الكتاب: تفسير السمرقندي
المؤلف: أبو الليث السمرقندي
الجزء: ٣
الوفاة: ٣٨٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: د.محمود مطرجي
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: بيروت - دار الفكر
الناشر: دار الفكر
ردمك:
ملاحظات:

سورة الروم وهي ستون آية مكية
سورة الروم 1 - 6
قول الله سبحانه وتعالى " ألم أي غلبت الروم " يعني قهرت الروم * (في أدنى الأرض) * مما يلي فارس يعني أرض الأردن وفلسطين * (وهم) * يعني أهل الروم * (من بعد غلبهم سيغلبون) * أهل فارس
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر ملك الروم، يدعوه إلى الإسلام فقرأ كتابه وقبله ووضعه على عينيه وختمه بخاتمه، ثم أوثقه على صدره ثم كتب جواب كتابه إنا نشهد أنك نبي ولكنا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفى الله عز وجل لعيسى فعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال (قد ثبت الله ملكهم إلى يوم القيامة إلى أدنى الأرض منها فيفتح الله عز وجل على المسلمين)
وكتب إلى كسرى ملك فارس فمزق كتابه ورجع الرسول بعدما أراد قتله فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال صلى الله عليه وسلم (قد مزق الله ملكهم فلا ملك لهم أبدا
إذا مات كسرى فلا كسرى بعده) فلما ظهرت فارس على الروم اغتم المسلمون لذلك * (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) *
قال في رواية الكلبي إن مشركي قريش شمتوا حين غلب المشركون أهل الكتاب فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه لم تشمتون فوالله ليظهرن الروم عليهم
فقال أبي بن خلف والله لا يكون ذلك أبدا فتبايع أبو بكر وأبي بن خلف لتظهرن الروم على فارس إلى ثلاث سنين على تسع ذود
فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالأمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم (انطلق فزده في الخطر ومده في الأجل) فرجع أبو بكر إلى أبي بن خلف فقال أنا أبايعك إلى سبع سنين على عشرة
3

ذود فبايعه فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة إلى المدينة مهاجرا أتاه فلزمه فكفل له عبد الرحمن بن أبي بكر
فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه محمد بن أبي بكر فلزمه فأعطاه كفيلا ثم خرج إلى أحد فظهرت الروم على فارس عام الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين فذلك قوله * (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) *
وروى أسباط عن السدي عن أصحابه قال اقتتلت فارس والروم فغلبتهم فارس ففخر أبو سفيان بن حرب على المسلمين وقال الذين ليس لهم كتاب غلبوا على الذين لهم كتاب فشق ذلك على المسلمين فلقي أبو بكر رضي الله عنه أبا سفيان فقامره على أن الروم ستغلب فارس إلى ثلاث سنين فقامره على ثلاثة أبكار ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له (انطلق فزد في الجعل وزد في السنين)
فزايده إلى سبع سنين على سبعة أبكار
فالتقى الروم وفارس فغلبتهم الروم وظهر عليهم هرقل، فجاءه جبريل عليه السلام بهزيمة فارس وظهور الروم عليهم ووافق ذلك يوم بدر وظهور النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين ففرح المؤمنون بظهورهم على المشركين وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك
ويقال عن أهل الروم كانوا أهل كتاب وكان المسلمون يرجون إسلامهم وأهل فارس كانوا مجوسا فكان المسلمون لا يرجون إسلامهم وكانوا يحزنون لغلبة فارس عليهم فنزل * (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض) * يعني أقرب الأرض إلى أرض فارس * (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) * روي عن الفراء أنه قال يعني من بعد غلبتهم ولكن عند الإضافة سقطت الهاء كما قال * (وأقام الصلاة) * الأنبياء 73 ولم يقل وإقامة الصلاة
وقال الزجاج هذا غلط وإنا يجوز ذلك في المعتل خاصة والغلب والغلبة كلاهما مصدر
و * (سيغلبون في بضع سنين) * يعني إلى خمس سنين ويقال إلى سبع سنين
روي عن أبي عبيدة أنه قال البضع من واحد إلى أربعة
وقال القتبي البضع ما فوق الثلاثة إلى دون العشرة
وقال مجاهد البضع ما بين الثلاث إلى التسع ويقال * (من بعد غلبهم) * وهذا اللفظ يكون للغالبين وللمغلوبين كقولهم من بعد قتلهم ثم قال عز وجل * (لله الأمر من قبل ومن بعد) * يعني لله الأمر حين غلبت الروم فارس * (ومن بعد) * يعني حين غلبت الروم فارس
ولفظ القبل والبعد إذا كان في آخر الكلام يكون رفعا على معنى الإضافة للغاية ولو كان إضافة إلى شيء يكون خفضا كقولك من بعدهم ومن قبلهم
4

ثم قال * (ويومئذ يفرح المؤمنون) * لما يرجون من إسلامهم ويقال يفرح أبو بكر رضي الله عنه خاصة ويقال يفرح المؤمنون بتصديق وعد الله تعالى
وروي عن الشعبي أنه قال كان ذلك عام الحديبية فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فبايعوه مبايعة الرضوان ووعد لهم غنائم خيبر وظهرت الروم على فارس وكان تصديقا لهذه الآية * (ويومئذ يفرح المؤمنون) * وإنما جازت مخاطرة أبي بكر رضي الله عنه لأن المخاطرة كانت مباحة في ذلك الوقت ثم حرمت بقوله * (إنما الخمر والميسر) * [المائدة 90] الآية
ثم قال * (بنصر الله) * يعني بفتح الله * (ينصر من يشاء) * يعني نصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه * (وهو العزيز الرحيم) * بالمؤمنين حين نصرهم
قوله عز وجل * (وعد الله) * نصب الوعد لأنه مصدر ومعناه * (وعد الله) * وعدا يعني انتظروا وعد الله
ثم قال * (لا يخلف الله وعده) * حيث وعد لهم غلبة الروم * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * يعني الكفار لا يعلمون أن الله عز وجل لا يخلف وعده ويقال لا يعلمون أمر الآخرة
سورة الروم 7 - 11
قوله عز وجل * (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) * يعني يعلمون حرفتهم وأمر معايشهم ومتى يدرك زرعهم
ويقال في أمر التجارة كانوا أكيس الناس
وقال الحسن كان الرجل منهم يأخذ درهما ويقول وزنه كذا ولا يخطئ
* (وهم عن الآخرة هم غافلون) * لا يؤمنون بها
ويقال عن أمر الآخرة وما وعدوا فيها من الهول والعذاب هم غافلون
ثم وعظهم فقال عز وجل * (أو لم يتفكروا في أنفسهم) * فيعتبروا في خلق السماوات والأرض
وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال تفكر ساعة خير من قيام ليلة
ثم قال * (ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) * يعني للحق * (وأجل مسمى) * يعني السماوات والأرض لهن أجل ينتهي إليه ووقت معلوم * (وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون) * يعني جاحدين للبعث
5

ثم خوفهم فقال عز وجل * (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) * يعني الأمم الخالية كانت عاقبتهم الهلاك
ثم أخبر عنهم فقال * (كانوا أشد منهم قوة) * يعني من أهل مكة * (وأثاروا الأرض) * قال مقاتل يعني ملكوا الأرض
وقال الكلبي يعني حرثوها
ويقال * (وأثاروا الأرض) * إذا قلبوها للزراعة
* (وعمروها) * يعني عمروا الأرض * (أكثر مما عمروها) * يعني أهل مكة
ويقال عاشوا فيها أكثر مما عاش أهل مكة * (وجاءتهم رسلهم بالبينات) * يعني بالحجج الواضحات فكذبوهم فأهلكهم الله عز وجل * (فما كان الله ليظلمهم) * فيعذبهم بغير ذنب * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * بالمعاصي
قوله عز وجل " ثم كان عاقبة الذين أساءوا " يعني آخر أمر الذين أشركوا * (السوأى) * يعني العذاب فيجوز أن تكون " ثم " على معنى التأخير ويجوز أن يكون معناه ثم هذا كان عاقبة الذين
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو * (عاقبة) * بالضم وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم جعله اسم كان وجعل * (السوء) * خبر كان
ومن قرأ بالنصب جعل العاقبة خبر كان والسوء اسم كان ومعنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد يعني ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله عز وجل
والسوء ههنا جهنم كما أن الحسنى الجنة
ثم قال * (أن كذبوا بآيات الله) * يعني عاقبتهم جهنم لأنهم كذبوا بآيات الله بما جاءت بها الرسل " وكانوا بها يستهزئون " يعني بآيات الله
ثم قال عز وجل * (الله يبدأ الخلق ثم يعيده) * يعني يحييهم بعد الموت * (ثم إليه ترجعون) * في الآخرة
قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر * (يرجعون) * بالياء على معنى الإخبار عنهم وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة
سورة الروم 12 - 16
ثم قال عز وجل * (ويوم تقوم الساعة) * يعني واذكر يوم تقوم الساعة * (يبلس المجرمون) * يعني ييأس المشركون من كل خير
ويقال أيسوا من إقامة الحجة
ويقال * (يبلس المجرمون) * يعني يندمون
قال الزجاج المبلس الساكت المنقطع في حجته الآيس من أن يهتدي * (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء) * يعني من الملائكة ومن الأصنام * (وكانوا بشركائهم كافرين) * يعني تبرأت الملائكة عليهم السلام منهم وتبرأت الأصنام عنهم
6

