الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ١١
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (يا أيها الذين ءامنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحيوة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا) *.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) *.
أعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين، وأمر المجاهدين بالتثبيت فيه لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف، وهذه المبالغة تدل على أن الآية المتقدمة خطاب مع المؤمنين وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي هنا وكذلك في الحجرات * (فثبتوا) * من ثبت ثباتا، والباقون بالنون من اليان، والمعنيان متقاربان، فمن رجح التثبيت قال: إنه خلاف الإقدام، والمراد في الآية التأني وترك العجلة، ومن رجح التبيين قال المقصود من التثبيت التبيين، فكان التبيين أبلغ وأكمل.
المسألة الثانية: الضرب معناه السير فيها بالسفر للتجارة أو الجهاد، وأصله من الضرب باليد، وهو كناية عن الإسراع في السير فإن من ضرب إنسانا كانت حركة يده عند ذلك الضرب سريعة، فجعل الضرب كناية عن الإسراع في السير.
قال الزجاج: ومعنى * (ضربتم في سبيل الله) * أي غزوتم وسرتم إلى الجهاد.
ثم قال تعالى: * (ولا تقولوا إلى المسلمين، ومنه قوله) * (وألقوا إلى الله يومئذ السلم) * (النحل: 87) أي استسلموا للأمر، ومن قرأ * (السلام) * بالألف فله معنيان: أحدها: أن يكون المراد السلام الذي يكون هو تحية المسلمين، أي لا تقولوا لمن حياتكم بهذه التحية إنه إنما قالها تعوذا فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا
2

ماله ولكن كفوا واقبلوا منه ما أظهره. والثاني: أن يكون المعنى: لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقتلكم لست مؤمنا، وأصل هذا من السلامة لأن المعتزل طالب للسلامة.
قال صاحب الكشاف: قرىء * (مؤمنا) * بفتح الميم من آمنه أي لا نؤمنك.
المسألة الثالثة: في سبب نزول هذه الآية روايات:
الرواية الأولى: أن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره، فذهبت سرية الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قومه وأميرهم غالب بن فضالة، فهرب القوم وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل، وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد وساق غنمه، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد وجدا شديدا وقال: قتلتموه إرادة ما معه، ثم قرأ الآية على أسامة يا رسول الله استغفر لي، فقال: فكيف وقد تلا لا إله إلا الله! قال أسامة فما زال يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي وقال: أعتنق رقبة.
الرواية الثانية: أن القاتل ملحم بن جثامة لقيه عامر بن الأضبط فحياه بتحية الإسلام، وكانت بين ملحم وبينه إحنة في الجاهلية فرماه بسهم فقتله، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " لا غفر الله لك " فما مضت به سبعة أيام حتى مات فدفنوه فلفظته الأرض ثلاث مرات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يريكم عظم الذنب عنده " ثم أمر أن تلقى عليه الحجارة.
الرواية الثالثة: أن المقداد بن الأسود قد وقعت له مثل واقعة أسامة قال: فقلت يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ بشجرة، فقال أسلمت لله تعالى أفأقتله يا رسول الله بعد ذلك؟ فقال رسول الله لا تقتله، فقلت يا رسول الله إنه قطع يدي، فقال عليه الصلاة والسلام " لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك بعد ما تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال " وعن أبي عبيدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرفع عنه الرمح " قال القفال رحمه الله: ولا منافاة بين هذه الروايات فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها، فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته والله أعلم.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا؟ فالفقهاء قبلوها واحتجوا عليه بوجوه: الأول: هذه الآية فإنه تعالى لم يفرق في هذه الآية بين الزنديق وبين غيره بل أوجب
3

ذلك في الكل.
الحجة الثانية: قوله تعالى: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * (الأنفال: 38) وهو عام في جميع أصناف الكفرة.
الحجة الثالثة: أن الزنديق لا شك أنه مأمور بالتوبة، والتوبة مقبولة على الإطلاق لقوله تعالى: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) * (الشورى: 25) وهذا عام في جميع الذنوب وفي جميع أصناف الخلق.
المسألة الخامسة: إسلام الصبي صحيح عند أبي حنيفة، وقال الشافعي لا يصح.
قال أبو حنيفة دلت هذه الآية على صحة إسلام الصبي لأن قوله: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) * عام في حق الصبي، وفي حق البالغ.
قال الشافعي: لو صح الإسلام منه لوجب، لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذنا في الكفر، وهو غير جائز، لكنه غير واجب عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ " الحديث، والله أعلم.
المسألة السادسة: قال أكثر الفقهاء: لو قال اليهودي أو النصراني: أنا مؤمن أو قال أنا مسلم لا يحكم بهذا القدر بإسلامه، لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام وهو الإيمان، ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعند قوم لا يحكم بإسلامه، لأنه فيهم من يقول: إنه رسول الله إلى العرب لا إلى الكل، ومنهم من يقول: إن محمدا
الذي هو الرسول الحق بعد ما جاء، وسيجئ بعد ذلك، بل لا بد وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة) * قال أبو عبيدة: جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء، يقال: إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر، والعرض بسكون الراء ما سوى الدراهم والدنانير، وإنما سمي متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير باق ومنه يسمي المتكلمون ما خالف الجوهر من الحوادث عرضا لقلة لبثه، فقوله: * (فعند الله مغانم كثيرة) * يعني ثوابا كثيرا، فنبه تعالى بتسميته عرضا على كونه سريع الفناء قريب الانقضاء، وبقوله: * (فعند الله مغانم كثيرة) * على أن ثواب الله موصوف بالدوام والبقاء كما قال: * (والباقيات الصالحات خير عند ربك) * (مريم: 76).
ثم قال تعالى: * (وكذلك كنتم من قبل) * وهذا يقتضي تشبيه هؤلاء المخاطبين بأولئك الذين ألقوا
4

السم، وليس فيه بيان أن هذا التشبيه فيم وقع، فلهذا ذكر المفسرون فيه وجوها: الأول: أن المراد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام كما سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة حقنت دماءكم وأموالكم من غير توقيف ذلك على حصول العلم بأن قلبكم موافق لما في لسانكم، فعليكم بأن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر القول، وأن لا تقولوا إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة لأجل الخوف من السيف، هذا هو الذي اختاره أكثر المفسرين، وفي إشكال لأن لهم أن يقولوا: ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء، لأنا آمنا عن الطواعية والاختيار، وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر. الوجه الثاني: قال سعيد بن جبير: المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى هذا الداعي إيمانه عن قومه، ثم من الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم، فأنتم عاملوهم بمثل هذه المعاملة، وهذا أيضا فيه إشكال لأن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم. الثالث: قال مقاتل: المراد كذلك كنتم من قبل الهجرة حين كمنتم فيما بين الكفار تأمنون من أصحاب رسول الله بكلمة " لا إله إلا الله " فاقبلوا منهم مثل ذلك، وهذا يتوجه عليه الإشكال الأول، والأقرب عندي أن يقال: إن من ينتقل من دين إلى دين ففي أول الأمر يحدث ميل قليل بسبب ضعيف، ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال، فكأنه قيل لهم: كنتم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام، ثم من الله عليكم بالإسلام بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر، فكذلك هؤلاء كما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان، فإن الله تعالى يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم يقوي تلك الرغبة في صدورهم، فهذا ما عندي فيه.
ثم قال تعالى: * (فمن الله عليكم) * وفيه احتمالان: الأول: أن يكون هذا متعلقا بقوله: * (كذلك كنتم من قبل) * يعني إيمانكم كان مثل إيمانهم في أنه إنما عرف منه مجرد القول اللساني دون ما في القلب، أو في أنه كان في ابتداء الأمر حاصلا بسبب ضعيف، ثم من الله عليكم حيث قوي نور الإيمان في قلوبكم وأعانكم على العمل به والمحبة له. والثاني: أن يكون هذا منقطعا عن هذا الموضع، ويكون متعلقا بما قبله، وذلك لأن القوم لما قتلوا من تكلم بلا إله إلا الله، ثم أنه تعالى نهاهم عن هذا الفعل وبين لهم أنه من العظائم قال بعد ذلك * (فمن الله عليكم) * أي من عليكم بأن
5

قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر.
ثم أعاد الأمر بالتبيين فقال: * (فتبينوا) * وإعادة الأمر بالتبيين تدل على المبالغة في التحذير عن ذلك الفعل. ثم قال تعالى: * (إن الله كان بما تعملون خبيرا) * والمراد منه الوعيد والزجر عن الإظهار بخلاف الإضمار.
* (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله
المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) *
اعلم أن في كيفية النظم وجوها: الأول: ما ذكرناه أنه تعالى لما رغب في الجهاد أتبع ذلك بيان أحكام الجهاد. فالنوع الأول من أحكام الجهاد: تحذير المسلمين عن قتل المسلمين، وبيان الحال في قتلهم على سبيل الخطأ كيف، وعلى سبيل العمد كيف، وعلى سبيل تأويل الخطأ كيف، فلما ذكر ذلك الحكم أتبعه بحكم آخر وهو بيان فضل المجاهد على غيره وهو هذه الآية. الوجه الثاني: لما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم من قتل من تكلم بكلمة الشهادة، فلعله يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد لئلا يقع بسببه في مثل هذا المحذور، فلا جرم ذكر الله تعالى في عقيبه هذه الآية وبين فيها فضل المجاهد على غيره إزالة لهذه الشبهة. الوجه الثالث: أنه تعالى لما عاتبهم على ما صدر منهم من قتل تكلم بالشهادة ذكر عقيبه فضيلة الجهاد، كأنه قيل: من أتى بالجهاد فقد فاز بهذه الدرجة العظيمة عند الله تعالى، فليحترز
6

صاحبها من تلك الهفوة لئلا يخل منصبه العظيم في الدين بسبب هذه الهفوة، والله أعلم وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرىء * (غير أولي الضرر) * بالحركات الثلاث في * (غير) * فالرفع صفة لقوله: * (القاعدون) * والمعنى لا يستوي القاعدون المغايرون لأولي الضرر والمجاهدون، ونظيره قوله: * (أو التابعين غير أولي الأربة) * (النور: 31) وذكرنا جواز أن يكون * (غير) * صفة المعرفة في قوله: * (غير المغضوب) * (الفاتحة: 7) قال الزجاج: ويجوز أن يكون * (غير) * رفعا على جهة الاستثناء، والمعنى لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، أي الذين أقعدهم عن الجهاد الضرر، والكلام في رفع المستثنى بعد النفي قد تقدم في قوله: * (ما فعلوه إلا قليل منهم) * (النساء: 66) و " أما القراءة بالنصل ففيها وجهان. الأول: أن يكون استثناء القاعدين، والمعنى لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر، وهو اختيار الأخفش. الثاني: أن يكون نصبا على الحال، والمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم، والمجاهدون، كما تقول: جاءني زيد غير مريض، أي جاءني زيد صحيحا، وهذا قول الزجاج والفراء وكقوله: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد) * (المائدة: 1) وأما القراءة بالجر فعلى تقدير أن يجعل * (غير) * صفة للمؤمنين، فهذا
بيان الوجوه في هذه القراءات.
ثم ههنا بحث آخر: وهو أن الأخفش قال: القراءة بالنصب على سبيل الاستثناء أولى لأن المقصود منه استثناء قوم لم يقدروا على الخروج.
روي في التفسير أنه لما ذكر الله تعالى فضيلة المجاهدين على القاعدين جاء قوم من أولي الضرر فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: حالتنا كما ترى، ونحن نشتهي الجهاد، فهل لنا من طريق؟ فنزل * (غير أولي الضرر) * فاستثناهم الله تعالى من جملة القاعدين.
وقال آخرون: القراءة بالرفع أولى لأن الأصل في كلمة * (غير) * أن تكون صفة، ثم أنها وإن كانت صفة فالمقصود والمطلوب من الاستثناء حاصل منها، لأنها في كلتا الحالتين أخرجت أولي الضرر من تلك المفضولية، وإذا كان هذا المقصود حاصلا على كل التقديرين وكان الأصل في كلمة * (غير) * أن تكون صفة كانت القراءة بالرفع أولى.
المسألة الثانية: الضرر النقصان سواء كان بالعمى أو العرج أو المرض، أو كان بسبب عدم الأهبة. المسألة الثالثة: حاصل الآية: لا يستوي القاعدون المؤمنون الأصحاء والمجاهدون في سبيل الله، واختلفوا في أن قوله: * (غير أولي الضرر) * هل يدل على أن المؤمنين القاعدين الأضراء يساوون المجاهدين أم لا؟ قال بعضهم: أنه لا يدل لأنا إن حملنا لفظ * (غير) * على الصفة وقلنا التخصيص
7

بالصفة لا يدل على نفي الحكم عما عداه لم يلزم ذلك، وإن حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي ليس بإثبات لم يلزم أيضا ذلك، أما إذا حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي إثبات لزم القول بالمساواة.
وأعلم أن هذه المساواة في حق الاضراء عند من يقول بها مشروطة بشرط آخر ذكر الله تعالى في سورة التوبة وهو قوله: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) * إلى قوله: * (إذا نصحوا لله ورسوله) * (التوبة: 91).
وأعلم أن القول بهذه المساواة غير مستبعد، ويدل عليه النقل والعقل، أما النقل فقوله عليه الصلاة والسلام عند انصرافه من بعض غزواته " لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر " وقال عليه الصلاة والسلام: " إذا مرض العبد قال الله عز وجل اكتبوا لعبدي ما كن يعمله في الصحة إلى أن يبرأ " وذكر بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: * (ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) * (التين: 5، 6) أن من صار هرما كتب الله تعالى له أجر ما كان يعمله قبل هرمه غير منقوص من ذلك شيئا.
وذكروا في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام " نية المؤمن خير من عمله " أن ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبدا خير له من عمله الذي أدركه في مدة حياته، وأما المعقول فهو أن المقصود من جميع الطاعات والعبادات استنارة القلب بنور معرفة الله تعالى، فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد والقاعد فقد حصل الاستواء في الثواب، وإن كان القاعد أكثر حظا من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثوابا.
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: إنه تعالى قال: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * (التوبة: 111) فقدم ذكر النفس على المال، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله: * (والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم) * قدم ذكر المال على النفس، فما السبب فيه؟ وجوابه: أن النفس أشرف من المال، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد، والبائع أخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب.
وأعلم أنه تعالى لما بين أن المجاهدين والقاعدين لا يستويان ثم أن عدم الاستواء يحتمل الزيادة ويحتمل النقصان، لا جرم كشف تعالى عنه فقال: * (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) * وفي انتصاب قوله * (درجة) * وجوه: الأول: أنه يحذف الجار، والتقدير بدرجة فلما حذف الجار وصل الفعل فعمل الثاني: قوله * (درجة) * أي فضيلة، والتقدير: وفضل الله المجاهدين فضيلة كما يقال زيد أكرم عمرا إكراما والفائدة في التنكير والتفخيم.
الثالث: قوله
8

* (درجة) * نصب على التمييز.
ثم قال: * (وكلا وعد الله الحسنى) * أي وكلا من القاعدين والمجاهدين فقد وعده الله الحسنى وقال الفقهاء: وفيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية، وليس على كل واحد بعينه لأنه تعالى وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين، ولو كان الجهاد واجبا على التعيين لما كان القاعد أهلا لوعد الله تعالى إياه الحسنى.
ثم قال تعالى: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في انتصاب قوله: * (أجرا) * وجهان: الأول: انتصب بقوله: * (وفضل) * لأنه في معنى قولهم: آجرهم أجرا، ثم قوله: * (درجات منه ومغفرة ورحمة) * بدل من قوله: * (أجرا) *. الثاني: انتصب على التمييز و * (درجات) * عطف بيان * (ومغفرة ورحمة) * معطوفان على * (درجات) *.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إنه تعالى ذكر أولا * (درجة) *، وههنا * (درجات) *، وجوابه من وجوه: الأول: المراد بالدرجة ليس هو الدرجة الواحدة بالعدد، بل بالجنس، والواحد بالجنس يدخل تحته الكثير بالنوع، وذلك هو الأجر العظيم، والدرجات الرفيعة في الجنة المغفرة والرحمة. الثاني: أن المجاهد أفضل من القاعد الذي يكون من الأضراء بدرجة، ومن القاعد الذي يكون من الأصحاء بدرجات، وهذا الجواب إنما يتمشى إذا قلنا بأن قوله: * (غير أولى الضرر) * لا يوجب حصول المساواة بين المجاهدين وبين القاعدين الأضراء. الثالث: فضل الله المجاهدين في الدنيا بدرجة واحدة وهي الغنيمة، وفي الآخرة بدرجات كثيرة في الجنة
بالفضل والرحمة والمغفرة. الرابع: قال في أول الآية * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) * ولا يمكن أن يكون المراد من هذا المجاهد هو المجاهد بالمال والنفس فقط، وإلا حصل التكرار، فوجب أن يكون المراد منه من كان مجاهدا على الإطلاق في كل الأمور، أعني في عمل الظاهر، وهو الجهاد بالنفس والمال والقلب وهو أشرف أنواع المجاهدة، كما قال عليه السلام: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله إلى الاستغراق في طاعة الله، ولما كان هذا المقام أعلى مما قبله لا جرم جعل فضيلة الأول درجة، وفضيلة هذا الثاني درجات.
المسألة الثالثة: قالت الشيعة: دلت هذه الآية على أن علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل من أبي بكر، وذلك لأن عليا كان أكثر جهادا، فالقدر الذي فيه حصل التفاوت كان أبو بكر من
9

القاعدين فيه، وعلي من القائمين، وإذا كان كذلك وجب أن يكون علي أفضل منه لقوله تعالى: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) * فيقال لهم: إن مباشرة علي عليه السلام لقتل الكفار كانت أكثر من مباشرة الرسول لذلك، فليزمكم بحكم هذه الآية أن يكون علي أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقوله عاقل، فإن قلتم إن مجاهدة الرسول مع الكفار كانت أعظم من مجاهدة علي معهم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجاهد الكفار بتقرير الدلائل والبينات وإزالة الشبهات والضلالات، وهذا الجهاد أكمل من ذلك الجهاد، فنقول: فاقبلوا منا مثله في حق أبي بكر، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه لما أسلم في أول الأمر سعى في إسلام سائر الناس حتى أسلم على يده عثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون، وكان يبالغ في ترغيب الناس في الإيمان وفي الذب عن محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه وبماله، وعلي في ذلك الوقت كان صبيا ما كان أحد يسلم بقوله، وما كان قادرا على الذب عن محمد عليه الصلاة والسلام، فكان جهاد أبي بكر أفضل من جهاد علي فإنما ظهر في المدينة في الغزوات، وكان الإسلام في ذلك الوقت قويا. والثاني: أن جهاد أبي بكر كان بالدعوة إلى الدين، وأكثر أفاضل العشرة إنما أسلموا على يده، وهذا النوع من الجهاد هو حرفة النبي عليه الصلاة والسلام وأما جهاد علي فإنما كان بالقتل، ولا شك أن الأول أفضل.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: دلت الآية على أن نعيم الجنة لا ينال إلا بالعمل لأن التفاوت في العمل لما أوجب التفاوت في الثواب والفضيلة دل ذلك على أن علة الثواب هو العمل، وأيضا لو لم يكن العمل موجبا للثواب لكان الثواب هبة لا أجرا، لكنه تعالى سماه أجرا، فبطل القول بذلك، فيقال لهم: لم لا يجوز أن يقال: العمل علة الثواب لكن لا لذاته، بل بجعل الشارع ذلك العمل موجبا له. المسألة الخامسة: قالت الشافعية: دلت الآية على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح، لأنا بينا أن الجهاد فرض على الكفاية بدليل قوله: * (وكلا وعد الله الحسنى) * ولو كان الجهاد من فروض الأعيان لما كان القاعد عن الجهاد موعودا من عند الله بالحسنى. إذا ثبت هذا فنقول: إذا قامت طائفة بالجهاد سقط الفرض عن الباقين، فلو أقدموا عليه كان ذلك من النوافل لا محالة، ثم إن قوله: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) * يتناول جميع المجاهدين سواء كان جهاده واجبا أو مندوبا، والمشتغل بالنكاح قاعد عن الجهاد، فثبت أن الاشتغال
10

بالجهاد المندوب أفضل من الاشتغال بالنكاح والله أعلم.
* (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وسآءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنسآء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه بعقاب من قعد عنه ورضي بالسكون في دار الكفر، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء: إن شئت جعلت * (توفاهم) * ماضيا ولم تضم تاء مع التاء، مثل قوله: * (إن البقر تشابه علينا) * (البقرة: 70) وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخبارا عن حال أقوام معينين انقرضوا ومضوا، وإن شئت جعلته مستقبلا، والتقدير: إن الذين تتوفاهم الملائكة، وعلى هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة.
المسألة الثانية: في هذا التوفي قولان: الأول: وهو قول الجمهور معناه تقبض أرواحهم عند الموت. فإن قيل: فعلى هذا القول كيف الجمع بينه وبين قوله تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * (الزمر: 42) * (الذي خلق الموت والحياة) * (الملك: 2) * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) * (البقرة: 28) وبين قوله: * (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) * (السجدة: 11).
قلنا: خالق الموت هو الله تعالى، والرئيس المفوض إليه هذا العمل هو ملك الموت
11

وسائر الملائكة أعوانه.
القول الثاني: * (توفاهم الملائكة) * يعني يحشرونهم إلى النار، وهو قول الحسن.
المسألة الثالثة: في خبر (إن) وجوه: الأول: أنه هو قوله: قالوا لهم فيم كنتم، فحذف " لهم " لدلالة الكلام عليه. الثاني: أن الخبر هو قوله: * (فأولئك مأواهم جهنم) * فيكون (قالوا لهم) في موضع * (ظالمي أنفسهم) *، لأنه نكرة. الثالث: أن الخبر محذوف وهو هلكوا، ثم فسر الهلاك بقوله: * (قالوا فيم كنتم) * أما قوله تعالى: * (ظالمي أنفسهم) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: * (ظالمي أنفسهم) * في محل النصب على الحال، والمعنى تتوفاهم الملائكة في حال ظلمهم أنفسهم، وهو وإن أضيف إلى المعرفة إلا أنه نكرة في الحقيقة، لأن المعنى على الانفصال، كأنه قيل ظالمين أنفسهم، لا أنهم حذفوا النون طلبا للخفة، واسم الفاعل سواء أريد به الحال أو الاستقبال فقد يكون مفصولا في المعنى وإن كان موصولا في اللفظ، وهو كقوله تعالى: * (هذا عارض ممطرنا) * (الأحقاف: 24) * (هديا بالغ الكعبة) * (المائدة: 95) * (
ثاني عطفه) * (الحج: 9) فالإضافة في هذه المواضع كلها لفظية لا معنوية.
المسألة الثانية: الظلم قد يراد به الكفر قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) وقد يراد به المعصية * (فمنهم ظالم لنفسه) * (فاطر: 32) وفي المراد بالظلم في هذه قولان: الأول: أن المراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام. الثاني: أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا، فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى المدينة، فبين الله تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة.
وأما قوله تعالى: * (قالوا فيم كنتم) * ففيه وجوه: أحدها: فيم كنتم من أمر دينكم. وثانيها: فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه. وثالثها: لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار؟ ثم قال تعالى: * (قالوا كنا مستضعفين في الأرض) * جوابا عن قولهم * (فيم كنتم) * وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، أو لم نكن في شيء.
وجوابه: أن معنى * (فيم كنتم) * التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كما مستضعفين اعتذارا عما وبخوا به، واعتلالا بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة، ثم إن الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر بل ردوه عليهم فقالوا: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون
12

فيها من إظهار دينكم، فبقيتم بين الكفار لا للعجز عن مفارقتهم، بل مع القدرة على هذه المفارقة، فلا جرم ذكر الله تعالى وعيدهم فقال: * (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) *
ثم استثنى تعالى فقال: * (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة) * ونظيره قول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني ويجوز أن يكون * (لا يستطيعون) * في موضع الحال، والمعنى لا يقدرون على حيلة ولا نفقة، أو كان بهم مرض، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم من تلك المهاجرة. ثم قال: * (ولا يهتدون سبيلا) * أي لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلهم على الطريق.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة فقال جندب بن ضمرة لبنيه: احملوني فإني ليست من المستضعفين، ولا أني لا أهتدي الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، وكان شيخا كبيرا، فمات في الطريق.
فإن قيل: كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد، فإن الاستثناء إنما يحسن لو كانوا مستحقين للوعيد على بعض الوجوه؟ قلنا: سقوط الوعيد إذا كان بسبب العجز، والعجز تارة يحصل بسبب عدم الأهبة وتارة بسبب الصبا، فلا جرم حسن هذا إذا أريد بالولدان الأطفال، ولا يجوز أن يراد المراهقون منهم الذين كملت عقولهم لتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله تعالى، وإن أريد العبيد والإماء البالغون فلا سؤال.
ثم قال تعالى: * (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) * وفيه سؤال، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة، والعاجز عن الشيء غير مكلف به، وإذا لم يكن مكلفا به لم يكن عليه في تركه عقوبة، فلم قال: * (عسى الله أن يعفو عنهم) * والعفو لا يتصور إلا مع الذنب، وأيضا * (عسى) * كلمة الإطماع، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم.
والجواب عن الأول: أن المستضعف قد يكون قادرا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك، ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزا مع أنه لا يكون كذلك، ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزا مع أنه لا يكون كذلك، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام.
13

وأما السؤال الثاني: وهو قوله: ما الفائدة في ذكر لفظة * (عيسى) * ههنا؟ فنقول: الفائدة فيها الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف الحال في غيره. هذا هو الذي ذكره صاحب " الكشاف " في الجواب عن هذا السؤال، إلا أن الأولى أن يكون الجواب ما قدمناه، وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزا عنها مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة * (عسى) * لا بالكلمة الدالة على القطع.
ثم قال تعالى: * (وكان الله عفوا غفورا) * ذكر الزجاج في * (كان) * ثلاثة أوجه: الأول: كان قبل أن خلق الخلق موصوفا بهذه الصفة. الثاني: أنه قال * (كان) * مع أن جميع العباد بهذه الصفة والمقود بيان أن هذه عادة الله تعالى أجراها في حق خلقه. الثالث: لو قال: إنه تعالى عفو غفور كان هذا إخبارا عن كونه كذلك فقط، ولما قال إنه كان كذلك كان هذا إخبارا وقع مخبره على وفقه فكان ذلك أدل على كونه صدقا وحقا ومبرأ عن الخلف والكذب. واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة فإنه لو لم يحصل ههنا شيء من الذنب لامتنع حصول العفو والمغفرة فيه، فلما أخبر بالعفو والمغفرة دل على حصول الذنب، ثم إنه تعالى وعد بالعفو مطلقا غير مقيد بحال التوبة فيدل على ما ذكرناه.
* (ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الارض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) *.
واعلم أن ذلك المانع أمران: الأول: أن يكون له في وطنه نوع راحة ورفاهية، فيقول لو فارقت الوطن وقعت في الشدة والمشقة وضيق العيش، فأجاب الله عنه بقوله: * (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) * يقال: راغمت الرجل إذا فعلت ما يكرهه ذلك الرجل، واشتقاقه من الرغام وهو التراب، فإنهم يقولون: رغم أنفه، يريدون به أنه وصل إليه
14

شيء يكرهه، وذلك لأن الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة، فجعلوا قولهم: رغم أنفه كناية عن الذل. إذا عرفت هذا فنقول: المشهور أن هذه المراغمة إنما حصلت بسبب أنهم فارقوا وخرجوا عن ديارهم.
وعندي فيه وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذ استقام أمره في تلك البلدة الأجنبية، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك، وحمل اللفظ على هذا أقرب من حمله على ما قالوه والله أعلم.
والحاصل كأنه قيل: يا أيها الإنسان إنك كنت إنما تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر، فلا تخف فإن الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب العظيمة في مهاجرتك ما يصير سببا لرغم أنوف أعدائك، ويكون سببا لسعة عيشك، وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج الإنسان الذي يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم عليه بدولته من حيث إنها تصير سببا لرغم أنوف الأعداء، أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث أنها صارت سببا لسعة العيش عليه.
وأما المانع الثاني من الإقدام على المهاجرة فهو أن الإنسان يقول: إن خرجت عن بلدي في طلب هذا الغرض، فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه، فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة بسبب طلب شيء ربما أصل إليه، وربما لا أصل إليه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) * والمعنى ظاهر، وفي الآية مسائل. المسألة الأولى: قال بعضهم: المراد من قصد طاعة الله ثم عجز عن إتمامها، كتب الله له ثواب تمام تلك الطاعة: كالمريض يعجز عما كان يفعله في حال صحته من الطاعة، فيكتب له ثواب ذلك العمل هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل، وأما أجر تمام العمل فذلك محال، واعلم أن القول الأول أولى لأنه تعالى إنما ذكر هذه الآية ههنا في معرض الترغيب في الجهاد، وهو أن من خرج إلى السفر لأجل الرغبة في الهجرة، فقد وجد ثواب الهجرة، ومعلوم أن الترغيب إنما يحصل بهذا المعنى، فأما القول بأن معنى الآية هو أن يصل إليه ثواب ذلك القدر من العمل، فلا يصلح مرغبا، لأنه قد عرف أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر من العمل، ويدل عليه
15

قوله عليه الصلاة والسلام: " وإنما لك امرئ ما نوى " وأيضا ما روي في قصة جندب بن ضمرة، أنه لما قرب موته أخذ يصفق بيمينه على شماله، ويقول: اللهم هذه لك، وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك، ثم مات فبلغ خبره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لو توفي بالمدينة لكان خيرا له، فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن العمل يوجب الثواب على الله، لأنه تعالى قال: * (فقد وقع أجره على الله) * وذلك يدل على قولنا من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ذكر لفظ الوقوع، وحقيقة الوجوب هي الوقوع والسقوط، قال تعالى: * (فإذا وجبت جنوبها) * (الحج: 26) أي وقعت وسقطت. وثانيها: أنه ذكر بلفظ الأجر، والأجر عبارة عن المنفعة المستحقة، فأما الذي لا يكون مستحقا فذاك لا يسمى أجرا بل هبة. وثالثها: قوله: * (على الله) * وكلمة * (على) * للوجوب، قال تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * (آل عمران: 97) والجواب: أننا لا ننازع في الوجوب، لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم، لا بحكم الاستحقاق الذي لو لم يفعل لخرج عن الإلهية، وقد ذكرنا دلائله فيما تقدم.
المسألة الثالثة: استدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة، كما وجب أجره. وهذا ضعيف، لأن لفظ الآية مخصوص بالأجر، وأيضا فاستحقاق السهم من الغنيمة متعلق بحيازتها، إذ لا تكون غنيمة إلا بعد حيازتها، قال تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شيء) * (الأنفال: 41) والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وكان الله غفورا رحيما) * أي يغفر ما كان منه من القعود إلى أن يخرج، ويرحمه بإكمال أجر المجاهدة.
* (وإذا ضربتم فى الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) *.
اعلم أن أحد الأمور التي يحتاج المجاهد إليها معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف، والاشتغال بمحاربة العدو؛ فلهذا المعنى ذكره الله تعالى في هذه الآية، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: يقال قصر فلان صلاته وأقصرها وقصرها، كل ذلك جائز
16

وقرأ ابن عباس: تقصروا من أقصر، وقرأ الزهري: من قصر، وهذا دليل على اللغات الثلاث. المسألة الثانية: اعلم أن لفظ القصر مشعر بالتخفيف، لأنه ليس صريحا في أن المراد هو القصر في كمية الركعات وعددها أو في كيفية أدائها، فلا جرم حصل في الآية قولان: الأول: أن المراد منه صلاة المسافر، وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات، فإنها تصير في السفر ركعتين، فعلى هذا القصر إنما يدخل في صلاة الظهر والعصر والعشاء، أما المغرب والصبح، فلا يدخل فيهما القصر. الثاني: أنه ليس المراد بهذه الآية صلاة السفر، بل صلاة الخوف، وهو قول ابن عباس وجابر بن عبد الله وجماعة، قال ابن عباس: فرض الله صلاة
الحضر أربعا، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فهذان القولان متفرعان على ما إذا قلنا: المراد من القصر تقليل الركعات. القول الثاني: أن المراد من القصر إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات، وهو أن يكتفي في الصلاة بالإيماء والإشارة بدل الركوع والسجود، وأن يجوز المشي في الصلاة، وأن تجوز الصلاة عند تلطخ الثوب بالدم، وذلك هو الصلاة التي يؤتى بها حال شدة التحام القتال، وهذا القول يروى عن ابن عباس وطاوس. واحتج هؤلاء على صحة هذا القول بأن خوف الفتنة من العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على إتمام أوصافهما، وإنما ذلك فيما يشتد فيه الخوف في حال التحام القتال، وهذا ضعيف، لأنه يمكن أن يقال: إن صلاة المسافر إذا كانت قليلة الركعات، فيمكنه أن يأتي بها على وجه لا يعلم خصمه بكونه مصليا، أما إذا كثرت الركعات طالت المدة ولا يمكنه أن يأتي بها على حين غفلة من العدو.
واعلم أن وجه الاحتمال ما ذكرنا، وهو أن القصر مشعر بالتخفيف، والتخفيف كما يحصل بحذف بعض الركعات فكذلك يحصل بأن يجعل الإيماء والإشارة قائما مقام الركوع والسجود.
واعلم أن حمل لفظ القصر على إسقاط بعض الركعات أولى، ويدل عليه وجوه: الأول: ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كيف نقصر وقد أمنا، وقد قال الله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) * فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " وهذا يدل على القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات، وأن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية. الثاني: أن القصر عبارة عن أن يؤتي ببعض الشيء، ويقتصر عليه، فأما أن يؤتى بشيء
17

آخر، فذلك لا يسمى قصرا، ولا اقتصارا، ومعلوم أن إقامة الإيماء مقام الركوع والسجود، وتجويز المشي في الصلاة وتجويز الصلاة مع الثوب الملطخ بالدم، ليس شيء من ذلك قصرا، بل كلها إثبات لأحكام جديدة وإقامة لشيء مقام شيء آخر، فكان تفسير القصر بما ذكرنا أولى. الثالث: أن * (من) * في قوله * (من الصلاة) * للتبعيض، وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة، فثبت بهذه الوجوه أن تفسير القصر بإسقاط بعض الركعات أولى من تفسيره بما ذكروه من الإيماء والإشارة. الرابع: أن لفظ القصر كان مخصوصا في عرفهم بنقص عدد الركعات، ولهذا المعنى لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين، قال ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ الخامس: أن القصر بمعنى تغير الصلاة مذكور في الآية التي بعد هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية بيان القصر بمعنى الركعات، لئلا يلزم التكرار، والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله: القصر رخصة، فإن شاء المكلف أتم، وإن شاء اكتفى على القصر، وقال أبو حنيفة: القصر واجب، فإن صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته، وإن قعد بينهما مقدار التشهد تمت صلاته، واحتج الشافعي رحمه الله على قوله بوجوه: الأول: أن ظاهر قوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * مشعر بعدم الوجوب، فإنه لا يقال * (فليس عليكم جناح) * في أداء الصلاة الواجبة، بل هذا اللفظ إنما يذكر في رفع التكليف بذلك الشيء، فأما إيجابه على التعيين فهذا اللفظ غير مستعمل فيه، أما أبو بكر الرازي فأجاب عنه بأن المراد من القصر في هذه الآية لا تقليل الركعات، بل تخفيف الأعمال.
وأعلم أنا بينا بالدليل أنه لا يجوز حمل الآية على ما ذكره، فسقط هذا العذر.
وذكر صاحب " الكشاف " وجها آخر فيه، فقال: إنهم لما ألفوا الاتمام، فربما كان يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر، فيقال له: هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم: رخصت لكم في هذا القصر، أما إذا قال: أوجبت عليكم هذا القصر، وحرمت عليكم الاتمام، وجعلته مفسدا لصلاتكم، فهذا الاحتمال مما لا يخطر ببال عاقل أصلا، فلا يكون هذا الكلام لائقا به.
الحجة الثانية: ما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت: اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فلما قدمت مكة قلت يا رسول الله: بأبي أنت وأمي، قصرت وأتممت وصمت وأفطرت، فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب علي، وكان عثمان يتم ويقصر، وما ظهر إنكار من الصحابة عليه.
18

الحجة الثالثة: أن جميع رخص السفر شرعت على سبيل التجويز، لا على سبيل التعيين جزما فكذا ههنا، واحتجوا بالأحاديث منها ما روى عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال فيه " سدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " فظاهر الأمر للوجوب، وعن أبي عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا صلى ركعتين. والجواب: أن هذه الأحاديث تدل على كون القصر مشروعا جائزا، إلا أن الكلام في أنه هل يجوز غيره؟ ولما دل لفظ القرآن على جواز غيره كان القول به أولى، والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
وأعلم أن لفظ الآية يبطل هذا، وذلك لأنا بينا أن المراد من القصر المذكور في الآية تخفيف الركعات، ولو كان الأمر ما ذكروه لما كان هذا قصرا في صلاة السفر، بل كان ذلك زيادة في صلاة الحضر، والله أعلم.
المسألة الخامسة: زعم داود وأهل الظاهر أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم يحصل فيه الرخصة. احتج أهل الظاهر بالآية فقالوا: إن قوله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * جملة مركبة من شرط، وجزاء الشرط هو الضرب في الأرض، والجزاء هو جواز القصر، وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاء سواء كان الشرط الذي هو السفر طويلا أو قصيرا،
أقصى ما في الباب أن يقال: فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة، ومن دار إلى دار، إلا أنا نقول: الجواب عنه من وجهين: الأول: أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض، فقد زال الاشكال، وإن سمي بذلك فنقول: أجمع المسلمون على أنه غير معتبر، فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع، والعام بعد التخصيص حجة، فوجب أن يبقى النص معتبرا في السفر، سواء كان قليلا أو كثيرا. والثاني: أن قوله: * (وإذا ضربتم في الأرض) * يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطا لحصول هذه الرخصة، فلو كان الضرب في الأرض اسما لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلا دائما، لأن الإنسان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد، ومن المسجد إلى السوق، وإذا كان حاصلا دائما امتنع جعله شرطا لثبوت هذا الحكم، فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطا لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال
19

وذلك هو الذي يسمى سفرا ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد، فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر، أما الفقهاء فقالوا: أجمع السلف على أن أقل السفر مقدر، قالوا: والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات:
فالرواية الأولي: ما روي عن عمر أنه قال: يقصر في يوم تام، وبه قال الزهري والأوزاعي. الثانية: قال ابن عباس: إذا زاد على يوم وليلة قصر. والثالثة: قال أنس بن مالك: المعتبر خمس فراسخ. الرابعة: قال الحسن: مسيرة ليلتين. الخامسة: قال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المداين، وهي مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول أبي حنيفة.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سافر إلى موضع يكون مسيرة يومين وأكثر اليوم الثالث جاز القصر، وهكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف ومحمد. السادسة: قال مالك والشافعي: أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ، كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل إثنا عشر ألف قدم، وهي أربعة آلاف خطوة، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة قال الفقهاء: فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر، قال أهل الظاهر: اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل، يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلا قويا في تقدير المدة، إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب، وأما سكوت سائر الصحابة عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنهم اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر، فكان هذا الحكم ثابتا في مطلق السفر بحكم هذه الآية، وإذا كان الحكم مذكورا في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط، فلهذا سكتوا عن هذه المسألة.
وأعلم أن أصحاب أبي حنيفة عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على قوله عليه الصلاة والسلام يمسح المسافر ثلاثة أيام، وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافرا، وإذا لم يكن مسافرا لم يحصل الرخص المشروعة في السفر، وأما أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإنهم عولوا على ما روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان، قال أهل الظاهر: الكلام عليه من وجوه: الأول: أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهو عندنا غير جائز لوجهين: الأول: إن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم، والقرآن مقطوع المتن، والخبر مظنون المتن، فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر، فترجيح
20

الضعيف على القوي لا يجوز. والثاني: أنه روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إذا روي حديث عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه "، دل هذا الخبر على أن كل خبر ورد على مخالفة كتاب الله تعالى فهو مردود، فهذا الخبر لما ورد على مخالفة عموم الكتب وجب أن يكون مردودا. الوجه الثاني: في دفع هذه الأخبار، وهو أنها أخبار آحاد وردت في واقعة تعم الحاجة إلى معرفة حكمها فوجب كونها مردودة، إنما قلنا: إن الحاجة إليها عامة لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي الغزو، فلما كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر، كانت الحاجة إلى مقدار السفر المفيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين، ولو كان الأمر كذلك لعرفوها ولنقلوها نقلا متواترا، لا سيما وهو على خلاف ظاهر القرآن، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن هذه أخبار ضعيفة مردودة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز ترك ظاهر القرآن بسببها. الثالث: أن دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة، وإذا تعارضت تساقطت، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن، هذا تمام الكلام في هذا الموضع. والذي عندي في هذا الباب أن يقال: إن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان إلا كون الشرط مستعقبا لذلك الجزاء في جميع الأوقات فهذا غير لازم، بدليل أنه إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، أو إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مرة وقع الطلاق، وإذا دخلت الدار ثانيا لا يقع وهذا يدل على أن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان العموم البتة، وإذا ثبت هذا سقط استدلال أهل الظاهر بالآية، فإن الآية لا تفيد إلا أن الضرب في الأرض يستعقب مرة واحدة هذه الرخص وعندنا الأمر كذلك فيما إذا كان السفر طويلا، فأما السفر القصير فإنما يدخل تحت الآية لو قلنا أن كلمة (إذا) للعموم، ولما ثبت أنه ليس الأمر كذلك فقط سقط هذا الاستدلال، وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل التي تمسك بها المجتهدون بمقدار معين ليست واقعة على خلاف ظاهر القرآن فكانت مقبولة صحيحة، والله أعلم.
المسألة السادسة: زعم داود وأهل الظاهر أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف. واحتجوا بأنه تعالى أثبت هذا الحكم مشروطا بالخوف، وهو قوله * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * والمشروط بالشيء عدم عند عدم ذلك الشرط، فوجب أن لا يحصل جواز القصر عند الأمن. قالوا: ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر من أخبار الآحاد، لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز، ولقد صعب هذا الكلام على قوله ذكروا فيه
21

وجوها متكلفة في الآية ليتخلصوا عن هذا الكلام. وعندي أنه ليس في هدا غموض، وذلك لأنا بينا في تفسير قوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * (
النساء: 31) أن كلمة (إن) وكلمة (إذا) يفيدان أن عند حصول الشرط يحصل المشروط، ولا يفيدان أن عند عدم الشرط يلزم عدم المشروط، واستدللنا على صحة هذا الكلام بآيات كثيرة، وإذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: * (إن خفتم) * يقتضي أن عند حصول الخوف تحصل الرخصة، ويقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل الرخصة، وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن بالنفي وبالإثبات، وإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتا لحكم سكت عنه القرآن بخبر الواحد، وذلك غير ممتنع، إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دل عليه القرآن، ونحن لا نقول به.
فإن قيل: فعلى هذا لما كان هذا الحكم ثابتا حال الأمن وحال الخوف، فما الفائدة في تقييده بحال الخوف؟ قلنا: إن الآية نزلت في غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو، فذكر الله هذا الشرط من حيث أنه هو الأغلب في الوقوع، ومن الناس من أجاب عنه بأن القصر المذكور في الآية المراد منه الاكتفاء بالإيماء والإشارة بدلا عن الركوع والسجود، وذلك هو الصلاة حال شدة الخوف، ولا شك أن هذه الصلاة مخصوصة بحال الخوف، فإن وقت الأمن لا يجوز الإتيان بهذه الصلاة، ولا تكون محرمة ولا صحيحة، والله أعلم.
ثم يقال لأهل الظاهر: إن ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا يجوز القصر إلا عند حصول الخوف الحاصل من فتنة الكفار، وأما لو حصل الخوف بسبب آخر وجب أن لا يجوز القصر، فإن التزموا ذلك سلموا من الطعن، إلا أنه بعيد، وإن لم يلتزموه توجه النقص عليهم، لأنه تعالى قال: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * وذلك يقتضي أن الشرط هو هذا الخوف المخصوص، ولهم أن يقولوا: إما أن يقال: حصل إجماع الصحابة والأمة على أن مطلق الخوف كاف، أو لم يحصل الإجماع، فإن حصل الإجماع فنقول: خالفنا ظاهر القرآن بدلالة الإجماع، وهو دليل قاطع فلم تجز مخالفته بدليل ظني، وإن لم يحصل الإجماع فقد زال السؤال، لأنا نلتزم أنه لا يجوز القصر إلا مع هذا الخوف المخصوص، والله أعلم.
أما قوله: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * ففي تفسير هذه الفتنة قولان: الأول: خفتم أن يفتنوكم عن إتمام الركوع والسجود في جميعها. الثاني: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بعداوتهم، والحاصل أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة.
22

ثم قال تعالى: * (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) * والمعنى أن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة، والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين وازدادت عداوتهم، وبسبب شدة العداوة أقدموا على محاربتكم وقصد إتلافكم إن قدروا، فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم، فعلى هذا رخصت لكم في قصر الصلاة، وإنما قال * (عدوا) * ولم يقل أعداء، لأن العدو يستوي فيه الواحد والجمع، قال تعالى: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) * (الشعراء: 77).
* (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا * فإذا قضيتم الصلوة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلوة إن الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) *
23

أعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة حال قصر الصلاة بحسب الكمية في العدد، بين في هذه الآية حالها في الكيفية، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو يوسف والحسن بن زياد: صلاة الخوف كانت خاصة للرسول صلى الله عليه وسلم ولا تجوز لغيره، وقال المزني: كانت ثابتة ثم نسخت. واحتج أبو يوسف على قوله بوجهين: الأول: أن قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) * ظاهره يقتضي أن إقامة هذه الصلاة مشروطة بكون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، لأن كلمة " إذا " تفيد الاشتراط الثاني: أن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل، إلا أنا جوزنا ذلك في حق الرسول صلى الله عليه وسلم لتحصل للناس فضيلة الصلاة خلفه، وأما في حق غير الرسول عليه الصلاة والسلام فهذا المعنى غير حاصل، لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول، فلا يحتاج هناك إلى تغيير هيئة الصلاة، وأما سائر الفقهاء فقالوا: لما ثبت هدا الحكم في حق النبي صلى الله عليه وسلم بحكم هذه الآية وجب أن يثبت في حق غيره لقوله تعالى: * (واتبعوه) * (الأعراف: 158) ألا ترى أن قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) * (التوبة: 103) لم يوجب كون الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصا به دون غيره من الأمة بعده، وأما التمسك بإدراك فضيلة الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فليس يجوز أن يكون علة لإباحة تغيير الصلاة، لأنه لا يجوز أن يكون طلب الفضيلة يوجب ترك الفرض، فاندفع هذا الكلام والله أعلم.
المسألة الثانية: شرح صلاة الخوف هو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بهم ركعة واحدة، ثم إذا فرغوا من الركعة فكيف يصنعون؟ فيه أقوال: الأول: أن تلك الطائفة يسلمون من الركعة الواحدة ويذهبون إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى ويصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم، وهذا مذهب من يرى أن صلاة الخوف للإمام ركعتان، وللقوم ركعة، وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد. الثاني: أن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم، ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين، وهذا قول الحسن البصري. الثالث: أن يصلي الإمام مع الطائفة الأولى ركعة تامة، ثم يبقى الإمام قائما في الركعة الثانية إلى أن تصلي هذه الطائفة ركعة أخرى، ويتشهدون ويسلمون ويذهبون إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية ويصلون مع الإمام قائما في الركعة الثانية ركعة، ثم يجلس الإمام في التشهد إلى أن تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية، ثم يسلم الإمام بهم، وهذا قول سهل بن أبي حثمة ومذهب الشافعي. الرابع: أن الطائفة الأولى يصلي الإمام بهم ركعة
24

ويعودون إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بقراءة وينصرفون إلى
وجه العدو، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة، والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة، وهم في حكم من خلف الإمام، وأما الثانية فلم تدرك أول الصلاة، والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته، وهذا قول عبد الله بن مسعود، ومذهب أبي حنيفة.
وأعلم أنه وردت الروايات المختلفة بهذه الصلاة، فلعله صلى الله عليه وسلم صلى بهم هذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصلحة، وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أي هذه الأقسام، أما الواحدي رحمه الله فقال: الآية مخالفة للروايات التي أخذ بها أبو حنيفة، وبين ذلك من وجهين: الأول: أنه تعالى قال: * (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا) * وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلت عند إتيان الثانية، وعند أبي حنيفة ليس الأمر كذلك، لأن الطائفة الثانية عنده تأتي والأولى بعد في الصلاة وما فرغوا منها. الثاني: أن قوله * (فليصلوا معك) * ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام لأن مطلق قولك: صليت مع الإمام يدل على أنك أدركت جميع الصلاة معه، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك، وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا: الآية مطابقة لقولنا، لأنه تعالى قال: * (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) * وهذا يدل على أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة، ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة، وأجاب الواحدي عنه فقال: هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة، وليس الأمر كذلك، بل هو لطائفتين السجود للأولى، والكون من ورائكم الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية والله أعلم. ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول: قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم) * أي وإذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم * (فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) * والمعنى فاجعلهم طائفتين، فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم وليأخذوا أسلحتهم، والضمير إما للمصلين وإما لغيرهم، فإن كان للمصلين فقالوا: يأخذون من السلام ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر، وذلك لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم، وإن كان لغير المصلين فلا كلام فيه. ويحتمل أن يكون ذلك أمرا للفريقين بحمل السلام لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط.
ثم قال: * (فإذا سجدوا فليكونوا) * يعني غير المصلين * (من ورائكم) * يحرسونكم، وقد ذكرنا أن أداء الركعة الأولى مع الإمام في صلاة الخوف كهو في صلاة الأمن، إنما التفاوت يقع في أداء الركعة الثانية فيه، وقد ذكرنا
25

مذاهب الناس فيها.
ثم قال: * (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) * وقد بينا أن هذه الآية دالة على صحة قول الشافعي.
ثم قال: * (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) * والمعنى أنه تعالى جعل الحذر وهو التحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ وجعلا مأخوذين.
قال الواحدي رحمه الله: وفيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة. فإن قيل: لم ذكر في الآية الأولى * (أسلحتهم) * فقط، وذكر في هذه الآية حذرهم وأسلحتهم. قلنا: لأن في أول الصلاة قلما يتنبه العدو لكون المسلمين في الصلاة، بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة أما في الركعة الثانية فقد ظهر للكفار كونهم في الصلاة، فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير فقال: * (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) *.
ثم قال تعالى: * (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتهم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) * أي بالقتال. عن أبي عباس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه الظهر، ورأى المشركون ذلك، فقالوا بعد ذلك: بئسما صنعنا حيث لم نقدم عليهم، وعزموا على ذلك عند الصلاة الأخرى، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أسرارهم بهذه الآية: ثم قال تعالى: * (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم) * والمعنى أنه إن تعذر حمل السلاح إما لأنه يصيبه بلل المطر فيسود وتفسد حدته، أو لأن من الأسلحة ما يكون مبطنا فيثقل على لابسه إذا ابتل بالماء، أو لأجل أن الرجل كان مريضا فيشق عليه حمل السلام، فههنا له أن يضع حمل السلاح.
ثم قال: * (وخذوا حذركم) * والمعنى أنه لما رخص لهم في وضع السلاح حال المطر وحال المرض أمرهم مرة أخرى بالتيقظ والتحفظ والمبالغة في الحذر، لئلا يجترئ العدو عليهم احتيالا في الميل عليهم واستغناما منهم لوضع المسلمين أسلحتهم، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن قوله في أول الآية * (وليأخذوا أسلحتهم) * أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فيقتضي أن يكون أخذ السلاح واجبا ثم تأكد هذا بدليل آخر، وهو أنه قال: * (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو وراء هاتين الحالتين يكون الإثم والجناح حاصلا بسبب وضع السلاح. ومنهم من قال: إنه سنة مؤكدة، والأصح ما بيناه
26

ثم الشرط أن لا يحمل سلاحا نجسا إن أمكنه، ولا يحمل الرمح إلا في طرف الصف، وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد.
المسألة الثانية: قال أبو على الجرجاني صاحب النظم: قوله تعالى: * (وخذوا حذركم) * يدل على أنه كان يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا غير غافل عن كيد العدو. والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر، لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة، فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة، ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم، فلا جرم أمروا بأن يصيروا طائفتين: طائفة في وجه العدو، وطائفة مع النبي عليه الصلاة والسلام مستقبل القبلة، وأما حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان وببطن نخل فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين، وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة، والمسلمون كانوا مستقبلين لها، فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود، فلا جرم لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم، فلما فرغوا من السجود وقاموا تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني، فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى: * (خذوا
حذركم) * يدل على جواز هذه الوجوه؛ والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكرارا محضا من غير فائدة، ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن وإنه غير جائز، والله أعلم.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: إن الله تعالى أمر بالحذر، وذلك يدل على كون العبد قادرا على الفعل وعلى الترك وعلى جميع وجوه الحذر، وذلك يدل على أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى، وجوابه ما تقدم من المعارضة بالعلم والداعي والله أعلم.
المسألة الرابعة: دلت الآية على وجوب الحذر عن العدو، فيدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والعلاج باليد والاحتراز عن الوباء وعن الجلوس تحت الجدار المائل واجبا والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) * وفيه سؤال، أنه كيف طابق الأمر بالحذر قوله * (إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) * وجوابه: أنه تعالى لما أمر بالحذر عن العدو أوهم ذلك قوة العدو وشدتهم، فأزال الله تعالى هذا الوهم بأن أخبر أنه يهينهم ويخذلهم ولا ينصرهم البتة حتى يقوي قلوب المسلمين ويعلموا أن الأمر بالحذر ليس لما لهم من القوة والهيبة، وإنما هو لأجل أن يحصل الخوف في قلب المؤمنين، فحينئذ يكونون متضرعين إلى الله تعالى في أن يمدهم بالنصر
27

والتوفيق، ونظيره قوله تعالى: * (إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) * (الأنفال: 45). ثم قال تعالى: * (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) * وفيه قولان: الأول: فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه، الثاني: أن المراد بالذكر الصلاة، يعني صلوا قياما حال اشتغالكم بالمسابقة والمقارعة، وقعودا حال اشتغالكم بالرمي، وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض، فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها فأقيموا الصلاة، فاقضوا ما صليتم في حال المسابقة. هذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسابقة إذا حضر وقتها، وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء إلا أن على هذا القول إشكالا، وهو أن يصير تقدير الآية: فإذا قضيتم الصلاة فصلوا، وذلك بعيد لأن حمل لفظ الذكر على الصلاة مجاز فلا يصار إليه إلا لضرورة.
ثم قال تعالى: * (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) * واعلم أن هذه الآية مسبوقة بحكمين: أولهما: بيان القصر وهو صلاة السفر، والثاني: صلاة الخوف، ثم إن قوله * (فإذا اطمأننتم) * يحتمل نقيض الأمرين، فيحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مسافرا بل يصير مقيما، وعلى هذا التقدير يكون المراد: فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر البتة، ويحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مضطرب القلب، بل يصير ساكن القلب ساكن النفس بسبب أنه زال الخوف، وعلى هذا التقدير يكون المراد: فإذا زال الخوف عنكم فأقيموا الصلاة على الحالة التي كنتم تعرفونها، ولا تغيروا شيئا من أحوالها وهيآتها، ثم لما بالغ الله سبحانه وتعالى في شرح أقسام الصلاة فذكر صلاة السفر، ثم ذكر بعد ذلك صلاة الخوف ختم هذه الآية بقوله * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * أي فرضا موقتا، والمراد بالكتاب ههنا المكتوب كأنه قيل: مكتوبة موقوتة، ثم حذف الهاء من الموقوت كما جعل المصدر موضع المعفو والمصدر مذكر، ومعنى الموقوت أنها كتبت عليهم في أوقات موقتة، يقال: وقته ووقته مخففا، وقرئ * (وإذا الرسل وقتت) * (المرسلات: 11) بالتخفيف.
واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أن وجوب الصلاة مقدر بأوقات مخصوصة، إلا أنه تعالى أجمل ذكر الأوقات ههنا وبينها في سائر الآيات، وهي خمسة: أحدها: قوله تعالى * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * (البقرة: 238) فقوله * (الصلوات) * يدل على وجوب صلوات ثلاثة، وقوله * (والصلاة الوسطى) * يمنع أن يكون أحد تلك الثلاثة وإلا لزم التكرار، فلا بد وأن تكون زائدة على الثلاثة
28

ولا يجوز أن يكون الواجب أربعة، وإلا لم يحصل فيها وسطى، فلا بد من جعلها خمسة لتحصل الوسطى، وكما دلت هذه الآية على وجوب خمس صلوات دلت على عدم وجوب الوتر، وإلا لصارت الصلوات الواجبة ستة، فحينئذ لا تحصل الوسطى فهذه الآية دلت على أن الواجب خمس صلوات إلا أنها غير دالة على بيان أوقاتها. وثانيها: قوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر) * (الإسراء: 78) فالواجب من الدلوك إلى الغسق هو الظهر والعصر، والواجب من الغسق إلى الفجر هو المغرب والعشاء والواجب في الفجر هو صلاة الصبح، وهذه الآية توهم أن للظهر والعصر وقتا واحدا وللمغرب والعشاء وقتا واحدا. وثالثها: قوله سبحانه * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) * (الروم: 17) والمراد منه الصلاتان الواقعتان في طرفي النهار وهما المغرب والصبح، ثم قال * (وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون) * (الروم: 18) فقوله * (وعشيا) * المراد منه الصلاة الواقعة في محض الليل وهي صلاة العشاء، وقوله * (وحين تظهرون) * المراد الصلاة الواقعة في محض النهار، وهي صلاة الظهر كما قدم في قوله * (حين تمسون وحين تصبحون) * (الروم: 17) صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر، فكذلك قدم في قوله * (وعشيا وحين تظهرون) * صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر، فصارت الصلوات الأربعة مذكورة في هذه الآية، وأما صلاة العصر فقد أفردها الله تعالى بالذكر في قوله * (والعصر) * تشريفا لها بالإفراد بالذكر. ورابعها: قوله تعالى: * (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل) * (هود: 114) فقوله * (طرفي النهار) * يفيد وجوب صلاة الصبح وجوب صلاة العصر لأنهما كالواقعتين على الطرفين، وإن كانت صلاة الصبح واقعة قبل حدوث الطرف الأول وصلاة العصر واقعة قبل حدوث الطرف الثاني. وقوله * (وزلفا من الليل) * يفيد وجوب المغرب والعشاء، وكان بعضهم يستدل بهذه الآية على وجوب الوتر قال: لأن الزلف جمع، وأقله ثلاثة، فلا بد وأن يجب ثلاث صلوات في الليل عملا بقوله * (وزلفا من الليل) * وخامسها: قوله تعالى * (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح) * فقوله * (قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) * (طه: 130) إشارة إلى الصبح والعصر، وهو كقوله * (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل) * (هود: 114) وقوله * (ومن آناء الليل) * إشارة إلى المغرب والعشاء، وهو كقوله
* (وزلفا من الليل) * وكما احتجوا بقوله * (وزلفا من الليل) * فكذلك احتجوا عليه بقوله * (ومن آناء الليل) * لأن قوله آناء الليل جمع وأقله ثلاثة، فهذا مجموع الآيات الدالة على الأوقات الخمسة للصلوات الخمس.
واعلم أن تقدير الصلوات بهذه الأوقات الخمسة في نهاية الحسن والجمال نظرا إلى المعقول، وبيانه أن لكل شيء من أحوال هذا العالم مراتب خمسة: أولها: مرتبة الحدوث والدخول في الوجود، وهو كما يولد الإنسان ويبقى في النشو والنماء إلى مدة معلومة، وهذه المدة تسمى سن
29

النشو والنماء.
والمرتبة الثانية: مدة الوقوف، وهو أن يبقى ذلك الشيء على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان وهذه المدة تسمى سن الشباب.
والمرتبة الثالثة: مدة الكهولة، وهو أن يظهر في الإنسان نقصانات ظاهرة جلية إلى أن يموت ويهلك، وتسمى هذه المدة سن الشيخوخة.
المرتبة الخامسة: أن تبقى آثاره بعد موته مدة، ثم بالآخرة تنمحي تلك الآثار وتبطل وتزول، ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر، فهذه المراتب الخمسة حاصلة لجميع حوادث هذا العالم سواء كان إنسانا أو غيره من الحيوانات أو النباتات، والشمس حصل لها بحسب طلوعها وغروبها هذه الأحوال الخمس، وذلك لأنها حين تطلع من مشرقها يشبه حالها حال المولود عندما يولد، ثم لا يزال يزداد ارتفاعها ويقوى نورها ويشتد حرها إلى أن تبلغ إلى وسط السماء، فتقف هناك ساعة ثم تنحدر ويظهر فيها نقصانات خفية إلى وقت العصر، ثم من وقت العصر يظهر فيها نقصانات ظاهرة فيضعف ضوؤها ويضعف حرها، ويزداد انحطاطها وقوتها إلى الغروب، ثم إذا غربت يبقى بعض آثارها في أفق المغرب وهو الشفق، ثم تنمحي تلك الآثار وتصير الشمس كأنها ما كانت موجودة في العالم، فلما حصلت هذه الأحوال الخمسة لها وهي أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا جرم أوجب الله تعالى عند كل واحد من هذه الأحوال الخمسة لها صلاة، فأوجب عند قرب الشمس من الطلوع صلاة الفجر شكرا للنعمة العظيمة الحاصلة بسبب زوال تلك الظلمة وحصول النور، وبسبب زوال النوم الذي هو كالموت وحصول اليقظة التي هي كالحياة، ولما وصلت الشمس إلى غاية الارتفاع ثم ظهر فيها أثر الانحطاط أوجب صلاة الظهر تعظيما للخالق القادر على قلب أحوال الأجرام العلوية والسفلية من الضد إلى الضد، فجعل الشمس بعد غاية ارتفاعها واستعلائها منحطة عن ذلك العلو وآخذة في سن الكهولة، وهو النقصان الخفي، ثم لما انقضت مدة الكهولة ودخلت في أول زمان الشيخوخة أوجب تعالى صلاة العصر.
ونعم ما قال الشافعي رحمه الله: أن أول العصر هو أن يصير ظل كل شيء مثليه، وذلك لأن من هذا الوقت تظهر النقصانات الظاهرة، ألا ترى أن من أول وقت الظهر إلى وقت العصر على قول الشافعي رحمه الله ما ازداد الظل إلا مثل الشيء، ثم إن في زمان الطيف يصير ظله مثليه، وذلك يدل على
30

