الكتاب: زاد المسير
المؤلف: ابن الجوزي
الجزء: ٣
الوفاة: ٥٩٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد بن عبد الرحمن عبد الله
الطبعة: الطبعة الأولى
سنة الطبع: جمادى الأولى ١٤٠٧ - كانون الثاني ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: تخريج الأحاديث أبو هاجر السعيد بن بسيوني زغلول

زاد المسير
في علم التفسير
للامام
أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد
الجوزي القرشي البغدادي
المتوفى سنة 597 ه‍
حققه وكتب هوامشه
محمد بن عبد الرحمن عبد الله
دكتوراه في علوم القرآن
أستاذ بكلية الدراسات الإسلامية بالأزهر
خرج أحاديثه
أبو هاجر
السعيد بن بسيوني زغلول
الجزء الثالث
من سورة الأنعام حتى نهاية التوبة
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

جميع حقوق إعادة الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
جمادي الأولى 1407 ه‍ - كانون الثاني 1987 م
دار الفكر - بيروت - لبنان
2

(6) سورة الأنعام مكية
وآياتها خمس وستون ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في نزولها
روى مجاهد عن ابن عباس: أن [سورة] الأنعام مما نزل بمكة. وهذا قول الحسن، وقتادة،
وجابر بن زيد.
وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس، قال: نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكة، وحولها
سبعون ألف ملك.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مكية، نزلت جملة واحدة، ونزلت ليلا، وكتبوها من
ليلتهم، [غير ست آيات منها مدنيات] (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم...) إلى آخر الثلاث آيات
وقوله: (وما قدروا الله حق قدره...) الآية. وقوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال
أوحي إلي) إلى آخر الآيتين. وذكر نحو هذا. وزاد آيتين: قوله: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه
منزل من ربك بالحق)، وقوله: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه...)
وروى عن ابن عباس، وقتادة قالا: هي مكية، إلا آيتين نزلتا بالمدينة، قوله: (وما قدروا الله
حق قدره...) وقوله: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات). وذكر أبو الفتح بن
شيطاء: أنها مكية، غير آيتين نزلتا بالمدينة (قل تعالوا...) والتي بعدها.
3

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا
بربهم يعدلون (1)
فأما التفسير، فقال كعب: فاتحة التورية فاتحة الأنعام، وخاتمتها خاتمة هود، وإنما ذكر
السماوات والأرض، لأنهما من أعظم المخلوقات. والمراد " بالجعل ": الخلق. وقيل: إن " جعل "
ههنا: صلة، والمعنى: والظلمات. وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال:
أحدها: الكفر والإيمان، قاله الحسن.
والثاني: الليل والنهار، قاله السدي.
والثالث: جميع الظلمات والأنوار.
قال قتادة خ: لق الله السماوات قبل الأرض، والظلمات قبل النور، والجنة قبل النار.
قوله تعالى: (ثم الذين كفروا) يعني: المشركين بعد هذا البيان (بربهم يعدلون)، أي:
يجعلون له عديلا: فيعبدون الحجارة الموات، مع إقرارهم بأنه الخالق لما وصف. يقال: عدلت هذا
بهذا: إذا ساويته به. قال أبو عبيدة: هو مقدم ومؤخر، تقديره: يعدلون بربهم. وقال النضر بن
شميل: الباء: بمعنى " عن ".
هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2)
قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين) يعني: آدم، وذلك أنه لما شك المشركون في
البعث، وقالوا: من يحيي هذه العظام؟ أعلمهم أنه خلقهم من طين، فهو قادر على إعادة خلقهم.
قوله تعالى: (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) فيه ستة أقوال:
أحدها: أن الأجل الأول: أجل الحياة إلى الموت [والأجل] الثاني: أجل الموت إلى البعث،
روي عن ابن عباس، والحسن، وابن المسيب، وقتادة، والضحاك، ومقاتل.
والثاني: أن الأجل الأول: النوم الذي تقبض فيه الروح، ثم ترجع في حال اليقظة، والأجل
لمسمى عنده: أجل موت الإنسان. رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن الأجل الأول: أجل الآخرة متى يأتي، والأجل الثاني: أجل الدنيا، قاله مجاهد
في رواية.
4

والرابع: أن الأول: خلق الأشياء في ستة أيام، والثاني: ما كان بعد ذلك إلى يوم القيامة،
قاله عطاء الخراساني.
والخامس: أن الأول: قضاه حين أخذ الميثاق على خلقه، والثاني: الحياة في الدنيا، قاله
ابن زيد، كأنه يشير إلى أجل الذرية حين أحياهم وخاطبهم.
والسادس: أن الأول: أجل من قد مات من قبل، والثاني: أجل من يموت من بعد، ذكره
الماوردي.
قوله تعالى: (ثم أنتم) أي بعد هذا البيان (تمترون) وفيه قولان:
أحدهما: تشكون، قاله قتادة، والسدي. وفيما شكوا فيه قولان: أحدهما: الوحدانية. والثاني:
البعث.
والثاني: يختلفون: مأخوذ من المراء، ذكره الماوردي.
وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3)
قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) فيه أربعة أقوال:
أحدها: هو المعبود في السماوات وفي الأرض، قاله ابن الأنباري.
والثاني: وهو المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض، قاله الزجاج.
والثالث: وهو الله في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض، قاله ابن جرير.
والرابع: أنه مقدم ومؤخر. والمعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض،
ذكره بعض المفسرين.
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (4) فقد كذبوا بالحق
لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون (5)
قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم) نزلت في كفار قريش. وفي الآية قولان:
أحدهما: أنها الآية من القرآن.
والثاني: المعجزة، مثل انشقاق القمر.
والمراد بالحق: القرآن. والأنباء: الأخبار. والمعنى: سيعلمون عاقبة استهزائهم.
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء
5

عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا
آخرين (6)
قوله تعالى: (كم أهلكنا من قبلهم من قرن) القرن: اسم أهل كل عصر. وسموا بذلك،
لاقترانهم في الوجود. وللمفسرين في المراد بالقرن سبعة أقوال.
أحدها: أنه أربعون سنة، ذكره ابن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ثمانون سنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: مائة سنة، قاله عبد الله بن بشر المازني، وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
والرابع: مائة وعشرون سنة، قاله زرارة بن أوفى، وإياس بن معاوية.
والخامس: عشرون سنة، حكاه الحسن البصري.
والسادس: سبعون سنة، ذكره الفراء.
والسابع: أن القرن: أهل كل مدة كان فيها نبي، أو طبقة من العلماء، قلت السنون، أو
كثرت، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " خيركم قرني " يعني: أصحابي " ثم الذين يلونهم " يعني: التابعين " ثم
الذين يلونهم " يعني: الذين أخذوا عن التابعين. فالقرن: مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان،
فهو في كل قوم على مقدار أعمالهم، واشتقاق القرن: من الاقتران. وفي معنى ذلك الاقتران
قولان:
أحدهما: أنه سمي قرنا، لأنه المقدار الذي هو أكثر ما يقترن فيه أهل ذلك الزمان في بقائهم.
هذا اختيار الزجاج.
والثاني: أنه سمي قرنا، لأنه يقر زمانا بزمان، وأمة بأمة، قاله ابن الأنباري. وحكى ابن قتيبة
عن أبي عبيدة قال: يرون أن أقل ما بين القرنين: ثلاثون سنة.
قوله تعالى: (مكناهم في الأرض) قال ابن عباس: أعطيناهم ما لم نعطكم. يقال: مكنته
ومكنت له: إذا أقدرته على الشئ بإعطاء ما يصح به الفعل من العدة. وفي هذه الآية رجوع من
الخبر إلى الخطاب.
فأما السماء: فالمراد بها المطر. ومعنى " أرسلنا ": أنزلنا. و " المدرار ": مفعال، من در،
يدر، والمعنى: نرسلها كثيرة الدر.
6

ومفعال: من أسماء المبالغة، كقولهم: امرأة مذكار: إذا كانت كثيرة الولادة للذكور، وكذلك
مئناث.
فإن قيل: السماء مؤنثة، فلم ذكرا مدرارا؟!
فالجواب: أن حكم ما انعدل من النعوت عن منهاج الفعل وبنائه، أن يلزم التذكير في كل
حال، سواء كان وصفا لمذكر أو مؤنث، كقولهم: امرأة مذكار، ومعطار، وامرأة مذكر، ومؤنث: وهي
ككفور، وشكور. ولو بنيت هذه الأوصاف على الفعل، لقيل: كافرة، وشاكرة، ومذكرة، فلما عدل
عن بناء الفعل، جرى مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة، كقولهم: النعل لبستها،
والفأس كسرتها، وكان إيثارهم التذكير للفرق بين المبني على الفعل، والمعدول عن مثل الأفاعيل.
والمراد بالمدرار: المبالغة في اتصال المطر ودوامه، يعني: أنها تدر وقت الحاجة إليها، لا أنها تدوم
ليلا ونهارا، فتفسد ذكره ابن الأنباري.
ولو أنزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر
مبين (7)
قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس) سبب نزولها: أن مشركي مكة قالوا: يا
محمد، والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة، يشهدون أنه من
عند الله، وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب. قال ابن قتيبة: والقرطاس:
الصحيفة، يقال للرامي إذا أصاب الصحيفة: قرطس. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: القرطاس قد
تكلموا به قديما. ويقال: إن أصله غير عربي. والجمهور على كسر قافه، وضمها أبو رزين،
وعكرمة، وطلحة، ويحيى بن يعمر.
فأما قوله تعالى: (فلمسوه بأيدهم) فهو توكيد لنزوله، وقيل: إنما علقه باللمس باليد إبعادا
له عن السحر، لأن السحر يتخيل في المرئيات، دون الملموسات. ومعنى الآية: إنهم يدفعون
الصحيح.
وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8)
قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك) قال مقاتل: نزلت في النضر بن الحارث: وعبد
7

الله بن أبي أمية، ونوفل بن خويلد و " لولا " بمعنى " هلا " (أنزل عليه ملك) نصدقه: (ولو
أنزلنا ملكا) فعاينوه ولم يؤمنوا، (لقضي الأمر)، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: لماتوا، ولم يؤخروا طرفة عين لتوبة، قاله ابن عباس.
والثاني: لقامت الساعة، قاله عكرمة، ومجاهد.
والثالث: لعجل لهم العذاب، قاله قتادة.
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)
قوله تعالى: (ولو جعلناه) أي: ولو جعلناه الرسول إليهم ملكا، لجعلناه في صورة رجل،
لأنهم لا يستطيعون رؤية الملك على صورته، (وللبسنا عليهم) أي: لشبهنا عليهم. يقال: ألبست
الأمر على القوم، ألبسه، أي: شبهته عليهم، وأشكلته. والمعنى: لخلطنا عليهم ما يخلطون على
أنفسهم حتى يشكوا، فلا يدرون أملك هو، أم آدمي؟ فأضللناهم بما به ضلوا، قبل أن يبعث
الملك. وقال الزجاج: كانوا يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: إنما هذا بشر
مثلكم، فقال تعالى: لو رأوا الملك رجلا، لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منه.
وقرأ الزهري، ومعاذ القارئ، وأبو رجاء: " وللبسنا "، بالتشديد، " عليهم ما يلبسون "، مشددة
أيضا.
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن (10) قل سيروا
في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين (11)
قوله تعالى: (فحاق بالذين سخروا) أي: أحاط. قال الزجاج: الحيق في اللغة: ما اشتمل
على الإنسان من مكروه فعله، ومنه: (ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله)، أي: لا ترجع عاقبة
مكروهه إلا عليهم. قال السدي: وقع بهم العذاب الذي استهزؤوا به.
قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم
8

إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (12)
قوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والأرض) المعنى: فإن أجابوك، وإلا ف‍ (قل: لله،
كتب على نفسه الرحمة) قال ابن عباس: قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين. قال الزجاج: ومعنى
كتب: أوجب ذلك إيجابا مؤكدا، وجائز أن يكون كتب في اللوح المحفوظ، وإنما خوطب الخلق
بما يعقلون، فهم يعقلون أن توكيد الشئ المؤخر أن يحفظ بالكتاب. وقال غيره: رحمته عامة،
فمنها تأخير العذاب عن مستحقه، وقبول توبة العاصي.
قوله تعالى: (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) اللام: لام القسم. كأنه قال: والله ليجمعنكم إلى
اليوم الذي أنكرتموه. وذهب قوم إلى أن " إلى " بمعنى: " في ثم اختلفوا، فقال قوم: في يوم
القيامة. وقال آخرون: في قبوركم إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: (الذين خسروا أنفسهم) أي: بالشرك، (فهم لا يؤمنون)، لما سبق فيهم
من القضاء. وقال ابن قتيبة: قوله: (الذين خسروا أنفسهم) مردود إلى قوله: (كيف كان عاقبة
المكذبين) الذين خسروا.
وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم (13)
قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار) سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد
علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة، فنحن نجعل لك نصيبا في أموالنا حتى تكون من
أغنانا رجلا، وترجع عما أنت عليه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وفي معنى " سكن " قولان:
أحدهما: أنه من السكنى. قال ابن الأعرابي: " سكن " بمعنى حل.
والثاني: أنه من السكون الذي يضاد الحركة. قال مقاتل: من المخلوقات ما يستقر بالنهار،
وينتشر بالليل، ومنها ما يستقر بالليل، وينتشر بالنهار.
فإن قيل: لم خص السكون بالذكر دون الحركة؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها أن السكون أعم وجودا من الحركة.
والثاني: أن كل متحرك قد يسكن، وليس كل ساكن يتحرك.
والثالث: أن في الآية إضمارا، والمعنى: وله ما سكن وتحرك، كقوله [تعالى] (تقيكم الحر)
أراد: والبرد، فاختصر.
9

قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني
أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14)
قوله تعالى: (قل أغير الله أتخذ وليا) ذكر مقاتل أن سبب نزولها، أن كفار قريش قالوا: يا
محمد، ألا ترجع إلى دين آبائك؟ فنزلت هذه الآية، وهذا الاستفهام معناه الإنكار، أي: لا أتخذ وليا
غير الله أتولاه، وأعبده، وأستعينه.
قوله تعالى: (فاطر السماوات والأرض) الجمهور على كسر راء " فاطر ". وقرأ ابن أبي عبلة
برفعها. قال أبو عبيدة: الفاطر، معناه الخالق. وقال ابن قتيبة: المبتدئ. ومنه " كل مولود يولد
على الفطرة " أي: على ابتداء الخلقة، وهو الإقرار بالله حين أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم.
وقال ابن عباس: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر،
فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأتها. قال الزجاج: إن قيل: كيف يكون الفطر بمعنى
الخلق، والانفطار الانشقاق في قوله تعالى: (إذا السماء انفطرت) فالجواب: إنما يرجعان إلى
شئ واحد، لأن معنى " فطرهما ": خلقهما خلقا قاطعا. والانفطار، والفطور: تقطع وتشقق.
قوله تعالى: (وهو يطعم ولا يطعم) قرأ الجمهور بضم الياء من الثاني، ومعناه: وهو يرزق
ولا يرزق، لأن بعض العبيد يرزق مولاه. وقرأ عكرمة والأعمش " ولا يطعم " بفتح الياء. قال
الزجاج: وهذا الاختيار عند البصراء بالعربية، ومعناه: وهو يرزق ويطعم ولا يأكل.
قوله تعالى: (إني أمرت أن أكون أول من أسلم) أي: أول مسلم من هذه الأمة، (ولا
تكونن من المشركين) قال الأخفش: معناه: وقيل لي: لا تكونن، فصارت: أمرت، بدلا من ذلك،
لأنه حين قال: أمرت، قد أخبر أنه قيل له.
قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15)
قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) زعم بعض المفسرين أنه
كان يجب عليه أن يخاف عاقبة الذنوب، ثم نسخ ذلك بقوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما
تأخر) والصحيح أن الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ، وإنما هو معلق بشرط، ومثله: (لئن
أشركت ليحبطن عملك).
10

من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين (16)
قوله تعالى: (من يصرف عنه) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن
عاصم (من يصرف) بضم الياء وفتح الراء، يعنون: العذاب. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر
عن عاصم (يصرف) بفتح الياء وكسر الراء، الضمير قوله: (إن عصيت ربي)، ومما يحسن
هذه القراءة قوله [تعالى]: (فقد رحمه)، فقد اتفق إسناد الضميرين إلى اسم الله عز وجل،
ويعني بقوله: (يصرف) العذاب (يومئذ)، يعني يوم القيامة، (وذلك) يعني: صرف
العذاب.
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ
قدير (17)
قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر) الضر: اسم جامع لكل ما يتضرر به الإنسان، من
فقر، ومرض وغير ذلك، والخير: اسم جامع لكل ما ينتفع به الإنسان. وللمفسرين في الضر
والخير قولان:
أحدهما: أن الضر: السقم، والخير: العافية.
والثاني: أن الضر: الفقر، والخير: الغنى.
وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير (18)
قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) القاهر: الغالب، والقهر: الغلبة. والمعنى: أنه قهر
الخلق فصرفهم على ما أراد طوعا وكرها، فهو المستعلي عليهم، وهم تحت التسخير والتذليل.
قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به
ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني
برئ مما تشركون (19)
قوله تعالى: (قل أي شئ أكبر شهادة) سبب نزلها: أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقالوا: يا محمد، ما نرى أحدا يصدقك بما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه
11

ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد أنك رسول الله، فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح
عن ابن عباس. ومعنى الآية: قل لقريش: أي شئ أعظم شهادة؟ فإن أجابوك، وإلا فقل: الله،
وهو شهيد بيني وبينكم على ما أقول.
وقال الزجاج: أمره الله تعالى أن يحتج عليهم بأن شهادة الله [عز وجل] في نبوته أكبر
شهادة، وأن القرآن الذي أتى به، يشهد له أنه رسول الله، وهو قوله: (وأوحي إلي هذا القرآن
لأنذركم به) ففي الإنذار به دليل على نبوته، لأنه لم يأت أحد بمثله، ولا يأتي، وفيه خبر ما كان
وما يكون، ووعد فيه بأشياء، فكانت كما قال. وقرأ عكرمة، وابن السميفع، والجحدري (وأوحى
إلي) بفتح الهمزة والحاء (القرآن) بالنصب، فأما " الإنذار "، فمعناه: التخويف، ومعنى (ومن
بلغ) أي: من بلغ إليه هذا القرآن، فإني نذير له. قال القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى
النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمه. وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى
وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل.
قوله تعالى: (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) هذا استفهام معناه الإنكار عليهم.
قال الفراء: وإنما قال: " أخرى " ولم يقل: " آخر " لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث،
كما قال: (ولله الأسماء الحسنى). وقال: (فما بال القرون الأولى).
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا
يؤمنون (20)
قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب) في الكتاب قولان:
أحدهما: أنه التوراة والإنجيل، وهذا قول الجمهور.
والثاني: أنه القرآن. وفي هاء (يعرفونه) ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أنه قال لعبد الله بن سلام: إن الله قد أنزل على نبيه بمكة (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما
12

يعرفون أبناءهم)، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد
معرفة بمحمد [صلى الله عليه وسلم] مني بابني. فقال عمر: وكيف ذاك؟ فقال: إني أشهد أنه رسول الله حقا، ولا
أدري ما يصنع النساء.
والثاني: أنها ترجع إلى الدين والنبي. فالمعنى: يعرفون الإسلام أنه دين الله عز وجل، وأن
محمدا رسول الله، قاله قتادة.
والثالث: أنها ترجع إلى القرآن. فالمعنى: يعرفون الكتاب الدال على صدقه، ذكره
الماوردي. وفي (الذين خسروا أنفسهم) قولان:
أحدهما: أنهم مشركو مكة.
والثاني: كفار أهل الكتابين.
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون (21)
قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أي: اختلق على الله الكذب في ادعاء
شريك معه. وفي " آياته " قولان:
أحدهما: أنها محمد والقرآن، قاله ابن السائب.
والثاني: القرآن، قاله مقاتل.
والمراد بالظلم المذكور في هذه الآية: الشرك.
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (22)
قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا) انتصب " اليوم " بمحذوف تقديره: واذكر يوم
نحشرهم. قال ابن جرير: والمعنى: لا يفلحون اليوم، ولا يوم نحشرهم. وقرأ يعقوب:
(يحشرهم) (ثم يقول) بالياء فيهما. وفي الذين عني قولان:
أحدهما: المسلمون والمشركون.
والثاني: العابدون والمعبودون.
13

وقوله: (أين شركاؤكم) سؤال توبيخ. والمراد بشركائهم: الأوثان، وإنما أضافها إليهم
لأنهم زعموا أنها شركاء الله.
وفي معنى (تزعمون) قولان:
أحدهما: يزعمون أنهم شركاء مع الله.
والثاني: يزعمون أنها تشفع لهم.
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (23)
قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: " ثم لم
تكن " بالتاء، " فتنتهم " بالرفع. وقرأ نافع، وأبو عمر وأبو بكر عن عاصم: " تكن بالتاء أيضا،
" فتنتهم " بالنصب، وقد رويت عن ابن كثير أيضا. وقرأ حمزة، والكسائي: " يكن بالياء،
" فتنتهم " بالنصب. وفي " الفتنة " أربعة أقوال:
أحدها: أنها بمعنى الكلام والقول. قال ابن عباس، والضحاك: لم يكن كلامهم.
والثاني: أنها المعذرة. قال قتادة، وابن زيد: لم تكن معذرتهم. قال ابن الأنباري: فالمعنى:
اعتذروا بما هو مهلك لهم، وسبب لفضيحتهم.
والثالث: أنها بمعنى البلية. قال عطاء الخراساني: لم تكن بليتهم. وقال أبو عبيد: لم تكن
بليتهم التي ألزمتهم الحجة، وزادتهم لائمة.
والرابع: أنها بمعنى الافتتان. والمعنى: لم تكن عاقبة فتنتهم.
قال الزجاج: لم يكن افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤوا منه. ومثل ذلك في
اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا، فإذا وقع في هلكة تبرأ منه، فيقول: ما كانت محبتك لفلان إلا أن
انتفيت منه. قال: وهذا تأويل لطيف، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام، وتصرف العرب في
ذلك.
وقال ابن الأنباري: المعنى: أنهم افتتنوا بقولهم هذا، إذا كذبوا فيه، ونفوا عن أنفسهم ما كانوا
معروفين به في الدنيا.
قوله تعالى:: (إلا أن قالوا والله ربنا) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر:
" والله ربنا " بكسر الباء. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بنصب الباء. وفي هؤلاء القوم الذين هذا
وصفهم قولان:
أحدهما: أنهم المشركون.
14

والثاني: المنافقون.
ومتى يحلفون؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما، قالوا: تعالوا نكابر عن شركنا،
فحلفوا، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم إذا دخلوا النار، ورأوا أهل التوحيد يخرجون، فحلفوا، قاله سعيد بن جبير،
ومجاهد.
والثالث: أنهم إذا سئلوا: أين شركاؤكم؟ تبرؤوا، وحلفوا: ما كنا مشركين، قاله مقاتل.
انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (24)
قوله تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) أي: باعتذارهم بالباطل.
(وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي: ذهب ما كانوا يدعون ويختلقون من أن الأصنام شركاء
لله، وشفعاؤهم في الآخرة.
ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا
كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير
الأولين (25) وهم ينهون عنه وينؤن عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون (26)
قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك) سبب نزولها: أن نفرا من المشركين، منهم عتبة،
وشيبة، والنضر بن الحارث، وأمية وأبي ابنا خلف، جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمعوا إليه، ثم
قالوا للنضر بن الحارث، ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بنية، ما أدري ما يقول؟ إلا أني
أرى تحرك شفتيه، وما يقول إلا أساطير الأولين، مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان
النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
فأما " الأكنة "، فقال الزجاج: هي جمع كنان، وهو الغطاء، مثل عنان وأعنة.
وأما: " أن يفقهوه "، فمنصوب على أنه مفعول له. المعنى: وجعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة
أن يفقهوه، فلما حذفت اللام، نصبت الكراهة، ولما حذفت الكراهة، انتقل نصبها إلى " أن ".
15

" الوقر ": ثقل السمع، يقال: في أذنه وقر، وقد وقرت الأذن، توقر.
قال الشاعر:
وكلام سئ قد وقرت * أذني عنه وما بي من صمم
والوقر، بكسر الواو، أن يحمل البعير وغيره مقدار ما يطيق، يقال: عليه وقر، ويقال: نخلة
موقر، وموقرة، وإنما فعل ذلك بهم مجازاة لهم بإقامتهم على كفرهم، وليس المعنى أنهم لم
يفهموه، ولم يسمعوه، ولكنهم لما عدلوا عنه، وصرفوا فكرهم عما عليهم في سوء العاقبة، كانوا
بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع. (وإن يروا كل آية) أي: كل علامة تدل على رسالتك، (لا يؤمنوا
بها).
ثم أعلم الله عز وجل مقدار احتجاجهم وجدلهم، وأنهم إنما يستعملون في الاحتجاج أن
يقولوا: (إن هذا)، أي: ما هذا (إلا أساطير الأولين) وفيها قولان:
أحدهما: أنها ما سطر من أخبارهم وأحاديثهم. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: أساطير
الأولين: كذبهم، وأحاديثهم في دهرهم. وقال أبو الحسن الأخفش: يزعم بعضهم أن واحدة
الأساطير: أسطورة. وقال بعضهم: أسطارة، ولا أراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو عباديد
ومذاكير، وأبابيل. وقال ابن قتيبة: أساطير الأولين: أخبارهم وما سطر منها، أي: ما كتب، ومنه
قوله [تعالى]: (ن. والقلم وما يسطرون) أي: يكتبون، واحدها سطر، ثم أسطار، ثم أساطير جمع
الجمع، مثل قول، وأقوال، وأقاويل.
والقول الثاني: أن معنى أساطير الأولين: الترهات. قال أبو عبيدة: واحد الأساطير: أسطورة،
وإسطارة، ومجازها مجاز الترهات. قال ابن الأنباري: الترهات عند العرب: طرق غامضة، ومسالك
مشكلة، يقول قائلهم: قد أخذنا في ترهات البسابس، يعني: قد عدلنا عن الطريق الواضح إلى
المشكل، وعما يعرف إلى مالا يعرف. و " البسابس ": كما الصحاري الواسعة، والترهات: طرق تتشعب
من الطريق الأعظم، فتكثر وتشكل، فجعلت مثلا لما لا يصح وينكشف.
فإن قيل: لم عابوا القرآن بأنه أساطير الأولين، وقد سطر الأولون ما فيه علم وحكمة، وما لا
عيب على قائله؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنهم نسبوه إلى أنه ليس بوحي من الله.
والثاني: أنهم عابوه بالإشكال والغموض، استراحة منهم إلى البهت والباطل. فعلى الجواب
الأول تكون " أساطير " من التسطير، وعلى الثاني تكون بمعنى الترهات، وقد شرحنا معنى الترهات.
16

قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عما جاء به،
فنزلت فيه هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول عمرو بن دينار، وعطاء بن دينار،
والقاسم بن مخيمرة. وقال مقاتل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت
قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءا، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إليهم، فيقتلوه، فقال: ما
لي عنه صبر، فقالوا: ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك، فقال أبو طالب: حين تروح
الإبل، فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم، وقال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى هو أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة * وأبشر وقر بذاك منك عيونا
وعرضت دينا لا محالة أنه * من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة * لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فنزلت فيه هذه الآية:
والثاني: أن كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتباع النبي [صلى الله عليه وسلم]، ويتباعدون بأنفسهم عنه، رواه
الوالبي عن ابن عباس، وبه قال ابن الحنفية، والضحاك، والسدي. فعلى القول الأول، يكون
قوله [تعالى]: " وهم " كناية عن واحد، وعلى الثاني: عن جماعة. وفي هاء " عنه " قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم فيه قولان:
أحدهما: ينهون عن أذاه،
والثاني: عن اتباعه.
والقول الثاني: أنها ترجع إلى القرآن، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. (وينأون) بمعنى
يبعدون. وفي هاء " عنه " قولان:
أحدهما: أنها راجعة إلى النبي [صلى الله عليه وسلم].
والثاني: إلى القرآن.
قوله تعالى: (وإن يهلكون) أي: وما يهلكون (إلا أنفسهم) بالتباعد عنه (وما يشعرون)
أنهم يهلكونها.
وهو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من
المؤمنين (27)
17

قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار) في معنى " وقفوا ستة أقوال.
أحدها: حبسوا عليها، قاله ابن السائب.
والثاني: عرضوا عليها، قاله مقاتل.
والثالث: عاينوها.
والرابع: وقفوا عليها وهي تحتهم.
والخامس: دخلوا إليها فعرفوا مقدار عذابها، تقول: وقفت على ما عند فلان، أي: فهمته
وتبينته، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الزجاج، واختار الأخير. وقال ابن جرير: (على) هاهنا بمعنى
" في ".
السادس: جعلوا عليها وقفا، كالوقوف المؤبدة على سبلها، ذكره الماوردي. والخطاب بهذه
الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، والوعيد للكفار، وجواب " لو " محذوف، ومعناه: لو رأيتهم في تلك الحال، لرأيت
عجبا.
قوله تعالى: (ولا نكذب بآيات ربنا) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو
بكر عن عاصم برفع الباء من " نكذب "، والنون من " نكون ".
قال الزجاج: والمعنى أنهم تمنوا الرد، وضمنوا أنهم لا يكذبون. والمعنى: يا ليتنا نرد،
ونحن لا نكذب بآيات ربنا، رددنا أو لم نرد، ونكون من المؤمنين، لأنا قد عاينا مالا نكذب معه
أبدا.
قال: ويجوز الرفع على وجه آخر، على معنى " يا ليتنا نرد " يا ليتنا لا نكذب، كأنهم تمنوا
الرد والتوفيق للتصديق.
وقال الأخفش: إذا رفعت جعلته على مثل اليمين، كأنهم قالوا: ولا نكذب - والله - بآيات
ربنا، ونكون - والله - من المؤمنين. وقرأ حمزة إلا العجلي، وحفص عن عاصم، ويعقوب: بنصب
الباء من " نكذب " والنون من " نكون ".
قال مكي بن أبي طالب: وهذا النصب على جواب التمني، وذلك بإضمار " أن " حملا على
مصدر " نرد "، فأضمرت " أن " لتكون مع الفعل مصدرا، فعطف بالواو مصدرا. وتقديره: يا ليت لنا
ردا، وانتفاء من التكذيب، وكونا من المؤمنين. وقرأ ابن عامر برفع الباء من " نكذب "، ونصب
النون من " نكون "، بالرفع قد بينا علته، والنصب على جواب التمني.
بل بدل لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (28)
18

وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين (29)
قوله تعالى: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) " بل ": هاهنا رد لكلامهم، أي: ليس
الأمر على ما قالوا من أنهم لو ردوا لآمنوا.
وقال الزجاج: " بل " استدراك وإيجاب بعد نفي، تقول: ما جاء زيد بل عمرو. وفي معنى
الآية أربعة أقوال.
أحدها: بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض، قاله الحسن.
والثاني: بدا بنطق الجوارح ما كانوا يخفون من قبل بألسنتهم، قاله مقاتل.
والثالث: بدا لهم جزاء ما كانوا يخفونه، قاله المبرد.
والرابع: بدا للأتباع ما كان يخفيه الرؤساء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) قال ابن عباس: لعادوا إلى ما نهوا عنه من
الشرك، وإنهم لكاذبون في قولهم: (ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين).
قال ابن الأنباري: كذبهم الله في إخبارهم عن أنفسهم، أنهم إن ردوا آمنوا ولم يكذبوا، ولم
يكذبهم في التمني.
قوله تعالى: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا) هذا إخبار عن منكري البعث. قال مقاتل: لما
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة بالبعث، قالوا هذا. وكان عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: هذا حكاية
قولهم، لو ردوا لقالوه.
ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا
العذاب بما كنتم تكفرون (30)
قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) قال مقاتل: عرضوا على ربهم (قال: أليس
هذا) العذاب (بالحق). وقال غيره: أليس هذا البعث حقا؟ فعلى قول مقاتل: (بما كنتم
تكفرون) بالعذاب، وعلى قول غيره: (تكفرون) بالبعث.
قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا
فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون (31)
قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) إنما وصفوا بالخسران، لأنهم باعوا الإيمان
بالكفر، فعظم خسرانهم.
19

والمراد بلقاء الله: البعث والجزاء، والساعة: القيامة، والبغتة: الفجأة.
قال الزجاج: كل ما أتى فجأة فقد بغت، يقال: قد بغته الأمر يبغته بغتا وبغتة: إذا أتاه فجأة.
قال الشاعر:
ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة * وأفظع شئ حين يفجؤك البغت
قوله تعالى: (يا حسرتنا) الحسرة: التلهف على الشئ، وأهل التفسير يقولون: يا
ندامتنا. فإن قيل: ما معنى دعاء الحسرة، وهي لا تعقل؟
فالجواب: أن العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم ما تقع فيه، جعلته
نداء، فتدخل عليه " يا " للتنبيه، والمراد تنبيه الناس، لا تنبيه المنادي. ومثله قولهم: لا أرينك
هاهنا. لفظه لفظ الناهي لنفسه، والمعنى للمنهي، ومن هذا قولهم: يا خيل الله اركبي، يراد: يا
فرسان خيل الله. وقال سيبويه: إذا قلت: يا عجباه، فكأنك قلت: احضر وتعال يا عجب، فهذا
زمانك. فأما التفريط فهو: التضييع.
وقال الزجاج: التفريط في اللغة: تقدمة العجز. وفي المكني عنه بقوله: " فيها " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الدنيا، فالمعنى: على ما ضيعنا في الدنيا من عمل الآخرة، قاله مقاتل.
والثاني: أنها الصفقة، لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة، وترك ذكرها اكتفاء بذكر
الخسران، قاله ابن جرير.
والثالث: أنها الطاعة، ذكره بعض المفسرين.
فأما الأوزار، فقال ابن قتيبة: هي الآثام، وأصل الوزر: الحمل على الظهر. وقال ابن فارس:
الوزر: الثقل. وهل هذا الحمل حقيقة؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه على حقيقته. قال عمير بن هانئ: يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل
قبيح، كلما كان هول عظمه عليه، وزاده خوفا، فيقول: بئس الجليس أنت، مالي ولك؟ فيقول: أنا
عملك، طالما ركبتني في الدنيا، فلأركبنك اليوم حتى أخزيك على رؤوس الناس، فيركبه ويتخطى
به الناس حتى يقف بين يدي ربه، فذلك قوله: (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) وهذا
قول السدي، وعمرو بن قيس الملائي، ومقاتل.
والثاني: أنه مثل، والمعنى: يحملون ثقل ذنوبهم، قاله الزجاج. قال. فجعل ما ينالهم من
العذاب بمنزلة أثقل ما يتحمل، ومعنى (ألا ساء ما يزرون): بئس الشئ شيئا يزرونه، أي
يحملونه.
وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (32)
20

قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: وما الحياة الدنيا في سرعة انقطاعها، وقصر عمرها، إلا كالشئ يلعب به.
والثاني: وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو، فأما فعل الخير، فهو من عمل الآخرة، لا
من الدنيا.
والثالث: وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو، لاشتغالهم عما أمروا به. واللعب: مالا
يجدي نفعا.
قوله تعالى: (وللدار الآخرة خير) اللام: لام القسم، والدار الآخرة: الجنة (أفلا يعقلون)
فيعملون لها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي، (يعقلون) بالياء، في (الأنعام) و
(الأعراف و (يوسف) و (يس)، وقرؤوا في (القصص) بالتاء. وقرأ نافع كل ذلك بالياء،
وروى حفص، عن عاصم كل ذلك بالتاء، إلا في (يس) (في الخلق أفلا يعقلون)، بالياء وقرأ
ابن عامر الذي في (يس) بالياء، والباقي بالتاء.
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله
يجحدون (33)
قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أن رجلا من قريش يقال له: الحارث بن عامر، قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط
فنتهمك اليوم، ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن
عباس. وقال مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذب النبي في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته، قال:
ما محمد من أهل الكذب، فنزلت فيه هذه الآية.
والثاني: أن المشركين كانوا إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا فيما بينهم: إنه لنبي، فنزلت هذه الآية
قاله أبو صالح.
والثالث: أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به، فنزلت هذه
الآية، قاله ناجية بن كعب.
وقال أبو يزيد المدني: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فصافحه أبو جهل، فقيل له: أتصافح هذا
الصابئ؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف فأنزل الله هذه الآية.
والرابع: أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل فقال الأخنس: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد
21

أصادق هو، أم كاذب؟ فليس هاهنا من يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إن محمدا
لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسقاية، والحجابة، والنبوة، فماذا
يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية، قاله السدي ذكره الطبري مطولا فأما الذي يقولون، فهو
التكذيب للنبي [صلى الله عليه وسلم]، والكفر بالله. وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية عما يواجهونه به.
قوله تعالى: (فإنهم لا يكذبونك) قرأ نافع، والكسائي: " يكذبونك " بالتخفيف وتسكين
الكاف. وفي معناها قولان:
أحدهما: لا يلفونك كاذبا، قاله ابن قتيبة.
والثاني: لا يكذبون الشئ الذي جئت به، إنما يجحدون آيات الله، ويتعرضون لعقوباته، قال
ابن الأنباري. وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة بأن العرب تقول: كذبت الرجل: إذا نسبته إلى
الكذب وصنعة الأباطيل من القول، وأكذبته: إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب، ليس هو الصانع
له. قال: وقال غير الكسائي: يقال: أكذبت الرجل: إذا أدخلته في جملة الكذابين، ونسبته إلى
صفتهم، كما يقال: ابخلت الرجل: إذا نسبته إلى البخل، وأجبنته: إذا وجدته وجبانا.
قال الشاعر:
فطائفة قد أكفروني بحبكم * وطائفة قالوا مسئ ومذنب
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة وابن عامر: " يكذبونك " بالتشديد وفتح الكاف،
وفي معناها خمسة أقوال:
أحدها: لا يكذبونك بحجة، وإنما هو تكذيب عناد وبهت، قاله قتادة، والسدي.
والثاني: لا يقولون لك: إنك كاذب، لعلمهم بصدقك، ولكن يكذبون ما جئت، به قاله ناجية
ابن كعب.
والثالث: لا يكذبونك في السر، ولكن يكذبونك في العلانية، عداوة لك، قاله ابن السائب،
ومقاتل.
والرابع: لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم: كذبت.
والخامس: لا يكذبونك بقلوبهم، لأنهم يعلمون أنك صادق، ذكر القولين الزجاج.
وقال أبو علي: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحدا وإن اختلفت اللفظتان، إلا أن " فعلت ".
إذا أرادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من " فعلت " ويؤكد أن القراءتين بمعنى، ما حكاه سيبويه أنهم
قالوا: قللت، وأقللت، وكثرت، وأكثرت بمعنى.
22

قال أبو علي: ومعنى " لا يكذبونك ": لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرت به مما
جاء في كتبهم، ويجوز أن يكون معنى الحقيقة: لا يصادفونك كاذبا، كما تقول: أحمدت فلانا: إذا
أصبته محمودا، لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون * بألسنتهم ما
يعلمونه يقينا، لعنادهم. وفي " آيات الله " هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها محمد [صلى الله عليه وسلم]، قاله السدي.
والثاني: محمد والقرآن، قاله ابن السائب.
والثالث: القرآن، قاله مقاتل.
ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا
مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأي المرسلين (34)
قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك) هذه تعزية له على ما يلقى منهم. قال ابن عباس:
(فصبروا على ما كذبوا) رجاء ثوابي، (وأوذوا) حتى نشروا بالمناشير، وحرقوا بالنار (حتى أتاهم
نصرنا) بتعذيب من كذبهم.
قوله تعالى: (ولا مبدل لكلمات الله) فيه خمسة أقوال:
أحدها: لا خلف لمواعيده، قاله ابن عباس.
والثاني: لا مبدل لما أخبر به وما أمر به، قاله الزجاج.
والثالث: لا مبدل لحكوماته وأقضيته النافذة في عباده، فعبرت الكلمات عن هذا المعنى،
كقوله [تعالى]: (ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) أي: وجب ما قضي عليهم. فعلى هذا
القول، والذي قبله، يكون المعنى: لا مبدل لحكم كلمات الله، ولا ناقض لما حكم به، وقد حكم
بنصر أنبيائه بقوله: (لأغلبن أنا ورسلي).
والرابع: أن معنى الكلام معنى النهي، وإن كان ظاهره الإخبار، فالمعنى: لا يبدلن أحد
كلمات الله، فهو كقوله: (لا ريب فيه).
والخامس: أن المعنى: لا يقدر أحد على تبديل كلام الله، وإن زخرف واجتهد، لأن الله
[تعالى] صانه برصين اللفظ، وقويم الحكم، أن يختلط بألفاظ أهل الزيغ، ذكر هذه الألفاظ الثلاثة
ابن الأنباري.
قوله تعالى: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين) أي: فيما صبروا عليه من الأذى فنصروا. وقيل:
إن " من " صلة.
23

وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء
فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين (35)
قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم) سبب نزولها: أن الحارث بن عامر أتى رسول
الله [صلى الله عليه وسلم] في نفر من قريش فقال: يا محمد، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات، فإن
فعلت آمنا بك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. و " كبر ": بمعنى " عظم ". وفي
إعراضهم قولان.
أحدهما: عن استماع القرآن.
والثاني: عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما " النفق "، فقال ابن قتيبة: النفق في الأرض: المدخل، وهو السرب. والسلم في
السماء: المصعد. وقال الزجاج: النفق: الطريق النافذ في الأرض. والنافقاء، ممدود: أحد جحرة
اليربوع يخرقه من باطن الأرض إلى جلدة الأرض، فإذا بلغ الجلدة أرقها، حتى إن رابه ريب، دفع
برأسه ذلك المكان وخرج، ومنه سمي المنافق، لأنه أبطن غير ما أظهر، كالنافقاء الذي ظاهره غير
بين، وباطنه حفر في الأرض.
و " السلم " مشتق من السلامة، وهو الشئ الذي يسلمك إلى مصعدك. والمعنى: فإن
استطعت هذا فافعل، وحذف " فافعل "، لأن في الكلام دليلا عليه.
وقال أبو عبيدة: السلم: السبب والمرقاة، تقول اتخذتني سلما لحاجتك، أي: سببا. وفي
قوله [تعالى]: (فتأتيهم بآية) قولان:
أحدهما: بآية قد سألوك إياها، وذلك أنهم سألوا نزول ملك [الموت]، ومثل آيات الأنبياء، كعصا
موسى، وناقة صالح.
والثاني: بآية هي أفضل من آيتك.
قوله تعالى: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لو شاء أن يطبعهم على الهدى لطبعهم.
والثاني: لو شاء لأنزل ملائكة تضطرهم إلى الإيمان. ذكرهما الزجاج.
والثالث: لو شاء لآمنوا كلهم، فأخبر أنما تركوا الإيمان بمشيئته، ونافذ قضائه.
24

قوله تعالى: (فلا تكونن من الجاهلين) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تجهل أنه لو شاء لجمعهم على الهدى.
والثاني: لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم، ويكفر بعضهم.
والثالث: لا تكونن ممن لا صبر له، لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين.
إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (36)
قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون) أي: إنما يجيبك من يسمع، والمراد به سماع
قبول. وفي المراد بالموتى قولان:
أحدهما: أنهم الكفار، قاله الحسن، ومجاهد وقتادة، فيكون المعنى: إنما يستجيب
المؤمنون، فأما الكفار، فلا يستجيبون حتى يبعثهم الله [تعالى]:، ثم يحشرهم كفارا، فيجيبون
اضطرارا.
والثاني: أنهم الموتى حقيقة، ضربهم الله [تعالى] مثلا، والمعنى: أن الموتى لا يستجيبون
حتى يبعثهم الله، فكذلك الذين لا يسمعون.
قوله تعالى: (ثم إليه يرجعون) يعني: المؤمنين والكافرين، فيجازي الكل.
وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم
لا يعلمون (37)
قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه) قال ابن عباس: نزلت في رؤساء قريش.
و " لولا ": بمعنى " هلا "، وقد شرحناها في سورة (النساء) وقال مقاتل: أرادوا بالآية مثل آيات الأنبياء.
وقال غيره: أرادوا نزول ملك يشهد له بالنبوة. وفي قوله تعالى: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ثلاثة
أقوال:
أحدها: لا يعلمون بأن الله [سبحانه وتعالى] قادر على إنزال الآية.
والثاني: لا يعلمون ما عليهم من البلاء في إنزالها، لأنهم إن لم يؤمنوا بها، زاد عذابهم.
والثالث: لا يعلمون المصلحة في نزول الآية.
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب
من شئ ثم إلى ربهم يحشرون (38)
25

قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض) قال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض. قال
الزجاج: وذكر الجناحين توكيد، وجميع ما خلق لا يخلو إما أن يدب، وإما أن يطير.
وقوله تعالى: (إلا أمم أمثالكم) قال مجاهد: أصناف مصنفة.
وقال أبو عبيدة: أجناس يعرفون الله ويعبدونه. وفي معنى " أمثالكم " أربعة أقوال:
أحدها: أمثالكم في كون بعضها يفقه عن بعض، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: في معرفة الله، قاله عطاء.
والثالث: أمثالكم في الخلق والموت والبعث، قاله الزجاج.
والرابع: أمثالكم في كونها تطلب الغذاء، وتبتغي الرزق، وتتوقى المهالك، قاله ابن قتيبة.
قال ابن الأنباري: وموضع الاحتجاج من هذه الآية ان الله تعالى ركب في المشركين عقولا، وجعل
لهم أفهاما ألزمهم بها أن يتدبروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويتمسكوا بطاعته، كما جعل للطير أفهاما يعرف بها
بعضها إشارة بعض، وهدى الذكر منها لإتيان الأنثى، وفي كل ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب
ذلك فيها.
قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) في الكتاب قولان:
أحدهما: أنه اللوح المحفوظ. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ما تركنا شيئا إلا وقد
كتبناه في أم الكتاب، وإلى هذا المعنى ذهب قتادة، وابن زيد.
والثاني: أنه القرآن. روى عطاء عن ابن عباس: ما تركنا من شئ إلا وقد بيناه لكم. فعلى
هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المعنى: ما فرطنا في شئ بكم إليه حاجة إلا
وبيناه في الكتاب، إما نصا، وإما مجملا، وإما دلالة، كقوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا
لكل شئ) أي: لكل شئ يحتاج إليه في أمر الدين.
قوله تعالى: (ثم إلى ربهم يحشرون) فيه قولان:
أحدهما: أنه الجمع يوم القيامة، روى أبو ذر قال: " انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا
ذر، أتدري فيما انتطحتا؟ قلت: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما ". وقال أبو هريرة:
يحشر الله الخلق يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شئ فيبلغ من عدله أن يأخذ للجماء
من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فيقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا.
والثاني: أن معنى حشرها: موتها، قاله ابن عباس، والضحاك.
26

والذين كذبوا بآياتنا صم بكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على
صراط مستقيم (39)
قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا) يعني ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم (صم) عن القرآن لا
يسمعونه، (وبكم) عنه لا ينطقون به، (في الظلمات) أي: في الشرك والضلالة. (من يشأ الله
يضلله) فيموت على الكفر، (ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم)، وهو الإسلام.
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40)
قوله تعالى: (قل أرأيتكم) قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة:
" أرأيتم " و " أرأيتكم " و " أرأيت " بالألف في كل القرآن مهموزا، ولين الهمزة نافع في الكل. وقرأ
الكسائي بغير همز ولا ألف. قال الفراء: العرب تقول: أرأيتك، وهم يريدون: أخبرني. فأما عذاب
الله، ففي المراد به هاهنا قولان:
أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس.
والثاني: العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية، قاله مقاتل.
فأما الساعة، فهي القيامة. قال الزجاج: وهو اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد، وللوقت
الذي يبعثون فيه.
قوله تعالى: (أغير الله تدعون) أي: أتدعون صنما أو حجرا لكشف ما بكم؟! فاحتج عليهم
بما لا يدفعونه، لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله.
وقوله [تعالى]: (إن كنتم صادقين) جواب لقوله [تعالى]: " أرأيتكم "، لأنه بمعنى أخبروا،
كأنه قيل لهم: إن كنتم صادقين، فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم؟
بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41)
قوله تعالى: (بل إياه تدعون) قال الزجاج: أعلمهم أنهم لا يدعون في الشدائد إلا إياه،
وفي ذلك أعظم الحجج عليهم، لأنهم عبدوا الأصنام.
(فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) المعنى: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتهم، وهذا على
اتساع الكلام مثل قوله [تعالى]: (واسأل القرية)، أي: أهل القرية.
(وتنسون): يجوز أن يكون بمعنى " تتركون "، ويجوز أن يكون المعنى: إنكم في ترككم
27

دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم.
ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون (42)
قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) في الآية محذوف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى
أمم من قبلك رسلا فخالفوهم، فأخذناهم بالبأساء، وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الزمانة والخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنها البؤس، وهو الفقر، قاله ابن قتيبة.
والثالث: أنها الجوع، ذكره الزجاج. وفي الضراء ثلاثة أقوال:
أحدها: البلاء، والجوع، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: النقص في الأموال والأنفس، ذكره الزجاج.
والثالث: الأسقام والأمراض، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: (لعلهم يتضرعون) أي: لكي يتضرعوا. والتضرع: التذلل والاستكانة. وفي
الكلام محذوف تقديره: فلم يتضرعوا.
فلو إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا
يعملون (43)
قوله تعالى: (فلولا) معناه: " فهلا ". والبأس: العذاب. ومقصود الآية: أن الله تعالى أعلم
نبيه [صلى الله عليه وسلم] أنه قد أرسل إلى قوم قبله بلغوا من القسوة أنهم أخذوا بالشدائد، فلم يخضعوا، وأقاموا
على كفرهم، وزين لهم الشيطان ضلالتهم فأصروا عليها.
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة
فإذا هم مبلسون (44)
قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به) قال ابن عباس: تركوا ما وعظوا به. (فتحنا عليهم
أبواب كل شئ) يريد رخاء الدنيا وسرورها. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر: " فتحنا " بالتشديد هنا وفي
(الأعراف)، وفي (الأنبياء): " فتحت "، وفي (القمر): " فتحنا "، والجمهور على تخفيفهن.
قال الزجاج: أبواب كل شئ كان مغلقا عنهم من الخير، حتى إذا ظنوا أن ما كان نزل بهم، لم
يكن انتقاما، وما فتح عليهم، باستحقاقهم، أخذناهم بغتة، أي فاجأهم عذابنا.
وقال ابن الأنباري: إنما أراد بقوله تعالى: " كل شئ ": التأكيد، كقول القائل: أكلنا عند
28

فلان كل شئ، وكنا عنده في كل سرور، يريد بهذا العموم تكثير ما يصفه والإطناب فيه، كقوله
[تعالى]: (وأوتيت من كل شئ). وقال الحسن: من وسع عليه فلم ير أنه لم يمكر به، فلا رأي
له، ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له، فلا رأي له، ثم قرأ هذه الآية، وقال: مكر بالقوم ورب
الكعبة، أعطوا حاجاتهم ثم أخذوا.
قوله تعالى: (فإذا هم مبلسون) في المبلس خمسة أقوال.
أحدها: أنه الآيس من رحمة الله عز وجل، رواه الضحاك عن ابن عباس، وقال في رواية
أخرى: الآيس من كل خير. وقال الفراء: المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، ولذلك قيل للذي
يسكت عند انقطاع حجته، فلا يكون عنده جواب: قد أبلس. قال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا * قال نعم! أعرفه! وأبلسا!
أي: لم يحر جوابا. وقيل: المكرس: الذي قد بعرت فيه الإبل، وبولت، فيركب بعضه بعضا.
والثاني: أنه المفتضح. قال مجاهد: الإبلاس: الفضيحة.
والثالث: أنه المهلك، قاله السدي.
والرابع: أنه المجهود المكروب الذي قد نزل به من الشر مالا يستطيعه، قاله ابن زيد.
والخامس: أنه الحزين النادم، قاله أبو عبيدة، وأنشد لرؤبة:
وحضرت يوم الخميس الأخماس * وفي الوجوه صفرة وإبلاس
أي: اكتئاب، وكسوف، وحزن.
وقال الزجاج: هو الشديد الحسرة، الحزين، اليائس. وقال في موضع آخر: المبلس: الساكت
المتحير.
فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين (45)
قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) قال ابن السائب: دابرهم: الذي يتخلف في
آخرهم. والمعنى: أنهم استؤصلوا. وقال أبو عبيدة: دابرهم: آخرهم الذي يدبرهم: قال ابن
قتيبة: هو كما يقال: اجتث أصلهم.
قال المفسرون: وإنما حمد نفسه على قطع دابرهم، لأن ذلك إنعام على رسلهم الذين
كذبوهم، وعلم الحمد على كفايته شر الظالمين.
قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به
أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون (46)
29

قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم) أي: أذهبها، (وختم على قلوبكم)
حتى لا تعرفون شيئا (من آله غير الله يأتيكم به)؟ في هاء " به " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها تعود على الفعل، والمعنى: يأتيكم بما أخذ الله منكم، قاله الزجاج. وقال
الفراء: إذا كنيت عن الأفاعيل، وإن كثرت، وحدت الكناية، كقولك للرجل: إقبالك وإدبارك
يؤذيني.
والثاني: أنها تعود إلى الهدى، ذكره الفراء. فعلى هذا تكون الكناية عن غير مذكور، ولكن
المعنى يشتمل عليه، لأن من أخذ سمعه وبصره وختم على قلبه لم يهتد.
والثالث: أنها تعود على السمع، ويكون ما عطف عليه داخلا معه في القصة، لأنه معطوف
عليه، ذكره الزجاج. والجمهور يقرؤون: (من إله غير الله يأتيكم به انظر) بكسر هاء " به ". وروى
المسيبي عن نافع: " به انظر ": بالضم. قال أبو علي: من كسر، حذف الياء التي تلحق الهاء في
نحو: بهي عيب: ومن ضم، فعلى قول من قال: فخسفنا بهو وبدار هو الأرض، فحذف الواو.
قوله تعالى: (انظر كيف نصرف الآيات) قال مقاتل: يعني تكون العلامات في أمور شتى،
فيخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب، وبما صنع بالأمم الخالية (ثم هم يصدفون)، أي:
يعرضون فلا يعتبرون.
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون (47)
قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة) قال الزجاج: البغتة المفاجأة،
والجهرة: أن يأتيهم وهم يرونه. (هل يهلك إلا القوم الظالمون) أي: هل يهلك إلا أنتم ومن
أشبهكم، لأنكم كفرتم معاندين، فقد علمتم أنكم ظالمون.
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون (48) والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون (49)
قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين) أي: بالثواب، ومنذرين بالعقاب، وليس
إرسالهم ليأتوا بما يقترحونه من الآيات. ثم ذكر ثواب من صدق، وعقاب من كذب في تمام الآية
والتي بعدها. وقال ابن عباس: يفسقون: بمعنى يكفرون.
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع
30

إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (50)
قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) سبب نزولها: أن أهل مكة قالوا: يا
محمد، لو أنزل الله عليك كنزا فتستغني به، فإنك فقير محتاج، أو تكون لك جنة تأكل منها، فإنك
تجوع، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قال الزجاج: وهذه الآية متصلة بقوله [تعالى]: (لولا أنزل عليه آية من ربه)، فأعلمهم أنه لا
يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي، ولا يعلم الغيب فيخبرهم به إلا بوحي، ولا يقول: إنه
ملك، لأن الملك يشاهد من أمور الله تعالى مالا يشاهده البشر. وقرأ ابن مسعود، وابن جبير،
وعكرمة، والجحدري: " إني ملك " بكسر اللام. وفي الأعمى والبصير قولان:
أحدهما: أن الأعمى: الكافر والبصير: المؤمن، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: الأعمى: الضال، والبصير: المهتدي، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. وفي قوله
تعالى: (أفلا تتفكرون) قولان:
أحدهما: فيما بين لكم من الآيات الدالة على وحدانيته، وصدق رسوله.
والثاني: فيما ضرب لكم من مثل الأعمى والبصير، وأنهما لا يستويان.
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم
يتقون (51)
قوله تعالى: (وأنذر به) قال الزجاج: يعني بالقرآن، وإنما ذكر الذين يخافون الحشر دون
غيرهم، وإن كان منذرا لجميع الخلق، لأن الحجة على الخائفين الحشر أظهر، لاعترافهم بالمعاد،
فهم أحد رجلين: إما مسلم، فينذر ليؤدي حق الله عليه في إسلامه، وإما كتابي، فأهل الكتاب
مجمعون على البعث. وذكر الولي والشفيع، لأن اليهود والنصارى ذكرت أنها أبناء الله وأحباؤه،
فأعلم عز وجل أن أهل الكفر ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع. وقال غيره: ليس لهم من دونه ولي،
أي: ليس لهم غير الله ولي ولا شفيع، لأن شفاعة الشافعين بأمره.
وقال أبو سليمان الدمشقي: هذه الآية متعلقة بقوله: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به).
31

ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من
شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين (52)
قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) روى سعد بن أبي وقاص قال: نزلت هذه الآية
في ستة: في، وفي ابن مسعود، وصهيب، وعمار، والمقداد، وبلال. قالت قريش لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء، فاطردهم عنك. فدخل على رسول الله من ذلك ما
شاء الله أن يدخل، فنزلت هذه الآية.
وقال خباب بن الأرت: نزلت فينا، كنا ضعفاء عند النبي صلى الله عليه وسلم، يعلمنا بالغداة والعشي ما
ينفعنا، فجاء الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، فقالا: إنا من أشراف قومنا، وإنا نكره أن يرونا
معهم، فاطردهم إذا جالسناك. قال: " نعم ". فقالوا: لا نرضى حتى تكتب بيننا كتابا، فأتي بأديم
ودواة، ودعا عليا ليكتب، فلما أراد ذلك، ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بقوله تعالى: (ولا
تطرد الذين يدعون ربهم) إلى قوله: (فتنا بعضهم ببعض)، فرمى بالصحيفة ودعانا، فأتيناه
وهو يقول: " سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ". فدنونا منه يومئذ حتى وضعنا ركبنا على
ركبته. وقال ابن مسعود: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب، وصهيب، وبلال،
وعمار، فقالوا: يا محمد، رضيت بهؤلاء، أتريد أن نكون تبعا لهم؟! فنزلت: (ولا تطرد الذين
يدعون ربهم). وقال عكرمة: جاء عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل، في
أشراف بني عبد مناف، إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم
في صدورنا، وأدنى لاتباعنا إياه، فأتاه أبو طالب فحدثه بذلك، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت
ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، فنزلت هذه الآيات، فأقبل عمر يعتذر من مقالته. وروى أبو
صالح عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في الموالي، منهم بلال، وصهيب، وخباب، وعمار،
ومهجع، وسلمان، وعامر بن فهيرة، وسالم مولى أبي حذيفة، وأن قوله: (وأنذر به الذين يخافون
أن يحشروا إلى ربهم) نزلت فيهم أيضا. وقد روى العوفي عن ابن عباس: أن أناسا من الأشراف
قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نؤمن لك، وإذا صلينا فأخر هؤلاء الذين معك، فليصلوا خلفنا. فعلى هذا، إنما
سألوه تأخيرهم عن الصف، وعلى الأقوال التي قبله، سألوه طردهم عن مجلسه.
قوله تعالى: (يدعون ربهم) في هذا الدعاء خمسة أقوال:
32

أحدها: أنه الصلاة المكتوبة، قاله ابن عمر، وابن عباس: وقال مجاهد: هي الصلوات
الخمس، وفي رواية عن مجاهد، وقتادة قالا: يعني صلاة الصبح والعصر. وزعم مقاتل أن الصلاة
يومئذ كانت ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، ثم فرضت الصلوات الخمس بعد ذلك.
والثاني: أنه ذكر الله تعالى، قاله إبراهيم النخعي، وعنه كالقول الأول.
والثالث: أنه عبادة الله، قاله الضحاك.
والرابع: أنه تعلم القرآن غدوة وعشية، قاله أبو جعفر.
والخامس: أنه دعاء الله بالتوحيد، والإخلاص له، وعبادته، قاله الزجاج. وقرأ الجمهور:
" بالغداة "، وقرأ ابن عامر هاهنا وفي [سورة] الكهف أيضا: (بالغدوة) بضم الغين وإسكان
الدال وبعدها واو.
قال الفراء: والعرب لا ندخل الألف واللام على " الغدوة " لأنها معرفة بغير ألف ولام، ولا
تضيفها العرب، يقولون: أتيتك غداة الخميس، ولا يقولون: غدوة الخميس، فهذا دليل على أنها
معرفة.
وقال أبو علي الوجه: الغداة لأنها تستعمل نكرة، وتتعرف باللام، وأما غدوة، فمعرفة.
وقال الخليل: يجوز أن تقول: أتيتك اليوم غدوة وبكرة، فجعلها بمنزلة ضحوة، فهذا وجه
قراءة ابن عامر.
فإن قيل: دعاء القوم كان متصلا بالليل والنهار، فلماذا خص الغداة والعشي؟
فالجواب: أنه نبه بالغداة على جميع النهار، وبالعشي على الليل، لأنه إذا كان عمل النهار
خالصا له، كان عمل الليل أصفى.
قوله تعالى: (يريدون وجهه) قال الزجاج: أي يريدون الله، فشهد * الله لهم بصحة النيات،
وأنهم مخلصون في ذلك. وأما الحساب المذكور في الآية، ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه حساب الأعمال، قاله الحسن.
والثاني: حساب الأرزاق.
والثالث: أنه بمعنى الكفاية، والمعنى: ما عليك من كفايتهم، ولا عليهم كفايتك.
قوله تعالى: (فتكون من الظالمين) قال ابن الأنباري: عظم هذا الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم،
وخوف بالدخول في جملة الظالمين، لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء على الضعفاء.
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم
33

بالشاكرين (53)
قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) المعنى: وكما ابتلينا قبلك الغني بالفقير، ابتلينا
أيضا بعضهم ببعض، و " فتنا " بمعنى: ابتلينا واختبرنا، (ليقولوا)، يعني الكبراء (أهؤلاء) يعنون
الفقراء والضعفاء (من الله عليهم) بالهدى؟ وهذا استفهام معناه الانكار، كأنهم أنكروا أن يكونوا
سبقوهم بفضيلة.
قال ابن السائب: ابتلى الله الرؤساء بالموالي، فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله،
أنف أن يسلم، ويقول: سبقني هذا؟.
قوله تعالى: (أليس الله بأعلم بالشاكرين) أي: بالذين يشكرون نعمته إذا من عليهم
بالهداية. والمعنى: إنما يهدي الله من يعلم أنه يشكر. والاستفهام في " أليس "، معناه التقرير، أي:
إنه كذلك.
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه
من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم (54)
قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا) اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في رجال أتوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظيمة، فسكت
عنهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فنزلت هذه الآية قاله أنس بن مالك.
والثاني: أنها نزلت في الذين نهى عن طردهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام،
وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام، قاله الحسن وعكرمة.
والثالث: أنها نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وعثمان بن
مظعون، وأبي عبيدة، ومصعب بن عمير، وسالم وأبي سلمة والأرقم بن أبي الأرقم، وعمار،
وبلال، قاله عطاء.
والرابع: أن عمر بن الخطاب كان أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأخير الفقراء، استمالة للرؤساء
إلى الإسلام فلما نزلت تطرد الذين يدعون ربهم)، جاء عمر بن الخطاب يعتذر من مقالته
ويستغفر منها فنزلت فيه هذه الآية قاله ابن السائب.
والخامس: أنها نزلت مبشرة باسلام عمر بن الخطاب فلما جاء وأسلم تلاها عليه رسول
34

الله صلى الله عليه وسلم، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
فأما قوله تعالى: (يؤمنون بآياتنا) فمعناه: يصدقون بحججنا وبراهيننا.
قوله تعالى: (قل سلام عليكم) فيه قولان:
أحدهما: أنه أمر بالسلام عليهم تشريفا لهم، وقد ذكرناه عن الحسن، وعكرمة.
والثاني: أنه أمر بإبلاغ السلام إليهم عن الله تعالى: قاله ابن زيد. قال الزجاج: ومعنى
السلام: دعاء للانسان بأن يسلم من الآفات. وفي السوء قولان:
أحدهما: أنه الشرك.
والثاني: المعاصي.
وقد ذكرنا في سورة (النساء) معنى " الجهالة ". قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي:
" إنه من عمل " " فإنه غفور " بكسر الألف فيهما. وقرأ عاصم، وابن عامر: بفتح الألف فيهما. وقرأ
نافع. بنصب ألف " أنه " وكسر ألف " فإنه غفور ". قال أبو علي: من كسر ألف " إنه " جعله تفسيرا
للرحمة، ومن كسر ألف " فإنه غفور " فلأن ما بعد الفاء حكمه الابتداء، ومن فتح ألف " أنه من عمل "
جعل " أن " بدلا من الرحمة، والمعنى: كتب ربكم " أنه من عمل "، ومن فتحها بعد الفاء أضمر
خبرا تقديره: فله (أنه غفور رحيم) والمعنى: فله غفرانه. وكذلك قوله [تعالى]: (فأن له نار
جهنم)، معناه: فله أن له نار جهنم، وأما قراءة نافع، فإنه أبدل من الرحمة: واستأنف ما بعد الفاء.
وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (55)
قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات) أي: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا
على المشركين، كذلك نبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل. قال ابن قتيبة: ومعنى
تفصيلها: إتيانها متفرقة شيئا بعد شئ.
قوله تعالى: (ولتستبين) وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: " ولتستبين " بالتاء، " سبيل "
بالرفع. وقرأ نافع، وزيد عن يعقوب: بالتاء أيضا، إلا أنهما نصبا السبيل. وقرأ حمزة، والكسائي،
وأبو بكر عن عاصم: " وليستبين " بالياء، " سبيل " بالرفع. فمن قرأ (ولتستبين) بالياء أو التاء، فلأن
السبيل تذكر وتؤنث على ما بينا في (آل عمران)، ومن نصب اللام، فالمعنى: ولتستبين أنت يا
محمد سبيل المجرمين. وفي سبيلهم التي بينت له، قولان:
أحدهما: أنها طريقهم في الشرك، ومصيرهم إلى الخزي، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها مقصودهم في طرد الفقراء عنه، وذلك إنما هو الحسد، لا إيثار مجالسته واتباعه،
قاله أبو سليمان
35

فإن قيل: كيف انفردت لام " كي " في قوله: " ولتستبين " وسبيلها أن تكون شرطا لفعل يتقدمها
أو يأتي بعدها؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري بجوابين:
أحدهما: أنها شرط لفعل مضمر، يراد به: ونفعل ذلك لكي تستبين.
والثاني: أنها معطوفة على لام مضمرة، تأويله: نفصل الآيات ليتكشف أمرهم، ولتستبين
سبيلهم.
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد
ضللت إذا وما أنا من المهتدين (56)
قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) يعني الأصنام. وفي معنى
(تدعون) قولان:
أحدهما: تدعونهم آلهة.
والثاني: تعبدون، قاله ابن عباس. وأهواؤهم: دينهم. قال الزجاج: أراد إنما عبدتموها على
طريق الهوى، لا على طريق البينة والبرهان. ومعنى " إذا " معنى الشرط، والمعنى: قد ضللت إن
عبدتها. وقرأ طلحة، وابن أبي ليلى: " قد ضللت " بكسر اللام.
قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص
الحق وهو خير الفاصلين (57)
قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي) سبب نزولها أن النضر بن الحارث وسائر قريش
قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به، استهزاء، وقام النضر عند الكعبة وقال:
اللهم إن كان ما يقول حقا، فائتنا بالعذاب، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. فأما
البينة، فهي الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل. قال الزجاج: أنا على أمر بين، لا متبع لهوى.
قوله تعالى: (وكذبتم به) في هاء الكناية، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى الرب.
والثاني: ترجع إلى البيان.
والثالث: ترجع إلى العذاب الذي طلبوه استهزاء.
36

قوله تعالى: (ما عندي ما تستعجلون به) أي: ما بيدي. وفي الذي استعجلوا به
قولان:
أحدهما: أنه العذاب، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: أنه الآيات التي كانوا يقترحونها، ذكره الزجاج.
قوله تعالى: (إن الحكم إلا لله) فيه قولان:
أحدهما: أنه الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب.
والثاني: أنه القضاء بإنزال العذاب على المخالف.
قوله تعالى: (يقص الحق) قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع " يقص الحق " بالصاد المشددة،
من القصص، والمعنى: أن كل ما أخبر به فهو حق. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة،
والكسائي: " يقضي الحق " من القضاء، والمعنى: يقضي القضاء الحق.
قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين (58)
قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به) أي: من العذاب (لقضي الأمر بيني
وبينكم) قال ابن عباس: يقول: لم أمهلكم ساعة، ولأهلكتكم.
قوله تعالى: (والله أعلم بالظالمين) فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: إن شاء عاجلهم، وإن شاء أخر عقوبتهم.
والثاني: أعلم بما يؤول إليهم أمرهم، وأنه قد يهتدي منهم قوم، ولا يهتدي آخرون، فلذلك
يؤخرهم.
* وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة
إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59)
قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب) قال ابن جرير: المفاتح: جمع مفتح، ومفتاح، فمن
قال: مفتح، جمعه: مفاتح. ومن قال: مفتاح، جمعه: مفاتيح. وفي " مفاتح الغيب " سبعة
أقوال:
37

أحدها: أنها خمس لا يعلمها إلا الله عز وجل. روى البخاري في أفراده من حديث ابن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم متى تقوم الساعة إلا
الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا تعلم نفس بأي أرض
تموت إلا الله، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله " قال ابن مسعود: أوتى نبيكم علم كل شئ إلا
مفاتيح الغيب.
والثاني: أنها خزائن غيب السماوات من الأقدار والأرزاق، قاله ابن عباس.
والثالث: ما غاب عن الخلق من الثواب والعقاب، وما تصير إليه الأمور، قاله عطاء.
والرابع: خزائن غيب العذاب، متى ينزل، قاله مقاتل.
والخامس: الوصلة إلى علم الغيب إذا استعلم، قاله الزجاج.
والسادس: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال.
والسابع: ما لم يكن، هل يكون، أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون، وما لا يكون إن كان، كيف
يكون؟ فأما البر، فهو القفر. وفي البحر قولان:
أحدهما: أنه الماء، قاله الجمهور.
والثاني: أنه القرى، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) قال الزجاج: المعنى أنه يعلمها ساقطة
وثابتة، كما تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، ليس تأويله: أعرفه في حال مجيئه فقط. فأما
ظلمات الأرض، فالمراد بها بطن الأرض. وفي الرطب واليابس، خمسة أقوال:
أحدها: أن الرطب: الماء، واليابس: البادية. والثاني: الرطب. ما ينبت، واليابس: مالا
ينبت. والثالث: الرطب: الحي، واليابس: الميت. والرابع: الرطب: لسان المؤمن يذكر الله،
واليابس: لسان الكافر لا يتحرك بذكر الله. والخامس: أنهما الشئ ينتقل من إحدى الحالتين إلى
الأخرى، فهو يعلمه رطبا، ويعلمه يابسا، وفي الكتاب المبين قولان:
أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، قاله مقاتل.
والثاني: أنه علم الله المتقن، ذكره الزجاج. فإن قيل: ما الفائدة في إحصاء هذه الأشياء في
كتاب؟ فعنه ثلاثة أجوبة، ذكرهن ابن الأنباري:
أحدها: أنه أحصاها في كتاب، لتقف الملائكة على نفاذ علمه.
38

والثاني: أنه نبه بذلك عباده على تعظيم الحساب، وأعلمهم أنه لا يفوته ما يصنعون، لأن من
يثبت مالا ثواب فيه ولا عقاب، فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع.
والثالث: أن المراد بالكتاب: العلم، فالمعنى: أنها مثبتة في علمه.
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى
ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون (60)
قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) يريد به النوم، لأنه قبض الأرواح عن التصرف،
كما يقبض بالموت. وقال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم. وجرحتم: بمعنى كسبتم. (ثم
يبعثكم) أي: يوقظكم فيه، أي: في النهار. (ليقضى أجل مسمى) أي: لتبلغوا الأجل المسمى
لانقطاع حياتكم، فدل باليقظة بعد النوم على البعث بعد الموت.
وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا
وهم لا يفرطون (61)
قوله تعالى: (ويرسل عليكم حفظة) الحفظة: الملائكة، واحدهم: حافظ، والجمع:
حفظة، مثل كاتب وكتبة، وفاعل وفعلة. وفيما يحفظونه قولان:
أحدهما: أعمال بني آدم، قاله ابن عباس.
والثاني: أعمالهم وأجسادهم، قاله السدي.
قوله تعالى: (توفته رسلنا) وقرأ حمزة: " توفاه رسلنا " وحجته أنه فعل مسند إلى مؤنث غير
حقيقي، وإنما التأنيث للجمع، فهو مثل: (وقال نسوة). وفي المراد بالرسل ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أعوان ملك الموت، قاله ابن عباس. وقال النخعي: أعوانه يتوفون النفوس، وهو
يأخذها منهم.
والثاني: أن المراد بالرسل: ملك الموت وحده، قاله مقاتل.
والثالث: أنهم الحفظة، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (وهم لا يفرطون) قال ابن عباس: لا يضيعون. فإن قيل: كيف الجمع بين
39

قوله [تعالى]: (توفته رسلنا) وبين قوله [تعالى]: (قل يتوفاكم ملك الموت)؟ فعنه
جوابان:
أحدهما: أنه يجوز أن يريد بالرسل ملك الموت وحده، وقد يقع الجمع على الواحد.
والثاني: أن أعوان ملك الموت يفعلون بأمره، فأضيف الكل إلى فعله. وقيل: توفي أعوان
ملك الموت بالنزع، وتوفي ملك الموت بأن يأمر الأرواح فتجيب، ويدعوها فتخرج، وتوفي الله
تعالى بأن يخلق الموت في الميت.
ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين (62)
قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله) يعني العباد. وفي متولي الرد قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة، ردتهم بالموت إلى الله تعالى.
والثاني: أنه الله عز وجل، ردهم بالبعث في الآخرة. وفي معنى ردهم إلى الله تعالى،
قولان:
أحدهما: أنهم ردوا إلى المكان الذي لا يملك الحكم فيه إلا الله وحده.
والثاني: أنهم ردوا إلى تدبيره وحده، لأنه لما أنشأهم كان منفردا بتدبيرهم، فلما مكنهم من
التصرف، صاروا في تدبير أنفسهم، ثم كفهم عنه بالموت، فصاروا مردودين إلى تدبيره.
قوله تعالى: (ألا له الحكم) يعني القضاء. وبيان سرعة الحساب، في [سورة] البقرة.
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا بكر من هذه
لنكونن من الشاكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64)
قوله تعالى: (قل من ينجيكم) قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر: (قل من
ينجيكم) (قل الله ينجيكم)، مشددين. وقرأ يعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: بسكون النون
وتخفيف الجيم. قال الزجاج: والمشددة أجود للكثرة. وظلمات البر والبحر: شدائدها، والعرب
تقول لليوم الذي تلقى فيه شدة: يوم مظلم، حتى إنهم يقولون: يوم ذو كواكب، أي: قد اشتدت
ظلمته حتى صار كالليل. قال الشاعر:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي
إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
40

قوله تعالى: (تدعونه تضرعا) أي: مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر إلى الشئ،
والحاجة.
قوله تعالى: (وخفية) قرأ عاصم إلا حفصا: " وخفية " بكسر الخاء، وكذلك في [سورة]
الأعراف. وقرأ الباقون بضم الخاء، وهما لغتان. قال الفراء: وفيها لغة أخرى بالواو، ولا تصلح في
القراءة، خفوة، وخفوة. ومعنى الكلام، أنكم تدعونه في أنفسكم، كما تدعونه ظاهرا: " لئن
أنجيتنا "، كذلك قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو: لئن أنجيتنا "، وقرأ عاصم
وحمزة، والكسائي: " لئن أنجانا " بألف، لمكان الغيبة في قوله: " تدعونه ". وكان حمزة،
والكسائي، وخلف، يميلون الجيم.
قوله تعالى: (من هذه) يعني: في أي شدة وقعتم، قلتم: " لئن أنجيتنا من هذه ". قال ابن
عباس: و " الشاكرون " هاهنا: المؤمنون. وكانت قريش تسافر في البر والبحر، فإذا ضلوا الطريق
وخافوا الهلاك، دعوا الله مخلصين، فأنجاهم. فأما " الكرب " فهو الغم الذي يأخذ بالنفس، ومنه
اشتقت الكربة.
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم
شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65)
قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم)
فيه قولان:
أحدهما: أن الذي فوقهم: العذاب النازل من السماء، كما حصب قوم لوط، وأصحاب
الفيل. والذي من تحت أرجلهم: كما خسف بقارون، قاله ابن عباس، والسدي، ومقاتل. وقال
غيرهم: ومنه الطوفان، والريح، والصيحة، والرجفة.
والقول الثاني: أن الذي من فوقهم: من قبل أمرائهم. والذي من تحتهم من سفلتهم، رواه
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال في رواية أخرى: الذي من فوقهم: أئمة السوء، والذي من
تحت أرجلهم: عبيد السوء.
قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعا) قال ابن عباس: يبث فيكم الأهواء المختلفة، فتصيرون
فرقا. قال ابن قتيبة: يلبسكم: من الالتباس عليهم. والمعنى: حتى تكونوا شيعا، أي: فرقا
مختلفين. ثم يذيق بعضكم بأس بعض بالقتال والحرب. وقال الزجاج: يلبسكم، أي: يخلط أمركم
خلط اضطراب، لا خلط اتفاق. يقال: لبست عليهم الأمر، ألبسه: إذا لم أبينه. ومعنى شيعا: أي
41

يجعلكم فرقا، فإذا كنتم مختلفين، قاتل بعضكم بعضا.
قوله تعالى: (ويذيق بعضكم بأس بعض) أي: يقتل بعضكم بيد بعض. وفيمن عني بهذه
الآية، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها في المسلمين أهل الصلاة، هذا مذهب ابن عباس، وأبي العالية، وقتادة. وقال
أبي بن كعب في هذه الآية: هن أربع خلال، وكلهن عذاب، وكلهن واقع قبل يوم القيامة،
فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، ألبسوا شيعا، وأذيق بعضهم بأس
بعض. وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف، والرجم.
والثاني: أن العذاب للمشركين، وباقي الآية للمسلمين، قاله الحسن. وقد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يصيبكم بعذاب
أصابه من كان قبلكم، فأعطانيها، وسألتها أن لا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم، فأعطانيها،
وسألته أن لا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض، فمنعنيها ".
والثالث: أنها تهدد للمشركين، قاله ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي.
وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل (66)
قوله تعالى: (وكذب به قومك) في هاء " به " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها كناية عن القرآن.
والثاني: عن تصريف الآيات.
والثالث: عن العذاب.
قوله تعالى: (قل لست عليكم بوكيل) فيه قولان:
أحدهما: لست حفيظا على أعمالكم لأجازيكم بها، إنما أنا منذر، قاله الحسن.
والثاني: لست حفيظا عليكم، أخذكم بالإيمان، إنما أدعوكم إلى الله [تعالى]، قاله
الزجاج.
فصل
وفي هذا القدر من الآية قولان:
42

أحدهما: أنه اقتضى الاقتصار في حقهم على الإنذار من غير زيادة، ثم نسخ ذلك بآية
السيف.
والثاني: أن معناه: لست حفيظا عليكم، إنما أطالبكم بالظواهر من الإقرار والعمل، لا
بالإسرار، فعلى هذا هو محكم.
لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون (67)
قوله تعالى: (لكل نبأ مستقر) أي: لكل خبر يخبر الله به وقت يقع فيه من غير خلف ولا
تأخير. قال السدي: فاستقر نبأ القرآن بما كان يعدهم من العذاب يوم بدر. وقال مقاتل: منه في
الدنيا يوم بدر، وفي الآخرة جهنم.
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما
ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (68)
قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) فيمن أريد بهذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: المشركون.
والثاني: اليهود.
والثالث: أصحاب الأهواء. والآيات: القرآن. وخوض المشركين فيه: تكذيبهم به
واستهزاؤهم، ويقاربه خوض اليهود، وخوض أهل الأهواء والمراء والخصومات.
قوله تعالى: (فأعرض عنهم) أي: فاترك مجالستهم، حتى يكون خوضهم في غير القرآن.
(وإما ينسينك) وقرأ ابن عامر: " ينسينك "، بفتح النون، وتشديد السين، والنون الثانية. ومثل
هذا: غرمته وأغرمته. وفي التنزيل: (فهل الكافرين أمهلهم). والمعنى: إذا أنساك الشيطان،
فقعدت معهم ناسيا نهينا لك، فلا تقعد بعد الذكرى. والذكر والذكرى: واحد. قال ابن عباس: قم
إذا ذكرت، والظالمون: المشركون.
وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون (69)
قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المسلمين قالوا: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن، وخاضوا فيه، فمنعناهم،
لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، ولا أن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية.
43

والثاني: أن المسلمين قالوا: إنا نخاف الإثم إن لم ننههم عن الخوض، فنزلت هذه الآية.
والثالث: أن المسلمين قالوا: لو قمنا عنهم إذا خاضوا، فإنا نخشى الإثم في مجالستهم،
فنزلت هذه الآية. هذا عن مقاتل، والأولان عن ابن عباس.
قوله تعالى: (وما على الذين يتقون) فيه قولان:
أحدهما: يتقون الشرك.
والثاني: يتقون الخوض.
قوله تعالى: (من حسابهم) يعني: حساب الخائضين. وفي " حسابهم " قولان:
أحدهما: أنه كفرهم وآثامهم.
والثاني: عقوبة خوضهم.
قوله تعالى: (ولكن ذكرى) أي: ولكن عليكم أن تذكروهم. وفيما تذكرونهم به، قولان:
أحدهما: المواعظ.
والثاني: قيامكم عنهم. قال مقاتل: إذا قمتم عنهم، منعهم من الخوض الحياء منكم، والرغبة
في مجالستكم.
قوله تعالى: (لعلهم يتقون) فيه قولان:
أحدهما: يتقون الاستهزاء.
والثاني: يتقون الوعيد.
فصل
وقد ذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة، لأنها اقتضت جواز مجالسة الخائضين والاقتصار
على تذكيرهم، ثم نسخت بقوله [تعالى]: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله
يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم). والصحيح أنها محكمة، لأنها خبر، وإنما دلت على أن كل عبد
يختص بحساب نفسه، ولا يلزمه حساب غيره.
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما
كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك
الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (70)
44

قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) فيهم قولان:
أحدهما: أنهم الكفار.
والثاني: اليهود والنصارى. وفي اتخاذهم دينهم لعبا ولهوا، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه استهزاؤهم بآيات الله إذا سمعوها.
والثاني: أنهم دانوا بما اشتهوا، كما يلهون بما يشتهون.
والثالث: أنهم يحافظون على دينهم إذا اشتهوا كما يلهون إذا اشتهوا. قال الفراء: ويقال:
إنه ليس من قوم إلا ولهم عيد، فهم يلهون في أعيادهم، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أعيادهم صلاة
وتكبير وبر وخير.
فصل
ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، قولان:
أحدهما: أنه خرج مخرج التهديد، كقوله [تعالى]: (ذرني ومن خلقت وحيدا).
فعلى هذا، هو محكم، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد.
والثاني: أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف، وإلى هذا ذهب
قتادة، والسدي.
قوله تعالى: (وذكر به) أي: عظ بالقرآن. وفي قوله: (أن تبسل) قولان:
أحدهما: لئلا تبسل نفس، كقوله [تعالى]: (أن تضلوا).
والثاني: ذكرهم إبسال المبسلين بجناياتهم لعلهم يخافون. وفي معنى " تبسل " سبعة أقوال:
أحدها: تسلم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، والسدي. وقال ابن
قتيبة: تسلم إلى الهلكة. قال الشاعر:
وإبسالي بني بغير جرم * بعوناه ولا بدم مراق
أي: بغير جرم أجرمناه، والبعو: الجناية. وقال الزجاج: تسلم بعملها غير قادرة على
التخلص. والمستبسل: المستسلم الذي لا يعلم أنه يقدر على التخلص.
والثاني: تفضح، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: تدفع، رواه الضحاك عن ابن عباس.
45

والرابع: تهلك، روي عن ابن عباس أيضا.
والخامس: تحبس وتؤخذ، قاله قتادة، وابن زيد.
والسادس: تجزي، قاله ابن السائب، والكسائي.
والسابع: ترتهن، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: ترتهن وتسلم، وأنشد:
هنالك لا أرجو حياة تسرني * سمير الليالي مبسلا بالجرائر
سمير الليالي: أبد الليالي. فأما الولي: فهو الناصر الذي يمنعها من عذاب الله. والعدل:
الفداء. قال ابن زيد: وإن تفتد كل فداء لا يقبل منها. فأما الحميم، فهو الماء الحار. قال ابن
قتيبة: ومنه سمي الحمام.
قل أندعوا من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله
كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل
إن هدي الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين (71) وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو
الذي إليه تحشرون (72)
قوله تعالى: (قل أندعوا من دون الله) أي: أنعبد مالا يضرنا إن لم نعبده، ولا ينفعنا إن
عبدناه، وهي الأصنام. (ونرد على أعقابنا) أي: نرجع إلى الكفر (بعد إذ هدانا الله) إلى
الإسلام، فنكون (كالذي استهوته الشياطين). وقرأ حمزة: " استهواه الشياطين "، على قياس
قراءته: (توفاه رسلنا). وفي معنى " استهوائها " قولان:
أحدهما: أنها هوت به وذهبت، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: تشبه له الشياطين، فيتبعها
حتى تهوي به في الأرض، فتضله.
والثاني: زينت له هواه، قاله الزجاج. قال: و " حيران " منصوب على الحال، أي: استهوته
في حال حيرته. قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فقال
تعالى: (قل أندعو من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا، ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله) فنكون
كرجل كان مع قوم على طريق، فضل، فخيرته الشياطين، وأصحابه على الطريق يدعونه: يا فلان
هلم إلينا، فإنا على الطريق، فيأبى. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر
الصديق، دعاه أبوه وأمه إلى الإسلام فأبى. قال مقاتل: والمراد بأصحابه: أبواه.
قوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى) هذا رد على من دعا إلى عبادة الأصنام، وزجر
46

عن إجابته كأنه قيل له: لا تفعل ذلك، لأن هدى الله هو الهدى، لا هدى غيره.
قوله تعالى: (وأمرنا لنسلم) قال الزجاج: العرب تقول: أمرتك أن تفعل، وأمرتك لتفعل،
وأمرتك بأن تفعل. فمن قال: " بأن " فالباء للالصاق. والمعنى: وقع الأمر بهذا الفعل، ومن قال:
" أن تفعل " فعلى خذف الباء، ومن قال: " لتفعل " فقد أخبر بالعلة التي لها وقع الأمر. قال: وفي
قوله: (وأن أقيموا الصلاة) وجهان:
أحدهما: أمرنا لأن نسلم، ولأن نقيم الصلاة.
والثاني: أن يكون محمولا على المعنى، لأن المعنى: أمرنا بالإسلام، وبإقامة الصلاة.
وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله
الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير (73)
قوله تعالى: (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق) فيه أربعة أقوال:
أحدها: خلقهما للحق.
والثاني: خلقهما حقا.
والثالث: خلقهما بكلامه وهو الحق.
والرابع: خلقهما بالحكمة.
قوله تعالى: (ويوم يقول كن فيكون) قال الزجاج: الأجود أن يكون منصوبا على معنى:
واذكر يوم يقول كن فيكون، لأن بعده (وإذ قال إبراهيم) فالمعنى: واذكر هذا وهذا. وفي الذي
يقول له كن فيكون، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يوم القيامة، قاله مقاتل.
والثاني: ما يكون في القيامة.
والثالث: أنه الصور، وما ذكر من أمر الصور يدل عليه، قالهما الزجاج. قال: وخص ذلك
اليوم بسرعة إيجاد الشئ، ليدل على سرعة أمر البعث.
قوله تعالى: (قوله الحق) أي: الصدق الكائن لا محالة (وله الملك يوم ينفخ في
الصور). وروى إسحاق بن يوسف الأزرق عن أبي عمير: " ننفخ " بنونين. ومعنى الكلام: أن
الملوك يومئذ لا ملك لهم، فهو المنفرد بالملك وحده كما قال: (والأمر يومئذ لله). وفي
" الصور " قولان:
47

أحدهما: أنه قرن ينفخ فيه، روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الصور، فقال: " هو قرن ينفخ فيه. وقال مجاهد: الصور كهيأة البوق. وحكى ابن قتيبة: أن
الصور: القرن، في لغة قوم من أهل اليمن، وأنشد:
نحن نطحنا غداة الجمعين * بالضابحات في غبار النقعين
نطحا شديدا لا كنطح الصورين
وأنشد الفراء:
لولا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم * ولا خراسان حتى ينفخ الصور
وهذا اختيار الجمهور.
والثاني: أن الصور جمع صورة، يقال: صورة وصور، بمنزلة سورة وسور، كسورة البناء،
والمراد نفخ الأرواح في صور الناس، قاله قتادة، وأبو عبيدة. وكذلك قرأ الحسن، ومعاذ القارئ،
وأبو مجلز، وأبو المتوكل " في الصور " بفتح الواو. قال ثعلب: الأجود أن يكون الصور: القرن،
لأنه قال عز وجل: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض)، ثم قال: (ثم
نفخ فيه أخرى)، ولو كان الصور، كان: ثم نفخ فيها، أو فيهن، وهذا يدل على أنه واحد، وظاهر
القرآن يشهد أنه ينفخ في الصور مرتين. وقد روى أهل التفسير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " الصور قرن ينفخ فيه ثلاث نفخات:
الأولى: نفخة الفزع.
والثانية نفخة الصعق.
والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين ". قال ابن عباس: وهذه النفخة المذكورة في هذه
الآية هي الأولى، يعني: نفخة الصعق.
قوله تعالى: (عالم الغيب) وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه، (فالشهادة) وهي ما
شهدوه ورأوه. وقال الحسن: يعني بذلك السر والعلانية.
48

* وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال
مبين (74)
قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) في " آزر " أربعة أقوال.
أحدها: أنه اسم أبيه، روي عن ابن عباس، والحسن، والسدي، وابن إسحاق.
والثاني: أنه اسم صنم، فأما اسم أبي إبراهيم، فتارح، قاله مجاهد. فيكون المعنى: أتتخذ
آزر أصناما؟ فكأنه جعل أصناما بدلا من آزر، والاستفهام معناه الإنكار.
والثالث: أنه ليس باسم، إنما هو سب بعيب، وفي معناه قولان:
أحدهما: أنه المعوج، كأنه عابه بزيغه وتعويجه عن الحق، ذكره الفراء.
والثاني: أنه المخطئ، فكأنه قال: يا مخطئ أتتخذ أصناما؟ ذكره الزجاج.
والرابع: أنه لقب لأبيه، وليس باسمه، قاله مقاتل بن حيان. قال ابن الأنباري: قد يغلب على
اسم الرجل لقبه، حتى يكون به أشهر منه باسمه، والجمهور على قراءة " آزر " بالنصب. وقرأ
الحسن، ويعقوب بالرفع. قال الزجاج: من نصب، فموضع " آزر " خفض بدلا من أبيه، ومن رفع
فعلى النداء.
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75)
قوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم) أي: وكما أريناه البصيرة في دينه، والحق في خلاف
قومه، نريه (ملك السماوات والأرض). وقيل: " نري " بمعنى أرينا. قال الزجاج: والملكوت
بمنزلة الملك، إلا أن الملكوت أبلغ في اللغة، لأن الواو والتاء يزادان للمبالغة، ومثل الملكوت:
الرغبوت والرهبوت. قال مجاهد: ملكوت السماوات والأرض: آياتها، تفرجت له السماوات السبع،
حتى العرش، فنظر فيهن، وتفرجت له الأرضون السبع، فنظر فيهن. وقال قتادة: ملكوت السماوات:
الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار. وقال السدي: أقيم على
صخرة، وفتحت له السماوات والأرض، فنظر إلى ملك الله عز وجل، حتى نظر إلى العرش، وإلى
منزله من الجنة، وفتحت له الأرضون السبع، حتى نظر إلى الصخرة التي عليها الأرضون.
قوله تعالى: (وليكون من الموقنين) هذا عطف على المعنى، لأن معنى الآية: نريه ملكوت
السماوات والأرض ليستدل به، وليكون من الموقنين. وفي ما يوقن به ثلاثة أقوال:
49

أحدها: وحدانية الله وقدرته.
والثاني: نبوته ورسالته.
والثالث: ليكون موقنا بعلم كل شئ حسا، لا خبرا.
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76)
قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل) قال الزجاج: يقال: جن عليه الليل، وأجنه الليل: إذا
أظلم، حتى يستر بظلمته، ويقال لكل ما ستر: جن، وأجن، والاختيار أن يقال: جن عليه الليل،
وأجنه الليل.
الإشارة إلى بدء قصة إبراهيم عليه السلام
روى أبو صالح عن ابن عباس قال: ولد إبراهيم في زمن نمروذ، وكان لنمروذ كهان، فقالوا
له: يولد في هذه السنة مولود يفسد آلهة أهل الأرض، ويدعوهم إلى غير دينهم، ويكون هلاك أهل
بيتك على يديه، فعزل النساء عن الرجال، ودخل آزر إلى بيته، فوقع على زوجته، فحملت، فقال
الكهان لنمروذ: إن الغلام قد حمل به الليلة. فقال: كل من ولدت غلاما فاقتلوه. فلما أخذ أم
إبراهيم المخاض، خرجت هاربة، فوضعته في نهر يابس، ولفته في خرقة، ثم وضعته في حلفاء،
وأخبرت به أباه، فأتاه، فحفر له سربا، وسد عليه بصخرة، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه، حتى
شب وتكلم، فقال لأمه: من ربي؟ فقالت: أنا. قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك. قال: فمن رب
أبي؟ قالت: اسكت. فسكت، فرجعت إلى زوجها، فقالت: إن الغلام الذي كنا نتحدث أنه يغير
دين أهل الأرض، ابنك. فأتاه، فقال له مثل ذلك. فلما جن عليه الليل، دنا من باب السرب، فنظر
فرأى كوكبا. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم " رأى "، بفتح الراء والهمزة، وقرأ أبو عمرو:
" رأى "، بفتح الراء وكسر الهمزة، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم.
" رأى "، بكسر الراء والهمزة، واختلفوا فيها إذا لقيها ساكن، وهو آت في ستة مواضع: (رأى
القمر) (فلما رأى الشمس) وفي النحل (وإذا رأى الذين ظلموا) (وإذا رأى الذين
أشركوا) وفي الكهف: (ورأى المجرمون النار)، وفي الأحزاب: (ولما رأى
المؤمنون). وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة إلا العبسي، وخلف في اختياره: بكسر الراء وفتح
الهمزة في الكل، وروى العبسي كسرة الهمزة أيضا، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر،
والكسائي: بفتح الراء والهمزة. فإن اتصل ذلك بمكنى، فقال نحو: رآك، ورآه، ورآها، فإن حمزة،
50

والكسائي، وخلف، والوليد عن ابن عامر، والمفضل، وأبان، والقزاز عن عبد الوارث، والكسائي
عن أبي بكر: يكسرون الراء، ويميلون الهمزة. وفي الكوكب الذي رآه قولان:
أحدهما: أنه الزهرة، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: المشتري، قاله مجاهد، والسدي.
قوله تعالى: (قال هذا ربي) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على ظاهره. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قال هذا ربي، فعبده
حتى غاب، وعبد القمر حتى غاب، وعبد الشمس حتى غابت، واحتج أرباب هذا القول بقوله
[تعالى]: (لئن لم يهدني ربي) وهذا يدل على نوع تحيير، قالوا: وإنما قال هذا في حال
طفولته على ما سبق إلى وهمه، قبل أن يثبت عنده دليل. وهذا القول لا يرتضى، والمتأهلون للنبوة
محفوظون من مثل هذا على كل حال. فأما قوله: (لئن لم يهدني ربي) فما زال الأنبياء يسألون
الهدى، ويتضرعون في دفع الضلال عنهم، كقولهم: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) ولأنه قد
آتاه رشده من قبل، وأراه ملكوت السماوات والأرض ليكون موقنا، فكيف لا يعصمه عن مثل هذا
التخيير؟!.
والثاني: أنه قال ذلك استدراجا للحجة، ليعيب آلهتهم ويريهم بغضها عند أفولها، ولا بد أن
يضمر في نفسه: إما على زعمكم، وفيما تظنون، فيكون كقوله: (أين شركائي)، وإما أن يضمر:
يقولون، فيكون كقوله [تعالى]: (ربنا تقبل منا)، أي: يقولان ذلك، ذكر نحو هذا أبو بكر بن
الأنباري، ويكون مراده استدراج الحجة عليهم، كما نقل عن بعض الحكماء أنه نزل بقوم يعبدون
صنما، فأظهر تعظيمه، فأكرموه، وصدروا عن رأيه، فدهمهم عدو، فشاورهم ملكهم، فقال: ندعو
إلهنا ليكشف ما بنا، فاجتمعوا يدعونه، فلم ينفع، فقال هاهنا إله ندعوه، فيستجيب، فدعوا الله،
فصرف عنهم ما يحذرون، وأسلموا.
والثالث: أنه قال مستفهما، تقديره: أهذا ربي؟ أضمرت ألف الاستفهام، كقوله: (أفإن
مت، فهم الخالدون)؟ أي: أفهم الخالدون؟ قال الشاعر:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا
أراد: أكذبتك؟ قال ابن الأنباري: وهذا القول شاذ، لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان
فارقا بين الإخبار والاستخبار، وظاهر قوله: (هذا ربي) أنه إشارة إلى الصانع. وقال الزجاج:
كانوا أصحاب نجوم، فقال: هذا ربي، أي: هذا الذي يدبرني، فاحتج عليهم أن هذا الذي تزعمون
51

أنه مدبر، لا نرى فيه إلا أثر مدبر. و " أفل " بمعنى: غاب، يقال: أفل النجم يأفل ويأفل أفولا.
قوله تعالى: (لا أحب الآفلين) أي: حب رب معبود، لأن ما ظهر وأفل كان حادثا مدبرا.
فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم
الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني
برئ مما تشركون (78)
قوله تعالى: (فلما رأى القمر) قال ابن قتيبة: سمي القمر قمرا لبياضه، والأقمر: الأبيض،
وليلة قمراء، أي: مضيئة. فأما البازغ، فهو الطالع. ومعنى (لئن لم يهدني): لئن لم يثبتني على
الهدى. فإن قيل: لم قال في الشمس: هذا، ولم يقل: هذه؟ فعنه أربعة أجوبة:
أحدها: أنه رأى ضوء الشمس، لا عينها، قاله محمد بن مقاتل.
والثاني: أنه أراد: هذا الطالع ربي، قاله الأخفش.
والثالث: أن الشمس بمعنى الضياء والنور، فحمل الكلام على المعنى.
والرابع: أن الشمس ليس في لفظها علامة من علامات التأنيث، وإنما يشبه لفظها لفظ
المذكر، فجاز تذكيرها. ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)
وحاجة قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن
يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون (80)
قوله تعالى: (إني وجهت وجهي) قال الزجاج: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب
العالمين عز وجل. وباقي الآية قد تقدم.
وقوله تعالى: (وحاجه قومه) قال ابن عباس: جادلوه في آلهتهم، وخوفوه بها، فقال منكرا
عليهم: (أتحاجوني). قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: (أتحاجوني)
و (تأمروني) بتشديد النون. وقرأ نافع، وابن عامر بتخفيفها، فحذفا النون الثانية لالتقاء النونين.
ومعنى (أتحاجوني في الله) أي: في توحيده. (وقد هدان)، أي: بين لي ما به اهتديت. وقرأ
الكسائي: " هداني "، بإمالة الدال. والإمالة حسنة فيما كان أصله الياء، وهذا من هدى يهدي.
قوله تعالى: (ولا أخاف ما تشركون به) أي: لا أرهب آلهتكم، وذلك أنهم قالوا: نخاف
52

أن تمسك آلهتنا بسوء، فقال: لا أخافها لأنها لا تضر ولا تنفع (إلا أن يشاء ربي شيئا) فله
أخاف (وسع ربي كل شئ علما) أي: علمه علما تاما.
وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا
فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم
أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)
قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم) أي: من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا
تخافون أنتم أنكم أشركتم بالله الذي خلقكم ورزقكم وهو قادر على ضركم ونفعكم (ما لم ينزل به
عليكم سلطانا) أي: حجة (فأي الفريقين أحق بالأمن) أي: بأن يأمن العذاب، الموحد الذي يعبد من
بيده الضر والنفع؟ أم المشرك الذي يعبد ما لا يضر ولا ينفع؟ ثم بين الأحق من هو بقوله [تعالى]:
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أي: لم يخلطوه بشرك. روى البخاري، ومسلم في
" صحيحيهما " من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية، شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا
رسول الله، رأينا ذلك؟ فقال: إنما هو الشرك، ألم تسموا ما قاله لقمان لابنه: (إن الشرك لظلم
عظيم)؟ وفيمن عني بهذه الآية، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إبراهيم وأصحابه، وليست في هذه الأمة، قاله علي بن أبي طالب. وقال في رواية
أخرى: هذه الآية لإبراهيم خاصة، ليس لهذه الأمة منها شئ.
والثاني: أنه من هاجر إلى المدينة، قاله عكرمة.
والثالث: أنها عامة، ذكره بعض المفسرين. وهل هي من قول إبراهيم لقومه، أم جواب من
الله تعالى؟ فيه قولان:
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم
عليم (83)
قوله تعالى: (وتلك حجتنا) يعني ما جرى بينه وبين قومه من الاستدلال على حدوث
الكوكب والقمر والشمس، وعيبهم، إذ سووا بين الصغير والكبير، وعبدوا من لا ينطق، وإلزامه إياهم
الحجة. (آتيناها إبراهيم) أرشدناه إليها بالإلهام. وقال مجاهد: الحجة قول إبراهيم (فأي
53

الفريقين أحق بالأمن)؟.
قوله تعالى: (نرفع درجات من نشاء) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عمرو وابن عامر:
(درجات من نشاء، مضافا. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي (درجات)، منونا، وكذلك قرؤوا
في (يوسف) ثم في المعنى قولان:
أحدهما: أن الرفع بالعلم والفهم والمعرفة.
والثاني: بالاصطفاء للرسالة.
قوله تعالى: (إن ربك حكيم) قال ابن جرير: حكيم في سياسة خلقه، وتلقينه أنبياءه الحج
على أممهم المكذبة (عليم) بما يؤول إليه أمر الكل.
ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان
وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى
وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على
العالمين (86) ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (87)
قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق) ولدا لصلبه (ويعقوب) ولدا لإسحاق (كلا) من
هؤلاء المذكورين (هدينا) أي: أرشدنا.
قوله تعالى: (ومن ذريته) في " هاء الكناية "، قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى نوح، رواه أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، ومقاتل، وابن
جرير الطبري.
والثاني: إلى إبراهيم، قاله عطاء. وقال الزجاج: كلا القولين جائز، لأن ذكرهما جميعا قد
جرى، واحتج ابن جرير للقول الأول بأن الله تعالى، ذكر في سياق الآيات لوطا، وليس من ذرية
إبراهيم. وأجاب عنه أبو سليمان الدمشقي بأنه يحتمل أن يكون أراد: ووهبنا له لوطا في المعاضدة
والنصرة، ثم قوله [تعالى]: (وكذلك نجزي المحسنين) من أبين دليل على أنه إبراهيم، لأن
افتتاح الكلام إنما هو بذكر ما أثاب به إبراهيم. فأما " يوسف " فهو اسم أعجمي. قال الفراء:
" يوسف ". بضم السين من غير همز، لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: " يؤسف "،
بالهمز، وبعض العرب يقول: " يوسف بكسر السين، وبعض بني عقيل يقول: " يوسف " بفتح
السين.
54

قوله تعالى: (وكذلك نجزي المحسنين) أي: كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على
دينه، بأن رفعنا درجته، ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء، كذلك نجزي المحسنين. فأما عيسى،
وإلياس، واليسع، ولوطا، فأسماء أعجمية، وجمهور القراء يقرؤون " اليسع " بلام واحدة مخففة،
منهم ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو وابن عامر. وقرأ حمزة، والكسائي هاهنا وفي (ص):
" إلليسع " بلامين مع التشديد. قال الفراء: وهي أشبه بالصواب، وبأسماء الأنبياء من بني إسرائيل،
ولأن العرب لا تدخل على " يفعل "، إذا كان في معنى فلان، ألفا ولاما، يقولون: هذا يسع قد
جاء، وهذا يعمر، وهذا يزيد، فهكذا الفصيح من الكلام. وأنشدني بعضهم.
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا * شديدا بأحناء الخلافة كاهله
فلما ذكر الوليد بالألف واللام، أتبعه يزيد بالألف واللام، وكل صواب. وقال مكي: من قرأه
بلام واحدة، فالأصل عنده: يسع، ومن قرأه بلامين، فالأصل عنده: ليسع، فأدخلوا عليه حرف
التعريف. وباقي أسماء الأنبياء قد تقدم بيانها، والمراد بالعالمين: عالمو زمانهم.
قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم) " من " هاهنا للتبعيض. قال الزجاج: المعنى: هدينا
هؤلاء، وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم. (واجتبيناهم) مثل اخترناهم واصطفيناهم، وهو مأخوذ من
جبيت الشئ: إذا أخلصته لنفسك. وجبيت الماء في الحوض: إذا جمعته فيه. فأما الصراط
المستقيم، فهو التوحيد.
ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88)
قوله تعالى: (ذلك هدى الله) قال ابن عباس: ذلك دين الله الذي هم عليه (يهدي به من
يشاء من عباده) (ولو أشركوا) يعني الأنبياء المذكورين (لحبط) أي: لبطل وزال عملهم، لأنه
لا يقبل عمل مشرك.
أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا
بها قوما ليسوا بها بكافرين (89)
قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب) يعني الكتب التي أنزلها عليهم. والحكم:
الفقه، والعلم (فإن يكفر بها) يعني بآياتنا.
وفيمن أشير إليه ب‍ " هؤلاء " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أهل مكة، قاله ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة.
55

والثاني: أنهم قريش، قاله السدي.
والثالث: أمة النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن.
قوله تعالى: (فقد وكلنا بها) قال أبو عبيدة: فقد رزقناها قوما. وقال الزجاج: وكلنا
بالإيمان بها قوما. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أهل المدينة من الأنصار، قاله ابن عباس، وابن المسيب، وقتادة، والسدي.
والثاني: الأنبياء والصالحون، قاله الحسن. وقال قتادة: هم النبيون الثمانية عشر، المذكورون
في هذا المكان، وهذا اختيار الزجاج، وابن جرير.
والثالث: أنهم الملائكة، قاله أبو رجاء.
والرابع: أنهم المهاجرون والأنصار.
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى
للعالمين (90)
قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله) يعني النبيين المذكورين.
وفي قوله تعالى: (فبهداهم اقتده) قولان:
أحدهما: بشرائعهم وبسننهم فاعمل، قاله ابن السائب.
والثاني: اقتد بهم في صبرهم، قاله الزجاج. وكان ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم،
يثبتون الهاء من قوله: " اقتده " في الوصل ساكنة. وكان حمزة، والكسائي وخلف، ويعقوب،
والكسائي عن أبي بكر، واليزيدي في اختياره، يحذفون الهاء في الوصل. ولا خلاف في إثباتها في
الوقف، وإسكانها فيه.
قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا) يعني على القرآن. والذكرى: العظة. والعالمون
هاهنا: الجن والإنس.
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب
الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا
وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون (91)
قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) في سبب نزولها سبعة أقوال:
56

أحدها: أن مالك بن الصيف رأس اليهود، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال له رسول
الله [صلى الله عليه وسلم] " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين "؟ قال:
نعم. قال: " فأنت الحبر السمين ". فغضب، ثم قال: (ما أنزل الله على بشر من شئ) فنزلت
هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وكذلك قال سعيد بن جبير، وعكرمة: نزلت في مالك بن
الصيف.
والثاني: أن اليهود قالوا: يا محمد، أنزل الله عليك كتابا؟ قال: " نعم ". قالوا: والله ما أنزل
الله من السماء كتابا، فنزلت هذه الآية، رواه الوالبي عن ابن عباس.
والثالث: أن اليهود قالوا: يا محمد، إن موسى جاء بألواح يحملها من عند الله، فائتنا بآية كما
جاء موسى، فنزل: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء)، إلى قوله:
(عظيما). فلما حدثهم بأعمالهم الخبيثة، قالوا: والله ما أنزل الله عليك ولا على موسى
وعيسى، ولا على بشر، من شئ، فنزلت هذه الآية، قاله محمد بن كعب.
والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، آتاهم الله علما، فلم ينتفعوا به، قاله قتادة.
والخامس: أنها نزلت في فنحاص اليهودي، وهو الذي قال: (ما أنزل الله على بشر من
شئ) قاله السدي.
والسادس: أنها نزلت في مشركي قريش، قالوا: والله ما أنزل الله على بشر من شئ، رواه
ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والسابع: أن أولها، إلى قوله: (من شئ) في مشركي قريش. وقوله [تعالى]: (من
أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) في اليهود، رواه ابن كثير عن مجاهد. وفي معنى (وما قدروا
الله حق قدره) ثلاثة أقوال:
أحدها: ما عظموا الله حق عظمته، قاله ابن عباس، والحسن، والفراء، وثعلب، والزجاج.
والثاني: ما وصفوه حق صفته، قاله أبو العالية، واختاره الخليل.
والثالث: ما عرفوه حق معرفته، قاله أبو عبيدة.
57

قوله تعالى: (يجعلونه قراطيس) معناه: يكتبونه في قراطيس. وقيل: إنما قال: قراطيس،
لأنهم كانوا يكتبونه في قراطيس مقطعة، حتى لا تكون مجموعة، ليخفوا منها ما شاؤوا.
قوله تعالى: (يبدونها) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " يجعلونه قراطيس يبدونها " و " يخفون "
بالياء فيهن. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالتاء فيهن. فمن قرأ بالياء،
فلأن القوم غيب، بدليل قوله [تعالى]: (وما قدروا الله حق قدره). ومن قرأ بالتاء، فعلى
الخطاب، والمعنى: تبدون منها ما تحبون، وتخفون كثيرا، مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم،
ونحو ذلك مما كتموه.
قوله تعالى: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) في المخاطب بهذا قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، قاله الجمهور.
والثاني: أنه خطاب للمسلمين، قاله مجاهد. فعلى الأول: علموا ما في التوراة، وعلى
الثاني: علموا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: (قل الله) هذا جواب لقوله: (من أنزل الكتاب) وتقديره: فإن أجابوك، وإلا
فقل: الله أنزله.
قوله تعالى: (ثم ذرهم) تهديد. وخوضهم: باطلهم. وقيل: إن هذا أمر بالإعراض عنهم،
ثم نسخ بآية السيف.
قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه) يعني القرآن. قال الزجاج: والمبارك: الذي يأتي من قبله
الخير الكثير. والمعنى: أنزلناه للبركة والإنذار.
وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها
والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون (92)
قوله تعالى: (مصدق الذي بين يديه) من الكتب.
قوله تعالى: (ولتنذر أم القرى) قرأ عاصم إلا حفصا: " ولينذر " بالياء، فيكون الكتاب هو
المنذر. وقرأ الباقون: بالتاء، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. فأما أم القرى، فهي مكة. قال الزجاج:
والمعنى: لتنذر أهل أم القرى. وفي تسميتها بأم القرى أربعة أقوال:
أحدها: أنها سميت بذلك، لأن الأرض دحيت من تحتها، قاله ابن عباس.
58

والثاني: لأنها أقدمها، قاله ابن قتيبة.
والثالث: لأنها قبلة جميع الناس، يؤمونها.
والرابع: لأنها كانت أعظم القرى شأنا، ذكرهما الزجاج.
قوله تعالى: (ومن حولها) قال ابن عباس: يريد الأرض كلها.
قوله تعالى: (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به) في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن.
والثاني: إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: من آمن بالآخرة آمن به، ومن لم يؤمن به، فليس
إيمانه بالآخرة حقيقة، ولا يعتد به، ألا ترى إلى قوله: (وهم على صلاتهم يحافظون) فدل على
أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على الصلوات.
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل
مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم
أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن
آياته تستكبرون (93)
قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي) اختلفوا فيمن نزلت
على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن أولها، إلى قوله: (ولم يوح إليه شئ) نزل في مسيلمة الكذاب.
وقوله تعالى: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح،
كان قد تكلم بالإسلام، وكان يكتب لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] في بعض الأحايين، فإذا أملي عليه: " عزيز
حكيم " كتب: " غفور رحيم " فيقول رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: هذا وذاك سواء. فلما نزلت: (ولقد خلقنا
الإنسان من سلالة من طين) أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: (خلقا آخر) عجب عبد الله بن
سعد، فقال: (تبارك الله أحسن الخالقين) فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " كذا أنزلت علي، فاكتبها "
فشك حينئذ، وقال: لئن كان محمد صادقا، لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبا، لقد
قلت كما قال، رواه أبو صالح عن ابن عباس قال عكرمة: ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة.
59

والقول الثاني: أن جميع الآية في عبد الله بن سعد، قاله السدي.
والثالث: أنها نزلت في مسيلمة، والأسود العنسي، قاله قتادة. فإن قيل: كيف أفرد قوله:
(أو قال أوحي إلي) من قوله: (ومن أظلم ممن افترى) وذاك مفتر أيضا؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن الوصفين لرجل واحد، وصف بأمر بعد أمر ليدل على جرأته.
والثاني: أنه خص بقوله: (أو قال أوحي إلي) بعد أن عم بقوله: (افترى على الله) لأنه
ليس كل مفتر على الله يدعي أنه أوحي إليه، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى: (سأنزل مثل ما أنزل الله) أي: سأقول. قال ابن عباس: يعنون الشعر، وهم
المستهزئون. وقيل: هو قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح. قال الزجاج: وهذا جواب لقولهم:
(لو نشاء لقلنا مثل هذا).
قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون) فيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم قوم كانوا مسلمين بمكة، فأخرجهم الكفار معهم إلى قتال بدر، فلما أبصروا قلة
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا عن الإيمان، فنزل فيهم هذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنهم الذين قالوا: (ما أنزل الله على بشر من شئ) قاله أبو سليمان.
والثالث: الموصوفون في هذه الآية، وهم المفترون والمدعون الوحي إليهم، ومماثلة كلام
الله. قال الزجاج: وجواب " لو " محذوف، والمعنى: لو تراهم في غمرات الموت لرأيت عذابا
عظيما. ويقال لكل من كان في شئ كبير: قد غمر فلانا ذلك. قال ابن عباس: غمرات الموت:
سكراته. قال ابن الأنباري: قال اللغويون: سميت غمرات، لأن أهوالها يغمرن من يقعن به.
قوله تعالى: (والملائكة باسطوا أيديهم) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: بالضرب، قاله ابن عباس.
والثاني: بالعذاب، قاله الحسن، والضحاك.
والثالث: باسطوها لقبض الأرواح من الأجساد، قاله الفراء وفي الوقت الذي يكون هذا فيه
ثلاثة أقوال:
أحدها: عند الموت. قال ابن عباس: هذا عند الموت، الملائكة يضربون وجوههم
وأدبارهم، وملك الموت يتوفاهم.
60

والثاني: يوم القيامة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: في النار، قاله الحسن.
قوله تعالى: (أخرجوا أنفسكم) فيه إضمار " يقولون " وفي معناه قولان:
أحدهما: استسلموا لإخراج أنفسكم.
والثاني: أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم.
قوله تعالى: (تخرجون عذاب الهون) قال أبو عبيدة: الهون: مضموم، وهو الهوان، وإذا
فتحوا أوله، فهو الرفق والدعة. قال الزجاج: والمعنى: تجزون العذاب الذي يقع به الهوان الشديد.
ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى
معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم
تزعمون (94)
قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى) سبب نزولها: أن النضر قال: سوف تشفع لي
اللات والعزى: فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة. ومعنى فرادى: وحدانا. وهذا إخبار من الله تعالى
بما يوبخ به المشركين يوم القيامة. قال أبو عبيدة: فرادى، أي: فرد فرد. وقال ابن قتيبة: فرادى:
جمع فرد.
وللمفسرين في معنى " فرادى " خمسة أقوال متقاربة المعنى:
أحدها: فرادى من الأهل والمال والولد، قاله ابن عباس.
والثاني: كل واحد على حدة، قاله الحسن.
والثالث: ليس معكم من الدنيا شئ، قاله مقاتل.
والرابع: كل واحد منفرد عن شريكه في الغي، وشقيقه، قاله الزجاج.
والخامس: فرادى من المعبودين، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى: (كما خلقناكم أول مرة) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا مال ولا أهل ولا ولد.
والثاني: حفاة عراة غرلا. والغرل: القلف.
والثالث: أحياء. وخولناكم: بمعنى ملكناكم. (وراء ظهوركم) أي: في الدنيا. والمعنى أن
ما دأبتم في تحصيله في الدنيا فني، وبقي الندم على سوء الاختيار. وفي شفعائهم، قولان:
أحدهما: أنها الأصنام. قال ابن عباس: شفعاؤكم، أي: آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون
61

لكم. و (زعمتم أنهم فيكم) أي: عندكم شركاء. وقال ابن قتيبة: زعمتم أنهم لي في خلقكم
شركاء.
والثاني: أنها الملائكة، كانوا يعتقدون شفاعتها، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (لقد تقطع بينكم) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن
عاصم: بالرفع. وقرأ نافع، والكسائي، وحفص عن عاصم: بنصب النون على الظرف. قال
الزجاج: الرفع أجود، ومعناه: لقد تقطع وصلكم، والنصب جائز، ومعناه: لقد تقطع ما كنتم فيه من
الشركة بينكم. وقال ابن الأنباري: التقدير: لقد تقطع ما بينكم، فحذف " ما " لوضوح معناها. قال
أبو علي: الذين رفعوه، جعلوه اسما، فأسندوا الفعل الذي هو " تقطع " إليه، والمعنى: لقد تقطع
وصلكم. والذين نصبوا، أضمروا اسم الفاعل في الفعل، والمضمر هو الوصل، فالتقدير: لقد
تقطع وصلكم بينكم. وفي الذي كانوا يزعمون قولان:
أحدهما: شفاعة آلهتهم.
والثاني: عدم البعث والجزاء.
* إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله
فأنا تؤفكون (95)
قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) في معنى الفلق قولان:
أحدهما: أنه بمعنى الخلق، فالمعنى: خالق الحب والنوى، رواه العوفي عن ابن عباس،
وبه قال الضحاك، ومقاتل.
والثاني: أن الفلق بمعنى الشق. ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: أنه فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن
عباس، وبه قال الحسن، والسدي، وابن زيد.
والثاني: أنه الشقان اللذان في الحب والنوى، قاله مجاهد، وأبو مالك. قال ابن السائب:
الحب: ما لم يكن له نوى، كالبر والشعير، والنوى: مثل نوى التمر.
قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) قد سبق تفسير في (آل
عمران).
قوله تعالى: (فأني تؤفكون) أي: كيف تصرفون عن الحق بعد هذا البيان.
فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز
62

العليم (96)
قوله تعالى: (فالق الإصباح) في معنى الفلق قولان قد سبقا. فأما الإصباح، فقال الأخفش:
هو مصدر من أصبح. وقال الزجاج: الإصباح والصبح واحد.
وللمفسرين في الإصباح، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس:
والثاني: أنه إضاءة الفجر، قاله مجاهد. وقال ابن زيد: فلق الإصباح من الليل.
والثالث: أنه نور النهار، قاله الضحاك. وقرأ أنس بن مالك، والحسن، وأبو مجلز، وأيوب،
والجحدري: " فالق الأصباح " بفتح الهمزة. قال أبو عبيدة: ومعناه جمع صبح.
قوله تعالى: (وجاعل الليل سكنا) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " جاعل "
بألف، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " وجعل " بغير ألف. " الليل " نصبا. قال أبو علي: من قرأ:
" وجاعل " فلأجل " فالق " وهم يراعون المشاكلة. ومن قرأ: " جعل " فلأن " فاعلا " هاهنا. بمعنى:
" فعل " بدليل قوله: (والشمس والقمر حسبانا) فأما السكن، فهو ما سكنت إليه. والمعنى: أن
الناس يسكنون فيه سكون راحة. وفي الحسبان قولان:
أحدهما: أنه الحساب، قاله الجمهور. قال ابن قتيبة: يقال: خذ من كل شئ بحسبانه
أي: بحسابه، وفي المراد بهذا الحساب، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهما يجريان إلى أجل جعل لهما، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: يجريان في منازلهما بحساب، ويرجعان إلى زيادة ونقصان، قاله السدي.
والثالث: أن جريانهما سبب لمعرفة حساب الشهور، والأعوام، قاله مقاتل.
والقول الثاني: أن معنى الحسبان: الضياء، قاله قتادة. قال الماوردي، كأنه أخذه من قوله
تعالى: (ويرسل عليها حسبانا من السماء) أي: نارا. قال ابن جرير: وليس هذا من ذاك في
شئ.
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم
يعلمون (97)
قوله تعالى: (وهو الذي جعل لكم النجوم) جعل، بمعنى خلق. وإنما امتن عليهم بالنجوم،
لأن سالكي القفار وراكبي البحار، إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها.
63

وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98)
قوله تعالى: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) يعني آدم (فمستقر) قرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، ويعقوب، إلا رويسا: بكسر القاف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
بفتحها. قال الزجاج: من كسر، فالمعنى: " فمنكم مستقر " ومن نصب، فالمعنى: " فلكم مستقر ".
فأما مستودع، فبالفتح، لا غير. ومعناه على فتح القاف: " ولكم مستودع " وعلى كسرها و " منكم
مستودع ". وللمفسرين في معني المستقر والمستودع تسعة أقوال:
أحدها: فمستقر في الأرحام، ومستودع في الأصلاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال
سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، والنخعي، وقتادة، والسدي، وابن زيد.
والثاني: المستقر في الأرحام، والمستودع في القبر، قاله ابن مسعود.
والثالث: المستقر في الأرض، والمستودع في الأصلاب، رواه ابن جبير عن ابن عباس.
والرابع: المستقر والمستودع في الرحم، رواه قابوس عن أبيه عن ابن عباس.
والخامس: المستقر حيث يأوي، والمستودع حيث يموت، رواه مقسم عن ابن عباس.
والسادس: المستقر في الدنيا، والمستودع في القبر.
والسابع: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وهو عكس الذي قبله، رويا عن الحسن.
والثامن: المستقر في الدنيا، والمستودع عند الله تعالى، قاله مجاهد.
والتاسع: المستقر في الأصلاب، والمستودع في الأرحام، قاله ابن بحر، وهو عكس الأول.
وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه
حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها
وغير متشابه أنظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذالكم لآيات لقوم يؤمنون (99)
قوله تعالى: (وهو الذي أنزل من السماء ماء) يعني المطر (فأخرجنا به) أي: بالمطر. وفي
قوله تعالى: (نبات كل شئ) قولان:
أحدهما: نبات كل شئ من الثمار، لأن كل ما ينبت، فنباته بالماء.
والثاني: رزق كل شئ وغذاؤه. وفي قوله تعالى: (فأخرجنا منه) قولان:
أحدهما: من الماء، أي: به.
والثاني: من النبات. قال الزجاج: الخضر بمعنى الأخضر، يقال: اخضر، فهو أخضر،
64

وخضر، مثل أعور، فهو أعور، وعور.
قوله تعالى: (نخرج منه) أي: من الخضر (حبا متراكبا) كالسنبل والشعير. والمتراكب: الذي
بعضه فوق بعض.
قوله تعالى: (ومن النخل من طلعها قنوان دانية) وروى الخفاف عن أبي عمرو: " قنوان "
بضم القاف، وروى هارون عنه بفتحها. قال الفراء: معناه: ومن النخل ما قنوانه دانية، وأهل
الحجاز يقولون: " قنوان " بكسر القاف، وقيس يضمونها، وضبة، وتميم يقولون: " قنيان " أنشدني
المفضل عنهم:
فأثت أعاليه وآدت أصوله * ومال بقنيان من البسر أحمرا
ويجتمعون جميعا، فيقولون: " قنو " و " قنو " ولا يقولون: " قني " ولا " قني " وكلب تقول: " ومال
بقينان ". قلت هذا البيت لامرئ القيس، رواه أبو سعيد السكري: " ومال بقنوان " مكسورة القاف مع
الواو، ففيه أربع لغات: قنوان، وقنوان، وقنيان، وقنيان، و " أثت ": كثرت، ومنه، شعر أثيت. و
" آدت ": اشتدت. وقال ابن قتيبة: القنوان: عذوق النخل، واحدها: قنو، جمع على لفظ تثنية،
ومثله: صنو وصنوان في التثنية، وصنوان في الجميع. وقال الزجاج: قنوان: جمع قنو، وإذا ثنيته
فهما قنوان، بكسر النون. ودانية، أي: قريبة المتناول، ولم يقل: " ومنها قنوان بعيدة " لأن في
الكلام دليلا أن البعيدة السحيقة، قد كانت غير سحيقة، فاجتزئ بذكر القريبة عن ذكر البعيدة،
كقوله [تعالى]: (سرابيل تقيكم الحر). وقال ابن عباس: القنوان الدانية: قصار النخل اللاصقة عذوقها
بالأرض.
قوله تعالى: (وجنات من أعناب) قال الزجاج: هو نسق على قوله: " خضرا " (والزيتون
والرمان) المعنى: وأخرجنا منه شجر الزيتون والرمان، وقد روى أبو زيد عن المفضل: " وجنات "
بالرفع.
قوله تعالى: (مشتبها وغير متشابه) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: مشتبها في المنظر وغير متشابه في الطعم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: مشتبها ورقه، مختلفا ثمره، قاله قتادة، وهو في معنى الأول.
والثالث: منه ما يشبه بعضه بعضا، ومنه ما يخالف. قال الزجاج: وإنما قرن الزيتون بالرمان،
لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره. قال الشاعر.
بورك الميت الغريب كما بورك * نضح الرمان والزيتون
ومعناه: أن البركة في ورقه اشتماله على عوده كله.
65

قوله تعالى: (انظروا إلى ثمره) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
(انظروا إلى ثمره)، و (كلوا من ثمره)، و (ليأكلوا من ثمره): بالفتح في ذلك. وقرأ حمزة.
والكسائي، وخلف: بالضم فيهن. قال الزجاج: يقال: ثمرة، وثمر، وثمار، وثمر، فمن قرأ: " إلى
ثمر " بالضم أراد جمع الجمع. وقال أبو علي: يحتمل وجهين:
أحدهما: هذا، وهو أن يكون الثمر جمع ثمار،
والثاني: أن تكون الثمر جمع ثمرة، وكذلك: أكمة، وأكم، وخشبة وخشب. قال الفراء:
يقول: انظروا إليه أول ما يعقد، وانظروا إلى ينعه، وهو نضجه وبلوغه. وأهل الحجاز يقولون: ينع،
بفتح الياء، وبعض أهل نجد يضمونها. قال ابن قتيبة: يقال: ينعت الثمر، وأينعت: إذا أدركت،
وهو الينع والينع. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، والأعمش، وابن ميصن: " وينعه " بضم الياء.
قال الزجاج: الينع: النضج. قال الشاعر:
في قباب حول دسكرة * حولها الزيتون قد ينعا
وبين الله تعالى لهم بتصريف ما خلق، ونقله من حال إلى حال لا يقدر عليه الخلق، أنه
كذلك يبعثهم.
قوله تعالى: (إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) قال ابن عباس: يصدقون أن الذي أخرج
هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى. وقال مقاتل يصدقون بالتوحيد.
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما
يصفون (100)
قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن) جعلوا، بمعنى وصفوا. قال الزجاج: نصب " الجن "
من وجهين:
أحدهما: أن يكون مفعولا، فيكون المعنى: وجعلوا لله الجن شركاء، ويكون الجن مفعولا
ثانيا، كقوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا).
والثاني: أن يكون الجن بدلا من شركاء، ومفسرا للشركاء. وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران،
وأبو حيوة، والجحدري: (شركاء الجن) " برفع النون، وقرأ ابن أبي عبلة، ومعاذ القارئ:
" الجن " بخفض النون. وفي معنى جعلهم الجن شركاء ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان، فجعلوهم شركاء لله، قاله الحسن،
والزجاج.
66

والثاني: قالوا إن الملائكة بنات الله فهم شركاؤه، كقوله [تعالى]: وجعلوا بينه وبين الجنة
نسبا) فسمى الملائكة جنا لاجتنانهم، قاله قتادة والسدي، وابن زيد.
والثالث: أن الزنادقة قالوا: الله خالق النور والماء والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة
والسباع والحيات والعقارب، وفيهم نزلت هذه الآية. قاله ابن السائب.
قوله تعالى: (وخلقهم) في الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الجاعلين له الشركاء، فيكون المعنى: وجعلوا للذي خلقهم شركاء
لا يخلقون.
والثاني: أنها ترجع إلى الجن، فيكون المعنى: والله خلق الجن، فكيف يكون الشريك لله
محدثا؟ ذكرهما الزجاج.
قوله تعالى: (وخرقوا له بنين وبنات) وقرأ نافع: " وخرقوا " بالتشديد، للمبالغة والتكثير،
لأن المشركين ادعوا الملائكة بنات الله، والنصارى المسيح واليهود عزيرا. وقرأ ابن عباس، وأبو
رجاء، وأبو الجوزاء: " وحرفوا " بحاء غير معجمة وبتشديد الراء وبالفاء. وقرأ ابن السميفع،
والجحدري: (وخارقوا " بألف وخاء معجمة قال السدي: أما " البنون "، فقول اليهود، عزير ابن الله،
وقول النصارى: المسيح ابن الله، وأما " البنات " فقول مشركي العرب: الملائكة بنات الله. قال
الفراء: خرقوا، واخترقوا، وخلقوا، واختلقوا، بمعنى افتروا. وقال أبو عبيدة: خرقوا: جعلوا. قال
الزجاج: ومعنى: " بغير علم " أنهم لم يذكروه من علم، إنما ذكروه تكذبا
بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو
بكل شئ عليم (101) ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على
كل شئ وكيل (102)
قوله تعالى: (أنى يكون له ولد) قال الزجاج: أي: من أين يكون له ولد، والولد لا يكون إلا
من صاحبة؟! واحتج عليهم في نفي الولد بقوله [تعالى]: (وخلق كل شئ) فليس مثل خالق
الأشياء، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له؟ فإذا نسب إليه الولد، فقد جعل له مثل.
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)
67

قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) في الإدراك قولان:
أحدهما: أنه بمعنى الإحاطة.
والثاني: بمعنى الرؤية. وفي " الأبصار " قولان:
أحدهما: أنها العيون، قاله الجمهور.
والثاني: أنها العقول، رواه عبد الرحمن بن مهدي عن أبي حصين القارئ. ففي معنى الآية
ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تحيط به الأبصار، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب،
وعطاء. وقال الزجاج: معنى الآية: الإحاطة بحقيقته، وليس فيها دفع للرؤية، لما صح عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم من الرؤية، وهذا مذهب أهل السنة والعلم والحديث.
والثاني: لا تدركه الأبصار إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثالث: لا تدركه الأبصار في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن،
ومقاتل، ويدل على أن الآية مخصوصة بالدنيا، قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة)
فقيد النظر إليه بالقيامة، وأطلق في هذه الآية، والمطلق يحمل على المقيد.
وقوله تعالى: (وهو يدرك الأبصار) فيه القولان: قال الزجاج: وفي هذا الإعلام دليل على أن
خلقه لا يدركون الأبصار، أي: لا يعرفون حقيقة البصر، وما الشئ الذي صار به الإنسان يبصر من
عينيه، دون أن يبصر من غيرهما من أعضائه، فأعلم الله أن خلقا من خلقه لا يدرك المخلوقون
كنهه، ولا يحيطون بعلمه، فكيف به عز وجل؟! فأما " اللطيف "، فقال أبو سليمان الخطابي: هو
البر بعباده، الذي يلطف لهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون.
قال ابن الاعرابي: اللطيف: الذي يوصل إليك أربك في رفق، ومنه قولهم: لطف الله بك، ويقال:
هو الذي لطف عن أن يدرك بالكيفية. وقد يكون اللطف بمعنى الدقة والغموض، ويكون بمعنى
الصغر في نعوت الأجسام، وذلك مما لا يليق بصفات الباري سبحانه. وقال الأزهري: اللطيف من
أسماء الله، معناه: الرفيق بعباده، والخبير: العالم بكنه الشئ، المطلع على حقيقته.
قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم
بحفيظ (104)
قوله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم) البصائر: جمع بصيرة، وهي الدلالة التي توجب
البصر بالشئ والعلم به. قال الزجاج: والمعنى: قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر (فمن
68

أبصر فلنفسه) نفع ذلك (ومن عمي) فعلى نفسه ضرر ذلك، لأن الله عز وجل غني عن خلقه (وما أنا
عليكم بحفيظ) أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ والوكيل، وهذا قبل الأمر بالقتال.
فصل
وذكر المفسرون أن هذه الآية نسخت بآية السيف. وقال بعضهم: معناها: لست رقيبا عليكم،
أحصي أعمالكم، فعلى هذا لا وجه للنسخ.
وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون (105)
قوله تعالى: (وكذلك نصرف الآيات) قال الأخفش: (وكذلك) معناها: وهكذا. وقال
الزجاج: المعنى: ومثل ما بينا فيما تلي عليك، نبين الآيات قال ابن عباس: نصرف الآيات، أي
نبينها في كل وجه، ندعوهم بها مرة، ونخوفهم بها أخرى. (وليقولوا) يعني أهل مكة حين تقرأ
عليهم القرآن " دارست " قال. ابن الأنباري: معنى الآية: وكذلك نصرف الآيات، لنلزمهم الحجة،
وليقولوا: دارست، وإنما صرف الآيات ليسعد قوم بفهمها والعمل بها، ويشقى آخرون بالإعراض
عنها، فمن عمل بها سعد، ومن قال: دارست، شقي. قال الزجاج: وهذه اللام في " ليقولوا " يسميها
أهل اللغة لام الصيرورة. والمعنى: ان السبب الذي أداهم إلى أن يقولوا: دارست!، هو تلاوة
الآيات، وهذا كقوله تعالى: [فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) وهم لم يطلبوا بأخذه
أن يعاديهم، ولكن كان عاقبة الأمر أن صار لهم عدوا وحزنا. ومثله أن تقول كتبت فلان الكتاب
لحتفه، فهو لم يقصد أن يهلك نفسه بالكتاب. ولكن العاقبة كانت الهلاك. فأما " دارست " فقرأ ابن
كثير، وأبو عمرو: " دارست " بالألف وسكون السين وفتح التاء، ومعناها: ذاكرت أهل الكتاب. وقرأ
عاصم، وحمزة، والكسائي: " درست " بسكون السين وفتح التاء، من غير ألف، على معنى: قرأت
كتب أهل الكتاب. قال المفسرون: معناها: تعلمت من جبر، ويسار. وسنبين هذا في قوله: (إنما
يعلمه بشر) إن شاء الله. وقرأ ابن عامر، ويعقوب: " درست " بفتح الراء والسين وسكون التاء من
غير ألف. والمعنى: هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة قد درست. أي: قد مضت وامحت.
وجميع من ذكرنا فتح الدال في قراءته. وقد روي عن نافع أنه قال: " درست " برفع الدال وكسر الراء
وتخفيف التاء، وهي قراءة ابن يعمر، ومعناها، قرئت. وقرأ أبي بن كعب: " درست " بفتح الدال
والسين وضم الراء وتسكين التاء. قال الزجاج: وهي بمعنى: " درست " أي: امحت، إلا أن
المضمومة الراء أشد مبالغة. وقرأ معاذ القارئ، وأبو العالية، ومورق: " درست " برفع الدال،
وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين. وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرف: " درس " بفتح الراء والسين
بلا ألف ولا تاء. وروى عصمة عن الأعمش: " دارس " بألف.
69

قوله تعالى: (ولنبينه) يعني: التصريف (لقوم يعلمون) ما تبين لهم من الحق فيقبلوه.
أتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين (106) ولو
شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل (107)
قوله تعالى: (وأعرض عن المشركين) قال المفسرون: نسخ بآية السيف.
قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا) فيه ثلاثة أقوال حكاها الزجاج:
أحدها: لو شاء لجعلهم مؤمنين.
والثاني: لو شاء لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان.
والثالث: لو شاء لاستأصلهم، فقطع سبب شركهم. قال ابن عباس: وباقي الآية نسخ بآية
السيف.
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة
عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون (108)
قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنه لما قال للمشركين: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) قالوا:
لتنتهين يا محمد عن سب آلهتنا وعيبها، أو لنهجون إلاهك الذي تعبده، فنزلت هذه الآية، رواه أبو
صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن المسلمين كانوا يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله تعالى أن
يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله، قاله قتادة. ومعنى " يدعون ": يعبدون، وهي
الأصنام. (فيسبوا الله) أي: فيسبوا من أمركم بعيبها، فيعود ذلك إلى الله تعالى، لا أنهم كانوا
يصرحون بسبب الله تعالى، لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم، وإن أشركوا به.
وقوله تعالى: (عدوا بغير علم) أي: ظلما بالجهل. وقرأ يعقوب: " عدوا "، بضم العين
والدال وتشديد الواو. والعرب تقول في الظلم: عدا فلان عدوا وعدوا وعدوانا. وعدا، أي: ظلم.
قوله تعالى: (كذلك قبل زينا لكل أمة عملهم) أي: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام،
وطاعة الشيطان، كذلك زينا لكل جماعة اجتمعت على حق أو باطل عملهم من خير أو شر. قال
70

المفسرون: وهذه الآية نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف.
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما
يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون (109)
قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنه لما نزل في (الشعراء): (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية) قال
المشركون: أنزلها علينا حتى والله نؤمن بها، فقال المسلمون: يا رسول الله، أنزلها عليهم لكي
يؤمنوا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن قريشا قالوا: يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر،
فينفجر منها اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا بمثل
هذه الآيات حتى نصدقك: فقال: " أي شئ تحبون؟ " قالوا: أن تجعل لنا الصفا ذهبا. قال: " فإن
فعلت تصدقوني؟ " فقالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه
جبريل فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولكني لم أرسل آية فلم يصدق بها، إلا أنزلت العذاب،
وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتركهم حتى يتوب تائبهم "، فنزلت هذه
الآية إلى قوله: (يجهلون)، هذا قول محمد بن كعب القرظي. وقد ذكرنا معنى (جهد
أيمانهم) في (المائدة)، وإنما حلفوا على ما اقترحوا من الآيات، كقولهم: (لن نؤمن لك حتى
تفجر لنا من الأرض ينبوعا).
قوله تعالى: (قل إنما الآيات عند الله) أي: هو القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد من
خلقه. (وما يشعركم أنها) أي: يدريكم أنها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم،
وخلف في اختياره: بكسر الألف، فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله " يشعركم " للمشركين،
ويكون تمام الكلام عند قوله تعالى: (وما يشعركم) ويكون المعنى: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا
جاءت؟ وتكون " إنها " مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم. وقال أبو علي: التقدير: وما
يشعركم إيمانهم؟ فحذف المفعول. والمعنى: لو جاءت الآية التي اقترحوها، لم يؤمنوا. فعلى
هذا يكون الخطاب للمؤمنين. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: (وما يشعركم إنها)، فقلت:
ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع، إنما
71

قال: (وما يشعركم) ثم ابتدأ فأوجب، فقال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) ولو قال: (وما يشعركم
أنها إذا جاءت لا يؤمنون)، كان ذلك عذرا لهم. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، وحمزة،
والكسائي: " أنها " بفتح الألف، فعلى هذا، المخاطب بقوله: (وما يشعركم) رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
وأصحابه، ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وفي قراءة أبي: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون.
والعرب تجعل " أن " بمعنى " لعل ". يقولون: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي: لعلك.
قال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي * إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد
أي: لعل منيتي. وإلى هذا المعنى ذهب الخليل، والفراء في توجيه هذه القراءة.
والثاني: أن المعنى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون، وتكون " لا " صلة، كقوله [تعالى]:
(ما منعك أن لا تسجد) وقوله [تعالى]: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون)
ذكره الفراء ورده الزجاج واختار الأول. والأكثرون على قراءة: " يؤمنون " بالياء، منهم ابن كثير،
ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم، وقرأ ابن عامر، وحمزة: بالتاء، على الخطاب
للمشركين. قال أبو علي: من قرأ بالياء، فلأن الذين أقسموا أغيب، ومن قرأ بالتاء، فهو انصراف
من الغيبة إلى الخطاب.
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (110)
قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) التقليب: تحويل الشئ عن وجهه. وفي معنى
الكلام، أربعة أقوال:
أحدها: لو أتيناهم بآية كما سألوا، لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها، وحلنا بينهم وبين
الهدى، فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها، عقوبة لهم على ذلك. وإلى هذا المعنى ذهب ابن
عباس، ومجاهد، وابن زيد.
والثاني: أنه جواب لسؤالهم في الآخرة الرجوع إلى الدنيا، فالمعنى: لو ردوا لحلنا بينهم وبين
الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا، روى هذا المعنى ابن أبي طلحة عن ابن
عباس.
والثالث: ونقلب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان بالآيات كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم
72

الخالية بما رأوا من الآيات، قاله مقاتل.
والرابع: أن ذلك التقليب في النار، عقوبة لهم، ذكره الماوردي: وفي هاء " به " أربعة
أقوال.
أحدها: أنها كناية عن القرآن.
والثاني: عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثالث: عما ظهر من الآيات.
والرابع: عن التقليب. وفي المراد ب " أول مرة " ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المرة الأولى: دار الدنيا.
والثاني: أنها معجزات الأنبياء قبل محمد عليه السلام.
والثالث: أنها صرف قلوبهم عن الإيمان قبل نزول الآيات أن لو نزلت، والطغيان والعمه
مذكوران في (البقرة).
* ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا
ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون (111)
قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) سبب نزولها: أن المستهزئين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في رهط من أهل مكة، فقالوا له: ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحق ما تقول، أم باطل؟ أو
أرنا الملائكة يشهدون لك أنك رسول الله، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو
صالح عن ابن عباس ومعنى الآية: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة كما سألوا، وكلمهم الموتى،
فشهدوا لك بالنبوة (وحشرنا) أي: جمعنا: (عليهم كل شئ) في الدنيا (قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا
أن يشاء الله)، فأخبر أن وقوع الإيمان بمشيئته، لا كما ظنوا أنهم متى شاؤوا
آمنوا، ومتى شاؤوا لم
يؤمنوا. فأما قوله [تعالى]: " قبلا " فقرأ ابن عامر، ونافع: بكسر القاف وفتح الباء. قال ابن قتيبة:
معناها: معاينة. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة والكسائي: " قبلا " بضم القاف والباء.
وفي معناها، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جمع قبيل، وهو الصنف، فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شئ قبيلا قبيلا، قاله
مجاهد، واختاره أبو عبيدة، وابن قتيبة.
والثاني: أنه جمع قبيل أيضا، إلا أنه: الكفيل، فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شئ، فكفل
بصحة ما تقول، اختاره الفراء وعليه اعتراض، وهو أن يقال: إذا لم يؤمنوا بإنزال الملائكة، وتكليم
73

الموتى، فلأن لا يؤمنوا بالكفالة التي هي قول، أولى. فالجواب: أنه لو كفلت الأشياء المحشورة، فنطق
ما لم ينطق، كان ذلك آية بينة.
والثالث: أنه بمعنى المقابل، فيكون المعنى: وحشرنا عليهم كل شئ، فقابلهم، قاله ابن
زيد. قال أبو زيد: يقال: لقيت فلانا قبلا وقبلا وقبلا وقبيلا [وقبليا] ومقابلة، وكله واحد، وهو
المواجهة. قال أبو علي: فالمعنى في القرآن - على ما قاله أبو زيد - واحد، وإن اختلفت الألفاظ.
قوله تعالى: (ولكن أكثرهم يجهلون) فيه قولان:
أحدهما: يجهلون أن الأشياء لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى.
والثاني: أنهم يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا.
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف
القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112)
قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا) أي: وكما جعلنا لك ولأمتك شياطين الإنس
والجن أعداء، كذلك جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء وأممهم، والمعنى: كما ابتليناك بالأعداء،
ابتلينا من قبلك، ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى. قال الزجاج: " وعدو ": في معنى أعداء،
و " شياطين الإنس والجن ": منصوب على البدل من " عدو "، ومفسر له، ويجوز أن يكون: " عدوا "
منصوب على أنه مفعول ثان، المعنى: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء لأممهم. وفي
شياطين الإنس والجن ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم مردة الإنس والجن، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني: أن شياطين الإنس: الذين مع الإنس، وشياطين الجن: الذين مع الجن، قاله
عكرمة، والسدي.
والثالث: أن شياطين الإنس والجن: كفارهم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (يوحى) أصل الوحي: الإعلام والدلالة بستر وإخفاء. وفي المراد به هاهنا ثلاثة
أقوال:
أحدها: أن معناه: يأمر.
والثاني: يوسوس.
والثالث: يشير.
وأما (زخرف القول)، فهو ما زين منه، وحسن، وموه، وأصل الزخرف: الذهب. قال أبو
عبيدة: كل شئ حسنته وزينته وهو باطل، فهو زخرف. وقال الزجاج: " الزخرف " في اللغة:
74

الزينة، فالمعنى: أن بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة، و " غرورا " منصوب على المصدر،
وهذا المصدر محمول على المعنى، لأن معنى إيحاء الزخرف من القول: معنى الغرور، فكأنه قال:
يغرون غرورا. وقال ابن عباس: (زخرف القول غرورا): الأماني بالباطل. قال مقاتل: وكل
إبليس بالإنس شياطين يضلونهم، فإذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجن، قال أحدهما لصاحبه:
إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا، فذلك وحي بعضهم إلى بعض.
وقال غيره: إن المؤمن إذا أعيا شيطانه، ذهب إلى متمرد من الإنس، وهو شيطان الإنس، فأغراه
بالمؤمن ليفتنه. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين. وقال مالك بن دينار:
إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن، لأني إذ تعوذت من ذاك ذهب عني، وهذا يجرني إلى
المعاصي عيانا.
قوله تعالى: (ولو شاء ربك ما فعلوه) في هاء الكناية ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى الوسوسة.
والثاني: ترجع إلى الكفر.
والثالث: إلى الغرور، وأذى النبيين.
قوله تعالى: (فذرهم وما يفترون) قال مقاتل: يريد كفار مكة وما يفترون من الكذب. وقال
غيره: فذر المشركين وما يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم، وما يختلقون من كذب، وهذا
القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف.
ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (113)
قوله تعالى: (ولتصغى إليه) أي: ولتميل، والهاء: كناية عن الزخرف والغرور. والأفئدة:
جمع فؤاد، مثل غراب وأغربة. قال ابن الأنباري: فعلنا بهم ذلك لكي تصغي إلى الباطل أفئدة
الذين لا يؤمنون بالآخرة، (وليرضوا) الباطل، (وليفترقوا) أي: ليكتسبوا، وليعلموا ما هم عاملون.
أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب
يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (114)
قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكما) سبب نزولها: أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل
بيننا وبينك حكما، إن شئت من أحبار اليهود، وإن شئت من أحبار النصارى، ليخبرنا عنك بما في
كتابهم من أمرك، فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي، فأما الحكم، فهو بمعنى الحاكم،
والمعنى: أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم؟! و (الكتاب): القرآن، و " المفصل ": المبين الذي
75

بان فيه الحق من الباطل، والأمر من النهي، والحلال من الحرام.
(والذين آتيناهم الكتاب) فيهم قولان:
أحدهما: علماء أهل الكتابين، قاله الجمهور.
والثاني: رؤساء أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأشباههم،
قاله عطاء.
قوله تعالى: (يعلمون أنه منزل) قرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: " منزل " بالتشديد،
وخففها الباقون.
وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم (115)
قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع: " كلمات "
على الجمع، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، " كلمة " على التوحيد، وقد ذكرت العرب
الكلمة، وأرادت الكثرة، يقولون: قال قس في كلمته، أي: في خطبته، وزهير في كلمته، أي: في
قصيدته. وفي المراد بهذه الكلمات ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها القرآن، قاله قتادة.
والثاني: أقضيته وعداته.
والثالث: وعده ووعيده وثوابه وعقابه. وفي قوله [تعالى]: (صدقا وعدلا) قولان:
أحدهما: صدقا فيما أخبر، وعدلا فيما قضى وقدر.
والثاني: صدقا فيما وعد وأوعد، وعدلا فيما أمر ونهى. وفي قوله: (لا مبدل لكلماته)
قولان:
أحدهما: لا يقدر المفترون على الزيادة فيها والنقصان منها.
والثاني: لا خلف لمواعيده، ولا مغير لحكمه.
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن
هم إلا يخرصون (116)
قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض) سبب نزولها: أن الكفار قالوا للمسلمين:
أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فنزلت هذه الآية، ذكره الفراء والمراد به (أكثر من
76

في الأرض): الكفار، وفي ماذا يطيعهم فيه أربعة أقوال:
أحدها: في أكل الميتة.
والثاني: في أكل ما ذبحوا للأصنام.
والثالث: في عبادة الأوثان.
والرابع: في اتباع ملل الآباء، و (سبيل الله): دينه. قال ابن قتيبة: ومعنى (يخرصون):
يحدسون ويوقعون، ومنه قيل للحازر: خارص. فإن قيل: كيف يجوز تعذيب من هو على ظن من
شركه، وليس على يقين من كفره؟! فالجواب: انهم لما تركوا التماس الحجة، واتبعوا أهواءهم،
واقتصروا على الظن والجهل، عذبوا، ذكره الزجاج.
إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (117)
قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله) قال الزجاج، موضع " من " رفع بالابتداء،
ولفظها لفظ الاستفهام، والمعنى: إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله. وقرأ الحسن:
" من يضل " بضم الياء وكسر الضاد، وهي رواية ابن أبي شريح. قال أبو سليمان: ومقصود الآية:
لا تلتفت إلى قسم من أقسم أنه يؤمن عند مجئ الآيات، فلن يؤمن إلا من سبق له القدر بالإيمان.
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين (118)
قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) سبب نزولها: أن الله تعالى لما حرم الميتة، قال
المشركون للمؤمنين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله لكم أحق أن تأكلوه مما قتلتم
أنتم، يريدون الميتة، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم
إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين (119)
قوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا) قال الزجاج: المعنى: وأي شئ يقع لكم في أن لا
تأكلوا؟ وموضع " أن " نصب، لأن " في " سقطت، فوصل المعنى إلى " أن " فنصبها.
قوله تعالى: (وقد فصل لكم) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: " فصل لكم ما حرم
77

عليكم " مرفوعتان، وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، ويعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: " فصل "
بفتح الفاء، " ما حرم " بفتح الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " فصل " بفتح
الفاء، " ما حرم " بضم الحاء. قال الزجاج: أي: فصل لكم الحلال من الحرام، وأحل لكم في
الاضطرار ما حرم. وقال سعيد بن جبير: فصل لكم ما حرم عليكم، يعني: ما بين في (المائدة) من
الميتة، والدم، إلى آخر الآية. (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم) يعني: مشركي العرب يضلون في أمر
الذبائح وغيره، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " ليضلون "، وفي (يونس): (ربنا ليضلوا) وفي
(إبراهيم): (أندادا ليضلوا) وفي (الحج): (ثاني عطفه ليضل) وفي (لقمان): (ليضل عن سبيل
الله بغير علم) وفي (الزمر): (أندادا ليضل) بفتح الياء في هذه المواضع الستة، وضمهن عاصم
وحمزة، والكسائي، وقرأ نافع، وابن عامر: " ليضلون بأهوائهم). وفي (يونس) (ليضلوا)
بالفتح، وضما الأربعة الباقية. فمن فتح، أراد: أنهم هم الذين ضلوا، ومن ضم، أراد: أنهم
أضلوا. غيرهم، وذلك أبلغ في الضلال، لأن كل مضل ضال؟ وليس كل ضال مضلا.
وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون (120)
قوله تعالى: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) في الإثم هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الزنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، فعلى هذا، في ظاهره وباطنه
قولان:
أحدهما: أن ظاهره: الإعلام به، وباطنه: الاستسرار به، قاله الضحاك، والسدي. قال الضحاك:
وكانوا يرون الاستسرار بالزنا حلالا.
والثاني: أن ظاهره نكاح المحرمات، كالأمهات، والبنات، وما نكح الآباء. وباطنه: الزنا،
قاله سعيد بن جبير.
والثاني: أنه عام في كل إثم. والمعنى: ذروا المعاصي، سرها وعلانيتها، وهذا مذهب أبي
العالية، ومجاهد، وقتادة، والزجاج. وقال ابن الأنباري: المعنى: ذروا الإثم من جميع جهاته.
والثالث: أن الإثم: المعصية، إلا أن المراد به هاهنا أمر خاص. قال ابن زيد: ظاهره
هاهنا: نزع أثوابهم، إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة، وباطنه: الزنا.
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى
أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون (121)
قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) سبب نزولها: مجادلة المشركين
78

للمؤمنين في قولهم: أتأكلون مما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله! على ما ذكرنا في سبب قوله تعالى:
(فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) هذا قول ابن عباس. وقال عكرمة: كتبت فارس إلى قريش: إن
محمدا وأصحابه لا يأكلون ما ذبحه الله، ويأكلون ما ذبحوا لأنفسهم، فكتب المشركون إلى
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شئ، فنزلت هذه الآية
وفي المراد بما لم يذكر اسم الله عليه أربعة أقوال:
أحدها: أنه الميتة، رواه ابن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أنه الميتة والمنخنقة، إلى قوله [تعالى]: (وما ذبح على النصب) روي عن ابن
عباس.
والثالث: أنها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها، قاله عطاء.
والرابع: أنه عام فيما لم يسم الله عند ذبحه، وإلى هذا المعنى ذهب عبد الله بن يزيد
الخطمي، ومحمد بن سيرين.
فصل
فإن تعمد ترك التسمية، فهل يباح؟ فيه عن أحمد روايتان. وإن تركها ناسيا أبيحت. وقال
الشافعي: لا يحرم في الحالين جميعا. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: فإذا قلنا. إن ترك التسمية
عمدا يمنع الإباحة، فقد نسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا
الكتاب حل لكم) وعلى قول الشافعي: الآية محكمة.
قوله تعالى: (وإنه لفسق) يعني: وإن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله لفسق، أي: خروج عن
الحق والدين. وفي المراد بالشياطين هاهنا قولان:
أحدهما: قوم من أهل فارس، وقد ذكرناه عن عكرمة، فعلى الأول: وحيهم الوسوسة، وعلى
الثاني: وحيهم الرسالة. والمراد ب‍ " أوليائهم " الكفار الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك أكل الميتة. ثم
فيهم قولان:
أحدهما: أنهم مشركو قريش.
والثاني: اليهود، (وإن أطعمتموهم) في استحلال الميتة (إنكم لمشركون).
أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات
79

ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون (122)
قوله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه) اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل، وذلك أن أبا جهل رمى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بفرث، وحمزة لم يؤمن بعد، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل، فأقبل حتى علا أبا جهل
بالقوس، فقال له: أما ترى ما جاء به؟ سفه عقولنا، وسب آلهتنا، فقال حمزة: ومن أسفه منكم؟
تعبدون الحجارة من دون الله؟! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فنزلت هذه الآية،
هذا قول ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في عمار بن ياسر، وأبي جهل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال
عكرمة.
والثالث: في عمر بن الخطاب، وأبي جهل، قاله زيد بن أسلم، والضحاك.
والرابع: في النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي جهل، قاله مقاتل.
والخامس: أنها عامة في كل مؤمن وكافر، قاله الحسن في آخرين. وفي قوله [تعالى]: (وكان
ميتا فأحييناه) قولان:
أحدهما: كان ضالا فهديناه، قاله مجاهد.
والثاني: كان جاهلا، فعلمناه، قاله الماوردي: وقرأ نافع: " ميتا " بالتشديد قال أبو عبيدة:
الميتة، مخففة: من ميتة، والمعنى واحد. وفي " النور " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الهدى، قاله ابن عباس.
والثاني: القرآن، قاله الحسن.
والثالث: العلم. وفي قوله [تعالى]: (يمشي به في الناس) ثلاثة أقوال:
أحدها: يهتدي به في الناس، قاله مقاتل.
والثاني: يمشي به بين الناس إلى الجنة.
والثالث: ينشر به دينه في الناس، فيصير كالماشي! ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: (كمن مثله) المثل: صلة، والمعنى: كمن هو في الظلمات. وقيل: المعنى:
كمن لو شبه بشئ، كان شبيهه من في الظلمات. وقيل: المراد بالظلمات هاهنا: الكفر.
قوله تعالى: (كذلك زين) أي: كما بقي هذا في ظلماته لا يتخلص منها، كذلك زين
80

(للكافرين ما كانوا يعملون) من الشرك والمعاصي.
وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما
يشعرون (123)
قوله تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية) أي: وكما زينا للكافرين عملهم، فكذلك جعلنا
في كل قرية أكابر مجرميها، وقيل معناه: وكما جعلنا فساق مكة أكابرها، فكذلك جعلنا فساق كل
قرية أكابرها. وإنما جعل الأكابر فساق كل قرية، لأنهم أقرب إلى الكفر بما أعطوا من الرياسة
والسعة. وقال ابن قتيبة: تقدير الآية: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، " وأكابر " لا
ينصرف، وهم العظماء.
قوله تعالى: (ليمكروا فيها) قال أبو عبيدة: المكر: والخديعة، والحيلة، والفجور، والغدر،
والخلاف. قال ابن عباس: ليقولوا فيها الكذب. قال مجاهد: أجلسوا على كل طريق من طرق مكة
أربعة، ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، يقولون للناس: هذا شاعر، وكاهن.
قوله تعالى: (وما يمكرون إلا بأنفسهم) أي: ذلك المكر بهم يحيق.
وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل
رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (124)
قوله تعالى: وإذا جاءتهم آية) سبب نزولها: أن أبا جهل قال: زاحمتنا بنو عبد مناف في
الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه. والله لا نؤمن به ولا نتبعه أو أن
يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قال الزجاج: الهاء والميم تعود على الأكابر
الذين جرى ذكرهم. وقال أبو سليمان: تعود على المجادلين في تحريم الميتة، قال مقاتل: والآية:
انشقاق القمر، والدخان، قال ابن عباس في قوله [تعالى]: (مثل ما أوتي رسل الله) قال: حتى
يوحى إلينا، ويأتينا جبريل، فيخبرنا أن محمدا صادق. قال الضحاك: سأل كل واحد منهم أن
يختص بالرسالة والوحي.
قوله تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: " رسالته "
بنصب التاء على التوحيد، والمعنى: أنهم ليسوا لها بأهل، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: والله لو
كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنا، وأكثر منك مالا، فنزل قوله تعالى:
(الله أعلم حيث يجعل رسالاته). وقال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل
81

مبعثهم مطاعين في قومهم، لأن الطعن كان يتوجه عليهم، فيقال: إنما كانوا رؤساء فاتبعوا، فكان
الله اعلم حيث جعل الرسالة ليتيم أبي طالب، دون أبي جهل والوليد، وأكابر مكة.
قوله تعالى: (سيصيب الذين أجرموا صغار) قال أبو عبيدة: الصغار: أشد الذل. وقال
الزجاج: المعنى: هم، وإن كانوا أكابر في الدنيا، فسيصبهم صغار عند الله، أي: صغار ثابت لهم عند
الله. وجائز أن يكون المعنى: سيصيبهم عند الله صغار، وقال الفراء: معناه: صغار من عند الله،
فحذفت " من ". وقال أبو روق: صغار في الدنيا: وعذاب شديد في الآخرة.
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره
ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125)
قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه) قال مقاتل: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي جهل.
قوله تعالى: (يشرح صدره) قال ابن الأعرابي: الشرح: الفتح. قال ابن قتيبة: ومنه يقال:
شرحت لك الأمر، وشرحت اللحم: إذا فتحته. وقال: ابن عباس: " يشرح صدره " أي: يوسع قلبه
للتوحيد والإيمان. وقد روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره
للإسلام)، فقيل له: يا رسول الله، وما هذا الشرح؟ قال: " نور يقذفه الله في القلب، فينفتح
القلب ". قالوا: فهل لذلك من أمارة؟ قال: " نعم ". قيل: وما هي؟ قال: " الإنابة إلى دار الخلود،
والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله ".
قوله تعالى: (ضيقا) قرأ الأكثرون بالتشديد. وقرأ ابن كثير: " ضيقا "، وفي (الفرقان):
(مكانا ضيقا) بتسكين الياء خفيفة. قال أبو علي: الضيق، والضيق: مثل الميت، والميت.
قوله تعالى: (حرجا) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: (حرجا)
بفتح الراء. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: بكسر الراء، قال الفراء: وهما لغتان. وكذلك قال
يونس بن حبيب النحوي: هما لغتان، إلا أن الفتح أكثر من ألسنة العرب من الكسر، ومجراهما
مجرى الدنف والدنف. وقال الزجاج: الحرج في اللغة: أضيق الضيق.
قوله تعالى: (كأنما يصاعد) قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
" يصعد " بتشديد الصاد والعين وفتح الصاد من غير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم: " يصاعد " بتشديد
الصاد وبعدها ألف. وقرأ ابن كثير: " يصعد " بتخفيف الصاد والعين من غير ألف والصاد ساكنة، وقرأ
82

ابن مسعود، وطلحة: " تصعد " بتاء من غير ألف. وقرأ أبي بن كعب: " يتصاعد " بألف وتاء. قال
الزجاج: قوله [تعالى]: (كأنما يصاعد في السماء). و " يصعد "، أصله: " يتصاعد "، و " يتصعد "،
إلا أن التاء تدغم في الصاد لقربها منها، والمعنى كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام
من ضيق صدره عنه. ويجوز أن يكون المعنى: كأن قلبه يصعد في السماء نبوا عن الإسلام
والحكمة. وقال الفراء: ضاق عليه المذهب، فلم يجد إلا أن يصعد في السماء، وليس يقدر على
ذلك. وقال أبو علي: " يصعد " و " يصاعد ": من المشقة، وصعوبة الشئ، ومنه قول عمر: ما
تصعدني شئ كما تصعدتني خطبة النكاح، أي: ما شق علي شئ مشقتها.
قوله تعالى: (كذلك) أي: مثل ما قصصنا عليك. (يجعل الله الرجس) وفيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه الشيطان، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. يعني: أن الله يسلطه عليهم.
والثاني: أنه المأتم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أنه مالا خير فيه، قاله مجاهد.
والرابع: العذاب، قاله عطاء، وابن زيد، وأبو عبيدة.
والخامس: أنه اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة، قاله الزجاج. وهذه الآية تقطع كلام القدرية،
إذ قد صرحت بأن الهداية والإضلال متعلقة بإرادة الله تعالى.
وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون (126)
قوله تعالى: (وهذا صراط ربك) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه القرآن، قاله ابن مسعود.
والثاني: التوحيد، قاله ابن عباس.
والثالث: ما هو عليه من الدين، قاله عطاء. ومعنى استقامته: أنه يؤدي بسالكه إلى الفوز:
قال مكي بن أبي طالب: و " مستقيما ": نصب على الحال من " صراط "، وهذه الحال يقال لها:
الحال المؤكدة، لأن صراط الله، لا يكون إلا مستقيما، ولم يؤت بها لتفرق بين حالتين، إذ لا يتغير
صراط الله عن الاستقامة أبدا، وليست هذه الحال كحال من قولك: " هذا زيد راكبا "، لأن زيدا قد
يخلو من الركوب.
) لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون (127)
قوله تعالى: (لهم دار السلام) يعني الجنة. وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن السلام، هو الله، وهي داره، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة والسدي.
83

والثاني: أنها دار السلامة التي لا تنقطع، قاله الزجاج.
والثالث: أن تحية أهلها فيها السلام، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
والرابع: أن جميع حالاتها مقرونة بالسلام، ففي ابتداء دخولهم: (ادخلوها بسلام)،
وبعد استقرارهم (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم). وقوله [تعالى]: (تحيتهم يوم
قيلا سلاما سلاما) وعند لقاء الله (سلام قولا من رب رحيم)، وقوله [تعالى]: (تحيتهم يوم
يلقونه سلام) ومعنى: (عند ربهم) أي: مضمونة لهم عنده، (وهو وليهم) أي: متولي إيصال
المنافع إليهم، ودفع المضار عنهم (بما كانوا يعملون) من الطاعات.
ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس
ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا
ما شاء الله إن ربك حكيم عليم (128)
قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا) يعني الجن والإنس. وقرأ حفص عن عاصم:
" يحشرهم " بالياء. قال أبو سليمان: يعني: المشركين وشياطينهم الذين كانوا يوحون إليهم بالمجادلة
لكم فيما حرمه الله من الميتة.
قوله تعالى: (يا معشر الجن) فيه إضمار، فيقال لهم: يا معشر، والمعشر: الجماعة،
أمرهم واحد، والجمع: المعاشر.
وقوله: (قد استكثرتم من الإنس) أي: من إغوائهم وإضلالهم. (وقال أولياؤهم من الإنس) يعني
الذين أضلهم الجن. (ربنا استمتع بعضنا ببعض) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن استمتاع الإنس بالجن: أنهم كانوا إذا سافروا، فنزلوا واديا، وأرادوا مبيتا، قال
أحدهم: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله، واستمتاع الجن بالإنس: أنهم كانوا يفخرون على
قومهم، ويقولون: قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال
مقاتل، والفراء.
والثاني: أن استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر
والمعاصي. واستمتاع الإنس بالجن: أن الجن زينت لهم الأمور التي يهوونها، وشهوها إلى إليهم حتى
84

سهل عليهم فعلها، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال محمد بن كعب، والزجاج.
والثالث: أن استمتاع الجن بالإنس: إغواؤهم إياهم. واستمتاع الإنس بالجن: ما يتلقون
منهم من السحر والكهانة ونحو ذلك. والمراد بالجن في هذه الآية: الشياطين.
قوله تعالى: (وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) فيه قولان:
أحدهما: الموت، قاله الحسن، والسدي.
والثاني: الحشر، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (قال النار مثواكم) قال الزجاج: المثوى: المقام، و " خالدين " منصوب على
الحال. المعنى: النار مقامكم في حال خلود دائم (إلا ما شاء الله) هو استثناء من يوم القيامة،
والمعنى: (خالدين فيها) مذ يبعثون (إلا ما شاء الله) من مقدار حشرهم من قبورهم، ومدتهم في
محاسبتهم. ويجوز أن تكون (إلا ما شاء الله) أن يزيدهم من العذاب. وقال بعضهم: إلا ما شاء الله
من كونهم في الدنيا بغير عذاب، وقيل في هذا غير قول، ستجدها مشروحة في (هود) إن شاء الله.
وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون (129)
قوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) في معناه أربعة أقوال:
أحدها: نجعل بعضهم أولياء بعض، رواه سعيد عن قتادة.
والثاني: نتبع بعضهم بعضا في النار بأعمالهم من الموالاة، وهي المتابعة، رواه معمر عن
قتادة.
والثالث: نسلط بعضهم على بعض، قاله ابن زيد.
والرابع: نكل بعضهم إلى بعض ولا نعينهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (بما كانوا يكسبون) أي: من المعاصي.
يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء
يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا
كافرين (130)
قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم) قرأ الحسن، وقتادة: " تأتكم " بالتاء، (رسل
منكم). واختلفوا في الرسالة إلى الجن على أربعة أقوال:
أحدها: أن الرسل كانت تبعث إلى الإنس خاصة، وأن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإنس
85

والجن، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن رسل الجن، هم الذين سمعوا القرآن، فولوا إلى قومهم منذرين، روي عن ابن
عباس أيضا. وقال مجاهد: الرسل من الإنس، والنذر من الجن، وهم قوم يسمعون كلام الرسل،
فيبلغون الجن ما سمعوا.
والثالث: أن الله تعالى: بعث إليهم رسلا منهم، كما بعث إلى الإنس رسلا منهم، قاله
الضحاك، ومقاتل، وأبو سليمان، وهو ظاهر الكلام.
والرابع: أن الله تعالى لم يبعث إليهم رسلا منهم، وإنما جاءتهم رسل الإنس، قاله ابن
جريج، والفراء، والزجاج. قالوا: ولا يكون الجمع في قوله [تعالى]: (ألم يأتكم رسل منكم)
مانعا أن تكون الرسل من أحد الفريقين، كقوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)، وإنما هو
خارج من الملح وحده.
وفي دخول الجن الجنة إذا آمنوا قولان:
أحدهما: يدخلونها، ويأكلون ويشربون، قاله الضحاك.
والثاني: ثوابهم أن يجاروا من النار ويصيروا ترابا، رواه سفيان عن ليث.
قوله تعالى: (يقصون عليكم آياتي) أي: يقرؤون عليكم كتبي: (وينذرونكم) أي:
يخوفونكم بيوم القيامة. وفي قوله [تعالى]: (شهدنا على أنفسنا) قولان:
أحدهما: أقررنا على أنفسنا بانذار الرسل لنا.
والثاني: شهد بعضنا على بعض بانذار الرسل إياهم. ثم أخبرنا الله تعالى بحالهم، فقال:
(وغرتهم الحياة الدنيا) أي: بزينتها. وإمهالهم فيها. (وشهدوا على أنفسهم) أي: أقروا أنهم
كانوا في الدنيا كافرين. وقال مقاتل: ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر.
ذلكم أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131)
قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) قال الزجاج: ذلك الذي قصصنا
عليك من أمر الرسل، وأمر عذاب من كذب، لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم، أي: لا
يهلكهم حتى يبعث إليهم رسولا. قال ابن عباس: " بظلم " أي: بشرك (وأهلها غافلون) لم يأتهم
رسول.
ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون (132)
قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا) أي: لكل عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات،
أي: منازل يبلغها بعمله، إن كان خيرا فخيرا، وإن كان شرا فشرا. وإنما سميت درجات لتفاضلها
86

في الارتفاع والانحطاط، كتفاضل الدرج.
قوله تعالى: (عما يعملون) قرأ الجمهور بالياء، وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب.
وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من
ذرية قوم آخرين (133) إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين (134)
قوله تعالى: (وربك الغني) يريد: الغني عن خلقه (ذو الرحمة) قال ابن عباس: بأوليائه
وأهل طاعته. وقال غيره: بالكل. ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين. (إن يشأ يذهبكم)
بالهلاك، وقيل: هذا الوعيد لأهل مكة، (ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم) أي: ابتدأكم
(من ذرية قوم آخرين) يعني: آباءهم الماضين. (إن ما توعدون) به من مجئ الساعة والحشر
(لآت وما أنتم بمعجزين) أي: بفائتين. قال أبو عبيدة: يقال: أعجزني كذا، أي: فاتني وسبقني.
قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار
إنه لا يفلح الظالمون (135)
قوله تعالى: (على مكانتكم) وقرأ أبو بكر عن عاصم: " مكاناتكم " على الجمع. قال ابن
قتيبة: أي: على موضعكم، يقال: مكان ومكانة، ومنزل ومنزلة وقال الزجاج: اعملوا على
تمكنكم. قال: ويجوز أن يكون المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه. تقول للرجل إذا أمرته أن يثبت
على حال: كن على مكانتك.
قوله تعالى: (إني عامل) أي: عامل ما أمرني به ربي (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة
الدار). قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: " تكون " بالتاء. وقرأ ما حمزة،
والكسائي: بالياء. وكذلك خلافهم في (القصص)، ووجه التأنيث، اللفظ، ووجه التذكير، أنه
ليس بتأنيث حقيقي. وعاقبة الدار: الجنة. والظالمون هاهنا: المشركون. فإن قيل: ظاهر هذه
الآية أمرهم بالإقامة على ما هم عليه، وذلك لا يجوز. فالجواب: أن معنى هذا الأمر المبالغة في
الوعيد، فكأنه قال: أقيموا على ما أنتم عليه، إن رضيتم بالعذاب، قاله الزجاج.
فصل
وفي هذه الآية قولان:
أحدهما: أن المراد بها التهديد، فعلى هذا هي محكمة.
والثاني: أن المراد بها ترك القتال، فعلى هذا هي منسوخة بآية السيف.
87

وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا
فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136)
قوله تعالى: (وجعلوا الله مما ذرأ) قال ابن قتيبة: ذرأ، بمعنى خلق. (من الحرث) وهو
الزرع. (والأنعام): الإبل والبقر والغنم، وكانوا إذا زرعوا، خطوا خطا، فقالوا: هذا لله، وهذا
لآلهتنا، فإذا حصدوا ما جعلوه لله، فوقع منه شئ فيما جعلوه لآلهتهم، تركوه وقالوا: هي إليه
محتاجة، وإذا حصدوا ما جعلوه لآلهتهم، فوقع منه شئ فيما مال الله،، أعادوه إلى موضعه. وكانوا
يجعلون من الأنعام شيئا لله، فإذا ولدت إناثها ميتا أكلوه، وإذا ولدت أنعام آلهتهم ميتا عظموه فلم
يأكلوه. وقال الزجاج: معنى الآية: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، وجعلوا لشركائهم
نصيبا، يدل عليه قوله [تعالى]: (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا)، فدل بالإشارة إلى
النصيبين على نصيب الشركاء، وكانوا إذا زكا ما لله، ولم يزك ما لشركائهم، ردوا الزاكي على
أصنامهم، وقالوا: هذه أحوج، والله غني، وإذا زكا ما للأصنام، ولم يزك ما لله، أقروه على ما به.
قال المفسرون: وكانوا يصرفون ما جعلوا لله إلى الضيفان والمساكين. فمعنى قوله (فلا يصل إلى
الله) أي: إلى هؤلاء. ويصرفون نصيب آلهتهم في الزرع إلى النفقة على خدامها. فأما نصيبها في الأنعام،
ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كان للنفقة عليها. أيضا.
والثاني: أنهم كانوا يتقربون به، فيذبحونه لها.
والثالث: أنه البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وقال الحسن: كان إذا هلك ما لأوثانهم
غرموه، وإذا هلك مالله لم يغرموه. وقال ابن زيد: كانوا لا يأكلون ما جعلوه لله حتى يذكروا عليه
اسم أوثانهم، ولا يذكرون الله على ما جعلوه للأوثان. فأما قوله: " بزعمهم " فقرأ الجمهور: بفتح
الزاي، وقرأ الكسائي، والأعمش: بضمها. وفي الزعم ثلاث لغات: ضم الزاي، وفتحها، وكسرها
ومثله السقط، والسقط، والسقط، والفتك، والفتك، والفتك، والزعم، والزعم، والزعم، قال
الفراء: فتح الزاي في الزعم، لأهل الحجاز، وضمها لأسد، وكسرها لبعض قيس فيما يحكي
الكسائي.
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم
دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون (137)
قوله تعالى: (كذلك زين) أي: ومثل ذلك الفعل القبيح فيما قسموا بالجهل زين. قال ابن
88

الأنباري: ويجوز أن يكون " وكذلك " مستأنفا، غير مشار به إلى ما قبله، فيكون المعنى: وهكذا
زين. وقرأ الجمهور: " زين " بفتح الزاي والياء، ونصب اللام من " قتل " وكسر الدال من " أولادهم "،
ورفع " الشركاء "، ووجه هذه القراءة ظاهر. وقرأ ابن عامر: بضم زاي " زين "، ورفع اللام، ونصب
الدال من " أولادهم "، وخفض " الشركاء ". قال أبو علي: ومعناها: قتل شركائهم أولادهم، ففصل
بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به، وهذا قبيح، قليل في الاستعمال. وقرأ أبو عبد الرحمن
السلمي، والحسن: " زين " بالرفع، " قتل " بالرفع أيضا، " أولادهم " بالجر، " شركاؤهم " رفعا. قال
الفراء: رفع القتل إذ لم يسم فاعله، ورفع الشركاء بفعل نواه، كأنه قال: زينه لهم شركاؤهم.
وكذلك قال سيبويه في هذه القراءة، كأنه قيل: من زينه؟ فقال: شركاؤهم. قال مكي بن أبي
طالب: وقد روي عن ابن عامر أيضا أنه قرأ بضم الزاي، ورفع اللام، وخفض الأولاد والشركاء،
فيصير الشركاء اسما للأولاد، لمشاركتهم للآباء في النسب والميراث والدين.
وللمفسرين في المراد بشركائهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم الشياطين، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي.
والثاني: شركاؤهم في الشرك، قاله قتادة.
والثالث: قوم كانوا يخدمون الأوثان، قاله الفراء، والزجاج.
والرابع: أنهم الغواة من الناس، ذكره الماوردي. وإنما أضيف الشركاء إليهم، لأنهم هم
الذين اختلقوا ذلك وزعموه. وفي الذي زينوه لهم من قتل أولادهم قولان:
أحدهما: أنه وأد البنات أحياء خيفة الفقر، قاله مجاهد.
والثاني: أنه كان يحلف أحدهم أنه إن ولد له كذا وكذا غلاما أن ينحر أحدهم، كما حلف
عبد المطلب في نحر عبد الله، قاله ابن السائب، ومقاتل.
قوله تعالى: (ليردوهم) أي: ليهلكوهم. وفي هذه اللام قولان:
أحدهما: أنها لام " كي ".
والثاني: أنها لام العاقبة، كقوله [تعالى]: (ليكون لهم عدوا) أي: آل أمرهم إلى الردى، لا
أنهم قصدوا ذلك.
قوله تعالى: (وليلبسوا عليهم دينهم) أي: ليخلطوا. قال ابن عباس ليدخلوا عليهم الشك في
دينهم، وكانوا على دين إسماعيل، فرجعوا عنه بتزيين الشياطين.
قوله تعالى: (فذرهم وما يفترون) قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا دفنوا بناتهم قالوا:
إن الله أمرنا بذلك، فقال: (فذرهم وما يفترون)، أي: يكذبون، وهذا تهديد ووعيد، فهو
محكم، وقال قوم: مقصوده ترك قتالهم، فهو منسوخ بآية السيف.
89

وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها
وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون (138)
قوله تعالى: (وقالوا هذه أنعام وحرث وحجر) الحرث: الزرع، والحجر: الحرام،
والمعنى: أنهم حرموا أنعاما وحرثا جعلوه لأصنامهم. قال ابن قتيبة: وإنما قيل للحرام: حجر، لأنه
حجر على الناس أن يصيبوه. وقرأ الحسن، وقتادة: " حجر " بضم الحاء. قال الفراء: يقال: حجر،
وحجر، بكسر الحاء وضمها، وهي في قراءة ابن مسعود: " حرج "، مثل: " جذب " و " جبذ " وفي هذه
الأنعام التي جعلوها للأصنام قولان:
أحدهما: أنها البحيرة والسائبة، والوصيلة، والحام.
والثاني: أنها الذبائح للأوثان، وقد سبق ذكرهما.
قوله تعالى: (لا يطعمها إلا من نشاء) هو كقوله: لا يذوقها إلا من نريد.
وفيمن أطلقوا له تناولها قولان:
أحدهما: أنهم منعوا منها النساء، وجعلوها للرجال قاله ابن السائب.
والثاني: عكسه، قاله ابن زيد. قال الزجاج: أعلم الله عز وجل أن هذا التحريم زعم منهم،
لا حجة فيه ولا برهان. وفي قوله [تعالى]: (أنعام حرمت ظهورها) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الحام، قاله ابن عباس.
والثاني: البحيرة، كانوا لا يحجون عليها، قاله أبو وائل.
والثالث: البحيرة، والسائبة، والحام، قاله السدي.
قوله تعالى: (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) هي قربان آلهتهم، يذكرون عليها اسم
الأوثان خاصة. وقال أبو وائل هي التي كانوا لا يحجون عليها وقد ذكرنا هذا عنه في قوله
[تعالى]: (حرمت ظهورها)، فعلى قوله الصفتان لموصوف واحد. وقال مجاهد: كان من إبلهم
طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شئ، لا إن ركبوا، ولا إن حملوا، ولا إن حلبوا ولا إن نتجوا
وفي قوله: (افتراء الله قولان:
أحدهما: أن ذكر أسماء أوثانهم وترك ذكر الله هو الافتراء.
والثاني: أن إضافتهم ذلك إلى الله تعالى: هو الافتراء لأنهم كانوا يقولون هو حرم ذلك.
وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن لم يكن ميتة فهم فيه
شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (139)
90

