد لها ويكتفى به فيها
ثبت أن النبي جاء إليه قوم ذوو حاجة مجتابي النمار فحث على الصدقة عليهم
وفي حديث أبرص وأقرع وأعمى قال مخبرا عنهم إنا على ما ترى فاكتفى بظاهر الحال وكذلك ابن السبيل يكتفى بغربته وظاهر حالته وكونه في سبيل الله معلوم بفعله لذلك وركونه فيه
وإن قال أنا مكاتب أثبت ذلك لأن الأصل الرق حتى يثبت الحرية أو سببها
وإن ادعى زيادة على الفقر عيالا فقال القرويون يكشف عن ذلك إن قدر وهذا لا يلزم لأن حديث أبرص وأعمى وأقرع ذكر ذلك عنهم وأنا ابن سبيل
534

أسألك بعيرا أتبلغ عليه في سفري ولم يكلفه إثبات السفر وهو غائب عنه فصار هذا أصلا في دعوى كل شيء غائب من هذا الباب
المسألة الثانية والعشرون
إذا قلنا إن الأصناف الثمانية مستحقون فيأخذ كل أحد حقه وهو الثمن ولا مسألة معنا
وإن قلنا إن الإمام يجتهد وهو الصحيح فاختلف العلماء بأي صنف يبدأ
فأما العاملون فإن قلنا إن أجرتهم من بيت المال فلا كلام
وإن قلنا إن أجرتهم من الزكاة فبهم نبدأ فنعطيهم الثمن على قول وقدر أجرتهم على الصحيح في الشرع فإن الخبر بأن يعطى كل أجير أجره قبل أن يجف عرقه مأثور اللفظ صحيح المعنى
فإن أخذ العامل حقه فلا يبقى صنف يترجح فيه إلا صنفين هما سبيل الله والفقراء أو ثلاثة أصناف إن قلنا إن الفقراء والمساكين صنفان فأما سبيل الله إذا اجتمع مع الفقر فإن الفقر مقدم عليه إلا أن ينزل بالمسلمين حاجة إلى مال الصدقة فيما لا بد منه من دفع مضرة كما تقدم فإنه يقدم على كل نازلة
وأما الفقراء والمساكين فالصحيح أنهم صنفان ولا نبالي بما قال الناس فيهما وها أنا ذا أريحكم منه بعون الله فإن قال القائل بأن الفقير من له شيء والمسكين من لا شيء له أو بعكسه فإن من لا شيء له هو المقدم على من له شيء فهذا المعنى ساقط لا فائدة فيه
وأما إن قلنا إن الفقير هو الذي لا يسأل والمسكين هو الذي يسأل فالذي لا يسأل أولى لأن السائل أقرب إلى التفطن والغنى والعلم به ممن لا يسأل ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا خلاف أن الزمن مقدم على الصحيح وأن المحتاج مقدم على سائر الناس وأن المسلم مقدم على الكتابي وقد سقط اعتبار الهجرة والتقرب بذهاب
535

زمانهما فلا معنى للاحتجاج على ذلك كله والحمد لله الذي من بالمعرفة وكفانا المؤونة
المسألة الثالثة والعشرون
هذه الأوصاف التي ذكرنا شأنها في الأصناف التي قدمنا بيانها إنما تعتبر عند علمائنا فيمن لا قرابة بينه وبين المتصدق فإن وقعت القرابة ففي ذلك تفصيل عريض طويل
فأما صدقة التطوع فقد قال النبي لزينب امرأة ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم به يعني بحليها الذي أرادت أن تتصدق به
وفي حديث بئر حاء قال النبي لأبي طلحة أرى أن تجعلها في الأقربين فجعلها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه
وهذا كله صحيح ثابت في كل أم وبنت من الحديث
وأما صدقة الفرض فإن أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجه الذين تلزمه نفقة جميعهم فإنه يجزئه وأما إن تناول هو ذلك بنفسه فلا يجوز أن يعطيها بحال لمن تلزمه نفقته لأنه يسقط في ذلك بها عن نفسه فرضا
وأما إن أعطاها لمن لا تلزمه نفقتهم فقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من جوزه ومنهم من كرهه
قال مالك خوف المحمدة وقال مطرف رأيت مالكا يدفع زكاته لأقاربه وقال الواقدي وهو إمام عظيم قال مالك أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول
536

وقد قال النبي لزوجة عبد الله بن مسعود لك أجران أجر القرابة وأجر الصدقة
واختلف علماؤنا في إعطاء الزكاة للزوجين فقال القاضي أبو الحسن إن ذلك من منع مالك محمول على الكراهية وذكر عن ابن حبيب إن كان يستعين في النفقة عليها بما يعطيه فلا يجوز وإن كان معه ما ينفق عليها ويصرف ما يأخذ منها من نفقته وكسوته على نفسه فذلك جائز
وقال أبو حنيفة لا يجوز بحال
والصحيح جوازه لحديث زينب امرأة ابن مسعود المتقدم ذكره
فإن قيل ذلك في صدقة التطوع
قلنا صدقة التطوع والفرض ها هنا واحد لأن المنع منه إنما هو لأجل عوده عليه وهذه العلة لو كانت مراعاة لاستوى فيه التطوع والفرض
المسألة الرابعة والعشرون
إذا كان الفقير قويا فقال مالك في مختصر ما ليس في المختصر يعطى يعني لتحقيق صفة الاستحقاق فيه وقال يحيى بن عمرلا يجزيه وبه قال الشافعي لقول النبي لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي خرجه الترمذي مع غيره وزاد فيه إلا لذي فقر مدقع أو غرم مفظع وقال هذا غريب والحديث المطلق دون زيادة لا يركن إليه ولا ينبغي أن يعول على هذا فإن النبي كان
537

يعطيها للفقراء الأصحاء ووقوفها على الزمنى باطل وهذا أولى من ذلك بالاتباع وأقوى منه في الارتباط والانتزاع
المسألة الخامسة والعشرون
من كان له نصاب من الزكاة هل يجوز له أخذها أم لا
فقال علماؤنا تارة من ملك نصابا فلا يأخذ منها شيئا لأنه غني تؤخذ منه فلا تدفع إليه
وفي القول الثاني يأخذ منها وقد ثبت أن النبي قال من سأل وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا
والصحيح ما قاله مالك والشافعي إن من كانت عنده كفاية تغنيه فهو الغني وإن كان أقل من نصاب ومن زاد على النصاب ولم تكن فيه كفاية لمؤنته ولا سداد لخلته فليس بغني فيأخذ منها
المسألة السادسة والعشرون
اختلف العلماء هل يعطى من الزكاة نصابا أم لا على قولين
وقال بعض المتأخرين إن كان في البلد زكاتان نقد وحرث أخذ ما يبلغه إلى الأخرى
والذي أراه أن يعطى نصابا وإن كان في البلد زكاتان وأكثر فإن الغرض إغناء الفقير حتى يصير غنيا فإذا أخذ تلك فإن حضرت زكاة أخرى وعنده ما يكفيه أخذها غيره وإلا عاد عليه العطاء
538

المسألة السابعة والعشرون
لا تصرف الصدقة إلى آل محمد لقوله إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس والمسألة مشكلة جدا وقد أفضنا فيها في شرح الحديث ما شاء الله أن نفيض فيه
وبالجملة إن الصدقة محرمة على محمد بإجماع أمته وهي محرمة على بني هاشم في قول أكثر أهل العلم
وقال الشافعي بنو المطلب وبنو هاشم واحد لقول النبي إن بني هاشم وبني المطلب لم يفترقوا في جاهلية ولا في إسلام قالوا لأن النبي أعطاهم الخمس عوضا عن الصدقة ولم يعطه أحدا من قبائل قريش
وقال محمد بن المواز آل محمد عشيرته الأقربون بنو عبد المطلب وآل هاشم وآل عبد مناف وآل قصي وآل غالب لأن النبي لما نزلت (* (وأنذر عشيرتك الأقربين) *) نادى بأعلى صوته يا آل قصي يا آل غالب يا آل عبد مناف يا فاطمة بنت محمد يا صفية عمة رسول الله اعملوا لما عند الله فإني لست أملك لكم من الله شيئا فبين بمناداته عشيرته الأقربين
وقال ابن عباس وقد سئل عنها نحن هم يعني آل محمد خاصة وأبى ذلك علينا قومنا فأما مواليهم فقال ابن القاسم في الحديث الذي جاء لا تحل الصدقة لآل محمد إنما ذلك في الزكاة لا في التطوع وإنما هم بنو هاشم أنفسهم قيل له يعني مالكا فمواليه قال لا أدري ما الموالي وكأنه لم يرهم من ذلك فاحتججت عليه بقوله مولى القوم منهم فقال وقد قال ابن أخت القوم منهم
539

قال أصبغ وذلك في البر والحرمة كقوله عليه السلام أنت ومالك لأبيك قال مطرف وابن الماجشون مواليهم منهم لا تحل لهم الصدقة
وقال مالك في الواضحة لا يعطى آل محمد من التطوع وأجازه ابن القاسم في كتاب محمد وهو الأصح لأن الوسخ إنما قرن بالفرض خاصة
فإن قيل قد روى أبو داود عن أبي رافع أن النبي بعث رجلا على الصدقة من بني مخزوم فقال لأبي رافع اصحبني فإنك تصيب منها فقال حتى آتي رسول الله فأسأله فأتاه فسأله فقال مولى القوم من أنفسهم وإنا لا تحل لنا الصدقة
540

وهذا نص في المسألة فلو صح لوجب قبوله وقد قال علماؤنا في ذلك جوابان
الأول أن ذلك على التنزيه منه
الثاني أن أبا رافع كان مع النبي يخدم ويطعم فكره له ترك المال الذي لم يذم وأخذه لمال هو أوساخ الناس فكسب غيره أولى منه
فإن قيل فقد روي أن ابن عباس قال بعثني أبي إلى النبي في إبل أعطاها إياه من الصدقة
قلنا لم يصح وجوابه لو صح أن النبي استسلف من العباس فرد إليه ما استسلف من الصدقة فأكلها بالعوض وقد روينا ذلك مفسرا مستوفى في شرح الحديث
وقد قال أبو يوسف يجوز صرف صدقة بني هاشم إلى فقرائهم فيقال له أيأكلون من أوساخهم هذا جهل بحقيقة العلة وجهة الكرامة
المسألة الثامنة والعشرون قوله (* (إنما الصدقات للفقراء) *))
مقابلة جملة بجملة وهي جملة الصدقة بجملة المصرف لها ولكن النبي قال في حديث البخاري وغيره حين أرسل معاذا إلى اليمن قل لهم إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فاختص أهل كل بلد بزكاة بلده فهل يجوز نقلها أم لا في ذلك ثلاثة أقوال
الأول لا تنقل وبه قال سحنون وقاله ابن القاسم إلا أنه زاد إن نقل بعضها لضرورة رأيته صوابا
الثاني يجوز نقلها وقاله مالك أيضا
الثالث يقسم في الموضع سهم الفقراء والمساكين وينقل سائر السهام باجتهاد الإمام
541

والصحيح ما قاله ابن القاسم لقول النبي لمعاذ ولأن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج فالمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه
الآية السابعة والعشرون
قوله تعالى (* (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
روي أنها نزلت في غزوة تبوك قال الطبري بينما النبي في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا يظن هذا أنه يفتح قصور الشام وحصونها فأطلعه الله على ما في قلوبهم وقولهم فدعاهم فقال قلتم كذا وكذا فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب فكان ممن إن شاء الله عفا عنه يقول أسمع آية تقشعر منها الجلود وتجث القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقل أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت قال فأصيب يوم اليمامة فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره
وروى الدارقطني عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال رأيت عبد الله بن أبي يشتد قدام النبي والحجارة تنكبه وهو يقول يا محمد إنما كنا نخوض ونلعب والنبي يقول أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا وروي أن ذلك كله نزل فيما كان من المنافقين في هذه الغزوة
542

المسألة الثانية
لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا وهو كيفما كان كفر فإن الهزل بالكفر كفر لا خلف فيه بين الأمة فإن التحقيق أخو الحق والعلم والهزل أخو الباطل والجهل قال علماؤنا نظروا إلى قوله (* (أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) *)
فإن كان الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق فقد اختلف الناس في ذلك على أقاويل جماعها ثلاثة
الفرق بين البيع وغيره الثاني لا يلزم الهزل الثالث أنه يلزم فقال في كتاب محمد يلزم نكاح الهازل وقال أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية لا يلزم وقال علي بن زياد يفسخ قبل وبعد
وللشافعي في بيع الهازل قولان وكذلك يتخرج من قول علمائنا فيه القولان قال متأخروا أصحابنا إن اتفقا على الهزل في النكاح والبيع لم يلزم وإن اختلفا غلب الجد الهزل
قال الإمام ابن العربي فأما الطلاق فيلزم هزله وكذلك العتق لأنه من جنس واحد يتعلق بالتحريم والقربة فيغلب اللزوم فيه على الإسقاط
الآية الثامنة والعشرون
قوله تعالى (* (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى المجاهدة
فيها ثلاثة أقوال الأول قال ابن مسعود جاهدهم بيدك فإن لم تستطع فبلسانك فإن لم تستطع فقطب في وجوههم
543

الثاني قال ابن عباس جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان
الثالث قال الحسن جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بإقامة الحدود عليهم واختاره قتادة وكانوا أكثر من يصيب الحدود
المسألة الثانية
قال علماء الإسلام ما تقدم فأشكل ذلك واستبهم ولا أدري صحة هذه الأقوال في السند أما المعنى فإن من المعلوم في الشريعة أن النبي كان يجاهد الكفار بالسيف على اختلاف أنواعهم حسب ما تقدم بيانه وأما المنافقون فكان مع علمه بهم يعرض عنهم ويكتفي بظاهر إسلامهم ويسمع أخبارهم فيلغيها بالبقاء عليهم وانتظار الفيئة إلى الحق بهم وإبقاء على قومهم لئلا تثور نفوسهم عند قتلهم وحذرا من سوء الشنعة في أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فكان لمجموع هذه الأمور يقبل ظاهر إيمانهم وبادئ صلاتهم وغزوهم ويكل سرائرهم إلى ربهم وتارة كان يبسط لهم وجهه الكريم وأخرى كان يظهر التغيير عليهم
وأما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة وأما قول من قال إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود فيهم لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فإنه دعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين يشهد مساقها أنهم لم يكونوا منافقين
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (واغلظ عليهم) *))
الغلظة نقيض الرأفة وهي شدة القلب وقوته على إحلال الأمر بصاحبه وليس ذلك في اللسان فإن النبي قال إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب
544

الآية التاسعة والعشرون
قوله تعالى (* (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (ولقد قالوا كلمة الكفر) *))
فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه قول الجلاس بن سويد إن كان ما جاء به محمد حقا فلنحن شر من الحمر
ثم إنه حلف ما قال قاله عروة ومجاهد وابن إسحاق
الثاني أنه عبد الله بن أبي بن سلول حين قال (* (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) *) قاله قتادة
الثالث أنه جماعة المنافقين قالوا ذلك قاله الحسن وهو الصحيح لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم وجملة ذلك اعتقادهم وقولهم إنه ليس بنبي
المسألة الثانية
في هذا دليل على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال حسبما بيناه في أصول الفقه ومسائل الخلاف وذلك لسعة الحل وضيق العقد وذلك كالطلاق يقع بالنية والقول وليس يقع النكاح إلا باللفظ المخصوص مع القول به
المسألة الثالثة قوله (* (فإن يتوبوا يك خيرا لهم) *))
فيه دليل على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق
545

