الكتاب: تفسير الثعلبي
المؤلف: الثعلبي
الجزء: ٦
الوفاة: ٤٢٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور ، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠٢م
المطبعة: بيروت - لبنان - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

((سورة النحل))
مكية، إلى قوله تعالى: " * (وإن عاقبتم) *) إلى آخره وهي سبعة ألف وسبعمائة وسبعة أحرف، والفان وثمانمائة وأربعون كلمة، ومائة وثمان وعشرون آية
أبو أمامة الباهلي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومن قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بالنعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كالذي مات فأحسن الوصية).
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون * ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده أن أنذروا أنه لا إلاه إلا أنا فاتقون * خلق السماوات والارض بالحق تعالى عما يشركون * خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين * والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم * والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون * وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر ولو شآء لهداكم أجمعين) *) 2
" * (أتى أمر الله) *) أي جاء فدنا، واختلفوا في هذا الأمر ما هو.
فقال قوم: هو الساعة.
قال ابن عباس: لما أنزل الله تعالى " * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *) قال الكفار بعضهم لبعض: إن هذا يزعم (أن) يوم القيامة قد قرب فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء، قالوا: ما نرى شيئا، فأنزل الله تعالى: " * (اقترب للناس حسابهم) *) الآية.
5

فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة، فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فأنزل الله " * (أتى أمر الله) *) فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت " * (فلا تستعجلوه) *) فاطمأنوا فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم (بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه إن كادت لتسبقني).
وقال ابن عباس: كان بعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة. وأن جبرئيل لما مر بأهل السماوات مبعوثا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: الله أكبر قد قامت الساعة.
قال الآخرون: الأمر هاهنا العذاب بالسيف، وهو جواب للنضر بن الحرث حين قال: " * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) *) الآية يستعجل العذاب، فأنزل الله هذه الآية، وهذا من الجواب المقصور فقتل النضر يوم بدر صبرا.
وقال الضحاك: " * (أمر الله) *): الأحكام والحدود والفرائض.
والقول الأول أولى بالصواب؛ لأنه لم يبلغنا أن أحدا من الصحابة مستعجل بفريضة الله قبل أن تفرض عليهم، وأما مستعجل العذاب من المشركين فقد كانوا كثيرا.
" * (سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة) *).
قرأه العامة: بضم الياء وكسر الزاي المشدد، الملائكة نصب. وخففه معظم أهل مكة والبصرة بمعنى ينزل الله.
وقرأ المفضل وروح وسهيل وزيد: ينزل بفتح الياء والزاي، الملائكة رفع.
وقرأ الأعمش: ينزل بفتح الياء وجزم النون وكسر الزاي من النزول، والملائكة رفع على هاتين القرائتين والفعل للملائكة.
" * (بالروح) *) بالوحي سماه روحا، لأنه تحيا به القلوب والحق، ويموت به الكفر والباطل.
وقال عطاء: بالنبوة فطرة يلقى الروح من أمره.
قتادة: بالرحمة.
أبو عبيدة: " * (بالروح) *)، يعني: مع الروح وهو جبرئيل.
" * (من أمره على من يشاء من عباده إن) *) محله نصب بنزع الخافض، ومجازه بأن " * (أنذروا) *) أعلموا، من قولهم: أنذر به أي أعلم " * (أنه) *) في محل النصب بوقوع الإنذار عليه.
6

" * (لا إله إلا أنا فاتقون خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم) *) يجادل بالباطل " * (مبين) *) نظيره قوله: " * (ولا تكن للخائنين خصيما) *) نزلت هذه الآية في أبي بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعدما قد رم؟ نظيرها قوله: " * (أو لم ير الانسان انا خلقناه من نطفة) *) إلى آخر السورة نزلت في هذه القصة أيضا.
" * (والأ نعام خلقها) *) يعني الإبل والبقر والغنم " * (لكم فيها دفء) *) يعني من أوبارها وأصوافها وأشعارها ملابس و (لحفا) وقطن يستدفئون " * (ومنافع) *) بالنسل والدر والركوب والحمل وغيرها " * (ومنها تأكلون) *) يعني لحومها " * (ولكم فيها جمال حين تريحون) *) أي حين يردونها بالعشي من مراعيها إلى مباركها التي تأوى إليها. يقال: أراح فلان ماشيته يريحها أراحة، والمكان الذي يراح إليه: مراح.
" * (وحين تسرحون) *) اي يخرجونها بالغداة من مراعيها إلى مسارحها. يقال: سرح ماشيته يسرحها سرحا وسروحا إذا أخرجها للرعي، وسرحت الماشية
سروحا إذا رعت.
قال قتادة: وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها طوالا أسنمتها.
" * (وتحمل أثقالكم إلى بلد) *) آخر غير بلدكم.
عكرمة: البلد مكة.
" * (لم تكونوا بالغيه) *) أي تكلفتموه " * (إلا بشق الأنفس) *).
قرأه العامة: بكسر الشين، ولها معنيان: أحدهما: الجهد والمشقة.
والثاني: النصف، يعني لم تكونوا بالغيه إلا بشق النفس من القوة وذهاب شق منها حتى لم تبلغوه إلا بنصف قوى أنفسكم وذهاب نصفها الآخر.
وقرأ أبو جعفر: بشق بفتح الشين. وهما لغتان مثل برق وبرق، وحصن وحصن، ورطل ورطل.
وينشد قول النمر بن تولب: بكسر الشين.
وذي إبل يسعى ويحسبها له
أخي نصب من شقها ودؤوب
ويجوز أن يكون بمعنى المصدر من شققت عليه يشق شقا
7

" * (إن ربكم لرؤوف رحيم) *) بخلقه حيث خلق لهم هذه الأشياء وهيأ لهم هذه المنافع والمرافق.
" * (والخيل) *) يعني وخلق الخيل وهو اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء " * (والبغال والحمير لتركبوها وزينة) *) يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها.
واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على تحريم لحوم الخيل، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن أكل لحوم الخيل فكرهها وتلا هذه الآية: " * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) *).
قال: هو المركوب، وقرأ التي قبلها: " * (والأنعام خلقها) *) الآية، وقال: هذه للأكل.
وقال: الحكم بلحوم الخيل حرام في كتاب الله، ثم قرأ هذه الآيات، وقال: جعل هذه للأكل وهذا للركوب.
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء، واحتجوا أيضا في ذلك بما روى صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير).
وقال الآخرون: لا بأس بأكل لحوم الخيل، وليس في هذه الآية دليل على تحريم شيء، وإنما عرف الله عباده بهذه الآية نعمه عليهم ونبههم على حجج وحدانيته وربوبيته وكمال قدرته، وإليه ذهب الشافعي واحتج بما روى محمد بن علي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمير الأهلية وأذن في لحوم الخيل.
وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر قال: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم خيبر لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر.
وروى سفيان عن عبد الكريم عن عطاء عن جابر قال: كنا نأكل لحوم الخيل، قلت: والبغال؟ قال: لا.
هشام عن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر (ح) قالت: أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: نحر أصحابنا فرسا في النخع فأكلوا منه ولم يروا به بأسا.
" * (ويخلق ما لا تعلمون) *).
8

قال بعض المفسرين: يعني ما أعد في الجنة لأهلها، وفي النار لأهلها ما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر.
قال قتادة: يعني السوس في الثياب، والدود في الفواكه.
وروى مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: " * (ويخلق ما لا تعلمون) *) قال: يريد أن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع. يدخل جبرئيل كل سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعظما إلى عظمته فينتفض فيخرج الله من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك بالبيت المعمور وفي الكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة.
" * (وعلى الله قصد السبيل) *) يعني طريق الحق لكم، والقصد: الطريق المستقيم، وقيل على الله القصد بكم إلى الدين " * (ومنها جائر) *) يعني ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج، وإنما أنث للكناية، لأن لفظ السبيل واحد ومعناها جمع، والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز، والقصد من السبيل هو الحنيفية دين الإسلام، والجائر منها اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الملل والكفرة.
وقال جابر بن عبد الله: قصد السبيل يعني بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله: " * (قصد السبيل) *) السنة، " * (ومنها جائر) *) يعني الأهواء والبدع، بيانه قوله: " * (وإن هذا صراطي مستقيما) *) الآية. وفي مصحف عبد الله: ومنكم جائز.
" * (ولو شاء لهداكم أجمعين) *) نظيرها قوله: " * (ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا) *) وقوله: " * (ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها) *))
.
* (هو الذىأنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون * وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون * وما ذرأ لكم فى الارض مختلفا ألوانه إن فى ذلك لآية لقوم يذكرون * وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وألقى فى الارض رواسى أن تميد
9

بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون * وعلامات وبالنجم هم يهتدون * أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون * وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ إن الله لغفور رحيم * والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) *) 2
" * (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه) *) أي من ذلك الماء " * (شراب) *) يشربونه " * (ومنه شجر) *) شراب أشجاركم حياة غروسكم ونباتكم " * (فيه) *)، في الشجرة وهو اسم (عام)، وإنما ذكر الكناية، لأنه رده إلى لفظ الشجر.
" * (تسيمون) *) ترعون، وننسيكم يقال: أسام فلان إبله يسيمها إسامة، إذا رعاها، فهو مسيم وسامت هي تسوم فهي سائمة.
قال الشاعر:
ومشى القوم بالعماد إلى
المرعى وأعيا المسيم اين المساق
يعني يدخلون العماد تحت بطون الزرعي (....).
قال الشاعر:
أولى لك ابن مسيمة الأجمال
أي يا بن راعية الإبل.
" * (ينبت لكم) *). قرأه العامة بالياء يعني: ينبت لكم. وقرأ عاصم برواية المفضل وحماد ويحيى بالنون، والأول الاختيار.
" * (به) *) بالماء الذي أنزل " * (الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) *).
" * (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات) *) قرأه العامة بالنصب نسقا على ما قبله.
وروى حفص عن عاصم، " * (والنجوم مسخرات) *): بالرفع على الخبر والابتداء، وقرأ ابن عامر " * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) *) كلها بالرفع على الابتداء والخبر.
" * (بأمره) *) بأذنه " * (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وما ذرأ) *) يعني وسخر ما ذرأ " * (لكم) *) أي
10

خلق لأجلكم من الدواب والأشجار والثمار وغيرها " * (في الأرض مختلفا ألوانه) *) نصب على الحال.
" * (إن في ذلك لآية لقوم يذكرون) *).
" * (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) *) يعني السمك " * (وتستخرجوا منه حلية) *) يعني اللؤلؤ والمرجان.
روى حماد بن يحيى عن إسماعيل بن عبد الملك قال: جاء رجل إلى ابن جعفر قال: في حلي النساء صدقة؟ قال: لا، هي كما قال الله: * (حلية تلبسونها) * * (تلبسونها و ترى الفلك مواخر فيه) *).
قال ابن عباس: جواري.
سعيد بن جبير: معترضة. قتادة ومقاتل: (تذهب وتجي) مقبلة ومدبرة بريح واحدة.
الحسن: مواقر.
عكرمة والفراء والأخفش: شقاق يشق الماء بجناحيها.
مجاهد: يمخر السفن الرياح ولا يمخر الريح من السفن إلا الملك العظيم.
أبو عبيدة: سوابح.
وأصل المخر الدفع والشق، ومنه مخر الأرض، ويقال: امتخرت الريح وتمخرتها، إذا نظرت من أين مبعوثها، وفي الحديث: (إذا أراد أحدكم البول فليمتخر الريح) أي لينظر من أين مخرها وهبوبها فيستدبرها حتى لا يرد عليه البول.
" * (ولتبتغوا من فضله) *) يعني التجارة " * (ولعلكم تشكرون وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) *) يعني لئلا تميد بكم، أي تتحرك وتميل، والميل: هو الاضطراب والتكفؤ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحر: ميد.
قال وهب: لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتمور، فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ولم تدر الملائكة مم خلقت الجبال.
وقال علي (ح): لما خلق الله الأرض رفضت وقالت: أي رب أتجعل علي بني آدم يعملون علي الخطيئة ويلقون علي الخبث، فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون ومالا ترون.
11

" * (وأنهارا) *) يعني وجعل فيها أنهارا " * (وسبلا) *) طرقا مختلفة * (لعلكم تهتدون) * * (وعلامات) *) فلا تضلون ولا تتحيرون، يعني معالم الطرق.
وقال بعضهم: هاهنا تم الكلام ثم ابتدأ.
" * (وبالنجم هم يهتدون) *).
قال محمد بن كعب القرظي والكلبي: أراد بالعلامات الجبال، فالجبال علامات النهار والنجوم علامات الليل.
وقال مجاهد وإبراهيم: أراد بهما جميعا النجوم، فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به.
قال السدي: يعني بالثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي فيهتدون إلى الطرق والقبلة.
قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاث أشياء: لتكون زينة للسماء، وعلامات للطريق ورجوما للشياطين. فمن قال غير هذا فقد قال برأيه وتكلف ما لا علم به.
" * (أفمن يخلق) *) يعني الله تعالى " * (كمن لا يخلق) *) يعني الأصنام " * (أفلا تذكرون) *) نظيرها قوله تعالى: " * (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) *) وقوله عز وجل: " * (أروني ماذا خلقوا من الأرض) *)
" * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور) *) لما كان منكم من تقصير شكر نعمه " * (رحيم) *) بكم حيث وسع عليكم نعمه ولم يقطعها منكم بتقصيركم ومعاصيكم. " * (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) *))
.
* (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحيآء وما يشعرون أيان يبعثون * إلاهكم إلاه واحد فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون * لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين * وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوا أساطير الاولين * ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون * قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركآئى الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزى اليوم والسوء على الكافرين *
12

الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون * فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) *) 2
" * (والذين يدعون من دون الله) *).
قرأه العامة بالتاء، لأن ما قبله كله خطاب.
وقرأ يعقوب وعاصم وسهل بالياء.
" * (لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *) ثم وصف الأوثان فقال: " * (أموات) *) أي هي أموات " * (غير أحياء و ما يشعرون) *) يعني الأصنام " * (أيان) *) متى " * (يبعثون) *) عبر عنها كما عبر عن الآدميين وقد مضت هذه المسألة، وقيل: وما يدري الكفار عبدة الأوثان متى يبعثون.
" * (إلاهكم إلاه واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة) *) جاحدة غير عارفة " * (وهم مستكبرون) *) متعظمون " * (لا جرم) *) حقا " * (أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين
وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) *) يعني إذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم مشركوا قريش الذين اقتسموا عقاب مكة وأبوابهم، سألهم الحجاج والوفد أيام الموسم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما أنزل عليه قالوا: " * (أساطير الأولين) *) أحاديثهم وأباطيلهم.
" * (ليحملوا أوزارهم) *) ذنوب أنفسهم التي هم عليها مقيمون " * (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) *) فيصدونهم عن الإيمان " * (ألا ساء ما يزرون) *) ألا ساء الوزر الذي يحملون، نظيرها قوله تعالى: " * (وليحملن أثقالهم) *) الآية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (أيما داع دعا إلى ضلاله فاتبع، فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع، فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
" * (قد مكر الذين من قبلهم) *) وهو نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل ولزم منها الصعود إلى السماء ينظر ويزعم إلى إله إبراهيم، وقد مضت هذه القصة.
قال ابن عباس ووهب: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراعا
13

وقال كعب ومقاتل: كان طوله فرسخين فهبت ريح وألقت رأسها في البحر وخر عليهم الباقي وانفكت بيوتهم وأحدث نمرود، ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل، وإنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية وذلك قوله تعالى: " * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) *) أي قصد تخريب بنيانهم من أصولها فأتاها أمر الله وهو الريح التي خربتها " * (فخر) *) فسقط " * (عليهم السقف) *) يعني أعلى البيوت، " * (من فوقهم وأتاهم العذاب
من حيث لا يشعرون) *) من مأمنهم " * (ثم يوم القيامة يخزيهم) *) يذلهم بالعذاب. " * (ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم) *) تحالفون فيهم لاينقذونكم فيدفعوا عنكم العذاب.
وقرأ العامة على فتح النون من قوله: " * (تشاقون) *) إلا نافع فإنه كسرها على الإضافة " * (قال الذين أوتوا العلم) *) وهم المؤمنون " * (إن الخزي اليوم والسوء) *) العذاب " * (على الكافرين الذين تتوفاهم الملائكة) *) يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه " * (ظالمي أنفسهم) *) بالكفر نصب على الحال، أي في حال كفرهم " * (فأ لقوا السلم) *) أي استسلموا وانقادوا وقالوا: " * (ما كنا نعمل من سوء) *) شرك، فقالت لهم الملائكة: " * (بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون) *).
قال عكرمة: عنى بذلك من قتل من قريش وأهل مكة ببدر وقد أخرج إليها كرها.
" * (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) *) عن الإيمان.
(* (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين * جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشآءون كذلك يجزى الله المتقين * الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون * هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) *) 2
" * (وقيل للذين اتقوا) *) وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه، فيقولون: شاعر وساحر وكاهن وكاذب ومجنون (ويفرق الأخوان) ويقولون: إنه لو لم تلقه خير لك، فيقول السائل: أنا شر داخل إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة وأستطلع أمر محمد أو ألقاه، فيدخل مكة فيرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث، فذلك قوله تعالى: " * (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) *))
.
14

فإن قيل: لم ارتفع جواب المشركين في قولهم " * (أساطير الأولين) *) وانتصب في قوله " * (خيرا) *).
فالجواب: أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل فلما سئلوا قالوا: " * (أساطير الأولين) *) يعني الذي يقوله محمد صلى الله عليه وسلم أساطير الأولين، والمؤمنين إنما كانوا مقرين بالتنزيل، فإذا قيل لهم: " * (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) *) يعنون أنزل خيرا.
ثم ابتدأ فقال: " * (للذين أحسنوا في هذه الد نيا حسنة) *) كرامة من الله، " * (ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين) *) ثم فسرها فقال: " * (جنات عدن يدخلونها) *) بدل عن النار، فلذلك ارتفع " * (تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) *) مؤمنين. مجاهد: زاكية أعمالهم وأقوالهم.
" * (يقولون) *) يعني في الآية " * (سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) *).
قال القرظي: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السلام عليك ولي الله، الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة.
" * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) *) يقبضون أرواحهم.
" * (أو يأتي أمر ربك) *) يعني يوم القيامة، وقيل: العذاب " * (كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله) *) بتعذيبه إياهم " * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا) *) عقوبات كفرهم وأعمالهم الخبيثة.
" * (وحاق) *) نزل " * (بهم ما كانوا به يستهزئون) *).
2 (* (وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شىء نحن ولاءاباؤنا ولا حرمنا من دونه من شىء كذالك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين * ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين * إنما قولنا لشىء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون) *) 2
" * (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا) *) قل للذين
15

اقتدينا بهم " * (ولا حرمنا من دونه من شيء) *) يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فلولا أن رضيها لغير ذلك ببعض عقوباته أو هدانا إلى غيرها.
قال الله: " * (كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) *) يعني إلا عليه، فإنها لم تحرم هذه الأشياء وأنهم ادعوا على الله.
" * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله) *) يعني بأن اعبدوا الله " * (واجتنبوا الطاغوت) *) وهو كل معبود من دون الله " * (فمنهم من هدى الله) *) في دينه " * (ومنهم من حقت) *) أي وجبت عليه الضلالة حتى مات على كفره " * (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) *) أي خراب منازلهم وديارهم بالعذاب والهلاك " * (إن تحرص) *) يا محمد " * (على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل) *).
قرأ أهل الكوفة: يهدي بفتح الياء وقسموا ذلك، ولها وجهان: أحدهما: إن معناه فإن الله لا يهدي من أضله الله، والآخر: أن يكون يهدي بمعنى يهتدي، بمعنى من
أضله الله لا يهتدي
يقول العرب: هدى الرجل وهم يريدون اهتدى.
وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الدال، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم على معنى من أضله الله فلا هادي له، دليله: " * (من يضلل الله فلا هادي له) *).
" * (وما لهم من ناصرين) *) يمنعونهم من عذاب الله " * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) *).
الربيع عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به: والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا، فقال المشرك: وإنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت فأقسم بالله (لا يبعث الله من يموت) فأنزل الله هذه الآية.
قتادة: ذكر لنا أن رجلا قال لابن عباس: إن ناسا بالعراق يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة ويتأولون هذه الآية.
فقال ابن عباس: كذب أولئك، إنما هذه الآية عامة للناس، لو كان علي مبعوثا قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، قال الله ردا عليهم: " * (بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *). في الخبر أن الله تعالى يقول: كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني
16

وشتمني ابن آدم ولا ينبغي له أن يشتمني، وأما تكذيبه إياي فحلفه بي أن لا أبعث الخلق، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الله الواحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد.
" * (ليبين لهم الذي يختلفون فيه) *) هو مردود إلى قوله: " * (لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا) *) يبين لهؤلاء المنكرين المقتسمين الذين يختلفون " * (وليعلم الذين كفروا أ نهم كانوا كاذبين إنما قولنا لشيء) *) الآية، يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم ولا في غير ذلك (مما نخلق ونكون ونحدث)، لأنا إذا أردنا خلق شيء وإنشاؤه " * (أن نقول له كن فيكون) *).
وفي هذه الآية دليل على أن القرآن غير مخلوق، فذكر أن الله عز وجل أخبر أنه إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، فلو كان قوله كن مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان ولا حتاج ذلك القول إلى قول ثالث إلى ما لا نهاية فلما بطل ذلك ثبت أن الله خلق الخلق بكلام غير مخلوق.
2 (* (والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة ولاجر الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون * ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحىإليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون * أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم فى تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم * أو لم يروا إلى ما خلق الله من شىء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله وهم داخرون * ولله يسجد ما فى السماوات وما فى الارض من دآبة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون * وقال) *) 2
" * (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) *) عذبوا وقتلوا في الله، نزلت في بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فعذبوهم.
وقال قتادة: يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم حتى لحق جماعة منهم بالحبشة ثم بوأهم الله بالمدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار الهجرة وجعل لهم على من ظلمهم (أنصارا من المؤمنين والآية تعم الجميع).
" * (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) *) أنزلهم المدينة وأطعمهم الغنيمة.
17

ويروى إن عمر بن الخطاب (ح) كان إذا أعطى لرجل من المهاجرين عطاء يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أفضل، ثم تلا هذه الآية.
وقال بعض أهل المعاني: مجاز قوله تعالى: " * (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) *) ليحسنن إليهم في الدنيا. " * (ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا) *) في الله على ما نابهم " * (وعلى ربهم يتوكلون وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) *) الآية نزلت في مشركي مكة حين أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعثت إلينا ملكا.
" * (فاسألوا أهل الذكر) *) يعني هم أهل الكتاب " * (إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر) *) فإن قيل: ما الجالب لهذه الباء؟
قيل: قد اختلفوافي ذلك: فقال بعضهم: هي من صلة أرسلنا و " * (إلا) *) بمعنى غير، مجازه: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال يوحى إليهم ولم نبعث ملائكة. وهذا كما تقول: ما ضرب إلا أخوك عمر، وهل كلم إلا أخوك زيدا، بمعنى ما ضرب عمر غير أخيك، هل كلم زيدا غير أخيك.
قال أوس بن حجر:
أبني لبيني لستم بيد
إلا يد ليست لها عضد.
يعني غير يده، قال الله " * (لو كان فيهم آلهة إلا الله لفسدتا) *) أي غير الله.
وقال بعضهم: إنما هذا على كلامين، يريد: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا أرسلنا بالبينات والزبر ويشهد على ذلك بقول الأعمش:
وليس مجيرا إن أتى الحي خائف
ولا قائلا إلا هو المتعيبا
يقول: لو كان بذلك على كلمة لكان خطأ من سفه القائل، ولكن جاء ذلك على كلامين كقول الآخر:
نبئتهم عذبوا بالنار جارهم
وهل يعذب إلا الله بالنار
وتأويل الكلام: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر
18

" * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون أفأمن الذين مكروا السيئات) *) يعني نمرود بن كنعان وغيره من الكفار وأهل الأوثان " * (أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم) *) العقاب " * (في تقلبهم) *) تصرفهم في أسفارهم بالليل والنهار " * (فما هم بمعجزين) *) مسابقي الله " * (أو يأخذهم على تخوف) *).
قال الضحاك والكلبي: " * (أو يأخذهم على تخوف) *) يعني يأخذ طائفة ويدع فتخاف الطائفة الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها.
وقال سائر المفسرين: التخوف: التنقص، يعني ينقص من أطرافهم ونواصيهم الشيء بهذا الشيء حتى يهلك جميعهم.
يقال: تخوف مال فلان الإنفاق، إذا انتقصه وأخذه من حافاته وأطرافه.
وقال الهيثم بن عدي: هي لغة لازد شنوءة، وأنشد:
تخوف عدوهم مالي وأهدى
سلاسل في الحلوق لها صليل
قال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب (ح) على المنبر فقال: يا أيها الناس ما تقولون في قول الله: " * (أو يأخذهم على تخوف) *) فسكت الناس، فقام شيخ فقال: يا أمير المؤمنين هذه لغتنا في هذيل، التخوف: التنقص، فقال عمر: وهل تعرف العرب ذلك في أشعارهم قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي: (يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه).
تخوف السير منها تامكا قردا
كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر:
يا أيها الناس عليكم بديوانكم الجاهلية
فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم
" * (فإن ربكم لرؤوف رحيم) *) يعني لم يعجل العقوبة " * (أو لم يروا) *) قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش: (تروا) بالتاء على الخطاب، وقرأ الآخرون بالياء خبرا عن الذين مكروا السيئات وهو اختيار الأئمة
19

" * (إلى ما خلق الله من شيء) *) يعني من جسم قائم له ظل " * (يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله) *).
بالتاء أهل البصرة. الباقون بالياء، ومعنى قوله " * (يتفيؤا ظلاله) *): يميل ويرجع من جانب إلى جانب فهي في أول النهار ثم تعود إلى حال أخرى في آخر النهار، فميلانها ودورانها من موضع إلى موضع سجودها، ومنه قيل للظل بالعشي: فيء، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، والفي: الرجوع، قال الله: " * (حتى تفيء إلى أمر الله) *) يقال: سجدت النخلة إذا حالت، وسجد البعير وأسجد إذا جعل للركوب، ومثله قال في هذه الآية على هذا التأويل.
قتادة والضحاك: أما اليمين فأول النهار وأما الشمال فآخر النهار، تسجد الضلال لله غدوة إلى أن تفيء الظلال ثم تسجد أيضا إلى الليل.
وقال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله.
وقال عبد الله بن عمر: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن في صلاة السحر وليس من شيء إلا وهو يسبح لله تعالى تلك الساعة) ثم قرأ " * (يتفيؤا) *) الآية.
الكلبي: الظل قبل طلوع الشمس عن يمينك وعن شمالك وقدامك وخلفك، ولذلك إذا غابت وإذا طلعت كان قدامك، فإذا ارتفعت كان عن يمينك وإذا كان بعد ذلك كان خلفك، فإذا كان قبل أن تغيب الشمس كان على يسارك فهذا تفيؤه أي تضلله هاهنا وهاهنا، وهو سجوده.
وأما الوجه في توحيد اليمين وجمع الشمال، فهو أن من شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن يبقى واحدة ويلقى الأخرى، واكتفي بالملقي على الملقى بقوله: " * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) *) كقوله: " * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) *).
وقال بعضهم: اليمين راجع إلى قوله: " * (ما خلق الله) *) ولفظة من أحد، والشمائل راجعة إلى المعنى وقيل: هذا في الكلام كثير.
قال الشاعر:
بفي الشامتين الصخر إن كان هدني
رزية شبلي مخدر في الضراغم
20

لم يقل: بأفواه الشامتين.
وقال آخر:
الواردون وتيم في ذرا سبأ
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
لم يقل: جلود.
" * (وهم داخرون) *) صاغرون " * (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض) *) (وإنما أخبر ب (ما) عن الذي يعقل ولا يعقل على التغلب، كما يغلب الكثير على القليل والمذكر على المؤنث) * * (من دابة) *) يدب عليها كل حيوان يموت، كقوله: " * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) *) وقوله: * (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) * * (والملائكة) *) خص الملائكة بالذكر مع كونهم من جملتها في الآية لرفع شأنهم، وقيل: لخروجهم من جملة الموصوفين بالتسبيب إذ جعل الله لهم أجنحة كما قال تعالى: " * (جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة) *) فالطيران أغلب عليهم من الدبيب، وقيل: أراد لله يسجد ما في السماوات من الملائكة وما في الأرض من دابة ويسجد ملائكة الأرض.
" * (وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم) *) يعني: يخافون (قدرة) ربهم أن يأتيهم بالعذاب من فوقهم، ويدل عليه قوله: " * (ويفعلون ما يؤمرون) *) ما يؤمرون يعني الملائكة، وقيل: معناه يخافون ربهم الذي فوقهم بالقول والقدرة فلا يعجزه شيء ولا يغلبه أحد (يدل عليه) قوله تعالى: " * (وهو القاهر فوق عباده) *) وقوله إخبارا عن فرعون: " * (وإنا فوقهم قاهرون) *))
.
* (وقال الله لا تتخذوا إلاهين اثنين إنما هو إلاه واحد فإياي فارهبون * وله ما فى السماوات والارض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون * وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون * ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بمآ ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون * ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون * ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم *
21

يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه فى التراب ألا سآء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم) *) 2
" * (وقال الله لا تتخذوا إلاهين اثنين إنما هو إلاه واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين) *) الطاعة والإخلاص.
" * (واصبا) *) دائما ثابتا.
وقال ابن عباس: واجبا، تعني الآية أنه ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع عنه بزوال أو هلاك غير الله عز وجل، فإن الطاعة تدوم له وتصيب واصبا على القطع.
قال أبو الأسود الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه
يوما بذم الدهر أجمع واصبا
أي دائما.
وقال الفراء: ويقال خالصا.
" * (أفغير الله تتقون وما بكم) *).
قال الفراء: (ما) في معنى الجزاء ولها فعل مضمر، كأنه قال: وما يكون لكم من نعمة فمن الله.
" * (أفغير الله تتقون) *) (.....) أن لا تتقوا سواه " * (وما بكم من نعمة فمن الله) *) لذلك دخلت الفاء في قوله: " * (فمن الله) *).
" * (ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) *) يصيحون بالدعاء ويضجون بالاستغاثة. وأصله من جؤار الثور إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو فزع. قال القتيبي يصف بقرة:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة
وكأن النكير أن تضيف وتجأرا
" * (ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) *) بعد ما خلصوا له بالدعاء في حال البلاء " * (ليكفروا بما آتيناهم) *) كفروا نعمته فيما أعطيناهم من النعماء وكشف الضر والبلاء " * (فتمتعوا فسوف تعلمون) *) وهذا وعيد لهم
22

" * (ويجعلون لما لا يعلمون) *) له نفعا ولا فيه ضرا ولا نفعا " * (نصيبا مما رزقناهم) *) من الأموال وهو ما حملوا لأوثاونهم من هديهم وأنعامهم نظيره قوله "
* (هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) *).
ثم رجع من الخبر إلى الخطاب فقال: " * (تالله لتسألن) *) يوم القيامة " * (عما كنتم تفترون) *) في الدنيا " * (ويجعلون لله البنات سبحانه) *) وهم خزاعة وكنانة قالوا: الملائكة بنات الله سبحانه.
" * (ولهم ما يشتهون) *) يعني البنين، وفي قوله: " * (ما) *) وجهان من الأعراب: أحدهما الرفع على الابتداء، ومعنى الكلام: يجعلون لله البنات ولهم البنين، والثاني: النصب عطفا على البنات تقديره: ويجعلون لله البنات ويجعلون لهم البنين الذي يشتهون.
" * (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا) *) من الكراهة " * (وهو كظيم) *) ممتليء غما وغيظا " * (يتوارى) *) يخفى ويغيب " * (من القوم من سوء ما بشر به) *) من الخزي والعار والحياء ثم يتفكر " * (أيمسكه) *) ذكر الكناية لأنه مردود إلى (ما) * * (على هون أم يدسه) *) يخفيه " * (في التراب) *) فيئده.
وذلك أن مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون الإناث أحياء زعموا خوف الفقر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن، وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت يستحييها بذلك، ولذلك قال الفرزدق:
ومنا الذي منع الوائدات
فأحيا الوئيد فلم يوأد
" * (ألا ساء ما يحكمون) *) بئس ما (يجعلون لله الإناث) ولأنفسهم البنين، نظيره قوله تعالى: * (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى) * * (للذين لا يؤمنون بالآخرة) *) يعني لهؤلاء الواضعين لله سبحانه البنات " * (مثل السوء) *) احتياجهم إلى الأولاد وكراهيتهم الإناث منهم أو قتلهم إياها خوف الفقر وإقرارا على أنفسهم بالهتك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكبر الكبائر أن تدعو لله ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك وأن تزني بحليلة جارك).
" * (ولله المثل الأعلى) *) الصفة العليا وهي التوحيد والإخلاص.
وقال ابن عباس: مثل السوء: النار، والمثل الأعلى: شهادة أن لا إله إلا الله.
23

" * (وهو العزيز الحكيم) *))
.
* (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون * ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون * تالله لقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطن أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * ومآ أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *) 2
" * (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم) *) فيعاجلهم بالعقوبة على كفرهم وعصيانهم " * (ما ترك عليها) *) أي على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور " * (من دابة ولكن يؤخرهم) *) يمهلهم عليه " * (إلى أجل مسمى) *) منتهى آجالهم ساعة وانقضاء أعمارهم " * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *) ولا يقال موت قبله " * (ويجعلون لله ما يكرهون) *) لأنفسهم، يعني البنات " * (وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى) *) محل (ان) نصب بدل عن الكذب لأنه بيان وترجمة له.
وقرأ ابن عباس: والحسنى (الكذب) برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة، والكذب: جمع كذوب، مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر.
" * (أن لهم الحسنى) *) يعني اليقين ومعنى الآية: ويجعلون له البنات ويزعمون أن لهم البنين.
وقال حيان: يعني بالحسنى الجنة في المعاد إن كان محمد صادقا في البعث.
" * (لا جرم) *) حقا، وقال ابن عباس: بلى.
" * (أن لهم النار) *) في الآخرة " * (وأن لهم مفرطون) *) منسيون في النار.
قال ابن عباس وسعيد بن جبير: مبعدون.
مقاتل: متروكون.
قتادة: معجلون إلى النار.
الفراء: مقدمون على النار.
وقرأ نافع: (مفرطون) بكسر الراء مع التخفيف أي مسرفون، وقرأ أبو جعفر: بكسر الراء مع التشديد أي مضيعون أمر الله تعالى.
" * (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) *) كما أرسلناك إلى هذه الأمة " * (فزين لهم الشيطان
24

أعمالهم) *) الخبيثة التي كانوا عليها مقيمين " * (فهو وليهم اليوم) *) ناصرهم ومعينهم وقرينهم ومتولي أمورهم " * (ولهم عذاب أليم) *) في الآخرة.
" * (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) *) من الدين والأحكام " * (وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *) عطف الهدى والرحمة على موضع قوله (
لتبين) لأن محله نصب ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا بيانا للناس وهدى ورحمة.
(* (والله أنزل من السمآء مآء فأحيا به الارض بعد موتهآ إن فى ذالك لآية لقوم يسمعون * وإن لكم فى الانعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين) *)
[/ مق]
" * (والله أنزل من السماء ماء ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن فى ذالك لآية لقوم يعقلون * وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلى من كل الثمرات فاسلكى سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفآء للناس إن فى ذالك لآية لقوم يتفكرون * والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير * والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سوآء أفبنعمة الله يجحدون * والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون * ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والارض شيئا ولا يستطيعون * فلا تضربوا لله الامثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) *) يعني المطر " * (فأحيا به الأرض بعد موتها) *) جدوبها ودروسها " * (إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) *) بسمع القلوب ولا بسمع الآذان.
" * (وإن لكم في الأنعام لعبرة) *) لعظة " * (نسقيكم) *).
قرأ أهل المدينة وابن عامر ونافع وعاصم بفتح النون.
وقرأ الباقون بضمه. واختاره أبو عبيد قال: لأنه شراب دائم.
وحكى عن الكسائي أن العرب تقول: أسقيته نهرا وأسقيته لبنا إذا جعلت له سقيا دائما، فإذا أراد أنهم أعطوه شربة قالوا: سقيناه.
وقال غيره: هما لغتان يدل عليه قول لبيد في صفة السقاية:
سقى قومي بني مجد وأسقى
نميرا والقبائل من هلال
25

فجمع بين اللغتين.
" * (مما في بطونه) *) ولم يقل بطونها والأنعام جميع، قال المبرد: كناية إلى النعم والنعم والأنعام واحد ولفظ النعم، واستشهد لذلك برجز بعض الأعراب.
إذا رأيت أنجما من الأسد
جبهته أو الخراة والكند
بال سهيل في الفضيح ففسد
وطاب ألبان اللقاح فبرد
ولم يقل فبردت لأنه رد إلى (اللبن أو الخراة).
قال أبو عبيدة والأخفش: النعم يذكر ويؤنث فمن أنث فلمعنى الجمع، ومن ذكر فلحكم اللفظ، ولأنه لا واحد له من لفظه.
وقال الشاعر يذكره:
أكل عام نعم تحوونه
يلقحه قوم وتنتجونه
إن له نخيل فلا يحمونه.
وقال الكسائي: رد الكناية إلى المراد في بطون ما ذكر.
وقال بعضهم: أراد بطون هذا الشيء، كقول الله: " * (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي) *) وقوله: " * (وإني مرسلة إليهم بهدية) *) الآية " * (فلما جاء سليمان) *) ولم يقل: جاءت.
وقال: الصلتان العبدي.
إن السماحة والمرؤة ضمنا
قبرا بمرو على الطريق الواضح
وقال الآخر:
وعفراء أدنى الناس مني مودة
وعفراء عني المعرض المتواني
وقال الآخر:
26

إذا الناس ناس والبلاد بغبطة
وإذ أم عمار صديق مساعف
كل ذلك على معنى هذا الشخص وهذا الشيء.
وقال المؤرج: الكناية مردودة إلى البعض والجزء، كأنه قال: نسقيكم مما في بطونه اللبن، إذ ليس لكلها لبن وإنما يسقى من ذوات اللبن، فاللبن فيه مضمر.
" * (من بين فرث) *) وهو ما في الكرش فإذا أخرج منه لا يسمى فرثا " * (ودم لبنا خالصا) *) خلص من الفرث والدم ولم يختلط بهما " * (سائغا للشاربين) *) جاهزا هنيئا يجرى في الحلق ولا يغص شاربه، وقيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط.
قال ابن عباس: إذا أكلت الدابة العلف واستقر في كرشها لحينه، وكان أسفله فرث وأوسطه لبن وأعلاه دم الكبد (فما كان) على هذه الأصناف الثلاثة يقسم فيجري الدم في العروق، ويجري اللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو.
" * (ومن ثمرات النخيل والأعناب) *) يعني ذلكم أيضا عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب " * (تتخذون منه) *) الكناية في قوله: " * (منه) *) عائدة إلى المذكورين.
" * (سكرا ورزقا حسنا) *).
قال قوم: السكر: الخمر، والرزق الحسن: الخل والعنب والتمر والزبيب، قالوا: وهذا قول تحريم الخمر، وإلى هذا القول ذهب ابن مسعود وابن عمرو وسعيد بن جبير وأيوب وإبراهيم والحسن ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والكلبي، وهي رواية عمرو بن سفيان البصري عن ابن عباس قال: السكر: ما حرم من ثمرتها، والرزق الحسن: ما حل من ثمرتهما. أما السكر فخمور هذه الأعاجم، وأما الرزق الحسن فما تنتبذون وما تخللون وما تأكلون.
قال: ونزلت هذه الآية ولم يحرم الخمر يومئذ، وإنما نزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة.
وقال الشعبي: السكر: ما شربت، والرزق الحسن: ما أكلت.
وروى العوفي عن ابن عباس: أن الحبشة يسمون الخل السكر.
وقال بعضهم: السكر: النبيذ المسكر وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والشعبي برواية مجالد وأبي روق وقول النخعي ورواية الوالبي عن ابن عباس، وقيل: هو نبيذ التمر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (الخمر ما اتخذ من العنب، والسكر من التمر، والبتع من العسل، والمزر
27

من الذرة (والبيرا) من الحنطة، وأنا أنهاكم عن كل مسكر).
وقال أبو عبيدة: السكر: الطعم، يقال: هذا سكر لك، أي طعم لك.
وأنشد:
جعلت عيب الأكرمين سكرا
" * (إن في ذلك لآية لقوم يعقلون وأوحى ربك إلى النحل) *) أي ألقى (على مسامعها) أو قذف في أنفسها ففهمته، والنحل: زنابير العسل، واحدها نحلة
" * (أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) *) يبنون، وقال ابن زيد: هو الكرم.
" * (ثم كلي من كل الثمرات) *) ليس معنى الكل العموم وهو كقوله: " * (وأوتيت من كل شيء) *) وقوله: " * (تدمر كل شيء بأمر ربها) *).
" * (فاسلكي سبل ربك) *) فأدخلي طرق ربك " * (ذللا) *).
قال بعضهم: الذلل يعني الطرق، ويقول هي مذللة للنحل.
قال مجاهد: (لا يتوعر عليها مكان سلكته).
قال آخرون: الذلل نعت (النحل).
قال قتادة وغيره: يعني مطيعة منقادة.
" * (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه) *) أبيض وأحمر وأصفر " * (فيه شفاء للناس) *).
يروى أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فقال: (اسقه عسلا) فذهب ثم رجع فقال: سقيته فلم يغن عنه شيئا. فقال عليه الصلاة والسلام: (إذهب واسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك) فسقاه فكأنما نشط من عقال، (رواه) عطية عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري
28

وقال مجاهد: " * (فيه شفاء للناس) *) أي في القرآن. والقول الأول أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب.
روى وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء ما في الصدور.
الأعمش عن خيثم عن الأسود قال: قال عبد الله: عليكم بالشفائين: العسل والقرآن.
" * (إن في ذلك) *) أي فيما ذكرنا " * (لاية لقوم يتفكرون) *) فيعتبرون " * (والله خلقكم ثم يتوفاكم) *) صبيانا وشبابا وكهولا " * (ومنكم من يرد إلى أرذل
العمر) *) أي أردؤه، يقال منه: (ذل الرجل وفسل، يرذل رذالة ورذولة ورذلته أنا).
قال ابن عباس: يعني إلى أسفل العمر.
مقاتل: وابن زيد: يعني الهرم.
قتادة: أرذل العمر سبعون سنة.
وروى الأصبغ بن نباتة عن علي (ح) قال: أرذل العمر خمس وسبعون سنة.
" * (لكي لا يعلم بعد علم شيئا) *) أي لا يعقل من بعد عقله الأول شيئا.
" * (إن الله عليم قدير) *) نظيرها في سورة الحج.
" * (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا) *) في الرزق " * (برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) *) من العبيد حتى يستووا هم وعبيدهم في ذلك، يقول الله جل ثناؤه: فهم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقناهم سواء وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني. يلزم بهذا المثل الحجة على المشركين، وهذا مثل ضربه الله عز وجل، فما منكم من يشرك مملوكه في زوجته وقرابته وماله أفتعدلون بالله خلقه وعباده، فإن لم ترض لنفسك هذا فالله أحق أن ينزه من ذلك ولا تعدل به أحدا من عباده وخلقه.
عبد الله بن عباس: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: عيسى ابن الله، يقول: لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتى يكون (المولى والملوك) في المنال شرعا سواء فكيف ترضون لي مالا ترضون لأنفسكم نظيرها في سورة الروم " * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم) *) (مثلا تعاينه).
29

قال " * (أفبنعمة الله يجحدون) *) بالاشراك به.
قرأ عاصم: بالتاء على الخطاب، لقوله: " * (والله خلقكم) *) * * (والله فضل بعضكم على بعض) *).
وقرأ الباقون: بالياء لقوله: " * (فهم فيه سواء) *) واختاره أبو عبيد وأبو حاتم: لقرب المخبر منه.
" * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) *) يعني أنه خلق من آدم زوجته حواء " * (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) *).
ابن عباس والنخعي وابن جبير وأبو الأضحى: هم الأصهار أختان الرجل على بناته.
روى شعبة عن عاصم: بن بهدلة قال: سمعت زر بن حبيش وكان رجلا غريبا أدرك الجاهلية قال: كنت أمسك على عبد الله المصحف فأتى على هذه الآية قال: هل تدري ما الحفدة، قلت: هم حشم الرجل.
قال عبد الله: لا، ولكنهم الأختان. وهذه رواية الوالبي عن ابن عباس.
وقال عكرمة والحسن والضحاك: هم الخدم.
مجاهد وأبو مالك الأنصاري: هم الأعوان، وهي رواية أبي حمزة عن ابن عباس قال: من أعانك حفدك.
وقال الشاعر:
حفد الولائد حولهن وأسلمت
بأكفهن أزمة الأجمال
وقال عطاء: هم ولد الرجل يعينونه ويحفدونه ويرفدونه ويخدمونه.
وقال قتادة: (مهنة يمتهنونكم) ويخدمونكم من أولادكم.
الكلبي ومقاتل: البنين: الصغار، والحفدة: كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله.
مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس: إنهم ولد الولد.
ابن زيد: هم بنو المرأة من الزوج الأول. وهي رواية العوفي عن ابن عباس: هم بنو امرأة الرجل الأول.
وقال العتبي: أصل الحفد: مداركة الخطر والإسراع في المشي.
30

فقيل: لكل من أسرع في الخدمة والعمل: حفدة، واحدهم حافد، ومنه يقال في دعاء الوتر: إليك نسعى ونحفد، أي نسرع إلى العمل بطاعتك.
وأنشد ابن جرير (للراعي):
كلفت مجهولها نوقا يمانية
إذا الحداة على أكسائها حفدوا
" * (ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون) *).
قال ابن عباس: بالأصنام.
" * (وبنعمة الله هم يكفرون) *) يعني التوحيد الباطل فالشيطان أمرهم بنحر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام " * (وبنعمة الله) *) بما أحل الله لهم " * (هم
يكفرون) *) يجحدون تحليله.
" * (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات) *) يعني المطر " * (والأرض) *) يعني النبات.
" * (شيئا) *)، قال الأخفش: هو بدل من الرزق وهو في معنى: ما لا يملكون من الرزق شيئا قليلا ولا كثيرا.
قال الفراء: نصب (شيئا) بوقوع الرزق عليه. كما قال سبحانه: " * (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا) *) أي يكفت الأحياء والأموات. ومثله قوله تعالى: * (أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة) * * (ولا يستطيعون) *) ولا يقدرون على شيء، " * (فلا تضربوا لله الأمثال) *) يعني الأشباه والأشكال فيشبهوه بخلقه ويجعلون له شريكا فإنه واحد لا مثيل له " * (إن الله يعلم) *) خطأ ما يضربون له من الأمثال " * (وأنتم لا تعلمون) *) صواب ذلك من خطأه.
(* (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شىء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلا رجلين أحدهمآ أبكم لا يقدر على شىء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم * ولله غيب السماوات والارض ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شىء قدير * والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة لعلكم تشكرون) *
31

ثم ضرب الله تعالى مثلا المؤمن والكافر فقال عز من قائل: " * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) *) هو مثل الكافر رزقه الله مالا فلم يقدم خيرا ولم (يعمل) فيه بطاعة الله تعالى " * (ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا) *) هو مثل المؤمن أعطاه الله مالا فعمل فيه بطاعة الله وأنفقه فيما يرضي الله سرا وجهرا فأثابه الله على ذلك النعيم المقيم في الجنة " * (هل يستوون) *) ولم يقل يستويان لمكان (من) لأنه اسم مبهم يصلح للواحد، والاثنين، والجميع، والمؤنث، والمذكر، وكذلك قوله: " * (ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا) *) ثم قال: " * (ولا يستطيعون) *) بالجمع لأجل (ما) ومعنى الآية: هل يستوي هذا الفقر والبخل والغنى (والسخاء) فكذلك لا يستوي الكافر العاصي المخالف لأمر الله والمؤمن المطيع له.
روى ابن جريج عن عطاء: " * (عبدا مملوكا) *) قال: هو أبو جهل بن هشام " * (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) *) أبو بكر الصديق (ح).
ثم قال: " * (الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) *) يقول الله تعالى: ليس الأمر كما يفعلون ولا القول كما يقولون، ماللأوثان عندهم من يد، ولا معروف فيحمد عليه، إنما الحمد هو الكامل لله خالصا، لأنه هو المنعم والخالق والرازق ولكن أكثر هؤلاء الكفرة لا يعلمون أنها كذلك. ثم ضرب مثلا آخر بنفسه والأصنام فقال: " * (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه) *) يرسله " * (لا يأت بخير) *) لأنه لا يفهم ما يقال، ولا يفهم عنه.
وقال ابن مسعود: أينما توجهه لا يأت بخير، هذا مثل للصنم الذي لا يسمع ولا ينطق ولا يعقل ولا يفعل وهو كل على (عائده) يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه " * (هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل) *) يعني الله قادر متكلم بأمر التوحيد فليس كصنمكم، فإنه لا يأمر بالتوحيد " * (وهو على صراط مستقيم) *).
قال الكلبي: يعني وهو يدلكم على صراط مستقيم، وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم هو على صراط مستقيم.
قال الكلبي: يعني وهو يدلكم على صراط مستقيم.
آخر: ومن قال: كل المسلمين المؤمن والكافر، وهي رواية عقبة عن ابن عباس.
وروى إبراهيم بن عكرمة بن يعلي بن منبه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عثمان ابن عفان (ح) ومولاه. وكان عثمان ينفق عليه ويكفيه المؤنة وكان مولاه يكره الإسلام (ويأباه وينهاه عن) الصدقة ويمنعه من النفقة.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في هاشم بن عمرو بن الحرث بن ربيعة القرشي وكان رجلا قليل الخير يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم
32

وقال عطاء: (الأبكم أبي بن حلف) ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون.
" * (ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة) *) في قريب كونها وسرعة قيامها " * (إلا كلمح البصر) *) (كالنظر في البصر) ورجع الطرف؛ لأن ذلك هو أن يقال له: كن فيكون، " * (أو هو أقرب) *) بل هو أقرب " * (إن الله على كل شيء قدير) *) نزلت في الكفار الذين استعجلوا القيامة استهزاء منهم.
" * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم) *).
قرأ الأعمش: " * (إمهاتكم) *) بكسر الألف والميم.
وقرأ حمزة والكسائي بكسر الألف وفتح الميم.
وقرأ الباقون بضم الألف وفتح الميم.
وأصل الأمهات: أمات، فزيدت الهاء للتأكيد كما زادوها في أهرقت الماء وأصله أرقت " * (لا تعلمون شيئا) *) هذا كلام تام.
ثم ابتدأ فقال: " * (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) *) لأن الله تعالى جعل (لعباده السمع) والأبصار والأفئدة قبل إخراجهم من بطون أمهاتهم وإنما (أعطاهم العلم) بعد ما أخرجهم منها " * (لعلكم تشكرون) *) نعمه.
(* (ألم يروا إلى الطير مسخرات فى جو السمآء ما يمسكهن إلا الله إن فى ذالك لآيات لقوم يؤمنون * والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارهآ أثاثا ومتاعا إلى حين * والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل
تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون * فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين * يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون) *) 2
" * (ألم يروا) *). قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ويعقوب بالتاء.
وقرأ عاصم بضمر التاء. واختاره أبو عبيد لما قبلها.
" * (إلى الطير مسخرات) *) مذللات " * (في جو السماء) *) أي في الهواء بين الأرض والسماء "
33

* (ما يمسكهن) *) في الهواء " * (إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون والله جعل لكم من بيوتكم) *) التي هي من الحجر والمدر " * (سكنا) *) مسكنا تسكنونه.
قال الفراء: السكن: الدار، والسكن بجزم الكاف: أهل البلد.
" * (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا) *) يعني الخيام والقباب والأخبية (والفساطيط من الأنطاع) والأدم وغيرها " * (تستخفونها يوم ظعنكم) *) رحلكم وسفركم " * (ويوم إقامتكم) *) في بلادكم (لا يثقل) عليكم في الحالتين.
واختلف القراء في قوله: " * (يوم ظعنكم) *).
فقرأ الكوفيون بجزم العين، وقرأ الباقون: بفتحه. وإختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنه (أشهر) اللغتين وأفصحهما. " * (ومن أصوافها) *) يعني أصواف الضان وأوبار الإبل وأشعار المعز. والكنايات كلها راجعة إلى الأنعام.
" * (أثاثا) *) قال ابن عباس: مالا، مجاهد: (متاعا).
حميد بن عبد الرحمن: (أثاثا يعني) الأثاث: المال أجمع من الإبل والغنم والعبيد، والمتاع غيره هو متاع البيت من الفرش والأكسية وغيرها ولم يسمع له واحد مثل المتاع.
وقال أبو زيد: واحد الأثاث أثاثة. قال الخليل: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر ومنه شعر الشعراء كثر وأث شعر فلان أي إذا كثر والتف.
قال أمرؤ القيس:
أثيث كقنو النخلة المتعال
قال محمد بن نمير الثقفي في الأثاث:
أهاجتك الظعائن يوم بأتوا
بذي الزي الجميل من الأثاث
" * (ومتاعا) *) (بلاغا) تنتفعون بها " * (إلى حين) *) يعني الموت. وقيل: إلى حين يبلى ويفنى.
" * (والله جعل لكم مما خلق ظلالا) *) تستظلون بها من شدة الحر وهو ظلال الأشجار والسقوف والأبنية " * (ومن الجبال أكنانا) *) يعني الغيران والأسراب والمواضع التي تسكنون فيها واحدها كن " * (وجعل لكم سرابيل) *) قمصا من الكتان والقطن والخز والصوف " * (تقيكم) *) تمنعكم
34

" * (الحر) *).
(وقال) أهل المعاني: (أراد) الحر والبرد فأكتفى بأحدهما عن الآخر بدلالة الكلام عليه نظيره قوله: " * (إن علينا للهدى) *) يعني الهدي والإضلال.
" * (وسرابيل تقيكم بأسكم) *) يعني الدروع ولباس الحرب والمعنى: تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم " * (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) *) يخضعون له بالطاعة ويخلصون له بالعبادة.
وروى نوفل بن أبي (عقرب) عن ابن عباس أنه قرأ: (يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) بالفتح، يعني من الجراحات.
قال أبو عبيد: الاختيار قراءة العامة، لأن ما أنعم الله علينا في الإسلام أكثر من إنعامه علينا في السلامة من الجراح.
وقال عطاء الخراساني في هذه الآية: إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم ألا ترى إلى قوله تعالى: " * (وجعل لكم من الجبال اكنانا) *) وما جعل لكم من السهول أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب جبال. وقال: " * (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها) *) وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر. الا ترى إلى قوله: " * (وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء) *) وما ينزل من (الثلج) أعظم وأكثر ولكنهم كانوا لا يعرفونه، ألا ترى إلى قوله: " * (سرابيل تقيكم الحر) *) وما يقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم ظلوا أصحاب حر.
" * (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمة الله) *).
قال السدي: يعني محمد صلى الله عليه وسلم
" * (ثم ينكرونها) *) يكذبون ويجحدون نبوته.
قال مجاهد: يعني ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم ينكرون ذلك فيزعمون أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم، وبمثله قال قتادة.
وقال الكلبي: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذه النعم لهم فقالوا: نعم هذه كلها من الله تعالى ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقال عون بن عبد الله: هو قول الرجل
لولا فلان لكان كذا، لولا فلان ما أصبت كذا.
35

" * (وأكثرهم الكافرون) *) الجاحدون.
(* (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون * وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون * وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم قالوا ربنا هاؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون * وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون * الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون * ويوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هاؤلآء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) *) 2
" * (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) *) يعني رسولها " * (ثم لا يؤذن للذين كفروا) *) في الاعتذار " * (ولا هم يستعتبون) *) يسترضون، يعني لا يكلفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون للرجوع إلى دار الدنيا (فيتوبون) * * (وإذا رأى الذين ظلموا) *) كفروا " * (العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون) *) يؤخرون " * (وإذا رأى الذين أشركوا) *) يوم القيامة " * (شركاءهم) *) أوثانهم " * (قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك) *) أربابا ونعبدهم " * (فألقوا إليهم القول) *) أي قالوا لهم، يقال: ألقيت إليك كذا، يعني: قلت لك " * (إنكم لكاذبون) *) في تسميتنا آلهة ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا علمنا بعبادتكم إيانا " * (وألقوا) *) يعني المشركين " * (إلى الله يومئذ السلم) *) استسلموا وانقادوا لحكمه فيهم ولم تغن عنهم آلهتهم شيئا " * (وضل) *) زال (........) * * (عنهم ما كانوا يفترون) *) من إنها تشفع لهم.
" * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب) *).
روى عبد الله بن مرة عن مسروق قال: قال عبد الله: " * (زدناهم عذابا فوق العذاب) *)، قال: عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال، ابن عباس ومقاتل: يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار يسيل من تحت العرش، يعذبون بها ثلث على مقدار الليل وثلثان على مقدار النهار.
سعيد بن جبير: حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمتها أربعين خريفا.
وقيل: إنهم يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار.
ويقال: هو أنهم يحملون أثقال أتباعهم. كما قال الله تعالى " * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) *).
36

ويقال: إنه يضاعف لهم العذاب.
" * (بما كانوا يفسدون) *) في الدنيا من الكفر وصد الناس عن الإيمان " * (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) *) يعني عليها، وإنما قال: " * (من أنفسهم) *) لأنه كان يبعث إلى الأمم أنبياءها منها " * (وجئنا بك) *) يا محمد " * (شهيدا على هؤلاء) *) الذين بعثت إليهم " * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) *) يحتاج إليه من الأمر والنهي، والحلال والحرام، والحدود والأحكام * (وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) * * (إن الله يأمر بالعدل) *) يعني بالإنصاف " * (والإحسان) *) إلى الناس، الوالبي عن ابن عباس: العدل: التوحيد، والإحسان أداء الفرائض.
(وقيل:) العدل: شهادة أن لا إله إلا الله، والاحسان: الاخلاص فيه.
عطاء عنه: العدل: مصطلح الأنداد، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، مقاتل: العدل: التوحيد، والإحسان: العفو عن الناس، وقيل: العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال. كقوله: " * (وقولوا للناس حسنا) *).
" * (وإيتاء ذي القربى) *) صلة الرحم " * (وينهى عن الفحشاء) *) القبيح من الأقوال والأفعال.
وقال ابن عباس: الزنا.
" * (والمنكر) *) ما لا يعرف في شريعة ولا سنة " * (والبغي) *) الفسق والظلم.
وقال ابن عيينة: (والعدل في مستوى) السر والعلانية. والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
" * (يعظكم لعلكم تذكرون) *) تتعظون.
قتادة: إن الله تعالى أمر عباده بمكارم الأخلاق ومعاليها، ونهاهم عن سفاسف الأخلاق ومذاقها.
وقال ابن مسعود: وأجمع آية في القرآن هذه الآية.
شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته بمكة جالسا إذ مر به عثمان بن مظعون فكسر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله: (ألا تجلس) قال: بلى، فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء فنظر ساعة فأخذ يضع بصره حتى وقع على يمينه في الأرض فتحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفهم شيئا يقال له، ثم شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء كما شخص أول مرة فأتبعه بصره حتى توارى في السماء فأقبل إلى
37

عثمان كحالته الأولى، فقال: يا محمد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل فعلتك لغداة؟ قال: (وما رأيتني فعلت)؟ قال: رأيتك تشخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفهم شيئا يقال لك. فقال: (أو فطنت إلى ذلك)؟ قال: نعم، قال: (أتاني رسول الله جبرائيل آنفا
وأنت جالس) قال: نعم: فماذا قال: لك؟ قال: قال: " * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) *) إلى آخره.
قال عثمان: فذلك الحين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم.
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على الوليد بن المغيرة " * (إن الله يأمر بالعدل) *) إلى آخر الآية، قال له: يا بن أخ أعد، فأعاد عليه. فقال: إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة فإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول بشر، ثم لم يسلم، فأنزل الله فيه: * (وأعطى قليلا وأكدى) * * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) *) تشديدها (ويحنثوا فيها)، والتوكيد لغة أهل الحجاز، أما أهل نجد فإنهم يقولون: أكدت تأكيدا " * (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) *) بالوفاء " * (إن الله يعلم ما تفعلون) *) واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية وإن كان حكمها عاما.
فقال بعضهم: نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم الله بالوفاء بها.
وقال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية.
ثم ضرب جل ثناؤه مثلا لنقض العهد، فقال عز من قائل: " * (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة) *) أي من بعد إبرامه وإحكامه، وكان بعض أهل اللغة يقول: القوة ما غزل على طاقة واحدة ولم يثن.
الكلبي ومقاتل: هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش يقال لها: ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم كانت اتخذت مغزلا بقدر ذراع وصنارة مثل الإصبع وفتل عظمة على قدرها وكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر وتأمر جواريها بذلك فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار أمرت جواريها بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها.
وقوله " * (أنكاثا) *) يعني أنقاضا واحدتها نكثة، وهو كل ما نقض بعد الفتل غزلا كان أو حبالا " * (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) *) أي دخلا وخيانة وخديعة.
قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل
38

" * (أن تكون) *) أي لأن تكون " * (أمة هى أربى) *) أكثر وأجل " * (من أمة) *).
قال مجاهد: ذلك أنهم كانوا يحالفون الحلف فيجدون أكبر منهم وأعز ويستيقنوه فيحلف هؤلاء ويحالفون الأكثر فنهاهم الله تعالى عن ذلك " * (إنما يبلوكم الله به) *) يختبركم بأمره إياكم بالوفاء بالعهد " * (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) *) في الدنيا " * (ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة) *) على ملة واحدة، " * (ولكن يضل من يشاء) *) بخذلانه إياهم عدلا منه فيهم " * (ويهدي من يشاء) *) بتوفيقه إياهم فضلا منه " * (ولتسألن عما كنتم تعملون) *))
.
* (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون * وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هى أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون * ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولاكن يضل من يشآء ويهدى من يشآء ولتسئلن عما كنتم تعملون * ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم * ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون * ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون * من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيواة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون * فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) *) 2
" * (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا) *) خديعة وفسادا " * (بينكم) *) يغرون بها الناس فتسكنون إلى إيمانكم ويأمنون ثم ينقضونها ويختلفون فيها " * (فتزل قدم بعد ثبوتها) *) فتهلكوا بعد ما كنتم آمنين، والعرب تقول لكل مبتل بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة: زلت قدميه.
كقول الشاعر:
سيمنع منك السبق إن كنت سابقا
وتلطع إن زلت بك القدمان
" * (وتذوقوا السوء) *) العذاب " * (بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) *) يعني ولا تنقظوا عهودكم تطلبون بنقضها عوضا قليلا من الدنيا، ولكن أوفوا بها
39

فإنما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك " * (خير لكم إن كنتم تعلمون) *) فصل ما بين العوضين ثم بين ذلك " * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين) *) بالنون عاصم. الباقون بالياء.
" * (الذين صبروا) *) على الوفاء في السراء والضراء " * (أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *) دون أسوأها ويغفر سيئاتهم بفضله " * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) *) اختلفوا فيها:
فقال سعيد بن جبير وعطاء والضحاك: هي الرزق الحلال، وهو رواية ابن أبي مالك وأبي الربيع عن ابن عباس.
وقال الحسن وعلي وزيد و وهب بن منبه: هي القناعة والرضا بما قسم الله، وهذه رواية عكرمة عن ابن عباس.
وقال مقاتل بن حيان: يعني أحسن في الطاعة، وهي رواية عبيد بن سليم عن الضحاك، فقال: من يعمل صالحا وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة فحياة طيبة. ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل عملا صالحا فمعيشة ضنك لا خير فيها.
أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة.
الوالبي عن ابن عباس: هي السعادة، مجاهد وقتادة وابن زيد: هي الجنة، ومثله روي عن الحسن وقال: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة.
" * (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *).
قال أبو صالح: جلس ناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الأوثان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فأنزل الله عز وجل هذه الآية " * (فإذا قرأت القرآن) *) يعني فإذا كنت قارئا للقرآن " * (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) *).
قال محمد بن جرير، وقال الآخرون: مجازه: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، كقوله: " * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) *) الآية، أي الطهارة مقدمة على الصلاة، وقوله: " * (وإذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) *) معناها وإذا أردتم تطليق النساء لأنه محال أن يأمرهم بالتطليق المعين بعد ما مضى التطليق. وأما حكم الآية: فاعلم أن الاستعاذة عند قراءة القرآن مستحبة في الصلاة وغير الصلاة، هذا قول جماعة الفقهاء إلا مالكا، فإنه لا يتعوذ إلا في قيام رمضان، واحتج بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وإنما تأويل هذا
40

الحديث أنه كان يفتتح القراءة في الصلاة بالحمد لله رب العالمين، يدل عليه أن الصلاة تفتتح بالتكبير بلا خلاف على أن الخبر متروك الظاهر.
ويدل على صحة ما قلنا حديث جبير بن مطعم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقال: (الله أكبر كبيرا والحمد لله وسبحان الله بكرة وأصيلا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخة ونفثة وهمزة).
وقال ابن مسعود: نفخة الكبر ونفثة الشعر وهمزة المرض يعني الجنون، فإذا تقرر هذا ثبت أن الخبر المتقدم متروك بالظاهر مأخوذ المعنى.
واختلف الفقهاء في وقت الاستعاذة:
فقال أكثرهم: قبل القراءة، وهو قول الجمهور، وهو الصحيح المشهور.
وقال أبو هريرة: يتعوذ بعد القراءة وإليه ذهب داود بن علي.
وقال مالك في الصلاة التي يتعوذ فيها وهي قيام رمضان: يتعوذ بعد القراءة واحتج بظاهر الآية، وقد بينا وجهها، والدليل على أنها قبل القراءة، ما روى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ثم يقرأ، وأما الكلام في محل الاستعاذة في الصلاة، فقد قال الشافعي: يقولها في أول الركعة، وقيل: إن قال حيث يفتتح كل ركعة قبل القراءة فحسن ما يقرأ به في شيء من الصلاة كما أمره به في أول ركعة. هذا قول عامة الفقهاء.
وقال ابن سيرين: يتعوذ في كل ركعة قبل القراءة. والصحيح المذهب الأول، لأن المروي في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتعوذ إلا في الأولى، وأما صفتها وفي الصلاة فهي أن ينظر فإن كانت صلاة يسر فيها بالقراءة أسر فيها بالاستعاذة، وإن كانت يجهر فيها بالقراءة:
فقال الشافعي في (الأم): روي أن أبا هريرة أم الناس رافعا صوته: ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم، وكان ابن عمر يعوذ في نفسه.
قال الشافعي: فإن شاء جهر بها وإن شاء أسر بها.
قال الثعلبي: والاختيار الاخفاء ليفرق بين ما هو قرآن وما هو ليس بقرآن.
فأما لفظة الاستعاذة فالأولى والمستحب أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لنص القرآن والخبر المتصل المتسلسل، وهو أني قرآت على الشيخ أبي الفضل محمد بن أبي جعفر
41

الخزاعي، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في المواضع كلها فأني قرأت على أبي الحسين عبد الرحمن بن محمد بالبصرة فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على عبد الله أبي حامد الزنجاني فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على أبي عثمان إسماعيل بن إبراهيم الأهوازي فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على محمد بن عبد الله بن بسطام فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على روح بن عبد المؤمن فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على يعقوب الحضرمي فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على سلام بن المنذر، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عاصم فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على زر بن حبيش فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عبد الله بن مسعود فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم، فقال لي: (يا ابن أم عبد قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرائيل عن القلم عن اللوح المحفوظ).
قال ابن عجلان: وهكذا علمني أخي أحمد، وقال: هكذا علمني أخي، وقال: هكذا علمني وكيع بن الجراح، وقال: هكذا علمني سفيان الثوري.
" * (إنه ليس له سلطان) *) حجة وولاية " * (على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) *).
قال سفيان: ليس له سلطان أن يحملهم على ذنب لا يغفر.
" * (إنما سلطانه على الذين يتولونه) *) يطيعونه " * (والذين هم به) *) أي بالله " * (مشركون) *).
وقال بعضهم: الكناية راجعة إلى الشيطان، ومجاز الكلام: الذين يسمعون قوله مشركون بالله، وهذا كما يقال: صار فلان بك عالما، أي من أجلك وبسببك عالما.
(* (وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنمآ أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين ءامنوا وهدى وبشرى للمسلمين * ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهاذا لسان عربى مبين * إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم * إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولائك هم الكاذبون * من كفر بالله
42

من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولاكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) *) 2
" * (وإذا بدلنا آية مكان آية) *) يعني وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر، " * (والله أعلم بما ينزل) *) فيما يغير ويبدل أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما عدل من أحكامه " * (قالوا إنما أنت) *) يا محمد " * (مفتر) *) وذلك أن المشركين قالوا: إن محمدا يسجد بأصحابه يأمرهم اليوم ويأمرهم غدا ويأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه.
قال الله: " * (بل أكثرهم لا يعلمون) *) حقيقة القرآن وبيان الناسخ والمنسوخ من الأحكام " * (قل نزله) *) يعني القرآن " * (روح القدس) *) جبرئيل " * (من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا) *) تثبيتا للمؤمنين وتقوية لإيمانهم (......) تصديقا ويقينا " * (وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) *) آدمي وما هو من عند الله، واختلف العلماء في هذا البشر من هو:
قال ابن عباس: كان قينا بمكة اسمه بلعام وكان نصرانيا يسمى اللسان وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج منه فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عكرمة وقتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقري غلاما لبني المغيرة يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب، (فقالوا): إنما يعلمه يعيش فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الفراء: قال المشركون إنما يتعلم محمد عن مملوك كان لحويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه وكان أعجمي فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني، يقال له: خير، عبد لبعض بني الحضرمي وكان يقرأ الكتب.
وقال المشركون: والله ما يعلم محمدا كثيرا ما يأتي به إلا خير النصراني، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال طلحة بن عمر: بلغني أن خديجة خ كانت تختلف إلى خير فكانت قريش تقول: إن عبد بني الحضرمي يعلم خديجة وخديجة، تعلم محمدا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال عبيد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا عبدان من أهل (عين التمر) يقال لأحدهما
43

يسار وللآخر خير، وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن بالتوراة والإنجيل، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن فيقف فيسمع.
وقال الضحاك: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا آذاه الكفار يقصد إليهما فيستروح بكلامهما، فقال المشركون: إنما يتعلم محمد منهما، فنزلت هذه الآية.
وقال السدي: كان بمكة رجل نصراني يقال له ابن ميسرة يتكلم بالرومي، فربما يقعد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الكفار: إنما يتعلم محمد منه، فنزلت هذه الآية.
وروى علي بن الحكم وعبيد بن سليمان عن الضحاك: " * (إنما يعلمه بشر) *) قال: كانوا يقولون: إنما يعلمه سلمان الفارسي، وهذا قول غير مرضي؛ لأن سلمان إنما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهذه الآية مكية.
قال الله تكذيبا لهم (وإلزاما) للحجة عليهم: " * (لسان الذي يلحدون إليه) *) أي يميلون إليه ويشيرون إليه. وخص الكسائي هذا الحرف من بين سائره فقرأ بفتح الياء والحاء؛ لأنه كان يحدثه عن سفيان عن أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله كذلك.
" * (أعجمي) *) والفرق بين الأعجمي والعجمي، والعربي والإعرابي: أن الأعجمي لا يفصح وأنه كان نازلا بالبادية والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. والإعرابي: البدوي، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحا.
" * (وهذا لسان عربي مبين) *) فصيح، وأراد باللسان القرآن؛ لأن العرب تقول للقصيدة واللغة: لسان، كقول الشاعر:
لسان السوء تهديها إلينا
وحنت ما حسبتك أن تحينا
يعني باللسان القصيدة والكلمة.
" * (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم) *) ثم إن الله تعالى بعدما أخبر عن إغراء المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتبين أنهم المفترون دونه، فقال عز من قائل: " * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) *) لا محمدا.
روى يعلي بن الأشدق عن عبد الله بن حماد قال: قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: (يكون ذلك). قال: قلت: يا رسول الله المؤمن يسرق؟ قال: (قد يكون ذلك). قال: قلت: يا رسول الله المؤمن يكذب؟
44

قال: (لا، قال الله " * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بالله) *)).
وروى (سهيل) بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر يقول: إياكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان. " * (من كفر بالله من بعد إيمانه) *) اختلف النحاة في العامل في (من) في قوله (من كفر) ومن يؤله ولكن من شرح بالكفر صدرا.
فقال نحاة الكوفة: جوابهما جميعا في قوله: " * (فعليهم غضب) *) إنما هذان جزءان إن اجتمعا أحدهما منعقد بالآخر فجوابهما واحد، كقول القائل: من يأتنا فمن يحسن نكرمه، بمعنى من يحسن ممن يأتينا نكرمه.
وقال أهل البصرة: بل قوله (من كفر) مرفوع بالرد على الذي في قوله " * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) *) ومعنى الكلام: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، ثم استثنى فقال " * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *).
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عمار وذلك، أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قلبها بحربة، وقيل: لما أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الاسلام رحمة الله ورضوانه عليهما، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها.
قال قتادة: أخذ بنو المغيرة عمارا وغطوه في بئر مصون وقالوا له: أكفر بمحمد (ولم يتعمد) ذلك وقلبه كان مطمئنا فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عمارا كفر. فقال: (كلا إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه وإختلط الايمان بلحمه ودمه).
فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه، وقال: (مالك إن عادوا لك فعدلهم بما قلت).
فأنزل الله هذه الآية.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمد: إن هاجروا إلينا فإنا (لا نرى أنكم) منا حتى تهاجروا الينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا كارهين.
وروى ابن عون عن محمد بن سيرين قال: تحدثنا أن هذه الآية نزلت في شأن عياش بن
45

أبي ربيعة، وكان عياش من المهاجرين الأولين (وألجأ يضربه) أن يكون بلغ ما بلغ أصحابه هذه (الفعلة) وكان قدم مهاجرا وكان برا بأمه، فحلفت أن لا تأكل خبزا ولا تستظل بظل حتى يرجع إليها ابنها قال: فقدم عليه أبو جهل وكان أخاه لأمه ورجل آخر فأراد أن يرجع معه فقال له أبو جهل: أمك (لو قد جاعت ما أكلت ولو قد شمست) ما أستظلت، فقال ابنها: بلى ألقاها ثم أرجع. فقال: أما إذا أتيت فلا (تعطين راحلتك) أحدا، فإنه لا يزال لك من أمرك النصف ما لم تعط راحلتك أحدا فانطلق هو وأبو جهل والرجل، فلما كانوا ببعض الطريق قال أبو جهل: لو تحول كل واحد منا على راحلة صاحبه فتحول كل واحد منهم على راحلة صاحبه فساروا. وضربه أبو جهل بالسوط على رأسه وحلفه باللات والعزى فلم يزل به حتى أعطاه الذي أراد بلسانه، ثم انطلق فرجع، وفيه نزلت هذه الآية " * (من كفر بالله من بعد إيمانه) *).
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في جبر مولى عامر بن الحضرمي، أكرهه سيده على الكفر فكفر مكرها وقلبه مطمئن بالايمان، وأسلم مولى جبر وحسن إسلامه وهاجر خير مع سيده. " * (ولكن من شرح بالكفر صدرا) *) أي فتح صدرا وكفر بالقبول وأتى على اختيار واستحباب " * (فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) *) وفي هذه الآية دليل على أن حقيقة الايمان والكفر تتعلق بالقلب دون اللسان وأن اللسان هو المعبر والترجمان.
حكم الآية
اتفق الفقهاء على أن المكره على الكفر، وعلى شتم الرسول صلى الله عليه وسلم والأصحاب وترك الصلاة وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات وارتكاب الشبهات بوعيد متلف أو ضرب شديد لا يحتمله إن له أن يفعل ما أكره عليه، وإن أبى ذلك حتى يغضب في الله فهو أفضل له.
وأما الإكراه على الطلاق فاختلفوا فيه:
فأجاز أهل العراق الطلاق المكره، وكذلك قالوا في الاكراه على النذور والايمان (والرجعة) ونحوها، رأوا ذلك (جائزا) ورووا في ذلك أحاديثا واهية الأسانيد.
وأما مالك والأوزاعي والشافعي: فإنهم أبطلوا طلاق المكره وقالوا: لما وجدنا الله سبحانه وتعالى عذر المكره على شيء، ليس (وراءه) في الشر مذهب وهو الكفر ولم يحكم به مع الإكراه، علمنا أن ما دونه أولى بالبطول وأجرى في العذر.
وهو قول عمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والقاسم بن مخيمرة وعبيد بن عمير، وللشافعي
46

في هذه المقالة مذهب ثالث: وهو أنه أجاز طلاق المكره إذا كان الإكراه من السلطان، ولم يجوز ذلك إذا كان الاكراه من غير السلطان.
2 (* (ذالك بأنهم استحبوا الحيواة الدنيا على الاخرة وأن الله لا يهدى القوم الكافرين * أولائك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولائك هم الغافلون * لا جرم أنهم فى الاخرة هم الخاسرون * ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) *) 2
" * (ذلك بأ نهم استحبوا الحياة الدنيا) *) إلى قوله " * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) *) أي (طردوا) ومنعوا من الاسلام (ففتنهم) المشركون " * (ثم جاهدوا وصبروا) *) على الايمان والهجرة والجهاد " * (إن ربك من بعدها) *) أي من بعد تلك الفتنة (والفعلة) * * (لغفور رحيم) *) نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخو أبي جهل من الرضاعة، وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وقال الحسن وعكرمة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرخ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان وكان أخاه لأمه فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلم وحسن إسلامه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وأما قوله (فتنوا) فقرأ عبد الله بن عامر: (فتنوا) بفتح الفاء والتاء، رده إلى من أسلم من المشركين الذين فتنوا المسلمين واعتبر بقوله جاهدوا وصبروا فأخبر بالفعل عنهم.
وقرأ الباقون: بضم الفاء وكسر التاء، اعتبارا بما قبله إلا من أكره.
(* (يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون * وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون * ولقد جآءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون * فكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون * إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم * ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هاذا حلال وهاذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم) *) 2
" * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) *) تخاصم وتحتج عن نفسها بما أسلفت من خير
47