ثم قال عز وجل * (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) * يعني بعد الحساب يتفرقون فريق في الجنة وفريق في النار
ثم أخبر عن مرجع كل فريق فقال * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * يعني الذين صدقوا بالله ورسوله وأدوا الفرائض والسنن * (فهم في روضة يحبرون) * قال مقاتل يعني في بستان يكرمون وينعمون
وقال السدي * (يحبرون) * أي يفرحون ويكرمون
وقال مجاهد * (يحبرون) * يعني ينعمون
وقال القتبي * (يحبرون) * يعني يسرون والحبرة السرور
ومنه يقال مع كل حبرة عبرة
وقال الزجاج * (يحبرون) * يعني يحسنون إليهم يقال للعالم حبر وللمداد حبر لأنه يحسن به الكتابة ويقال (يحبرون) أي يسمعون أصوات المغنيات.
قوله عز وجل " وأما الذين كفروا بآياتنا " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن * (ولقاء الآخرة) * يعني البعث بعد الموت * (فأولئك في العذاب محضرون) * يعني مقرنين
ويقال يجتمعون هم وآلهتهم
سورة الروم 17 - 19
قوله عز وجل * (فسبحان الله) * يعني صلوا لله * (حين تمسون) * يعني صلاة الغرب والعشاء * (وحين تصبحون) * يعني صلاة الفجر * (وعشيا) * يعني صلاة العصر * (وحين تظهرون) * على معنى التقديم والتأخير أي صلاة الظهر * (وله الحمد في السماوات والأرض) * يعني يحمده أهل السماوات وأهل الأرض
ويقال له الألوهية في السماوات والأرض كقوله عز وجل * (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) * [الزخرف 84] يقال * (وله الحمد) * يعني الحمد على أهل السماوات وأهل الأرض لأنهم في نعمته فالحمد واجب علينا
ثم قال عز وجل * (يخرج الحي من الميت) * يعني الدجاجة من البيضة والإنسان من النطفة والمؤمن من الكافر
* (ويخرج الميت من الحي) * يعني البيضة من الدجاجة والكافر من المؤمن
* (ويحيي الأرض بعد موتها) * يعني ينبت النبات من الأرض بعد يبسها وقحطها بالمطر
* (وكذلك تخرجون) * يعني يحييكم بالمطر الذي يمطر من البحر المسجور كالمني فتحيون به
وقال مقاتل يرسل الله عز وجل يوم القيامة ماء الحيوان من السماء السابعة من البحر المسجور على الأرض بين النفختين فينتشر عظام الموتى فذلك قوله * (وكذلك تخرجون) *
7

قرأ حمزة والكسائي * (تخرجون) * بفتح التاء والباقون برفع التاء
يعني تخرجون من قبوركم يوم القيامة
سورة الروم 20 - 23
قوله عز وجل * (ومن آياته) * قال مقاتل يعني ومن علامات الرب أنه واحد وإن لم يروه وعرفوا توحيده بصنعه * (أن خلقكم من تراب) * يعني خلق آدم من تراب وأنتم ولده * (ثم إذا أنتم) * ذريته من بعده * (بشر تنتشرون) * يعني تنبسطون
كقوله * (وينشر رحمته) * [الشورى 28] يعني ويبسط
ويقال * (ومن آياته) * يعني من العلامات التي تدل على أن الله عز وجل واحد لا مثل له ظهور القدرة التي يعجز عنها المخلوقون * (أن خلقكم من تراب) * يعني آدم عليه السلام * (ثم إذا أنتم بشر) * منتشرون على وجه الأرض
ثم قال عز وجل * (ومن آياته) * يعني من علامات وحدانيته * (أن خلق لكم من أنفسكم) * يعني من جنسكم * (أزواجا) * لأنه لو كان من غير جنسه لكان لا يستأنس بها
ويقال * (من أنفسكم) * يعني خلقها من آدم ويقال من بعضكم بعضا * (لتسكنوا إليها) * يعني لتستقر قلوبكم عندها
لأن الرجل إذا طاف البلدان لا يستقر قلبه فإذا رجع إلى أهله اطمأن واستقر
ويقال * (لتسكنوا إليها) * يعني لتوافقوها * (وجعل بينكم مودة ورحمة) * يعني الحب بين الزوج والمرأة ولم يكن بينهما قرابة ويحب كل واحد منهما صاحبه ويقال " وجعل منكم مودة " للصغير على الكبير ورحمة للكبير على الصغير
ويقال * (وجعل بينكم مودة ورحمة) * يعني الولدان * (إن في ذلك لآيات) * يعني فيما ذكر لعلامات لوحدانيته * (لقوم يتفكرون) * أني خالقهم
قوله عز وجل * (ومن آياته خلق السماوات والأرض) * وأنتم تعلمون ذلك لأنهم مقرون أن الله عز وجل هو خالق الأشياء * (واختلاف ألسنتكم) * عربي وعجمي ونبطي * (وألوانكم) * يعني واختلاف أحمر وأبيض وأسود وأسمر
* (إن في ذلك) * يعني في خلق السماوات والأرض واختلاف الألسن والألوان * (لآيات) * لعلامات
* (للعالمين) * فيعتبرون
قرأ عاصم في روية حفص * (للعالمين) * بكسر اللام
يعني جميع العلماء يعني في ذلك علامة للعقلاء
وقرأ الباقون بنصب اللام يعني علامة لجميع الخلق الإنس والجان
8

قوله عز وجل * (ومن آياته منامكم بالليل والنهار) * * (منامكم) * نومكم هو مصدر
يقال نام ينام نوما ومناما بالليل والنهار على معنى التقديم يعني منامكم بالليل * (وابتغاؤكم من فضله) * بالنهار يعني طلبكم الرزق بالنهار والمعيشة * (إن في ذلك لآيات) * يعني لعلامات على وحدانيتي * (لقوم يسمعون) * المواعظ ويعتبرون
سورة الروم 24 - 26
قوله عز وجل * (ومن آياته يريكم البرق خوفا) * من الصواعق إذا كنتم بأرض قفر * (وطمعا) * للمطر
* (خوفا وطمعا) * منصوبان على المفعول له المعنى يريكم للخوف والطمع * (خوفا) * للمسافر * (وطمعا) * للمقيم
* (وينزل من السماء ماء) * يعني المطر * (فيحيي به الأرض) * بالنبات * (بعد موتها إن في ذلك لآيات) * أي لعلامات " يقوم يعقلون " عن الله عز وجل فيوحدونه
قوله عز وجل " ومن آياته أن تقوم الساعة بأمره " يعني تقوم السماء فوق رؤوسكم بغير عمد لا يناله شيء وتقوم الأرض على الماء تحت أقدامكم * (بأمره) * أي بقدرته * (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض) * يعني إسرافيل عليه السلام يدعوكم على صخرة بيت المقدس في الصور دعوة من الأرض * (إذا أنتم تخرجون) * وقال بعضهم في الآية تقديم ومعناه ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض يعني من قبوركم فإذا أنتم تخرجون قرأ حمزة والكسائي * (تخرجون) * بنصب التاء وضم الراء وقرأ الباقون بضم التاء ونصب الراء
ثم قال عز وجل * (وله من في السماوات والأرض) * من الخلق * (كل له قانتون) * يعني مقرين بالعبودية
يعلمون أن الله عز وجل ربهم
ويقال * (قانتون) * أي خاضعين له لا يقدرون أن يغيروا أنفسهم عما خلقهم
ويقال معناه في كل شيء دليل ربوبيته
وهذا أيضا من آياته ولكنه لم يذكر لأنه قد سبق ذكره مرات فكأنه يقول ومن آياته أن له من في السماوات والأرض كل له قانتون
سورة الروم 27 - 29
9