وقد اختلف في ذلك العلماء فقال مالك لا تقبل له توبة وقال الشافعي تقبل وليست المسألة كذلك وإنما يقول مالك إن توبة الزنديق لا تعرف لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر ولا يعلم إيمانه إلا بقوله وكذلك يفعل الآن وفي كل حين يقول أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر فإذا عثرنا عليه وقال تبت لم يتغير حاله وقبول التوبة لا يكون إلا لتوبة تتغير فيها الحالة الماضية بنقيضها في الآتية
ولهذا قلنا إنه إذا جاء تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلنا توبته وهو المراد بالآية فإنها ليست بعموم فتتناول كل حالة وإنما تقتضي القبول المطلقة فيكفي في تحقيق المعنى للفظ وجوده من جهة وقد بينا المسألة على الاستيفاء في مسائل الخلاف وهذا القدر يتعلق بالأحكام وقد بيناه
الآية الموفية ثلاثين
قوله تعالى (* (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) *)
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى
هذه الآية اختلف في شأن نزولها على ثلاثة أقوال
الأول أنها نزلت في شأن مولى لعمر قتل حميما لثعلبة فوعد إن وصل إلى الدية أن يخرج حق الله فيها فلما وصلت إليه الدية لم يفعل
الثاني أن ثعلبة كان له مال بالشام فنذر إن قدم من الشام أن يتصدق منه فلما قدم لم يفعل
الثالث وهو أصح الروايات أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري المذكور قال للنبي ادع الله أن يرزقني مالا أتصدق منه فقال النبي ويحك يا ثعلبة قليل
546

تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم عاود ثانية فقال له النبي أما ترضى أن تكون مثل نبي الله فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تصير معي الجبال ذهبا وفضة لصارت
فقال والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني لأعطين كل ذي حق حقه فدعا له النبي فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة وهي تنمى حتى ترك الجمعة وطفق يلقى الركبان يوم الجمعة ويسألهم عن الأخبار فسأل النبي عنه فأخبر بكثرة غنمه وبما صار إليه فقال النبي يا ويح ثعلبة ثلاث مرات فنزلت (* (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) *) ونزلت فرائض الصدقة فبعث النبي رجلين على الصدقة رجل من جهينة وآخر من بني سليم وأمرهما أن يمرا بثعلبة وبرجل آخر من بني سليم يأخذان منهما صدقاتهما فخرجا حتى أتيا ثعلبة فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرغا وعودا
وسمع بها السلمي فعمد إلى خيار إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا ما يجب عليك هذا وما نريد أن نأخذ منك هذا قال بل خذوه فإن نفسي بذلك طيبة فأخذوها منه فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة فقال أروني كتابكما وكان النبي كتب لهما كتابا في حدود الصدقة وما يأخذان من الناس فأعطياه الكتاب فنظر
إليه فقال ما هذه إلا أخت الجزية فانطلقا عني حتى أرى رأيي
فأتيا النبي لما رآهما قال يا ويح ثعلبة قبل أن يكلمهما ودعا للسلمي بالبركة فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي فأنزل الله (* (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) *) الآية وعند رسول الله رجل من أقارب ثعلبة فخرج حتى أتاه فقال ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج حتى أتى النبي فسأل أن يقبل صدقته منه فقال إن الله منعني أن
547

أقبل منك صدقتك فقام يحثو التراب على رأسه فقال النبي قد أمرتك فلم تطعني فرجع ثعلبة إلى منزله وقبض رسول الله ولم يقبض منه شيئا ثم أتى إلى أبي بكر فلم يقبض منه شيئا ثم أتى إلى عثمان بعد عمر فلم يقبض منه شيئا وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه وهذا الحديث مشهور
المسألة الثانية قوله (* (ومنهم من عاهد الله) *))
قيل أنه عاهد بقلبه والدليل عليه قوله (* (ومنهم من عاهد الله) *) إلى قوله (* (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) *) وهذا استنباط ضعيف واستدلال عليه فاسد فإنه يحتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقد بقلبه العهد
ويحتمل أن يكون عاهد الله بهما جميعا ثم أدركته سوء الخاتمة فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا مجرد الارتباط والالتزام أما أنه بصيغة القسم في المعنى فإن اللام تدل عليه وقد أتى بلامين اللام الواحدة الأولى لام القسم بلا كلام والثانية لام الجواب وكلاهما للتأكيد ومنهم من قال إنهما لاما القسم وليس يحتاج إلى ذلك وقد بيناه في الملجئة وكيفما كان الأمر بيمين أو بالتزام مجرد عن اليمين أو بنية فإنه عهد
وكذلك قال علماؤنا إن العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر في عقده إلى غيره فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يتلفظ به
قال الشافعي وأبو حنيفة لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك وقد سئل إذا نوى رجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه يلازمه ذلك أم لا فقال يلزمه كما يكون مؤمنا بقلبه وكافرا بقلبه
وهذا أصل بديع وتحريره أن يقال عقد لا يفتقر المرء فيه إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية أصله الإيمان والكفر
548

وقد بيناه في كتاب الإنصاف أحسن بيان فلينظر هناك إن شاء الله تعالى وقد أشرنا إلى هذا الغرض قبل هذا بمرماة من النظر تصيبه وهذا يعضده ويقويه
المسألة الثالثة
إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين باتفاق بيد أن المعنى فيه إن كان نذر الرجل أو إن كان فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة فسأل الله مالا يلتزم فيه ما ألزمه من الصدقة ويؤدي ما تعين عليه فيه من الزكاة فلما آتاه الله ما سأل ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذا كان والله أعلم بغير نية خالصة أو كان بنية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة
المسألة الرابعة
إن كان هذا المعاهد عارفا بالله فيفهم وجه المعاهدة وإن كان غير عارف بالله فكيف يصح معاهدة الله مع من لا يعرفه
قلنا إن كان وقت المعاهدة عارفا بالله ثم أذهب المعرفة سوء الخاتمة فلا كلام وإن كان في وقت المعاهدة منافقا يظهر الإيمان ويسر الكفر فإن قلنا إن الكفار يعرفون الله فالمعاهدة مفهومة وإن قلنا لا يعرفونه وهو الصحيح فإن حقيقة المعاهدة عند علمائنا معاقدة بعزيمة محققة بذكر الله فإن عاهد الله من لا يعرفه فإنما ذلك إذا ذكره في المعاقدة فخاص من خواص أوصافه وإن لم يتحقق ربه فينعقد ذلك عليه ويلزمه حكمه وينفذ عليه عقابه لأن العقد يتعلق بهذا الذكر اللازم
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (بخلوا به) *))
اختلف فيه فقيل البخل منع الواجب والشح منع المستحب قال تعالى (* (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله) *) إلى (* (القيامة) *) وقال تعالى (* (ولا يجدون في صدورهم) *) الآية
549

وقيل هما واحد وقد سبقت الإشارة إليه في المتقدم من القول وما حكيناه ها هنا هو الصحيح وعليه تدل الأحاديث حسبما بيناه فيها وظواهر القرآن حسبما بيناه فيها
المسألة السادسة قوله (* (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم) *))
النفاق بالقلب هو الكفر وإذا كان في الأعمال فهو معصية وقد حققنا ذلك في شرح الصحيح والأصول وفيه قال النبي أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر روته الصحاح والأئمة وتباين الناس فيه حزقا وتفرقوا فرقا بسبب أن المعاصي بالجوارح لا تكون كفرا عند أهل الحق ولا في دليل التحقيق وظاهر هذا الحديث يقتضي أنه إذا اجتمعت فيه هذه الخصال صح نفاقه وخلص وإذا كان منهن واحدة كانت فيه من النفاق خصلة وخصلة من النفاق نفاق وعقدة من الكفر كفر وعليه يشهد ظاهر هذه الآية بما قال فيه من نكثه لعهده وغدره الموجب له حكم النفاق فقالت طائفة إن ذلك إنما هو لمن يحدث بحديث يعلم كذبه ويعهد بعهد لا يعتقد الوفاء به وينتظر الأمانة للخيانة فيها
وتعلقوا فيما ذهبوا إليه من ذلك بحديث خرجه البزار عن سلمان قال دخل أبو بكر وعمر على رسول الله فقال من خلال المنافقين ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان فخرجا من عند رسول الله ثقيلين فلقيهما علي فقال لهما ما لي أراكما ثقيلين قالا حديثا سمعناه من رسول الله من
550

خلال المنافقين إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف فقال علي أفلا سألتماه فقالا هبنا رسول الله فقال لكني سأسأله
فدخل على رسول الله فقال لقيني أبو بكر وعمر وهما ثقيلان ثم ذكر ما قالا فقال قد حدثتهما ولم أضعه على الموضع الذي يضعونه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف وإذا ائتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون
قال القاضي الإمام هذا ليس بممتنع لوجهين أحدهما ضعف سنده والثاني أن الدليل الواضح قد قام على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو التكذيب له
وقالت طائفة إنما ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله
أفادني أبو بكر الفهري بالمسجد الأقصى أن مقاتل بن حيان قال خرجت زمان الحجاج بن يوسف فلما كنت بالري أخبرت أن سعيد بن جبير بها مختف من الحجاج فدخلت عليه فإذا هو في ناس من أهل وده قال فجلست حتى تفرقوا ثم قلت إن لي والله مسألة قد أفسدت علي عيشي ففزع سعيد ثم قال هات فقلت بلغنا أن الحسن ومكحولا وهما من قد علمت في فضلهما وفقههما فيما يرويان عن رسول الله أنه قال ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه ثلث النفاق وظننت أني لا أسلم منهن أو من بعضهن ولم يسلم منهن كثير من الناس
قال فضحك سعيد وقال همني والله من الحديث مثل الذي أهمك فأتيت ابن عمر وابن عباس فقصصت عليهما ما قصصت علي فضحكا
551

وقالا همنا والله من الحديث مثل الذي أهمك فأتينا رسول الله في أناس من أصحابه فقلنا يا رسول الله إنك قد قلت ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولن يسلم منهن كثير من الناس
قال فضحك رسول الله وقال ما لكم ولهن إنما خصصت به المنافقين كما خصهم الله في كتابه
أما قولي إذا حدث كذب فذلك قول الله عز وجل (* (إذا جاءك المنافقون) *) الآية لا يرون نبوتك في قلوبهم أفأنتم كذلك قال فقلنا لا قال فلا عليكم أنتم من ذلك براء
وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل الله علي (* (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) *) إلى (* (يكذبون) *) أفأنتم كذلك قال فقلنا لا والله لو عاهدنا الله على شيء لوفينا بعهده قال فلا عليكم أنتم من ذلك براء
وأما قولي إذا ائتمن خان فذلك فيما أنزل الله (* (إنا عرضنا الأمانة) *) إلى (* (جهولا) *) فكل مؤمن مؤتمن على دينه والمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية ويصوم ويصلي في السر والعلانية والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية أفأنتم كذلك قلنا لا قال فلا عليكم أنتم من ذلك براء
قال ثم خرجت من عنده فقضيت مناسكي ثم مررت بالحسن بن أبي الحسن البصري فقلت له حديث بلغني عنك قال وما هو قلت من كن فيه فهو منافق قال فحدثني بالحديث قال فقلت أعندك فيه شيء غير هذا قال لا قلت ألا أحدثك حديثا حدثني به سعيد بن جبير فحدثته به فتعجب منه وقال إن لقينا سعيدا سألناه عنه وإلا قبلناك
552

قال القاضي هذا حديث مجهول الإسناد وأما معناه ففيه نحو من الأول وهو تخصيصه من عمومه وتحقيقه بصفته أما قوله (* (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله) *) الآية فإنه كذب في الاعتقاد وهو كفر محض
وأما قوله (* (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) *) فهي الآية التي نتكلم فيها الآن وهي محتملة يمكن أن يصحبها الاعتقاد بخلاف ما عاهد عليه عند العهد
ويحتمل أن يكون بنية الوفاء حين العهد وطرأ عليه ذلك بعد تحصيل المال
وأما قوله (* (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال) *) وقوله فيه إن المؤمن يصلي في السر والعلانية ويغتسل ويصوم كذلك فقد يترك الصلاة والغسل تكاسلا إذا أسر ويفعلها رياء إذا جهر ولا يكذب بهما وكذلك في الصوم مثله ولا يكون منافقا بذلك لما بيناه من أن المنافق من أسر الكفر والعاصي من آثر الراحة وتثاقل في العبادة
وقالت طائفة هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال
والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم تؤثر في الاعتقاد
والذي عندي أن البخاري روى عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان وذلك أن أحدا لا يعلم منه هذا كما كان في عهد النبي يعلمه منه النبي وإنما هو القتل دون تأخير فإن ظهر ذلك من أحد في زماننا فيكون كقوله من ترك الصلاة فقد كفر وأيما عبد أبق من مواليه فقد كفر
وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم إن إخوة يوسف عاهدوا أباهم فأخلفوه وحدثوه فكذبوه وائتمنهم عليه فخانوه وما كانوا منافقين
553

وقد حققنا ذلك في كتاب المشكلين
تحقيقه أن الحسن بن أبي الحسن البصري عالم من علماء الأمة قال النفاق نفاقان نفاق الكذب ونفاق العمل فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله وأما نفاق العمل قلا ينقطع إلى يوم القيامة
المسألة السابعة قوله تعالى (* (إلى يوم يلقونه) *))
فيه قولان
أحدهما أن الضمير عائد إلى الله تعالى
والثاني أنه عائد على النفاق عبر عنه بجزائه كأنه قال فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقون جزاءه
وعلى ذكر هذه الآية أنبئكم أني كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور بن حمير على رتبة بيناها في كتاب ترتيب الرحلة للترغيب في الملة فقرأ القارئ (* (تحيتهم يوم يلقونه سلام) *) وكنت في الصف الثاني من الحلقة فظهر أبو الوفاء علي بن عقيل إمام الحنبلية بها وكان معتزلي الأصول فلما سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على يساري هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة فإن العرب لا تقول لقيت فلانا إلا إذا رأته فصرف وجهه أبو الوفاء المذكور إلينا مسرعا وقال تنتصر لمذهب الاعتزال في أن الله لا يرى في الآخرة فقد قال (* (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) *) وعندك أن المنافقين لا يرون الله في الآخرة وقد شرحنا وجه الآيتين في المشكلين وتقدير الآية فأعقبهم هو نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه فيحتمل عود الضمير يلقونه إلى ضمير الفاعل في أعقبهم المقدر بقولنا هو ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازا على تقدير الجزاء كما بيناه
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) *))
يريد به تحريم مخالفة العهد ونكث العهد كيفما تصرفت حاله
554