وشر (مشتغلا بها لا تتفرغ) إلى غيرها والنفس تذكر وتؤنث " * (وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) *).
روى أبو صالح المري عن جعفر بن زيد قال: قال عمر بن الخطاب (ح) لكعب الأحبار: يا كعب خوفنا وحدثنا حديثا (تنبهنا به) قال: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو (وافيت) القيامة بمثل عمل سبعين نقيبا، لأتيت عليك ظلمات وأنت لا تهمل إلا نفسك وأن لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مبعث إلا وقع جاثيا على (ركبتيه) حتى إن إبراهيم ليدلي (بالخلة) فيقول: يا رب أنا خليلك إبراهيم لا أسالك إلا نفسي وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم " * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) *).
وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح: يا رب الروح منك وأنت خلقته لم تكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد إنما خلقتني كالخشب ليس لي يد ابطش بها ولا عين أبصر بها ولا رجل أمشي بها، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني وبه أبصرت عيني وبه مشت رجلي فجدد عليه العذاب. قال: فيضرب الله لهما مثال أعمى ومقعدا دخلا حائطا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمر والمقعد لا يناله، فنادى المقعد الأعمى: أتيني هاهنا حتى تحملني، قال: فدنا منه فحمله فأصابوا من الثمر فعلى من يكون العذاب، قالا: عليهما قال: عليكما جميعا الغذاب، " * (وضرب الله مثلا قرية) *) يعني مكة " * (كانت آمنة) *) لايهاج أهلها ولايغار أهلها " * (مطمئنة) *) قارة بأهلها (لا يحتاجون) إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليها سائر العرب " * (يأتيها رزقها رغدا من كل مكان) *) يحمل إليها من البر والبحر، نظيره قوله " * (يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا) *) * * (فكفرت بأنعم الله) *) جمع النعمة وقيل: جمع نعم، وقيل: جمع نعماء مثل بأساء وأبوس " * (فأذاقها الله لباس الجوع) *) ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة والجيفة والكلاب الميتة (والعلهز) وهو الوبر يعالج بالدم، ثم إن رؤوساء مكة تكلموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون " * (والخوف) *) يعني بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كانت تطيف بهم.
وروى الخفاف والعباس عن أبي عمرو: (والخوف) بالنصب بايقاع أذاقها عليه " * (بما كانوا يصنعون) *).
روى مشرح بن فاعان عن سليمان بن عمر بن عثمان قال: صدرنا من الحج مع حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان محصور بالمدينة، فكانت تسأل عنه حين رأت راكبين، فأرسلت اليهما تسألهما فقالا: قتل. فقالت حفصة: والذي نفسي بيده إنها يعني المدينة القرية التي قال الله
48

تعالى " * (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة) *) الآية. " * (ولقد جاءهم رسول منهم) *) إلى قوله تعالى " * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب) *) بفتح التاء والكاف بمعنى ولا تقولوا الكذب الذي تصف ألسنتكم وتكون (ما) للمصدر.
وقرأ ابن عباس: (الكذب) برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة " * (هذا حلال وهذا حرام) *) يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام " * (لتفتروا على الله الكذب) *) ويقولون: إن الله حرم هذا وأمرنا بها " * (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) *) لاينجون من عذاب الله " * (متاع قليل) *) يعني الذي هم فيه من الدنيا متاع قليل أو لهم متاع قليل في الدنيا " * (ولهم عذاب أليم) *) في الآخرة " * (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) *) يعني في سورة
الأنعام وهو قوله " * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) *) الآية.
2 (* (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم * إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وءاتيناه فى الدنيا حسنة وإنه فى الاخرة لمن الصالحين * ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين * وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) *) 2
" * (وما ظلمناهم) *) بتحريم ذلك عليهم " * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *) فجزيناهم ببغيهم " * (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة) *) الآية قيل الهاء في قوله بعدها راجع إلى الجهالة، وقيل: إلى المعصية لأن السوء بمعنى المعصية، فرد الكناية إلى المعنى، وقيل: إلى الفعلة " * (إن إبراهيم كان أمة) *) أي معلما للخير يأتم بأهل الدنيا، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة والأخلاق الجميلة ما يجتمع في أمة.
روى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود " * (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا) *) فقلت: إنما قال الله: (إن إبراهيم كان أمة قانتا). فقال: أتدري ما الأمة وما
49

القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأمة الذي يعلم الخير والقانت المطيع لله. وكذلك كان معاذ بن جبل فكان يعلم الخير وكان مطيعا لله ولرسوله.
وقال مجاهد: كان مؤمنا وحده والناس كفار كلهم، وقال قتادة: ليس من أهل دين إلا يقولونه ويرضونه.
شهر بن حوشب قال: لم يبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض ويخرج بركتها، إلا زمن إبراهيم فإنه كان وحده " * (قانتا لله حنيفا) *) مسلما مستقيما على دين الاسلام " * (ولم يكن من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة) *) يعني الرسالة والحكمة والثناء الحسن.
وقال مقاتل بن حيان: يعني الصلوات في قول هذه الأمة: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، (وقيل) أولادا أبرارا على الكبر. وقيل: القبول العام في جميع الأمم " * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) *) حاجا مسلما " * (وما كان من المشركين) *).
ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى إبراهيم (عليه السلام) فراح به إلى منى فصلى به الصلوات جميعا الظهر، والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر ثم غدا به إلى عرفات فصلى به الصلاتين جميعا الظهر والعصر، ثم راح فوقف به حتى إذا غربت الشمس أفاض به إلى جمع فصلى به الصلاتين المغرب والعشاء، ثم بات به حتى إذا كان كما عجل ما يصلي أحد من المسلمين صلى به (الفجر)، ثم وقف حتى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين أفاض به إلى منى فرمى الجمرة وذبح وحلق، ثم أفاض به إلى البيت فطاف به) فأوحى الله تعالى إلى محمد * (أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * * (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) *) يقول: ما فرض الله تعالى بتعظيم السبت وتحريمه إلا على الذين اختلفوا فيه.
فقال بعضهم: هو أعظم الأيام، لأن الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثم سبت يوم السبت.
وقال آخرون: بل أعظم الله يوم الأحد لأنه اليوم الذي ابتدأ الله فيه خلق الأشياء واختاروا تعظيم غير ما فرض الله عليهم تعظيمه، وتركوا تعظيم يوم الجمعة الذي فرض عليهم تعظيمه واستحلوه.
50

قال الكلبي: أمرهم موسى بالجمعة فقال: تفرغوا لله عز وجل في كل سبعة أيام يوما واحدا فأعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه لصناعتكم، وستة أيام لصناعتكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نريد إلا اليوم الذي فرض الله من الخلق يوم السبت، فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم فيه.
ثم جاءهم عيسى بن مريم بالجمعة فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، يعنون اليهود واتخذوا (يوم) الأحد فقال الله " * (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) *).
قال قتادة: الذين اختلفوا فيه يعني اليهود واستحله بعضهم وحرمه بعضهم.
روى همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتينا من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد).
روى المسيب عن أبي سنان عن مكحول الشامي قال: كان لعمر بن الخطاب على يهودي حق فلقيه عمر فقال: والذي أصطفى أبا القاسم على البشر لا تعمل لي وأنا أطلبك (بشيء).
فقال اليهودي: ما اصطفى الله أبا القاسم على البشر، فرفع عمر عليه السلام يده فلطم عينه، فقال اليهودي: بيني وبينك أبو القاسم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهودي: إن عمر زعم إن الله إصطفاك على البشر وإني زعمت أن الله لم يصطفك على البشر، فرفع يده فلطمني، فقال صلى الله عليه وسلم (أما أنت يا عمر فأرضه من لطمته، بلى يا يهودي، آدم صفي الله، وإبراهيم خليل الله، وموسى نجي الله، وعيسى روح الله، وأنا حبيب الله، بلى يا يهودي إسمان من أسماء الله تعالى سمى
بهما أمتي، سمى نفسه السلام وسمى أمتي المسلمين، وسمى نفسه المؤمن وسمى أمتي المؤمنين، بلى يا يهودي طلبتم يوما وذخر لنا يعني يوم الجمعة فاليوم لنا عيد وغدا لكم وبعد غد للنصارى، بلى يا يهودي أنتم الأولون ونحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بلى يا يهودي إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى أدخلها أنا وإنها لمحرمة على الأمم حتى يدخلها أمتي).
" * (ادع إلى سبيل ربك) *) دين ربك " * (بالحكمة) *) بالقرآن " * (والموعظة الحسنة) *) يعني مواعظ القرآن " * (وجادلهم بالتي هي أحسن) *) وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن.
قال المفسرون: أعرض عن أذاهم ولا تقصر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق
51

ونسختها آية القتال " * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) *).
قال أكثر المفسرين: سورة النحل مكية كلها إلا ثلاث آيات " * (وإن عاقبتم) *) إلى آخرها، فإنها نزلت بالمدينة في شهداء أحد، وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلهم يوم أحد في تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة، حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا وقد مثل به غير حنظلة الراهب فإن أباه أبو عامر الراهب كان مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك، فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن أظهرنا الله عليهم لتزيدن على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ولنفعلن ولنفعلن، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وإذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه، وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمصصته ثم استرطتها لتأكلها، فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئا من جسده النار) فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه فقال صلى الله عليه وسلم (رحمة الله عليك فإنك ما علمتك ما كنت إلا فعالا للخيرات وصولا للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواه شتى، أم والله لئن أظفرني الله عليهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك).
فأنزل الله تعالى " * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) *) الآية فقالصلى الله عليه وسلم (بل نصبر) فأمسك عما أراد وكفر يمينه.
وقال ابن عباس والضحاك: وكان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال، فلما أعز الله الاسلام وأهله ونزلت براءة وأمروا بالجهاد، نسخت هذه الآية.
وقال قوم: بل هذه الآية محكمة وإنما نزلت فيمن ظلم بظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالم أكثر مما نال الظالم منه أمر بالجزاء أو العفو ونهى عن الاعتداء. وهذا قول النخعي والثوري ومجاهد وابن سيرين، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " * (واصبر وما صبرك إلا بالله) *) أي بمعونة الله وتوفيقه " * (ولا تحزن عليهم) *) في إعراضهم عنك " * (ولا تك في ضيق) *).
قرأها بكسر الضاد هاهنا وفي سورة النحل ابن كثير والباقون: بالفتح وإختاره أبو عبيد، وقال: لأن الضيق في قلة المعاش وفي المساكن، فأما ما كان في القلب والصدر فإنه ضيق.
وقال أبو عمرو وأهل البصرة: الضيق بفتح الضاد، الغم والضيق بالكسر (الشدة).
52

وقال الفراء وأهل الكوفة: هما لغتان معروفتان في كلام العرب مثل رطل ورطل.
وقال ابن قتيبة: الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين، وعلى هذا التأويل صفته كأنه قال: ولا تكن في أمر ضيق.
" * (مما يمكرون) *) من مكرهم " * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) *) بالعون والنصرة.
روى شعبة عن أبي يونس عن أبي قزعة عن هرم بن حيان وقالوا له: أوصنا.
قال: أوصيكم بالآيات الأواخر من سورة النحل " * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) *) إلى آخر السورة.
53

((سورة الإسراء))
مكية. وهي ستة ألف وأربعمائة وستون حرفا، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، ومائة وإحدى عشر آية
روى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين أعطى في الجنة قنطارين من الأجر والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية والأوقية منها خير من الدنيا (وما فيها)).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من ءاياتنآ إنه هو السميع البصير * وءاتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى إسراءيل ألا تتخذوا من دونى وكيلا * ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا) *) 2
" * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) *).
عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله. قال: (تنزيه الله عن كل سوء) ويكون سبحان بمعنى التعجب.
قال الأعشى:
أقول لما جاءني فخر
سبحان من علقمة الفاخر
وفي بعض الحديث تفسير سبحان الله: براءة الله من السوء.
فالآية متضمنة للمعنين جميعا.
" * (من المسجد الحرام) *). اختلفوا فيه: قال بعضهم: كان اسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد مكة.
54

يدل عليه ما روى قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبرئيل بالبراق..) وذكر حديث المعراج.
وقال الآخرون: عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم من دار أم هاني بنت أبي طالب أخت علي (ح) وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي.
وقالوا: معنى قوله " * (من المسجد الحرام) *) من الحرم، لأن الحرم كله مسجد.
يدل عليه ما روى الكلبي عن أبي صالح عن باذان عن أم هاني بنت أبي طالب أنها كانت تقول: ما أسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة فصلى في بيتي العشاء الآخرة فصليت معه، ثم قمت فنمت وتركته في مصلاه فلم انتبه حتى أنبهني لصلاة الغداة، قال: (قومي يا أم هاني أحدثك العجب).
فقلت: كل حديثك العجب بأبي أنت وأمي فقام وصلى الغداة فصليت معه فلما انصرف قال: (يا أم هاني لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بعد نومك ثم أتاني جبرئيل وأنا في مصلاي هذا فقال: يا محمد أخرج فخرجت إلى الباب فإذا بملك راكب على دابة فقال لي: اركب فركبت فسارت بي إلى بيت المقدس، فإذا أتيت على واد طالت يدا الدابة وقصرت رجلاها، فإذا أتيت على عقبة طالت رجلاهاوقصرت يداها حتى إذا انتهيت إلى بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما تروني).
قال مقاتل: كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة.
" * (إلى المسجد الأقصى) *) يعني بيت المقدس، سمي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار " * (الذي باركنا حوله) *) بالماء والأنهار والأشجار والثمار.
وقال مجاهد: سماه مباركا لأنه مقر الأنبياء، وفيه مهبط الملائكة والوحي، وهو الصخرة، ومنه يحشر الناس يوم القيامة.
" * (لنريه من آياتنا) *) عجائب أمرنا " * (إنه هو السميع البصير) *).
وأما حديث المسرى، فأقتصرت به على الأخبار المأثورة المشهورة دون المناكير والأحاديث الواهية الأسانيد وجمعتها على نسق واحد مختصر، ليكون أعلى في الاستماع وأدنى إلى الانتفاع، وهو ما ورى الزهري عن ابن سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسل
55

وروى السدي عن محمد بن السائب عن باذان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم دخل كلام بعضهم في بعض قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما كانت ليلة أسري بي وأنا بمكة بين النائم واليقظان، جاءني جبرئيل (عليه السلام) فقال يا محمد قم فقمت فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل فقال جبرئيل لميكائيل: أئتني بطشت من ماء زمزم لكيما (وعطر قلبه) وأشرح له صدره قال: فشق بطني فغسله ثلاث مرات واختلف إليه ميكائيل بثلاث طشات من ماء زمزم، فشرح صدري ونزع ما كان فيه من غل وملاه حلما وعلما وإيمانا وختم بين كتفي بخاتم النبوة، ثم أخذ جبرئيل بيدي حتى انتهى بي إلى سقاية زمزم فقال لملك: ائتني بنور من ماء زمزم ومن ماء الكوثر، فقال: توضأ فتوضأت ثم قال لي: انطلق يا محمد. قلت: إلى اين؟ قال: إلى ربك ورب كل شيء، فأخذ بيدي وأخرجني من المسجد فإذا أنا بالبراق دابة فوق الحمار ودون البغل خده كخد الانسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإبل وأظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة حمراء وظهره كأنه درة بيضاء عليه رحل من رحائل الجنة، وله جناحان في فخذيه يمر مثل البرق خطوة منتهى طرفه فقال لي: إركب، وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام.
قال: فلما وضعت يدي عليه شمس واستعصى علي، فقال جبرئيل: مه يابراق، فقال البراق: يا جبرئيل (مس ظهري) فقال جبرئيل: هل مسست (ظهرا)
قال: لا والله إلا إني مررت يوما على (نصاب إبل) فمسحت يدي على رؤسهما وقلت: إن قوما يعبدونكما من دون الله ضلال. فقال جبرئيل: يابراق أما تستحي فوالله ماركبك مذ كنت قط نبي أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم قال: فأرتعش البراق وأنصب عرقا حياء مني، ثم خفض لي حتى لزق بالأرض، فركبته واستويت عليه قام بي جبرئيل نحو المسجد الأقصى بخطوا البراق مد البصر يرسل إلى جنبي لا يفوتني ولا أفوته حينا أنا في مسيري إذا جاءني نداء عن يميني قال: يا محمد على رسلك أسلك بقولها ثلاثا فلم أرفق عليه ثم مضيت حتى جاوزته، فإذا أنا بامرأة عجوز رفعت لي عليها من كل زينة وبهجة تقول: يا محمد إلي، فلم ألتفت إليها وقلت: يا جبرئيل من هذا الذي ناداني عن يميني؟ فقال: داعية اليهود والذي نفسي بيده لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك والذي ناداك من يسارك داعية النصارى، والذي نفسي بيده لو أجبت لتنصرت أمتك من بعدك، فأما التي رفعت لك بهجتها وزينتها فهي الدنيا لو التويت إليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
56

ثم أتيت بإنائين أحدهما اللبن والآخر خمرة فقيل لي: اشرب أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته. فقال لي جبرئيل: أصبت الفطرة أنت وأمتك، أما إنك لو أخذت الخمر لخمرت أمتك من بعدك قال: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار معه جبرئيل فأتى على قوم يزرعون ويحصدون في يوم واحد، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء المهاجرون في سبيل الله يضاعف لهم الحسنة سبعمائة ضعف، وما انفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير
الرازقين.
قال: ثم أتى على قوم يرضخ رؤسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيئا. قال: ماهؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثم أتى على قوم إقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع فيسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع، والزقوم قد صف جهنم وحجارتها فقال: ماهؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله " * (وما ربك بظلام للعبيد) *) ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج طيب ولحم آخر خبيث، فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب، قال: ماهؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هذا الرجل من يكون عنده المرأة حلالا طيبا فأتى امرأة خبيثة فيبيت معها حتى يصبح، فالمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي الرجل الخبيث فتبيت معه حتى تصبح، ثم أتى على (امرأة) في الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء آخر إلا فتته. فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا مثل أمتك يقعدون على الطريق فيقطعون بمثلا " * (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) *) الآية ثم أتى على رجل جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا الرجل من أمتك عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يزيد عليها، ثم أتى على قوم يقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت. قال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ قال هؤلاء خطباء الفتنة، ثم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع.
قال: ما هذا؟ قال: هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها ولا يستطيع أن يردها. قال: ثم أتى واد فوجد ريحا طيبة باردة وصوتا. قال: ما هذه الريح الطيبة وما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت الجنة، فقال: رب أرني بما وعدتني فقد كثر غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ولبني وخمري ومائي، فأتني بما وعدتني. فقال: لك كل مؤمن ومؤمنة من آمن بي وبرسلي
57

وعمل صالحا ولم يشرك بي ولم يتخذ من دوني أندادا، ومن خشيني فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل علي كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد قد أفلح المؤمنين تبارك الله أحسن الخالقين قال: قد رضيت. قال ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنة فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: (يا رب آتني) ما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري واشتد حري إئتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب.
قالت: قد رضيت يا رب، ثم سار ومعه جبرئيل فقال له جبرئيل: إنزل فصل. قال: فنزلت وصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة إلى الله. ثم قال: إنزل فصل قال فنزلت فصليت فقال: أتدري أين صليت صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى ثم قال: إنزل فصل، قال: فنزلت فصليت. فقال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى (عليه السلام) قال: ثم مضينا حتى أتينا بيت المقدس فلما انتهيت إليه إذا أنا بملائكة قد نزلوا من السماء يتلقونني بالبشارة والكرامة من عند رب العزة يقولون: السلام عليك يا أول ويا آخر ويا حاشر، قال: قلت يا جبرئيل ما تحيتهم إياي؟ قال: إنك أول من تنشر عنه الأرض وعن أمتك، وأول شافع وأول مشفع وإنك آخر الأنبياء وإن الحشر لك وبأمتك يعني حشر يوم القيامة).
قال صلى الله عليه وسلم (ثم جاوزناهم حتى انتهينا إلى باب المسجد، فأنزلني جبرئيل وربط البراق بالحلقة إلي كانت تربط بها الأنبياء (عليه السلام) بحطام عليه من حرير الجنة، فلما دخلت الباب إذا أنا بالأنبياء والمرسلين).
وفي حديث أبي العالية: (أرواح الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله قبلي من لدن إدريس ونوح إلى عيسى قد جمعهم الله عز وجل، فسلموا علي وحيوني بمثل تحية الملائكة قلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: أخوتك الأنبياء، زعمت قريش أن لله شريكا، واليهود والنصارى أن لله ولدا، سل هؤلاء المرسلين هل لله شريك؟ وذلك قوله تعالى " * (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمان آلهة يعبدون) *) فأقروا بالربوبية لله تعالى ثم جمعهم والملائكة صفوفا فقدمني وأمرني أن أصلي بهم فصليت بهم ركعتين. ثم إن الأنبياء أثنوا على ربهم فقال إبراهيم (عليه السلام) الحمد لله الذي إتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني
58

أمة قانتا يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها علي بردا وسلاما. ثم إن موسى (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الحمد لله رب العالمين الذي كلمني تكليما وجعل هلاك فرعون منه ونجاة بني إسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون. ثم إن داود (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلمني الزبور وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن والطير وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب. ثم إن سليمان (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي جنود الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواني وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلا وآتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي ملكا طيبا ليس علي فيه حساب.
ثم إن عيسى (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الحمد لله رب العالمين الذي جعلني كلمة منه وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وجعلني أبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم قال: كلكم قد أثنى على ربه وأنا مثن على ربي فقال: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا ونذيرا وأنزل علي القرآن (فيه بيان كل شيء) وجعل أمتي " * (خير أمة أخرجت للناس) *) وجعل أمتي " * (أمة وسطا) *) وجعل أمتي هم الأولون والآخرون وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحا وخاتما.
فقال إبراهيم (عليه السلام): بهذا أفضلكم محمد، ثم أتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها: إناء فيه ماء فقيل له: إشرب فشرب منه يسيرا، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن فقيل له: إشرب فشرب منه حتى روى، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له: إشرب، فقال: لا أريده قد رويت. فقال له جبرئيل: قد أصبت أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا قليل، ولو رويت من الماء لغرقت وغرقت أمتك ثم أخذ جبرئيل (عليه السلام) بيدي فانطلق بي إلى الصخرة فصعد بي إليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثله حسنا وجمالا لم ينظر الناظرون إلى شيء قط أحسن منه. ومنه تعرج الملائكة أصله على صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسماء إحدى عارضيه ياقوتة حمراء والأخرى زبرجدة خضراء درجة من فضة ودرجة من ذهب ودرجة من زمرد مكلل بالدر والياقوت وهو المعراج الذي ينطلق منه ملك الموت لقبض الأرواح (لمغاراتهم فيمنكم شخص أسرعت) عنه المعرفة إذا عاينه لحسنه، فاحتملني جبرئيل حتى
59

وضعني على جناحه ثم ارتفع بي إلى سماء الدنيا من ذلك المعراج، فقرع الباب فقيل: من؟ قال: أنا جبرئيل. قال: ومن معك؟ قال: محمد.
قال: أوقد بعث محمد؟ قال: نعم. قال: مرحبا به حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ففتح الباب ودخلنا. قال: فبينما أنا أسير في السماء الدنيا إذ رايت ديكا له زغب أخضر ورأس أبيض بياض ريشه كأشد بياض ما رأيته قط، وزغب أخضر تحت ريشه كأشد خضرة ما رأيتها قط وإذا رجلا في تخوم الأرض السابعة السفلى ورأسه عند العرش مثني عنقه تحت العرش له جناحان من منكبيه إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب فإذا كان في بعض (الميل) نشر جناحيه وخفق بهما، وصرخ بالتسبيح لله عز وجل يقول سبحان الملك القدوس الكبير المتعال لا إله إلا هو الحي القيوم، فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ فإذا سكن ذلك الديك في السماء سكنت ديكة الأرض كلها، ثم إذا هاج بنحو ما فعلوا في السماء صاحت ديكة الأرض جوابا له بالتسبيح لله عز وجل بنحو قوله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم أزل منذ رأيت ذلك الديك مشتاقا إليه أن أراه ثانية).
قال: ثم مررت بملك نصف جسده مما يلي رأسه نار والنصف الآخر ثلج وما بينهم رتق، فلا النار يذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار، وهو قائم ينادي بصوت له حسن رفيع: اللهم مؤلف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين.
فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: ملك من الملائكة يقال له حبيب وكله الله بأكناف السماوات وأطراف الأرضين، ما أنصحه لأهل الأرض هذا قوله منذ خلقه الله تعالى. قال: ثم مررت بملك آخر جالس على كرسي قد جمع الدنيا بين ركبتيه، وفي يديه لوح مكتوب من نور ينظر فيه لا يلتفت يمينا ولا شمالا ينظر فيه كهيئة الحزين. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ ما مررت أنا بملك أنا أشد خوفا منه شيء من هذا؟ قال: وما يمنعك كلنا بمنزلتك، هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح وهو أشد الملائكة عملا وأدأبهم. قلت: يا جبرئيل كل من مات نظر إلى هذا؟ قال: نعم. قلت: كفى بالموت من طامة. فقال: يا محمد ما بعد الموت أطم وأعظم، قلت: يا جبرئيل أدنني من ملك الموت أسلم عليه وأساله فأدناني منه فسلمت عليه فأومى إلي فقال له جبرئيل: هذا محمد نبي الرحمة ورسول العرب فرحب بي وحياني وأحسن بشارتي وإكرامي. وقال: أبشر يا محمد فإني أرى الخير كله في أمتك. فقلت: الحمد لله المنان بالنعم، ما هذا اللوح الذي بين يديك؟ قال: مكتوب فيه آجال الخلائق.
قلت: فأين أسماء من قبضت أرواحهم في الدهور الخالية؟ قال: تلك في لوح آخر قد علمت خلقها، ولذلك أصنع بكل ذي روح إذا قبضت روحه خلفت عليها، فقلت: يا ملك
60

الموت سبحان الله كيف تقدر على قبض أرواح جميع أهل الأرض وأنت في مكانك هذا لا تبرح؟ قال: ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتي وجميع الخلائق بين عيني ويداي يبلغان المشرق والمغرب وخلقهما فإذا نفد أجل عبد من عباد الله نظرت إليه وإلى أعواني فإذا نظر أعواني من الملائكة الي فنظرت إليه عرفوا أنه مقبوض فعمدوا إليه يعالجون نزع روحه فإذا بلغ الروح الحلقوم علمت ذلك ولا يخفى علي شيء من أمري، أمددت يدي إليه فقبضته فلا يلي قبضه غيري، فذلك أمري وأمر ذوي الأرواح من عباد الله.
قال: إنما أبكاني حديثه وأنا عنده ثم جاوزنا فمررنا بملك آخر ما رأيت من الملائكة خلقا مثله عابس الوجه كريه المنظر شديد البطش ظاهر الغضب، فلما نظر رغبت منه شيئا وسألته فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ فإني رعبت منه رعبا شديدا قال: فلا تعجب أن ترعب منه كلنا بمنزلتك في الرعب منه، هذا مالك خازن النار لم يتبسم قط ولم يزل منذ ولاه الله عز وجل جهنم يزداد كل يوم غضبا وغيظا على أعداء الله عز وجل وأهل معصيته لينتقم منهم، قلت: ادنني منه. فأدناني منه فسلم عليه جبرئيل فلم يرفع رأسه فقال جبرئيل: يا مالك هذا محمد رسول العرب فنظر الي وحياني وبشرني بالخير. فقلت: مذ كم أنت واقف على جهنم؟ فقال: مذ خلقت حتى الآن وكذلك إلى أن تقوم الساعة فقلت: يا جبرئيل مرة ليرني طرفا من النار فأمره ففعل فخرج منه لهب ساطع أسود معه دخان مكدر مظلم إمتلأ منه الآفاق فرأيت هولا عظيما وأمرا فظيعا أعجز عن صفته لكم فغشي علي وكاد يذهب نفسي، فضمني جبرئيل وأمر أن يرد النار فردها.
قال صلى الله عليه وسلم (فجاوزناها فمررنا بملائكة كثيرة لا يحصى عدتهم إلا الله عز وجل منهم وجوه بين كتفيه ووجوه في صدره في كل وجه أفواه والسن، فهو يحمد الله ويسبحه بتلك الألسن ورأيت من أجسامهم وخلقهم وعبادتهم أمرا عظيما، ثم جاوزناها فإذا برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خليقة الناس عن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك فإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى بحزن، فقلت: يا جبرئيل من هذا وما هذان البابان؟ قال: هذا أبوك آدم (عليه السلام) هذا الباب عن يمينه باب الجنة إذا نظر إلى من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر إلى من يدخل من ذريته جهنم بكى وحزن قال: ثم صعدنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبرئيل (عليه السلام) فقيل: من هذا؟
قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسله الله.
قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء، فدخلنا فإذا بشابين فقلت: يا جبرئيل من هذان الشابان؟ فقال: هذا عيسى ويحيى أبناء الخالة.
61

قال: ثم صعدت إلى السماء الثالثة فاستفتح فقالوا: من هذا؟
قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد أرسل محمد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخلنا فإذا برجل قد فضل على الناس بالحسن كأفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب قلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا أخوك يوسف (عليه السلام)).
قال صلى الله عليه وسلم (ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد أرسل محمد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخلنا فإذا برجل من حاله (كذا) فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: (هذا إدريس رفعه الله مكانا عليا وهو مسند ظهره إلى دواوين الخلائق التي فيها أمورهم.
قال: ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فإستفتح قالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل. قالوا: من معك؟ قال: محمد قالوا: وقد أرسل محمد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء.
قال: ثم دخلنا فإذا برجل جالس وحوله قوم يقص عليهم فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ ومن هؤلاء الذين حوله؟ قال: هذا هارون (المحبب) وهؤلاء الذين حوله بنو إسرائيل).
قال (ثم صعدنا إلى السماء السادسة فإستفتح فقالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد؟ قالوا: وقد أرسل محمد؟ قال: نعم قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ثم دخلنا فإذا برجل جالس فجاوزناه فبكى الرجل فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: هذا موسى. قلت: فماله يبكي؟ قال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عز وجل، وهذا رجل من بني آدم وقد خلفني في دنياه وأنا في أخرتي فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كل نبي أمته).
قال: (ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد أرسل محمد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ثم دخلنا فإذا برجل (أشمط) جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم جلوس (بيض) الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء (...) فقام الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء،
62

ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم وصارت مثل ألوان أصحابهم فجاءوا فجلسوا إلى جنب أصحابهم فقلت: يا جبرئيل من هذا الأشمط ومن هؤلاء وما هذه الأنهار؟ قال: هذا أبوك إبراهيم (عليه السلام) أول من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، فأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم، وأما الأنهار الثلاثة فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث سقاهم ربهم شرابا طهورا قال: فإذا إبراهيم مستند إلى بيت فسالت جبرئيل، فقال: هذا البيت المعمور يدخل فيه كل يوم سبعون الف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم.
قال: فاتي بي جبرئيل حتى انتهينا إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بشجرة لها أوراق الواحدة منها مغطية الدنيا بما فيها وإذا شقها مثل هلال هجر تخرج من أصلها أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فسألت عنها جبرئيل فقال: أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهرين فالنيل والفرات ويخرج أيضا من أصلها " * (أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) *) وهي على حد السماء السابعة مما الجنة وعروقها وأغصانها تحت الكرسي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (انتهيت إلى سدرة المنتهى وأنا أعرف أنها سدرة المنتهى وأعرف ورقها وثمرها فغشيها من نور الله ما غشيها وغشيتها الملائكة كأنهم جراد من ذهب من خشية الله تعالى فلما غشيها ما غشيها تحولت حتى ما يستطيع أحد منعها، قال: وفيها ملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل، ومقام جبرئيل في وسطها فلما انتهيت إليها قال لي جبرئيل: تقدم. فقلت: أقدم من؟ تقدم أنت يا محمد فإنك أكرم على الله مني، فتقدمت وجبرئيل على أثري حتى انتهى بي إلى حجاب فراس الذهب فحرك الحجاب. فقال: من ذا؟ قال: أنا جبرئيل ومعي محمد. قال الملك: الله أكبر فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني وخلف جبرئيل فقلت له: إلى أين؟ قال: يا محمد ومامنا إلا له مقام معلوم إن هذا منتهى الخلائق، وإنما أذن لي في الدنو إلى الحجاب لاحترامك ولجلالك).
قال: (فانطلق بي الملك أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ فحرك الحجاب. قال الملك: من وراء الحجاب: من هذا؟ قال: أنا صاحب فراس الذهب وهذا محمد رسول العرب معي.
فقال الملك: الله أكبر وأخرج يده من تحت الحجاب فأحتملني حتى وضعني بين يديه فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب حتى جاوزوا بي سبعين حجابا غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام وما بين الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام، ثم دلى لي رفرف أخضر يغلب ضوءه ضوء الشمس فألتمع بصري ووضعت على ذلك الرفرف ثم إحتملني حتى وصلني إلى العرش فلما رأيت العرش اتضح كل شيء عند العرش فقربني الله إلى سند العرش وتدلى لي
63

قطرة من العرش فوقف على لساني فماذاق الذائقون شيئا قط أحلى منها فأنباني الله عز وجل بها نبأ الأولين والآخرين وأطلق الله لساني بعد ما كل من هيبة الرحمن، فقلت: التحيات لله والصلوات الطيبات. فقال الله تعالى: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال: يا محمد هل تعلم
فيم اختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: أنت أعلم يا رب بذلك وبكل شيء وأنت علام الغيوب. قال: اختلفوا في الدرجات والحسنات، فهل تدري يا محمد ما الدرجات وما الحسنات؟
قلت: أنت أعلم يا رب. قال: الدرجات إسباغ الوضوء في المكروهات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلوات بعد الصلاة والحسنات إفشاء السلم وإطعام الطعام والتهجد بالليل والناس نيام ثم قال: يا محمد آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه؟ قلت: نعم أي رب. قال: ومن؟ قلت: والمؤمنين " * (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) *) كما فرقت اليهود والنصارى. فقال: ماذا قالوا؟
قلت: قالوا: سمعنا قولك وأطعنا أمرك. قال: صدقت فسل تعط. قال: فقلت: " * (غفرانك ربنا وإليك المصير) *) قال: قد غفرت لك ولأمتك سل تعطه؟
فقلت: " * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) *) قال: قد رفعت الخطأ والنسيان عنك وعن أمتك وما استكرهوا عليه، قلت: " * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) *) قال: قد فعلت ذلك بك وبأمتك. قلت ربنا " * (واعف عنا) *) من الخسف " * (واغفر لنا) *) من القذف " * (وارحمنا) *) من المسخ " * (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) *) قال: قد فعلت ذلك لك ولأمتك، ثم قيل: لي سل.
فقلت: يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، ورفعت إدريس مكانا عليا، وآتيت سليمان ملكا عظيما، وآتيت داود زبورا، فمالي يا رب؟
قال ربي: يا محمد اتخذتك خليلي كما اتخذت إبراهيم خليلا وكلمتك كما كلمت موسى تكليما وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبيا قبلك، وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعا أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبيا قبلك وجعلت الأرض كلها برها وبحرها طهورا ومسجدا لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء
64

ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر، وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمنا عليها قرآنا فرقناه ورفعت لك ذكرك فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني، وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الإنجيل المبين ومكان الزبور الحواميم، وفضلتك بالمفصل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلهم أمة وسطا وجعلتهم الأولين وهم الآخرون فخذما أتيتك وكن من الشاكرين).
قال صلى الله عليه وسلم (ثم فوض لي بعهد بعدها أمور لم يؤذن لي أن أخبركم بها ثم فرضت علي وعلى أمتي في كل يوم وليلة خمسون صلاة فلما شهد الي بعهده وتركني عنده ما شاء قال لي: إرجع إلى قومك فبلغهم عني فحملني الرفرف الأخضر الذي كنت عليه يخفضني ويرفعني حتى أهوى بي إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بجبرئيل (عليه السلام) أبصره خلفي بقلبي كما أبصر بعيني أمامي، فقال لي جبرئيل: ابشر يا محمد فإنك خير خلق الله وصفوته من النبيين حياك الله بما لم يحيي به أحدا من خلقه لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولقد وضعك مكانا لم يصل إليه أحد من أهل السماوات والأرض فهناك الله كرامته وما حباك من المنزلة الأثيرة والكرامة الفائقة، فخذ ذلك وإشكر فإن الله منعم يحب الشاكرين.
فحمدت الله على ذلك ثم قال لي جبرئيل: انطلق يا محمد إلى الجنة حتى أريك مالك فيها فتزداد بذلك في الدنيا زهادة إلى زهادتك وفي الآخرة رغبة إلى رغبتك فسرنا نهوي منفضين أسرع من السهم والريح حتى وصلنا بإذن الله إلى الجنة فهدأت نفسي (وثاب) إلي فؤادي وأنشأت أسأل جبرئيل عما كنت رأيت (في الجنة) من البحور والنار والنور وغيرها، فقال: سبحان الله تلك سرادقات عرش رب العزة التي أحاطت بعرشه فهي سترة الخلائق من نور الحجب ونور العرش لولا ذلك لأحرق نور العرش ونور الحجب من تحت العرش من خلق الله وما لم تره أكثر وأعجب، قلت: سبحان الله ما أكثر عجائب خلقه.
قلت: يا جبرئيل ومن الملائكة الذين رأيتهم في تلك البحور الصفوف بعد الصفوف كأنهم بنيان مرصوص؟
قال: يا رسول الله هم الروحانيون الذين يقول الله: " * (يوم يقوم الروح والملائكة) *) ومنهم الروح الأعظم، ثم بعد ذلك قلت: يا جبرئيل فمن الصف الواحد الذين في البحر الأعلى فوق الصفوف كلها قد أحاطوا بالعرش؟ قال: هم الكروبيون أشراف الملائكة وعظمائهم ولايجتري أحد من الملائكة أن ينظر إلى ملك من الكروبيين وهم أعظم شأنا من أن أصف صفتهم لك وكفى ما رأيت منهم، ثم طاف بي جبرئيل في الجنة بإذن الله فما نزل منها مكانا إلا رأيته وأخبرني عنه فرأيت القصور من الدر والياقوت والإستبرق والزبرجد ورأيت الأشجار من الذهب الأحمر قضبانهم اللؤلؤ وعروقهن الفضة راسخة في المسك فلأنا أعرف بكل قصر وبيت وغرفة وخيمة ونهر وثمر في الجنة مني بما في مسجدي هذا
65

قال: ورأيت نهرا يخرج من أصله ماء أشد بياضا من اللبن واحلى من العسل على رضراض در وياقوت ومسك أذفر. فقال جبرئيل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله عز وجل وهو التسنيم يخرج من دورهم وقصورهم وبيوتهم وغرفهم يمزجون بها أشربتهم من اللبن والعسل والخمر فذلك قوله " * (ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها عباد الله) *) الآية.
ثم انطلق بي يطوف في الجنة حتى انتهينا إلى شجرة لم أر شجرة مثلها، فلما وقفت تحتها رفعت رأسي فإذا أنا لا أرى شيئا من خلق ربي غيرها لعظمها وتفرق أغصانها ووجدت فيها ريحا طيبة لم أشم في الجنة ريحا أطيب منها فقلبت بصري فيها فإذا ورقها حلل طرايف من ثياب الجنة من بين أبيض وأحمر وأخضر وثمارها أمثال القلال العظام من كل ثمرة خلقها الله في السماوات والأرضين من ألوان شتى وطعوم شتى وريح شتى، فعجبت من تلك الشجرة وما رأيت من حسنها. قلت: يا جبرئيل ما هذه الشجرة؟ قال: هذه التي ذكرها الله عز وجل " * (بشرى لهم وحسن مآب) *) ولكثير من أمتك ورهطك في ظلها حسن مقيل ونعيم طويل ورأيت في الجنة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كل ذلك مفروغ عنه معد إنما ينتظر به صاحبه من أولياء الله عز وجل وما غمني الذي رأيت قلت: لمثل هذا فليعمل
العاملون.
ثم عرض علي النار حتى نظرت إلى أغلالها وسلاسلها وحياتها وعقاربها وغساقها ويحمومها، فنظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار تخرج من أسافلهم. قلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما. ثم انطلقت فإذا أنا بنقر لهم بطون كأنها البيوت وهم على سابلة آل فرعون فإذا مر بهم آل فرعون ثاروا فيميل بأحدهم بطنه فيقع فيتوطأهم آل فرعون بأرجلهم وهم يعرضون على النار غدوا وعشيا. قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا " * (ومثلهم كمثل الذي يتخبطه الشيطان من المس) *) ثم انطلقت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن منكسات أرجلهن. قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هن اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن.
ثم أخرجني من الجنة فمررنا بالسموات منحدرا من السماء إلى السماء حتى أتيت على موسى فقال: فما فرض الله عليك وعلى أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. فقال موسى: أنا أعلم بالناس منك وأني (سرت) الناس بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة وأن أمتك أضعف الأمم فارجع إلى ربك واسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لن تطيق ذلك. قال: فرجعت إلى ربي
66

وفي بعض الأخبار: (فرجعت فأتيت سدرة المنتهى فخررت ساجدا، قلت: يا رب فرضت علي وعلى أمتي خمسين صلاة ولن أستطيع أن أقوم بها ولا أمتي فخفف عني عشرا. فرجعت إلى موسى فسألني فقلت: خفف عني عشرا. قال: ارجع إلى ربك فأسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم فإني قد لقيت من بني إسرائيل شدة. قال: فرجعت فردها إلى ثلاثين فمازلت بين ربي وبين موسى (عليه السلام) حتى جعلها خمس صلوات فأتيت موسى (عليه السلام) فقال: إرجع إلى ربك فأسأله التخفيف. فقلت: فإني قد رجعت إلى ربي حتى استحيت وما أنا براجع إليه، قال: فنوديت أني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلوات، ولا يبدل القول لدي فخمسة بخمسين فقم بها أنت وأمتك إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي بالحسنة عشر أمثالها لكل صلاة عشر صلوات. قال: فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كل الرضا وكان موسى (عليه السلام) من أشدهم عليه حين مر به وخيرهم لهم حين رجع إليه.
ثم انصرفت مع صاحبي وأخي جبرئيل لا يفوتني ولا أفوته حتى انصرف بي إلى مضجعي وكان كل ذلك ليلة واحدة من لياليكم هذه فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وإلي مفاتيح الجنة يوم القيامة ولا فخر، وأنا مقبوض عن قريب بعد الذي رأيت فإني رأيت من آيات ربي الكبرى ما رأيت وقد أحببت اللحوق بربي عز وجل ولقاء من رأيت من إخواني، وما رأيت من ثواب الله لأوليائه " * (وما عند الله خير وأبقى) *).
قال: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وكان بذي طوى قال: (يا جبرئيل إن قومي لا يصدقونني).
قال: يصدقك أبو بكر وهو الصديق (ح).
قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما كانت ليلة أسري بي وأصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت إن الناس تكذبني).
قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معتزلا حزينا فمر به أبو جهل عدو الله فأتاه فجلس إليه، وقال كالمستهزي: هل إستفدت من شيء؟ قال: (نعم إني أسري بي الليلة) قال: إلى أين؟ قال: (إلى بيت المقدس) قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا. قال: (نعم) فكان أبو جهل ينكر مخافة أن يجحده، الحديث. قال: أتحدث قومك ماحدثتني؟
قال: (نعم) قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا.
قال: فأنتقضت المجالس فجاءوا حتى جلسوا اليهما. قال: حدث قومك ماحدثتني. قال: (نعم إني أسري بي الليلة). قالوا: إلى أين؟ قال: (إلى بيت المقدس). قال: ثم أصبحت بين
67

ظهرانينا قال: (نعم). قال: فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب، فإرتد ناس ممن كان آمن به وصدقه وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر (ح) فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس؟.
قال: أوقد قال؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في عدوه وروحه. فلذلك سمي أبو بكر الصديق (ح).
قال: وفي القوم من قد سافر هناك ومن قد اتى المسجد، فقالوا: هل تستطيع أن تصف لنا المسجد؟ قال: (نعم).
قال: فذهبت أنعت وأنعت فما زلت أنعت حتى التبس علي.
قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال فنعت المسجد وأنا أنظر إليه. فقال القوم: أما النعت فوالله قد أصاب.
ثم قالوا: يا محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا من قولك، هل لقيت فيها شيئا؟ قال: (نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروجاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قعب من ماء فعطشت فأخذته فقربته ثم وضعته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه).
قالوا: إن هذه آية واحدة. قال: (ومررت بعير فلان وفلان وفلان راكبان قعودا لهما ببني مرة ففرآ بكرهما مني فرمى بفلان فإنكسرت يده فسلوهما عن ذلك.
قالوا: وهذه آية أخرى.
قالوا: أخبرنا عن عيرنا نحن؟ قال: (مررت بها بالنعيم). قالوا: فما عدتها وأحمالها وغنمها؟ قال: (كنت في شغل من ذلك ثم مثلت لي فكأنه بالجزورة وبعدتها
وأحمالها وهيئتها ومن فيها) فقال: (نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان تقدمها جعل أورق عليه خزارتان مخيطتان يطلع عليكم عند طلوع الشمس).
قالوا: وهذه آية، ثم خرجوا يشدون نحو (الثلاثة) وهم يقولون: والله لقد قص محمد شيئا وبينه حتى أتوا كدا فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبون، إذ قال قائل منهم: هذا الشمس قد طلعت. وقال الآخر: وهذه الإبل قد طاعت يتقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال لهم، فلم يؤمنوا ولم يفلحوا وقالوا: ما سمعنا بهذا قط إن هذا إلا سحر مبين.
آخر المعراج ولله الحمد والمنة.
68

فإن قيل: إنما قال الله " * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) *) فلم قال: إنه أسرى إلى السماء.
فالجواب أنه قال: إنما قال: " * (أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) *) كان إبتدأ أمر المعراج كان المسري، والعروج كان بعد الاسراء، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدق، والحكمة فيه والله أعلم أنه لو أخبر إبتدأ بعروجه إلى السماء لاشتد إنكارهم وعظم ذلك في قلوبهم ولم يصدقوه، فأخبر بيت المقدس بها فلما تمكن ذلك في قلوبهم وبان لهم صدقة وقامت الحجة عليهم له، أخبر بصعوده إلى السماء العليا وسدرة المنتهى وبقرينة حتى دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى " * (وآتينا موسى الكتاب) *) كما أسرينا بمحمد صلى الله عليه وسلم " * (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) *) الآية يعني " * (ألا تتخذوا من دوني وكيلا) *) ربا وشريكا وكفيلا.
قرأه العامة: يتخذوا بالياء، يعني قلنا لهم لا يتخذوا.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو عمر: بالياء واختاره أبو عبيد قال: لأنه خبر عنهم " * (ذرية من حملنا مع نوح) *) فأنجيناهم من الطوفان " * (إنه كان عبدا شكورا) *).
قال المفسرون: كان نوح (عليه السلام) إذا لبس ثوبا يأكل طعاما أو شرب شرابا. قال: الحمد لله، فسمي عمدا شكورا.
روى النظر بن شقي عن عمران بن سليم قال: إنما سمي نوح (عليه السلام) عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل طعاما قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني، فإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو أشاء أظماني وإذا اكتسى قال: الحمد الله الذي كساني ولو أشاء أعراني، فإذا اهتدى قال: الحمد لله الذي هداني ولو أشاء لما هداني فإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني الأذى في عافية ولو شاء لحبسه.
(* (وقضينآ إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدن فى الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنآ أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جآء وعد الاخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) *) 2
" * (وقضينا إلى بني إسرائيل) *) إلى قوله " * (حصيرا) *).
روى سفيان بن سهيل عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن بني إسرائيل لما إعتدوا وعتوا وقتلوا الأنبياء بعث الله عليهم
69

ملك فارس بخت نصر، وكان الله ملكه سبعمائة سنة فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس فحاصرها ففتحها وقتل على دم يحيى بن زكريا (عليه السلام) سبعين ألف، ثم سبى أهلها وسلب حلي بيت المقدس واستخرج منها سبعين ألفا ومائة عجلة من حلي (حتى أورده بابل)).
قال حذيفة: يا رسول الله لقد كانت بيت المقدس عظيما عند الله قال: (أجل بناه سليمان ابن داود من ذهب وياقوت وزبرجد، وكان بلاطه ذهبا وبلاطه فضة وبلاطه من ذهبا أعطاه الله ذلك وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين فسار بخت نصر بهذه الأشياء حتى نزل بها بابل وأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنة يستعبدهم المجوس وأبناء المجوس فهم الأنبياء وأبناء الأنبياء، ثم إن الله تعالى رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورس وكان مؤمنا أن سر إلى بقايا ببني إسرائيل حتى يستنقذهم فسبا كورش بني إسرائيل وحلي بيت المقدس حتى رده إليه، فأقام بنو إسرائيل مطيعين لله مائة سنة ثم إنهم عادوا في المعاصي فسلط عليهم ملكا يقال له: إنطياخوش فغزا بني إسرائيل حتى أتى بهم بيت المقدس فسبا أهلها وأحرق بيت المقدس وقال لهم: يا بني إسرائيل ان عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسبي، فعادوا في المعاصي فسلط الله عليهم ملكا رومية يقال له: ماقسير بن إسبيانوس فغزاهم في البر والبحر فسباهم وسبا حلي بيت المقدس وأحرق بيت المقدس).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فهذا من صفة حلي بيت المقدس ويرده المهدي إلى بيت المقدس وهو الف سفينة وسبعمائة سفينة يرمى بها على يافا حتى ينقل إلى بيت المقدس هديها يجمع الله الأولين والآخرين).
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: كان مما أنزل الله على موسى في خبر عن بني إسرائيل في أحداثهم وما هم فاعلون بعده " * (وقضينا إلى بني إسرائيل) *) إلى قوله " * (حصيرا) *) فكانت بنوا إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم متعطفا عليهم محسنا إليهم، فكان أول ما أنزل بهم بسبب ذنوبهم من تلك الوقائع كما أخبر على لسان موسى (عليه السلام) أن ملكا منهم كان يدعى صديقة كان الله عز وجل إذا ملك الملك عليهم بعث الله نبيا يسدده ويرشده ويكون فيما بينه وبين الله تعالى، فيتحدث إليهم في أمرهم لأنزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها وينهونهم عن المعصية ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة، فلما ملك الله ذلك الملك بعث الله شعياء بن أمصيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى، وشعياء هو الذي بشر بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا (..
.) الآن يأتيك راكب
70

الحمار ومن بعده راكب البعير، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه عظمت الأحداث وشعياء معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل مع ستمائة ألف راية، فأقبل سائرا حتى أقبل حول بيت المقدس والملك مريض في ساقه قرحة فجاء إليه شعياء فقال: يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل هو وجنوده بستمائة الف قد هابهم الناس وفرقوا منهم، فكبر ذلك على الملك. فقال: يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده.
فقال له النبي (عليه السلام): لم يأت وحي فبيناهم إلى ذلك أوحى الله تعالى إلى شعياء النبي (عليه السلام) أن أيت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي بوصيته ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته، فأتى شعياء صديقة وقال له: إن ربك قد أوحى إليك إن أمرك أن توصي بوصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت. فلما قال ذلك شعياء لصديقة أقبل على القبلة وصلى ودعا وبكى فقال وهو يصلي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص متوكل رصين وظن صادق: اللهم رب الأرباب وإله الألهه قدوس المتقدس يا رحمن يا رحيم يارؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم أكرمتني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني بسري وعلانيتي لك وأن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعياء وأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه وقد أخر أجله خمس عشر سنة فأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده فأتاه شعياء النبي (عليه السلام) وأخبره بذلك، فلما قال ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال: يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت، أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت ضري فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقه فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بالتين فيجعله على قرحه فيشفى ويصبح قديرا، ففعل ذلك فشفى، وقال الملك لشعياء: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا.
فقال الله لشعياء: قل له إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه.
فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فأخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمسة من كتابه أحدهم بخت نصر، فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآوهم خر ساجدا حين طلعت الشمس إلى العصر، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم نقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم
71

غافلون؟ فقال سنحاريب: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادك فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت وأطعت ما غزوتكم ولكن الشقوة غلبت علي وعلى من معي. فقال صديقه: الحمد لله رب العزة الذي (كفاناكم) بما شاء أن يبقك لي من معك لكرامة لك عليه وإنما أبقاك ومن معك ليزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من ورائكم بما رأيتم من فعل ربنا، فلذلك وذم من معك (آتون) على الله من دم قراد لو قتلت، ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير جيشه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين ما حول بيت المقدس (وامليا) وكان يرزقهم في كل يوم خبزتين من الشعير لكل رجل منهم.
فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتل خير مما يفعل بنا فأفعل ما أمرت، فأمر بهم الملك إلى سجن القتل فأوحى الله إلى شعياء النبي (عليه السلام): أن قل لملك بني إسرائيل ليرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم، فبلغ شيعا (للملك ذلك) ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده، فقال له كهانته وسحرته: يا ملك (بابل) قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سنحاريب مما خوفوا، ثم كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات، واستخلف (بعده) ابن ابنه على ما كان عليه، فعمل فيهم بمثل عمل جده وقضى في الملك حتى قتل بعضهم (بعضا عليه) ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ولا يقبلون منه، فلما فعلوا ذلك قال الله لشعياء: قم في قومك أوح على لسانك.
فلما قام النبي (عليه السلام) أطلق الله لسانه بالوحي، فقال: ياسماء استمعي ويا أرض انصتي حتى فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمة واسطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده واستقبلهم بالكرامة وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضهم بعضا حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون من أين جاءهم الخير، أن البعيد مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الآري الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وأن هؤلاء القوم لا يدرون من أين جاءهم الخير وهم أولوا الألباب والعقول ليسوا بقرا ولا حميرا، وإني ضارب لهم مثلا فليستمعوا، قل لهم: كيف ترون في أرض كانت
72

خواء زمانا خربة مواتا لا عمران فيها وكان لها رب حكيم قوي، فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنبط نهرا وصنف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيما ذا رأي وهمة ومتعة حفيظا قويا أمينا وانتظرها فلما أطلعت جاء طلعها خروبا قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدارها وقصورها ويدفن نهرها ويقبض قيمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها
.
قال الله لهم: فإن الجدار ذمتي وإن القصر شريعتي وإن النهر كتابي وإن القيم نبي وإن الغراس هم وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وإنهم مثل ضربه الله تعالى لهم يتقربون إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا أكله، ويدعون أن يتقربون إلي بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لي البيوت مساجدا ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها، فأي حاجة إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، أم أي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها، يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على (أن) يفقه قلوبنا لفقهها فأعمد إلى عودين يابسين، ثم ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون فقل للعودين: إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا ففعل، ذلك في مجلسه إختلطا فصارا واحدا، فقال الله لهم: إني قد قدرت على أن أفقه العيدان اليابسة وعلى أن أؤالف بينهما فكيف لا أقدر على أن أجمع إلفهتم إن شئت، أم كيف لا أقدر على أن أفقه قلوبهم وأنا الذي صورتها.
يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل (حنين الحمام) وبكينا مثل عواء الذئب في مكان ذلك لا نسمع ولا يستجاب لنا قال الله: فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم، ألست أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين؟ الآن ذلت يدي؟
قلت: كيف ويداي مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء ومفاتح الخزائن عندي لا يفتحها غيري أو لأن رحمتي ضاقت فكيف ورحمتي وسعت كل شيء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها أو لأن (البخل يعتريني) أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات؟ أجود من أعطي وأكرم من سئل لو أن هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم فنبذوها وإشتروا بها الدنيا إذا لأبصروا من حيث أتو وإذا لأيقنوا أن أنفسهم (هي) أعدى العداة فيهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور (ويتقوون) عليه بطعمة الحرام؟ وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني وينتهك محارمي، أم كيف تزكوا عندي صدقاتهم؟ وهم يتصدقون بأموال غيرهم وإنما أؤجر عليها أهلها المغصوبين، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم؟ وإنما هو قول بألسنتهم
73

والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداع اللين وأنا أسمع قول المستضعف المسكين، وإن من علامة رضاي رضا المساكين، فلو رحموا المساكين وقربوا الضعفاء وأنصفوا المظلوم ونصروا المغصوب والمغلوب وأعدلوا الغائب (وأدوا) إلى اليتيم والأرملة والمسكين وكل ذي حق حقه، ثم لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذا لكلمتهم، وإذا لكنت نور أبصارهم وسمع آذانهم ومعقول قلوبهم وإذا لدعمت أركانهم وكنت قوة أيديهم وأرجلهم، وإذا لبثت ألسنتهم وعقولهم.
يقولون: لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالاتي: إنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف كما يؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاؤوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا وأن يطلعوا على علم الغيب، لاطلعوا بما توحي إليهم الشياطين وكلمهم ويستخفى بالذي يقول ويسر وهم يعملون أني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما يبدون وما كنتم يكتمون وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لابد أنه واقع، فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاؤون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا مايشاؤون فليألفوا مثل الحكمة التي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كنتم صادقين فإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الإجراء وأن أجعل الملك في الدعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء والثروة في الأقلاء (والمدائن في الفلوات) والأجام في المغوز والبردة في الغيطان، والعلم في الجهلة والحكم في الأميين فسلهم متى هذا ومن القيم بها وعلى يد من أسنه ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيا أحيا ليس أعمى من عميان ولا ضالا من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا (بصخاب) في الأصوات (ولا متزين بالفحش) ولا قوال للخنى أسدده لكل جميل أهب له كل خلق (كريم) أجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل والمعروف سيرته والحق شريعته والهدى امامه والاسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة، ثم أرفع به بعد (الخمالة) وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد المعيلة وأجمع به بعد الفرقة وأولف به قلوبا مختلفة وأهواء متشتتة وأمما متفرقة وأجعل أمته خيرا أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إيمانا بي وتوحيدا لي وإخلاصا بي يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجودا ويقاتلون في سلبي صفوفا وزحوفا ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمتهم التكبير والتوحيد والتسبيح والحمد والمدحة والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأسواق ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون في الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم
74

رهابين في الليل ليوث في النهار، ذلك فضلي أدتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم.
فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيت شجرة وانفلقت له فدخل فيها (وأدركه الشيطان الشجرة) فأخذ بهدبة من ثوبه فأرآهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوعها وقطعوه في وسطها، (فإستخلف الله) على بني إسرائيل بعد قتلهم شعياء رجلا منهم يقال له ناشية بن أموص وبعث لهم الخضر نبيا واسم الخضر ارميا بن حلفيا وكان من سبط هارون بن عمران فأما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام (عنها وهي تهتز) خضراء، فقال الله لارميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا أرميا من قبل أن أخلقك إخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، وذكر الحديث بطوله في خطبة أرميا لقومه وفتياه التي أفتى به، ودخول بخت نصر وجنوده بيت المقدس فوطىء الشام كما ذكرنا في سورة البقرة.
فلما رأى ارميا ذلك طار حتى خالط الوحش ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس فوطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن
يملأ كل رجل منهم قربته تراب ثم يقذفه في بيت المقدس فقذفوا فيه التراب حتى ملؤه، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل وإحتمل معه سبايا بني إسرائيل وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم فجمعوا عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم بسبعين ألف صبي.
فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمهم فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها (وأقسم بيننا) فلولا الصبيان الذين إخترتهم من بني إسرائيل، ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة وكان من أولئك الغلمان دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وماشايل وسبعة آلاف من أهل بيت داود وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه ابن يامين، وثمانية ألف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر الفا من سبط زبالون بن يعقوب (ونفتال) بن يعقوب وأربعة الف من سبط (يهوذا) بن يعقوب (وأربعة) ألف من سبط (روبيل ولاوي) ابني يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق: فثلثا أقر بالشام وثلثا سبي وثلثا قتل.
وذهب بأبيه بيت المقدس حتى أقدمها بابل وذهبت بالصبيان التسعين الألف حتى أقدمهم بابل، فكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بأحداثهم وظلمهم وذلك قول الله " * (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد) *) يعني بخت نصر وأصحابه.
ما يروى عن حجاج عن ابن جريج عن يعلي بن مسلم عن سعيد بن جبير قال: كان رجل
75

من بني إسرائيل يقرأ حتى إذا بلغ " * (بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد) *) بكى وفاضت عيناه ثم أطبق المصحف وقال: أي رب أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه فأري في المنام مسكينا ببابل يقال له: بخت نصر فانطلق بمال (وبأعبد له) وكان رجلا موسرا (وقيل له أين) تريد؟
قال: أريد النجارة حتى نزل دارا ببابل (فأستكبر) إلها ليس فيها أحد غيره فجعل يدعو المساكين ويتلطف بهم حتى لا يأتيه أحد فقال: هل بقي غيركم مسكين؟ قالوا: نعم مسكين (يفتح الفلان مريض) يقال له: بخت نصر، فقال لغلمانه: انطلقوا حتى أتاه، فقال: ما أسمك؟ قال: بخت نصر، فقال لغلمانه إحتملوه فنقل عليه فمرضه حتى برأ فكساه وأعطاه نفقة ثم أذن الإسرائيلي بالرحيل فبكى بخت نصر، فقال الإسرائيلي: ما يبكيك؟
قال: أبكي إنك فعلت بي ما فعلت ولا أجد شيئا أجزيك، قال: بلى شيئا يسرا إن ملكت أطعتني فجعل لا يتبعه فيما سأل فقال: تستهزيء بي ولا يمنعه أن يعطيه ما سأل إلا أنه يرى أنه يستهزيء به قبلي الإسرائيلي، فقال: لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك إلا أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضى وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه.
قال صيحورا ملك فارس ببابل: لو إنا بعثنا طليعة إلى الشام قالوا: وما ضرك لو فعلت؟ قال فمن ترون قال: فلان فبعث رجلا وأعطاه مائة ألف وخرج بخت نصر في مطبخه لا يخرج إلا ليأكل في مطبخه.
فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجالا (جاء وقد كسر) ذلك في ذرعه فلم يسأل قال: فجعل بخت نصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل فإذا غزوتموها مادون بيت مالها شيء.
قالوا: لا نحسن القتال، قال: ولو أنكم غزوتهم قالوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل حتى أنفذ مجالس أهل الشام، ثم رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى وجعل بخت نصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان، فرفع ذلك إليه فدعاه فأخبره الخبر وقال: إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجالا جلدا كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء، قال: لم أدع مجلسا شيئا بالشام (الآجال واصله) فقلت لهم: كذا وكذا، فقالوا لي: كذا وكذا.
قال سعيد بن جبير: وقال صاحب الطليعة لبخت نصر: إن صحبتني أعطي لك مائة الف وتنزع عما قلت. قال: لو أعطيتني بيت مال بابل لما نزعت فضرب الدهر من ضربة، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام، فإن وجدوا مساغا وإلا انثنوا ما قدورا عليه، قال: وما ضرك لو فعلت، قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان. قال: هل الرجل الذي (أخبرني بما أخبرني
76

فدعا بخت نصر فأرسله وانتخب معه أربعمائة ألف من فرسانهم فانطلقوا " * (فجاسوا خلال الديار) *) (فسبوا) ما شاء الله ولم (يخربوا) ولم يقتلوا، ومات (صيحون فقالوا): استخلفوا رجلا، قالوا: على رسلكم حتى يأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم لن ينقضوا عليكم شيئا، أمهلوا فأمهلوا حتى جاء بخت نصر (بالسبي) وما معه فقسمه في الناس، فقالوا: ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا فملكوه.
وقال السدي بإسناده: إن رجلا من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس هلاك بني إسرائيل (خلي إلي) غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بخت نصر وكانوا يصدقون فيصدق، فأقبل يسأل عنه حتى (نزل على أبيه) وهو يحتطب فلما جاءوا على رأسه حزمة من حطب ألقاها ثم قعد في جانب من البيت فكلمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم، فقال: اشتر بهذا طعاما وشرابا وإشتري بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا، فأكلوا وشربوا حتى كان اليوم الثاني فعل به مثل ذلك، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل به ذلك، ثم قال: إني أحب أن (تكتب لي أمانا) إن كانت ملكت يوما من الدهر، فقال: أتسخر مني؟ قال: إني لا أسخر بك (ولكن ما عليك لن تتخذ) بها عندي مريدا فكلمته أية، فقالت: يا ملك إن كان مالا لم ينقصك شيئا فيكتب به أمانا، فقال: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك فاجعل لي أية تعرفني بها، قال: ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها فكساه وأعطاه.
ثم إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا (عليهما السلام) ويدني مجلسه ويستشيره في أمره ولا يقطع أمرا دونه (فإنه هوى) أن يتزوج ابنت امرأة له، فسأل عن ذلك يحيى فنهاه عن نكاحها، قال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت على (يحيى) حين نهاه أن يتزوج ابنتها (فذهبت إلى جارية) حين حس الملك على شرابه، فألبستها ثيابا رقاقا خضراء وطيبتها والبستها من الحلي والبستها فوق ذلك كساء أسود فأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه وأن تتعرض له فإن راودها عن نفسها
أتت عليه حتى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا (عليهما السلام) في طشت، ففعلت فجعلت تسقيه وتعرض له فلما أخذ منه الشراب راودها عن نفسها، فقالت: لا (أقبل) حتى تعطيني ما أسألك، قال: ما تسألين؟ قالت: أسألك أن تبعث إلي يحيى بن زكريا فتأتي برأسه في هذا الطشت، فقال الملك: سليني غير هذا.
قالت: ما أريد إلا هذا، فلما أبت عليه بعث إليه فأتى برأسه (والرأس يتكلم) في الطشت حين وضع بين يديه وهي تقول (لا يحل لك)، فلما أصبح إذا دمه يغلي فأمر بتراب فألقى عليه فرمى الدم فوقه فلم يزل يلقي عليه من التراب حتى بلغ سور المدينة وهو يغلي وبلغ صيحابين فثار في الناس وأراد أن يبعث إليهم جيشا أو يؤمر عليهم رجلا
77

فأتاه بخت نصر فكلمه وقال: إن الذي كنت أرسلته تلك المرة ضعيف وأني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها (فأبعثني) فبعثه فسار بخت نصر حتى إذا بلغوا ذلك المكان (تحصنوا) منه في مدائنهم فلم يطقهم فلما اشتد عليهم المقام وجاع أصحابه أرادوا الرجوع، فخرجت إليه عجوزا من عجائز بني إسرائيل فقالت: أين أمير الجند؟ فأتى بها إليه فقالت له: إنه قد بلغني أنك تريد).
ثم ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة، قال: نعم، قد طال مقامي وجاع أصحابي فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني، فقالت: أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما أسألك (فتقتل) من أمرتك بقتله وتكف إن أمرتك أن تكف؟ قال لها: نعم، قالت: إذا أصبحت فأقسم جندك أربعة أرباع ثم أقم على كل زاوية ربعا ثم إرفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا: إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا فإنها سوف تساقط، ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها فقالت له: كف يدك وأقبل على هذا الدم حتى يسكن وانطلقت به إلى دم يحيى وهو على (تراب كثيرة) فقتل عليه حتى سكن فقتل سبعين ألفا فلما سكن الدم، قالت له: كف يدك فإن الله تعالى إذا قتل نبي لم يرض حتى يقتل من قتله ومن رضى قتله، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفة فكف عنه وعن أهل بيته وخرب بيت المقدس وأمر أن يطرح الجيفة فيه، وقال: من طرح جيفة فيه فله جزيته تلك السنة وأعانه الله على خرابة الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى.
فلما خربه بخت نصر ذهبت معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت، فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات فملك مكانه وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه حسدهم المجوس على ذلك فوشوا بهم إليه وقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك وإنما يعبدون غيره ولا يأكلون ذبيحتك فدعاهم فسألهم فقالوا: أجل إن لنا ربا نعبده ولسنا نأكل من ذبيحتكم فأمر بحد فخد لهم فألقوا فيه وهم ستة وألقى معهم سبعا ضاريا ليأكلهم، ففعلوا ذلك فانطلقوا ليأكلوا ويشربوا فذهبوا فأكلوا وشربوا ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع معترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحدا ولم ينكأه شيئا ووجدوا معهم رجلا فعدوهم فوجدوهم سبعة فقالوا: ما بال هذا السابع وإنما كانوا ستة فخرج إليهم السابع وكان ملكا من الملائكة فلطمه لطمة فصار في الوحش ومسخه الله سبع سنين فيه.
ثم إن بخت نصر رأى رؤيا عبرها له دانيال (عليه السلام)، وهو ما روى إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل أنه سمع راهبا يقول: إن بخت نصر رأى في آخر زمانه صنما رأسه من ذهب وصدره من فضة وبطنه من نحاس وفخذاه من حديد وساقاه من فخار، ثم رأى
78

حمرا من السماء وقع عليه قذفه ثم أتاه الحجر حتى ربا فملىء ما بين المشرق والمغرب، ورأى شجرة أصلها في الأرض وفروعها في السماء ثم رأى رجلا بيده فأس، وسمع مناديا ينادي: اضرب بجذعها لتفرق الطير من فروعها وتفرق الدواب والسباع من تحتها، وأنزل (.....) عبرها له دانيال (عليه السلام).
قال: أما الصنم الذي رأيت فأتيت الرأس الذهب فأنت أفضل الملوك، وأما الصدر الذي (رأيت) من فضة فإبنك يملك من (بعدك)، وأما البطن الذي رأيت من نحاس فذلك يكون من بعد (ابنك) وأما رأيت من الفخذ من حديد فهو ملك أهل فارس يكون ملكهم شديدا مثل الحديد، وأما الرجل من فخار فتفرق أهل فارس فرقتين ولا يكون فيهم حينئذ قوام كما لم يلين قوام الصنم على رجلين من فخار، وأما الحجر الذي ربا حتى ملأ ما بين المشرق والمغرب فنبي يبعثه الله في آخر الزمان فيفرق ملكهم كله فيربوا ملكه حتى يكون ما بين المشرق والمغرب.
وأما الشجر الذي رأيت والطير الذي عليها والسباع والدواب التي تحتها وما أمر (بقطعها فيذهب) ملكك فيردك الله طائرا يكون شرا ملك الطير ثم يردك ثورا ملك الدواب ثم يردك الله أسدا ملك السباع والوحش سبع سنين كان مسخه كله سبع سنين. في ذلك كله قلبك قلب إنسان حتى تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وهو يقدر على الأرض ومن عليها، وما رأيت أصلها (قائما) فإن ملكك قائم، فمسخ بخت نصر نسرا من الطير وثورا من الدواب واسدا من السباع ثم رد الله إليه ملكه فأمن ودعا الناس إلى الله.
(وسئيل وهب بن منبه) أكان مؤمنا؟ قال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فمنهم من قال: مات مؤمنا، ومنهم قال: أحرق بيت الله وكتبه وقيد الأنبياء، وغضب الله عليه غضبا، فلم يقبل منه حينئذ توبته.
وقال بخت نصر لما رجع إلى صورته ثانية بعد المسخ (فرد الله) إليه ملكه: كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدتهم المجوس وقالوا لبخت نصر: إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عارا فجعل لهم بخت نصر طعاما فأكلوا وشربوا وقال للبواب: أنظر أول من يخرج عليك ليبول فاضربه بالطبرزين وإن قال: أنا بخت
79

نصر، فقل: كذبت بخت نصر أمرني به فحبس الله عن دانيال البول وكان أول من قام من القوم يريد البول بخت نصر وكان مدلا وكان ليلا، فقام يسحب ثيابه فلما رآه
البواب شد عليه فقال: أنا بخت نصر قال: كذبت بخت نصر أمرني أن أقتل أول من يخرج فضربه فقتله.
وأما محمد بن إسحاق بن يسار فإنه قال: في هلاك بخت نصر غير ما قال السدي، وذلك أنه قال بإسناده: لما أراد الله (.......) ليبعث فقال لمن كان في (......) وكان يعذبه من بني إسرائيل: أن أتتم هذا البيت الذي خربته وهؤلاء الناس الذين قلت من هم وما هذا البيت، فقالوا: هذا بيت الله ومسجد من مساجده وهؤلاء أهله، كانوا من (ذراري الأنبياء) وظلموا (وتعذروا) وعصوا عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السماوات والأرض ورب الخلق كلهم يكرههم ويمنعهم (ويحرمهم)، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم.
قال: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا لعلي أطلع عليها فأقبل من فيها واتخذها ملكا فإني قد (فرغت) من الأرض ومن فيها، قالوا: ما يقدر عليه أحد من الخلائق، قال: لتفعلن (أو لأقتلنكم عن آخركم) فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله عليه بقدرته بعوضة ليرى ضعفه وهوانه فدخلت في منخره ثم سلفت في منخره حتى عضت بأم الدماغ، فما كان (يقر ولا يسكن) حتى توجأ له رأسه على أم دماغه فلما عرف الموت قال لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا رأسي وانظروا ما هذا الذي قتلني، فلما مات شق رأسه فوجد البعوضة عاضة بأم دماغه، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه ويحيى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى إيليا والشام فبنوا فيها وأربوا وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه.
ويزعمون أن الله تعالى اختار توليت الموتى الذين قتلوا ولحقوا بهم، ثم إنهم لما رجعوا إلى الشام وقد أحرق التوراة (وليس معهم عهد) من الله جدد الله توراته وردها عليهم على لسان عزير (عليه السلام) وقد مضت القصة، فهذا الذي ذكرت جميع أمر بخت نصر على ما جاء في التفسير المعتمد في أخبار الأنبياء، إلا أن رواية من روى أن بخت نصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند (قتلهم) يحيى بن زكريا غلط (أهل السير) والأخبار والعلم بأمور الماضين من أهل الكتاب والمسلمين، ذلك أنهم مجمعون على أن بخت نصر غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم شعياء وفي عهد أورميا بن حلفيا (عليه السلام) وهي الوقعة الأولى التي قال الله " * (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد) *) يعني بخت نصر وجنوده، قالوا ومن عهد أروميا
80

وتخريب بخت نصر بيت المقدس إلى عهد يحيى بن زكريا أربعمائة وإحدى وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من لدن تخريب بخت نصر بيت المقدس إلى حين (عمارته في عهد كوسك) سبعين سنة، ثم من بعد عمرانه إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس وحيازة ملكها إلى مملكة الإسكندر ثمانية وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر إلى موت يحيى بن زكريا (عليه السلام) بثلاثمائة وثلاث وستون، ويروى بثلاثمائة سنة وثلاث سنين.
وإنما الصحيح من ذلك ما ذكر محمد بن إسحاق بن يسار قال: كثر عن بني إسرائيل بعدما عمرت الشام وعادوا إليها بعد اخراب بخت نصر إياها وسبيهم منها، فجعلوا بعد ذلك يحدثون الأحداث بعد مهلك عزير (عليه السلام) ويتوب الله عليهم وبعث الله فيهم الأنبياء وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى وكانوا من بيت آل داود، فمات زكريا وقتل يحيى بسبب رغبة الملك عن نكاح ابنته، في قول عبد الله ابن الزبير وابنت أخته في قول السدي وابنت أخيه في قول ابن عباس.
وهو الأصح إن شاء الله، لما روى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير قال: بعث عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا في إثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان مما نهوهم نكاح بنت الأخ، قال: وكانت لملكهم ابنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها وكانت لها في كل يوم حاجة يقضيها، وذكر الحديث بطوله في مقتل يحيى.
رجعنا إلى حديث ابن إسحاق، فلما رفع الله موسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا، وبعض الناس يقول: قتلوا زكريا انبعث عليهم ملك من ملوك بابل يقال له: خردوس فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رؤوس جنوده يدعى (نبور زاذان) صاحب القتل فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلا أني لا أجد أحدا أقتله، فأمره ان يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم نبور زاذان، فدخل بيت المقدس وكان في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم (فوجد فيها دما يغلي) فسألهم عنه، قالوا: هذا دم قربان قربناه فلم يقبل منا فلذلك هو يغلي كما تراه ولقد قربنا منذ ثمانمائة سنة القربان فتقبل منا إلا هذا القربان، قال: ما صدقتموني الخبر قالوا له: لو كان كأول زماننا لقبل منا ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يتقبل منا فذبح منهم (نبور زاذان) على ذلك الدم سبعمائة وسبعون رأسا من رؤسائهم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم فذبحهمعلى الدم فلم يبرد ولم يهدأ
81

فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: ويلكم يا بني إسرائيل أصدقوني واصبروا على أمر ربكم (فقد طال) ما ملكتم في الأرض، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك نافخ نار لا أنثى ولا ذكر إلا قتلته فلما (رأوا الجهد) وشدة القتل صدقوه القول فقالوا له: إن هذا دم نبي منا كان ينهاها عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا وكان يخبرنا بالملك فلم نصدقه فقتلناه فقال لهم نبور زاذان: ما كان اسمه؟ قال: يحيى بن زكريا، قال: وهل صدقتموني، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم، فلما رأى نبور زاذان أنهم قد صدقوه خر ساجدا وقال لمن حوله: اغلقوا أبواب المدينة واجمعوا من كان هاهنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل.
قال: يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم من أجلك فاهدأ بأذن الله قبل أن لا يبقي من قومك أحد، فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله، ورفع نبور زاذان عنهم القتل (وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح ولو كان له شريك لم تستمسك السماوات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم ملك الملوك الذي له ملك السماوات السبع والأرض وما فيهن وما بينهن، وهو على كل شيء قدير فله الحكم والعلم والعزة والجبروت وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه) فأوحى
الله تعالى إلى رؤس من رؤوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حبور صدوق.
وأن نبور زاذان قال لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماءكم وسط عسكره وإني لست أستطيع أن أعصيه قالوا له: إفعل ما أمرت به فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في العسكر وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم حتى كانوا فوقهم، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نبور زاذان أن أرفع عنهم القتل فقد بلغني دماؤهم (وقد انتقمت منهم لما فعلوا) ثم انصرف عنهم إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاده، وهو الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله " * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) *) الآيات.
وكانت الوقعة الأولى: بخت نصر وجنوده ثم رد الله لهم الكرة عليهم وكانت الوقعة الأخيرة خردوس وجنوده فلم (.......) همام بعد ذلك (.......). فانتقل الملك بالشام
82

ونواحيها إلى الروم واليونان، ثم إن بني إسرائيل كثروا وانتشروا بعد ذلك وكانت لهم ببيت المقدس (بزواجها) على غير وجه الملك وكانوا في أهبة ومنعة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث وانتهكوا المحارم وضربوا الحدود فسلط الله عليهم ططوس بن سيبانو الرومي، فأخرب بلادهم وطردهم عنها ونزع الله عنهم الملك والرئاسة وضرب عليهم الذلة، فليسوا في أمة من الأمم إلا وعليهم (الصغار) والملك في غيرهم وبقي بيت المقدس خرابا إلى أيام عمر بن الخطاب (ح) عمره المسلمين بأمره.
وروى أبو عوانة عن أبي بشير قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى " * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) *) الآيات، فقال: أما الذين " * (فجاسوا خلال الديار) *) فكان مرحا بن الجزري فإذا جاء إلى قوله " * (تتبيرا) *) فكان جالوت الجزري شعبة من (.......).
ثم قال: " * (ثم رددنا لكم الكرة) *) إلى قوله " * (تتبيرا) *) قال: هذا بخت نصر الذي خرب بيت المقدس.
ثم قال لهم بعد ذلك " * (عسى ربكم أن يرحمكم) *) (على هذا ثم) * * (وإن عدتم عدنا) *) قال فعادوا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك الروم ثم عادوا أيضا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك (........) ثم عادوا أيضا فعيد عليهم سابور ذو الأكتاف.
قتادة في هذه الآية (وقضينا) قضى على القوم كما تسمعون فبعث عليهم في الأولى جالوت، فسبى وقتل وخرب " * (وجاسوا خلال الديار) *)، ثم رددنا لكم يعني يا بني إسرائيل الكرة عليهم والملك في زمان داود (عليه السلام) * * (فإذا جاء وعد الآخرة) *) آخر الكرتين بعث الله عليم بخت نصر أبغض خلق الله، فسبى وقتل وخرب بيت المقدس وسامهم سوم العذاب، ثم قال " * (عسى ربكم أن يرحمكم) *) فعاد الله إليهم برحمته ثم عاد (الله إليهم بشر) بما عذبهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من آفته وعقوبتة، ثم بعث الله عليهم هذا الحي من العرب كما قال: " * (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) *))
(.....).
83

" * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) *) أي أخبرناهم وعلمناهم في ما آتيناهم من الكتب.
وقال ابن عباس وقتادة: يعني وقضينا عليكم، وعلى هذا التأويل يكون (إلى) بمعنى (على) وبمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ، " * (لتفسدن) *) قيل: لام القاسم مجازة: والله لتفسدن في الأرض مرتين بالعاصي " * (لتعلون) *) ولتستكبرن ولتظلمن الناس " * (علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولئهما) *) يعني أولي المرتين واختلفوا فيها فعلى قول قتادة: إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة (وحكموا) ربهم ولم يحفظوا أمر نبيهم موسى (عليه السلام) وركبوا المحارم وتعدوا على الناس.
وقال السدي: في خبر ذكره عن أبي مالك وأبي جهل عن ابن عباس وعن أمية الهمذاني عن ابن مسعود: إن أول الفسادين قتل زكريا.
وقال ابن إسحاق: إن إفسادهم في المرة الأولى قتلهم شعياء بن أمصيا في عهد أرمياء في الشجرة.
وقال ابن إسحاق: إن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وأن المقتول هو شعياء (عليه السلام).
" * (بعثنا عليكم عبادا لنا) *) يعني (جالوت الجزري) وجنوده وهو الذي قتله داود.
قال قتادة: وهي رواية العوفي عن ابن عباس، وقال أبو المعلى ويعلى عن سعيد بن جبير: هم صحاريب من أهل نينوى، وهي الموصل.
أبو بشير عنه: صرخان الخزري، وقال: ابن إسحاق: بخت نصر البابلي وأصحابه.
" * (أولي بأس) *) يعني بطش، وفي الحرب " * (شديد فجاسوا) *) أي خافوا وداروا.
قال ابن عباس: مشوا، الفراء: قتلوكم بين بيوتكم.
وأنشد لحسان:
ومنا الذي لاقي بسيف محمد
فجاس به الأعداء عرض العساكر
أبو عبيدة: طلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها.
القتيبي: (عاشوا وقتلوا) وأفسدوا
84

ابن جرير: طافوا من الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين فجمع التأويلات.
وقرأ ابن عباس: فجاسوا بالهاء ومعناها واحد.
" * (خلال الديار وكان وعدا مفعولا) *) قضاء كائنا لا خلف فيه " * (ثم رددنا لكم الكرة) *) الرجعة والدولة " * (عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) *) عددا.
قال القتيبي: والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، يقال: النفير والنافر، وأصله القدير والقادر.
" * (إن أحسنتم) *) يا بني إسرائيل " * (أحسنتم لأنفسكم) *) لها ثوابا ونفعها " * (وإن أسأتم فلها) *) أي فعليها كقوله " * (سلام لك) *) أي عليك.
وقال محمد بن جرير: قالها كما قال " * (إن ربك أوحى لها) *) أي إليها، وقيل: فلها الجزاء والعقاب.
وقال الحسين بن الفضل: يعني فلها رب يغفر الإساءة.
" * (فإذا جاء وعد الآخرة) *) أي المرة الآخرة من إفسادكم وذلك على قصدهم قتل عيسى (عليه السلام) يحيى حين رفع، وقتلهم يحيى بن زكريا (عليه السلام) فسلط الله عليهم الفرس والروم (..............) قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن بلادهم وأخذوا بلادهم وأموالهم فذلك قوله " * (ليسؤا وجوهكم) *) أي ليحزن، واختلف القراء فيه، فقرأ الكسائي: لنسؤ بالنون وفتح الهمزة على التعظيم اعتبارا، وقضينا وبعثنا ورددنا وأمددنا وجعلنا.
وروى ذلك عن علي (ح): وتصديق هذه القراءة قرأ أبي بن كعب: لنسؤن وجوهكم بالنون وحرف التأكيد.
وقرأ أهل الكوفة: بالياء على التوحيد، ولها وجهان: أحدهما ليسؤ الله وجوهكم، والثاني ليسؤ (العدو) وجوهكم.
وقرأ الباقون: ليسؤ وجوهكم بالياء وضم الهمزة على الجمع، بمعنى ليسؤ العباد أولي بأس شديد وجوهكم " * (وليدخلوا المسجد) *) يعني بيت المقدس ونواحيه " * (كما دخلوه أول مرة وليتبروا) *) وليهلكوا أو ليدمروا " * (ما علوا) *) غلبوا عليه (تدميرا) * * (تتبيرا عسى) *) لعل ربكم يا بني إسرائيل " * (أن يرحمكم) *) بعد انتقامهم منكم " * (وإن عدتم عدنا) *).
85

قال ابن عباس: وإن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة، فعادوا فبعث الله عليهم محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون " * (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) *) معينا سجنا ومحبسا من الحصر وهو الحبس، والعرب تسمى (النخيل) حصورا والملك حصيرا (لأنه محجوب محبوس) عن الناس.
قال لبيد:
وقماقم غلب الرقاب كأنهم
جن لدى باب الحصير قيام
أي باب الملك ومنه: انحصر في الكلام إذا (احتبس عليه) وأعياه، والرجل الحصور عن النساء وحصر الغائط.
قال الحسن " * (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) *) أي فراشا ومهادا، ذهب إلى الحصير الذي يفرش، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا، وهو وجه حسن وتأويل صحيح.
2 (* (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا * وأن الذين لا يؤمنون بالاخرة أعتدنا لهم عذابا أليما * ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير وكان الإنسان عجولا * وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شىء فصلناه تفصيلا * وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا * من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا * وإذآ أردنآ أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) *) 2
" * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) *) أي الطريقة التي (هي أسد وأعدل وأصوب) * * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) *) وهو الجنة " * (وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما) *) وهي النار " * (ويدع الإنسان) *) حذفت الواو هنا في اللفظ والخط ولم يحذف في المعنى لأنها في موضع رفع وكان حذفها باستقالتها اللام الساكنة كقوله * (سندع الزبانية) * * (يمح الله الباطل) *)، " * (ويؤت الله المؤمنين) *) * * (وينادي المنادي) *) * * (فما تغني النذر) *) ومعنى الآية ويدع الانسان على (ماله وولده ونفسه بالسوء) وقوله عند الضجر
86

والغضب: اللهم العنه اللهم أهلكه " * (دعاءه بالخير) *) أي كدعائه ربه أن يهب له العافية والنعمة ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده (بالشر لهلك) ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك، نظيره قوله تعالى " * (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم) *) * * (و كان الإنسان عجولا) *) عجلا بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه.
قال مجاهد وجماعة من المفسرين، وقال ابن عباس: (يريد) ضجرا لا صبرا له على سراء ولا ضراء.
وقال قوم من المفسرين: أراد الانسان آدم.
قال سلمان الفارسي: أول ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق جسده فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لو يبث فيها الروح، فقال: يا رب عجل قبل الليل فذلك قوله " * (و كان الإنسان عجولا) *).
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: لما خلق الله رأس آدم نظر إلى جسده فأعجبه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله " * (وكان الإنسان عجولا) *) (وقيل: المراد آدم فإنه لما اهتدى للصح إلى سترته ذهب لينهض فسقط، يروى أنه علم وقع أسيرا إلى سودة بنت زمعة فرحمته لأنينه فأرخت من كتافه فهرب فدعا النبي عليها بقطع اليد ثم ندم فقال: اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت هذه الآية)
" * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) *) دلالتين وعلامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا وعدد السنين والحساب " * (فمحونا آية الليل) *) قال أبو الطفيل: سأل ابن الكواء عليا (ح) فقال: ما هذا السواد في القمر؟ فقال علي: " * (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) *) وهو المحو.
وقال ابن عباس: الله نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر سبعين جزءا فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد.
" * (وجعلنا آية النهار) *) وهي الشمس " * (مبصرة) *) (منيرة مضيئة).
87

وقال أبو عمرو بن العلا: يعني بصرها.
قال الكسائي: هو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء وصار بحالة يبصرها.
وقال بعضهم: هو كقولهم: (رجل خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء).
" * (لتبتغوا فضلا من ربكم) *) إلى قوله " * (فصلناه تفصيلا) *) بيناه تبيينا.
مقاتل بن علي عن عكرمة عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تعالى لما أبرم خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا شمسان فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها فيحولها قمرا فخلقها دون الشمس من العظيم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض، فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا النهار من الليل ولا كان يدرك الأجير إلى متى يعمل ومتى يأخذ أجره ولا يدري الصائم إلى متى يصوم ومتى يفطر، ولا تدري المرأة كيف تعتد ولا يدري المسلمون متى وقت صلاتهم ومتى وقت حجهم، ولا يدري الديان متى يحل دينهم ولا تدري الناس متى يبذرون ويزرعون لمعاشهم ومتى يسكنون لراحة أبدانهم فكان الرب سبحانه أنظر لعباده وأرحم بهم فأرسل جبرائيل (فأمر) جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور، فذلك قوله تعالى " * (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) *) (والسواد) الذي ترونه في جوف القمر يشبه الخطوط، فهو أثر المحو.
" * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) *) قال ابن عباس: وما قدر عليه (من خير وشر) فهو ملازمه أينما كان.
الكلبي ومقاتل: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به (وتلا الحسن: " * (عن اليمين وعن الشمال قعيد) *)) ثم قال يا بن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان أحدهما عن يمينك والآخر (عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذين عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا)
88

مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد.
وقال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قضى عليه (أنه) عامله في ما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وإنما عبر عنه بالطائر على عادة العرب كما كانت تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها.
أبو عبيد والعيني: أراد بالطائر حظه من الخير والشر عن قولهم طار منهم فلان بكذا أي جرى له الطائر بكذا.
وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء: طائره في عنقه بغير ألف وإنما خص عنقه دون سائر أعضائه، لأن العنق موضع السمات وموضع القلائد والأطراف وغير ذلك مما يشين أو يزين، فجرى كلام العرب (بنسبة الأشياء اللازمة) إلى الأعناق فيقولون هذا في عنقي حتى أخرج منه وهذا الشيء (لازم صليت) عنقه.
" * (ونخرج له يوم القيامة كتابا) *) قرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن ويعقوب: ويخرج بفتح الياء وضم الراء على معنى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا نصب كتابا على الحال، ويحتمل أن يكون معناه ويخرج له الطائر فيصير كتابا.
وقرأ أبو جعفر: ويخرج بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل ومجازه ويخرج له الطائر كتابا.
وقرأ يحيى بن وثاب: ويخرج أي ويخرج الله.
وقرأ الباقون: بنون مضمومة وكسر الراء على معنى ونحن نخرج له يوم القيامة كتابا ونصب كتابا بإيقاع الاخراج عليه واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله ألزمناه.
" * (يلقاه) *) قرأ أبو عامر وأبو جعفر: تلقاه بضم التاء وتشديد القاف يعني تلقى الانسان ذلك الكتاب أي (يؤتا). وقرأ الباقون: بفتح الياء أي يراه.
" * (منشورا) *) نصب على الحال.
عن بسطام بن مسلم قال: سمعت أبا النباج يقول سمعت أبا السوار العدوي يقرأ هذه الآية ثم قال: نشرتان وعليه ماحييت يا بن آدم فصحيفتك منشورة فاعمل فيها ما شئت
، فإذا مت طويت ثم إذا بعثت نشرت
89

" * (اقرأ كتابك) *) يعني فيقال له إقرأ كتابك " * (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *) محاسبا مجازيا.
قتادة: سيقرأ يومئذ كل من لم يكن في الدنيا (مجازيا).
وقال الحسن: (قد عدل والله عليك) من جعلك حسيب نفسك.
" * (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) *) لها نوليه " * (ومن ضل فإنما يضل عليها) *) لأن عليها عقابه " * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *) ولا يحمل حامله عمل أخر من الأثام " * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *) إقامة للحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم " * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها) *).
قرأ عثمان النهدي وأبو رجاء العطاردي وأبو العالية (وأبو جعفر) ومجاهد: أمرنا بتشديد الميم أي خلطنا (شرارها) فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو حياة الشامي ويعقوب: أمرنا ممدودة أي أكثرنا.
وقرأ الباقون: بكسر الميم، أي أمرناهم بالطاعة فعصوا، ويحتمل أن يكون بمعنى جعلناهم أمرا لأن العرب تقول أمر غير مأمور أي غير مؤمر، ويجوز أن يكون بمعنى أكثر ما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم (خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة) أراد بالمأمورة كثرة النسل ويقال للشيء الكثير: أمر، والفعل منه أمر يأمرون أمرا إذا كثروا.
وقال لبيد:
كل بني حرة مصيرهم
قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا،
يوما يصيروا للهلك والنفذ
وإختاره أبو عبيد وأبو حاتم وقرأه العامة.
وقال أبو عبيد: إنما إخترنا هذه القراءة، لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والأمارة والكثرة، " * (مترفيها) *) (...........) وهم أغنياؤها ورؤساءها " * (ففسقوا فيها فحق عليها القول) *) يوجب عليها العذاب " * (فدمرناها تدميرا) *) فجزيناهم (وأهلكناهم إهلاكا بأمر فيه أعجوبة).
90

روى معمر عن الزهري قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على (زينب) وهو يقول: (لا إله إلا الله للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون، قال: (نعم إذا كثر الخبث).
2 (* (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا * من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولائك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هاؤلاء وهاؤلاء من عطآء ربك وما كان عطآء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا * لا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا * وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا * ربكم أعلم بما فى نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للاوابين غفورا) *) 2
" * (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح) *) تخوف كفار مكة " * (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) *) وقد اختلفوا في مبلغ مدة القرن:
قال عبد الله بن أبي: وفي القرن عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول قرن كان وآخرهم يزيد بن معاوية.
وروى محمد بن القاسم عن عبد الله بن بشير المازني أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال: (سيعيش هذا الغلام قرنا) فقلت: كم القرن؟ قال: (مائة سنة).
قال محمد بن القاسم: ما زلنا نعد له حتى (تمت) مائة سنة ثم مات.
وقال الكلبي: القرن ثمانون سنة.
وروى عمر بن شاكر عن ابن سيرين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (القرن أربعون سنة).
" * (من كان يريد العاجلة) *) يعني الدنيا فعبرنا بحرف عن الاسم، أراد بالدار العاجلة " * (عجلنا له فيها ما نشاء) *) من البسط والتقدير " * (لمن نريد) *) أن يفعل به ذلك (أول) إهلاكه، " * (ثم جعلنا له جهنم) *) في الآخرة " * (يصلاها) *) يدخلها " * (مذموما مدحورا) *) مطرودا مبعدا " * (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها) *) وعمل لها عملها " * (وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) *) مقبولا غير مكفور " * (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء) *) أي نمد كل الفريقين، من يريد العاجلة ومن يريد الآخرة
91

فيرزقهما جميعا " * (من عطاء ربك) *) ثم يختلف بهما الحال في المال " * (وما كان عطاء ربك محظورا) *) ممنوعا (محبوسا) عن عباده " * (انظر) *) يا محمد " * (كيف فضلنا بعضهم على بعض) *) في الرزق والعمل، يعني طالب العاجلة وطالب الآخرة " * (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا لا تجعل مع الله
إلاها آخر) *) الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره " * (فتقعد) *) فتبقى " * (مذموما مخذولا وقضى) *) أمر " * (ربك) *).
قال ابن عباس وقتادة والحسن قال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن وقال إنه طلق امرأته ثلاثا، فقال: إنك عصيت ربك وبانت منك امرأتك. فقال الرجل: قضى الله ذلك علي.
قال الحسن وكان فصيحا: ما قضى الله، أي ما أمر الله وقرأ هذه الآية " * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إ ياه) *) فقال الناس: تكلم الحسن في (القدر).
وقال مجاهد وابن زيد: وأوصى ربك، ودليل هذا التأويل قراءة علي وعبد الله وأبي: ووصى ربك.
وروى أبو إسحاق (الكوفي) عن شريك بن مزاحم أنه قرأ: ووصى ربك وقال: إنهم (أدغوا) الواو بالصاد فصارت قافا.
وقال الربيع بن أنس: (وأوجب) ربك إلا تعبدو إلا إياه.
" * (وبالوالدين إحسانا) *) أي وأمر بالأبوين إحسانا برا بهما وعطفا عليهما " * (إما يبلغن عندك الكبر) *) الكسائي بالألف، وقرأ الباقون: يبلغن بغير الألف على الواحدة وعلى هذه القراءة قوله " * (أحدهما أو كلاهما) *) كلام (مستأنف) كقوله " * (فعموا وصموا كثير منهم) *) وقوله " * (واسروا النجوى) *) ثم ابتدأ فقال: " * (فلا تقل لهما أف) *) فيه ثلاث لغات بفتح الفاء (حيث قد رفع) وهي قراءة أهل مكة والشام واختيار يعقوب وسهيل.
و (أف) بالكسر والتنوين وهي قراءة أهل المدينة وأيوب وحفص.
و (أف) مكسور غير منون وهي قراءة الباقين من القراء، وكلها لغات معروفة معناها واحد.
قال ابن عباس: هي كلمة كراهة. مقاتل: الكلام الرديء الغليظ.
أبو عبيد: أصل الأف والتف الوسخ على الأصابع إذا فتلته وفرق الآخرون بينهما فقيل
92

الأف ما يكون في المغابن من العرق والوسخ، والتف ما يكون في الأصابع، وقيل: الأف وسخ الأذن والتف وسخ (الأظفار) وقيل: الأف وسخ الظفر والتف ما رفعت يدك من الأرض من شيء حقير.
" * (ولا تنهرهما) *) لاتزجرهما " * (وقل لهما قولا كريما) *) حسنا جميلا.
وقال ابن المسيب: كقول العبد المذنب للسيد الفظ.
وقال عطاء: لا تسمهما ولا تكنهما وقل لهما: يا أبتاه ويا أماه.
مجاهد في هذه الآية: إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويحدثان فلا تتعذرهما.
ولا تقل لهما أف حين ترى الأذى وتميط عنهما الخراء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا (ولا توذهما) (وروى سعيد بن المسيب: أن (العاق) يموت ميتة سوء، وقال رجل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أبوي بلغا من الكبر أني أوليهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما؟ قال (صلى الله عليه وآله): (لا فإنهما كانا يفعلان لك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل وأنت تريد موتهما)).
" * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) *).
قال عروة بن الزبير: إن لهما حتى لا يمتنع من شيء أحياه.
مقاتل: ألن لهما جانبك فاخضع لهما.
وقرأ الحسن وسعيد بن جبير وعاصم الحجدي: جناح الذل بكسر الذال أي (لا تستصعب معهما).
" * (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) *).
قال ابن عباس: هو منسوخ بقوله " * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى) *) الآية.
روى شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رضى الله تعالى مع رضا الوالدين وسخط الله مع سخط الوالدين)
93

عطاء عن عائشة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقال للعاق إعمل ما شئت إني لا أغفر لك ويقال للبار إعمل ما شئت وإني أغفر لك).
روى عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أمسى مرضيا لوالديه وأصبح أمس وأصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة، وإن أمسى وأصبح مسخطا لوالديه أصبح وله بابان إلى النار وان واحدا فواحد).
فقال رجل: يا رسول الله وإن ظلماه؟ قال: (وإن ظلماه)، ثلاث مرات.
وروى رشيد بن سعد عن أبي هاني الخولاني عن أبي عمر (القصبي) قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل أعمله يقربني إلى الله؟ قال: (هل لك والدة ووالد؟) قال: نعم. قال: (فإنما يكفي مع البر بالوالدين العمل (اليسير)).
" * (ربكم أعلم بما في نفوسكم) *) من بر الوالدين وعقوقهما " * (إن تكونوا صالحين) *) أبرارا مطيعين فيما أمركم الله به بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين، وغير ذلك من فرائض اللهإنه كان للأوابين بعد المعصية والهفوة (غفورا.
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: هو الرجل يكون منه المبادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير، فإنه لا يؤخذ به.
واختلف المفسرون في معنى الأوابين:
فقال سعيد بن جبير: الراجعين إلى الخير، سعيد بن المسيب: الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب.
مجاهد عن عبيد بن عمر: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلا فيستغفر الله تعالى عنها.
عمرو بن دينار: هو الذي يقول: اللهم اغفر لي ما أصبت في (مجلسي) هذا.
ابن عباس: الراجع إلى الله فيما (لحق به وينويه) والأواب فعال من أوب إذا رجع.
قال عبيد بن الأبرص: وكل ذي غيبة يؤوب وغايب الموت لا يؤوب.
وقال عمرو بن شرحبيل: وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس دليله قوله " * (وياجبال أوبي معه) *))
.
94

الوالبي: عنه المطيعين المخبتين.
قتادة: المصلين. عون العقيلي: هم الذين يصلون صلاة الضحى.
ابن المنكدر: بين المغرب والعشاء.
روى ابن إدريس عن أبيه عن سعيد بن جبير قال: الأوابين الرغابين.
2 (* (وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا * وإما تعرضن عنهم ابتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا * ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا * إن ربك يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا * ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا * ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا * ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل إنه كان منصورا * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا * وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذالك خير وأحسن تأويلا * ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا * ولا تمش فى الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذالك كان سيئه عند ربك مكروها * ذالك ممآ أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا * أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما * ولقد صرفنا فى هاذا القرءان ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا * قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا * سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا) *) 2
" * (وآت ذا القربى حقه) *) يعني صلة الرحم. وقال بعضهم: عني بذلك قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى السدي عن ابن الديلمي قال: قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام أقرأت القرآن؟ قال نعم؟ قال: أفما قرأت في بني إسرائيل " * (وآت ذا القربى حقه) *) قال: انكم القرابة الذين أمر الله أن يوتى حقه؟ قال: نعم.
" * (والمسكين وابن السبيل) *) يعني مار الطريق، وقيل: الضيف " * (ولا تبذر تبذيرا) *) ولا تنفق مالك في المعصية.
وروى سلمة بن كهيل عن أبي (عبيدة) عن ابن الضرير أنه سأل ابن مسعود ما التبذير؟ فقال: إنفاق المال في غير حقه.
95

وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في (الحق ما كان) تبذيرا، فلو أنفق يدا في باطل كان تبذيرا به.
وقال شعيب: كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة، فأتى على دار تبنى بجص وآجر فقال: هذا التبذير في قول عبد الله: إنفاق المال في غير حقه.
" * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) *) أولياؤهم وأعوانهم، والعرب تقول: لكل (من يلزم) سنة قوم وتابع أمرهم هو أخوهم " * (وكان الشيطان لربه كفورا) *) جحود النعمة.
" * (وإما تعرضن عنهم) *) الآية نزلت في منجع وبلال وصهيب وسالم وخباب، كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد لهم متسعا، فيعرض عنهم حياء منهم فأنزل الله عز وجل " * (وإما تعرضن عنهم) *) يعني وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم حقوقهم عند مسألتهم إياك مالا يجد إليه سبيلا حياء منهم.
" * (ابتغاء رحمة من ربك) *) ابتغاء رزق من الله " * (ترجوها) *) أن يأتيك " * (فقل لهم قولا ميسورا) *) لينا وعدهم وعدا جميلا " * (ولا تجعل يدك مغلولة) *) الآية.
قال جابر بن عبد الله: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد فيما بين الصحابة أتاه صبي فقال: يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعا، ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه، فقال الصبي: من ساعة إلى ساعة يظهر يعد وقتا آخر، فعاد إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا، فأذن بلال للصلاة فأنتظروا فلم يخرج فشغل قلوب الصحابة فدخل عليه (بعضهم فرآه) عاريا فأنزل الله تعالى " * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) *) يعني ولا تمسك يدك عن النفقة في الحق، كالمشدودة يده على عنقه فلا يقدر على مدها والإعطاء.
" * (ولا تبسطها) *) بالعطاء " * (كل البسط) *) فتعطي جميع ما تملك " * (فتقعد ملوما) *) يلومك سائلوك إذا لم تعطيهم " * (محسورا) *) منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه، فقال: حسرته بالمسألة إذا (أكلته) ودابة حسيرة إذا كانت كالة (رازحة) وحسير البصر إذا كل، قال الله " * (ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) *) وقال قتادة: نادما على ما سلف منك.
96

" * (إن ربك يبسط) *) يوسع " * (الرزق لمن يشاء ويقدر) *) يقتر ويضيق " * (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) *) نظيرها قوله: " * ((ولو وسع) الله الرزق لبغوا في الأرض) *) الآية " * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) *) ضيق وإقتار " * (نحن نرزقهم وإياكم) *) وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يأدون بناتهم خشية الفاقة فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأخبرهم أن رزقهم ورزق بناتهم على الله تعالى " * (إن قتلهم كان خطئا كبيرا) *) اختلف القراء فيه:
فقرأ أبو جعفر وابن عامر: بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة.
وقرأ ابن كثير: بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة.
وقرأ الآخرون: بكسر الخاء وجزم الطاء، وكلها لغات بمعنى واحد، ويكون اسما ومصدرا.
" * (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق) *) وبحقها بما روى حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها (عصموا) في دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) قيل: وما حقها؟ قال: زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس فيقتل بها.
" * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) *) قوة وولاية على قاتل وليه فإن لما استفاد منه فقتله وأن الله أخل الدية وإن شاء عفا عنه
" * (فلا يسرف في القتل) *) قرأ حمزة والكسائي وخلف: تسرف بالتاء أي فلا تسرف أيها القاتل، ويجوز أن يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد منه الأيمة والأمة من بعده، ومن قرأ بالياء رجع إلى المولى.
واختلفوا في الاسراف ما هو: فقال ابن عباس: لا يقتل غير قاتله.
قال الحسن وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم حتى يقتلوا أشرف من الذي قتله، فيعمد ولي المقتول إلى الشريف من قبيلة القاتل فيقتله بوليه ويترك القاتل، فنهى الله عن ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من أعتى الناس على الله جل ثناؤه قتل غير قاتله أو قتل بدخن الجاهلية أو قتل في حرم الله).
وقال الضحاك: كان هذا بمكة ونبي الله صلى الله عليه وسلم بها، وهو أول شيء نزل من القرآن في شأن القتل وكان المشركون من أهل مكة يقتلون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله: من قتلكم من المشركين
97

فلا يحملنكم قتله إياكم على أن لا تقتلوا إلا قاتلكم، فلا يقتلوا له أبا أو أخا أو أحدا فإن كانوا من المشركين فلا يحملنكم ذلك (.................) على فلا تقتلوا إلا قاتلكم. وهذا قبل أن تنزل سورة براءة وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين.
وقال سعيد بن جبير: لا يقبل (.........) على العدة.
قتادة وطارق بن حبيب وابن كيسان: (لا يمثل به).
" * (إنه كان منصورا) *) اختلفوا في هذه الكناية (إلى من ترجع فقيل: ترجع) على ولي المقتول، هو المنصور على القاتل (فيدفع الامام) إليه القاتل، فإن شاء قتل وإن شاء عفا عنه وإن شاء أخذ الدية، وهذا قول قتادة.
وقال الآخرون: (من) راجعة إلى المقتول في قوله " * (ومن قتل مظلوما) *) يعنى أن المقتول (منصور) في الدنيا بالقصاص وفي الآخرة (بالتوبة) وهو قول مجاهد.
" * (ولا تقربوا مال اليتيم) *) إلى قوله " * (مسؤولا) *) عنه، وقيل معناه: كان مظلوما " * (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم) *).
قرأ أهل الكوفة: القسطاس بكسر القاف.
الباقون: بفتحه وهو الميزان مثل القرطاس، والقسطاس معناه الميزان صغيرا كان أو كبيرا.
مجاهد: هو العدل بالرومية. وقال الحسن: هو القبان.
" * (ذلك خير وأحسن تأويلا) *) أي عاقبة.
(قال الحسن): ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس لديه إلا مخافة الله إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك).
" * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *)
قال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه وهذه رواية علي عن ابن عباس
98

قال مجاهد: ولا ترم أحدا بما ليس لك به علم، وهي رواية عطية عن ابن عباس.
وقال ابن الحنفية: هو شهادة الزور.
قال (القتيبي): لا تتبع الحدس والظنون، وكلها متقاربة، وأصل القفو البهت والقذف بالباطل. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا).
وقال النابغة:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن
بهن الحياء لا يشعن التقافيا
وقال الكميت:
فلا أرمي البرىء بغير ذنب
ولا أقفوا الحواصين أن (قفينا)
وقال (القتيبي): فهو مأخوذ من القفاء كأنه يقفوا الأمور ويكون في أقفائها يعقبها (ويتتبعها) ويتعرفها. يقال: قفوت أثره على وزن دعوت والنهي منه لا يقف، كقولك: لا تدع.
وحكى الفراء عن بعضهم: أن أصله من القيافة، وهو اتباع الأثر وإذا كان كذلك وجب أن يكون (ولا تقف) بضم القاف وسكون الفاء مثل: ولا تقل، قال: والعرب تقول: قفوت أثرها وقفت مثل قولهم: قاع الجمل الناقة إذا ركبها وقعا، وعاث وعاثا واعتام واعتمى واحتاج ماله واحتجا.
قال الشاعر:
ولو إني رميتك من قريب
لعاقك من دعاء الذئب عاق
أي عانق.
" * (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك) *) أي كل هذه الجوارح والأعضاء ما يقل تلك.
كقول الشاعر، وهو جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى
والعيش بعد أولئك الأيام
99

ويجوز أن يكون راجع إلى أصحابها وأربابها.
" * (ولا تمش في الأرض مرحا) *) بطرا وفخرا وخيلاء، وهو تفسير المشي لا نعته فإن ذلك أخرجه على المصدر " * (قل لن تخرق الأرض) *) أي لن تقطعها بكعبيك حتى تبلغ آخرها، يقال فلان أخرق الأرض من فلان إذا كان أكثر سفرا وعزة.
وقال روبة:
وقائم (الأعماق) خاوي المخترق
أي المقطع " * (ولن تبلغ الجبال طولا) *) أي (لن تساويها بطولك ولا تطاولك) وأخبر أن صاحبه لا ينال به شيئا (......) عنه غيره " * (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) *).
قرأ الحسن ويحيى بن يعمر وابن عمر وأهل الكوفة: سيئة على الإضافة، بمعنى كل هذا الذي ذكرنا من قوله " * (وقضى ربك ألا تبعدوا إلا إياه) *).
(كان سيئة) أي سئ بما ذكرنا ووعدنا عليك عند ربك مكروها، قالوا: لأن فيما ذكره الله من قوله " * (وقضى ربك) *) إلى هذا الموضع أمورا مأمورات بها ومنهيات عنها، واختار أبو عبيد هذه القراءة لما ذكرنا من المعنى، ولأن في قراءة أبي حجة لها، وهي ما روى أبو عبيد عن حجاج عن هارون في قراءة (أبي بن كعب) (كان سيئاته) قال: فهذه تكون بإضافة سيئة منونة منصوبة، بمعنى كل ذلك الذي ذكرنا ووعدنا من قوله " * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) *) إلى هذا الموضع كان سيئة لا حسنة في فجعلوا (كلا) محيطا بالمنهي عنه دون غيره.
فإن قيل: هلا جعلت مكروها خبر ثان، قلنا: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: كل ذلك كان مكروها سيئة، وقيل هو فعل (......) كالبدل لا على الصفة، مجازة: كل ذلك كان سيئة وكان مكروها.
وقال أهل الكوفة: رجع إلى المعنى، لأن السيئة الذنب وهو (غير حقيقي) * * (ذلك) *) الذي ذكرنا (ووعدنا) * * (مما أوحى إليك ربك من الحكمة) *) إلى قوله " * (مدحورا) *) مطرودا مبعدا من كل نصير والمراد به غيره.
100

قال الكلبي: (الثمان عشرة) آية كانت في ألواح موسى وهي عشر آيات في التوراة.
" * (أفأصفاكم) *) اختاركم واختصكم " * (ربكم بالبنين وا تخذ من الملائكة إناثا) *) بنات " * (إنكم لتقولون قولا عظيما) *) يخاطب مشركي العرب حيث قالوا
: الملائكة بنات الله.
" * (ولقد صرفنا) *) قرأه العامة: بالتشديد على التكثير.
وقرأ الحسن: صرفنا بالتخفيف.
" * (في هذا القرآن) *) يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والأعلام.
سمعت أبا القاسم الحسين يقول: بحضره الإمام أبي الطيب لقوله تعالى " * (صرفنا) *) معنيان أحدهما: لم يجعله نوعا واحدا، بل وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا ومحكما ومتشابها وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وتصريف الأفعال من الماضي إلى المستقبل ومن الفاعل إلى المفعول ونحوها.
والثاني: لم ينزله مرة واحدة بل (نجوما) مثل قوله " * (وقرآنا فرقناه) *) ومعناه أكثرنا صرف جبرئيل إليك.
" * (ليذكروا) *). قرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي " * (ليذكروا) *) مخففا.
وقرأ الباقون: بالتشديد واختيار أبو عبيد أي ليتذكروا " * (وما يزيدهم) *) أي التصريف والتذكير " * (إلا نفورا) *) ذهابا وتباعدا عن الحق " * (قل) *) يا محمد لهؤلاء المشركين " * (لو كان معه آلهة كما يقولون) *).
قرأ ابن كثير وحفص: يقولون بالياء. الباقون: بالتاء.
" * (إذا لابتغوا) *) لطلبوا يعني الآلهة القربة " * (إلى ذي العرش سبيلا) *) فالتمست الزلفة عنده.
قال قتادة: يقول لو كان (الأمر) كما يقولون إذا لعرفوا الله فضله ومقربته عليهم، فامضوا ما يقربهم إليه.
وقال الآخرون: إذا لطلبوا مع الله منازعة وقتالا، كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض، ثم نزه نفسه، فقال " * (سبحانه وتعالى عما يقولون) *).
الأعمش وحمزة والكسائي، وإختاره أبو عبيد عنهم بالتاء " * (علوا كبيرا) *) ولم يقل تعاليا كقوله " * ((وجعل) إليه سبيلا) *).
101

2 (* (تسبح له السماوات السبع والارض ومن فيهن وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا * وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا * وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك فى القرءان وحده ولوا على أدبارهم نفورا * نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر فى صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) *) 2
" * (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن) *) قرأ الحسن: وأبو عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي وحفص: بالتاء، غيرهم: يسبح بالياء وإختاره أبو عبيد (.......) وهو التأنيث ومعنى التسبيح التنزيه والطاعة والالتزام بالربوبية وكونها دالة على وجوده وتوحيده.
" * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) *).
قال ابن عباس: وإن من شيء حي.
وقال الحسن والضحاك: يعني كل شيء فيه الروح.
قال قتادة: يعني الحيوانات والنباتات (..........).
قال عكرمة: الشجرة تسبح والإسطوانة لا تسبح.
قال أبو الخطاب: كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في فقدموا الخوان فقال يزيد الرقاشي يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان؟ فقال كان يسبح مرة وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((ما سبحت عصا إلا ترك) التسبيح).
وقال إبراهيم: الطعام يسبح.
وروى موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحا قال لابنه: يا بني آمرك أن تقول: سبحان الله وبحمده فإنها صلاة الخلق وتسبيحهم (وبها يرزق الخلق)).
102

قال الله " * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) *).
قال وهب: إن (..........) إلا وقد كان يسبح لله ثلاثمائة سنة.
وروى عبد الله بن (..........) عن المقداد بن معد يكرب قال: إن التراب يسبح مالم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الجوزة لتسبح مالم ترفع من موضعها، فإذا رفعت ترك التسبيح، وإن الورق يسبح ما دام على الشجرة، فإذا سقط ترك التسبيح وإن الماء ليسبح ما دام ماءا فإذا (تغير) ترك التسبيح، وإن الثوب يسبح ما دام جديدا فإذا وسخ ترك التسبيح، وإن الوحش إذا صاحت سبحت فإذا سكتت تركت التسبيح، وإن الثوب (الخلق) لينادى في أول النهار: اللهم اغفر لمن (......).
وروى أبو عتبة عن ثابت البنائي عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ كفا من حصى فسبحن في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا التسبيح، ثم صبهن في يد أبي بكر حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في عمر حتى سمعنا التسبيح، ثم صبهن في يد عثمان حتى سمعنا التسبيح، ثم صبهن في أيدينا فما سبحت في أيدينا.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: (مرض النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه جبرئيل بطبق فيها رمان وعنب فتناول النبي صلى الله عليه وسلم فسبح، ثم دخل الحسن والحسين فتناولا فسبح العنب والرمان، ثم دخل علي فتناول منه فسبح أيضا، ثم دخل رجل من أصحابه فتناول فلم يسبح، فقال جبرئيل: إنما يأكل هذا نبي أو وصي أو ولد نبي).
" * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) *) يعني لا تعلمون تسبيح ما عدا من تسبيح بلغاتكم وألسنتكم " * (إنه كان حليما غفورا وإذا قرأت القرآن) *) يا محمد (على) المشركين " * (جعلنا بينك) *) بينهم حجابا يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به.
قتادة: هو حجاب مستور، والمستور يعني الساتر كقوله " * (إنه كان وعده مأتيا) *) الآية مفعول بمعنى فاعل.
وقيل: معناه مستورا عن أعين الناس فلا يرونه. وفسره بعض المفسرين: بالكتاب عن الأعين الظاهرة (فلا يرونه ولا يخلصون) إلى أدلته
103

عطاء عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت " * (تبت يدا أبي لهب وتب) *) جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر (ح) فقال: يا رسول الله لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذيئة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنه سيحال بيني وبينها) فلم تره فقالت لأبي بكر: يا أبا بكر هجاني صاحبك قال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله.
فقالت: وإنك لمصدقه فاندفعت راجعة. قال أبو بكر: يا رسول الله أما رأتك؟ قال: (لا ما زال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت).
وروى الكلبي عن رجل من (أهل الشام) عن كعب في هذه الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التي في الكهف " * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) *) والآية التي في النحل " * (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) *) إلى قوله " * (هم الغافلون) *).
والآية التي في الجاثية " * (أرأيت من اتخذ إلاهه هواه) *) إلى قوله " * (غشاوة) *) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأهن يستتر من المشركين.
قال كعب: فحدثت بهن رجلا من أهل الشام فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثم قرأ بهن فخرج هاربا وخرجوا في طلبه حتى كانوا يكونون على طريقه ولا يبصرونه.
قال الكلبي: حدثت به رجلا بالري فأسر بالديلم فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثم قرأهن وخرج هاربا وخرجوا في طلبه حتى جعل ثيابهم لتلتمس ثيابه فما يبصرونه.
" * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده) *) يقول: وإذا قلت: لا إله إلا الله في القرآن وحده وأنت تتلوه " * (ولوا على أدبارهم نفورا) *) كارهين له معرضين عنها.
حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس في قوله " * (ولوا على أدبارهم نفورا) *) قال: هم الشياطين والنفور جمع نافر مثل قاعد وقعود وجالس وجلوس، وجائز أن يكون مصدرا أخرج على غير لفظه إذا كان قوله " * (ولوا) *) بمعنى نفروا، فيكون معناه (نفورا).
104

" * (نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك) *) لن يقرأ القرآن " * (وإذ هم نجوى) *) متناجون في أمرك، بعضهم يقول: هو مجنون، وبعضهم يقول: هو كاهن، وبعضهم: ساحر، وبعضهم: شاعر " * (إذ يقول الظالمون) *) بمعنى الوليد بن المغيرة وأصحابه حين رجع إليه كفار مكة من أمر محمد وشاوروه فقال " * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) *) مطبوبا، وقيل: مخدوعا، وقال أبو عبيدة: (مسحورا) يعني رجلا له سحر يأكل ويشرب مثلكم والسحر الرئة يقول العرب للجبان: قد سحره ولكل من أكل وشرب من آدمي وغيره مسحور ومسحر.
قال الشاعر امرئ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب
ونسحر بالطعام وبالشراب
أي: نغذي ونعلل.
" * (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) *) شبهوا ذلك الأشباه.
فقالوا: شاعر وساحر وكاهن ومجنون " * (فضلوا) *) فجالوا وجاروا " * (فلا يستطيعون سبيلا) *) مخرجا ولا يهتدون إلى طريق الحق.
" * (وقالوا أإذا كنا عظاما) *) بعد الموت " * (ورفاتا) *).
قال ابن عباس: غبارا.
قال مجاهد: ترابا، والرفات ما تكسر وبلا من كل شيء، كالفتات والحطام والرضاض.
" * (أئنا لمبعوثون خلقا جديدا. قل كونوا حجارة أو حديدا) *) في الشدة والقوة " * (أو خلقا مما يكبر في صدوركم) *) يعني خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة وبعثكم وعملكم على (.........) احياؤه فإنه يجيئه، وقيل: ما يليه من بعد ورائهم الموت، وقيل: السماوات والأرض، وقيل: أراد به البعث وقيل الموت.
وقال أكثر المفسرين: ليست في نفس بني آدم أكبر من الموت، يقول: لو كنتم الموت لأميتنكم ولأبعثنكم.
سفيان عن مجاهد وعكرمة في قوله " * (أو خلقا مما يكبر في صدوركم) *) قالا: الموت.
وروى المعمر عن مجاهد قال: السماء والأرض والجبال يقول كونوا ما شئتم فإن الله يميتكم ثم يبعثكم " * (فسيقولون من يعيدنا) *) خلقا جديدا بعد الموت " * (قل الذي فطركم) *) خلقكم " * (أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم) *) أي يحركون رؤوسهم متعجبين ومستهزئين يقال: نغضت سنه إذا حركت وأقلعت من أصله
105

قال الراجز:
أبغض نحوى رأسه وأقنعا
وقال آخر:
لما رأسني الغضت لي الرأسا
وقال الحجاج: (أمسك بقضبا لابني) مستهدجا.
" * (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا) *) يعني هو قريب لأن عسى من الله واجب نظيره قوله " * (لعل الساعة تكون قريبا) *)، " * (ولعل الساعة قريب) *).
" * (يوم يدعوكم) *) من قبوركم إلى (موقف يوم القيامة) * * (فتستجيبون بحمده) *). قال ابن عباس: بأمره.
قتادة: بمعرفته وطاعته، ويحمدونه (وهو مستحق) للحمد.
" * (وتظنون إن لبثتم) *) في الدنيا في قبوركم " * (إلا قليلا) *) زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبرهم ولا حشرهم، كأني بأهل لا إله إلا الله وهم ينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون " * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) *) الآية).
2 (* (وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا * ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم ومآ أرسلناك عليهم وكيلا * وربك أعلم بمن فى السماوات والارض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وءاتينا داوود زبورا * قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولائك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا * وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذالك فى الكتاب مسطورا * وما منعنآ أن نرسل بالايات إلا أن كذب بها الاولون وءاتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالايات إلا تخويفا) *) 2
106

" * (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) *) نزلت في عمر بن الخطاب، وذلك أن رجلا من العرب شتمه فأمره الله تعالى بالعفو.
الكلبي: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية على ذلك.
وقل لعبادي المؤمنين يقولوا للكافرين التي هي أحسن يعني الكلمة التي هي أحسن لا تكافئهم.
قال الحسن: يقول هداك الله يرحمك الله، وهذا قبل أن أمروا بالجهاد.
وقيل: الأحسن كلمة الإخلاص لا إله إلا الله " * (إن الشيطان ينزغ بينهم) *) يفتري، وألقى بينهما العداوة ويعزى بينهم " * (إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم) *) يوفقكم فتؤمنوا " * (أو إن يشأ يعذبكم) *) يميتكم على الشرك فيعذبكم، قاله ابن حريج.
وقال الكلبي: إن الله يرحمكم فيحفظكم من أهل مكة، وإن يشأ يعذبكم فيسلطهم عليكم " * (وما أرسلناك عليهم وكيلا) *) وكفيلا، نسختها آية القتال " * (وربك أعلم بمن في السموات والأرض) *) فجعلهم مختلفين في أخلاقهم من أمورهم وأحوالهم ومالهم، كما يختلف بعض المتقين على بعض.
قتادة: في هذه الآية اتخذ الله إبراهيم خليلا، وكلم الله موسى تكليما، فقال لعيسى كن فيكون وأتى سليمان ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعده، وأتى داود زبورا كتابا علمه داود فيه دعاء وتحميد وتمجيد وليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود وغفر (لمحمد) ما تقدم من ذنبه وما تأخر " * (قل ادعوا الذين زعمتم) *) أنها آلهة " * (من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) *) (عنكم) إلى غيركم، قيل: هو ما أصابهم من القحط سبع سنين.
" * (أولئك الذين يدعون يبتغون) *). قتادة عن عبد الله بن عبد الزنجاني عن ابن مسعود أنه قرأ " * (أولئك الذين يدعون يبتغون) *) بالتاء.
وقرأهما الباقون: بالياء يبتغون.
" * (إلى ربهم الوسيلة) *) القربة إلى ربهم " * (أيهم أقرب) *) إليه " * (ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا) *) قال ابن عباس ومجاهد وأكثر العلماء: هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم
107

وقال عبد الله بن مسعود: كان نفر من الانس يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجن ولم يعلم الانس الذين كانوا يعبدونهم بإسلامهم فتمسكوا بعبادتهم فغيرهم الله بذلك وأنزل هذه الآية.
" * (وإن من قرية) *) يعني وما من قرية " * (إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة) *) أي مخربوها ومهلكوا أهلها بالسيف " * (أو معذبوها عذابا شديدا) *) بأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا.
وقال بعضهم: هذه الآية عامة.
قال مقاتل: أما الصالح فبالموت وأما الطالح فبالعذاب.
قال ابن عباس: إذا ظهر الزنا والربا في أهل قرية أذن الله في هلاكها.
" * (كان ذلك في الكتاب) *) في اللوح المحفوظ " * (مسطورا) *) مكتوبا " * (وما منعنا أن نرسل بالآيات) *).
قال ابن عباس: قال أهل مكة: اجعل لنا الصفا ذهبا، فأوحى الله إلى رسوله: إن شئت أن تسنأتي بهم فقلت وإن شئت أوتيهم ما سألوا، فقلت: فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم. فقال صلى الله عليه وسلم لا بل تستأني بهم فأنزل الله تعالى " * (وما منعنا أن نرسل بالآيات) *) التي سألها كفار قومك " * (إلا أن كذب بها الأولون) *) فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك أهلكتهم أيضا لأن من خسفنا في الأمم إذا سألوا الآيات فيأتيهم ثم لم يؤمنوا أن نعذبهم ونهلكهم ولا نمهلهم، فإن الأول في محل النصب وقوع المنبع عليه، وإن الثانية في محل رفع ومجاز الأول: سمعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين بها قالوا " * (وآ تينا ثمود الناقة مبصرة) *) مضيئة بينة " * (فظلموا بها) *) أي (قروا) بها إنها من عند الله " * (وما نرسل بالآيات) *) بالعبر والدلالات " * (إلا تخويفا) *) للعباد ليؤمنوا ويتذكروا فإن لم يفعلوا عذبوا.
قال قتادة: إن الله يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعيون أو يذكرون أو يرجعون، ذكر أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال: يا أيها الناس إن الله ليس يعتبكم فأعتبوه.
وروى محمد بن يوسف عن الحسن في قوله عز وجل " * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) *) قال الموت الذريع.
" * (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) *) فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وهو مانعك منهم وحافظك فلا تهبهم وأمض لما أمرك به في تبليغ رسالته، قاله أكثر المفسرين.
قال ابن عباس: يعني أحاط علمه بهم فلا يخفى عليه منهم شيء.
108

مقاتل والبراء: أحاط بالناس يعني أهل مكة أي أنها ستفتح لك.
" * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) *).
قال قوم: هي رؤيا عين وهو ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من العجائب والآيات فكان ذلك فتنة للناس، فقوم أنكروا وكذبوا، وقوم ارتدوا، وقوم صدقوا، والعرب تقول: (رأيت بعيني) رؤية ورؤيا وعلى هذا يحمل حديث معاوية أنه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة أي (رؤيا عيان) أرى الله نبيه صلى الله عليه وسلم وماذكرنا من تأويل الآية، قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وأبي مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد وابن جريج وعطية وعكرمة وعطية عن ابن عباس.
وقال آخرون: هي ما أرى الله نبيه صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى بروحه دون بدنه فلما قصها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه (........) من أصحاب المسلمين وطعن فيها ناس من المنافقين. وهو ما روى جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي، يحدث عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة أستقبل الناس (بوجهه) فقال: (هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا)؟ فإن كان أحدا رأي تلك الليلة رؤيا قصها عليه فيقول فيها ما شاء الله أن يقول فسألنا يوما. فقال: (هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا)، قلنا: لا، قال: (لكني أتاني الليلة آيتان فقالا لي: انطلق فإنطلقت معهما فأخرجاني إلى أرض مستوية فإذا رجل مستلقي على قفاه ورجل قائم بيده صخرة فشدخ بها رأسه (فيتبع) الحجر فإذا ذهب يأخذه عاد رأسه كما كان فهو يصنع به مثل ذلك، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقت معهما فأتينا على رجل مستلق لقفاه يرمش عينه، فإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد فإذا هو يأخذ أحد شقي وجهه فيشر شر شدقه إلى قفاه وعينه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ذلك فما يفرغ من ذلك حتى يصبح ذلك الجانب كما كان ثم يعود إليه، فقلت لهما: سبحان الله ما هذا؟ قالا لي: انطلق فانطلقت معهما فأتيا على بيت مبني مثل بناء التنور أعلاه ضيق (وأسفله واسع) يوقد فيه النار فأطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب من أسفل (ضجوا)، قلت لهما: ما هؤلاء؟
قالا لي: انطلق فانطلقنا فأتينا على نهر من دم أحمر وإذا في البحر سابح يسبح فإذا على شاطىء النهر رجل عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا فيذهب فيسبح مايسبح ثم يرجع إليه كما رجع إليه فيفغر له فاه فألقمه حجرا قال: فقلت ما هذا؟ قالا: انطلق فإنطلقت فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما رأيت
109

رجلا وإذا هو عنده نار (يحشها ويسعى) حولها قلت لهما: ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة (معتمة) فيها من كل نوع الربيع وإذا شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ طويل فإذا حوله صبيان كأكثر ولدان رأيتهم قط. قال: قلت ما هؤلاء؟ قالا: انطلق فانطلقنا فأتينا على دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها (ولا أحسن) قالا لي: أرق فارتقينا فانتهينا إلى مدينة مبنية من ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة فأستفتحناها ففتح لنا فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم (كأحسن) ما رأيت (وشطر كأقبح) ما رأيت، قالا لهم: إذهبوا فقعوا في ذلك النهر وإذا نهر معترض يجري كأنه المخيض من البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا وقد ذهب السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قال: فقلت لهما (والله) إني ما رأيت مثل الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قالا إنا (سنخبرك أما الذي) أتيت عليه يشدخ رأسه بالحجر
فإنه رجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الذي أتيت عليه يشرشر شدقه وعينه ومنخره إلى فقاه فإنه (رجل يغدوا) من بيته فيكذب (الكذبة تبلغ الآفاق).
وأما الرجل والنساء العراة الذين في مثل التنور فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآة الذي عنده النار يحشها فإنه مالك خازن النار، وأما الرجل الطويل الذي في (الروضة) فإبراهيم (عليه السلام) وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة.
2 (* (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة فى القرءان ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أءسجد لمن خلقت طينا * قال أرءيتك هاذا الذى كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * إن عبادى ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا * ربكم الذى يزجى لكم الفلك فى البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما * وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا * أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا * أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا
110

ولقد كرمنا بنىءادم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا * يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولائك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا * ومن كان فى هاذه أعمى فهو فى الاخرة أعمى وأضل سبيلا) *) 2
أما القوم الذين كانوا شطر خلقهم حسنا وشطر قبيحا فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتجاوز الله عنهم، وأما الروضة فهي جنات عدن وأما المدينة التي دخلت فدار الشهداء. قال: بينما بصري صعدا فإذا مثل الذبابة البيضاء، قالا لي: هاهو ذا منزلك، وأنا جبرئيل وهذا ميكائيل. فقلت: بارك الله فيكما دعاني أدخل داري، فقالا: إنه قد بقي لك ولم تستكمله ولو استكملته دخلت دارك.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هي رؤيا التي رأى أنه يدخل مكة عام الحديبية هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل فرده المشركون.
فقال ناس: قد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان حدثنا إنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم وقد كان في العام المقبل سار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلها فأنزل الله عز وجل: " * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) *).
سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن حذيفة عن سعيد بن المسيب، من قول الله تعالى " * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) *) قال: أرى بني أمية على المنابر فساءه ذلك فقيل له إنها الدنيا يعطونها (فتزوى) عنه إلا فتنة للناس قال: بلا للناس.
وروى عبد المهيمن عن بن عباس عن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما إستجمع ضاحكا حتى مات، فإنزل الله في ذلك * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) * * (والشجرة الملعونة) *) المذكورة " * (في القرآن) *) يعني شجرة الزقوم، ومجاز الآية: الشجرة الملعونة المذكورة في القرآن، ونصب الشجرة عطفا بها على الرؤيا تأويلها: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس فكانت فتنتهم في الرؤيا ما ذكرت، وفتنتهم في الشجرة الملعونة أن أبا جهل قال لما نزلت هذه الآية: أليس من الكذب ابن أبي كبشة أن يوعدكم بحرق الحجارة ثم يزعم إنه ينبت فيها شجرة وأنتم تعلمون إن النار تحرق الشجرة فما يقولون في الزقوم.
فقال عبد الله بن (الزبوي): إنها الزبد والتمر بلغة بربرة.
111

فقال أبو جهل: يا جارية زقمينا فأتته بالزبد والتمر، فقال: يزعموا يا قوم فإن هذا ما يخوفكم به محمد والله ما يعلم الزقوم إلا الزبد والتمر، فأنزل الله تعالى " * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) *) ووصفها في الصافات فقال: " * (إنها شجرة تخرج من أصل الجحيم) *) أي خلقت من النار وحذيت بها وأنزل الله " * (ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا) *).
وروى ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن مولى لبني هاشم حدثه إن عبد الله بن الحرث ابن نوفل (أرسل) إلى ابن عباس: نحن الشجرة الملعونة في القرآن؟ قال: فقال: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر يعني الكشوث.
" * (فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا) *) يعني من طين.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بعث رب العزة إبليس فأخذ كفا من أديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى السعادة وإن كان ابن كافرين، وكل شيء خلقه من ملحها فهو صائر إلى الشقاوة وإن كان ابن نبيين.
قال: ومن ثم قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينا أي هذه الطينة أنا جئت بها، ومن ثم سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض.
" * (قال) *) إبليس " * (أرأيتك هذا الذي كرمت علي) *) أي فضلته " * (لئن أخرتني إلى يوم القيامة) *) وأمهلتني " * (لأحتنكن ذريته) *) أي لأستولين على أولاده ولأحتوينهم ولأستأصلنهم بالاضلال ولأجتاحنهم.
يقال: (إحتنك) فلان ما عند فلان من علم أو كمال مما استقصاه وأخذه كله، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله كله.
قال الشاعر:
أشكوا إليك سنة قد أجحفت
وأحنكت أموالنا واجتلفت
ويقال: هو من قول العرب حنك الدابة يحنكها إذا شد في حنكها الأسفل حبلا يقودها به حتى يثبت.
" * (إلا قليلا) *) يعني المعصومين الذين إستثناهم الله في قوله " * (إن عبادي ليس لكم عليهم
112

سلطان) *) * * (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم) *) أي جزاءك وجزاء أتباعك " * (جزاء موفورا) *) وأمرا مكملا " * (واستفزز) *) (استولي) واستخف وإستزل وإستمل " * (من استطعت منهم) *) أي من ذرية آدم " * (بصوتك) *).
قال ابن عباس وقتادة: بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية فهو من جند إبليس.
وقال مجاهد: بالغناء والمزامير.
" * (وأجلب عليهم) *) أي إجمع وصح. مقاتل: إستفز عنهم.
" * (بخيلك ورجلك) *) أي ركبان جندهم ومشاتهم.
قال المفسرون: كل راكب وماش في معاصي الله.
ابن عباس ومجاهد وقتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس، فما كان من راكب يقاتل في معصية فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل يقاتل في معصية الله فهو من رجل إبليس والرجل الرجالة.
وقرأ حفص: ورجيلك بكسر الراء، وهما لغتان يقال: راجل ورجل مثل تاجر وتجر، وراكب وركب.
" * (وشاركهم في الأموال) *) قال قوم: هو كل مال أصيب من حرام وأنفق في حرام، وهذا قول مجاهد والحسن وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد، ورواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
عطاء بن أبي رباح: هو الربا. قتادة: ما كان المشركون يحرمونه من الأنعام كالبحائر والسوايب والوصيلة والحوامي وهي رواية العوفي عن ابن عباس.
وقال الضحاك: هو ما كان يذبحونه لآلهتهم.
" * (والأولاد) *).
قال بعضهم: هم أولاد الزنا، وهو قول مجاهد والضحاك ورواية عطية عن ابن عباس.
الوالبي عنه: هو ما قبلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام.
الحسن وقتادة: عدو الله شاركهم في أموالهم وأولادهم فمجسوا وهودوا ونصروا وصبغوا غير صبغة الاسلام.
113

أبو صالح عن ابن عباس: مشاركته إياهم في الأولاد وتسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس وعبد فلان.
" * (وعدهم) *) ومنهم الجميل في طاعتك. قال الله " * (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *) باطلا وخديعة لأنه لا يغني عنهم من عذاب الله إذا نزل بهم شيئا كقوله * (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) * * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ربكم الذي يزجي) *) (يسوي ويجري).
" * (لكم الفلك في البحر) *) إلى قوله " * (وإذا مسكم الضر) *) أصابكم (الجهد) * * (في البحر) *) وخفتم الغرق " * (ضل من تدعون إلا إياه) *) إلا دعاؤكم إياه فلم تجدوا ما يكفيكم سواه " * (فلما نجاكم) *) من البحر وأخرجكم " * (إلى البر أعرضتم) *) عن الايمان والطاعة وكفرتم بما جاءكم * (وكان الإنسان كفورا) * * (أفأمنتم) *) بعد ذلك " * (أن يخسف بكم) *) يغيبكم ويذهبكم في " * (جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا) *) حجارة تمطر عليكم من السماء كما أمطر على قوم لوط.
وقال أبو عبيد والقتيبي: الحاصب الذي يرمي بالحصباء، وهي الحصا الصغار.
قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربنا
بحاصب كنديف القطن منثور
" * (ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه) *) في البحر " * (تارة) *) مرة " * (أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح) *) أي قاصفا وهي الريح الشديدة.
قال ابن عباس وقال أبو عبيدة: هي التي تقصف كل شيء أي تدقه وتحطمه وهي التي تقصف الشجر أي تكسره " * (فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) *) ناصرا ولا ثائرا.
واختلف القراء في هذه الآية. فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: نخسف ونرسل ونعيدكم ونغرقكم كلها بالنون لقوله (علينا).
وقرأ الباقون: كلها بالياء لقوله (إياه). إلا أبا جعفر فإنه قرأ (تغرقكم) بالتاء يعني الريح.
" * (ولقد كرمنا بني آدم) *) ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله " * (ولقد كرمنا بني آدم) *) قال: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم يأكل بيديه، وعنه أيضا بالعقل.
الضحاك: بالنطق وثم التمييز.
114

عطاء: تعديل العامة وإمتدادها، يمان: بحسن الصورة.
محمد بن كعب: بأن جعل محمدا منهم، وقيل: الرجال باللحي والنساء بالذواب.
محمد بن جرير: بتسليطهم على غيرهم من الخلق وتسخير سائر الخلق لهم.
" * (وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات) *) يعني لذيذ المطاعم والمشارب.
مقاتل: السمن والزبد والتمر والحلاوي وجعل رزق غيرهم مالا يخفى عليكم.
" * (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) *).
قال قوم: قوله: (كثير ممن خلقنا) استثناء للملائكة.
قال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم غير طائفة من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم.
وقال الآخرون: المراد به جميع من خلقنا فالعرب قد تضع الأكبر والكثير في موضع الجمع والكل، كقول الله عز وجل " * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) *) والمراد به جميع الشياطين.
معمر عن زيد بن أسلم، في قوله تعالى " * (ولقد كرمنا بني آدم) *) قال: قالت: الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة، فقال: وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت له كن فيكون.
حماد بن سلمة عن أبي المهرم قال: سمعت أبا هريرة يقول: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده.
" * (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) *) قال مجاهد وقتادة: بنبيهم، يدل عليه ما روى السدي عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " * (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) *) قال: بنبيهم.
وقال أبو صالح وأبو نضر والضحاك وابن زيد: بكتابهم الذي أنزل عليهم وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد وعن علي بن الحسين بن علي المرتضى (عليهم السلام) عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ندعو كل أناس بإمامهم قال: (يوتى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم).
أبو العالية والحسن: بأعمالهم، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في سياق الآية " * (فمن أوتي
115

كتابه بيمينه فأولئك) *) الآية ونظيرها قوله " * (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) *) فسمي الكتاب إماما.
روى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من باب الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب (الريان)).
فقال أبو بكر الصديق (ح): يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما علي من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى من تلك الأبواب كلها أحد؟ قال: (نعم، وأرجو أن تكون منهم).
وتصديق هذا القول أيضا حديث الألوية والرايات.
باذان وسعيد بن جبير عن ابن عباس: بإمامهم الذي دعاهم في الدنيا إلى الضلالة أو الهدي.
علي بن أبي طلحة: بأئمتهم في الخير والشر.
قال الله تعالى " * (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) *) قال: " * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) *)، وقيل: لمعبودهم.
محمد بن كعب: بإمهاتهم.
قالت الحكماء: في ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها: لأجل عيسى (عليه السلام)، والثاني: أخيار الشرف الحسن والحسين (عليهما السلام)، والثالث: لئلا يفضح أولاد الزنا.
" * (فمن أوتى كتابه بيمينه) *) إلى قوله تعالى " * (في هذه أعمى) *) اختلفوا في هذه الإشارة.
فقال قوم: هي راجعة إلى النعم التي عددها الله في هذه الآيات.
عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال: إقرأ ما قبلها " * (ربكم الذي يزجي لكم الفلك) *) إلى قول الله " * (سبيلا) *) فقال ابن عباس: من كان في هذه النعم التي رأى وعاين أعمى فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا.
وقال آخرون: هي راجعة إلى الدنيا يقول من كان في هذه الدنيا أعمى عن قدرة الله وآياته فهو في الآخرة أعمى.
116

وقال أبو بكر الوراق: من كان في هذه الدنيا أعمى عن حجته فهو في الآخرة أعمى عن جنته.
وقال الحسن: من كان في الدنيا ضالا كافرا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا، لأنه لم يتب في الدنيا ففي الآخرة لا تقبل توبته.
واختلف القراء في هذين الحرفين. فأمالها أهل الكوفة وفخمها الآخرون.
وأما أبو عمرو فكان يكسر الأول ويفتح الآخر يعني فهو في الآخرة أشد عمي لقوله: " * (وأضل سبيلا) *) هي اختيار أبي عبيدة.
قال الفراء: حدثني بالشام شيخ من أهل البصرة إنه سمع من العرب تقول: ما أسود شعره.
قال الشاعر:
أما الملوك فأنت اليوم الأمم
لؤما وأبيضهم سربال طباخ
(* (وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينآ إليك لتفترى علينا غيره وإذا لآتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا * وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) *) 2
" * (وإن كادوا ليفتنونك) *) الآية اختلفوا في سبب نزولها.
فقال سعيد بن جبير: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود فمنعته قريش وقالوا: لاندعك حتى تلم بآلهتنا فحدث نفسه وقال: ما علي أن ألم بها والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعونني أستلم الحجر فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
قتادة: ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصباح يكلمونه ويخيرونه ويسودونه ويقارنونه وكان في قولهم أن قالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس وأنت سيدنا فإين سيدنا فمازالوا يكلمونه حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون ثم عصمه الله تعالى من ذلك وأنزل هذه الآية.
مجاهد: مدح آلهتهم وذكرها ففرحوا. ابن (جموح): أتوه وقالوا له: أئت آلهتنا فأمسها فذلك قوله " * (شيئا قليلا) *).
ابن عباس: قدم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال
117

قال: ما هن؟ فقالوا: لا ننحني في الصلاة ولا نكسر أصناما بأيدينا (وتمتعنا باللات) سنة.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاعة للات فإني غير ممتعكم بها).
فهنا قالوا لرسول الله: فإنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا مالم تعطه غيرنا فإن كرهت ذلك وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم مالم تعطنا فقل الله أمرني بذلك، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم ليؤمنوا، فعرف عمر (ح) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لما سألوه فقال: ما لكم آذيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرق الله أكبادكم إن رسول الله لا يدع الأصنام في أرض العرب إما أن تسلموا وإما أن ترجعوا فلا حاجة لنا فيكم.
فأنزل الله تعالى هذه الآية ووعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك.
عطية عنه قالت ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم أجلنا سنة حتى نقبض ما تهدي لآلهتنا فإذا قبضنا التي تهدى لآلهتنا كسرناها وأسلمنا، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤجلهم فأنزل الله تعالى " * (وإن كادوا) *) وقد هموا " * (ليفتنونك) *) ليستزلونك ويصرفونك " * (عن الذي أوحينا إليك لتفتري) *) لتختلف " * (علينا غيره وإذا) *) لو فعلت مادعوك إليه " * (لاتخذوك خليلا) *) أي قالوك وصافوك " * (ولولا أن ثبتناك) *) على الحق بعوننا " * (لقد كدت تركن) *) تميل " * (إليهم شيئا قليلا) *) ولو فعلت ذلك " * (إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) *) المحتضر أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة " * (ثم لا تجد لك علينا نصيرا) *) ناصرا يمنعك من عذابنا.
قال قتادة: فلما نزلت هذه الآيات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم لاتكلني إلى نفسي طرفة عين).
" * (وإن كادوا ليستفزونك) *) ليسخفونك " * (من الأرض ليخرجوك منها) *) الآية.
قال الكلبي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة حسدت اليهود مقامه بالمدينة وكرهوا قربه منهم فأتوا فقالوا: يا محمد أنبي أنت؟ قال: نعم، قالوا: والله لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء وإن أرض الأنبياء الشام، وكأني بها إبراهيم و (الأنبياء): فان كنت نبيا مثلهم فأت الشام وقد علمنا إنما يمنعك الخروج إليها مخافتك الروم وإن الله سيمنعك بها من الروم إن كنت رسوله وهي الأرض المقدسة وإن الأنبياء لا يكونوا بهذا البلد.
فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميال من المدينة وأربعة أميال، وفي بعض الروايات إلى
118

ذي الحليفة، حتى ترتاد ويجتمع عليه أصحابه (وينظر) إليه الناس. فأنزل الله عز وجل " * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض) *) التي كنت بها وهي أرض المدينة.
وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن الحكم: إن اليهود أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقا أنك نبي فالحق بالشام فإنها أرض المحشر والنشر وأرض الأنبياء فصدق رسول الله ما قالوا وقد كان في غزوة تبوك لا يريد بذلك إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آية من سورة بني إسرائيل بعدها ختمت السورة " * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض) *) الآية وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال: فيها خيلك وملكك وفيها مبعثك.
قال مجاهد وقتادة: هم أهل مكة عمدا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ولو فعلوا ذلك لما توطنوا ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى أمره ولقلما لبثوا مع ذلك بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حتى أهلكهم الله يوم بدر.
وهذا التأويل أليق بالآية لأن ما قبلها خبر من أهل مكة ولم يجد لليهود ذكر ولأن هذه السورة مكية.
وقيل: هم الكفار كلهم كادوا أن يستخفوه من أرض العرب بإجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم ولم ينالوا منه ما أملوا من الظفر ولو أخرجوه من أرض العرب لم يميلوا أن يقيموا فيها على كفرهم بل أهلكوا بالعذاب فذلك قوله * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها) * * (وإذا لا يلبثون خلافك) *) أي بعدك وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز وإختاره أبو عبيد.
وقرأ الباقون: خلافك وإختاره أبو حاتم إعتبارا بقوله " * (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله) *) ومعناه أيضا بعدك.
قال الشاعر:
عفت الديار خلافها فكأنما
بسط الشواطب منهن حصيرا
أي بعدها.
" * (إلا قليلا) *) حتى تهلكوا " * (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا) *) أي كسنتنا فيمن أرسلنا
119

قبلك من رسلنا إذا يكذبهم الأمم أهلكناهم بالعذاب ولايعذبهم ما دام فيهم بين أظهرهم فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم عذبناهم " * (ولا تجد لسنتنا تحويلا) *) تبديلا.
(* (أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا * ومن اليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا * وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا * وقل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا * وننزل من القرءان ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا * وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا * قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) *) 2
" * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) *) قال إبراهيم النخعي ومقاتل بن حيان والسدي ويمان وابن زيد: دلوكها غروبها.
قال الشاعر:
هذا مقام قدمي رياح
غدوة حتى هلكت براح
أي غربت الشمس، وبراح اسم للشمس مثل قطام وجذام ورفاش.
ويروى، براح بكسر الباء يعني إن الناظر يضع كفه على حاجبه من شعاعها لينظر ما بقي من غبارها، ويقال ذلك للشمس إذا غاب.
قال ذو الرمة:
مصابيح ليست باللواتي يقودها
نجوم لا بالأفلات الدوالك
ودليل هذا التأويل حديث عبد الله بن مسعود إنه كان إذا غرب الشمس صلى المغرب وأفطر إن كان صائما ويحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة وهي التي قال الله " * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) *).
وقال ابن عمرة وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو العالية وعطاء وقتادة ومجاهد والحسن ومقاتل وجعفر بن محمد وعبيد بن حجر: دلوكها زوالها، وبه قال الشافعي (ح)، يدل عليه حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتاني جبرئيل لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر)
120

وقال أبو برزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس ثم تلا هذه الآية " * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) *).
قال جابر بن عبد الله: دعوت النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثم خرجوا حين زالت الشمس فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس).
وعلى هذا التأويل يكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها، فدلوك الشمس صلاة الظهر والعصر، وغسق الليل صلاتا العشاء، وتصديق هذا التفسير إن جبرئيل (عليه السلام) حين علم رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفيت الصلاة إنما بدأ بصلاة الظهر.
وروى محمد بن عمار عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (جاءني جبرئيل صلى الله عليه وسلم فصلى صلاة الظهر حين زاغت الشمس ثم جاءني
فصلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي المغرب حين غربت الشمس ثم صلى بي العشاء حين غاب الشفق ثم جاءني فصلى بي الصبح حين طلع الفجر، ثم جاءني في الغد فصلى بي الظهر حين كان ظل كل شيء مثله ثم صلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثليه ثم صلى بي المغرب حين غربت الشمس ثم صلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل ثم صلى بي الصبح حين أسفر ثم قال: هذه صلاة النبيين من قبلك فالزمهم).
عطاء بن أبي رياح عن جابر قال: أن جبرئيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة فتقدم جبرئيل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس وآتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع فتقدم جبرئيل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر.
ثم أتاه حين وجبت فصلى المغرب وقد تقدم جبرئيل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى المغرب ثم أتاه حين غاب الشفق فتقدم جبرئيل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العشاء ثم أتاه جبرئيل حين انشق الفجر فتقدم جبرئيل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الغداة ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه فصنع مثل ما صنع بالأمس صلى الظهر. ثم أتاه حين كان ظل الرجل منا مثل شخصية فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصرب ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب متمنيا ثم تمنا ثم قمنا فأتاه فصنع كما صنع بالأمس صلى العشاء. ثم ابتدأ الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة فصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة ثم قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت
121

وعن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبرئيل عند باب الكعبة مرتين فصلى الظهر حين كان الفيء مثل الشراك ثم صلى العصر حين كان كل شيء بقدر ظله ثم صلى المغرب حين أفطر الصائم ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ثم صلى الصبح حين حرم الطعام والشراب على الصائم ثم صلى الظهر في المرة الأخيرة حين كان كل شيء بقدر ظله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل شيء مثليه ثم صلى المغرب للوقت الأول لم يؤخرها ثم صلى العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل ثم صلى الصبح حين أسفره ثم التفت فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، الوقت فيما بين هذين الوقتين).
" * (إلى غسق الليل) *) إقباله بظلامه.
قال ابن عباس: بدو الليل. قتادة: صلاة المغرب.
مجاهد: غروب الشمس. أبو عبيدة: سواده.
ابن قيس الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا
فأشتكيت الهم والأرقا
وقيل: غسق يغسق غسوقا.
" * (وقرآن الفجر) *) أي صلاة الفجر فسمى الصلاة قرآنا لأنها لا تجوز إلا بقرآن، وقيل: يعني قرآن الفجر ما يقرأ به في صلاة الفجر.
وإنتصاب القرآن من وجهين: أحدهما: أنه عطف على الصلاة أي أقم قرآن الفجر، قاله الفراء، وقال أهل البصرة: على (الاغراء) أي وعليك بقرآن الفجر.
وقال بعضهم: اجتماعه وبيانه وحينئذ يكون مجاز أقم الصلاة لدلوك الشمس بقرآن الفجر.
" * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) *) يشهد ملائكة الليل وملائكة النهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار، وفي هذه الآية دليل واضح على تعلق وجوب الصلاة بأول الوقت فاستحباب التغليس بصلاة الفجر.
الزهوي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح)
122

قال: يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا).
" * (ومن الليل فتهجد به) *) أي قم بعد نومك وصل.
قال المفسرون: لا يكون التهجد إلا بعد النوم يقال: تهجد إذا سهر، وهجد إذا نام.
وقال بعض أهل اللغة: يقال تهجد إذا نام وتهجد إذا سهر وهو من الاضداد.
روى حميد بن عبد الرحمن بن عوف: عن رجل من الأنصار إنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وقال: لأنظرن كيف يصلي النبي صلى الله عليه وسلم قال: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ فرفع رأسه إلى السماء فتلا أربع آيات من سورة آل عمران: " * (إن في خلق السماوات والأرض لآيات) *) ثم أهوى بيده إلى القربة وأخذ مسواكا فأستن به ثم توضأ ثم صلى ثم نام ثم استيقظ، فصنع كصنيعه أول مرة، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله تعالى.
" * (نافلة لك) *) قال ابن عباس: خاصة لك، مقاتل بن حيان: كرامة وعطاء لك.
ابن عباس: فريضتك.
وقال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل خاصة وكتبت عليه، ويكون معنى النافلة على هذا القول فريضة فرضها الله عليك فضلا عن الفرائض التي فرضها الله علينا زيادة.
وقال قتادة: تطوعا وفضيلة.
وقال بعض العلماء: كانت صلاة الليل فرضها عليه في الابتداء ثم رخص له في تركها فصارت نافلة.
وقال مجاهد: والنافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة من أجل أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهو نافلة لك من أجل أنه لا يعمل ذلك كفارة لذنوبهم، فهي نوافل له وزيادة للناس يعملون ويصلون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها فليست للناس نوافل.
" * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *).
قال أهل التأويل: عسى ولعل من الله جزاء لأنه لا يدع أن يفعل لعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على طاعاتهم لأنه ليس من صفته الغرور، ولو أن رجلا قال لآخر: اهدني والزمني لعلي أن أنفعك فلزمه ولم ينفعه مع إطماعه فيه ووعده لكان عارا له وتعالى الله عن ذلك، وأما المقام المحمود فالمقام الذي يشفع فيه لأمته يحمده فيه الأولون والآخرون.
123

عاصم بن أبي النجود عن زيد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله ثم قرأ " * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *)).
وعن حذيفة بن اليمان قال: يجمع الناس في صعيد واحد فلا تكلم نفس فتكون أول من يدعو محمدا صلى الله عليه وسلم فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وبك وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت فذلك قوله تعالى " * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *).
قتادة عن مأمون بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم (عليه السلام) فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله عز وجل بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فإشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من هذا المكان فيقول لهم لست هناك، ويذكر ذنبه الذي أصابه فيستحي ربه من ذلك ولكن أئتوا نوحا فإنه أول الرسل بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحا فيقول لست هناك ويذكر خطيئته وسؤاله ربه هلاك قومه فيستحي ولكن أئتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتون إبراهيم (عليه السلام) فيقول: لست هناك ولكن أئتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتون موسى (عليه السلام) فيقول: لست هناك، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس فيستحي من ذلك فيقول أئتوا عيسى عبد الله ورسوله هو كلمة الله وروحه فيأتون عيسى (عليه السلام) فيقول لست هناك ولكن أئتوا محمدا عبدا غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتونني فأقوم وأمشي بين سماطين من المؤمنين حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول: إرفعك رأسك ثم يقول: قل يسمع وسل تعط واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه الثانية فإذا رأيت ربي وقعت أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم قال: إرفع يا محمد رأسك قل يسمع وسل تعطه وإشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة.
ثم أعود إليه الثالثة فإذا رأيت ربي وقعتا وخررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال إرفع يا محمد رأسك قل تسمع وسل تعطه وإشفع فشفع فأرفع رأسي فأحمده تحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه الرابعة، وأقول يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن.
قال أنس بن مالك: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في
124

قلبه من الخير ما يزن شعيرة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة).
وروى أبو عاصم محمد بن أبي أيوب الثقفي عن يزيد بن صهيب قال: كنت قد شغلني رأي من رأى الخوارج وكنت رجلا شابا، قال: فخرجنا في عصابة ذوي عدد يزيد أن يحج ثم يخرج على الناس فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إلى سارية وإذا هو قد ذكر الجهنميين فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدث والله عز وجل يقول: * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * * (وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) *).
فقال لي: تقرأ القرآن؟ قلت: نعم فقال: فهل سمعت مقام محمد المحمود الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار.
ثم نعت وضع الصراط ومرور الناس عليه قال: وأخاف أن لا أكون حفظت ذلك غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس. قال: فرجعنا وقلنا أيرون كهذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما خرج منا غير رجل واحد.
الزهري عن علي بن حسين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كان يوم القيامة مد الأرض مد الأديم (بالعكاظي) حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه).
قال النبي صلى الله عليه وسلم (فأكون أنا أول من يدعى وجبرئيل عن يمين الرحمن والله ما رآه قبلها، وأقول: يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي فيقول الله تعالى:
صدق، ثم أشفع فأقول يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال: وهو المقام المحمود).
وروى سفيان عن سلمة بن سهيل عن أبي الزعراء قال: قال عبد الله: يكون أول شافع يوم القيامة روح القدس جبرئيل ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعا فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه وهو المقام المحمود.
سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن بالبراق قال لجبرائيل: والذي بعثك بالحق لا يركبني حتى يضمن لي الشفاعة.
125