ثم قال عز وجل * (وهو الذي يبدأ الخلق) * يعني خلق آدم فبدأ خلقهم ولم يكونوا شيئا * (ثم يعيده) * يعني يبعثهم في الآخرة أحياء * (وهو أهون عليه) * يعني في المثل عندكم لأن ابتداء الشيء أشد من إعادته
ويقال إن ابتداءه كان نطفة ثم جعله علقة ثم جعله مضغة ثم لحما ثم عظاما
وفي الآخرة حال واحد وذلك هو أهون عليه من هذا
وقال القتبي عن أبي عبيدة * (وهو أهون عليه) * يعني هين عليه كما يقال الله أكبر أي الكبير
ويقال الإعادة أهون عليه من البداية والبداية عليه هين
ثم قال * (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض) * يعني الصفات العلى بأنه واحد لا شريك له * (وهو العزيز) * في ملكه * (الحكيم) * في أمره
ثم قال عز وجل * (ضرب لكم مثلا) * نزلت في كفار قريش كانوا يعبدون الآلهة ويقولون في إحرامهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك
قال الله تعالى * (ضرب لكم مثلا) * يعني وصف لكم شبها " من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم " يعني من العبيد " من شركاء فيما رزقناكم " من الأموال * (فأنتم) * وعبيدكم * (فيه سواء) * في الرزق فيما أعطيناكم من الأموال والملك
ثم قال * (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) * قال مقاتل يعني أتخافون عبيدكم أن يرثوكم بعد الموت كما تخافون أن يرثكم الأحرار فقالوا لا
فقال أترضون لله الشركة في ملكه وتكرهون لأنفسكم
قال الكلبي " هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم " من أموالكم من عبيدكم وإمائكم * (فأنتم) * وهم * (فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) * يقول كما يخاف الرجل ابنه وعمه وأقاربه
قالوا لا
قال فأنتم لا ترضون هذا لأنفسكم أن يكونوا فيما تملكون يشاركونكم في أموالكم
فكيف ترضون لله ما لا ترضون به لأنفسكم
وقال السدي * (ضرب لكم مثلا) * هذا مثل ضربه الله عز وجل في الميراث للآلهة
يقول هل لكم مماليك شركاء في الميراث الذي ترثونه من آبائكم وأنتم تخافون أن يدخل معكم مملوككم في ذلك الميراث كما تدخلون أنتم فيه
فكما لا يكون للملوك أن يدخل في مواريثكم فكذلك لا يكون لهذا الوثن الذي تعبدونه من دون الله عز وجل أن يدخل في ملكي
وإنما خلقي وعبيدي
قال أبو الليث رحمه الله وفي الآية دليل أن العبد لا ملك له لأنه أخبر أن لا مشاركة للعبيد فيما رزقنا الله عز وجل من الأموال
ثم قال عز وجل * (كذلك نفصل الآيات) * يعني نبين العلامات * (لقوم يعقلون) * الأمثال فيوحدونه
ثم قال عز وجل * (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم) * يعني اتبع الذين كفروا أهواءهم بعبادة الأوثان * (بغير علم) * يعني بغير حجة * (فمن يهدي من أضل الله) * يعني فمن يهدي إلى
10

توحيد الله من أضله الله وخذله وطرده
ويقال فمن يرشد إلى الحق من خذله الله عز وجل * (وما لهم من ناصرين) * يعني مانعين من عذاب الله
سورة الروم 30 - 32
قوله عز وجل * (فأقم وجهك) * يعني أخلص دينك الإسلام * (للدين حنيفا) * يعني للتوحيد مخلصا
ويقال يذكر الوجه ويراد به هو فكأنه يقول فأقم الدين مخلصا
ويقال معناه فأقبل بوجهك إلى الدين وأقم عليه * (حنيفا) * أي مخلصا مائلا إليه
ويقال أخلص دينك وعملك لله تعالى وكن مخلصا
ثم قال * (فطرة الله) * يعني اتبع دين الله
ويقال اتبع ملة الله
ويقال الفطرة الخلقة يعني خلقة الله * (التي فطر الناس عليها) * يعني خلق البشر عليها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة هل تحسون فيها من جدعاء)
وروي عن أبي هريرة أنه قال اقرؤوا إن شئتم " فطرة الله الذي فطر الناس عليها " يعني خلق الناس عليها
وفي الخبر أنه قال (كل مولود يولد على الفطرة) لأنه شهد يوم الميثاق
ثم قال * (لا تبديل لخلق الله) * يعني لا تغيير لدين الله
ويقال * (لا تبديل لخلق الله) * عندما خلق الله الخلق لم يكن لأحد أن يغير خلقته
ثم قال * (ذلك الدين القيم) * يعني التوحيد هو الدين المستقيم * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * يعني كفار مكة لا يعلمون بتوحيد الله
قوله عز وجل * (منيبين إليه) * انصرف إلى قوله * (فأقم وجهك) * يعني فأقبل بوجهك منيبا إليه
ويجوز أن يخاطب الرئيس بلفظ الجماعة لأن له أتباعا
وإنما يراد به هو وأتباعه كما قال * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * [الطلاق 10] * (منيبين إليه) * يعني راجعين إليه من الكفر إلى التوحيد
* (واتقوه وأقيموا الصلاة) * يعني وأتموا الصلوات الخمس * (ولا تكونوا من المشركين) * على دينهم * (من الذين فرقوا دينهم) * يعني تركوا دين الإسلام الذي أمروا به
11

* (وكانوا شيعا) * فجعلوه أديانا يعني تركوا دينهم وصاروا فرقا اليهود والنصارى والمجوس
قرأ حمزة والكسائي " فارقوا " بالألف
وقرأ الباقون * (فرقوا) * بغير ألف
فمن قرأ " فارقوا " يعني تركوا دينهم
ومن قرأ * (فرقوا) * دينهم يعني افترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة والنصارى اثنتين وسبعين فرقة والمسلمون ثلاثة وسبعين فرقة * (كل حزب بما لديهم فرحون) * يعني كل أهل دين بما عندهم من الدين راضون
سورة الروم 33 - 35
قوله عز وجل * (وإذا مس الناس ضر) * يعني إذا أصاب الكفار شدة * (دعوا ربهم منيبين إليه) * يعني منقلبين إليه بالدعاء عند الشدة والقحط * (ثم إذا أذاقهم منه رحمة) * يعني إذا أصابهم من الله نعمة وهي السعة في الرزق والخصب * (إذا فريق منهم بربهم يشركون) * يعني تركوا توحيد ربهم في الرخاء وقد وحدوه في الضراء
قوله عز وجل * (ليكفروا بما آتيناهم) * قال مقاتل تقول أذاقهم رحمة لئلا يكفروا بالذي أعطاهم من الخير
ويقال كانت النعمة سبيلا لكفرهم فكأنه أعطاهم لذلك كما قال " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " [القصص 8] وقرئ في الشاذ * (يشركون ليكفروا) * بجزم اللام فيكون أمرا على وجه الوعيد والتهديد
ثم قال * (فتمتعوا فسوف تعلمون) * يعني فتمتعوا قليلا إلى آجالكم فسوف تعلمون ما يفعل بكم يوم القيامة
ثم قال عز وجل * (أم أنزلنا عليهم سلطانا) * يعني كتابا من السماء * (فهو يتكلم) * يعني ينطق * (بما كانوا به يشركون) * يعني ينطق بما كانوا يقولون من الشرك
اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به النفي يعني لم ينزل عليهم حجة بذلك
وقال القتبي فهو يتكلم فهو من المجاز ومعناه أنزلنا عليهم برهانا يستدلون به فهو يدلهم على الشرك
ويقال أم أنزلنا عليهم عذرا بذلك
سورة الروم 36 - 40
12

ثم قال عز وجل * (وإذا أذقنا الناس رحمة) * يعني الكفار * (فرحوا بها) * يعني المطر والسعة * (وإن تصبهم سيئة) * يعني الجوع والشدة * (بما قدمت أيديهم) * يعني جزاء لذنوبهم * (إذا هم يقنطون) * يعني آيسين من الرزق
قرأ أبو عمرو الكسائي * (يقنطون) * بكسر النون وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان ومعناهما واحد
ثم وعظهم ليعتبروا ويطمئنوا بالرزق فقال عز وجل * (أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء) * يعني يوسع وكان يرى صلاح العبد في ذلك
" ويقدر " يعني يقتر ويضيق العيش ويكون صلاحه في ذلك من البسط والتقتير * (إن في ذلك) * يعني في البسط والتقتير " لآيات لعلامات " * (لقوم يؤمنون) * يعني يصدقون
قوله عز وجل * (فآت ذا القربى حقه) * يعني فأعط ذا القربى حقه وحق القرابة هو صلة الرحم * (والمسكين) * يعني أعطي السائل حقه وحقه أن يتصدق عليه بشيء * (وابن السبيل) * يعني الضيف النازل وحقه أن تحسن إليه * (ذلك خير) * يعني الذي وصف من صلة القرابة والمسكين وابن السبيل ذلك خير * (للذين يريدون وجه الله) * يعني خير من الإمساك عندهم
ويريدون بذلك رضا الله تعالى * (وأولئك هم المفلحون) * يعني الناجون
ويقال الباقون في النعمة
ويسمى السحور فلاحا لأنه يبقي للصائم قوة
قوله عز وجل * (وما آتيتم من ربا) * يعني ما أعطيتم من عطية " ليربو في أموال الناس " يعني ليزدادوا في أموال الناس
ومعناه ما أعطيتم من عطية لتلتمسوا بها الزيادة " فلا يربو عند الله " أي فلا تضاعف تلك العطية عند الله عز وجل ولا يأثم فيه
وروى معمر عن قتادة عن ابن عباس قال هي هبة يريد أن يثاب أفضل منها
فذلك الذي لا يربو عند الله ولا يؤجر فيه صاحبه ولا إثم عليه
* (وما آتيتم من زكاة) * قال هي الصدقة * (تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) * وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله
وقال عكرمة الربا ربوان ربا حلال وربا حرام
فأما الحلال فهو هبة الرجل يريد أن يثاب ما هو أفضل منها
وأما الحرام فزيادة خالية عن العوض في عقد المعاوضة
وهو نوعان ربا الفضل وربا النساء عرف ذلك في كتب الفقه
قرأ ابن كثير * (وما آتيتم) * بغير مد يعني ما جئتم
وقرأ الباقون بالمد يعني ما أعطيتم
واتفقوا في الثاني أنه بالمد
وقرأ نافع " لتربوا " بالتاء والضم والباقون بالياء والنصب فمن قرأ بالنصب
فمعناه لتستزيدوا أنتم زيادة في المال
يعني لتكثروا أموالكم بما أعطيتم
ومن قرأ " ليربو " بالياء معناه ليربو المعطي فيكثر حتى يرد ما هو أكثر منه
ثم بين ما يربو فيه فقال * (وما آتيتم من زكاة) * يعني ما أعطيتم من صدقة تريدون وجه الله يعني رضا الله ففيه الإضعاف * (فأولئك هم المضعفون) * للواحد عشرة فصاعدا
ويقال
13