روى البخاري عن نافع قال لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال إني سمعت رسول الله يقول ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله وبيعة رسوله وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيعة الله وبيعة رسوله ثم ينصب له القتال وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه
وقال ابن خياط إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كرها وأين يزيد من ابن عمر ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يفي بخلع يزيد ولو تحقق أن الأمر يعود بعده في نصابه فكيف وهو لا يعلم ذلك وهذا أصل عظيم فتفهموه والتزموه ترشدوا إن شاء الله تعالى
المسألة التاسعة في قوله تعالى (* (لئن آتانا من فضله لنصدقن) *))
دليل على أنه من قال إن ملكت كذا فهو صدقة أو علي صدقة إنه يلزمه وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي لا يلزمه ذلك والخلاف في الطلاق مثله وكذلك في العتق إلا أن أحمد بن حنبل يقول إنه يلزم ذلك في العتق ولا يلزم في الطلاق
وظاهر هذه الآية يدل على ما قلناه خلافا للشافعي وتعلق الشافعي بقوله لا طلاق قبل نكاح ولا نذر فيما لا يملك ابن آدم وسرد أصحابه في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح شيء منها فلا معول عليه ولم يبق إلا ظاهر هذه الآية والمعاني مشتركة بيننا وقد حققنا المسألة بطرقها في كتاب التخليص
وأما أحمد فزعم أن العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محله وهو لا يثبت في الذمة
555

وقال علماؤنا إن كان الطلاق لا يثبت في الذمة فإن القول ينعقد من المتكلم إذا صادف محلا وربطه بملك كما لو قال رجل لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فإن القول ينعقد ويصح ويلزم وإذا دخلت الدار وقع الطلاق بالقول السابق له اللازم المنعقد المضاف إلى محل صحيح تصح إضافة الطلاق إليه وهي الزوجة فكذلك إذا قال لها إذا تزوجتك فأنت طالق وإذا ملكت هذا العبد فهو حر لأنه أضاف التصرف إلى محله في وقت يصح وقوعه فيه فيلزمه كما لو قال لزوجته إذا دخلت الدار فأنت طالق أو قال لعبده إذا دخلت الدار فأنت حر
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) *))
حيل بينهم وبين التوبة وصرح بنفاقهم وكفرهم فلذلك لم تقبل صدقاتهم لأن صحة الإيمان شرط لقبول الصدقة والصلاة وسائر الأعمال ولذلك لم يقبلها رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان اقتداء برسول الله لعلمه بسريرته واطلاعه على بنيات صدره
الآية الحادية والثلاثون
قوله تعالى (* (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) *)
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
ثبت في الصحاح والمصنفات حديث عبد الله بن عباس وغيره قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله للصلاة عليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت يا رسول الله أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا يوم كذا وكذا يعدد عليه آثامه قال ورسول الله يبتسم حتى إذا أكثرت عليه قال أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت قد قيل لي (* (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) *) الآية لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت
556

قال ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه قال فعجبت لي ولجراءتي على رسول الله والله ورسوله أعلم
قال فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان (* (ولا تصل على أحد) *) إلى آخر الآيتين
قال فلما صلى رسول الله بعد على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله
وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر قال جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى النبي حين مات أبوه فقال أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له فأعطاه قميصه وقال إذا فرغتم فآذنوني فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر وقال أليس قد نهى الله أن تصلي على المنافقين فقال أنا بين خيرتين أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم فصلى عليه فأنزل
الله (* (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) *) فترك الصلاة عليهم
المسألة الثانية
اختلف الناس في قوله (* (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) *) هل هو إياس أو تخيير فقال قوم هو إياس بدليل ثلاثة أشياء
أحدها أنه قال (* (فلن يغفر الله لهم) *)
الثاني أنه قال إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم مبالغة كقول القائل لو سألتني مائة مرة ما أجبتك
557

الثالث أنه علل ذلك بقوله (* (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) *) وهذه العلة موجودة بعد الزيادة على السبعين وحيث توجد العلة يوجد الحكم
وقال قوم هو تخيير من الله لنبيه والدليل عليه قوله لعمر إني خيرت فاخترت قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت وهذا أقوى لأن هذا نص صريح صحيح من النبي في التخيير وتلك استنباطات والنص الصريح أقوى من الاستنباط
فأما قولهم إنه قال (* (فلن يغفر الله لهم) *) فهذا في السبعين وليس ما وراء السبعين كالسبعين لا من دليل الخطاب ولا من غيره أما من دليل الخطاب فإن دليل الخطاب لا يكون في الأسماء وإنما يكون في الصفات حسبما بيناه في أصول الفقه ورددناه على الدقاق من أصحاب الشافعي الذي يجعله في الأسماء والصفات وهو خطأ صراح وأما من غير دليل الخطاب فظاهر أيضا لأن الحكم إذا علق على اسم علم بقي غيره خاليا عن ذلك الحكم فيطلب الحكم فيه من دليل آخر
وأما قولهم إنها مبالغة فدعوى ولعله تقدير لمعنى حتى لقد قال في ذلك الأستاذ أبو بكر بن فورك رحمه الله إن التعديل في الخمسة لأنها نصف العقد وزيادة الواحدة أدنى المبالغة وزيادة الاثنين لأقصى المبالغة ومنه سمي الأسد سبعا عبارة عن غاية القوة وفي الأمثال أخذه أخذة سبعة أي غاية الأخذ على أحد التأويلات وهذا تحكم إذ يحتمل أن يقول إن الاثنين أوسط المبالغة والثلاثة نهايتها وذلك في الثمانية ومنه يقال في المثل لمن بالغ في عوض السلعة أثمنت أي بلغت الغاية في الثمن وهذه التحكمات لا قوة فيها والاشتقاقات لا دليل عليها وإنما هي ملحة فإذا عضدها الدليل كانت صحيحة
وأما قولهم إنه علله بالكفر وذلك موجود بعد السبعين والكافر لا يغفر له
قلنا أما قولهم إن ذلك موجود بعد السبعين فيقال له هذا الحكم من عدم
558

المغفرة إنما كان معلقا بالسبعين والزيادة غير معتبرة به كما تقدم بيانه وإنما علم عدم المغفرة في الكافر بدليل آخر ورد من طرق منها قوله (* (سواء عليهم استغفرت لهم) *) الآية
المسألة الثالثة في إعطاء القميص
قال علماؤنا رحمة الله عليهم روي أن عبد الله إذ طلب القميص كان على النبي قميصان قال أعطه الذي يلي جلدك وقالوا إنه إنما أعطاه قميصه مكافأة على إعطائه قميصه يوم بدر للعباس فإنه لما أسر واستلب ثوبه رآه النبي كذلك فأشفق وطلب له قميصا فما وجد له في الجملة قميصا يقادره إلا قميص عبد الله لتقاربهما في طول القامة فأراد النبي بإعطائه القميص أن ترتفع اليد عنه في الدنيا حتى لا يلقاه في الآخرة وله عنده يد يكافئه بها
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ولا تصل على أحد منهم) *) الآية
نص في الامتناع من الصلاة على الكفار وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين
وقد وهم بعض أصحابنا فقال إن الصلاة على الجنازة فرض على الكفاية بدليل قوله (* (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) *) فنهى الله عن الصلاة على الكفار فدل على وجوبها على المؤمنين وهذه غفلة عظيمة فإن الأمر بالشيء نهي عن أضداده كلها عند بعض العلماء لفظا وباتفاقهم معنى
فأما النهي عن الشيء فقد اتفقوا في الوجهين على أنه أمر بأحد أضداده لفظا أو معنى وليست الصلاة على المؤمنين ضدا مخصوصا للصلاة على الكافرين بل كل طاعة ضد لها فلا يلزم من ذلك تخصيص الصلاة على المؤمنين دون سائر الأضداد
المسألة الخامسة
صلاة النبي على ابن أبي اختلف فيها على ثلاثة أقوال
الأول ما تقدم من أنه خير فاختار
الثاني ما روي أنه فعل ذلك مراعاة لولده وعونا له على صحة إيمانه إيناسا له
559

وتأليفا لقومه فقد روي أنه لما صلى عليه رسول الله أسلم من الخزرج ألف رجل
الثالث ما روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس قال دخل رسول الله على عبد الله بن أبي بن سلول فقال قد كنت أسمع قولك فامنن علي اليوم وكفني بقميصك وصل علي فكفنه رسول الله بقميصه وصلى عليه قال ابن عباس فالله أعلم أي صلاة هي وإن محمدا لم يخادع إنسانا قط قال عكرمة غير أنه قال يوم الحديبية كلمة حسنة قال المشركون إنا منعنا محمدا أن يطوف بالبيت وإنا نأذن لك فقال لا لي في رسول الله أسوة حسنة
قال القاضي واتباع القرآن أولى في قوله تعالى (* (أنهم كفروا بالله) *) الآية فأخبر عنه بالكفر والموت على الفسق وهذا عموم في الذي نزلت الآية بسببه وفي كل منافق مثله
الآية الثانية والثلاثون
قوله تعالى (* (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) *)
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
في خمسة أقوال
الأول نزلت في العرباض بن سارية
الثاني نزلت في بني مقرن من مزينة قاله مجاهد
الثالث نزلت في عبد الله بن الأزرق وابن أبي ليلى
الرابع نزلت في سبعة من قبائل شتى قاله محمد بن كعب
560

الخامس في أبي موسى وأصحابه قاله الحسن وهو الصحيح
ثبت أن أبا موسى قال أتينا النبي في نفر من الأشعريين فاستحملناه فأبى أن يحملنا فاستحملناه فحلف ألا يحملنا ثم لم يلبث النبي أن أتى بنهب إبل فأمر لنا بخمس ذود فلما قبضناها قلنا تغفلنا النبي يمينه لا نفلح بعدها أبدا فأتيته فقلت يا رسول الله إنك حلفت ألا تحملنا وقد حملتنا قال أجل ولكني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير منها
المسألة الثانية في المعنى
إن الله لما استنفرهم لغزو الروم ودعاهم إلى الخروج لغزوة تبوك بادر المخلصون وتوقف المنافقون والمتثاقلون وجعلوا يستأذنون رسول الله في التخلف ويعتذرون إليه بأعذار منها كفر كقول الحر بن قيس ائذن لي ولا تفتني ببنات بني الأصفر فإني لا أقدر على الصبر عنهن فأنزل الله تعالى (* (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا) *)
ومنهم من قال (* (لا تنفروا في الحر قل نار جهنم) *) الآية وقال في أهل العذر الصحيح (* (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) *) إلى (* (من سبيل) *) وهم الذين صدقوا في حالهم وكشفوا عن عذرهم وهي
المسألة الثالثة
التي بين الله في قوله (* (وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم) *) فأخبر الله سبحانه أن الناس ثلاثة أقسام صنف معذر وهو المقصر وصنف ذو عذر وصنف لم يعتذر بعذره ولا أظهر شيئا من أمره بل أعرض عن ذلك كله يقال عذر الرجل بتشديد الذال إذا قصر وأعذر إذا أبان عن عذره وكل واحد منهما يدخل على صاحبه وقد قرئ المعذرون بإسكان العين وتخفيف
561

الذال وبذلك قال جماعة من الناس لكن يكشف المعنى فيه حقيقة الحال منه ولذلك عقبه الله تعالى بقوله (* (ما على المحسنين من سبيل) *) وهم الذين أبدوا عن عذر صحيح أو علم الله صدق عذرهم فيما لم يبد عليهم دليل من حالهم
والعجب من القاضي أبي إسحاق يقول إن سياق الكلام يقتضي أنهم الذين لا عذر لهم وأنهم مذمومون لأنهم جاءوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء أو المرضى لم يحتاجوا أن يستأذنوا وليس الأمر كذلك بل كل أحد يستأذن النبي ويعلمه بحاله فإن كان مرئيا فالعيان شاهد لنفسه وإن كان غير مرئي مثل عجز البدن وقلة المال فالله شهيد به وهو أعدل الشاهدين يلقي اليقين على رسوله بصدق عذر المعتذرين إليه ويخلق له القبول في قلبه له
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ما على المحسنين من سبيل) *))
يريد من طريق إلى العقوبة على فعله لأنه إحسان في نفسه والحسن ما لم ينه عنه الشرع والقبيح ما نهى عنه وقد بينا ذلك ها هنا وفي كتب الأصول
المسألة الخامسة
هذا عموم ممهد في الشريعة أصل في رفع العقاب والعتاب عن كل محسن قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك بالسراية إلى إتلاف نفسه فقال أبو حنيفة يلزمه الدية وقال مالك والشافعي لا دية عليه لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه فلا سبيل إليه وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه عندنا وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة يلزمه لمالكه قيمته وكذلك في مسائل الشريعة كلها
وقد أومأنا إلى ذلك في مسائل الخلاف وقررنا هذا الأصل في كتب الأصول
المسألة السادسة قوله تعالى (* (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) *))
أقوى دليل على قبول عذر المعتذر بالحاجة والفقر عن التخلف في الجهاد إذا ظهر من حاله صدق الرغبة مع دعوى المعجزة كإفاضة العين وتغيير الهيئة لقوله
562

(* (تولوا وأعينهم تفيض) *) الآية ويدل على أنه لا يلزم الفقير الخروج في الغزو والجهاد تعويلا على النفقة من المسألة حاشا ما قاله علماؤنا دون سائر الفقهاء إن ذلك إذا كانت عادة لزمه ذلك وخرج على العادة وهو صحيح لأن حاله إذا لم يتغير يتوجه الفرض عليه توجهه عليه ولزمه أداؤه وهي
المسألة السابعة
قال علماؤنا رحمة الله عليهم من قرائن الأحوال ما يفيد العلم الضروري ومنها ما يحتمل الترديد فالأول كمن يمر على دار قد علا فيها النعي وخمشت فيها الخدود وحلقت الشعور وسلقت الأصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثبور فيعلم أنه قد مات
وأما الثاني فكدموع الأيتام على أبواب الحكام قال الله تعالى مخبرا عن إخوة يوسف (* (وجاؤوا أباهم عشاء يبكون) *) وهم الكاذبون وجاؤوا على قميصه بدم كذب ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب وتنبني عليها الشهادة في الوقت وغيره بناء على ظواهر الأحوال وغالبها
الآية الثالثة والثلاثون
قوله تعالى (* (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) *)
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
هذه الآية نزلت بعد ذكر المنافقين ها هنا ونزلت بعد ذكر المؤمنين بعد هذا بآيات فأما هذه التي أعقبت ذكر المنافقين فمعناها التهديد وأما الآية التي نزلت بعد هذا فمعناها الأمر وتقديرها اعملوا بما يرضي الله وذلك أن النفاق موضع
563

ترهيب والإيمان محل ترغيب فقوبل أهل كل محل من الخطاب بما يليق به كما قيل للكفار اعملوا ما شئتم على معنى التهديد
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وسيرى الله عملكم ورسوله) *))
الباري راء مرئي يرى الخلق ويرونه فأما رؤيتهم له ففي محل مخصوص ومن قوم مخصوصين وأما رؤيته للخلق فدائمة فهو تعالى يعلم ويرى
وقال جماعة من المبتدعة إنه يعلم ولا يرى ومتى أخبر عنه بالرؤية فإنها راجعة إلى العلم وقد دللنا في كتب الأصول على أنه راء برؤية كما أنه عالم بعلم لأنه أخبر عن نفسه بذلك وخبره صادق ولو لم يكن رائيا لكان مؤوفا لأن الحي إذا لم يكن مدركا كان مؤوفا وهو المتقدس عن الآفات والنقائص وهذه العمدة العقلية لعلمائنا فقد أخبر سبحانه عن نفسه بما يجب له من صفته وقام الدليل عليه من نعته فلزمنا اعتقاده والإخبار به
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وسيرى الله عملكم) *))
ذكره بصيغة الاستقبال لأن الأعمال مستقبلة والباري يعلم ما يعمل قبل أن يعمل ويراه إذا عمل لأن العلم يتعلق بالموجود والمعدوم والرؤية لا تتعلق بالموجود وقد قال في الحديث الصحيح عن جبريل ما الإحسان قال النبي أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك
المسألة الرابعة
قال الأستاذ أبو بكرقوله (* (وسيرى الله عملكم) *) معناه يجعله في الظهور محل ما يرى
وروى ابن القاسم عن مالك في الآية أنه كان يقال ابن آدم اعمل وأغلق عليك سبعين بابا يخرج الله عملك إلى الناس
وهذا الذي قاله الأستاذ أبو بكر والإمام مالك إنما يكون فيما يتعلق برؤية الناس فأما رؤية الله فإنها تتعلق بما يسره كما تتعلق بما يظهره لأنه لا تؤثر الحجب في رؤيته ولا تمنع الأجسام عن إدراكه
564

