الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٢١
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
* (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أءسجد لمن خلقت طينا * قال أرءيتك هذا الذى كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا) *
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا،
قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا. قال
اذهب فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) فيه مسائل:
(المسألة الأولى) في كيفية النظم وجوه (الأول) إعلم أنه تعالى لما ذكر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه، بين أن حال الأنبياء مع أهل زمانهم
كذلك. ألا ترى أن أول الأولياء هو آدم، ثم إنه كان في محنة شديدة من إبليس (الثاني) أن
القوم إنما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقتر حوا عليه الاقتراحات الباطلة
الامرين الكبر والحسد، أما الكبر فلان تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد، وأما الحسد فلأنهم
كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة الدرجة العالية، فبين تعالى أن هذا الكبر الحسد هما
اللذان حملا إبليس على الخروج من الايمان والدخول في الكفر، فهذه بلية قديمة ومحنة عظيمة
للخلق (والثالث) أنه تعالى لما وصفهم بقوله (فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا) بين ما هو السبب
لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس (لأحتنكن ذريته إلا قليلا) فلأجل هذا المقصود ذكر
الله تعالى قصة إبليس وآدم، فهذا هو الكلام في كيفية النظم.
(المسألة الثانية) إعلم أن هذه القصة قد ذكرها الله تعالى في سور سبعة، وهي: البقرة
والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدم في البقرة
والأعراف والحج فلا فائدة ولا بأس بتعديد بعض المسائل:
2

(المسألة الأولى) اختلفوا في أن المأمورين بالسجود لآدم أهم جميع الملائكة أم ملائكة
الأرض على التخصيص؟ فظاهر لفظ الملائكة يفيد العموم إلا أن قوله تعالى في آخر سورة
الأعراف في صفة ملائكة السماوات (وله يسجدون) يوجب خروج ملائكة السماوات من
هذا العموم.
(المسألة الثانية) أن المراد من هذه السجدة وضع الجبهة على الأرض أو التحية، وعلى
التقدير الأول فآدم كان هو المسجود له أو يقال كان المسجود له هو الله تعالى وآدم كان قبلة
للسجود؟
(المسألة الثالثة) أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا؟ وإن لم يكن من الملائكة فأمر
الملائكة بالسجود كيف يتناوله؟.
(المسألة الرابعة) هل كان إبليس كافرا من أول الامر أو يقال إنما كفر في ذلك الوقت؟
(المسألة الخامسة) الملائكة سجدوا لآدم من أول ما كملت حياته أو بعد ذلك.
(المسألة السادسة) شبهة إبليس في الامتناع من السجود أهو قوله (أأسجد لمن خلقت
طينا) أو غيره.
(المسألة السابعة) دلت هذه الآيات على أن إبليس كان عارفا بربه، إلا أنه وقع في الكفر
بسبب الكفر والحسد، ومنهم من أنكر وقال ما عرف الله البتة.
(المسألة الثامنة) ما سبب حكمة إمهال إبليس وتسليطه على الخلق بالوسوسة؟.
ولنرجع إلى التفسير فنقول: إنه تعالى حكى في هذه الآية عن إبليس نوعا واحدا من العمل
ونوعين من القول، أما العمل فهو أنه لم يسجد لآدم وهو المراد من قوله (فسجدوا إلا إبليس)
وأما النوعان من القول؟ فأولهما قوله (أأسجد لم خلقت طينا) وهذا استفهام بمعنى الانكار
معناه أن أصلى أشرف من أصله فوجب أن أكون أنا أشرف منه، الأشرف يقبح في العقول
أمره بخدمة الأدنى) والنوع الثاني من كلامه) قوله (أرأيتك هذا الذي كرمت على) قال
الزجاج: قوله (أرأيتك) معناه أخبرني، وقد استقصينا في تفسير هذه الكلمة في سورة الأنعام.
وقوله (هذا الذي كرمت على) فيه وجوه (الأول) معناه: أخبرني عن هذا الذي فضلته على
لم فضلته على وأنا خير منه؟ ثم اختصر الكلام لكونه مفهوما (الثاني) يمكن أن يقال هذا مبتدأ
محذوف منه حرف الاستفهام، والذي مع صلت خبر ن تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته على!
وذلك على وجه الاستصغار والاستحقار، وإنما حذف حرف الاستفهام لان حصوله في قوله
3

(أرأيتك) أغنى عن تكراره (والوجه الثالث) أن يكون هذا مفعول أرأيت لان الكاف
جاءت لمجرد الخطاب لا محل لها، كأنه قال على وجه التعجب والانكار أبصرت أو علمت هذا
الذي كرمت على، بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا تكرمه على، هذا هو حقيقة هذه الكلمة.
ثم قال تعالى حكاية (عنه) (لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا) وفيه مباحث:
(البحث الأول) قرأ ابن كثير (لئن أخرتني إلي يوم القيامة) باثبات الياء في الوصل
والوقف، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف ونافع وأبو عمرو باثباته في الوصل
دون الوقف.
(البحث الثاني) في الاحتناك قولان (أحدهما) أنه عبارة عن الاخذ بالكلية، يقال:
احتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله
بالكلية (والثاني) أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا
يقودها به، وقال أبو مسلم: الاحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرس بلجامه،
فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالاغواء. وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي
كما تقاد الدابة بحبلها.
(البحث الثالث) قوله (إلا قليلا) هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله (إن عبادي ليس لك
عليهم سلطان) فان قيل كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم؟ قلنا فيه وجوه (الأول)
أنه سمع الملائكة يقولون (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) فعرف هذه الأحوال
(الثاني) أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما (1) فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف
العزم (الثالث) أنه عرف أنه مركب من قوة بهيمية شهوانية، وقوة سبعية غضبية، وقوة وهمية
شيطانية، وقوة عقلية ملكية، وعرف أن القوى الثلاث أعنى الشهوانية والغضبية والوهمية تكون
هي المستولية في أول الخلقة، ثم إن القوة العقلية إنما تكمل في آخر الامر، ومتى كان الامر
كذلك كان ما ذكره إبليس لازما، واعلم أنه تعالى لما حكى عن إبليس ذلك حكى عن نفسه أنه
تعالى قال له اذهب، وهذا ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجئ وإنما معناه امض لشأنك
الذي اخترته، والمقصود التخلية وتفويض الامر إليه.
ثم قال (فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) ونظيره قول موسى عليه الصلاة
* (هامش) *
(1) هذا الوجه يتعارض مع نص الآية الكريمة وهي قول الله تعالى لملائكة المقربين (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة) سورة الحجر. فالآية تنص على أن الامر بالسجود والسجود كان قيل الوسوسة ولو أن الوسوسة
كانت قبل السجود، لترتب عليه أن يكون الملائكة كلهم أجمعون قد سجدوا لآدم بعد المعصية وهو أمر لا يليق ولا يتصور فانتفى هذا الوجه.
4

واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك
وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا
(64) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)
والسلام (فاذهب فان لك في الحياة أن تقول لامساس) فان قيل أليس الأولى أن يقال: فان جهنم
جزاؤهم جزاء موفورا. ليكون هذا الضمير راجعا إلى قوله (فمن تبعك)؟ قلنا فيه وجوه (الأول)
التقدير فان جهنم جزاؤهم وجزاؤكم ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل جزاؤكم (والثاني) يجوز أن
يكون هذا الخطاب مع الغائبين على طريقة الالتفات (والثالث) أنه صلى الله عليه وسلم قال من سن سنة سيئة
فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزر
ذلك العامل.
فلما كان إبليس هو الأصل في كل المعاصي صار المخاطب بالوعيد هو إبليس، ثم قال (جزاء
موفورا) وهذه اللفظة قد تجئ متعديا ولازما، أما المتعدى فيقال: وفرقته أفره وفرا (و) وفرة
فهو موفور (و) موفر، قال زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
واللازم كقوله: وفر المال يفر وفورا وافر، فعلى التقدير (الأول) يكون المعنى جزاء
موفورا موفوا، وعلى (الثاني) يكون المعنى جزاء موفورا وافرا، وانتصب قوله (جزاء) على
المصدر.
قوله تعالى (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم
في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، إن عبادي ليس لك عليهم
سلطان وكفى بربك وكيلا)
اعلم أن إبليس لما طلب من الله الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم فالله تعالى ذكر أشياء. أولها: قوله: * (اذهب) * ومعناه: أمهلتك هذه المدة. وثانيها: قوله تعالى: * (واستفزز من استطعت منهم بسوطك) * يقال أفزه الخوف واستفزه أي أزعجه واستخفه،
5

وصوته دعاؤه إلى معصية الله تعالى، وقيل: أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب، ومعنى صيغة الأمر هنا التهديد كما يقال: اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك. وثالثها: * (واجلب عليهم بخيلك ورجلك) * في قوله: * (واجلب) * وجوه. الأول: قال الفراء: إنه من الجلبة وهو الصياح وربما قالوا الجلب كما قالوا الغلبة والغلب والشفقة والشفق، وقال الليث وأبو عبيدة أجلبوا وجلبوا من الصياح. الثاني: قال الزجاج في فعل وأفعل، أجلب على العدو إجلابا إذا جمع عليه الخيول. الثالث: قال ابن السكيت يقال هم يجلبون عليه بمعنى أنهم يعينون عليه. والرابع: روى ثعلب عن ابن الأعرابي أجلب الرجل على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع، فقوله: وأجلب عليهم معناه على قول الفراء صح عليهم بخيلك ورجلك، وعلى قول الزجاج: أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وتكون الباء في قوله: بخيلك زائدة على هذا القول، وعلى قول ابن السكيت معناه أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف كأنه يستعين على إغوائهم بخيله ورجله، وهذا أيضا يقرب من قول ابن الأعرابي، واختلفوا في تفسير الخيل والرجل، فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال: " كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده "، ويدخل فيه كل راكب وماش في معصية الله تعالى، فعلى هذا التقدير خيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية. والقول الثاني: يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل. والقول الثالث: أن المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وهذا الوجه أقرب، والخيل تقع على الفرسان. قال عليه الصلاة والسلام: " يا خيل الله اركبي " وقد تقع على الأفراس خاصة، والمراد ههنا الأول والرجل جمع راجل كما قالوا تاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب، وروى حفص عن عاصم ورجلك بكسر الجيم وغيره بالضم، قال أبو زيد يقال رجل ورجل بمعنى واحد ومثله حدث وحدث وندس وندس، قال ابن الأنباري: أخبرنا ثعلب عن الفراء قال: يقال رجل ورجل ورجلان بمعنى واحد. والنوع الرابع: من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس قوله: * (وشاركهم في الأموال والأولاد) * نقول: أما المشاركة في الأموال فهي عبارة عن كل تصرف قبيح في المال سواء كان ذلك القبيح بسبب أخذه من غير حقه أو وضعه في غير حقه ويدخل فيه الربا والغصب والسرقة والمعاملات الفاسدة، وهكذا قاله القاضي وهو ضبط حسن، وأما المفسرون فقد ذكروا وجوها قال قتادة: المشاركة في الأموال هي أن جعلوا بحيرة وسائبة، وقال عكرمة هي عبارة عن تبكيتهم آذان الأنعام، وقيل هي أن جعلوا من أموالهم شيئا لغير
6

الله تعالى كما قال تعالى: * (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) * (الأنعام: 136) والأصوب ما قاله القاضي، وأما المشاركة في الأولاد فذكروا فيه وجوها. أحدها: أنها الدعاء إلى الزنا، وزيف الأصم ذلك بأن قال إنه لا ذم على الولد، ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد وشاركهم في طريق تحصيل الولد وذلك بالدعاء إلى الزنا. وثانيها: أن يسموا أولادهم بعبد اللات وعبد العزى. وثالثها: أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية وغيرهما. ورابعها: إقدامهم على قتل الأولاد ووأدهم. وخامسها: ترغيبهم في حفظ الأشعار المشتملة على الفحش وترغيبهم في القتل والقتال والحرف الخبيثة الخسيسة والضابط أن يقال إن كل تصرف من المرء في ولده على وجه يؤدي إلى ارتكاب منكر أو قبيح فهو داخل فيه.
والنوع الخامس: من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس في هذه الآية قوله: * (وعدهم) *.
واعلم أنه لما كان مقصود الشيطان الترغيب في الاعتقاد الباطل والعمل الباطل والتنفير عن الاعتقاد الحق والعمل الحق، ومعلوم أن الترغيب في الشيء لا يمكن إلا بأن
يقرر عنده أنه لا ضرر البتة في فعله ومع ذلك فإنه يفيد المنافع العظيمة، والتنفير عن الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا فائدة في فعله، ومع ذلك فيفيد المضار العظيمة، إذا ثبت هذا فنقول: إن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد وأن يقرر أولا أنه لا مضرة في فعله البتة، وذلك إنما يمكن إذا قال لا معاد ولا جنة ولا نار، ولا حياة بعد هذه الحياة، فبهذا الطريق يقرر عنده أنه لا مضرة البتة في فعل هذه المعاصي، وإذا فرغ عن هذا المقام قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعا من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في هذه الدنيا إلا به، فتفويتها غبن وخسران كما قال الشاعر: خذوا بنصيب من سرور ولذة * فكل وإن طال المدى يتصرم
فهذا هو طريق الدعوة إلى المعصية، وأما طريق التنفير عن الطاعة فهو أن يقرر أولا عنده أنه لا فائدة فيه وتقريره من وجهين. الأول: أن يقول لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عذاب. والثاني: أن هذه العبادات لا فائدة فيها للعابد والمعبود فكانت عبثا محضا فبهذين الطريقين يقرر الشيطان عند الإنسان أنه لا فائدة فيها، وإذا فرغ عن هذا المقام قال إنها توجب التعب والمحنة وذلك أعظم المضار، فهذه مجامع تلبيس الشيطان، فقوله: * (وعدهم) * يتناول كل هذه الأقسام، قال المفسرون قوله: * (وعدهم) * أي بأنه لا جنة ولا نار، وقال آخرون: * (وعدهم) * بتسويف التوبة، وقال آخرون * (وعدهم) * بالأماني الباطلة مثل قوله لآدم: * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين
7

أو تكونا من الخالدين) * (الأعراف: 20) وقال آخرون: وعدهم بشفاعة الأصنام عند الله تعالى وبالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل، وبالجملة فهذه الأقسام كثيرة وكلها داخلة في الضبط الذي ذكرناه وإن أردت الاستقصاء في هذا الباب فطالع كتاب ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين للشيخ الغزالي حتى يحيط عقلك بمجامع تلبيس إبليس، واعلم أن الله تعالى لما قال: * (وعدهم) * أردفه بما يكون زاجرا عن قبول وعده فقال: * (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى أحد أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة وعلو الدرجة، ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى ولا إلى خدمته، وتلك الأشياء الثلاثة معنوية من وجوه كثيرة. أحدها: أنها في الحقيقة ليست لذات بل هي خلاص عن الآلام. وثانيها: وإن كانت لذات لكنها لذات خسيسة مشترك فيها بين الكلاب والديدان والخنافس وغيرها. وثالثها: أنها سريعة الذهاب والانقضاء والانقراض. ورابعها: أنها لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة. وخامسها: أن لذات البطن والفرج لا تتم إلا بمزاولة رطوبات عفنة مستقذرة. وسادسها: أنها غير باقية بل يتبعها الموت والهرم والفقر والحسرة على الفوت والخوف من الموت. فلما كانت هذه المطالب وإن كانت لذيذة بحسب الظاهر إلا أنها ممزوجة بهذه الآفات العظيمة والمخالفات الجسيمة، كان الترغيب فيها تغريرا، ولهذا المعنى قال تعالى: * (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *.
واعلم أنه تعالى لما قال له افعل ما تقدر عليه فقال تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * وفيه قولان:
الأول: أن المراد كل عباد الله من المكلفين، وهذا قول أبي علي الجبائي، قال والدليل عليه أن الله تعالى استثنى منه في آيات كثيرة من يتبعه بقوله: * (إلا من اتبعك) * (الحجر: 42) ثم استدل بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع الناس وتخبيط عقولهم وأنه لا قدرة له إلا على قدر الوسوسة وأكد ذلك بقوله تعالى: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * (إبراهيم: 22). وأيضا فلو قدر على هذه الأعمال لكان يجب أن يتخبط أهل الفضل وأهل العلم دون سائر الناس ليكون ضرره أعظم. ثم قال وإنما يزول عقله لا من جهة الشيطان لكن لغلبة الأخلاط الفاسدة ولا يمتنع أن يكون أحد أسباب ذلك المرض اعتقاد أن الشيطان يقدم عليه فيغلب الخوف فيحدث ذلك المرض.
والقول الثاني: أن المراد بقوله: * (إن عبادي) * أهل الفضل والعلم والإيمان لما بينا فيما تقدم
8

أن لفظ العباد في القرآن مخصوص بأهل الإيمان، والدليل عليه أنه قال في آية أخرى: * (إنما سلطانه على الذين يتولونه) * (النحل: 100).
ثم قال: * (وكفى بربك وكيلا) * وفيه بحثان:
البحث الأول: أنه تعالى لما مكن إبليس من أن يأتي بأقصى ما يقدر عليه في باب الوسوسة، وكان ذلك سببا لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان قال: * (وكفى بربك وكيلا) * ومعناه أن الشيطان وإن كان قادرا فالله تعالى أقدر منه وأرحم بعباده من الكل فهو تعالى يدفع عنه كيد الشيطان ويعصمه من إضلاله وإغوائه.
البحث الثاني: هذه الآية تدل على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلالة، لأنه لو كان الإقدام على الحق والاحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه لوجب أن يقال: وكفى الإنسان نفسه في الاحتراز عن الشيطان، فلما لم يقل ذلك بل قال: * (وكفى بربك) * علمنا أن الكل من الله، ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: أن إبليس هل كان عالما بأن الذي تكلم معه بقوله: * (واستفزز من استطعت منهم) * هو إله العالم أو لم يعلم ذلك؟ فإن علم ذلك ثم إنه تعالى قال: * (فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) * فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعا له من المعصية مع أنه سمعه من الله تعالى من غير واسطة؟ وإن لم يعلم أن هذا القائل هو إله العالم، فكيف قال: * (أرأيتك هذا الذي كرمت علي) *.
والجواب: لعله كان شاكا في الكل أو كان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن.
والسؤال الثاني: ما الحكمة في أنه تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة؟ والحكيم إذا أراد أمرا وعلم أن شيئا من الأشياء يمنع من حصوله فإنه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع.
والجواب: أما مذهبنا فظاهر في هذا الباب، وأما المعتزلة فلهم قولان: قال الجبائي: علم الله تعالى أن الذين كفروا عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد إبليس
، وإذا كان كذلك لم يكن في وجوده مزيد مفسدة، وقال أبو هاشم: لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة، إلا أنه تعالى أبقاه تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثواب، وهذان الوجهان قد ذكرناهما في سورة الأعراف والحجر، وبالغنا في الكشف عنهما، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ربكم الذى يزجى لكم الفلك فى البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما *
9

وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا * أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا * أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) *
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته، وقد ذكرنا أن المقصود الأعظم في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد، فإذا امتد الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد، والمذكور ههنا الوجوه المستنبطة من الانعامات في أحوال ركوب البحر.
فالنوع الأول: كيفية حركة الفلك على وجه البحر وهو قوله: * (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر) * والإزجاء سوق الشيء حالا بعد حال، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله: * (ببضاعة مزجاة) * والمعنى: ربكم الذي يسير الفلك على وجه البحر لتبتغوا من فضله في طلب التجارة إنه كان بكم رحيما، والخطاب في قوله: * (ربكم) * وفي قوله: * (إنه كان بكم) * عام في حق الكل، والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها.
والنوع الثاني: قوله: * (وإذا مسكم الضر في البحر) * والمراد من الضر، الخوف الشديد كخوف الغرق: * (ضل من تدعون إلا إياه) * والمراد أن الإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والشمس والقمر والملك والفلك. وإنما يتضرع إلى الله تعالى، فلما نجاكم من الغرق والبحر وأخرجكم إلى البر أعرضتم عن الإيمان والإخلاص * (وكان الإنسان كفورا) * لنعم الله بسبب أن عند الشدة
10

يتمسك بفضله ورحمته، وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره.
والنوع الثالث: قوله: * (أفأمنتم أن نخسف بكم جانب البر) * قال الليث: الخسف والخسوف هو دخول الشيء في الشيء. يقال: عين خاسفة وهي التي غابت حدقتها في الرأس، وعين من الماء خاسفة أي غائرة الماء، وخسفت الشمس أي احتجبت وكأنها وقعت تحت حجاب أو دخلت في جحر. فقوله: * (أن نخسف بكم جانب البر) * أي نغيبكم من جانب البر وهو الأرض، وإنما قال * (جانب البر) * لأنه ذكر البحر في الآية الأولى فهو جانب، والبر جانب، خبر الله تعالى أنه كما قدر على أن يغيبهم في الماء فهو قادر أيضا على أن يغيبهم في الأرض، فالغرق تغييب تحت الماء كما أن الخسف تغييب تحت التراب، وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم كانوا خائفين من هول البحر، فلما نجاهم منه آمنوا، فقال: هب أنكم نجوتم من هول البحر فكيف أمنتم من هو البر؟ فإنه تعالى قادر على أن يسلط عليكم آفات البر من جانب التحت أو من جانب الفوق، أما من جانب التحت فبالخسف. وأما من جانب الفوق فبامطار الحجارة عليهم، وهو المراد من قوله: * (أو نرسل عليكم حاصبا) * فكما لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى عند ركوب البحر، فكذلك يجب أن لا يتضرعوا إلا إليه في كل الأحوال. ومعنى الحصب في اللغة: الرمي. يقال: حصبت أحصب حصبا إذا رميت والحصب المرمي. ومنه قوله تعالى: * (حصب جهنم) * أي يلقون فيها، ومعنى قوله: * (حاصبا) * أي عذابا يحصبهم، أي يرميهم بحجارة، ويقال للريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب، والسحاب الذي يرمي بالثلج والبرد يسمى حاصبا لأنه يرمي بهما رميا. وقال الزجاج: الحاصب التراب الذي فيه حصباء والحاصب على هذا ذو الحصباء مثل اللابن والتامر وقوله: * (ثم لا تجدوا لكم وكيلا) * يعني لا تجدوا ناصرا ينصركم ويصونكم من عذاب الله، ثم قال: * (أم أمنتم أن نعيدكم فيه) * أي في البحر تارة أخرى وقوله: * (فنرسل عليكم قاصفا) * من الريح القاصف الكاسر يقال: قصف الشيء يقصفه قصفا إذا كسره بشدة، والقاصف من الريح التي تكسر الشجر، وأراد ههنا ريحا شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله: * (فنغرقكم بما كفرتم) * أي بسبب كفركم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا. قال الزجاج: أي لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم، وتبيع بمعنى تابع.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ خمسة: وهي قوله: * (أن نخسف. أو نرسل. أو نعيدكم. فنرسل. فنغرقكم) * قرأ ابن كثير وأبو عمرو جميع هذه الخمسة بالنون، والباقون بالياء، فمن قرأ بالياء، فلأن ما قبله على الواحد الغائب وهو قوله: * (إلا إياه فلما نجاكم) * (الإسراء: 67) ومن قرأ بالنون فلأن هذا البحر من الكلام، قد ينقطع بعضه من بعض وهو سهل لأن المعنى واحد. ألا ترى أنه قد جاء * (وجعلناه
11

هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا) * فانتقل من الجمع إلى الأفراد وكذلك ههنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى واحد والكل جائز والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولقد كرمنا بنى ءادم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) *
اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر نعمة أخرى جليلة رفيعة من نعم الله تعالى على الإنسان وهي الأشياء التي بها فضل الإنسان على غيره وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أربعة أنواع:
النوع الأول: قوله: * (ولقد كرمنا بني آدم) * واعلم أن الإنسان جوهر مركب من النفس، والبدن، فالنفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في العالم السفلي، وبدنه أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي. وتقرير هذه الفضيلة في النفس الإنسانية هي أن النفس الإنسانية قواها الأصلية ثلاث. وهي الإغتذاء والنمو والتوليد، والنفس الحيوانية لها قوتان الحساسة سواء كانت ظاهرة أو باطنة، والحركة بالاختيار، فهذه القوى الخمسة أعني الاغتذاء والنمو والتوليد والحس والحركة حاصلة للنفس
الإنسانية، ثم إن النفس الإنسانية مختصة بقوة أخرى وهي القوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي. وهي التي يتجلى فيها نور معرفة الله تعالى ويشرق فيها ضوء كبريائه وهو الذي يطلع على أسرار عالمي الخلق والأمر ويحيط بأقسام مخلوقات الله من الأرواح والأجسام كما هي وهذه القوة من تلقيح الجواهر القدسية والأرواح المجردة الإلهية، فهذه القوة لا نسبة لها في الشرف والفضل إلى تلك القوى النباتية والحيوانية، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن النفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في هذا العالم وإن أردت أن تعرف فضائل القوة العقلية ونقصانات القوى الجسمية، فتأمل ما كتبناه في هذا الكتاب في تفسير قوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض) * (النور: 35) فإنا ذكرنا هناك عشرين وجها في بيان أن القوة العقلية أجل وأعلى من القوة الجسمية فلا فائدة في الإعادة، وأما بيان أن البدن الإنساني أشرف أجسام هذا العالم، فالمفسرون إنما ذكروا في تفسير قوله تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * هذا النوع من الفضائل وذكروا أشياء، أحدها: روى ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: * (ولقد كرمنا بني آدم) * قال: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيديه. وقيل: إن الرشيد أحضرت عنده أطعمة فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف، فقال له: جاء في
12

التفسير عن جدك في قوله تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه. وثانيها: قال الضحاك: بالنطق والتمييز وتحقيق الكلام أن من عرف شيئا، فأما أن يعجز عن تعريف غيره كونه عارفا بذلك الشيء أو يقدر على هذا التعريف.
أما القسم الأول: فهو حال جملة الحيوانات سوى الإنسان، فإنه إذا حصل في باطنها ألم أو لذة فإنها تعجز عن تعريف غيرها تلك الأحوال تعريفا تاما وافيا.
وأما القسم الثاني: فهو الإنسان، فإنه يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه ووقف عليه وأحاط به فكونه قادرا على هذا النوع من التعريف هو المراد بكونه ناطقا، وبهذا البيان ظهر أن الإنسان الأخرس داخل في هذا الوصف، لأنه وإن عجز عن تعريف غيره ما في قلبه بطريق اللسان، فإنه يمكنه ذلك بطريق الإشارة وبطريقة الكتابة وغيرهما ولا يدخل فيه الببغاء، لأنه وإن قدر على تعريفات قليلة، فلا قدرة له على تعريف جميع الأحوال على سبيل الكمال والتمام. وثالثها: قال عطاء: بامتداد القامة.
واعلم أن هذا الكلام غير تام لأن الأشجار أطور من قامة الإنسان بل ينبغي أن يشترط فيه شرط، وهو طول القامة مع استكمال القوة العقلية، والقوى الحسية والحركية. ورابعها: قال بيان بحسن الصورة، والدليل عليه قوله تعالى: * (وصوركم فأحسن صوركم) * (غافر: 64) لما ذكر الله تعالى خلقة الإنسان قال: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * وقال: * (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) * (البقرة: 138) وإن شئت فتأمل عضوا واحدا من أعضاء الإنسان وهو العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق بياض الجبهة سواد الشعر، وليكن هذا المثال الواحد أنموذجا لك في هذا الباب. وخامسها: قال بعضهم من كرامات الآدمي أن آتاه الله الخط. وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلم الذي يقدر الإنسان على استنباطه يكون قليلا. أما إذا استنبط الإنسان علما وأودعه في الكتاب، وجاء الإنسان الثاني واستعان بذلك الكتاب، وضم إليه من عند نفسه أشياء أخرى ثم لا يزالون يتعاقبون، ويضم كل متأخر مباحث كثيرة إلى علم المتقدمين كثرت العلوم وقويت الفضائل والمعارف وانتهت المباحث العقلية والمطالب الشرعية إلى أقصى الغايات وأكمل النهايات، ومعلوم أن هذا الباب لا يتأتى إلا بواسطة الخط والكتبة، ولهذه الفضيلة الكاملة قال تعالى: * (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) *. وسادسها: أن أجسام هذا العالم إما بسائط وإما مركبات، أما البسائط فهي الأرض والماء
13

والهواء والنار. والإنسان ينتفع بكل هذه الأربع، أما الأرض فهي لنا كالأم الحاضنة. قال تعالى: * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) * (طه: 55) وقد سماها الله تعالى بأسماء بالنسبة إلينا، وهي الفراش والمهد، والمهاد، وأما الماء فانتفاعنا به في الشرب والزراعة والحراثة ظاهر، وأيضا سخر البحر لنأكل منه لحما طريا، ونستخرج منه حلية نلبسها ونرى الفلك مواخر فيه، وأما الهواء فهو مادة حياتنا، ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على هذه المعمورة، وأما النار فيها طبخ الأغذية والأشربة ونضجها، وهي قائمة مقام الشمس والقمر في الليالي المظلمة، وهي الدافعة لضرر البرد كما قال الشاعر: ومن يرد في الشتاء فاكهة * فإن نار الشتاء فاكهته
وأما المركبات فهي إما الآثار العلوية، وإما المعادن والنبات، وأما الحيوان والإنسان كالمستولي على هذه الأقسام والمنتفع بها والمستسخر لكل أقسامها فهذا العالم بأسره جار مجرى قرية معمورة أو خان معد وجميع منافعها ومصالحها مضروفة إلى الإنسان فيه كالرئيس المخدوم، والملك المطاع وسائر الحيوانات بالنسبة إليه كالعبيد، وكل ذلك يدل على كونه مخصوصا من عند الله بمزيد التكريم والتفضيل والله أعلم. وسابعها: أن المخلوقات تنقسم إلى أربعة أقسام إلى ما حصلت له القوة العقلية الحكمية ولم تحصل له القوة الشهوانية الطبيعية وهم الملائكة، وإلى ما يكون بالعكس وهم البهائم وإلى ما خلا عن القسمين وهو النبات والجمادات وإلى ما حصل النوعان فيه وهو الإنسان، ولا شك أن الإنسان لكونه مستجمعا للقوة العقلية القدسية المحضة، وللقوى الشهوانية البهيمية والغضبية والسبعية يكون أفضل من البهيمية ومن السبعية، ولا شك أيضا أنه أفضل من الأجسام الخالية عن القوتين مثل النبات والمعادن والجمادات، وإذا ثبت ذلك ظهر أن الله تعالى فضل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات. بقي ههنا بحث في أن الملك أفضل أم البشر؟ والمعنى أن الجوهر البسيط الموصوف بالقوة العقلية القدسية المحضة أفضل أم البشر المستجمع لهاتين القوتين؟ وذلك بحث آخر. وثامنها: الموجود إما أن يكون أزليا وأبديا معا وهو الله سبحانه وتعالى، وإما أن يكون ولا أزليا لا أبديا وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان، وهذا أخس الأقسام، وإما أن يكون أزليا لا أبديا وهو الممتنع الوجود لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه، وإما أن لا يكون أزليا ولكنه يكون أبديا، وهو الإنسان والملك، ولا شك أن هذا القسم أشرف من القسم الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر مخلوقات الله تعالى. وتاسعها: العالم العلوي أشرف من العالم السفلي،
وروح الإنسان من جنس الأرواح العلوية والجواهر القدسية فليس في موجودات
14

العالم السفلي شيء حصل فيه شيء من العالم العلوي إلا الإنسان فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفلي. وعاشرها: أشرف الموجودات هو الله تعالى، وإذا كان كذلك فكل موجود كان قربه من الله تعالى أتم، وجب أن يكون أشرف، لكن أقرب موجودات هذا العالم من الله هو الإنسان بسبب أن قلبه مستنير بمعرفة الله تعالى ولسانه مشرف بذكر الله وجوارحه وأعضاؤه مكرمة بطاعة الله تعالى فوجب الجزم بأن أشرف موجودات هذا العالم السفلي هو الإنسان، ولما ثبت أن الإنسان موجود ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ثبت أن كل ما حصل للإنسان من المراتب العالية والصفات الشريفة فهي إنما حصلت بإحسان الله تعالى وإنعامه فلهذا المعنى قال تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * ومن تمام كرامته على الله تعالى أنه تعالى لما خلقه في أول الأمر وصف نفسه بأنه أكرم فقال: * (إقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم) * (العلق: 1 - 4) ووصف نفسه بالتكريم عند تربيته للإنسان فقال: * (ولقد كرمنا بني آدم) * ووصف نفسه بالكرم في آخر أحوال الإنسان فقال: * (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) * (الإنفطار: 6) وهذا يدل على أنه لا نهاية لكرم الله تعالى ولفضله وإحسانه مع الإنسان والله أعلم.
والوجه الحادي عشر: قال بعضهم هذا التكريم معناه أنه تعالى خلق آدم بيده وخلق غيره بطريق كن فيكون. ومن كان مخلوقا بيد الله كانت العناية به أتم وأكمل، وكان أكرم وأكمل ولما جعلنا من أولاده وجب كون بني آدم أكرم وأكمل والله أعلم.
النوع الثاني: من المدائح المذكورة في هذه الآية قوله: * (وحملناهم في البر والبحر) * قال ابن عباس في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وفي البحر على السفن، وهذا أيضا من مؤكدات التكريم المذكور أولا، لأنه تعالى سخر هذه الدواب له حتى يركبها ويحمل عليها ويغزو ويقاتل ويذب عن نفسه، وكذلك تسخير الله تعالى المياه والسفن وغيرها ليركبها وينقل عليها ويتكسب بها مما يختص به ابن آدم، كل ذلك مما يدل على أن الإنسان في هذا العالم كالرئيس المتبوع والملك المطاع وكل ما سواه فهو رعيته وتبع له.
النوع الثالث: من المدائح قوله: * (ورزقناهم من الطيبات) * وذلك لأن الأغذية إما حيوانية وإما نباتية، وكلا القسمين إنما يتغذى الإنسان منه بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامة والطبخ الكامل والنضج البالغ، وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان.
النوع الرابع: قوله: * (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) * وههنا بحثان:
البحث الأول: أنه قال في أول الآية: * (ولقد كرمنا بني آدم) * وقال في آخرها: * (وفضلناهم) *
15

ولا بد من الفرق بين هذا التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار، والأقرب أن يقال: إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة ذلك العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل.
البحث الثاني: أنه تعالى لم يقل: وفضلناهم على الكل بل قال: * (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) * فهذا يدل على أنه حصل في مخلوقات الله تعالى شيء لا يكون الإنسان مفضلا عليه، وكل من أثبت هذا القسم قال: إنه هو الملائكة. فلزم القول بأن الإنسان ليس أفضل من الملائكة بل الملك أفضل من الإنسان، وهذا القول مذهب ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط. واعلم أن هذا الكلام مشتمل على بحثين:
البحث الأول: أن الأنبياء عليهم السلام أفضل أم الملائكة؟ وقد سبق ذكر هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * (البقرة: 34).
والبحث الثاني: أن عوام الملائكة وعوام المؤمنين أيهما أفضل؟ منهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة. واحتجوا عليه بما روي عن زيد بن أسلم أنه قال: قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا ذاك في الآخرة، فقال: وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت له * (كن) * فكان. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده. هكذا أورده الواحدي في " البسيط "، وأما القائلون بأن الملك أفضل من البشر على الإطلاق فقد عولوا على هذه الآية، وهو في الحقيقة تمسك بدليل الخطاب لأن تقرير الدليل أن يقال: إن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد، وذلك تمسك بدليل الخطاب والله أعلم.
قوله تعالى
* (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا * ومن كان فى هذه أعمى فهو فى الاخرة أعمى وأضل سبيلا) *
16

اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا ذكر أحوال درجاته في الآخرة في هذه الآية وفيها مسائل:
المسألة الأولى: قرىء يدعو بالياء والنون ويدعى كل أناس على البناء للمفعول وقرأ الحسن يدعو كل أناس قال الفراء وأهل العربية لا يعرفون وجها لهذه القراءة المنقولة عن الحسن ولعله قرأ يدعى بفتحة ممزوجة بالضم فظن الراوي أنه قرأ يدعو.
المسألة الثانية: قوله يوم ندعو نصب بإضمار أذكر ولا يجوز أن يقال العامل فيه قوله وفضلناهم لأنه فعل ماض ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد ونفضلهم بما نعطيهم من الكرامة والثواب.
المسألة الثالثة: قوله: * (بإمامهم) * الإمام في اللغة كل من ائتم به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبي إمام أمته، والخليفة إمام رعيته، والقرآن إمام المسلمين وإمام القوم هو الذي يقتدي به في الصلاة وذكروا في تفسير الإمام ههنا أقوال، القول الأول: إمامهم نبيهم روي ذلك مرفوعا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون المعنى أنه ينادي يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بإيمانهم ثم ينادي يا أتباع فرعون يا أتباع نمروذ يا أتباع فلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر وعلى هذا القول فالباء في قوله بإمامهم فيه وجهان. الأول: أن يكون التقدير يدعو كل أناس بإمامهم تبعا وشيعة لإمامهم كما تقول أدعوك باسمك. والثاني: أن يتعلق بمحذوف وذلك المحذوف في موضع الحال كأنه قيل يدعو كل أناس مختلطين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده. والقول الثاني: وهو قول الضحاك وابن زيد بإمامهم أي بكتابهم الذي أنزل عليهم وعلى هذا التقدير ينادي في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل. والقول الثالث: قال الحسن بكتابهم الذي فيه أعمالهم وهو قول الربيع وأبي العالية والدليل على أن هذا الكتاب يسمى إماما قوله تعالى: * (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) * (يس: 12) فسمى الله تعالى هذا الكتاب إماما، وتقدير الباء على هذا القول بمعنى مع أي ندعو كل أناس ومعهم كتابهم كقولك ادفعه إليه برمته أي ومعه رمته. القول الرابع: قال صاحب " الكشاف " ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا ثم قال صاحب " الكشاف " وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته. والقول الخامس: أقول في اللفظ احتمال آخر وهو أن أنواع الأخلاق الفاضلة والفاسدة كثيرة والمستولي على كل إنسان نوع من تلك الأخلاق فمنهم من يكون الغالب عليه الغضب ومنهم من يكون الغالب عليه شهوة النقود أو شهوة الضياع ومنهم من يكون الغالب عليه الحقد والحسد وفي جانب الأخلاق الفاضلة منهم من يكون الغالب عليه العفة أو الشجاعة أو
17

الكرم أو طلب العلم والزهد إذا عرفت هذا فنقول: الداعي إلى الأفعال الظاهرة من تلك الأخلاق الباطنة فذلك الخلق الباطن كالإمام له والملك المطاع والرئيس المتبوع فيوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق فهذا هو المراد من قوله: * (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) * فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بمراده ثم قال تعالى: * (فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا) * قال صاحب " الكشاف " إنما قال أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع والفتيل القشرة التي في شق النواة وسمي بهذا الاسم لأنه إذا أراد الإنسان استخراجه انفتل وهذا يضرب مثلا للشيء الحقير التافه ومثله القطمير والنقير في ضرب المثل به والمعنى لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيل ونظيره قوله: * (ولا يظلمون شيئا) * (مريم: 60)، * (فلا يخاف ظلما ولا هضما) * (طه: 112) وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال الفتيل هو الوسخ الذي يظهر بفتل الإنسان إبهامه بسبابته وهو فعيل من الفتل بمعنى مفتول فإن قيل لهم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أصحاب الشمال يقرؤونه أيضا قلنا الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملا على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة والمخازي الشديدة فيستولي الخوف والدهشة على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزوا عن القراءة وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه وأثبتها ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارئ لأهل الحشر: * (هاؤم اقرأوا كتابيه) * (الحاقه: 19) فظهر الفرق والله أعلم ثم قال تعالى: * (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ونصر عن الكسائي ومن كان في هذه أعمى بالامالة والكسر فهو في الآخرة أعمى بالفتح وقرأ بالفتح والتفخيم فيهما ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في رواية بالامالة فيهما، قال أبو علي الفارسي الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أن المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى وبهذا التقدير تكون هذه الكلمة تامة فتقبل الإمالة وأما في الكلمة الثانية فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل فكانت بمعنى أفعل من وبهذا التقدير لا تكون لفظة أعمى تامة فلم تقبل الإمالة والحاصل أن إدخال الإمالة في الأولى دل على أنه ليس المراد أفعل التفضيل وتركها في الثانية يدل على أن المراد منها أفعل التفضيل والله أعلم.
المسألة الثانية: لا شك أنه ليس المراد من قوله تعالى: * (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) * عمى البصر بل المراد منه عمى القلب، أما قوله فهو في الآخرة أعمى ففيه قولان: القول الأول: أن المراد منه أيضا عمى القلب وعلى هذا التقدير ففيه وجوه. الأول: قال عكرمة: جاء نفر من أهل
18

اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال: اقرأ ما قبلها فقرأ * (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر) * (الإسراء: 66) إلى قوله * (تفضيلا) * (الإسراء: 66 - 70) قال ابن عباس من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا وعلى هذا الوجه فقوله في هذه إشارة إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدمة. وثانيا: روى أبو ورق عن الضحاك عن ابن عباس قال من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي في خلق السماوات والأرض والبحار والجبال والناس والدواب فهو عن أمر الآخرة أعمى وأضل سبيلا وأبعد عن تحصيل العلم به وعلى هذا الوجه فقوله فمن كان في هذه إشارة إلى الدنيا وعلى هذين القولين فالمراد من كان في الدنيا أعمى القلب عن معرفة هذه النعم والدلائل فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى فالعمى في المرتين حصل في الدنيا. وثالثها: قال الحسن من كان في الدنيا ضالا كافرا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من أبواب الآفات وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة. ورابعها: أنه لا يمكن حمل العمى الثاني على الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة فكان المراد منه العمى عن طريق الجنة أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن معرفة الله فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة. وخامسها: أن الذين حصل لهم عمى القلب في الدنيا إنما حصلت هذه الحالة لهم لشدة حرصهم على تحصيل الدنيا وابتهاجهم بلذاتها وطيباتها فهذه الرغبة تزداد في الآخرة وتعظم هناك حسرتها على فوات الدنيا وليس معهم شيء من أنوار معرفة الله تعالى فيبقون في ظلمة شديدة وحسرة عظيمة فذاك هو المراد من العمى. القول الثاني: أن يحمل العمى
الثاني على عمى العين والبصر فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر كما قال: * (ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) * (طه: 124 - 126) وقال: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) * وهذا العمى زيادة في عقوبتهم والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينآ إليك لتفترى علينا غيره وإذا لآتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحيوة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا) *
19

إعلم أنه تعالى لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر والتلبي فقال: * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس في رواية عطاء نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه شططا، وقالوا متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم فكرروا ذلك الالتماس، وقالوا إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا، فقل: الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وداخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه؟ فأنزل الله هذه الآية، وروى صاحب " الكشاف " أنهم جاءوا بكاتبهم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله إلى ثقيف لا يعشرون ولا يحشرون، فقالوا ولا يجبون، فسكت رسول الله، ثم قالوا للكاتب: اكتب ولا يجبون والكاتب ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عمر بن الخطاب وسل سيفه، وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر قريش، أسعر الله قلوبكم نارا. فقالوا لسنا نكلمك إنما نكلم محمدا، فنزلت هذه الآية واعلم أن هذه القصة إنما وقعت بالمدينة فلهذا السبب قالوا إن هذه الآيات مدنية. وروى أن قريشا قالوا له: اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة، حتى نؤمن بك. فنزلت هذه الآية وقال الحسن: الكفار أخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بمكة قبل الهجرة فقالوا: كف يا محمد عن ذم آلهتنا وشتمها فلو كان ذلك حقا كان فلان وفلان بهذا الأمر أحق منك فوقع في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكف عن شتم آلهتهم. وعلى هذا التقدير فهذه الآية مكية، وعن سعيد بن جبير أنه عليه السلام كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون لا ندعك حتى تستلم آلهتنا فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية، فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية: قال الزجاج معنى الكلام كادوا يفتنونك ودخلت إن واللام للتأكيد وإن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والمعنى إن الشأن (أنهم) قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين (و) أصل الفتنة الاختبار يقال فتن الصائغ الذهب إذا أدخله النار وأذابه
20

لتميز جيده من رديئه ثم استعملوه في كل من أزال الشيء عن حده وجهته فقالوا فتنه فقوله: * (وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك) * أي يزيلونك ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك يعني القرآن، والمعنى عن حكمة وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن، وقوله: * (لتفتري علينا غيره) * أي غير ما أوحينا إليك وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك * (وإذا لاتخذوك خليلا) * أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كونهم وراض بشركهم ثم قال: * (ولولا أن ثبتناك) * أي على الحق بعصمتنا إياك * (لقد كدت تركن إليهم) * أي تميل إليهم شيئا قليلا وقوله: * (شيئا) * عبارة عن المصدر أي ركونا قليلا، قال ابن عباس يريد حيث سكت عن جوابهم. قال قتادة لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " ثم توعده في ذلك أشد التوعد فقال: * (إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) * أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة والضعف عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله فإن الرجل إذا قال لوكيله أعط فلانا شيئا فأعطاه درهما فقال أضعفه كان المعنى ضم إلى ذلك الدرهم مثله إذا عرفت هذا فنقول: إنا حسن إضمار العذاب في قوله: * (ضعف الحياة وضعف الممات) * لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله: * (ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار) * (ص: 61) وقال: * (لكل ضعف ولكن لا تعلمون) * (الأعراف: 38) وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همتك لاستحققت بذلك تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى: * (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) * (الأحزاب: 30) فإن قيل قال عليه السلام: " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو رضي بما قالوه لكان وزره مثل وزر كل أحد من أولئك الكفار وعلى هذا التقدير يكون عقابه زائدا على الضعف قلنا إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب وهو حجة ضعيفة ثم قال تعالى: * (ثم لا تجد لك علينا نصيرا) * يعني إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحدا يخلصك من عذابنا وعقابنا والله أعلم.
المسألة الثالثة: احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم عنهم من وجوه. الأول: أن الآية دلت على أنه عليه السلام قرب من أن يفتري على الله، والفرية على الله من أعظم الذنوب. والثاني: أنها تدل على أنه لولا أن الله تعالى ثبته وعصمه لقرب من أن يركن إلى دينهم ويميل إلى مذهبهم. والثالث: أنه لولا سبق جرم وجناية وإلا فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشديد والجواب عن الأول: أن
21

كاد معناه المقاربة فكان معنى الآية أنه قرب وقوعه في الفتنة، وهذا القدر لا يدل على الوقوع في تلك الفتنة فإنا إذا قلنا كاد الأمير أن يضرب فلانا لا يفهم منه أنه ضربه
، والجواب عن الثاني: أن كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، تقول لولا علي لهلك عمر، معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر، فكذلك ههنا قوله: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم) * معناه أنه حصل تثبيت الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم فكان حصول ذلك التثبيت مانعا من حصول ذلك الركون، والجواب عن الثالث: أن ذلك التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها والدليل عليه آيات منها قوله: * (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين) * (الحاقة: 44 - 46) ومنها قوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) ومنها قوله: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) * (الأحزاب: 48) والله أعلم.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا على صحة قولهم بأنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى بقوله: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * قالوا إنه تعالى بين أنه لولا تثبيت الله تعالى له لمال إلى طريقة الكفار ولا شك أن محمد صلى الله عليه وسلم كان أقوى من غيره في قوة الدين وصفاء اليقين فلما بين الله تعالى أن بقاءه معصوما عن الكفر والضلال لم يحصل إلا بإعانة الله تعالى وإغاثته كان حصول هذا المعنى في حق غيره أولى. قالت المعتزلة: المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة له عن ذلك وهي ما خطر بباله من ذكر وعده ووعيده، ومن ذكر أن كونه نبيا من عند الله تعالى يمنع من ذلك، والجواب: لا شك أن هذا التثبيت عبارة عن فعل فعله الله يمنع الرسول من الوقوع في ذلك العمل المحذور، فنقول: لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك العمل المحذور في حق الرسول لما كان إلى إيجاد هذا المانع حاجة وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أن المقتضى قد حصل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وأن هذا المانع الذي فعله الله منع ذلك المقتضى من العمل وهذا لا يتم إلا إذا قلنا إن القدرة مع الداعي توجب الفعل، فإذا حصلت داعية أخرى معارضة للداعية الأولى اختل المؤثر فامتنع الفعل ونحن لا نريد إلا إثبات هذا المعنى والله أعلم.
المسألة الخامسة: قال القفال رحمه الله: قد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية الوجوه المذكورة، ويمكن أيضا تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه، فتارة كانوا يقولون: إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك، فأنزل الله تعالى: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * (الكافرون: 1، 2) وقوله: * (ودوا لو تدهن فيدهنون) * (القلم: 9) وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فأنزل الله تعالى: * (ولا تمدن عينيك) * (طه: 131) ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) * (الأنعام: 52) فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب
22

وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه وأن يزيلوه عن منهجه، فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم، وعلى هذا الطريق فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيء من تلك الروايات. والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) *
في هذه الآية قولان: الأول: قال قتادة: هم أهل مكة هموا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا، ولكن الله منعهم من اخراجه، حتى أمره الله بالخروج، ثم إنه قل لبثهم بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر وهذا قول مجاهد. والقول الثاني: قال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فقالوا: يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم. فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة قيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت هذه الآية فرجع. فالقول الأول اختيار الزجاج وهو الوجه لأن السورة مكية فإن صح القول الثاني كانت الآية مدنية، والأرض في قوله: * (ليستفزونك من الأرض) * على القول الأول مكة وعلى القول الثاني المدينة وكثر في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله: * (أو ينفوا من الأرض) * (المائدة: 33) يعني من مواضعهم وقوله: * (فلن أبرح الأرض) * (يوسف: 80) يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة، فإن قيل قال الله تعالى: * (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك) * (محمد: 13) يعني مكة والمراد أهلها فذكر أنهم أخرجوه وقال في هذه الآية: * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها) * فكيف (يمكن) الجمع بينهما على قول من قال الأرض في هذه الآية مكة؟ قلنا: إنهم هموا بإخراجه وهو عليه السلام ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله تعالى، فزال التناقض. ثم قال تعالى: * (وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عن عاصم خلفك بفتح الخاء وسكون اللام
23

والباقون خلافك زعم الأخفش أن خلافك في معنى خلفك وروى ذلك يونس عن عيسى وهذا كقوله: * (بمقعدهم خلاف رسول الله) * (التوبة: 81) وقال الشاعر: عفت الديار خلافهم فكأنما * بسط الشواطب بينهن حصير
قال صاحب " الكشاف " قرىء لا يلبثون وفي قراءة أبي لا يلبثوا على إعمال إذن، فإن قيل: ما وجه القراءتين؟ قلنا: أما السابقة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد والفعل في خير كاد واقع موقع الاسم وأما قراءة أبي ففيها الجملة برأسها التي هي قوله: * (إذا لا يلبثون) * عطف على جملة قوله: * (وإن كادوا ليستفزونك) * ثم قال تعالى: * (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا) * يعني أن كل قوم أخرجوا نبيهم من ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم فقوله: * (سنة)
* نصب على المصدر المؤكد أي سننا ذلك سنة فيمن قد أرسلنا قبلك ثم قال: * (ولا تجد لسنتنا تحويلا) * والمعنى أن ما أجرى الله تعالى به العادة لم يتهيأ لأحد أن يقلب تلك العادة وتمام الكلام في هذا الباب أن اختصاص كل حادث بوقته المعين وصفته المعينة ليس أمرا ثابتا له لذاته وإلا لزم أن يدوم أبدا على تلك الحالة وأن لا يتميز الشيء عما يماثله في تلك الصفات بل إنما يحصل ذلك الاختصاص بتخصيص المخصص وذلك التخصيص هو أنه تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقت ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت ثم يتعلق علمه بحصوله في ذلك الوقت ثم نقول هذه الصفات الثلاثة التي هي المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص إن كانت حادثة افتقر حدوثها إلى تخصيص آخر ولزم التسلل وهو محال وإن كانت قديمة فالقديم يمتنع تغيره لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ولما كان التغير على تلك الصفات المؤثرة في ذلك الاختصاص ممتنعا كان التغير في تلك الأشياء المقدرة ممتنعا فثبت بهذا البرهان صحة قوله تعالى: * (ولا تجد لسنتنا تحويلا) *.
قوله تعالى
* (أقم الصلوة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا * ومن اليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا * وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا * وقل جآء الحق وزهق الباطل
24

ان الباطل كان زهوقا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في النظم وجوه. الأول: أنه تعالى لما قرر أمر الإلهيات والمعاد والنبوات أردفها بذكر الأمر بالطاعات بعد الإيمان وأشرف الطاعات بعد الإيمان الصلاة فلهذا السبب أمر بها. الثاني: أنه تعالى لما قال: * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض) * أمره تعالى بالإقبال على عبادته لكي ينصره عليهم فكأنه قيل له لا تبال بسعيهم في إخراجك من بلدتك ولا تلتفت إليهم واشتغل بعبادة الله تعالى وداوم على أداء الصلوات فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرهم عنك ويجعل يدك فوق أيديهم ودينك غالبا على أديانهم ونظيره قوله في سورة طه: * (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) * (طه: 130) وقال: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * (الحجر: 97 - 99) والوجه الثالث: في تقرير النظم أن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء عزم صلى الله عليه وسلم على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد وما النصرة والدولة إلا بتأييده ونصرته فداوم على الصلوات وارجع إلى مقرك ومسكنك وإذا دخلته ورجعت إليه فقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي في هذا البلد سلطانا نصيرا في تقرير دينك وإظهار شرعك والله أعلم. المسألة الثانية: اختلف أهل اللغة والمفسرون في معنى دلوك الشمس على قولين. أحدهما: أن دلوكها غروبها وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة، فنقل الواحدي في البسيط عن علي عليه السلام أنه قال: دلوك الشمس غروبها. وروى زر بن حبيش أن عبد الله بن مسعود قال: دلوك الشمس غروبها، وروى سعيد بن جبير هذا القول عن ابن عباس وهذا القول اختيار الفراء وابن قتيبة من المتأخرين. والقول الثاني: أن دلوك الشمس هو زوالها عن كبد السماء وهو اختيار الأكثرين من الصحابة والتابعين واحتج القائلون بهذا القول على صحته بوجوه. الحجة الأولى: روى الواحدي في البسيط عن جابر أنه قال: " طعم عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا حين دلكت الشمس ". الحجة الثانية: روى صاحب " الكشاف " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر ". الحجة الثالثة: قال أهل اللغة معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة، وقيل لها إذا أفلت دالكة لأنها في الحالتين زائلة. هكذا قاله الأزهري وقال القفال: أصل الدلوك الميل، يقال: مالت الشمس للزوال، ويقال: مالت للغروب، إذا عرفت هذا
25

فنقول: وجب أن يكون المراد من الدلوك ههنا الزوال عن كبد السماء وذلك لأنه تعالى علق إقامة الصلاة بالدلوك، والدلوك عبارة عن الميل والزوال، فوجب أن يقال إنه أول ما حصل الميل والزوال تعلق به هذا الحكم فلما حصل هذا المعنى حال ميلها من كبد السماء وجب أن يتعلق به وجوب الصلاة وذلك يدل على أن المراد من الدلوك في هذه الآية ميلها عن كبد السماء وهذه حجة قوية في هذا الباب استنبطتها بناء على ما اتفق عليه أهل اللغة: أن الدلوك عبارة عن الميل والزوال والله أعلم. الحجة الرابعة: قال الأزهري الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النهار، والمعنى * (أقم الصلاة) * أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل وعلى هذا التقدير فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم قال: * (وقرآن الفجر) * فإذا حملنا الدلوك على الزوال دخلت الصلوات الخمس في هذه الآية، وإن حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات وهي المغرب والعشاء والفجر وحمل كلام الله تعالى على ما يكون أكثر فائدة أولى فوجب أن يكون المراد من الدلوك الزوال، واحتج الفراء على قوله الدلوك هو الغروب بقول الشاعر:
هذا مقام قدمي رباح * وقفت حتى دلكت براح
وبراح اسم الشمس أي حتى غابت، واحتج ابن قتيبة بقول ذي الرمة: مصابيح ليست باللواتي يقودها * نجوم ولا أفلاكهن الدوالك
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لأن عندنا الدلوك عبارة عن الميل والتغير وهذا المعنى حاصل في الغروب فكان الغروب نوعا من أنواع الدلوك فكان وقوع لفظ الدلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزوال كما أن وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس ومنهم من احتج أيضا على صحة هذا القول بأن الدلوك اشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها وهذا إنما يصح في الوقت الذي يمكن النظر إليها ومعلوم أنها عند كونها في وسط السماء لا يمكن النظر إليها، أما عند قربها من الغروب فيمكن النظر إليها (و) عندما ينظر الإنسان إليها في ذلك الوقت يدلك عينيه، فثبت أن لفظ الدلوك مختص بالغروب. والجواب أن الحاجة إلى
ذلك التبيين عند كونها في وسط السماء أتم فهذا الذي ذكرته بأن يدل على أن الدلوك عبارة عن الزوال من وسط السماء أولى والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال الواحدي: اللام في قوله لدلوك الشمس لام الأجل والسبب وذلك لأن الصلاة إنما تجب بزوال الشمس فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس.
المسألة الرابعة: قوله: * (إلى غسق الليل) * غسق الليل سواده وظلمته قال الكسائي: غسق الليل غسوقا، والغسق: الاسم، بفتح السين. وقال النضر بن شميل: غسق الليل دخول أوله، وأتيته حين غسق الليل، أي حين يختلط ويسد المناظر، وأصل هذا الحرف من السيلان يقال: غسقت العين تغسق. وهو هملان العين بالماء، والغاسق السائل، ومن هذا يقال لما يسيل من
26

أهل النار: الغساق، فمعنى غسق الليل أي انصب بظلامه، وذلك أن الظلمة كأنها تنصب على العالم، وأما قول المفسرين، قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما غسق الليل؟ قال أوله حين يدخل. وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق: قال دخول الليل بظلمته، وقال الأزهري: غسق الليل عند غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة واشتدادها، يقال: غسقت العين إذا امتلأت دمعا، وغسقت الجراحة إذا امتلأت دما، قال لأنا لو حملنا الغسق على هذا المعنى دخلت الصلوات الأربع فيه وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولو حملنا الغسق على ظهور أول الظلمة لم يدخل فيه إلا الظهر والمغرب فوجب أن يكون الأول أولى، واعلم أنه يتفرع على هذين القولين بحث شريف فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلاتين وأن يكون أول المغرب وقتا للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقا إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر ولا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزا بعذر السفر وعذر المطر وغيره، أما إن فسرنا الغسق بالظلمة المتراكمة فنقول الظلمة المتراكمة إنما تحصل عند غيبوبة الشفق الأبيض وكلمة إلى لانتهاء الغاية والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعا قبل حصول تلك الغاية فوجب جواز إقامة الصلوات كلها قبل غيبوبة الشفق الأبيض وهذا إنما يصح إذا قلنا إنها تجب عند غيبوبة الشفق الأحمر والله أعلم.
المسألة الخامسة: قوله وقرآن الفجر أجمعوا على أن المراد منه صلاة الصبح وانتصابه بالعطف على الصلاة في قوله أقم الصلاة والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وفيه فوائد. الأولى: أن هذه الآية تدل على أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة. الفائدة الثانية: أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير أقم قرآن الفجر فوجب أن تتعلق القراءة بحصول الفجر وفي أول طلوع الصبح قد حصل الفجر لأن الفجر سمى فجرا لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح وظاهر الأمر للوجوب فمقتضى هذا اللفظ وجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه إلا أنا أجمعنا على أن هذا الوجوب غير حاصل، فوجب أن يبقى الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع من الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تنقل مخالفة الدليل فثبت أن هذه الآية تقتضي أن إقامة الفجر في أول الوقت أفضل وهذا يدل على صحة مذهب الشافعي في أن التغليس أفضل من التنوير والله أعلم. الفائدة الثالثة: أن الفقهاء بينوا أن السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات فالمقصود من قوله وقرآن الفجر الحث على أن تطويل القراءة في هذه الصلاة مطلوب لأن التخصيص بالذكر يدل
27

على كونه أكمل من غيره. الفائدة الرابعة: أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهودا. قال الجمهور: معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة وقبل أن تعرج ملائكة الليل فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت: يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول الله تعالى للملائكة اشهدوا أني قد غفرت لهم. وأقول هذا أيضا دليل قوي في أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار فبهذا الطريق تحضر في هذه الصلاة ملائكة الليل وملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك ما بقيت الظلمة فلم يبق في ذلك الوقت أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فثبت أن قوله تعالى: * (إنه كان مشهودا) * دليل قوي على أن التغليس أفضل وعندي في تفسير قوله تعالى: * (إنه كان مشهودا) * احتمال آخر وذلك لأنه كلما كانت الحوادث الحادثة أعظم وأكمل كان الاستدلال بها على كمال قدرة الله تعالى أكمل فالإنسان إذا شرع في أداء صلاة الصبح من أول هذا الوقت كانت الظلمة القوية باقية في العالم، فإذا امتدت القراءة في أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود. وعلى هذا التقدير فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ثم إنه مع ذلك يشاهد في أثناء صلاته انقلاب كلية هذا العالم من الظلمة إلى الضوء ومن الموت إلى الحياة ومن السكون إلى الحركة ومن العدم إلى الوجود. وهذه الحالة حالة عجيبة تشهد العقول والأرواح بأنه لا يقدر على هذا التقليب والتحويل والتبديل إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية وحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة وينفتح على العقل والروح أبواب المكاشفات الروحانية الإلهية فتصير الصلاة التي هي عبارة عن أعمال الجوارح مشهودا عليها بهذه المكاشفات الإلهية المقدسة ولذلك فكل من له ذوق سليم وطبع مستقيم إذا قام من منامه وأدى صلاة الصبح في أول الوقت واعتبر اختلاف أحوال العالم من الظلمة الحاصلة إلى النور ومن السكون إلى الحركة فإنه يجد في قلبه روحا وراحة ومزيدا في نور المعرفة وقوة اليقين فهذا هو المراد من قوله: * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) * وظهر أن هذا الاعتبار لا يحصل إلا عند أداء صلاة الفجر على سبيل التغليس فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بمراده. وفي الآية احتمال ثالث وهو أن يكون المراد من قوله: * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) * الترغيب في أن تؤدي هذه الصلاة بالجماعة ويكون المعنى كونه مشهودا بالجماعة الكثيرة ومزيد التحقيق
فيه أنا بينا أن تأثير هذه الصلاة في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر الصلوات فإذا حضر جمع من المسلمين في المسجد
28

لأداء هذه العبادة استنار قلب كل واحد منهم ثم بسبب ذلك الاجتماع كأنه ينعكس نور معرفة الله تعالى ونور طاعته في ذلك الوقت من قلب كل واحد إلى قلب الآخر فتصير أرواحهم كالمرايا المشرقة المتقابلة إذا وقعت عليها أنوار الشمس فإنه ينعكس النور من كل واحدة من تلك المرايا إلى الأخرى فكذا في هذه الصورة ولهذا السبب فإن كل من له ذوق سليم وأدى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من قلبه فسحة ونورا وراحة. الفائدة الخامسة: قوله: * (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) * يحتمل أن يكون السبب في كونه مشهودا هو أن الإنسان لما نام طول الليل فصار كالغافل في هذه المدة عن مراقبة أحوال الدنيا فزالت صورة الحوادث الجسمانية عن لوح خياله وفكره وعقله وصارت هذه الألواح كألواح سطرت فيها نقوش فاسدة ثم غسلت وأزيلت تلك النقوش عنها، ففي أول وقت القيام من المنام صارت ألواح عقله وفكره وخياله مطهرة عن النقوش الفاسدة الباطلة. فإذا تسارع الإنسان في ذلك الوقت إلى عبادة الله تعالى وقراءة الكلمات الدالة على تنزيهه والإقدام على الأفعال الدالة على تعظيم الله تعالى انتقش في لوح عقله وفكره وخياله هذه النقوش الطاهرة المقدسة، ثم إن حصول هذه النقوش يمنع من استحكام النقوش الفاسدة، وهي النقوش المتولدة من الميل إلى الدنيا وشهواتها فبهذا الطريق يترشح الميل إلى معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته ويضعف الميل إلى الدنيا وشهواتها. إذا عرفت هذا فنقول هذه الحكمة إنما تحصل إذا شرع الإنسان في الصلاة من أول قيامه من النوم عند التغليس. وذلك يدل على المقصود واعلم أن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى والأنبياء كالأطباء الحاذقين والمريض ربما قد قوي مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلا فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر، إلا أن الطبيب إذا كان مشفقا حاذقا فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه فإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وتخفيفه. إذا عرفت هذا فنقول: مرض حب الدنيا مستول على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس، وقل من يقبله وينقاد له. لا جرم (أن) الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض وحمل الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم مما ينفع في إزالة هذا المرض من الوجه الذي قررناه فوجب أن يكون مشروعا والله أعلم بأسرار كلامه.
أما قوله تعالى: * (ومن الليل فتجهد به نافلة لك) * فاعلم أنه تعالى لما أمر بالصلوات الخمس على سبيل الرمز والإشارة أردفه بالحث على صلاة الليل وفيه مباحث:
البحث الأول: التهجد عبارة عن صلاة الليل فقوله فتهجد به أي بالقرآن كما قال: * (قم الليل إلا قليلا) * (المزمل: 2) إلى قوله: * (ورتل القرآن ترتيلا) * (المزمل: 4).
البحث الثاني: قال الواحدي الهجود في اللغة النوم وهو معروف كثير في الشعر يقال:
29

أهجدته وهجدته أي أنمته ومنه قول لبيد: هجدنا فقد طال السرى
كأنه قال: نومنا فإن السرى قد طال علينا حتى غلبنا النوم وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة الهاجد النائم والهاجد المصلي بالليل وروى ثعلب عن ابن الأعرابي مثل هذا القول كأنه قال هجد الرجل إذا صلى من الليل وهجد إذا نام بالليل فعند هؤلاء هذا اللفظ من الأضداد وأما الأزهري فإنه توسط في تفسير هذا اللفظ وقال المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم ثم رأينا أن في الشرع يقال لمن قام من النوم إلى الصلاة إنه متهجد فوجب أن يحمل هذا على أنه سمي متهجدا لالقائه الهجود عن نفسه كما قيل للعابد متحنث لإلقائه الحنث عن نفسه وهو الإثم. ويقال فلان رجل متحرج ومتأثم ومتحوب أي يلقي الحرج والإثم والحوب عن نفسه. وأقول فيه احتمال آخر وهو أن الإنسان إنما يترك لذة النوم ويتحمل مشقة القيام إلى الصلاة ليطيب رقاده وهجوده عند الموت فلما كان غرضه من ترك هذا الهجود أن يصل إلى الهجود اللذيذ عند الموت كان هذا القيام طلبا لذلك الهجود فسمي تهجدا لهذا السبب. وفيه وجه ثالث: وهو ما روي أن الحجاج بن عمرو المازني قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا عرفت هذا فنقول كلما صلى الإنسان طلب هجودا ورقادا فلا يبعد أنه سمي تهجدا لهذا السبب.
البحث الثالث: قوله: * (من) * في قوله: * (ومن الليل) * لا بد له من متعلق والفاء في قوله: * (فتهجد) * لا بد له من معطوف عليه والتقدير قم من الليل أي في بعض الليل فتهجد به وقوله: * (به) * أي بالقرآن والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن.
البحث الرابع: معنى النافلة في اللغة ما كان زيادة على الأصل ذكرناه في قوله تعالى: * (يسألونك عن الأنفال) * (الأنفال: 1) ومعناها أيضا في هذه الآية الزيادة وفي تفسير كونها زيادة قولان مبنيان على أن صلاة الليل هل كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا فمن الناس من قال إنها كانت واجبة عليه ثم نسخت فصارت نافلة، أي تطوعا وزيادة على الفرائض، وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها (نافلة) وجها حسنا قالا إنه تعالى غفر للنبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة فإنه لا يكون تأثيرها في كفارة الذنوب البتة بل يكون تأثيرها في زيادة الدرجات وكثرة الثواب وكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب فلهذا سميت نافلة بخلاف الأمة، فإن لهم ذنوبا محتاجة إلى الكفارات فهذه الطاعة محتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات فثبت أن هذه الطاعات إنما تكون زوائد ونوافل في حق النبي صلى الله عليه وسلم لا في حق غيره فلهذا السبب قال: * (نافلة لك) * يعني أنها زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك وتقريره ما ذكرناه. وأما الذين قالوا: إن صلاة الليل كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا معنى كونها نافلة له على التخصيص أنها فريضة عليك زائدة على الصلوات الخمس خصصت بها من بين أمتك ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله فتهجد
30

أمر وصيغة الأمر للوجوب فوجب كون هذا التهجد واجبا فلو حملنا قوله نافلة لك على عدم الوجوب لزم التعارض وهو خلاف الأصل فوجب أن يكون معنى كونها نافلة
له ما ذكرناه من كون وجوبها زائدا على وجوب الصلوات الخمس والله أعلم.
البحث الخامس: قوله: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر) * وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصا بالرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه في المعنى عام في حق الأمة والدليل عليه أنه قال ومن الليل فتهجد به نافلة لك فبين أن الأمر بالتهجد مخصوص بالرسول وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة الخمس غير مخصوص بالرسول عليه السلام وإلا لم يكن لتقييد الأمر بالتهجد بهذا القيد فائدة أصلا والله أعلم. ثم قال تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * اتفق المفسرون على أن كلمة عسى من الله واجب قال أهل المعاني لأن لفظة عسى تفيد الأطماع ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه كان عارا والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدا في شيء ثم لا يعطيه ذلك. وقوله: * (مقاما محمودا) * فيه بحثان:
البحث الأول: في انتصاب قوله محمودا وجهان. الأول: أن يكون انتصابه على الحال من قوله يبعثك أي يبعثك محمودا. والثاني: أن يكون نعتا للمقام وهو ظاهر. البحث الثاني: في تفسير المقام المحمود أقوال. الأول: أنه الشفاعة قال الواحدي أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية " هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي " وأقول اللفظ مشعر به وذلك لأن الإنسان إنما يصير محمودا إذا حمده حامد والحمد إنما يكون على الانعام فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاما أنعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليم الشرع لأن ذلك كان حاصلا في الحال وقوله: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * تطميع وتطميع الإنسان في الشيء الذي وعده في الحال محال فوجب أن يكون ذلك الانعام الذي لأجله يصير محمودا إنعاما سيصل منه حصل له بعد ذلك إلى الناس وما ذاك إلا شفاعته عند الله فدل هذا على أن لفظ الآية وهو قوله: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * يدل على هذا المعنى وأيضا التنكير في قوله مقاما محمودا يدل على أنه يحصل للنبي عليه السلام في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل ومن المعلم أن حمد الإنسان على سعيه في التخليص عن العقاب أعظم من حمده في السعي في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها لأن احتياج الإنسان إلى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارا قويا ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى وجب حل اللفظ عليه ومما يؤكد هذا الوجه الدعاء المشهور وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون
31

واتفق الناس على أن المراد منه الشفاعة. والقول الثاني: قال حذيفة، يجمع الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول " لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت " فهذا هو المراد من قوله: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * وأقول القول الأول أولى لأن سعيه في الشفاعة يفيده إقدام الناس على حمده فيصير محمودا وأما ذكر هذا الدعاء فلا يفيد إلا الثواب أما الحمد فلا فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يحمده على هذا القول قلنا لأن الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الأنعام فقط فإن ورد لفظ الحمد في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز. القول الثالث: المراد مقام تحمد عاقبته وهذا أيضا ضعيف للوجه الذي ذكرناه في القول الثاني. القول الرابع: قال الواحدي روى عن ابن مسعود أنه قال: " يقعد الله محمدا على العرش " وعن مجاهد أنه قال يجلسه معه على العرش، ثم قال الواحدي وهذا قول رذل موحش فظيع ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه. الأول: أن البعث ضد الإجلاس يقال بعثت النازل والقاعد فانبعث ويقال بعث الله الميت أي أقامه من قبره فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد. والثاني: أنه تعالى قال مقاما محمودا ولم يقل مقعدا والمقام موضع القيام لا موضع القعود. والثالث: لو كان تعالى جالسا على العرش بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدودا متناهيا ومن كان كذلك فهو محدث. والرابع: يقال إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون في كل أهل الجنة إنهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا فيها في الدنيا وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين لم يكن لتخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بها مزيد شرف ورتبة. والخامس: أنه إذا قيل السلطان بعث فلانا فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه فثبت أن هذا القول كلام رذل ساقط لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين والله أعلم ثم قال تعالى: * (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) * وفيه مباحث:
البحث الأول: أنا ذكرنا في تفسير قوله: * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض) * (الإسراء: 76) قولين: أحدهما: المراد منه سعي كفار مكة في إخراجه منها. والثاني: المراد منه أن اليهود قالوا له الأولى لك أن تخرج من المدينة إلى الشام ثم إنه تعالى قال له: * (أقم الصلاة) * واشتغل بعبادة الله تعالى ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهال فإنه تعالى ناصرك ومعينك ثم عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة فإن فسرنا تلك الآية أن المراد منها أن كفار مكة أرادوا إخراجه من مكة كان معنى هذه الآية أنه تعالى أمره بالهجرة إلى المدينة وقال له: * (وقل رب أدخلني مدخل صدق) * - وهو المدينة - * (وأخرجني مخرج صدق) * - وهو مكة. وهذا قول الحسن وقتادة وإن فسرنا تلك الآية بأن المراد منها أن اليهود
32

حملوه على الخروج من المدينة والذهاب إلى الشام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثم أمره الله بأن يرجع إليها كان المراد أنه عليه الصلاة والسلام عند العود إلى المدينة قال: * (رب أدخلني مدخل صدق) * وهو المدينة - * (وأخرجني مخرج صدق) * يعني أخرجني منها إلى مكة مخرج صدق أي افتحها لي. والقول الثاني: في تفسير هذه الآية وهو أكمل مما سبق أن المراد * (وقل رب أدخلني) * - في الصلاة - * (وأخرجني) * منها مع الصدق والإخلاص وحضور ذكرك والقيام بلوازم شكرك. والقول الثالث: وهو أكمل مما سبق أن المراد: * (وقل رب أدخلني - في القيام بمهمات أداء دينك وشريعتك - وأخرجني) * منها بعد الفراغ
منها إخراجا لا يبقى علي منها تبعة ربقية. والقول الرابع: وهو أعلى مما سبق: * (وقل رب أدخلني) * في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك وقدسك ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد المنزه عن التكثيرات والتغيرات. والقول الخامس: أدخلني في كل ما تدخلني فيه مع الصدق في عبوديتك والاستغراق بمعرفتك وأخرجني عن كل ما تخرجني عنه مع الصدق في العبودية والمعرفة والمحبة والمقصود منه أن يكون صدق العبودية حاصلا في كل دخول وخروج وحركة وسكون. والقول السادس: أدخلني القبر مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق.
البحث الثاني: مدخل بضم الميم مصدر كالإدخال يقال أدخلته مدخلا كما قال: * (وقل رب أنزلني منزلا مباركا) * (المؤمنون: 29) ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما كأنه سأل الله تعالى إدخالا حسنا وإخراجا حسنا لا يرى فيهما ما يكره ثم قال تعالى: * (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) * (الإسراء: 80) أي حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني. وبالجملة فقد سأل الله تعالى أن يرزقه التقوية على من خالفه بالحجة وبالقهر والقدرة، وقد أجاب الله تعالى دعاءه وأعلمه بأنه يعصمه من الناس فقال: * (والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 67) وقال: * (ألا إن حزب الله هم المفلحون) * (المجادلة: 22) وقال: * (ليظهره على الدين كله) * (التوبة: 33) ولما سأل الله النصرة بين الله له أنه أجاب دعاءه فقال: * (وقل جاء الحق) * وهو دينه وشرعه - * (وزهق الباطل) * وهو كل ما سواه من الأديان والشرائع، وزهق بطل واضمحل، وأصله من زهقت نفسه تزهق أي هلكت، وعن ابن مسعود: " أنه دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل فجعل الصنم ينكب على وجهه ". وقوله: * (إن الباطل كان زهوقا) * يعني أن الباطل وإن اتفقت له دولة وصولة إلا أنها الا تبقى بل تزول على أسرع الوجوه والله أعلم.
قوله تعالى
* (وننزل من القرءان ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا
33

خسارا * وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا * قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) *
اعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الإلهيات والنبوات والحشر والمعاد والبعث وإثبات القضاء والقدر ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ونبه على ما فيها من الأسرار، وإنما ذكر كل ذلك في القرآن أتبعه ببيان كون القرآن شفاء ورحمة فقال: * (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة) * ولفظة من ها هنا ليست للتبعيض بل هي للجنس كقوله: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) * (الحج: 30) والمعنى وننزل من هذا الجنس الذي هو قرآن ما هو شفاء. فجميع القرآن شفاء للمؤمنين، واعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية، وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية، أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر، وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان: الاعتقادات الباطلة والأخلاق المذمومة، أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فسادا الاعتقادات الفاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر والقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة فيها، ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ في هذه المطالب والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب الباطنة لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني. وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة والأعمال المحمودة فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية، وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض. ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقي المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد، فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم المشتمل على ذكر الله وكبريائه وتعظيم الملائكة المقربين وتحقير المردة والشياطين سببا لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى ويتأكد ما ذكرنا بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى " وأما كونه رحمة للمؤمنين فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مريضة بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة والقرآن قسمان بعضهما يفيد
34

الخلاص عن شبهات الضالين وتمويهات المبطلين وهو الشفاء. وبعضهما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية، والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين وهو الرحمة، ولما كان إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة لا جرم بدأ الله تعالى في هذه الآية بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة، واعلم أنه تعالى لما بين كون القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين بين كونه سببا للخسار والضلال في حق الظالمين والمراد به المشركون وإنما كان كذلك لأن سماع القرآن يزيدهم غيظا وغضبا وحقدا وحسدا وهذه الأخلاق الذميمة تدعوهم إلى الأعمال الباطلة وتزيد في تقوية تلك الأخلاق الفاسدة في جواهر نفوسهم ثم لا يزال الخلق الخبيث النفساني يحمل على الأعمال الفاسدة والإتيان بتلك الأعمال يقوي تلك الأخلاق فبهذا الطريق يصير القرآن سببا لتزايد هؤلاء المشركين الضالين في درجات الخزي والضلال والفساد والنكال ثم إنه تعالى ذكر السبب الأصلي في وقوع هؤلاء الجاهلين الضالين في أودية الضلال ومقامات الخزي والنكال وهو حب الدنيا والرغبة في المال والجاه واعتقادهم أن ذلك إنما يحصل بسبب جدهم واجتهادهم فقال: * (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه) * وفيه مباحث:
الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة وهذا بعيد، بل المراد أن نوع الإنسان من شأنه أنه إذا فاز بمقصوده ووصل إلى مطلوبه اغتر وصار غافلا عن عبودية الله تعالى متمردا عن طاعة الله كما قال: * (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) * (العلق: 6، 7).
البحث الثاني: قوله أعرض أي ولى ظهره أي عرضه إلى ناحية ونأى بجانبه أي تباعد، ومعنى النأي في اللغة البعد والإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره وأراد الاستكبار لأن ذلك عادة المتكبرين وفي قوله نأى قراءات. إحداها: وهي قراءة العامة بفتح النون والهمزة وفي حم السجدة مثله وهي اللغة الغالبة والنأي البعد يقال نأي أي بعد. وثانيها: قراءة ابن عامر ناء وله وجهان تقديم اللام على العين كقولهم راء في رأى ويجوز أن يكون من
نأى بمعنى نهض. وثالثها: قراءة حمزة والكسائي بإمالة الفتحتين وذلك لأنهم أمالوا الهمزة من نأى ثم كسروا النون إتباعا للكسرة مثل رأى. ورابعها: قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ونصير عن الكسائي وحمزة نأى بفتح النون وكسر الهمزة على الأصل في فتح النون وإمالة الهمزة. ثم قال تعالى: * (وإذا مسه الشر كان يؤوسا) * أي إذا مسه فقر أو مرض أو نازلة من النوازل كان يؤوسا شديد اليأس من رحمة الله: * (ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) * (يوسف: 87) والحاصل أنه إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها فنسي ذكر الله، وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله تعالى فهذا المسكين محروم أبدا عن ذكر الله ونظيره قوله تعالى: * (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن) * (الفجر: 15)
35