* (المضعفون) * أي الواجدين من الضعف
كما يقال أكذبته إذا وجدته كاذبا
ثم أخبر عن صنعه ليعرف توحيده فقال عز وجل * (الله الذي خلقكم) * ولم تكونوا شيئا * (ثم رزقكم) * يعني أطعمكم ما عشتم في الدنيا * (ثم يميتكم) * عند
انقضاء آجالكم * (ثم يحييكم) * للبعث بعد الموت لينبئكم بما عملتم في الدنيا ويجازيكم " هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء " يعني يفعل كفعله
ثم نزه نفسه فقال * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * وقد ذكرناه ويقال الله الذي خلقكم وطلب منكم العبادة ثم رزقكم وطلب منكم الطمأنينة ثم يميتكم وطلب منكم الاستعداد للموت ثم " يحييم " وطلب منكم الحجة والبرهان
سورة الروم 41 - 42
قوله عز وجل * (ظهر الفساد في البر والبحر) * يعني قحط المطر ونقص الثمار للناس والنبات للدواب
يعني نقص النبات في البر للدواب والوحوش وفي * (البحر) * يعني القرى والأرضين ينقصان الثمار والزرع
سمى القرى والمدائن بحرا لما يجري فيها من الأنهار ويقال البحر نفسه لأنه إذا لم يكن مطر فإنه لا يخرج منه اللؤلؤ * (بما كسبت أيدي الناس) * يعني بما عملوا من المعاصي
ويقال من أذنب ذنبا فجميع الخلق من الإنس والجن والدواب والوحوش والطير والذر خصماؤه يوم القيامة لأنه يمنع المطر بالمعصية فيضر بأهل البر والبحر
وذكر عن شفيق الزاهد أنه قال من أكل الحرام فقد خان جميع الناس حيث لا يستجاب دعاؤه
ويقال * (ظهر الفساد في البر والبحر) * يعني ظهرت المعاصي في البر والبحر * (بما كسبت أيدي الناس) * يعني بكسب الناس
فأول فساد البر كان من قابيل حيث قتل أخاه هابيل وأول فساد البحر كان من جلندا حيث كان يأخذ كل سفينة غصبا
وقال عطية العوفي ظهور الفساد قحوط المطر
قيل له هذا فساد البر فما فساد البحر قال إذا قل المطر قل الغوص
وقال قتادة * (ظهر الفساد في البر والبحر) * يعني امتلأت الضلالة والظلم في الأرض
وروي عن أبي العالية أنه قال البر الأعضاء والبحر القلوب يعني ظهر الفساد في الناس في الأعضاء وفي القلوب
ثم قال * (ليذيقهم بعض الذي عملوا) * يعني يعذبهم ببعض ذنوبهم في الدنيا ويدخر البعض في الآخرة
والذوق إنما هو كناية عن التعذيب
فكأنه يقول يعذبهم بالجوع والقحط
14

في الدنيا * (لعلهم يرجعون) * أي لكي يرجعوا عن الكفر
قرأ ابن كثير * (لنذيقهم) * بالنون يعني لنذيقهم نحن وقرأ الباقون بالياء يعني ليذيقهم الله عز وجل
ثم خوفهم فقال عز وجل * (قل سيروا في الأرض) * أي سافروا فيها * (فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) * يعني كيف كان آخر أمر من كان قبلهم * (كان أكثرهم مشركين) * فيعتبرون بذلك
والنظر على وجهين يقال نظر إليه إذا نظر بعينه ونظر فيه إذا تفكر بقلبه
وههنا قال * (فانظروا) * ولم يقل فيه ولا إليه
فهو على الأمرين جميعا
سورة الروم 43 - 45
ثم قال عز وجل * (فأقم وجهك للدين) * يعني أخلص دينك الإسلام * (القيم) * يعني المستقيم
ويقال أقبل بوجهك إليه
ويقال أثبت عليه
* (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) * يعني يوم القيامة لا يقدر أحد أن يرد ذلك اليوم من الله
ويقال يعني ذلك اليوم من الله ويقال لا خلف لذلك الوعد من الله * (يومئذ يصدعون) * يعني يتصدعون فأدغم التاء في الصاد وشدد
يعني يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير
ثم قال عز وجل * (من كفر فعليه كفره) * يعني جزاء كفره وعقوبته * (ومن عمل صالحا) * يعني وحده وعمل بالطاعة بعد التوحيد * (فلأنفسهم يمهدون) * قال مقاتل يقدمون
وقال مجاهد
يعني لأنفسهم يفرشون في القبر
ويقال في الجنة
ويقال فلأنفسهم يعملون ويستعدون
قوله عز وجل * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * ينصرف إلى قوله * (يصدعون) * يعني يتفرقون لكي يجزي الذين آمنوا * (وعملوا الصالحات من فضله) * يعني من رزقه
ويقال من ثوابه ويقال بفضله * (إنه لا يحب الكافرين) * بتوحيد الله عز وجل
ويقال لا يرضى دين الكافرين
سورة الروم 46 - 49
15

سورة الروم 50 - 51
ثم قال عز وجل * (ومن آياته) * يعني ومن علامات وحدانيته أن يعرفوا توحيده بصنعه * (أن يرسل الرياح مبشرات) * يعني بشارات بالمطر
يعني يستبشر بها الناس فإذا كان الاستبشار به نسب الفعل إليه ثم قال * (وليذيقكم من رحمته) * يعني ليصيبكم من نعمته وهو المطر * (ولتجري الفلك بأمره) * يعني السفن تجري في البحر بالرياح بأمره * (ولتبتغوا من فضله) * يعني لتطلبوا في البحر من رزقه كل هذا بالرياح بأمره * (ولعلكم تشكرون) * رب هذه النعمة فتوحدوه
قوله عز وجل * (ولقد أرسلنا من قبلك) * يا محمد * (رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات) * بالأمر والنهي فكذبوهم كما كذبك قومك * (فانتقمنا) * بالعذاب * (من الذين أجرموا) * يعني كفروا * (وكان حقا علينا) * يعني واجبا علينا * (نصر المؤمنين) * بالنجاة مع رسولهم
وإنما هو وجوب الكرم لا وجوب اللزوم
ثم أخبر عن صنعة ليعتبروا فقال الله عز وجل * (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا) * يعني تدفعه وتهيجه يقال ثار الغبار إذا ارتفع * (فيبسطه في السماء كيف يشاء) * يعني كيف يشاء الله عز وجل إن شاء بسطه مسيرة يوم أو أكثر * (ويجعله كسفا) * يعني قطعا * (فترى الودق) * يعني المطر * (يخرج من خلاله) * من وسط السحاب * (فإذا أصاب به) * يعني بالمطر * (من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون) * يعني يفرحون بنزول المطر عليهم
قرأ ابن عامر * (كسفا) * بالجزم
وقرأ الباقون * (كسفا) * بالنصب
ثم قال عز وجل " وإن كانوا من قبل أن بنزل عليهم من قبله " أي من قبل نزول المطر عليهم
* (لمبلسين) * يعني آيسين من المطر
وقال الأخفش تكرير قبل للتأكيد
وقال قطرب الأول للتنزيل والثاني للمطر
ثم قال * (فانظر إلى آثار رحمة الله) * يعني النبات من أثر المطر ألوان النبات منه الأخضر والأحمر والأصفر قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وابن عامر * (إلى آثار رحمة الله) * بلفظ الجماعة
قرأ الباقون بلفظ الوحدان " إلى أثر " لأن الوحدان ينبئ عن الجمع
ثم قال * (كيف يحيي الأرض بعد موتها) * حين لم يكن فيها نبات * (ان ذلك) * يعني هذا الذي فعل * (لمحيي الموتى) * في الآخرة " وهو على كل شيء قدير "
ثم قال عز وجل * (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا) * يعني الزرع متغيرا بعد خضرته * (لظلوا من بعده يكفرون) * يعني لصاروا وأصله العمل بالنهار
ويستعمل في موضع صار كقوله أصبح وأمسى يوضع موضع صار * (من بعده يكفرون) * يعني من بعد اصفراره يكفرون النعم
يقول لو فعلت ذلك لفعلوا هكذا
ويقال قوله * (فرأوه) * إشارة إلى النبات لأن الريح
16