قوله تعالى: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام) يعني بالأنعام: المحرمات عندهم، من
البحيرة، والسائبة، والوصيلة. وللمفسرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اللبن، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: الأجنة، قاله مجاهد.
والثالث: الولد واللبن، قاله السدي، ومقاتل.
قوله تعالى: (خالصة لذكورنا) قرأ الجمهور: " خالصة " على لفظ التأنيث. وفيها أربعة
أوجه.
أحدها: أنه إنما أنثت، لأن الأنعام مؤنثة، وما في بطونها مثلها، قاله الفراء.
والثاني: أن معنى " ما " التأنيث، لأنها في معنى الجماعة، فكأنه قال: جماعة ما في بطون هذه
الأنعام خالصة، قاله الزجاج.
والثالث: أن الهاء دخلت للمبالغة في الوصف، كما قالوا: " علامة " و " نسابة ".
والرابع: أنه أجري مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن الأسماء المذكرة، كقولك:
عطاؤك عافية، والرخص نعمة، ذكرهما ابن الأنباري. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والضحاك،
والأعمش، وابن أبي عبلة: " خالص " بالرفع، من غير هاء. قال الفراء: وإنما ذكر لتذكير " ما ".
وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، وابن يعمر: " خالصه " برفع الصاد والهاء على ضمير مذكر،
قال الزجاج: والمعنى: ما خلص حيا. وقرأ قتادة: " خالصة " بالنصب. فأما الذكور، فهم الرجال،
والأزواج النساء.
قوله تعالى: (وإن يكن ميتة) قرأ الأكثرون: " يكن بالياء، " ميتة " بالنصب، وذلك مردود على
لفظ " ما ". والمعنى وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. وقرأ ابن كثير: " يكن " بالياء، " ميتة "
بالرفع. وافقه ابن عامر في رفع الميتة، غير أنه قرأ: " تكن " بالتاء. والمعنى: وإن تحدث وتقع،
فجعل " كان ": تامة لا تحتاج إلى خبر. وقرأ أبو بكر عن عاصم: " تكن " بالتاء، " ميتة "
بالنصب. والمعنى وإن تكن الأنعام التي في البطون ميتة.
قوله تعالى: (فهم فيف شركاء) يعني الرجال والنساء. (سيجزيهم وصفهم) قال الزجاج:
أراد جزاء وصفهم الذي هو كذب.
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد
ضلوا وما كانوا مهتدين (140)
قوله تعالى: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم) وقرأ ابن كثير، وابن عامر: " قتلوا " بالتشديد.
91

قال ابن عباس: نزلت في ربيعة، ومضر، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياء في الجاهلية من العرب.
وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السبي والفاقة، ويغذو كلبه. قال الزجاج:
وقوله: " سفها " منصوب على معنى اللام. تقديره: للسفه، تقول: فعلت ذلك حذر الشر. وقرأ ابن
السميفع، والجحدري، ومعاذ القارئ: " سفهاء " برفع السين وفتح الفاء والهمزة وبالمد وبالنصب
والهمز.
قوله تعالى: (بغير علم) أي: كانوا يفعلون ذلك للسفه من غير أن أتاهم علم في ذلك،
وحرموا ما رزقهم الله من الأنعام والحرث، وزعموا أن الله أمرهم بذلك.
* وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون
والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا
تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (141)
قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن المعروشات ما انبسط على وجه الأرض، وانتشر مما يعرش، كالكرم، والقرع،
والبطيخ، وغير معروشات: ما قام على ساق، كالنخل، والزرع، وسائر الأشجار.
والثاني: أن المعروشات: ما أنبته الناس، وغير معروشات: ما خرج في البراري والجبال من
الثمار، رويا عن ابن عباس.
والثالث: أن المعروشات، وغير المعروشات: الكرم، منه ما عرش، ومنه ما لم يعرش، قاله
الضحاك.
والرابع: أن المعروشات: الكروم التي قد عرش عنبها، وغير المعروشات: سائر الشجر
الذي لا يعرش، قاله أبو عبيدة. والأكل: الثمر. (والزيتون والرمان متشابها) قد سبق تفسيره.
قوله تعالى: (كلوا من ثمره إذا أثمر) هذا أمر إباحة، وقيل: إنما قدم الأكل لينهي عن فعل
الجاهلية في زروعهم من تحريم بعضها.
قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) قرأ ابن عامر، وعاصم وأبو عمرو: بفتح الحاء، وهي
92

لغة أهل نجد، وتميم. وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي: بكسرها، وهي لغة أهل
الحجاز، ذكره الفراء. وفي المراد بهذا الحق قولان:
أحدهما: أنه الزكاة، روي عن أنس بن مالك، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن،
وطاووس، وجابر بن زيد، وابن الحنفية، وقتادة في آخرين، فعلى هذا، الآية محكمة.
والثاني: أنه حق غير الزكاة فرض يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر، وترك ما سقط من
الزرع والثمر، قاله عطاء، ومجاهد. وهل نسخ ذلك، أم لا؟ إن قلنا: إنه أمر وجوب، فهو منسوخ
بالزكاة، وإن قلنا: إنه أمر استحباب، فهو باقي الحكم.
فإن قيل: هل يجب إيتاء الحق يوم الحصاد؟ فالجواب: إن قلنا: إنه إطعام من حضر من
الفقراء، فذلك يكون يوم الحصاد، وإن قلنا: إنه الزكاة، فقد ذكرت عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الأمر بالإيتاء محمول على النخيل، لأن صدقتها تجب يوم الحصاد. فأما الزروع،
فالأمر بالإيتاء منها محمول على وجوب الإخراج، إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد، فيؤخر إلى
زمان التنقية، ذكره بعض السلف.
والثاني: أن اليوم ظرف للحق، لا للايتاء، فكأنه قال: وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد
التنقية.
والثالث: أن فائدة ذكر الحصاد ان الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه، إنما يجب يوم
حصوله في يد صاحبه. وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه، فأفادت الآية
أن الوجوب فيما يحصل في اليد، دون ما يتلف، ذكر الجوابين القاضي أبو يعلى. وفي قوله
[تعالى]: (ولا تسرفوا) ستة أقوال:
أحدها: أنه تجاوز المفروض في الزكاة إلى حد يجحف به، قاله أبو العالية، وابن جريج.
وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة، ثم قسمها
في يوم واحد، فأمسى ولم يترك لأهله شيئا، فكره الله تعالى له ذلك، فنزلت: (ولا تسرفوا إنه لا
يحب المسرفين).
والثاني: أن الإسراف: يمنع الصدقة الواجبة! قاله سعيد بن المسيب.
والثالث: أنه الإنفاق في المعصية، قاله مجاهد، والزهري.
والرابع: أنه إشراك الآلهة في الحرث والأنعام، قاله عطية، وابن السائب.
والخامس: أنه خطاب للسلطان لئلا يأخذ فوق الواجب من الصدقة، قاله ابن زيد.
والسادس أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزكاة، قاله ابن بحر.
93

ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم
عدو مبين (142)
قوله تعالى: (ومن الأنعام حمولة) هذا نسق على ما قبله، والمعنى: أنشأ جنات وأنشأ حمولة
وفرشا. وفي ذلك خمسة أقوال:
أحدها: أن الحمولة: ما حمل من الإبل، والفرش: صغارها، قاله ابن مسعود،
والحسن، ومجاهد، وابن قتيبة.
والثاني: أن الحموله: ما انتفعت بظهورها، والفرش: الراعية، رواه الضحاك عن ابن
عباس.
والثالث: أن الحمولة الإبل: والخيل، والبغال، والحمير، وكل شئ يحمل عليه. والفرش:
الغنم: رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والرابع: الحمولة: من الإبل، والفرش: من الغنم، قاله الضحاك.
والخامس: الحمولة: الإبل والبقر. والفرش: الغنم، وما لا يحمل عليه من الإبل، قاله
قتادة. وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: " حمولة " بضم الحاء.
قوله تعالى: (كلوا مما رزقكم الله) قال الزجاج: المعنى: لا تحرموا ما حرمتم مما جرى
ذكره، (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) أي: طرقه. قال: وقوله [تعالى]: (ثمانية أزواج) بدل من
قوله [تعالى]: (حمولة وفرشا). والزوج، في اللغة: الواحد الذي يكون معه آخر. قلت: وهذا
كلام يفتقر إلى تمام، وهو أن يقال: الزوج: ما كان معه آخر من جنسه، فحينئذ يقال لكل واحد
منهما: زوج.
ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل أالذكرين حرم أم الأنثيين أما
اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143) ومن الإبل اثنين ومن
البقر اثنين قل أالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء
إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا
يهدي القوم الظالمين (144)
قوله تعالى: (من الضأن اثنين) الضأن: ذوات الصوف من الغنم، والمعز: ذوات الشعر
94

منها. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: من " المعز " بفتح العين. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم،
والكسائي: بتسكين العين. والمراد بالأنثيين الذكر والأنثى. (قل أالذكرين) من الضأن والمعز
حرم الله عليكم (أم الأنثيين) منها؟ المعنى: فإن كان ما حرم الله عليكم الذكرين. فكل الذكور
حرام، وإن كان حرم الأنثيين، فكل الإناث حرام، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين،
فهي تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل على الذكور والإناث، فيكون كل جنين
حراما. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ألحقكم التحريم من جهة الذكرين، أم من جهة الأنثيين؟
فإن قالوا: من جهة الذكرين حرم عليهم كل ذكر، وإن قالوا: من جهة الأنثيين، حرمت عليهم كل
أنثى، وإن قالوا: من جهة الرحم، حرم عليهم الذكر والأنثى. وقال ابن جرير الطبري: إن قالوا:
حرم الذكرين، أوجبوا تحريم كل ذكر من الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض الذكران منها
وظهوره، وفي ذلك فساد دعواهم. وإن قالوا: حرم الأنثيين أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن
والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره. وإن قالوا: ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فقد كانوا
يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها. قال المفسرون: فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الآية والتي بعدها، لأنهم
كانوا يحرمون أجناسا من النعم، بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال.
وفي قوله [تعالى]: (الذكرين حرم أم الأنثيين)، إبطال لما حرموه من البحيرة، والسائبة،
والوصيلة والحام.
وفي قوله [تعالى]: (أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين)، إبطال قولهم: (ما في بطون هذه
الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا).
قوله تعالى: (نبئنوني بعلم) قال الزجاج: المعنى: فسروا ما حرمتم بعلم، أي: أنتم لا علم
لكم، لأنكم لا تؤمنون بكتاب. (أم كنتم شهداء) أي: هل شاهدتم الله قد حرم هذا، إذا كنتم لا
تؤمنون برسول؟
قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم) قال ابن عباس:
يريد عمرو بن لحي، ومن جاء بعده. والظالمون هاهنا: المشركون.
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو
لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور
رحيم (145)
قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه) نبههم بهذا على أن
95

التحريم والتحليل، إنما يثبت بالوحي، وقال طاووس، ومجاهد: معنى الآية: لا أجد محرما مما
كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا. والمراد بالطاعم: الآكل. (إلا أن يكون ميتة) أي: إلا أن
يكون المأكول ميتة. قرأ ابن كثير، وحمزة: " إلا أن يكون " بالياء، " ميتة " نصبا! وقرأ ابن عامر: " إلا
أن تكون " بالتاء، " ميتة " بالرفع، على معنى: إلا أن تقع ميتة، أو تحدث ميتة. (أو دما مسفوحا)
قال قتادة: إنما حرم المسفوح. فأما اللحم إذا خالطه دم، فلا بأس به قال الزجاج: المسفوح:
المصبوب. وكانوا إذا ذكوا يأكلون الدم كما يأكلون اللحم. والرجس: اسم لما يستقذر، وللعذاب.
(أو فسقا) المعنى: أو أن يكون المأكول فسقا. (أهل لغير الله به) أي: رفع الصوت على ذبحه
باسم غير الله فسمى ما ذكر عليه غير اسم الله فسقا، والفسق: الخروج من الدين.
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها محكمة. ولأرباب هذا القول في سبب إحكامها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها خبر، والخبر لا يدخله النسخ.
والثاني: أنها جاءت جوابا عن سؤال سألوه، فكان الجواب بقدر السؤال، ثم حرم بعد ذلك ما
حرم.
والثالث: أنه ليس في الحيوان محرم إلا ما ذكر فيها.
والقول الثاني: أنها منسوخة بما ذكر في (المائدة) من المنخنقة والموقوذة وفي السنة من
تحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير. وقيل: إن آية (المائدة) داخلة
في هذه الآية، لأن تلك الأشياء كلها ميتة.
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما
حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)
قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) وقرأ الحسن، والأعمش: " ظفر "
بسكون الفاء، وهذا التحريم تحريم بلوى وعقوبة. وفي ذي الظفر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ما ليس بمنفرج الأصابع، كالإبل، والنعام، والإوز، والبط، قاله ابن عباس، وابن
جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي.
والثاني: انه الإبل فقط، قاله ابن زيد.
والثالث: كل ذي حافر من الدواب، ومخلب من الطير، قاله ابن قتيبة. قال: وسمي الحافر ظفرا
96

على الاستعارة، والعرب تجعل الحافر والأظلاف موضع القدم، استعارة، وأنشدوا:
سأمنعها أو سوف أجعل أمرها * إلى ملك أظلافه لم تشقق
أراد قدميه، وإنما الأظلاف للشاء والبقر. قال ابن الأنباري: الظفر هاهنا، يجري مجرى
الظفر للانسان. وفيه ثلاث لغات أعلاهن: ظفر، ويقال: ظفر، وأظفور. وقال الشاعر:
ألم تر أن الموت أدرك من مضى * فلم يبق منه ذا جناح وذا ظفر
وقال الآخر:
لقد كنت ذا ناب وظفر على العدى * فأصبحت ما يخشون نابي ولا ظفري
وقال الآخر:
ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت * وبين أخرى تليها قيد أظفور
وفي شحوم البقر والغنم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إنما حرم من ذلك شحوم الثروب خاصة، قاله قتادة.
والثاني: شحوم الثروب والكلى، قاله السدي، وابن زيد.
والثالث: كل شحم لم يكن مختلطا بعظم، ولا على عظم، قاله ابن جريج. وفي قوله
[تعالى]: (إلا ما حملت ظهورهما) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ما علق بالظهر من الشحوم، قاله ابن عباس.
والثاني: الألية، قاله أبو صالح، والسدي.
والثالث: ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما، قاله قتادة. فأما الحوايا، فللمفسرين
فيها أقوال تتقارب معانيها. قال ابن عباس، والحسن، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي،
وابن قتيبة: هي المباعر. وقال ابن زيد: هي بنات اللبن، وهي المرابض التي تكون فيها الأمعاء.
وقال الفراء: الحوايا: هي المباعر، وبنات اللبن، وقال الأصمعي: هي بنات اللبن، واحدها:
حاوياء، وحاوية، وحوية.
قال الشاعر:
أقتلهم ولا أرى معاوية * الجاحظ العين العظيم الحاويه
وقال الآخر:
كأن نقيق الحب في حاويائه * فحيح الأفاعي أو نقيق العقارب
وقال أبو عبيدة: الحوايا [اسم لجميع] ما تحوي من البطن، أي: ما استدار منها. وقال
97

الزجاج: الحوايا: اسم لجميع ما تحوي من الأمعاء، أي: استدار. وقال ابن جرير الطبري:
الحوايا: ما تحوى من البطن. فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن، وهي المباعر، وتسمى:
المرابض، وفيها الأمعاء.
قوله تعالى: (أو ما اختلط بعظم) فيه قولان:
أحدهما: أنه شحم البطن والألية، لأنهما على عظم، قاله السدي.
والثاني: كل شحم في القوائم، والجنب، والرأس. والعينين، والأذنين، فهو مما اختلط
بعظم، قاله ابن جريج. واتفقوا على أن ما حملت ظهورهما حلال، بالاستثناء من التحريم. فأما ما
حملت الحوايا، أو ما اختلط بعظم، ففيه قولان:
أحدهما: أنه داخل في الاستثناء، فهو مباح، والمعنى: وأبيح لهم ما حملت الحوايا من
الشحم وما اختلط بعظم، وهذا قول الأكثرين.
والثاني: أنه نسق على ما حرم، لا على الاستثناء، فالمعنى: حرمنا عليهم شحومهما، أو
الحوايا، أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت الظهور، فإنه غير محرم، قاله الزجاج. فأما " أو "
المذكورة هاهنا، فهي بمعنى الواو، كقوله [تعالى] (آثما أو كفورا).
قوله تعالى: (ذلك جزيناهم) أي: ذلك التحريم عقوبة لهم على بغيهم. وفي بغيهم قولان:
أحدهما: أنه قتلهم الأنبياء، وأكلهم الربا.
والثاني: أنه تحريم ما أحل لهم.
فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين (147)
قوله تعالى: (فإن كذبوك) قال ابن عباس: لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين: " هذا ما أوحي
إلي أنه محرم على المسلمين وعلى اليهود "، قالوا: فإنك لم تصب، فنزلت هذه الآية. وفي
المكذبين قولان:
أحدهما: المشركون قاله ابن عباس.
والثاني: اليهود، قاله مجاهد، والمراد بذكر الرحمة الواسعة، أنه لا يعجل بالعقوبة. والبأس:
العذاب. وفي المراد بالمجرمين قولان:
أحدهما: المشركون.
والثاني: المكذبون.
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك
98

كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا
الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148)
قوله تعالى: (سيقول الذين أشركوا) أي: إذا لزمتهم الحجة، وتيقنوا باطل ما هم عليه من
الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله (لو شاء الله ما أشركنا)، فجعلوا هذا حجة لهم في إقامتهم على
الباطل، فكأنهم قالوا: لو لم يرض ما نحن عليه، لحال بيننا وبينه، وإنما قالوا ذلك مستهزئين،
ودافعين للاحتجاج عليهم، فيقال لهم: لم تقولون عن مخالفيكم إنهم ضالون، وإنما هم على
المشيئة أيضا؟ فلا حجة لهم، لأنهم تعلقوا بالمشيئة، وتركوا الأمر، ومشيئة الله تعم جميع الكائنات،
وأمره لا يعم مراداته، فعلى العبد اتباع الأمر، وليس له أن يتعلل بالمشيئة بعد ورود الأمر.
قوله تعالى: (كذلك كذب الذين من قبلهم) قال ابن عباس: أي: قالوا لرسلهم مثلما قال
هؤلاء لك، (حتى ذاقوا بأسنا) أي: عذابنا. (قل هل عندكم من علم) أي: كتاب نزل من عند
الله في تحريم ما حرمتم (إن تتبعون إلا الظن) لا اليقين، و " إن " بمعنى " ما ". و " تخرصون ":
تكذبون.
قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين (149)
قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة) قال الزجاج: حجته البالغة: تبيينه انه الواحد، وإرساله
الأنبياء بالحجج المعجزة. قال السدي: (فلو شاء لهداكم أجمعين) يوم أخذ الميثاق.
قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع
أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون (150)
قوله تعالى: (قل هلم شهداءكم) قال الزجاج: زعم سيبويه أن (هلم) هاء ضمت إليها " لم "،
وجعلتا كالكلمة الواحدة، فأكثر اللغات أن يقال: " هلم ": للواحد والاثنين والجماعة، بذلك جاء
القرآن. ومن العرب من يثني ويجمع ويؤنث، فيقول للذكر: " هلم " وللمرأة: " هلمي "، وللاثنين
" هلما "، وللثنتين: " هلما "، وللجماعة: " هلموا "، وللنسوة: " هلممن ". وقال ابن قتيبة: " هلم "،
بمعنى: " تعال ". وأهل الحجاز لا يثنونها ولا يجمعونها، وأهل نجد يجعلونها من " هلممت " فيثنون
ويجمعون ويؤنثون، وتوصل باللام، فيقال: " هلم لك "، " وهلم لكما ". قال: وقال الخليل:
أصلها " لم "، وزيدت الهاء في أولها. وخالفه الفراء فقال: أصلها " هل " ضم إليها " أم "، والرفعة
التي في اللام من همزة " أم " لما تركت انتقلت إلى ما قبلها، وكذلك " اللهم " ترى أصلها: " يا الله
99

أمنا بخير " فكثرت في الكلام، فاختلطت، وتركت الهمزة. وقال ابن الأنباري: معنى " هلم ": أقبل،
وأصله: " أم يا رجل "، أي: " اقصد "، فضموا " هل " إلى " أم " وجعلوهما حرفا واحدا، وأزالوا " أم "
عن التصرف، وحولوا ضمة همزة " أم " إلى اللام، وأسقطوا الهمزة، فاتصلت الميم باللام. وإذا
قال الرجل للرجل، " هلم "، فأراد أن يقول: لا أفعل، قال: " لا أهلم " ولا أهلم ". قال مجاهد: هذه الآية
جواب قولهم: إن الله حرم البحيرة، والسائبة. قال مقاتل: الذين يشهدون أن الله حرم هذا الحرث والأنعام،
(فإن شهدوا) أن الله حرمه (فلا تشهد معهم) أي: لا تصدق قولهم.
* قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا
أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (151)
قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) " ما " بمعنى " الذي ". وفي " لا " قولان:
أحدهما: أنها زائدة كقوله [تعالى]: " أن لا تسجد ".
والثاني: أنها ليست زائدة، وإنما هي باقية، فعلى هذا القول، في تقدير الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون قوله: " أن لا تشركوا "، محمولا على المعنى، فتقديره: أتل عليكم أن لا
تشركوا، أي أتل تحريم الشرك.
والثاني: أن يكون المعنى: أوصيكم أن لا تشركوا، لأن قوله [تعالى]: (وبالوالدين إحسانا)
محمول على معنى: أوصيكم بالوالدين إحسانا، ذكرهما الزجاج.
والثالث: أن الكلام تم عند قوله: (حرم ربكم). ثم في قوله: " عليكم " قولان:
أحدهما: أنها إغراء، كقوله: (عليكم أنفسكم). فالتقدير: عليكم أن لا تشركوا، ذكره
ابن الأنباري.
والثاني: أن يكون بمعنى: فرض عليكم، ووجب عليكم أن لا تشركوا وفي هذا الشرك
قولان:
أحدهما: أنه ادعاء شريك مع الله عز وجل.
والثاني: أنه طاعة غيره في معصيته.
قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم) يريد دفن البنات أحياء و (من إملاق) أي: من خوف
فقر.
قوله تعالى: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) فيه خمسة أقوال:
100

أحدها: أن الفواحش: الزنا، وما ظهر منه: الإعلان به، وما بطن: الاستسرار به، قاله ابن
عباس، والحسن، والسدي.
والثاني: أن ما ظهر: الخمر، ونكاح المحرمات. وما بطن: الزنا، قاله سعيد بن جبير،
ومجاهد.
والثالث: أن ما ظهر: الخمر، وما بطن: الزنا، قاله الضحاك.
والرابع: أنه عام في الفواحش. وظاهرها: علانيتها، وباطنها: سرها، قاله قتادة.
والخامس: أن ما ظهر: أفعال الجوارح، وما بطن: اعتقاد القلوب، ذكره الماوردي في تفسير
هذا الموضع، وفي تفسير قوله: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه).
والنفس التي حرم الله: نفس مسلم أو معاهد. والمراد بالحق: إذن الشرع.
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان
بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا
ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون (152)
قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم) إنما خص مال اليتيم، لأن الطمع فيه، لقلة مراعيه وضعف
مالكه، أقوي. وفي قوله: (إلا بالتي هي أحسن) أشده إنما خص مال أربعة أقوال:
أحدها: أنه أكل الوصي المصلح للمال بالمعروف وقت حاجته، قاله ابن عباس، وابن زيد.
والثاني: التجارة فيه، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي.
والثالث: أنه حفظه له إلى وقت تسليمه إليه، قاله ابن السائب.
والرابع: أنه حفظه عليه، وتثميره له، قاله الزجاج. قال: و " حتى " محمولة على المعنى،
فالمعنى: احفظوه عليه حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده، فادفعوه إليه. فأما الأشد، فهو استحكام قوة
الشباب والسن. قال ابن قتيبة: ومعنى الآية: حتى يتناهى في النبات إلى حد الرجال. يقال: بلغ
أشده: إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النقصان. وقال أبو عبيدة: الأشد لا واحد له منه، فإن
أكرهوا على ذلك، قالوا: شد، بمنزلة: ضب، والجمع: أضب. قاله ابن الأنباري: وقال جماعة
من البصريين: واحد الأشد: شد، بضم الشين. وقال بعض البصريين: واحد الأشد: شدة،
كقولهم: نعمة، وأنعم. وقال بعض أهل اللغة: الأشد: اسم لا واحد له. وللمفسرين في الأشد
ثمانية أقوال:
101

أحدها: أنه ثلاث وثلاثون سنة، رواه ابن جبير عن ابن عباس.
والثاني: ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أربعون سنة، روي عن عائشة عليها السلام.
والرابع: ثماني عشرة سنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل.
والخامس: خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة.
والسادس أربعة وثلاثون سنة، قاله سفيان الثوري.
والسابع ثلاثون سنة، قاله السدي. وقال: ثم جاء بعد هذه الآية: (حتى إذا بلغوا
النكاح) فكأنه يشير إلى النسخ.
والثامن: بلوغ الحلم، قاله زيد بن أسلم، والشعبي، ويحيى بن يعمر، وربيعة، ومالك بن
أنس، وهو الصحيح. ولا أظن بالذين حكينا عنهم الأقوال التي قبله فسروا هذه الآية بما ذكر عنهم،
وإنما أظن أن الذين جمعوا التفاسير، نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى: (ولما بلغ أشده) إلى
هذا المكان، وذلك نهاية الأشد، وهذا ابتداء تمامه، وليس هذا مثل ذاك قال ابن جرير: وفي
الكلام محذوف، ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر عما حذف، لأن المعنى: حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ
أشده، وآنستم منه رشدا، فادفعوا إليه ماله.
وهذا الذي ذكره ابن جرير ليس بصحيح، لأن إيناس الرشد استفيد من سورة النساء وكذلك أولياء
اليتامى، فحمل المطلق على التقييد.
قوله تعالى: (وأوفوا الكيل) أي: أتموه ولا تنقصوا منه. و (الميزان) أي: وزن الميزان.
والقسط: العدل. (لا نكلف نفسا إلا وسعها) أي: ما يسعها. ولا تضيق عنه. قال القاضي أبو
يعلى: لما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل، كلفنا الاجتهاد في التحري، دون
تحقيق الكيل والوزن.
قوله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا) أي: إذا تكلمتم أو شهدتم، فقولوا الحق، ولو كان
المشهود له أو عليه ذا قرابة. وعهد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به، وعلى ما
أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره. (دلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) أي: لتذكروه وتأخذوا
به. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " تذكرون " و " يذكرون " و " يذكر الإنسان " و " أن يذكر "، و
" ليذكروا " مشددا ذلك كله. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، وابن عامر كل ذلك بالتشديد، إلا قوله
[تعالى]: (أولا يذكر الإنسان) فإنهم خففوه. روى أبان، وحفص عن عاصم: " يذكرون "
خفيفة الذال في جميع القرآن. قرأ حمزة، والكسائي: " يذكرون " مشددا إذا كان بالياء، ومخففا إذا
كان بالتاء.
102

وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم
وصاكم به لعلكم تتقون (153)
قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو:
" وأن " بفتح الألف مع تشديد النون. قال الفراء: إن شئت جعلت " أن " مفتوحة بوقوع " أتل "
عليها، وإن شئت جعلتها خفضا، على معنى: ذلكم وصاكم به، وبأن هذا صراطي مستقيما. وقرأ
ابن عامر بفتح الألف أيضا، إلا أنه خفف النون، فجعلها مخففة من الثقيلة، وحكم إعرابها حكم
تلك. وقرأ حمزة، والكسائي: بتشديد النون مع كسر الألف. قال الفراء: وكسر الألف على الاستئناف.
وفي الصراط قولان:
أحدهما: أنه القرآن.
والثاني: الإسلام. وقد بينا إعراب قوله: " مستقيما ". فأما " السبل "، فقال ابن عباس: هي
الضلالات. وقال مجاهد: البدع والشبهات. وقال مقاتل: أراد ما حرموا على أنفسهم من الأنعام
والحرث. (فتفرق بكم عن سبيله) أي: فتضلكم عن دينه.
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة
لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (154)
قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب) قال الزجاج: " ثم " هاهنا للعطف على معنى
التلاوة، فالمعنى: أتل ما حرم ربكم، ثم أتل عليكم ما آتاه الله موسى. وقال ابن الأنباري: الذي
بعد " ثم " مقدم على الذي قبلها في النية، والتقدير: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزاله القرآن
على محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: (تماما على الذي أحسن) في قوله (تعالى]: (تماما) قولان:
أحدهما: أنها كلمة متصلة بما بعدها، تقول: أعطيتك كذا تماما على كذا، وتماما لكذا،
وهذا قول الجمهور.
والثاني: أن قوله: (تماما) كلمة قائمة بنفسها، غير متصلة بما بعدها، والتقدير: آتينا موسى
الكتاب تماما، أي: في دفعة واحدة، لم نفرق إنزاله كما فرق إنزال القرآن، ذكره أبو سليمان
الدمشقي. وفي المشار إليه بقوله: (أحسن) أربعة أقوال:
أحدها: أنه الله عز وجل. ثم في معنى الكلام قولان:
103

أحدهما: تماما على إحسان الله إلى أنبيائه، قاله ابن زيد.
والثاني: تماما على إحسان الله [تعالى] إلى موسى، وعلى هذين القولين، يكون " الذي "
بمعنى " ما ".
والقول الثاني: أنه إبراهيم الخليل [عليه السلام]، فالمعنى: تماما للنعمة على إبراهيم
الذي أحسن في طاعة الله، وكانت نبوة موسى نعمة على إبراهيم، لأنه من ولده، ذكره الماوردي.
والقول الثالث: أنه كل محسن من الأنبياء، وغيرهم. وقال مجاهد: تماما على المحسنين،
أي: تماما لكل محسن. وعلى هذا القول، يكون " الذي " بمعنى " من "، و " على " بمعنى لام
الجر، ومن هذا قول العرب: أتم عليه، وأتم له. قال الراعي:
رعته أشهرا وخلا عليها
أي: لها.
قال ابن قتيبة: ومثل هذا أن تقول: أوصي بمالي للذي غزا وحج، تريد: للغازين والحاجين.
والقول الرابع: أنه موسى. ثم في معنى: " أحسن " قولان:
أحدهما: أحسن في الدنيا بطاعة الله عز وجل. قال الحسن، وقتادة: تماما لكرامته في الجنة
إلى إحسانه في الدنيا. وقال الربيع: هو إحسان موسى بطاعته. وقال ابن جرير: تماما لنعمنا عنده
على إحسانه في قيامه بأمرنا ونهينا.
والثاني: أحسن في العلم وكتب الله القديمة، وكأنه زيد على ما أحسنه من التوراة، ويكون
" التمام " بمعنى الزيادة، ذكره ابن الأنباري. فعلى هذين القولين، يكون " الذي " بمعنى: " ما ".
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رزين، والحسن، وابن يعمر: " على الذي أحسن "، بالرفع.
قال الزجاج: معناه: على الذي هو أحسن الأشياء. وقرأ عبد الله بن عمرو، وأبو المتوكل، وأبو
العالية: " على الذي أحسن " برفع الهمزة وكسر السين وفتح النون، وهي تحتمل الإحسان، وتحتمل
العلم.
قوله تعالى: (وتفصيلا لكل شئ) أي: تبيانا لكل شئ من أمر شريعتهم مما يحتاجون إلى
علمه، لكي يؤمنوا بالبعث والجزاء.
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون (155)
قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) يعني القرآن، (فاتبعوه واتقوا) أن تخالفوه
104

(لعلكم ترحمون). قال الزجاج: لتكونوا راجين للرحمة.
أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين (156)
قوله تعالى: (أن تقولوا) سبب نزولها: أن كفار مكة قالوا: قاتل الله اليهود والنصارى، كيف
كذبوا أنبياءهم، فوالله لو جاءنا نذير وكتاب، لكنا أهدى منهم، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قال
الفراء: " أن " في موضع نصب في مكانين:
أحدهما: أنزلناه لئلا تقولوا.
والآخر: من قوله: واتقوا أن تقولوا. وذكر الزجاج عن البصريين، أن معناه: أنزلناه، كراهة
أن تقولوا، ولا يجيزون إضمار " لا ". فأما الخطاب بهذه الآية، فهو لأهل مكة، والمراد إثبات
الحجة عليهم بانزال القرآن كي لا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على اليهود
والنصارى، وكنا غافلين عما فيهما. و " دراستهم ": قراءتهم الكتب. قال الكسائي. (وإن كنا عن
دراستهم لغافلين) لا نعلم ما هي، لأن كتبهم لم تكن بلغتنا، فأنزل الله كتابا بلغتهم لتنقطع
حجتهم.
أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم
وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون
عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون (157)
قوله تعالى: (لكنا أهدى منهم) قال الزجاج: إنما كانوا يقولون هذا، لأنهم مدلون بالأذهان
والأفهام، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم، وهم أميون لا يكتبون. (فقد جاءكم بينة)
أي: ما فيه البيان وقطع الشبهات. قال ابن عباس: (فقد جاءكم بينة) أي: حجة، وهو النبي،
والقرآن، والهدى، والبيان، والرحمة، والنعمة. (فمن أظلم) أي: أكفر. (ممن كذب بآيات
الله) يعني محمدا والقرآن. (وصدف عنها): أعرض فلم يؤمن بها. وسوء العذاب: قبيحة.
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم
يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها
خيرا قل انتظروا إنا منتظرون (158)
105

قوله تعالى: (هل ينظرون) أي: ينتظرون (إلا أن تأتيهم الملائكة) قرأ ابن كثير، ونافع،
وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: " تأتيهم " بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي: " يأتيهم " بالياء. وهذا
الإتيان لقبض أرواحهم. وقال مقاتل: المراد بالملائكة: ملك الموت وحده.
قوله تعالى: (أو يأتي ربك) قال الحسن: أو يأتي أمر ربك. وقال الزجاج: أو يأتي إهلاكه
وانتقامه، إما بعذاب عاجل، أو بالقيامة.
قوله تعالى: (أو يأتي بعض آيات ربك) وروى عبد الوارث إلا القزاز: بتسكين ياء " أو
يأتي "، وفتحها الباقون. وفي هذه الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنه طلوع الشمس من مغربها، رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن
مسعود. وفي رواية زرارة بن أوفى عنه، وعبد الله ابن عمرو، ومجاهد وقتادة، والسدي. وقد روى
البخاري، ومسلم في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة
حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس، آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفسا
إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ". وروى عبد الله بن عمرو بن العاص
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت، طبع على
كل قلب بما فيه، [و] كفي الناس العمل ".
والثاني: أنه طلوع الشمس والقمر من مغربهما، رواه مسروق عن ابن مسعود.
والثالث: أنه إحدى الآيات الثلاث، طلوع الشمس من مغربها، والدابة، وفتح يأجوج
ومأجوج، روى هذا المعنى القاسم عن ابن مسعود.
والرابع: أنه طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض، قاله أبو هريرة، والأول
أصح. والمراد بالخير هاهنا: العمل الصالح، وإنما لم ينفع الإيمان والعمل الصالح حينئذ، لظهور
الآية التي تضطرهم إلى الإيمان. وقال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع
إيمانه، قبل منه، كما يقبل منه قبل الآية. وقيل: إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها، أن
الملحدة والمنجمين، زعموا أن ذلك لا يكون، فيريهم الله [تعالى] قدرته، ويطلعها من المغرب
كما أطلعها من المشرق، ولتحقق عجز نمرود حين قال له إبراهيم: [فأت بها من المغرب،
فبهت).
106

فصل
وفي قوله: (قل انتظروا إنا منتظرون) قولان:
أحدهما: أن المراد به التهديد، فهو محكم.
والثاني: أنه أمر بالكف عن القتال، فهو منسوخ بآية السيف.
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما
كانوا يفعلون (159)
قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " فرقوا " مشددة. وقرأ
حمزة، والكسائي: " فارقوا " بألف. " وكذلك قرؤوا في (الروم)، فمن قرأ: " فرقوا "، أراد: آمنوا
ببعض، وكفروا ببعض. ومن قرأ: " فارقوا "، أراد: باينوا. وفي المشار إليهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أهل الضلالة من هذه الأمة، قاله أبو هريرة.
والثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والسدي.
والثالث: اليهود، قاله مجاهد.
والرابع: جميع المشركين، قاله الحسن. فعلى هذا القول، دينهم: الكفر الذي يعتقدونه
دينا، وعلى ما قبله، دينهم: الذي أمرهم الله به. والشيع: الفرق والأحزاب. قال الزجاج: ومعنى
" شيعت " في اللغة: اتبعت. والعرب تقول: شاعكم السلام، وأشاعكم، أي: تبعكم.
قال الشاعر:
ألا يا نخلة من ذات عرق * برود الظل شاعكم السلام
وتقول: أتيتك غدا، أو شيعة، أي: أو اليوم الذي يتبعه. فمعنى الشيعة: الذين يتبع بعضهم
بعضا، وليس كلهم متفقين.
وفي قوله تعالى: (لست منهم في شئ) قولان:
أحدهما: لست من قتالهم في شئ، ثم نسخ بآية السيف، وهذا مذهب السدي،
والثاني: لست منهم، أي: أنت برئ منهم، وهم منك برءاء، إنما أمرهم إلى الله في
جزائهم، فتكون الآية محكمة.
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (160)
107

قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وقرأ يعقوب، والقزاز عن عبد الوارث:
" عشر " بالتنوين، " أمثالها " بالرفع. قال ابن عباس: يريد: من عملها، كتبت له عشر حسنات.
(ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا) جزاء (مثلها). وفي الحسنة والسيئة هاهنا قولان:
أحدهما: أن الحسنة: قول لا إله إلا الله. والسيئة: الشرك، قاله ابن مسعود، ومجاهد،
والنخعي.
والثاني: أنه عام في كل حسنة وسيئة. روى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي ذر عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة
فجزاء سيئة مثلها أو أغفر " فإن قيل: إذا كانت الحسنة كلمة التوحيد، فأي مثل لها حتى يجعل
جزاء قائلها عشر أمثالها؟ فالجواب: أن جزءا الحسنة معلوم القدر عند الله، فهو يجازي فاعلها بعشر
أمثاله، وكذلك السيئة. وقد أشرنا إلى هذا في (المائدة) عند قوله: (فكأنما قتل الناس
جميعا) فإن قيل: المثل مذكر، فلم قال: (عشر أمثالها) والهاء إنما تسقط في عدد
المؤنث؟ فالجواب: أن الأمثال خلقت حسنات مؤنثة، وتلخيص المعني: فله عشر حسنات أمثالها،
فسقطت الهاء من عشر، لأنها عدد مؤنث، كما تسقط عند قولك: عشر نعال، وعشر جباب.
قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين (161)
قوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) قال الزجاج: أي: دلني على الدين
الذي هو دين الحق. ثم فسر ذلك بقوله: (دينا قيما) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " قيما "
مفتوحة القاف، مشددة الياء. والقيم: المستقيم. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " قيما "
بكسر القاف وتخفيف الياء. قال الزجاج: وهو مصدر، كالصغر والكبر. وقال مكي من خففه بناه
على " فعل " وكان أصله أن يأتي بالواو، فيقول: " قوما " كما قالوا: عوض، وحول، ولكنه شذ
عن القياس. قال الزجاج: ونصب قوله: (دينا قيما) محمول على المعنى، لأنه لما قال:
" هداني " دل على عرفني دينا، ويجوز أن يكون على البدل من قوله: (إلى صراط مستقيم)،
فالمعنى: هداني صراطا مستقيما دينا قيما. و " حنيفا " منصوب على الحال من إبراهيم، والمعنى:
هداني ملة إبراهيم في حال حنيفيته.
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت
وأنا أول المسلمين (163)
108

قوله تعالى: (قل إن صلاتي) يريد: الصلاة المشروعة. والنسك: جمع نسيكة. وفي
النسك هاهنا أربعة أقوال:
أحدها: أنها الذبائح، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وابن قتيبة.
والثاني: الدين، قاله الحسن.
والثالث: العبادة.
قال الزجاج: النسك كل ما تقرب به إلى الله عز وجل، إلا أن الغالب عليه أمر الذبح.
والرابع: أنه الدين، والحجج، والذبائح، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: (ومحياي ومماتي) الجمهور على تحريك ياء " محياي "، وتسكين ياء
" مماتي ". وقرأ نافع: بتسكين ياء " محياي "، ونصب ياء " مماتي "، ثم للمفسرين في معناه
قولان:
أحدهما: أن معناه: لا يملك حياتي ومماتي إلا الله.
والثاني: حياتي لله في طاعته، ومماتي لله في رجوعي إلى جزائه. ومقصود الآية أنه أخبرهم
أن أفعالي وأحوالي لله وحده، لا لغيره كما تشركون أنتم به.
قوله تعالى: (وأنا أول المسلمين) قال الحسن، وقتادة: أول المسلمين من هذه الأمة.
قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة
وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164)
قوله تعالى: (قل أغير الله أبغي ربا) سبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع عن
هذا الأمر، ونحن لك الكفلاء بما أصابك من تبعة، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) أي: لا يؤخذ سواها بعملها. وقيل: المعنى:
إلا عليها عقاب معصيتها، ولها ثواب طاعتها.
(ولا تزر وازرة وزر أخرى) قال الزجاج: لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى. والمعنى: لا يؤخذ
أحد بذنب غيره. قال أبو سليمان: ولما ادعت كل فرقة من اليهود والنصارى والمشركين أنهم أولى
بالله من غيرهم. عرفهم أنه الحاكم بينهم بقوله [تعالى]: (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)
ونظيره (إن الله يفصل بينهم يوم القيامة).
109

وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم
إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم (165)
قوله تعالى: وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) قال أبو عبيدة: الخلائف: جمع
خليفة. قال الشماخ:
تصيبهم وتخطئني المنايا * واخلف في ربوع عن ربوع
وللمفسرين فيمن خلفوه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم خلفوا الجن الذين كانوا سكان الأرض، قاله ابن عباس.
والثاني: أن بعضهم يخلف بعضا، قاله ابن قتيبة.
والثالث: أن أمة محمد خلفت سائر الأمم، ذكره الزجاج.
قوله تعالى: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات) أي: في الرزق، والعلم، والشرف،
والقوة، وغير ذلك (ليبلوكم) أي: ليختبركم، فيظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب.
قوله تعالى: (إن ربك سريع العقاب) فيه قولان:
أحدهما: أنه سماه سريعا، لأنه آت، وكل آت قريب.
والثاني: أنه إذا شاء العقوبة، أسرع عقابه.
110

(7) سورة الأعراف مكية
وآياتها ست ومائتان
فصل في نزولها
روى العوفي، وابن أبي طلحة، وأبو صالح عن ابن عباس، أن سورة الأعراف من المكي،
وهذا قول الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، وجابر بن زيد، وقتادة. وروي عن ابن عباس،
وقتادة أنها مكية، إلا خمس آيات، أولها قوله تعالى: (واسألهم عن القرية). وقال مقاتل: كلها
مكية، إلا قوله: (واسألهم عن القرية) إلى قوله: (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
ذرياتهم) فإنهن مدنيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
المص (1)
فأما التفسير، فقوله تعالى: (المص) قد ذكرنا في أول سورة (البقرة) كلاما مجملا في
الحروف المقطعة أوائل السور، فهو يعم هذه أيضا. فأما ما يختص بهذه الآية ففيه سبعة أقوال:
أحدها: أن معناه: أنا الله أعلم وأفضل، رواه أبو الضحى عن ابن عباس.
والثاني: أنه أقسم أقسم الله به، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنها اسم من أسماء الله تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والرابع: أن الألف مفتاح اسمه " الله "، واللام مفتاح اسمه " لطيف "، والميم مفتاح اسمه
" مجيد "، قاله أبو العالية.
والخامس: أن (المص) اسم للسورة، قاله الحسن.
والسادس أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.
والسابع: أنها بعض كلمة. ثم في تلك الكلمة قولان:
111

أحدهما: المصور، قاله السدي.
والثاني: المصير إلى كتاب أنزل إليك، ذكره الماوردي.
كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2)
قوله تعالى: (كتاب أنزل إليك) قال الأخفش: رفع الكتاب بالابتداء. ومذهب الفراء أن
الله [تعالى] اكتفى في مفتتح السور ببعض حروف المعجم عن جميعها، كما يقول القائل: " ا ب
ت ث " ثمانية وعشرون حرفا، فالمعنى: حروف المعجم: كتاب أنزلناه إليك. قال ابن الأنباري:
ويجوز أن يرتفع الكتاب باضمار: هذا الكتاب. وفي الحرج قولان:
أحدهما: أنه الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة.
والثاني: أنه الضيق، قاله الحسن، والزجاج. وفي هاء " منه " قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الكتاب، فعلى هذا، في معنى الكلام قولان:
أحدهما: لا يضيقن صدرك بالإبلاغ، ولا تخافن، قاله الزجاج.
والثاني: لا تشكن أنه من عند الله.
والقول الثاني أنها ترجع إلى مضمر، وقد دل عليه الإنذار، وهو التكذيب، ذكره ابن
الأنباري. قال الفراء: فمعنى الآية: لا يضيقن صدرك أن كذبوك. قال الزجاج: وقوله تعالى:
(لتنذر به) مقدم، والمعنى: أنزل إليه لتنذر به وذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه.
(وذكرى) يصلح أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض، فأما النصب، فعلى قوله: أنزل إليك
لتنذر به، وذكر للمؤمنين أي الرفع على: ولتذكر به ذكرى، لأن في الإنذار معنى التذكير. ويجوز أن
يكون: وهو ذكرى، كقولك: وهو ذكرى للمؤمنين. فأما الخفض، فعلى معنى: لتنذر، لأن معنى
" لتنذر ": لأن تنذر، وهو في موضع خفض، المعنى للإنذار والذكرى.
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3)
قوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) إن قيل: كيف خاطبه بالإفراد في الآية
الأولى، ثم جمع بقوله: " اتبعوا "؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه لما علم أن الخطاب له ولأمته، حسن الجمع لذلك المعنى.
والثاني: أن الخطاب الأول خاص له، والثاني محمول على الإنذار، والإنذار في طريق
القول، فكأنه قال: لتقول لهم منذرا: " اتبعوا "، ذكرهما ابن الأنباري.
112

والثالث: أن الخطاب الثاني للمشركين، ذكره جماعة من المفسرين، قالوا: والذي أنزل إليهم
القرآن. وقال الزجاج: الذي أنزل: القرآن وما أتى به عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه مما أنزل عليه، لقوله
تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا) (ولا تتبعوا من دونه أولياء) أي:
لا تتولوا من عدل عن دين الحق، وكل من ارتضى مذهبا فهو ولي أهل المذهب. وقوله تعالى:
(قليلا ما تذكرون) ما: زائدة مؤكدة، والمعنى: قليلا تتذكرون. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو
عمرو، وأبو بكر عن عاصم: " تذكرون " مشددة الذال والكاف. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص
عن عاصم: " تذكرون " خفيفة الذال مشددة الكاف. قال أبو علي: من قرأ " تذكرون " بالتشديد،
أراد " تتذكرون " فأدغم التاء في الذال، وإدغامها فيها حسن، لأنها التاء مهموسة، والذال مجهورة،
والمجهور أزيد صوتا من المهموس وأقوى، فادغام الأنقص في الأزيد حسن. فأما حمزة ومن وافقه،
فإنهم حذفوا التاء التي أدغمها هؤلاء، وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة. وقرأ ابن عامر:
" يتذكرون " بياء وتاء، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: قليلا ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا
الخطاب.
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون (4)
قوله تعالى: (وكم من قرية أهلكناها) و " كم " تدل على الكثرة، و " رب ": موضوعة
للقلة. قال الزجاج: المعنى: وكم من أهل قرية، فحذف الأهل، لأن في الكلام دليلا عليه.
وقوله تعالى: (فجاءها) محمول على لفظ القرية، والمعنى: فجاءهم بأسنا غفلة وهم غير
متوقعين له، إما ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائلون. قال ابن قتيبة: بأسنا عذابنا وبياتا: ليلا.
وقائلون: من القائلة نصف النهار. فإن قيل: إنما أتاها البأس قبل الإهلاك، فكيف يقدم الهلاك؟
فعنه ثلاثة أجوبة.
أحدها: أن الهلاك والبأس يقعان معا، كما تقول: أعطيتني فأحسنت، وليس الإحسان بعد
الإعطاء ولا قبله، وإنما وقعا معا، قاله الفراء.
والثاني: أن الكون مضمر في الآية، تقديره: أهلكناها، وكان بأسنا قد جاءها، فأضمر الكون، كما
أضمر في قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين)، أي: ما كانت الشياطين تتلوه. وقوله تعالى: (إن
يسرق)، أي: إن يكن سرق.
والثالث: أن في الآية تقديما وتأخيرا، تقديره: وكم من قرية جاءها بأسنا بياتا، أو هم قائلون
113

فأهلكناها، كقوله تعالى: (إني متوفيك ورافعك إلي) أي: رافعك ومتوفيك، ذكرهما ابن
الأنباري.
قوله تعالى: (أو هم قائلون) قال الفراء: فيه واو مضمرة، والمعنى: فجاءها بأسنا بياتا، أو
وهم قائلون، فاستثقلوا نسقا على نسق.
فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين (5)
قوله تعالى: (فما كان دعواهم) قال اللغويون: الدعوى هاهنا بمعنى الدعاء
والقول. والمعنى: ما كان قولهم وتداعيهم إذ جاءهم العذاب إلا الاعتراف بالظلم. قال ابن
الأنباري: وللدعوى في الكلام موضعان:
أحدهما: الادعاء.
والثاني: القول والدعاء.
قال الشاعر:
إذا مذلت رجلي دعوتك أشتفي * بدعواك من مذل بها فيهون
فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين (6) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا
غائبين (7)
قوله تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم) يعني: الأمم يسألون: هل بلغكم الرسل،
وماذا أجبتم؟ ويسأل الرسل: هل بلغتم، وماذا أجبتم؟. (فلنقصن عليهم) أي: فلنخبرنهم
بما عملوا بعلم منا (وما كنا غائبين) عن الرسل والأمم. وقال ابن عباس: يوضع الكتاب،
فيتكلم بما كانوا يعملون.
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (8) ومن خفت موازينه
فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون (9)
قوله تعالى: (والوزن يومئذ الحق) أي: العدل. وإنما قال: " موازينه " لأن " من " في
معنى جميع، يدل عليه قوله: (فأولئك). وفي معنى (يظلمون) قولان:
أحدهما: يجحدون.
والثاني: يكفرون.
114

قال الفراء: والمراد بموازينه، وزنه. والعرب تقول: هل لك في درهم بميزان درهمك،
ووزن درهمك، ويقولون: داري بميزان دارك، ووزن دارك، ويريدون: حذاء دارك.
قال الشاعر:
قد كنت قبل لقائكم ذا مرة * عندي لكم مخاصم ميزانه
يعني: مثل كلامه ولفظه.
فصل
والقول بالميزان مشهور في الحديث، وظاهر القرآن ينطق به. وأنكرت المعتزلة ذلك، وقالوا:
الأعمال أعراض، فكيف توزن؟ فالجواب: أن الوزن يرجع إلى الصحائف، بدليل حديث عبد
الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على
رؤوس الناس يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول له:
أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: ألك عذر أو حسنة؟
فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك
اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فتوضع السجلات
في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " أخرجه أحمد في
" مسنده "، والترمذي وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى بالرجل الطويل الأكول
الشروب، فلا يزن جناح بعوضة "، فعلى هذا يوزن الإنسان. قال ابن عباس: توزن الحسنات
والسيئات في ميزان، له لسان وكفتان. فأما المؤمن، فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في
كفة الميزان، فتثقل حسناته على سيئاته، وأما الكافر، فيؤتى بعمله في أقبح صورة، فيوضع في
كفة الميزان، فيخف وزنه. وقال الحسن: للميزان لسان وكفتان. وجاء في الحديث: أن داود
عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فأراه إياه، فقال: يا إلهي، من يقدر أن يملأ كفتيه
حسنات؟ فقال: يا داود، إني إذا رضيت عن عبدي، ملأتها بتمرة. وقال حذيفة: جبريل
صاحب الميزان يوم القيامة يقول له ربه: زن بينهم، ورد من بعضهم على بعض، فيرد على
المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة. فإن لم تكن له حسنة، أخذ من سيئات المظلوم، فرد
على سيئات الظالم، فيرجع وعليه مثل الجبل.
فإن قيل: أليس الله عز وجل يعلم مقادير الأعمال، فما الحكمة في وزنها؟ فالجواب أن فيه
115

خمسة حكم:
إحداها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا.
والثانية إظهار علامة السعادة والشقاوة في الأخرى.
والثالثة تعريف العباد ما لهم من خير وشر.
والرابعة: إقامة الحجة عليهم.
والخامسة: الإعلام بأن الله عادل لا يظلم. ونظير هذا أنه أثبت الأعمال في كتاب،
واستنسخها من غير جواز النسيان عليه.
ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون (10)
قوله تعالى: (ولقد مكناكم في الأرض) فيه قولان:
أحدهما: مكناكم إياها.
والثاني: سهلنا عليكم التصرف فيها. وفي المعايش قولان:
أحدهما: ما تعيشون به من المطاعم والمشارب.
والثاني: ما تتوصلون به إلى المعايش، من زراعة، وعمل، وكسب. وأكثر القراء على ترك
الهمز في " معايش " وقد رواها خارجة عن نافع مهموزة. قال الزجاج: وجميع النحويين البصريين
يزعمون أن همزها خطأ، لأن الهمز إنما يكون في الياء الزائدة، نحو صحيفة وصحائف، فصحيفة
من الصحف، والياء زائدة، فأما معايش، فمن العيش، فالياء أصلية.
قوله تعالى: (قليلا ما تشكرون) أي: شكركم قليل. وقال ابن عباس: يريد أنكم غير
شاكرين.
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن
من الساجدين (11)
قوله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) فيه ثمانية أقوال:
أحدها: ولقد خلقناكم في ظهر آدم، ثم صورناكم في الأرحام، رواه عبد الله بن الحارث
عن ابن عباس.
والثاني: ولقد خلقناكم في أصلاب الرجال، وصورناكم في أرحام النساء، رواه سعيد بن
جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة.
116

والثالث: " ولقد خلقناكم "، يعني آدم، " ثم صورناكم "، يعني ذريته من بعده، رواه
العوفي عن ابن عباس.
والرابع: " ولقد خلقناكم "، يعني آدم، " ثم صورناكم " في ظهره، قاله مجاهد.
والخامس: " خلقناكم " نطفا في أصلاب الرجال، وترائب النساء، " ثم صورناكم " عند
اجتماع النطف في الأرحام، قاله ابن السائب.
والسادس: " خلقناكم " في بطون أمهاتكم، " ثم صورناكم " فيما بعد الخلق بشق السمع
والبصر، قاله معمر.
والسابع: " خلقناكم "، يعني آدم خلقناه من تراب، " ثم صورناكم "، أي: صورناه، قاله
الزجاج، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة: فجعل الخلق لهم إذ كانوا منه، فمن قال: عني بقوله
" خلقناكم " آدم، فمعناه: خلقنا أصلكم، ومن قال: صورنا ذريته في ظهره، أراد إخراجهم يوم
الميثاق كهيئة الذر.
والثامن: " ولقد خلقناكم " يعني الأرواح، " ثم صورناكم " يعني الأجساد، حكاه القاضي
أبو يعلى في " المعتمد ". وفي " ثم " المذكورة مرتين قولان:
أحدهما: أنها بمعنى الواو، قاله الأخفش.
والثاني: أنها للترتيب، قاله الزجاج.
قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من
طين (12)
قوله تعالى: (ما منعك ألا تسجد) " ما " استفهام، ومعناها الإنكار. قال الكسائي:
" لا " ها هنا زائدة. والمعنى: ما منعك أن تسجد؟. وقال الزجاج: موصع " ما " رفع.
والمعنى أي شئ منعك من السجود؟ و " لا " زائدة مؤكدة، ومثله: (لئلا يعلم أهل الكتاب)
قال ابن قتيبة: وقد تزاد " لا " في الكلام. والمعنى: طرحها لإباء في الكلام، أو جحد، كهذه
الآية. وإنما زاد " لا " لأنه لم يسجد. ومثله: (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) على قراءة من فتح
" أنها "، فزاد " لا " لأنهم لم يؤمنوا، ومثله: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون).
وقال الفراء: " لا " ها هنا جحد محض، وليست بزائدة، والمنع راجع إلى تأويل القول،
والتأويل: من قال لك: لا تسجد، فأحل المنع محل القول، ودخلت بعده " أن " ليدل على تأويل
117

القول الذي لم يتصرح لفظه. وقال ابن جرير: في الكلام محذوف، تقديره: ما منعك من
السجود، فأحوجك أن لا تسجد؟. قال الزجاج: وسؤال الله تعالى لإبليس " ما منعك " توبيخ
له، وليظهر أنه معاند، ولذلك لم يتب، وأتى بشئ في معنى الجواب، ولفظه غير جواب، لأن
قوله: (أنا خير منه) إنما هو جواب، أيكما خير؟ ولكن المعنى: منعني من السجود فضلي
عليه. ومثله قولك للرجل: كيف كنت؟ فيقول: أنا صالح، وإنما الجواب: كنت صالحا فيجيب
بما يحتاج إليه وزيادة. قال العلماء: وقع الخطأ من إبليس حين قاس مع وجود النص، وخفي عليه
فضل الطين على النار، وفضله من وجوه.
أحدها: أن من طبع النار الطيش والالتهاب والعجلة، ومن طبع الطين الهدوء والرزانة.
والثاني: أن الطين سبب الإنبات والإيجاد، والنار سبب الإعدام والإهلاك.
والثالث: أن الطين سبب جمع الأشياء، والنار سبب تفريقها.
قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فأخرج إنك من الصاغرين (13)
قوله تعالى: (فاهبط منها) في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى السماء، لأنه كان فيها، قاله الحسن.
والثاني: إلى الجنة، قاله السدي.
قوله تعالى: (فما يكون لك أن تتكبر فيها) إن قيل: فهل لأحد أن يتكبر في غيرها؟
فالجواب: أن المعنى: ما للمتكبر أن يكون فيها، وإنما المتكبر في غيرها. وأما الصاغر، فهو
الذليل. والصغار: الذل. قال الزجاج: استكبر إبليس بإبائه السجود، فأعلمه الله أنه صاغر
بذلك.
قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) قال إنك من المنظرين (15)
قوله تعالى: (قال أنظرني) أي أمهلني وأخرني (إلى يوم يبعثون)، فأراد أن يعبر فنظرة
الموت، وسأل الخلود، فلم يجبه إلى ذلك، وأنظره إلى النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم.
وقد بين مدة إمهاله في (الحجر) بقوله: (إلى يوم الوقت المعلوم). وفي ما سأل الإمهال
له قولان:
أحدهما: الموت.
والثاني: العقوبة. فإن قيل: كيف قيل له: (إنك من المنظرين) وليس أحد أنظر سواه؟
118

فالجواب: أن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم، فهو منهم.
قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16)
قوله تعالى: (فبما أغويتني) في معنى هذا الإغواء قولان:
أحدهما: أنه بمعنى الإضلال، قاله ابن عباس، والجمهور.
الثاني: أنه بمعنى الإهلاك، ومنه قوله: (فسوف يلقون غيا) أي: هلاكا، ذكره ابن
الأنباري. وفي معنى " فبما " قولان:
أحدهما: أنها بمعنى القسم، أي: فباغوائك لي.
والثاني: أنها بمعنى الجزاء، أي: فبأنك أغويتني، ولأجل أنك أغويتني (لأقعدن لهم
صراطك). قال الفراء، والزجاج: أي: على صراطك. ومثله قولهم: ضرب زيد الظهر والبطن.
وفي المراد بالصراط ها هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه طريق مكة، قاله ابن مسعود، والحسن، وسعيد بن جبير، كأن المراد صدهم
عن الحج.
والثاني: أنه الإسلام، قاله جابر بن عبد الله، وابن الحنفية، ومقاتل.
والثالث: أنه الحق، قاله مجاهد.
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم
شاكرين (17)
قوله تعالى: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) فيه
سبعة أقوال:
أحدها: " من بين أيديهم " أشككهم في آخرتهم، " ومن خلفهم " أرغبهم في دنياهم،
" وعن أيمانهم " أي: من قبل حسناتهم، " وعن شمائلهم " من قبل سيئاتهم، قاله ابن عباس
[قتادة].
والثاني: مثله، إلا أنهم جعلوا " من بين أيديهم " الدنيا، " ومن خلفهم " الآخرة، قاله
النخعي، والحكم بن عتيبة.
119

والثالث: مثل الثاني، إلا أنهم جعلوا " وعن أيمانهم " من قبل الحق أصدهم عنه، " وعن
شمائلهم) من قبل الباطل أردهم إليه، قاله مجاهد، والسدي.
والرابع: (من بين أيديهم) من سبيل الحق، (ومن خلفهم) من سبيل الباطل، (وعن
أيمانهم) من قبل آخرتهم، " وعن شمائلهم " من أمر الدنيا، قاله أبو صالح.
والخامس: (من بين أيديهم) وعن أيمانهم " من حيث يبصرون، (ومن خلفهم) " وعن
شمائلهم " من حيث لا يبصرون، نقل عن مجاهد أيضا.
والسادس: أن المعنى: لأتصرفن لهم في الإضلال من جميع جهاتهم، قاله الزجاج، وأبو
سليمان الدمشقي. فعلى هذا، يكون ذكر هذه الجهات، للمبالغة في التأكيد.
والسابع: (من بين أيديهم) فيما بقي من أعمارهم، فلا يقدمون فيه على طاعة، " ومن
خلفهم " فيما مضى من أعمارهم، فلا يتوبون فيه من معصية، (وعن أيمانهم) من قبل الغنى،
فلا ينفقونه في مشكور، " وعن شمائلهم " من قبل الفقر، فلا يمتنعون فيه من محظور، قاله
الماوردي.
قوله تعالى: (ولا تجد أكثرهم شاكرين) فيه قولان:
أحدهما: موحدين، قاله ابن عباس.
والثاني: شاكرين لنعمتك، قاله مقاتل. فإن قيل: من أين علم إبليس ذلك؟ فقد أسلفنا الجواب
عن هذا في سورة (النساء).
قال أخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (18)
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا
من الظالمين (19)
قوله تعالى: (قال اخرج منها مذؤوما) وقرأ الأعمش: " مذوما " بضم الذال من غير همز.
قال الفراء: الذأم: الذم، يقال: ذأمت الرجل، أذأمه ذأما، وذممته، أذمه ذما، وذمته، أذيمه
ذيما، ويقال: رجل مذؤوم، ومذموم، ومذيم، بمعنى. قال حسان بن ثابت:
وأقاموا أبي حتى أبيروا جميعا * في مقام وكلهم مذؤوم
قال ابن قتيبة: المذؤوم: المذموم بأبلغ الذم. والمدحور: المقصى المبعد. وقال
الزجاج: معنى المذؤوم كمعنى المذموم، والمدحور: المبعد من رحمة الله. واللام من
120

" لأملأن ": لام القسم، والكلام بمعنى الشرط والجزاء، كأنه قيل له: من تبعك، أعذبه،
فدخلت اللام للمبالغة والتوكيد. فلام " لأملأن " هي لام القسم، ولام " لمن تبعك " توطئة لها.
فأما قوله: " منهم " فقال ابن الأنباري: الهاء والميم عائدتان على ولد آدم، لأنه حين قال:
(ولقد خلقناكم ثم صورناكم) كان مخاطبا لولد آدم، فرجع إليهم، فقال: (لمن تبعك
منهم) فجعلهم غائبين، لأن مخاطبتهم في ذا الموضع توقع لبسا، والعرب ترجع من الخطاب إلى
الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب. ومن قال: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) خطاب لآدم، قال:
أعاد الهاء والميم على ولده، لأن ذكره يكفي من ذكرهم، والعرب تكتفي بذكر الوالد من ذكر
الأولاد إذا انكشف المعنى وزال اللبس. قال الشاعر:
أرى الخطفى بذ الفرزدق شعره * ولكن لا خيرا من كليب مجاشع
أراد: أرى ابن الخطفي، فاكتفى بالخطفي من ابنه.
قوله تعالى: (لأملأن جهنم منكم) يعني أولاد آدم المخالفين وقرناءهم من الشياطين.
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن
هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (20)
قوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان) قيل: إن الوسوسة: إخفاء الصوت. قال ابن
فارس: الوسواس: صوت الحلي، ومنه وسواس الشيطان. و " لهما " بمعنى " إليهما "،
(ليبدي لهما) أي: ليظهر لهما (ما ووري عنهما) أي: ستر. وقيل: إن لام " ليبدي " لام
العاقبة، وذلك أن عاقبة الوسوسة أدت إلى ظهور عورتهما، ولم تكن الوسوسة لظهورها.
قوله تعالى: (إلا أن تكونا ملكين) قال الأخفش، والزجاج: معناه: ما نهاكما إلا كراهة
أن تكونا ملكين. وقال ابن الأنباري: المعنى: إلا أن لا تكونا، فاكتفى ب‍ " أن " من " لا "
فأسقطها. فإن قيل: كيف انقاد آدم لإبليس، مستشرفا إلى أن يكون ملكا، وقد شاهد الملائكة
ساجدة له؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه عرف قربهم من الله، واجتماع أكثرهم حول عرشه، فاستشرف لذلك، قاله
ابن الأنباري.
والثاني: أن المعنى: إلا أن تكونا طويلي العمر مع الملائكة (أو تكونا من الخالدين) لا
تموتان أبدا، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد روى يعلى بن حكيم عن ابن كثير: " أن تكونا
121

ملكين " بكسر اللام، وهي قراءة الزهري.
وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين (21) فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما
سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما
الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين (22) قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا
وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23) قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض
مستقر ومتاع إلى حين (24) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون (25)
قوله تعالى: (وقاسمهما) قال الزجاج: حلف لهما، فدلاهما في المعصية بأن غرهما.
قال ابن عباس: غرهما باليمين، وكان آدم لا يظن أن أحدا يحلف بالله كاذبا.
قوله تعالى: (فلما ذاقا الشجرة) أي: فلما ذاقا ثمر الشجرة. قال الزجاج: وهذا يدل
على أنهما إنما ذاقاها ذواقا، ولم يبالغا في الأكل. والسوأة كناية عن الفرج، لا أصل له في
تسميته. ومعنى (طفقا) أخذا في الفعل، والأكثر: طفق يطفق، وقد رويت: طفق يطفق،
بكسر الفاء، ومعنى (يخصفان) يجعلان ورقة على ورقة، ومنه قيل للذي يرقع النعل:
خصاف.
وفي الآية دليل على أن إظهار السوأة قبيح من لدن آدم، ألا ترى إلى قوله: (ليبدي لهما ما
ووري عنهما من سوءاتهما) فإنهما بادرا يستتران لقبح التكشف. وقيل: إنما سميت السوأة سوأة،
لأن كشفها يسوء صاحبها. قال وهب بن منبه: كان لباسهما نورا على فروجهما، لا يرى أحدهما عورة
الآخر، فلما أصابا الخطيئة، بدت لهما سوءاتهما. وقرأ الحسن: " سوأتهما " على التوحيد، وكذلك قرأ
" يخصفان " بكسر الياء والخاء مع تشديد الصاد. وقرأ الزهري: بضم الياء وفتح الخاء مع تشديد الصاد.
وفي الورق قولان:
أحدهما: ورق التين، قاله ابن عباس.
والثاني: ورق الموز، ذكره المفسرون. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله: (قال فيها
تحيون) يعني الأرض. واختلف العلماء في تاء " تخرجون "، فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو
عمرو: بضم التاء وفتح الراء، ها هنا، وفي الروم: (وكذلك تخرجون). وفي الزخرف:
122

(كذلك تخرجون) وفي الجاثية: (لا يخرجون منها). وقرأهن حمزة، والكسائي: بفتح
التاء وضم الراء. وفتح ابن عامر التاء في (الأعراف) فقط. فأما التي في (الروم) (إذا أنتم
تخرجون)، وفي (سأل سائل) (يوم يخرجون) فمفتوحتان من غير خلاف.
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من
آيات الله لعلهم يذكرون (26)
قوله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا) سبب نزولها: أن ناسا من العرب كانوا
يطوفون بالبيت عراة، فنزلت هذه الآية قاله مجاهد. وقيل: إنه لما ذكر عري آدم، من علينا
باللباس. وفي معنى (أنزلنا عليكم) ثلاثة أقوال:
أحدها: خلقنا لكم.
والثاني: ألهمناكم كيفية صنعه.
والثالث: أنزلنا المطر الذي هو سبب نبات ما يتخذ لباس. وأكثر القراء قرؤوا: " وريشا ".
وقرأ ابن عباس، والحسن، وزر بن حبيش، وقتادة، والمفضل، وأبان عن عاصم: " ورياشا "
بألف. قال الفراء: يجوز أن تكون الرياش جمع الريش. ويجوز أن تكون بمعنى الريش كما
قالوا: لبس، ولباس.
فلما كشفن اللبس عنه مسحنه * بأطراف طفل زان غيلا موشما
قال ابن عباس، ومجاهد: " الرياش ": المال، وقال عطاء: المال والنعيم. وقال ابن
زيد: الريش: الجمال، وقال معبد الجهني: الريش: الرزق، وقال ابن قتيبة: الريش
والرياش: ما ظهر من اللباس. وقال الزجاج: الريش: اللباس وكل ما ستر الإنسان في جسمه
ومعيشته. يقال: تريش فلان، أي: صار له ما يعيش به. أنشد سيبويه:
رياشي منكم وهواي معكم * وإن كانت زيارتكم لماما
وعلى قول الأكثرين: الريش والرياش بمعنى. قال قطرب: الريش والرياش واحد. وقال
سفيان الثوري: الريش: المال، والرياش: الثياب.
قوله تعالى: (ولباس التقوى) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة: " ولباس
التقوى " بالرفع. وقرأ ابن عامر، ونافع، والكسائي: بنصب اللباس. قال الزجاج: من نصب
123

اللباس، عطف به على الريش، ومن رفعه، فيجوز أن يكون مبتدأ، ويجوز أن يكون مرفوعا
باضمار: هو، المعنى: وهو لباس التقوى، أي: وستر العورة لباس المتقين. وللمفسرين في
لباس التقوى عشرة أقوال:
أحدها: أنه السمت الحسن، قاله عثمان بن عفان، ورواه الذيال بن عمرو عن ابن عباس.
والثاني: العمل الصالح، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: الإيمان، قاله قتادة، وابن جريج، والسدي، فعلى هذا، سمي لباس التقوى،
لأنه يقي العذاب.
والرابع: خشية الله تعالى، قاله عروة بن الزبير.
والخامس: الحياء، قاله معبد الجهني، وابن الأنباري.
والسادس: ستر العورة للصلاة، قاله ابن زيد.
والسابع أنه الدرع، وسائر آلات الحرب، قاله زيد بن علي.
والثامن: العفاف، قاله ابن السائب.
والتاسع: أنه ما يتقى به الحر والبرد، قاله ابن بحر.
والعاشر: أن المعنى: ما يلبسه المتقون في الآخرة، خير ما يلبسه أهل الدنيا، رواه عثمان
ابن عطاء عن أبيه.
قوله تعالى: (ذلك خير) قال ابن قتيبة: المعنى: ولباس التقوى خير من الثياب، لأن
الفاجر، وإن كان حسن الثوب، فهو بادي العورة، و " ذلك " زائدة.
قال الشاعر في هذا المعنى:
إني كأني أرى من لا حياء له * ولا أمانة وسط القوم عريانا
قال ابن الأنباري: ويقال: لباس التقوى، هو اللباس الأول، وإنما أعاده لما أخبر عنه بأنه
خير من التعري، إذ كانوا يتعبدون في الجاهلية بالتعري في الطواف.
قوله تعالى: (ذلك من آيات الله) قال مقاتل: يعني: الثياب والمال من آيات الله
وصنعه، لكي يذكروا فيعتبروا في صنعه.
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما
سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين
لا يؤمنون (27)
124

قوله تعالى: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان) قال المفسرون: هذا الخطاب للذين كانوا
يطوفون عراة، والمعنى: لا يخدعنكم ولا يضلنكم بغروره، فيزين لكم كشف عوراتكم، كما
أخرج أبويكم من الجنة بغروره. وأضيف الإخراج ونزع اللباس إليه، لأنه السبب. وفي
" لباسهما " أربعة أقوال:
أحدها: أنه النور، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقد ذكرناه عن ابن منبه.
والثاني: أنه كان كالظفر، فلما أكلا، لم يبق عليهما منه إلا الظفر، رواه سعيد بن جبير عن
ابن عباس، وبه قال عكرمة، وابن زيد.
والثالث: أنه التقوى، قاله مجاهد.
والرابع: أنه كان من ثياب الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: (ليريهما سوءاتهما) أي: ليري كل واحد منهما سوأة صاحبه. (إنه يراكم
هو وقبيله) قال مجاهد: قبيله: الجن والشياطين. قال ابن عباس: جعلهم الله [تعالى] يجرون
من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم، فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم.
قوله تعالى: (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) قال الزجاج: سلطناهم عليهم،
يزيدون في غيهم. وقال أبو سليمان: جعلناهم موالين لهم.
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء
أتقولون على الله مالا تعلمون (28)
قوله تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة) فيمن عني بهذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة. والفاحشة: كشف العورة، رواه سعيد بن
جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وزيد بن أسلم، والسدي.
والثاني: أنهم الذين جعلوا السائبة والوصيلة والحام وتلك الفاحشة، روى هذا المعنى أبو
صالح عن ابن عباس.
والثالث: أنهم المشركون، والفاحشة: الشرك، قاله الحسن، وعطاء. قال الزجاج: فأعلمهم
عز وجل، أنه لا يأمر بالفحشاء، لأن حكمته تدل على أنه لا يفعل إلا المستحسن. والقسط: العدل.
والعدل: ما استقر في النفوس أنه مستقيم لا ينكره مميز، فكيف يأمر بالفحشاء، وهي ما عظم
قبحه؟!.
قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما
125

بدأكم تعودون (29)
قوله تعالى: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) فيه أربعة أقوال:
أحدها: إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد، فصلوا فيه، ولا يقولن أحدكم: أصلي في
مسجدي، قاله ابن عباس، والضحاك، واختاره ابن قتيبة.
والثاني: توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة، قاله مجاهد، والسدي، وابن زيد.
والثالث: اجعلوا سجودكم خالصا لله تعالى دون غيره، قاله الربيع بن أنس.
والرابع: اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة، أمرا بالجماعة لها، ذكره الماوردي. وفي
قوله: (وادعوه) قولان:
أحدهما: أنه العبادة.
والثاني: الدعاء. وفي قوله [تعالى]: (مخلصين له الدين) قولان:
أحدهما: مفردين له العبادة.
والثاني: موحدين غير مشركين. وفي قوله: (كما بدأكم تعودون) ثلاثة أقوال:
أحدها: كما بدأكم سعداء وأشقياء، كذلك تبعثون، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس، وبه قال مجاهد، والقرظي، والسدي، ومقاتل، والفراء.
والثاني: كما خلقتم بقدرته، كذلك يعيدكم، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه
قال الحسن، وابن زيد، والزجاج، وقال: هذا الكلام متصل بقوله: (فيها تحيون وفيها تموتون).
والثالث: كما بدأكم لا تملكون شيئا، كذلك تعودون، ذكره الماوردي.
فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله
ويحسبون أنهم مهتدون (30)
قوله تعالى: (فريقا هدى) قال الفراء: نصب الفريق ب‍ " تعودون ". وقال ابن الأنباري:
نصب " فريقا " و " فريقا " على الحال من الضمير الذي في " تعودون "، يريد: تعودون كما ابتدأ
خلقكم مختلفين، بعضكم سعداء، وبعضكم أشقياء.
قوله تعالى: (حق عليهم الضلالة) أي: بالكلمة القديمة، والإرادة السابقة.
* يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب
126

المسرفين (31)
قوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم) سبب نزولها: أن ناسا من الأعراب كانوا يطوفون
بالبيت عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانت المرأة تعلق على فرجها سيورا، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: كانوا إذا حجوا، فأفاضوا
من منى، لا يصلح لأحد منهم في دينه الذي اشترعوا أن يطوف في ثوبيه، فيلقيهما حتى يقضي
طوافه، فنزلت هذه الآية وقال الزهري: كانت العرب تطوف بالبيت عراة، إلا الحمس، قريش
وأحلافها، فمن جاء من غيرهم، وضع ثيابه وطاف في ثوبي أحمس، فإن لم يجد من يعيره من
الحمس، ألقى ثيابه وطاف عريانا، فإن طاف في ثياب نفسه، جعلها حراما عليه إذا قضى الطواف،
فلذلك جاءت هذه الآية. وفي هذه الزينة قولان:
أحدهما: الثياب. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ورد في ستر العورة في الطواف، قاله ابن عباس، والحسن في جماعة.
والثاني: أنه ورد في ستر العورة في الصلاة، قاله مجاهد، والزجاج.
والثالث: أنه ورد في التزين بأجمل الثياب في الجمع والأعياد، ذكره الماوردي.
والثاني: أن المراد بالزينة: المشط، قاله أبو رزين.
قوله تعالى: (وكلوا واشربوا) قال ابن السائب: كان أهل الجاهلية لا يأكلون في أيام حجهم
دسما، ولا ينالون من الطعام إلا قوتا، تعظيما لحجتهم، فنزل قوله: (وكلوا واشربوا). وفي قوله:
(ولا تسرفوا) أربعة أقوال:
أحدها: لا تسرفوا بتحريم ما أحل لكم، قاله ابن عباس.
والثاني: لا تأكلوا حراما، فذلك الإسراف، قاله ابن زيد.
والثالث: لا تشركوا، فمعنى الإسراف هاهنا: الإشراك، قاله مقاتل.
والرابع: لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة، قاله الزجاج.
ونقل أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في
كتابكم من علم الطب شئ، فقال علي: قد جمع الله تعالى الطب في نصف آية من كتابنا. قال:
127

ما هي؟ قال: قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا). قال النصراني: ولا يؤثر عن نبيكم شئ
من الطب، فقال: قد جمع رسولنا علم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال: " المعدة بيت
الداء، والحمية رأس الدواء، وعودوا كل بدن ما اعتاد ". فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا
نبيكم لجالينوس طبا.
قال المصنف: هكذا نقلت هذه الحكاية، إلا أن هذا الحديث المذكور فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم لا
يثبت. وقد جاءت عنه في الطب أحاديث قد ذكرتها في كتاب " لقط المنافع في الطب ".
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا
في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون (32)
قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المشركين عيروا المسلمين، إذ لبسوا الثياب في الطواف، وأكلوا الطيبات،
فنزلت، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنهم كانوا يحرمون أشياء أحلها الله، من الزروع وغيرها، فنزلت هذه الآية، رواه ابن
أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: نزلت في طوافهم بالبيت عراة، قاله طاووس، وعطاء. وفي زينة الله قولان:
أحدهما: أنها ستر العورة، فالمعنى: من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم؟.
والثاني: أنها زينة اللباس. وفي الطيبات قولان:
أحدهما: أنها الحلال.
والثاني: المستلذ. ثم في ما عني بها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها البحائر، والسوائب، والوصائل، والحوامي التي حرموها، قاله ابن عباس،
وقتادة.
والثاني: أنها السمن، والألبان، واللحم، وكانوا حرموه في الإحرام، قاله ابن زيد.
والثالث: الحرث، والأنعام، والألبان، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة) قال ابن الأنباري: " خالصة "
128

نصب على الحال من لام مضمرة، تقديرها: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة، وهي لهم في
الآخرة خالصة، فحذفت اللام لوضوح معناها، كما تحذف العرب أشياء لا يلبس سقوطها.
قال الشاعر:
تقول ابنتي لما رأتني شاحبا * كأنك يحميك الطعام طبيب * تتابع أحداث تخر من إخوتي * فشيبن رأسي، والخطوب تشيب
أراد: فقلت لها: الذي أكسبني ما ترين، تتابع أحداث، فحذف لانكشاف المعنى: قال
المفسرون: إن المشركين شاركوا المؤمنين في الطيبات، فأكلوا ولبسوا ونكحوا، ثم يخلص الله
الطيبات في الآخرة للمؤمنين، وليس للمشركين فيها شئ. وقيل: خالصة لهم من ضرر أو إثم. وقرأ
نافع: " خالصة " بالرفع. قال الزجاج: ورفعها على أنه خبر بعد خبر، كما تقول: زيد عاقل لبيب،
والمعنى: قل هي ثابتة للذين آمنوا في الدنيا، خالصة يوم القيامة.
قوله تعالى: (كذلك نفصل الآيات) أي: هكذا نبينها.
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا
بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون (33)
قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش) قرأ حمزة: (ربي الفواحش) بإسكان الياء.
(ما ظهر منها وما بطن) فيه ستة أقوال:
أحدها: أن المراد بها الزنا، ما ظهر منه: علانيته، وما بطن: سره، رواه ابن أبي طلحة عن
ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.
والثاني: أن ما ظهر: نكاح الأمهات، وما بطن: الزنا، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس
وبه قال علي بن الحسين.
والثالث: أن ما ظهر: نكاح الأبناء نساء الآباء، والجمع بين الأختين، وأن تنكح المرأة على
عمتها أو خالتها، وما بطن: الزنا روي عن ابن عباس أيضا.
والرابع: أن ما ظهر: الزنا، وما بطن: العزل قاله شريح.
والخامس: أن ما ظهر: طواف الجاهلية عراة، وما بطن الزنا، قاله مجاهد.
والسادس أنه عام في جميع المعاصي. ثم في " ما ظهر منها وما بطن " قولان:
أحدهما: أن الظاهر: العلانية، والباطن: السر قاله أبو سليمان الدمشقي.
129

والثاني: أن ما ظهر: أفعال الجوارح، والباطن: اعتقاد القلوب، قاله الماوردي. وفي الإثم
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الذنب الذي لا يوجب الحد، قاله ابن عباس، والضحاك، والفراء.
والثاني: المعاصي كلها، قاله مجاهد.
والثالث: أنه الخمر، قاله الحسن، وعطاء. قال ابن الأنباري: أنشدنا رجل في مجلس ثعلب
بحضرته، وزعم أن أبا عبيدة أنشده:
نشرب الإثم بالصواع جهارا * ونرى المتك بيننا مستعارا
فقال أبو العباس: لا أعرفه، ولا أعرف الإثم: الخمر، في كلام العرب. وأنشدنا رجل آخر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي * كذاك الإثم تذهب بالعقول
قال أبو بكر: وما هذا البيت معروفا أيضا في شعر من يحتج بشعره، وما رأيت أحدا من
أصحاب الغريب أدخل الإثم في أسماء الخمر، ولا سمتها العرب بذلك في جاهلية وإسلام.
فإن قيل: إن الخمر تدخل تحت الإثم، فصواب، لا لأنه اسم لها.
فإن قيل: كيف فصل الإثم عن الفواحش، وفي كل الفواحش إثم؟
فالجواب: أن كل فاحشة إثم، وليس كل إثم فاحشة، فكان الإثم كل فعل مذموم، والفاحشة:
العظيمة. فأما البغي، فقال الفراء: هو الاستطالة على الناس.
قوله تعالى: (وأن تشركوا) قال الزجاج: " أن " نصب، فالمعنى: حرم الفواحش، وحرم
الشرك. والسلطان: الحجة.
قوله تعالى: (وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) عام في تحريم القول في الدين من غير
يقين.
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34)
قوله تعالى: (ولكل أمة أجل) سبب نزولها: أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم العذاب، فأنزلت، قاله
مقاتل. وفي الأجل قولان:
أحدهما: أنه أجل العذاب.
والثاني: أجل الحياة. قال الزجاج: الأجل: الوقت المؤقت. (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون
ساعة) المعنى: ولا أقل من ساعة. وإنما ذكر الساعة، لأنها أقل أسماء الأوقات.
130

يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم
ولا هم يحزنون (35) والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون (36) فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم
نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون
الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (37)
قوله تعالى: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم) قال الأخفش: أضمر: " فأطيعوهم ".
وقد سبق معنى " إما " في سورة (البقرة)، والباقي ظاهر إلى قوله: (ينال نصيبهم من الكتاب)
ففي معناه سبعة أقوال:
أحدها: ما قدر لهم من خير وشر، رواه مجاهد عن ابن عباس.
والثاني: نصيبهم من الأعمال، فيجزون عليها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: ما كتب عليهم من الضلالة والهدى، قاله الحسن. وقال مجاهد، وابن جبير: من
السعادة والشقاوة.
والرابع: ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والأعمال، قاله الربيع، والقرظي، وابن زيد.
والخامس: ما كتب لهم من العذاب، قاله عكرمة، وأبو صالح، والسدي.
والسادس: ما أخبر الله تعالى في الكتب كلها: أنه من افترى على الله كذبا، اسود وجهه، قاله
مقاتل.
والسابع: ما أخبر في الكتاب من جزائهم، نحو قوله: (فأنذرتكم نارا تلظى)، قاله
الزجاج. فاذن في الكتاب خمسة أقوال:
أحدها: أنه اللوح المحفوظ.
والثاني: كتب الله كلها.
والثالث: القرآن.
والرابع: كتاب أعمالهم.
131

والخامس: القضاء.
قوله تعالى: (حتى إذا جاءتهم رسلنا) فيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أعوان ملك الموت، قاله النخعي.
والثاني: ملك الموت وحده، قاله مقاتل.
والثالث: ملائكة العذاب يوم القيامة. وفي قوله: " يتوفونهم " ثلاثة أقوال:
أحدها: يتوفونهم بالموت، قاله الأكثرون.
والثاني: يتوفونهم بالحشر إلى النار يوم القيامة، قاله الحسن.
والثالث: يتوفونهم عذابا، كما تقول: قتلت فلانا بالعذاب، وإن لم يمت، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (أين ما كنتم تدعون) أي: تعبدون (من دون الله)، وهذا سؤال تبكيت
وتقريع. قال مقاتل: المعنى: فليمنعوكم من النار. قال الزجاج: ومعنى (ضلوا عنا): بطلوا
وذهبوا، فيعترفون عند موتهم أنهم كانوا كافرين. وقال غيره: ذلك الاعتراف يكون يوم القيامة.
قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت
أختها حتى إذا اداركوا بعد فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا
ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38)
قوله تعالى: (قال ادخلوا) إن الله تعالى يقول لهم ذلك بواسطة الملائكة، لأن الله تعالى لا
يكلم الكفار يوم القيامة. قال ابن قتيبة: و " في " بمعنى: " مع ".
وفي قوله: (قد خلت من قبلكم) قولان:
أحدهما: مضت إلى العذاب.
والثاني: مضت في الزمان، يعني كفار الأمم الماضية.
قوله تعالى: (كلما دخلت أمة لعنت أختها) وهذه أخوة الدين والملة، لا أخوة النسب. قال
ابن عباس: يلعنون من كان قبلهم. قال مقاتل: كلما دخل أهل ملة، لعنوا أهل ملتهم، فيلعن اليهود
اليهود، والنصارى النصارى، والمشركون المشركين، والأتباع القادة، ويقولون: أنتم ألقيتمونا هذا
الملقى حين أطعناكم. وقال الزجاج: إنما تلاعنوا، لأن بعضهم ضل باتباع بعض.
قوله تعالى: (حتى إذا اداركوا) قال ابن قتيبة: أي: تداركوا، فأدغمت التاء في الدال،
وأدخلت الألف ليسلم السكون لما بعدها، يريد: تتابعوا فيها واجتمعوا.
132

قوله تعالى: (قالت أخراهم لأولاهم) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: آخر أمة لأول أمة، قاله ابن عباس.
والثاني: آخر أهل الزمان لأوليهم الذين شرعوا له ذلك الدين، قاله السدي.
والثالث: آخرهم دخولا إلى النار، وهم الأتباع، لأولهم دخولا، وهم القادة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (هؤلاء أضلونا) قال ابن عباس: شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها.
قوله تعالى: (فآتهم عذابا ضعفا) قال الزجاج: أي: عذابا مضاعفا.
قوله تعالى: (قال لكل ضعف) أي: عذاب مضاعف ولكن لا تعلمون. قرأ أبو بكر،
والمفضل عن عاصم: " يعلمون "، بالياء. قال الزجاج: والمعنى: لا يعلم كل فريق مقدار عذاب
الفريق الآخر. وقرأ الباقون: " تعلمون " بالتاء، وفيها وجهان ذكرهما الزجاج:
أحدهما: لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق من العذاب.
والثاني: لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك، وقيل: إنما طلب الأتباع مضاعفة عذاب القادة،
ليكون أحد العذابين على الكفر، والثاني على إغرائهم به، فأجيبوا (لكل ضعف) أي: كما كان
للقادة ذلك، فلكم عذاب بالكفر، وعذاب بالاتباع. قوله: (فما كان لكم علينا من فضل) فيه
قولان:
أحدهما: في الكفر، نحن وأنتم فيه سواء، قاله ابن عباس.
والثاني: في تخفيف العذاب، قاله مجاهد.
وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)
قوله تعالى: (بما كنتم تكسبون) قال مقاتل: من الشرك والتكذيب.
إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى
يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين (40)
قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا) أي: بحججنا وأعلامنا التي تدل على توحيد الله
ونبوة الأنبياء، وتكبروا عن الإيمان بها (لا تفتح لهم أبواب السماء). قرأ ابن كثير، ونافع،
وعاصم: وابن عامر: " تفتح "، بالتاء، وشددوا التاء الثانية. وقرأ أبو عمرو: " لا تفتح " بالتاء
خفيفة، ساكنة الفاء. وقرأ حمزة، والكسائي: " لا يفتح " بالياء مضمومة خفيفة. وقرأ اليزيدي عن
اختياره: " لا تفتح " بتاء مفتوحة (أبواب السماء) بنصب الباء، فكأنه أشار إلى أفعالهم. وقرأ
133