عبد الله بن إدريس عن عبد الله عن نافع عن ابن عمرو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ " * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *).
قال: يدنيني فيقعدني معه على العرش.
ابن فنجويه: أجلسني معه على سريره.
أبو أسامة عن داود بن يزيد (الأزدي) عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *) قال: (الشفاعة).
عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال: إن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلا وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق على الله ثم قرأ " * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *) قال: يقعده على العرش.
وروى سعيد الجروي عن سيف السدوي عن عبد الله بن سلام قال: إذا كان يوم القيامة يؤتي نبيكم صلى الله عليه وسلم فيقعد بين يدي الرب عز وجل على الكرسي.
وروى ليث عن مجاهد في قوله عز وجل " * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *) قال: يجلسه على العرش.
قال الأستاذ الإمام أبو القاسم الثعلبي: هذا تأويل غير مستحيل لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء قائما بذاته ثم خلق الأشياء من غير حاجة له إليها، بل إظهارا لقدرته وحكمته ليعرف وجوده وحده وكمال علمه وقدرته بظهور أفعاله المتقنة بالحكمة، وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما يشاء من غير أن صار له مما شاء أو كان له العرش مكان بل هو الآن على الصفة التي كان عليها قبل أن خلق المكان والزمان، فعلى هذا القول سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش أو على الأرض لأن استواء الله على العرش ليس بمعنى الاستقبال والزوال أو تحول الأحوال من القيام والقعود أو الحال الذي يشغل العرش، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف، وليس إقعاده محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا إياه من صفة العبودية بل هو رفع لمحله وإظهار لشرفه وتفضيل له على غيره من خلقه، وأما قولهم: في الأخبار معه، فهو شابه قوله تعالى " * (إن الذين عند ربك) *) و " * (رب ابن لي عندك بيتا في الجنة) *) ونحوهما من الآيات، كل ذلك راجع إلى الرتبة والمنزلة لا إلى المكان والجهة والله أعلم.
" * (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) *) قرأه العامة: بضم الميمين على معنى الإدخال والاخراج
126

وقرأ الحسن: بفتحهما على معنى الدخول والخروج.
واختلف المفسرون في تأويلها.
فقال ابن عباس والحسن وقتادة " * (أدخلني مدخل صدق) *) المدينة " * (وأخرجني مخرج صدق) *) من مكة نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة فروى أبو حمزة الثمالي عن جعفر بن محمد عن محمد بن المنكدر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حين دخل الغار " * (رب أدخلني) *) يعني الغار " * (مدخل صدق وأخرجني) *) من الغار " * (مخرج صدق) *) إلى المدينة).
وقال الضحاك: " * (وأخرجني مخرج صدق) *) من مكة آمنا من المشركين " * (أدخلني) *) مكة " * (مدخل صدق) *) ظاهرا عليها بالفتح.
عطية عن ابن عباس " * (أدخلني) *) القبر " * (مدخل صدق) *) عند الموت " * (وأخرجني) *) من القبر " * (مخرج صدق) *) عند البعث.
الكلبي " * (أدخلني) *) المدينة " * (مدخل صدق) *) حين أدخلها بعد أن قصد الشام " * (وأخرجني) *) منها إلى مكة افتحها لي.
مجاهد " * (أدخلني) *) في أمرك الذي أدخلتني به من النبوة " * (مدخل صدق وأخرجني) *) منه " * (مخرج صدق) *).
قتادة عن الحسن: " * (أدخلني مدخل صدق) *) في طاعتك " * (وأخرجني مخرج) *) بالصدق أي سالما غير مقصر فيها.
وقيل: معناه " * (أدخلني) *) حيث ما أدخلتني بالصدق " * (وأخرجني) *) بالصدق أي لتجعلني ممن أدخل بوجه وأخرج بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون أمينا عند الله.
" * (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) *) مجاهد: حجة بينة.
قال الحسن: يعني ملكا قويا ينصرني به على من والاني وعزا ظاهرا أقيم به دينك، قال: فوعده الله تعالى لينزعن ملك فارس والروم وعزتهما فيجعله له.
قتادة: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطانا نصيرا بكتاب الله وحدوده، وفرائضه وإقامة دينه وإن السلطان رحمة من الله جعلها من أظهر عباده لا يقدر بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم.
وقيل: هو فتح مكة
127

وروى موسى بن إسماعيل عن حماد عن الكلبي في قوله " * (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) *) قال: سلطانه النصير.
عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية: استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة (قال له:) انطلق فقد استعملتك على أهل الله يعني مكة فكان شديدا على
(المنافقين) لينا للمؤمنين.
قال: لا والله لا أعلم متخلفا ينطلق عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عنها إلا منافق.
فقال أهل مكة: يا رسول الله تستعمل على آل الله عتاب بن أسيد إعرابيا حافيا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني رأيت فيما يرى النائم، كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقه الباب ففلقها لا شديدا حتى فتح له فدخلها فأعز الله به الاسلام لنصرته المؤمنين على من يريد ظلمهم فذلك السلطان النصير).
" * (وقل جاء الحق) *) يعني أتى " * (وزهق الباطل) *) أي ذهب الشيطان وهلكه، قاله قتادة.
وقال السدي: الحق الاسلام، والباطل الشرك. وقيل: الحق دين الرحمن والباطل الأوثان.
وقال ابن جريح: الحق الجهاد والقتال.
" * (إن الباطل كان زهوقا) *) ذاهبا.
يقال: زهقت نفسه إذا خرجت وزهق السهم إذا جاوز الفرض فإستمر على جهته.
قال ابن مسعود وابن عباس: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثم يقول " * (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) *) بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون، ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلا أسحر من محمد.
" * (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) *) أي بيان من الضلالة والجهالة بين للمؤمن ما يختلف فيه ويشكل عليه، فيشفي به من الشبهة ويهدي به من الحيرة وإذا فعل ذلك رحمه الله، فهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها كما يشفي المريض إذا زالت العلل عنه.
قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه.
128

" * (ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) *) لأنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه.
وقال همام: سمعت قتادة يقول: ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ثم قرأ هذه الآية.
وروت ساكنة بنت الجرود قالت: سمعت رجاء الغنوي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله).
" * (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض) *) عن ذكرنا " * (ونأى بجانبه) *) وتباعدنا بنفسه.
وقال عطاء: تعظم وتكبر.
واختلف القراء في هذا الحديث، فقرأ أبو عمر وعاصم ونافع وحمزة في بعض الروايات عنهم: بفتح النون وكسر الهمزة على الإمالة.
وقرأ الكسائي وخلف وحمزة في سائر الروايات: بكسرهما، اتبعوا الكسرة.
وقرأ أكثرهم: بفتحهما على التفخيم وهي اللغة العالية.
وقرأ أبو جعفر وعامر: بالنون ولها وجهان: أحدهما: مقلوبة من نأي كما يقال رأى وراء، والثاني: إنها من النوء وهو النهوض والقيام ويقال أيضا للوقوع الجلوس نوء وهو من الاضداد.
" * (وإذا مسه الشر) *) الشدة والضر " * (كان يئوسا) *) قنوطا " * (قل) *) يا محمد " * (كل يعمل على شاكلته) *).
قال ابن عباس: على ناحيته. مجاهد: عى حدته.
الحسن وقتادة: على نيته. ابن زيد: على دينه.
مقاتل: على (جدلته). الفراء: على طريقته التي جبل عليها.
أبو عبيدة والقتيبي: على خليقته وطبيعته.
وهو من الشكل، يقال: لست على شكلي وشاكلتي، وقيل: على سبيله الذي اختاره لنفسه، وقيل: على اشتباهه من حولهم، أشكل علي الأمر أي اشتبه، وكل هذه الأقاويل متقاربة.
يقول العرب: طريق ذو شواكل إذا ينشعب الطرق (منه)، ومجاز الآية: كل يعمل ما يشبهه، كما قيل في المثل السائر: كل إمرىء يشبه فعله ما فعل المروء فهو أهله
129

" * (فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) *))
.
* (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا * ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا * قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هاذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا * ولقد صرفنا للناس فى هاذا القرءان
من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا) *) 2
" * (ويسألونك عن الروح) *).
الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو متكيء على عسيب فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لاتسألوه، فقام متكأ على العسيب، قال عبد الله، وأنا خلفه فظنيت أنه يوحي إليه فقال " * (ويسأ لونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) *) * * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) *).
فقال بعضهم لبعض: قلنا لكم لا تسألوه، وفي غير الحديث عن عبد الله، قالوا: فكذلك نجد مثله إن الروح من أمر الله تعالى.
وقال ابن عباس: قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا ما الروح وكيف يعذب الروح في الجسد ولم يكن نزل فيهم شيء؟ فلم يجبهم فأتاه جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية.
ويروى أن اليهود اجتمعوا فقالوا لقريش حين سألوهم عن شأن محمد وحاله سألوا محمدا عن الروح. وعن فتية فقدوا في الزمان الأول، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها، فإن أجاب في ذلك كله فهو بنبي وإن لم يجب من ذلك كله فليس بنبي، وإن أجاب في بعض ذلك وأمسك عن البعض فهو نبي فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها فأنزل الله عز وجل فيما سألوه عن الفتية قوله " * (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم) *) إلى آخر القصة.
وأنزل عن الجواب الذي بلغ شرق الأرض وغربها " * (ويسألونك عن ذي القرنين) *) إلى آخر القصة.
وأنزل في الروح قوله " * (ويسألونك عن الروح قل الروح) *) الآية.
واختلفوا في هذا الروح المسؤول عنه ما هو: فقال الحسن وقتادة: هو جبرئيل.
قال قتادة: وكان ابن عباس يكتمه
130

وروى أبو الميسرة ممن حدثه عن علي بن أبي طالب (ح) أنه قال: في قوله " * (ويسأ لونك عن الروح قل الروح) *) الآية، قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة، يسبح الله عز وجل بتلك اللغات كلها، يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
ابن عباس: الروح خلق من خلق الله صورهم على صور بني آدم، وما نزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح.
أبو صالح: الروح كهيئة الإنسان وليسوا بناس.
مجاهد: الروح على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون الطعام وليسوا بملائكة.
سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن بلغ السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل صورة، خلقه على صورة الملائكة وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، فيقوم يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد لولا أن سندس الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السماوات من نوره.
وقال قوم: هو الروح المركب في الخلق الذي يفقده (فأوهم وبوجوده مقاديم).
وقال بعضهم: أراد بالروح القرآن وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد من أتاك بهذا القرآن، فأنزل الله تعالى بهذه الآية وبين أنه من عنده " * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) *) يعني القرآن " * (ثم لا تجد لك به علينا وكيلا) *) ناصرا ينصرك ويرده عليك.
وقال الحسن: وكيلا ناصرا يمنعك منا إذا أردناك.
" * (إلا رحمة من ربك) *) يعني لكن لا يشاء ربك رحمة من ذلك، " * (إن فضله كان عليك كبيرا) *).
هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو معصوب الرأس من وجع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس ما هذه الكتب التي يكتبون الكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقا إلا قليلا إلا أخذ منه).
قالوا: يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ؟ قال: (من أراد الله به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله).
وروى شداد بن معقل عن عبد الله بن مسعود قال: إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة
131

وآخر ما تفقدون الصلاة والمصلين قوم لا دين لهم، وإن هذا القرآن تصبحون يوما وما معكم منه شيء، فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة.
قال: يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحب ما في القلوب (فتصبح الناس كالبهائم) ثم قرأ عبد الله " * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) *) الآية.
وروى موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ناجية بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عبد الله قال: إكثروا الطواف بالبيت قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع؟ قالوا: هذه المصاحف يرفع فكيف بما في صدور الرجال.
قال: يسري عليه ليلا يصبحون منه فقراء (وينسون) قول لا إله إلا الله فيتبعون في قول أهل الجاهلية وإشعارهم فذلك حين يقع عليهم القول.
وعن عبد الله بن عمرو قال: لا يقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل له دوي كدوي النحل فيقول الله تعالى: ما بالك، فيقول: منك خرجت وإليك أعود اتلى ولا يعمل في.
" * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) *) لا يقدرون على ذلك.
قال السدي: لا يأتون بمثله لأنه غير مخلوق ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله.
" * (ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) *) عونا.
نزلت هذه الآية حين قال الكفار: لو شئنا لقلنا مثل هذا فأكذبهم الله تعالى " * (ولقد صرفنا للناس) *) إلى قوله " * (إلا كفورا) *) جحودا.
(* (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السمآء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى فى السمآء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرءه قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان فى الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السمآء ملكا رسولا * قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا * ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أوليآء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما
132

وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا * ذلك جزآؤهم بأنهم كفروا بئاياتنا وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا * أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والارض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا * قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا) *) 2
" * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) *).
عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري بن هشام، والأسود بن المطلب وزمعة ابن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة.
فقال بعضهم لبعض: إبعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعث إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا وهو (يظن بأنه) بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم.
فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعنت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا (وبينك)، وإن كنت إنما جئت بهذا الحدث تطلب به مالا حظنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك به رأي قد غلب عليك فكانوا يسمون من الجن من يأتي الإنسان بالخير والشر فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مابي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم أطلب به أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فأن تقبلوا مني ما جئتكم فهو حظكم في الدنيا والآخرة وأن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم).
فقالوا: يا محمد وإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت إنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق
133

وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن ممن يبعث لنا فيهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم).
قالوا: فإن لم تفعل هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك وسله فيجعل لك تيجان وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك فإذن نراك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما أنا بفاعل) ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا).
قالوا: فأسقط السماء (علينا كسفا) كما زعمت أن ربك (إن) شاء فعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك).
قالوا: قد بلغنا إنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائل منهم " * (لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا) *).
فلما قالوا ذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن محروم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال له: يا محمد عرض عليك ماعرضوا فلم تقبل منهم ثم سألوك لأنفسهم أمرا فليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أومن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة مصورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت ألا أصدقك، ثم انصرف وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: أبو جهل، حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش إن محمد قد أتى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آلهتنا وسفه أحلامنا وسب آباءنا فإني أعاهد الله لأجلسن له عند الحجر قدر ما أطيق حمله وإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه
134

وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا لما فاته من متابعة قومه ولما رأى من مباعدتهم فأنزل الله تعالى " * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر) *).
قال أهل الكوفة: (تفجر) خفيفة بفتح التاء وضم الجيم، وإختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد.
(قرأ) الباقون بالتشديد على التفعيل، وإختاره أبو عبيد ولم يختلفوا في الثانية أنها مشددة لأجل الأنهار لأنها جمع، والتشديد يدل على التكثير من الأرض يعني أرض مكة ينبوعا يعني عيونا هو مفعول من نبع الماء.
" * (أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها) *) وسطها " * (تفجيرا) *) (رقيقا) * * (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) *) قرأ أكثر قراء العراق: بسكون السين أي قطعة أجمع كسفه وهو جمع الكثير، مثل تمرة وتمر وسدرة وسدر.
تقول العرب: أعطني كسفة من هذا الثوب أي قطعة، ويقال: منه جاءنا ببريد كسف أي قطع خبز، وقيل: أراد جاثيا.
وفتح الباقون السين، وهو القطع أيضا جمع القليل للكسفة.
" * (أو تأتي بالله والملائكة قبيلا) *).
قال ابن عباس: كفيلا. الضحاك: ضامنا. مقاتل: شهيدا.
مجاهد: جمع القبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة.
قتادة: عيانا. الفراء: هو من قول العرب: لقيت فلانا قبلا وقبلا أي معاينة.
" * (أو يكون لك بيت من زخرف) *) من ذهب وأصله الزينة.
مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتى رأيته في قراءة ابن مسعود: بيت من ذهب.
" * (أو ترقى) *) تصعد " * (في السماء ولن نؤمن لرقيك) *) أي من أجل رقيك صعودك " * (حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) *) أمرنا فيه بإتباعك " * (قل) *) يا محمد " * (سبحان ربي) *).
وقرأ أهل مكة والشام: " * (قال سبحان ربي) *) يعني محمد صلى الله عليه وسلم " * (هل كنت إلا بشرا رسولا) *) وليس ما سألتم في طوق البشر ولا قدرة الرسل " * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث) *) جهلا منهم " * (أبعث الله بشرا رسولا) *) وإن الأولى في محل النصب والثانية في
135

محل الرفع وفي الآية اختصار فتأويلها هلا بعث الله ملكا رسولا فأجابهم الله تعالى " * (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين) *) مستوطنين مقيمين " * (لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) *) لأن الملائكة إنما تبعث إلى الملائكة ويراهم الملائكة " * (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) *) إنه رسوله إليكم " * (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) *) إلى قوله " * (أولياء من دونه) *) دونهم " * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم) *).
شيبان عن قتادة عن أنس: إن رجلا قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم (إن الذي أمشاه على رجاله قادر أن يمشيه على وجهه (في النار)).
وروى حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة وصنفا ركبان وصنفا يمشون على وجوههم).
قيل: يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: (إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك).
" * (عميا وبكما وصما) *) إن قيل: وكيف وصف الله عز وجل هؤلاء يأتيهم يوم القيامة عمي وصم وبكم، وقال تعالى " * (ورأى المجرمون النار) *) فقال: " * (سمعوا لها تغيظا وزفيرا) *) وقال " * (دعوا هنالك ثبورا) *) والجواب عنه ما قال ابن عباس: عميا لا يرون شيئا يسرهم، بكما لا ينطقون بحجة، صما لا يسمعون شيئا يسرهم.
وقال الحسن: هذا حين (جاءتهم) الملائكة وحين يساقون إلى الموقف عمي العيون وزرقها سود الوجوه إلى أن يدخلوا النار.
مقاتل: هذا حين يقال لهم: إخسؤا فيها ولا تكلمون، فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك.
وقيل: عميا لا يبصرون الهدى، وبكما لا ينطقون بخير، وصما لا يسمعون الحق.
" * (مأواهم جهنم كلما خبت) *) قال ابن عباس: (سكنت) مجاهد: (طفيت) قتادة: لانت وضعفت.
" * (زدناهم سعيرا) *) وقودا " * (ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا
136

لمبعوثون خلقا جديدا) *) فأجابهم الله تعالى " * (أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض) *) في عظمها و شدتها وكثرة أجزائها وقوتها " * (قادر على أن يخلق مثلهم) *) في صغرهم وضعفهم نظيره قوله " * (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) *) وقوله " * (أأنتم أشد خلقا أم السماء) *).
" * (وجعل لهم أجلا) *) أي وقتا لعذابهم وهلاكهم " * (لا ريب فيه) *) إنه إليهم، وقيل: إن هذا جواب لقولهم أو يسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، وقيل: هو يوم القيامة، وقيل: هو الموت الذي يعاينونه " * (فأبى الظالمون) *) الكافرون " * (إلا كفورا) *) جحودا " * (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي) *) أي أملاك ربي وأمواله وأراد بالرحمة هاهنا الرزق " * (إذا لأمسكتم) *) لبخلتم وحبستم " * (خشية الإنفاق) *) أي الفاقة، " * (وكان الإنسان قتورا) *) أي بخيلا ممسكا ضيقا.
(* (ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات فاسأل بنى إسراءيل إذ جآءهم فقال له فرعون إنى لأظنك ياموسى مسحورا * قال لقد علمت مآ أنزل هاؤلاء إلا رب السماوات والارض بصآئر وإنى لأظنك يافرعون مثبورا * فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقناه ومن معه جميعا * وقلنا من بعده لبنى إسراءيل اسكنوا الارض فإذا جآء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا * وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا * وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا * قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنآ إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا * قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الاسمآء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذالك سبيلا * وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا) *) 2
" * (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) *) قال ابن عباس والضحاك: هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
وقال: عكرمة: مطر، الوراق وقتادة ومجاهد والشعبي وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الثمرات.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن الآيات التسع، فقلت: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات وعصا موسى ويده والطمس والبحر.
فقال عمر: وأنا أعرف إن الطمس إحداهن.
137

قال محمد بن كعب: إن رجل منهم كان مع أهله في فراشه وقد صار حجرين، وإن المرأة منهم لقائمة تختبز وقد صارت حجرا، وإن المرأة منهم لفي الحمام وإنها تصير حجرا.
فقال عمر: كيف يكون الفقه إلا هكذا ثم دعا بخريطة فيها أشياء مما كانت اصيبت لعبد العزيز بن مروان بمصر حين كان عليها من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة مشقوقة (قطعا) وإنها لحجر وأخرج الجوزة مشقوقة وإنها لحجر وإخرج أشباه ذلك من الفواكة وإنها لحجارة، وأخرج دراهم ودنانير وفلوسا وإنها لحجارة. فعلى هذا القول يكون الآيات بمعنى الدلالات والمعجزات.
وقال بعضهم: هي بمعنى آيات الكتاب.
روى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن غسان المرادي: إن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي، فقال الآخر: لا تقل نبي لأنه لو سمع صارت له أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية " * (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) *).
فقال صلى الله عليه وسلم (لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبرىء إلى سلطان ليقتله ولا تسرقوا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة في اليهود أن لا يتعدوا في السبت).
فقبلوا يده (ورجله) وقالوا: نشهد أنك نبي، قال: (فما يمنعكم أن تتبعوني؟) قالوا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك تقتلنا اليهود.
" * (فسأل بني إسرائيل إذ جاءهم) *) موسى (عليه السلام)، وهو قراءة العامة، وروى حنظلة السدوسي عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأ " * (فسأل بني إسرائيل إذ جاءهم) *) على الخبر وقال: سأل موسى فرعون أن يخلي سبيل بني إسرائيل ويرسلهم معه.
فقال له فرعون: " * (إني لأظنك يا موسى مسحورا) *) أي قد سحروك، قاله الكلبي، وقال ابن عباس: مخدوعا، وقال محمد بن جرير: يعطي علم السحر فهذه العجائب التي يفعلها من سحرك، وقال الفراء وأبو عبيد: ساحرا فوضع المفعول موضع الفاعل، كما يقال: هو مشؤوم وميمون أي شائم ويامن، وقيل: معناه: وإني لأعلمك يا موسى بشرا ذا سحر، أي له رئة.
قال موسى: " * (لقد علمت) *) قراءة العامة بفتح التاء خطابا لفرعون، وقرأ الكسائي بضم التاء وهي قراءة علي
138

روى شعبة عن أبي إسحاق عن رجل من مراد عن علي بن أبي طالب (ح) أنه قرأها: لقد علمت برفع التاء وقال: والله ما علم عدوا لله ولكن موسى هو الذي علم، قال: فبلغت ابن عباس فقال: إنها لقد علمت تصديقا لقوله: " * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) *).
قال أبو عبيد: والمأخوذ عندنا نصب التاء، وهو أصح من المعنى الذي احتج به ابن عباس، ولأن موسى (عليه السلام) لا يحتج بأن يقول علمت أنا وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كله تصح تلك القراءة (عن علي) لكانت حجة، ولكنها ليست تثبت عنه إنما هي عن رجل مجهول، ولا نعلم أحدا من القراء تمسك بها غير الكسائي، والرجل المرادي الذي روى عنه أبو إسحاق هو كلثوم المرادي.
" * (ما أنزل هؤلاء) *) الآيات التسع " * (إلا رب السماوات والأرض بصائر) *) جمع بصيرة " * (وإني لأظنك يا فرعون مثبورا) *) قال ابن عباس: يعني ملعونا، مجاهد: هالكا، قتادة: مهلكا.
وروى عيسى بن موسى عن عطية العوفي في قوله: " * (إني لأظنك يا فرعون مثبورا) *) قال: مبدلا، ابن زيد: مخبولا، لا عقل لك، مقاتل: مغلوبا، ابن كيسان: بعيدا عن الخيرات، وروى سفيان بن حصين عن الحسن في قوله: " * (وإني لأظنك يا فرعون مثبورا) *) قال (سلاحا) في القطيفة.
قال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له فألقى موسى عصاه فرأى فرعون جانبي البيت بين (فقميها)، ففزع فرعون وأحدث في قطيفته.
وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: كنت قائما على رأس المأمون وهو يناظر رجلا فسمعته يقول: يا مثبور، ثم أقبل علي فقال: يا إبراهيم ما معنى: يا مثبور؟ قلت: لا أدري، فقال: حدثني الرشيد قال: حدثني أمير المؤمنين المنصور فسمعته يقول لرجل يا مثبور، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما معنى مثبور؟ قال: قال ميمون بن مهران قال ابن عباس في قوله: " * (وإني لأظنك يا فرعون مثبورا) *) قال: ناقص العقل، قال الفراء: يعني مصروفا ممنوعا من الخير، والعرب تقول: ما ثبرك عن هذا الحق؟ أي ما منعك عنه وصرفك، وثبره الله يثبره ومثبره وهو لغتان، وقال ابن الزهري: الغليظ الأرب إذا بارى الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور.
" * (فأراد) *) فرعون " * (أن يستفزهم) *) يعني يخرجهم، أي بني إسرائيل " * (من الأرض) *) أي أرض مصر والشام.
139

" * (فأغرقناه ومن معه جميعا) *) ونجينا موسى وقومه " * (وقلنا) *) * * (لهم من بعده) *) أي من بعد هلاك فرعون وقومه " * (لبني إسرائيل اسكنوا الأرض) *) يعني مصر والشام " * (فإذا جاء وعد الآخرة) *) وهي الساعة " * (جئنا بكم) *) من قبوركم إلى موقف القيامة " * (لفيفا) *) مختلطين وقد التف بعضكم ببعض لا تتعارفون ولا ينحاز (أحدكم) إلى قبيلته وحيه، وهو من قول الجيوش إذا اختلطوا، وكل شيء اختلط بشيء تعطف به والتف.
وقال مجاهد والضحاك: (لفيفا) أي جميعا، ووحد اللفيف وهو خبر عن الجمع لأنه بمعنى المصدر كقول القائل: لففته لفا ولفيفا.
وقال الكلبي " * (فإذا جاء وعد الآخرة) *) يعني مجيء عيسى ابن مريم من السماء جئنا بكم لفيفا وقال البزار: من ههنا وههنا، يقول: جميعا.
وهذه القصة تعزية لنبينا صلى الله عليه وسلم وتقوية لقلبه، يقول الله تعالى: " * (كما أنزلت عليك القرآن) *) فكذبك كفار قومك من مكة كذلك آتيت موسى التوراة فكذبه فرعون وقومه، وكما أراد أهل مكة أن يستفزوك منها، كذلك أراد فرعون أن يستفز موسى وبني إسرائيل من مصر، فأنجيناهم منهم وأظفرتهم عليهم، وكذلك أظفرتك على أعدائك، وأتم نعمتي عليك وعلى من اتبعك نصرة للدين ولو كره الكافرون، فأنجز الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وله الحمد والمنة.
" * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) *) يعني القرآن " * (وما أرسلناك) *) يا محمد " * (إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه) *) أي وأنزلناه قرآنا ففصلناه.
قرأ ابن عباس: فرقناه بالتشديد وقال: لأنه لم ينزل مرة واحدة وانما أنزل (نجوما) في عشرين سنة، وتصديقه قراءة أبي بن كعب وقرآنا فرقناه عليك، وقرأ الباقون بالتخفيف كقوله " * (فيها يفرق كل أمر حكيم) *).
قال ابن عباس فصلناه، قال الحسن: فرق الله به بين الحق والباطل، وقرأ الآخرون: بيناه.
" * (لتقرأه على الناس على مكث) *) أي تؤدة ومهل في ثلاث وعشرين سنة " * (ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أولا تؤمنوا) *) أمر وعد وتهديد " * (إن الذين أوتوا العلم من قبل) *) أي من قبل نزول القرآن وخروج محمد صلى الله عليه وسلم وهم مؤمنو أهل الكتاب " * (إذا تتلى عليهم) *) يعني القرآن " * (يخرون) *) يسقطون " * (للأذقان) *) على الأذقان وهي جمع الذقن وهو مجتمع اللحيين، قال ابن عباس أراد الوجوه " * (سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا) *) قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " * (خروا سجدا وقالوا سبحان ربنا) *) ان كان أي وقد كان وعد ربنا لمفعولا " * (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم) *) نزول القرآن " * (خشوعا) *) وخضوعا وتواضعا لربهم
140

قال عبد الأعلى التيمي: من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه، وتلا هذه الآية، نظيرها قوله: * (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) * * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان) *) الآية، قال ابن عباس: تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: يا الله يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون: كان محمد يدعو إلها واحدا فهو الآن يدعوا إلهين اثنين الله والرحمن، والله ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
قال ميمون بن مهران: كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه يكتب: باسمك اللهم حتى نزلت هذه الآية: " * (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم) *) فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الضحاك: قال أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فأنزل الله تعالى: " * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان) *) الآية.
" * (أيا ما تدعوا) *) من هذين الاسمين ومن جميع أسمائه " * (فله الأسماء الحسنى) *) (.......) مجازه: أيا تدعوا، كقوله: * (عما قليل) * * (وجند ما هنالك) *).
" * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) *) قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن تلا به كما حكاه القرآن: " * (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) *) ربما صفروا ليغلطوا النبي صلى الله عليه وسلم ويخلطوا عليه قراءته فأنزل الله تعالى " * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) *) أي في الصلاة فيسمع المشركون فيؤذوك، ولا تخافت بها فلا يسمع أصحابك حتى يأخذوا عنك.
وقال سعيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام، فقالت قريش: لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا فنهجو ربك، وقال مقاتل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في دار أبي سفيان بن حرب عند الصفا، يجهر بقرائته فمر به أبو جهل فقال: لا تفتر على الله، فجعل يخفت
141

صوته، فقال أبو جهل للمشركين: ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة، رددته عن قراءته فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى (علقمة) عن ابن سيرين في هذه الآية قال: كان أبو بكر (ح) يخافت بالقراءة في الصلاة ويقول: أناجي ربي، وقد علم بحاجتي، وكان عمر بن الخطاب يرفع صوته ويقول: أزجر الشيطان وأوقظ المنان، فأمر أبو بكر حين نزلت هذه الآية أن يرفع صوته شيئا، وأمر عمر أن يخفض شيئا.
وقالت عائشة رضي (ح): نزلت هذه الآية في التشهد، كان الأعرابي يجهر فيقول: التحيات لله والصلوات ويرفع بها صوته، فنزلت هذه الآية، وقال الحسن: (لا تراء) بصلاتك في العلانية ولا (تسئها) في السر.
الوالبي عن ابن عباس: لا تصل مرائيا الناس، ولا تدعها مخافة الناس، ابن زيد: كان أهل الكتاب يخافتون في الصلاة، لم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح ويصيح من وراءه، فنهاه الله أن يصيح كما يصيحون، وخافت كما يخافتون، والسبيل الذي بين ذلك الذي بين له جبرئيل في الصلاة.
وقال: علي والنخعي ومجاهد وابن مكحول: هي في الدعاء، (وبه قال أشعث عن) عطية عن ابن عباس، وقال عبد الله بن شداد: كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (اللهم ارزقنا)، فقال لهم: أتجهرون؟ فأنزل الله هذه الآية.
ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن دراج أبي السمح أن شيخا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه أن رسول الله قال في هذه الآية: (إنما أنزلت في الدعاء، يقول: لا ترفع صوتك في الدعاء عند استغفارك واذكر ذنوبك فيسمع منك فتعبر بها وتخافت في الصوت والسكون)، ومنه يقال للميت إذا برد خفت.
" * (وابتغ بين ذلك) *) أي بين الجهر والإخفات " * (سبيلا وقال الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) *) قال الحسين بن الفضل: يعني الذي عرفني أنه لم يتخذ ولدا " * (ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل) *) قال مجاهد: لم يذل فيحتاج إلى ولي يتعزز به.
" * (وكبره تكبيرا) *) وعظمه أن يكون له شريك أو ولي، قال عمر بن الخطاب ح: قول العبد: (الله أكبر) خير من الدنيا وما فيها.
142

وروى سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (آية العز " * (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) *)) إلى آخره.
وروى سفيان بن وكيع عن سفيان بن عيينة عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية سبع مرات.
وروى محمد بن سلمة عن عبد الحميد بن واصل قال: من قرأ آخر بني إسرائيل كتب الله له من الأجر ملء السماوات والأرض؛ لأن الله يقول فيمن زعم أن له ولدا " * (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمان ولدا) *) قال: فيكتب له من الأجر على قدر ذلك.
143

((سورة الكهف))
مكية
في فضلها.
وهي سبعة آلاف وثلاثمئة وستون حرفا، وألف وخمسمئة وسبع وسبعون كلمة، ومئة وعشر آيات. روى مطرف جندب عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الدجال، ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة).
وروى إسماعيل بن رافع عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك حين نزلت ملأ فضلها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك)؟. قالوا بلى يا رسول الله. قال: (سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ولياليها مثل ذلك، وأعطي نورا يبلغ به السماء ووقي فتنة الدجال).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لائبآئهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا * فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا * إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) *) 2
" * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) *): الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما مستقيما. قال ابن عباس: عدلا. الفراء: قيما على الكتب كلها ناسخا لشرائعها. " * (ولم يجعل له
144

عوجا) *): مختلفا " * (لينذر بأسا شديدا) *) أي لتنذركم بأسا شديدا " * (من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا) *) وهي الجنة.
" * (ماكثين) *): مقيمين " * (فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة) *) نصب على التمييز والقطع، تقديره: كبرت الكلمة كلمة، " * (تخرج من أفواههم إن يقولون) *): ما يقولون " * (إلا كذبا) *).
" * (فلعلك باخع نفسك) *): قاتل نفسك " * (على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث) *): القرآن " * (أسفا) *): حزنا وجزعا وغضبا.
" * (إنا جعلنا ما على الأرض) *) من كل شيء " * (زينة لها) *)، قال الضحاك من الزاكية خاصة زينة لها " * (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) *) أي أزهد فيها.
" * (وإنا جاعلون ما عليها صعيدا) *): مستويا " * (جرزا) *): يابسا أملس لا تنبت شيئا.
(* (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من ءاياتنا عجبا * إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنآ ءاتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا * فضربنا علىءاذانهم فى الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا * نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية ءامنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والارض لن ندعوا من دونه إلاها لقد قلنا إذا شططا * هاؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا * وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيىء لكم من أمركم مرفقا) *) 2
" * (أم حسبت) *)، معناه: بل أم حسبت، يعني: أظننت يا محمد " * (أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) *)؟ يعني: ليسوا أعجب آياتنا؛ فإن ما خلقت من السماوات والأرض وما فيهن من العجائب أغرب منهم. والكهف هو الغار في الجبل. واختلفوا في الرقيم، فقال فيه ما روى ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن ثلاثة نفر خرجوا يرتادون لأهلهم، بينا هم يمشون إذ أصابتهم السماء، فأووا إلى كهف فسقطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف فانقفل عليهم، فقال قائل منهم: اذكروا أيكم عمل حسنة لعل الله برحمته يرحمنا
145

فقال رجل منهم: قد عملت حسنة مرة، كان لي أجراء يعملون عملا استأجرت كل رجل منهم بأجر معلوم، فجاءني رجل ذات يوم وسط النهار فاستأجرته بشرط أصحابه، فعمل في بقية نهاره كما عمل الرجل منهم في نهاره كله، فرأيت علي في الذمام ألا أنقصه مما استأجرت به أصحابه، لما جهد في عمله، فقال رجل منهم: أتعطي هذا ما أعطيتني ولا يعمل إلا نصف النهار؟ قلت: يا عبد الله لم أبخسك شيئا من شرطك، وإنما هو مالي أحكم فيه ما شئت.
قال: فغضب وذهب وترك أجره، فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله، ثم نزل بي بعد ذلك بقر فاشتريت به فصيلة من البقر، فبلغت ما شاء الله، فمر بي بعد حين شيخ ضعيف لا أعرفه، فقال لي: إن لي عندك حقا. فذكره حتى عرفته، قلت: إياك أبغي وهذا حقك. فعرضتها عليه جميعا فقال: يا عبد الله، لا تسخر بي إن لم تتصدق علي فأعطني حقي. قلت: والله لا أسخر، إنها لحقك ما لي فيه شيء، فدفعتها إليه. اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا. فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء فأبصروا.
وقال الآخر: قد عملت حسنة مرة، كانت لي فضل، وأصاب الناس شدة، فجاءتني امرأة تطلب مني معروفا، فقلت: والله ما هو دون نفسك. فأبت علي، وذهبت ورجعت ثلاث مرات وقلت: لا والله ما هو دون نفسك.
فأبت علي وذهبت، وذكرت لزوجها، فقال لها: أعطيه نفسك وأغيثي عيالك. فرجعت إلي ونشدتني بالله، فأبيت عليها وقلت: والله ما هو دون نفسك. فلما رأت ذلك أسلمت إلى نفسها، فلما تكشفتها وهممت بها ارتعدت من تحتي، فقلت لها: ما شأنك؟ قالت: أخاف الله رب العالمين. فقلت لها: خفته في الشدة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ما يحق على بما تكشفتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا. فانصدع حتى تعارفوا وتبين لهم.
وقال الآخر: قد عملت حسنة مرة، كان لي أبوان شيخان كبيران، وكان لي غنم، فكنت أطعم أبوى وأسقيهما ثم أرجع إلى أهلي. قال: فأصابني يوما غيث حبسني حتى أمسيت فأتيت أهلي فأخذت محلبي وحلبت غنمي وتركتها قائمة فمضيت إليهما، فوجدتهما ناما، فشق علي أن أوقضهما، وشق علي أن أترك غنمي فما برحت جالسا ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما. اللهم إن فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا).
قال النعمان لكأني أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الجبل طاق، ففرج الله عنهم وخرجوا).
وقال ابن عباس: الرقيم واد بين غطفان وأيلة، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف.
146

وقال كعب هي قريتهم. وهو على هذا التأويل من رقمة الوادي وهو موضع الماء منه، تقول العرب: عليك بالرقمة، ودع الضفة. والضفتان: جانبا الوادي. وقال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حديد، وقيل: من رصاص، كتبوا فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم، ثم وضعوه على باب الكهف. وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم، أي المكتوب. والرقم: الخط والعلامة، والرقم: الكتابة.
ثم ذكر قصتهم فقال: " * (إذ أوى الفتية إلى الكهف) *)، أي رجعوا وصاروا. واختلفوا في مسيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق بن يسار: مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح ابن مريم (عليه السلام)، متمسكين بعبادة الله عز
وجل وتوحيده. وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين المسيح. وكان ينزل بقرى الروم فلا يترك في قرية ينزلها أحدا إلا فتنه حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف وهي أفسوس، فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه. وكان دقيانوس قد أمر حين قدمها أن يتتبع أهل الإيمان، فيجمعوا له، واتخذ شرطا من الكفار من أهلها، فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان في مساكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت، فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأصنام والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل.
فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان بالله عز وجل، جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقتلون ويقطعون ثم يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها كلها وعلى كل باب من أبوابها، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان فمنهم من أقر فترك ومنهم من صلب على دينه فقتل.
فلما رأى الفتية ذلك حزنوا حزنا شديدا، فقاموا وصلوا وصاموا واشتغلوا بالدعاء والتسبيح لله عز وجل، وكانوا من أشراف الروم، وكانوا ثمانية نفر، فبكوا وتضرعوا وجعلوا يقولون: " * (ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا) *)، اكشف عن عبادك هذه الفتنة، وارفع عنهم البلاء، وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك حتى يعلنوا عبادتك. فبينا هم على ذلك إذ أدركهم الشرط، وكانوا قد دخلوا في مصلى لهم فوجدوهم سجودا على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفئته. فلما رآهم أولئك الكفرة قالوا لهم: ما خلفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه. ثم خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس، فقالوا: نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون منك ويعصون أمرك؟
147

فلما سمع ذلك أتي بهم تفيض أعينهم من الدمع، معفرة وجوههم في التراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا لذبح الآلهة التي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم؟ اختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح الناس وإما أن أقتلكم. فقال مكسلمينا وكان أكبرهم: إن لنا إلها ملأ السماوات والأرض عظمته، لن ندعو من دونه إلها أبدا، ولن نقر بهذا الذي تدعونا إليه أبدا، ولكنا نعبد الله ربنا، وله الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا، إياه نعبد، وإياه نسأل النجاة والخير فأما الطواغيت وعبادتها، فلن نعبدها أبدا، فاصنع بنا ما بدا لك. ثم قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له، فلما قالوا ذلك أمرهم فنزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم، ثم قال: أما إذا فعلتم فإني سأؤخركم، وسأفرغ لكم فأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن اعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شبابا، حديثة أسنانكم، ولا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تذكرون فيه، وتراجعون عقولكم.
ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت منهم، ثم أمر بهم حتى أخرجوا من عنده، وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي كانوا بها قريبا منهم لبعض أموره، فلما رأى الفتية أن دقيانوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم، فائتمروا بينهم أن يأخذ كل رجل نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا بها ويتزودوا مما بقي، ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس فيمكثون فيه، ويعبدون الله عز وجل، حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء.
فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه وأخذ نفقة فتصدقوا بها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، وأتبعهم كلب كان لهم، حتى إذا أتوا ذلك الكهف الذي في ذلك الجبل تلبثوا فيه.
وقال كعب الأحبار: مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني؟ لا تخشون إجابتي. أنا أحب أحباء الله، فناموا حتى أحرسكم.
وقال ابن عباس: هربوا ليلا من دقيانوس بن جلانوس حيث دعاهم إلى عبادة الأصنام، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب، وكان على دينهم، فخرجوا من البلد فأووا إلى الكهف، وهو قريب من البلدة، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والتسبيح والتكبير والتحميد ابتغاء وجه الله تعالى، فجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له تمليخا، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا، وكان من أجملهم وأجلدهم. وكان تمليخا يصنع ذلك، فإذا دخل البلد يضع ثيابا كانت عليه حسانا، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها، ثم يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري طعاما وشرابا ويسمع ويتجسس لهم الخبر: هل ذكروا أصحابه بشيء؟ ثم يرجع إلى أصحابه.
148

فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثم قدم دقيانوس الجبار إلى المدينة فأمر العظماء فذبحوا للطواغيت، ففزع من ذلك أهل الإيمان، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أن الجبار دقيانوس قد دخل المدينة، وأنهم ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ليذبحوا للطواغيت. فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجودا يدعون الله عز وجل ويتضرعون ويتعوذون به من الفتنة.
ثم إن تمليخا قال لهم: ارفعوا رؤوسكم فاطعموا من رزق الله وتوكلوا على بارئكم. فرفعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا وخوفا على أنفسهم، فطعموا منه وذلك مع غروب الشمس. ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضا، فبينا هم على ذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابه ما أصابهم، وهم مؤمنون موقنون، ونفقتهم عند رؤوسهم. فلما كان من الغد تفقدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم، فقال لبعضهم: لقد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا ظنوني غضبا عليهم بجهلهم ما جهلوا من أمري، ما كنت لأحمل عليهم في نفسي ولا لواحد منهم إن تابوا وعبدوا آلهتي فقال له عظماء المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم، وقد كنت أجلت لهم أجلا، فلوا شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل، ولكنهم لم يتوبوا.
فلما قالوا له ذلك غضب غضبا شديدا، ثم أرسل إلى آبائهم فسألهم عنهم، فقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني. فقالوا له: أما نحن فلم نعصك، فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى ينجلوس؟ فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم، وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية، فألقى الله عز و جل في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم، أراد الله عز و جل أن يكرمهم ويجعلهم آية لأمة يستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم، وقال: دعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم. وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، قد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم، يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال.
ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما، اسم أحدهما بيدروس، واسم الآخر روتاس ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص يجعلانه في تابوت من نحاس، ثم يجعلان التابوت في البنيان، وقالا: لعل الله
149

يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ هذا الكتاب. ففعلا، ثم بنيا عليه، فبقي دقيانوس ما بقي، ثم مات وقومه وقرون بعد كثيرة، وخلفت الملوك بعد الملوك.
وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتيانا مطوقين مسورين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا، وأخفى كل واحد منهم الايمان عن صاحبه فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر بعضهم لبعض: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه، ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك، فجلس إليه ثم خرج الآخرون فجاؤوا فجلسوا إليهما، فاجتمعوا وقال بعضهم لبعض: ما جمعكم، وكل واحد يكتم إيمانه على صاحبه مخافة على نفسه؟ ثم قالوا: ليخرج كل فتيين منكم فيخلوا ثم ليفشش كل واحد منكم إلى صاحبه.
فخرج فتيان منهم فتواقفا ثم تكلما فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه، فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما فقالا: قد اتفقنا على أمر واحد. فإذا هم جميعا على الإيمان، وإذا كهف في الجبل قريب منهم، فقال بعضهم لبعض: " * (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا) *). فدخلوا ومعهم كلب صيد، فناموا " * (ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا) *).
قال: وفقدهم قومهم، وطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم، فلما لم يقدموا كتب أحدهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا، فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان بن فلان. ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا: ليكونن لهذا شأن. ومات ذلك الملك، وجاء قرن بعد قرن.
وقال وهب بن منبه: جاء أحد حواري عيسى بن مريم (عليه السلام) إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له. فكره أن يدخلها فأتى حماما قريبا من تلك المدينة، فكان فيه، وكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه.
ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة، ودر عليه الرزق، وجعل يقوم عليه، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم خبر السماء وخبر الأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدقوه، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة. وكان شرطه على صاحب الحمام: إن الليل لي لا يحول بيني وبين الصلاة أحد، وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمام، فعيره الحواري وقال له: أنت ابن الملك وتدخل مع هذه؟ فاستحيا، فذهب، فرجع مرة أخرى فقال له مثل ذلك، فسبه وانتهره ولم يلتفت حتى دخلا معا فماتا جميعا في الحمام، فأتي الملك فقيل
150

له: قتل صاحب الحمام ابنك. فالتمس فلم يقدر عليه، فهرب، فقال: من كان يصحبه؟ فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة، فمروا بصاحب لهم في زرع وهو على مثل إيمانهم فذكروا له أنهم التمسوا، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوا وقالوا: نبيت هاهنا الليلة، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم. فضرب الله على آذانهم.
فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، وكلما أراد الرجل منهم دخوله أرعب، فلم يطق أحد دخوله، وقال قائل: أليس لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى. قال: فابن عليهم باب الكهف واتركهم فيه يموتوا عطشا وجوعا. ففعل.
قال وهب: تركهم بعد ما سد عليهم باب الكهف زمانا بعد زمان، ثم إن راعيا أدركه المطر عند الكهف فقال: لو فتحت هذا الكهف فأدخلته غنمي من المطر فلم يزل يعالجه حتى فتح، ورد الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا.
وقال محمد بن إسحاق: ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيدوسيس، فلما ملك بقي في ملكه ثمانيا وثلاثين سنة فتحزب الناس في ملكه، وكانوا أحزابا؛ منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب بها، فكبر ذلك على الملك الصالح، وبكى إلى الله عز و جل، وتضرع إليه، وحزن حزنا شديدا. فلما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون: لا حياة إلا الحياة الدنيا، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فأما الجسد فتأكله الأرض. ونسوا ما في الكتاب، فجعل تيدوسيس يرسل إلى من يظن فيه خيرا وأنه معه في الحق، فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يحولون الناس عن الحق وملة الحواريين.
فلما رأى ذلك الملك الصالح تيدوسيس دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحا وجعل تحته رمادا ثم جلس عليه فدأب ليله ونهاره زمانا يتضرع إلى الله ويبكي مما يرى فيه الناس، ويقول: أي رب، قد ترى اختلاف هؤلاء الناس، فابعث إليهم من يبين لهم. ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر على الفتية أصحاب
الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية له وحجة عليهم، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن يستجيب لعبده الصالح تيدوسيس ويتم نعمته عليه، ولا ينزع عنه ملكه ولا الإيمان الذي أعطاه، وأن يعبد الله ولا يشرك به شيئا، وأن يجمع من كان ببلده من المؤمنين.
فألقى الله عز و جل في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف وكان اسم ذلك الرجل أولياس أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه، فأستاجر عاملين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما على فم الكهف، وفتحا عليهم باب الكهف، فحجبهم الله تعالى من الناس بالرعب. فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم أن يدخل من باب الكهف لم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف، نائما.
151

فلما نزعا الحجارة وفتحا باب الكهف أذن الله عز و جل بالقدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم، فسلم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون بها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها. ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون، لا يرى في وجوههم ولا أبشارهم ولا ألوانهم شيء ينكرونه، وإنما هم كهيئتهم حين رقدوا، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبار في طلبهم.
فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: إيتنا يا أخانا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبار وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون، وقد خيل إليهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها، حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض: " * (كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) *).
وكل ذلك في أنفسهم يسير، فقال لهم تمليخا: افتقدتم والتمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم، فما شاء الله بعد ذلك فعل. فقال لهم مكسلمينا: يا إخوتاه، اعلموا أنكم ملاقو الله، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غدا. ثم قالوا لتمليخا: انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال (عنا) بها اليوم وما الذي نذكر به عند دقيانوس، وتلطف ولا تشعرن بنا أحدا، وابتع لنا طعاما فائتنا به، فإنه قد نالنا الجوع، وزدنا على الطعام الذي جئتنا به فإنه كان قليلا فقد أصبحنا جياعا. ففعل تمليخا كما كان يفعل، ووضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، فأخذ ورقا من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس، وكانت كخفاف الربع. فانطلق تمليخا خارجا فلما مر بباب الكهف رأى حجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها، ثم مر فلم يبال بها، حتى أتى باب المدينة مستخفيا يصد عن الطريق تخوفا أن يراه أحد من أهلها فيعرفه فيذهب إلى دقيانوس، ولا يشعر العبد الصالح أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة.
فلما رأى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان، فلما رآها عجب وجعل ينطر إليها مستخفيا، فنظر يمينا وشمالا ثم ترك ذلك الباب فتحول إلى باب آخر من أبو ابها فنظر فرأى مثل ذلك، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى ناسا كثيرا محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك، فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران، ثم رجع إلى الباب التي أتى منها، فجعل يتعجب منه ومن نفسه ويقول: يا ليت شعري أما هذه عشية أمس فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها، فأما اليوم فإنها ظاهرة فلعلي حالم ثم يرى أنه ليس بنائم، فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة، فجعل يمشي بين
152

ظهراني سوقها فيسمع ناسا كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم، فزاده فرقا فرأى أنه حيران، فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدر المدينة ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا، أما عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلا قتل، وأما الغداة فأسمعهم وكل إنسان يذكر أمر عيسى ولا يخاف.
ثم قال في نفسه: لعل هذه المدينة ليست بالمدينة التي أعرفها اسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران لا يتوجه وجها، ثم لقي فتى من أهل المدينة، فقال: ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ قال: دفسوس. فقال في نفسه: لعل بي مسا أو أمرا أذهب عقلي، والله يحق لي أن أسرع بالخروج منها قبل أن أخزى أو يصيبني شر فأهلك.
هذا الذي حدث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم. ثم إنه أفاق فقال: والله لو عجلت الخروج منها قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي. فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلا منهم، فقال: يا عبد الله، بعني بهذا الورق طعاما. فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها، فعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه، فنظر إليها. ثم جعلوا يتطارحونها من رجل إلى رجل، ويعجبون منها، ثم جعلوا يتسارون من أجله، ففرق فرقا شديدا وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرفونه، فقال لهم وهو شديد الفرق: أفصلوا علي، قد أخذتم ورقي فأمسكوا، وأما طعامكم فلا حاجة لي به. فقالوا: من أنت يا فتى؟ وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأولين، وأنت تريد أن تخفيه عنا، انطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت؛ فإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك.
فلما سمع قولهم عجب في نفسه، وقال: قد وقعت في كل شيء أحذر منه، ثم قالوا: يا فتى، إنك والله ما تستطيع أن تكتم ما حدث، ولا تظن في نفسك أنك سنخفي عليك.
فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم، وفرق حتى ما يخبرهم شيئا، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطوقوه في عنقه، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكببا، حتى سمع به من فيها، فقيل: أخذ رجل عنده كنز، فاجتمع عليه أهل المدينة، صغيرهم وكبيرهم، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة، وما رأيناه فيها قط، وما نعرفه. فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم مع ما يسمع منهم، فلما اجتمع عليه أهل المدينة فرق وسكت ولم يتكلم، ولو قال إنه من أهل المدينة لم يصدق، وكان مستيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة، وأن حسبه في أهل المدينة من عظماء أهلها، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا، وقد استيقن أنه عشية أمس يعرف كثيرا من أهلها وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحدا.
فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله: أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم
153

إذ اختطفوه، فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها، وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أرموس واسم الآخر أسطيوس. فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه، فجعل يلتفت يمينا وشمالا، وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون والحيران، فجعل تمليخا يبكي ثم رفع رأسه إلى السماء وإلى الله عز وجل، ثم قال: اللهم إله السماء والأرض أفرغ علي اليوم صبرا وأولج معي روحا منك تؤيدني به عند هذا الجبار. وجعل يبكي ويقول في نفسه: فرق بيني وبين إخوتي، يا ليتهم يعلمون ما لقيت وأين يذهب بي، ولو أنهم يعلمون فيأتون فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار، فإنا كنا تواثقنا (لنكونن معا) لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا ولا نعبد الطواغيت من دون الله (ف) فرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبدا، وقد كنا تواثقنا على ألا نفترق في حياة ولا موت، يا ليت شعري ما هو فاعل بي؟ أقاتلي أم لا؟
هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حتى انتهي به إلى الرجلين الصالحين: أرموس وأسطيوس، فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء، فأخذ أرموس وأسطيوس الورق، فنظرا إليه وعجبا منه ثم قال أحدهما: أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ هذا الورق يشهد عليك أنك وجدت كنزا. فقال لهم تمليخا: ما وجدت كنزا، ولكن هذا الورق ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، وما أدري ما أقول لكما. فقال أحدهما: فمن أنت؟ فقال له: أما ما أرى فكنت أرى أني من أهل القرية. قالوا له: فمن أبوك (ومن) يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحدا يعرفه، ولا أباه، فقال له أحدهما: أنت رجل كذاب لا تخبرنا بالحق. ولم يدر ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض، فقال بعض من حوله: هذا رجل مجنون. وقال بعضهم: ليس بمجنون، ولكن يحمق نفسه عمدا لينفلت منكم. فقال له أحدهما، ونظر إليه نظرا شديدا: أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال، أبيك وضرب هذا الورق ونقشها أكثر من ثلاثمئة سنة، وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا، ونحن شرط كما ترى، وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها، وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار؟ إنني لأظنني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت.
فلما قال له ذلك، قال تمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدقتم ما عندي. قالوا له: سل، ما نكتمك شيئا. فقال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالا له: ليس نعرف ملكا يسمى دقيانوس على وجه الأرض، ولم يكن إلا ملكا قد هلك منذ زمان ودهر طويل،
154

وهلكت بعده قرون كثيرة. قال لهم تمليخا: فوالله ما هو بمصدقي أحد من الناس بما أقول، لقد كنا فتية، وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاما وأتجسس الأخبار فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل ينجلوس أركم أصحابي. فلما سمع أرموس ما يقول تمليخا، قال: يا قوم لعل هذه آية من آيات الله عز وجل جعلها لكم على يدي هذا الفتى، فانطلقوا بنا معه يرنا أصحابه كما قال.
فانطلق معهم أرموس وأسطيوس وانطلق معهما أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف ينظرون إليهم.
ولما رأى الفتية أصحاب الكهف أن تمليخا قد احتبس عليهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به، ظنوا أنه قد أخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس الذي هربوا منه، فبينا هم يظنون ذلك ويتخوفون إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم، وظنوا أنهم رسل دقيانوس الجبار وأنه بعث إليهم ليؤتى بهم، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة، وسلم بعضهم على بعض، وقالوا: انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا، فإنه الآن بين يدي الجبار دقيانوس ينتظر متى نأتيه، فبينا هم يقولون ذلك، وهم جلوس بين ظهراني الكهف، فلم يروا إلا أرموس وأصحابه وقوفا على باب الكهف، وسبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو ويبكي، فلما رأوه يبكي، بكوا معه وسألوه عن شأنه، فأخبرهم بخبره وقص عليهم النبأ كله فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمان كله، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقا للبعث، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها.
ثم دخل على آثر تمليخا أرموس فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة فقام بباب الكهف، ثم دعا رجالا من عظماء المدينة ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوبا فيها: (إن مكسلمينا ومجسلمينا وتمليخا ومرطولس وكسوطونس وبيوسرس وتكريوس وبطينوس كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا هذا الكهف، فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسد عليهم بالحجارة، وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثروا عليهم.
فلما رأوه عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية البعث فيهم، ثم إنهم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه، ثم دخلوا على فتية الكهف فوجدوهم جلوسا بين ظهرانيه مشرقة وجوههم، لم تبل
155

ثيابهم، فخر أرموس وأصحابه سجدا، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته، ثم كلم بعضهم بعضا وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس.
ثم إن أرموس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح تيدوسيس أن عجل، لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله على ملكك، وجعلها آية للعالمين لتكون نورا وضياء وتصديقا للبعث، فاعجل على فتية بعثهم الله تعالى، وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاثمئة سنة.
فلما أتى الملك الخبر قام من المسندة التي كان عليها ورجع إليه عقله، وذهب عنه همه، ورجع إلى الله عز و جل، فقال: أحمدك الله رب السماوات والأرض، وأعبدك وأسبح لك تطولت علي، ورحمتني برحمتك، فلم تطفئ النور الذي كنت جعلت لآبائي وللعبد الصالح قسطيطوس الملك.
فلما نبأ به أهل المدينة ركبوا وساروا حتى أتوا مدينة دقيانوس فتلقاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف وأتوه، فلما رأى الفتية تيدوسيس فرحوا به وخروا سجدا على وجوههم، وقام تيدوسيس قدامهم ثم اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله عز وجل ويحمدونه، ثم قال الفتية لتيدوسيس:
نستودعك الله، ونقرأ عليك السلام، وحفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الجن والإنس.
فبينا الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله أنفسهم، وقام الملك إليهم فجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل لكل رجل منهم تابوت من ذهب، فلما أمسوا ونام أتوه في المنام فقالوا: إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة، ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير، فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عز وجل منه. فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجد يصلى فيه، وجعل لهم عيدا عظيما، وأمر أن يؤتى كل سنة.
وقيل: إنهم لما أتوا إلى باب الكهف قال تمليخا: دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم؛ فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم. فدخل فبشرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، وعمي عليهم مكانهم، فلم يهتدوا إليه. فهذا حديث أصحاب أهل الكهف.
ويقال: إن نبي الله محمدا صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يريه إياهم، فقال: (إنك لن تراهم في دار الدنيا، ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرئيل (عليه السلام): (كيف أبعثهم؟). قال: (ابسط كساء لهم، وأجلس على طرف من أطرافها أبا بكر، وعلى الثاني عمر وعلى الثالث عليا، وعلى الرابع أبا ذر،
156

ثم ادع الريح الرخاء المسخر لسليمان بن داود (عليهما السلام) فإن الله تعالى أمرها أن تطيعك).
ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره، فحملتهم الريح حتى انطلقت بهم إلى باب الكهف، فلما دنوا من الباب قلعوا منه حجرا، فقام الكلب حين أبصر الضوء فهر وحمل عليهم، فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ برأسه أن ادخلوا، فدخلوا الكهف وقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فرد الله إليهم أرواحهم، فقاموا بأجمعهم وقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقالوا: إن نبي الله محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم السلام. فقالوا: على محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليكم بما بلغتم. ثم جلسوا بأجمعهم يتحدثون، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقبلوا دين الإسلام، وقالوا: أقرئوا محمدا منا السلام. فأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي.
ويقال: إن المهدي يسلم عليهم، فيحييهم الله عز وجل، ثم يرجعون إلى رقدتهم ولا يقومون إلى يوم القيامة.
ثم جلس كل واحد منهم على مكانه، وحملتهم الريح، وهبط جبرئيل (عليه السلام) (على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان (منهم)، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كيف وجدتموهم؟ وما الذي أجابوا؟). فقالوا: يا رسول الله، دخلنا عليهم فسلمنا عليهم، فقاموا بأجمعهم، فردوا السلام، وبلغناهم رسالتك فأجابوا وأنابوا وشهدوا أنك رسول الله حقا، وحمدوا الله عز وجل على ما أكرمهم بخروجك وتوجيه رسولك إليهم، وهم يقرئونك السلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم لا تفرق بيني وبين أصهاري وأحبائي وأختاني، واغفر لمن أحبني وأحب أهل بيتي وحامتي، وأحب أصحابي).
فذلك قوله عز وجل " * (إذ أوى) *) أي صار وانضم " * (الفتية إلى الكهف) *)، وهو غار في جبل ينجلوس، واسم الكهف خيرم، " * (فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا) *) أي يسر لنا ما نلتمس من رضاك. وقال ابن عباس: " * (رشدا) *) أي مخرجا من الغار في سلامة. وقيل: صوابا.
قوله: " * (فضربنا على آذانهم) *) هذا من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله، ومعناه: أنمناهم وألقينا وسلطنا عليهم النوم، كما يقال: ضرب الله فلان بالفالج، أي ابتلاه به وأرسله عليه. وقيل: معناه حجبناهم عن السمع، وسددنا نفوذ الصوت إلى مسامعهم، وهذا وصف الأموات والنيام. وقال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير علي يد
157

الرعية، إذا منعهم عن العبث والفساد، وضرب السيد على يدي عبده المأذون في التجارة، إذا منعه عن التصرف فيها. قال الأسود بن يعفر، وكان ضريرا:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني
ضربت علي الأرض بالأسداد
" * (سنين عددا) *) أي معدودة، وهو نعت للسنين، فالعد المصدر، والعدد الاسم المعدود، كالنقص والنقض والخبط والحبط. وقال أبو عبيدة: هو نصب على المصدر.
" * (ثم بعثناهم) *)، يعني من نومهم؛ " * (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) *)، وذلك حين تنازع المسلمون الأولون أصحاب الملك، والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين أوى أصحاب الكهف في قدر مدة لبثهم في الكهف، فقال المسلمون الأولون: مكثوا في كهفهم ثلاثمئة سنة وتسع سنين، وقال المسلمون الآخرون: بل مكثوا كذا وكذا. فقال الأولون: الله أعلم بما لبثوا، فذلك قوله: " * (ثم بعثناهم) *)، لتعلموا " * (أي الحزبين) *): الفريقين " * (أحصى) *): أصوب وأحفظ " * (لما لبثوا) *) في كهفهم نياما، " * (أمدا) *): غاية.
وقال مجاهد: عددا. وفي نصبه وجهان: أحدهما على التفسير والثاني لوقوع " * (لما لبثوا) *) عليه.
" * (نحن نقص) *)، أي نقرأ وننزل " * (عليك نبأهم) *)، أي خبر أصحاب الكهف " * (بالحق إنهم فتية) *): شبان وأحداث " * (آمنوا بربهم) *)، حكم الله لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة لذلك. وقال أهل اللسان: رأس الفتوة الإيمان. وقال الجنيد: الفتوة كف الأذى وبذل الندى، وترك الشكوى. وقيل: الفتوة شيئان: اجتناب المحارم، واستعمال المكارم. وقيل: الفتى من لا يدعي قبل الفعل، ولا يزكي نفسه بعد الفعل. وقيل: ليس الفتى من يصبر على السياط، إنما الفتى من جاز
على الصراط. وقيل: ليس الفتى من يصبر على السكين، إنما الفتى من يطعم المسكين.
" * (وزدناهم هدى) *) إيمانا وبصيرة وإيقانا.
" * (وربطنا) *): وشددنا " * (على قلوبهم) *) بالصبر، وألهمناهم ذلك، وقويناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش، وفروا بدينهم إلى الكهف، " * (إذ قاموا) *) بين يدي دقيانوس " * (فقالوا) *) حين عاتبهم على تركهم عبادة الصنم: " * (ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو) *): لن نعبد " * (من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا) *)، يعني إن دعونا غير الله، لقد قلنا إذن شططا. قال ابن عباس ومقاتل: جورا. قال قتادة: كذبا. وأصل الشطط والإشطاط: مجاوزة القدر، والإفراط.
" * (هؤلاء قومنا) *)، يعني أهل بلدهم " * (اتخذوا من دونه) *)، أي من دون الله " * (آلهة) *)، يعني
158

الأصنام يعبدونها من دون الله " * (لولا يأتون عليهم) *) أي هلا يأتون على عبادتهم " * (بسلطان بين) *): بحجة واضحة؛ " * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *)، فزعم أن له شريكا وولدا؟
ثم قال بعضهم لبعض: " * (إذ اعتزلتموهم) *)، يعني قومكم " * (وما يعبدون إلا الله) *)، أي واعتزلتم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله. وكذلك هو في مصحف عبد الله: (وما يعبدون من دون الله).
" * (فاؤوا إلى الكهف) *)، أي صيروا إليه " * (ينشر) *)، أي يبسط لكم ويظهر " * (لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا) *)، أي رزقا رغدا. والمرفق: ما يرتفق به الانسان، وفيه لغتان: مرفق، ومرفق.
2 (* (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منه ذالك من ءايات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا * وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا * وكذالك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هاذه إلى المدينة فلينظر أيهآ أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا * وكذالك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا * سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربىأعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا) *) 2
" * (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم) *)، أي تتزاور، وقرأ أهل الكوفة بالتخفيف على حذف أحد الزاءين، وقرأ أهل الشام: " * (تزاور) *) على وزن تحمر، وكلها بمعنى واحد، أي تميل وتعدل عن كهفهم " * (ذات اليمين) *)، أي جانب اليمين، " * (وإذا غربت تقرضهم) *)، قال ابن عباس: تدعهم. قال مقاتل بن حيان: تجاوزهم. وأصل القرض: القطع. " * (ذات الشمال وهم في فجوة منه) *)، أي متسع من الكهف، وجمعها فجوات وفجى. أخبرنا الله تعالى بحفظه اياهم في مهجعهم، وعرفنا لطفه بهم في مضجعهم واختياره لهم أصلح المواضع للرقاد فأعلمنا أنه بوأهم في مغناة من الكهف مستقبلا بنات نعش، تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة وجارية؛ لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها وتغير ألوانهم وتبلى ثيابهم، وإنهم في متسع منه ينالهم فيه برد الريح ونسيمها وتنفي عنهم كربة الغار وغمومه، " * (ذلك) *) الذي ذكرت من أمر الفتية " * (من آيات الله) *))
:
159

من عجائب صنع الله ودلالات قدرته وحكمته. " * (من يهد الله) *) أي يهده الله " * (فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا) *) معينا " * (مرشدا) *)؛ لأن التوفيق والخذلان بيد الله عز وجل.
" * (وتحسبهم) *) يا محمد " * (أيقاظا) *) أي منتبهين، جمع يقظ ويقظ مثل قولك: رجل نجد ونجد للشجاع، وجمعه أنجاد، " * (وهم رقود) *): نيام، جمع راقد مثل قاعد وقعود، " * (ونقلبهم) *)، وقرأ الحسن (ونقلبهم) بالتخفيف، " * (ذات اليمين وذات الشمال) *) مرة للجنب الأيمن ومرة للجنب الأيسر. قال ابن عباس: كانوا ينقلبون في السنة مرة إلى جانب من جانب، لئلا تأكل الأرض لحومهم. ويقال: إن يوم عاشوراء كان يوم تقليبهم. وقال أبو هريرة: كان لهم في كل سنة تقليبان. " * (وكلبهم) *)، قال ابن عباس: كان أنمر. وقال مقاتل: كان أصفر. وقال القرظي: شدة صفرته تضرب إلى الحمرة. الكلبي: لونه كالخلنج. وقيل: لون الحجر. وقيل: لون السماء. وقال علي ابن أبي طالب (ح): (كان اسمه ريان). وقال ابن عباس: قطمير. وقال الأوزاعي: نتوى. وقال شعيب الجبائي: حمران. عبد الله ابن كثير: اسم الكلب قطمور. (قال) السدي: نون. عبد الله بن سلام: بسيط. كعب: أصهب. وهب: نقيا، وقيل: قطفير.
عن عمر قال: إن مما أخذ على العقرب ألا يضر بأحد في ليله ونهاره: سلام على نوح، وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه أن يقول: " * (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) *).
وقرأ جعفر الصادق (وكالبهم) يعني: صاحب الكلب.
" * (باسط ذراعيه بالوصيد) *)، قال مجاهد والضحاك: الوصيد: فناء الكهف، وهو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: الوصيد
الصعيد، وهو التراب. وهذه رواية عطية العوفي عن ابن عباس. وقال السدي: الوصيد الباب، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس، وأنشد:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها
علي ومعروفي بها غير منكر
أي بابها. وقال عطاء: الوصيد: عتبة الباب. وقال القتيبي الوصيد: البناء، وأصله من قول العرب، أصدت الباب وأوصدته، أي أغلقته وأطبقته. " * (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) *)؛ لما ألبسهم الله تعالى من الهيئة حتى لا يصل إليهم واصل، ولا تلمسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب أجله، فيوقظهم الله من رقدتهم لإرادة الله عز وجل أن يجعلهم آية وعبرة لمن شاء من خلقه؛ " * (ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها) *))
.
160

" * (ولملئت منهم رعبا) *): خوفا، وقرأ أهل المدينة: (لملئت) بالتشديد. وقيل: إنما ذلك من وحشة المكان الذي هم فيه. وقال الكلبي: لأن أعينهم مفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام. وقيل: إن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يراهم أحد. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم قال ابن عباس: ليس ذلك لك، قد منع الله من هو خير منك، قال: " * (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا) *). فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم. فبعث ناسا فقال: اذهبوا فانظروا. ففعلوا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عز و جل عليهم ريحا فأخرجتهم فلم يستطيعوا الاطلاع عليهم من الرعب.
" * (وكذلك بعثناهم) *) أي كما أنمناهم في الكهف، ومنعنا من الوصول إليهم، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان، وثيابهم من العفن على مر الأيام بقدرتنا، كذلك بعثناهم من النومة التي تشبه الموت " * (ليتساءلوا بينهم) *): ليتحدثوا، ويسأل بعضهم بعضا. " * (قال قائل منهم) *) يعني: رئيسهم مكسلمينا: " * (كم لبثتم) *) في نومكم؟ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول نومهم. ويقال: إنه راعهم ما فاتهم من الصلاة، فقالوا ذلك. " * (قالوا لبثنا يوما) *)؛ لأنهم دخلوا الكهف غدوة، فلما رأوا الشمس قالوا: " * (أو بعض يوم) *) توقيا من الكذب، وكانت قد بقيت من الشمس بقية. ويقال: كان بعد زوال الشمس. فلما نظروا إلى شعورهم وأظفارهم تيقنوا أن لبثهم أكثر من يوم أو بعض يوم، " * (فقالوا ربكم أعلم بما لبثتم) *). ويقال: إن رئيسهم لما سمع الاختلاف بينهم قال ذلك. " * (فابعثوا أحدكم) *) يعني: تمليخا " * (بورقكم هذه إلى المدينة) *)، والورق: الفضة؛ مضروبة كانت أو غير مضروبة. والدليل عليه أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب. وفيه لغات: (بورقكم) وهي قراءة أبي عمرو وحمزة وخلف، و (ورقكم) بسكون الراء وإدغام القاف وهي قراءة أهل مكة، و " * (ورقكم) *) بفتح الواو وكسر الراء وهي قراءة أكثر القراء. و (ورق) مثل كبد وكبد وكلمة وكلمة.
(والمدينة): أفسوس، " * (فلينظر أيها أزكى طعاما) *) قال ابن عباس وسعيد بن جبير: أحل ذبيحة، لأن عامتهم كانوا مجوسا، وفيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم. قال الضحاك: أطيب. وقال مقاتل بن حيان: أجود. وقال يمان بن رياب: أرفص. قتادة: خير. قال عكرمة: أكثر. وأصل الزكاة الزيادة والنماء، قال الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة
وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب
161

" * (فليأتكم برزق منه) *) أي قوت وطعام، " * (وليتلطف) *): وليترفق في الشراء، وفي طريقه، وفي دخول المدينة، " * (ولا يشعرن بكم أحدا) *) من الناس، أي ولا يعلمن، أي إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما يقع فيه.
" * (إنهم إن يظهروا عليكم) *) فيعلموا بمكانكم " * (يرجموكم) *)، قال ابن جريج: يشتموكم ويؤذوكم بالقول. ويقال: يقتلوكم. ويقال: كان من عادتهم القتل بالرجم وهو من أخبث القتل. وقيل: هو التوبيخ. ويضربوكم " * (أو يعيدوكم في ملتهم) *): دينهم الكفر " * (ولن تفلحوا إذا أبدا) *) إن عدتم إليهم.
" * (وكذلك أعثرنا) *)، أي أطلعنا " * (عليهم) *)، يقال: عثرت على الشيء إذا اطلعت عليهم، فأعثرت غيري إذا أطلعته، " * (ليعلموا أن وعد الله حق) *) يعني قوم تيدوسيس، " * (وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم) *)، قال ابن عباس: تنازعوا في البنيان والمسجد، قال المسلمون: نبني عليهم مسجدا، لأنهم على ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم بنيانا؛ لأنهم من أهل سنتنا. وقال عكرمة: تنازعوا في الأرواح والأجساد، فقال المسلمون: البعث للأرواح والأجساد، و قال بعضهم: البعث للأرواح دون الأجساد، فبعثهم الله من رقادهم وأراهم أن البعث للأرواح والأجساد. وقيل: تنازعوا في قدر لبثهم ومكثهم. وقيل: تنازعوا في عددهم، " * (فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم) *) يعني تيدوسيس الملك وأصحابه: " * (لنتخذن عليهم مسجدا) *)، وقيل: الذين تغلبوا على أمرهم، وهم المؤمنون. وهذا يرجع إلى الأول.
" * (سيقولون ثلاثة) *) وذلك أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وكان السيد يعقوبيا، وقال العاقب: كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وكان نسطوريا، وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، فحقق الله قول المسلمين وصدقهم بعد ما حكى قول النصارى، فقال " * (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب) *) أي قذفا بالظن من غير يقين، كقول الشاعر:
وأجعل مني الحق غيبا مرجما
" * (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) *) وقال بعضهم: هذه الواو واو الثمانية، إن العرب يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، لأن العقد كان عندهم سبعة
162

كما هو اليوم عندنا عشرة. ونظيره قوله تعالى: " * (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) *).
وقوله في صفة أهل الجنة " * (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها) *).
وقوله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم " * (ثيبات وأبكارا) *).
وقال بعضهم: هذه واو الحكم والتحقيق، فكأنه حكى اختلافهم فتم الكلام عند قوله: " * (ويقولون سبعة) *)، ثم حكم أن ثامنهم كلبهم، والثامن لا يكون إلا بعد السبع، فهذا تحقيق قول المسلمين. " * (ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) *)، قال قتادة: قليل من الناس. وقال عطاء: يعني بالقليل: أهل الكتاب. يحيى بن أبي روق عن أبيه عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى. " * (ما يعلمهم إلا قليل) *) قال: أنا من أولئك القليل.
وهم: مكسلمينا، وتمليخا، ومرطونس، وسارينوس، وآنوانس، وروانوانس، ومشططيونس، وهو الراعي، والكلب واسمه قطمير كلب أنمر فوق القلطي ودون الكردي.
وقال محمد بن المسيب: القلطي: كلب صيني، و قال: ما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عني هذا الحديث إلا من لم يقدر له. قال: وكتبه أبو عمرو، والحيري عني. " * (ولا تمار فيهم) *)، أي في عدتهم وشأنهم " * (إلا مراء ظاهرا) *) وهو ما قص عليه في كتابه من خبرهم يقول: حسبك ما قصصت عليك فلا تمار فيهم، " * (و لا تستفت فيهم منهم أحدا) *) من أهل الكتاب.
(* (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا * إلا أن يشآء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لاقرب من هاذا رشدا * ولبثوا فى كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا * قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والارض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا * واتل مآ أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا * واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيواة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا * وقل الحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا
163

بمآء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وسآءت مرتفقا * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا * أولائك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الارآئك نعم الثواب وحسنت مرتفقا) *) 2
" * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) *)، قال ابن عباس: يعني إذا عزمت على أن تفعل شيئا غدا، أو تحلف على شيء أن تقول: إني فاعل ذلك غدا إن شاء الله. وإن نسيت الاستثناء ثم ذكرته فقله ولو بعد سنة، وهذا تأديب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين سئل عن المسائل الثلاثة: أصحاب الكهف، والروح، وذي القرنين، فوعدهم أن يخبرهم ولم يستثن.
عبد الله بن سعيد المقري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يتم إيمان العبد حتى يستثني في كل كلامه).
" * (واذكر ربك إذا نسيت) *)، قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والحسن: معناه: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت، فاستثن. وقال عكرمة: معناه: واذكر ربك إذا غضبت.
حدثنا عبد الصمد بن حسان عن وهيب قال: مكتوب في الإنجيل: ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فلا تنتصر؛ فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. وقال الضحاك والسدي: هذا في الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها).
وقال أهل الإشارة: معناه واذكر ربك إذا نسيت غيره؛ لأن ذكر الله تعالى إنما يتحقق بعد نسيان غيره. يؤيده قول ذي النون المصري: من ذكر الله ذكرا على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شيء، فإذا نسي في جنب ذكره كل شيء حفظ الله له كل شيء، وكان له عوضا من كل شيء. وقيل: معناه: واذكر ربك إذا تركت ذكره، والنسيان هو الترك. " * (وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا) *)، أي يثبتني على طريق هو أقرب إليه، فأرشد. وقيل: معنا لعل الله أن يهديني ويسددني لأقرب مما وعدتكم وأخبرتكم أنه سيكون إن هو شاء. وقيل: إن الله تعالى أمره أن يذكره إذا نسي شيئا ويسأله أن يذكره فيتذكر، أو يهديه لما هو خير له من تذكر ما نسيه. ويقال: إن القوم لما سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله تعالى أن يخبرهم أن الله سيؤتيه من الحجج والبيان على صحة نبوته وما دعاهم إليه من الحق ودلهم على ما سألوه. ثم إن الله عز و جل فعل ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقال بعضهم: هذا شيء أمر أن
164

يقوله مع قوله: " * (إن شاء الله) *) إذا ذكر الاستثناء بعد ما نسيه، فإذا نسي الإنسان فيؤتيه من ذلك. وكفارته أن يقول: " * (عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا) *).
" * (ولبثوا) *) يعني: أصحاب الكهف " * (في كهفهم) *)، قال بعضهم: هذا خبر عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك، وقالوا: لو كان خبرا من الله عز و جل عن قدر لبثهم في الكهف لم يكن لقوله: " * (قل الله أعلم بما لبثوا) *) وجه مفهوم، وقد أعلم خلقه قدر لبثهم فيه، هذا قول قتادة. يدل عليه قراءة ابن مسعود: (وقالوا
لبثوا في كهفهم). وقال مطر الوراق في هذه الآية: هذا شيء قالته اليهود، فرده الله عليهم، وقال: " * (قل الله أعلم بما لبثوا) *). وقال الآخرون: هذا إخبار الله عن قدر لبثهم في الكهف، وقالوا: معنى قوله: " * (قل الله أعلم) *) أن أهل الكتاب قالوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمئة وتسع سنين فرد الله عز و جل ذلك عليهم، وقال: " * (قل الله أعلم بما لبثوا) *) بعد أن قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلم ذلك غير الله وغير من أعلمه الله ذلك. وقال الكلبي: قالت نصارى نجران: أما الثلاثمئة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها فنزلت * (الله أعلم بما لبثوا) * * (ثلاثمائة سنين) *) مضاف غير منون، قرأها حمزة، والكسائي والباقون بالتنوين يعني: ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمئة. وقال الضحاك ومقاتل: نزلت: " * (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة) *) فقالوا: أياما أو سنين؟ فنزلت " * (سنين) *) فلذلك قال: " * (سنين) *) ولم يقل: سنة. " * (وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع) *) يعني: ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه بكل مسموع " * (ما لهم) *)، أي لأهل السماوات والأرض " * (من دونه) *) من دون الله " * (من ولي) *): ناصر، " * (ولا يشرك في حكمه أحدا) *) من الأصنام وغيرها.
" * (واتل) *) أي واقرأ يا محمد " * (ما أوحي إليك من كتاب ربك) *)، يعني: القرآن، واتبع ما فيه " * (لا مبدل لكلماته) *)، قال الكلبي: لا مغير للقرآن. وقال محمد بن جرير: يعني: لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه. " * (ولن تجد) *) أنت " * (من دونه) *) إن لم تتبع القرآن وخالفته " * (ملتحدا) *)، قال ابن عباس: حرزا. وقال الحسن: مدخلا. وقيل: معدلا. وقيل: موئلا وقال مجاهد ملجأ، وأصله من الميل، ومنه لحد القبر.
" * (واصبر نفسك) *) الآية قال المفسرون: نزلت في عيينة بن حصين الفزاري، وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية، وعنده بلال وصهيب وخباب وعمار وعامر بن فهيرة ومهجع وسلمان، وعلى سلمان شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشتقها ثم ينسجها، فقال عيينة للنبي صلى الله عليه وسل
165