أن من الوقت الذي يصير ظل الشيء مثلا له تأخذ الشمس في النقصانات الظاهرة، ثم إذا غربت الشمس أشبهت هذه الحالة ما إذا مات الإنسان، فلا جرم أوجب الله تعالى عند هذه الحالة صلاة المغرب، ثم لما غرب الشفق فكأنه انمحت آثار الشمس ولم يبق منها في الدنيا خبر ولا أثر، فلا جرم أوجب الله تعالى صلاة العشاء، فثبت أن إيجاب الصلوات الخمس في هذه الأوقات الخمسة مطابق للقوانين العقلية والأصول الحكمية، والله أعلم بأسرار أفعاله.
* (ولا تهنوا فى ابتغآء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض الأحكام التي يحتاج المجاهد إلى معرفتها عاد مرة أخرى إلى الحث على الجهاد فقال * (ولا تهنوا) * أي ولا تضعفوا ولا تتوانوا * (في ابتغاء القوم) * أي في طلب الكفار بالقتال، ثم أورد الحجة عليهم في ذلك فقال: فلما لم يصر خوف الألم مانعا لهم عن قتالكم فكيف صار مانعا لكم عن قتالهم، ثم زاد في تقرير الحجة وبين أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين، لأن المؤمنين مقرون بالثواب والعقاب والحشر والنشر، والمشركين لا يقرون بذلك، فإذا كانوا مع إنكارهم الحشر والنشر يجدون في القتال فأنتم أيها المؤمنون المقرون بأن لكم في هذا الجهاد ثوابا عظيما وعليكم في تركه عقابا عظيما، أولى بأن تكونوا مجدين في هذا الجهاد، وهو المراد من قوله تعالى: * (وترجون من الله ما لا يرجون) * ويحتمل أيضا أن يكون المراد من هذا الرجاء ما وعدهم الله تعالى في قوله * (ليظهره على الدين كله) * (التوبة: 33) (الفتح: 28) (الصف: 9) وفي قوله * (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * (الأنفال: 64) وفيه وجه ثالث، وهو أنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير فيصح منكم أن ترجوا ثوابه، وأما المشركون فإنهم يعبدون الأصنام وهي جمادات، فلا يصح منهم أن يرجوا من تلك الأصنام ثوابا أو يخافوا منها عقابا. وقرأ الأعرج * (أن تكونوا تألمون) * بفتح الهمزة بمعنى: ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون، وقوله * (فإنهم يألمون كما تألمون) * تعليل. ثم قال: * (وكان الله عليما حكيما) * أي لا يكلفكم شيئا ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما هو عالم بأنه
31

سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم
* (إنآ أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله ولا تكن للخآئنين خصيما * واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما) *.
في كيفية النظم وجوه: الأول: أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة، واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية، مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف، رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين، وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم الحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب. والوجه الثاني في بيان النظم: أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه. الوجه الثالث: أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر لا يبيح
المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اتفق المفسرون على أن أكثر هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق، ثم في كيفية الواقعة روايات: أحدها: أن طعمة سرق درعا فلما طلبت الدرع منه رمى واحدا من اليهود بتلك السرقة، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يعينهم على هذا المقصود وأن يلحق هذه الخيانة باليهودي، فهم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك فنزلت الآية، وثانيها: أن واحدا وضع عنده درعا على سبيل الوديعة ولم يكن هناك شاهد، فلما طلبها منه جحدها. وثالثها: أن المودع لما طلب الوديعة زعم أن اليهودي سرق الدرع
32

واعلم أن العلماء قالوا هذا يدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين، وإلا لما طلبوا من الرسول نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان، ومما يؤكد ذلك قوله تعالى: * (وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء) * (النساء: 113) ثم روي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد وثقب حائطا هناك لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات.
المسألة الثانية: قال أبو علي الفارسي: قوله * (أراك الله) * إما أن يكون منقولا بالهمزة من رأيت التي يراد بها رؤية البصر، أو من رأيت التي تتعدى إلى المفعولين، أو من رأيت التي يراد بها الاعتقاد، والأول باطل لأن الحكم في الحادثة لا يرى بالبصر، والثاني أيضا باطل لأنه يلزم أن يتعدى إلى ثلاثة لا إلى المفعولين بسبب التعدية، ومعلوم أن هذا اللفظ لم يتعد إلا إلى مفعولين أحدهما: الكاف التي هي للخطاب، والآخر المفعول المقدر، وتقديره: بما أراكه الله، ولما بطل الاسمان بقي الثالث، وهو أن يكون المراد منه رأيت بمعنى الاعتقاد.
المسألة الثالثة: اعلم أنه ثبت بما قدمنا أن قوله * (بما أراك الله) * معناه بما أعلمك الله، وسمي ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور، وكان عمر يقول: لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه، وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنا ولا يكون علما. إذا عرفت هذا فنقول: قال المحققون: هذه الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالوحي والنص. وإذا عرفت هذا فنقول: تفرع عليه مسألتان: إحداهما: أنه لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالنص، فوجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله تعالى: * (واتبعوه (الأعراف: 158) وإذا كان كذلك وجب أن يكون العمل بالقياس حراما. والجواب عنه أنه لما قامت الدلالة على أن القياس حجة كان العمل بالقياس عملا بالنص في الحقيقة، فإنه يصير التقدير كأنه تعالى قال: مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر جامع بين الصورتين فاعلم أن تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن، وإذا كان الأمر كذلك كان العمل بهذا القياس عملا بعين النص.
أما قوله: * (ولا تكن للخائنين خصيما) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى الآية: ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما لمن كان بريئا عن الذنب، يعني
33

لا تخاصم اليهود لأجل المنافقين.
المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه الله: خصمك الذي يخاصمك، وجمعه الخصماء، وأصله من الخصم وهو ناحية الشيء وطرفه، والخصم طرف الزاوية وطرف الأشفار، وقيل للخصمين خصمان لأن كل واحد منهما في ناحية من الحجة والدعوى، وخصوم السحابة جوانبها.
المسألة الثالثة: قال الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام: دلت هذه الآية على صدور الذنب من الرسول عليه السلاة والسلام، فإنه لولا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذب عنه وإلا لما ورد النهي عنه.
والجواب: أن النهي عن الشيء ة يقتضي كون المنهي فاعلا للمنهي عنه، بل ثبت في الرواية أن قوم طعمة لما التمسوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يذب عن طعمة وأن يلحق السرقة باليهودي توقف وانتظر الوحي فنزلت هذه الآية، وكان الغرض من هذا النهي تنبيه النبي عليه الصلاة والسلام على أن طعمة كذاب، وأن اليهودي برئ عن ذلك الجرم.
فإن قيل: الدليل على أن ذلك الجرم قد وقع من النبي عليه الصلاة والسلام قوله بعد هذه الآية * (واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما) * فلما أمره الله بالاستغفار دل على سبق الذنب.
والجواب من وجوه: الأول: لعله مال طبعه إلى نصرة طعمة بسبب أنه كان في الظاهر من المسلمين فأمر بالاستغفار لهذا القدر، وحسنات الأبرار سيئات المقربين. والثاني: لعل القوم لما شهدوا على سرقة اليهودي وعلى براءة طعمة من تلك السرقة ولم يظهر للرسول عليه الصلاة والسلام ما يوجب القدح في شهادتهم هم بأن يقضي بالسرقة على اليهودي، ثم لما أطلعه الله تعالى على كذب أولئك الشهود عرف أن ذلك القضاء لو وقع لكان خطأ، فكان استغفاره بسبب أنه هم بذلك الحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه وإن كان معذورا عند الله فيه. الثالث: قوله * (واستغفر الله) * يحتمل أن يكون المراد: واستغفر الله لأولئك الذين يذبون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته عن السرقة ثم قال تعالى:
* (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) *.
والمراد بالذين يختانون أنفسهم طعمة ومن عاونه من قومه ممن علم كونه سارقا، والاختيان كالخيانة
34

يقال: خانه واختانه، وذكرنا ذلك عند قوله تعالى: * (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) * (البقرة: 187) وإنما قال تعالى لطعمة ولمن ذب عنهم: إنهم يختانون
أنفسهم لأن من أقدم على المعصية قفد حرم نفسه الثواب وأوصلها إلى العقاب، فكان ذلك منه خيانة مع نفسه، ولهذا المعنى يقال لمن ظلم غيره: إنه ظلم نفسه.
وأعلم أن في الآية تهديدا شديدا، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما مال طبعه قليلا إلى جانب طعمة، وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقا، فالله تعلى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالما ثم يعينه على ذلك الظلم، بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب.
ثم قال تعالى: * (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) * قال المفسرون: إن طعمة خان في الدرع، وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة فلا جرم قال الله تعالى: * (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) *.
فإن قيل: لم قال * (خوانا أثيما) * مع أن الصادر عنه خيانة واحدة وإثم واحد. قلنا: علم الله تعالى أنه كان في طبع ذلك الرجل الخيانة الكثيرة والإثم الكثير، فذكر اللفظ الدال على المبالغة بسبب ما كان في طبعه من الميل إلى ذلك، ويدل عليه ما رويناه أنه بعد هذه الواقعة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائط إنسان لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات، ومن كان خاتمته كذلك لم يشك في خيانته، وأيضا طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدفع السرقة عنه ويلحقها باليهودي، وهذا يبطل رسالة الرسول، ومن حاول إبطال رسالة الرسول وأراد إظهار كذبه فقد كفر، فلهذا المعنى وصفه الله بالمبالغة في الخيانة والإثم.
وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات.
عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمة تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه، فقال كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول الأمر، وأعلم أنه تعالى لما خص هذا الوعيد بمن كان عظيم الخيانة والإثم دل ذلك على أن من كان قليل الخيانة والإثم فهو خارج عنه ثم قال تعالى:
* (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا) *
الاستخفاء في اللغة معناه الاستتار، يقال استخفيت من
35

فلان، أي تواريت منه واستترت.
قال تعالى: * (ومن هو مستخف بالليل) * (الرعد: 10) أي مستتر، فقوله: * (يستخفون من الناس) * أي يستترون من الناس ولا يستترون من الله. قال ابن عباس: يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله. قال الواحدي: هذا معنى وليس بتفسير، وذلك لأن الاستحياء من الناس يوجب الاستتار من الناس والاستخفاء منهم، فأما أن يقال: الاستحياء هو نفس الاستخفاء فليس الأمر كذلك، وقوله: * (وهو معهم) * يريد بالعلم والقدرة والرؤية، وكفى هذا زاجرا للإنسان عن المعاصي، وقوله: * (إذ يبيتون ما لا يرضي من القول) * أي يضمرون ويقدرون في أذهانهم وذكرنا معنى التبييت في قوله: تبيت طائفة منهم) * (النساء: 81) والذي لا يرضاه الله من القول هو أن طعمة قال: أرمي اليهودي بأنه هو الذي سرق الدرع وأحلف أني لم أسرقها، فيقبل الرسول يميني لأني على دينه ولا يقبل يمين اليهودي.
فإن قيل: كيف سمي التبييت قولا وهو معنى في النفس؟ قلنا: مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس، وعلى هذا المذهب فلا إشكال، ومن أنكر كلام النفس فله أن يجيب بأن طعمة وأصحابه لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية الحيلة والمكر، فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه، فأما قوله * (وكان الله بما يعملون محيطا) * فالمراد الوعيد من حيث إنهم وإن كانوا يخفون كيفية المكر والخداع عن الناس إلا أنها كانت ظاهرة في علم الله، لأنه تعالى محيط بجميع المعلومات لا يخفى عليه سبحانه منها شيء ثم قال تعالى:
* (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم فى الحيوة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا) *
ثم قال تعالى: * (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة) * * (ها) * للتنبيه في * (ها أنتم) * و * (هؤلاء) * وهما مبتدأ وخبر * (جادلتم) * جملة مبينة لوقوع * (أولاء) * اسما موصولا بمعنى الذي و * (جادلتم) * صلة، وأما الجدال فهو في اللغة عبارة عن شدة المخاصمة، وجدل الحبل شدة فتلة، ورجل مجدول كأنه فتل، والأجدل الصقر لأنه من أشد الطيور قوة. هذا قول الزجاج. وقال غيره: سميت المخاصمة جدالا لأن كل واحد من المخصمين يريد ميل صاحبه عما هو عليه وصرفه عن رأيه.
36

إذا عرفت هذا فنقول: هذا خطاب مع قوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه بسبب أنهم كانوا في الظاهر من المسلمين، والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن الذين يخاصمون عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه. وقرأ عبد الله بن مسعود: ها أنتم هؤلاء جادلتم عنه، يعني عن طعمة، وقوله * (فمن يجادل الله عنهم) * استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع.
ثم قال تعالى: * (أم من يكون عليهم وكيلا) * فقوله: * (أم من يكون) * عطف على الاستفهام السابق، والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر في الحفظ والحماية، والمعنى: من الذي يكون محافظا ومحاميا لهم من عذاب الله؟ وأعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب أتبعه بالدعوة إلى التوبة، وذكر فيه ثلاثة أنواع من الترغيب فالأول:
* (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) *
والمراد بالسوء القبيح الذي يسوء به غيره كما فعل طعمة من سرقة الدرع ومن رمي اليهودي بالسرقة والمراد بظلم النفس ما يختص به الإنسان كالحلف الكاذب، وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن ذلك يكون في الأكثر إيصالا للضرر إلى الغير، والضرر سوء حاضر، فأما الذنب الذي يخص الإنسان فذلك في الأكثر لا يكون ضررا حاضرا لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه.
وأعلم أن هذه الآية دالة على حكمين: الأول: أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب سواء كانت كفرا أو قتلا، عمدا أو غصبا للأموال لأن قوله * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه) * عم الكل الثاني: أن ظاهر الآية يقتضي أن مجرد الاستغفار كاف، وقال بعضهم: أنه مقيد بالتوبة لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار، وقوله * (يجد الله غفورا رحيما) * معناه غفورا رحيما له، وحذف هذا القيد لدلالة الكلام عليه، فإنه لا معنى للترغيب في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك. والنوع الثاني: من الكلمات المرغبة في التوبة قوله تعالى:
37

* (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما) *
والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة، ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك والمقصود منه ترغيب العاصي في الاستغفار كأنه تعالى يقول: الذنب الذي أتيت به ما عادت مضرته إلي فإنني منزه عن النفع والضرر، ولا تيأس من قبول التوبة والاستغفار * (وكان الله عليما) * بما في قلبه عند إقدامه على التوبة * (حكيما) * تقتضي حكمته ورحمته أن يتجاوز عن التائب.
النوع الثالث: قوله تعالى:
* (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد حتمل بهتانا وإثما مبينا) *
وذكروا في الخطيئة والإثم وجوها: الأول: أن الخطيئة هي الصغيرة، والإثم هو الكبيرة وثانيها: الخطيئة هي الذنب القاصر على فاعلها، والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل. وثالثها: الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو بالخطأ، والإثم ما يحصل بسبب العمد، والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله * (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه) * (النساء: 111) فبين أن الإثم ما يكون سببا لاستحقاق العقوبة.
وأما قوله * (ثم يرم به بريئا) * فالضمير في * (به) * إلى ماذا يعود؟ فيه وجوه: الأول: ثم يرم بأحد هذين المذكورين. الثاني: أن يكون عائدا إلى الإثم وحده لأنه هو الأقرب كما عاد إلى التجارة في قوله * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) * الثالث: أن يكون عائدا إلى الكسب، والتقدير: يرم بكسبه بريئا، فدل يكسب على الكسب. الرابع: أن يكون الضمير راجعا إلى معنى الخطيئة فكأنه قال: ومن يكسب ذنبا ثم يرم به بريئا.
وأما قوله * (فقد احتمل بهتانا) * فالبهتان أن ترمي أخاك بأمر منكر وهو برئ منه.
وأعلم أن صاحب البهتان مذموم في الدنيا أشد الذم، ومعاقب في الآخرة أشد العقاب، فقوله * (فقد احتمل بهتانا) * إشارة إلى ما يلحقه من الذم العظيم في الدنيا، وقوله * (وإثما مبينا) * إشارة إلى
38

ما يلحقه من العقاب العظيم في الآخرة.
* (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طآئفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شىء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) *
ثم قال تعالى: * (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك) * والمعنى ولولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوة، وبالرحمة وهي العصمة لهمت طائفة منهم أن يضلوك، وذلك لأن قوم طعمة كانوا قد عرفوا أن سارق، ثم سألوا النبي عليه السلام أن يدفع ويجادل عنه ويبرئه عن السرقة، وينسب تلك السرقة إلى اليهودي، ومعنى يضلوك أي يلقوك في الحكم الباطل الخطأ.
ثم قال تعالى: * (وما يضلون إلا أنفسهم) * بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان، فهم لما أقدموا على هذه الأعمال فهم الذين يعملون عمل الضالين.
* (وما يضرونك من شيء) * فيه وجهان: الأول: قال القفال رحمه الله: وما يضرونك في المستقبل، فوعده الله تعالى في هذه الآية بإدامة العصمة له مما يريدون من إيقاعه في الباطل. الثاني: أن المعنى أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت في الباطل، لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال، وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر.
ثم قال تعالى: * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) * وأعلم أنا إن فسرنا قوله * (وما يضرونك من شيء) * بأن المراد أنه تعالى وعده بالعصمة في المستقبل كان قوله * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) * مؤكدا لذلك الوعد، يعني لما أنزل عليك الكتاب والحكمة وأمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات، وإن فسرنا تلك الآية بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان معذورا في بناء الحكم على الظاهر كان المعنى: وأنزل عليك الكتاب والحكمة وأوجب فيها بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر على الظاهر.
ثم قال تعالى: * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * قال القفال رحمه الله: هذه الآية تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المراد ما يتعلق بالدين، كما
39

قال * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * (الشورى: 52) وعلى هذا الوجه تقدير الآية: أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالما بشيء منهما، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك وإزلالك. الوجه الثاني: أن يكون المراد: وعلمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه كيدهم ما تقدر به على الاحتراز عن وجوه كيدهم ومكرهم، ثم قال * (وكان فضل
الله عليك عظيما) * وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب وذلك لأن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل، كما قال * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسرار: 85) ونصيب الشخص الواحد من علوم جميع الخلق يكون قليلا، ثم أنه سمى ذلك القليل عظيما حيث قال * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * وسمى جميع الدنيا قليلا حيث قال * (قل متاع الدنيا قليل) * (النساء: 77) وذلك يدل على غاية شرف العلم.
* (لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغآء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *
واعلم أن هذه إشارة إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضي من القول وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: النجوى في اللغة سر بين اثنين، يقال ناجيت الرجل مناجاة ونجاء، ويقال: نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى ناجيته، والنجوى قد تكون مصدرا بمنزلة المناجاة، قال تعالى * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) * (المجادلة: 7) وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون، قال تعالى * (وإذ هم نجوى) * (الإسراء: 47).
المسألة الثانية: قوله * (إلا من أمر بصدقة) * ذكر النحويون في محل * (من) * وجوها، وتلك
40

الوجوه مبنية على معنى النجوى في هذه الآية، فإن جعلنا معنى النجوى ههنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب، لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه فيكون نصبا كقوله * (إلا أذى) * (آل عمران: 111) ويجوز أن يكون رفعا في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس كقوله: إلا اليعافير وإلا العيس وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال: التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ثم حذف المضاف، وعلى هذا التقدي يكون * (من) * في محل النجوى لأنه أقيم مقامه، ويجوز فيه وجهان: إحداهما: الخفض بدل من نجواهم، كما تقول: ما مررت بأحد إلا زيد. والثاني: النصب على الاستثناء فكما تقول ما جاءني أحد إلا زيدا، وهذا استثناء الجنس من الجنس، وأما ان جعلنا النجوى اسما للقوم المتناجين كان منصوبا على الاستثناء لأنه استثناء الجنس من الجنس، ويجوز أن يكون * (من) * في محل الخفض من وجهين: أحدهما: أن تجعله تبعا لكثير، على معنى: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة، كقولك: لا خير في القوم إلا نفر منهم. والثاني: أن تجعله تبعا للنجوى، كما تقول: لا خير في جماعة من القوم إلا زيد، إن شئت أتبعت زيدا الجماعة، وإن شئت أتبعه القوم، والله أعلم.
المسألة الثالثة: هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة، والمراد: لا خير فما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير، ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع: الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والاصلاح بين الناس، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، أما إيصال الخير فاما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله * (إلا من أمر بصدقه) * وإما أن يكون من الخيرات الروحانية، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله * (أو معروف) * وأما إزالة الضرر فإليها الإشارة بقوله * (أو إصلاح بين الناس * (فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية، ومما يدل على صحة ما ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام: " كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله " وقيل لسفيان الثوري: ما أشد هذا الحديث! فقال سفيان: ألم تسمع الله يقول * (لا خير في كثير من نجواهم) * فهو هذا بعينه، أما سمعت الله يقول * (والعصر أن الإنسان لفي خسر) * (العصر: (1، 2) فهو هذا بعينه.
ثم قال تعالى: * (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * والمعنى أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها
41

إذا أتى لها لوجه الله ولطلب مرضاته، فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية فصارت من أعظم المفاسد، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى ونظيره قوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * (البينة: 5) وقوله * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * (النجم: 39) وقوله عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنيات " وههنا سؤالان: السؤال الأول: لم انتصب * (ابتغاء مرضات الله) *؟ والجواب: لأنه مفعول له، والمعنى لأنه لابتغاء مرضاة الله.
السؤال الثاني: كيف قال * (إلا من أمر) * ثم قال * (ومن يفعل ذلك) *.
والجواب: أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأن الأمر بالخير لما دخل في زمرة الخيرين فبأن يدخل فاعل الخير فيهم كان ذلك أولى، ويجوز أن يراد: ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر أيضا فعل من الأفعال.
* (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا) *
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو ما روي أن طعمة بن أبيرق لما رأى أن الله تعالى هتك ستره وبرأ اليهودي عن تهمة السرقة ارتد وذهب إلى مكة ونقب جدار إنسان لأجل السرقة فتهدم الجدار عليه ومات فنزلت هذه الآية. أما الشقاق والمشاققة فقد ذكرنا في سورة البقرة أنه عبارة عن كون كل واحد منهما في شق آخر من الأمر، أو عن كون كل واحد منهما فاعلا فعلا يقتضي لحوق مشقة بصاحبه، وقوله * (من بعد ما تبين له الهدى) * أي من بعد ما ظهر له بالدليل صحة دين الإسلام. قال الزجاج: لأن طعمة هذا كان قد تبين له بما أوحى الله تعالى من أمره وأظهر من سرقته ما دله ذلك على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فعادى الرسول وأظهر الشقاق وارتد عن دين الإسلام، فكان ذلك إظهار الشقاق بعد ما تبين له الهدى، قوله * (ويتبع غير سبيل المؤمنين) * يعني غير دين الموحدين، وذلك لأن طعمة ترك دين الإسلام واتبع دين عبادة الأوثان.
42

ثم قال * (نوله ما تولى) * أي نتركه وما اختار لنفسه، ونكله إلى ما توكل عليه. قال بعضهم: هذا منسوخ بآية السيف لا سيما في حق المرتد.
ثم قال * (ونصله جهنم) * يعني نلزمه جنهم، وأصله الصلاء وهو لزوم النار وقت الاستدفاء * (وساءت مصيرا) * انتصب * (مصيرا) * على التمييز كقولك: فلان طاب نفسا، وتصبب عرقا، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: روي أن الشافعي رضي الله عنه سئل عن آية في كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلثمائة مرة حتى وجد هذه الآية، وتقرير الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام، فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا، بيان المقدمة الأولى أنه تعالى الحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين، ومشاقة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد، فلو لم يكن اتباع غير سبيل المؤمنين موجبا له لكان ذلك ضما لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقل باقتضاء ذلك الوعيد وإنه غير جائز، فثبت أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتباع سبيلهم واجبا، وذلك لأن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين، فإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما لزم أن يكون عدم اتباع سبيل المؤمنين حراما، وإذا كان عدم اتباعهم حراما كان اتباعهم واجبا، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض.
فإن قيل: لا نسلم أن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين، فإنه لا يمتنع أن لا يتبع لا سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين.
وأجيب عن هذا السؤال بأن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل ما فعل الغير، فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يتبعوا سبيل المؤمنين فكل من لم يتبع سبيل المؤمنين فقد أتى بمثل فعل غير المؤمنين فوجب كونه متبعا لهم، ولقائل أن يقول: الاتباع ليس عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير وإلا لزم أن يقال: الأنبياء والملائكة متبعون لآحاد الخلق من حيث أنهم يوحدون الله كما أن كل واحد من آحاد الأمة يوحد الله، ومعلوم أن ذلك لا يقال، بل الاتباع عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير، وإذا كان كذلك فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين، فهذا سؤال قوي على هذا الدليل، وفيه أبحاث أخر دقيقة ذكرناها في كتاب
43

المحصول في علم الأصول والله أعلم.
المسألة الثانية: دلت هذه الآية على وجوب عصمة محمد صلى الله عليه وسلم عن جميع الذنوب، والدليل عليه أنه لو صدر عنه ذنب لجاز منعه، وكل من منع غيره عن فعل يفعله كان مشاققا له، لأن كل واحد منهما يكون في شق غير الشق الذي يكون الآخر فيه، فثبت أنه لو صدر الذنب عن الرسول لوجبت مشاقته، لكن مشاقته محرمة بهذه الآية فوجب أن لا يصدر الذنب عنه.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أنه يجب الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام في أفعاله إذ لو كان فعل الأمة غير فعل الرسول لزم كون كل واحد منهما في شق آخر من العمل فتحصل المشاقة، لكن المشاقة محرمة، فيلزم وجوب الاقتداء في أفعاله.
المسألة الرابعة: قال بعض المتقدمين: كل مجتهد مصيب في الأصول لا بمعنى أن اعتقاد كل واحد منهم مطابق للمعتقد، بل بمعنى سقوط الإثم عن المخطئ، واحتجوا على قولهم بهذه الآية قالوا: لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط، وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل تبين الهدى أن لا يكون الوعيد حاصلا.
وجوابه: وهو دلالة ظنية عند من يقول به، والدليل الدال على أن وعيد الكفار قطعي أنه تعالى قال بعد هذه الآية * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * (النساء: 116) والقاطع لا يعارضه المظنون.
المسألة الخامسة: الآية دالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلا بالدليل والنظر والاستدلال، وذلك لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى، ولو لم يكن تبين الهدى معتبرا في صحة الدين وإلا لم يكن لهذا الشرط معنى.
المسألة السادسة: الآية دالة على أن الهدى اسم للدليل لا للعلم، إذ لو كان الهدى اسما للعلم لكان تبين الهدى إضافة الشيء إلى نفسه وأنه فاسد.
* (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء ومن يشرك بالله فقد ضل
44

ضلالا بعيدا * إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا * لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا * ولاضلنهم ولأمنينهم ولامرنهم فليبتكن ءاذان الانعام ولامرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا * يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيهآ أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا) *.
اعلم أن هذه الآية مكررة في هذه السورة، وفي تكرارها فائدتان: الأولى: أن عمومات الوعيد وعمومات الوعد متعارضة في القرآن، وأنه تعلى ما أعاد آية من آيات الوعيد بلفظ واحد مرتين، وقد أعاد هذه الآية دالة على العفو والمغفرة بلفظ واحد في سورة واحدة، وقد اتفقوا على أنه لا فائدة في التكرير إلا التأكيد، فهذا يدل على أنه تعالى خص جانب الوعد والرحمة بمزيد التأكيد، وذلك يقتضي ترجيح الوعد على الوعيد. والفائدة الثانية: أن الآيات المتقدمة إنما نزلت في سارق الدرع، وقوله * (ومن يشاقق الرسول) * (النساء: 115) إلى آخر الآيات إنما نزلت في ارتداده، فهذه الآية إنما يحسن اتصالها بما قبلها لو كان المراد أن ذلك السارق لو لم يرتد لم يصر محروما عن رحمتي، ولكنه لما ارتد وأشرك بالله صار محروما قطع عن رحمة الله، ثم إنه أكد ذلك بأن شرح أن أمر الشرك عظيم عند الله فقال
45

* (ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) * يعني ومن لم يشرك بالله لم يكن ضلاله بعيدا، فلا جرم لا يصير محروما عن رحمتي، وهذه المناسبات دالة قطعا على دلالة هذه الآية على أن ما سوى الشرك مغفور قطعا سواء حصلت التوبة أو لم تحصل، ثم إنه تعالى بين كون الشرك ضلالا بعيدا فقال * (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله) * * (إن) * ههنا معناه النفي ونظيره قوله تعالى: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) * (النساء: 159) و *
(يدعون) * بمعنى يعبدون لأن من عبد شيئا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه، وقوله * (إلا إناثا) * فيه أقوال: الأول: أن المراد هو الألأثان وكانوا يسمونها باسم الإناث كقولهم: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، واللات تأنيث الله، والعزى تأنيث العزيز. قال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان، ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عائشة رضي الله عنها: إلا أوثانا، وقراءة ابن عباس: إلا أثنا، جمع وثن مثل أسد وأسد، ثم أبدلت من الواو المضمومة همزة نحو قوله * (وإذا الرسل أقتت) * (المرسلات: 11) قال الزجاج: وجائز أن يكون أثن أصلها أثن، فأتبعت الضمة الضمة. القول الثاني: قوله * (إلا إناثا) * أي إلا أمواتا، وفي تسمية الأموات إناثا وجهان: الأول: أن الأخبار عن الموات يكون على صيغة الأخبار عن الأنثى، تقول: هذه الأحجار تعجبني: كما تقول: هذه المرأة تعجبني. الثاني: أن الأنثى أخس من الذكر، والميت أخس من الحي، فلهذه المناسبة أطلقوا اسم الأنثى على الجمادات الموات. القول الثالث: أن بعضهم كان يعبد الملائكة، وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله قال تعالى: * (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى) * (النجم: 27) والمقصود من الآية هل إنسان أجهل ممن أشرك خالق السماوات والأرض وما بينهما جمادا يسميه بالأنثى. ثم قال: * (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) * قال المفسرون: كان في كل واحد من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم، وقال الزجاج: المراد بالشيطان ههنا إبليس بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية * (وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * ولا شك أن قائل هذا القول هو إبليس، ولا يبعد أن الذي تراءى للسدنة هو إبليس، وأما المريد فهو المبالغ في العصيان الكامل في البعد من الطاعة ويقال له: مارد ومريد، قال الزجاج: يقال: حائط ممرد أي مملس، ويقال شجرة مرداء إذا تناثر ورقها، والذي لم تنبت له لحية يقال له أمرد لكون موضع اللحية أملس، فمن كان شديد البعد عن الطاعة يقال له مريد ومارد لأنه مملس عن طاعة الله لم يلتصق به من هذه الطاعة شيء. ثم قال تعالى؛ * (لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * وفيه مسألتان.
46

المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": * (لعنه الله وقال لأتخذن) * صفتان بمعنى شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع.
واعلم أن الشيطان ههنا قد ادعى أشياء: أولها: قوله * (لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * الفرض في اللغة القطع، والفرضة الثلمة التي تكون في طرف النهر، والفرض الحز الذي في الوتر، والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر، والفريضة ما فرض الله على عباده وجعله حتما عليهم قطعا لعذرهم، وكذا قوله * (وقد فرضتم لهن فريضة) * (البقرة: 237) أي جعلتم لهن قطعة من المال. إذا عرفت هذا فنقول: معنى الآية أن الشيطان لعنه الله قال عند ذلك: لأتخذن من عبادك حظا مقدرا معينا، وهم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه، وفي التفسير عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من كل ألف واحد لله وسائره للناس ولإبليس ".
فإن قيل: النقل والعقل يدلان على أن حزب الشيطان أكثر عددا من حزب الله.
أما النقل: فقوله تعالى في صفة البشر * (فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) * (سبأ: 20) وقال حاكيا عن الشيطان * (لأحتنكن ذريته إلا قليلا) * (الإسراء: 62). وحكي عنه أيضا أنه قال * (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) * (ص: 82، 83) ولا شك أن المخلصين قليلون.
وأما العقل: فهو أن الفساق والكفار أكثر عددا من المؤمنين المخلصين، ولا شك أن الفساق والكفار كلهم حزب إبليس.
إذا ثبت هذا فنقول: لم قال * (لأتخذن من عبادك نصيبا) * مع أن لفظ النصيب لا يتناول القسم الأكثر، وإنما يتناول الأقل؟ والجواب: أن هذا التفاوت إنما يحصل في نوع الشر، أما إذا ضممت زمرة الملائكة مع غاية كثرتهم إلى المؤمنين كانت الغلبة للمؤمنين المخلصين، وأيضا فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد إلا أن منصبهم عظيم عند الله، والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين في العدد فهم كالعدم، فلهذا السبب وقع اسم النصيب على قوم إبليس. وثانيها: * (ولأضلنهم) * يعني عن الحق، قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على أصلين عظيمين من أصولنا. فالأصل الأول: المضل هو الشيطان، وليس المضل هو الله تعالى قالوا: وإنما قلنا: أن الآية تدل على أن المضل هو الشيطان لأن الشيطان ادعى ذلك والله تعالى ما كذبه فيه، ونظيره قوله * (لأغوينهم أجمعين) * وقوله * (لأحتنكن ذريته إلا قليلا) * وقوله * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) * (الأعراف: 16) وأيضا أنه تعالى ذكر وصفه بكونه مضلا للناس في معرض الذم له، وذلك يمنع من كون الإله
47

موصوفا بذلك. والأصل الثاني: وهو أن أهل السنة يقولون: الاضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال وقلنا: ليس الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال بدليل أن إبليس وصف نفسه بأنه مضل مع أنه بالإجماع لا يقدر على خلق الضلال.
والجواب: أن هذا كلام إبليس فلا يكون حجة، وأيضا أن كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب جدا، فتارة يميل إلى القدر المحض، وهو قوله * (لأغوينهم أجمعين) * وأخرى إلى الجبر المحض وهو قوله * (رب بما أغويتني) * (القصص: 39) وتارة يظهر التردد فيه حيث قال: * (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا) * (القصص: 63) يعني أن قول هؤلاء الكفار: نحن أغوينا فمن الذي أغوانا عن الدين؟ ولا بد من انتهاء الكل بالآخرة إلى الله. وثالثها: قوله * (ولأمنينهم) * واعلم أنه لما ادعى أنه يضل الخلق قال * (ولأمنينهم) * وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الاضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق، وطلب الأماني يورث شيئين: الحرص والأمل، والحرص والأمل يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان قال صلى الله عليه وسلم: " يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان الحرص والأمل " والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة، ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة. ورابعها: قوله * (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام) * البتك القطع، وسيف باتك أي قاطع، والتبتيك التقطيع.
قال الواحدي رحمه الله: التبتيك ههنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا، وحرموا
على أنفسهم الانتفاع بها.
وقال آخرون: المراد أنهم يقطعون آذان الأنعام نسكا في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق.
خامسها: قوله * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * وللمفسرين ههنا: قولان: الأول: أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله، وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك ومجاهد والسدي والنخعي وقتادة، وفي تقرير هذا القول وجهان: الأول: أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به، فمن كفر فقد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة " ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. والوجه الثاني: في تقرير هذا القول: أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراما
48

أو الحرام حلالا.
القول الثاني: حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر، وذكروا فيه وجوها الأول: قال الحسن: المراد ما روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الواصلات والواشمات " قال وذلك لأن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا. الثاني: روي عن أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أن معنى تغيير خلق الله ههنا هو الاخصاء وقطع الآذان وفقء العيون، ولهذا كان أنس يكره إخصاء الغنم، وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوروا عين فحلها. الثالث: قال ابن زيد هو التخنث، وأقول: يجب إدخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول، لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى، والسحق عبارة عن ذكر يشبه الأنثى، والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر الرابع: حكى الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل، وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون، فغيروا خلق الله، هذا جملة كلام المفسرين في هذا الباب ويخطر ببالي ههنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى، وذلك لأن دخول الضرر والمرض في الشيء يكون على ثلاثة أوجه: التشوش، والنقصان، والبطلان. فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في مرض الدين، وضرر الدين هو قوله * (ولأمنينهم) * وذلك لأن صاحب الأماني يشغل عقله وفكره في استخراج المعاني الدقيقة والحيل والوسائل اللطيفة في تحصيل المطالب الشهوانية والغضبية، فهذا مرض روحاني من جنس التشوش، وأما النقصان فالإشارة إليه بقوله * (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام) * وذلك لأن بتك الآذان نوع نقصان، وهذا لأن الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة، وأما البطلان فالإشارة إليه بقوله * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * وذلك لأن التغيير يوجب بطلان الصفة الحاصلة في المدة الأولى، ومن المعلوم أن من بقي مواظبا على طلب اللذات العاجلة معرضا عن السعادات الروحانية فلا يزال يزيد في قلبه الرغبة في الدنيا والنفرة عن الآخرة، ولا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغير القلب بالكلية فلا يخطر بباله ذكر الآخرة البتة، ولا يزول عن خاطره حب الدنيا البتة، فتكون حركته وسكونه وقوله وفعله لأجل الدنيا، وذلك يوجب تغيير الخلقة لأن الأرواح البشرية إنما دخلت في هذا العالم الجسماني على سبيل السفر، وهي متوجهة إلى عالم القيامة، فإذا نسيت معادها وألفت هذه المحسوسات
49

التي لا بد من انقضائها وفنائها كان هذا بالحقيقة تغييرا للخلقة، وهو كما قال تعالى: * (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) * (الحشر: 19) وقال * (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) * (الحج: 46).
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الشيطان دعاويه في الاغواء والضلال حذر الناس عن متابعته فقال: * (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) * واعلم أن أحدا لا يختار أن يتخذ الشيطان وليا من دون الله، ولكن المعنى أنه إذا فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به صار كأنه اتخذ الشيطان وليا لنفسه وترك ولاية الله تعالى، وإنما قال * (خسر خسرانا مبينا) * لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة الخالصة عن شوائب الضرر، وطاعة الشيطان تفيد المنافع الثلاثة المنقطعة المشوبة بالغموم والأحزان والآلام الغالبة، والجمع بينهما محال عقلا، فمن رغب في ولايته فقد فاته أشرف المطالب وأجلها بسبب أخس المطالب وأدونها، ولا شك أن هذا هو الخسار المطلق. ثم قال تعالى: * (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * واعلم أنا بينا في الآية المتقدمة أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب، وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره، فلا جرم نبه الله تعالى على ما هو العمدة في دفع تلك الأماني وهو أن تلك الأماني لا تفيد إلا الغرور، والغرور هو أن يظن الإنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ، ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار، وجميع أحوال الدنيا كذلك، والعاقل يجب عليه أن لا يلتفت إلى شيء منها، ومثال هذا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان أنه سيطول عمره وينال من الدنيا أمله ومقصوده، ويستولي على أعدائه، ويقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت له كما تيسرت لغيره، إلا أن كل ذلك غرور فإنه ربما لم يطل عمره، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه، وإن طال عمره ووجد مطلوبه على أحسن الوجوه فإنه لا بد وأن يكون عند الموت في أعظم أنواع الغم والحسرة فإن المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الألف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته أشد إيلاما وأعظم تأثيرا في حصول الغم والحسرة، فظهر أن هذه الآية منبهة على ما هو العمدة والقاعدة في هذا الباب.
وفي الآية وجه آخر: وهو أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية.
ثم قال تعالى: * (أولئك مأواهم جهنم) * واعلم أنا ذكرنا أن الغرور عبارة عن الحالة التي تحصل للإنسان عند وجدان ما يستحسن ظاهره إلا أنه يعظم تأذيه عند انكشاف الحال فيه، والاستغراق
50

في طيبات الدنيا والانهماك في معاصي الله سبحانه وإن كان في الحال لذيذا إلا أن عاقبته عذاب جهنم وسخط الله والبعد عن رحمته، فكان هذا المعنى مما يقوي ما تقدم ذكره من أنه ليس إلا الغرور.
ثم قال تعالى: * (ولا يجدون عنها محيصا) * المحيص المعدل والمفر.
قال الواحدي رحمه الله: هذه الآية تحتمل وجهين: أحدهما: أنه لا بد لهم من ورودها.
الثاني: التخليد الذي هو نصيب الكفار، وهذا غير بعيد لأن الضمير في قوله * (ولا يجدون) * عائد إلى الذين تقدم ذكرهم، وهم الذين قال الشيطان: لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا. والأظهر أن الذي يكون نصيبا للشيطان هم الكفار.
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا) *.
وأعلم أنه تعالى في أكثر آيات الوعد ذكر * (خالدين فيها أبدا) * ولو كان الخلود يفيد التأبيد والدوام للزم التكرار وهو خلاف الأصل، فعلمنا أن الخلود عبارة عن طول المكث لا عن الدوام، وأما في آيات الوعيد فإنه يذكر الخلود ولم يذكر التأبيد إلا في حق الكفار، وذلك يدل على أن عقاب الفساق منقطع.
ثم قال: * (وعد الله حقا) * قال صاحب " الكشاف ": هما مصدران: الأول: مؤكد لنفسه، كأنه قال: وعد وعدا وحقا مصدر مؤكد لغيره، أي حق ذلك حقا.
ثم قال: * (ومن أصدق من الله قيلا) * وهو توكيد ثالث بليغ.
وفائدة هذه التوكيدات معارضة ما ذكره الشيطان لأتباعه من المواعيد الكاذبة والأماني الباطلة، والتنبيه على أن وعد الله أولى بالقبول وأحق بالتصديق من قول الشيطان الذي ليس أحد أكذب منه، وقرأ حمزة والكسائي * (أصدق من الله قيلا) * باشمام الصاد الزاي، وكذلك كل صاد ساكنة بعدها دال في القرآن نحو * (قصد السبيل) * (النحل: 9) * (فاصدع بما تؤمر) * (الحجر: 94) والقيل: مصدر قال قولا وقيلا، وقال ابن السكيت: القيل والقال اسمان لا مصدران ثم قال تعالى:
* (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) *
قوله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الأمنية أفعولة من المنية، وتمام الكلام في هذا اللفظ مذكور في قوله تعالى
51

* (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنتيه) * (الحج: 52).
المسألة الثانية: * (ليس) * فعل، فلا بد من اسم يكون هو مسندا إليه، وفيه وجوه: الأول: ليس الثواب الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله * (سندخلهم جنات تجري) * (النساء: 122) الآية، بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، أي ليس يستحق بالأماني إنما يستحق بالإيمان والعمل الصالح. الثاني: ليس وضع الدين على أمانيكم. الثالث: ليس الثواب والعقاب بأمانيكم، والوجه الأول أولى لأن إسناد * (ليس) * إلى ما هو مذكور فيما قبل أولى من إسناده إلى ما هو غير مذكور.
المسألة الثالثة: الخطاب في قوله * (ليس بأمانيكم) * خطاب مع من؟ فيه قولان: الأول: أنه خطاب مع عبدة الأوثان، وأمانيهم أن لا يكون هناك جشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب، وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله، وأما أماني أهل الكتاب فهو قولهم * (لن يدخل الجنة " إلا من هو كان يهودا أو نصارى) * (البقرة: 111) وقولهم: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) فلا يعذبنا، وقولهم * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * (البقرة: 80).
القول الثاني: أنه خطاب مع المسلمين، وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر، وليس الأمر كذلك، فإنه تعالى يخص بالعفو والرحمة من يشاء كما قال * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 116) وروي أنه تفاخر المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا ناسخ الكتب، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم قال تعالى: * (من يعمل سوءا يجز به) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على أنه تعالى لا يعفو عن شيء من السيئات، وليس لقائل أن يقول: هذا يشكل بالصغائر فإنها مغفورة قالوا: الجواب عنه من وجهين: الأول: أن العام بعد التخصيص حجة، والثاني: أن صاحب الصغيرة قد انحبط من ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية، فههنا قد وصل جزاء تلك المعصية إليه.
أجاب أصحابنا عنه بأن الكلام على عموماته قد تقدم في تفسير قوله تعالى: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئة فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * (البقرة: 81) والذي نزيده في هذه الآية وجوه الأول: لم لا يجوز أن يكون المراد من هذا الجزاء ما يصل إلى الإنسان في الدنيا من الغموم والهموم والأحزان والآلام والأسقام، والذي يدل على صحة ما ذكرنا القرآن والخبر، أما القرآن فهو قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا) * (المائدة: 38) سمي ذلك القطع بالجزاء وأما الخبر فما روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض، أليس يصيبك الأذى فهو ما تجزون.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قرأ هذه الآية فقال: أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فقال: يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبته في جسده وما يؤذيه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئا، فقال عليه الصلاة والسلام: " أبشروا فإنه لا يصيب أحد منكم مصيبة في الدنيا إلا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه ".
الوجه الثاني في الجواب: هب أن ذلك الجزاء إنما يصل إليهم يوم لقيامة لكن لم لا يجوز أن يحصل الجزاء بنقص ثواب إيمانه وسائر طاعاته، ويدل عليه القرآن والخبر
والمعقول.
أما القرآن فقوله تعالى: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * (هود: 114).
52

وأما الخبر: فما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية شقت على المؤمنين مشقة شديدة، وقالوا يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فكيف الجزاء، فقال عليه الصلاة والسلام: " إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده أعشاره ". وأما المعقول: فهو أن ثواب الإيمان وجميع الطاعات أعظم لا محالة من عقاب الكبيرة الواحدة والعدل يقتضي أن يحط من الأكثر مثل الأقل، فيبقى حينئذ من الأكثر شيء زائد فيدخل الجنة بسبب تلك الزيادة.
الوجه الثالث في الجواب: أن هذه الآية إنما نزلت في الكفار، والذي يدل على ما ذكرناه أنه تعالى قال بعد هذه الآية * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أثنى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة) * (النساء: 124) فالمؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات، فوجب القطع بأنه يدخل الجنة بحكم هذه الآية، وقولهم: خرج عن كونه مؤمنا فهو باطل للدلائل الدالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن، مثل قوله * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * إلى قوله * (فإن بغت إحداهما على الأخرى) * (الحجرات: 9) سمي الباغي حال كونه باغيا مؤمنا، وقال: * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) * (البقرة: 187) سمي صاحب القتل العمد العدوان مؤمنا، وقال: * (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله) * (التحريم: 8) سماه مؤمنا حال ما أمره بالتوبة، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإذا كان مؤمنا كان قوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات) * حجة في أن المؤمن الذي يكون صاحب الكبيرة من أهل الجنة، فوجب أن يكون قوله * (من يعمل سوءا يجز به) * مخصوصا بأهل الكفر.
53

الوجه الرابع في الجواب: هب أن النص يعم المؤمن والكافر، ولكن قوله * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) أخص منه والخاص مقدم على العام، ولأن إلحاق التأويل بعمومات الوعيد أولى من إلحاقه بعمومات الوعد لأن الوفاء بالوعد كرم، وإهمال الوعيد وحمله على التأويل بالتعريض جود وإحسان.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن قوله * (من يعمل سوءا) * يتناول جميع المحرمات، فدخل فيه ما صدر عن الكفار مما هو محرم في دين الإسلام ثم قوله * (يجز به) * يدل على وصول جزاء كل ذلك إليهم.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون ذلك الجزاء عبارة عما يصل إليهم من الهموم والغموم في الدنيا. قلنا: إنه لا بد وأن يصل جزاء أعمالهم الحسنة إليهم في الدنيا إذ لا سبيل إلى إيصال ذلك الجزاء إليهم في الآخرة، وإذا كان كذلك فهذا يقتضي أن يكون نعمتهم في الدنيا أكثر ولذاتهم ههنا أكمل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " وإذا كان كذلك امتنع أن يقال: إن جزاء أفعالهم المحظورة تصل إليهم في الدنيا، فوجب القول بوصول ذلك الجزاء إليهم في الآخرة. المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: دلت الآية على أن العبد فاعل، ودلت أيضا على أنه بعمل السوء يستحق الجزاء، وإذا دلت الآية على مجموع هذين الأمرين فقد دلت على أن الله غير خالق لأفعال العباد، وذلك من وجهين: أحدهما: أنه لما كان عملا للعبد امتنع كونه عملا لله تعالى لاستحالة حصول مقدور واحد بقادرين، والثاني: أنه لو حصل بخلق الله تعالى لما استحق العبد عليه جزاء البتة وذلك باطل، لأن الآية دالة على أن العبد يستحق الجزاء على عمله، وأعلم أن الكلام على هذا النوع من الاستدلال مكرر في هذا الكتاب.
ثم قال تعالى: * (ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) *.
قالت المعتزلة: دلت الآية على نفي الشفاعة، والجواب من وجهين: الأول: أنا قلنا أنا هذه الآية في حق الكفار. والثاني: أن شفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة إنما تكون بإذن الله تعالى، وإذا كان كذلك فلا ولي لأحد ولا نصير لأحد إلا الله سبحانه وتعالى
54

ثم قال تعالى:
* (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) *
قال مسروق: لما نزل قوله * (من يعمل سوءا يجز به) * (النساء: 123) قال أهل الكتاب للمسلمين: نحن وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية إلى قوله * (ومن أحسن دينا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم * (يدخلون الجنة) * بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله، وكذلك في سورة مريم وفي حم المؤمن، والباقون بفتح الياء وضم الخاء في هذه السورة جميعا على أن الدخول مضاف إليهم، وكلاهما حسن، والأول أحسن لأنه أفخم، ويدل على مثيب أدخلهم الجنة ويوافق * (ولا يظلمون) * وأما القراءة الثانية فهي مطابقة لقوله تعالى: * (أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم) * (الزخرف: 70) ولقوله * (أدخلوها بسلام) * (الحجر: 46) (ق: 34) والله أعلم.
المسألة الثانية: قالوا: الفرق بين * (من) * الأولى والثانية أن الأولى للتبعيض، والمراد من يعمل بعض الصالحات لأن أحدا لا يقدر على أن يعمل جميع الصالحات، بل المراد أنه إذا عمل بعضها حال كونه مؤمنا استحق الثواب.
وأعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن صاحب الكبيرة لا يبقى مخلدا في النار، بل ينقل إلى الجنة، وذلك لأنا بينا أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإذا ثبت هذا فنقول: إن صاحب الكبيرة إذا كان قد صلى وصام وحج وزكى وجب بحكم هذه الآية أن يدخل الجنة، ولزم بحكم الآيات الدالة على وعيد الفساق أن يدخل النار، فأما أن يدخل
الجنة ثم ينقل إلى النار فذلك باطل بالإجماع، أو يدخل النار ثم ينقل إلى الجنة فذلك هو الحق الذي لا محيد عنه والله أعلم.
المسألة الثالثة: النقير: نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة، والمعنى أنهم لا ينقصون قدر منبت النواة.
فإن قيل: كيف خص الله الصالحين بأنهم لا يظلمون مع أن غيرهم كذلك كما قال * (وما ربك بظلام للعبيد) * (فصلت: 46) وقال * (وما الله يريد ظلما للعالمين) * (آل عمران: 108).
والجواب من وجهين: الأول: أن يكون الراجع في قوله * (ولا يظلمون) * عائدا إلى عمال السوء
55

وعمال الصالحات جميعا، والثاني: أن كل ما لا ينقص عن الثواب كان بأن لا يزيد في العقاب أولى هذا هو الحكم فيما بين الخلق، فذكر الله تعالى هذا الحكم على وفق تعارف الخلق.
* (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا * ولله ما فى السماوات وما فى لا ارض وكان الله بكل شىء محيطا) *.
اعلم أنه تعالى لما شرط حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الإنسان مؤمنا شرح الإيمان وبين فضله من وجهين: أحدهما: أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى، والثاني: وهو أنه الذين الذي كان عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الإسلام.
أما الوجه الأول: فأعلم أن دين الإسلام مبين على أمرين: الاعتقاد والعمل: أما الاعتقاد فإليه الإشارة بقوله * (أسلم وجهه) * وذلك لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع. والوجه أحسن أعضاء الإنسان، فالإنسان إذا عرف بقلبه ربن وأقر بربوبيته وبعبودية نفسه فقد أسلم وجهه لله، وأما العمل فإليه الإشارة بقوله * (وهو محسن) * ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات، فتأمل في هذه اللفظة المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض، وأيضا فقوله * (أسلم وجهه لله) * يفيد الحصر، معناه أنه أسلم نفسه لله وما أسلم لغير الله وهذا تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق وأظهار التبري من الحول والقوة، وأيضا ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله، فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، والدهرية والطبيعيون يستعينون بالأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها، واليهود كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم: أنهم من أولاد الأنبياء، والنصارى كانوا يقولون: ثالث ثلاثة، فجميع الفرق قد استعانوا بغير الله.
وأما المعتزلة فهم في الحقيقة ما أسلمت وجوههم لله لأنهم يرون الطاعة الموجبة لثوابهم من أنفسهم،
والمعصية الموجبة لعقابهم من أنفسهم فهم في
56

الحقيقة لا يرجون الا أنفسهم وأما أهل السنة الذين فوضوا التدبير والتكوين والإبداع والخلق إلى الحق سبحانه وتعالى، واعتقدوا أنه لا موجد ولا مؤثر إلا لله فهم الذين أسلموا وجوههم لله وعولوا بالكلية على فضل الله، وانقطع نظرهم عن كل شيء ما سوى الله. وأما الوجه الثاني في بيان فضيلة الإسلام: وهو أن محمدا عليه الصلاة والسلام إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم عليه السلام، فلقد اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم عليه السلام ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال: * (إنني برئ مما تشركون) * (الأنعام: 19) وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة صنم ولا استعانة بطبيعة، بل كان دينه الدعوة إلى الله والاعراض عن كل ما سوء الله ودعوة محمد عليه الصلاة والسلام قد كان قريبا من شرع إبراهيم عليه السلام في الختان وفي الأعمال المتعلقة بالكعبة: مثل الصلاة إليها والطواف بها والسعي والرمي والوقوف والحلق والكلمات العشر المذكورة في قوله * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه) * (البقرة: 124) ولما ثبت أن شرع محمد عليه الصلاة والسلام كان قريبا من شرع إبراهيم ثم إن شرع إبراهيم مقبول عند الكل، وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم، وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولا عند الكل. وأما قوله * (حنيفا) * ففيه بحثان: الأول: يجوز أن يكون حالا للمتبوع، وأن يكون حالا للتابع، كما إذا قلت: رأيت راكبا، فإنه يجوز أن يكون الراكب حالا للمرئي والرائي.
البحث الثاني: الحنيف المائل، ومعناه أنه مائل عن الأديان كلها، لأن ما سواه باطل، والحق أنه مائل عن كل ظاهر وباطن، وتحقيق الكلام فيه أن الباطل وإن كان بعيدا من الباطل الذي يضاده فقد يكون قريبا من الباطل الذي يجانسه، وأما الحق فإنه واحد فيكون مائلا عن كل ما عداه كالمركز الذي يكون في غاية البعد عن جميع أجزاء الدائرة.
فإن قيل: ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمد عليه الصلاة والسلام نفس شرع إبراهيم، وعلى هذا التقدير لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة مستقلة، وأنتم لا تقولون بذلك.
قلنا: يجوز أن تكون ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد عليه الصلاة والسلام مع اشتمال هذه الملة على زوائد حسنة وفوائد جليلة. ثم قال تعالى: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها، وفيه وجهان: الأول: أن إبراهيم عليه السلام
57

لما بلغ في علو الدرجة في الدين أن اتخذه الله خليلا كان جديرا بأن يتبع خلقه وطريقته. والثاني: أنه لما ذكر ملة إبراهيم ووصفه بكونه حنيفا ثم قال عقيبه * (واتخذ الله
إبراهيم خليلا) * أشعر هذا بأنه سبحانه إنما اتخذه خليلا لأنه كان عالما بذلك الشرع آتيا بتلك التكاليف، ومما يؤكد هذا قوله * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما) * (البقرة: 124) وهذا يدل على أنه سبحانه إنما جعله إماما للخلق لأنه أتم تلك الكلمات. وإذ ثبت هذا فنقول: لما دلت الآية على أن إبراهيم عليه السلام إنما كان بهذا المنصب العالي وهو كونه خليلا لله تعالى بسبب أنه كان عاملا بتلك الشريعة كان هذا تنبيها على أن من عمل بهذا الشرع لا بد وأن يفوز بأعظم المناصب في الدين، وذلك يفيد الترغيب العظيم في هذا الدين.
فإن قيل: م موقع قوله * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * قلنا: هذه الجملة اعتراضية لا محل لها من الاعراب، ونظيره ما جاء في الشعر من قوله: والحوادث جمة والجملة الاعتراضية من شأنها تأكيد ذلك الكلام، والأمر ههنا كذلك على ما بيناه.
المسألة الثانية: ذكروا في اشتقاق الخليل وجوها: الأول: أن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره، والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه، ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة.
قيل: لما طلع الله إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله، ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس، ومنعهم عن عبادة الأوثان ثم سلم نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان جعله الله إماما للخلق ورسولا إليهم، وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته، فلهذه الاختصاصات سماه خليلا، لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه.
الوجه الثاني في اشتقاق اسم الخليل: أنه الذي يوافقك في خلالك.
أقول: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تخلفوا بأخلاق الله " فيشبه أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في هذا الباب مبلغا لم يبلغه أحد ممن تقدم لا جرم خصه الله بهذا التشريف.
الوجه الثالث: قال صاحب " الكشاف ": إن الخليل هو الذي يسايرك في طريقك، من الخل وهو الطريق في الرمل، وهذا الوجه قريب من الوجه الثاني، أو يحمل ذلك على شدة طاعته لله وعدم تمرده في ظاهره وباطنه عن حكم الله، كما أخبر الله عنه بقوله * (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت
58

لرب العالمين) * (البقرة: 131).
الوجه الرابع: الخليل هو الذي يسد خللك كما تسد خلله، وهذا القول ضعيف لأن إبراهيم عليه السلام لما كان خليلا مع الله امتنع أن يقال: إنه يسد الخلل، ومن هاهنا علمنا أنه لا يمكن تفسير الخليل بذلك، أما المفسرون فقد ذكروا في سبب نزول هذا اللقب وجوها: الأول: أنه لما صار الرمل الذي أتى به غلمانه دقيقا قالت امرأته: هذا من عند خليلك المصري، فقال إبراهيم: بل هو من خليلي الله، والثاني: قال شهر بن حوشب: هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شجي فقال إبراهيم عليه السلام: أذكره مرة أخرى، فقال لا أذكره مجانا، فقال لك مالي كله، فذكره الملك بصوت أشجى من الأول، فقال: أذكره مرة ثالثة ولك أولادي، فقال الملك: أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك، وإنما كان المقصود امتحانك، فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله لا جرم اتخذه الله خليلا. الثالث: روى طاوس عن ابن عباس أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه وظن الخليل أنهم أضيافه وذبح لهم عجلا سمينا وقربه إليهم وقال كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره، فقال جبريل أنت خليل الله، فنزل هذا الوصف. وأقول: فيه عندي وجه آخر، وهو أن جوهر الروح إذا كان مضيئا مشرقا علويا قليل التعلق باللذات الجسمانية والأحوال الجسدانية، ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسمانية وأفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية والجلايا الإلهية، صار مثل هذا الإنسان متوغلا في عالم القدس والطهارة متبرئا عن علائق الجسم والحس، ثم لا يزال هذا الإنسان يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلا الله، ولا يسمع إلا الله، ولا يتحرك إلا بالله، ولا يسكن إلا بالله، ولا يمشي إلا بالله، فكان نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية وتخلل فيها وغاص في جواهرها، وتوغل في ماهياتها، فمثل هذا الإنسان هو الموصوف حقا بأنه خليل لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه، وإليه الإشارة بقول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: " اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وفي عصبي نورا ".
المسألة الثالثة: قال بعض النصارى: لما جاز إطلاق اسم الخليل على إنسان معين على سبيل الاعزاز والتشريف، فلم لا يجوز إطلاق اسم الابن في حق عيسى عليه السلام على سبيل الاعزاز والتشريف.
وجوابه: أن الفرق أن كونه خليلا عبارة عن المحبة المفرطة، وذلك لا يقتضي الجنسية، أما
59

الابن فإنه مشعر بالجنسية، وجل الإله عن مجانسة الممكنات ومشابهة المحدثات.
ثم قال تعالى: * (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها، وفيه وجوه: الأول: أن يكون المعنى أنه لم يتخذ الله إبراهيم خليلا لاحتياجه إليه في أمر من الأمور كما تكون خلة الآدميين، وكيف يعقل ذلك وله ملك السماوات والأرض، وما كان كذلك، فكيف يعقل أن يكون محتاجا إلى البشر الضعيف، وإنما اتخذه خليلا بمحض الفضل والإحسان والكرم، ولأنه لما كان مخلصا في العبودية لا جرم خصه الله بهذا التشريف، والحاصل أن كونه خليلا يوهم الجنسية فهو سبحانه أزال وهم المجانسة والمشاكلة بهذا الكلام. والثاني: أنه تعالى ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من الأمر والنهي والوعد والوعيد، فبين هاهنا أنه إله المحدثات وموجد الكائنات والممكنات، ومن كان كذلك كان ملكا مطاعا فوجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وأن ينقاد لأمره ونهيه. الثالث: أنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ولا يمكن الوفاء بهما إلا عند حصول أمرين: أحدهما: القدرة التامة المتعلقة بجميع الكائنات
والممكنات. والثاني: العلم التام المتعلق بجميع الجزئيات والكليات حتى لا يشتبه عليه المطيع والعاصي والمحسن والمسئ، فدل على كمال قدرته بقوله * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * وعلى كمال علمه بقوله * (وكان الله بكل شيء محيطا) * الرابع: أنه سبحانه لما وصف إبراهيم بأنه خليله بين أنه مع هذه الخلة عبد له، وذلك لأنه له ما في السماوات وما في الأرض، ويجري هذا مجرى قوله * (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا) * (مريم: 93) ومجرى قوله * (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) * (النساء: 172) يعني أن الملائكة مع كمالهم في صفة القدرة والقوة في صفة العلم والحكمة لما لم يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يمكن أن يستنكف المسيح مع ضعف بشريته عن عبودية الله! كذا هاهنا، يعني إذا كان كل من في السماوات والأرض ملكه في تسخيره ونفاذ إلهيته فكيف يعقل أن يقال: إن اتخاذ الله إبراهيم عليه السلام خليلا يخرجه عن عبودية الله، وهذه الوجوه كلها حسنة متناسبة.
المسألة الثانية: إنما قال * (ما في السماوات وما في الأرض) * ولم يقل (من) لأنه ذهب مذهب الجنس، والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنس ذكر بما.
المسألة الثالثة: قوله: * (وكان الله بكل شيء محيطا) * فيه وجهان: أحدهما: المراد منه الإحاطة في العلم. والثاني: المراد منه الإحاطة بالقدرة، كما في قوله تعالى * (وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها) * (الفتح: 21) قال القائلون بهذا القول: وليس لقائل أن يقول لما دل قوله * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * على كمال القدرة، فلو حملنا قوله * (وكان الله بكل شيء محيطا) * على كمال القدرة لزم التكرار، وذلك لأنا نقول: إن قوله * (لله ما في السماوات وما في
60

الأرض) * لا يفيد ظاهره إلا كونه تعالى قادرا مالكا لكل ما في السماوات وما في الأرض، ولا يفيد كونه قادرا على ما يكون خارجا عنهما ومغايرا لهما، فلما قال * (وكان الله بكل شيء محيطا) * دل على كونه قادرا على ما لا نهاية له من المقدورات خارجا عن هذه السماوات والأرض، على أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الكائنات والممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه، فهذا تقرير هذا القول، إلا أن القول الأول أحسن لما بينا أن الإلهية والوفاء بالوعد إنما يحصل ويكمل بمجموع القدرة والعلم، فلا بد من ذكرهما معا، وإنما قدم ذكر القدرة على ذكر العلم لما ثبت في علم الأصول أن العلم بالله هو العلم بكونه قادرا، ثم بعد العلم بكونه قادرا يعلم كونه عالما لما أن الفعل بحدوثه يدل على القدرة، وبما فيه من الأحكام والإتقان يدل على العلم، ولا شك أن الأول مقدم على الثاني.
* (ويستفتونك فى النسآء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النسآء اللاتى لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما) *.
اعلم أن عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع على أحسن الوجوه وهو أنه يذكر شيئا من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والترغيب والترهيب ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته وعظمة إلهيته. ثم يعود مرة أخرى إلى بيان الأحكام، وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير في القلوب، لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا يقع في موقع القبول إلا إذا كان مقرونا بالوعد والوعيد، والوعد والوعيد لا يؤثر في القلب إلا عند
61

القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد، فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق. إذا عرفت هذا فنقول: إنه سبحانه ذكر في أول هذه السورة أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف، ثم أتبعها بشرح أحوال الكافرين والمنافقين واستقصى في ذلك، ثم ختم تلك الآيات الدالة على عظمة جلال الله وكمال كبريائه، ثم عاد بعد ذلك إلى بيان الأحكام فقال * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: الاستفتاء طلب الفتوى يقال: استفتيت الرجل في المسألة فأفتاني إفتاء وفتيا وفتوى، وهما إسمان موضوعان موضع الافتاء، ويقال: أفتيت فلانا في رؤيا رآها إذا عبرها قال تعالى: * (يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقران سمان) * (يوسف: 46) ومعنى الافتاء إظهار المشكل، وأصله من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل، فالمعنى كأنه يقوى ببيانه ما أشكل ويصير قويا فتيا.
المسألة الثانية: ذكروا في سبب نزول هذه الآية قولين: الأول: أن العرب كانت لا تورث النساء والصبيان شيئا من الميراث كما ذكرنا في أول هذه السورة، فهذه الآية نزلت في توريثهم. والثاني: أن الآية نزلت في توفية الصداق لهن، وكان اليتيمة تكون عند الرجل فإذا كانت جميلة ولها مال تزوج بها وأكل مالها، وإذا كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها، فأنزل الله هذه الآية. المسألة الثالثة: اعمل أن الاستفتاء لا يقع عن ذوات النساء وإنما يقع عن حالة من أحوالهن وصفة من صفاتهم، وتلك الحالة غير مذكورة في الآية فكانت مجملة غير دالة على الأمر الذي وقع عنه الاستفتاء.
أما قوله تعالى: * (وما يتلى عليكم) * ففيه: الأول: أنه رفع بالابتداء والتقدير: قل الله يفتيكم في النساء، والمتلو في الكتاب يفتيكم فيهن أيضا، وذلك المتلو في الكتاب هو قوله * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * (النساء: 3).
وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها. وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور: إن كتاب الله بين لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا جاز أيضا أن يقال: إن
62

كتاب الله أفتى كذا.
القول الثاني: أن قوله * (وما يتلى عليكم) * مبتدأ و * (في الكتاب) * خبره، وهي جملة معترضة، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ، والغرض منه تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليهم وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من عظائم الأمور عند الله تعالى التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل بها ظالم متهاون بما
عظمه الله. ونظيره في تعظيم القرآن قوله * (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) * (الزخرف: 4).
القول الثالث: أنه مجرور على القسم، كأنه قيل: قل الله يفتيكم فيهن، وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب، والقسم أيضا بمعنى التعظيم.
والقول الرابع: أنه عطف على المجرور في قوله * (فيهن) * والمعنى: قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء، قال الزجاج: وهذا الوجه بعيد جدا نظرا إلى اللفظ والمعنى، أما اللفظ فلأنه يقتضي عطف المظهر على المضمر، وذلك غير جائز كما شرحناه في قوله * (تساءلون به والأرحام) * (النساء: 1) وأما المعنى فلأن هذا القول يقتضي أنه تعالى في تلك المسائل أفتى ويفتي أيضا فيما يتلى من الكتاب، ومعلوم أنه ليس المراد ذلك، وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوا من المسائل: بقي هاهنا سؤالان: السؤال الأول: بم تعلق قوله * (في يتامى النساء) *. قلنا: هو في الوجه الأول صلة * (يتلى) * أي يتلى عليكم في معناهن، وأما في سائر الوجوه فبدل من * (فيهن) *.
السؤال الثاني: الإضافة في * (يتامى النساء) * ما هي؟ الجواب: قال الكوفيون: معناه في النساء اليتامى، فأضيفت الصفة إلى الاسم، كما تقول: يوم الجمعة، وحق اليقين. وقال البصريون: إضافة الصفة إلى الاسم غير جائز فلا يقال مررت بطالعة الشمس، وذلك لأن الصفة والموصوف شيء واحد، وإضافة الشيء إلى نفسه محال. وهذا التعليل ضعيف لأن الموصوف قد يبقى بدون الوصف، وذلك يدل على أن الموصوف غير الصفة، ثم أن البصريين فرعوا على هذا القول وقالوا: النساء في الآية غير اليتامى، والمراد بالنساء أمهات اليتامى أضيفت إليهن أولادهن اليتامى، ويدل عليه أن الآية نزلت في قصة أم كحة، وكانت لها يتامى. ثم قال * (اللاتي لا تؤتونهن) * قال ابن عباس: يريد ما فرض لهن من الميراث، وهذا على قول من يقول: نزلت الآية في ميراث اليتامى والصغار، وعلى قول الباقين المراد بقوله * (ما كتب لهن) *
63

الصداق.
ثم قال تعالى: * (وترغبون أن تنكحوهن) * قال أبو عبيدة: هذا يحتمل الرغبة والنفرة، فإن حملته على الرغبة كان المعنى: وترغبون في أن تنكحوهن، وإن حملته على النفرة كان المعنى: وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن. واحتج أصحاب أبي حنيفة رحمه ا ا بهذه الآية على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة، ولا حجة لهم فيها لاحتمال أن يكون المراد: وترغبون أن تنكحوهن إذا بلغن، والدليل على صحة قولنا: أن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر، فخطبها المغيرة بن شعبة ورغب أمها في المال، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة: أنا عمها ووصي أبيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها صغيرة وإنها لا تزوج إلا بإذنها، وفرق بينها وبين ابن عمر، ولأنه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاح اليتيمة، وذلك لا يدل على الجواز.
ثم قال تعالى: * (والمستضعفين من الولدان) * وهو مجرور معطوف على يتامى النساء كانوا في الجاهلية لا يورثون الأطفال ولا النساء، وإنما يورثون الرجال الذين بلغوا إلى القيام بالأمور العظيمة دون الأطفال والنساء.
ثم قال تعالى: * (وأن تقوموا لليتامى بالقسط) * وهو مجرور معطوف على المستضعفين، وتقدير الآية: وما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط * (وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما) * يجازيكم عليه ولا يضيع عند الله منه شيء.
* (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهمآ أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) *.
اعلم أن هذا من جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء مما لم يتقدم ذكره في هذه السورة وفيه مسائل:
64

المسألة الأولى: قال بعضهم: هذه الآية شبيهة بقوله * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) * (التوبة: 6) وقوله * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) * (الحجرات: 9) وهاهنا ارتفع * (امرأة) * بفعل يفسره * (خافت) * وكذا القول في جميع الآيات التي تلوناها والله أعلم.
المسألة الثانية: قال بعضهم: خافت أي علمت، وقال آخرون: ظنت، وكل ذلك ترك للظاهر من غير حاجة، بل المراد نفس الخوف إلا أن الخوف لا يحصل إلا عند ظهور الأمارات الدالة على وقوع الخوف، وتلك الأمارات هاهنا أن يقول الرجل لامرأته: إنك دميمة أو شيخة وإني أريد أن أتزوج شابة جميلة، والبعل هو الزوج، والأصل في البعل هو السيد، ثم سمي الزوج به لكونه السيد للزوجة؛ ويجمع البعل على بعولة، وقد سبق هذا في سورة البقرة في قوله تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن) * (البقرة: 228) والنشوز يكون من الزوجين وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه، واشتقاقه من النشز وهو ما ارتفع من الأرض، ونشوز الرجل في حق المرأة أن يعرض عنها ويعبس وجهه في وجهها ويترك مجامعتها ويسئ عشرتها.
المسألة الثالثة: ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوها: الأول: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الآية نزلت في ابن أبي السائب كانت له زوجة وله منها أولاد وكانت شيخة فهم بطلاقها، فقالت لا تطلقني ودعني أشتغل بمصالح أولادي وأقسم في كل شهر ليالي قليلة، فقال الزوج: إن كان الأمر فهو أصلح لي. والثاني: أنها نزلت في قصة سودة بنت زمعة أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يطلقها، فالتمست أن يمسكها ويجعل نوبتها لعائشة، فأجاز النبي عليه الصلاة والسلام ذلك ولم يطلقها. والثالث: روي عن عائشة أنها قالت: نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها، فتقول: أمسكني وتزوج بغيري، وأنت في حل من النفقة والقسم.
المسألة الرابعة: قوله * (نشوزا أو إعراضا) * المراد بالنشوز إظهار الخشونة في القول أو الفعل أو فيهما والمراد من الإعراض السكوت عن الخير والشر والمداعاة
والإيذاء، وذلك لأن هذا الإعراض يدل دلالة قوية على النفرة والكراهة.
ثم قال تعالى: * (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (يصلحا) * بضم الياء وكسر اللام وحذف الألف من الإصلاح، والباقون * (يصالحا) * بفتح الياء والصاد، والألف بين الصاد واللام وتشديد الصاد من التصالح، ويصالحا في الأصل هو يتصالحا، فسكنت التاء وأدغمت في الصاد. ونظيره قوله
65

* (اداركوا فيها) * (الأعراف: 38) أصله تداركوا سكنت التاء وأبدلت بالدال لقرب المخرج وأدغمت في الدال، ثم اجتلبت الهمزة للابتداء بها فصار اداركوا.
إذا عرفت هذا فنقول: من قرأ * (يصلحا) * فوجهه أن الاصلاح عند التنازع والتشاجر مستعمل قال تعالى: * (فمن خاف من مص جنفا أو إثما فأصلح بينهم) * (البقرة: 182) وقال * (أو إصلاح بين الناس) * (النساء: 114) ومن قرأ * (يصالحا) * وهو الاختيار عند الأكثرين قال: أن يصالحا معناه يتوافقا، وهو أليق بهذا الموضع وفي حرف عبد الله: فلا جناح عليهما أن صالحا، وانتصب صلحا في هذه القراءة على المصدر وكان الأصل أن يقال: تصالحا، ولكنه ورد كما في قوله * (والله أنبتكم من الأرض نباتا) * (نوح: 17) وقوله * (وتبتل إليه تبتيلا) * (المزمل: 8) وقول الشاعر: وبعد عطائك المائة الرتاعا المسألة الثانية: الصلح إنما يحصل في شيء يكون حقا له، وحق المرأة على الزوج إما المهر أو النفقة أو القسم، فهذه الثلاثة هي التي تقدر المرأة على طلبها من الزوج شاء أم أبى، أما الوطء فليس كذلك، لأن الزوج لا يجبر على الوطء.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا الصلح عبارة عما إذا بذلت المرأة كل الصداق أو بعضه للزوج أو أسقطت عنه مؤنة النفقة، أو أسقطت عنه القسم، وكان غرضها من ذلك أن لا يطلقها زوجها، فإذا وقعت المصالحة على ذلك كان جائزا.
ثم قال تعالى: * (والصلح خير) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الصلح مفرد دخل فيه حرف التعريف، والمفرد الذي دخل فيه حرف التعريف هل يفيد العموم أم لا؟ والذي نصرناه في أصول الفقه أنه لا يفيده، وذكرنا الدلائل الكثيرة فيه.
وأما إذا قلنا: إنه يفيد العموم فهاهنا بحث، وهو أنه إذا حصل هناك معهود سابق فحمله على العموم أولى أم على المعهود السابق؟ الأصح أن حمله على المعهود السابق أولى، وذلك لأنا إنما حملناه على الاستغراق ضرورة أنا لو لم نقل ذلك لصار مجملا ويخرج عن الإفادة، فإذا حصل هناك معهود سابق اندفع هذا المحذور فوجب حمله عليه.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: من الناس من حمل قوله * (والصلح خير) * على الاستغراق، ومنهم من حمله على المعهود السابق، يعني الصلح بين الزوجين خير من الفرقة، والأولون تمسكوا به في مسألة أن الصلح على الإنكار جائز كما هو قول أبي حنيفة، وأما نحن فقد بينا أن حمل هذا
66

اللفظ على المعهود السابق أولى، فاندفع استدلالهم والله أعلم.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": هذه الجملة اعتراض، وكذلك قوله * (وأحضرت الأنفس الشح) * إلا أنه اعتراض مؤكد للمطلوب فحصل المقصود.
المسألة الثالثة: أنه تعالى ذكر أولا قوله * (فلا جناح عليهما أن يصلحا) * فقوله * (لا جناح) * يوهم أنه رخصة، والغاية فيه ارتفاع الإثم، فبين تعالى أن هذا الصلح كما أنه لا جناح فيه ولا إثم فكذلك فيه خير عظيم ومنفعة كثيرة، فإنهما إذا تصالحا على شيء فذاك خير من أن يتفرقا أو يقيما على النشوز والإعراض، أما قوله تعالى: * (وأحضرت الأنفس الشح) *.
فأعلم أن الشح هو البخل، والمراد أن الشح جعل كالأمر المجاور للنفوس اللازم لها، يعني أن النفوس مطبوعة على الشح، ثم يحتمل أن يكن المراد منه أن المرأة تشح ببذل نصيبها وحقها، ويحتمل أن يكون المراد أن الزوج يشح بأن يقضي عمره معها مع دمامة وجهها وكبر سنها وعدم حصول اللذة بمجانستها.
ثم قال تعالى: * (وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * وفيه وجوه: الأول: أنه خطاب مع الأزواج، يعني إن تحسنوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وتيقنتم النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة فإن الله كان بما تعملون من الإحسان والتقوى خبيرا، وهو يثيبكم عليه. الثاني: أنه خطاب للزوج والمرأة، يعني وأن يحسن كل واحد منكما إلى صاحبه ويحترز عن الظلم. الثالث: أنه خطاب لغيرهما، يعني أن تحسنوا في المصالحة بينهما وتتقوا الميل إلى واحد منهما. وحكى صاحب الكشاف: أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدم بني آدم، وامرأته من أجملهم، فنظرت إليه يوما ثم قالت: الحمد لله، فقال مالك؟ فقالت حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله بالجنة عباده الشاكرين والصابرين.
* (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النسآء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما) *
ثم قال تعالى: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * وفيه قولان: الأول: لن تقدروا على التسوية بينهن في ميل الطباع، وإذا لم تقدروا عليه لم تكونوا مكلفين به. قالت المعتزلة: فهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ولا جائز الوقوع، وقد ذكرنا أن الاشكال لازم عليهم في العلم وفي الدواعي. الثاني: لا تستطيعون التسوية بينهن في الأقوال والأفعال لأن التفاوت في الحب يوجب التفاوت في نتائج الحب، لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام
67

الصارف محال.
ثم قال: * (فلا تميلوا كل الميل) * والمعنى أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن وسعكم، ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك التفاوت
في القول والفعل.
روى الشافعي رحمة الله عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم ويقول: " هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك ". ثم قال تعالى: * (فتذروها كالمعلقة) * يعين تبقى لا أيما ولا ذات بعل، كما أن الشيء المعلق لا يكون على الأرض ولا على السماء، وفي قراءة أبي: فتذروها كالمسجونة، وفي الحديث " من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شفيه مائل " وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال فقالت عائشة: إلى كل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر بمثل هذا؟ فقالوا: لا، بعث إلى القرشيات بمثل هذا، وإلى غيرهن بغيره، فقالت للرسول ارفع رأسك وقل لعمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا قي القسمة بماله ونفسه، فرجع الرسول فأخبره فأتم لهن جميعا. ثم قال تعالى: * (وإن تصلحوا) * بالعدل في القسم * (وتتقوا) * الجور * (فإن الله كان غفورا رحيما) * ما حصل في القلب من الميل إلى بعضهن دون البعض.
وقيل: المعنى: وإن تصلحوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة، وتتقوا في المستقبل عن مثله غفر الله لكم ذلك، وهذا الوجه أولى لأن التفاوت في الميل القلبي لما كان خارجا عن الوسع لم يكن فيه حاجة إلى المغفرة.
* (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما) *
ثم قال تعالى: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) *.
واعلم أنه تعالى ذكر جواز الصلح إن أرادا ذلك، فإن رغبا في المفارقة فالله سبحانه بين جوازه بهذه الآية أيضا، ووعد لهما أن يغني كل واحد منهما عن صاحبه بعد الطلاق، أو يكون المعنى أنه يغني كل واحد منهما بزوج خير من زوجه الأول، ويعيش أهنأ من عيشه الأول.
ثم قال: * (وكان الله واسعا حكيما) * والمعنى أنه تعالى لما وعد كل واحد منهما بأنه يغنيه من
68

سعته وصف نفسه بكونه واسعا، وإنما جاز وصف الله تعالى بذلك لأنه تعالى واسع الرزق، واسع الفضل، واسع الرحمة، واسع القدرة، واسع العلم، فلو ذكر تعالى أنه واسع في كذا لاختص ذلك بذلك المذكور، ولكنه لما ذكر الواسع وما أضافه إلى شيء معين دل على أنه واسع في جميع الكمالات، وتحقيقه في العقل أن الموجود إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى، وما سواه ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الله الواجب لذاته، وإذا كان كذلك كان كل ما سواه من الموجودات فإنما يوجد بإيجاده وتكوينه، فلزم من هذا كونه واسع العلم والقدرة والحكمة، والرحمة، والفضل والجود، والكرم. وقوله * (حكيما) * قال ابن عباس: يريد فيما حكم ووعظ وقال الكلبي: يريد فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان.
* (ولله ما فى السماوات وما فى الارض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما فى السماوات وما فى الارض وكان الله غنيا حميدا * ولله ما فى السماوات وما فى الارض وكفى بالله وكيلا * إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا * من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاخرة وكان الله سميعا بصيرا) *
وفي تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان: الأول: أنه تعالى لما ذكر أنه يغني كلا من سعته، وأنه واسع أشار إلى ما هو كالتفسير لكونه واسعا فقال * (والله ما في السماوات وما في الأرض) * يعني
69

من كان كذلك فإنه لا بد وأن يكون واسع القدرة والعلم والجود والفضل والرحمة. الثاني: أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين بين أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد، لأن مالك السماوات والأرض كيف يعقل أن يكون محتاجا إلى عمل الإنسان مع ما هو عليه من الضعف والقصور، بل إنما أمر بها رعاية لما هو الأحسن لهم في دنياهم وأخراهم.
ثم قال تعالى: * (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: المراد بالآية أن الأمر بتقوى الله شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ ولا تبديل، بل هو وصية الله في الأولين والآخرين.
المسألة الثانية: قوله * (من قبلكم) * فيه وجهان: الأول: أنه متعلق بوصينا، يعني ولقد وصينا من قبلكم الذين أوتوا الكتاب. والثاني: أنه متعلق بأوتوا، يعني الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وصيناهم بذلك. وقوله * (وإياكم) * بالعطف على * (الذين أوتوا الكتاب) * والكتاب اسم للجنس يتناول الكتب السماوية، والمراد اليهود والنصارى.
المسألة الثالثة: قوله * (أن اتقوا الله) * كقولك: أمرتك الخير، قال الكسائي: يقال أوصيتك أن أفعل كذا وأن تفعل كذا، ويقال: ألم آمرك أن ائت زيدا، وأن تأتي زيدا، قال تعالى: * (أمرت أن أكون أول من أسلم) * (الأنعام: 14) وقال * (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة) * (النمل: 91). ثم قال تعالى: * (وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا) * قوله * (وإن تكفروا) * عطف على قوله * (اتقوا الله) * والمعنى: أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض. وفيه وجهان: الأول: أنه تعالى خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحق كل عاقل أن يكون منقادا لأوامره ونواهيه يرجو ثوابه ويخاف عقابه، والثاني: أنكم إن تكفروا فإن لله ما في سماواته وما في أرضه من أصناف المخلوقات من يعبده ويتقيه، وكان مع ذلك غنيا عن خلقهم وعن عبادتهم، ومستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه، وإن لم يحمده أحد منهم فهو في ذاته محمود سواء حمدوه أو لم يحمدوه. ثم قال تعالى: * (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) * فإن قيل: ما الفائدة في تكرير قوله * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * قلنا: إنه
تعالى ذكر هذه الكلمات في هذه الآية ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور: فأولها: أنه تعالى قال: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) * (النساء: 130) والمراد منه كونه تعالى جوادا متفضلا، فذكر عقيبه قوله * (والله ما في السماوات وما في الأرض) * والغرض تقرير كونه واسع الجود والكرم، وثانيها:
70

قال * (وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض) * والمراد منه أنه تعالى منزه عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين، فلا يزداد جلاله بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات، فذكر عقيبه قوله * (فإن لله ما في السماوات وما في الأرض) * والغرض منه تقرير كونه غنيا لذاته عن الكل، وثالثها: قال: * (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا أن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا) * والمراد منه أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد، فإن عصيتموه فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية، وعلى أن يوجد قوما آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه، فالغرض ههنا تقدير كونه سبحانه وتعالى قادرا على جميع المقدورات، وإذا كان الدليل الواحد دليلا على مدلولات كثيرة فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات، ثم يذكره مرة أخرى ليستدل به على الثاني، ثم يذكره ثالثا ليستدل به على المدلول الثالث، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة، لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال.
وأيضا فإذا أعدته ثلاث مرات وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله تنبه الذهن حينئذ لكون تخليق السماوات والأرض دالا على أسرار شريفة ومطالب جليلة، فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى، ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله، وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده، لا جرم كان في غاية الحسن والكمال.
وقوله * (وكان الله على ذلك قديرا) * معناه أنه تعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بالقدرة على جميع المقدورات، فإن قدرته على الأشياء لو كانت حادثة لافتقر حدوث تلك القدرة إلى قدرة أخرى ولزم التسلسل. ثم قال تعالى: * (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) * والمعنى أن هؤلاء الذين يريدون بجهادهم الغنيمة فقط مخطئون، وذلك لأن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، فلم اكتفى بطلب ثواب الدنيا مع أنه كان كالعدم بالنسبة إلى ثواب الآخرة، ولو كان عاقلا لطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع.
فإن قيل كيف دخل الفاء في جوب الشرط وعنده تعالى ثواب الدنيا والآخرة سواء حصلت هذه الإرادة أو لم تحصل؟
قلنا: تقرير الكلام: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده الله تعالى، وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط.
71

ثم قال: * (وكان الله سميعا بصيرا) * يعني يسمع كلامهم أنهم لا يطلبون من الجهاد سوى الغنيمة ويرى أنهم لا يسعون في الجهاد ولا يجتهدون فيه إلا عند توقع الفوز بالغنيمة، وهذا كالزجر منه تعالى لهم عن هذه الأعمال.
* (يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين ولا اقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في اتصال الآية بما قبلها وجوه: الأول: أنه لما تقدم ذكر النساء والنشوز والمصالحة بينهن وبين الأزواج عقبه بالأمر بالقيام بأداء حقوق الله تعالى وبالشهادة لإحياء حقوق الله، وبالجملة فكأنه قيل: إن اشتغلت بتحصيل مشتهياتك كنت لنفسك لا لله، وإن اشتغلت بتحصيل مأمورات الله كنت صلى الله عليه وسلم لا لنفسك، ولا شك أن هذا المقام أعلى وأشرف، فكانت هذه الآية تأكيدا لما تقدم من التكاليف. الثاني: أن الله تعالى لما منع الناس عن أن يقصروا عن طلب ثواب الدنيا وأمرهم بأن يكونوا طالبين لثواب الآخرة ذكر عقيبه هذه الآية، وبين أن كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله حتى يصير من الذين يكونون في آخر مراتب الإنسانية وأول مراتب الملائكة، فأما إذا عكس هذه القضية كان مثل البهيمة التي منتهى أمرها وجدان علف، أو السبع الذي غاية أمره إيذاء حيوان. الثالث: أنه تقدم في هذه السورة أمر الناس بالقسط كما قال * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * (النساء: 3) وأمرهم بالإشهاد عن دفع أموال اليتامى إليهم، وأمرهم بعد ذلك ببذل النفس والمال في سيل الله، وأجرى في هذه السورة قصة طعمة بن أبيرق واجتماع قومه على الذب عنه بالكذب والشهادة على اليهودي
72

بالباطل.
ثم إنه تعالى أمر في هذه الآيات بالمصالحة مع الزوجة، ومعلوم أن ذلك أمر من الله لعباده بأن يكونوا قائمين بالقسط، شاهدين لله على كل أحد، بل وعلى أنفسهم، فكانت هذه الآية كالمؤكد لكل ما جرى ذكره في هذه السورة من أنواع التكاليف.
المسألة الثانية: القوام مبالغة من قائم، والقسط العدل، فهذا أمر منه تعالى لجميع المكلفين بأن يكونوا مبالغين في اختيار العدل والاحتراز عن الجور والميل، وقوله * (شهداء لله) * أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم، وشهادة الإنسان على نفسه لها تفسيران: الأول: أن يقر نفسه لأن الإقرار كالشهادة في كونه موجبا إلزام الحق، والثاني: أن يكون المراد وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره.
المسألة الثالثة: في نصب * (شهداء) * ثلاثة أوجه: الأول: على الحال من * (قوامين) *. والثاني: أنه خبر على أن * (كونوا) * لها خبران، والثالث: أن
تكون صفة لقوامين.
المسألة الرابعة: إنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه: الأول: أن أكثر الناس عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن، وإذا صدر عن غيرهم كان في محل المنازعة فالله سبحانه نبه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة، وذلك أنه تعالى أمرهم بالقيام بالقسط أولا، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيا، تنبيها على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير. الثاني: أن القيام بالقسط عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير، وهو الذي عليه الحق، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير، الثالث: أن القيام بالقسط فعل، والشهادة قول، والفعل أقوى من القول.
فإن قيل: إنه تعالى قال: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) * (آل عمران: 18) فقدم الشهادة على القيام بالقسط، وههنا قدم القيام بالقسط، فما الفرق؟ قلنا: شهادة الله تعالى عبارة عن كونه تعالى خالقا للمخلوقات، وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية القوامين بالعدل في تلك المخلوقات، فيلزم هناك أن تكون الشهادة مقدمة على القيام بالقسط، أما في حق العباد فالقيام بالقسط عبارة عن كونه مراعيا للعدل ومباينا للجور، ومعلوم أنه ما لم يكون الإنسان كذلك لم تكن شهادته على الغير مقبولة، فثبت أن الواجب في قوله * (شهد الله) * أن تكون تلك الشهادة مقدمة على القيام بالقسط والواجب ههنا أن تكون الشهادة متأخرة عن القيام بالقسط،
73

ومن تأمل علم أن هذه الأسرار مما لا يمكن الوصول إليها إلا بالتأييد الإلهي والله أعلم. ثم قال تعالى: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) * أي إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تكتموا الشهادة إما لطلب رضا الغنى أو الترحم على الفقير، فالله أولى بأمورهما ومصالحهما، وكان من حق الكلام أن يقال: فالله أولى به، لأن قوله * (إن يكن غنيا أو فقيرا) * في معنى أن يكن أحد هذين إلا أنه بنى الضمير على الرجوع إلى المعنى دون اللفظ، أي الله أولى بالفقير والغني، وفي قراءة أبي فالله أولى بهم، وهو راجع إلى قوله * (أو الوالدين والأقربين) * وقرأ عبد الله: إن يكن غني أو فقير، على (كان) التامة.
ثم قال تعالى: * (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) * والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفيه بصفة العدل، وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر، فتقدير الآية: فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا يعني اتركوا متابعة الهوى لأجل أن تعدلوا.
ثم قال تعالى: * (وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * وفي الآية قراءتان قرأ الجمهور * (وإن تلووا) * بواوين، وقرأ ابن عامر وحمزة * (تلوا) * وأما قراءة تلووا ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون بمعنى الدفع والاعراض من قولهم: لواه حقه إذا مطله ودفعه. الثاني: أن يكون بمعنى التحريف والتبديل من قولهم: لوى الشيء إذا فتله، ومنه يقال: التوى هذا الأمر إذا تعقد وتعسر تشبيها بالشيء المنفتل، وأما * (تلوا) * ففيه وجهان: الأول: أن ولاية الشيء إقبال عليه واشتغال به، والمعنى أن تقبلوا عليه فتتموه أو تعرضوا عنه فإن الله كان بما تعلمون خبيرا فيجازى المسحن المقبل بإحسانه والمسئ المعرض بإساءته، والحاصل: إن تلووا عن إقامتها أو تعرضوا عن إقامتها، والثاني: قال الفراء والزجاج: يجوز أن يقال: * (تلوا) * أصله تلووا ثم قبلت الواو همزة، ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها فصار * (تلووا) * وهذا أضعف الوجهين، وأما قوله * (فإن الله كان بما تعلمون خبيرا) * فهو تهديد ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين.
* (يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله
74

والكتاب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا) *
وفي مسائل:
المسألة الأولى: في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان: الأول: أنها متصلة بقوله: * (كونوا قوامين بالقسط) * وذلك لأن الإنسان لا يكون قائما بالقسط إلا إذا كان راسخ القدم في الإسمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية، وثانيهما: أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة ذكر عقيبها آية الأمر بالإيمان.
المسألة الثانية: أعلم أن ظاهر قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) * مشعر بأنه أمر بتحصيل الحاصل، ولا شك أنه محال، فلهذا السبب ذكر المفسرون في وجوها وهي منحصرة في قولين: الأول: أن المراد بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) * المسلمون، ثم في تفسير الآية تفريعا على هذا القول وجوه: الأول: أن المراد منه يا أيها الذين آمنوا دوموا على الإيمان واثبتوا عليه، وحاصله يرجع إلى هذا المعنى: يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحاضر آمنوا في المستقبل، ونظيره قوله * (فأعلم أنه لا إله إلا الله) * (محمد: 19) مع أنه كان عالما بذلك. وثانيها: يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال. وثالثها: يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجميلة آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية. ورابعها: يا أيها الذين آمنوا بالدلائل التفصيلية بالله وملائكته وكتبه ورسله آمنوا بأن كنه عظمة الله لا تنتهي إليه عقولكم، وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا تنتهي إليها على سبيل التفصيل عقولنا. وخامسها: روي أن جماعة من أحبار اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال صلى الله عليه وسلم: بل آمنوا بالله وبرسله وبمحمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل، فنزلت هذه الآية فكلهم آمنوا.
القول الثاني: أن المخاطبين بقوله * (آمنوا) * ليس هم المسلمون، وفي تفسير الآية تفريعا على هذا القول وجوه: الأول: أن الخطاب مع اليهود والنصارى، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن. وثانيها: أن الخطاب مع المنافقين، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا باللسان ولم يأمنوا بالقلب، ويتأكد هذا بقوله تعالى: * (من الذين قالوا آمنا بأفواههم
75

ولم تؤمن قلوبهم) * (المائدة: 41) وثالثها: أنه خطاب مع الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا وجه النهار آمنوا أيضا آخره. ورابعها: أنه خطاب للمشركين تقديره: يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله، وأكثر العلماء رجحوا القول الأول لأن لفظ المؤمن لا يتناول عند الإطلاق إلا المسلمين.
المسألة الثالثة: قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو * (والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل) * على ما لم يسم فاعله، والباقون (نزل وأنزل) بالفتح، فمن ضم فحجته قوله تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * وقال في آية أخرى * (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك) * (الأنعام: 114) ومن فتح فحجته قوله * (إنا نحن نزلنا الذكر) * وقوله * (وأنزلنا الذكر) * وقال بعض العلماء: كلاهما حسن إلا أن الضم أفخم كما في قوله * (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) * (هود: 44).
المسألة الرابعة: اعلم أنه أمر في هذه الآية بالإيمان بأربعة أشياء: أولها: بالله، وثانيها: برسوله، وثالثها: بالكتاب الذي نزل على رسوله، ورابعها: بالكتاب الذي أنزل من قبل، وذكر في الكفر أمورا خمسة: فأولها الكفر بالله، وثانيها الكفر بملائكته، وثالثها الكفر بكتبه، ورابعها الكفر برسله، وخامسها الكفر باليوم الآخر.
ثم قال تعالى: * (فقد ضل ضلالا بعيدا) * وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب، وفي مراتب الكفر قلب القضية؟ الجواب: لأن في مرتبة النزول من معرفة الخالق إلى الخلق كان الكتاب مقدما على الرسول وفي مرتبة العروج من الخلق إلى الخالق يكون الرسول مقدما على الكتاب.
السؤال الثاني: لم ذكر في مراتب الإيمان أمورا ثلاثة: الإيمان بالله وبالرسول وبالكتب، وذكر في مراتب الكفر أمورا خمسة: الكفر بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر.
والجواب: أن الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب متى حصل فقد حصل الإيمان بالملائكة واليوم الآخر لا محالة، إذ ربما ادعى الإنسان أنه يؤمن بالله وبالرسل وبالكتب، ثم إنه ينكر الملائكة وينكر اليوم الآخر، ويزعم أنه يجعل الآيات الواردة في الملائكة وفي اليوم الآخر محمولة على التأويل، فلما كان هذا الاحتمال قائما لا جرم نص أن منكر الملائكة ومنكر القيامة كافر بالله.
السؤال الثالث: كيف قيل لأهل الكتب * (والكتاب الذي أنزل من قبل) * مع أنهم ما كانوا
76

كافرين بالتوراة والإنجيل بل مؤمنين بهما؟ والجواب عنه من وجهين: الأول: أنهم كانوا مؤمنين بهما فقط وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب، فأمروا أن يؤمنوا بكل الكتب المنزلة، الثاني: أن إيمانهم ببعض الكتب دون البعض لا يصح لأن طريق الإيمان هو المعجزة، فإذا كانت المعجزة حاصلة في الكل كان ترك الإيمان بالبعض طعنا في المعجزة، وإذا حصل الطعن في المعجزة امتنع التصديق بشيء منها، وهذا هو المراد بقوله تعالى: * (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا) * (النساء: 150، 151).
السؤال الرابع: لم قال * (نزل على رسوله وأنزل من قبل) *.
والجواب: قال صاحب " الكشاف ": لأن القرآن نزل مفرقا منجما في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله.
وأقول: الكلام في هذا سبق في تفسير قوله تعالى: * (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل) * (آل عمران: 3، 4).
السؤال الخامس: قوله * (والكتاب الذي أنزل من قبل) * لفظ مفرد، وأي الكتب هو المراد منه؟ الجواب: أنه اسم جنس فيصلح للعموم.
* (إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا * بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما أمر بالإيمان ورغب فيه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فذكر هذه الآية.
77

واعلم أن فيها أقوالا كثيرة: الأول: أن المراد منه الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإيمان مرات وكرات، فإن ذلك يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلوبهم، إذ لو كان للإيمان وقع ورتبة في قلوبهم لما تركوه بأدنى سبب، ومن لا يكون للإيمان في قلبه وقع فالظاهر أنه لا يؤمن بالله إيمانا صحيحا معتبرا فهذا هو المراد بقوله * (لم يكن الله ليغفر لهم) * وليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبرا، بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب على الوجه الذي ذكرناه، وكذلك نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على الفسق، فكذا ههنا. الثاني: قال بعضهم: اليهود آمنوا بالتوراة وبموسى، ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا بداود، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا عند مقدم محمد عليه الصلاة والسلام. الثالث: قال آخرون: المراد المنافقون، فالإيمان الأول إظهارهم الإسلام، وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم، والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا إنا مؤمنون والكفر الثاني هو أنهم إذا دخلوا على شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون، وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين، وإظهار الإيمان قد يسمى إيمانا قال تعالى * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 221) قال القفال رحمة الله عليه: وليس المراد بيان هذا العدد، بل المراد ترددهم كما قال * (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) * (النساء: 143) قال والذي يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية * (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) *. الرابع: قال قوم؛ المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة، والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) * (آل عمران: 72) وقوله * (ثم ازدادوا كفرا) * معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد
الاستهزاء والسخرية بالإسلام.
المسألة الثانية: دلت الآية على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وهذا يبطل مذهب القائلين بالموافاة، وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان، فوجب أن يكون الإيمان أيضا كذلك لأنهما ضدان متنافيان، فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذلك الآخر، وذكروا في تفسير هذه الزيادة وجوها: الأول: أنهم ماتوا على كفرهم. الثاني: أنهم ازدادوا كفرا بسبب
78

ذنوب أصابوها حال كفرهم، وعلى هذا التقدير لما كانت إصابة الذنوب وقت الكفر زيادة في الكفر فكذلك إصابة الطاعات وقت الإيمان يجب أن تكون زيادة في الإيمان. الثالث: أن الزيادة في الكفر إنما حصلت بقولهم * (إنما نحن مستهزؤن) * (البقرة: 14) وذلك يدل على الاستهزاء بالدين أعظم درجات الكفر وأقوى مراتبه.
ثم قال تعالى: * (لم يكن الله ليغفر لهم) * وفيه سؤالان: الأول: أن الحكم المذكور في هذه الآية إما أن يكون مشروطا بما قبل التوبة أو بما بعدها، والأول باطل لأن الكفر قبل التوبة غير مذكور على الإطلاق، وحينئذ تضيع هذه الشرائط المذكورة في هذه الآية. والثاني: أيضا باطل لأن الكفر بعد التوبة مغفورة، ولو كان ذلك بعد ألف مرة، فعلى كلا التقديرين فالسؤال لازم.
والجواب عنه من وجوه: الأول: أنا لا نحمل قوله * (إن الذين) * على الاستغراق، بل نحمله على المعهود السابق، والمراد به أقوام معينون علم الله تعالى منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه قط فقوله * (لم يكن الله ليغفر لهم) * إخبار عن موتهم على الكفر، وعلى هذا التقدير زال السؤال. الثاني: أن الكلام خرج على الغالب المعتاد، وهو أن كل من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإسلام في قلبه وقع ولا عظم، والظاهر من حال مثل هذا الإنسان أنه يموت على الكفر على ما قررناه. الثالث: أن الحكم المذكور في الآية مشروط بعدم التوبة عن الكفر، وقول السائل: إن على هذا التقدير تضيع الصفات المذكورة.
قلنا: إن إفرادهم بالذكر يدل على كفرهم أفحش وخيانتهم أعظم وعقوبتهم في القيامة أقوى فجرى هذا مجرى قوله * (وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) * (الأحزاب: 7) خصهما بالذكر لأجل التشريف، وكذلك قوله * (وملائكته... وجبريل وميكال) * (البقرة: 98).
السؤال الثاني: في قوله * (ليغفر لهم) * اللام للتأكيد فقوله * (لم يكن الله ليغفر لهم) * يفيد نفي التأكيد، وهذا غير لائق بهذا الموضع إنما اللائق به تأكيد النفي، فما الوجه فيه؟ والجواب: أن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم كان المراد منه المبالغة في تأكيد النفي.
ثم قال تعالى: * (ولا ليهديهم سبيلا) * قال أصحابنا: هذا يدل على أنه سبحانه وتعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان خلافا للمعتزلة، وهم أجابوا عنه بأنه محمول على المنع من زيادة اللطف، أو على أنه تعالى لا يهديه في الآخرة إلى الجنة.
ثم قال تعالى: * (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) *.
واعلم أن من حمل الآية المتقدمة على المنافقين قال إنه تعالى بين أنه لا يغفر لهم كفرهم ولا
79

يهديهم إلى الجنة، ثم قال: وكما لا يوصلهم إلى دار الثواب فإنه مع ذلك يوصلهم إلى أعظم أنواع العقاب، وهو المراد من قوله * (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) * وقوله * (بشر) * تهكم بهم، والعرب تقول: تحيتك الضرب، وعتابك السيف.
ثم قال تعالى:
* (الذين يتخذون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) *.
* (الذين) *: نصب على الذم، بمعنى أريد الذين، أو رفع بمعنى هم الذين، واتفق المفسرون على أن المراد بالذين يتخذون: المنافقون، وبالكافرين اليهود، وكان المنافقون يوالونهم ويقول بعضهم لبعض: إن أمر محمد لا يتم، فيقول اليهود بأن العزة والمنعة لهم.
ثم قال تعالى: * (أيبتغون عندهم العزة) * قال الواحدي: أصل العزة في اللغة الشدة، ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: غزاز، ويقال: قد استعز المرض على المريض إذا اشتد مرضه وكاد يأن يهلك، وعز الهم اشتد، ومنه عز على أن يكون كذا بمعنى اشتد، وعز الشيء إذا قل حتى لا يكاد يوجد لأنه اشتد مطلبه، واعتز فلان بفلان إذا اشتد ظهره به، وشاة عزوز التي يشتد حلبها ويصعب والعزة القوة منقولة من الشدة لتقارب معنييهما. والعزيز القوي المنيع بخلاف الذليل.
إذا عرفت هذا فنقول: إن المنافقين كانوا يطلبون العزة والقوة بسبب اتصالهم باليهود، ثم إنه تعالى أبطل عليهم هذا الرأي بقوله * (فإن العزة لله جميعا) *.
فإن قيل: هذا كالمناقض لقوله * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * (المنافقين: 8).
قلنا: القدرة الكاملة لله، وكل من سواه فباقداره صار قادرا، وبإعزازه صار عزيزا، فالعزة الحاصلة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله تعالى، فكان الأمر عند التحقيق أن العزة جميعا لله.
80

ثم قال تعالى:
* (وقد نزل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم ءايات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا) *.
قال المفسرون: إن المشركين كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به، فأنزل الله تعالى: * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم
حتى يخوضوا في حديث غيره) * (الأنعام: 68) وهذه الآية نزلت بمكة، ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين، والقاعدون معهم والموافقون لهم على ذلك الكلام هم المنافقون، فقال تعالى مخاطبا للمنافقين إنه * (قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها) * والمعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها، ولكن أوقع فعل السماع على الآيات والمراد به سماع الاستهزاء.
قال الكسائي: وهو كما يقال: سمعت عبد الله يلام. وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى: إذا سمعتم آيات الله حال ما يكفر بها ويستهزأ بها، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما قال الكسائي، فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غير الكفر والاستهزاء.
ثم قال: * (إنكم إذا مثلهم) *. والمعنى: أيها المنافقون أنتم مثل أولئك الأحبار في الكفر.
قال أهل العلم: هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن يباشر كان في الإثم بمنزلة المباشر بدليل أنه تعالى ذكر لفظ المثل ههنا، هذا إذا كان الجالس راضيا بذلك الجلوس، فأما إذا كان ساخطا لقولهم وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر ليس كذلك، ولهذه الدقيقة قلنا بأن المنافقين الذين كانوا يجالسون اليهود، وكانوا يطعنون في القرآن والرسول كانوا كافرين مثل أولئك اليهود، والمسلمون الذين كانوا بالمدينة كانوا بمكة يجالسون الكفار الذين كانوا يطعنون في القرآن فإنهم كانوا باقين على الإيمان، والفرق أن المنافقين كانوا يجالسون اليهود مع الاختيار، والمسلمين كانوا يجالسون الكفار عند الضرورة.
81

ثم إنه تعالى حقق كون المنافقين مثل الكافرين في الكفر فقال: * (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) *. يريد كما أنهم اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة، وأراد جامع بالتنوين لأنه بعد ما جمعهم ولكن حذف التنوين استخفافا من اللفظ وهو مراد في الحقيقة.
* (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) *.
إعلم أن قوله * (الذين يتربصون بكم) * أما بدل من الذين يتخذون، وإما صفة للمنافقين، وإما نصب على الذم، وقوله * (يتربصون) * أي ينتظرون ما يحدث من خير أو شر، فإن كان لكم فتح أي ظهور على اليهود قالوا للمؤمنين ألم نكن معكم، أي فأعطونا قسما من الغنيمة، وإن كان للكافرين يعني اليهود نصيب، أي ظفر على المسلمين قالوا ألم نستحوذ عليكم، يقال: استحوذ على فلان، أي غلب عليه وفي تفسير هذه الآية وجهان: الأول: أن يكون بمعنى ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئا من ذلك ونمنعكم من المسلمين بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم عليكم فهاتوا لنا نصيبا مما أصبتم. الثاني: أن يكون المعنى أن أولئك الكفار واليهود كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام، ثم إن المنافقين حذروهم عن ذلك وبالغوا في تنفيرهم عنه وأطعموه أنه سيضعف أمر محمد وسيقوى أمركم، فإذا اتفقت لهم صولة على المسلمين قال المنافقون: ألسنا غلبناكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وقلنا لكم بأنه سيضعف أمره ويقوى
82

أمركم، فلما شاهدتم صدق قولنا فادفعوا إلينا نصيبا مما وجدتم.
والحاصل أن المنافقين يمنون على الكافرين بأنا نحن الذين أرشدناكم إلى هذه المصالح، فادفعوا إلينا نصيبا مما وجدتم.
فإن قيل: لم سمي ظفر المسلمين فتحا وظفر الكفار نصيبا؟ قلنا: تعظيما لشأن المؤمنين واحتقارا لحظ الكافرين، لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء حتى تنزل الملائكة بالفتح على أولياء الله، وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دنيء ينقضي ولا يبقى منه إلا الذم في الدنيا والعقوبة في العاقبة.
ثم قال تعالى: * (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) * أي بين المؤمنين والمنافقين: والمعنى أنه تعالى ما وضع السيف في الدنيا عن المنافقين، بل آخر عقابهم إلى يوم القيامة.
ثم قال: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * وفيه قولان: الأول: وهو قول علي عليه السلام وابن عباس رضي الله عنهما: أن المراد به في القيامة بدليل أنه عطف على قوله * (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) * الثاني: أن المراد، به في الدنيا ولكنه مخصوص بالحجة، والمعنى أن حجة المسلمين غالبة على حجة الكل، وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة والدليل الثالث: هو أنه عام في الكل إلا ما خصه الدليل، وللشافعي رحمه الله مسائل: منها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه بداء الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية، ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما بدلالة هذه الآية، ومنها أن المسلم لا يقتل بالذمي بدلالة هذه الآية.
* (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلوة قاموا كسالى يرآءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) *.
قوله تعالى: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * قد مر تفسير الخداع في سورة البقرة في قوله * (يخادعون الله والذين آمنوا) * (البقرة: 9) قال الزجاج في تفسير هذه الآية * (يخادعون الله) * أي يخادعون رسول الله، أي يظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر كما قال: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) * (الفتح: 10) وقوله * (وهو خادعهم) * أي مجازيهم بالعقاب على خداعهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه تعالى خادعهم الآخرة، وذلك أنه تعالى يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم وبقوا في الظلمة، ودليله قوله تعالى: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) * (البقرة: 17).
ثم قال تعالى: * (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) * يعني وإذا قاموا إلى الصلاة مع المسلمين قاموا كسالى، أي متثاقلين متباطئين وهو معنى الكسل في اللغة، وسبب ذلك الكسل أنهم يستثقلونها
83

في الحال ولا يرجون بها ثوابا ولا من تركها عقابا، فكان الداعي للترك قويا من هذه الوجوه، والداعي إلى الفعل ليس إلا خوف الناس، والداعي إلى الفعل متى كان
كذلك وقع الفعل على وجه الكسل والفتور.
قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (كسالى) * بضم الكاف وفتحها جمع كسلان كسكارى في سكران.
ثم قال تعالى: * (يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) * والمعنى أنهم لا يقومون إلى الصلاة إلا لأجل الرياء والسمعة، لا لأجل الدين.
فإن قيل: ما معنى المرآة وهي مفاعلة من الرؤية.
قلنا: إن المرائي يريهم عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل، وفي قوله * (ولا يذكرون الله إلا قليلا) * وجوه: الأول: أن المراد بذكر الله الصلاة، والمعنى أنهم لا يصلون إلا قليلا، لأنه متى لم يكن معهم أحد من الأجانب لم يصلوا، وإذا كانوا مع الناس فعند دخول وقت الصلاة يتكلفون حتى يصيروا غائبين عن أعين الناس. الثاني: أن المراد بذكر الله أنهم كانوا في صلاتهم لا يذكرون الله إلا قليلا، وهو الذي يظهر مثل التكبيرات، فأما الذي يخفى مثل القراءة والتسبيحات فهم لا يذكرونها. الثالث: المراد أنهم لا يذكرون الله في جميع الأوقات سواء كان ذلك الوقت وقت الصلاة أو لم يكن وقت الصلاة إلا قليلا نادرا.
قال صاحب " الكشاف ". وهكذا نرى كثيرا من المتظاهرين بالإسلام، ولو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أيامه وأوقاته لا يفتر عنه. الرابع: قال قتادة إنما قيل: إلا قليلا، لأن الله تعالى لم يقبله، وما رده الله تعالى فكثيره قليل، وما قبله الله فقليله كثير
ثم قال تعالى:
* (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: مذبذبين. إما حال من قوله * (يراؤن) * أو من قوله * (لا يذكرون الله إلا قليلا) * (النساء: 142) ويحتمل أن يكون منصوبا على الذم.
المسألة الثانية: مذبذبين: أي متحيرين، وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين، أي
84

يرد ويدفع فلا يقر في جانب واحد، إلا أن الذبذبة فيها تكرير وليس في الذب، فكان المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه.
وأعلم أن السبب في ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي، فإن كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم كثر التذبذب والاضطراب، لأن منافع هذا العالم وأسبابه متغيرة سريعة التبدل، وإذا كان الفعل تبعا للداعي، والداعي تبعا للمقصود ثم إن المقصود سريع التبدل والتغير لزم وقوع التغير في الميل والرغبة، وربما تعارضت الدواعي والصوارف فيبقى الإنسان في الحيرة والتردد. أما من كان مطلوبه في فعله إنشاء الخيرات الباقية، واكتساب السعادات الروحانية، وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والتبدل لا جرم كان هذا الإنسان ثابتا راسخا فلهذا المعنى وصف الله تعالى أهل الإيمان بالثبات فقال * (يثبت الله الذين آمنوا) * (إبراهيم: 27) وقال * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) وقال: * (يا أيها النفس المطمئنة) * (الفجر: 26).
المسألة الثالثة: قرأ ابن عباس * (مذبذبين) * بكسر الذال الثانية، والمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم، بمعنى يتذبذبون كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: متذبذبين، وعن أبي جعفر: مذبذبين بالدال المهملة، وكأن المعنى أنهم تارة يكونون في دبة وتارة في أخرى، فلا يبقون على دبة واحدة والدبة الطريقة وهي التي تدب فيها الدواب.
المسألة الرابعة: قوله * (بين ذلك) * أي بين الكفر والإيمان، أو بين الكافرين والمؤمنين، وكلمة * (ذلك) * يشار به إلى الجماعة، وقد تقدم تقريره في تفسير قوله * (عوان بين ذلك) * (البقرة: 68) وذكر الكافرين والمؤمنين قد جرى في هذه القصة عند قوله * (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * (النساء: 139) وإذا جرى ذكر الفريقين فقد جرى ذكر الكفر والإيمان قال قتادة: معنى الآية ليسوا مؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك.
المسألة الخامسة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الحيرة في الدين إنما تحصل بإيجاد الله تعالى وقالوا: إن قوله * (مذبذبين) * يقتضي فاعلا قد ذبذبهم وصيرهم متحيرين مترددين، وذلك ليس باختيار العبد، فإن الإنسان إذا وقع في قلبه الدواعي المتعارضة الموجبة للتردد والحيرة، فلو أراد أن يدفع ذلك التردد عن نفسه لم يقدر عليه أصلا، ومن رجع إلى نفسه وتأمل في أحواله علم أن الأمر كما ذكرنا، وإذا كانت تلك الذبذبة لا بد لها من فاعل، وثبت أن فاعلها ليس هو العبد ثبت أن فاعلها هو الله تعالى، فثبت أن الكل من الله تعالى.
فإن قيل: قوله تعالى: * (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) * يقتضي ذمهم على ترك طريقة المؤمنين
85

وطريقة الكافرين، وذلك يقتضي أنه تعالى ما ذمهم على طريقة الكفار وإنه غير جائز.
قلنا: إن طريقة الكفار وإن كانت خبيثة إلا أن طريقة النفاق أخبث منها، ولذلك فإنه تعالى ذم الكفار في أول سورة البقرة في آيتين، وذم المنافقين في بضع عشرة آية، وما ذاك إلا أن طريقة النفاق أخبث من طريقة الكفار، فهو تعالى إنما ذمهم لا لأنهم تركوا الكفر، بل لأنهم عدلوا عنه إلى ما هو أخبث منه.
ثم قال تعالى: * (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * واحتج أصحابنا بهذه الآية على قولهم من وجهين: الأول: أن ذكر هذا الكلام عقيب قوله * (مذبذبين) * يدل على أن تلك الذبذبة من الله تعلى، وإلا لم يتصل هذا الكلام بما قبله. والثاني: أنه تصريح بأن الله تعالى تعالى أضله عن الدين. قالت المعتزلة: معنى هذا الإضلال سلب الألطاف، أو هو عبارة عن حكم الله عليه بالضلال، أو هو عبارة عن أن الله تعالى يضله يوم القيامة عن طريق الجنة، وهذه الوجوه قد تكلمنا عليها مرارا.
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكافرين أوليآء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) *
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) *.
أعلم أنه تعالى لما ذم المنافقين بأنهم مرة إلى الكفرة ومرة إلى المسلمين من غير أن يستقروا مع أحد الفريقين نهى المسلمين في هذه الآية أن يفعلوا مثل فعلهم فقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * والسبب فيه أن الأنصار بالمدينة كان لهم في بني قريظة رضاع وحلف ومودة، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من نتولى؟ فقال: المهاجرين؟ فنزلت هذه الآية.
والوجه الثاني: ما قاله القفال رحمه الله: وهو أن هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين يقول: قد بينت لكم أخلاق المنافقين ومذاهبهم فلا تتخذوا منهم أولياء.
ثم قال تعالى: * (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) *
فإن حملنا الآية الأولى على أنه تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار كان معنى الآية أتريدون
86

أن تجعلوا لله سلطانا مبينا على كونكم منافقين، والمراد أتريدون أن تجعلوا لأهل دين الله وهم الرسول وأمته، وإن حملنا الآية الأولى على المنافقين كان المعنى: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم في عقابكم حجة بسبب موالاتكم للمنافقين
ثم قال تعالى:
* (إن المنافقين فى الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الليث: الدرك أقصى قعر الشيء كالبحر ونحوه، فعلى هذا المراد بالدرك الأسفل أقصى قعر جهنم، وأصل هذا من الإدراك بمعنى اللحوق، ومنه إدراك الطعام وإدراك الغلام، فالدرك ما يلحق به من الطبقة، وظاهره أن جهنم طبقات، والظاهر أن أشدها أسفلها. قال الضحاك: الدرج إذا كان بعضها فوق بعض، والدرك إذا كان بعضها أسفل من بضع.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (في الدرك) * بسكون الراء والباقون بفتحها، قال الزجاج: هما لغتان مثل الشمع والشمع، إلا أن الاختيار فتح الراء لأنه أكثر استعمالا قال أبو حاتم: جمع الدرك أدراك كقولهم: جمل وأجمل، وفرس وأفرس، وجمع الدرك أدرك مثل فلس وأفلس وكلب وأكلب.
المسألة الثالثة: قال ابن الأنباري: إنه تعالى قال في صفة المنافقين إنهم في الدرك الأسفل، وقال في آل فرعون * (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * (غافر: 46) فأيهما أشد عذابا، المنافقون أم آل فرعون؟ وأجاب بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل، وقد اجتمع فيه الفريقان. المسألة الرابعة: لما كان المنافق أشد عذابا من الكافر لأنه مثله في الكفر، وضم إليه نوع آخر من الكفر، وهو الاستهزاء بالإسلام وبأهله، وبسبب أنهم لما كانوا يظهرون الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين، فلهذه الأسباب جعل الله عذابهم أزيد من عذاب الكفار.
ثم قال تعالى: * (ولن تجد لهم نصيرا) * وهذا تهديد لهم.
واحتج أصحابنا بهذا على إثبات الشفاعة في حق الفساق من أهل الصلاة، قالوا: إنه تعالى خص المنافقين بهذا التهديد، ولو كان ذلك حاصلا في حق غير المنافقين لم يكن ذلك زجرا عن النفاق من حيث أنه نفاق، وليس هذا استدلالا بدليل الخطاب، بل وجه الاستدلال فيه أنه تعالى ذكره في معرض الزجر عن النفاق، فلو حصل ذلك مع عدمه لم يبق زجرا عنه من حيث إنه نفاق
87

ثم قال تعالى:
* (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) *
واعلم أن هذه الآية فيها تغليظات عظيمة على المنافقين، وذلك لأنه تعالى شرط في إزالة العقاب عنهم أمورا أربعة: أولها: التوبة، وثانيها: إصلاح العمل، فالتوبة عن القبيح، وإصلاح العمل عبارة عن الإقدام على الحسن، وثالثها: الاعتصام بالله، وهو أن يكون غرضه من التوبة وإصلاح العمل طلب مرضاة الله تعالى لا طلب مصلحة الوقت، لأنه لو كان مطلوبه جلب المنافع ودفع المضار لتغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعا، أما إذا كان مطلوبه مرضاة الله تعالى وسعادة الآخرة والاعتصام بدين الله بقي على هذه الطريقة ولم يتغير عنها.
ورابعها: الإخلاص، والسبب فيه أنه تعالى أمرهم أولا: بترك القبيح، وثانيا: بفعل الحسن، وثالثا: أن يكون غرضهم في ذلك الترك والفعل طلب مرضاة الله تعالى، ورابعا: أن يكون ذلك الغرض وهو طلب مرضاة الله تعالى خالصا وأن لا يمتزج به غرض آخر، فإذا حصلت هذه الشرائط الأربعة فعند ذلك قال: * (فأولئك مع المؤمنين) * ولم يقل فأولئك مؤمنون، ثم أوقع أجر المؤمنين في التشريف لإنضمام المنافقين إليهم، فقال: * (وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) * وهذه القرائن دالة على أن حال المنافق شديد عند الله تعالى.
* (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم وكان الله شاكرا عليما) *
فيه مسائل:
المسألة الأولى: أيعذبكم لأجل التشفي، أم لطلب النفع، أم لدفع الضرر، كل ذلك محال في حقه لأنه تعالى غنى لذاته عن الحاجات، منزه عن جلب المنافع ودفع المضار، وإنما المقصود منه حمل المكلفين على فعل الأحسن والاحتراز عن القبيح، فإذا أتيتم بالحسن وتركتم القبيح فكيف يليق بكرمه أن يعذبكم.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على قولنا، وذلك لأنها دالة على أنه سبحانه
88

ما خلق خلقا لأجل التعذيب والعقاب، فإن قوله * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) * صريح في أنه لم يخلق أحدا لغرض التعذيب، وأيضا الآية تدل على أن فاعل الشكر والإيمان هو العبد وليس ذلك فعلا لله تعالى، وإلا لصار التقدير: ما يفعل الله بعذابكم إذا خلق الشكر والإيمان فيكم ومعلوم أن هذا غير منتظم، وقد سبق الجواب عن هذه الكلمات.
المسألة الثالثة: قال أصحابنا: دلت هذه الآية على أنه لا يعذب صاحب الكبيرة لأنا نفرض الكلام فيمن شكر وآمن ثم أقدم على الشرب أو الزنا، فهذا وجب أن لا يعاقب بدليل قوله تعالى: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) * فإن قالوا لا نسلم أن صاحب الكبيرة مؤمن، قلنا: ذكرنا الوجوه الكثيرة في هذا الكتاب على أنه مؤمن.
المسألة الرابعة: في تقدم الشكر على الإيمان وجهان: الأول: أنه على التقديم والتأخير، أي إن آمنتم وشكرتم، لأن الإيمان مقدم على سائر الطاعات. الثاني: إذا قلنا: الواو لا توجب الترتيب فالسؤال زائل. الثالث: أن الإنسان إذا نظر في نفسه رأى النعمة العظيمة حاصلة في تخليقها وترتيبها فيشكر شكرا مجملا، ثم إذا تمم النظر في معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكرا مفصلا، فكان ذلك الشكر المجمل مقدما على الإيمان، فلهذا قدمه عليه في الذكر.
ثم قال: * (وكان الله شاكرا عليما) * لأنه تعالى لما أمرهم بالشكر سمى جزاء الشكر شكرا على سبيل الاستعارة، فالمراد من الشاكر في حقه تعالى كونه مثيبا على الشكر، والمراد من كونه عليما أنه عالم بجميع الجزئيات، فلا يقع الغلط له البتة، فلا جرم يوصل الثواب إلى الشاكر والعقاب إلى المعرض.
* (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجهان: الأول: أنه تعالى لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك الستر غير لائق بالرحيم الكريم ذكر تعالى ما يجري مجرى العذر في ذلك فقال: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * يعني أنه تعالى لا يحب إظهار الفضائح
89

والقبائح إلا في حق من عظم ضرره وكثر مكره وكيده، فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " أذكروا الفاسق بما فيه كي تحذره الناس " وهؤلاء المنافقون قد كان كثر مكرهم وكيدهم وظلمهم في حق المسلمين وعظم ضررهم، فلهذا المعنى ذكر الله فضائحهم وكشف أسرارهم. الثاني: أنه تعالى ذكر في هذه الآية المتقدمة أن هؤلاء المنافقين إذا تابوا أخلصوا صاروا من المؤمنين، فيحتمل أنه كان يثوب بعضهم ويخلص في توبته ثم لا يسلم بعد ذلك من التعيير والذم من بعض المسلمين بسبب ما صدر عنه في الماضي من النفاق، فبين تعالى في هذه الآية أنه تعالى لا يحب هذه الطريقة، ولا يرضى بالجهر بالسوء من القول إلا من ظلم نفسه وأقام على نفاقه فإنه لا يكره ذلك.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: دلت الآية على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح ولا يخلقها، وذلك لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته، فلما قال: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) * علمنا أنه لا يريد ذلك، وأيضا لو كان خالقا لأفعال العباد لكان مريدا لها، ولو كان مريدا لها لكان قد أحب إيجاد الجهر بالسوء من القول، وإنه خلاف الآية.
والجواب: المحبة عندنا عبارة عن إعطاء الثواب على الفعل، وعلى هذا الوجه يصح أن يقال: إنه تعالى أراده ولكنه ما أحبه والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال أهل العلم: إنه تعالى لا يحب الجهر بالسوء من القول ولا غير الجهر أيضا، ولكنه تعالى إنما ذكر هذا الوصف لأن كيفيته الواقعة أوجبت ذلك كقوله * (إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) * (النساء: 94) والتبين واجب في الطعن والإقامة، فكذا ههنا.
المسألة الرابعة: في قوله * (إلا من ظلم) * قولان، وذلك لأنه إما أن يكون استثناء منقطعا أو متصلا. القول الأول: أنه استثناء متصل، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: قال أبو عبيدة هذا من باب حذف المضاف على تقدير: إلا جهر من ظلم. ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، الثاني: قال الزجاج: المصدر ههنا أقيم مقام الفاعل، والتقدير: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم. القول الثاني: إن هذا الاستثناء منقطع، والمعنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته.
90