الحسن: بياء مفتوحة، مع نصب الأبواب، كأنه يشير إلى الله عز وجل. وفي معنى الكلام أربعة
أقوال:
أحدها: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، رواه الضحاك عن ابن عباس، وهو قول أبي موسى
الأشعري، والسدي في آخرين، والأحاديث تشهد به.
والثاني: لا تفتح لأعمالهم، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم، رواه عطاء عن ابن عباس.
والرابع: لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم، قاله ابن جريج، ومقاتل. وفي السماء قولان:
أحدهما: أنها السماء المعروفة، وهو المشهور.
والثاني: أن المعنى: لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها، لأن الجنة في السماء، ذكره
الزجاج.
قوله تعالى: (حتى يلج الجمل في سم الخياط) الجمل: هو الحيوان المعروف.
فإن قال قائل: كيف خص الجمل دون سائر الدواب، وفيها ما هو أعظم منه؟ فعنه
جوابان:
أحدهما: أن ضرب المثل بالجمل يحصل المقصود، والمقصود أنهم لا يدخلون الجنة، كما
لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة، ولو ذكر أكبر منه أو أصغر منه، جاز، والناس يقولون: فلان لا
يساوي درهما، وهذا لا يغني عنك فتيلا، وإن كنا نجد أقل من الدرهم والفتيل.
والثاني: أن الجمل أكبر شأنا عند العرب من سائر الدواب، فإنهم يقدمونه في القوة على
غيره، لأنه يوقر بحمله فينهض به دون غيره من الدواب، ولهذا عجبهم من خلق الإبل، فقال: (أفلا
ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)، فآثر الله [تعالى] ذكره على غيره لهذا المعنى. ذكر الجوابين
ابن الأنباري. قال: وقد روى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأ: " حتى يلج الجمل " بضم
الجيم وتشديد الميم، وقال هو القلس الغليظ.
قلت: وهي قراءة أبي رزين، ومجاهد، وابن محيصن، وأبي مجلز، وابن يعمر، وأبان عن
عاصم. قال: وروى مجاهد عن ابن عباس: " حتى يلج الجمل " بضم الجيم وفتح الميم
وتخفيفها.
134

قلت: وهي قراءة قتادة، وقد رويت عن سعيد بن جبير، وأنه قرأ: " حتى يلج الجمل " بضم
الجيم وتسكين الميم. قلت: وهي قراءة عكرمة.
قال ابن الأنباري: فالجمل يحتمل أمرين: يجوز أن يكون بمعنى الجمل، ويجوز أن يكون
بمعنى جملة من الجمال، قيل في جمعها: جمل، كما يقال: حجرة، وحجر، وظلمة، وظلم.
وكذلك من قرأ: " الجمل " يسوغ له أن يقول: الجمل، بمعنى الجمل، وأن يقول: الجمل، جمع
جملة، مثل بسرة، وبسر. وأصحاب هذه القراءات يقولون: الحبل والحبال، أشبه بالإبرة والخيوط
من الجمال. وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قرأ: " الجمل " بضم الجيم والميم،
وبالتخفيف، وهي قراءة الضحاك، والجحدري. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء: " الجمل " بفتح
الجيم، وبسكون الميم خفيفة.
قوله تعالى: (في سم الخياط) السم في اللغة: الثقب. وفيها ثلاث لغات: فتح السين
وبها قرأ الأكثرون، وضمها، وبه قرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وقتادة، وابن محيصن، وطلحة بن
مصرف، وكسرها، وبه قرأ أبو عمران الجوني، وأبو نهيك، والأصمعي عن نافع. قال ابن القاسم:
والخياط: المخيط، بمنزلة اللحاف والملحف، والقرام والمقرم. وقد قرأ ابن مسعود، وأبو رزين،
وأبو مجلز: في " سم المخيط ". قال الزجاج: الخياط: الإبرة، وسمها: ثقبها. والمعنى: أنهم لا
يدخلون الجنة أبدا. قال ابن قتيبة: هذا كما يقال: لا يكون ذلك حتى يشيب الغراب، ويبيض القار.
قوله تعالى: (وكذلك نجزي المجرمين) أي: مثل ذلك نجزي الكافرين أنهم لا يدخلون
الجنة.
لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين (41) والذين آمنوا
وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (42)
قوله تعالى: (لهم من جهنم مهاد) المهاد: الفراش. وفي المراد بالغواشي ثلاثة أقوال:
أحدها: اللحف، قاله ابن عباس، والقرظي، وابن زيد.
والثاني: ما يغشاهم من فوقهم من الدخان، قاله عكرمة.
والثالث: غاشية فوق غاشية من النار، قاله الزجاج قال ابن عباس: والظالمون هاهنا:
الكافرون.
ونزعنا في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا
وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة
135

أورثتموها بما كنتم تعملون (43)
قوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل) فيمن عني بهذه الآية أربعة أقوال:
أحدها: أهل بدر. روى الحسن عن علي عليه السلام أنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت:
(ونزعنا ما في صدورهم من غل). وروى عمرو بن الشريد عن علي أنه قال: إني لأرجو أن
أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير، من الذين قال الله: (ونزعنا ما في صدورهم من غل).
والثاني: أنهم أهل الأحقاد من أهل الجاهلية حين أسلموا. روى كثير النواء عن أبي جعفر
قال: نزلت هذه الآية في علي، وأبي بكر، وعمر، قلت لأبي جعفر: فأي غل هو؟ قال: غل
الجاهلية، كان بين بني هاشم وبني تيم وبني عدي في الجاهلية شئ، فلما أسلم هؤلاء، تحابوا،
فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده ويكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية.
والثالث: عشرة من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد
الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود، قاله أبو صالح.
والرابع: أنها في صفة أهل الجنة إذا دخلوها. روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم
في دخول الجنة. فوالذي نفسي بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في
الدنيا ". وقال ابن عباس: أول ما يدخل أهل الجنة الجنة، تعرض لهم عينان، فيشربون من
إحدى العينين، فيذهب الله ما في قلوبهم من غل وغيره مما كان في الدنيا، ثم يدخلون إلى العين
الأخرى، فيغتسلون منها، فتشرق ألوانهم، وتصفو وجوههم، وتجري عليهم نضرة النعيم.
فأما النزع، فهو قلع الشئ من مكانه. والغل: الحقد الكامن في الصدر.
وقال ابن قتيبة: الغل: الحسد والعداوة.
قوله تعالى: (الحمد لله الذي هدانا لهذا) قال الزجاج: معناه: هدانا لما صيرنا إلى هذا.
قال ابن عباس: يعنون ما وصلوا إليه من رضوان الله وكرامته. وروى عاصم بن ضمرة عن علي عليه
السلام: قال تستقبلهم الولدان كأنهم لؤلؤ منثور، فيطوفون بهم كإطافتهم بالحميم جاء من الغيبة،
ويبشرونهم بما أعد الله لهم، ويذهبون إلى أزواجهم فيبشرونهن، فيستخفهن الفرح، فيقمن على
أسكفة الباب، فيقلن: أنت رأيته، أنت رأيته؟ قال: فيجئ إلى منزله فينظر في أساسه فإذا صخر
من لؤلؤ، ثم يرفع بصره، فلولا أن الله ذلله لذهب بصره، ثم ينظر أسفل من ذلك، فإذا هو بالسرر
136

الموضونة، والفرش المرفوعة، والزرابي المبثوثة، فعند ذلك قالوا: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما
كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) كلهم قرأ " وما كنا " باثبات الواو، غير ابن عامر، فإنه قرأ " ما كنا
لنهتدي " بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. قال أبو علي: وجه الاستغناء عن الواو،
أن القصة ملتبسة بما قبلها، فأغنى التباسها به عن حرف العطف، ومثله (رابعهم كلبهم).
قوله تعالى: (لقد جاءت رسل ربنا بالحق) هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل
عيانا. (ونودوا أن تلكم الجنة) قال الزجاج: إنما قال " تلكم " لأنهم وعدوا بها في الدنيا، فكأنه
قيل لهم: هذه تلكم التي وعدتم بها. وجائز أن يكون هذا قيل لهم حين عاينوها قبل دخولهم إليها.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر " أورثتموها " غير مدغمة. وقرأ أبو عمرو، وحمزة،
والكسائي " أورتموها " مدغمة، وكذلك قرؤوا في (الزخرف) قال أبو علي: من ترك الادغام،
فلتباين مخرج الحرفين، ومن أدغم، فلأن التاء والثاء مهموستان متقاربتان. وفي معنى " أورثتموها "
أربعة أقوال:
أحدها: ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل
في النار، فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة ".
فذلك قوله: (أورثتموها بما كنتم تعملون). وقال بعضهم: لما سمي الكفار أمواتا بقوله:
(أموات غير أحياء). وسمى المؤمنين أحياء بقوله: (لتنذر من كان حيا) أورث الأحياء
الموتى.
والثاني: أنهم أورثوها عن الأعمال، لأنها جعلت جزاء لأعمالهم، وثوابا عليها، إذ هي
عواقبها، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
والثالث: أن دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال. فلما كان يفسر نيلها لا عن
عوض، سميت ميراثا. والميراث: ما أخذته عن غير عوض.
والرابع: أن معنى الميراث هاهنا: أن أمرهم يؤول إليها كما يؤول الميراث إلى الوارث.
ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد
ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين (44) الذين يصدون
عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون (45)
137

قوله تعالى: (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا) أي: من العذاب؟ وهذا سؤال تقرير وتعيير.
(قالوا نعم). قرأ الجمهور بفتح العين في سائر القرآن، وكان الكسائي يكسرها. قال الأخفش:
هما لغتان.
قوله تعالى: (فأذن مؤذن بينهم) أي: نادى مناد. (أن لعنة الله) قرأ ابن كثير في رواية
قنبل، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: " أن لعنة الله " خفيفة النون ساكنة. وقرأ ابن عامر، وحمزة،
والكسائي: " أن " بالتشديد، " لعنة الله " بالنصب. قال الأخفش: و " أن " في قوله: (أن تلكم
الجنة) وقوله: (أن لعنة الله)، وقوله: (أن الحمد لله)، و: (أن قد وجدنا)، هي
" أن " الثقيلة خففت.
قال الشاعر:
في فتية كسيوف الهند قد علموا * أن هالك كل من يحفى وينتعل
وأنشد أيضا:
أكاشره أنه وأعلم أن كلانا * على ما ساء صاحبه حريص
ومعناه: أنه كلانا، وتكون " أن قد وجدنا " في معنى: أي: قال ابن عباس: والظالمون هاهنا:
الكافرون.
قوله تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله) أي: أذن المؤذن أن لعنة الله على الذين كفروا
وصدوا عن سبيل الله، وهو الإسلام. (ويبغونها عوجا) مفسر في [سورة] آل عمران. (وهم
بالآخرة) أي: وهم بكون الآخرة كافرون.
وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة
أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون (46)
قوله تعالى: (وبينهما حجاب) أي: بين الجنة والنار حاجز، وهو السور الذي ذكره الله تعالى
في قوله: (فضرب بينهم بسور له باب)، فسمي هذا السور بالأعراف لارتفاعه. قال ابن
عباس: الأعراف هو السور الذي بين الجنة والنار له عرف كعرف الديك. وقال أبو هريرة:
الأعراف: جبال بين الجنة والنار، فهم على أعرافها، يعني: على ذراها، خلقتها كخلقة عرف
138

الديك. قال اللغويون: الأعراف عند العرب: كل ما ارتفع من الأرض وعلا، يقال لكل عال:
عرف، وجمعه: أعراف.
قال الشاعر:
كل كناز لحمه نياف * كالعلم الموفي على الأعراف
وقال الآخر:
ورثت بناء آباء كرام * علوا بالمجد أعراف البناء
وفي " أصحاب الأعراف " قولان:
أحدهما: أنهم من بني آدم، قاله الجمهور. وزعم مقاتل أنهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وفي
أعمالهم تسعة أقوال:
أحدها: أنهم قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم،
ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله، وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تبلغ بهم حسناتهم دخول الجنة، ولا
سيئاتهم دخول النار، قاله ابن مسعود، وحذيفة، وابن عباس، وأبو هريرة، والشعبي، وقتادة.
والثالث: أنهم أولاد الزنا، رواه صالح مولى التوأمة عن ابن عباس.
والرابع: أنهم قوم صالحون فقهاء علماء، قاله الحسن، ومجاهد، فعلى هذا يكون لبثهم على
الأعراف على سبيل النزهة.
والخامس: أنهم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم، أو أمهاتهم دون آبائهم، رواه عبد
الوهاب بن مجاهد عن إبراهيم.
والسادس: أنهم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم، قاله عبد العزيز بن يحيى.
والسابع: أنهم أنبياء، حكاه ابن الأنباري.
والثامن: أنهم أولاد المشركين، ذكره المنجوفي في تفسيره.
والتاسع: أنهم قوم عملوا لله [تعالى]، لكنهم راءوا في عملهم، ذكره بعض العلماء.
والقول الثاني: أنهم ملائكة، قاله أبو مجلز، واعترض عليه، فقيل: إنهم رجال، فكيف
تقول: ملائكة؟ فقال: إنهم ذكور وليسوا بإناث. وقيل: معنى قوله [تعالى]: (وعلى الأعراف
رجال) أي: على معرفة أهل الجنة من أهل النار، ذكره الزجاج، وابن الأنباري. وفيه بعد وخلاف
للمفسرين.
139

قوله تعالى: (يعرفون كلا بسيماهم) أي: يعرف أصحاب الأعراف أهل الجنة وأهل النار.
وسيما أهل الجنة: بياض الوجوه، وسيما أهل النار: سواد الوجوه، وزرقة العيون. ولا سيما:
العلامة. وإنما عرفوا الناس، لأنهم على مكان عال يشرفون فيه على أهل الجنة والنار. (ونادوا)
يعني: أصحاب الأعراف (أصحاب الجنة أن سلام عليكم). وفي قوله: (لم يدخلوها وهم
يطمعون) قولان:
أحدهما: أنه إخبار من الله تعالى لنا أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في
دخولها، قاله الجمهور.
والثاني: أنه إخبار من الله تعالى لأهل الأعراف إذا رأوا زمرة يذهب بها إلى الجنة أن هؤلاء لم
يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، هذا قول السدي.
* وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين (47)
قوله تعالى: (وإذا صرفت أبصارهم) يعني أصحاب الأعراف. والتلقاء: جهة اللقاء، وهي
جهة المقابلة. وقال أبو عبيدة: تلقاء أصحاب النار، أي: حيالهم.
ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم
تستكبرون (48)
قوله تعالى: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم) روى أبو صالح عن
ابن عباس قال: ينادون: يا وليد بن المغيرة، يا أبا جهل بن هشام، يا عاص بن وائل، يا أمية بن
خلف، يا أبي بن خلف، يا سائر رؤساء الكفار، ما أغنى عنكم جمعكم في الدنيا المال والولد.
(وما كنتم تستكبرون) أي: تتعظمون عن الإيمان.
أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون (49)
قوله تعالى: (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) فيه قولان:
أحدهما أن أهل النار أقسموا أن أهل الأعراف داخلون النار معنا، وأن الله لن يدخلهم
الجنة، فيقول الله تعالى لأهل النار: (أهؤلاء) يعني أهل الأعراف (الذين أقسمتم لا ينالهم الله
برحمة، ادخلوا الجنة) رواه وهب بن منبه عن ابن عباس. قال حذيفة: بينا أصحاب الأعراف
140

هنالك، اطلع عليهم ربهم فقال لهم: " ادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم ".
والثاني: أن أهل الأعراف يرون في الجنة الفقراء والمساكين الذين كان الكفار يستهزئون
بهم، كسلمان، وصهيب، وخباب، فينادون الكفار: (أهؤلاء الذين أقسمتم) وأنتم في الدنيا (لا
ينالهم الله برحمة) قاله ابن السائب. فعلى هذا ينقطع كلام أهل الأعراف عند قوله: (برحمة)،
ويكون الباقي من خطاب الله لأهل الجنة. وقد ذكر المفسرون في قوله: (ادخلوا الجنة) ثلاثة
أوجه:
أحدها: أن يكون خطابا من الله لأهل الأعراف، وقد ذكرناه.
والثاني: أن يكون خطابا من الله لأهل الجنة.
والثالث: أن يكون خطابا من أهل الأعراف لأهل الجنة، ذكرهما الزجاج. فعلى هذا الوجه
الأخير، يكون معنى قول أهل لأعراف لأهل الجنة: (ادخلوا الجنة): اعلوا إلى القصور
المشرفة، وارتفعوا إلى المنازل المنيفة، لأنهم قد رأوهم في الجنة. وروى مجاهد عن عبد الله بن
الحارث قال: يؤتى بأصحاب الأعراف إلى نهر يقال له: الحياة، عليه قضبان الذهب مكللة باللؤلؤ،
فيغمسون فيه، فيخرجون، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، ويقال لهم: تمنوا ما شئتم،
ولكم سبعون ضعفا، فهم مساكين أهل الجنة.
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا
إن الله حرمهما على الكافرين (50)
قوله تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) قال ابن عباس: لما صار أصحاب
الأعراف إلى الجنة، وطمع أهل النار في الفرج بعد اليأس، فقالوا: يا رب، إن لنا قرابات من أهل
الجنة، فائذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم. ونظر أهل
الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم، قد اسودت وجوههم وصاروا خلقا آخر، فنادى
أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم، فينادي الرجل أخاه: يا أخي قد
احترقت فأغثني، فيقول: (إن الله حرمهما على الكافرين). قال السدي: عني بقوله: (أو مما
رزقكم الله) الطعام. قال الزجاج: أعلم الله عز وجل أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب،
وإن كان معذبا.
الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء
يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون (51)
141

قوله تعالى: (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا) قال ابن عباس: هم المستهزئون. والمعنى:
أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم. وقال أبو روق: دينهم: عيدهم. وقال قتادة: (لهوا ولعبا)
أي: أكلا وشربا. وقال غيره: هو ما زينه الشيطان لهم من تحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة،
والحام، والمكاء، والتصدية، ونحو ذلك من خصال الجاهلية.
قوله تعالى: (فاليوم ننساهم) قال الزجاج: أي: نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء
يومهم هذا. و " ما " نسق على " كما " في موضع جر. والمعنى: وكجحدهم. قال ابن الأنباري:
ويجوز أن يكون المعنى: فاليوم نتركهم في النار على علم منا ترك ناس غافل كما استعملوا في
الإعراض عن آياتنا وهم ذاكرون ما يستعمله من نسي وغفل.
ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون (52)
قوله تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب) يعني القرآن. (فصلناه) أي: بيناه بإيضاح الحق من
الباطل. وقيل: فصلناه فصولا مرة بتعريف الحلال، ومرة بتعريف الحرام، ومرة بالوعد، ومرة
بالوعيد، ومرة بحديث الأمم. وفي قوله [تعالى]: (على علم) قولان:
أحدهما: على علم منا بما فصلناه.
والثاني: على علم منا بما يصلحكم مما أنزلناه فيه. وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن،
وعاصم، والجحدري، ومعاذ القارئ: " فضلناه " بضاد معجمة.
هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت
رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل
قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (53)
قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله) قال ابن عباس: تصديق ما وعدوا في القرآن. (يوم
يأتي تأويله) وهو يوم القيامة (يقول الذين نسوه) أي: تركوه (من قبل) في الدنيا (قد جاءت
رسل ربنا بالحق) أي: بالبعث بعد الموت.
قوله تعالى: (أو نرد) قال الزجاج: المعنى: أو هل نرد. وقوله. (فنعمل) منصوب على
جواب الفاء للاستفهام.
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى
142

الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق
والأمر تبارك الله رب العالمين (54)
قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) اختلفوا أي يوم بدأ
بالخلق على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يوم السبت. روى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة قال: أخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: " خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد،
وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب
يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما
بين العصر إلى الليل "، وهذا اختيار محمد بن إسحاق. وقال ابن الأنباري: وهذا إجماع أهل
العلم.
والثاني: يوم الأحد، قاله عبد الله بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد، واختاره ابن جرير
الطبري، وبه يقول أهل التوراة.
والثالث: يوم الاثنين، قاله ابن إسحاق، وبهذا يقول أهل الإنجيل. ومعنى قوله: (في
ستة أيام) أي: في مقدار ذلك، لأن اليوم يعرف بطلوع الشمس وغروبها، ولم تكن الشمس
حينئذ. قال ابن عباس: مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة، وبه قال كعب، ومجاهد،
والضحاك، ولا نعلم خلافا في ذلك. ولو قال قائل: إنها كأيام الدنيا، كان قوله بعيدا من وجهين:
أحدهما: خلاف الآثار.
والثاني: أن الذي يتوهمه المتوهم من الإبطاء في ستة آلاف سنة، يتوهمه في ستة أيام عند
تصفح قوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون). فإن قيل: فهلا خلقها في لحظة،
فإنه قادر؟ فعنه خمسة أجوبة:
أحدها: أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمرا تستعظمه الملائكة ومن يشاهده، ذكره ابن الأنباري.
والثاني: أن التثبت في تمهيد ما خلق لآدم وذريته قبل وجوده، أبلغ في تعظيمه عند
الملائكة.
والثالث: أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبيت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في
143

ذلك، كما يظهر قدرته في قول: (كن فيكون).
والرابع: أنه علم عباده التثبت، فإذا تثبت من لا يزل، كان ذو الزلل أولى بالتثبت.
والخامس: أن ذلك الإمهال في خلق شئ بعد شئ، أبعد من أن يظن أن ذلك وقع بالطبع
أو بالاتفاق.
قوله تعالى: (ثم استوى على العرش) قال الخليل بن أحمد: العرش: السرير، وكل سرير
لملك يسمى عرشا، وقلما يجمع العرش إلا في اضطرار، واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب
في الجاهلية والإسلام. قال أمية بن أبي الصلت:
مجدوا الله فهو للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الناس * وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا لا يناله ناظر العين * ترى دونه الملائك صورا
وقال كعب: إن السماوات في العرش كالقنديل معلق بين السماء والأرض. وروى
إسماعيل بن أبي خالد، عن سعد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء. وإجماع السلف منعقد على أن
لا يزيدوا على قراءة الآية. وقد شذ قوم فقالوا: العرش بمعنى الملك. وهذا عدول عن الحقيقة إلى
التجوز، مع مخالفة الأثر، ألم يسمعوا قوله [عز وجل]: (وكان عروشه على الماء) أتراه كان
الملك على الماء؟ وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء؟ وبعضهم يقول: استوى بمعنى استولى،
ويحتج بقول الشاعر:
حتى استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق
ويقول الشاعر أيضا:
هما استويا بفضلهما جميعا * على عرش الملوك بغير زور
وهذا منكر عند اللغويين. قال ابن الأعرابي: العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، ومن قال
ذلك فقد أعظم. قالوا: وإنما يقال: استولى فلان على كذا، إذا كان بعيدا عنه غير متمكن منه، ثم
تمكن منه، والله عز وجل لم يزل مستوليا على الأشياء، والبيتان لا يعرف قائلهما، كذا قال ابن فارس
اللغوي. ولو صحا، فلا حجة فيهما لما بينا من استيلاء من لم يكن مستوليا. نعوذ بالله من تعطيل
الملحدة وتشبيه المجسمة.
قوله تعالى: (يغشي الليل النهار) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " يغشي "
ساكنة الغين خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " يغشي " مفتوحة الغين مشددة،
144

وكذلك قرؤوا في [سورة] الرعد. قال الزجاج: المعنى: أن الليل يأتي على النهار فيغطيه، وإنما
لم يقل: ويغشي النهار الليل، لأن في الكلام دليلا عليه، وقد قال في موضع آخر: (يكور الليل
على النهار، ويكور النهار على الليل). وقال أبو علي: إنما لم يقل: يغشي النهار الليل، لأنه
معلوم من فحوى الكلام، كقوله: (سرابيل تقيكم الحر)، وانتصب الليل والنهار، لأن كل واحد
منهما مفعول به. فأما الحثيث، فهو السريع.
قوله تعالى: (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) قرأ الأكثرون: بالنصب فيهن، على
معنى: خلق السماوات والشمس. وقرأ ابن عامر: " والشمس والقمر والنجوم مسخرات " بالرفع فيهن
هاهنا وفي (النحل)، تابعه حفص في قوله تعالى: (والنجوم مسخرات) في (النحل) فحسب. والرفع
على الاستئناف. والمسخرات: المذللات لما يراد منهن من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة المدبر لهن.
قوله تعالى: (ألا له الخلق) لأنه خلقهم (والأمر) فله أن يأمر بما يشاء. وقيل: الأمر:
القضاء.
قوله تعالى: (تبارك الله) فيه أربعة أقوال:
أحدها: تفاعل من البركة، رواه الضحاك عن ابن عباس، وكذلك قال القتيبي، والزجاج.
وقال أبو مالك: افتعل من البركة. وقال الحسن: تجئ البركة من قبله. وقال الفراء: تبارك: من
البركة، وهو في العربية كقولك: تقدس ربنا.
والثاني: أن تبارك بمعنى تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وكذلك قال أبو العباس:
تبارك: ارتفع، والمتبارك: المرتفع.
والثالث: أن المعنى: باسمه يتبرك في كل شئ، قاله ابن الأنباري.
والرابع: أن معنى " تبارك " تقدس، أي: تطهر، ذكره ابن الأنباري أيضا.
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55)
قوله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا) التضرع: التذلل والخضوع. والخفية: خلاف العلانية.
قال الحسن: كانوا يجتهدون في الدعاء، ولا تسمع إلا همسا. ومن هذا حديث أبي موسى: " أربعوا
145

على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ". وفي الاعتداء المذكور هاهنا قولان:
أحدهما: أنه الاعتداء في الدعاء. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يدعو على المؤمنين بالشر، كالخزي واللعنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل.
والثاني: أن يسأل مالا يستحقه من منازل الأنبياء، قاله أبو مجلز.
والثالث: أنه الجهر في الدعاء، قاله ابن السائب.
والثاني: أنه مجاوزة المأمور به، قاله الزجاج.
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من
المحسنين (56)
قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) فيه ستة أقوال:
أحدها: لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان.
والثاني: لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل.
والثالث: لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة.
والرابع: لا تعصوا، فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم بعد أن أصلحها بالمطر
والخصب.
والخامس: لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه.
والسادس: لا تفسدوها بتكذيب الرسل بعد إصلاحها بالوحي.
وفي قوله (واعوه خوفا وطمعا) قولان:
أحدهما: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه.
والثاني: خوفا من الرد وطمعا في الإجابة.
قوله تعالى: (إن رحمة الله قريب من المحسنين) قال الفراء: رأيت العرب تؤن القريبة في
النسب، لا يختلفون في ذلك، فإذا قالوا: دارك منا قريب، أو فلانة منا قريب، ومن القرب والبعد،
ذكروا وأنثوا، وذلك أنهم جعلوا القريب خلفا من المكان، كقوله: (وما هي من الظالمين
ببعيد)، وقوله تعالى: (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا)، ولو أنث ذلك لكان صوابا.
146

قال عروة:
عشية لاعفراء منك قريبة * فتدنو ولا عفراء منك بعيد
وقال الزجاج: إنما قيل: " قريب " لأن الرحمة والغفران والعفو بمعنى واحد، وكذلك كل
تأنيث ليس بحقيقي. وقال الأخفش: جائز أن تكون الرحمة هاهنا في معنى المطر.
وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه
لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم
تذكرون (57)
قوله تعالى: (وهو الذي يرسل الرياح) قرأ أبو عمرو، ونافع، وابن عامر، وعاصم:
" الرياح " على الجمع. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: " الريح " على التوحيد. وقد يأتي
لفظ التوحيد، ويراد به الكثرة، كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس، ومثله: (إن الإنسان لفي
خسر).
قوله تعالى: (نشرا) قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ونافع: " نشرا " بضم النون والشين،
أرادوا جمع نشور، وهي الريح الطيبة الهبوب، تهب من كل ناحية وجانب. قال أبو عبيدة:
النشر: المتفرقة من كل جانب. قال أبو علي: يحتمل أن تكون النشور بمعنى المنشر، وبمعنى
المنتشر، وبمعنى الناشر، يقال: أنشر الله الريح، مثل أحياها، فنشرت، أي: حييت. والدليل
على أن إنشار الربح إحياؤها قول الفقعسي:
وهبت له ريح الجنوب وأحييت * له ريدة يحيي المياه نسيمها
ويدل على ذلك أن الريح قد وصفت بالموت.
قال الشاعر:
إني لأرجو أن تموت الريح * وأقعد اليوم وأستريح
والريدة والريدانة: الريح. وقرأ ابن عامر، وعبد الوارث، والحسن البصري: " نشرا "
بالنون مضمومة وسكون الشين، وهي في معنى " نشرا ". يقال: كتب وكتب، ورسل ورسل.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، والمفضل عن عاصم: " نشرا " بفتح النون وسكون الشين. قال
الفراء: النشر: الريح الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب. وقال ابن الأنباري: النشر: المنتشرة
147

الواسعة الهبوب. وقال أبو علي: يحتمل النشر أن يكون خلاف الطي، كأنها كانت بانقطاعها
كالمطوية. ويحتمل أن يكون معناها ما قاله أبو عبيدة في النشر: أنها المتفرقة في الوجوه، ويحتمل
أن يكون من النشر الذي هو الحياة، كقول الشاعر: يا بن عجبا للميت الناشر
قال: وهذا هو الوجه. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وإبراهيم النخعي، ومسروق، ومورق
العجلي: " نشرا " بفتح النون والشين. قال ابن القاسم: وفي النشر وجهان:
أحدهما: أن يكون جمعا، للنشور، كما قالوا: عمود وعمد، وإهاب وأهب.
والثاني: أن يكون جمعا، واحده ناشر، يجري مجرى قوله: غائب وغيب، وحافد وحفد،
وكل هؤلاء القراء نون الكلمة. وكذلك اختلافهم في (سورة الفرقان) و (سورة النمل).
هذه قراءات من قرأ بالنون. وقد قرأ آخرون بالباء، فقرأ عاصم إلا المفضل: " بشرى " بالباء
المضمومة وسكون الشين مثل فعلى. قال ابن الأنباري: وهي جمع بشيرة، وهي التي تبشر
بالمطر. والأصل ضم الشين، إلا أنهم استثقلوا الضمتين. وقرأ ابن خثيم، وابن حذلم مثله، إلا
أنهما نونا الراء. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: بضم الباء والشين، وهذا على
أنها جمع بشيرة. والرحمة ها هنا: المطر، سماه رحمة لأنه كان بالرحمة. و " أقلت " بمعنى
حملت. قال الزجاج: جمع سحابة. قال ابن فارس: سمي السحاب لانسحابه في
الهواء.
قوله تعالى: (ثقالا) أي: بالماء. وقوله تعالى: (سقناه) رد الكناية إلى لفظ
السحاب، ولفظه لفظ واحد. وفي قوله: " لبلد " قولان:
أحدهما: إلى بلد. والثاني: لإحياء بلد. والميت: الذي لا ينبت فيه، فهو محتاج إلى
المطر. وفي قوله تعالى: (فأنزلناه به) ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الكناية ترجع إلى السحاب.
والثاني: إلى المطر، ذكرهما الزجاج.
والثالث: إلى البلد، ذكره ابن الأنباري. فأما هاء (فأخرجناه به) فتحتمل الأقوال الثلاثة.
قوله تعالى: (كذلك نخرج الموتى) أي: كما أحيينا هذا البلد. وقال مجاهد: نحيي
الموتى بالمطر كما أحيينا البلد الميت به. قال ابن عباس: يرسل الله تعالى بين النفختين مطرا
كمني الرجال، فينبت الناس به في قبورهم كما نبتوا في بطون أمهاتهم.
148

قوله تعالى: (لعلكم تذكرون) قال الزجاج: لعل: ترج. وإنما خوطب العباد على ما
يرجوه بعضهم من بعض والمعنى: لعلكم بما بيناه لكم تستدلون على توحيد الله، وأنه يبعث
الموتى.
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف
الآيات لقوم يشكرون (58)
قوله تعالى: (والبلد الطيب) يعني الأرض الطيبة التربة، (يخرج نباته) وقرأ ابن أبي
عبلة: " يخرج " بضم الياء وكسر الراء، " نباته " بنصب التاء، (والذي خبث لا يخرج) كذلك
أيضا. وقد روى أبان عن عاصم: " لا يخرج " بضم الياء وكسر الراء. والمراد بالذي خبث: الأرض
السبخة.
قوله تعالى: (إلا نكدا) قرأ الجمهور: بفتح النون وكسر الكاف وقرأ أبو جعفر: " نكدا " بفتح
الكاف. وقرأ مجاهد، وقتادة، وابن محيصن: " نكدا " بإسكان الكاف. قال أبو عبيدة: قليلا عسيرا في
شدة، وأنشد:
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن * أعطيت أعطيت تافها نكدا
قال المفسرون: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله
انتفع به وبان أثره عليه، فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه، وعكسه
الكافر.
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف
عليكم عذاب يوم عظيم (59) قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين (60) قال
يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين (61) أبلغكم رسالات ربي وأنصح
لكم وأعلم من الله مالا تعلمون (62)
قوله تعالى: (اعبدوا الله) قال مقاتل: وحدوه، وكذلك في سائر القصص بعدها.
قوله تعالى: (مالكم من إله غيره) قرأ الكسائي: " غيره " بالخفض. قال أبو علي:
جعل غيرا صفة ل‍ " آله " على اللفظ.
قوله تعالى: (أبلغكم) قرأ أبو عمرو: " أبلغكم " ساكنة الباء خفيفة اللام. وقرأ الباقون:
149

" أبلغكم " مفتوحة الباء مشددة اللام.
قوله تعالى: (وأنصح لكم) يقال: نصحته ونصحت له، وشكرته وشكرت له.
قوله تعالى: (وأعلم من الله مالا تعلمون) أي: من مغفرته لمن تاب عليه وعقوبته لمن
أصر. وقال مقاتل: أعلم من نزول العذاب مالا تعلمونه، وذلك أن قوم نوح لم يسمعوا بقوم
عذبوا قبلهم.
أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (63)
فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين (64)
قوله تعالى: (أو عجبتم) قال الزجاج: هذه واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام،
فبقيت مفتوحة. وفي الذكر قولان:
أحدهما: الموعظة.
والثاني: البيان.
وفي قوله: (على رجل منكم) قولان:
أحدهما: أن " على " بمعنى: " مع "، قاله الفراء.
والثاني: أن المعنى: على لسان رجل منكم، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: (قوما عمين) قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته وشدة
بطشه.
* وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون (65) قال
الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين (66) قال
يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين (67) أبلغكم رسالات ربي وأنا
لكم ناصح أمين (68) أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا
إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم
تفلحون (69) قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن
كنت من الصادقين (70)
150

قوله تعالى: (وإلى عاد) المعنى: وأرسلنا إلى عاد (أخاهم هودا). قال الزجاج:
وإنما قيل: أخوهم، لأنه بشر مثلها من ولد أبيهم آدم. ويجوز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم.
وقال أبو سليمان الدمشقي: وعاد قبيلة من ولد سام بن نوح، وإنما سماه أخاهم، لأنه كان نسيبا
لهم، وهو وهم من ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام.
قوله تعالى: (إنا لنراك في سفاهة) قال ابن قتيبة: السفاهة: الجهل. وقال الزجاج:
السفاهة: خفة الحلم والرأي، يقال: ثوب سفيه، إذا كان خفيفا. (وإنا لنظنك من الكاذبين)
فكفروا به، ظانين، لا مستيقنين. (قال يا قوم ليس بي سفاهة) هذا موضع أدب للخلق في
حسن المخاطبة، فإنه دفع ما سبوه به من السفاهة بنفيه فقط.
قوله تعالى: (وأنا لكم ناصح أمين) قال الضحاك: أمين على الرسالة. وقال ابن
السائب: كنت فيكم أمينا قبل اليوم.
قوله تعالى: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء) ذكرهم النعمة حيث أهلك من كان قبلهم،
وأسكنهم مساكنهم. (وزادكم في الخلق بسطة) أي: طولا وقوة. وقال ابن عباس: كان
أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعا. قال الزجاج: وآلاء الله: نعمه، واحدها: إلى. قال
الشاعر:
أبيض لا يرهب الهزال ولا * يقطع رحما ولا يخون إلى
ويجوز أن يكون واحدها " إليا "، " وألى ".
قوله تعالى: (فائتنا بما تعدنا) أي: من نزول العذاب (إن كنت من الصادقين) في أن
العذاب نازل بنا. وقال عطاء: في نبوتك وإرسالك إلينا.
قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم
وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين (71) فأنجيناه والذين
معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين (72)
قوله تعالى: (قال قد وقع) أي: وجب عليكم (من ربكم رجس وغضب) قال ابن
عباس: عذاب وسخط. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرجز، والرجس: بمعنى واحد، قلبت
السين زايا.
قوله تعالى: (أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) يعني: الأصنام.
151

وفي تسميتهم لها قولان:
أحدهما: أنهم سموها آلهة.
والثاني: أنهم سموها بأسماء مختلفة. والسلطان: الحجة: (فانتظروا) نزول العذاب
(إني معكم من المنتظرين) الذي يأتيكم من العذاب في تكذيبكم إياي.
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة
من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء
فيأخذكم عذاب أليم (73) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض
تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في
الأرض مفسدين (74)
قوله تعالى: (وإلى ثمود) قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها. قال ابن
فارس: الثمد: الماء القليل الذي لا مادة له.
قوله تعالى: (هذه ناقة الله) في إضافتها إليه قولان:
أحدهما: أن ذلك للتخصيص والتفضيل، كما يقال: بيت الله.
والثاني: لأنها كانت بتكوينه من غير سبب.
قوله تعالى: (لكم آية) أي: علامة تدل على قدرة الله، وإنما قال: " لكم " لأنهم هم
الذين اقترحوها، وإن كانت آية لهم ولغيرهم. وفي وجه كونها آية قولان:
أحدهما: أنها خرجت من صخرة ملساء، فتمخضت بها تمخض الحامل، ثم انفلقت عنها
على الصفة التي طلبوها.
والثاني: أنها كانت تشرب ماء الوادي كله في يوم، وتسقيهم اللبن مكانه.
قوله تعالى: (فذروها تأكل في أرض الله) قال ابن الأنباري: ليس عليكم مؤنتها وعلفها.
و " تأكل " مجزوم على جواب الشرط المقدر، أي: إن تذروها تأكل.
قوله تعالى: (ولا تمسوها بسوء)، أي: لا تصيبوها بعقر.
قوله تعالى: (وبوأكم في الأرض) أي: أنزلكم، يقال: تبوأ فلان منزلا: إذا نزله.
وبوأته: أنزلته. قال الشاعر:
152

وبوئت في صميم معشرها * فتم في قومها مبوؤها قوله تعالى: (تتخذون من سهولها قصورا) السهل: ضد الحزن. والقصر: ما شيد وعلا
من المنازل. قال ابن عباس: اتخذوا القصور في سهول الأرض للصيف، ونقبوا في الجبال
للشتاء. قال وهب بن منبه: كان الرجل منهم يبني البنيان، فيمر عليه مائة سنة، فيخرب، ثم
يجدده، فيمر عليه مائة سنة، فيخرب ثم يجدده، فيمر عليه مائة سنة، فيخرب، فأضجرهم
ذلك، فاخذوا من الجبال بيوتا.
قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا
مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون (75) قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به
كافرون (76)
قوله تعالى: (قال الملأ الذين استكبروا) وقرأ ابن عامر (وقال الملأ) بزيادة واو،
وكذلك هي في مصاحفهم. ومعنى الآية: تكبروا عن عبادة الله. (للذين استضعفوا) يريد:
المساكين. (لمن آمن منهم) بدل من قوله " للذين استضعفوا " لأنهم المؤمنون (أتعلمون أن
صالحا مرسل) هذا استفهام إنكار.
فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين (77)
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (78)
قوله تعالى: (فعقروا الناقة) أي: قتلوها. قال ابن قتيبة: والعقر يكون بمعنى: القتل،
ومنه قوله عليه السلام عند ذكر الشهداء: " من عقر جواده " وقال ابن إسحاق: كمن لها قاتلها في
أصل شجرة فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكسر عرقوبها، ثم
نحرها قال الأزهري: العقر عند العرب: قطع عرقوب البعير، ثم جعل العقر نحرا، لأن ناحر
البعير يعقره ثم ينحره.
قوله تعالى: (وعتوا) قال الزجاج: جازوا المقدار في الكفر. قال أبو سليمان: عتوا عن
اتباع أمر ربهم.
153

قوله تعالى: (بما تعدنا) أي: من العذاب.
قوله تعالى: (فأخذتهم الرجفة) قال الزجاج: الرجفة: الزلزلة الشديدة.
قوله تعالى: (فأصبحوا في دارهم) أي: في مدينتهم. فإن قيل: كيف وحد الدار ها
هنا، وجمعها في موضع آخر، فقال: (في ديارهم) فعنه جوابان، ذكرهما ابن الأنباري:
أحدهما: أنه أراد بالدار: المعسكر، أي: فأصبحوا في معسكرهم. وأراد بقوله: في
ديارهم: المنازل التي ينفرد كل واحد منها بمنزل.
والثاني: أنه أراد بالدار: الديار، فاكتفى بالواحد من الجميع، كقول الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا
وشواهد هذا كثيرة في هذا الكتاب.
قوله تعالى: (جاثمين) قال الفراء: أصبحوا رمادا جاثما. وقال أبو عبيدة: أي: بعضهم
على بعض جثوم. والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل. وقال ابن قتيبة: الجثوم: البروك
على الركب. وقال غيره: كأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال. وقال الزجاج: أصبحوا أجساما
ملقاة في الأرض كالرماد الجاثم. قال المفسرون: معنى " جاثمين ": بعضهم على بعض، أي:
إنهم سقط بعضهم على بعض عند نزول العذاب.
فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين
ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (80) إنكم
لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون (81) وما كان جواب قومه
إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (82)
قوله تعالى: (فتولى عنهم) يقول: انصرف صالح عنهم بعد عقر الناقة، لأن الله تعالى
أوحى إليه أن أخرج من بين أظهرهم، فإني مهلكهم. وقال قتادة: ذكر لنا أن صالحا أسمع قومه
كما أسمع نبيكم قومه، يعني: بعد موتهم.
قوله تعالى: (أتأتون الفاحشة) يعني إتيان الرجال. (ما سبقكم بها من أحد) قال عمرو
ابن دينار: ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط. وقال بعض اللغويين: لوط: مشتق من لطت
الحوض: إذا ملسته بالطين. قال الزجاج وهذا غلط، لأنه اسم أعجمي كإسحاق، ولا يقال: إنه
154

مشتق من السحق وهو البعد.
قوله تعالى: (إنكم لتأتون الرجال) هذا استفهام إنكار. والمسرف: المجاوز ما أمر به.
وقوله تعالى: (أخرجوهم من قريتكم) يعني: لوطا وأتباعه المؤمنين (إنهم أناس يتطهرون)
قال ابن عباس: يتنزهون عن أدبار الرجال وأدبار النساء.
فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (83) وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف
كان عاقبة المجرمين (84)
قوله تعالى: (فأنجيناه وأهله) في أهله قولان:
أحدهما: ابنتاه.
والثاني: المؤمنون به. (إلا امرأته كانت من الغابرين) أي: الباقين في عذاب الله تعالى.
قال أبو عبيدة: وإنما قال: " من الغابرين " لأن صفة النساء مع صفة الرجال تذكر إذا أشرك
بينهما.
قوله تعالى: (وأمطرنا عليهم مطرا) قال ابن عباس: يعني: الحجارة. قال مجاهد: نزل
جبريل، فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط، ورفعها، ثم قلبها، فجعل أعلاها أسفلها، ثم
أتبعوا بالحجارة.
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم
بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في
الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين (85)
قوله تعالى: (وإلى مدين) قال قتادة: مدين: ماء كان عليه قوم شعيب، وكذلك قال
الزجاج، وقال: لا ينصرف، لأنه اسم البقعة. وقال مقاتل: مدين: هو ابن إبراهيم الخليل
لصلبه. وقال أبو سليمان الدمشقي: مدين: هو ابن مديان بن إبراهيم، والمعنى: أرسلنا إلى ولد
مدين، فعلى هذا: هو اسم قبيلة. وقال بعضهم: هو اسم للمدينة. فالمعنى: وإلى أهل مدين.
قال شيخنا أبو منصور اللغوي: مدين اسم أعجمي. فإن كان عربيا، فالياء زائدة، من قولهم:
مدن بالمكان: إذا أقام به.
قوله تعالى: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) قال الزجاج: البخس: النقص والقلة، يقال:
155

بخست أبخس، بالسين، وبخصت عينه، بالصاد لا غير. (ولا تفسدوا في الأرض) أي: لا
تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله بالأمر بالعدل، وإرسال الرسل.
قوله تعالى: (إن كنتم مؤمنين) أي: مصدقين بما أخبرتكم عن الله.
ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا
واذكروا إذ كنتم قليلا فكثرتم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين (86)
قوله تعالى: (ولا تقعدوا بكل صراط) أي: بكل طريق (توعدون) من آمن بشعيب
بالشر، وتخوفونهم بالعذاب والقتل. فإن قيل: كيف أفرد الفعل، وأخلاه من المفعول، فهلا
قال: توعدون بكذا؟ فالجواب: أن العرب إذا أخلت هذا الفعل من المفعول، لم يدل إلا على
شر، يقولون: أوعدت فلانا. وكذلك إذا أفردوا: وعدت من مفعول، لم يدل إلا على الخير.
قال الفراء: يقولون: وعدته خيرا، ووعدته شرا، فإذا أسقطوا الخير والشر، قالوا: وعدته: في
الخير، ووعدته: في الشر، فإذا جاؤوا بالباء، قالوا: وعدته بالشر، وقال الراجز:
أوعدني بالسجن والأداهم
قال المصنف: وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: إذا أرادوا أن يذكروا ما تهددوا
به مع أوعدت، جاؤوا بالباء، فقالوا: أوعدته بالضرب، ولا يقولون: أوعدته الضرب. قال
السدي: كانوا عشارين. وقال أبو زيد: كانوا يقطعون الطريق.
قوله تعالى: (وتصدون عن سبيل الله) أي: تصرفون عن دين الله من آمن به. (وتبغونها
عوجا) مفسر في (آل عمران).
قوله تعالى: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) قال الزجاج: جائز أن يكون المعنى:
جعلكم أغنياء بعد أن كنتم فقراء، وجائز أن يكون: كثر عددكم بعد أن كنتم قليلا، وجائز أن
يكونوا غير ذوي مقدرة وأقدار، فكثرهم.
وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى
يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين (87) قال الملأ الذين استكبروا من قومه
لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا
كارهين (88)
156

قوله تعالى: (وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا) أي: إن اختلفتم في رسالتي، فصرتم فريقين، مصدقين ومكذبين (فاصبروا حتى يحكم الله بيننا)
بتعذيب المكذبين، وإنجاء المصدقين (وهو خير الحاكمين) لأنه العدل الذي لا يجور.
قوله تعالى: (أو لتعودن في ملتنا) يعنون ديننا، وهو الشرك. قال الفراء: جعل في قوله:
" لتعودن " لاما كجواب اليمين، وهو في معنى شرط، ومثله في الكلام: والله لأضربنك أو تقر
لي، فيكون معناه معنى: " إلا "، أو معنى: " حتى ". (قال أو لو كنا كارهين) أي:
أو تجبروننا على ملتكم إن كرهناها؟! والألف للاستفهام. فإن قيل: كيف قالوا: " لتعودن "،
وشعيب لم يكن في كفر قط، فيعود إليه؟ ففيه جوابان:
أحدهما: أنهم لما جمعوا في الخطاب معه من كان كافرا، ثم آمن، خاطبوا شعيبا بخطاب
أتباعه، وغلبوا لفظهم على لفظه، لكثرتهم، وانفراده.
والثاني: أن المعنى: لتصيرن إلى ملتنا، فوقع العود على معنى الابتداء، كما يقال: قد عاد
علي من فلان مكروه، أي: قد لحقني منه ذلك، وإن لم يكن سبق منه مكروه. قال الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مرة * إلي عمر فقد عادت لهن ذنوب
وقد شرحنا هذا في قوله: (وإلى الله ترجع الأمور) في (سورة البقرة): وقد ذكر معنى
الجوابين الزجاج، وابن الأنباري.
قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا
أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (89) وقال الملأ الذين كفروا
من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون (90) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم
جاثمين (91) الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين (92)
فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم
كافرين (93)
157

قوله تعالى: (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم) وذلك أن القوم كانوا يدعون أن
الله أمرهم بما هم عليه، فلذلك سموه ملة. (وما يكون لنا أن نعود فيها) أي: في الملة، (إلا أن
يشاء الله) أي: إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، (وسع ربنا كل شئ
علما) قال ابن عباس: يعلم ما يكون قبل أن يكون.
قوله تعالى: (على الله توكلنا) أي: فيما توعدتمونا به، وفي حراستنا عن الضلال. (ربنا
افتح بيننا وبين قومنا بالحق) قال أبو عبيدة: احكم بيننا، وأنشد.
ألا أبلغ بني عصم رسولا * بأني عن فتاحتكم غني
قال الفراء: وأهل عمان يسمون القاضي: الفاتح والفتاح. قال الزجاج: وجائز أن يكون
المعنى: أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وينكشف، فجائز أن يكونوا سألوا بهذا نزول العذاب بقومهم
ليظهر أن الحق معهم.
قوله تعالى: (كأن لم يغنوا فيها) فيه أربعة أقوال:
أحدها: كأن لم يعيشوا في دارهم، قاله ابن عباس، والأخفش. قال حاتم طيئ:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى * فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة * غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفقر
قال الزجاج: معنى غنينا: عشنا. والتصعلك: الفقر، والعرب تقول للفقير: الصعلوك.
والثاني: كأن لم يتنعموا فيها، قاله قتادة.
والثالث: كأن لم يكونوا فيها، قاله ابن زيد، ومقاتل.
والرابع: كأن لم ينزلوا فيها، قاله الزجاج. قال الأصمعي: المغاني: المنازل، يقال: غنينا
بمكان كذا، أي: نزلنا به. وقال ابن قتيبة: كأن لم يقيموا فيها، ومعنى: غنينا بمكان كذا: أقمنا.
قال ابن الأنباري: وإنما كرر قوله: (والذين كذبوا شعيبا) للمبالغة في ذمهم، كما تقول: أخوك
الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي شتم أعراضنا.
قوله تعالى: (فتولى عنهم) فيه قولان:
أحدهما: أعرض.
والثاني: انصرف (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي) قال قتادة: أسمع شعيب قومه، وأسمع
صالح قومه، كما أسمع نبيكم قومه يوم بدر، يعني: أنه خاطبهم بعد الهلاك. (فكيف آسى) أي:
أحزن. وقال أبو إسحاق: أصاب شعيبا على قومه حزن شديد، ثم عاتب نفسه، فقال: كيف آسى على
158

قوم كافرين.
وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون (94)
قوله تعالى: (وما أرسلنا في قرية) قال الزجاج: يقال لكل مدينة: قرية، لاجتماع الناس
فيها. وقال غيره: في الآية اختصار، تقديره: فكذبوه. (إلا أخذنا أهلها بالبأساء) وقد سبق تفسير
البأساء والضراء في [سورة الأنعام]، وتفسير التضرع في هذه السورة. ومقصود الآية: إعلام
النبي صلى الله عليه وسلم بسنه الله في المكذبين، وتهديد قريش.
ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء
فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون (95) ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم
بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (96) أفأمن أهل
القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون (97)
قوله تعالى: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) فيه قولان:
أحدها: أن السيئة: الشدة، والحسنة، الرخاء، قاله ابن عباس.
والثاني: السيئة: الشر، والحسنة: الخير، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (حتى عفوا) قال ابن عباس: كثروا، وكثرت أموالهم. (وقالوا قد مس آباءنا
الضراء والسراء) فنحن مثلهم، يصيبنا ما أصابهم، يعني: أنهم أرادوا أن هذا دأب الدهر، وليس
بعقوبة. (فأخذناهم بغتة) أي: فجأة بنزول العذاب (وهم لا يشعرون) بنزوله، حتى أهلكهم.
قوله تعالى: (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) قال الزجاج: المعنى: أتاهم الغيث
من السماء، والنبات من الأرض، وجعل ذلك زاكيا كثيرا.
أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (98) أفأمنوا مكر الله فلا
يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (99)
قوله تعالى: (أو أمن أهل القرى) قرأ ابن كثير، وابن عامر، ونافع: (أو أمن أهل) بإسكان
الواو. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: (أو أمن) بتحريك الواو. وروى ورش عن
نافع: (أو امن) يدغم الهمزة، ويلقي حركتها على الساكن.
159

أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على
قلوبهم فهم لا يسمعون (100) تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم
بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين (101)
قوله تعالى: (أو لم يهد للذين) وقرأ يعقوب: " نهد " بالنون، وكذلك في (طه)، و
السجدة) قال الزجاج: من قرأ بالياء، فالمعنى: أو لم يبين الله لهم. ومن قرأ بالنون، فالمعنى:
أو لم نبين. وقوله تعالى: (ونطبع) ليس بمحمول على " أصبناهم "، لأنه لو حمل على " أصبناهم "
لكان: ولطبعنا. وإنما المعنى: ونحن نطبع على قلوبهم. ويجوز أن يكون محمولا على الماضي،
ولفظه لفظ المستقبل، كما قال: (أن لو نشاء)، والمعنى: لو شئنا. وقال ابن الأنباري: يجوز
أن يكون معطوفا على: أصبنا، إذ كان بمعنى نصيب، فوضع الماضي في موضع المستقبل عند
وضوح معنى الاستقبال، كما قال: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) أي: إن يشأ،
يدل عليه قوله: (ويجعل لك قصورا) قال الشاعر:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا * مني، وما سمعوا من صالح دفنوا
أي: يدفنوا:
قوله تعالى: (فهم لا يسمعون) أي: لا يقبلون، ومنه: " سمع الله لمن حمده "، قال
الشاعر:
دعوت الله حتى خفت أن لا * يكون الله يسمع ما أقول
قوله تعالى: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) فيه خمسة أقوال:
أحدها: فما كانوا ليؤمنوا عند مجئ الرسل بما سبق في علم الله أنهم يكذبون به يوم أقروا له
بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم، هذا قول أبي بن كعب.
والثاني: فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من
صلب آدم، فآمنوا كرها حيث أقروا بالألسن، وأضمروا التكذيب، قاله ابن عباس، والسدي.
والثالث: فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم، هذا
قول مجاهد.
والرابع: فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الخالية، بل شاركوهم في التكذيب،
قاله يمان بن رباب.
160

والخامس: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذبوا قبل رؤيتها.
وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (102)
قوله تعالى: (وما وجدنا لأكثرهم) قال مجاهد: يعني: القرون الماضية. (من عهد) قال أبو عبيدة:
أي: وفاء. قال ابن عباس: يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم حين أخرجهم من صلب آدم. وقال الحسن: العهد
هاهنا: ما عهده إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئا.
قوله تعالى: (وإن وجدنا) قال أبو عبيدة: وما وجدنا أكثرهم إلا الفاسقين.
ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة
المفسدين (103) وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين (104) حقيق على أن لا
أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل (105) قال
إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين (106) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان
مبين (107)
قوله تعالى: (ثم بعثنا من بعدهم) يعني: الأنبياء المذكورين.
قوله تعالى: (فظلموا بها) قال ابن عباس: فكذبوا بها. وقال غيره: فجحدوا بها.
قوله تعالى: (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق) " على " بمعنى الباء. قال الفراء:
العرب تجعل الباء في موضع " على "، تقول: رميت بالقوس، وعلى القوس، وجئت بحال حسنة،
وعلى حال حسنة. وقال أبو عبيدة: " حقيق " بمعنى: حريص. وقرأ نافع، وأبان عن عاصم:
(حقيق علي) بتشديد الياء وفتحها، على الإضافة. والمعنى: واجب علي.
قوله تعالى: (قد جئتكم ببينة) قال ابن عباس: يعني العصا. (فأرسل معي بني إسرائيل)
أي: أطلق عنهم، وكان قد استخدمهم في الأعمال الشاقة. (فإذا هي ثعبان مبين) قال أبو عبيدة:
أي: حية ظاهرة. قال الفراء: الثعبان: أعظم الحيات، وهو الذكر. وكذلك روى الضحاك عن ابن
عباس: الثعبان: الحية الذكر.
ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (108) قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم
يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون (110) قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين
161

يأتوك بكل ساحر عليم (112) وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (113)
قال نعم وإنكم لمن المقربين (114) قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن المقلين
(115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم (116)
* وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) فوقع الحق وبطل
ما كانوا يعملون (118) فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين (119) وألقي السحرة ساجدين (120)
قالوا آمنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون (122)
قوله تعالى: (ونزع يده) قال ابن عباس: أدخل يده في جيبه، ثم أخرجها، فإذا هي تبرق
مثل البرق، لها شعاع غلب نور الشمس، فخروا على وجوههم، ثم أدخلها جيبه فصارت كما
كانت. قال مجاهد: بيضاء من غير برص.
قوله تعالى: (فماذا تأمرون) قال ابن عباس: ما الذي تشيرون به علي؟ وهذا يدل على أنه
من قول فرعون، وأن كلام الملأ انقطع عند قوله: (من أرضكم). قال الزجاج: يجوز أن يكون من
قول الملأ، كأنهم خاطبوا فرعون ومن يخصه، أو خاطبوه وحده، لأنه قد يقال للرئيس المطاع: ماذا
ترون؟.
قوله تعالى: (أرجئه) قرأ ابن كثير " أرجهؤ " مهموز بواو بعد الهاء في اللفظ. وقرأ ابن عمرو
مثله، غير أنه يضم الهاء ضمة، من غير أن يبلغ بها الواو، وكانا يهمزان: (مرجؤن) و (ترجئ)
وقرأ قالون والمسيبي عن نافع " أرجه " بكسر الهاء، ولا يبلغ بها الياء، ولا يهمز. وروى عنه ورش:
" أرجهي " يصلها بياء، ولا يهمز بين الجيم والهاء. وكذلك قال إسماعيل بن جعفر عن نافع، وهي
قراءة الكسائي. وقرأ حمزة: " أرجه " ساكنة الهاء غير مهموز، وكذلك قرأ عاصم في غير رواية
المفضل، وقد روى عنه المفضل كسر الهاء من غير إشباع ولا همز، وهي قراءة أبي جعفر، وكذلك
اختلافهم في سورة (الشعراء). وقال ابن قتيبة: أرجه: أخره، وقد يهمز، يقال: أرجأت الشئ،
وأرجيته. ومنه قوله: (ترجي من تشاء منهن). قال الفراء: بنو أسد تقول: أرجيت الأمر، بغير
همز، وكذلك عامة قيس، وبعض بني تميم يقولون: أرجأت الأمر، بالهمز، والقراء مولعون بهمزها،
وترك الهمز أجود.
قوله تعالى: (وأرسل في المدائن) يعني مدائن مصر، (حاشرين) أي: من يحشر السحرة
إليك ويجمعهم. وقال ابن عباس: هم الشرط.
162

قوله تعالى: (يأتوك بكل ساحر) قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر:
(ساحر)، وفي (يونس): (بكل ساحر)، وقرأ حمزة، والكسائي: (سحار) في الموضعين، ولا
خلاف في (الشعراء) أنها: (سحار).
قوله تعالى: (إن لنا لأجرا) قرأ ابن كثير، ونافع، وحفص عن عاصم (إن لنا لأجرا)
مكسورة الألف على الخبر، وفي (الشعراء): (أين) ممدودة مفتوحة الألف، غير أن حفصا روى
عن عاصم في (الشعراء): (أإن) بهمزتين. وقرأ أبو عمرو: (آين لنا) ممدودة في السورتين. وقرأ
ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بهمزتين في الموضعين. قال أبو علي:
الاستفهام أشبه بهذا الموضع، لأنهم لم يقطعوا على أن لهم الأجر، وإنما استفهموا عنه.
قوله تعالى: (وإنكم لمن المقربين) أي: ولكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي.
قوله تعالى: (سحروا أعين الناس) قال أبو عبيدة: عشوا أعين الناس وأخذوها.
(واسترهبوهم) أي: خوفوهم. وقال الزجاج: استدعوا رهبتهم حتى رهبهم الناس.
قوله تعالى: (فإذا هي تلقف) وقرأ عاصم: (تلقف) ساكنة اللام، خفيفة القاف هاهنا وفي
(طه)، و (الشعراء). وروى البزي. وابن فليح عن ابن كثير: (تلقف) بتشديد التاء. قال الفراء:
يقال: لقفت الشئ، فأنا ألقفه لقفا ولقفانا، والمعنى: تبتلع.
قوله تعالى: (ما يأفكون) أي: يكذبون، لأنهم زعموا أنها حيات.
قوله تعالى: (فوقع الحق) قال ابن عباس: استبان. (وبطل ما كانوا يعملون) من السحر.
الإشارة إلى قصتهم
اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولا.
أحدها: اثنان وسبعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: اثنان وسبعون ألفا، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال مقاتل.
والثالث: سبعون، روي عن ابن عباس أيضا.
والرابع: اثنا عشر ألفا، قاله كعب.
والخامس: سبعون ألفا، قاله عطاء، وكذلك قال وهب في رواية، ألا أنه قال: فاختار منهم
سبعة آلاف.
والسادس: سبعمائة. وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه قال: كان عدد
السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفا متخيرين من سبعمائة ألف، ثم إن فرعون اختار من
السبعين الألف سبعمائة.
163

والسابع: خمسة وعشرون ألفا، قاله الحسن.
والثامن: تسعمائة، قاله عكرمة.
والتاسع: ثمانون ألفا، قاله محمد بن المنكدر.
والعاشر: بضعة وثلاثون ألفا، قاله السدي.
والحادي عشر: خمسة عشر ألفا، قاله ابن إسحاق.
والثاني عشر: تسعة عشر ألفا، رواه أبو سليمان الدمشقي.
والثالث عشر: أربع مائة، حكاه الثعلبي، فأما أسماء رؤسائهم، فقال ابن إسحاق: رؤوس
السحرة ساتور، وعاذور، وحطحط، ومصفى، وهم الذين آمنوا، كذا حكاه ابن ماكولا. ورأيت عن
غير ابن إسحاق: سابورا، وعازورا. وقال مقاتل: اسم أكبرهم. شمعون. قال ابن عباس: ألقوا
حبالا غلاظا، وخشبا طوالا، فكانت ميلا في ميل، فألقى موسى عصاه، فإذا هي أعظم من
حبالهم وعصيهم، قد سدت الأفق، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا، فابتلعت ما ألقوا من حبالهم
وعصيهم، وجعلت تأكل جميع ما قدرت عليه من صخرة أو شجرة، والناس ينظرون، وفرعون
يضحك تجلدا، فأقبلت الحية نحو فرعون، فصاح: يا موسى، يا موسى، فأخذها موسى، وعرفت
السحرة ان هذا من السماء، وليس هذا بسحر، فخروا سجدا، وقالوا آمنا برب العالمين فقال
فرعون: إياي تعنون؟ فقالوا: رب موسى وهارون، فأصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء. وقال وهب
ابن منبه: لما صارت ثعبانا حملت على الناس فانهزموا منها، فقتل بعضهم بعضا، فمات منهم
خمسة وعشرون ألفا. وقال السدي: لقي موسى أمير السحرة، فقال: أرأيت إن غلبتك غدا، أتؤمن
بي؟ فقال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه السحر، فوالله لئن غلبتني لأومنن بك. فإن قيل: كيف
جاز أن يأمرهم موسى بالإلقاء، وفعل السحر كفر؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن مضمون أمره: إن كنتم محقين فألقوا.
والثاني: ألقوا على ما يصح، لا على ما يفسد ويستحيل، ذكرهما الماوردي:
والثالث: إنما أمرهم بالإلقاء لتكون معجزته أظهر، لأنهم إذا ألقوا، ألقى عصاه فابتلعت
ذلك، ذكره الواحدي. فإن قيل: كيف قال: (وألقي السحرة ساجدين) وإنما سجدوا باختيارهم؟
فالجواب أنه لما زالت كل شبهة بما أظهر الله تعالى من أمره، اضطرهم عظيم ما عاينوا إلى مبادرة
السجود، فصاروا مفعولين في الإلقاء تصحيحا وتعظيما لشأن ما رأوا من الآيات، ذكره ابن الأنباري.
قال ابن عباس: لما آمنت السحرة، اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل.
قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا
منها أهلها فسوف تعلمون (123) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم
164

أجمعين (124) قالوا إنا إلى ربنا منقلبون (125)
قوله تعالى: (آمنتم به) قرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو: " ءآمنتم به " بهمزة ومدة على
الاستفهام. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " أآمنتم به " فاستفهموا بهمزتين، الثانية
ممدودة. وقرأ حفص عن عاصم: " آمنتم به " على الخبر. وروى ابن الإخريط عن ابن كثير: " قال
فرعون وآمنتم به " فقلب همزة الاستفهام واوا، وجعل الثانية ملينة بين بين. وروى قنبل عن القواس
مثل رواية ابن الإخريط، غير أنه كان يهمز بعد الواو. وقال أبو علي: همز بعد الواو، لأن هذه الواو
منقلبة عن همزة الاستفهام، وبعد همزة الاستفهام " أفعلتم " فحققها ولم يخففها.
قوله تعالى: (إن هذا لمكر مكرتموه) قال ابن السائب: لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين
موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها (فسوف
تعلمون) عاقبة ما صنعتم، (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) وهو قطع اليد اليمنى، والرجل
اليسرى. قال ابن عباس: أول من فعل ذلك، وأول من صلب، فرعون.
وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا
مسلمين (126) وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك
وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون (127) قال موسى
لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة
للمتقين (128)
قوله تعالى: (وما تنقم منا) أي: وما تكره منا شيئا، ولا تعطن علينا إلا لأنا آمنا. (ربنا أفرغ
علينا صبرا) قال مجاهد: على القطع والصلب حتى لا نرجع كفارا (وتوفنا مسلمين) أي:
مخلصين على دين موسى.
قوله تعالى: (أتذر موسى وقومه) هذا إغراء من الملأ لفرعون. وفيما أرادوا بالفساد في
الأرض قولان:
أحدهما: قتل أبناء القبط، واستحياء نسائهم، كما فعلوا ببني إسرائيل، قاله مقاتل.
والثاني: دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته.
قوله تعالى: (ويذرك) جمهور القراء على نصب الراء، وقرأ الحسن برفعها. قال الزجاج:
من نصب " ويذرك " نصبه على جواب الاستفهام بالواو، والمعنى: أيكون منك أن تذر موسى وأن
165

يذرك؟ ومن رفعه جعله مستأنفا، فيكون المعنى: أتذر موسى وقومه، وهو يذرك وآلهتك، والأجود أن
يكون معطوفا على " أتذر " فيكون المعنى: أتذر موسى، وأيذرك موسى؟ أي: أتطلق له هذا؟.
قوله تعالى: (وآلهتك) قال ابن عباس: كان فرعون قد صنع لقومه أصناما صغارا، وأمرهم
بعبادتها، وقال أنا ربكم ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: (أنا ربكم الأعلى). وقال غيره: كان
قومه يتعبدون تلك الأصنام تقربا إليه. وقال الحسن: كان يعبد تيسا في السر. وقيل: كان يعبد
البقر سرا. وقيل: كان يجعل في عنقه شيئا يعبده. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد
ابن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وابن محيصن: " وإلاهتك " بكسر الهمزة وقصرها وفتح اللام وبألف
بعدها. قال الزجاج: المعنى: ويذرك وربوبيتك وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الإلاهة: العبادة،
فالمعنى: ويذرك وعبادة الناس إياك. قال ابن قتيبة: من قرأ: " وإلاهتك " أراد: ويذرك والشمس
التي تعبد، وقد كان في العرب قوم يعبدون الشمس ويسمونها آلهة. قال الأعشى:
فما أذكر الرهب حتى انقلبت * قبيل الإلهة منها قريبا
يعني الشمس، والرهب: ناقته. يقول: اشتغلت بهذه المرأة عن ناقتي إلى هذا الوقت.
قوله تعالى: (سنقتل أبناءهم) قرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
" سنقتل " و " يقتلون أبناءكم " بالتشديد، وخفضهما نافع. وقرأ ابن كثير: " سنقتل " خفيفة، و " يقتلون "
مشددة وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لعلمه أنه لا يقدر عليه. (وإنا فوقهم قاهرون)
أي: عالون بالملك والسلطان. فشكا بنو إسرائيل إعادة القتل على أبنائهم، فقال موسى: (استعينوا
بالله واصبروا) على ما يفعل بكم (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده). وقرأ الحسن، وهبيرة
عن حفص عن عاصم: " يورثها " بالتشديد. فأطعمهم موسى أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم.
قوله تعالى: (والعاقبة للمتقين) فيها قولان:
أحدهما: الجنة.
والثاني: النصر والظفر.
قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم
في الأرض فينظر كيف تعملون (129) ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من
الثمرات لعلهم يذكرون (130)
قوله تعالى: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) في هذا الأذى ستة أقوال:
166

أحدها: أن الأذى الأول والثاني أخذ الجزية، قاله الحسن.
والثاني: أن الأول ذبح الأبناء، والثاني إدراك فرعون يوم طلبهم، قاله السدي.
والثالث: أن الأول أنهم كانوا يسخرون في الأعمال إلى نصف النهار، ويرسلون في بقيته
يكتسبون. والثاني تسخيرهم جميع النهار بلا طعام ولا شراب، قاله جويبر.
والرابع: أن الأول تسخيرهم في ضرب اللبن، وكانوا يعطونهم التبن الذي يخلط به الطين،
والثاني أنهم كلفوا ضرب اللبن وجعل التبن عليهم، قاله ابن السائب.
والخامس: أن الأول قتل الأبناء. واستحياء البنات، والثاني تكليف فرعون إياهم مالا يطيفون،
قاله مقاتل.
والسادس: أن الأول استخدامهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، والثاني إعادة ذلك العذاب.
وفي قوله [تعالى]: (من قبل أن تأتينا) قولان:
أحدهما: تأتينا بالرسالة، ومن بعد جئتنا بها، قاله ابن عباس.
والثاني: تأتينا بعهد الله أنه سيخلصنا، ومن بعد ما جئتنا به، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) قال الزجاج: عسى: طمع وإشفاق، إلا أن ما
يطمع الله فيه فهو واجب.
قوله تعالى: (ويستخلفكم في الأرض) في هذا الاستخلاف قولان:
أحدهما: أنه استخلاف من فرعون وقومه.
والثاني: استخلاف عن الله تعالى، لأن المؤمنين خلفاء الله في أرضه وفي الأرض قولان:
أحدهما: أرض مصر، قاله ابن عباس.
والثاني: أرض الشام، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (فينظر كيف تعملون) قال الزجاج: أي: يراه بوقوعه منكم، لأنه إنما يجازيهم
على ما وقع منهم، لا على ما علم أنه سيقع منهم.
قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) قال أبو عبيدة: مجازه: ابتليناهم بالجدوب.
وآل فرعون: أهل دينه وقومه. وقال مقاتل: هم أهل مصر. قال الفراء: " بالسنين " أي: بالقحط
والجدوب عاما بعد عام. وقال الزجاج السنون في كلام العرب: الجدوب، يقال: مستهم السنة،
ومعناه: جدب السنة، وشدة السنة. وإنما أخذهم بالضراء، لأن أحوال الشدة، ترق القلب،
وترغب فيما عند الله وفي الرجوع إليه. قال قتادة: أما السنون، فكانت في بواديهم ومواشيهم، وأما
نقص الثمرات، فكان في أمصارهم وقراهم. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يبس لهم كل
شئ، وذهبت مواشيهم، حتى يبس نيل مصر، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له: إن كنت ربا كما
167

تزعم، فاملأ لنا نيل مصر، فقال غدوة يصبحكم الماء، فلما خرجوا من عنده، قال: أي شئ
صنعت؟ أنا أقدر أن أجئ بالماء في نيل مصر غدوة أصبح، فيكذبوني؟! فلما كان جوف الليل،
اغتسل، ثم لبس مدرعة من صوف، ثم خرج حافيا حتى أتى بطن نيل مصر فقام في بطنه، فقال:
اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء، فاملأه، فما علم إلا بخرير الماء لما
أراد الله به من الهلكة. قلت: وهذا الحديث بعيد الصحة، لأن الرجل كان دهريا لا يثبت إلها. ولو
صح، كان إقراره بذلك كإقرار إبليس، وتبقى مخالفته عنادا.
فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه
ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون (131)
قوله تعالى: (فإذا جاءتهم الحسنة) وهي الغيث والخصب وسعة الرزق والسلامة (قالوا لنا
هذه) أي: نحن مستحقوها على ما جرى لنا من العادة في سعة الرزق، ولم يعلموا أنه من الله
فيشكروا عليه. (وإن تصبهم سيئة) وهي القحط والجدب والبلاء (يطيروا بموسى ومن معه) أي:
يتشاءموا بهم. وكانت العرب تزجر الطير، فتتشاءم بالبارح، وهو الذي يأتي من جهة الشمال، وتتبرك
بالسانح، وهو الذي يأتي من جهة اليمين.
قوله تعالى: (ألا إنما طائرهم عند الله) قال أبو عبيدة: " ألا " تنبيه وتوكيد ومجاز. " طائرهم "
حظهم ونصيبهم وقال ابن عباس " ألا إنما طائرهم عند الله " أي: إن الذي أصابهم من الله. وقال
الزجاج: المعنى: ألا إن الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة، لا ما ينالهم في
الدنيا.
وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (132) فأرسلنا عليهم
الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما
مجرمين (133)
قوله تعالى: (وقالوا مهما) قال الزجاج: زعم النحويون أن أصل " مهما " ماما، ولكن أبدل من
الألف الأولى الهاء ليختلف اللفظ، ف‍ " ما " الجزاء، و " ما " الثانية هي التي تزاد تأكيدا
للجزاء، ودليل النحويين على ذلك أنه ليس شئ من حروف الجزاء إلا و " ما " تزاد فيه، قال الله [عز
وجل] (فأما تثقفنهم) كقولك: إن تثقفنهم، وقال: (وإما تعرضن عنهم)، وتكون " ما " الثانية
للشرط والجزاء، والتفسير الأول هو الكلام، وعليه استعمال الناس. قال ابن الأنباري: فعلى قول من
168

قال: إن معنى " مه " الكف، يحسن الوقف على " مه "، والاختيار عندي أن لا يوقف على مه دون
" ما " لأنهما في المصحف حرف واحد. وفي الطوفان ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه الماء. قال ابن عباس: أرسل عليهم مطر دائم الليل والنهار ثمانية أيام، وإلى
هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، وأبو مالك، ومقاتل، واختاره الفراء، وابن
قتيبة.
والثاني: أنه الموت، روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال مجاهد، وعطاء، ووهب بن منبه.
وابن كثير.
والثالث: أنه الطاعون، نقل عن مجاهد، ووهب، أيضا. وفي القمل سبعة أقوال:
أحدها: أنه السوس الذي يقع في الحنطة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال به.
والثاني: أنه الدبى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء. وقال قتادة:
القمل: أولاد الجراد. وقال ابن فارس: الدبى: الجراد إذا تحرك قبل أن تنبت أجنحته.
والثالث: أنه دواب سود صغار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير. وقيل: هذه الدواب هي
السوس.
والرابع: أنه الجعلان، قاله حبيب بن ثابت.
والخامس: أنه القمل، ذكره عطاء الخراساني، وزيد بن أسلم.
والسادس: أنه البراغيث، حكاه ابن زيد.
والسابع: أنه الحمنان، واحدتها: حمنانة، وهي ضرب من القردان، قاله أبو عبيدة. وقرأ
الحسن، وعكرمة، وابن يعمر: " القمل " برفع القاف وسكون الميم.
وفي الدم قولان:
أحدهما: أن ماءهم صار دما، قاله الجمهور.
والثاني: أنه رعاف أصابهم، قاله زيد بن أسلم.
الإشارة إلى شرح القصة
قال ابن عباس: جاءهم الطوفان، فكان الرجل لا يقدر ان يخرج إلى ضيعته، حتى خافوا
الغرق، فقالوا: يا موسى ادع لنا يكشفه عنا، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا لهم،
فكشفه الله عنهم، وأنبت لهم شيئا لم ينبته قبل ذلك، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأرسل الله عليهم
الجراد فأكل ما أنبتت الأرض، فقالوا: ادع لنا ربك، فدعا، فكشف عنهم، فأحرزوا زروعهم في
البيوت، فأرسل الله عليهم القمل، فكان الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرحى، فلا يرى
منها ثلاثة أقفزة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، ولم يكن شئ أشد
169

منها، كانت تجئ إلى القدور وهي تغلي وتفور، فتلقي أنفسها فيها، فتفسد طعامهم وتطفئ
نيرانهم، وكانت الضفادع برية، فأورثها الله عز وجل برد الماء والثرى إلى يوم القيامة، فسألوه، فدعا لهم،
فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فجرت أنهارهم وقلبهم دما، فلم يقدروا على الماء العذب،
وبنو إسرائيل في الماء العذب، فإذا دخل الرجل منهم يستقي من أنهار بني إسرائيل صار ما دخل فيه
دما، والماء من بين يديه ومن خلفه صاف عذب لا يقدر عليه، فقال فرعون: أقسم بإلهي يا موسى
لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن بك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا موسى، فذهب الدم وعذب
ماؤهم، فقالوا: والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل.
قوله تعالى: (آيات مفصلات) قال ابن قتيبة: بين الآية والآية فصل. قال المفسرون: كانت
الآية تمكث من السبت إلى السبت، ثم يبقون عقيب رفعها شهرا في عافية، ثم تأتي الآية الأخرى.
وقال وهب بن منبه: بين كل آيتين أربعون يوما. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مكث موسى في
آل فرعون بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات، الجراد والقمل والضفادع والدم.
وفي قوله [تعالى]: " فاستكبروا " قولان:
أحدهما: عن الإيمان.
والثاني: عن الانزجار.
ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز
لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل (134) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه
إذا هم ينكثون (135) فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها
غافلين (136)
قوله تعالى: (ولما وقع عليهم الرجز) أي: نزل بهم العذاب. وفي هذا العذاب قولان:
أحدهما: أنه طاعون أهلك منهم سبعين ألفا، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير.
والثاني: أنه العذاب الذي سلطه الله عليهم من الجراد والقمل وغير ذلك، قاله ابن زيد. قال
الزجاج: " الرجز ": العذاب، أو العمل الذي يؤدي إلى العذاب. ومعنى الرجز في العذاب: أنه
المقلقل لشدته قلقلة شديدة متتابعة. وأصل الرجز في اللغة: تتابع الحركات، فمن ذلك قولهم:
ناقة رجزاء، إذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها. ومنه رجز الشعر، لأنه أقصر أبيات الشعر، والانتقال
من بيت إلى بيت، سريع، نحو قوله:
يا ليتني فيها جذع * أخب فيها وأضع
170

وزعم الخليل أن الرجز ليس بشعر، وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث.
قوله تعالى: (بما عهد عندك) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن معناه: بما أوصاك أن تدعوه به.
والثاني: بما تقدم به إليك أن تدعوه فيجيبك.
والثالث: بما عهد عندك في كشف العذاب عمن آمن.
والرابع: أن ذلك منهم على معنى القسم، كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم.
قوله تعالى: (إلى أجل هم بالغوه) أي: إلى وقت غرقهم. (إذا هم ينكثون) أي: ينقضون
العهد.
قوله تعالى: (فانتقمنا منهم) قال أبو سليمان الدمشقي: انتصرنا منهم بإحلال نقمتنا بهم،
وتلك النقمة تغريقنا إياهم في اليم. قال ابن قتيبة: اليم: البحر بالسريانية.
قوله تعالى: (وكانوا عنها غافلين) فيه قولان:
أحدهما: عن الآيات، وغفلتهم: تركهم الاعتبار بها.
والثاني: عن النقمة.
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت
كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه
وما كانوا يعرشون (137) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام
لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون (138)
قوله تعالى: (وأورثنا القوم) يعني بني إسرائيل. (الذين كانوا يستضعفون) أي: يستذلون
بذبح الأبناء، واستخدام النساء، وتسخير الرجال. (مشارق الأرض ومغاربها) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: مشارق الشام ومغاربها، قاله الحسن.
والثاني: مشارق أرض الشام ومصر.
والثالث: أنه على إطلاق في شرق الأرض وغربها.
قوله تعالى: (التي باركنا فيها) قال ابن عباس: بالماء والشجر.
قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك الحسنى) وهي وعد الله لبني إسرائيل بإهلاك عدوهم،
واستخلافهم في الأرض، وذلك في قوله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض)،
171

وقد بينا علة تسمية ذلك كله في (آل عمران).
وقوله تعالى: (بما صبروا) فيه قولان:
أحدهما: على طاعة الله تعالى.
والثاني: على أذى فرعون.
قوله تعالى: (ودمرنا) أي: أهلكنا (ما كان يصنع فرعون وقومه) من العمارات والمزارع،
والدمار: الهلاك. (وما كانوا يعرشون) أي: يبنون. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة،
والكسائي، وحفص عن عاصم: " يعرشون " بكسر الراء هاهنا وفي (النحل). وقرأ ابن عامر، وأبو بكر
عن عاصم: بضم الراء فيهما. وقرأ ابن أبي عبلة: " يعرشون " بالتشديد قال الزجاج: يقال: عرش
يعرش ويعرش: إذا بنى.
قوله تعالى: (يعكفون) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر،: " يعكفون "
بضم الكاف. وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل: بكسر الكاف. وقرأ ابن أبي عبلة: بضم الياء
وتشديد الكاف. قال الزجاج: ومعنى (يعكفون على أصنام لهم): يواظبون عليها ويلازمونها، يقال
لكل من لزم شيئا وواظب عليه: عكف يعكف ويعكف. قال قتادة: كان أولئك القوم نزولا بالرقة،
وكانوا من لخم. وقال غيره: كانت أصنامهم تماثيل البقر. وهذا إخبار عن عظيم جهلهم حيث
توهموا جواز عبادة غير الله بعدما رأوا الآيات.
إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون (139)
قوله تعالى: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه) قال ابن قتيبة: مهلك. والتبار: الهلاك.
قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين (140)
قوله تعالى: (قال أغير الله أبغيكم إلها) أي: أطلب لكم، وهذا استفهام إنكار. قال
المفسرون، منهم ابن عباس، ومجاهد: والعالمون هاهنا: عالمو زمانهم.
وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون
نساءكم وفي ذالكم بلاء من ربكم عظيم (141)
قوله تعالى: (وإذا أنجيناكم) قرأ ابن عامر: " وإذ أنجاكم " على لفظ الغائب المفرد.
* ووعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى
لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين (142)
172

قوله تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) المعنى: وعدناه انقضاء ثلاثين ليلة قال ابن
عباس: قال موسى لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة، فلما فصل إلى ربه زاده عشرا، فكانت
فتنتهم في ذلك العشر. فإن قيل: لم زيد هذا العشر؟ فالجواب: أن ابن عباس قال: صام تلك
الثلاثين ليلهن ونهارهن، فلما انسلخ الشهر، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم، فتناول
شيئا من نبات الأرض فمضغه، فأوحى الله تعالى إليه: لا كلمتك حتى يعود فوك على ما كان عليه،
أما علمت أن رائحة فم الصائم أحب إلي من ريح المسك؟ وأمره بصيام عشرة أيام. وقال أبو
العالية: مكث موسى على الطور أربعين ليلة، فبلغنا أنه لم يحدث حتى هبط منه.
فإن قيل: ما معنى (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) وقد علم ذلك عند انضمام العشر إلى
الثلاثين.
فالجواب من وجوه.
أحدها: أنه للتأكيد.
والثاني: ليدل أن العشر، ليال لا ساعات.
والثالث: لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن تكون من جملة الثلاثين، لأنه يجوز أن يسبق إلى
الوهم أنها كانت عشرين ليلة فأتمت بعشر. وقد بينا في (البقرة) لماذا كان هذا الوعد.
قوله تعالى: (وأصلح) قال ابن عباس: مرهم بالإصلاح. وقال مقاتل: ارفق.
ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن
انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا
وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين (143) قال يا موسى
إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين (144)
قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا) قال الزجاج، أي: للوقت الذي وقتنا له. (وكلمه
ربه) أسمعه كلامه، ولم يكن بينه وبين الله عز وجل فيما سمع أحد. (قال رب أرني أنظر إليك)
أي: أرني نفسك.
قوله تعالى: (قال لن تراني) تعلق بهذا نفاة الرؤية وقالوا: " لن " لنفي الأبد، وذلك غلط،
لأنها قد وردت وليس لمراد بها الأبد في قوله: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم) ثم أخبر عنهم
بتمنيه في النار بقوله [تعالى]: (يا مالك ليقض علينا ربك)، ولأن ابن عباس قال في تفسيرها: لن
173

تراني في الدنيا. وقال غيره: هذا جواب لقول موسى: " أرني "، ولم يرد: أرني في الآخرة، وإنما
أراد في الدنيا، فأجيب عما سأل. وقال بعضهم: لن تراني بسؤالك. وفي هذه الآية دلالة على جواز
الرؤية، لأن موسى مع علمه بالله تعالى، سألها، ولو كانت مما يستحيل لما جاز لموسى أن يسألها،
ولا يجوز أن يجهل موسى مثل ذلك، لأن معرفة الأنبياء لله ليس فيها نقص، ولأن الله تعالى لم ينكر
عليه المسألة وإنما منعه من الرؤية، ولو استحالت عليه لقال: " لا أرى "، ألا ترى أن نوحا لما قال:
(إن ابني من أهلي) أنكر عليه بقوله: (إنه ليس من أهلك)، ومما يدل على جواز الرؤية أنه
علقها باستقرار الجبل، وذلك جائز غير مستحيل، فدل على أنها جائزة، ألا ترى أن دخول الكفار
الجنة لما استحال علقه بمستحيل فقال: (حتى يلج الجمل في سم الخياط).
قوله تعالى: (فإن استقر مكانه) أي: ثبت ولم يتضعضع.
قوله تعالى: (فلما تجلى ربه) قال الزجاج: ظهر، وبان. (جعله دكا) قرأ ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو، وابن عامر: " دكا " منونة مقصورة هاهنا وفي (الكهف). وقرأ عاصم: " دكا " ها هنا منونة
مقصورة، وفي (الكهف): " دكاء " ممدودة غير منونة. وقرأ حمزة، والكسائي: " دكاء " ممدودة غير
منونة في الموضعين. قال أبو عبيدة: " جعله دكا " أي: مندكا والمندك: المستوي، والمعنى: مستويا
مع وجه الأرض، يقال: ناقة دكاء، أي: ذاهبة السنام مستو ظهرها. قال ابن قتيبة: كأن سنامها دك،
أي: التصق، قال: ويقال: إن أصل دككت: دققت فأبدلت القاف كافا لتقارب المخرجين. وقال أنس بن
مالك في قوله: " جعله دكا ": ساخ الجبل. قال ابن عباس: واسم الجبل: زبير، وهو أعظم جبل
بمدين، وإن الجبال تطاولت ليتجلى لها، وتواضع زبير فتجلى له.
قوله تعالى: (وخر موسى صعقا) فيه قولان:
أحدهما: مغشيا عليه، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد.
والثاني: ميتا، قاله قتادة، ومقاتل، والأول أصح، لقوله [تعالى]: (فلما أفاق) وذلك لا يقال
للميت. وقيل: بقي في غشيته يوما وليلة.
قوله تعالى: (سبحانك تبت إليك) فيما تاب منه ثلاثة أقوال:
أحدها: سؤاله الرؤية، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها.
والثالث: اعتقاد جواز رؤيته في الدنيا وفي قوله [تعالى]: (وأنا أول المؤمنين) قولان:
أحدهما: أنك لن ترى في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أول المؤمنين من بني إسرائيل، رواه عكرمة عن ابن عباس.
قوله تعالى: (إني اصطفيتك) فتح ياء " إني " ابن كثير، وأبو عمرو. وقرأ ابن كثير، ونافع
174

" برسالتي " قال الزجاج: المعنى: اتخذتك صفوة على الناس برسالاتي وبكلامي، ولو كان إنما سمع
كلام غير الله لما قال: " برسالاتي وبكلامي " لأن الملائكة تنزل إلى الأنبياء بكلام الله.
وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر
قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين (145)
قوله تعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شئ) في ماهية الألواح سبعة أقوال:
أحدها: أنها زبرجد، قاله ابن عباس.
والثاني: ياقوت، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: زمرد أخضر، قاله مجاهد.
والرابع: برد، قاله أبو العالية.
والخامس: خشب، قاله الحسن.
والسادس: صخر، قاله وهب بن منبه.
والسابع: زمرد وياقوت، قاله مقاتل. وفي عددها أربعة أقوال:
أحدها: سبعة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: لوحان، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء. قال: وإنما سماها الله تعالى
ألواحا، على مذهب العرب في إيقاع الجمع على التثنية، كقوله [تعالى]: (وكنا لحكمهم
شاهدين) يريد داود، وسليمان، وقوله [تعالى]: (فقد صغت قلوبكما).
والثالث: عشرة، قاله وهب.
والرابع: تسعة، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى: (من كل شئ) قولان:
أحدهما: من كل شئ يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والواجب وغيره.
والثاني: من الحكم والعبر.
قوله تعالى: (موعظة) أي: نهيا عن الجهل. (وتفصيلا) أي: تبيينا لكل شئ من الأمر
والنهي والحدود والأحكام.
قوله تعالى: (فخذها بقوة) فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: بجد وحزم، قاله ابن عباس.
والثاني: بطاعة، قاله أبو العالية،
والثالث: بشكر، قاله جويبر.
قوله تعالى: (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) إن قيل: كأن فيها ما ليس بحسن؟ فعنه جوابان.
175