مؤنثة
وإنما أراد ما ينبت بالمطر
ويقال معناه أنهم يستبشرون إذا رأوا الغيث ويكفرون إذا انقطع عنهم النبات
سورة الروم 52 - 54
ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال عز وجل * (فإنك لا تسمع الموتى) * فشبه الكفار بالموتى
فكما لا يسمع الموتى النداء فكذلك لا يسمع الكفار الدعاء إذا دعوا إلى الإيمان * (ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين) * يعني أن الأصم إذا كان مقبلا لا يسمع فكيف يسمع إذا ولى مدبرا فكذلك الكافر لا يسمع إذا كان يتصامم عند القراءة والقراءة ذكرناها في سورة النمل
ثم قال عز وجل * (وما أنت بهادي العمي) * إلى الإيمان * (عن ضلالتهم) * يعني لا تقدر أن توفقه وهو لا يرغب عن طاعتي في طلب الحق * (إن تسمع) * يعني ما تسمع * (إلا من يؤمن بآياتنا) * يعني بالقرآن * (فهم مسلمون) * يعني مخلصين
ثم أخبرهم عن خلق أنفسهم ليعتبروا ويتفكروا فيه فقال عز وجل * (الله الذي خلقكم من ضعف) * يعني من نطفة
ويقال صغيرا لا يعقل * (ثم جعل من بعد ضعف قوة) * يعني شدة بتمام خلقه * (ثم جعل من بعد قوة ضعفا) * يعني بعد الشباب الهرم * (وشيبة) * يعني شمطا
قرأ عاصم في رواية حفص وحمزة * (من ضعف) * بنصب الضاد وقرأ الباقون * (من ضعف) * بالضم وهما لغتان ومعناهما واحد
* (يخلق ما يشاء) * أي يحول الخلق كيف يشاء من الصورة * (وهو العليم) * بتحويل الخلق * (القدير) * يعني القادر على ذلك
سورة الروم 55 - 60
قوله عز وجل * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون) * يعني يحلف المشركون * (ما لبثوا) * يعني في القبور * (غير ساعة) * في الدنيا
يقول الله عز وجل كذلك كانوا يكذبون بالبعث كما أنهم كذبوا حيث قالوا * (ما لبثوا) *
17

يعني في القبور غير ساعة ويقال * (كذلك كانوا يؤفكون) * لأنهم يقولون مرة " إن لبثم إلا عشرا " [طه 103] ومرة يقولون * (لبثنا يوما أو بعض يوم) * [الكهف 119] ومرة يقولون ما لبثنا غير ساعة فيقول هكذا كانوا في الدنيا
ثم قال عز وجل * (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان) * يعني أكرموا بالعلم والإيمان * (لقد لبثتم في كتاب الله) * أي في علم الله
ويقال فيما كتب الله عز وجل
وقال مقاتل في الآية تقديم يعني * (وقال الذين أوتوا العلم) * في كتاب الله * (والإيمان) * وهو ملك الموت * (لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) *
ويقال الذين أوتوا العلم بالكتاب وأوتوا * (الإيمان) * وهم العلماء
ثم قال * (فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) * يعني لا تصدقون بهذا اليوم في الدنيا
ثم قال عز وجل * (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا) * يعني أشركوا * (معذرتهم) * قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ولا تنفع) * بالتاء بلفظ التأنيث لأن لفظ المعذرة مؤنثة
وقرأ الباقون بالياء فينصرف إلى المعنى يعني عذرهم * (ولا هم يستعتبون) * يقال عتب يعتب إذا غضب عليه وأعتب يعتب إذا رجع عن ذنبه واستعتب إذا طلب منه الرجوع
يعني أنه لا يطلب منهم الرجوع في ذلك اليوم ليرجعوا
ثم قال عز وجل * (ولقد ضربنا للناس) * يعني وصفنا وبينا للناس * (في هذا القرآن من كل مثل) * أي شبه * (ولئن جئتهم بآية) * كما سألوا * (ليقولن الذين كفروا) * يعني أهل مكة * (إن أنتم إلا مبطلون) * يعني يقولون ما أنت إلا كاذب وليس هذا من الله عز وجل كما كذبوا بانشقاق القمر
يقال أبطل الرجل إذا جاء بالباطل
وأكذب إذا جاء بالكذب
فقال * (إن أنتم إلا مبطلون) * يعني كاذبين
* (كذلك يطبع الله) * يعني يختم الله عز وجل * (على قلوب الذين لا يعلمون) * يعني لا يصدقون بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم
قوله عز وجل * (فاصبر) * يا محمد * (إن وعد الله حق) * فيما وعد لكم من النصر على عدوكم وإظهار دين الإسلام حق
ويقال * (فاصبر إن وعد الله حق) * يعني صدق في العذاب * (ولا يستخفنك) * يعني يستنزلك عن البعث * (الذين لا يوقنون) * أي لا يصدقون
ويقال * (لا يستخفنك) * يعني لا يحملنك تكذيبهم على الخفة
يعني كن حليما صبورا وقورا
ويقال * (لا يستخفنك) * فتدعو عليهم بتعجيل العذاب فيهلك الذين لا يوقنون بالعذاب والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
18

سورة لقمان مكية وهي ثلاثون وأربع آيات
سورة لقمان 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (ألم تلك آيات الكتاب) * يعني هذه آيات الكتاب يعني القرآن * (الحكيم) * يعني المحكم من الباطل
ويقال أحكم حلاله وحرامه
ويقال محكم لا يرد عليه التناقض * (هدى) * يعني بيانا من الضلالة
ويقال هاديا * (ورحمة) * من العذاب * (للمحسنين) * الذين يحسنون العمل وهم المؤمنون لأن كل مؤمن محسن
قرأ حمزة " هدى ورحمة " بضم الهاء وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم فعلى الإضمار
ومعناه هو هدى ورحمة على معنى تلك هدى ورحمة
ومن نصب فهو على الحال يعني تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة
ثم نعت المحسنين فقال عز وجل * (الذين يقيمون الصلاة) * يعني يقرون بها ويتمونها
* (ويؤتون الزكاة) * يعني يقرون بها ويؤدونها * (وهم بالآخرة) * يعني بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال * (هم يوقنون) * بأنها كائنة * (أولئك) * يعني أهل هذه الصفة * (على هدى من ربهم) * يعني بيان من ربهم بين لهم طريقهم ووفقهم لذلك * (وأولئك هم المفلحون) * يعني الفائزين بالخير
سورة لقمان 6 - 9
قوله عز وجل * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) * يعني من الناس ناس يشترون أباطيل الحديث وهو النضر بن الحارث كان يخرج إلى أرض فارس تاجرا ويشتري هنالك من أحاديثهم ويحمل إلى مكة ويقول لهم إن محمدا يحدثكم بالأحاديث طرفا منها وأنا أحدثكم بالحديث تاما * (ليضل عن سبيل الله) * يعني يصرف الناس عن دين عز وجل
ويقال يشتري جواري مغنيات
19

قال أبو الليث رحمه الله حدثني الثقة بإسناده عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهن وأكل أثمانهن حرام)
وفيه أنزل الله عز وجل هذه الآية * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) *
وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) * قال شراء المغنية
ويقال * (لهو الحديث) * ههنا الشرك
يعني يختار الشرك على الإيمان ليضل عن سبيل الله عز وجل
يعني ليصرف الناس بذلك عن سبيل الله * (بغير علم) * يعني بغير حجة * (ويتخذها هزوا) * يعني سبيل الله عز وجل لأن السبيل مؤنث كقوله تعالى * (قل هذه سبيلي) * [يوسف 108] ويقال * (ويتخذها هزوا) * يعني آيات القرآن التي ذكر في أول السورة استهزاء بها حيث جعلها بمنزلة حديث رستم واسفنديار
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ليضل) * بنصب الياء وقرأ الباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب فمعناه ليضل بذلك عن سبيل الله يعني بترك دين الإسلام
ومن قرأ بالضم يعني يصرف الناس عن دين الإسلام ويصرف نفسه أيضا
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص * (ويتخذها) * بنصب الذال وقرأ الباقون بالضم
فمن نصبها ردها على قوله * (ليضل) * يعني لكي يضل ولكي * (يتخذها هزوا) * ومن قرأ بالضم ردها على قوله * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) * * (ويتخذها) * وقال * (أولئك لهم عذاب مهين) * يهانون به
قوله عز وجل * (وإذا تتلى عليه آياتنا) * يعني إذا قرئ عليه القرآن * (ولى مستكبرا) * يعني أعرض مستكبرا عن الإيمان والقرآن * (كأن لم يسمعها) * يعني كأن لم يسمع ما في القرآن من الدلائل والعجائب * (كأن في أذنيه وقرا) * أي ثقلا فلا يسمع القرآن يعني يتصامم * (فبشره بعذاب أليم) *
فلما ذكر عقوبة الكافر ذكر على أثر ذلك ثواب المؤمنين فقال * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * الطاعات فيما بينهم وبين ربهم * (لهم جنات النعيم) * في الآخرة * (خالدين) * يعني دائمين * (فيها وعد الله حقا) * أوجبه الله عز وجل لأهل هذه الصفة * (وهو العزيز) * في ملكه * (الحكيم) * حكم بالعذاب للكافرين والنعيم للمؤمنين
20