أما يؤذيك ريح هؤلاء؟ فوالله لقد آذانا ريحهم. وقال: نحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وإن أبينا أبى الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنح هؤلاء حتى نتبعك، واجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا. فأنزل الله عز و جل: " * (واصبر) *): واحبس " * (نفسك مع الذين يدعون) *): يعبدون ربهم ويوقرون " * (ربهم بالغداة والعشي) *)، أي طرفي النهار " * (يريدون وجهه) *)، يعني: يريدون الله عز وجل لا يريدون عرضا من الدنيا. والمراد منه: الحسنة وترك الرياء. قال قتادة: يعني: صلاة الصبح والعصر. وقال كعب الأحبار: والذي نفسي بيده إنهم لأهل الصلوات المكتوبة. قال قتادة: نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة، وكانوا سبعمئة رجل فقراء لزموا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة ولا إلى زرع ولا ضرع، يصلون صلاة وينتظرون أخرى. قال قتادة: فلما نزلت هذه الآية قال نبي الله صلى الله عليه وسلم (الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر معهم).
" * (ولا تعد عيناك) *): لا تصرف ولا تجاوز عيناك " * (عنهم) *) إلى غيرهم " * (تريد زينة الحياة الدنيا) *)، يعني مجالسة الرؤساء والأغنياء والأشراف.
ومعنى الآية: ولا تعد عيناك عنهم مريدا زينة الدنيا حال خوضهم في الاستغفار لأنه حكم على النبي صلى الله عليه وسلم بإرادته الدنيا. " * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) *) أي تركنا قلبه وأنسيناه ذكرنا. قال أبو العالية: يعني: أمية بن خلف الجمحي. وقال غيره: يعني عيينة بن حصين، " * (واتبع هواه وكان أمره فرطا) *)، قال قتادة والضحاك ومجاهد: ضياعا. وقال داود: ندما. وقال حباب: هلاكا. وقال ابن زيد: مخالفا للحق. وقال مقاتل بن حيان: سرفا. وقال الأخفش: مجاوزا للحد. وقال الفراء: متروكا. وقيل: باطلا. وقال أبو زيد البلخي: قدما في الشر. قال أبو عبيد: هو من قول العرب: فرس فرط إذا سبقت الخيل، وفرط القول مني أي سبق. وقيل: معناه ضيع أمره وعطل أيامه، قالوا: ان المؤمن من يستعمل الأوقات، ولا تستعمله الأوقات.
" * (وقل الحق من ربكم) *)، الحق: رفع على الحكاية، وقيل: هو رفع على خبر ابتداء مضمر معناه: وقل هو الحق من ربكم، يعني: ما ذكر من القرآن والإيمان وشأن محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: هو رفع على الابتداء وخبره في قوله " * (من ربكم) *)، ومعنى الآية: وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس، من ربكم الحق، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الضلالة والهدى، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر ليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد المؤمنين لكم، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا؛ فإنكم إن كفرتم فقد أعد لكم ربكم على كفركم نارا أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم وأطعتم فإن لكم ما وصف الله عز وجل لأهل طاعته
166

وقوله: " * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) *) ليس بترخيص وتخيير، إنما هو وعيد وتهديد، كقوله: " * (اعملوا ما شئتم) *). قال ابن عباس: من شاء الله له الايمان آمن، ومن شاء له الكفر كفر، وهو قوله: * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * * (إنا اعتدنا) *): أعددنا وهيأنا، من العتاد، وهو العدة " * (للظالمين) *): للكافرين " * (نارا) *)، وفيه دليل على أن النار مخلوقة؛ لأنها لو لم تكن مخلوقة موجودة معدة لكان المخبر كذابا، وتعالى الله عن ذلك.
وقوله: " * (أحاط بهم سرادقها) *)، روى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سرادق النار أربعة جدر كثف، كل واحد مسيرة أربعين سنة). وقال ابن عباس: هو حائط من نار. الكلبي: هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة. وقال القتيبي: السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. قال رؤبة:
يا حكم بن المنذر بن الجارود
سرادق المجد عليك ممدود
وقال سلامة بن جندل:
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه
صدور الفيول بعد بيت مسردق
وهو هاهنا دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله في سورة المرسلات: " * (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) *).
" * (وإن يستغيثوا) *) من شدة العطش " * (يغاثوا بماء كالمهل) *)، روى أبو مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم " * (بماء كالمهل) *) قال: (كعكر الزيت، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه). وقال ابن عباس: ماء غليظ مثل دردي الزيت. وقال الأعمش: هو عصارة الزيت. ومجاهد: القيح والدم. قال الضحاك: المهل ماء أسود، وإن جهنم سوداء، ماؤها أسود، وشجرها أسود، وأهلها سود. وقال أبو عبيدة: كل ما أذيب من جواهر الأرض.
وروى روح بن عبادة، عن سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن ابن مسعود أهديت له سقاية من ذهب وفضة، فأمر بأخدود فخد في الأرض، ثم قذف فيه من جزل الحطب، ثم قذف فيه تلك السقاية، فلما أزبدت وانماعت، قال لغلامه: ادع من بحضرتك من أهل الكوفة. فدعا رهطا، فلما دخلوا عليه قال: أترون هذا؟ قالوا: نعم. قال: ما رأينا في الدنيا شبها بالمهل أدنى
167

من هذا الذهب والفضة حين أزبد وانماع. وقال سعيد بن جبير: المهل الذي قد انتهى حره. وقال أبو عبيدة: سمعت المنتجع بن نبهان وذكر رجلا، فقال: هو أبغض إلى من الطليا والمهل، فقلت له: ما المهل؟ قال: الملة التي تحدد من جوانب الرغيف من النار، أحمر شديد الحمرة كأنها الرمانة، وهي جمرة والطليا: الناقة المطلية بالقطران. " * (يشوي الوجوه) *)، قال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم فيأكلون منها فاختلست جلودهم ووجوههم، فلو ان مارا مر يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود. " * (بئس الشراب) *) هذا، " * (وساءت) *) النار " * (مرتفقا) *)، قال ابن عباس: منزلا. مجاهد: مجتمعا. عطاء: مقرا. وقيل: مهادا. وقال القتيبي: مجلسا. وأصل: المرتفق المتكأ، يقال منه: ارتفقت، إذا اتكأت على المرتفق. قال الشاعر:
قالت له وارتفقت ألا فتى
يسوق بالقوم غزالات الضحى
ويقال: ارتفق الرجل، إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذويب الهذلي:
نام الخلي وبت الليل مرتفقا
كأن عيني فيها الصاب مذبوح
أي مقطوع من معتضده، والصاب: شجر إذا استؤصل خرج منه كهيئة اللبن، وربما ترتفع منه تربة أي فطرة، فيقع في العين فكأنها شهاب نار، وربما أضعف البصر. ويجوز أن يكون قوله: " * (مرتفقا) *) من الرفق والمنفعة.
" * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) *). ليس قوله: " * (إنا لا نضيع) *) خبرا لقوله: " * (إن الذين آمنوا) *) بل هو كلام معترض، وخبر " * (إن) *) الأولى قوله: " * (أولائك لهم جنات عدن) *). ومثله في الكلام كثير، قال الشاعر:
إن الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به ترجى الخواتيم
ومنهم من قال: فيه إضمار؛ فإن معناه: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنا لا نضيع أجره بل نجازيه.
ثم ذكر الجزاء فقال: " * (أولائك لهم جنات عدن) *)، ووهي الإقامة " * (تجري من تحتهم
168

الأنهار يحلون) *): يلبسون " * (فيها من أساور) *)، وهو جمع الأسوار، قال سعيد بن جبير: يحلى كل واحد منهم ثلاثة من الأساور، واحدا من فضة، وواحدا من ذهب، ووحدا من لؤلؤ ويواقيت. " * (من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس) *)، وهو ما رق من الديباج " * (وإستبرق) *)، وهو ما غلظ منه. وقيل: هو فارسي معرب " * (متكئين فيها) *): في الجنان " * (على الأرائك) *)، وهي السرر في الحجال، واحدتها: أريكة " * (نعم الثواب وحسنت) *) يعني: الجنان " * (مرتفقا) *).
2 (* (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا * كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا * وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا * ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال مآ أظن أن تبيد هاذه أبدا * ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا * قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا * لكن هو الله ربى ولا أشرك بربى أحدا * ولولاإذ دخلت جنتك قلت ما شآء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا * فعسى ربى أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السمآء فتصبح صعيدا زلقا * أو يصبح مآؤها غورا فلن تستطيع له طلبا * وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على مآ أنفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول ياليتنى لم أشرك بربى أحدا * ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا * هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا) *) 2
" * (واضرب لهم مثلا رجلين) *) الآية " * (رجلين) *) منصوب مفعول، على معنى: " * (واضرب لهم مثلا) *) كمثل رجلين. نزلت في أخوين من أهل
مكة من بني مخزوم، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم والآخر كافر، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل. وقيل نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وفي مشركي مكة. وهذا مثل لعيينة ابن حصين وأصحابه، وفي سلمان وأصحابه شبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين: أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس، وقال مقاتل: تمليخا، والآخر كافر، واسمه فطروس، قال وهب قطفر. وهما اللذان وصفهما الله في سورة (الصافات)، وكانت قصتهما (ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي: حدثنا محمد بن عمران: حدثنا الحسن بن سفيان: حدثنا حيان بن موسى: حدثنا عبد الله بن البارك عن). معمر عن عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكين، وكان لهما ثمانية آلاف دينار، وقيل: إنهما ورثاه عن أبيهما، وكانا أخوين فاقتسماها، فعمد أحدهما فاشترى أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن كان فلان قد اشترى أرضا بألف دينار، فإني أشتري منك أرضا في الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار
169

ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار، فقال هذا: إن فلان بنى دارا بألف دينار، وإني اشتريت منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم تزوج بامرأة وأنفق عليها ألف دينار فقال: إن فلان تزوج امرأة بألف دينار، وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، فقال: إن فلان اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني اشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار.
ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لو أتيت صاحبي هذا لعله ينالني منه معروف. فجلس له على طريقه حتى مر به في حشمه، فقام إليه، فنظر إليه الآخر فعرفه فقال: فلان؟ قال: نعم. قال ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك، فأتيتك لتصيبني بخير. فقال: فما فعل مالك فقد اقتسمنا مالا واحدا فأخذت شطره وأنا شطره؟ فقص عليه قصته، فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا، أي بأنك تبعث وتجازى؟ اذهب فوالله لا أعطيك شيئا.
فطرده، فقضي لهما أن توفيا، فنزل فيهما: " * (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) *) إلى قوله: " * (فاطلع فرآه في سواء الجحيم) *)، ونزلت " * (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين) *): بستانين " * (من أعناب وحففناهما) *): أحطناهما " * (بنخل وجعلنا بينهما زرعا) *)، يعني: جعلنا حول الأعناب النخل ووسط الأعناب الزرع.
" * (كلتا الجنتين آتت) *): أعطت، يعني: آتت كل واحدة من الجنتين، فلذلك لم يقل: آتتا " * (أكلها) *): ثمرها تاما " * (ولم تظلم منه شيئا) *)، أي لم ينقص، " * (وفجرنا خلالهما نهرا) *)، يعني: شققنا وأخرجنا وسطهما نهرا.
" * (وكان له) *)، يعني: لفطروس " * (ثمر) *)، يعني: المال الكثير المثمر من كل صنف، جمع ثمار. ومن قرأ: (ثمر) فهو جمع ثمرة. مجاهد: ذهب وفضة. ابن عباس: أنواع المال. قتادة: من كل المال. وقال ابن زيد: الثمر الأصل. " * (فقال لصاحبه) *) المؤمن " * (وهو يحاوره) *): يجاوبه " * (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) *)، يعني عشيرة ورهطا. قال قتادة: خدما وحشما. وقال مقاتل: ولدا، تصديقه قوله تعالى " * (إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا) *).
" * (ودخل جنته) *)، يعني: فطروس، أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به ويريه إياها ويعجبه منها، " * (وهو ظالم لنفسه) *) بكفره، فلما رأى ما فيها من الأنهار والأشجار والأزهار والثمار قال: " * (ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة) *): القيامة " * (قائمة) *): آتية كائنة. ثم تمنى على الله أمنية أخرى مع شكه وشركه فقال: " * (ولئن رددت) *): صرفت " * (إلى ربي) *)، فرجعت إليه في المعاد " * (لأجدن خيرا منها) *)، أي من الجنة التي دخلها. وقرأ أهل الحجاز والشام (منهما)
170

على لفظ التثنية، يعني الجنتين، وكذلك هو في مصاحفهم. " * (منقلبا) *)، أي منزلا ومرجعا. يقول: لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلا ولي عنده أفضل في الآخرة.
" * (قال له صاحبه) *) المسلم " * (وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك) *) يعني خلق أباك وأصلك " * (من تراب ثم) *) خلقك " * (من نطفة) *) يعني ماء الرجل والمرأة " * (ثم سواك رجلا) *)، أي عدلك بشرا سويا ذكرا. " * (لكنا هو الله ربي) *)، يقول: أما أنا فلا أكفر بربي، ولكنا هو الله ربي. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير مجازه: لكن الله هو ربي. وقال الآخرون: أصله (لكن أنا) فحذفت الهمزة طلبا للخفة؛ لكثرة استعماله، وأدغمت إحدى النونين في الآخرى، وحذفت ألف (أنا) في الوصل. وقرأ ابن عامر ويعقوب: (لكنا)، بإتيان الألف بالوصل، كقول الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني
حميدا قد تذريت السناما
ولا خلاف في إثباتها في الوقف. " * (ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله) *)، " * (ما) *) في موضع رفع، يعني: هي ما شاء الله، ويجوز أن تكون في موضع النصب بوقوع " * (شاء) *) عليه. وقيل: جوابه مضمر مجازه: ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون. (أخبرنا أبو عمرو الفراتي: القاسم بن كليب: العباس بن محمد الدوزي: حجاج: أبو بكر الهذلي عن يمامة بن عبد الله بن أنس) عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى شيئا فأعجبه فقال: " * (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) *) لم يضره).
ثم قال: " * (إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا) *)، " * (أنا) *) عماد ولذلك نصب. " * (فعسى) *): فلعل " * (ربي أن يؤتيني) *) في الآخرة " * (خيرا من جنتك ويرسل عليها) *): يبعث على جنتك " * (حسبانا من السماء) *)، قال قتادة والضحاك: عذابا. وقال ابن عباس: نارا. وقال ابن زيد: قضاء من
الله عز وجل يقضيه. قال الأخفش والقتيبي: مرام من السماء واحدتها حسبانة، " * (فتصبح صعيدا زلقا) *)، قال قتادة: يعني صعيدا أملس لا نبات عليه. وقال مجاهد: رملا هايلا وترابا. قال ابن عباس: هو مثل الحزن. " * (أو يصبح ماؤها غورا) *) أي غائرا منقطعا ذاهبا في الأرض لا تناله الأيدي ولا الرشا والدلاء. والغور مصدر وضع موضع الاسم، كما يقال: صوم وزور وعدل، ونساء نوح يستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث. قال عمرو بن كلثوم:
تظل جياده نوحا عليه
مقلدة أعنتها صفونا
وقال آخر
171

هريقي من دموعهما سجاما
ضباع وجاوبي نوحا قياما
" * (فلن تستطيع له طلبا) *) بعد ما ذهب ونصب.
" * (وأحيط بثمره) *) أي أحاط الهلاك بثمر جنتيه، وهي جميع صنوف الثمار. وقال مجاهد: هي ذهب وفضة؛ وذلك أن الله أرسل عليها نارا فأهلكها وغار ماؤها، " * (فأصبح) *) صاحبها الكافر " * (يقلب كفيه) *): يصفق يده على الأخرى، وتقليب كفيه ظهرا لبطن؛ تأسفا وتلهفا " * (على ما أنفق فيها) *) يعني: عليها كقوله: " * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) *) أي عليها " * (وهي خاوية على عروشها) *) ساقطة على سقوفها، خالية من غرسها وبنائها " * (ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا) *).
قال الله عز وجل: " * (ولم تكن له فئة) *) أي جماعة " * (ينصرونه من دون الله) *): يمنعونه من عذاب الله، " * (وما كان منتصرا) *): ممتنعا منتقما.
" * (هنالك) *) يعني: في القيامة " * (الولاية لله الحق) *)، قرأ الأعمش وحمزة والكسائي (الولاية) بكسر الواو يعني: السلطان والأمر. وقرأ الباقون بفتح الواو، من الموالاة كقوله: " * (الله ولي الذين آمنوا) *)، وقوله: " * (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) *).
قال القتيبي: يريد: يتولون الله يومئذ، ويؤمنون به ويتبرؤون مما كانوا يعبدون. وقوله: " * (الحق) *) رفعه أبو عمرو والكسائي على نعت الولاية، وتصديقه قراءة أبي: (هنالك الولاية الحق لله). وقرأ الآخرون بالكسر على صفة الله كقوله: " * (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) *)، وتصديقه قراءة عبد الله: (هنالك الولاية لله وهو الحق) فجعله من نعت الله. " * (هو خير ثوابا) *) لأوليائه وأهل طاعته " * (وخير عقبى) *) لهم في الآخرة إذا صاروا إليه. والعقب: العاقبة، يقال: هذا عاقبة أمره كذا، وعقباه وعقبه أي آخرة قوله.
(* (واضرب لهم مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شىء مقتدرا * المال والبنون زينة الحيواة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا * ويوم نسير الجبال وترى الارض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا *
172

وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا * ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا * وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أوليآء من دونى وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) *) 2
" * (واضرب) *) يا محمد " * (لهم) *): لهؤلاء المتكبرين المترفين الذين سألوا طرد الفقراء المؤمنين " * (مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) *)، يعني: المطر. قالت الحكماء: شبه الله تعالى الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع وحال، كذلك الدنيا لا تبقى لأحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة وكذلك الدنيا، ولأن الماء يفنى كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، فكذلك الدنيا لا يسلم من آفاتها وفتنتها أحد، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا مبقيا وإذا جاوز الحد المقدر كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع، وفضولها يضر. " * (اختلط به) *): بالماء " * (نبات الأرض فأصبح) *) عن قريب " * (هشيما) *)، قال ابن عباس: يابسا. قال الضحاك: كسيرا. قال الأخفش: متفتتا، وأصله الكسر. " * (تذروه الرياح) *)، قال ابن عباس: تديره. قال ابن كيسان: تجيء به وتذهب. قال الأخفش: ترفعه. وقال أبو عبيدة: تفرقه. القتيبي: تنسفه. وقرأ طلحة بن مصرف: الآية فقال: ذرته الريح تذروه ذروا، وتذريه ذريا وأذرته إذراء إذا أطارت به، " * (وكان الله على كل شيء مقتدرا) *)، قادرا.
" * (المال والبنون) *) التي يفخر بها عيينة وأصحابه من الأشراف والأغنياء " * (زينة الحياة الدنيا) *)، وليست من زاد القبر ولا من عدد الآخرة، " * (والباقيات الصالحات) *) التي يعملها سلمان وأصحابه من الموالي والفقراء " * (خير عند ربك ثوابا وخير أملا) *) أي خير ما يأمله الإنسان. واختلفوا في " * (الباقيات الصالحات) *) ما هي؛ قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك: هي قول العبد: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر). يدل عليه ما روى مسلم بن إبراهيم عن أبي هلال عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ غصنا فحركه حتى سقط ورقه، وقال: (إن المسلم إذا قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، تحاتت عنه الذنوب. خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن؛ فهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام، وهن الباقيات الصالحات).
وقال عثمان (ح) وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح: هي (سبحان الله
173

والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم). يدل عليه (ما) روى القاسم بن عبد الله العمري، ومحمد بن عجلان عن عبد الجليل
بن حميد عن خالد ابن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم خرح على قومه، فقال: (خذوا جنتكم). قالوا: يا رسول الله، من عدو حضر؟ قال: (بل من النار). قالوا: وما جنتنا من النار؟ قال: (الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات مجنبات ومعقبات، وهن الباقيات الصالحات).
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استكثروا من الباقيات الصالحات). فقيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: (الملة). قال: وما هي؟ قال: (التكبير، والتهليل، والتسبيح، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
وقال عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي فقال: قل له: القني عند زاوية القبر؛ فإن لي إليك حاجة. قال: فالتقيا، فسلم أحدهما على الآخر، ثم قال سالم: ما تعد الباقيات؟ فقال: لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فقال له سالم: متى جعلت: ولا حول ولا قوة إلا بالله؟ قال: ما زلت أجعله فيها. قال فراجعه مرتين وثلاثا فلم ينزع، فقال سالم: أجل. فأتيت أبا أيوب الأنصاري فحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم (عليه السلام) فقال: يا جبرئيل، من هذا معك؟ فقال: محمد. فرحب بي وسهل، ثم قال: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة، وإن أرضها واسعة. فقلت وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله).
وقال سعيد بن جبير وعمرو بن شرحبيل ومسروق وإبراهيم: هي الصلوات الخمسة، وهي " * (الحسنات يذهبن السيئات) *).
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هي الأعمال الصالحة: لا إله إلا الله، وأستغفر الله وصلى الله على محمد، والصلاة والصوم والحج والصدقة والعتق والجهاد والصلة وجميع الحسنات التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض.
وروى عطية عن ابن عباس قال: هي الكلام الطيب. وقال عوف: سألت الحسن عن الباقيات الصالحات، قال: النيات والهمات؛ لأن بها تقبل الأعمال وترفع. قال قتادة: هي كل ما أريد به وجه الله. والله أعلم
174

" * (ويوم نسير الجبال) *): نزيلها عن أماكنها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (تسير) بالتاء وفتح الياء (الجبال) رفعا على المجهول، " * (وترى الأرض بارزة) *) ظاهرة كرأي العين ليس عليها شجر ولا جبل ولا ثمر ولا شيء يسترها. وقال عطاء: ترى باطن الأرض ظاهرا قد برز الذين كانوا في بطنها فصاروا على ظهرها، " * (وحشرناهم) *): جمعناهم إلى الموقف للحساب، " * (فلم نغادر) *): نترك ونخلف " * (منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا) *) يعني: صفا صفا؛ لأنهم صف واحد. وقيل قياما، يقال لهم يعني للكفار، لفظه عام ومعناه خاص: " * (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) *) يعني: أحياء. وقيل: عراة. وقيل: عزلا. وقيل: فرادى. " * (بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا) *) يعني: القيامة.
قوله تعالى: " * (ووضع الكتاب) *) يعني كتب أعمال الخلق، " * (فترى المجرمين مشفقين) *): خائفين " * (مما فيه) *) من الأعمال السيئة، " * (ويقولون) *) إذا رأوها: " * (يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة) *) من ذنوبنا؟ قال ابن عباس: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة. وقال سعيد بن جبير: الصغيرة اللمم والتخميش والقبل والمسيس، والكبيرة: الزنا، والمواقعة، " * (إلا أحصاها) *)، قال ابن عباس: عملها. وقال السدي: كتبها وأثبتها. وقال مقاتل بن حيان: حفظها. وقيل: عدها. وقال إبراهيم ابن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية قال: ضجوا والله من الصغار قبل الكبار. وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغائر الذنوب مثلا فقال: (كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتى نزلوا بفلاة من الأرض فانطلق كل رجل منهم يحتطب، فجعل الرجل منهم يأتي بالعود ويجيء الآخر بعودين حتى جمعوا سوادا وأججوا. وإن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه حتى يهلكه).
" * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) *) مكتوبا مثبتا في كتابهم " * (ولا يظلم ربك أحدا) *) يعني: لا ينقص ثواب أحد عمل خيرا. قال الضحاك: لا يأخذ أحدا بجرم لم يعمله ولا يورث ذنب أحد على غيره.
" * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) *) يقول جل ذكره مذكرا لهؤلاء المتكبرين ما أورث الكبر إبليس، ويعلمهم أنه من العداوة والحسد لهم على مثل الذي كان لأبيهم: واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، " * (فسجدوا إلا إبليس كان من الجن) *)؛ اختلفوا فيه فقال ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم، وخلق الملائكة من نور غير هذا الحي. وكان اسمه بالسريانية عزازيل وبالعربية الحرث، وكان من خزان الجنة، وكان رئيس ملائكة الدنيا، وكان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة
175

حلما وأكثرهم علما، وكان يسوس ما بين السماء والأرض فرأى بذلك لنفسه شرفا وعظمة فذلك الذي دعاه إلى الكبر، فعصى فمسخه الله شيطانا رجيما ملعونا. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه، وكانت خطيئة آدم معصية، وخطيئة إبليس كبرا.
وقال ابن عباس في رواية أخرى: كان من الجن (و) إنما سمي بالجنان، لأنه كان خازنا عليها فنسب إليها، كما يقال للرجل: مكي وكوفي ومدني وبصري. (أخبرنا عبد الله بن حامد: أخبرنا محمد ابن يعقوب السري عن يحيى بن عثمان بن زفر قال): روى يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير في قوله عز وجل: " * (كان من الجن) *) قال: كان من الجنانيين الذين يعملون في الجنة. وقال الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الأنس. وقال شهر ابن حوشب: كان إبليس من الجن الذين ظفر بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة، فذهب به إلى السماء. وقال قتادة: جن عن طاعة الله تعالى، " * (ففسق عن أمر ربه) *) يعني: خرج عن طاعة ربه. تقول العرب: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، ولذلك قيل لها: الفويسقة.
وقيل: هي من الفسوق، وهي الاتساع، تقول العرب: فسق فلان في النفقة إذا اتسع فيها، وما أصاب مالا إلا فسقه، أي أهلكه وبذره. والفاسق سمي فاسقا؛ لأنه اتسع في محارم الله عز وجل، وهونها على نفسه. " * (أفتتخذونه) *)، يعني يا بني آدم " * (وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو) *): أعداء. وقال الحسن: الإنس من آخرهم من ذرية آدم، والجن من آخرهم من ذرية إبليس. قال مجاهد: فمن ذرية إبليس لافيس وولهان وهو صاحب الطهارة والصلاة، والهفان ومرة وبه يكنى إبليس وزيلنون وهو صاحب الأسواق يضع رايته بكل سوق من السماء والأرض، والدثر وهو صاحب المصائب يأمر بضرب الوجه وشق الجيوب والدعاء بالويل والحرب، والأعور وهو صاحب أبواب الزنا، ومبسوط وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون (لها) أصلا، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله عز وجل، بصره من المقابح ما لم يرفع أو لم يحسن موضعه، فإذا أكل ولم يذكر اسم الله عليه أكل معه.
وقال الأعمش: ربما دخلت البيت، ولم أذكر اسم الله ولم أسلم فرأيت مطهره فقلت: ارفعوا، وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول: داسم، داسم.
وروى مخلد عن الشعبي قال: إني لقاعد يوما إذ أقبل حمال ومعه دن حتى وضعه، ثم جاءني فقال: أنت الشعبي؟ قلت: نعم. فقال: أخبرني هل لإبليس زوجة؟ قلت: إن ذلك لعرس
176

ما شهدته. قال: ثم ذكرت قول الله تعالى: " * (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) *)، فعلمت أنه لا يكون ذرية إلا من زوجة، قلت: نعم. فأخذ دنه وانطلق، قال: فرأيت أنه مختاري. قال ابن زيد: إبليس أبو الجن كما إن آدم (عليه السلام) أبو الإنس. قال الله تعالى لإبليس: إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها، (كلما) ولد لآدم. قال قتادة: إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وما ولد لآدم ذرية إلا ولد له مثله، فليس من ولد آدم أحد إلا له شيطان قد قرن به. " * (بئس للظالمين بدلا) *)، أي بئس البدل لإبليس وذريته من الله. قال قتادة: بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم: طاعة إبليس وذريته.
2 (* (مآ أشهدتهم خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا * ويوم يقول نادوا شركآئى الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا * ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا * ولقد صرفنا فى هاذا القرءان للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شىء جدلا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الاولين أو يأتيهم العذاب قبلا * وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا ءاياتى وما أنذروا هزوا * ومن أظلم ممن ذكر بئايات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا * وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا * وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) *) 2
" * (ما أشهدتهم) *): ما أحضرتهم، يعني إبليس وذريته. وقيل: يعني الكافرين أجمع. قال الكلبي: يعني ملائكة السماوات. وقرأ أبو جعفر: (ما أشهدناهم) بالنون والألف على التعظيم، " * (خلق السماوات والأرض) *) فأستعين بهم على خلقها، وأشاورهم وأوامرهم فيها، " * (ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) *): أنصارا وأعوانا.
" * (ويوم يقول نادوا) *) قرأ حمزة بالنون. الباقون بالياء لقوله: " * (شركائي) *) ولم يقل: شركاءنا. " * (شركائي الذين زعمتم) *) أنهم شركائي، " * (فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم) *) يعني بين الأوثان وعبدتها. وقيل: بين أهل الهدى والضلالة " * (موبقا) *)، قال عبد الله بن عمر: هو واد عميق في جهنم يفرق به يوم القيامة بين أهل لا إله إلا الله، وبين من سواهم. وقال ابن عباس: هو واد في النار. وقال مجاهد: واد من حميم. وقال عكرمة: هو نهر في النار يسيل
177

نارا، على حافتيه حيات مثل البغال الدهم، فإذا بادرت إليهم لتأخذوهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها. وقال الحسن: عداوة. وقال الضحاك وعطاء: مهلكا. وقال أبو عبيد: موعدا، وأصله الهلاك، يقال: أوبقه يوبقه إيباقا، أي أهلكه، ووبق يبق وبقا، أي هلكة، ويقال: وبق يوبق ويبق ويأبق، وهو وابق ووبق، والمصدر: وبق، ووبوق.
" * (ورأى المجرمون) *): المشركون " * (النار فظنوا أنهم مواقعوها) *): داخلوها. وقال مجاهد: مقتحموها وقيل: نازلوها وواقعون فيها. وقرأ الأعمش: (ملاقوها)، يعني مجتمعين فيها، والهاء الجمع " * (ولم يجدوا عنها مصرفا) *).
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنه مواقعها من مسيرة أربعين سنة).
" * (ولقد صرفنا) *): بينا " * (في هذا القرآن للناس من كل مثل) *) ليتذكروا ويتعظوا " * (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) *): خصومة في الباطل، يعني أبي بن خلف الجمحي، وقيل: إنه عام ليس بخاص، واحتجوا بما روى الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه هو وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تصلون؟ فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله تعالى، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك له ولم يرجع شيئا، فسمعته وهو يضرب فخذه ويقول: " * (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) *)).
" * (وما منع الناس أن يؤمنوا) *) يعني من أن يؤمنوا، " * (إذ جاءهم الهدى) *): القرآن والإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم " * (ويستغفروا) *): ومن أن يستغفروا ربهم " * (إلا أن تأتيهم سنة الأولين) *) يعني سنتنا في إهلاكهم " * (أو يأتيهم العذاب قبلا) *)، قال ابن عباس: عيانا.
قال الكلبي: هو السيف يوم بدر. قال مجاهد: فجأة. ومن قرأ " * (قبلا) *)، بضمتين، أراد به: أصناف العذاب.
" * (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا) *): يبطلوا ويزيلوا " * (به الحق) *)، قال السدي: ليفسدوا، وأصل الدحض: الزلق، يقال: دحضت رجله أي زلقته. وقال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته
وحدت كما حاد البعير عن الدحض
178

(واتخذوا آياتي وما أنذروا، فيه إضمار يعني: وما أنذروا وهو القرآن " * (هزوا) *): استهزاء.
" * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) *): لم يؤمن بها " * (ونسي ما قدمت يداه) *)، أي عملت يداه من الذنوب " * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) *)، يعني القرآن " * (وفي آذانهم وقرا) *): ثقلا وصمما " * (وإن تدعهم) *) يا محمد " * (إلى الهدى) *) يعني إلى الدين " * (فلن يهتدوا إذا أبدا) *): لن يرشدوا ولن يقبلوه.
" * (وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا) *) من الذنوب " * (لعجل لهم العذاب) *) في الدنيا " * (بل لهم موعد) *) وهو يوم الحساب " * (لن يجدوا من دونه موئلا) *): معدلا ومنجى، قال الأعشى:
وقد أخالس رب البيت غفلته
وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي لا ينجو.
" * (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا) *): كفروا، " * (وجعلنا لمهلكهم موعدا) *): أجلا.
2 (* (وإذ قال موسى لفتاه لاأبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله فى البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه ءاتنا غدآءنا لقد لقينا من سفرنا هاذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينآ إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت ومآ أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله فى البحر عجبا * قال ذالك ما كنا نبغ فارتدا علىءاثارهما قصصا * فوجدا عبدا من عبادنآ ءاتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معى صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدنىإن شآء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا * قال فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شىء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا * قال لا تؤاخذنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا * قال إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا * فانطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية استطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هاذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأردت أن أعيبها وكان ورآءهم ملك
179

يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينآ أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنآ أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكواة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) *) 2
" * (وإذ قال موسى لفتاه) *) الآية قال ابن عباس: لما ظهر موسى (عليه السلام) وقومه على مصر أنزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار أنزل الله عز وجل: " * (أن ذكرهم بأيام الله) *) فخطب قومه وذكر بما آتاهم الله عز وجل من الخير والنعمة؛ إذ نجاهم من آل فرعون وأهلك عدوهم واستخلفهم في الأرض، فقال: (وكلم الله نبيكم تكليما، واصطفاني لنفسه، وألقى علي محبة منه، وآتاكم من كل ما سألتموه، ونبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرؤون التوراة). فلم يترك نعمة أنعمها الله عز وجل عليهم إلا ذكرها وعرفها إياهم، فقال له رجل من بني إسرائيل: قد عرفنا الذي تقول، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: (لا). فعتب الله عز وجل عليه حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبرئيل، فقال: (يا موسى وما يدريك أين أضع علمي؟ بل إن لي عبدا بمجمع البحرين أعلم منك). فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى الله عز وجل إليه أن: (ايت البحر فإنك تجد على شط البحر حوتا، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثم الزم شط البحر إذا نسيت الحوت وهلك منك فثم تجد العبد الصالح).
وقال ابن عباس في رواية أخرى: سأل موسى ربه فقال: (رب أي عبادك أحب إليك؟). قال: (الذي يذكرني فلا ينساني). قال: (فأي عبادك أقضى؟). قال: (الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى). قال: (ربي فأي عبادك أعلم؟). قال: (الذي يبغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى). قال: (إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فادللني عليه). فقال له: (نعم، في عبادي من هو أعلم منك). قال: (من هو؟). قال: (الخضر). قال: (وأين أطلبه؟). قال: (على الساحل عند الصخرة). وجعل الحوت له آية، وقال: (إذا حي هذا الحوت، وعاش، فإن صاحبك هناك).
وكانا قد تزودا سمكا مالحا فذلك قوله عز وجل: " * (وإذ قال موسى) *) بن عمران " * (لفتاه) *): صاحبه يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف. وقيل: فتاه أخو يوشع، كان معه في سفره. وقيل: فتاه عبده ومملوكه: " * (لا أبرح) *): لا أزال أسير " * (حتى أبلغ مجمع البحرين) *)، قال قتادة: بحر فارس
والروم مما يلي المشرق. وقال محمد بن كعب: طنجة. وقال أبي بن كعب: أفريقية
180

" * (أو أمضي حقبا) *) وجمعه أحقاب: دهرا أو زمانا. وقال عبد الله بن عمر: والحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون سنة. وقيل: البحران هما موسى والخضر، كانا بحرين في العلم.
فحملا خبزا وسمكة مالحة وسارا حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلا، وعندها عين تسمى ماء الحياة، لا يصيب ذلك الماء شيئا إلا حي، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر، فذلك قوله عز وجل: " * (فلما بلغا) *)، يعني: موسى وفتاه " * (مجمع بينهما) *) يعني: بين البحرين " * (نسيا حوتهما) *): تركا حوتهما، وإنما كان الحوت مع يوشع، وهو الذي نسيه فصرف النسيان إليهما، والمراد به: أحدهما كما قال: " * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *) وإنما يخرج من المالح دون العذب. وإنما جاز ذلك؛ لأنهما كانا جميعا تزودا لسفرهما، فجاز إضافته إليهما، كما يقال: خرج القوم إلى موضع كذا، وحملوا معهم من الزاد كذا، وإنما حمله أحدهم، لكنه لما كان ذلك من أمرهم ورأيهم أضيف إليهم. " * (فاتخذ) *) الحوت " * (سبيله في البحر سربا) *)، أي مسلكا ومذهبا يسرب ويذهب فيه.
واختلفوا في كيفية ذلك؛ فروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انجاب الماء عن مسلك الحوت فصارت كوة لم تلتئم، فدخل موسى الكوة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر (عليه السلام)).
وقال ابن عباس: رأى أثر جناحه في الطين حين وقع في الماء، وجعل الحوت لا يمس شيئا إلا يبس حتى صار صخرة. وروى ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما انتهيا إلى الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، أمسك الله عز وجل عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى (عليه السلام) نسي فتاه أن يخبره بالحوت وانطلقا بقية يومهما وليلتهما. حتى إذا كان من الغد " * (فلما جاوزا قال) *) موسى " * (لفتاه آتنا غداءنا) *)).
وقال قتادة: رد الله عز وجل إلى الحوت روحه فسرب من البحر حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فجعل لا يسلك منه طريقا إلا صار ماء جامدا طريقا يبسا. وقال الكلبي: توضأ يوشع بن نون من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش، ثم وثب في ذلك الماء، فجعل يضرب بذنبه الماء، ولا يضرب بذنبه شيئا من الماء وهو ذاهب إلا يبس. " * (فلما جاوزا) *)، يعني ذلك الموضع " * (قال موسى لفتاه آتنا) *): أعطنا " * (غداءنا) *): طعامنا وزادنا، وذلك أن يوشع بن نون حين رأى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى ليخبره بأمر الحوت، فنسي أن يخبره فمكثا يومهما ذلك حتى صليا الظهر من الغد، ولم ينصب موسى في سفره ذلك إلا يومئذ حين
181

جاوز الموضع الذي أمر به، فقال لفتاه حين مل وتعب: " * (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) *)، أي شدة وتعبا، وذلك أنه ألقي على موسى الجوع بعد ما جاوز الصخرة، ليتذكر الحوت، ويرجع إلى موضع مطلبه، فقال له فتاه وتذكر: " * (أرأيت إذ أوينا) *): رجعنا " * (إلى الصخرة) *)، قال مقاتل: هي الصخرة التي دون نهر الزيت " * (فإني نسيت الحوت) *)؟ أي تركته وفقدته.
وقيل: فيه إضمار معناه: نسيت أن أذكر أمر الحوت، ثم قال: " * (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) *)، يعني: أنسانيه ألا أذكره. وقيل: فيه تقديم وتأخير مجازه: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان، " * (واتخذ سبيله في البحر عجبا) *)، يجوز أن يكون هذا من قول يوشع، يقول: اتخذ الحوت سبيله في البحر عجبا. وقيل: إن يوشع يقول: إن الحوت طفر إلى البحر فاتخذ فيه مسلكا، فعجبت من ذلك عجبا. ويجوز أن يكون هذا من قول موسى، قال له يوشع: " * (واتخذ سبيله في البحر) *)، فأجابه موسى: " * (عجبا) *) كأنه قال: أعجب عجبا.
وقال ابن زيد: أي شيء أعجب من حوت، كان دهرا من الدهور يؤكل منه ثم صار حيا حتى حشر في البحر. قال: وكان شق حوت. وقال ابن عباس: اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا. قال وهب: ظهر في الماء من أثر جري الحوت شق وأخدود شبه نهر من حيث دخلت إلى حيث انتهت. فرجع موسى حتى انتهى إلى مجمع البحرين، فإذا هو بالخضر (عليه السلام)، فذلك قوله: * (قال موسى لفتاه) * * (ذلك ما كنا نبغي) *) أي نطلب، يعني الخضر " * (فارتدا) *): فرجعا " * (على آثارهما قصصا) *): يقصان الأثر: يتبعانه.
" * (فوجدا عبدا من عبادنا) *) يعني الخضر واسمه بليا بن ملكان بن يقطن، والخضر لقب له، سمي بذلك، لما (أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكي بن عبدان: أخبرنا أبو الأزهر عن عبد الرزاق عن) معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما سمي الخضر خضرا؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء).
(قال عبد الرزاق: فروة بيضاء يعني: حشيشة يابسة، (و) فروة: قطعة من الأرض فيها نبات). وقال مجاهد: إنما سمي الخضر؛ لأنه إذا صلى اخضر ما حوله. وروى عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سلمان قال: رأى موسى الخضر (عليه السلام) على طنفسة خضراء على وجه الماء، فسلم عليه. وقال ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسل
182

قال: (انتهى موسى إلى الخضر (عليه السلام) وهو نائم عليه ثوب مسجى، فسلم عليه؛ فاستوى جالسا قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. قال موسى: وما أدراك بي؟ ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال الذي أدراك بي ودلك علي).
وقال سعيد بن جبير: وصل إليه وهو يصلي، فلما سلم عليه قال: وأنى بأرضنا السلام؟ ثم جلسا يتحدثان فجاءت خطافة وحملت بمنقارها من الماء، قال الخضر: يا موسى خطر ببالك أنك أعلم أهل الأرض، ما علمك وما علم الأولين والآخرين في جنب الله إلا أقل من الماء الذي حملته الخطافة، فذلك قوله تعالى: " * (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما قال له) *): للعالم " * (موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) *): صوابا؟ " * (قال إنك لن تستطيع معي صبرا) *)؛ لأني أعمل بباطن علم علمنيه ربي عز وجل، " * (وكيف تصبر) *) يا موسى " * (على ما لم تحط به خبرا) *)، يعني على ما لم تعلم؟ وقال ابن عباس: وذلك أنه كان رجلا يعمل على الغيب.
" * (قال) *) موسى: * (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال) * * (فإن أتبعتني فلا تسألني عن شيء) *) مما تنكر " * (حتى أحدث لك منه ذكرا) *): حتى ابتدئ لك بذكره، وأبين لك شأنه. " * (فانطلقا) *) يسيران يطلبان سفينة يركبانها " * (حتى إذا) *) أصابها " * (ركبا في السفينة) *)، فقال أهل السفينة: هؤلاء لصوص، فأمروهما بالخروج منها، فقال صاحب السفينة: ما هم بلصوص ولكني أرى وجوه الأنبياء. وقال أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول فلما دخلوا إلى البحر أخذ الخضر فأسا فخرق لوحا من السفينة حتى دخلها الماء فحشاها موسى ثوبه وقال له: " * (أخرقتها لتغرق أهلها) *)). وقرأ أهل الكوفة (ليغرق) بالياء المفتوحة (أهلها) برفع اللام على أن الفعل لهم، وهي قراءة ابن مسعود، " * (لقد جئت شيئا إمرا) *) أي منكرا. قال القتيبي: عجبا. والإمر في كلام العرب الداهية، قال الراجز:
قد لقي الأقران مني نكرا
داهية دهياء إدا إمرا
وأصله: كل شيء شديد كثير، يقال: أمر القوم، إذا كثروا واشتد أمرهم.
قال العالم " * (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال) *) موسى: " * (لا تؤاخذني بما نسيت) *) (أخبرنا أبو عبد الله بن حامد الوراق عن حامد بن محمد قال: قال أبو سعد بن موسى المروروذي ببغداد، وأخبرنا محمد بن أبي ناجية الإسكندراني عن سفيان بن عيينة عن عمر بن
183

دينار عن) عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كانت الأولى من أمر النسيان، والثانية القدر، ولو صبر موسى لقص الله علينا أكثر مما قص).
وقال أبي بن كعب: أما إنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام. وقال ابن عباس: معناه بما تركت من عهدك، " * (ولا ترهقني) *): تعجلني: وقيل: لا تغشني " * (من أمري عسرا) *)، يقول: لا تضيق علي أمري وصحبتي معك.
" * (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما) *)، قال سعيد بن جبير: وجد الخضر غلمانا يلعبون، وأخذ غلاما ظريفا وضيء الوجه، فأضجعه ثم ذبحه بالسكين. وقال ابن عباس: كان لم يبلغ الحلم. وقال الضحاك: كان غلاما يعمل بالفساد، وتأذى منه أبواه: وكان اسمه خش بوذ. وقال شعيب الحياني: اسمه حيشور، وقال وهب بن منبه كان اسم أبيه ملاس، واسم أمه رحمى. وقال الكلبي كان فتى يقطع الطريق، ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه ويحلفان دونه، فأخذه الخضر فصرعه ثم نزع من جسده رأسه. وقال قوم: رفسه برجله فقتله. وقال آخرون: ضرب رأسه بالجدار فقتله. (أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن) سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا فلما قتله قال له موسى: " * (أقتلت نفسا زكية) *)؟). أي طاهرة. وقيل: مسلمة. قال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان مثل القاسية والقسية. قال أبو عمرو: الزاكية: التي لم تذنب قط، والزكية: التي أذنبت ثم تابت. " * (بغيرنفس) *) أي من غير أن قتلت نفسا أوجب عليها القود، " * (لقد جئت شيئا نكرا) *): منكرا؟ وقال قتادة وابن كيسان: النكر: أشد وأعظم من الإمر.
" * (قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها) *) أي هذه المرة " * (فلا تصاحبني) *): فارقني؛ " * (قد بلغت من لدني عذرا) *) في فراقي. (أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكي بن عبدان عن عبد الرحمن بن بشير عن حجاج بن محمد: أخبرنا حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن) سعيد بن جبير عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسل
184

إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: (رحمة الله علينا وعلى أخي موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب (العجاب)، ولكنه قال: " * (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا) *)).
" * (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية) *) قال ابن عباس: يعني أنطاكية. وقال ابن سيرين: أيلة، وهي أبعد أرض الله من السماء " * (استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما) *)، أي ينزلوهما منزلة الأضياف؛ وذلك أنهما استطعماهم فلم يطعموهما، واستضافاهم فلم يضيفوهما. (أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سلمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن) سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " * (فأبوا أن يضيفوهما) *) قال: (كانوا أهل قرية لئاما).
وقال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف، ولا تعرف لابن السبيل حقه.
" * (فوجدا فيها) *)، أي في القرية " * (جدارا) *)، قال وهب: كان جدارا طوله في السماء مئة ذراع، " * (يريد أن ينقض) *) هذا من مجاز الكلام، لأن
الجدار لا إرادة له، وإنما معناه: قرب ودنا من ذلك، كقول الله تعالى: " * (تكاد السماوات يتفطرن منه) *). قال ذو الرمة:
قد كاد أو (قد) هم بالبيود
وقال بعضهم: إنما رجع إلى صاحبه، لأن هذه الحالة إذا كانت من ربه فهو إرادته، كقول الله تعالى: " * (ولما سكت عن موسى الغضب) *) وإنما يسكت صاحبه. وقال: " * (فإذا عزم الأمر) *) وإنما يعزم أهله. قال الحارثي:
يريد الرمح صدر أبي براء
ويرغب عن دماء بني عقيل
وقال عقيل:
185

إن دهرا يلف شمل سليمى
لزمان يهم بالإحسان
" * (أن ينقض) *)، أي يسقط وينهدم، ومنه انقضاض الكواكب، وهو سقوطها وزوالها عن أماكنها. وقرأ يحيى بن عمر: (يريد أن ينقاض) أي ينقلع وينصدع، يقال: انقاضت السن: انصدعت من أصلها. وقال بعض الكوفيين: الانقياض: الشق طولا، يقال: أنقاض الحائط والسن وطي البئر، إذا انشقت طولا. " * (فأقامه) *): سواه. قال ابن عباس: هدمه ثم قعد يبنيه. وقال سعيد بن جبير: مسح الجدار ودفعه بيده، فاستقام. قال موسى: " * (لو شئت لاتخذت) *)، وقرأ أبو عمرو: (لتخذت) وهما لغتان مثل قولك: (اتبع) و (تبع)، و (اتقى) و (تقى)، قال الشاعر:
وقد تخدت رحلي إلى جنب غرزها
نسيفا كأفحوص القطاة المطرق
وأنشد الزجاج في قوله: (لتخذت) قول أبي شمام الصبابي:
تخذوا الحديد من الحديد معاولا
سكانها الأرواح والأجساد
" * (عليه) *)، أي على إصلاحه وإقامته " * (أجرا) *)، أي جعلا وأجرة. وقيل: قرى وضيافة. فقال الخضر (عليه السلام): " * (هذا فراق بيني وبينك) *) قرأ لاحق بن حميد: (فراق) بالتنوين، " * (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) *) قال كعب: كانت لعشرة إخوة: خمسة منهم زمنى، وخمسة منهم يعملون في البحر. وفي قوله: " * (مساكين) *) دليل على أن المسكين وإن كان ملك شيئا فلا يزول عنه اسم المسكنة إذا كانت به حاجة إلى ما هو زيادة على ملكه، ويجوز له أخذ الزكاة. (وأخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن علي الحمشادي، عن أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال: أبو الحسن أحمد بن زكريا المقدسي عن إبراهيم بن عبد الله الصنعاني عن إبراهيم) بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال: قلت لابن عباس: قوله: " * (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) *)، كانوا مساكين والسفينة تساوي ألف دينار؟ قال: إن المسافر مسكين ولو كان معه ألف دينار. " * (فأردت أن أعيبها وكان وراءهم) *) أي أمامهم وقدامهم كقوله تعالى: * (من ورائه جهنم و) * * (من ورائهم برزخ) *) أي أمامهم. قال الشاعر:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي
وقومي تميم والفلاة ورائيا
186

وقيل: " * (وراءهم) *): خلفهم، وكان رجوعهم في طريقهم عليه، ولم يكونوا يعلمون بخبره فأعلم الله الخضر (عليه السلام) بخبره. " * (ملك يأخذ كل سفينة غصبا) *)، أي كل سفينة صالحة، فاكتفى بدلالة الكلام عليه، يدل عليه ما روى سفيان عن عمر بن دينار عن ابن عباس أنه يقرأ (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا). فخرقها وعيبها، لئلا يتعرض لها ذلك الملك، واسمه جلندى وكان كافرا. قال محمد بن إسحاق: وكان اسمه منواه بن جلندى الأردني. وقال شعيب الجبائي اسمه هدد بن بدد.
" * (وأماالغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا) *)، أي فعلمنا. وفي مصحف أبي: (فخاف ربك) أي علم، ونظائره كثيرة. وقال قطرب: معناه فكرهنا، كما تقول: فرقت بين الرجلين خشية أن يقتتلا، وليست فيك خشية ولكن كراهة أن يقتتلا. " * (أن يرهقهما) *)، أي يهلكهما. وقيل: يغشاهما. وقال الكلبي: يكلفهما " * (طغيانا وكفرا) *)، قال سعيد بن جبير: خشينا أن يحملهما حبه على أن يدخلهما معه في دينه.
" * (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة) *): صلاحا وإسلاما " * (وأقرب رحما) *) هو من الرحم والقرابة. وقيل: هو من الرحمة، يقال: رحم ورحم للرحمة، مثل هلك وهلك، وعمر وعمر، قال العجاج:
ولم تعوج رحم من تعوجا
قال ابن عباس: " * (وأقرب رحما) *) يعني: وأوصل للرحم وأبر بوالديه. قال قتادة: أقرب خيرا، وقال ابن جريج: يعني أرحم به منهما بالمقتول. وقال الفراء: وأقرب أن يرحما له. قال الكلبي: أبدلهما الله جارية، فتزوجها نبي من الأنبياء، فولدت له نبيا فهدى الله عز وجل على يديه أمة من الأمم. (وأخبرنا عبد الله بن
حامد عن حامد بن أحمد قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن الحرث القاضي عن عبد الوهاب بن فليح عن ميمون بن عبد الله القداح عن) جعفر بن محمد عن أبيه في هذه الآية قال: (أبدلهما جارية فولدت سبعين نبيا).
وقال ابن جريج: أبدلهما بغلام مسلم وكان المقتول كافرا وكذلك هو في حرف ابي: (فأما الغلام فكان كافرا، وكان أبواه مؤمنين). وقال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله؛ فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
187

" * (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) *) واسمهما أصرم وصريم " * (وكان تحته كنز لهما) *) اختلفوا في ذلك الكنز ما هو، فقال بعضهم: صحف فيها علم مدفونة تحته، وهو قول سعيد ابن جبير. وقال ابن عباس: ما كان الكنز إلا علما، وقال الحسن وجعفر بن محمد: (كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول مرفوعا في بعض الروايات أنه كان مكتوبا في ذلك اللوح تحت ما ذكر هذه الآيات: (يا أيها المهتم هما لا تهمه، إنك إن تدركك الحمى تحم (...) علوت شاهقا من العلم كيف توقيك وقد جف القلم؟).
وقال عكرمة كان ذلك الكنز مالا. (أخبرنا أبو بكر الحمشادي: حدثنا أبو الحسن أحمد ابن محمد بن قيدوس الطرائقي عن عثمان بن سعيد عن صفوان بن صالح الثقفي عن الوليد بن مسلم عن يزيد بن يوسف الصنعاني عن يزيد بن أبي يزيد عن) مكحول عن (أبي) الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " * (وكان تحته كنز لهما) *)، قال: (كان ذهبا وفضة).
" * (وكان أبوهما صالحا) *)، واسمه كاشح، وكان من الأتقياء. ذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان سياحا. (وأخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن الحميدي عن) سفيان عن محمد ابن سوقة عن محمد بن المنكدر قال: إن الله عز وجل ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده، وعشيرته التي هو فيها، والدويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله وستره.
وعن سعيد بن المسيب أنه كان إذا رأى ابنه قال: أي بني لأزيدن صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك. ويتلو هذه الآية. (وأخبرنا عبد الله بن حامد عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي عن أحمد بن الليث بن الخليل عن عمر بن محمد قال: حدثني محمد بن الهيثم
188

ابن عبد الله الضبيعي عن) العباس بن محمد بن عبد الرحمن: حدثني أبي عن يحيى بن إسماعيل بن مسلمة ابن كهيل قال: كانت لي أخت أسن مني فاختلطت وذهب عقلها، وتوحشت، وكانت في غرفة في أقصى سطوحها، فمكثت بذلك بضع عشرة سنة، وكانت مع ذهاب عقلها تحرص على الصلاة والطهور. فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ باب بيتي يدق في نصف الليل، فقلت: من هذا؟ قالت: بحة. قلت: أختي قالت: أختك. فقلت: لبيك. وقمت ففتحت الباب، فدخلت ولا عهد لها بالبيت منذ أكثر من عشر سنين، فقلت لها: يا أخته خيرا؟ قالت: خير، أتيت الليلة في منامي، فقيل: السلام عليك يا بحة، فقلت: وعليك السلام، فقيل: إن الله قد حفظ أباك إسماعيل بن سلمة بن كهيل بسلمة جدك، وحفظك بأبيك إسماعيل، فإن شئت دعوت الله لك فأذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فإن أبا بكر وعمر قد تشفعا لك إلى الله عز وجل بحب أبيك وجدك إياهما. فقلت: إن كان لا بد من اختيار أحدهما، فالصبر على ما أنا فيه والجنة، فإن الله عز وجل لواسع لخلقه لا يتعاظمه شيء، إن يشأ يجمعهما لي فعل. قالت: فقيل لي: قد جمعهما الله عز وجل لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر، قومي فانزلي. قال: فأذهب الله ما بها.
" * (فأراد ربك) *) يا موسى " * (أن يبلغا أشدهما) *)، أي يدركا شدتهما وقوتهما. وقيل: ثماني عشرة سنة، " * (ويستخرجا كنزهما) *) المكنوز تحت الجدار، " * (وما فعلته عن أمري) *) برأيي ومن تلقاء نفسي، بل فعلت عن أمر الله عز وجل. " * (ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبرا) *) و (اسطاع) و (استطاع) بمعنى واحد.
(* (ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له فى الارض وآتيناه من كل شىء سببا * فأتبع سببا * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إمآ أن تعذب وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزآء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا * كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا * قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الارض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا * قال ما مكنى فيه ربى خير فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما * ءاتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتونىأفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا * قال هاذا رحمة من ربى فإذا جآء وعد ربى جعله دكآء وكان وعد ربى حقا) *
189

" * (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا) *)، اختلفوا في نبوته فقال بعضهم: كان نبيا. وقال الآخرون: كان ملكا عادلا صالحا. (أخبرنا أبو منصور الحمشادي: أبو عبد الله محمد بن يوسف عن) وكيع عن العلاء بن عبد الكريم قال: سمعت مجاهدا يقول: ملك الأرض أربعة: مؤمنان، وكافران. فأما المؤنان فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود وبخت نصر.
واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين، فقال بعضهم: سمي بذلك، لأنه ملك الروم وفارس. وقيل: لأنه كان في رأسه شبه القرنين. وقيل: لأنه رأى في منامه كأنه
أخذ بقرني الشمس فكان تأويل رؤياه أنه طاف الشرق والغرب. وقيل: لأنه دعا قومه إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيمن ثم دعاهم إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيسر. وقيل: لأنه كان له ذؤابتان حسناوان، والذؤابة تسمى قرنا. وقيل: لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه. وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس، وهو حي. وقيل: لأنه إذا كان حارب قاتل بيده وركابه جميعا. وقيل: لأنه أعطي علم الظاهر الباطن. وقيل: لأنه دخل النور والظلمة.
" * (إنا مكنا له في الأرض) *) أوطأنا له في الأرض فملكها وهديناه طرقها، " * (وآتيناه من كل شيء) *) يحتاج إليه الخلق. وقيل: من كل شيء يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء " * (سببا) *) علما يتسبب به إليه. وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد. وقيل: قربنا إليه أقطار الأرض، كما سخرنا الريح لسليمان (عليه السلام).
" * (فأتبع) *): سلك وسار. وقرأ أهل الكوفة: (فأتبع)، (ثم اتبع) بقطع الألف وجزم الثاني: لحق " * (سببا) *)، قال ابن عباس: منزلا، وقال مجاهد: طريقا بين المشرق والمغرب، نظير قوله تعالى: " * (لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات) *) يعني الطرق.
" * (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة) *) قرأ العبادلة: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير، والحسن، وأبو جعفر، وابن عامر وأيوب، وأهل الكوفة: (حامية) بالألف، أي حارة. ويدل عليه ما (أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن سفيان بن الحسين عن الحكم ابن عيينة عن) إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا ذر أين تغرب هذه؟). قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (فإنها تغرب في عين حامية).
190

وقال عبد الله بن عمرو: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت فقال: (في نار الله الحامية، في نار الله الحامية فلولا ما يزعمها من أمر الله عز وجل لأحرقت ما على الأرض).
وقرأ الباقون: " * (حمئة) *) مهموزة بغير ألف، يعني: ذات حمأة، وهي الطينة السوداء. يدل عليه ما روى سعد بن أوس عن مصرع بن يحيى عن ابن عباس قال: أقرأنيها أبي بن كعب كما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (تغرب في عين حمئة) *) وقال كعب: أجدها في التوراة: (في عين سوداء)، فوافق ابن عباس. أبو أسامة عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أبا حاضر أو ابن حاضر رجل من الأزد يقول: سمعت ابن عباس يقول: إني لجالس عند معاوية إذ قرأ هذه الآية: (وجدها تغرب في عين حامية) فقلت: ما نقرؤها إلا " * (حمئة) *). فقال معاوية لعبد الله بن عمر: وكيف تقرؤها؟ قال: كما قرأتها يا أمير المؤمنين. قال ابن عباس: فقلت: في بيتي نزل القرآن. فأرسل معاوية إلى كعب، فجاءه فقال: أين تجد الشمس تغرب في التوراة يا كعب؟ قال: أما العربية فأنتم أعلم بها، وأما الشمس فإني أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين. قال: فقلت لابن عباس: لو كنت عندكما لانشدت كلاما تزداد به نصرة في قولك: " * (حمئة) *). قال ابن عباس: فإذن ما هو؟ فقلت: قول تبع:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما
ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي
أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى معاد الشمس عند غروبها
في عين ذي خلب وثأط حرمد
قال: فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم. قال: فما الثأط؟ قلت: الحمأة. قال: وما الحرمد؟ قلت: الأسود. قال: فدعا رجلا أو غلاما، فقال: اكتب ما يقول هذا. وقال أبو العالية: بلغني أن الشمس في عين، تقذفها العين إلى المشرق.
" * (ووجد عندها قوما) *)، يعني ناسا " * (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب) *): إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام " * (وإما أن تتخذ فيهم حسنا) *)، أي تعفو وتصفح. وقيل: تأسرهم فتعلمهم وتبصرهم الرشاد.
" * (قال أما من ظلم) *)، أي كفر " * (فسوف نعذبه) *): نقتله " * (ثم يرد إلى ربه) *) في الآخرة " * (فيعذبه عذابا نكرا) *): منكرا. " * (وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى) *)، قرأ أهل
191

الكوفة " * (جزاء) *) نصبا منونا على معنى: فله الحسنى جزاء نصب على المصدر، وقرأ الباقون بالرفع على الإضافة. ولها وجهان: أحدهما أن يكون المراد بالحسنى: الأعمال الصالحة، والوجه الثاني أن يكون معنى الحسنى: الجنة، فأضيف الجزاء إليهما كما قال: " * (ولدار الآخرة) *) والدار هي الآخرة: و * (ذلك دين القيمة) * * (وسنقول له من أمرنا يسرا) *) أي نلين له القول، ونهون له الأمر. وقال مجاهد: " * (يسرا) *) أي معروفا.
" * (ثم أتبع سببا) *)، أي سلك طريقا ومنازل " * (حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) *)، قال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر؛ وذلك أنهم كانوا في مكان لا يستقر عليهم بناء، وأنهم كانوا في شرب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم، خرجوا إلى معايشهم وحروثهم. وقال الحسن: كانت أرضهم أرضا لا تحتمل البناء، وكانوا إذا طلعت عليهم الشمس تهوروا في الماء، فإذا ارتفعت عليهم خرجوا فتراعوا كما تراعى البهائم. وقال ابن جريج
: جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها: لا تطلع عليكم الشمس وأنتم بها، فقالوا: ما نبرح حتى تطلع الشمس. وقالوا: ما هذه العظام؟ قالوا: هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس ها هنا فماتوا. قال: فذهبوا هاربين في الأرض. قال قتادة: ويقال: إنهم الزنج. وقال الكلبي: هم تاريس وتأويل ومنسك عراة حفاة عماة عن الحق، قال: وحدثنا عمرو بن مالك بن أمية قال: وجدت رجلا بسمرقند يحدث الناس وهم مجتمعون حوله، فسألت بعض من سمع حديثه فأخبرني أنه حدثهم عن القوم الذين تطلع عليهم الشمس قال: خرجت حتى جاوزت الصين ثم سألت عنهم فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة. فاستأجرت رجلا فسرت بقية عشيتي وليلتي حتى صبحتهم، فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى قال: وكان صاحبي يحسن لسانهم فسألهم وقال: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس. قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي علي فوقعت فأفقت، وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي على الماء كهيئة الزيت وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلما ارتفعت أدخلوني سربالهم أنا وصاحبي، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك فيطرحونه في الشمس فينضج.
قوله تعالى: " * (كذلك) *) اختلفوا فيه، فقال بعضهم: يعني كما بلغ مغرب الشمس فكذلك بلغ مطلعها. وقيل: أتبع سببا كما أتبع سببا. وقيل: كما وجد (القبيلتين) عند مغرب الشمس
192

وحكم فيهم، كذلك وجد عند مطلع الشمس فحكم فيهم بحكم أولئك. وقيل: إن الله عز وجل لما قص عليه خبره قال: " * (كذلك) *) أي كذلك أمرهم والخبر عنهم كما قصصنا عليك، ثم استأنف وقال: " * (وقد أحطنا بما لديه) *)، يعني عنده ومعه من الملك والجيوش والآلات " * (خبرا) *): علما.
" * (ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين) *) بفتح السين، ابن كثير وأبو عمرو وعاصم. الباقون بالضم. قال الكسائي: هما لغتان، وهما جبلان سد ذو القرنين ما بينهما حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن ورائهم. قال عكرمة: ما كان صنعة بني آدم فهو سد بفتح السين وما كان من صنع الله عز وجل فهو السد، بالضم. قال ابن عباس: السدان أرمينية وآذربيجان. " * (وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا) *) قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي " * (يفقهون) *) بضم الياء، وكسر القاف على معنى (يفهمون) غيرهم، وقرأ الباقون: " * (يفقهون) *) بفتح الياء والقاف، أي ويعلمون ويفقهون قولا.
" * (قالوا يا ذا القرنين) *) قيل: كلمه عنهم قوم آخرون مترجمة، وبيان ذلك في قراءة ابن مسعود: (لا يكادون يفقهون قولا، قال الذين من دونهم يا ذا القرنين). وقيل: معناه: لا يكادون يفقهون خيرا من شر، ولا ضلالا من هدى، " * (إن يأجوج ومأجوج) *) قرأهما عاصم والأعرج مهموزين، الباقون بغير همزة. وهما لغتان. قالوا: وأصله من (أجيج النار)، وهو ضوؤها وشررها، شبهوا به في كثرتهم وشدتهم. قال وهب بن منبه ومقاتل بن سليمان: هم من ولد يافت ابن نوح، وقال الضحاك: هم جيل من الترك. وقال كعب: هم نادرة من ولد آدم من غير حواء، وذلك أن آدم (عليه السلام) قال ذات يوم فاحتلم، وامتزجت نطفته في التراب، فلما انتبه أسف على ذلك الماء الذي خرج منه، فخلق الله تعالى من ذلك الماء يأجوج ومأجوج، وهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم.
وقوله تعالى: " * (مفسدون في الأرض) *)، قال سعيد بن عبد العزيز: فسادهم في الأرض أنهم كانوا يأكلون الناس. قال الكلبي: كانوا يخرجون إلى أرضهم أيام الربيع فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه، ولا شيئا يابسا إلا احتملوه فأدخلوه أرضهم، وقد لقوا منهم أذى شديدا وقتلا. وقيل: معناه: أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم. (أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان عن عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن عبد الله النسوي: محمد بن المصفي: يحيى بن سعيد عن محمد بن إسحاق عن) الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال: (يأجوج أمة ومأجوج أمة، كل أمة أربعمئة ألف أمة، لا يموت الرجل
193

منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح). قيل: يا رسول الله صفهم لنا. قال: (هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز) قيل: يا رسول الله، وما الأرز؟ قال: (شجرة بالشام طول الشجر عشرون ومئة ذراع في السماء، وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومئة ذراع، وصنف منهم يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. مقدمهم بالشام وساقتهم بخراسان، ويشربون أنهار المشرق وبحيرة الطبرية).
قال وهب بن منبه: كان ذو القرنين رجلا من الروم، ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره، وكان اسمه الإسكندر، فلما بلغ وكان عبدا صالحا، قال الله تعالى: (يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض، وهي أمم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض، ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله وأمم وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. وأما اللتان بينهما طول الأرض، فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، وأما الأخرى فعند مطلعها يقال لها منسك، وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها: هاويل، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها: تأويل). فلما قال الله تعالى له ذلك، قال ذو القرنين. (يا إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثتني إليها بأي قوة اكابرهم؟ وبأي جمع وبأي حيلة أكاثرهم؟ وبأي صبر أواسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ وكيف لي بأن أفقه لغاتهم؟ وبأي سمع أسمع أقوالهم؟ وبأي بصر أنقدهم؟ وبأي حجة أخاصمهم؟ وبأي عقل أعقل عنهم؟ وبأي حكمة أدبر أمرهم؟ وبأي قسط أعدل بينهم؟ وبأي حلم أصابرهم؟ وبأي معرفة أفصل بينهم؟ وبأي علم أتقن أمورهم؟ وبأي يد أسطو عليهم؟ وبأي رجل أطؤهم؟ وبأي طاقة أحصيهم؟ وبأي جند أقاتلهم؟ وبأي رفق أتألفهم؟ وليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم بهم ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم، وأنت الرؤوف الرحيم لا تكلف نفسا إلا وسعها، ولا تحملها إلا طاقتها، ولا تشقيها بل أنت ترحمها). قال الله تعالى: (إني سأطوقك ما حملتك: أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء، وأشرح لك فهمك فتفهم كل شيء، وأبسط لك لسانك فتنطق بكل شيء، وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء، وأمد لك بصرك فتنقد كل شيء، وأحصي لك فلا يفوتك شيء، وأشد لك عضدك فلا يهولك شيء، وأشد لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأشد لك قلبك فلا يفزعك شيء، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء، وأبسط لك من بين يديك فتسطو فوق كل شيء، وأشد لك وطأتك فتهد
كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك
194

شيء، وأسخر لك النور والظلمة فأجعلهما جندا من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك).
فلما قيل له ذلك انطلق يؤم الأمم التي عند مغرب الشمس فلما بلغهم وجد جمعا وعددا لا يحصيهم إلا الله عز وجل، وقوة وبأسا لا يطيقهم إلا الله، وألسنة مختلفة، وأهواء متشتتة، فلما رأى ذلك كابرهم بالظلمة، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها فأحاط بهم في كل مكان حتى جمعتهم في مكان واحد ثم أخذ عليهم بالنور فدعاهم إلى الله عز وجل وعبادته فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أفواههم وآذانهم وأنوفهم وأجوافهم، ودخلت في بيوتهم ودورهم، وغشيهم من فوقهم ومن تحتهم ومن كل جانب فماجوا فيه وتحيروا، فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد، فكشفها عنهم، وأخذهم عنوة، فدخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة، فجعلهم جندا واحدا. ثم انطلق بهم يقودهم والظلمة تسوقهم وتحرسهم من خلفهم، والنور أمامهم يقودهم ويدله، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل، وسخر الله عز وجل له يده وقلبه وعقله ورأيه ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا.
فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاصة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال البغال، فنظمها في ساعة ثم حمل فيها جميع من معه من تلك الأمم والجنود، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها، ثم دفع إلى كل رجل منهم لوحا فلا يثقله حمله، فلم يزل ذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل فعمل فيه كفعله في ناسك. فلما خرج منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأمتين اللتين قبلها.
ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى وهو يريد تأويل وهي الأمة التي بحيال هاويل، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كله فلما بلغها عمل فيها وجند منها كعمله فيما قبلها.
فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن والإنس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى ليس فيهم مشابه الإنس، وفيهم أشباه البهائم يأكلون العشب ويفترسون الدواب والوحش كما يفترسها السباع، ويأكلون (حشرات) الأرض كلها من الحيات والبهائم والعقارب وكل ذي روح مما خلق الله، فليس
195

لله تعالى خلق ينمي نماهم في العالم الواحد ولا يزدادون كزيادتهم. فإن أتت مدة على ما ترى من زيادتهم ونمائهم فلا شك أنهم سيملؤون الأرض ويجلون أهلها منها ويظهرون عليها فيفسدون فيها. وليست تمر بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم أن يطلع علينا أولهم من بين هذين الجبلين، " * (فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما) *): أعدوا لي الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم، وأعلم علمهم، وأقيس ما بين جبليهم.
ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد، ذكرهم وأنثاهم، يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا. قال علي بن أبي طالب: (منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول، لهم مخالب في (موضع) الأظفار من بين أيدينا وأنياب وأضراس كأضراس السباع وأنيابها يسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرة من الإبل وكقضم البغل المسن أو الفرس القوي، ولهم هلب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم وما يتقون به من الحر والبرد إذا أصابهم. ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان أحدهما وبرة والأخرى زغبة يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، ويصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى وليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يموت فيه، ومنقطع عمره وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تموت أنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد. فإذا كان ذلك أيقن الموت. وهم يرزقون السينان أيام الربيع كما يستمطر الغيث لحينه فيقذفون منه كل سنة واحدا فيأكلونه عامهم كله إلى مثلها من القابل فيعمهم على كثرتهم، وهم يتداعون تداعي الحمام، ويعوون عواء الذئاب، ويتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا).
فلما عاين منهم ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما، وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس فوجد بعد ما بينهما مئة فرسخ، فلما أنشأ في عمله حفر له الأساس حتى بلغ الماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا. وجعل حشوه الصخر، وطينه النحاس يذاب ثم يصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ثم علاه وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر، فصار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته في سواد الحديد.
فلما فرغ منه وأحكمه انطلق عامدا إلى جماعة الإنس، فبينا هو يسير إذ دفع إلى أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون، فوجد أمة مقسطة مقتصدة يقيمون بالسوية، ويحكمون بالعدل
196

ويتراحمون، حالتهم واحدة وكلمتهم واحدة، وأخلاقهم مشتبهة وطريقتهم مستقيمة، وقلوبهم متآلفة، وسيرتهم مستوية، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليس على بيوتهم أبواب، وليس عليهم أمراء، وليس بينهم قضاة، ولا بينهم أغنياء ولا ملوك ولا أشراف، ولا يختلفون ولا يتفاضلون، ولا يتنازعون، ولا يستبون، ولا يقتلون، ولا يضحكون، ولا يحردون ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس، وهم أطول الناس أعمارا، وليس فيهم مسكين ولا فقير، ولا فظ ولا غليظ. فلما رأى ذلك من أمرهم عجب وقال: (أخبروني أيها القوم خبركم، فإني قد أحصيت الأرض كلها؛ برها وبحرها، وشرقها وغربها، فلم أر أحدا مثلكم، فخبروني خبركم). قالوا نعم: فسلنا عما تريد. قال: (خبروني ما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟). قالوا: عمدا فعلنا ذلك، لئلا ننسى الموت، ولا يخرج ذكره من قلوبنا.
قال: (فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟). قالوا: ليس فينا متهم، وليس فينا إلا أمين مؤتمن.
197

قال: (فما بالكم ليس عليكم أمير؟). قالوا: لا حاجة لنا إلى ذلك.
قال: (فما بالكم ليس فيكم حكام؟). قالوا: لا نختصم.
قال: (فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟). قالوا: لا نتكاثر.
قال: (فما بالكم ليس فيكم ملوك؟). قالوا: لا نفتخر.
قال: (فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟). قالوا: من ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا.
قال: (فما بالكم لا تقتتلون؟). قالوا: من أجل أنا شبنا أنفسنا بالأحلام.
قال: (فما بال كلمتكم واحدة، وطريقتكم مستقيمة؟). قالوا: من قبل أنا لا نتكاثر، ولا نتخادع، ولا يغتال بعضنا بعضا.
قال: (فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم، واعتدلت سيرتكم؟). قالوا: صحت صدورنا فنزع بذلك الغل والحسد من قلوبنا.
قال: (فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟). قالوا: من أجل أنا نقسم بالسوية.
قال: (فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟). قالوا: من قبل الذل والتواضع.
قال: (فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟). قالوا: من قبل أنا نتعاطى الحق، ونحكم بالعدل.
قال: (فما بالكم لا تضحكون؟). قالوا: لا نغفل عن الاستغفار.
قال: (فما بالكم لا تحزنون ولا تحردون؟). قالوا: من قبل أنا وطنا أنفسنا للبلاء مذ كنا، وأحببناه وحرصنا عليه.
قال: (فما بالكم لا يصيبكم الآفات كما يصيب الناس؟). قالوا: لأنا لا نتوكل على غير الله، ولا نعمل الأنواء والنجوم.
قال: (وهكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟). قالوا: نعم: وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويوفون بعهدهم، ويصدقون في مواعيدهم، فأصلح الله عز وجل بذلك أمرهم، وحفظهم ما كانوا أحياء. وكان حقا على الله أن يخلفهم في ذريتهم.
وروى قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فتحفرونه غدا. فيعيده الله عز وجل كأشد ما كان. حتى إذا بلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه إن شاء الله غدا، فيعود إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه فيخرجون على الناس فيتبعون المياه، ويتحصن الناس في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع فيها كهيئة الدم، فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء. فيبعث الله عز وجل نغفا عليهم في أقفائهم فيقتلونهم). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتسكر سكرا من لحومهم).
وروى محمود بن قتادة عن أبي سعيد الخدري أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال الله عز وجل: " * (وهم من كل حدب ينسلون) *) فيغشون الأرض وينحاز المسلمون عنهم إلى حصونهم ومدائنهم حتى إن أولهم يمرون بالنهر من أنهار الأرض) قال أبو الهيثم: الدجلة (فيشربون حتى يصير يابسة، فيمر به الذين من بعدهم فيقولون: لقد كان بهذا المكان ماء مرة، حتى إذا ظهروا على أهل الأرض قالوا: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، وبقي أهل السماء).
قال صلى الله عليه وسلم (فيهز أحدهم حربته ثم يقذفها إلى السماء فترجع إليه مختضبة دما للفتنة. فبينا
198