وفي الأثر عن رسول الله لو أن رجلا عبد الله في صخرة لا باب لها ولا كوة لأخرج الله عمله إلى الناس كائنا ما كان والله يطلع المؤمنين على ما في قلوب إخوانهم من خير فيحبونه أو شر فيبغضونه وقال الله إذا تقرب إلي عبدي شبرا تقربت إليه ذراعا وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا وإذا أتاني يمشي أتيته أهرول ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به
وفي الصحيح إذا أحب الله عبدا نادى في السماء يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل يا ملائكة السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه ملائكة السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ولا أراه في البغض إلا مثل ذلك
إيضاح مشكل
قوله إذا تقرب العبد مني شبرا تقربت منه ذراعا مثل لأن البارئ سبحانه يستحيل عليه القرب بالمساحة وإنما قربه بالعلم والإحاطة للجميع وبالرحمة والإحسان لمن أراد ثوابه
وقوله أيضا أتيته أهرول مثله في التمثيل والإشارة به إلى أن الثواب يكون أكثر من العمل فضرب زيادة الأفعال بين الخلق في المجازاة على البعض مثلا في زيادة ثوابه على أعمالهم
وقوله لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل إشارة إلى أن المواظبة على العمل توجب مواظبة الثواب وتطهر المواظبة الأعضاء عن المعاصي فحينئذ تكون الجوارح لله
خالصة فعبر بنفسه تعالى عنها تشريفا لها حين خلصت من المعاصي ومثله النزول فإنه عبارة عن إفاضة الخير ونشر الرحمة
565

المسألة الخامسة
أما الآية الأولى في المنافقين فهي على رسم التهديد كما بيناه ومعناها أن المنافقين يعتقدون الكفر ويظهرون أعمال الإيمان كأنها أعمال بر وهي رياء وسمعة بغير اعتقاد ولا نية فالله يراها كذلك ويطلع عليها عباده المؤمنين فأما اطلاع رسوله فبعينيه وأما اطلاع المؤمنين فبالعلامات من الأعمال والأمارات الدالة على الاعتقاد وذلك كما قال من أسر سريرة ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر
وأما الآية الثانية في المؤمنين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فإن الله يراه ويعلمه فيعلمه رسوله والمؤمنون على النحو الذي تقدم ونرد العلمين إلى عالم الغيب والشهادة فنجزيهم بأعمالهم ومواقعها أما المنافق فنقدم إلى عمله فنجعله هباء منثورا وأما المؤمن الذي خلط في أعماله طاعة بمعصية فإنه يوازن بها في الكفتين فما رجح منها على مقدار عمله فيها أظهره عليها وحكم به لها
والمرء يكون في موطنين
أحدهما موطن الخاتمة عند قبض الروح وهي
المسألة السادسة
فإنه وقت كشف الغطاء وسلامة البصر عن العمى فيقال له (* (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) *) فانظر إلى ما كنت غافلا عنه أو به متهاونا
والحالة الثانية عند الوزن وتطاير الصحف والأنباء حينئذ يكون بإظهار الجزاء وشرح صفة الأنباء ومواطنه في كتاب الذكر
الآية الرابعة والثلاثون
قوله تعالى (* (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم) *)
فيها ثلاث مسائل
566

المسألة الأولى في قوله تعالى (* (الأعراب) *))
اعلموا وفقكم الله لسبيل العلم تسلكونها وصرفكم عن الجهالات ترتكبونها أن بناء عرب ينطلق في لسان العرب على معان لا تنتظم في مساق واحد وعلى رأي من يريد أن يجعل الأبنية تنظر إلى المعاني من مشكاة واحدة فإن ذلك قد يجده الطالب له وقد يعسر عليه وقد يعدمه وينقطع له وهذا البناء مما لم يتفق لي ربط معانيه به
وقد جاء ذكر الأعراب في القرآن ها هنا وجاء في السنة ذكر العرب في أحاديث كثيرة ولغة العرب منسوبة إلى العرب والعرب اسم مؤنث فإذا صغروه أسقطوا الهاء فقالوا عريب ويقال عرب وعرب بفتح الفاء والعين وبضم الفاء وبإسكان العين والعاربة والعرباء وهم أوائلهم أو قبائل منهم يقال إنهم سبع سماهم ابن دريد وغيره ويقال الأعراب والأعاريب
وقال ابن قتيبة الأعرابي لزيم البادية والعربي منسوب إلى العرب وكأنه يشير إلى أن هذه النسبة قد تكون نسبة جنس كالأعرابي وقد تكون نسبة لسان وإن كان من الأعاجم إذا تعلمها
وتحقيق القول أن الأعراب جمع وهو بناء له في الواحد أمثال منها فعل وفعل وفعل وفعل كقفل وأقفال وفلس وأفلاس وحمل وأحمال وجمل وأجمال لم أجد عربا بكسر الفاء إلا في نوع من النبات لا يستجيب مع سائر الأبنية ويا ليت شعري ما الذي يمنع أن يكون الأعرابي منسوبا إلى الأعراب والعربي منسوبا إلى العرب ويكون الأعراب هم العرب وقد قال النبي يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك قال وكيف أبغضك يا رسول الله قال تبغض العرب
567

وقال من غش العرب لم يدخل في شفاعتي وقال من اقتراب الساعة هلاك العرب
وقال النبي لتفرن من الدجال حتى تلحقوا بالجبال قيل يا رسول الله فأين العرب يومئذ قال هم قليل
وقال أيضا سام أبو العرب ويافث أبو الروم وحام أبو الحبش ومن غريب هذا الاسم أن بناءه في التركيب للتعميم بناء الحروف في المخارج على الترتيب
المسألة الثانية وهي فائدة القول
اعلموا وفقكم الله أن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها فكان مما علم من الأسماء العرب والأعراب والعربية ولا نبالي كيف كانت كيفية التعليم من لدن آدم إلى الأزمنة المتقادمة قبلنا وقبل فساد اللغة فكان هذا اسم اللسان واسم القبيلة حتى بعث الله محمدا سيدها بل سيد الأمم فأعطى الله لها اسما شريفا وهو نبي رسول إلى سائر أسمائه حسبما بيناها في شرح الصحيح والقبس وغيره وأعطى من آثر دينه على أهله وماله اسما أشرف من عرب ومن قرش ومن هجر فقال المهاجرون وأعطى من آوى وناضل اسما أشرف من الذي كان وهو نصر فقال الأنصار وعمهم باسم كريم شريف الموضع والمقطع وهو صحب فقال أصحابي وأعطى من لم يره حظا في التشريف باسم عام يدخلون به في الحرمة وهي
568

الأخوة فقال وددت أني رأيت إخواننا قلنا ألسنا بإخوانك يا رسول الله قال بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين يأتون من بعد فمن دخل في الهجرة أو ترسم بالنصرة فقد كمل له شرف الصحبة ومن بقي على رسمه الأول بقي عليه اسمه الأول وهم الأعراب
ولذلك قيل لما صار سلمة بن الأكوع في الرعية قال له الحجاج يا سلمة تعربت ارتددت على عقبيك فقال إن رسول الله أذن لي في التعريب وبعد هذا فاعلموا وهي
المسألة الثالثة
أن كل مسلم كان عليه فرضا أن يأتي رسول الله فيكون معه حتى تتضاعف النصرة وتنفسح الدوحة وتحتمي البيضة ويسمعوا من رسول الله دينهم ويتعلموا شريعتهم حتى يبلغوها إلى يوم القيامة كما قال تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم فمن ترك ذلك وبقي في إبله وماشيته وآثر مسقط رأسه فقد غاب عن هذه الحظوظ وخاب عن سهم الشرف وكان من صار مع النبي إذ صار إليه مؤهلا لحمل الشريعة وتبليغها متشرفا بما تقلد من عهدتها وكان من بقي في موضعه خائبا من هذا الحظ منحطا عن هذه المرتبة والذين كانوا معه يشاهدون آياته ويطالعون غرته البهية كان الشك يختلج في صدورهم والنفاق يتسرب إلى قلوبهم فكيف بمن غاب عنه فعن هذا وقع البيان بقوله (* (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) *) فمنهم من يتخذ ما ينفق في سبيل الله وعلى إعلاء كلمة الله مغرما لا مغنما ومنهم من يسلم له اعتقاده فيتخذ ما ينفق وسيلة إلى الله وقربة ورغبة في صلاة رسول الله ورضاه عنه
569

الآية الخامسة والثلاثون
تكملة
من خواص هؤلاء الخواص وسادة هؤلاء السادة (* (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) *)
وهي الآية الخامسة والثلاثون
وفيها سبع مسائل
المسألة الأولى في تحقيق السبق
وهو التقدم في الصفة أو في الزمان أو في المكان فالصفة الإيمان والزمن لمن حصل في أوان قبل أوان والمكان من تبوأ دار النصرة واتخذه بدلا عن موضع الهجرة وهم على ثماني مراتب
الأولى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وبلال وغيرهم
الثانية دار الندوة
الثالثة مهاجرة أصحاب الحبشة كعثمان والزبير
الرابعة أصحاب العقبتين وهم الأنصار
الخامسة قوم أدركوا النبي وهو بقباء قبل أن يدخل المدينة
السادسة من صلى إلى القبلتين
السابعة أهل بدر
الثامنة أهل الحديبية وبهم انقطعت الأولية
واختار الشافعي الثامنة في تفسير الآية واختار في تفسيرها ابن المسيب وقتادة والحسن من صلى إلى القبلتين
المسألة الثانية القراءة في قوله (* (والأنصار) *))
بالخفض عطفا على المهاجرين فيكونون أيضا فيها على مراتب منهم العقبيون ومنهم أهل القبلتين ومنهم البدريون ومنهم الرضوانية ويكون الوقف فيهما واحدا
570

وقرئ والأنصار برفع الراء عطفا على والسابقون ويعزى ذلك إلى عمر وقراءة الحسن واختاره يعقوب وسواء كانت القراءة برفع الراء أو خفضها ففي الأنصار سابق ومصل في كل طائفة واحد
المسألة الثالثة
أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق رضي الله عنه فإنه أول من أسلم والدليل عليه قول عمرو بن عبسة للنبي من اتبعك على هذا الأمر قال حر وعبد وبهذا احتج شيخ السنة أبو الحسين علي بن الجبائي في مجلس ابن ورقاء أمير البصرة حين ادعى أن عليا أولهم إسلاما وكانا شيعيين وذكر أيضا أن حسان أنشد النبي بحضرتهم
(إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
* فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا)
(الثاني التالي المحمود مشهده
* وأول الناس منهم صدق الرسلا)
فلم ينكر ذلك عليه النبي ولا قال له إنما كان أول من صدق علي بن أبي طالب
وقد روى أبو محمد عبد الله بن الجارود أنبأنا محمد بن حسان النيسابوري أنبأنا عبد الرحمن بن معدى عن مجالد عن الشعبي قال سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما قال أبو بكر أو ما سمعت قول حسان
(إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
* فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا)
(خير البرية أتقاها وأعدلها
* بعد النبي وأوفاها بما حملا)
(الثاني التالي المحمود مشهده
* وأول الناس منهم صدق الرسلا)
وهذا خبر اشتهر وانتشر فقال أحمد بن حنبل حدثنا أبو معمر أنبأنا أبو عبد الرحمن عن مجالد عن الشعبي قال قال ابن عباس أول من صلى أبو بكر ثم تمثل بأبيات حسان وذكرها ثلاثة وقال النبي مبينا فضل
571

أبي بكر وسبقه لعمر بن الخطاب حين غامره ' دعوا لي صاحبي فإني بعثت إلى الناس كافة فقالوا كذبت وقال أبو بكرصدقت وأسلم على يدي أبي بكر خلق كثير منهم الزبير وطلحة وسعد وعثمان وأهل العقبتين وليس في تقدمة إسلام علي رضي الله عنه حديث يعول عليه لا عن سلمان ولا عن الحسن ولا عن أحد
المسألة الرابعة قوله (* (والذين اتبعوهم بإحسان) *))
وقد روي أن عمر قرأ ((الذين)) بإسقاط الواو نعتا للأنصار فراجعه زيد بن ثابت فسأل أبي بن كعب فصدق زيدا فرجع إليه عمر وثبتت الواو وقد بينا ذلك في تفسير قوله أنزل القرآن على سبعة أحرف وقد اختلف في التابعين فقيل هم من أسلم بعد الحديبية كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن داناهم من مسلمة الفتح وقد ثبت أن عبد الرحمن بن عوف شكا إلى النبي خالد بن الوليد وعمرو بن العاص فقال النبي لخالد دعوا لي أصحابي فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه خرجه البرقاني وغيره
وقيل هم الذين لم يروا النبي ولا عاينوا معجزاته ولكنهم سمعوا خبره في القرن الثاني من القرن الأول وهو اسم مخصوص بالقرن الثاني فيقال صحابي وتابعي بهذه الخطة لما ذكر في هذه الآية وكفانا أن اتقينا الله واهتدينا بهدي رسول الله واقتفينا آثاره واسم الأخوة التي قدمنا تبيانا لنا
المسألة الخامسة
إذا ثبتت هذه المراتب وبينت الخطط فإن السابق إلى كل خير والمتقدم إلى الطاعة أفضل من المصلي فيها والتالي بها قال الله تعالى (لا يستوي منكم من أنفق
572

من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) ولكن من سبق أكرم عند الله مرتبة وأوفى أجرا ولو لم يكن للسابق من الفضل إلا اقتداء التالي به واهتداؤه بهديه فيكون له ثواب عمله في نفسه ومثل ثواب من اتبعه مقتديا به قال النبي من سن سنة حسنة في الإسلام كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا
ولذلك قلنا إن الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها عنه ولا خلاف في المذهب فيه وقد ثبت عن النبي أنه قال أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها وقد بيناه في غير موضع
المسألة السادسة
قد بينا أن السبق يكون بالصفات والزمان والمكان وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات والدليل عليه قول النبي في الحديث الصحيح نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فاليهود غدا والنصارى بعد غد فأخبر النبي أن من سبقنا من الأمم بالزمان فجئنا بعدهم سبقناهم بالإيمان والامتثال لأمر الله والانقياد إليه والاستسلام لأمره والرضا بتكليفه والاحتمال لوظائفه لا نعترض عليه ولا نختار معه ولا نبدل بالرأي شريعته كما فعل أهل الكتاب وذلك بتوفيق الله لما قضاه وبتيسيره لما يرضاه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
573