سورة لقمان 10 - 11
ثم بين علامة وحدانيته فقال عز وجل * (خلق السماوات بغير عمد ترونها) * أي خلقها بغير عمد ترونها بأعينكم
ويقال معناه * (بغير عمد ترونها) * أنتم يعني لها عمد ولكن لا ترونها
والعمد جماعة العماد
ثم قال * (وألقى في الأرض رواسي) * يعني الجبال الثوابت * (أن تميد بكم) * يعني لكيلا تزول بكم الأرض
ثم قال * (وبث فيها) * يعني وخلق فيها في الأرض ويقال وبسط فيها * (من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) * وقد ذكرناه
قوله عز وجل * (هذا خلق الله) * يقول هذا الذي خلقت أنا * (فأروني ماذا خلق الذين من دونه) * يعني الذين تدعونه إلها من دون الله يعني الأصنام
ويقال * (هذا خلق الله) * يعني مخلوق الله ويقال هذا صنع الله
ثم قال * (بل الظالمون) * يعني الكافرون * (في ضلال مبين) * يعني في خطأ بين لا يعتبرون ولا يتفكرون فيما خلق الله عز وجل فيعبدونه ويقال * (في ضلال مبين) * يعني في خسران بين
سورة لقمان 12 - 14
قوله عز وجل * (ولقد آتينا لقمان الحكمة) * وقال مجاهد يعني أعطينا لقمان العقل والفقه والإصابة في غير نبوة
ويقال أيضا الحكمة والعقل والإصابة في القول
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما زهد عبد في الدنيا إلا أثبت الله تعالى الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصره عيوب الدنيا وعيوب نفسه
وإذا رأيتم أخاكم قد زهد في الدنيا فاقتربوا إليه فاستمعوا منه فإنه يلقى الحكمة)
وقال السدي * (ولقد آتينا لقمان الحكمة) * النبوة
وعن عكرمة قال كان لقمان نبيا
وعن وهب بن مبنه قال كان لقمان رجلا حكيما ولم يكن نبيا
وروي عن ابن عباس قال كان لقمان عبدا حبشيا ويقال إن أول ما ظهرت حكمته أن مولاه قال له يوما اذبح لنا هذه الشاة فذبحها
ثم قال أخرج منها أطيب مضغتين فيها
21

فأخرج اللسان والقلب
ثم مكث ما شاء الله ثم قال له اذبح لنا هذه الشاة فذبحها فقال أخرج لنا أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب
فسأله عن ذلك فقال لقمان إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا
وذكر عن وهب بن منبه أن لقمان خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة
فقال فبينما كان يعظ الناس يوما وهم مجتمعون عليه إذ مر به عظيم من عظماء بني إسرائيل
فقال ما هذه الجماعة فقيل له جماعة اجتمعت على لقمان الحكيم فأقبل إليه فقال له ألست عبد بني فلان فقال نعم
فقال فما الذي بلغ بك ما أرى فقال صدق الحديث وأداء الأمانة وتركي ما لا يعنيني
فانصرف عنه متعجبا وتركه
ثم قال * (أن اشكر لله) * يعني جعلتك حكيما من حكماء الله * (أن اشكر لله) * تعالى ويقال معناه * (ولقد آتينا لقمان الحكمة) * وقلنا له اشكر لله بما أعطاك من الحكمة * (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) * يعني ثواب الشكر لنفسه * (ومن كفر) * جحد فلا يوحد ربه * (فإن الله غني) * عن خلقه وعن شكرهم * (حميد) * في فعاله
قوله عز وجل * (وإذ قال لقمان لابنه) * قال مقاتل كان اسم ابنه أنعم * (وهو يعظه) * ويقال معناه قال لابنه واعظا * (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) * يعني ذنب عظيم لا يغفر أبدا
وكان ابنه وامرأته كافرين فما زال بهما حتى أسلما
وقال مقاتل زعموا أنه كان ابن خالة أيوب
وذكر القاسم بن عباد بإسناده عن عبد الله بن دينار أن لقمان قدم من سفر فلقيه غلامه قال ما فعل أبي قال قد مات
فقال ملكت أمري
قال وما فعلت أمي قال قد ماتت
قال ذهب همي
قال فما فعلت أختي قال قد ماتت قال سترت عورتي
قال فما فعلت امرأتي قال قد ماتت فقال جدد فراشي
قال فما فعل أخي قال مات قال انقطع ظهري
وفي رواية أخرى قال ما فعل أخي قال مات فقال انكسر جناحي
ثم قال فما فعل ابني قال مات فقال انصدع قلبي
وقال وهب بن منبه كان لقمان عبدا حبشيا لرجل من بني إسرائيل في زمن داود عليه السلام فأعتقه وكان حبشيا أسود غليظ الشفتين والمنخرين غليظ العضدين والساقين وكان رجلا صالحا أبيض القلب وليس يصطفي الله عز وجل عباده على الحسن والجمال وإنما يصطفيهم على ما يعلم من غائب أمرهم
قرأ عامر في رواية حفص وابن كثير في إحدى الروايتين * (يا بني) * بالنصب وقرأ الباقون بالكسر وقد ذكرناه
قوله عز وجل * (ووصينا الإنسان) * فكأنه يقول آمركم بما أمر به لقمان لابنه بأن لا تشركوا بالله شيئا وآمركم بأن تحسنوا إلى الوالدين فذلك قوله عز وجل * (ووصينا الإنسان) * يعني أمرناه بالإحسان * (بوالديه) * بعني أن يبر والديه
22

ثم ذكر حق الأم وما لقيت من أمر الولد من الشدة فقال * (حملته أمه وهنا على وهن) * يعني ضعفا على ضعف لأن الحمل في الابتداء أيسر عليها
فكلما ازداد الحمل يزيدها ضعفا على ضعف * (وفصاله في عامين) * يعني فطامه بعد سنتين من وقت الولادة * (أن اشكر لي ولوالديك) * يعني وصيناه وأمرناه بأن
اشكر لي بما هديتك للإسلام واشكر لوالديك بما فعلا إليك ثم قال * (إلي المصير) * فأجازيك بعملك
سورة لقمان 15 - 19
ثم قال عز وجل * (وإن جاهداك) * يعني وإن قاتلاك يعني أن حرمة الوالدين وإن كانت عظيمة فلا يجوز للولد أن يطيعهما في المعصية
فقال * (وإن جاهداك) * يعني وإن قاتلاك
ويقال وإن أراداك * (على أن تشرك بي ما ليس لك به علم) * يعني ما ليس لك به حجة بأن معي شريكا " فلا تطعمها " في الشرك * (وصاحبهما في الدنيا معروفا) * يعني عاشرهما في الدنيا معروفا بالإحسان وإنما سمي الإحسان معروفا لأنه يعرفه كل واحد
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (حسن المصاحبة أن يطعمهما إذا جاعا وأن يكسوهما إذا عريا)
ثم قال * (واتبع سبيل من أناب إلي) * يعني اتبع دين من أقبل إلي بالطاعة
* (ثم إلي مرجعكم) * في الآخرة
وقال بعضهم إنما يتم الكلام عند قوله * (واتبع سبيل من أناب إلي) * يعني دين من أقبل علي الطاعة
ثم استأنف الكلام فقال * (ثم إلي مرجعكم) * تكرارا على وجه التأكيد " فأنبئكم بما كنتم تعلمون " يعني فأجازيكم بها
ثم رجع إلى حديث لقمان فقال * (يا بني إنها إن تك) * قال مقاتل وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه يا أبتاه إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد فكيف يعلمها الله سبحانه وتعالى فرد عليه لقمان وقال * (يا بني إنها إن تك) * يعني الخطيئة * (أن تك) * * (مثقال حبة من خردل) * يعني وزن خردلة * (فتكن في صخرة) * أي الصخرة التي هي أسفل الأرضين
وقال بعضهم أراد بها كل صخرة لأنه قال بلفظ النكرة
يعني ما في جوف الصخرة الصماء
وقال مقاتل هي الصخرة التي في أسفل الأرض وهي خضراء مجوفة
ثم قال * (أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله) * يعني يجازي بها
ويقال * (يأت بها الله) * عند الميزان فيجازيه بها
ويقال هذا مثل لأعمال العباد * (يأت بها الله) * يعني يعطيه
23