هم كذلك إذ يبعث الله عز وجل عليهم دودا كنغف الجراد فيموتون موت الجراد، فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حسا، فيقولون: هل من رجل يشتري لنا نفسه فينظر ما فعل هؤلاء القوم؟ فينزل رجل منهم قد أيقن أنه مقتول، فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي أصحابه: أبشروا، فقد كفاكم الله عز وجل عدوكم. فيخرج المسلمون فيرسلون مواشيهم فيهم فما يكون لها رعى غير لحومهم وتكثر عليه كأحسن ما تكثر على شيء من النبات أصابته قط).
قال وهب: إنهم كانوا يأتون البحر فيشربون ماءها، ويأكلون دوابها، ثم يأكلون الخشب والشجر ومن ظفروا به من الناس، ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس.
في قوله تعالى: " * (فهل نجعل لك خرجا) *) قرأ أهل الكوفة: (خراجا) بالألف. الباقون بغير ألف، وهما لغتان، بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الخرج: ما تبرعت به، والخراج: ما لزمك أداؤه. " * (على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) *): حاجزا فلا يصلون إلينا؟ " * (قال) *) لهم ذو القرنين: " * (ما مكني) *) على الإدغام. وقرأ أهل مكة: (ما مكنني) بنونين بالإظهار " * (فيه ربي) *) وقواني عليه " * (خير) *)، ولكن " * (أعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما) *): حاجزا كالحائط والسد. قالوا: وما تلك القوة؟ قال: (فعلة وصناع يحسنون البناء والعمل والآلة). قالوا: وما تلك الآلة؟ قال: " * (آتوني زبر الحديد) *) يعني: أعطوني قطع الحديد، واحدتها زبرة، فأتوه بها، فبناه " * (حتى إذا ساوى بين الصدفين) *)، وروى مسلم بن خالد عن سعيد بن أبي صالح قال: بلغنا أنه وضع الحطب بين الجبلين، ثم نسج عليه الحديد، ثم نسج الحطب على الحديد، فلم يزل يجعل الحطب على الحديد والحديد على الحطب " * (حتى إذا ساوى بين الصدفين) *)، وهما الجبلان بضم الصاد والدال، وفتحهما وأمر بالنار فأرسلت فيه، ثم " * (قال انفخوا) *)، ثم جعل يفرغ القطر عليه، فذلك قوله
تعالى: " * (آتوني أفرغ) *): أصب عليه " * (قطرا) *)، وهو النحاس المذاب. قال: فجعلت النار تأكل الحطب ويصب النحاس مكان الحطب حتى لزم الحديد النحاس.
" * (فما اسطاعوا أن يظهروه) *) ويعلوه من فوقه، " * (وما استطاعوا له نقبا) *) من أسفله. قال قتادة ذكر لنا أن رجلا قال: يا نبي الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج. قال: (انعته لي). قال: كالبرد المحبر؛ طريقة سوداء وطريقة حمراء. قال: (قد رأيته).
" * (قال) *) ذو القرنين لما فرغ من بنائه يعني هذا السد: " * (هذا) *) السد " * (رحمة) *): نعمة " * (من ربي) *)؛ فلذلك لم يقل: هذه. " * (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء) *) ملتزقة مستوية بالأرض من قولهم: ناقة دكاء أي مستوية الظهر لا سنام لها. ومن قرأ: (دكا) بلا مد فمعناه: مدكوك يومئذ، " * (وكان وعد ربي حقا) *))
.
199

2 (* (وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ونفخ فى الصور فجمعناهم جمعا * وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا * الذين كانت أعينهم فى غطآء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا * أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادى من دونىأوليآء إنآ أعتدنا جهنم للكافرين نزلا * قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم فى الحيواة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولائك الذين كفروا بئايات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزآؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا ءاياتى ورسلى هزوا * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا * خالدين فيها لا يبغون عنها حولا * قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا * قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فمن كان يرجو لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *) 2
" * (وتركنا بعضهم) *)، يعني الخلق " * (يومئذ يموج) *): يدخل " * (في بعض) *) ويختلط إنسهم بجنهم حيارى، " * (ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا) *) في صعيد واحد، " * (وعرضنا) *): وأبرزنا " * (جهنم يومئذ) *)، يعني يوم القيامة " * (للكافرين عرضا) *).
ثم وصفهم فقال: " * (الذين كانت أعينهم في غطاء) *): غشاوة وغفلة " * (عن ذكري) *)، يعني: الإيمان والقرآن " * (وكانوا لا يستطيعون سمعا) *)، أي لا يطيقون أن يسمعوا كتاب الله عز وجل ويتدبروه ويؤمنوا به لغلبة الشقاء عليهم. وقيل: لعداوتهم النبي صلى الله عليه وسلم
" * (أفحسب) *): أفظن. وقرأ عكرمة ومجاهد وعلي: (أفحسب)، أي كفاهم ذلك " * (الذين كفروا أن يتخذوا عبادي) *)، يعني عيسى والملائكة " * (من دوني أولياء) *)؟ كلا بل هم لهم أعداء ويتبرؤون منهم. قال ابن عباس: يعني: الشياطين، تولوهم وأطاعوهم من دون الله. وقال مقاتل: يعني: الأصنام، وسماهم عبادا كما قال في موضع آخر: " * (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) *).
" * (إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) *) يعني الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحا، فنالوا به هلاكا وعطبا، ولم يدركوا ما طلبوا، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلا وربحا، فخاب رجاؤه وخسر بيعه. واختلفوا في الذين عنوا بذلك فقال علي بن أبي طالب: (هم الرهبان والقسوس الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع).
وقال سعد بن أبي وقاص وابن عباس: هم اليهود والنصارى، نظيره: " * (عاملة ناصبة
200

تصلى نارا حامية) *). وروى سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الطفيل قال: سأل عبد الله بن الكوا عليا عن قوله: " * (هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) *)، قال: (أنتم يا أهل حروراء).
" * (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) *)، أي يظنون أنهم بفعلهم مطيعون محسنون " * (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت) *): بطلت وذهبت " * (أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) *)، قال أبو سعيد الخدري: يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي في العظم عندهم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا، فذلك قوله: " * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) *).
(حدثنا القاضي أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن حبيب إملاء: أبو بكر أحمد بن إسحاق ابن أيوب عن محمد بن إبراهيم: يحيى بن بكير بن المغيرة عن أبي الزياد عن) الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن جناح بعوضة، اقرؤوا: " * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) *)).
(أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان عن عبد الرحمن بن بشر عن مروان ابن معاوية عن) المغيرة بن مسلم عن سعيد بن عمرو بن عثمان قال: سمعت عثمان بن عفان (ح) يقول: الربا سبعون بابا أهونهن مثل نكاح الرجل أمه. قال: وأربى الربى عرض أخيك المسلم تشتمه. قال: ويؤتى يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب الذي يشرب الظرف في المجلس فيوزن فلا يعدل جناح بعوضة، خاب ذلك وخسر، ثم تلا هذه الآية: * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * * (ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا) *)، يعني سخرية.
" * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) *) اختلفوا في الفردوس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجنة مئة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. أعلاها الفردوس، ومنها تفجر أنهار الجنة، وفوقها عرش الرحمن فسلوه الفردوس).
(وأخبرنا عبد الله بن حامد عن مكي بن عبدان عن مسلم بن الحجاج عن نصر بن علي
201

وإسحاق بن إبراهيم وأبي غسان واللفظ له قالوا: قال أبو عبد الصمد: قال) عمران الجويني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب أبنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة أبنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه).
وقال شهر: خلق الله جنة الفردوس بيده فهو يفتحها في كل يوم خميس فيقول: ازدادي حسنا وطيبا لأوليائي. وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها. وقال أبو أمامة: الفردوس سرة الجنة. وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وقال مجاهد: هو البستان بالرومية. وقال كعب: هو البستان فيه الأعناب. وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة الأشجار. وقيل: هي الروضة المستحسنة. وقيل: هي الأودية التي تنبت ضروبا من النبات، وجمعها فراديس: وقال أمية:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة
فيها الفراديس والفومان والبصل
" * (خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) *) أي يطلبون عنها تحولا إلى غيرها، وهو مصدر مثل الصعر والعوج. قال مخلد بن الحسين: سمعت بعض أصحاب أنس قال: يقول أولهم دخولا: إنما أدخلني الله أولهم؛ لأنه ليس أحد أفضل مني. ويقول آخرهم دخولا: إنما أخرني الله، لأنه ليس أحد أعطاه مثل الذي أعطاني.
" * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي) *) الآية، قال ابن عباس: قالت اليهود: يا محمد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك: " * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) *) ثم يقول: " * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) *) فكيف يكون هذا؟ فأنزل الله تعالى " * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر) *) أي ماؤه " * (قبل أن تنفد كلمات ربي) *) حكمه وعجائبه. وقرأ أهل الكوفة (قبل أن ينفد) بالياء؛ لتقدم الفعل، " * (ولو جئنا بمثله مددا) *): عونا وزيادة. وفي مصحف أبي: (ولو جئنا بمثله مدادا) ونظيرها قوله عز وجل " * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) *) الآية.
" * (قل إنما أنا بشر مثلكم) *) قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري، وذلك أنه
202

قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني أعمل لله، فإذا اطلع عليه سرني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه)، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال أنس: قال رجل: يا نبي الله، إني أحب الجهاد في سبيل الله، وأحب أن يرى مكاني، فأنزل الله: " * (قل) *) يا محمد: " * (إنما أنا بشر مثلكم) *): خلق آدمي مثلكم. قال ابن عباس: علم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه، " * (يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) *) لا شريك له " * (فمن كان يرجو لقاء ربه) *): المصير إليه. وقيل: معناه يأمل رؤية ربه، فالرجاء يتضمن معنيين: الخوف والأمل، قال الشاعر:
فلا كل ما ترجو من الخير كائن
ولا كل ما ترجو من الشر واقع
فجمع المعنيين في بيت واحد.
" * (فليعمل عملا صالحا) *): خالصا " * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *)، أي ولا يراء. قال شهر ابن حوشب: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت، فقال: أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله عز وجل ويحب أن يحمد عليه، ويصوم يبتغي وجه الله عز وجل ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه، ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه؟ فقال عبادة: ليس له شيء، إن الله عز وجل يقول: (أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله ولا حاجة لي منه). (أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن عبد الله الجوهري عن حامد بن شعيب البجلي عن شريح بن يونس عن إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتقوا الشرك الأصغر). قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: (الرياء يوم يجازي الله الناس بأعمالهم).
أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكي بن عبدان عن عبد الله بن هاشم عن عبد الرحمن عن) سفيان عن سلمة قال: سمعت جندبا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سمع سمع الله به، ومن يراء يراء الله به).
وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الشرك الأصغر). قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: (الرياء يوم يجازي الله الناس بأعمالهم).
203

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، وإياكم وشرك السرائر فإن الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء. ومن صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك).
قال: فشق ذلك على القوم، فقال رسول الله: (أولا أدلكم على ما يذهب عنكم صغير الشرك وكبيره؟). قالوا: بلى يا رسول الله. قال: قولوا: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم).
وقال عمرو بن قيس الكندي: سمعت معاوية بن أبي سفيان على المنبر تلا هذه الآية، " * (فمن كان يرجو لقاء ربه) *) الآية، فقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن. وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أوحي إلي أن من قرأ: " * (فمن كان يرجو لقاء ربه) *) الآية رفع له نور ما بين عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة).
(وأخبرني محمد بن القاسم عن محمد بن زيد قال: أبو يحيى البزاز عن أحمد بن يوسف عن محمد بن العلا عن زياد بن قايد عن) سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه، ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء).
204

((سورة مريم))
مريم مكية كلها، وهي ثمان وتسعون آية، تسع تسعون حجازي، وسبعمائة واثنتان وستون كلمة، وثلاثة ألآف وثمانمائة حرف وحرفان
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرة، قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا: قال أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، عن أحمد بن يونس اليربوعي، عن سلام بن سليم المدائني، عن عمرو بن كثير، عن يزيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر حسنات بعدد من صدق بزكريا وكذب به، ويحيى ومريم وعيسى وموسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات، وبعدد من دعا لله ولدا، وبعدد من لم يدع له ولدا).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (كهيعص * ذكر رحمت ربك عبده زكريآ * إذ نادى ربه ندآء خفيا * قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعآئك رب شقيا * وإني خفت الموالى من ورآئى وكانت امرأتى عاقرا فهب لى من لدنك وليا * يرثنى ويرث من ءال يعقوب واجعله رب رضيا * يازكريآ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا * قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذالك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لىءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا * يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكواة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) *) 2
قوله عز وجل " * (كهيعص) *) قرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء، ضده شامي وحمزة وخلف، بكسرهما، والكسائي، بفتحهما، ابن كثير وعاصم ويعقوب، واختلفوا في معناها.
فقال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله عز وجل، وقيل: إنه اسم الله الأعظم، وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن، وقيل: هو اسم السورة، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس: هو قسم أقسم الله تعالى به، وقال الكلبي: هو ثناء أثنى الله عز وجل به (على) نفسه.
205

أخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد، قال أبو عبد الله محمد بن زياد القوقسي، قال أبو عمار عن جرير، عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل " * (كهيعص) *) قال: الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من رحيم والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق، وقال الكلبي أيضا: معناه: كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريته، صادق في وعده " * (ذكر) *) رفع بكهيعص وإن شئت قلت: هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا، وفيه تقديم وتأخير، معناه ذكر ربك عبده زكريا برحمته وزكريا في موضع نصب.
وقرأ بعضهم عبده زكريا بالرفع على أن الفعل له " * (إذ نادى) *) دعا ربه في محرابه حيث يقرب القربان نداء خفيا دعاء سرا من قومه في جوف الليل، مخلصا فيه لم يطلع عليه أحد إلا الله عز وجل قال " * (رب إني وهن) *) ضعف " * (العظم مني واشتعل الرأس شيبا) *) شمطا، يقول: شخت وضعفت، ومن الموت قربت ولم أكن بدعائك رب شقيا يقول: يا رب عودتني الإجابة فيما كنت تجيبني إذا دعوتك ولا تخيبني.
قوله " * (وإني خفت الموالى من ورائي) *) قرأ عثمان ويحيى بن يعمر، (خفت) بفتح الخاء والفاء وكسر التاء مشددا الموالي بسكون الياء بمعنى ذهب الموالي وقلت، الباقون: (خفت) بكسر الخاء وضم التاء من الخوف، الموالي نصبا، خاف أن يرثه غير الولد، وقيل: خاف عليهم تبديل دين الله عز وجل وتغيير أحكامه وأن لا يحسنوا الخلافة له على أمته، فسأل ربه ولدا صالحا يأمنه على أمته، والموالي بنو العم وقيل: الأولي والولي والمولى في كلام العرب واحد، وقال مجاهد: العصبة، وقال أبو صالح: الكلالة، وقال الكلبي: الورثة من ورائي من بعد موتي " * (وكانت امرأتي عاقرا) *) لا تلد " * (فهب لي من لدنك) *) أعطني من عندك " * (وليا) *) ابنا " * (يرثني ويرث) *) وقرأ يحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب والأعمش وأبو عمرو والكسائي بالجزم فيهما على جواب الدعاء، وقرأ الباقون بالرفع على الحال والصفة، أي وليا وارثا، وقرأ ابن عباس ويحيى بن يعمر: يرثني، وأرث من آل يعقوب النبوة، يعني يرث النبوة والعلم، وقال الحسن: معناه يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة والحبورة، وقال الكلبي: هو يعقوب بن ماثان أخو زكريا وليس يعقوب أب يوسف " * (واجعله رب رضيا) *) أي صالحا برا تقيا مرضيا، وقال أبو صالح: معناه: اجعله نبيا كما جعلت أباه نبيا.
أخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا: أخبرنا: مكي بن عبدان عن أحمد بن الأزهر عن روح بن عبادة عن سعيد عن قتادة عن بشر بن نهيك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية " * (يرثني ويرث من آل يعقوب) *) يقول عند ذلك: (رحم الله زكريا، ما كان عليه من ورثة).
206

قوله " * (يا زكريا إنا نبشرك) *) فيه اضمار وإختصار، يعني فاستجاب دعاءه فقال: " * (يا زكريا إنا نبشرك بغلام) *) ولد ذكر " * (اسمه يحيى لم نجعل له
من قبل سميا) *) قال قتادة والكلبي: لم يسم أحد قبله يحيى، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس، وقال سعيد بن جبير وعطاء: لم نجعل له شبيها، ومثله دليله قوله تعالى " * (هل تعلم له سميا) *) أي مثلا وعدلا، وهي رواية مجاهد عن ابن عباس، وتأويل هذا القول أنه لم يكن له مثل لأنه لم يهم بمعصيته قط وقيل: لم يكن له مثل في أمر النساء لأنه كان سيدا وحصورا وقال علي بن أبي طالب عن ابن عباس: لم تلد العواقر مثله ولدا، وقيل: إن الله تعالى اشترط القبل لأنه جل ذكره أراد أن يخلق بعده من هو أفضل منه وهو محمد عليه السلام، وقيل: إن الله تعالى لم يرد بهذا القول جميع الفضائل كلها ليحيى، وقيل: إنما أراد في بعضها لأن الخليل والكم عليهما السلام كانا قبله وكانا أفضل منه.
" * (قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امراتي عاقرا) *) أي وامرأتي عاقر كقوله " * (كيف نكلم من كان في المهد صبيا) *) أي من هو في المهد صبي " * (وقد بلغت من الكبر عتيا) *) أي يبسا، قال قتادة: نحول العظم يقال: ملك عات إذا كان قاسي القلب غير لين، وقال أبو عبيد: هو كل مبالغ في شر أو كفر فقد عتا وعسا، وقرأ أبي وابن عباس عسيا، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي عتيا بكسر العين ومثله جثيا وصليا وبكيا والباقون بالضم فيهما وهما لغتان.
" * (قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل) *)، من قبل يحيى، * (ولم تك شيئا) * * (قال رب اجعل لي) *) آية على حمل امرأتي " * (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) *) أي صحيحا سليما من غير ما بأس ولا خرس، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلون إذ خرج عليهم زكريا متغيرا لونه فأنكروه فقالوا له: مالك يا زكريا؟ فأوحى أي أومى إليهم، ويقال: كتب في الأرض أن سبحوا وصلوا لله عز وجل بكرة وعشيا والسبحة الصلاة.
قوله " * (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) *) بجد " * (وآتيناه الحكم) *) يعني الفهم " * (صبيا) *) يعني في حال صباه، وقال معمر: جاء صبيان إلى يحيى بن زكريا فقالوا: اخرج بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقت، فأنزل الله عز وجل وآتيناه الحكم صبيا " * (وحنانا من لدنا) *) رحمة من عندنا، قال الحطيئة لعمر بن الخطاب:
تحنن على هداك المليك
فإن لكل مقام مقالا
207

أي ترحم، ومنه قوله: حنانيك مثل سعديك، قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وأصله من حنين الناقة.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان عن حريز بن عبد الحميد عن أبي خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما أدري ما حنانا إلا أن يكون بعطف رحمة الله عز وجل على عباده
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن هوذة عن عوف بلغني في قوله الله عز وجل " * (وحنانا من لدنا) *) قال: الحنان: المحبة " * (وزكواة) *) قال ابن عباس يعني بالزكاة طاعة الله عز وجل والإخلاص.
وقال الضحاك: هي الفعل الزاكي الصالح، وقال الكلبي: يعني صدقة تصدق والده بها على أبويه، وقيل: بركة ونماء وزيادة. وقيل: جعلناه طاهرا من الذنوب.
" * (وكان تقيا) *) مسلما مخلصا مطيعا.
أخبرنا سعيد بن محمد وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا علي بن عبدان، حدثناأبو الأزهر، حدثنا ابن القطيعي قال: سمعت الحسن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ما من الناس عبد إلا قد هم بخطيئة أو عملها غير يحيى بن زكريا).
" * (وبرا بوالديه) *) بارا بهما لا يعصيهما " * (ولم يكن جبارا) *) قالا: متكبرا.
قال الحلبي: الجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب.
" * (عصيا) *) شديد العصيان لربه.
" * (وسلام عليه) *) قال الحلبي: سلام له منا حين ولد وحين يموت وحين يبعث حيا.
أخبرنا أبو محمد الأصفهاني وأبو صالح النيسابوري قالا: أنبأنا أبو حاتم التميمي، حدثنا أبو الأزهر السليطي، حدثنا رؤبة، حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن أن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا فقال له عيسى: استغفر لي فأنت خير مني، وقال يحيى: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له عيسى: أنت خير مني، سلمت على نفسي وسلم الله عليك.
(* (واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنآ إليهآ روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إنىأعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا * قال إنمآ أنا
208

رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا * قال كذالك قال ربك هو على هين ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا
مقضيا * فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتنى مت قبل هاذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتهآ ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا * وهزىإليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلى واشربى وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولىإنى نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا * فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا * ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا * قال إنى عبد الله ءاتانى الكتاب وجعلنى نبيا * وجعلنى مباركا أين ما كنت وأوصانى بالصلواة والزكواة ما دمت حيا * وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارا شقيا * والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا * ذالك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم * فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم * أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لاكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين * وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الامر وهم فى غفلة وهم لا يؤمنون * إنا نحن نرث الارض ومن عليها وإلينا يرجعون) *) 2
" * (واذكر في الكتاب) *) القرآن مريم وهي ابنة عمران بن ماثان " * (إذ انتبذت) *).
قال قتادة: انفردت. الكلبي: تنحت وأصله من النبذة بفتح النون وضمها وهي الناحبة، يعني إنها اعتزلت وجلست ناحية " * (مكانا شرقيا) *) يعني مشرقة، وهي مكان في الدار مما يلي المشرق، جلست فيها لأنها كانت في الشتاء.
قال الحسن: اتخذت النصارى المشرق قبلة لأن مريم انتبذت مكانا شرقيا " * (فاتخذت) *) فضربت " * (من دونهم حجابا) *) قال ابن عباس: سترا، قال مقاتل: جعلت الجبل بينها وبين قومها، قال عكرمة: إن مريم كانت تكون في المسجد ما دامت طاهرا، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينا هي تغتسل من الحيض إذ عرض لها جبرئيل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوي الخلق.
فذلك قوله " * (فأرسلنا إليها روحنا) *) يعني جبرئيل (عليه السلام) وقيل: روح عيسى ابن مريم إضافة إليه على التخصيص والتفضيل " * (فتمثل) *) فتصور لها بشرا آدميا سويا لم ينقص منه شيء وإنما أرسله في صورة البشر لتثبت مريم عليها السلام وتقدر على استماع كلامه، ولو نزله على صورته التي هو عليها لفزعت ونفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه، فلما رأته مريم " * (قالت إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا) *) مؤمنا مطيعا
209

قال علي بن أبي طالب: علمت أن التقي ذو نهية، وقيل: كان تقي رجل من أعدل الناس في ذلك الزمان فقالت: إن كنت في الصلاح مثل التقي فإني أعوذ بالرحمن منك، كيف يكون رجل أجنبي وامرأة أجنبية في حجاب واحد؟ قال لها جبرئيل " * (إنما أنا رسول ربك لاهب لك) *) أي يقول لأهب لك، وقرأ أبو عمرو ليهب بالياء ولدا " * (غلاما زكيا) *) صالحا تقيا " * (قالت) *) مريم " * (أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر) *) ولم يقربني روح " * (ولم أك بغيا) *) فاجرة وإنما حذفت الهاء منه لأنه مصروف عن وجهه.
قال جبرئيل " * (كذلك) *) كما قلت يا مريم ولكن قال ربك وقيل هكذا " * (قال ربك هو على هين) *) خلق ولد من غير أب " * (ولنجعله آية) *) علامة هذه " * (للناس ورحمة منا) *) لمن تبعه على دينه.
" * (وكان) *) ذلك " * (أمرا مقضيا) *) معدودا مسطورا في اللوح المحفوظ.
" * (فحملته) *) وذلك أن جبرئيل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبسته، وقيل: نفخ جبرئيل من بعيد نفخا فوصل الريح إليها فحملت، فلما حملت " * (فانتبذت) *) خرجت وانفردت " * (مكانا قصيا) *) بعيدا من أهلها من وراء الجبل، ويقال أقصى الدار.
قال الكلبي: قيل لابن عم لها يقال له يوسف: إن مريم حملت من الزنا لأن يقتلها الملك وكانت قد سميت له فأتاها فاحتملها، فهرب بها، فلما كان ببعض الطريق أراد يوسف ابن عمها قتلها فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال له: إنه من روح القدس فلا تقتلها، فتركها، ولم يقتلها فكان معها. واختلفوا في مدة حملها ووقت وضعها، فقال بعضهم: كان مقدار حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء، ومنهم من قال: ثمانية أشهر وكان ذلك آية أخرى لأنه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غير عيسى، وقيل: ستة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة.
قال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت ولم يكن بين الحمل والانتباذ إلا ساعة: لأن الله تعالى لم يذكر بينهما فصلا.
وقال مقاتل بن سليمان: حملته مريم في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وهي بنت عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى.
" * (فأجاءها المخاض) *) ألجأها وجاء بها المخاض، وفي قراءة عبد الله آواها المخاض يعني الحمل، وقيل: الطلق.
" * (إلى جذع النخلة) *) وكانت نخلة يابسة في الصحراء في شدة الشتاء ولم يكن لها سعف.
وروى هلال بن خباب عن أبي عبيد الله قال: كان جذعا يابسا قد جيء به ليبنى به بيت يقال له بيت لحم.
" * (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) *) قرأ يحيى بن وتاب والأعمش وحمزة
210

نسيا بفتح النون، والباقون بالكسر، وهما لغتان مثل: الوتر والوتر والحجر والحجر والجسر والجسر، وهو الشيء المنسي.
قال ابن عباس: يعني شيئا متروكا، وقال قتادة: شيئا لا يذكر ولا يعرف، وقال عكرمة والضحاك ومجاهد: حيضة ملقاة.
قال الربيع: هو السقط وقال مقاتل: يعني كالشى الهالك.
قال عطاء بن أبي مسلم: يعني لم أخلق، وقال الفراء: هو ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، وقال أبو عبيد: هو ما نسي واغفل من شئ حقير. قال الكميت:
اتجعلنا جسرا لكلب قضاعة
ولست بنسي في معد ولا دخل
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حاجب بن محمد قال: حدثنا محمد بن حماد قال: حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: لوددت أني إذا مت كنت نسيا منسيا.
" * (فناداها من تحتها) *) قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي: من تحتها بكسر الميم وهو جبرئيل (عليه السلام) ناداها من سفح الجبل، وقرأ الباقون من تحتها بفتح الميم وهو عيسى لما خرج من بطنها ناداها: " * (ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا) *) قال الحسن: يعني عيسى كان والله عبدا سريا أي رفيعا، وقال سائر المفسرين: هو النهر الصغير، وقيل معنى قوله سبحانه " * (تحتك) *) إن الله تعالى جعل النهر تحت أمرها إن أمرته أن يجري جرى وإن أمرته بالإمساك أمسك، كقوله عز وجل فيما أخبر عن فرعون " * (وهذه الانهار تجري من تحتي) *) أي من تحت أمري، قال ابن عباس: فضرب جبرئيل: ويقال عيسى: برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى وحييت النخلة بعد يبسها فأورقت وأثمرت وأرطبت، وقيل لمريم " * (وهزي إليك) *) أي حركي " * (بجذع النخلة) *) يقول العرب: هزه وهز به كما يقال: خذ الخطام وخذ بالخطام، وتعلق بزيد وتعلق زيدا، وخذ رأسه وخذ برأسه، وامدد الحبل، وامدد بالحبل، والجذع: الغصن، والجذع: النخلة نفسها.
" * (تساقط) *) قرأ البراء بن عازب ويعقوب وأبو حاتم وحماد ونصير: يساقط بالياء، وقرأ حفص تساقط بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف، وقرأ الأعمش وحمزة وأبو عبيد: تساقط بفتح التاء والقاف وتشديد السين، فمن أنث رده إلى النخلة ومن ذكر رده إلى الجذع والتشديد على الإدغام
211

والتخفيف على الحذف.
" * (رطبا جنيا) *) غصنا رطبا ساعة جني.
وقال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض من العسل.
وقال عمرو بن ميمون: ما أدري للمرأة إذا عسر عليها ولدها خير من الرطب لقول الله سبحانه " * (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) *).
وقالت عائشة خ: إن من السنة أن يمضغ التمر ويدلك به فم المولود، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمضغ التمر ويحنك به أولاد الصحابة.
" * (فكلي) *) يا مريم من الرطب " * (واشربي) *) من النهر " * (وقري عينا) *) وطيبي نفسا " * (فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمان صوما) *) أي صمتا ولذلك كان بقراءة ابن مسعود وأنس والصوم في اللغة هو الإمساك عن الطعام والكلام، وفي الآية اختصار " * (فإما ترين من البشر أحدا) *) فسألك عن ولدك أو لامك عليه " * (فقولي إنى نذرت للرحمان صوما) *) يقال: إن الله أمرها أن تقول هذا إشارة ويقال: أمرها أن تقوله نطقا ثم تمسك عن الكلام بعد هذا.
" * (فلن أكلم اليوم إنسيا) *) يقال: كانت تكلم الملائكة ولا تكلم الإنس.
" * (فأتت به قومها تحمله) *) قال الكلبي: احتمل يوسف النجار مريم وابنها عيسى (عليه السلام) إلى غار فأدخلهما فيه أربعين يوما حتى تعالت من نفاسها ثم جاء بها " * (فأتت) *) مريم " * (به) *) بعيسى تحمله بعد أربعين يوما، فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين.
" * (قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا) *) فظيعا منكرا عظيما، قال أبو عبيدة: كل من عجب أو عمل فهو فري، قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمر ح: (فلم أر عبقريا يفري فريه) أي يعمل عمله، قال الراجز:
قد أطعمتني دقلا حوليا
مسوسا مدودا حجريا
قد كنت تفرين به الفريا.
أي كنت تكثيرن فيه القول وتعظمينه.
" * (يا أخت هارون) *) قال النبي صلى الله عليه وسلم (انما عنوا هارون النبي أخا موسى لأنها كانت من نسله).
212

وقال قتادة وغيره: كان هارون رجلا صالحا من أتقياء بني إسرائيل وليس بهارون أخي موسى، ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون الفا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل، وقال المغيرة بن شعبة: قال لي أهل نجران قوله: " * (يا أخت هارون) *) وقد كان بين موسى وعيسى من السنين ما قد كان، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين من قبلهم. وقال الكلبي: كان هارون أخا مريم من أبيها ليس من أمها وكان أمثل رجل في بني إسرائيل، وقيل: إن هارون كان من أفسق بني إسرائيل وأظهرهم فسادا فشبهوها به، وعلى هذا القول الأخت ها هنا بمعنى الشبه لا بمعنى النسبة، والعرب تسمي شبه الشيء أخته وأخاه، قال الله سبحانه " * (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) *) أي شبهها.
" * (ما كان أبوك) *) عمران " * (امرأ سوء وما كانت أمك) *) حنة " * (بغيا) *) زانية فمن أين لك هذا الولد؟ " * (فأشارت) *) مريم إلى عيسى أن كلموه فقالوا " * (كيف نكلم من كان في المهد صبيا) *) أي من هو في المهد وهو حجرها، وقيل: هو المهد بعينه وقد كان حشوا للكلام ولا معنى له كقوله " * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) *) أي أنتم خير أمة وكقوله " * (هل كنت إلا بشرا رسولا) *) أي هل أنا، وكقول الناس إن كنت صديقي فصلني، قال زهير:
أجرت عليه حرة أرحبية
وقد كان لون الليل مثل الأرندج
وقال الفرزدق:
فكيف إذا رأيت ديار قومي
وجيران لنا كانوا كرام
أي وجيران لنا كرام، قال وهب: فأتاها زكريا عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى: انطق بحجتك إن كنت أمرت بها، فقال عند ذلك وهو ابن أربعين يوما. وقال مقاتل: هو يوم ولد.
" * (إني عبد الله) *) فأقر على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم تكذيبا للنصارى وإلزاما للحجة عليهم.
قال عمرو بن ميمون: إن مريم لما أتت قومها بعيسى اخذوا لها الحجارة ليرموها فلما تكلم عيسى تركوها، قالوا: ثم لم يتكلم عيسى بعد هذا حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان.
213

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خمسة تكلموا قبل إبان الكلام: شاهد يوسف، وولد ماشطة بنت فرعون، وعيسى، وصاحب جريح، وولد المرأة التي أحرقت في الأخدود.
فأما شاهد يوسف فقد مر ذكره، وأما ولد الماشطة، فأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا الحسن بن موسى قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسري به مرت به رائحة طيبة فقال: يا جبرئيل ما هذه الرائحة؟ قال: ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنته: أبي؟ فقالت: لا بل ربي وربك ورب أبيك.
فقالت: أخبر بذلك أبي قالت: نعم، فأخبرته فدعا بها فقال: من ربك؟ قالت: ربي وربك في السماء، فأمر فرعون ببقرة من نحاس فأحميت فدعا بها وبولدها فقالت: إن لي إليك حاجة قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها جميعا فقال: ذلك لك علينا من الحق، فأمر بأولادها فألقى واحدا واحدا حتى إذا كان آخر ولدها وكان صبيا مرضعا فقال: اصبري يا أماه فإنا على الحق، قال: ثم ألقيت مع ولدها.
وأما صاحب جريح فأخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني قال: أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني قال: حدثنا أحمد بن الخليل قال: حدثنا يونس بن محمد المؤدب، قال: حدثنا الليث ابن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرنا عبد الله (بن حامد) قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا راشد بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا هاشم بن القاسم قال: حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلا يقال له جريح كان راهبا يتعبد في صومعته فأتته أمه لتسلم عليه فنادته: يا جريح اطلع إلي انظر إليك، فوافقته يصلي فقال: أمي وصلاتي لربي، أوثر صلاتي لربي على أمي، فانصرفت ثم جاءت الثانية فنادته: يا جريح كلمني فوافقته يصلي فاختار صلاته، ثم جاءته الثالثة فاختار صلاته فقالت: إنه أبى أن يكلمني، اللهم لا تمته حتى تنظر في وجهه زواني المدينة، قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن).
قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلاما فقيل لها: ممن هذا؟ فقالت: من صاحب الصومعة، فأتوه وهدموا صومعته وانطلقوا به إلى ملكهم، فلما مر على حوانيت الزواني خرجن، فتبسم وعرف أنه دعاء أمه، فقالوا: لم يضحك حين مر على الزواني؟ فلما أدخل على ملكهم قال جريح: أين الصبي
214

الذي ولدت؟ فأتي به فقال له جريح: من أبوك؟ قال: أبي فلان الراعي، فابرأ الله سبحانه جريحا وأعظمه الناس، وقالوا: نبني لك ديرك بالذهب والفضة قال: لا ولكن أعيدوه كما كان، ثم علاه.
وأما ولد صاحبة الأخدود فسنذكرها في موضعها إن شاء الله.
" * (آتاني الكتاب) *) يعني يؤتيني الكتاب لفظه ماض ومعناه مستقبل، وقيل: إنه أخبر عما كتب له في اللوح المحفوظ كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم متى كتبت نبيا؟ قال: (كتبت نبيا وآدم بين الروح والجسد).
وقيل: معناه علمني وألهمني التوراة في بطن أمي.
" * (وجعلني نبيا وجعلني مباركا) *) معلما للخير " * (أين ما كنت) *) وقيل: مباركا على من اتبع ديني وأمري " * (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا) *) أي وجعلني برا " * (بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا) *).
أخبرنا شعيب بن محمد البيهقي وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدثنا
أحمد بن الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا ان امرأة رأت عيسى ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات أذن الله له فيهن فقالت: طوبى للبطن الذي حملك والثدي الذي أرضعت به، فقال ابن مريم يجيبها: طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جبارا شقيا، وكان يقول: سلوني فإن قلبي لين وإني صغير في نفسي، مما أعطاه الله سبحانه من التواضع.
" * (والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ذلك عيسى ابن مريم قول الحق) *) يعني هو قول الحق، وقيل: رفع على التكرير يعني ذلك عيسى ابن مريم وذلك قول الحق، وقيل: هو نعت لعيسى يعني ذلك عيسى بن مريم كلمة الله، والحق هو الله سبحانه.
وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب قول بالنصب يعني قال قول الحق " * (الذي فيه يمترون) *) يشكون ويقولون غير الحق، فقالت اليهود: ساحر كذاب، وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة، ثم كذبهم فقال: " * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) *) أي ما كان من صفته اتخاذ الولد، وقيل: اللام منقولة يعني ما كان الله ليتخذ من ولد " * (سبحانه) *) نزه نفسه " * (إذا قضى أمرا) *) كان في علمه " * (فإنما يقول له كن فيكون وإن الله) *) يعني وقضى أن الله، وقرأ أهل الكوفة إن الله
215

بالكسر على الاستيناف " * (ربي وربكم فاعبدوه هذا) *) الذي ذكرت " * (صراط مستقيم فاختلف الاحزاب من بينهم) *) يعني النصارى، وانما سموا أحزابا لأنهم تجزأوا ثلاث فرق في أمر عيسى: النسطورية والملكانية والمار يعقوبية.
" * (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) *) يعني يوم القيامة " * (أسمع بهم وأبصر) *) يعني ما أسمعهم وأبصرهم، على التعجب، وذلك أنهم سمعوا يوم القيامة حين لم ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر.
قال الكلبي: لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر حين يقول الله سبحانه وتعالى لعيسى " * (أنت قلت للناس) *) الآية.
" * (يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر) *) أي فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت " * (وهم في غفلة) *) من الدنيا.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت فيؤمر به فيذبح ثم ينادي المنادي: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم)، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الامر وهم في غفلة) *) وأشار بيده في الدنيا.
قال مقاتل: لولا ما قضى الله سبحانه وتعالى من تخليد أهل النار وتعميرهم فيها لماتوا حسرة حين رأوا ذلك.
" * (إنا نحن نرث الارض ومن عليها) *) أي نميتهم ويبقى الرب عز وجل فيرثهم.
" * (وإلينا يرجعون) *) فنجزيهم بأعمالهم.
2 (* (واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لابيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا * ياأبت إنى قد جآءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا
216

ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا * ياأبت إنىأخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا * قال أراغب أنت عن آلهتى ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربيإنه كان بى حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسىألا أكون بدعآء ربى شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا * ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا * واذكر فى الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا * وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا * ووهبنا له من رحمتنآ أخاه هارون نبيا * واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلواة والزكواة وكان عند ربه مرضيا) *) 2
" * (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا) *) مؤمنا موقنا صدوقا " * (نبيا) *) رسولا رفيعا " * (إذ قال لأبيه) *) آزر وهو يعبد الأوثان " * (لم تعبد ما لا يسمع) *) صوتا " * (ولا يبصر) *) شيئا " * (ولا يغني عنك) *) لا ينفعك ولا يكفيك " * (شيئا) *) يعني الأصنام " * (يا أبت إني قد جاءني من العلم) *) والبيان بعد الموت و أن من غيره عذبه " * (ما لم يأتك فاتبعني) *) على ديني " * (أهدك صراطا سويا) *) مستويا.
" * (يا أبت لا تعبد الشيطان) *) لا تطعه، لم تصل، له ولم تصم وإن من أطاع شيئا فقد عبده " * (إن الشيطان كان للرحمان عصيا) *) عاصيا عاتيا، وكان بمعنى الحال أي هو، وقيل بمعنى: صار.
" * (يا أبت إني أخاف) *) أعلم " * (أن يمسك) *) يصيبك " * (عذاب من الرحمن) *) لقوله: " * (إلا أن يخافا) *) وقوله " * (فإن خفتم ألا يقيما) *) وقيل: معناه إني أخاف أن ينزل عليك عذابا في الدنيا " * (فتكون للشيطان وليا) *) قرينا في النار، فقال له أبوه مجيبا له " * (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) *) تارك عبادتهم وزاهد فيهم " * (لئن لم تنته) *) لئن لم تسكت وترجع عن مقالتك " * (لأرجمنك) *) قال الضحاك ومقاتل والكلبي: لأشتمنك، وقال ابن عباس: لأضربنك، وقيل لأظهرن أمرك " * (واهجرني مليا) *) قال الحسن وقتادة وعطاء: سالما، وقال ابن عباس: واعتزلني سالم العرض لا يصيبنك مني معرة، وقال
الكلبي: اتركني واجتنبني طويلا فلا تكلمني، وقال سعيد بن جبير: دهرا، وقال مجاهد وعكرمة: حينا، وأصل الحرف المكث، ومنه يقال: تمليت حينا، والملوان الليل والنهار.
* (قال إبراهيم) * * (سلام عليك) *) أي سلمت مني لا أصيبك بمكروه " * (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) *) قال ابن عباس ومقاتل: لطيفا رحيما، وقيل: بارا، وقال مجاهد: عوده إلاجابة، وقال الكلبي: عالما يستجيب لي إذا دعوته.
217

" * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) *) يعني وأعتزل ما تعبدون من دون الله، قال مقاتل: كان اعتزاله إياهم أنه فارقهم من كوثى فهاجر منها إلى الأرض المقدسة.
" * (وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا) *) يعني عسى أن يجيبني ولا يخيبني، وقيل: معناه عسى أن لا أشقى بدعائه وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام.
" * (فلما اعتزلهم) *) ما تدعون: تعبدون " * (من دون الله) *) يعني الأصنام فذهب مهاجرا " * (وهبنا له) *) بعد الهجرة " * (إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا) *) يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب " * (ووهبنا لهم من رحمتنا) *) نعمتنا، قال الكلبي: المال والولد، وقيل: النبوة والكتاب، بيانه قوله " * (أهم يقسمون رحمة ربك) *).
" * (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) *) يعني ثناء حسنا رفيعا في كل أهل الأديان، وكل أهل دين يتولونهم ويثنون عليهم.
" * (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا) *) يعني غير مرائي، قال مقاتل: مسلما موحدا، وقرأ أهل الكوفة: مخلصا بفتح اللام يعني أخلصناه واخترناه " * (وكان رسولا نبيا وناديناه) *) دعوناه وكلمناه ليلة الجمعة " * (من جانب الطور الايمن) *) يعني يمين موسى، والطور: جبل بين مصر ومدين " * (وقربناه نجيا) *) يعني رفعناه من سماء إلى سماء ومن حجاب إلى حجاب حتى لم يكن بينه وبينه إلا حجاب واحد.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أبو الأزهر قال: حدثنا أسباط عن عطاء بن السائب عن ميسرة " * (وقربناه نجيا) *) قال: قربه حتى سمع صريف القلم، والنجي: المناجي كالجليس والنديم.
" * (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) *) وذلك حين سأل موسى ربه عز وجل فقال: " * (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي) *) وحين قال " * (فارسل إلى هارون) *) فأجاب الله دعاءه.
" * (واذكر في الكتاب إسماعيل) *) يعني ابن إبراهيم " * (إنه كان صادق الوعد) *) كان إذا وعد أنجز، وذلك أنه وعد رجلا أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى يرجع إليه الرجل، قاله مقاتل، وقال الكلبي: انتظره حتى حال الحول عليه. " * (وكان رسولا) *) إلى قومه " * (نبيا) *) مخبرا عن الله سبحانه
218

" * (وكان يأمر أهله) *) يعني قومه وكذلك هو في حرف ابن مسعود " * (بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا) *) صالحا زاكيا.
2 (* (واذكر فى الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا * ورفعناه مكانا عليا * أولائك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية ءادم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسراءيل وممن هدينا واجتبينآ إذا تتلى عليهم ءايات الرحمان خروا سجدا وبكيا * فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب وءامن وعمل صالحا فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا * جنات عدن التى وعد الرحمان عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا * لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا * تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا * وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذالك وما كان ربك نسيا * رب السماوات والارض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا * ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا * فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا * ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمان عتيا * ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) *) 2
" * (واذكر في الكتاب إدريس) *) وهو جد أبي نوح، فسمي إدريس لكثرة درسه الكتب، واسمه أخنوخ وكان خياطا، وهو أول من كتب بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط وأول من تكلم في علم النجوم والحساب " * (إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا) *) يعني الجنة.
وقال الضحاك: رفع إلى السماء السادسة، وقيل: الرابعة.
أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا: أخبرنا مكي بن عبدان
التميمي قال: حدثنا أحمد بن الأزهر قال: حدثنا روح قال: حدثنا سعيد عن قتادة في قوله " * (ورفعناه مكانا عليا) *) قال: حدثنا أنس بن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء قال: (أتيت على إدريس في السماء: الرابعة)...
وكان سبب رفعه على ما قاله ابن عباس وكعب وغيرهما أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا رب أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد؟ اللهم خفف عنه من ثقلها واحمل عنه حرها، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف، فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فما الذي قضيت فيه؟ قال: أما إن عبدي إدريس سألني أن اخفف عنك حملها وحرها فأجبته، فقال: يا رب اجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه
219

خلة، فأذن له حتى أتى إدريس وكان يسأله إدريس فكان مما سأله أن قال له: أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي فازداد
شكرا وعبادة، فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها قال: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي، فقال: نعم أنا مكلمه لك فما كان يستطيع أن يفعل لأحد من بني آدم فهو فاعله لك، ثم حمله ملك الشمس على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت فقال: حاجة لي إليك، فقال: أفعل كل شيء أستطيعه قال: صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله قال: ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت أعلمته أجله متى يموت فيقدم في نفسه، قال: نعم، فنظر في ديوانه وأخبر باسمه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا، قال: وكيف؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، قال: إني اتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فما أراك تجده إلا وقد مات، فوالله ما بقي من أجل إدريس شيء، فرجع الملك فوجده ميتا
وقال وهب: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه، فعجبت منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم، وكان إدريس صائما يصوم الدهر، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس فقال له الليلة الثالثة: إنى أريد أن أعلم من أنت، قال: أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي، قال: فلي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: تقبض روحي، فأوحى الله عز وجل إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه وردها الله عليه بعد ساعة.
قال له ملك الموت: ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال: لأذوق كرب الموت وغمته فأكون له أشد استعدادا، ثم قال إدريس له: لي إليك حاجة أخرى، قال: وما هي؟ قال: ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة وإلى النار، فأذن الله له في رفعه إلى السماوات، فلما قرب من النار قال: حاجة قال: وما تريد؟ قال: تسأل مالكا حتى يفتح لي بابها فأردها، ففعل ثم قال: فكما أريتني النار فأرني الجنة، فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت: اخرج لتعود إلى مقرك فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها، فبعث الله ملكا حكما بينهما ينظر في قولهما فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى قال: " * (كل نفس ذائقة الموت) *) وقد ذقته، وقال " * (وان منكم إلا واردها) *) وقد وردتها، وقال " * (وما هم منها بمخرجين) *) فلست أخرج، فأوحى الله سبحانه إلى ملك الموت: دخل الجنة وبأمري يخرج، فهو حي هناك فذلك قوله: " * (ورفعناه مكانا عليا) *).
220

" * (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح) *) في السفينة " * (ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا) *) إلى الإسلام " * (واجتبينا) *) على الأنام " * (إذا تتلى عليهم آيات الرحمان) *) يعني القرآن " * (خروا سجدا وبكيا) *) جمع باك تقديره من الفعل فعول مثل ساجد وسجود وراكع وركوع وقاعد وقعود، جمع على لفظ المصدر، نزلت في مؤمني أهل الكتاب، عبد الله سلام وأصحابه.
" * (فخلف من بعدهم) *) يعيني من بعد النبيين المذكورين " * (خلف) *) وهم قوم سوء، والخلف بالفتح الصالح، والخلف بالحزم الطالح، والخلف بسكون اللام الرديء من كل شيء، وهم في هذه الآية اليهود ومن لحق بهم. وقال مجاهد وقتادة: في هذه الأمة.
" * (أضاعوا الصلاة) *) أي تركوا الصلوات المفروضة، قال ابن مسعود وإبراهيم والقاسم بن مخيمرة: أخروها عن مواقيتها وصلوها بغير وقتها.
وقال قرة بن خالد: استبطأ الضحاك مرة امتراء في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب فقرأ هذه الآية " * (أضاعوا الصلاة) *) ثم قال: والله لئن أدعها أحب إلى من أن اضيعها، وقرأ الحسن: أضاعوا الصلوات " * (واتبعوا الشهوات) *) قال مقاتل: استحلو نكاح الأخت من الأب، وقال الكلبي: يعني اللذات و شرب الخمر وغيره، قال مجاهد: هذا عند اقتراب الساعة وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقة زناة.
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: يكون خلف من بعد ستين سنة " * (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) *) الآية.
وقال على بن أبي طالب: (هذا إذا بني المشيد وركب المنظور ولبس المشهور)، وقال وهب: فخلف من بعدهم خلف شرابون للقهوات، لعابون بالكعبات، ركابون للشهوات، متبعون للذات، تاركون للجمعات، مضيعون للصلوات، وقال كعب: يظهر في آخر الزمان أقوام بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ثم قرأ " * (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) *).
" * (فسوف يلقون غيا) *) قال عبد الله بن مسعود: الغي نار في جهنم، وقال ابن عباس: الغى واد في جهنم وإن أودية جهنم لتستعيذ من حرها، أعد ذلك الوادي للزاني المصر عليه، ولشارب الخمر المدمن عليها، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور
221

ولامرأة أدخلت على زوجها ولدا. وقال عطاء: الغى واد في جهنم يسيل قيحا ودما. وقال وهب: الغى نهر في النار بعيد قعره، خبيث طعمه، وقال كعب: هو واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا، فيه بئر تسمى البهيم كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فسعربها جهنم، وقال الضحاك: خسرانا وقيل: عذابا، وقيل: ألما، وقيل: كفرا.
" * (إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمان عباده بالغيب) *) ولم يروها " * (إنه كان وعده مأتيا) *) يعني آتيا، قال الأعشى:
وساعيت معصيا إليها وشاتها. أي عاصيا.
" * (لا يسمعون فيها) *) في الجنة " * (لغوا) *) باطلا وفحشا وفضولا من الكلام، قال مقاتل: يمينا كاذبة " * (إلا سلاما) *) استثناء من غير جنسه يعني بل يسمعون فيها سلاما أي قولا يسلمون منه، وقال المفسرون: يعني تسليم بعضهم على بعض تسليم الملائكة عليهم " * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) *) يعني على مقدار طرفي النهار.
أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن جعفر بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سختويه قال: حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا بشر بن معاذ الضرير قال: حدثنا عامذ بن سياق عن يحيى بن أبي كثير قال: كانت العرب في زمانها من وجد غداء مع عشاء فذلك هو الناعم، فأنزل الله سبحانه " * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) *) قدر ما بين غدائهم وعشائهم.
أخبرنا محمد بن أحمد بن جعفر قال: حدثنا علي بن محمد بن سختويه قال: حدثنا موسى ابن هارون قال: حدثنا داود بن رشيد قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله سبحانه " * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) *) قال: ليس في الجنة ليل، هم في نور أبدا وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب، ومقدار النهار برفع الحجب.
" * (تلك الجنة التي نورث من عبادنا) *) وقرأ يعقوب: نورث بالتشديد، والاختيار التخفيف؛ لقوله ثم اورثنا " * (من كان تقيا) *) * * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) *) الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد وشعيب بن محمد قالا: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أبو الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبرئيل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فأنزل الله سبحانه " * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) *).
وقال مجاهد: أبطأت الرسل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه جبرئيل فقال:
222

ما حبسك؟ فقال: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون؟ فأنزل الله سبحانه " * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) *) الآية.
وقال عكرمة والضحاك ومقاتل وقتادة والكلبي: احتبس جبرئيل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر ما يجيبهم، ورجا أن يأتيه جبرئيل بجواب ما سألوه فأبطأ عليه قال عكرمة: أربعين يوما. وقال مجاهد: اثنتي عشرة ليلة وقيل: خمس عشرة فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة، وقال المشركون: ودعه ربه وقلاه، فلما أنزل جبرئيل قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك)، فقال له جبرئيل: إنى كنت أشوق إليك ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست، فأنزل الله تعالى " * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) *) وأنزل " * (والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى) *).
وقيل: هذا إخبار عن أهل الجنة، أنهم يقولون عند دخولها: ما تتنزل هذه الجنان إلا بأمر الله " * (له ما بين أيدينا) *) قال مقاتل: له ما بين أيدينا من أمر الآخرة " * (وما خلفنا) *) من أمر الدنيا " * (وما بين ذلك) *) يعني بين النفختين، وبينهما أربعون سنة، وقيل: كان له ابتداء خلقنا وله كان منتهى آجالنا، وله كان مدة حياتنا.
ويقال: " * (ما بين أيدينا) *) من الثواب والعقاب وأمور الآخرة " * (وما خلفنا) *) ما مضى من أعمالنا في الدنيا " * (وما بين ذلك) *) أي ما يكون منا إلى يوم القيامة. ويقال: " * (له ما بين أيدينا) *) قيل أن يخلقنا " * (وما خلفنا) *) بعد أن يميتنا " * (وما بين ذلك) *) ما هو فيه من الحياة، ويقال " * (له ما بين أيدينا) *) إلى الأرض إذا أردنا النزول إليها " * (وما خلفنا) *) أي السماء إذا نزلنا منها " * (وما بين ذلك) *) يعني السماء والأرض، يريد أن كل ذلك لله سبحانه فلا تقدر على فعل إلا بأمره.
" * (وما كان ربك نسيا) *) أي ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل. " * (رب السموات والارض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته) *) أي واصبر على عبادته " * (هل تعلم له سميا) *) قال ابن عباس: مثلا، وقال سعيد بن جبير: عدلا، وقال الكلبي: هل تعلم أحدا يسمى الله غيره.
" * (ويقول الانسان) *) يعني أبى بن خلف الجمحي " * (أئذا ما مت لسوف أخرج) *) من القبر " * (حيا) *) استهزاء وتكذيبا منه بالبعث.
قال الله سبحانه " * (أولا يذكر) *) أي يتذكر ويتفكر، والأصل يتذكر، وقرأ ابن عامر ونافع
223

وعاصم ويعقوب يذكر بالتخفيف، والاختيار التشديد لقوله سبحانه " * (إنما يتذكر أولوا الألباب) *) وأخواتها، يدل عليه قراءة أبي " * (يتذكر الانسان) *) يعني أبى بن خلف الجمحي " * (أنا خلقناه من قبل ولم يكن شيئا) *) ثم أقسم بنفسه فقال " * (فوربك لنحشرنهم) *) لنجمعنهم في المعاد يعني المشركين المنكرين للبعث " * (والشياطين) *) مع الشياطين يعني قرناءهم الذين أضلوهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة " * (ثم لنحضرنهم حول جهنم) *) يعني في جهنم " * (جثيا) *) قال ابن عباس: جماعات جماعات، وقال مقاتل: جميعا وهو على هذا القول جمع جثوة، وقال الحسن والضحاك: جاثية على الركب وهو على هذا التأويل جمع جاث. قال الكميت:
هم تركوا سراتهم جثيا
وهم دون السراة مقرنينا
" * (ثم لننزعن من كل شيعة) *) لنخرجن من كل أمة وأهل دين " * (أيهم أشد على الرحمان عتيا) *) عتوا قال ابن عباس: يعني جرأة، وقال مجاهد: فجورا وكذبا، قال مقاتل: علوا، وقيل: غلوا في الكفر، وقيل: كفرا، وقال الكلبي: قائدهم رأسهم في الشر.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدثنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا أبو أسامة عن سفيان عن علي بن الأرقم عن أبي الأحوص قال: نبدأ بالأكابر
فألاكابر " * (ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) *) أي أحق بدخول النار، يقال: صلي يصلى صليا مثل لقي يلقى لقيا وصلى يصلى صليا مثل مضى يمضي مضيا.
2 (* (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين كفروا للذين ءامنوا أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا * وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا * قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمان مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا * ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والبقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا * أفرأيت الذى كفر بئاياتنا وقال لاوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا * واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا * ألم تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا * فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا * يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا * ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا * لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا) *) 2
" * (وإن منكم إلا واردها) *) قيل: في الآية اضمار مجازه: والله إن منكم يعني ما منكم من
224

أحد ألا واردها يعني النار، واختلف الناس في معنى الورود حسب اختلافهم في الوعيد، فأما الوعيد فإنهم قالوا: إن من دخلها لم يخرج منها، وقالت المرجئة: لا يدخلها مؤمن، واتفقوا على أن الورود هو الحضور والمرور، فأما أهل السنة فإنهم قالوا: يجوز أن يعاقب الله سبحانه العصاة من المؤمنين بالنار ثم يخرجهم منها، وقالوا: معنى الورود الدخول، واحتجوا، بقول الله سبحانه حكاية عن فرعون " * (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود) *) وقال في الأصنام وعبدتها " * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) *) * * (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) *) فلو لم يكن الورود في هذه الآيات بمعنى الدخول لوجب أن يدخل الأصنام وعبدتها وفرعون وقومه الجنة لأن من مر على النار فلابد له من الجنة لأنه ليس بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار، والذي يدل على أن الورود هو الدخول قوله في سياق الآية " * (ثم ننجي الذين اتقوا) *) والنجاة لا تكون إلا مما دخلت فيه وأنت ملقى فيه، قال الله سبحانه " * (فنجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) *) واللغة تشهد لهذا، تقول العرب: ورد كتاب فلان، ووردت بلد كذا، لا يريدون جزت عليها وإنما يريدون دخلتها، ودليلنا أيضا من السنة.
وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه قال: حدثنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدثنا محمد بن نصر بن منصور الصائغ الشيخ الصالح قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود ها هنا بالبصرة فقال قوم: لا يدخلها مؤمن، وقال آخرون: يدخلونها جميعا، فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأهوى بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتا إن لم أكن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الورود: الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى أن للنار أو لجهنم ضجيجا لمن تردهم " * (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) *)).
وأخبرنا شعيب بن محمد وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن الأزهر قال: حدثنا روح بن عبدان قال: حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار أن نافع بن الأزرق ما رأى ابن عباس يقول ابن عباس: الورود الدخول ويقول نافع ليس الورود الدخول فتلا
225

ابن عباس " * (حصب جهنم أنتم لها واردون) *) أدخل هؤلاء أم لا؟ " * (فاوردهم النار وبئس الورد المورود) *) أدخل هؤلاء أم لا؟ والله أنا وأنت فسنردها، وأنا أرجو أن يخرجني الله وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك.
وبإسناده عن ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد إلا لم يلج النار إلا تحلة القسم ثم قرأ " * (وإن منكم إلا واردها) *).
وبإسناده عن روح قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني إسماعيل السدى عن مرة الهمداني عن ابن مسعود في قوله " * (وإن منكم إلا واردها) *) قال: يردونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم.
وبه عن روح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف، تمر الطائفة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: اللهم سلم سلم.
أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد الأصبهاني قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الهروي قال: حدثنا الحسين بن إدريس قال: حدثنا سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن سفيان بن عيبنة عن رجل عن الحسن قال: قال رجل لأخيه: أي أخ هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك خارج منها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك إذا؟ قال: فما رؤي ضاحكا حتى مات.
وبإسناده عن عبد الله بن المبارك عن مالك بن معول عن أبي إسحاق عن ابن ميسرة أنه أوى إلى فراشه فقال: يا ليت أمي لم تلدني، فقالت امرأته: يا أبا ميسرة، إن الله سبحانه قد أحسن إليك، هداك إلى الإسلام فقال: أجل، ولكن الله قد بين لنا أنا واردو النار ولم يبين لنا أنا صادرون منها، وأنشد في معناه:
لقد أتانا ورود النار ضاحية
حقا يقينا ولما يأتنا الصدر
فإن قيل: فخبرونا عن الأنبياء هل يدخلون النار؟ يقال لهم: لا تطلق هذه اللفظة بالتخصيص فيهم بل نقول: إن الخلق جميعا يردونها.
فإن احتجوا بقوله " * (ولما ورد ماء مدين) *) يقال لهم: إن موسى لم يمر على تلك البئر
226

وإنما استقى لابنتي شعيب وروى الأغنام وأقام، وهو معنى الدخول، والعرب تعبر عن الحي وأماكنهم بذكر الماء، فتقول: ماء بني فلان.
فإن قيل: فكيف يجوز أن يدخلها من قد أخبر الله سبحانه أنه لا يسمع حسيسها ولا يدخلها؟ قيل: إن الله سبحانه أخبر عن وقت كونهم في الجنة أنهم لا يسمعون حسيسها فيجوز أن يكونوا قد سمعوا ذلك قبل دخولهم الجنة لأن الله سبحانه لم يقل: لم يسمعوا حسيسها ويجوز أن لا يسمعوا حسيسها عند دخولهم إياها إذ الله عز وجل قادر على أن يجعلها عليهم بردا وسلاما.
وكذلك تأويل قوله لاا يدخلون النار أي لا يخلدون فيها، أو لا يتألمون ويتأذون بها، يدل عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أبو الأزهر قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل عن أبي هلال عن قتادة عن أنس في قول الله سبحانه " * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) *) فقال: إنك من تخلد في النار فقد أخزيته.
والدليل على أن الخلق جميعا يدخلون النار ثم ينجي الله المؤمنين بعضهم سالمين غير آلمين وبعضهم معذبين معاقبين ثم يدخلهم جميعا الجنة برحمته، ما أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا حاجب بن محمد قال: حدثنا محمد بن حامد الأبيوردي قال: حدثنا أبو سعيد عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدرا والحديبية قالت: قلت: يا رسول الله أليس قد قال الله سبحانه " * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) *)؟ قال: أفلم تسمعيه يقول " * (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) *))
!؟.
227

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان قال: أخبرنا جبغوية بن محمد قال: أخبرنا صالح بن محمد بن عبد العزيز بن المسيب عن الربيع بن بدر عن أبي مسعود عن العباس عن كعب أنه قال في هذه الآية " * (وإن منكم إلا واردها) *) قال: ترفع جهنم يوم القيامة كأنها متن اهالة وتستوي أقدام الخلائق عليها، فينادي مناد أن خذي أصحابك ودعي أصحابي، فتخسف بهم وهي أعرف بهم من الوالدة بولدها، ويمر أولياء الله عز وجل بندي ثيابهم، وقال خالد بن معدان: يقول أهل الجنة: ألم يعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال: بلى ولكنكم مررتم بها وهي خامدة.
وروى خالد بن أبي الدريك عن يعلى بن منبه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي).
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدثنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا أحمد بن عبد الحميد الحارثي قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد عن يحيى بن يمان عن عثمان الأسود عن مجاهد في قوله " * (وإن منكم إلا واردها) *) قال: من حم من المسلمين فقد وردها.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قليه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة).
" * (ثم ننجي الذين اتقوا) *) يعني اتقوا الشرك وهم المؤمنون، وفي مصحف عبد الله: ثم ننجي بفتح الثاء يعني هناك " * (ونذر الظالمين) *) أي الكافرين " * (فيها) *) في النار " * (جثيا) *) جميعا، وقيل: على الركب.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا سعيد بن عامر عن حشيش أبي محرز قال: سمعت أبا عمران الجوني يقول: هبك ننجو بعد كم ننجو؟
" * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا) *) يعني النضر بن الحرث ودونه من قريش " * (للذين آمنوا) *) يعني فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة، وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم فقالوا للمؤمنين: " * (أي الفريقين خير مقاما) *) منزلا ومسكنا، وقرأ أهل مكة مقاما بالضم أي إقامة " * (وأحسن نديا) *) يعني مجلسا، ومثله النادي، ومنه دار الندوة لأن المشركين كانوا يجلسون فيها ويتشاورون في أمورهم، قال الله تعالى مجيبا لهم " * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا) *) أي متاعا، وقال ابن عباس: هيئة وقال مقاتل: ثيابا. " * (ورئيا) *) أي منظرا، وقرأ أبي: وزيا بالزاي وهو الهيئة.
" * (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا) *) أي فليدعه في طغيانه ويمهله في كفره " * (حتى إذا رأوا ما يوعدون) *) من العذاب " * (إما العذاب) *) في الدنيا " * (وإما الساعة) *) يعني القيامة " * (فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) *) أهم أم المؤمنون.
" * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) *) أي إيمانا ويقينا يعني المؤمنين، يقال: ويزيد الله الذين
228

اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ " * (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) *) عاقبة ومرجعا " * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن خباب بن الأرت قال: كان لي دين على العاص فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد قلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني، وسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال الكلبي ومقاتل: كان خباب بن الأرت قينا وكان يعمل للعاص بن وائل السهمي وكان العاص يؤخر حقه الشيء بعد الشيء إلى الموسم، فكان حسن الطلب فصاغ له بعض الحلي فأتاه يتقاضاه الأجرة فقال العاص: ما عندي اليوم ما أقضيك، فقال له الخباب: لست مفارقك حتى تقضي، فقال له العاص: يا خباب مالك؟ ما كنت هكذا وإن كنت حسن الطلب والمخالطة، فقال خباب: ذلك أني كنت على دينك فأما اليوم فأنا على الإسلام مفارق لدينك فلا، قال: أفلستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال الخباب: بلى، قال: فأخرني حتى أقضيك في الجنة استهزاء فوالله لئن كان ما تقول حقا فإنى لأفضل فيها نصيبا منك، فأنزل الله سبحانه " * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) *) يعني العاص " * (وقال لأوتين) *) لأعطين " * (مالا وولدا أطلع الغيب) *) قال ابن عباس: أنظر في اللوح المحفوظ؟ وقال مجاهد: أعلم علم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟ " * (أم اتخذ عند الرحمان عهدا) *) يعني أم قال: لا إله إلا الله، وقال قتادة: يعني عملا صالحا قدمه، وقال الكلبي: عهد إليه أنه يدخله الجنة. " * (كلا) *) رد عليه يعني لم يفعل ذلك " * (سنكتب) *) سنحفظ عليه " * (ما يقول) *) يعني المال والولد. " * (ويأتينا فردا) *) في الآخرة ليس معه شيء.
" * (واتخذوا) *) يعني مشركي قريش " * (من دون الله آلهة) *) يعني الأصنام " * (ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم) *) في الآخرة ويتبرأون منهم " * (ويكونون عليهم ضدا) *) أعداء وقيل: أعوانا.
" * (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) *) يعني سلطناهم عليهم وذلك حين قال لإبليس " * (واستفزززمن استطعت منهم بصوتك) *) الآية.
" * (تؤزهم أزا) *) قال ابن عباس: تزعجهم ازعاجا من الطاعة إلى المعصية. وقال الضحاك
229

يأمرهم بالمعاصي أمرا، وقال سعيد بن جبير: تغريهم إغراء وقال مجاهد: تشليهم أشلاء وقال الأخفش: توهجهم، وقال المؤرخ: تحركهم، وقال أبو عبيد: تغويهم وتهيجهم، وقال القتيبي: تخرجهم إلى المعاصي، وأصله الحركة والغليان ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم (ولجوفه أزيز كأزيز المرجل).
" * (فلا تعجل عليهم) *) بالعذاب " * (إنما نعد لهم عدا) *) قال الكلبي: يعني الليالي والأيام والشهور والسنين، وقيل: الأنفاس، يقال: إن المأمون كان يقرأ سورة مريم وعنده الفقهاء فلما انتهى إلى هذه الآية التفت إلى محمد بن السماك مشيرا عليه بأن يعظه فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.
" * (يوم نحشر المتقين) *) يعني الموحدين " * (إلى الرحمان وفدا) *) أي جماعات وهو جمع وافد مثل راكب وركب وصاحب وصحب.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا............. وهب بن جرير عن شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن رجل عن أبي هريرة " * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا) *) قال: على الإبل، وقال ابن عباس: ركبانا يؤتون بنوق عليها رحال الذهب، وأزمتها الزبرجد فيحملون عليها، وقال على بن أبي طالب: (ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها ذهب، ونجائب سرجها يواقيت، إن هموا بها سارت، وإن هموا بها طارت).
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن شاذان عن صعوبة بن محمد، حدثنا صالح ابن محمد عن إبراهيم بن عن صالح بن صدقة أن علي بن أبي طالب ح قال: لما نزلت هذه الآية " * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) *) قال: قلت: يا رسول الله إني رأيت وفود الملوك فلم أر وفدا إلا ركبانا فما وفد الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا علي إذا كان المنصرف من بين يدي الله تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمتها الذهب، على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا، فيلبس كل مؤمن حلته ثم يستوون على مراكبهم فتهوى بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة تتلقاهم الملائكة " * (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) *))
.
230

وقال الربيع: " * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا) *) قال: يفدون إلى ربهم فيكرمون ويعطون ويحيون ويشفعون " * (ونسوق المجرمين) *) يعني الكافرين " * (إلى جهنم وردا) *) قال المفسرون: عطاشى، مشاة على أرجلهم قد تقطعت أعناقهم من العطش، والورد جماعة يردون الماء، اسم على لفظ المصدر " * (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا) *) يعني لا إله إلا الله، ومن في موضع النصب على الاستثناء.
قال ابن عباس: يعني لا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله تبرأ من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله عز وجل.
وقال بعضهم: معناه إلا لمن اتخذ، نظيره " * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) *) قال مقاتل " * (إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا) *) يعني اعتقد بالتوحيد.
وقال قتادة: عمل بطاعة الله، وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله علائم يقول لأصحابه ذات يوم: (أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا؟ قالوا: كيف ذاك؟ قال: يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنى أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة؟).
2 (* (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمان ولدا * وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا * إن كل من فى السماوات والارض إلا آتى الرحمان عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات
سيجعل لهم الرحمان ودا * فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا * وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) *) 2
" * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا) *) يعني اليهود والنصارى، ومن زعموا أن الملائكة بنات الله، وقرأ حمزة والكسائي ولدا بضممالواو وجزم اللام وهي أربعة مواضع ها هنا، وحرف في
231

سورة الزخرف، وحرف في سورة نوح، والباقون بالفتح، وهما لغتان مثل العرب والعرب والعجم والعجم.
قال الشاعر:
فليت فلانا كان في بطن أمه
وليت فلانا كان ولد حمار
مخففا وقيس بجعل الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا.
" * (لقد جئتم شيئا إدا) *) قال ابن عباس: منكرا، وقال قتادة ومجاهد: عظيما، وقال الضحاك: فظيعا وقال مقاتل: معناه لقد قلتم قولا عظيما، نظيره قوله " * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) *) وإلاد في كلام العرب أعظم الدواهي، قال رؤبة:
نطح شى أد رؤوس الأداد وفيه ثلاث لغات: إد بالكسر وهي قراءة العامة، وأد بالفتح وهي قراءة السلمي، وآد مثل ماد وهي لغة بعض العرب " * (تكاد السموات) *) قرأ نافع والكسائي بالياء لتقديم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء لتأنيث السماوات " * (يتفطرن) *) يتشققن منه وقرأ أبو عمرو ينفطرن بالنون من الانفطار وهو اختيار أبي عبد الله لقوله عز وجل " * (إذا السماء أنفطرت) *) وقوله " * (السماء منفطر به) *) الباقون بالتاء من التفطر " * (وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) *) قال ابن عباس: وقرأ مقاتل: وقطعا وقال عطاء: هدما، أبو عبيد: سقوطا " * (أن دعوا للرحمان ولدا) *) يعني لأن دعوا، ومن قرأ جعلوا وقالوا للرحمن ولدا، قال ابن عباس وأبي بن كعب: فزعت السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم وقالوا لله عز وجل ولد، ثم نفى سبحانه عن نفسه الولد فقال " * (وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولدا) *) يعني انه لا يفعل ذلك ولا يحتاج إليه ولا يوصف به " * (إن كل من في السموات والارض إلا آتي الرحمان عبدا) *) لا ولدا " * (لقد أحصاهم وعدهم عدا) *) أنفاسهم وأيامهم فلا يخفى عليه شيء " * (وكلهم آتيه) *) جائيه " * (يوم القيامة فردا) *) وحيدا فريدا بعمله ليس معه شيء من الدنيا.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، حدثنا محمد بن جعفر بن يزيد، حدثنا أحمد بن عبيد
232

المؤدب، حدثنا عبد الرزاق، وحدثنا عبد الله، نبأ محمد بن الحسن، نبأ أحمد بن يوسف السلمي، نبأ عبد الرزاق، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: (كذبني عبدي وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فأن يقول: لن يعيدنا كما بدأنا، وأما شتمه إياي فأن يقول: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤا أحد).
" * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا) *) أي حبا يحبهم ويحببهم إلى عباده المؤمنين من أهل السماوات والأرضين.
أخبرنا عبد الخالق بن على بن عبد الخالق أبو القاسم العاصي أنبأ أبو علي محمد بن أحمد بن حمزه عن الحسن الصواف ببغداد، قال أبو جعفر الحسن بن علي الفارسي، عن إسحاق بن بشر الكوفي، عن خالد بن يزيد عن يزيد الزيات، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء عن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: يا علي قل: (اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين مودة، فأنزل الله تعالى " * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *)) الآية.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأ عبدوس بن الحسين، نبأ أبو حاتم بن أبي أويس، حدثني مالك بن أنس عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: إذا أحب الله العبد قال لجبرئيل: يا جبرئيل قد أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبرائيل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله عز وجل قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يضع له المحبة في الأرض وإذا أبغض العبد، قال مالك: لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك.
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن يعقوب عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة في قوله " * (سيجعل لهم الرحمان ودا) *) قال: إي والله ود في قلوب أهل الإيمان، وان هرم بن حيان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله عز وجل بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يورثه مودتهم ورحمتهم
233

" * (فإنما يسرناه) *) سهلناه يعني القرآن " * (بلسانك) *) يا محمد " * (لتبشر به المتقين) *) يعني المؤمنين " * (وتنذر به قوما لدا) *) قال ابن عباس: شدادا في الخصومة وقال الضحاك: جدلا بالباطل، وقال مقاتل: خصما، وقال الحسن: صما، وقال الربيع: صم آذان القلوب، وهو جمع ألد يقال: رجل ألد إذا كان من عادته مخاصمة الناس.
وقال مجاهد: الألد الظالم الذي لا يستقيم، وقال أبو عبيد: الألد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل، قال الله تعالى " * (وهو ألد الخصام) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأ أحمد بن محمد بن الحسين بن السوقي، نبأ أبو الأزهر نبأ أبو أسامة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة خ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم.
ثم خوف أهل مكة فقال: " * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس) *) هل ترى، وقيل: تجد منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا وهو الصوت الخفي، قال ذو الرمة:
وقد توجس ركزا من سنابكها
إذ كان صاحب أرض أو به الموم
قال أبو عبيدة: الركز: الصوت والحركة الذي لا يفهمه كركز الكتيبة، وأنشد بيت لبيد:
وتوجست ركز الأنيس فراعها
عن ظهر غيب والأنيس سقامها
234

((سورة طه))
وهي خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا، وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة، ومائة وخمس وثلاثون آية
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحيم بن إبراهيم بن محمد العدل، نبأ عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي، قال أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي وخشنام بن بشر بن العنبر قالا: قال إبراهيم بن المنذر الحرامي عن إبراهيم بن المهاجر قال: حدثني عمر بن حفص ابن ذكوان عن مولى الحرقة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل قرأ طه وياسين قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة تقول عليها هذا، طوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا.
وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال أبو نصر منصور بن عبد الله السرخسي عن محمد بن الفضل عن إبراهيم بن يوسف عن المسيب عن زياد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا يس وطه).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (طه * مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الارض والسماوات العلى * الرحمان على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لاإلاه إلا هو له الاسمآء الحسنى) *) 2
قوله عز وجل " * (طه) *) قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء، وقرأ أهل المدينة والشام بين
235

الكسر والفتح فيهما، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بكسر الهاء والطاء، وقرأ عاصم وابن كثير بالتفخيم فيهما وكلها لغات صحيحة.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن عمر بن حميد الأزدي عن محمد بن الجهم السمري، عن يحيى بن زياد الفراء عن عيسى بن الربيع عن زر بن حبيش قال: قرأ رجل على عبد الله بن مسعود " * (طه) *) فقال له عبد الله: " * (طه) *) فقال له الرجل: يا أبا عبد الرحمن أليس أمر أن يطأ قدميه؟ فقال عبد الله: طه، هكذا أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم
واختلفوا في تفسيره، فروى عبد الله بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو قسم أقسم الله به وهو اسم من أسماء الله، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: هو كقولك: افعل، وقال مجاهد والحسن وعطاء والضحاك: معناه يا رجل، وقال عكرمة: هو كقولك: يا رجل بلسان الحبشة يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: هو يا رجل بالسريانية، وقال سعيد بن جبير: يا رجل بالنبطية. وروى السدي عن أبي مالك وعكرمة: طه، قالا: يا فلان، وقال الكلبي: هو بلغة عك: يا رجل، قال شاعرهم:
ان السفاهة طه في خلائقكم
لا قدس الله أرواح الملاعين
وقال آخر:
هتفت بطه في القتال فلم يجب
فخفت لعمرك أن يكون موائلا
مقاتل بن حيان معناه: طئ الأرض بقدميك، يريد في التهجد، وقال محمد بن كعب القرظي: أقسم الله تعالى بطوله وهدايته، وموضع القاسم قوله " * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) *).
وقال جعفر بن محمد الصادق (ح): طه: طهارة أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم ثم " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *) وقيل: الطاء شجرة طوبى، والهاء هاويه. والعرب تعبر ببعض الشيء عن كله فكأنه أقسم بالجنة والنار.
236

وقال سعيد بن جبير: الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب، والهاء افتتاح اسمه هادي. وقيل: الطاء يا طامع الشفاعة للأمة، والهاء يا هادي الخلق إلى الملة.
وقيل: الطاء من الطهارة، والهاء: من الهداية، وكأنه تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا طاهرا من الذنوب، ويا هاديا إلى علام الغيوب، وقيل: الطاء: طبول الغزاة، والهاء: هيبتهم في قلوب الكفار، قال الله تعالى " * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) *). وقال: وقذف في قلوبهم الرعب، وقيل: الطاء: طرب أهل الجنة، والهاء: هوان أهل النار في النار، وقيل: الطاء تسعة في حساب (الجمل) والهاء خمسة، أربعة عشر، ومعناها يا أيها البدر " * (ما أنزلنا عليككالقرآن لتشقى) *) قال مجاهد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل ذلك بالفرض، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الكلبي: لما نزل على رسول الله الوحي بمكة اجتهد في العبادة واشتدت عبادته فجعل يصلي الليل كله، فكان بعد نزول هذه الآية ينام ويصلي.
أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد الهروي عن بشر بن موسى الحميدي عن سفيان بن زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، وقيل له: يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم أفلا أكون عبدا شكورا.
وقال مقاتل: قال أبو جهل بن هشام والنصر بن الحرث للنبى صلى الله عليه وسلم إنك لتسعى بترك ديننا وذلك لما رأوا من طول عبادته وشدة اجتهاده فإننا نراه أنه ليس لله وأنك مبعوث إلينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بعثت رحمة للعالمين، قالوا: بل أنت شقي، فأنزل الله تعالى " * (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) *) وأصل لكن أنزلناه عظة لمن يخشى.
قال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى ولئلا تشقى، تنزيلا بدل من قوله تذكرة
237

وقرأ أبو الشامي: تنزيل بالرفع يعني هذا " * (تنزيل ممن خلق الأرض والسماوات العلى) *) يعني العالية الرفيعة وهو جمع العليا كصغرى وصغر وكبرى وكبر " * (الرحمان على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) *) يعني التراب الذي تحت الأرضين وهو التراب الندي، تقول العرب: شبر ندى وسهر ندي وسهر مرعى.
قال ابن عباس: الأرض على ظهر النون والنون على بحر وإن طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش على صخرة خضراء، وخضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن في قصة لقمان " * (فتكن في صخرة) *) الصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى " * (وما تحت الثرى) *) لا يعلمه إلا الله عز وجل، وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل الله عز وجل البحار بحرا واحدا سالت في جوف ذلك الثور، فإذا وقعت في جوفه يبست.
" * (وإن تجهر بالقول) *) تعلن " * (فإنه يعلم السر وأخفى) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا حامد أخبرنا بشر بن موسى عن عبد الله بن صالح العجلي، حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " * (يعلم السر وأخفى) *) قال: وأخفى حديث نفسك نفسك.
وأخبرني عبد الله بن حامد عن أبي الطاهر محمد بن الحسن، حدثنا إبراهيم بن أبي طالب عن محمد بن النعمان بن مسيل، حدثنا يحيى بن أبي روق عن أبيه عن الضحاك عن ابن عباس قال: السر ما أسررت في نفسك، وأخفى أخفى من السر، ما ستحدث به نفسك، ما لا تعلم أنك تحدث به نفسك.
وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال: السر ما تسر في نفسك، وأخفى من السر ما لم يكن وهو كائن، قال: وأنت تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غدا، والله عز وجل يعلم ما أسررت اليوم وما تسر غدا.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: السر ما أسر ابن آدم في نفسه، وأخفى ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه، فالله يعلم ذلك كله، فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة.
وقال مجاهد: السر العمل الذي يسرون من الناس، وأخفى الوسوسة، وقال زيد بن أسلم: معناه يعلم أسرار العباد، وأخفى سره فلا يعلم.
وقال الحسن: السر ما أسر الرجل إلى غيره، وأخفى من ذلك ما أسره في نفسه
238