المسألة الخامسة: المظلوم ماذا يفعل؟ فيه وجوه: الأول: قال قتادة وابن عباس: لا يحب الله رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم فإن له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه. الثاني: قال مجاهد: إلا أن يخبر بظلم ظالمه له. الثالث: لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكتومة، لأن ذلك يصير سببا لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الإنسان في الريبة، لكن من ظلم فيجوز إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب، وهذا قول الأصم. الرابع: قال الحسن: إلا أن ينتصر من ظالمه. قيل نزلت الآية في أبي بكر رضي الله عنه، فإن رجلا شتمه فسكت مرارا، ثم رد عليه فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: شتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه قمت، قال: إن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه ذهب ذلك الملك وجاء الشيطان، فلم أجلس عند مجيء الشيطان، فنزلت هذه الآية.
المسألة السادسة: قرأ جماعة من الكبار: الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير * (إلا من ظلم) * بفتح الظاء، وفيه وجهان: الأول: أن قوله * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) * كلام تام، وقوله * (إلا من ظلم) * كلام منقطع عما قبله، والتقدير: لكن من ظلم فدعوه وخلوه، وقال الفراء والزجاج: يعني لكن من ظلم نفسه فإنه يجهر بالسوء من القول ظلما واعتداء. الثاني: أن يكون الاستثناء متصلا والتقدير * (إلا من ظلم) * فإنه يجوز الجهر بالسوء من القول معه.
ثم قال: * (وكان الله سميعا عليما) * وهو تحذير من التعدي في الجهر المأذون فيه، ويعني فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف مستورا بسوء فإنه يصير عاصيا لله
بذلك، وهو تعالى سميع لما يقوله عليم بما يضمره.
* (إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) *
أعلم أن معاقد الخيرات على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، والذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين إيصال نفع إليهم ودفع ضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر.
ثم قال تعالى: * (فإن الله كان عفوا قديرا) * وفيه وجوه: الأول: أنه تعالى يعفو عن الجانبين
91

مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى وهو قول الحسن. الثاني: أن الله كان عفوا لمن عفا، قديرا على إيصال الثواب إليه. الثالث: قال الكلبي: إن الله تعالى أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك.
* (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) *
اعلم أنه تعالى لما تكلم على طريقة المنافقين عاد يتكلم على مذاهب اليهود والنصارى ومناقضاتهم وذكر في آخر هذه السورة من هذا الجنس أنواعا: النوع الأول: من أباطيلهم: إيمانهم ببعض الأنبياء دون البعض. فقال: * (إن الذين يكفرون بالله ورسله) * فإن اليهود آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل، والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن * (ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) * أي يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله * (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا) * أي بين الإيمان بالكل وبين الكفر بالكل سبيلا أي واسطة، وهي الإيمان بالبعض دون البعض.
ثم قال تعالى: * (أولئك هم الكافرون حقا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في خبر * (إن) * قولان: أحدهما: أنه محذوف، كأنه قيل جمعوا المخازي. والثاني: هو قوله * (أولئك هم الكافرون) * والأول أحسن لوجهين: أحدهما: أنه أبلغ لأنه إذا حذف الجواب ذهب الوهم كل مذهب من العيب، وإذا ذكر بقي مقتصرا على المذكور، والثاني: أنه رأس الآية، والأحسن أن لا يكون الخبر منفصلا عن المبتدأ.
92

المسألة الثانية: أنهم إنما كانوا كافرين حقا لوجهين: الأول: أن الدليل الذي يدل على نبوة البعض ليس إلا المعجز، وإذا كان دليلا على النبوة لزم القطع بأنه حيث حصل حصلت النبوة فإن جوزنا في بعض المواضع حصول المعجز بدون الصدق تعذر الاستدلال به على الصدق، وحينئذ يلزم الكفر بجميع الأنبياء فثبت أن من لم يقبل نبوة أحد منهم لزمه الكفر بجميعهم.
فإن قيل: هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء، ولكن ليس إذا توجه بعض الالزامات على الإنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلا به، فإلزام الكفر غير، والتزام الكفر غير، والقوم لما لم يلتزموا ذلك فيكف يقضى عليهم بالكفر.
قلنا: الإلزام إذا كان خفيا بحيث يحتاج فيه إلى فكر وتأمل كان الأمر فيه كما ذكرتم، أما إذا كان جليا واضحا لم يبق بين الالزام والالتزام فرق، والثاني: وهو أن قبول بعض الأنبياء أن كان لأجل الانقياد لطاعة الله تعالى وحكمه وجب قبول الكل، وإن كان لطلب الرياسة كان ذلك في الحقيقة كفرا بكل الأنبياء.
المسألة الثالثة: في قوله * (حقا) * وجهان: الأول: أنه انتصب على مثل قولك: زيد أخوك حقا، والتقدير أخبرتك بهذا المعنى إخبارا حقا، والثاني: أن يكون التقدير: أولئك هم الكافرون كفرا حقا. طعن الواحدي فيه وقال: الكفر لا يكون حقا بوجه من الوجوه.
والجواب أن المراد بهذا الحق الكامل، المعنى أولئك هم الكافرون كفرا كاملا ثابتا حقا يقينا.
* (والذين ءامنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما) *.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أردفه بالوعد فقال: * (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: إنما قال: * (ولم يفرقوا بين أحد منهم) * مع أن التفريق يقتضي شيئين فصاعدا إلا أن أحدا لفظ يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ويدل عليه وجهان: الأول: صحة الاستثناء. والثاني: قوله تعالى: * (لستن كأحد من النساء) * (الأحزاب: 32). إذا عرفت هذا فتقدير الآية: ولم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة.
المسألة الثانية: تمسك أصحابنا بهذه الآية في إثبات العفو وعدم الاحباط فقالوا: إنه تعالى
93

وعد من آمن بالله ورسله بأن يؤتيهم أجورهم، والمفهوم منه يؤتيهم أجورهم على ذلك الإيمان، وإلا لم تصلح هذه الآية لأن تكون ترغيبا في الإيمان، وذلك يوجب القطع بعدم الإحباط والقطع بالعفو وبالإخراج من النار بعد الإدخال فيها.
المسألة الثالثة: قرأ عاصم في رواية حفص * (يؤتيهم) * بالياء والضمير راجع إلى اسم الله، والباقون بالنون، وذلك أولى لوجهين: أحدهما: أنه أفخم. والثاني: أنه مشاكل لقوله * (وأعتدنا) * (الأحزاب: 31). المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (سوف يؤتيهم أجورهم) * معناه أن إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتحقيقه لا كونه متأخرا.
ثم قال: * (وكان الله غفورا رحيما) * والمراد أنه وعدهم بالثواب ثم أخبرهم بعد ذلك بأنه يتجاوز عن سيئاتهم ويعفو عنها ويغفرها.
* (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السمآء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جآءتهم البينات فعفونا عن ذلك وءاتينا موسى سلطانا مبينا * ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا فى السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) *.
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من جهالات اليهود، فإنهم قالوا: إن كنت رسولا من عند الله فائتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح.
وقيل: طلبوا أن ينزل عليهم كتابا من السماء إلى فلان وكتابا إلى فلان بأنك
94

رسول الله وقيل: كتابا نعاينه حين ينزل، وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت لأن معجزات الرسول كانت قد تقدمت، وحصلت فكان طلب الزيادة من باب التعنت.
ثم قال تعالى: * (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) * وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى عليه السلام وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت.
واعلم أن المقصود من الآية بيان ما جبلوا عليه من التعنت، كأنه قيل: إن موسى لما نزل عليه كتاب من السماء لم يكتفوا بذلك القدر، بل طلبوا منه الرؤية على سبيل المعاينة، وهذا يدل على أن طلب هؤلاء لنزول الكتاب عليهم من السماء ليس لأجل الاسترشاد بل لمحض العناد.
ثم قال تعالى: * (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) * وهذه القصة قد فسرناها في سورة البقرة، واستدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الرؤية قد أجبنا عنه هناك.
ثم قال تعالى: * (ثم اتخذوا العجل من بعد ما جائتهم البينات) * والمعنى بيان كمال جهالاتهم وإصرارهم على كفرهم فإنهم ما اكتفوا بعد نزول التوراة عليهم بطلب الرؤية جهرة، بل ضموا إليه عبادة العجل وذلك يدل على غاية بعدهم عن طلب الحق والدين، والمراد بالبينات من قوله * (من بعد ما جاءتهم البينات) * أمور: أحدها: أنه تعالى جعل ما أراهم من الصاعقة بينات، فإن الصاعقة وإن كانت شيئا واحدا إلا أنها كانت دالة على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه، وعلى كونه مخالفا للأجسام والأعراض وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة. وثانيها: أن المراد بالبينات إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعد ما أماتهم. وثالثها: أنهم إنما عبدوا العجل من بعد أن شاهدوا معجزات موسى عليه السلام التي كان يظهرها في زمان فرعون، وهي العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها من المعجزات القاهرة، والمقصود من ذلك الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء فاعلم يا محمد أنهم لا يطلبونه منك إلا عنادا ولجاجا، فإن موسى قد أنزل الله عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات القاهرة، ثم أنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل، وكل لذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق.
ثم قال: * (فعفونا عن ذلك) * يعني لم نستأصل عبدة العجل * (وآتينا موسى سلطانا مبينا) * يعني أن قوم موسى وإن كانوا قد بالغوا في إظهار اللجاج والعناد معه لكنا نصرناه وقويناه فعظم أمره وضعف خصمه، وفيه بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التنبيه، والرمز بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه
95

بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم، ثم حكى تعالى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم: فأحدها: أنه تعالى رفع فوقهم الطور بميثاقهم، وفيه وجوه: الأول: أنهم أعطوا الميثاق على أن لا يرجعوا عن الدين. ثم رجعوا عنه وهموا بالرجوع، فرفع الله فوقهم الطور حتى يخافوا فلا ينقضوا الميثاق. الثاني: أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع الله الجبل فوقهم حتى قبلوا، وصار المعنى: ورفعنا فوقهم الطور لأجل أن يعطوا الميثاق بقبول الدين. الثالث: أنهم أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عن الدين فالله يعذبهم بأي نوع من أنواع العذاب أراد، فلما هموا بترك الدين أظل الله الطور عليهم وهو المراد من قوله * (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم) *. وثانيها: قوله: * (وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا) * ومضى بيانه في سورة البقرة. وثالثها: قوله * (وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: * (لا تعدوا في السبت) *، فيه وجهان: الأول: لا تعدوا باقتناص السمك فيه قال الواحدي: يقال عدا عليه أشد العداء والعدو والعدوان، أي ظلمه وجاوز الحد، ومنه قوله * (فيسبوا الله عدوا) * (الأنعام: 108) الثاني: لا تعدوا في السبت من العدو بمعنى الحضر، والمراد النهي عن العمل والكسب يوم السبت، كأنه قال لهم: اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا الرزاق.
المسألة الثانية: قرأ نافع * (لا تعدوا) * ساكنة العين مشددة الدال، وأراد: لا تعتدوا، وحجته قوله * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) * (البقرة: 65) فجاء في هذه القصة بعينها افتعلوا، ثم أدغم التاء في الدال لتقاربهما ولأن الدال تزيد على التاء في الجهر، وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني منهما مدغما ولم يكن الأول حرف لين نحو دابة وشابة، وقيل لهم، ويقولون: إن المد يصير عوضا عن الحركة، وروى ورش عن نافع * (لا تعدوا) * بفتح العين وتشديد الدال، وذلك لأنه لما أدغم التاء في الدال نقل حركتها إلى العين، والباقون * (تعدوا) * بضم الدال وسكون العين حقيقة.
المسألة الثالثة: قال القفال: الميثاق الغليط هو العهد المؤكد غاية التوكيد، وذلك بين فيما يدعونه من التوراة
96

ثم قال تعالى:
* (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بايات الله وقتلهم الانبيآء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في متعلق الباء في قوله * (فبما نقضهم) * قولان الأول: أنه محذوف تقديره فيما نقضهم ميثاقهم وكذا، لعنادهم وسخطنا عليهم، والحذف أفخم لأن عند الحذف يذهب الوهم كل مذهب، ودليل المحذوف أن هذه الأشياء المذكورة من صفات الذم فيدل على اللعن. الثاني: أن متعلق الباء هو قوله * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * (النساء: 160) وهذا قول الزجاج ورغم أن قوله * (فبظلم من الذين هادوا) * بدل من قوله * (فيما نقضهم) *.
واعلم أن القول الأول أولى، ويدل عليه وجهان: أحدهما: أن من قوله * (فبما نقضهم ميثاقهم) * إلى قوله * (فبظلم) * الآيتين بعيد جدا، فجعل أحدهما بدلا عن الآخر بعيد. الثاني: أن تلك الجنايات المذكورة عظيمة جدا لأن كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء وإنكارهم للتكليف بقولهم: قلوبنا غلف أعظم الذنوب، وذكر الذنوب العظيمة إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة، وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقه بتلك الجنايات العظيمة.
المسألة الثانية: اتفقوا على أن (ما في قوله * (فبما نقضهم ميثاقهم) * صلة زائدة، والتقدير: فبنقضهم ميثاقهم، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله * (فبما رحمة من الله لنت لهم) * (آل عمران: 159). المسألة الثالثة: أنه تعالى أدخل حرف الباء على أمور: أولها: نقض الميثاق. وثانيها: كفرهم بآيات الله، والمراد منه كفرهم بالمعجزات، وقد بينا فيما تقدم أن من أنكر معجزة رسول واحد فقد أنكر جميع معجزات الرسل، فلهذا السبب حكم الله عليهم بالكفر بآيات الله. وثالثها: قتلهم الأنبياء بغير حق، وذكرنا تفسيره في سورة البقرة. ورابعها: قولهم * (قلوبنا غلف) * وذكر القفال فيه وجهين: أحدهما: أن غلفا جمع غلاف والأصل غلف بتحريك اللام فخفف بالتسكين، كما قيل كتب ورسل بتسكين التاء والسين، والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا غلف، أي أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا، فكذبوا الأنبياء بهذا القول. والثاني: أن
97

غلفا جمع أغلف وهو المتغطى بالغلاف أي بالغطاء، والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا في أغطية فهي لا تفقه ما تقولون، نظيره ما حكى الله في قوله * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) * (فصلت: 5).
ثم قال تعالى: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) *. فإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الأول كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم أوعية للعلم وبين أنه تعالى طبع عليها وختم عليها فلا يصل أثر الدعوة والبيان إليها، وهذا يليق بمذهبنا، وإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الثاني كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم في الأكنة والأغطية، وهذا يليق بمذهب المعتزلة، إلا أن الوجه الأول أولى، وهو المطابق لقوله * (بل طبع الله عليها بكفرهم) *.
ثم قال: * (فلا يؤمنون إلا قليلا) * أي لا يؤمنون إلا بموسى والتوراة، وهذا إخبار منهم على حسب دعواهم وزعمهم، وإلا فقد بينا أن من يكفر برسول واحد وبمعجزة واحدة فإنه لا يمكنه الإيمان بأحد من الرسل البتة.
* (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) *.
وخامسها: قوله: * (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) *.
اعلم أنهم لما نسبوا مريم إلى الزنا لإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب ومنكر قدرة الله على ذلك كافر لأنه يلزمه أن يقول: كل ولد ولد فهو مسبوق بوالد لا إلى أول، وذلك يوجب القول بقدم العالم والدهر، والقدح في وجود الصانع المختار، فالقوم لا شك أنهم أولا: أنكروا قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب، وثانيا: نسبوا مريم إلى الزنا، فالمراد بقوله * (وبكفرهم) * هو إنكارهم قدرة الله تعالى، وبقوله * (وقولهم على مريم بهتانا عظيما) * نسبتهم إياها إلى الزنا، ولما حصل التغير لا جرم حسن العطف، وإنما صار هذا الطعن بهتانا عظيما لأنه ظهر عند ولادة عيسى عليه السلام من الكرامات والمعجزات ما دل على براءتها من كل عيب، نحو قوله * (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) * (مريم: 25) ونحو كلام عيسى عليه السلام حال كونه طفلا منفصلا عن أمه، فإن كل ذلك دلائل قاطعة على براءة مريم عليها السلام من كل ريبة، فلا
98

جرم وصف الله تعالى طعن اليهود فيها بأنه بهتان عظيم، وكذلك وصف طعن المنافقين في عائشة بأنه بهتان عظيم حيث قال: * (سبحانك هذا بهتان عظيم) * (النور: 16) وذلك يدل على أن الروافض الذين يطعنون في عائشة بمنزلة اليهود الذين يطعنون في مريم عليها السلام.
* (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما) *.
وسادسها: قوله تعالى: * (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) *. وهذا يدل على كفر عظيم منهم لأنهم قالوا فعلنا ذلك، وهذا يدل على أنهك كانوا راغبين في قتله مجتهدين في ذلك، فلا شك أن هذا القدر كفر عظيم.
فإن قيل: اليهود كانوا كافرين بعيسى أعداء له عامدين لقتله يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة، فكيف قالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله؟ والجواب عنه من وجهين: الأول: أنهم قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * (الشعراء: 27) وكقول كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (يا أيها الذين نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * (الحجز: 6)، والثاني: أنه يجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعا لعيسى عليه السلام عما كانوا يذكرونه به.
ثم قال تعالى * (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) *.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود أنهم زعموا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام فالله تعالى كذبهم في هذه الدعوى وقال * (ومال قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) * وفي الآية سؤالان: السؤال الأول: قوله * (شبه) * مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسندا إلى المسيح فهو مشبه به وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر.
والجواب من وجهين: الأول: أنه مسند إلى الجار والمجرور، وهو كقولك: خيل إليه كأنه قيل: ولكن وقع لهم الشبه. الثاني: أن يسند إلى ضمير المقتول لأن قوله * (وما قتلوه) * يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكورا بهذا الطريق، فحسن إسناد * (شبه) * إليه.
السؤال الثاني: أنه إن جاز أن يقال: أن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة، فإنا إذا رأينا زيدا فلعله ليس بزيد، ولكنه ألقى شبه زيد عليه، وعند ذلك
99

لا يبقى النكاح والطلاق والملك، وثوقا به، وأيضا يفضي إلى القدح في التواتر لأن خبر التواتر إنما يفيد العلم بشرط انتهائه في الآخرة إلى المحسوس، فإذا جوزنا حصول مثل هذه الشبهة في المحسوسات توجه الطعن في التواتر، وذلك يوجب القدح في جميع الشرائع، وليس لمجيب أن يجيب عنه بأن ذلك مختص بزمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنا نقول: لو صح ما ذكرتم فذاك إنما يعرف بالدليل والبرهان، فمن لم يعلم ذلك الدليل وذلك البرهان وجب أن لا يقطع بشيء من المحسوسات ووجب أن لا يعتمد على شيء من الأخبار المتواترة، وأيضا ففي زماننا إن انسدت المعجزات فطريق الكرامات مفتوح، وحينئذ يعود الاحتمال المذكور في جميع الأزمنة: وبالجملة ففتح هذا الباب يوجب الطعن في التواتر، والطعن فيه يوجب الطعن في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذا فرع يوجب الطعن في الأصول فكان مردودا.
والجواب: اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع وذكروا وجوها: الأول: قال كثير من المتكلمين: إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم، فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس أنه المسيح، والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلا بالاسم لأنه كان قليل المخالطة للناس، وبهذا الطريق زال السؤال.
لا يقال: إن النصارى ينقلون عن أسلافهم أنهم شاهدوه مقتولا، لأنا نقول: إن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب.
والطريق الثاني: أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر ثم فيه وجوه: الأول: أن اليهود لما علموا أنه حاضر في البيت الفلاني مع أصحابه أمر يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له طيطايوس أن يدخل على عيسى عليه السلام ويخرجه ليقتله، فلما دخل عليه أخرج الله عيسى عليه السلام من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فظنوه هو فصلبوه وقتلوه. الثاني: وكلوا بعيسى رجلا يحرسه وصعد عيسى عليه السلام في الجبل ورفع إلى السماء، وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست بعيسى. الثالث: أن اليهود لما هموا بأخذه وكان مع عيسى عشرة من أصحابه فقال لهم: من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي؟ فقال واحد منهم أنا، فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل، ورفع الله عيسى عليه السلام. الرابع: كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى عليه السلام، وكان منافقا فذهب إلى اليهود ودلهم عليه، فلما دخل مع اليهود لأخذه ألقى الله تعالى شبهه عليه فقتل وصلب. وهذه الوجوه متعارضة متدافعة والله أعلم بحقائق الأمور.
100

ثم قال تعالى:
(وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم الا اتباع الظن)
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: وان في قوله (وان الذين اختلفوا فيه)
قولين: الأول: أنهم هم النصارى وذلك لأنهم بأسرهم متفقون على أن اليهود قتلوه، إلا أن كبار فرق النصارى ثلاثة: النسطورية، والملكانية، واليعقوبية.
أما النسطورية فقد زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته، وأكثر الحكماء يرون ما يقرب من هذا القول، قالوا: لأنه ثبت أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو إما جسم شريف منساب في هذا البدن، وإما جوهر روحاني مجرد في ذاته وهو مدبر في هذا البدن، فالقتل إنما ورد على هذا الهيكل، وأما النفس التي هي في الحقيقة عيسى عليه السلام فالقتل ما ورد عليه، لا يقال: فكل إنسان كذلك فما الوجه لهذا التخصيص؟ لأنا نقول: إن نفسه كانت قدسية علوية سماوية شديدة الاشراق بالأنوار الإلهية عظيمة القرب من أرواح الملائكة، والنفس متى كانت كذلك لم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن، ثم إنها بعد الانفصال عن ظلمة البدن تتخلص إلى فسحة السماوات وأنوار عالم الجلال فيعظم بهجتها وسعادتها هناك، ومعلوم أن هذه الأحوال غير حاصلة لكل الناس بل هي غير حاصلة من مبدأ خلقة آدم عليه السلام إلى قيام القيامة إلا لأشخاص قليلين، فهذا هو الفائدة في تخصيص عيسى عليه السلام بهذه الحالة.
وأما الملكانية فقالوا: القتل والصلب وصلا إلى اللاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة.
وقالت اليعقوبية: القتل والصلب وقعا بالمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين، فهذا هو شرح مذاهب النصارى في هذا الباب، وهو المراد من قوله * (وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه) *.
القول الثاني: أن المراد بالذين اختلفوا هم اليهود، وفيه وجهان: الأول: أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به كان الشبه قد ألقى على وجهه ولم يلق عليه شبه جسد عيسى عليه السلام، فلما قتلوه ونظروا إلى بدنه قالوا: الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره.
الثاني: قال السدي: إن اليهود حبسوا عيسى مع عشرة من الحواريين في بيت، فدخل عليه رجل من اليهود ليخرجه ويقتله، فألقى الله شبه عيسى عليه ورفع إلى السماء، فأخذوا ذلك الرجل وقتلوه على أنه عيسى عليه السلام، ثم
101

قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ فذلك اختلافهم فيه.
المسألة الثانية: احتج نفاة القياس بهذه الآية وقالوا: العمل بالقياس اتباع للظن، واتباع الظن مذموم في كتاب الله بدليل أنه إنما ذكره في معرض الذم، ألا ترى أنه تعالى وصف اليهود والنصارى ههنا في معرض الذم بهذا فقال * (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) * وقال في سورة الأنعام في مذمة الكفار * (إن يتبعون إلا الظن وإن هم لا يخرصون) * (الأنعام: 116) وقال في آية أخرى * (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) * (يونس: 36) وكل ذلك يدل على أن اتباع الظن مذموم.
والجواب: لا نسلم أن العمل بالقياس اتباع الظن، فإن الدليل القاطع لما دل على العمل بالقياس كان الحكم المستفاد من القياس معلوما لا مظنونا، وهذا الكلام له غور وفيه بحث.
ثم قال تعالى: * (وما قتلوه بل رفعه الله إليه) *.
واعلم أن هذا اللفظ يحتمل وجهين: أحدهما: يقين عدم القتل، والآخر يقين عدم الفعل، فعلى التقدير الأول يكون المعنى: أنه تعالى أخبر أنهم شاكون في أنه هل قتلوه أم لا، ثم أخبر محمدا بأن اليقين حاصل بأنهم ما قتلوه، وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه أم لا، ثم أخبر محمدا بأن اليقين حاصل بأنهم ما قتلوه، وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه؟ ثم أكد ذلك بأنهم قتلوا ذلك الشخص الذي قتلوه لا على يقين أنه عيسى عليه السلام، بل حين ما قتلوه كانوا شاكين في أنه هل هو عيسى أم لا، والاحتمال الأول أولى لأنه تعالى قال بعده * (بل رفعه الله إليه) * وهذا الكلام إنما يصح إذا تقدم القطع واليقين بعدم القتل.
أما قوله: * (بل رفعه الله إليه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو والكسائي * (بل رفعه الله إليه) * بإدغام اللام في الراء والباقون بترك الإدغام، حجتهما قرب مخرج اللام من الراء والراء أقوى من اللام بحصول التكرير فيها، ولهذا لم يجز إدغام الراء في اللام لأن الأنقص يدغم في الأفضل، وحجة الباقين أن الراء واللام حرفان من كلمتين فالأولى ترك الإدغام.
المسألة الثانية: المشبهة احتجوا بقوله تعالى: * (بل رفعه الله إليه) * في إثبات الجهة.
والجواب: المراد الرفع إلى موضع لا يجرى فيه حكم غير الله تعالى كقوله * (وإلى الله ترجع الأمور) * (البقرة: 210) وقال تعالى: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) * (النساء: 100) وكانت الهجرة في ذلك الوقت إلى المدينة، وقال إبراهيم * (إني ذاهب إلى ربي) * (الصافات: 99).
102

المسألة الثالثة: رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية، ونظير هذه الآية قوله في آل عمران * (إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا) * (آل عمران: 55) واعلم أنه تعالى لما ذكر عقيب ما شرح أنه وصل إلى عيسى أنواع كثيرة من البلاء والمحنة أنه رفعه إليه دل ذلك على أن رفعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية، وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية.
ثم قال تعالى: * (وكان الله عزيزا حكيما) *.
والمراد من العزة كمال القدرة، ومن الحكمة كمال العلم، فنحتج بهذا على أن رفع عيسى من الدنيا إلى السماوات وإن كان كالمعتذر على البشر لكنه لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وإلى حكمتي، وهو نظير قوله تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) * (الإسراء: 1) فإن الإسراء وإن كان متعذرا بالنسبة إلى قدرة محمد إلا أنه سهل بالنسبة إلى قدرة الحق سبحانه
ثم قال تعالى:
* (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) *.
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه السلام وبين أنه ما حصل لهم ذلك المقصود، وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجل المراتب بين تعالى أن هؤلاء اليهود الذين كانوا مبالغين في عداواته لا يخرج أحد منهم من الدنيا إلا بعد أن يؤمن به فقال: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) *.
واعلم أن كلمة * (إن) * بمعنى (ما) النافية كقوله * (وإن منكم إلا واردها) * (مريم: 71) فصار التقدير: وما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به.
ثم إنا نرى أكثر اليهود يموتون ولا يؤمنون بعيسى عليه السلام.
والجواب من وجهين: الأول: ما روي عن شهر بن حوشب قال: قال الحجاج إني ما قرأتها إلا وفي نفسي منها شيء، يعني هذه الآية فإني أضرب عنق اليهودي ولا أسمع منه ذلك. فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى نبيا فكذبت به، فيقول آمنت أنه عبد الله، وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه هو الله وابن الله،
103

فيقول: آمنت أنه عبد الله فأهل الكتاب يؤمنون به، ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان، فاستوى الحجاج جالسا وقال: عمن نقلت هذا؟ فقلت: حدثني به محمد بن علي بن الحنفية فأخذ ينكت في الأرض بقضيب ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية.
وعن ابن عباس أنه فسره كذلك فقال له عكرمة: فإن خر من سفق بيت أو احترق أو أكله سبع قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به، ويدل عليه قراءة أبي * (إلا ليؤمنن به قبل موته) * بضم النون على معنى وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم لأن أحدا يصلح للجميع، قال صاحب " الكشاف ": والفائدة في أخبار الله تعالى بإيمانهم بعيسى قبل موتهم أنهم متى علموا أنه لا بد من الإيمان به لا محالة فلأن يؤمنوا به حال ما ينفعهم ذلك الإيمان أولى من أن يؤمنوا به حال ما لا ينفعهم ذلك الإيمان. والوجه الثاني: في الجواب عن أصل السؤال: أن قوله * (قبل موته) * أي قبل موت عيسى، والمراد أن أهل الكتاب الذين يكونون موجودين في زمان نزوله لا بد وأن يؤمنوا به: قال بعض المتكلمين: إنه لا يمنع نزوله من السماء إلى الدنيا إلا أنه إنما ينزل عند ارتفاع التكاليف أو بحيث لا يعرف، إذ لو نزل مع بقاء التكاليف على وجه يعرف أنه عيسى عليه السلام لكان إما أن يكون نبيا ولا نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، أو غير نبي وذلك غير جائز على الأنبياء، وهذا الاشكال عندي ضعيف لأن انتهاء الأنبياء إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فعند مبعثه انتهت تلك المدة، فلا يبعد أن يصير بعد نزوله تبعا لمحمد عليه الصلاة والسلام.
ثم قال تعالى: * (ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) * قيل: يشهد على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه، وعلى النصارى أنهم أشركوا به، وكذلك كل نبي شاهد على أمته
ثم قال تعالى:
* (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما) *.
104

واعلم أنه تعالى لما شرح فضائح أعمال اليهود وقبائح الكافرين وأفعالهم ذكر عقيبه تشديده تعالى عليهم في الدنيا وفي الآخرة، أما تشديده عليهم في الدنيا فهو أنه تعالى حرم عليهم طيبات كانت محللة لهم قبل ذلك، كما قال تعالى في موضع آخر * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) * (الأنعام: 146) ثم إنه تعالى بين ما هو كالعلة الموجبة لهذه التشديدات.
واعلم أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين: الظلم للخلق، والإعراض عن الدين الحق، أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله * (وبصدهم عن سبيل الله) * ثم إنهم مع ذلك في غاية الحرص في طلب المال، فتارة يحصلونه بالربا مع أنهم نهوا عنه، وتارة بطريق الرشوة وهو المراد بقوله * (وأكلهم أموال الناس بالباطل) * ونظيره قوله تعالى: * (سماعون الكذب أكالون للسحت) * (المائدة: 43) فهذه الأربعة هي الذنوب الموجبة للتشديد عليهم في الدنيا وفي الآخرة، أما التشديد في الدنيا فهو الذي تقدم ذكره من تحريم الطيبات عليهم، وأما التشديد في الآخرة فهو المراد من قوله * (واعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما) *.
واعلم أنه تعالى لما وصف طريقة الكفار والجهال من اليهود وصف طريقة المؤمنين منهم.
* (لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة والمؤمنون بالله واليوم الاخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المراد من ذلك عبد الله بن سلام وأصحابه الراسخون في العلم الثابتون فيه، وهم في الحقيقة المستدلون بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك، وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة، فالراسخون هم المستدلون والمؤمنون، يعني المؤمنين منهم أو المؤمنين من المهاجرين والأنصار وارتفع الراسخون على الابتداء و * (يؤمنون) * خبره، وأما قوله * (والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) *
105

ففيه أقوال: الأول: روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها.
واعلم أن هذا بعيد لأن هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه، الثاني: وهو قول البصريين: أنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، قالوا إذا قلت: مررت بزيد الكريم فلك أن تجر الكريم لكونه صفة لزيد، ولك أن تنصبه على تقدير أعني، وإن شئت رفعت على تقدير هو الكريم، وعلى هذا يقال: جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد، والتقدير جاءني قومك أعني المطعمين في المحل وهم المغيثون في الشدائد فكذا ههنا تقدير الآية: أعني المقيمين اللاة وهم المؤتون الزكاة، طعن الكسائي في هذا القول وقال: النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام، وههنا لم يتم الكلام، لأن قوله * (لكن الراسخون في العلم) * منتظر للخبر، والخبر هو قوله * (أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) *.
والجواب: لا نسلم أن الكلام لا يتم إلا عند قوله * (أولئك) * لأنا بينا أن الخبر هو قوله * (يؤمنون) * وأيضا لم لا يجوز الاعتراض بالمدح بين الاسم والخبر؛ وما الدليل على امتناعه؟ فهذا القول هو المعتمد في هذه الآية.
والقول الثالث: وهو اختيار الكسائي، وهو أن المقيمين خفض بالعطف على (ما) في قوله * (بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * والمعنى: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالمقيمين الصلاة، ثم عطف على قوله * (والمؤمنون) * قوله * (والمؤتون الزكاة) * والمراد بالمقيمين الصلاة الأنبياء، وذلك لأنه لم يخل شرع أحد منهم من الصلاة. قال تعالى في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد ذكر أعدادا منهم * (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة) * (الأنبياء: 73) وقيل: المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم الصافون وهم المسبحون وأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقوله * (يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * يعني يؤمنون بالكتب، وقوله * (والمقيمين الصلاة) * يعني يؤمنون بالرسل. الرابع: جاء في مصحف عبد الله بن مسعود * (والمقيمون
الصلاة) * بالواو، وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي.
المسألة الثانية: اعلم أن العلماء على ثلاثة أقسام: الأول: العلماء بأحكام الله تعالى فقط. والثاني: العلماء بذات الله وصفات الله فقط. والثالث: العلماء بأحكام الله وبذات الله، أما الفريق الأول فهم العالمون بأحكام الله وتأليفه وشرائعه، وأما الثاني: فهم العالمون بذات الله وبصفاته الواجبة والجائزة والممتنعة، وأما الثالث: فهم الموصوفون بالعاملين وهم أكابر العلماء، وإلى هذه الأقسام الثلاثة أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء ".
106

وإذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى وصفهم بكونهم راسخين في العلم، ثم شرح ذلك فبين أولا: كونهم عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بتلك الأحكام، فأما علمهم بأحكام الله فهو المراد من قوله * (والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * وأما عملهم بتلك الأحكام فهو المراد بقوله * (والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) * وخصهما بالذكر لكونهما أشرف الطاعات لأن الصلاة أشرف الطاعات البدينة، والزكاة أشرف الطاعات المالية، ولما شرح كونهم عالمين بأحكام الله وعاملين بها شرح بعد ذلك كونهم عالمين بالله، وأشرف المعارف العلم بالمبدأ والمعاد، فالعلم بالمبدأ هو المراد بقوله * (والمؤمنون بالله) * والعلم بالمعاد هو المراد من قوله * (واليوم الآخر) * ولما شرح هذه الأقسام ظهر كون هؤلاء المذكورين عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بها وظهر كونهم عالمين بالله وبأحوال المعاد، وإذا حصلت هذه العلوم والمعارف ظهر كونهم راسخين في العلم لأن الإنسان لا يمكنه أن يتجاوز هذا المقام في الكمال وعلو الدرجة، ثم أخبر عنهم بقوله * (أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) *.
* (إنآ أوحينآ إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينآ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وءاتينا داوود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) *.
107

وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذكر تعالى بعده أنهم لا يطلبون ذلك لأجل الاسترشاد ولكن لأجل العناد واللجاج، وحكى أنواعا كثيرة من فضائحهم وقبائحهم، وامتد الكلام إلى هذا المقام، شرع الآن في الجواب عن تلك الشبهة فقال: * (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) * والمعنى: أنا توافقنا على نبوة نوح وإبراهيم وإسماعيل وجميع المذكورين في هذه الآية، وعلى أن الله تعالى أوحى إليهم، ولا طريق إلى العلم بكونهم أنبياء الله ورسله إلا ظهور المعجزات عليهم ولكل واحد منهم نوع آخر من المعجزات على التعيين، وما أنزل الله على كل واحد من أنواع المعجزات عليهم، علمنا أن هذه الشبهة زائلة، وأن إصرار اليهود على طلب هذه المعجزة باطل، وتحقيق القول فيه أن إثبات المدلول يتوقف على ثبوت الدليل، ثم إذا حصل الدليل وتم فالمطالبة بدليل آخر تكون طلبا للزيادة وإظهارا للتعنت واللجاج، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا اعتراض عليه لأحد بأنه لم أعطى هذا الرسول هذه المعجزة وذلك الرسول الآخر معجزا آخر، وهذا الجواب المذكور ههنا هو الجواب المذكور في قوله تعالى: * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90) إلى قوله * (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) * (الإسراء: 93) يعني أنك إنما ادعيت الرسالة، والرسول لا بد له من معجزة تدل على صدقه، وذلك قد حصل، وأما أن تأتي بكل ما يطلب منك فذاك ليس من شرط الرسالة، فهذا جواب معتمد عن الشبهة التي أوردها اليهود، وهو المقصود الأصلي من هذه الآية.
المسألة الثانية: قال الزجاج: الإيحاء الإعلام على سبيل الخفاء، قال تعالى: * (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) * (مريم: 11) أي أشار إليهم، وقال * (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي) * (المائدة: 111) وقال * (وأوحى ربك إلى النحل) * (النحل: 68) * (وأوحينا إلى أم موسى) * (القصص: 7) والمراد بالوحي في هذه الآيات الثلاثة الإلهام.
المسألة الثالثة: قالوا إنما بدأ تعالى بذكر نوح لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام، ثم قال تعالى: * (والنبيين من بعده) * ثم خص بعض النبيين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم كقوله * (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (البقرة: 98).
واعلم أن الأنبياء المذكورين في هذه الآية سوى موسى عليه السلام إثنا عشر ولم يذكر موسى
108

معهم، وذلك لأن اليهود قالوا: إن كنت يا محمد نبيا فأتنا بكتاب من السماء دفعة واحدة كما أتى موسى عليه السلام بالتوراة دفعة واحدة، فالله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بأن هؤلاء الأنبياء الاثني عشر كلهم كانوا أنبياء ورسلا مع أن واحدا منهم ما أتى بكتاب مثل التوراة دفعة واحدة، ثم ختم ذكر الأنبياء بقوله * (وآتينا داود زبورا) * يعني أنكم اعترفتم بأن الزبور من عند الله، ثم إنه ما نزل على داود دفعة واحدة في ألواح مثل ما نزلت التوراة دفعة واحدة على موسى عليه السلام في الألواح، فدل هذا على أن نزول الكتاب لا على الوجه الذي نزلت التوراة لا يقدح في كون الكتاب من عند الله، وهذا إلزام حسن قوي.
المسألة الرابعة: قال أهل اللغة: الزبور الكتاب، وكل كتاب زبور، وهو مفعول بمعنى مفعول، كالرسول والركوب والحلوب، وأصله من زبرت بمعنى كتبت، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله * (جاؤوا بالبينات والزبر) * (آل عمران: 184).
المسألة الخامسة: قرأ حمزة * (زبورا) * بضم الزاي في كل القرآن، والباقون بفتحها، حجة حمزة أن الزبور مصدر في الأصل، ثم استعمل في المفعول كقولهم: ضرب الأمير، ونسج فلان فصار اسما ثم جمع على زبر كشهود وشهد، والمصدر إذا أقيم مقام المفعول فإنه يجوز جمعه كما يجمع الكتاب على كتب، فعلى هذا، الزبور الكتاب، والزبر بضم الزاي الكتب، أما قراءة الباقين فهي أولى لأنها أشهر، والقراءة بها أكثر.
109

ثم قال تعالى: * (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك) *.
وأعلم أنه انتصب قوله * (رسلا) * بمضمر يفسره قوله * (قد قصصناهم عليك) * والمعنى أنه تعالى إنما ذكر أحوال بعض الأنبياء في القرآن، والأكثرون غير مذكورين على سبيل التفصيل.
ثم قال * (وكلم الله موسى تكليما) * والمراد أنه بعث كل هؤلاء الأنبياء والرسل وخص موسى عليه السلام بالتكلم معه، ولم يلزم من تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف الطعن في نبوة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكذلك لم يلزم من تخصيص موسى بإنزال التوراة عليه دفعة واحدة طعن فيمن أنزل الله عليه الكتاب لا على هذا الوجه، وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرأ * (وكلم الله) * بالنصب، وقال بعضهم: وكلم الله معناه وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن وهذا تفسير باطل.
ثم قال تعالى: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في انتصاب قوله * (رسلا) * وجوه: الأول: قال صاحب " الكشاف ": الأوجه أن ينتصب على المدح. والثاني: أنه انتصب على البدل من قوله * (ورسلا) * الثالث: أن يكون التقدير: أوحينا إليهم رسلا فيكون منصوبا على الحال والله أعلم.
المسألة الثانية: أعلم أن هذا الكلام أيضا جواب عن شبهة اليهود، وتقريره أن المقصود من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يبشروا الخلق على اشتغالهم بعبودية الله، وأن ينذروهم على الإعراض عن العبودية، فهذا هو المقصود الأصلي من البعثة، فإذا حصل هذا المقصود فقد كمل الغرض وتم المطلوب، وهذا المقصود الأصلي حاصل بإنزال الكتاب المشتمل على بيان هذا المطلوب، ومن المعلوم أنه لا يختلف حال هذا المطلوب بأن يكون ذلك الكتاب مكتوبا في الألواح أو لم يكن، وبأن يكون نازلا دفعة واحدة أو منجما مفرقا، بل لو قيل: إن إنزال الكتاب منجما مفرقا أقرب إلى المصلحة لكان أولى لأن الكتاب إذا نزل دفعة واحدة كثرت التكاليف وتوجهت بأسرها على المكلفين فيثقل عليهم قبولها، ولهذا السبب أصر قوم موسى عليه السلام على التمرد ولم يقبلوا تلك التكاليف، أما إذا نزل الكتاب منجما مفرقا لم يكن كذلك، بل ينزل التكاليف شيئا فشيئا وجزءا فجزءا، فحينئذ يحصل الانقياد والطاعة من القوم وحاصل هذا لجواب أن المقصود من بعثة الرسل وإنزال الكتب هو الإعذار والإنذار، وهذا المقصود حاصل سواء نزل الكتاب دفعة واحدة أو لم يكن كذلك، فكان اقتراح اليهود في أنزال الكتاب دفعة واحدة اقتراحا فاسدا. وهذا أيضا جواب عن تلك الشبهة في غاية الحسن، ثم ختم الآية بقوله * (وكان الله عزيزا حكيما) * يعني هذا الذي يطلبونه من الرسول أمر هين في القدرة، ولكنكم طلبتموه على سبيل اللجاج وهو تعالى عزيز، وعزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه فكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع لعلمه تعالى بأنه لو فعل ذلك لبقوا مصرين على لجاجهم، وذلك لأنه تعالى أعطى موسى عليه السلام هذا التشريف ومع ذلك فقومه بقوا معه على المكابرة والإصرار واللجاج والله أعلم.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى لا يثبت إلا بالسمع قالوا لأن قوله * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * يدل على أن قبل البعثة يكون للناس حجة في ترك الطاعات والعبادات، ونظيره قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسرار: 15) وقوله * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) * (طه: 134).
110

المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على أن العبد قد يحتج على الرب، وأن الذي يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا اعتراض عليه في شيء، وأن له أن يفعل ما يشاء كما يشاء ليس بشيء قالوا: لأن قوله * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * يقتضي أن لهم على الله حجة قبل الرسل، وذلك يبطل قول أهل السنة.
والجواب: المراد لئلا يكون للناس على لله حجة أي ما يشبه الحجة فيما بينكم. قالت المعتزلة: وتدل هذه الآية أيضا على أن تكليف ما لا يطاق غير جائز لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذرا فبأن يكون عدم المكنة والقدرة صالحا لأن يكون عذرا كان أولى، وجوابه المعرضة بالعلم والله أعلم.
* (لكن الله يشهد بمآ أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) *
وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى: أعلم أن قوله * (لكن) * لا يبتدأ به لأنه استدراك على ما سبق، وفي ذلك المستدرك قولان: الأول: أن هذه الآيات بأسرها جواب عن قوله * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) * (النساء: 153) وهذا الكلام يتضمن أن هذا القرآن ليس كتابا نازلا عليهم من السماء فكأنه قيل: إنهم وإن شهدوا بأن القرآن لم ينزل عليه من السماء لكن الله يشهد بأنه نازل عليه من السماء. الثاني: أنه تعالى لما قال * (إنا أوحينا إليك) * (النساء: 163) قال القوم: نحن لا نشهد لك بذلك، فنزل * (لكن الله يشهد) *.
المسألة الثانية: شهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل عليه هذا القرآن البالغ في الفصاحة في اللفظ والشرف في المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته، فكان ذلك معجزا وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي صادقا، ولما كانت شهادته إنما عرفت بواسطة إنزال القرآن لا جرم قال * (لكن الله يشهد بما أنزل إليك) * أي يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك.
ثم قال تعالى: * (أنزله بعلمه) * وفيه مسألتان:
111

المسألة الأولى: أنه تعالى لما قال: * (يشهد بما أنزل إليك) * بين صفة ذلك الإنزال وهو أنه تعالى أنزله بعلم تام وحكمة بالغة، فصار قوله * (أنزله بعلمه) *
جاريا مجرى قول القائل: كتبت بالقلم وقطعت بالسكين، والمراد من قوله * (أنزله بعلمه) * وصف القرآن بغاية الحسن ونهاية الكمال، وهذا مثل ما يقال في الرجل المشهور بكمال الفشل والعلم إذا صنف كتابا واستقصى في تحريره: إنه إنما صنف هذا بكمال علمه وفضله، يعني أنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف هذا الكتاب فيدل ذلك على وصف ذلك التصنيف بغاية الجودة ونهاية الحسن، فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الثانية: قال أصحابنا: دلت الآية على أن لله تعالى علما، وذلك لأنها تدل على إثبات علم الله تعالى، ولو كان علمه نفس ذاته لزم إضافة الشيء إلى نفسه وهو محال.
ثم قال: * (والملائكة يشهدون) * وإنما تعرف شهادة الملائكة له بذلك لأن ظهور المعجز على يده يدل على أنه تعالى شهد به بالنبوة، وإذا شهد الله له بذلك فقد شهدت الملائكة لا محالة بذلك لما ثبت في القرآن أنهم لا يسبقونه بالقول، والمقصود كأنه قيل: يا محمد إن كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فإن الله تعالى وهو إله العالمين يصدقك في ذلك، وملائكة السماوات السبع يصدقونك في ذلك، ومن صدقه رب العالمين وملائكة العرش والكرسي والسماوات السبع أجمعون لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس، وهم هؤلاء اليهود.
ثم قال تعالى: * (وكفى بالله شهيدا) * والمعنى وكفى الله شهيدا، وقد سبق الكلام في مثل هذا.
* (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا * إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم خالدين فيهآ أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) *
اعلم أن هذا من صفات اليهود الذين تقدم ذكرهم، والمراد أنهم كفروا بمحمد وبالقرآن وصدوا غيرهم عن سبيل الله، وذلك بإلقاء الشبهات في قلوبهم نحو قولهم: لو كان رسولا لأتى
112

بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى، وقولهم: إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وقولهم: إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود، وقوله * (قد ضلوا ضلالا بعيدا) * وذلك لأن أشد الناس ضلالا من كان ضالا ويعتقد في نفسه أنه محق، ثم إنه يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه، ثم إنه يبل كنه جهده في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال، فهذا الإنسان لا شك أنه قد بلغ في الضلال إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات، فلهذا قال تعالى في حقهم * (قد ضلوا ضلالا بعيدا) * ولما وصف تعالى كيفية ضلالهم ذكر بعده وعيدهم فقال: * (إن الذين كفروا وظلموا) * محمدا بكتمان ذكر بعثته وظلموا عوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم * (لم يكن الله ليغفر لهم) *.
وأعلم أنا إن حملنا قوله * (إن الذين كفروا) * على المعهود السابق لم يحتج إلى إضمار شرط في هذا الوعيد، لأنا نحمل الوعيد في الآية على أقوام علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر، وإن حملناه على الاستغراق أضمرنا فيه شرط عدم التوبة، ثم قال * (ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم) *.
ثم قال تعالى: * (خالدين فيها أبدا) * والمعنى أنه تعالى لا يهديهم يوم القيامة إلى الجنة بل يهديهم إلى طريق جهنم * (وكان ذلك على الله يسيرا) * انتصب خالدين على الحال، والعامل فيه معنى لا ليهديهم لأنه بمنزلة نعاقبهم خالدين، وانتصب * (أبدا) * على الظرف، وكان ذلك على الله يسيرا، والمعنى لا يتعذر عليه شيء فكان إيصال الألم إليهم شيئا بعد شيء إلى غير النهاية يسيرا عليه وإن كان معتذرا على غيره.
* (يا أيها الناس قد جآءكم الرسول بالحق من ربكم فامنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن الله ما فى السماوات والارض وكان الله عليما حكيما) *
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة اليهود على الوجوه الكثيرة وبين فساد طريقتهم ذكر خطابا عاما يعمهم ويعم غيرهم في الدعوة إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام فقال: * (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم) * وهذا الحق فيه وجهان: الأول: أنه جاء بالقرآن، القرآن معجز فيلزم أنه جاء بالحق من ربه. والثاني: أنه جاء بالدعوة إلى عبادة الله والاعراض عن غيره، والعقل
113

* (يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فامنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله
إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له وما فى السماوات وما فى الارض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا * فأما الذين ءامنوا
يدل على أن هذا هو الحق، فيلزم أنه جاء بالحق من ربه.
ثم قال تعالى: * (فآمنوا خيرا لكم) * يعين فآمنوا يكن ذلك الإيمان خيرا لكم مما أنتم فيه، أي أحمد عقبة من الكفر، وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم لأنه مالك السماوات والأرض وخالقهما، ومن كان كذلك لم يكن محتاجا إلى شيء، ويحتمل أن يكون المراد: فإن صلى الله عليه وسلم ما في السماوات والأرض، ومن كان كذلك كان قادرا على إنزال العذاب الشديد عليكم لو كفرتم، ويحتمل أن يكون المراد: أنكم إن كفرتم فله ملك السماوات والأرض وله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره وحكمه.
ثم قال تعالى: * (وكان الله عليما حكيما) * أي عليما لا يخفى عليه من أعمال عباده المؤمنين والكافرين شيء، و * (حكيما) * لا يضيع عمل عامل منهم ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمسئ والمحسن، وهو كقوله * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار)
قوله تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح
عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا
ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله اله واجد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في
الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون ومن
114

وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
يستنكف عن عبادته ويستكبرون فسيحشرهم إليه جمعيا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات
فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا
يحدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا)
واعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات اليهود تكلم بعد ذلك منع النصارى في هذه الآية،
والتقدير: يا أهل الكتاب من النصارى لا تغلوا في دينكم أي لا تفرطوا في تعظيم المسيح، وذلك
لأنه تعالى حكى عن اليهود أنهم يبالغون في الطعن في المسيح، وهؤلاء النصارى يبالغون في تعظيمه
وكلا طرفي قصدهم ذميم، فلهذا قال للنصارى (لا تغلوا في دينكم) وقوله (ولا تقولوا على الله إلا الحق)
يعنى لا تصفوا الله بالحلول والاتحاد في بدن الانسان أو روحه، ونزهوه عن هذه الأحوال. ولما
منعهم عن طريق الغلو أرشدهم إلى طريق الحق، وهو أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وعبده
وأما قوله (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)
فاعلم أنا فسرنا (الكلمة في قوله تعالى (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح) والمعنى أن وجد
بكلمة الله وأمره عن غير واسطة ولا نطفة كما قال (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال
له كن فيكون) وأما قوله (وروح منه) ففيه وجوه: الأول: أنه جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا
شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إن روح، فلما كان عيسى لم يتكون من نكفة الأب وإنما تكون
من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح، والمراد من قوله (منه) التشريف والتفضيل
كما يقال: هذه نعمة من الله، والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة. الثاني: أنه كان سببا لحياة
الخلق في أديانهم، ومن كان كذلك وصف بأنه روح. قال تعالى في صفة القرآن (وكذلك أو حينا
إليك روحا من أمرنا) الثالث: روح منه أي رحمته منه، قيل في تفسير قوله تعالى (وأيدهم بروح
منه) أي برحمته منه، وقال عليه الصلاة والسلام إنما أنا رحمة مهداة فلما كان عيسى رحمة من الله
على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمى روحا منه. الرابع:
115

أن الروح هو النفخ في كلام العرب، فان الروح والريح متقاربان، فالروح عبارة عن نفخة جبريل
وقوله (منه) يعنى أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه، وهذا كقوله (فنفخنا
فيها من روحنا) الخامس: قوله (روح) أدخل التنكير في لفظ (روح) وذلك يفيد التعظيم، فكان
المعنى: وروح من الأرواح الشريفة القدسية العالية، وقوله (منه) إضافة لذلك الروح إلى نفسه
لأجل التشريف والتعظيم.
ثم قال تعالى (فآمنوا بالله ورسله) أي ان عيسى من رسل الله فآمنوا به كايمانكم بسائر
الرسل ولا تجعلوه إلها.
ثم قال (ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم) وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى) المعنى: ولا تقولوا إن الله سبحانه واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم.
واعلم أن مذهب النصارى مجهول جدا، والذي يتحصل منه أنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات
ثلاثة، إلا أنهم وان سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات، بدليل انهم يجوزون عليها الحلول في عيسى
وفى مريم بأنفسها، والا لما جوزوا عليها أن تحل في الغير وأن تفارق ذلك الغير مرة أخرى،
فهم وان كانوا يسمونها بالصفات إلا أنهم في الحقيقة يثبتون ذوات متعددة قائمة بأنفسها، وذلك
محض الكفر، فلهذا المعنى قال تعالى (ولا تقولوا ثلاثة انتهوا) فأما ان حملنا الثلاثة على أنهم يثبتون
صفات ثلاثة، فهذا لا يمكن إنكاره، وكيف لا تقول ذلك وانا نقول: هو الله الذي لا اله الا هو
الملك القدوس السلام العالم الحي القادر المريد، ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه
من اللفظ الآخر، ولا معنى لتعدد الصفات إلا ذلك، فلو كان القول بتعدد الصفات كفرا لزم
رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث انا نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالما غير
المفهوم من كونه تعالى قادرا أو حيا.
(المسألة الثانية) قوله (ثلاثة) خبر مبتدأ محذوف، ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدا على وجوه
الأول: ما ذكرناه، أي ولا تقولوا الأقانيم ثلاثة. الثاني: قال الزجاج: ولا تقولوا آلهتنا
ثلاثة، وذلك لان القرآن يدل على أن النصارى يقولون: ان الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة،
والدليل عليه قوله تعالى (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) الثالث: قال الفراء
ولا تقولوا ثم ثلاثة كقوله (سيقولون ثلاثة) وذلك لان ذكر عيسى ومريم مع الله تعالى بهذه
العبارة يوهم كونهما إلهين، وبالجملة فلا نرى مذهبا في الدنيا أشد ركاكة وبعدا عن العقل من
116

مذهب النصارى.
ثم قال تعالى (انتهوا خيرا لكم) وقد ذكرنا وجه انتصابه عند قوله (فآمنوا خيرا لكم)
ثم أكد التوحيد بقوله (إنما الله إله واحد) ثم نزه نفسه عن الولد بقوله (سبحانه أن
يكون له ولد) ودلائل تنزيه الله عن الولد قد ذكرناها في سورة آل عمران وفى سورة مريم على
الاستقصاء. وقرأ الحسن: إن يكون، بكسر الهمزة من أن ورفع النون من يكون، أي سبحانه
ما يكون له ولد، وعلى هذا التقدير فالكلام جملتان.
ثم قال تعالى (له ما في السماوات وما في الأرض)
واعلم أنه سبحانه في كل موضع نزه نفسه عن الولد ذكر كونه ملكا ومالكا لما في
السماوات وما في الأرض فقال في مريم (ان كل من في السماوات والأرض الا آتي الرحمن عبدا)
والمعنى: من كان مالكا لكل السماوات والأرض ولكل ما فيها كان مالكا لعيسى ولمريم
لأنهما كانا في السماوات وفى الأرض، وما كانا أعظم من غيرهما في الذات والصفات، وإذا كان
مالكا لما هو أعظم منهما فبأن يكون مالكا لهما أولى، وإذا كانا مملوكين له فكيف يعقل مع هذا توهم
كونهما له ولدا وزوجة
ثم قال (وكفى بالله وكيلا) والمعنى أن الله سبحانه كاف في تدبير المخلوقات وفى حفظ
المحدثات فلا حاجة معه إلى القول باثبات إله، آخر، وهو إشارة إلى ما يذكره المتكلمون من أنه سبحانه
لما كان عالما بجميع المعلومات قادرا على كل المقدورات كان كافيا في الإلهية، ولو فرضنا إلها آخر
معه لكان معطلا لا فائدة فيه، وذلك نقص، والناقص لا يكون إلها
ثم قال تعالى (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون)
وفيه مسائل
(المسألة الأولى) قال الزجاج: لن يستنكف أي لن يأنف، وأصله في اللغة من نكفت
الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك، فتأمل (لن يستنكف) أي لن يتنغص ولن يمتنع، وقال
الأزهري: سمعت المنذري يقول: سمعت أبا العباس وقد سئل عن الاستنكاف فقال: هو من
النكف، يقال ما عليه في هذا الامر من نكف ولا وكف، والنكف أن يقال له سوء، واستنكف
إذا دفع ذلك السوء عنه
(المسألة الثانية) روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تعيب صاحبنا
قال: ومن صاحبكم؟ قالوا عيسى، قال: وأي شئ قلت؟ قالوا تقول إنه عبد الله رسوله، قال إنه
117

ليس بعار أن يكون عبد الله، فنزلت هذه الآية، وأنا أقول: إنه تعالى لما أقام الحجة القاطعة على
أن عيسى عبد الله، ولا يجوز أن يكون أبنا له أشار بعده إلى حكاية شبهتهم وأجاب عنها، وذلك
لان الشبهة التي عليها يعولون في إثبات أنه ابن الله هو أنه كان يخبر عن المغيبات وكان يأتي
بخوارق العادات من الاحياء والابراء، فكأنه تعالى قال (لن يستنكف المسيح) بسب هذا
القدر من العلم والقدرة عن عبادة الله تعالى فان الملائكة المقربين أعلى حالا منه في العلم بالمغيبات
لانهم مطلعون على اللوح المحفوظ، أعلى حالا منه في القدرة لان ثمانية منهم حملوا العرش على
عظمته، ثم إن الملائكة مع كمال حالهم في العلوم والقدرة لن يستنكفوا عن عبودية الله، فكيف
يستنكف المسيح عن عبودية بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة، وإذا حملنا
الآية على ما ذكرناه صارت هذه الآيات متناسبة متتابعة ومناظرة شريفة كاملة، فكان حمل الآية
على هذا الوجه أولى
(المسألة الثالثة) استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر. وقد ذكرنا
استدلالهم بها في تفسير قوله (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) وأجبنا عن هذا الاستدلال بوجوه
كثيرة، والذي نقول ههنا: انا نسلم أن اطلاع الملائكة على المغيبات أكثر من اطلاع البشر عليها
ونسلم أن قدرة الملائكة على التصرف في هذا العالم أشد من قدرة البشر، كيف ويقال: ان جبريل
قلع مدائن قوله لوط بريشة واحدة من جناحه انما النزاع في أن ثواب طاعات الملائكة أكثر أم
ثواب طاعات البشر، وهذه الآية لا تدل على ذلك البتة، وذلك لان النصارى انما أثبتوا إلهية
عيسى بسبب أنه أخبر عن الغيوب وأتى بخوارق العادات. فايراد الملائكة لأجل إبطال هذه الشبهة
انما يستقيم إذا كانت الملائكة أقوى حالا في هذه العلم، وفى هذه القدرة من البشر، ونحن نقول
بموجبه. فاما أن يقال: المراد من الآية تفضيل الملائكة على المسيح في كثرة الثواب على الطاعات
فذلك مما لا يناسب هذا الموضع ولا يليق به، فظهر أن هذا الاستدلال انما قوى في الأوهام
لان الناس ما لخصوا محل النزاع والله أعلم.
(المسألة الرابعة) في الآية سؤال، وهو أن الملائكة معطوفون على المسيح فيصير التقدير:
ولا الملائكة المقربون في أن يكونوا عبيدا لله وذلك غير جائز.
والجواب فيه وجهان: أحدهما: أن يكون المراد ولا كل واحد من المقربين. والثاني: أن
أن يكون المراد ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا فحذف ذلك لدلالة قوله (عبدا لله) عليه على
طريق الايجاز.
118

* يا أيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنآ إليكم نورا مبينا * فأما الذين ءامنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم فى رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما
(المسألة الخامسة) قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه (عبيد الله) على التصغير.
(المسألة السادسة) قوله (ولا الملائكة المقربون) يدل على أن طبقات الملائكة مختلفة في
الدرجة والضيلة فالأكابر منهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، وقد
شرحنا طبقاتهم في سورة البقرة في تفسير قوله (وإذ قال ربك للملائكة)
ثم قال تعال (ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جمعيا) والمعنى أن من
استنكف عن عبادة الله واستكبر عنها فان الله يحشرهم إليه أي يجمعهم إليه يوم القيامة حيث
لا يملكون لأنفسهم شيئا.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه يحشر هؤلاء المستنكفين المستكبرين لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر
أولا ثواب المؤمنين المطيعين
(فقال (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) ثم ذكر آخرا
عقاب المستنكفين المستكبرين
فقال (وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله
وليا ولا نصيرا) والمعنى ظاهر لا إشكال فيه، وإنما قدم ثواب المؤمنين على عقاب المستنكفين
لانهم إذا رأوا أولا ثواب المطيعين ثم شاهدوا بعده عقاب أنفسهم كان ذلك أعظم في الحسرة
قوله تعالى (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا
بالله واعتصموا به فسيد خلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما)
واعلم أنه تعالى: لما أورد الحجة على جميع الفرق من المنافقين والكفار واليهود والنصارى
وأجاب عن جميع شبهاتهم عمم الخطاب. ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد عليه الصلاة
والسلام فقال (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) والبرهان هو محمد عليه الصلاة والسلام،
وإنما سماه برهانا لان حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل، والنور المبين هو
119

* يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ الانثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شىء عليم) *
القرآن، وسماه نورا لأنه بسبب لوقوع نور الايمان في القلب، ولما قرر على كل العالمين كون
محمد رسولا وكون القرآن كتابا حقا أمرهم بعد ذلك أن يتمسكوا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم
ووعدهم عليه بالثواب فقال (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به) والمراد آمنوا بالله في ذاته وصفاته
وأفعاله وأحكامه وأسمائه، واعتصموا به أي بالله في أن يثبتهم على الايمان ويصونهم عن نزغ
الشيطان ويدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما، فوعد بأمور، ثلاثة: الرحمة
والفضل والهداية. قال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا
أذن سمعت (ويهديهم إليه صراطا مستقيما) يريد دينا مستقيما
وأقول: الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم، وأما الهداية فالمراد منها
السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية وهذا هو السعادة
الروحانية، وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيها على أن البهجة الروحانية أشرف من
اللذات الجسمانية
قوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها
نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة
رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلا والله بكل شئ عليم)
اعلم أنه تعالى تكلم في أول السورة في أحكام الأموال وختم آخرها بذلك ليكون الآخر
مشاكلا للآل، ووسط السورة مشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفين للدين. قال أهل العلم:
ان الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة، والأخرى
في الصيف وهي هذه الآية، ولهذا تسمى هذه الآية الصف وقد ذكرنا أن الكلالة اسم يقع على
120