إلى قوله: * (ربي أهانن) * (الفجر: 16) وكذلك قوله: * (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا) * (المعارج: 19 - 20 - 21) ثم قال تعالى: * (قل كل يعمل على شاكلته) * قال الزجاج: الشاكلة الطريقة والمذهب. والدليل عليه أنه يقال هذا طريق ذو شواكل أي يتشعب منه طرق كثيرة ثم الذي يقوي عندي أن المراد من الآية ذلك قوله تعالى: * (فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) * وفيه وجه آخر وهو أن المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسه نفسا مشرقة خيرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة وإن كانت نفسه نفسا كدرة نذلة خبيثة مضلة ظلمانية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة، وأقول: العقلاء اختلفوا في أن النفوس الناطقة البشرية هل هي مختلفة بالماهية أم لا؟ منهم من قال: إنها مختلفة بالماهية وإن اختلاف أفعالها وأحوالها لأجل اختلاف جواهرها وماهياتها، ومنهم من قال إنها متساوية في الماهية واختلاف أفعالها لأجل اختلاف أمزجتها. والمختار عندي هو القسم الأول والقرآن مشعر بذلك، وذلك لأنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة إلى البعض يفيد الشفاء والرحمة وبالنسبة إلى أقوام آخرين يفيد الخسارة والخزي ثم أتبعه بقوله: * (قل كل يعمل على شاكلته) * ومعناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء والكمال، وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه. وهذا الكلام إنما يتم المقصود منه إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة بماهياتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال على ضلال ونكال على نكال.
قوله تعالى
* (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا) *
اعلم أنه تعالى لما ختم الآية المتقدمة بقوله: * (كل يعمل على شاكلته) * وذكرنا أن المراد منه مشاكلة الأرواح للأفعال الصادرة عنها وجب البحث ها هنا عن ماهية الروح وحقيقته فلذلك سألوا عن الروح وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: للمفسرين في الروح المذكورة في هذه الآية أقوال أظهرها أن المراد منه الروح الذي هو سبب الحياة، روى أن اليهود قالوا لقريش اسألوا محمدا عن ثلاث فإن أخبركم باثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي: اسألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الثلاثة فقال عليه السلام: غدا أخبركم ولم يقل إن شاء
36

الله فانقطع عنه الوحي أربعين يوما ثم نزل الوحي بعده: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله) * (الكهف: 23، 24) ثم فسر لهم قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وأبهم قصة الروح ونزل فيه قوله تعالى: * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * وبين أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة حقيقة الروح فقال: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه. أولها: أن الروح ليس أعظم شأنا ولا أعلى مكانا من الله تعالى فإذا كانت معرفة الله تعالى ممكنة بل حاصلة فأي مانع يمنع من معرفة الروح. وثانيها: أن اليهود قالوا: إن أجاب عن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ولم يجب عن الروح فهو نبي وهذا كلام بعيد عن العقل لأن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ليست إلا حكاية من الحكايات وذكر الحكاية يمتنع أن يكون دليلا على النبوة وأيضا فالحكاية التي يذكرها إما أن تعتبر قبل العلم بنبوته أو بعد العلم بنبوته فإن كان قبل العلم بنبوته كذبوه فيها وإن كان بعد العلم بنبوته فحينئذ صارت نبوته معلومة قبل ذلك فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية. وأما عدم الجواب عن حقيقة الروح فهذا يبعد جعله دليلا على صحة النبوة. وثالثها: أن مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة وأراذل المتكلمين فلو قال الرسول صلى الله عليه وسلم إني لا أعرفها لأورث ذلك ما يوجب التحقير والتنفير فإن الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أي إنسان كان فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماء وأفضل الفضلاء. ورابعها: أنه تعالى قال في حقه: * (الرحمن * علم القرآن) * (الرحمن: 1، 2) * (وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيما) * (النساء: 113) وقال: * (وقل رب زدني علما) * (طه: 114) وقال في صفة القرآن: * (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) * (الأنعام: 59)، وكان عليه السلام يقول: " أرنا الأشياء كما هي " فمن كان هذا حاله وصفته كيف يليق به أن يقول أنا لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة بين جمهور الخلق بل المختار عندنا أنهم سألوه عن الروح وأنه صلى الله عليه وسلم أجاب عنه على أحسن الوجوه وتقريره أن المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة. أحدها: أن يقال ماهية الروح أهو متحيز أو حال في المتحيز أو موجود غير متحيز ولا حال في التحيز. وثانيها؛ أن يقال الروح قديمة أو حادثة. وثالثها: أن يقال الأرواح هل تبقى بعد موت الأجسام أو تفنى. ورابعها: أن يقال ما حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة، وقوله: * (يسألونك عن الروح) * ليس فيه ما يدل على أنهم عن هذه المسائل سألوا أو عن غيرها إلا أنه تعالى ذكر له في الجواب عن هذا السؤال قوله: * (قل الروح من أمر ربي) * وهذا الجواب لا يليق إلا بمسألتين من المسائل التي ذكرناها إحداهما السؤال عن ماهية الروح والثانية عن قدمها وحدوثها. أما البحث الأول: فهم قالوا ما حقيقة الروح وماهيته؟ أهو عبارة عن أجسام موجودة في داخل هذا البدن متولدة من امتزاج الطبائع
والأخلاط، أو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب أو هو عبارة عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام، أو هو عبارة عن موجود يغاير هذه
37

الأجسام والأعراض؟ فأجاب الله عنه بأنه موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض وذلك لأن هذه الأجسام أشياء تحدث من امتزاج الأخلاط والعناصر، وأما الروح فإنه ليس كذلك بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث قوله: * (كن فيكون) * (آل عمران: 47) فقالوا لم كان شيئا مغايرا لهذه الأجسام ولهذه الأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود يحدث بأمر الله وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة لهذا الجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء وماهياتها مجهولة. فأنا نعلم أن السكنجبين له خاصية تقتضي قطع الصفراء فأما إذا أردنا أن نعرف ماهية تلك الخاصية وحقيقتها المخصوصة فذاك غير معلوم فثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها فكذلك ها هنا وهذا هو المراد من قوله: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسراء: 85). وأما المبحث الثاني: فهو أن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال تعالى: * (وما أمر فرعون برشيد) * (هود: 97) وقال: * (فلما جاء أمرنا) * (هود: 66) أي فعلنا فقوله: * (قل الروح من أمر ربي) * أي من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أن الروح قديمة أو حادثة فقال بل هي حادثة وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده ثم احتج على حدوث الروح بقوله: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * يعني أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها العلوم والمعارف فهي لا تزال تكون في التغيير من حال إلى حال وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغيير والتبديل من أمارات الحدوث فقوله: * (قل الروح من أمر ربي) * يدل على أنهم سألوه أن الروح هل هي حادثة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله وتكوينه وهو المراد من قوله: * (قل الروح من أمر ربي) * ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال وهو المراد من قوله: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم.
المسألة الثانية: في ذكر سائر الأقوال المقولة في نفس الروح المذكورة في هذه الآية. اعلم أن الناس ذكروا أقوالا أخرى سوى ما تقدم ذكره، فالقول الأول: أن المراد من هذا الروح هو القرآن قالوا وذلك لأن الله تعالى سمى القرآن في كثير من الآيات روحا واللائق بالروح المسؤول عنه في هذا الموضع ليس إلا القرآن فلا بد من تقرير مقامين. المقام الأول: تسمية الله القرآن بالروح يدل عليه قوله تعالى: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * (الشورى: 52) وقوله: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النحل: 2) وأيضا السبب في تسمية القرآن بالروح أن بالقرآن تحصل حياة الأرواح والعقول لأن به تحصل معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته ومعرفة كتبه ورسله والأرواح إنما تحيا بهذه المعارف وتمام تقرير هذا الموضع ذكرناه في تفسير قوله: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النحل: 2)، وأما بيان المقام الثاني وهو أن الروح اللائق بهذا الموضع هو القرآن لأنه تقدمه قوله: * (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) * (الإسراء: 82) والذي تأخر عنه قوله: * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) * (الإسراء: 86) إلى قوله: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على
38

أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (الإسراء: 88) فلما كان قبل هذه الآية في وصف القرآن وما بعدها كذلك وجب أيضا أن يكون المراد من هذا الروح القرآن حتى تكون آيات القرآن كلها متناسبة متناسقة وذلك لأن القوم استعظموا أمر القرآن فسألوا أنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله فقال: * (قل الروح من أمر ربي) * أي القرآن ظهر بأمر ربي وليس من جنس كلام البشر. والقول الثاني: أن الروح المسؤول عنه في هذه الآية ملك من ملائكة السماوات وهو أعظمهم قدرا وقوة وهو المراد من قوله تعالى: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) * (النبأ: 38) ونقلوا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: هو ملك له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة قالوا ولم يخلق الله تعالى خلقا أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن يبتلع السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهن بلقمة واحدة لفعل، ولقائل أن يقول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه. الأول: أن هذا التفصيل لما عرفه علي، فالنبي أولى أن يكون قد عرفه فلم لم يخبرهم به، وأيضا أن عليا ما كان ينزل عليه الوحي، فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي صلى الله عليه وسلم فلم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الشرح والبيان لعلي ولم يذكره لغيره. الثاني: أن ذلك الملك إن كان حيوانا واحدا وعاقلا واحدا لم يكن في تكثير تلك اللغات فائدة وإن كان المتكلم بكل واحدة من تلك اللغات حيوانا آخر لم يكن ذلك ملكا واحدا بل يكون ذلك مجموع ملائكة. والثالث: أن هذا شيء مجهول الوجود فكيف يسأل عنه، أما الروح الذي هو سبب الحياة فهو شيء تتوفر دواعي العقلاء على معرفته فصرف هذا السؤال إليه أولى. والقول الرابع: وهو قول الحسن وقتادة أن هذا الروح جبريل والدليل عليه أنه تعالى سمى جبريل بالروح في قوله: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 193، 194) وفي قوله: * (فأرسلنا إليها روحنا) * (مريم: 17) ويؤكد هذا أنه تعالى قال: * (قل الروح من أمر ربي) * (في جبريل) وقال (حكاية عن) جبريل: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * (مريم: 64) فسألوا الرسول كيف جبريل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي إليه. والقول الخامس: قال مجاهد: الروح خلق ليسوا من الملائكة على صورة بني آدم يأكلون ولهم أيد وأرجل ورؤوس وقال أبو صالح يشبهون الناس وليسوا بالناس ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئا يمكن التمسك به في إثبات هذا القول وأيضا فهذا شيء مجهول فيبعد صرف هذا السؤال إليه فحاصل ما ذكرناه في تفسير الروح المذكور في هذه الآية هذه الأقوال الخمسة والله أعلم بالصواب.
المسألة الثالثة: في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان، اعلم أن العلم الضروري حاصل بأن ها هنا شيئا إليه يشير الإنسان بقوله أنا وإذا قال الإنسان علمت وفهمت وأبصرت
39

وسمعت وذقت وشممت ولمست وغضبت فالمشار إليه لكل أحد بقوله أنا إما أن يكون جسما أو عرضا أو مجموع الجسم والعرض أو شيئا مغايرا للجسم والعرض أو من
ذلك الشيء الثالث فهذا ضبط معقول. أما القسم الأول: وهو أن يقال إن الإنسان جسم فذلك الجسم إما أن يكون هو هذه البنية أو جسما داخلا في هذه البنية أو جسما خارجا عنها، أما القائلون بأن الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة وعن هذا الجسم المحسوس فهم جمهور المتكلمين وهؤلاء يقولون الإنسان لا يحتاج تعريفه إلى ذكر حد أو رسم بل الواجب أن يقال الإنسان هو الجسم المبني بهذه البنية المحسوسة واعلم أن هذا القول عندنا باطل وتقريره أنهم قالوا: الإنسان هو هذا الجسم المحسوس، فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وأبطلنا كون الإنسان محسوسا فقد بطل كلامهم بالكلية والذي يدل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارة (عن) هذا الجسم وجوه. الحجة الأولى: أن العلم البديهي حاصل بأن أجزاء هذه الجثة متبدلة بالزيادة والنقصان تارة بحسب النمو والذبول وتارة بحسب السمن والهزال والعلم الضروري حاصل بأن المتبدل المتغير مغاير للثابت الباقي ويحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاثة العلم القطعي بأن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه الجثة. الحجة الثانية: أن الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجه الهمة نحو أمر معين مخصوص فإنه في تلك الحالة غير غافل عن نفسه المعينة بدليل أنه في تلك الحالة قد يقول غضبت واشتهيت وسمعت كلامك وأبصرت وجهك، وتاء الضمير كناية عن نفسه فهو في تلك الحالة عالم بنفسه المخصوصة وغافل عن جملة بدنه وعن كل واحد من أعضائه وأبعاضه و (يكون) المعلوم غير معلوم، فالإنسان يجب أن يكون مغايرا لجملة هذا البدن ولكل واحد من أعضائه وأبعاضه. الحجة الثالثة: أن كل أحد يحكم عقله بإضافة كل واحد من هذه الأعضاء إلى نفسه فيقول رأسي وعيني ويدي ورجلي ولساني وقلبي والمضاف غير المضاف إليه فوجب أن يكون الشيء الذي هو الإنسان مغايرا لجملة هذا البدن ولكل واحد من هذه الأعضاء. فإن قالوا: قد يقول نفسي وذاتي فيضيف النفس والذات إلى نفسه فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه وهو محال قلنا قد يراد به هذا البدن المخصوص وقد يراد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا فإذا قال نفسي وذاتي فإن كان المراد البدن فعندنا أنه مغاير لجوهر الإنسان، أما إذا أريد بالنفس والذات المخصوصة المشار إليها بقوله: أنا فلا نسلم أن الإنسان يمكنه أن يضيف ذلك الشيء إلى نفسه بقوله إنساني وذلك لأن عين الإنسان ذاته فكيف يضيفه مرة أخرى إلى ذاته. الحجة الرابعة؛ أن كل دليل على أن الإنسان يمتنع أن يكون جسما فهو أيضا يدل على أنه يمتنع أن يكون عبارة عن هذا الجسم وسيأتي تقرير تلك الدلائل. الحجة الخامسة: أن الإنسان قد يكون حيا حال ما يكون البدن ميتا فوجب كون
40

الإنسان مغايرا لهذا البدن والدليل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 169) فهذا النص صريح في أن أولئك المقتولين أحياء والحس يدل على أن هذا الجسد ميت.
الحجة السادسة: أن قوله تعالى: * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) * (غافر: 46) وقوله: * (أغرقوا فأدخلوا نارا) * (نوح: 25) يدل على أن الإنسان يحيا بعد الموت وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار " وكذلك قوله عليه السلام " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " من مات فقد قامت قيامته " كل هذه النصوص تدل على أن الإنسان يبقى بعد موت الجسد، وبديهة العقل والفطرة شاهدان بأن هذا الجسد ميت. ولو جوزنا كونه حيا جاز مثله في جميع الجمادات، وذلك عين السفسطة. وإذا ثبت أن الإنسان شيء وكان الجسد ميتا لزم أن الإنسان شيء غير هذا الجسد.
الحجة السابعة: قوله عليه السلام في خطبة طويلة له " حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش، ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال من حله وغير حله فالغنى لغيري والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي " وجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن حال ما يكون الجسد محمولا على النعش بقي هناك شيء ينادي ويقول يا أهلي ويا ولدي جمعت المال من حله وغير حله ومعلوم أن الذي كان الأهل أهلا له وكان جامعا للمال من الحرام والحلال والذي بقي في رقبته الوبال ليس إلا ذلك الإنسان فهذا تصريح بأن في الوقت الذي كان فيه الجسد ميتا محمولا كان ذلك الإنسان حيا باقيا فاهما وذلك تصريح بأن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ولهذا الهيكل.
الحجة الثامنة: قوله تعالى: * (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية) * (الفجر: 27، 28) والخطاب بقوله ارجعي إنما هو متوجه عليها حال الموت فدل هذا على أن الشيء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد يكون حيا راضيا عن الله ويكون راضيا عنه الله والذي يكون راضيا ليس إلا الإنسان فهذا يدل على أن الإنسان بقي حيا بعد موت الجسد والحي غير الميت فالإنسان مغاير لهذا الجسد.
الحجة التاسعة: قوله تعالى: * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) * (الأنعام: 61، 62) أثبت كونهم مردودين إلى الله الذي هو مولاهم حال كون الجسد ميتا فوجب أن يكون ذلك المردود إلى الله مغايرا لذلك الجسد الميت.
الحجة العاشرة: نرى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم، ولولا أنهم بعد موت الجسد بقوا
41

أحياء لكان التصدق عنهم عبثا، والدعاء لهم عبثا، ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثا، فالاطباق على هذه الصدقة وعلى هذا الدعاء وعلى هذه الزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شيء غير هذا الجسد وأن ذلك الشيء لا يموت، بل (الذي) يموت هذا الجسد.
الحجة الحادية عشرة: أن كثيرا من الناس يرى أباه أو ابنه بعد موته في المنام ويقول له اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهبا دفنته لك وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه ثم عند اليقظة إذا فتش كان كما رآه في النوم من غير تفاوت، ولولا أن الإنسان يبقى بعد الموت لما كان كذلك، ولما دل هذا الدليل على أن الإنسان يبقى بعد الموت ودل الحس على أن الجسد ميت كان الإنسان مغايرا لهذا الجسد الميت.
الحجة الثانية عشرة: أن الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه أو رجلاه أو تقلع عيناه أو تقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإن ذلك الإنسان يجد من قلبه وعقله أنه هو عين ذلك الإنسان ولم يقع في عين ذلك الإنسان تفاوت حتى أنه يقول أنا ذلك الإنسان الذي كنت موجودا قبل ذلك إلا أنه يقول إنهم قطعوا يدي ورجلي، وذلك برهان يقيني على أن ذلك الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وذلك يبطل قول من يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة.
الحجة الثالثة عشرة: أن القرآن والأحاديث يدلان على أن جماعة من اليهود قد مسخهم الله وجعلهم في صورة القردة والخنازير فنقول: إن ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أو لم يبق؟ فإن لم يبق كان هذا إماتة لذلك الإنسان وخلقا لذلك الخنزير وليس هذا من المسخ في شيء. وإن قلنا إن ذلك الإنسان بقي حال حصول ذلك المسخ فنقول على ذلك التقدير: ذلك الإنسان باق وتلك البنية وذلك الهيكل غير باق، فوجب أن يكون ذلك الإنسان شيئا مغايرا لتلك البنية.
الحجة الرابعة عشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى جبريل عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي وكان يرى إبليس في صورة الشيخ النجدي فها هنا بنية الإنسان وهيكله وشكله حاصل مع أن حقيقة الإنسان غير حاصلة وهذا يدل على أن الإنسان ليس عبارة عن هذه البنية، وهذا الهيكل. والفرق بين هذه الحجة والتي قبلها أنه حصلت صورة هذه البنية مع عدم هذه البنية وهذا الهيكل.
الحجة الخامسة عشرة: أن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره فوجب أن يكون الإنسان شيئا آخر سوى الفرج وسوى الظهر، ويقال إن ذلك الشيء يستعمل الفرج في عمل والظهر في عمل آخر، فيكون المتلذذ والمتألم هو ذلك الشيء إلا أنه تحصل تلك اللذة بواسطة ذلك العضو ويتألم بواسطة الضرب على هذا العضو.
الحجة السادسة عشرة: أني إذا تكلمت مع زيد وقلت له افعل كذا أو لا تفعل كذا
42

فالمخاطب بهذا الخطاب والمأمور والمنهي ليس هو جبهة زيد ولا حدقته ولا أنفه ولا فمه ولا شيئا من أعضائه بعينه، فوجب أن يكون المأمور والمنهي والمخاطب شيئا مغايرا لهذه الأعضاء، وذلك يدل على أن ذلك المأمور والمنهي غير هذا الجسد فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال المأمور والمنهي جملة هذا البدن لا شيء من أعضائه وأبعاضه؟ قلنا بوجه التكليف على الجملة إنما يصح لو كانت الجملة فاهمة عالمة فنقول لو كانت الجملة فاهمة عالمة فإما أن يقوم بمجموع البدن علم واحد أو يقوم بكل واحد من أجزاء البدن علم على حدة، والأول يقتضي قيام العرض بالمحال الكثيرة وهو محال، والثاني يقتضي أن يكون كل واحد من أجزاء البدن عالما فاهما مدركا على سبيل الاستقلال، وقد بينا أن العلم الضروري حاصل بأن الجزء المعين من البدن ليس عالما فاهما مدركا بالاستقلال فسقط هذا السؤال.
الحجة السابعة عشرة: أن الإنسان يجب أن يكون عالما، والعلم لا يحصل إلا في القلب فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشيء الموجود في القلب وإذا ثبت هذا بطل القول بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل، وهذه الجثة إنما قلنا إن الإنسان يجب أن يكون عالما لأنه فاعل مختار، والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القلب والاختيار وهما مشروطان بالعلم لأن ما لا يكون مقصودا امتنع القصد إلى تكوينه فثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما بالأشياء وإنما قلنا إن العلم لا يوجد إلا في القلب للبرهان والقرآن. أما البرهان فلأنا نجد العلم الضروري بأنا نجد علومنا من ناحية القلب، وأما القرآن فآيات نحو قوله تعالى: * (لهم قلوب لا يفقهون بها) * (الأعراف: 179) وقوله: * (كتب في قلوبهم الإيمان) * (المجادلة: 22) وقوله: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 193، 194) وإذا ثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما، وثبت أن العلم ليس إلا في القلب هو هذا الجسد وهذا الهيكل.
وأما البحث الثاني: وهو بيان أن الإنسان غير محسوس وهو أن حقيقة الإنسان شيء مغاير للسطح واللون وكل ما هو مرئي فهو إما السطح وإما اللون وهما مقدمتان قطعيتان وينتج هذا القياس أن حقيقة الإنسان غير مرئية ولا محسوسة وهذا برهان يقيني. المسألة الرابعة: في شرح مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي إما أن تكون أحد العناصر الأربعة أو ما يكون متولدا من امتزاجها، ويمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص بل لا بد وأن يكون الحاصل جسما متولدا من امتزاجات هذه الأربعة فنقول: أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا: الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء وذلك لأن هذه الأعضاء كثيفة ثقيلة ظلمانية فلا جرم لم يقل أحد من العقلاء بأن الإنسان عبارة عن أحد هذه الأعضاء، وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو
43

الأخلاط الأربعة ولم يقل أحد في شيء منها إنه الإنسان إلا في الدم فإن منهم من قال إنه هو الروح بدليل أنه إذا خرج لزم الموت، أما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية والنارية فهو الأرواح وهي نوعان. أحدهما: أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولدة إما في القلب أو في الدماغ وقالوا إنها هي الروح وإنها هي الإنسان ثم اختلفوا فمنهم من يقول الإنسان هو الروح الذي في القلب، ومنهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ، ومنهم من يقول الروح عبارة عن أجزاء نارية مختلطة بهذه الأرواح القلبية والدماغية وتلك الأجزاء النارية وهي المسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان، ومن الناس من يقول الروح عبارة عن أجسام نورانية سماوية لطيفة، والجوهر على طبيعة ضوء الشمس وهي لا تقبل التحلل والتبدل ولا التفرق ولا التمزق فإذا تكون البدن وتم استعداده وهو المراد بقوله: * (فإذا سويته) * نفذت تلك الأجسام الشريفة السماوية الإلهية في داخل أعضاء البدن نفاذ النار في الفحم ونفاذ دهن السمسم في السمسم، ونفاذ ماء الورد في جسم الورد، ونفاذ تلك الأجسام السماوية في جوهر البدن هو المراد بقوله: * (ونفخت فيه من روحي) * (ص: 72) ثم إن البدن ما دام يبقى سليما قابلا لنفاذ تلك الأجسام الشريفة بقي حيا، فإذا تولدت في البدن أخلاط غليظة منعت تلك الأخلاط الغليظة من سريان تلك الأجسام الشريفة فيها فانفصلت عن هذا البدن فحينئذ يعرض الموت، فهذا مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت، فهذا تفصيل مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن، وأما أن الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحدا ذهب إلى هذا القول. أما القسم الثاني: وهو أن يقال الإنسان عرض حال في البدن، فهذا لا يقول به عاقل لأن من
المعلوم بالضرورة أن الإنسان جوهر لأنه موصوف بالعلم والقدرة والتدبر والتصرف، ومن كان كذلك كان جوهرا والجوهر لا يكون عرضا بل الذي يمكن أن يقول به كل عاقل هو أن الإنسان يشترط أن يكون موصوفا بأعراض مخصوصة، وعلى هذا التقدير فللناس فيه أقوال. القول الأول: أن العناصر الأربعة إذا امتزجت وانكسرت سورة كل واحدة منها بسورة الآخر حصلت كيفية معتدلة هي المزاج: ومراتب هذا المزاج غير متناهية فبعضها هي الإنسانية وبعضها هي الفرسية، فالإنسانية عبارة عن أجسام موصوفة متولدة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص، هذا قول جمهور الأطباء ومنكري بقاء النفس وقول أبي الحسين البصري من المعتزلة. والقول الثاني: أن الإنسان عبارة عن أجسام مخصوصة بشرط كونها موصوفة بصفة الحياة والعلم والقدرة والحياة عرض قائم بالجسم وهؤلاء أنكروا الروح والنفس وقالوا ليس ها هنا إلا أجسام مؤتلفة موصوفة بهذه الأعراض المخصوصة وهي الحياة والعلم والقدرة، وهذا مذهب أكثر شيوخ المعتزلة. والقول الثالث: أن الإنسان عبارة عن أجسام موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والإنسان إنما يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده
44

وهيئة أعضائه وأجزائه إلا أن هذا مشكل فإن الملائكة قد يتشبهون بصور الناس فها هنا صورة الإنسان حاصلة مع عدم الإنسانية وفي صورة المسخ معنى الإنسانية حاصل مع أن هذه الصورة غير حاصلة فقد بطل اعتبار هذا الشكل في حصول معنى الإنسانية طردا وعكسا. أما القسم الثالث: وهو أن يقال الإنسان موجود ليس بجسم ولا جسمانية فهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة القائلين ببقاء النفس المثبتين للنفس معادا روحانيا وثوابا وعقابا وحسابا روحانيا وذهب إليه جماعة عظيمة من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي رحمهما الله، ومن قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي، ومن الشيعة الملقب عندهم بالشيخ المفيد، ومن الكرامية جماعة، واعلم أن القائلين بإثبات النفس فريقان، الأول: وهم المحققون منهم من قال الإنسان عبارة عن هذا الجوهر المخصوص، وهذا البدن وعلى هذا التقدير فالإنسان غير موجود في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل بالعالم ولا منفصل عنه، ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعالم إلا على سبيل التصرف والتدبير. والفريق الثاني: الذين قالوا النفس إذا تعلقت بالبدن اتحدت بالبدن فصارت النفس عين البدن، والبدن عين النفس ومجموعهما عند الاتحاد هو الإنسان فإذا جاء وقت الموت بطل هذا الاتحاد وبقيت النفس وفسد البدن فهذه جملة مذاهب الناس في الإنسان وكان ثابت بن قرة يثبت النفس ويقول إنها متعلقة بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد التفرق والتمزق وأن تلك الأجسام تكون سارية في البدن وما دام يبقى ذلك السريان بقيت النفس مدبرة للبدن فإذا انفصلت تلك الأجسام اللطيفة عن جوهر البدن انقطع تعلق النفس عن البدن.
المسألة الخامسة: في دلائل مثبتي النفس من ناحية العقل احتج القوم بوجوه كثيرة بعضها قوي وبعضها ضعيف والوجوه القوية بعضها قطعية وبعضها إقناعية فلنذكر الوجوه القطعية.
الحجة الأولى: لا شك أن الإنسان جوهر فإما أن يكون جوهرا متحيزا أو غير متحيز والأول باطل فتعين الثاني والذي يدل على أنه يمتنع أن يكون جوهرا متحيزا أنه لو كان كذلك لكان كونه متحيزا غير تلك الذات ولو كان كذلك لكان كل ما علم الإنسان ذاته المخصوصة وجب أن يعلم كونه متحيزا بمقدار مخصوص وليس الأمر كذلك فوجب أن لا يكون الإنسان جوهرا متحيزا فنفتقر في تقرير هذا الدليل إلى مقدمات ثلاثة. المقدمة الأولى: لو كان الإنسان جوهرا متحيزا لكان كونه متحيزا عين ذاته المخصوصة والدليل عليه أنه لو كان تحيزه صفة قائمة لكان ذلك المحل من حيث هو مع قطع النظر عن هذه الصفة. إما أن يكون متحيزا أو لا يكون والقسمان باطلان فبطل القول بكون التحيز صفة قائمة بالمحل إنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز لأنه يلزم كون الشيء الواحد متحيزا مرتين ولأنه يلزم اجتماع المثلين ولأنه ليس جعل أحدهما
45

ذاتا والآخر صفة أولى من العكس ولأن التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود وإن كان صفة لزم التسلسل وهو محال وإنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز غير متحيز لأن حقيقة التحيز هو الذهاب في الجهات والامتداد فيها، والشيء الذي لا يكون متحيزا لم يكن له اختصاص بالجهات وحصوله فيها ليس بمتحيز محال، فثبت بهذا أنه لو كان الإنسان جوهرا متحيزا لكان تحيزه غير ذاته المخصوصة. المقدمة الثانية: لو كان تحيز ذاته المخصوصة عين ذاته المخصوصة لكان متى عرف ذاته المخصوصة فقد عرف كونها متحيزة، والدليل عليه أنه لو صارت ذاته المخصوصة معلومة وصار تحيزه مجهولا لزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال. المقدمة الثالثة: أنا قد نعرف ذاتنا حال كوننا جاهلين بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاثة وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان فإن الإنسان حال كونه مشتغلا بشيء من المهمات مثل أن يقول لعبده لم فعلت كذا ولم خالفت أمري وإني أبالغ في تأديبك وضربك فعندما يقول لم خالفت أمري يكون عالما بذاته المخصوصة إذ لو لم يعلم ذاته المخصوصة لامتنع أن يعلم أن ذلك الإنسان خالفه ولامتنع أن يخبر عن نفسه بأنه على عزم أن يؤدبه ويضربه ففي هذه الحالة يعلم ذاته المخصوصة مع أنه في تلك الحالة لا يخطر بباله حقيقة التحيز والامتداد في الجهات والحصول في الحيز فثبت بما ذكرنا أنه لو كان ذات الإنسان جوهرا متحيزا لكان تحيزه عن عين المخصوصة ولو كان كذلك لكان كل ما علم ذاته المخصوصة فقد علم التحيز وثبت أنه ليس كذلك فيلزم أن يقال ذات الإنسان ليس جوهرا متحيزا وذلك هو المطلوب، فإن قالوا هذا معارض بأنه لو كان جوهرا مجردا لكان كل من عرف ذات نفسه عرف كونه جوهرا مجردا وليس الأمر كذلك قلنا الفرق ظاهر لأن كونه مجردا معناه أنه ليس بمتحيز ولا حالا في المتحيز وهذا السلب ليس عين تلك الذات المخصوصة لأن السلب ليس عين الثبوت، وإذا كان كذلك لم يبعد أن تكون تلك الذات المخصوصة معلومة وأن لا يكون ذلك السلب معلوما بخلاف كونه متحيزا فأنا قد دللنا على أن تقدير كون الإنسان جوهرا متحيزا يكون تحيزه عين ذاته المخصوصة وعلى هذا التقدير يمتنع أن تكون ذاته معلومة ويكون تحيزه مجهولا فظهر الفرق. الحجة الثانية: النفس واحدة ومتى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه فهذه الحجة مبنية على مقدمات، المقدمة الأولى: هي قولنا النفس واحدة ولنا ها هنا مقامان تارة ندعي العلم البديهي فيه وأخرى نقيم البرهان على صحته، أما المقام الأول: وهو
ادعاء البديهية فنقول المراد من النفس هو الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا وكل أحد يعلم بالضرورة أنه إذا أشار إلى ذاته المخصوصة بقوله أنا كان ذلك المشار إليه واحدا غير متعدد فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المشار إليه لكل أحد بقوله أنا وإن كان واحدا إلا أن ذلك الواحد يكون مركبا من أشياء كثيرة قلنا إنه لا حاجة لنا في هذا المقام إلى دفع هذه السؤال بل نقول المشار إليه بقول أنا معلوم بالضرورة أنه شيء واحد فأما أن ذلك الواحد هل هو واحد مركب من أشياء
46

كثيرة أو هو واحد في نفسه واحد في حقيقته فهذا لا حاجة إليه في هذا المقام. أما المقام الثاني: وهو مقام الاستدلال فالذي يدل على وحدة النفس وجوه.
الحجة الأولى: أن الغضب حالة نفسانية تحدث عند إرادة دفع المنافر والشهوة حالة نفسانية تحدث عند طلب الملايم مشروطا بالشعور بكون الشيء ملايما ومنافرا فالقوة الغضبية التي هي قوة دافعة للمنافر إن لم يكن لها شعور بكونه منافرا امتنع انبعاثها لدفع ذلك المنافر على سبيل القصد والاختيار لأن القصد إلى الجذب تارة وإلى لدفع أخرى مشروط بالشعور بالشيء فالشئ المحكوم عليه بكونه دافعا للمنافر على سبيل الاختيار لا بد وأن يكون له شعور بكونه منافرا فالذي يغضب لا بد وأن يكون هو بعينه مدركا فثبت بهذا البرهان اليقيني مباينة حاصلة في ذوات متباينة.
الحجة الثانية: أنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين يكون كل واحد منهما مستقلا بفعله الخاص امتنع أن يصير اشتغال أحدهما بفعله الخاص مانعا للآخر من اشتغاله بفعله الخاص به. وإذا ثبت هذا فنقول لو كان محل الإدراك والفكر جوهرا ومحل الغضب جوهرا آخر ومحل الشهوة جوهرا ثالثا وجب أن لا يكون اشتغال القوة الغضبية بفعلها مانعا للقوة الشهوانية من الاشتغال بفعلها ولا بالعكس لكن الثاني باطل فإن اشتغال الإنسان بالشهوة وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب وانصبابه إليه وبالعكس فعلمنا أن هذه الأمور الثلاثة ليست مبادئ مستقلة بل هي صفات مختلفة بجوهر واحد فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال عائقا له عن الإشتغال بالفعل الآخر.
الحجة الثالثة: أنا إذا أدركنا أشياء فقد يكون الإدراك سببا لحصول الشهوة وقد يصير سببا لحصول الغضب فلو كان الجوهر المدرك مغايرا للذي يغضب والذي يشتهي فحين أدرك الجوهر المدرك لم يحصل عند الجوهر المشتهى من ذلك الإدراك أثر ولا خبر فوجب أن لا يترتب على ذلك الإدراك لا حصول الشهوة ولا حصول الغضب وحيث حصل هذا الترتيب والاستلزام علمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة بعينها وصاحب الغضب بعينه.
الحجة الرابعة: أن حقيقة الحيوان أنه جسم ذو نفس حساسة متحركة بالإرادة فالنفس لا يمكنها أن تتحرك بالإدارة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه وهذا يقتضي أن يكون المتحرك بالإرادة هو بعينه مدركا للخير والشر والملذ والمؤذي والنافع والضار فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد وثبت أن ذلك الشيء هو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيل والمتفكر والمتذكر والمشتهي والغاضب وهو الموصوف بجميع الإدراكات وهو الموصوف بجميع الأفعال الاختيارية والحركات الإرادية، وأما المقدمة الثانية: في بيان أنه لما كانت النفس شيئا واحدا وجب أن لا تكون النفس في هذا البدن ولا شيئا من أجزائه فنقول أما بيان أنه متى كان الأمر كذلك امتنع كون النفس عبارة عن جملة هذا البدن وكذا القوة السامعة وكذا سائر القوى كالتخيل والتذكر
47

والتفكر والعلم بأن هذه القوى غير سارية في جملة أجزاء البدن علم بديهي بل هو من أقوى العلوم البديهية، وأما بيان أنه يمتنع أن تكون النفس جزءا من أجزاء هذا البدن فانا نعلم بالضرورة أنه ليس في البدن جزء واحد وهو بعينه موصوف بالأبصار والسماع والفكر والذكر بل الذي يتبادر إلى الخاطر أن الأبصار مخصوص بالعين لا بسائر الأعضاء والسماع مخصوص بالأذن لا بسائر الأعضاء والصوت مخصوص بالحلق لا بسائر الأعضاء. وكذلك القول في سائر الإدراكات وسائر الأفعال فأما أن يقال إنه حصل في البدن جزء واحد موصوف بكل هذه الإدراكات وبكل هذه الأفعال فالعلم الضروري حاصل بأنه ليس الأمر كذلك فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد موصوف بجملة هذه الإدراكات وبجملة هذه الأفعال وثبت بالبديهية أن جملة البدن ليست كذلك وثبت أيضا أن شيئا من أجزاء البدن ليس كذلك فحينئذ يحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه وهو المطلوب. ولنقرر هذا البرهان بعبارة أخرى فنقول: إنا نعلم بالضرورة أنا إذا أبصرنا شيئا عرفناه وإذا عرفناه اشتهيناه وإذا اشتهيناه حركنا أبداننا إلى القرب منه فوجب القطع بأن الذي أبصر هو الذي عرف وأن الذي عرف هو الذي اشتهى وأن الذي اشتهى هو الذي حرك إلى القرب منه فيلزم القطع بأن المبصر لذلك الشيء والعارف به والمشتهي والمتحرك إلى القرب منه شيء واحد إذ لو كان المبصر شيئا والعارف شيئا ثانيا والمشتهي شيئا ثالثا والمتحرك شيئا رابعا لكان الذي أبصر لم يعرف، والذي عرف لم يشته والذي اشتهى لم يتحرك، ومن المعلوم أن كون الشيء مبصرا لشيء لا يقتضي صيرورة شيء آخر عالما بذلك الشيء وكذلك القول في سائر المراتب وأيضا فأنا نعلم بالضرورة أن الرائي للمرئيات لما كان رآها فقد عرفها ولما عرفها فقد اشتهاها ولما اشتهاها طلبها وحرك الأعضاء إلى القرب منها ونعلم أيضا بالضرورة أن الموصوف بهذه الرؤية وبهذا العلم وبهذا الشهوة وبهذا التحرك هو لا غيره وأيضا العقلاء قالوا الحيوان لا بد أن يكون حساسا متحركا بالإرادة فإنه إن لم يحس بشيء لم يشعر بكونه ملائما أو بكونه منافرا وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريدا للجذب أو الدفع فثبت أن الشيء الذي يكون متحركا بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساسا فثبت أن المدرك لجميع المدركات يدرك بجميع أصناف الإدراكات وأن المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شيء واحد وأيضا فلأنا إذا تكلمنا بكلام نقصد منه تفهيم الغير (عقلنا) معاني تلك الكلمات ثم لما عقلناها أردنا تعريف غيرنا تلك المعاني ولما حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف والأصوات في الوجود لنتوسل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني. إذ ثبت هذا فنقول: إن كان محمل العلم والإرادة ومحل تلك الحروف والأصوات جسما واحدا لزم أن يقال إن محل العلوم والإرادات هو الحنجرة واللهاة واللسان، ومعلوم أنه ليس كذلك، وإن قلنا محل العلوم والإرادات هو القلب لزم أيضا أن يكون محل الصوت هو القلب وذلك أيضا باطل بالضرورة،
48

وإن قلنا محل الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان، ومحل العلوم والإرادات هو القلب، ومحل القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات، كنا قد وزعنا هذه الأمور على
هذه الأعضاء المختلفة لكنا أبطلنا ذلك. وبينا أن المدرك لجميع المدركات والمحرك لجميع الأعضاء بكل أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئا واحدا، فلم يبق إلا أن يقال في الإدراك والقدرة على التحريك (أنه) شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن وأن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات فكما أن الإنسان يعقل أفعالا مختلفة بواسطة آلات مختلفة فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكر بالدماغ وتعقل بالقلب، فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها، والنفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير وهذا البرهان برهان شريف يقيني في ثبوت هذا المطلوب والله أعلم.
المقدمة الثالثة: لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة، وإما أن يقوم بمجموع الأجزاء حياة وعلم وقدرة، والقسمان باطلان فبطل القول بكون الإنسان عبارة عن هذا الجسد، وأما بطلان القسم الأول فلأنه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حيا عالما قادرا على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيوانا واحدا بل أحياء عالمين قادرين وحينئذ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس وربط بعضهم بالبعض بالتسلسل لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتا واحدة لا حيوانات كثيرين، وأيضا فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيوانا واحدا على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منهما خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآن أن يتحرك إلى الجانب الآخر فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين شخصين. وفساد ذلك معلوم بالبديهة، وأما بطلان القسم الثاني فلأنه يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة، وذلك معلوم البطلان بالضرورة ولأنه لو جاز حلول الصفة الواحدة في المحال الكثيرة لم يبعد أيضا حصول الجسم الواحد في الأحياز الكثيرة ولأن بتقدير أن تحصل الصفة الواحدة في المحال المتعددة فحينئذ يكون كل واحد من تلك الأجزاء حيا عاقلا عالما فيتجرد الأمر إلى كون هذه الجثة الواحدة أناسا كثيرين، ولما ظهر فساد القسمين ثبت أن الإنسان ليس هو هذه الجثة. فإن قالوا: لم لا يجوز أن تقوم الحياة الواحدة بالجزء الواحد، ثم إن تلك الحياة تقتضي صيرورة جملة الأجزاء أحياء قلنا هذا باطل لأنه لا معنى للحياة إلا الحيية، ولا معنى للعلم إلا العالمية، وبتقدير أن نساعد على أن الحياة معنى يوجب الحيية والعلم معنى يوجب العالمية إلا أنا نقول إن حصل في مجموع جثة مجموع حياة واحدة وعالمية واحدة فقد حصلت الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال، وإن حصل في كل جزء وجثة حياة على حدة
49

وعالمية على حدة عاد ما ذكرنا من كون الإنسان الواحد أناسا كثيرين وهو محال.
المقدمة الرابعة: أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم، وذلك يدل على أن النفس ليست جسما، وتقرير هذه المنافاة من وجوه. الأول: أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى زوالا تاما مثاله: أن الشمع إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه، نعم إنا وجدنا الحال في تصور النفس بصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يبعد قبولها شيئا من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة صار قبولها للصورة الثانية أسهل، ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف البتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر صار قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع، ولهذا السبب يزداد الإنسان فهما وإدراكا كلما ازداد تخرجا وارتباطا في العلوم فثبت أن قبول النفس للصور العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم. والثاني: أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن، أما أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس من القوة إلى الفعل في التعقلات والإدراكات وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها، وأما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه، وهذه الحالة لو استمرت لانتقلت إلى الماليخوليا وسوق الموت فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد سببا لكماله ونقصانه معا ولحياته وموته معا، وأنه محال. والثالث: أنا إذا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفا نحيفا، فإذا لاح له نور من الأنوار القدسية وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جراءة عظيمة وسلطنة قوية. ولم يعبأ بحضور أكابر السلاطين ولم يقم لهم وزنا ولولا أن النفس شيء سوى البدن لما كان الأمر كذلك. الرابع: أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوة الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محروما عن آثار النطق والعقل والمعرفة ولولا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك. الخامس: أنا نرى أن النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل، أما إذا آل الأمر إلى العقل والإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ولذلك فإن الإنسان لا يمكنه أن يبصر شيئا إذا أغمض عينيه وأن لا يسمع صوتا إذا سد أذنيه. كما لا يمكنه البتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالما به فعلمنا أن النفس غنية بذاتها
50

في العلوم والمعارف عن شيء من الآلات البدنية، فهذه الوجوه الخمسة أمارات قوية في أن النفس ليست بجسم، وفي المسألة الأولى كثير من دلائل المتقدمين ذكرناها في كتبنا الحكمية فلا فائدة في الإعادة.
المسألة السادسة: في إثبات أن النفس ليست بجسم من الدلائل السمعية.
الحجة الأولى: قوله تعالى: * (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) * (الحشر: 19) ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شيء آخر غير هذا البدن.
الحجة الثانية: قوله تعالى: * (أخرجوا أنفسكم) * (الأنعام: 93) وهذا صريح أن النفس غير البدن وقد استقصينا في تفسير هذه فليرجع إليه.
الحجة الثالثة: أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) * (المؤمنون: 12، 13) إلى قوله: * (فكسونا العظام لحما) * (المؤمنون: 14) ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن فإن قالوا هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * وكلمة من للتبعيض وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين قلنا كلمة من أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلا من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولا ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من السلالة.
الحجة الرابعة: قوله: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) * (الحجر: 29) ميز تعالى بين البشرية وبين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء وتعديل المزاج والأشباح فلما ميز نفخ الروح عن تسوية الأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله: * (من روحي) * دل ذلك على أن جوهر الروح معنى مغاير لجوهر الجسد.
الحجة الخامسة: قوله تعالى: * (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) * (الشمس: 7، 8) وهذه الآية صريحة في وجود شيء موصوف بالإدراك والتحريك حقا لأن الإلهام عبارة عن الإدراك، وأما الفجور والتقوى فهو فعل وهذه الآية صريحة في أن الإنسان شيء واحد وهو موصوف أيضا بالإدراك والتحريك وموصوف أيضا بفعل الفجور تارة وفعل التقوى تارة أخرى ومعلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين فلا بد من إثبات جوهر آخر يكون موصوفا بكل هذه الأمور.
51

الحجة السادسة: قوله تعالى: * (إن خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا) * (الإنسان: 2) فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء هو المبتلي بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضوا من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير لجملة البدن ومغاير لأجزاء البدن وهو موصوف بكل هذه الصفات. واعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد، والعجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يعرف الروح وهذا من العجائب والله أعلم.
المسألة السابعة: في دلالة الآية التي نحن في تفسيرها على صحة ما ذكرناه أن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فإذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة، ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال: * (إنه من أمر ربي) * بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له: * (كن فيكون) * (البقرة: 117) دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد واعلم أن أكثر العارفين المكاشفين من أصحاب الرياضيات وأرباب المكاشفات والمشاهدات مصرون على هذا القول جازمون بهذا المذهب قال الواسطي: خلق الله الأرواح من بين الجمال والبهاء فلولا أنه سترها لسجد لها كل كافر، وأما بيان أن تعلقه الأول بالقلب ثم بواسطته يصل تأثيره إلى جملة الأعضاء فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين) * (الشعراء: 193، 194) واحتج المنكرون بوجوه. الأول: لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية وذلك محال. الثاني: قوله تعالى: * (قتل الإنسان ما أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره) * (عبس: 17 - 22) وهذا تصريح بأن الإنسان شيء مخلوق من النطفة، وأنه يموت ويدخل القبر ثم إنه تعالى يخرجه من القبر، ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثة لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة. الثالث: قوله: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) * إلى قوله: * (يرزقون * فرحين) * (آل عمران: 169، 170) وهذا يدل على أن الروح جسم لأن الأرزاق والفرح من صفات الأجسام. الجواب عن الأول: أن المساواة في أنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز مساواة في صفة سلبية والمساواة في الصفة السلبية لا توجب المماثلة واعلم أن جماعة من الجهال يظنون أنه لما كان الروح موجودا ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وجب أن يكون مثلا للإله أو جزءا للإله وذلك جهل فاحش وغلط قبيح وتحقيقه ما ذكرناه من أن المساواة في السلوب
52

لو أوجبت المماثلة لوجب القول باستواء كل المختلفات وأن كل ماهيتين مختلفتين فلا بد أن يشتركا في سلب كل ما عداهما، فلتكن هذه الدقيقة معلومة فإنها مغلطة عظيمة للجهال، والجواب عن الثاني: أنه لما كان الإنسان في العرف والظاهر عبارة عن هذه الجثة أطلق عليه اسم الإنسان في العرف، والجواب عن الثالث: أن الرزق المذكور في الآية محمول على ما يقوي حالهم ويكمل كمالهم وهو معرفة الله ومحبته بل نقول هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا لأن أبدانهم قد بليت تحت التراب والله تعالى يقول إن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وهذا يدل على أن الروح غير البدن وليكن هذا آخر كلامنا في هذا الباب ولنرجع إلى علم التفسير ثم قال تعالى: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * وعلى قولنا قد ذكرنا فيه احتمالين، أما المفسرون فقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا " فقالوا ما أعجب شأنك يا محمد ساعة تقول: " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " وساعة تقول هذا. فنزل قوله: * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) * (لقمان: 27) إلى آخره وما ذكروه ليس بلازم لأن الشيء قد يكون قليلا بالنسبة إلى شيء كثيرا بالنسبة إلى شيء آخر فالعلوم الحاصلة عند الناس قليلة جدا بالنسبة إلى علم الله وبالنسبة إلى حقائق الأشياء ولكنها كثيرة بالنسبة إلى الشهوات
الجسمانية واللذات الجسدانية.
قوله تعالى
* (ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا) *
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه ما آتاهم * (من العلم إلا قليلا) * بين في هذه الآية أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضا لقدر عليه وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان أمرا مخالفا للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه.
المسألة الثانية: احتج الكعبي بهذه الآية على أن القرآن مخلوق فقال والذي يقدر على إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديما بل يجب أن يكون محدثا. وهذا الاستدلال بعيد لأن المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب وإزالة النقوش الدالة عليه عن المصحف وذلك لا يوجب كون ذلك المعلوم المدلول محدثا وقوله: * (ثم لا تجد لك به علينا وكيلا) * أي لا تجد من تتوكل عليه في رد شيء منه ثم قال: * (إلا رحمة من ربك) * أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به وهذا امتنان من الله
53

ببقاء القرآن على أنه تعالى من على جميع العلماء بنوعين من المنة. أحدهما: تسهيل ذلك العلم عليه. الثاني: إبقاء حفظه عليه وقوله: * (إن فضله كان عليك كبيرا) * فيه قولان: الأول: المراد أن فضله كان عليك كبيرا بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك. الثاني: المراد أن فضله كان عليك كبيرا بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود فلما كان كذلك لا جرم أنعم عليك أيضا بإبقاء العلم والقرآن عليك. (88)
قوله تعالى
* (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا لقرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) * (البقرة: 23) بالغنا في بيان إعجاز القرآن، وللناس فيه قولان منهم من قال: القرآن معجز في نفسه، ومنهم من قال إنه ليس في نفسه معجزا إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإثبات بمعارضته مع أن تلك الدواعي كانت قوية كانت هذه الصرفة معجزة والمختار عندنا في هذا الباب أن نقول القرآن في نفسه إما أن يكون معجزا أو لا يكون فإن كان معجزا فقد حصل المطلوب، وإن لم يكن معجزا بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة وما كان لهم عنها صارف ومانع. وعلى هذا التقدير كان الإتيان بمعارضته واجبا لازما فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضا للعادة فيكون معجزا فهذا هو الطريق الذي نختاره في هذا الباب.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول هب أنه قد ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف عرفتم عجز الجن عن معارضته؟ وأيضا فلم لا يجوز أن يقال إن هذا الكلام نظم الجن ألقوه على محمد صلى الله عليه وسلم وخصوه به على سبيل السعي في إضلال الخلق فعلى هذا إنما تعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم إذا عرفتم أن محمدا صادق في قوله أنه ليس من كلام الجن بل هو من كلام الله تعالى فحينئذ يلزم الدور وليس لأحد أن يقول كيف يعقل أن يكون هذا من قول الجن لأنا نقول إن هذه الآية دلت على وقوع التحدي مع الجن، وإنما يحسن هذا التحدي لو كانوا فصحاء بلغاء، ومتى كان الأمر كذلك كان الاحتمال المذكور قائما. أجاب العلماء عن الأول بأن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزا وعن الثاني أن ذلك لو وقع لوجب في حكمة الله أن يظهر ذلك التلبيس وحيث لم يظهر ذلك دل على عدمه وعلى أنه تعالى قد أجاب عن هذا
54

السؤال بالأجوبة الشافية الكافية في آخر سورة الشعراء في قوله: * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم) * (الشعراء: 221، 222) وقد شرحنا هذه الأجوبة هناك فلا فائدة في الإعادة.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة الآية دالة على أن القرآن مخلوق لأن التحدي بالقديم وهذه المسألة قد ذكرناها أيضا بالاستقصاء في سورة البقرة فلا فائدة في الإعادة.
قوله تعالى
* (ولقد صرفنا للناس فى هذا القرءان من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا) *
وهذا الكلام يحتمل وجوها. أحدها: أنه وقع التحدي بكل القرآن كما في هذه الآية، ووقع التحدي أيضا بعشر سور منه كما في قوله تعالى: * (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) * (هود: 13) ووقع التحدي بالسورة الواحدة كما في قوله تعالى: * (فأتوا بسورة من مثله) * ووقع التحدي بكلام من سورة واحدة كما في قوله: * (فليأتوا بحديث مثله) * (الطور: 34) فقوله: * (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) * يحتمل أن يكون المراد منه التحدي كما شرحناه، ثم أنهم مع ظهور عجزهم في جميع هذه المراتب بقوا مصرين على كفرهم. وثانيها: أن يكون المراد من قوله: * (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) * أنا أخبرناهم بأن الذين بقوا مصرين على الكفر مثل قوم نوح وعاد وثمود كيف ابتلاهم بأنواع البلاء وشرحنا هذه الطريقة مرارا وأطوارا ثم إن هؤلاء الأقوام يعني أهل مكة لم ينتفعوا بهذا البيان بل بقوا مصرين على الكفر. وثالثها: أن يكون المراد أنه تعالى ذكر دلائل التوحيد ونفي الشركاء والأضداد في هذا القرآن مرارا كثيرة، وذكر شبهات منكري النبوة والمعاد مرارا وأطوارا، وأجاب عنها ثم أردفها بذكر الدلائل القاطعة على صحة النبوة والمعاد، ثم إن هؤلاء الكفار لم ينتفعوا بسماعها بل بقوا مصرين على
الشرك وإنكار النبوة.
يريد (أبى) أكثر أهل مكة * (إلا كفورا) * أي جحودا للحق، وذلك أنهم أنكروا ما لا حاجة إلى إظهاره، فإن قيل كيف جاز: * (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) * ولا يجوز أن يقال ضربت إلا زيدا، قلنا لفظ أبى يفيد النفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفورا.
قوله تعالى
* (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا * أو تكون لك
55

جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السمآء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى فى السمآء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرءه قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا) *
اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزا وظهر هذا المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم فحينئذ تم الدليل على كونه نبيا صادقا لأنا نقول إن محمدا ادعى النبوة وظهر المعجزة على وفق دعواه وكل من كان كذلك فهو نبي صادق، فهذا يدل على أن محمد صلى الله عليه وسلم صادق وليس من شرط كونه نبيا صادقا تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها لأنا لو فتحنا هذا الباب للزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى الرسول بمعجز اقترحوا عليه معجزا آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حد ينقطع عنده عناد المعاندين وتغلب الجاهلين لأنه تعالى حكى عن الكفار أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزا التمسوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ستة أنواع من المعجزات القاهرة كما حكى عن ابن عباس " أن رؤساء أهل مكة أرسلوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهم جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لننتفع فيها وفجر لنا فيها ينبوعا أي نهرا وعيونا نزرع فيها فقال لا أقدر عليه، فقال قائل منهم أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا فقال لا أقدر عليه، فقيل أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا فقال لا أقدر عليه، فقيل له أما تستطيع أن تأتي قومك بما يسألونك فقال لا أستطيع، قالوا فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أي قطعا بالعذاب وقوله كما زعمت إشارة إلى قوله: * (إذا السماء انشقت) * (الإنشقاق: 1)، * (إذا السماء انفطرت) * (الانفطار: 1) فقال عبد الله بن أمية المخزومي وأمه عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والذي يحلف به لا أومن بك حتى تشد سلما فتصعد فيه ونحن ننظر إليك فتأتي بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة ثم بعد ذلك لا أدري أنؤمن بك أم لا! " فهذا شرح هذه القصة كما رواها ابن عباس.
المسألة الثانية: اعلم أنهم اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواعا من المعجزات أولها: قولهم
56

* (حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * قرأ عاصم وحمزة والكسائي تفجر بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة واختاره أبو حاتم قال لأن الينبوع واحد والباقون بالتشديد واختاره أبو عبيدة ولم يختلفوا في الثانية مشددة لأجل الأنهار، لأنها جمع يقال فجرت الماء فجرا وفجرته تفجيرا، فمن ثقل أراد به كثرة الأشجار من الينبوع وهو وإن كان واحدا فلكثرة الانفجار فيه يحسن أن يثقل كما تقول ضرب زيد إذا كثر الضرب منه فيكثر فعله وإن كان الفاعل واحدا ومن خفف فلأن الينبوع واحد، وقوله ينبوعا، يعني: عينا ينبع الماء منه، تقول نبع الماء ينبع نبعا ونبوعا ونبعا ذكره الفراء، قال القوم أزل عنا جبال مكة، وفجر لنا الينبوع ليسهل علينا أمر الزراعة والحراثة. وثانيها: قولهم: * (أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا) * والتقدير كأنهم قالوا هب أنك لا تفجر هذه الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك. وثالثها: قولهم: * (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن عامر كسفا بفتح السين ها هنا وفي سائر القرآن بسكونها، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم ها هنا، وفي الروم بفتح السين، وفي باقي القرآن بسكونها؛ وقرأ حفص في سائر القرآن بالفتح إلا في الروم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي في الروم بفتح السين، وفي سائر القرآن بسكون السين، قال الواحدي رحمه الله كسفا، فيه وجهان من القراءة سكون السين وفتحها، قال أبو زيد يقال: كسفت الثوب أكسفه كسفا إذا قطعته قطعا، وقال الليث: الكسف، قطع العرقوب، والكسفة: القطعة، وقال الفراء: سمعت أعرابيا يقول لبزاز: أعطني كسفة: يريد قطعة، فمن قرأ بسكون السين احتمل قوله وجوها، أحدها: قال الفراء أن يكون جمع كسفة مثل: دمنة ودمن وسدرة وسدر. وثانيها: قال أبو علي: إذا كان المصدر الكسف، فالكسف الشيء المقطوع كما تقول في الطحن والطبخ السقي، ويؤكد هذا قوله: * (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا) * (الطور: 44). وثالثها: قال الزجاج: من قرأ: كسفا كأنه قال أو يسقطها طبقا علينا واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته، وأما فتح السين فهو جمع كسفة مثل قطعة وقطع وسدرة وسدر، وهو نصب على الحال في القراءتين جميعا كأنه قيل أو تسقط السماء علينا مقطعة.
المسألة الثانية: قوله: * (كما زعمت) * فيه وجوه. الأول: قال عكرمة كما زعمت يا محمد أنك نبي فأسقط السماء علينا. والثاني: قال آخرون كما زعمت أن ربك إن شاء فعل. الثالث: يمكن أن يكون المراد ما ذكره الله تعالى في هذه السورة في قوله: * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا) * (الإسراء: 68) فقيل اجعل السماء قطعا متفرقة كالحاصب وأسقطها علينا. ورابعها: قولهم: * (أو تأتي بالله والملائكة قبيلا) * وفي لفظ القبيل وجوه. الأول: القبيل بمعنى المقابل كالعشير بمعنى المعاشر، وهذا القول منهم يدل على جهلهم حيث لم يعلموا أنه لا يجوز عليه المقابلة ويقرب منه قوله: * (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا) * (الأنعام: 111). والقول الثاني: ما قاله ابن عباس يريد فوجا
57

بعد فوج. قال الليث وكل جند من الجن والإنس قبيل وذكرنا ذلك في قوله: * (إنه يراكم هو وقبيله) *. القول الثالث: إن قوله قبيلا معناه ها هنا ضامنا وكفيلا، قال الزجاج: يقال قبلت به أقبل كقولك كفلت به أكفل، وعلى هذا القول فهو واحد أريد به الجمع كقوله تعالى: * (وحسن أولئك رفيقا) * (النساء: 69). والقول الرابع
: قال أبو علي معناه المعاينة والدليل عليه قوله تعالى: * (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) * (الفرقان: 21). وخامسها: قولهم: * (أو يكون لك بيت من زخرف) * قال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله: * (أو يكون لك بيت من ذهب) * قال الزجاج: الزخرف الزينة يدل عليه قوله تعالى: * (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت) * (يونس: 24) أي أخذت كمال زينتها ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب. وسادسها: قولهم: * (أو ترقى في السماء) * قال الفراء: يقال رقيت وأنا أرقى رقي ورقيا وأنشد:
أنت الذي كلفتني رقي الدرج * على الكلال والمشيب والعرج
وقوله في السماء أي في معارج السماء فحذف المضاف، يقال رقي السلم ورقي الدرجة ثم قالوا: * (ولن نؤمن لرقيك) * أي لن نؤمن لأجل رقيك: * (حتى تنزل علينا كتابا من السماء) * فيه تصديقك قال عبد الله بن أمية: * (لن نؤمن) * حتى نصنع على السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول. ولما حكى الله تعالى عن الكفار اقتراح هذه المعجزات قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) * وفيه مباحث:
المبحث الأول: أنه تعالى حكى من قول الكفار قولهم: * (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90) إلى قوله: * (قل سبحان ربي) * وكل ذلك كلام القوم وإنا لا نجد بين تلك الكلمات وبين سائر آيات القرآن تفاوتا في النظم فصح بهذا صحة ما قاله الكفار لو نشاء لقلنا مثل هذا. والجواب: أن هذا القرآن قليل لا يظهر فيه التفاوت بين مراتب الفصاحة والبلاغة فزال هذا السؤال.
البحث الثاني: هذه الآيات من أدل الدلائل على أن المجيء والذهاب على الله محال لأن كلمة سبحان للتنزيه عما لا ينبغي، وقوله سبحان ربي تنزيه لله تعالى عن شيء لا يليق به أو نسب إليه مما تقدم ذكره وليس فيما تقدم ذكره شيء لا يليق بالله إلا قولهم أو تأتي بالله فدل هذا على أن قوله: * (سبحان ربي) * تنزيه لله عن الإتيان والمجيء وذلك يدل على فساد قول المشبهة في أن الله تعالى يجيء ويذهب، فإن قالوا: لم لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى عن أن يتحكم عليه المتحكمون في اقتراح الأشياء؟ قلنا القوم لم يتحكموا على الله، وإنما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم إن كنت نبيا صادقا فاطلب من الله أن يشرفك بهذه المعجزات فالقوم تحكموا على الرسول وما تحكموا على الله فلا يليق حمل قوله: * (سبحان ربي) * على هذا المعنى فوجب حمله على قولهم أو تأتي بالله.
58

البحث الثالث: تقرير هذا الجواب أن يقال: إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء أو طلبتم مني أن أطلب من الله تعالى إظهارها على يدي لتدل على كوني رسولا حقا من عند الله. والأول باطل لأني بشر والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء والثاني أيضا باطل لأني قد أتيتكم بمعجزة واحدة وهي القرآن والدلالة على كونها معجزة فطلب هذه المعجزات طلب لما لا حاجة إليه ولا ضرورة فكأن طلبها يجري مجرى التعنت والتحكم وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على الله فسقط هذا السؤال فثبت أن قوله: * (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) * جواب كاف في هذا الباب، وحاصل الكلام أنه سبحانه بين بقوله: * (سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) * كونهم على الضلال في الإلهيات، وفي النبوات. أما في الإلهيات فيدل على ضلالهم قوله سبحان ربي أي سبحانه عن أن يكون له إتيان ومجئ وذهاب وأما في النبوات فيدل على ضلالهم قوله: * (هل كنت إلا بشرا رسولا) * وتقريره ما ذكرناه.
قوله تعالى
* (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان فى الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السمآء ملكا رسولا * قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) *
اعلم أنه تعالى لما حكى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزائدة وأجاب عنها حكى عنهم شبهة أخرى وهي أن القوم استبعدوا أن يبعث الله إلى الخلق رسولا من البشر بل اعتقدوا أن الله تعالى لو أرسل رسولا إلى الخلق لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه. الأول: قوله: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) * وتقرير هذا الجواب أن بتقدير أن يبعث الله ملكا رسولا إلى الخلق فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولا من عند الله لأجل قيام المعجز الدال على صدقه وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة ذلك الملك في ادعاء رسالة الله تعالى فالمراد من قوله تعالى: * (إذ جاءهم الهدى) * هو المعجز فقط فهذا المعجز سواء ظهر على يد الملك أو على يد البشر وجب الإقرار برسالته فثبت أن يكون قولهم بأن الرسول لا بد وأن يكون
59

من الملائكة تحكما فاسدا وتعنتا باطلا. الوجه الثاني: من الأجوبة التي ذكرها الله في هذه الآية عن هذه الشبهة هو أن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة لأن الجنس إلى الجنس أميل أما لو كان أهل الأرض من البشر لوجب أن يكون رسولهم من البشر وهو المراد من قوله: * (لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) *. الوجه الثالث: من الأجوبة المذكورة في هذه الآية قوله: * (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) * وتقريره أن الله تعالى لما أظهر المعجزة على وفق دعواي كان ذلك شهادة من الله تعالى على كوني صادقا ومن شهد الله على صدقه فهو صادق فبعد ذلك قول القائل بأن الرسول يجب أن يكون ملكا لا إنسانا تحكم فاسد لا يلتفت إليه ولما ذكر الله تعالى هذه الأجوبة الثلاثة أردفها بما يجري مجرى التهديد والوعيد فقال: * (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) * يعني يعلم ظواهرهم وبواطنهم ويعلم من قلوبهم أنهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد وحب الرياسة والاستنكاف من الانقياد للحق.
قوله تعالى
* (ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أوليآء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا * ذلك
جزآؤهم بأنهم كفروا باياتنا وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا) *
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة وأردفها بالوعيد الإجمالي وهو قوله: * (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) * ذكر بعده الوعيد الشديد على سبيل التفصيل، أما قوله: * (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه) * فالمقصود تسلية الرسول وهو أن الذين سبق لهم حكم الله بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال واستحال أن يوجد من يصرفهم عن ذلك الضلال، واحتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم في الهدى والضلال والمعتزلة حملوا هذا الإضلال تارة على الإضلال عن طريق الجنة وتارة على منع الألطاف وتارة على التخلية وعدم التعرض له بالمنع وهذه المباحث قد ذكرناها مرارا فلا فائدة في الإعادة، أما قوله تعالى: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) * فإن قيل كيف يمكنهم المشي على وجوههم قلنا الجواب من وجهين: الأول: إنهم يسحبون على وجوههم قال تعالى: * (يوم يسحبون في النار على وجوههم) * (القمر: 48). الثاني: روى أبو هريرة قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم؟ قال: إن الذي
60

يمشيهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، قال حكماء الإسلام الكفار أرواحهم شديدة التعلق بالدنيا ولذاتها وليس لها تعلق بعالم الأبرار وحضرة الإله سبحانه وتعالى فلما كانت وجوه قلوبهم وأرواحهم متوجهة إلى الدنيا لا جرم كان حشرهم على وجوههم، وأما قوله: * (عميا وبكما وصما) * فاعلم أن واحدا قال لابن عباس رضي الله عنه: أليس أنه تعالى يقول: * (ورأى المجرمون النار) * (الكهف: 53) وقال: * (سمعوا لها تغيظا وزفيرا) * (الفرقان: 12) وقال: * (دعوا هنالك ثبورا) * (الفرقان: 13) وقال: * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) * (النحل: 111) وقال حكاية عن الكفار: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلمون فكيف قال ههنا: * (عميا وبكما وصما) * أجاب ابن عباس وتلامذته عنه من وجوه. الأول: قال ابن عباس عميا لا يرون شيئا يسرهم صما لا يسمعون شيئا يسرهم بكما لا ينطقون بحجة. الثاني: قال في رواية عطاء عميا عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه بكما عن مخاطبة الله ومخاطبة الملائكة المقربين صما عن ثناء الله تعالى على أوليائه. الثالث: قال مقاتل إنه حين يقال لهم: * (اخسئوا فيها ولا تكلمون) * (المؤمنون: 108) يصيرون عميا بكما صما، أما قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون. الرابع: أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولولا ذلك لما قدروا على أن يطالعوا كتبهم ولا أن يسمعوا إلزام حجة الله عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم الله عميا وبكما وصما. والجواب: أن الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون، أما قوله تعالى: * (مأواهم جهنم) * فظاهر، وأما قوله: * (كلما خبت زدناهم سعيرا) * ففيه مباحث:
البحث الأول: قال الواحدي الخبو سكون النار، يقال: خبت النار تخبو إذا سكن لهبها ومعنى خبت سكنت وطفئت يقال في مصدره الخبو وأخبأها المخبئ إخباء أي أخمدها ثم قال: * (زدناهم سعيرا) * قال ابن قتيبة زدناهم سعيرا أي تلهبا.
البحث الثاني: لقائل أن يقول إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب وقوله: * (كلما خبت) * يدل على أن العذاب يخف في ذلك الوقت قلنا كلما خبت يقتضي سكون لهب النار، أما لا يدل هذا على أنه يخف العذاب في ذلك الوقت.
البحث الثالث: قوله: * (كلما خبت زدناهم سعيرا) * ظاهره يقتضي وجوب أن تكون الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى وإذا كان كذلك كانت الحالة الأولى بالنسبة إلى الحالة الثانية تخفيفا. والجواب: الزيادة حصلت في الحالة الأولى أخف من حصولها في الحالة الثانية فكان العذاب شديدا ويحتمل أن يقال لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أوقاته غير مشعور به نعوذ بالله منه ولما ذكر تعالى أنواع هذا الوعيد قال * (ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا) * والباء في قوله: بأنهم كفروا باء السببية وهو حجة لمن يقول العمل علة الجزاء والله أعلم.
61

قوله تعالى
* (أو لم يروا أن الله الذى خلق السماوات والارض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا) *
قوله تعالى: * (وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا) *.
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات منكري النبوة عاد إلى حكاية شبهة منكري الحشر والنشر ليجيب عنها وتلك الشبهة هي أن الإنسان بعد أن يصير رفاتا ورميما يبعد أن يعود هو بعينه وأجاب الله تعالى عنه بأن من قدر على خلق السماوات والأرض لم يبعد أن يقدر على إعادتهم بأعيانهم وفي قوله: * (قادر على أن يخلق مثلهم) * قولان: الأول: المعنى قادر على أن يخلقهم ثانيا فعبر عن خلقهم ثانيا بلفظ المثل كما يقول المتكلمون أن الإعادة مثل الابتداء. القول الثاني: المراد قادر على أن يخلق عبيدا آخرين يوحدونه ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا التفسير فهو كقوله تعالى: * (ويأت بخلق جديد) * (إبراهيم: 19) وقوله: * (ويستبدل قوما غيركم) * (التوبة: 39) قال الواحدي والقول هو الأول لأنه أشبه بما قبله ولما بين الله تعالى بالدليل المذكور أن البعث والقيامة أمر ممكن الوجود في نفسه أردفه بأن لوقوعه ودخوله في الوجود وقتا معلوما عند الله وهو قوله: * (وجعل لهم أجلا لا ريب فيه) * (الإسراء: 99) ثم قال تعالى: * (فأبى الظالمون إلا كفورا) * أي بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والنفور والجحود.
قوله تعالى
* (قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا) *
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أن الكفار لما قالوا؛ * (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90) طلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم وتتسع عليهم معيشتهم فبين الله تعالى لهم أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ولما أقدموا على إيصال النفع إلى أحد وعلى هذا التقدير فلا فائدة في إسعافهم بهذا المطلوب الذي التمسوه فهذا هو الكلام في وجه النظم والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (لو أنتم) * فيه بحث يتعلق بالنحو وبحث آخر يتعلق بعلم البيان، أما البحث النحوي: فهو أن كلمة * (لو) * من شأنها أن تختص بالفعل لأن كلمة * (لو) * تفيد انتفاء الشيء
62

لانتفاء غيره والاسم يدل على الذوات والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال والمنتفي هو الأحوال والآثار لا الذوات فثبت أن كلمة * (لو) * مختصة بالأفعال وأنشدوا قول المتلمس: لو غير أخوالي أرادوا نقيصتي * نصبت لهم فوق العرانين مأتما
والمعنى لو أراد غير أخوالي وأما البحث المتعلق بعلم البيان فهو أن التقديم بالذكر يدل على التخصيص فقوله: * (أنتم تملكون) * دلالة على أنهم هم المختصون بهذه الحالة الخسيسة والشح الكامل.
المسألة الثالثة: خزائن فضل الله ورحمته غير متناهية فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء ثم قال تعالى: * (وكان الإنسان قتورا) * أي بخيلا يقال قتر يقتر قترا وأقتر إقتارا وقتر تقتيرا إذا قصر في الانفاق فإن قيل فقد دخل في الإنسان الجواد الكريم فالجواب من وجوه. الأول: أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجا والمحتاج لا بد أن يحب ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج فثبت أن الأصل في الإنسان البخل. الثاني: أن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل. الثالث: إن المراد بهذا الإنسان المعهود السابق: * (وهم الذين قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90).
قوله تعالى
* (ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات فاسأل بنى إسراءيل إذ جآءهم فقال له فرعون إنى لأظنك يا موسى مسحورا * قال لقد علمت مآ أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والارض بصآئر وإنى لأظنك يا فرعون مثبورا * فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقناه ومن معه جميعا * وقلنا من بعده لبنى إسراءيل اسكنوا الارض فإذا جآء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من هذا الكلام أيضا الجواب عن قولهم: * (لن نؤمن لك) *
63

حتى تأتينا بهذه المعجزات القاهرة فقال تعالى: * (إنا آتينا موسى) * معجزات مساوية لهذه الأشياء التي طلبتموها بل أقوى منها وأعظم فلو حصل في علمنا أن جعلها في زمانكم مصلحة لفعلناها كما فعلنا في حق موسى فدل هذا على إنا إنما لم نفعلها في زمانكم لعلمنا أنه لا مصلحة في فعلها.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه الصلاة والسلام. أحدها: أن الله تعالى أزال العقدة من لسانه قيل في التفسير ذهبت العجمة وصار فصيحا. وثانيها: إنقلاب العصا حية. وثالثها: تلقف الحية حبالهم وعصيهم مع كثرتها. ورابعها: اليد البيضاء وخمسة أخر وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. والعاشر: شق البحر وهو قوله: * (وإذ فرقنا بكم البحر) * (البقرة: 50) والحادي عشر: الحجر وهو قوله: * (أن أضرب بعصاك الحجر) * (الأعراف: 160). الثاني عشر: إظلال الجبل وهو قوله تعالى: * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) *. والثالث عشر: إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه. والرابع عشر والخامس عشر: قوله تعالى: * (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات) * (الأعراف: 130). والسادس عشر: الطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير، روى ابن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله: * (تسع آيات بينات) * فذكر محمد بن كعب في مسألة التسع حل عقدة اللسان والطمس فقال عمر بن عبد العزيز هكذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال: يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا فيه بيض مكسور نصفين وجوز مكسور وفول وحمص وعدس كلها حجارة إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى ذكر في القرآن هذه المعجزات الستة عشر لموسى عليه الصلاة والسلام وقال في هذه الآية: * (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) * وتخصيص التسعة بالذكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه لأنا بينا في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد بل نقول إنما يتمسك في هذه المسألة بهذه الآية ثم نقول: أما هذه التسعة فقد اتفقوا على سبعة منها وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وبقي الاثنان ولكل واحد من المفسرين قول آخر فيهما ولما لم تكن تلك الأحوال مستندة إلى حجة ظنية فضلا عن حجة يقينية لا جرم تركت تلك الروايات، وفي تفسير قوله تعالى: * (تسع آيات بينات) * أقوال أجودها ما روى صفوان بن عسال أنه قال: إن يهوديا قال لصاحبه إذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه عنها فقال: هن أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا الفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود أن تعدلوا في السبت فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالوا نشهد إنك نبي ولولا نخاف القتل وإلا اتبعناك.
المسألة الثالثة: قوله: * (فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم) * فيه مباحث: البحث الأول: فيه وجوه: الوجه الأول: أنه اعتراض دخل في الكلام والتقدير: * (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) * - إذ جاء بني إسرائيل فاسألهم - وعلى هذا التقدير فليس المطلوب من
64

سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره الرسول فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد. والوجه الثاني: أن يكون قوله فاسأل بني إسرائيل أي سلهم عن فرعون. وقل له أرسل معي بني إسرائيل. والوجه الثالث: سل بني إسرائيل أي سلهم أن يوافقوك والتمس منهم الإيمان الصالح. وعلى هذا التأويل فالتقدير فقلنا له سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك.
البحث الثاني: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يسأل بني إسرائيل معناه الذين كانوا موجودين في زمان النبي صلى الله عليه وسلم والذين جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام هم الذين كانوا في زمانه إلا أن الذين كانوا في زمان محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا أولاد أولئك الذين كانوا في زمان موسى حسنت هذه الكناية. ثم أخبر تعالى أن فرعون قال لموسى: * (إني لأظنك يا موسى مسحورا) * (الإسراء: 45) وفي لفظ المسحور وجوه. الأول: قال الفراء: إنه بمعنى الساحر كالمشؤوم والميمون وذكرنا هذا في قوله: * (حجابا مستورا) * أنه مفعول من السحر أي أن الناس سحروك وخبلوك فتقول هذه الكلمات لهذا السبب. الثالث: قال محمد بن جرير الطبري معناه أعطيت علم السحر، فهذه العجائب التي تأتي بها من ذلك السحر ثم أجابه موسى عليه الصلاة والسلام بقوله: * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قرأ الكسائي علمت بضم التاء أي علمت أنها من علم الله فإن علمت وأقررت وإلا هلكت والباقون بالفتح وضم التاء قراءة علي وفتحها قراءة ابن عباس وكان علي رضي الله عنه يقول والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فاحتج بقوله: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * (النمل: 14) على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى عليه السلام قال الزجاج الأجود في القراءة الفتح لأن علم فرعون بأنها آيات نازلة من عند الله أوكد في الحجة فاحتجاج موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج بعلم نفسه. وأجاب الناصرون لقراءة علي عليه السلام عن دليل ابن عباس فقالوا قوله:: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * يدل على أنهم استيقنوا شيئا ما فأما أنهم استيقنوا كون هذه الآيات نازلة من عند الله فليس في الآية ما يدل عليه، وأجابوا عن الوجه الثاني بأن فرعون * (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * (الشعراء: 27) قال موسى: * (لقد علمت) * فكأنه نفي ذلك وقال لقد علمت صحة ما أتيت به علما صحيحا علم العقلاء. واعلم أن هذه الآيات من عند الله ولا تشك في ذلك بسبب سفاهتك.
البحث الثاني: التقدير ما أنزل هؤلاء الآيات ونظيره قوله: والعيش بعد أولئك الأقوام.
وقوله بصائر أي حججا بينة كأنها بصائر العقول وتحقيق الكلام أن المعجزة فعل خارق للعادة فعله فاعله لغرض تصديق المدعى ومعجزات موسى عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة
65

بهذين الوصفين لأنها كانت أفعالا خارقة للعادة وصرائح العقول تشهد بأن قلب العصا حية معجزة عظيمة لا يقدر عليها إلا الله ثم إن تلك الحية تلقفت حبال السحرة وعصيهم على كثرتها ثم عادت عصا كما كانت فأصناف تلك الأفعال لا يقدر عليها أحد إلا الله، وكذا القول في فرق البحر وإظلال الجبل فثبت أن تلك الأشياء ما أنزلها إلا رب السماوات. الصفة الثانية: أنه تعالى إنما خلقها لتدل على صدق موسى في دعوة النبوة، وهذا هو المراد من قوله: * (ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض) * حال كونها بصائر أي دالة على صدق موسى في دعواه وهذه الدقائق لا يمكن فهمها من القرآن إلا بعد إتقان علم الأصول وأقول يبعد أن يصير غير علم الأصول العقلي قاهرا في تفسير كلام الله ثم حكى تعالى أن موسى قال لفرعون: * (إني لأظنك يا فرعون مثبورا) * (الإسراء: 103) واعلم أن فرعون قال لموسى: * (وإني لأظنك يا موسى مسحورا) * فعارضه موسى وقال له: * (وإني لأظنك يا فرعون مثبورا) * قال الفراء: المثبور الملعون المحبوس عن الخير والعرب تقول ما ثبرك عن هذا أي ما منعك منه وما صرفك، وقال أبو زيد: يقال ثبرت فلانا عن الشيء أثبره أي رددته عنه، وقال مجاهد وقتادة هالكا، وقال الزجاج: يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا هلك، والثبور الهلاك، ومن معروف الكلام فلان يدعو بالويل والثبور عند مصيبة تناله، وقال تعالى: * (دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) * (الفرقان: 13، 14) واعلم أن فرعون لما وصف موسى بكونه مسحورا أجابه موسى بأنك مثبور يعني هذه الآيات ظاهرة، وهذه المعجزات قاهرة ولا يرتاب العاقل في أنها من عند الله وفي أنه تعالى إنما أظهرها لأجل تصديقي وأنت تنكرها فلا يحملك على هذا الإنكار إلا الحسد والعناد والغي والجهل وحب الدنيا ومن كان كذلك كانت عاقبته الدمار والثبور. ثم قال تعالى: * (فأراد أن يستفزهم من الأرض) * يعني أراد فرعون أن يخرجهم يعني موسى وقومه بني إسرائيل، ومعنى تفسير الاستفزاز تقدم في هذه السورة من الأرض يعني أرض مصر، قال الزجاج: لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منهم بالقتل أو بالتنحية ثم قال: * (فأغرقناه ومن معه جميعا) * المعنى ما ذكره الله تعالى في قوله: * (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) * (فاطر: 43) أراد فرعون أن يخرج موسى من أرض مصر لتخلص له تلك البلاد والله تعالى أهلك فرعون وجعل ملك مصر خالصة لموسى ولقومه وقال: * (لبني إسرائيل اسكنوا الأرض) * خالصة لكم خالية من عدوكم قال تعالى: * (فإذا جاء وعد الآخرة) * يريد القيامة * (جئنا بكم لفيفا) * من ها هنا وها هنا، واللفيف الجمع العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدنئ والمطيع والعاصي والقوي والضعيف. وكل شيء خلطته بشيء آخر فقد لففته، ومنه قيل لففت الجيوش إذا ضربت بعضها ببعض وقوله التفت الزحوف ومنه، التفت الساق بالساق، والمعنى جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطا يعني جميع الخلق المسلم والكافر والبر والفاجر.
66