أحدهما: أن المعنى: يأخذوا بحسنها، وكلها حسن، قاله قطرب، وقال ابن الأنباري: ناب
" أحسن " عن " حسن " كما قال الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول
أي: عزيزة طويلة. وقال غيره: " الأحسن " هاهنا صلة، والمعنى أن يأخذوا بها.
والثاني: أن بعض ما فيها أحسن من بعض. ثم في ذلك خمسة أقوال:
أحدها: أنهم أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر، ففعل الخير هو الأحسن.
والثاني: أنها اشتملت على أشياء حسنة بعضها أحسن من بعض، كالقصاص والعفو والانتصار
والصبر، فأمروا أن يأخذوا بالأحسن، ذكر القولين الزجاج. فعلى هذا القول، يكون المعنى: انهم
يتبعون العزائم والفضائل، وعلى الذي قبله، يكون المعنى: أنهم يتبعون الموصوف بالحسن وهو
الطاعة، ويجتنبون الموصوف بالقبح وهو المعصية.
والثالث: أحسنها، الفرائض والنوافل، وأدونها في الحسن: المباح.
والرابع: أن يكون للكلمة معنيان أو ثلاثة، فتصرف إلى الأشبه بالحق.
والخامس: أن أحسنها: الجمع بين الفرائض والنوافل.
قوله تعالى: (سأريكم دار الفاسقين) فيها أربعة أقوال:
أحدها: أنها جهنم، قاله الحسن، ومجاهد.
والثاني: أنها دار فرعون وقومه، وهي مصر، قاله عطية العوفي.
والثالث: أنها منازل من هلك من الجبابرة والعمالقة، يريهم إياها عند دخولهم الشام، قاله
قتادة.
والرابع: أنها مصارع الفاسقين، قاله السدي. ومعنى الكلام: سأريكم عاقبة من خالف
أمري، وهذا تهديد للمخالف، وتحذير للموافق.
سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا
بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك
بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (146) والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت
أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (147)
قوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) في هذه الآية
قولان:
176

أحدهما: أنها خاصة لأهل مصر فيما رأوا من الآيات.
والثاني: أنها عامة، وهو أصح. وفي الآيات قولان:
أحدهما: أنها آيات الكتب المتلوة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: أمنعهم فهمها.
والثاني: أمنعهم من الإيمان بها.
والثالث: أصرفهم عن الاعتراض عليها بالإبطال.
والثاني: أنها آيات المخلوقات كالسماء والأرض والشمس والقمر وغيرها، فيكون المعنى:
أصرفهم عن التفكر والاعتبار بما خلقت. وفي معنى يتكبرون قولان:
أحدهما: يتكبرون عن الإيمان واتباع الرسول.
والثاني: يحقرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم.
قوله تعالى: (وإن يروا سبيل الرشد) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
" سبيل الرشد " بضم الراء خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: " سبيل الرشد " بفتح الراء والشين مثقلة.
قوله تعالى: (ذلك بأنهم) قال الزجاج: فعل الله بهم ذلك بأنهم (كذبوا بآياتنا وكانوا عنها
غافلين)، أي: كانوا في تركهم الإيمان بها والتدبر لها بمنزلة الغافلين. ويجوز أن يكون المعنى:
وكانوا عن جزائها غافلين.
واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم
ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين (148)
قوله تعالى: (واتخذ قوم موسى من بعده) أي: من بعد انطلاقه إلى الجبل للميقات. (من
حليهم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: " من حليهم " بضم الحاء. وقرأ
حمزة، والكسائي: " حليهم " بكسر الحاء. وقرأ يعقوب: بفتحها وسكون اللام وتخفيف الياء.
والحلي: جمع حلي، مثل ثدي وثدي، وهو اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة. قال الزجاج:
ومن كسر الحاء من " حليهم " أتبع الحاء كسر اللام. والجسد: هو الذي لا يعقل ولا يميز، إنما هو
بمعنى الجثة فقط. قال ابن الأنباري: ذكر الجسد دلالة على عدم الروح منه، وأن شخصه شخص
مثال وصورة، غير منضم إليهما روح ولا نفس. فأما الخوار، فهو صوت البقرة، يقال: خارت البقرة
تخور، وجأرت تجأر، وقد نقل عن العرب أنهم يقولون في مثل صوت الإنسان من البهائم: رغا
البعير وجرجر وهدر وقبقب، وصهل الفرس وحمحم، وشهق الحمار ونهق، وشحج البغل، وثغت
الشاة ويعرت، وثأجت النعجة، وبغم الظبي ونزب، وزأر الأسد ونهت ونأت، ووعوع الذئب، ونهم
177

الفيل، وزقح القرد، وضبح الثعلب، وعوى الكلب ونبح، وماءت السنور، وصأت الفأرة، ونغق
الغراب معجمة الغين، وزقأ الديك وسقع، وصفر النسر، وهدر الحمام وهدل، ونقضت الضفادع
ونقت، وعزفت الجن. قال ابن عباس: كان العجل إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤوسهم.
وفي رواية أبي صالح عنه: أنه خار خورة واحدة ولم يتبعها مثلها، وبهذا قال وهب، ومقاتل: وكان
مجاهد يقول: خواره حفيف الريح فيه، وهذا يدل على أنه لم يكن فيه روح. وقرأ أبو رزين
العقيلي، وأبو مجلز: " له جوار " بجيم مرفوعة.
قوله تعالى: (ألم يروا أنه لا يكلمهم) أي: لا يستطيع كلامهم. (ولا يهديهم سبيلا) أي:
لا يبين لهم طريقا إلى حجة. (اتخذوه) يعني اتخذوه إلها. (وكانوا ظالمين) قال ابن عباس:
مشركين.
ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن
من الخاسرين (149) ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من
بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم
استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين (150)
قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين (151) إن الذين اتخذوا
العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين (152)
قوله تعالى: (ولما سقط في أيديهم) أي: ندموا. قال الزجاج: يقال للرجل النادم على ما
فعل، المتحسر على ما فرط: قد سقط في يده وأسقط في يده. وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران
الجوني: " سقط " بفتح السين. قال الزجاج: والمعنى: ولما سقط الندم في أيديهم، يشبه ما في
القلب وفي النفس بما يرى بالعين. قال المفسرون: هذا الندم منهم إنما كان بعد رجوع موسى.
قوله تعالى: (لئن لم يرحمنا ربنا) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
" يرحمنا ربنا " " ويغفر لنا " بالياء والرفع. وقرأ حمزة، والكسائي " " ترحمنا " " وتغفر لنا " بالتاء، " ربنا "
بالنصب.
قوله تعالى: (غضبان أسفا) في الأسف ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الحزين، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي.
178

والثاني: الجزع، قاله مجاهد.
والثالث: أنه الشديد الغضب، قاله ابن قتيبة، والزجاج. وقال أبو الدرداء: الأسف: منزلة
وراء الغضب أشد منه.
قوله تعالى: (قال) أي: لقومه (بئسما خلفتموني من بعدي) فتح ياء " بعدي " أهل الحجاز،
وأبو عمرو، والمعنى: بئس ما عملتم بعد فراقي من عبادة العجل. (أعجلتم أمر ربكم) قال
الفراء: يقال: عجلت الأمر والشئ: سبقته، ومنه هذه الآية. وأعجلته: استحثثته. قال ابن عباس:
أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا؟! قال الحسن: يعني وعد الأربعين ليلة.
قوله تعالى: (وألقى الألواح) التي فيها التوراة. وفي سبب إلقائه إياها قولان:
أحدهما: أنه الغضب حين رآهم قد عبدوا العجل، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه لما رأى فضائل غير أمته من أمة محمد صلى الله عليه وسلم اشتد عليه، فألقاها، قاله قتادة، وفيه
بعد. قال ابن عباس لما: رمى بالألواح فتحطمت، رفع منها ستة أسباع، وبقي سبع.
قوله تعالى: (وأخذ برأس أخيه) في ما أخذ به من رأسه ثلاثة أقوال:
أحدها: لحيته وذؤابته.
والثاني: شعر رأسه.
والثالث: أذنه. وقيل: إنما فعل به ذلك، لأنه توهم أنه عصى الله بمقامه بينهم وترك اللحوق
به، وتعريفه ما أحدثوا بعده ليرجع إليهم فيتلافاهم ويردهم إلى الحق، وذلك قوله [تعالى]: (ما
منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن).
قوله تعالى: (يا ابن أم) قرأ ابن كثير: ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: " قال ابن
أم " نصبا. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بكسر الميم، وكذلك في (طه).
قال الزجاج: من فتح الميم، فلكثرة استعمال هذا الاسم، ومن كسر، اضافه إلى نفسه بعد أن جعله
اسما واحدا، ومن العرب من يقول: " يا ابن أمي " بإثبات الياء. قال الشاعر:
يا ابن أمي ويا شقيق نفسي * أنت خلفتني لدهر شديد
قال: يحتمل أن يريد من فتح: " يا ابن أم " أما، ويحذف الألف، ومن كسر: " ابن أمي "
فيحذف الياء. فإن قيل: لم قال: " يا ابن أم " ولم يقل: " يا ابن أب "؟ فالجواب أن ابن عباس قال:
كان أخاه لأبيه وأمه، وإنما قال له ذلك ليرفقه عليه. قال أبو سليمان الدمشقي: والإنسان عند ذكر
الوالدة أرق منه عند ذكر الوالد. وقيل: كان لأمه دون أبيه، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: (إن القوم) يعني عبدة العجل. (استضعفوني) أي: استذلوني (فلا تشمت بي
179

الأعداء) قرأ ابن عباس، وابن محيصن وحميد: " فلا تشمت " بتاء مفتوحة مع فتح الميم، " الأعداء "
بالرفع، وقرأ مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وأبو رجاء: " فلا تشمت " بفتح التاء وكسر الميم،
" الأعداء " بالنصب. وقرأ أبو الجوزاء، وابن أبي عبلة مثل ذلك، إلا أنهما رفعا " الأعداء ". ويعني
بالأعداء: عبدة العجل. (ولا تجعلني) في موجدتك وعقوبتك لي (مع القوم الظالمين) وهم عبدة
العجل. فلما تبين له عذر أخيه (قال رب اغفر لي).
قوله تعالى: (وذلة في الحياة الدنيا) فيها قولان:
أحدهما: أنها الجزية، قاله ابن عباس.
والثاني: ما أمروا به من قتل أنفسهم، قاله الزجاج. فعلى الأول يكون ما أضيف إليهم من
الجزية في حق أولادهم، لأن أولئك قتلوا ولم يؤدوا جزية. قال عطية: وهذه الآية فيما أصاب بني
قريظة والنضير من القتل والجلاء لتوليهم متخذي العجل ورضاهم به.
قوله تعالى: (وكذلك نجزي المفترين) قال ابن عباس: كذلك أعاقب من اتخذ إلها دوني،
وقال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذله، وقرأ هذه الآية. وقال سفيان بن
عيينة: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، قال: وهي في كتاب الله تعالى:
قالوا: وأين هي؟ قال: أوما سمعتم قوله تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم
وذلة في الحياة الدنيا) قالوا: يا أبا محمد، هذه لأصحاب العجل خاصة، قال: كلا، اتلوا ما
بعدها. (وكذلك نجزي المفترين) فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة.
والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (153)
قوله تعالى: (والذين عملوا السيئات) فيها قولان:
أحدهما: أنها الشرك.
والثاني: الشرك وغيره من الذنوب. (ثم تابوا من بعدها) يعني السيئات. وفي قوله [تعالى]:
(وآمنوا) قولان:
أحدهما: آمنوا بالله، وهو يخرج على قول من قال: هي الشرك.
والثاني: آمنوا بأن الله تعالى يقبل التوبة. (إن ربك من بعدها) يعني السيئات.
ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم
لربهم يرهبون (154)
قوله تعالى: (ولما سكت عن موسى الغضب) وقرأ ابن عباس، وأبو عمران " سكت " بفتح
180

السين وتشديد الكاف وبتاء بعدها، " الغضب " بالنصب. وقرأ سعيد بن جبير، وابن يعمر،
والجحدري " سكت " بضم السين وتشديد الكاف مع كسرها. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، وطلحة
" سكن " بنون. قال الزجاج " سكت " بمعنى سكن، يقال: سكت يسكت سكتا: إذا سكن، وسكت
يسكت سكتا وسكوتا: إذا قطع الكلام. قال: وقال بعضهم: المعنى: ولما سكت موسى عن
الغضب، على القلب، كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأسي. والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة،
والأول هو قول أهل العربية.
قوله تعالى: (أخذ الألواح) يعني التي كان ألقاها. وفي قوله [تعالى]: (وفي نسختها) قولان:
أحدهما: وفيما بقي منها، قاله ابن عباس.
والثاني: وفيما نسخ فيهما، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: (للذين هم لربهم يرهبون) فيهم قولان:
أحدهما: أنه عام في الذين يخافون الله، وهو معنى قول قتادة.
والثاني: أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهو معنى قول قتادة.
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت
أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من
تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين (155)
قوله تعالى: (واختار موسى قومه) المعنى: اختار من قومه، فحذف " من " تقول العرب:
اخترتك القوم، أي: اخترتك من القوم، وأنشدوا:
منا الذي اختير الرجال سماحة * وجودا إذا هب الرياح الزعازع
هذا قول ابن قتيبة، والفراء، والزجاج. وفي هذا الميقات أربعة أقوال:
أحدها: أنه الميقات الذي وقته الله لموسى ليأخذ التوراة، أمر ان يأتي معه بسبعين، رواه أبو
صالح عن ابن عباس، وبه قال نوف البكالي.
والثاني: أنه ميقات وقته الله تعالى لموسى، وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلا، ليدعوا ربهم،
فدعوا فقالوا: اللهم أعطنا ما لم تعط أحدا قبلنا، ولا تعطيه أحدا بعدنا، فكره الله ذلك،
وأخذتهم الرجفة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنه ميقات وقته لموسى، لأن بني إسرائيل قالوا له: إن طائفة تزعم أن الله لا
يكلمك، فخذ معك طائفة منا ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فتذهب التهمة، فأوحى الله إليه ان اختر من
181

خيارهم سبعين، ثم ارتق بهم على الجبل أنت وهارون، واستخلف يوشع بن نون، ففعل ذلك، قاله
وهب بن منبه.
والرابع: أنه ميقات وقته الله لموسى ليلقاه في ناس من بني إسرائيل، فيعتذر إليه من فعل
عبدة العجل، قاله السدي. وقال ابن السائب: كان موسى لا يأتي إلا بإذن منه.
فأما الرجفة فهي الحركة الشديدة. وفي سبب أخذها إياهم أربعة أقوال:
أحدها: أنه ادعاؤهم على موسى قتل هارون: قاله علي بن أبي طالب.
والثاني: اعتداؤهم في الدعاء، وقد ذكرناه في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنهم لم ينهوا عبدة العجل ولم يرضوا، نقل عن ابن عباس أيضا وقال قتادة، وابن
جريج: لم يأمروهم بالمعروف، ولم ينهوهم عن المنكر، ولم يزايلوهم.
والرابع: أنهم طلبوا سماع الكلام من الله تعالى، فلما سمعوه قالوا: (لن نؤمن لك حتى
نرى الله جهرة)، قاله السدي وابن إسحاق.
قوله تعالى: (قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي) قال السدي: قام موسى يبكي
ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم (لو شئت أهلكتهم من قبل
وإياي) وقال الزجاج: لو شئت أمتهم قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة. وقيل: لو شئت
أهلكتهم من قبل خروجنا وإياي، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني.
قوله تعالى: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) قال المبرد: هذا استفهام استعطاف، أي: لا
تهلكنا. وقال ابن الأنباري: هذا استفهام على تأويل الجحد، إذا أراد لست تفعل ذلك. و " السفهاء "
هاهنا: عبدة العجل. وقال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل. وإنما أهلكوا بقولهم:
(أرنا الله جهرة).
قوله تعالى: (إن هي إلا فتنتك) فيها قولان:
أحدهما: أنها الابتلاء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية.
والثاني: العذاب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
قوله تعالى: (أنت ولينا) أي: ناصرنا وحافظنا.
* واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به
من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم
182

بآياتنا يؤمنون (156) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث
ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه
واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157) قل يا أيها الناس إني رسول الله
إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا
بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)
قوله تعالى: (واكتب لنا) أي: حقق لنا وأوجب (في هذه الدنيا حسنة) وهي الأعمال
الصالحة (وفي الآخرة) المغفرة والجنة (إنا هدنا إليك) أي: تبنا، قاله ابن عباس، وسعيد بن
جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وقتادة، والضحاك، والسدي. وقال ابن قتيبة: ومنه (الذين هادوا)
كأنهم رجعوا من شئ إلى شئ. وقرأ أبو وجزة السعدي: " إنا هدنا " بكسر الهاء. قال ابن
الأنباري: المعنى: لا تتغير، يقال: هاد يهود ويهيد.
قوله تعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء). وقرأ الحسن البصري، والأعمش، وأبو
العالية: " من أساء " بسين غير معجمة مع النصب.
قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شئ) في هذا الكلام أربعة أقوال:
أحدها: أن مخرجه عام ومعناه خاص، وتأويله: ورحمتي وسعت المؤمنين من أمة محمد
[صلى الله عليه وسلم]، لقوله [تعالى]: (فسأكتبها للذين يتقون)، قاله ابن عباس.
والثاني: أن هذه الرحمة على العموم في الدنيا، والخصوص في الآخرة، وتأويلها: ورحمتي
وسعت كل شئ في الدنيا، البر والفاجر، وفي الآخرة هي للمتقين خاصة، قاله الحسن، وقتادة.
فعلى هذا، معنى الرحمة في الدنيا للكافر أنه يرزق ويدفع عنه، كقوله في حق قارون: (وأحسن
كما أحسن الله إليك).
والثالث: أن الرحمة: التوبة، فهي على العموم، قاله ابن زيد.
والرابع: أن الرحمة تسع كل الخلق، إلا أن أهل الكفر خارجون منها، فلو قدر دخولهم فيها
لوسعتهم، قاله ابن الأنباري. قال الزجاج: وسعت كل شئ في الدنيا (فسأكتبها للذين يتقون)
في الآخرة. قال المفسرون: معنى " فسأكتبها ": فسأوجبها. وفي الذين يتقون قولان:
183

أحدهما: أنهم المتقون للشرك، قاله ابن عباس.
والثاني: للمعاصي، قاله قتادة. وفي قوله تعالى: (ويؤتون الزكاة) قولان:
أحدهما: أنها زكاة الأموال، قاله الجمهور.
والثاني: أن المراد بها طاعة الله ورسوله، قاله ابن عباس والحسن، ذهبا إلى أنها العمل بما
يزكي النفس ويطهرها. وقال ابن عباس، وقتادة: لما نزلت (ورحمتي وسعت كل شئ) قال
إبليس: أنا من ذلك الشئ، فنزعها الله من إبليس، فقال: (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة
والذين هم بآيتنا يؤمنون) فقالت اليهود والنصارى: نحن نتقي، ونؤتي الزكاة، ونؤمن بآيات ربنا،
فنزعها الله منهم، وجعلها لهذه الأمة، فقال: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي). وقال نوف:
قال الله تعالى لموسى: أجعل لكم الأرض طهورا ومسجدا، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم،
وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهور قلوبكم، يقرؤها الرجل منكم، والمرأة، والحر، والعبد،
والصغير، والكبير. فأخبر موسى قومه بذلك، فقالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس ولا أن تكون
السكينة إلا في التابوت، ولا أن نقرأ التوراة إلا نظرا، فقال الله تعالى: (فسأكتبها للذين يتقون)
إلى قوله: (المفلحون). وفي هؤلاء المذكورين في قوله: (للذين يتقون ويؤتون الزكاة) إلى
قوله: (المفلحون) قولان:
أحدهما: أنهم كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتبعه، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي، وقتادة. وفي تسميته بالأمي قولان:
أحدهما: لأنه لا يكتب.
والثاني: لأنه من أم القرى.
قوله تعالى: (الذي يجدونه مكتوبا عندهم) أي: يجدون نعته ونبوته.
قوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف) قال الزجاج: يجوز أن يكون مستأنفا، ويجوز أن يكون
" يجدونه مكتوبا عندهم " أنه يأمرهم بالمعروف. قال ابن عباس: المعروف: مكارم الأخلاق، وصلة
الأرحام. والمنكر: عبادة الأوثان، وقطع الأرحام. وقال مقاتل: المعروف: الإيمان، والمنكر:
الشرك. وقال غيره: المعروف: الحق، لأن العقول تعرف صحته، والمنكر: الباطل، لأن العقول تنكر
صحته. وفي الطيبات أربعة أقوال:
أحدها: أنها الحلال، والمعنى: يحل لهم الحلال.
والثاني: أنها ما كانت العرب تستطيبه.
والثالث: أنها الشحوم المحرمة على بني إسرائيل.
184

والرابع: ما كانت العرب تحرمه من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام.
وفي الخبائث ثلاثة أقوال
أحدها: أنها الحرام، فالمعنى: ويحرم عليهم الحرام.
والثاني: أنها ما كانت العرب تستخبثه ولا تأكله، كالحيات، والحشرات.
والثالث: ما كانوا يستحلونه من الميتة، والدم، ولحم الخنزير.
قوله تعالى: (ويضع عنهم إصرهم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة،
والكسائي " إصرهم ". وقرأ ابن عامر " آصارهم " ممدودة الألف على الجمع. وفي هذا الإصر
قولان:
أحدهما: أنه العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة قاله ابن
عباس.
والثاني: التشديد الذي كان عليهم من تحريم السبت، والشحوم والعروق، وغير ذلك من
الأمور الشاقة، قاله قتادة. وقال مسروق: لقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب، فيصبح وقد
كتب على باب بيته: إن كفارته أن تنزع عينيك، فينزعهما.
قوله تعالى: (والأغلال التي كانت عليهم) قال الزجاج: ذكر الأغلال تمثيل، ألا ترى أنك
تقول: جعلت هذا طوقا في عنقك، وليس هناك طوق، إنما جعلت لزومه كالطوق. والأغلال: أنه
كان عليهم أن لا يقبل منهم في القتل دية، وأن لا يعملوا في السبت، وأن يقرضوا ما أصاب جلودهم
من البول.
قوله تعالى: (والذين آمنوا به) يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم (وعزروه) وروى أبان " وعزروه " بتخفيف
الزاي. وفي المعنى قولان:
أحدهما: نصروه وأعانوه، قاله مقاتل.
والثاني: عظموه، قاله ابن قتيبة. والنور الذي أنزل معه: القرآن، سماه نورا، لأن بيانه في
القلوب كبيان النور في العيون. وفي قوله " معه " قولان:
أحدهما: أنها بمعنى " عليه ".
والثاني: بمعنى أنزل في زمانه. قال قتادة: أما نصره، فقد سبقتم إليه، ولكن خيركم من آمن
به واتبع النور الذي أنزل معه.
قوله تعالى: (الذي يؤمن بالله وكلماته) في الكلمات قولان:
185

أحدهما: أنها القرآن، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كلماته: آياته.
والثاني: أنها عيسى بن مريم، قاله مجاهد، والسدي.
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (159)
قوله تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق) فيه قولان:
أحدهما: يدعون إلى الحق.
والثاني: يعملون به.
قوله تعالى: (وبه يعدلون) قال الزجاج: وبالحق يحكمون. وفي المشار إليهم بهذا ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنهم قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإسلام، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: أنهم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل ابن سلام وأصحابه، قاله ابن السائب.
والثالث: أنهم الذين تمسكوا بالحق في زمن أنبيائهم، ذكره الماوردي.
وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب
بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم
الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا
أنفسهم يظلمون (160) وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة
وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيأتكم سنزيد المحسنين (161) فبدل الذين ظلموا
منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون (162)
قوله تعالى: (وقطعناهم) يعني قوم موسى، يقول: فرقناهم (اثنتي عشرة أسباطا) يعني
أولاد يعقوب، وكانوا اثنى عشر ولدا. فولد كل واحد منهم سبطا. قال الفراء: وإنما قال " اثنتي
عشرة " والسبط ذكر، لأن بعده " أمما " فذهب بالتأنيث إلى الأمم، ولو كان " اثني عشر " لتذكير
السبط، كان جائزا. وقال الزجاج: المعنى: وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة، " أسباطا " نعت " فرقة "
كأنه يقول: جعلناهم أسباطا، وفرقناهم أسباطا، فيكون " أسباطا " بدلا من " اثنتي عشرة " و " أمما "
من نعت أسباط. والأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل ليفصل بين ولد إسماعيل وبين ولد
186

إسحاق. وقال أبو عبيدة: الأسباط: قبائل بني إسرائيل، واحدهم: سبط. ويقال: من أي سبط
أنت؟ أي: من أي قبيلة وجنس؟
قوله تعالى: (فانبجست منه) قال ابن قتيبة: انفجرت، يقال: تبجس الماء، كما يقال:
تفجر، والقصة مذكورة في سورة (البقرة).
قوله تعالى: (نغفر لكم خطاياكم) قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: " نغفر لكم
خطيئاتكم " بالتاء مهموزة على الجمع. وقرأ أبو عمرو " نغفر لكم خطاياكم " مثل: قضاياكم، ولا
تاء فيها. وقرأ نافع " تغفر " بالتاء مضمومة " خطيئاتكم " بالهمز وضم التاء، على الجمع، وافقه ابن
عامر في " تغفر " بالتاء المضمومة، لكنه قرأ " خطيئتكم " على التوحيد.
وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم
يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163)
قوله تعالى: (واسألهم) يعني أسباط اليهود، وهذا سؤال تقرير وتوبيخ يقررهم على قديم
كفرهم، ومخالفة أسلافهم الأنبياء، ويخبرهم بما لا يعلم إلا بوحي. وفي القرية خمسة أقوال:
أحدها: أنها أيلة، رواه مرة عن ابن مسعود، وأبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن،
وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي.
والثاني: أنها مدين، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثالث: أنها ساحل مدين، روي عن قتادة.
والرابع: أنها طبرية، قاله الزهري. والخامس: أنها قرية يقال لها: مقنا، بين مدين وعينونا، قاله ابن زيد. ومعنى (حاضرة
البحر) مجاورة البحر وبقربه وعلى شاطئه. (إذ يعدون) قال الزجاج: أي يظلمون، يقال: عدا
فلان يعدو عدوانا وعداء وعدوا وعدوا: إذا ظلم، وموضع " إذ " نصب، والمعنى: سلهم عن وقت
عدوهم في السبت. (إذ تأتيهم حيتانهم) في موضع نصب أيضا ب‍ " يعدون " والمعنى: سلهم إذ
عدوا في وقت الإتيان. (شرعا) أي: ظاهرة. (كذلك نبلوهم) أي: مثل هذا الاختبار الشديد
نختبرهم بفسقهم. ويحتمل على بعد أن يكون المعنى (ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) كذلك، أي:
لا تأتيهم شرعا، ويكون (نبلوهم) مستأنفا. وقرأ الأعمش، وأبان، والمفضل عن عاصم:
" يسبتون " بضم الياء.
187

وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة
إلى ربكم ولعلهم يتقون (164)
قوله تعالى: (وإذ قالت أمة منهم) قال المفسرون: افترق أهل القرية ثلاث فرق، فرقة
صادت وأكلت، وفرقة نهت وزجرت، وفرقة أمسكت عن الصيد، وقالت للفرقة الناهية: (لم تعظون
قوما الله مهلكهم) لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مقلعين، فقالت الفرقة الناهية:
(معذرة إلى ربكم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " معذرة "
رفعا، أي: موعظتنا إياهم معذرة، والمعنى أن الأمر بالمعروف واجب علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عذرا
إلى الله. وقرأ حفص عن عاصم: " معذرة " نصبا، وذلك على معنى نعتذر معذرة. (ولعلهم
يتقون) أي: وجائز أن ينتفعوا بالموعظة فيتركوا المعصية.
فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب
بئيس بما كانوا يفسقون (165) فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين (166) وإذ
تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك
لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم (167)
قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به) يعني: تركوا ما وعظوا به (أنجينا الذين ينهون عن
السوء) وهم الناهون عن المنكر. والذين ظلموا هم المعتدون في السبت.
قوله تعالى: (بعذاب بئيس) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " بئيس " على
وزن فعيل، فالهمزة بين الباء والياء. وقرأ نافع: " بيس " بكسر الباء من غير همز. وقرأ ابن عامر
كذلك، إلا أنه همز. وروى خارجة عن نافع: " بيس " بفتح الباء من غير همز، على وزن
" فعل ". وروى أبو بكر عن عاصم: " بيأس " على وزن " فيعل ". وقرأ ابن عباس، وأبو رزين،
وأيوب: " بيآس " على وزن " فيعال ". وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، ومعاذ القارئ: " بئس "
بفتح الباء وكسر الهمزة من غير ياء على وزن " نعس ". وقرأ الضحاك، وعكرمة: " بيس " بتشديد
الياء مثل " قيم ". وقرأ أبو العالية، وأبو مجلز: " بئس " بفتح الباء والسين وبهمزة مكسورة من غير
ياء ولا ألف على وزن " فعل ". وقرأ أبو المتوكل، وأبو رجال: " بائس " بألف ومدة بعد الباء
وبهمزة مكسورة بوزن " فاعل ". قال أبو عبيدة: البئيس: الشديد، وأنشد:
188

حيفا علي وما ترى * لي فيهم أثرا بئيسا
وقال الزجاج: يقال بئس يبأس بأسا، والعاتي: الشديد الدخول في الفساد، المتمرد الذي
لا يقبل موعظة. وقال ابن جرير: " فلما عتوا " أي: تمردوا فيما نهوا عنه، وقد ذكرنا في سورة
(البقرة): قصة مسخهم. وكان الحسن البصري يقول: والله ما لحوم هذه الحيتان بأعظم عند الله
من دماء قوم مسلمين.
قوله تعالى: (وإذ تأذن ربك) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أعلم، قاله الحسن، وابن قتيبة، وقال: هو من آذنتك بالأمر. وقال ابن الأنباري:
" تأذن " بمعنى آذن، كما يقال: تعلم أن فلانا قائم، أي: اعلم. وقال أبو سليمان الدمشقي: أي:
أعلم أنبياء بني إسرائيل.
والثاني: حتم، قاله عطاء.
والثالث: وعد، قاله قطرب.
والرابع: تألى، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (ليبعثن عليهم) أي: على اليهود. وقال مجاهد: على اليهود والنصارى
بمعاصيهم. (من يسومهم) أي: يوليهم (سوء العذاب). وفي المبعوث عليهم قولان:
أحدهما: أنه محمد [صلى الله عليه وسلم]، وأمته، قاله ابن عباس.
والثاني: العرب، كانوا يجبونهم الخراج، قاله سعيد بن جبير، قال: ولم يجب الخراج نبي
قط إلا موسى، جباه ثلاث عشرة سنة، ثم أمسك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال السدي: بعث الله عليهم
العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم. وفي سوء العذاب أربعة أقوال:
أحدها: الجزية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: المسكنة والجزية، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: الخراج، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.
والرابع: أنه القتال حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية.
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات
والسيئات لعلهم يرجعون (168)
قوله تعالى: (وقطعناهم في الأرض أمما) قال أبو عبيدة: فرقناهم فرقا. قال ابن عباس:
هم اليهود، ليس من بلد إلا وفيه منهم طائفة. وقال مقاتل: هم بنو إسرائيل. وقيل: معناه: شتات
189

أمرهم وافتراق كلمتهم. (منهم الصالحون) وهم المؤمنون بعيسى ومحمد عليهما
السلام. (ومنهم دون ذلك) وهم الكفار. وقال ابن جرير: إنما كانوا على هذه الصفة قبل أن
يبعث عيسى، وقبل ارتدادهم.
قوله تعالى: (وبلوناهم) أي: اختبرناهم (بالحسنات) وهي الخير، والخصب، والعافية،
(والسيئات) وهي الجدب، والشر، والشدائد، فالحسنات والسيئات تحث على الطاعة، أما النعم
فطلب الازدياد منها، وخوف زوالها، والنقم فلكشفها، والسلامة منها. (لعلهم يرجعون) أي:
لكي يتوبوا.
فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر
لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا
الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (169)
قوله تعالى: (فخلف من بعدهم) أي: من بعد الذي وصفناهم. (خلف) وقرأ الجوني،
والجحدري: " خلف " بفتح اللام. قال أبو عبيدة: الخلف والخلف واحد، وقوم يجعلون المحرك
اللام، للصالح، والمسكن، لغير الصالح. وقال ابن قتيبة: الخلف: الردئ من الناس ومن الكلام،
يقال: هذا خلف من القول. وقال ابن الأنباري: أكثر ما تستعمل العرب الخلف، بإسكان اللام، في
الردئ المذموم، وتفتح اللام في الفاضل الممدوح. وقد يوقع الخلف على الممدوح، والخلف
على المذموم، غير أن المختار ما ذكرناه. وفي المراد بهذا الخلف ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن زيد.
والثاني: النصارى.
والثالث: أن الخلف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والقولان عن مجاهد.
فإن قيل: الخلف واحد، فكيف قال: " يأخذون " وكذلك قال في (مريم) " أضاعوا "؟ فقد
ذكر ابن الأنباري عنه جوابين:
أحدهما: أن الخلف: جمع خالف، كما أن الركب: جمع راكب، والشرب: جمع شارب.
والثاني: أي الخلف مصدر يكون للاثنين والجميع، والمذكر والمؤنث.
قوله تعالى: (ورثوا الكتاب) أي: انتقل إليهم انتقال الميراث من سلف إلى خلف،
فيخرج في الكتاب ثلاثة أقوال:
190

أحدها: أنه التوراة.
والثاني: الإنجيل.
والثالث: القرآن.
قوله تعالى: (يأخذون عرض هذا الأدنى) أي: هذه الدنيا، وهو ما يعرض لهم منها.
وقيل: سماه عرضا، لقلة بقائه. قال ابن عباس: يأخذون ما أحبوا من حلال أو حرام. وقيل: هو
الرشوة في الحكم. وفي وصفه بالأدنى قولان:
أحدهما: أنه من الدنو.
والثاني: أنه من الدناءة.
قوله تعالى: (سيغفر لنا) فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: إنا لا نؤاخذ، تمنيا على الله الباطل.
والثاني: أنه ذنب يغفره الله لنا، تأميلا لرحمة الله تعالى.
وفي قوله تعالى: وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) قولان:
أحدهما: أن المعنى: لا يشبعهم شئ، فهم يأخذون لغير حاجة، قاله الحسن.
والثاني: أنهم أهل إصرار على الذنوب، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) قال ابن
عباس: وكد الله عليهم في التوراة أن لا يقولوا على الله إلا الحق، فقالوا الباطل، وهو ما أوجبوا
على الله من مغفرة ذنوبهم التي لا يتوبون منها، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار.
قوله تعالى: (ودرسوا ما فيه) معطوف على " ورثوا ". ومعنى " درسوا ما فيه ": قرؤوه،
فكأنه قال: خالفوا على علم. (والدار الآخرة) أي: ما فيها من الثواب (خير للذين يتقون أفلا
يعقلون) أن الباقي خير من الفاني. قال ابن عامر، ونافع، وحفص عن عاصم: بالتاء، والباقون:
بالياء.
والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (170)
قوله تعالى: (والذين يمسكون بالكتاب) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة،
والكسائي، وحفص عن عاصم " يمسكون " مشددة، وقرؤوا (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) مخففة
وقرأهما أبو عمرو بالتشديد.
وروى أبو بكر عن عاصم أنه خففهما. ويقال: مسكت بالشئ، وتمسكت به، واستمسكت
191

به، وامتسكت به، وهذه الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب الذين حفظوا حدوده ولم يحرفوه، منهم:
ابن سلام وأصحابه. قال ابن الأنباري: وخبر " الذين ": " إنا " وما بعده، وله ضمير مقدر بعد
" المصلحين " تأويله: والذين يمسكون بالكتاب إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم، ولهذه العلة
وعدهم حفظ الأجر بشرط، إذ كان منهم من لم يصلح. قال: وقال بعض النحويين: المصلحون
يرجعون على الذين، وتلخيص المعنى عنده: والذين يمسكون بالكتاب، وأقاموا الصلاة، إنا لا
نضيع أجرهم، فأظهرت كنايتهم بالمصلحين، كما يقال: علي لقيت الكسائي، وأبو سعيد رويت عن
الخدري، يراد: لقيته ورويت عنه. قال الشاعر:
فيا رب ليلى أنت في كل موطن * وأنت الذي في رحمة الله أطمع
أراد في رحمته، فأظهر ضمير الهاء.
* وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة
واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (171)
قوله تعالى: (إذ نتقنا الجبل فوقهم) أي: واذكر لهم إذ نتقنا الجبل، أي: رفعناه. قال
مجاهد: أخرج الجبل من الأرض، ورفع فوقهم كالظلة، فقيل لهم: لتؤمنن أو ليقعن عليكم. وقال
قتادة: نزلوا في أصل جبل، فرفع فوقهم، فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به.
قوله تعالى: (وظنوا أنه واقع بهم) فيه قولان:
أحدهما: أنه الظن المعروف.
والثاني: أنه بمعنى اليقين. وباقي الآية مفسر في (البقرة).
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم
قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172)
قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم) روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أخذ الله
الميثاق من ظهر آدم بنعمان "، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم
قبلا، وقال (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) ومعنى
الآية: وإذا أخذ ربكم من ظهور بني آدم. فقوله [تعالى]: (من ظهورهم) بدل من (بني
192

آدم). وقيل: إنما قال: (من ظهورهم) ولم يقل: من ظهر آدم، لأنه أخرج بعضهم من ظهور
بعض، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لأنه قد علم أنهم بنوه، وقد أخرجوا من ظهره. وقوله تعالى:
(ذرياتهم) قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي " ذريتهم " على التوحيد. وقرأ نافع، وأبو
عمرو، وابن عامر " ذرياتهم " على الجمع. قال أبو علي: الذرية تكون جمعا، وتكون واحدا.
وفي قوله [تعالى]: (وأشهدهم على أنفسهم) ثلاثة أقوال:
أحدها: أشهدهم على أنفسهم بإقرارهم، قاله مقاتل.
والثاني: دلهم بخلقه على توحيده، قاله الزجاج.
والثالث: أنه أشهد بعضهم على بعض بإقرارهم بذلك، قاله ابن جرير.
قوله تعالى: (ألست بربكم) والمعنى: وقال لهم: ألست بربكم؟ وهذا سؤال تقرير.
قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. قال السدي: قوله " شهدنا " خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم
شهدوا على إقرار بني آدم. ويحسن الوقف على قوله " بلى " لأن كلام الذرية قد انقطع. وزعم
الكلبي أن الذرية لما قالت " بلى " قال الله تعالى للملائكة " اشهدوا " فقالوا " شهدنا ". وروى أبو
العالية عن أبي بن كعب قال: جمعهم جميعا، فجعلهم أزواجا، ثم صورهم، ثم استنطقهم، ثم
قال: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) أنك إلهنا. قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع
والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) لم نعلم
بهذا. وقال السدي: أجابته طائفة طائعين، وطائفة كارهين تقية.
قوله تعالى: (أن يقولوا) قرأ أبو عمرو " أن يقولوا "، " أو يقولوا " بالياء فيهما. وقرأ
الباقون بالتاء فيهما. قال أبو علي: حجة أبي عمرو قوله: " وإذ أخذ ربك " وقوله [تعالى] " قالوا
بلى "، وحجة من قرأ بالتاء أنه قد جرى في الكلام خطاب " ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ".
ومعنى قوله: " يقولوا ": لئلا يقولوا، ومثله: (أن تميد بكم). وفي قوله [تعالى] (إنا
كنا عن هذا) قولان:
أحدهما: أنه إشارة إلى الميثاق والإقرار.
والثاني: أنه إشارة إلى معرفة أنه الخالق. قال المفسرون: وهذه الآية تذكير من الله تعالى
بما أخذ على جميع المكلفين من الميثاق، واحتجاج عليهم لئلا يقول الكفار: إنا كنا عن هذا
الميثاق غافلين لم نذكره، ونسيانهم لا يسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله تعالى بذلك على لسان
النبي صلى الله عليه وسلم الصادق. وإذا ثبت هذا بقول الصادق، قام في النفوس مقام الذكر، فالاحتجاج به
قائم.
193

أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173)
قوله تعالى: (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) فاتبعنا منهاجهم على
جهل منا بآلهيتك (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) في دعواهم أن معك إلها، فقطع الله احتجاجهم
بمثل هذا، إذ أذكرهم أخذ الميثاق على كل واحد منهم. وجماعة أهل العلم على ما شرحنا من أنه
استنطق الذر، وركب فيهم عقولا وأفهاما عرفوا بها ما عرض عليهم. وقد ذكر بعضهم أن معنى أخذ
الذرية: إخراجهم إلى الدنيا بعد كونهم نطفا، ومعنى إشهادهم على أنفسهم: اضطرارهم إلى
العلم بأنه خالقهم بما أظهر لهم من الآيات والبراهين. ولما عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون
ويشاهدون إلى التصديق، كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال:
(شاهدين على أنفسهم بالكفر) يريدهم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا: نحن كفرة، كما
يقول الرجل: قد شهدت جوارحي بصدقك، أي: قد عرفته. ومن هذا الباب قوله [تعالى]:
(شهد الله) أي: بين وأعلم وقد حكى نحو هذا القول ابن الأنباري، والأول أصح، لموافقة
الآثار.
وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون (174)
قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات) أي: وكما بينا في أخذ الميثاق الآيات، ليتدبرها
العباد فيعملوا بموجبها. (ولعلهم يرجعون) أي: ولكي يرجعوا عما هم عليه من الكفر إلى
التوحيد.
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175)
قوله تعالى: (واتل عليهم) قال الزجاج: هذا نسق على ما قبله، والمعنى: أتل عليهم
إذ أخذ ربك، (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) وفيه ستة أقوال:
أحدها: أنه رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن أبر، قاله ابن مسعود. وقال ابن
عباس: بلعم بن باعوراء. وروي عنه: أنه بلعام بن باعور، وبه قال مجاهد، وعكرمة،
والسدي. وروى العوفي عن ابن عباس أن بلعما من أهل اليمن. وروى عنه ابن أبي طلحة أنه من
مدينة الجبارين.
والثاني: أنه أمية بن أبي الصلت، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص، وسعيد بن المسيب،
وأبو روق، وزيد بن أسلم، وكان أمية قد قرأ الكتب، وعلم أن الله مرسل رسولا، ورجا أن يكون
194

هو، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، حسده وكفر.
والثالث: أنه أبو عامر الراهب، روى الشعبي عن ابن عباس قال: الأنصار تقول: هو
الراهب الذي بني له مسجد الشقاق، وروي عن ابن المسيب نحوه.
والرابع: أنه رجل كان في بني إسرائيل، أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له
امرأة له منها ولد، وكانت سمجة دميمة، فقالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني
إسرائيل، فدعا الله لها، فلما علمت أنه ليس في بني إسرائيل مثلها، رغبت عن زوجها وأرادت
غيره، فلما رغبت عنه، دعا الله أن يجعلها كلبة نباحة، فذهبت منه فيها دعوتان، فجاء بنوها
وقالوا: ليس بنا على هذا صبر أمنا كلبة نباحة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى
الحال التي كانت عليها أولا، فدعا الله، فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات الثلاث، رواه
عكرمة عن ابن عباس، والذي روي لنا في هذا الحديث " وكانت سمجة " بكسر الميم، وقد روى
سيبويه عن العرب أنهم يقولون: رجل سمج: بتسكين الميم، ولم يقولوا: سمج، بكسرها.
والخامس: أنه المنافق، قاله الحسن.
والسادس: أنه كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء، قاله
عكرمة. وفي الآيات خمسة أقوال:
أحدها: أنه اسم الله الأعظم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير.
والثاني: أنها كتاب من كتب الله [عز وجل]. روى عكرمة عن ابن عباس قال: هو بلعام،
أوتي كتابا فانسلخ منه.
والثالث: أنه أوتي نبوة، فرشاه قومه على أن يسكت، ففعل، وتركهم على ما هم عليه، قاله مجاهد،
وفيه بعد، لأن الله تعالى لا يصطفي لرسالته إلا معصوما عن مثل هذه الحال.
والرابع: أنها حجج التوحيد، وفهم أدلته.
والخامس: أنها العلم بكتب الله عز وجل. والمشهور في التفسير أنه بلعام وكان من أمره
على ما ذكره المفسرون أن موسى عليه السلام غزا البلد الذي هو فيه، وكانوا كفارا، وكان هو
مجاب الدعوة، فقال ملكهم: ادع على موسى، فقال: إنه من أهل ديني، ولا ينبغي لي أن أدعو
عليه، فأمر الملك أن تنحت خشبة لصلبه، فلما رأى ذلك، خرج على أتان ليدعو على موسى،
فلما عاين عسكرهم، وقفت الأتان فضربها، فقالت: لم تضربني، وهذه نار تتوقد قد منعتني أن
أمشي؟ فارجع، فرجع إلى الملك فأخبره، فقال: إما أن تدعو عليهم، وإما أن أصلبك، فدعا
195

على موسى باسم الله الأعظم أن لا يدخل المدينة، فاستجاب الله له، فوقع موسى وقومه في التيه
بدعائه، فقال موسى: يا رب، بأي ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم. فقال: يا رب،
فكما سمعت دعاءه علي، فاسمع دعائي عليه، فدعا الله أن ينزع منه الاسم الأعظم، فنزع منه.
وقيل: إنه أمر قومه أن يزينوا النساء ويرسلوهن في العسكر ليفشوا الزنا فيهم، فينصروا عليهم.
وقيل: إن موسى قتله بعد ذلك. وروى السدي عن أشياخه أن بلعم أتى إلى قومه متبرعا، فقال:
لا ترهبوا بني إسرائيل، فإنكم إذا خرجتم لقتالهم، دعوت عليهم فهلكوا، فكان فيما شاء عندهم
من الدنيا، وذلك بعد مضي الأربعين سنة التي تاهوا فيها، وكان نبيهم يوشع، لا موسى.
قوله تعالى: (فانسلخ منها) أي: خرج من العلم بها.
قوله تعالى: (فأتبعه الشيطان) قال ابن قتيبة: أدركه. يقال: اتبعت القوم: إذا لحقتهم،
وتبعتهم: سرت في أثرهم. وقرأ طلحة بن مصرف: " فاتبعه " بالتشديد. وقال اليزيدي: أتبعه
واتبعه: لغتان. وكأن " اتبعه " خفيفة بمعنى: قفاه، و " اتبعه " مشددة: حذا حذوه. ولا يجوز
أن تقول: أتبعناك، وأنت تريد: اتبعناك، لأن معناها: اقتدينا بك. وقال الزجاج: يقال: تبع
الرجل الشئ واتبعه بمعنى واحد. قال الله تعالى: (فمن تبع هداي) وقال: (فأتبعهم
فرعون).
قوله تعالى: (فكان من الغاوين) فيه قولان:
أحدهما: من الضالين، قاله مقاتل.
والثاني: من الهالكين الفاسدين، قاله الزجاج.
ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن
تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص
لعلهم يتفكرون (176)
قوله تعالى: (ولو شئنا لرفعناه بها) في هاء الكناية في " رفعناه " قولان:
أحدهما: أنها تعود إلى الإنسان المذكور، وهو قول الجمهور، فيكون المعنى: ولو شئنا
لرفعنا منزلة هذا الإنسان بما علمناه.
والثاني: أنها تعود إلى الكفر بالآيات، فيكون المعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بآياتنا،
196

وهذا المعنى مروي عن مجاهد. وقال الزجاج: لو شئنا لحلنا بينه وبين المعصية.
قوله تعالى: (ولكنه أخلد إلى الأرض) أي: ركن إلى الدنيا وسكن. قال الزجاج:
يقال: أخلد وخلد، والأول أكثر في اللغة. والأرض هاهنا عبارة عن الدنيا، لأن الدنيا هي
الأرض بما عليها. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: أنه ركن إلى أهل الدنيا، ويقال: إنه أرضى امرأته بذلك، لأنها حملته عليه.
وقيل: أرضي بني عمه وقومه.
والثاني: أنه ركن إلى شهوات الدنيا، وقد بين ذلك بقوله [تعالى]: (واتبع هواه)
والمعنى أنه انقاد لما دعاه إليه الهوى. قال ابن زيد: كان هواه مع قومه. وهذه الآية من أشد
الآيات على أهل العلم إذ مالوا عن العلم إلى الهوى.
قوله تعالى: (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) معناه: أن هذا
الكافر، إن زجرته لم ينزجر، وإن تركته لم يهتد، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب، فإنه إن
طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثا، وإن ترك وربض كان أيضا لاهثا، والتشبيه بالكلب اللاهث
خاصة، فالمعنى: فمثله كمثل الكلب لاهثا، وإنما شبهه بالكلب اللاهث، لأنه أخس الأمثال على
أخس الحالات وأبشعها. وقال ابن قتيبة: كل لاهث إنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب،
فإنه يلهث في حال راحته وحال كلاله، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، فقال: إن وعظته فهو
ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته وزجرته فسعى لهث، أو تركته على حاله رابضا
لهث. قال المفسرون: زجر في منامه عن الدعاء على بني إسرائيل فلم ينزجر، وخاطبته أتانه فلم
ينته، فضرب له هذا المثل ولسائر الكفار، فذلك قوله [تعالى]: (ذلك مثل القوم الذين كذبوا
بآياتنا) لأن الكافر إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال، وهو مع إرسال الرسل إليه كمن لم
يأته رسول ولا بينة.
قولا تعالى: (فاقصص القصص) قال عطاء: قصص الذين كفروا وكذبوا أنبياءهم.
ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (177) من يهد الله فهو
المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون (178)
قوله تعالى: (ساء مثلا) يقال: ساء الشئ يسوء: إذا قبح، والمعنى: ساء مثلا مثل
القوم، فحذف المضاف، فنصب " مثلا " على التمييز.
قوله تعالى: (وأنفسهم كانوا يظلمون) أي: يضرون بالمعصية.
197

ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون
بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (179)
قوله تعالى: (ولقد ذرأنا) أي: خلقنا قال ابن قتيبة: ومنه ذرية الرجل، إنما هي الخلق
منه، ولكن همزها يتركه أكثر العرب.
قوله تعالى: (لجهنم) هذه اللام يسميها بعض أهل المعاني لام العاقبة، كقوله
[تعالى]: (ليكون لهم عدوا وحزنا) ومثله قول الشاعر:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها * ودورنا لخراب الدهر نبنيها
ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز يعزيه بموت ابنه، فقال:
تعز أمير المؤمنين فإنه * لما قد ترى يغذى الصغير ويولد
وقد أخبر الله عز وجل في هذه الآية بنفاذ علمه فيهم أنهم يصيرون إليها بسبب كفرهم.
قوله تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها) لما أعرض القوم عن الحق والتفكر فيه، كانوا
بمنزلة من لم يفقه ولم يبصر ولم يسمع. وقال محمد بن القاسم النحوي: أراد بهذا كله أمر
الآخرة، فإنهم يعقلون أمر الدنيا.
قوله تعالى: (أولئك كالأنعام) شبههم بالأنعام لأنها تسمع وتبصر ولا تعتبر، ثم قال:
(بل هم أضل) لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها، فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء يعلم أكثرهم
أنه معاند، فيقدم على النار، (أولئك هم الغافلون) عن أمر الآخرة.
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون
ما كانوا يعملون (180)
قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى) سبب نزولها أن رجلا دعا الله في صلاته، ودعا
الرحمن، فقال أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو
اثنين؟ فأنزل الله هذه الآية، قاله مقاتل. فأما الحسنى، فهي تأنيث الأحسن. ومعنى الآية أن
أسماء الله حسنى، وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن. وذكر الماوردي أن المراد بذلك ما مالت
إليه النفوس من ذكره بالعفو والرحمة دون السخط والنقمة. وقوله [تعالى]: (فادعوه بها) أي:
نادوه بها، كقولك: يا الله، يا رحمن.
قوله تعالى: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو،
198

وعاصم، وابن عامر: " يلحدون " بضم الياء، وكذلك في سورة (النحل)
و (السجدة). وقرأ حمزة: " يلحدون " بفتح الحاء والياء فيهن، ووافقه الكسائي، وخلف
في [سورة] (النحل). قال الأخفش: ألحد ولحد: لغتان، فمن قرأ بهما أراد الأخذ
باللغتين، فكأن الإلحاد: العدول عن الاستقامة. وقال ابن قتيبة: يجورون عن الحق ويعدلون،
ومنه لحد القبر، لأنه في جانب. قال الزجاج: ولا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يسم به نفسه،
فيقول: يا جواد، ولا يقول: يا سخي، ويقول: يا قوي، ولا يقول: يا جلد، ويقول: يا
رحيم، ولا يقول: يا رفيق، لأنه لم يصف نفسه بذلك. قال أبو سليمان الخطابي: ودليل هذه
الآية أن الغلط في أسمائه والزيغ عنها إلحاد، ومما يسمع على ألسنة العامة قولهم: يا سبحان، يا
برهان، وهذا مهجور مستهجن لا قدوة فيه، وربما قال بعضهم: يا رب طه ويس. وقد أنكر ابن
عباس على رجل قال: يا رب القرآن. وروي ابن عباس أن إلحادهم في أسمائه أنهم سموا بها
أوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.
فصل - والجمهور على أن هذه الآية محكمة، لأنها خارجة مخرج التهديد، كقوله [تعالى]:
(ذرني ومن خلقت وحيدا)، وقد ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة بآية القتال، لأن قوله
[تعالى]: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) يقتضي الإعراض عن الكفار، وهذا قول ابن
زيد.
وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (181)
قوله تعالى: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق) أي: يعملون به، (وبه يعدلون) أي:
وبالعمل به يعدلون. وفيمن أريد بهذه الآية أربعة أقوال.
أحدها: أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان من هذه الأمة، قاله ابن عباس. وكان
ابن جريج يقول: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هذه أمتي، بالحق يأخذون ويعطون ويقضون).
وقال قتادة: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تلا هذه الآية قال: " هذه لكم وقد أعطي القوم مثلها " ثم
يقرأ: (من قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون).
199

والثاني: أنهم من جميع الخلق، قاله ابن السائب.
والثالث: أنهم الأنبياء.
والرابع: أنهم العلماء، ذكر القولين الماوردي.
والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (182) وأملي لهم إن
كيدي متين (183)
قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا) قال أبو صالح عن ابن عباس: هم أهل مكة. وقال
مقاتل: نزلت في المستهزئين من قريش.
قوله تعالى: (سنستدرجهم) قال الخليل بن أحمد: سنطوي أعمارهم في اغترار منهم.
وقال أبو عبيدة: الاستدراج: أن يتدرج إلى الشئ في خفية قليلا قليلا ولا يهجم عليه، وأصله من
الدرجة، وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة، ومنه: درج الكتاب: إذا طواه شيئا بعد
شئ، ودرج القوم: إذا ماتوا بعضهم في إثر بعض. وقال اليزيدي: الاستدراج: أن يأتي من
حيث لا يعلم. وقال ابن قتيبة: هو أن يذيقهم من بأسه قليلا قليلا من حيث لا يعلمون، ولا
يباغتهم به ولا يجاهرهم. وقال الأزهري: سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون، وذلك أن
الله تعالى يفتح عليهم من النعم ما يغتبطون به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما
يكونون. قال الضحاك: كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة.
وفي قوله [تعالى]: (من حيث لا يعلمون) قولان:
أحدهما: من حيث لا يعلمون بالاستدراج.
والثاني: بالهلكة.
قوله تعالى: (وأملي لهم) الإملاء: الإمهال والتأخير.
قوله تعالى: (إن كيدي متين) قال ابن عباس: إن مكري شديد. وقال ابن فارس:
الكيد: المكر، فكل شئ عالجته فأنت تكيده. قال المفسرون: مكر الله وكيده: مجازاة أهل
المكر والكيد على نحو ما بينا في (البقرة) و (آل عمران) من ذكر الاستهزاء والخداع
والمكر.
أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184) أولم ينظروا في ملكوت
السماوات والأرض وما خلق الله من شئ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي
200

حديث بعده يؤمنون (185) من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون (186)
قوله تعالى: (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، علا
على الصفا ليلة، ودعا قريشا فخذا فخذا: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، فحذرهم
بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوت حتى الصباح، فنزلت هذه
الآية، قاله الحسن، وقتادة. ومعنى الآية: أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة، أي:
جنون، فحثهم على التفكر في أمره ليعلموا أنه برئ من الجنون قوله تعالى: (إن هو) أي: ما
هو (إلا نذير) أي: مخوف (مبين) يبين طريق الهدى. ثم حثهم على النظر المؤدي إلى
العلم فقال (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض) ليستدلوا على أن لها صانعا مدبرا، وقد
سبق بيان الملكوت في (الأنعام).
قوله تعالى: (وما خلق الله من شئ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) قرأ ابن
مسعود، وأبي، والجحدري: " آجالهم ". ومعنى الآية: أولم ينظروا في الملكوت وفيما خلق
[الله] من الأشياء كلها، وفي أن عسى أن تكون آجالهم قد قربت فيهلكوا على الكفر، ويصيروا
إلى النار (فبأي حديث بعده يؤمنون) يعني القرآن وما فيه من البيان. ثم ذكر سبب إعراضهم عن
الإيمان، فقال: (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر:
[" ونذرهم "] بالنون والرفع. وقرأ أبو عمرو: بالياء وبالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي:
" ويذرهم " بالياء مع الجزم خفيفة. فمن قرأ بالرفع، استأنف، ومن جزم " ويذرهم " عطف على
موضع الفاء. قال سيبويه: وموضعها جزم، فالمعنى: من يضلل الله يذره، وقد سبق في سورة
(البقرة): معنى الطغيان والعمه.
يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو
ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفي عنها قل
إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187)
قوله تعالى: (يسألونك عن الساعة) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن قوما من اليهود قالوا: يا محمد، أخبرنا متى الساعة؟ فنزلت هذه الآية، قاله
ابن عباس.
201

والثاني: أن قريشا قالت: يا محمد، بيننا وبينك قرابة، فبين لنا متى الساعة؟ فنزلت هذه
الآية، قاله قتادة وقال عروة: الذي سأله عن الساعة عتبة بن ربيعة. والمراد بالساعة ها هنا التي
يموت فيها الخلق.
قوله تعالى: (أيان مرساها) قال أبو عبيدة: أي: متى مرساها؟ أي: منتهاها. ومرسى
السفينة: حيث تنتهي. وقال ابن قتيبة: " أيان " بمعنى: متى، و " متى " بمعنى: أي حين،
ونرى أن أصلها: أي أوان، فحذفت الهمزة، وجعل الحرفان واحدا، ومعنى الآية: متى ثبوتها؟
يقال: رسا في الأرض، أي: ثبت، ومنه قيل للجبال: رواسي. قال الزجاج: ومعنى الكلام:
متى وقوعها؟
قوله تعالى: (قل إنما علمها عند ربي) أي: قد استأثر بعلمها (لا يجليها) أي: لا
يظهرها في وقتها (إلا هو).
قوله تعالى: (ثقلت في السماوات والأرض) فيه أربعة أقوال:
أحدها: ثقل وقوعها على أهل السماوات والأرض، قاله ابن عباس، ووجهه أن الكل
يخافونها، محسنهم ومسيئهم.
والثاني: عظم شأنها في السماوات والأرض، قاله عكرمة، ومجاهد، وابن جريج.
والثالث: خفي أمرها، فلم يعلم متى كونها، قاله السدي.
والرابع: أن " في " بمعنى " على فالمعنى: ثقلت على السماوات والأرض، قاله قتادة.
قوله تعالى: (لا تأتيكم إلا بغتة) أي: فجأة.
قوله تعالى: (كأنك حفي عنها) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه من المقدم والمؤخر، فتقديره: يسألونك عنها كأنك حفي، أي: بر بهم،
كقوله تعالى: (إنه كان بي حفيا). قال العوفي عن ابن عباس، وأسباط عن السدي: كأنك
صديق لهم.
والثاني: كأنك حفي بسؤالهم، مجيب لهم. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: كأنك
يعجبك سؤالهم. وقال خصيف عن مجاهد: كأنك تحب أن يسألوك عنها. وقال الزجاج: كأنك
فرح بسؤالهم.
والثالث: كأنك عالم بها، قاله الضحاك عن ابن عباس، وهو قول ابن زيد، والفراء.
والرابع: كأنك استحفيت السؤال عنها حتى علمتها، قاله ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال
202

عكرمة: كأنك مسؤول عنها. وقال ابن قتيبة: كأنك معني بطلب علمها. وقال ابن الأنباري: فيه
تقديم وتأخير، تقديره: يسألونك عنها كأنك حفي بها، والحفي في كلام العرب: المعني.
قوله تعالى: (قل إنما علمها عند الله) أي: لا يعلمها إلا هو (ولكن أكثر الناس لا
يعلمون) قال مقاتل في آخرين: المراد بالناس ها هنا أهل مكة. وفي قوله [تعالى]: " لا
يعلمون " قولان:
أحدهما: لا يعلمون أنها كائنة، قاله مقاتل.
والثاني: لا يعلمون أن هذا مما استأثر الله بعلمه، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت
من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون (188)
قوله تعالى: (لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا) سبب نزولها أن أهل مكة قالوا: يا محمد،
ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فتشتري فتربح، وبالأرض التي تريد أن تجدب،
فترتحل عنها إلى ما قد أخصب؟ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن عباس. وفي المراد بالنفع
والضر قولان:
أحدهما: أنه عام في جميع ما ينفع ويضر، قاله الجمهور.
والثاني: أن النفع: الهدى، والضر: الضلالة، قاله ابن جريج.
قوله تعالى: (إلا ما شاء الله) أي: إلا ما أراد أن أملكه بتمليكه إياي، ومن هو على هذه
الصفة فكيف يعلم علم الساعة؟.
قوله تعالى: (ولو كنت أعلم الغيب) فيه أربعة أقوال:
أحدها: لو كنت أعلم بجدب الأرض وقحط المطر قبل كون ذلك لهيأت لسنة الجدب ما
يكفيها، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: لو كنت أعلم ما أربح فيه إذا اشتريته لاستكثرت من الخير، قاله الضحاك عن ابن
عباس.
والثالث: لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح، قاله مجاهد.
والرابع: لو كنت أعلم ما أسأل عنه من الغيب لأجبت عنه. (وما مسني السوء) أي: لم
203

يلحقني تكذيب، قاله الزجاج. فأما الغيب، فهو كل ما غاب عنك. ويخرج في المراد بالخير ها
هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه العمل الصالح.
والثاني: المال.
والثالث: الرزق.
قوله تعالى: (وما مسني السوء) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه الفقر، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه كل ما يسوء، قاله ابن زيد.
والثالث: الجنون، قاله الحسن.
والرابع: التكذيب، قاله الزجاج. فعلى قول الحسن، يكون هذا الكلام مبتدأ، والمعنى:
وما بي من جنون إنما أنا نذير، وعلى باقي الأقوال يكون متعلقا بما قبله.
* هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها
حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من
الشاكرين (189) فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون (190)
قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) يعني بالنفس: آدم، وبزوجها: حواء.
ومعنى (ليسكن إليها): ليأنس بها ويأتي إليها. (فلما تغشاها) أي: جامعها. قال الزجاج:
وهذا أحسن كناية عن الجماع. والحمل، بفتح الحاء: ما كان في بطن، أو أخرجته شجرة.
والحمل، بكسر الحاء: ما يحمل. والمراد بالحمل الخفيف: الماء.
قوله تعالى: (فمرت به) أي: استمرت به، قعدت وقامت ولم يثقلها. وقرأ سعد بن أبي
وقاص، وابن مسعود، وابن عباس، والضحاك: " فاستمرت به " وقرأ أبي بن كعب، والجوني:
" فاستمارت به " بزيادة ألف. وقرأ عبد الله بن عمرو، والجحدري: " فمارت به " بألف وتشديد
الراء. وقرأ أبو العالية، وأيوب، ويحيى بن يعمر: " فمرت به " خفيفة الراء، أي: شكت وتمارت
أحملت، أم لا؟ (فلما أثقلت)، أي: صار حملها ثقيلا. وقال الأخفش: صارت ذا ثقل. يقال:
أثمرنا، أي: صرنا ذوي ثمر.
قوله تعالى: (دعوا الله ربهما) يعني آدم وحواء (لئن آتيتنا صالحا) وفي المراد بالصالح
قولان:
204

أحدهما: أنه الإنسان المشابه لهما، وخافا أن يكون بهيمة، هذا قول الأكثرين.
والثاني: أنه الغلام، قاله الحسن، وقتادة.
شرح السبب في دعائهما
ذكر أهل التفسير أن إبليس جاء حواء، فقال: ما يدريك ما في بطنك، لعله كلب أو خنزير أو
حمار، وما يدريك من أين يخرج، أيشق بطنك، أم يخرج من فيك، أو من منخريك؟ فأحزنها
ذلك، فدعوا الله حينئذ، فجاء إبليس فقال: كيف تجدينك؟ قالت: ما أستطيع القيام إذا قعدت،
قال: أفرأيت إن دعوت الله، فجعله إنسانا مثلك ومثل آدم، أتسمينه باسمي؟ قالت: نعم. فلما ولدته
سويا، جاءها إبليس فقال: لم لا تسمينه بي كما وعدتني؟ فقالت: وما اسمك؟ قال: الحارث،
وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فسمته: عبد الحارث، وقيل: عبد شمس برضى آدم،
فذلك قوله [تعالى]: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء). قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو
عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " شركاء " بضم الشين والمد، جمع شريك. وقرأ
نافع، وأبو بكر عن عاصم: " شركا " مكسورة الشين على المصدر، لا على الجمع. قال أبو علي:
من قرأ " شركا "، حذف المضاف، كأنه أراد: جعلا له ذا شرك، وذوي شريك، فيكون المعنى:
جعلا لغيره شركا، لأنه إذا كان التقدير: جعلا له ذوي شرك، فالمعنى: جعلا لغيره شركا، وهذه
القراءة في المعنى كقراءة من قرأ " شركاء ". وقال غيره: معنى " شركاء ": شريكا، فأوقع الجمع
موقع الواحد كقوله [تعالى]: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم). والمراد
بالشريك: إبليس، لأنهما أطاعاه في الاسم، فكان الشرك في الطاعة، لا في العبادة، ولم يقصدا أن
الحارث ربهما، لكن قصدا أنه سبب نجاة ولدهما، وقد يطلق العبد على من ليس بمملوك. قال
الشاعر:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا * وما في إلا تلك من شيمة العبد
وقال مجاهد: كان لا يعيش لآدم ولد، فقال الشيطان: إذا ولد لكما ولد فسمياه عبد الحارث،
فأطاعاه في الاسم، فذلك قوله [تعالى]: (جعلا له شركاء فيما آتاهما)، هذا قول
الجمهور، وفيه قول ثان، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما أشرك آدم، إن أول الآية
لشكر، وآخرها مثل ضربه الله لمن يعبده في قوله عز وجل: (جعلا له شركاء فيما آتاهما). وروى
قتادة عن الحسن، قال: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا فهودوهم ونصروهم. وروي عن
الحسن، وقتادة قالا: الضمير في قوله: " جعلا له شركاء " عائد إلى النفس وزوجه من ولد آدم، لا
205

إلى آدم وحواء. وقيل: الضمير راجع إلى الولد الصالح، وهو السليم الخلق، فالمعنى: جعل له
ذلك الولد شركاء. وإنما قال: " جعلا " لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى. قال ابن
الأنباري: الذين جعلوا له شركاء اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين هم أولاد آدم وحواء.
فتأويل الآية: فلما آتاهما صالحا، جعل أولادهما له شركاء، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما
قال: " واسأل القرية). وذهب السدي إلى أن قوله: (فتعالى الله عما يشركون) في مشركي
العرب خاصة، وأنها مفصولة عن قصة آدم وحواء.
أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون (191)
قوله تعالى: (أيشركون مالا يخلق شيئا) قال ابن زيد: هذه لآدم وحواء حيث سميا ولدهما
عبد شمس، والشمس لا تخلق شيئا. وقال غيره: هذا راجع إلى الكفار حيث أشركوا بالله الأصنام،
وهي لا تخلق شيئا. وقوله تعالى: (وهم يخلقون) أي: وهي مخلوقة. قال ابن الأنباري: وإنما
قال: " ما " ثم قال: " وهم يخلقون " لأن " ما " تقع على الواحد والاثنين والجميع، وإنما قال:
" وهم " وهو يعني الأصنام، لأن عابديها ادعوا أنها تعقل وتميز، فأجريت مجرى الناس، فهو كقوله
تعالى: (رأيتهم لي ساجدين)، وقوله تعالى: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم)، وقوله
تعالى: (وكل في فلك يسبحون)، قال الشاعر:
تمززتها والديك يدعو صباحه * إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا
وأنشد ثعلب لعبدة بن الطبيب:
إذ أشرف الديك يدعو بعض أسرته * لدى الصباح وهم قوم معازيل
لما جعله يدعو، جعل الديكة قوما، وجعلهم معازيل، وهم الذين لا سلاح معهم، وجعلهم
أسرة، وأسرة الرجل: رهطه وقومه.
ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون (192)
قوله تعالى: (ولا يستطيعون لهم نصرا) يقول: إن الأصنام لا تستطيع نصر من عبدها، ولا
تمنع من نفسها.
وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعونكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون (193)
206

قوله تعالى: (وإن تدعوهم) فيه قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الأصنام، فالمعنى: وإن دعوتم أيها المشركون أصنامكم إلى سبيل
رشاد لا يتبعوكم، لأنهم لا يعقلون.
والثاني: أنها ترجع إلى الكفار، فالمعنى: وإن تدع يا محمد هؤلاء المشركين إلى الهدى، لا
يتبعوكم، فدعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سواء، لأنهم لا ينقادون إلى الحق. وقرأ نافع " لا يتبعوكم "
بسكون التاء.
إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين
ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان
يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزل
الكتاب وهو يتولى الصالحين (196)
قوله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله) يعني الأصنام (عباد أمثالكم) في أنهم
مسخرون مذللون لأمر الله. وإنما قال " عباد " وقال (فادعوهم)، وإن كانت الأصنام جمادا، لما
بينا عند قوله تعالى: (وهم يخلقون).
قوله تعالى: (فليستجيبوا لكم) أي: فليجيبوكم (إن كنتم صادقين) أن لكم عندهم نفعا
وثوابا. (ألهم أرجل يمشون بها) في المصالح (أم لهم أيد يبطشون بها) في دفع ما يؤذي.
وقرأ أبو جعفر " يبطشون " بضم الطاء هاهنا وفي (القصص) و (الدخان). (أم لهم أعين يبصرون
بها) المنافع من المضار (أم لهم آذان يسمعون بها) تضرعكم ودعاءكم؟ وفي هذا تنبيه على
تفضيل العابدين على المعبودين، وتوبيخ لهم حيث عبدوا من هم أفضل منه. (قل ادعوا
شركاءكم) قال الحسن: كانوا يخوفونه بآلهتهم، فقال [الله] تعالى: (قل ادعوا شركاءكم، (ثم
كيدوني) أنتم وهم (فلا تنظرون) أي: لا تؤخروا ذلك. وكان ابن كثير، وعاصم، وابن عامر،
وحمزة، والكسائي يقرؤون " ثم كيدون " بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو، ونافع في
رواية ابن حماد بالياء في الوصل. وروى ورش، وقالون، والمسيبي بغير ياء في الوصل، ولا وقف.
فأما " تنظرون " فأثبت فيها الياء يعقوب في الوصل والوقف. (إن وليي الله) أي: ناصري (الذي
نزل الكتاب) وهو القرآن، أي: كما أيدني بإنزال الكتاب ينصرني.
والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون (197)
207

قوله تعالى: (والذين تدعون من دونه) يعني الأصنام (لا يستطيعون نصركم) أي: لا
يقدرون على منعكم ممن أرادكم بسوء، ولا يمنعون أنفسهم من سوء أريد بهم.
وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (198)
قوله تعالى: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا) في المراد بهؤلاء قولان:
أحدهما: أنهم الأصنام. ثم في قوله [تعالى]: (وتراهم ينظرون إليك) قولان:
أحدهما: يواجهونك، تقول العرب: داري تنظر إلى دارك، (وهم لا يبصرون) لأنه ليس
فيهم أرواح.
والثاني: وتراهم كأنهم ينظرون إليك، لأن لهم أعينا مصنوعة، فأسقط كاف التشبيه، كقوله
[تعالى]: (وترى الناس سكارى) أي: كأنهم سكارى، (وهم لا يبصرون) في الحقيقة.
وإنما أخبر عنهم بالهاء والميم، لأنهم على هيئة بني آدم.
والقول الثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: وتراهم ينظرون إليك بأعينهم ولا يبصرون
بقلوبهم.
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)
قوله تعالى: (خذ العفو) العفو: الميسور، وقد سبق شرحه في سورة البقرة. وفي الذي
أمر بأخذ العفو منه ثلاثة أقوال:
أحدها: أخلاق الناس، قاله ابن الزبير، والحسن، ومجاهد فيكون المعنى: اقبل الميسور من
أخلاق الناس، ولا تستقص عليهم فتظهر منهم البغضاء.
والثاني: أنه المال، وفيه قولان:
أحدهما: أن المراد بعفو المال: الزكاة، قاله مجاهد في رواية والضحاك.
والثاني: أنها صدقة كانت تؤخذ قبل فرض الزكاة، ثم نسخت بالزكاة، روي عن ابن عباس.
والثالث: أن المراد به: مساهلة المشركين والعفو عنهم، ثم نسخ بآية السيف، قاله ابن
زيد.
قوله تعالى: (وأمر بالعرف) أي: بالمعروف.
وفي قوله: (وأعرض عن الجاهلين) قولان:
208

أحدهما: أنهم المشركون، أمر بالإعراض عنهم، ثم نسخ ذلك بآية السيف.
والثاني: أنه عام فيمن جهل، أمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم، وإن وجب عليه
الإنكار عليهم. وهذه الآية عند الأكثرين كلها محكمة، وعند بعضهم أن وسطها محكم، وطرفيها
منسوخان على ما بينا.
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200) إن الذين اتقوا
إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201)
قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) قال ابن زيد: لما نزلت " خذ العفو " قال
النبي صلى الله عليه وسلم " يا رب كيف بالغضب "؟ فنزلت هذه الآية. فأما قوله تعالى: (وإما) فقد سبق بيانه في
(البقرة) في قوله: (فإما يأتينكم مني هدى)، وقال أبو عبيدة: ومجاز الكلام: وإما تستخفنك
منه خفة وغضب وعجلة. وقال السدي: النزغ: الوسوسة وحديث النفس. قال الزجاج: النزغ: أدنى
حركة تكون، تقول: قد نزغته: إذا حركته. وقد سبق معنى الاستعاذة.
قوله تعالى: (إذا مسهم طيف) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي: " طيف " بغير ألف.
وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: " طائف " بألف ممدودا مهموزا. وقرأ ابن عباس، وابن
جبير، والجحدري، والضحاك: " طيف " بتشديد الياء من غير ألف. وهل الطائف والطيف بمعنى
واحد، أم يختلفان؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وهما ما كان كالخيال والشئ يلم بك، حكي عن الفراء. وقال
الأخفش: الطيف أكثر في كلام العرب من الطائف، قال الشاعر:
ألا يا لقوم لطيف الخيال * أرق من نازح ذي دلال
والثاني: أن الطائف: ما يطوف حول الشئ، والطيف: اللمة والوسوسة والخطرة، حكي عن
أبي عمرو وروي عن ابن عباس أنه قال: الطائف: اللمة من الشيطان، والطيف: الغضب. وقال ابن
الأنباري: الطائف: الفاعل من الطيف، والطيف عند أهل اللغة: اللمم من الشيطان، وزعم مجاهد
أنه الغضب.
قوله تعالى: (تذكروا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: تذكروا الله إذا هموا بالمعاصي فتركوها، قاله مجاهد.
209

والثاني: تفكروا فيما أوضح الله لهم من الحجة، قاله الزجاج.
والثالث: تذكروا غضب الله، والمعنى: إذا جرأهم الشيطان على مالا يحل، تذكروا غضب
الله، فأمسكوا، فإذا هم مبصرون لمواضع الخطأ بالتفكر.
وإخوانهم يمدونها في الغي ثم لا يقصرون (202)
قوله تعالى: (وإخوانهم) في هذه الهاء والميم قولان:
أحدهما: أنها عائدة على المشركين، فتكون هذه الآية مقدمة على التي قبلها، والتقدير:
وأعرض عن الجاهلين، وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين (يمدونهم في الغي) قرأ نافع:
" يمدونهم " بضم الياء وكسر الميم. والباقون: بفتح الياء وضم الميم. قال أبو علي: عامة ما جاء
في التنزيل فيما يحمد ويستحب: أمددت، على أفعلت، كقوله تعالى: (أتمدونني بمال) (أنما
نمدهم به من مال) (وأمددناهم بفاكهة)، وما كان على خلافه يجئ على: مددت، كقوله
تعالى: (ويمدهم في طغيانهم)، فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء، إلا أن وجه قراءة نافع بمنزلة
(فبشرهم بعذاب أليم). قال المفسرون: " يمدونهم في الغي " أي: يزينونه لهم، ويريدون منهم
لزومه، فيكون معنى الكلام: إن الذين اتقوا إذا جرهم الشيطان إلى خطيئة، تابوا منها، وإخوان
الجاهلين، وهم الشياطين، يمدونهم في الغي، هذا قول الأكثرين من العلماء. وقال بعضهم: الهاء
والميم ترجع إلى الشياطين، وقد جرى ذكرهم لقوله تعالى: " من الشيطان "، فالمعنى: وإخوان
الشياطين يمدونهم.
والثاني: أن الهاء والميم ترجع إلى المتقين، فالمعنى: وإخوان المتقين من المشركين، وقيل:
من الشياطين يمدونهم في الغي، أي: يريدون من المسلمين أن يدخلوا معهم في الكفر، ذكر هذا
القول جماعة منهم ابن الأنباري. فإن قيل: كيف قال: " وإخوانهم " وليسوا على دينهم؟
فالجواب: أنا إن قلنا: إنهم المشركون، فجائز أن يكونوا إخوانهم في النسب، أو في كونهم من بني
آدم، أو لكونهم يظهرون النصح كالإخوان، فإن قلنا: إنهم الشياطين، فجائز أن يكونوا لكونهم
مصاحبين لهم، والقول الأول أصح.
قوله تعالى: (ثم لا يقصرون) وقرأ الزهري، " يقصرون " بالتشديد. قال الزجاج: يقال:
أقصر يقصر، وقصر يقصر. قال ابن عباس: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا
الشياطين تقصر عنهم، فعلى هذا يكون قوله تعالى: (يقصرون) من فعل الفريقين، وهذا على
القول المشهور، ويخرج على القول الثاني أن يكون هذا وصفا للاخوان فقط.
وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا
210

بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (203)
قوله تعالى: (وإذا لم تأتهم بآية) يعني به المشركين. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: إذا لم تأتهم بآية، سألوها تعنتا، قاله ابن السائب.
والثاني: إذا لم تأتهم بآية لإبطاء الوحي، قاله مقاتل:
وفي قوله: (لولا اجتبيتها) قولان:
أحدهما: هلا افتعلتها من تلقاء نفسك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن
زيد، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين، وحكي عن الفراء أنه قال: العرب تقول: اجتبيت
الكلام، واختلقته، وارتجلته، إذا افتعلته من قبل نفسك.
والثاني: هلا طلبتها لنا قبل مسألتك؟ ذكره الماوردي، والأول أصح.
قوله تعالى: (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) أي: ليس الأمر لي.
قوله تعالى: (هذا بصائر من ربكم) يعني القرآن. قال أبو عبيدة: البصائر بمعنى الحجج
والبرهان والبيان أ واحدتها: بصيرة. وقال الزجاج: معنى البصائر: ظهور الشئ وبيانه.
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)
قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له) اختلفوا في نزولها على خمسة أقوال:
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة، فقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم،
فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثاني: أن المشركين كانوا يأتون رسول الله إذا صلى، فيقول بعضهم لبعض: لا تسمعوا
لهذا القرآن والغوا فيه، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن المسيب.
والثالث: أن فتى من الأنصار كان كلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، قرأ هو فنزلت هذه الآية، قاله
الزهري.
والرابع: أنهم كانوا يتكلمون في صلاتهم أول ما فرضت، فيجئ الرجل فيقول لصاحبه: كم
صليتم؟ فيقول: كذا وكذا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
211

والخامس: أنها نزلت تأمر بالإنصات للامام في الخطبة يوم الجمعة، روي عن عائشة،
وسعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار في آخرين.
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن
من الغافلين (205)
قوله تعالى: (واذكر ربك في نفسك) في هذا الذكر أربعة أقوال:
أحدها: أنه القراءة في الصلاة، قاله ابن عباس، فعلى هذا، أمر أن يقرأ في نفسه في صلاة
الإسرار.
والثاني: أنه القراءة خلف الإمام سرا في نفسه، قاله قتادة.
والثالث: أنه ذكر الله باللسان.
والرابع: أنه ذكر الله باستدامة الفكر، لا يغفل عن الله تعالى، ذكر القولين الماوردي. وفي
المخاطب بهذا الذكر قولان:
أحدهما: أنه المستمع للقرآن، إما في الصلاة، وإما من الخطيب، قاله ابن زيد.
والثاني: أنه خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه عام في جميع المكلفين.
قوله تعالى: (تضرعا وخيفة) التضرع: الخشوع في تواضع، والخيفة: الحذر من عقابه.
قوله تعالى: (ودون الجهر من القول) الجهر: الإعلان بالشئ، ورجل جهير الصوت: إذا
كان صوته عاليا. وفي هذا نص على أنه الذكر باللسان، ويحتمل وجهين.
أحدهما: قراءة القرآن.
والثاني: الدعاء وكلاهما مندوب إلى إخفائه، إلا أن صلاة الجهر قد بين أدبها في قوله
[تعالى]: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها). فأما الغدو فهو جمع غدوة، والآصال جمع
أصل، والأصل جمع أصيل، فالآصال جمع الجمع، والآصال: العشيات. وقال أبو عبيدة: هي ما
بين العصر إلى المغرب، وأنشد:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله * وأقعد في أفيائه بالأصائل
وروي عن ابن عباس أنه قال: يعني بالغدو: صلاة الفجر، والآصال: صلاة العصر.
212

إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206)
قوله تعالى: (إن الذين عند ربك) يعني الملائكة. (لا يستكبرون) أي: لا يتكبرون
ويتعظمون (عن عبادته) وفي هذه العبادة قولان:
أحدهما: الطاعة.
الثاني: الصلاة والخضوع فيها.
وفي قوله [تعالى]: (ويسبحونه) قولان:
أحدهما: ينزهونه عن السوء.
والثاني: يقولون: سبحان الله.
قوله تعالى: (وله يسجدون) أي: يصلون. وقيل: سبب نزول هذه الآية أن كفار مكة
قالوا: أنسجد لما تأمرنا؟ فنزلت هذه الآية تخبر أن الملائكة وهم أكبر شأنا، لا يتكبرون عن عبادة
الله. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان
يبكي ويقول: يا ويله، أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار ".
213

بسم الله الرحمن
(8) سورة الأنفال مدنية
آياتها خمس وسبعون
وهي مدنية بإجماعهم. وحكى الماوردي عن ابن عباس أن فيها سبع آيات مكيات، أولها: (وإذ يمكر بك الذين كفروا)
يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم
وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (1)
قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: " من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا
وكذا "، فأما المشيخة، فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان، فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقال
المشيخة للشبان: أشركونا معكم، فإنا كنا لكم ردءا، فأبوا، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت
سورة (الأنفال)، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: أن سعد بن أبي وقاص أصاب سيفا يوم بدر، فقال: يا رسول الله، هبه لي، فنزلت
هذه الآية، رواه مصعب بن سعد عن أبيه. وفي رواية أخرى عن سعد قال: قتلت سعيد بن العاص،
وأخذت سيفه فأتيت به رسول الله، فقال: " اذهب فاطرحه في القبض " فرجعت، وبي مالا يعلمه
إلا الله، فما جاوزت إلا قريبا حتى نزلت سورة (الأنفال) فقال " اذهب فخذ سيفك ". وقال
السدي: اختصم سعد وناس آخرون في ذلك السيف، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه
النبي [صلى الله عليه وسلم منهم]، فنزلت هذه الآية.
214

والثالث: أن الأنفال كانت خالصة لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]، ليس لأحد منها شئ، فسألوه أن
يعطيهم منها شيئا، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي المراد بالأنفال ستة
أقوال:
أحدها: أنها الغنائم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعطاء،
وعكرمة، والضحاك، وأبو عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين. وواحد الأنفال: نفل، قال لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل * وباذن الله ريثي وعجل
والثاني: أنها ما نفله رسول الله [صلى الله عليه وسلم] القاتل من سلب قتيله.
والثالث: أنها ما شذ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو دابة بغير قتال، قاله عطاء. وهذا
والذي قبله مرويان عن ابن عباس أيضا.
والرابع: أنه الخمس الذي أخذه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من الغنائم، قاله مجاهد.
والخامس: أنه أنفال السرايا، قاله علي بن صالح بن حي. وحكي عن الحسن قال: هي
السرايا التي تتقدم أمام الجيوش.
والسادس: أنها زيادات يؤثر بها الإمام بعض الجيش لما يراه من المصلحة، ذكره
الماوردي. وفي " عن " قولان:
أحدهما: أنها زائدة، والمعنى: يسألونك الأنفال، وكذلك قرأ سعد بن أبي وقاص، وابن
مسعود، وأبي بن كعب، وأبو العالية: " يسألونك الأنفال " بحذف " عن ".
والثاني: أنها أصل، والمعنى: يسألونك عن الأنفال لمن هي؟ أو عن حكم الأنفال، وقد ذكرنا
في سبب نزولها ما يتعلق بالقولين. وذكر أنهم إنما سألوا عن حكمها لأنها كانت حراما على الأمم
قبلهم.
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فقال بعضهم: إنها ناسخة من وجه، منسوخة
215

من وجه، وذلك أن الغنائم كانت حراما في شرائع الأنبياء المتقدمين، فنسخ الله ذلك بهذه الآية،
وجعل الأمر في الغنائم إلى ما يراه الرسول [صلى الله عليه وسلم]، ثم نسخ ذلك بقوله [تعالى]: (واعلموا أنما
غنمتم من شئ فأن لله خمسه). وقال آخرون: المراد بالأنفال شيئان.
أحدهما: ما يجعله الرسول صلى الله عليه وسلم لطائفة من شجعان العسكر ومتقدميه، يستخرج به نصحهم،
ويحرضهم على القتال.
والثاني: ما يفضل من الغنائم بعد قسمتها كما روي عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
سرية، فغنمنا إبلا، فأصاب كل واحد منا اثنا عشر بعيرا، ونفلنا بعيرا بعيرا، فعلى هذا هي
محكمة، لأن هذا الحكم باق إلى وقتنا هذا.
فصل
ويجوز النفل قبل إحراز الغنيمة، وهو أن يقول الإمام: من أصاب شيئا فهو له، وبه قال
الجمهور. فأما بعد إحرازها، ففيه عن أحمد روايتان وهل يستحق القاتل سلب المقتول إذا لم
يشرطه له الإمام، فيه قولان:
أحدهما: يستحقه، وبه قال الأوزاعي، والليث، والشافعي.
والثاني: لا يستحقه، ويكون غنيمة للجيش، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وعن أحمد روايتان
كالقولين:
قوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول) أي يحكمان فيها ما أرادا، (فاتقوا الله) بترك
مخالفته (وأصلحوا ذات بينكم) قال الزجاج: معنى " ذات بينكم " حقيقة وصلكم. والبين:
الوصل، كقوله [تعالى]: (لقد تقطع بينكم).
ثم في المراد بالكلام قولان:
أحدهما: أن يرد القوي على الضعيف، قاله عطاء.
والثاني: ترك المنازعة تسليما لله ورسوله.
قوله تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله) أي: أقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وغيرها.
216

إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم
إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2)
قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله) قال الزجاج: إذا ذكرت عظمته وقدرته وما
خوف به من عصاه، فزعت قلوبهم، قال الشاعر:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل * على أينا تعدو المنية أول
يقال: وجل يوجل وياجل وييجل وييجل، هذه أربع لغات حكاها سيبويه. وأجودها: يوجل.
وقال السدي: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله فينزع عنها.
قوله تعالى: (وإذا تليت عليهم آياته) أي: آيات القرآن.
وفي قوله: (زادتهم إيمانا) ثلاثة أقوال:
أحدها: تصديقا، قاله ابن عباس. والمعنى: أنهم كلما جاءهم شئ عن الله آمنوا به
فيزدادوا إيمانا بزيادة الآيات.
والثاني: يقينا، قاله الضحاك.
والثالث: خشية الله، قاله الربيع بن أنس. وقد ذكرنا معنى التوكل في [سورة] آل
عمران:
الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3)
قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة) قال ابن عباس: يعني الصلوات الخمس. (ومما
رزقناهم ينفقون) يعني الزكاة.
أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم (4)
قوله تعالى: (أولئك هم المؤمنون حقا) قال الزجاج: " حقا " منصوب بمعنى دلت عليه
الجملة، والجملة (أولئك هم المؤمنون)، فالمعنى: أحق ذلك حقا. وقال مقاتل: المعنى:
أولئك هم المؤمنون لا شك في إيمانهم كشك المنافقين.
قوله تعالى: (لهم درجات عند ربهم) قال عطاء: درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم، والرزق
الكريم: ما أعد لهم فيها.
217

كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون (5) يجادلونك
في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (6)
قوله تعالى: (كما أخرجك ربك) في متعلق هذه الكاف خمسة أقوال:
أحدها: أنها متعلقة بالأنفال. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: أن تأويله: امض لأمر الله في الغنائم وإن كرهوا، كما مضيت في خروجك من بيتك
وهم كارهون، قاله الفراء.
والثاني: أن الأنفال لله والرسول صلى الله عليه وسلم بالحق الواجب، كما أخرجك ربك بالحق، وإن كرهوا
ذلك، قاله الزجاج.
والثالث: أن المعنى: يسألوك عن الأنفال مجادلة، كما جادلوك في خروجك، حكاه جماعة
من المفسرين.
والثاني: أنها متعلقة بقوله تعالى: (فاتقوا الله وأصلحوا)، والمعنى: إن التقوى والإصلاح
خير لكم، كما كان إخراج الله نبيه محمدا خيرا لكم وإن كرهه بعضكم، هذا قول عكرمة.
والثالث: أنها متعلقة بقوله تعالى: (يجادلونك)، فالمعنى: مجادلتهم إياك في الغنائم
كإخراج الله إياك إلى بدر وهم كارهون، قاله الكسائي.
والرابع: أنها متعلقة بقوله تعالى: (أولئك هم المؤمنون)، والمعنى: وهم المؤمنون حقا
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، ذكره بعض ناقلي التفسير.
والخامس: أن " كما " في موضع قسم، معناها: والذي أخرجك من بيتك، قاله أبو عبيدة،
واحتج بأن " ما " في موضع " الذي " ومنه قوله: (وما خلق الذكر والأنثى) قال ابن الأنباري:
وفي هذا القول بعد، لأن الكاف ليست من حروف الأقسام. وفي هذا الخروج قولان:
أحدهما: أنه خروجه إلى بدر، وكره ذلك طائفة من أصحابه، لأنهم علموا أنهم لا يظفرون
بالغنيمة إلا بالقتال.
218