الوارث وعلى الموروث، فان وقع على الوارث فهو من سوى الوالد والولد، وان وقع على
الموروث فهو الذي مات ولا يرثه أحد الوالدين ولا أحد من الأولاد، ثم قال (ان امرؤ هلك
ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر، ومحل (ليس له ولد)
الرفع على الصفة، أي ان هلك امرؤ غير ذي ولد.
واعلم أن ظاهر هذه الآية فيه تقييدات ثلاث: الأول: ان ظاهر الآية يقتضى أن الأخت
تأخذ النصف عند عدم الولد، فأما عند وجود الولد فإنها لا تأخذ النصف، وليس الامر كذلك،
بل شرط كون الأخت تأخذ النصف أن لا يكون للميت ولد ابن، فان كان له بنت فان الأخت
تأخذ النصف، الثاني: ان ظاهر الآية يقتضى أنه إذا لم يكن للميت ولد فان الأخت تأخذ
النصف وليس كذلك، بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد، وذلك لان الأخت لا ترث
مع الوالد بالاجماع. الثالث: أن قوله (وله أخت) المراد منه الأخت من الأب والام، أو من
الأب، لان الأخت من الام والأخ من الام قد بين الله حكمه في أول السورة بالاجماع.
ثم قال تعالى (وهو يرثها ان لم يكن لها ولد) يعنى أن الأخ يستغرق ميراث الأخت إذا لم
يكن للأخت ولد، الا أن هذا الأخ من الأب والام أو من الأب، أما الأخ من الام فإنه
لا يستغرق الميراث.
ثم قال تعالى (فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وان كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل
حظ الأنثيين) وهذه الآية دالة ع لي أن الأخت المذكورة ليس هي الأخت من الام فقط،
وروى أن الصديق رضي الله عنه قال في خطبته: ألا ان الآية التي أنزلها الله في سورة النساء في
الفرائض، فأولها في الولد والوالد، وثانيها في الزواج والزوجية والاخوة من الام، والآية التي
ختم بها سورة النساء أنزلها في الاخوة والأخوات من الأب، والام، والآية الت ختم بها سورة
الأنفال أنزلها في أولى الأرحام.
ثم قال تعالى (يبين الله لكم أن تضلوا) وفيه وجوه: الأول: قال البصريون: المضاف ههنا
محذوف وتقديره: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، إلا أنه حذف المضاف كقوله (واسأل القرية)
الثاني: قال الكوفيون: حرف النفي محذوف، والتقدير: يبين الله لكم لئلا تضلوا، ونظيره قوله
(إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) أي لئلا تزولا. الثالث: قال الجرجاني صاحب
النظم: يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتجتنبوها.
ثم قال تعالى (والله بكل شئ عليم) فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا.
121

واعلم أنه في هذه السورة لطيفة عجيبة، وهي أن أولها مشتمل على بيان كمال قدرة الله تعالى
فإنه قال (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) وهذا دال لي سعة القدرة، وآخرها
مشتمل على بيان كمال العلم وهو قوله (والله بكل شئ عليم) وهذان الوصفان هما اللذان بهما تثبت
الربوبية والإلهية والجلالة ولعزة، وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعا للأوامر والنواهي منقادا
لكل التكاليف.
قال المصنف فرغت من تفسير هذه السورة يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الآخرة من سنة
خمس وتسعين وخمسمائة.
122

سورة المائدة
مدنية وآياتها مائة وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يا أيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد) *
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) * في الآية مسائل:
المسألة الأولى: يقال: وفى بالعهد وأوفى به، ومنه * (الموفون بعهدهم) * (البقرة: 177) والعقد هو وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والأحكام، والعهد إلزام، والعقد التزام على سبيل الأحكام، ولما كان الإيمان عبارة عن معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله وكان من جملة أحكامه أنه يجب على جميع الخلق إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه فكان هذا العقد أحد الأمور المعتبرة في تحقق ماهية الإيمان، فلهذا قال: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) * يعني يا أيها الذين التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والعهود في إظهار طاعة الله أوفوا بتلك العقود، وإنما سمى الله تعالى هذه التكاليف عقودا كما في هذه الآية لأنه تعالى ربطها بعباده كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق.
123

واعلم أنه تعالى تارة يسمي هذه التكاليف عقودا كما في هذه الآية، وكما في قوله * (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان) * (المائدة: 89) وتارة عهودا، قال تعالى: * (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40) وقال: * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان) * (النحل: 91) وحاصل الكلام في هذه الآية أنه أمر بأداء التكاليف فعلا وتركا. المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا، وقال أبو حنيفة رحمه الله: بل يصح. حجة أبي حنيفة أنه نذر الصوم والذبح فيلزمه الصوم والذبح، بيان الأول أنه نذر صوم يوم العيد، ونذر ذبح الولد، وصوم يوم العيد ماهية مركبة من الصوم ومن وقوعه في يوم العيد، وكذلك ذبح الولد ماهية مركبة من الذبح ومن وقوعه في الولد، والآتي بالمركب يكون آتيا بكل واحد من مفرديه، فملتزم صوم يوم العيد وذبح الولد يكون لا محالة ملتزما للصوم والذبح. إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * ولقوله تعالى: * (لم تقولون ما لا تفعلون) * (الصف: 2) ولقوله * (يوفون بالنذر) * (الإنسان: 7) ولقوله عليه الصلاة والسلام: " فبنذرك " أقصى ما في الباب أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعا في يوم العيد، وفي خصوص كون الذبح واقعا في الولد، إلا أن العام بعد التخصيص حجة. وحجة الشافعي رحمه الله: أن هذا نذر في المعصية فيكون لغوا لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا نذر في معصية الله ". المسألة الثالثة: قال أبو حنيفة رحمه الله: خيار المجلس غير ثابت، وقال الشافعي رحمه الله: ثابت، حجة أبي حنيفة أنه لما انعقد البيع والشراء وجب أن يحرم الفسخ، لقوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * وحجة الشافعي تخصيص هذا العموم بالخبر، وهو قوله عليه الصلاة
والسلام: " المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا ". المسألة الرابعة: قال أبو حنيفة رحمه الله: الجمع بين الطلقات حرام، وقال الشافعي رحمه الله: ليس بحرام، حجة أبي حنيفة أن النكاح عقد من العقود لقوله تعالى: * (ولا تعزموا عقدة النكاح) * (البقرة: 235) فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى فيما عداها على الأصل، والشافعي رحمه الله خصص هذا العموم بالقياس، وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يرحم.
قوله تعالى: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) *.
124

إعلم أنه تعالى لما قرر بالآية الأولى على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف الله تعالى، وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجميلة، شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة، فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قالوا: كل حي لا عقل له فهو بهيمة، من قولهم: استبهم الأمر على فلان إذا أشكل، وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق، ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، قال تعالى: * (والأنعام خلقها لكم فيها دفء) * إلى قوله * (والخيل والبغال والحمير) * (النحل: 5 - 8) ففرق تعالى بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير. وقال تعالى: * (مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) * (يس: 71، 72) وقال: * (ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله) * إلى قوله * (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) * وإلى قوله * (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) * (للأنعام: 142 - 144) قال الواحدي رحمه الله: ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء. إذا عرفت هذا فنقول: في لفظ الآية سؤالات: الأول: أن البهيمة اسم الجنس، والأنعام اسم النوع فقوله * (بهيمة الأنعام) * يجري مجرى قول القائل: حيوان الإنسان وهو مستدرك. الثاني: أنه تعالى لو قال: أحلت لكم الأنعام، لكان الكلام تاما بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى * (وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم) * (الحج: 30) فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية. الثالث: أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان، ولفظ الأنعام بلفظ الجمع، فما الفائدة فيه؟ والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول: أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان، وهذه الإضافة بمعنى * (من) * كخاتم فضة، ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكد كقولنا: نفس الشيء وذاته وعينه. الثاني: أن المراد بالبهيمة شيء، وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة. الثاني: أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنبها وقال: هذا من بهيمة الأنعام. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أجنة الأنعام، وذكاته ذكاة أمه.
واعلم أن هذا الوجد يدل على صحة مذهب الشافعي رحمه الله في أن الجنين مذكى بذكاة الأم. المسألة الثانية: قالت الثنوية: ذبح الحيوانات إيلام، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به
125

الإله الرحيم الحكيم، فيمتنع أن يكون الذبح حلالا مباحا بحكم الله. قالوا: والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها، ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها، والإيلام قبيح إلا أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح.
واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقا كثيرة بسبب هذه الشبهة فقالت المكرمية: لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح، بل لعل الله تعالى يرفع ألم الذبح عنها. وهذا كالمكابرة في الضروريات، وقالت المعتزلة: لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقا، بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقا بجناية ولا ملحقا بعوض. وهاهنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة، وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلما، قالوا: والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة للطلب الصحة، فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذلك القول في الذبح. وقال أصحابنا: إن الاذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه، والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه، والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول والله أعلم. المسألة الثالثة: قال بعضهم: قوله * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * مجمل؛ لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال، وهاهنا أضيف إلى الذات فتعذر إجراؤه على ظاهره فلا بد من إضمار فعل، وليس إضمار بعض الأفعال أولى من بعض، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو لحمها، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل، ولا شك أن اللفظ محتمل للكل فصارت الآية مجملة، إلا أن قوله تعالى: * (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) * (النحل: 5) دل على أن المراد بقوله * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * إباحة الانتفاع بها من كل هذه الوجوه. واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * ألحق به نوعين من الاستثناء: الأول: قوله * (إلا ما يتلى عليكم) * واعلم أن ظاهر هذا الاستثناء مجمل، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملا أيضا، إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هده الآية وهو قوله * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب) * (المائدة: 3) ووجه هذا أن قوله * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه فبين الله تعالى أنها إن كانت ميتة، أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله تعالى فهي محرمة.
126

النوع الثاني: من الاستثناء قوله تعالى: * (غير محلي الصيد وأنتم حرم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما أحل بهيمة الأنعام ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها، فعرفنا أن ما كان منها صيدا، فإنه حلال في الإحلال فون الإحرام، وما لم يكن
صيدا فإنه حلال في الحالين جميعا والله أعلم. المسألة الثانية: قوله * (وأنتم حرم) * أي محرمون أي داخلون في الإحرام بالحج والعمرة أو أحدهما، يقال: أحرم بالحج والعمرة فهو محرم وحرم، كما يقال: أجنب فهو مجنب وجنب، ويستوي فيه الواحد والجمع، يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب. قال تعالى: * (وأن كنتم جنبا فاطهروا) * (المائدة: 65). وأعلم أنا إذا قلنا: أحرم الرجل فله معنيان: الأول: هذا، والثاني: أنه دخل الحرم فقوله * (وأنتم حرم) * يشتمل على الوجهين، فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرما بالحج أو العمرة، وهو قول الفقهاء. المسألة الثالثة: أعلم أن ظاهر لآية يقتضي أن لصيد حرام على المحرم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * فإن * (إذا) * للشرط، والمعلق بكلمة الشرط على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء، إلا أنه تعالى بين في آية أخرى أن المحرم على المحرم إنما هو صيد البر لا صيد البحر، قال تعالى: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * (المائدة: 96) فصارت هذه الآية بيانا لتلك الآيات المطلقة. المسألة الرابعة: انتصب * (غير) * على الحال من قوله * (أحلت لكم) * كما تقول: أحل لكم الطعام غير معتدين فيه. قال الفراء: هو مثل قولك: أحل لك الشيء لا مفرطا فيه ولا متعديا، والمعنى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم ذلك إذ كنتم محرمين. ثم قال تعالى: * (إن الله يحكم ما يريد) * والمعنى أنه تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال، وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض، فلو قال قائل: ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص كان جوابه أي يقال: أنه تعالى مالك الأشياء وخالقها فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا أن علة حسن التكليف هي الربوبية والعبودية لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصالح.
127

قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام) *.
أعلم أنه تعالى: لما حرم الصيد على المحرم في الآية الأولى أكد ذلك بالنهي في هذه الآية عن مخالفة تكاليف الله تعالى فقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) *. وأعلم أن الشعائر جمع، والأكثرون على أنها جمع شعيرة. وقال ابن فارس: واحدها شعارة، والشعيرة فعيلة بمعنى مفعلة، والمشعرة المعلمة، والأشعار الأعلام، وكل شيء أشعر فقد أعلم، وكل شيء جعل علما على شيء أن علم بعلامة جاز أن يسمى شعيرة، فالهدي الذي يهدى إلى مكة يسمى شعائر لأنهت معلمة بعلامات دالة على كونها هدايا. واختلف المفسرون في المراد بشعائر الله، وفيه قولان: الأول: قوله * (لا تحلوا شعائر الله) * أي لا تخلوا بشيء من شعائر الله وفرائضه التي حدها لعباده وأوجبها عليهم، وعلى هذا القول فشعائر الله عام في جميع تكاليفه غير مخصوص بشيء معين، ويقرب منه قول الحسن: شعائر الله دين الله. والثاني: أن المراد منه شيء خاص من التكاليف، وعلى هذا القول فذكروا وجوها: الأول: المراد لا تحلوا ما حرم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد. والثاني: قال ابن عباس: إن المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ويعظمون المشاعر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فأنزل الله تعالى: * (لا تحلوا شعائر الله) * الثالث: قال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج ولا يطوفون بهما، فأنزل الله تعالى: لا تستحلوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بجميعها على سبيل الكمال والتمام. الرابع: قال بعضهم: الشعائر هي الهدايا تطعن في أسنامها وتقلد ليعلم أنها هدى، وهو قول أبي عبيدة قال: ويدل عليه قوله تعالى: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) * (الحج: 36) وهذا عندي ضعيف لأنه تعالى ذكر شعائر الله ثم عطف عليها الهدى، والعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه.
ثم قال تعالى: * (ولا الشهر الحرام) * أي لا تحلو الشهر الحرام بالقتال فيه.
وأعلم أن الشهر الحرام هو الشهر الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال فيه، قال تعالى: * (إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) * (التوبة: 36)
128

فقيل: هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب، فقوله * (ولا الشهر الحرام) * يجوز أن يكون إشارة إلى جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس، ويجوز أن يكون المراد هو رجب لأنه أكمل الأشهر الأربعة في هده الصفة. ثم قال تعالى: * (ولا الهدي) * قال الواحدي: الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة، واحدها هدية بتسكين الدال، ويقال أيضا هدية، وجمعها هدى. قال الشاعر: حلفت برب مكة والمصلى وأعناق الهدى مقلدات ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (هديا بالغ الكعبة) * (المائدة: 95) وقوله * (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) * (الفتح: 25). ثم قال تعالى: * (ولا القلائد) * والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد على عنق العبير وغيره وهي مشهورة. وفي التفسير وجوه: الأول: المراد منه الهدى ذوات القلائد، وعطفت على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها أشرف الهدي كقوله * (وجبريل وميكال) * (البقرة: 98) كأنه قيل: والقلائد منها خصوصا الثاني: أنه نهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي على معنى: ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها، كما قال * (ولا يبدين زينتهن) * (النور: 31) فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها. الثالث: قال بعضهم: كانت العرب في الجاهلية مواظبين على المحاربة إلا في الأشهر الحرم، فمن وجد في غير هذه الأشهر الحرم أصيب منه، إلا أن يكون مشعرا بدنة أو بقرة من لحاء شجر الحرم، أو محرما بعمرة إلى البيت، فحينئذ لا يتعرض له، فأمر الله المسلمين بتقرير هذا المعنى.
ثم قال: * (ولا آمين البيت الحرام) * أي قوما قاصدين المسجد الحرام، وقرأ عبد الله: ولا آمي البيت الحرام على الإضافة.
ثم قال تعالى: * (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا) * وفيه مسائل:
129

المسألة الأولى: قرأ حميد بن قيس الأعرج * (تبتغون) * بالتاء على خطاب المؤمنين. المسألة الثانية: في تفسير الفضل والرضوان وجهان: الأول: يبتغون فضلا من ربهم بالتجارة المباحة لهم في حجهم، كقوله * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) * (البقرة: 198) قالوا: نزلت في تجاراتهم أيام الموسم، والمعنى:
لا تمنعوهم فإنما قصدوا البيت لإصلاح معاشهم ومعادهم، فابتغاء الفضل للدنيا، وابتغاء الرضوان للآخرة. قال أهل العلم: إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله وإن كانوا لا ينالون ذلك، فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب هذا القصد نوع من الحرمة.
والوجه الثاني: أن المراد بفضل الله الثواب، وبالرضوان أن يرضى عنهم، وذلك لأن الكافر وإن كان لا ينال الفضل والرضوان لكنه يظن أنه بفعله طالب لهما، فيجوز أن يوصف بذلك بناء على ظنه، قال تعالى: * (وانظر إلى إلهك) * (طه: 97) وقال * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49). المسألة الثالثة: اختلف الناس فقال بعضهم: هذه الآية منسوخة، لأن قوله * (لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام) * يقتضي حرمة القتال في الشهر الحرام، وذلك منسوخ بقوله * (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * (التوبة: 5) قوله * (ولا آمين البيت الحرام) * يقتضي حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام وذلك منسوخ بقوله * (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) * (البقرة: 28) وهذا قول كثير من المفسرين كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة. وقال الشعبي: لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية. وقال قوم آخرون من المفسرين: هذه الآية غير منسوخة، وهؤلاء لهم طريقان: الأول: أن الله تعالى أمرن في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين، وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين، والدليل عليه أول الآية وآخرها، أما أول الآية فهو قوله * (لا تحلوا شعائر الله) * وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعاتهم لا بنسك الكفار، وأما آخر الآية فهو قوله * (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا) * وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر. الثاني: قال أبو مسلم الأصفهاني: المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر ولزم المراد بقوله تعالى: * (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) *.
ثم قال تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * وفي مسائل:
المسألة الأولى: قرئ: وإذا أحللتم يقال حل المحرم وأحل، وقرئ بكسر الفاء وقيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. المسألة الثانية: هذه الآية متعلقة بقوله * (غير محلى الصيد وأنتم حرم) * (المائدة: 1) يعني لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام، فإذا زال الاحرام وجب أن يزول المنع.
130

المسألة الثالثة: ظاهر الأمر وإن كان للوجوب إلا أنه لا يفيد ههنا إلا بالإباحة. وكذا في قوله * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) * (الجمعة: 10) ونظيره قول القائل: لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها، فإذا أديت فأدخلها، أي فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها، وحاصل الكلام أنا إنما عرفنا أن الأمر ههنا لم يفد الوجوب بدليل منفصل والله أعلم. ثم قال تعالى: * (ولا يجرمنك شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال القفال رحمه الله: هذا معطوف على قوله * (لا تحلوا شعائر الله) * إلى قوله * (ولا آمين البيت الحرام) * يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام، فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به. وليس للناس أن يعين بعضهم بعضا على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه، لكن الواجب أن يعين بعضهم بعضا على ما فيه البر والتقوى، فهذا هو المقصود في الآية. المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف " * (جرم) * يجري مجرى كسب في تعديه تارة إلى مفعول واحد، وتارة إلى اثنين، تقول: جرم ذنبا نحو كسبه، وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه، ويقال: أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولهم: أكسبته ذنبا، وعليه قراءة عبد الله * (ولا يجرمنكم) * بضم الياء، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين. والثاني: أن تعتدوا، والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه. المسألة الثالثة: الشنآن البغض، يقال: شنأت الرجل أشنؤه شنأ ومشنأ. ومشنأة وشنآنا بفتح الشين وكسرها، ويقال: رجل شنآن وامرأة شنآنة مصروفان، ويقال شنآن بغير صرف، وفعلان قد جاء وصفا وقد جاء مصدرا. المسألة الرابعة: قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع بجزم النون الأولى، والباقون بالفتح. قالوا: والفتح أجود لكثرة نظائرها في المصادر كالضربان والسيلان والغليان والغشيان، وأما بالسكون فقد جاء في الأكثر وصفا. قال الواحدي: ومما جاء مصدرا كقولهم: لويته حقه ليانا، وشنان في قول أبي عبيدة. وأنشد للأحوص. وإن غاب فيه ذو الشنان وفندا فقوله: ذو الشنان على التخفيف كقولهم: إني ظمان، وفلان ظمان، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها.
131

المسألة الخامسة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (إن صدوكم) * بكسر الألف على الشرط والجزاء والباقون بفتح الألف، يعني لأن صدوكم. قال محمد بن جرير الطبري: وهذه القراءة هي الاختيار لأن معنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، وهذه السورة نزلت بعد الحديبية، وكان هذا الصد متقدما لا محالة على نزول هذه الآية. ثم قال تعالى: * (واتقوا الله إن الله شديد العقاب) * والمراد منه التهديد والوعيد، يعني اتقوا الله ولا تستحلوا شيئا من محارمه إن الله شديد العقاب، لا يطيق أحد عقابه.
قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام) *.
إعلم أنه تعالى قال في أول السورة * (أحلت لكم بهيمة الأغنام) * (المائدة: 1) ثم ذكر فيه استثناء أشياء تتلى عليكم، فههنا ذكر الله تعالى تلك الصور المستثناة من ذلك العموم، وهي أحد عشر نوعا: الأول: الميتة: وكانوا يقولون: إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله. وأعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول، لأن الدم جوهر لطيف جدا، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة. والثاني: الدم: قال صاحب " الكشاف " كانوا
يملؤون المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، فالله تعالى حرم ذلك عليهم. والثالث: لحم الخنزير، قال أهل العلم: الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي، فلا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات، فحرم أكله على الإنسان لئلا يتكيف بتلك الكيفية، وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة، فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق، فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان. الرابع: ما أهل لغير الله به، والإهلال
132

رفع الصوت، ومنه يقال أهل فلان بالحج إذا لبى به، ومنه استهل الصبي وهو صراخه إذا ولد، وكانوا يقولون عند الذبح: باسم اللات والعزى فحرم الله تعالى ذلك. والخامس: المنخنقة، يقال: خنقه فاختنق، والخنق والاختناق انعصار الحلق. وأعلم أن المنخنقة على وجوه: منها أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها، ومنها ما يخنق بحبل الصائد، ومنها ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت، وبالجملة فبأي وجه اختنقت فهي حرام. وأعلم أن هذه المنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت وما سال دمها كانت كالميت حتف أنفه. والسادس: الموقوذة، وهي التي ضربت إلى أن ماتت يقال: وقذها وأوقذها إذا ضربها إلى أن ماتت، ويدخل في الموقوذة ما رمي بالندق فمات، وهي أيضا في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة فإنها ماتت ولم يسل دمها. السابع: المتردية، والمتردي هو الواقع في الردى وهو الهلاك. قال تعالى: * (وما يغني عنه ماله إذا تردى) * (الليل: 11) أي وقع في النار، ويقال: فلان تردى من السطح، فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف فتموت، وهذا أيضا من الميتة لأنها ماتت وما سال منها الدم، ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أنه مات بالتردي أو بالسهم. والثامن: النطيحة، وهي المنطوحة إلى أن ماتت، وذلك مثل شاتين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما، وهذا أيضا داخل في الميتة لأنها ماتت من غير سيلان الدم. وأعلم أن دخول الهاء في هذه الكلمات الأربع، أعني: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة، كأنه قيل: حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس، والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل. فإن قيل: لم أثبت الهاء في النطيحة مع أنها كانت في الأصل منطوحة فعدل بها إلى النطيحة، وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة، كقولهم: كف خضيب، ولحية دهين، وعين كحيل. قلنا: إنما تحذف الهاء من الفعلية إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف، تقول: رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أو امرأة، فعلى هذا إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة، والتاسع: قوله * (وما أكل السبع إلا ذكيتم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: السبع: اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان والدواب ويفترسها،
133

مثل الأسد وما دونه، ويجوز التخفيف في سبع فيقال: سبع وسبعة، وفي رواية عن أبي عمرون: السبع بسكون الباء، وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع. المسألة الثانية: قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي، فحرمه الله تعالى. وفي الآية محذوف تقديره: وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفذ ولا حكم له، وإنما الحكم للباقي. المسألة الثالثة: أصل الذكاء في اللغة إتمام الشيء، ومنه الذكاء في الفهم وهو تمامه، ومنه الذكاء في السن، وقيل: جري المذكيات غلاب، أي جري المسنات التي قد أسنت، وتأويل تمام السن النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء في السن، ويقال ذكيت النار أي أتممت إشعالها. إذا عرفت هذا الأصل فنقول: الاستثناء المذكور في قوله * (إلا ما ذكيتم) * فيه أقوال: الأول: أنه استثناء من جميع ما تقدم من قوله * (والمنخنقة) * إلى قوله * (وما أكل السبع) * وهو قول عي وابن عباس والحسن وقتادة، فعلى هذا أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عينا تطرف أو ذنبا يتحرك أو رجلا تركض فاذبح فإنه حلال، فإنه لولا بقاء الحياة فيه لما حصلت هذه الأحوال، فلما وجدتها مع هذه الأحوال دل على أن الحياة بتمامها حاصلة فيه. والقول الثاني: أن هذا الاستثناء مختص بقوله * (وما أكل السبع) *. والقول الثالث: أنه استثناء منقطع كأنه قيل: لكن ما ذكيتم من غير هذا فهو حلال.
والقول الرابع: أنه استثناء من التحريم لا من المحرمات، يعني حرم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال. وعلى هذا التقدير يكون الاستثناء منقطعا أيضا. العاشر: من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: * (وما ذبح على النصب) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: النصب يحتمل أن يكون جمعا وأن يكون واحدا، فإن قلنا إنه جمع ففي واحده ثلاثة أوجه: الأول: أن واحده نصاب، فقولنا: نصاب ونصب كقولنا: حما وحمر. الثاني: أن واحده النصب، فقولنا نصب ونصب كقولنا: سقف وسقف ورهن ورهن، وهو قول ابن الأنباري. والثالث: أن واحدة النصبة. قال الليث: النصب جمع النصبة، وهي علامة تنصب لقوم، أما إن قلنا: أن النصب واحد فجمعه أنصاب، قفولنا: نصب وأنصاب كقولنا طنب وأطناب. قال الأزهري: وقد جعل الأعشى النصب واحدا فقال:
ولا النصب المنصوب لا تنسكنه لعاقبة والله ربك فاعبدا
134

المسألة الثانية: من الناس من قال: النصب هي الأوثان، وهذا بعيد لأن هذا معطوف على قوله * (وما أهل لغير الله به) * وذلك هو الذبح على اسم الأوثان، ومن حق المعطوف أن يكون مغايرا للمعطوف عليه. وقال ابن جريج: النصب ليس بأصنام فإن الأصنام أحجار مصورة منقوشة، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة، وكانوا يذبحون عندها للأصنام، وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويضعون اللحوم عليها، فقال المسلمون: يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكره، فأنزل الله تعالى: * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) * (الحج: 37). واعلم أن * (ما) * في قوله * (وما ذبح) * في محل الرفع لأنه عطف على قوله * (حرمت عليكم الميتة) * إلى قوله * (وما أكل السبع) *. واعلم أن قوله * (وما ذبح على النصب)
* فيه وجهان, أحدهما: وما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب، والثاني: وما ذبح للنصب، و (اللام) و (على) يتعاقبان، قال تعالى: * (فسلام لك من أصحاب اليمين) * (الواقعة: 91) أي فسلام عليك منهم، وقال * (وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) أي فعليها. النوع الحادي عشر: قوله تعالى: * (وأن تستقسموا بالأزلام) * قال القفال رحمه الله: ذكر هذا في جملة المطاعم لأنه مما أبدعه أهل الجاهلية وكان موافقا لما كانوا فعلوه في المطاعم، وذلك أن الذبح على النصب إنما كان يقع عند البيت، وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية قولان: الأول: كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا آخر من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وكانوا قد كتبوا على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، وتركوا بعضها خاليا عن الكتابة، فإن خرج الأمر أقدم على الفعل، وإن خرج النهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى، فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح. الثاني: قال المؤرخ وكثير من أهل اللغة: الاستقسام هنا هو الميسر المنهى عنه، والأزلام قداح الميسر، والقول الأول اختيار الجمهور.
المسألة الثانية: الأزلام القداح واحدها زلم، ذكره الأخفش. وإنما سميت القداح بالأزلام لأنها زلمت أي سويت. ويقال: رجل مزلم وامرأة مزلمة إذا كان خفيفا قليل العلائق، ويقال قدح مزلم وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعته، وما أحسن ما زلم سهمه، أي سواه، ويقال لقوائم البقر أزلام، شبهت بالقداح للطافتها.
135

ثم قال تعالى: * (ذلكم فسق) * وفيه وجهان: الأول: أن يكون راجعا إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصرا عليه. والثاني: أن يكون راجعا إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم، فمن خالف فيه رادا على الله تعالى كفر. فإن قيل: على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقا؟ أليس أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل، وهذا أيضا من جملة الفأل فلم صار فسقا؟ قلنا: قال الواحدي: إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب، وذلك حرام لقوله تعالى: * (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) * (لقمان: 34) وقال * (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) * (النمل: 65) وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة ". ولقائل أن يقول: لو كان طلب الظن بناء على الإمارات المتعارفة طلبا لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم التعبير غيبا أو كفرا لأنه طلب للغيب، ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفرا لأنه طلب للغيب، ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارا، ومعلوم أن ذلك كله باطل، وأيضا فالآيات إنما وردت في العلم، والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علما وإنما يستفيد من ذلك ظنا ضعيفا، فلم يكن ذلك داخلا تحت هذه الآيات. وقال قوم آخرون أنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقا وكفرا، وهذا القول عندي أولى وأقرب.
قوله تعالى: * (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون) *.
اعلم أنه تعالى لما عدد فيما مضى ما حرمه من بهيمة الأنعام وما أحله منها ختم الكلام فيها بقوله * (ذلكم فسق) * والغرض منه تحذير المكلفين عن مثل تلك الأعمال، ثم حرضهم على التمسك
136

بما شرع لهم بأكمل ما يكون فقال * (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم) * أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان، فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم، وحصل لهم اليأس من أن يصيروا قاهرين لكم مستولين عليكم، فإذا صار الأمر كذلك فيجب عليكم أن لا تلتفتوا إليهم، وأن تقبلوا على طاعة الله تعالى والعمل بشرائعه وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله * (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) * فيه قولان: الأول: أنه ليس المراد هو ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم، ونظيره قوله: كنت بالأمس شابا واليوم قد صرت شيخا، ولا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك الذي أنت فيه.
والقول الثاني: أن المراد به يوم نزول هذه الآية، وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء. المسألة الثانية: قوله * (يئس الذين كفروا من دينكم) * فيه قولان: الأول: يئسوا من أن تحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله محرمة. والثاني: يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم، وذلك لأنه تعالى كان قد وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان، وهو قوله تعالى: * (ليظهره على الدين كله) * (التوبة: 33) (الفتح: 28) (الصف: 9) فحقق تلك النصرة وأزال الخوف بالكلية وجعل الكفار مغلوبين بعد أن كانوا غالبين، ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وهذا القول أولى. المسألة الثالثة: قال قوم: الآية دالة على أن التقية جائزة عند الخوف، قالوا لأنه تعالى أمرهم بإظهار هذه الشرائع وإظهار العمل بها وعلل ذلك بزوال الخوف من جهة الكفار، وهذا يدل على أن قيام الخوف يجوز تركها. ثم قال تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية سؤال وهو أن قوله * (اليوم أكملت لكم دينكم) * يقتضي أن الدين كان ناقصا قبل ذلك، وذلك يوجب أن الدين الذي كان صلى الله عليه وسلم مواظبا عليه أكثر عمره كان ناقصا، وأنه إنما وجد الدين الكامل في آخر عمره مدة قليلة. واعلم أن المفسرين لأجل الاحتراز عن هذا الاشكال ذكروا وجوها: الأول: أن المراد من قوله
137

* (أكملت لكم دينكم) * هو إزالة الخوف عنهم وإظهار القدرة لهم على أعدائهم، وهذا كما يقول الملك عندما يستولي على عدوه ويقهره قهرا كليا: اليوم كمل ملكنا،
وهذا الجواب ضعيف لأن ملك ذلك الملك كان قبل قهر العدو ناقصا. الثاني: أن المراد: إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعلم الحلال والحرام، وهذا أيضا ضعيف لأنه لو لم يكمل لهم قبل هذا اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع كان ذلك تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة، وأنه لا يجوز. الثالث: وهو الذي ذكره القفال وهو المختار: أن الدين ما كان ناقصا، البتة، بل كان أبدا كاملا، يعني كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه، فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيد بعد العدم، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله سريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، فالشرع أبدا كان كاملا، إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلأجل هذا المعنى قال: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *. المسألة الثانية: قال نفاة القياس: دلت الآية على أن القياس بالطل، وذلك لأن الآية دلت على أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع، إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملا، وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك النص كان عبثا، وإن كان على خلافه كان باطلا. أجاب مثبتو القياس بأن المراد بإكمال الدين أنه تعالى بين حكم جميع الوقائع بعضها بالنص وبعضها بأن بين طريق معرفة الحكم فيها على سبيل القياس، فإنه تعالى لما جعل الوقائع قسمين أحدهما التي نص على أحكامها، والقسم الثاني أنواع يمكن استنباط الحكم فيها بواسطة قياسها على القسم الأول، ثم أنه تعالى لما أمر بالقياس وتعبد المكلفين به كان ذلك في الحقيقة بيانا لكل الأحكام، وإذا كان كذلك كان ذلك إكمالا للدين. قال نفاة القياس: الطريق المقتضية لإلحاق غير المنصوص بالمنصوص إما أن تكون دلائل قاطعة أو غير قاطعة، فإن كان القسم الأول فلا نزاع في صحته، فإنا نسلم أن القياس المبني على المقدمات اليقينية حجة، إلا أن مثل هذا القياس يكون المصيب فيه واحدا، والمخالف يكون مستحقا للعقاب، وينقض قضاء القاضي فيه وأنتم لا تقولون بذلك، وإن كان الحق هو القسم الثاني كان ذلك تمكينا لكل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه من غير أن يعلم أنه هل هو دين الله أم لا، وهل هو الحكم الذي حكم به الله أم لا، ومعلوم أن مثل هذا لا يكون إكمالا للدين، بل يكون ذلك إلقاء للخلق في ورطة الظنون والجهالات، قال
138

مثبتو القياس: إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان ذلك إكمالا للدين، ويكون كل مكلف قاطعا بأنه عامل بحكم الله فزال السؤال. المسألة الثالثة: قال أصحابنا: هذه الآية دالة على بطلان قول الرافضة، وذلك لأنه تعالى بين أن الذين كفروا يئسوا من تبديل الدين، وأكد ذلك بقوله * (فلا تخشوهم واخشون) * فلو كانت إمارة علي بن أبي طالب رضي الله عنه منصوصا عليها من قبل الله تعالى وقبل رسوله صلى الله عليه وسلم نصا واجب الطاعة لكان من أراد إخفاءه وتغييره آيسا من ذلك بمقتضى هذه الآية، فكان يلزم أن لا يقدر أحد من الصحابة على إنكار ذلك النص وعلى تغييره وإخفائه، ولما لم يكن الأمر كذلك، بل لم يجر لهذا النص ذكر، ولا ظهر منه خبر ولا أثر، علمنا أن ادعاء هذا النص كذب، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما كان منصوصا عليه بالإمامة. المسألة الرابعة: قال أصحاب الآثار: إنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحدا وثمانين يوما، أو اثنين وثمانين يوما، ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل البتة، وكان ذلك جاريا مجرى أخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب وفاته، وذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزا، ومما يؤكد ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية على الصحابة فرحوا جدا وأظهروا السرور العظيم إلا أبا بكر رضي الله عنه فإنه بكى فسئل عنه فقال: هذه الآية على عدل على قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال، فكان ذلك دليلا على كمال علم الصديق حيث وفق من هذه الآية على سر لم يقف عليه غيره. المسألة الخامسة: قال أصحابنا: دلت الآية على أن الدين لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وإيجاده، والدليل عليه أنه أضاف إكمال الدين إلى نفسه فقال * (اليوم أكملت لكم دينكم) * ولن يكون إكمال الدين منه إلا وأصله أيضا منه.
واعلم أنا سواء قلنا: الدين عبارة عن العمل، أو قلنا إنه عبارة عن المعرفة، أو قلنا إنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والاقرار والفعل فالاستدلال ظاهر. وأما المعتزلة فإنهم يحملون ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار شرائعه، ولا شك أن الذي ذكروه عدول عن الحقيقة إلى المجاز. ثم قال تعالى: * (وأتممت عليكم نعمتي) * ومعنى أتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشريعة كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الاكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام.
139

واعلم أن هذه الآية أيضا دالة على أن خالق الإيمان هو الله تعالى، وذلك لأنا نقول: الدين الذي هو الإسلام نعمة، وكل نعمة فمن الله، فيلزم أن يكون دين الإسلام من الله. إنما قلنا: إن الإسلام نعمة لوجهين: الأول: الكلمة المشهورة على لسان الأمة وهي قولهم: الحمد لله على نعمة الإسلام. والوجه الثاني: أنه تعالى قال في هذه الآية * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) * ذكر لفظ النعمة مبهمة، والظاهر أن المراد بهذه النعمة ما تقدم ذكره وهو الدين. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بإتمام النعمة جعلهم قاهرين لأعدائهم، أو المراد به جعل هذا الشرع بحيث لا يتطرق إليه نسخ. قلنا: أما الأول فقد عرف بقوله * (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) * فحمل هذه الآية عليه أيضا يكون تكريرا. وأما الثاني فلأن إبقاء هذا الدين لما كان إتماما للنعمة وجب أن يكون أصل هذا الدين نعمة لا محالة، فثبت أن دين الإسلام نعمة. وإذا ثبت هذا فنقول: كل نعمة فهي من الله تعالى، والدليل عليه قوله تعالى: * (وما بكم من نعمة فمن الله) * وإذا ثبت هاتان المقدمتان لزم القطع بأن دين الإسلام إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه وإيجاده. ثم قال تعالى: * (ورضيت لكم الإسلام دينا) * والمعنى أن هذا هو الدين المرضى عند الله تعالى ويؤكده قوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) *. ثم قال تعالى: * (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) *. وهذا من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى، يعني أنها وإن كانت محرمة إلا أنها تحل في حالة الاضطرار، ومن قوله * (ذلكم فسق) * إلى هاهنا اعتراض وقع في البين، والغرض منه تأكيد ما ذكر من معنى التحريم، فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو الدين المرضي عند الله تعالى، ومعنى اضطر أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة، والمخمصة المجاعة. قال أهل اللغة: الخمص والمخمصة خلو البطن من الطعام عند الجوع،
وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن. يقال: رجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة والجمع خمائص وخمصانات، وقوله * (غير متجانف لإثم) * أي غير متعمد، وأصله في اللغة من الجنف الذي هو الميل، قال تعالى: * (فمن خاف من موص جنفا أو إثما) * (البقرة: 182) أي ميلا، فقوله غير * (متجانف) * أي غير
140

مائل وغير منحرف، ويجوز أن ينتصب * (غير) * بمحذوف مقدر على معنى فتناول غير متجانف، ويجوز أن ينصب بقوله * (اضطر) * ويكون المقدر متأخرا على معنى: فمن اضطر غير متجانف لإثم فتناول فإن الله غفور رحيم، ومعنى الإثم هاهنا في قول أهل العراق أن يأكل فوق الشبع تلذذا، وفي قول أهل الحجاز أن يكون عاصيا بسفره، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في تفسير سورة البقرة في قوله * (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) * (البقرة: 173) وقوله * (فإن الله غفور رحيم) * يعني يغفر لهم أكل المحرم عندما اضطر إلى أكله، ورحيم بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله.
قوله تعالى
* (يسألونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا ممآ أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب) *.
قوله تعالى: * (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات) * وهذا أيضا متصل بما تقدم من ذكر المطاعم والمآكل، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف " في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده * (ماذا أحل لهم) * كأنه قيل: يقولون لك ماذا أحل لهم، وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه. واعلم أن هذا ضعيف لأنه لو كان هذا حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا ماذا أحل لهم، ومعلوم أن هذا باطل لأنهم لا يقولون ذلك، بل إنما يقولون ماذا أحل لنا، بل الصحيح أن هذا ليس حكاية لكلامهم بعبارتهم، بل هو بيان لكيفية الواقعة. المسألة الثانية: قال الواحدي: * (ماذا) * إن جعلته اسما واحدا فهو رفع بالابتداء، وخبره * (أحل) * وإن شئت جعلت * (ما) * وحدها اسما، ويكون خبرها * (ذا) * و * (أحل) * من صلة * (ذا) * لأنه بمعنى: ما الذي أحل لهم. المسألة الثالثة: أن العرب في الجاهلية كانوا يحرمون أشياء من الطيبات كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فهم كانوا يحكمون بكونها طيبة إلا أنهم كانوا يحرمون أكلها لشبهات ضعيفة، فذكر تعالى أن كل ما يستطاب فهو حلال، وأكد هذه الآية بقوله * (قل من حرم زينة الله التي أخرج
141

لعباده والطيبات من الرزق) * (الأعراف: 32) وبقوله * (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) * (الأعراف: 157).
واعلم أن الطيب في اللغة هو المستلذ، والحلال المأذون فيه يسمى أيضا طيبا تشبيها بما هو مستلذ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة، فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات هاهنا المحللات، وإلا لصار تقدير الآية: قل أحل لكم المحللات، ومعلوم أن هذا ركيك، فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهى، فصار التقدير: أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى. ثم اعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة، فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات، ويتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (البقرة: 29) فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض، إلا أنه أدخل التخصيص في ذلك العموم فقال * (ويحرم عليهم الخبائث) * (الأعراف؛ 157) ونص في هذه الآيات الكثيرة على إباحة المستلذات والطيبات فصار هذا أصلا كبيرا، وقانون مرجوعا إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة، منها أن لحم الخيل مباح عند الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله ليس بمباح. حجة الشافعي رحمه الله أنه مستلذ مستطاب، والعلم به ضروري، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالا لقوله * (أحل لكم الطيبات) * ومنها أن متروك التسمية عند الشافعي رحمه الله مباح، وعند أبي حنيفة حرام، حجة الشافعي رحمه الله أنه مستطاب مستلذ، فوجب أن يحل لقوله * (أحل لكم الطيبات) * ويدل أيضا على صحة قول الشافعي رحمه الله في هاتين المسألتين قوله تعالى: * (إلا ما ذكيتم) * استثنى المذكاة بما بين اللبة والصدر، وقد حصل ذلك في الخيل، فوجب أن تكون مذكاة، فوجب أن تحل لعموم قوله * (إلا ما ذكيتم) *. (المائدة: 3) وأما في متروك التسمية فالذكاة أيضا حاصلة لأنا أجمعنا على أنه لو ترك التسمية ناسيا فهي مذكاة، وذلك يدل على أن ذكر الله تعالى باللسان ليس جزءا من ماهية الذكاة، وإذا كان كذلك كان الإتيان بالذكاة بدون الإتيان بالتسمية ممكنا، فنحن مثلكم فيما إذا وجد ذلك، وإذا حصلت الذكاة دخل تحت قوله * (إلا ما ذكيتم) * ومنها أن لحم الحمر الأهلية مباح عند مالك وعند بشر المريسي وقد احتجا بهاتين الآيتين، إلا أنا نعتمد في تحريم ذلك على ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. ثم قال تعالى: * (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية قولان: الأول: أن فيها إضمارا، والتقدير أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين، فحذف الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه، وهو
142

قوله * (فكلوا مما أمسكن عليكم) *. الثاني: أن يقال إن قوله * (وما علمتم من الجوارح مكلبين) * ابتداء كلام، وخبره هو قوله * (فكلوا مما أمسكن عليكم) * وعلى هذا التقدير يصح الكلام من غير حذف وإضمار. المسألة الثانية: في الجوارح قولان: أحدهما: أنها الكواسب من الطير والسباع، واحدها جارحة، سميت جوارح لأنها كواسب من جرح واجترح إذا اكتسب، قال تعالى: * (الذين اجترحوا السيئات) * (الجاثية: 21) أي اكتسبوا، وقال * (ويعلم ما جرحتم بالنهار) * (الأنعام: 60) أي ما كسبتم. والثاني: أن الجوارح هي التي تجرح، وقالوا: أن ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل. المسألة الثالثة: نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي، أن ما صاده غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله، وتمسكوا بقوله تعالى: * (مكلبين * (قالوا: لأن التخصيص يذل على كون هذا الحكم مخصوصا به، وزعم الجمهور أن قوله * (وما علمتم من الجوارح) * يدخل فيه كل ما يمكن الاصطياد به، كالفهد والسباع من الطير: مثل الشاهين والباشق والعقاب
، قال الليث: سئل مجاهد عن الصقر والبازي والعقاب والفهد وما يصطاد به من السباع، فقال: هذه كلها جوارح. وأجابوا عن التمسك بقوله تعالى: * (مكلبين) * من وجوه: الأول: أن المكلب هو مؤدب الجوارح ومعلمها أن تصطاد لصاحبها، وإنما اشتق هذا الاسم من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتق منه هذا اللفظ لكثرته في جنسه. الثاني: أن كل سبع فإنه يسمى كلبا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد ". الثالث: أنه مأخوذ من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال فلان: كلب بكذا إذا كان حريصا عليه. والرابع: هب أن المذكور في هذه الآية إباحة الصيد بالكلب، لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره، بدليل أن الاصطياد بالرمي ووضع الشبكة جائز، وهو غير مذكور في الآية والله أعلم. المسألة الرابعة: دلت الآية على أن الاصطياد بالجوارح إنما يحل إذا كانت الجوارح معلمة، لأنه تعالى قال: * (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله) * وقال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل "، قال الشافعي رحمه الله: والكلب لا يصير معلما إلا عند أمور، وهي إذا أرسل استرسل، وإذا أخذ حبس ولا يأكل، وإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم، ولم يذكر رحمه الله فيه حدا معينا، بل قال: أنه متى غلب على الظن أنه تعلم حكم به قال لأن الاسم إذا لم يكن معلوما من النص أو الاجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أظهر الروايات. وقال
143

الحسن البصري رحمه الله: يصير معلما بمرة واحدة، وعن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى أنه يصير معلما بتكرير ذلك مرتين، وهو قول أحمد رحمه الله، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه يصير معلما بثلاث مرات.
المسألة الخامسة: الكلاب والمكلب هو الذي يعلم الكلاب الصيد، فمكلب صاحب التكليب كمعلم صاحب التعليم، ومؤدب صاحب التأديب. قال صاحب " الكشاف " وقرئ مكلبين بالتخفيف، وأفعل وفعل يشتركان كثيرا. المسألة السادسة: انتصاب مكلبين على الحال من * (علمتم) *. فإن قيل: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ قلنا: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه مدربا فيه موصوفا بالتكليب * (وتعلمونهن) * حال ثانية أو استئناف، والمقصود منه المبالغة في اشتراط التعليم. ثم قال تعالى: * (فكلوا مما أمسكن عليكم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعمل أنه إذا كان الكلب معلما ثم صاد صيدا وجرحه وقتله وأدركه الصائد ميتا فهو حلال، وجرح الجارحة كالذبح، وكذا الحكم في سائر الجوارح المعلمة. وكذا في السهم والرمح، أما إذا صاده الكلب فجثم عليه وقتله بالفم من غير جرح فقال بعضهم: لا يجوز أكله لأنه ميتة. وقال آخرون: يحل لدخوله تحت قوله * (فكلوا مما أمسكن عليكم) * وهذا كله إذا لم يأكل، فإن أكل منه فقد اختلف فيه العلماء، فعند ابن عباس وطاوس والشعبي وعطاء والسدي أنه لا يحل، وهو أظهر أقوال الشافعي، قالوا: لأنه أمسك الصيد على نفسه، والآية دلت على أنه إنما يحل إذا أمسكه على صاحبه، ويدل عليه أيضا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي ابن حاتم: " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أدركته ولم يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه، وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك، وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئا فإنما أمسك على نفسه) * وقال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: إنه يحل وإن أكل، وهو القول الثاني للشافعي رحمه الله. واختلفوا في البازي إذا أكل، فقال قائلون: إنه لا فرق بينه وبين الكلب، فإن أكل شيئا من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني: يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب، الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب، ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل.
المسألة الثانية: * (من) * في قوله * (مما أمسكن) * فيه وجهان: الأول: أنه صلة زائدة كقوله
144

* (كلوا من ثمره إذا أثمر) * (الأنعام: 141) والثاني: أنه للتبعيض، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: أن الصيد كله لا يؤكل فإن لحمه يؤكل، أما عظمه ودمه وريشه فلا يؤكل. الثاني: أن المعنى كلوا مما تبقى لكم الجوارح بعد أكلها منه، فالآية دالة على أن الكلب إذا أكل من الصيد كانت البقية حلالا، قالوا وإن أكله من الصيد لا يقدح في أنه أمسكه على صاحبه لأن صفة الإمساك هو أن يأخذ الصيد ولا يتركه حتى يذهب، وهذا المعنى حاصل سواء أكل منه أو لم يأكل منه. ثم قال تعالى: * (واذكروا اسم الله عليه) * وفيه أقوال: الأول: أن المعنى: سم الله إذا أرسلت كلبك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل " وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله * (عليه) * عائد إلى * (ما علمتم من الجوارح) * أي سموا عليه عند إرساله. القول الثاني: الضمير عائد إلى ما أمسكن، يعني سموا عليه إذا أدركتم ذكاته. الثالث: أن يكون الضمير عائدا إلى الأكل، يعني واذكروا اسم الله على الأكل. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن أبي سلمة: " سم الله وكل مما يليك ". واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله أن متروك التسمية عامدا يحل أكله، فإن حملنا هذه الآية على الوجه الثالث فلا كلام، وإن حملناه على الأول والثاني كان المراد من الأمر الندب توفيقا بينه وبين النصوص الدالة على حله، وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى في تفسير قوله * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * (الأنعام: 121). ثم قال تعالى: * (واتقوا الله إن الله سريع الحساب) * أي واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل ما أحله وتحريم ما حرمه.
قوله تعالى: * (اليوم أحل لكم الطيبات) *.
145

اعلم أنه تعالى أخبر في هذه الآية المتقدمة أنه أحل الطيبات، وكان المقصود من ذكره الأخبار عن هذا الحكم، ثم أعاد ذكره في هذه الآية، والغرض من ذكره أنه قال: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) * فبين أنه كما أكمل الدين وأتمم النعمة في كل ما يتعلق بالدين، فكذلك أتم النعمة في كل ما يتعلق بالدنيا، ومنها إحلال الطيبات، والغرض من الإعادة رعاية هذه النكتة. ثم قال تعالى: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * وفي المراد بالطعام هاهنا وجوه ثلاثة: الأول: أنه الذبائح
، يعني أنه يحل لنا أكل ذبائح أهل الكتاب، وأما المجوس فقد سن فيهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، وعن علي رضي الله عنه أنه استثنى نصارى بني تغلب، وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وبه أخذ الشافعي رحمه الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس به، وبه أخذوا أبو حنيفة رحمه الله. والوجه الثاني: أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة، وهو منقول عن بعض أئمة الزيدية، والثالث: أن المراد جميع المطعومات، والأكثرون على القول الأول ورجحوا ذلك من وجوه: أحدها: أن الذبائح هي التي تصير طعاما بفعل الذابح، فحمل قوله * (وطعام الذين أوتوا الكتاب) * على الذبائح أولى، وثانيها: أن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم، فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة، وثالثها: ما قبل هذه الآية في بيان الصيد والذبائح، فحمل هذه الآية على الذبائح أولى. ثم قال تعالى: * (وطعامكم حل لهم) * أي ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا، وأيضا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين.
ثم قال تعالى: * (والمحصنات من المؤمنات) * وفي المحصنات قولان: أحدهما: أنها الحرائر، والثاني: أنها العفائف، وعلى التقدير الثاني يدخل فيه نكاح الأمة، والقول الأول أولى لوجوه: أحدها: أنه تعالى قال بهد هذه الآية * (إذا آتيتموهن أجورهن) * ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيدها، وثانيها: أنا بينا في تفسير قوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما مملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * (النساء: 25) أن نكاح الأمة إنما يحل بشرطين: عدم طول الحرة، وحصول الخوف من العنت، وثالثها: أن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهرا على تحريم نكاح
146

الزانية، وقد ثبت أنه غير محرم، أما لو حملنا المحصنات على الحرائر يلزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات، ورابعها: أنا بينا أن اشتقاق الاحصان من التحصن، ووصف التحصن في حق الحرة أكثر ثبوتا منه في حق الأمة لما بينا أن الأمة وإن كانت عفيفة إلا أنها لا تخلو من الخروج والبروز والمخالطة مع الناس بخلاف الحرة، فثبت أن تفسير المحصنات بالحرائر أولى من تفسيرها بغيرها. ثم قال تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من اليهود والنصارى وتمسكوا فيه بهذه الآية، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 221) ويقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها: إن ربها عيسى، ومن قال بهذا القول أجابوا عن التمسك بقوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * بوجوه: الأول: أن المراد الذين آمنوا منهم، فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج بها أم لا؟ فبين تعالى بهذه الآية جواز ذلك، والثاني: روي عن عطاء أنه قال: إنما رخص الله تعالى في الزوج بالكتابية في ذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة، وأما الآن ففيهن الكثرة العظيمة، فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة، والثالث: الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار، كقوله * (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) * (الممتحنة: 1) وقوله * (لا تتخذوا بطانة من دونكم) * (آل عمران: 118) ولأن عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة ويصير ذلك سببا لميل الزوج إلى دينها، وعند حدوث الولد فربما مال الولد إلى دينها، وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة. الرابع: قوله تعالى في خاتمة هذه الآية * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) * وهذا من أعظم الكافرات عن التزوج بالكافرة، فلو كان المراد بقوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر هذه الآية عقيبها كالتناقض وهو غير جائز.
المسألة الثانية: إن قلنا: المراد بالمحصنات: الحرائر، لم تدخل الأمة الكتابية تحت الآية، وإن قلنا: المراد بالمحصنات: العفائف دخلت، وعلى هذا البحث وقع الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة فعند الشافعي لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية. قال: لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان: الكفر والرق، وعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز، وتمسك بهذه الآية بناء على أن المراد بالمحصنات العفائف وقد سبق الكلام فيه.
147

المسألة الثالثة: قال سعيد بن المسيب والحسن * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * يدخل فيه الذميات والحربيات، فيجوز التزوج بكلهن، وأكثر الفقهاء على أن ذلك مخصوص بالذمية فقط، وهذا قول ابن عباس، فإنه قال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهن من لا يحل لنا، وقرأ * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) * إلى قوله * (حتى يعطوا الجزية عن يد) * (التوبة: 29) فمن أعطى الجزية حل، ومن لم يعط لم يحل.
المسألة الرابعة: اتفقوا على أن المجوس قد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، وروي عن ابن المسيب أنه قال: إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس، وقال أبو ثور: وإن أمرة بذلك في الصحة فلا بأس. المسألة الخامسة: قال الكثير من الفقهاء: إنما يحل نكاح الكتابية التي دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول القرآن، قالوا: والدليل عليه قوله * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * فقوله * (من قبلكم) * يدل على أن من دان الكتاب بعد نزول الفرقان خرج عن حكم الكتاب. ثم قال تعالى: * (إذا أتيتموهن أجورهن) * وتقييد التحليل بإيتاء الأجور يدل على تأكد وجوبها وأن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني، وتسمية المهر بالأجر يدل على أن الصداق لا يتقدر، كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات. ثم قال تعالى: * (محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخذان) * قال الشعبي: الزنا ضربان: السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان، واتخاذ الخدن وهو الزنا في السر، والله تعالى حرمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الاحصان وهو التزوج. ثن قال تعالى: * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان: الأول: أن المقصود منه الترغيب فيما تقدم من التكاليف والأحكام، يعني ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة، والثاني: قال القفال: المعنى أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلا أن ذلك لا يفرق بينهم وبين
المشركين في أحوال الآخرة وفي الثواب والعقاب، بل كل من كفر بالله فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة البتة.
المسألة الثانية: قوله * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) * فيه إشكال، وهو أن الكفر إنما
148

يعقل بالله ورسوله، فأما الكفر بالإيمان فهو محال، فلهذا السبب اختلف المفسرون على وجوه: الأول: قال ابن عباس ومجاهد * (ومن يكفر بالإيمان) * أي ومن يكفر بالله، إنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى رب الإيمان، ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز، والثاني: قال الكلبي * (ومن يكفر بالإيمان) * أي بشهادة أن لا إله إلا الله، فجعل كلمة التوحيد إيمانا، فإن الإيمان بها لما كان واجبا كان الإيمان من لوازمها بحسب أمر الشرع، وإطلاق اسم الشيء على لازمه مجاز مشهور، والثالث: قال قتادة: إن ناسا من المسلمين قالوا: كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا! فأنزل الله تعالى هذه الآية أي، ومن يكفر بما نزل في القرآن فهو كذا وكذا، فسمى القرآن إيمانا لأنه هو المشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان. المسألة الثالثة: القائلون بالاحباط قالوا: المراد بقوله * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) * أي عقاب كفره يزيل ما كان حاصلا له من ثواب إيمانه، والذين ينكرون القول بالاحباط قالوا: معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هلك وضاع؛ فإنه إنما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان، فإذا لم يكن الأمر كذلك بل كان ضائعا باطلا كانت تلك الأعمال باطلة في أنفسها، فهذا هو المراد من قوله * (فقد حبط عمله) *. المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (وهو في الآخرة من الخاسرين) * مشروط بشرط غير مذكور في الآية، وهو أن يموت على ذلك الكفر؛ إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين، والدليل على أنه لا بد من هذا الشرط قوله تعالى: * (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر) * (البقرة: 217) الآية.
ثم قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) *.
اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) وذلك لأنه حصل بين
149

الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية، فقوله * (أوفوا بالعقود) * طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية، فكأنه قيل: إلهنا العهد نوعان: عهد الربوبية منك، وعهد العبودية منا، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان. فقال تعالى: نعم أنا أوفي أولا بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم، ولذات المنكح، فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح، لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح، وعند تمام هذا البيان كأنه يقول: قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات، فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أعلم أن المراد بقوله * (إذا قمتم إلى الصلاة) * ليس نفس القيام، ويدل عليه وجهان: الأول: أنه لو كان المراد ذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة، وأنه باطل بالإجماع. الثاني: أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدا أو مضطجعا لكان قد خرج عن العهدة، بل المراد منه: إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك، وهذا وإن كان مجازا إلا أنه مشهور متعارف، ويدل عليه وجهان: الأول: أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور. الثاني: قوله تعالى: * (الرجال قوامون على النساء) * (النساء: 34) وليس المراد منه القيام الذي هو الانتصاب، يقال: فلان قائم بذلك الأمر، قال تعالى: * (قائما بالقسط) * (آل عمران: 18) وليس المراد منه البتة الانتصاب، بل المراد كونه مريدا لذلك الفعل متهيئا له مستعدا لإدخاله في الوجود، فكذا ههنا قوله * (إذا قمتم إلى الصلاة) * معناه إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها. المسألة الثانية: قال قوم: الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، وليس ذلك تكليفا مستقلا بنفسه، واحتجوا بأن قوله * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) * جملة شرطية، الشرط فيها القيام إلى الصلاة، والجزاء الأمر بالغسل، والمعلق على الشيء بحرف الشرط عدم عند عدم الشرط، فهذا يقتضي أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة. وقال آخرون: المقصود من الوضوء الطهارة، والطهارة مقصودة بذاتها بدليل القرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية * (ولكن يريد ليطهركم) * وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام: " بني الدين على النظافة " وقال: " أمتي غر محجلون من آثار
150

الوضوء يوم القيامة " ولأن الأخبار الكثيرة واردة في كون الوضوء سببا لغفران الذنوب والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال داود: يجب الوضوء لكل صلاة، وقال أكثر الفقهاء: لا يجب. احتج داود بهذه الآية من وجهين: لأول: أن ظاهر لفظ الآية يدل على ذلك، فإن قوله * (إذا قمتم إلى الصلاة) * إما أن يكون المراد منه قياما واحدا وصلاة واحدة، فيكون المراد منه الخصوص، أو يكون المراد منه العموم، والأول باطل لوجوه: الأول: أن على هذا التقدير تصير الآية مجملة لأن تعيين تلك المرة غير مذكور في الآية، وحمل الآية على الإجمال إخراج لها عن الفائدة، وذلك خلاف الأصل، وثانيها: أنه يصح إدخال الاستثناء عليه، ومن شأنه إخراج ما لولاه لدخل، وذلك يوجب العموم، وثالثها: أن الأمة مجمعة على أن الأمر بالوضوء غير مقصور في هذه الآية على مرة واحدة ولا على شخص واحد، وإذا بطل هذا وجب حمله على العموم عند كل قيام إلى الصلاة، إذ لو لم تحمل هذه الآية على هذا المحمل لزم احتياج هذه الآية في دلالتها على ما هو مراد لله تعالى إلى سائر الدلائل، فتصير هذه الآية وحدها مجملة، وقد بينا أنه خلاف الأصل، فثبت بما ذكرنا أن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة. الوجه الثاني: أنا نستفيد هذا العموم من إيماء اللفظ، وذلك لأن الصلاة اشتغال بخدمة المعبود، والاشتغال بالخدمة يجب أن يكون مقرونا بأقصى ما يقدر العبد عليه من التعظيم، ومن وجوه التعظيم كونه آتيا بالخدمة حال كونه في غاية النظافة، ولا شك أن تجديد الوضوء عند كل قيام إلى
الصلاة مبالغة في النظافة، ومعلوم أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف المناسب، وذلك يقتضي عموم الحكم لعمومه، فيلزم وجو الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة. ثم قال داود: ولا يجوز أن يقال ورد في القراءة الشاذة: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، أو يقال: إنا نترك ظاهر هذه الآية لورود خبر الواحد على خلافه، قال: أما القراءة الشاذة فمردودة قطعا، لأنا إن جوزنا ثبوت قرآن غير منقول بالتواتر لزم الطعن في كل القرآن، وهو أن يقال: إن القرآن كان أكثر مما هو الآن بكثير إلا أنه لم ينقل، وأيضا فلأن معرفة أحوال الوضوء من أعظم ما عم به البلوى، ومن أشد الأمور التي يحتاج كل أحد إلى معرفتها، فلو كان ذلك قرآنا لامتنع بقاؤه في حيز الشذوذ، وأما التمسك بخبر الواحد فقال: هذا يقتضي نسخ القرن بالخبر، وذلك لا يجوز. قال الفقهاء: إن كلمة * (إذا) * لا تفيد العموم بدليل أنه لو قال لامرأته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة طلقت، ثم لو دخلت ثانيا لم تطلق ثانيا، وذلك يدل على
151

أن كلمة * (إذا) * لا تفيد العموم، وأيضا أن السيد إذ قال لعبده: إذا دخلت السوق فادخل على فلان وقل له كذا وكذا، فهذا لا يفيد الأمر بالفعل إلا مرة واحدة.
وأعلم أن مذهب داود في مسألة الطلاق غير معلوم: فلعله يلتزم العموم، وأيضا فله أن يقول: إنا قد دللنا على أن كلمة * (إذا) * في هذه الآية تفيد العموم لأن التكاليف الواردة في القرآن مبناها على التكرير، وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم، فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبني الأمر فيها على التكرير، وأما الفقهاء فإنهم استدلوا على صحة قولهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة إلا يوم الفتح فإنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد. قال عمر رضي الله عنه: فقلت له في ذلك فقال: عمدا فعلت ذلك يا عمر. أجاب داود بأنا ذكرنا أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن، وأيضا فهذا الخبر يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على تجديد الوضوء لكل صلاة، وهذا يقتضي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى: * (فاتبعوه) * (سبأ: 20) بقي أن يقال: قد جاء في هذا الخبر أنه ترك ذلك يوم الفتح، فنقول: لما وقع التعارض فالترجيح معنا من وجوه: الأول: هب أن التجديد لكل صلاة ليس بواجب لكنه مندوب، والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يزيد في يوم الفتح في الطاعات ولا ينقص منها، لأن ذلك اليوم هو يوم إتمام النعمة عليه، وزيادة النعمة من الله تناسب زيادة الطاعات لا نقصانها. والثاني: أن الاحتياط لا شك أنه من جانبنا فيكون راجحا لقوله عليه الصلاة والسلام: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " الثالث: أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد. والرابع: أن دلالة القرآن على قولنا لفظية، ودلالة الخبر الذي رويتم على قولكم فعلية، والدلالة القولية أقوى من الدلالة الفعلية، لأن الدلالة القولية غنية عن الفعلية ولا ينعكس، فهذا ما في هذه المسألة والله أعلم. والأقوى في إثبات المذهب المشهور أن يقال: لو وجب الوضوء لكل صلاة لكان الموجب للوضوء هو القيام إلى الصلاة ولم يكن لغيره تأثير في إيجاب الوضوء، لكن ذلك باطل لأنه تعالى قال في آخر هذه الآية * (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) * (النساء: 43) أوجب التيمم على المتغوط والمجامع إذا لم يجد الماء، وذلك يدل على كون كل واحد منهما سببا لوجوب الطهارة عند وجود الماء، وذلك يقتضي أن يكون وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة، وذلك يدل على ما قلناه.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن هذه الآية هل تدل على كون الوضوء شرطا لصحة الصلاة؟ والأصح أنها تدل عليه من وجهين: الأول: أنه تعالى علق فعل الصلاة على الطهور بالماء، ثم بين
152