قوله تعالى
* (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا * قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنآ إن كان وعد ربنا لمفعولا) *
اعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن معجز قاهر دال على الصدق في قوله: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن) * (الإسراء: 88) ثم حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز بل طلبوا سائر المعجزات، ثم أجاب الله بأنه لا حاجة إلى إظهار سائر المعجزات وبين ذلك بوجوه كثيرة، منها أن قوم موسى عليه الصلاة والسلام آتاهم الله تسع آيات بينات فلما جحدوا بها أهلكهم الله فكذا ها هنا، ثم إنه تعالى لو آتي قوم محمد تلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها وجب إنزال عذاب الاستئصال بهم وذلك غير جائز في الحكمة لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن والذي لا يؤمن فسيظهر من نسله من يصير مؤمنا، ولما تم هذا الجواب عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة درجته فقال: * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) * والمعنى أنه ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق وكما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع هذا المعنى وحصل وفي هذه الآية فوائد. الفائدة الأولى: أن الحق هو الثابت الذي لا يزول كما أن الباطل هو الزائل الذاهب، وهذا الكتاب الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ومشتمل أيضا على شريعة باقية لا يتطرق إليها النسخ والنقض والتحريف، وأيضا فهذا الكتاب كتاب تكفل الله بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9) فكان هذا الكتاب حقا من كل الوجوه. الفائدة الثانية: أن قوله: * (وبالحق أنزلناه) * يفيد الحصر
67

ومعناه أنه ما أنزل لمقصود آخر سوى إظهار الحق وقالت المعتزلة، وهذا يدل على أنه ما قصد بإنزاله إضلال أحد من الخلق ولا إغواؤه ولا منعه عن دين الله. الفائدة الثالثة: قوله: * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) * يدل على أن الإنزال غير النزول، فوجب أن يكون الخلق غير المخلوق وأن يكون التكوين غير المكون على ما ذهب إليه قوم. الفائدة الرابعة: قال أبو علي الفارسي الباء في قوله: * (وبالحق أنزلناه) * بمعنى مع كما تقول نزل بعدته وخرج بسلاحه، والمعنى أنزلنا القرآن مع الحق وقوله: * (وبالحق نزل) * فيه احتمالان، أحدهما: أن يكون التقدير نزل بالحق كما تقول نزلت بزيد وعلى هذا التقدير الحق محمد صلى الله عليه وسلم لأن القرآن نزل به أي عليه. الثاني: أن تكون بمعنى مع كما قلنا في قوله: * (وبالحق أنزلناه) * ثم قال تعالى: * (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) * والمقصود أن هؤلاء الجهال الذين يقترحون عليك هذه المعجزات ويتمردون عن قبول دينك لا شيء عليك من كفرهم فإني ما أرسلتك إلا مبشرا للمطيعين ونذيرا للجاحدين فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء.
ثم قال: * (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) * وفيه مباحث:
البحث الأول: أن القوم قالوا: هب إن هذا القرآن معجز إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة ليظهر فيه وجه الإعجاز فجعلوا إتيان الرسول بهذا القرآن متفرقا شبهة في أنه يتفكر في فصل فصل ويقرأه على الناس فأجاب الله عنه بأنه إنما فرقه ليكون حفظه أسهل ولتكون الإحاطة والوقوف على دقائقه وحقائقه أسهل.
البحث الثاني: قال سعيد بن جبير نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى، ثم فصل في السنين التي نزل فيها، قال قتادة: كان بين أوله وآخره عشرون سنة والمعنى قطعناه آية آية وسورة سورة ولم ننزله جملة لتقرأه على الناس على مكث بالفتح والضم على مهل وتؤدة أي لا على فورة. قال الفراء: يقال مكث ومكث يمكث، والفتح قراءة عاصم في قوله: * (فمكث غير بعيد) * (النمل: 22).
البحث الثالثة: الاختيار عند الأئمة فرقناه بالتخفيف وفسره أبو عمرو بيناه قال أبو عبيد: التخفيف أعجب إلي لأن تفسيره بيناه ومن قرأ بالتشديد لم يكن له معنى إلا أنه أنزل متفرقا فالفرق يتضمن التبيين ويؤكده ما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " ولم يقل يفترقا والتفرق مطاوع التفريق والافتراق مطاوع الفرق ثم قال: * (ونزلناه تنزيلا) * أي على الحد المذكور والصفة المذكورة ثم قال: * (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) * يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة على وجه التهديد والإنكار أي أنه تعالى أوضح البينات والدلائل وأزاح الأعذار فاختاروا ما تريدون ثم قال تعالى: * (إن الذين أوتوا العلم من قبله) * أي من قبل نزول القرآن قال مجاهد: هم ناس من أهل
68

الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم خروا سجدا منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام ثم قال: * (يخرون للأذقان سجدا) * وفيه أقوال: القول الأول: قال الزجاج: الذقن مجمع اللحيين وكلما يبتدئ الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذقن. والقول الثاني: أن الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخضوع والخشوع ربما مسح لحيته على التراب فإن اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب فقد أتى بغاية التعظيم. والقول الثالث: أن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه ومتى كان الأمر كذلك كان خروره على الذقن في موضع السجود فقوله: * (يخرون للأذقان) * كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته ثم بقي في الآية سؤالان. السؤال الأول: لم قال: * (يخرون للأذقان سجدا) * ولم يقل يسجدون؟ والجواب المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى أنهم يسقطون. السؤال الثاني: لم قال: * (يخرون للأذقان) * ولم يقل على الأذقان والجواب العرب تقول إذا خر الرجل فوقع على وجهه خر للذقن والله أعلم. ثم قال تعالى: * (ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا) * والمعنى أنهم يقولون في سجودهم: * (سبحان ربنا) * أي ينزهونه ويعظمونه: * (إن كان وعد ربنا لمفعولا) * أي بإنزال القرآن وبعث محمد وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب لأن الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم فهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد ثم قال: * (ويخرون للأذقان يبكون) * والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين وهما خرورهم للسجود وفي حال كونهم باكين عند استماع القرآن ويدل عليه قوله: * (ويزيدهم خشوعا) * ويجوز أن يكون تكرار القول دلالة على تكرار الفعل منهم وقوله: * (يبكون) * معناه الحال: * (ويزيدهم خشوعا) * أي تواضعا واعلم أن المقصود من هذه الآية تقرير تحقيرهم والازدراء بشأنهم
وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وامتناعهم منه وأنهم وإن لم يؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منهم.
قوله تعالى
* (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الاسمآء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا * وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن
69

له ولى من الذل وكبره تكبيرا) *
قال صاحب " الكشاف " المراد بهما الاسم لا المسمى والواو للتخيير بمعنى: * (ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * أي سموا بهذا الاسم أو بهذا أو اذكروا إما هذا وإما هذا والتنوين في * (أيا) * عوض عن المضاف إليه و * (ما) * صلة للإبهام المؤكد لما في أي والتقدير أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم * (فله الأسماء الحسنى) * والضمير في قوله: * (فله) * ليس براجع إلى أحد الإسمين المذكورين ولكن إلى مسماهما وهو ذاته عز وعلا والمعنى: * (أيا ما تدعوا) * فهو حسن فوضع موضعه قوله: * (فله الأسماء الحسنى) * لأنه إذا حسنت أسماؤه فقد حسن هذان الإسمان لأنهما منها ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التحميد والتقديس وقد سبق الاستقصاء في هذا الباب في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله: * (ولله الأسماء الحسنى) * فادعوه بها واحتج الجبائي بهذه الآية فقال: لو كان تعالى هو الخالق للظلم والجور لصح أن يقال يا ظالم وحينئذ يبطل ما ثبت في هذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة. والجواب: أنا لا نسلم أنه لو كان خالقا لأفعال العباد لصح وصفه بأنه ظالم وجائر كما أنه لا يلزم من كونه خالقا للحركة والسكون والسواد والبياض أن يقال يا متحرك ويا ساكن ويا أسود ويا أبيض فإن قالوا فيلزم جواز أن يقال يا خالق الظلم والجور قلنا فيلزمكم أن تقولوا يا خالق العذرات والديدان والخنافس وكما أنكم تقولون أن ذلك حق في نفس الأمر ولكن الأدب أن يقال يا خالق السماوات والأرض فكذا قولنا هنا، ثم قال تعالى: * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قوله: * (ولا تجهر بصلاتك) * فيه أقوال. الأول: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه: * (ولا تجهر بصلاتك) * فيسمع المشركون فيسبوا الله عدوا بغير علم: * (ولا تخافت بها) * فلا تسمع أصحابك وابتغ بين ذلك سبيلا. القول الثاني: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالليل على دور الصحابة، وكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته، فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لم تخفي صوتك؟ فقال أناجي ربي، وقد علم حاجتي وقال لعمر لم ترفع صوتك؟ فقال أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا وعمر أن يخفض صوته قليلا. القول الثالث: معناه: * (ولا تجهر بصلاتك) * كلها * (ولا تخافت بها) * كلها وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل
70

وتخافت بصلاة النهار. والقول الرابع: أن المراد بالصلاة الدعاء وهذا قول عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة ومجاهد قالت عائشة رضي الله عنها هي في الدعاء وروى هذا مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية إنما ذلك في الدعاء والمسألة لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعير بها فالجهر بالدعاء منهي عنه والمبالغة في الإسرار غير جائزة والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال لم يخافت من أسمع أذنيه. والقول الخامس: قال الحسن لا تراه بعلانيتها ولا تسئ بسريتها.
البحث الثاني: الصلاة عبارة عن مجموع الأفعال والأذكار والجهر والمخافتة من عوارض الصوت، فالمراد ههنا من الصلوات بعض أجزاء ماهية الصلاة وهو الأذكار والقرآن وهو من باب إطلاق اسم الكل لإرادة الجزء. البحث الثالث: يقال خفت صوته يخفت خفتا وخفوتا إذا ضعف وسكن وصوت خفيت أي خفيض ومنه يقال للرجل إذا مات قد خفت أي انقطع كلامه وخفت الزرع إذا ذبل وخفت الرجل يخافت بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت وقد تخافت القوم إذا تساروا بينهم وأقول ثبت في كتب الأخلاق أن كلا طرفي الأمور ذميم والعدل هو رعاية الوسط ولهذا المعنى مدح الله هذه الأمة بقوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) وقال في مدح المؤمنين: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) * (الفرقان: 67) وأمر الله رسوله فقال: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) * (الإسراء: 29) فكذا ههنا نهى عن الطرفين وهو الجهر والمخافتة وأمر بالتوسط بينهما فقال: * (وابتغ بين ذلك سبيلا) * ومنهم من قال الآية منسوخة بقوله: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * (الأعراف: 55) وهو بعيد واعلم أنه تعالى لما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد فقال: * (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) * فذكر ههنا من صفات التنزيه والجلال وهي السلوب ثلاثة أنواع من الصفات. النوع الأول: من الصفات أنه لم يتخذ ولدا والسبب فيه وجوه. الأول: أن الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء شيء آخر فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء والمركب محدث والمحدث محتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد. الثاني: أن كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض كل تلك النعم على عبيده. الثالث: أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه وفنائه فلو كان له ولد لكان منقضيا ومن كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق. والنوع الثاني: من الصفات السلبية قوله: * (ولم يكن له شريك في الملك) * والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك فحينئذ لا يعرف كونه مستحقا للحمد والشكر. والنوع الثالث: قوله: * (ولم يكن له ولي من الذل) * والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو جاز عليه ولي من الذل لم يجب شكره لتجويز أن غيره حمله
71

على ذلك الإنعام أو منعه منه، أما إذا كان منزها عن الولد وعن الشريك وكان منزها عن أن يكون له ولي يلي أمره كان مستوجبا لأعظم أنواع الحمد ومستحقا لأجل
أقسام الشكر ثم قال تعالى: * (وكبره تكبيرا) * ومعناه أن التحميد يجب أن يكون مقرونا بالتكبير ويحتمل أنواعا من المعاني. أولها: تكبيره في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل ما سواه. وثانيها: تكبيره في صفاته وذلك من ثلاثة أوجه. أولها: أن يعتقد أن كل ما كان صفة له فهو من صفات الجلال والعز والعظمة والكمال وهو منزه عن كل صفات النقائص. وثالثها: أن يعتقد أن كل واحد من تلك الصفات متعلق بما لا نهاية له من المعلومات وقدرته متعلقة بما لا نهاية له من المقدورات والممكنات. ورابعها: أن يعتقد أنه كما تقدست ذاته عن الحدوث وتنزهت عن التغير والزوال والتحول والانتقال فكذلك صفاته أزلية قديمة سرمدية منزهة عن التغير والزوال والتحول والانتقال. النوع الثالث: من تكبير الله تكبيره في أفعاله وعند هذا تختلف أهل الجبر والقدر فقال أهل السنة إنا نحمد الله ونكبره ونعظمه على أن يجري في سلطانه شيء لا على وفق حكمه وإرادته فالكل واقع بقضاء الله وقدرته ومشيئته وإرادته، وقالت المعتزلة إنا نكبر الله ونعظمه عن أن يكون فاعلا لهذه القبائح والفواحش بل نعتقد أن حكمته تقتضي التنزيه والتقديس عنها وعن إرادتها وسمعت أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني كان جالسا في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني فلما رآه قال سبحان من تنزه عن الفحشاء فقال الأستاذ أبو إسحاق: سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء. النوع الرابع: تكبير الله في أحكامه وهو أن يعتقد أنه ملك مطاع وله الأمر والنهي والرفع والخفض وأنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء ويذل من يشاء. النوع الخامس: تكبير الله في أسمائه وهو أن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية المنزهة. النوع السادس: من التكبير هو أن الإنسان بعد أن يبلغ في التكبير والتعظيم والتنزيه والتقديس مقدار عقله وفهمه وخاطره يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال الله، ولسانه لا يفي بشكره، وجوارحه وأعضاؤه لا تفي بخدمته فكبر الله عن أن يكون تكبيره وافيا بكنه مجده وعزته. وهذا أقصى ما يقدر عليه العبد الضعيف من التكبير والتعظيم ونسأل الله تعالى الرحمة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت إنه الكريم الرحيم وبالله العصمة والتوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل.
72

سورة الكهف
مائة وإحدى عشرة آية مكية
قال ابن عباس انها مكية غير آيتين منها فيما ذكر عيينة بن حصن الفزاري وعن قتادة أنها مكية وعن رسول الله ص قال ‌ (ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك حين نزلت؟ هي سورة الكهف).
بسم الله الرحمن الرحيم
* (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أما الكلام في حقائق قولنا: * (الحمد لله) * فقد سبق، والذي أقوله ههنا أن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدما على التحميد، ألا ترى أنه يقال: * (سبحان الله والحمد لله) * إذا عرفت هذا فنقول: إنه جل جلاله ذكر التسبيح عندما أخبر أنه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) * (الإسراء: 1) وذكر التحميد عندما ذكر أنه أنزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم فقال: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) * وفيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن التسبيح أول الأمر لأنه عبارة عن تنزيه الله عما لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه كاملا في ذاته والتحميد عبارة عن كونه مكملا لغيره، ولا شك أن أول الأمر هو كونه كاملا في ذاته. ونهاية الأمر كونه مكملا لغيره. فلا جرم وقع الابتداء في الذكر بقولنا سبحان الله ثم ذكر بعده الحمد لله تنبيها على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية. إذا عرفت هذا فنقول: ذكر عند الإسراء لفظ التسبيح وعند إنزال الكتاب لفظ التحميد. وهذا تنبيه على أن الإسراء به
73

أول درجات كماله وإنزال الكتاب غاية درجات كماله، والأمر في الحقيقة كذلك لأن الإسراء به إلى المعراج يقتضي حصول الكمال له، وإنزال الكتاب عليه يقتضي كونه مكملا للأرواح البشرية وناقلا لها من حضيض البهيمية إلى أعلى درجات الملكية، ولا شك أن هذا الثاني أكمل. وهذا تنبيه على أن أعلى مقامات العباد مقاما أن يصير (العبد) عالما في ذاته معلما لغيره ولهذا روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: " من تعلم وعلم فذاك يدعى عظيما في السماوات ".
الفائدة الثانية: أن الإسراء عبارة عن رفع ذاته من تحت إلى فوق وإنزال الكتاب عليه عبارة عن إنزال نور الوحي عليه من فوق إلى تحت، ولا شك أن هذا الثاني أكمل.
الفائدة الثالثة: أن منافع الإسراء به كانت مقصورة عليه ألا ترى أنه تعالى قال هنالك: * (لنريه من آياتنا) * (الإسراء: 1) ومنافع إنزال الكتاب عليه متعدية، ألا ترى أنه قال: * (لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين) * والفوائد المتعدية أفضل من القاصرة.
المسألة الثانية: المشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق. والجواب عنه مذكور بالتمام في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) * (الأعراف: 54).
المسألة الثالثة: إنزال الكتاب نعمة عليه ونعمة علينا، أما كونه نعمة عليه فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علوم التوحيد والتنزيه وصفات الجلال والإكرام وأسرار أحوال الملائكة والأنبياء وأحوال القضاء والقدر، وتعلق أحوال العالم السفلي بأحوال العالم العلوي، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب، وكيفية ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات، وتصيير النفس كالمرآة التي يتجلى فيها عالم الملكوت وينكشف فيها قدس اللاهوت فلا
شك أن ذلك من أعظم النعم، وأما كون هذا الكتاب نعمة علينا فلأنه مشتمل على التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والثواب والعقاب، وبالجملة فهو كتاب كامل في أقصى الدرجات فكل واحد ينتفع به بمقدار طاقته وفهمه فلما كان كذلك وجب على الرسول وعلى جميع أمته أن يحمدوا الله عليه فعلمهم الله تعالى كيفية ذلك التحميد فقال: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) * ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين فقال: * (ولم يجعل له عوجا قيما) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: أنا قد ذكرنا أن الشيء يجب أن يكون كاملا في ذاته ثم يكون مكملا لغيره ويجب أن يكون تاما في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عليه كمال الغير إذا عرفت هذا فنقول في قوله: * (ولم يجعل له عوجا) * إشارة إلى كونه كاملا في ذاته وقوله: * (قيما) * إشارة إلى كونه مكملا لغيره لأن القيم عبارة عن القائم بمصالح الغير ونظيره قوله في أول سورة البقرة في صفة الكتاب: * (لا ريب فيه هدى للمتقين) * (البقرة: 2) فقوله: * (لا ريب فيه) * إشارة إلى كونه في نفسه بالغا في الصحة وعدم
74

الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه وقوله: * (هدى للمتقين) * إشارة إلى كونه سببا لهداية الخلق وإكمال حالهم فقوله: * (ولم يجعل له عوجا) * قائم مقام قوله: * (لا ريب فيه) * وقوله: * (قيما) * قائم مقام قوله: * (هدى للمتقين) * وهذه أسرار لطيفة.
البحث الثاني: قال أهل اللغة العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد منه وجوه: أحدها: نفي التناقض عن آياته كما قال: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82). وثانيها: أن كل ما ذكر الله من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف فهو حق وصدق ولا خلل في شيء منها البتة. وثالثها: أن الإنسان كأنه خرج من عالم الغيب متوجها إلى عالم الآخرة وإلى حضرة جلال الله وهذه الدنيا كأنها رباط بني على طريق عالم القيامة حتى أن المسافر إذا نزل فيه اشتغل بالمهمات التي يجب رعايتها في هذا السفر ثم يرتحل منه متوجها إلى عالم الآخرة فكل ما دعاه في الدنيا إلى الآخرة ومن الجسمانيات إلى الروحانيات ومن الخلق إلى الحق ومن اللذات الشهوانية الجسدانية إلى الاستنارة بالأنوار الصمدانية فثبت أنه مبرأ عن العوج والانحراف والباطل فلهذا قال تعالى: * (ولم يجعل له عوجا) *. الصفة الثانية: للكتاب وهي قوله: * (قيما) * قال ابن عباس يريد مستقيما وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الإعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار وأنه باطل، بل الحق ما ذكرناه وأن المراد من كونه: * (قيما) * أنه سبب لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيما للأطفال، فالأرواح البشرية كالأطفال، والقرآن كالقيم الشفيق القائم بمصالحهم.
البحث الثالث: قال الواحدي جميع أهل اللغة والتفسير قالوا هذا من التقديم والتأخير والتقدير: أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. وأقول قد بينا ما يدل على فساد هذا الكلام لأنا بينا أن قوله: * (ولم يجعل له عوجا) * يدل على كونه كاملا في ذاته، وقوله: * (قيما) * يدل على كونه مكملا لغيره وكونه كاملا في ذاته متقدم بالطبع على كونه مكملا لغيره فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله تعالى وهو قوله: * (ولم يجعل له عوجا قيما) * فظهر أن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه.
البحث الرابع: اختلف النحويون في انتصاب قوله: * (قيما) * وذكروا فيه وجوها. الأول: قال صاحب " الكشاف " لا يجوز جعله حالا من الكتاب لأن قوله: * (ولم يجعل له عوجا) * معطوف على قوله: * (أنزل) * فهو داخل في حيز الصلة فجعله حالا من الكتاب يوجب الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وأنه لا يجوز. قال: ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير: * (ولم يجعل له عوجا) * - وجعله - * (قيما) *. الوجه الثاني: قال الأصفهاني الذي نرى فيه أن يقال قوله: * (ولم يجعل له عوجا) * حال وقوله: * (قيما) * حال أخرى وهما حالان متواليان والتقدير أنزل على عبده الكتاب غير مجعول له عوجا قيما. الوجه الثالث: قال السيد صاحب " حل العقد "
75

يمكن أن يكون قوله: * (قيما) * بدلا من قوله: * (ولم يجعل له عوجا) * لأن معنى: * (لم يجعل له عوجا) * أنه جعله مستقيما فكأنه قيل: * (أنزل على عبده الكتاب) * وجعله: * (قيما) *. الوجه الرابع: أن يكون حالا من الضمير في قوله: * (ولم يجعل له عوجا) * أي حال كونه قائما بمصالح العباد وأحكام الدين، واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه: * (أنزل على عبده الكتاب) * الموصوف بهذه الصفات المذكورة أردفه ببيان ما لأجله أنزله فقال: * (لينذر بأسا شديدا من لدنه) * وأنذر متعد إلى مفعولين كقوله: * (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) * (النبأ: 40) إلا أنه اقتصر ههنا على أحدهما وأصله * (لينذر) * - الذين كفروا - * (بأسا شديدا) * كما قال في ضده: * (ويبشر المؤمنين) * والبأس مأخوذ من قوله تعالى: * (بعذاب بئيس) * وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأسا وبآسة وقوله: * (من لدنه) * أي صادرا من عنده قال الزجاج وفي: * (لدن) * لغات يقال لدن ولدي ولد والمعنى واحد، قال وهي لا تتمكن تمكن عند لأنك تقول هذا القول صواب عندي ولا تقول صواب لدني وتقول عندي مال عظيم والمال غائب عنك ولدني لما يليك لا غير وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بسكون الدال مع إشمام الضم وكسر النون والهاء وهي لغة بني كلاب ثم قال تعالى: * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا) * واعلم أن المقصود من إرسال الرسل إنذار المذنبين وبشارة المطيعين، ولما كان دفع الضرر أهم عند (ذوي) لعقول من إيصال النفع لا جرم قدم الإنذار على التبشير في اللفظ، قال صاحب " الكشاف " وقرئ ويبشر بالتخفيف والتثقيل وقوله: * (ماكثين فيه أبدا) * يعني خالدين وهو حال للمؤمنين من قوله: * (أن لهم أجرا) *، قال القاضي: الآية دالة على صحة قولنا في مسائل، أحدها: أن القرآن مخلوق وبيانه من وجوه. الأول: أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزول وذلك من صفات المحدثات فإن القديم لا يجوز عليه التغير. الثاني: وصفه بكونه كتابا والكتب هو الجمع وهو سمي كتابا لكونه مجموعا من الحروف والكلمات وما صح فيه التركيب والتأليف فهو محدث. الثالث: أنه تعالى أثبت الحمد لنفسه على إنزال الكتاب والحمد إنما يستحق على النعمة والنعمة محدثة مخلوقة. الرابع: أنه وصف الكتاب بأنه غير معوج وبأنه مستقيم والقديم لا يمكن وصفه بذلك فثبت أنه محدث
مخلوق. وثانيها: مسألة خلق الأعمال فإن هذه الآيات تدل على قولنا في هذه المسألة من وجوه. الأول: نفس الأمر بالحمد لأنه لو لم يكن للعبد فعل لم ينتفع بالكتاب إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر على أن يفعل ما دل الكتاب على أنه يجب فعله ويترك ما دل الكتاب على أنه يجب تركه وهو إنما يفعل ذلك لو كان مستقلا بنفسه، أما إذا لم يكن مستقلا بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثر في اعوجاج فعله ولم يكن لكون الكتاب قيما أثر في استقامة فعله، أما إذا كان العبد قادرا على الفعل مختارا فيه بقي لعوج الكتاب واستقامته أثر في فعله. والثاني: أنه تعالى لو كان أنزل بعض الكتاب ليكون سببا لكفر البعض وأنزل الباقي ليؤمن البعض الآخر فمن أين أن الكتاب قيم لا عوج فيه؟ لأنه لو كان فيه عوج لما زاد على ذلك. والثالث: قوله: * (لينذر) * وفيه دلالة على أنه تعالى أراد منه صلى الله عليه وسلم
76

إنذار الكل وتبشير الكل وبتقدير أنه يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذار والتبشير معنى لأنه تعالى إذا خلق الإيمان فيه حصل شاء أو لم يشأ وإذا خلق الكفر فيه حصل شاء أو لم يشاء فبقي الإنذار والتبشير على الكفر والإيمان جاريا مجرى الإنذار والتبشير على كونه طويلا قصيرا وأسود وأبيض مما لا قدرة له عليه. والرابع: وصفه المؤمنين بأنهم يعملون الصالحات فإن كان ما وقع خلق الله تعالى فلا عمل لهم البتة. الخامس: إيجابه لهم الأجر الحسن على ما عملوا فإن كان الله تعالى يخلق ذلك فيهم فلا إيجاب ولا استحقاق.
المسألة الرابعة: قال قوله: * (لينذر) * يدل على أنه تعالى إنما يفعل أفعاله لأغراض صحيحة وذلك يبطل قول من يقول إن فعله غير معلل بالغرض، واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة.
قوله تعالى
* (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لابآئهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا * فلعلك باخع نفسك على ءاثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله تعالى: * (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) * معطوف على قوله: * (لينذر بأسا شديدا من لدنه) * (الكهف: 2) والمعطوف يجب كونه مغايرا للمعطوف عليه فالأول عام في حق كل من استحق العذاب. والثاني خاص بمن أثبت لله ولدا، وعادة القرآن جارية بأنه إذا ذكر قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيها على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي كقوله تعالى: * (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (البقرة: 98) فكذا ههنا العطف يدل على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى.
المسألة الثانية: الذين أثبتوا الولد لله تعالى ثلاث طوائف. أحدها: كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله. وثانيها: النصارى حيث قالوا: المسيح ابن الله. وثالثها: اليهود الذين قالوا: عزيز ابن الله، والكلام في أن إثبات الولد لله كفر عظيم ويلزم منه محالات عظيمة قد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: * (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) * (الأنعام: 10) وتمامه مذكور في سورة مريم، ثم إنه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد لله تعالى من وجهين. الأول: قوله: * (ما لهم
77

به من علم ولا لآبائهم) * فإن قيل اتخاذ الله ولدا محال في نفسه فكيف قيل ما لهم به من علم؟ قلنا: انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه، وقد يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به. ونظيره قوله: * (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) * (المؤمنون: 117) واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية فقالوا: هذه الآية تدل على أن القول في الدين بغير علم باطل، والقول بالقياس الظني قول في الدين بغير علم فيكون باطلا وتمام تقريره مذكور في قوله: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (الإسراء: 36) وقوله: * (ولا لآبائهم) * أي ولا أحد من أسلافهم، وهذا مبالغة في كون تلك المقالة باطلة فاسدة. النوع الثاني: مما ذكره الله في إبطاله قوله: * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قرىء: * (كبرت كلمة) * بالنصب على التمييز وبالرفع على الفاعلية، قال الواحدي ومعنى التمييز أنك إذا قلت كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذبا أو جهلا أو افتراء، فلما قلت كلمة ميزتها من محتملاتها فانتصبت على التمييز والتقدير كبرت الكلمة كلمة فحصل فيه الإضمار، أما من رفع فلم يضمر شيئا كما تقول عظم فلان فلذلك قال النحويون والنصب أقوى وأبلغ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أكبرها كلمة.
البحث الثاني: قوله: * (كبرت) * أي كبرت الكلمة. والمراد من هذه الكلمة ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله: * (قالوا اتخذ الله ولدا) * فصارت مضمرة في كبرت وسميت كلمة كما يسمون القصيدة كلمة.
البحث الثالث: احتج النظام في إثبات قوله: أن الكلام جسم بهذه الآية قال: إنه تعالى وصف الكلمة بأنها تخرج من أفواههم والخروج عبارة عن الحركة؛ والحركة لا تصح إلا على الأجسام. والجواب أن الحروف إنما تحدث بسبب خروج النفس عن الحلق، فلما كان خروج النفس سببا لحدوث الكلمة أطلق لفظ الخروج على الكلمة. البحث الرابع: قوله: * (تخرج من أفواههم) * يدل على أن هذا الكلام مستكره جدا عند العقل؛ كأنه يقول: هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتة لكونه في غاية الفساد والبطلان، فكأنه شيء يجري به لسانهم على سبيل التقليد، لأنهم مع أنها قولهم عقولهم وفكرهم تأباها وتنفر عنها ثم قال تعالى: * (إن يقولون إلا كذبا) * ومعناه ظاهر، واعلم أن الناس قد اختلفوا في حقيقة الكذب. فعندنا أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه سواء اعتقد المخبر أنه مطابق أم لا؟ ومن الناس من قال شرط كونه كذبا أن لا يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق، وهذا القيد عندنا باطل، والدليل عليه هذه الآية فإنه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذبا، مع
أن الكثير منهم يقول ذلك، ولا يعلم كونه باطلا، فعلمنا أن كل خبر لا يطابق المخبر عنه فهو كذب سواء علم القائل بكونه مطابقا أو لم يعلم، ثم قال تعالى: * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) * وفيه مباحث:
78

البحث الأول: المقصود منه أن يقال للرسول: لا يعظم حزنك وأسفك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذرا ومبشرا فأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه. والغرض تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عنه.
البحث الثاني: قال الليث: بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظا من شدة وجده بالشيء. وقال الأخفش والفراء أصل البخع الجهد. يقال: بخعت لك نفسي أي جهدتها، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عمر فقالت: بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك. وقال الكسائي: بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة وبخع الرجل نفسه إذا نهكها وعلى هذا معنى: * (باخع نفسك) * أي ناهكها وجاهدها حتى تهلكها ولكن أهل التأويل كلهم قالوا: قاتل نفسك ومهلكها والأصل ما ذكرناه، هكذا قال الواحدي.
البحث الثالث: قوله: * (على آثارهم) * أي من بعدهم يقال مات فلان على أثر فلان أي بعده وأصل هذا أن الإنسان إذا مات بقيت علاماته وآثاره بعد موته مدة ثم إنها تنمحي وتبطله بالكلية، فإذا كان موته قريبا من موت الأول كان موته حاصلا حال بقاء آثار الأول فصح أن يقال مات فلان على أثر فلان.
البحث الرابع: قوله؛ * (إن لم يؤمنوا بهذا الحديث) * المراد بالحديث القرآن. قال القاضي: وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث وذلك يدل على فساد قول من يقول: إنه قديم وجوابه أنه محمول على الألفاظ وهي حادثة.
البحث الخامس: قوله: * (أسفا) * الأسف المبالغة في الحزن وذكرنا الكلام فيه عند قوله: * (غضبان أسفا) * في سورة الأعراف وعند قوله: * (يا أسفا على يوسف) * وفي انتصابه وجوه. الأول: أنه نصب على المصدر ودل ما قبله من الكلام على أنه يأسف. الثاني: يجوز أن يكون مفعولا له أي للأسف كقولك جئتك ابتغاء الخير. والثالث: قال الزجاج: * (أسفا) * منصوب لأنه مصدر في موضع الحال.
البحث السادس: الفاء في قوله: * (فلعلك) * جواب الشرط وهو قوله: * (إن لم يؤمنوا) * قدم عليه ومعناه التأخير.
* (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) *
في الآية مسائل:
79

المسألة الأولى: قال القاضي: وجه النظم كأنه تعالى يقول: يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمردون مع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم. فأنت أيضا يا محمد ينبغي أن لا تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق.
المسألة الثانية: اختلفوا في تفسير هذه الزينة فقال بعضهم النبات والشجر وضم بعضهم إليه الذهب والفضة والمعادن، وضم بعضهم إلى سائر الحيوانات وقال بعضهم بل المراد الناس فهم زينة الأرض. وبالجملة فليس بالأرض إلا المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان. وقال القاضي: الأولى أنه لا يدخل في هذه الزينة المكلف لأنه تعالى قال: * (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم) * فمن يبلوه يجب أن لا يدخل في ذلك فأما سائر النبات والحيوان فإنهم يدخلون فيه كدخول سائر ما ينتفع به، وقوله: * (زينة لها) * أي للأرض ولا يمتنع أن يكون ما يحسن به الأرض زينة للأرض كما جعل الله السماء مزينة بزينة الكواكب. أما قوله: * (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذهب هشام بن الحكم إلى أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند دخولها في الوجود، فعلى هذا الابتلاء والامتحان على الله جائز، واحتج عليه بأنه تعالى لو كان عالما بالجزئيات قبل وقوعها لكان كل ما علم وقوعه واجب الوقوع وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوع وإلا لزم انقلاب علمه جهلا وذلك محال والمفضي إلى المحال محال ولو كان ذلك واجبا فالذي علم وقوعه يجب كونه فاعلا له ولا قدرة له على الترك والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع ولا قدرة له على الفعل وعلى هذا يلزم أن لا يكون الله قادرا على شيء أصلا بل يكون موجبا بالذات وأيضا فيلزم أن لا يكون للعبد قدرة لا على الفعل ولا على الترك لأن ما علم الله وقوعه امتنع من العبد تركه وما علم الله عدمه امتنع منه فعله، فالقول بكونه تعالى عالما بالأشياء قبل وقوعها يقدح في الربوبية وفي العبودية وذلك باطل فثبت أنه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها وعلى هذا التقدير فالابتلاء والامتحان والاختبار جائز عليه وعند هذا قال: يجري قوله تعالى: * (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) * على ظاهره. وأما جمهور علماء الإسلام فقد استبعدوا هذا القول وقالوا: إنه تعالى من الأزل إلى الأبد عالم بجميع الجزئيات فالابتلاء والامتحان محالان عليه وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة لو صدرت تلك المعاملة عن غيره لكان ذلك على سبيل الإبتلاء والامتحان وقد ذكرنا هذه المسألة مرارا كثيرة.
المسألة الثانية: قال القاضي: معنى قوله: * (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) * هو أنه يبلوهم ليبصرهم أيهم أطوع لله وأشد استمرارا على خدمته لأن من هذا حاله هو الذي يفوز بالجنة فبين تعالى أنه كلف لأجل ذلك لا لأجل أن يعصى، فدل ذلك على بطلان قول من يقول: خلق بعضهم للنار.
80

المسألة الثالثة: اللام في قوله: * (لنبلوهم) * تدل ظاهرا على أن أفعال الله معللة بالأغراض عند المعتزلة، وأصحابنا قالوا: هذا محال لأن التعليل بالغرض إنما يصح في حق من لا يمكنه تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة، وهذا يقتضي العجز وهو على الله محال.
المسألة الرابعة: قال الزجاج: أيهم رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى لنختبر ونمتحن هذا أحسن عملا أم ذاك، ثم قال تعالى: * (وإن لجاعلون ما
عليها صعيدا جرزا) * والمعنى أنه تعالى بين أنه إنما زين الأرض لأجل الإمتحان والابتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعما أبدا لأنه يزهد فيها بقوله: * (وإنا لجاعلون ما عليها) * الآية ونظيره قوله: * (كل من عليها فان) * (الرحمن: 26) وقوله: * (فيذرها قاعا) * (طه: 106) الآية، وقوله: * (وإذا الأرض مدت) * (الإنشقاق: 13) الآية. والمعنى أنه لا بد من المجازاة بعد فناء ما على الأرض، وتخصيص الإبطال والإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أن سائر الآيات دلت على أن الأرض أيضا لا تبقى وهو قوله: * (يوم تبدل الأرض غير الأرض) * (إبراهيم: 48) قال أبو عبيدة: الصعيد المستوي من الأرض، وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه، وقد ذكرنا تفسير الصعيد في آية التيمم، وأما الجرز فقال الفراء: الجرز الأرض التي لا نبات عليها، يقال: جرزت الأرض فهي مجروزة، وجرزها الجراد والشاء والإبل إذا أكلت ما عليها، وامرأة جروز إذا كانت أكولا، وسيف جراز إذا كان مستأصلا، ونظيره قوله تعالى: * (نسوق الماء إلى الأرض الجرز) * (السجدة: 27).
* (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من ءاياتنا عجبا * إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنآ ءاتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا * فضربنا على ءاذانهم فى الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان فقال تعالى: أم حسبت أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط، فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب، فإن من كان قادرا على تخليق السماوات والأرض ثم يزين الأرض بأنواع المعادن
81

والنبات والحيوان ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية عن الكل كيف يستبعدون من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم، هذا هو الوجه في تقرير النظم، والله أعلم.
المسألة الثانية: قد ذكرنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله: * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 85) وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحا فقال كان النضر بن الحارث من شياطين قريش وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا ذكر فيه الله وحدث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام، فقال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس، ثم إن قريشا بعثوه وبعثوا معه عتبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما سلوهم عن محمد وصفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما إلى المدينة فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإن حديثهم عجب، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح وما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي وإلا فهو متقول، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا: قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد، وأخبروا بما قاله اليهود فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخبركم بما سألتم عنه غدا " ولم يستثن، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة حتى أرجف أهل مكة به، وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة فشق عليه ذلك، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم، وفيها خبر أولئك الفتية، وخبر الرجل الطواف.
المسألة الثالثة: الكهف الغار الواسع في الجبل فإذا صغر فهو الغار، وفي الرقيم أقوال. الأول: روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: كل القرآن أعلمه إلا أربعة غسلين وحنانا والأواه والرقيم. الثاني: روى عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الرقيم فقال زعم كعب أنها القرية التي خرجوا منها وهو قول السدي. الثالث: قال سعيد بن جبير ومجاهد: الرقيم لوح من حجارة وقيل من رصاص كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وشد ذلك اللوح على باب الكهف، وهذا قول جميع أهل المعاني والعربية قالوا الرقيم الكتاب، والأصل فيه المرقوم، ثم نقل إلى فعيل، والرقم الكتابة، ومنه قوله تعالى: * (كتاب مرقوم) * (المطففين: 9) أي مكتوب، قال الفراء: الرقيم لوح كان فيه أسماؤهم وصفاتهم، ونظن أنه إنما سمي رقيما لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه، وقيل الناس رقموا حديثهم نقرا في جانب الجبل، وقوله: * (كانوا من آياتنا عجبا) * المراد أحسبت أن واقعتهم كانت عجيبة في
82

أحوال مخلوقاتنا فلا تحسب ذلك فإن تلك الواقعة ليست عجيبة في جانب مخلوقاتنا، والعجب ههنا مصدر سمي المفعول به، والتقدير كانوا معجوبا منهم، فسموا بالمصدر والمفعول به من هذا يستعمل باسم المصدر، ثم قال تعالى: * (إذ أوى الفتية إلى الكهف) * لا يجوز أن يكون إذ هنا متعلقا بما قبله على تقدير أم حسبت إذ أوى الفتية لأنه كان بين النبي وبينهم مدة طويلة فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف بل يتعلق بمحذوف، والتقدير أذكر إذ أوى، ومعنى أوى الفتية في الكهف صاروا إليه وجعلوه مأواهم قال فقالوا: * (ربنا آتنا من لدنك رحمة) * أي رحمة من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وإحسانك وهي الهداية بالمعرفة والصبر والرزق والأمن من الأعداء وقوله من لدنك يدل على عظمة تلك الرحمة وهي التي تكون لائقة بفضل الله تعالى وواسع جوده وهيئ لنا أي أصلح من قولك هيأت الأمر فتهيأ: * (من أمرنا رشدا) * الرشد والرشاد نقيض الضلال وفي تفسير اللفظ وجهان. الأول: التقدير وهيئ لنا أمرا ذا رشد حتى نكون بسببه راشدين مهتدين. الثاني: اجعل أمرنا رشدا كله كقولك رأيت منك رشدا ثم قال تعالى: * (فضربنا على آذانهم) * قال المفسرون: معناه أنمناهم وتقدير الكلام أنه تعالى ضرب على آذانهم حجابا يمنع من أن تصل إلى أسماعهم الأصوات الموقظة والتقدير ضربنا عليهم حجابا إلا أنه حذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال بنى على امرأته يريدون بنى عليها
القبة ثم إنه تعالى بين أنه ضرب على آذانهم في الكهف وهو ظرف المكان وقوله سنين عددا ظرف الزمان وفي قوله عددا بحثان. الأول: قال الزجاج ذكر العدد ههنا يفيد كثرة السنين وكذلك كل شيء مما يعد إذا ذكر فيه العدد ووصف به أريد كثرته لأنه إذا قل فهم مقداره بدون التعديد أما إذا أكثر فهناك يحتاج إلى التعديد فإذا قلت أقمت أياما عددا أردت به الكثرة.
البحث الثاني: في انتصاب قوله عددا وجهان. أحدهما: نعت لسنين المعنى سنين ذات عدد أي معدودة هذا قول الفراء وقول الزجاج وعلى هذا يجوز في الآية ضربان من التقدير، أحدهما: حذف المضاف. والثاني: تسمية المفعول باسم المصدر. قال الزجاج: ويجوز أن ينتصب على المصدر، المعنى تعد عدا ثم قال تعالى: * (ثم بعثناهم) * يريد من بعد نومهم يعني أيقظناهم بعد نومهم وقوله: * (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (ثم بعثناهم) * لنعلم اللام لام الغرض فيدل على أن أفعال الله معللة بالأغراض وقد سبق الكلام فيه.
المسألة الثانية: ظاهر اللفظ يقتضي أنه تعالى إنما بعثهم ليحصل له هذا العلم وعند هذا يرجع إلى أنه تعالى هل يعلم الحوادث قبل وقوعها أم لا، فقال هشام: لا يعلمها إلا عند حدوثها واحتج بهذه الآية والكلام فيه قد سبق، ونظائر هذه الآية كثيرة في القرآن منها ما سبق في هذه السورة ومنها قوله في سورة البقرة: * (إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) * (البقرة: 143) وفي آل عمران
83

* (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) * (التوبة: 16) وقوله: * (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم) * (الكهف: 7) وقوله: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) * (محمد: 31).
المسألة الثالثة: * (أي) * رفع بالابتداء * (وأحصى) * خبره وهذه الجملة بمجموعها متعلق العلم فلهذا السبب لم يظهر عمل قوله: * (لنعلم) * في لفظة * (أي) * بل بقيت على ارتفاعها ونظيره قوله: اذهب فاعلم أيهم قام قال تعالى: * (سلهم أيهم بذلك زعيم) * (القلم: 40) وقوله: * (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا) * (مريم: 69) وقرئ ليعلم على فعل ما لم يسم فاعله وفي هذه القراءة فائدتان. إحداهما: أن على هذا التقدير لا يلزم إثبات العلم المتجدد لله بل المقصود أنا بعثناهم ليحصل هذا العلم لبعض الخلق. والثانية: أن على هذا التقدير يجب ظهور النصب في لفظة أي، لكن لقائل أن يقول: الإشكال بعد باق لأن ارتفاع لفظة أي بالابتداء لا بإسناد يعلم إليه. ولمجيب أن يجيب فيقول: إنه لا يمتنع اجتماع عاملين على معمول واحد لأن العوامل النحوية علامات ومعرفات ولا يمتنع اجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد والله أعلم.
المسألة الرابعة: اختلفوا في الحزبين فقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكا بعد ملك، فالملوك حزب وأصحاب الكهف حزب. والقول الثاني: قال مجاهد: الحزبان من هذه الفتية لأن أصحاب الكهف لما انتبهوا اختلفوا في أنهم كم ناموا والدليل عليه قوله تعالى: * (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم اعلم بما لبثتم) * (الكهف: 19) فالحزبان هما هذان، وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول. القول الثالث: قال الفراء: إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم.
المسألة الخامسة: قال أبو علي الفارسي قوله أحصى ليس من باب أفعل التفضيل لأن هذا البناء من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس فأما قولهم ما أعطاه للدرهم وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق، فمن الشواذ والشاذ لا يقاس عليه بل الصواب أن أحصى فعل ماض وهو خبر المبتدأ والمبتدأ والخبر مفعول نعلم وأمدا مفعول به لأحصى وما في قوله تعالى: * (لما لبثوا) * مصدرية والتقدير أحصى أمدا للبثهم، وحاصل الكلام لنعلم أي الحزبين أحصى أمد ذلك اللبث، ونظيره قوله: * (أحصاه الله) * (المجادلة: 6) وقوله: * (وأحصى كل شيء عددا) * (الجن: 28).
المسألة السادسة: احتج أصحابنا الصوفية بهذه الآية على صحة القول بالكرامات وهو استدلال ظاهر ونذكر هذه المسألة ههنا على سبيل الاستقصاء فنقول قبل الخوض في الدليل على جواز الكرامات نفتقر إلى تقديم مقدمتين: المقدمة الأولى: في بيان أن الولي ما هو فنقول ههنا وجهان، الأول: أن يكون فعيلا مبالغة من الفاعل كالعليم والقدير فيكون معناه من توالت طاعاته من غير تخلل معصية. الثاني:
84

أن يكون فعيلا بمعنى مفعول كقتيل وجريح بمعنى مقتول ومجروح. وهو الذي يتولى الحق سبحانه حفظه وحراسته على التوالي عن كل أنواع المعاصي ويديم توفيقه على الطاعات واعلم أن هذا الاسم مأخوذ من قوله تعالى: * (الله ولي الذين آمنوا) * (البقرة: 257) وقوله: * (وهو يتولى الصالحين) * (الأعراف: 196) وقوله تعالى: * (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) * (البقرة: 286) وقوله: * (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) * (محمد: 11) وقوله: * (إنما وليكم الله ورسوله) * (المائدة: 55) وأقول الولي هو القريب في اللغة فإذا كان العبد قريبا من حضرة الله بسبب كثرة طاعاته وكثرة إخلاصه وكان الرب قريبا منه برحمته وفضله وإحسانه فهناك حصلت الولاية.
المقدمة الثانية: إذا ظهر فعل خارق للعادة على الإنسان فذاك إما أن يكون مقرونا بالدعوى أو لا مع الدعوى والقسم الأول وهو أن يكون مع الدعوى فتلك الدعوى إما أن تكون دعوى الإلهية أو دعوى النبوة أو دعوى الولاية أو دعوى السحر وطاعة الشياطين، فهذه أربعة أقسام. القسم الأول: ادعاء الإلهية وجوز أصحابنا ظهور خوارق العادات على يده من غير معارضة كما نقل، أن فرعون كان يدعي الإلهية وكانت تظهر خوارق العادات على يده وكما نقل ذلك أيضا في حق الدجال. قال أصحابنا: وإنما جاز ذلك لأن شكله وخلقته تدل على كذبه فظهور الخوارق على يده لا يفضي إلى التلبيس. والقسم الثاني: وهو ادعاء النبوة فهذا القسم على قسمين لأنه إما أن يكون ذلك المدعي صادقا أو كاذبا فإن كان صادقا وجب ظهور الخوارق على يده وهذا متفق عليه بين كل من أقر بصحة نبوة الأنبياء، وإن كان كاذبا لم يجز ظهور
الخوارق على يده وبتقدير أن تظهر وجب حصول المعارضة. وأما القسم الثالث: وهو ادعاء الولاية والقائلون بكرامات الأولياء اختلفوا في أنه هل يجوز أن يدعي الكرامات ثم إنها تحصل على وفق دعواه أم لا. وأما القسم الرابع: وهو ادعاء السحر وطاعة الشيطان فعند أصحابنا يجوز ظهور خوارق العادات على يده وعند المعتزلة لا يجوز. وأما القسم الثاني: وهو أن تظهر خوارق العادات على يد إنسان من غير شيء من الدعاوى، فذلك الإنسان إما أن يكون صالحا مرضيا عند الله، وإما أن يكون خبيثا مذنبا. والأول هو القول بكرامات الأولياء، وقد اتفق أصحابنا على جوازه وأنكرها المعتزلة إلا أبا الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي. وأما القسم الثالث: وهو أن تظهر خوارق العادات على بعض من كان مردودا عن طاعة الله تعالى فهذا هو المسمى بالاستدراج فهذا تفصيل الكلام في هاتين المقدمتين، إذا عرفت ذلك فنقول: الذي يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول. أما القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات:
الحجة الأولى: قصة مريم عليها السلام، وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها.
الحجة الثانية: قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم أحياء سالمين عن الآفات مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين وأنه تعالى كان يعصمهم من حر الشمس كما قال: * (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود) * (الكهف: 18)
85

إلى قوله: * (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين) * (الهف: 17) ومن الناس من تمسك في هذه المسألة بقوله تعالى: * (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) * (النمل: 39) وقد بينا أن ذلك الذي كان عنده علم من الكتاب هو سليمان فسقط هذا الاستدلال. أجاب القاضي عنه بأن قال: لا بد من أن يكون فيهم أو في ذلك الزمان نبي يصير ذلك علما له لما فيه من نقض العادة كسائر المعجزات، قلنا: إنه يستحيل أن تكون هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء لأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأن الناس لا يصدقونه في هذه الواقعة لأنهم لا يعرفون كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤوا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلثمائة سنين وتسع سنين وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء فلم يبق إلا أن تجعل كرامة للأولياء وإحسانا إليهم. أما الأخبار فكثيرة: الخبر الأول: ما أخرج في " الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم عليه السلام وصبي في زمن جريج الناسك وصبي آخر، أما عيسى فقد عرفتموه، وأما جريج فكان رجلا عابدا ببني إسرائيل وكانت له أم فكان يوما يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت: يا جريج فقال يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى فدعته ثانيا فقال مثل ذلك حتى قال ثلاث مرات وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمه قالت: اللهم لا تمته حتى تريه المومسات، وكانت زانية هناك فقالت لهم: أنا أفتن جريجا حتى يزني فأتته فلم تقدر على شيء، وكان هناك راع يأوي بالليل إلى أصل صومعته قلما أعياها راودت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت ولدي هذا من جريج فأتاها بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال بيده يا غلام من أبوك؟ فقال: الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه. وقالوا: نبني صومعتك من ذهب أو فضة فأبى عليهم، وبناها كما كانت، وأما الصبي الآخر فإن امرأة كان معها صبي لها ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة حسنة فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي: اللهم لا تجعلني مثله ثم مرت بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذا، فقال الصبي: اللهم اجعلني مثلها. فقالت له أمه في ذلك: فقال إن الشاب كان جبارا من الجبابرة فكرهت أن أكون مثله وإن هذه قيل إنها زنت ولم تزن وقيل إنها سرقت ولم تسرق وهي تقول حسبي الله ". الخبر الثاني: وهو خبر الغار وهو مشهور في " الصحاح " عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار فقالوا: والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوما فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما
86

فقمت والقدح في يدي انتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجا لا يستطيعون الخروج منه، ثم قال الآخر: كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالا عظيما على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت: لا يجوز لك أن تفك الخاتم إلا بحقه! فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين وقال: يا عبد الله أد إلي أجرتي، فقلت له: كل ما ترى من أجرتك من الإبل والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله أتستهزئ بي؟ فقلت: إني لا أستهزئ بك فأخذ ذلك كله اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون ". وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه. الخبر الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره " ولم يفرق بين شيء وشئ فيما يقسم به على الله. الخبر الرابع: روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ". الخبر الخامس: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينما رجل يسمع رعدا أو صوتا في السحاب: أن اسق حديقة فلان، قال فعدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له ما اسمك؟ قال: فلان بن فلان بن فلان قلت: فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها؟ قال: ولم تسأل عن ذلك؟ قلت: لأني سمعت صوتا في السحاب أن اسق حديقة فلان، قال: أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثا فأجعل
لنفسي وأهلي ثلثا وأجعل للمساكين وابن السبيل ثلثا وأنفق عليها ثلثا ". " أما الآثار " فلنبدأ بما نقل أنه ظهر عن الخلفاء الراشدين من الكرامات ثم بما ظهر عن سائر الصحابة، أما أبو بكر رضي الله عنه فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي صلى الله عليه وسلم ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد انفتح وإذا بهاتف يهتف من القبر ادخلوا الحبيب إلى الحبيب، وأما عمر رضي الله عنه فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته وأحدها ما روي أنه بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية بن الحصين فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر: يا سارية الجبل الجبل قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فكتبت تاريخ تلك الكلمة فقدم رسول مقدم الجيش فقال: يا أمير المؤمنين غزونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت قلت سمعت بعض
87

المذكرين قال: كان ذلك معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال لأبي بكر وعمر أنتما مني بمنزلة السمع والبصر فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد صلى الله عليه وسلم، لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم. الثاني: روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة وكان لا يجري حتى يلقى فيه جارية واحدة حسناء، فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الواقعة إلى عمر، فكتب عمر على خزفة: أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر، وإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة بنا إليك! فألقيت تلك الخزفة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك. الثالث: وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال: اسكني بإذن الله فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك. الرابع: وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خزفة: يا نار اسكني بإذن الله فألقوها في النار فانطفأت في الحال. الخامس: روى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر فطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا: ليس له ذلك، وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر رضي الله عنه وضع درته تحت رأسه ونام على التراب، فعجب الرسول من ذلك وقال: إن أهل الشرق والغرب يخافون من هذا الإنسان وهو على هذه الصفة! ثم قال في نفسه: إني وجدته خاليا فأقتله وأخلص الناس منه. فلما رفع السيف أخرج الله من الأرض أسدين فقصداه فخاف وألقى السيف من يده وانتبه عمر ولم ير شيئا فسأله عن الحال فذكر له الواقعة وأسلم. وأقول هذه الوقائع رويت بالآحاد، وههنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وقلب الممالك والدول لو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أول عهد آدم إلى الآن ما تيسر له فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات، ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات. وأما عثمان رضي الله عنه فروى أنس قال: سرت في الطريق فرفعت عيني إلى امرأة ثم دخلت على عثمان فقال: ما لي أراكم تدخلون علي وآثار الزنا ظاهرة عليكم؟ فقلت: أجاء الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا ولكن فراسة صادقة. الثاني: أنه لما طعن بالسيف فأول قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى: * (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) *. (البقرة: 137) الثالث: أن جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان وكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته. وأما علي كرم الله وجهه فيروي أن واحدا من محبيه سرق وكان عبدا أسود فأتى به إلى علي فقال له: أسرقت؟ قال نعم. فقطع يده فانصرف من عند علي عليه السلام فلقيه سلمان الفارسي وابن الكرا، فقال ابن الكرا: من قطع يدك فقال أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول فقال قطع يدك وتمدحه؟ فقال: ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار! فسمع سلمان ذلك فأخبر به عليا فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات فسمعنا صوتا من السماء ارفع
88

الرداء عن اليد فرفعناه فإذا اليد قد برأت بإذن الله تعالى وجميل صنعه. أما سائر الصحابة فأحوالهم في هذا الباب كثيرة فنذكر منها شيئا قليلا. الأول: روى محمد بن المنكدر عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها فركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إلي يريدني فقلت: يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودعني ورجع. الثاني: روى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلا آخر من الأنصار تحدثا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وفي يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما انفرق بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى في ضوئها حتى بلغ منزله. الثالث: قالوا لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلا على فرس ومعه زق خمر، فقال ما هذا؟ قال: خل، فقال خالد: اللهم اجعله خلا. فذهب الرجل إلى أصحابه فقال: أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلها! فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا: والله ما جئتنا إلا بخل؟ فقال هذا والله دعاء خالد بن الوليد. الرابع: الواقعة المشهورة وهي أن خالد بن الوليد أكل كفا من السم على اسم الله وما ضره. الخامس: روي أن ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم ثم قال: إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. السادس: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم ومشوا على الماء. وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحد والحصر فمن أرادها طالعها. وأما الدلائل العقلية القطعية على جواز الكرامات فمن وجوه:
الحجة الأولى: أن العبد ولي الله قال الله تعالى: * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (يونس: 62) والرب ولي العبد قال تعالى: * (الله ولي الذين آمنوا) * (البقرة: 257) وقال: * (وهو يتولى الصالحين) * (الأعراف: 166) وقال: * (إنما وليكم الله ورسوله) * (المائدة: 55) وقال: * (أنت مولانا) * (البقرة: 286) وقال: * (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) * (محمد: 11) فثبت أن الرب ولي العبد وأن العبد ولي الرب وأيضا الرب حبيب العبد والعبد حبيب الرب قال تعالى: * (يحبهم ويحبونه) * (المائدة: 54) وقال: * (والذين آمنوا أشد حبا لله) * (البقرة: 165) وقال: * (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) * (البقرة: 222) وإذا ثبت هذا فنقول: العبد إذا بلغ في الطاعة إلى حيث يفعل كل ما أمره الله وكل ما فيه رضاه وترك كل ما نهى الله وزجر عنه
فكيف يبعد أن يفعل الرب الرحيم الكريم مرة واحدة ما يريده العبد بل هو أولى لأن العبد مع لؤمه وعجزه لما فعل كل ما يريده الله ويأمره به فلأن يفعل الرب الرحيم مرة واحدة ما أراده العبد كان أولى ولهذا قال تعالى: * (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 45).
الحجة الثانية: لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إما لأجل أن الله ليس أهلا لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أن المؤمن ليس أهلا لأن يعطيه الله هذه العطية، والأول: قدح في
89

قدرة الله وهو كفر، والثاني: باطل فإن معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ومحبة الله وطاعاته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد مني مفازة أو تسخير حية أو أسد فلما أعطى المعرفة والمحبة والذكر والشكر من غير سؤال فلأن يعطيه رغيفا في مفازة فأي بعد فيه؟
الحجة الثالثة: قال النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن رب العزة: " ما تقرب عبد إلي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا وقلبا ويدا ورجلا بي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي " وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب لغير الله ولا في بصرهم ولا في سائر أعضائهم إذ لو بقي هناك نصيب لغير الله لما قال أنا سمعه وبصره. إذا ثبت هذا فنقول: لا شك أن هذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع وإعطاء الرغيف وعنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل الله برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفا واحدا أو شربة ماء في مفازة.
الحجة الرابعة: قال عليه السلام حاكيا عن رب العزة: " من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " فجعل إيذاء الولي قائما مقام إيذائه وهذا قريب من قوله تعالى: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) * (الفتح: 10) وقال: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا) * (الأحزاب: 36) وقال: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) * (الأحزاب: 57) فجعل بيعة محمد صلى الله عليه وسلم بيعة مع الله ورضاء محمد صلى الله عليه وسلم رضاء الله وإيذاء محمد صلى الله عليه وسلم إيذاء الله فلا جرم كانت درجة محمد صلى الله عليه وسلم أعلى الدرجات إلى أبلغ الغايات فكذا ههنا لما قال: " من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " دل ذلك على أنه تعالى جعل إيذاء الولي قائما مقام إيذاء نفسه ويتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول: " يوم القيامة مرضت فلم تعدني، استسقيتك فما سقيتني، استطعمتك فما أطعمتني فيقول يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمين! فيقول إن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي " وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أن أولياء الله يبلغون إلى هذه الدرجات فأي بعد في أن يعطيه الله كسرة خبز أو شربة ماء أو يسخر له كلبا أو وردا.
الحجة الخامسة: أنا نشاهد في العرف أن من خصه الملك بالخدمة الخاصة وأذن له في الدخول عليه في مجلس الأنس فقد يخصه أيضا بأن يقدره على ما لا يقدر عليه غيره، بل العقل السليم يشهد بأنه متى حصل ذلك القرب فإنه يتبعه هذه المناصب فجعل القرب أصلا والمنصب تبعا وأعظم الملوك هو رب العالمين فإذا شرف عبدا بأنه أوصله إلى عتبات خدمته ودرجات كرامته وأوقفه على أسرار معرفته ورفع حجب البعد بينه وبين نفسه وأجلسه على بساط قربه فأي
90

بعد في أن يظهر بعض تلك الكرامات في هذا العالم مع أن كل هذا العالم بالنسبة إلى ذرة من تلك السعادات الروحانية والمعارف الربانية كالعدم المحض.
الحجة السادسة: لا شك أن المتولي للأفعال هو الروح لا البدن ولا شك أن معرفة الله تعالى للروح كالروح للبدن على ما قررناه في تفسير قوله تعالى: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النمل: 20) وقال عليه السلام: " أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " ولهذا المعنى نرى أن كل من كان أكثر علما بأحوال عالم الغيب كان أقوى قلبا وأقل ضعفا ولهذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية. وذلك لأن عليا كرم الله وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء فتقوى روحه وتشبه بجواهر الأرواح الملكية وتلألأت فيه أضواء عالم القدس والعظمة فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره وكذلك العبد إذا واظب على الطاعات بلغ إلى المقام الذي يقول الله كنت له سمعا وبصرا فإذا صار نور جلال الله سمعا له سمع القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور بصرا له رأى القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور يدا له قدر على التصرف في الصعب والسهل والبعيد والقريب. الحجة السابعة: وهي مبنية على القوانين العقلية الحكمية، وهي أنا قد بينا أن جوهر الروح ليس من جنس الأجسام الكائنة الفاسدة المتعرضة للتفرق والتمزق، بل هو من جنس جواهر الملائكة وسكان عالم السماوات ونوع المقدسين المطهرين إلا أنه لما تعلق بهذا البدن واستغرق في تدبيره صار في ذلك الاستغراق إلى حيث نسي الوطن الأول والمسكن المتقدم وصار بالكلية متشبها بهذا الجسم الفاسد فضعفت قوته وذهبت مكنته ولم يقدر على شيء من الأفعال، أما إذا استأنست بمعرفة الله ومحبته وقل انغماسها في تدبير هذا البدن، وأشرقت عليها أنوار الأرواح السماوية العرشية المقدسة، وفاضت عليها من تلك الأنوار قويت على التصرف في أجسام هذا العالم مثل قوة الأرواح الفلكية على هذه الأعمال، وذلك هو الكرامات، وفيه دقيقة أخرى وهي أن مذهبنا أن الأرواح البشرية مختلفة بالماهية ففيها القوية والضعيفة، وفيها النورانية والكدرة، وفيها الحرة والنذلة والأرواح الفلكية أيضا كذلك، ألا ترى إلى جبريل كيف قال الله في وصفه: * (إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين) * (التكوير: 19 - 20) وقال في قوم آخرين من الملائكة: * (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا) * (النجم: 26) فكذا ههنا فإذا اتفق في نفس من النفوس كونها قوية، القوة القدسية العنصرية مشرقة الجوهر علوية الطبيعة، ثم انضاف إليها أنواع الرياضات التي تزيل عن وجهها غبرة عالم الكون والفساد أشرقت وتلألأت وقويت على التصرف في هيولي عالم الكون والفساد بإعانة نور معرفة الحضرة الصمدية وتقوية أضواء حضرة الجلال والعزة. ولنقبض ههنا عنان البيان فإن وراءها أسرارا دقيقة وأحوالا
91

عميقة من لم يصل إليها لم يصدق بها، ونسأل الله الإعانة على إدراك الخيرات، واحتج المنكرون للكرامات بوجوه. الشبهة الأولى: وهي التي عليها يعولون وبها يضلون أن ظهور الخارق للعادة جعله الله دليلا على النبوة فلو حصل لغير نبي لبطلت هذه الدلالة لأن حصول الدليل مع عدم المدلول يقدح في كونه دليلا، وذلك باطل.
والشبهة الثانية: تمسكوا بقوله عليه السلام حكاية عن الله سبحانه: " لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم " قالوا: هذا يدل على أن التقرب إلى الله بأداء الفرائض أعظم من التقرب إليه بأداء النوافل، ثم إن المتقرب إليه بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى أن لا يحصل له ذلك. الشبهة الثالثة: تمسكوا بقوله تعالى: * (وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) * (النحل: 7) والقول بأن الولي ينتقل من بلد إلى بلد بعيد - لا على الوجه - طعن في هذه الآية، وأيضا أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال أن الولي ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في يوم واحد. الشبهة الرابعة: قالوا: هذا الولي الذي تظهر عليه الكرامات إذا ادعى على إنسان درهما فهل نطالبه بالبينة أم لا؟ فإن طالبناه بالبينة كان عبثا لأن ظهور الكرامات عليه يدل على أنه لا يكذب، ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني، وإن لم نطالبه بها فقد تركنا قوله عليه السلام: " البينة على المدعي " فهذا يدل على أن القول بالكرامة باطل. الشبهة الخامسة: إذا جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء جاز ظهورها على الباقين، فإذا كثرت الكرامات حتى خرقت العادة جرت وفقا للعادة وذلك يقدح في المعجزة والكرامة. " والجواب " عن الشبهة الأولى: أن الناس اختلفوا في أنه هل يجوز للولي دعوى الولاية؟ فقال قوم من المحققين: إن ذلك لا يجوز، فعلى هذا القول يكون الفرق بين المعجزات والكرامات أن المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوة والكرامة لا تكون مسبوقة بدعوى الولاية، والسبب في هذا الفرق أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا إلى الخلق ليصيروا دعاة للخلق من الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة فلو لم تظهر دعوى النبوة لم يؤمنوا به وإذا لم يؤمنوا به بقوا على الكفر وإذا ادعوا النبوة وأظهروا المعجزة آمن القوم بهم فإقدام الأنبياء على دعوى النبوة ليس الغرض منه تعظيم النفس بل المقصود منه إظهار الشفقة على الخلق حتى ينتقلوا من الكفر إلى الإيمان، أما ثبوت الولاية للولي فليس الجهل بها كفرا ولا معرفتها إيمانا فكان دعوى الولاية طلبا لشهوة النفس، فعلمنا أن النبي يجب عليه إظهار دعوى النبوة والولي لا يجوز له دعوى الولاية فظهر الفرق؛ أما الذين قالوا: يجوز للولي دعوى الولاية فقد ذكروا الفرق بين المعجزة والكرامة من وجوه: الأول: أن ظهور الفعل الخارق للعادة يدل على كون ذلك الإنسان مبرءا عن المعصية، ثم إن اقترن هذا الفعل بادعاء النبوة دل على كونه صادقا في دعوى النبوة، وإن اقترن بادعاء الولاية دل على كونه صادقا في دعوى الولاية، وبهذا
92

الطريق لا يكون ظهور الكرامة على الأولياء طعنا في معجزات الأنبياء عليهم السلام. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعي المعجزة ويقطع بها، والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها لأن المعجزة يجب ظهورها، أما الكرامة (ف) - لا يجب ظهورها. الثالث: أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة. الرابع: أنا لا نجوز ظهور الكرامة على الولي عند ادعاء الولاية إلا إذا أقر عند تلك الدعوى بكونه على دين ذلك النبي ومتى كان الأمر كذلك صارت تلك الكرامة معجزة لذلك النبي ومؤكدة لرسالته وبهذا التقدير لا يكون ظهور الكرامة طاعنا في نبوة النبي بل يصير مقويا لها. " والجواب " عن الشبهة الثانية: أن التقرب بالفرائض وحدها أكمل من التقرب بالنوافل؛ أما الولي فإنما يكون وليا إذا كان آتيا بالفرائض والنوافل، ولا شك أنه يكون حاله أتم من حال من اقتصر على الفرائض فظهر الفرق. " والجواب " على الشبهة الثالثة: أن قوله تعالى: * (وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) * محمول على المعهود المتعارف، وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثناة عن ذلك العموم. وهذا هو " الجواب " عن الشبهة الرابعة وهي التمسك بقوله عليه السلام البينة على المدعي. " والجواب " عن الشبهة الخامسة أن المطيعين فيهم قلة كما قال تعالى: * (وقليل من عبادي الشكور) * (سبأ: 13) وكما قال إبليس: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * (الأعراف: 17) وإذا حصلت القلة فيهم لم يكن ما يظهر عليهم من الكرامات في الأوقات النادرة قادحا في كونها على خلاف العادة.
المسألة السابعة: في الفرق بين الكرامات والاستدراج، اعلم أن من أراد شيئا فأعطاه الله مراده لم يدل ذلك على كون ذلك العبد وجيها عند الله تعالى سواء كانت العطية على وفق العادة أو لم تكن على وفق العادة بل قد يكون ذلك إكراما للعبد وقد يكون استدراجا له ولهذا الاستدراج أسماء كثيرة من القرآن، أحدها: الاستدراج قال الله تعالى: * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) * (الأعراف: 182) ومعنى الاستدراج أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده فيزداد كل يوم بعدا من الله وتحقيقه أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرر الأفعال سبب لحصول الملكة الراسخة فإذا مال قلب العبد إلى الدنيا ثم أعطاه الله مراده فحينئذ يصل الطالب إلى المطلوب وذلك يوجب حصول اللذة وحصول اللذة يزيد في الميل وحصول الميل يوجب مزيد السعي ولا يزال يتأدى كل واحد منهما إلى الآخر وتتقوى كل واحدة من هاتين الحالتين درجة فدرجة ومعلوم أن الاشتغال بهذه اللذات العاجلة مانع عن مقامات المكاشفات ودرجات المعارف فلا جرم يزداد بعده عن الله درجة فدرجة إلى أن يتكامل فهذا هو الاستدراج. وثانيها: المكر قال تعالى: * (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) * (الأعراف: 99)، * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) * (آل عمران: 54) وقال: * (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون) * (النمل: 50). وثالثها: الكيد قال تعالى: * (يخادعون الله وهو خادعهم) * (النساء: 142) وقال: * (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم) * (البقرة: 9). ورابعها: الإملاء قال تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرا لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * (آل عمران: 178). وخامسها:
93

الإهلاك قال تعالى: * (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم) * (الأنعام: 44) وقال في فرعون: * (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) * (القصص: 39، 40) فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات بقي علينا أن نذكر الفرق بين الكرامات وبين الاستدراجات. فنقول: إن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد وحذره من قهر الله أقوى فإنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج، وأما صاحب الاستدراج فإنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه ويظن أنه إنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقا لها وحينئذ يستحقر غيره ويتكبر عليه ويحصل له أمن من مكر الله وعقابه ولا يخاف سوء العاقبة فإذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك
على أنها كانت استدراجا لا كرامة. فلهذا المعنى قال المحققون: أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أنواع البلاء. والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه:
الحجة الأولى: أن هذا الغرور إنما يحصل إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذه الكرامة لأن بتقدير أن لا يكون مستحقا لها امتنع حصول الفرح بها بل يجب أن يكون فرحه بكرم المولى وفضله أكبر من فرحه بنفسه فثبت أن الفرح بالكرامة أكثر من فرحه بنفسه وثبت أن الفرح بالكرامة لا يحصل إلا إذا اعتقد أنه أهل ومستحق لها وهذا عين الجهل لأن الملائكة قالوا: * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) * (البقرة: 32) وقال تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره) * (الأنعام: 91) وأيضا قد ثبت بالبرهان اليقيني أنه لا حق لأحد من الخلق على الحق فكيف يحصل ظن الاستحقاق.
الحجة الثانية: أن الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب عن الحق والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور.
الحجة الثالثة: أن من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقا للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه ومن كان لعمله وقع عنده كان جاهلا ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل. رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * (فاطر: 10) فقال علامة أن الحق رفع عملك أن لا يبقى (ذكره) عندك فإن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع وإن لم يبق معك فهو مرفوع مقبول.
الحجة الرابعة: أن صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتواضع في حضرة الله فإذا ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق ثبوته يؤديه إلى عدمه فكان مردودا ولهذا المعنى لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مناقب نفسه
94

وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ولا فخر يعني لا أفتخر بهذه الكرامات وإنما أفتخر بالمكرم والمعطي.
الحجة الخامسة: أن ظاهر الكرامات في حق إبليس وفي حق بلعام كان عظيما ثم قيل لإبليس وكان من الكافرين وقيل لبلعام فمثله كمثل الكلب وقيل لعلماء بني إسرائيل: * (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) * (الجمعة: 5) وقيل أيضا في حقهم: * (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) * (آل عمران: 19) فبين أن وقوعهم في الظلمات والضلالات كان بسبب فرحهم بما أوتوا من العلم والزهد.
الحجة السادسة: أن الكرامة غير المكرم وكل ما هو غير المكرم فهو ذليل وكل من تعزز بالذليل فهو ذليل، ولهذا المعنى قال الخليل صلوات الله عليه: أما إليك فلا، فالاستغناء بالفقير فقر والتقوي بالعاجز عجز والاستكمال بالناقص نقصان والفرح بالمحدث بله والإقبال بالكلية على الحق خلاص، فثبت أن الفقير إذا ابتهج بالكرامة سقط عن درجته. أما إذا كان لا يشاهد في الكرامات إلا المكرم ولا في الإعزاز إلا المعز ولا في الخلق إلا الخالق فهناك يحق الوصول.
الحجة السابعة: أن الافتخار بالنفس وبصفاتها من صفات إبليس وفرعون، قال إبليس: * (أنا خير منه) * (الأعراف: 12) وقال فرعون: * (أليس لي ملك مصر) * (الزخرف: 51) وكل من ادعى الإلهية أو النبوة بالكذب فليس له غرض إلا تزيين النفس وتقوية الحرص والعجب ولهذا قال عليه السلام: " ثلاث مهلكات، وختمها بقوله: وإعجاب المرء بنفسه ".
الحجة الثامنة: أنه تعالى قال: * (فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) * (الأعراف: 144) * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * (الحجر: 99) فلما أعطاه الله العطية الكبرى أمره بالاشتغال بخدمة المعطى لا بالفرح بالعطية.
الحجة التاسعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خيره الله بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا نبيا ترك الملك، ولا شك أن وجدان الملك الذي يعم المشرق والمغرب من الكرامات بل من المعجزات ثم إنه صلى الله عليه وسلم ترك ذلك الملك واختار العبودية لأنه إذا كان عبدا كان افتخاره بمولاه وإذا كان ملكا كان افتخاره بعبيده، فلما اختار العبودية لا جرم جعل السنة التي في التحيات التي رواها ابن مسعود " وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " وقيل في المعراج: * (سبحان الذي أسرى بعبده) * (الإسراء: 1).
الحجة العاشرة: أن محب المولى غير، ومحب ما للمولى غير، فمن أحب المولى لم يفرح بغير المولى ولم يستأنس بغير المولى، فالاستئناس بغير المولى والفرح بغيره يدل على أنه ما كان محبا للمولى بل كان محبا لنصيب نفسه ونصيب النفس إنما يطلب للنفس فهذا الشخص ما أحب إلا نفسه. وما كان المولى محبوبا له بل جعل المولى وسيلة إلى تحصيل ذلك المطلوب. والصنم الأكبر هو النفس كما قال تعالى: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * (الجاثية: 23) فهذا الإنسان عابد للصنم الأكبر
95

حتى أن المحققين قالوا لا مضرة في عبادة شيء من الأصنام مثل المضرة الحاصلة في عبادة النفس ولا خوف من عبادة الأصنام كالخوف من الفرح بالكرامات.
الحجة الحادية عشرة: قوله تعالى: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * وهذا يدل على أن من لم يتق الله ولم يتوكل عليه لم يحصل له شيء من هذه الأفعال والأحوال.
المسألة الثامنة: في أن الولي هل يعرف كونه وليا، قال الأستاذ أبو بكر بن فورك لا يجوز وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري يجوز، وحجة المانعين وجوه:
الحجة الأولى: لو عرف الرجل كونه وليا لحصل له الأمن بدليل قوله تعالى: * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * لكن حصول الأمن غير جائز
ويدل عليه وجوه: أحدها: قوله مالي: * (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) * واليأس أيضا غير جائز لقوله تعالى: * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) * ولقوله تعالى: * (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) * والمعنى فيه أن الأمن لا يحصل إلا عند اعتقاد العجز، واليأس لا يحصل إلا عند اعتقاد البخل واعتقاد العجز والبخل في حق الله كفر، فلا جرم كان حصول الأمن والقنوط كفرا. الثاني: أن الطاعات وإن كثرت إلا أن قهر الحق أعظم ومع كون القهر غالبا لا يحصل الأمن. الثالث: أن الأمن يقتضي زوال العبودية وترك الخدمة والعبودية يوجب العداوة والأمن يقتضي ترك الخوف. الرابع: أنه تعالى وصف المخلصين بقوله: * (ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) * قيل رغبا في ثوابنا، ورهبا من عقابنا. وقيل: رغبا في فضلنا، ورهبا من عدلنا. وقيل رغبا في وصالنا، ورهبا من فراقنا. والأحسن أن يقال رغبا فينا، ورهبا منا.
الحجة الثانية: على أن الولي لا يعرف كونه وليا، أن الولي إنما يصير وليا لأجل أن الحق يحبه لا لأجل أنه يحب الحق، وكذلك القول في العدو، ثم إن محبة الحق وعداوته سران لا يطلع عليهما أحد فطاعات العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأن الطاعات والمعاصي محدثة، وصفات الحق قديمة غير متناهية، والمحدث المتناهي لا يصير غالبا للقديم غير المتناهي. وعلى هذا التقدير فربما كان العبد في الحال في عين المعصية إلا أن نصيبه من الأزل عين المحبة. وربما كان العبد في الحال في عين الطاعة ولكن نصيبه من الأزل عين العداوة وتمام التحقيق أن محبته وعداوته صفة، وصفة الحق غير معللة، ومن كانت محبته لا لعلة، فإنه يمتنع أن يصير عدوا بعلة المعصية، ومن كانت عداوته لا لعلة يمتنع أن يصير محبا لعلة الطاعة، ولما كانت محبة الحق وعداوته سرين لا يطلع عليهما لا جرم قال عيسى عليه السلام: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) *.
الحجة الثالثة: على أن الولي لا يعرف كونه وليا؛ أن الحكم بكونه وليا وبكونه من أهل
96

الثواب والجنة يتوقف على الخاتمة، والدليل عليه قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * ولم يقل من عمل حسنة فله عشر أمثالها، وهذا يدل على أن استحقاق الثواب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل، والذي يؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد، وهذا دليل على أن العبرة بالخاتمة لا بأول العمل، ولهذا قال تعالى: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * فثبت أن العبرة في الولاية والعداوة وكونه من أهل الثواب أو من أهل العقاب بالخاتمة، فظهر أن الخاتمة غير معلومة لأحد، فوجب القطع بأن الولي لا يعلم كونه وليا، أما الذين قالوا إن الولي قد يعرف كونه وليا فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الولاية لها ركنان. أحدهما: كونه في الظاهر منقادا للشريعة. الثاني: كونه في الباطن مستغرقا في نور الحقيقة، فإذا حصل الأمران وعرف الإنسان حصولهما عرف لا محالة كونه وليا، أما الانقياد في الظاهر للشريعة فظاهر، وأما استغراق الباطن في نور الحقيقة فهو أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله، وأن لا يكون له استقرار مع شيء سوى الله. والجواب: أن تداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة غامضة والقضاء عسر، والتجربة خطر، والجزم غرور. ودون الوصول إلى عالم الربوبية أستار، تارة من النيران، وأخرى من الأنوار، والله العالم بحقائق الأسرار، ولنرجع إلى التفسير.
* (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية ءامنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والارض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا * هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *
اعلم أنه تعالى ذكر من قبل جملة من واقعتهم ثم قال: * (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) * أي على وجه الصدق: * (إنهم فتية آمنوا بربهم) * كانوا جماعة من الشبان آمنوا بالله، ثم قال تعالى في صفاتهم: * (وربطنا على قلوبهم) * أي ألهمناها الصبر وثبتناها: * (إذ قاموا) * وفي هذا القيام أقوال: الأول: قال مجاهد كانوا عظماء مدينتهم فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد، فقال رجل منهم أكبر القوم إني لأجد
97

في نفسي شيئا ما أظن أن أحدا يجده، قالوا ما تجد؟ قال أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض. القول الثاني: أنهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس الجبار، وقالوا: ربنا رب السماوات والأرض، وذلك لأنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبت الله هؤلاء الفتية، وعصمهم حتى عصوا ذلك الجبار، وأقروا بربوبية الله، وصرحوا بالبراءة عن الشركاء والأنداد. والقول الثالث: وهو قول عطاء ومقاتل أنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم وهذا بعيد لأن الله استأنف قصتهم بقوله: * (نحن نقص عليك) * وقوله: * (لقد قلنا إذا شططا) * معنى الشطط في اللغة مجاوزة الحد، قال الفراء يقال قد أشط في السوم إذ جاوز الحد ولم يسمع إلا أشط يشط أشطاطا وشططا، وحكى الزجاج وغيره شط الرجل وأشط إذا جاوز الحد، ومنه قوله: * (ولا تشطط) * (ص: 22) وأصل هذا من قولهم شطت الدار إذا بعدت، فالشطط البعد عن الحق، وهو ههنا منصوب على المصدر، والمعنى لقد قلنا إذا قولا شططا، أما قوله: * (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة) * هذا من قول أصحاب الكهف ويعنون الذين كانوا في زمان دقيانوس عبدوا الأصنام * (لولا يأتون - هلا يأتون - عليهم بسلطان بين) * بحجة بينة، ومعنى عليهم أي على عبادة الآلهة، ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدلائل على ذلك لا يدل على عدم المدلول، ومن الناس من يحتج بعدم الدليل على عدم المدلول ويستدل على صحة هذه الطريقة بهذه الآية. فقال إنه تعالى استدل على عدم الشركاء والأضداد بعدم الدليل عليها فثبت أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة قوية، ثم قال: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * يعني أن الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله وكذب عليه، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد.
قوله تعالى
* (وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقا * وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منه ذلك من ءايات الله من يهد الله فهو المهتد
98

ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) *
اعلم أن المراد أنه قال بعضهم لبعض: * (وإذا اعتزلتموهم) * واعتزلتم الشيء الذي يعبدونه إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادة الله: * (فأووا إلى الكهف) * قال الفراء هو جواب إذ كما تقول إذ فعلت كذا فافعل كذا، ومعناه: إذهبوا إليه واجعلوه مأواكم: * (ينشر لكم ربكم من رحمته) * أي يبسطها عليكم: * (ويهيئ لكم من أمركم مرفقا) * قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء والباقون مرفقا بكسر الميم وفتح الفاء، قال الفراء: وهما لغتان واشتقاقهما من الإرتفاق، وكان الكسائي ينكر في مرفق الإنسان الذي في اليد إلا كسر الميم وفتح الفاء، والفراء يجيزه في الأمر وفي اليد وقيل هما لغتان إلا أن الفتح أقيس والكسر أكثر وقيل المرفق ما ارتفقت به، والمرفق بالفتح المرافق ثم قال تعالى: * (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قرأ ابن عامر تزور ساكنة الزاي المعجمة مشددة الراء مثل تحمر، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي تزاور بالألف والتخفيف والباقون تزاور بالتشديد والألف والكل بمعنى واحد، والتزاور هو الميل والانحراف، ومنه زاره إذا مال إليه والزور الميل عن الصدق، وأما التشديد فأصله تتزاور سكنت التاء الثانية وأدغمت في الزاي، وأما التخفيف فهو تفاعل من الزور وأما تزور فهو من الإزورار.
البحث الثاني: قوله: * (وترى الشمس) * أي أنت أيها المخاطب ترى الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم وليس المراد أن من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو، ومعناه أنك لو رأيته على هذه الصورة.
البحث الثالث: قوله: * (ذات اليمين) * أي جهة اليمين وأصله أن ذات صفة أقيمت مقام الموصوف لأنها تأنيث ذو في قولهم رجل ذو مال، وامرأة ذات مال، والتقدير كأنه قيل تزاور عن كهفهم جهة ذات اليمين، وأما قوله: * (وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال) * ففيه بحثان:
البحث الأول: قال الكسائي قرضت المكان أي عدلت عنه وقال أبو عبيدة القرض في أشياء فمنها القطع، وكذلك السير في البلاد أي إذا قطعها. تقول لصاحبك هل وردت مكان كذا فيقول المجيب إنما قرضته فقوله: * (تقرضهم ذات الشمال) * أي تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال.
البحث الثاني: للمفسرين ههنا قولان: القول الأول: أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله فضوء
99

الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل، والمقصود أن الله تعالى صان أصحاب الكهف من أن يقع عليهم ضوء الشمس وإلا لفسدت أجسامهم فهي مصونة عن العفونة والفساد. والقول الثاني: أنه ليس المراد ذلك، وإنما المراد أن الشمس إذا طلعت منع الله ضوء الشمس من الوقوع. وكذا القول حال غروبها، وكان ذلك فعلا خارقا للعادة وكرامة عظيمة خص الله بها أصحاب الكهف، وهذا قول الزجاج واحتج على صحته بقوله: * (ذلك من آيات الله) * قال ولو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمرا معتادا مألوفا فلم يكن ذلك من آيات الله، وأما إذا حملنا الآية على هذا الوجه الثاني كان ذلك كرامة عجيبة فكانت من آيات الله، واعلم أنه تعالى أخبر بعد ذلك أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء، قال: * (وهم في فجوة منه) * أي من الكهف، والفجوة متسع في مكان، قال أبو عبيدة وجمعها فجوات، ومنه الحديث: " فإذا وجد فجوة نص " ثم قال تعالى: * (ذلك من آيات الله) * وفيه قولان الذين قالوا إنه يمنع وصول ضوء الشمس بقدرته قالوا المراد من قوله ذلك أي ذلك التزاور والميل، والذين لم يقولوا به قالوا المراد بقوله ذلك أي ذلك الحفظ الذي حفظهم الله في الغار تلك المدة الطويلة، من آيات الله الدالة على عجائب قدرته وبدائع حكمته، ثم بين تعالى أنه كما أن بقاءهم هذه المدة الطويلة مصونا عن الموت والهلاك من تدبيراته ولطفه وكرمه، فكذلك رجوعهم أولا عن الكفر ورغبتهم في الإيمان كان بإعانة الله ولطفه فقال: * (من يهد الله فهو المهتد) * مثل أصحاب الكهف: * (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) * كدقيانوس الكافر وأصحابه، ومناظرات أهل الجبر والقدر في هذه الآية معلومة.
قوله تعالى
* (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا) *
اعلم أن معنى قوله: * (وتحسبهم) * على ما ذكرناه في قوله: * (وترى الشمس) * أي لو رأيتهم لحسبتهم * (أيقاظا) * وهو جمع يقظ ويقظان قاله الأخفش وأبو عبيدة والزجاج وأنشدوا لرؤبة:
ووجدوا إخوانهم أيقاظا
100

ومثله قوله نجد ونجدان وأنجاد، وهم رقود أي نائمون وهو مصدر سمي المفعول به كما يقال قوم ركوع وقعود وسجود يوصف الجمع بالمصدر، ومن قال إنه جمع راقد فقد أبعد لأنه لم يجمع فاعل على فعول، قال الواحدي: وإنما يحسبون * (أيقاظا) * لأن أعينهم مفتحة وهم نيام وقال الزجاج لكثرة تقلبهم يظن أنهم أيقاظ، والدليل عليه قوله تعالى: * (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) * واختلفوا في مقدار مدة التقليب فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن لهم في كل عام تقليبتين وعن مجاهد يمكثون على أيمانهم تسع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقودا تسع سنين وقيل لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء. وأقول هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها، ولفظ القرآن لا يدل عليه، وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف؟ وقال ابن عباس رضي الله عنهما فائدة تقليبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا تبليهم. وأقول هذا عجيب لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم مدة ثلثمائة سنة وأكثر فلم لا يقدر على حفظ أجسادهم أيضا من غير تقليب؟ وقوله: * (ذات) * منصوبة على الظرف لأن المعنى * (
نقلبهم) * في ناحية * (اليمين) * أو على ناحية * (اليمين) * كما قلنا في قوله: * (تزاور عن كهفهم ذات اليمين) * وقوله: * (وكلبهم باسط ذراعيه) * قال ابن عباس وأكثر المفسرين قالوا إنهم هربوا ليلا من ملكهم، فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه، وقال كعب مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا مرارا، فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم، وقال عبيد بن عمير كان ذلك كلب صيدهم ومعنى: * (باسط ذراعيه) * أي يلقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين، ومنه الحديث في الصلاة: " أنه نهى عن افتراش السبع " وقال: " لا تفترش ذراعيك افتراش السبع " قوله: * (بالوصيد) * يعني فناء الكهف قال الزجاج الوصيد فناء البيت وفناء الدار وجمعه وصائد ووصد، وقال يونس والأخفش والفراء الوصيد والأصيد لغتان مثل الوكاف والإكاف، وقال السدي: * (الوصيد) * الباب والكهف لا يكون له باب ولا عتبة وإنما أراد أن الكلب منه بموضع العتبة من البيت، ثم قال: * (لو اطلعت عليهم) * أي أشرفت عليهم يقال اطلعت عليهم أي أشرفت عليهم، ويقال أطلعت فلانا على الشيء فاطلع وقوله: * (لوليت منهم فرارا) * قال الزجاج قوله: * (فرارا) * منصوب على المصدر لأن معنى وليت منهم فررت: * (ولملئت منهم رعبا) * أي فزعا وخوفا قيل في التفسير طالت شعورهم وأظفارهم وبقيت أعينهم مفتوحة وهم نيام، فلهذا السبب لو رآهم الرائي لهرب منهم مرعوبا، وقيل: إنه تعالى جعلهم بحيث كل من رآهم فزع فزعا شديدا، فأما تفصيل سبب الرعب فالله أعلم به. وهذا هو الأصح وقوله: * (ولملئت منهم رعبا) * قرأ نافع وابن كثير لملئت بتشديد اللام والهمزة والباقون بتخفيف اللام، وروى عن ابن كثير بالتخفيف والمعنى واحد إلا أن في التشديد مبالغة، قال الأخفش الخفيفة أجود في كلام العرب، يقال: ملأتني رعبا، ولا يكادون يعرفون ملأتني، ويدل على هذا أكثر استعمالهم كقوله:
101

فيملأ بيتنا أقطا وسمنا
وقول الآخر:
ومن مالئ عينيه من شيء غيره * إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وقال الآخر: لا تملأ الدلو وعرق فيها وقال الآخر: امتلأ الحوض وقال قطني
وقد جاء التثقيل أيضا، وأنشدوا للمخبل السعدي: وإذا قتل النعمان بالناس محرما * فملأ من عوف بن كعب سلاسله
وقرأ ابن عامر والكسائي رعبا بضم العين في جميع القرآن والباقون بالإسكان.
* (وكذلك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيهآ أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) *
اعلم أن التقدير وكما: * (زدناهم هدى، وربطنا، على قلوبهم، فضربنا على آذانهم) * وأنمناهم وأبقيناهم أحياء لا يأكلون ولا يشربون ونقلبهم فكذلك بعثناهم أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت ليتساءلوا بينهم تساءل تنازع واختلاف في مدة لبثهم، فإن قيل: هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا؟ قلنا: لا يبعد ذلك لأنهم إذا تساءلوا انكشف لهم من قدرة الله تعالى أمور عجيبة وأحوال غريبة، وذلك الانكشاف أمر مطلوب لذاته. ثم قال تعالى:
102

* (قال قائل منهم كم لبثتم) * أي كم مقدار لبثنا في هذا الكهف: * (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) * قال المفسرون إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النهار، فلذلك قالوا لبثنا يوما فلما رأوا الشمس باقية قالوا أو بعض يوم، ثم قال تعالى: * (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) *، قال ابن عباس هو رئيسهم يمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى لأنه لما نظر إلى أشعارهم وأظفارهم وبشرة وجوههم رأى فيها آثار التغير الشديد فعلم أن مثل ذلك التغير لا يحصل إلا في الأيام الطويلة. ثم قال: * (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) * قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بورقكم ساكنة الراء مفتوحة الواو ومنهم من قرأ (ها) مكسورة الواو ساكنة الراء وقرأ ابن كثير بورقكم بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم القاف في الكاف، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين على هذه، والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا، ويدل عليه ما روى أن عرفجة اتخذ أنفا من ورق، وفيه لغات ورق وورق وورق مثل كبد وكبد وكبد، ذكره الفراء والزجاج قال الفراء وكسر الواو أردؤها. ويقال أيضا للورق الرقة، قال الأزهري أصله ورق مثل صلة وعدة، قال المفسرون كانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم يعني بالمدينة التي يقال لها اليوم طرسوس، وهذه الآية تدل على أن السعي في إمساك الزاد أمر مهم مشروع وأنه لا يبطل التوكل وقوله: * (فلينظر أيها أزكى طعاما) *. قال ابن عباس: يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوسا وفيهم قوم يخفون إيمانهم. وقال مجاهد: كان ملكهم ظالما فقولهم: * (أزكى طعاما) * يريدون أيها أبعد عن الغضب، وقيل أيها أطيب وألذ، وقيل أيها أرخص، قال الزجاج: قوله: * (أيها) * رفع بالابتداء، و * (أزكى) * خبره و * (طعاما) * نصب على التمييز، وقوله: * (وليتلطف) * أي يكون ذلك في سر وكتمان يعني دخول المدينة وشراء الطعام * (ولا يشعرن بكم أحدا) * أي لا يخبرن بمكانكم أحدا من أهل المدينة: * (إنهم أن يظهروا عليكم) * أي يطلعوا ويشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم: ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه، ومنه قوله تعالى: * (فأصبحوا ظاهرين) * (الصف: 14) أي عالين، وكذلك قوله: * (ليظهره على الدين كله) * (التوبة: 33) أي ليعليه وقوله: * (يرجموكم) * يقتلوكم، والرجم بمعنى القتل كثير في التنزيل كقوله: * (ولولا رهطك لرجمناك) * (هود: 91) وقوله: * (أن ترجمون) * (الدخان: 20) وأصله الرمي، قال الزجاج: أي يقتلوكم بالرجم، والرجم أخبث أنواع القتل: * (أو يعيدوكم في ملتهم) * أي يردوكم إلى دينهم * (ولن تفلحوا إذا أبدا) * أي إذا رجعتم إلى دينهم لن تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة قال الزجاج قوله: * (إذا أبدا) * يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن رجعتم إلى ملتهم أبدا، قال القاضي: ما على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين فأحدهما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل، والآخر هلاك الدين بأن يردوا
إلى الكفر، فإن قيل: أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى إنهم أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا: * (ولن تفلحوا إذا أبدا) *
103

قلنا يحتمل أن يكون المراد أنهم لو ردوا هؤلاء المسلمين إلى الكفر على سبيل الإكراه بقوا مظهرين لذلك الكفر مدة فإنه يميل قلبهم إلى ذلك الكفر ويصيرون كافرين في الحقيقة، فهذا الاحتمال قائم فكان خوفهم منه، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا * سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا) *
اعلم أن المعنى كما زدناهم هدى وربطنا على قلوبهم وأنمناهم وقلبناهم وبعثناهم لما فيها من الحكم الظاهرة، فكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا غيرهم على أحوالهم يقال عثرت على كذا أي علمته وقالوا: إن أصل هذا أن من كان غافلا عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه، فكان العثار سببا لحصول العلم والتبين فأطلق اسم السبب على المسبب واختلفوا في السبب الذي لأجله عرف الناس واقعة أصحاب الكهف على وجهين: الأول: أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولا مخالفا للعادة وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبة تدل على أن مدتهم قد طالت طولا خارجا عن العادة. والثاني: أن ذلك الرجل لما دخل إلى لسوق ليشتري الطعام وأخرج الدراهم لثمن الطعام قال صاحب الطعام: هذه النقود غير موجودة في هذا اليوم. وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدة طويلة ودهر داهر فلعلك وجدت كنزا، واختلف الناس فيه وحملوا ذلك الرجل إلى ملك البلد فقال الملك من أين وجدت هذه الدراهم؟ فقال: بعت بها أمس شيئا من التمر، وخرجنا فرارا من
104

الملك دقيانوس فعرف ذلك الملك أنه ما وجد كنزا وأن الله بعثه بعد موته ثم قال تعالى: * (ليعلموا أن وعد الله حق) * يعني أنا إنما أطلعنا القوم على أحوالهم ليعلم القوم أن وعد الله حق بالبعث والحشر والنشر روى أن ملك ذلك الوقت كان ممن ينكر البعث إلا أنه كان مع كفرة منصفا فجعل الله أمر الفتية دليلا للملك، وقيل بل اختلفت الأمة في ذلك الزمان فقال بعضهم: الجسد والروح يبعثان جميعا، وقال آخرون: الروح تبعث، وأما الجسد فتأكله الأرض. ثم إن ذلك الملك كان يتضرع إلى الله أن يظهر له آية يستدل بها على ما هو الحق في هذه المسألة فأطلعه الله تعالى على أمر أصحاب أهل الكهف. فاستدل ذلك الملك بواقعتهم على صحة البعث للأجساد، لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل يشبه من يموت ثم يبعث فقوله: * (إذ يتنازعون بينهم) * متعلق باعثرنا أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم. واختلفوا في المراد بهذا التنازع فقيل كانوا يتنازعون في صحة البعث، فالقائلون به استدلوا بهذه الواقعة على صحته، وقالوا كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها، وقيل: إن الملك وقومه لما رأوا أصحاب الكهف ووقفوا على أحوالهم عاد القوم إلى كهفهم فأماتهم الله فعند هذا اختلف الناس، فقال قوم إنهم نيام كالكرة الأولى وقال آخرون بل الآن ماتوا. والقول الثالث: أن بعضهم قال: الأولى أن يسد باب الكهف لئلا يدخل عليهم أحد ولا يقف على أحوالهم إنسان. وقال آخرون: بل الأولى أن يبني على باب الكهف مسجد وهذا القول يدل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة. والقول الرابع: أن الكفار قالوا: إنهم كانوا على ديننا فنتخذ عليهم بنيانا، والمسلمون قالوا كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجدا. والقول الخامس: أنهم تنازعوا في قدر مكثهم. والسادس: أنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم، ثم قال تعالى: * (ربهم أعلم بهم) * وهذا فيه وجهان. أحدهما: أنه من كلام المتنازعين كأنهم لما تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أسمائهم وأحوالهم ومدة لبثهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا ربهم أعلم بهم. الثاني: أن هذا من كلام الله تعالى ذكره ردا للخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين ثم قال تعالى: * (قال الذين غلبوا على أمرهم) * قيل المراد به الملك المسلم، وقيل: أولياء أصحاب الكهف، وقيل: رؤساء البلد: * (لنتخذن عليهم مسجدا) * نعبد الله فيه ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد، ثم قال تعالى: * (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم) * الضمير في قوله: * (سيقولون) * عائد إلى المتنازعين. روى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبيا كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال العاقب وكان نسطوريا كانوا خمسة سادسهم كلبهم، وقال المسلمون كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، قال أكثر المفسرين هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه. الأول: أن الواو في قوله: * (وثامنهم) * هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك
105

جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله تعالى: * (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) * (الحجر: 4) وفائدتها توكيد ثبوت الصفة للموصوف والدلالة على أن اتصافه بها " أمر ثابت مستقر، فكانت هذه الواو دالة على صدق الذين قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، وأنهم قالوا قولا متقررا متحققا عن ثبات وعلم وطمأنينة نفس. الوجه الثاني: قالوا: إنه تعالى خص هذا الموضع بهذا الحرف الزائد وهو الواو فوجب أن تحصل به فائدة زائدة صونا للفظ عن التعطيل، وكل من أثبت هذه الفائدة الزائدة قال المراد منها تخصيص هذا القول بالإثبات والتصحيح. الوجه الثالث: أنه تعالى أتبع القولين الأولين بقوله: * (رجما بالغيب) * وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه، فوجب أن يكون المخصوص بالظن الباطل هو القولان الأولان، وأن يكون القول الثالث مخالفا لهما في كونهما رجما بالظن. والوجه الرابع: أنه تعالى لما حكى قولهم: * (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) * قال بعده: * (قل ربي اعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) * فاتباع القولين الأولين بكونهما رجما بالغيب وإتباع هذا القول الثالث بقوله: * (قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) * يدل على أن هذا القول ممتاز عن القولين الأولين بمزيد القوة والصحة. والوجه الخامس: أنه تعالى قال: * (ما يعلمهم إلا قليل) * وهذا يقتضي أنه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل وكل من قال من المسلمين قولا في هذا الباب قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول. كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول:
كانوا سبعة وأسماؤهم هذا: يمليخا، مكسلمينا، مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوس، ودبرنوس، وسادنوس، وكان الملك يستشير هؤلاء الستة في مهماته، والسابع هو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم واسم كلبهم قطمير، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أنا من ذلك العدد القليل، وكان يقول: إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
الوجه السادس: أنه تعالى لما قال: * (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) * والظاهر أنه تعالى لما حكى الأقوال فقد حكى كل ما قيل من الحق والباطل لأنه يبعد أنه تعالى ذكر الأقوال الباطلة ولم يذكر ما هو الحق. فثبت أن جملة الأقوال الحقة والباطلة ليست إلا هذه الثلاثة، ثم خص الأولين بأنهما رجم بالغيب فوجب أن يكون الحق هو هذا الثالث. الوجه السابع: أنه تعالى قال لرسوله؛ * (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا) * فمنعه الله تعالى عن المناظرة معهم وعن استفتائهم في هذا الباب، وهذا إنما يكون لو علمه حكم هذه الواقعة، وأيضا أنه تعالى قال: * (ما يعلمهم إلا قليل) * ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبي ولا يحصل للنبي، فعلمنا أن العلم بهذه الواقعة حصل للنبي عليه السلام، والظاهر أنه لم يحصل ذلك العلم إلا بهذا الوحي، لأن الأصل فيما سواه العدم، وأن يكون الأمر كذلك فكان الحق هو قوله: * (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) * واعلم أن هذه الوجوه وإن كان بعضها أضعف
106

من بعض إلا أنه لما تقوى بعضها ببعض حصل فيه كمال وتمام والله أعلم. بقي في الآية مباحث.
البحث الأول: في الآية حذف والتقدير سيقولون هم ثلاثة فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه.
البحث الثاني: خص القول الأول بسين الاستقبال، وهو قوله سيقولون، والسبب فيه أن حرف العطف يوجب دخول القولين الآخرين فيه.
البحث الثالث: الرجم هو الرمي، والغيب ما غاب عن الإنسان فقوله: * (رجما بالغيب) * معناه أن يرى ما غاب عنه ولا يعرفه بالحقيقة، يقال فلان يرمي بالكلام رميا، أي يتكلم من غير تدبر.
البحث الرابع: ذكروا في فائدة الواو في قوله: * (وثامنهم كلبهم) * وجوها الوجه الأول: ما ذكرنا أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال. وثانيها: أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد قال تعالى: * (إن تستغفر لهم سبعين مرة) * وإذا كان كذلك فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظا يدل على الاستئناف، فقالوا وثمانية، فجاء هذا الكلام على هذا القانون، قالوا: ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات، وهي قوله: * (والناهون عن المنكر) * (التوبة: 112) لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة وقوله: * (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) * (الزمر: 73) لأن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة، وقوله: * (ثيبات وأبكارا) * (التحريم: 5) هو العدد الثامن مما تقدم، والناس يسمون هذه الواو واو الثمانية، ومعناه ما ذكرناه، قال القفال: وهذا ليس بشيء، والدليل عليه قوله تعالى: * (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) * (الحشر: 23) ولم يذكر الواو في النعت الثامن، ثم قال تعالى: * (قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) * وهذا هو الحق، لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم والحوادث التي حدثت في الماضي والمستقبل لا تحصل إلا عند الله تعالى، وإلا عند من أخبره الله عنها، وقال ابن عباس أنا من أولئك القليل، قال القاضي: إن كان قد عرفه ببيان الرسول صح، وإن كان قد تعلق فيه بحرف الواو فضعيف، ويمكن أن يقال: الوجوه السبعة المذكورة وإن كانت لا تفيد الجزم إلا أنها تفيد الظن، واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه القصة أتبعه بأن نهي رسوله عن شيئين، عن المراء والاستفتاء، أما النهي عن المراء، فقوله: * (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا) * والمراد من المراء الظاهر أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد، بل يقول: هذا التعيين لا دليل عليه، فوجب التوقف وترك القطع. ونظيره قوله تعالى: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) * (العنكبوت: 46) وأما النهي عن الاستفتاء فقوله: * (ولا تستفت فيهم منهم أحدا) *، وذلك لأنه لما ثبت أنه ليس عندهم علم في هذا الباب وجب المنع من استفتائهم، واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية قالوا لأن قوله: * (رجما بالغيب) * وضع الرجم فيه موضع الظن فكأنه قيل: ظنا بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا: رجم بالظن مكان قولهم ظن، حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين، ألا ترى إلى قوله: وما هو عنها بالحديث المرجم
107

أي المظنون هكذا قاله صاحب الكشاف، وذلك يدل على أن القول بالظن مذموم عند الله ثم إنه تعالى لما ذم هذه الطريقة رتب عليه من استفتاء هؤلاء الظانين، فدل ذلك على أن الفتوى بالمظنون غير جائز عند الله، وجواب مثبتي القياس عنه قد ذكرناه مرارا.
قوله تعالى
* (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدا * إلا أن يشآء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لاقرب من هذا رشدا * ولبثوا فى كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا * قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والارض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا) *
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال المفسرون إن القوم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسائل الثلاثة، قال عليه السلام أجيبكم عنها غدا ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحي خمسة عشر يوما وفي رواية أخرى أربعين يوما، ثم نزلت هذه الآية، اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين. الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عالما بأنه إذا أخبر عن أنه سيفعل الفعل الفلاني غدا فربما جاءته الوفاة قبل الغد، وربما عاقه عائق آخر عن الإقدام على ذلك الفعل غدا، وإذا كان كل هذه الأمور محتملا، فلو لم يقل إن شاء الله ربما خرج الكلام مخالفا لما عليه الوجود وذلك يوجب التنفير عنه، وعن كلامه عليه السلام، أما إذا قال إن شاء الله كان محترزا عن هذا المحذور، وإذا كان كذلك كان من البعيد أن يعد بشيء ولم يقل فيه إن شاء الله. الثاني: أن هذه الآية مشتملة على فوائد كثيرة وأحكام جمة فيبعد قصرها على هذا السبب
ويمكن أن يجاب عن الأول: أنه لا نزاع أن الأولى أن يقول إن شاء الله إلا أنه ربما اتفق له أنه نسي هذا الكلام لسبب من الأسباب فكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل، وأن يجاب عن الثاني أن اشتماله على الفوائد الكثيرة لا يمنع من أن يكون سبب نزوله واحدا منها.
108

المسألة الثانية: قوله: * (إلا أن يشاء الله) * ليس فيه بيان أنه شاء الله ماذا، وفيه قولان: الأول: التقدير: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) * أن يأذن لك في ذلك القول، والمعنى أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك أنك تفعل الفعل الفلاني إلا إذا أذن الله لك في ذلك الإخبار. القول الثاني: أن يكون التقدير: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا) * إلا أن تقول: * (إن شاء الله) * والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول هو أن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غدا لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد، ولم يبعد أيضا لو بقي حيا أن يعوقه عن ذلك الفعل شيء من العوائق، فإذا كان لم يقل إن شاء الله صار كاذبا في ذلك الوعد، والكذب منفرد وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، فلهذا السبب أوجب عليه أن يقول: * (إن شاء الله) * حتى أن بتقدير أن يتعذر عليه الوفاء بذلك الموعود لم يصر كاذبا فلم يحصل التنفير.
المسألة الثالثة: اعلم أن مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الإيمان والطاعة من العبد والعبد يريد الكفر والمعصية لنفسه فيقع مراد العبد ولا يقع مراد الله فتكون إرادة العبد غالبة وإرادة الله تعالى مغلوبة، وأما عندنا فكل ما أراد الله تعالى فهو واقع فهو تعالى يريد الكفر من الكافر ويريد الإيمان من المؤمن وعلى هذا التقرير فإرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة إذا عرفت هذا فنقول إذا قال العبد لأفعلن كذا غدا إلا أن يشاء الله والله إنما يدفع عنه الكذب إذا كانت إرادة الله غالبة على إرادة العبد فإن على هذا القول يكون التقدير أن العبد قال أنا أفعل الفعل الفلاني إلا إذا كانت إرادة الله بخلافه فأنا على هذا التقدير لا أفعل لأن إرادة الله غالبة على إرادتي فعند قيام المانع الغالب لا أقوى على الفعل، أما بتقدير أن تكون إرادة الله تعالى مغلوبة فإنها تلا تصلح عذرا في هذا الباب، لأن المغلوب لا يمنع الغالب. إذا ثبت هذا فنقول: أجمعت الأمة على أنه إذا قال والله لأفعلن كذا ثم قال: إن شاء الله دافعا للحنث فلا يكون دافعا للحنث إلا إذا كانت إرادة الله غالبة، فلما حصل دفع الحنث بالإجماع وجب القطع بكون إرادة الله تعالى غالبة وأنه لا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله وأصحابنا أكدوا هذا الكلام في صورة معينة وهو أن الرجل إذا كان له على إنسان دين وكان ذلك المديون قادرا على أداء الدين فقال والله لأقضين هذا الدين غدا، ثم قال إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض هذا الدين لم يحنث وعلى قول المعتزلة أنه تعالى يريد منه قضاء الدين وعلى هذا التقدير فقوله: * (إن شاء الله) * تعليق لذلك الحكم على شرط واقع فوجب أن يحنث، ولما أجمعوا على أن لا يحنث علمنا أن ذلك إنما كان لأن الله تعالى ما شاء ذلك الفعل مع أن ذلك الفعل قد أمر الله به ورغب فيه وزجر عن الإخلال به وثبت أنه تعالى قد ينهى عن الشيء ويريده وقد يأمر بالشيء ولا يريده وهو المطلوب، فإن قيل هب أن الأمر كما ذكرتم إلا أن كثيرا من الفقهاء قالوا: إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع الطلاق فما السبب فيه؟ قلنا السبب هو أنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئة الله لم يقع إلا إذا عرفنا وقوع
109

الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا أولا حصول هذه المشيئة لكن مشيئة الله تعالى غيب فلا سبيل إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة قد وقع وحصل وهو الطلاق فعلى هذا الطريق لا نعرف حصول المشيئة إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا وقوع المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منها على العلم بالآخرة، وهو دور والدور باطل فلهذا السبب قالوا الطلاق غير واقع. المسألة الرابعة: احتج القائلون بأن المعدوم شيء بقوله: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إن يشاء الله) * قالوا: الشيء الذي سيفعله الفاعل غدا سماه الله تعالى في الحال بأنه شيء لقوله: * (ولا تقولن لشيء) * ومعلوم أن الشيء الذي سيفعله الفاعل غدا فهو معدوم في الحال، فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء. والجواب أن هذا الاستدلال لا يفيد إلا أن المعدوم مسمى بكونه شيئا وعندنا أن السبب فيه أن الذي سيصير شيئا يجوز تسميته بكونه شيئا في الحال كما أنه قال: * (أتى أمر الله) * (النحل: 1) والمراد سيأتي أمر الله، أما قوله: * (واذكر ربك إذا نسيت) * ففيه وجهان: الأول: أنه كلام متعلق بما قبله والتقدير أنه إذا نسي أن يقول إن شاء الله فليذكره إذا تذكره وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس رضي الله عنهما لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في دفع الحنث وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم، وعن طاوس أنه يقدر على الاستثناء في مجلسه، وعن عطاء يستثني على مقدار حلب الناقة الغزيرة، وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا، واحتج ابن عباس بقوله: * (واذكر ربك إذا نسيت) * لأن الظاهر أن المراد من قوله: * (واذكر ربك إذا نسيت) * هو الذي تقدم ذكره في قوله: * (إلا أن يشاء الله) * وقوله: * (واذكر ربك) * غير مختص بوقت معين بل هو يتناول كل الأوقات فوجب أن يجب عليه هذا الذكر في أي وقت حصل هذا التذكر وكل من قال وجب هذا الذكر قال: إنه إنما وجب لدفع الحنث وذلك يفيد المطلوب، واعلم أن استدلال ابن عباس رضي الله عنهما ظاهر في أن الاستثناء لا يجب أن يكون متصلا، أما الفقهاء فقالوا إنا لو جوزنا ذلك لزم أن لا يستقر شيء من العقود، والإيمان، يحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال أبو حنيفة رحمه الله: هذا يرجع عليك، فإنك تأخذ البيعة بالإيمان أتفرض أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن المنصور كلامه ورضي به. واعلم أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى تخصيص النص بالقياس وفيه ما فيه. وأيضا فلو قال إن شاء الله على سبيل الخفية بلسانه بحيث لا يسمعه أحد فهو معتبر ودافع للحنث بالإجماع مع أن المحذور الذي ذكرتم حاصل فيه. فثبت أن الذي عولوا عليه ليس بقوي، والأولى أن يحتجوا في وجوب كون الاستثناء متصلا بأن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد. قال تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) وقال: * (وأوفوا بالعهد) * (الإسراء: 34) فالآتي بالعهد يجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات
110

خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان متصلا لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أن لفظ الاستثناء وحده لا يفيد شيئا، فهو جار مجرى نصف اللفظ الواحدة،
فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة، وعلى هذا التقدير فعند ذكر الاستثناء عرفنا أنه لم يلزم شيء بخلاف ما إذا كان الاستثناء متصلا فإنه حصل الالتزام التام بالكلام فوجب عليه الوفاء بذلك الملتزم والقول الثاني أن قوله: * (واذكر ربك إذا نسيت) * لا تعلق له بما قبله بل هو كلام مستأنف وعلى هذا القول ففيه وجوه. أحدها: واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، والمراد منه الترغيب في الاهتمام بذكر هذه الكلمة. وثانيها: واذكر ربك إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي. وثالثها: حمله بعضهم على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها، وهذا القول بما فيه من الوجوه الثلاثة بعيد لأن تعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضية وجعله كلاما مستأنفا يوجب صيرورة الكلاء مبتدأ منقطعا وذلك لا يجوز ثم قال تعالى: * (وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا) * وفيه وجوه: الأول: أن ترك قوله: * (إن يشاء الله) * ليس بحسن وذكره أحسن من تركه وقوله: * (لأقرب من هذا رشدا) * المراد منه ذكر هذه الجملة. الثاني: إذا وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول عسى أن يهديني ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به. والثالث: أن قوله: * (لأقرب من هذا رشدا) * إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والدلائل على صحة أني نبي من عند الله صادق القول في ادعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف. وقد فعل الله ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك، وأما قوله تعالى: * (ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) * فاعلم أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف وفي قوله: * (ولبثوا في كهفهم) * قولان: الأول: أن هذا حكاية كلام القوم والدليل عليه أنه تعالى قال: * (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم) * وكذا إلى أن قال: * (ولبثوا في كهفهم) * أي أن أولئك الأقوام قالوا ذلك ويؤكده أنه تعالى قال بعده: * (قل الله أعلم بما لبثوا) * وهذا يشبه الرد على الكلام المذكور قبله ويؤكده أيضا ما روي في مصحف عبد الله: وقالوا ولبثوا في كهفهم. والقول الثاني: أن قوله: * (ولبثوا في كهفهم) * هو كلام الله تعالى فإنه أخبر عن كمية تلك المدة، وأما قوله: * (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم) * فهو كلام قد تقدم وقد تخلل بينه وبين هذه الآية ما يوجب انقطاع أحدهما عن الآخر وهو قوله: * (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا) * وقوله: * (قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض) * لا يوجب أن ما قبله حكاية، وذلك لأنه تعالى أراد: * (قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض) * فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب.
111

المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي ثلثمائة سنين بغير تنوين والباقون بالتنوين وذلك لأن قوله: * (سنين) * عطف بيان لقوله: * (ثلثمائة) * لأنه لما قال: * (ولبثوا في كهفهم ثلثمائة) * لم يعرف أنها أيام أم شهور أم سنون فلما قال سنين صار هذا بيانا لقوله: * (ثلثمائة) * فكان هذا عطف بيان له وقيل هو على التقديم والتأخير أي لبثوا سنين ثلثمائة. وأما وجه قراءة حمزة فهو أن الواجب في الإضافة ثلثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله: * (بالأخسرين أعمالا) * (الكهف: 103).
المسألة الثالثة: قوله: * (وازدادوا تسعا) *؟ المعنى وازدادوا تسع سنين فإن قالوا: لم لم يقل ثلثمائة وتسع سنين؟ وما الفائدة في قوله * (وازدادوا تسعا) *؟ قلنا: قال بعضهم: كانت المدة ثلثمائة سنة من السنين الشمسية وثلثمائة وتسع سنين من القمرية، وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول، ويمكن أن يقال: لعلهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قرب أمرهم من الأنبياء ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين ثم قال: * (قل الله أعلم بما لبثوا) * معناه أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدة من الناس الذين اختلفوا فيها، وإنما كان أولى بأن يكون عالما به لأنه موجد للسموات والأرض ومدبر للعالم، وإذا كان كذلك كان عالما بغيب السماوات والأرض فيكون عالما بهذه الواقعة لا محالة ثم قال تعالى: * (أبصر به وأسمع) * وهذه كلمة تذكر في التعجب، والمعنى ما أبصره وما أسمعه، وقد بالغنا في تفسير كلمة التعجب في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (فما أصبرهم على النار) * (البقرة: 175) ثم قال تعالى: * (ما لهم من دونه من ولي) * وفيه وجوه. الأول: ما لأصحاب الكهف من دون الله من ولي فإنه هو الذي يتولى حفظهم في ذلك النوم الطويل. الثاني: ليس لهؤلاء المختلفين في مدة لبث أهل الكهف ولي من دون الله يتولى أمرهم ويقيم لهم تدبير أنفسهم فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير أعلامه. الثالث: أن بعض القوم لما ذكروا في هذا الباب أقوالا على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب، فبين الله أنه ليس لهم من دونه ولي يمنع الله من إنزال العقاب عليهم. ثم قال: * (ولا يشرك في حكمه أحدا) * والمعنى أنه تعالى لما حكم أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول قولا بخلافه. والأصل أن الاثنين إذا كانا لشريكين فإن الاعتراض من كل واحد منهما على صاحبه يكثر ويصير ذلك مانعا لكل واحد منهما من إمضاء الأمر على وفق ما يريده. وحاصله يرجع إلى قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) فالله تعالى نفى ذلك عن نفسه بقوله تعالى: * (ولا يشرك في حكمه أحدا) * وقرأ ابن عامر ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي والخطاب عطفا على قوله: * (ولا تقولن لشيء) * أو على قوله: * (واذكر ربك إذا نسيت) * والمعنى ولا تسأل أحدا عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف واقتصر على حكمه وبيانه ولا تشرك أحدا في طلب معرفة تلك الواقعة وقرأ الباقون بالياء والرفع على الخبر والمعنى أنه تعالى لا يفعل ذلك.
112

المسألة الرابعة: اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف وفي مكانهم، أما الزمان الذي حصلوا فيه، فقيل إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام وإن موسى ذكرهم في التوراة، ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم، وقيل: إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبر المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى عليه السلام وبين محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح، وحكى القفال هذا القول عن محمد بن إسحاق. وقال قوم: إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة. وأما مكان هذا الكهف، فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف إلى الروم، قال: فوجه ملك الروم معي أقواما إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه، قال: وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم، قال: فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم قال وعرفت أنه تمويه
واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره، ثم قال القفال: والذي عندنا لا يعرف أن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف أو موضع آخر، والذي أخبر الله عنه وجب القطع به ولا عبرة بقول أهل الروم إن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف، وذكر في الكشاف عن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس لك ذلك قد منع الله من هو خير منك، فقال: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا، فقال لابن عباس: لا أنتهي حتى أعلم حالهم، فبعث أناسا فقال لهم: اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأحرقتهم، وأقول العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال، وإنما يستفاد ذلك من نص، وذلك مفقود فثبت أنه لا سبيل إليه.
المسألة الخامسة: اعلم أن مدار القول بإثبات البعث والقيامة على أصول ثلاثة. أحدها: أنه تعالى قادر على كل الممكنات. والثاني: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات. وثالثها: أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات فإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث والقيامة، فكذلك ها هنا ثبت أنه تعالى عالم قادر على الكل، وثبت أن بقاء الإنسان حيا في النوم مدة يوم ممكن فكذلك بقاؤه مدة ثلثمائة سنة يجب أن يكون ممكنا بمعنى أن إله العالم يحفظه ويصونه عن الآفة. وأما الفلاسفة فإنهم يقولون أيضا: لا يبعد وقوع أشكال فلكية غريبة توجب في هيولي عالم الكون والفساد حصول أحوال غريبة نادرة، وأقول: هذه السور الثلاثة المتعاقبة اشتمل كل واحد منها على حصول حالة عجيبة نادرة في هذا العالم فسورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بجسد محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الشام وهو حالة عجيبة، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدة ثلثمائة سنة وأزيد وهو أيضا حالة عجيبة، وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب وهو أيضا حالة عجيبة.
113

والمعتمد في بيان إمكان كل هذه العجائب والغرائب المذكورة في هذه السور الثلاثة المتوالية هو الطريقة التي ذكرناها. ومما يدل على أن هذا المعنى من الممكنات أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من كتاب الشفاء أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف، ثم قال أبو علي: ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف.
قوله تعالى
* (واتل مآ أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا) *
اعلم أن من هذه الآية إلى قصة موسى والخضر كلام واحد في قصة واحدة، وذلك أن أكابر كفار قريش احتجوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نؤمن بك فاطرد من عندك هؤلاء الفقراء الذين آمنوا بك والله تعالى نهاه عن ذلك ومنعه عنه وأطنب في جملة هذه الآيات في بيان أن الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد واقتراح باطل، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئا واحدا وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه وعلى العمل به وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنت المتعنتين فقال: * (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك) * وفي الآية مسألة وهي: أن قوله: * (أتل) * يتناول القراءة ويتناول الإتباع فيكون المعنى الزم قراءة الكتاب الذي أوحى إليك والزم العمل به ثم قال: * (لا مبدل لكلماته) * أي يمتنع تطرق التغيير والتبديل إليه وهذه الآية يمكن التمسك بها في إثبات أن تخصيص النص بالقياس غير جائز لأن قوله: * (أتل ما أوحي إليك من كتاب ربك) * معناه ألزم العمل بمقتضى هذا الكتاب وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره، فإن قيل فيجب ألا يتطرق النسخ إليه قلنا هذا هو مذهب أبي مسلم الأصفهاني فليس يبعد، وأيضا فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالغاية فكيف يكون تبديلا. أما قوله: * (ولن تجد من دونه ملتحدا) * اتفقوا على أن الملتحد هو الملجأ قال أهل اللغة: هو من لحد وألحد إذا مال ومنه قوله تعالى: * (لسان الذي يلحدون إليه) * (النحل: 103) والملحد المائل عن الدين والمعنى ولن تجد من دونه ملجأ في البيان والرشاد.
قوله تعالى
* (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيوة الدنيا
114

ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) *
اعلم أن أكابر قريش اجتمعوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء من عندك، فإذا حضرنا لم يحضروا، وتعين لهم وقتا يجتمعون فيه عندك فأنزل الله تعالى: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) * (الأنعام: 52) الآية فبين فيها إنه لا يجوز طردهم بل تجالسهم وتوافقهم وتعظم شأنهم ولا تلتفت إلى أقوال أولئك الكفار ولا تقيم لهم في نظرك وزنا سواء غابوا أو حضروا. وهذه القصة منقطعة عما قبلها وكلام مبتدأ مستقل. ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله: * (ولا تطرد الذين يدعون بهم بالغداة والعشي) * (الأنعام: 52) ففي تلك الآية نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن طردهم وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم فقوله: * (واصبر نفسك) * أصل الصبر الحبس ومنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصبورة وهي البهيمة تحبس فترمي، أما قوله: * (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر بالغدوة بضم الغين والباقون بالغداة وكلاهما لغة.
المسألة الثانية: في قوله: * (بالغداة والعشي) * وجوه: الأول: المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل: ليس لفلان عمل بالغداة والعشي إلا شتم الناس. الثاني: أن المراد صلاة الفجر والعصر. الثالث: المراد أن الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النوم إلى اليقظة وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة والعشي هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من اليقظة إلى النوم ومن الحياة إلى الموت والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله عظيم
الشكر لآلاء الله ونعمائه، ثم قال: * (ولا تعد عيناك عنهم) * يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره وجاء القوم عدا زيدا وإنما عدي بلفظة عن لأنها تفيد المباعدة فكأنه تعالى نهى عن تلك المباعدة وقرى: * (ولا تعد عينيك) * ولا تعد عينيك من أعداه وعداه نقلا بالهمزة وتثقيل الحشو ومنه قوله شعر: فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له
والمقصود من الآية أنه تعالى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يزدري فقراء المؤمنين وأن تنبو عيناه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء وحسن صورتهم وقوله: * (تريد زينة الحياة الدنيا) * نصب في موضع الحال. يعني أنك (إن) فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا، ولما بالغ في أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين فقال: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهال لأن قوله: * (أغفلنا) * يدل على هذا المعنى، قالت المعتزلة: المراد بقوله تعالى: * (أغفلنا قلبه
115

عن ذكرنا) * أنا وجدنا قلبه غافلا وليس المراد خلق الغفلة فيه، والدليل عليه ما روي عن عمرو بن معديكرب الزبيدي أنه قال لبني سليم: قاتلناكم فما أجبناكم، وسألناكم فما أبخلناكم، وهجوناكم فما أفحمناكم، أي ما وجدناكم جبناء ولا بخلاء ولا مفحمين. ثم نقول: حمل اللفظ على هذا المعنى أولى ويدل عليه وجوه: الأول: أنه لو كان كذلك لما استحقوا الذم. الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه لما صح ذلك. الثالث: لو كان المراد هو أنه تعالى جعل قلبه غافلا لوجب أن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه. لأن على هذا التقدير يكون ذلك من أفعال المطاوعة، وهي إنما تعطف بالفاء لا بالواو، ويقال: كسرته فانكسر ودفعته فاندفع ولا يقال: وانكسر واندفع. الرابع: قوله تعالى: * (واتبع هواه) * ولو كان تعالى أغفل في الحقيقة قلبه لم يجز أن يضاف ذلك إلى اتباعه هواه. والجواب: قوله المراد من قوله: * (أغفلنا) * أي وجدناه غافلا، وليس المارد تحصيل الغفلة فيه. قلنا: الجواب عنه من وجهين. الأول: أن الاشتراك خلاف الأصل فوجب أن يعتقد أن وزن الأفعال حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وجعله حقيقة في التكوين مجازا في الوجدان أولى من العكس وبيانه من وجوه: أحدها: أن مجيء بناء الأفعال بمعنى التكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان والكثرة دليل الرجحان. وثانيها: أن مبادرة الفهم من هذا البناء إلى التكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان ومبادرة الفهم دليل الرجحان. وثالثها: أنا إن جعلناه حقيقة في التكوين أمكن جعله مجازا في الوجدان لأن العلم بالشيء تابع لحصول المعلوم، فجعل اللفظ حقيقة في المتبوع ومجازا في التبع موافق للمعقول، أما لو جعلناه حقيقة في الوجدان مجازا في الإيجاد لزم جعله حقيقة في التبع مجازا في الأصل وأنه عكس المعقول فثبت أن الأصل جعل هذا البناء حقيقة في الإيجاد لا في الوجدان. الوجه الثاني: في الجواب عن السؤال أنا نسلم كون اللفظ مشتركا بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان إلا أنا نقول يجب حمل قوله: * (أغفلنا) * على إيجاد الغفلة وذلك لأن الدليل العقلي دل على أنه يمتنع كون العبد موجدا للغفلة في نفسه والدليل عليه أنه إذا حاول إيجاد الغفلة، فأما أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معين والأول باطل، وإلا لم يكن بأن تحصل له الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن تحصل له الغفلة عن شيء آخر، لأن الطبيعة المشترك فيها بين الأنواع الكثيرة تكون نسبتها إلى كل تلك الأنواع على السوية، أما الثاني فهو أيضا باطل لأن الغفلة عن كذا عبارة عن غفلة لا تمتاز عن سائر أقسام الغفلات إلا بكونها منتسبة إلى ذلك الشيء المعين بعينه، فعلى هذا لا يمكنه أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا إذا تصور أن تلك الغفلة غفلة عن كذا، ولا يمكنه أن يتصور كون تلك الغفلة غفلة عن كذا إلا إذا تصور كذا لأن العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروط بتصور كل واحد من المنتسبين. فثبت أنه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا مع الشعور بكذا لكن الغفلة عن كذا ضد الشعور بكذا؛ فثبت
116

أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه الغفلة إلا عند اجتماع الضدين وذلك محال، والموقوف على المحال محال، فثبت أن العبد غير قادر على إيجاد الغفلة، فوجب أن يكون خالق الغفلات وموجدها في العباد هو الله، وهذه نكتة قاطعة في إثبات هذا المطلوب، وعند هذا يظهر أن المراد بقوله تعالى: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه) * هو إيجاد الغفلة لا وجدانها، أما حديث المدح والذم فقد عارضناه مرارا وأطوارا بالعلم والداعي، أما قوله تعالى بعد هذه الآية: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * فالبحث عنه سيأتي إن شاء الله تعالى، أما قوله: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه) * لو كان المراد إيجاد الغفلة لوجب ذكر الفاء، لا ذكر الواو، فنقول: هذا إنما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتباع الهوى كما أن الكسر من لوازمه حصول الإنكسار، وليس الأمر كذلك لأنه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى لاحتمال أن يصير غافلا عن ذكر الله، ومع ذلك فلا يتبع الهوى بل يبقى متوقفا لا ينافي مقام الحيرة والدهشة والخوف من الكل فسقط هذا السؤال، وذكر القفال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوها أخرى. فأحدها: أنه تعالى لما صب عليهم الدنيا صبا وأدى ذلك إلى رسوخ الغفلة في قلوبهم صح على هذا التأويل أنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم كما في قوله تعالى: * (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) * (نوح: 6). والوجه الثاني: أن معنى قوله: * (أغفلنا) * أي تركناه غافلا فلم نسمه بسمة أهل الطهارة والتقوى وهو من قولهم بعير غفل أي لا سمة عليه. وثالثها: أن المراد من قوله أغفلنا قلبه أي خلاه مع الشيطان ولم يمنع الشيطان منه فيقال في: الوجه الأول: إن فتح باب لذات الدنيا عليه هل يؤثر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر، فإن أثر كان أثر إيصال اللذات إليه سببا لحصول الغفلة في قلبه. وذلك عين القول بأنه تعالى فعل ما يوجب حصول الغفلة في قلبه، وإن كان لا تأثير له في حصول هذه الغفلة بطل إسناده إليه، وقد يقال في: الوجه الثاني: إن قوله أغفلنا قلبه بمنزلة قوله سودنا قلبه وبيضنا وجهه ولا يفيد إلا ما ذكرناه، ويقال في الوجه الثالث إن كان لتلك التخلية أثر في حصول تلك الغفلة فقد صح قولنا، وإلا بطل استناد تلك الغفلة إلى الله تعالى.
المسألة الثانية: قوله: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه) * يدل على أن شر أحوال الإنسان أن يكون قلبه خاليا عن ذكر الحق ويكون مملوءا من الهوى
الداعي إلى الاشتغال بالخلق وتحقيق القول أن ذكر الله نور وذكر غيره ظلمة لأن الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة، والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله، وما سوى الله فهو ممكن الوجود لذاته. والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق، وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات، فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامة، فالإعراض عن الحق هو المراد بقوله: * (أغفلنا قلبه عن ذكرنا) * والإقبال على الخلق هو المراد بقوله: * (واتبع هواه) *.
117

المسألة الثالثة: قيل: * (فرطا) * أي مجاوزا للحد من قولهم: فرس فرط، إذا كان متقدما الخيل، قال الليث: الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقال كل أمر فلان فرط، وأنشد شعرا:
لقد كلفني شططا * وأمرا خائبا فرطا
أي مضيعا، فقوله وكان أمره فرطا معناه أن الأمر الذي يلزمه الحفظ له والاهتمام به وهو أمر دينه يكون مخصوصا بإيقاع التفريط والتقصير فيه، وهذه الحالة صفة من لا ينظر لدينه وإنما عمله لدنياه. فبين تعالى من حال الغافلين عن ذكر الله التابعين لهواهم أنهم مقصرون في مهماتهم معرضون عما وجب عليهم من التدبر في الآيات والتحفظ بمهمات الدنيا والآخرة، والحاصل أنه تعالى وصف أولئك الفقراء بالمواظبة على ذكر الله والإعراض عن غير ذكر الله فقال: * (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) * ووصف هؤلاء الأغنياء بالإعراض عن ذكر الله تعالى والإقبال على غير الله وهو قوله: * (أغفلنا قلبه واتبع هواه) * ثم أمر رسوله بمجالسة أولئك والمباعدة عن هؤلاء، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت جالسا في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستر بعضا من العرى وقارئ يقرأ القرآن فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول الله كان واحد يقرأ من كتاب الله ونحن نستمع، فقال عليه السلام: " الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت إلى أن أصبر نفسي معهم " ثم جلس وسطنا وقال: " أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف سنة ".
* (وقل الحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وسآءت مرتفقا) *
في الآية مسائل: المسألة الأولى: في تقرير النظم وجوه. الأول: أنه تعالى لما أمر رسوله بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا إن طردت الفقراء آمنا بك، قال بعده: * (وقل الحق من ربكم) * أي قل لهؤلاء إن هذا الدين الحق إنما أتى من عند الله فإن قبلتموه عاد النفع إليكم وإن لم تقبلوه عاد الضرر إليكم ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى والقبح والحسن والخمول والشهرة. الوجه الثاني: في تقرير النظم يمكن أن يكون المراد أن الحق ما جاء من عند الله، والحق الذي
118

جاءني من عنده أن أصبر نفسي مع هؤلاء الفقراء ولا أطردهم ولا ألتفت إلى الرؤساء وأهل الدنيا. والوجه الثالث: في تقرير النظم أن يكون المراد هو أن الحق الذي جاء من عند الله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وأن الله تعالى لم يأذن في طرد من آمن وعمل صالحا لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار، فإن قيل: أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهم على المهم فطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلا سقوط حرمتهم وهذا ضرر قليل. أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر، وهذا ضرر عظيم، قلنا: أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر فمسلم إلا أن من ترك الإيمان لأجل الحذر من مجالسة الفقراء فإيمانه ليس بإيمان بل هو نفاق قبيح، فوجب على العاقل أن لا يلتفت إلى إيمان من هذا حاله وصفته.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة قوله تعالى: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * صريح في أن الأمر في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية مفوض إلى العبد واختياره. فمن أنكر ذلك فقد خالف صريح القرآن، ولقد سألني بعضهم عن هذه الآية فقلت: هذه الآية من أقوى الدلائل على صحة قولنا وذلك لأن الآية صريحة في أن حصول الإيمان وحصول الكفر موقوف على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر وصريح العقل أيضا يدل له، فإن العقل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه وبدون الاختيار له. إذا عرفت هذا فنقول حصول ذلك القصد والاختيار إن كان بقصد آخر يتقدمه واختيار آخر يتقدمه لزمه أن يكون كل قصد واختيار مسبوقا بقصد آخر إلى غير النهاية وهو محال. فوجب انتهاء تلك القصود وتلك الاختيارت إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة عند حصول ذلك القصد الضروري والاختيار الضروري يوجب الفعل، فالإنسان شاء أو لم يشأ إن لم تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعارض لم يترتب الفعل، وإذا حصلت تلك المشيئة الجازمة شاء أو لم يشأ يجب ترتب الفعل عليه، فلا حصول المشيئة مترتب على حصول الفعل، ولا حصول الفعل مترتب على المشيئة. فالإنسان مضطر في صورة مختار، ولقد قرر الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله هذا المعنى في باب التوكل من كتاب إحياء علوم الدين فقال: فإن قلت إني أجد في نفسي وجدانا ضروريا أني إن شئت الفعل قدرت على الفعل وإن شئت الترك قدرت على الترك فالفعل والترك بي لا بغيري. وأجاب عنه، وقال: هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة، وإن لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل. بل العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا بسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة، وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار في هذا المقام فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى.
المسألة الثالثة: قوله: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * فيه فوائد:
119

الفائدة الأولى: الآية تدل على أن صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والداعي محال.
الفائدة الثانية: أن صيغة الأمر لا لمعنى الطلب في كتاب الله كثيرة ثم نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هذه الصيغة تهديد ووعيد وليست بتخيير.
الفائدة الثالثة: أنها تدل على أنه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين، بل نفع الإيمان يعود عليهم، وضرر الكفر يعود عليهم، كما قال تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7)، واعلم أنه تعالى لما وصف الكفر والإيمان والباطل والحق أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والأعمال الباطلة، وبذكر الوعد على الإيمان والعمل الصالح. أما الوعيد فقوله تعالى: * (إنا اعتدنا للظالمين نارا) * يقول اعتدنا لمن ظلم نفسه ووضع العبادة في غير موضعها والأنفة في غير محلها فعندما استحسن بهواه وأنف عن قبول الحق لأجل أن الذين قبلوه فقراء ومساكين، فهذا كله ظلم ووضع للشيء في غير موضعه. فأخبر تعالى أنه أعد لهؤلاء الأقوام نارا وهي الجحيم، ثم وصف تعالى تلك النار بصفتين: الصفة الأولى: قوله: * (وأحاط بهم سرادقها) * والسرادق هو الحجزة التي تكون حول الفسطاط فأثبت للنار شيئا شبيها بذلك يحيط بهم من جميع الجهات، والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة بهم من كل الجوانب. وقال بعضهم: المراد من هذا السرادق الدخان الذي وصفه الله في قوله: * (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) * (المرسلات: 30) وقالوا: هذه الإحاطة بهم إنما تكون قبل دخولهم النار فيغشاهم هذا الدخان ويحيط بهم كالسرادق حول الفسطاط. والصفة الثانية: لهذه النار قوله: * (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل) * قيل في حديث مرفوع إنه دردي الزيت وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل بيت المال وأخرج نفاثة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال: هذا هو المهل، قال أبو عبيدة والأخفش كل شيء أذبته من ذهب أو نحاس أو فضة فهو المهل، وقيل: إنه الصديد والقيح، وقيل إنه ضرب من القطران. ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم إذا طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى: * (تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية) * (الغاشية: 4، 5) ويحتمل أن يستغيثوا من حر جهنم فيطلبوا ماء يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء. قال تعالى حكاية عنهم: * (أن أفيضوا علينا من الماء) * (الأعراف: 50) وقال في آية أخرى: * (سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار) * (إبراهيم: 50) فإذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص وقوله تعالى: * (يغاثوا بماء كالمهل) * وارد على سبيل الاستهزاء كقوله:
تحية بينهم ضرب وجيع
ثم قال تعالى: * (بئس الشراب) * أي أن الماء الذي هو كالمهل بئس الشراب لأن المقصود بشرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في احتراق الأجسام مبلغا عظيما ثم قال تعالى: * (وساءت مرتفقا) * قال قائلون: ساءت النار منزلا ومجتمعا للرفقة لأن أهل النار يجتمعون رفقاء كأهل الجنة. قال تعالى في صفة أهل الجنة: * (وحسن أولئك رفيقا) * (النساء: 69) وأما رفقاء النار فهم الكفار والشياطين
120

والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء وبئس موضع الترافق النار كما أنه نعم الرفقاء أهل الجنة ونعم موضع الرفقاء الجنة. وقال آخرون مرتفقا أي متكأ، وسمي المرفق مرفقا لأنه يتكأ عليه، فالإتكاء إنما يكون للاستراحة، والمرتفق موضع الاستراحة والله أعلم.
قوله تعالى
* (أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الارآئك نعم الثواب وحسنت مرتفقا) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان لأن العطف يوجب المغايرة.
المسألة الثانية: قوله: * (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) * ظاهره يقتضي أنه يستوجب المؤمن بحسن عمله على الله أجرا، وعند أصحابنا ذلك الاستيجاب حصل بحكم الوعد وعند المعتزلة لذات الفعل وهو باطل لأن نعم الله كثيرة وهي موجبة للشكر والعبودية فلا يصير الشكر والعبودية موجبين لثواب آخر لأن أداء الواجب لا يوجب شيئا آخر.
المسألة الثالثة: نظير قوله: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * الخ قول الشاعر: إن الخليفة إن الله سربله * سربال ملك به ترجى الخواتيم
كرر أن تأكيدا للأعمال والجزاء عليها.
المسألة الرابعة: أولئك خبر إن وإنا لا نضيع اعتراض ولك أن تجعل إنا لا نضيع وأولئك خبرين معا ولك أن تجعل أولئك كلاما مستأنفا بيانا للأجر المبهم واعلم أنه تعالى لما أثبت الأجر المبهم أردفه بالتفصيل من وجوه: أولها: صفة مكانهم وهو قوله: * (أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار) * والعدن في اللغة عبارة عن الإقامة فيجوز أن يكون المعنى أولئك لهم جنات إقامة كما يقال هذه دار إقامة، ويجوز أن يكون العدن إسما لموضع معين من الجنة
121

وهو وسطها وأشرف أماكنها وقد استقصينا فيه فيما تقدم وقوله: * (جنات) * لفظ جمع فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (الرحمن: 46) ويمكن أن يكون المراد أن نصيب كل واحد من المكلفين جنة على حدة وذكر أن من صفات تلك الجنات أن الأنهار تجري من تحتها وذلك لأن أفضل المساكن في الدنيا البساتين التي يجري فيها الأنهار. وثانيها: إن لباس أهل الدنيا إما لباس التحلي، وإما لباس التستر، أما لباس التحلي فقال تعالى في صفته: * (يحلون فيها من أساور من ذهب) * والمعنى أنه يحليهم الله تعالى ذلك أو تحليهم الملائكة وقال بعضهم على كل واحد منهم ثلاثة أسورة سوار من ذهب لأجل هذه الآية وسوار من فضة لقوله تعالى: * (وحلوا أساور من فضة) * (الإنسان: 21) وسوار من لؤلؤ لقوله تعالى: * (ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) * (الحج: 23)،
وأما لباس التستر فقوله: * (ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق) * والمراد من سندس الآخرة واستبرق الآخرة والأول هو الديباج الرقيق وهو الخز والثاني هو الديباج الصفيق وقيل أصله فارسي معرب وهو استبره، أي غليظ، فإن قيل: ما السبب في أنه تعالى قال في الحلي: * (يحلون) * على فعل ما لم يسم فاعله وقال في السندس والاستبرق ويلبسون فأضاف اللبس إليهم، قلنا: يحتمل أن يكون اللبس إشارة إلى ما استوجبوه بعملهم وأن يكون الحلي إشارة إلى ما تفضل الله عليهم ابتداء من زوائد الكرم. وثالثها: كيفية جلوسهم فقال في صفتها متكئين فيها على الأرائك. قالوا: الأرائك جمع أريكة وهي سرير في حجلة، أما للسرير وحده فلا يسمى أريكة. ولما وصف الله تعالى هذه الأقسام قال: * (نعم الثواب وحسنت مرتفقا) * والمراد أن يكون هذا في مقابلة ما تقدم ذكره من قوله: * (وساءت مرتفقا) *.
قوله تعالى
* (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا * كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا * وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا * ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال مآ أظن أن
122

تبيد هذه أبدا * ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا * قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا * لكن هو الله ربى ولا أشرك بربى أحدا * ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شآء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا * فعسى ربى أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السمآء فتصبح صعيدا زلقا * أو يصبح مآؤها غورا فلن تستطيع له طلبا * وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على مآ أنفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول ياليتنى لم أشرك بربى أحدا * ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا * هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا) *
اعلم أن المقصود من هذا أن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين فبين الله تعالى أن ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنيا والغني فقيرا، أما الذي يجب
123

حصول المفاخرة به فطاعة الله وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبين ذلك بضرب هذا المثل المذكور في الآية فقال: * (واضرب لهم مثلا رجلين) * أي مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين كانا أخوين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه براطوس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وقيل هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى: * (قال قائل منهم إني كان لي قرين) * (الصافات: 51) ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فأخذ كل واحد منهما النصف فاشترى الكافر أرضا فقال المؤمن اللهم إني أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارا بألف فقال المؤمن: اللهم إني اشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال المؤمن اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور العين ثم اشترى أخوه خدما وضياعا بألف فقال المؤمن: اللهم إني اشتريت منك الولدان بألف فتصدق به ثم أصابه حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقوله تعالى: * (جعلنا لأحدهما جنتين) *، فاعلم أن الله تعالى وصف تلك الجنة بصفات: الصفة الأولى: كونها جنة وسمى البستان جنة لاستتار ما يستتر فيها بظل الأشجار وأصل الكلمة من الستر والتغطية، والصفة الثانية: قوله: * (وحففناهما بنخل) * أي وجعلنا النخل محيطا بالجنتين نظيره قوله تعالى: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش) * (الزمر: 75) أي واقفين حول العرش محيطين به، والحفاف جانب الشيء والأحفة جمع فمعنى قول القائل حف به القوم أي صاروا في أحفته وهي جوانبه قال الشاعر: له لحظات في حفافي سريره * إذا كرها فيها عقاب ونائل
قال صاحب " الكشاف ": حفوه إذا طافوا به، وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيده الباء مفعولا ثانيا كقوله: غشيته وغشيته به، قال: وهذه الصفة مما يؤثرها الدهاقين في كرومهم وهي أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة، وهو أيضا حسن في المنظر. الصفة الثالثة: * (وجعلنا بينهما زرعا) * والمقصود منه أمور. أحدها: أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه. وثانيها: أن تكون تلك الأرض متسعة الأطراف متباعدة الأكناف ومع ذلك فإنها لم يتوسطها ما يقطع بعضها عن بعض. وثالثها: أن مثل هذه الأرض تأتي في كل وقت بمنفعة أخرى وهي ثمرة أخرى فكانت منافعها دارة متواصلة. الصفة الرابعة: قوله تعالى: * (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) * كلا اسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان، وكلتا اسم مفرد يؤكد به مؤنثان معرفتان. وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك جاءني كلا أخويك، ورأيت كلا أخويك، ومررت بكلا أخويك. وجاءني كلتا أختيك، ورأيت كلتا أختيك، ومررت بكلتا أختيك، وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف، وفي الجر والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضا. وقوله: * (أتت أكلها) * حمل على اللفظ لأن كلتا لفظه لفظ مفرد ولو قيل أتتا على المعنى لجاز، وقوله: * (ولم تظلم
124

منه شيئا) * أي لم تنقص والظلم النقصان، يقول الرجل: ظلمني حقي أي نقصني. الصفة الخامسة: قوله تعالى: * (وفجرنا خلالهما نهرا) * أي كان النهر يجري في داخل تلك الجنتين. وفي قراءة يعقوب وفجرنا مخففة وفي قراءة الباقين وفجرنا مشددة والتخفيف هو الأصل لأنه نهر واحد والتشديد على المبالغة لأن النهر يمتد فيكون كأنهار و * (خلالهما) * أي وسطهما وبينهما. ومنه قوله تعالى: * (ولأوضعوا خلالكم) * (التوبة: 47). ومنه يقال خللت القوم أي دخلت بين القوم. الصفة السادسة: قوله تعالى: * (وكان له ثمر) * قرأ عاصم بفتح الثاء والميم في الموضعين وهو جمع ثمار أو ثمرة، وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم في الحرفين والباقون بضم الثاء والميم في الحرفين ذكر أهل اللغة: أنه بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما، وبالفتح حمل الشجر قال قطرب: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: الثمر المال والولد، وأنشد للحارث بن كلدة:
ولقد رأيت معاشرا * قد أثمروا مالا وولدا
مهلا فداء لك الأقوام كلهم * ما أثمروه أمن مال ومن ولد
وقوله: * (وكان له ثمر) * أي أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثر. وعن مجاهد الذهب والفضة: أي كان مع الجنتين أشياء من النقود، ولما ذكر الله تعالى هذه الصفات قال بعده: * (فقال له صاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) * والمعنى أن المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله وبالبعث والمحاورة مراجعة الكلام من قولهم: حار إذا رجع، قال تعالى: * (إنه ظن أن لن يحور بلى) * (الانشقاق: 14، 15)، فذكر تعالى أن عند هذه المحاورة قال الكافر: * (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) * والنفر عشيرة الرجل وأصحابه الذين يقومون بالذب عنه وينفرون معه، وحاصل الكلام أن الكافر ترفع على المؤمن بجاهه وماله، ثم إنه أراد أن يظهر لذلك المسلم كثرة ماله فأخبر الله تعالى عن هذه الحالة فقال: * (ودخل جنته) * وأراه إياها على الحالة الموجبة للبهجة والسرور وأخبره بصنوف ما يملكه من المال، فإن قيل: لم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلنا: المراد أنه ليس له جنة ولا نصيب في الجنة التي وعد المتقون المؤمنون وهذا الذي ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحدا منهما، ثم قال تعالى: * (وهو ظالم لنفسه) * وهو اعتراض وقع في أثناء الكلام، والمراد التنبيه على أنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى الكفران والجحود لقدرته على البعث كان واضعا تلك النعم في غير موضعها، ثم حكى تعالى عن الكافر أنه قال: * (وما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة) * فجمع بين هذين، فالأول قطعه بأن تلك الأشياء لا تهلك ولا تبيد أبدا مع أنها متغيرة متبدلة. فإن قيل: هب أنه شك في القيامة فكيف قال: ما أظن أن تبيد هذه أبدا مع أن الحدس يدل على أن أحوال الدنيا بأسرها ذاهبة باطلة غير باقية؟ قلنا: المراد أنها لا تبيد مدة حياته ووجوده، ثم قال: * (ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا) * أي مرجعا وعاقبة وانتصابه على التمييز ونظيره قوله تعالى: * (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) * وقوله: * (لأوتين مالا
125

وولدا) * والسبب في وقوع هذه الشبهة أنه تعالى لما أعطاه المال في الدنيا ظن أنه إنما أعطاه ذلك لكونه مستحقا له، والاستحقاق باق بعد الموت فوجب حصول العطاء. والمقدمة الأولى كاذبة فإن فتح باب الدنيا على الإنسان يكون في أكثر الأمر للاستدراج والتملية، قرأ نافع وابن كثير خيرا منهما، والمقصود عود الكناية إلى الجنتين، والباقون منها، والمقصود عود الكناية إلى الجنة التي دخلها، ثم ذكر تعالى جواب المؤمن فقال جل جلاله: * (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) * وفيه بحثان:
البحث الأول: أن الإنسان الأول قال: * (وما أظن الساعة قائمة) * وهذا الثاني كفره حيث قال: * (أكفرت بالذي خلقك من تراب) * وهذا يدل على أن الشاك في حصول البعث كافر.
البحث الثاني: هذا الاستدلال يحتمل وجهين: الأول: يرجع إلى الطريقة المذكورة في القرآن وهو أنه تعالى لما قدر على الابتداء وجب أن يقدر على الإعادة فقوله: * (خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) * إشارة إلى خلق الإنسان في الابتداء. الوجه الثاني: أنه لما خلقك هكذا فلم يخلقك عبثا، وإنما خلقك للعبودية وإذا خلقك لهذا المعنى وجب أن يحصل للمطيع ثواب وللمذنب عقاب وتقريره ما ذكرناه في سورة يس، ويدل على هذا الوجه قوله: * (ثم سواك رجلا) * أي هيأك هيئة تعقل وتصلح للتكليف فهل يجوز في العقل مع هذه الحالة إهماله أمرك ثم قال المؤمن: * (لكنا هو الله ربي) * وفيه بحثان:
البحث الأول: قال أهل اللغة لكنا أصله لكن أنا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن فاجتمعت النونان فأدغمت نون لكن في النون التي بعدها ومثله: وتقلينني لكن إياك لا أقلى
أي لكن أنا لا أقليك وهو في قوله: * (هو الله ربي) * ضمير الشأن وقوله: * (الله ربي) * جملة من المبتدأ والخبر واقعة في معرض الخبر لقوله: هو فإن قيل قوله: * (لكنا) * استدراك لماذا؟ قلنا لقوله: * (أكفرت) * كأنه قال لأخيه: أكفرت بالله لكني مؤمن موحد كما تقول زيد غائب لكن عمرو حاضر.
والبحث الثاني: قرأ ابن عامر ويعقوب الحضرمي ونافع في رواية: * (لكنا هو الله ربي) * في الوصل بالألف. وفي قراءة الباقين: * (لكن هو الله ربي) * بغير ألف والمعنى واحد ثم قال المؤمن: * (ولا أشرك بربي أحدا) * ذكر القفال فيه وجوها: أحدها: إني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلي ولا أتكبر عندما ينعم علي ولا أرى كثرة المال والأعوان من نفسي وذلك لأن الكافر لما اعتز بكثرة المال والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكا في إعطاء العز والغنى. وثانيها: لعل ذلك الكافر مع كونه منكرا للبعث كان عابد صنم فبين هذا المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء. وثالثها: أن هذا الكافر لما عجز الله عن البعث والحشر فقد جعله مساويا للخلق في هذا العجز وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك ثم قال المؤمن للكافر: * (ولولا إذ دخلت جنتك
126

قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) * فأمره أن يقول هذين الكلامين الأول قوله: * (ما شاء الله) * وفيه وجهان: الأول: أن تكون (ما) شرطية ويكون الجزاء محذوفا والتقدير أي شيء شاء الله كان. والثاني: أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف وتقديره الأمر ما شاء الله، واحتج أصحابنا بهذا على أن كل ما أراده الله وقع وكل ما لم يرده لم يقع وهذا يدل على أنه ما أراد الله الإيمان من الكافر وهو صريح في إبطال قول المعتزلة أجاب الكعبي عنه بأن تأويل قولهم: ما شاء مما تولى فعله لا مما هو فعل العباد كما قالوا: لا مرد لأمر الله لم يرد ما أمر به العباد ثم قال: لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريده كما يحصل فيه ما نهى عنه، واعلم أن الذي ذكر الكعبي ليس جوابا عن الاستدلال بل هو التزام المخالفة لظاهر النص وقياس الإرادة على الأمر، باطل لأن هذا النص دال على أنه لا يوجد إلا ما أراده الله وليس في النصوص ما يدل على أنه لا يدخل في الوجود إلا ما أمر به فظهر الفرق وأجاب القفال عنه بأن قال: هلا إذا دخلت بستانك قلت ما شاء الله كقول الإنسان هذه الأشياء الموجودة في هذا البستان ما شاء الله، ومثله قوله: * (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم) * وهم ثلاثة وقوله: * (وقولوا حطة) * (البقرة: 58) أي قولوا هذه حطة وإذا كان كذلك كان المراد من هذا الشيء الموجود في البستان شيء شاء الله تكوينه وعلى هذا التقدير لم يلزم أن يقال كل ما شاء الله وقع لأن هذا
الحكم غير عام في الكل بل مختص بالأشياء المشاهدة في البستان وهذا التأويل الذي ذكره القفال أحسن بكثير مما ذكره الجبائي والكعبي، وأقول: إنه على جوابه لا يدفع الإشكال على المعتزلة لأن عمارة ذلك البستان ربما حصلت بالغصوب والظلم الشديد فلا يصح أيضا على قول المعتزلة أن يقال: هذا واقع بمشيئة الله. اللهم إلا أن نقول المراد أن هذه الثمار حصلت بمشيئة الله تعالى إلا أن هذا تخصيص لظاهر النص من غير دليل. والكلام الثاني: الذي أمر المؤمن الكافر بأن يقوله هو قوله: * (لا قوة إلا بالله) * أي لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره. والمقصود إنه قال المؤمن للكافر: هلا قلت عند دخول جنتك الأمر ما شاء الله والكائن ما قدره الله اعترافا بأنها وكل خير فيها بمشيئة الله وفضله فإن أمرها بيده إن شاء تركها وإن شاء خربها، وهلا قلت لا قوة إلا بالله إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فهو بمعونة الله وتأييده لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله ثم إن المؤمن لما علم الكافر الإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال: * (إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا) * من قرأ أقل بالنصب فقد جعل أنا فصلا وأقل مفعولا ثانيا ومن قرأ بالرفع جعل قوله: * (أنا) * مبتدأ وقوله * (أقل) * خبر والجملة مفعولا ثانيا لترن واعلم أن ذكر الولد ههنا يدل على أن المراد بالنفر المذكور في قوله: * (وأعز نفرا) * الأعوان والأولاد كأنه يقول له: إن كنت تراني: * (أقل مالا وولدا) * وأنصارا في الدنيا الفانية: * (فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك) * إما في الدنيا، وإما في الآخرة. ويرسل على جنتك: * (حسبانا من السماء) * أي عذابا وتخريبا والحسبان مصدر كالغفران والبطلان بمعنى الحساب
127

أي مقدارا قدره الله وحسبه وهو الحكم بتخريبها. قال الزجاج: عذاب حسبان وذلك الحسبان حسبان ما كسبت يداك وقيل حسبانا أي مرامي الواحد منها حسبانة وهي الصواعق: * (فنصبح صعيدا زلقا) * أي فتصبح جنتك أرضا ملساء لا نبات فيها والصعيد وجه الأرض، زلقا أي تصير بحيث تزلق الرجل عليها زلقا ثم قال: * (أو يصبح ماؤها غورا) * أي يغوص ويسفل في الأرض: * (فلن تستطيع له طلبا) * أي فيصير بحيث لا تقدر على رده إلى موضعه. قال أهل اللغة في قوله: * (ماؤها غورا) * أي غائرا وهو نعت على لفظ المصدر كما يقال: فلان زور وصوم للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ويقال نساء نوح أي نوائح ثم أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدره هذا المؤمن فقال: * (وأحيط بثمره) * وهو عبارة عن إهلاكه بالكلية وأصله من إحاطة العدو لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله: * (إلا أن يحاط بكم) * (يوسف: 66) ومثله قولهم: أتى عليه إذا أهلكه من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعليا عليهم. ثم قال تعالى: * (فأصبح يقلب كفيه) * وهو كناية عن الندم والحسرة فإن من عظمت حسرته يصفق إحدى يديه على الأخرى، وقد يمسح إحداهما على الأخرى، وإنما يفعل هذا ندامة على ما أنفق في الجنة التي وعظه أخوه فيها وعذله: * (وهي خاوية على عروشها) * أي ساقطة على عروشها فيمكن أن يكون المراد بالعروش عروش الكرم فهذه العروش سقطت ثم سقطت الجدران عليها ويمكن أن يراد من العروش السقوف وهي سقطت على الجدران. وحاصل الكلام أن هذه اللفظة كناية عن بطلانها وهلاكها، ثم قال تعالى: * (ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا) * والمعنى أن المؤمن لما قال: * (لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا) * فهذا الكافر تذكر كلامه وقال: * (يا ليتني لم أشرك بربي أحدا) * فإن قيل هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنته بشؤم شركه وليس الأمر كذلك لأن أنواع البلاء أكثرها إنما يقع للمؤمنين قال تعالى: * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون) * (الزخرف: 33) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل " وأيضا فلما قال: * (يا ليتني لم أشرك بربي أحدا) * فقد ندم على الشرك ورغب في التوحيد فوجب أن يصير مؤمنا فلم قال بعده: * (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا) * والجواب عن السؤال الأول: أنه لما عظمت حسرته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا وكان معرضا في كل عمره عن طلب الدين فلما ضاعت الدنيا بالكلية بقي الحرمان عن الدنيا والدين عليه. فلهذا السبب عظمت حسرته والجواب عن السؤال الثاني: أنه إنما ندم على الشرك لاعتقاده أنه لو كان موحدا غير مشرك لبقيت عليه جنته فهو إنما رغب في التوحيد والرد عن الشرك لأجل طلب الدنيا فلهذا السبب ما صار توحيده مقبولا عند الله ثم قال تعالى: * (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله) * وفيه بحثان:
البحث الأول: قرأ حمزة والكسائي: (ولم يكن له فئة) بالياء لأن قوله: * (فئة) * جمع فإذا
128

تقدم على الكناية جاز التذكير، ولأنه رعاية للمعنى. والباقون بالتاء المنقوطة باثنتين من فوق لأن الكناية عائدة إلى اللفظة وهي الفئة.
البحث الثاني: المراد من قوله: * (ينصرونه من دون الله) * هو أنه ما حصلت له فئة يقدرون على نصرته من دون الله أي هو الله تعالى وحده القادر على نصرته ولا يقدر أحد غيره أن ينصره ثم قال تعالى: * (هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبى) *.
المسألة الأولى: اختلف القراء في ثلاثة مواضع من هذه الآية. أولها: في لفظ الولاية ففي قراءة حمزة والكسائي بكسر الواو وفي قراءة الباقين بالفتح وحكى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: كسر الواو لحن قال صاحب الكشاف: الولاية بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك. وثانيها: قرأ أبو عمرو والكسائي قوله: الحق بالرفع والتقدير هنالك الولاية الحق لله وقرأ الباقون بالجر صفة لله. وثالثها: قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي وابن عامر عقبا بضم القاف وقرأ عاصم وحمزة عقبى بتسكين القاف.
المسألة الثانية: * (هنالك الولاية لله) * فيه وجوه. الأول: أنه تعالى لما ذكر من قصة الرجلين ما ذكر علمنا أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقال: * (هنالك الولاية لله الحق) * أي في مثل ذلك الوقت وفي مثل ذلك المقام تكون الولاية لله يوالي أولياءه فيغلبهم على أعدائه ويفوض أمر الكفار إليهم فقوله هنالك إشارة إلى الموضع والوقت الذي يريد الله إظهار كرامة أوليائه وإذلال أعدائه (فيهما). والوجه الثاني: في التأويل أن يكون المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولى الله ويلتجئ إليه كل محتاج مضطر يعني أن قوله: * (يا ليتني لم أشرك بربي أحدا) * كلمة ألجئ إليها ذلك
الكافر فقالها جزعا مما ساقه إليه شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها. والوجه الثالث: المعنى هنالك الولاية لله ينصر بها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم يعني أنه تعالى نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن وصدق قوله في قوله: * (فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء) * ويعضده قوله: * (هو خير ثوابا وخير عقبى) * أي لأوليائه. والوجه الرابع: أن قوله هنالك إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الآخرة الولاية لله كقوله لمن الملك اليوم لله ثم قال تعالى: * (هو خير ثوابا) * أي في الآخرة لمن آمن به والتجأ إليه: * (وخير عقبى) * أي هو خير عاقبة لمن رجاه وعمل لوجهه وقد ذكرنا أنه قرىء عقبى بضم القاف وسكونها وعقبى على فعلى وكلها بمعنى العاقبة.
قوله تعالى
* (واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض
129

فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شىء مقتدرا) *
اعلم أن المقصود: اضرب مثلا آخر يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين فقال: * (واضرب لهم) * أي لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين: * (مثل الحياة الدنيا) * ثم ذكر المثل فقال: * (كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) * وحينئذ يربو ذلك النبات ويهتز ويحسن منظره كما قال تعالى: * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) * (الحج: 5) ثم إذا انقطع ذلك مدة جف ذلك النبات وصار هشيما، وهو النبت المتكسر المتفتت. ومنه قوله: هشمت أنفه وهشمت الثريد. وأنشد: عمرو الذي هشم الثريد لأهله * ورجال مكة مسنتون عجاف
وإذا صار النبات كذلك طيرته الرياح وذهبت بتلك الأجزاء إلى سائر الجوانب: * (وكان الله على كل شيء مقتدرا) * بتكوينه أولا وتنميته وسطا وإبطاله آخرا وأحوال الدنيا أيضا كذلك تظهر أولا في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلا قليلا ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الهلاك والفناء؛ ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به. والباء في قوله: * (فاختلط به نبات الأرض) * فيه وجوه. الأول: التقدير فاختلط بعض أنواع النبات بسائر الأنواع بسبب هذا الماء وذلك لأن عند نزول المطر يقوي النبات ويختلط بعضه بالبعض ويشتبك بعضه بالبعض ويصير في المنظر في غاية الحسن والزينة. والثاني: فاختلط ذلك الماء بالنبات واختلط ذلك النبات بالماء حتى روى ورف رفيفا. وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منها بصفة صاحبه.
قوله تعالى
* (المال والبنون زينة الحيوة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) *
لما بين تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بين تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل وسنعقد منه قياس الإنتاج وهو أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض ينتج إنتاجا بديهيا أن المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض. ومن المقتضى البديهي أن ما كان كذلك فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له
130

في نظره وزنا فهذا برهان باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد ثم ذكر ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال: * (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) * وتقرير هذا الدليل أن خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة، لا سيما إذا ثبت أن خيرات الدنيا خسيسة حقيرة وأن خيرات الآخرة عالية رفيعة، لأن خيرات الدنيا حسية وخيرات الآخرة عقلية والعقلية أشرف من الحسية بكثير بالدلائل المذكورة في تفسير قوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض) * في بيان أن الإدراكات العقلية أفضل من الحسية وإذا كان كذلك كان مجموع السعادات العقلية والحسية هي السعادات الأخروية فوجب أن تكون أفضل من السعادات الحسية الدنيوية والله أعلم. والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالا قيل إنها قولنا: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " وللشيخ الغزالي رحمه الله في تفسير هذه الكلمات وجه لطيف، فقال: روي أن من قال سبحان الله حصل له من الثواب عشر مرات، فإذا قال والحمد لله صارت عشرين، فإذا قال: ولا إله إلا الله صارت ثلاثين، فإذا قال والله أكبر صارت أربعين. قال وتحقيق القول فيه أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته فإذا قال سبحان الله فقد عرف كونه سبحانه منزها عن كل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك والحمد لله فقد أقر بأن الحق سبحانه مع كونه منزها عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا تضاعف الثواب فإذا قال مع ذلك ولا إله إلا الله فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لكل ما ينبغي وليس في الوجود موجود هكذا إلا الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال والله أكبر معناه أنه أكبر وأعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة لا جرم صارت درجات الثواب أربعة. والقول الثاني: أن الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس. والقول الثالث: أنها الطيب من القول كما قال تعالى: * (وهدوا إلى الطيب من القول) * (الحج: 24). والقول الرابع: أن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بمعرفة الله وبمحبته وخدمته فهو الباقيات الصالحات وكل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك وذلك أن كل ما سوى الحق سبحانه فهو فان لذاته هالك لذاته فكان الاشتغال به والالتفات إليه عملا باطلا وسعيا ضائعا. أما الحق لذاته فهو الباقي لا يقبل الزوال لا جرم كان الاشتغال بمعرفة الله ومحبته وطاعته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولا يفنى ثم قال تعالى: * (خير عند ربك ثوابا وخير أملا) * أي كل عمل أريد به وجه الله فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل يكون خيرا وأفضل، لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة. (47)
131

قوله تعالى
* (" ويوم نسير الجبال وترى الارض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا * وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا * ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) *
اعلم أنه تعالى لما بين خساسة الدنيا وشرف القيامة أردفه بأحوال القيامة فقال: * (ويوم نسير الجبال) * والمقصود منه الرد على المشركين الذي افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأعوان واختلفوا في الناصب لقوله: * (ويوم نسير الجبال) * على وجوه: أحدها: أنه يكون التقدير واذكر لهم: * (يوم نسير الجبال) * عطفا على قوله: * (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا) * (الكهف: 45). الثاني: أنه يكون التقدير: * (ويوم نسير الجبال) * حصل كذا وكذا يقال لهم: * (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) * لأن القول مضمر في هذا الموضع فكان المعنى أنه يقال لهم: هذا في هذا الموضع. الثالث: أن يكون التقدير * (خير أملا) * في * (يوم نسير الجبال) * والأول أظهر. إذا عرفت هذا فنقول: إنه ذكر في الآية من أحوال القيامة أنواعا. النوع الأول: قوله: * (ويوم نسير الجبال) * وفيه بحثان:
البحث الأول: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر تسير على فعل ما لم يسم فاعله الجبال بالرفع بإسناد تسير إليه اعتبارا بقوله تعالى: * (وإذا الجبال سيرت) * (التكوير: 3) والباقون نسير باسناد فعل التسيير إلى نفسه (تعالى و) الجبال بالنصب لكونه مفعول نسير، والمعنى نحن نفعل بها ذلك اعتبارا بقوله: * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) * والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا الله سبحانه. ونقل صاحب الكشاف قراءة أخرى وهي تسير الجبال بإسناد تسير إلى الجبال.
البحث الثاني: قوله: * (ويوم نسير الجبال) * ليس في لفظ الآية ما يدل على أنها إلى أين تسير، فيحتمل أن يقال: إنه تعالى يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك الموضع لخلقه
132

والحق أن المراد أنه تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى: * (ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) * (طه: 105 - 107) ولقوله: * (وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا) * (الواقعة: 5، 6) والنوع الثاني: من أحوال القيامة قوله تعالى: * (وترى الأرض بارزة) * وفي تفسيره وجوه: أحدها: أنه لم يبق على وجهها شيء من العمارات، ولا شيء من الجبال، ولا شيء من الأشجار، فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها، وهو المراد من قوله: * (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) *. وثانيها: أن المراد من كونها بارزة أنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فهي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف، ودليله قوله تعالى: * (وألقت ما فيها وتخلت) * (الانشقاق: 4) وقوله: * (وأخرجت الأرض أثقالها) * (الزلزلة: 2) وقوله: * (وبرزوا لله جميعا) *. وثالثها: أن وجوه الأرض كانت مستورة بالجبال والبحار، فلما أفنى الله تعالى الجبال والبحار فقد برزت وجوه تلك البقاع بعد أن كانت مستورة. والنوع الثالث: من أحوال القيامة قوله: * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) * والمعنى جمعناهم للحساب فلم نغادر منهم أحدا، أي لم نترك من الأولين والآخرين أحدا إلا وجمعناهم لذلك اليوم، ونظيره قوله تعالى: * (قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) * (الواقعة: 49، 50) ومعنى لم نغادر لم نترك، يقال: غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر ترك الوفاء، ومنه الغدير لأنه ما تركته السيول، ومنه سميت ضفيرة المرأة بالغديرة لأنها تجعلها خلفها.
ولما ذكر الله تعالى حشر الخلق ذكر كيفية عرضهم، فقال: * (وعرضوا على ربك صفا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسير الصف وجوه. أحدها: أنه تعرض الخلق كلهم على الله صفا واحدا ظاهرين بحيث لا يحجب بعضهم بعضا، قال القفال: ويشبه أن يكون الصف راجعا إلى الظهور والبروز، ومنه اشتق الصفصف للصحراء. وثانيها: لا يبعد أن يكون الخلق صفوفا يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف المحيطة بالكعبة التي يكون بعضها خلف بعض، وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله صفا صفوفا كقوله: * (يخرجكم طفلا) * (غافر: 67) أي أطفالا. وثالثها: صفا أي قياما، كما قال تعالى: * (فاذكروا اسم الله عليها صواف) * (الحج: 36) قالوا قياما.
المسألة الثانية: قالت المشبهة قوله تعالى: * (وجاء ربك والملك صفا صفا) * (الفجر: 22) يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وتعرض عليه أهل القيامة صفا، وكذلك قوله تعالى: * (لقد جئتمونا) * يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان، وأجيب عنه بأنه تعالى جعل وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم ويحاسبهم عليها عرضا عليه، لا على أنه تعالى يحضر في مكان وعرضوا عليه ليراهم بعد أن لم يكن يراهم، ثم قال تعالى: * (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) * وليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه، لأنهم خلقوا صغارا ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد أنه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين في الدنيا على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار:
133

* (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) * عراة حفاة بغير أموال ولا أعوان ونظيره قوله تعالى: * (لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم وتركتم مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) * وقال تعالى: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا - إلى قوله - ويأتينا فردا) * (مريم: 77 - 80) ثم قال تعالى: * (بل زعمتم الن نجعل لكم موعدا) * أي كنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار تنكرون البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن البعث والقيامة حق، ثم قال تعالى: * (ووضع الكتاب) * والمراد أنه يوضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال، والمراد الجنس وهو صحف الأعمال
: * (فترى المجرمين مشفقين مما فيه) * أي خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة وخائفين من ظهور ذلك لأهل الموقف فيفتضحون، وبالجملة يحصل لهم خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة عند الخلق ويقولون يا ويلتنا ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات: * (مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * وهي عبارة عن الإحاطة بمعنى لا يترك شيئا من المعاصي سواء كانت أو كبيرة إلا وهي مذكورة في هذا الكتاب ونظيره قوله تعالى: * (وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون) * (الانفطار: 10 - 12) وقوله: * (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) * (الجاثية: 29) وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة على تقدير أن المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة: * (إلا أحصاها) * إلا ضبطها وحصرها، قال بعض العلماء: ضجوا من الصغائر قبل الكبائر. لأن تلك الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر فاحترزوا من الصغائر جدا: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) * في الصحف عتيدا أو جزاء ما عملوا: * (ولا يظلم ربك أحدا) * معناه أنه لا يكتب عليه ما لم يفعل، ولا يزيد في عقابه المستحق، ولا يعذب أحدا بجرم غيره، بقي في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الجبائي: هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في مسائل: أحدها: أنه لو عذب عباده من غير فعل صدر منهم لكان ظالما. وثانيها: أنه لا يعذب الأطفال بغير ذنب. وثالثها: بطلان قولهم لله أن يفعل ما يشاء ويعذب من غير جرم لأن الخلق خلقه إذ لو كان كذلك لما كان لنفي الظلم عنه معنى لأن بتقدير أنه إذا فعل أي شيء أراد لم يكن ظلما منه لم يكن لقوله إنه لا يظلم فائدة فيقال له. أما الجواب عن الأولين فهو المعارضة بالعلم والداعي، وأما الجواب عن هذا الثالث فهو أنه تعالى قال: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * (مريم: 35) ولم يدل هذا على أن اتخاذ الولد صحيح عليه فكذا ههنا.
المسألة الثانية: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة يوسف، وأيوب، وسليمان. فيدعو بالمملوك ويقول له: ما شغلك عني فيقول جعلتني عبدا للآدمي فلم تفرغني، فيدعو يوسف عليه السلام، ويقول: كان هذا عبدا مثلك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار،
134

ثم يدعو بالمبتلى فإذا قال شغلتني بالبلاء دعا بأيوب عليه السلام فيقول: قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع ما آتاه الله من الغنى والسعة فيقول: ماذا عملت فيما آتيتك فيقول شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان عليه السلام فيقول: هذا عبدي سليمان آتيته أكثر ما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك ويؤمر به إلى النار "، وعن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن جسده فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه كيف عمل به ".
المسألة الثالثة: دلت الآية على إثبات صغائر وكبائر في الذنوب، وهذا متفق عليه بين المسلمين إلا أنهم اختلفوا في تفسيره فقالت المعتزلة: الكبيرة ما يزيد عقابه على ثواب فاعله، والصغيرة ما ينقص عقابه عن ثواب فاعله، واعلم أن هذا الحد إنما يصح لو ثبت أن الفعل يوجب ثوابا وعقابا وذلك عندنا باطل لوجوه كثيرة ذكرناها في سورة البقرة، في إبطال القول بالإحباط والتكفير بل الحق عندنا أن الطاعات محصورة في نوعين: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكل ما كان أقوى في كونه جهلا بالله كان أعظم في كونه كبيرة، وكل ما كان أقوى في كونه إضرارا بالغير كان أكثر في كونه ذنبا أو معصية فهذا هو الضبط.
قوله تعالى
* (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أوليآء من دونى وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا * مآ أشهدتهم خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا * ويوم يقول نادوا شركآئى الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا * ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها
135

ولم يجدوا عنها مصرفا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من ذكر الآيات المتقدمة الرد على القوم الذين افتخروا بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى، وذلك لأن إبليس إنما تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه وقال: خلقتني من نار وخلقته من طين فأنا أشرف منه في الأصل والنسب فكيف أسجد وكيف أتواضع له! وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المسلمين بعين هذه المعاملة فقالوا: كيف نجلس مع هؤلاء الفقراء مع أنا من أنساب شريفة وهم من أنساب نازلة ونحن أغنياء وهم فقراء، فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا تنبيها على أن هذه الطريقة هي بعينها طريقة إبليس ثم إنه تعالى حذر عنها وعن الاقتداء بها في قوله: * (أفتتخذونه وذريته أولياء) * فهذا هو وجه النظم وهو حسن معتبر، وذكر القاضي وجها آخر فقال: إنه تعالى لما ذكر من قبل أمر القيامة وما يجري عند الحشر ووضع الكتاب وكأن الله تعالى يريد أن يذكر ههنا أنه ينادي المشركين ويقول لهم أين شركائي الذي زعمتم وكان قد علم تعالى أن إبليس هو الذي يحمل الإنسان على إثبات هؤلاء الشركاء، لا جرم قدم قصته في هذه الآية إتماما لذلك الغرض ثم قال القاضي: وهذه القصة وإن كان تعالى قد كررها في سور كثيرة إلا أن في كل موضع منها فائدة مجددة.
المسألة الثانية: أنه تعالى بين في هذه الآية أن إبليس كان من الجن وللناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال: الأول: أنه من الملائكة وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجن ولهم فيه وجوه. الأول: أن قبيلة من الملائكة يسمون بذلك لقوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * (الصافات: 158) * (وجعلوا لله شركاء الجن) * (الأنعام: 100). والثاني: أن الجن سموا جنا للاستتار والملائكة كذلك فهم داخلون في الجن. الثالث: أنه كان خازن الجنة ونسب إلى الجنة كقولهم كوفي وبصري وعن سعيد بن جبير أنه كان من الجنانين الذين يعملون في الجنات حي من الملائكة يصوغون حلية أهل الجنة مذ خلقوا رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبير. والقول الثاني: أنه من الجن الذين هم الشياطين والذين خلقوا من نار وهو أبوهم. والقول الثالث: قول من قال كان من الملائكة فمسخ وغير. وهذه
المسألة قد أحكمناها في سورة البقرة وأصل ما يدل على أنه ليس من الملائكة أنه تعالى أثبت له ذرية ونسلا في هذه الآية وهو قوله: * (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) * والملائكة ليس لهم ذرية ولا نسل فوجب أن لا يكون إبليس من الملائكة. بقي أن يقال: إن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود فلو لم يكن إبليس من الملائكة فكيف تناوله ذلك الأمر، وأيضا
136

لو لم يكن من الملائكة فكيف يصح استثناؤه منهم، وقد أجبنا عن كل ذلك بالاستقصاء ثم قال تعالى: * (ففسق عن أمر ربه) * وفي ظاهره إشكال لأن الفاسق لا يفسق عن أمر ربه، فلهذا السبب ذكروا فيه وجوها. الأول: قال الفراء: ففسق عن أمر ربه أي خرج عن طاعته. والعرب تقول فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها من البابين وقال رؤبة: يهوين في نجد وغور غائرا * فواسقا عن قصدها جوائرا
الثاني: حكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه قال: لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر، والمعنى أنه لولا ذلك الأمر السابق لما حصل الفسق، فلأجل هذا المعنى حسن أن يقال: فسق عن أمر ربه. الثالث: قال قطرب: فسق عن أمر ربه رده كقوله واسأل القرية واسأل العير قال تعالى: * (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المقصود من هذا الكلام أن إبليس تكبر على آدم وترفع عليه لما ادعى أن أصله أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون هو أشرف من آدم، فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم، إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على آدم فلما علمتم أن إبليس عدو لكم فكيف تقتدون به في هذه الطريقة المذمومة. هذا هو تقرير الكلام. فإن قيل: إن هذا الكلام لا يتم إلا بإثبات مقدمات. فأولها: إثبات إبليس. وثانيها: إثبات ذرية إبليس. وثالثها: إثبات عداوة بين إبليس وذريته وبين أولاد آدم. ورابعها: أن هذا القول الذي قاله أولئك الكفار اقتدوا فيه بإبليس. وكل هذه المقدمات الأربعة لا سبيل إلى إثباتها إلا بقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فالجاهل بصدق النبي جاهل بها. إذا عرفت هذا فنقول المخاطبون بهذه الآيات هل عرفوا كون محمد نبيا صادقا أو ما عرفوا ذلك؟ فإن عرفوا كونه نبيا صادقا قبلوا قوله في كل ما يقوله فكلما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن قول انتهوا عنه، وحينئذ فلا حاجة إلى قصة إبليس وإن لم يعرفوا كونه نبيا جهلوا كل هذه المقدمات الأربعة ولم يعرفوا صحتها فحينئذ لا يكون في إيرادها عليهم فائدة والجواب أن المشركين كانوا قد سمعوا قصة إبليس وآدم من أهل الكتاب واعتقدوا صحتها وعلموا أن إبليس إنما تكبر على آدم بسبب نسبه، فإذا أوردنا عليهم هذه القصة كان ذلك زاجرا لهم عما أظهروه مع فقراء المسلمين من التكبر والترفع.
المسألة الثانية: قال الجبائي في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد، إذ لو أراده وخلقه فيه ثم عاقبه عليه لكان ضرر إبليس أقل من ضرر الله عليهم! فكيف يوبخهم بقوله: * (بئس للظالمين بدلا) *!؟ تعالى الله عنه علوا كبيرا. بل على هذا المذهب لا ضرر البتة من إبليس بل الضرر كله من الله. والجواب: المعارضة بالداعي والعلم.
المسألة الثالثة: إنما قال للكفار المفتخرين بأنسابهم وأموالهم على فقراء المسلمين
137

أفتتخذون إبليس وذريته أولياء من دون الله، لأن الداعي لهم إلى ترك دين محمد صلى الله عليه وسلم هو النخوة وإظهار العجب. فهذا يدل على أن كل من أقدم على عمل أو قول بناء على هذا الداعي فهو متبع لإبليس حتى أن من كان غرضه في إظهار العلم والمناظرة التفاخر والتكبر والترفع فهو مقتد بإبليس وهو مقام صعب غرق فيه أكثر الخلق فنسأل الله الخلاص منه ثم قال تعالى: * (بئس للظالمين بدلا) * أي بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله به فأطاعه بدل طاعته، ثم قال: * (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: اختلفوا في أن الضمير في قوله: * (ما أشهدتهم) * إلى من يعود؟ فيه وجوه: أحدها: وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذي اتخذتموهم أولياء خلق السماوات والأرض ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله: * (اقتلوا أنفسكم) * (النساء: 66) يعني ما أشهدتهم لأعتضد بهم والدليل عليه قوله: * (وما كنت متخذ المضلين عضدا) * أي وما كنت متخذهم فوضع الظاهر موضع المضمر بيانا لإضلالهم وقوله: * (عضدا) * أي أعوانا. وثانيها: وهو أقرب عندي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل قوله تعالى: * (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) * ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة، بل هم قوم كسائر الخلق، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد ولا ذرية المملكة حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة، فلم تقدم عليها والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات. وفي هذه الآية المذكورة الأقرب هو ذكر أولئك الكفار وهو قوله تعالى: * (بئس للظالمين بدلا) * والمراد بالظالمين أولئك الكفار. وثالثها: أن يكون المراد من قوله: * (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) * كون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة. فكأنه قيل لهم السعيد من حكم الله بسعادته في الأزل والشقي من حكم الله بشقاوته في الأزل، وأنتم غافلون عن أحوال الأزل كأنه تعالى قال: * (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) * وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلو والكمال ولغيركم بالدناءة والذل، بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس فيما حكمتم به.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف " قرىء وما كنت بالفتح، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم. وقرأ علي رضوان الله عليه: * (متخذا المضلين) * بالتنوين على الأصل. وقرأ الحسن: * (عضدا) * بسكون الضاد ونقل ضمتها إلى العين، وقرئ: * (
عضدا) * بالفتح وسكون الضاد * (وعضدا) * بضمتين * (وعضدا) *
138

بفتحتين جمع عاضد كخادم وخدم وراصد ورصد من عضده إذا قواه وأعانه، واعلم أنه تعالى لما قرر أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتداء بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأحوال يوم القيامة فقال: * (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ حمزة: (نقول) بالنون عطفا على قوله: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * و * (أولياء من دوني) * * (وما أشهدتهم خلق السماوات والأرض، وما كنت متخذ المضلين عضدا) * والباقون قرأوا بالياء.
البحث الثاني: واذكر يوم نقول عطفا على قوله: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا) *.
البحث الثالث: المعنى واذكر لهم يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ يقول الله لهم: * (نادوا شركائي) * أي ادعوا من زعمتم أنهم شركاء لي حيث أهلتموهم للعبادة، ادعوهم يشفعوا لكم وينصروكم والمراد بالشركاء الجن فدعوهم ولم يذكر تعالى في هذه الآية أنهم كيف دعوا الشركاء لأنه تعالى بين ذلك في آية أخرى وهو أنهم قالوا: * (إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا) * (غافر: 47) ثم قال تعالى: * (فلم يستجيبوا لهم) * أي لم يجيبوهم إلى ما دعوهم إليه ولم يدفعوا عنهم ضررا وما أوصلوا إليهم نفعا. ثم قال تعالى: * (وجعلنا بينهم موبقا) * وفيه وجوه: الأول: قال صاحب " الكشاف ": الموبق المهلك من وبق يبق وبوقا ووبقا. إذا هلك وأوبقه غيره فيجوز أن يكون مصدرا كالمورد والموعد وتقرير هذا الوجه أن يقال: إن هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة كالملائكة وعيسى دعوا هؤلاء فلم يستجيبوا لهم ثم حيل بينهم وبينهم فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنم وأدخل عيسى الجنة وصار الملائكة إلى حيث أراد الله من دار الكرامة وحصل بين أولئك الكفار وبين الملائكة وعيسى عليه السلام هذا الموبق وهو ذلك الوادي في جهنم. الوجه الثاني: قال الحسن: (موبقا) أي عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها هلاك. ومنه قوله: لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا. الوجه الثالث: قال الفراء البين المواصلة أي جعلنا مواصلتهم في الدنيا هلاكا في يوم القيامة. الوجه الرابع: الموبق البرزخ البعيد أي جعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخا بعيدا يهلك فيه الساري لفرط بعده، لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان ثم قال تعالى: * (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها) * وفي هذا الظن قولان: الأول: أن الظن ههنا بمعنى العلم واليقين. والثاني: وهو الأقرب أن المعنى أن هؤلاء الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة، لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها. كما قال: * (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) * (الفرقان: 12) وقوله: * (مواقعوها) * أي مخالطوها فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامة يقال لها مواقعة ثم قال تعالى: * (ولم يجدوا عنها مصرفا) * أي لم يجدوا عن النار معدلا إلى غيرها لأن الملائكة تسوقهم إليها.
139

قوله تعالى
* (ولقد صرفنا فى هذا القرءان للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شىء جدلا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الاولين أو يأتيهم العذاب قبلا * وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا ءاياتى وما أنذروا هزوا) *
اعلم أن أولئك الكفرة لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم وبين تعالى بالوجوه الكثيرة أن قولهم فاسد وشبهتهم باطلة وذكر فيه المثلين المتقدمين، قال بعده: * (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل) * وهو إشارة إلى ما سبق والتصريف يقتضي التكرير والأمر كذلك لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوه كثيرة ومع تلك الجوابات الشافية والأمثلة المطابقة فهؤلاء الكفار لا يتركون المجادلة الباطلة فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلا أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل وانتصاب قوله جدلا على التمييز قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم السلام جادلوهم في الدين حتى صاروا هم مجادلين لأن المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل، ثم قال: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم) * وفيه بحثان:
البحث الأول: قالت المعتزلة: الآية دالة على أنه لم يوجد ما يمنع من الإقدام على الإيمان وذلك يدل على فساد قول من يقول إنه حصل المانع. قال أصحابنا: العلم بأنه لا يؤمن مضاد لوجود الإيمان. فإذا كان ذلك العلم قائما كان المانع قائما. وأيضا حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما وجب لأن الفعل الاختياري بدون الداعي محال، ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان. وإذا ثبت هذا ظهر أن المراد مقدار الموانع المحسوسة.
البحث الثاني: المعنى أنه لما جاءهم الهدى وهو الدليل الدال على صحة الإسلام، وثبت أنه
140

لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة والتخلية حاصلة. والأعذار زائلة فلم لم يقدموا على الإيمان ثم قال تعالى: * (إلا أن تأتيهم سنة الأولين) * - وهو عذاب الاستئصال - * (أو يأتيهم العذاب قبلا) * قرأ حمزة وعاصم والكسائي قبلا بضم القاف والباء جميعا وهو جمع قبيل بمعنى ضروب من العذاب تتواصل مع كونهم أحياء وقيل مقابلة وعيانا والباقون قبلا بكسر القاف وفتح الباء أي عيانا أيضا، وروى صاحب الكشاف قبلا بفتحتين أي مستقبلا. والمعنى أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول عذاب الاستئصال فيهلكوا، أو أن يتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا، واعلم أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا على هذين الشرطين، لأن العاقل لا يرضى بحصول هذين الأمرين إلا أن حالهم شبيه بحال من وقف العمل على هذين الشرطين. ثم بين تعالى أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعا وبين مع هذه الأحوال أنه يوجد من الكفار المجادلة بالباطل لغرض دحض الحق. وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا يجادلونهم لما بينا أن المجادلة إنما تحصل من الجانبين وبين تعالى أيضا أنهم اتخذوا آيات الله وهي القرآن وإنذارات الأنبياء هزوا وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة. قال النحويون ما في قوله: * (وما أنذروا) * يجوز أن تكون موصولة ويكون العائد من الصلة محذوفا ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إنذارهم.
* (ومن أظلم ممن ذكر بايات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى ءاذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا * وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا * وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) *
إعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار جدالهم بالباطل وصفهم بعده بالصفات الموجبة للخزي
141

والخذلان. الصفة الأولى: قوله: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه) * أي لا ظلم أعظم من كفر من ترد عليه الآيات والبينات فيعرض عنها وينسى ما قدمت يداه أي مع إعراضه عن التأمل في الدلائل والبينات يتناسى ما قدمت يداه من الأعمال المنكرة والمذاهب الباطلة والمراد من النسيان التشاغل والتغافل عن كفره المتقدم. الصفة الثانية: (قوله): * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا) * وقد مر تفسير هذه الآية على الاستقصاء في سورة الأنعام، والعجب أن قوله: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه) * متمسك القدرية، وقوله: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * إلى آخر الآية متمسك الجبرية وقلما نجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر، والتجربة تكشف عن صدق قولنا. وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين ثم قال تعالى: * (وربك الغفور ذو الرحمة) * الغفور البليغ المغفرة وهو إشارة إلى دفع المضار ذو الرحمة الموصوف بالرحمة، وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة لا في الرحمة، لأن المغفرة ترك الإضرار وهو تعالى قد ترك مضار لا نهاية لها مع كونه قادرا عليها، أما فعل الرحمة فهو متناه لأن ترك ما لا نهاية له ممكن، أما فعل ما لا نهاية له فمحال ويمكن أن يقال: المراد أنه يغفر كثيرا لأنه ذو الرحمة ولا حاجة به إليها فيهبها من المحتاجين كثيرا ثم استشهد بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلا من غير إمهال مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: * (بل لهم موعد) * وهو إما يوم القيامة، وإما في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح (وقوله): * (لن يجدوا من دونه موئلا) * (أي) منجى ولا ملجأ، يقال وأل إذا لجأ، ووأل إليه إذا لجأ إليه، ثم قال تعالى: * (وتلك القرى) * يريد قرى الأولين من ثمود وقوم لوط وغيرهم أشار إليها ليعتبروا، وتلك مبتدأ، والقرى صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأصناف الأجناس وأهلكناهم خبر والمعنى، وتلك أصحاب القرى أهلكناهم لما ظلموا مثل ظلم أهل مكة: * (وجعلنا لمهلكهم موعدا) * أي وضربنا لإهلاكهم وقتا معلوما لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر، والمهلك الإهلاك أو وقته، وقرئ لمهلكهم بفتح الميم واللام مفتوحة أو مكسورة، أي لهلاكهم أو وقت هلاكهم، والموعد وقت أو مصدر، والمراد إنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتا ليكونوا إلى التوبة أقرب.
قوله تعالى
* (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا * فلما بلغا
142

مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله فى البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه ءاتنا غدآءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينآ إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت ومآ أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله فى البحر عجبا * قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على ءاثارهما قصصا) *
اعلم أن هذا ابتداء قصة ثالثة ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي أن موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر عليه السلام ليتعلم منه العلم، وهذا وإن كان كلاما مستقلا في نفسه إلا أنه يعين على ما هو المقصود في القصتين السابقتين. أما نفع هذه القصة في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار، فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه واستجماع موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له وذلك يدل على أن التواضع خير من التكبر، وأما نفع هذه القصة في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا لكفار مكة: إن أخبركم محمد عن هذه القصة فهو نبي وإلا فلا، وهذا ليس بشيء لأنه لا يلزم من كونه نبيا من عند الله تعالى أن يكون عالما بجميع القصص والوقائع، كما أن كون موسى عليه السلام نبيا صادقا من عند الله لم يمنع من أمر الله إياه بأن يذهب إلى الخضر ليتعلم منه فظهر مما ذكرنا أن هذه القصة قصة مستقلة بنفسها، ومع ذلك فهي نافعة في تقرير المقصود في القصتين المتقدمتين.
المسألة الثانية: أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة. وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس: إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس صاحب موسى بن عمران، وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب، وقيل هو كان نبيا قبل موسى بن عمران فقال ابن عباس كذب عدو الله، واعلم أنه كان ليوسف عليه السلام ولدان أفرائيم وميشا فولد افرائيم نون وولد نون يوشع بن نون وهو صاحب موسى وولي عهده بعد وفاته، وأما ولد ميشا فقيل إنه جاءته النبوة قبل موسى بن عمران، ويزعم أهل التوراة أنه هو الذي طلب هذا العلم ليتعلم والخضر هو الذي خرق
143

السفينة، وقتل الغلام، وأقام الجدار، وموسى بن ميشا معه، هذا هو قول جمهور اليهود، واحتج القفال على صحة قولنا إن موسى هذا هو صاحب التوراة، قال إن الله تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلا وأراد به صاحب التوراة فاطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان المراد شخصا آخر مسمى بموسى غيره لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وإزالة الشبهة، كما أنه لما كان المشهور في العرف من أبي حنيفة رحمه الله هو الرجل المعين فلو ذكرنا هذا الاسم وأردنا به رجلا سواء لقيدناه مثل أن نقول قال أبو حنيفة الدينوري، وحجة الذين قالوا: موسى هذا غير صاحب التوراة أنه تعالى بعد أن أنزل التوراة عليه وكلمه بلا واسطة وحج خصمه بالمعجزات القاهرة العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء يبعد أن يبعثه بعد ذلك لتعلم الاستفادة، وأجيب عنه بأنه لا يبعد أن العالم الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء فيحتاج في تعلمها إلى من دونه وهذا أمر متعارف معلوم.
المسألة الثالثة: اختلفوا في فتى موسى فالأكثرون على أنه يوشع بن نون، وروى القفال عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي هريرة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فتاه يوشع بن نون. والقول الثاني: أن فتى موسى أخو يوشع وكان صاحبا لموسى عليه السلام في هذا
السفر. والقول الثالث: روى عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله: * (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح) * قال يعني عبده، قال القفال واللغة تحتمل ذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي " وهذا يدل على أنهم كانوا يسمون العبد فتى والأمة فتاة. المسألة الرابعة: قيل إن موسى عليه السلام لما أعطي الألواح وكلمه الله تعالى قال: من الذي أفضل مني وأعلم؟ فقيل عبد لله يسكن جزائر البحر وهو الخضر، وفي رواية أخرى أن موسى عليه السلام لما أوتي من العلم ما أوتي ظن أنه لا أحد مثله فأتاه جبريل عليه السلام وهو بساحل البحر قال: يا موسى انظر إلى هذا الطير الصغير يهوي إلى البحر يضرب بمنقاره فيه ثم يرتفع فأنت فيما أوتيت من العلم دون قدر ما يحمل هذا الطير بمنقاره من البحر، قال الأصوليون: هذه الرواية ضعيفة لأن الأنبياء يجب أن يعلموا أن معلومات الله لا نهاية لها وأن يعلموا أن معلومات الخلق يجب كونها متناهية وكل قدر متناه فإن الزائد عليه ممكن فلا مرتبة من مراتب العلم إلا وفوقها مرتبة ولهذا قال تعالى: * (وفوق كل ذي علم عليم) * وإذا كانت هذه المقدمات معلومة فمن المستبعد جدا أن يقطع العاقل بأنه لا أحد أعلم مني لا سيما موسى عليه السلام مع علمه الوافر بحقائق الأشياء وشدة براءته عن الأخلاق الذميمة كالعجب والتيه والصلف. والرواية الثالثة: قيل إن موسى
144

عليه السلام سأل ربه: أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردي، فقال موسى عليه السلام: إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه، فقال: اعلم منك الخضر، قال فأين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال يا رب: كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان ورقد موسى واضطرب الحوت وطفر إلى البحر فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فرجع من ذلك الموضع إلى الموضع الذي طفر الحوت فيه إلى البحر فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال: وأني بأرضك السلام! فعرفه نفسه، فقال: يا موسى أنا على علم علمني الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمك الله لا أعلمه أنا، فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر: ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر - أقول نسبة ذلك القدر القليل الذي أخذه ذلك العصفور من ذلك الماء إلى كلية ماء البحر نسبة متناه إلى متناه ونسبة معلومات جميع المخلوقات إلى معلومات الله تعالى نسبة متناه إلى غير متناه، فأين إحدى النسبتين من الأخرى والله العالم بحقائق الأمور، ونرجع إلى التفسير، أما قوله تعالى: * (لا أبرح) * قال الزجاج قوله: * (لا أبرح) * ليس معناه لا أزول، لأنه لو كان كذلك لم يقطع أرضا، أقول يمكن أن يجاب عنه بأن الزوال عن الشيء عبارة عن تركه والإعراض عنه، يقال: زال فلان عن طريقته في الجود أي تركها، فقوله: لا أبرح بمعنى لا أزول عن السير والذهاب بمعنى لا أترك هذا العمل وهذا الفعل - وأقول المشهور عند الجمهور أن قوله لا أبرح معناه لا أزول، والعرب تقول: لا أبرح ولا أزال ولا انفك ولا أفتأ بمعنى واحد. قال القفال: وقالوا أصل قولهم لا أبرح من البراح كما أن أصل لا أزال من الزوال. يقال: زال يزال ويزول كما يقال دام يدام ويدوم ومات يمات ويموت إلا أن المستعمل في هذه اللفظة يزال فقوله: لا أبرح أي أقيم لأن البراح هو العدم فقوله لا أبرح يكون عدما للعدم فيكون ثبوتا، فقوله: لا أزال ولا أبرح يفيد الدوام والثبات على العمل فإن قيل: إذا كان قوله لا أبرح بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر، قلنا: حذف الخبر لأن الحال والكلام يدلان عليه، أما الحال فلأنها كانت حال سفر، وأما الكلام فلأن قوله: * (حتى أبلغ مجمع البحرين) * غاية مضروبة تستدعي شيئا هي غاية له فيكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ويحتمل أن يكون المعنى لا أبرح مما أنا عليه يعني ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ كما تقول لا أبرح المكان. وأما مجمع البحرين فهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر عليهما السلام وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق وقيل غيره وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح بالخبر الصحيح شيء فذاك وإلا فالأولى السكوت عنه، ومن الناس من قال: البحران موسى والخضر
145

لأنهما كانا بحري العلم وقرئ مجمع بكسر الميم ثم قال أو أمضى حقبا أي أسير زمانا طويلا وقيل الحقب: ثمانون سنة وقد تكلمنا في هذا اللفظ في قوله تعالى: * (لابثين فيها أحقابا) * (النبأ: 23) وحاصل الكلام أن الله عز وجل كان أعلم موسى حال هذا العالم، وما أعلمه موضعه بعينه، فقال موسى عليه السلام: لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحرا واحدا أو أمضي دهرا طويلا حتى أجد هذا العالم، وهذا إخبار من موسى بأنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم في السفر لأجل طلب العلم وذلك تنبيه على أن المتعلم لو سافر من المشرق إلى المغرب لطلب مسألة واحدة لحق له ذلك ثم قال تعالى: * (فلما بلغا مجمع بينهما) * والمعنى فانطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما والضمير في قوله بينهما إلى ماذا يعود؟ فيه قولان، الأول: مجمع بينهما أي مجمع البحرين وهو كأنه إشارة إلى (قول) موسى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أي فحقق (الله) ما قاله. والقول الثاني: أن المعنى فلما بلغ الموضع الذي يجتمع (فيه) موسى وصاحبه الذي كان يقصده لأن ذلك الموضع الذي وقع فيه نسيان الحوت هو الموضع الذي كان يسكنه الخضر أو يسكن بقربه ولأجل هذا المعنى لما رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت صار إليه وهو معنى حسن، والمفسرون على القول الأول، ثم قال تعالى: * (نسيا حوتهما) * وفيه مباحث:
البحث الأول: الروايات تدل على أنه تعالى بين لموسى عليه السلام أن هذا العالم موضعه مجمع البحرين إلا أنه تعالى جعل انقلاب الحوت حيا علامة على مسكنه المعين كمن يطلب إنسانا فيقال له: إن موضعه محلة كذا من الري فإذا انتهيت إلى المحلة فسل فلانا عن داره وأين ما ذهب بك فاتبعه فإنك تصل إليه فكذا ههنا قيل له إن موضعه مجمع البحرين فإذا وصلت إليه رأيت الحوت انقلب حيا وطفر إلى البحر، فيحتمل أنه قيل له فهنالك موضعه ويحتمل أنه قيل له فاذهب على موافقة ذهاب ذلك الحوت فإنك تجده. إذا عرفت هذا فنقول: إن موسى وفتاه لما بلغا مجمع بينهما طفرت السمكة إلى البحر وسارت وفي كيفية طفرها روايات أيضا قيل إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملحة فطفرت وسارت وقيل إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب في الماء وقيل انفجر (ت) هناك
عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر فهذا هو الكلام في صفة الحوت.
البحث الثاني: المراد من قوله: * (نسيا حوتهما) * أنهما نسيا كيفية الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب، فإن قيل انقلاب السمكة المالحة حية حالة عجيبة فلما جعل الله حصول هذه الحالة العجيبة دليلا على الوصول إلى المطلوب فكيف يعقل حصول النسيان في هذا المعنى؟ أجاب العلماء عنه بأن يوشع كان قد شاهد المعجزات القاهرة من موسى عليه السلام كثيرا فلم يبق لهذه المعجزة عنده وقع عظيم فجاز حصول النسيان. وعندي فيه جواب آخر وهو أن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيها
146

لموسى عليه السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على القلب والخاطر، أما قوله: * (فاتخذ سبيله في البحر سربا) * ففيه وجوه. الأول: أن يكون التقدير سرب في البحر سربا إلا أنه أقيم قوله فاتخذ مقام قوله سرب والسرب هو الذهاب ومنه قوله: * (وسارب بالنهار) * (الرعد: 10). الثاني: أن الله تعالى أمسك إجراء الماء على البحر وجعله كالطاق والكوة حتى سرى الحوت فيه فلما جاوز أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الوصول إلى الصخرة بسبب النسيان المذكور وذهبا كثيرا وتعبا وجاعا: * (قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال) * الفتى: * (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة) * الهمزة في أرأيت همزة الاستفهام ورأيت على معناه الأصلي وقد جاء هذا الكلام على ما هو المتعارف بين الناس فإنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب قال لصاحبه أرأيت ما حدث لي؟ كذلك ههنا كأنه قال: أرأيت ما وقع لي منه إذ أوينا إلى الصخرة، فحذف مفعول أرأيت لأن قوله: * (فإني نسيت الحوت) * يدل عليه ثم قال: * (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) * وفيه مباحث:
البحث الأول: أنه اعتراض وقع بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير فإني نسيت الحوت واتخذ سبيله في البحر عجبا، والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى العذر والعلة لوقوع ذلك النسيان.
البحث الثاني: قال الكعبي: * (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) * يدل على أنه تعالى ما خلق ذلك النسيان وما أراده وإلا كانت إضافته إلى الله تعالى أوجب من إضافته إلى الشيطان لأنه تعالى إذا خلقه فيه لم يكن لسعي الشيطان في وجوده ولا في عدمه، أثر قال القاضي: والمراد بالنسيان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر لأن ذلك لا يصح أن يكون إلا من قبل الله تعالى.
البحث الثالث: قوله: أن أذكره بدل من الهاء في أنسانيه أي: وما أنساني ذكره إلا الشيطان ثم قال: * (واتخذ سبيله في البحر عجبا) * وفيه وجوه: الأول: أن قوله عجبا صفة لمصدر محذوف كأنه قيل واتخذ سبيله في البحر اتخاذا عجبا ووجه كونه عجبا انقلابه من المكتل وصيرورته حيا وإلقاء نفسه في البحر على غفلة منهما. والثاني: أن يكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطاق وكالسرب. الثالث: قيل إنه تم الكلام عند قوله: * (واتخذ سبيله في البحر) * ثم قال بعده: عجبا والمقصود منه تعجبه من تلك العجيبة التي رآها ومن نسيانه لها وقيل إن قوله عجبا حكاية لتعجب موسى وهو ليس بقوله، ثم قال تعالى: * (قال ذلك ما كنا نبغ) * أي قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب وهو لقاء الخضر وقوله نبغ أصله نبغي فحذفت الياء طلبا للتخفيف لدلالة الكسرة عليه، وكان القياس أن لا يحذف لأنهم إنما يحذفون الياء في الأسماء وهذا فعل إلا أنه قد يجوز على ضعف القياس حذفها لأنها تحذف مع الساكن الذي يكون بعدها كقولك ما نبغي اليوم؟ فلما حذفت مع الساكن حذفت أيضا مع غير الساكن ثم قال فارتدا على آثارهما أي
147

فرجعا وقوله: * (قصصا) * فيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر في موضع الحال أي رجعا على آثارهما مقتصين آثارهما. والثاني: أن يكون مصدرا لقوله فارتدا على آثارهما، لأن معناه فاقتصا على آثارهما. وحاصل الكلام أنهما لما عرفا أنهما تجاوزا عن الموضع الذي يسكن فيه ذلك العالم رجعا وعادا إليه والله أعلم.
قوله تعالى
* (فوجدا عبدا من عبادنآ ءاتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معى صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدنى إن شآء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا * قال فإن تبعتنى فلا تسألنى عن شىء حتى أحدث لك منه ذكرا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (فوجدا عبدا من عبادنا) * فيه بحثان:
البحث الأول: قال الأكثرون إن ذلك العبد كان نبيا واحتجوا عليه بوجوه. الأول: أنه تعالى قال: * (آتيناه رحمة من عندنا) * والرحمة هي النبوة بدليل قوله تعالى: * (أهم يقسمون رحمة ربك) * (الزخرف: 32) وقوله: * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) * (القصص: 86) والمراد من هذه الرحمة النبوة، ولقائل أن يقول نسلم أن النبوة رحمة أما لا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة.
الحجة الثانية: قوله تعالى: * (وعلمناه من لدنا علما) * وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه الله لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من الله. وهذا الاستدلال ضعيف لأن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله وذلك لا يدل على النبوة.
الحجة الثالثة: أن موسى عليه السلام قال: * (هل أتبعك على أن تعلمني) * (الكهف: 66) والنبي لا يتبع غير النبي
148

في التعليم وهذا أيضا ضعيف، لأن النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبيا أما في غير تلك العلوم فلا.
الحجة الرابعة: أن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال له: * (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) * وأما موسى فإنه أظهر التواضع له حيث قال: * (
لا أعصى لك أمرا) * وكل ذلك يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى، ومن لا يكون نبيا لا يكون فوق النبي وهذا أيضا ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها. فلم قلتم إن ذلك لا يجوز فإن قالوا لأنه يوجب التنفير. قلنا فارسال موسى إلى التعلم منه بعد إنزال الله عليه التوراة وتكليمه بغير واسطة يوجب التنفير، فإن قالوا: إن هذا لا يوجب التنفير فكذا القول فيما ذكروه.
الحجة الخامسة: احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة: * (وما فعلته عن أمري) * ومعناه فعلته بوحي الله، وهو يدل على النبوة. وهذا أيضا دليل ضعيف وضعفه ظاهر.
الحجة السادسة: ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال السلام عليك، فقال وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال موسى عليه السلام من عرفك هذا؟ قال: الذي بعثك إلي. قالوا وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة، ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات.
البحث الثاني: قال الأكثرون إن ذلك العبد هو الخضر، وقالوا إنما سمي بالخضر لأنه كان لا يقف موقفا إلا أخضر ذلك الموضع، قال الجبائي قد ظهرت الرواية أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل. فإن صح ذلك لم يجز أن يكون هذا العبد هو الخضر. وأيضا فبتقدير أن يكون هذا العبد هو الخضر، وقد ثبت أنه يجب أن يكون نبيا فهذا يقتضي أن يكون الخضر أعلى شأنا من موسى صاحب التوراة، لأنا قد بينا أن الألفاظ المذكورة في هذه الآيات تدل على أن ذلك كان يترفع على موسى، وكان موسى يظهر التواضع له إلا أن كون الخضر أعلى شأنا من موسى غير جائز لأن الخضر إما أن يقال إنه كان من بني إسرائيل أو ما كان من بني إسرائيل، فإن قلنا: إنه كان من بني إسرائيل (فقد) كان من أمة موسى لقوله تعالى: حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون: * (أرسل معنا بني إسرائيل) * (الشعراء: 17) والأمة لا تكون أعلى حالا من النبي، وإن قلنا إنه ما كان من بني إسرائيل لم يجز أن يكون أفضل من موسى لقوله تعالى لبني إسرائيل: * (وإني فضلتكم على العالمين) * (البقرة: 47) وهذه الكلمات تقوي قول من يقول: إن موسى هذا غير موسى صاحب التوراة.
المسألة الثالثة: قوله: * (وعلمناه من لدنا علما) * يفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند الله من غير واسطة، والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية، وللشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم اللدنية، وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول:
149

إذا أدركنا أمرا من الأمور وتصورنا حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم وهو التصديق أو لا نحكم وهو التصور، وكل واحد من هذين القسمين فإما أن يكون نظريا حاصلا من غير كسب وطلب، وإما أن يكون كسبيا، أم العلوم النظرية فهي تحصل في النفس والعقل من غير كسب وطلب، مثل تصورنا الألم واللذة، والوجود والعدم، ومثل تصديقنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الواحد نصف الاثنين. وأما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم، وهذا الطريق على قسمين. أحدهما: أن يتكلف الإنسان تركب تلك العلوم البديهية النظرية حتى يتوصل بتركبها إلى استعلام المجهولات. وهذا الطريق هو المسمى بالنظر والتفكر والتدبر والتأمل والتروي والاستدلال، وهذا النوع من تحصيل العلوم هو الطريق الذي لا يتم إلا بالجهد والطلب. والنوع الثاني: أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضات والمجاهدات في أن تصير القوى الحسية والخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهر العقل، وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمل، وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية، إذا عرفت هذا فنقول: جواهر النفس الناطقة مختلفة بالماهية فقد تكون النفس نفسا مشرقة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالجواذب البدنية والنوازع الجسمانية فلا جرم كانت أبدا شديدة الاستعداد لقبول الجلايا القدسية والأنوار الإلهية، فلا جرم فاضت عليها من عالم الغيب تلك الأنوار على سبيل الكمال والتمام، وهذا هو المراد بالعلم اللدني وهو المراد من قوله: * (آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) * وأما النفس التي ما بلغت في صفاء الجوهر وإشراق العنصر فهي النفس الناقصة البليدة التي لا يمكنها تحصيل المعارف والعلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه وتعلمه والقسم الأول بالنسبة إلى القسم الثاني كالشمس بالنسبة إلى الأضواء الجزئية وكالبحر بالنسبة إلى الجداول الجزئية وكالروح الأعظم بالنسبة إلى الأرواح الجزئية. فهذا تنبيه قليل على هذا المأخذ، ووراءه أسرار لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب. ثم قال تعالى: * (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو ويعقوب * (رشدا) * بفتح الراء والشين وعن ابن عباس رضي الله عنهما بضم الراء والشين والباقون بضم الراء وتسكين الشين قال القفال وهي لغات في معنى واحد يقال رشد ورشد مثل نكر ونكر كما يقال سقم وسقم وشغل وشغل وبخل وبخل وعدم وعدم وقوله * (رشدا) * أي علما ذا رشد قال القفال قوله: * (رشدا) * يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الرشد راجعا إلى الخضر أي مما علمك الله وأرشدك به. والثاني: أن يرجع ذلك إلى موسى ويكون المعنى على أن تعلمني وترشدني مما علمت.
150

المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر. فأحدها: أنه جعل نفسه تبعا له لأنه قال: * (هل أتبعك) *. وثانيها: أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعا لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع. وثالثها: أنه قال على أن: * (تعلمني) * وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم. ورابعها: أنه قال: * (مما علمت) * وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله، وهذا أيضا مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساويا في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزءا من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءا من أجزاء ماله. وخامسها: أن قوله: * (مما علمت) * اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم. وسادسها: أن قوله: * (رشدا) *
طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال. وسابعها: أن قوله: * (تعلمني مما علمت) * معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيها بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفا. وثامنها: أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلا لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: لا إله إلا الله فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة، لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما أتينا بها لأجل أنه عليه السلام أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ثبت هذا فنقول قوله: * (هل اتبعك) * يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتيا بها. وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض. وتاسعها: أن قوله: * (أتبعك) * يدل على طلب متابعته مطلقا في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء. وعاشرها: أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولا أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه عليه السلام آتيا في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد. والحادي عشر: أنه قال: * (هل أتبعك على أن تعلمني) * فأثبت كونه تبعا له أولا ثم طلب ثانيا أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم. والثاني عشر: أنه قال: * (هل أتبعك على أن تعلمني) * فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئا كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم ثم إنه تعالى
151

حكى عن الخضر أنه قال: * (إنك لن تستطيع معي صبرا. وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المتعلم على قسمين متعلم ليس عنده شيء من العلم ولم يمارس القيل والقال ولم يتعود التقرير والاعتراض، ومتعلم حصل العلوم الكثيرة ومارس الاستدلال والاعتراض. ثم إنه يريد أن يخالط إنسانا أكمل منه ليبلغ درجة التمام والكمال والتعلم في هذا القسم الثاني شاق شديد، وذلك لأنه إذا رأى شيئا أو سمع كلاما فربما كان ذلك بحسب الظاهر منكرا إلا أنه كان في الحقيقة حقا صوابا، فهذا المتعلم لأجل أنه ألف القيل والقال وتعود الكلام والجدال يغتر ظاهره ولأجل عدم كماله لا يقف على سره وحقيقته، وحينئذ يقدم على النزاع والاعتراض والمجادلة، وذلك مما يثقل سماعه على الأستاذ الكامل المتبحر فإذا اتفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة حصلت النفرة التامة والكراهة الشديدة، وهذا هو الذي أشار إليه الخضر بقوله: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) * إشارة إلى أنه ألف الكلام وتعود الإثبات والإبطال والاستدلال والاعتراض، وقوله: * (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) * إشارة إلى كونه غير عالم بحقائق الأشياء كما هي، وقد ذكرنا أنه متى حصل الأمران صعب السكوت وعسر التعليم وانتهى الأمر بالآخرة إلى النفرة والكراهية وحصول التقاطع والتنافر.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بقوله: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) * على أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل. قالوا: لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة لموسى عليه السلام قبل حصول الصبر فيلزم أن يصير قوله: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) * كذبا، ولما بطل ذلك علمنا أن الاستطاعة لا توجد قبل الفعل. أجاب الجبائي عنه: أن المراد من هذا القول أنه يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه، يقال في العرف: إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا و (لا) أن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ونظيره قوله تعالى: * (ما كانوا يستطيعون السمع) * أي كان يشق عليهم الاستماع، فيقال له: هذا عدول عن الظاهر من غير دليل وإنه لا يجوز. وأقول مما يؤكد هذا الاستدلال الذي ذكره الأصحاب قوله تعالى: * (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) * استبعد حصول الصبر على ما لم يقف الإنسان على حقيقته، ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على العلم حاصلة قبل حصول ذلك العلم، ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعدا لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل، ولما حكم الله باستبعاده علمنا أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل. ثم حكى الله تعالى عن موسى أنه قال: * (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج الطاعنون في عصمة الله الأنبياء بهذه الآية فقالوا: إن الخضر قال لموسى: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) * وقال موسى: * (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى
152

لك أمرا) * وكل واحد من هذين القولين يكذب الآخر فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما وعلى التقديرين فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء عليهم السلام، والجواب أن يحمل قوله: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) * على الأكثر الأغلب وعلى هذا التقدير فلا يلزم ما ذكروه.
المسألة الثانية: لفظة إن كان كذا تفيد الشك فقوله: * (ستجدني إن شاء الله صابرا) * معناه ستجدني صابرا إن شاء الله كوني صابرا، وهذا يقتضي وقوع الشك في أن الله هل يريد كونه صابرا أم لا. ولا شك أن الصبر في مقام التوقف واجب، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه، وهذا يدل على صحة قولنا: إن الله تعالى قد يأمر بالشيء مع أنه لا يريده، قالت المعتزلة: هذه الكلمة إنما تذكر رعاية للأدب فيما يريد الإنسان أن يفعله في المستقبل فيقال لهم هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب، وإن فسد فأي أدب في ذكر هذا الكلام الباطل؟
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (ولا أعصى لك أمرا) * يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب لأن تارك المأمور به عاص بدلالة هذه الآية، والعاصي يستحق العقاب لقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) * (الجن: 23) وهذا يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب.
المسألة الرابعة: قول الخضر لموسى عليه السلام: * (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) * نسبة إلى قلة العلم والخبر، وقول موسى له: * (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا) * تواضع شديد وإظهار للتحمل التام والتواضع الشديد، وكل ذلك يدل على أن الواجب على المتعلم إظهار التواضع بأقصى الغايات، وأما المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعا وإرشادا إلى الخير. فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم ثم قال: * (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا) * أي لا تستخبرني عما تراه مني مما لا تعلم وجهه حتى أكون أنا المبتدئ لتعليمك إياه وإخبارك به، وفي قراءة ابن عامر فلا تسألن محركة اللام مشددة النون بغير ياء. وروى عنه لا تسألني مثقلة مع الياء وهي قراءة نافع، وفي قراءة الباقين لا تسألن خفيفة والمعنى واحد.
قوله تعالى
* (فانطلقا حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا * قال لا تؤاخذنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا) *
153

اعلم أن موسى وذلك العالم لما تشارطا على الشرط المذكور وسارا فانتهيا إلى موضع احتاجا فيه إلى ركوب السفينة فركباها وأقدم ذلك العالم على خرق السفينة، وأقول لعله أقدم على خرق جدار السفينة لتصير السفينة بسبب ذلك الخرق معيبة ظاهرة العيب فلا يتسارع الغرق إلى أهلها فعند ذلك قال موسى له: * (أخرقتها لتغرق أهلها) * وفيه بحثان:
البحث الأول: قرأ حمزة والكسائي: * (ليغرق أهلها) * بفتح الياء على إسناد الغرق إلى الأهل والباقون لتغرق أهلها على الخطاب، والتقدير لتغرق أنت أهل هذه السفينة.
البحث الثاني: أن موسى عليه السلام لما شاهد ذلك الأمر المنكر بحسب الظاهر نسي الشرط المتقدم فلهذا المعنى قال ما قال، واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجهين. الأول: أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان من الأنبياء، ثم قال موسى عليه السلام: * (أخرقتها لتغرق أهلها) * فإن صدق موسى في هذا القول دل ذلك على صدور الذنب العظيم عن ذلك النبي، وإن كذب دل على صدور الكذب عن موسى عليه السلام. الثاني: أنه التزم أن لا يعترض على ذلك العالم. وجرت العهود المؤكدة لذلك، ثم إنه خالف تلك العهود وذلك ذنب. والجواب عن الأول: أنه لما شاهد موسى عليه السلام منه الأمر الخارج عن العادة قال هذا الكلام، لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحا، بل لأنه أحب أن يقف على وجهه وسببه، وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه إنه أمر يقال أمر الأمر إذا عظم وقال الشاعر: داهية دهياء
وعلى الثاني: أنه فعل بناء على النسيان، ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه لما خالف الشرط لم يزد على أن قال: * (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا) * فعند هذا اعتذر موسى عليه السلام بقوله: * (لا تؤاخذني بما نسيت) * أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي بشيء: * (ولا ترهقني من أمري عسرا) * يقال: رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه أي ولا تغشني من أمري عسرا، وهو اتباعه إياه يعني ولا تعسر على متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة، وقرئ: * (عسرا) * بضمتين.
قوله تعالى
* (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا * قال إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا) *
154

اعلم أن لفظ الغلام قد يتناول الشاب البالغ بدليل أنه يقال رأى الشيخ خير من مشهد الغلام جعل الشيخ نقيضا للغلام وذلك يدل على أن الغلام هو الشاب وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون في الشباب، وأما تناول هذا اللفظ للصبي الصغير فظاهر، وليس في القرآن كيف لقياه هل كان يلعب مع جمع من الغلمان الصبيان أو كان منفردا؟ وهل كان مسلما أو كان كافرا؟ وهل كان منعزلا؟ وهل كان بالغا أو كان صغيرا؟ وكان اسم الغلام بالصغير أليق وإن احتمل الكبير إلا أن قوله: * (بغير نفس) * أليق بالبالغ منه بالصبي لأن الصبي لا يقتل وإن قتل، وأيضا فهل قتله بأن حز رأسه أو بأن ضرب رأسه بالجدار أو بطريق آخر فليس في لفظ القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقسام فعند هذا قال موسى عليه السلام: * (أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف والباقون زكية بغير ألف قال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة، وقال أبو عمرو الزاكية التي لم تذنب والزكية التي أذنبت ثم تابت.
البحث الثاني: ظاهر الآية يدل على أن موسى عليه السلام استبعد أن يقتل النفس إلا لأجل القصاص بالنفس وليس الأمر كذلك لأنه قد يحل دمه بسبب من الأسباب، وجوابه أن السبب الأقوى هو ذلك.
البحث الثالث: النكر أعظم من الإمر في القبح، وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة لأن ذلك ما كان اتلافا للنفس لأنه كان يمكن أن لا يحصل الغرق، أما ههنا حصل الإتلاف قطعا فكان أنكر وقيل إن قوله: * (لقد جئت شيئا إمرا) * أي عجبا والنكر أعظم من العجب وقيل النكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس فهو أبلغ في تقبيح الشيء من الإمر ومنهم من قال: الإمر أعظم. قال: لأن خرق السفينة يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذا القتل ليس إلا إتلاف شخص واحد وأيضا
الإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر وأنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه ما زاد على أن ذكره ما عاهده عليه فقال: * (ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبرا) * وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه زاد ههنا لفظة لك لأن هذه اللفظة تؤكد التوبيخ فعند هذا قال موسى: * (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) * مع العلم بشدة حرصه على مصاحبته وهذا كلام نادم شديد الندامة ثم قال: * (قد بلغت من لدني عذرا) * والمراد منه أنه يمدحه بهذه الطريقة من حيث احتمله مرتين أولا وثانيا، مع قرب المدة وبقي مما يتعلق بالقراءة في هذه الآية ثلاثة مواضع: الأول: قرأ نافع برواية ورش وقالون وابن عامر وأبو بكر عن عاصم نكرا بضم الكاف في جميع القرآن والباقون ساكنة الكاف حيث كان وهما لغتان. الثاني: الكل قرأوا: * (لا تصاحبني) * بالألف إلا يعقوب فإنه قرأ: (لا تصحبني) من صحب والمعنى واحد
155

الثالث: في * (لدني) * قراءات. الأولى: قراءة نافع وأبي بكر في بعض الروايات عن عاصم: * (من لدني) * بتخفيف النون وضم الدال. الثانية: قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: * (لندي) * مشددة النون وضم الدال. الثالثة: قرأ أبو بكر عن عاصم بالإشمام وغير إشباع. الرابعة: * (لدني) * بضم اللام وسكون الدال في بعض الروايات عن عاصم وهذه القراءات كلها لغات في هذه اللفظة.
قوله تعالى
* (فانطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية استطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) *
اعلم أن تلك القرية هي أنطاكية وقيل هي الأيلة وههنا سؤالات: الأول: إن الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدم عليه موسى وذلك العالم لأن موسى كان من عادته عرض الحاجة وطلب الطعام ألا ترى أنه تعالى حكى عنه أنه قال في قصة موسى عند ورود ماء مدين: * (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) * (القصص: 24). الجواب: أن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند خوف الضرر الشديد. السؤال الثاني: لم قال: * (حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها) * وكان من الواجب أن يقال استطعما منهم، والجواب أن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر: ليت الغراب غداة ينعب دائما * كان الغراب مقطع الأوداج
السؤال الثالث: إن الضيافة من المندوبات فتركها ترك للمندوب وذلك أمر غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله: * (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) * وأيضا مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلا عن كليم الله. الجواب: أما قوله الضيافة من المندوبات قلنا: قد تكون من المندوبات، وقد تكون من الواجبات بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل لهلك وإذا كان التقدير ما ذكرناه لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل يوما، فإن قالوا: ما بلغ في الجوع إلى حد الهلاك بدليل أنه قال: * (لو شئت لاتخذت عليه
156

أجرا) * وكان يطلب على إصلاح ذلك الجدار أجرة، ولو كان قد بلغ في الجوع إلى حد الهلاك لما قدر على ذلك العمل فكيف يصح منه طلب الأجرة قلنا لعل ذلك الجوع كان شديدا إلا أنه ما بلغ حد الهلاك، ثم قال تعالى: * (فأبوا أن يضيفوهما) * وفيه بحثان:
البحث الأول: يضيفوهما يقال ضافه إذا كان له ضيفا، وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض. ونظيره: زاره من الإزورار، وأضافه وضيفه أنزله، وجعله ضيفه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أهل قرية لئاما.
البحث الثاني: رأيت في كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل من الذهب وقالوا: يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاءا حتى تصير القراءة هكذا: فأتوا أن يضيفوهما. أي أتوا لأن يضيفوهما، أي كان إتيان أهل تلك القرية إليهما لأجل الضيافة، وقالوا: غرضنا منه أن يندفع عنا هذا اللؤم فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله، وذلك يوجب القدح في الإلهية. فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية، ثم قال تعالى: * (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه) * أي فرأيا في القرية حائطا مائلا، فإن قيل كيف يجوز وصف الجدار بالإرادة مع أن الإرادة من صفات الأحياء قلنا هذا اللفظ ورد على سبيل الاستعارة، وله نظائر في الشعر قال: يريد الرمح صدر أبي براء * ويرغب عن دماء بني عقيل
وأنشد الفراء: إن دهرا يلف شملي بجمعل * لزمان يهم بالإحسان
في مهمة فلقت به هاماتها * فلق الفؤوس إذا أردن نصولا
ونظيره من القرآن قوله تعالى: * (ولما سكت عن موسى الغضب) * وقوله: * (أن يقول له كن فيكون) * وقوله: * (قالتا أتينا طائعين) * وقوله: * (أن ينقض) * يقال انقض إذا أسرع سقوطه من انقضاض الطائر وهو انفعل مطاوع قضضته. وقيل: انقض فعل من النقض كأحمر من الحمرة، وقرئ أن ينقض من النقض، وأن ينقاض من انقاضت العين إذا انشقت طولا، وأما قوله: * (فأقامه) * قيل نقضه ثم بناه، وقيل: أقامه بيده، وقيل: مسحه بيده فقام واستوى وكان ذلك من معجزاته، واعلم أن ذلك العالم لما فعل ذلك. وكانت الحالة حالة اضطرار وافتقار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى ما قاله من قوله: * (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) * فلا جرم قال: * (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) * أي طلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات،
وقرئ: * (لتخذت عليه أجرا) * والتاء تخذت أصل كما في تبع، واتخذ
157

افتعل منه كقولنا اتبع من قولنا تبع، واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذا الكلام قال العالم: * (هذا فراق بيني وبينك) * وههنا سؤالات. السؤال الأول: قوله: هذه إشارة إلى ماذا؟ والجواب من وجهين: الأول: أن موسى عليه السلام قد شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالا آخر يحصل الفراق حيث قال: * (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) * فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم وقال: * (هذا فراق بيني وبينك) * أي هذا الفراق الموعود. الثاني: أن يكون قوله هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض هو سبب الفراق. السؤال الثاني: ما معنى قوله: * (هذا فراق بيني وبينك) *؟ الجواب: معناه هذا فراق حصل بيني وبينك، فأضيف المصدر إلى الظرف، حكى القفال عن بعض أهل العربية أن البين هو الوصل لقوله تعالى: * (لقد تقطع بينكم) * فكان المعنى هذا فراق بيننا، أي اتصالنا، كقول القائل: أخزى الله الكاذب مني ومنك، أي أحدنا هكذا قاله الزجاج، ثم قال العالم لموسى عليه السلام: * (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) * أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاثة، وأصل التأويل راجع إلى قولهم آل الأمر إلى كذا أي صار إليه، فإذا قيل: ما تأويله فالمعنى ما مصيره.
* (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأردت أن أعيبها وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينآ أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنآ أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا * ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) *
في الآية مسائل:
158

المسألة الأولى: اعلم أن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء صلوات الله عليهم مبنية على الظواهر كما قال عليه السلام: " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر وذلك لأن الظاهر أنه يحرم التصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن تخريق السفينة تنقيص لملك الإنسان من غير سبب ظاهر، وقتل الغلام تفويت لنفس معصومة من غير سبب ظاهر، والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل التعب والمشقة من غير سبب ظاهر، وفي هذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنيا عن الأسباب الظاهرة المعلومة، بل كان ذلك الحكم مبنيا على أسباب معتبرة في نفس الأمر، وهذا يدل على أن ذلك العالم كان قد آتاه الله قوة عقلية قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور ويطلع بها على حقائق الأشياء فكانت مرتبة موسى عليه السلام في معرفة الشرائع والأحكام بناء الأمر على الظواهر وهذا العالم كانت مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائق الأمور والإطلاع على أسرارها الكامنة، فبهذا الطريق ظهر أن مرتبته في العلم كانت فوق مرتبة موسى عليه السلام. إذا عرفت هذا فنقول: المسائل الثلاثة مبنية على حرف واحد وهو أن عند تعارض الضررين يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى؛ فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة.
أما المسألة الأولى: فلأن ذلك العالم علم أنه لو لم يعب تلك السفينة بالتخريق لغصبها ذلك الملك، وفاتت منافعها عن ملاكها بالكلية فوقع التعارض بين أن يخرقها ويعيبها فتبقى مع ذلك على ملاكها، وبين أن لا يخرقها فيغصبها الملك فتفوت منافعها بالكلية على ملاكها، ولا شك أن الضرر الأول أقل فوجب تحمله لدفع الضرر الثاني الذي هو أعظمهما.
وأما المسألة الثانية: فكذلك لأن بقاء ذلك الغلام حيا كان مفسدة للوالدين في دينهم وفي دنياهم، ولعله علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسد للأبوين، فلهذا السبب أقدم على قتله.
والمسألة الثالثة: أيضا كذلك لأن المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على إقامة ذلك الجدار ضررها أقل من سقوطه لأنه لو سقط لضاع مال تلك الأيتام. وفيه ضرر شديد، فالحاصل أن ذلك العالم كان مخصوصا بالوقوف على بواطن الأشياء وبالأطلاع على حقائقها كما هي عليها في أنفسها، وكان مخصوصا ببناء الأحكام الحقيقية على تلك الأحوال الباطنة، وأما موسى عليه السلام فما كان كذلك بل كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور فلا جرم ظهر التفاوت بينهما في العلم، فإن قال قائل فحاصل الكلام أنه تعالى أطلعه على بواطن الأشياء وحقائقها في نفسها، وهذا النوع من العلم لا يمكن تعلمه، وموسى عليه السلام إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم فكان من الواجب
159

على ذلك العالم أن يظهر له علما يمكن له تعلمه، وهذه المسائل الثلاثة علوم لا يمكن تعلمها فما الفائدة في ذكرها وإظهارها. والجواب: أن العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة، وأما العلم ببواطن الأشياء فإنما يمكن تحصيله بناء على تصفية الباطن وتجريد النفس وتطهير القلب عن العلائق الجسدانية، ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم: * (وعلمناه من لدنا علما) * (الكهف: 65)، ثم إن موسى عليه السلام لما كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم ليعلم موسى عليه السلام أن كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على البواطن والتطلع على حقائق الأمور.
المسألة الثانية: اعلم أن ذلك العالم أجاب عن المسألة الأولى بقوله: * (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) * وفيه فوائد. الفائدة الأولى: أن تلك السفينة كانت لأقوام محتاجين متعيشين بها في البحر والله تعالى سماهم مساكين، واعلم أن الشافعي رحمه الله احتج بهذه الآية على أن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين لأنه تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة. الفائدة الثانية: أن مراد ذلك العالم من هذا الكلام أنه ما كان مقصودي من تخريق تلك السفينة تغريق أهلها بل مقصودي أن ذلك الملك الظالم كان يغصب السفن الخالية عن العيوب فجعلت هذه السفينة معيبة لئلا
يغصبها ذلك الظالم فإن ضرر هذا التخريق أسهل من الضرر الحاصل من ذلك الغصب، فإن قيل وهل يجوز للأجنبي أن يتصرف في ملك الغير لمثل هذا الغرض، قلنا هذا مما يختلف أحواله بحسب اختلاف الشرائع فلعل هذا المعنى كان جائزا في تلك الشريعة، وأما في شريعتنا فمثل هذا الحكم غير بعيد، فإنا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق ويأخذون جميع ملك الإنسان، فإن دفعنا إلى قاطع الطريق بعض ذلك المال سلم الباقي فحينئذ يحسن منا أن ندفع بعض مال ذلك الإنسان إلى قاطع الطريق ليسلم الباقي وكان هذا منا يعد إحسانا إلى ذلك المالك. الفائدة الثالثة: أن ذلك التخريق وجب أن يكون واقعا على وجه لا تبطل به تلك السفينة بالكلية إذ لو كان كذلك لم يكن الضرر الحاصل من غصبها أبلغ من الضرر الحاصل من تخريقها، وحينئذ لم يكن تخريقها جائزا. الفائدة الرابعة: لفظ الوراء على قوله: * (وكان وراءهم) * فيه قولان: الأول: أن المراد منه وكان أمامهم ملك يأخذ، هكذا قاله الفراء وتفسيره قوله تعالى: * (من ورائهم جهنم) * (الجاثية: 10) أي أمامهم، وكذلك قوله تعالى: * (ويذرون وراءهم يوما ثقيلا) * (الإنسان: 27) وتحقيقه أن كل ما غاب عنك فقد توارى عنك وأنت متوار عنه، فكل ما غاب عنك فهو وراءك وأمام الشيء وقدامه إذا كان غائبا عنه متواريا عنه فلم يبعد إطلاق لفظ وراء عليه. والقول الثاني: يحتمل أن يكون الملك كان من وراء الموضع الذي يركب منه صاحبه وكان مرجع السفينة عليه.
وأما المسألة الثانية: وهي قتل الغلام فقد أجاب العالم عنها بقوله: * (وأما الغلام فكان
160

أبواه مؤمنين) * قيل: إن ذلك الغلام كان بالغا وكان يقطع الطريق ويقدم على الأفعال المنكرة، وكان أبواه يحتاجان إلى دفع شر الناس عنه والتعصب له وتكذيب من يرميه بشيء من المنكرات وكان يصير ذلك سببا لوقوعهما في الفسق. وربما أدى ذلك الفسق إلى الكفر، وقيل: إنه كان صبيا إلا أن الله تعالى علم منه أنه لو صار بالغا لحصلت منه هذه المفاسد، وقوله: * (فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) * الخشية بمعنى الخوف وغلبة الظن والله تعالى قد أباح له قتل من غلب على ظنه تولد مثل هذا الفساد منه، وقوله: * (أن يرهقهما طغيانا) * فيه قولان: الأول: أن يكون المراد أن ذلك الغلام يحمل أبويه على الطغيان والكفر كقوله: * (ولا ترهقني من أمري عسرا) * (الكهف: 73) أي لا تحملني على عسر وضيق وذلك لأن أبويه لأجل حب ذلك الولد يحتاجان إلى الذب عنه، وربما احتاجا إلى موافقته في تلك الأفعال المنكرة. والثاني: أن يكون المعنى أن ذلك الولد كان يعاشرهما معاشرة الطغاة الكفار، فإن قيل: هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان لمثل هذا الظن؟ قلنا: إذا تأكد ذلك الظن بوحي الله جاز ثم قال تعالى: * (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة) * أي أردنا أن يرزقهما الله تعالى ولدا خيرا من هذا الغلام زكاة أي دينا وصلاحا، وقيل: إن ذكره الزكاة ههنا على مقابلة قول موسى عليه السلام: * (أقتلت نفسا زاكية بغير نفس) * فقال العالم: أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيرا بدلا عن ابنهما هذا ولدا يكون خيرا منه كما ذكرته من الزكاة، ويكون المراد من الزكاة الطهارة فكأن موسى عليه السلام قال: أقتلت نفسا طاهرة لأنها ما وصلت إلى حد البلوغ فكانت زاكية طاهرة من المعاصي فقال العالم: إن تلك النفس وإن كانت زاكية طاهرة في الحال إلا أنه تعالى علم منها أنها إذا بلغت أقدمت على الطغيان والكفر فأردنا أن يجعل لهما ولدا أعظم زكاة وطهارة منه وهو الذي يعلم الله منه أنه عند البلوغ لا يقدم على شيء من هذه المحظورات ومن قال إن ذلك الغلام كان بالغا قال: المراد من صفة نفسه بكونها زاكية أنه لم يظهر عليه ما يوجب قتله ثم قال: * (وأقرب رحما) * أي يكون هذا البدل أقرب عطفا ورحمة بأبويه بأن يكون أبر بهما وأشفق عليهما والرحم الرحمة والعطف. روى أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبي فولدت نبيا هدى الله على يديه أمة عظيمة.
بقي من مباحث هذه الآية موضعان في القراءة. الأول: قرأ نافع وأبو عمرو يبدلهما بفتح الباء وتشديد الدال وكذلك في التحريم: * (أن يبدله أزواجا) * وفي القلم: * (عسى ربنا أن يبدلنا) * والباقون ساكنة الباء خفيفة الدال وهما لغتان أبدل يبدل وبدل يبدل. الثاني: قراءة ابن عامر في إحدى الروايتين عن أبي عمرو رحما بضم الحاء والباقون بسكونها وهما لغتان مثل نكر ونكر وشغل وشغل.
وأما المسألة الثالثة: وهي إقامة الجدار فقد أجاب العالم عنها بأن الداعي له إليها أنه كان تحت ذلك الجدار كنز وكان ذلك ليتيمين في تلك المدينة وكان أبوهما صالحا ولما كان ذلك الجدار مشرفا على السقوط ولو سقط لضاع ذلك الكنز فأراد الله إبقاء ذلك الكنز على ذينك اليتيمين
161

رعاية لحقهما ورعاية لحق صلاح أبيهما فأمرني بإقامة ذلك الجدار رعاية لهذه المصالح، وفي الآية فوائد. الفائدة الأولى: أنه تعالى سمى ذلك الموضع قرية حيث قال: * (إذا أتيا أهل قرية) * وسماه أيضا مدينة حيث قال: * (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) *. الفائدة الثانية: اختلفوا في هذا الكنز فقيل: إنه كان مالا وهذا هو الصحيح لوجهين. الأول: أن المفهوم من لفظ الكنز هو المال. والثاني: أن قوله: * (ويستخرجا كنزهما) * يدل على أن ذلك الكنز هو المال وقيل إنه كان علما بدليل أنه قال: * (وكان أبوهما صالحا) * والرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال إذ كنز المال لا يليق بالصلاح بدليل قوله تعالى: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) * (التوبة: 34) وقيل: كان لوحا من ذهب مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. الفائدة الثالثة: قوله: * (وكان أبوهما صالحا) * يدل على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء وعن جعفر بن محمد كان بين الغلامين وبين الأب الصالح سبعة آباء وعن الحسن ابن علي أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما: بم حفظ الله مال الغلامين؟ قال: بصلاح أبيهما قال فأبي وجدي خير منه؟ قال: قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون. وذكروا أيضا أن ذلك الأب الصالح كان الناس يضعون الودائع إليه فيردها إليهم بالسلامة، فإن قيل: اليتيمان هل عرف أحد منهما حصول الكنز تحت ذلك الجدار أو ما عرف أحد منهما؟ فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار. وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز والانتفاع به؟ الجواب: لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالما به ثم (إن) ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على
السقوط ولما قرر العالم هذه الجوابات قال: * (رحمة من ربك) * يعني إنما فعلت هذه الفعال لغرض أن تظهر رحمة الله تعالى لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما قررناه ثم قال: * (وما فعلته عن أمري) * يعني ما فعلت ما رأيت من هذه الأحوال عن أمري واجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر الله ووحيه لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم لا يجوز إلا بالوحي والنص القاطع بقي في الآية سؤال، وهو أنه قال: * (فأردت أن أعيبها) * وقال: * (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة) * وقال: * (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) * كيف اختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاث وهي كلها في قصة واحدة وفعل واحد؟ والجواب: أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه فقال: أردت أن أعيبها ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيها على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية، ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى، لأن المتكفل بمصالح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
162

قوله تعالى
* (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا. انا مكنا له فى الارض وآتيناه من كل شىء سببا * فأتبع سببا) *
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيها مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح فالمراد من قوله: * (ويسألونك عن ذي القرنين) * (الكهف: 83) هو ذلك السؤال.
المسألة الثانية: اختلف الناس في أن ذا القرنين من هو وذكروا فيه أقوالا: الأول: أنه هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني قالوا والدليل عليه أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب بدليل قوله: * (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة) * (الكهف: 86) وأيضا بلغ ملكه أقصى المشرق بدليل قوله: * (حتى إذا بلغ مطلع الشمس) * (الكهف: 90) وأيضا بلغ ملكه أقصى الشمال بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال، وبدليل أن السد المذكور في القرآن يقال في كتب التواريخ إنه مبني في أقصى الشمال فهذا الإنسان المسمى بذي القرنين في القرآن قد دل القرآن على أن ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق وهذا هو تمام القدر المعمور من الأرض، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلدا على وجه الدهر وأن لا يبقى مخفيا مستترا، والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف ثم جمع ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر. ثم توجه نحو دارا بن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها. فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلا ملك الأرض بالكلية، أو ما يقرب منها، وثبت بعلم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني ثم ذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم وجوها: الأول: أنه لقب بهذا اللقب لأجل بلوغه قرني الشمس أي
163