المسألة السابعة
لما ذم الله الأعراب بنقصهم وحطهم عن المرتبة الكاملة لسواهم ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة
أولها أنه لا حق لهم في الفيء والغنيمة حسبما يأتي في سورة الحشر إن شاء الله
ثانيها أن إمامتهم بأهل الحضر ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم للجمعة
ثالثها إسقاط شهادة البادية عن الحضارة
واختلف في تعليل ذلك فقيل لأن الشهادة مرتبة عالية ومنزلة شريفة وولاية كريمة فإنها قبول قول الغير على الغير وتنفيذ كلامه عليه وذلك يستدعي كمال الصفة وقد بينا نقصان صفته في علمه ودينه
وقيل إنما ردت شهادته عليه لما فيه من تحقيق التهمة إذا شهد أهل البادية بحقوق أهل الحاضرة وتلك ريبة إذ لو كان صحيحا لكان أولى الناس بذلك الحضريون فعدم الشهادة عندهم ووجودها عند البدويين ريبة تقتضي التهمة وتوجب الرد وعن هذا قال علماؤنا إن شهادتهم عليهم فيما يكون بينهم كالجراح ونحوها مما لا يكون في الحضر ماضية
وقال أبو حنيفة تجوز شهادة البدوي على الحضري لأنه لا يراعي كل تهمة ألا تراه يقبل شهادة العدو على عدوه
وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف فلينظره هنالك من أراد إستيفاءه
الآية السادسة والثلاثون
قوله تعالى (* (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) *)
فيها ست مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (خذ) *))
هو خطاب للنبي فيقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوال تكليفها بموته وبهذا تعلق مانعوا الزكاة على
574

أبي بكر الصديق وقالوا عليه إنه كان يعطينا عوضا عنها التطهير والتزكية لنا والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره ونظم في ذلك شاعرهم فقال
(أطعنا رسول الله ما كان بيننا
* فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر)
(وإن الذي سألوكم فمنعتم
* لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر)
(سنمنعهم ما دام فينا بقية
* كرام على الضراء في العسر واليسر)
وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة وغيرهم كفر بالله من غير تأويل وأنكر النبوة وساعد مسيلمة وأنكر وجوب الصلاة والزكاة
وفي هذا الصنف الذي أقر بالصلاة وأنكر الزكاة وقعت الشبهة لعمر حين خالف أبا بكر في قتالهم وأشار عليه بقبول الصلاة منهم وترك الزكاة حتى يتعهد الأمر ويظهر حزب الله وتسكن سورة الخلاف فشرح الله صدر أبي بكر للحق وقال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق في المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه
قال عمر فوالله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق
وبهذا اعترضت الرافضة على الصديق فقالوا عجل في أمره ونبذ السياسة وراء ظهره وأراق الدماء
قلنا بل جعل كتاب الله بين عينيه وهدي رسول الله ينظر إليه والقرآن يستنير به والسياسة تمهد سبلها فإنه قال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة وصدق الصديق فإن الله يقول (* (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) *) فشرطهما وحقق العصمة بهما وقال النبي أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله
فقال أبو بكر لعمر حين تعلق بهذا الحديث فقد قال النبي إلا بحقها والزكاة حق المال فالصلاة تحقن الدم والزكاة تعصم المال
575

وقد جاء في الحديث الصحيح أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
وأما السياسة فما عداها فإنه لو ساهلهم في منع الزكاة لقويت شوكتهم وتمكنت في القلوب بدعتهم وعسر إلى الطاعة صرفهم فعاجل بالدواء قبل استفحال الداء
فأما إراقته الدماء فبالحق الذي كان عصمها قبل ذلك وإراقة الدماء يا معشر الرافضة في توطيد الإسلام وتمهيد الدين آكد من إراقتها في طلب الخلافة وكل عندنا حق وعليكم في إبطال كلامكم وضيق مرامكم خنق
فأما قولهم إن هذا خطاب للنبي فلا يلتحق غيره فيه به فهذا كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين متهافت في النظر فإن الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا ولكن اختلفت موارده على وجوه منها في غرضنا هذه ثلاثة
الأول خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله (* (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) *) وكقوله (* (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) *) ونحوه
الثاني خطاب خص به النبي كقوله (* (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) *) وكقوله في آية الأحزاب (* (خالصة لك من دون المؤمنين) *) فهذان مما أفرد النبي بهما ولا يشركه فيهما أحد لفظا ومعنى لما وقع القول به كذلك
الثالث خطاب خص به النبي قولا ويشركه فيه جميع الأمة معنى وفعلا كقوله (* (أقم الصلاة لدلوك الشمس) *) وقوله (* (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) *) الآية
576

فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة وكذلك كل من خاف يقيم الصلاة بتلك الصفة
ومن هذا القبيل قوله (* (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) *) فإنه الآمر بها والداعي إليها وهم المعطون لها وعلى هذا المعنى جاء قوله (* (يا أيها النبي اتق الله) *) و (* (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) *)
وقد قيل له (* (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك) *) وما كان ليشك ولكن المراد من شك من الناس ممن كان معه في وقته
المسألة الثانية قوله (* (تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم) *))
الأصل في فعل كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة ثبت في الصحيح عن ابن أبي أوفى أن النبي كان إذا أتاه رجل بصدقته قال اللهم صل على آل فلان فجاءه بن أبي أوفى بصدقته فأخذها منه ثم قال اللهم صل على آل أبي أوفى
وأما قوله (* (تطهرهم وتزكيهم بها) *) فإنه من صفة الصدقة وكذلك قوله تزكيهم يعني أن الصدقة تكون سببا في طهارتهم وتنميتهم
وأهل الصناعة يرون أن يكون ذلك خطابا للنبي حتى بالغوا فقالوا إنه يجوز أن يقرأ تطهرهم بجزم الراء ليكون جواب الأمر والذي نراه أن كونه صفة أبلغ في نعت الصدقة وأقطع لشغب المخالف وأبعد من المجاز بمنزلة
المسألة الثالثة قوله (* (إن صلاتك سكن لهم) *))
يعني دعاءك وقد تكون الصلاة بمعنى الدعاء في الأظهر من معانيها قال الأعشى
577

(تقول بنتي وقد يممت مرتحلا
* يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا)
(عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
* نوما فإن لجنب المرء مضطجعا)
والسكن ما تسكن إليه النفوس وتطمئن به القلوب وقال قتادة وقار لهم
المسألة الرابعة
اختلف الناس في هذه الصدقة المأمور بها فقيل هي الفرض أمر الله بها ها هنا أمرا مجملا لم يبين فيها المقدار ولا المحل ولا النصاب ولا الحول وبين في سورة الأنعام المحل وحده ووكل بيان سائر ذلك إلى النبي ورتب الشريعة بالحكمة في العبادات على ثلاثة أنحاء منها ما يجب مرة في العمر كالحج ومنها ما يجب مرة في الحول كالزكاة ومنها ما يجب كل يوم كالصلاة
وقيل المراد بها التطوع
قيل نزلت في قوم تيب عليهم فرأوا أن من توبتهم أن يتصدقوا فأمر النبي في هذه الآية بهذه الأوامر
قال ابن عباس أتى أبو لبابة وأصحابه حين أطلقوا وتيب عليهم بأموالهم إلى النبي فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فأنزل الله (* (خذ من أموالهم صدقة) *) وكان ذلك مرجعه من غزوة تبوك وأبو لبابة ممن فرط في قريظة وفي تخلفه عن غزوة تبوك وحين تيب عليه قال يا رسول الله إن من توبتي أن أتصدق بمالي وأهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب فقال النبي يجزيك الثلث
وكذلك قال كعب ابن مالك يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة
578

إلى الله وإلى رسوله قال له رسول الله أمسك بعض مالك فهو خير لك قال فإني أمسك سهمي الذي بخيبر ولا نعلم هل هو بقدر ثلث ماله أو أكثر من ذلك أو أقل
قال الفقيه الإمام وهذه الأقوال الثلاثة في معنى الصدقة محتملة والأظهر أنها صدقة الفرض لأن التعلق لا يكون إلا بدليل يبين أن هذا مرتبط بما قبله متعلق به ما بعده
المسألة الخامسة
قال أشهب قال مالك في قوله (* (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) *)
نزلت في شأن أبي لبابة بن عبد المنذر قال لرسول الله حين أصابه الذنب يا رسول الله أجاورك وانخلع من مالي فقال يجزئك من ذلك الثلث وقد قال الله تعالى (* (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) *)
وروى ابن وهب وابن القاسم عنه نحوه
وروى الزبير بن بكار عن عبد الله ابن أبي بكر قال ارتبط أبو لبابة إلى جذع من جذوع المسجد بسلسلة بضع عشرة ليلة فكانت ابنته تأتيه عند كل صلاة فتحله فيتوضأ وهي الأسطوان المخلق نحو من ثلثها يدعى أسطوان التوبة ومنها حل رسول الله أبا لبابة حين نزلت توبته وبينها وبين القبر أسطوان وكان مالك يقول الجدار من المشرق في حد القناديل التي بين الأساطين التي في صفها أسطوان التوبة وبين الأساطين التي تلي القبر
وهذا غريب من رواية الزبير عن مالك وجمع الروايات نص عن مالك في أن الآية نزلت في ذلك
579

المسألة السادسة
قال مالك رضي الله عنه إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث
وقال الشافعي وأبو حنيفة يلزمه إخراج الكل وتعلق مالك بقصة أبي لبابة في أن رده إليه من الجميع إلى الثلث وهذا كان قويا لولا أنه قال لكعب بن مالك أمسك عليك بعض مالك من غير تحديد وهو أصح من حديث أبي لبابة
وقد ناقض علماؤنا فقالوا إنه إذا كان ماله معينا دابة أو دارا أو ضيعة فتصدق بجميعها مضى وهذه صدقة بالكل فتخمش وجه المسألة ولم يتبلج منه وضح وقد أشرنا إليها
في مسائل الخلاف والحق يعود صدقة الكل عليه والله أعلم
الآية السابعة والثلاثون
قوله تعالى (* (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) *)
هذه الآية نص صريح في أن الله هو الآخذ للصدقات وأن الحق لله والنبي واسطة فإن توفي فعامله هو الواسطة والله حي لا يموت فلا يبطل حقه كما قالت المرتدة
وفي الحديث الصحيح إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله والله يضاعف لمن يشاء
وكنى بكف الرحمن عن القبول إذ كل قابل لشيء يأخذه بكفه أو يوضع له فيه كما كنى بنفسه عن المريض تعطفا عليه بقوله يقول الله عبدي مرضت فلم تعدني حسبما تقدم بيانه
الآية الثامنة والثلاثون
قوله تعالى (* (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) *)
580

فيها ست مسائل
المسألة الأولى
ذم الله تعالى المنافقين والمقصرين في هذه السورة في آيات جملة ثم طبقهم طبقات عموما وخصوصا فقال (* (الأعراب أشد كفرا) *) وقال (* (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما) * ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات) وهذا مدح يتميز به الفاضل من الناقص والمحق من المبطل ثم ذكر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ثم قال (* (وممن حولكم من الأعراب منافقون) *) وقال (* (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) *) أي استمروا عليه وتحققوا به
وقال وآخرون يعني على التوسط خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ثم قال (* (وآخرون مرجون لأمر الله) *) وهم نحو من سبعة منهم أبو لبابة وكعب ومرارة وهلال جعلهم تحت المشيئة ورجأهم بالتوبة مشيرا إلى المغفرة والرحمة ثم قال (* (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا) *) أسقط ابن عامر ونافع منهما الواو كأنه رده إلى من هو أهل ممن تقدم ذكره وزاد غيرهما الواو كأنه جعلهم صنفا آخر
وقد قيل إن إسقاط الواو تجعله مبتدأ وليس كذلك بل هو لما تقدم وصف ولن يحتاج إلى إضمار وقد مهدناه في الملجئة
المسألة الثانية في سبب نزول الآية
روى أن اثنى عشر رجلا من المنافقين كلهم ينتمون إلى الأنصار بني عمرو بن عوف بنوا مسجدا ضرارا بمسجد قباء وجاؤوا إلى النبي وهو خارج إلى تبوك فقالوا يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة وإنا نحب أن تأتينا وتصلي فيه لنا فقال النبي إني على جناح سفر وشغل ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه
581

فلما نزل النبي بقرب المدينة راجعا من سفره أرسل قوما لهدمه فهدم وأحرق
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ضرارا) *))
قال المفسرون ضرارا بالمسجد وليس للمسجد ضرارا إنما هو ضرار لأهله
المسألة الرابعة قوله (* (وكفرا) *))
لما اتخذوا المسجد ضرارا لاعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي كفروا بهذا الاعتقاد
المسألة الخامسة قوله (* (وتفريقا بين المؤمنين) *))
يعني أنهم كانوا جماعة واحدة في مسجد واحد فأرادوا أن يفرقوا شملهم في الطاعة وينفردوا عنهم للكفر والمعصية وهذا يدلك على أن المقصد الأكثر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة وتصفو القلوب من وضر الأحقاد والحسادة
ولهذا المعنى تفطن مالك رضي الله عنه حين قال إنه لا تصلي جماعتان في مسجد واحد ولا بإمامين ولا بإمام واحد خلافا لسائر العلماء وقد روي عن الشافعي المنع حيث كان ذلك تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول من أراد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام وخفي ذلك عليهم وهكذا كان شأنه معهم وهو أثبت قدما منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة
المسألة السادسة قوله تعالى (* (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) *))
يقال أرصدت كذا لكذا إذا أعددته مرتقبا له والخبر بهذا القول عن أبي عامر الراهب سماه رسول الله أبو عامر الفاسق كان قد حزب الأحزاب لرسول الله
582

وجاء معهم يوم الخندق فلما خذله الله لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على رسول الله وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد المذكور ليصلي فيه إذا رجع وأن يستعدوا قوة وسلاحا وليكون فيه اجتماعهم للطعن على رسول الله وأصحابه فأطلعه الله على أمرهم وأرسل لهدمه وحرقه ونهاه عن دخوله فقال وهي
الآية التاسعة والثلاثون
قوله تعالى (* (لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) *)
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (أبدا) *))
ظرف زمان وظروف الزمان على قسمين ظرف مقدر كاليوم والليلة وظرف مبهم على لغتهم ومطلق على لغتنا كالحين والوقت والأبد من هذا القسم وكذلك الدهر وقد بيناه في المشكلين وشرح الصحيحين وملجئة المتفقهين بيد أنا نشير فيه ها هنا إلى نكتة من تلك الجمل وهي أن أبدا وإن كان ظرفا مبهما لا عموم فيه ولكنه إذا اتصل بالنهي أفاد العموم لا من جهة مقتضاه ولكن من جهة النهي فإنه لو قال لا تقم فيه لكفى في الانكفاف المطلق فإذا قال أبدا فكأنه قال لا تقم في وقت من الأوقات ولا في حين من الأحيان وقد فهم ذلك أهل اللسان وقضى به فقهاء الإسلام فقالوا لو قال رجل لامرأته أنت طالق أبدا طلقت طلقة واحدة
المسألة الثانية قوله تعالى (* (لمسجد أسس على التقوى) *))
اختلف فيه فقيل هو مسجد قباء يروى عن جماعة منهم ابن عباس والحسن وتعلقوا بقوله
(* (من أول يوم) *) ومسجد قباء كان في أول يوم أسس بالمدينة
583