أنه متى عدم لا تصح إلا بالتيمم، ولو لم يكن شرطا لما صح ذلك. الثاني: أنه تعالى إنما أمر بالصلاة مع الوضوء، فالآتي بالصلاة بدون الوضوء تارك للمأمور به، وتارك المأمور به يستحق العقاب، ولا معنى للبقاء في عهدة التكليف إلا ذلك، فإذا ثبت هذا ظهر كون الوضوء شرطا لصحة الصلاة بمقتضى هذه الآية. المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه الله: النية شرط لصحة الوضوء والغسل. وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليس كذلك. وأعلم أن كل واحد منهما يستدل لذلك بظاهر هذه الآية. أما الشافعي رحمه الله فإنه قال: الوضوء مأمور به، وكل مأمور به يجب أن يكون منويا فالوضوء يجب أن يكون منويا، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون شرطا لأنه لا قائل بالفرق، وإنما قلنا: إن الوضوء مأمور به لقوله * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * (المائدة: 6) ولا شك أن قوله * (فاغسلوا) * * (وامسحوا) * أمر، وإنما قلنا: إن كل مأمور به أن يكون منويا لقوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * (البينة: 5) واللام في قوله * (ليعبدوا) * ظاهر للتعليل، لكن تعليل أحكام الله تعالى محال، فوجب حمله على الباء لما عرف من جواز إقامة حروف الجر بعضها مقام بعض، فيصير التقدير: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين، والإخلاص عبارة عن النية الخالصة، ومتى كانت النية الخالصة معتبرة كان أصل النية معتبرا. وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * فليرجع إليه في طلب زيادة الاتقان، فثبت بما ذكرنا أن كل وضوء مأمور به، وثبت أن كل مأمور به يجب أن يكون منويا مخصوص في بعض الصور، لكنا إنما أثبتنا هده المقدمة بعموم النص، والعام حجة في غير محل التخصيص. وأما أبو حنيفة رحمه الله فإنه احتج بهذه الآية على أن النية ليست شرطا لصحة الوضوء، فقال: إنه تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها، فإيجاب النية زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس لا يجوز. وجوابنا: إنا بينا أنه إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن.
المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه الله: الترتيب شرط لصحة الوضوء، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله: ليس كذلك، احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على قوله من وجوه:
153

الأول: أن قوله * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) * يقتضي وجوب الابتداء بغسل الوجه لأن الفاء للتعقيب، وإذا وجب الترتيب في هذا العضو وجب في غيره لأنه لا قائل بالفرق. فإن قالوا: فاء التعقيب إنما دخلت في جملة هذه الأعمال فجرى الكلام مجرى أن يقال: إذا قمتم إلى الصلاة فأتوا بمجموع هذه الأفعال. قلنا:
فاء التعقيب إنما دخلت على الوجه لأن هذه الفاء ملتصقة بذكر الوجه، ثم إن هذه الفاء بواسطة دخولها على الوجه دخلت على سائر الأعمال، وعلى هذا دخول الفاء في غسل الوجه أصل، ودخولها على مجموع هذه الأفعال تبع لدخولها على غسل الوجه، ولا منافاة بين إيجاب تقديم غسل الوجه وبين إيجاب مجموع هذه الأفعال، فنحن اعتبرنا دلالة هذه الفاء في الأصل والتبع، وأنتم ألغيتموها في الأصل واعتبرتموها في التبع، فكان قولنا أولى.
والوجه الثاني: أن نقول: وقعت البداءة في الذكر بالوجه، فوجب أن تقع البداءة به في العمل لقوله * (فاستقم كما أمرت) * (هود: 112) ولقوله عليه الصلاة والسلام: " ابدؤا بما بدأ الله " وهذا الخبر وإن ورد في قصة الصفا والمروة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أقصى ما في الباب أنه مخصوص في بعض الصور لكن العام حجة في غير محل التخصيص، والثالث: أنه تعالى ذكر هذه الأعضاء لا على وفق الترتيب المعتبر في الحس، ولا على وفق الترتيب المعتبر في الشرع، وذلك يدل على أن الترتيب واجب. بيان المقدمة الأولى أن الترتيب المعتبر في الحس أن يبدأ من الرأس نازلا إلى القدم، أو من القدم صاعدا إلى الرأس، والترتيب المذكور في الآية ليس كذلك، وأما الترتيب المعتبر في الشرع فهو أن يجمع بين الأعضاء المغسولة، ويفرد الممسوحة عنها، والآية ليست كذلك، فإنه تعالى أدرج الممسوح في أثناء المغسولات، إذ ثبت هد فنقول: هذا يدل على أن الترتيب واجب، والدليل عليه أن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح، فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه، ترك العمل به فيما إذا صار ذلك محتملا للتنبيه على أن ذلك الترتيب واجب، فيبقى في غير هذه الصورة على وفق الأصل. الرابع: أن إيجاب الوضوء غير معقول المعنى، وذلك يقتضي وجوب الإتيان به على الوجه الذي ورد في النص، بيان المقام الأول من وجوه: أحدها: أن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب من موضع آخر وهو خلاف المعقول، وثانيها: أن أعضاء المحدث طاهرة لقوله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) وكلمة إنما للحصر، وقوله عليه الصلاة والسلام: " المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا) * وتطهير الطاهر محال، وثالثها: أن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء، ولا شك أنه ضد النظافة والوضاءة، ورابعها: أن الشرع أقام المسح على الخفين مقام
154

الغسل، ومعلوم أنه لا يفيد البتة في نفس العضو نظافة،
وخامسها: أن الماء الكدر العفن يفيد الطهارة، وماء الورد لا يفيدها، فثبت بهذا أن الوضوء غير معقول المعنى، وإذ ثبت هذ وجب الاعتماد فيه على مورد النص، لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور معتبرا إما لمحض التعبد أو لحكم خفية لا نعرفها، فلهذا السبب أوجبنا رعاية الترتيب المعتبر المذكور في أركان الصلاة، بل ههنا أولى، لأنه تعالى لما ذكر أركان الصلاة في كتابه مرتبة وذكر أعضاء الوضوء في هذه الآية مرتبة فلما وجب الترتيب هناك فههنا أولى.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على قوله فقال: الواو لا توجب الترتيب، فكانت الآية خالية عن إيجاب الترتيب، فلو قلنا بوجوب الترتيب كان ذلك زيادة على النص، وهو نسخ وهو غير جائز. وجوابنا: أنا بينا دلالة الآية على وجوب الترتيب من جهات أخر غير التمسك بأن الواو توجب الترتيب والله أعلم. المسألة السابعة: موالاة أفعال الوضوء ليست شرطا لصحته في القول الجديد للشافعي رحمه الله، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال مالك رحمه الله: إنه شرط لنا أنه تعالى أوجب هذه الأعمال، ولا شك أن إيجابها قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ثم إنه تعالى حكم في آخر هذه الآية بأن هذا القدر يفيد حصول الطهارة، وهو قوله * (ولكن يريد ليطهركم) * فثبت أن الوضوء بدون الموالاة يفيد حصول الطهارة، فوجب أن نقول بجواز الصلاة بها لقوله عليه الصلاة والسلام: " مفتاح الصلاة الطهارة ". المسألة الثامنة: قال أبو حنيفة رحمه الله: الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء، وقال الشافعي رحمه الله لا ينقض، احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فقال: ظاهرها يقتضي لإتيان بالوضوء لكل صلاة على ما بينا ذلك فيما تقدم، ترك العمل به عندما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولا به عند خروج الخارج النجس، والشافعي رحمه الله عول على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل أثر محاجمه. المسألة التاسعة: قال مالك رحمه الله: لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة، وقال ربيعة: لا وضوء أيضا في دم الاستحاضة، لنا التمسك بعموم الآية.
المسألة العاشرة: قال أبو حنيفة رحمه الله: القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع
155

والسجود تنقض الوضوء، وقال الباقون: لا تنقض، ولأبي حنيفة رحمه الله التمسك بعموم الآية على ما قررناه. المسألة الحادية عشرة: قال الشافعي رحمه الله: لمس المرأة ينقض الوضوء، وقال أبو حنيفة رحمه الله لا ينقضه، للشافعي أن يتمسك بعموم الآية، وهذا العموم متأكد بظاهر قوله تعالى: * (أو لامستم النساء) * وحجة الخصم خبر واحد، أو قياس، فلا يصير معارضا له. المسألة الثانية عشرة: مس الفرج ينقض الوضوء عند الشافعي رحمه الله، وقال أبو حنيفة رحمه الله لا ينقضه، للشافعي رحمه الله أن يتمسك بعموم الآية، وهذا العموم متأكد بقوله عليه الصلاة والسلام: " من مس ذكره فليتوضأ " والخبر الذي يتمسك به الخصم على خلاف عموم الآية فكان الترجيح معنا. المسألة الثالثة عشرة: لو كان على بدنه أو وجهه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة عن الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوؤه؟ ما رأيت هذه المسألة موضوعة في كتب أصحابنا. والذي أقوله: إنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله * (فاغسلوا) * وقد أتى به فيخرج عن العهدة لأنه عند احتياجه إلى التبرد والتنظف لو نوى فإنه يصح وضوؤه، كذا ههنا. وأيضا قال عليه الصلاة والسلام: " لكل امرئ ما نوى " وهذا الإنسان نوى فيجب أن يحصل له المنوي والله أعلم. المسألة الرابعة عشر: لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوؤه أم لا؟ يمكن أن يقال: لا يصح، لأنه أمر بالغسل، والغسل عمل وهو لم يأت بالعمل، ويمكن أن يقال: يصح لأن الغسل عبارة عن الفعل المفضي إلى الإنغسال، والوقوف تحت الميزاب يفضي إلى الإنغسال فكان ذلك الوقوف غسلا. المسألة الخامسة عشرة: إذا غسل هذه الأعضاء ثم بعد ذلك تقضرت الجلدة عنها فلا شك أن ما ظهر تحت الجلدة غير مغسول، إنما المغسول هو تلك الجلدة وقد
تقلصت وسقطت. المسألة السادسة عشرة: الغسل عبارة عن إمرار الماء على العضو، فلو رطب هذه الأعضاء، ولكن ما سال الماء عليها لم يكف، لأن الله تعالى أمر بإمرار الماء على العضو، وفي غسل الجنابة احتمال أن يكفي ذلك، والفرق أن المأمور به في الوضوء الغسل، وذلك لا يحصل إلا عند إمرار الماء، وفي الجناية المأمور به الطهر، وهو قوله * (ولكن يريد ليطهركم) * وذلك حاصل بمجرد الترطيب.
المسألة السابعة عشرة: لو أخذ الثلج وأمره على وجهه، فإن كان الهواء حارا يذيب الثلج
156

ويسيل جاز، وإن كان بخلافه لم يجز خلافا لمالك والأوزاعي. لنا أن قوله * (فاغسلوا) * يقتضي كونه مأمورا بالغسل، وهذا لا يسمى غسلا، فوجب أن لا يجزئ. المسألة الثامنة عشرة: التثليث في أعمال الوضوء سنة لا واجب، إنما الواجب هو المرة الواحدة، والدليل عليه أنه تعالى أمر بالغسل فقال * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) * وماهية الغسل تدخل في الوجود بالمرة الواحدة، ثم إنه تعالى رتب على هذا القدر حصول الطهارة فقال * (ولكن يريد ليطهركم) * فثبت أن المرة الواحدة كافية في صحة الوضوء ثم تأكد هذا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به. المسألة التاسعة عشرة: السواك سنة، وقال داود: واجب ولكن تركه لا يقدح في الصلاة. لنا أن السواك غير مذكور في الآية، ثم حكم بحصول الطهارة بقوله * (ولكن يريد ليطهركم) * وإذا حصلت الطهارة حصل جواز الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام: " مفتاح الصلاة الطهارة ". المسألة العشرون: التسمية في أول الوضوء سنة، وقال أحمد وإسحاق: واجبة، وإن تركها عامدا بطلت الطهارة، لنا أن التسمية غير مذكورة في الآية، ثم حكم بحصول الطهارة وقد سبق تقرير هذه الدلالة، ثم تأكد هذا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من توضأ فذكر اسم الله عليه كان طهورا لجميع بدنه ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لأعضاء وضوئه ". المسألة الحادية والعشرون: قال بعض الفقهاء: تقديم غسل اليدين على الوضوء واجب، وعندنا أنه سنة وليس بواجب، والاستدلال بالآية كما قررناه في السواك وفي التسمية. المسألة الثانية والعشرون: حد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، ولفظ الوجه مأخوذ من المواجهة فيجب غسل كل ذلك. المسألة الثالثة والعشرون: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يجب إيصال الماء إلى داخل العين، وقال الباقون لا يجب، حجة ابن عباس أنه وجب غسل كل الوجه لقوله * (فاغسلوا وجوهكم) * والعين جزء من الوجه، فوجب أن يجب غسله. حجة الفقهاء أنه تعالى قال في آخر الآية * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) * ولا شك أن في إدخال لماء في العين حرجا والله أعلم.
المسألة الرابعة والعشرون: المضمضة والاستنشاق لا يجبان في الوضوء والغسل عند الشافعي رحمه الله، وعند أحمد وإسحاق رحمهما الله واجبان فيهما، وعند أبي حنيفة رحمه الله واجب في الغسل، غير واجب في الوضوء. لنا أنه تعالى أوجب غسل الوجه، والوجه هو الذي يكون مواجها وداخل الأنف والفم غير مواجه فلا يكون من الوجه.
157

إذ ثبت هذا فنقول: إيصال الماء إلى الأعضاء الأربعة يفيد الطهارة لقوله * (ولكن يريد ليطهركم) * والطهارة تفيد جواز الصلاة كما بيناه.
المسألة الخامسة والعشرون: غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي رحمهم الله، وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجب لنا. أنه من الوجه، والوجه يجب غسله بالآية، ولأنا أجمعنا على أنه يجب غسله قبل نبات الشعر، فحيلولة الشعر بينه وبين الوجه لا تسقط كالجبهة لما وجب غسلها قبل نبات شعر الحاجب وجب أيضا بعده. المسألة السادسة والعشرون: قال الشافعي رحمه الله: يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجب. لنا أن قوله تعالى: * (فاغسلوا وجوهكم) * يوجب غسل الوجه، والوجه اسم للجلدة الممتدة من الجبهة إلى الذقن، ترك العمل به عند كثافة اللحية عملا بقوله * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وعند خفة اللحية لم يحصل هذا الحرج، فكانت الآية دالة على وجوب غسله. المسألة السابعة والعشرون: هل يجب إمرار الماء على ما نزل من اللحية عن حد الوجه وعلى الخارج منها إلى الأذنين عرضا؟ للشافعي رحمه الله فيه قولان: أحدهما: أنه يجب. والثاني: أنه لا يجب، وهو قول مالك وأبي حنيفة والمزني. حجة الشافعي رحمه الله أنا توافقنا على أن في اللحية الكثيفة لا يجب إيصال الماء إلى منابت الشعور وهي الجلد، وإنما أسقطنا هذا التكليف لأنا أقمنا ظاهر اللحية مقام جلدة الوجه في كونه وجها، وإذا كان ظاهر اللحية يسمى وجها والوجه يجب غسله بالتمام بدليل قوله * (فاغسلوا وجوهكم) * لزم بحكم هذا الدليل إيصال الماء إلى ظاهر جميع اللحية. المسألة الثامنة والعشرون: لو نبت للمرأة لحية يجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت تلك اللحية كثيفة، وذلك لأن ظاهر الآية يدل على وجوب غسل الوجه، والوجه عبارة عن الجلدة الممتدة من مبدأ الجبهة إلى منتهى الذقن، تركنا العمل به في حق الرجال دفعا للحرج، ولحية المرأة نادرة فتبقى على الأصل. واعلم أنه يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع: العنفقة، والحاجبان، والشاربان، والعذاران، وأهداب العين، لأن قوله * (فاغسلوا وجوهكم) * يدل على وجوب غسل كل جلد الوجه، ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعا للحرج، وهذه الشعور خفيفة فلا حرج في إيصال الماء إلى الجلدة، فوجب أن تبقى على الأصل.
158

المسألة التاسعة والعشرون: قال الشعبي: ما أقبل من الأذن معدود من الوجه فيجب غسله مع الوجه، وما أدبر منه فهو معدود من الرأس فيمسح، وعندنا الأذن ليست البتة من الوجه إذ الوجه ما به المواجهة، والأذن ليست كذلك. المسألة الثلاثون: قال الجمهور: غسل اليدين إلى المرفقين واجب معهما، وقال مالك وزفر رحمهما الله: لا يجب غسل المرفقين، وهذا الخلاف حاصل أيضا في قوله * (وأرجلكم إلى الكعبين) * حجة زفر أن كلمة * (إلى) * لانتهاء الغاية، وما يجعل غاية للحكم يكون خارجا عنه كما في قوله * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * (البقرة: 187) فوجب أن لا يجب غسل المرفقين. والجواب من وجهين: الأول: أن حد الشيء قد يكون منفصلا عن المحدود بمقطع محسوس، وهاهنا يكون الحد خارجا عن المحدود، وهو كقوله * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * فإن النهار منفصل عن الليل انفصالا
محسوسا لأن انفصال النور عن الظلمة محسوس، وقد لا يكون كذلك كقولك: بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف، فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس. إذا عرفت هذا فنقول: لا شك أن امتياز المرفق عن الساعد ليس له مفصل معين، وإذا كان كذلك فليس إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر، فوجب القول بإيجاب غسل كل المرفق. الوجه الثاني من الجواب: سلمنا أن المرفق لا يجب غسله، لكن المرفق اسم لما جاوز طرف العظم، فإنه هو المكان الذي يرتفق به أي يتكأ عليه، ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله، وهذا الجواب اختيار الزجاج والله أعلم. المسألة الحادية والثلاثون: الرجل إن كان أقطع، فإن كان أقطع مما دون المرفق وجب عليه غسل ما بقي من المرفق لأن قوله * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * يقتضي وجوب غسل اليدين إلى المرفقين، فإذا سقط بعضه بالقطع وجب غسل الباقي بحكم الآية، وأما إن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلا، وأما إذا كان أقطع من المرفق قال الشافعي رحمه الله: يجب إمساس الماء لطرف العظم، وذلك لأن غسل المرفق لما كان واجبا والمرفق عبارة عن ملتقى العظمين، فإذا وجب إمساس الماء لملتقى العظمين وجب إمساس الماء لطرف العظم الثاني لا محالة.
المسألة الثانية والثلاثون: تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب، وقال أحمد:
159

هو واجب. لنا أنه تعالى ذكر الأيدي والأرجل ولم يذكر فيه تقديم اليمنى على اليسرى، وذلك يدل على أن الواجب هو غسل اليدين بأي صفة كان والله أعلم. المسألة الثالثة والثلاثون: السنة أن يصب الماء على الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرفق، فإن صب الماء على المرفق حتى سال الماء إلى الكف، فقال بعضهم: هذا لا يجوز لأنه تعالى قال: * (وأيديكم إلى المرافق) * فجعل المرافق غاية الغسل، فجعله مبدأ الغسل خلاف الآية فوجب أن لا يجوز. وقال جمهور الفقهاء: أنه لا يخل بصحة الوضوء إلا أنه يكون تركا للسنة. المسألة الرابعة والثلاثون: لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله * (وأيديكم إلى المرافق) * كما أنه لو نبت على الكف أصبع زائدة فإنه يجب غسلها بحكم هذه الآية. المسألة الخامسة والثلاثون: قوله تعالى: * (إلى المرافق) * يقتضي تحديد الأمر لا تحديد المأمور به، يعني أن قوله * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * أكر بغسل اليدين إلى المرفقين، فإيجاب الغسل محدود بهذا الحد، فبقي الواجب الواجب هو هذا القدر فقط، أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحد لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة.
المسألة السادسة والثلاثون: قال الشافعي رحمه الله: الواجب في مسح الرأس أقل شيء يسمى مسحا للرأس، وقال مالك: يجب مسح الكل، وقال أبو حنيفة رحمه الله: الواجب مسح ربع الرأس. حجة الشافعي أنه لو قال: مسحت المنديل، فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بالكلية أما لو قال: مسحت يدي بالمنديل فهذا يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء ذلك المنديل. إذا ثبت هذا فنقول: قوله * (وامسحوا برؤوسكم) * يكفي في العمل به مسح اليد بجزء من أجزاء الرأس، ثم ذلك الجزء غير مقدر في الآية، فإن أوجبنا تقديره بمقدار معين لم يمكن تعيين ذلك المقدار إلا بدليل مغاير لهذه الآية، فيلزم صيرورة الآية مجملة وهو خلاف الأصل، وإن قلنا: أنه يكفي فيه إيقاع المسح على أي جزء كان من أجزاء الرأس كانت الآية مبينة مفيدة، ومعلوم أن حمل الآية على محمل تبقى الآية معه مفيدة أولى من حملها على محمل تبقى الآية معه مجملة، فكان المصير إلى ما قلناه أولى. وهذا استنباط حسن من الآية. المسألة السابعة والثلاثون: لا يجوز الاكتفاء بالمسح على العمامة، وقال الأوزاعي والثوري وأحمد: يجوز. لنا أن الآية دالة على أنه يجب المسح على الرأس، ومسح العمامة ليس مسحا للرأس
160

واحتجوا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام مسح على العمامة. جوابنا: لعله مسح قدر الفرض على الرأس والبقية على العمامة. المسألة الثامنة والثلاثون: اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما، فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر: أن الواجب فيهما المسح، وهو مذهب الإمامية من الشيعة. وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل، وقال داود الأصفهاني: يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل. حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله * (وأرجلكم) * فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب، فنقول: أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذا كسر على الجوار كما في قوله: جحر ضب خرب، وقوله كبير أناس في بجاد مزمل قلنا: هذا باطل من وجوه: الأول: أن الكسر إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله: جحر ضب خرب، فإن من المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل. وثالثها: أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضا: إنها توجب المسح، وذلك لأن قوله * (وامسحوا برؤوسكم) * فرؤوسكم في النصب ولكنها مجرورة بالباء، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفا على محل الرؤوس، والجر عطفا على الظاهر، وهذا مذهب مشهور للنحاة. إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله * (وأرجلكم) * هو قوله * (وامسحوا) * ويجوز أن يكون هو قوله * (فاغسلوا) * لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله * (وأرجلكم) * هو قوله * (وامسحوا) * فثبت أن قراءة * (وأرجلكم) * بنصب اللام توجب المسح أيضا، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح، ثم قالوا: ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد، ونسخ القرآن
161

بخبر الواحد لا يجوز.
واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين: الأول: أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى
الاحتياط فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها، والثاني: أن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح، والقوم أجابوا عنه بوجهين: الأول: أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم، وعلى هذا التقدير فيجب المسح على ظهر القدمين، والثاني: أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين، وحينئذ لا يبقى هذا السؤال. المسألة التاسعة والثلاثون: مذهب جمهور الفقهاء أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، وقالت الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب المسح: إن الكعب عبارة عن عظم مستدير مثل كعب البقر والغنم موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم، وهو قول محمد بن الحسن رحمه الله. وكان الأصمعي يختار هذا القول ويقول: الطرفان الناتئان يسميان المنجمين. هكذا رواه القفال في تفسيره. حجة الجمهور وجوه: الأول: أنه لو كان الكعب ما ذكره الإمامية لكان الحاصل في كل رجل كعبا واحدا، فكان ينبغي أن يقال: وأرجلكم إلى الكعاب، كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقا واحدا لا جرم قال * (وأيديكم إلى المرافق) * والثاني: أن العظم المستدير الموضوع في المفصل شيء خفي لا يعرفه إلا المشرحون، والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان معلومان لكل أحد، ومناط التكاليف العامة يجب أن يكون أمرا ظاهرا، لا أمرا خفيا. الثالث: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألصقوا الكعب بالكاعب " ولا شك أن المراد ما ذكرناه. الرابع: أن الكعب مأخوذ من الشرف والارتفاع، ومنه جارية كاعب إذا نتأ ثدياها، ومنه الكعب لكل ما له ارتفاع. حجة الإمامية: أن اسم الكعب واقع على العظم المخصوص الموجود في أرجل جميع الحيوانات، فوجب أن يكون في حق الإنسان كذلك، وأيضا المفصل يسمى كعبا، ومنه كعوب الرمح لمفاصله، وفي وسط القدم مفصل، فوجب أن يكون الكعب هو هو. والجواب: أن مناط التكاليف الظاهرة يجب أن يكون شيئا ظاهرا، والذي ذكرناه أظهر، فوجب أن يكون الكعب هو هو.
162

المسألة الأربعون: أثبت جمهور الفقهاء جواز المسح على الخفين. وأطبقت الشيعة والخوارج على إنكاره، واحتجوا بأن ظاهر قوله تعالى: * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * يقتضي إما غسل الرجلين أو مسحهما، والمسح على الخفين ليس مسحا للرجلين ولا غسلا لهما، فوجب أن لا يجوز بحكم نص هذه الآية، ثم قالوا: إن القائلين بجواز المسح على الخفين إنما يعولون على الخبر، لكن الرجوع إلى القرآن أولى من الرجوع إلى هذا الخبر، ويدل عليه وجوه: الأول: أن نسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز، والثاني: أن هذه الآية في سورة المائدة، وأجمع المفسرون على أن هذه السورة لا منسوخ فيها البتة إلا قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) * (المائدة: 2) فإن بعضهم قال: هذه الآية منسوخة، وإذا كان كذلك امتنع القول بأن وجوب غسل الرجلين منسوخ، والثالث: خبر المسح على الخفين بتقدير أنه كان متقدما على نزول الآية كان خبر الواحد منسوخا بالقرآن، ولو كان بالعكس كان خبر الواحد ناسخا للقرآن، ولا شك أن الأول أولى لوجوه: الأول: أن ترجيح القرآن المتواتر على خبر الواحد أولى من العكس، وثانيها: أن العمل بالآية أقرب إلى الاحتياط، وثالثها: أنه قد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه " وذلك يقتضي تقديم القرآن على الخبر، ورابعها: أن قصة معاذ تقتضي تقديم القرآن على الخبر.
الوجه الرابع: في بيان ضعف هذا الخبر: أن العلماء اختلفوا فيه، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لأن تقطع قدماي أحب إلي من أن أمسح على الخفين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لأن أمسح على جلد حمار أحب إلي من أن أمسح على الخفين، وأما مالك فإحدى الروايتين عنه أنه أنكر جواز المسح على الخفين، ولا نزاع أنه كان في علم الحديث كالشمس الطالعة، فلولا أنه عرف فيه ضعفا وإلا لما قال ذلك، والرواية الثانية عن مالك أنه ما أباح المسح على الخفين للمقيم، وأباحه للمسافر مهما شاء من غير تقدير فيه.
وأما الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء فإنهم جوزوه للمسافر ثلاثة أيام بلياليها من وقت الحدث بعد اللبس. وقال الحسن البصري: ابتداؤه من وقت لبس الخفين، وقال الأوزاعي وأحمد: يعتبر وقت المسح بعد الحدث: قالوا: فهذا الاختلاف الشديد بين الفقهاء يدل على أن الخبر ما بلغ مبلغ الظهور والشهرة، وإذا كان كذلك وجب القول بأن هذه الأقوال لما تعارضت تساقطت، وعند ذلك يجب الرجوع إلى ظاهر كتاب الله تعالى. الخامس: أن الحاجة إلى معرفة جواز المسح على الخفين حاجة عامة في حق كل المكلفين، فلو كان ذلك مشروعا لعرفه الكل، ولبلغ
163

مبلغ التواتر، ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر ضعفه، فهذا جملة كلام من أنكر المسح على الخفين. وأما الفقهاء فقالوا: ظهر عن بعض الصحابة القول به ولم يظهر من الباقين إنكار، فكان ذلك إجماعا من الصحابة، فهذا أقوى ما يقال فيه. وقال الحسن البصري: حدثني سبعون من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين، وأما إنكار ابن عباس رضي الله عنهما فروي أن عكرمة روى ذلك عنه، فلما سئل ابن عباس عنه فقال: كذب علي. وقال عطاء: كان ابن عمر يخالف الناس في المسح على الخفين لكنه لم يمت حتى وافقهم، وأما عائشة رضي الله عنها فروي أن شريح بن هانئ قال: سألتها عن مسح الخفين فقالت: اذهب إلى علي فاسأله فإنه كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أسفاره، قال: فسألته فقال امسح، وهذا يدل على أن عائشة تركت ذلك الإنكار. المسألة الحادية والأربعون: رجل مقطوع اليدين والرجلين سقط عنه هذان الفرضان وبقي عليه غسل الوجه ومسح الرأس. فإن لم يكن معه من يوضئه أو ييممه يسقط عنه ذلك أيضا، لأن قوله تعالى: * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * مشروط بالقدرة عليه لا محالة، فإذا فاتت القدرة سقط التكليف، فهذا جملة ما يتعلق من المسائل بآية الوضوء. قوله تعالى: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * قال الزجاج: معناه فتطهروا، إلا أن التاء تدغم في الطاء لأنهما من مكان واحد، فإذا أدغمت التاء في الطاء سكن أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل ليبتدأ بها. فقيل: اطهروا. واعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية الطهارة الصغرى ذكر بعدها كيفية الطهارة الكبرى، وهي الغسل من الجناية وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لحصول الجناية سببان: الأول: نزول المني، قال عليه الصلاة والسلام: " إنما الماء من الماء " والثاني: التقاء الختانين، وقال زيد بن ثابت ومعاذ
وأبو سعيد الخدري: لا يجب الغسل إلا عند نزول الماء. لنا قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا التقى الختانان وجب الغسل ". واعلم أن ختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة، وأمات ختان المرأة فاعلم أن شفريها محيطان بثلاثة أشياء: ثقبة في أسفل الفرج وهو مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد، وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير، والثالث، فوق ثقبة البول موضع
164

ختانها، وهناك جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك، وقطع هذه الجلدة هو ختانها، فإذا غابت الحشفة حاذى ختانها ختانه.
المسألة الثانية: قوله * (فاطهروا) * أمر على الاطلاق بحيث لم يكن مخصوصا بعضو معين دون عضو، فكان ذلك أمرا بتحصيل الطهارة في كل البدن على الاطلاق، ولأن الطهارة لما كانت مخصوصة ببعض الأعضاء لا جرم ذكر الله تعالى تلك الأعضاء على التعيين، فههنا لما لم يذكر شيئا من الأعضاء على التعيين علم أن هذا الأمر أمر بطهارة كل البدن. واعلم أن هذا التطهير هو الاغتسال كما قال في موضع آخر * (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) * (النساء: 43). المسألة الثالثة: الدلك غير واجب في الغسل، وقال مالك رحمه الله: واجب. لنا أن أقوله * (فاطهروا) * أمر بتطهير البدن، وتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الاغتسال من الجناية قال: " أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات خفيفات من الماء فإذا أنا قد طهرت " أثبت حصول الطهارة بدون الدلك، فدل على أن التطهير لا يتوقف على الدلك. المسألة الربعة: لا يجوز للجنب مس المصحف. وقال داود: يجوز. لنا قوله * (فاطهروا) * فدل على أنه ليس بطاهر، وإلا لكان ذلك أمرا بتطهير الطاهر وإنه غير جائز، وإذا لم يكن طاهرا لم يجز له مس المصحف لقوله تعالى: * (لا يمسه إلا المطهرون) * (الواقعة: 79). المسألة الخامسة: لا يجب تقديم الوضوء على الغسل، وقال أبو ثور وداود: يجب. لنا أن قوله * (فاطهروا) * أمر بالتطهير، والتطهير حاصل بمجرد الاغتسال، ولا يتوقف على الوضوء بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: " أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت ". المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه الله: المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل، وقال أبو حنيفة رحمه الله: هما واجبان.
حجة الشافعي قوله عليه الصلاة والسلام: " أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت ".
وحجة أبي حنيفة الآية والخبر. أما الآية فقوله تعالى: * (فاطهروا) * وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم، وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس، ترك العمل به في الأجزاء الباطنة التي يتعذر تطهيرها، وداخل الفم والأنف يمكن تطهيرهما، فوجب بقاؤهما تحت النص، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام: " بلوا الشعر وانقوا البشرة " فإن تحت كل شعرة جنابة " فقوله " بلوا الشعر " يدخل فيه الأنف لأن في داخله شعرا، وقوله " وانقوا البشرة " يدخل فيه جلدة داخل الفم.
165

المسألة الرابعة: شعر الرأس إن كان مفتولا لا مشدودا بعضه ببعض نظر، فإن كان ذلك يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس وجب نقضه، وقال مالك لا يجب، وإن كان لا يمنع لم يجب وقال النخعي: يجب. لنا أن قوله: * (فاطهروا) * عبارة عن إيصال الماء إلى جميع أجزاء البدن، فإن كان شد بعض الشعور بالبعض مانعا منه وجب إزالة ذلك الشد ليزول ذلك المانع، فإن لم يكن مانعا منه لم يجب إزالته، لأن ما هو المقصود قد حصل فلا حاجة إليه.
المسألة الثامنة: قال الأكثرون: لا ترتيب في الغسل، وقال إسحاق: تجب البداءة بأعلى البدن لنا أن قوله * (فاطهروا) * أمر بالتطهير المطلق، وذلك حاصل بإيصال الماء إلى كل البدن، فإذا حصل التطهير وجب أن يكون كافيا في الخروج عن العهدة. قوله تعالى: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء) * (النساء: 43) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يجوز للمريض أن يتيمم لقوله تعالى: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر) * ولا يجوز أن يقال: إنه شرط فيه عدم الماء، لأن عدم الماء يبيح التيمم، فلا معنى لضمه إلى المرض، وإنما يرجع قوله * (فلم تجدوا ماء) * إلى المسافر. المسألة الثانية: المرض على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يخاف الضرر والتلف، فههنا يجوز التيمم بالاتفاق. الثاني: أن لا يخاف الضرر ولا التلف، فههنا قال الشافعي: لا يجوز التيمم، وقال مالك وداود يجوز، وحجتهما أن قوله * (وإن كنتم مرضى) * يتناول جميع أنواع المرض. الثالث: أن يخاف الزيادة في العلة وبطء المرض، فههنا يجوز له التيمم على أصح قولي الشافعي رحمه الله. وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله، والدليل عليه عموم قوله * (وإن كنتم مرضى) * الرابع: أن يخاف بقاء شين على شيء من أعضائه، قال في " الجديد ": لا يتيمم. قال في " القديم " يتيمم وهو الأصح لأنه هو المطابق للآية.
المسألة الثالثة: إن كان المرض المانع من استعمال الماء حاصلا في بعض جسده دون بعض، فقال الشافعي رحمه الله: إنه يغسل ما لا ضرر عليه ثم يتيمم، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن كان
166

أكثر البدن صحيحا غسل الصحيح دون التيمم، وإن كان أكثره جريحا يكفيه التيمم. حجة الشافعي رحمه الله الأخذ بالاحتياط، وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن الله تعالى جعل المرض أحد أسباب جواز التيمم، والمرض إذا كان حالا في بعض أعضائه فهو مريض فكان داخلا تحت الآية. المسألة الرابعة: لو ألصق على موضع التيمم لصوقا يمنع وصول الماء إلى البشرة ولا يخاف من نزع ذلك اللصوق التلف، قال الشافعي رحمه الله: يلزمه نزع اللصوق عند التيمم حتى يصل التراب إليه، وقال الأكثرون: لا يجب. حجة الشافعي رعاية الاحتياط، وحجة الجمهور أن مدار الأمر في التيمم على التخفيف وإزالة الحرج على ما قال تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 87) فإيجاب نزع للصوق حرج، فوجب أن لا يجب. المسألة الخامسة: يجوز التيمم في السفر القصير، وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: لا يجوز. لنا أن قوله تعالى: * (أو على سفر) * مطلق وليس فيه تفصيل أن السفر هل هو طويل أو قصير، ولقائل أن يقول: أنا إذا قلنا السفر الطويل والقصير سببان للرخصة لكون لفظ السفر مطلقا وجب أن نقول: المرض الخفيف والشديد سببان للرخصة لكون لفظ المرض مطلقا، ويدل أيضا على أن السفر القصير
يبيح التيمم ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه انصرف من قومه فبلغ موضعا مشرفا على المدينة فدخل وقت العصر فطلب الماء للوضوء فلم يجد فجعل يتيمم، فقال له مولاه: أتتيمم وها هي تنظر إليك جدران المدينة! فقال: أو أعيش حتى أبلغها، وتيمم وصلى، ودخل المدينة والشمس حية بيضاء وما أعاد الصلاة. المسألة السادسة: المسافر إذا كان معه ماء ويخاف العطش جاز له أن يتيمم لقوله تعالى في آخر الآية * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) * ولأن فرض الوضوء سقط عنه إذا أضر بماله، لدليل أنه إذا لم يجد الماء إلا بثمن كثير لم يجب عليه الوضوء، فإذا أضر بنفسه كان أولى. المسألة السابعة: إذا كان معه ماء وكان حيوان آخر عطشانا مشرفا على الهلاك يجوز له التيمم لأن ذلك الماء واجب الصرف إلى ذلك الحيوان، لأن حق الحيوان مقدم على الصلاة، ألا ترى أنه يجوز له قطع الصلاة عند إشراف صبي أو أعمى على غرق أو حرق، فإذا كان كذلك كان ذلك الماء كالمعدوم، فدخل حينئذ تحت قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) *.
المسألة الثامنة: إذ لم يكن معه ماء ولكن كان مع غيره ماء، ولا يمكنه أن يشتري إلا بالغبن الفاحش جاز التيمم له: لأن قوله * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) رفع عنه تحمل الغبن الفاحش، وحينئذ يكون كالفاقد للماء فيدخل تحت قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * وكذا القول إذا كان يباع
167

الماء بثمن المثل لكنه لا يجد ذلك الثمن، أو كان معه ذلك الثمن لكنه يحتاج إليه حاجة ضرورية،
فأما إذا كان واجدا لثمن المثل ولم يكن به إليه حاجة ضرورية فهنا يجب شراء الماء.
المسألة التاسعة: إذا وهب منه ذلك الماء هل يجوز له التيمم، قال أصحابنا: يجوز له التيمم ولا يجب عليه قبول ذلك الماء، لأن المنة في قبول الهبة شاقة، وأنا أتعجب منهم فإنهم لما جعلوا هذا القدر من الحرج سببا لجواز التيمم فلم لم يجدوا خوف زيادة الألم في المرض سببا لجواز التيمم. المسألة العاشرة: إذا أعير منه الدول والرشاء، فههنا الأكثرون قالوا: لا يجوز له التيمم، لأن المنة في هذه الإعارة قليلة، وكان هذا الإنسان واجدا للماء من غير حرج فلم يجز له التيمم لأن قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * دليل على أنه يشترط لجواز التيمم عدم وجدان الماء. المسألة الحادية عشرة: قوله * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * كناية عن قضاء الحاجة. وأكثر العلماء ألحقوا به كل ما يخرج من السبيلين سواء كان معتادا أو نادرا لدلالة الأحاديث عليه. المسألة الثانية عشرة: قال الشافعي رحمه الله: الاستنجاء واجب إما بالماء وإما بالأحجار وقال أبو حنيفة رحمه الله: غير واجب. حجة الشافعي قوله: فليستنج بثلاثة أحجار، وحجة أبي حنيفة أنه تعالى قال: * (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) * أوجب عند المجيء من الغائط الوضوء أو التيمم ولم يوجب غسل موضع الحد، وذلك يدل على أنه غير وأحب. المسألة الثالثة عشرة: لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي رحمه الله، ولا ينقض عند أبي حنيفة رحمه الله. المسألة الرابعة عشرة: ظاهر قوله * (أو لامستم النساء) * يدل على انتقاض وضوء اللامس، أما انتقاض وضوء الملموس فغير مأخوذ من الآية، بل إنما أخذ من الخبر، أو من القياس الجلي. قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) * وفيه مسائل، وهي محصورة في نوعين: أحدهما: الكلام في أن الماء المطهر ما هو؟ والثاني: الكلام في أن التيمم كيف هو؟
أما النوع الأول ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الوضوء بالماء المسخن جاز ولا يكره، وقال مجاهد: يكره. لنا وجهان: الأول: قوله تعالى: * (فاغسلوا وجوهكم) * والغسل عبارة عن إمرار الماء على العضو وقد أتى به
168

فيخرج عن العهدة. الثاني: أنه قال: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * علق جواز التيمم بفقدان الماء، وههنا لم يحصل فقدان الماء، فوجب أن لا يجوز التيمم. المسألة الثانية: قال أصحابنا: الماء إذا قصد تشميسه في الإناء كره الوضوء به، وقال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله: لا يكره. حجة أصحابنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من اغتسل بماء مشمس فأصابه وضع فلا يلومن إلا نفسه " ومن أصحابنا من قال: لا يكره ذلك من جهة الشرع، بل من جهة الطب. وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنه أمر بالغسل في قوله * (فاغسلوا وجوهكم) * وهذا غسل فيكون كافيا، الثاني أنه واجد للماء فلم يجز له التيمم. المسألة الثالثة: لا يكره الوضوء بما فضل عن وضوء المشرك، وكذا لا يكره الوضوء بالماء الذي يكون في أواني المشركين. وقال أحمد وإسحاق لا يجوز. لنا أنه أمر بالغسل وقد أتى به ولأنه واجد للماء فلا يتيمم. وروى أنه عليه الصلاة والسلام توضأ من مزادة مشركة، وتوضأ عمر رضي الله عنه من ماء في جرة نصرانية. المسألة الرابعة: يجوز الوضوء بماء البحر. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص لا يجوز. لنا أنه أمر بالغسل وقد أتى به، ولأن شرط جواز التيمم عدم الماء، ومن وجد ماء البحر فقد وجد الماء. المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه الله: لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز ذلك في السفر. حجة الشافعي قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * أوجب الشارع عند عدم الماء التيمم، وعند الخصم يجوز له الترك للتيمم بل يجب، وذلك بأن يتوضأ بنبيذ التمر، فكان ذلك على خلاف الآية، فإن تمسكوا بقصة الجن قلنا: قيل إن ذلك كان ماء نبذت فيه تميرات لإزالة الملوحة، وأيضا فقصة الجن كانت بمكة وسورة المائدة آخر ما نزل من القرآن، فجعل هذا ناسخا لذلك أولى. المسألة السادسة: ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة، وقال الأكثرون: لا يجوز. لنا أن عند عدم الماء أوجب الله التيمم، وتجويز الوضوء بسائر المائعات يبطل ذلك. احتجوا بأن قوله تعالى: * (فاغسلوا وجوهكم) * أمر بمطلق الغسل، وإمرار المائع على العضو يسمى غسلا كقول الشاعر: فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها وإذا كان الغسل اسما للقدر المشترك بين ما يحصل بالماء وبين ما يحصل بسائر المائعات كان قوله * (فاغسلوا) * إذنا في الوضوء بكل المائعات.
169

قلنا: هذا مطلق، والدليل الذي ذكرناه مقيد، وحمل المطلق على المقيد هو الواجب.
المسألة السابعة: قال الشافعي رحمه الله: الماء المتغير بالزعفران تغيرا فاحشا لا يجوز الوضوء به. وقال بو حنيفة رحمه الله يجوز، حجة الشافعي أن مثل هذا الماء لا يسمى ماء على الإطلاق فواجده غير واجد للماء، فوجب أن يجب عليه التيمم، وحجة أبي حنيفة رحمه الله أو واجده واجد للماء لأن الماء المتغير بالزعفران ماء موصوف بصفة معينة، فكان أصل الماء موجودا لا محالة، فواجده يكون واجدا للماء، فوجب أن لا يجوز التيمم لقوله تعالى * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * علق جواز التيمم بعدم الماء. المسألة الثامنة: الماء الذي تغير وتعفن بطول المكث طاهر طهور لدليل قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * علق جواز التيمم على عدم الماء وهذا الماء المتعفن ماء، فوجب أن لا يجوز التيمم عند وجوده. المسألة التاسعة: قال مالك وداود: الماء المستعمل في الوضوء يبقى طاهرا طهورا، وهو قول قديم للشافعي رحمه الله، والقول الجديد للشافعي أنه لم يبق طهورا ولكنه طاهر، وهو قول محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة رحمه الله في أكثر الروايات أنه نجس. حجة مالك أن جواز التيمم معلق على عدم وجدان الماء. وهو قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * وواجد الماء المستعمل واجد للماء، فوجب أن لا يجوز التيمم، وإذا لم يجز التيمم جاز له التوضؤ، لأنه لا قائل بالفرق. وأيضا قال تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * (الفرقان: 48) والطهور هو الذي يتكرر منه هذا الفعل كالضحوك والقتول والأكول والشروب، والتكرار إنما يحصل إذا كان المستعمل في الطهارة يجوز استعماله فيها مرة أخرى. المسألة العاشرة: قال مالك: الماء إذا وقعت فيه نجاسة ولم يتغير الماء بتلك النجاسة بقي طاهرا طهورا سواء كان قليلا أو كثيرا، وهو قول أكثر الصحابة والتابعين. وقال الشافعي رحمه الله: إن كان أقل من القلتين ينجس. وقال أبو حنيفة: إن كان أقل من عشرة في عشرة ينجس. حجة مالك أن الله جعل في هذه الآية عدم الماء شرطا لجواز لتيمم، وواجد هذا الماء الذي فيه النزاع واجد للماء، فوجب أن لا يجوز له التيمم. أقصى ما في الباب أن يقال: هذا المعنى موجود عند صيرورة الماء القليل متغيرا، إلا أنا نقول: العام حجة في غير محل التخصيص، وأيضا قوله تعالى: * (فاغسلوا وجوهكم) * أمر بمطلق الغسل، ترك العمل به في سائر المائعات وفي الماء القليل الذي تغير بالنجاسة، فيبقى حجة في الباقي. وقال مالك رحمه الله: ثم تأيد التمسك بهذه الآية بقوله
170

عليه الصلاة والسلام: " خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه " ولا يعارض هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا " لأن القرآن أولى من خبر الواحد، والمنطوق أولى من المفهوم.
المسألة الحادية عشرة: يجوز الوضوء بفضل ماء الجنب. وقال أحمد وإسحاق: لا يجوز بفضل ماء المرأة إذا خلت به، وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب. لنا قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * وواجد هذا الماء فلم يجز له التيمم، وإذا لم يجز له ذلك جاز له الوضوء لأنه لا قائل بالفرق. المسألة الثانية عشرة: أسار السباع طاهرة مطهرة، وكذا سؤر الحمار. وقال أبو حنيفة رحمه الله: نجسة. لنا أن واجد هذا السؤر واجد للماء فلم يجز له التيمم، ولأن قوله * (فاغسلوا) * يتناول جميع أنواع الماء على ما تقدم تقرير هذين الوجهين. المسألة الثالثة عشرة: الماء إذا بلغ قلتين ووقعت فيه نجاسة مغيرة بقي طاهرا مطهورا عند الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله ينجس. لنا أنه واجد للماء فلم يجز له لتيمم، ولأنه أمر بالغسل وقد أتى به فخرج عن العهدة.
المسألة الرابعة عشرة: الماء الذي تفتتت الأوراق فيه، للناس فيه تفاصيل، لكن هذه الآية دالة على كونه طاهرا مطهرا ما لم يزل عنه اسم الماء المطلق، وبالجملة فهذه الآية دالة على أنه كلما بقي اسم الماء المطلق كان طاهرا مطهورا. النوع الثاني: من المسائل المستخرجة من هذه الآية من مسائل التيمم.
المسألة الأولى: قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون رحمهم الله: لا بد في التيمم من النية، وقال زفر رحمه الله لا يجب. لنا قوله تعالى: * (فتيمموا) * والتيمم عبارة عن القصد، فدل على أنه لا بد من لنية. المسألة الثانية: قال الشافعي وأبو حنيفة: يجب تيمم اليدين إلى المرفقين، وعن علي وابن عباس إلى الرسغين، وعن مالك إلى الكوعين، وعن الزهري إلى الآباط. لنا: اليد اسم لهذا العضو إلى الإبط فقوله * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) * يقتضي المسح إلى الابن، تركنا العمل بهذا النص في العضدين لأنا نعلم أن التيمم بدل عن الوضوء. ومبناه على التخفيف بدليل أن الواجب تطهير أعضاء أربعة في الوضوء، وفي التيمم الواجب تطهير عضوين وتأكد هذا المعنى بقوله تعالى في آية التيمم * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) * فإذا كان العضدان
171

غير معتبرين في الوضوء فبأن لا يكونا معتبرين في التيمم أولى، وإذا خرج العضدان عن ظاهر النص بهذا الدليل بقي اليدان إلى المرفقين فيه، فالحاصل أنه تعالى إنما ترك تقييد التيمم في اليدين بالمرفقين لأنه بدل عن الوضوء، فتقييده بهما في الوضوء يغني عن ذكر هذا التقييد في التيمم.
المسألة الثالثة: يجب استيعاب العضوين في التيمم. ونقل الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا يمم الأكثر جاز. لنا قوله: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * والوجه واليد اسم لجملة هذين العضوين، وذلك لا يحصل إلا بالاستيعاب، ولقائل أن يقول: قد ذكرتم في قوله تعالى: * (وامسحوا برؤوسكم) * أن الباء تفيد التبعيض فكذا ههنا. المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمه الله: إذا وضع يده على الأرض فما لم يعلق بيده شيء من الغبار لم يجزه، وهو قول أبي يوسف رحمه لله. وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله يجزئه. لنا قوله تعالى: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * وكلمة * (منه) * تدل على التمسح بشيء من ذلك التراب كما أن من قال: فلان يمسح من الدن أفاد هذا المعنى، وقد بالغنا في تقرير هذا في تفسير آية التيمم من سورة النساء والله أعلم. المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه الله: لا يجوز التيمم إلا بالتراب الخالص، وهو قول أبي يوسف رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز بالتراب وبالرمل وبالخزف المدقوق والجص والنورة والزرنيخ. لنا ما روي أن ابن عباس قال: الصعيد هو التراب، وأيضا التيمم طهارة غير معقولة المعنى، فوجب الاقتصار فيه على مورد النص، والنص المفصل إنما ورد في التراب. قال عليه الصلاة والسلام: " التراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج " وقال " جعلت لي الأرض مسجدا وتربها طهورا " والله أعلم. المسألة السادسة: لو وقف على مهب الرياح فسفت الرياح التراب عليه فأمر يده عليه أو لم يمر ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله أنه لا يكفي. وقال بعض المحققين يكفي، لأنه لما
وصل الغبار إلى أعضائه ثم أمر الغبار على تلك الأعضاء فقد قصد إلى استعمال الصعيد الطيب في أعضائه فكان كافيا. المسألة السابعة: المذهب أنه إذا يممه غيره صح، وقيل لا يصح لأن قوله * (فتيمموا) * أمر
172

له بالفعل ولم يوجد. المسألة الثامنة: قال الشافعي رحمه الله: لا يجوز التيمم إلا بعد دخول وقت الصلاة. وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز. لنا قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * إلى قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * والقيام إلى الصلاة إنما يكون بعد دخول وقتها. والمسألة التاسعة: إذا ضرب رجله حتى ارتفع عنه غبار قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز له أن يتيمم، وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز. حجة أبي يوسف قوله تعالى: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * والغبار المنفصل عن التراب لا يقال إنه صعيد طيب، فوجب أن لا يجزى. المسألة العاشرة: لا يجوز التيمم بتراب نجس لقوله تعالى: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * والنجس لا يكون طيبا. المسألة الحادية عشرة: قال الشافعي رحمه الله: المسافر إذا لم يجد الماء بقربه لم يجز له التيمم إلا بعد الطلب عن اليمين واليسار، وإن كان هناك واد هبط إليه، وإن كان جبل صعده. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا غلب على ظنه عدم الماء لم يجب طلبه. لنا قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * جعل عدم وجدان الماء شرطا لجواز التيمم، وعدم الوجدان مشروط بتقديم الطلب، فدل هذا على أنه لا بد من تقديم الطلب. المسألة الثانية عشرة: لا يصح الطلب إلا بعد دخول وقت الصلاة، فإن طلب قبله يلزمه الطلب ثانيا بعد دخول الوقت، إلا أن يحصل عنده يقين أن الأمر بقي كما كان ولم يتغير. لنا قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * إلى قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * فقوله * (إذا قمتم إلى الصلاة) * عبارة عن دخول الوقت، فوجب أن يكون قوله * (فلم تجدوا) * عبارة عن عدم الوجدان بعد دخول الوقت، وعدم الوجدان بعد دخول الوقت مشروط بحصول الطلب بعد دخول الوقت، فعلمنا أنه لا بد من الطلب بعد دخول الوقت. المسألة الثالثة عشرة: لا خلاف في جواز التيمم بدلا عن الوضوء. وأما التيمم بدلا عن الغسل في حق الجنب فعن علي وابن عباس جوازه، وهو قال أكثر الفقهاء. وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز. لنا أن قوله: إما أن يكون مختصا بالجماع أو يدخل فيه الجماع، فوجب جواز التيمم بدلا عن الغسل لقوله * (أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) *.
173

المسألة الرابعة عشرة: قال الشافعي رحمه الله: لا يجمع بالتيمم بين فرضين وإن لم يحدث كما في الوضوء. وقال أحمد: يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين. حجة الشافعي: قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) * إلى قوله * (وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تحدوا ماء فتيمموا) *. وجه الاستدلال به أن ظاهره يقتضي الأمر بكل وضوء عند كل صلاة إن وجد الماء، وبالتيمم إن فقد الماء، ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبقى في التيمم على مقتضى ظاهر الآية.
المسألة الخامسة عشرة: قال الشافعي رحمه الله: إذا لم يجد الماء في أول الوقت ويتوقع وجدانه في آخر الوقت جاز له التيمم في أول الوقت. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: بل يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت. حجة الشافعي: قوله * (إذا قمتم إلى الصلاة) * إلى قوله * (فلم تجدوا ماء) * وقوله * (إذا قمتم إلى الصلاة) * ليس المراد منه القيام إلى الصلاة، بل المراد دخول وقت الصلاة. وهذا يدل على أن عند دخول الوقت إذا لم يجد الماء جاز له التيمم. المسألة السادسة عشرة: إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه. وقال أبو موسى الأشعري والشعبي: لا يبطل. لنا قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) * إلى قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * شرط عدم وجدان الماء بجواز الشروع في الصلاة بالتيمم، ومن وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة فقد فاته هذا الشرط فوجب أن لا يجوز له الشروع في الصلاة بذلك التيمم. المسألة السابعة عشرة: لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة. قال طاوس: يلزمه. لنا قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) * إلى قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * جوز له الشروع في الصلاة بالتيمم عند عدم وجدان الماء، وقد حصل ذلك، فوجب أن يكون سببا لخروجه عن عهدة التكليف، لأن الإتيان بالمأمور به سبب للأجزاء. المسألة الثامنة عشرة: لو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها، وبه قال مالك وأحمد خلافا لأبي حنيفة والثوري، وهو اختيار المزني وابن شريح. لنا أن عدم وجدان الماء يقتضي جواز الشروع في الصلاة بحكم التيمم على ما دلت الآية عليه، فقد انعقدت عليه صلاته صحيحة، فإذا وجد الماء في أثناء الصلاة فنقول: ما لم يبطل صلاته
174

لا يصير قادرا على استعمال الماء، وما لم يصر قادرا على استعمال الماء لا تبطل صلاته، فيتوقف كل واحد منهما على الآخر، فيكون دورا وهو باطل. والله أعلم.
المسألة التاسعة عشرة: لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي رحمه الله، وهو قول أحمد وأبي يوسف، والقول الثاني أنه لا يلزمه، وهو قول مالك وأبي حنيفة. حجة القول الثاني أنه عاجز عن الماء لأن عدم الماء كما أنه سبب للعجز عن استعمال الماء، فكذلك النسيان سبب للعجز، فثبت أنه عند النسيان عاجز فيه، فيدخل تحت قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * وحجة القول الأول أنه غير معذور في ذلك النسيان. المسألة العشرون: إذا ضل رحله في الرحال ففيه الخلاف المذكور، والأولى أن لا تجب الإعادة. المسألة الحادية والعشرون: إذا نسي كون الماء في رحله ولكنه استقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلى ثم وجده، فالأكثرون على أنه تجب الإعادة لأن العذر ضعيف. وقال قوم: لا تجب الإعادة، لأنه لما استقصى في الطلب صار عاجزا عن استعمال الماء فدخل تحت قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ÷. المسألة الثانية والعشرون: لو صلى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكن استعمال ذلك الماء، فإن كان قد علمه أولا ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله، وإن لم يكن عالما بها قط، فإن كان عليها علامة ظاهرة لزمه الإعادة، وإن لم يكن عليها علامة فلا إعادة لأنه عاجز عن استعمال الماء، فدخل تحت قوله * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) * فهذا جملة الكلام في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه الآية، وهي مائة مسألة، وقد كتبناها في موضع ما كان معنا شيء من الكتب الفقهية المعتبرة، وكان القلب مشوشا بسبب استيلاء الكفار على بلاد المسلمين. فنسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم، وأن يجعل كدنا في استنباط أحكام الله من نص الله سببا لرجحان الحسنات على السيئات أنه أعز مأمول وأكرم مسؤول. قوله تعالى: * (ما يريد ليجعل عليكم
من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) * وفي الآية مسائل:
175

المسألة الأولى: دلت الآية على أنه تعالى مريد، وهذا متفق عليه بين الأئمة، إلا أنهم اختلفوا في تفسير كونه مريدا، فقال الحسن النجار: أنه مريد بنعمته أنه غير مغلوب ولا مكره، وعلى هذا التقدير فكونه تعالى * (مريدا) * صفة سلبية، ومنهم من قال: إنه صفة ثبوتية، ثم اختلفوا فقال بعضهم: معنى كونه مريدا لأفعال نفسه أنه دعاه الداعي إلى إيجادها، ومعنى كونه مريدا لأفعال غيره أنه دعاه الداعي إلى الأمر بها، وهو قول الجاحظ وأبي قاسم الكعبي وأبي الحسين البصري من المعتزلة. وقال الباقون: كونه مريدا صفة زائدة على العلم، وهو الذي سميناه بالداعي، ثم منهم من قال: إنه مريد لذاته، وهذه هي الرواية الثانية عن الحسن النجار. وقال آخرون: إنه مريد بإرادة، ثم قال أصحابنا: مريد بإرادة قديمة. قالت المعتزلة البصرية: مريد بإرادة محدثة لا في محله وقالت الكرامية: مريد بإرادة محدثة قائمة بذاته والله أعلم. المسألة الثانية: قالت المعتزلة: دلت الآية على أن تكليف ما لا يطاق لا يوجد لأنه تعالى أخبر أنه ما جعل عليكم في الدين من حرج، ومعلوم أن تكليف ما لا يطاق أشد أنواع الحرج. قال أصحابنا: لما كان خلاف المعلوم محال الوقوع فقد لزمكم ما ألزمتموه علينا. المسألة الثالثة: اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع، وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة، ويدل عليه هذه الآية فإنه تعالى قال: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) ويدل عليه أيضا قوله تعالى: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) ويدل عليه من الأحاديث قوله عليه السلام: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " ويدل عليه أيضا أن دفع الضرر مستحسن في العقول فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع لقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " وأما بيان أن الأصل في المنافع الإباحة فوجوه: أحدها: قوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (البقرة: 29) وثانيها: قوله * (أحل لكم الطيبات) * (المائدة: 4) وقد بينا أن المراد من الطيبات المستلذات والأشياء التي ينتفع بها، وإذا ثبت هذان الأصلان فعند هذا قال نفاة القياس: لا حاجة البتة أصلا إلى القياس في الشرع؛ لأن كل حادثة تقع فحكمها المفصل إن كان مذكورا في الكتاب والسنة فذاك هو المراد وإن لم يكن كذلك، فإن كان من باب المضار حرمناه بالدلائل الدالة على أن الأصل في المضار الحرمة، وإن كان من باب المنافع أبحناه بالدلائل الدالة على إباحة المنافع، وليس لأحد أن يقدح في هذين الأصلين بشيء من الأقيسة لأن القياس المعارض لهذين الأصلين يكون قياسا واقعا في مقابلة النص، وأنه مردود فكان باطلا.
المسألة الرابعة: قوله * (ولكن يريد ليطهركم) * اختلفوا في تفسير هذا التطهير، فقال جمهور
176

أهل النظر من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: إن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية، فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية، وهذا الكلام عندنا بعيد جدا، ويدل عليه وجوه: الأول: قوله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) وكلمة * (إنما) * للحصر، وهذا يدل على أن المؤمن لا تنجس أعضاؤه البتة. الثاني: قوله عليه السلام: " المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا " فهذا الحديث مع تلك الآية كالنص الدال على بطلان ما قالوه. الثالث: أجمعت الأمة على أن بدن المحدث لو كان رطبا فأصابه ثوب لم يتنجس، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته، وذلك بدل على أنه لا نجاسة في أعضاء المحدث. الرابع: أن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء الأربعة ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل الأعضاء لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك. الخامس: أن خروج النجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخر! السادس: أن قوله * (ولكن يريد ليطهركم) * مذكور عقيب التيمم، ومن المعلوم بالضرورة أن التيمم زيادة في التقدير وإزالة الوضاءة والنظافة، وأنه لا يزيل شيئا من النجاسات أصلا، السابع: أن المسح على الخفين قائم مقام غسل الرجلين، ومعلوم أن هذا المسح لا يزيل شيئا البتة عن الرجلين، الثامن: أن الذي يراد زواله إن كان من جملة الأجسام فالحس يشهد ببطلان ذلك، وإن كان من جملة الإعراض فهو محال، لأن انتقال الأعراض محال، فثبت بهذه الوجوه أن الذي يقوله هؤلاء الفقهاء بعيد. الوجه الثاني: في تفسير هذا التطهير أن يكون المراد منه طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى، وذلك لأن الكفر والمعاصي نجاسة للأرواح، فإن النجاسة إنما كانت نجاسة لأنها شيء يراد نفيه وإزالته وتبعيده، والكفر المعاصي كذلك، فكانت نجاسات روحانية، وكما أن إزالة النجاسات الجسمانية تسمى طهارة فكذلك إزالة هذه العقائد الفاسدة والأخلاق الباطلة تسمى طهارة، ولهذا التأويل قال الله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * فجعل رأيهم نجاسة، وقال * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (الأحزاب: 33) فجعل براءتهم عن المعاصي طهارة لهم. وقال في حق عيسى عليه السلام: * (إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا) * (آل عمران: 55) فجعل خلاصه عن طعنهم وعن تصرفهم فيه تطهيرا له. وإذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إلى هذه الأعضاء المخصوصة وكانت هذه الأعضاء طاهرة لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة، فلما انقاد لهذا التكليف كان ذلك الانقياد لمحض إظهار العبودية والانقياد للربوبية، فكان هذا الانقياد قد أزال عن قلبه آثار التمرد فكان ذلك طهارة، فهذا هو الوجه الصحيح في تسمية هذه الأعمال طهارة، وتأكد
177