مطلعها ومغربها كما لقب أردشير بن بهمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد. والثاني: أن الفرس قالوا: إن دارا الأكبر كان قد تزوج بابنة فيلبوس فلما قرب منها وجد منها رائحة منكرة فردها على أبيها فيلبوس وكانت قد حملت منه بالإسكندر فولدت الإسكندر بعد عودها إلى أبيها فبقي الإسكندر عند فيلبوس وأظهر فيلبوس أنه ابنه وهو في الحقيقة ابن دارا الأكبر قالوا والدليل عليه أن الإسكندر لما أدرك دارا بن دارا وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال لدارا: يا أبي أخبرني عمن فعل هذا لأنتقم لك منه! فهذا ما قاله الفرس قالوا وعلى هذا التقدير فالإسكندر أبوه دارا الأكبر وأمه بنت فيلبوس فهو إنما تولد من أصلين مختلفين الفرس والروم وهذا الذي قاله الفرس إنما ذكروه لأنهم أرادوا أن يجعلوه من نسل ملوك العجم حتى لا يكون ملك مثله من نسب غير نسب ملوك العجم وهو في الحقيقة كذب، وإنما قال الإسكندر لدارا يا أبي على سبيل التواضع وأكرم دارا بذلك الخطاب. والقول الثاني: قال أبو الريحان الهروي المنجم في كتابه الذي سماه بالآثار الباقية عن القرون الخالية، قيل: إن ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عبير بن أفريقش الحميري فإنه بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال: قد كان ذو القرنين قبلي مسلما * ملكا علا في الأرض غير مفندي
بلغ المشارق والمغارب يبتغي * أسباب ملك من كريم سيد
ثم قال أبو الريحان ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلو أساميهم من ذي كذا كذي النادي وذي نواس وذي النون وغير ذلك. والقول الثالث: أنه كان عبدا صالحا ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة، وإن كنا لا نعرف أنه من هو ثم ذكروا في تسميته بذي القرنين وجوها: الأول: سأل ابن الكوا عليا رضي الله عنه عن ذي القرنين وقال أملك هو أم نبي فقال: لا ملك ولا نبي كان عبدا صالحا ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمى بذي القرنين وملك ملكه. الثاني: سمي بذي القرنين لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس. الثالث: قيل كان صفحتا رأسه من نحاس. الرابع: كان على رأسه ما يشبه القرنين. الخامس: (كان) لتاجه قرنان. السادس: عن النبي صلى الله عليه وسلم سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا يعني شرقها وغربها. السابع: كان له قرنان أي ضفيرتان. الثامن: أن الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمده الظلمة من ورائه. التاسع: يجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا كأنه ينطح أقرانه. العاشر: رأى في المنام كأنه صعد الفلك فتعلق بطرفي الشمس وقرنيها
وجانبيها فسمي
164

لهذا السبب بذي القرنين. الحادي عشر: سمي بذلك لأنه دخل النور والظلمة. والقول الرابع: أن ذا القرنين ملك من الملائكة عن عمر أنه سمع رجلا يقول: يا ذا القرنين فقال: اللهم اغفر. أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسموا بأسماء الملائكة! فهذا جملة ما قيل في هذا الباب، والقول الأول أظهر لأجل الدليل الذي ذكرناه وهو أن مثل هذا الملك العظيم يجب أن يكون معلوم الحال عند أهل الدنيا والذي هو معلوم الحال بهذا الملك العظيم هو الإسكندر فوجب أن يكون المراد بذي القرنين هو هو إلا أن فيه إشكالا قويا وهو أنه كان تلميذ أرسططاليس الحكيم وكان على مذهبه فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسططاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه والله أعلم.
المسألة الثالثة: اختلفوا في ذي القرنين هل كان من الأنبياء أم لا؟ منهم من قال: إنه كان نبيا واحتجوا عليه بوجوه. الأول: قوله: * (إنا مكنا له في الأرض) * والأولى حمله على التمكين في الدين والتمكين الكامل في الدين هو النبوة. والثاني: قوله: * (وآتيناه من كل شيء سببا) * ومن جملة الأشياء النبوة فمقتضى العموم في قوله: * (وآتيناه من كل شيء سببا) * هو أنه تعالى آتاه في النبوة سببا. الثالث: قوله تعالى: * (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) * والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبيا ومنهم من قال إنه كان عبدا صالحا وما كان نبيا. المسألة الرابعة: في دخول السين في قوله: * (سأتلوا) * معناه إني سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى عليه وأنزل فيه وحيا وأخبرني عن كيفية تلك الحال، وأما قوله تعالى: * (إنا مكنا له في الأرض) * فهذا التمكين يحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب النبوة ويحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب الملك من حيث إنه ملك مشارق الأرض ومغاربها والأول أولى لأن التمكين بسبب النبوة أعلى من التمكين بسبب الملك وحمل كلام الله على الوجه الأكمل الأفضل أولى ثم قال: * (وآتيناه من كل شيء سببا) * قالوا: السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود وهو يتناول العلم والقدرة والآلة فقوله: * (وآتيناه من كل شيء سببا) * معناه: أعطيناه من كل شيء من الأمور التي يتوصل بها إلى تحصيل ذلك الشيء ثم إن الذين قالوا: إنه كان نبيا قالوا: من جملة الأشياء النبوة فهذه الآية تدل على أنه تعالى أعطاه الطريق الذي به يتوصل إلى تحصيل النبوة، والذين أنكروا كونه نبيا قالوا: المراد به وآتيناه من كل شيء يحتاج إليه في إصلاح ملكه سببا، إلا أن لقائل أن يقول: إن تخصيص العموم خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل، ثم قال: * (فأتبع سببا) * ومعناه أنه تعالى لما أعطاه من كل شيء سببه فإذا أراد شيئا أتبع سببا يوصله إليه ويقربه منه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو فاتبع بتشديد التاء، وكذلك ثم اتبع أي سلك وسار والباقون فأتبع بقطع الألف وسكون التاء مخففة.
165

قوله تعالى
* (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إمآ أن تعذب وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزآء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا * ثم أتبع سببا) *
اعلم أن المعنى أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله إليه حتى بلغه، أما قوله: * (وجدها تغرب في عين حمئة) * ففيه مباحث:
الأول: قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في عين حامية بالألف من غير همزة أي حارة، وعن أبي ذر، قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال: أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تغرب في عين حامية؛ وهي قراءة ابن مسعود وطلحة وابن عامر، والباقون حمئة، وهي قراءة ابن عباس واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية بألف فقال ابن عباس حمئة، فقال معاوية لعبد الله بن عمر كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين كذلك نجده في التوراة، والحمئة ما فيه ماء، وحمأة سوداء، واعلم أنه لا تنافي بين الحمئة والحامية، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعا.
البحث الثاني: أنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضا قال: * (ووجد عندها قوما) * ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض، إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله: * (تغرب في عين حمئة) * من وجوه. الأول: أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب
166

في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر، هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره. الثاني: أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية وهي أيضا حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء فقوله: * (تغرب في عين حمئة) * إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة. الثالث: قال أهل الأخبار: إن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة وهذا في غاية البعد، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفا قمريا فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا: حصل هذا الكسوف في أول الليل ورأينا المشرقيين قالوا: حصل في أول النهار فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث. ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار. وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلاما على خلاف اليقين وكلام الله تعالى مبرأ عن هذه التهمة، فلم يبق إلا أن يصار إلى التأويل الذي ذكرناه ثم قال تعالى: * (ووجد عندها قوما) * الضمير في قوله عندها إلى ماذا يعود؟ فيه
قولان: الأول: أنه عائد إلى الشمس ويكون التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس. والقول الثاني: أن يكون الضمير عائدا إلى العين الحامية، وعلى هذا القول فالتأويل ما ذكرناه، ثم قال تعالى: * (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) * وفيه مباحث:
الأول: أن قوله تعالى: * (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) * يدل على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة، وذلك يدل على أنه كان نبيا وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء فهو عدول عن الظاهر.
البحث الثاني: قال أهل الأخبار في صفة ذلك الموضع أشياء عجيبة، قال ابن جريج: هناك مدينة لها إثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجبة الشمس حين تغيب.
البحث الثالث: قوله تعالى: * (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) * يدل على أن سكان آخر المغرب كانوا كفارا فخير الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب لهم إن أقاموا على كفرهم وبين المن عليهم والعفو عنهم وهذا التخيير على معنى الإجتهاد في أصلح الأمرين كما خير نبيه عليه السلام بين المن على المشركين وبين قتلهم، وقال الأكثرون: هذا التعذيب هو القتل، وأما اتخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء، ثم قال ذو القرنين: * (أما من ظلم نفسه) * أي ظلم نفسه بالإقامة على الكفر. والدليل على أن هذا هو المراد أنه ذكر في مقابلته: * (وأما من آمن وعمل
167

صالحا) * ثم قال: * (فسوف نعذبه) * أي بالقتل في الدنيا: * (ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا) * أي منكرا فظيعا: * (وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى) * قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: * (جزاء الحسنى) * بالنصب والتنوين والباقون بالرفع والإضافة، فعلى القراءة الأولى يكون التقدير فله الحسنى جزاء كما تقول لك هذا الثوب هبة، وأما على القراءة الثانية ففي التفسير وجهان. الأول: فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح. والثاني: أن يكون التقدير فله جزاء المثوبة الحسنى ويكون المعنى فله ذا الجزاء الذي هو المثوبة الحسنى والجزاء موصوف بالمثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله: * (ولدار الآخرة) * (الأنعام: 32) و * (حق اليقين) * (الواقعة: 95) ثم قال: * (وسنقول له من أمرنا يسرا) * أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل الميسر من الزكاة والخراج وغيرهما وتقدير هذا يسر كقوله: * (قولا ميسورا) * (الإسراء: 28) وقرئ يسرا بضمتين.
* (حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا * كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا) *
اعلم أنه تعالى لما بين أولا أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مغرب الشمس أتبعه ببيان أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مطلع الشمس فبين الله تعالى أنه وجد الشمس تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا وفيه قولان. الأول: أنه ليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم فلهذا السبب إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب واغلة في الأرض أو غاصوا في الماء فيكون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش حالهم بالضد من أحوال سائر الخلق. والقول الثاني: أن معناه أنه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبدا ويقال في كتب الهيئة إن حال أكثر الزنج كذلك وحال كل من يسكن البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك، وذكر في كتب التفسير أن بعضهم قال: سافرت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم، فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه الواحدة ويلبس الأخرى ولما قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربا لهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج ثم قال تعالى: * (كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا) * وفيه وجوه: الأول: أي كذلك فعل ذو القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من
168

الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به. والثاني: كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسوله عليه السلام في هذا الذكر. والثالث: كذلك كانت حالته مع أهل المطلع كما كانت مع أهل المغرب، قضى في هؤلاء كما قضى في أولئك، من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين. والرابع: أنه تم الكلام عند قوله كذلك والمعنى أنه تعالى قال: أمر هؤلاء القوم كما وجدهم عليه ذو القرنين ثم قال بعده: * (وقد أحطنا بما لديه خبرا) * أي كنا عالمين بأن الأمر كذلك.
قوله تعالى
* (ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا * قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الارض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا * قال ما مكنى فيه ربى خير فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما) *
اعلم أن ذا القرنين لما بلغ المشرق والمغرب أتبع سببا آخر وسلك الطريق حتى بلغ بين السدين، وقد آتاه الله من العلم والقدرة ما يقوم بهذه الأمور. وههنا مباحث:
الأول: قرأ حمزة والكسائي السدين بضم السين وسدا بفتحها حيث كان، وقرأ حفص عن عاصم بالفتح فيهما في كل القرآن، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالضم فيهما في كل القرآن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو السدين وسدا ههنا بفتح السين فيهما وضمها في يس في الموضعين قال الكسائي: هما لغتان، وقيل: ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بفتح السين، وما كان من صنع الله فهو السد بضم السين والجمع سدد، وهو قول أبي عبيدة وابن الأنباري، قال صاحب الكشاف: السد بالضم فعل بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه، والسد بالفتح مصدر حدث يحدثه الناس.
البحث الثاني: الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال، وقيل: جبلان بين أرمينية وبين أذربيجان، وقيل: هذا المكان في مقطع أرض الترك، وحكى محمد بن جرير الطبري في
169

تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنسانا إليه من ناحية الخزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع، وذكر ابن خردا (ذبة) في كتاب المسالك والممالك أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند، قال أبو الريحان: مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة، والله أعلم بحقيقة الحال.
البحث الثالث: أن ذا القرنين لما بلغ ما بين السدين وجد من دونهما أي من ورائهما مجاوزا عنهما * (قوما) * أي أمة من الناس: * (لا يكادون يفقهون قولا) * قرأ حمزة والكسائي يفقهون بضم الياء وكسر القاف على معنى لا يمكنهم تفهيم غيرهم والباقون بفتح الياء والقاف، والمعنى أنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم وما كانوا يفهمون اللسان الذي يتكلم به ذو القرنين، ثم قال تعالى: * (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض) * فإن قيل: كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام بعد أن وصفهم الله بقوله: * (لا يكادون يفقهون قولا) * والجواب: أن نقول كاد فيه قولان. الأول: أن إثباته نفي، ونفيه إثبات، فقوله: * (لا يكادون يفقهون قولا) * لا يدل على أنهم لا يفهمون شيئا، بل يدل على أنهم قد يفهمون على مشقة وصعوبة. والقول الثاني: أن كاد معناه المقاربة، وعلى هذا القول فقوله: * (لا يكادون يفقهون قولا) * أي لا يعلمون وليس لهم قرب من أن يفقهوا. وعلى هذا القول فلا بد من إضمار، وهو أن يقال: لا يكادون يفهمونه إلا بعد تقريب ومشقة من إشارة ونحوها، وهذه الآية تصلح أن يحتج بها على صحة القول الأول في تفسير كاد.
البحث الرابع: في يأجوج ومأجوج قولان: الأول: أنهما إسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف. والقول الثاني: أنهما مشتقان، وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز. وقرأ الباقون يأجوج ومأجوج. وقرئ في رواية آجوج ومأجوج، والقائلون بكون هذين الإسمين مشتقين ذكروا وجوها. الأول: قال الكسائي: يأجوج مأخوذ من تأجج النار وتلهبها فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ومأجوج من موج البحر. الثاني: أن يأجوج مأخوذ من تأجج الملح وهو شدة ملوحته فلشدتهم في الحركة سموا بذلك. الثالث: قال القتيبي: هو مأخوذ من قولهم أج الظليم في مشيه يئج أجا إذا هرول وسمعت حفيفه في عدوه. الرابع: قال الخليل: الأج حب كالعدس والمج مج الريق فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما واختلفوا في أنهما من أي الأقوام فقيل: إنهما من الترك، وقيل: * (يأجوج) * من الترك * (ومأجوج) * من الجيل والديلم ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة بكون طول أحدهم شبرا ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبتوا لهم مخاليب في
170

الأظفار وأضراسا كأضراس السباع واختلفوا في كيفية إفسادهم في الأرض فقيل: كانوا يقتلون الناس وقيل كانوا يأكلون لحوم الناس وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون لهم شيئا أخضر وبالجملة فلفظ الفساد محتمل لكل هذه الأقسام والله أعلم بمراده، ثم إنه تعالى حكى عن أهل ما بين السدين أنهم قالوا لذي القرنين: * (فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) * قرأ حمزة والكسائي خراجا والباقون خرجا. قيل: الخراج والخرج واحد، وقيل هما أمران متغايران، وعلى هذا القول اختلفوا: قيل: الخرج بغير ألف هو الجعل لأن الناس يخرج كل واحد منهم شيئا منه فيخرج هذا أشياء وهذا أشياء، والخراج هو الذي يجبيه السلطان كل سنة. وقال الفراء: الخراج هو الاسم الأصلي والخرج كالمصدر وقال قطرب: الخرج الجزية والخراج في الأرض. فقال ذو القرنين: * (ما مكني فيه ربي خير فأعينوني) * أي ما جعلني مكينا من المال الكثير واليسار الواسع خير مما تبذلون من الخراج فلا حاجة بي إليه، وهو كما قال سليمان عليه السلام: * (فما آتاني الله خير مما آتاكم) * (النمل: 36) قرأ ابن كثير: (ما مكنني) بنونين على الإظهار والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام، ثم قال ذو القرنين: * (فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما) * أي لا حاجة لي في مالكم ولكن * (أعينوني) * برجال وآلة أبني بها السد، وقيل المعنى: * (أعينوني) * بمال أصرفه إلى هذا المهم ولا أطلب المال لآخذه لنفسي، والردم هو السد. يقال: ردمت الباب أي سددته وردمت الثوب رقعته لأنه يسد الخرق بالرقعة والردم أكثر من السد من قولهم: ثوب مردوم أي وضعت عليه رقاع.
* (ءاتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتونى أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا * قال هذا رحمة من ربى فإذا جآء وعد ربى جعله دكآء وكان وعد ربى حقا) *
اعلم أن * (زبر الحديد) * قطعة قال الخليل الزبرة من الحديد القطعة الضخمة، قراءة الجميع آتوني بمد الألف إلا حمزة فإنه قرأ ائتوني من الإتيان، وقد روى ذلك عن عاصم والتقدير ائتوني بزبر الحديد ثم حذف الباء كقوله: شكرته وشكرت له وكفرته وكفرت له، وقوله: * (حتى إذا ساوى
171

بين الصدفين) * فيه إضمار أي فأتوه بها فوضع تلك الزبر بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا، واعلم أن هذا معجز قاهر لأن هذه الزبر الكثيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان على القرب منها، والنفخ عليها لا يمكن إلا مع القرب منها فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها. قال صاحب الكشاف: قيل بعدما بين: * (السدين) * مائة فرسخ. * (والصدفان) * بفتحتين جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان وقرئ: * (الصدفين) * بضمتين. * (والصدفين) * بضمة وسكون والقطر النحاس المذاب لأنه يقطر، وقوله: * (قطرا) * منصوب بقوله: * (أفرغ) * وتقديره آتوني قطرا: * (أفرغ عليه قطرا) * فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ثم قال: * (فما اسطاعوا) * فحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء وقرئ: * (فما اصطاعوا) * بقلب السين صادا * (أن يظهروه) * أن يعلوه أي ما قدروا على الصعود عليه لأجل ارتفاعه وملاسته ولا على نقبه لأجل صلابته وثخانته، ثم قال ذو القرنين: * (هذا رحمة من ربي) * فقوله هذا إشارة إلى السد، أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده أو هذا الاقتدار والتمكين من تسويته: * (فإذا جاء وعد ربي) * يعني فإذا دنا
مجيء القيامة جعل السد دكا أي مدكوكا مسوى بالأرض. وكل ما انبسط بعد الارتفاع فقد اندك وقرئ دكاء بالمد أي أرضا مستوية * (وكان وعد ربي حقا) * وههنا آخر حكاية ذي القرنين.
قوله تعالى
* (وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ونفخ فى الصور فجمعناهم جمعا * وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا * الذين كانت أعينهم فى غطآء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا) *
اعلم أن الضمير في قوله بعضهم عائد إلى: * (يأجوج ومأجوج) * وقوله: * (يومئذ) * فيه وجوه: الأول: أن يوم السد ماج بعضهم في بعض خلفه لما منعوا من الخروج. الثاني: أن عند الخروج يموج بعضهم في بعض قيل إنهم حين يخرجون من وراء السد يموجون مزدحمين في البلاد يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ويأكلون لحوم الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس ثم يبعث الله عليهم حيوانات فتدخل آذانهم فيموتون. والقول الثالث: أن المراد من قوله: * (يومئذ) * يوم القيامة وكل ذلك محتمل إلا أن الأقرب أن
172

المراد الوقت الذي جعل الله ذلك السد دكا فعنده ماج بعضهم في بعض وبعده نفخ في الصور وصار ذلك من آيات القيامة، والكلام في الصور قد تقدم وسيجئ من بعد، وأما عرض جهنم وإبرازه حتى يصير مكشوفا بأهواله فذلك يجري مجرى عقاب الكفار لما يتداخلهم من الغم العظيم، وبين تعالى أنه يكشفه للكافرين الذين عموا وصموا، أما العمى فهو المراد من قوله: * (كانت أعينهم في غطاء عن ذكري) * والمراد منه شدة انصرافهم عن قبول الحق، وأما الصمم فهو المراد من قوله: * (وكانوا لا يستطيعون سمعا) * يعني أن حالتهم أعظم من الصمم لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء زالت عنهم تلك الاستطاعة واحتج الأصحاب بقوله: * (وكانوا لا يستطيعون سمعا) * على أن الاستطاعة مع الفعل وذلك لأنهم لما لم يسمعوا لم يستطيعوا، قال القاضي: المراد منه نفرتهم عن سماع ذلك الكلام واستثقالهم إياه كقول الرجل: لا أستطيع النظر إلى فلان.
قوله تعالى
* (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادى من دونى أوليآء إنآ أعتدنا جهنم للكافرين نزلا * قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم فى الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بايات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزآؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا ءاياتى ورسلى هزوا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بين من حال الكافرين أنهم أعرضوا عن الذكر وعن استماع ما جاء به الرسول أتبعه بقوله: * (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء) * والمراد أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر الآيات وتمردهم عن قبول أمره وأمر رسوله وهو استفهام على سبيل التوبيخ. المسألة الثانية؛ قرأ أبو بكر ولم يرفعه إلى عاصم: * (أفحسب الذين كفروا) * بسكون السين ورفع الباء. وهي من الأحرف التي خالف فيها عاصما، وذكر أنه قراءة أمير المؤمنين علي بن
173

أبي طالب، وعلى هذا التقدير فقوله: حسب مبتدأ، أن يتخذوا خبر، والمعنى أفكافيهم وحسبهم أن يتخذوا كذا وكذا، وأما الباقون فقرأوا فحسب على لفظ الماضي، وعلى هذا التقدير ففيه حذف والمعنى: أفحسب الذين كفروا اتخاذ عبادي أولياء نافعا.
المسألة الثالثة: في العباد أقوال قيل: أراد عيسى والملائكة، وقيل: هم الشياطين يوالونهم ويطيعونهم، وقيل: هي الأصنام سماهم عبادا كقوله: * (عباد أمثالكم) *، ثم قال تعالى: * (إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا) * وفي النزل قولان: الأول: قال الزجاج إنه المأوى والمنزل. والثاني: أنه الذي يقام للنزيل وهو الضيف، ونظيره قوله: * (فبشرهم بعذاب أليم) * ثم ذكر تعالى ما نبه به على جهل القوم فقال: * (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا) * قيل إنهم هم الرهبان كقوله تعالى: * (عاملة ناصبة) * وعن مجاهد أهل الكتاب وعن علي أن ابن الكواء سأله عنهم فقال: هم أهل حروراء والأصل أن يقال هو الذي يأتي بالأعمال يظنها طاعات وهي في أنفسها معاصي وإن كانت طاعات لكنها لا تقبل منهم لأجل كفرهم فأولئك إنما أتوا بتلك الأعمال لرجاء الثواب، وإنما أتبعوا أنفسهم فيها لطلب الأجر والفوز يوم القيامة فإذا لم يفوزوا بمطالبهم بين أنهم كانوا ضالين، ثم إنه تعالى بين صنعهم فقال: * (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لقاء الله عبارة عن رؤيته بدليل أنه يقال: لقيت فلانا أي رأيته، فإن قيل: اللقاء عبارة عن الوصول، قال تعالى: * (فالتقى الماء على أمر قد قدر) * (القمر: 12) وذلك في حق الله تعالى محال، فوجب حمله على لقاء ثواب الله، والجواب أن لفظ اللقاء، وإن كان في الأصل عبارة عن الوصول والملاقاة إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور، والذي يقولونه من أن المراد منه لقاء ثواب الله فهو لا يتم إلا بالإضمار، ومن المعلوم أن حمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج معه إلى الإضمار.
المسألة الثانية؛ استدلت المعتزلة بقوله تعالى: * (فحبطت أعمالهم) * على أن القول بالإحباط والتكفير حق، وهذه المسألة قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة البقرة فلا نعيدها، ثم قال تعالى: * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * وفيه وجوه. الأول: أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار. الثاني: لا نقيم لهم ميزانا لأن الميزان
إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين لتمييز مقدار الطاعات ومقدار السيئات. الثالث: قال القاضي: إن من غلبت معاصيه صار ما في فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعته. وهذا التفسير بناء على قوله بالإحباط والتكفير، ثم قال تعالى: * (ذلك جزاؤهم جهنم) * فقوله: * (ذلك) * أي ذلك الذي ذكرناه وفصلناه من أنواع الوعيد هو جزاؤهم على أعمالهم الباطلة، وقوله: * (جهنم) * عطف بيان لقوله: * (جزاؤهم) * ثم بين تعالى أن ذلك الجزاء جزاء على مجموع أمرين: أحدهما: كفرهم. الثاني: أنهم أضافوا إلى
174

الكفر أن اتخذوا آيات الله واتخذوا رسله هزوا، فلم يقتصروا على الرد عليهم وتكذيبهم حتى استهزأوا بهم.
قوله تعالى
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا * خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد، ولما ذكر في الكفار أن جهنم نزلهم، أتبعه بذكر ما يرغب في الإيمان والعمل الصالح. فقال: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) *.
المسألة الثانية: عطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه وذلك يدل على أن الأعمال الصالحة مغايرة للإيمان.
المسألة الثالثة: عن قتادة الفردوس وسط الجنة وأفضلها، وعن كعب ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس، وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وعن مجاهد الفردوس هو البستان بالرومية، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة، ومنها الأنهار الأربعة والفردوس من فوقها، فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنها تتفجر أنهار الجنة ".
المسألة الرابعة: قال بعضهم إنه تعالى جعل الجنة بكليتها نزلا للمؤمنين والكريم إذا أعطى النزل أولا فلا بد أن يتبعه بالخلعة وليس بعد الجنة بكليتها إلا رؤية الله، فإن قالوا: أليس أنه تعالى جعل في الآية الأولى جملة جهنم نزلا الكافرين ولم يبق بعد جملة جهنم عذاب آخر، فكذلك ههنا جعل جملة الجنة نزلا للمؤمنين مع أنه ليس له شيء آخر بعد الجنة، والجواب: قلنا للكافر بعد حصول جهنم مرتبة أعلى منها وهو كونه محجوبا عن رؤية الله كما قال تعالى: * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم) * (المطففين: 15، 16) فجعل الصلاء بالنار متأخر في المرتبة عن كونه محجوبا عن الله، ثم قال تعالى: * (لا يبغون عنها حولا) * الحول التحول، يقال: حال من مكانه حولا كقوله عاد في حبها عودا يعني لا مزيد على سعادات الجنة وخيراتها حتى يريد أشياء غيرها، وهذا الوصف يدل على غاية الكمال لأن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت في السعادات فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها.
175

قوله تعالى
* (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا * قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص الأولين نبه على كمال حال القرآن فقال: * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي) * والمداد اسم لما تمد به الدواة من الحبر ولما يمد به السراج من السليط، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وكان البحر مدادا لها والمراد بالبحر الجنس لنفد قبل أن تنفد الكلمات، تقرير الكلام أن البحار كيفما فرضت في الاتساع والعظمة فهي متناهية ومعلومات الله غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي، قرأ حمزة والكسائي ينفد بالياء لتقدم الفعل على الجمع والباقون بالتاء لتأنيث كلمات، وروي أن حيي بن أخطب قال: في كتابكم: * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * (البقرة: 269) ثم تقرأون: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسراء: 85) فنزلت هذه الآية يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.
المسألة الثانية: احتج المخالفون على الطعن في قول أصحابنا أن كلام الله تعالى واحد بهذه الآية، وقالوا: إنها صريحة في إثبات كلمات الله تعالى وأصحابنا حملوا الكلمات على متعلقات علم الله تعالى، قال الجبائي: وأيضا قوله: * (قبل أن تنفد كلمات ربي) * يدل على أن كلمات الله تعالى قد تنفد في الجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه، وأيضا قال: * (لو جئنا بمثله مدادا) * وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه والذي يجاء به يكون محدثا والذي يكون المحدث مثلا له فهو أيضا محدث وجواب أصحابنا أن المراد منه الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية، واعلم أنه تعالى لما بين كمال كلام الله أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يسلك طريقة التواضع فقال: * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) * أي لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد، والآية تدل على مطلوبين: الأول: أن كلمة * (إنما) * تفيد الحصر
176

وهي قوله: * (إنما إلهكم إله واحد) *. والثاني: أن كون الإله تعالى: * (إلها واحدا) * يمكن إثباته بالدلائل السمعية، وقد قررنا هذين المطلوبين في سائر السور بالوجوه القوية، ثم قال: * (فمن كان يرجو لقاء ربه) * والرجاء هو ظن المنافع الواصلة إليه والخوف ظن المضار الواصلة إليه، وأصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله وهذه المناظرة قد تقدمت والعجب أنه تعالى أورد في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات: أولها:
قوله: * (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه) * (الكهف: 105). وثانيها: قوله: * (كانت لهم جنات الفردوس نزلا) * (الكهف: 107) وثالثها: قوله: * (فمن كان يرجو لقاء ربه) * ولا بيان أقوى من ذلك ثم قال: * (فليعمل عملا صالحا) * أي من حصل له رجاء لقاء الله فليشتغل بالعمل الصالح، ولما كان العمل الصالح قد يؤتي به لله وقد يؤتى به للرياء والسمعة لا جرم اعتبر فيه قيدان: أن يؤتى به لله، وأن يكون مبرأ عن جهات الشرك، فقال: * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *. قيل: نزلت هذه الآية في جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه أحد سرني " فقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله لا يقبل ما شورك فيه " وروي أيضا أنه قال له: " لك أجران أجر السر وأجر العلانية " فالرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة، والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدى به، والمقام الأول مقام المبتدئين، والمقام الثاني مقام الكاملين والحمد صلى الله عليه وسلم رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
177

سورة مريم عليها السلام
(وهي ثمان وتسعون آية مكية)
بسم الله الرحمن الرحيم
* (كهيعص) * قبل الخوض في القراءات لا بد من مقدمات ثلاثة. المقدمة الأولى:
أن حروف المعجم على نوعين ثنائي وثلاثي، وقد جرت عادة العرب أن ينطقوا بالثنائيات مقطوعة ممالة فيقولوا: با تا ثا وكذلك أمثالها، وأن ينطقوا بالثلاثيات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة فيقولوا دال ذال صاد ضاد وكذلك أشكالها، أما الزاي وحده من بين حروف المعجم فمعتاد فيه الأمران، فإن من أظهر ياءه في النطق حتى يصير ثلاثيا لم يمله، ومن لم يظهر ياءه في النطق حتى يشبه الثنائي يمله. أما المقدمة الثانية: ينبغي أن يعلم أن إشباع الفتحة في جميع المواضع أصل والإمالة فرع عليه ولهذا يجوز إشباع كل ممال ولا يجوز إمالة كل مشبع من الفتحات. المقدمة الثالثة: للقراء في القراءات المخصوصة بهذا الموضع ثلاثة طرق: أحدها: أن يتمسكوا بالأصل وهو إشباع فتحة الهاء والياء. وثانيها: أن يميلوا الهاء والياء. وثالثها: أن يجمعوا بين الأصل والفرع فيقع الاختلاف بين الهاء والياء فيفتحوا أحدهما أيهما كان ويكسروا الآخر ولهم في السبب الموجب لهذا الاختلاف قولان: الأول: أن الفتحة المشبعة أصل والإمالة فرع مشهور كثير الاستعمال فأشبع أحدهما وأميل الآخر ليكون جامعا لمراعاة الأصل والفرع وهو أحسن من مراعاة أحدهما وتضييع الآخر. القول الثاني: أن الثنائية من حروف المعجم إذا كانت مقطوعة كانت بالإمالة، وإذا كانت موصولة كانت بالإشباع وها ويا في قوله تعالى: * (كهيعص) * مقطوعان في اللفظ موصولان في الخط فأميل أحدهما وأشبع الآخر ليكون كلا الجانبين مرعيا جانب القطع اللفظي وجانب الوصل الخطي، إذا عرفت هذا فنقول فيه قراءات: إحداها: وهي القراءة المعروفة فيه فتحة الهاء والياء جميعا. وثانيها: كسر الهاء وفتح الياء وهي قراءة أبي عمرو وابن مبادر والقطعي عن أيوب، وإنما كسروا الهاء دون الياء ليكون فرقا بينه وبين الهاء الذي للتنبيه فإنه لا يكسر قط. وثالثها: فتح الهاء وكسر الياء وهو قراءة حمزة والأعمش وطلحة والضحاك عن عاصم، وإنما كسروا الياء دون الهاء، لأن الياء أخت الكسرة وإعطاء الكسرة أختها أولى من إعطائها إلى أجنبية مفتوحة للمناسبة. ورابعها: إمالتهما جميعا وهي قراءة الكسائي والمفضل ويحيى عن عاصم والوليد بن أسلم عن ابن عامر والزهري وابن جرير وإنما أمالوهما للوجهين المذكورين في إمالة الهاء وإمالة الياء. وخامسها: قراءة الحسن وهي ضم الهاء وفتح الياء، وعنه أيضا فتح الهاء وضم الياء، وروى صاحب " الكشاف " عن الحسن بضمهما، فقيل له لم تثبت هذه الرواية عن الحسن لأنه أورد ابن جنى في كتاب " المكتسب " أن قراءة الحسن ضم أحدهما وفتح الآخر لا على التعيين، وقال بعضهم: إنما أقدم الحسن على ضم أحدهما لا على التعيين لأنه تصور أن عين الفعل في الهاء والياء ألف منقلب عن الواو كالدار والمال، وذلك لأن هذه الألفات وإن كانت مجهولة لأنها لا اشتقاق لها فإنها تحمل على ما هو مشابه لها في اللفظ. والألف إذا وقع عينا فالواجب أن يعتقد أنه منقلب عن الواو لأن الغالب
178

في اللغة ذلك فلما تصور الحسن أن ألف الهاء والياء منقلب عن الواو جعله في حكم الواو وضم ما قبله لأن الواو أخت الضمة. وسادسها: ها يا بإشمامهما شيئا من الضمة.
المسألة الثالثة: قرأ أبو جعفر كهيعص يفصل الحروف بعضها من بعض بأدنى سكتة مع إظهار نون العين وباقي القراء يصلون الحروف بعضها ببعض ويخفون النون.
المسألة الثالثة: القراءة المعروفة صاد، ذكر بالإدغام، وعن عاصم ويعقوب بالإظهار.
البحث الثاني: المذاهب المذكورة في هذه الفواتح قد تقدمت لكن الذي يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى كهيعص ثناء من الله على نفسه، فمن الكاف وصفه بأنه كاف ومن الهاء هاد ومن العين عالم ومن الصاد صادق. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا أنه حمل الكاف على الكبير والكريم، ويحكى أيضا عنه أنه حمل الياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى، وعن الربيع بن أنس في الياء أنه من مجير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في العين أنه من عزيز ومن عدل، وهذه الأقوال ليست قوية لما بينا أنه لا يجوز من الله تعالى أن يودع كتابه ما لا تدل عليه اللغة لا بالحقيقة ولا بالمجاز لأنا إن جوزنا ذلك فتح علينا قول من يزعم أن لكل ظاهر باطنا، واللغة لا تدل على ما ذكروه فإنه ليست دلالة الكاف أولى من دلالته على الكريم أو الكبير أو على اسم آخر من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم أو الملائكة أو الجنة أو النار فيكون حمله على بعضها دون البعض تحكما لا تدل عليه اللغة أصلا.
قوله تعالى
* (ذكر رحمت ربك عبده زكريآ) *
فيه مسائل:
المسألة الأولى: في لفظة ذكر أربع قراءات صيغة المصدر أو الماضي مخففة أو مشددة أو الأمر، أما صيغة المصدر فلا بد فيها من كسر رحمة ربك على الإضافة ثم فيها ثلاثة أوجه: أحدها: نصب الدال من عبده والهمزة من زكرياء وهو المشهور. وثانيها: برفعهما والمعنى وتلك الرحمة هي عبده زكرياء عن ابن عامر. وثالثها: بنصب الأول وبرفع الثاني والمعنى رحمة ربك عبده وهو زكرياء. وأما صيغة الماضي بالتشديد فلا بد فيها من نصب رحمة. وأما صيغة الماضي بالتخفيف ففيها وجهان. أحدهما: رفع الباء من ربك والمعنى ذكر ربك عبده زكرياء. وثانيها: نصب الباء من ربك والرفع في عبده زكرياء وذلك بتقديم المفعول على الفاعل وهاتان القراءتان للكلبي، وأما صيغة الأمر فلا بد من نصب رحمة وهي قراءة ابن عباس. واعلم أن على تقدير جعله صيغة المصدر والماضي يكون التقدير هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك.
المسألة الثانية: يحتمل أن يكون المراد من قوله رحمة ربك أعني عبده زكرياء ثم في كونه رحمة وجهان: أحدهما: أن يكون رحمة على أمته لأنه هداهم إلى الإيمان والطاعات. والآخر: أن
179

يكون رحمة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمة محمد لأن الله تعالى لما شرح لمحمد صلى الله عليه وسلم طريقه في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى صار ذلك لفظا داعيا له ولأمته إلى تلك الطريقة فكان زكرياء رحمة، ويحتمل أن يكون المراد أن هذه السورة فيها ذكر الرحمة التي رحم بها عبدة زكرياء.
قوله تعالى
* (إذ نادى ربه ندآء خفيا) *
قوله تعالى: * (إذ نادى ربه نداء خفيا) * راعى سنة الله في إخفاء دعوته لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الإخفاء أولى لأنه أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص. وثانيها: أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في زمان الشيخوخة. وثالثها: أسره من مواليه الذين خافهم. ورابعها: خفي صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ صوته خفات وسمعه تارات، فإن قيل من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء وخفيا، والجواب من وجهين: الأول: أنه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلا أن الصوت كان ضعيفا لنهاية الضعف بسبب الكبر فكان نداء نظرا إلى قصده وخفيا نظرا إلى الواقع. الثاني: أنه دعا في الصلاة لأن الله تعالى أجابه في الصلاة لقوله تعالى: * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى) * (آل عمران: 39) فكون الإجابة في الصلاة يدل على كون الدعاء في الصلاة فوجب أن يكون النداء فيها خفيا.
قوله تعالى
* (قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعآئك رب شقيا * وإني خفت الموالى من ورآئى وكانت امرأتى عاقرا فهب لى من لدنك وليا * يرثنى ويرث من ءال يعقوب واجعله رب رضيا) *
القراءة فيها مسائل:
المسألة الأولى: قرىء * (وهن) * بالحركات الثلاث.
المسألة الثانية: إدغام السين في الشين (من الرأس شيبا) عن أبي عمرو.
المسألة الثالثة: * (وإني خفت الموالي) * بفتح الياء وعن الزهري بإسكان الياء من الموالي وقرأ عثمان وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وسعيد بن جبير وزيد بن ثابت وابن عباس خفت بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر التاء وهذا يدل على معنيين: أحدهما: أن يكون ورائي بمعنى بعدي والمعنى
180

أنهم قلوا وعجزوا عن إقامة الدين بعده فسأل ربه تقويتهم بولي يرزقه. والثاني: أن يكون بمعنى قدامي والمعنى أنهم خفوا قدامه ودرجوا ولم يبق من به تقو واعتضاد.
المسألة الرابعة: القراءة المعروفة: * (من ورائي) * بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة وعن حميد بن مقسم كذلك لكن بفتح الياء وقرأ ابن كثير * (وراي) * كعصاي.
المسألة الخامسة: من يرثني ويرث وجوه: أحدها: القراءة المعروفة بالرفع فيهما صفة. وثانيها: وهي قراءة أبي عمرو والكسائي والزهري والأعمش وطلحة بالجزم فيهما جوابا للدعاء. وثالثها: عن علي ابن أبي طالب وابن عباس وجعفر بن محمد والحسن وقتادة: * (يرثني) * جزم وارث بوزن فاعل. ورابعها: عن ابن عباس: * (يرثني) * وارث من آل يعقوب. وخامسها: عن الجحدري * (ويرث) * تصغير وارث على وزن أفيعل (اللغة) الوهن ضعف القوة قال في " الكشاف " شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وأنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه كل مأخذ كاشتعال النار ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا فمن ثم فصحت هذه الجملة، وأما الدعاء فطلب الفعل ومقابله الإجابة كما أن مقابل الأمر الطاعة، وأما أصل التركيب في (ولي) فيدل على معنى القرب والدنو يقال وليته أليه وليا أي دنوت وأوليته أدنيته منه وتباعد ما بعده وولي ومنه قول ساعدة (ابن جؤبة): وعدت عواد دون وليك تشغب
وكل مما يليك وجلست مما ايليه ومنه الولي وهو المطر الذي يلي الوسمي، والولية البرذعة لأنها تلي ظهر الدابة وولي اليتيم والقتيل وولي البلد لأن من تولى أمرا فقد قرب منه، وقوله تعالى: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * من قولهم ولاه بركنه أي جعله مما يليه، أما ولي عني إذا أدبر فهو من باب تثقيل الحشو للسلب
وقولهم فلان أولى من فلان أي أحق أفعل التفضيل من الوالي أو الولي كالأدنى والأقرب من الداني والقريب وفيه معنى القرب أيضا لأن من كان أحق بالشيء كان أقرب إليه والمولى اسم لموضع الولي كالمرمى والمبني اسم لموضع والمرمي والبناء، وأما العاقر فهي التي لا تلد والعقر في اللغة الجرح ومنه أخذ العاقر لأنه نقص أصل الخلقة وعقرت الفرس بالسيف إذا ضربت قوائمه، وأما الآل فهم خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم إليه ثم قد يؤول أمرهم إليه للقرابة تارة وللصحبة أخرى كآل فرعون وللموافقة في الدين كآل النبي صلى الله عليه وسلم واعلم أن زكرياء عليه السلام قدم على السؤال أمورا ثلاثة: أحدها: كونه ضعيفا. والثاني: أن الله تعالى ما رد دعاءه البتة. والثالث: كون المطلوب بالدعاء سببا للمنفعة في الدين ثم بعد تقرير هذه الأمور الثلاثة صرح بالسؤال. أما المقام الأول: وهو كونه ضعيفا فأثر الضعف،
181

إما أن يظهر في الباطن أو في الظاهر، والضعف الذي يظهر في الباطن يكون أقوى مما يظهر في الظاهر فلهذا السبب ابتدأ ببيان الضعف الذي في الباطن وهو قوله: * (وهن العظم مني) * وتقريره هو أن العظام أصلب الأعضاء التي في البدن وجعلت كذلك لمنفعتين: إحداهما: لأن تكون أساسا وعمدا يعتمد عليها سائر الأعضاء الأخر إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام والحامل يجب أن يكون أقوى من المحمول. والثانية: أنه احتيج إليها في بعض المواضع لأن تكون جنة يقوى بها ما سواها من الأعضاء بمنزلة قحف الرأس وعظام الصدر، وما كان كذلك فيجب أن يكون صلبا ليكون صبورا على ملاقاة الآفات بعيدا من القبول لها إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان العظم أصلب الأعضاء فمتى وصل الأمر إلى ضعفها كان ضعف ما عداها مع رخاوتها أولى، ولأن العظم إذا كان حاملا لسائر الأعضاء كان تطرق الضعف إلى الحامل موجبا لتطرقه إلى المحمول فلهذا السبب خص العظم بالوهن من بين سائر الأعضاء وأما أثر الضعف في الظاهر فذلك استيلاء الشيب على الرأس فثبت أن هذا الكلام يدل على استيلاء الضعف على الباطن والظاهر وذلك مما يزيد الدعاء توكيدا لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة. المقام الثاني: أنه ما كان مردود الدعاء البتة ووجه التوسل به من وجهين: أحدهما: ما روي أن محتاجا سأل واحدا من الأكابر وقال: أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا، فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا ثم قضى حاجته. وذلك أنه إذا قبله أولا فلو أنه رده ثانيا لكان الرد محبطا للأنعام الأول والمنعم لا يسعى في إحباط أنعامه. والثاني: وهو أن مخالفة العادة شاقة على النفس فإذا تعود الإنسان إجابة الدعاء فلو صار مردودا بعد ذلك لكان في غاية المشقة ولأن الجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشق فقال زكرياء عليه السلام إنك ما رددتني في أول الأمر مع أني ما تعودت لطفك وكنت قوي البدن قوي القلب فلو رددتني الآن بعد ما عودتني القبول مع نهاية ضعفي لكان ذلك بالغا إلى الغاية القصوى في ألم القلب، واعلم أن العرب تقول سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي بها إذا خاب ولم ينلها ومعنى بدعائك أي بدعائي إياك فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى. المقام الثالث: بيان كون المطلوب منتفعا به في الدين وهو قوله: * (وإني خفت الموالي من ورائي) * وفيه أبحاث: الأول: قال ابن عباس والحسن: إني خفت الموالي أي الورثة من بعدي وعن مجاهد العصبة وعن أبي صالح الكلالة وعن الأصم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب وعن أبي مسلم المولي يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو ههنا من يقوم بميراثه مقام الولد، والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين فقد كانت العادة جارية أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب فإنه كان متعينا في الحياة. الثاني: اختلفوا في خوفه من الموالي فقال بعضهم: خافهم على إفساد الدين، وقال بعضهم بل خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في مال وغيره مع أنه عرف من حالهم قصورهم في
182

العلم والقدرة عن القيام بذلك المنصب، وفيه قول ثالث وهو أنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبي له أب إلا واحد فخاف أن يكون ذلك من بني عمه إذ لم يكن له ولد فسأل الله تعالى أن يهب له ولدا يكون هو ذلك النبي، وذلك يقتضي أن يكون خائفا من أمر يهتم بمثله الأنبياء وإن لم يدل على تفصيل ذلك. ولا يمتنع أن زكرياء كان إليه مع النبوة السياسة من جهة الملك وما يتصل بالإمامة فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما. أما قوله: * (وإني خفت) * فهو وإن خرج على لفظ الماضي لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضا، كذلك يقول الرجل قد خفت أن يكون كذا وخشيت أن يكون كذا أي أنا خائف لا يريد أنه قد زال الخوف عنه وهكذا قوله: * (وكانت امرأتي عاقرا) * أي أنها عاقر في الحال وذلك لأن العاقر لا تحول ولودا في العادة ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلام بتقادم العهد في ذلك وغرض زكرياء من هذا الكلام بيان استبعاد حصول الولد فكان إيراده بلفظ الماضي أقوى وإلى هذا يرجع الأمر في قوله: وإني خفت الموالي من ورائي لأنه إنما قصد به الإخبار وعن تقادم الخوف ثم استغنى بدلالة الحال وما يوجب مسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال وأيضا فقد يوضع الماضي مكان المستقبل وبالعكس قال الله تعالى: * (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس) * (المائدة: 116) والله أعلم وأما قوله من ورائي ففيه قولان: الأول: قال أبو عبيدة أي قدامي وبين يدي وقال آخرون أي بعد موتي وكلاهما محتمل فإن قيل كيف خافهم من بعده وكيف علم أنهم يبقون بعده فضلا من أن يخاف شرهم؟ قلنا: إن ذلك قد يعرف بالأمارات والظن وذلك كاف في حصول الخوف فربما عرف ببعض الإمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد والشر واختلف في تفسير قوله: * (فهب لي من لدنك وليا) * فالأكثرون على أنه طلب الولد وقال آخرون بل طلب من يقوم مقامه ولدا كان أو غيره والأقرب هو الأول لثلاثة أوجه. الأول: قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه: * (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) * (آل عمران: 38). والثاني: قوله في هذه السورة: * (هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) *. والثالث: قوله تعالى في سورة الأنبياء: * (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا) * (الأنبياء: 89) وهذا يدل على أنه سأل الولد لأنه قد أخبر في سورة مريم أن له موالي وأنه غير منفرد عن الورثة وهذا وإن أمكن حمله على وارث يصلح أن يقوم مقامه لكن حمله على الولد أظهر واحتج أصحاب القول الثالث بأنه لما بشر بالولد استعظم على سبيل التعجب فقال أنى يكون لي غلام ولو كان دعاؤه لأجل الولد لما استعظم ذلك. " الجواب ": أنه عليه السلام سأل عما يوهب له أيوهب له وهو وامرأته على هيئتهما أو يوهب بأن يحولا شابين يكون لمثلهما ولد؟ وهذا يحكي عن الحسن وقال غيره إن قول زكرياء عليه السلام في الدعاء: * (وكانت امرأتي عاقرا) * إنما هو على معنى مسألته ولدا من غيرها أو منها بأن يصلحها الله للولد فكأنه عليه السلام قال إني أيست أن يكون لي منها ولد فهب لي من
لدنك وليا كيف شئت إما بأن تصلحها فيكون الولد منها أو بأن
183

تهب لي من غيرها فلما بشر بالغلام سأل أيرزق منها أو من غيرها فأخبر بأنه يرزق منها واختلفوا في المراد بالميراث على وجوه. أحدها: أن المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال وهذا قول ابن عباس والحسن والضحاك. وثانيها: أن المراد به في الموضعين وراثة النبوة وهو قول أبي صالح. وثالثها: يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوة وهو قول السدي ومجاهد والشعبي وروي أيضا عن ابن عباس والحسن والضحاك. ورابعها: يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوة وهو مروي عن مجاهد واعلم أن هذه الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة وهي المال ومنصب الحبورة والعلم والنبوة والسيرة الحسنة ولفظ الإرث مستعمل في كلها أما في المال فلقوله تعالى: * (أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) * وأما في العلم فلقوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب) * (غافر: 53) وقال عليه السلام: " العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم " وقال تعالى: * (ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين * وورث سليمان داود) * (النمل: 15، 6) وهذا يحتمل وراثة الملك ووراثة النبوة وقد يقال أورثني هذا غما وحزنا، وقد ثبت أن اللفظ محتمل لتلك الوجوه. واحتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر والمعقول أما الخبر فقوله عليه السلام: " رحم الله زكريا ما كان له من يرثه " وظاهره يدل على أن المراد إرث المال وأما المعقول فمن وجهين. الأول: أن العلم والسيرة والنبوة لا تورث بل لا تحصل إلا بالاكتساب فوجب حمله على المال. الثاني: أنه قال * (واجعله رب رضيا) * ولو كان المراد من الإرث إرث النبوة لكان قد سأل جعل النبي صلى الله عليه وسلم رضيا وهو غير جائز لأن النبي لا يكون إلا رضيا معصوما، وأما قوله عليه السلام: " إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " فهذا لا يمنع أن يكون خاصا به واحتج من حمله على العلم أو المنصب والنبوة بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد بأمر المال كما يشتد بأمر، وقيل لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين فلهذا كان مهتما به أما قوله النبوة كيف تورث قلنا المال إنما يقال ورثه الابن بمعنى قام فيه مقام أبيه وحصل له من فائدة التصرف فيه ما حصل لأبيه وإلا فملك المال من قبل الله لا من قبل المورث فكذلك إذا كان المعلوم في الابن أن يصير نبيا بعده فيقوم بأمر الدين بعده جاز أن يقال ورثه أما قوله عليه السلام: " إنا معشر الأنبياء " فهذا وإن جاز حمله على الواحد كما في قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * (الحجر: 9) لكنه مجاز وحقيقته الجمع والعدول عن الحقيقة من غير موجب لا يجوز لا سيما وقد روي قوله: " إنا معاشر الأنبياء لا نورث " والأولى أن يحمل ذلك على كل ما فيه نفع وصلاح في الدين وذلك يتناول النبوة والعلم والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدين والمال الصالح، فإن كل هذه الأمور مما يجوز توفر الدواعي على بقائها ليكون ذلك النفع دائما مستمرا. السابع: اتفق أكثر المفسرين على أن يعقوب ههنا هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام لأن زوجة زكرياء هي أخت مريم وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب وأما زكرياء
184

عليه السلام فهو من ولد هارون أخي موسى عليه السلام وهارون وموسى عليهما السلام من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحاق وكانت النبوة في سبط يعقوب لأنه هو إسرائيل صلى الله عليه وسلم وقال بعض المفسرين ليس المراد من يعقوب ههنا ولد إسحق بن إبراهيم عليه السلام بل يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكرياء وهذا قول الكلبي ومقاتل. وقال الكلبي كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا رأس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده حبورته ويرث من بني ماثان ملكهم، واعلم أنهم ذكروا في تفسير الرضى وجوها. أحدها: أن المراد واجعله رضيا من الأنبياء وذلك لأن كلهم مرضيون فالرضي منهم مفضل على جملتهم فائق لهم في كثير من أمورهم فاستجاب الله تعالى له ذلك فوهب له سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين لم يعص ولم يهم بمعصية، وهذا غاية ما يكون به المرء رضيا. وثانيها: المراد بالرضي أن يكون رضيا في أمته لا يتلقى بالتكذيب ولا يواجه بالرد. وثالثها: المراد بالرضي أن لا يكون متهما في شيء ولا يوجد فيه مطعن ولا ينسب إليه شيء من المعاصي. ورابعها: أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قالا في الدعاء: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * (البقرة: 182) وكانا في ذلك الوقت مسلمين، وكأن المراد هناك ثبتنا على هذا أو المراد اجعلنا فاضلين من أنبيائك المسلمين فكذا ههنا واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأفعال بهذه الآية لأنه إنما يكون رضيا بفعله، فلما سأل الله تعالى جعله رضيا دل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى. فإن قيل: المراد منه أن يلطف له بضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضيا فينسب ذلك إلى الله تعالى. والجواب من وجهين: الأول: أن جعله رضيا لو حملناه على جعل الألطاف وعندها يصير المرء باختياره رضيا لكان ذلك مجازا وهو خلاف الأصل. والثاني: أن جعل تلك الألطاف واجبة على الله تعالى لا يجوز الإخلال به وما كان واجبا لا يجوز طلبه بالدعاء والتضرع.
قوله تعالى
* (يا زكريآ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) *
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في من المنادي بقوله: يا زكريا، فالأكثرون على أنه هو الله تعالى وذلك لأن ما قبل هذه الآية يدل على أن زكريا عليه السلام إنما كان يخاطب الله تعالى ويسأله وهو قوله: * (رب إني وهن العظم مني) * (مريم: 4) وقوله: * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) * (مريم: 4) وقوله: * (فهب لي) * (مريم: 5) وما بعدها يدل على أنه كان يخاطب الله تعالى وهو يقول: * (رب أنى يكون لي غلام) * إذا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها خطابا مع الله تعالى وجب أن يكون النداء من الله تعالى وإلا لفسد النظم، ومنهم من قال هذا نداء الملك واحتج عليه بوجهين. الأول: قوله تعالى في سورة آل عمران: * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى) * (آل عمران: 39). الثاني: أن زكريا
185

عليه السلام لما قال: * (أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا، قال كذلك قال ربك هو علي هين) * (مريم: 8، 9) وهذا لا يجوز أن
يكون كلام الله فوجب أن يكون كلام الملك. والجواب عن الأول: أنه يحتمل أن يقال حصل النداءان نداء الله ونداء الملائكة. وعن الثاني: أنا نبين إن شاء تعالى أن قوله: * (قال كذلك قال ربك هو علي هين) * يمكن أن يكون كلام الله.
المسألة الثانية؛ فإن قيل إن كان الدعاء بإذن فما معنى البشارة، وإن كان بغير إذن فلماذا أقدم عليه؟ والجواب هذا أمر يخصه فيجوز أن يسأل بغير إذن، ويحتمل أنه أذن له فيه ولم يعلم وقته فبشر به.
المسألة الثالثة: اختلف المفسرون في قوله: * (لم نجعل له من قبل سميا) * على وجهين: أحدهما: وهو قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة أنه لم يسم أحد قبله بهذا الاسم. الثاني: أن المراد بالسمي النظير كما في قوله: * (هل تعلم له سميا) * (مريم: 65) واختلفوا في ذلك على وجوه. أحدها: أنه سيد وحصور لم يعص ولم يهم بمعصية كأنه جواب لقوله: * (واجعله رب رضيا) * (مريم: 6) فقيل له إنا نبشرك بغلام لم نجعل له من قبل شبيها في الدين، ومن كان هكذا فهو في غاية الرضا. وهذا الوجه ضعيف لأنه يقتضي تفضيله على الأنبياء الذين كانوا قبله كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وذلك باطل بالإتفاق. وثانيها: أن كل الناس إنما يسميهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود، وأما يحيى عليه السلام فإن الله تعالى هو الذي سماه قبل دخوله في الوجود فكان ذلك من خواصه فلم يكن له مثل وشبيه في هذه الخاصية. وثالثها: أنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر، واعلم أن الوجه الأول أولى وذلك لأن حمل السمي على النظير وإن كان يفيد المدح والتعظيم ولكنه عدول عن الحقيقة من غير ضرورة وإنه لا يجوز، وأما قول الله تعالى: * (هل تعلم له سميا) * فهناك إنما عدلنا عن الظاهر لأنه قال: * (فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) * (مريم: 65) ومعلوم أن مجرد كونه تعالى مسمى بذلك الاسم لا يقتضي وجوب عبادته، فلهذه العلة عدلنا عن الظاهرة، أما ههنا لا ضرورة في العدول عن الظاهر فوجب اجراؤه عليه ولأن في تفرده بذلك الاسم ضربا من التعظيم لأنا نشاهد أن الملك إذا كان له لقب مشهور فإن حاشيته لا يتلقبون به بل يتركونه تعظيما له فكذلك ههنا.
المسألة الرابعة: في أنه عليه السلام سمي بيحيى روى الثعلبي فيه وجوها. أحدها: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحيا به عقر أمه. وثانيها: عن قتادة أن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة والله تعالى سمى المطيع حيا والعاصي ميتا بقوله تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * (الأنعام: 122) وقال: * (إذا دعاكم لما يحييكم) * (الأنفال: 24). وثالثها: إحياؤه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية لما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد إلا وقد عصى أو هم إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها ". ورابعها: عن أبي القاسم بن حبيب أنه استشهد وأن الشهداء أحياء عند ربهم لقوله تعالى: * (بل أحياء عند ربهم) * (آل عمران: 169). وخامسها: ما قاله
186

عمرو بن عبد الله المقدسي: أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن قل ليسارة، وكان اسمها كذلك، بأني مخرج منها عبدا لا يهم بمعصية اسمه حيي. فقال: هبي له من اسمك حرفا فوهبته حرفا من اسمها فصار يحيى وكان اسمها يسارة فصار اسمها سارة. وسادسها: أن يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى فصار قلبه حيا بذلك الإيمان وذلك أن أم يحيى كانت حاملا به فاستقبلتها مريم وقد حملت بعيسى فقالت لها أم يحيى: يا مريم أحامل أنت؟ فقالت: لماذا تقولين؟ فقالت: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. وسابعها: أن الدين يحيا به لأنه إنما سأله زكريا لأجل الدين، واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأن أسماء الألقاب لا يطلب فيها وجه الإشتقاق، ولهذا قال أهل التحقيق أسماء الألقاب قائمة مقام الإشارات وهي لا تفيد في المسمى صفة البتة.
قوله تعالى
* (قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي عتيا وصليا وجثيا وبكيا بكسر العين والصاد والجيم والباء، وقرأ حفص عن عاصم بكيا بالضم والباقي بالكسر والباقون جميعا بالضم، وقرأ ابن مسعود بفتح العين والصاد من عتيا وصليا. وقرأ أبي بن كعب وابن عباس عسيا بالسين غير المعجمة والله أعلم.
المسألة الثانية: في الألفاظ وهي ثلاثة: الأول: الغلام الإنسان الذكر في ابتداء شهوته للجماع ومنه اغتلم إذا اشتدت شهوته للجماع ثم يستعمل في التلميذ يقال: غلام ثعلب. الثاني: العتي والعبسي واحد تقول عتا يعتو عتوا وعتيا فهو عات وعسا يعسو عسوا وعسيا فهو عاص والعاسي هو الذي غيره طول الزمان إلى حال البؤس وليل عات طويل وقيل شديد الظلمة. الثالث: لم يقل عاقرة لأن ما كان على فاعل من صفة المؤنث مما لم يكن للمذكر فإنه لا تدخل فيه الهاء نحو امرأة عاقر وحائض قال الخليل: هذه الصفات مذكرة وصف بها المؤنث كما وصفوا المذكر بالمؤنث حين قالوا: رجل ملحة وربعة وغلام نفعة. المسألة الثالثة: في هذه الآية سؤالان: الأول: أن زكريا عليه السلام لم تعجب بقوله: * (أنى يكون لي غلام) * مع أنه هو الذي طلب الغلام؟ السؤال الثاني: أن قوله أنى يكون لي غلام لم يكن هذا مذكورا بين أمته لأنه كان يخفي هذه الأمور عن أمته فدل على أنه ذكره في نفسه، وهذا التعجب يدل على كونه شاكا في قدرة الله تعالى على ذلك وذلك كفر وهو غير جائز على الأنبياء عليهم
187

السلام. والجواب عن السؤال الأول: أما على قول من قال إنه لم يطلب خصوص الولد فالسؤال زائل، وأما على قول من قال إنه طلب الولد فالجواب عنه أن المقصود من قوله: * (أنى يكون لي غلام) * هو التعجب من أنه تعالى يجعلهما شابين ثم يرزقهما الولد أو يتركهما شيخين ويرزقهما الولد مع الشيخوخة بطريق الاستعلام لا بطريق التعجب، والدليل عليه قوله تعالى: * (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه) * (
الأنبياء: 89، 90) وما هذا الإصلاح إلا أنه أعاد قوة الولادة وقد تقدم تقرير هذا الكلام، وذكر السدي في الجواب وجها آخر فقال: إنه لما سمع النداء بالبشارة جاءه الشيطان فقال: إن هذا الصوت ليس من الله تعالى بل هو من الشيطان يسخر منك، فلما شك زكريا قال: * (أنى يكون لي غلام) * واعلم أن غرض السدي من هذا أن زكريا عليه السلام لو علم أن المبشر بذلك هو الله تعالى لما جاز له أن يقول ذلك فارتكب هذا، وقال بعض المتكلمين هذا باطل قطعا إذ لو جوز الأنبياء في بعض ما يرد عن الله تعالى أنه من الشيطان لجوزوا في سائره ولزالت الثقة عنهم في الوحي وعنا فيما يوردونه إلينا ويمكن أن يجاب عنه بأن هذا الاحتمال قائم في أول الأمر وإنما يزول بالمعجزة فلعل المعجزة لم تكن حاصلة في هذه الصورة فحصل الشك فيها دون ما عداها والله أعلم، والجواب عن السؤال الثاني من وجوه: الأول: أن قوله: * (إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى) * (مريم: 7) ليس نصا في كون ذلك الغلام ولدا له بل يحتمل أن زكريا عليه السلام راعى الأدب ولم يقل هذا الكلام هل يكون لي ولد أم لا، بل ذكر أسباب تعذر حصول الولد في العادة حتى أن تلك البشارة إن كانت بالولد فالله تعالى يزيل الإبهام ويجعل الكلام صريحا فلما ذكر ذلك صرح الله تعالى بكون ذلك الولد منه فكان الغرض من كلام زكريا هذا لا أنه كان شاكا في قدرة الله تعالى عليه. الثاني: أنه ما ذكر ذلك للشك لكن على وجه التعظيم لقدرته وهذا كالرجل الذي يرى صاحبه قد وهب الكثير الخطير فيقول أنى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك! تعظيما وتعجبا. الثالث: أن من شأن من بشر بما يتمناه أن يتولد له فرط السرور به عند أول ما يرد علي استثبات ذلك الكلام إما لأن شدة فرحه به توجب ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت بإسحاق قالت: * (أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب) * (هود: 72) فأزيل تعجبها بقوله: * (أتعجبين من أمر الله) * (هود: 73) وإما طلبا للالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى، وإما مبالغة في تأكيد التفسير.
قوله تعالى
* (قال كذلك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (قال ربك هو هين) * وجوه. أحدها: أن الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديقا له ثم ابتدأ قال ربك. وثانيها: نصب يقال وذلك إشارة إلى مبهم تفسيره
188

هو علي هين وهو كقوله تعالى: * (وقضينا إليك ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) * (الحجر: 66) وثالثها؛ أن المراد لا تعجب فإنه كذلك قال ربك لا خلف في قوله ولا غلط ثم قال بعده هو علي هين بدليل خلقتك من قبل ولم تك شيئا. ورابعها: أن اذكرنا أن قوله أنى يكون لي غلام معناه تعطيني الغلام بأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة ومع ذلك تعطينا الولد، وقوله: * (كذلك قال ربك) * أي نهب الولد مع بقائك وبقاء زوجتك على الحاصلة في الحال.
المسألة الثانية؛ قرأ الحسن وهو علي هين وهذا لا يخرج إلا على الوجه الأول أي الأمر كما قلت ولكن قال ربك هو مع ذلك علي هين.
المسألة الثالثة: إطلاق لفظ الهين في حق الله تعالى مجاز لأن ذلك إنما يجوز في حق من يجوز أن يصعب عليه شيء ولكن المراد أنه إذا أراد شيئا كان.
المسألة الرابعة: في وجه الاستدلال بقوله تعالى: * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) * فنقول: إنه لما خلقه من العدم الصرف والنفي المحض كان قادرا على خلق الذوات والصفات والآثار وأما الآن فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات والقادر على خلق الذوات والصفات والآثار معا أولى أن يكون قادرا على تبديل الصفات وإذا أوجده عن عدم فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوة التي عنها يتولد الماءان اللذان من اجتماعهما يخلق الولد ولذلك قال: * (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه) * (الأنبياء: 90) فهذا وجه الاستدلال.
المسألة الخامسة: الجمهور على أن قوله قال كذلك قال ربك يقتضي أن القائل لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله: * (يا زكريا إنا نبشرك) * (مريم: 7) قول الله تعالى وقوله: * (هو علي هين) * قول الله تعالى وهذا بعيد لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى فكيف يصح إدراج هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين، والأولى أن يقال قائل هذا القول أيضا هو الله تعالى كما أن الملك العظيم إذا وعد عبده شيئا عظيما فيقول العبد من أين يحصل لي هذا فيقول إن سلطانك ضمن لك ذلك كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطانا مما يوجب عليه الوفاء بالوعد فكذا ههنا.
قوله تعالى
* (قال رب جعل لى ءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم طلب الآية لتحقيق البشارة وهذا بعيد لأن بقول الله تعالى قد تحققت البشارة فلا يكون إظهار الآية أقوى من ذلك من صريح القول وقال آخرون: البشارة بالولد وقعت مطلقة فلا يعرف وقتها بمجرد البشارة فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوع وهذا هو الحق.
189

المسألة الثانية: اتفقوا على أن تلك الآية هي تعذر الكلام عليه فإن مجرد السكوت مع القدرة على الكلام لا يكون معجزة ثم اختلفوا على قولين: أحدهما: أنه اعتقل لسانه أصلا. والثاني: أنه امتنع عليه الكلام مع القوم على وجه المخاطبة مع أنه كان متمكنا من ذكر الله ومن قراءة التوراة وهذا القول عندي أصح لأن اعتقال اللسان مطلقا قد يكون لمرض وقد يكون من فعل الله فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزا إلا إذا عرف أنه ليس لمرض بل لمحض فعل الله تعالى مع سلامة الآلات وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام مع القوم مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءة التوراة علم
بالضرورة أن ذلك الاعتقال ليس لعلة ومرض بل هو لمحض فعل الله فيتحقق كونه آية ومعجزة ومما يقوي ذلك قوله تعالى: * (آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) * خص ذلك بالتكلم مع الناس وهذا يدل بطريق المفهوم أنه كان قادرا على التكلم مع غير الناس.
المسألة الثالثة: اختلفوا في معنى * (سويا) * فقال بعضهم: هو صفة لليالي الثلاث وقال أكثر المفسرين هو صفة لزكريا والمعنى: آيتك أن لا تكلم الناس في هذه المدة مع كونك سويا لم يحدث بك مرض.
قوله تعالى
* (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (فخرج على قومه من المحراب) * قيل كان له موضع ينفرد فيه بالصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه فعند ذلك أوحى إليهم، وقيل: كان موضعا يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه وأنهم اجتمعوا ينتظرون خروجه للإذن فخرج إليهم وهو لا يتكلم فأوحى إليهم.
المسألة الثانية: لا يجوز أن يكون المراد من قوله أوحى إليهم الكلام لأن الكلام كان ممتنعا عليه فكان المراد غير الكلام وهو أن يعرفهم ذلك إما بالإشارة أو برمز مخصوص أو بكتابة لأن كل ذلك يفهم منه المراد فعلموا أنه قد كان ما بشر به فكما حصل السرور له حصل لهم فظهر لهم إكرام الله تعالى له بالإجابة، واعلم أن الأشبه بالآية هو الإشارة لقوله تعالى في سورة آل عمران: * (ثلاثة أيام إلا رمزا) * (آل عمران: 41) والرمز لا يكون كناية للكلام.
المسألة الثالثة: اتفق المفسرون على أنه أراد بالتسبيح الصلاة وهو جائز في اللغة يقال: سبحه الضحى أي صلاة الضحى وعن عائشة رضي الله عنها في صلاة الضحى: " إني لأسبحها " أي لأصليها إذا ثبت هذا فنقول روي عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشي صلاة العصر
190

ويحتمل أن يكون إنما كانوا يصلون معه في محرابه هاتين الصلاتين فكان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه، فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته فأذن لهم بغير كلام والله أعلم.
قوله تعالى
* (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكوة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) *
اعلم أنه تعالى وصف * (يحيى) * في هذه الآية بصفات تسع: الصفة الأولى: كونه مخاطبا من الله تعالى بقوله: * (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن قوله: * (يا يحيى خذ الكتاب) * يدل على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك فحذف ذكره لدلالة الكلام عليه.
المسألة الثانية: الكتاب المذكور يحتمل أن يكون هو التوراة التي هي نعمة الله على بني إسرائيل لقوله تعالى: * (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) * (الجاثية: 16) ويحتمل أن يكون كتابا خص الله به يحيى كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك والأول أولى لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ولا معهود ههنا إلا التوراة.
المسألة الثالثة: قوله: * (بقوة) * ليس المراد منه القدرة على الأخذ لأن ذلك معلوم لكل أحد فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهي عنه. الصفة الثانية: قوله تعالى: * (وآتيناه الحكم صبيا) * اعلم أن في الحكم أقوالا. الأول: أنه الحكمة ومنه قول الشاعر: وحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت * إلى حمام سراع وارد الثمد
وهو الفهم في التوراة والفقه في الدين. والثاني: وهو قول معمر أنه العقل روي أنه قال ما للعب خلقنا. والثالث: أنه النبوة فإن الله تعالى أحكم عقله في صباه وأوحى إليه وذلك لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام وهما صبيان لا كما بعث موسى ومحمدا عليهما السلام، وقد بلغا الأشد والأقرب حمله على النبوة لوجهين: الأول: أن الله تعالى ذكر في هذه الآية صفات شرفه ومنقبته ومعلوم أن النبوة أشرف صفات الإنسان فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها فوجب أن تكون نبوته مذكورة في هذه الآية ولا لفظ يصلح للدلالة على النبوة إلا هذه
191

اللفظة فوجب حملها عليها. الثاني: أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره ولغيره على الإطلاق وذلك لا يكون إلا بالنبوة فإن قيل كيف يعقل حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا؟ قلنا: هذا السائل، إما أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع منه، فإن منع منه فقد سد باب النبوات لأن بناء الأمر فيها على المعجزات ولا معنى لها إلا خرق العادات، وإن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلا أشد من استبعاد انشقاق القمر وانفلاق البحر. الصفة الثالثة؛ قوله تعالى: * (وحنانا من لدنا) * اعلم أن الحنان أصله من الحنين وهو الارتياح والجزع للفراق كما يقال: حنين الناقة وهو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها ذكر الخليل ذلك في الحديث: " أنه عليه السلام كان يصلي إلى جذع من المسجد فلما اتخذ له المنبر وتحول إليه حنت تلك الخشبة حتى سمع حنينها ". فهذا هو الأصل ثم قيل: تحنن فلان على فلان إذا تعطف عليه ورحمه، وقد اختلف الناس في وصف الله بالحنان فأجازه بعضهم، وجعله بمعنى الرؤوف الرحيم، ومنهم من أباه لما يرجع إليه أصل الكلمة قالوا: لم يصح الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى، إذا عرفت هذا فنقول: الحنان هنا فيه وجهان. أحدهما: أن يجعل صفة لله. وثانيهما: أن يجعل صفة ليحيى أما إذا جعلناه صفة لله تعالى فنقول: التقدير وآتيناه الحكم حنانا أي رحمة منا، ثم ههنا احتمالات: الأول: أن يكون الحنان من الله ليحيى، المعنى: آتيناه الحكم صبيا، ثم قال: * (وحنانا من لدنا) * أي إنما آتيناه الحكم صبيا حنانا من لدنا عليه أي رحمة عليه وزكاة أي وتزكية له وتشريفا له. الثاني: أن يكون الحنان من الله
تعالى لزكريا عليه السلام فكأنه تعالى قال: إنما استجبنا لزكريا دعوته بأن أعطيناه ولدا ثم آتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا عليه أي على زكريا فعلنا ذلك. * (وزكاة) * أي وتزكية له عن أن يصير مردود الدعاء. والثالث: أن يكون الحنان من الله تعالى لأمة يحيى عليه السلام كأنه تعالى قال: * (وآتيناه الحكم صبيا وحنانا) * منا على أمته لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده، أما إذا جعلناه صفة ليحيى عليه السلام ففيه وجوه. الأول: آتيناه الحكم والحنان على عبادنا أي التعطف عليهم وحسن النظر على كافتهم فيما أوليه من الحكم عليهم كما وصف نبيه فقال: * (فبما رحمة من الله لنت لهم) * (آل عمران: 159) وقال: * (حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (التوبة: 128) ثم أخبر تعالى أنه آتاه زكاة، ومعناه أن لا تكون شفقته داعية له إلى الإخلال بالواجب لأن الرأفة واللين ربما أورثا ترك الواجب ألا ترى إلى قوله تعالى: * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) * (النور: 2) وقال: * (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) * (التوبة: 123) وقال: * (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) * (المائدة: 54) فالمعنى إنما جعلنا له التعطف على عباد الله مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات، ويحتمل آتيناه التعطف على الخلق والطهارة عن المعاصي فلم يعص ولم يهم بمعصية، وفي الآية وجه آخر وهو المنقول عن عطاء بن رباح: * (وحنانا من لدنا) * والمعنى آتيناه الحكم صبيا تعظيما إذ جعلناه نبيا وهو صبي ولا تعظيم أكثر من هذا والدليل عليه ما روى أنه مر ورقة بن
192

نوفل على بلال وهو يعذب قد ألصق ظهره برمضاء البطحاء، ويقول: أحد أحد فقال: والذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا أي معظما. الصفة الرابعة: قوله: * (وزكاة) * وفيه وجوه: أحدها: أن المراد وآتيناه زكاة أي عملا صالحا زكيا، عن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج. وثانيها: زكاة لمن قبل منه حتى يكونوا أزكياء عن الحسن. وثالثها: زكيناه بحسن الثناء كما تزكى الشهود الإنسان. ورابعها: صدقة تصدق الله بها على أبويه عن الكبي. وخامسها: بركة ونماء وهو الذي قال عيسى عليه الصلاة والسلام: * (وجعلني مباركا أينما كنت) * (مريم: 31) واعلم أن هذا يدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى لأنه جعل طهارته وزكاته من الله تعالى وحمله على الألطاف بعيد لأنه عدول عن الظاهر. الصفة الخامسة: قوله: * (وكان تقيا) * وقد عرفت معناه وبالجملة فإنه يتضمن غاية المدائح لأنه هو الذي يتقي نهي الله فيجتنبه ويتقي أمره فلا يهمله، وأولى الناس بهذا الوصف من لم يعص الله ولا يهم بمعصية وكان يحيى عليه الصلاة والسلام كذلك، فإن قيل ما معنى: * (وكان تقيا) * وهذا حين ابتداء تكليفه قلنا: إنما خاطب الله تعالى بذلك الرسول وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله عليه. الصفة السادسة: قوله: * (وبرا بوالديه) * وذلك لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى مثل تعظيم الوالدين، ولهذا السبب قال: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) * (الإسراء: 23). الصفة السابعة: قوله: * (ولم يكن جبارا) * والمراد وصفه بالتواضع ولين الجانب وذلك من صفات المؤمنين كقوله تعالى: * (واخفض جناحك للمؤمنين) * (الحجر: 88) وقال تعالى: * (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) * (آل عمران: 159) ولأن رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به الترفع والتجبر، ولذلك فإن إبليس لما تجبر وتمرد صار مبعدا عن رحمة الله تعالى وعن الدين وقيل الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقا وهو من العظم والذهاب بنفسه عن أن يلزمه قضاء حق أحد، وقال سفيان في قوله: * (جبارا عصيا) * إنه الذي يقبل على الغضب والدليل عليه قوله تعالى: * (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض) * (القصص: 19) وقيل: كل من عاقب على غضب نفسه من غير حق فهو جبار لقوله تعالى: * (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) * (الشعراء: 130). الصفة الثامنة: قوله: * (عصيا) * وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم. الصفة التاسعة: قوله: * (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) * وفيه أقوال: أحدها: قال محمد بن جرير الطبري: * (وسلام عليه) * أي أمان من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم: * (ويوم يموت) * أي وأمان عليه من عذاب القبر: * (ويوم يبعث حيا) * أي ومن عذاب القيامة. وثانيها: قال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما ما شاهدهم قط، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فأكرم الله يحيى عليه الصلاة والسلام فخصه بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة. وثالثها: قال عبد الله بن نفطويه: * (وسلام عليه يوم ولد) * أي أول ما يرى الدنيا * (ويوم
193

يموت) * أي أول يوم يرى فيه أول أمر الآخرة * (ويوم يبعث حيا) * أي أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة. وإنما قال: * (حيا) * تنبيها على كونه من الشهداء لقوله تعالى: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 169) فروع. الأول: هذا السلام يمكن أن يكون من الله تعالى وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين فدلالة شرفه وفضله لا تختلف لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر الله تعالى. الثاني: ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء عليهم السلام كقوله: * (سلام على نوح في العالمين) * (الصافات: 79). * (سلام على إبراهيم) * (الصافات: 109) لأنه قال و * (يوم ولد) * وليس ذلك لسائر الأنبياء عليهم السلام. الثالث: روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام: أنت أفضل مني لأن الله تعالى سلم عليك وأنا سلمت على نفسي، وهذا ليس يقوى لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام الله على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمره الله به. الرابع: السلام عليه يوم ولد لا بد وأن يكون تفضلا من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه ما يكون ذلك جزاء له، وأما السلام عليه يوم يموت ويوم يبعث في المحشر، فقد يجوز أن يكون ثوابا كالمدح والتعظيم والله تعالى أعلم. القول في فوائد هذه القصة. الفائدة الأولى: تعليم آداب الدعاء وهي من جهات. أحدها: قوله: * (نداء خفيا) * (مريم: 3) وهو يدل على أن أفضل الدعاء ما هذا حاله ويؤكد قوله تعالى: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * (الأعراف: 55) ولأن رفع الصوت مشعر بالقوة والجلادة وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار وعمدة الدعاء الإنكسار والتبري عن حول النفس وقوتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه. وثانيها: أن المحتسب أن يذكر في مقدمة الدعاء عجز النفس وضعفها كما في قوله تعالى عنه: * (وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا) * (مريم: 4) ثم يذكر كثرة نعم الله على ما في قوله: * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) * (مريم: 4).
وثالثها: أن يكون الدعاء لأجل شيء متعلق بالدين لا لمحض الدنيا كما قال: * (وإني خفت الموالي من ورائي) * (مريم: 5). ورابعها: أن يكون الدعاء بلفظ يا رب على ما في هذا الموضع. الفائدة الثانية: ظهور درجات زكريا ويحيى عليهما السلام أما زكريا فأمور: أحدها: نهاية تضرعه في نفسه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكلية. وثانيها: إجابة الله تعالى دعاءه. وثالثها: أن الله تعالى ناداه وبشره أو الملائكة أو حصل الأمران معا. ورابعها: اعتقال لسانه عن الكلام دون التسبيح. وخامسها: أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام طلب الآيات لقوله رب اجعل لي آية. الفائدة الثالثة: كونه تعالى قادرا على خلق الولد وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردا على أهل الطبائع. الفائدة الرابعة: صحة الاستدلال في الدين لقوله تعالى: * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) *. الفائدة الخامسة: أن المعدوم ليس بشيء والآية نص في ذلك فإن قيل المراد ولم تك شيئا مذكورا كما في قوله تعالى: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) * (الإنسان: 1) قلنا: الإضمار خلاف الأصل وللخصم أن يقول الآية تدل على أن الإنسان لم يكن شيئا ونحن نقول به لأن الإنسان عبارة عن جواهر متألفة قامت بها أعراض مخصوصة والجواهر المتألفة الموصوفة بالأعراض المخصوصة
194

غير ثابتة في العدم إنما الثابت هو أعيان تلك الجواهر مفردة غير مركبة وهي ليست بإنسان فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب. الفائدة السادسة: أن الله تعالى ذكر هذه القصة في سورة آل عمران وذكرها في هذا الموضع فلنعتبر حالها في الموضعين فنقول: الأول: أنه تعالى بين في هذه السورة أنه دعا ربه ولم يبين الوقت وبينه في آل عمران بقوله: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب * هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) * (آل عمران: 37، 38) والمعنى أن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم عليها السلام طمع فيه في حق نفسه فدعا. الثاني: وهو أن الله تعالى صرح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة لقوله: * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب) * (آل عمران: 39) وفي هذه السورة الأظهر أن المنادي بقوله: * (يا زكريا إنا نبشرك) * (مريم: 7) هو الله تعالى وقد بينا أنه لا منافاة بين الأمرين. الثالث: أنه قال في آل عمران: * (أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) * (آل عمران: 40) فذكر أولا كبر نفسه ثم عقر المرأة وهو في هذه السورة قال: * (أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) * (مريم: 8) وجوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب. الرابع: قال في آل عمران: * (وقد بلغني الكبر) * وقال ههنا وقد بلغت من الكبر وجوابه أن ما بلغك فقد بلغته. الخامس: قال في آل عمران: * (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * (آل عمران: 41) وقال ههنا: * (ثلاث ليال سويا) * (مريم: 10) وجوابه: دلت الآيتان على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهن والله أعلم. القصة الثانية: قصة مريم وكيفية ولادة عيسى عليه السلام اعلم أنه تعالى إنما قدم قصة يحيى على قصة عيسى عليهما السلام لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد لا من الأب البتة وأحسن الطرق في التعليم والتفهيم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقيا إلى الأصعب فالأصعب.
قوله تعالى
* (واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنآ إليهآ روحنا فتمثل لها بشرا سويا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذ بدل من مريم بدل اشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقت هذا الوقوع لهذه القصة العجيبة فيه.
المسألة الثانية: النبذ أصله الطرح والإلقاء والانتباذ افتعال منه ومنه: * (فنبذوه وراء ظهورهم) * (آل عمران: 187) وانتبذت تنحت يقال جلس نبذة من الناس ونبذة بضم النون وفتحها أي ناحية وهذا إذا جلس قريبا منك حتى لو نبذت إليه شيئا وصل إليه ونبذت الشيء رميته ومنه النبيذ لأنه يطرح في الإناء
195