وقيل هو مسجد رسول الله قاله ابن عمر وابن المسيب
وقال ابن وهب عن مالك وأشهب عنه قال مالك المسجد الذي ذكر الله أنه أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه هو مسجد رسول الله إذ كان يقوم رسول الله ويأتيه أولئك من هنالك وقال الله تعالى (* (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) *) هو مسجد رسول الله فنزع مالك باستواء اللفظين فإنه قال في ذلك تقوم فيه وقال في هذا قائما فكانا واحدا وهذه نزعة غريبة وكذلك روى عنه ابن القاسم أنه مسجد رسول الله وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال رجل هو مسجد قباء وقال آخر هو مسجد رسول الله فقال رسول الله هو مسجدي هذا
قال أبو عيسى هذا حديث صحيح وجزم مسلم أيضا بمثله فإن قيل وهي
المسألة الثالثة فقوله (فيه فيه))
ضميران يرجعان إلى مضمر واحد بغير نزاع وضمير الظرف الذي يقتضي الرجال المتطهرين هو مسجد قباء فذلك الذي أسس على التقوى وهو مسجد قباء
والدليل على أن ضمير الرجال المتطهرين هو ضمير مسجد قباء حديث أبي هريرة قال نزلت هذه الآية في أهل قباء (* (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) *) الآية قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم
وقال قتادة لما نزلت هذه الآية قال النبي لأهل قباء إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور فما تصنعون فقالوا إنا نغسل أثر الغائط والبول بالماء
584

قلنا هذا حديث لم يصح والصحيح هو الأول
وقد اختلف في الطهارة المثنى بها على أقوال لا تعلق لها بما نحن فيه كالتطهر بالتوبة من وطء النساء في أدبارهن وشبهه
فأما قوله (* (من أول يوم) *) فإنما معناه أنه أسس على التقوى من أول مبتدأ تأسيسه أي لم يشرع فيه ولا وضع حجر على حجر منه إلا على اعتقاد التقوى
والذين كانوا يتطهرون وأثنى الله عليهم جملة من الصحابة كانوا يحتاطون على العبادة والنظافة فيمسحون من الغائط والبول بالحجارة تنظيفا لأعضائهم ويغتسلون بالماء تماما لعبادتهم وكمالا لطاعتهم
المسألة الرابعة
هذا ثناء من الله تعالى على من أحب الطهارة وآثر النظافة وهي مروءة آدمية ووظيفة شرعية روى الترمذي وصححه عن عائشة رضوان الله عليهما أنها قالت مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني استحييهم
وفي الصحيح أن النبي كان يحمل معه الماء في الاستنجاء فكان يستعمل الحجارة تخفيفا والماء تطهيرا واللازم في نجاسة المخرج التخفيف وفي نجاسة سائر البدن أو الثوب التطهير وتلك رخصة من الله تعالى لعباده في حالتي وجود الماء وعدمه وبه قال عامة العلماء
وقال ابن حبيب لا يستجمر بالأحجار إلا عند عدم الماء وفعل النبي أولى وقد بيناه في شرح الصحيحين ومسائل الخلاف وأما إن كانت النجاسة على البدن أو الثوب فلعلمائنا فيها ثلاثة أقوال
585

فقال عنه ابن وهب يجب غسلها بالماء في حالتي الذكر والنسيان وبه قال الشافعي
وقال أشهب عنه ذلك مستحب غير واجب وبه قال أبو حنيفة في تفصيل الحالين جميعا
وقال ابن القاسم عنه يجب في حالة الذكر دون النسيان وهي من مفرداته
والدليل على الوجوب المطلق قوله تعالى (* (وثيابك فطهر) *) فأمره الله بطهارة ثيابه حتى إن أتته العبادة وجدته على حالة مهيأة لأدائها
وقد قال قوم إن الثياب كناية وذلك دعوى لا يلتفت إليها
واحتج أبو حنيفة على سقوط طهارتها بأن الاستنجاء لو كان واجبا لغسل بالماء فإن الحجر لا يزيله
قلنا هذه رخصة من الله أمر بها وعفا عما وراءها
وأما الفرق بين حال الذكر والنسيان ففي مسائل الخلاف برهانه وهو متعلق بأنه رفع المؤاخذة في سورة البقرة على ما بيناه في الخلافيات
المسألة الخامسة
بنى أبو حنيفة هذه المسألة على حرف فقال إن النجاسة إذا كانت كثيرة وجبت إزالتها وإذا كانت قليلة لم تجب إزالتها وفرق بين القليل والكثير بقدر الدرهم البغلي يعني كبار الدراهم التي هي على قدر استدارة الدينار قياسا على المسربة وهذا باطل من وجهين
أحدهما أن المقدرات عنده لا تثبت قياسا فلا يقبل هذا التقدير منه
الثاني أن هذا الذي خفف عنه في المسربة رخصة للضرورة والحاجة والرخص لا يقاس عليها فإنها خارجة عن القياس فلا ترد إليه
586

المسألة السادسة قوله تعالى (* (أحق) *))
هو أفعل من الحق وأفعل لا يدخل إلا بين شيئين مشتركين لأحدهما في المعنى الذي اشتركا فيه مزية على الآخر فيحلى بأفعل وأحد المسجدين وهو مسجد الضرار باطل لاحظ للحق فيه ولكن خرج هذا على اعتقاد بانيه أنه حق واعتقاد أهل مسجد النبي أو قباء أنه حق فقد اشتركا في الحق من جهة الاعتقاد لكن أحد الاعتقادين باطل عند الله والآخر حق باطنا وظاهرا وهو كثير كقوله (* (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) *) يعني من أهل النار ولا خير في مقر النار ولا مقيلها ولكنه جرى على اعتقاد كل فرقة أنها على خير وأن مصيرها إليه إذ كل حزب في قضاء الله بما لديهم فرحون حتى يتميز بالدليل لمن عضد بالتوفيق في الدنيا أو بالعيان لمن ضل في الآخرة وقد جاء بعد هذا
الآية الموفية أربعين
((* (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين) *) وهي الآية الموفية أربعين
ومعناه أفمن أسس بنيانه على اعتقاد تقوى حقيقة خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار وإن كان قصد به التقوى وليس من هذا القبيل العسل أحلى من الخل فإن الخل حلو كما أن العسل حلو وكل شيء ملائم فهو حلو ولذلك يقال احلولى العشق أي كان حلوا لكونه إما على مقتضى اللذة أو موافقة الأمنية ألا ترى أن من الناس من يقدم الخل على العسل مفردا بمفرد ومضافا إلى غيره بمضاف
المسألة السابعة قوله تعالى (* (فانهار به في نار جهنم) *))
قيل إنه حقيقة وإن النبي إذ أرسل إليهم فهدم رئي الدخان يخرج منه من رواية سعيد بن جبير وغيره حتى رئي الدخان في زمان أبي جعفر المنصور
587

وقيل هذا مجاز المعنى أن مآله إلى نار جهنم فكأنه انهار إليه وهوى فيه وهذا كقوله (* (فأمه هاوية) *) إشارة إلى أن النار تحت كما أن الجنة فوق
وقال جابر بن عبد الله أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله ولو صح هذا لكان جابر رافعا للإشكال
وهذا يدل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه ويخبر عنه بقوله (* (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) *) على أحد الوجهين ويخبر عنه أيضا بقوله (* (والباقيات الصالحات خير عند ربك) *))
الآية الحادية والأربعون
قوله تعالى (* (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) *)
فيها اثنتا عشرة مسألة
المسألة الأولى
روي أن عبد الله بن رواحة قال للنبي اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال النبي أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قال فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال الجنة قال ربح البيع قال لا نقيل ولا نستقيل فنزلت (* (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) *) الآية
وهذا مما لا يوجد صحيحا
588

وقد روي عن الشعبي أنه قال ذهب النبي ليلة العقبة وذهب معه العباس بن عبد المطلب فقال العباس تكلموا يا معشر الأنصار وأوجزوا فإن علينا عيونا قال الشعبي فخطب أبو أمامة أسعد بن زرارة خطبة ما خطب المرد ولا الشيب مثلها قط فقال يا رسول الله اشترط لربك واشترط لنفسك واشترط لأصحابك قال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم وأشترط لأصحابي المواساة في ذات أيديكم قالوا هذا لك فما لنا قال الجنة قال ابسط يدك وهذا وإن كان مقطوعا فإن معناه ثابت من طرق
المسألة الثانية
في هذه الآية جواز معاملة السيد مع عبده وإن كان الكل للسيد لكن إذا ملكه وعامله فيما جعل إليه وتاجره بما ملكه من ملكه فإن الجنة لله والعباد بأنفسهم وأموالهم لله وأمرهم بإتلافها في طاعته وإهلاكها في مرضاته وأعطاهم الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك فيها وهو عوض عظيم لا يدانيه معوض ولا يقاس به ولهذا يروى عن ابن عباس أنه لما قرأ هذه الآية قال ثامنهم والله وأغلى الثمن يريد أنه أعطاهم أكثر مما يجب لهم في حكم المتاجرة ولم يأت الربح على مقدار الشراء بل زاد عليه وأربى
المسألة الثالثة
قال علماؤنا كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم وأسقمهم لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين والثواب للوالدين والكافلين فيما ينالهم من الهم ويتعلق بهم من التربية والكفالة وهذا بديع في بابه موافق لما تقدم قبله فإن البالغ يمشي إلى القتل مختارا والطفل يناله الألم اقتسارا
المسألة الرابعة قوله (* (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن) *))
إخبار من الله أن هذا كان في هذه الكتب وقد تقدمت الإشارة إليه وقلنا إن الجهاد ومحاربة الأعداء إنما أصله من عهد موسى فسبحان الفعال لما يريد
589

المسألة الخامسة قال (* (ومن أوفى بعهده من الله) *))
العهد يتضمن الوفاء والوعد والوعيد ولا بد من وفاء الباري تعالى بالكل فأما وعده فللجميع وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين وببعض الذنوب وفي بعض الأحوال فينفذ كذلك وقد فات علماؤنا هذا المقدار على ما بيناه في كتب الأصول
المسألة السادسة قوله (* (التائبون) *))
الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله
والعابدون هم الذين قصدوا بطاعتهم وجهه
والحامدون هم الراضون بقضائه والمصرفون نعمته في طاعته
والسائحون هم الصائمون في هذه الملة حتى فسد الزمان فصارت السياحة الخروج من الأرض عن الخلق لعموم الفساد وغلبة الحرام وظهور المنكر ولو وسعتني الأرض لخرجت فيها لكن الفساد قد غلب عليها ففي كل واد بنو نحس فعليك بخويصة نفسك ودع أمر العامة
الراكعون الساجدون هم القائمون بالفرض من الصلاة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر المغيرون للشرك فما دونه من المعاصي والآمرون بالإيمان فما دونه من الطاعات على ما تقدم من شروطه
الحافظون لحدود الله خاتمة البيان وعموم الاشتمال لكل أمر ونهي
وقوله (* (وبشر المؤمنين) *) بثوابي إذا كانوا على هذه الصفة ثم بذلوا أنفسهم في طاعتي للقتل فحينئذ تكون سلعة مرغوبا فيها تمتد إليها الأطماع وتدخل في جملة التجارات والمتاع فأما نفس لا تكون هكذا ولا تتحلى بهذه الحلى فلا يبذل فيها فلس فكيف الجنة لكن من معه أصل الإيمان فهو مبشر على قدره بعدم الخلود في النار ومن استوفى هذه الصفات فله الفوز قطعا ومن خلط فلا يقنط ولا يأمن وليمس تائبا ويصبح تائبا فإن لم يقدر فسائلا للتوبة فإن سؤالها درجة عظيمة حتى يمن الله بحصولها فهذه سبع مسائل تمام اثنتي عشرة في الآية والله أعلم
590

الآية الثانية والأربعون
قوله تعالى (* (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) *)
فيها ست مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
الأولى ثبت في الصحيح عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء تكلم به أنا على ملة عبد المطلب فقال النبي لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت (* (ما كان للنبي والذين آمنوا) *) الآية ونزلت (* (ما كان للنبي والذين آمنوا) *) إلى (* (تبرأ منه) *)
591

الثالثة روي أن النبي لما أتى مكة أتى رضما من حجارة أو رسما أو قبرا فجلس إليه ثم قام مستغفرا فقال إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي فما رئي باكيا أكثر من يومئذ
وروي أنه وقف عند قبرها حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت (* (ما كان للنبي) *) إلى قوله (* (تبرأ منه) *)
الرابعة روى ابن عباس أن رجالا من أصحاب النبي قالوا له يا رسول الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام أفلا نستغفر لهم فأنزل الله (* (ما كان للنبي) *) الآية
الخامسة روي عن علي قال سمعت رجلا يستغفر لأبويه فقلت تستغفر لهما وهما مشركان فقال أولم يستغفر إبراهيم لأبيه فذكرته لرسول الله فنزلت (* (ما كان للنبي)
*) الآية وهذه أضعف الرويات
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ما كان للنبي والذين آمنوا) *))
دليل على أحد أمرين إما أن تكون الرواية الثانية صحيحة فنهى الله النبي والمؤمنين وإما أن تكون الرواية الأولى هي الصحيحة ويخبر به عما فعل النبي وينهى المؤمنون أن يفعلوا مثله تأكيدا للخبر وسائر الروايات محتملات
المسألة الثالثة
منع الله رسوله والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين لأنه قد قدر ألا تكون وأخبر عن ذلك وسؤال ما قدر أنه لا يفعله وأخبر عنه هنا فإن قيل فقد قال النبي حين كسروا رباعيته وشجوا وجهه اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون فسأل المغفرة لهم
592

قلنا عنه أربعة أجوبة
الأول يحتمل أن يكون ذلك قبل النهي وجاء النهي بعده
الثاني أنه يحتمل أن يكون ذلك سؤالا في إسقاط حقه عندهم لا لسؤال إسقاط حقوق الله وللمرء أن يسقط حقه عند المسلم والكافر
الثالث أنه يحتمل أن يطلب المغفرة لهم لأنهم أحياء مرجو إيمانهم يمكن تألفهم بالقول الجميل وترغيبهم في الدين بالعفو عنهم فأما من مات فقد انقطع منه الرجاء
الرابع أنه يحتمل أن يطلب لهم المغفرة في الدنيا برفع العقوبة عنهم حتى إلى الآخرة كما قال الله (* (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) *))
المسألة الرابعة قوله (* (ولو كانوا أولي قربى) *))
بيان أن القرابة الموجبة للشفقة جبلة وللصلة مروءة تمنع من سؤال المغفرة بعد ما تبين لهم أنهم من أهل النار
قال القاضي الإمام هذا إن صح الخبر وإلا فالصحيح فيه أن النبي ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي يخبر عنه بأنه قال اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون خرجه البخاري وغيره
المسألة الخامسة
قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم (* (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) *) فتعلق بذلك النبي في الاستغفار لأبي طالب إما اعتقادا وإما نطقا بذلك كما ورد في الرواية الثانية فأخبره الله أن استغفار إبراهيم لأبيه كان عن وعد قبل تبين الكفر منه فلما تبين الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت يا محمد لعمك وقد شاهدت موته كافرا وهي
593