هذا بالأخبار الكثيرة الواردة في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه، وكذا القول في يديه ورأسه ورجائه. واعلم أن هذه القاعدة التي قررناها أصل معتبر في مذهب الشافعي رحمه الله، وعليه يخرج كثير من المسائل الخلافية في أبواب الطهارة والله أعلم. أما قوله * (وليتم نعمته عليكم) * ففيه وجهان: الأول: أن الكلام متعلق بما ذكر من أول السورة إلى هنا، وذلك لأنه تعالى أنعم في أول السورة بإباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، ثم إنه تعالى ذكر بعده كيفية فرض الوضوء فكأنه قال: إنما ذكرت ذلك لتتم النعمة المذكورة أولا وهي نعمة الدنيا، والنعمة المذكورة ثانيا وهي نعمة الدين. الثاني: أن المراد: وليتم نعمته عليكم أي بالترخص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض، فاستدلوا بذلك على أنه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم. ثم قال تعالى: * (لعلكم تشكرون) * والكلام في " لعل " مذكور في أول سورة البقرة في قوله تعالى: * (لعلكم تتقون) * (البقرة: 21) والله أعلم
قوله تعالى
* (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور) *.
إعلم أنه تعالى لما ذكر هذا التكليف أردفه بما يوجب عليهم القبول والانقياد، وذلك من وجهين: الأول: كثرة نعمة الله عليهم، وهو المراد من قوله * (واذكروا نعمة الله عليكم) * ومعلوم أن كثرة النعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه وفيه مسألتان: المسألة الأولى: إنما قال * (واذكروا نعمة الله عليكم) * ولم يقل نعم الله عليكم، لأنه ليس المقصود منه التأمل في إعداد نعم الله، بل المقصود منه التأمل في جنس نعم الله لأن هذا الجنس جنس لا يقدر غير الله عليه، فمن الذي يقدر على إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه
178

غير الله، فقوله تعالى: * (واذكروا نعمت الله) * المراد التأمل في هذا النوع من حيث أنه ممتاز عن نعمة غيره، وذلك الامتياز هو أنه لا يقدر عليه غيره، ومعلوم أن النعمة متى كانت على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم وأكمل.
المسألة الثانية: قوله * (واذكروا نعمت الله) * مشعر بسبق النسيان، فكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات، إلا أن الجواب عنه أنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد، فصارت غلبة ظهورها وكثرتها سببا لوقوعها في محل النسيان، ولهذا المعنى قال المحققون: إنه تعالى إنما كان باطنا لكونه ظاهرا، وهو المراد من قولهم: سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره. السبب الثاني: من الأسباب التي توجب عليهم كونهم منقادين لتكاليف الله تعالى هو الميثاق الذي واثقهم به، والمواثقة المعاهدة التي قد أحكمت بالعقد على نفسه، وهذه الآية مشابهة لقوله في أول السورة * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) وللمفسرين في تفسير هذا الميثاق وجوه: الأول: أن المراد هو المواثيق التي جرت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم في أن يكونوا على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه، مثل مبايعته مع الأنصار في أول الأمر ومبايعته عامة المؤمنين تحت الشجرة وغيرهما، ثم إنه تعالى أضاف الميثاق الصادر عن الرسول إلى نفسه كما قال: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) * (الفتح: 10) وقال: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * (النساء: 80) ثم إنه تعالى أكد ذلك بأن ذكرهم أنهم التزموا ذلك وقبلوا تلك التكاليف وقالوا سمعنا وأطعنا، ثم حذرهم من نقض تلك العهود والمواثيق فقال: * (واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور) * يعني لا تنقضوا تلك العهود ولا تعزموا بقلوبكم على نقضها، فإنه إن خطر ذلك ببالكم فالله يعلم بذلك وكفى به مجازيا. والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل حين قالوا آمنا بالتوراة وبكل ما فيها، فلما كان من جملة ما في التوراة البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم لزمهم الإقرار بمحمد عليه الصلاة والسلام، والثالث: قال مجاهد والكلبي ومقاتل: هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى منهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم. فإن قيل: على هذا القول أن بني آدم لا يذكرون هذا العهد والميثاق فكيف يؤمرون بحفظه؟ قلنا: لما أخبر الله تعالى بأنه كان ذلك حاصلا حصل القطع بحصوله، وحينئذ يحسن أن يأمرهم بالوفاء بذلك العهد. الرابع: قال السيد: المراد بالميثاق الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله تعالى على التوحيد والشرائع، وهو اختيار أكثر المتكلمين.
179

قوله تعالى
* (يا أيهآ الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) *.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) * هذا أيضا متصل بما قبله، والمراد حثهم على الانقياد لتكاليف الله تعالى. واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلا أنها محصورة في نوعين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله، فقوله * (كونوا قوامين لله) * إشارة إلى النوع الأول وهو التعظيم لأمر الله، ومعنى القيام لله هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من إظهار العبودية وتعظيم الربوبية، وقوله * (شهداء بالقسط) * إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان: الأول: قال عطاء: يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك، ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. الثاني: قال الزجاج: المعنى تبينون عن دين الله، لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه. ثم قال تعالى: * (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا) * أي لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا، وأراد أن لا تعدلوا فيهم لكنه حذف للعلم، وفي الآية قولان: الأول: أنها عامة والمعنى لا يحملنكم بغض قوم على أن تجوروا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم، بل اعدلوا فيهم وإن أساؤا عليكم، وأحسنوا إليهم وإن بالغوا في إيحاشكم، فهذا خطاب عام، ومعناه أمر الله تعالى جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلا على سبيل العدل والانصاف، وترك الميل والظلم والاعتساف، والثاني: أنها مختصة بالكفار فإنها نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام. فإن قيل: فعلى هذا القول كيف يعقل ظلم المشركين مع أن المسلمين أمروا بقتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم؟ قلنا: يمكن ظلمهم أيضا من وجوه كثيرة: منها أنهم إذا أظهروا الإسلام لا يقبلونه منهم، ومنها قتل أولادهم الأطفال لاغتمام الآباء، ومنها إيقاع المثلة بهم، ومنها نقض عهودهم، والقول الأول أولى.
ثم قال تعالى: * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * فنهاهم أولا عن أن يحملهم البغضاء على ترك العدل
180

ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا وتشديدا، ثم ذكر لهم علة الأمر بالعدل وهو قوله * (هو أقرب للتقوى) * ونظيره قوله * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (البقرة: 237) أي هو أقرب للتقوى، وفيه وجهان، الأول: هو أقرب إلى الاتقاء من معاصي الله تعالى، والثاني: هو أقرب إلى الاتقاء من عذاب الله وفيه تنبيه عظيم على وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله تعالى، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه. ثم ذكر الكلام الذي يكون وعدا مع المطيعين ووعيدا
للمذنبين وهو قوله تعالى: * (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) * يعني أنه عالم بجميع المعلومات فلا يخفى عليه شيء من أوالكم.
ثم ذكر وعد المؤمنين فقال تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) * فالمغفرة إسقاط السيئات كما قال * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) * (الفرقان: 70) والأجر العظيم إيصال الثواب، وقوله * (لهم مغفرة وأجر عظيم) * فيه وجوه: الأول: أنه قال أولا * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * فكأنه قيل: وأي شيء وعدهم؟ فقال * (لهم مغفرة وأجر عظيم) * الثاني: التقدير كأنه قال: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقال لهم مغفرة وأجر عظيم، والثالث: أجرى قوله * (وعد) * مجرى قال، والتقدير: قال الله في الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم، والرابع: أن يكون * (وعد) * واقعا على جملة * (لهم مغفرة وأجر عظيم) * أي وعدهم بهذا المجموع. فإن قيل: لم أخبر عن هذا الوعد مع أنه لو أخبر بالموعود به كان ذلك أقوى؟ قلنا: بل الأخبار عن كون هذا الوعد وعد الله أقوى. وذلك لأنه أضاف هذا الوعد إلى الله تعالى فقال * (وعد الله) * والإله هو الذي يكون قادرا على جميع المقدورات عالما بجميع المعلومات غنيا عن كل الحاجات، وهذا يمتنع الخلف في وعده، لأن دخول الخلف إنما يكون إما للجهل حيث ينسى وعده، وإما للعجز حيث لا يقدر على الوفاء بوعده، وإما للبخل حيث يمنعه البخل عن الوفاء بالوعد، وإما للحاجة، فإذا كان الإله هو الذي يكون منزها عن كل هذه الوجوه كان دخول الخلف في وعده محالا، فكان الإخبار عن هذا الوعد أوكد وأقوى من نفس الأخبار عن الموعود به، وأيضا فلأن هذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عن سكرات الموت فتسهل بسببه
181

تلك الشدائد، وبعد الموت يسهل عليه بسببه البقاء في ظلمة القبر وفي عرصة القيامة عند مشاهدة تلك الأهوال.
ثم ذكر بعد ذلك وعيد الكفار فقال: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) *. هذه الآية نص قاطع في أن الخلود ليس إلا للكفار، لأن قوله * (أولئك أصحاب الجحيم) * يفيد الحصر، والمصاحبة تقتضي الملازمة كما يقال: أصحاب الصحراء، أي الملازمون لها.
قوله تعالى
* (يا أيهآ الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *
وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية وجهان: الأول: أن المشركين في أول الأمر كانوا غالبين، والمسلمين كانوا مقهورين مغلوبين، ولقد كان المشركون أبدا يريدون أيقاع البلاء والقتل والنهب بالمسلمين، والله تعالى كن يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام وعظمت شوكة المسلمين فقال تعالى: * (اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم) * وهو المشركون * (أن يبسطوا إليكم أيديهم) * بالقتل والنهب والنفي فكف الله تعالى بلطفه ورحمته أيدي الكفار عنكم أيها المسلمون، ومثل هذا الأنعام العظيم يوجب عليكم أن تتقوا معاصيه ومخالفته. ثم قال تعالى: * (واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * أي كونوا مواظبين على طاعة الله تعالى، ولا تخافوا أحدا في إقامة طاعات الله تعالى.
الوجه الثاني: أن هذه الآية نزلت في واقعة خاصة ثم فيه وجوه: الأول: قال ابن عباس والكلبي ومقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني عامر فقتلوا ببئر معونة إلا ثلاثة نفر: أحدهم عمرو بن أمية الضمري، وانصرف هو وآخر معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبراه خبر القوم، فلقيا رجلين من بني سليم معهما أمان من النبي صلى الله عليه وسلم فقتلاهما ولم يعلما أن معهما أمانا، فجاء قومهما يطلبون الدية، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان
182

وعلى حتى دخلوا على بني النضير، وقد كانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما أمان مني فلزمني ديتهما، فأريد أن تعينوني، فقالوا أجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد، ثم هموا بالفتك برسول الله وبأصحابه، فنزل جبريل وأخبره بذلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحال مع أصحابه وخرجوا، فقال اليهود: إن قدورنا تغلي، فأعلمهم الرسول أنه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه. قال عطاء: توامروا على أن يطرحوا عليه رحا أو حجرا، وقيل: بل ألقوا فأخذه جبريل عليه السلام، والثاني: قال آخرون: إن الرسول نزل منزلا وتفرق الناس عنه، وعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء إعرابي وسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ فقال لا أحد، ثم صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقبه، وعلى هذين القولين فالمراد من قوله * (أذكروا نعمت الله عليكم) * تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيهم، فأنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن، والثالث: روي أن المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر بالجماعة وذلك بعسفان، فلما صلوا ندم المشركون وقالوا ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم، فقيل لهم: إن للمسلمين بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم، يعنون صلاة العصر، فهموا بأن يوقعوا بهم إذ قاموا إليه، فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف. المسألة الثانية: يقال: بسط إليه لسانه إذا شتمه، وبسط إليه يده إذا بطش به. ومعنى بسط اليد مده إلى المبطوش به، ألا ترى أن قولهم: فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى واحد * (فكف أيديهم عنكم) * أي منعها أن تصل إليكم.
قوله تعالى
* (ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسراءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا) *
فيه مسائل:
المسألة الأولى: أعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها: الأول: أنه تعالى خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال * (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سعنا وأطعنا) * (المائدة: 7) ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثل أولئك اليهود في هذا
الخلق الذميم لئلا تصيروا مثلهم فيما نزل بهم من اللعن والذلة
183

والمسكنة، والثاني: أنه لما ذكر قوله * (اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم) * (المائدة: 11) وقد ذكرنا في بعض الروايات أن هذه الآية نزلت في اليهود، وأنهم أرادوا أيقاع الشر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بذكر فضائحهم وبيان أنهم أبدا كانوا مواظبين على نقض العهود والمواثيق، الثالث: أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان، فذكر تعالى أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله في التكليف والالزام غير مخصوصة بهم، بل هي عادة جارية له مع جميع عباده. المسألة الثانية: قال الزجاج: النقيب فعيل أصله من النقب وهو الثقب الواسع، يقال فلان نقيب القوم لأنه ينقب عن أحوالهم كما ينقب عن الأسرار ومنه المناقب وهي الفضائل لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها، ونقبت الحائط أي بلغت في النقب إلى آخرة، ومنه النقبة السراويل بغير رجلين لأنه قد بولغ في فتحها ونقبها، ويقال: كلب نقيب، وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرتفع صوت نباحه، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف. إذ عرفت هذا فنقول: النقيب فعيل، والفعيل يحتمل الفاعل والمفعول، فإن كان بمعنى الفاعل فهو الناقب عن أحوال القوم المفتش عنها، وقال أبو مسلم: النقيب ههنا فعيل بمعنى مفعول يعني اختارهم على بهم، ونظيره أنه يقال للمضروب: ضريب، وللمقتول قتيل. وقال الأصم: هم المنظور إليهم والمسند إليهم أمور القوم وتدبير مصالحهم.
المسألة الثالثة: أن بني إسرائيل كانوا اثنى عشر سبطا، فاختار الله تعالى من كل سبط رجلا يكون نقيبا لهم وحاكما فيهم. وقال مجاهد والكلبي والسدي: أن النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى عليه السلام بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم، فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، ويوشع بن نون من سبط إفراثيم بن يوسف، وهما اللذان قال الله تعالى فيهما * (قال رجلان من الذين يخافون) * (المائدة: 23) الآية.
184

قوله تعالى: * (وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات من تحتها الأنهار) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية حذف، والتقدير: وقال الله لهم إني معكم، إلا أنه حذف ذلك لاتصال الكلام بذكرهم. المسألة الثانية: قوله * (إني معكم) * خطاب لمن؟ فيه قولان: الأول: أنه خطاب للنقباء، أي وقال الله للنقباء إني معكم. والثاني: أنه خطاب لكل بني إسرائيل، وكلاهما محتمل إلا أن الأول أولى. لأن الضمير يكون عائدا إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكور هنا النقباء والله أعلم.
المسألة الثالثة: أن الكلام قد تم عند قوله * (وقال الله إني معكم) * والمعنى إني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم، فقوله * (إني معكم) * مقدمة معتبرة جدا في الترغيب والترهيب، ثم لما وضع الله تعالى هذه المقدمة الكلية ذكر بعدها جملة شرطية، والشرط فيها مركب من أمور خمسة، وهي قوله * (لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعززتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا) * والجزاء هو قوله * (لأكفرن عنكم سيئاتكم) * وذلك إشارة إلى إزالة العقاب. وقوله * (ولأدخلناكم جنات تجري من تحتها الأنهار) * وهو إشارة إلى إيصال الثواب، وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها؟ والجواب: أن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بد في حصول النجاة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بد من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود، وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل.
185

والسؤال الثاني: ما معنى التعزيز؟ الجواب: قال الزجاج: العزز في اللغة الرد، وتأويل عززت فلانا، أي فعلت به ما يرده عن القبيح ويزجره عنه، ولهذا قال الأكثرون: معنى قوله * (وعزرتموهم) * أي نصرتموهم، وذلك لأن من نصر إنسانا فقد رد عنه أعداءه. قال: ولو كان التعزيز هو التوقير لكان قوله * (وتعزروه وتوقروه) * (الفتح: 9) تكرارا. والسؤال الثالث: قوله * (وأقرضتم الله قرضا حسنا) * دخل تحت إيتاء الزكاة، فما الفائدة في الإعادة؟ والجواب: المراد بإيتاء الزكاة الواجبات. وبهذا الاقراض الصدقات المندوبة، وخصها بالذكر تنبيها على شرفها وعلو مرتبتها. قال الفراء: ولو قال: وأقرضتم الله إقراضا حسنا لكان صوابا أيضا إلا أنه قد يقام الاسم مقام المصدر، ومثله قوله * (فتقبلها ربها بقبول حسن) * (آل عمران: 37) ولم يقل يتقبل، وقوله * (وأنبتها نباتا حسنا) * ولم يقل إنباتا. ثم قال تعالى: * (فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) * أي أخطأ الطريق المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لهم.
فإن قيل: من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضل سواء السبيل. قلنا: أجل، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وبلغ النهاية القصوى.
ثم قال تعالى: * (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في نقضهم الميثاق وجوه: الأول: بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء. الثاني: بكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم. الثالث: مجموع هذه الأمور. المسألة الثانية: في تفسير " اللعن " وجوه: الأول: قال عطاء: لعناهم أي أخرجناهم من رحمتنا. الثاني: قال الحسن ومقاتل: مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير. قال ابن عباس ضربنا الجزية عليهم. ثم قال تعالى: * (وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي (قسية) بتشديد الياء بغير ألف على وزن فعلية، والباقون بالألف والتخفيف، وفي قوله (قسية) وجهان: أحدهما: أن تكون القسية بمعنى القاسية
186

إلا أن القسي أبلغ من القاسي، كما يقال: قادر وقدير، وعالم وعليم، وشاهد وشهيد، فكما أن القدير أبلغ من القادر فكذلك القسي أبلغ من القاسي، الثاني: أنه مأخوذ من قولهم: درهم قسي على وزن شقي، أي فاسد رديء. قال صاحب " الكشاف " وهو أيضا من القسوة لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وصلابة، وقرئ (قسية) بكسر القاف للاتباع.
المسألة الثانية: قال أصحابنا * (وجعلنا قلوبهم قاسية) * أي جعلناها نائبة عن قبول الحق منصرفة عن الانقياد للدلائل. وقالت المعتزلة * (وجعلنا قلوبهم قاسية) * أي أخبرنا عنها بأنها صارت قاسية كما يقال: فلان جعل فلانا فاسقا وعدلا. ثم أنه تعالى ذكر بعض ما هو من نتائج تلك القسوة فقال * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * وهذا التحريف يحتمل التأويل الباطل، ويحتمل تغيير اللفظ، وقد بينا فيما تقدم أن الأول أولى لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ. ثم قال تعالى: * (ونسوا حظا مما ذكروا به) * قال ابن عباس: تركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال تعالى: * (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) * وفي الخائنة وجهان: الأول: أن الخائنة بمعنى المصدر، ونظيره كثير، كالكافية والعافية، وقال تعالى: * (فأهلكوا بالطاغية) * (الحاقة: 5) أي بالطغيان. وقال * (ليس لوقعتها كاذبة) * (الواقعة: 2) أي كذب. وقال: * (لا تسمع فيها لاغية) * (الغاشية: 11) أي لغوا. وتقول العرب: سمعت راغية الإبل. وثاغية الشاء يعنون رغاءها وثغاءها. وقال الزجاج: ويقال عافاه الله عافية، والثاني: أن يقال: الخائنة صفة، والمعنى: تطلع على فرقة خائنة أو نفس خائنة أو على فعلة ذات خيانة. وقيل: أراد الخائن، والهاء للمبالغة كعلامة ونسابة. قال صاحب " الكشاف " وقرئ على خيانة منهم. ثم قال تعالى: * (إلا قليلا منهم) * وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: يحتمل أن يكون هذا القليل من الذين بقوا على العهد ولم يخونوا فيه.
ثم قال: * (فاعف عنهم واصفح) * وفيه قولان: الأول: أنه منسوخ بآية السيف، وذلك لأنه
187

عفو وصفح عن الكفار، ولا شك أنه منسوخ بآية السيف. والقول الثاني: أنه غير منسوخ وعلى هذا القول ففي الآية وجهان: أحدهما: المعنى فاعف عن مذنبهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم، والثاني: أنا إذا حملنا القليل عن الكفار منهم الذين بقوا على الكفر فسرنا هذه الآية بأن المراد منها أمر الله رسوله بأن يعفو عنهم ويصفح عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد، وهو قول أبي مسلم. ثم قال تعالى: * (إن الله يحب المحسنين) * وفيه وجهان: الأول: قال ابن عباس: إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنا فقد أحبك الله. والثاني: أن المراد بهؤلاء المحسنين هم المعنيون بقوله * (إلا قليلا منهم) * وهم الذين نقضوا عهد الله، والقول الأول أولى لأن صرف قوله * (إن الله يحب المحسنين) * على القول الأول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه هو المأمور في هذه الآية بالعفو والصفح، وعلى القول الثاني إلى غير الرسول، ولا شك أن الأول أولى.
قوله تعالى
* (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) *
والمراد أن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض المواثيق من عند الله، وإنما قال: * (ومن الذين قالوا إنا نصارى) * ولم يقل: ومن النصارى، وذلك لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله تعالى، وهم الذين قالوا لعيسى * (نحن أنصار الله) * (آل عمران: 52) فكان هذا الاسم في الحقيقة اسم مدح، فبين الله تعالى أنهم يدعون هذه الصفة ولكنهم ليسوا موصوفين بها عند الله تعالى، وقوله * (أخذنا ميثاقهم) * أي مكتوب في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتنكير * (الحظ) * في الآية يدل على أن المراد به حظ واحد، وهو الذي ذكرناه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنما خص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا الكثير مما أمرهم الله تعالى به لأن هدا هو المعظم والمهم، وقوله * (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) * أي ألصقنا العداوة والبغضاء بهم، يقال: أغرى
188

فلان بفلان إذا ولع به كأنه ألصق به، ويقال لما التصق به، ويقال لما التصق به الشيء: الغراء، وفي قوله * (بينهم) * وجهان: أحدهما: بين اليهود والنصارى. والثاني: بين فرق النصارى، فإن بعضهم يكفر بعضا إلى يوم القيامة، ونظيره قوله * (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) * (الأنعام: 65) وقوله * (وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) * وعيد لهم.
قوله تعالى
* (يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين) *
قوله تعالى: * (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير) *. وأعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود وعن النصارى نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به، دعاهم عقيب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال * (يا أهل الكتاب) * والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وإنما وحد الكتاب لأنه خرج الجنس، ثم وصف الرسول بأمرين: الأول: أنه يبين لهم كثيرا مما كانوا يخفون. قال ابن عباس: أخفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخفوا أمر الرجم، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك لهم، وهذا معجز لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما من أحد، فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزا. والوصف الثاني للرسول: قوله * (ويعفوا عن كثير) * أي لا يظهر كثيرا مما تكتمونه أنتم، وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين، والفائدة في ذكر ذلك أنهم يعلمون كون الرسول عالما بكل ما يخفونه، فيصير ذلك داعيا لهم إلى ترك الإخفاء لئلا يفتضحوا.
ثم قال تعالى: * (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) * وفيه أقوال: الأول: أن المراد بالنور محمد، وبالكتاب القرآن، والثاني: أن المراد بالنور الإسلام، وبالكتاب القرآن. الثالث: النور
189

والكتاب هو القرآن، وهذا ضعيف لأن العطف يوجب المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وتسمية محمد والإسلام والقرآن بالنور ظاهرة، لأن النور الظاهر هو الذي يتقوى به البصر على إدراك الأشياء الظاهرة، والنور الباطن أيضا هو الذي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات.
قوله تعالى
* (يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) *.
ثم قال تعالى: * (يهدي به الله) * أي بالكتاب المبين * (من اتبع رضوانه) * من كان مطلوبه من طلب الدين اتباع الدين الذي يرتضيه الله تعالى، فأما من كان مطلوبه من دينه تقرير ما ألفه ونشأ عليه وأخذه من أسلافه مع ترك النظر والاستدلال، فمن كان كذلك فهو غير متبع رضوان الله تعالى. ثم قال تعالى: * (سبل السلام) * أي طرق السلامة، ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أي سبل دار السلام، ونظيره قوله * (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم) * (محمد: 4، 5) ومعلوم أنه ليس المراد هداية الإسلام، بل الهداية إلى طريق الجنة. ثم قال: * (ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه) * أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وذلك أن الكفر يتحير فيه صاحبه كما يتحير في الظلام، ويهتدي بالإيمان إلى طرق الجنة كما يهتدي بالنور، وقوله * (بإذنه) * أي بتوفيقه، والباء تتعلق بالاتباع أي اتبع رضوانه بإذنه، ولا يجوز أن تتعلق بالهداية ولا بالإخراج لأنه لا معنى له، فدل ذلك على أنه لا يتبع رضوان الله إلا من أراد الله منه ذلك. وقوله تعالى: * (ويهديهم إلى صراط مستقيم) * وهو الدين الحق، لأن الحق واحد لذاته، ومتفق من جميع جهاته، وأما الباطل ففيه كثرة، وكلها معوجة.
وقوله تعالى: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) * في الآية سؤال، وهو أن أحدا من النصارى لا يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، فكيف حكى الله عنهم ذلك مع أنهم لا يقولون به.
190

وجوابه: أن كثيرا من الحلولية يقولون: إن الله تعالى قد يحل في بدن إنسان معين، أو في روحه، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال: إن قوما من النصارى ذهبوا إلى هذا القول، بل هذا أقرب مما يذهب إليه النصارى، وذلك لأنهم يقولون: أن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام، فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتا أو صفة، فإن كان ذاتا فذات الله تعالى قد حلت في عيسى واتحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإله على هذا القول. وإن قلنا: إن الأقنوم عبارة عن الصفة، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول، ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى يلزم خلو ذات الله عن العلم، ومن لم يكن عالما لم يكن إلها، فحينئذ يكون الإله هو عيسى على قولهم، فثبت أن النصارى وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول إلا أن حاصل مذهبهم ليس إلا ذلك: ثم أنه سبحانه احتج على فساد هذا المذهب بقوله * (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) * وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط. والتقدير: إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا، فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره، وقوله * (فمن يملك من الله شيئا) * أي فمن يملك من أفعال الله شيئا، والملك هو القدرة، يعني فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله تعالى ومنع شيء من مراده. وقوله * (ومن في الأرض جميعا) * (المعارج: 14) يعني أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال، فلما سلمتم كونه تعالى خالقا للكل مدبرا للكل وجب أن يكون أيضا خالقا لعيسى. ثم قال تعالى: * (ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما) * إنما قال * (وما بينهما) * بعد ذكر السماوات والأرض، ولم يقل: بينهن لأنه ذهب بذلك مذهب الصنفين والنوعين. ثم قال: * (يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير) * وفيه وجهان: الأول: يعني يخلق ما يشاء، فتارة يخلق الإنسان من الذكر والأنثى كما هو معتاد، وتارة لا من الأب والأم كما في خلق آدم عليه السلام، وتارة من الأم لا من الأب كما في حق عيسى عليه السلام، والثاني: يخلق ما يشاء، يعني أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فالله تعالى يخلق فيه اللحمية والحياة والقدرة معجزة لعيسى، وتارة يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص معجزة له، ولا اعتراض على الله تعالى في شيء من أفعاله.
191

قوله تعالى: * (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) * وفيه سؤال: وهو أن اليهود لا يقولون ذلك البتة، فكيف نقل هذا القول عنهم؟ وأما النصارى فإنهم يقولون ذلك في حق عيسى لا في حق أنفسهم، فكيف يجوز هذا النقل عنهم؟ أجاب المفسرون عنه من وجوه: الأول: أن هذا من باب حذف المضاف، والتقدير نحن أبناء رسل الله، فأضيف إلى الله ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسل الله، ونظيره قوله * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) * (الفتح: 10) والثاني: أن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب فقد يطلق أيضا على من يتخذ ابنا، واتخاذه ابنا بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة، فالقوم لما ادعوا أن عناية الله بهم أشد وأكمل من عنايته بكل ما سواهم، لا جرم عبر الله تعالى عن دعواهم كمال عناية الله بهم بأنهم ادعوا أنهم أبناء الله. الثالث: أن اليهود لما زعموا أن عزيرا ابن الله، والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله، ثم زعموا أن عزيرا والمسيح كانا منهم، صار ذلك كأنهم قالوا نحن أبناء الله، ألا ترى أن أقارب الملك إذا فاخروا إنسانا آخر فقد يقولون: نحن ملوك الدنيا، ونحن سلاطين العالم، وغرضهم منه كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك والسلطان فكذا هاهنا، والرابع: قال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله تعالى فقالوا: كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه، فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة، وأما النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم: اذهب إلى أبي وأبيكم وجملة الكلام أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلا على سائر الخلق بسبب أسلافهم الأفاضل من الأنبياء حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. ثم انه تعالى أبطل عليهم دعواهم وقال: * (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) * وفيه سؤال، وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم، فهم ليسوا أبناء الله ولا أحباءه، والاشكال عليه أن يقال: إما أن تدعوا أن الله عذبهم في الدنيا أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة، فإن كان موضع الالزام عذاب الدنيا فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء الله لأن محمدا صلى
الله
192

عليه وسلم كان يدعي أنه هو وأمته أحباء الله، ثم أنهم ما خلوا عن محن الدنيا. انظروا إلى وقعة أحد، وإلى قتل الحسن والحسين، وإن كان موضع الالزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك. ومجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلم ليس بكاف في هذا الباب، إذ لو كان كافيا لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء الله كافيا، وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعا.
والجواب من وجوه: الأول: أن موضع الالزام هو عذاب الدنيا، والمعارضة بيوم أحد غير لازمة لأنه يقول: لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم الله في الدنيا، ومحمد عليه الصلاة والسلام ادعى أنه من أحباء الله ولم يدع أنه من أبناء الله فزال السؤال. الثاني: أن موضع الالزام هو عذاب الآخرة، واليهود والنصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * (البقرة: 80) والثالث: المراد بقوله * (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) * فلم مسخكم، فالمعذب في الحقيقة اليهود الذين كانوا قبل اليهود المخاطبين بهذا الخطاب في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا أنهم لما كانوا من جنس أولئك المتقدمين حسنت هذه الإضافة، وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود فإنهم يقولون: لا نسلم أنه تعالى يعذبنا، بل الأولى أن يحتج عليهم عليهم بشيء قد وجد وحصل حتى يكون الاستدلال به قويا متينا. ثم قال تعالى: * (بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له، وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه، بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. واعلم أنا بينا أن مراد القوم من قولهم * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * كمال رحمته عليهم وكمال عنايته بهم. وإذا عرفت هذا فمذهب المعتزلة أن كل من أطاع الله واحترز عن الكبائر فإنه يجب على الله عقلا إيصال الرحمة والنعمة إليه أبد الآباد، ولو قطع عنه بعد ألوف سنة في الآخرة تلك النعم لحظة واحدة لبطلت إلهيته ولخرج عن صفة الحكمة، وهذا أعظم من قول اليهود والنصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه، وكما أن قوله * (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * إبطال لقول اليهود. فبأن يكون إبطالا لقول المعتزلة أولى وأكمل.
ثم قال تعالى: * (ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما) * بمعنى من كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه حقا واجبا؟ وكيف يملك الإنسان الجاهل بعبادته
193

الناقصة ومعرفته القليلة عليه دينا. إنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا.
ثم قال تعالى: * (وإليه المصير) * أي وإليه يؤول أمر الخلق في الآخرة لأنه لا يملك الضر والنفع هناك إلا هو كما قال * (والأمر يومئذ لله) * (الانفطار: 19).
قوله تعالى
* (يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شىء قدير) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله * (يبين لكم) * وجهان: الأول: أن يقدر المبين، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك المبين هو الدين والشرائع، وإنما حسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع، وثانيها: أن يكون التقدير يبين لكم ما كنتم تخفون، وإنما حسن حذفه لتقدم ذكره. الوجه الثاني: أن لا يقدر المبين ويكون المعنى يبين لكم البيان، وحذف المفعول أكمل لأن على هذا التقدير يصير أعم فائدة. المسألة الثانية: قوله * (يبين لكم) * في محل النصب على الحال، أي مبينا لكم. المسألة الثالثة: قوله * (على فترة من الرسل) * قال ابن عباس: يريد على انقطاع من الأنبياء، يقال: فتر الشيء يفتر فتورا إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه، وسميت المدة التي بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع. واعلم أن قوله * (على فترة) * متعلق * (جاءكم) * أي جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل. قيل: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة أو أقل لا أكثر. وعن الكلبي كان بين موسى وعيسى عليهما السلام ألف وسبعمائة سنة، وألفا نبي، وبين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة من الأنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل، وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي.
المسألة الرابعة: الفائدة في بعثة محمد عليه الصلاة والسلام عند فترة من الرسل هي أن التغيير
194

والتحريف قد تطرق إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها، وبسبب ذلك اختلط الحق بالباطل والصدق بالكذب، وصار ذلك عذرا ظاهر في اعراض الخلق عن العبادات. لأن لهم أن يقولوا: يا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبد، فبعث الله تعالى في هذا الوقت محمدا عليه الصلاة والسلام إزالة لهذا العذر، وهو * (أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) * يعني إنما بعثنا إليكم الرسول في وقت الفترة كراهة أن تقولوا: ما جاءنا في هذا الوقت من بشير ولا نذير. ثم قال تعالى: * (فقد جاءكم بشير ونذير) * فزالت هذه العلة وارتفع هذا العذر. ثم قال: * (والله على كل شيء قدير) * والمعنى أن حصول الفترة يوجب احتياج الخلق إلى بعثة الرسل، والله تعالى قادر على كل شيء، فكان قادرا على البعثة، ولكن كان الخلق محتاجين إلى البعثة، والرحيم الكريم قادرا على البعثة وجب في كرمه ورحمته أن يبعث الرسل إليهم، فالمراد بقوله * (والله على كل شيء قدير) * الإشارة إلى الدلالة التي قررناها.
قوله تعالى
* (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) *.
واعلم أن وجه الاتصال هو أن الواو في قوله * (وإذ قال موسى لقومه) * واو عطف، وهو متصل بقوله * (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل) * (المائدة: 12) كأنه قيل: أخذ عليهم الميثاق وذكرهم موسى نعم الله تعالى وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في القول في الميثاق، وخالفوه في محاربة الجبارين. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى من عليهم بأمور ثلاثة: أولها: قوله * (إذ جعل فيكم أنبياء) * لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، فمنهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه
195

فانطلقوا معه إلى الجبل، وأيضا كانوا من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وهؤلاء الثلاثة بالاتفاق كانوا من أكابر الأنبياء، وأولاد يعقوب أيضا كانوا على قول الأكثرين أنبياء، والله تعالى أعلم موسى أنه لا يبعث الأنبياء إلا من ولد بعقوب ومن ولد إسماعيل، فهذا الشرف حصل بمن مضى من الأنبياء، وبالذين كانوا حاضرين مع موسى، وبالذين أخبر الله موسى أنه سيبعثهم من ولد يعقوب وإسماعيل بعد ذلك، ولا شك أنه شرف عظيم، وثانيها: قوله * (وجعلكم ملوكا) * وفيه وجوه: أحدها: قال السدي: يعني وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط بمنزلة أهل الجزية فينا، ولا يغلبكم على أنفسكم غالب، وثانيها: أن كل من كان رسولا ونبيا كان ملكا لأنه يملك أمر أمته ويملك التصرف فيهم، وكان نافذ الحكم عليهم فكان ملكا، ولهذا قال تعالى: * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) * (النساء: 54) وثالثها: أنه كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء، وقد يقال فيمن حصل فيهم ملوك: أنتم ملوك على سبيل الاستعارة، ورابعها: أن كل من كان مستقلا بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجا في مصالحه إلى أحد فهو ملك. قال الزجاج: الملك من لا يدخل عليه أحد إلا بإذنه. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية، وكانت لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم، ومن كان كذلك كان ملكا. والنوع الثالث: من النعم التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قوله * (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) * وذلك لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الاكرام: أحدها: أنه تعالى فلق البحر لهم، وثانيها: أنه أهلك عدوهم وأورثهم أموالهم، وثالثها: أنه أنزل عليهم المن والسلوى، ورابعها: أنه أخرج لهم المياه العذبة من الحجر، وخامسها: أنه تعالى أظلل فوقهم الغمام، وسادسها: أنه لم يجتمع لقوم الملك والنبوة كما جمع لهم، وسابعها: أنهم في تلك الأيام كانوا هم العلماء بالله وهم أحباب الله وأنصار دينه. واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكرهم هذه النعمة وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بمجاهدة العدو فقال:
* (يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال له الله تعالى: انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس، وهو ميراث لذريتك. وقيل: لما خرج قوم موسى عليه السلام من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشام، وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد، ثم بعث موسى عليه السلام اثنى عشر نقيبا من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي،
196

فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساما عظيمة هائلة. قال المفسرون: لما بعث موسى عليه السلام النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك، فنثرهم بين يديه وقال متعجبا للملك: هؤلاء يريدون قتالنا، فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم وأخبروه بما شاهدتم، ثم انصرف أولئك النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة، فأمرهم أن يكتموا ما عاهدوه فلم يقبلوا قوله، إلا رجلان منهم، وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، فإنهما سهلا الأمر وقالا: هي بلاد طيبة كثيرة النعم، والأقوام وإن كانت أجسادهم عظيمة إلا أن قلوبهم ضعيفة، وأما العشرة الباقية فقد أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم، فقالوا لموسى عليه السلام * (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) * (المائدة: 24) فدعا موسى عليه السلام عليهم فعاقبهم الله تعالى بأن أبقاهم في التيه أربعين سنة. قالوا: وكانت مدة غيبة النقباء للتجسس أربعين يوما فعوقبوا بالتيه أربعين سنة، ومات أولئك العصاة في التيه، وأهلك النقباء العشرة في التيه بعقوبات غليظة. ومن الناس من قال: إن موسى وهارون عليهما السلام ماتا أيضا في التيه: ومنهم من قال: إن موسى عليه السلام بقي وخرج معه يوشع وكالب وقاتلوا الجبارين وغلبوهم ودخلوا تلك البلاد، فهذه هي القصة والله أعلم بكيفية الأمور. المسألة الثانية: الأرض المقدسة هي الأرض المطهرة طهرت من الآفات. قال المفسرون: طهرت من الشرك وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء، وهذا فيه نظر، لأن تلك الأرض لما قال موسى عليه الصلاة والسلام * (ادخلوا الأرض المقدسة) * ما كانت مقدسة عن الشرك، وما كانت مقرا للأنبياء، ويمكن أن يجاب بأنها كانت كذلك فيما قبل. المسألة الثالثة: اختلفوا في تلك الأرض، فقال عكرمة والسدي وابن زيد: هي أريحا وقال الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقيل الطور. المسألة الرابعة: في قوله * (كتب الله لكم) * وجوه: أحدها: كتب في اللوح المحفوظ أنها لكم وثانيها: وهبها الله لكم، وثالثها: أمركم بدخولها. فإن قيل: لم قال * (كتب الله لكم) * ثم قال * (فإنها محرمة عليهم) * (المائدة: 26). والجواب: قال ابن عباس: كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم. وقيل: اللفظ وإن كان عاما لكن المراد هو الخصوص، فصار كأنه مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم. وقيل: إن الوعد بقوله * (كتب الله لكم) * مشروط بقيد الطاعة، فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط، وقيل: إنها محرمة عليهم أربعين سنة، فلما مضى الأربعون حصل ما كتب.
197

المسألة الخامسة: في قوله * (كتب الله لكم) * فائدة عظيمة، وهي أن القوم وإن كانوا جبارين إلا أن الله تعالى لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم، فإن كانوا مؤمنين مقرين بصدق موسى عليه السلام علموا قطعا أن الله ينصرهم عليهم ويسلطهم عليهم فلا بد وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع، فهذه هي الفائدة من هذه الكلمة. ثم قال: * (ولا ترتدوا على أدباركم) * وفيه وجهان: الأول: لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوة موسى عليه السلام، وذلك
لأنه عليه السلام لما أخبر أن الله تعالى جعل تلك الأرض لهم كان هذا وعدا بأن الله تعالى ينصرهم عليهم، فلو لم يقطعوا بهذه النصرة صاروا شاكين في صدق موسى عليه السلام فيصيروا كافرين بالإلهية والنبوة. والوجه الثاني: المراد لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى الأرض التي خرجتم عنها. يروى أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مثر، وقوله * (فتنقلبوا خاسرين) * فيه وجوه: أحدها: خاسرين في الآخرة فإنه يفوتكم الثواب ويلحقكم العقاب، وثانيها: ترجعون إلى الذل، وثالثها: تموتون في التيه ولا تصلون إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة.
ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم * (قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين) * وفي تفسير الجبارين وجهان: الأول: الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه، وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد، وهذا هو اختيار الفراء والزجاج. قال الفراء: لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين وهما: جبار من أجبر، ودراك من أدرك، والثاني: أنه مأخوذ من قولهم نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها، ويقال: رجل جبار إذا كان طويلا عظيما قويا، تشبيها بالجبار من النخل والقوم كانوا في غاية القوة وعظم الأجسام بحث كانت أيدي قوم موسى ما كانت تصل إليهم، فسموهم جبارين لهذا المعنى. ثم قال القوم * (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) * وإنما قالوا هذا على سبيل الاستبعاد كقوله تعالى: * (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) * (الأعراف: 40).
ثم قال تعالى:
* (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا
198

دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا الرجلان هما يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا، وكانا من الذين يخافون الله وأنعم الله عليهما بالهداية والثقة بعون الله تعالى والاعتماد على نصرة الله. قال القفال: ويجوز أن يكون التقدير: قال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون، وهما رجلان منهم أنعم الله عليهما بالإيمان فآمنا، وقالا هذا القول لقوم موسى تشجيعا لهم على قتالهم، وقراءة من قرأ * (يخافون) * بالضم شاهدة لهذا الوجه. المسألة الثانية: في قوله * (أنعم الله عليهما) * وجهان: الأول: أنه صفة لقوله * (رجلان) *، والثاني: أنه اعتراض وقع في البين يؤكد ما هو المقصود من الكلام. المسألة الثالثة: قوله * (ادخلوا عليهم الباب) * مبالغة في الوعد بالنصر والظفر، كأنه قال: متى دخلتم باب بلدهم انهزموا ولا يبقى منهم نافخ نار ولا ساكن دار، فلا تخافوهم. والله أعلم. المسألة الرابعة: إنما جزم هذان الرجلان في قولهما * (فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) * لأنهما كانا جازمين بنبوة موسى عليه السلام، فلما أخبرهم موسى عليه السلام بأن الله قال: * (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) * (المائدة: 21) لا جرم قطعا بأن النصرة لهم والغلبة حاصلة في جانبهم، ولذلك ختموا كلامهم بقولهم * (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) * يعني لما وعدكم الله تعالى النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من شدة قوتهم وعظم أجسامهم، بل توكلوا على الله في حصول هذا النصر لكم إن كنتم مؤمنين مقرين بوجود الإله القادر ومؤمنين بصحة نبوة موسى عليه السلام.
ثم قال تعالى:
* (قالوا يا موسى إنا لن ندخلهآ أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) *.
وفي قوله * (إذهب أنت وربك) * وجوه: الأول: لعل القوم كانوا مجسمة، وكانوا يجوزون الذهاب والمجيء على الله تعالى. الثاني: يحتمل أن لا يكون المراد حقيقة الذهاب بل هو كما يقال: كلمته فذهب يجيبني، يعني يردي أن يجيبني، فكأنهم قالوا: كن أنت وربك مردين لقتالهم،
199

والثالث: التقدير: اذهب أنت وربك معين لك بزعمك فأضمر خبر الابتداء. فإن قيل: إذا أضمرنا الخبر فكيف يجعل قوله * (فقاتلا) * خبرا أيضا؟ قلنا: لا يمتنع خبر بعد خبر، والرابع: المراد بقوله * (وربك) * أخوه هارون، وسموه ربا لأنه كان أكبر من موسى. قال المفسرون: قولهم * (اذهب أنت وربك) * إن قالوه على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر، وإن قالوه على وجه التمرد عن الطاعة فهو فسق، ولقد فسقوا بهذا الكلام بدليل قوله تعالى في هذه القصة * (فلا تأس على القوم الفاسقين) * (المائدة: 26) والمقصود من هذه القصة شرح خلاف هؤلاء اليهود وشدة بغضهم وغلوهم في المنازعة مع أنبياء الله تعالى منذ كانوا.
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه لما سمع منهم هذا الكلام * (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) * ذكر الزجاج في إعراب قوله * (وأخي) * وجهين: الرفع والنصب، أما الرفع فمن وجهين: أحدهما: أن يكون نسقا على موضع * (إني) * والمعنى أنا لا أملك إلا نفسي، وأخي كذلك ومثله قوله * (إن الله بريء من المشركين ورسوله) * (التوبة: 3) والثاني: أن يكون عطفا على الضمير في * (أملك) * وهو " أنا " والمعنى: لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا، وأما النصب فمن وجهين: أحدهما أن يكون نسقا على الياء، والتقدير: إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا، والثاني: أن يكون * (أخي) * معطوفا على * (نفسي) * فيكون المعنى لا أملك إلا نفسي، ولا أملك إلا أخي، لأن أخاه إذا كان مطيعا له فهو مالك طاعته. فإن قيل: لم قال لا أملك إلا نفسي وأخي، وكان معه الرجلان المذكوران؟ قلنا: كأنه لم يثق بهما كل الوثوق لما رأى من إطباق الأكثرين على التمرد، وأيضا لعله إنما قال ذلك تقليلا لمن يوافقه، وأيضا يجوز أن يكون المراد بالأخ من يواخيه في الدين، وعلى هذا التقدير فكانا داخلين في قوله * (وأخي) *. ثم قال: * (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) * يعني فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم، ويحتمل أن يكون المراد خلصنا من صحبتهم، وهو كقوله * (ونجني من القوم الظالمين) * (القصص: 21
).
ثم إنه تعالى قال:
* (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الارض فلا تأس على القوم الفاسقين) *.
200

وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله * (فإنها) * أي الأرض المقدسة محرمة عليهم، وفي قوله * (أربعين سنة) * قولان: أحدهما: أنها منصوبة بالتحريم، أي الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة، ثم فتح الله تعالى تلك الأرض لهم من غير محاربة، هكذا ذكره الربيع بن أنس. والقول الثاني: أنها منصوبة بقوله * (يتيهون في الأرض) * أي بقوا في تلك الحالة أربعين سنة، وأما الحرمة فقد بقيت عليهم وماتوا، ثم إن أولادهم دخلوا تلك البلدة. المسألة الثانية: يحتمل أن موسى عليه السلام لما قال في دعائه على القوم * (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) * (المائدة: 25) لم يقصد بدعائه هذا الجنس من العذاب، بل أخف منه. فلما أخبره الله تعالى بالتيه علم أنه يحزن بسبب ذلك فعزاه وهون أمرهم عليه، فقال * (فلا تأس على القوم الفاسقين) * قال مقاتل: إن موسى لما دعا عليهم أخبره الله تعالى بأحوال التيه، ثم إن موسى عليه السلام أخبر قومه بذلك، فقالوا له: لم دعوت علينا وندم موسى على ما عمل، فأوحى الله تعالى إليه * (لا تأس على القوم الفاسقين) * وجائز أن يكون ذلك خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل والله أعلم. المسألة الثالثة: اختلف الناس في أن موسى وهارون عليهما السلام هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم: إنهما ما كانا في التيه، قالوا: ويدل عليه وجوه: الأول: أنه عليه السلام دعا الله يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، ودعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مجابة، وهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان معهم في ذلك الموضع، والثاني: أن ذلك التيه كان عذابا والأنبياء لا يعذبون، والثالث: أن القوم إنما عذبوا بسبب أنهم تمردوا وموسى وهارون ما كانا كذلك، فكيف يجوز أن يكونا مع أولئك الفاسقين في ذلك العذاب. وقال آخرون: إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه إلا أنه تعالى سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنهما هل ماتا في التيه أو خرجا منه؟ فقال قوم: إن هارون مات في التيه ثم مات موسى بعده بسنة، وبقي يوشع بن نون وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته، وهو الذي فتح الأرض المقدسة. وقيل: إنه ملك الشأم بعد ذلك. وقال آخرون: بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله أعلم.
المسألة الرابعة: قوله * (فإنها محرمة عليهم) * الأكثرون على أنه تحريم منع لا تحريم تعبد،
201

وقيل: يجوز أيضا أن يكون تحريم تعبد، فأمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقابا لهم على سوء صنيعهم.
المسألة الخامسة: اختلفوا في التيه فقال الربيع: مقدار ستة فراسخ، وقيل: تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا. وقيل: ستة في اثنى عشر فرسخا، وقيل: كانوا ستمائة ألف فارس. فإن قيل: كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا القدر الصغير من المفازة أربعين سنة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يجد طريقا إلى الخروج عنها، ولو أنهم وضعوا أعينهم على حركة الشمس أو الكواكب لخرجوا منها ولو كانوا في البحر العظيم، فكيف في المفازة الصغيرة؟ قلنا: فيه وجهان: الأول: أن انخراق العادات في زمان الأنبياء غير مستبعد، إذ لو فتحنا باب الاستبعاد لزم الطعن في جميع المعجزات، وإنه باطل. الثاني: إذا فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد فقد زال السؤال لاحتمال أن الله تعالى حرم عليهم الرجوع إلى أوطانهم، بل أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة مع المشقة والمحنة جزاء لهم على سوء صنيعهم، وعلى هذا التقدير فقد زال الاشكال. المسألة السادسة: يقال: تاه يتيه تيها وتيها وتوها، والتيه أعمها، والتيهاء الأرض التي لا يهتدى فيها. قال الحسن: كانوا يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا، وكانت حركتهم في تلك المفازة على سبيل الاستدارة، وهذا مشكل فإنهم إذا وضعوا أعينهم على مسير الشمس ولم ينعطفوا ولم يرجعوا فإنهم لا بد وأن يخرجوا عن المفازة، بل الأولى حمل الكلام على تحريم التعبد على ما قررناه والله أعلم.
قوله تعالى
* (واتل عليهم نبأ ابنى ءادم بالحق) * وفيه مسائل
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه: الأول: أنه تعالى قال فيما تقدم * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم) * (المائدة: 11) فذكر تعالى أن
202

الأعداء يريدون إيقاع البلاء والمحنة بهم لكنه تعالى يحفظهم بفضله ويمنع أعداءهم من إيصال الشر إليهم، ثم إنه تعالى لأجل التسلية وتخفيف هذه الأحوال على القلب ذكر قصصا كثيرة في أن كل من خصه الله تعالى بالنعم العظيمة في الدين والدنيا فإن الناس ينازعونه حسدا وبغيا، فذكر أولا قصة النقباء الاثني عشر وأخذ الله تعالى الميثاق منهم، ثم إن اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللعن والقساوة، وذكر بعده شدة إصرار النصارى على كفرهم وقولهم بالتثليث بعد ظهور الدلائل القاطعة على فساد ما هم عليه، وما ذاك إلا لحسدهم لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما آتاه الله من الدين الحق، ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان، ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان، ثم ذكر بعده قصة ابني آدم أن أحدهما قتل الآخر حسدا منه على أن الله تعالى قبل قربانه، وكل هذه القصص دالة على أن كل ذي نعمة محسود، فلما كانت نعم الله على محمد صلى الله عليه وسلم أعظم النعم لا جرم لم يبعد اتفاق الأعداء على استخراج أنواع المكر والكيد في حقه، فكان ذكر هذه القصص تسلية من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم لما هم قوم من اليهود أن يمكروا به وأن يوقعوا به آفة ومحنة. والثاني: أن هذا متعلق بقوله * (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير) * (المائدة: 15)
وهذه القصة وكيفية إيجاب القصاص عليها من أسرار التوراة، والثالث: أن هذه القصة متعلقة بما قبلها، وهي قصة محاربة الجبارين، أي أذكر لليهود حديث ابني آدم ليعلموا أن سبيل أسلافهم في الندامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعصية كان مثل سبيل ابني آدم في إقدام أحدهما على قتل الآخر. والرابع: قيل هذا متصل بقوله حكاية عن اليهود والنصارى * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينتفع ولد آدم عند معصيته بكون أبيه نبيا معظما عند الله تعالى. الخامس: لما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم حسدا أخبرهم الله تعالى بخبر ابن آدم وأن الحسد أوقعه في سوء العاقبة، والمقصود منه التحذير عن الحسد.
المسألة الثانية: قوله * (واتل عليهم) * فيه قولان: أحدهما: واتل على الناس. والثاني: واتل على أهل الكتاب، وفي قوله * (ابني آدم) * قولان: الأول: أنهما ابنا آدم من صلبه، وهما هابيل وقابيل. وفي سبب وقوع المنازعة بينهما قولان: أحدهما: أن هابيل كان صاحب غنم، وقابيل كان صاحب زرع، فقرب كل واحد منهما قربانا، فطلب هابيل أحسن شاة كانت في غنمه وجعلها قربانا، وطلب قابيل شر حنطة في زرعه فجعلها قربانا، ثم تقرب كل واحد بقربانه إلى الله فنزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل ولم تحمل قربان قابيل، فعلم قابيل أن الله تعالى قبل قربان أخيه
203

ولم يقبل قربانه فحسده وقصد قتله، وثانيهما: ما روي أن آدم عليه السلام كان يولد له في كل بطن غلام وجارية وكان يزوج البنت من بطن الغلام من بطن آخر، فولد له قابيل وتوأمته، وبعدهما هابيل وتوأمته، وكانت توأمة قابيل أحسن الناس وجها، فأراد آدم أن يزوجها من هابيل، فأبى قابيل ذلك وقال أن أحق بها، وهو أحق بأخته، وليس هذا من الله تعالى، وإنما هو رأيك، فقال آدم عليه السلام لهما: قربا قربانا، فأيكما قبل قربانه زوجتها منه، فقبل الله تعالى قربان هابيل بأن أنزل الله تعالى على قربانه نارا، فقتله قابيل حسدا له. والقول الثاني: وهو قول الحسن والضحاك: أن ابني قوله تعالى في آخر القصة * (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) * (المائدة: 32) إذ من الظاهر أن صدور هذا الذنب من أحد ابني آدم لا يصلح أن يكون سببا لإيجاب القصاص على بني إسرائيل، أما لما أقدم رجل من بني إسرائيل على مثل هذه المعصية أمكن جعل ذلك سببا لإيجاب القصاص عليهم زجرا لهم عن المعاودة إلى مثل هذا الذنب. ومما يدل على ذلك أيضا أن المقصود من هذه القصة بيان إصرار اليهود أبدا من قديم الدهر على التمرد والحسد حتى بلغ بهم شدة الحسد إلى أن أحدهما لما قبل الله قربانه حسده الآخر وأقدم على قتله، ولا شك أنها رتبة عظيمة في الحسد، فإنه لما شاهد أن قربان مقبول عند الله تعالى فذلك مما يدعوه إلى حسن الاعتقاد فيه والمبالغة في تعظيمه، فلما أقدم على قتله وقتله مع هذه الحالة دل ذلك على أنه كان قد بلغ في الحسد إلى أقصى الغايات، وإذا كان المراد من ذكر هذه القصة بيان أن الحسد دأب قديم في بني إسرائيل وجب أن يقال: هذان الرجلان كانا من بني إسرائيل. واعلم أن القول الأول هو الذي اختاره أكثر أصحاب الأخبار، وفي الآية أيضا ما يدل عليه لأن الآية تدل على أن القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب، ولو كان من بني إسرائيل لما خفي عليه هذا الأمر، وهو الحق والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله * (بالحق) * فيه وجوه: الأول: بالحق، أي تلاوة متلبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى. والثاني: أي تلاوة متلبسة بالصدق والحق موافقة لما في التوراة والإنجيل. الثالث: بالحق، أي بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد، لأن المشركين وأهل الكتاب كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغون عليه. الرابع: بالحق، أي ليعتبروا به لا ليحملوه على اللعب والباطل مثل كثير من الأقاصيص التي لا فائدة فيها، وإنما هي لهو الحديث، وهذا
204

يدل على أن المقصود بالذكر من الأقاصيص والقصص في القرآن العبرة لا مجرد الحكاية، ونظيره قوله تعالى: * (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) * (يوسف: 111).
ثم قال تعالى: * (إذ قربا قربانا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذ: نصب بماذا؟ فيه قولان الأول: أنه نصب بالنبأ، أي قصتهم في ذلك الوقت. الثاني: يجوز أن يكون بدلا من النبأ أي واتل عليهم من النبأ نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف. المسألة الثانية: القربان: اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة، ومضى الكلام على القربان في سورة آل عمران. المسألة الثالثة: تقدير الكلام وهو قوله * (إذ قربا قربانا) * قرب كل واحد منهما قربانا إلا أنه جمعهما في الفعل وأفرد الاسم، لأنه يستدل بفعلهما على أن لكل واحد قربانا. وقيل: إن القربان اسم جنس فهو يصلح للواحد والعدد، وأيضا فالقربان مصدر كالرجحان والعدوان والكفران والمصدر لا يثنى ولا يجمع. ثم قال تعالى: * (فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قيل: كانت علامة القبول أن تأكله النار وهو قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد: علامة الرد أن تأكله النار، والأول أولى لاتفاق أكثر المفسرين عليه. وقيل: ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرب به إلى الله تعالى، فكانت النار تنزل من السماء فتأكله. المسألة الثانية: إنما صار القربانين مقبولا والآخر مردودا لأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال. قال تعالى هاهنا حكاية عن المحق * (إنما يتقبل الله من المتقين) * وقال فيما أمرنا به من القربان بالبدن * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) * (الحج: 37) فأخبر أن الذي يصل إلى حضرة الله ليس إلا التقوى والتقوى من صفات القلوب قال عليه الصلاة والسلام: " التقوى هاهنا " وأشار إلى القلب، وحقيقة التقوى أمور: أحدها: أن يكون على خوف ووجل من تقصير نفسه في تلك الطاعة فيتقي بأقصى ما يقدر عليه عن جهات التقصير، وثانيها: أن يكون في غاية الاتقاء من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله تعالى. وثالثها: أن يتقي أن يكون لغير الله فيه شركة، وما أصعب رعاية هذه الشرائط! وقيل في هذه القصة: إن أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه، والآخر جعل قربانه أردأ ما كان معه. وقيل: إنه أضمر أنه لا يبالي سواء قبل
أو لم يقبل ولا يزوج أخته من هابيل. وقيل: كان قابيل ليس من أهل التقوى والطاعة، فلذلك لم يقبل الله قربانه.
205

ثم حكى الله تعالى عن قابيل أنه قال لهابيل * (لأقتلنك) * فقال هابيل * (إنما يتقبل الله من المتقين) * وفي الكلام حذف، والتقدير: كأن هابيل قال: لم تقتلني؟ قال لأن قربانك صار مقبولا، فقال هابيل: وما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. وقيل: هذا من كلام الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم اعتراضا بين القصة، كأنه تعالى بين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه إنما لم يقبل قربانه لأنه لم يكن متقيا.
ثم حكى تعالى عن الأخ المظلوم أنه قال:
* (لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى مآ أنا بباسط يدى إليك لاقتلك إنى أخاف الله رب العالمين) *
والسؤال الأول: وهو أنه لم لم يدفع القاتل عن نفسه مع أن الدفع عن النفس واجب؟ وهب أنه ليس بواجب فلا أقل من أنه ليس بحرام، فلم قال * (إني أخاف الله رب العالمين) *. والجواب من وجوه: الأول: يحتمل أن يقال: لاح للمقتول بأمارات تغلب على الظن أنه يريد قتله فذكر له هذا الكلام على سبيل الوعظ والنصيحة، يعني أنا لا أجوز من نفسي أن أبدأك بالقتل الظلم العدوان، وإنما لا أفعله خوفا من الله تعالى، وإنما ذكر له هذا الكلام قبل إقدام القاتل على قتله وكان غرضه منه تقبيح القتل العمد في قلبه، ولهذا يروى أن قابيل صبر حتى نام هابيل فضرب رأسه بحجر كبير فقتله. والوجه الثاني في الجواب: أن المذكور في الآية قوله * (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) * يعني لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك، وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع. وقال أهل العلم: الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر، وليس له أن يقصد القتل بل يجل عليه أن يقصد الدفع، ثم إن لم يندفع إلا بالقتل جاز له ذلك. الوجه الثالث: قال بعضهم: المقصود بالقتل إن أراد أن يستسلم جاز له ذلك، وهكذا فعل عثمان رضي الله تعالى عنه. وقال النبي عليه الصلاة والسلام لمحمد بن مسلمة: " ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ". الوجه الرابع: وجوب الدفع عن النفس أمر يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع. وقال مجاهد: إن الدفع عن النفس ما كان مباحا في ذلك الوقت. السؤال الثاني: لم جاء الشرط بلفظ الفعل، والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله * (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط) *.
206

والجواب: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع، ولذلك أكده بالباء المؤكد للنفي. ثم قال تعالى:
* (إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزآء الظالمين) *
وفيه سؤالان: الأول: كيف يعقل أن يبوء القاتل بإثم المقتول مع أنه تعالى قال: * (ولا تزر وزارة وزر أخرى) *، (فاطر: 18). والجواب من وجهين: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود والحسن وقتادة رضي الله عنهم: معناه تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي، وهذا بحذف المضاف، والثاني: قال الزجاج: معناه ترجع إلى الله، فلم قال: * (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) *. والجواب من وجوه: الأول: قد ذكرنا أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله، وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به، وكأنه لما وعظه ونصحه قال له: وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بد وأن تترصد قتلي في وقت أكون غافلا عنك وعاجزا عن دفعك، فحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان، وهذا مني كبيرة ومعصية، وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن يكون أنت، فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي، ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة وعلى هذا الشرط لا يكون حراما، بل هو عين الطاعة ومحض الاخلاص.
والوجه الثاني في الجواب: أن المراد: إني أريد أن تبوء بعقوبة قتلي، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله عقاب ظالمه، والثالث: روي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم، فعلى هذا يجوز أن يقال: إني أريد أن تبوأ بإثمي في أنه يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني، وبإثمك في قتلك إياي، وهذا يصلح جوابا عن السؤال الأول والله أعلم،
207

ثم قال تعالى:
* (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين) *
قال المفسرون: سهلت له نفسه قتل أخيه. ومنهم من قال شجعته، وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور من القتل العمد العدوان كونه من أعظم الكبائر، فهذا الاعتقاد يصير صارفا له عن فعله، فيكون هذا الفعل كالشئ العاصي المتمرد عليه الذي لا يعطيه بوجه البتة، فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها صار هذا الفعل سهلا عليه، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه. فهذا هو المراد بقوله * (فطوعت له نفسه قتل أخيه) * قالت المعتزلة: لو كان خالق الكل هو الله تعالى لكان ذلك التزيين والتطويع مضافا إلى الله تعالى لا إلى النفس. وجوابه: أنه لما أسندت الأفعال إلى الدواعي، وكان فاعل تلك الدواعي هو الله تعالى فكان فاعل الأفعال كلها هو الله تعالى. ثم قال تعالى: * (فقتله) * قيل: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل، فظهر له إبليس وأخذ طيرا وضرب رأسه بحجر، فتعلم قابيل ذلك منه، ثم إنه وجد هابيل نائما يوما فضرب رأسه بحجر فمات. وعن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها " وذلك أنه أول من سن القتل. ثم قال تعالى: * (فأصبح من الخاسرين) * قال ابن عباس: خسر دنياه وآخرته، أما الدنيا فهو أنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة، وأما الآخرة فهو العقاب العظيم. قيل: إن قابيل لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس وقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فإن عبدت النار أيضا حصل مقصودك، فبنى بيت نار وهو أول من عبد النار. وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم، وروي أنه لما قتله اسود جسد وكان أبيض، فسأله آدم عن أخيه، فقال ما كنت عليه وكيلا، فقال
بل قتلته، ولذلك اسود جسدك، ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط. قال صاحب " الكشاف " يروى أنه رثاه بشعر. قال وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، والأنبياء معصومون عن الشعر، وصدق صاحب " الكشاف " فيما قال. فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلمين، فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة.
208