وأصله منبوذ فصرف إلى فعيل ومنه قيل للقيط منبوذ لأنه يرمى به ومنه النهي عن المنابذة في البيع وهو أن يقول: إذا نبذت إليك هذا الثوب أو الحصاة فقد وجب البيع إذ عرفت هذا فنقول قوله تعالى: * (إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) * معناه تباعدت وانفردت على سرعة إلى مكان يلي ناحية الشرق ثم بين تعالى أنها مع ذلك اتخذت من دون أهلها حجابا مستورا وظاهر ذلك أنها لم تقتصر على أن انفردت إلى موضع بل جعلت بينها وبينهم حائلا من حائط أو غيره ويحتمل أنها جعلت بين نفسها وبينهم سترا وهذا الوجه الثاني أظهر من الأول ثم لا بد من احتجابها من أن يكون لغرض صحيح وليس مذكورا واختلف المفسرون فيه على وجوه. الأول: أنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد للعبادة لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود فلما طهرت جاءها جبريل عليه السلام. والثاني: أنها طلبت الخلوة لئلا تشتغل عن العبادة. والثالث: قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بشيء يسترها. والرابع: أنها كان لها في منزل زوج أختها زكرياء محراب على حدة تسكنه وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت (على) الله (أن) تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت إلى المفازة فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك. وخامسها: عطشت فخرجت إلى المفازة لتستقي واعلم أن كل هذه الوجوه محتمل وليس في اللفظ ما يدل على ترجيح واحد منها.
المسألة الثالثة: المكان الشرقي هو الذي يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقوله تعالى: * (مكانا شرقيا) * فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة.
المسألة الرابعة: أنها لما جلست في ذلك المكان أرسل الله إليها الروح واختلف المفسرون في هذا الروح فقال الأكثرون: إنه جبريل عليه السلام وقال أبو مسلم إنه الروح الذي تصور في بطنها بشرا والأول أقرب لأن جبريل عليه السلام يسمى روحا قال الله تعالى: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 193 - 194) وسمي روحا لأنه روحاني وقيل خلق من الروح وقيل لأن الدين يحيا به أو سماه الله تعالى بروحه على المجاز محبة له وتقريبا كما تقول لحبيبك روحي وقرأ أبو
حياة روحنا بالفتح لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المتقين في قوله: * (فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم) * (الواقعة: 88، 89) أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا وإذا ثبت أنه يسمى روحا فهو هنا يجب أن يكون المراد به هو لأنه قال: * (إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) * (مريم: 19) ولا يليق ذلك إلا بجبريل عليه السلام واختلفوا في أنه كيف ظهر لها. فالأول: أنه ظهر لها على صورة شاب أمرد حسن الوجه سوي الخلق. والثاني: أنه ظهر لها على صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وكل ذلك محتمل ولا دلالة في اللفظ على التعيين ثم قال: وإنما تمثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه فلو ظهر لها
196

في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه ثم ههنا إشكالات. أحدهما: وهو أنه لو جاز أن يظهر الملك في صورة إنسان معين فحينئذ لا يمكننا القطع بأن هذا الشخص الذي أراه في الحال هو زيد الذي رأيته بالأمس لاحتمال أن الملك أو الجني تمثل في صورته وفتح هذا الباب يؤدي إلى السفسطة، لا يقال هذا إنما يجوز في زمان جواز البعثة فأما في زماننا هذا فلا يجوز لأنا نقول هذا الفرق إنما يعلم بالدليل، فالجاهل بذلك الدليل يجب أن لا يقطع بأن هذا الشخص الذي أراه الآن هو الشخص الذي رأيته بالأمس. وثانيها: أنه جاء في الأخبار أن جبريل عليه السلام شخص عظيم جدا فذلك الشخص العظيم كيف صار بدنه في مقدار جثة الإنسان أبأن تساقطت أجزاؤه وتفرقت بنيته فحينئذ لا يبقى جبريل أو بأن تداخلت أجزاؤه وذلك يوجب تداخل الأجزاء وهو محال. وثالثها: وهو أنا لو جوزنا أن يتمثل جبريل عليه السلام في صورة الآدمي فلم لا يجوز تمثله في صورة جسم أصغر من الآدمي حتى الذباب والبق والبعوض ومعلوم أن كل مذهب جر إلى ذلك فهو باطل. ورابعها: أن تجويزه يفضي إلى القدح في خبر التواتر فلعل الشخص الذي حارب يوم بدر لم يكن محمدا بل كان شخصا آخر تشبه به وكذا القول في الكل. والجواب عن الأول أن ذلك التجويز لازم على الكل لأن من اعترف بافتقار العالم إلى الصانع المختار فقد قطع بكونه تعالى قادرا على أن يخلق شخصا آخر مثل زيد في خلقته وتخطيطه وإذا جوزنا ذلك فقد لزم الشك في أن زيدا المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمس أم لا، ومن أنكر الصانع المختار وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب وتشكلات الفلك لزمه تجويز أن يحدث اتصال غريب في الأفلاك يقتضي حدوث شخص مثل زيد في كل الأمور وحينئذ يعود التجويز المذكور. " وعن الثاني ": أنه لا يمتنع أن يكون جبريل عليه السلام له أجزاء أصلية وأجزاء فاضلة والأجزاء الأصلية قليلة جدا فحينئذ يكون متمكنا من التشبه بصورة الإنسان، هذا إذا جعلناه جسمانيا أما إذا جعلناه روحانيا فأي استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير. " وعن الثالث ": أن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع وهو الجواب عن السؤال الرابع والله أعلم.
قوله تعالى
* (قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) *
وفيه وجوه: أحدها: أرادت أن كان يرجى منك أن تتقي الله ويحصل ذلك بالاستعاذة به فإني عائذة به منك وهذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنه لا تؤثر الاستعاذة إلا في التقي وهو كقوله: * (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) * (البقرة: 278) أي أن شرط الإيمان يوجب هذا لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال. وثانيها: أن معناه
197

ما كنت تقيا حيث استحللت النظر إلي وخلوت بي. وثالثها؛ أنه كان في ذلك الزمان إنسان فاجر اسمه تقى يتبع النساء فظنت مريم عليها السلام أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك التقي والأول هو الوجه.
قوله تعالى
* (قال إنمآ أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا) *
وفيه مسائل: المسألة الأولى: لما علم جبريل خوفها قال: * (إنما أنا رسول ربك) * ليزول عنها ذلك الخوف ولكن الخوف لا يزول بمجرد هذا القول بل لا بد من دلالة تدل على أنه جبريل عليه السلام وما كان من الناس فههنا يحتمل أن يكون قد ظهر معجز عرفت به جبريل عليه السلام ويحتمل أنها من جهة زكريا عليه السلام عرفت صفة الملائكة فلما قال لها: * (إنما أنا رسول ربك) * أظهر لها من باطن جسده ما عرفت أنه ملك فيكون ذلك هو العلم وسأل القاضي عبد الجبار في تفسيره نفسه فقال: إذا لم تكن نبية عندكم وكان من قولكم أن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه إلا رجالا فكيف يصح ذلك وأجاب أن ذلك إنما وقع في زمان زكريا عليه السلام وكان رسولا وكل ذلك كان عالما به وهذا ضعيف لأن المعجز إذا كان مفعولا للنبي فأقل ما فيه أن يكون عليه السلام عالما به وزكريا ما كان عنده علم بهذه الوقائع فكيف يجوز جعله معجزا له بل الحق أن ذلك إما أن يكون كرامة لمريم أو إرهاصا لعيسى عليه السلام.
المسألة الثانية: قرأ ابن عامر ونافع ليهب بياء مفتوحة بعد اللام أي ليهب الله لك والباقون بهمزة مفتوحة بعدها أما قوله لأهب لك ففي مجازه وجهان. الأول: أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي نفخ في جيبها بأمر الله تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها وإضافة الفعل إلى ما هو سبب له مستعمل قال تعالى في الأصنام: * (إنهن أضللن كثيرا من الناس) * (إبراهيم: 36). الثاني: أن جبريل عليه السلام لما بشرها بذلك كانت تلك البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة فإن قال قائل ما الدليل على أن جبريل عليه السلام لا يقدر على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والعقل والنطق فيها والذي يقال فيه: إن جبريل عليه السلام جسم والجسم لا يقدر على هذه الأشياء أما أنه جسم فلأنه محدث وكل محدث إما متحيز أو قائم بالمتحيز وأما أن الجسم لا يقدر على هذه الأشياء فلأنه لو قدر جسم على ذلك لقدر عليه كل جسم لأن الأجسام متماثلة وهو ضعيف لأن للخصم أن يقول لا نسلم أن كل محدث إما متحيز أو قائم به، بل ههنا موجودات قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ولا يلزم من
كونها كذلك كونها أمثالا لذات الله تعالى لأن الاشتراك في الصفات الثبوتية لا يقتضي التماثل فكيف في الصفات السلبية سلمنا كونه جسما فلم قلت الجسم لا يقدر عليه قوله الأجسام متماثلة قلنا نعني به أنها متماثلة في كونها حاصلة في الأحياز ذاهبة في الجهات أو نعني به
198

أنها متماثلة في تمام ماهياتها. والأول مسلم لكن حصولها في الأحياز صفات لتلك الذوات والاشتراك في الصفات لا يوجب الاشتراك في ماهيات المواصفات سلمنا أن الأجسام متماثلة فلم لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى خص بعضها بهذه القدرة دون البعض حتى أنه يصح منها ذلك ولا يصح من البشر ذلك والجواب الحق أن المعتمد في دفع هذا الاحتمال اجماع الأمة فقط والله أعلم.
المسألة الثالثة: الزكي يفيد أمورا ثلاثة: الأول: أنه الطاهر من الذنوب. والثاني: أنه ينمو على التزكية لأنه يقال فيمن لا ذنب له زكي، وفي الزرع النامي زكي. والثالث: النزاهة والطهارة فيما يجب أن يكون عليه ليصح أن يبعث نبيا وقال بعض المتكلمين الأولى أن يحمل على الكل وهو ضعيف لما عرفت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز حمله على المعنيين سواء كان حقيقة فيهما أو في أحدهما مجازا وفي الآخر حقيقة.
المسألة الرابعة: سماه زكيا مع أنه لم يكن له شيء من الدنيا وأنت إذا نظرت في سوقك فمن لم يملك شيئا فهو شقي عندك. وإنما الزكي من يملك المال والله يقول كان زكيا، لأن سيرته الفقر وغناه الحكمة والكتاب وأنت فإنما تسمى بالزكي من كانت سيرته الجهل وطريقته المال.
قوله تعالى
* (قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا * قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنها إنما تعجبت بما بشرها جبريل عليه السلام لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداء وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحد ولأنها كانت منفردة بالعبادة ومن يكون كذلك لا بد من أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول قولها: * (ولم يمسسني بشر) * يدخل تحته قولها: * (ولم أك بغيا) * فلماذا أعادتها ومما يؤكد هذا السؤال أن في سورة آل عمران قالت: * (رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء) * (آل عمران: 47) فلم تذكر البغاء والجواب من وجوه: أحدها: أنها جعلت المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله: * (من قبل أن تمسوهن) * (الأحزاب: 49) والزنا ليس كذلك إنما يقال فجر بها أو ما أشبه ذلك ولا يليق به رعاية الكنايات. وثانيها: أن أعادتها لتعظيم حالها كقوله: * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * (البقرة: 238) وقوله: * (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) *
199

فكذا ههنا إن من لم تعرف من النساء بزوج فأغلظ أحوالها إذا أتت بولد أن تكون زانية فأفراد ذكر البغاء بعد دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف " البغي الفاجرة التي تبغي الرجال وهو فعول عند المبرد بغوي فأدغمت الواو في الياء، وقال ابن جني في كتاب " التمام " هو فعيل ولو كان فعولا لقيل بغوا كما قيل نهوا عن المنكر.
المسألة الرابعة: أن جبريل عليه السلام أجابها بقوله: * (قال كذلك قال ربك هو علي هين) * وهو كقوله في آل عمران: * (كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * (آل عمران: 47) لا يمتنع عليه فعل ما يريد خلقه ولا يحتاج في إنشائه إلى الآلات والمواد.
المسألة الخامسة: الكناية في: * (هو علي هين) * وفي قوله: * (ولنجعله آية للناس) * تحتمل وجهين: الأول: أن تكون راجعة إلى الخلق أي أن خلقه علي هين ولنجعل خلقه آية للناس إذ ولد من غير ذكر ورحمة منا يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات حتى تكون دلائل صدقه أبهر فيكون قبول قوله أقرب. الثاني: أن ترجع الكنايات إلى الغلام وذلك لأنها لما تعجبت من كيفية وقوع هذا الأمر على خلاف العادة أعلمت أن الله تعالى جاعل ولدها آية على وقوع ذلك الأمر الغريب، فأما قوله تعالى: * (ورحمة منا) * فيحتمل أن يكون معطوفا على * (ولنجعله آية للناس) * أي فعلنا ذلك: * (ورحمة منا) * فعلنا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفا على الآية أي: ولنجعله آية ورحمة فعلنا ذلك.
المسألة السادسة: قوله: * (وكان أمرا مقضيا) * المراد منه أنه معلوم لعلم الله تعالى فيمتنع وقوع خلافه لأنه لو لم يقع لانقلب علم الله جهلا وهو محال والمفضي إلى المحال محال فخلافه محال فوقوعه واجب وأيضا فلأن جميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء والقدر إلى واجب الوجود والمنتهي إلى الواجب انتهاء واجبا يكون واجب الوجود وإذا كان واجب الوجود فلا فائدة في الحزن والأسف وهذا هو سر قوله عليه السلام: " من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ".
* (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكر الله تعالى أمر النفخ في آيات فقال: * (فنفخنا فيه من روحنا) * (التحريم: 12) أي في عيسى عليه السلام كما قال لآدم عليه السلام: * (ونفخت فيه من روحي) * (الحجر: 29) وقال فنفخنا فيها لأن عيسى
200

عليه السلام كان في بطنها واختلفوا في النافخ فقال بعضهم كان النفخ من الله تعالى لقوله: * (فنفخنا فيه من روحنا) * وظاهره يفيد أن النافخ هو الله تعالى لقوله تعالى
: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) * (آل عمران: 59) ومقتضى التشبيه حصول المشابهة إلا فيما أخرجه الدليل، وفي حق آدم النافخ هو الله تعالى لقوله تعالى: * (ونفخت فيه من روحي) * فكذا ههنا وقال آخرون: النافخ هو جبريل عليه السلام لأن الظاهر من قول جبريل عليه السلام: * (لأهب لك) * (مريم: 19) أنه أمر أن يكون من قبله حتى يحصل الحمل لمريم عليها السلام فلا بد من إحالة النفخ إليه، ثم اختلفوا في كيفية ذلك النفخ على قولين: الأول: قول وهب إنه نفخ جبريل في جيبها حتى وصلت إلى الرحم. الثاني: في ذيلها فوصلت إلى الفرج. الثالث: قول السدي أخذ بكمها فنفخ في جنب درعها فدخلت النفخة صدرها فحملت فجاءتها أختها امرأة زكريا تزورها فالتزمتها فلما التزمتها علمت أنها حبلى وذكرت مريم حالها، فقالت امرأة زكريا إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى: * (مصدقا بكلمة من الله) * (آل عمران: 39). الرابع: أن النفخة كانت في فيها فوصلت إلى بطنها فحملت في الحال، إذ عرفت هذا ظهر أن في الكلام حذفا وهو، وكان أمرا مقضيا، فنفخ فيها فحملته.
المسألة الثانية: قيل حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة، وقيل بنت عشرين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأحوال.
المسألة الثالثة: * (فانتبذت به) * أي اعتزلت وهو في بطنها كقوله: * (تنبت بالدهن) * (المؤمنون: 20) أي تنبت والدهن فيها، واختلفوا في علة الإنتباذ على وجوه. أحدها: ما رواه الثعلبي في " العرائس " عن وهب قال: إن مريم لما حملت بعيسى عليه السلام كان معها ابن عم لها يقال له يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم في أهل زمانهما أحد أشد اجتهادا ولا عبادة منهما، وأول من عرف حمل مريم يوسف فتحير في أمرها فكلما أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وعبادتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط، وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها من الحمل فأول ما تكلم أنه قال إنه وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه فغلبني ذلك فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري، فقالت: قل قولا جميلا قال: أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث، وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت نعم: ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر، ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة، أو تقول إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها، فقال يوسف: لا أقول هذا ولكني أقول إن الله قادر على ما يشاء فيقول له كن فيكون، فقالت له مريم: أو لم
201

تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب، فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له، فلما بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة، وذلك في زمان برد فاحتضنتها فوضعت عندها. وثانيها: أنها استحيت من زكريا فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا. وثالثها: أنها كانت مشهورة في بني إسرائيل بالزهد لنذر أمها وتشاح الأنبياء في تربيتها وتكفل زكريا بها، ولأن الرزق كان يأتيها من عند الله تعالى، فلما كانت في نهاية الشهرة استحيت من هذه الواقعة فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا. ورابعها: أنها خافت على ولدها لو ولدته فيما بين أظهرهم، واعلم أن هذه الوجوه محتملة، وليس في القرآن ما يدل على شيء منها.
المسألة الرابعة: اختلفوا في مدة حملها على وجوه: الأول: قول ابن عباس رضي الله عنهما إنها كانت تسعة أشهر كما في سائر النساء بدليل أن الله تعالى ذكر مدائحها في هذا الموضع فلو كانت عادتها في مدة حملها بخلاف عادات النساء لكان ذلك أولى بالذكر. الثاني: أنها كانت ثمانية أشهر، ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى ابن مريم عليه السلام. الثالث: وهو قول عطاء وأبي العالية والضحاك سبعة أشهر. الرابع: أنها كانت ستة أشهر. الخامس: ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة. السادس: وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما أيضا كانت مدة الحمل ساعة واحدة ويمكن الاستدلال عليه من وجهين: الأول: قوله تعالى: * (فحملته فانتبذت به) * (مريم: 23) * (فأجاءها المخاض) * (مريم: 23)، * (فناداها من تحتها) * (مريم: 24) والفاء للتعقيب فدلت هذه الفاءات على أن كل واحد من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل وذلك يوجب كون مدة الحمل ساعة واحدة لا يقال انتباذها مكانا قصيا كيف يحصل في ساعة واحدة لأنا نقول: السدي فسره بأنها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها. الثاني: أن الله تعالى قال في وصفه: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * (آل عمران: 59) فثبت أن عيسى عليه السلام كما قال الله تعالى له: * (كن فيكون) * وهذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل، وإنما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة.
المسألة الخامسة: * (قصيا) * أي بعيد من أهلها، يقال مكان قاص، وقصي بمعنى واحد مثل عاص وعصي، ثم اختلفوا فقيل: أقصى الدار، وقيل وراء الجبل، وقيل: سافرت مع ابن عمها يوسف وقد تقدمت هذه الحكاية.
المسألة السادسة: قال صاحب " الكشاف ": * (أجاء) * منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء فإنك لا تقول جئت المكان، وأجاءنيه زيد كما تقول بلغنيه وأبلغته، والمعنى أن طلقها ألجأها إلى جذع النخلة ثم يحتمل أنها إنما ذهبت إلى النخلة طلبا لسهولة الولادة
202

للتشبث بها. ويحتمل للتقوية والاستناد إليها، ويحتمل للتستر بها ممن يخشى منه القالة إذا رآها، ولذلك حكى الله عنها أنها تمنت الموت.
المسألة السابعة: قال في " الكشاف " قرأ ابن كثير في رواية المخاض بالكسر يقال مخضت الحامل ومخاضا وهو تمخض الولد في بطنها.
المسألة الثامنة: قال في " الكشاف " كان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمر ولا خضرة، وكان الوقت شتاء والتعريف إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة مشهور عند الناس، فإذا قيل: جذع النخلة فهم منه ذلك دون سائره وإما أن يكون تعريف الجنس أي إلى جذع هذه الشجرة خاصة كان الله أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء، ولأن النخلة أقل الأشياء صبرا على البرد ولا تثمر إلا عند اللقاح، وإذا قطعت رأسها لم تثمر، فكأنه تعالى قال كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح، ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر.
المسألة التاسعة: لم قالت: * (يا ليتني مت قبل هذا) * مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل إليها وخلق ولدها من نفخ جبريل عليه السلام ووعدها بأن يجعلها وابنها آية للعالمين، والجواب من وجهين: الأول: قال وهب: أنساها كربة الغربة وما سمعته من الناس (من) بشارة الملائكة بعيسى عليه السلام. الثاني: أن عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك. وروى عن أبي بكر أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تقع على الشجرة وتأكل من الثمر! وددت أبي ثمرة ينقرها الطائر! وعن عمر أنه أخذ تبنة من الأرض وقال: ليتني هذه التبنة يا ليتني لم أك شيئا! وقال علي يوم الجمل: يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة، وعن بلال: ليت بلال لم تلده أمه. فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. الثالث: لعلها قالت ذلك لكي لا تقع المعصية ممن يتكلم فيها، وإلا فهي راضية بما بشرت به.
المسألة العاشرة: قال صاحب " الكشاف " النسي ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطمث ونحوها كالذبح اسم ما من شأنه أن يذبح كقوله: * (وفديناه بذبح عظيم) * (الصافات: 107) تمنت لو كانت شيئا تافها لا يؤبه به ومن حقه أن ينسى في العادة وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة نسيا بالفتح والباقون نسيا بالكسر قال الفراء: هما لغتان كالوتر والوتر والجسر والجسر، وقرأ محمد بن كعب القرظي نسيئا بالهمزة وهو الحليب المخلوط بالماء ينساه أهله لقلته وقرأ الأعمش منسيا بالكسر على الإتباع كالمغير والمنخر والله أعلم.
203

قوله تعالى
* (فناداها من تحتهآ ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا * وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلى واشربى وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولى إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: فناداها من تحتها القراءة المشهورة فناداها وقرأ زر وعلقمة فخاطبها وفي الميم فيها قراءتان فتح الميم وهو المشهور وكسره وهو قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص وفي المنادي ثلاثة أوجه: الأول: أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير. والثاني: أنه جبريل عليه السلام وأنه كان كالقابلة للولد. والثالث: أن المنادي على القراءة بالكسر هو الملك وعلى القراءة بالفتح هو عيسى عليه السلام وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم والأول أقرب لوجوه: الأول: أن قوله: * (فناداها من تحتها) * بفتح الميم إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحدا والذي علم كونه حاصلا تحتها هو عيسى عليه السلام فوجب حمل اللفظ عليه، وأما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادي جبريل عليه السلام، فقد صح قولنا. الثاني: أن ذلك الموضع موضع اللوث والنظر إلى العورة وذلك لا يليق بالملائكة. الثالث: أن قوله فناداها فعل ولا بد وأن يكون فاعله قد تقدم ذكره ولقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل وذكر عيسى عليهما السلام إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى: * (فحملته فانتبذت به) * (مريم: 22) والضمير ههنا عائد إلى المسيح فكان حمله عليه أولى. والرابع: وهو دليل الحسن بن علي عليه السلام أن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام بالكلام فأما من قال المنادي هو عيسى عليه السلام فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطييبا لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل عليه السلام من علو شأن ذلك الولد ومن قال المنادي جبريل عليه السلام قال إنه أرسل إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيرا لها بما تقدم من أصناف البشارات، وأما قوله: * (من تحتها) * فإن حملناه على الولد فلا سؤال وإن حملناه على الملك ففيه وجهان: الأول: أن يكونا معا في مكان مستو ويكون هناك مبدأ معين كتلك النخلة ههنا فكل من كان أقرب منها كان فوق وكل من كان أبعد منها كان تحت وفسر الكلبي قوله تعالى: * (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم) * (الأحزاب: 10) بذلك وعلى هذا الوجه قال بعضهم:
204

إنه ناداها من أقصى الوادي. والثاني: أن يكون موضع أحدهما أعلى من موضع الآخر فيكون صاحب العلو فوق صاحب السفل وعلى هذا الوجه روي عن عكرمة أنها كانت حين ولدت على مثل رابية وفيه وجه ثالث: يحكى عن عكرمة وهو أن جبريل عليه السلام ناداها من تحت النخلة ثم على التقديرات الثلاثة يحتمل أن تكون مريم قد رأته وأنها ما رأته وليس في اللفظ ما يدل على شيء من ذلك. المسألة الثانية: اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه وأما الحسن وابن زيد فجعلا السري عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال فلان من سروات قومه أي من أشرافهم وروي أن الحسن رجع عنه وروي عن قتادة وغيره أن الحسن تلا هذه الآية وبجنبه حميد بن عبد الرحمن الحميري: * (قد جعل ربك تحتك سريا) * فقال: إن كان لسريا وإن كان لكريما، فقال له حميد: يا أبا سعيد إنما هو الجدول فقال له الحسن من ثم تعجبنا مجالستك، واحتج من حمله على النهر بوجهين: أحدهما: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السري فقال: هو الجدول. والثاني: أن قوله: * (فكلي واشربي) * يدل على أنه نهر حتى ينضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب واحتج من حمله (على) عيسى بوجهين: الأول: أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جانبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد منه أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله: * (وهذه
الأنهار تجري من تحتي) * (الزخرف: 51) لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى عليه السلام لم يحتج إلى هذا المجاز. الثاني: أنه موافق لقوله تعالى: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) * (المؤمنون: 50) والجواب عنه ما تقدم أن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان من تحت فرعان: الأول: إن حملنا السري على النهر ففيه وجهان: أحدهما: أن جبريل عليه السلام ضرب برجله فظهر ماء عذب. والثاني: أنه كان هناك ماء جار. والأول: أقرب لأن قوله: * (قد جعل ربك تحتك سريا) * مشعر بالحدوث في ذلك الوقت ولأن الله تعالى ذكره تعظيما لشأنها وذلك لا يثبت إلا على الوجه الذي قلناه. الثاني: اختلفوا في أن السري هو النهر مطلقا وهو قول أبي عبيدة والفراء أو النهر الصغير على ما هو قول الأخفش.
المسألة الثالثة: قال القفال: الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة وقال قطرب: كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع وأما الباء في قوله بجذع النخلة فزائدة والمعنى هزي إليك أي حركي جذع النخلة، قال الفراء: العرب تقول هزه وهز به وخذ الخطام وخذ بالخطام وزوجتك فلانة وبفلانة، وقال الأخفش: يجوز أن يكون على معنى هزي إليك رطبا بجذع النخلة أي على جذعها، إذا عرفت هذا فنقول: قد تقدم أن الوقت كان شتاء وأن النخلة كانت يابسة، واختلفوا في أنه هل أثمر الرطب وهو على حاله أو تغير، وهل أثمر مع الرطب غيره؟ والظاهر
205

يقتضي أنه صار نخلة لقوله بجذع النخلة وأنه ما أثمر إلا الرطب.
المسألة الرابعة: قال صاحب " الكشاف ": تساقط فيه تسع قراءات تساقط بادغام التاء وتتساقط بإظهار التاءين وتساقط بطرح الثانية ويساقط بالياء وإدغام التاء وتساقط وتسقط ويسقط وتسقط ويسقط التاء للنخلة والياء للجذع.
المسألة الخامسة: رطبا تمييز أو مفعول على حسب القراءة الجني المأخوذ طريا وعن طلحة بن سليمان جنيا بكسر الجيم للأتباع والمعنى جمعنا لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما: الأكل والشرب. والثانية: سلوة الصدر بكونهما معجزتين فإن قال قائل: فتلك الأفعال الخارقة للعادات لمن؟ قلنا: قالت المعتزلة: إنها كانت معجزة لزكريا وغيره من الأنبياء وهذا باطل لأن زكرياء عليه السلام ما كان له علم بحالها ومكانها فكيف بتلك المعجزات، بل الحق أنها كانت كرامات لمريم أو إرهاصا لعيسى عليه السلام.
المسألة السادسة: فكلي واشربي وقري عينا قرىء بكسر القاف لغة نجد ونقول قدم الأكل على الشرب لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدماء، ثم قال: وقري عينا، وههنا سؤال، وهو أن مضرة الخوف أشد من مضرة الجوع والعطش والدليل عليه أمران: أحدهما: أن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن. والثاني: ما روي أنه أجيعت شاة ثم قدم العلف إليها وربط عندها ذئب فبقيت الشاة مدة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها الشديد خوفا من الذئب ثم كسرت رجلها وقدم العلف إليها فتناولت العلف مع ألم البدن دلت هذه الحكاية على أن ألم الخوف أشد من ألم البدن. إذا ثبت هذا فنقول: فلم قدم الله تعالى في الحكاية دفع ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف، والجواب أن هذا الخوف كان قليلا لأن بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدمت فما كانت تحتاج إلى التذكير مرة أخرى.
المسألة السابعة: قال صاحب " الكشاف " قرأ ترئن بالهمزة ابن الرومي عن أبي عمرو وهذا من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمز وحرف اللين في الإبدال * (صوما) * صمتا وفي مصحف عبد الله صمتا وعن أنس بن مالك مثله وقيل صياما إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالا على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزا في شرعهم، وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا قال القفال لعله يجوز لأن الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر لذكر الله تعالى قربة، ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس، وروي أنه دخل أبو بكر على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي والله أعلم.
المسألة الثامنة: أمرها الله تعالى بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع من اتهمها في الكلام
206

لمعنيين: أحدهما: أن كلام عيسى عليه السلام أقوى في إزالة التهمة من كلامها وفيه دلالة على أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى. والثاني: كراهة مجادلة السفهاء وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها.
المسألة التاسعة: اختلفوا في أنها هل قالت معهم: * (إني نذرت للرحمن صوما) * فقال قوم: إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأن تأتي بهذا النذر عند رؤيتها فإذا أتت بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها أمسكت وأومأت برأسها، وقال آخرون: إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم: * (إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) * وهذه الصيغة وإن كانت عامة إلا أنها صارت بالقرينة مخصوصة في حق هذا الكلام.
* (فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك مرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أنها كيف أتت بالولد على أقوال: الأول: ما روي عن وهب قال: أنساها كرب الولادة وما سمعته من الناس ما كان من كلام الملائكة من البشارة بعيسى عليه السلام فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته وأقبلت به إلى قومها. الثاني: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف انتهى بمريم إلى
غار فأدخلها فيه أربعين يوما حتى طهرت من النفاس ثم أتت به قومها تحمله فكلمها عيسى في الطريق، فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه. وهذان الوجهان محتملان وليس في القرآن ما يدل على التعيين.
المسألة الثانية: الفريء، البديع وهو من فري الجلد يروى أنهم لما رأوها ومعها عيسى عليه السلام قالوا لها: * (لقد جئت شيئا فريا) * فيحتمل أن يكون المراد شيئا عجيبا خارجا عن العادة من غير تعيير وذم ويحتمل أن يكون مرادهم شيئا عظيما منكرا فيكون ذلك منهم على وجه الذم وهذا أظهر لقولهم بعده: * (يا أخت هارون ما كان أبوك أمرأ سوء وما كانت أمك بغيا) * لأن هذا القول ظاهره التوبيخ وأما هارون ففيه أربعة أقوال: الأول: أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح، والمراد أنك كنت في الزهد كهرون فكيف صرت هكذا، وهو قول
207

قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة ذكر أن هارون الصالح تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمون هارون تبركا به وباسمه. الثاني: أنه أخو موسى عليه السلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنوا هارون النبي وكانت من أعقابه وإنما قيل أخت هارون كما يقال يا أخا همدان أي يا واحدا منهم. والثالث: كان رجلا معلنا بالفسق فنسبت إليه بمعنى التشبيه لا بمعنى النسبة. الرابع: كان لها أخ يسمى هارون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به، وهذا هو الأقرب لوجهين: الأول: أن الأصل في الكلام الحقيقة وإنما يكون ظاهر الآية محمولا على حقيقتها لو كان لها أخ مسمى بهارون. الثاني: أنها أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح وحينئذ يصير التوبيخ أشد لأن من كان حال أبويه وأخيه هذه الحالة يكون صدور الذنب عنه أفحش.
المسألة الثالثة: القراءة المشهورة: * (ما كان أبوك امرأ سوء) * وقرأ عمرو بن رجاء التميمي: (ما كان أباك امرؤ سوء) *.
المسألة الرابعة: أنهم لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا غضبا شديدا وقالوا: لسخريتها بنا أشد من زناها، روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته، وقيل: كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان. وقيل إن زكرياء عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها، فقال لعيسى عليه السلام أنطق بحجتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عليه السلام عند ذلك: * (إني عبد الله) * (مريم: 30) فإن قيل كيف عرفت مريم من حال عيسى عليه السلام أنه يتكلم؟ قلنا: إن جبريل عليه السلام أو عيسى عليه السلام ناداها من تحتها أن لا تحزني وأمرها عند رؤية الناس بالسكوت، فصار ذلك كالتنبيه لها على أن المجيب هو عيسى عليه السلام أو لعلها عرفت ذلك بالوحي إلى زكرياء أو لعلها عرفت بالوحي إليها على سبيل الكرامة، بقي ههنا بحثان:
البحث الأول: قوله: * (كيف نكلم من كان في المهد صبيا) * أي حصل في * (المهد) * فكان ههنا بمعنى حصل ووجد وهذا هو الأقرب في تأويل هذا اللفظ، وإن كان الناس قد ذكروا وجوها أخر.
البحث الثاني: اختلفوا في المهد فقيل هو حجرها لما روى أنها أخذته في خرقة فأتت به قومها فلما رأوها قالوا لها ما قالوا فأشارت إليه وهو في حجرها ولم يكن لها منزل معد حتى يعد لها المهد أو المعنى: كيف نكلم صبيا سبيله أن ينام في المهد.
208

قوله تعالى
* (قال إنى عبد الله ءاتانى الكتاب وجعلنى نبيا * وجعلنى مباركا أين ما كنت وأوصانى بالصلوة والزكوة ما دمت حيا * وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارا شقيا * والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) *
اعلم أنه وصف نفسه بصفات تسع: الصفة الأولى: قوله: * (إني عبد الله) * وفيه فوائد: الفائدة الأولى: أن الكلام منه في ذلك الوقت كان سببا للوهم الذي ذهبت إليه النصارى، فلا جرم أول ما تكلم إنما تكلم بما يرفع ذلك الوهم فقال: * (إني عبد الله) * وكان ذلك الكلام وإن كان موهما من حيث إنه صدر عنه في تلك الحالة، ولكن ذلك الوهم يزول ولا يبقى من حيث إنه تنصيص على العبودية. الفائدة الثانية: أنه لما أقر بالعبودية فإن كان صادقا في مقاله فقد حصل الغرض وإن كان كاذبا لم تكن القوة قوة إلهية بل قوة شيطانية فعلى التقديرين يبطل كونه إلها. الفائدة الثالثة: أن الذي اشتدت الحاجة إليه في ذلك الوقت إنما هو نفي تهمة الزنا عن مريم عليها السلام ثم إن عيسى عليه السلام لم ينص على ذلك وإنما نص على إثبات عبودية نفسه كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن الأم، فلهذا أول ما تكلم إنما تكلم بها. الفائدة الرابعة: وهي أن التكلم بإزالة هذه التهمة عن الله تعالى يفيد إزالة التهمة عن الأم لأن الله سبحانه لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة. وأما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى فكان الاشتغال بذلك أولى فهذا مجموع ما في هذا اللفظ من الفوائد، واعلم أن مذهب النصارى متخبط جدا، وقد اتفقوا على أنه سبحانه ليس بجسم ولا متحيز، ومع ذلك فإنا نذكر تقسيما حاصرا يبطل مذهبهم على جميع الوجوه فنقول: إما أن يعتقدوا كونه متحيزا أو لا، فإن اعتقدوا كونه متحيزا أبطلنا قولهم بإقامة الدلالة على حدوث الأجسام، وحينئذ يبطل كل ما فرعوا عليه. وإن اعتقدوا أنه ليس بمتحيز يبطل ما يقوله بعضهم من أن الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط الماء بالخمر وامتزاج النار بالفحم لأن ذلك لا يعقل إلا في الأجسام فإذا لم يكن جسما استحال ذلك ثم نقول للناس قولان في الإنسان: منهم من قال إنه هو هذه البنية أو جسم موجود في داخلها ومنهم من يقول إنه جوهر مجرد عن الجسمية والحلول في الأجسام فنقول: هؤلاء النصارى، إما أن يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته اتحد ببدن
209

المسيح أو بنفسه أو يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته حل في بدن المسيح أو في نفسه، أو يقولوا لا نقول بالاتحاد ولا بالحلول ولكن نقول إنه تعالى أعطاه القدرة على خلق الأجسام والحياة والقدرة وكان لهذا السبب إلها، أو لا يقولوا بشيء من ذلك ولكن قالوا: إنه على سبيل التشريف اتخذه ابنا كما اتخذ إبراهيم على سبيل التشريف
خليلا فهذه هي الوجوه المعقولة في هذا الباب، والكل باطل، أما القول الأول بالاتحاد فهو باطل قطعا، لأن الشيئين إذا اتحدا فهما حال الاتحاد، إما أن يكونا موجودين أو معدومين أو يكون أحدهما موجودا والآخر معدوما، فإن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فالاتحاد باطل، وإن عدما وحصل ثالث فهو أيضا لا يكون اتحادا بل يكون قولا بعدم ذينك الشيئين، وحصول شيء ثالث، وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتحد بالوجود لأنه يستحيل أن يقال: المعدوم بعينه هو الموجود فظهر من هذا البرهان الباهر أن الاتحاد محال. وأما الحلول فلنا فيه مقامان: الأول: أن التصديق مسبوق بالتصور فلا بد من البحث عن ماهية الحلول حتى يمكننا أن نعلم أنه هل يصح على الله تعالى أو لا يصح وذكروا للحلول تفسيرات ثلاثة: أحدها: كون الشيء في غيره ككون ماء الورد في الورد والدهن في السمسم والنار في الفحم، واعلم أن هذا باطل لأن هذا إنما يصح لو كان الله تعالى جسما وهم وافقونا على أنه ليس بجسم. وثانيها: حصوله في الشيء على مثال حصول اللون في الجسم فنقول: المعقول من هذه التبعية حصول اللون في ذلك الحيز تبعا لحصول محله فيه، وهذا أيضا إنما يعقل في حق الأجسام لا في حق الله تعالى. وثالثها: حصوله في الشيء على مثال حصول الصفات الإضافية للذوات فنقول: هذا أيضا باطل لأن المعقول من هذه التبعية الاحتياج فلو كان الله تعالى في شيء بهذا المعنى لكان محتاجا فكان ممكنا فكان مفتقرا إلى المؤثر، وذلك محال، وإذا ثبت أنه لا يمكن تفسير هذا الحلول بمعنى ملخص يمكن إثباته في حق الله تعالى امتنع إثباته. المقام الثاني: احتج الأصحاب على نفي الحلول مطلقا بأن قالوا: لو حل لحل، إما مع وجوب أن يحل أو مع جواز أن يحل والقسمان باطلان، فالقول بالحلول باطل، وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل لأن ذلك يقتضي إما حدوث الله تعالى أو قدم المحل وكلاهما باطلان، لأنا دللنا على أن الله قديم. وعلى أن الجسم محدث، ولأنه لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجا إلى المحل والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته لا يكون واجبا لذاته، وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل لأنه لما كانت ذاته واجبة الوجود لذاته وحلوله في المحل أمر جائز، والموصوف بالوجوب غير ما هو موصوف بالجواز فيلزم أن يكون حلوله في المحل أمرا زائدا على ذاته وذلك محال لوجهين: أحدهما: أن حلوله في المحل لو كان زائدا على ذاته لكان حلول ذلك الزائد في محله زائدا على ذاته أو لزم التسلسل وهو محال. والثاني: أن حلوله في ذلك لما كان زائدا على ذاته فإذا حل في محل وجب أن يحل فيه صفة محدثة، وذلك محال لأنه لو كان قابلا للحوادث
210

لكانت تلك القابلية من لوازم ذاته، وكانت حاصلة أزلا، وذلك محال لأن وجود الحوادث في الأزل محال، فحصول قابليتها وجب أن يكون ممتنع الحصول فإن قيل لم لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل. لأنه يلزم، إما حدوث الحال أو قدم المحل، قلنا: لا نسلم وجوب أحد الأمرين، ولم لا يجوز أن يقال: إن ذاته تقتضي الحلول بشرط وجود المحل ففي الأزل ما وجد المحل فلم يوجد شرط هذا الوجوب فلا جرم لم يجب الحلول، وفيما لا يزال حصل هذا الشرط فلا جرم وجب سلمنا أنه يلزم، إما حدوث الحال أو قدم المحل فلم لا يجوز. قوله: إنا دللنا على حدوث الأجسام، قلنا: لم لا يجوز أن يكون محله ليس بجسم ولكنه يكون عقلا أو نفسا أو هيولى على ما يثبته بعضهم، ودليلكم على حدوث الأجسام لا يقبل حدوث هذه الأشياء، قوله ثانيا: لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجا إلى المحل، قلنا: لا نسلم وجوب أحد الأمرين بل ههنا احتمالان آخران: أحدهما: أن العلة وإن امتنع انفكاكها عن المعلول لكنها لا تكون محتاجة إلى المعلول فلم لا يجوز أن يقال: إن ذاته غنية عن ذلك المحل ولكن ذاته توجب حلول نفسها في ذلك المعلول فيكون وجوب حلولها في ذلك المحل من معلولات ذاته، وقد ثبت أن العلة وإن استحال انفكاكها عن المعلول لكن ذلك لا يقتضي احتياجها إلى المعلول. الثاني: أن يقال إنه في ذاته يكون غنيا عن المحل وعن الحلول، إلا أن المحل يوجب لذاته صفة الحلول، فالمفتقر إلى المحل صفة من صفاته وهي حلوله في ذلك المحل فأما ذاته فلا ولا يلزم من افتقار صفة من صفاته الإضافية إلى الغير افتقار ذاته إلى الغير وذلك لأن جميع الصفات الإضافية الحاصلة له مثل كونه أولا وآخرا ومقارنا ومؤثرا ومعلوما ومذكورا مما لا يتحقق إلا عند حصول التحيز، وكيف لا والإضافات لا بد في تحققها من أمرين، سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل. قوله يلزم أن يكون حلوله فيه زائدا عليه، ويلزم التسلسل، قلنا: حلوله في المحل لما كان جائزا كان حلوله في المحل زائدا عليه. أما كون ذلك الحلول حالا في المحل أمر واجب فلا يلزم أن يكون حلول الحلول زائدا عليه فلا يلزم التسلسل. قوله ثانيا: يلزم أن يصير محل الحوادث، قلنا: لم لا يجوز ذلك قوله يلزم أن يكون قابلا للحوادث في الأزل، قلنا: لا شك أن تمكنه من الإيجاد ثابت له إما لذاته أو لأمر ينتهي إلى ذاته، وكيف كان فيلزم صحة كونه مؤثرا في الأزل فكل ما ذكرتموه في المؤثرية فنحن نذكره في القابلية، والجواب: أنا نقرر هذه الدلالة على وجه آخر بحيث تسقط عنها هذه الأسئلة، فنقول: ذاته، إما أن تكون كافية اقتضاء هذا الحلول أو لا تكون كافية في ذلك فإن كان الأول استحال توقف ذلك الاقتضاء على حصول شرط فيعود ما قلنا إنه يلزم إما قدم المحل أو حدوث الحال. وإن كان الثاني كان كونه مقتضيا لذلك الحلول أمرا زائدا على ذاته حادثا فيه فعلى التقديرات كلها يلزم من حدوث حلوله في محل حدوث شيء فيه لكن يستحيل أن يكون قابلا للحوادث، وإلا لزم أن يكون في الأزل قابلا لها وهو محال على ما بيناه، وأما المعارضة بالقدرة فغير واردة لأنه تعالى لذاته قادر على الإيجاد في الأزل فهو قادر على الإيجاد فيما لا يزال فههنا أيضا لو كانت ذاته قابلة
211

للحوادث لكانت في الأزل قابلة لها فحينئذ يلزم المحال المذكور. هذا تمام القول في هذه الأدلة ولنا في إبطال قول النصارى وجوه أخر. أحدها: أنهم وافقونا على أن ذاته سبحانه وتعالى لم تحل في ناسوت عيسى عليه السلام بل قالوا الكلمة حلت فيه، والمراد من الكلمة العلم. فنقول: العلم لما حل في عيسى ففي تلك الحالة إما أن يقال إنه بقي في ذات الله تعالى أو ما بقي فيها فإن كان الأول لزم حصول الصفة الواحدة في محلين. وذلك غير معقول ولأنه لو جاز أن يقال العلم الحاصل في ذات عيسى عليه السلام هو العلم الحاصل في ذات الله تعالى بعينه، فلم لا يجوز في حق كل واحد ذلك حتى يكون العلم الحاصل لكل واحد هو العلم الحاصل لذات الله تعالى، وإن كان الثاني لزم أن يقال: إن الله تعالى لم يبق عالما بعد حلول علمه في عيسى عليه السلام وذلك مما لا يقوله عاقل. وثانيها: مناظرة جرت بيني وبين بعض النصارى، فقلت له هل تسلم أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول أم لا؟ فإن أنكرت لزمك أن لا يكون الله تعالى قديما لأن دليل وجوده هو العالم فإذا لزم من عدم
الدليل عدم المدلول لزم من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فنقول إذا جوزت اتحاد كلمة الله تعالى بعيسى أو حلولها فيه فكيف عرفت أن كلمة الله تعالى ما دخلت في زيد وعمرو بل كيف أنها ما حلت في هذه الهرة وفي هذا الكلب، فقال لي: إن هذا السؤال لا يليق بك لأنا إنما أثبتنا ذلك الاتحاد أو الحلول بناء على ما ظهر على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، فإذا لم نجد شيئا من ذلك ظهر على يد غيره فكيف نثبت الاتحاد أو الحلول، فقلت له: إني عرفت من هذا الكلام أنك ما عرفت أول الكلام لأنك سلمت لي أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فإذا كان هذا الحلول غير ممتنع في الجملة فأكثر ما في الباب أنه وجد ما يدل على حصوله في حق عيسى عليه السلام ولم يوجد ذلك الدليل في حق زيد وعمرو ولكن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فلا يلزم من عدم ظهور هذه الخوارق على يد زيد وعمرو وعلى السنور والكلب عدم ذلك الحلول، فثبت أنك مهما جوزت القول بالاتحاد والحلول لزمك تجويز حصول ذلك الاتحاد وذلك الحلول في حق كل واحد بل في حق كل حيوان ونبات ولا شك أن المذهب الذي يسوق قائله إلى مثل هذا القول الركيك يكون باطلا قطعا، ثم قلت له: وكيف دل إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص على ما قلت؟ أليس أن انقلاب العصا ثعبانا أبعد من انقلاب الميت حيا فإذا ظهر ذلك على يد موسى عليه السلام ولم يدل على أهليته فبأن لا يدل هذا على آلهية عيسى أولى. وثالثها: أنا نقول دلالة أحوال عيسى على العبودية أقوى من دلالتها على الربوبية لأنه كان مجتهدا في العبادة والعبادة لا تليق إلا بالعبيد فإنه كان في نهاية البعد عن الدنيا والاحتراز عن أهلها حتى قالت النصارى إن اليهود قتلوه ومن كان في الضعف هكذا فكيف تليق به الربوبية. ورابعها: المسيح إما أن يكون قديما أو محدثا والقول بقدمه باطل لأنا نعلم
212

بالضرورة أنه ولد وكان طفلا ثم صار شابا وكان يأكل ويشرب ويعرض له ما يعرض لسائر البشر، وإن كان محدثا كان مخلوقا ولا معنى للعبودية إلا ذلك، فإن قيل: المعنى بإلهيته أنه حلت صفة الآلهية فيه، قلنا: هب أنه كان كذلك لكن الحال هو صفة الإله والمسيح هو المحل والمحل محدث مخلوق فما هو المسيح (إلا) عبد محدث فكيف يمكن وصفه بالإلهية. وخامسها: أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد فإن كان لله ولد فلا بد وأن يكون من جنسه فإذن قد اشتركا من بعض الوجوه، فإن لم يتميز أحدهما عن الآخر بأمر ما فكل واحد منهما هو الآخر، وإن حصل الإمتياز فما به الإمتياز غير ما به الاشتراك، فيلزم وقوع التركيب في ذات الله وكل مركب ممكن، فالواجب ممكن هذا خلف محال هذا كله على الاتحاد والحلول. أما الاحتمال الثالث: وهو أن يقال معنى كونه إلها أنه سبحانه خص نفسه أو بدنه بالقدرة على خلق الأجسام والتصرف في هذا العالم فهذا أيضا باطل لأن النصارى حكوا عنه الضعف والعجز وأن اليهود قتلوه ولو كان قادرا على خلق الأجسام لما قدروا على قتله بل كان هو يقتلهم ويخلق لنفسه عسكرا يذبون عنه. وأما الاحتمال الرابع: وهو أنه اتخذه ابنا لنفسه على سبيل التشريف فهذا قد قال به قوم من النصارى يقال لهم الأرميوسية وليس فيه كثير خطأ إلا في اللفظ فهذا جملة الكلام على النصارى وبه ثبت صدق ما حكاه الله تعالى عنه أنه قال: إني عبد الله. الصفة الثانية: قوله تعالى: * (آتاني الكتاب) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلف الناس فيه فالجمهور على أنه قال هذا الكلام حال صغره وقال أبو القاسم البلخي إنه إنما قال ذلك حين كان كالمراهق الذي يفهم وإن لم يبلغ حد التكليف أما الأولون فلهم قولان: أحدهما: أنه كان في ذلك الصغر نبيا. الثاني: روى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المراد بأن حكم وقضى بأنه سيبعثني من بعد ولما تكلم بذلك سكت وعاد إلى حال الصغر. ولما بلغ ثلاثين سنة بعثه الله نبيا، واحتج من نص على فساد القول الأول بأمور: أحدها: أن النبي لا يكون إلا كاملا والصغير ناقص الخلقة بحيث يعد هذا التحدي من الصغير منفرا بل هو في التنفير أعظم من أن يكون امرأة. وثانيها: أنه لو كان نبيا في هذا الصغر لكان كمال عقله مقدما على ادعائه للنبوة إذ النبي لا بد وأن يكون كامل العقل لكن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة فيكون المعجز متقدما على التحدي وإنه غير جائز. وثالثها: أنه لو كان نبيا في ذلك الوقت لوجب أن يشتغل ببيان الأحكام، وتعريف الشرائع ولو وقع ذلك لاشتهر ولنقل فحيث لم يحصل ذلك علمنا أنه ما كان نبيا في ذلك الوقت. أجاب الأولون عن الكلام الأول بأن كون الصبي ناقصا ليس لذاته بل الأمر يرجع إلى صغر جسمه ونقصان فهمه، فإذا أزال الله تعالى هذه الأشياء لم تحصل النفرة بل تكون الرغبة إلى استماع قوله وهو على هذه الصفة أتم وأكمل. وعن الكلام الثاني لم لا يجوز أن يقال إكمال عقله وإن حصل مقدما على دعواه إلا أنه معجزة لزكريا عليه السلام، أو يقال: إنه إرهاص لنبوته أو كرامة لمريم
213

عليها السلام وعندنا الإرهاص والكرامات جائزة، وعن الكلام الثالث لم لا يجوز أن يقال مجرد بعثته إليهم من غير بيان شيء من الشرائع والأحكام جائز ثم بعد البلوغ أخذ في شرح تلك الأحكام، فثبت بهذا أنه لا امتناع في كونه نبيا في ذلك الوقت وقوله: * (آتاني الكتاب) * يدل على كونه نبيا في ذلك الوقت فوجب إجراؤه على ظاهره بخلاف ما قاله عكرمة، أما قول أبي القاسم البلخي فبعيد وذلك لأن الحاجة إلى كلام عيسى عليه السلام إنما كانت عند وقوع التهمة على مريم عليها السلام.
المسألة الثانية: اختلفوا في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة لأن الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة، وقال أبو مسلم: المراد هو الإنجيل لأن الألف واللام ههنا للجنس أي آتاني من هذا الجنس، وقال قوم: المراد هو التوراة والإنجيل لأن الألف واللام تفيد الاستغراق. المسألة الثالثة: اختلفوا في أنه متى آتاه الكتاب ومتى جعله نبيا لأن قوله: * (آتاني الكتاب وجعلني نبيا) * يدل على أن ذلك كان قد حصل من قبل إما ملاصقا لذلك الكلام أو متقدما عليه بأزمان، والظاهر أنه من قبل أن كلمهم آتاه الله الكتاب وجعله نبيا وأمره بالصلاة والزكاة وأن يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه وإلى ما خص به من الشريعة فقيل هذا الوحي نزل عليه وهو في بطن أمه وقيل لما انفصل من الأم آتاه الله الكتاب والنبوة وأنه تكلم مع أمه وأخبرها بحاله وأخبرها بأنه يكلمهم بما يدل على براءة حالها فلهذا أشارت إليه بالكلام. الصفة الثالثة: قوله: * (وجعلني نبيا) * قال بعضهم أخبر أنه نبي ولكنه ما كان رسولا لأنه في ذلك الوقت ما جاء بالشريعة ومعنى كونه نبيا أنه رفيع القدر على الدرجة وهذا ضعيف لأن النبي في عرف الشرع هو الذي خصه الله بالنبوة وبالرسالة خصوصا إذا قرن إليه ذكر الشرع وهو قوله وأوصاني بالصلاة
والزكاة. الصفة الرابعة: قوله: * (وجعلني مباركا أينما كنت) * فلقائل أن يقول كيف جعله مباركا والناس كانوا قبله على الملة الصحيحة فلما جاء صار بعضهم يهودا وبعضهم نصارى قائلين بالتثليث ولم يبق على الحق إلا القليل، والجواب ذكروا في " تفسير المبارك " وجوها: أحدها: أن البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير فمعناه جعلني ثابتا على دين الله مستقرا عليه. وثانيها: أنه إنما كان مباركا لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أسلمت أم عيسى عليها السلام عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم: أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم: اكتب فقال: أي شيء أكتب، فقال: اكتب أبجد فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال: هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرة ليضربه فقال: يا مؤدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فأنا أعلمك الألف من آلاء الله والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله والدال من أداء الحق إلى الله. وثالثها: البركة الزيادة والعلو فكأنه قال: جعلني في جميع الأحوال غالبا مفلحا منجحا لأني ما دمت أبقى في الدنيا
214

أكون على الغير مستعليا بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم يكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء. ورابعها: مبارك على الناس بحيث يحصل بسبب دعائي إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص فقالت: طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به، فقال عيسى عليه السلام مجيبا لها: طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جبارا شقيا. أما قوله: * (أين ما كنت) * فهو يدل على أن حاله لم يتغير كما قيل إنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف. الصفة الخامسة: قوله: * (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) * فإن قيل كيف أمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلا صغيرا والقلم مرفوع عنه على ما قاله صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ " الحديث وجوابه من وجهين: الأول: أن قوله: * (وأوصاني بالصلاة والزكاة) * لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فلعل المراد أنه تعالى أوصاه بهما وبأدائهما في الوقت المعين له وهو وقت البلوغ. الثاني: لعل الله تعالى لما انفصل عيسى عن أمه صيره بالغا عاقلا تام الأعضاء والخلقة وتحقيقه قوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) * (آل عمران: 59) فكما أنه تعالى خلق آدم تاما كاملا دفعة فكذا القول في عيسى عليه السلام، وهذا القول الثاني أقرب إلى الظاهر لقوله: * (ما دمت حيا) * فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه في جميع زمان حيائه ولكن لقائل أن يقول لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه فقد رأوه شخصا كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجبا فكان ينبغي أن لا يعجبوا فلعل الأول أن يقال إنه تعالى جعله مع صغر جثته قوي التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية دالة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل مرة أخرى. الصفة السادسة: قوله تعالى: * (وبرا بوالدتي) * أي جعلني برا بوالدتي وهذا يدل على قولنا: إن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن الآية تدل على أن كونه برا إنما حصل بجعل الله وخلقه وحمله على الألطاف عدول عن الظاهر ثم قوله: * (وبرا بوالدتي) * إشارة إلى تنزيه أمه عن الزنا إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأمورا بتعظيمها. قال صاحب " الكشاف ": جعل ذاته برا لفرط بره ونصبه بفعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفني بها واحد. الصفة السابعة؛ قوله: * (ولم يجعلني جبارا شقيا) * وهذا أيضا يدل على قولنا لأنه لما بين أنه جعله برا وما جعله جبارا فهذا إنما يحسن لو أن الله تعالى جعل غير جبارا وغيره بار بأمه، فإن الله تعالى لو فعل ذلك بكل أحد لم يكن لعيسى عليه السلام مزيد تخصيص بذلك، ومعلوم أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك في معرض التخصيص وقوله: * (ولم يجعلني جبارا) * أي ما جعلني متكبرا بل أنا خاضع لأني متواضع لها ولو كنت جبارا لكنت عاصيا شقيا. وروي أن عيسى عليه السلام قال: قلبي لين وأنا صغير في نفسي وعن بعض العلماء لا تجد العاق إلا جبارا شقيا وتلا: * (وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا) * ولا تجد سيئ الملكة إلا مختالا فخورا وقرأ: * (وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) *. الصفة
215

الثامنة: هي قوله: * (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم: لام التعريف في السلام منصرف إلى ما تقدم في قصتي يحيى عليه السلام من قوله: * (وسلام عليه) * (مريم: 15) أي السلام الموجه إليه في المواطن الثلاثة موجه إلي أيضا وقال صاحب " الكشاف ": الصحيح أن يكون هذا التعريف تعويضا باللعن على من اتهم مريم بالزنا وتحقيقه أن اللام للاستغراق فإذا قال: * (والسلام علي) * فكأنه قال وكل السلام علي وعلى أتباعي فلم يبق للأعداء إلا اللعن ونظيره قول موسى عليه السلام: * (والسلام على من اتبع الهدى) * (طه: 47) بمعنى أن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام اللجاج والعناد ويليق به مثل هذا التعريض.
المسألة الثانية: روى بعضهم عن عيسى عليه السلام أنه قال ليحيى أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت على نفسي وأجاب الحسن فقال: إن تسليمه على نفسه بتسليم الله عليه.
المسألة الثالثة: قال القاضي: السلام عبارة عما يحصل به الأمان ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى أنه فعله بيحيى، ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة وأعظم أحوال الإنسان احتياجا إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة وهي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى طلبها ليكون مصونا عن الآفات والمخافات في كل الأحوال، واعلم أن اليهود والنصارى ينكرون أن عيسى عليه السلام تكلم في زمان الطفولية واحتجوا عليه بأن هذا من الوقائع العجيبة التي تتوافر الدواعي على نقلها فلو وجدت لنقلت بالتواتر ولو كان ذلك لعرفه النصارى لا سيما وهم من أشد الناس بحثا عن أحواله وأشد الناس غلوا فيه حتى زعموا كونه إلها ولا شك أن الكلام في الطفولية من المناقب العظيمة والفضائل التامة فلما لم تعرفه النصارى مع شدة الحب وكمال البحث عن أحواله علمنا أنه لم يوجد ولأن اليهود أظهروا عداوته حال ما أظهر ادعاء النبوة فلو أنه عليه السلام تكلم في زمان الطفولية وادعى الرسالة لكانت عداوتهم معه أشد ولكان قصدهم قتله أعظم فحيث لم يحصل شيء من ذلك علمنا أنه ما تكلم، أما المسلمون فقد احتجوا من جهة العقل على
أنه تكلم فإنه لولا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا إقامة الحد على الزنا عليها ففي تركهم لذلك دلالة على أنه عليه السلام تكلم في المهد وأجابوا عن الشبهة الأولى بأنه ربما كان الحاضرون عند كلامه قليلين فلذلك لم يشتهر وعن الثاني لعل اليهود ما حضروا هناك وما سمعوا كلامه فلذلك لم يشتغلوا بقصد قتله.
قوله تعالى
* (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذى فيه يمترون * ما كان الله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *
وفيه مسائل:
216

المسألة الأولى: قرأ عاصم وابن عامر: * (قول الحق) * بالنصب وعن ابن مسعود: * (قال الحق) * و * (قال الله) * وعن الحسن: * (قول الحق) * بضم القاف وكذلك في الأنعام قوله: * (الحق) * والقول والقال القول في معنى واحد كالرهب والرهب والرهب، أما ارتفاعه فعلى أنه خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف، وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله أو على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقولك هو عند الله الحق لا الباطل والله أعلم.
المسألة الثانية: لا شبهة أن المراد بقوله: * (ذلك عيسى ابن مريم) * الإشارة إلى ما تقدم وهو قوله: * (إني عبد الله آتاني الكتاب) * (مريم: 30) أي ذلك الموصوف بهذه الصفات هو عيسى ابن مريم وفي قوله: * (عيسى ابن مريم) * إشارة إلى أنه ولد هذه المرأة وابنها لا أنه ابن الله. فأما قوله * (الحق) * ففيه وجوه: أحدها: وهو أن نفس عيسى عليه السلام هو قول الحق وذلك لأن الحق هو اسم الله فلا فرق بين أن نقول عيسى كلمة الله وبين أن نقول عيسى قول الحق. وثانيها: أن يكون المراد: " ذلك عيسى ابن مريم القول الحق " إلا أنك أضفت الموصوف إلى الصفة فهو كقوله: * (إن هذا لهو حق اليقين) * (الواقعة: 95) وفائدة قولك: القول الحق تأكيد ما ذكرت أولا من كون عيسى عليه السلام ابنا لمريم. وثالثها: أن يكون * (قول الحق) * خبرا لمبتدأ محذوف كأنه قيل ذلك عيسى ابن مريم ووصفنا له هو قول الحق فكأنه تعالى وصفه أولا ثم ذكر أن هذا الموصوف هو عيسى ابن مريم ثم ذكر أن هذا الوصف أجمع هو قول الحق على معنى أنه ثابت لا يجوز أن يبطل كما بطل ما يقع منهم من المرية ويكون في معنى إن هذا لهو الحق اليقين. فأما امتراؤهم في عيسى عليه السلام فالمذاهب التي حكيناها من قول اليهود والنصارى وقد تقدم ذكر ذلك في سورة آل عمران، روي أن عيسى عليه السلام لما رفع حضر أربعة من أكابرهم وعلمائهم فقيل للأول ما تقول في عيسى؟ فقال: هو إله والله إله وأمه إله، فتابعه على ذلك ناس وهم الإسرائيلية، وقيل للرابع ما تقول؟ فقال: هو عبد الله ورسوله وهو المؤمن المسلم، وقال أما تعلمون أن عيسى كان يطعم وينام وأن الله تعالى لا يجوز عليه ذلك؟ فخصمهم. أما قوله: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * فهو يحتمل أمرين: أحدهما: أن ثبوت الولد له محال فقولنا: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * كقوله ما كان لله أن يقول لأحد إنه ولدي لأن هذا الخبر كذب والكذب لا يليق بحكمة الله تعالى وكماله فقوله: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * كقولنا: ما كان لله أن يظلم أي لا يليق ذلك بحكمته وكمال إلهيته، واحتج الجبائي بالآية بناء على هذا التفسير أنه ليس لله أن يفعل كل شيء لأنه تعالى صرح بأنه ليس له هذا الإيجاد أي ليس له هذا الاختيار وأجاب أصحابنا عنه بأنه الكذب محال على الله تعالى فلا جرم قال: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * أما قوله: * (سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما قال * (سبحانه) * ثم قال عقيبه: * (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * كان كالحجة على تنزيهه عن الولد وبيان ذلك أن الذي يجعل ولدا لله، إما أن يكون
217

قديما أزليا أو يكون محدثا فإن كان أزليا فهو محال لأنه لو كان واجبا لذاته لكان واجب الوجود أكثر من واحد. هذا خلف. وإن كان ممكنا لذاته كان مفتقرا في وجوده إلى الواجب لذاته غنيا لذاته فيكون الممكن محتاجا لذاته فيكون عبدا له لأنه لا معنى للعبودية إلا ذلك، وأما إن كان الذي يجعل ولدا يكون محدثا فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم وإيجاده وهو المراد من قوله: * (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * فيكون عبدا له لا ولدا له فثبت أنه يستحيل أن يكون لله ولد.
المسألة الثانية: احتج الأصحاب بقوله: * (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * على قدم كلام الله تعالى قالوا: لأن الآية تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له: كن فيكون فلو كان قوله كن محدثا لافتقر حدوثه إلى قول آخر ولزم التسلسل وهو محال، فثبت أن قول الله قديم لا محدث، واحتج المعتزلة بالآية على حدوث كلام الله تعالى من وجوه: أحدها: أنه تعالى أدخل عليه كلمة إذا وهذه الكلمة دالة على الاستقبال فوجب أن لا يحصل القول إلا في الاستقبال. وثانيها: أن حرف الفاء للتعقيب والفاء في قوله: * (فإنما يقول له) * يدل على تأخر ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخر عن غيره محدث. وثالثها: الفاء في قوله: * (فيكون) * يدل على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصل فيكون قول الله متقدما على حدوث الحادث تقدما بلا فصل والمتقدم على المحدث تقدما بلا فصل يكون محدثا، فقول الله محدث. واعلم أن استدلال الفريقين ضعيف، أما استدلال الأصحاب فلأنه يقتضي أن يكون قوله: * (كن) * قديما وذلك باطل بالاتفاق، وأما استدلال المعتزلة فلأنه يقتضي أن يكون قول الله تعالى هو المركب من الحروف والأصوات وهو محدث وذلك لا نزاع فيه إنما المدعي قدم شيء آخر.
المسألة الثالثة: من الناس من أجرى الآية على ظاهرها فزعم أنه تعالى إذا أحدث شيئا قال له كن وهذا ضعيف لأنه، إما أن يقول له كن قبل حدوثه أو حال حدوثه. فإن كان الأول كان ذلك خطابا مع المعدوم وهو عبث وإن كان الثاني فهو حال حدوثه قد وجد بالقدرة والإرادة فأي تأثير لقوله كن فيه، ومن الناس من زعم أن المراد من قوله: * (كن) * هو الخليق والتكوين وذلك لأن القدرة على الشيء غير وتكوين الشيء غير فإن الله سبحانه قادر في الأزل وغير مكون في الأزل، ولأنه الآن قادر على عوالم سوى هذا العالم وغير مكون لها، والقادرية غير المكونية والتكوين ليس هو نفس المكون لأنا نقول المكون إنما حدث لأن الله تعالى كونه فأوجده، فلو كان التكوين نفس المكون لكان قولنا المكون إنما وجد بتكوين الله تعالى نازلا منزلة قولنا المكون إنما وجد بنفسه وذلك محال، فثبت أن التكوين غير المكون فقوله: * (كن)
* إشارة إلى الصفة المسماة بالتكوين، وقال آخرون قوله: * (كن) * عبارة عن نفاذ قدرة الله تعالى ومشيئته في الممكنات. فإن وقوعها بتلك القدرة والإرادة من غير امتناع واندفاع
218

يجري مجرى العبد المطيع المسخر المنقاد لأوامر مولاه، فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبارة على سبيل الاستعارة.
قوله تعالى
* (وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم * أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين * وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الامر وهم فى غفلة وهم لا يؤمنون * إنا نحن نرث الارض ومن عليها وإلينا يرجعون) *
اعلم أن قوله: * (وإن الله ربي وربكم فاعبدوه) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ المدنيون وأبو عمرو بفتح أن، ومعناه ولأنه ربي وربكم فاعبدوه، وقرأ الكوفيون وأبو عبيدة بالكسر على الابتداء، وفي حرف أبي * (إن الله) * بالكسر من غير واو أي بسبب ذلك فاعبدوه.
المسألة الثانية: أنه لا يصح أن يقول الله: * (وإن الله ربي وربكم فاعبدوه) * فلا بد وأن يكون قائل هذا غير الله تعالى، وفيه قولان: الأول: التقدير فقل يا محمد إن الله ربي وربكم بعد إظهار البراهين الباهرة في أن عيسى هو عبد الله. الثاني: قال أبو مسلم الأصفهاني: الواو في وإن الله عطف على قول عيسى عليه السلام: * (إني عبد الله آتاني الكتاب) * (مريم: 30) كأنه قال: إني عبد الله وإنه ربي وربكم فاعبدوه، وقال وهب بن منبه عهد إليهم حين أخبرهم عن بعثه ومولده ونعته أن الله ربي وربكم أي كلنا عبيد الله تعالى.
المسألة الثالثة: قوله: * (وإن الله ربي وربكم) * يدل على أن مدبر الناس ومصلح أمورهم هو الله تعالى على خلاف قول المنجمين إن مدبر الناس ومصلح أمورهم في السعادة والشقاوة هي الكواكب ويدل أيضا على أن الإله واحد لأن لفظ الله اسم علم له سبحانه فلما قال: * (إن الله ربي وربكم) *
219

أي لا رب للمخلوقات سوى الله تعالى وذلك يدل على التوحيد، أما قوله: * (فاعبدوه) * فقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فههنا الأمر بالعبادة وقع مرتبا على ذكر وصف الربوبية فدل على أنه إنما تلزمنا عبادته سبحانه لكونه ربا لنا، وذلك يدل على أنه تعالى إنما تجب عبادته لكونه منعما على الخلائق بأصول النعم وفروعها، ولذلك فإن إبراهيم عليه السلام لما منع أباه من عبادة الأوثان قال: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * يعني أنها لما لم تكن منعمة على العباد لم تجز عبادتها، وبهذه الآية ثبت أن الله تعالى لما كان ربا ومربيا لعباده وجب عبادته، فقد ثبت طردا وعكسا تعلق العبادة بكون المعبود منعما، أما قوله: * (هذا صراط مستقيم) * يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم وأنه سمي هذا القول بالصراط المستقيم تشبيها بالطريق لأنه المؤدي إلى الجنة، أما قوله تعالى: * (فاختلف الأحزاب من بينهم) * ففي الأحزاب أقوال: الأول: المراد فرق النصارى على ما بينا أقسامهم. الثاني: المراد النصارى واليهود فجعله بعضهم ولدا وبعضهم كذابا. الثالث: المراد الكفار الداخل فيهم اليهود والنصارى والكفار الذين كانوا في زمن محمد صلى الله عليه وسلم وإذا قلنا المراد بقوله: * (وإن الله ربي وربكم فاعبدوه) * أي قل يا محمد إن الله ربي وربكم، فهذا القول أظهر لأنه لا تخصيص فيه، وكذا قوله: * (فويل للذين كفروا) * مؤكد لهذا الاحتمال، وأما قوله: * (من مشهد يوم عظيم) * فالمشهد إما أن يكون هو الشهود وما يتعلق به أو الشهادة وما يتعلق بها. أما الأول: فيحتمل أن يكون المراد من المشهد نفس شهودهم هول الحساب، والجزاء في القيامة أو مكان الشهود فيه وهو الموقف، أو وقت الشهود، وأما الشهادة فيحتمل أن يكون المراد شهادة الملائكة والأنبياء وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال، وأن يكون مكان الشهادة أو وقتها، وقيل: هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه، وإنما وصف ذلك المشهد بأنه عظيم لأنه لا شيء أعظم مما يشاهد في ذلك اليوم من محاسبة ومساءلة، ولا شيء من المنافع أعظم مما هنالك من الثواب ولا بد من المضار أعظم مما هنالك من العقاب، أما قوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قالوا: التعجب هو استعظام الشيء مع الجهل بسبب عظمه، ثم يجوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير أن يكون للعظم سبب حصول، قال الفراء قال سفيان: قرأت عند شريح: * (بل عجبت ويسخرون) * (الصافات: 12) فقال: إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: إن شريحا شاعر يعجبه علمه، وعبد الله أعلم بذلك منه قرأها: * (بل عجبت ويسخرون) * ومعناه أنه صدر من الله تعالى فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم، وبهذا التأويل يضاف المكر والاستهزاء إلى الله تعالى، وإذا عرفت هذا فنقول: للتعجب صفتان: إحداهما: ما أفعله.
220

والثانية: أفعل به كقوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر) * والنحويون ذكروا له تأويلات: الأول: قالوا: أكرم بزيد أصله أكرم زيد أي صار ذا كرم كأغد البعير أي صار ذا غدة إلا أنه خرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر كما خرج على لفظ الخبر ما معناه الأمر كقوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن) * (البقرة: 228)، * (والوالدات يرضعن أولادهن) * (البقرة: 233)، * (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) * (مريم: 75) أي يمد له الرحمن مدا، وكذا قولهم: رحمه الله خبر وإن كان معناه الدعاء والباء زائدة. الثاني: أن يقال إنه أمر لكل أحد بأن يجعل زيدا كريما أي بأن يصفه بالكرم، والباء زائدة مثل قوله: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (البقرة: 195) ولقد سمعت لبعض الأدباء فيه تأويلا. ثالثا: وهو أن قولك أكرم بزيد يفيد أن زيدا بلغ في الكرم إلى حيث كأنه في ذاته صار كرما حتى لو أردت جعل غيره كريما فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك، كما أن من قال: أكتب بالقلم فمعناه أن القلم هو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل
لك غرضك. المسألة الثانية: قوله * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) * فيه ثلاثة أوجه. أحدها: وهو المشهور الأقوى أن معناه ما أسمعهم وما أبصرهم والتعجب على الله تعالى محال كما تقدم، وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صما وعميا في الدنيا، وقيل: معناه التهديد مما سيسمعون وسيبصرون مما يسوء بصرهم ويصدع قلوبهم. وثانيها: قال القاضي ويحتمل أن يكون المراد أسمع هؤلاء وأبصرهم أي عرفهم حال القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا. وثالثها: قال الجبائي: ويجوز أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم بهم ليعرفوا أمرهم وسوء عاقبتهم فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم أما قوله: * (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) * ففيه قولان: الأول: لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وفي الآخرة يعرفون الحق. والثاني: * (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) * وهم في الآخرة في ضلال عن الجنة بخلاف المؤمنين، وأما قوله تعالى: * (وأنذرهم) * فلا شبهة في أنه أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن ينذر من في زمانه فيصلح بأن يجعل هذا كالدلالة على أن قوله فاختلف الأحزاب أراد به اختلاف جميعهم في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأما الإنذار فهو التخويف من العذاب لكي يحذروا من ترك عبادة الله تعالى وأما يوم الحسرة فلا شبهة في أنه يوم القيامة من حيث يكثر التحسر من أهل النار وقيل يتحسر أيضا في الجنة إذا لم يكن من السابقين الواصلين إلى الدرجات العالية والأول هو الصحيح لأن الحسرة غم وذلك لا يليق بأهل الثواب، أما قوله تعالى: * (إذ قضى الأمر) * ففيه وجوه: أحدها: إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب. وثانيها: إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف والأول أقرب لقوله: * (وهم لا يؤمنون) * فكأنه تعالى بين أنه ظهرت الحجج والبينات وهم في غفلة وهم لا يؤمنون. وثالثها: روي أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: قضى الأمر: " فقال حين يجاء بالموت في صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحا على فرح وأهل النار غما على غم " واعلم أن الموت عرض فلا يجوز أن يصير
221

جسما حيوانيا بل المراد أنه لا موت البتة بعد ذلك وأما قوله: * (وهم في غفلة) * أي عن ذلك اليوم وعن كيفية حسرته وهم لا يؤمنون أي بذلك اليوم ثم قال بعده: * (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها) * أي هذه الأمور تؤول إلى أن لا يملك الضر والنفع إلا الله تعالى: * (وإلينا يرجعون) * أي إلى محل حكمنا وقضائنا لأنه تعالى منزه عن المكان حتى يكون الرجوع إليه وهذا تخويف عظيم وزجر بليغ للعصاة.
القصة الثالثة: قصة إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى
* (واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لابيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا * يا أبت إنى قد جآءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعنى أهدك صراطا سويا * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا * يا أبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا) *
اعلم أن الغرض من هذه السورة بيان التوحيد والنبوة والحشر، والمنكرون للتوحيد هم الذين أثبتوا معبودا سوى الله تعالى، وهؤلاء فريقان: منهم من أثبت معبودا غير الله حيا عاقلا فاهما وهم النصارى، ومنهم من أثبت معبودا غير الله جمادا ليس بحي ولا عاقل ولا فاهم وهم عبدة الأوثان والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن ضلال الفريق الثاني أعظم فلما بين تعالى ضلال الفريق الأول تكلم في ضلال الفريق الثاني وهم عبدة الأوثان فقال: * (واذكر في الكتاب) * والواو في قوله واذكر عطف على قوله: * (ذكر رحمة ربك عبده زكريا) * كأنه لما انتهت قصة عيسى وزكريا عليهما السلام قال قد ذكرت حال زكريا فاذكر حال إبراهيم وإنما أمر بذكره لأنه عليه السلام ما كان هو ولا قومه ولا أهل بلدته مشتغلين بالعلم ومطالعة الكتب فإذا أخبر عن هذه القصة كما كانت من غير زيادة ولا نقصان كان ذلك إخبارا عن الغيب الغيب ومعجزا قاهرا دالا على نبوته. وإنما شرع في قصة إبراهيم عليه السلام لوجوه: أحدها: أن إبراهيم عليه السلام كان أب العرب وكانوا مقرين
222

بعلو شأنه وطهارة دينه على ما قال تعالى: * (ملة أبيكم إبراهيم) * (الحج: 78) وقال تعالى: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) * (البقرة: 130) فكأنه تعالى قال للعرب إن كنتم مقلدين لآبائكم على ما هو قولكم: * (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) * (الزخرف: 23) ومعلوم أن أشرف آبائكم وأجلهم قدرا هو إبراهيم عليه السلام فقلدوه في ترك عبادة الأوثان وإن كنتم من المستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان وبالجملة فاتبعوا إبراهيم إما تقليدا وإما استدلالا. وثانيها: أن كثيرا من الكفار في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون كيف نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وبين أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ليعرف الكفار أن ترجيح جانب الأب على جانب الدليل رد على الأب الأشرف الأكبر الذي هو إبراهيم عليه السلام. وثالثها: أن كثيرا من الكفار كانوا يتمسكون بالتقليد وينكرون الاستدلال على ما قال الله تعالى: * (قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة) * (الزخرف: 22) و * (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) * (الأنبياء: 53) فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام التمسك بطريقة الاستدلال تنبيها لهؤلاء على سقوط هذه الطريقة ثم قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام: * (إنه كان صديقا نبيا) * وفي الصديق قولان: أحدهما: أنه مبالغة في كونه صادقا وهو الذي يكون عادته الصدق لأن هذا البناء ينبئ عن ذلك يقال رجل خمير وسكير للمولع بهذه الأفعال. والثاني: أنه الذي يكون كثير التصديق بالحق حتى يصير مشهورا به والأول أولى وذلك لأن المصدق بالشيء لا يوصف بكونه صديقا إلا إذا كان صادقا في ذلك التصديق فيعود الأمر إلى الأول فإن قيل أليس قد قال تعالى: * (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء) * (الحديد: 19) قلنا: المؤمنون بالله ورسله صادقون في ذلك التصديق واعلم أن النبي يجب أن يكون صادقا في كل ما أخبر عنه لأن الله تعالى صدقه ومصدق الله صادق وإلا لزم الكذب في كلام الله تعالى فيلزم من هذا كون الرسول صادقا في كل ما يقول، ولأن الرسل شهداء الله على الناس على ما قال الله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * (النساء: 41) والشهيد إنما يقبل قوله: إذا لم يكن كاذبا. فإن قيل: فما قولكم في إبراهيم عليه السلام في قوله: * (بل فعله كبيرهم) * (الأنبياء: 63) و * (إني سقيم) * قلنا قد شرحنا في
تأويل هذه الآيات بالدلائل الظاهرة أن شيئا من ذلك ليس بكذب فلما ثبت أن كل نبي يجب أن يكون صديقا ولا يجب في كل صديق أن يكون نبيا ظهر بهذا قرب مرتبة الصديق من مرتبة النبي فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقا إلى ذكر كونه نبيا. وأما النبي فمعناه كونه رفيع القدر عند الله وعند الناس وأي رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده. وقوله: * (كان صديقا) * قيل: إنه صار وقيل إن معناه وجد صديقا نبيا أي كان من أول وجوده إلى انتهائه موصوفا بالصدق والصيانة. قال صاحب " الكشاف ": هذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله أعني إبراهيم وإذ قال ونظيره قولك رأيت زيدا ونعم الرجل أخاك ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقا نبيا أي كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات
223