ثم وحد نفسه فقال: " * (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) *))
.
* (وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إنىءانست نارا لعلىآتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى * فلمآ أتاها نودى ياموسى * إنىأنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إننىأنا الله لاإلاه إلاأنا فاعبدنى وأقم الصلواة لذكرى * إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى * وما تلك بيمينك ياموسى * قال هى عصاى أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مأرب أخرى * قال ألقها ياموسى * فألقاها فإذا هى حية تسعى * قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى * واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضآء من غير سوء ءاية أخرى * لنريك من ءاياتنا الكبرى) *) 2
" * (وهل أتاك) *) يا محمد " * (حديث موسى) *) قال أهل المعاني: هو استفهام اثبات مجازه: أليس قد أتاك؟. وقال بعضهم: معناه: وقد أتاك، وقال: لم يكن قد أتاه ثم أخبره.
" * (إذ رأى نارا) *) ليلة الجمعة، وقال وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله، فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وقد جاد عن الطريق، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة، فبينا هو في مزاولة ذلك أبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق " * (فقال لأهله) *) لامرأته " * (امكثوا) *) أقيموا مكانكم " * (إني آنست) *) أبصرت " * (نارا لعلي آتيكم منها بقبس) *) يعني شعلة من النار، والقبس: ما اقتبس من خشب أو قصب أو غير ذلك " * (أو أجد على النار هدى) *) يعني من يدلني على الطريق " * (فلما أتاها) *) رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقدم، وسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما فخاف وتعجب، فألقيت عليه السكينة ثم " * (نودي يا موسى إني أنا ربك) *) وإنما كرر الكناية لتوكيد الدلالة وإزالة الشبهة وتحقيق المعرفة، ونظيره قوله للرسول عليه السلام " * (وقل إني أنا النذير المبين) *).
" * (فاخلع نعليك) *) وكان السبب في أمره بخلع نعليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد
239

قال: أخبرنا أحمد بن يحيى العبيدي قال: حدثنا أحمد بن نجدة قال: حدثنا الحماني قال: حدثنا عيسى بن يونس عن حميد بن عبد الله عن عبد الله بن الحرث العنبسي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " * (فاخلع نعليك) *) قال: كانتا من جلد حمار ميت، وفي بعض الأخبار: غير مدبوغ، وقال الحسن: ما بال خلع النعلين في الصلاة وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نعليه؟ وإنما أمر موسى عليه السلام أن يخلع نعليه إنهما كانتا من جلد حمار، وقال أبو الأحوص: أتى عبد الله أبا موسى في داره فأقيمت الصلاة فقال لعبد الله تقدم، فقال له عبد الله: تقدم أنت في دارك فتقدم فنزع نعليه، فقال له عبد الله: أبالواد المقدس أنت؟.
وقال عكرمة ومجاهد: إنما قال له: اخلع نعليك كي تمس راحة قدميك الأرض الطيبة وينالك بركتها لأنها قدست مرتين.
وقال بعضهم: أمر بذلك لأن الحفوة من أمارات التواضع، وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت.
قال سعيد بن جبير: قيل له: طأ الأرض حافيا، كيما يدخل كعبه من بركة الوادي.
وقال أهل الإشارة: معناه: فرغ قلبك من شغل الأهل والولد.
قالوا: وكذلك هو في التعبير من رأى عليه نعلين تزوج.
فخلعهما موسى وألقاهما من وراء الوادي " * (إنك بالوادي المقدس) *) المطهر " * (طوى) *) اسم الوادي، وقال الضحاك: مستدير عميق مثل الطوى في استدارته، وقيل: أراد به إنك تطوي الوادي، وقيل: هو الليل، يقال: أتيتك طوى من الليل، وقيل: طويت عليه البركة طيا، وقرأ عكرمة: طوى بكسر الطاء وهما لغتان، وقرأ أهل الكوفة والشام: طوى بالتنوين وإلا جرا لتذكيره وتحقيقه، الباقون من غير تنوين، قال: لأنه معدول عن طاو أو مطوى، فلما كان معدولا عن وجهه كان مصروفا عن إعرابه مثل عمر وزفر وقثم.
" * (وأنا اخترتك) *) اصطفيتك، وقرأ حمزة: وإنا اخترناك بلفظ الجمع على التعظيم " * (فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) *) ولا تعبد غيري " * (وأقم الصلاة لذكري) *)
قال مجاهد: أقم الصلاة لتذكرني فيها، وقال مقاتل: إذا تركت الصلاة ثم ذكرتها فأقمها، يدل عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا إبراهيم بن
240

مرزوق قال: حدثنا سعيد بن عامر عن سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، إن الله سبحانه يقول: " * (وأقم الصلاة لذكري) *).
وقيل: هو مردود على الوحي يعني فاستمع لما يوحى واستمع لذكري.
" * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) *) فأكاد صلة، كقول الشاعر:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
فما أن يكاد قرنه يتنفس
يعني: فما يتنفس من خوفه، والفائدة في الإخفاء التخويف والتهويل، قال ابن عباس وأكثر المفسرين: معناه أكاد أخفيها من نفسي، وكذلك هو في مصحف ابي، وفي مصحف عبد الله: أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق؟.
وفي بعض القراءات فكيف أظهرها لكم؟ قال قطرب: فإن قيل: كيف يخفي الله من نفسه وهو خلق الإخفاء؟ قلنا: إن الله سبحانه كلم العرب بكلامهم الذي يعرفونه، ألا ترى أن الرجل يعذل أخاه فيقول له: أذعت سري، فيقول مجيبا له معتذرا إليه: والله لقد كتمت سرك نفسي فكيف أذعته؟ معناه عندهم: أخفيته الإخفاء كله، وقال الشاعر:
أيام تعجبني هند وأخبرها
ما أكتم النفس من حاجي وإسراري
فكيف يخبرها ما يكتم عن نفسه؟ فمجاز الآية على هذا.
وقرأ الحسن وسعيد بن جبير: أخفيها بفتح الألف أي أظهرها وأبرزها يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا سترته، قال امرؤ القيس:
خفاهن من إنفاقهن كأنما
خفاهن ودق من سحاب مركب
أي اخرجهن.
" * (لتجزى كل نفس بما تسعى) *) أي تعمل من خير وشر " * (فلا يصدنك) *) يصرفنك " * (عنها) *) يعني عن الإيمان بالساعة " * (من لا يؤمن بها واتبع هواه) *) مراده " * (فتردى) *) فتهلك.
" * (وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي) *) وكانت لها شعبتان وفي أسفلها سنان واسمها نبعة في قول مقاتل " * (أتوكأ) *) اعتمد " * (عليها) *) إذا
مشيت وإذا أعييت وعند الوثبة
241

والطفرة. " * (وأهش) *) وأخبط " * (بها) *) الشجر ليتناثر ورقها فتأكل غنمي، وقرأ عكرمة (وأهس) بالسين يعني وازجر بها الغنم، وذلك أن العرب تقول: هس هس، وقال النضر بن شميل: سألت الخليل عن قراءة عكرمة فقال: العرب تعاقب بين الشين والسين في كثير من الكلام، كقولهم: شمت العاطس وسمته، وشن عليه الدرع وسن، والروشم والروسم للختم.
" * (ولى فيها مآرب) *) حوائج ومنافع، واحدتها مأربة ومأربة بفتح الراء وضمها " * (أخرى) *) ولم يقل أخر لرؤوس الآي.
قال ابن عباس: كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه، فجعلت تماشيه وتحدثه، وكان يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل يومه، ويركزها فيخرج الماء فإذا رفعها ذهب الماء، وكان يرد بها غنمه، وتقيه الهوام بإذن الله، وإذا ظهر له عدو حاربت وناضلت عنه، وإذا أراد إلاسقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو حتى يستقي، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل تضيء له ويهتدي بها، وإذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض فتغصنت غصن تلك الشجرة وأورقت ورقها وأثمرت ثمرها، فهذه المآرب.
قال الله سبحانه " * (ألقها يا موسى فألقاها) *) من يده " * (فإذا هي حية تسعى) *) تمشي مسرعة على بطنها.
قال ابن عباس: صارت حية صفراء لها عرف كعرف الفرس، وجعلت تتورم حتى صارت ثعبانا، وهو أكبر ما يكون من الحيات، فلذلك قال في موضع " * (كأنها جان) *) وهو أصغر الحيات، وفي موضع ثعبان وهو أعظمها، فالجان عبارة عن ابتداء حالها، والثعبان إخبار عن انتهاء حالها، وقيل: أراد أنها في عظم الثعبان وسرعة الجان، فأما الحية فإنها تجمع الصغر والكبر والذكر والأنثى.
قال فرقد السخي: كان ما بين جنبيها أربعين ذراعا فلما ظهر في موسى من الخوف ونفار الطبع لما رأى من الأعجوبة " * (قال) *) الله تعالى له " * (خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها) *) أي إلى سيرتها وهيئتها " * (الاولى) *) نردها عصا كما كانت " * (واضمم يدك إلى جناحك) *) يعني إبطك.
وقال الكلبي: أسفل من الإبط، وقال مجاهد: تحت عضدك، وقال مقاتل: يعني مع جناحك وهو عضده " * (تخرج بيضاء من غير سوء) *) برص ولا داء " * (آية أخرى) *) سوى العصا، فأخرج يده من مدرعة له مضربة بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر " * (لنريك من آياتنا الكبرى) *) وكان من حقه الكبر وإنما قال: الكبرى وفاقا لرؤس الآي، وقيل: فيه اضمار معناه " * (لنريك من آياتنا) *) الآية الكبرى دليله قول ابن عباس: كانت يد موسى أكبر آياته.
242

2 (* (اذهب إلى فرعون إنه طغى * قال رب اشرح لى صدرى * ويسر لىأمرى * واحلل عقدة من لسانى * يفقهوا قولي * واجعل لى وزيرا من أهلى * هارون أخى * اشدد به أزرى * وأشركه فىأمرى * كى نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا * قال قد أوتيت سؤلك ياموسى * ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينآ إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى * إذ تمشىأختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين فىأهل مدين ثم جئت على قدر ياموسى * واصطنعتك لنفسى * اذهب أنت وأخوك بئاياتى ولا تنيا فى ذكرى * اذهبآ إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى * قالا ربنآ إننا نخاف أن يفرط علينآ أو أن يطغى * قال لا تخافآ إننى معكمآ أسمع وأرى * فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بنىإسراءيل ولا تعذبهم قد جئناك بئاية من ربك والسلام على من اتبع الهدى * إنا قد أوحى إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى * قال فمن ربكما ياموسى * قال ربنا الذىأعطى كل شىء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الاولى * قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) *) 2
" * (اذهب إلى فرعون إنه طغى) *) عصى وعلا وتكبر وكفر، فادعه إلى عبادتي، واعلم بأني قد ربطت على قلبه، قال: فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطت على قلبه؟ فأتاه ملك من خزان الريح فقال: انطلق، فإنا اثنا عشر من خزان الريح منذ خلقنا الله سبحانه نحن في هذا فما علمناه، فامض لأمر الله، فقال موسى عند ذلك " * (رب اشرح لي صدري) *) وسع ولين قلبي بالإيمان والنبوة " * (ويسر لي أمري) *) وسهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون " * (واحلل) *) وابسط وافتح " * (عقدة من لساني) *)
قال ابن عباس: كانت في لسانه رتة، وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم فلطمه لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته: ان هذا عدوي، فقالت آسية: على رسلك إنه صبي لا يفرق بين الأشياء ولا يميز، ثم جاءت بطستين فجعلت في أحدهما الجمر وفي الأخرى الجوهر ووضعتهما بين يدي موسى، فأخذ جبرئيل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه فتلك الرتة " * (يفقهوا قولي) *) كي يفهموا كلامي " * (واجعل لي وزيرا) *) معينا وظهيرا " * (من أهلي) *) ثم بين من هو فقال " * (هارون أخي اشدد به أزري) *) قو به ظهري " * (وأشركه في أمري) *) يعني النبوة وتبليغ الرسالة " * (كى نسبحك كثيرا) *) نصلي لك " * (ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا) *).
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن عامر: اشدد به أزري بفتح الألف وأشركه بضم الألف
243

على الجزاء والجواب حكاية عن موسى أني أفعل ذلك، قال الله سبحانه " * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) *) قد أعطيت مرادك وسؤالك يا موسى.
" * (ولقد مننا عليك مرة أخرى) *) قبل هذا وهي " * (إذ أوحينا إلى أمك) *) وحي إلهام مثل وحي النحل " * (ما يوحى أن اقذفيه) *) أن اجعليه " * (في التابوت) *).
قال مقاتل: والمؤمن الذي صنع التابوت من آل فرعون اسمه خربيل، وقيل: إنه كان من بردي " * (فاقذفيه في اليم) *) يعني نهر النيل " * (فليلقه اليم بالساحل) *) يعني شاطئ النهر، لفظه أمر ومعناه خبر مجازه: حتى يلقيه اليم بالساحل " * (يأخذه عدو لي وعدو له) *) يعني فرعون، فاتخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا محلوجا، ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وخصاصه يعني شقوقه ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذا بتابوت يجيء به الماء، فلما رأى ذلك أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبي من أصبح الناس وجها، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك، فذلك قوله سبحانه " * (وألقيت عليك محبة مني) *) قال ابن عباس: أحبه وحببه إلى خلقه، قال عطية العوفي: جعل عليه مسحة من جمال لا تكاد يصبر عنه من رآه، قال قتادة: ملاحة كانت في عيني موسى، ما رآه أحد إلا عشقه.
" * (ولتصنع على عيني) *) أي ولتربى وتغذى بمرأى ومنظر مني " * (إذ تمشي أختك) *) واسمها مريم متعرفة خبره " * (فتقول هل أدلكم على من يكفله) *) يرضعه ويضمه إليه، وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة، فلما قالت لهم أخته ذلك قالوا: نعم، فجاءت بالأم فقبل ثديها فذلك قوله " * (فرجعناك) *) فرددناك " * (إلى أمك) *). وفي مصحف أبي فرددناك إلى أمك " * (كى تقر عينها) *) بلقائك وبقائك " * (ولا تحزن وقتلت نفسا) *) قال ابن عباس: قتل قبطيا كافرا.
قال كعب الأحبار: كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة " * (فنجيناك من الغم) *) أي من غم القتل وكربته " * (وفتناك فتونا) *). قال ابن عباس: اختبرناك اختبارا. وقال الضحاك وقتادة ومقاتل، ابتليناك ابتلاء. وقال مجاهد: أخلصناك إخلاصا " * (فلبثت سنين) *) يعني عشر سنين " * (في أهل مدين) *) وهي بلدة شعيب على ثلاث مراحل من مصر، قال وهب: لبث عند شعيب ثمان وعشرين سنة، عشر سنين منها مهر امرأته صفيرا بنت شعيب وثماني عشرة سنة أقام عنده حتى ولد له.
" * (ثم جئت على قدر يا موسى) *). قال مقاتل: على موعد، قال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت أنك تجيء
244

قال عبد الرحمن بن كيسان: على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه إلى الأنبياء، قال الكلبي: وافق الكلام عند الشجرة.
" * (واصطنعتك لنفسي) *) اخترتك واصطفيتك واختصصتك بالرسالة أو النبوة " * (اذهب أنت وأخوك بآياتي) *) اليد والعصا " * (ولا تنيا) *) قال ابن عباس: لا تضعفا، وقال السدي: لا تفترا، وقال محمد بن كعب: لا تقصرا.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تبطئا، وقي قراءة ابن مسعود: ولا تهنا.
" * (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا) *) قال ابن عباس: لا تعنفا في قولكما ولا تغلظا، وقال السدي وعكرمة: كنياه قولا له: يا أبا العباس، وقيل: يا أبا الوليد.
وقال مقاتل: يعني بالقول اللين هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى.
وقال أهل المعاني: معناه الطفا له في قولكما فإنه رباك وأحسن تربيتك وله عليك حق الأبوة فلا تجبهه بمكروه في أول قدومك عليه، يقال: وعده على قبول الإيمان شبابا لا يهرم وملكا لا ينزع عنه إلا بالموت، ويبقى عليه لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته.
قال المفسرون: وكان هارون يومئذ بمصر فأمر الله عز وجل أن يأتي هو وهارون، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحي إليه فقال له موسى: إن الله سبحانه أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي عز وجل أن يجعلك معي. وقوله " * (لعله يتذكر أو يخشى) *) أي يسلم.
فإن قيل: كيف قال: لعله يتذكر أو يخشى وعلمه سابق في فرعون أنه لا يتذكر ولا يخشى؟.
قال الحسين بن الفضل: هو مصروف إلى غير فرعون، ومجازه: لكي يتذكر متذكر أو يخشى خاش إذا رأى بري وإلطافي بمن خلقته ورزقته، وصححت جسمه وأنعمت عليه ثم ادعى الربوبية دوني.
وقال أبو بكر محمد بن عمر الوراق: لعل ها هنا من الله واجب، ولقد تذكر فرعون حيث لم تنفعه الذكرى والخشية، وذلك قوله حين الجمه الغرق في البحر " * (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) *).
245

سمعت أبا القاسم الحسنن بن محمد بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول سمعت على بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول وقرأ هذه الآية: هذا رفقك بمن يقول: أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول: أنت الإله؟
قال أبو القاسم الحسين فبنيت عليه ألفاظا اقتديت به فيها فقلت: هذا رفقك بمن ينافيك فكيف رفقك بمن يصافيك؟ هذا رفقك بمن يعاديك فكيف رفقك بمن يواليك؟ هذا رفقك بمن يسبك فكيف رفقك بمن يحبك؟ هذا رفقك بمن يقول لك ندا فكيف رفقك بمن يقول فردا؟ هذا رفقك بمن ضل فكيف رفقك بمن ذل هذا رفقك بمن اقترف فكيف رفقك بمن اعترف؟ هذا رفقك بمن أصر فكيف رفقك بمن أقر؟ هذا رفقك بمن استكبر فكيف رفقك بمن استغفر؟
" * (قالا) *) يعني موسى وهارون " * (ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا) *). قال ابن عباس: يعجل بالقتل والعقوبة، وقال الضحاك: تجاوز الحد، وقيل: يغلبنا " * (أو أن يطغى) *) يتكبر ويستعصي علينا.
" * (قال لا تخافا إنني معكما) *) بالدفع عنكما " * (أسمع) *) قولكما وقوله " * (وأرى) *) فعله وفعلكما " * (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم) *) أي ولا تتعبهم في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند آل فرعون في عذاب شديد يقتل أبناءهم ويستخدم نساءهم ويكلفهم من العمل واللبن والطين
وبناء المدائن ما لا يقدرون عليه.
قال موسى " * (قد جئناك بآية من ربك) *) قال فرعون: وما هي؟ قال: فأدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس، غلبت نور الشمس، فعجب منها ولم يره العصا إلا بعد ذلك يوم الزينة.
" * (والسلام على من اتبع الهدى) *) يعني من أسلم " * (إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب) *) أنبياء الله " * (وتولى) *) أعرض عن الإيمان، ورأيت في بعض التفاسير أن هذه أرجى آية للموحدين في القرآن.
" * (قال فمن ربكما يا موسى) *) يعني يا موسى وهارون فذكر موسى دون هارون لرؤوس الآي.
" * (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه) *) قال الحسين وقتادة: أعطى كل شئ صلاحه وهداه لما يصلحه
246

وقال مجاهد: لم يجعل الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شي فقدره تقديرا.
وقال عطية: أعطى كل شئ خلقه يعني صورته.
وقال الضحاك: أعطى كل شيء خلقه، يعني اليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للبصر والأذن للسمع.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الزهري قال: حدثنا أحمد ابن سعيد قال: حدثنا سعيد بن سليمان عن إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن أبي صالح، أعطى كل شي خلقه " * (ثم هدى) *) قال: هداه لمعيشته.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: " * (أعطى كل شيء خلقه) *) يعني شكله، للإنسان الزوجة وللبعير الناقة وللفرس الرمكة وللحمار الأتان ثم هدى أي عرف وعلم وألهم كيف يأتي الذكر الأنثى في النكاح. وقرأ نصير خلقه بفتح اللام على الفعل.
* (قال فرعون) * * (فما بال القرون الاولى) *) وإنما قال هذا فرعون لموسى حين قال موسى: " * (إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم) *)، فقال فرعون حينئذ له: فما بال القرون الأولى التي ذكرت؟ فقال موسى " * (علمها عند ربي في كتاب) *) يعني اللوح المحفوظ، وإنما رد موسى علم ذلك إلى الله سبحانه لأنه لم يعلم ذلك، وإنما نزلت التوراة عليه بعد هلاك فرعون وقومه " * (لا يضل ربي) *) أي لا يخطئ " * (ولا ينسى) *) فيتذكر، وقال مجاهد: هما شيء واحد.
" * (الذي جعل لكم الارض مهدا) *) قرأه أهل الكوفة بغير ألف أي فرشا، وقرأ الباقون مهادا أي فراشا واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: " * (ألم نجعل الأرض مهادا) *) ولم يختلفوا فيه أنه بالألف.
" * (وسلك لكم فيها سبلا) *) أي أدخل وبين وطرق لكم فيها طرقا. " * (وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا) *) أصنافا " * (من نبات شتى) *) مختلف الألوان والطعوم والمنافع من بين أبيض وأحمر وأخضر وأصفر، ووهب كل صنف زوجا، ومنها للدواب ومنها للناس ثم قال " * (كلوا وارعوا) *) أي ارتعوا " * (أنعامكم) *) يقول العرب: رعيت الغنم فرعت لازم ومتعد.
" * (إن في ذلك) *) الذي ذكرت " * (لآيات لاولي النهى) *) أي لذوي العقول، واحدها نهية، سميت بذلك لأنها تنهى صاحبها عن القبائح والفضائح وارتكاب المحظورات والمحرمات
247

وقال الضحاك: " * (لاولي النهى) *) يعني الذين ينتهون عما حرم عليهم.
وقال قتادة: لذوي الورع، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لذوي التقى.
(* (الذى جعل لكم الارض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن فى ذالك لأيات لاولى النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى * ولقد أريناه ءاياتنا كلها فكذب وأبى * قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى * قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى * قالوا إن هاذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى * قالوا ياموسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس فى نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى * وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى * فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على ما جآءنا من البينات والذى فطرنا فاقض مآ أنت قاض إنما تقضى هاذه الحيواة الدنيآ * إنآ آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ومآ أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولائك لهم الدرجات العلى * جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذالك جزآء من تزكى) *) 2
" * (منها) *) أي من الأرض " * (خلقناكم) *) يعني أباكم آدم. وقال عطاء الخراساني: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة، فيخلق من التراب، ومن النطفة فذلك قوله سبحانه " * (منها خلقناكم) *).
" * (وفيها نعيدكم) *) أي عند الموت والدفن، قال علي: (إن المؤمن إذا قبض الملك روحه انتهى به إلى السماء، وقال: يا رب عبدك فلان قبضنا نفسه فيقول: ارجعوا فإني وعدته: منها خلقناكم وفيها نعيدكم فإنه يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين).
" * (ومنها نخرجكم تارة أخرى) *) مرة أخرى بعد الموت عند البعث.
248

" * (ولقد أريناه) *) يعني فرعون " * (آياتنا كلها) *) يعني اليد والعصا والآيات التسع " * (فكذب) *) بها وزعم أنها سحر " * (وأبى) *) أن يسلم * (قال فرعون) * * (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا) *) يعني مصر " * (بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا) *) فاضرب بيننا وبينك أجلا وميقاتا " * (لا نخلفه) *) لا نجاوزه " * (نحن ولا أنت مكانا سوى) *) مستويا. قرأ الحسن وعاصم والأعمش وحمزة سوى بضم السين، الباقون: بكسر وهما لغتان مثل عدي وعدي، وطوى وطوى.
قال قتادة ومقاتل: مكانا عدلا بيننا وبينك، وقال ابن عباس: صفا، وقال الكلبي: يعني سوى هذا المكان، وقال أبو عبيد والقيسي: وسطا بين الفريقين، وقال موسى بن جابر الحنفي:
وإن أبانا كان حل ببلدة
سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
الفزر: سعد بن زيد مناة.
" * (قال موعدكم يوم الزينة) *) قال ابن عباس وسعيد بن جبير: يعني يوم عاشوراء.
وقال مقاتل والكلبي: يوم عيد لهم في كل سنة يتزينون ويجتمعون فيه.
وروى جعفر عن سعيد قال: يوم سوق لهم، وقيل: هو يوم النيروز.
وقرأ الحسن وهبيرة عن حفص يوم الزينة بنصب الميم أي في يوم، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء والخبر.
" * (وأن يحشر الناس ضحى) *) وقت الضحوة، يجتمعون نهارا جهارا ليكون أبلغ في الحجة وأبعد من الريبة. " * (فتولى فرعون فجمع كيده) *) حيله وسحرته " * (ثم أتى) *) الميعاد.
قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعون ساحرا مع كل واحد منهم حبل وعصا، وقيل: كانوا أربعمائة.
" * (قال) *) موسى للسحرة " * (لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم) *) قرأ أهل: الكوفة فيسحتكم بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ الباقون بفتح الياء والحاء، وهما لغتان: سحت وأسحت.
قال مقاتل والكلبي: فيهلككم، وقال قتادة: فيستأصلكم، وقال أبو صالح: يذبحكم، قال الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحت أو مجلف
249

" * (فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) *) أي المناجاة تكون اسما ومصدرا. " * (قالوا إن هذان لساحران) *) قرأ عبد الله: واسروا النجوى إن هذان ساحران بفتح الألف وجزم نونه ساحران بغير لام، وقرأ ابن كثير وحفص إن بكسر الألف وجزم النون هذان بالألف على معنى ما هذان إلا ساحران، نظيره: قوله " * (وإن نظنك لمن الكاذبين) *) قال الشاعر:
ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما
حلت عليك عقوبة الرحمن
يعني ما قتلت إلا مسلما، يدل على صحة هذه القراءة قراءة أبي بن كعب: إن ذان إلا ساحران، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي وأبو عمر بن علاء: إن هذين لساحران بالياء على الأصل، قال أبو عمرو: واني لإستحي من الله أن أقرأ إن هذان، وقرأ الباقون: إن بالتشديد هذان بالألف واختلفوا فيه، فقال قوم بما أخبرنا أبو بكر بن عبدوس وعبد الله بن حامد قالا: حدثنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا محمد بن الجهم السمري قال: حدثنا الفراء قال: حدثني أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سئلت عن قوله سبحانه في النساء " * (لكن الراسخون) *) * * (والمقيمين) *) وعن قوله في المائدة " * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون) *) وعن قوله " * (إن هذان لساحران) *) فقالت: يا بن أخي هذا خطأ من الكاتب.
وقال عثمان بن عفان: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتهم.
وقال أبان: قرئت هذه الآية عند عثمان فقال: لحن وخطأ، فقيل له: ألم تغيره فقال: دعوه فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، وقال آخرون: هذه لغة الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة يجعلون الأسين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف.
قال الفراء: أنشدني رجل من بني الأسد وما رأيت افصح منه.
وأطرق إطراق الشجاع ولو ترى
مساغا لناباه الشجاع لصمما
250

ويقولون: كسرت يداه، وركبت علاه، بمعنى يديه وعليه. وقال الشاعر:
تزود منا بين أذناه ضربة
دعته إلى هابي التراب عقيم
أراد بين أذنيه. وقال آخر:
أي قلوص راكب نراها
طاروا علاهن فطر علاها
أي عليهن وعليها. وقال آخر:
إن أباها وأبا أباها
قد بلغا في المجد غايتاها
وروي أن أعرابيا سأل ابن الزبير شيئا فحرمه فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إن وصاحبها، يعني نعم. وقال الشاعر:
بكرت علي عواذلي يلحينني وألو مهنه
ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت إنه
أي نعم، وقال الفراء: وفيه وجه آخر: وهو أن يقول: وجدت الألف دعامة من هذا على حالها لا تزول في كل حال، كما قالت العرب: الذي ثم زادوا نونا يدل على الجمع فقالوا: الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم وكناية تقول: اللذون.
" * (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم) *) مصر " * (بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) *) حدث الشعبي عن علي قال: يصرفا وجوه الناس إليهما وهي بالسريانية.
وقال ابن عباس: يعني بسراة قومكم وأشرافكم
وقال مقاتل والكلبي: يعني الأمثل فالأمثل من ذوي الرأي والعقول.
وقال عكرمة: يعني يذهب أخياركم.
وقال قتادة: طريقتكم المثلى يومئذ، بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عددا يومئذ وأموالا، فقال عدو الله: إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما.
وقال الكسائي: بطريقتكم يعني بسنتكم وهديكم وسمتكم، والمثلي نعت للطريقة، كقولك امرأة كبرى، تقول العرب: فلان على الطريقة المثلى يعني على الهدى المستقيم. قال الشاعر:
فكم متفرقين منوا بجهل
حدى بهم إلى زيغ فراغوا
وزيغ بهم عن المثلى فتاهوا
وأورطهم مع الوصل الرداغ
251

فزلت فيه أقدام فصارت
إلى نار غلا منها الدماغ
والمثلي تأنيث الأمثل.
" * (فأجمعوا كيدكم) *) قرأ أبو عمرو فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم، من الجمع يعني لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به، وتصديقه قوله: فجمع كيده، وقرأ الباقون: فأجمعوا بقطع الألف وكسر الميم وله وجهان: أحدهما: بمعنى الجمع، يقول العرب: أجمعت الشيء وجمعته بمعنى واحد. قال أبو ذؤيب:
فكأنه بالجزع جزع يتابع
وأولاه ذي العرجاء تهب مجمع
والثاني: بمعنى العزم والأحكام، يقول: أجمعت الأمر وأزمعته، وأجمعت على الأمر وأزمعت عليه إذا عزمت عليه. قال الشاعر:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع
هل أغدون يوما وأمري مجمع
أي محكم، وقد عزم عليه كيدكم ومكركم وسحركم وعلمكم.
" * (ثم ائتوا صفا) *) قال مقاتل: والكلبي: جميعا، وقيل: صفوفا، وقال أبو عبيد: يعني المصلى والمجتمع، وحكي عن بعض العرب الفصحاء: ما استطعت أن
آتي الصف أمس، يعني المصلى.
" * (وقد أفلح اليوم من استعلى) *) يعني فاز من غلب.
" * (قالوا) *) يعني السحرة " * (يا موسى إما أن تلقى) *) عصاك من يدك " * (وإما أن نكون أول من ألقى) *) عصاه * (قال موسى) * * (بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم) *) وهو جمع العصا " * (يخيل إليه) *) قرأ ابن عامر بالتاء، رده إلى الحبال والعصي، وقرأ الباقون: بالياء ردوه إلى الكيد أو السحر، ومعناه شبه إليه من سحرهم حتى ظن " * (أنها تسعى) *) أي تمشي، وذلك أنهم كانوا لطخوا حبالهم وعصيهم بالزئبق فلما أصابه حر الشمس ارتهشت واهتزت فظن موسى أنها تقصده " * (فأوجس) *) أي أحس ووجد، وقيل: أضمر " * (في نفسه خيفة موسى) *) قال مقاتل: إنما خاف موسى إذ صنع القوم مثل صنيعه ان يشكو فيه فلا يتبعوه ويشك فيه من تابعه.
" * (قلنا) *) لموسى " * (لا تخف إنك أنت الاعلى) *) الغالب " * (وألق ما في يمينك) *) يعني العصا " * (تلقف) *) تلتقم وتلتهم " * (ما صنعوا إنما صنعوا) *) يعني إن الذي صنعوا " * (كيد ساحر) *) قرأ أهل الكوفة بكسر السين من غير ألف، وقرأ الباقون: ساحر بالألف على فاعل، واختاره أبو عبيد،
252

قال: لأن إضافة الكيد إلى الرجل أولى من إضافته إلى السحر وإن كان ذلك لا يمتنع في العربية.
" * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) *) من الأرض، وقيل: معناه حيث احتال.
" * (فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له) *) يعني به كقوله " * (فآمن له لوط) *) * * (قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم) *) لرئيسكم ومعلمكم " * (الذي علمكم السحر فلاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) *) يعني الرجل اليسرى واليد اليمنى " * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) *) يعني جذوع النخل، قال سويد بن أبي كاهل:
وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة
فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
" * (ولتعلمن أينا أشد عذابا) *) أنا أو رب موسى " * (وأبقى قالوا) *) يعني السحرة " * (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) *) قال مقاتل: يعني اليد والعصا.
وأخبرنا البيهقي والاصفهاني قالا: أخبرنامكي بن عبدان قال: حدثنا أبو الأزهر، قال: حدثنا روح قال: حدثنا هشام بن أبي عبد الله عن القاسم بن أبي برزة قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا حتى جعل موسى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فأوحى الله سبحانه أن ألق عصاك، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فاغرفاه، فابتلع حبالهم وعصيهم وألقي السحرة عند ذلك سجدا فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها، عند ذلك قالوا " * (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) *) يعنى الجنة والنار وما رأوا من ثوابهم ودرجاتهم.
قال: وكانت امرأة فرعون تسأل: من غلب؟ فيقال: غلب موسى، فتقول: آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها فأتوها فإن هي رجعت عن قولها فهي امرأته، وإن هي مضت على قولها فألقوا عليها الصخرة، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها في الجنة فمضت على قولها وانتزعت روحها، وألقيت على جسد لا روح فيه.
" * (والذي فطرنا) *) يعني وعلى الذي خلقنا، وقيل: هو قسم " * (فاقض ما أنت قاض) *) فاحكم
253

ما أنت حاكم، واصنع ما أنت صانع من القطع والصلب " * (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) *) يقول: إنما تملكنا في الدنيا ليس لك علينا سلطان إلا في الدنيا " * (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر) *) قال مقاتل: كانت السحرة اثنين وسبعين ساحرا، اثنان منهم من القبط وهما رأسا القوم، وسبعون منهم من بني إسرائيل، وكان فرعون أكره أولئك السبعين الذين هم من بني إسرائيل على تعلم السحر.
وقال عبد العزيز بن أبان: إن السحرة قالوا لفرعون: أرنا موسى إذا نام، فأراهم موسى نائما وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون: ان هذا ليس بسحر، إن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى عليهم إلا أن تعملوا فذلك قوله * (وما أكرهتنا عليه من السحر) * * (والله خير وأبقى) *) منك لأنك فان هالك " * (إنه من يأت ربه) *) في الآخرة " * (مجرما) *) مشركا يعني بات على الشرك " * (فإن له جهنم لا يموت فيها) *) فيستريح " * (ولا يحيا) *) حياة تنفعه.
" * (ومن يأته مؤمنا) *) مات على الإيمان " * (قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا) *) الرفيعة في الجنة " * (جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) *) أي صلح، وقيل: تطهر من الكفر والمعاصي. وقال الكلبي: يعني أعطى زكاة نفسه وقال: لا إله إلا الله.
(* (ولقد أوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى * فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قومه وما هدى * يابنى إسراءيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الايمن ونزلنا عليكم المن والسلوى * كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى * وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى * ومآ أعجلك عن قومك ياموسى * قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامرى * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى * قالوا مآ أخلفنا موعدك بملكنا ولاكنا حملنآ أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامرى * فأخرج
لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هاذآ إلاهكم وإلاه موسى فنسى * أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا * ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعونى وأطيعوا أمرى * قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى * قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمرى * قال يبنؤم
254

لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنىإسرءيل ولم ترقب قولى * قال فما خطبك ياسامري * قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذالك سولت لى نفسى * قال فاذهب فإن لك فى الحيواة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلاهك الذى ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا) *) 2
" * (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) *) أي سر بهم أول الليل من أرض مصر.
" * (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) *) يابسا ليس فيه ماء ولا طين " * (لا تخاف دركا) *) من فرعون خلفك " * (ولا تخشى) *) غرقا من البحر أمامك، وقرأ حمزة: لا تخف بالجزم على النهي، الباقون: بالألف على النفي، واختاره أبو عبيد لقوله: ولا تخشى رفعا ودليل قراءة حمزة قوله: (يولوكم الأدبار ثم لا تنصرون) فاستأنف، قال الفراء: ولو نوى حمزه بقوله: ولا تخشى الجزم، لكان صوابا. وقال الشاعر:
هجوت زمانا ثم ملت معتذرا
من سب زمان لم يهجو ولم يذع
وقال آخر:
ألم يأتيك والأنباء تنمي
بما لاقت لبوت بني زياد
" * (فأتبعهم) *) فلحقهم " * (فرعون بجنوده فغشيهم) *) أصابهم " * (من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى) *) أي وما هداهم إلى مراشدهم، وهذا جواب قول فرعون: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم ألا سبيل الرشاد، فكذبه الله تعالى فقال: بل أضلهم وما هداهم.
قال وهب: استعار بنو إسرائيل حليا كثيرا من القبط ثم خرج بهم موسى من أول الليل، وكانوا سبعين ألفا فأخبر فرعون بذلك فركب في ستمائة ألف من القبط يقص أثر موسى، فلما رأى قوم موسى رهج الخيل قالوا " * (إنا لمدركون) *) فقال موسى: " * (كلا إن معي ربي سيهدين) *) فلما قربوا قالوا: يا موسى أين نمضي؟ البحر أمامنا وفرعون خلفنا، فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق فصار فيه اثنتا عشرة طريقا يابسة، لكل سبط طريق، وصار بين كل طريقين كالطود العظيم من الماء، وكانوا يمرون فيه وكلهم بنو أعمام فلا يرى هذا السبط ذاك ولا ذاك هذا، فاستوحشوا وخافوا فأوحى الله سبحانه إلى أطواد الماء أن تشبكي، فصارت شبكات يرى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض.
255

فلما اتى فرعون الساحل وجد موسى وبني إسرائيل قد عبروا فقال للقبط: قد سحر البحر فمر، فقالوا له: إن كنت ربا فادخل البحر كما دخل، فجاء جبرئيل على رمكة وديق، وكان فرعون على حصان، وهو الذكر من الأفراس، فأقحم جبرئيل الرمكة في الماء، فلم يتمالك حصان فرعون واقتحم البحر على أثرها ودخل القبط عن آخرهم، فلما تلججوا أوحى الله سبحانه إلى البحر أن غرقهم، فعلاهم الماء وغرقهم.
قال كعب: فعرف السامري فرس جبرئيل، فحمل من أثره ترابا وألقاه في العجل حين اتخذه.
" * (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) *) فرعون " * (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) *) وقد مر ذكره " * (ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم) *) هذه قراءة العامة بالنون والألف على التعظيم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي: أنجيتكم ووعدتكم ورزقتكم من غير ألف على التوحيد والتفريد " * (كلوا من طيبات) *) حلال * (ما رزقناكم) * * (ولا تطغوا فيه) *) قال ابن عباس: ولا تظلموا، وقال مقاتل: ولا تعصوا، وقال الكلبي: ولا تكفروا النعمة، وقيل: ولا تحرموا الحلال، وقيل: ولا تنفقوا في معصيتي، وقيل: ولا تدخروا، وقيل: ولا تتقووا بنعمي على معاصي.
" * (فيحل) *) يجب " * (عليكم غضبي ومن يحلل) *) يجب " * (عليه غضبي) *) وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي: فيحل ومن يحلل بضم الحاء واللام أي ينزل.
" * (فقد هوى) *) هلك وتردى في النار " * (وإني لغفار لمن تاب) *) من دينه " * (وآمن) *) بربه " * (وعمل صالحا) *) فيما بينه وبين الله " * (ثم اهتدى) *).
قال قتادة وسفيان الثوري: يعني لزم الإسلام حتى مات عليه.
وقال زيد بن أسلم: تعلم العلم ليهتدي كيف يعمل.
وقال الشعبي ومقاتل والكلبي: علم أن لذلك ثوابا.
وقال فضيل الناجي وسهل التستري: أقام على السنة والجماعة.
وقال الضحاك: يعني استقام.
" * (وما أعجلك) *) يعني وما حملك على العجلة " * (عن قومك) *) يعني عن السبعين الذين اختارهم موسى حين ذهبوا معه إلى الطور ليأخذ التوراة من ربه فلما سار عجل موسى شوقا إلى
256

ربه وخلف السبعين وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال الله سبحانه له: وما أعجلك عن قومك " * (يا موسى) *) فقال مجيبا لربه " * (هم أولاء) *) يعني " * (على أثري) *) هؤلاء يجيئون " * (وعجلت إليك رب لترضى) *) لتزداد رضا " * (قال) *) الله سبحانه " * (فإنا قد فتنا) *) ابتلينا " * (قومك) *) الذين خلفتهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا " * (من بعدك) *) من بعد انطلاقك إلى الجبل " * (وأضلهم السامري) *) يعني دعاهم وصرفهم إلى عبادة العجل وحملهم عليها.
" * (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) *) حزينا جزعا " * (قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) *) صدقا أنه يعطيكم التوراة " * (أفطال عليكم العهد) *) مدة مفارقتي إياكم " * (أم أردتم أن يحل) *) يجب " * (عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي) *) وذلك أن الله سبحانه كان قد وقت لموسى ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر، فلما مضت الثلاثون قال عدو الله السامري...
قال سعيد بن جبير: كان السامري من أهل كرمان فقال لهم: إنما أصابكم هذا عقوبة لكم بالحلي التي معكم، وكانت حليا استعاروها من القبط، فهلموا بها واجمعوها حتى يجيء موسى فيقضي فيه، فجمعت ودفعت إليه فصاغ منها عجلا في ثلاثة أيام ثم قذف فيه القبضة التي أخذها من أثر فرس جبرئيل، فقال قوم موسى له: " * (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا) *) قرأ أهل المدينة وعاصم: بملكنا بفتح الميم، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الميم، الباقون: بكسرها، ومعناها بسلطاننا وطاقتنا وقدرتنا.
قال مقاتل: يعني ونحن نملك أمرنا، وقيل: باختيارنا.
" * (ولكنا حملنا) *) قرأ أهل الحجاز والشام وحفص: حملنا بضم الحاء وتشديد الميم، الباقون: حملنا بفتح الحاء والميم مخففة " * (أوزارا) *) أثقالا وأحمالا " * (من زينة القوم) *) من حلي قوم فرعون " * (فقذفناها) *) فجمعناها ودفعناها إلى السامري، فألقاها في النار لترجع أنت فترى فيه رأيك " * (فكذلك ألقى السامري) *) ما معه من الحلي معنا كما ألقينا " * (فأخرج لهم عجلا جسدا) *) لا روح فيه، صاغ لهم عجلا من ذهب مرصع بالجواهر " * (له خوار) *) صوت، وذلك أنه خار خورة واحدة ثم لم يعد.
قال ابن عباس: أتى هارون على السامري وهو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ قال: أصنع ما ينفع ولا يضر، فقال: اللهم أعطه ما سألك على ما في يقينه فلما قال: اللهم إني أسألك أن يخور؛ فخار فسجد، وإنما خار لدعوة هارون " * (فقالوا هذا إلاهكم وإلاه موسى فنسي) *) أي ضل وأخطأ الطريق، وقيل: معناه فتركه ها هنا وخرج يطلبه.
قال الله سبحانه " * (أفلا يرون ألا يرجع) *) يعني أنه لا يرجع " * (إليهم قولا) *) أي لا يكلمهم العجل ولا يجيبهم، وقيل: يعني لا يعود إلى الخوار والصوت " * (ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولقد قال لهم هارون من قبل) *) يعني من قبل رجوع موسى " * (يا قوم إنما فتنتم به) *))
257

ابتليتم بالعجل " * (وإن ربكم الرحمان فأتبعوني) *) على ديني " * (وأطيعوا أمري) *) فلا تعبدوه " * (قالوا لن نبرح عليه عاكفين) *) لن نزال على عبادته مقيمين " * (حتى يرجع إلينا موسى) *) فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة، وكانوا يرقصون حول العجل، قال السبعون الذين معه: هذا صوت الفتنة، فلما رأى هارون أخذ شعره بيمينه ولحيته بشماله وقال له " * (يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا) *) أخطأوا وأشركوا " * (ألا تتبعني) *) يعني أن تتبع أمري ووصيتي ولا صلة، وقيل: معناه: ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إياهم تقريعا وزجرا لهم عما أتوه؟ وقيل: معناه: هلا قاتلتهم إذ علمت أني لو كنت فيما بينهم لقاتلتهم على كفرهم.
" * (أفعصيت أمري) *) فقال هارون " * (يا ابن أم) *) قال الكلبي وغيره: كان أخاه لأبيه وأمه ولكنه أراد بقوله: يا بن أم أن يرققه ويستعطفه عليه فيتركه، وقيل: كان أخاه لأمه دون أبيه، وقيل: لأن كون الولد من الأم على التحقيق والأب من جهة الحكم " * (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) *) يعني ذؤابتي وشعر رأسي إذ هما عضوان مصونان يقصدان بالإكرام والإعظام من بين سائر الأعضاء " * (إني خشيت) *) لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضا فتقول " * (فرقت بين بني إسرائيل) *) وأوقعت الفرقة فيما بينهم " * (ولم ترقب قولي) *) ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي وأصلح.
قال قتادة في هذه الآية: فذكر الصالحون الفرقة قبلكم، ثم أقبل موسى على السامرى فقال له " * (فما خطبك) *) أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت " * (يا سامري) *)
قال قتادة: كان السامري عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة، ولكن عدو الله نافق بعدما قطع البحر مع بني إسرائيل، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فاغتنمها السامرى، فاتخذ العجل فقال السامري مجيبا لموسى: " * (بصرت بما لم يبصروابه) *) رأيت ما لم يروا وعرفت ما لم يعرفوا وفطنت ما لم يفطنوا، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي تبصروا بالتاء على الخطاب، الباقون بالياء على الخبر " * (فقبضت قبضة من أثر الرسول) *) يعني فأخذت ترابا من أثر فرس جبرئيل، وقرأ الحسن فقبصت قبصة بالصاد فيهما، والفرق بينهما أن القبض بجمع الكف والقبص بأطراف الأصابع " * (فنبذتها) *) فطرحتها في العجل " * (وكذلك سولت) *) زينت " * (لي نفسي قال) *) له موسى " * (فاذهب فإن لك في
الحياة) *) ما دمت حيا " * (أن تقول لا مساس) *) لا تخالط أحدا ولا يخالطك أحد، وأمر موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه.
قال قتادة: إن بقاياهم اليوم يقولون ذلك: لا مساس، ويقال بأن موسى هم بقتل السامري فقال الله: لا تقتله فإنه سخى، وفي بعض الكتب: إنه إن يمس واحد من غيرهم أحدا منهم حم كلاهما في الوقت
258

" * (وإن لك) *) يا سامري " * (موعدا) *) لعذابك " * (لن تخلفه) *) قرأ الحسن وقتادة وأبو نهيك وأبو عمرو بكسر اللام بمعنى لن تغيب عنه بل توافيه، وقرأ الباقون بفتح اللام بمعنى لن يخلفكه الله.
" * (وانظر إلى إلاهك) *) بزعمك وإلى معبودك " * (الذي ظلت عليه) *) دمت عليه " * (عاكفا) *) مقيما تعبده.
يقول العرب: ظلت أفعل كذا بمعنى ظللت، ومست بمعنى مسست، وأحست بمعنى أحسست. قال الشاعر:
خلا أن العتاق من المطايا
أحسن به فهن إليه شوس
أي أحسسن.
" * (لنحرقنه) *) قرأه العامة بضم النون وتشديد الراء بمعنى لنحرقنه بالنار.
وقرأ الحسن بضم النون وتخفيف الراء من إلاحراق بالنار، وتصديقه قول ابن عباس: فحرقه بالنار ثم ذراه في اليم.
وقرأ أبو جعفر وابن محيص وأشهب العقيلي لنحرقنه بفتح النون وضم الراء خفيفة بمعنى لنبردنه بالمبارد، يقال: حرقه يحرقه ويحرقه إذا برده، ومنه قيل للمبرد المحرق، ودليل هذه القراءة قول السدي: أخذ موسى العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد ثم ذراه في اليم، وفي حرف ابن مسعود: لنذبحنه ثم لنحرقنه " * (ثم لننسفنه) *) لنذرينه " * (في اليم نسفا) *) يقال نسف الطعام بالمنسف إذا ذراه فطير عنه قشوره وترابه.
(* (إنمآ إلاهكم الله الذى لاإلاه إلا هو وسع كل شىء علما * كذالك نقص عليك من أنبآء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وسآء لهم يوم القيامة حملا * يوم ينفخ فى الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما * ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولاأمتا * يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضى له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما * وعنت الوجوه للحى القيوم وقد خاب من حمل ظلما * ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما * وكذالك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا * فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدنى علما) *
259

" * (إنما إلاهكم الله الذي لا إله إلا هو) *) لا العجل " * (وسع) *) ملأ " * (كل شيء علما) *) فعلمه ولم يضق عليه، يقال: فلان يسع لهذا الأمر إذا أطاقه وقوي عليه " * (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) *) من الأمور " * (وقد آتيناك من لدنا ذكرا) *) يعني القرآن " * (من أعرض) *) أدبر " * (عنه) *) فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه " * (فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) *) إثما عظيما وحملا ثقيلا " * (خالدين فيه) *) لا يكفره شيء.
" * (وساء لهم يوم القيامة حملا يوم ينفخ في الصور) *) قرأه العامة بياء مضمومة على غير تسمية الفاعل، وقرأ أبو عمرو بنون مفتوحة لقوله " * (ونحشر المجرمين) *) المشركين " * (يومئذ زرقا) *) والعرب تتشاءم بزرقة العيون. قال الشاعر يهجو رجلا:
لقد زرقت عيناك يا بن مكعبر
كما كل ضبي من اللؤم أزرق
وقيل: أراد عميا " * (يتخافتون) *) يتسارون فيما " * (بينهم إن لبثتم) *) ما مكثتم في الدنيا، وقيل: في القبور " * (إلا عشرا) *) أي عشر ليال.
قال الله سبحانه " * (نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة) *) أي أوفاهم عقلا وأصوبهم رأيا " * (إن لبثتم إلا يوما) *) قصر ذلك في أعينهم في جنب ما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة.
" * (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها) *) يقلعها من أماكنها ويطرحها في البحار حتى تستوي.
فإن قيل: ما العلة الجالبة للفاء التي في قوله فقل خلافا لأخواتها في القرآن؟
فالجواب أن تلك أسئلة تقدمت سألوا عنها رسول الله فجاء الجواب عقيب السؤال، وهذا سؤال لم يسألوه بعد وقد علم الله سبحانه أنهم سائلوه عنه فأجاب قبل السؤال، ومجازها: وإن سألوك عن الجبال فقل ينسفها " * (ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا) *) أرضا ملساء لا نبات فيها.
" * (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) *).
قال ابن عباس: العوج: الأودة، والأمت الروا بي والنشوز.
مجاهد: العوج: الانخفاض، والأمت: الارتفاع.
ابن زيد: الأمت: التفاوت والتعادي. ويقول العرب: ملأت القربة ماء لا أمت فيه أي لا استرخاء.
يمان: الأمت: الشقوق في الأرض
260

" * (يومئذ يتبعون الداعي) *) الذي يدعوهم إلى موقف القيامة وهو إسرافيل " * (لا عوج له) *) أي لدعاته، وقال أكثر العلماء: هو من المقلوب أي لا حرج لهم عن دعاته، لا يزيغون عنه، بل يتبعونه سراعا.
" * (وخشعت) *) وسكنت " * (الاصوات للرحمن) *) فوصف الأصوات بالخشوع والمعنى لأهلها " * (فلا تسمع إلا همسا) *) يعني وطء الأقدام ونقلها إلى المحشر، وأصله الصوت الخفي، يقال: همس فلان بحديثه إذا أسره وأخفاه، قال الراجز:
وهن يمشين بنا هميسا
إن تصدق الطير ننك لميسا
يعني بالهمس صوت أخفاف الإبل.
وقال مجاهد: هو تخافت الكلام وخفض الصوت.
" * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان) *) في الشفاعة " * (ورضي له قولا) *) أي ورضي قوله.
" * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) *) الكناية مردودة إلى الذين يتبعون الداعي.
" * (ولا يحيطون به علما) *) لا يدركونه ولا يعلمون ما هو صانع بهم.
" * (وعنت الوجوه للحى القيوم) *) أي ذلت وخضعت واستسلمت، ومنه قيل للأسير عان، وقال أمية بن أبي الصلت:
مليك على عرش السماء مهيمن
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وقال طلق بن حبيب: هو السجود.
" * (وقد خاب) *) خسر " * (من حمل ظلما) *) شركا.
" * (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف) *) قرأ ابن كثير على النهي جوابا لقوله " * (ومن يعمل من الصالحات) *) والباقون: فلا يخاف على الخبر. " * (ظلما ولا هضما) *).
قال ابن عباس: لا يخاف أن يزاد عليه في سيئاته ولا ينقص من حسناته.
الحسن وأبو العالية: لا ينقص من ثواب حسناته شيئا ولا يحمل عليه ذنب مسيء.
الضحاك: لا يؤخذ بذنب لم يعمله ولا يبطل حسنة عملها. وأصل الهضم: النقص والكسر يقال: هضمت لك من حقك أي حططت، وهضم الطعام، وامرأة هضيم الكشح أي ضامرة البطن
261

" * (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا) *) بينا " * (فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم) *) القرآن " * (ذكرا) *) عظة وعبرة. وقال قتادة: جدا وورعا.
" * (فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) *) قرأ يعقوب بفتح النون والياءين، وقرأ الآخرون: بضم الياء الأولى والأخرى وسكون الوسطى.
قال مجاهد وقتادة: لا تقرئه أصحابك ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معانيه، نهى عن تلاوة الآية التي تنزل عليه وإملائه على أصحابه قبل بيان معناها، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس.
وقال في سائر الروايات: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبرائيل بالوحي يقرأه مع جبرائيل، ولا يفرغ جبرائيل مما يريد من التلاوة حتى يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بأوله حرصا منه على ما كان ينزل عليه وشفقة على القرآن مخافة الانفلات والنسيان، فنهاه الله سبحانه عن ذلك وقال: " * (ولا تعجل بالقرآن) *) أي بقراءة القرآن " * (من قبل أن يقضى إليك وحيه) *) من قبل أن يفرغ جبرئيل من تلاوته عليك.
" * (وقل رب زدني علما) *) بالقرآن أي فهما، وقيل: حفظا ونظيرها قوله " * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) *) الآية.
2 (* (ولقد عهدنآ إلىءادم من قبل فنسى ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقلنا يائادم إن هاذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى * فوسوس إليه الشيطان قال يائادم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصىءادم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتنىأعمى وقد كنت بصيرا * قال كذالك أتتك آياتنا فنسيتها وكذالك اليوم تنسى * وكذالك نجزى من أسرف ولم يؤمن بئايات ربه ولعذاب الاخرة أشد وأبقى * أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك لأيات لاولى النهى * ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى * فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع
الشمس وقبل غروبها ومن ءانآء اليل فسبح
262

وأطراف النهار لعلك ترضى * ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيواة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى * وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى * وقالوا لولا يأتينا بئاية من ربه أولم تأتهم بينة ما فى الصحف الاولى * ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولاأرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك من قبل أن نذل ونخزى * قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) *) 2
" * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل) *) الآية يقول الله سبحانه: وإن يضيع هؤلاء الذين نصرف لهم في القرآن الوعيد عهدي ويخالفوا أمري ويتركوا طاعتي فقد فعل ذلك أبوهم آدم (عليه السلام) حيث عهدنا إليه أي أمرناه وأوصينا إليه " * (فنسي) *) فترك الأمر والعهد، نظيره قوله " * (نسوا الله فنسيهم) *) أي تركوا أمر الله فتركهم الله في النار. هذا قول أكثر المفسرين.
وقال ابن زيد: نسي ما عهد الله إليه في ذلك، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له، وعصى الله الذي كرمه وشرفه، وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم في ذلك القول بالنسيان مأخوذ، وإن كان هو اليوم عنا مرفوعا.
" * (ولم نجد له عزما) *) قال ابن عباس: حفظا لما أمر به، قتادة ومقاتل: صبرا، ابن زيد: محافظة على أمر الله وتمسكا به، الضحاك: صريمة أمر، عطية: رأيا، وقيل: جزما، ابن كيسان: إصرارا وإضمارا على العود إلى الذنب ثانيا، وأصل العزم النية واعتقاد القلب على الشيء.
قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم جمعت منذ يوم خلق الله سبحانه آدم إلى يوم تقوم الساعة، ووضعت في كفة ميزان، ووضع حلم آدم في الكفة الأخرى لرجح حلمه بأحلامهم، وقد قال الله تعالى * (ولم نجد له عزما) * * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى) *) أن يسجد له " * (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) *) حواء " * (فلا يخرجنكما من الجنة) *) فتتعب ويكون عيشك من كد يمينك، بعرق جبينك.
قال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فهو شقاؤه الذي قال الله سبحانه، وكان حقه أن يقول: فيشقيا ولكن غلب المذكر رجوعا به إلى آدم لأن تعبه أكثر، وقيل: لأجل رؤوس الآي.
" * (إن لك ألا تجوع فيها) *) أي في الجنة " * (ولا تعرى وأنك) *) قرأ نافع بكسر الألف على
263

الاستئناف، ومثله روى أبو بكر عن عاصم، وقرأ الباقون بالفتح نسقا على قوله " * (أن لا تجوع) *) * * (لا تظمؤا) *) بعطش فيها " * (ولا تضحى) *) تبرز للشمس فيؤذيك حرها. قال عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشي فيحصر
أخبرنا أبو بكر بن عبدوس المزكى قال: أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن خصيف عن عكرمة: " * (ولا تضحى) *) ولا تصيبك الشمس.
" * (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد) *) يعني على شجرة إن أكلت منها بقيت خالدا مخلدا " * (وملك لا يبلى) *) لا يبيد ولا يفنى.
" * (فأكلا) *) يعني آدم وحواء " * (منها) *) أي من شجرة المحنة " * (فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى) *) أي تعدى إلى ما لم يكن له فعله.
وقال أكثر المفسرين: فغوى: أي أخطأ وضل ولم ينل مراده مما أكل.
" * (ثم اجتباه ربه) *) اختاره واصطفاه " * (فتاب عليه وهدى) *) هداه إلى التوبة ووفقه بها.
" * (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي) *) يعني الكتاب والرسول " * (فلا يضل ولا يشقى) *).
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن حمدون بقراءتي عليه قال: أخبرنا محمد بن إسحاق قال: حدثنا سعيد بن عيسى، قال: حدثنا فارس بن عمر وحدثنا صالح بن محمد: قال: حدثنا يحيى بن الضريس عن سفيان عن رجل عن الشعبي عن ابن عباس في قوله سبحانه " * (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) *) قال: أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة.
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: حدثنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة.
وأخبرني ابن المقرئ قال: حدثنا محمد بن أحمد بن سنان قال: حدثنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا ابن شيبة قال: حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس
264

قال: ضمن الله لمن قرأ القرآن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ " * (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) *).
وبإسناده عن أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، وذلك بأن الله يقول " * (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) *).
" * (ومن أعرض عن ذكري) *) يعني عن القرآن فلم يؤمن به ولم يتبعه " * (فإن له معيشة ضنكا) *) ضيقا يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، يستوي فيه الذكر
والأنثى والواحد والاثنان والجمع، قال عنترة:
وإذا هم نزلوا بضنك فانزل
واختلف المفسرون في المعيشة الضنك، فأخبرني أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد الحيري قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد المفيد قال: حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في قوله سبحانه " * (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) *) قال: (عذاب القبر).
وقال ابن عباس: الشقاء، مجاهد: الضيق، الحسن وابن زيد: الزقوم والغسلين والضريع، قتادة: يعني في النار، عكرمة: الحرام، قيس بن أبي حازم: الرزق في المعصية، الضحاك: الكسب الخبيث، عطية عن ابن عباس يقول: كل مال أعطيته عبدا من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وإن قوما ضلالا أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين فكانت معيشتهم ضنكا، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس بمخلف لهم معائشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب به، فإذا كان العبد يكذب بالله ويسئ الظن به اشتدت عليه معيشته فذلك الضنك أبو سعيد الخدري: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنينا، لكل تنين سبعة رؤوس تنهشه وتخدش لحمه حتى يبعث، ولو أن تنينا منها ينفخ في الأرض لم تنبت زرعا. مقاتل: معيشة سوء لأنها في معاصي الله. سعيد بن جبير: سلبه القناعة حتى لا يشبع.
" * (ونحشره يوم القيامة أعمى) *) قال ابن عباس: أعمى البصر، مجاهد: أعمى عن الحجة.
265

" * (قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا) *) بعيني، وقال مجاهد: عالما بحجتي.
" * (قال كذلك) *) يقول كما " * (أتتك آياتنا فنسيتها) *) فتركتها وأعرضت عنها " * (وكذلك اليوم تنسى) *) تترك في النار وكذلك أي وكما جزينا من أعرض " * (وكذلك نجزي من أسرف) *) أشرك " * (ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الاخرة أشد) *) مما يعذبهم به في الدنيا والقبر. " * (وأبقى) *) وأدوم وأثبت.
" * (أفلم يهد لهم) *) يتبين لهم " * (كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم) *) ومنازلهم إذا سافروا واتجروا.
" * (إن في ذلك لايات لاولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك) *) نظم الآية، ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عنهم وأجل مسمى وهو القيامة " * (لكان لزاما) *) لكان العذاب لازما لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة.
" * (فاصبر على ما يقولون) *) نسختها آية القتال " * (وسبح بحمد ربك) *) وصل بأمر ربك، وقيل: بثناء ربك " * (قبل طلوع الشمس) *) يعني صلاة الصبح " * (وقبل غروبها) *) يعني صلاة العصر " * (ومن ءانآءى الليل) *) صلاة العشاء الآخر " * (فسبح وأطراف النهار) *) صلاة الظهر والمغرب، وإنما قال: أطراف لهاتين الصلاتين؛ لأن صلاة الظهر في آخر الطرف الأول من النهار، وفي أول الطرف الآخر من النهار فهي في طرفين منه والطرف الثالث غروب الشمس، وعند ذلك يصلي المغرب، فلذلك قال: أطراف، ونصب عطفا على قوله: قبل طلوع الشمس.
" * (لعلك ترضى) *) بالشفاعة والثواب، قرأه العامة: بفتح التاء، ودليله قوله تعالى: " * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) *) وقرأ الكسائي وعاصم برواية أبي بكر بضم التاء.
" * (ولا تمدن عينيك) *) الآية.
قال أبو رافع: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهودي يستسلفه فأبى أن يعطيه إلا برهن، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله سبحانه " * (ولا تمدن عينيك) *) ولا تنظر " * (إلى ما متعنا به أزواجا منهم) *) أي أعطيناهم أصنافا من نعيم الدنيا " * (زهرة الحياة الدنيا) *) أي زينتها وبهجتها، قرأه العامة بجزم الهاء، وقرأ يعقوب بفتحها وهما لغتان مثل: جهرة وجهرة، وإنما نصبها على القطع والخروج من الهاء في قوله: متعنا به
266

" * (ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا) *) وإنما نكلفك عملا " * (نحن نرزقك والعاقبة) *) الجملية المحمودة " * (للتقوى) *) أي لأهل التقوى.
قال هشام بن عروة: كان عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره وقال: " * (ولا تمدن عينيك) *)، إلى قوله " * (والعاقبة للتقوى) *) ثم ينادي: الصلاة الصلاة يرحمكم الله.
وقال مالك بن دينار: كان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة يقول: قوموا فصلوا، ثم يقول: بهذا أمر الله رسوله، ويتلو هذه الآية.
" * (وقالوا) *) يعني هؤلاء المشركين " * (لولا يأتينا) *) محمد " * (بآية من ربه) *) كما أتى بها الأنبياء من قبله.
قال الله سبحانه " * (أولم تأتهم) *) بالتاء، قرأه أهل المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة لتأنيث البينة، وقرأ الآخرون بالياء لتقديم الفعل ولأن البينة هي البيان فرده إلى المعنى " * (بينة ما في الصحف) *) الكتب " * (الاولى) *) أي بيان ما فيها يعني القرآن أقوى دلالة وأوضح آية.
وقال بعض أهل المعاني: يعني ألم يأتهم بيان ما في الكتب الأولى التوراة والإنجيل وغيرهما من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فأتتهم فكفروا بها، كيف عجلنا لهم العذاب والهلاك بكفرهم بها فما تؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم حال أولئك.
" * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله) *) أي من قبل نزول القرآن ومجئ محمد صلى الله عليه وسلم
" * (لقالوا ربنا لولا) *) هلا " * (أرسلت إلينا رسولا) *) يدعونا " * (فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) *) بالعذاب " * (قل) *) يا محمد لهم " * (كل متربص) *) منتظر دوائر الزمان وما يكون من الحدثان ولمن يكون الفلح والنصر. " * (فتربصوا فستعلمون) *) إذا جاء أمر الله تعالى وقامت القيامة " * (من أصحاب الصراط السوي) *) المستقيم " * (ومن اهتدى) *) من الضلالة أنحن أم أنتم؟.
267

((سورة الأنبياء))
وهي أربعة آلاف وثمان مائة وتسعون حرفا، وألف ومائة وثمان وستون كلمة، ومائة واثنتا عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن الجرجاني المقري قال: حدثنا أبو علي بن حبش الدينوري المقري قال: حدثنا أبو العباس محمد بن موسى الدقاق الرازي قال: حدثنا عبد الله بن روح المدائني قال: حدثنا ظفران قال: حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا محمد بن عاصم قال: حدثنا شبابة بن سوار الفزاري قال: حدثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبى بن كعب قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة " * (اقترب للناس حسابهم) *) حاسبه الله حسابا يسيرا وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن).
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هاذآ إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون * قال ربى يعلم القول فى السمآء والارض وهو السميع العليم * بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بئاية كمآ أرسل الاولون * مآ ءامنت قبلهم من قرية أهلكناهآ أفهم يؤمنون * ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحىإليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين * ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشآء وأهلكنا المسرفين * لقد أنزلنآ إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) *) 2
" * (اقترب للناس) *) قيل: اللام بمعنى من أي اقترب من الناس " * (حسابهم) *) محاسبة الله
268

إياهم على أعمالهم " * (وهم) *) واو الحال " * (في غفلة) *) عنه " * (معرضون) *) عن التفكير فيه والتأهب له، نزلت في منكري البعث.
" * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) *) يعني ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به " * (إلا استمعوه وهم يلعبون) *) لا يعتبرون ولا يتعظون.
قال مقاتل: يحدث الله الأمر بعد الأمر، وقال الحسن بن الفضل: الذكر هاهنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل عليه قوله في سياق الآية " * (هل هذا إلا بشر مثلكم) *) ولو أراد الذكر بالقرآن لقال: هل هذا إلا أساطير الأولين، ودليل هذا التأويل أيضا قوله: " * (ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين) *) يعني محمدا (عليه السلام).
" * (لاهية) *) ساهية " * (قلوبهم) *) معرضة عن ذكر الله، من قول العرب: لهيت عن الشيء إذا تركته، ولاهية نعت تقدم الاسم ومن حق النعت أن يتبع الاسم في جميع الاعراب، فإذا تقدم النعت الاسم فله حالتان: فصل ووصل، فحاله في الفصل النصب كقوله سبحانه " * (خشعا أبصارهم) *) * (ودانية عليهم ظلالها و) * * (لاهية قلوبهم) *). قال الشاعر:
لعزة موحشا طلال
يلوح كأنه خلل
أراد: طلل موحش، وحاله في الوصل حال ما قبله من الإعراب كقوله تعالى " * (ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) *) قال ذو الرمة:
قد أعسف النازح المجهول معسفة
في ظل أخضر يدعو هامه البوم
أراد معسفه مجهول وإنما نصب لانتصاب النازح.
وقال النابغة:
من وحش وجرة موشي أكارعه
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
أراد أن أكارعه موشية.
" * (وأسروا النجوى الذين ظلموا) *) كان حقه وأسر لأنه فعل تقدم الاسم فاختلف النحاة في وجهه، فقال الفراء: الذين ظلموا في محل الخفض على أنه تابع للناس في قوله " * (اقترب للناس حسابهم) *).
وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير أراد والذين ظلموا أسروا النجوى
269

وقال قطرب: وهذا سائغ في كلام العرب وحكي عن بعضهم أنه قال: سمعت بعض العرب يقول: أكلوني البراغيث قال الله سبحانه " * (ثم عموا وصموا كثير منهم) *). وقال الشاعر:
بك نال النصال دون المساعي
فاهتدين النبال للأغراض
ويحتمل أن يكون محل الذين رفعا على الابتداء، ويكون معناه وأسروا النجوى، ثم قال هم الذين ظلموا
" * (هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) *) أنه سحر " * (قال ربي) *) قرأ أكثر أهل الكوفة (قال) على الخبر عن محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ الباقون (قل) على الأمر له " * (يعلم القول في السماء والارض وهو السميع) *) لأقوالهم " * (العليم) *) بأفعالهم " * (بل قالوا أضغاث أحلام) *) أي أباطليها وأهاويلها " * (بل افتراه بل هو شاعر) *) يعني أن المشركين اقتسموا القول فيه: فقال بعضهم: أضغاث أحلام، وقال بعضهم: بل افتراه، وقال بعضهم: بل محمد شاعر، وهذا الذي جاءكم به شعر، لأن بل تأتي لتدارك شيء ونفي آخر.
" * (فليأتنا بآية) *) إن كان صادقا " * (كما أرسل الاولون) *) من الرسل بالآيات.
قال الله سبحانه مجيبا لهم " * (ما آمنت قبلهم من قرية) *) أهل قرية أتتها الآيات فأهلكناهم " * (أفهم يؤمنون) *) إن جاءتهم آية...
" * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) *) وهذا جواب لقولهم * (هل هذا إلا بشر مثلكم) * * (فاسألوا أهل الذكر) *) أي التوراة والإنجيل يعني علماء أهل الكتاب " * (إن كنتم لا تعلمون) *) وقال ابن زيد: أراد بالذكر القرآن يعني فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، قال جابر الجعفي: لما نزلت هذه الآية قال علي: نحن أهل الذكر.
" * (وما جعلناهم) *) يعني الرسل الأولين " * (جسدا) *) قال الفراء: لم يقل أجسادا لأنه اسم الجنس " * (لا يأكلون الطعام) *) يقول: لم نجعلهم ملائكة، بل جعلناهم بشرا محتاجين إلى الطعام، وهذا جواب لقولهم * (ما لهذا الرسول يأكل الطعام) * * (وما كانوا خالدين) *) في الدنيا " * (ثم صدقناهم الوعد) *) الذي وعدناهم هلاك أعدائهم ومخالفيهم وإنجائهم ومتابعيهم " * (فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين) *) المشركين.
" * (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم) *) قال مجاهد: حديثكم، وقيل: شرفكم.
" * (أفلا تعقلون) *).
2 (* (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما ءاخرين * فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم
270

منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * قالوا ياويلنآ إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين * وما خلقنا السمآء والارض وما بينهما لاعبين * لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنآ إن كنا فاعلين * بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون * وله من فى السماوات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون * أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون * لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون * لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون * أم اتخذوا من دونه ءالهة قل هاتوا برهانكم هاذا ذكر من معى وذكر من قبلى بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون * ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحىإليه أنه لاإلاه إلا أنا فاعبدون * وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إنىإلاه من دونه فذالك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين) *) 2
" * (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) *) أي أهلكنا، والقصم: الكسر يقال: قصمت ظهر فلان، وانقصمت سنة إذا انكسرت.
" * (وأنشأنا) *) وأحدثنا " * (بعدها) *) بعد إهلاك أهلها " * (قوما آخرين فلما أحسوا) *) رأوا " * (بأسنا) *) عذابنا " * (إذا هم منها يركضون) *) يسرعون هاربين، يقال منه: ركض فلان فرسه إذا كده بالرجل، وأصله التحريك.
" * (لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه) *) نعمتم فيه " * (ومساكنكم لعلكم تسألون) *) عن نبيكم، مجاهد: لعلكم تفقهون بالمسألة، قتادة: لعلكم تسألون من دنياكم شيئا استهزاء بهم، نزلت هذه الآيات في أهل حصورا وهي قرية باليمن، وكان أهلها العرب فبعث الله إليهم نبيا يدعوهم إلى الله سبحانه فكذبوه وقتلوه، فسلط الله عليهم بخت نصر حتى قتلهم وسباهم ونكل بهم، فلما استحر فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا، فقالت الملائكة لهم على طريق الاستهزاء " * (لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه) *) إلى مساكنكم وأموالكم، فأتبعهم بخت نصر وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جو السماء: يا لثارات الأنبياء، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم فقالوا " * (يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم) *) قولهم وهجيراهم " * (حتى جعلناهم حصيدا) *) بالسيوف كما يحصد الزرع " * (خامدين) *) ميتين.
" * (وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين) *) عبثا وباطلا " * (لو أردنا أن نتخذ لهوا) *) قال قتادة: اللهو بلغة أهل اليمن المرأة
271

وقال عقبة بن أبي جسرة: شهدت الحسن بمكة وجاءه طاووس وعطاء ومجاهد فسألوه عن هذه الآية، فقال الحسن: اللهو: المرأة. وقال ابن عباس: الولد.
" * (لاتخذناه من لدنا) *) من عندنا وما اتخذنا نساء وولدا من أهل الأرض، نزلت في الذين قالوا اتخذ الله ولدا.
" * (إن كنا فاعلين بل نقذف) *) نأتي ونرمي وننزل " * (بالحق) *) بالإيمان " * (على الباطل) *) الكفر " * (فيدمغه) *) فيهلكه، وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ " * (فإذا هو زاهق) *) ذاهب وهالك.
" * (ولكم الويل) *) يا معشر الكفار " * (مما تصفون) *) لله بما لا تليق به من الصاحبة والولد. وقال مجاهد: مما تكذبون، ونظيره قوله " * (سيجزيهم وصفهم) *) أي تكذيبهم.
" * (وله من في السموات والارض) *) عبدا وملكا " * (ومن عنده) *) يعني الملائكة " * (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) *).
قال ابن عباس: لا يستنكفون، مجاهد: لا يجسرون، قتادة ومقاتل والسدي: لا يعيون، الوالبي عن ابن عباس: لا يرجعون، ابن زيد: لا يملون.
" * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) *) لا يضعفون ولا يسأمون، قد ألهموا التسبيح كما تلهمون النفس.
" * (أم اتخذوا آلهة من الارض) *) يعني الأصنام " * (هم ينشرون) *) يحيون الإموات ويخلقون الخلق.
" * (لو كان فيهما) *) أي في السماء والأرض " * (آلهة إلا الله) *) غير الله " * (لفسدتا) *) وهلك من فيهما.
" * (فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل) *) لأنه الرب " * (وهم يسألون) *) عما لا يعلمون لأنهم عبيده.
" * (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم) *) على ذلك، ثم قال مستأنفا " * (هذا) *) يعني القرآن " * (ذكر) *) خبر " * (من معي) *) بيان الحدود والأحكام والثواب والعقاب " * (وذكر من قبلي) *) من الأمم السالفة وما فعل الله بهم في الدنيا وما هو فاعل بهم في الآخرة " * (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) *) عن القرآن.
" * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه) *) قرأ أكثر أهل الكوفة بالنون وكسر الحاء
272

على التعظيم لقوله: أرسلنا، وقرأ الباقون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول.
" * (أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) *) نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله " * (سبحانه بل عباد مكرمون) *) يعني الملائكة " * (لا يسبقونه) *) لا يتقدمونه " * (بالقول) *) ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به.
" * (وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) *).
قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله، وقال مجاهد: لمن ح، " * (وهم من خشيته مشفقون) *) خائفون " * (ومن يقل منهم إني إله من دونه) *) قال قتادة: عنى بهذه الآية إبليس لعنه الله حيث ادعى الشركة، ودعا إلى عباده نفسه وأمر بطاعته، قال: لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني إله من دون الله.
" * (فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين) *) الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها.
2 (* (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من المآء كل شىء حى أفلا يؤمنون * وجعلنا فى الارض رواسى أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون * وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن ءاياتها معرضون * وهو الذى خلق اليل والنهار والشمس والقمر كل فى فلك يسبحون * وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون * كل نفس ذآئقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون * وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهاذا الذى يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمان هم كافرون * خلق الإنسان من عجل سأوريكم ءاياتى فلا تستعجلون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون * بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون * ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون * قل من يكلؤكم باليل والنهار من الرحمان بل هم عن ذكر ربهم معرضون * أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون * بل متعنا هاؤلاء وءابآءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتى الارض ننقصها من أطرافهآ أفهم الغالبون * قل إنمآ أنذركم بالوحى ولا يسمع الصم الدعآء إذا ما ينذرون * ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن ياويلنآ إنا كنا ظالمين * ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين * ولقد ءاتينا موسى وهارون الفرقان وضيآء وذكرا للمتقين * الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون * وهاذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون) *) 2
273

" * (أولم ير) *) قرأه العامة بالواو، وقر ابن كثير ألم وكذلك هو في مصاحفهم. (ير) يعلم " * (الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما) *).
قال ابن عباس والضحاك وعطاء وقتادة: يعني كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله سبحانه بينهما بالهواء.
قال كعب: خلق الله سبحانه السماوات والأرضين بعضها على بعض ثم خلق ريحا توسطتها ففتحها بها.
وقال مجاهد وأبو صالح والسدي: كانت السماوات مرتقة طبقة واحدة، ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرضون كانت مرتقة طبقا واحدا ففتقها فجعلها سبع أرضين.
عكرمة وعطية وابن زيد: كانت السماء رتقا لا تمطر، والأرض رتقا لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، نظيره قوله سبحانه " * (والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع) *) وأصل الرتق السد ومنه قيل للمرأة التي فرجها ملتحم رتقا، وأصل الفتق الفتح، وإنما وحد الرتق وهو من نعت السماوات والأرض لأنه مصدر، وضع موضع الاسم مثل الزور والصوم والفطر والعدل ونحوها.
" * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) *) يعني أن كل شيء حى فإنه خلق من الماء، نظيره قوله سبحانه * (والله خلق كل دابة من ماء) * * (أفلا يؤمنون وجعلنا في الارض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها) *) أي في الرواسي " * (فجاجا) *) طرقا ومسالك واحدها فج ثم، فسر فقال " * (سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء
سقفا محفوظا) *) من أن تسقط، دليله قوله سبحانه " * (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) *) وقيل: محفوظا من الشياطين، دليله قوله سبحانه " * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) *).
" * (وهم عن آياتها معرضون) *) فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها يعني الكفار.
" * (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) *) يجرون ويسيرون، والفلك مدار النجوم الذي يضمها، ومنه فلكة المغزل.
قال مجاهد: كهيئة حديدة الرحا، الضحاك: فلكها: مجراها وسرعة سيرها.
274