ثم قال تعالى:
* (فبعث الله غرابا يبحث فى الارض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قيل: لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به، ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغير فبعث الله غرابا، وفيه وجوه: الأول: بعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة، فتعلم قابيل ذلك من الغراب. الثاني: قال الأصم: لما قتله وتركه بعث الله غرابا يحثو التراب على المقتول، فلما رأى القاتل أن الله كيف يكرمه بعد موته ندم وقال: يا ويلتي. الثالث: قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه. المسألة الثانية: * (ليريه) * فيه وجهان: الأول: ليريه الله أو ليريه الغراب، أي ليعلمه، لأنه لما كان سبب تعلمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز. المسألة الثالثة: * (سوأة أخيه) * عورة أخيه، وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده، والسوأة الفضيحة لقبحها. وقيل سوأة أخيه، أي جيفة أخيه.
ثم قال تعالى: * (قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لا شك أن قوله * (يا ويلتي) * كلمة تحسر وتلهف، وفي الآية احتمالان: الأول: أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، فلما تعلم ذلك من الغراب علم أن الغراب أكثر علما منه وعلم أنه إنما أقدم على قتل أخيه بسبب جهله وقلة معرفته، فندم وتلهف وتحسر على فعله. الثاني: أنه كان عالما بكيفية دفنه، فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه وقال: إن الغراب جاء وكان يحثي التراب على المقتول، فلما رأى أن الله أكرمه حال حياته بقبول قربانه. وأكرمه بعد مماته بأن بعث هذا الغراب ليدفنه تحت الأرض علم أنه عظيم الدرجة عند الله
209

فتلهف على فعله، وعلم أنه لا قدرة له على التقرب إلى أخيه إلا بأن يدفنه في الأرض، فلا جرم قال: يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب. المسألة الثانية: قوله: * (يا ويلتي) * اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب، وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة، ولفظها لفظ النداء، وكأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره، أي أيها الويل أحضر، فهذا أوان حضورك، وذكر * (يا) * زيادة بيان كما في قوله * (يا ويلتي أأكد) * (هود: 72) والله أعلم. المسألة الثالثة: لفظ الندم وضع للزوم، ومنه سمي النديم نديما لأنه يلازم المجلس. وفيه سؤال: وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: " الندم توبة " فلما كان من النادمين كان من التائبين فلم لم تقبل توبته؟ أجابوا عنه من وجوه: أحدها: أنه لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين على حمله على ظهره سنة، والثاني: أنه صار من النادمين على قتل أخيه، لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبوه وإخوته، فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية، والثالث: أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافا به بعد قتله، فلما رأى أن الغراب لما قتل الغراب دفنه ندم على قساوة قلبه وقال: هذا أخي وشقيقي ولحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي، فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على الغراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة فكان ندمه لهذه الأسباب، لا لأجد الخوف من الله تعالى فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم ثم قال تعالى:
* (من أجل ذلك كتبنا على بنى إسراءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الارض فكأنما قتل الناس جميعا) *
وفيه مسائل:
210

المسألة الأولى: قوله: * (من أجل ذلك) * أي بسبب فعلته. فإن قيل عليه سؤالان: الأول: إن قوله * (من أجل ذلك) * أي من أجل ما مر من قصة قابيل وهابيل كتبنا على بني إسرائيل القصاص، وذاك مشكل فإنه لا مناسبة بين واقعة قابيل وهابيل وبين وجوب القصاص على بني إسرائيل. الثاني: أن وجوب القصاص حكم ثابت في جميع الأمم فما فائدة تخصيصه ببني إسرائيل؟ والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: قال الحسن: هذا القتل إنما وقع في بني إسرائيل لا بين ولدي آدم من صلبه، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم، والثاني: أنا نسلم أن هذا القتل وقع بين ولدي آدم من صلبه، ولكن قوله * (من أجل ذلك) * ليس إشارة إلى قصة قابيل وهابيل، بل هو إشارة إلى ما مر ذكره في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام، منها قوله * (فأصبح من الخاسرين) * (المائدة: 30) ومنها قوله * (فأصبح من النادمين) * (المائدة: 31) فقوله * (فأصبح من الخاسرين) * إشارة إلى أنه حصلت له خسارة الدين والدنيا، وقوله * (فأصبح من النادمين) * إشارة إلى أنه حصل من قلبه أنواع الندم والحسرة والحزن مع أنه لا دفع له البتة، فقوله: * (من أجد ذلك كتبنا على بني إسرائيل) * أي من أجد ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد المتولدة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص من حق القاتل، وهذا جواب حسن والله أعلم. وأما السؤال الثاني: والجواب عنه أن وجوب القصاص في حق القاتل وإن كان عاما في جميع لأديان والملل، إلا أن التشديد المذكور ههنا في حق بني إسرائيل غير ثابت في جميع الأديان لأنه تعالى حكم ههنا بأن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس، ولا شك في أن المقصود منه المبالغة في شرح عقاب القتل العمد العدوان، والمقصود من شرح هذه المبالغة أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل. وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأكابر أصحابه، كان تخصيص بني
إسرائيل في هذه القصة بهذه المبالغة العظيمة مناسبا للكلام ومؤكدا للمقصود.
المسألة الثانية: قرىء " من أجل ذلك " بحذف الهمزة وفتح النوق لالقاء حركتها عليها وقرأ أبو جعفر " من أجل ذلك " بكسر الهمزة، وهي لغة، فإذا خفف كسر النون ملقيا لكسر الهمزة عليها.
211

المسألة الثالثة: قال القائلون بالقياس: دلت الآية على أن أحكام الله تعالى قد تكون معللة بالعلل، وذلك لأنه تعالى قال: * (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل) * كذا وكذا، وهذا تصريح بأن كتبة تلك الأحكام معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله * (من أجل ذلك) * والمعتزلة أيضا قالوا: دلت هذه الآية على أن أحكام الله تعالى معللة بمصالح العباد، ومتى ثبت ذلك امتنع كونه تعالى خالقا للكفر والقبائح فيهم مريدا وقوعها منهم، لأن خلق القبائح وإرادتها تمنع من كونه تعالى مراعيا للمصالح. وذلك يبطل التعليل المذكور في هذه الآية. قال أصحابنا: القول بتعليل أحكام الله تعالى محال لوجوه: أحدها: أن العلة إن كانت قديمة لزم قدم المعلول، وإن كانت محدثة وجب تعليلها بعلة أخرى ولزم التسلسل، وثانيها: لو كان معللا بعلة فوجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إلى الله تعالى إن كان على السوية امتنع كونه علة، وإن لم يكن على السوية فأحدهما به أولى، وذلك يقتضي كونه مستفيدا تلك الأولوية من ذلك الفعل، فيكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره وهو محال. وثالثها: أنه قد ثبت توقف الفعل على الوداعي، ويمتنع وقوع التسلسل في الدواعي، بل يجب انتهاؤها إلى الداعية الأولى التي حدثت في العبد لا من العبد بل من الله، وثبت أن عند حدوث الداعية يجب الفعل، وعلى هذا التقدير فالكل من الله، وهذا يمنع من تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه، فثبت أن ظاهر هذه الآية من المتشابهات لا من المحاكمات، والذي يؤكد ذلك قوله تعالى: * (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) * (المائدة: 17) وذلك نص صريح في أنه يحسن من الله كل شيء ولا يتوقف خلقه وحكمه على رعاية المصالح. المسألة الرابعة: قوله * (أو فساد في الأرض) * قال الزجاج: إنه معطوف على قوله * (نفس) * والتقدير من قتل نفسا بغير نفس أو بغير فساد في الأرض، وإنما قال تعالى ذلك لأن القتل يحل لأسباب كثيرة، منها القصاص وهو المراد بقوله * (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض) * ومنها الكفر مع الحراب، ومنها الكفر بعد الإيمان، ومنها قطع الطريق وهو المراد بقوله تعالى بعد هذه الآية * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * (المائدة: 33) فجمع تعالى كل هذه الوجوه في قوله * (أو فساد في الأرض) *.
المسألة الخامسة: قوله فكأنما قتل الناس جميعا) * وفيه إشكال. وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساويا لقتل جميع الناس، فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساويا للكل، وذكر المفسرون بسبب هذا السؤال وجوها من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه، لأن قولنا: هذا يشبه ذاك أعم من قولنا: إنه يشبهه من كل الوجوه، أو من بعض الوجوه، وإذا
212

ظهرت صحة هذه المقدمة فنقول: الجواب من وجوه: الأول: المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه، يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد، فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظما مهيبا فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام، لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام، وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) * (النساء: 93).
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
قوله تعالى
* (إنما جزآء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الارض فسادا أن يقتلوا
213

أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الاخرة عذاب عظيم) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد في الأرض أتبعه ببيان أن الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو، فإن بعض ما يكون فسادا في الأرض لا يوجب قتل فقال * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في أول الآية سؤال، وهو أن المحاربة مع الله تعالى غير ممكنة فيجب حمله على المحاربة مع أولياء الله، والمحاربة مع الرسل ممكنة فلفظة المحاربة إذا نسبت إلى الله تعالى كان مجازا، لأن المراد منه المحاربة مع أولياء الله، وإذا نسبت إلى الرسول كانت حقيقة، فلفظ يحاربون في قوله * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * يلزم أن يكون محمولا على المجاز والحقيقة معا، وذلك ممتنع، فهذا تقرير السؤال.
وجوابه من وجهين: الأول: أنا نحمل المحاربة على المخالفة الأمر والتكليف، والتقدير: إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ويسعون في الأرض فسادا كذا وكذا، والثاني: تقدير الكلام إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله تعالى وأولياء رسوله كذا وكذا. وفي الخبر أن الله تعالى قال: " من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ".
المسألة الثانية: من الناس من قال: هذا الوعيد مختص بالكفار، ومنهم من قال: إنه في فساق المؤمنين، أما الأولون فقد ذكروا وجوها: الأول: أنها نزلت في قوم من عرينة نزلوا المدينة مظهرين للإسلام، فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا،
فلما وصلوا إلى ذلك الموضع وشربوا وصحوا قتلوا الرعاة وساقوا الإبل وارتدوا، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في أثرهم وأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركوا هناك حتى ماتوا، فنزلت هذه الآية نسخا لما فعله الرسول، فصارت تلك السنة منسوخة بهذا القرآن، وعند الشافعي رحمه الله لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقا للسنة الناسخة، والثاني: أن الآية نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي، وكان قد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب، فقتلوهم وأخذوا أموالهم. الثالث: أن هذه الآية في هؤلاء الذين حكى الله تعالى عنهم من بني إسرائيل أنهم بعد أن غلظ الله عليهم عقاب القتل العمد العدوان فهم مسرفون في القتل مفسدون في الأرض، فمن أتى منهم بالقتل والفساد في الأرض فجزاؤهم كذا وكذا.
والوجه الرابع: أن هذه الآية نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر
214

الفقهاء، قالوا: والذي يدل على أنه لا يجوز حمل الآية على المرتدين وجوه: أحدها: أن قطع المرتد لا يتوقف على المحاربة ولا على إظهار الفساد في دار الإسلام، والآية تقتضي ذلك. وثانيها: لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد ولا على النفي، والآية تقتضي ذلك. وثالثها: أن الآية تقتضي سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة وهو قوله * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * (المائدة: 34) والمرتد يسقط حذه بالتوبة قبل القدرة وبعدها، فدل ذلك على أن الآية لا تعلق لها بالمرتدين. ورابعها: أن الصلب غير مشروع في حق المرتد وهو مشروع هاهنا، فوجب أن لا تكون الآية مختصة بالمرتد. وخامسها: أن قوله * (الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا) * يتناول كل من كان موصوفا بهذه الصفة، سواء كان كافرا أو مسلما، أقصى ما في الباب أن يقال الآية نزلت في الكفار لكنك تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. المسألة الثالثة: المحاربون المذكورون في هذه الآية هم القوم الذين يجتمعون ولهم منعة ممن أرادهم بسبب أنهم يحمي بعضهم بعضا ويقصدون المسلمين في أرواحهم ودمائهم، وإنما اعتبرنا القوة والشوكة لأن قاطع الطريق إنما يمتاز عن السارق بهذا القيد، واتفقوا على أن هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كانوا قطاع الطريق، فأما لو حصلت في نفس البلدة فقال الشافعي رحمه الله: إنه يكون أيضا ساعيا في الأرض بالفساد ويقام عليه هذا الحد. قال: وأراهم في المصر إن لم يكونوا أعظم ذنبا فلا أقل من المساواة، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا حصل ذلك في المصر فإنه لا يقام عليه الحد. وجه قول الشافعي رحمه الله النص والقياس، أما النص فعموم قوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا) * ومعلوم أنه إذا حصل هذا المعنى في البلد كان لا محالة داخلا تحت عموم هذا النص، وأما القياس فهو أن هذا حد فلا يختلف في المصر وغير المصر كسائر الحدود. وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن الداخل في المصر يلحقه الغوث في الغالب فلا يتمكن من المقاتلة فصار في حكم السارق.
المسألة الرابعة: قوله * (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) * للعلماء في لفظ * (أو) * في هذه الآية قولان: الأول: أنها للتخيير وهو قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد، والمعنى أن الإمام إن شاء قتل وإن شاء صلب، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإن شاء نفى، أي واحد من هذه الأقسام شاء فعل. وقال ابن عباس في رواية عطاء: كلمة * (أو) * هاهنا ليست للتخيير، بل هي لبيان أن الأحكام تختلف باختلاف الجنايات، فمن اقتصر على القتل قتل، ومن قتل وأخذ المال قتل
215

وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف. ومن أخاف السبل ولم يأخذ المال نفي من الأرض، وهذا قول الأكثرين من العلماء، وهو مذهب الشافعي رحمه الله، والذي يدل على ضعف القول الأول وجهان: الأول: أنه لو كان المراد من الآية التخيير لوجب أن يمكن الإمام من الاقتصار على النفي، ولما أجمعوا على أنه ليس له ذلك علمنا أنه ليس المراد من الآية التخيير، والثاني: أن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد هم بالمعصية ولم يفعل، وذلك لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي، فثبت أنه لا يجوز حمل الآية على التخيير، فيجب أن يضمر في كل فعل على حدة فعلا على حدة، فصار التقدير: أن يقتلوا أن قتلوا، أو يصلبوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا ممن الأرض إن أخافوا السبل، والقياس الجلي أيضا يدل على صحة ما ذكرناه لأن القتل العمد العدوان يوجب القتل، فغلظ ذلك في قاطع الطريق، وصار القتل حتما لا يجوز العفو عنه، وأخذ المال يتعلق به القطع في غير قاطع الطريق، فغلظ ذلك في قاطع الطريق بقطع الطرفين، وإن جمعوا بين القتل وبين أخد المال جمع في حقهم بين القتل وبني الصلب، لأن بقاءه مصلوبا في ممر الطريق يكون سببا لاشتهار إيقاع هذه العقوبة، فيصير ذلك زاجرا لغيره عن الاقدام على مثل هذه المعصية، وأما إن اقتصر على مجرد الإخافة اقتصر الشرع منه على عقوبة خفيفة وهي النفي من الأرض.
المسألة الخامسة: قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخير فيه بين ثلاثة أشياء. أن يقتلهم فقط، أو يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم قبل القتل، أو يقتلهم ويصلبهم، وعند الشافعي رحمه الله: لا بد من الصلب، وهو قول أبي يوسف رحمه الله. حجة الشافعي رحمه الله: أنه تعالى نص على الصلب كما نص على القتل فلم يجز إسقاط الصلب كما لم يجز إسقاط القتل. ثم اختلفوا في كيفية الصلب، فقيل: يصلب حيا ثم بطنه برمح حتى يموت، وقال الشافعي رحمه الله: يقتل ويصلى عليه ثم يصلب.
المسألة السادسة: اختلفوا في تفسير النفي من الأرض. قال الشافعي رحمه الله: معناه إن وجد هؤلاء المحاربين قتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن لم يجدهم طلبهم أبدا حتى إذا قدر عليهم فعل بهم ما ذكرناه، وبه قال أحمد وإسحاق رحمهما الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: النفي من الأرض هو الحبس، وهو اختيار أكثر أهل اللغة، قالوا: ويدل عليه أن قوله * (أو ينفوا من الأرض) * إما أن يكون المراد النفي من جميع الأرض، وذلك غير ممكن مع بقاء الحياة، وإما أن يكون إخراجه من تلك البلدة إلى بلدة أخرى، وهو أيضا غير جائز؛ لأن الغرض من هذا النفي دفع شره
216

عن المسلمين، فلو أخرجناه إلى بلد آخر لاستضر به من كان هناك من المسلمين، وإما أن يكون المراد إخراجه إلى دار الكفر وهو أيضا غير جائز، لأن إخراج المسلم إلى دار الكفر تعريض له بالردة وهو غير جائز، ولما بطل الكل لم يبق إلا أن يكون المراد من النفي نفيه عن جميع الأرض إلا مكان الحبس. قالوا: والمحبوس قد يسمى منفيا من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبان الدنيا ولذاتها، ولا يرى أحدا من أحبابه، فصار منفيا عن جميع اللذات والشهوات والطيبات فكان كالمنفي في الحقيقة. ولما حبسوا صالح بن عبد القدوس على تهمة الزندقة في حبس ضيق وطال لبثه هنالك ذكر شعرا، منه قوله: خرجان عن الدنيا وعن وصل أهلها فلسنا من الأحياء ولسنا من الموتى إذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا قال الشافعي رحمه الله: هذا النفي المذكور في الآية محمول على وجهين: الأول: أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد، وإن لم يأخذهم طلبهم أبدا فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي. الثاني: القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جمع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد، وإن لم يأخذهم طلبهم أبدا. فيقوم الشافعي هاهنا: إن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم، فالمراد بنفيهم عن الأرض هو هذا الحبس لا غير، والله أعلم. ثم قال تعالى: * (ذلك لهم خزي في الدنيا) * أي فضيحة وهوان * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) *. قالت المعتزلة: الآية دالة على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة، ودالة على أن قتلهم قد أحبط ثوابهم، لأنه تعالى حكم بأن ذلك لهم خزي في الدنيا والآخرة، وذلك يدل على كونهم مستحقين للذم، وكونهم مستحقين للذم في الحال يمنع من بقاء استحقاقهم للمدح والتعظيم لما أن ذلك جمع بين الضدين، وإذا كان الأمر كذلك ثبت القول بالقطع بوعيد الفساق، وثبت القول بالإحباط.
والجواب: لا نزاع بيننا وبينكم في أن هذا الحد إنما يكون واقعا على جهة الخزي والاستخفاف
217

إذا لم تحصل التوبة، فأما عند حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الخزي والاستخفاف، بل يكون على جهة الامتحان، فإذا جاز لكم أن تشترطوا هذا الحكم بعدم التوبة لدليل دل على اعتبار هذا الشرط، فنحن أيضا نشرط هذا الحكم بشرط عدم العفو، وحينئذ لا يبقى الكلام إلا في أنه هل دل هذا الدليل على أنه تعالى يعفو عن الفساق أم لا؟ وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * (البقرة: 81)
ثم قال تعالى:
* (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) *.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لما شرح ما يجب على هؤلاء المحاربين من الحدود والعقوبات استثنى عنه ما إذا تابوا قبل القدرة عليهم. وضبط هذا الكلام أن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق الله تعالى فإنه يسقط بعد هذه التوبة، وما يتعلق منها بحقوق الآدميين فإنه لا يسقط، فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنسانا ثم تابوا قبل القدرة عليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو، إلا أنه يزول حتم القتل بسبب هذه التوبة، وإن أخذ مالا وجب عليه رده ولم يكن عليه قطع اليد أو الرجل، وأما إذا تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه، وتقام الحدود عليه. قال الشافعي رحمه الله تعالى: ويحتمل أن يسقط كل حد الله بالتوبة، لأن ماعزا لما رجم أظهر توبته، فلما تمموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " هلا تركتموه "، أو لفظ هذا معناه، وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا فى سبيله لعلكم تفلحون) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في النظم وجهان: الأول: اعلم أنا قد بينا أنه تعالى لما أخبر رسوله أن قوما من اليهود هموا أن يبسطوا أيديهم إلى الرسول وإلى إخوانه من المؤمنين وأصحابه بالغدر والمكر ومنعهم الله تعالى عن مرادهم، فعند ذلك شرح للرسول شدة عتيهم على الأنبياء وكمال إصرارهم على إيذائهم، وامتد الكلام إلى هذا الموضع، فعند هذا رجع الكلام إلى المقصود الأول وقال: * (يا أيها
218

الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) * كأنه قيل: قد عرفتم كمال جسارة اليهود على المعاصي والذنوب وبعدهم عن الطاعات التي هي الوسائل للعبد إلى الرب، فكونوا يا أيها المؤمنون بالضد من ذلك، وكونوا متقين عن معاصي الله، متوسلين إلى الله بطاعات الله. الوجه الثاني في النظم: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * (المائدة: 18) أي نحن أبناء أنبياء الله، فكان افتخارهم بأعمال آبائهم، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم، فاتقوا وابتغوا إليه الوسيلة، والله أعلم. المسألة الثانية: اعلم أن مجامع التكليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما: أحدهما: ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله * (اتقوا الله) * وثانيهما: فعل المأمورات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (وابتغوا إليه الوسيلة) * ولما كان ترك المنهيات مقدما على فعل المأمورات بالذات لا جرم قدمه تعالى عليه في الذكر. وإنما قلنا: إن الترك مقدم على الفعل لأن الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصلي، والفعل هو الايقاع والتحصيل، ولا شك أن عدم جميع المحدثات سابق على وجودها؛ فكان الترك قبل الفعل لا محالة. فإن قيل: ولم جعلت الوسيلة مخصوصة بالفعل مع أنا نعلم أن ترك المعاصي قد يتوسل به إلى الله تعالى؟ قلنا: الترك إبقاء الشيء على عدمه الأصلي، وذلك العدم المستمر لا يمكن التوسل به إلى شيء البتة فثبت أن الترك لا يمكن أن يكون وسيلة، بل من دعاه داعي الشهورة إلى فعل قبيح، ثم تركه لطلب مرضاة الله تعالى، فهاهنا يحصل الوسل بذلك الامتناع إلى الله تعالى، إلا أن ذلك الامتناع من باب الأفعال، ولهذا
قال المحققون: ترك الشيء عبارة عن فعل ضده.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الترك والفعل أمران معتبران في ظاهر الأفعال، فالذي يجب تركه هو المحرمات، والذي يجب فعله هو الواجبات، ومعتبران أيضا في الأخلاق، فالذي يجب حصوله هو الأخلاق الفاضلة، والذي يجب تركه هو الأخلاق الذميمة، ومعتبران أيضا في الأفكار فالذي يجب فعله هو التفكر في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد، والذي يجب تركه هو الالتفات إلى الشبهات، ومعتبران أيضا في مقام التجلي، فالفعل هن الاستغراق في الله تعالى، والترك هو الالتفات إلى غير الله تعالى: وأهل الرياضة يسمون الفعل والترك بالتحلية والتخلية، وبالمحو والصحو، وبالنفي والاثبات، وبالفناء والبقاء، وفي جميع المقامات النفي مقدم على الاثبات، ولذلك كان قولنا " لا إله إلا الله " النفي مقدم فيه إلى الاثبات.
219

المسألة الثالثة: الوسيلة فعلية، من وسل إليه إذا تقرب إليه. قال لبيد الشاعر: أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ألا كل ذي لب إلى الله واسل أي متوسل، فالوسيلة هي التي يتوسل بها إلى المقصود. قالت التعليمية: دلت الآية على أنه لا سبيل إلى الله تعالى إلا بمعلم يعلمنا معرفته، ومرشد يرشدنا إلى العلم به، وذلك لأنه أمر بطلب الوسيلة إليه مطلقا، والإيمان به من أعظم المطالب وأشرف المقاصد، فلا بد فيه من الوسيلة. وجوابنا: أنه تعالى إنما أمر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان به، والإيمان به عبارة عن المعرفة به فكان هذا أمرا بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان وبعد معرفته، فيمتنع أن يكون هذا أمرا بطلب الوسيلة إليه في معرفته، فكان المراد طلب الوسيلة إليه في تحصيل مرضاته وذلك بالعبادات والطاعات. ثم قال تعالى: * (وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) * واعلم أنه تعالى لما أمر بترك ما لا ينبغي بقوله * (اتقوا الله) * وبفعل ما ينبغي، بقوله * (وابتغوا إليه الوسيلة) * وكل واحد منهما شاق ثقيل على النفس والشهوة، فإن النفس لا تدعو إلا إلى الدنيا واللذات المحسوسة، والعقل لا يدعو إلا إلى خدمة الله وطاعته والاعراض عن المحسوسات، وكان بين الحالتين تضاد وتناف، ولذلك فإن العلماء ضربوا المثل في مظان تطلب الدنيا والآخرة بالضرتين وبالضدين، وبالمشرق والمغرب، وبالليل والنهار، وإذا كان كذلك كان الانقياد لقوله تعالى: * (اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) * من أشق الأشياء على النفس وأشدها ثقلا على الطبع، فلهذا السبب أردف ذلك التكليف بقوله * (وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) * وهذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية، ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها، وهو أن من يعبد الله تعالى فريقان، منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله، ومنهم من يعبده لغرض آخر. والمقام الأول: هو المقام الشريف العالي، وإليه الإشارة بقوله * (وجاهدوا في سبيله) * أي من سبيل عبوديته وطريق الاخلاص في معرفته وخدمته. والمقام الثاني: دون الأول، وإليه الإشارة بقوله * (لعلكم تفلحون) * والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمحبوب. واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين في هذه الآية إلى معاقد جميع الخيرات، ومفاته كل السعادات أتبعه بشرح حال الكفار، وبوصف عاقبة من لم يعرف حياة ولا سعادة إلا في هذه الدار، وذكر من جملة تلك الأمور الفظيعة نوعين:
220

أحدهما: قوله تعالى: * (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الجملة المذكورة مع كلمة (لو) خبر (إن)
فإن قيل: لم وحد الراجع في قوله * (ليفتدوا به) * مع أن المذكور السابق بيان ما في الأرض جميعا ومثله؟ قلنا: التقدير كأنه قيل: ليفتدوا بذلك المذكور.
المسألة الثانية: قوله * (ولهم عذاب أليم) * يحتمل أن يكون في موضع الحال، ويحتمل أن يكون عطفا على الخبر. المسألة الثالثة: المقصود من هذا الكلام التمثيل للزوم العذاب لهم، فإنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت ". النوع الثاني: من الوعيد المذكور في هذه الآية. قوله * (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إرادتهم الخروج تحتمل وجهين: الأول: أنهم قصدوا ذلك وطلبوا المخرج منها كما قال تعالى: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) * (السجدة: 2).
قيل: إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج. وقيل: يكادون يخرجون من النار لقوة النار ودفعها للمعذبين، والثاني: أنهم تمنوا ذلك وأرادوه بقلوبهم، كقوله تعالى في موضع آخر * (ربنا أخرجنا منها) * (المؤمنون: 107) ويؤكد هذا الوجه قراءة من قرأ * (يريدون أن يخرجوا من النار) * بضم الياء.
221

المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذا الآية على أنه تعالى يخرج من النار من قال " لا إله إلا الله " على سبيل الإخلاص. قالوا: لأنه تعالى جعل هذا المعنى من تهديدات الكفار، وأنواع ما خوفهم به من الوعيد الشديد، ولولا أن هذا لا معنى مختص بالكفار وإلا لم يكن لتخصيص الكفار به معنى والله أعلم. ومما يؤيد هذا الذي قلناه قوله * (ولهم عذاب مقيم) * وهذا يفيد الحصر، فكان المعنى ولهم عذاب مقيم لا لغيرهم، كما أن قوله * (لكم دينكم) * (المائدة: 3) أي لكم لا لغيركم، فكذا ههنا.
قوله تعالى
* (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) *
في اتصال الآية بما قبلها وجهان: الأول: أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة قطع الأيد والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة، بين في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضا، والثاني: أنه لما ذكر تعظيم أمر القتل حيث قال: * (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) * (المائدة: 32) ذكر بعد هذا الجنايات التي تبيح القتل والإيلام، فذكر أولا: قطع الطريق، وثانيا: أمر السرقة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أختلف النحويون في الرفع في قوله * (والسارق والسارقة) * على وجوه: الأول: وهو قول سيبويه والأخفش: أن قوله * (والسارق والسارقة) * مرفوعان بالابتداء، والخبر محذوف والتقدير: فيما يتلى عليكم السارق والسارقة، أي حكمهما كذا، وكذا القول في قوله الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) * (النور: 2) وفي قوله * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) * (النساء: 16) وقرأ عيسى بن عمر * (والسارق والسارقة) * بالنصب، ومثله * (الزانية والزاني) * والاختيار عند سيبويه النصب في هذا. قال لأن قول القائل: زيدا فاضربه أحسن من قولك: زيد فاضربه، وأيضا لا يجوز أن يكون * (فاقطعوا) * خبر المبتدأ، لأن خبر المبتدأ لا يدخل عليه الفاء.
222

والقول الثاني: وهو اختيار الفراء: أن الرفع أولى من النصب، لأن الألف واللام في قوله * (والسارق والسارقة) * يقومان مقام " الذي " فصار التقدير: الذي سرق فاقطعوا يده، وعلى هذا التقدير حسن إدخال حرف الفاء على الخبر لأنه صار جزاء، وأيضا النصب إنما يحسن إذا أردت سارقا بعينه أو سارقة بعينها، فأما إذا أردت توجيه هذا الجزاء على كل من أتى بهذا الفعل فالرفع أولى، وهذا القول اختاره الزجاج وهو المعتمد. ومما يدل على أن المراد من الآية الشرط والجزاء وجوه: الأول: أن الله تعالى صرح بذلك وهو قوله * (جزاء بما كسبا) * وهذا دليل على أن القطع شرع جزاء على فعل السرقة، فوجب أن يعم الجزاء لعموم الشرط، والثاني: أن السرقة جناية، والقطع عقوبة، وربط العقوبة بالجناية مناسب، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على أن الوصف علة لذلك الحكم، والثالث: أنا لو حملنا الآية على هذا الوجه كانت الآية مفيدة، ولو حملناها على سارق معين صارت مجملة غير مفيدة، فكان الأول أولى. وأما القول الذي ذهب إليه سيبويه فليس بشيء، ويدل عليه وجوه: الأول: أنه طعن في القرآن المنقول بالتواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن جميع الأمة، وذلك باطل قطعا، فإن قال لا أقول: إن القراءة بالرفع غير جائزة ولكني أقول: القراءة بالنصب أولى، فنقول: وهذا أيضا رديء لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر وكلام مردود. والثاني: أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ (واللذين يأتيانها منكم) بالنصب، ولما لم يوجد في القراء أحد قرأ كذلك علمنا سقوط هذا القول. الوجه الثالث: أنا إذا قلنا: * (والسارق والسارقة) * مبتدأ، وخبره هو الذي نضمره، وهو قولنا فيما يتلى عليكم، فحينئذ قد تمت هذه الجملة بمبتدأها وخبرها، فبأي شيء تتعلق الفاء في قوله * (فاقطعوا أيديهما) * فإن قال: الفاء تتعلق بالفعل الذي دل عليه قوله * (والسارق والسارقة) * يعني أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يديه فنقول: إذا احتجت في آخر الأمر إلى أن تقول: السارق والسارقة تقديره: من سرق، فاذكر هذا أولا حتى لا تحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته. والرابع: أنا إذا اخترنا القراءة بالنصب لم يدل ذلك على كون السرقة علة لوجوب القطع، وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى، ثم هذا المعنى متأكد بقوله * (جزاء بما كسبا) * فثبت أن القراءة بالرفع أولى. الخامس: أن سيبويه قال: هم يقدمون الأهم فالأهم، والذي هم بشأنه أعنى، فالقراءة بالرفع تقتضي تقديم
223

ذكر كونه سارقا على ذكر وجوب القطع، وهذا يقتضي أن يكون أكبر العناية مصروفا إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث إنه سارق، وأما القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أتم من العناية بكونه سارقا، ومعلوم أنه ليس كذلك، فإن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة والمبالغة في الزجر عنها، فثبت أن القراءة بالرفع هي المتعينة قطعا والله أعلم. المسألة الثانية: قال كثير من المفسرين الأصوليين: هذه الآية مجملة من وجوه: أحدها: أن الحكم معلق على السرقة، ومطلق السرقة غير موجب للقطع، بل لا بد وأن تكون هذه السرقة سرقة لمقدار مخصوص من المال، وذلك القدر غير مذكور في الآية فكانت مجملة، وثانيها: أنه تعالى أوجب قطع الأيدي، وليس فيه بيان أن الواجب قطع الأيدي الأيمان والشمائل، وبالاجماع لا يجب قطعهما معا فكانت الآية مجملة، وثالثها: أن اليد اسم يتناول الأصابع فقط، ألا ترى أنه لو حلف لا يمس فلانا بيده فمسه بأصابعه فإنه يحنث في يمينه، فاليد اسم يقع على الأصابع وحدها، ويقع على الأصابع مع الكف، ويقع على الأصابع والكف والسعدين إلى المرفقين، ويقع على كل ذلك إلى المنكبين، وإذا كان لفظ اليد محتملا لكل هذه الأقسام، والعين غير مذكور في هذه الآية فكانت مجملة، ورابعها: أن قوله * (فاقطعوا) * خطاب مع قوم، فيحتمل أن يكون هذا التكليف واقعا على مجموع الأمة، وأن يكون واقعا على طائفة مخصوصة منهم، وأن يكون واقعا على شخص معين منهم، وهو إمام الزمان كما يذهب إليه الأكثرون، ولما لم يكن التعيين مذكورا في الآية كانت الآية مجملة، فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية مجملة على الإطلاق، هذا تقرير هذا المذهب. وقال قوم من المحققين: الآية ليست مجملة البتة، وذلك لأنا بينا أن الألف واللام في قوله * (والسارق والسارقة) * قائم مقام " الذي " والفاء في قوله * (فاقطعوا) * للجزاء، فكان التقدير: الذي سرق فاقطعوا يده، ثم تأكد هذا بقوله تعالى: * (جزاء بما كسبا) * وذلك الكسب لا بد وأن يكون المراد به ما تقدم ذكره وهو السرقة، فصار هذا دليلا على أن مناط الحكم ومتعلقه هو ماهية السرقة ومقتضاه أن يعم الجزاء فيما حصل هذا الشرط، اللهم إلا إذا قام دليل منفصل يقتضي تخصيص هذا العام، وأما قوله " الأيدي " عامة فنقول: مقتضاه قطع الأيدي لكنه لما انعقد الاجماع على أنه لا يجب قطعهما معا، ولا الابتداء باليد اليسرى أخرجناه عن العموم.
وأما قوله: لفظ اليد دائر بين أشياء فنقول: لا نسلم، بل اليد اسم لهذا العضو إلى المنكب، ولهذا السبب قال تعالى: * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * (المائدة: 6) فلولا دخول العضدين في هذا الاسم وإلا لما احتيج إلى التقيد بقوله * (إلى المرافق) * فظاهر الآية يوجب قطع اليدين من المنكبين كما هو قول الخوارج، إلا أنا تركنا ذلك لدليل منفصل.
224

وأما قوله: رابعا: يحتمل أن يكون الخطاب مع كل واحد، وأن يكون مع واحد معين. قلنا: ظاهره أنه خطاب مع كل أحد، ترك العمل به فيما صار مخصوصا بدليل منفصل فيبقى معمولا به في الباقي. والحاصل أنا نقول: الآية عامة، فصارت مخصوصة بدلائل منفصلة في بعض الصور فتبقى حجة فيما عداها، ومعلوم أن هذا
القول أولى من قول من قال: إنها مجملة فلا تفيد فائدة أصلا. المسألة الثالثة: قال جمهور الفقهاء: القطع لا يجب إلا عند شرطين: قدر النصاب، وأن تكون السرقة من الحرز، وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن البصري: القدر غير معتبر، فالقطع واجب في سرقة القليل والكثير، والحرز أيضا غير معتبر، وهو قول داود الأصفهاني، وقول الخوارج، وتمسكوا في المسألة بعموم الآية كما قررناه، فإن قوله * (والسارق والسارقة) * يتناول السرقة سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء سرقت من الحرز أو من غير الحرز. إذا ثبت هذا فنقول: لو ذهبنا إلى التخصيص لكان ذلك إما بخبر الواحد، أو بالقياس وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز، وحجة جمهور الفقهاء أنه لا حاجة بنا إلى القول بالتخصيص، بل نقول: إن لفظ السرقة لفظة عربية، ونحن بالضرورة نعلم أن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة من حنطة الغير، أو تبنة واحدة، أو كسرة صغيرة من خبز: إنه سرق ماله، فعلمنا أن أخذ مال الغير كيفما كان لا يسمى سرقة، وأيضا السرقة مشتقة من مسارقة عين المالك، وإنما يحتاج إلى مسارقة عين المالك لو كان المسروق أمرا يكون متعلق الرغبة في محل الشح والضنة حتى يرغب السارق في أخذه ويتضايق المسروق منه في دفعه إلى الغير ولهذا الطريق اعتبرنا في وجوب القطع أخذ المال من حرز المثل، لأن ما لا يكون موضوعا في الحرز لا يحتاج في أخذه إلى مسارقة الأعين فلا يسمى أخذه سرقة. وقال داود: نحن لا نوجب القطع في سرقة الحبة الواحدة، ولا في سرقة التبنة الواحدة، بل في أقل شيء يجري فيه الشح والضنة، وذلك مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة، فربما استحقر الملك الكبير لآلافا مؤلفة، وربما استعظم الفقير طسوجا، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لو قال لفلان على مال عظيم، ثم فسر بالحبة يقبل قوله فيه لاحتمال أنه كان عظيما عنده لغاية فقره وشدة احتياجه إليه، ولما كانت مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة وجب بناء الحكم على أقل ما يسمى مالا، وليس لقائل أن يستبعد ويقول: كيد يجوز قطع اليد في سرقة الطسوجة الواحدة، لأن الملحدة قد جعلوا هذا طعنا في الشريعة، فقالوا: اليد لما كانت قيمتها خمسمائة دينار من الذهب، فكيف تقطع لأجل القليل من المال؟ ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن بأن
225

الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل، فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة بهذه العقوبة العظيمة، وإذا كان هذا الجواب مقبولا من الكل فليكن أيضا مقبولا منا في إيجاب القطع في القليل والكثير. قال: ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن ههنا بخبر الواحد، وذلك لأن القائلين بتخصيص هذا العموم اختلفوا على وجوه، فقال الشافعي رحمه لله: يجب القطع في ربع دينار، وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام: " لا قطع إلا ربع دينار " وقال أو حنيفة رحمه الله: لا يجوز القطع إلا في عشرة دراهم مضروبة وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام: " لا قطع إلا في ثمن المجن " والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم. وقال مالك وأحمد وإسحاق: إنه مقدر بثلاثة دراهم أو ربع دينار. وقال ابن أبي ليلى: مقدر بخمسة دراهم، وكل واحد من هؤلاء المجتهدين يطعن في الخبر الذي يرويه الآخر، وعلى هذا التقدير فهذه المخصصات صارت متعارضة، فوجب أن لا يلتفت إلى شيء منها، ويرجع في معرفة حكم الله تعالى إلى ظاهر القرآن. قال: وليس لأحد أن يقول: إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أنه لا يجب القطع إلا في مقدار معين. قال: لأن الحسن البصري كان يوجب القطع بمطلق السرقة، وكان يقول: احذر من قطع يدك بدرهم، ولو كان الاجماع منعقدا لما خالف الحسن البصري فيه مع قربه من زمان الصحابة وشدة احتياطه فيما يتعلق بالدين، فهذا تقرير مذهب الحسن البصري وداود الأصفهاني. وأما الفقهاء فإنهم اتفقوا على أنه لا بد في وجوب القطع من القدر، ثم قال الشافعي رحمه الله: القطع في ربع دينار فصاعدا وهو نصاب السرقة، وسائر الأشياء تقوم به. وقال أبو حنيفة والثوري: لا يجب القطع في أقل من عشرة دارهم مضروبة، ويقوم غيرها بها. وقال مالك رحمه الله: ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وقال ابن أبي ليلى: خمسة دراهم. حجة الشافعي رحمه الله أن ظاهر قوله * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * يوجب القطع في القليل والكثير، إلا أن الفقهاء توافقوا فيما بينهم على أنه لا يجب القطع فيما دون ربع دينار، فوجب أن يبقى في ربع دينار فصاعدا على ظاهر النص، ثم أكد هذ بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " لا قطع إلا في ربع دينار ".
وأما الذي تمسك به أبو حنيفة رحمه الله من قوله عليه الصلاة والسلام: " لا قطع إلا في ثمن المجن " فهو ضعيف لوجهين: الأول: أن ثمن المجن مجهول، فتخصيص عموم القرآن بخبر واحد مجمل مجهول المعنى لا يجوز. الثاني: أنه إن كان ثمن المجن مقدرا بعشرة دراهم كان التخصيص
226

الحاصل بسببه في عموم قوله تعالى: * (والسارق والسرقة فاقطعوا أيديهما) * أكثر من التخصيص الحاصل في عموم هذه الآية بقوله عليه الصلاة والسلام: " لا قطع إلا في ربع دينار " فكان الترجيح لهذا الجانب. المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمه الله: الرجل إذا سرق أولا قطعت يده اليمنى، وفي الثانية رجله اليسرى، وفي الثالثة يده اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وقال أبو حنيفة والثوري: لا يقطع في المرة الثالثة والرابعة.
واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجهين: الأول: أن السرقة علة لوجوب القطع، وقد وجدت في المرة الثالثة، فوجب القطع في المرة الثالثة أيضا، إنما قلنا: إن السرقة علة لوجوب القطع لقوله * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * وقد بينا أن المعنى: الذي سرق فاقطعوا يده، وأيضا الفاء في قوله * (فاقطعوا أيديهما) * يدل على أن القطع وجب جزاء على تلك السرقة، فالسرقة علة لوجوب القطع، ولا شك أن السرقة حصلت في المرة الثالثة، فما هو الموجب للقطع حاصل في المرة الثالثة، فلا بد وأن يترتب عليه موجبه ولا يجوز أن يكون موجبه هو القطع في المرة الأولى لأن الحكم لا يسبق العلة، وذلك لأن القطع وجب بالسرقة الأولى، فلم يبق إلا أن تكون السرقة في المرة الثالثة توجب قطعا آخر وهو المطلوب، والثاني: أنه تعالى قال: * (فاقطعوا أيديهما) * ولفظ الأيدي لفظ جمع، وأقله ثلاثة، والظاهر يقتضي وجوب قطع ثلاثة من الأيدي في السارق والسارقة، ترك العمل به ابتداء فيبقى معمولا به عند السرقة الثالثة. فإن قالوا: إن ابن مسعود قرأ فاقطعوا أيمانهما، فكان هذا الحكم مختصا باليمين لا في مطلق الأيدي، والقراءة الشاذة جارية مجرى خبر الواحد. قلنا: القراءة الشاذة لا تبطل لقراءة المتواترة، فنحن نتمسك بالقراءة المتواترة في إثبات مذهبنا وأيضا القراءة الشاذة ليست بحجة عندنا، لأنا نقطع أنها ليست قرآنا، إذ لو كانت قرآنا لكانت متواترة، فإنا لو جوزنا أن لا ينقل شيء
من القرآن إلينا على سبيل التواتر انفتح باب طعن الروافض والملاحدة في القرآن، ولعله كان في القرآن آيات دالة على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه نصا، وما نقلت إلينا، ولعله كان فيه آيات دالة على نسخ أكثر هذه الشرائع وما نقلت إلينا ولما كان ذلك باطلا بأنه لو كان قرآنا لكان متواترا، فلما لم يكن متواترا قطعنا أنه ليس بقرآن، فثبت أن القراءة الشاذة ليست بحجة البتة.
المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه الله: أغرم السارق ما سرق. وقال أبو حنيفة والثوري
227

وأحمد وإسحاق: لا يجمع بين القطع والعزم، فإن غرم فلا قطع، وإن قطع فلا غرم. وقال مالك رحمه لله: يقطع بكل حال، وأما الغرم فليزمه إن كان غنيا، ولا يلزمه إن كان فقيرا. حجة الشافعي رحمه الله أن الآية دلت على أن السرقة توجب القطع، وقوله عليه الصلاة والسلام: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " يوجب الضمان، وقد احتج الأمران في هذه السرقة فوجب أن يحب القطع والضمان، فلو ادعى مدع أن الجمع ممتنع كان ذلك معارضة، وعليه الدليل، على أنا نقول: إن حد الله لا يمنع حق العباد، بدليل أنه يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك، وبدليل أنه لو كان المسروق باقيا وجب رده بالإجماع، ويدل عليه أيضا أن المسروق كان باقيا على ملك المالك إلى وقت قطع يد السارق بالاتفاق، فعند حصول القطع إما أن يحصل الملك فيه مقتصرا على وقت القطع، أو مسندا إلى أول زمان السرقة، والأول: لا يقول به الخصم، والثاني: يقتضي أن يقال: إنه حدث الملك فيه من وقت القطع في الزمان الذي كان سابقا على ذلك الوقت، وهذا يقتضي وقوع الفعل في الزمان الماضي. وهذا محال. حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى حكم بكون هذا القطع جزاء، والجزاء هو الكافي، فدل ذلك على أن هذا القطع كاف في جناية السرقة، وإذا كان كافيا وجب أن لا يضم الغرم إليه. والجواب: لو كان الأمر كما قلتم لوجب أن لا يلزم رد المسروق عند كونه قائما، والله أعلم بالصواب. المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه الله: السيد يملك إقامة الحد على المماليك. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يملك. حجة الشافعي أن قوله * (فاقطعوا أيديهما) * عام في حق الكل، لأن هذا الخطاب ليس فيه ما يدل على كونه مخصوصا بالبغض دون البعض، ولما عم الكل دخل فيه المولى أيضا، ترك العمل به في حق غير الإمام والمولى، فوجب أن يبقى معمولا به في حق الإمام والمولى. المسألة السابعة: احتج المتكلمون بهذه الآية في أنه يجب على الأمة أن ينصبوا لأنفسهم إماما معينا والدليل عليه أنه تعالى أوجب بهذه الآية إقامة الحد على السراق والزناة، فلا بد من شخص يكون مخاطبا بهذا الخطاب، وأجمعت الأمة على أنه ليس لآحاد الرعية إقامة الحدود على الجناة، بل أجمعوا على أنه لا يجوز إقامة الحدود على الأحرار الجناة إلا للإمام، فلما كان هذا التكليف تكليفا جازما ولا يمكن الخروج عن عهدة هذا التكليف إلا عند وجود الإمام، وما لا يتأتى الواجب إلا به، وكان مقدورا للمكلف، فهو واجب، فلزم القطع بوجوب نصب الإمام حينئذ.
228

المسألة الثامنة: قال المعتزلة: قوله * (نكالا من الله) * يدل على أنه إنما أقيم عليه هذا الحد على سبيل الاستخفاف والإهانة، وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بكونه مستحقا للاستخفاف والذم والإهانة، ومتى كان لأمر كذلك امتنع أن يقال: إنه بقي مستحقا للمدح والتعظيم، لأنهما ضدان والجمع بينهما محال، وذلك يدل على أن عقاب الكبير يحبط ثواب الطاعات. وأعلم أنا قد ذكرنا الدلائل الكثيرة في بطلان القول بالإحباط في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) * (البقرة: 264) فلا نعيدها ههنا. ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعا على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة، فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من الله تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضا على سبيل التنكيل، بل تكون على سبيل الامتحان، لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو. المسألة التاسعة: قالت المعتزلة: قوله * (جزاء بما كسبا نكالا من لله) * يدل على تعليل أحكام الله، فإن الباء في قوله * (بما كسبا) * صريح في أن القطع إنما وجب معللا بالسرقة. وجوابه ما ذكرناه في هذه السورة في قوله * (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس) * (المائدة: 32). المسألة العاشرة: قوله * (جزاء بما كسبا) * قال الزجاج: جزاء نصب لأنه مفعول له، والتقدير فاقطعوهم لجزاء فعلهم، وكذلك * (نكالا من الله) * فإن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دل عليه * (فاقطعوا) * والتقدير: جازوهم ونكلوا بهم جزاء بما كسبا نكالا من الله.
أما قوله * (والله عزيز حكيم) * فالمعنى: عزيز في انتقامه، حكيم في شرائعه وتكاليفه. قال الأصمعي كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي، فقرأت هذه الآية فقلت * (والله غفور رحيم) * سهوا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ فقلت كلام الله. قال أعد، فأعدت: والله غفور رحيم، ثم تنبهت فقلت * (والله عزيز حكيم) * فقال: الآن أصبت، فقلت كيف عرفت؟ قال: يا هذا عزيز حكيم فأمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع
ثم قال تعالى:
* (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: دلت الآية على أن من تاب فإن الله يقبل توبته، فإن قيل: قوله * (وأصلح) * يدل على أن مجرد التوبة غير مقبول.
229

قلنا: المراد من قوله * (وأصلح) * أي يتوب بنية صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض. المسألة الثانية: إذا تاب قبل القطع تاب الله عليه، وهل يسقط عنه الحد؟ قال بعض العلماء التابعين: يسقط عنه الحد، لأن ذكر الغفور الرحيم في آخر هذه الآية يدل على سقوط العقوبة عنه، والعقوبة المذكورة في هذه الآية هي الحد، فظاهر الآية يقتضي سقوطها. وقال الجمهور: لا يسقط عنه هذا الحد، بل يقام عليه على سبيل الإمتحان. المسألة الثالثة: دلت الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى لأنه تعالى تمدح بقبول التوبة، والتمدح إنما يكون بفعل التفضل والإحسان، لا بأداء الواجبات
ثم قال تعالى:
* (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والارض يعذب من يشآء ويغفر لمن يشآء والله على كل شىء قدير) *.
واعلم أنه تعالى لما أوجب قطع اليد وعقاب الآخرة على السارق قبل التوبة، ثم ذكر أنه يقبل توبته إن تاب أردفه ببيان أن له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، وإنما قدم التعذيب على المغفرة لأنه في مقابلة تقدم السرقة على التوبة. قال الواحدي: الآية واضحة للقدرية في التعديل والتجويز، وقولهم بوجوب الرحمة للمطيع، ووجوب العذاب للعاصي على الله، وذلك لأن الآية دالة على أن الرحمة مفوضة إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك. وأقول: فيه وجه آخر يبطل قولهم، وذلك لأنه تعالى ذكر أولا قوله * (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) * ثم رتب عليه قوله * (يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء) * وهذا يدل على أنه إنما حسن منه التعذيب تارة، والمغفرة أخرى، لأنه مالك الخلق وربهم وإلههم، وهذا هو مذهب أصحابنا فإنهم يقولون: إنه تعالى يحسن منه كل ما يشاء ويريد لأجل كونه مالكا لجميع المحدثات، والمالك له أنه يتصرف في ملكه كيف شاء وأراد: أما المعتزلة فإنهم يقولون: حسن هذه الأفعال من الله تعالى ليس لأجل كونه إلها للخلق ومالكا لهم، بل لأجل رعاية المصالح والمفاسد، وذلك يبطله صريح هذه الآية كما قررناه.
230

قوله تعالى: * (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) *. اعمل أنه تعالى لما بين بعض التكاليف والشرائع، وكان قد علم من بعض الناس كونهم متسارعين إلى الكفر لا جرم صبر رسوله على تحمل ذلك، وأمره بأن لا يحزن لأجل ذلك، فقال: * (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: يا أيها النبي في مواضع كثيرة، وما خاطبه بقوله: يا أيها الرسول إلا في موضعين: أحدهما: ههنا، والثاني: قوله: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) * (المائدة: 67) وهذا الخطاب لا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم.
المسألة الثانية: قرىء * (لا يحزنك) * بضم الياء، ويسرعون، والمعنى لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر وذلك بسبب احتيالهم في استخراج وجوه الكيد والمكر في حق المسلمين وفي مبالغتهم في موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم. يقال: أسرع فيه الشيب وأسرع
231

فيه الفساد بمعنى وقع فيه سريعا، فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه متى وجدوا فيه فرصة، وقوله * (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) * فيه تقديم وتأخير، والتقدير: من الذين قالوا بأفواههم آمنا ولم تؤمن قلوبهم ولا شك أن هؤلاء هم المنافقون. ثم قال تعالى: * (ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكر الفراء والزجاج ههنا وجهين: الأول: أن الكلام إنما يتم عند قوله * (ومن الذين هادوا) * ثم يبتدأ الكلام منقوله * (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين) * وتقدير الكلام: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود، ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين لقوم آخرين. الوجه الثاني: أن الكلام تم عند قوله * (ولم تؤمن قلوبهم) * ثم ابتدأ من قوله * (ومن الذين هادوا سماعون للكذب) * وعلى هذا التقدير فقوله * (سماعون) * صفة محذوف، والتقدير: ومن الذين هادوا قوم سماعون. وقيل: خبر مبتدأ محذوف، يعني هم سماعون. المسألة الثانية: ذكر الزجاج في قوله * (سماعون للكذب) * وجهين: الأول: أن معناه قابلون للكذب، والسمع يستعمل ويراد منه القبول، كما يقال: لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه، ومنه " سمع الله لمن حمده "، وذلك الكذب الذي يقبلونه هو ما يقوله رؤساؤهم من الأكاذيب في دين الله تعالى في تحريف التوراة، وفي الطعن في محمد صلى الله عليه وسلم. والوجه الثاني: أن المراد من قوله * (سماعون للكذب) * نفس السماع، واللام في قوله * (للكذب) * لام كي، أي يسمعون منك لكي يكذبوا عليك. وأما قوله * (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) * فالمعنى أنهم أعين وجواسيس لقوم آخرين لم يأتوك ولم يحضروا عندك لينقلوا إليهم أخبارك، فعلى هذا التقدير قوله * (سماعون للكذب) * أي سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمزجوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود، وهم عيون ليبلغوهم ما سمعوا منه.
ثم إنه تعالى وصف هؤلاء اليهود بصفة أخرى فقال * (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) * أي من بعد أن وضعه الله مواضعه، أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرم حرامه. قال المفسرون: إن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، وكان حد الزنا في التوراة الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فأرسلوا قوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن حكمه في الزانيين إذا أحصنا،
232

وقالوا: إن أمركم بالجلد فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا، فلما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك نزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم " ابن صوريا " فقال الرسول: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له: ابن صوريا؟ قالوا نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض، فرضوا به حكما، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: " أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن "؟ قال ابن صوريا: نعم، فوثبت عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب، ثم سأل رسول الله عن أشياء كان يعرفها من علاماته، فقال ابن صوريا: أشهد أن إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده. إذا عرفت القصة فنقول: قوله * (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) * أي وضعوا الجلد مكان الرجم. وقوله تعالى: * (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا) * أي إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا. واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله أن الثيب الذمي يرجم. قال: لأنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر برجمه، فإن كان الأمر برجم الثيب الذمي من
دين الرسول فقد ثبت المقصود، وإن كان إنما أمر بذلك بناء على ما ثبت في شريعة موسى عليه السلام وجب أن يكون ذلك مشروعا في ديننا، ويدل عليه وجهان: الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفتى على وفق شريعة التوراة في هذه المسألة كان الإقتداء به في ذلك واجبا، لقوله * (فاتبعوه) * (الأعراف: 58) والثاني: أن ما كان ثابتا في شرع موسى عليه السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ، ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخ هذا الحكم، فوجب أن يكون باقيا، وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * (المائدة: 45) حكمه باق في شرعنا.
ولما شرح الله تعالى فضائح هؤلاء اليهود قال: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) *. واعلم أن لفظ الفتنة محتمل لجميع أنواع المفاسد، إلا أنه لما كان هذا اللفظ مذكورا عقيب أنواع كفرهم التي شرحها الله تعالى وجب أن يكون المراد من هذه الفتنة تلك الكفريات التي تقدم ذكرها، وعلى هذا التقدير فالمراد: ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه.
ثم أكد تعالى هذا فقال: * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) *. قال أصحابنا: دلت هذه الآية على أن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر، وأنه لم يطهر قلبه من
233

الشك والشرك، ولو فعل ذلك لآمن، وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية. أما المعتزلة فإنهم ذكروا في تفسير الفتنة وجوها: أحدها: أن الفتنة هي العذاب، قال تعالى: * (على النار يفتنون) * (الذاريات: 13) أي يعذبون، فالمراد ههنا: أنه يريد عذابه لكفره ونفاقه، وثانيها: الفتنة الفضيحة، يعني ومن يرد الله فضيحته. الثالث: فتنته: إضلاله، والمراد من الإضلال الحكم بضلاله وتسميته ضالا، ورابعها: الفتنة الاختبار، يعني من يرد الله اختباره فيما يبتليه من التكاليف، ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها فلن تملك له من الله ثوابا ولا نفعا.
وأما قوله * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * فذكروا فيه وجوها: أحدها: لم يرد الله أن يمد قلوبهم بالألطاف، لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قلوبهم، وثانيها: لم يرد الله أن يطهر قلوبهم عن الحرج والغم والوحشة الدالة على كفرهم، وثالثها: أن هذا استعارة عن سقوط وقعه عند الله تعالى، وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله، والكلام عن هذه الوجوه قد تقدم مرارا.
ثم قال تعالى: * (لهم في الدنيا خزي) * وخزي المنافقين هتك سترهم باطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم على كذبهم وخوفهم من القتل، وخزي اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نص الله تعالى في إيجاب الرجم وأخذ الجزية منهم.
* (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * وهو الخلود في النار.
ثم قال تعالى: * (سماعون للكذب أكالون للسحت) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي السحت بضم السين والحاء حيث كان، وقرأ ابن عامر ونافع وعاصم وحمزة برفع السين وسكون الحاء على لفظ المصدر من: سحته، ونقل صاحب " الكشاف " السحت بفتحتين، والسحت بكسر السين وسكون الحاء، وكلها لغات. المسألة الثانية: ذكروا في لفظ السحت وجوها قال الزجاج: أصله من سحته إذا استأصله، قال تعالى: * (فيسحتكم بعذاب) * (طه: 61) وسميت الرشا التي كانوا يأخذونها بالسحت إما لأن الله تعالى يسحتهم بعذاب، أي يستأصلهم، أو لأنه مسحوت البركة، قال تعالى: * (يمحق الله الربا) * (البقرة: 276) الثاني: قال الليث: إنه حرام يحصل منه العار، وهذا قريب من الوجه الأول لأن مثل هذا الشيء يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها، والثالث: قال الفراء: أصل السحت شدة الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة إذا كان أكولا لا يلقى إلا جائعا أبدا، فالسحت حرام يحمل عليه شدة الشره كشره من كان مسحوت المعدة، وهذا أيضا قريب من الأول، لأن من كان شديد الجوع شديد الشره فكأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام ويشتهيه.
234

إذا عرفت هذا فنقول: السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستئجار في المعصية: روي ذاك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد، وزاد بعضهم، ونقص بعضهم، وأصله يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة، ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة، ومعلوم أن أخذ الرشوة كذلك، فكان سحتا لا محالة. المسألة الثالثة: في قوله * (سماعون للكذب أكالون للسحت) * وجوه: الأول: قال الحسن كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه، فكان يسمع الكذب ويأكل السحت. الثاني: قال بعضهم: كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية، فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت الذي يأخذونه منهم. الثالث: سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة، أكالون للربا لقوله تعالى: * (وأخذهم الربا) * (النساء: 161). ثم قال تعالى: * (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) * ثم إنه تعالى خيره بين الحكم فيهم والاعراض عنهم، واختلفوا فيه على قولين: الأول: أنه في أمر خاص، ثم اختلف هؤلاء، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري: أنه في زنا المحصن وأن حده هو الجلد والرجم. الثاني: أنه في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير، وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم دية كاملة، وفي قريظة نصف دية، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء. الثالث: أن هذا التخيير مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم، فإن شاء حكم فيهم وإن شاء أعرض عنهم. القول الثاني: أن الآية عاملة في كل من الكفار، ثم اختلفوا فمنهم من قال الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ، وهو قول النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم، ومنهم من قال: إنه منسوخ بقوله تعالى: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * (المائدة: 49) وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة. ومذهب الشافعي أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه، لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك، وهذا
التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين. ثم قال تعالى: * (وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا) * والمعنى: أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف، كالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم إعراضه عنهم وصاروا أعداء له، فبين تعالى أنه لا تضره عداوتهم له.
235

ثم قال تعالى: * (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) *. أي فاحكم بينهم بالعدل والاحتياط كما حكمت بالرجم.
ثم قال تعالى: * (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا تعجيب من الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني، ثم تركهم قبول ذلك الحكم، فعدلوا عما يعتقدونه حكما حقا إلى ما يعتقدونه باطلا طلبا للرخصة، فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه: أحدها: عدولهم عن حكم كتابهم، والثاني: رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطن، والثالث: إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه، فبين الله تعالى حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتر بهم مغتر أنهم أهل كتاب الله ومن المحافظين على أمر الله، وههنا سؤالان: السؤال الأول: قوله * (فيها حكم الله) * ما موضعه من الاعراب؟ الجواب: إما أن ينصب حالا من التوراة، وهي مبتدأ خبرها * (عندهم) * وإما أن يرتفع خبرا عنها كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله تعالى، وإما أن لا يكون له محل ويكون المقصود أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره؟ السؤال الثاني: لم أنث التوراة؟ والجواب: الأمر فيه مبني على ظاهر اللفظ. المسألة الثانية: احتج جماعة من الحنفية بهذه الآية على أن حكم التوراة وشرائع من قبلنا لازم علينا ما لم ينسخ وهو ضعيف، ولو كان كذلك لكان حكم التوراة كحكم القرآن في وجوب طلب الحكم منه، لكن الشرع نهى عن النظر فيها. بل المراد هذا الأمر الخاص وهو الرجم؛ لأنهم طلبوا الرخصة بالتحكيم. ثم قال تعالى: * (ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) * قوله * (ثم يتولون) * معطوف على قوله * (يحكمونك) * وقوله * (ذلك) * إشارة إلى حكم الله الذي في التوراة، ويجوز أن يعود إلى التحكيم. وقوله * (وما أولئك بالمؤمنين) * فيه وجوه: الأول: أي وما هم بالمؤمنين بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها، والثاني: ما أولئك بالمؤمنين: إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدا وهو خبر عن المستأنف لا عن الماضي. الثالث: أنهم وإن طلبوا الحكم منك فما هم بمؤمنين بك ولا بمعتقدين في صحة حكمك، وذلك يدل على أنه لا إيمان
لهم بشئ وإن كان مقصودهم تحصيل مصالح الدنيا فقط.
236