المسألة السادسة
وظاهر حال المرء عند الموت يحكم عليه به في الباطن فإن مات على الإيمان حكم له بالإيمان وإن مات على الكفر حكم له بالكفر وربك أعلم بباطن حاله بيد أن النبي قال له العباس يا رسول الله هل نفعت عمك بشيء فإنه كان يحوطك ويحميك قال سألت ربي له فجعله في ضحضاح من النار تغلي منه دماغه ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل وهذه شفاعة في تخفيف العذاب وهي الشفاعة الثانية وهذا هو أحد القولين في قوله فلما تبين له أنه عدو لله يعني بموته كافرا تبرأ منه
وقيل تبين له في الآخرة والأول أظهر
وقد قال عطاء ما كنت لأمتنع من الصلاة على أمة حبشية حبلى من الزنا فإني رأيت الله لم يحجب الصلاة إلا عن المشركين فقال (* (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) *)
وصدق عطاء لأنه تبين من ذلك أن المغفرة جائزة لكل مذنب فالصلاة عليهم والاستغفار لهم حسنة وفي هذا رد على القدرية لأنهم لا يرون الصلاة على العصاة ولا يجوز عندهم أن يغفر الله لهم فلم يصل عليهم وهذا ما لا جواب لهم عنه
الآية الثالثة والأربعون
قوله تعالى (* (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) *)
فيها خمس مسائل
594

المسألة الأولى
توبة الله على النبي رده من حالة الغفلة إلى حالة الذكر وتوبة المهاجرين والأنصار رجوعهم من حالة المعصية إلى حالة الطاعة وانتقالهم من حالة الكسل إلى حالة النشاط وخروجهم عن صفة الإقامة والقعود إلى حالة السفر والجهاد
المسألة الثانية
وتوبة الله تكون على ثلاثة أقسام
دعاؤه إلى التوبة يقال تاب الله على فلان أي دعاه ويقال تاب الله عليه يسره للتوبة وقد يكون خبرا وقد يكون دعاء ويقال تاب عليه ثبته عليها ويقال تاب عليه قبل توبته وذلك كله صحيح وقد جمع لهؤلاء ذلك كله ويفترق في سائر الناس فمنهم من يدعوه إلى التوبة لإقامة الحجة عليه ولا ييسرها له ومنهم من يدعوه إليها وييسرها ولا يديمها فإن دامت إلى الموت فهي مقبولة قطعا
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (في ساعة العسرة) *))
يعني جيش تبوك خرج الناس إليها في جهد وحر ورجلة وعري وحفاء حتى لقد روى في قوله (* (ما على المحسنين من سبيل) * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) أنهم طلبوا نعالا
وفي الحديث لا يزال الرجل راكبا ما انتعل
المسألة الرابعة قوله (* (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) *))
أما هذا فليس للنبي فيه مدخل باتفاق من الموحدين أما أنه قد قيل إنه يدخل في التوبة من إذنه للمنافقين في التخلف فعذره الله في إذنه لهم وتاب عليه وعذره وبين للمؤمنين صواب فعله بقوله (* (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) *) إلى (* (الفتنة) *)
595

وأما غير النبي فكاد تزيغ قلوب فريق منهم ببقائهم بعده كأبي حثمة وغيره بإرادتهم الرجوع من الطريق حين أصابهم الجهد واشتد عليهم العطش حتى نحروا إبلهم وعصروا كروشها فاستسقى رسول الله فنزل المطر ولهذا جاز للإمام وهي
المسألة الخامسة
أن يأذن لمن اعتذر إليه أخذا بظاهر الحال ورفقا بالخلق اقتداء بالنبي
الآية الرابعة والأربعون
قوله تعالى (* (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب) * الرحيم)
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
قال ابن وهب قال مالك إن رسول الله خرج في غزوة تبوك حين طابت الثمار وبرد الظلال وخرج في حر شديد وهي العسرة التي افتضح فيها الناس وكان كعب بن مالك قد تخلف ورجل من عمرو بن عوف وآخر من بني واقد وخرج رجل مع رسول الله وهو يسقي وديا له فقيل له كيف لك بسقي وديك هذا فقال الغزو خير من الودي فرجع وقد أصلح الله ودية فلما رجع رسول الله وأصحابه هجروا كعبا وصاحبيه ولم يعتذروا للنبي واعتذر غيرهم قال فأقام كعب وصاحباه لم يكلمهم أحد وكان كعب يدخل على الرجل في الحائط فيقول له أنشدك الله أتعلم أني أحب الله ورسوله فيقول الله ورسوله أعلم
المسألة الثانية
هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كما تقدم
596

لما رجع رسول الله مقفله من تبوك ودخل المسجد جاء من تخلف عنه يعتذرون إليه وهم ثمانون رجلا فقبل النبي ظاهر حالهم ووكل سرائرهم إلى الله إلا هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا رسول الله
قال كعب في حديث حتى جئت فسلمت عليه فتبسم تبسم المغضب ثم قال لي تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقلت له والله ما كان لي عذر فقال أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك
قال كعب ونهى النبي عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه قال فاجتبنا الناس أو قال تغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي والأرض حتى ما هي بالأرض التي كنت أعرف كما قال الشاعر
(فما الناس بالناس الذين عهدتهم
* ولا الأرض بالأرض التي كنت أعرف)
وساق الحديث إلى قوله وصليت الصبح صبيحة خمسين ليلة وأنا كما قال الله (* (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم) *) إذا صارخ يصرخ أوفى على ظهر جبل سلع يقول بأعلى صوته أبشر يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا
وساق الحديث وفيه دليل على أن للإمام أن يعاقب المذنب بتحريم كلامه على الناس أدبا له وهكذا في الإنجيل وهي
المسألة الثالثة
وعلى تحريم أهله عليه وهي
المسألة الرابعة
والحديث مطول وفيه فقه كثير قد أوردناه في شرح الحديث عليكم والله ينفعنا وإياكم
597

الآية الخامسة والأربعون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *) الآية
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في تفسير الصادقين
وفيه ثمانية أقوال
الأول أنهم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم
الثاني أنهم الذين قال الله فيهم (* (ليس البر أن تولوا وجوهكم) *) إلى قوله تعالى (* (المتقون) *)
الثالث أنهم المهاجرون وقد روي كما قدمنا أن أبا بكر قال للأنصار يوم سقيفة بني ساعدة إن الله سمانا الصادقين فقال (* (للفقراء المهاجرين) *) إلى قوله تعالى (* (هم الصادقون) *) ثم سماكم المفلحين فقال (* (والذين تبوؤوا الدار) *) الآية وقد أمركم الله أن تكونوا معنا حيث كنا فقال (* (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *)
الرابع أن الصادقين هم المسلمون والمخاطبون هم المؤمنون من أهل الكتاب
الخامس الصادقون هم الموفون بما عاهدوا وذلك بقوله تعالى (* (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) *)
السادس هم النبي وأصحابه يعني أبا بكر وعمر أو السابقون الأولون وهو السابع
الثامن هم الثلاثة الذين خلفوا
المسألة الثانية في تحقيق هذه الأقوال
أما الأول فهو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى في هذه الصفة وبها يرتفع النفاق
598

في العقيدة والمخالفة في الفعل وصاحبها يقال له صديق وهي في أبي بكر وعمر ومن دونهما على منازلهم وأزمانهم
وأما من قال بالثاني فهو معظم الصدق ومن أتى المعظم فيوشك أن يتبعه الأقل وهو معنى الخامس أنه بعضه وقد دخل فيه ذكره
وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الأقوال كلها لأن جميع الصفات موجودة فيهم
وأما القول الرابع فصحيح وهو بعضه أيضا ويكون المخاطب أهل الكتاب والمنافقين
والسادس تقدم معناه والسابع يكون المخاطب الثمانين رجلا الذين تخلفوا واعتذروا وكذبوا أمروا أن يكونوا مع الثلاثة الصادقين ويدخل هذا في جملة الصدق
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) *))
قد تقدمت حقيقة التقوى و ذكر المفسرون ها هنا فيها قولين
أحدهما اختلقوا الكذب
والثاني في ترك الجهاد وهما بعض التقوى والصحيح عمومها
المسألة الرابعة
في هذا دليل على أنه لا يقبل خبر الكاذب ولا شهادته قال مالك لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله
وقال غيره يقبل حديثه والقبول فيه مرتبة عظيمة وولاية لا تكون إلا لمن كرمت خصاله ولا خصلة هي أشر من الكذب فهي تعزل الولايات وتبطل الشهادات
599

الآية السادسة والأربعون
قوله تعالى (* (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (ما كان لأهل المدينة) *))
أي ما كان لهؤلاء المذكورين أن يتخلفوا دليل على أن غيرهم لم يستنفروا وإنما كان النفير منهم في قول بعضهم ويحتمل أن يكون الاستنفار في كل مسلم وخص هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم وأنهم أحق بذلك من غيرهم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار) *)
دليل عند علمائنا على أن الغنيمة تستحق بالإدراب والكون في بلاد العدو فإن مات بعد ذلك فله سهمه وهو قول أشهب وعبد الملك وأحد قولي الشافعي
وقال مالك وابن القاسم لا شيء له لأن الله إنما كتب له بالآخرة ولم يذكر السهم وهو الصحيح وقد بيناها في مسائل الخلاف
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم) *))
يعني كتب لهم ثوابه
وكذلك قال في المجاهد إن أرواث دوابه وأبوالها حسنات ورعيها حسنات وقد زادنا الله تعالى من فضله
ففي الصحيح أن النبي قال في هذه الغزوة بعينها إن بالمدينة قوما ما سلكتم
600

واديا ولا قطعتم شعبا إلا وهم معكم حبسهم العذر فأعطى للمعذور من الأجر ما أعطى للقوي العامل بفضله
وقد قال بعض الناس إنما يكون له الأجر غير مضاعف ويضاعف للعامل المباشر وهذا تحكم على الله وتضييق لسعة رحمته وقد بيناه في شرح الصحيحين
ولذلك قد راب بعض الناس فيه فقال أنتم تعطون الثواب مضاعفا قطعا ونحن لا نقطع بالتضعيف في موضع فإنه مبني على مقدار النيات وهو أمر مغيب والذي يقطع به أن هنالك تضعيفا وربك أعلم بمن يستحقه وهذا كله وصف العاملين المجاهدين وخال القاعدين التائبين ولما ذكر المتخلفين المعتذرين بالباطل قال كعب بن مالك ذكروا في بشر ما ذكر به أحد فقال (* (يعتذرون إليكم إذا رجعتم) *) الآية
الآية السابعة والأربعون
قوله تعالى (* (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفها أقوال كثيرة جماعها أربعة
الأول أنها نزلت في قوم أرسلهم النبي ليعلموا الناس القرآن والإسلام فلما نزل ما كان لأهل المدينة رجع أولئك فأنزل الله عذرهم قاله مجاهد وقال هلا جاء بعضهم وبقي على التعليم البعض
601

الثاني قال ابن عباس معناه ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا نبيهم ولكن يخرج بعضهم ويبقى البعض فيما ينزل من القرآن ويجري من العلم والأحكام يعلمه المتخلف للساري عند رجوعه وقاله قتادة
الثالث قال ابن عباس أيضا إنها نزلت في الجهاد ولكن لما دعا رسول الله على مضر بالسنين أجدبت بلادهم فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون فضيقوا على أصحاب النبي وأجهدوهم فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا بمؤمنين فردهم رسول الله إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم فذلك قوله (* (ولينذروا قومهم) *) الآية
الرابع روي عن ابن عباس أنه قال نسختها (* (انفروا خفافا وثقالا) *))
المسألة الثانية في تحرير الأقوال
أما نسخ بعض هذه لبعض فيفتقر إلى معرفة التاريخ فيها
وأما الظاهر فنسخ الاستنفار العام لأنه الطارئ فإن النبي كان يغزو في فئام من الناس ولم يستوف قط جميع الناس إلا في غزوة العسرة
وقد قيل إنه يخرج من القول الأول أن الخروج في طلب العلم لا يلزم الأعيان وإنما هو على الكفاية
قال القاضي إنما يقتضي ظاهر هذه الآية الحث على طلب العلم والندب إليه دون الإلزام والوجوب واستحباب الرحلة فيه وفضلها
فأما الوجوب فليس في قوة الكلام وإنما لزم طلب العلم بأدلته فأما معرفة الله فبأوامر القرآن وإجماع الأمة
وأما معرفة الرسول فلوجوب الأمر بالتصديق به ولا يصح التصديق إلا بعد العلم
602

وأما معرفة الوظائف فلأن ما ثبت وجوبه ثبت وجوب العلم به لاستحالة أدائها إلا بعلم ثم ينشأ على هذا أن المزيد على الوظائف مما فيه القيام بوظائف الشريعة كتحصين الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه من فروض الكفاية إذ لا يصح أن يعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سواهم وينقص أو يبطل معاشهم فتعين بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين وذلك بحسب ما ييسر الله العباد له ويقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته ويأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله
المسألة الثالثة الطائفة
في اللغة الجماعة قيل وينطلق على الواحد على معنى نفس طائفة والأول أصح وأشهر فإن الهاء في مثل هذا إنما هي للكثرة كما يقال رواية وإن كان يأتي بغيره
ولا شك أن المراد ها هنا جماعة لوجهين
أحدهما عقلا والآخر لغة
أما العقل فلأن تحصيل العلم لا يتحصل بواحد في الغالب
وأما اللغة فلقوله (* (ليتفقهوا) * ولينذروا) فجاء بضمير الجماعة
والقاضي أبو بكر والشيخ أبو الحسن قبله يرون أن الطائفة ها هنا واحد ويعتضدون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد وهو صحيح لا من جهة أن الطائفة تنطلق على الواحد ولكن من جهة أن خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد وأن مقابله وهو التواتر لا ينحصر بعدد وقد بيناه في موضعه وهذه إشارته
الآية الثامنة والأربعون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) *) قد قدمنا الإشارة إلى أن الله أمر بأوامر متعددة مختلفة المتعلقات فقال (* (قاتلوا) *
603

الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب) وقال (* (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *) وقال (* (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) *) وقال (* (قاتلوا الذين يلونكم) *)
وهذا كله صحيح مناسب والمقصود قتال جميع المؤمنين لجميع الكفار وقتال الكفار أينما وجدوا وقتال أهل الكتاب من جملتهم وهم الروم وبعض الحبشان وذلك إنما يتكيف لوجهين
أحدهما بالابتداء ممن يلي فيقاتل كل واحد من يليه ويتفق أن يبدأ المسلمون كلهم بالأهم ممن يليهم أو الذين يتيقن الظفر بهم
وقد سئل ابن عمر بمن نبدأ بالروم أو بالديلم فقال بالروم وقد روي في الأثر اتركوا الرابضين ما تركوكم يعني الروم والحبش وقول ابن عمر أصح وبداءته بالروم قبل الديلم لثلاثة أوجه
أحدهما أنهم أهل الكتاب فالحجة عليهم أكثر وآكد
والثاني أنهم إلينا أقرب أعني أهل المدينة
الثالث أن بلاد الأنبياء في بلادهم أكثر فاستنقاذها منهم أوجب
الآية التاسعة والأربعون
قوله تعالى (* (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون) *) قد قدمنا القول في زيادة الإيمان ونقصانه بما يغني عن إعادته واستيفاؤه في كتب الأصول
604