والثاني: أنه خروجه من مكة إلى المدينة للهجرة.
وفي معنى قوله: " بالحق " قولان:
أحدهما: أنك خرجت ومعك الحق.
والثاني: أنك خرجت بالحق الذي وجب عليك.
وفي قوله تعالى: (وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) قولان:
أحدهما: كارهون خروجك.
والثاني: كارهون صرف الغنيمة عنهم، وهذه كراهة الطبع لمشقة السفر والقتال، وليست
كراهة لأمر الله تعالى.
قوله تعالى: (يجادلونك في الحق) يعني في القتال يوم بدر، لأنهم خرجوا بغير عدة،
فقالوا: هلا أخبرتنا بالقتال لنأخذ العدة، فجادلوه طلبا للرخصة في ترك القتال. وفي قوله تعالى:
(بعد ما تبين) ثلاثة أقوال:
أحدها: تبين لهم فرضه.
والثاني: تبين لهم صوابه.
والثالث: تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرت به. وفي " المجادلين " قولان:
أحدهما: أنهم طائفة من المسلمين، قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: أنهم المشركون، قاله ابن زيد، فعلى هذا، يكون جدالهم في الحق الذي هو
التوحيد، لا في القتال. فعلى الأول، يكون معنى قوله تعالى: (كأنما يساقون إلى الموت) أي:
في لقاء العدو (وهم ينظرون)، لأن أشد حال من يساق إلى الموت أن يكون ناظرا إليه، وعالما
به. وعلى قول ابن زيد: كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام لكراهتهم إياه.
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد
الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين (7) ليحق الحق ويبطل الباطل
ولو كره المجرمون (8)
قوله تعالى: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) قال أهل التفسير: أقبل أبو سفيان من الشام
في عير لقريش، حتى إذا دنا من بدر، نزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فخرج في جماعة من
أصحابه يريدهم، فبلغهم ذلك فبعثوا عمرو بن ضمضم الغفاري إلى مكة مستغيثا، فخرجت قريش
219

للمنع عنها، ولحق أبو سفيان بساحل البحر، ففات رسول الله، ونزل جبريل بهذه الآية: (وإذ
يعدكم الله)، والمعنى: اذكروا إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين: والطائفتان: أبو سفيان وما معه من
المال، وأبو جهل ومن معه من قريش، فلما سبق أبو سفيان بما معه، كتب إلى قريش: إن كنتم
خرجتم لتحرزوا ركائبكم، فقد أحرزتها لكم. فقال أبو جهل: والله لا نرجع. وسار رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] يريد القوم. فكره أصحابه ذلك وودوا أن لو نالوا الطائفة التي فيها الغنيمة دون القتال، فذلك
قوله: (وتودون أن غير ذات الشوكة) أي: ذات السلاح. يقال: فلان شاكي السلاح،
بالتخفيف، وشاك في السلاح، بالتشديد، وشائك. قال أبو عبيدة: ومجاز الشوكة الحد، يقال: ما
أشد شوكة بني فلان، أي: حدهم. وقال الأخفش: إنما أنث " ذات الشوكة " لأنه يعني الطائفة.
قوله تعالى: (ويريد الله أن يحق الحق) في المراد بالحق قولان:
أحدهما: أنه الإسلام، قاله ابن عباس في آخرين.
والثاني: أنه القرآن، والمعنى: يحق ما أنزل إليك من القرآن.
قوله تعالى: (بكلماته) أي: بعداته التي سبقت من إعزاز الدين، كقوله تعالى: (ليظهره
على الدين كله).
قوله تعالى: (ويقطع دابر الكافرين) أي: يجتث أصلهم، وقد بينا ذلك في (الأنعام).
قوله تعالى: (ليحق الحق) المعنى: ويريد أن يقطع دابر الكافرين كيما يحق الحق. وفي
هذا الحق القولان المتقدمان. فأما الباطل، فهو الشرك، والمجرمون هاهنا: المشركون.
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (9) وما
جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز
حكيم (10)
قوله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم) سبب نزولها ما روى عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]
قال: لما كان يوم بدر، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين وهم
ألف وزيادة، فاستقبل القبلة، ثم مد يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: " اللهم أنجز ما وعدتني،
اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا " فما زال يستغيث ربه ويدعوه، حتى سقط
220

رداؤه، فأتاه أبو بكر الصديق فأخذ رداءه فرداه به، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كذاك مناشدتك
ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قوله تعالى: (إذ) قال ابن جرير: هي من صلة " يبطل ". وفي قوله تعالى: (تستغيثون)
قولان:
أحدهما: تستنصرون.
والثاني: تستجيرون. والفرق بينهما أن المستنصر يطلب الظفر، والمستجير يطلب الخلاص.
وفي المستغيثين قولان:
أحدهما: أنه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والمؤمنون، قاله الزهري.
والثاني: أنه رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، قاله السدي. فأما الإمداد فقد سبق في (آل عمران). وقوله
[تعالى]: (بألف) قرأ الضحاك، وأبو رجاء: " بآلاف " بهمزة ممدودة وبألف على الجمع. وقرأ
أبو العالية، وأبو المتوكل: " بألوف " برفع الهمزة واللام وبواو بعدها على الجمع. وقرأ ابن حذلم،
والجحدري: " بألف " بضم الألف واللام من غير واو ولا ألف، وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران:
" بيلف " عند بياء مفتوحة وسكون اللام من غير واو ولا ألف. فأما قوله: (مردفين) فقرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " مردفين " بكسر الدال. قال ابن عباس، وقتادة،
والضحاك، وابن زيد، والفراء: هم المتتابعون. وقال أبو علي: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكونوا مردفين مثلهم، تقول: أردفت زيدا دابتي، فيكون المفعول الثاني
محذوفا في الآية.
والثاني: أن يكونوا جاؤوا بعدهم، تقول العرب: بنو فلان مردوفونا، أي: هم يجيؤون بعدنا.
قال أبو عبيدة: مردفين: جاؤوا بعد. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: " مردفين " بفتح الدال. قال
الفراء: أراد: فعل ذلك بهم، أي: إن الله أردف المسلمين بهم. وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكل
الناجي، وأبو مجلز: " مردفين " بفتح الراء والدال مع التشديد. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران:
" مردفين " برفع الراء وكسر الدال. وقال الزجاج: يقال: ردفت الرجل: إذا ركبت خلفه، وأردفته:
إذا أركبته خلفي. ويقال: هذه دابة لا ترادف، ولا يقال: لا تردف. ويقال: أردفت الرجل: إذا
جئت بعده. فمعنى " مردفين " يأتون فرقة بعد فرقة. ويجوز في اللغة: مردفين ومردفين ومردفين،
فالدال مكسورة مشددة على كل حال، والراء يجوز فيها الفتح والضم والكسر. قال سيبويه: الأصل
221

مرتدفين، فأدغمت التاء في الدال فصارت مردفين لأنك طرحت حركة التاء على الراء، وإن شئت لم
تطرح حركة التاء، وكسرت الراء لالتقاء الساكنين. والذين ضموا الراء، جعلوها تابعة لضمة الميم.
وقد سبق في (آل عمران) تفسير قوله [تعالى]: (وما جعله الله إلا بشرى)، وكان مجاهد
يقول: ما أمد الله النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من هذه الألف التي ذكرت في [سورة] الأنفال وما ذكر
الثلاثة والخمسة إلا بشرى، ولم يمدوا بها، والجمهور على خلافه، وقد ذكرنا اختلافهم في عدد
الملائكة في [سورة] (آل عمران).
إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم
رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام (11)
قوله تعالى: (إذ يغشاكم النعاس أمنة منه) قال الزجاج: " إذ " موضعها نصب على معنى:
وما جعله الله إلا بشرى، في ذلك الوقت، ويجوز أن يكون المعنى: اذكروا إذ يغشاكم النعاس.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " إذ يغشاكم " بفتح الياء وجزم الغين وفتح الشين وألف " النعاس "
بالرفع. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " يغشيكم " بضم الياء وفتح الغين مشددة
الشين مكسورة " النعاس " بالنصب. وقرأ نافع: " يغشيكم " بضم الياء وجزم الغين وكسر الشين
" النعاس " بالنصب. وقال أبو سليمان الدمشقي: الكلام راجع على قوله تعالى: (ولتطمئن به
قلوبكم) إذ يغشاكم النعاس. قال الزجاج: و " أمنة " منصوب: مفعول له، كقولك: فعلت ذلك
حذر الشر. يقال: أمنت آمن أمنا وأمانا وأمنة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو
العالية، وابن يعمر، وابن محيصن: " أمنة منه " بسكون الميم.
قوله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء) قال ابن عباس: نزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وبينه
وبين الماء رملة، وغلبهم المشركون على الماء، فأصاب المسلمين الظمأ، وجعلوا يصلون
محدثين، وألقى الشيطان في قلوبهم الوسوسة، يقول: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد
غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون محدثين، فأنزل الله عليهم مطرا، فشربوا وتطهروا،
واشتد الرمل حين أصابه المطر، وأزال الله رجز الشيطان، وهو وسواسه، حيث قال: قد غلبكم
المشركون على الماء، وقال ابن زيد: رجز الشيطان: كيده، حيث أوقع في قلوبهم أنه ليس لكم
222

بهؤلاء القوم طاقة. وقال ابن الأنباري: ساءهم عدم الماء عند فقرهم إليه، فأرسل الله السماء،
فزالت وسوسة الشيطان التي تكسب عذاب الله وغضبه، إذ الرجز: العذاب.
قوله تعالى: (وليربط على قلوبك) الربط: الشد. و " على " في قول بعضهم صلة،
فالمعنى: وليربط قلوبكم. وفي الذي ربط به قلوبهم وقواها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الصبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنه الإيمان، قاله مقاتل.
والثالث: أنه المطر الذي أرسله يثبت به قلوبهم بعد اضطرابها بالوسوسة التي تقدم ذكرها.
قوله تعالى: (ويثبت به الأقدام) في هاء " به " قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الماء، فإن الأرض كانت رملة، فاشتدت بالمطر، وثبتت عليها
الأقدام، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي في آخرين.
والثاني: أنها ترجع إلى الربط، فالمعنى: ويثبت بالربط الأقدام، ذكره الزجاج.
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا
الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان (12) ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله
ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب (13) ذلكم فذوقوه وأن للكافرين
عذاب النار (14)
قوله تعالى: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم) قال الزجاج: " إذ " في موضع
نصب، والمعنى: وليربط إذ يوحي. ويجوز أن يكون المعنى: واذكروا إذ يوحي. قال ابن عباس:
وهذا الوحي إلهام.
قوله تعالى: (إلى الملائكة) وهم الذين أمد بهم المسلمين. (أني معكم) بالعون
والنصرة. (فثبتوا الذين آمنوا) فيه أربعة أقوال:
أحدها: قاتلوا معهم، قاله الحسن.
والثاني: بشروهم بالنصر، فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل، ويقول: أبشروا
فإن الله ناصركم، قاله مقاتل.
والثالث: ثبتوهم بأشياء تلقونها في قلوبهم تقوى بها، ذكره الزجاج.
223

والرابع: صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد، ذكره الثعلبي. فأما الرعب، فهو الخوف.
قال السائب بن يسار: كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السوائي عن الرعب الذي ألقاه الله في قلوب
المشركين كيف؟ كان يأخذ الحصى فيرمي به الطست فيطن، فيقول: كما نجد في أجوافنا مثل
هذا.
قوله تعالى: (فاضربوا فوق الأعناق) في المخاطب بهذا قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة. قال ابن الأنباري: لم تعلم الملائكة أين تقصد بالضرب من الناس،
فعلمهم الله تعالى ذلك.
والثاني: أنهم المؤمنون، ذكره جماعة من المفسرين. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: فاضربوا الأعناق، و " فوق " صلة، وهذا قول عطية، والضحاك، والأخفش، وابن
قتيبة، وقال أبو عبيدة: " فوق " بمعنى " على "، تقول: ضربته فوق الرأس، وضربته على الرأس.
والثاني: اضربوا الرؤوس لأنها فوق الأعناق، وبه قال عكرمة.
وفي المراد بالبنان ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الأطراف، قاله ابن عباس، والضحاك، وقال الفراء: علمهم الضرب، فقال:
اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل. وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة: البنان: أطراف الأصابع. قال ابن
الأنباري: واكتفى بهذا من جملة اليد والرجل.
والثاني: أنه كل مفصل، قاله عطية، والسدي.
والثالث: أنه الأصابع وغيرها من جميع الأعضاء، والمعنى: أنه أباحهم قتلهم بكل نوع، هذا
قول الزجاج. قال: واشتقاق البنان من قولهم: أبن بالمكان: إذا أقام به، فالبنان به يعتمل كل ما
يكون للإقامة والحياة.
قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله) " ذلك " إشارة إلى الضرب، و " شاقوا " بمعنى:
جانبوا، فصاروا في شق غير شق المؤمنين.
قوله تعالى: (دلكم فذوقوه) خطاب للمشركين، والمعنى: ذوقوا هذا في عاجل الدنيا. وفي
فتح " أن " قولان:
أحدهما: بإضمار فعل، تقديره: ذلكم فذوقوه واعلموا أن للكافرين.
والثاني: أن يكون المعنى: ذلك بأن للكافرين عذاب النار. فإذا ألقيت الباء، نصبت. وإن
شئت، جعلت " أن " في موضع رفع، يريد: ذلكم فذوقوه، وذلكم أن للكافرين عذاب النار، هذا
224

معنى قول الفراء.
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15) ومن يولهم
يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم
وبئس المصير (16)
قوله تعالى: (لقيتم الذين كفروا زحفا) الزحف: جماعة يزحفون إلى عدوهم، قاله الليث.
والتزاحف: التداني والتقارب، قال الأعشى:
لمن الظعائن سيرهن تزحف
قال الزجاج: ومعنى الكلام: إذا واقفتموهم للقتال فلا تدبروا (ومن يولهم) يوم حربهم
(دبره) إلا أن يتحرف ليقاتل، أو يتحيز إلى فئة، ف‍ " متحرفا " و " متحيزا " منصوبان على
الحال. ويجوز أن يكون نصبهما على الاستثناء، فيكون المعنى: إلا رجلا متحرفا أو متحيزا.
وأصل متحيز: متحيوز، فأدغمت الياء في الواو.
قوله تعالى: (ومأواهم جهنم) أي: مرجعه إليها، ولا يدل ذلك على التخليد.
فصل
اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هذه خاصة في أهل بدر، وهو مروي عن ابن
عباس، وأبي سعيد الخدري، والحسن، وابن جبير، وقتادة، والضحاك. وقال آخرون: هي على
عمومها في كل منهزم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. وقال آخرون هي على عمومها، غير أنها
نسخت بقوله [تعالى]: (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) فلس للمسلمين أن يفروا من
مثليهم، وبه قال عطاء بن أبي رباح. وروى أبو طالب عن أحمد أنه سئل عن الفراء من الزحف،
فقال: لا يفر رجل من رجلين، فإن كانوا ثلاثة، فلا بأس. وقد نقل نحو هذا عن ابن عباس، وقال
محمد بن الحسن: إذا بلغ الجيش اثني عشر ألفا، فليس لهم أن يفروا من عدوهم، وإن كثر
عددهم. ونقل نحو هذا عن مالك، ووجهه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما هزم قوم إذا بلغوا
اثني عشر ألفا من قلة " إذا صبروا وصدقوا.
225

فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين
منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم (17) ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين (18)
قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) وقرأ ابن عامر، وأهل الكوفة إلا عاصما " ولكن
الله قتلهم " " ولكن الله رمى " بتخفيف النون ورفع اسم الله فيهما. وسبب نزول هذا الكلام أن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجعوا عن بدر جعلوا يقولون: قتلنا وقتلنا، هذا معنى قول مجاهد.
فأما قوله [تعالى]: (وما رميت إذ رميت) ففي سبب نزوله ثلاثة أقوال:
أحدها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: ناولني كفا من حصباء، فناوله، فرمى به في وجوه القوم،
فما بقي منهم أحد إلا وقعت في عينه حصاة ". وقيل: أخذ قبضة من تراب، فرمى بها، وقال:
" شاهت الوجوه "، فما بقي مشرك إلا شغل بعينه يعالج التراب الذي فيها، فنزلت (وما رميت إذ
رميت ولكن الله رمى) وذلك يوم بدر، هذا قول الأكثرين. وقال ابن الأنباري: وتأويل شاهت:
قبحت، يقال: شاه وجهه يشوه شوهد وشوهة، ويقال: رجل أشوه، وامرأة شوهاء: إذا كانا قبيحين.
والثاني: أن أبي بن خلف أقبل يوم أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريده، فاعترض له رجال من المؤمنين،
فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلوا سبيله، وطعنه النبي صلى الله عليه وسلم بحربته، فسقط أبي عن فرسه، ولم يخرج من
طعنته دم، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور، فقالوا: إنما هو خدش، فقال: والذي نفسي بيده،
لو كان الذي بي بأهل الحجاز لماتوا أجمعون، فمات قبل أن يقدم مكة، فنزلت هذه الآية، رواه
سعيد بن المسيب عن أبيه.
والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى يوم خيبر بسهم، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي
الحقيق وهو على فراشه، فنزلت هذه الآية، ذكره أبو سليمان الدمشقي في آخرين.
قوله تعالى: (ولكن الله قتلهم) اختلفوا في معنى إضافة قتلهم إليه على أربعة أقوال:
أحدها: أنه قتلهم بالملائكة الذين أرسلهم.
والثاني: أنه أضاف القتل إليه لأنه تولى نصرهم.
والثالث: لأنه ساقهم إلى المؤمنين، وأمكنهم منهم.
226

والرابع: لأنه ألقى الرعب في قلوبهم، وفي قوله [تعالى]: (وما رميت إذ رميت) ثلاثة
أقوال:
أحدها: أن المعنى: وما ظفرت أنت ولا أصبت، ولكن الله أظفرك وأيدك، قاله أبو عبيدة.
والثاني: وما بلغ رميك كفا من تراب أو حصى أن تملأ عيون ذلك الجيش الكثير، إنما الله
تولى ذلك، قاله الزجاج.
والثالث: وما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: (وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا) أي: لينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والأجر.
(إن الله سميع) لدعائهم (عليم) بنياتهم.
قوله تعالى: (ذلكم) قال الزجاج: موضعه رفع، والمعنى: الأمر ذلكم. وقال غيره:
" ذلكم " إشارة إلى القتل والرمي والبلاء الحسن. (وأن الله) أي: واعلموا أن الله. والذي ذكرناه
في فتح " أن " في قوله [تعالى]: (وأن للكافرين عذاب النار) هو مذكور في فتح " أن " هذه.
قوله تعالى: (موهن) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر " موهن " بفتح الواو وتشديد الهاء
منونة " كيد " بالنصب. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم " موهن " ساكنة
الواو " كيد " بالنصب. وروى حفص عن عاصم " موهن كيد " مضاف. والموهن: المضعف،
والكيد: المكر.
إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم
فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين (19) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله
ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (20)
قوله تعالى: (إن تستفتحوا) في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استنصروا الله وسألوه الفتح، فنزلت هذه الآية، وهذا
المعنى مروي عن أبي بن كعب، وعطاء الخراساني.
والثاني: أن أبا جهل قال: اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، فنزلت
هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
227

والثالث: أن المشركين أخذوا بأستار الكعبة قبل خروجهم إلى بدر، وقالوا اللهم انصر أعلى
الجندين وأكرم القبيلتين، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
والرابع: أن المشركين قالوا: اللهم إنا لا نعرف ما جاء به محمد، فافتح بيننا وبينه بالحق،
فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة.
والخامس: أنهم قالوا بمكة: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء...)، فعذبوا يوم بدر، قاله ابن زيد فخرج من هذه الأقوال أن في المخاطبين بقوله
[تعالى]: " إن تستفتحوا " قولان:
أحدهما: أنهم المؤمنون.
والثاني: المشركون، وهو الأشهر. وفي الاستفتاح قولان:
أحدهما: أنه الاستنصار، قاله ابن عباس، والزجاج في آخرين. فإن قلنا: إنهم
المسلمون، كان المعنى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر بالملائكة، وإن قلنا: هم المشركون،
احتمل وجهين. أحدهما: إن تستنصروا فقد جاء النصر عليكم.
والثاني: إن تستنصروا لأحب الفريقين إلى الله، فقد جاءكم النصر لأحب الفريقين.
والثاني: الاستفتاح: طلب الحكم، والمعنى: إن تسألوا الحكم بينكم وبين المسلمين،
فقد جاءكم الحكم، وإلى هذا المعنى ذهب عكرمة، ومجاهد، وقتادة. فأما قوله [تعالى]:
(وإن تنتهوا فهو خير لكم) فهو خطاب للمشركين على قول الجماعة. وفي معناه قولان:
أحدهما: إن تنتهوا عن قتال محمد صلى الله عليه وسلم، والكفر، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: إن تنتهوا عن استفتاحكم، فهو خير لكم، لأنه كان عليهم، لا لهم، ذكره
الماوردي.
وفي قوله [تعالى]: (وإن تعودوا نعد) قولان:
أحدهما: وإن تعودوا إلى القتال، نعد إلى هزيمتكم، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: وإن تعودوا إلى الاستفتاح، نعد إلى الفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي.
قوله تعالى: (ولن تغني عنكم فئتكم شيئا) أي: جماعتكم وإن كثرت، (وأن الله مع
المؤمنين) بالعون والنصر. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: " وإن
228

الله " بكسر الألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: " وأن " بفتح الألف. فمن قرأ
بكسر " أن " استأنف. قال الفراء: وهو أحب إلي من فتحها. ومن فتحها، أراد: ولأن الله مع
المؤمنين.
قوله تعالى: (ولا تولوا عنه) فيه قولان:
أحدهما: لا تولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: لا تولوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأنتم تسمعون) ما نزل من القرآن، روي القولان
عن ابن عباس.
ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (21) إن شر الدواب عند الله
الصم البكم الذين لا يعقلون (22)
قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في بني عبد الدار بن قصي، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: في اليهود، قريظة والنضير، روي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: في المنافقين، قاله ابن إسحاق، والواقدي، ومقاتل وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: أنهم قالوا: سمعنا، ولم يتفكروا فيما سمعوا، فكانوا كمن لم يسمع، قاله
الزجاج.
والثاني: أنهم قالوا: سمعنا سماع من يقبل، وليسوا كذلك، حكي عن مقاتل.
قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم) اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في بني عبد الدار بن قصي، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: في المنافقين، قاله ابن إسحاق، والواقدي. والدواب: اسم كل حيوان يدب،
وقد بينا في سورة (البقرة) معنى الصم والبكم، ولم سماهم بذلك.
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23)
قوله تعالى: (ولو علم الله فيهم خيرا) فيه أربعة أقوال:
أحدها: ولو علم فيهم صدقا وإسلاما.
229

والثاني: لو علم فيهم خيرا في سابق القضاء.
والثالث: لو علم أنهم يصلحون.
والرابع: لو علم أنهم يصغون.
وفي قوله: (لأسمعهم) ثلاثة أقوال:
أحدها: لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه، قاله الزجاج.
والثاني: لرزقهم الفهم، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والثالث: لأسمعهم كلام الموتى يشهدون بنبوتك، حكاه الماوردي. وفي قوله [تعالى]:
(وهم معرضون) قولان:
أحدهما: مكذبون، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: وهم معرضون عما أسمعهم لمعاندتهم، قاله الزجاج.
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين
المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون (24)
قوله تعالى: (استجيبوا) أي: أجيبوا.
قوله تعالى: (وإذا دعاكم) يعني الرسول (لما يحييكم) وفيه ستة أقوال:
أحدها: أن الذي يحييكم: كل ما يدعو الرسول إليه، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن
عباس. وفي أفراد البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد،
فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، فقال " ألم
يقل الله: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟ " قلت: بلى، ولا أعود إن شاء الله.
والثاني: أنه الحق، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والثالث: أنه الإيمان، رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال السدي.
والرابع: أنه اتباع القرآن، قاله قتادة، وابن زيد.
والخامس: أنه الجهاد، قاله ابن إسحاق. وقال ابن قتيبة: هو الجهاد الذي يحيي دينهم
ويعليهم.
والسادس: أنه إحياء أمورهم، قاله الفراء. فيخرج في إحيائهم خمسة أقوال:
أحدها: أنه إصلاح أمورهم في الدنيا والآخرة.
230

والثاني: بقاء الذكر الجميل لهم في الدنيا، وحياة الأبد في الآخرة.
والثالث: أنه دوام نعيمهم في الآخرة.
والرابع: أنه كونهم مؤمنين، لأن الكافر كالميت.
والخامس: أنه يحييهم بعد موتهم، وهو على قول من قال: هو الجهاد، لأن الشهداء
أحياء، ولأن الجهاد يعزهم بعد ذلهم، فكأنهم صاروا به أحياء.
قوله تعالى: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) وفيه عشرة أقوال:
أحدها: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، رواه ابن أبي طلحة عن
ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.
والثاني: يحول بين المؤمن وبين معصيته، وبين الكافر وبين طاعته، رواه العوفي عن ابن
عباس، وبه قال الضحاك والفراء.
والثالث: يحول بين المرء وقلبه حتى لا يتركه يعقل، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري:
المعنى يحول بين المرء وعقله، فبادروا الأعمال، فإنكم لا تأمنون زوال العقول، فتحصلون على
ما قدمتم.
والرابع: أن المعنى: هو قريب من المرء، لا يخفى عليه شئ من سره، كقوله: (ونحن
أقرب إليه من حبل الوريد) وهذا معنى قول قتادة.
والخامس: يحول بين المرء وقلبه، فلا يستطيع إيمانا ولا كفرا إلا بإذنه، قاله السدي.
والسادس: يحول بين المرء وبين هواه، ذكره ابن قتيبة.
والسابع: يحول بين المرء وبين ما يتمنى بقلبه من طول العمر والنصر وغيره.
والثامن: يحول بين المر وقلبه بعلمه، فلا يضمر العبد شيئا في نفسه إلا والله عالم به، لا
يقدر على تغييبه عنه.
والعاشر: يحول بين ما يوقعه في قلبه من خوف أو أمن، فيأمن بعد خوفه، ويخاف بعد
أمنه، ذكر معنى هذه الأقوال ابن الأنباري.
وحكى الزجاج أنهم لما فكروا في كثرة عدوهم وقلة عددهم، فدخل الخوف قلوبهم،
أعلمهم الله تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدله بالخوف الأمن، ويبدل عدوه بالقوة الضعف،
وقد أعلمت هذه الآية أن الله تعالى هو المقلب للقلوب، المتصرف فيها.
قوله تعالى: (وأنه إليه تحشرون) أي: للجزاء على أعمالكم.
231

واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (25)
قوله تعالى: (واتقوا فتنة) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله ابن عباس، والضحاك. وقال الزبير
ابن العوام: لقد قرأناها زمانا، وما نرى أنا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها.
والثاني: أنها نزلت في رجلين من قريش، قاله أبو صالح عن ابن عباس، ولم يسمهما.
والثالث: أنها عامة، قال ابن أبي صالح عن ابن عباس: في هذه الآية، أمر الله المؤمنين
أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بالعذاب. وقال مجاهد: هذه الآية لكم أيضا.
والرابع: أنها نزلت في علي، وعمار، وطلحة، والزبير، قاله الحسن. وقال السدي:
نزلت في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجمل.
وفي الفتنة هاهنا سبعة أقوال:
أحدها: القتال.
والثاني: الضلالة.
والثالث: السكوت عن إنكار المنكر.
والرابع: الاختبار.
والخامس: الفتنة بالأموال والأولاد.
والسادس: البلاء.
والسابع: ظهور البدع. فأما قوله [تعالى]: (لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) فقال
الفراء: أمرهم، ثم نهاهم، وفيه طرف من الجزاء. وإن كان نهيا، كقوله [تعالى]: (يا أيها
النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان) أمرهم، ثم نهاهم، وفيه تأويل الجزاء. وقال
الأخفش: " لا تصيبن " ليس بجواب، وإنما هو نهي بعد نهي، ولو كان جوابا ما دخلت النون.
وذكر ابن الأنباري فيها قولين:
أحدهما: أن الكلام تأويله تأويل الخبر، إذ كان المعنى: إن لا يتقوها، تصب الذين
ظلموا، أي: لا تقع بالظالمين دون غيرهم، لكنها تقع بالصالحين والطالحين، فلما ظهر الفعل
ظهور النهي، والنهي راجع إلى معنى الأمر، إذ القائل يقول: لا تقم، يريد: دع القيام، ووقع
مع هذا جوابا للأمر، أو كالجواب له، فأكد له شبه النهي، فدخلت النون المعروف دخولها في
232

النهي وما يضارعه.
والثاني: أنها نهي محض، معناه: لا يقصدن الظالمون هذه الفتنة، فيهلكوا، فدخلت
النون لتوكيد الاستقبال، كقوله [تعالى]: " لا يحطمنكم ". وللمفسرين في معنى الكلام قولان:
أحدهما: لا تصيبن الفتنة الذين ظلموا.
والثاني: لا يصيبن عقاب الفتنة. فإن قيل: فما ذنب من لم يظلم؟ فالجواب: أنه بموافقته
للأشرار، أو بسكوته عن الإنكار، أو بتركه للفرار، استحق العقوبة، وقد قرأ علي، وابن
مسعود، وأبي بن كعب " لتصيبن الذين ظلموا " بغير ألف.
واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم
بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون (26)
قوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل) قال ابن عباس: نزلت في المهاجرين خاصة، كانت
عدتهم قليلة، وهم مقهورون في أرض مكة، يخافون أن يستلبهم المشركون. وفي المراد بالناس
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أهل مكة، قاله ابن عباس.
والثاني: فارس والروم، قاله وهب بن منبه.
والثالث: أنهم المشركون الذين حضروا بدرا، والمسلمون قليلون يومئذ، قاله قتادة.
قوله تعالى: (فآواكم) فيه قولان:
أحدهما: فآواكم إلى المدينة بالهجرة، قاله ابن عباس، والأكثرون.
والثاني: جعل لكم مأوى تسكنون فيه آمنين، ذكره الماوردي.
وفي قوله [تعالى]: (وأيديكم بنصره) قولان:
أحدهما: قواكم بالملائكة يوم بدر، قاله الجمهور.
والثاني: عضدكم بنصره في بدر وغيرها، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي قوله [تعالى]
(ورزقكم من الطيبات) قولان:
أحدهما: أنها الغنائم التي أحلها لهم، قاله السدي.
والثاني: أنها الخيرات التي مكنهم منها، ذكره الماوردي.
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (27)
233

قوله تعالى: (لا تخونوا الله والرسول) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما حاصر قريظة سألوه
أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النضير، على أن يسيروا إلى أرض الشام، فأبى أن يعطيهم
ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا، وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحا
لهم، لأن ولده وأهله كانوا عندهم، فبعثه إليهم، فقالوا: ما ترى، أننزل على حكم سعد بن
معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: إنه الذبح فلا تفعلوا، فأطاعوه، فكانت تلك خيانته، قال أبو
لبابة: فما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ونزلت هذه الآية، هذا قول ابن
عباس، والأكثرين. وروي أن أبا لبابة ربط نفسه بعد نزول هذه الآية إلى سارية من سواري
المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث سبعة أيام
كذلك، ثم تاب الله عليه، فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني،
فجاء فحله بيده، فقال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب،
وأن أنخلع من مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجزئك الثلث ".
والثاني: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " اخرجوا إليه واكتموا "، فكتب إليه رجل من المنافقين: إن محمدا يريدكم،
فخذوا حذركم، فنزلت هذه الآية، قاله جابر بن عبد الله.
والثالث: أنها نزلت في قتل عثمان بن عفان، قاله المغيرة بن شعبة.
والرابع: أن قوما كانوا يسمعون الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيفشونه حتى يبلغ المشركين،
فنزلت هذه الآية، قاله السدي. وفي خيانة الله قولان:
أحدهما: ترك فرائضه.
والثاني: معصية رسوله. وفي خيانة الرسول قولان:
أحدهما: مخالفته في السر بعد طاعته في الظاهر.
والثاني: ترك سنته.
234

وفي المراد بالأمانات ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الفرائض، قاله ابن عباس. وفي خيانتها قولان: أحدهما: تنقيصها.
والثاني: تركها
والثاني: أنها الدين، قاله ابن زيد، فيكون المعنى: لا تظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر.
والثالث: أنها عامة في خيانة كل مؤتمن، ويؤكده نزولها في ما جرى لأبي لبابة.
واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم (28) يا أيها الذين
آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيأتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل
العظيم (29)
قوله تعالى: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) قال ابن عباس: هذا خطاب لأبي
لبابة، لأنه كانت له أموال وأولاد عند بني قريظة. فأما الفتنة، فالمراد بها: الابتلاء والامتحان
الذي يظهر ما في النفس من اتباع الهوى أو تجنبه (وأن الله عنده أجر عظيم) خير من الأموال
والأولاد.
قوله تعالى: (إن تتقوا الله) أي: بترك معصيته، واجتناب الخيانة لله ورسوله.
قوله تعالى: (يجعل لكم فرقانا) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه المخرج، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك،
وابن قتيبة، والمعنى: يجعل لكم مخرجا في الدين من الضلال.
والثاني: أنه النجاة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والسدي.
والثالث: أنه النصر، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الفراء.
والرابع: أنه هدى في قلوبهم يفرقون به بين الحق والباطل، قاله ابن زيد، وابن إسحاق.
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير
الماكرين (30)
قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) هذه الآية متعلقة بقوله: (واذكروا إذ أنتم
قليل) فالمعنى: أذكر المؤمنين ما من الله به عليهم، واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا.
235

الإشارة إلى كيفية مكرهم
قال أهل التفسير: لما بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بالمدينة،
أشفقت قريش أن يعلو أمره، وقالوا: والله لكأنكم به، عليكم بالرجال، فاجتمع * جماعة من أشرافهم
ليدخلوا دار الندوة فيتشاوروا في أمره، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ كبير، فقالوا: من أنت؟
قال: أنا شيخ من أهل نجد، سمعت ما اجتمعتم له، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا من رأيي
نصحا، فقالوا: ادخل، فدخل معهم، فقالوا: انظروا في أمر هذا الرجل، فقال بعضهم:
احبسوه في وثاق، وتربصوا به ريب المنون. فقال إبليس: ما هذا برأي، يوشك أن يثب أصحابه
فيأخذوه من أيديكم. فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم. فقال: ما هذا برأي، يوشك أن
يجمع عليكم ثم يسير إليكم. فقال أبو جهل: نأخذ من كل قبيلة غلاما، ثم نعطي كل غلام سيفا
فيضربوه به ضربة رجل واحد، فيفرق دمه في القبائل، فما أظن هذا الحي من قريش يقوى على
حرب قريش كلها، فيقبلون العقل ونستريح. فقال إبليس: هذا والله الرأي. فتفرقوا عن ذلك.
وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت في
مضجعه تلك الليلة، وأمر عليا فبات في مكانه، وبات المشركون يحرسونه، فلما أصبح رسول الله
صلى الله عليه وسلم، أذن له الله في الخروج إلى المدينة، وجاء المشركون لما أصبحوا، فرأوا عليا، فقالوا: أين
صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره حتى بلغوا الجبل، فمروا بالغار، فرأوا نسج العنكبوت،
فقالوا: لو دخله لم يكن عليه نسج العنكبوت. فأما قوله [تعالى]: (ليثبتوك) فقال ابن
قتيبة: معناه: ليحبسوك. يقال: فلان مثبت وجعا: إذا لم يقدر على الحركة. وللمفسرين فيه
قولان:
أحدهما: ليثبتوك في الوثاق، قاله ابن عباس، والحسن في آخرين.
والثاني: ليثبتوك في الحبس، قاله عطاء، والسدي في آخرين. وكان القوم أرادوا أن يحبسوه
في بيت ويشدوا عليه بابه ويلقوا إليه الطعام والشراب، وقد سبق بيان المكر في (آل عمران).
وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير
الأولين (31)
قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) ذكر أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في النضر بن
الحارث بن علقمة بن كلدة، وأنه لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر قصص القرون الماضية، قال: لو
شئت لقلت مثل هذا. وفي قوله تعالى: (قد سمعنا) قولان:
236

أحدهما: قد سمعنا منك ولا نطيعك.
والثاني: قد سمعنا قبل هذا مثله، وكان النضر يختلف إلى فارس تاجرا، فيسمع العباد
يقرؤون الإنجيل. وقد بين التحدي كذب من قال: (لو نشاء لقلنا مثل هذا). وقد سبق معنى
الأساطير في (الأنعام).
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب
أليم (32)
قوله تعالى: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) اختلفوا فيمن نزلت على
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في النضر أيضا، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير،
ومجاهد، وعطاء، والسدي.
والثاني: أنها نزلت في أبي جهل، فهو القائل لهذا، قاله أنس بن مالك، وهو مخرج في
" الصحيحين ".
والثالث: أنها نزلت في قريش، قالوا هذا، ثم ندموا فقالوا: غفرانك اللهم، فأنزل الله (وما
كان الله معذبهم وهم يستغفرون) رواه أبو معشر عن يزيد بن رومان، ومحمد بن قيس. وفي المشار
إليه بقوله [تعالى]: (إن كان هذا) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه القرآن.
والثاني: كل ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بالتوحيد وغيره.
والثالث: أنه إكرام محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة من بين قريش.
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33)
قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) في المشار إليه قولان:
أحدهما: أهل مكة. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: وما كان الله ليعذبهم وأنت مقيم بين أظهرهم. قال ابن عباس: لم تعذب قرية حتى
يخرج نبيها والمؤمنون معه.
237

والثاني: وما كان الله ليعذبهم وأنت حي، قاله أبو سليمان.
والثاني: أن المشار إليهم المؤمنون، والمعنى: وما كان الله ليعذب المؤمنين بضرب من
العذاب الذي أهلك به من قبلهم وأنت حي، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
فصل
قال الحسن، وعكرمة: هذه الآية منسوخة بقوله [تعالى]: (وما لهم ألا يعذبهم الله)، وفيه
بعد، لأن النسخ لا يدخل على الأخبار. وقال ابن أبزى: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فأنزل الله عز وجل
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) فخرج إلى المدينة، فأنزل الله (وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون) وكان أولئك البقية من المسلمين بمكة يستغفرون! فلما خرجوا أنزل الله (وما لهم ألا
يعذبهم الله). وجميع أقوال المفسرين تدل على أن قوله: [تعالى]: (وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون)، كلام مبتدأ من إخبار الله عز وجل. وقد روي عن محمد بن إسحاق أنه قال: هذه الآية
من قول المشركين، قالوا: والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر، فرد الله تعالى: عليهم ذلك بقوله:
(وما لهم ألا يعذبهم الله).
قوله تعالى: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) وفي معنى هذا الكلام خمسة أقوال:
أحدها: وما كان الله معذب المشركين، وفيهم من قد سبق له أن يؤمن، رواه ابن أبي طلحة
عن ابن عباس، واختاره الزجاج.
والثاني: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون الله، فإنهم كانوا يلبون ويقولون: غفرانك، وهذا
مروي عن ابن عباس أيضا، وفيه ضعف، لأن استغفار المشرك لا أثر له في القبول.
والثالث: وما كان الله معذبهم، يعني المشركين، وهم - يعني المؤمنين الذين بينهم -
يستغفرون، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال الضحاك، وأبو مالك. قال ابن الأنباري: وصفوا بصفة
بعضهم، لأن المؤمنين بين أظهرهم، فأوقع العموم على الخصوص، كما يقال: قتل أهل المسجد
رجلا، وأخذ أهل البصرة فلانا، ولعله لم يفعل ذلك إلا رجل واحد.
والرابع: وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر [الله]، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري:
فيكون معنى تعذيبهم: إهلاكهم، فالمعنى: وما كان الله مهلكهم، وقد سبق في علمه أنه يكون لهم
أولاد يؤمنون به ويستغفرونه، فوصفهم بصفة ذراريهم، وغلبوا عليهم كما غلب بعضهم على كلهم
في الجواب الذي قبله.
والخامس: أن المعنى لو استغفروا لما عذبهم الله، ولكنهم لم يستغفروا فاستحقوا العذاب،
وهذا كما تقول العرب: ما كنت لأهينك وأنت تكرمني، يريدون: ما كنت لأهينك لو أكرمتني، فأما
إذ لست تكرمني، فإنك مستحق لإهانتي، وإلى هذا القول ذهب قتادة والسدي. قال ابن الأنباري:
238

وهو اختيار اللغويين. وذكر المفسرون في معنى هذا الاستغفار ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الاستغفار المعروف، وقد ذكرناه عن ابن عباس.
والثاني: أنه بمعنى الصلاة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، ومنصور عن مجاهد، وبه
قال الضحاك.
والثالث: أنه بمعنى الإسلام، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال عكرمة.
وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن
أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون (34)
قوله تعالى: (وما لهم ألا يعذبهم الله) هذه الآية أجازت تعذيبهم، والأولى نفت ذلك.
وهل المراد بهذا: العذاب الأول، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه هو الأول، إلا أن الأول امتنع بشيئين.
أحدهما: كون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم.
والثاني: كون المؤمنين المستغفرين بينهم، فلما وقع التمييز بالهجرة، وقع العذاب بالباقين يوم بدر،
وقيل: بل وقع بفتح مكة.
والثاني: أنهما مختلفان، وفي ذلك قولان:
أحدهما: أن العذاب الثاني قتل بعضهم يوم بدر، والأول استئصال الكل، فلم يقع الأول لما
قد علم من إيمان بعضهم، وإسلام بعض ذراريهم، ووقع الثاني.
والثاني: أن العذاب الأول عذاب الدنيا.
والثاني: أن العذاب الأول عذاب الدنيا. والثاني: عذاب الآخرة، قاله ابن عباس، فيكون المعنى: وما
كان الله معذب المشركين لاستغفارهم في الدنيا، وما لهم ألا يعذبهم الله في الآخرة.
قوله تعالى: (وهم يصدون) قال الزجاج: المعنى وهم يصدون (عن المسجد الحرام)
أولياءه. وفي هاء الكناية في قوله [تعالى]: (وما كانوا أولياءه) قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى " المسجد الحرام "، وهو قول الجمهور. قال الحسن: إن المشركين
قالوا: نحن أولياء المسجد الحرام، فرد الله عليهم بهذا.
والثاني: أنها تعود إلى الله عز وجل، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: (إن أولياؤه) أي: ما أولياؤه (إلا المتقون) للشرك والمعاصي، ولكن أكثر أهل
مكة لا يعلمون من الأولى ببيت الله.
239

وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35)
قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت) سبب نزولها أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويصفقون
ويصفرون ويضعون خدودهم بالأرض، فنزلت هذه الآية قاله ابن عمر فأما المكاء، ففيه قولان:
أحدهما: أنه الصفير، قاله ابن عمر، وابن عباس، وابن جبير، وقتادة، وأبو عبيدة، والزجاج
وابن قتيبة. قال ابن فارس: يقال مكا الطائر مكاء: إذا صفر، ويقال: مكيت يده مكي،
مقصور، أي: غلظت وخشنت، ويقال: تمكى: إذا توضأ. وأنشدوا:
كالمتمكي بدم القتيل
وسئل أبو سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء، فجمع كفيه، وجعل يصفر فيهما..
والثاني: أنه إدخال أصابعهم في أفواههم يخلطون به وبالتصدية على محمد صلى الله عليه وسلم صلاته، قاله
مجاهد، قال ابن الأنباري: أهل اللغة ينكرون أن يكون المكاء إدخال الأصابع في الأفواه، وقالوا:
لا يكون إلا الصفير. وفي التصدية قولان:
أحدهما: أنها التصفيق، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة،
والجمهور. قال ابن قتيبة: يقال صدى: إذا صفق بيديه. قال الراجز:
ضنت بخد وجلت عن خد * وأنا من غرو الهوى أصدي
الغرو: العجب، يقال: لا غرو من كذا، أي: لا عجب.
والثاني: أن التصدية: صدهم الناس عن البيت الحرام، قاله سعيد بن جبير: وقال ابن زيد:
وهو صدهم عن سبيل الله ودينه، وزعم مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في المسجد الحرام، قام
رجلان من المشركين من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران، ورجلان عن يساره فيصفقان،
فتختلط على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وقراءته، فقتلهم الله ببدر، فذلك قوله تعالى: (فذوقوا العذاب بما
كنتم تكفرون) بتوحيد الله.
فإن قيل: كيف سمى المكاء والتصدية صلاة؟
فعنه: جوابان ذكرهما ابن الأنباري.
أحدهما: أنهم جعلوا ذلك مكان الصلاة، ومشهور في كلام العرب أن يقول الرجل: زرت عبد الله،
فجعل جفائي صلتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة، قال الشاعر:
240

قلت اطعمني عميم تمرا * فكان تمري كهرة وزبرا
أي: أقام الصياح علي مقام التمر.
والثاني: أن من كان المكاء والتصدية صلاته، فلا صلاة له، كما تقول العرب: ما لفلان
عيب إلا السخاء، يريدون: من السخاء عيبه، فلا عيب له، قال الشاعر:
فتى كملت خيراته غير أنه * جواد فلا يبقى من المال باقيا
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة
ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون (36)
قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) اختلفوا فيمن نزلت على
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في المطعمين ببدر، وكانوا اثني عشر رجلا يطعمون الناس الطعام، كل
رجل يطعم يوما، وهم: عتبة وشيبة، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري، والنضر بن
الحارث، وأبو جهل، وأخوه الحارث، وحكيم بن حزام وأبي بن خلف، وزمعة بن الأسود،
والحارث بن عامر بن نوفل، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش لقتال
رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب، قاله سعيد بن جبير. وقال مجاهد: نزلت في نفقة
أبي سفيان على الكفار يوم أحد.
والثالث: أنها نزلت في أهل بدر، وبه قال الضحاك. فأما سبيل الله، فهو دين الله.
قوله تعالى: (ثم تكون عليهم حسرة) أي: تكون عاقبة نفقتهم ندامة، لأنهم لم يظفروا.
ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله
في جهنم أولئك هم الخاسرون (37)
241

قوله تعالى: (ليميز الله الخبيث من الطيب) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن
عامر " ليميز " خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي " ليميز " بالتشديد وهما لغتان: مزته وميزته وفي لام
" ليميز " قولان:
أحدهما: أنها متعلقة بقوله تعالى: (فسينفقونها) قاله ابن الأنباري.
والثاني: أنها متعلقة بقوله: (إلى جهنم يحشرون) قاله ابن جرير الطبري. وفي معنى الآية
ثلاثة أقوال:
أحدها: ليميز أهل السعادة من أهل الشقاء، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال
السدي، ومقاتل: يميز المؤمن من الكفار.
والثاني: ليميز العمل الطيب من العمل الخبيث، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: ليميز الإنفاق الطيب في سبيله، من الانفاق الخبيث في سبيل الشيطان، قاله ابن
زيد، والزجاج.
قوله تعالى: (ويجعل الخبيث بعضه على بعض) أي: يجمع بعضه فوق بعض، وهو قوله
تعالى: (فيركمه). قال الزجاج: الركم: أن يجعل بعض الشئ على بعض، يقال: ركمت
الشئ أركمه ركما، والركام: الاسم، فمن قال: المراد بالخبيث: الكفار، فإنهم في النار بعضهم
على بعض، ومن قال: أموالهم، فله في ذلك قولان:
أحدهما: أنها ألقيت في النار ليعذب بها أربابها، كما قال تعالى: (فتكوى بها جباههم).
والثاني: أنهم لما عظموها في الدنيا، أراهم هوانها بإلقائها في النار كما تلقى الشمس والقمر
في النار، ليرى من عبدهما ذلهما.
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين (38)
قوله تعالى: (قل للذين كفروا) نزلت في أبي سفيان وأصحابه، قاله أبو صالح عن ابن
عباس. وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: إن ينتهوا عن المحاربة يغفر لهم ما قد سلف من حربهم، فلا يؤاخذون به، وإن
يعودوا إلى المحاربة، فقد مضت سنة الأولين في نصر الله أولياءه، وقيل: في قتل من قتل يوم بدر
وأسر.
والثاني: إن ينتهوا عن الكفر، يغفر لهم ما قد سلف من الإثم، وإن يعودوا إليه، فقد مضت
سنة الأولين من الأمم السالفة حين أخذوا بالعذاب المستأصل. قال يحيى بن معاذ في هذه الآية: إن
242

توحيدا لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر، لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون
بصير (39)
قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي: شرك. وقال الزجاج: حتى لا يفتن الناس
فتنة كفر، ويدل عليه قوله تعالى: (ويكون الدين كله لله).
قوله تعالى: (فإن انتهوا) أي: عن الكفر والقتال، (فإن الله بما يعملون بصير) وقرأ يعقوب
إلا روحا " بما تعملون " بالتاء.
وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير (40)
قوله تعالى: (وإن تولوا) أي: أعرضوا عن الإيمان وعادوا إلى القتال (فاعلموا أن الله
مولاكم) أي: وليكم وناصركم. قال ابن قتيبة: (نعم المولى) أي: نعم الولي (ونعم النصير)
أي: الناصر، مثل قدير وقادر، وسميع وسامع.
واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى
الجمعان والله على كل شئ قدير (41)
قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شئ) اختلفوا، هل الغنيمة والفئ بمعنى واحد، أم
يختلفان؟ على قولين:
أحدهما: أنهما يختلفان، ثم في ذلك قولان:
أحدهما: أن الغنيمة ما طهر عليه من أموال المشركين، والفئ: ما ظهر عليه من الأرضين،
قاله عطاء بن السائب.
والثاني: أن الغنيمة ما أخذ عنوة، والفئ: ما أخذ عن صلح، قاله سفيان الثوري. وقيل: بل
الفئ: ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، كالعشور والجزية، وأموال المهادنة والصلح، وما
هربوا عنه.
والثاني: أنهما واحد، وهما: كل ما نيل من المشركين، ذكره الماوردي: وقال الزجاج:
243

الأموال ثلاثة أصناف، فما صار إلى المسلمين من المشركين في حال الحرب، فقد سماه الله تعالى:
أنفالا وغنائم، وما صار من المشركين من خراج أو جزية مما لم يؤخذ في الحرب، فقد سماه:
فيئا، وما خرج من أموال المسلمين، كالزكاة، والنذر، والقرب، سماه: صدقة. وأما قوله [تعالى]:
(من شئ) فالمراد به: كل ما وقع عليه اسم شئ. قال مجاهد: المخيط من الشئ.
قوله تعالى: (فإن لله خمسه) وروى عبد الوارث: " خمسه " بسكون الميم. وفي المراد
بالكلام قولان:
أحدهما: أن نصيب الله مستحق يصرف إلى بيته. قال أبو العالية: كان يجاء بالغنيمة فيقسمها
رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم، فيقسم أربعة بين الناس، ثم يجعل من السهم الخامس للكعبة،
وهذا مما انفرد به أبو العالية فيما يقال.
والثاني: أن ذكر الله هاهنا لأحد وجهين.
أحدهما: لأنه المتحكم فيه، والمالك له، والمعنى: فإن للرسول خمسه ولذي القربى، كقوله
تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول).
والثاني: أن يكون المعنى: إن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله تعالى، وهذا قول
الجمهور. فعلى هذا تكون الواو زائدة، كقوله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه) المعنى: ناديناه،
ومثله كثير.
فصل
أجمع العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة لأهل الحرب خاصة، فأما الخمس الخامس،
فكيف يقسم؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يقسم منه لله وللرسول ولمن ذكر في الآية. وقد ذكرنا أن هذا مما انفرد به أبو
العالية، وهو يقتضي أن يقسم على ستة أسهم.
والثاني: أنه مقسوم على خمسة أسهم: سهم للرسول، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى
وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، على ظاهر الآية، وبه قال الجمهور.
والثالث: أنه يقسم على أربعة أسهم. فسهم الله عز وجل وسهم رسوله عائد على ذوي
القربى، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يأخذ منه شيئا، وهذا المعنى رواه ابن أبي طلحة عن ابن
عباس.
244

فصل
فأما سهم الرسول [صلى الله عليه وسلم]، فإنه كان يصنع فيه ما بينا. وهل سقط بموته، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: لم يسقط بموته، وبه قال أحمد والشافعي في آخرين. وفيما يصنع به قولان:
أحدهما: أنه للخليفة بعده، قاله قتادة.
والثاني: أنه يصرف في المصالح، وبه قال أحمد والشافعي.
والثاني: أنه يسقط بموته كما يسقط الصفي، فيرجع إلى جملة الغنيمة، وبه قال أبو حنيفة،
وأما ذوو القربى، ففيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم جميع قريش. قال ابن عباس: كنا نقول: نحن هم، فأبى علينا قومنا،
وقالوا: قريش كلها ذوو قربى.
والثاني: بنو هاشم، وبنو المطلب، وبه قال أحمد، والشافعي.
والثالث: أنهم بنو هاشم فقط، قاله أبو حنفية. وبماذا يستحقون؟ فيه قولان:
أحدهما: بالقرابة، وإن كانوا أغنياء، وبه قال أحمد، والشافعي.
والثاني: بالفقر، لا بالاسم، وبه قال أبو حنيفة. وقد سبق في (البقرة) معنى اليتامى والمساكين
وابن السبيل. وينبغي أن تعتبر في اليتيم أربعة أوصاف: موت الأب، وإن كانت الأم باقية. والصغر،
لقوله [عليه السلام]: " لا يتم بعد حلم " والإسلام، لأنه مال للمسلمين. والحاجة، لأنه معد
للمصالح.
قوله تعالى: (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) هو يوم بدر، فرق فيه بين الحق والباطل
بنصر المؤمنين. والذي أنزل عليه يومئذ قوله [تعالى]: (يسألونك عن الأنفال) نزلت حين اختلفوا
فيها. فالمعنى: إن كنتم آمنتم بذلك، فاصدروا عن أمر الرسول في هذا أيضا.
إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم
لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى
245

من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم (42)
قوله تعالى: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " بالعدوة " و " العدوة " العين
فيهما مكسورة. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بضم العين فيهما. قال
الأخفش: لم يسمع من العرب إلا الكسر. وقال ثعلب: بل الضم أكثر اللغتين. قال ابن السكيت:
عدوة الوادي وعدوته: جانبه، والجمع: عدى وعدى. والدنيا: تأنيث الأدنى، وضدها: القصوى،
وهي تأنيث الأقصى، وما كان من النعوت على " فعلى " من ذوات الواو، فإن العرب تحوله إلى الياء،
نحو: الدنيا، من: دنوت، والعلى، ا من: علوت، لأنهم يستثقلون الواو مع ضم الأول، وليس في
هذا اختلاف، إلا أن أهل الحجاز قالوا: القصوى، فأظهروا الواو، وهو نادر، وغيرهم يقول:
القصيا. قال المفسرون: إذ أنتم بشفير الوادي الأدنى من المدينة، وعدوكم بشفيره الأقصى إلى
مكة، وكان الجمعان قد نزلا وادي بدر على هذه الصفة، والركب: أبو سفيان وأصحابه. قال
الزجاج: من نصب " أسفل " أراد: والركب مكانا أسفل منكم، ويجوز الرفع على معنى: والركب
أشد تسفلا منكم. قال قتادة وكان المسلمون أعلى الوادي، والمشركون أسفله.
وفي قوله: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) قولان:
أحدهما: لو تواعدتم، ثم بلغكم كثرتهم، لتأخرتم عن الميعاد، قاله ابن إسحاق..
والثاني: لو تواعدتم على الاجتماع في المكان الذي اجتمعتم فيه من عدوتي وادي بدر
لاختلفتم في الميعاد، قاله أبو سليمان. وقال الماوردي: كانت تقع الزيادة والنقصان، أو التقدم
والتأخر من غير قصد لذلك.
قوله تعالى: (ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) وهو إعزاز الإسلام، وإذلال الشرك.
قوله تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة) وروى خلف عن يحيى: " ليهلك " بضم الياء وفتح اللام.
قوله تعالى: (ويحيى من حي عن بينة) قرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " من
حي " بياء واحدة مشددة، وهذه رواية حفص عن عاصم، وقنبل عن ابن كثير. وروى شبل عن ابن
كثير، وأبو بكر عن عاصم: " حيي " بياءين الأولى مكسورة، والثانية مفتوحة، وهي قراءة نافع. فمن
قرأ بياءين، بين ولم يدغم. ومن أدغم ياء " حيي " فلاجتماع حرفين من جنس واحد. وفي معنى
الكلام قولان:
أحدهما: ليقتل من قتل من المشركين عن حجة، ويبقى من بقي منهم عن حجة.
والثاني: ليكفر من كفر بعد حجة، ويؤمن من آمن عن حجة.
246

إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله
سلم إنه عليم بذات الصدور (43)
قوله تعالى: (إذا يريكهم الله في منامك قليلا) فيه قولان:
أحدهما: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى عسكر المشركين في المنام قبل لقائهم في قلة، قاله أبو صالح
عن ابن عباس. قال مجاهد: لما أخبر أصحابه بأنه رآهم في المنام قليلا، كان ذلك تثبيتا لهم.
قال أبو سليمان الدمشقي: والكلام متعلق. بما قبله، فالمعنى: وإن الله لسميع لما يقوله أصحابك،
عليم بما يضمرونه، إذ حدثتهم بما رأيت في منامك.
والثاني: إذ يريكهم الله بعينك التي تنام بها، قاله الحسن. قال الزجاج: وكثير من
النحويين يذهبون إلى هذا المذهب. ومعناه عندهم: إذ يريكهم الله في موضع منامك، أي:
بعينك، ثم حذف الموضع، وأقام المنام مقامه.
قوله تعالى: (لفشلتم) أي: لجبنتم وتأخرتم عن حربهم. وقال مجاهد: لفشل أصحابك،
ولرأوا ذلك في وجهك.
قوله تعالى: (ولتنازعتم في الأمر) أي: لاختلفتم في حربهم، فكان ذلك من دواعي
هزيمتكم، (ولكن الله سلم) من المخالفة والفشل.
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان
مفعولا وإلى الله ترجع الأمور (44)
قوله تعالى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) قال مقاتل: صدق الله رؤيا رسوله
التي أخبر بها المؤمنين عن قلة عدوهم قبل لقائهم، بأن قللهم وقت اللقاء في أعينهم. وقال ابن
مسعود: لقد قلوا في أعيننا، حتى قلت لرجل إلى جانبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، حتى
أخذنا رجلا منهم، فسألناه، فقال: كنا ألفا. قال أبو صالح عن ابن عباس: استقل المسلمون
المشركين، والمشركون المسلمين، فاجترأ بعضهم على بعض.
فإن قيل: ما فائدة تكرير الرؤية هاهنا. وقد ذكرت في قوله [تعالى]: (إذ يريكهم الله)؟ فعنه
جوابان:
247

أحدهما: أن الأولى كانت في المنام، والثانية في اليقظة.
والثاني: أن الأولى للنبي [صلى الله عليه وسلم] خاصة، والثانية له ولأصحابه، فإن قيل: تكثير المؤمنين في
أعين الكافرين أولى، لمكان إعزازهم، فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنهم لو كثروا في أعينهم، لم يقدموا عليهم، فلم يكن قتال، والقتال سبب النصر،
فقللهم لذلك.
والثاني: أنه قللهم لئلا يتأهب المشركون كل التأهب، فإذا تحقق القتال، وجدهم المسلمون غير
مستعدين، فظفروا بهم.
والثالث: أنه قللهم ليحمل الأعداء عليهم في كثرتهم، فيغلبهم المسلمون، فيكون ذلك آية
للمشركين ومنبها على نصرة الحق.
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (45) وأطيعوا
الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين (46)
قوله تعالى: (إذا لقيتم فئة فاثبتوا) الفئة: الجماعة. (واذكروا الله كثيرا) فيه قولان:
أحدهما: أنه الدعاء والنصر.
والثاني: ذكر الله على الإطلاق.
قوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا) قد سبق ذكر التنازع والفشل آنفا.
قوله تعالى: (وتذهب ريحكم) وروى أبان: " ويذهب " بالياء والجزم. وفيه أربعة أقوال:
أحدها: تذهب شدتكم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال السدي: حدتكم وجدكم. وقال
الزجاج: صولتكم وقوتكم.
والثاني: يذهب نصركم، قاله مجاهد، وقتادة.
والثالث: تتقطع دولتكم، قاله أبو عبيدة. وقال ابن قتيبة: يقال: هبت له ريح النصر: إذا
كانت له الدولة. ويقال: له الريح اليوم، أي: الدولة.
والرابع: أنها ريح حقيقة، ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله فتضرب وجوه العدو، ومنه
قوله عليه السلام: " نصرت بالصبا "، وأهلكت عاد بالدبور " وهذا قول ابن زيد، ومقاتل.
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله
248

بما يعملون محيط (47)
قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا) قال المفسرون: هم أبو جهل ومن
خرج معه من مكة، خرجوا ليدفعوا عن عيرهم التي كانت مع أبي سفيان، ومعهم القيان والمعازف،
وهم يشربون الخمور. فلما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز ما معه، كتب إليهم: إني قد أحرزت
أموالكم فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نفعل حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا، وننحر الجزر، ونطعم
الطعام، ونسقى الخمور، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابونا. فساروا إلى بدر، فكانت الوقعة،
فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فأما البطر، فهو الطغيان في
النعم، وترك شكرها. والرياء: العمل من أجل رؤية الناس. وسبيل الله هاهنا: دينه.
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني حار
لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى مالا ترون
إني أخاف الله والله شديد العقاب (48)
قوله تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) قال عروة بن الزبير: لما أجمعت قريش المسير
إلى بدر، ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك
المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: (لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار
لكم) من أن تأتيكم كنانة بشئ تكرهونه، فخرجوا سراعا. وفي المراد بأعمالهم هاهنا ثلاثة
أقوال:
أحدها: شركهم.
والثاني: مسيرهم إلى بدر.
والثالث: قتالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: (فلما تراءت الفئتان) أي: صارتا بحيث رأت إحداهما الأخرى. وفي المراد
بالفئتين قولان:
أحدهما: فئة المسلمين، وفئة المشركين، وهو قول الجمهور.
والثاني: فئة المسلمين، وفئة الملائكة، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (نكص على عقبيه) قال أبو عبيدة: رجع من حيث جاء. وقال ابن قتيبة: رجع
249

القهقري. قال ابن السائب: كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة، آخذا بيد الحارث
ابن هشام، فرأى الملائكة فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: أفرارا من غير قتال؟ فقال: (إني
أرى مالا ترون): فلما هزم المشركون، قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغه ذلك، فقال: والله ما
شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. قال قتادة: صدق عدو الله في قوله: (إني أرى
مالا ترون)، ذكر لنا أنه رأى جبريل ومعه الملائكة، فعلم أنه لا يد له بالملائكة، وكذب عدو الله
في قوله: (إني أخاف الله)، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له بهم. وقال
عطاء: معناه: إني أخاف الله أن يهلكني. وقال ابن الأنباري: لما رأى نزول الملائكة، خاف أن
تكون القيامة، فيكون انتهاء إنظاره، فيقع به العذاب. ومعنى " نكص " رجع هاربا بخزي وذل.
واختلفوا في قوله [تعالى]: (والله شديد العقاب) هل هو ابتداء كلام، أو تمام الحكاية عن إبليس،
على قولين.
إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن
الله عزيز حكيم (49)
قوله تعالى: (إذ يقول المنافقون) قال ابن عباس: هم قوم من أهل المدينة من الأوس
والخزرج. فأما الذين في قلوبهم مرض، ففيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: انهم قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام، بمكة، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر كرها،
فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين، ارتابوا ونافقوا، وقالوا: (غر هؤلاء دينهم)، قاله أبو
صالح عن ابن عباس، وإليه ذهب الشعبي في آخرين. وعدهم مقاتل، فقال: كانوا سبعة: قيس بن
الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة، وعلي بن أمية بن خلف،
والعاص بن منبه بن الحجاج، والوليد بن الوليد بن المغيرة، والوليد بن عتبة بن ربيعة.
والثاني: أنهم المشركون، لما رأوا قلة المسلمين، قالوا: " غر هؤلاء دينهم " رواه ابن أبي
طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن.
والثالث: أنهم قوم مرتابون، لم يظهروا عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره الماوردي. والمرض هاهنا:
الشك، والإشارة بقوله [تعالى]: " هؤلاء " إلى المسلمين، وإنما قالوا هذا، لأنهم رأوا قلة
المسلمين، فلم يشكوا في أن قريشا تغلبهم.
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب
الحريق (50)
250

قوله تعالى: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) قرأ الجمهور " يتوفى " بالياء. وقرأ ابن
عامر " تتوفى " بتاءين. قال المفسرون: نزلت في الرهط الذين قالوا: " غر هؤلاء دينهم ". وفي المراد
بالملائكة ثلاثة أقوال:
أحدها: ملك الموت وحده، قاله مقاتل.
والثاني: ملائكة العذاب، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والثالث: الملائكة الذين قاتلوا يوم بدر، ذكره الماوردي. وفي قوله [تعالى]: (يضربون
وجوههم وأدبارهم) أربعة أقوال:
أحدها: يضربون وجوههم ببدر لما قاتلوا، وأدبارهم لما انهزموا.
والثاني: أنهم جاؤوهم من بين أيديهم ومن خلفهم، فالذين أمامهم ضربوا وجوههم، والذين
وراءهم ضربوا أدبارهم.
والثالث: يضربون وجوههم يوم القيامة إذا لقوهم، وأدبارهم إذا ساقوهم إلى النار.
والرابع: أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت بسياط من نار. وهل المراد نفس
الوجوه والأدبار، أم المراد ما أقبل من أبدانهم وأدبر؟ فيه قولان:
وفي قوله [تعالى] (وذوقوا عذاب الحريق) قولان:
أحدهما: أنه في الدنيا، وفيه إضمار " يقولون "، فالمعنى: يضربون ويقولون، كقوله
[تعالى]. (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا) أي: ويقولان. قال النابغة:
كأنك من جمال بني أقيش * يقعقع خلف رجليه بشن
والمعنى: كأنك جمل من جمال بني أقيش، هذا قول الفراء وأبي عبيدة.
والثاني: أن الضرب لهم في الدنيا، فإذا وردوا يوم القيامة إلى النار، قال خزنتها: ذوقوا عذاب
الحريق، هذا قول مقاتل.
ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (51)
قوله تعالى: (وذلك بما قدمت أيديكم) أي: بما كسبتم من قبائح أعمالكم. (وأن الله ليس
بظلام للعبيد) لا يظلم عباده بعقوبتهم على الكفر، وإن كان كفرهم بقضائه، لأنه مالك، فله
التصرف في ملكه كما شاء فيستحيل نسبة الظلم إليه.
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي
251

شديد العقاب (52)
قوله تعالى: (كدأب آل فرعون) أي: كعادتهم. والمعنى: كذب هؤلاء كما كذب أولئك،
فنزل بهم العذاب كما نزل بأولئك. قال ابن عباس: أيقن آل فرعون أن موسى نبي الله وكذبوه، فكذلك هؤلاء في
حق محمد صلى الله عليه وسلم.
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله
سميع عليم (53)
قوله تعالى: (ذلك بأن الله) أي: ذلك الأخذ والعقاب بأن الله (لم يك مغيرا نعمة أنعمها
على قوم حتى يغيروا) إلى بالكفران وترك الشكر. قال مقاتل: والمراد بالقوم هاهنا أهل مكة، أطعمهم
من جوع وآمنهم من خوف، ثم بعث فيهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فلم يعرفوا المنعم عليهم، فغير الله ما
بهم. وقال السدي: كذبوا بمحمد، فنقله الله إلى الأنصار. قال أبو سليمان الخطابي: والقوي
يكون بمعنى القادر، فمن قوي على شئ فقد قدر عليه، وقد يكون معناه: التام القوة الذي لا
يستولي عليه العجز في حال، والمخلوق، وإن وصف بالقوة، فقوته متناهية، وعن بعض الأمور
قاصرة.
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم
وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين (54)
قوله تعالى: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم) أي: كذب أهل مكة بمحمد والقرآن، كما
كذب آل فرعون بموسى والتوراة، وكذب من قبلهم بأنبيائهم. قال مكي بن أبي طالب: الكاف من
" كدأب " في موضع نصب، نعت لمحذوف تقديره: غيرنا بهم لما غيروا تغييرا مثل عادتنا في آل
فرعون، ومثلها الآية الأولى، إلا أن الأولى للعادة في العذاب، تقديره: فعلنا بهم ذلك فعلا مثل
عادتنا في آل فرعون.
قوله تعالى: (فأهلكناهم) يعني الأمم المتقدمة، بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالريح،
فكذلك أهلكنا كفار مكة ببدر. وقال بعضهم: يعني بقوله: " فأهلكناهم " الذين أهلكوا ببدر.
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون (55)
قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت
252

في بني قريظة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه.
الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون (56)
قوله تعالى: (الذين عاهدت منهم) في " من " أربعة أقوال:
أحدها: أنها صلة، والمعنى: الذين عاهدتهم.
والثاني: أنها للتبعيض، فالمعنى: إن شر الدواب الكفار. وشرهم الذين عاهدت ونقضوا
والثالث: أنها بمعنى " مع "، والمعنى: عاهدت معهم.
والرابع: أنها دخلت، لأن العهد أخذ منهم.
قوله تعالى: (ثم ينقضون عهدهم في كل مرة) أي: كلما عاهدتهم نقضوا. وفي قوله
[تعالى]: (وهم لا يتقون) قولان:
أحدهما: لا يتقون نقض العهد.
والثاني: لا يتقون الله في نقض العهد. قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاهد يهود
قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه، فنقضوا العهد وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح، ثم قالوا:
نسينا وأخطأنا، ثم عاهدوه الثانية، فنقضوا ومالؤوا الكفار يوم الخندق، وكتب كعب بن الأشرف إلى
مكة يوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون (57)
قوله تعالى: (فإما تثقفنهم) قال أبو عبيدة: مجازه: فإن تثقفنهم. فعلى قوله، تكون " ما "
زائدة. وقد سبق بيان " فإما " في (البقرة). قال ابن قتيبة: فمعنى " تثقفنهم " تظفر بهم. (فشرد بهم
من خلفهم) أي: افعل بهم فعلا من العقوبة والتنكيل يتفرق به من وراءهم من أعدائك. قال:
ويقال: شرد بهم، أي: سمع بهم، بلغة قريش. قال الشاعر:
أطوف في الأباطح كل يوم * مخافة أو أن يشرد بي حكيم
وقال ابن عباس نكل بهم تنكيلا يشرد غيرهم من ناقضي العهد، لعلهم يذكرون النكال فلا
ينقضون العهد.
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58)
قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة) قال المفسرون: الخوف هاهنا بمعنى العلم،
والمعنى: إن علمت من قوم قد عاهدتهم خيانة، وهي نقض عهد. وقال مجاهد: نزلت في بني
قريظة.
253

وفي قوله [تعالى]: (فانبذ إليهم على سواء) أربعة أقوال:
أحدها: فألق إليهم نقضك العهد لتكون وإياهم في العلم بالنقض سواء، هذا قول الأكثرين،
واختاره الفراء، وابن قتيبة، وأبو عبيدة.
والثاني: فانبذ إليهم جهرا غير سر، ذكره الفراء أيضا في آخرين.
والثالث: فانبذ إليهم على مهل، قاله الوليد بن مسلم.
والرابع: فانبذ إليهم على عدل من غير حيف، وأنشدوا:
فاضرب وجوه الغدر الأعداء * حتى عبد يجيبوك إلى السواء
ذكره أبو سليمان الدمشقي.
ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون (59)
قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي،
وأبو بكر عن عاصم " ولا تحسبن " بالتاء وكسر السين، إلا أن عاصما فتح السين. وقرأ ابن عامر،
وحمزة، وحفص عن عاصم: بالياء وفتح السين، وفي الكافرين هاهنا قولان:
أحدهما: جميع الكفار، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنهم الذين انهزموا يوم بدر، ذكره محمد بن القاسم النحوي وغيره. و " سبقوا " بمعنى
فاتوا. قال ابن الأنباري: وذلك أنهم أشفقوا من هلكة تنزل بهم في بعض الأوقات، فلما سلموا
منها، قيل: لا تحسبن أنهم فاتونا بسلامتهم الآن، فإنهم لا يعجزونا، أي: لا يفوتونا فيما يستقبلون
من الأوقات.
قوله تعالى: (إنهم لا يعجزون) قرأ الجمهور: بكسر الألف. وقرأ ابن عامر: بفتحها، وعلى
قراءته اعتراض. لقائل أن يقول: إذا كان قد قرأ " يحسبن " بالياء، وقرأ " أنهم " بالفتح، فقد أقرهم
على أنهم لا يعجزون، ومتى علموا أنهم لا يعجزون لم يلاموا. فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال:
المعنى: " لا يحسبن الذين كفروا سبقوا " لا يحسبن أنهم يعجزون، ولا زائدة مؤكدة. وقال أبو
علي: المعنى: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا وآباءهم سبقوا، لأنهم لا يفوتون، فهم يجزون
على كفرهم.
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين
من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم
254

لا تظلمون (60)
قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) في المراد بالقوة أربعة أقوال:
أحدها: أنها الرمي، رواه عقبة بن عامر عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقال الحكم بن أبان: هي
النبل.
والثاني: ذكور الخيل، قاله عكرمة.
والثالث: السلاح، قاله السدي، وابن قتيبة.
والرابع: أنه كل ما يتقوى به على حرب العدو من آلة الجهاد.
قوله تعالى: (ومن رباط الخيل) يعني ربطها واقتناءها للغزو، وهو عام في الذكور والإناث
في قول الجمهور. وكان عكرمة يقول: المراد بقوله [تعالى]: " ومن رباط الخيل " إناثها.
قوله تعالى: (ترهبون به) روى رويس، وعبد الوارث " ترهبون " بفتح الراء وتشديد الهاء،
أي: تخيفون وترعبون به عدو الله وعدوكم، وهم مشركو مكة وكفار العرب.
قوله تعالى: (وآخرين من دونهم) أي: من دون كفار العرب. واختلفوا فيهم على خمسة
أقوال:
أحدها: أنهم الجن. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هم الجن، فإن الشيطان لا يخبل
أحدا في داره فرس عتيق ".
والثاني: أنهم بنو قريظة، قاله مجاهد.
والثالث: أهل فارس، قاله السدي.
والرابع: المنافقون، قاله ابن زيد.
والخامس: اليهود، قاله مقاتل.
* وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)
قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم) قرأ أبو بكر عن عاصم " للسلم " بكسر السين. قال
الزجاج: السلم: الصلح والمسالمة. يقال: سلم وسلم وسلم في معنى واحد، أي: إن مالوا إلى
الصلح فمل إليه. قال الفراء: إن شئت جعلت " لها " كناية عن السلم لأنها تؤنث، وإن شئت
جعلتها للفعلة، كقوله [تعالى]: (إن ربك من بعدها لغفور رحيم).
255

فإن قيل: لم قال " لها " ولم يقل: " إليها "؟
فالجواب: أن " اللام " و " إلى " تنوب كل واحدة منهما عن الأخرى. وفيمن أريد بهذه الآية
قولان:
أحدهما: المشركون، وأنها نسخت بآية السيف.
والثاني: أهل الكتاب.
فإن قيل: إنها نزلت في ترك حربهم إذ بذلوا الجزية وقاموا بشرط الذمة، فهي محكمة
وإن قيل: نزلت في موادعتهم على غير جزية، توجه النسخ لها بآية الجزية.
وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62)
وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف
بينهم إنه عزيز حكيم (63)
قوله تعالى: (وإن يريدوا) قال مقاتل: يعني يهود قريظة (أن يخدعوك) بالصلح لتكف
عنهم، حتى إذا جاء مشركو العرب، أعانوهم عليك (فإن حسبك الله). قال الزجاج: فإن الذي
يتولى كفايتك الله (هو الذي أيدك) أي: قواك. وقال مقاتل: قواك بنصره وبالمؤمنين من الأنصار
يوم بدر.
قوله تعالى: (وألف بين قلوبهم) يعني الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانت بينهم عداوة
في الجاهلية، فألف الله بينهم بالإسلام. وهذا من أعجب الآيات، لأنهم كانوا ذوي أنفة شديدة،
فلو أن رجلا لطم رجلا، لقاتلت عنه قبيلته حتى تدرك ثأره، فآل بهم الإسلام إلى أن يقتل الرجل ابنه
وأباه.
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64)
قوله تعالى: (حسبك الله ومن اتبعك) فيه قولان:
أحدهما: حسبك الله، وحسب من اتبعك، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد،
ومقاتل، والأكثرون.
والثاني: حسبك الله ومتبعوك، قاله مجاهد. وعن الشعبي كالقولين. وأجاز الفراء والزجاج
الوجهين. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أسلم مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تسعة وثلاثون، ثم
أسلم عمر فصاروا أربعين، فنزلت هذه الآية. قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا لا يحفظ، والسورة
مدنية باجماع، والقول الأول أصح.
256

يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين
وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون (65) الآن خفف
الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم
ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين (66)
قوله تعالى: (حرص المؤمنين على القتال) قال الزجاج: تأويله: حثهم. وتأويل التحريض
في اللغة: أن يحث الإنسان على الشئ حثا يعلم معه أنه حارض إن تخلف عنه. والحارض:
الذي قد قارب الهلاك.
قوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) لفظ هذا الكلام لفظ الخبر،
ومعناه الأمر، والمراد: يقاتلوا مائتين، وكان هذا فرضا في أول الأمر، ثم نسخ بقوله [تعالى]: (الآن
خفف الله عنكم) ففرض على الرجل أن يثبت لرجلين، فإن زادوا جاز له الفرار. قال مجاهد: وهذا
التشديد كان في يوم بدر. واتفق القراء على قوله (إن يكن منكم) فقرؤوا " يكن " بالياء واختلفوا في
قوله [تعالى]: (وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا)، وفي قوله [تعالى]: (فإن تكن منكم مائة صابرة) فقرأ
ابن كثير، ونافع، وابن عامر: بالتاء فيهما. وقرأهما عاصم، وحمزة، والكسائي: بالياء. وقرأ أبو عمرو
" يكن منكم مائة يغلبوا " بالياء، " فإن تكن منكم صابرة " بالتاء. قال الزجاج: من أنث، فللفظ المائة، ومن
ذكر، فلأن المائة وقعت على عدد مذكر. وقال أبو علي: من قرأ بالياء، فلأنه أريد منه المذكر، بدليل قوله
[تعالى]: " يغلبوا "، وكذلك المائة الصابرة هم رجال، فقرؤوها بالياء، لموضع التذكير. فأما أبو عمرو،
فإنه لما رأى صفة المائة مؤنثة بقوله [تعالى]: " صابرة " أنث الفعل، ولما رأى " يغلبوا " مذكرا، ذكر. ومعنى
الكلام: إن يكن منكم عشرون صابرون يثبتون عند اللقاء، يغلبوا مائتين، لأن المؤمنين يحتسبون أفعالهم،
وأهل الشرك يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، فإذا صدقهم المؤمنون القتال لم يثبتوا، وذلك
معنى قوله [تعالى]: (لا يفقهون).
قوله تعالى: (وعلم) وروى المفضل " وعلم " بضم العين " أن فيكم ضعفا " [وقرأ ابن كثير
ونافع وأبو عمرو ابن عامر والكسائي] بضم الضاد. وقرأ عاصم، وحمزة: بفتح الضاد. وكذلك
خلافهم في (الروم). قال الفراء: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم. قال الزجاج: والمعنى في القراءتين
واحد، يقال: هو الضعف والضعف، والمكث والمكث، والفقر والفقر، وفي اللغة كثير من باب فعل وفعل،
257

والمعنى واحد. وقرأ أبو جعفر " وعلم أن فيكم ضعفاء " على فعلاء. فأما قوله [تعالى]: (بإذن الله) فهو
إعلام بأن الغلبة لا تقع إلا بإرادته.
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله
يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67)
قوله تعالى: (ما كان لنبي أن تكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) روى مسلم في
أفراده من حديث عمر بن الخطاب قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون وأسر
سبعون، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا، فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة
والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى أن
يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول الله " ما ترى يا ابن الخطاب "؟ قلت: والله ما أرى ما
رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان، قريب لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل
فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه فلان فيضرب عنقه، حتى يعلم الله عز وجل أنه ليس في
قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوي رسول الله ما قال أبو بكر، ولم
يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد، غدوت إلى رسول الله، فإذا هو قاعد وأبو
بكر الصديق وهما يبكيان. فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت
بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أبكي للذي عرض علي أصحابك من
الفداء. لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة " لشجرة قريبة، فأنزل الله " ما كان لنبي أن
تكون له أسرى " إلى قوله " عظيم ".
وروي عن ابن عمر قال: لما أشار عمر بقتلهم، وفاداهم رسول الله، أنزل الله تعالى " ما
كان لنبي " إلى قوله " حلالا طيبا " فلقي النبي صلى الله عليه وسلم عمر، فقال " كاد يصيبنا في خلافك بلاء ".
فأما الأسرى، فهو جمع أسير، وقد ذكرناه في [سورة] (البقرة). والجمهور قرؤوا " أن يكون
له بالياء، لأن الأسرى مذكر. وقرأ أبو عمرو " أن تكون "، قال أبو علي: أنث على لفظ
الأسرى، لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير والرجال فهو مؤنث اللفظ. والأكثرون قرؤوا
258

" أسرى " وكذلك " لمن في أيديكم من الأسرى ". وقرأ أبو جعفر، والمفضل " أسارى " في
الموضعين، ووافقهما أبو عمرو، وأبان في الثاني. قال الزجاج: والإثخان في كل شئ: قوة
الشئ وشدته. يقال: قد أثخنه المرض: إذا اشتدت قوته عليه. والمعنى: حتى يبالغ في قتل
أعدائه. ويجوز أن يكون المعنى: حتى يتمكن في الأرض. قال المفسرون: معنى الآية. ما كان
لنبي أن يحبس كافرا قدر عليه للفداء أو المن قبل الإثخان في الأرض. وكانت غزاة بدر أول قتال
قاتله رسول الله، ولم يكن قد أثخن في الأرض بعد. (تريدون عرض الدنيا) وهو المال. وكان
أصحاب رسول الله قد فادوا يومئذ بأربعة آلاف أربعة آلاف. وفي قوله [تعالى]: (والله يريد
الآخرة) قولان:
أحدهما: يريد لكم الجنة، قاله ابن عباس.
والثاني: يريد العمل بما يوجب ثواب الآخرة، ذكره الماوردي.
فصل
وقد روي عن ابن عباس، ومجاهد في آخرين: أن هذه الآية منسوخة بقوله [تعالى]:
(فإما منا بعد وإما فداء)، وليس للنسخ وجه، لأن غزاة بدر كانت وفي المسلمين قلة، فلما
كثروا واشتد سلطانهم، نزلت الآية الأخرى، ويبين هذا قوله [تعالى]: (حتى يثخن في
الأرض).
لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)
قوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق) في معناه خمسة أقوال:
أحدها: لولا أن الله كتب في أم الكتاب أنه سيحل لكم الغنائم لمسكم فيما تعجلتم من
المغانم والفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك عذاب عظيم، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. وقال أبو هريرة: تعجل ناس من المسلمين فأصابوا الغنائم،
فنزلت الآية.
والثاني: لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب من أتى ذنبا على جهالة لعوقبتم، روى هذا
المعنى عطاء عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد. وقال ابن إسحاق: سبق أن لا أعذب إلا
بعد النهي، ولم يكن نهاهم.
والثالث: لولا ما سبق لأهل بدر أن الله لا يعذبهم، لعذبتم، قاله الحسن، وابن جبير،
وابن أبي نجيح عن مجاهد.
259

والرابع: لولا كتاب من الله سبق من أنه يغفر لمن عمل الخطايا ثم علم ما عليه فتاب، ذكره
الزجاج.
والخامس: لولا القرآن الذي اقتضى غفران الصغائر، لعذبتم، ذكره الماوردي. فيخرج في
الكتاب قولان:
أحدهما: أنه كتاب مكتوب حقيقة. ثم فيه قولان:
أحدهما: أنه ما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
والثاني: أنه القرآن.
والثاني: أنه بمعنى القضاء.
فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69) يا أيها النبي قل لمن في
أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم
والله غفور رحيم (70)
قوله تعالى: (فكلوا مما غنمتم) قال الزجاج: الفاء للجزاء. والمعنى: قد أحللت لكم
الفداء فكلوا. والحلال منصوب على الحال. قال مقاتل: إن الله غفور لما أخذتم من الغنيمة قبل
حلها، رحيم بكم إذ أحلها لكم. فجعل رسول الله عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت يوم بدر
على القبض، وقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وانطلق بالأسارى، فيهم العباس، وعقيل، ونوفل
ابن الحارث بن عبد المطلب. وكان مع العباس يومئذ عشرون أوقية من ذهب، فلم تحسب له من
فدائه، وكلف أن يفدي ابني أخيه، فأدى عنهما ثمانين أوقية من ذهب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أضعفوا
على العباس الفداء " فأخذوا منه ثمانين أوقية، وكان فداء كل أسير أربعين أوقية. فقال العباس
لرسول الله: لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفي. فقال له: " أين الذهب الذي تركته عند أم
الفضل "؟ فقال: أي الذهب؟ فقال: " إنك قلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا،
فإن حدث بي حدث، فهو لك ولولدك " فقال: " ابن أخي، من أخبرك؟ فقال: " الله أخبرني "،
فقال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قبل اليوم، وأمر ابني أخيه فأسلما.
وفيهم نزلت: (قل لمن في أيديكم من الأسارى) الآية. وروى العوفي عن ابن عباس أنها نزلت
في جميع من أسر يوم بدر. وقال ابن زيد: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجال، فقالوا: لولا أنا نخاف
هؤلاء القوم لأسلمنا، ولكنا نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فلما كان يوم بدر، قال
260

المشركون: لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستحللنا ماله، فخرج أولئك القوم، فقتلت طائفة
منهم وأسرت طائفة. فأما الذين قتلوا، فهم الذين قال الله فيهم: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي
أنفسهم). وأما الذين أسروا فقالوا: يا رسول الله أنت تعلم أنا كنا نشهد أن لا إله إلا الله وأنك
رسول الله، وإنما خرجنا مع هؤلاء خوفا منهم. فذلك قوله [تعالى]: (قل لمن في أيديكم من
الأسارى) إلى قوله [تعالى]: (عليم حكيم). فأما قوله: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا)
فمعناه إسلاما وصدقا (يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) من الفداء. وفيه قولان:
أحدهما: أكثر مما أخذ منكم.
والثاني: أحل وأطيب. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن أبي عبلة: " مما أخذ
منكم " بفتح الخاء، يشيرون إلى الله تعالى. وفي قوله [تعالى]: ويغفر لكم) قولان:
أحدهما: يغفر لكم كفركم وقتالكم رسول الله، قاله الزجاج.
والثاني: يغفر لكم خروجكم مع المشركين، قاله ابن زيد في تمام كلامه الأول.
وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم (71)
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا
أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ
حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق
والله بما تعملون بصير (72).
قوله تعالى: (وإن يريدوا خيانتك) يعني: إن أراد الأسراء خيانتك بالكفر بعد الإسلام
(فقد خانوا الله من قبل) إذ كفروا به قبل أسرهم. وقال ابن زيد: فقد خانوا بخروجهم مع
المشركين، وقد ذكرنا عنه أنها نزلت في قوم تكلموا بالإسلام. وقال مقاتل: المعنى: إن خانوك
أمكنتك منهم فقتلتهم وأسرتهم كما أمكنتك ببدر. قال الزجاج: (والله عليم) بخيانة إن خانوها،
(حكيم) في تدبيره عليهم ومجازاته إياهم.
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) يعني:
المهاجرين الذين هجروا ديارهم وأموالهم وقومهم في نصرة الدين
261

(والذين آووا ونصروا) يعني: الأنصار، آووا رسول الله، وأسكنوا المهاجرين ديارهم،
ونصروهم على أعدائهم. (أولئك بعضهم أولياء بعض) فيه قولان:
أحدهما: في النصرة.
والثاني: في الميراث.
قال المفسرون: كانوا يتوارثون بالهجرة، وكان المؤمن الذي لم يهاجر لا يرث قريبه
المهاجر، وهو معنى قوله [تعالى]: (مالكم من ولايتهم من شئ) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو،
ونافع، وابن عامر، وعاصم، والكسائي: " ولايتهم " بفتح الواو. وقرأ حمزة: بكسر الواو. قال
الزجاج: المعنى: ليس بينكم وبينهم ميراث حتى يهاجروا. ومن كسر واو الولاية، فهي بمنزلة
الإمارة، وإذا فتحت، فهي من النصرة، وقال يونس النحوي: الولاية، بالفتح، لله عز وجل،
والولاية، بالكسر، من وليت الأمر. وقال أبو عبيدة: الولاية، بالفتح، للخالق، والولاية،
للمخلوق. قال ابن الأنباري: الولاية، بالفتح، مصدر الولي، والولاية: مصدر الوالي، يقال:
ولي بين الولاية، ووال بين الولاية، فهذا هو الاختيار، ثم يصلح في ذا ما يصلح في ذا. وقال
ابن فارس: الولاية، بالفتح: النصرة، وقد تكسر. والولاية: بالكسر: السلطان.
فصل
وذهب قوم إلى أن المراد بهذه الولاية موالاة النصر والمودة. قالوا: ونسخ هذا الحكم بقوله
[تعالى]: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) فأما القائلون بأنها ولاية الميراث،
فقالوا: نسخت بقوله [تعالى]:) وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض).
قوله تعالى: (وإن استنصروكم في الدين) أي: إن استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا
فانصروهم، إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد، فلا تغدروا بأرباب العهد. وقال
بعضهم: لم يكن على المهاجر أن ينصر من لم يهاجر إلا أن يستنصره.
والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (73)
والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون
حقا لهم مغفرة ورزق كريم (74).
قوله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) فيه قولان:
262