ثوابها عز وجل كقوله عز وجل * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * [الزلزلة 7] يعني يرى ثوابه
قرأ نافع * (مثقال) * بضم اللام
وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأه بالضم جعله اسم يكن
ومن قرأ بالنصب جعله خبرا والاسم فيه مضمر ومعناه إن تكن صغيرة قدر مثقال حبة
وإنما قال * (أن تك) * بلفظ التأنيث لأن المثقال أضيف إلى الحبة فكان المعنى للحبة
وقيل أراد به الخطيئة
ومن قرأ بالضم جعله اسم تكن
ثم قال * (إن الله لطيف خبير) * يعني " لطيف " باستخراج تلك الحبة * (خبير) * بمكانها
وقال أهل اللغة اللطيف في اللغة يعبر به عن أشياء
يقال للشيء الرقيق وللشيء الحسن لطيف
وللشيء الصغير لطيف
ويقال للمشفق لطيف
ثم قال عز وجل * (يا بني أقم الصلاة) * يعني أتم الصلاة * (وأمر بالمعروف) * يعني التوحيد
ويقال أظهر العدل * (وانه عن المنكر) * وهو كل ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ولا معروف في العقل
ثم قال * (واصبر على ما أصابك) * يعني إذا أمرت بالمعروف أو نهيت عن المنكر فأصابك من ذلك ذل أو هوان أو شدة فاصبر على ذلك ف * (إن ذلك من عزم الأمور) * يعني من حق الأمور
ويقال من واجب الأمور
وصارت هذه الآية بيانا لهذه الأمة وإذنا لهم أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ينبغي أن يصبر على ما يصيبه في ذلك إذا كان أمره ونهيه لوجه الله عز وجل لأنه قد
أصابه ذلك في ذات الله عز وجل
ثم قال تعالى * (ولا تصعر خدك للناس) * قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم * (ولا تصعر) * بالتشديد بغير ألف وقرأ الباقون " ولا تصاعر " بالألف والتخفيف وهما لغتان ومعناهما واحد
يقال صعر خده وصاعره ومعناهما الإعراض على جهة الكبر
يعني لا تعرض بوجهك عن الناس متكبرا
وقال مقاتل لا تعرض وجهك عن فقراء المسلمين وهكذا قال الكلبي
وقال العتبي أصله الميل ويقال رجل أصعر إذا كان به داء فيميل رأسه وعنقه من ذلك إلى أحد الجانبين
ويقال معناه لا تكلم أحدا وأنت معرض عنه فإن ذلك من الجفاء والإذاء
ثم قال * (ولا تمش في الأرض مرحا) * يعني لا تمشي بالخيلاء والمرح والبطر والأشر كله واحد وهو أن يعظم نفسه في النعم * (إن الله لا يحب كل مختال فخور) * يعني مختالا في مشيته فخورا في نعم الله عز وجل
ثم قال عز وجل * (واقصد في مشيك) * يعني تواضع لله تعالى في المشي ولا تختل في مشيتك
ويقال أسرع في مشيك لأن الإبطاء في المشي يكون من الخيلاء
* (واغضض من صوتك) * يعني اخفض كلامك
و " من " صلة في الكلام اخفض كلامك ولا تكن سفيها
ثم ضرب للصوت الرفيع مثلا فقال * (إن أنكر الأصوات) * يعني أقبح الأصوات * (لصوت الحمير) * لشدة أصواتها
وإنما ذكر صوت الحمير لأن صوت الحمار كان هو
24

المعروف عند العرب وسائر الناس بالقبح وإن كان قد يكون ما سواه أقبح منه في بعض الحيوان وإنما ضرب الله المثل بما هو المعروف عند الناس
سورة لقمان 20
قوله عز وجل * (ألم تروا أن الله سخر لكم) * يعني قل يا محمد لأهل مكة * (ألم تروا أن الله) * ذلل لكم * (ما في السماوات وما في الأرض) * كل ذلك من الله تعالى
يعني ومن قدرة الله ورحمته وحده لا شريك له * (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) * فالظاهرة التي يراها الناس والباطنة ما غاب عن الناس
ويقال النعم الظاهرة شهادة أن لا إله إلا الله وأما الباطنة فالمعروفة بالقلب
وقال مقاتل * (ظاهرة) * تسوية الخلق والرزق و " باطنة " تستر عن العيون وعن ابن عباس قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله * (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) * فقال (الظاهرة الإسلام والباطنة ما ستر سوأتك)
قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص * (نعمة) * بنصب العين والميم وضم الهاء
وقرأ الباقون * (نعمة) * بجزم العين ونصب الهاء والميم
فمن قرأ * (نعمة) * بالجزم فهي نعمة واحدة وهي ما أعطاه الله من توحيده
ومن قرأ * (نعمة) * فهو على معنى جميع ما أنعم الله عز وجل عليهم
ثم قال * (ومن الناس من يجادل في الله) * يعني يخاصم في دين الله عز وجل * (بغير علم) * يعني بغير حجة وهو النضر بن الحارث * (ولا هدى) * بغير بيان من الله عز وجل * (ولا كتاب منير) * يعني مضيئا فيه حجة
سورة لقمان 21 - 25
قوله عز وجل * (وإذا قيل لهم) * يعني لكفار مكة * (اتبعوا ما أنزل الله) * على نبيه من القرآن فآمنوا به وأحلو حلاله وحرموا حرامه * (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) * يقول الله عز وجل " أو لو كان الشيطان " يعني أوليس الشيطان * (يدعوهم إلى عذاب السعير) * يعني يدعوهم إلى تقليد آبائهم بغير حجة فيصيروا إلى عذاب السعير
25

قوله عز وجل * (ومن يسلم وجهه إلى الله) * أي يخلص دينه
ويقال يخلص عمله لله * (وهو محسن) * يعني موحد
ويقال ذكر الوجه وأراد به هو يعني ومن أخلص نفسه لله عز وجل بالتوحيد وبأعمال نفسه وهو محسن في عمله
قرأ عبد الرحمن السلمي * (ومن يسلم) * بنصب السين وتشديد اللام من سلم يسلم
وقراءة العامة * (ومن يسلم) * بجزم السين وتخفيف اللام من سلم يسلم * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * يعني قد أخذ بالثقة * (وإلى الله عاقبة الأمور) * يعني
إليه مرجع وعواقب الأمور
ويقال مصير العباد إليه فيجازيهم بأعمالهم.
قوله عز وجل * (ومن كفر فلا يحزنك كفره) * وذلك أنهم لما كذبوا بالقرآن وقالوا إنه يقول من تلقاء نفسه شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فنزل * (ومن كفر) * بالقرآن * (فلا يحزنك كفره) * * (إلينا مرجعهم) * يعني إلينا مصيرهم * (فننبئهم بما عملوا) * يعني يجازيهم بجحودهم * (إن الله عليم بذات الصدور) * بما في قلبك من الحزن مما قالوا
وقال الكلبي * (إن الله عليم بذات الصدور) * من خير أو شر
ثم قال عز وجل * (نمتعهم قليلا) * يعني يسيرا في الدنيا فكل ما هو فان فهو قليل * (ثم نضطرهم) * يعني نلجئهم * (إلى عذاب غليظ) * يعني شديد لا يفتر عنهم
قوله عز وجل * (ولئن سألتهم) * يعني الكفار " من خلق السماوات والأرض ليقولون الله قل الحمد لله " على إقراركم * (بل أكثرهم) * يعني الكفار * (لا يعلمون) * يعني لا يصدقون
سورة لقمان 26 - 28
ثم قال عز وجل * (لله ما في السماوات والأرض) * من الخلق * (إن الله هو الغني) * عن عبادة خلقه * (الحميد) * في فعاله
ويقال حميد أي محمود يعني يحمد ويشكر
قوله عز وجل * (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام) * الآية
قال قتادة ذلك أن المشركين قالوا هذا كلام يوشك أن ينفد وينقطع
فنزل قوله تعالى " ولو أن ما في الأرض " الآية
قال ابن عباس في رواية أبي صالح إن اليهود أعداء الله
سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فنزل " قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلى قليلا " [الإسراء 85] قالوا كيف تقول هذا وأنت تزعم أن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
فكيف يجتمع علم قليل وخير كثير فنزل " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام " يقول لو أن تبرى الشجر وتجعل أقلاما * (والبحر يمده من بعده سبعة أبحر) * تكون كلها مدادا يكتب بها علم الله عز وجل لانكسرت الأقلام ولنفد المداد ولم ينفد علم الله تعالى فما أعطاكم الله من العلم قليل فيما عنده من العلم
قرأ أبو عمرو * (والبحر يمده) * بنصب الراء وقرأ الباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب نصبه لأن معناه ولو أن ما في الأرض ولو أن البحر يمده
ومن قرأ بالضم فهو على الاستئناف " والبحر
26