الآية الموفية خمسين
قوله تعالى (* (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) *)
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (نظر بعضهم إلى بعض) *)
فيه قولان
أحدهما إذا أنزلت سورة فيها فضيحتهم أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض يقول هل يراكم من أحد إذا تكلمتم بهذا فينقله إلى محمد وذلك جهل منهم بنبوته وأن الله يطلعه على ما شاء من غيبه
الثاني إذا أنزلت سورة فيها الأمر بالقتال نظر بعضهم إلى بعض نظر الرعب وأرادوا القيام عنه لئلا يسمعوا ذلك يقولون هل يراكم إذا انصرفتم من أحد ثم يقومون وينصرفون صرف الله قلوبهم
المسألة الثانية
قال ابن عباس يكره أن يقال انصرفنا من الصلاة لأن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم ولكن قولوا قضينا الصلاة وهذا كلام فيه نظر وما أظنه يصح عنه فإن نظام الكلام أن يقال لا يقل أحد انصرفنا من الصلاة فإن قوما قيل فيهم ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم فإن ذلك كان مقولا فيهم ولم يكن منهم
وقد أخبرني محمد بن عبد الحكم البستي الواعظ قال أخبرنا أبو الفضل الجوهري سماعا عليه يقول كنا في جنازة فقال المنذر بها انصرفوا رحمكم الله فقال لا يقل أحدكم انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم (* (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم) *) ولكن قولوا انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم (* (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) *)
605

المسألة الثالثة قوله (* (صرف الله قلوبهم) *))
إخبار عن أنه صارف القلوب ومصرفها وقالبها ومقلبها ردا على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم وجوارحهم بحكمهم يتصرفون بمشيئتهم ويحكمون بإرادتهم واختيارهم ولهذا قال مالك فيما رواه عنه أشهب ما أبين هذا في الرد على أهل القدر (* (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم) *) وقوله تعالى لنوح (* (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) *) فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا يزال
الآية الحادية والخمسون
قوله تعالى (* (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) *)
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى في ثبوتها
اعلموا وفقكم الله أن هذه مسألة عظيمة القدر وذلك أن الرافضة كادت الإسلام بآيات وحروف نسبتها إلى القرآن لا يخفى على ذي بصيرة أنها من البهتان الذي نزغ به الشيطان وادعوا أنهم نقلوها وأظهروها حين كتمناها نحن وقالوا إن الواحد يكفي في نقل الآية والحروف كما فعلتم فإنكم أثبتم آية بقول رجل واحد وهو خزيمة بن ثابت وهي قوله (* (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) *) وقوله (* (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) *)
قلنا إن القرآن لا يثبت إلا بنقل التواتر بخلاف السنة فإنها تثبت بنقل الآحاد والمعنى فيه أن القرآن معجزة النبي الشاهدة بصدقه الدالة على نبوته فأبقاها الله على أمته وتولى حفظها بفضله حتى لا يزاد فيها ولا ينقص منها والمعجزات إما أن تكون معاينة إن كانت فعلا وإما أن تثبت تواترا إن كانت قولا ليقع العلم بها أو تنقل صورة الفعل فيها أيضا نقلا متواترا حتى يقع العلم بها كأن السامع لها
606

قد شاهدها حتى تنبني الرسالة على أمر مقطوع به بخلاف السنة فإن الأحكام يعمل فيها على خبر الواحد إذ ليس فيها معنى أكثر من التعبد
وقد كان النبي يرسل كتبه مع الواحد ويأمر الواحد أيضا بتبليغ كلامه ويبعث الأمراء إلى البلاد وعلى السرايا وذلك لأن الأمر لو وقف فيها على التواتر لما حصل علم ولا تم حكم وقد بينا ذلك في أصول الفقه والدين
المسألة الثانية فيما روي فيها
ثبت أن زيد بن ثابت قال أرسل إلي أبو بكر الصديق مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال إن القتال قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير وإني أرى أن تجمع القرآن
قال أبو بكر لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله قال عمر هو والله خير فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر ورأيت فيه الذي رأى
قال زيد قال أبو بكر إنك شاب عاقل لا نتهمك قد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن قال فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك
قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله فقال أبو بكر هو والله خير فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب وذكر كلمة مشكلة تركناها
قال زيد فوجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت (* (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) *) إلى (* (العظيم) *) انتهى الحديث
607

فبقيت الصحف عند أبي بكر ثم تناولها بعده عمر ثم صارت عند حفصة رضي الله عنهم فلما كان زمن عثمان حسبما ثبت في الصحيح قدم حذيفة بن اليمان على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن فقال لعثمان بن عفان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى
فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف فننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت حفصة إلى عثمان بالصحف فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وسعيد ابن العاصي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن الزبير أن انسخوا الصحف في المصاحف وقال للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان إلى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا
قال الزهري وحدثني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت قال فقدت آية من سورة كنت أسمع رسول الله يقرؤها (* (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه) *) فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة فألحقتها في سورتها
قال الزهري فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه فقال القرشيون التابوت وقال زيد التابوه فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال اكتبوه التابوت فإنه نزل بلسان قريش
قال الزهري فأخبرني عبد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر يريد زيد بن ثابت ولذلك قال عبد الله بن مسعود يا أهل القرآن اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله يقول (* (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) *) فالقوا الله بالمصاحف
608

قال الزهري فبلغني ان ذلك كرهه من مقالة ابن مسعود رجال من أصحاب رسول الله وهذا حديث صحيح لا يعرف إلا من حديث الزهري
المسألة الثالثة
إذا ثبت هذا فقد تبين في أثناء الحديث أن هاتين الآيتين في براءة وآية الأحزاب لم تثبت بواحد وإنما كانت منسية فلما ذكرها من ذكرها أو تذكرها من تذكرها عرفها الخلق كالرجل تنساه فإذا رأيت وجهه عرفته أو تنسى اسمه وتراه ولا يجتمع لك العين والاسم فإذا انتسب عرفته
المسألة الرابعة
من غريب المعاني أن القاضي أبا بكر بن الطيب سيف السنة ولسان الأمة تكلم بجهالات على هذا الحديث لا تشبه منصبه فانتصبنا لها لنوقفكم على الحقيقة فيها
أولها قال القاضي أبو الطيب هذا حديث مضطرب وذكر اختلاف روايات فيه منها صحيحة ومنها باطلة فأما الروايات الباطلة فلا نشتغل بها وأما الصحيحة فمنها أنه قال
روي أن هذا جرى في عهد أبي بكر وفي رواية أنه جرى في عهد عثمان وبين التاريخين كثير من المدة وكيف يصح أن نقول هذا كان في عهد أبي بكر ثم نقول كان هذا في عهد عثمان ولو اختلف تاريخ الحديث في يوم من أوله وآخره لوجب رده فكيف أن يختلف بين هاتين المدتين الطويلتين
قال القاضي أبو بكر بن العربي يقال للسيف هذه كهمة من طول الضراب هذا أمر لم يخف وجه الحق فيه إنما جمع زيد القرآن مرتين إحداهما لأبي بكر في زمانه والثانية لعثمان في زمانه وكان هذا في مرتين لسببين ولمعنيين مختلفين أما الأول فكان لئلا يذهب القرآن بذهاب القراء كما أخبر النبي أنه يذهب العلم في آخر الزمان بذهاب العلماء فلما تحصل مكتوبا صار عدة لما يتوقع عليه وأما جمعه في زمان عثمان فكان لأجل الاختلاف الواقع بين الناس في القراءة فجمع في المصاحف ليرسل إلى الآفاق حتى يرفع الاختلاف الواقع بين الناس في زمن عثمان
609

ثانيها قال ابن الطيب من اضطراب هذا الحديث أن زيدا تارة قال وجدت هؤلاء الآيات الساقطة وتارة لم يذكره وتارة ذكر قصة براءة وتارة قصة الأحزاب أيضا بعينها
قال القاضي بن العربي يقال للسان هذه عثرة وما الذي يمنع عقلا أو عادة أن يكون عند الراوي حديث مفصل يذكر جميعه مرة ويذكر أكثره أخرى ويذكر أقله ثالثة
ثالثها قال ابن الطيب يشبه أن يكون هذا الخبر موضوعا لأنه قال فيه إن زيدا وجد الضائع من القرآن عند رجلين وهذا بعيد أن يكون الله قد وكل حفظ ما سقط وذهب عن الأجلة الأماثل من القرآن برجلين خزيمة وأبي خزيمة
قال القاضي قد بينا أنه يجوز أن ينسى الرجل الشيء ثم يذكره له آخر فيعود علمه إليه وليس في نسيان الصحابة كلهم له إلا رجل واحد استحالة عقلا لأنه ذلك جائز ولا شرعا لأن الله ضمن حفظه ومن حفظه البديع أن تذهب منه آية أو سورة إلا عن واحد فيذكرها ذلك الواحد فيتذكرها الجميع فيكون ذلك من بديع حفظ الله لها
قال القاضي بن العربي ويقال له أيضا هذا حديث صحيح متفق عليه من الأئمة فكيف تدعي عليه الوضع وقد رواه العدل عن العدل وتدعي فيه الاضطراب وهو في سلك الصواب منتظم وتقول أخرى إنه من أخبار الآحاد وما الذي تضمن من الاستحالة أو الجهالة حتى يعاب بأنه خبر واحد
وأما ما ذكرته في معارضته عن بعض رواته أو عن رأي فهو المضطرب الموضوع الذي لم يروه أحد من الأئمة فكيف يعارض الأحاديث الصحاح بالضعاف والثقات بالموضوعات
المسألة الخامسة
فإن قيل فما كانت هذه المراجعة بين الصحابة
610

قلنا هذا مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالرواية وقد عدمت لا هم إلا القاضي أبا بكر قد ذكر في ذلك وجوها أجودها خمسة
الأول أن رسول الله ترك ذلك مصلحة وفعله أبو بكر للحاجة
الثاني أن الله أخبر أنه في الصحف الأولى وأنه عند محمد في مثلها بقوله (* (يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة) *) فهذا اقتداء بالله وبرسوله
الثالث أنهم قصدوا بذلك تحقيق قول الله (* (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *) فقد كان عنده محفوظا وأخبرنا أنه يحفظه بعد نزوله ومن حفظه تيسير الصحابة لجمعه واتفاقهم على تقييده وضبطه
الرابع أن النبي كان يكتبه كتبته بإملائه إياه عليهم وهل يخفى على متصور معنى صحيحا في قلبه أن ذلك كان تنبيها على كتبه وضبطه بالتقييد في الصحف ولو كان ما ضمنه الله من حفظه لا عمل للأمة فيه لم يكتبه رسول الله بعد إخبار الله له بضمان حفظه ولكن علم أن حفظه من الله بحفظنا وتيسيره ذلك لنا وتعليمه لكتابته وضبطه في الصحف بيننا
الخامس أنه ثبت أن النبي نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو وهذا تنبيه على أنه بين الأمة مكتوب مستصحب في الأسفار وهذا من أبين الوجوه عند النظار
المسألة السادسة
فأما كتابة عثمان للمصاحف التي أرسلت إلى الكوفة والشام والحجاز فإنما كان ذلك لأجل اختلاف الناس في القراءات فأراد ضبط الأمر لئلا ينتشر إلى حد التفرق والاختلاف في القرآن كما اختلف أهل الكتاب في كتبهم وكان جمع أبي بكر له لئلا يذهب أصله فكانا أمرين مختلفين لسببين متباينين وقد كان وقع مثل هذا الاختلاف في زمان النبي بين هشام بن حكيم بن حزام وبين عمر بن الخطاب
611

فاختلفوا في القراءة في سورة الفرقان فاحتمل عمر هشاما إلى رسول الله حملا حتى قرأ كل واحد منهما ما قرأ بخلاف قراءة صاحبه فصوب النبي الكل وأنبأهم أنه ليس باختلاف إذ الكل من عند الله بأمره نزل وبفضله توسع في حروفه حتى جعلها سبعة فاختار عثمان والصحابة من تلك الحروف ما رأوه ظاهرا مشهورا متفقا عليه مذكورا وجمعوه في مصاحف وجعلت أمهات في البلدان ترجع إليها بنات الخلاف
المسألة السابعة
فأما حال عبد الله بن مسعود وإنكاره على زيد أن يتولى كتب المصاحف وهو أقدم قراءة قلنا يا معشر الطالبين للعلم ما نقم قط على عثمان شيء إلا خرج منه كالشهاب وأنبأ أنه أتاه بعلم وقد بينا ذلك في كتاب المقسط وعند قول ابن مسعود ما قال وبلغ عثمان
قال عثمان من يعذرني من ابن مسعود يدعو الناس إلى الخلاف والشبهة ويغضب علي أن لم أوله نسخ القرآن وقدمت زيدا عليه فهلا غضب على أبي بكر وعمر حين قدما زيدا لكتابته وتركاه إنما اتبعت أنا أمرهما فما بقي أحد من الصحابة إلا حسن قول عثمان وعاب ابن مسعود
وهذا بين جدا وقد أبى الله أن يبقي لابن مسعود في ذلك أثرا على أنه قد روي عنه أنه رجع عن ذلك وراجع أصحابه في الاتباع لمصحف عثمان والقراءة به
المسألة الثامنة
فأما سبب اختلاف القراء بعد ربط الأمر بالثبات وضبط القرآن بالتقييد
قلنا إنما كان ذلك للتوسعة التي أذن الله فيها ورحم بها من قراءة القرآن على سبعة أحرف فأقرأ النبي بها وأخذ كل صاحب من أصحابه حرفا أو جملة منها وقد بيناه في تفسير الحديث تارة في جزء مفرد وتارة في شرح الصحيحين ولا شك في أن الاختلاف في القراءة كان أكثر مما في ألسنة الناس اليوم ولكن الصحابة ضبطت الأمر إلى حد يقيد مكتوبا وخرج ما بعده عن أن يكون معلوما
612

حتى أن ما تحتمله الحروف المقيدة في القرآن قد خرج أكثره عن أن يكون معلوما وقد انحصر الأمر إلى ما نقله القراء السبعة بالأمصار الخمسة
وقد روي أن عثمان أرسل ثلاثة مصاحف وروي أنه احتبس مصحفا وأرسل إلى الشام والعراق واليمن ثلاثة مصاحف وروي أنه أرسل أربعة إلى الشام والحجاز والكوفة والبصرة
وروي أنه كانت سبعة مصاحف فبعث مصحفا إلى مكة وإلى الكوفة آخر ومصحفا إلى البصرة ومصحفا إلى الشام ومصحفا إلى اليمن ومصحفا إلى البحرين ومصحفا عنده فأما مصحف اليمن والبحرين فلم يسمع لهما خبر
قال القاضي وهذه المصاحف إنما كانت تذكرة لئلا يضيع القرآن فأما القراءة فإنما أخذت بالرواية لا من المصاحف أما إنهم كانوا إذا اختلفوا رجعوا إليها فما كان فيها عولوا عليه ولذلك اختلفت المصاحف بالزيادة والنقصان فإن الصحابة أثبتت ذلك في بعض المصاحف وأسقطته في البعض ليحفظ القرآن على الأمة وتجتمع أشتات الرواية ويتبين وجه الرخصة والتوسعة فانتهت الزيادة والنقصان إلى أربعين حرفا في هذه المصاحف وقد زيدت عليها أحرف يسيرة لم يقرأ بها أحد من القراء المشهورين تركت فهذا منتهى الحاضر من القول الذي يحتمله الفن الذي تصدينا له من الأحكام
المسألة التاسعة
إذا ثبتت القراءات وتقيدت الحروف فليس يلزم أحدا أن يقرأ بقراءة شخص واحد كنافع مثلا أو عاصم بل يجوز له أن يقرأ الفاتحة فيتلو حروفها على ثلاث قراءات مختلفات لأن الكل قرآن ولا يلزم جمعه إذ لم ينظمه الباري لرسوله ولا قام دليل على التعبد به وإنما لزم الخلق بالدليل ألا يتعدوا الثابت إلى ما لم يثبت فأما تعيين الثابت في التلاوة فمسترسل على الثابت كله والله أعلم 23
613