أما قوله: * (يا أبت) * فالتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض عنه وقد يقال: يا أبتا لكون الألف بدلا من الياء واعلم أنه تعالى حكى أن إبراهيم عليه السلام تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام. النوع الأول: قوله: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * ووصف الأوثان بصفات ثلاثة كل واحدة منها قادحة في الإلهية وبيان ذلك من وجوه: أحدها: أن العبادة غاية التعظيم فلا يستحقها إلا من له غاية الانعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما قررناه في تفسير قوله: و * (إن الله ربي وربكم فاعبدوه) * (آل عمران: 51) وقال: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * (البقرة: 28) الآية وكما يعلم بالضرورة أنه لا يجوز الاشتغال بشكرها ما لم تكن منعمة وجب أن لا يجوز الاشتغال بعبادتها. وثانيها: أنها إذا لم تسمع ولم تبصر ولم تميز من يطيعها عمن يعصيها فأي فائدة في عبادتها، وهذا ينبهك على أن الإله يجب أن يكون عالما بكل المعلومات حتى يكون العبد آمنا من وقوع الغلط للمعبود. وثالثها: أن الدعاء مخ العبادة فالوثن إذا لم يسمع دعاء الداعي فأي منفعة في عبادته وإذا كانت لا تبصر بتقرب من يقترب إليها فأي منفعة في ذلك التقرب. ورابعها: أن السامع المبصر الضار النافع أفضل ممن كان عاريا عن كل ذلك، والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبادة الأخس. وخامسها: إذا كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى منها منفعة ولا يخاف من ضررها فأي فائدة في عبادتها. وسادسها: إذا كانت لا تحفظ أنفسها عن الكسر والإفساد على ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه كسرها وجعلها جذاذا فأي رجاء للغير فيها واعلم أنه عاب الوثن من ثلاثة أوجه. أحدها: لا يسمع. وثانيها: لا يبصر. وثالثها: لا يغني عنك شيئا كأنه قال له: بل الإلهية ليست إلا لربي فإنه يسمع ويجيب دعوة الداعي ويبصر، كما قال: * (إنني معكم أسمع وأرى) * (طه: 46) ويقضي الحوائج: * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) * (النمل: 62) واعلم أن قوله ههنا * (لم تعبد) * محمول على نفس العبادة وأما قوله في المقام الثالث: * (لا تعبد الشيطان) * لا يقال ذلك بل المراد الطاعة لأنهم ما كانوا يعبدون الشيطان فوجب حمله على الطاعة ولأنا نقول ليس إذا تركنا الظاهر ههنا لدليل وجب ترك الظاهر في المقام الأول بغير دليل فإن قيل: إما أن يقال إن أبا إبراهيم كان يعتقد في تلك الأوثان أنها آلهة بمعنى أنها قادرة مختارة موجدة للناس والحيوانات أو يقال إنه ما كان يعتقد ذلك بل كان يعتقد أنها تماثيل الكواكب والكواكب هي الآلهة المدبرة لهذا العالم، فتعظيم تماثيل الكواكب بموجب تعظيم الكواكب أو كان يعتقد أن هذه الأوثان تماثيل أشخاص معظمة عند الله تعالى من البشر فتعظيمها يقتضي كون أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند الله تعالى أو كان يعتقد أن تلك الأوثان طلسمات ركبت بحسب اتصالات مخصوصة للكواكب قلما يتفق مثلها، وأنها مشفع بها، أو غير ذلك من الأعذار المنقولة عن عبدة الأوثان، فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأول كان في نهاية الجنون لأن العلم بأن هذا الخشب المنحوت في هذه الساعة ليس خالقا للسموات والأرض من
224

أجلى العلوم الضرورية، فالشاك فيه يكون فاقدا لأجلى العلوم الضرورية فكان مجنونا والمجنون لا يجوز إيراد الحجة عليه والمناظرة معه، وإن كان من القسم الثاني فهذه الدلائل لا تقدح في شيء من ذلك لأن ذلك المذهب إنما يبطل بإقامة الدلالة على أن الكواكب ليست أحياء ولا قادرة على خلق الأجسام وخلق الحياة ومعلوم أن الدليل المذكور ههنا لا يفيد ذلك المطلوب فعلمنا أن هذه الدلالة عديمة الفائدة على كل التقديرات، قلنا: لا نزاع أنه لا يخفى على العاقل أن الخشبة المنحوتة لا تصلح لخلق العالم وإنما مذهبهم هذا على الوجه الثاني، وإنما أورد إبراهيم عليه السلام هذه الدلالة عليهم لأنهم كانوا يعتقدون أن عبادتها تفيد نفعا إما على سبيل الخاصية الحاصلة من الطلسمات أو على سبيل أن الكواكب تنفع وتضر، فبين إبراهيم عليه السلام أنه لا منفعة في طاعتها ولا مضرة في الإعراض عنها فوجب أن لا تحسن عبادتها. النوع الثاني: قوله: * (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) * ومعناه ظاهر وطمع في التمسك به أهل التعليم وأهل التقليد - أما أهل التعليم فقالوا: إنه أمره بالاتباع في الدين وما أمره بالتمسك بدليل لا يستفاد إلا من الإتباع، وأما أهل التقليد فقد تمسكوا به أيضا من هذا الوجه، ومن الناس من طعن أنه أمره بالاتباع لتحصل الهداية، فإذن لا تحصل الهداية إلا باتباعه، ولا تبعية إلا إذا اهتدى لقولنا إنه لا بد من اتباعه فيقع الدور وإنه باطل. " والجواب " عن الأول: أن المراد بالهداية بيان الدليل وشرحه وإيضاحه، فعند هذا عاد السائل فقال: أنا لا أنكر أنه لا بد من الدلالة، ولكني أقول الوقوف على تلك الدلالة لا يستفاد إلا ممن له نفس كاملة بعيدة عن النقص والخطأ، وهي نفس النبي المعصوم أو الإمام المعصوم فإذا سلمت أنه لا بد من النبي في هذا المقصود فقد سلمت حصول الغرض، أجاب المجيب وقال أنا ما سلمت أنه لا بد في الوقوف على الدلائل من هداية النبي، ولكني أقول هذا الطريق أسهل وإن إبراهيم عليه السلام دعاه إلى الأسهل والجواب عن سؤال الدور أن قوله: * (فاتبعني) * ليس أمر إيجاب بل أمر إرشاد. والنوع الثالث: قوله: * (يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا) * أي لا تطعه لأنه عاص لله فنفره بهذه الصفة عن القبول منه، لأنه أعظم الخصال المنفرة، واعلم أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص لم يذكر من جنايات الشيطان إلا كونه عاصيا لله ولم يذكر معاداته لآدم عليه السلام كأن النظر في عظم ما ارتكبه من ذلك العصيان غمى فكره وأطبق على ذهنه، وأيضا فإن معصية الله تعالى لا تصدر إلا عن ضعيف الرأي، ومن كان كذلك كان حقيقا أن لا يلتفت إلى رأيه ولا يجعل لقوله وزن فإن قيل: إن هذا القول يتوقف على إثبات أمور: أحدها: إثبات الصانع. وثانيها: إثبات الشيطان. وثالثها: إثبات أن الشيطان عاص لله. ورابعها: أنه لما كان عاصيا لم تجز طاعته في شيء من الأشياء. وخامسها: أن الاعتقاد الذي كان عليه ذلك
الإنسان كان مستفادا من طاعة الشيطان، ومن شأن الدلالة التي تورد على الخصم أن تكون مركبة من مقدمات معلومات مسلمة، ولعل أبا إبراهيم كان منازعا في كل هذه المقدمات،
225

وكيف والمحكى عنه أنه ما كان يثبت إلها سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الإله الرحمن وإذا لم يسلم وجوده، فكيف يمكنه تسليم أن الشيطان كان عاصيا للرحمن، ثم إن على تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرد هذا الكلام أن مذهبه مقتبس من الشيطان، بل لعله يقلب ذلك على خصمه، قلنا: الحجة المعول عليها في إبطال مذهب آزر هو الذي ذكره أولا من قوله: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * فأما هذا الكلام فيجري مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة، وعلى هذا التقدير يسقط السؤال. النوع الرابع: قوله: * (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا) * قال الفراء: معنى أخاف أعلم. والأكثرون على أنه محمول على ظاهره، والقول الأول إنما يصح لو كان إبراهيم عليه السلام عالما بأن أباه سيموت على ذلك الكفر وذلك لم يثبت فوجب إجراؤه على ظاهره فإنه كان يجوز أن يؤمن فيصير من أهل الثواب ويجوز أن يصر فيموت على الكفر، فيكون من أهل العقاب، ومن كان كذلك كان خائفا لا قاطعا، واعلم أن من يظن وصول الضرر إلى غيره فإنه لا يسمى خائفا إلا إذا كان بحيث يلزم من وصول ذلك الضرر إليه تألم قلبه كما يقال أنا خائف على ولدي أما قوله: * (فتكون للشيطان وليا) * فذكروا في الولي وجوها: أحدها: أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار والولاية سبب للمعية وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز وإن لم يجز حمله إلى الولاية الحقيقية لقوله تعالى: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * (الزخرف: 67) وقال: * (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) * (العنكبوت: 25) وحكى عن الشيطان أنه يقول لهم: * (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) * (إبراهيم: 22) واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا كان المراد من العذاب عذاب الآخرة، أما إذا كان المراد منه عذاب الدنيا فالإشكال ساقط. وثانيها؛ أن يحمل العذاب على الخذلان أي إني أخاف أن يمسك خذلان الله فتصير مواليا للشيطان ويبرأ الله منك على ما قال تعالى: * (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) * (النساء: 119). وثالثها: وليا أي تاليا للشيطان، تليه كما يسمى المطر الذي يأتي تاليا وليا فإن قيل قوله: * (أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا) * يقتضي أن تكون ولاية الشيطان أسوأ حالا من العذاب نفسه وأعظم، فما السبب لذلك. " والجواب ": أن رضوان الله تعالى أعظم من الثواب على ما قال: * (ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) * (التوبة: 72) فوجب أن تكون ولاية الشيطان التي هي في مقابلة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم. واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن لأنه نبه أولا على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمره باتباعه في النظر والاستدلال وترك التقليد ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي ثم إنه عليه السلام أورد هذا الكلام الحسن مقرونا باللطف والرفق فإن قوله في مقدمة كل كلام * (يا أبت) * دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب، وختم الكلام بقوله
226

* (إني أخاف) * وذلك يدل على شدة تعلق قلبه بمصالحه وإنما فعل ذلك لوجوه: أحدها: قضاء لحق الأبوة على ما قال تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) * (الإسراء: 23) والإرشاد إلى الدين من أعظم أنواع الإحسان، فإذا انضاف إليه رعاية الأدب والرفق كان ذلك نورا على نور. وثانيها: أن الهادي إلى الحق لا بد وأن يكون رفيقا لطيفا يورد الكلام لا على سبيل العنف لأن إيراده على سبيل العنف يصير كالسبب في إعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعيا في الإغواء. وثالثها: ما روى أبو هريرة أنه قال عليه السلام: " أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام أنك خليلي فحسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأن أسكنه حظيرة قدسي وأدنيه من جواري " والله أعلم.
قوله تعالى
* (قال أراغب أنت عن آلهتى يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بى حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى ألا أكون بدعآء ربى شقيا) *
اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما دعا أباه إلى التوحيد، وذكر الدلالة على فساد عبادة الأوثان، وأردف تلك الدلالة بالوعظ البليغ، وأورد كل ذلك مقرونا باللطف والرفق، قابله أبوه بجواب يضاد ذلك، فقابل حجته بالتقليد، فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا قوله: * (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) * فأصر على ادعاء إلهيتها جهلا وتقليدا وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم، وقابل رفقه في قوله: * (يا أبت) * (مريم: 44) بالعنف حيث لم يقل له يا بني بل قال: * (يا إبراهيم) * وإنما حكى الله تعالى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم ليخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين فيعلم أن الجهال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة، أما قوله: * (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) * فإن كان ذلك على وجه الاستفهام فهو خذلان لأنه قد عرف منه ما تكرر منه من وعظه وتنبيهه على الدلالة وهو يفيد أنه راغب عن ذلك أشد رغبة فما فائدة هذا القول. وإن كان ذلك على سبيل التعجب فأي تعجب في الإعراض عن حجة لا فائدة فيها، وإنما التعجب كله من الإقدام على عبادتها فإن الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام كما أنه يبطل جواز عبادتها فهو يفيد التعجب من أن العاقل كيف يرضى بعبادتها فكأن أباه قابل ذلك التعجب الظاهر المبني على الدليل بتعجب
227

فاسد غير مبني على دليل وشبهة، ولا شك أن هذا التعجب جدير بأن يتعجب منه، أما قوله: * (لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: في الرجم ههنا قولان: الأول: أنه الرجم باللسان، وهو الشتم والذم، ومنه قوله: * (والذين يرمون المحصنات) * (النور: 4) أي بالشتم، ومنه الرجم، أي المرمي باللعن، قال مجاهد: الرجم في القرآن كله بمعنى الشتم. والثاني: أنه الرجم باليد، وعلى هذا التقدير ذكروا وجوها: أحدها: لأرجمنك بإظهار أمرك للناس
ليرجموك ويقتلوك. وثانيها: لأرجمنك بالحجارة لتتباعد عني. وثالثها: عن المؤرج لأقتلنك بلغة قريش. ورابعها: قال أبو مسلم لأرجمنك المراد منه الرجم بالحجارة إلا أنه قد يقال ذلك في معنى الطرد والإبعاد اتساعا، ويدل على أنه أراد الطرد قوله تعالى: * (واهجرني مليا) * واعلم أن أصل الرجم هو الرمي بالرجام فحمله عليه أولى، فإن قيل: أفما يدل قوله تعالى: * (واهجرني مليا) * على أن المراد به الرجم بالشتم؟ قلنا: لا، وذلك لأنه هدده بالرجم إن بقي على قربه منه وأمره أن يبعد هربا من ذلك فهو في معنى قوله: * (واهجرني مليا) *.
المسألة الثانية: في قوله تعالى: * (واهجرني مليا) * قولان: أحدهما: المراد واهجرني بالقول. والثاني: بالمفارقة في الدار والبلد وهي هجرة الرسول والمؤمنين أي تباعد عني لكي لا أراك وهذا الثاني أقرب إلى الظاهر.
المسألة الثالثة: في قوله: * (مليا) * قولان: الأول: مليا أي مدة بعيدة مأخوذ من قولهم أتى على فلان ملاوة من الدهر أي زمان بعيد. والثاني: مليا بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح يقال فلان ملي بكذا إذا كان مطيقا له مضطلعا به.
المسألة الرابعة: عطف اهجرني على معطوف عليه محذوف يدل عليه لأرجمنك، أي فاحذرني واهجرني لئلا أرجمنك، ثم إن إبراهيم عليه السلام لما سمع من أبيه ذلك أجاب عن أمرين. أحدهما: أنه وعده التباعد منه، وذلك لأن أباه لما أمره بالتباعد أظهر الإنقياد لذلك الأمر وقوله: * (سلام عليك) * توادع ومتاركة كقوله تعالى: * (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) * (القصص: 55)، * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) * (الفرقان: 63) وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج، وعلى أنه تحسن مقابلة الإساءة بالإحسان، ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له، ألا ترى أنه وعده بالاستغفار، ثم إنه لما ودع أباه بقوله: * (سلام عليك) * ضم إلى ذلك ما دل به على أنه وإن بعد عنه فاشفاقه باق عليه كما كان وهو قوله: * (سأستغفر لك ربي) * واحتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء، وتقريره أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز لأنه استغفر لأبيه وهو كافر والاستغفار للكافر لا يجوز، فثبت بمجموع هذه المقدمات أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز، إنما قلنا إنه استغفر لأبيه لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم: * (سلام عليك سأستغفر لك ربي) * وقوله: * (واغفر لأبي إنه كان من الضالين) * (الشعراء: 86) وأما أن أباه كان كافرا فذاك بنص القرآن
228

وبالإجماع، وأما أن الاستغفار للكافر لا يجوز فلوجهين. الأول: قوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * (التوبة: 113). الثاني: قوله في سورة الممتحنة: * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) * - إلى قوله - * (لأستغفرن لك) * وأمر الناس إلا في هذا الفعل فوجب أن يكون ذلك معصية منه، " والجواب ": لا نزاع إلا في قولكم الاستغفار للكافر لا يجوز فإن الكلام عليه من وجوه: أحدها: أن القطع على أن الله تعالى يعذب الكافر لا يعرف إلا بالسمع، فلعل إبراهيم عليه السلام لم يجد في شرعه ما يدل على القطع بعذاب الكافر فلا جرم استغفر لأبيه. وثانيها: أن الاستغفار قد يكون بمعنى الاستماحة، كما في قوله: * (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) * (الجاثية: 14) والمعنى سأسأل ربي أن لا يجزيك بكفرك ما كنت حيا بعذاب الدنيا المعجل. وثالثها: أنه عليه السلام إنما استغفر لأبيه لأنه كان يرجو منه الإيمان فلما أيس من ذلك ترك الاستغفار ولعل في شرعه جواز الاستغفار للكافر الذي يرجي منه الإيمان، والدليل على وقوع هذا الاحتمال قوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) * (التوبة: 113) فبين أن المنع من الاستغفار إنما يحصل بعد أن يعرفوا أنهم من أصحاب الجحيم. ثم قال بعد ذلك: * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) * (التوبة: 114) فدلت الآية على أنه وعده بالاستغفار لو آمن، فلما لم يؤمن لم يستغفر له بل تبرأ منه، فإن قيل فإذا كان الأمر كذلك فلم منعنا من التأسي به في قوله: * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) * - إلى قوله - * (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) * (الممتحنة:) قلنا الآية تدل على أنه لا يجوز لنا التأسي به في ذلك لكن المنع من التأسي به في ذلك لا يدل على أن ذلك كان معصية. فإن كثيرا من الأشياء هي من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لنا التأسي به مع أنها كانت مباحة له عليه السلام. ورابعها: لعل هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى وحسنات الأبرار سيئات المقربين، أما قوله: * (إنه كان بي حفيا) * أي لطيفا رفيقا يقال أحفى فلان في المسألة بفلان إذا لطف به وبالغ في الرفق، ومنه قوله تعالى: * (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا) * (محمد: 37) أي وإن لطفت المسألة والمراد أنه سبحانه للطفه بي وإنعامه على عودني الإجابة فإذا أنا استغفرت لك حصل المراد فكأنه جعله بذلك على يقين إن هو تاب أن يحصل له الغفران. " الجواب الثاني " من الجوابين قوله: * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) * الاعتزال للشيء هو التباعد عنه والمراد أني أفارقكم في المكان وأفارقكم في طريقتكم أيضا وأبعد عنكم وأتشاغل بعبادة ربي الذي ينفع ويضر والذي خلقني وأنعم علي فإنكم بعبادة الأصنام سالكون طريقة الهلاك، فواجب على مجانبتكم ومعنى قوله: * (عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا) * أرجو أن لا أكون كذلك، وإنما ذكر ذلك على سبيل التواضع كقوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * (الشعراء: 82) وأما قوله: * (شقيا) * مع ما فيه من التواضع لله ففيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم على ما قرره أولا في
229

قوله: * (لم تبعد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) *.
قوله تعالى
* (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا * ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا) *
اعلم أنه ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم عليه السلام لما اعتزلهم في دينهم وفي بلدهم واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره لم يضره ذلك دينا ودنيا، بل نفعه فعوضه أولادا أنبياء ولا حالة في الدين والدنيا للبشر أرفع من أن يجعل الله له رسولا إلى خلقه ويلزم الخلق طاعته والانقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة
فصار جعله تعالى إياهم أنبياء من أعظم النعم في الدنيا والآخرة، ثم بين تعالى أنه مع ذلك وهب لهم من رحمته أي وهب لهم من النبوة ما وهب ويدخل فيه المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة ثم قال: * (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) * ولسان الصدق الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان، كما عبر باليد عما يعطي باليد وهو العطية، واستجاب الله دعوته في قوله: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * (الشعراء: 84) فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم وقال عز وجل: * (ملة أبيكم إبراهيم) * (الحج: 78) * (ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفا) * (النحل: 123) قال بعضهم: إن الخليل اعتزل عن الخلق على ما قال: * (واعتزلكم وما تدعون من دون الله) * (مريم: 48) فلا جرم بارك الله في أولاده فقال: * (ووهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا) *. وثانيها: أنه تبرأ من أبيه في الله تعالى على ما قال: * (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) * (التوبة: 114) لا جرم أن الله سماه أبا للمسلمين فقال: * (ملة أبيكم إبراهيم) *. وثالثها: تل ولده للجبين ليذبحه على ما قال: * (فلما أسلما وتله للجبين) * (الصافات: 103) لا جرم فداه الله تعالى على ما قال: * (وفديناه بذبح عظيم) * (الصافات: 107). ورابعها: أسلم نفسه فقال: * (أسلمت لرب العالمين) * (البقرة: 131) فجعل الله تعالى النار عليه بردا وسلاما فقال: * (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) * (الأنبياء: 69). وخامسها: أشفق على هذه الأمة فقال: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * (البقرة: 129) لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات الخمس، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وسادسها: في حق سارة في قوله: * (وإبراهيم الذي وفى) * (النجم: 37) لا جرم جعل موطئ قدميه مباركا: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (البقرة: 125). وسابعها: عادى كل الخلق في الله فقال: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) * (الشعراء: 77) لا جرم اتخذه الله خليلا على ما قال: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * (النساء: 125) ليعلم صحة قولنا أنه ما خسر على الله أحد.
230

(القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام)
قوله تعالى
* (واذكر فى الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا * وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا * ووهبنا له من رحمتنآ أخاه هارون نبيا) *
اعلم أنه تعالى وصف موسى عليه السلام بأمور: أحدها: أنه كان مخلصا فإذا قرىء بفتح اللام فهو من الاصطفاء والإختباء كأن الله تعالى اصطفاه واستخلصه وإذا قرىء بالكسر فمعناه أخلص لله في التوحيد في العبادة والإخلاص هو القصد في العبادة إلى أن يعبد المعبود بها وحده، ومتى ورد القرآن بقراءتين فكل واحدة منهما ثابت مقطوع به، فجعل الله تعالى من صفة موسى عليه السلام كلا الأمرين. وثانيها: كونه رسولا نبيا ولا شك أنهما وصفان مختلفان لكن المعتزلة زعموا كونهما متلازمين فكل رسول نبي وكل نبي رسول ومن الناس من أنكر ذلك وقد بينا الكلام فيه في سورة الحج في قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) * (الحج: 52). وثالثها: قوله تعالى: * (وناديناه من جانب الطور الأيمن) * من اليمين أي من ناحية اليمين والأيمن صفة الطور أو الجانب. ورابعها: قوله: * (وقربناه نجيا) * ولما ذكر كونه رسولا قال: * (وقربناه نجيا) * وفي قوله: * (قربناه) * قولان: أحدهما: المراد قرب المكان عن أبي العالية قربه حتى سمع صرير القلم حيث كتبت التوراة في الألواح. والثاني: قرب المنزلة أي رفعنا قدره وشرفناه بالمناجاة، قال القاضي: وهذا أقرب لأن استعمال القرب في الله قد صار بالتعارف لا يراد به إلا المنزلة وعلى هذا الوجه يقال في العبادة تقرب، ويقال في الملائكة عليهم السلام إنهم مقربون وأما * (نجيا) * فقيل فيه أنجيناه من أعدائه وقيل هو من المناجاة في المخاطبة وهو أولى. وخامسها: قوله: * (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان هارون عليه السلام أكبر من موسى عليهما السلام، وإنما وهب الله له نبوته لا شخصه وأخوته وذلك إجابة لدعائه في قوله: * (واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * أشدد به أزري) * (طه: 29، 30، 31) فأجابه الله تعالى إليه بقوله: * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * (طه: 36) وقوله: * (سنشد عضدك بأخيك) *.
(القصة الخامسة قصة إسماعيل عليه السلام)
قوله تعالى
* (واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر
231

أهله بالصلوة والزكوة وكان عند ربه مرضيا) *
اعلم أن إسماعيل هذا هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، واعلم أن الله تعالى وصف إسماعيل عليه السلام بأشياء: أولها: قوله: * (إنه كان صادق الوعد) * وهذا الوعد يمكن أن يكون المراد فيما بينه وبين الله تعالى ويمكن أن يكون المراد فيما بينه وبين الناس. أما الأول: فهو أن يكون المراد أنه كان لا يخالف شيئا مما يؤمر به من طاعة ربه وذلك لأن الله تعالى إذا أرسل الملك إلى الأنبياء وأمرهم بتأدية الشرع فلا بد من ظهور وعد منهم يقتضي القيام بذلك ويدل على القيام بسائر ما يخصه من العبادة. وأما الثاني: فهو أنه عليه السلام كان إذا وعد الناس بشيء أنجز وعده فالله تعالى وصفه بهذا الخلق الشريف وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة، وأيضا وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى به حيث قال: * (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) * (الصافات: 102) ويروى أن عيسى عليه السلام قال له رجل: انتظرني حتى آتيك فقال عيسى عليه السلام: نعم وانطلق الرجل ونسي الميعاد فجاء لحاجة إلى ذلك المكان وعيسى عليه السلام هنالك للميعاد، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه واعد رجلا ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى قريب من غروب الشمس ". وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعادا إلى أي وقت ينتظره فقال: إن واعده نهارا فكل النهار وإن واعده ليلا فكل الليل، وسئل إبراهيم بن زيد عن ذلك فقال: إذا واعدته في وقت الصلاة
فانتظره إلى وقت صلاة أخرى. وثانيها: قوله: * (وكان رسولا نبيا) * وقد مر تفسيره. وثالثها: قوله: * (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) * والأقرب في الأهل أن المراد به من يلزمه أن يؤدي إليه الشرع فيدخل فيه كل أمته من حيث لزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة، هذا إذا حمل الأمر على المفروض من الصلاة والزكاة فإن حمل على الندب فيهما كان المراد أنه كما كان يتهجد بالليل يأمر أهله أي من كان في داره في ذلك الوقت بذلك وكان نظره لهم في الدين يغلب على شفقته عليهم في الدنيا بخلاف ما عليه أكثر الناس، وقيل: كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (الشعراء: 214) * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) * (طه: 132) * (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * (التحريم: 6) وأيضا فهم أحق أن يتصدق عليهم فوجب أن يكونوا بالإحسان الديني أولى، فأما الزكاة فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها طاعة الله تعالى والاخلاص فكأنه تأوله على ما يزكو به الفاعل عند ربه والظاهر أنه إذا قرنت الزكاة إلى الصلاة أن يراد بها الصدقات الواجبة وكان يعرف من خاصة أهله أن يلزمهم الزكاة فيأمرهم بذلك أو يأمرهم أن يتبرعوا بالصدقات على الفقراء. ورابعها: قوله؛ * (وكان عند ربه مرضيا) * وهو في نهاية المدح لأن المرضى عند الله هو الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات.
232

(القصة السادسة قصة إدريس عليه السلام)
قوله تعالى
* (واذكر فى الكتب إدريس إنه كان صديقا نبيا * ورفعناه مكانا عليا) *
اعلم أن إدريس عليه السلام هو جد أبي نوح عليه السلام وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ قيل سمي إدريس لكثرة دراسته واسمه أخنوخ ووصفه الله تعالى بأمور: أحدها: أنه كان صديقا. وثانيها: أنه كان نبيا وقد تقدم القول فيهما. وثالثها: قوله: * (ورفعناه مكانا عليا) * وفيه قولان: أحدهما: أنه من رفعة المنزلة كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (ورفعنا لك ذكرك) * (الشرح: 4) فإن الله تعالى شرفه بالنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود. الثاني: أن المراد به الرفعة في المكان إلى موضع عال وهذا أولى، لأن الرفعة المقرونة بالمكان تكون رفعة في المكان لا في الدرجة ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الله رفعه إلى السماء وإلى الجنة وهو حي لم يمت، وقال آخرون: بل رفع إلى السماء وقبض روحه سأل ابن عباس رضي الله عنهما كعبا عن قوله: * (ورفعناه مكانا عليا) * قال: جاءه خليل له من الملائكة فسأله حتى يكلم ملك الموت حتى يؤخر قبض روحه فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به إلى السماء فلما كان في السماء الرابعة فإذا ملك الموت يقول بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، وأنا أقول كيف ذلك وهو في الأرض فالتفت إدريس فرآه ملك الموت فقبض روحه هناك. واعلم أن الله تعالى إنما مدحه بأن رفعه إلى السماء لأنه جرت العادة أن لا يرفع إليها إلا من كان عظيم القدر والمنزلة، ولذلك قال في حق الملائكة: * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) * (الأنبياء: 19) وههنا آخر القصص.
قوله تعالى
* (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية ءادم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسراءيل وممن هدينا واجتبينآ إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن خروا سجدا وبكيا) *
اعلم أنه تعالى أثنى على كل واحد ممن تقدم ذكره من الأنبياء بما يخصه من الثناء ثم جمعهم آخرا فقال: * (أولئك الذين أنعم الله عليهم) * أي بالنبوة وغيرها مما تقدم وصفه وأولئك إشارة إلى المذكورين
233

في السورة من لدن زكريا إلى إدريس، ثم جمعهم في كونهم من ذرية آدم ثم خص بعضهم بأنه من ذرية من حمل مع نوح، والذي يختص بأنه من ذرية آدم دون من حمل مع نوح هو إدريس عليه السلام، فقد كان سابقا على نوح على ما ثبت في الأخبار والذين هم من ذرية من حمل مع نوح هو إبراهيم عليه السلام لأنه من ولد سام بن نوح وإسماعيل وإسحق ويعقوب من ذرية إبراهيم ثم خص بعضهم بأنهم من ولد إسرائيل أي يعقوب وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من قبل الأم فرتب الله سبحانه وتعالى أحوال الأنبياء عليهم السلام الذين ذكرهم على هذا الترتيب منبها بذلك على أنهم كما فضلوا بأعمالهم فلهم مزيد في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء، ثم بين أنهم ممن هدينا واجتبينا منبها بذلك على أنهم اختصوا بهذه المنازل لهداية الله تعالى لهم، ولأنه اختارهم للرسالة ثم قال: * (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) * تتلى عليهم أي على هؤلاء الأنبياء فبين تعالى أنهم مع نعم الله عليهم قد بلغوا الحد الذي عند تلاوة آيات الله يخرون سجدا وبكيا خضوعا وخشوعا وحذرا وخوفا، والمراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم. وقال أبو مسلم المراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب المنزل بالكفار وهو بعيد لأن سائر الآيات التي فيها ذكر الجنة والنار إلى غير ذلك أولى أن يسجدوا عنده ويبكوا فيجب حمله على كل آية تتلى مما يتضمن الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، لأن كل ذلك إذا فكر فيه المتفكر صح أن يسجد عنده وأن يبكي، واختلفوا فقال بعضهم في السجود: إنه الصلاة وقال بعضهم: المراد سجود التلاوة على حسب ما تعبدنا به وقيل: المراد الخضوع والخشوع والظاهر يقتضي سجودا مخصوصا عند التلاوة ثم يحتمل أن يكون المراد سجود التلاوة للقرآن ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بالسجود فيفعلون ذلك لا لأجل ذكر السجود في الآية، قال الزجاج في بكيا: جمع باك مثل شاهد وشهود وقاعد وقعود ثم قال الإنسان في حال خروره لا يكون ساجدا فالمراد خروا مقدرين للسجود ومن قال في بكيا إنه مصدر فقد أخطأ لأن سجدا جمع ساجد وبكيا معطوف عليه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتلو القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا " وعن صالح المري قال: قرأت القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القرآن نزل بحزن فاقرأوه
بحزن " وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما اغرورقت عين به بماء إلا حرم الله على النار جسدها " وعن أبي هريرة رضي الله عنه: " لا يلج النار من بكى من خشية الله " وقال العلماء: يدعو في سجود التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك وإن قرأ سجدة سبحان قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وإن قرأ هذه السجدة قال: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آيات كتابك.
234

قوله تعالى
* (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب وءامن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا) *
اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الأنبياء بصفات المدح ترغيبا لنا في التأسي بطريقتهم ذكر بعدهم من هو بالضد منهم فقال: فخلف من بعدهم خلف، وظاهر الكلام أن المراد من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم يقال: خلفه إذا أعقبه ثم قيل في عقب الخبر خلف بفتح اللام وفي عقب الشر خلف بالسكون، كما قالوا: وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر وفي الحديث: " في الله خلف من كل هالك " وفي الشعر للبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ثم وصفهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات فإضاعة الصلاة في مقابلة قوله: * (خروا سجدا) * (السجدة: 15) واتباع الشهوات في مقابلة قوله: * (وبكيا) * لأن بكاءهم يدل على خوفهم واتباع هؤلاء لشهواتهم يدل على عدم الخوف لهم وظاهر قوله: * (أضاعوا الصلاة) * تركوها لكن تركها قد يكون بأن لا تفعل أصلا وقد يكون بأن لا تفعل في وقتها وإن كان الأظهر هو الأول وأما اتباع الشهوات فقال ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب واحتج بعضهم بقوله: * (إلا من تاب وآمن) * على أن تارك الصلاة كافر، واحتج أصحابنا بها في أن الإيمان غير العمل لأنه تعالى قال: * (وآمن وعمل صالحا) * فعطف العمل على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه، أجاب الكعبي عنه: بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما، وهذا الجواب ضعيف لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي وقوع المغايرة بينهما لأن التوبة عزم على الترك والإيمان إقرار بالله تعالى وهما متغايران، فكذا في هذه الصورة. ثم بين تعالى أن من هذه صفته * (يلقون غيا) * وذكروا في الغي وجوها: أحدها: أن كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد، قال الشاعر: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وثانيها: قال الزجاج: * (يلقون غيا) * أي يلقون جزاء الغي، كقوله تعالى: * (يلق آثاما) * (الفرقان: 68) أي مجازاة الآثام. وثالثها: غيا عن طريق الجنة. ورابعها: الغي واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها
235

والوجهان الأولان أقرب فإن كان في جهنم موضع يسمى بذلك جاز ولا يخرج من أن يكون المراد ما قدمنا لأنه المعقول في اللغة، ثم بين سبحانه أن هذا الوعيد فيمن لم يتب، وأما من تاب وآمن وعمل صالحا فلهم الجنة لا يلحقهم ظلم، وههنا سؤالان: الأول: الاستثناء دل على أنه لا بد من التوبة والإيمان والعمل الصالح وليس الأمر كذلك، لأن من تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة، أو كانت المرأة حائضا فإنه لا يجب عليها الصلاة والزكاة أيضا غير واجبة، وكذا الصوم فههنا لو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح، و " الجواب " أن هذه الصورة نادرة، والمراد منه الغالب. السؤال الثاني: قوله: * (ولا يظلمون شيئا) * هذا إنما يصح لو كان الثواب مستحقا على العمل، لأنه لو كان الكل بالتفضل لاستحال حصول الظلم لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد. " الجواب ": أنه لما أشبهه أجرى على حكمه.
قوله تعالى
* (جنات عدن التى وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا * لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا * تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر في التائب أنه يدخل الجنة وصف الجنة بأمور: أحدها: قوله؛ * (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب) * والعدن الإقامة وصفها بالدوام على خلاف حال الجنان في الدنيا التي لا تدوم ولذلك فإن حالها لا يتغير في مناظرها فليست كجنان الدنيا التي حالها يختلف في خضرة الورق وظهور النور والثمر وبين تعالى أنها: وعد الرحمن لعباده وأما قوله: * (بالغيب) * ففيه وجهان: أحدهما: أنه تعالى وعد (هم إيا) ها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها. والثاني: أن المراد وعد الرحمن للذين يكونون عبادا بالغيب أي الذين يعبدونه في السر بخلاف المنافقين فإنهم يعبدونه في الظاهر ولا يعبدونه في السر وهو قول أبي مسلم. والوجه الأول: أقوى لأنه تعالى بين أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد حاصل، لذلك قال بعده: * (إنه كان وعده مأتيا) * أما قوله: * (مأتيا) * فقيل إنه مفعول بمعنى فاعل والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها، قال الزجاج: كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه وما أتاك فقد أتيته والمقصود من قوله: * (إنه كان وعده مأتيا) * بيان أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد وحاصل
236

والمراد تقرير ذلك في القلوب. وثانيها: قوله: * (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) * (مريم: 62) واللغو من الكلام ما سبيله أن يلغي ويطرح وهو المنكر من القول ونظيره قوله: * (لا تسمع فيها لاغية) * (الغاشية: 11) وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو حيث نزه الله تعالى عنه الدار التي لا تكليف فيها وما أحسن قوله: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72)، * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) * (القصص: 55) أما قوله: * (إلا سلاما) * ففيه بحثان:
البحث الأول: أن فيه إشكالا وهو أن السلام ليس من جنس اللغو فكيف استثنى السلام من اللغو والجواب عنه من وجوه: أحدها: أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة وأهل الجنة لا حاجة بهم إلى هذا الدعاء فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وثانيها: أن يحمل ذلك على الاستثناء المنقطع. وثالثها: أن يكون هذا من جنس قول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
البحث الثاني: أن ذلك السلام يحتمل أن يكون من سلام بعضهم على بعض أو من تسليم الملائكة أو من تسليم الله تعالى على ما قال تعالى: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * (الرعد: 23، 24) وقوله: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58). ورابعها: قوله تعالى: * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * وفيه سؤالان: السؤال الأول: أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشيا ليس من الأمور المستعظمة. " والجواب " من وجهين: الأول: قال الحسن أراد الله تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ولذلك ذكر أساور من الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة وكانت من عادة أشراف العرب في اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك. الثاني: أن المراد دوام الرزق كما تقول أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين. السؤال الثاني: قال تعالى: * (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) * (الإنسان: 13) وقال عليه السلام: " لا صباح عند ربك ولا مساء " والبكرة والعشي لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء. " والجواب " المراد أنهم يأكلون عند مقدار الغداة والعشي إلا أنه ليس في الجنة غدوة وعشي إذ لا ليل فيها ويحتمل ما قيل إنه تعالى جعل لقدر اليوم علامة يعرفون بها مقادير الغداة والعشي ويحتمل أن يكون المراد لهم رزقهم متى شاءوا كما جرت العادة في الغداة والعشي. وخامسها: قوله: * (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) * وفيه أبحاث: الأول: قوله: * (تلك الجنة) * هذه الإشارة إنما صحت لأن الجنة غائبة. وثانيها: ذكروا في نورث وجوها الأول: نورث استعارة أي نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال المورث. الثاني: أن المراد أنا ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل هذا النقل إرثا قاله الحسن. الثالث: أن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة وقد انقضت أعمالهم وثمراتها باقية وهي الجنة فإذا أدخلهم
237

الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يرث الوارث المال من المتوفى. ورابعها: معنى من كان تقيا من تمسك باتقاء معاصيه وجعله عادته واتقى ترك الواجبات، قال القاضي: فيه دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقيا والفاسق المرتكب للكبائر لا يوصف بذلك. " والجواب ": الآية تدل على أن المتقي يدخلها وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضا فصاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من مفهوم قولنا المتقي عن الكفر وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل تحته فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها.
قوله تعالى
* (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا * رب السماوات والارض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) *
اعلم أن في الآية إشكالا وهو أو قوله: * (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) * (مريم: 63) كلام الله وقوله: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل. " والجواب " أنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كما أن قوله سبحانه: * (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * (البقرة: 117) هو كلام الله وقوله: * (وإن الله ربي وربكم) * (آل عمران: 51) كلام غير الله وأحدهما معطوف على الآخر، واعلم أن ظاهر قوله تعالى: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * خطاب جماعة لواحد وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول ويحتمل في سببه ما روي أن قريشا بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه وقالت اليهود: نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن فإن أخبركم بخصلتين منهما فاتبعوه، فاسألوه عن فتية أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح قال فجاءوا فسألوه عن ذلك لم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم بعد ذلك، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما وقيل خمسة عشر يوما فشق عليه ذلك مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه، فنزل جبريل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك قال إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا
238

إلا أن يشاء الله) * (الكهف: 23) وسورة الضحى ثم أكدوا ذلك بقولهم: * (له ما بين أيدينا وما خلفنا) * أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل وما بينهما أو الدنيا والآخرة وما بينهما فإنه يعلم إصلاح التدبير مستقبلا وماضيا وما بينهما والغرض أن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته وحكمته لا اعتراض لأحد عليه فيه وقال أبو مسلم قوله: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * يجوز أن يكون قول أهل الجنة والمراد وما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا أي في الجنة مستقبلا وما خلفنا مما كان في الدنيا وما بين ذلك أي ما بين الوقتين وما كان ربك نسيا لشيء مما خلق فيترك إعادته لأنه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة وقوله: * (وما كان ربك نسيا) * ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم ويتصل به: * (رب السماوات والأرض) * أي بل هو * (رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده) * قال القاضي وهذا مخالف للظاهر من وجوه: أحدها: أن ظاهر التنزل نزول الملائكة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله بأمر ربك وظاهر والأمر بحال التكليف أليق، وثانيها: أنه خطاب من جماعة لواحد وذلك لا يليق بمخاطبة بعضهم لبعض في الجنة. وثالثها: أن ما في سياقه من قوله: * (وما كان ربك نسيا، رب السماوات والأرض وما بينهما) * لا يليق إلا بحال التكليف ولا يوصف به الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنهم قالوا للرسول وما كان ربك يا محمد نسيا يجوز عليه السهو حتى يضرك إبطاؤنا بالتنزل عليك إلى مثل ذلك ثم ههنا أبحاث:
البحث الأول: قال صاحب " الكشاف " التنزل على معنيين: أحدهما: النزول على مهل. والثاني: بمعنى النزول على الإطلاق والدليل عليه أنه مطاوع نزل ونزل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج واللائق بمثل هذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتا بعد وقت ليس إلا بأمر الله تعالى.
البحث الثاني: ذكروا في قوله: * (ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) * وجوها: أحدها: له ما قدامنا وما خلفنا من الجهات وما نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومن مكان إلى مكان إلا بأمره ومشيئته فليس لنا أن ننقلب من السماء إلى الأرض إلا بأمره. وثانيها: له ما بين أيدينا ما سلف من أمر الدنيا وما خلفنا ما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك وما بين النفختين وهو أربعون سنة. وثالثها: ما مضى من أعمارنا وما غبر من ذلك والحال التي نحن فيها. ورابعها: ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا. وخامسها: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وعلى كل التقديرات فالمقصود أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة فكيف نقدم على فعل إلا بأمره وحكمه.
البحث الثالث: قوله: * (وما كان ربك نسيا) * أي تاركا لك كقوله: * (ما وعدك ربك وما قلى) * (الضحى: 3) أي ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك، أما قوله: * (رب السماوات والأرض وما بينهما) * فالمراد أن من يكون ربا لها أجمع لا يجوز عليه النسيان إذ لا بد من أن يمسكها حالا بعد حال وإلا بطل الأمر فيهما وفيمن يتصرف فيهما، واحتج
239

أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى، لأن فعل العبد حاصل بين السماء والأرض. والآية دالة على أنه رب لكل شيء حصل بينهما، قال صاحب " الكشاف ": رب السماوات والأرض بدل من ربك ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السماوات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته فهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف في الأداء والإبلاغ وفيما يخصه من العبادة فإن قيل لم لم يقل واصطبر على عبادته بل قال واصطبر لعبادته قلنا: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب اصطبر لقرنك أي أثبت له فيما يورد عليك من شداته. " والمعنى " أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فأثبت لها ولا تهن ولا يضق صدرك من إلقاء أهل الكتاب إليك الأغاليط عن احتباس الوحي عنك مدة وشماتة المشركين بك، أما قوله تعالى: * (هل تعلم له سميا) * فالظاهر يدل على أنه تعالى جعل علة الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سمي له، والأقرب هو كونه منعما بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه، فإذا كان هو قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة، ومن الناس من قال: المراد أنه سبحانه ليس له شريك في اسمه وبينوا ذلك من وجهين: الأول: أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله على شيء سواه وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يسمى بالرحمن غيره. الثاني: هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل؟ لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتد بها كلا تسمية، والقول الأول هو الصواب والله أعلم.
قوله تعالى
* (ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا * فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا * ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمان عتيا * ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) *
اعلم أنه تعالى لما أمر بالعبادة والمصابرة عليها فكأن سائلا سأل وقال هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا، وأما في الآخرة فقد أنكرها قوم فلا بد من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى
240

يظهر أن الاشتغال بالعبادة مفيد فلهذا حكى الله تعالى قول منكري الحشر فقال: * (ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا) * وإما قالوا ذلك على وجه الإنكار والاستبعاد، وذكروا في الإنسان وجهين: أحدهما: أن يكون المراد الجنس بأسره فإن قيل كلهم غير قائلين بذلك فكيف يصح هذا القول؟ قلنا الجواب من وجهين: الأول: أن هذه المقالة لما كانت موجودة فيما هو من جنسهم صح إسنادها إلى جميعهم، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا وإنما القاتل رجل منهم. والثاني: أن هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلا أن بعضهم ترك ذلك الاستبعاد المبني على محض الطبع بالدلالة القاطعة التي قامت على صحة القول به. الثاني: أن المراد بالإنسان شخص معين فقيل: هو أبو جهل، وقيل: هو أبي بن خلف، وقيل: المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث، ثم إن الله تعالى أقام الدلالة على صحة البعث بقوله: * (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * والقراء كلهم على * (يذكر) * بالتشديد إلا نافعا وابن عامر وعاصما فقد خففوا، أي أو لا يتذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل وإذا قرىء أو لا يذكر فهو أقرب إلى المراد إذ الغرض التفكر والنظر في أنه إذا خلق من قبل لا من شيء فجائز أن يعاد ثانيا. قال بعض العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها إذ لا شك أن الإعادة ثانيا أهون من الإيجاد أولا، ونظيره قوله: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * (يس: 79) وقوله: * (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) * (الروم: 27) واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء وهو ضعيف لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض وهذا المجموع ما كان شيئا، ولكن لم قلت إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئا قبل كونه موجودا؟ فإن قيل: كيف أمر تعالى الإنسان بالذكر مع أن الذكر هو العلم بما قد علمه من قبل ثم تخللهما سهو؟ قلنا: المراد أو لا يتفكر فيعلم خصوصا إذا قرىء أو لا يذكر الإنسان بالتشديد أما إذا قرىء أو لا يذكر بالتخفيف فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأن كل أحد يعلم أنه لم يكن حيا في الدنيا ثم صار حيا، ثم إنه سبحانه لما قرر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه. أحدها: قوله: * (فوربك لنحشرنهم والشياطين) * وفائدة القسم أمران: أحدهما: أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين. والثاني: أن في إقسام الله تعالى باسمه مضافا إلى اسم رسوله صلى الله عليه وسلم تفخيم لشأنه صلى الله عليه وسلم ورفع منه كما رفع من شأن السماء
والأرض في قوله: * (فورب السماء والأرض إنه لحق) * (الذاريات: 23) والواو في * (الشياطين) * ويجوز أن تكون للعطف وأن تكون بمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع، والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة. وثانيها: قوله: * (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) * وهذا الإحضار يكون قبل إدخالهم جهنم ثم إنه تعالى يحضرهم على أذل صورة لقوله تعالى: * (جثيا) * لأن البارك على ركبتيه صورته صورة الذليل أو صورته صورة العاجز، فإن قيل هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى: * (وترى كل أمة جاثية) * (الجاثية: 28) والسبب فيه جريان العادة أن الناس في مواقف المطالبات من
241

الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من الاستنظار والقلق، أو لما يدهمهم من شدة الأمر الذي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم، وإذا كان هذا عاما للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار؟ قلنا: لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه الحالة وذلك يوجب مزيد الذل في حقهم. وثالثها: قوله: * (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا) * والمراد بالشيعة وهي فعلة كفرقة وفئة الطائفة التي شاعت أي تبعت غاويا من الغواة قال تعالى: * (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) * (الأنعام: 159) والمراد أنه تعالى يحضرهم أولا حول جهنم جثيا ثم يميز البعض من البعض فمن كان أشدهم تمردا في كفره خص بعذاب أعظم لأن عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعا لغيره، وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد وليس عذاب من يورد الشبه في الباطل كعذاب من يقتدي به مع الغفلة قال تعالى: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) * (النحل: 88). وقال: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) * (العنكبوت: 13) فبين تعالى أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتوا وأشد تمردا ليعلم أن عذابه أشد، ففائدة هذه التمييز التخصيص بشدة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب، فلذلك قال في جميعهم: * (ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) * ولا يقال أولى إلا مع اشتراك القوم في العذاب، واختلفوا في إعراب أيهم فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية تقديره لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد وسيبويه على أنه مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلة حتى لو جيء به لأعرب وقيل أيهم هو أشد.
* (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) *
واعلم أنه تعالى لما قال من قبل: * (فوربك لنحشرنهم والشياطين) * ثم قال: * (ثم لنحضرنهم حول جهنم) * (مريم: 68) أردفه بقوله: * (وإن منكم إلا واردها) * يعني جهنم واختلفوا فقال بعضهم المراد من تقدم ذكره من الكفار فكنى عنهم أولا كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة، قالوا: إنه لا يجوز للمؤمنين أن يردوا النار ويدل عليه أمور: أحدها: قوله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) * (الأنبياء: 101) والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها. والثاني: قوله: * (لا يسمعون حسيسها) * (الأنبياء: 102) ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها. وثالثها: قوله: * (وهم من فزع يومئذ آمنون) * (النحل: 89) وقال الأكثرون: إنه عام في كل مؤمن وكافر لقوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها) * فلم يخص. وهذا الخطاب مبتدأ
242

مخالف للخطاب الأول، ويدل عليه قوله: * (ثم ننجي الذين اتقوا) * أي من الواردين من اتقى ولا يجوز أن يقال: * (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) * إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول، ثم هؤلاء اختلفوا في تفسير الورود فقال بعضهم: الورود الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها وهو موضع المحاسبة، واحتجوا على أن الورود قد يراد به القرب بقوله تعالى: * (فأرسلوا واردهم) * (يوسف: 19) ومعلوم أن ذلك الوارد ما دخل الماء وقال تعالى: * (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون) * (القصص: 23) وأراد به القرب. ويقال: وردت القافلة البلدة وإن لم تدخلها فعلى هذا معنى الآية أن الجن والإنس يحضرون حول جهنم: * (كان على ربك حتما مقضيا) * (مريم: 71) أي واجبا مفروغا منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم وهو المراد من قوله تعالى: * (أولئك عنها مبعدون) * (الأنبياء: 101) ومما يؤكد هذا القول ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية فقالت حفصة: أليس الله يقول: * (وإن منكم إلا واردها) * فقال عليه السلام فمه ثم ننجي الذين اتقوا "، ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازما. القول الثاني: أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) * (الأنبياء: 98) وقال: * (فأوردهم النار وبئس الورد المردود) * (هود: 98) ويدل عليه قوله تعالى: * (أولئك عنها مبعدون) * والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريبا فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار، ثم إنه تعالى يبعدهم عنها ويدل عليه قوله تعالى: * (ونذر الظالمين فيها جثيا) * وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار، وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة قال: " أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور، فقال عليه السلام: يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا "، وذلك يدل على أن ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليه في ذلك وعن جابر: " أنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما حتى أن للناس ضجيجا من بردها ". والقائلون بهذا القول يقولون: المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر البتة بل مع الغبطة والسرور وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * (الأنبياء: 103) ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف، وإيصال الغم والحزن إنما يجوز في دار التكليف، ولأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى مكانه في الجنة ويعلمه ". وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا القيامة وهم شاكون في أمرهم، وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار لأنهم لا يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب، ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار، فقال بعضهم: البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه، ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم،
وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار، والكفار يكونون في وسط
243

النار. وثانيها: أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " يردونها كأنها إهالة " وعن جابر بن عبد الله: " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار فيقال لهم: قد وردتموها وهي خامدة ". وثالثها: أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله بردا وسلاما عليهم، كما في حق إبراهيم عليه السلام. وكما أن الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فكان يصير دما ويشربه الإسرائيلي فكان يصير ماء عذبا. واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين، فإن قيل: إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك الدخول؟ قلنا فيه وجوه: أحدها: أن ذلك مما يزيدهم سرورا إذا علموا الخلاص منه. وثانيها: أن فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها. وثالثها: أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند الأولياء وعند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه. ورابعها: أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غما للكفار وسرورا للمؤمنين. وخامسها: أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل فما كانوا يقبلون تلك الدلائل، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوا، وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين. وسادسها: أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة كما قال الشاعر:
بضدها تتبين الأشياء
فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى: * (أولئك عنها مبعدون) * (الأنبياء: 101) فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم وأيضا فالمراد عن عذابها وكذا قوله: * (لا يسمعون حسيسها) * (الأنبياء: 102) فإن قيل: هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة؟ قلنا: ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ويدل عليه أيضا قوله تعالى: * (يوم تبدل الأرض غير الأرض) * (إبراهيم: 48) وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع فيدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها. أما قوله: * (كان على ربك حتما مقضيا) * فالحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى المحتوم بالحتم كقولهم: خلق الله وضرب الأسير، واحتج من أوجب العقاب عقلا فقال: إن قوله: * (كان على ربك حتما مقضيا) * يدل على وجوب ما جاء من جهة الوعيد والأخبار لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الأخبار لا يسمى واجبا. " والجواب " أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب أما قوله: * (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين) * قرىء ننجي وننجي وينجي على ما لم يسم فاعله، قال القاضي: الآية دالة على قولنا في الوعيد لأن الله تعالى بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو وهم المتقون والفاسق
244

لا يكون متقيا، ثم بين تعالى أن من عدا المتقين يذرهم فيها جثيا فثبت أن الفاسق يبقى في النار أبدا. قال ابن عباس: المتقي هو الذي اتقى الشرك بقول لا إله إلا الله، واعلم أن الذي قاله ابن عباس هو الحق الذي يشهد الدليل بصحته، وذلك لأن من آمن بالله وبرسله صح أن يقال: إنه متق عن الشرك ومن صدق عليه أنه متق عن الشرك صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من المتقي عن الشرك ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد، فثبت أن صاحب الكبيرة متق وإذا ثبت ذلك وجب أن يخرج من النار لعموم قوله: * (ثم ننجي الذين اتقوا) * فصارت هذه الآية التي توهموها دليلا من أقوى الدلائل على فساد قولهم: قال القاضي: وتدل الآية أيضا، على فساد قول من يقول: إن من المكلفين من لا يكون في الجنة ولا في النار، قلنا: هذا ضعيف لأن الآية تدل على أنه تعالى ينجي الذين اتقوا وليس فيها ما يدل على أنه ينجيهم إلى الجنة، ثم هب أنها تدل على ذلك ولكن الآية تدل على أن المتقين يكونون في الجنة والظالمين يبقون في النار فيبقى ههنا قسم ثالث خارج عن القسمين وهو الذي استوت طاعته ومعصيته فتسقط كل واحدة منهما بالأخرى فيبقى لا مطيعا ولا عاصيا، فهذا القسم إن بطل فإنما يبطل بشيء سوى هذه الآية فلا تكون هذه الآية دالة على الحصر الذي ادعاه ومن المعتزلة من تمسك في الوعيد بقوله: * (ونذر الظالمين فيها جثيا) * ولفظ الظالمين لفظ جمع دخل عليه حرف التعريف فيفيد العموم والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم مرارا كثيرة في هذا الكتاب، أما قوله: * (جثيا) * قال صاحب " الكشاف " قوله: * (ونذر الظالمين فيها جثيا) * دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة بعد نجاتهم وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.
* (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين كفروا للذين ءامنوا أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) *
اعلم أنه تعالى لما أقام الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث أتبعه بالوعيد على ما تقدم ذكره عنهم أنهم عارضوا حجة الله بكلام فقالوا: لو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا، لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعداءه المعروضين عن خدمته في العز والراحة، ولما كان الأمر بالعكس فإن الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء، والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والذل دل على أن الحق ليس مع المؤمنين، هذا حاصل شبهتهم في هذا الباب ونظيره قوله تعالى: * (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) * (الأحقاف: 11) ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون
245

بالزينة الفاخرة ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم. بقي بحثان:
الأول: قوله: * (آياتنا بينات) * يحتمل وجوها: أحدها: أنها مرتلات الألفاظ مبينات المعاني إما محكمات أو متشابهات فقد تبعها البيان بالمحكمات أو بتبيين الرسول قولا أو فعلا. وثانيها: أنها ظاهرات الإعجاز تحدى بها فما قدروا على معارضتها. وثالثها: المراد بكونها آيات بينات أي دلائل ظاهرة واضحة لا يتوجه عليها سؤال
ولا اعتراض مثل قوله تعالى في إثبات صحة الحشر: * (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * (مريم: 67).
البحث الثاني: قرأ ابن كثير: * (مقاما) * بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل، والباقون بالفتح وهو موضع القيام، والمراد والندى المجلس يقال: ندى وناد، والجمع الأندية، ومنه قوله: * (وتأتون في ناديكم المنكر) * (العنكبوت: 29) وقال: * (فليدع ناديه) * (العلق: 17) ويقال: ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في المجلس، ومنه دار الندوة بمكة وكانت مجتمع القوم. ثم أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله:
قوله تعالى
* (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) *
وتقرير هذا الجواب أن يقال: إن من كان أعظم نعمة منكم في الدنيا قد أهلكهم الله تعالى وأبادهم، فلو دل حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيبا لله تعالى لوجب في حبيب الله أن لا يوصل إليه غما في الدنيا ووجب عليه أن لا يهلك أحدا من المنعمين في دار الدنيا وحيث أهلكهم دل إما على فساد المقدمة الأولى وهي أن من وجد الدنيا كان حبيبا لله تعالى، أو على فساد المقدمة الثانية وهي أن حبيب الله لا يوصل الله إليه غما، وعلى كلا التقديرين فيفسد ما ذكرتموه من الشبهة، بقي البحث عن تفسير الألفاظ فنقول: أهل كل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم وهم أحسن في محل النصب صفة لكم، ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية، والأثاث متاع البيت، أما رئيا فقرئ على خمسة أوجه لأنها إما أن تقرأ بالراء التي ليس فوقها نقطة، أو بالزاي التي فوقها نقطة فأما الأول، فإما أن يجمع بين الهمزة والياء أو يكتفي بالياء. أما إذا جمع بين الهمزة والياء ففيه وجهان: أحدهما: بهمزة ساكنة بعدها ياء وهو المنظر والهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت رئيا. والثاني: ريئا على القلب كقولهم راء في رأى، أما إن اكتفينا بالياء فتارة بالياء المشددة على قلب الهمزة ياء، والإدغام، أو من الري الذي هو النعمة والترفه، من قولهم: ريان من النعيم. والثاني: بالياء على حذف الهمزة رأسا ووجهه أن يخفف المقلوب وهو ريئا بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها، وأما بالزاي المنقطة من فوق زيا فاشتقاقه من الزي وهو الجمع، لأن الزي محاسن مجموعة، والمعنى أحسن من هؤلاء، والله أعلم.
246

قوله تعالى
* (قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا * ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) *
اعلم أن هذا الجواب الثاني عن تلك الشبهة وتقريره لنفرض أن هذا الضال المتنعم في الدنيا قد مد الله في أجله وأمهله مدة مديدة حتى ينضم إلى النعمة العظيمة المدة الطويلة، فلا بد وأن ينتهي إلى عذاب في الدنيا أو عذاب في الآخرة بعد ذلك سيعلمون أن نعم الدنيا ما تنقذهم من ذلك العذاب فقوله: * (فسيعلمون من هو شر مكانا) * مذكور في مقابلة قولهم: * (خير مقاما) * (مريم: 73) * (وأضعف جندا) * في مقابلة قولهم: * (أحسن نديا) * (مريم: 73) فبين تعالى أنهم وإن ظنوا في الحال أن منزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله تعالى بالمقام والندى فسيعلمون من بعد أن الأمر بالضد من ذلك وأنهم شر مكانا فإنه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب. * (وأضعف جندا) * فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أن اجتماعهم ينفع فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه. بقي البحث عن الألفاظ وهو من وجوه: أحدها: مد له الرحمن أي أمهله وأملى له في العمر فأخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور الممتثل ليقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة: * (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) * (فاطر: 37) وكقولهم: * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) *. وثانيها: أن قوله: * (إما العذاب وإما الساعة) * يدل على أن المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل يوم القيامة لأن قوله * (وإما الساعة) * المراد منه يوم القيامة ثم العذاب الذي يحصل قبل يوم القيامة يمكن أن يكون هو عذاب القبر ويمكن أن يكون هو العذاب الذي سيكون عند المعاينة لأنهم عند ذلك يعلمون ما يستحقون، ويمكن أيضا أن يكون المراد تغير أحوالهم في الدنيا من العز إلى الذل، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الصحة إلى المرض، ومن الأمن إلى الخوف، ويمكن أن يكون المراد تسليط المؤمنين عليهم، ويمكن أيضا أن يكون المراد ما نالهم يوم بدر، وكل هذه الوجوه مذكورة، واعلم أنه تعالى بين بعد ذلك أنه كما يعامل الكفار بما
247

ذكره فكذلك يزيد المؤمنين المهتدين هدى، واعلم أنا نبين إمكان ذلك بحسب العقل، فنقول: إنه لا يبعد أن يكون بعض أنواع الاهتداء مشروطا بالبعض فإن حاصل الاهتداء يرجع إلى العلم ولا امتناع في كون بعض العلم مشروطا بالبعض، فمن اهتدى بالهداية التي هي الشرط صار بحيث لا يمتنع أن يعطي الهداية التي هي المشروط، فصح قوله: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * مثاله الإيمان هدى والإخلاص في الإيمان زيادة هدى ولا يمكن تحصيل الإخلاص إلا بعد تحصيل الإيمان فمن اهتدى بالإيمان زاده الله الهداية بالإخلاص، هذا إذا أجرينا لفظ الهداية على ظاهره ومن الناس من حمل الزيادة في الهدى على الثواب أي ويزيد الله الذين اهتدوا ثوابا على ذلك الاهتداء ومنهم من فسر هذه الزيادة بالعبادات المترتبة على الإيمان، قال صاحب " الكشاف ": يزيد معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر وتقديره من كان في الضلالة يمد له الرحمن مدا ويزيد أي يزيد في ضلال الضلال بخذلانه بذلك المد ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه، ثم إنه تعالى بين أن ما عليه المهتدون هو الذي ينفع في العاقبة فقال: * (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا) * وذلك لأن ما عليه المهتدون ضرر قليل متناه يعقبه نفع عظيم غير متناه، والذي عليه الضالون نفع قليل متناه يعقبه ضرر عظيم غير متناه، وكل أحد يعلم بالضرورة أن الأول أولى، وبهذا الطريق تسقط الشبهة التي عولوا عليها واختلفوا في المراد بالباقيات الصالحات فقال المحققون إنها الإيمان والأعمال الصالحة سماها باقية لأن نفعها يدوم ولا يبطل ومنهم من قال المراد بها بعض العبادات ولعلهم ذكروا ما هو أعظم ثوابا فبعضهم ذكر الصلوات وبعضهم ذكر التسبيح وروي عن أبي الدرداء قال: " جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأخذ عودا يابسا فأزال الورق عنه ثم قال: إن قول لا إله
إلا الله والله أكبر وسبحان الله يحط الخطايا حطا كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة، وكان أبو الدرداء يقول: لأعلمن ذلك ولأكثرن منه حتى إذا رآني جاهل حسب أني مجنون ". والقول الأول أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها ولا ينقطع فبعض العبادات وإن كان أنقص ثوابا من البعض فهي مشتركة في الدوام فهي بأسرها باقية صالحة نظرا إلى آثارها التي هي الثواب ثم إنه تعالى أخبر أنها: * (خير عند ربك ثوابا وخير مردا) * ولا يجوز أن يقال: هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره فالمراد إذن أنها خير مما ظنه الكفار بقولهم: * (خير مقاما وأحسن نديا) * (مريم: 73).
قوله تعالى
* (أفرأيت الذى كفر باياتنا وقال لاوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ
248

عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل أولا على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين، وأجاب عنها أورد عنهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعنا في القول بالحشر فقال: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) * قرأ حمزة والكسائي ولدا وهو جمع ولد كأسد في أسد أو بمعنى الولد كالعرب في العرب، وعن يحيى بن يعمر ولدا بالكسر، وعن الحسن نزلت الآية في الوليد بن المغيرة والمشهورة أنها في العاص بن وائل، قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين فاقتضيته فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد قلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم لا حيا ولا ميتا ولا حين تبعث فقال: فإني إذا مت بعثت؟ قلت: نعم. قال: إني بعثت وجئتني فسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك، وقيل: صاغ خباب له حليا فاقتضاه فطلب الأجرة فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون، وأن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا فأنا أقضيك ثم، فإني أوتي مالا وولدا حينئذ ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله: * (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا) * قال صاحب " الكشاف ": أطلع الغيب من قولهم أطلع الجبل أي ارتقى إلى أعلاه ويقال مر مطلعا لذلك الأمر أي غالبا له مالكا له والاختيار في هذه الكلمة أن تقول: أو قد بلغ من عظم شأنه أنه ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار، والمعنى أن الذي ادعى أن يكون حاصلا له لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الأمرين، إما علم الغيب وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إليه؟ وقيل: في العهد كلمة الشهادة عن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول؟ ثم إنه سبحان بين من حاله ضد ما ادعاه، فقال: * (كلا) * وهي كلمة ردع وتنبيه على الخطأ أي هو مخطئ فيما يقوله ويتمناه فإن قيل لم قال: * (سنكتب ما يقول) * بسين التسويف وهو كما قاله كتب من غير تأخير قال تعالى: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) * (ق: 18) قلنا فيه وجهان: أحدهما: سيظهر له ويعلم أنا كتبنا. الثاني: أن المتوعد يقول للجاني سوف أنتقم منك وإن كان في الحال في الانتقام ويكون غرضه من هذا الكلام محض التهديد فكذا ههنا، أما قوله تعالى: * (ونمد له من العذاب مدا) * أي نطول له من العذاب ما يستأهله ونزيده من العذاب ونضاعف له من المدد ويقال مده وأمده بمعنى ويدل عليه قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام ويمد له بالضم، أما قوله ونرثه ما يقول أي يزول عنه ما وعده من مال وولد فلا يعود كما لا يعود الإرث إلى من خلفه وإذا سلب ذلك في الآخرة يبقى فردا فلذلك قال: * (ويأتينا فردا) * فلا يصح أن ينفرد في الآخرة بمال وولد: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) * (الأنعام: 94) والله أعلم.
249

قوله تعالى
* (واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا * ألم تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا * فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا * يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا * ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا * لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا * وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) *
اعلم أنه تعالى لما تكلم في مسألة الحشر والنشر، تكلم الآن في الرد على عباد الأصنام فحكى عنهم أنهم إنما اتخذوا آلهة لأنفسهم ليكونوا لهم عزا، حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصارا، ينقذونهم من الهلاك. ثم أجاب الله تعالى بقوله: * (كلا) * وهو ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة، وقرأ ابن نهيك: * (كلا سيكفرون بعبادتهم) * أي كلهم سيكفرون بعبادة هذه الأوثان وفي " محتسب " ابن جني كلا بفتح الكاف والتنوين وزعم أن معناه كل هذا الاعتقاد والرأي كلا، قال صاحب " الكشاف ": إن صحت هذه الرواية فهي كلا التي هي للردع قلب الواقف عليها ألفها نونا كما في قواريرا واختلفوا في أن الضمير في قوله: * (سيكفرون) * يعود إلى المعبود أو إلى العابد فمنهم من قال إنه يعود إلى المعبود، ثم قال بعضهم: أراد بذلك الملائكة لأنهم في الآخرة يكفرون بعبادتهم ويتبرؤون منهم ويخاصمونهم وهو المراد من قوله: * (أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * (سبأ: 40) وقال آخرون: إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة حتى يوبخوا عبادهم ويتبرؤا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم ومن الناس من قال الضمير يرجع إلى العباد أي أن هؤلاء المشركين يوم القيامة ينكرون أنهم عبدوا الأصنام ثم قال تعالى: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23) أما قوله: * (ويكونون عليهم ضدا) * فذكر ذلك في مقابلة قوله: * (لهم عزا) * (مريم: 81) والمراد ضد العز وهو الذل والهوان أن يكونون عليهم ضدا لما قصدوه وأرادوه كأنه قيل: ويكونون عليهم ذلا لهم لا عزا أو يكونون عليهم عونا والضد العون، يقال من أضدادكم أي من أعوانكم وكأن العون يسمى ضدا
250

لأنه يضاد عدوك وينافيه باعانته لك عليه، فإن قيل: ولم وحد؟ قلنا: وحد توحيد قوله عليه السلام: " وهم يد على من سواهم " لاتفاق كلمتهم فإنهم كشئ واحد لفرط انتظامهم وتوافقهم، ومعنى كون الآلهة عونا عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها واعلم أنه تعالى لما ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في
الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا فإنهم يسألونهم وينقادون لهم فقال: * (إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات فقالوا قول القائل: أرسلت فلانا على فلان موضوع في اللغة لإفادة أنه سلطه عليه لإرادة أن يستولي عليه. قال عليه السلام: سم الله وأرسل كلبك عليه إذا ثبت هذا فقوله: * (أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) * يفيد أنه تعالى سلطهم عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم وذلك يفيد المقصود ثم يتأكد هذا بقوله: * (تؤزهم أزا) * فإن معناه إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين لتؤزهم أزا ويتأكد بقوله: * (واستفزز من استطعت منهم) * (الإسراء: 64) قال القاضي: حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم فلا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عليه الشياطين من الإغواء فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين وذلك كفر من قائله، ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك لأن عندهم أن ضلال الكفار من قبله تعالى بأن خلق فيهم الكفر وقدر الكفر فلا تأثير لما يكون من الشيطان وإذا بطل حمل اللفظ في ظاهره فلا بد من التأويل فنحمله على أنه تعالى خلى بين الشياطين وبين الكفار وما منعهم من إغوائهم وهذه التخلية تسمى إرسالا في سعة اللغة. كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال: أرسل كلبه عليه وإن لم يرد أذى الناس، وهذه التخلية وإن كان فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون من أن لا يقبلوا منهم ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم والدليل عليه قوله تعالى: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * (إبراهيم: 22) هذا تمام كلامه ونقول لا نسلم أنه لا يمكن حمله على ظاهره فإن قوله: * (أرسلنا الشياطين) * لو أرسلهم الله إلى الكفار لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين، قلنا الله تعالى ما أرسل الشياطين إلى الكفار بل أرسلها عليهم والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستوليا عليه، فأين هذا من الإرسال إليهم، قوله: ضلال الكافر من قبل الله تعالى فأي تأثير للشيطان فيه؟ قلنا: لم لا يجوز أن يقال: إن إسماع الشيطان إياه تلك الوسوسة يوجب في قلبه ذلك الضلال بشرط سلامة فهم السامع لأن كلام الشيطان من خلق الله تعالى فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسبا إلى الشيطان وإلى الله تعالى من هذين الوجهين، قوله لم لا يجوز أن يكون المراد بالإرسال التخلية قلنا: كما خلى بين الشيطان والكفرة فقد خلى بينهم وبين الأنبياء ثم إنه تعالى خص الكافر بأنه أرسل الشيطان عليه فلا بد من فائدة زائدة ههنا ولأن قوله: * (تؤزهم أزا) * أي تحركهم تحريكا شديدا كالغرض من ذلك الإرسال فوجب أن يكون الأز مرادا
251

لله تعالى ويحصل المقصود منه فهذا ما في هذا الموضع والله أعلم.
المسألة الثانية: قال ابن عباس: * (تؤزهم أزا) * أي تزعجهم في المعاصي إزعاجا نزلت في المستهزئين بالقرآن وهم خمسة رهط قال صاحب " الكشاف ": الأز والهز والاستفزاز أخوات في معنى التهييج وشدة الإزعاج أي تغريهم على المعاصي وتحثهم وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات، أما قوله تعالى: * (فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا) * يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجلته به أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا أو يبيدوا حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، ونظيره قوله تعالى: * (ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ) * (الأحقاف: 35) عن ابن عباس أنه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد دخول قبرك، آخر العدد فراق أهلك. وعن ابن السماك رحمه الله أنه كان عند المأمون فقرأها فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد. وذكروا في قوله: * (نعد لهم عدا) * وجهين آخرين: الأول: نعد أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها. والثاني: نعد الأوقات إلى وقت الأجل المعين لكل أحد الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان، ثم بين سبحانه ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين وبين المجرمين في كيفية الحشر فقال: * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) * قال صاحب " الكشاف ": نصب يوم بمضمر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو أذكر يوم نحشر ويجوز أن ينتصب بلا يملكون عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده إن المتقين إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة عليها رحال الذهب " ثم تلا هذه الآية. وفيها مسائل:
المسألة الأولى: قال القاضي هذه الآية أحد ما يدل على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فهم آمنون من الخوف فكيف يجوز أن تنالهم الأهوال؟
المسألة الثانية؛ المشبهة احتجوا بالآية وقالوا قوله: * (إلى الرحمن) * يفيد أن انتهاء حركتهم يكون عند الرحمن وأهل التوحيد يقولون المعنى يوم نحشر المتقين إلى محل كرامة الرحمن.
المسألة الثالثة: طعن الملحد فيه فقال قوله: * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) * هذا إنما يستقيم أن لو كان الحاشر غير الرحمن أما إذا كان الحاشر هو الرحمن فهذا الكلام لا ينتظم، أجاب المسلمون بأن التقدير يوم نحشر المتقين إلى كرامة الرحمن أما قوله: * (ونسوق المجرمين إلى جهنم) * وردا فقوله: * (نسوق) * يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء، والورد اسم للعطاش، لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش. وحقيقة الورود السير إلى الماء فسمي به الواردون أما قوله: * (لا يملكون الشفاعة) * أي فليس لهم والظاهر أن المراد شفاعتهم لغيرهم
252

أو شفاعة غيرهم لهم فلذلك اختلفوا، وقال بعضهم: لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون وقال بعضهم: بل المراد لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم وهذا الثاني أولى لأن حمل الآية على الأول يجري مجرى إيضاع الواضحات وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر لأنه قال عقيبه: * (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) * والتقدير أن هؤلاء لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا قد اتخذوا عند الرحمن عهدا التوحيد والنبوة فوجب أن يكون داخلا تحته ومما يؤكد قولنا: ما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال لأصحابه ذات يوم: " أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا؟ قالوا؛ وكيف ذلك؟ قال: يقول كل صباح
ومساء اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتبعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة "، فظهر بهذا الحديث أن المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه دلالة الآية على أن الشفاعة لأهل الكبائر وقال القاضي: الآية دالة على مذهبه وقد ظهر أن الآية قوية في الدلالة على قولنا والله أعلم.
قوله تعالى
* (لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا * أن ادعوا للرحمن ولدا * وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من فى السماوات والارض إلا آتى الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا) *
اعلم أنه تعالى لما رد على عبده الأوثان عاد إلى الرد على من أثبت له ولدا: * (وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) * (التوبة: 30) وقالت العرب الملائكة بنات الله والكل داخلون في هذه الآية ومنهم من خصها بالعرب الذي أثبتوا أن الملائكة بنات الله قالوا لأن الرد على النصارى تقدم في أول السورة أما الآن فإنه لما رد على العرب الذين قالوا بعبادة الأوثان تكلم في إفساد
253

قول الذين قالوا بعبادة الملائكة لكونهم بنات الله أما قوله: * (لقد جئتم شيئا إدا) * فقرئ إدا بالكسر والفتح. قال ابن خالويه الإد والأد العجب وقيل المنكر العظيم والأدة الشدة وأدنى الأمر وآدنى أثقلي. قرىء يتفطرن بالتاء بعد الياء أعني المعجمة من تحتها واختلفوا في يكاد فقرأ بعضهم بالياء المعجمة من تحتها وبعضهم بالتاء من فوق، والانفطار من فطرة إذا شقه والتفطر من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه وقرأ ابن مسعود يتصدعن وقوله: * (وتخر الجبال هدا) * أي تهد هدا أو مهدودة أو مفعول له أي لأنها تهد والمعنى أنها تتساقط أشد ما يكون تساقط البعض على البعض، فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله تعالى في انفطار السماوات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ قلنا فيه وجوه: أحدها: أن الله سبحانه وتعالى يقول أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا مني على من تفوه بها لولا حلمي وأني لا أعجل بالعقوبة كما قال: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا) * (فاطر: 41). وثانيها: أن يكون استعظاما للكلمة وتهويلا من فظاعتها وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده. وثالثها: أن السماوات والأرض والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول وهذا تأويل أبي مسلم. ورابعها: أن السماوات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها أما قوله: * (أن دعوا للرحمن ولدا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في إعرابه ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في منه أو منصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي هذا لأن دعوا أو مرفوعا بأنه فاعل * (هدا) * أي هدها دعاء الولد للرحمن، والحاصل أنه تعالى بين أن سبب تلك الأمور العظيمة هذا القول.
المسألة الثانية: إنما كرر لفظ الرحمن مرات تنبيها على أنه سبحانه وتعالى هو الرحمن وحده من قبل أن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه.
المسألة الثالثة: قوله: * (دعوا للرحمن) * هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلبا للعموم والإحاطة بكل من ادعى له ولدا أو من دعا بمعنى نسب الذي هو مطاوعة ما في قوله صلى الله عليه وسلم: " من ادعى إلى غير مواليه ". قال الشاعر: إنا بني نهشل لا ندعى لأب
أي لا ننتسب إليه، ثم قال تعالى: * (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا) * أي هو محال، أما الولادة المعروفة فلا مقال في امتناعها، وأما التبني فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيها بالوالد ولا مشبه لله تعالى ولأن اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض لا تصح في الله من سروره به واستعانته به وذكر جميل، وكل ذلك لا يليق به، ثم قال: * (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * والمراد أنه ما من معبود لهم في السماوات والأرض من الملائكة والناس إلا وهو يأتي
254

الرحمن أي يأوي إليه ويلتجئ إلى ربوبيته عبدا منقادا مطيعا خاشعا راجيا كما يفعل العبيد، ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة والأول أولى لأنه لا تخصيص فيه وقوله: * (لقد أحصاهم وعدهم عدا) * أي كلهم تحت أمره وتدبيره وقهره وقدرته فهو سبحانه محيط بهم، ويعلم مجمل أمورهم وتفاصيلها لا يفوته شيء من أحوالهم وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردا ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم براء منهم.
قوله تعالى
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا * فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا * وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) *
اعلم أنه تعالى لما رد على أصناف الكفرة وبالغ في شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) * وللمفسرين في قوله: * (ودا) * قولان: الأول: وهو قول الجمهور أنه تعالى سيحدث لهم في القلوب مودة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي يكتسب الناس بها مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه تعالى وابتداء تخصيصا لأوليائه بهذه الكرامة كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم، والسين في سيجعل إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا جاء الإسلام، وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: " إذا أحب الله عبدا نادى جبريل قد أحببت فلانا فأحبوه فينادي جبريل عليه السلام بذلك في السماء والأرض وإذا أبغض عبدا فمثل ذلك ". وعن
كعب قال: مكتوب في التوراة والإنجيل لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء، ثم على أهل الأرض وتصديق ذلك في القرآن قوله: * (سيجعل لهم الرحمن ودا) *. القول الثاني: وهو اختيار أبي مسلم معنى: * (سيجعل لهم الرحمن ودا) * أي يهب لهم ما يحبون والود والمحبة سواء، يقال: آتيت فلانا محبته، وجعل لهم ما يحبون، وجعلت له وده، ومن كلامهم: يود لو كان كذا، ووددت أن
255

لو كان كذا أي أحببت، ومعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي محبوبهم في الجنة. والقول الأول: أولى لأن حمل المحبة على المحبوب مجاز، ولأنا ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وفسرها بذلك فكان ذلك أولى، وقال أبو مسلم: بل القول الثاني أولى لوجوه: أحدها: كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين. وثانيها: أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر فكيف يمكن جعله إنعاما في حق المؤمنين. وثالثها: أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أن الله تعالى فعله فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى. " والجواب " عن الأول: أن المراد يجعل لهم الرحمن محبة عند الملائكة والأنبياء، وروى عنه عليه السلام: أنه حكى عن ربه عز وجل أنه قال: " إذا ذكرني عبدي المؤمن في نفسه ذكرته في نفسي. وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ أطيب منهم وأفضل " وهذا هو " الجواب " عن الكلام الثاني لأن الكافر والفاسق ليس كذلك. " والجواب " عن الثالث: أنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم، أما قوله تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين) * فهو كلام مستأنف بين به عظيم موقع هذه السورة لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر والرد على فرق المضلين المبطلين فبين تعالى أنه يسر ذلك بلسانه ليبشر به وينذر، ولولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم فأما أن القرآن يتضمن تبشير المتقين وإنذار من خرج منهم فبين، لكنه تعالى لما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ وأبلغهم الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه ويتشدد وهو معنى لدا، ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة بليغة فقال: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) * لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا والانتهاء إلى الموت خافوا ذلك وخافوا أيضا سوء العاقبة في الآخرة فكانوا فيها إلى الحذر من المعاصي أقرب، ثم أكد تعالى في ذلك فقال: * (هل تحس منهم من أحد) * لأن الرسول عليه السلام إذا لم يحس منهم برؤية أو إدراك أو وجدان: * (ولا يسمع لهم ركزا) * وهو الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون دل ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية، والأقرب في قوله: * (أهلكنا) * أن المراد به الانقراض بالموت وإن كان من المفسرين من حمله على العذاب المعجل في الدنيا، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
256