وقال آخرون: الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه.
وقال بعضهم: الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب، وكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه وهو بمعنى قول قتادة.
" * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) *) دوام البقاء في الدنيا " * (أفإن مت فهم الخالدون) *) أي أفهم الخالدون؟ كقول الشاعر:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أي أهم؟ نزلت هذه الآية حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون.
" * (كل نفس) *) منفوسة " * (ذائقة الموت ونبلوكم) *) نختبركم " * (بالشر والخير فتنة) *) ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبون، وكيف صبركم فيما تكرهون.
" * (وإلينا ترجعون وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك) *) ما يتخذونك " * (إلا هزوا) *) سخريا ويقول بعضهم لبعض " * (أهذا الذي يذكر آلهتكم) *) بسوء ويعيبها، قال عنترة:
لا تذكري فرسي وما أطعمته
فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
أي لا تعيبي مهري.
" * (خلق الانسان) *) يعني آدم، قرأ العامة: بضم الخاء وكسر اللام على غير تسمية الفاعل، وقرأ حميد والأعرج بفتح الخاء واللام يعني خلق الله الانسان " * (من عجل) *) اختلفوا فيه فقال بعضهم: يعني أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع، نظيره قوله " * (وكان الإنسان عجولا) *).
قال سعيد بن جبير والسدي: لما دخل الروح في عيني آدم نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول " * (خلق الإنسان من عجل) *).
وقال آخرون: معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إياه، وقالوا: خلقه في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس فأسرع في خلقه قبل مغيبها.
قال مجاهد: خلق الله آدم بعد كل شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق، فلما أحيا الروح رأسه ولم يبلغ أسفله قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.
وقال بعضهم: هذا من المقلوب مجازه: خلق العجل من الإنسان كقول العرب: (عرضت
275

الناقة على الحوض) يريدون: عرضت الحوض على الناقة وكقولهم: إذا طعلت الشمس الشعرى، واستوى العود على الحربا أي استوى الحربا على العود. وقال ابن مقبل:
حسرت كفي عن السربال آخذه
فردا يجر على أيدي المفدينا
يريد حسرت السربال عن كفي، ونحوها كثير.
وقال أبو عبيد: وكثير من أهل المعاني يقولون: العجل الطين بلغة حمير، وانشدوا:
النبع تنبت بين الصخر ضاحية
والنخل ينبت بين الماء والعجل
أي الطين.
" * (سأريكم آياتي فلا تستعجلون) *) بالعذاب وسؤال الآيات " * (ويقولون متى هذا الوعد) *) الذي تعدنا من العذاب، وقيل: القيامة، وتقديره الموعود " * (إن كنتم صادقين) *).
قال الله سبحانه " * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون) *) يمنعون " * (عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم) *) السياط " * (ولا هم ينصرون) *) وفي الآية اختصار يعني لما أقاموا على كفرهم ولم يتوبوا.
" * (بل تأتيهم) *) يعني الساعة " * (بغتة) *) فجأة " * (فتبهتهم) *) قال ابن عباس: تفجأهم، وقال الفراء: تحيرهم. " * (فلا يستطيعون ردها ولا هم
ينظرون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون قل من يكلؤكم) *) يحفظكم ويحرسكم " * (بالليل والنهار من الرحمان) *) إذا انزل بكم عذابه، ومعنى الآية: من أمر الرحمن وعذابه.
ثم قال سبحانه " * (بل هم عن ذكر ربهم) *) كتاب ربهم " * (معرضون أم لهم) *) الميم صلة فيه وفي أمثاله " * (آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم) *) فكيف ينصرون عابديهم.
" * (ولا هم منا يصحبون) *) قال ابن عباس: يمنعون، عطية عنه: يجارون، يقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان أي مجير عنه.
مجاهد: ينصرون ويحفظون، قتادة: لا يصحبون من الله بخير.
" * (بل متعنا هؤلاء) *) الكفار " * (وآباءهم) *) في الدنيا " * (حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها) *) يعني ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد في أطراف المؤمنين.
" * (أفهم الغالبون) *) أم نحن " * (قل إنما أنذركم بالوحى) *) بالقرآن " * (ولا يسمع الصم الدعاء) *))
276

قرأ أبو عبد الرحمن السلمي بضم الياء وفتح الميم، الضم رفع بمعنى أنه لا يفعل بهم ذلك على مذهب ما لم يبين فاعله.
وقرأ ابن عامر (تسمع) بتاء مضمومة وكسر الميم والصم نصبا، جعل الخطاب للنبي (عليه السلام)، وقرأ الآخرون: (يسمع) بياء مفتوحة وفتح الميم الصم رفع على أن الفعل لهم " * (إذا ما ينذرون) *) يخوفون ويحذرون.
" * (ولئن مستهم) *) أصابتهم " * (نفحة من عذاب ربك) *) قال ابن عباس: طرف، مقاتل وقتادة: عقوبة، ابن كيسان: قليل، ابن جريج: نصيب، من قولهم: نفح فلان لفلان إذا أعطاه قسما وحظا منه، بعضهم: ضربة، من قول العرب: نفحت الدابة برجلها إذا ضربت بها. قال الشاعر:
وعمرة من سروات النساء
تنفح بالمسك أردانها
" * (ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ونضع الموازين القسط) *) العذاب وإنما وحد القسط وهو جمع الموازين لأنه في مذهب عدل ورضى.
قال مجاهد: هذا مثل، وإنما أراد بالميزان العدل.
" * (فلا تظلم نفس شيئا) *) لا ينقص من حسناته ولا يزاد على سيئاته.
يروى أن داود (عليه السلام) سأل ربه أن يريه الميزان فأراه، فلما رآه غشي عليه ثم أفاق، فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة.
فان قيل: كيف وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه " * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) *)؟ فالجواب: إن المعنى فيه: لا نقومها ولا تستقيم على الحق، (من ناقصه سائله) لأنها باطلة.
" * (وإن كان مثقال حبة من خردل) *) رفع أهل المدينة المثقال بمعنى: وان وقع، وحينئذ لا خبر له ونصبها الباقون على معنى: وإن كان ذلك الشيء مثقال، ومثله في سورة لقمان " * (أتينا بها) *) أحضرناها، وقرأ مجاهد: آتينا بالمد أي جازينا بها.
" * (وكفى بنا حاسبين ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) *) يعني الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة
277

وقال ابن زيد: النصر على الأعداء، دليله قوله " * (وما أنزلنا على عبدناايوم الفرقان) *) يعني يوم بدر، وهذا القول أشبه بظاهر الآية لدخول الواو في الضياء والذكر للمتقين، وعلى هذا التأويل تكون الواو مقحمة زائدة كقوله سبحانه وتعالى " * (بزينة الكواكب وحفظا) *).
ويروى أن عكرمة كان يقول في هذه الآية: معناها: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء، ويقول: انقلوا هذه الواو إلى قوله سبحانه وتعالى * (الذين يحملون العرش ومن حوله) * * (الذين يخشون ربهم بالغيب) *) أي يخافونه ولم يروه " * (وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك) *) يعني القرآن " * (أنزلناه أفأنتم له منكرون) *) جاحدون.
2 (* (ولقد ءاتينآ إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لابيه وقومه ما هاذه التماثيل التىأنتم لها عاكفون * قالوا وجدنآ ءابآءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وءابآؤكم فى ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربكم رب السماوات والارض الذى فطرهن وأنا على ذالكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون * قالوا من فعل هاذا بئالهتنآ إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم * قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون * قالوا ءأنت فعلت هاذا بئالهتنا ياإبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هاذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هاؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون * قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يانار كونى بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين * ونجيناه ولوطا إلى الارض التى باركنا فيها للعالمين * ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين) *) 2
" * (ولقد آتينا إبراهيم رشده) *) توفيقه. القرظي: صلاحه، " * (من قبل) *) أي من قبل موسى وهارون.
قال المفسرون: يعني هديناه صغيرا كما قال ليحيى " * (وآتيناه الحكم صبيا) *))
.
278

" * (وكنا به عالمين) *) بأنه أهل الهداية والنبوة.
" * (إذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل) *) والصور يعني الأصنام " * (التي أنتم لها عاكفون) *) على عبادتها مقيمون.
" * (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) *) فاقتدينا بهم.
* (قال إبراهيم) * * (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) *) بعبادتكم إياها.
" * (قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) *) يعنون أجاد أنت فيما تقول أم لاعب؟
" * (قال بل ربكم رب السماوات والارض الذي فطرهن) *) خلقهن " * (وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لااكيدن أصنامكم) *) لأمكرن بها " * (بعد أن تولوا مدبرين) *).
قال مجاهد وقتادة: إنما قال إبراهيم هذا في سر من قومه ولا يسمع ذلك إلا رجل واحد منهم، وهو الذي أفشاه عليه وقال: " * (سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) *).
قال السدي: كان لهم في كل سنة مجمع وعيد، فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم يقول: أشتكي رجلي، فتواطؤوا رجله وهو صريع، فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعف الناس " * (تاللههلأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) *) فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى الآلهة فإذا هن في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما فوضعوه بين يدي الأصنام، قالوا: إذا كان حين نرجع رجعنا وقد بركت الآلهة في طعامنا فأكلنا، فلما نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء: ألا تأكلون؟ فلما لم يجبه أحد قال: ما لكم لا تنطقون؟ " * (فراغ عليهم ضربا باليمين) *)، وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج، فذلك قوله سبحانه " * (فجعلهم جذاذا) *).
قرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي بكسر الجيم أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وكريم وكرام، وقرأ الباقون: بضمه أي الحطام والدقاق " * (إلا كبيرا لهم) *) أي عظيما للآلهة فإنه لم يكسره ووضع الفأس على عنقه " * (لعلهم إليه يرجعون) *) فيتذكرون ويعلمون ضعفها وعجزها، وقيل: لعلهم إليه يرجعون فيسألونه، فلما جاء القوم من عيدهم إلى
279

بيت آلهتهم ورأوا أصنامهم " * (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا) *) يعني الذين سمعوا إبراهيم يقول: تالله لأكيدن أصنامكم " * (سمعنا فتى يذكرهم) *) يعيبهم ويسبهم ويستهزئ بهم " * (يقال له إبراهيم) *) هو الذي صنع هذا، فبلغ ذلك نمرود الجبار وأشراف قومه فقالوا " * (فأتوا به على أعين الناس) *) يراد بأعين الناس " * (لعلهم يشهدون) *) عليه أنه هو الذي فعل ذلك، وكرهوا أن يأخذوه بغير بينة، قاله قتادة والسدي.
وقال الضحاك والسدي: لعلهم يشهدون ما يصنع به ويعاقبه، أي، يحضرون، فلما أتوا به " * (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال) *) إبراهيم " * (بل فعله كبيرهم هذا) *) غضب من أن تعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهن، قاله ابن إسحاق، وإنما أراد إبراهيم بذلك إقامة الحجة عليهم، فذلك قوله سبحانه " * (فاسألوهم إن كانوا ينطقون) *) حتى يخبروكم بمن فعل هذا بهم.
وروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله: بل فعله ويقول: معناه فعله من فعله، ثم يبتدي كبيرهم هذا.
وقال القتيبي: جعل إبراهيم النطق شرطا للفعل فقال " * (فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) *) والمعنى إن قدروا على الفعل، فأراهم عجزهم عن النطق والفعل، وفي ضمنه أنا فعلت ذلك، والذي تظاهرت به الأخبار في هذه الآية، قول ابن إسحاق يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله عز وجل قوله " * (إني سقيم) *) وقوله " * (بل فعله كبيرهم) *) وقوله لسارة: هي أختي، وغير مستحيل أن يكون الله سبحانه أذن لرسوله وخليله في ذلك ليقرع قومه ويوبخهم ويحتج عليهم ويعرفهم موضع خطئهم كما أذن ليوسف حين أمر مناديه فقال لأخوته: " * (أيتها العير إنكم لسارقون) *) ولم يكونوا سرقوا شيئا.
" * (فرجعوا إلى أنفسهم) *) يقول: فتفكروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم " * (فقالوا) *) ما نراه إلا كما قال " * (إنكم أنتم الظالمون) *) هذا الرجل في سؤالكم إياه، وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرة فسلوها، وقيل: إنكم أنتم الظالمون بعبادتكم الأوثان الصغار مع هذا الكبير.
" * (ثم نكسوا على رءوسهم) *) متحيرين مثبورين وعلموا أنها لا تنطق ولا تبطش، فقالوا " * (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) *) فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليهم " * (قال) *) لهم " * (أفتعبدون من دون
280

الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) *) فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب " * (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين) *).
قال ابن عمر: إن الذي أشار عليهم بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد، قال شعيب الجبائي: اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، قالوا: فلما جمع نمرود قومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنيانا كالحظيرة فذلك قوله " * (قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم) *) ثم جمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول لئن عافاني لأجمعن حطبا لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر في بعض مما تطلب مما تحب أن تدرك لئن أصابته لتحتطبن في نار إبراهيم التي يحرق بها احتسابا في دينها.
قال ابن إسحاق: كانوا يجمعون الحطب شهرا، قالوا: حتى إذا أكثروا وجمعوا منه ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب، فاشتعلت النار واشتدت حتى أن كان الطير لتمر بها فتحرق من شدة وهجها، ثم عمدوا إلى إبراهيم فرفعوه على رأس البنيان وقيدوه، ثم اتخذوا منجنيقا ووضعوه فيه مقيدا مغلولا، فصاحت السماوات والأرض ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة: أي ربنا، إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره يحرق فيك فائذن لنا في نصرته، فقال الله سبحانه وتعالى لهم: إن استغاث بشيء منكم أودعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به، وأنا وليه فخلوا بيني وبينه فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال: إن أردت أخمدت النار فإن خزائن الأمطار بيدي، وأتاه خازن الرياح فقال: إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل.
وروى المعتمر عن أبي بن كعب عن أرقم أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك، قال: ثم رموه في المنجنيق إلى النار من مضرب شاسع فاستقبله جبرئيل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال جبرئيل: فاسأل ربك؟ فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال الله سبحانه " * (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) *) قال السدي: كان جبرئيل هو الذي ناداها.
قال ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها، فلم تبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت ظنت أنها هي تعنى.
281

قال السدي: فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس.
قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه، قالوا: وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام.
قال المنهال بن عمر: قال إبراهيم خليل الله: ما كنت أياما قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار.
قال ابن يسار: وبعث الله جل اسمه ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم وهو يؤنسه، قالوا: وبعث الله بقميص من حرير الجنة وأتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبائي، ثم نظر نمرود من صرح له وأشرف على إبراهيم وما شك في موته، فرأى إبراهيم جالسا في روضة ورأى الملك قاعدا إلى جنبه وما حوله نار تحرق ما جمعوا له من الحطب فناداه نمرود: يا إبراهيم، كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى لم يضرك، يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟
قال: نعم، قال: هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرك؟ قال: لا، قال: فقم فأخرج منها، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلما خرج إليه قال له: يا إبراهيم، من الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال: ذلك ملك الظل أرسله إلي ربي ليؤنسني فيها، فقال نمرود: يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده، إني ذابح له أربعة آلاف بقرة، فقال له إبراهيم: إذا لا يقبل الله منك ما كنت على دينك هذا حتى تفارقه إلى ديني، فقال: يا إبراهيم لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له، فذبحها له نمرود، ثم كف عن إبراهيم ومنعه الله سبحانه منه.
قال أبو هريرة: إن أحسن شيء قاله إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار يرشح جبينه فقال نمرود عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم
قال كعب وقتادة والزهري: ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئد بنار ولا أحرقت النار شيئا يومئذ إلا وثاق إبراهيم ولم تأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وسماه فويسقا.
قال شعيب الجبائي: ألقي إبراهيم (عليه السلام) في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة، وكان مذبحه من بيت إيليا على ميلين، ولما علمت سارة بما أراد بإسحاق بطنت يومئذ وماتت اليوم الثالث.
قال الله سبحانه " * (وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين ونجيناه ولوطا) *) من نمرود وقومه من أرض العراق " * (إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين) *) يعني الشام.
282

قال أبى بن كعب سماها مباركة لأنه ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس.
وقال قتادة: كان يقال: الشام أعقاب دار الهجرة، وما نقص من الأرض زيد في الشام، وما نقص عن الشام زيد في فلسطين، وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها مجمع الناس، وبها ينزل عيسى ابن مريم، وبها يهلك الله الدجال.
وحدث أبو قلابة أن رسول الله (عليه السلام) قال: رأيت فيما يرى النائم كأن الملائكة حملت عمود الكتاب فوضعته بالشام، فأولته أن الفتن إذا وقعت فإن الإيمان بالشام.
وذكر لنا أن عمر بن الخطاب (ح) قال لكعب: ألا تتحول إلى المدينة فإنها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره؟ فقال له كعب: يا أمير المؤمنين إني أجد في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده.
قال محمد بن إسحاق بن يسار: استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله سبحانه به من جعل النار عليه بردا وسلاما على خوف من نمرود وملئهم، فآمن له لوط وكان ابن أخيه، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وهاران هو أخ إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له باحورين تارخ، فهاران أبو لوط وناحورا أبو تبويل وتبويل أبو لأن، ورتقا بنت تبويل امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب وليا وزاجيل روحيا يعقوب ابنتا لايان، وآمنت به أيضا سارة وهي بنت عمه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم عليه السلام.
وقال السدي: كانت سارة بنت ملك حران وذلك أن إبراهيم ولوطا انطلقا قبل الشام فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها إبراهيم على أن يغيرها.
قال ابن إسحاق: خرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق مهاجرا إلى ربه، وخرج معه لوط وسارة كما قال الله سبحانه " * (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي) *) فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة الله حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله أن يمكث، ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام ونزل السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب من ذلك، فبعثه الله سبحانه نبيا فذلك قوله " * (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) *) يعني الشام، وبركتها أن منها بعث أكثر الأنبياء وهي أرض خصبة كثيرة الأشجار والأنهار والثمار يطيب فيها عيش الفقير والغنى.
وروى العوفي عن ابن عباس في قوله " * (إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) *) قال: يعني
283

مكة ونزول إسماعيل، ألا ترى أنه يقول " * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) *) والقول الأول أصوب.
" * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) *) أي عطاء عن مجاهد، الحسن والضحاك: فضلا، قال ابن عباس وأبي بن كعب وابن زيد وقتادة: سأل واحدا فقال: رب هب لي من الصالحين فأعطاه الله إسحاق ولدا، وزاده يعقوب ولد الولد فهو النافلة. قال مجاهد وعطاء: معنى النافلة العطية وهما جميعا من عطاء الله سبحانه أعطاهما إياه.
" * (وكلا جعلنا صالحين) *) يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام).
(* (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينآ إليهم فعل الخيرات وإقام الصلواة وإيتآء الزكواة وكانوا لنا عابدين * ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه فى رحمتنآ إنه من الصالحين * ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا بئاياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين * وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون * ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الارض التى باركنا فيها وكنا بكل شىء عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذالك وكنا لهم حافظين) *) 2
" * (وجعلناهم أئمة) *) يقتدى بهم في الخير " * (يهدون) *) يدعون الناس إلى ديننا.
" * (بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام) *) وإقامة " * (الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ولوطا) *) أي وآتينا لوطا، وقيل واذكر لوطا " * (آتيناه حكما) *) أي الفصل بين الخصوم بالحق " * (وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث) *) يعني سد وما كان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم مع أشياء أخر كانوا يعملونها من المنكرات.
" * (إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ونوحا إذ نادى) *) دعا " * (من قبل) *) أي من قبل إبراهيم ولوط " * (فاستجبنا له فنجيناه وأهله) *) أتباعه " * (من الكرب العظيم) *) الطوفان، والكرب أشد الغم.
" * (ونصرناه) *) منعناه " * (من القوم الذين كذبوا بآياتنا) *) أن يصلوا إليه بسوء، وقال أبو عبيد: أي على القوم
284

" * (إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) *) قال مرة وقتادة: كان الحرث زرعا، وقال ابن مسعود وشريح: كان كرما قد نبتت عناقيد " * (إذ نفشت فيه غنم القوم) *) أي رعته ليلا فأفسدته، والنفش بالليل، والهمل بالنهار، وهما الرعي بلا راع " * (وكنا لحكمهم شاهدين) *) لا يخفى علينا منه شيء، ولا يغيب عنا علمه.
" * (ففهمناها) *) أي علمناها وألهمناها يعني القضية " * (سليمان) *) دون داود.
" * (وكلا) *) يعني داود وسليمان " * (آتينا حكما وعلما) *).
قال ابن عباس وقتادة والزهري ومرة: وذلك أن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: هذا انفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي، فلم تبق منه شيئا، فقال له داود: اذهب فإن الغنم لك، فأعطاه رقاب الغنم بالحرث، فخرجا فمرا على سليمان فقال: كيف قضى بينكما، فأخبراه فقال سليمان: لو وليت أمرهم لقضيت بغيره، فأخبر بذلك داود فدعاه فقال: كيف تقضي بينهما؟ قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له نسلها ورسلها وحرثها وعوارضها ومنافعها ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا كان العام المقبل وصار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه.
وقال ابن مسعود وشريح ومقاتل: إن راعيا نزل ذات ليلة بجنب كرم، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم، فصار صاحب الكرم من الغد
إلى داود، فقضى بالأغنام لصاحب الكرم لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الأغنام تفاوت، فمروا بسليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال: ما قضى الملك في أمركم؟ فقصوا عليه القصة فقال سليمان: غير هذا أرفق بالفريقين، فعادوا إلى داود فأخبروه بذلك فدعا سليمان وقال له: بحق النبوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، فقال سليمان: تسلم الأغنام إلى صاحب الكرم حتى يرتفق برسلها ونسلها وصوفها ومنافعها، ويعمل الراعي في إصلاح الكرم إلى أن يعود كهيئته، ثم يرد الأغنام إلى صاحبها فقال: القضاء ما قضيت. وحكم بذلك.
قال الحسن: كان الحكم بما قضى به سليمان، ولم يعنف الله داود في حكمه وهذا يدل على أن كل مجتهد مصيب.
وروى الزهري عن حرام بن محيصة قال: دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطا لبعض الأنصار فأفسدته، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية، ثم قضى على البراء بما أفسدت الناقة وقال: (على أصحاب الماشية حفظ الماشية بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار)
285

" * (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير) *) أي وسخرنا الجبال والطير يسبحن مع داود إذا سبح.
قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحا وهي تجاوبه وكذلك الطير.
قتادة: (يسبحن) أي يصلين معه إذا صلى.
" * (وكنا فاعلين) *) ذلك " * (وعلمناه صنعة لبوس لكم) *) اللبوس عند العرب: السلاح كله درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا، يدل عليه قول الهذلي يصف رمحا:
ومعي لبوس للبئيس كأنه
روق بجبهة ذي نعاج مجفل
يريد باللبوس الرمح، وإنما عنى الله سبحانه في هذا الموضع الدرع وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب.
قال قتادة: أول من صنع الدروع داود (عليه السلام) وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها.
" * (لتحصنكم) *) لتحرزكم وتمنعكم " * (من بأسكم) *) حربكم، واختلف القراء فيه، فقرأ شيبة وعاصم برواية أبي بكر، ويعقوب برواية رويس، لنحصنكم بالنون، لقوله (وعلمناه) وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص وروح، بالتاء يعني الصنعة.
" * (ولسليمان) *) أي وسخرنا لسليمان " * (الريح) *) وهو هواء محرك وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ويظهر الحسن بحركته، والريح تذكر وتؤنث.
" * (عاصفة) *) شديدة الهبوب " * (تجري بأمره إلى الارض التي باركنا فيها) *) يعني الشام وذلك أنها كانت تجري لسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ثم تعود به إلى منزله بالشام.
قال وهب بن منبه: كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإنس والجن حتى يجلس على سريره وكان إمرأ غزا قل ما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بمعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب كلها حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلت أمر الرخاء فمدته شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد.
قال: فذكر لي منزل بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان إما من الجن
286

وإما من الإنس: نحن نزلناه وما بنينا ومبنيا وجدناه، غزونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله فآتون الشام.
قال الله سبحانه " * (وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين) *) يعني وسخرنا لسليمان أيضا من الشياطين " * (من يغوصون له) *) أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له الجواهر من البحر " * (ويعملون عملا دون ذلك) *) يعني دون الغوص " * (وكنا لهم حافظين) *) حتى لا يخرجوا من أمره.
2 (* (وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وءاتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين * وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين * وأدخلناهم فى رحمتنا إنهم من الصالحين * وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا إلاه إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذالك ننجى المؤمنين * وزكريآ إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين * والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنهآ ءاية للعالمين * إن هاذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون * وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون * فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون) *) 2
" * (وأيوب إذ نادى ربه) *) الآية.
قال وهب بن منبه: كان أيوب رجلا من الروم، وهو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا، وكانت له البثينة من أرض الشام كلها سهلها وجبلها بما فيها، وكان له من أصناف المال كله من الإبل والبقر والخيل والحمير
ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدة والكثرة، وكان له بها خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال، ويحمل له كل فدان أتان، لكل أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك، وكان الله سبحانه أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين، يكفل الأرامل والأيتام ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكرا لأنعم الله سبحانه، مؤديا لحق الله تعالى، قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من العزة والغفلة والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدقوه وعرفوا فضله: رجل من أهل اليمن يقال له اليفن، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما بلدد وللآخر صافر، وكانوا كهولا
287

قال وهب: إن لجبرئيل (عليه السلام) بين يدي الله سبحانه مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة والفضيلة، وإن جبرئيل هو الذي يتلقى الكلام، فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه جبرئيل ثم لقاه ميكائيل وحوله الملائكة المقربون حافين من حول العرش، فإذا شاع ذلك في الملائكة المقربين صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السماوات، فإذا صلت عليه ملائكة السماوات هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض، وكان إبليس لعنه الله لا يحجب عن شيء من السماوات، وكان يقف فيهن حيث ما أراد، ومن هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنة، فلم يزل على ذلك يصعد في السماوات حتى رفع الله سبحانه عيسى ابن مريم فحجب من أربع، وكان يصعد في ثلاث، فلما بعث الله تعالى محمدا (عليه السلام) حجب من الثلاث الباقية، فهو وجنوده محجوبون من جميع السماوات إلى يوم القيامة " * (إلا من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين) *).
قال: فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب وذلك حين ذكره الله سبحانه وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد وصعد سريعا حتى وقف من السماء موقفا كان يقفه فقال: يا إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ثم لم تجربه بشدة ولا بلاء وأنا لك زعيم، لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك ولينسينك، فقال الله سبحانه وتعالى له: انطلق فقد سلطتك على ماله، فانقض عدو الله حتى وقع إلى الأرض ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم وقال لهم: ماذا عندكم من القوة والمعرفة؟ فإني قد سلطت على مال أيوب، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال.
قال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من النار وأحرقت كل شيء آتي عليه، قال له إبليس: فات الإبل ورعاها فانطلق يؤم الإبل وذلك حين وضعت رؤوسها ويثبت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار ينفخ منها أرواح السموم، لا يدنو منها أحد إلا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاها حتى أتى على آخرها، فلما فرغ منها تمثل إبليس على قعود منها يراعها ثم انطلق يؤم أيوب حتى وجده قائما يصلي فقال: يا أيوب، قال: لبيك، قال: هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترته وعبدته بإبلك ورعائها؟ قال أيوب: انها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه، وقديما وطنت مالي ونفسي على الفناء.
قال إبليس: فإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاؤها كلها، فتركت الناس
288

مبهوتين وقفا عليها يتعجبون منها، منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور، ومنهم من قال: لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئا لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه ويفجع به صديقه.
قال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عريانا خرجت من بطن أمي، وعريانا أعود في التراب، وعريانا أحشر إلى الله سبحانه، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لتقبل روحك مع تلك الأرواح فآجر لي فيك وصرت شهيدا، ولكنه علم منك شرا فاخرك، وخلصك من البلاء كما يخلص الزوان من القمح الخالص.
فرجع إبليس لعنه الله إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال: ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلبه، قال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة اما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه، قال له إبليس: فأت الغنم ورعاها فانطلق يأتي الغنم ورعاها حتى إذا توسطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها، ومات رعاؤها، ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاء حتى إذا جاء أيوب وهو قائم يصلي، فقال له القول الأول ورد عليه أيوب الرد الأول.
ثم إن إبليس رجع إلى أصحابه فقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب، فقال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفا تنسف كل شيء تأتي عليه حتى لا أبقي شيئا، قال له إبليس: فأت الفدادين والحرث، فانطلق يؤمهم وذلك حين قرنوا الفدادين وأنسؤوا في الحرث، وأولادها رتوع، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن، ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الحرث حتى جاء أيوب وهو قائم يصلي فقال له مثل قوله الأول ورد عليه أيوب مثل رده الأول، فجعل إبليس يصيب ماله مالا مالا حتى مر على آخره، كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء ووطن نفسه للصبر على البلاء حتى لم يبق له مال.
فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعا حتى وقف الموقف الذي كان يقفه فقال: إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة المضلة والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ولا يقوى عليها صبرهم.
289

قال الله سبحانه: انطلق فقد سلطتك على ولده، فانقض عدو الله حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع بهم القصر وقلبه فصاروا منكسين، وانطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، فأخبره بذلك وقال: يا أيوب لو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف قلبوا فكانوا منكسين على رؤوسهم، تسيل دماؤهم ودماغهم من
أنوفهم وأشفارهم وأجوافهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ونحوه ويرققه حتى رق أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر، فاستغفر وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته، فبدروا إبليس إلى الله سبحانه وهو أعلم، فوقف إبليس خازيا ذليلا فقال: يا إلهي إنما هون على أيوب خطر المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فأنى لك زعم لئن ابتليته في جسده لينسينك وليكفرن بك ولجحدنك نعمتك.
فقال الله سبحانه: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله، وكان الله تعالى هو أعلم به، لم سلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب.
وانقض عدو الله إبليس سريعا فوجد أيوب ساجدا فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل الأرض في موضع وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده فذهل وخرج به من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم وقعت فيه حكة لا يملكها، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة فلم يزل حكها حتى نفل لحمه وتقطع وتغير وانتن.
فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، وكانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه، فلما رأى الثلاثة من أصحابه وهم: أليفر ويلدد وصافر ما إبتلاه الله سبحانه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه وهو في بلائه فبكتوه ولاموه وقالوا له: تب إلى الله سبحانه من الذنب الذي عوقبت به، قال: وحضر معهم فتى حديث السن وكان قد آمن به وصدقه فقال لهم: إنكم تكلمتم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام لأسنانكم، ولكن قد تركتم من القول
290

أحسن من الذي قلتم ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لا يؤت عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض يومكم هذا، ثم لم تعلموا أو لم يطلعكم الله على أنه قد سخط شيئا من أمره منذ أتاه ما أتاه إلى يومكم هذا، ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها، ولا أن أيوب غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، وإن كان البلاء هو الذي أزري به عندكم ووضعه في أنفسكم، فقد علمتم أان الله سبحنه يبتلي النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل على سخطه عليهم، ولا هوانه لهم، ولكنها كرامة وخيرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله تعالى بهذه المنزلة إلا أنه أخ اجتبيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم، وهو مكروب جرين، ولكنه يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ويحزن بحزنه ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم.
ألم تعلموا أن لله عبادا أسكتتهم خشية من غير عي ولا بكم، وأنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الأولياء العالمون بالله وبأيامه، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاما لله وإعزازا وإجلالا، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية، يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأنزاه برآء، ويعدون أنفسهم مع المقصرين المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير ولا يرضون لله بالقليل، ولا يدلون عليه بالأعمال فهم مروعون مفزعون خاشعون مستكينون.
فقال أيوب: إن الله سبحانه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة ولا طول التجرية، ولئن جعل الله تعالى العبد حكيما في الصبا لم يسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله سبحانه عليه نور الكرامة.
ثم أقبل أيوب على الثلاثة فقال: أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم من قبل أن تضربوا، كيف بي لو قلت لكم تصدقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا عني قربانا لعل الله يتقبله ويرضى عني، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم وظننتم أنكم عوقبتم بإحسانكم فهنالك بغيتم وتعززتم ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقرونني وأنا مسموع كلامي، معروف حقي، منصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فإنكم كنتم على أشد من مصيبتي.
ثم أعرض عنهم وأقبل على ربه مستعينا به متضرعا إليه فقال: رب لأى شيء خلقتني؟
291

ليتني إذ كرهتني لم تخلقني، يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، أو يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني، لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي فالموت كان أجمل لي، ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا وللأرملة قيما؟
الهي أنا عبد ذليل، إن أحسنت فالمن لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا وللفتنة نصبا، وقد وقع علي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي، إلهي تقطعت أصابعي فإني لأرفع الأكلة من الطعام بيدي جميعا فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني، تساقطت لهواتي ولحم رأسي، فما بين أذني من سداد حتى أن إحداهما ترى من الأخرى، وإن دماغي يسيل من فمي.
تساقط شعر عيني فكأنما حرق بالنار وجهي، وحدقتاي هما متدليتان على خدي، ورم لساني حتى ملأ فمي، فما أدخل منه طعاما إلا غصني، ورمت شفتاي حتى غطت العليا أنفي والسفلى ذقني، تقطعت أمعائي في بطني فإني لأدخله الطعام فيخرج كما دخل ما أحسه ولا ينفعني، ذهبت قوة رجلي فكأنهما قربتا ماء أطيق حملهما، ذهب المال فصرت أسأل بكفي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة، فيمنها علي ويعيرني، هلك أولادي ولو بقي أحد منهم أعانني على بلائي ونفعني، قد ملني أهلي
وعقني أرحامي وتنكرت معارفي ورغب عني صديقي وقطعني أصحابي وجحدت حقوقي ونسيت صنايعي، أصرخ فلا يصرخونني وأعتذر فلا يعذرونني، ودعوت غلامي فلم يجبني وتضرعت لأمتي فلم ترحمني وأنحل جسمي ولو أن ربى نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي، ثم كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه، لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إلى فرحمني ولا دنا مني ولا أدناني، فأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
فلما قال ذلك أيوب وأصحابه أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب، ثم نودي منه: يا أيوب إن الله يقول: ها أنا دنوت منك ولم أزل منك قريبا، فقم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك وقم مقام جبار فإني لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزمار، في فم الأسد والسخال في فم العنقاء واللجام في فم التنين، ويكتال مكيالا من النور ويزن مثقالا من الريح ويصر صرة من الشمس ويرد أمس، لقد منتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوتك ولو كنت إذ منتك ذلك ودعتك إليه، تذكرت أى مرام رامت بك.
292

أردت أن تخاصمني بفيك أم أن تحاجني بخطابك أم أردت ان تكابرني بضعفك؟ أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها؟ هل علمت بأي مقدار قدرتها أم كنت معي تمد بأطرافها، أم تعلم ما بعد زواياها أم على أى شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض، أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق سيبت ولا يحملها دعم من تحتها؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟
أين أنت مني يوم سخرت البحار ونبعت الأنهار؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل لك من ذراع يطيق حملها أم هل تدري كم من مثقال فيها، أم أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ هل تدري أم تلده أو أب يولده؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق، أم قدرتك تثير السحاب وتغشيه الماء؟ هل تدري ما أصوات الرعود أم من أى شيء لهب البرق؟ وهل رأيت عمق البحر، أم هل تدري ما بعد الهواء، أم هل خزنت أرواح الأموات، أم هل تدري أين خزانة الثلج، أو أين خزائن البرد، أم أين جبال البرد، أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار، وأين خزانة النهار بالليل، وأين طريق النور، وبأى لغة تتكلم الأشجار، وأين خزانة الريح؟ وكيف تحبسه الأغلاق؟
ومن جعل العقول في الرجال؟ ومن شق الأسماع؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم أرزاق الدواب بحكمته؟ من قسم للأسد رزقها وعرف الطير معاشها وعطفها على أفراخها؟ من أعتق الوحش من الخدمة وجعل مساكنها البرية، لا تستأنس بالأصوات ولا تهاب المسلطين، أم حكمتك عطفت أمهاتها عليها حتى أخرجت لها الطعام من بطونها وآثرتها بالعيش على نفوسها، أم من حكمتك تبصر العقاب الصيد البصر البعيد وأصبح في أماكن القتلى؟
أين أنت مني يوم خلقت يهموت مكانه في مقطع التراب والوثبان يحملان الجبال والقرى والعمران، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال، ورؤسهما كأنها كوم الجبال، وعروق أفخاذها كأنها عمد النحاس، أنت ملأت جلودهما لحما أم أنت ملأت رؤسهما دماغا؟ هل لك في خلقهما من شرك أم لك بالقوة التي غلبتها يدان؟ هل تبلغ من قوتك أن تضع يدك على رؤوسهما أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما أو تصدهما من قوتهما؟ أين أنت يوم خلقت للتنين رزقه في البحر ومسكنه في السحاب؟ عيناه توقدان نارا ومنخراه يثوران دخانا، أذناه مثل قوس السحاب، يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج، جوفه يحترق ونفسه تلتهب وزبده جمر كأمثال
293

الصخور، وكأن صريف أسنانه أصوات الصواعق، وكأن نظر عينيه لهب البرق، وتمر به الجيوش وهو متكئ لا يفزعه شيء، ليس فيه مفصل الحديد، عنده مثل الطين، والنحاس، عنده مثل الخيوط لا يفزع من النشاب ولا يحس وقع الصخور على جسده، ويسير في الهواء كأنه عصفور، ويهلك كل شيء يمر به، هل أنت آخذه بأحبولتك أو واضع اللجام في شدقه؟ هل تحصي عمره أم هل تعرف تقوت رزقه أم هل تدري ماذا خرب من الأرض؟ وماذا يخرب فيما بقي من عمره؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك؟ تبارك الله وتعالى.
فقال أيوب: قصرت عن هذا الأمر الذي يعرض على ليت الأرض انشقت فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخط ربي، اجتمع على البلاء إلهي فجعلتني مثل العدو، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي، وقد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من هذا، ما شئت عملت، لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية ولا تغيب عنك غائبة، من هذا الذي يظن أن يسر عنك سرا وأنت تعلم ما يخطر على القلوب؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم، وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف، إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا فأما الآن فهو نظر العين، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكت حين سكت لترحمني، كلمة زلت فلن أعود، قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدي ودسست فيه وجهي لصغاري، وسكت كما أسكتتني خطيئتي، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني.
فقال الله سبحانه: يا أيوب فقد نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي إذ خطئت فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ليكون لمن خلفك آية، ويكون عبرة لأهل البلاء وغزاء للصابرين فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، فيه شفاؤك، وقرب عن صحابتك قربانا واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك.
فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها، فاغتسل فأذهب الله عنه كلما كان به من البلاء، ثم خرج فجلس وأقبلت امرأته فقامت تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالواله مترددة متحيرة ثم قالت: يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا؟ فقال لها: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم ومالي لا أعرفه؟ فتبسم وقال: أنا هو فعرفته بمضحكه فاعتنقته.
قال ابن عباس: فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مر بهما كل مال لهما وولد، فذلك قوله * (وأيوب إذ نادى ربه) * * (أني مسني الضر) *).
واختلف العلماء في وقت ندائه، والسبب الذي قال: لأجله أني مسني الضر وفي مدة بلائه.
294

فحدثنا الإمام أبو الحسن على بن سهل الماسرخسي إملاء يوم الجمعة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو طالب عمر بن الربيع بن سليمان الخشاب بمصر قال: حدثنا يحيى بن أيوب العلاف قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا نافع بن يزيد عن عقيل عن شهاب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أيوب نبي الله لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك، فقال أيوب: ما أدري ما يقولان غير أن الله سبحانه يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله سبحانه وتعالى، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق).
قال: فكان يخرج بحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأعليها، وأوحي إلى أيوب في مكانه " * (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) *) فاستبطأته فتلقته تنظر، وأقبل عليها وقد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: هل رأيت نبى الله هذا المبتلى؟ قال: إني أنا هو، وكان له اندران: أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سبحانه سحابتين، فلما كانت أحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض.
وقال الحسن: مكث أيوب مطروحا على كناسة في مزبلة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف فيه الدواب.
وقال وهب: لم يكن بأيوب أكلة إنما كان يخرج منه مثل ثدي النساء ثم يتفقأ.
قال الحسن: ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقربه غير رحمة صبرت معه، تصدق وتأتيه وتحمد الله إذا حمد، وأيوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله سبحانه والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه، فصرخ عدو الله إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر أيوب فلما اجتمعوا إليه قالوا: ما جزعك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت ربي أن يسلطني على ماله وولده فلم أدع له مالا، وولدا فلم يزدد بذلك إلا صبرا وثناء على الله سبحانه، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل، لا تقربه إلا امرأته، فقد افتضحت بربي فاستعنت بكم لتعينوني عليه، قالوا له: أين مكرك؟ أين عملك الذي أهلكت به من مضى
295

قال: بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا علي، قالوا: نشير عليك، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال: من قبل امرأته، قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس أحد يقربه غيرها، قال: أصبتم، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدق، فتمثل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو ذاك يحك قروحه، وتتردد الدواب في جسده، فلما سمعها طمع أن يكون كلمة جزع، فوسوس إليها فذكرها ما كانت فيه من النعيم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه، وما هو فيه من الضر، وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبدا.
قال الحسن: فصرخت، فلما صرخت علم أن قد جزعت، فأتاها بسخلة فقال: ليذبح هذا لي أيوب ويبرأ.
قال: فجاءت تصرخ: يا أيوب حتى متى يعذبك ربك؟ ألا يرحمك؟ أين المال؟ أين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ إن لونك الحسن قد تغير وصار مثل الرماد، أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح.
قال أيوب: أتاك عدو الله فنفخ فيك وأجبته؟ ويلك أرأيت ما تبكين عليه مما تذكرين مما كنا فيه من المال والولد والصحة، من أعطانيه؟ قالت: الله، قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فمذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر. قال: ويلك والله ما عدلت ولا أنصفت ربك، ألا صبرت يكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربنا به ثمانين سنة، كما كنا في الرخاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، أمرتني أن أذبح لغير الله طعامك وشرابك الذي أتيت به؟ علي حرام أن أذوق شيئا مما تأتينني به بعد إذ قلت لي هذا، فاغربي عني فلا أراك، فطردها فذهبت فلما نظر أيوب إلى امرأته قد طردها، وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجدا وقال: رب مسني الضر ثم رد ذلك إلى ربه فقال " * (وأنت أرحم الراحمين) *) فقيل له: إرفع رأسك فقد استجبت لك، اركض برجلك، فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها فلم يبق عليه من دابة شيء ظاهر إلا سقط، فأذهب الله كل ألم وكل سقم، وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان وأفضل ما كان، ثم ضرب رجله فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، فقام صحيحا وكسي حلة.
قال: فجعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله له حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب، قال: فجعل يضمه بيده فأوحى إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها، قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت: أرأيت إن كان طردني، إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا وتأكله السباع لأرجعن إليه، فرجعت إليه فلا كناسة ترى ولا تلك الحال التي كانت، وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي، وذلك بعين أيوب
296

قال: وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عنه، فأرسل إليها أيوب فدعاها فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل؟.
فقال لها أيوب: ما كان منك؟ فبكت وقالت: أردت بعلي فهل رأيته؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: وهل يخفى على أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت: أما إنه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا، قال: فإني أنا أيوب الذي أمرتني أن أذبح لإبليس، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله سبحانه
وتعالى فرد علي ماترين.
وقال كعب: كان أيوب في بلائه سبع سنين.
وقال وهب: لبث أيوب في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا، فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليس كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال، على مركب ليس من مراكب الناس، له عظم وبهاء وجمال، فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت: نعم قال: هل تعرفينني؟ قالت: لا، قال: فأنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت، بصاحبك ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد فإنه عندي، ثم أراها إياهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه.
قال وهب: وقد سمعت أنه إنما قال: لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم عليه لعوفي مما به من البلاء، والله أعلم، وأراد إبليس لعنه الله أن يأتيه من قبلها.
ورأيت في بعض الكتب أن إبليس قال لرحمة: وإن شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والأولاد وأعافي زوجك، فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها وما أراها، قال: قد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم إن عافاه الله ليضربنها مائة جلدة.
وقال عند ذلك: مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له، ودعائه إياها وإياي إلى الكفر، قالوا: ثم الله سبحانه رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء، وخفف عنها، وأراد أن يبرئ يمين أيوب فأمره أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها بها ضربة واحدة كما قال الله سبحانه " * (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) *) الآية.
وقال وهب وغيره: كانت امرأة أيوب تكسب له وتعمل للناس وتجيئه بقوته، فلما طال عليهما البلاء وسئمها الناس فلم يستعملها التمست له يوما من الأيام ما تطعمه، فما وجدت شيئا
297

فجزت قرنا من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها: أين قرنك فأخبرته بذلك فحينئذ قال: مسني الضر.
وقال قوم: إنما قال: مسني الضر حين قصدت الدود إلى قلبه ولسانه فخشي أن يعيى عن الذكر والفكر.
وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم في أيوب خيرا ما ابتلاه بما نرى: قال: فلم يسمع أيوب شيئا كان عليه أشد من هذه الكلمة، وما جزع من شيء أصابه جزعه من تلك الكلمة، فعند ذلك قال: مسني الضر، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني فصدق، وهما يسمعان، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أتخذ قميصين قط وأنا أعلم مكانا عار فصدقني فصدق وهما يسمعان فخر ساجدا.
وقيل معناه: مسني الضر من شماتة الأعداء، يدل عليه ما روي أنه قيل له بعدما عوفي: ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال: شماتة الأعداء.
وقيل: إنما قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فرفعها وردها إلى موضعها وقال: كلي فقد جعلني الله طعامك، فعضته عضة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عض الديدان.
وسمعت أبا عبد الله بن محمد بن جعفر الأبيوردي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عباد البغدادي يقول: سئل أبو القاسم جنيد عن هذه الآية فقال: عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكرم النوال.
وسمعت استاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار سلطان فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب " * (مسني الضر) *) شكاية وقد قال الله سبحانه " * (إنا وجدناه صابرا) *) فقلت: ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء، بيانه قوله سبحانه " * (فاستجبنا له) *) والإجابة تعقب الدعاء لا الاشتكاء، فاستحسنوه وارتضوه.
" * (فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم) *) واختلفوا في كيفية ذلك فقال قوم: إنما آتى الله سبحانه أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فأما الذين هلكوا فإنهم لم يردوا عليه، وإنما وعد الله أيوب أن يؤتيه إياهم في الآخرة.
وروى عبد الله بن إدريس عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن هذه الآية فقال: قيل له: إن أهلك لك في الآخرة، فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا،
298

وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا؟ فقال: يكونون لي في الآخرة، وأوتي مثلهم في الدنيا.
قال: فرجع إلى مجاهد فقال: أصاب، ويكون معنى الآية على هذا التأويل وآتيناه أهله في الآخرة، ومثلهم معهم في الدنيا، وأراد بالأهل الأولاد.
قال وهب: كان له سبع بنات وثلاثة بنين.
وقال ابن يسار: كان له سبع بنين وسبع بنات، وقال آخرون: بل ردهم الله سبحانه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة وكعب قال: أحياهم الله وأوتي مثلهم، وهذا القول أشبه بظاهر الآية.
وقال الحسن: آتاه الله المثل من نسل ماله الذي رد عليه وأهله، فأما الأهل والمال فإنه ردهما عليه بأعيانهما.
" * (رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) *) عظة لهم " * (وإسماعيل) *) يعني ابن إبراهيم " * (وإدريس) *) وهو أخنوخ " * (وذا الكفل كل من الصابرين) *
) على أمر الله، واختلفوا في ذي الكفل، فأخبرني ابن فنجويه بقراءتي عليه في داري قال: حدثنا عمر بن الخطاب قال: حدثنا عبد الله الرازي عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال: سمعت حديثا للنبي صلى الله عليه وسلم لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين لم أحدث به، سمعته منه أكثر من سبع مرات، قال صلى الله عليه وسلم (كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا ينزع عن ذنب عمله، فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن تعطيه نفسها، فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة أرعدت وبكت فقال: ما يبكيك؟ قالت: من هذا العمل، ما عملته قط، قال: أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن حملتني عليه الحاجة، قال: اذهبي فهو لك، ثم قال: والله لا أعصي الله أبدا، فمات من ليلته فقيل مات ذو الكفل، فوجدوا على باب داره مكتوبا: إن الله قد غفر لذي الكفل).
وروى الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحرث أن نبيا من الأنبياء قال: من يكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب؟ فقام شاب فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم عاد فقال: من يكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب؟ فقام ذلك الشاب فقال: انا، فقال: اجلس، ثم عاد فقام الشاب فقال: أنا فقال: تقوم الليل وتصوم النهار ولا تغضب؟ قال: نعم.
299

فمات ذلك النبي فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بين الناس فكان لا يغضب، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم يريد أن يقيل، فضرب الباب ضربا شديدا فقال: من هذا؟ فقال: رجل له حاجة، فأرسل معه رجلا فرجع فقال: لا أرضى بهذا الرجل، فأرسل معه آخر، فقال: لا أرضى بهذا، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب، فسمي ذا الكفل.
وقال مجاهد: لما كبر اليسع (عليه السلام) قال: لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى انظر كيف يعمل، قال: فجمع الناس فقال: من يتقبل لي بثلاث استخلفه: يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب، فقام رجل تزدريه العين فقال: أنا فرده ذلك اليوم. وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال: أنا فاستخلفه قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان فأعياهم فقال: دعوني وإياه فأتاه في صورة شيخ فقير حين أخذ مضجعه للقائلة وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك النومة فدق الباب فقال: من هذا؟ قال: شيخ فقير كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه فقال: إن بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني وفعلوا، وفعلوا فجعل يطول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، قال: إذا رحت فإنني آخذ لك بحقك، فانطلق وراح، فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب فقال: من هذا؟ قال: الشيخ المظلوم، ففتح له فقال: ألم أقل إذا قعدت فأتني قال: إنهم أخب قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني، قال: فانطلق فإذا رحت فأتني، ففاتته القائلة فراح فجعل ينظر ولا يراه وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق علي النوم.
فلما كان تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل فاستيقظ الرجل فقال: يا فلان ألم آمرك؟ فقال: أما من قبلي فلم تؤت والله، فانظر من أين أتيت؟ فقام إلى الباب فهو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فقال له: أتنام والخصوم ببابك؟ فعرفه فقال: أعدو الله؟ قال: نعم أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبك فعصمك الله مني، فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به.
وقال أبو موسى الأشعري: إن ذا الكفل لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا تكفل بعمل رجل صالح عند موته وكان يصلي لله سبحانه وتعالى كل يوم مائة صلاة، فأحسن الله عز وجل عليه الثناء.
وقيل: كان رجلا تكفل بشأن رجل وقع في بلاء فأنجاه الله على يديه.
300

وقيل: ذو الكفل إلياس، وقيل: هو زكريا، والله أعلم.
" * (وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين وذا النون) *) واذكر صاحب النون وهو يونس بن متى " * (إذ ذهب مغاضبا) *) اختلفوا في معنى الآية ووجهها فقال الضحاك: ذهب مغاضبا لقومه، وهي رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك فسبي منهم تسعة أسباط ونصف سبط وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيا النبي أن سر إلى حزقيا الملك وقل له حتى يوجه نبيا قويا أمينا فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك: فمن ترى؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال: يونس، فإنه قوي أمين، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج، فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سماني لك؟ قال: لا، قال: فها هنا غيري أنبياء أقوياء أمناء، فالحوا عليه فخرج مغاضبا للنبى وللملك ولقومه، فأتى بحر الروم فإذا سفينة مشحونة فركبها فلما تلججت السفينة تكفأت حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاحون، ها هنا رجل عاص أو عبد آبق، ومن رسمنا أن نقترع في مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر. ولئن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة بما فيها، فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة في كلها على يونس.
فقام يونس فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى نفسه في الماء فجاء حوت فابتلعه، ثم جاء حوت آخر أكبر منه فابتلع هذا الحوت، وأوحى الله إلى الحوت: لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه، ولم أجعله طعاما لك.
وقال الآخرون: بل ذهب عن قومه مغاضبا لربه إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه، وذلك أنه كره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي به دفع عنهم العذاب والهلاك، فخرج مغاضبا وقال: والله لا أرجع إليهم كذابا أبدا، وإني وعدتهم العذاب في يوم فلم يأت.
وفي بعض الأخبار: إن قومه كان من عادتهم أن يقتلوا من جربوا عليه الكذب، فلما لم يأتهم العذاب للميعاد الذي وعدهم خشي أن يقتلوه، فغضب وقال: كيف أرجع إلى قومي وقد أخلفتهم الوعد؟ ولم يعلم سبب صرف العذاب عنهم، وكيفية القصة، وذلك أنه كان خرج من بين أظهرهم، وقد ذكرت القصة بالشرح في سورة يونس.
قال القتيبي: المغاضبة مفاعلة، وأكثر المفاعلة من اثنين كالمناظرة والمخاصمة والمجادلة وربما تكون من واحد كقولك: سافرت وعاقبت الرجل وطارقت النعل وشاركت الأمر ونحوها، وهي ها هنا من هذا الباب، فمعنى قوله: مغاضبا أي غضبان أنفا، والعرب تسمي الغضب أنفا، والأنف غضبا لقرب أحدهما من الآخر، وكان يونس وعد قومه أن يأتيهم العذاب لأجل، فلما فات الأجل ولم يعذبوا غضب وأنف أن يعود إليهم فيكذبوه، فمضى كالناد الآبق إلى السفينة،
301

وكان من طول ما عاين وقاسى من بلاء قومه يشتهي أن ينزل الله بهم بأسه.
وقال الحسن: إنما غاضب ربه من أجل أنه أمر بالمصير إلى قومه لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم، فقيل له: إن الأمر أسرع من ذلك ولم ينظر حتى سأل أن ينظر إلى أن يأخذ نعلا يلبسها، فقيل له نحو القول الأول، وكان رجلا في خلقه ضيق، فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعلا؟ فذهب مغاضبا.
وقال وهب بن منبه اليماني: إن يونس بن متى كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها من يده وخرج هاربا منها، فلذلك أخرجه الله سبحانه من أولي العزم، فقال لنبيه محمد (عليه السلام): " * (فاصبر كما صبر أولو العزم من الر سل) *) وقال: " * (ولا تكن كصاحب الحوت) *) أي لا تلق أمري كما ألقاه.
" * (فظن أن لن نقدر عليه) *) أن لن نقضي عليه العقوبة، قاله مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، تقول العرب: قدر الله الشيء بقدره تقديرا وقدره يقدره قدرا، ومنه قوله " * (نحن قدرنا بينكم الموت) *) وقوله " * (والذي قدر فهدى) *) في قراءة من خففهما، ودليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري " * (فظن أن لن نقدر عليه) *) بضم النون وتشديد الدال من التقدير، وقرأ عبيد بن عمير وقتادة: فظن أن لن يقدر عليه بالتشديد على المجهول، وقرأ يعقوب يقدر بالتخفيف على المجهول. وقال الشاعر في القدر بمعنى التقدير:
فليست عشيات الحمى برواجع
لنا أبدا ما أورق السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى
تباركت ما تقدر نفع ولك الشكر
وقال عطاء وكثير من العلماء: معناه فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله سبحانه " * (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) *) أي يضيق
302

وقال سبحانه وتعالى " * (من قدر عليه رزقه) *)، وقال ابن زيد: هو استفهام معناه: أفظن أن لن نقدر عليه؟.
وروى عوف عن الحسن أنه قال: معناه: فظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه.
قال: وبلغني أن يونس لما أذنب انطلق مغاضبا لربه واستزله الشيطان حتى ظن أن لن يقدر عليه.
قال: وكان له سلف وعبادة فأبى الله أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت، فمكث في بطن الحوت أربعين من بين يوم وليلة، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاثة، وأمسك الله نفسه فلم يقتله هناك، فتاب إلى ربه في بطن الحوت وراجع نفسه فقال: " * (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) *) فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته.
قال عوف: وبلغني أنه قال: وبنيت لك مسجدا في مكان لم يبنه أحد قبلي. والتأويلات المتقدمة أولى بالأنبياء وأبعد من الخطأ.
" * (فنادى في الظلمات) *) أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، قاله أكثر المفسرين، وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة جوف الحوت، ثم ظلمة جوف الحوت الآخر الذي ابتلعه في ظلمة البحر.
" * (أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) *) قال محمد بن قيس: قال يونس: " * (اني كنت من الظالمين) *) حين عصيتك، وما صنعت من شيء فلم أعبد غيرك.
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما أراد الله سبحانه حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله سبحانه إليه وهو في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر، قال: فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنا لنسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة قال: ذاك عبدي يونس عصاني، فحبسته في بطن الحوت، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم، فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله سبحانه " * (وهو سقيم) *)).
وروى أبو هلال محمد بن سليمان عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: أتى جبرئيل
303

يونس (عليهما السلام) فقال له: انطلق إلى السفينة، فركبها فاحتبست السفينة فساهموا فسهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه فنودي الحوت: إنا لم نجعل يونس لك رزقا، إنا جعلناك له حرزا ومسجدا، فالتقمه الحوت فانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على الإبلة، ثم مر به على دجلة ثم انطلق حتى ألقاه في نينوى، فكان ابن عباس يقول: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت، ودليل هذا القول أن الله تعالى ذكر قصة يونس في سورة والصافات ثم عقبها بقوله " * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو
يزيدون) *).
وقال الآخرون: بل كانت قصة الحوت بعد دعائه قومه وتبليغهم رسالة ربه كما قد بينا ذكره.
" * (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) *) من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا.
وروى علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى) قال: فقلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله تعالى " * (فنادى في الظلمات) *) إلى قوله " * (وكذلك ننجي المؤمنين) *) وهو شرط الله لمن دعاه بها.
واختلفت القراءة في قوله (ننج) فقرأه العامة بنونين الثانية منهما ساكنة من الإنجاء على معنى نحن ننجي، فإن قيل: لم كتبت في المصاحف بنون واحدة؟ قيل: لأن النون الثانية لما سكنت وكان الساكن غير ظاهر على اللسان حذفت، كما فعلوا ذلك بإلا فحذفوا النون من لجعلها أو كاشفة إذا كانت مدغمة في اللام، وقرأ ابن عامر وعاصم برواية ابن بكر " * (نجي المؤمنين) *) بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء، واختلف النحاة في هذه القراءة فمنهم من صوبها وقال: فيه اضمار معناه: نجي المؤمنين كما يقال: ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا. قال الشاعر:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب
لسب بذلك الجرو الكلابا
أراد لسبه بذلك الجرو ولسب الكلابا
304

قالوا: وإنما سكن الياء في نجي كما سكنوها في بقر فقالوا بقره ونحوها وإنما اتبع أهل هذه القراءة المصحف لأنها مكتوبة بنون واحدة.
وقال القتيبي: من قرأ بنون واحدة والتشديد فإنه أراد ننجي من التنجية إلا أنه أدغم وحذف نونا على طلب الخفة.
وقال النحويون: وهو رديء لبعد مخرج النون من الجيم، وممن جوز هذه القراءة أبو عبيد، وأما أبو حاتم السجستاني فإنه لحنها ونسب قارئها إلى الجهل وقال: هذا لحن لا يجوز في اللغة، ولا يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله سبحانه وتعالى إلا أن يقول: وكذلك نجي المؤمنين، ولو قرئ كذلك لكان صوابا، والله أعلم.
" * (وزكريا إذ نادى) *) دعا " * (ربه) *) فقال " * (رب لا تذرني فردا) *) وحيدا لا ولد لي ولا عقب وارزقني وارثا، ثم رد الأمر إلى الله سبحانه فقال " * (وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى) *) ولدا " * (وأصلحنا له زوجه) *) بأن جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيما، قاله أكثر المفسرين، وقال بعضهم: كانت سيئة الخلق فأصلحها له بأن رزقها حسن الخلق.
" * (إنهم) *) يعني الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة.
" * (كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا) *) خوفا وطمعا رغبا في رحمة الله ورهبا من عذاب الله، وقرأ الأعمش، رغبا ورهبا بضم الراء وجزم الغين والهاء وهما لغتان مثل السقم والسقم والثكل والثكل والنحل والنحل والعدم والعدم.
" * (وكانوا لنا خاشعين) *) خاضعين متواضعين.
" * (والتي أحصنت) *) حفظت ومنعت " * (فرجها) *) مما حرم الله سبحانه وهي مريم بنت عمران " * (فنفخنا فيها من روحنا) *) أي أمرنا جبرئيل حتى نفخ في جيب درعها وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه على معنى الملك والتشريف لمريم وعيسى بتخصيصها بالإضافة إليه.
" * (وجعلناها وابنها آية للعالمين) *) أي دلالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، حمل امرأة بلا مماسة ذكر، وكون ولد من غير أب، وإنما قال (آية) ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين.
" * (إن هذه أمتكم) *) ملتكم " * (أمة واحدة) *) ملة واحدة وهي الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان، وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد فجعلت بالشريعة أمة واحدة
305

لاجتماع أهلها بها على مقصد واحد، ونصب أمة على القطع، وقرأ ابن أبي إسحاق أمة بالرفع على التكرير.
" * (وأنا ربكم فاعبدوني وتقطعوا أمرهم) *) أي اختلفوا في الدين صاروا فيه فرقا وأحزابا، ثم قال " * (كل إلينا راجعون) *) فنجزيهم بأعمالهم.
" * (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) *) لا نبطل عمله ولا نجحده بل يشكر ويثاب عليه " * (وإنا له كاتبون) *) لعمله حافظون.
2 (* (وحرام على قرية أهلكناهآ أنهم لا يرجعون * حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق فإذا هى شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا فى غفلة من هاذا بل كنا ظالمين * إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هاؤلاء ءالهة ما وردوها وكل فيها خالدون * لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون * إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولائك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم فى ما اشتهت أنفسهم خالدون * لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملائكة هاذا يومكم الذى كنتم توعدون * يوم نطوى السمآء كطى السجل للكتب كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين * ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادى الصالحون * إن فى هاذا لبلاغا لقوم عابدين * ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين * قل إنمآ يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فهل أنتم مسلمون * فإن تولوا فقل ءاذنتكم على سوآء وإن أدرىأقريب أم بعيد ما توعدون * إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون * وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين *
قال رب احكم بالحق وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون) *) 2
" * (وحرام على قرية) *) قرأ أهل الكوفة: وحرم بكسر الحاء وجزم الراء من غير ألف، وقرأ الآخرون: وحرام، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، هما لغتان مثل حل وحلال.
قال ابن عباس: معنى الآية (وحرام على قرية) أي أهل قرية " * (أهلكناها) *) أي يرجعون بعد الهلاك وعلى هذا التأويل يكون لا صلة مثل قول العجاج:
في سر لا حورى سرى وما شعر
أي في سر حور.
306

وقال الآخرون: الحرام بمعنى الواجب كقول الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا
على شجوه إلا بكيت على عمرو
وعلى هذا التأويل يكون لا ثابتا.
وقال جابر الجعفي: سألت أبا جعفر عن الرجعة فقرأ هذه الآية.
" * (حتى إذا فتحت) *) قرأه العامة بالتخفيف، وقرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب بالتشديد على الكسرة.
" * (يأجوج ومأجوج) *) ومعنى الآية فرج السد عن يأجوج ومأجوج، وقد ذكرنا قصتهما بالشرح.
وروى منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول الآيات الدجال، ونزول عيسى، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا، والدخان والدابة، ثم يأجوج ومأجوح.
قال حذيفة: قلت: يا رسول الله ما يأجوج ومأجوج؟ قال: أمم، كل أمة أربعمائة ألف أمة، لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطرف بين يديه من صلبه، وهم ولد آدم (عليه السلام) فيسيرون إلى خراب الدنيا، ويكون مقدمتهم بالشام وساقهم بالعراق، فيمرون بأنهار الدنيا فيشربون الفرات ودجلة وبحر الطبرية حتى يأتوا بيت المقدس فيقولوا: قد قتلنا أهل الدنيا، فقاتلوا من في السماء فيرمون بالنشاب إلى السماء، فيرجع نشابهم مخضبة بالدم فيقولون: قد قتلنا من في السماء.
وعيسى والمسلمون بجبل طور سينين فيوحي الله سبحانه إلى عيسى أن احرز عبادي بالطور وما يلي، ثم إن عيسى يرفع يديه إلى السماء، ويؤمن المسلمون، فيبعث الله سبحانه عليهم دابة يقال لها النغف تدخل في مناخرهم فيصبحون موتى من حاق الشام إلى حاق المشرق حتى تنتن الأرض من جيفهم ويأمر الله سبحانه السماء فتمطر كأفواه القرب فتغسل الأرض من جيفهم ونتنهم، فعند ذلك طلوع الشمس من مغربها.
307

" * (وهم من كل حدب) *) أي نشز وتل " * (ينسلون) *) يخرجون مشاة مسرعين كنسلان الذئب.
واختلف العلماء في هذه الكناية فقال قوم: عنى بهم يأجوج ومأجوج، واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله سبحانه " * (من كل حدب ينسلون) *) فيغشون الأرض.
وروى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكر عن عيسى قال: (قال عيسى: عهد إلي ربي أن الدجال خارج وأنه مهبطي إليه، فذكر أن معه قصبتين فإذا رآني أهلكه الله، قال: فيذوب كما يذوب الرصاص حتى أن الشجر والحجر ليقول: يا مسلم هذا كافر فاقتله، فيهلكهم الله عز وجل ويرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فيستقبلهم يأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه).
وقال آخرون: أراد جميع الخلق، يعني أنهم يخرجون من قبورهم ومواضعهم فيحشرون إلى موقف القيامة، تدل عليه قراءة مجاهد: وهم من كل جدث بالجيم والثاء يعني القبر اعتبارا بقوله سبحانه " * (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) *).
" * (واقترب الوعد الحق) *) يعني القيامة، قال الفراء وجماعة من العلماء: الواو في قوله (واقترب) مقحم ومجاز الآية: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق، نظيرها قوله " * (فلما أسلمااوتله للجبين وناديناه) *) أي ناديناه. قال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحى وانتحى
بباطن خبت ذي قفاف عقنقل
يريد انتحى، ودليل هذا التأويل حديث حذيفة قال: لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة.
وقال الزجاج: البصريون لا يجيزون طرح الواو ويجعلون جواب حتى إذا فتحت في قوله (يا ويلنا) وتكون مجازا الآية " * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا) *).
" * (فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) *) في قوله " * (هي) *) ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون هي كناية عن الأبصار ويكون الأبصار الظاهرة بيانا عنها كقول الشاعر
308

لعمر أبيها لا تقول ظعينتي
ألا فرعني مالك بن أبي كعب
فكنى عن الظعينة في أبيها ثم أظهرها فيكون تأويل الكلام: فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا.
والثاني: أن تكون هي عمادا كقوله (فإنها لا تعمى الأبصار)، وكقول الشاعر:
فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس
والثالث: أن يكون تمام الكلام عند قوله " * (هي) *) على معنى هي بارزة واقفة يعني: من قربها كأنها آتية حاضرة، ثم ابتدأ " * (شاخصة أبصار الذين كفروا) *) على تقديم الخبر على الابتداء مجازها: أبصار الذين كفروا شاخصة من هول قيام الساعة، وهم يقولون " * (يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا) *) أي من هذا اليوم " * (بل كنا ظالمين) *) بمعصيتنا ربنا ووضعنا العبادة في غير موضعها.
" * (إنكم) *) أيها المشركون " * (وما تعبدون من دون الله) *) يعني الأصنام " * (حصب جهنم) *) قراءة العامة بالصاد أي وقودها عن ابن عباس.
وقال مجاهد وقتادة وعكرمة: حطبها، وذكر أن الحصب في لغة أهل اليمن الحطب.
الضحاك: يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصباء، وأصل الحصب الرمي يقال: حصبت الرجل إذا رميته، قال الله سبحانه وتعالى " * (إنا أرسلنا عليهم حاصبا) *) يعني ريحا ترميهم بالحجارة وقرأ ابن عباس: حضب بالضاد، وهو كل ما هيجت وأوقدت به النار، ومنه قيل لدقاق النار: حضب، وقرأ علي وعائشة: ولا هو بن حميد: حطب بالطاء نظيرها قوله سبحانه (وقودها الناس والحجارة).
" * (أنتم لها واردون) *) أي فيها داخلون " * (لو كان هؤلاء) *) الأصنام " * (آلهة) *) على الحقيقة " * (ما وردوها) *) يعني ما دخل عابدوها النار، بل منعتها " * (وكل فيها خالدون) *) يعني العابد والمعبود.
" * (لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون) *) قال ابن مسعود في هذه الآية: إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، ثم جعل التوابيت في توابيت أخرى، ثم جعلت التوابيت في أخرى فيها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره.
ثم استثنى فقال سبحانه وتعالى " * (إن الذين سبقت) *) قال قوم من العلماء: إن ها هنا بمعنى
309

إلا وليس في القرآن سواه، والسبق تقدم الشيء على غيره.
" * (لهم منا الحسنى) *) السعادة والعدة الجميلة بالجنة " * (أولئك عنها مبعدون) *) والإبعاد: تطويل المسافة. واختلفوا في هؤلاء من هم؟ فقال أكثر المفسرين: عني بذلك كل من عبد من دون الله وهو طائع ولعبادة من يعبده كاره، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيموحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم " * (إنكم وما تعبدون من دون الله) *) الآيات الثلاث، ثم قام فأقبل عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي السهمي فرآهم يتهامسون قال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبعرى: أنت قلت: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك ورب الكعبة، أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعم، بل هم يعبدون الشياطين، هي التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله سبحانه " * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) *) الآية يعني عزيرا وعيسى والملائكة).
قال الحسن بن الفضل: إنما أراد بقوله " * (إنكم وما تعبدون من دون الله) *) الأوثان دون غيرها لأنه لو أراد الملائكة والناس لقال: (ومن تعبدون)، قلت: ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة وهم كانوا يعبدون الأصنام.
وقال بعضهم: هذه الآية عامة في كل من سبقت له من الله السعادة.
قال محمد بن حاطب: سمعت عليا كرم الله وجهه يخطب، فقرأ هذه الآية " * (إن الذين سبقت) *) فقال: عثمان (ح) منهم.
وقال الجنيد في هذه الآية: سبقت لهم من الله العناية في البداية، فظهرت الولاية في النهاية.
أخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الله قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن عثمان النصيبي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين السبيعي بحلب قال: أخبرنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبار الصوفي قال: حدثنا عبيد الله القواريري قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني قال: حدثنا ليث عن ابن عم النعمان بن بشير وكان من سمار على قال: تلا علي
310

ليلة هذه الآية " * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) *) قال: أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف منهم، ثم أقيمت الصلاة فقام على يجر رداءه وهو يقول " * (لا يسمعون حسيسها) *) يعني صوتها إذا نزلوا منازلهم من الجنة " * (وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون) *) والشهوة طلب النفس اللذة، نظيرها قوله " * (وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين) *).
" * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) *) وقرأ أبو جعفر بضم الياء وكسر الزاي، والباقون: بفتح الياء وضم الزاي، واختلفوا في الفزع الأكبر، فقال ابن عباس: النفخة الآخرة، دليله قوله سبحانه " * (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل اتوه داخرين) *).
وقال الحسن: حين يؤمر بالعبد إلى النار.
سعيد بن جبير والضحاك: إذا أطبقت على أهل النار.
ابن جريج: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح على الأعراف والفريقان ينظران فينادى: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت.
ذو النون المصري: هو القطيعة والهجران والفراق.
" * (وتتلقاهم) *) تستقبلهم " * (الملائكة) *) على أبواب الجنة يهنونهم ويقولون لهم " * (هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء) *) قرأ أبو جعفر تطوى السماء بضم التاء والهمزة على المجهول، وقرأ الباقون بالنون السماء نصب " * (كطي السجل للكتب) *) قرأ أهل الكوفة على الجمع، غيرهم: للكتاب على الواحد واختلفوا في السجل، فقال ابن عمر و السدى: السجل: ملك يكتب أعمال العباد فإذا صعد بالاستغفار قال الله سبحانه: أكتبها نورا.
وقال ابن عباس ومجاهد: هو الصحيفة، واللام في قوله للكتب بمعنى على تأويلها كطى الصحيفة على مكتوبها.
وروى أبو الجوزاء وعكرمة عن ابن عباس أن السجل اسم كاتب لرسول الله، وهذا قول غير قوي لأن كتاب رسول الله كانوا معروفين وقد ذكرتهم في كتاب (الربيع)، والسجل اسم مشتق من المساجلة وهي المكاتبة، وأصلها من السجل وهو الدلو، يقال: سجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة، قال الشاعر:
311

من يساجلني يساجل ماجدا
يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ثم بنى هذا الاسم على فعل مثل طمر وقلز. والطي في هذه الآية يحتمل معنيين:
أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر قال الله سبحانه " * (والسماوات مطويات بيمينه) *).
والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو والطمس لأن الله سبحانه يمحو رسومها ويكدر نجومها، قال الله سبحانه وتعالى " * (إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت) *) تقول العرب: اطو عن فلان هذا الحديث أي استره وأخفه.
ثم ابتدأ واستأنف الكلام فقال عز من قائل " * (كما بدأنا أول خلق نعيده) *) قال أكثر العلماء: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عزلا كذلك نعيدهم يوم القيامة، نظيرها قوله سبحانه " * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) *) وقوله " * (وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) *).
ودليل هذا التأويل ما روى ليث عن مجاهد عن عائشة خ قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي عجوز من بني عامر فقال: من هذه العجوز يا عائشة؟ فقلت: إحدى خالاتي، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة فقال: إن الجنة لا يدخلها العجز، فأخذ العجوز ما أخذها.
فقال (عليه السلام): إن الله ينشئهن خلقا غير خلقهن، قال الله تعالى " * (إنا أنشأناهن انشاء) *) الآية ثم قال: يحشرون يوم القيامة عراة حفاة غلفا، فأول من يكسى إبراهيم صلوات الله عليه).
فقالت عائشة خ وعن أبيها: وا سوأتاه فلا تحتشم الناس بعضهم بعضا؟
قال: " * (لكل امرئ منهم يومئذ شان يغنيه) *)، ثم قرأ رسول الله " * (كما بدأنا اول خلق نعيده) *) كيوم ولدته أمه.
312

وقال ابن عباس: يقول: نهلك كل شيء كما كان أول مرة، وقيل: كما بدأناه من الماء نعيده من التراب.
" * (وعدا علينا) *) نصب على المصدر يعني وعدناه وعدا علينا " * (إنا كنا فاعلين) *) يعني الإعادة والبعث.
" * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) *) قرأ الأعمش وحمزة: الزبور بضم الزاي، وغيرهما يقرؤون بالنصب وهو بمعنى المزبور كالحلوب والركوب، يقال: زبرت الكتاب وذبرته إذا كتبته، واختلفوا في معنى الزبور في هذه الآية، فقال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد: عنى بالزبور الكتب المنزلة وبالذكر أم الكتاب الذي عنده.
وقال ابن عباس والضحاك: الذكر التوراة والزبور الكتب المنزلة من بعد التوراة.
وقال الشعبي: الزبور كتاب داود والذكر التوراة.
وقال بعضهم: الزبور زبور داود والذكر القرآن، وبعد بمعنى قبل كقوله " * (وكان ورآءهم ملك) *) أي أمامهم، وقوله " * (والأرض بعد ذلك دحاها) *) أي قبل ذلك
" * (إن الأرض) *) يعني أرض الجنة " * (يرثها عبادي الصالحون) *) يعني أمة محمد (عليه السلام) قاله مجاهد وأبو العالية، ودليل هذا التأويل قوله " * (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده واورثنا الأرض) *).
وقال ابن عباس: أراد أن الأرض في الدنيا تصير للمؤمنين، وهذا حكم من الله سبحانه بإظهار الدين وإعزاز المسلمين وقهر الكافرين.
قال وهب: قرأت في عدة من كتب الله أن الله عز وجل قال: إني لأورث الأرض عبادي الصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
" * (إن في هذا لبلاغا) *) وصولا إلى البغية، من اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب، فالقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر.
" * (لقوم عابدين) *) أي مؤمنين يعبدون الله سبحانه وتعالى.
وقال ابن عباس: عالمين، وقال كعب الأحبار: هم أمة محمد أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان، سماهم الله سبحانه وتعالى عابدين.
313

" * (وما أرسلناك) *) يا محمد " * (إلا رحمة للعالمين) *) قال ابن زيد: يعني المؤمنين خاصة، وقال ابن عباس: هو عام فمن آمن بالله واليوم الآخر كتب له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن عوفي مما أصاب الأمم من المسخ والخسف والقذف.
" * (قل إنما يوحى إلى أنما إلاهكم إلاه واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء) *) يعني أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا، وإني مخالف لدينكم، وقيل: معناه على سواء من الإنذار لم أظهر بعضكم على شيء كتمته عن غيره، وقيل: لتستووا في الإيمان به، وهذا من فصيحات القرآن.
" * (وإن أدري) *) وما أعلم " * (أقريب أم بعيد ما توعدون) *) يعني القيامة، نسخها قوله " * (واقترب الوعد الحق) *).
" * (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله) *) أي لعل تأخير العذاب عنكم، كناية عن غير مذكور " * (فتنة) *) اختبار " * (لكم) *) ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم " * (ومتاع إلى حين) *) إلى أجل يقضي الله فيه ما شاء.
أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العباس الدعولي قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة قال: حدثنا محمد بن أبي غالب قال: أخبرنا هشام قال: أخبرنا مجالد قال: حدثني السبعي قال: لما سلم الحسن بن علي لمعاوية الأمر، قال له معاوية: قم فاخطب واعتذر إلى الناس، فقام الحسن فخطب، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أكيس الكيس التقى، وإن أحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما حق امرئ كان أحق به، وإما حق كان لي فتركته التماس الصلاح لهذه الأمة، ثم قال: * (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) * * (قال رب احكم بالحق) *) افعل بيني وبين من كذبني بالحق، والله لا يحكم إلا بالحق، وفيه وجهان من التأويل:
قال أهل التفسير: الحق ها هنا بمعنى العذاب كأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر وليله، نظيره قوله " * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) *).
وقال قتادة: كان رسول الله (عليه السلام) إذا شهد قتالا قال: رب احكم بالحق.
وقال أهل المعاني: معناه: رب احكم بحكمك الحق، فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه، واختلف القراء في هذه الآية فقرأ حفص " * (قال رب) *) بالألف على الخبر، الباقون: " * (قل) *))
314

على الأمر، وقرأ أبو جعفر: رب احكم برفع الباء على النداء والمفرد، وقرأ الضحاك ويعقوب: ربي احكم باثبات الياء على وجه الخبر بأن الله سبحانه أحكم بالحق من كل حاكم وهذه قراءة غير مرضية لمخالفة المصحف، والقراء الباقون: " * (رب احكم) *) على الدعاء " * (وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون) *).
315