أحدهما: في الميراث، قاله ابن عباس.
والثاني: في النصرة، قاله قتادة.
وفي قوله [تعالى]: (إلا تفعلوه) قولان:
أحدهما: أنه يرجع إلى الميراث، فالمعنى: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم، قاله ابن
عباس.
والثاني: أنه يرجع إلى التناصر. فالمعنى: إلا تتعاونوا وتتناصروا في الدين، قاله ابن
جريج. وبيانه: أنه إذا لم يتول المؤمن المؤمن توليا حقا، ويتبرأ من الكافر جدا، أدى ذلك إلى
الضلال والفساد في الدين. فإذا هجر المسلم أقاربه الكفار، ونصر المسلمين، كان ذلك أدعى
لأقاربه الكفار إلى الإسلام وترك الشرك.
قوله تعالى: (وفساد كبير) قرأ أبو هريرة، وابن سيرين، وابن السميفع: " كثير " بالثاء.
قوله تعالى: (أولئك هم المؤمنون حقا) أي: هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من
الهجرة والنصرة، بخلاف من أقام بدار الشرك. والرزق الكريم: هو الحسن، وذلك في الجنة.
والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم
أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم (75)
قوله تعالى: (والذين آمنوا من بعد) أي: من بعد المهاجرين الأولين. قال ابن عباس:
هم الذين هاجروا بعد الحديبية.
قوله تعالى: (وأولو الأرحام بعضهم أولى بعض) أي: في المواريث بالهجرة. قال ابن
عباس: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وكانوا يتوارثون بذلك الإخاء حتى نزلت هذه الآية، فتوارثوا
بالنسب.
قوله تعالى: (في كتاب الله) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اللوح المحفوظ.
والثاني: أنه القرآن - وقد بين لهم قسمة الميراث في سورة (النساء).
والثالث: أنه حكم الله، ذكره الزجاج.
263

(9) سورة التوبة مدنية
وآياتها تسع وعشرون ومائة
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1)
فصل في نزولها
هي مدنية باجماعهم، سوى الآيتين اللتين في آخرها (لقد جاءكم رسول من أنفسكم)
فإنها نزلت بمكة. روى البخاري في " صحيحه " من حديث البراء قال: آخر سورة نزلت
براءة. وقد نقل عن بعض العرب أنه سمع قارئا يقرأ هذه السورة، فقال الأعرابي: إني
لأحسب هذه من آخر ما نزل من القرآن. قيل له: ومن أين علمت؟ فقال: إني لأسمع عهودا
تنبذ، ووصايا تنفذ.
فصل
واختلفوا في أول ما نزل من (براءة) على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن أول ما نزل منها قوله [تعالى]: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة)، قاله
مجاهد.
والثاني: (انفروا خفافا وثقالا) قاله أبو الضحى، وأبو مالك.
والثالث: (إلا تنصروه)، قاله مقاتل. وهذا الخلاف إنما هو في أول ما نزل منها
بالمدينة، فإنهم قد قالوا: نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكة.
فصل
ولها تسعة أسماء:
أحدها: سورة التوبة.
264

والثاني: براءة، وهذان مشهوران بين الناس.
والثالث: سورة العذاب، قاله حذيفة.
والرابع: المقشقشة، قاله ابن عمر.
والخامس: سورة البحوث، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين، قاله المقداد بن الأسود.
والسادس: الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين، قاله ابن عباس.
والسابع: المبعثرة، لأنها بعثرت أخبار الناس، وكشفت عن سرائرهم، قاله الحارث بن
يزيد، وابن إسحاق.
والثامن: المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم، قاله قتادة.
والتاسع: الحافرة، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، قاله الزجاج.
فصل
وفي سبب امتناعهم من كتابة التسمية في أولها ثلاثة أقوال:
أحدها: رواه ابن عباس، قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى
(الأنفال) وهي من المثاني، وإلى (براءة) وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما
" بسم الله الرحمن الرحيم "؟ فقال: كان رسول الله إذا أنزل عليه الشئ يدعو بعض من يكتب،
فيقول: " ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا "، وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزل
بالمدينة، و (براءة) من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقبض رسول الله ولم يبين
لنا أنها منها، فظننا أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما: " بسم الله الرحمن
الرحيم " وذكر نحو هذا المعنى عن أبي بن كعب. قال الزجاج: والشبه الذي بينهما، أن في
(الأنفال) ذكر العهود، وفي (براءة) نقضها. وكان قتادة يقول: هما سورة واحدة.
والثاني: رواه محمد ابن الحنفية، قال: قلت لأبي: لم لم تكتبوا في (براءة) " بسم الله
الرحمن الرحيم "؟ فقال: يا بني، إن (براءة) نزلت بالسيف، وإن " بسم الله الرحمن الرحيم "
أمان. وسئل سفيان بن عيينة عن هذا، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة
نزلت في المنافقين.
والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كتب في صلح الحديبية " بسم الله الرحمن الرحيم "، لم
يقبلوها وردوها، فما ردها الله عليهم، قاله عبد العزيز بن يحيى المكي.
265

فصل
فأما سبب نزولها، فقال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهودا بنتها مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فأمره
الله تعالى بإلقاء عهودهم إليهم، فأنزل (براءة) في سنة تسع، فبعث رسول الله أبا بكر أميرا على
الموسم ليقيم للناس الحج في تلك السنة، وبعث معه صدرا من (براءة) ليقرأها على أهل
الموسم، فلما سار، دعا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عليا، فقال: " اخرج بهذه القصة من صدر (براءة) وأذن
في الناس بذلك " فخرج علي على ناقة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] العضباء حتى أدرك أبا بكر، فرجع أبو بكر
فقال: يا رسول الله، أنزل في شأني شئ؟ قال: " لا، ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني، أما ترضى
أنك كنت صاحبي في الغار، وأنك صاحبي على الحوض "؟ قال: بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر
أميرا على الحج، وسار علي ليؤذن ب‍ (براءة).
فصل
وفي عدد الآيات التي بعثها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من أول (براءة) خمسة أقوال:
أحدها: أربعون آية، قاله علي عليه السلام.
والثاني: ثلاثون آية، قاله أبو هريرة.
والثالث: عشر آيات، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والرابع: سبع آيات، رواه ابن جريج عن عطاء.
والخامس: تسع آيات، قاله مقاتل.
فصل
فإن توهم متوهم أن في أخذ (براءة) من أبي بكر، وتسليمها إلى علي، تفضيلا لعلي على
أبي بكر، فقد جهل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى العرب في ذلك على عادتهم. قال الزجاج: وقد جرت
عادة العرب في عقد عهدها ونقضها، أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها فكان. وجائز أن تقول
العرب إذا تلا عليها نقض العهد من ليس من رهط النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض
العهود، فأزاح النبي صلى الله عليه وسلم العلة بما فعل. وقال عمرو بن بحر: ليس هذا بتفضيل لعلي على أبي بكر،
وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حل العقد، وكان لا يتولى ذلك إلا السيد منهم، أو رجل من
رهطه دنيا، كأخ، أو عم، وقد كان أبو بكر في تلك الحجة الإمام، وعلي يأتم به، وأبو بكر
الخطيب، وعلي يستمع. وقال أبو هريرة: بعثني أبو بكر في تلك الحجة مع المؤذنين الذين بعثهم
يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأذن معنا علي ب‍ (براءة)
وبذلك الكلام. وقال الشعبي: بعث رسول الله عليا يؤذن بأربع كلمات: " ألا لا يحج بعد العام
مشرك، ألا ولا يطوف بالبيت عريان، ألا ولا يدخل الجنة إلا مسلم، ألا ومن كانت بينه وبين محمد
مدة فأجله إلى مدته، والله برئ من المشركين ورسوله ".
266

فصل
فأما التفسير، فقوله تعالى: (براءة) قال الفراء: هي مرفوعة بإضمار " هذه "، ومثله (سورة
أنزلناها). وقال الزجاج: يقال: برئت من الرجل والدين براءة، وبرئت من المرض، وبرأت أيضا
أبرأ برءا، وقد رووا: برأت أبرؤ بروءا. ولم نجد في ما لامه همزة: فعلت أفعل، إلا هذا الحرف.
ويقال: بريت القلم، وكل شئ نحته: أبريه بريا، غير مهموز. وقرأ أبو رجاء، ومورق، وابن يعمر:
" براءة " بالنصب. قال المفسرون: والبراءة هاهنا: قطع الموالاة، وارتفاع العصمة، وزوال الأمان.
والخطاب في قوله [تعالى]: (إلى الذين عاهدتم) لأصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، والمراد رسول
الله [صلى الله عليه وسلم]، لأنه هو الذي يتولى المعاهدة، وأصحابه راضون، فكأنهم بالرضا عاهدوا أيضا، وهذا
عام في كل من عاهد رسول الله. وقال مقاتل: هم ثلاثة أحياء من العرب: خزاعة، وبنو مدلج،
وبنو جذيمة.
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (2)
قوله تعالى: (فسيحوا في الأرض) أي: انطلقوا فيها آمنين لا يقع بكم منا مكروه.
إن قال قائل: هذه مخاطبة شاهد، والآية الأولى إخبار عن غائب، فعنه جوابان:
أحدهما: أنه جائز عند العرب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب. قال عنترة:
شطت مزار العاشقين فأصبحت * عسرا علي طلابك ابنة مخرم
هذا قول أبي عبيدة.
والثاني: أن في الكلام إضمارا، تقديره: فقل لهم: سيحوا في الأرض، أي اذهبوا فيها،
وأقبلوا، وأدبروا، وهذا قول الزجاج.
واختلفوا فيمن جعلت له هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال:
أحدها: أنها أمان لأصحاب العهد، فمن كان عهده أكثر منها، حط إليها، ومن كان عهده أقل منها،
رفع إليها، ومن لم يكن له عهد، فأجله انسلاخ المحرم خمسون ليلة، قاله ابن عباس، وقتادة،
والضحاك.
والثاني: أنها للمشركين كافة، من له عهد، ومن ليس له عهد، قاله مجاهد، والزهري،
والقرظي.
267

والثالث: أنها أجل لمن كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد آمنه أقل من أربعة أشهر، أو كان أمانه غير
محدود، فأما من لا أمان له، فهو حرب، قاله ابن إسحاق.
والرابع: أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد، فأما أرباب العهود، فهم على عهودهم إلى
حين انقضاء مددهم، قاله ابن السائب. ويؤكده ما روي أن عليا نادى يومئذ: ومن كان بينه وبين
رسول الله عهد، فعهده إلى مدته. وفي بعض الألفاظ: فأجله أربعة أشهر. واختلفوا في مدة هذه
الأربعة الأشهر على أربعة أقوال:
أحدها: أنها الأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله ابن عباس.
والثاني: أن أولها يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، قاله
مجاهد، والسدي، والقرظي.
والثالث: أنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، لأن هذه الآية نزلت في شوال، قاله
الزهري. قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا أضعف الأقوال، لأنه لو كان كذلك، لم يجز تأخير
إعلامهم به إلى ذي الحجة، إذ كان لا يلزمهم الأمر إلا بعد الإعلام.
والرابع: أن أولها العاشر من ذي القعدة، وآخرها العاشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك
السنة كان في ذلك اليوم، ثم صار في السنة الثانية في العشر من ذي الحجة، وفيها حج رسول الله
وقال: " إن الزمان قد استدار "، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (واعلموا أنكم غير معجزي الله) أي: وإن أجلتم هذه الأربعة الأشهر فلن
تفوتوا الله.
قوله تعالى: (وأن الله مخزي الكافرين) قال الزجاج: الأجود فتح " أن " على معنى:
اعلموا أن، ويجوز كسرها على الاستئناف. وهذا ضمان من الله نصرة المؤمنين على الكافرين.
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله
فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب
أليم (3)
268

قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله) أي: إعلام، ومنه أذان الصلاة. وقرأ الضحاك، وأبو
المتوكل، وعكرمة، والجحدري، وابن يعمر: " وإذن " بكسر الهمزة وقصرها ساكنة الذال من غير
ألف.
قوله تعالى: (إلى الناس) أي: للناس. يقال: هذا إعلام لك، وإليك. والناس هاهنا عام في
المؤمنين والمشركين. وفي يوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يوم عرفة، قاله عمر بن الخطاب، وابن الزبير، وأبو جحيفة، وطاووس، وعطاء.
والثاني: يوم النحر، قاله أبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن أبي أوفى،
وابن المسيب، وابن جبير، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وابن زيد، والسدي في
آخرين. وعن علي، وابن عباس، كالقولين.
والثالث: أنه أيام الحج كلها، فعبر عن الأيام باليوم، قاله سفيان الثوري. قال سفيان: كما
يقال: يوم بعاث، ويوم الجمل، ويوم صفين يراد به: أيام ذلك، لا كل حرب من هذه الحروب
دامت أياما. وعن مجاهد، كالأقوال الثلاثة.
وفي تسميته بيوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه سماه بذلك لأنه اتفق في سنة حج فيها المسلمون والمشركون، ووافق ذلك عيد
اليهود والنصارى، قاله الحسن.
والثاني: أن الحج الأكبر: هو الحج، والأصغر: هو العمرة، قاله عطاء، والشعبي.
والثالث: أن الحج الأكبر: القران، والأصغر: الإفراد، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (أن الله برئ) وقرأ الحسن، ومجاهد، وابن يعمر: (إن الله) بكسر
الهمزة. (من المشركين) أي: من عهد المشركين، فحذف المضاف. (ورسوله) رفع على
الابتداء، وخبره مضمر على معنى: ورسوله أيضا برئ. وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو رجاء،
ومجاهد، وابن يعمر، وزيد عن يعقوب: " ورسوله " بالنصب. ثم رجع إلى خطاب المشركين بقوله
[تعالى]: (فإن تبتم) أي: رجعتم عن الشرك، (وإن توليتم) عن الإيمان.
إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا
فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (4)
قوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين) قال أبو صالح عن ابن عباس: فلما قرأ
269

علي (براءة)، قالت بنو ضمرة: ونحن مثلهم أيضا؟ قال: لا، لأن الله تعالى قد استثناكم، ثم قرأ
هذه الآية. وقال مجاهد: هم قوم كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ومدة، فأمر أن يفي لهم.
قال الزجاج: معنى الكلام: وقعت البراءة من المعاهدين الناقضين للعهود، إلا الذين عاهدتم ثم لم
ينقضوكم، فليسوا داخلين في البراءة ما لم ينقضوا العهد. قال القاضي أبو يعلى: وفصل الخطاب
في هذا الباب: أنه قد كان بين رسول الله وبين جميع المشركين عهد عام، وهو أن لا يصد
أحد عن البيت، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام، فجعل الله عهدهم أربعة أشهر، وكان بينه وبين
أقوام منهم عهود إلى آجال مسماة، فأمر بالوفاء لهم، وإتمام مدتهم إذا لم يخش غدرهم.
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم
واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله
غفور رحيم (5)
قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) فيها قولان:
أحدهما: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله الأكثرون.
والثاني: أنها الأربعة الأشهر التي جعلت لهم فيها السياحة، قاله الحسن في آخرين، فعلى
هذا، سميت حرما لأن دماء المشركين حرمت فيها.
قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين) أي: من لم يكن له عهد (حيث وجدتموهم) قال ابن
عباس: في الحل والحرم والأشهر الحرم.
قوله تعالى: (وخذوهم) أي: ائسروهم، والأخيذ: الأسير. (واحصروهم) أي:
احبسوهم، والحصر: الحبس. قال ابن عباس: إن تحصنوا فاحصروهم.
قوله تعالى: (واقعدوا لهم كل مرصد) قال الأخفش: أي على كل مرصد، فألقى
" على " وأعمل الفعل، قال الشاعر:
نغالي اللحم للأضياف نيئا * ونرخصه إذا نضج القدور
المعنى: نغالي باللحم، فحذف الباء كما حذف " على ". وقال الزجاج: " كل مرصد "
ظرف، كقولك: ذهبت مذهبا، فلست تحتاج أن تقول في هذه الآية إلا ما تقوله في الظروف، مثل:
خلف، وقدام.
270

قوله تعالى: (فإن تابوا) أي: من شركهم.
في قوله [تعالى]: (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) قولان:
أحدهما: اعترفوا بذلك.
والثاني: فعلوه.
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن حكم الأسارى كان وجوب قتلهم، ثم نسخ بقوله [تعالى]: (فأما منا بعد وإما
فداء)، قاله الحسن، وعطاء في آخرين.
والثاني: بالعكس، وأنه كان الحكم في الأسارى: أنه لا يجوز قتلهم صبرا، وإنما يجوز المن
أو الفداء بقوله (تعالى] (فأما منا بعد وإما فداء) ثم نسخ بقوله [تعالى]: (فاقتلوا
المشركين)، قاله مجاهد، وقتادة.
والثالث: أن الآيتين محكمتان، والأسير إذا حصل في يد الإمام، فهو مخير، إن شاء من
عليه، وإن شاء فأداه، وإن شاء قتله صبرا، أي ذلك رأى فيه المصلحة للمسلمين فعل، هذا قول
جابر بن زيد، وعليه عامة الفقهاء وهو قول الإمام أحمد.
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم
قوم لا يعلمون (6)
قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك) قال المفسرون: وإن أحد من المشركين
الذين أمرتك بقتلهم استأمنك يبتغي أن يسمع القرآن وينظر فيما أمر به ونهي عنه، فأجره، ثم أبلغه
الموضع الذي يأمن فيه.
وفي قوله [تعالى]: (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) قولان:
أحدهما: أن المعنى: ذلك الذي أمرناك به من أن يعرفوا ويجاروا لجهلهم بالعلم.
والثاني: ذلك الذي أمرناك به من رده إلى مأمنه إذا امتنع من الإيمان، لأنهم قوم جهلة
بخطاب الله.
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد
271

الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7)
قوله تعالى: (كيف يكون للمشركين عهد) أي: لا يكون لهم ذلك، (إلا الذين عاهدتم
عند المسجد الحرام) وفيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم بنو ضمرة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم قريش، قاله ابن عباس أيضا. وقال قتادة: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي
الله زمن الحديبية، فنكثوا وظاهروا المشركين.
والثالث: أنهم خزاعة، قاله مجاهد. وذكر أهل العلم بالسير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح
سهيل بن عمرو في غزوة الحديبية، كتب بينه وبينه: " هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله
وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن
بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه من أحب أن يدخل في عهد
محمد وعقده فعل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل، وأنه من أتى محمدا منهم
بغير إذن وليه رده إليه، وأنه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم يردوه، وأن محمدا يرجع عنا عامه
هذا بأصحابه، ويدخل علينا في قابل في أصحابه، فيقيم بها ثلاثا لا يدخل علينا بسلاح، إلا سلاح
المسافر، السيوف في القرب " فوثبت خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ووثبت بنو
بكر فقالوا: نحن ندخل في عهد قريش وعقدها. ثم إن قريشا أعانت بني بكر على خزاعة بالرجال
والسلاح فبيتوا خزاعة ليلا، فقتلوا منهم عشرين رجلا. ثم إن قريشا ندمت على ما صنعت، وعلموا
أن هذا نقض للعهد والمدة التي بينهم وبين رسول الله، وخرج قوم من خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخبروه بما أصابهم، فخرج إليهم وكانت غزاة الفتح. قال أبو عبيدة: الإسلال: السرقة، والإغلال:
الخيانة. قال ابن الأعرابي: وقوله: " وأن بيننا عيبة مكفوفة " مثل، أراد إن صلحنا محكم مستوثق منه،
كأنه عيبة مشرجة. وزعم بعض المفسرين أن قوله [تعالى] (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) نسخ بقوله
[تعالى]: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم).
كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى
قلوبهم وأكثرهم فاسقون (8)
قوله تعالى: (كيف وإن يظهروا عليكم) قال الزجاج: المعنى: كيف يكون لهم عهد وإن
يظهروا عليكم، فحذف ذلك، لأنه قد سبق، قال الشاعر:
272

وخبرتماني أنما الموت بالقرى * فكيف وهذي هضبة وقليب
أي فكيف مات وليس بقرية؟ ومثله قول الحطيئة:
فكيف ولم أعلمهم خذلوكم * على معظم ولا أديمكم قدوا
أي: فكيف تلومونني على مدح قوم؟ واستغني عن ذكر ذلك، لأنه قد جرى في القصيدة ما
يدل على ما أضمر. وقوله [تعالى]: (يظهروا) يعني: يقدروا ويظفروا.
وفي قوله [تعالى]: (لا يرقبوا) ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يحفظوا، قاله ابن عباس.
والثاني: لا يخافوا، قاله السدي.
والثالث: لا يراعوا، قاله قطرب. وفي الإل خمسة أقوال:
أحدها: أنه القرابة، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والسدي، ومقاتل،
والفراء، وأنشدوا:
إن الوشاة كثير إن أطعتهم * لا يرقبون بنا إلا ولا ذمما
وقال الآخر:
لعمرك إن إلك من قريش * كإل السقب من رأل النعام
والثاني: أنه الجوار، قاله الحسن.
والثالث: أنه الله عز وجل: رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال عكرمة.
والرابع: أنه العهد، رواه خصيف عن مجاهد، وبه قال ابن زيد، وأبو عبيدة.
والخامس: أنه الحلف، قاله قتادة. وقرأ عبد الله بن عمرو، وعكرمة، وأبو رجاء، وطلحة بن
مصرف: " إيلا " بياء بعد الهمزة. وقرأ ابن السميفع، والجحدري: " ألا " بفتح الهمزة وتشديد
اللام. وفي المراد بالذمة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها العهد، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك في آخرين.
والثاني: التذمم ممن لا عهد له، قاله أبو عبيدة، وأنشد:
لا يرقبون بنا إلا ولا ذمما *
273

والثالث: الأمان، قاله اليزيدي، واستشهد بقوله: " ويسعى بذمتهم أدناهم ".
قوله تعالى: (يرضونكم بأفواههم) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يرضونكم بأفواههم في الوفاء، وتأبى قلوبهم إلا الغدر.
والثاني: يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان، وتأبى قلوبهم إلا الشرك.
والثالث: يرضونكم بأفواههم في الطاعة، وتأبى قلوبهم إلا المعصية، ذكرهن الماوردي.
قوله تعالى: (وأكثرهم فاسقون) قال ابن عباس: خارجون عن الصدق، ناكثون للعهد.
اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون (9) لا
يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون (10) فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون (11)
قوله تعالى: (اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا) في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه، قاله مجاهد.
والثاني: أنهم قوم من اليهود، قاله أبو صالح. فعلى الأول، آيات الله: حججه. وعلى
الثاني: هي آيات التوراة. والثمن القليل: ما حصلوه بدلا من الآيات. وفي وصفه بالقليل وجهان:
أحدهما: لأنه حرام، والحرام قليل.
والثاني: لأنه من عرض الدنيا الذي بقاؤه قليل. وفي قوله [تعالى]: (فصدوا عن سبيله)
ثلاثة أقوال:
أحدها: عن بيته، وذلك حين منعوا النبي بالحديبية دخول مكة.
والثاني: عن دينه بمنع الناس منه.
والثالث: عن طاعته في الوفاء بالعهد.
وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا
274

إيمان لهم لعلهم ينتهون (12)
قوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم) قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب،
والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا
العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله، فأمر رسول الله أن يسير إليهم فينصر
خزاعة، وهم الذين هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم. فأما النكث، فمعناه: النقض. والإيمان هاهنا:
العهود. والطعن في الدين: أن يعاب، وهذا يوجب قتل الذمي إذا طعن في الإسلام، لأن المأخوذ
عليه أن لا يطعن فيه.
قوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر) قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي " أئمة "
بتحقيق الهمزتين. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: بتحقيق الأولى وتليين الثانية. والمراد بأئمة
الكفر: رؤوس المشركين وقادتهم. (إنهم لا أيمان لهم) أي: لا عهود لهم صادقة، هذا على
قراءة من فتح الألف، وهم الأكثرون. وقرأ ابن عامر " لا إيمان لهم " بالكسر، وفيها وجهان
ذكرهما الزجاج.
أحدهما: أنه وصف لهم بالكفر ونفي الإيمان.
والثاني: لا أمان لهم، تقول آمنته إيمانا، والمعنى: فقد بطل أمانكم لهم بنقضهم.
وفي قوله [تعالى]: (لعلهم ينتهون) قولان:
أحدهما: عن الشرك.
والثاني: عن نقض العهود. وفي " لعل " قولان:
أحدهما: أنها بمعنى الترجي، المعنى: ليرجى منهم الانتهاء، قاله الزجاج.
والثاني: أنها بمعنى: " كي "، قاله أبو سليمان الدمشقي.
ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤكم أول مرة أتخشونهم
فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين (13) قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم
ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم
حكيم (15)
275

قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوما) قال الزجاج: هذا على وجه التوبيخ، ومعناه الحض على
قتالهم. قال المفسرون: وهذا نزل في نقض قريش عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عاهدهم بالحديبية
حيث أعانوا على خزاعة.
وفي قوله [تعالى]: (وهموا بإخراج الرسول) قولان:
أحدهما: أنهم أبو سفيان في جماعة من قريش، كانوا فيمن هم بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة.
والثاني: أنهم قوم من اليهود، غدروا برسول الله، ونقضوا عهده وهموا بمعاونة المنافقين على
إخراجه من المدينة.
قوله تعالى: (وهم بدؤوكم أول مرة) فيه قولان:
أحدهما: بدؤوكم بإعانتهم على حلفائكم، قاله ابن عباس.
والثاني: بالقتال يوم بدر، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (أتخشونهم) قال الزجاج: أتخشون أن ينالكم من قتالهم مكروه؟! فمكروه
عذاب الله أحق أن يخشى إن كنتم مصدقين بعذابه وثوابه.
قوله تعالى: (ويشف صدور قوم مؤمنين) قال ابن عباس، ومجاهد: يعني خزاعة.
قوله تعالى: (ويذهب غيظ قلوبهم) أي: كربها ووجدها بمعونة قريش بني بكر عليها.
قوله تعالى: (ويتوب الله على من يشاء) قال الزجاج: هو مستأنف، وليس بجواب
" قاتلوهم ". وفيمن عني به قولان:
أحدهما: بنو خزاعة، والمعنى: ويتوب الله على من يشاء من بني خزاعة، قاله عكرمة.
والثاني: أنه عام في المشركين كما تاب على أبي سفيان، وعكرمة، وسهيل. (والله عليم)
بنيات المؤمنين، (حكيم) فيما قضى.
أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا
رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون (16)
قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا) في المخاطب بهذا قولان:
أحدهما: أنهم المؤمنون، خوطبوا بهذا حين شق على بعضهم القتال، قاله الأكثرون.
والثاني: أنهم قوم من المنافقين كانوا يسألون رسول الله الخروج معه إلى الجهاد تعذيرا، قاله
276

ابن عباس. وإنما دخلت الميم في الاستفهام، لأنه استفهام معترض في وسط الكلام، فدخلت
لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ. قال الفراء: ولو أريد به الابتداء، لكان إما بالألف، أو ب‍
" هل "، ومعنى الكلام: أن تتركوا بغير امتحان يبين به الصادق من الكاذب. (ولما يعلم الله)
أي: ولم تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم، وقد كان يعلم ذلك غيبا، فأراد إظهار ما علم
ليجازي على العمل.
فأما الوليجة، فقال ابن قتيبة: هي البطانة من غير المسلمين، وهو أن يتخذ الرجل من
المسلمين دخيلا من المشركين وخليطا ووادا، وأصله من الولوج. قال أبو عبيدة: وكل شئ أدخلته
في شئ ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وليجة فيهم.
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت
أعمالهم وفي النار هم خالدون (17) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر
وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (18)
قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " مسجد
الله " على التوحيد، " إنما يعمر مساجد الله " على الجمع. وقرأ عاصم، ونافع، وابن عامر،
وحمزة، والكسائي على الجمع فيهما. وسبب نزولها أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر فيهم
العباس بن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله فعيروهم بالشرك، وجعل علي بن
أبي طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله وقطيعة الرحم، فقال العباس: مالكم تذكرون مساوئنا
وتكتمون محاسننا؟ فقالوا: وهل لكم من محاسن؟ قالوا: نعم، لنحن أفضل منكم أجرا، إنا لنعمر
المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل
في جماعة. وفي المراد بالعمارة قولان:
أحدهما: دخوله والجلوس فيه.
والثاني: البناء له وإصلاحه، فكلاهما محظور على الكافر. والمراد من قوله [تعالى]: (ما
كان للمشركين) أي: يجب على المسلمين منعهم من ذلك. قال الزجاج: وقوله [تعالى]:
(شاهدين) حال. المعنى: ما كانت لهم عمارته في حال إقرارهم بالكفر، (أولئك حبطت
أعمالهم) لأن كفرهم أذهب ثوابها.
277

فإن قيل: كيف يشهدون على أنفسهم بالكفر، وهم يعتقدون أنهم على الصواب، فعنه ثلاثة
أجوبة:
أحدها: أنه قول اليهودي: أنا يهودي، وقول النصراني: أنا نصراني، قاله السدي.
والثاني: أنهم ثبتوا على أنفسهم الكفر بعدولهم عن أمر النبي، وهو حق لا يخفى على مميز،
فكانوا بمنزلة من شهد على نفسه.
والثالث: أنهم آمنوا بأنبياء شهدوا لمحمد بالتصديق، وحرضوا على اتباعه، فلما آمنوا بهم
وكذبوه، دلوا على كفرهم، وجرى ذلك مجرى الشهادة على أنفسهم بالكفر، لأن الشهادة هي تبيين
وإظهار، ذكرهما ابن الأنباري.
فإن قيل: ما وجه قوله [تعالى]: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) ولم
يذكر الرسول، والإيمان لا يتم إلا به؟ فالجواب: أن فيه دليلا على الرسول، لقوله: [تعالى]:
(وأقام الصلاة) أي: الصلاة التي جاء بها الرسول، قاله الزجاج. فإن قيل: (فعسى) ترج،
وفاعل هذه الخصال مهتد بلا شك. فالجواب، أن " عسى " من الله واجبة، قاله ابن عباس. فإن
قيل: قد يعمر مساجد الله من ليس فيه هذه الصفات. فالجواب: أن المراد أنه من كان على هذه
الصفات المذكورة، كان من أهل عمارتها، وليس المراد أن من عمرها كان بهذه الصفة.
* أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر
وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين (19) الذين آمنوا
وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم
الفائزون (20) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم (21)
خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم (22)
قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج) في سبب نزولها ستة أقوال:
أحدها: رواه مسلم في " صحيحه " من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج، وقال الآخر: ما أبالي أن لا
أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم،
فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يوم الجمعة، ولكني إذا
278

صليت الجمعة دخلت واستفتيت رسول الله فيما اختلفتم فيه، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أن العباس بن عبد المطلب قال يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة
والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني فنزلت هذه الآية، رواه
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله الحرام، والقيام على السقاية، خير ممن آمن
وجاهد، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله، فنزلت هذه الآية، رواه عطية العوفي عن ابن
عباس.
والرابع: أن عليا والعباس وطلحة - يعني سادن الكعبة - افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب
البيت، بيدي مفتاحه، ولو أشاء بت فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية، والقائم عليها، ولو أشاء
بت في المسجد. وقال علي: ما أدري ما تقولون، لقد صليت ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب
الجهاد، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، والشعبي، والقرظي.
والخامس: أنهم لما أمروا بالهجرة قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة: أنا صاحب
الكعبة فلا نهاجر، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله مجاهد.
والسادس: أن عليا قال للعباس: ألا تلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألست في أفضل من الهجرة،
ألست أسقي حاج بيت الله واعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله مرة
الهمداني، وابن سيرين. قال الزجاج: ومعنى الآية: أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد
الحرام كمن آمن بالله؟ فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. قال الحسن: كان ينبذ زبيب،
فيسقون الحاج في الموسم. وقال ابن عباس: عمارة المسجد: تجميره، وتخليقه، فأخبر الله أن
أفعالهم تلك لا تنفعهم مع الشرك، وسماهم ظالمين لشركهم.
قوله تعالى: (أعظم درجة) قال الزجاج: هو منصوب على التمييز. والمعنى: أعظم من
غيرهم درجة. والفائز: الذي يظفر بأمنيته من الخير. فأما النعيم، فهو لين العيش. والمقيم:
الدائم.
279

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على
الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون (23)
قوله تعالى: (لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أنه لما أمر المسلمون بالهجرة، جعل الرجل يقول لأهله: إنا قد أمرنا بالهجرة،
فمنهم من يسرع إلى ذلك، ومنهم من يتعلق به عياله وزوجته فيقولون: ننشدك الله أن تدعنا إلى غير
شئ، فيرق قلبه فيجلس معهم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنه لما أمر الله المؤمنين بالهجرة، قال المسلمون: يا نبي الله، إن نحن اعتزلنا من
خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا، فنزلت هذه الآية، قاله
الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: أنه لما قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة: أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر،
نزلت هذه الآية والتي قبلها، هذا قول قتادة، وقد ذكرناه عن مجاهد.
والرابع: أن نفرا ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، فنهى الله عن ولايتهم، وأنزل هذه الآية، قاله مقاتل.
والخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالجهاز لنصرة خزاعة على قريش، قال أبو بكر
الصديق: يا رسول الله، نعاونهم على قومنا؟ فنزلت هذه الآية، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال
اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله
وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)
قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم..) الآية، في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في الذين تخلفوا مع عيالهم بمكة ولم يهاجروا، قاله أبو صالح عن ابن
عباس.
والثاني: أن علي بن أبي طالب قدم مكة، فقال لقوم: ألا تهاجرون؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا
280

وعشائرنا ومساكننا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن سيرين.
والثالث: أنه لما نزلت الآية التي قبلها، قالوا: يا رسول الله، إن نحن اعتزلنا من خالفنا في
الدين، قطعنا آباءنا وعشيرتنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض
المفسرين في هذه الآية، وذكره بعضهم في الآية الأولى كما حكيناه عن ابن عباس. فأما العشيرة،
فهم الأقارب الأدنون. وروى أبو بكر عن عاصم " وعشيراتكم " على الجمع. قال أبو علي: وجهه
أن كل واحد من المخاطبين له عشيرة، فإذا جمعت قلت: عشيراتكم، وحجة من أفرد: أن العشيرة
واقعة على الجمع، فاستغنى بذلك عن جمعها. وقال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة:
عشيرات، إنما يجمعونها على عشائر. والاقتراف بمعنى الاكتساب. والتربص: الانتظار.
وفي قوله [تعالى]: (حتى يأتي الله بأمره) قولان:
أحدهما: أنه فتح مكة، قاله مجاهد والأكثرون، ومعنى الآية: إن كان المقام في أهاليكم،
وكانت الأموال التي اكتسبتموها (وتجارة تخشون كسادها) لفراقكم بلدكم (ومساكن ترضونها
أحب إليكم) من الهجرة، فأقيموا غير مثابين، حتى تفتح مكة، فيسقط فرض الهجرة.
والثاني: أنه العقاب، قاله الحسن.
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا
وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25)
قوله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) أي: في أماكن. قال الفراء: وكل جمع
كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان لم يجر، مثل صوامع، ومساجد: وجرى " حنين " لأنه
اسم لمذكر، وهو واد بين مكة والطائف، وإذا سميت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكر لا علة فيه،
أجريته، من ذلك: حنين، وبدر، وحراء، وثبير، ودابق. ومعنى الآية: أن الله عز وجل أعلمهم أنهم
إنما يغلبون بنصر الله لا بكثرتهم. وفي عددهم يوم حنين أربعة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا ستة عشر ألفا، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: عشرة آلاف، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: كانوا اثني عشر ألفا، قاله قتادة، وابن زيد، وابن إسحاق، والواقدي.
والرابع: أحد عشر ألفا وخمسمائة، قاله مقاتل. قال ابن عباس: فقال ذلك اليوم سلمة بن
سلامة بن وقش، وقد عجب لكثرة الناس: لن تغلب اليوم من قلة، فساء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كلامه،
281

ووكلوا إلى كلمة الرجل، فذلك قوله [تعالى] (إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم شيئا). وقال
سعيد بن المسيب: القائل لذلك أبو بكر الصديق. وحكى ابن جرير أن القائل لذلك رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]. وقيل: بل العباس. وقيل: رجل من بني بكر.
قوله تعالى: (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) أي: برحبها. قال الفراء: والباء هاهنا
بمنزلة " في " كما تقول: ضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها.
الإشارة إلى القصة
قال أهل العلم بالسيرة: لما فتح رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مكة، تآمر عليه أشراف هوازن وثقيف،
فجاؤوا حتى نزلوا أوطاس، وأجمعوا المسير إليه، فخرج إليهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فلما التقوا
أعجبتهم كثرتهم فهزموا.
وقال البراء بن عازب: لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فأقبلوا بالسهام،
فانكشف المسلمون عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. وبعضهم يقول: ثبت مع النبي [صلى الله عليه وسلم] يومئذ جماعة
من أصحابه منهم أبو بكر، وعمر، وعلي، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث.
وبعضهم يقول: لم يبق معه سوى العباس وأبي سفيان، فجعل النبي يقول للعباس: " ناد: يا
معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة " فنادى، وكان صيتا، فأقبلوا كأنهم
الإبل إذا حنت إلى أولادها، يقولون: يا لبيك، فنظر النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى قتالهم، فقال: " الآن حمي
الوطيس، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " ثم قال للعباس: " ناولني حصيات " فناوله،
فقال: (شاهت الوجوه) ورمى بها، وقال: " انهزموا ورب الكعبة "، فقذف الله في قلوبهم الرعب
فانهزموا. وقيل: أخذ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كفا من تراب، فرماهم به فانهزموا. وكانوا يقولون: ما بقي
منا أحد إلا امتلأت عيناه بالتراب.
282

ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين
كفروا وذلك جزاء الكافرين (26) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور
رحيم (27)
قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته) أي: بعد الهزيمة. قال أبو عبيدة: هي فعلية من
السكون، وأنشد:
لله قبر غالها ماذا يجن * لقد أجن سكينة ووقارا
قوله تعالى: (وأنزل جنودا لم تروها) قال ابن عباس: يعني الملائكة. وفي عددهم يومئذ
ثلاثة أقوال:
أحدها: ستة عشر ألفا، قاله الحسن.
والثاني: خمسة آلاف، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: ثمانية، قاله مجاهد، يعني: ثمانية آلاف. وهل قاتلت الملائكة يومئذ، أم لا؟ فيه
قولان:
وفي قوله [تعالى]: (وعذب الذين كفروا) أربعة أقوال:
أحدها: بالقتل، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: بالقتل والهزيمة، قاله ابن أبزى، ومقاتل.
والثالث: بالخوف والحذر، ذكره الماوردي.
والرابع: بالقتل، والأسر، وسبي الأولاد، وأخذ الأموال، ذكره بعض ناقلي التفسير.
قوله تعالى: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء) أي: يوفقه للتوبة من الشرك.
يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن
خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم (28)
قوله تعالى: (إنما المشركون نجس) قال أبو عبيدة: معناه: قذر. قال الزجاج: يقال لكل
شئ مستقذر: نجس. وقال الفراء: لا تكاد العرب تقول: نجس، إلا وقبلها رجس، فإذا أفردوها
قالوا: نجس. وفي المراد بكونهم نجسا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أنجاس الأبدان، كالكلب والخنزير، حكاه الماوردي عن الحسن، وعمر بن عبد
283

العزيز. وروى ابن جرير عن الحسن قال: من صافحهم فليتوضأ.
والثاني: أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة، وإن لم تكن أبدانهم
أنجاسا، قاله قتادة.
والثالث: أنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاس، صاروا بحكم الاجتناب
كالأنجاس، وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح.
قوله تعالى: (فلا يقربوا المسجد الحرام) قال أهل التفسير: يريد جميع الحرم. (بعد
عامهم هذا) وهو سنة تسع من الهجرة، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر الصديق وقرئت (براءة)
وقد أخذ أحمد رضي الله عنه بظاهر الآية، وأنه يحرم عليهم دخول الحرم، وهو قول مالك،
والشافعي. واختلفت الرواية عنه في دخولهم غير المسجد الحرام من المساجد، فروي عنه المنع
أيضا إلا لحاجة، كالحرم، وهو قول مالك. وروي عنه جواز ذلك، وهو قول الشافعي. وقال أبو
حنيفة: يجوز لهم دخول المسجد الحرام، وسائر المساجد.
قوله تعالى: (وإن خفتم عيلة) وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، والشعبي، وابن
السميفع: " عايلة ". قال سعيد بن جبير: لما نزلت (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد
الحرام بعد عامهم هذا) شق على المسلمين، وقالوا: من يأتينا بطعامنا؟ وكانوا يقدمون عليهم
بالتجارة، فنزلت (وإن خفتم عيلة..) قال الأخفش: العيلة: الفقر. يقال: عال يعيل عيلة: إذا
افتقر. وأعال إعالة فهو يعيل: إذا صار صاحب عيال. وقال أبو عبيدة: العيلة هاهنا مصدر عال
فلان: إذا افتقر، وأنشد:
وما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغني متى يعيل
وللمفسرين في قوله: " وإن " قولان:
أحدهما: أنها للشرط، وهو الأظهر.
والثاني: أنها بمعنى " وإذ "، قاله عمرو بن فايد. قالوا: وإنما خاف المسلمون الفقر، لأن
المشركين كانوا يحملون التجارات إليهم، ويجيئون بالطعام وغيره.
وفي قوله [تعالى]: (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أنزل عليهم المطر عند انقطاع المشركين عنهم، فكثر خيرهم، قاله عكرمة.
والثاني: أنه أغناهم بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب، قاله قتادة، والضحاك.
284

والثالث: أن أهل نجد، وجرش، وأهل صنعاء أسلموا، فحملوا الطعام إلى مكة على الظهر،
فأغناهم الله به، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (إن الله عليم) قال ابن عباس: عليم بما يصلحكم، (حكيم) فيما حكم
في المشركين.
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا
يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)
قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) قال المفسرون: نزلت في اليهود والنصارى. قال
الزجاج: ومعناها: لا يؤمنون بالله إيمان الموحدين، لأنهم أقروا بأنه خالقهم وأنه له ولد، وكذلك
إيمانهم بالبعث لأنهم لا يقرون بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون. وقال الماوردي: إقرارهم باليوم
الآخر يوجب الإقرار بحقوقه، وهم لا يقرون بها، فكانوا كمن لا يقر به.
قوله تعالى: (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) قال سعيد بن جبير: يعني الخمر والخنزير.
قوله تعالى: (ولا يدينون دين الحق) في الحق قولان:
أحدهما: أنه اسم الله، فالمعنى: دين الله، قاله قتادة.
والثاني: أنه صفة للدين، والمعنى: ولا يدينون الدين الحق، فأضاف الاسم إلى الصفة. وفي
معنى " يدينون " قولان:
أحدهما: أنه بمعنى الطاعة، والمعنى: لا يطيعون الله طاعة حق، قاله أبو عبيدة.
والثاني: أنه من: دان الرجل يدين كذا: إذا التزمه. ثم في جملة الكلام قولان:
أحدهما: أن المعنى: لا يدخلون في دين محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه ناسخ لما قبله.
والثاني: لا يعملون بما في التوراة من اتباع محمد.
قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية) قال ابن الأنباري: الجزية: الخراج المجعول عليهم،
سميت جزية، لأنها قضاء لما عليهم، أخذ من قولهم: جزى يجزي: إذا قضى، ومنه قوله تعالى:
(لا تجزى نفس عن نفس شيئا)، وقوله: " ولا تجزي عن أحد بعدك ". وفي قوله
285

[تعالى] (عن يد) ستة أقوال:
أحدها: عن قهر، قاله قتادة، والسدي. وقال الزجاج: عن قهر وذل.
والثاني: أنه النقد العاجل، قاله شريك، وعثمان بن مقسم.
والثالث: أنه إعطاء المبتدئ بالعطاء، لا إعطاء المكافئ، قاله ابن قتيبة.
والرابع: أن المعنى: عن اعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم.
والخامس: عن إنعام عليهم بذلك، لأن قبول الجزية منهم إنعام عليهم، حكاهما الزجاج.
والسادس: يؤدونها بأيديهم، ولا ينفذونها مع رسلهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (وهم صاغرون) الصاغر: الذليل الحقير.
وفي ما يكلفونه من الفعل الذي يوجب صغارهم خمسة أقوال:
أحدها: أن يمشوا بها ملببين، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن لا يحمدوا على إعطائهم، قاله سلمان الفارسي.
والثالث: أن يكونوا قياما والآخذ جالسا، قاله عكرمة.
والرابع: أن دفع الجزية هو الصغار.
والخامس: أن إجراء أحكام الإسلام عليهم هو الصغار.
فصل
واختلف في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار، فالمشهور عن أحمد: أنها لا تقبل إلا من
اليهود والنصارى والمجوس، وبه قال الشافعي. ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد: أنه من سبي من
أهل الأديان من العرب والعجم، فالعرب إن أسلموا، وإلا السيف، وأولئك إن أسلموا، وإلا
الجزية، فظاهر هذا أن الجزية تؤخذ من الكل، إلا من عابدي الأوثان من العرب فقط، وهو قول أبي
حنيفة، ومالك.
فصل
فأما صفة الذين تؤخذ منهم الجزية، فهم أهل القتال. فأما الزمن، والأعمى، والمفلوج،
والشيخ الفاني، والنساء، والصبيان، والراهب الذي لا يخالط الناس، فلا تؤخذ منهم.
فصل
فأما مقدارها، فقال أصحابنا: على الموسر: ثمانية وأربعون درهما، وعلى المتوسط: أربعة
وعشرون، وعلى الفقير المعتمل: اثنا عشر، وهو قول أبي حنيفة. وقول مالك: على أهل الذهب
286

أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعون درهما، وسواء في ذلك الغني والفقير. وقال الشافعي: على
الغني والفقير دينار. وهل تجوز الزيادة والنقصان مما يؤخذ منهم؟ نقل الأثرم عن أحمد أنها تزاد
وتنقص على قدر طاقتهم، فظاهر هذا: أنها على اجتهاد الإمام ورأيه. ونقل يعقوب بن بختان:
أنه لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك، وله أن يزيد.
فصل
ووقت وجوب الجزية: آخر الحول، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تجب في أول
الحول. فأما إذا دخلت سنة في سنة، فهل تسقط جزية السنة الماضية؟ عندنا لا تسقط - وقال أبو
حنيفة: تسقط. فأما إذا أسلم، فإنها تسقط بالإسلام. فأما إن مات، فكان ابن حامد يقول: لا
تسقط. وقال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن تسقط.
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم
يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30) اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا
إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)
قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن
عامر، وحمزة: " عزير ابن الله " بغير تنوين. وقرأ عاصم، والكسائي، ويعقوب، وعبد الوارث عن
أبي عمرو: منونا. قال مكي بن أبي طالب: من نون عزيرا رفعه على الابتداء، و " ابن " خبره. ولا
يحسن حذف التنوين على هذا من " عزير " لالتقاء الساكنين. ولا تحذف ألف " ابن " من الخط،
ويكسر التنوين لالتقاء الساكنين. ومن لم ينون " عزيرا " جعله أيضا مبتدأ، و " ابن " صفة له،
فيحذف التنوين على هذا استخفافا لالتقاء الساكنين، ولأن الصفة مع الموصوف كالشئ الواحد،
وتحذف ألف " ابن " من الخط، والخبر مضمر تقديره: عزير بن الله نبينا وصاحبنا. وسبب نزولها أن
سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، أتوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
287

فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن
عباس. وقال ابن عمر، وابن جريج: إن القائل لذلك فنحاص. فأما عزير، فقال شيخنا أبو منصور
اللغوي: هو اسم أعجمي معرب، وإن وافق لفظ العربية، فهو عبراني، كذا قرأته عليه. وقال مكي
ابن أبي طالب: العزير عند كل النحويين: عربي مشتق من قوله: يعزروه. وقال ابن عباس: إنما قالوا
ذلك، لأنهم لما عملوا بغير الحق، أنساهم الله التوراة، ونسخها من صدورهم، فدعا عزير الله
تعالى، فعاد إليه الذي نسخ من صدروهم، ونزل نور من السماء فدخل جوفه، فأذن في قومه فقال:
قد آتاني الله التوراة، فقالوا: ما أوتيها إلا لأنه ابن الله. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن بختنصر
لما ظهر على بني إسرائيل، وهدم بيت المقدس، وقتل من قرأ التوراة، كان عزير غلاما، فتركه.
فلما توفي عزير ببابل، ومكث مائة عام، ثم بعثه الله تعالى إلى بني إسرائيل، فقال: أنا عزير، فكذبوه
وقالوا: قد حدثنا آباؤنا أن عزيرا مات ببابل، فإن كنت عزيرا فأملل علينا التوراة، فكتبها لهم،
فقالوا: هذا ابن الله.
وفي الذين قالوا هذا عن عزير ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم جميع بني إسرائيل، روي عن ابن عباس.
والثاني: طائفة من سلفهم، قاله الماوردي.
والثالث: جماعة كانوا على عهد رسول الله، وفيهم قولان:
أحدهما: فنحاص وحده، وقد ذكرناه عن ابن عمر، وابن جريج.
والثاني: الذين ذكرناهم في أول الآية عن ابن عباس.
فإن قيل: إن كان قول بعضهم، فلم أضيف إلى جميعهم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن إيقاع اسم الجماعة على الواحد معروف في اللغة، تقول العرب: جئت من
البصرة على البغال، وإن كان لم يركب إلا بغلا واحدا.
والثاني: أن من لم يقله، لم ينكره.
قوله تعالى: (وقالت النصارى المسيح ابن الله) في سبب قولهم هذا قولان:
أحدهما: لكونه ولد من غير ذكر.
والثاني: لأنه أحيى الموتى، وأبرأ الكمه والبرص، وقد شرحنا هذا المعنى في (المائدة).
قوله تعالى: (ذلك قولهم بأفواههم) إن قال قائل: هذا معلوم، فما فائدته؟ فالجواب: أن
288

المعنى: إنه قول بالفم، لا بيان فيه، ولا برهان، ولا تحته معنى صحيح، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (يضاهون) قرأ الجمهور: من غير همز. وقرأ عاصم: " يضاهئون ". قال
ثعلب: لم يتابع عاصما أحد على الهمز. قال الفراء: وهي لغة. قال الزجاج: " يضاهون يشابهون
قول من تقدمهم من كفرتهم، فإنما قالوه اتباعا لمتقدميهم. وأصل المضاهاة في اللغة: المشابهة،
والأكثر ترك الهمز، واشتقاقه من قولهم: امرأة ضهياء، وهي التي لا ينبت لها ثدي. وقيل: هي التي
لا تحيض، والمعنى: أنها قد أشبهت الرجال. قال ابن الأنباري: يقال: ضاهيت، وضاهأت: إذا
شبهت. وفي (الذين كفروا) هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم عبدة الأوثان، والمعنى: أن أولئك قالوا: الملائكة بنات الله، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم اليهود، فالمعنى: أن النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، شابهوا اليهود في
قولهم: عزير ابن الله، قاله قتادة، والسدي.
والثالث: أنهم أسلافهم، تابعوهم في أقوالهم تقليدا، قاله الزجاج، وابن قتيبة. وفي قوله
[تعالى]: (قاتلهم الله) ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه: لعنهم الله، قاله ابن عباس:
والثاني: قتلهم الله، قاله أبو عبيدة.
والثالث: عاداهم الله، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: (أنى يؤفكون) أي: من أين يصرفون عن الحق.
قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم) قد سبق في (المائدة) معنى الأحبار والرهبان. وقد روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية، فقال: " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا
أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه ". فعلى هذا المعنى: إنهم جعلوهم
كالأرباب وإن لم يقولوا: إنهم أرباب.
قوله تعالى: (والمسيح ابن مريم) قال ابن عباس: اتخذوه ربا.
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32)
قوله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله) قال ابن عباس: يخمدوا دين الله بتكذيبهم،
289

يعني: أنهم يكذبون به ويعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك. وقال الحسن وقتادة: نور الله: القرآن
والإسلام. فأما تخصيص ذلك بالأفواه، فلما ذكرنا في الآية قبلها. وقيل: إن الله تعالى لم يذكر قولا
مقرونا بالأفواه والألسن إلا وهو زور.
قوله تعالى: (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) قال الفراء: إنما دخلت " إلا " هاهنا، لأن في
الإباء طرفا من الجحد، ألا ترى أن " أبيت " كقولك: " لم أفعل "، فكأنه بمنزلة قولك: ما ذهب
إلا زيد، قال الشاعر:
فهل لي أم غيرها إن تركتها * أبى الله إلا أن أكون لها ابنما
وقال الزجاج: المعنى: ويأبى الله كل شئ إلا إتمام نوره. قال مقاتل: " يتم نوره " أي:
يظهر دينه.
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
المشركون (33)
قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم (بالهدى) وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه التوحيد.
والثاني: القرآن.
والثالث: تبيان الفرائض. فأما دين الحق، فهو الإسلام. وفي قوله [تعالى]: (ليظهره)
قولان:
أحدهما: أن الهاء عائدة على رسول الله، فالمعنى: ليعلمه شرائع الدين كلها، فلا يخفى
عليه منها شئ، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها راجعة إلى الدين. ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: ليظهر هذا الدين على سائر الملل. ومتى يكون ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: عند نزول عيسى عليه السلام، فإنه يتبعه أهل كل دين، وتصير الملل واحدة، فلا
يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام أو أدوا الجزية، قاله أبو هريرة، والضحاك.
والثاني: أنه عند خروج المهدي، قاله السدي.
والقول الثاني: أن إظهار الدين إنما هو بالحجج الواضحة، وإن لم يدخل الناس فيه.
* يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل
290

ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
فبشرهم بعذاب أليم (34)
قوله تعالى: (إن كثيرا من الأحبار) الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى. وفي الباطل
أربعة أقوال:
أحدها: أنه الظلم، قاله ابن عباس.
والثاني: الرشا في الحكم، قاله الحسن.
والثالث: الكذب، قاله أبو سليمان.
والرابع: أخذه من الجهة المحظورة، قاله القاضي أبو يعلى: والمراد: أخذ الأموال، وإنما
ذكر الأكل، لأنه معظم المقصود من المال. وفي المراد بسبيل الله هاهنا قولان:
أحدهما: الإيمان برسول الله [صلى الله عليه وسلم]، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: أنه الحق في الحكم.
قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت عامة في أهل الكتاب والمسلمين، قاله أبو ذر، والضحاك.
والثاني: أنها خاصة في أهل الكتاب، قاله معاوية بن أبي سفيان.
والثالث: أنها في المسلمين، قاله ابن عباس، والسدي.
وفي الكنز المستحق عليه هذا الوعيد ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ما لم تؤد زكاته. قال ابن عمر: كل مال أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين
فليس بكنز، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا على وجه الأرض، وإلى هذا المعنى
ذهب الجمهور. فعلى هذا، معنى الإنفاق: إخراج الزكاة.
والثاني: أنه ما زاد على أربعة آلاف، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: أربعة آلاف
نفقة، وما فوقها كنز.
والثالث: ما فضل عن الحاجة، وكان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ثم نسخ
بالزكاة.
291

فإن قيل: كيف قال: " ينفقونها " وقد ذكر شيئين؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن المعنى: يرجع إلى الكنوز والأموال.
والثاني: أنه يرجع إلى الفضة، وحذف الذهب، لأنه داخل في الفضة، قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف
يريد: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض، ذكر القولين الزجاج. وقال الفراء: إن
شئت اكتفيت بأحد المذكورين، كقوله [تعالى]: (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به
بريئا)، وقوله [تعالى]: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها)، وأنشد:
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى * وأبى وكان وكنت غير غدور
ولم يقل: غدورين، وإنما اكتفى بالواحد لاتفاق المعنى. قال أبو عبيدة: والعرب إذا أشركوا
بين اثنين قصروا، فخبروا عن أحدهما استغناء بذلك، وتحقيقا، لمعرفة السامع بأن الآخر قد
شاركه، ودخل معه في ذلك الخبر، وأنشد:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله * فإني وقيار بها لغريب
والنصب في " قيار " أجود، وقد يكون الرفع. وقال حسان بن ثابت:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود * ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل: يعاصيا.
يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم
لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (35)
قوله تعالى: (يوم يحمى عليها) أي: على الأموال. قال ابن مسعود: والله ما من رجل
يكوى بكنز، فيوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم، ولكن يوسع جلده، فيوضع كل دينار
ودرهم على حدته. وقال ابن عباس: هي حية تنطوي على جنبيه وجبهته، فتقول: أنا مالك الذي
بخلت به.
292

قوله تعالى: (هذا ما كنزتم) فيه محذوف تقديره: ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم
(فذوقوا ما كنتم تكنزون) أي: عذاب ذلك.
فإن قيل: لم خص الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن؟
فالجواب: أن هذه المواضع مجوفة، فيصل الحر إلى أجوافها، بخلاف اليد والرجل. وكان أبو
ذر يقول: بشر الكنازين بكي في الجباه وكي في الجنوب وكي في الظهور، حتى يلتقي الحر في
أجوافهم. وجواب آخر: وهو أن الغني إذا رأى الفقير، انقبض، وإذا ضمه وإياه مجلس، أزور
عنه وولاه ظهره، قاله أبو بكر الوراق.
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض
منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما
يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)
قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله) قال المفسرون: نزلت هذه الآية من أجل النسئ
الذي كانت العرب تفعله، فربما وقع حجهم في رمضان، وربما وقع في شوال، إلى غير ذلك،
وكانوا يستحلوا المحرم عاما، ويحرمون مكانه صفر، وتارة يحرمون المحرم ويستحلون صفر. قال
الزجاج: أعلم الله عز وجل أن عدد شهور المسلمين التي تعبدوا بأن يجعلوه لسنتهم: اثنا عشر شهرا
على منازل القمر، فجعل حجهم وأعيادهم على هذا العدد، فتارة يكون الحج والصوم في الشتاء،
وتارة في الصيف، بخلاف ما يعتمده أهل الكتاب، فإنهم يعملون على أن السنة ثلاثمائة يوم وخمسة
وستون يوما وبعض يوم. وجمهور القراء على فتح عين " اثنا عشر ". وقرأ أبو جعفر: اثنا عشر،
وأحد عشر، وتسعة عشر، بسكون العين فيهن.
قوله تعالى: (في كتاب الله) أي: في اللوح المحفوظ. قال ابن عباس: في الإمام الذي
عند الله، كتبه (يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) وفيها قولان:
أحدهما: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله الأكثرون. وقال القاضي أبو
يعلى: إنما سماها حرما لمعنيين.
أحدهما: تحريم القتال فيها، وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون ذلك أيضا.
293

والثاني: لتعظيم انتهاك المحارم فيها أشد من تعظيمه في غيرها، وكذلك تعظيم الطاعات
فيها.
والثاني: أنها الأشهر التي أجل المشركون فيها للسياحة، ذكره ابن قتيبة.
قوله تعالى: (وذلك الدين القيم) فيه قولان:
أحدهما: ذلك القضاء المستقيم، قاله ابن عباس.
والثاني: ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) اختلفوا في كناية " فيهن " على قولين:
أحدهما: أنها تعود على الاثني عشر شهرا، قاله ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى: لا
تجعلوا حرامها حلالا، ولا حلالها حراما، كفعل أهل النسئ.
والثاني: أنها ترجع إلى الأربعة الحرم، وهو قول قتادة، والفراء، واحتج بأن العرب تقول
لما بين الثلاثة إلى العشرة: لثلاث خلون، وأيام خلون، فإذا جزت العشرة قالوا: خلت ومضت،
ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة: هن، وهؤلاء، فإذا جزت العشرة، قالوا: هي، وهذه،
إرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير. وقال ابن الأنباري: العرب تعيد الهاء والنون على القليل من
العدد، والهاء والألف على الكثير منه، والقلة: ما بين الثلاثة إلى العشرة، والكثرة: ما جاوز
العشرة. يقولون: وجهت إليك أكبشا فاذبحهن، وكباشا فاذبحها، فلهذا قال: (منها أربعة
حرم) وقال: (فلا تظلموا فيهن) لأنه يعني بقوله [تعالى]: " فيهن " الأربعة. ومن قال من
المفسرين: إنه يعني بقوله: [تعالى] " فيهن " الاثني عشر، فإنه ممكن، لأن العرب ربما جعلت
علامة القليل للكثير، وعلامة الكثير للقليل. وعلى قول من قال: ترجع " فيهن " إلى الأربعة،
يخرج في معنى الظلم فيهن أربعة أقوال:
أحدها: أنه المعاصي، فتكون فائدة تخصيص النهي عنه بهذه الأشهر، أن شأن المعاصي
يعظم فيها أشد من تعظيمه في غيرها، وذلك لفضلها على ما سواها، كقوله [تعالى]: (وجبريل
وميكال) وإن كانا قد دخلا في جملة الملائكة، وقوله: (فاكهة ونخل ورمان) وإن كانا قد
دخلا في جملة الفاكهة، وقوله [تعالى]: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) وإن كان
منهيا عنه في غير الحج، وكما أمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى وإن كان مأمورا بالمحافظة على
غيرها، هذا قول الأكثرين.
والثاني: أن المراد بالظلم فيهن فعل النسئ، وهو تحليل شهر محرم، وتحريم شهر
حلال، قاله ابن إسحاق.
294

والثالث: أنه البداية بالقتال فيهن، فيكون المعنى: فلا تظلموا أنفسكم بالقتال فيهن إلا أن
تبدؤوا بالقتال، قاله مقاتل.
والرابع: أنه ترك القتال فيهن، فيكون المعنى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المحاربة
لعدوكم، قاله ابن بحر، وهو عكس قول مقاتل. والسر في أن الله تعالى عظم بعض الشهور على
بعض، ليكون الكف عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها تدريجا للنفس إلى فراق
مألوفها المكروه شرعا.
إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤا
عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين (37)
قوله تعالى: (إنما النسئ زيادة في الكفر) الجمهور على همز النسئ ومده وكسر
سينه. وروى شبل عن ابن كثير: " النس ء " على وزن النسع. وفي رواية أخرى عن شبل:
" النسي " مشددة الياء من غير همز، وهي قراءة أبي جعفر، والمراد بالكلمة التأخير. قال
اللغويون: النسئ: تأخير الشئ. وكانت العرب تحرم الأشهر الأربعة، وكان هذا مما تمسكت
به من ملة إبراهيم، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم، فيؤخرون تحريم
المحرم إلى صفر، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضا إلى الشهر الذي بعده، ثم تتدافع الشهور
شهرا بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنة كلها، فكأنهم يستنسئون الشهر الحرام
ويستقرضونه، فأعلم الله تعالى أن ذلك زيادة في كفرهم، لأنهم أحلوا الحرام، وحرموا الحلال
(ليواطئوا) أي: ليوافقوا (عدة ما حرم الله) فلا يخرجون من تحريم أربعة، ويقولون: هذه
بمنزلة الأربعة الحرم، ولا يبالون بتحليل الحرام، وتحريم الحلال. وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا
في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم، قال الفراء: كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا
الصدر عن منى، قام رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة، وكان رئيس الموسم، فيقول:
أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهرا، يريدون: أخر عنا حرمة
المحرم، واجعلها في صفر، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون
فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة، فتستدير الشهور كما بينا. وقيل: إنما كانوا يستحلون
المحرم عاما، فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه. قال أبو عبيد: والتفسير الأول أحب إلي، لأن
هذا القول ليس فيه استدارة. وقال مجاهد: كان أول من أظهر النسئ جنادة بن عوف الكناني،
فوافقت حجة أبي بكر ذا القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل في ذي الحجة، فذلك حين
295

قال: " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ". وقال الكلبي: أول
من فعل ذلك نعيم بن ثعلبة.
قوله تعالى: (يضل به الذين كفروا) وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو
بكر عن عاصم: " يضل " بفتح الياء وكسر الضاد، والمعنى: أنهم يكتسبون الضلال به. وقرأ
حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " يضل " بضم الياء وفتح الضاد، على ما لم يسم
فاعله. وقرأ الحسن البصري، ويعقوب إلا الوليد: " يضل " بضم الياء وكسر الضاد، وفيه ثلاثة
أوجه:
أحدها: يضل الله به.
والثاني: يضل الشيطان به، ذكرهما ابن القاسم.
والثالث: يضل به الذين كفروا الناس، لأنهم الذين سنوه لهم. قال أبو علي: التقدير:
يضل به الذين كفروا تابعيهم. وقال ابن القاسم: الهاء في " به " راجعة إلى النسئ، وأصل
النسئ: المنسوء، أي: المؤخر، فينصرف عن " مفعول " إلى " فعيل " كما قيل: مطبوخ
وطبيخ، ومقدور وقدير، قال: وقيل: الهاء راجعة إلى الظلم، لأن النسئ كشف تأويل الظلم،
فجرى مجرى المظهر، والأول اختيارنا.
يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل (38)
قوله تعالى: (مالكم إذا قيل لكم انفروا) قال المفسرون: لما أمر رسول الله بغزوة تبوك،
وكان في زمن عسرة وجدب وحر شديد، وقد طابت الثمار، عظم ذلك على الناس وأحبوا المقام،
فنزلت هذه الآية. وقوله [تعالى] " مالكم " استفهام معناه التوبيخ. وقوله [تعالى]:
(انفروا) معناه: اخرجوا، وأصل النفر: مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج إلى ذلك. وقوله
[تعالى]: (اثاقلتم) قال ابن قتيبة: أراد: تثاقلتم، فأدغم التاء في الثاء، وأحدثت الألف
ليسكن ما بعدها، وأراد: قعدتم. وفي قراءة ابن مسعود، والأعمش: " تثاقلتم ".
296

وفي معنى (إلى الأرض) ثلاثة أقوال:
أحدها: تثاقلتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمرها، قاله مجاهد.
والثاني: اطمأننتم إلى الدنيا، قاله الضحاك.
والثالث: تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (أرضيتم بالحياة الدنيا) أي: بنعيمها من نعيم الآخرة، فما يتمتع به في
الدنيا قليل بالإضافة إلى ما يتمتع به الأولياء في الجنة.
إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل
شئ قدير (39)
قوله تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم) سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حثهم على غزو
الروم تثاقلوا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال قوم: هذه خاصة فيمن استنفره رسول الله
فلم ينفر، قال ابن عباس: استنفر رسول الله حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم
المطر فكان عذابهم. وفي قوله [تعالى]: (ويستبدل قوما غيركم) وعيد شديد في التخلف
عن الجهاد، وإعلام بأنه يستبدل لنصر نبيه قوما غير متثاقلين. ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره لم
يضروه، كما لم يضرره ذلك إذ كان بمكة. وفي هاء " تضروه " قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الله، والمعنى: لا تضروا الله بترك النفير، قاله الحسن.
والثاني: أنها ترجع إلى رسول الله، فالمعنى: لا تضروه بترك نصره، قاله الزجاج.
فصل
وقد روي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، قالوا: نسخ قوله [تعالى]: (إلا تنفروا
يعذبكم عذابا أليما) بقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) وقال أبو سليمان الدمشقي: ليس
هذا من المنسوخ، إذ لا تنافي بين الآيتين، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها. وذكر القاضي
أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا: ليس هاهنا نسخ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدو،
ففرض على الناس النفير إليهم، ومتى استغنوا عن إعانة من وراءهم، عذر القاعدون عنهم. وقال
قوم هذا في غزوة تبوك، ففرض على الناس النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
297

إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول
لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل
كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (40)
قوله تعالى: (إلا تنصروه) أي: بالنفير معه (فقد نصره الله) إعانة على أعدائه، (إذ
أخرجه الذين كفروا) حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله [تعالى]: (وإذ يمكر بك
الذين كفروا) فأعلمهم أن نصره ليس بهم.
قوله تعالى: (ثاني اثنين) العرب تقول: هو ثاني اثنين، أي: أحد الاثنين، وثالث
ثلاثة، أي: أحد الثلاثة، قال الزجاج: وقوله [تعالى]: (ثاني اثنين) منصوب على الحال،
المعنى: فقد نصره الله أحد اثنين، أي: نصره منفردا إلا من أبي بكر، وهذا معنى قول الشعبي:
عاتب الله أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر. وقال ابن جرير: المعنى: أخرجوه وهو
أحد الاثنين، وهما رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأبو بكر. فأما الغار، فهو ثقب في الجبل، وقال ابن فارس:
الغار: الكهف، والغار: نبت طيب الريح، والغار: الجماعة من الناس، والغاران: البطن
والفرج، وهما الأجوفان، يقال: إنما هو عبد غاريه. قال الشاعر:
ألم تر أن الدهر يوم وليلة * وأن الفتى يسعى لغاريه دائبا
قال قتادة: وهذا الغار في جبل بمكة يقال له: ثور. قال مجاهد: مكثا فيه ثلاثا. وقد
ذكرت حديث الهجرة في كتاب " الحدائق ". قال أنس بن مالك: أمر الله عز وجل شجرة فنبتت
في وجه رسول الله فسترته، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه، وأمر حمامتين وحشيتين فوقعتا في
فم الغار، فلما دنوا من الغار، عجل بعضهم لينظر، فرأى حمامتين، فرجع فقال: رأيت حمامتين
على فم الغار، فعلمت أنه ليس فيه أحد وقال مقاتل: جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال: هذه
قدم ابن أبي قحافة، والأخرى لا أعرفها، إلا أنها تشبه القدم التي في المقام. وصاحبه في هذه
الآية أبو بكر، وكان أبو بكر قد بكى لما مر المشركون على باب الغار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ما ظنك
باثنين الله ثالثهما "؟
298

وفي السكينة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الرحمة، قاله ابن عباس.
والثاني: الوقار، قاله قتادة.
والثالث: السكون والطمأنينة، قاله ابن قتيبة، وهو أصح.
وفي هاء " عليه " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى أبي بكر، وهو قول علي بن أبي طالب، وابن عباس، وحبيب بن
أبي ثابت. واحتج من نصر هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مطمئنا.
والثاني: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل.
والثالث: أن الهاء ها هنا في معنى تثنية، والتقدير: فأنزل الله سكينته عليهما، فاكتفى
بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما، كقوله [تعالى]: (والله ورسوله أحق أن يرضوه)،
ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: (وأيده) أي: قواه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف. (بجنود لم تروها) وهم
الملائكة. ومتى كان ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، قاله ابن عباس.
والثاني: لما كان في الغار، صرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته، قاله
الزجاج.
فإن قيل: إذا وقع الاتفاق أن هاء الكناية في " أيده " ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف تفارقها هاء
" عليه " وهما متفقتان في نظم الكلام؟
فالجواب: أن كل حرف يرد إلى الأليق به، والسكينة إنما يحتاج إليها المنزعج، ولم يكن
النبي صلى الله عليه وسلم منزعجا. فأما التأييد بالملائكة، فلم يكن إلا للنبي ونظير هذا قوله [تعالى]: (لتؤمنوا بالله
ورسوله وتعزروه وتوقروه) يعني النبي [صلى الله عليه وسلم]، (وتسبحوه) يعني الله عز وجل.
قوله تعالى: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) فيها قولان:
أحدهما: أن كلمة الكافرين الشرك، جعلها [الله] السفلى لأنها مقهورة، وكلمة الله وهي
التوحيد، هي العليا، لأنها ظهرت، هذا قول الأكثرين.
299

والثاني: أن كلمة الكافرين ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله أنه ناصره، رواه
عطاء عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، ويعقوب:
" وكلمة الله " بالنصب.
قوله تعالى: (والله عزيز) أي: في انتقامه من الكافرين (حكيم) في تدبيره.
انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم
إن كنتم تعلمون (41)
قوله تعالى: (انفروا خفافا وثقالا) سبب نزولها أن المقداد جاء إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]،
وكان عظيما سمينا، فشكا إليه وسأله أن يأذن له، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. وفي معنى
" خفافا وثقالا " أحد عشر قولا:
أحدها: شيوخا وشبابا، رواه أنس عن أبي طلحة، وبه قال الحسن، والشعبي، وعكرمة،
ومجاهد، وأبو صالح، وشمر بن عطية، وابن زيد في آخرين.
والثاني: رجالة وركبانا، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأوزاعي.
والثالث: نشاطا وغير نشاط، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، ومقاتل.
والرابع: أغنياء وفقراء، روي عن ابن عباس. ثم في معنى هذا الوجه قولان:
أحدهما: أن الخفاف: ذوو العسرة وقلة العيال، والثقال: ذوو العيال والميسرة، قاله
الفراء.
والثاني: أن الخفاف: أهل الميسرة، والثقال: أهل العسرة، حكي عن الزجاج.
والخامس: ذوي عيال، وغير عيال. قاله زيد بن أسلم.
والسادس ذوي ضياع، وغير ذوي ضياع، قاله ابن زيد.
والسابع: ذوي أشغال، وغير ذوي أشغال، قاله الحكم.
والثامن: أصحاء، ومرضى، قاله مرة الهمداني، وجويبر.
والتاسع: عزابا ومتأهلين، قاله يمان بن رياب.
والعاشر: خفافا إلى الطاعة، وثقالا عن المخالفة، ذكره الماوردي.
والحادي عشر: خفافا من السلاح، وثقالا بالاستكثار منه، ذكره الثعلبي.
300

فصل
روى عطاء الخراساني عن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بقوله [تعالى]: (وما كان
المؤمنون لينفروا كافة). وقال السدي: نسخت بقوله [تعالى]: (ليس على الضعفاء ولا
على المرضى).
قوله تعالى: (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) قال القاضي أبو يعلى: أوجب الجهاد بالمال
والنفس جميعا، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال، فعليه الجهاد
بماله، بأن يعطيه غيره فيغزو به، كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قويا. وإن كان له مال وقوة،
فعليه الجهاد بالنفس والمال. ومن كان معدما عاجزا، فعليه الجهاد بالنصح لله ورسوله، لقوله
[تعالى]: (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله).
قوله تعالى: (ذلكم خير لكم) فيه قولان:
أحدهما: ذلكم خير لكم من تركه والتثاقل عنه.
والثاني: ذلكم الجهاد خير حاصل لكم (إن كنتم تعلمون) مالكم من الثواب.
لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله
لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (42)
قوله تعالى: (لو كان عرضا قريبا) قال المفسرون: نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن
غزوة تبوك. ومعنى الآية: لو كان ما دعوا إليه عرضا قريبا. والعرض: كل ما عرض لك من منافع
الدنيا، فالمعنى: لو كانت غنيمة قريبة، أو كان سفرا قاصدا، أي: سهلا قريبا، لاتبعوك طمعا
في المال (ولكن بعدت عليهم الشقة) قال ابن قتيبة: الشقة: السفر، وقال الزجاج: الشقة:
الغاية التي تقصد، وقال ابن فارس: الشقة: مصير إلى أرض بعيدة، تقول: شق شاقة.
قوله تعالى: (وسيحلفون بالله) يعني المنافقين إذا رجعتم إليهم (لو استطعنا) وقرأ زائدة
عن الأعمش، والأصمعي عن نافع: " لو استطعنا " بضم الواو، وكذا أين وقع، مثل (لو اطلعت
عليهم)، كأنه لما احتيج إلى حركة الواو، حركت بالضم لأنها أخت الواو، والمعنى: لو قدرنا
وكان لنا سعة في المال. (يهلكون أنفسهم) بالكذب والنفاق (والله يعلم إنهم لكاذبون) لأنهم
كانوا أغنياء ولم يخرجوا.
301

عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43)
قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) كان عليه السلام قد أذن لقوم من المنافقين في
التخلف لما خرج إلى تبوك، قال ابن عباس: ولم يكن يومئذ يعرف المنافقين. قال عمرو بن
ميمون: اثنتان فعلهما رسول الله ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى،
فعاتبه الله كما تسمعون. قال مورق: عاتبه ربه بهذا. وقال سفيان بن عيينة: انظر إلى هذا
اللطف، بدأه بالعفو قبل أن يعيره بالذنب. وقال ابن الأنباري: لم يخاطب بهذا لجرم أجرمه،
لكن الله وقره ورفع من شأنه حين افتتح الكلام بقوله [تعالى]: (عفا الله عنك) كما يقول الرجل
لمخاطبة إذا كان كريما عليه: عفا الله عنك، ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك، هلا
زرتني.
قوله تعالى: (حتى يتبين لك الذين صدقوا) فيه قولان:
أحدهما: أن معناه: حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له.
والثاني: لو لم تأذن لهم لقعدوا وبان لك كذبهم في اعتذارهم. قال قتادة: ثم إن الله
تعالى نسخ هذه الآية بقوله [تعالى]: (فائذن لمن شئت منهم).
لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله
عليم بالمتقين (44) إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم
فهم في ريبهم يترددون (45)
قوله تعالى: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) قال ابن عباس: هذا تعيير للمنافقين حين
استأذنوا في القعود. قال الزجاج: أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن علامة النفاق في ذلك الوقت
الاستئذان.
فصل
وروي عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية بقوله [تعالى]: (لم يذهبوا حتى
يستأذنوه..) إلى آخر الآية. قال أبو سليمان الدمشقي: وليس للنسخ هاهنا مدخل، لإمكان
العمل بالآيتين، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير
عذر، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة، وكان المنافقون إذا كانوا معه فعرضت
302

لهم حاجة، ذهبوا من غير استئذانه.
* ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا
مع القاعدين (46) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم
الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (47)
قوله تعالى: (ولو أرادوا الخروج) يعني المستأذنين له في القعود.
وفي المراد بالعدة قولان:
أحدهما: النية، قاله الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: السلاح، والمركوب، وما يصلح للخروج، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والانبعاث: الانطلاق. والتثبط: ردك الإنسان عن الشئ يفعله.
قوله تعالى: (وقيل اقعدوا) في القائل لهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم ألهموا ذلك خذلانا لهم. قاله مقاتل.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله غضبا عليهم.
والثالث: أنه قول بعضهم لبعض، ذكرهما الماوردي.
وفي المراد بالقاعدين قولان:
أحدهما: أنهم القاعدون بغير عذر، قاله ابن السائب.
والثاني: أنهم القاعدون بعذر، كالنساء والصبيان، ذكره علي بن عيسى. قال الزجاج: ثم
أعلم الله عز وجل لم كره خروجهم، فقال: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) والخبال: الفساد
وذهاب الشئ. وقال ابن قتيبة: الخبال: الشر.
فإن قيل: كأن الصحابة كان فيهم خبال حتى قيل: (ما زادوكم إلا خبالا)؟
فالجواب: أنه من الاستثناء المنقطع، والمعنى: ما زادوكم قوة، لكن أوقعوا بينكم خبالا،
وقيل: سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج، ضرب عسكره على ثنية الوداع، وخرج عبد
الله بن أبي، فضرب عسكره على أسفل من ذلك، فلما سار رسول الله، تخلف ابن أبي فيمن تخلف
من المنافقين، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: (ولأوضعوا خلالكم) قال الفراء: الإيضاع: السير بين القوم. وقال أبو عبيدة:
303

لأسرعوا بينكم، وأصله من التخلل. قال الزجاج: يقال: أوضعت في السير: أسرعت.
قوله تعالى: (يبغونكم الفتنة) قال الفراء: يبغونها لكم. وفي الفتنة قولان:
أحدهما: الكفر، قاله الضحاك، ومقاتل، وابن قتيبة.
والثاني: تفريق الجماعة، وشتات الكلمة. قال الحسن: لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد
ذات بينكم.
قوله تعالى: (وفيكم سماعون لهم) فيه قولان:
أحدهما: عيون ينقلون إليهم أخباركم، قاله مجاهد، وابن زيد.
والثاني: من يسمع كلامهم ويطيعهم، قاله قتادة، وابن إسحاق.
لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون (48)
قوله تعالى: (لقد ابتغوا الفتنة) في الفتنة قولان:
أحدهما: الشر، قاله ابن عباس.
والثاني: الشرك، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (من قبل) أي: من قبل غزوة تبوك.
وفي قوله [تعالى]: (وقلبوا لك الأمور) خمسة أقوال:
أحدها: بغوا لك الغوائل، قاله ابن عباس. وقيل: إن اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على
طريقه ليلا ليفتكوا به، فسلمه الله منهم.
والثاني: احتالوا في تشتت أمرك وإبطال دينك، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير:
وذلك كانصراف ابن أبي يوم أحد بأصحابه.
والثالث: أنه قولهم ما ليس في قلوبهم.
والرابع: أنه ميلهم إليك في الظاهر، وممالأة المشركين في الباطن.
والخامس: أنه حلفهم بالله (لو استطعنا لخرجنا معكم) ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي.
قوله تعالى: (حتى جاء الحق) يعني النصر (وظهر أمر الله) يعني الإسلام.
ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49)
قوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي) سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجد بن قيس:
" يا جد، هل لك في جلاد بني الأصفر، لعلك أن تغنم بعض بنات الأصفر "، فقال: يا رسول الله،
ائذن لي فأقيم، ولا تفتني ببنات الأصفر. فأعرض عنه، وقال: " قد أذنت لك "، ونزلت هذه الآية،
304

قاله أبو صالح عن ابن عباس. وهذه الآية وما بعدها إلى قوله [تعالى]: (إنما الصدقات) في
المنافقين.
قوله تعالى: (ومنهم) يعني المنافقين (من يقول ائذن لي) أي: في القعود عن الجهاد، وهو
الجد بن قيس. وفي قوله [تعالى]: (ولا تفتني) أربعة أقوال:
أحدها: لا تفتني بالنساء، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد.
والثاني: لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهو غير متيسر لي، فآثم بالمخالفة، قاله
الحسن، وقتادة، والزجاج.
والثالث: لا تكفرني بإلزامك إياي الخروج، قاله الضحاك.
والرابع: لا تصرفني عن شغلي، قاله ابن بحر.
قوله تعالى: (ألا في الفتنة سقطوا) في هذه الفتنة أربعة أقوال:
أحدها: أنها الكفر، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: الحرج، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: الإثم، قاله قتادة، والزجاج.
والرابع: العذاب في جهنم، ذكره الماوردي.
إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم
فرحون (50) قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون (51)
قوله تعالى: (إن تصبك حسنة) أي: نصر وغنيمة. والمصيبة: القتل والهزيمة. (يقولوا قد
أخذنا أمرنا) أي: عملنا بالحزم فلم نخرج. (ويتولوا وهم فرحون) بمصابك وسلامتهم.
قوله تعالى: (إلا ما كتب الله لنا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ما قضى علينا، قاله ابن عباس.
والثاني: ما بين لنا في كتابه من أنا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا، أو نقتل فتكون الشهادة
حسنى لنا أيضا، قاله الزجاج.
والثالث: لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا من النصر الذي وعدنا، ذكره الماوردي.
305

قوله تعالى: (هو مولانا) أي: ناصرنا.
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب
من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون (52).
قوله تعالى: (قل هل تربصون بنا) أي: تنتظرون والحسنيان: النصر والشهادة. (ونحن
نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) في هذا العذاب قولان:
أحدهما: الصواعق، قاله ابن عباس.
والثاني: الموت، قاله ابن جريج.
قوله تعالى: (أو بأيدينا) يعني: القتل.
قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين (53)
قوله تعالى: (أنفقوا طوعا أو كرها) سبب نزولها أن الجد بن قيس قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما عرض
عليه غزو الروم: إذا رأيت النساء افتتنت، ولكن هذا مالي أعينك به فنزلت هذه الآية، قاله ابن
عباس. قال الزجاج: وهذا لفظ أمر، ومعناه معنى الشرط والجزاء، المعنى: إن أنفقتم طائعين أو
مكرهين لن يتقبل منكم. ومثله في الشعر قول كثير:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية إن تقلت
لم يأمرها بالإساءة، ولكن أعلمها أنها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها. قال الفراء.
ومثله (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم).
وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم
كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون (54)
قوله تعالى: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو،
وابن عامر: " تقبل " بالتاء: وقرأ حمزة، والكسائي: " يقبل " بالياء. وقال أبو علي: من أنث، فلأن
306

الفعل مسند إلى مؤنث في اللفظ، ومن قرأ بالياء. فلأنه ليس بتأنيث حقيقي، فجاز تذكيره، كقوله
[تعالى]: (فمن جاءه موعظة من ربه). وقرأ الجحدري: " أن يقبل " بياء مفتوحة، " نفقاتهم "
بكسر التاء. وقرأ الأعمش: " نفقتهم " بغير ألف، مرفوعة التاء. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء: " أن
يقبل " بالياء " نفقتهم " بنصب التاء على التوحيد.
قوله تعالى: (ألا أنهم كفروا بالله) قال ابن الأنباري: " أن " هاهنا مفتوحة، لأنها بتأويل
المصدر مرتفعة ب‍ " منعهم " والتقدير: وما منعهم قبول النفقة منهم إلا كفرهم بالله.
قوله تعالى: (إلا وهم كسالى) قد شرحناه في سورة (النساء).
قوله تعالى: (ولا ينفقون إلا وهم كارهون) لأنهم يعدون الإنفاق مغرما.
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم
وهم كافرون (55)
قوله تعالى: (فلا تعجبك أموالهم) أي: لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد.
وفي معنى الآية أربعة أقوال:
أحدها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في
الآخرة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة. فعلى هذا، في الآية تقديم
وتأخير، ويكون تعذيبهم في الآخرة بما صنعوا في كسب الأموال وإنفاقها.
والثاني: أنها على نظمها، والمعنى: ليعذبهم بها في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد،
فهي لهم عذاب، وللمؤمنين أجر، قاله ابن زيد.
والثالث: أن المعنى: ليعذبهم بأخذ الزكاة من أموالهم والنفقة في سبيل الله، قاله الحسن.
فعلى هذا، ترجع الكناية إلى الأموال وحدها.
والرابع: ليعذبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم، ذكره الماوردي. فعلى هذا تكون في
المشركين.
قوله تعالى: (وتزهق أنفسهم) أي: تخرج، يقال: زهق السهم: إذا جاوز الهدف.
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم لكنهم قوم يفرقون (56) لو يجدون ملجأ
307

أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (57)
قوله تعالى: (ويحلفون بالله إنهم لمنكم) أي: مؤمنون، و (يفرقون) بمعنى يخافون. فأما
الملجأ، فقال الزجاج: الملجأ واللجأ مقصور مهموز، وهو المكان الذي يتحصن فيه. والمغارات:
جمع مغارة، وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان، أي: يستتر فيه. وقرأ سعيد بن جبير، وابن أبي
عبلة: " أو مغارات " بضم الميم، لأنه يقال: أغرت وغرت: إذا دخلت الغور. وأصل مدخل:
مدتخل، ولكن التاء تبدل بعد الدال دالا، لأن التاء مهموسة، والدال مجهورة، والتاء والدال من
مكان واحد، فكان الكلام من وجه واحد أخف. وقرأ أبي، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: " أو
متدخلا " برفع الميم، وبتاء ودال مفتوحتين، مشددة الخاء. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران: " مندخلا "
بنون بعد الميم المضمومة. وقرأ الحسن، وابن يعمر، ويعقوب: " مدخلا " بفتح الميم وتخفيف
الدال وسكونها. قال الزجاج: من قال: " مدخلا " فهو من دخل يدخل مدخلا، ومن قال: " مدخلا "
فهو من أدخلته مدخلا، قال الشاعر:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا * بالخير صبحنا ربي ومسانا
ومعنى مدخل ومدخل: أنهم لو وجدوا قوما يدخلون في جملتهم (لولوا) إليه، أي: إلى أحد
هذه الأشياء (وهم يجمحون) أي: يسرعون إسراعا لا يرد فيه وجوههم شئ. يقال: جمح وطمح:
إذا أسرع ولم يرد وجهه شئ، ومنه قيل: فرس جموح للذي إذا حمل لم يرده اللجام.
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم
يسخطون (58)
قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) فيمن نزلت فيه قولان:
أحدهما: أنه ذو الخويصرة التميمي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوما: اعدل يا رسول الله، فنزلت هذه
الآية. ويقال: أبو الخواصر. ويقال: ابن ذي الخويصرة.
والثاني: أنه ثعلبة بن حاطب، كان يقول: إنما يعطي محمد من يشاء، فنزلت هذه الآية. قال
ابن قتيبة: " يلمزك " يعيبك ويطعن عليك. يقال: همزت فلانا ولمزته: إذا اغتبته وعبته، والأكثرون
على كسر ميم " يلمزك ". وقرأ يعقوب، ونظيف عن قنبل، وأبان عن عاصم، والقزاز عن عبد
الوارث: " يلمزون " و " يلمزك " و " لا تلمزوا " بضم الميم فيهن. وقرأ ابن السميفع: " يلامزك " مثل:
يفاعلك. وقد رواها حماد بن سلمة عن ابن كثير. قال أبو علي الفارسي: وينبغي أن تكون فاعلت
في هذا من واحد، نحو: طارقت النعل، وعافاه الله، لأن هذا لا يكون من النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ
308

الأعمش: " يلمزك " بتشديد الميم من غير ألف، مثل: يفعلك. قال الزجاج: يقال: لمزت الرجل
ألمزه وألمزه، بكسر الميم وضمها: إذا عبته، وكذلك: همزته أهمزه، قال الشاعر:
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة * وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه
ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله
إنا إلى الله راغبون (59) * إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم
حكيم (60)
قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله) أي: قنعوا بما أعطوا. (إنا إلى الله
راغبون) في الزيادة، أي: لكان خيرا لهم. وهذا جواب " لو " وهو محذوف في اللفظ.
ثم بين المستحق للصدقات بقوله [تعالى]: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) اختلفوا في
صفة الفقير والمسكين على ستة أقوال:
أحدها: أن الفقير: المتعفف عن السؤال، والمسكين: الذي يسأل، وبه، قال ابن عباس،
والحسن، ومجاهد، وجابر بن زيد، والزهري، والحكم، وابن زيد، ومقاتل.
والثاني: أن الفقير: المحتاج الذي به زمانة، والمسكين: المحتاج الذي لا زمانة به، قاله
قتادة.
والثالث: الفقير: المهاجر، والمسكين: الذي لم يهاجر، قاله الضحاك بن مزاحم، والنخعي.
والرابع: الفقير: فقير المسلمين، والمسكين: من أهل الكتاب، قاله عكرمة.
والخامس: أن الفقير: من له البلغة من الشئ، والمسكين: الذي ليس له شئ، قاله أبو
حنيفة، ويونس بن حبيب، ويعقوب بن السكيت، وابن قتيبة. واحتجوا بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته * وفق علي العيال فلم يترك له سسد
فسماه فقيرا، وله حلوبة تكفيه وعياله. وقال يونس: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا
والله، بل مسكين، يريد: أنه أسوأ حالا من الفقير.
والسادس: أن الفقير أمس حاجة من المسكين، وهذا مذهب أحمد، لأن الفقير مأخوذ من
انكسار الفقار، والمسكنة مأخوذة من السكون والخشوع، وذلك أبلغ. قال ابن الأنباري: ويروى
309

عن الأصمعي أنه قال: المسكين أحسن حالا من الفقير. وقال أحمد بن عبيد: المسكين أحسن حالا
من الفقير، لأن الفقير أصله في اللغة: المفقود الذي نزعت فقرة من فقر ظهره،
فكأنه انقطع ظهره
من شدة الفقر، فصرف عن مفقور إلى فقير، كما قيل: مجروح وجريح، ومطبوخ وطبيخ، قال
الشاعر:
لما رأى لبد النسور تطايرت * رفع القوادم كالفقير الأعزل
قال: ومن الحجة لهذا القول قوله [تعالى]: (وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في
البحر) فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي مالا، قال: وهو الصحيح عندنا.
قوله تعالى: (والعاملين عليها) وهم السعاة لجباية الصدقة، يعطون منها بقدر أجور
أمثالهم، وليس ما يأخذونه بزكاة.
قوله تعالى: (والمؤلفة قلوبهم) وهم قوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم على الإسلام بما
يعطيهم، وكانوا ذوي شرف، وهم صنفان: مسلمون، وكافرون. فأما المسلمون، فصنفان، صنف
كانت نياتهم في الإسلام ضعيفة، فتألفهم تقوية لنياتهم، كعيينة بن حصن، والأقرع، وصنف كانت
نياتهم حسنة، فأعطوا تألفا لعشائرهم من المشركين، مثل عدي بن حاتم. وأما المشركون،
فصنفان، صنف يقصدون المسلمين بالأذى، فتألفهم دفعا لأذاهم، مثل عامر بن الطفيل، وصنف
كان لهم ميل إلى الإسلام، تألفهم بالعطية ليؤمنوا، كصفوان بن أمية. وقد ذكرت عدد المؤلفة في
كتاب " التلقيح ". وحكمهم باق عند أحمد في رواية، وقال أبو حنيفة، والشافعي: حكمهم
منسوخ. قال الزهري: لا اعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة قلوبهم.
قوله تعالى: (وفي الرقاب) قد ذكرناه في سورة (البقرة).
قوله تعالى: (والغارمين) وهم الذين لزمهم الدين ولا يجدون القضاء. قال قتادة: هم ناس
عليهم دين من غير فساد ولا إسراف ولا تبذير، وإنما قال هذا، لأنه لا يؤمن في حق المفسد إذا
قضي دينه أن يعود إلى الاستدانة لذلك، ولا خلاف في جواز قضاء دينه ودفع الزكاة إليه، ولكن قتادة
قاله على وجه الكراهية.
قوله تعالى: (وفي سبيل الله) يعني: الغزاة والمرابطين. ويجوز عندنا أن يعطي الأغنياء منهم
والفقراء، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يعطى إلا الفقير منهم. وهل يجوز أن يصرف
من الزكاة إلى الحج، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان.
310

قوله تعالى: (وابن السبيل) هو المسافر المنقطع به، وإن كان له مال في بلده، قاله مجاهد،
وقتادة، وأبو حنيفة، وأحمد فأما إذا أراد أن ينشئ سفرا، فهل يجوز أن يعطى؟ قال
الشافعي: يجوز، وعن أحمد نحوه، وقد ذكرنا في سورة (البقرة) فيه أقوالا عن المفسرين.
قوله تعالى: (فريضة من الله) يعني أن الله افترض هذا.
فصل
وحد الغني الذي يمنع أخذ الزكاة عند أصحابنا بأحد شيئين: أن يكون مالكا
لخمسين درهما، أو عدلها من الذهب، سواء كان ذلك يقوم بكفايته أو لا يقوم، والثاني:
أن يكون له كفاية، إما بصنعة، أو أجرة عقار، أو عروض للتجارة يقوم ربحها
بكفايته. وقال أبو حنيفة الاعتبار في ذلك أن يكون مالكا لنصاب تجب عليه فيه الزكاة. فأما ذوو
القربى الذين تحرم عليهم الصدقة، فهم بنو هاشم، وبنو المطلب. وقال أبو حنيفة: تحرم على ولد
هاشم، ولا تحرم على ولد المطلب. ويجوز أن يعمل على الصدقة من بني هاشم وبني المطلب
ويأخذ عمالته منها، خلافا لأبي حنيفة. فأما موالي بني هاشم وبني المطلب، فتحرم عليهم
الصدقة، خلافا لمالك. ولا يجوز أن يعطي صدقته من تلزمه نفقته، وبه قال مالك، والثوري. وقال
أبو حنيفة والشافعي: لا يعطي والدا وإن علا، ولا ولدا وإن سفل، ولا زوجة ويعطي من عداهم.
فأما الذمي، فالأكثرون على أنه لا يجوز إعطاؤه. وقال عبيد الله بن الحسن: إذا لم يجد مسلما،
أعطي الذمي. ولا يجب استيعاب الأصناف، ولا اعتبار عدد من كل صنف، وهو قول أبي حنيفة،
ومالك، وقال الشافعي: يجب الاستيعاب من كل صنف ثلاثة.
فأما إذا أراد نقل الصدقة من بلد المال إلى موضع تقصر فيه الصلاة، فلا يجوز له ذلك، فإن
نقلها لم يجزئه، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يكره نقلها، وتجزئه. قال أحمد: ولا
يعطي الفقير أكثر من خمسين درهما. وقال أبو حنيفة: أكره أن يعطي رجل واحد من الزكاة مائتي
درهم، وإن أعطيته أجزأك. فأما الشافعي، فاعتبر ما يدفع الحاجة من غير حد. فإن اعطى من يظنه
فقيرا، فبان أنه غني، فهل يجزئ، فيه عن أحمد روايتان.
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين
311

ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61)
قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن خذام بن خالد، والجلاس بن سويد، وعبيد بن هلال في آخرين، كانوا يؤذون
رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا، فانا نخاف أن يبلغه فيقع بنا، فقال الجلاس: بل
نقول ما شئنا، فإنما محمد أذن سامعة، ثم نأتيه فيصدقنا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن
عباس.
والثاني: أن رجلا من المنافقين يقال له: نبتل بن الحارث، كان ينم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المنافقين، فقيل له: لا تفعل، فقال: إنما محمد أذن، من حدثه شيئا صدقه، نقول ما شئنا، ثم
نأتيه فنحلف له فيصدقنا، فنزلت هذه الآية، قاله محمد بن إسحاق.
والثالث: أن ناسا من المنافقين منهم جلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت، اجتمعوا، فأرادوا
أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم، وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه، فتكلموا وقالوا:
لئن كان ما يقوله محمد حقا، لنحن شر من الحمير، فغضب الغلام، وقال: والله إن ما يقوله محمد
حق، وإنكم لشر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعاهم فسألهم، فحلفوا أن عامرا كاذب،
وحلف عامر أنهم كذبوا، وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى تبين صدق الصادق، وكذب الكاذب،
فنزلت هذه الآية، ونزل قوله [تعالى]: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم)، قاله السدي. فأما الأذى،
فهو عيبه ونقل حديثه. ومعنى (أذن) يقبل كل ما قيل له: قال ابن قتيبة: الأصل في هذا أن الأذن
هي السامعة، فقيل لكل من صدق بكل خبر يسمعه: أذن. وجمهور القراء يقرؤون (هو أذن قل
أذن) بالتثقيل. وقرأ نافع " هو أذن قل أذن خير " بإسكان الذال فيهما. ومعنى " أذن خير لكم " أي:
أذن خير، لا أذن شر، يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشر إذا سمعه. وقرأ ابن مسعود، وابن
عباس، والحسن، ومجاهد، وابن يعمر، وابن أبي عبلة " أذن " بالتنوين " خير " بالرفع. والمعنى: إن
كان كما قلتم، يسمع منكم ويصدقكم، خير لكم من أن يكذبكم. قال أبو علي: يجوز أن تطلق
الأذن على الجملة، كما قال الخليل: إنما سميت الناب من الإبل لمكان الناب البازل، فسميت
الجملة كلها به، فأجروا على الجملة اسم الجارحة لإرادتهم كثرة استعماله لها في الإصغاء بها.
ثم بين ممن يقبل، فقال (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) قال ابن قتيبة: الباء واللام زائدتان،
312

والمعنى: يصدق الله ويصدق المؤمنين. وقال الزجاج: يسمع ما ينزله الله عليه، فيصدق به،
ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه به. (ورحمة) أي: وهو رحمة، لأنه كان سبب إيمان المؤمنين.
وقرأ حمزة " ورحمة " بالخفض. قال أبو علي: المعنى: أذن خير ورحمة. والمعنى: مستمع خير
ورحمة.
يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين (62)
قوله تعالى: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم) قال ابن السائب: نزلت في جماعة من المنافقين
تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع النبي [صلى الله عليه وسلم]، أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم، ويحلفون ويعتلون.
وقال مقاتل: منهم عبد الله بن أبي، حلف لا يتخلف عن رسول الله وليكونن معه على عدوه.
وقد ذكرنا في الآية التي قبلها أنهم حلفوا أنهم ما نطقوا بالعيب. وحكى الزجاج عن بعض النحويين
أنه قال: اللام في " ليرضوكم " بمعنى القسم، والمعنى: يحلفون بالله لكم لنرضينكم. قال: وهذا
خطأ، لأنهم حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليرضوا باليمين، ولم يحلفوا أنهم يرضون في
المستقبل. قلت: وقول مقاتل يؤكد ما أنكره الزجاج، وقد مال إليه الأخفش.
قوله تعالى: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) فيه قولان:
أحدهما: بالتوبة والإنابة.
والثاني: بترك الطعن والعيب.
فإن قيل: لم قال: " يرضوه " ولم يقل: يرضوهما؟ فقد شرحنا هذا عند قوله [تعالى]: (ولا
ينفقونها في سبيل الله).
ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم (63)
قوله تعالى: (ألم يعلموا) روى أبو زيد عن المفضل " ألم تعلموا " بالتاء. (أنه من يحادد
الله) فيه قولان:
أحدهما: من يخالف الله، قاله ابن عباس.
313

والثاني: من يعادي الله، كقولك: من يجانب الله ورسوله، أي: يكون في حد، والله ورسوله
في حد.
قوله تعالى: (فأن له نار جهنم) قرأ الجمهور: " فأن " بفتح - الهمزة وقرأ أبو رزين، وأبو عمران،
وابن أبي عبلة: بكسرها، فمن كسر فعلى الاستئناف بعد الفاء، كما تقول: فله نار جهنم.
ودخلت " إن " مؤكدة. ومن قال: " فإن له " فإنما أعاد " أن " الأولى توكيدا، لأنه لما طال الكلام،
كان إعادتها أوكد.
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن
الله مخرج ما تحذرون (64)
قوله تعالى: (يحذر المنافقون) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المنافقين كانوا يعيبون رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيما بينهم، ويقولون: عسى الله أن لا
يفشي سرنا فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
والثاني: أن بعض المنافقين قال: لوددت أني جلدت مائة جلدة، ولا ينزل فينا شئ يفضحنا،
فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
والثالث: أن جماعة من المنافقين وقفوا للنبي [صلى الله عليه وسلم] في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك
ليفتكوا به، فأخبره جبريل عليه السلام، ونزلت هذه الآية، قاله ابن كيسان.
وفي قوله: [تعالى]: (يحذر المنافقون) قولان:
أحدهما: أنه إخبار من الله عز وجل عن حالهم، قاله الحسن، وقتادة واختاره ابن القاسم.
والثاني: أنه أمر من الله عز وجل لهم بالحذر، فتقديره: ليحذر المنافقون، قاله الزجاج. قال
ابن الأنباري: والعرب ربما أخرجت الأمر على لفظ الخبر، فيقولون: يرحم الله المؤمن، ويعذب
الكافر، يريدون: ليرحم وليعذب، فيسقطون اللام، ويجرونه مجرى الخبر في الرفع، وهم لا ينوون
إلا الدعاء، والدعاء مضارع للأمر.
قوله تعالى: (قل استهزئوا) هذا وعيد خرج مخرج الأمر تهديدا. وفي قوله [تعالى]: (إن
الله مخرج ما تحذرون) وجهان:
314

أحدهما: مظهر ما تسرون.
والثاني: ناصر من تخذلون، ذكرهما الماوردي.
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن (65)
لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا
مجرمين (66)
قوله تعالى: (ولئن سألتهم) في سبب نزولها ستة أقوال:
أحدها: أن جد بن قيس، ووديعة بن خذام، والجهير بن خمير، كانوا يسيرون بين يدي
رسول الله مرجعه من تبوك، فجعل رجلان منهم يستهزئان برسول الله. والثالث: يضحك مما يقولان ولا
يتكلم بشئ، فنزل جبريل فأخبره بما يستهزئون به ويضحكون، فقال لعمار بن ياسر " اذهب فسلهم عما
كانوا يضحكون منه، وقل لهم: أحرقكم الله " فلما سألهم، وقال: أحرقكم الله، علموا أنه قد نزل فيهم
قرآن، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله، وقال الجهير: والله ما تكلمت بشئ، وإنما ضحكت تعجبا من
قولهم، فنزل قوله [تعالى]: (لا تعتذروا) يعني جد بن قيس، ووديعة (إن يعف عن طائفة منكم) يعني
الجهير (نعذب طائفة) يعني الجد ووديعة، هذا قول أبي صالج عن ابن عباس.
والثاني: أن رجلا من المنافقين قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، ولا أرغب بطونا، ولا أكذب،
ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه، فقال له عوف بن مالك: كذبت، لكنك
منافق، لأخبرن رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فذهب ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل، فقال:
يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، هذا قول ابن عمر، وزيد بن أسلم، والقرظي.
والثالث: أن قوما من المنافقين كانوا يسيرون مع رسول الله، فقالوا: إن كان ما يقول هذا
حقا، لنحن شر من الحمير، فأعلم الله نبيه ما قالوا، ونزلت (ولئن سألتهم)، قاله سعيد بن
جبير.
والرابع: أن رجلا من المنافقين قال: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا، وما يدريه
ما الغيب؟ فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
315

والخامس: أن ناسا من المنافقين قالوا: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها،
هيهات، فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبي الله: " احبسوا علي الركب "، فأتاهم، فقال: " قلتم
كذا وكذا "، فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والسادس: أن عبد الله بن أبي، ورهطا معه، كانوا يقولون في رسول الله وأصحابه مالا ينبغي،
فإذا بلغ رسول الله قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فقال الله تعالى: (قل) لهم (أبالله وآياته
ورسوله كنتم تستهزئون)، قاله الضحاك. فقوله [تعالى]: (ولئن سألتهم) أي: عما كانوا فيه من
الاستهزاء (ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) أي: نلهو بالحديث. وقوله [تعالى]: (قد كفرتم)
أي: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان، وهذا يدل على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر
سواء.
قوله تعالى: (إن يعف عن طائفة منكم) قرأ الأكثرون " إن يعف " بالياء، " تعذب " بالتاء. وقرأ
عاصم غير أبان " إن نعف "، " نعذب "، بالنون فيهما ونصب " طائفة "، والمعنى: إن نعف عن طائفة
منكم بالتوفيق للتوبة، نعذب طائفة بترك التوبة. وقيل: الطائفتان هاهنا ثلاثة، فاستهزأ اثنان،
وضحك واحد. ثم أنكر عليهم بعض ما سمع. وقد ذكرنا عن ابن عباس أسماء الثلاثة، وأن
الضحاك اسمه الجهير، وقال غيره: هو مخشي بن خمير. وقال ابن عباس ومجاهد: الطائفة: الواحد
فما فوقه. وقال الزجاج: أصل الطائفة في اللغة: الجماعة، ويجوز أن يقال للواحد: طائفة، يراد
به: نفس طائفة. قال ابن الأنباري: إذا أريد بالطائفة الواحد، كان أصلها طائفا، على مثال: قائم
وقاعد، فتدخل الهاء للمبالغة في الوصف، كما يقال: رواية، علامة، نسابة. قال عمر بن
الخطاب: ما فرغ من تنزيل (براءة) حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا ينزل فيه شئ.
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف
ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون (67) وعد الله
المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم
عذاب مقيم (68) كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا
316

بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي
خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون (69) ألم
يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات
أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (70)
قوله تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) قاله ابن عباس: بعضهم على دين
بعض. وقال مقاتل: بعضهم أولياء بعض، (يأمرون بالمنكر) وهو الكفر، (وينهون عن المعروف)
وهو الإيمان.
وفي قوله [تعالى]: (ويقبضون أيديهم) أربعة أقوال:
أحدها: يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد.
والثاني: عن كل خير، قاله قتادة.
والثالث: عن الجهاد في سبيل الله.
والرابع: عن رفعها في الدعاء إلى الله، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) قال الزجاج: تركوا أمره، فتركهم من رحمته وتوفيقه. قال:
وقوله [تعالى]: (هي حسبهم) أي: هي كفاية ذنوبهم، كما تقول: عذبتك حسب فعلك، وحسب
فلان ما نزل به، أي: ذلك على قدر فعله. وموضع الكاف في قوله [تعالى]: (كالذين من قبلكم)
نصب، أي: وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم. وقال غيره: رجع عن الخبر عنهم
إلى مخاطبتهم، وشبههم في العدول عن أمره بمن كان قبلهم من الأمم الماضية.
قوله تعالى: (فاستمتعوا بخلاقهم) قال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا.
وقال الزجاج: بحظهم من الدنيا.
قوله تعالى: (وخضتم) أي: في الطعن على الدين وتكذيب نبيكم كما خاضوا. (أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا) لأنها لم تقبل منهم، وفي الآخرة، لأنهم لا يثابون عليها، (وأولئك هم
الخاسرون) بفوت الثواب وحصول العقاب.
قوله تعالى: (وقوم إبراهيم) قال ابن عباس: يريد نمرود بن كنعان. (وأصحاب مدين)
يعني قوم شعيب. (والمؤتفكات) قرى لوط. قال الزجاج: وهم جمع مؤتفكة، ائتفكت بهم الأرض،
أي: انقلبت. قال: ويقال: إنهم جميع من أهلك، يقال للهالك: انقلبت عليه الدنيا.
قوله تعالى: (أتتهم) يعني هذه الأمم (رسلهم بالبينات) فكذبوا بها، (فما كان الله
317

ليظلمهم) قال ابن عباس: ليهلكهم حتى يبعث فيهم نبيا ينذرهم، والمعنى أنهم أهلكوا
باستحقاقهم.
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله
عزيز حكيم (71) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (72)
قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) أي: بعضهم يوالي بعضا، فهم يد
واحدة، يأمرون بالإيمان، وينهون عن الكفر.
قوله تعالى: (في جنات عدن) قال أبو عبيدة: في جنات خلد، يقال: عدن فلان بأرض
كذا، أي: أقام، ومنه: المعدن، وهو في معدن صدق، أي: في أصل ثابت *. قال الأعشى:
وإن تستضيفوا إلى حلمه * تضافوا إلى راجح قد عدن
أي: رزين لا يستخف. قال ابن عباس: جنات عدن، هي بطنان الجنة، وبطنانها: وسطها،
وهي أعلى درجة في الجنة، وهي دار الرحمن عز وجل، وسقفها عرشه، خلقها بيده، وفيها عين
التسنيم، والجنان حولها محدقة بها.
قوله تعالى: (ورضوان من الله أكبر) قال ابن عباس: أكبر مما يوصف. وقال الزجاج: أكبر
مما هم فيه من النعيم.
فإن قيل: لم يكن الرضوان أكبر من النعيم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن سرور القلب برضى الرب نعيم يختص بالقلب، وذاك أكبر من نعيم الأكل
والشرب. وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله عز وجل لأهل الجنة: يا
أهل الجنة، هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا ومالنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك،
فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شئ أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم
رضواني، فلا أسخط عليكم أبدا ".
318

والثاني: أن الموجب للنعيم الرضوان، والموجب ثمرة الموجب، فهو الأصل.
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس
المصير (73)
قوله تعالى: (جاهد الكفار والمنافقين) أما جهاد الكفار، فبالسيف. وفي جهاد المنافقين
قولان:
أحدهما: أنه باللسان، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك، والربيع بن أنس.
والثاني: جهادهم بإقامة الحدود عليهم، روي عن الحسن، وقتادة.
فإن قيل: إذا كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم، فكيف تركهم بين أظهر
أصحابه فلم يقتلهم؟.
فالجواب: أنه إنما أمر بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام عليها، فأما من إذا أطلع على كفره،
أنكر وحلف وقال: إني مسلم، فإنه أمر أن يأخذه بظاهر أمره، ولا يبحث عن سره.
قوله تعالى: (واغلظ عليهم) قال ابن عباس: يريد شدة الانتهار لهم، والنظر بالبغضة
والمقت. وفي الهاء والميم من " عليهم " قولان:
أحدهما: أنه يرجع إلى الفريقين، قاله ابن عباس.
والثاني: إلى المنافقين، قاله مقاتل.
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما
نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم
الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير (74)
قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ذكر المنافقين فعابهم، فقال الجلاس بن سويد: إن كان ما يقول
على إخواننا حقا، لنحن شر من الحمير. فقال عامر بن قيس: والله إنه لصادق، ولأنتم شر من
الحمير، وأخبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بذلك، فأتى الجلاس فقال: ما قلت شيئا، فحلفا عند المنبر،
فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وذهب إلى نحوه الحسن، ومجاهد، وابن سيرين.
والثاني: أن عبد الله بن أبي قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل،
319

فسمعه رجل من المسلمين، فأخبر رسول الله، فأرسل إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، فنزلت هذه
الآية، قاله قتادة.
والثالث: أن المنافقين كانوا إذا خلوا، سبوا رسول الله وأصحابه، وطعنوا في الدين، فنقل
حذيفة إلى رسول الله بعض ذلك، فحلفوا ما قالوا شيئا، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك. فأما كلمة
الكفر، فهي سبهم الرسول [صلى الله عليه وسلم] وطعنهم في الدين. وفي سبب قوله [تعالى]: (وهموا بما لم
ينالوا) أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في ابن أبي حين قال: لئن رجعنا إلى المدينة، رواه أبو صالح عن ابن
عباس، وبه قال قتادة.
والثاني: أنها نزلت فيهم حين هموا بقتل رسول الله، رواه مجاهد عن ابن عباس، قال:
والذي هم رجل يقال له: الأسود. وقال مقاتل: هم خمسة عشر رجلا، هموا بقتله ليلة العقبة.
والثالث: أنه لما قال بعض المنافقين: إن كان ما يقول محمد حقا، فنحن شر من الحمير،
وقال له رجل من المؤمنين: لأنتم شر من الحمير، هم المنافق بقتله، فذلك قوله [تعالى]:
(وهموا بما لم ينالوا)، هذا قول مجاهد.
والرابع: أنهم قالوا في غزوة تبوك: إذا قدمنا المدينة، عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا
نباهي به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فلم ينالوا ما هموا به.
قوله تعالى: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله) قال ابن قتيبة: أي: ليس ينقمون شيئا، ولا
يتعرفون من الله إلا الصنع، ومثله قول الشاعر:
ما نقم الناس من أمية إلا * أنهم يحلمون إن غضبوا
وأنهم سادة الملوك ولا * تصلح إلا عليهم العرب
وكقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
أي: ليس فيهم عيب. قال ابن عباس: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من
معاشهم، فلما قدم عليهم، غنموا، وصارت لهم الأموال. فعلى هذا، يكون الكلام عاما، وقال
قتادة: هذا في عبد الله بن أبي. وقال عروة: هو الجلاس بن سويد، قتل له مولى، فأمر له رسول
الله بديته، فاستغنى، فلما نزلت (فإن يتوبوا يك خيرا لهم) قال الجلاس: أنا أتوب إلى الله.
قوله تعالى: (وإن يتولوا) أي: يعرضوا عن الإيمان. قال ابن عباس: كما تولى عبد الله بن
أبي، (يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا) بالقتل، وفي الآخرة بالنار.
320

* ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75)
قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله) في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري، أتى رسول الله فقال: يا رسول الله، ادع الله أن
يرزقني مالا، فقال: " ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه " قال: ثم قال مرة
أخرى، فقال: " أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فوالذي نفسي بيده، لو شئت أن تسير معي الجبال
ذهبا وفضة، لسارت " فقال: والذي بعثك بالحق، لئن دعوت الله أن يرزقني مالا، لأوتين كل ذي
حق حقه. فقال رسول الله: " اللهم ارزق ثعلبة مالا " فاتخذ غنما، فنمت، فضاقت عليه المدينة،
فتنحى عنها، ونزل واديا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما
سواهما. ثم نمت، حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، ثم نمت، فترك الجمعة. فسأل عنه رسول
الله، فأخبر خبره، فقال: " يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة " فأنزل الله تعالى: (خذ من
أموالهم صدقة) وأنزل فرائض الصدقة، فبعث رسول الله رجلين على الصدقة، وكتب لهما كتابا
يأخذان الصدقة، وقال: " مرا بثعلبة، وبفلان " رجل من بني سليم، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه
الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله، فقال: ما هذا إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما
هذا، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي. فانطلقا، فأخبر السلمي، فاستقبلهما بخيار ماله، فقالا: لا
يجب هذا عليك، فقال: خذاه، فإن نفسي بذلك طيبة، فأخذا منه. فلما فرغا من صدقتهما، مرا
بثعلبة، فقال: أروني كتابكما، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا،
فأخبرا رسول الله بما كان، فنزلت هذه الآية إلى قوله [تعالى]: (بما كانوا يكذبون)، وكان عند
رسول الله رجل من أقارب ثعلبة، فخرج إلى ثعلبة، فأخبره، فأتى رسول الله، وسأله أن يقبل منه
صدقته، فقال: " إن الله قد منعني أن أقبل صدقتك "، فجعل يحثو التراب على رأسه. فقال: " هذا
عملك، قد أمرتك فلم تطعني ". فرجع إلى منزله، وقبض رسول الله، ولم يقبل منه شيئا، فلما ولي
أبو بكر، سأله أن يقبل منه، فأبى، فلما ولي عمر، سأله أن يقبل منه، فأبى، فلما ولي عثمان، سأله أن
يقبلها، فقال: لم يقبلها رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر، فلم يقبلها، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان.
روى هذا الحديث القاسم عن أبي أمامة الباهلي وقال ابن عباس: مر ثعلبة على مجلس،
فأشهدهم على نفسه: لئن آتاني الله من فضله، آتيت كل ذي حق حقه، وفعلت كذا وكذا. فآتاه الله
321

من فضله، فأخلف ما وعد، فقص الله علينا شأنه.
والثاني: أن رجلا من بني عمرو بن عوف، كان له مال بالشام، فأبطأ عنه، فجهد له جهدا
شديدا، فحلف بالله لئن آتانا من فضله، أي: من ذلك المال، لأصدقن منه، ولأصلن، فأتاه ذلك
المال، فلم يفعل، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس: قال ابن
السائب: والرجل حاطب بن أبي بلتعة.
والثالث: أن ثعلبة ومعتب بن قشير، خرجا على ملأ، فقالا: والله لئن رزقنا الله لنصدقن.
فلما رزقهما، بخلا به، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، ومجاهد. والرابع: أن نبتل بن الحارث، وجد بن قيس، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير،
قالوا: لئن آتانا الله من فضله لنصدقن. فلما آتاهم من فضله بخلوا به فنزلت هذه الآية، قاله
الضحاك.
فأما التفسير، فقوله [تعالى]: (ومنهم) يعني المنافقين (من عاهد الله) أي: قال: علي عهد
الله (لنصدقن) الأصل: لنتصدقن، فأدغمت التاء في الصاد لقربها منها. (ولنكونن من الصالحين)
أي: لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإنفاق في الخير. وقد روى كهمس
عن معبد بن ثابت أنه قال: إنما هو شئ نووه في أنفسهم، ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله
تعالى: (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم).
فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76)
قوله تعالى: (فلما آتاهم من فضله) أي: ما طلبوا من المال (بخلوا به) ولم يفوا بما
عاهدوا (وتولوا وهم معرضون) عن عهدهم.
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا
يكذبون (77) ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب (78)
قوله تعالى: (فأعقبهم) أي: صير عاقبة أمرهم النفاق. وفي الهاء والميم قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الله، فالمعنى: جازاهم الله بالنفاق، وهذا قول ابن عباس
ومجاهد.
والثاني: أنها ترجع إلى البخل، فالمعنى: اعقبهم بخلهم بما نذروا انفاقا، قاله الحسن.
قوله تعالى: (ألم يعلموا) يعني المنافقين (أن الله يعلم سرهم) وهو ما في نفوسهم
322

(ونجواهم) حديثهم بينهم.
الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون
منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم (79)
قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنه لما نزلت آية الصدقة، جاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صاع
هذا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو مسعود.
والثاني: أن عبد الرحمن بن عوف جاء بأربعين أوقية من ذهب، وجاء رجل من الأنصار بصاع
من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء، وإن كان الله ورسوله
لغنيين عن هذا الصاع، قاله ابن عباس. وفي هذا الأنصاري قولان:
أحدهما: أنه أبو خيثمة، قاله كعب بن مالك.
والثاني: أنه أبو عقيل. وفي اسم أبي عقيل ثلاثة أقوال:
أحدها: عبد الرحمن بن بيجان، رواه أبو صالح عن ابن عباس، ويقال: ابن بيحان، ويقال:
سيحان. وقال مقاتل: هو أبو عقيل بن قيس.
والثاني: أن اسمه الحبحاب، قاله قتادة.
والثالث: الحباب. قال قتادة: جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف، وجاء عاصم بن عدي بن
العجلان بمائة وسق من تمر. و (يلمزون) بمعنى يعيبون. و (المطوعين) أي: المتطوعين، قال
الفراء: أدغمت التاء في الطاء، فصارت طاء مشددة. والجهد لغة أهل الحجاز، ولغة غيرهم
الجهد. قال أبو عبيدة: الجهد، بالفتح والضم سواء، ومجازه: طاقتهم. وقال ابن قتيبة: الجهد:
الطاقة، والجهد: المشقة. قال المفسرون: عني بالمطوعين عبد الرحمن، وعاصم، وبالذين لا
يجدون إلا جهدهم:، أبو عقيل. وقوله [تعالى]: (سخر الله منهم) أي: جازاهم على فعلهم،
وقد سبق هذا المعنى.
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك
بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين (80)
323

قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) سبب نزولها: أنه لما نزل وعيد اللامزين
قالوا: يا رسول الله استغفر لنا، فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سوف أستغفر لهم أكثر من
سبعين، لعل الله يغفر لهم " فنزل قوله [تعالى]: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم).
قاله أبو صالح عن ابن عباس. وظاهر قوله: " استغفر لهم " الأمر، وليس كذلك، إنما المعنى: إن
استغفرت، وإن لم تستغفر، لا يغفر لهم، فهو كقوله [تعالى]: (أنفقوا طوعا أو كرها)، وقد سبق
شرح هذا المعنى هناك، هذا قول المحققين. وذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على
السبعين، رجي لهم الغفران. ثم نسخت بقوله [تعالى]: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر
لهم).
فإن قيل: كيف جاز أن يستغفر لهم، وقد أخبر بأنهم كفروا؟
فالجواب: أنه إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير أن يتحقق خروجهم عن
الإسلام، ولا يجوز أن يقال: علم كفرهم ثم استغفر.
فإن قيل: ما معنى حصر العدد بسبعين؟
فالجواب: أن العرب تستكثر في الآحاد من سبعة، وفي العشرات من سبعين.
فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في
سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون (81)
قوله تعالى: (فرح المخلفون) يعني المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك.
والمخلف: المتروك خلف من مضى. " بمقعدهم " أي: بقعودهم. وفي قوله [تعالى]: (خلاف
رسول الله) قولان:
أحدهما: أن معناه: بعد رسول الله، قاله أبو عبيدة.
والثاني: أن معناه: مخالفة رسول الله، وهو منصوب، لأنه مفعول له، فالمعنى: بأن قعدوا
لمخالفة رسول الله، قاله الزجاج. وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر، والأعمش، وابن أبي عبلة: " خلف
رسول الله "، ومعناها: أنهم تأخروا عن الجهاد. وفي قوله [تعالى]: (لا تنفروا في الحر) قولان:
أحدهما: أنه قول بعضهم لبعض، قاله ابن إسحاق، ومقاتل.
والثاني: أنهم قالوه للمؤمنين، ذكره الماوردي. وإنما قالوا هذا، لأن الزمان كان حينئذ شديد
الحر. (قل نار جهنم أشد حرا) لمن خالف أمر الله.
وقوله [تعالى] (يفقهون) معناه: يعلمون. قال ابن فارس: الفقه: العلم بالشئ. تقول:
324

فقهت الحديث أفقهه، وكل علم بشئ: فقه. ثم اختص به علم الشريعة، فقيل لكل عالم بها:
فقيه. قال المصنف. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: الفقه في إطلاق اللغة الفهم، وفي
عرف الشريعة: عبارة عن معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين، بنحو التحليل،
والتحريم، والإيجاب، والإجزاء، والصحة، والفساد، والغرم، والضمان، وغير ذلك. وبعضهم
يختار أن يقال: الفقه: فهم الشئ وبعضهم يختار أن يقال: علم الشئ.
فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون (82)
قوله تعالى: (فليضحكوا قليلا) لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد. وفي قلة ضحكهم وجهان:
أحدهما: أن الضحك في الدنيا، لكثرة حزنها وهمومها، قليل، وضحكهم فيه أقل، لما
يتوجه إليهم من الوعيد.
والثاني: أنهم إنما يضحكون في الدنيا، وبقاؤها قليل. (وليبكوا كثيرا) في الآخرة. قال أبو
موسى الأشعري: إن أهل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت،
ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع، فلمثل ما هم فيه فليبكى.
قوله تعالى: (جزاء بما كانوا يكسبون) أي: من النفاق والمعاصي.
فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن
تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين (83)
قوله تعالى: (فإن رجعك الله) أي: ردك من غزوة تبوك إلى المدينة (إلى طائفة) من
المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر. وإنما قال: (إلى طائفة) لأنه ليس كل من تخلف عن تبوك كان
منافقا. (فاستأذنوك للخروج) معك إلى الغزو، (فقل لن تخرجوا معي أبدا) إلى غزاة، (إنكم
رضيتم بالقعود) عني (أول مرة) حين لم تخرجوا إلى تبوك. وذكر الماوردي في قوله [تعالى]:
(أول مرة) قولين:
أحدهما: أول مرة دعيتم.
والثاني: قبل استئذانكم.
وأما الخالفون، فقال أبو عبيدة: الخالف: الذي خلف بعد شاخص، فقعد في رحله، وهو
الذي يتخلف عن القوم. وفي المراد بالخالفين قولان:
أحدهما: أنهم الرجال الذين تخلفوا لأعذار، قاله ابن عباس.
325

والثاني: أنهم النساء والصبيان، قاله الحسن، وقتادة.
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا
وهم فاسقون (84)
قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم) سبب نزولها: أنه لما توفي عبد الله بن أبي، جاء
ابنه إلى رسول الله، فقال: أعطني قميصك حتى أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له. فأعطاه
قميصه، فقال: آذني أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر بن الخطاب، وقال:
أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: " أنا بين خيرتين ": (استغفر لهم أو لا تستغفر
لهم) فصلى عليه، فنزلت هذه الآية، رواه نافع عن ابن عمر. قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله كان
يقول: " ما يغني عنه قميصي من عذاب الله تعالى، والله. إني لأرجو أن يسلم به ألف من قومه ".
قال الزجاج: فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله، وأراد
الصلاة عليه. فأما قوله [تعالى]: " منهم " فإنه يعني المنافقين. وقوله [تعالى]: (ولا تقم على قبره)
قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا دفن الميت، وقف على قبره ودعا له، فنهي عن ذلك في
حق المنافقين. وقال ابن جرير: معناه: لا تتول دفنه، وهو من قولك: قام فلان بأمر فلان.
ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم
كافرون (85) وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول
منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين (86) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على
قلوبهم فهم لا يفقهون (87) لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم
326

وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون (88) أعد الله لهم جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم (89)
وقد تقدم تفسير قوله تعالى (ولا تعجبك أموالهم).
قوله تعالى: (وإذا أنزلت سورة) هذا عام في كل سورة. وقال مقاتل: المراد بها سورة
(براءة).
قوله تعالى: (أن آمنوا) أي: بأن آمنوا. وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: استديموا الإيمان.
والثاني: افعلوا فعل من آمن.
والثالث: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم، فعلى هذا يكون الخطاب للمنافقين.
قوله تعالى: (استأذنك) أي: في التخلف: (أولو الطول) يعني الغني، وهم الذين لا عذر
لهم في التخلف. وفي " الخوالف " قولان:
أحدهما: أنهم النساء، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وشمر بن عطية، وابن زيد،
والفراء. وقال أبو عبيدة: يجوز أن تكون الخوالف هاهنا النساء، ولا يكادون يجمعون الرجال على
تقدير فواعل، غير أنهم قد قالوا: فارس، والجميع: فوارس، وهالك هوالك. قال ابن الأنباري:
الخوالف لا يقع إلا على النساء، إذ العرب تجمع فاعلة: فواعل، فيقولون: ضاربة، وضوارب،
وشاتمة، وشواتم، ولا يجمعون فاعلا: فواعل، إلا في حرفين: فوارس، وهوالك، فيجوز أن
يكون مع الخوالف: المتخلفات في المنازل. ويجوز أن يكون: مع المخالفات العاصيات. ويجوز
أن يكون: مع النساء العجزة اللاتي لا مدافعة عندهن.
والقول الثاني: أن الخوالف: خساس الناس وأدنياؤهم، يقال: فلان خالفة أهله: إذا كان
دونهم، ذكره ابن قتيبة، فأما " طبع "، فقال أبو عبيدة: معناه: ختم. و " الخيرات " جمع خيرة.
وللمفسرين في المراد بالخيرات ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الفاضلات من كل شئ، قاله أبو عبيدة.
والثاني: الجواري الفاضلات، قاله المبرد.
والثالث: غنائم الدنيا ومنافع الجهاد، ذكره الماوردي.
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين
327

كفروا منهم عذاب أليم (90)
قوله تعالى: (وجاء المعذرون) وقرأ ابن مسعود: " المعتذرون ". وقرأ ابن عباس، ومجاهد،
وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب " المعذرون " بسكون العين وتخفيف الذال. وقرأ ابن السميفع
" المعاذرون " بألف. قال أبو عبيدة: المعذرون من يعذر وليس بجاد وإنما يعرض بما لا يفعله، أو
يظهر غير ما في نفسه. وقال ابن قتيبة: يقال: عذرت في الأمر: إذا قصرت، وأعذرت: جددت.
وقال الزجاج: من قرأ " المعذرون " بتشديد الذال، فتأويله: المعتذرون الذين يعتذرون، كان لهم
عذر، أو لم يكن، وهو هاهنا أشبه بأن يكون لهم عذر، وأنشدوا:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
أي: فقد جاء بعذر، ويجوز أن يكون " المعذرون " الذين يعذرون، يوهمون ان لهم عذرا،
ولا عذر لهم، ويجوز في النحو: المعذرون، بكسر العين، والمعذرون، بضم العين، غير أنه لم
يقرأ بهما، لأن اللفظ بهما يثقل. ومن قرأ " المعذرون " بتسكين العين، فتأويله: الذين أعذروا
وجاؤوا بعذر. وقال ابن الأنباري: المعذرون هاهنا: المعتذرون بالعذر الصحيح. وأصل الكلمة
عند أهل النحو: المعتذرون، فحولت فتحة التاء إلى العين، وأبدلت الذال من التاء، وأدغمت في
الذال التي بعدها، فصارتا ذالا مشددة، ويقال في كلام العرب: اعتذر إذا جاء بعذر صحيح، وإذا
لم يأت بعذر. قال الله تعالى: (قل لا تعتذروا) فدل على فساد العذر، وقال لبيد:
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
أي: فقد جاء بعذر صحيح. وكان ابن عباس يقرأ " المعذرون " ويقول: لعن الله المعذرين.
يريد: لعن الله المقصرين من المنافقين وغيرهم. والمعذرون: الذين يأتون بالعذر الصحيح، فبان
من هذا الكلام أن لهم عذرا على قراءة من خفف. وهل يثبت لهم عذر على قراءة من شدد؟ فيه
قولان:
قال المفسرون: جاء هؤلاء ليؤذن لهم في التخلف عن تبوك، فأذن لهم رسول الله، وقعد
آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة، وجرأة على الله تعالى.
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله
ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم (91) ولا على الذين إذا ما أتوك
328

لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا
ما ينفقون (92) * إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا
مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون (93)
قوله تعالى: (ليس على الضعفاء) اختلفوا فيهن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في عائذ بن عمرو وغيره من أهل العذر، قاله قتادة.
والثاني: في ابن مكتوم، قاله الضحاك.
وفي المراد بالضعفاء ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الزمنى والمشايخ الكبار، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أنهم الصغار.
والثالث: المجانين، سموا ضعافا لضعف عقولهم، ذكر القولين الماوردي. والصحيح انهم
الذين يضعفون لزمانة، أو عمى، أو سن أو ضعف في الجسم. والمرضى: الذين بهم أعلال مانعة
من الخروج للقتال، (والذين لا يجدون) هم المقلون، والحرج: الضيق في القعود عن الغزو
بشرط النصح لله ولرسوله، وفيه وجهان:
أحدهما: أن المعنى: إذا برئوا من النفاق.
والثاني: إذا قاموا بحفظ الذراري والمنازل.
فإن قيل بالوجه الأول، فهو يعم جميع المذكورين. وإن قيل بالثاني. فهو يخص المقلين.
وإنما شرط النصح، لأن من تخلف بقصد السعي بالفساد، فهو مذموم، ومن النصح لله، حث
المسلمين على الجهاد، والسعي في إصلاح ذات بينهم، وسائر ما يعود باستقامة الدين.
قوله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل) أي: من طريق بالعقوبة، لأن المحسن قد سد
بإحسانه باب العقاب.
قوله تعالى: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) نزلت في البكائين، واختلف في عددهم
وأسمائهم، فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هم ستة: عبد الله بن مغفل، وصخر بن سلمان،
وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلية بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن عنمة، أتوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم، فقال: " لا أجد ما أحملكم عليه " فانصرفوا باكين. وقد ذكر محمد بن
329

سعد كاتب الواقدي مكان صخر بن سلمان: سلمة بن صخر، ومكان ثعلبة بن عنمة: عمرو بن
عنمة. قال: وقيل منهم معقل بن يسار، وروى أبو إسحاق عن أشياخ له أن البكائين سبعة من
الأنصار: سالم بن عمير، وعلية بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، وعمرو بن الحمام بن
الجموح، وعبد الله بن مغفل. وبعض الناس يقول: بل، عبد الله بن عمرو والمزني، وعرباض بن
سارية، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف. وقال مجاهد: نزلت في بني مقرن، وهم سبعة، وقد
ذكرهم محمد بن سعد، فقال: النعمان بن عمرو بن مقرن. وقال أبو خيثمة: هو النعمان بن مقرن،
وسويد بن مقرن، ومعقل بن مقرن، وسنان بن مقرن، وعقيل بن مقرن، وعبد الرحمن بن مقرن،
وعبد الرحمن بن عقيل بن مقرن. وقال الحسن البصري: نزلت في أبي موسى وأصحابه.
وفي الذي طلبوا من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يحملهم عليه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الدواب، قاله ابن عباس.
والثاني: الزاد، قاله أنس بن مالك.
والثالث: النعال، قاله الحسن.
يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم
وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم
تعملون (94)
قوله تعالى: (يعتذرون إليكم) قال ابن عباس: نزلت في المنافقين، يعتذرون إليكم إذا
رجعتم من غزوة تبوك، فلا تعذروهم فليس لهم عذر. فلما رجع رسول الله أتوه يعتذرون، فقال الله
تعالى: (قل لا تعتذروا) لن نصدقكم، قد أخبرنا الله أنه ليس لكم عذر (وسيرى الله عملكم
ورسوله) إن عملتم خيرا وتبتم من تخلفكم (ثم تردون) بعد الموت (إلى عالم الغيب والشهادة)
فيخبركم بما كنتم تعملون في السر والعلانية.
سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس
ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون (95)
قوله تعالى: (سيحلفون بالله لكم) قال مقاتل: حلف منهم بضعة وثمانون رجلا، منهم جد
ابن قيس، ومعتب بن قشير.
330

قوله تعالى: (لتعرضوا عنهم) فيه قولان:
أحدهما: لتصفحوا عن ذنبهم.
والثاني: لأجل إعراضكم. وقد شرحنا في (المائدة) معنى الرجس.
يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين (96)
قوله تعالى: (يحلفون لكم لترضوا عنهم) قال مقاتل: حلف عبد الله بن أبي للنبي صلى الله عليه وسلم لا
أتخلف عنك، ولأكونن معك على عدوك، وطلب منه أن يرضى عنه، وحلف عبد الله بن سعد بن
أبي سرح لعمر بن الخطاب، وجعلوا يترضون النبي وأصحابه، وكان رسول الله قال لما قدم
المدينة: " لا تجالسوهم ولا تكلموهم ".
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله
عليم حكيم (97)
قوله تعالى: (الأعراب أشد كفرا) قال ابن عباس: نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب
من حول المدينة، أخبر الله أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر أهل المدينة، لأنهم أقسى وأجفى من
أهل الحضر.
قوله تعالى: (وأجدر ألا يعلموا) قال الزجاج: " أن " في موضع نصب، لأن الباء محذوفة من
" أن "، المعنى: أجدر بترك العلم. تقول: جدير أن تفعل، وجدير بأن تفعل، كما تقول: أنت خليق
بأن تفعل، أي: هذا الفعل ميسر فيك، فإذا حذفت الباء لم يصلح إلا ب‍ " أن "، وإن أتيت بالباء،
صلح ب‍ " أن " وغيرها، فنقول: أنت جدير بأن تقوم وجدير بالقيام. فإذا قلت: أنت جدير القيام، كان خطأ،
وإنما صلح مع " أن " لأن " أن " تدل على الاستقبال، فكأنها عوض من المحذوف. فأما قوله [تعالى]:
(حدود ما أنزل الله) فيعني به الحلال والحرام والفرائض. وقيل: المراد بالآية أن الأعم في العرب هذا.
ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله
سميع عليم (98)
قوله تعالى: (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق) إذا خرج في الغزو، وقيل: ما يدفعه من
الصدقة (مغرما) لأنه لا يرجو له ثوابا. قال ابن قتيبة: المغرم: هو الغرم والخسر. وقال ابن فارس:
331

الغرم: ما يلزم أداؤه، والغرام: اللازم، وسمي الغريم لإلحاحه. وقال غيره: وفي الالتزام مالا
يلزم.
قوله تعالى: (ويتربص) أي: وينتظر (بكم الدوائر) أي: دوائر الزمان بالمكروه، بالموت،
أو القتل، أو الهزيمة. وقيل: ينتظر موت الرسول وظهور المشركين.
قوله تعالى: (عليهم دائرة السوء) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو بضم السين. وقرأ نافع، وعاصم
وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " السوء " بفتح السين، وكذلك قرؤوا في سورة (الفتح)، والمعنى
عليهم يعود ما ينتظرونه لك من البلاء. قال الفراء: وفتح السين من السوء هو وجه الكلام. فمن
فتح أراد المصدر من: سؤته سوءا ومساءة ومن رفع السين، جعله اسما، كقولك:
عليهم دائرة البلاء والعذاب. لا يجوز ضم السين في قوله [تعالى]: (ما كان أبوك امرأ سوء) ولا
في قوله [تعالى]: (وظننتم ظن السوء) لأنه ضد لقولك: رجل صدق. وليس للسوء هاهنا معنى
في عذاب ولا بلاء، فيضم.
ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات
الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم (99)
قوله تعالى: (ومن الأعراب من يؤمن بالله) قال ابن عباس: وهم من أسلم من الأعراب،
مثل جهينة، وأسلم، وغفار.
وفي قوله [تعالى]: (ويتخذ ما ينفق) قولان:
أحدهما: في الجهاد.
والثاني: في الصدقة. فأما القربات، فجمع قربة، وهي: ما يقرب العبد من رضى الله
ومحبته. قال الزجاج: وفي القربات ثلاثة أوجه: ضم الراء، وفتحها، وإسكانها. وفي المراد
بصلوات الرسول قولان:
أحدهما: استغفاره، قاله ابن عباس.
والثاني: دعاؤه، قاله قتادة، وابن قتيبة، والزجاج، وأنشد الزجاج:
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي * نوما، فإن لجنب المرء مضطجعا
قال: إن شئت قلت: مثل الذي، ومثل الذي، فالأول أمر لها بالدعاء، كأنه قال: ادعي لي
مثل الذي دعوت. والثاني بمعنى: عليك مثل هذا الدعاء.
332

قوله تعالى: (ألا إنها قربة لهم) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة،
والكسائي: " قربة لهم " خفيفة. وروى ورش، وإسماعيل بن جعفر عن نافع، وأبان، والمفضل عن
عاصم: " قربة لهم " بضم الراء.
وفي المشار إليها وجهان:
أحدهما: أن الهاء ترجع إلى نفقتهم وإيمانهم.
والثاني: إلى صلوات الرسول.
قوله تعالى: (سيدخلهم الله في رحمته) قال ابن عباس: في جنته.
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم
ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز
العظيم (100)
قوله تعالى: (والسابقون الأولون) فيهم ستة أقوال:
أحدها: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، قاله أبو موسى الأشعري،
وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وقتادة.
والثاني: أنهم بايعوا رسول الله بيعة الرضوان، وهي الحديبية، قاله الشعبي.
والثالث: أنهم أهل بدر، قاله عطاء بن أبي رباح.
والرابع: أنهم جميع أصحاب رسول الله، حصل لهم السبق بصحبته. قال محمد بن كعب
القرظي: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنة محسنهم ومسيئهم في قوله
[تعالى]: (والسابقون الأولون).
والخامس: أنهم السابقون بالموت والشهادة، سبقوا إلى ثواب الله تعالى. ذكره الماوردي.
والسادس: أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة، ذكره القاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: (من المهاجرين والأنصار) قرأ يعقوب: " والأنصار " برفع الراء.
قوله تعالى: (والذين اتبعوهم باحسان) من قال: إن السابقين جميع الصحابة، جعل هؤلاء
تابعي الصحابة، وهم الذين لم يصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: والذين
اتبعوهم باحسان إلى أن تقوم الساعة. ومن قال: هم المتقدمون من الصحابة، قال: هؤلاء تبعوهم
في طريقهم، واقتدوا بهم في أفعالهم، ففضل أولئك بالسبق، وإن كانت الصحبة حاصلة
للكل. وقال عطاء: اتباعهم إياهم بإحسان: أنهم يذكرون محاسنهم ويترحمون عليهم.
333

قوله تعالى: (تجري تحتها الأنهار) قرأ ابن كثير: " من تحتها " فزاد " من " وكسر التاء الثانية.
قوله تعالى: (رضي الله عنهم) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما
جازاهم به.
وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن
نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم (101)
قوله تعالى: (وممن حولكم من الأعراف منافقون) قال ابن عباس: مزينة، وجهينة، وأسلم،
وغفار، وأشجع، كان فيهم بعد إسلامهم منافقون. قال مقاتل: وكانت منازلهم حول المدينة.
قوله تعالى: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا، منهم
عبد الله بن أبي، وجد بن قيس، والجلاس، ومعتب، ووحوح، وأبو عامر الراهب. وقال أبو
عبيدة: عتوا ومرنوا عليه، وهو من قولهم: تمرد فلان، ومنه: شيطان مريد.
فإن قيل: كيف قال: (ومن أهل المدينة مردوا)، وليس يجوز في الكلام: من القوم قعدوا؟
فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدهن: أن تكون " من " الثانية مردودة على الأولى، والتقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن
أهل المدينة منافقون، ثم استأنف " مردوا ".
والثاني: أن يكون في الكلام " من " مضمر، تقديره: ومن أهل المدينة من مردوا، فاضمرت
" من " لدلالة " من " عليها، كقوله [تعالى]: (وما منا إلا له مقام معلوم) يريد: إلا من له مقام
معلوم، وعلى هذا ينقطع الكلام عند قوله [تعالى]: " منافقون ".
والثالث: أن " مردوا " متعلق بمنافقين، تقديره: ومن أهل المدينة منافقون مردوا، ذكر هذه
الأجوبة ابن الأنباري.
قوله تعالى: (لا تعلمهم) فيه وجهان:
أحدهما: لا تعلمهم أنت حتى نعلمك بهم.
والثاني: لا تعلم عواقبهم.
قوله تعالى: (سنعذبهم مرتين) فيه عشرة أقوال:
أحدها: أن العذاب الأول في الدنيا، وهو فضيحتهم بالنفاق. والعذاب.
334

والثاني: عذاب القبر، قاله ابن عباس. قال: وقام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يوم جمعة خطيبا، فقال " يا
فلان اخرج فإنك منافق، ويا فلان اخرج " ففضحهم.
والثاني: ان العذاب الأول: إقامة الحدود عليهم، والثاني: عذاب القبر، وهذا مروي عن
ابن عباس أيضا.
والثالث: أن أحد العذابين: الزكاة التي تؤخذ منهم، والآخر: الجهاد الذي يؤمرون به، قاله
الحسن.
والرابع: الجوع، وعذاب القبر، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال أبو
مالك.
والخامس: الجوع والقتل، رواه سفيان عن أبي نجيح عن مجاهد.
والسادس: القتل والسبي، رواه معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال ابن قتيبة: القتل
والأسر.
والسابع: أنهم عذبوا بالجوع مرتين، رواه خصيف عن مجاهد.
والثامن أن عذابهم في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد، وفي الآخرة بالنار، قاله ابن
زيد.
والتاسع: أن الأول: عند الموت، تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، والثاني: في القبر
بمنكر ونكير، قاله مقاتل بن سليمان.
والعاشر: أن الأول بالسيف، والثاني عند الموت، قاله مقاتل بن حيان.
قوله تعالى: (ثم يردون إلى عذاب عظيم) يعني عذاب جهنم.
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم
إن الله غفور رحيم (102)
قوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنهم عشرة رهط تخلفوا عن النبي في غزوة تبوك فلما دنا رجوع النبي صلى الله عليه وسلم، أوثق
سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد. فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال " من هؤلاء "؟ قالوا: هذا أبو
لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك، فأقسموا بالله لا يطلقون أنفسهم حتى تطلقهم أنت وتعذرهم، فقال
" وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا
335

عن الغزو مع المسلمين " فنزلت هذه الآية، فأرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم، رواه علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس: وروى العوفي عن ابن عباس أن الذين تخلفوا كانوا ستة، فأوثق أبو لبابة نفسه
ورجلان معه، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم فلما نزلت هذه الآية، أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة،
ووديعة بن خذام الأنصاري. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد، وزيد بن أسلم: كانوا ثمانية. وقال
قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا سبعة.
والثاني: أنها نزلت في أبي لبابة وحده، واختلفوا في ذنبه على قولين:
أحدهما: أنه خان الله ورسوله بإشارته إلى بني قريظة حين شاوروه في النزول على حكم سعد
أنه الذبح، وهذا قول مجاهد، وقد شرحناه في [سورة] الأنفال.
والثاني: أنه تخلفه عن تبوك. قاله الزهري. فأما الاعتراف، فهو الاقرار بالشئ عن معرفة.
والاعتراف بالذنب أدعى إلى صدق التوبة والقبول.
قوله تعالى: (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) قال ابن جرير: وضع الواو مكان الباء،
والمعنى: بآخر سئ، كما يقال: خلطت الماء واللبن.
وفي ذلك العمل قولان:
أحدهما: أن العمل الصالح: ما سبق من جهادهم، والسئ: التأخر عن الجهاد، قاله
السدي.
والثاني: أن العمل الصالح: توبتهم، والسئ: تخلفهم، ذكره الفراء. وفي قوله [تعالى]:
(عسى الله) قولان:
أحدهما: أنه واجب من الله تعالى، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه ترديد لهم بين الطمع والإشفاق، وذلك يصد عن اللهو والإهمال.
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم
والله سميع عليم (103)
قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) قال المفسرون: لما تاب الله [عز وجل] على أبي لبابة
وأصحابه، قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا فتصدق بها عنا، فقال " ما أمرت أن آخذ من أموالكم
336

شيئا " فنزلت هذه الآية. " وفي هذه الصدقة " قولان:
أحدهما: أنها الصدقة التي بذلوها تطوعا، قاله ابن زيد، والجمهور.
والثاني: الزكاة، قاله عكرمة.
قوله تعالى: (تطهرهم) وقرأ الحسن " تطهرهم بها " بجزم الراء. قال الزجاج: يصلح أن
يكون قوله " تطهرهم " نعتا للصدقة كأنه قال: خذ من أموالهم صدقة مطهرة. والأجود أن يكون
للنبي صلى الله عليه وسلم، المعنى: فإنك تطهرهم بها ف‍ " تطهرهم " بالجزم، على جواب الأمر، المعنى: إن تأخذ
من أموالهم، تطهرهم. ولا يجوز في " تزكيهم " إلا إثبات الياء. اتباعا للمصحف. قال ابن عباس:
" تطهرهم " من الذنوب، " وتزكيهم ": تصلحهم. وفي قوله [تعالى]: (وصل عليهم) قولان:
أحدهما: استغفر لهم، قاله ابن عباس.
والثاني: ادع لهم، قاله السدي.
قوله تعالى: (إن صلواتك) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن
عاصم " إن صلواتك " على الجمع. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم " إن صلاتك " على
التوحيد. وفي قوله [تعالى]: (سكن لهم) خمسة أقوال:
أحدها: طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة:
تثبيت وسكون.
والثاني: رحمة لهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: قربة لهم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والرابع: وقار لهم، قاله قتادة.
والخامس: تزكية لهم، حكاه الثعلبي. قال الحسن، وقتادة: وهؤلاء سوى الثلاثة الذين
خلفوا.
ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب
الرحيم (104) وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم
الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (105)
قوله تعالى: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة) قرأ الجمهور " يعلموا " بالياء. وروى عبد
337

الوارث " تعلموا " بالتاء. وقوله [تعالى]: (يقبل التوبة عن عباده) قال أبو عبيدة: أي: من
عبيده، تقول: أخذته منك، وأخذته عنك.
قوله تعالى: (ويأخذ الصدقات) قال ابن قتيبة: أي: يقبلها. ومثله (خذ العفو)
أي: اقبله.
قوله تعالى: (وقل اعملوا) قال ابن زيد: هذا خطاب للذين تابوا.
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم (106)
قوله تعالى: (وآخرون مرجؤن) وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي " مرجون " بغير همز.
والآية نزلت في كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وكانوا فيمن تخلف عن تبوك
من غير عذر، ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه، ولم يوثقوا أنفسهم
بالسواري، فوقف رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أمرهم، ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم حتى نزل قوله
[تعالى]: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا). قال الزجاج: " وآخرون " عطف على قوله: " ومن
أهل المدينة "، فالمعنى: منهم منافقون، ومنهم (آخرون مرجون) أي: مؤخرون، و " إما "
لوقوع أحد الشيئين، والله تعالى عالم بما يصير إليه أمرهم، لكنه خاطب العباد بما يعلمون،
فالمعنى: ليكن أمرهم عندكم على الخوف والرجاء.
قوله تعالى: (والله عليم حكيم) أي: عليم بما يؤول إليه حالهم، حكيم بما يفعله بهم.
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله
ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون (107)
قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة،
والكسائي: " والذين " بواو، وكذلك هي في مصاحفهم. وقرأ نافع، وابن عامر: " الذين "
بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام. قال أبو علي: من قرأ بالواو، فهو
معطوف على ما قبله، نحو قوله [تعالى]: (ومنهم من عاهد الله)، (ومنهم من يلمزك)
(ومنهم الذين يؤذون النبي)، والمعنى: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا. ومن حذف الواو، فعلى
وجهين:
338

أحدهما: أن يضمر - ومنهم الذين اتخذوا - كقوله [تعالى]: أكفرتم، المعنى: فيقال
لهم: أكفرتم.
والثاني: أن يضمر الخبر بعد، كما أضمر في قوله [تعالى]: (إن الذين كفروا ويصدون
عن سبيل الله والمسجد الحرام) المعنى: ينتقم منهم ويعذبون. قال أهل التفسير: لما اتخذ
بنو عمرو بن عوف مسجد قباء، وبعثوا إلى رسول الله، فأتاهم، فصلى فيه، حسدهم إخوتهم بنو
غنم بن عوف، وكانوا من منافقي الأنصار، فقالوا: نبني مسجدا، ونرسل إلى رسول الله فيصلي
فيه، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية وتنصر،
فلما قدم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] المدينة، عاداه، فخرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن أعدوا ما
استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدا، فإني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند الروم فأخرج محمدا
وأصحابه، فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن
خالد ومن داره أخرج المسجد، ونبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، وثعلبة بن حاطب، ومعتب
ابن قشير، وعباد بن حنيف، ووديعة بن ثابت، وأبو حبيبة بن الأزعر، وجارية بن عامر، وابناه
يزيد ومجمع، وكان مجمع إمامهم فيه، ثم صلحت حاله، وبحزج جد عبد الله بن حنيف،
وهو الذي قال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " ما أردت بما أرى "؟ فقال: والله ما أردت إلا الحسنى، وهو
كاذب. وقال مقاتل: الذي حلف مجمع. وقيل: كانوا سبعة عشر، فلما فرغوا منه، أتوا رسول
الله [صلى الله عليه وسلم] فقالوا: إنا قد ابتنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا
فتصلي فيه، فدعا بقميصه ليلبسه، فنزل عليه القرآن وأخبره الله خبرهم، فدعا معن بن عدي،
ومالك بن الدخشم في آخرين، وقال: " انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه
وأحرقوه "، وأمر به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف. ومات أبو عامر بالشام
وحيدا غريبا.
فأما التفسير، فقال الزجاج: " الذين " في موضع رفع، المعنى: ومنهم الذين اتخذوا
مسجدا ضرارا. و " ضرارا " انتصب مفعولا له، المعنى: اتخذوه للضرار والكفر والتفريق
والإرصاد. فلما حذفت اللام، أفضى الفعل فنصب. قال المفسرون: والضرار بمعنى المضارة
لمسجد قباء، (وكفرا) بالله ورسوله (وتفريقا بين المؤمنين) لأنهم كانوا يصلون في مسجد قباء
جميعا، فأرادوا تفريق جماعتهم، والإرصاد: الانتظار، فانتظروا به مجئ أبي عامر، وهو الذي
339

حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار. (وليحلفن إن أردنا) أي: ما أردنا (إلا
الحسنى) أي: ما أردنا بابتنائه إلا الحسنى، وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: طاعة الله.
والثاني: الجنة.
والثالث: فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة. وقد ذكرنا اسم الحالف.
لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال
يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين (108)
قوله تعالى: (لا تقم فيه) أي: لا تصل فيه أبدا. (لمسجد أسس على التقوى) أي:
بني على الطاعة، وبناه المتقون (من أول يوم) أي: منذ أول يوم. قال الزجاج: " من " في
الزمان، والأصل: منذ ومذ، وهو الأكثر في الاستعمال. وجائز دخول " من " لأنها الأصل في
ابتداء الغاية والتبعيض، ومثله قول زهير:
لمن الديار بقنة الحجر * أقوين من حجج ومن شهر
أحدها: أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الذي فيه منبره وقبره. روى سهل بن سعد أن
رجلين اختلفا في عهد رسول الله في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد
الرسول، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال " هو مسجدي هذا "
وبه قال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب.
والثاني: أنه مسجد قباء، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير،
وقتادة، وعروة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، ومقاتل.
والثالث: أنه كل مسجد بني في المدينة، قاله محمد بن كعب.
قوله تعالى: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) سبب نزولها أن رجالا من أهل قباء كانوا
يستنجون بالماء، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، أتاهم
340

رسول الله فقال " ما الذي أثنى الله به عليكم " فقالوا: إنا نستنجي بالماء. فعلى هذا، المراد به
الطهارة بالماء. وقال أبو العالية: أن يتطهروا من الذنوب.
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا
جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين (109)
قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي
" أسس " بفتح الألف في الحرفين جميعا وفتح النون فيهما. وقرأ نافع، وابن عامر " أسس " بضم
الألف " بنيانه " برفع النون. والبنيان مصدر يراد به المبني. والتأسيس: إحكام أس البناء، وهو
أصله، والمعنى: المؤسس بنيانه متقيا يخاف الله ويرجو رضوانه خير، أم المؤسس بنيانه غير
متق؟. قال الزجاج: وشفا الشئ: حرفه وحده. والشفا مقصور، يكتب بالألف، ويثنى
شفوان.
قوله تعالى: (جرف) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي " جرف " مثقلا. وقرأ
ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: " جرف " ساكنة الراء. قال أبو علي: فالضم الأصل،
والإسكان تخفيف، ومثله: الشغل والشغل. قال ابن قتيبة: المعنى: على حرف جرف هائر.
والجرف: ما يتجرف بالسيول من الأودية. والهائر: لأن الساقط. ومنه: تهور البناء وانهار: إذا
سقط. وقرأ ابن كثير: وحمزة " هار " بفتح الهاء. وأمال الهاء نافع، وأبو عمرو. وعن عاصم
كالقراءتين.
قوله تعالى: (فانهار به) أي: بالباني (في نار جهنم). قال الزجاج: وهذا مثل،
والمعنى: أن بناء هذا المسجد كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها. وقال قتادة: ذكر لنا أنهم
حفروا فيه حفرة، فرؤي فيها الدخان. قال جابر: رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه
الدخان.
لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم (110)
قوله تعالى: (لا يزال بنيانهم) يعني: مسجد الضرار (الذي بنوا ريبة في قلوبهم) وفيها
ثلاثة أقوال:
341

أحدها: شكا ونفاقا، لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه، قاله ابن عباس، وابن
زيد.
والثاني: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه، قاله ابن السائب ومقاتل.
والثالث: أن المعنى: لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظا في قلوبهم، قاله السدي،
والمبرد.
قوله تعالى: (إلا أن تقطع قلوبهم) قرأ الأكثرون: " إلا " وهو حرف استثناء. وقرأ يعقوب
" إلى أن " فجعله حرف جر. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن
عاصم: " تقطع " بضم التاء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: " تقطع " بفتح
التاء. ثم في المعنى قولان:
أحدهما: إلا أن يموتوا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في آخرين.
والثاني: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم، ذكره الزجاج.
* إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله
فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده
من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (111)
قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) سبب نزولها أن الأنصار لما بايعت
رسول الله ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلا، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك
ولنفسك ما شئت، فقال " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه
أنفسكم "، قالوا: فإذا فعلنا ذلك، فما لنا؟ قال: " الجنة " قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا
نستقيل، فنزلت (إن الله اشترى...) الآية، قاله محمد بن كعب القرظي. فأما اشتراء
النفس، فبالجهاد.
وفي اشتراء الأموال وجهان:
أحدها: بالإنفاق في الجهاد.
والثاني: بالصدقات. وذكر الشراء ها هنا مجاز، لأن المشتري حقيقة هو الذي لا يملك
342

المشترى، فهو كقوله [تعالى]: (من ذا الذي يقرض الله) والمراد من الكلام أن الله
أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم عن ذلك بالجنة، فعبر عنه بالشراء لما تضمن من عوض
ومعوض. وكان الحسن يقول: لا والله، إن في الدنيا مؤمن إلا وقد أخذت بيعته. وقال قتادة:
ثامنهم والله فأغلى لهم.
قوله تعالى: (فيقتلون ويقتلون) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم
" فيقتلون ويقتلون " فاعل ومفعول. وقرأ حمزة، والكسائي " فيقتلون ويقتلون " مفعول وفاعل. قال
أبو علي: القراءة الأولى بمعنى أنهم يقتلون أولا ويقتلون، والأخرى يجوز أن تكون في المعنى
كالأولى، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم، فإن لم يقدر فيه التقديم، فالمعنى: يقتل
من بقي منهم بعد قتل من قتل، كما أن قوله [تعالى]: (فما وهنوا لما أصابهم) ما وهن من
بقي بقتل من قتل. ومعنى الكلام: إن الجنة عوض عن جهادهم، قتلوا أو قتلوا. (وعدا عليه
قال الزجاج: نصب " وعدا " بالمعنى، لأن معنى قوله (بأن لهم الجنة): (وعدا عليه حقا)،
قال: وقوله [تعالى]: (في التوراة والإنجيل) يدل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا
عليه الجنة.
قوله تعالى: (ومن أوفى) أي: لا أحد أوفى بما وعد (من الله). (فاستبشروا) أي:
فافرحوا بهذا البيع.
التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف
والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين (112)
قوله تعالى: (التائبون) سبب نزولها: أنه لما نزلت التي قبلها، قال رجل: يا رسول
الله، وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. قال الزجاج:
يصلح الرفع هاهنا على وجوه أحدها: المدح، كأنه قال: هؤلاء التائبون، أو هم التائبون.
ويجوز أن يكون على البدل، والمعنى: يقاتل التائبون، فهذا مذهب أهل اللغة، والذي عندي أنه
رفع بالابتداء، وخبره مضمر، المعنى: التائبون ومن ذكر معهم لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذا
لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد، لأن بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد.
وللمفسرين في قوله [تعالى]: " التائبون " قولان:
343

أحدهما: الراجعون عن الشرك والنفاق والمعاصي.
والثاني: الراجعون إلى الله في فعل ما أمر واجتناب ما حظر.
وفي قوله [تعالى]: (العابدون) ثلاثة أقوال:
أحدها: المطيعون لله بالعبادة، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: المقيمون الصلاة، قاله الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: الموحدون، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: (الحامدون) قال قتادة: يحمدون الله تعالى على كل حال.
وفي السائحين أربعة أقوال:
أحدها: الصائمون، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة في
آخرين. قال الفراء: ويرى أهل النظر أن الصائم إنما سمي سائحا تشبيها بالسائح، لأن السائح لا
زاد معه، والعرب تقول للفرس إذا كان قائما لا علف بين يديه: صائم، وذلك أن له قوتين، غدوة
وعشية، فشبه به صيام الآدمي لتسحره وإفطاره.
والثاني: أنهم الغزاة، قاله عطاء.
والثالث: طلاب العلم، قاله عكرمة.
والرابع: المهاجرون، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: (الراكعون الساجدون) يعني في الصلاة (الآمرون بالمعروف) وهو طاعة
الله. (والناهون عن المنكر) وهو معصية الله.
فإن قيل: ما وجه دخول الواو في قوله [تعالى]: (والناهون)؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن الواو إنما دخلت ها هنا لأنها الصفة الثامنة، والعرب تعطف بالواو على
السبعة، كقوله [تعالى]: (وثامنهم كلبهم) وقوله في صفة الجنة: (وفتحت أبوابها)،
ذكره جماعة من المفسرين.
والثاني: أن الواو إنما دخلت على الناهين لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره،
فكان دخول الواو دلالة على أن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر كما ينفرد الحامدون
بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين في بعض الأحوال والأوقات.
قوله تعالى: (والحافظون لحدود الله) قال الحسن: القائمون بأمر الله.
344

ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين
لهم أنهم أصحاب الجحيم (113) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما
تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم (114)
قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) في سبب نزولها أربعة
أقوال:
أحدها: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وعنده أبو جهل،
وعبد الله بن أبي أمية، فقال: " أي عم، قل معي: لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله "،
فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزالا يكلمانه،
حتى قال آخر شئ كلمهم به: أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لأستغفرن لك ما لم أنه
عنك "، فنزلت (ما كان للنبي والذين آمنوا...) الآية، ونزلت (إنك لا تهدي من أحببت)
أخرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه. وقيل: إنه
لما مات أبو طالب، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر له، فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا
ولذوي قراباتنا، وقد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه؟ فاستغفروا للمشركين،
فنزلت هذه الآية. قال أبو الحسين بن المنادي: هذا لا يصح، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه
" لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " قبل أن يموت، وهو في السياق، فأما أن يكون استغفر له بعد
الموت، فلا، فانقلب ذلك على الرواة، وبقي على انقلابه.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أمه آمنة، فتوضأ وصلى ركعتين، ثم بكى فبكى الناس
لبكائه، ثم انصرف إليهم، فقالوا: ما الذي أبكاك؟ فقال: " مررت بقبر أمي فصليت ركعتين،
ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها، فنهيت، فبكيت، ثم عدت فصليت ركعتين، واستأذنت ربي أن
أستغفر لها، فزجرت زجرا، فأبكاني "، ثم دعا براحلته فركبها، فما سار إلا هنيأة، حتى قامت
الناقة لثقل الوحي، فنزلت (ما كان للنبي والذين آمنوا) والآية التي بعدها، رواه بريدة عن رسول
الله.
والثالث: أن رجلا استغفر لأبويه، وكانا مشركين، فقال له علي بن أبي طالب: أتستغفر
345

لهما وهما مشركان؟ فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكر ذلك علي لرسول الله، فنزلت هذه
الآية والتي بعدها، رواه أبو الخليل عن علي عليه السلام.
والرابع: أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله، إن من آبائنا من كان يحسن
الجوار، ويصل الرحم، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ فقال: " بلى، والله
لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه "، فنزلت هذه الآية، وبين عذر إبراهيم، قاله قتادة.
ومعنى قوله [تعالى]: (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) أي: من بعد ما بان أنهم
ماتوا كفارا.
قوله تعالى: (إلا عن موعدة وعدها إياه) فيه قولان:
أحدهما: أن إبراهيم وعد أباه الاستغفار، وذلك قوله [تعالى]: (سأستغفر لك ربي)،
وما كان يعلم أن الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره الله تعالى بذلك.
والثاني: أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن، فلما تبين لإبراهيم عداوة أبيه لله تعالى بموته
على الكفر، ترك الدعاء له. فعلى الأول، تكون هاء الكناية في " إياه " عائدة على آزر، وعلى
الثاني، تعود على إبراهيم. وقرأ ابن السميفع، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك: " وعدها أباه " بالباء.
وفي الأواه ثمانية أقوال:
أحدها: أنه الخاشع الدعاء المتضرع، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه الدعاء، رواه زر عن عبد الله، وبه قال عبيد بن عمير.
والثالث: الرحيم، رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود، وبه قال الحسن، وقتادة، وأبو
ميسرة.
والرابع: أنه الموقن، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة،
والضحاك.
والخامس: أنه المؤمن، رواه العوفي، ومجاهد، وابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والسادس: أنه المسبح، رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة، وبه قال سعيد بن المسيب، وابن
جبير.
والسابع: أنه المتأوه لذكر عذاب الله، قاله الشعبي. قال أبو عبيدة: مجاز أواه مجاز فعال
من التأوه، ومعناه: متضرع شفقا وفرقا ولزوما لطاعة ربه، قال المثقب:
إذا ما قمت أرحلها بليل * تأوه آهة الرجل الحزين
والثامن: أنه الفقيه، رواه ابن جريج عن مجاهد. فأما الحليم، فهو الصفوح عن الذنوب.
346

وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شئ
عليم (115) إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من
ولي ولا نصير (116)
قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوما...) الآية، سبب نزولها: أنه لما نزلت آية
الفرائض، وجاء النسخ، وقد غاب قوم وهم يعلمون بالأمر الأول مثل أمر القبلة والخمر، ومات أقوام
على ذلك، سألوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وقال قوم: المعنى: أنه بين أنه لم يكن ليأخذهم بالاستغفار للمشركين قبل تحريمه، فإذا حرمه ولم
يمتنعوا عنه، فقد ضلوا. وقال ابن الأنباري: في الآية حذف واختصار، والتأويل: حتى يتبين لهم ما
يتقون، فلا يتقونه، فعند ذلك يستحقون الضلال، فحذف ما حذف لبيان معناه، كما تقول العرب:
أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال، يريدون: فتجرت فكسبت.
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما
كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم (117)
قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي) قال المفسرون: تاب عليه من إذنه للمنافقين في
التخلف. وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم،
كقوله [تعالى]: (فأن لله خمسه وللرسول).
قوله تعالى: (الذين اتبعوه في ساعة العسرة) قال الزجاج: هم الذين اتبعوه في غزوة تبوك،
والمراد بساعة العسرة: وقت العسرة، لأن الساعة تقع على كل الزمان، وكان في ذلك الوقت حر
شديد، والقوم في ضيقة شديدة، كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه، وكانوا في فقر، فربما اقتسم
التمرة اثنان، وربما مص التمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء، وربما نحروا الإبل فشربوا من ماء
كروشها من الحر. وقيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن ساعة العسرة، فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ
شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستقطع، حتى إن الرجل ليذهب يلتمس
الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه،
ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا،
347

فادع لنا. قال: " تحب ذلك "؟ قال: نعم. فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فملؤوا ما
معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.
قوله تعالى: (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) قرأ حمزة، وحفص عن عاصم: " كاد
يزيغ " بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: تميل إلى التخلف عنه، وهم ناس من المسلمين هموا بذلك، ثم لحقوه، قاله أبو
صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن القلوب مالت إلى الرجوع للشدة التي لقوها، ولم تزغ عن الإيمان، قاله
الزجاج.
والثالث: أن القلوب كادت تزيغ تلفا بالجهد والشدة، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (ثم تاب عليهم) كرر ذكر التوبة، لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم
ذكر التوبة فضلا منه، ثم ذكر ذنبهم، ثم أعاد ذكر التوبة.
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم
أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (118)
قوله تعالى: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، والشعبي، وابن
يعمر: " خالفوا " بألف. وقرأ معاذ القارئ، وعكرمة، وحميد: " خلفوا " بفتح الخاء واللام
المخففة. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو العالية: " خلفوا " بفتح الخاء واللام مع تشديدها. وهؤلاء هم
المرادون بقوله [تعالى]: (وآخرون مرجون) وقد تقدمت أسماؤهم. وفي معنى " خلفوا "
قولان:
أحدهما: خلفوا عن التوبة، قاله ابن عباس، ومجاهد. فيكون المعنى: خلفوا عن توبة الله على أبي لبابة
وأصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك.
والثاني: خلفوا عن غزوة تبوك، قاله قتادة. وحديثهم مندرج في توبة كعب بن مالك، وقد
رويتها في كتاب " الحدائق ".
قوله تعالى: (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) أي: ضاقت مع سعتها، وذلك أن
المسلمين منعوا من معاملتهم وكلامهم، وأمروا باعتزال أزواجهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم.
348

(وضاقت عليهم أنفسهم) بالهم والغم. (وظنوا) أي: أيقنوا (أن لا ملجأ) أي: لا
معتصم من الله ومن عذابه إلا هو. (ثم تاب عليهم) أعاد التوبة تأكيدا، (ليتوبوا) قال ابن
عباس: ليستقيموا. وقال غيره: وفقهم للتوبة ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها. وسئل بعضهم
عن التوبة النصوح، فقال: أن تضيق على التائب الأرض، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب
وصاحبيه.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونا مع الصادقين (119)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنها نزلت في قصة الثلاثة المتخلفين.
والثاني: أنها في أهل الكتاب. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في
إيمانكم بمحمد وكونوا مع الصادقين.
وفي المراد بالصادقين خمسة أقوال:
أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قاله ابن عمر.
والثاني: أبو بكر وعمر، قاله سعيد بن جبير، والضحاك. وقد قرأ ابن السميفع، وأبو المتوكل،
ومعاذ القارئ: " مع الصادقين " بفتح القاف وكسر النون على التثنية.
والثالث: أنهم الثلاثة الذين خلفوا، صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخرهم، قاله السدي.
والرابع: أنهم المهاجرون، لأنهم لم يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد، قاله ابن جريج. قال
أبو سليمان الدمشقي: وقيل: إن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية يوم السقيفة، فقال: يا معشر
الأنصار، إن الله يقول في كتابه: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا) إلى قوله [تعالى]:
(أولئك هم الصادقون) من هم؟ قالت الأنصار: أنتم هم. قال: فإن الله تعالى يقول: (اتقوا الله
وكونوا مع الصادقين) فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم، فنحن الأمراء وأنتم
الوزراء.
والخامس: أنه عام، قاله قتادة. و " مع " بمعنى: " من "، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود:
" وكونوا من الصادقين ".
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا
بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا
349

يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله
لا يضيع أجر المحسنين (120) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا
كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون (121)
قوله تعالى: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب) قال ابن عباس: يعني:
مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، (أن يتخلفوا عن رسول الله) في غزوة غزاها، (ولا
يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله في الحر والمشقة.
يقال: رغبت بنفسي عن الشئ: إذا ترفعت عنه.
قوله تعالى: (ذلك) أي: ذلك النهي عن التخلف (بأنهم لا يصيبهم ظمأ) وهو العطش
(ولا نصب) وهو التعب (ولا مخمصة) وهي المجاعة (ولا ينالون من عدو نيلا) أسرا أو قتلا
أو هزيمة، فأعلمهم الله أنه يجازيهم على جميع ذلك.
قوله تعالى: (ولا ينفقون نفقة صغيرة) قال ابن عباس: تمرة فما فوقها. (ولا يقطعون
واديا) مقبلين أو مدبرين (إلا كتب لهم) أي: أثبت لهم أجر ذلك. (ليجزيهم الله أحسن)
أي: بأحسن (ما كانوا يعملون).
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله: اختلف المفسرون في هذه الآية، فقالت طائفة: كان في أول
الأمر لا يجوز التخلف عن رسول الله حيث كان الجهاد يلزم الكل، ثم نسخ ذلك بقوله [تعالى]:
(وما كان المؤمنون لينفروا كافة)، وقالت طائفة: فرض الله تعالى على جميع المؤمنين في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ممن
لا عذر له الخروج معه لشيئين:
أحدهما: أنه من الواجب عليهم أن يقوه بأنفسهم.
والثاني: أنه إذا خرج الرسول فقد خرج الدين كله، فأمروا بالتظاهر لئلا يقل العدد، وهذا
الحكم باق إلى وقتنا، فلو خرج أمير المؤمنين إلى الجهاد، وجب على عامة المسلمين متابعته لما
ذكرنا. فعلى هذا، الآية محكمة. قال أبو سليمان: لكل آية وجهها، وليس للنسخ على إحدى
الآيتين طريق.
* وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
350

ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (122)
قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أنه لما أنزل الله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك، قال المؤمنون: والله لا
نتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله ولا سرية أبدا. فلما أرسل السرايا بعد تبوك، نفر المسلمون
جميعا، وتركوا رسول الله وحده، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لما دعا على مضر، أجدبت بلادهم، فكانت القبيلة منهم تقبل
بأسرها إلى المدينة من الجهد * وتظهر الإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أن ناسا أسلموا، وخرجوا إلى البوادي يعلمون قومهم، فنزلت: (إلا تنفروا
يعذبكم)، فقال ناس من المنافقين: هلك من لم ينفر من أهل البوادي، فنزلت هذه الآية، قاله
عكرمة.
والرابع: أن ناسا خرجوا إلى البوادي يعلمون الناس ويهدونهم، ويصيبون من الحطب ما
ينتفعون به، فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا، فأقبلوا من البادية كلهم،
فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. قال الزجاج: ولفظ الآية لفظ الخبر، ومعناها الأمر، كقوله
[تعالى]: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين)، والمعنى: ينبغي أن ينفر بعضهم،
ويبقى البعض. قال الفراء: ينفر وينفر، بكسر الفاء وضمها، لغتان. واختلف المفسرون في المراد
بهذا النفير على قولين:
أحدهما: أنه النفير إلى العدو، فالمعنى: ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم، بل تنفر طائفة،
وتبقى مع النبي [صلى الله عليه وسلم] طائفة. (ليفقهوا في الدين) يعني الفرقة القاعدين. فإذا رجعت السرايا،
وقد نزل بعدهم قرآن أو تجدد أمر، أعلموهم به وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا المعنى مروي
عن ابن عباس.
والثاني: أنه النفير إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، بل تنفر منهم طائفة ليتفقه هؤلاء الذين ينفرون،
ولينذروا قومهم المتخلفين، هذا قول الحسن، وهو أشبه بظاهر الآية. فعلى القول الأول، يكون نفير
هذه الطائفة مع رسول الله إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه. وعلى القول الثاني، يكون نفير الطائفة
إلى رسول الله لاقتباس العلم.
351

يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن
الله مع المتقين (123) وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا
فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم
رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125) أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين
ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون (126)
قوله تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) قد أمر بقتال الكفار على العموم، وإنما يبتدأ
بالأقرب فالأقرب. وفي المراد بمن يليهم خمسة أقوال:
أحدها: أنهم الروم، قاله ابن عمر.
والثاني: قريظة، والنضير، وخيبر، وفدك، قاله ابن عباس.
والثالث: الديلم، قاله الحسن.
والرابع: العرب، قاله ابن زيد.
والخامس: أنه عام في قتال الأقرب فالأقرب، فالأقرب، قاله قتادة. وقال الزجاج: وفي هذه
الآية دليل على أنه ينبغي أن يقاتل أهل كل ثغر الذين يلونهم. قال: وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما
تخطى في حربه الذين يلونه من الأعداء ليكون ذلك أهيب له، فأمر بقتال من يليه ليستن بذلك. وفي
الغلظة ثلاث لغات: غلظة، بكسر الغين، وبها قرأ الأكثرون. وغلظة، بفتح الغين، رواها جبلة عن
عاصم، وغلظة، بضم الغين، رواها المفضل عن عاصم، ومثلها: جذوة وجذوة وجذوة، ووجنة
ووجنة ووجنة، ورغوة ورغوة ورغوة، وربوة وربوة وربوة، وقسوة وقسوة وقسوة، وإلوة وألوة وألوة، في
اليمين. وشاة لجبة ولجبة ولجبة: قد ولى لبنها. قال ابن عباس في قوله " غلظة ": شجاعة. وقال
مجاهد: شدة.
قوله تعالى: (فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) هذا قول المنافقين بعضهم لبعض
استهزاء بقول الله تعالى. (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) لأنهم إذا صدقوا بها وعملوا بما فيها،
زادتهم إيمانا. (وهم يستبشرون) أي: يفرحون بنزولها. (وأما الذين في قلوبهم مرض) أي: شك ونفاق.
وفي المراد بالرجس ثلاثة أقوال:
أحدها: الشك، قاله ابن عباس.
والثاني: الإثم، قاله مقاتل.
والثالث: الكفر، لأنهم كلما كفروا بسورة زاد كفرهم، قاله الزجاج.
352

قوله تعالى: (أولا يرون) يعني المنافقين. وقرأ حمزة: " أولا ترون " بالتاء على الخطاب
للمؤمنين. وفي معنى (يفتنون) ثمانية أقوال:
أحدها: يكذبون كذبة أو كذبتين يضلون بها، قاله حذيفة بن اليمان.
والثاني: ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: يبتلون بالغزو في سبيل الله، قاله الحسن، وقتادة.
والرابع: يفتنون بالسنة والجوع، قاله مجاهد.
والخامس: بالأوجاع والأمراض، قاله عطية.
والسادس: ينقضون عهدهم مرة أو مرتين، قاله يمان.
والسابع: يكفرون، وذلك أنهم كانوا إذا أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما تكلموا به إذ خلوا، علموا أنه
نبي، ثم يأتيهم الشيطان فيقول: إنما بلغه هذا عنكم، فيشركون، قاله مقاتل بن سليمان.
والثامن: يفضحون بإظهار نفاقهم، قاله مقاتل بن حيان.
قوله تعالى: (ثم لا يتوبون) أي: من نفاقهم. (ولا هم يذكرون) أي: يعتبرون
ويتعظون.
وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله
قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون (127)
قوله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض) قال ابن عباس: كانت إذا أنزلت
سورة فيها عيب المنافقين، وخطبهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وعرض بهم في خطبته، شق ذلك عليهم،
ونظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب، يقولون: (هل يراكم من أحد) من المؤمنين إن قمتم؟
فإن لم يرهم أحد، خرجوا من المسجد. قال الزجاج: كأنهم يقولون ذلك إيماء لئلا يعلم بهم أحد،
(ثم انصرفوا) عن المكان، وجائز عن العمل بما يسمعون. وقال الحسن: ثم انصرفوا على عزم
التكذيب بمحمد [صلى الله عليه وسلم] وبما جاء به.
قوله تعالى: (صرف الله قلوبهم) قال ابن عباس: عن الإيمان. وقال الزجاج: أضلهم
مجازاة على فعلهم.
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (128)
قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) قرأ الجمهور بضم الفاء. وقرأ ابن عباس،
وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو: بفتحها. وفي المضمومة أربعة
أقوال:
353

أحدها: من جميع العرب، قاله ابن عباس، وقال: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت رسول
الله [صلى الله عليه وسلم].
والثاني: ممن تعرفون، قاله قتادة.
والثالث: من نكاح لم يصبه شئ من ولادة الجاهلية، قاله جعفر الصادق.
والرابع: بشر مثلكم، فهو آكد للحجة، لأنكم تفقهون عمن هو مثلكم، قاله الزجاج. وفي
المفتوحة ثلاثة أقوال:
أحدها: أفضلكم خلقا.
والثاني: أشرفكم نسبا.
والثالث: أكثركم طاعة لله عز وجل.
قوله تعالى: (عزيز عليه ما عنتم) فيه قولان:
أحدهما: شديد عليه ما شق عليكم، رواه الضحاك عن ابن عباس. قال الزجاج: شديد عليه
عنتكم. والعنت: لقاء الشدة.
والثاني: شديد عليه ما آثمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: (حريص عليكم) قال الحسن: حريص عليكم أن تؤمنوا.
قوله تعالى: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) قال ابن عباس: سماه باسمين من أسمائه. وقال أبو
عبيدة: " رؤوف " فعول، من الرأفة، وهي أرق من الرحمة، ويقال: " رؤوف "، وأنشد:
ترى للمؤمنين عليك حقا * كفعل الوالد الرؤف الرحيم
وقيل رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين.
فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (129)
قوله تعالى: (فإن تولوا) أي: أعرضوا عن الإيمان (فقل حسبي الله) أي: يكفيني (رب
العرش العظيم). وقرأ ابن محيصن: " العظيم " برفع الميم. وإنما خص العرش بالذكر، لأنه
الأعظم، فيدخل فيه الأصغر. قال أبي بن كعب: آخر آية أنزلت (لقد جاءكم رسول...) إلى
آخر السورة.
تم بعون الله تعالى الجزء الثالث من زاد المسير
ويليه الجزء الرابع مبتدئا
بتفسير سورة يونس
354