يمده) يعني أمد إلى كل بحر مثله ما نفدت * (ما نفدت كلمات الله) * يعني علمه وعجائبه
ويقال معاني كلمات الله
لأن لكل آية ولكل كلمة من المعاني ما لا يدرك ولا يحصى
ويقال * (ما نفدت كلمات الله) * لأن كلمات الله لا تدرك ما تكلم به في الأزل
ثم قال * (أن الله عزيز) * بالنقمة على الكافر * (حكيم) * حكم أنه ليس لعلمه غاية وأن العلم للخلق غاية
ثم قال عز وجل * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) * قال مقاتل نزلت في أبي بن خلف وابني أسد منبه ونبيه كلاهما ابني أسد قالوا إن الله عز وجل خلقنا أطوارا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يقول إنه نبعث في ساعة واحدة فقال الله عز وجل * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) * أيها الناس جميعا
يقال ههنا مضمر
فكأنه يقول إلا كخلق نفس واحدة وكبعث نفس واحدة
ويقال معناه قدرته على بعث الخلق أجمعين وعلى خلق الخلق أجمعين كقدرته على خلق نفس واحدة
ويقال * (إلا كنفس واحدة) * أي إلا كخلق آدم عليه السلام
ثم قال * (إن الله سميع) * لمقالتهم * (بصير) * بهم
سورة لقمان 29 - 32
قوله عز وجل * (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار) * يعني انتقاص كل واحد منها بصاحبه
ويقال يدخل الليل في النهار والنهار في الليل * (وسخر الشمس والقمر) * يعني وذللهما لبني آدم * (كل يجري لأجل مسمى) * يعني يجريان في السماء إلى يوم القيامة وهو الأجل المسمى
ويقال يجري كل واحد منهما إلى أجله في الغروب حتى ينتهى إلى وقت نهايته * (وأن الله بما تعملون خبير) *
روي عن أبي عمرو في إحدى الروايتين أنه قرأ * (يعملون) * بالياء بلفظ المغايبة وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم قال عز وجل * (ذلك) * يعني هذا الذي ذكر من صنع الله عز وجل في النهار والليل والشمس والقمر * (بأن الله هو الحق) * يعني ليعلموا أن الله هو الحق وأن عبادته هي الحق * (وأن ما يدعون من دونه الباطل) * يعني أن ما تدعون من دون الله عز وجل من الآلهة لا يقدرون على شيء من ذلك يعني لا تنفعك عبادتها
قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية
27

حفص * (وأن ما يدعون) * بالياء على معنى الخبر وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة لهم
ثم عظم نفسه فقال تعالى * (وأن الله هو العلي الكبير) * يعني ليعلموا أن الله هو الرفيع الكبير
يعني العظيم وهو الذي يعظم ويحمد
ثم بين قدرته فقال عز وجل * (ألم تر أن الفلك) * يعني السفن * (تجري في البحر بنعمة الله) * أي برحمة الله لمنفعة الخلق * (ليريكم من آياته) * يعني من علامات وحدانيته
ويقال من عجائبه
* (إن في ذلك) * يعني إن الذي ترون في البحر * (لآيات) * يعني لعبرات * (لكل صبار) * على أمر الله عز وجل عند البلاء
ويقال الذي يصبر في الأحوال كلها * (شكورا) * لله عز وجل في نعمه
ويقال * (لكل صبار شكور) * يعني لكل مؤمن موحد
وإنما وصفه بأفضل خصلتين في المؤمن لأن أفضل خصال المؤمن الصبر والشكر
والصبار هو للمبالغة في الصبر
والشكور على ميزان فعول هو للمبالغة في الشكر
وروي عن قتادة أنه قال إن أحب العباد إلى الله عز وجل من إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر
فأعلم الله عز وجل أن المتفكر المعتبر في خلق السماوات والأرض هو الصبار والشكور
قوله عز وجل * (وإذا غشيهم موج كالظلل) * يعني أتاهم موج كما يقال من غشي سدد السلطان يجلس ويقم
ويقال علاهم
ويقال غطاهم موج كالظلل يعني كالسحاب
ويقال كالجبال وهو جمع ظلة
يعني يأتيهم الموج بعضه فوق بعض وله سواد لكثرته
* (دعوا الله مخلصين له الدين) * يعني أخلصوا له بالدعوة * (فلما نجاهم إلى البر) * يعني إلى القرار * (فمنهم مقتصد) * يعني فمنهم من يؤمن ومنهم من يكفر ولا يؤمن.
ثم ذكر المشرك الذي ينقض العهد فقال * (وما يجحد بآياتنا) * يعني لا يترك العهد * (إلا كل ختار كفور) * يعني غدار بالعهد
* (كفور) * لله عز وجل في نعمه
وقال القتبي الختر أقبح الغدر
* (كفور) * على ميزان فعول
وإنما يذكر هذا اللفظ إذا صار عادة له كما يقال ظلوم
وقد ذكر الكافر بأقبح خصلتين فيه كما ذكر المؤمن بأحسن خصلتين فيه وهو قوله * (صبار شكور) *
سورة لقمان 33 - 34
قوله عز وجل * (يا أيها الناس اتقوا ربكم) * يعني وحدوه وأطيعوه * (واخشوا) * يعني واخشوا عذاب يوم * (يوما لا يجزي والد عن ولده) * يعني ولا ينفع والد عن ولده
ويقال لا
28

يقضي والد عن ولده ما عليه * (ولا مولود) * يعني ولا الولد * (هو جاز عن والده شيئا) * يعني لا يقدر الولد أن ينفع والده شيئا وهذا في الكفار خاصة
وأما المؤمن فإنه ينفع كما قال في آية أخرى * (ألحقنا بهم ذريتهم) * [الطور 21]
ثم قال * (إن وعد الله حق) * يعني البعث بعد الموت كائن لا خلف فيه * (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) * يعني لا يغرنكم ما في الدنيا من زينتها وزهرتها فتركنوا إليها
وتطمئنوا بها وتتركوا الآخرة والعمل لها * (ولا يغرنكم بالله الغرور) * يعني لا يغرنكم الشيطان عن طاعة الله عز وجل
ويقال كل مضل هو الشيطان
وقال أهل اللغة * (الغرور) * بنصب الغين هو الشيطان
وبالضم أباطيل الدنيا
قوله عز وجل * (إن الله عنده علم الساعة) * قال مقاتل نزلت في رجل يقال له الوليد بن عمرو من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فماذا تلد وقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت وقد علمت ما عملت اليوم فماذا أنا عامل غدا ومتى الساعة فنزل * (إن الله عنده علم الساعة) * يعني علم القيامة لا يعلمه غيره * (وينزل الغيث) * يعني وهو الذي ينزل الغيث متى شاء * (ويعلم ما في الأرحام) * من ذكر وأنثى * (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) * أي ماذا تعمل غدا * (وما تدري نفس بأي أرض تموت) * في سهل أو جبل
وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله فقرأ * (إن الله عنده علم الساعة) *) الآية
وقال ابن عباس كل شيء أوتي نبيكم إلا مفاتيح الغيب الخمس * (إن الله عنده علم الساعة) * إلى آخر السورة
وقالت عائشة رضي الله عنها (من حدثكم بأنه يعلم ما في غد فقد كذب)
ثم قرأت * (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت) * يعني بأي مكان تموت وبأي قدم تؤخذ وبأي نفس ينقضي أجله
وروى شهر بن حوشب قال دخل ملك الموت على سليمان بن داود عليهما السلام فقال رجل من جلسائه لسليمان من هذا فقال هو ملك الموت
فقال لقد رأيته ينظر إلي كأنه يريدني فأريد أن تحملني على الريح حتى تلقيني بالهند ففعل
ثم أتى ملك الموت إلى سليمان فسأله عن نظره ذلك فقال إني كنت أعجب أني كنت أمرت أن أقبض روحه في آخر النهار بالهند وهو عندك
ثم قال تعالى * (إن الله عليم خبير) * يعني بهذه الأشياء التي ذكرها
29

سورة السجدة مكية وهي ثلاثون وتسع آيات
سورة السجدة 1 - 5
قوله تبارك وتعالى * (ألم تنزيل الكتاب) * يعني المنزل من الله عز وجل القرآن على معنى التقديم
يعني أن هذا الكتاب تنزيل من الله عز وجل و * (الكتاب) * هو التنزيل
ويقال معناه نزل به جبريل عليه السلام بهذا التنزيل * (الكتاب) * يعني القرآن * (لا ريب فيه) * يعني لا شك فيه أنه * (من رب العالمين) *
فلما نزله جبريل عليه السلام جحده قريش وقالوا إنما يقوله من تلقاء نفسه
فنزل * (أم يقولون افتراه) * يعني أيقولون اختلقه من ذات نفسه
وقال أهل اللغة فرى يفري إذا قطعه للإصلاح وأفرى يفري إذا قطعه للاستهلاك
فأكذبهم الله عز وجل فقال * (بل هو الحق من ربك) * يعني القرآن
ولو لم يكن من الله عز وجل لم يكن حقا وكان باطلا ويقال * (بل هو الحق من ربك) * يعني نزل من عند ربك * (لتنذر قوما) * يعني كفار قريش * (ما أتاهم من نذير من قبلك) * يعني لم يأتهم في عصرك ولكن أتاهم من قبل لأن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كانوا إلى جميع الناس
ويقال معناه لم يشاهدوا نذيرا قبلك وإنما الإنذار قد كان سبق لأنه قال * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * [الإسراء 15] وقد سبق الرسل
ويقال * (ما أتاهم من نذير من قبلك) * يعني من قومهم من قريش
ثم قال * (لعلهم يهتدون) * يعني يهتدون من الضلالة وأصل الإنذار هو الإعلام يقال أنذر العدو إذا أعلمه
ثم دل على نفسه بصنعه فقال عز وجل * (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما) * من السحاب والرياح وغيره * (في ستة أيام) * ولو شاء خلقها في ساعة واحدة لفعل ولكنه خلقها في ستة أيام ليدل على التأني
ويقال خلقها في ستة أيام لتكون الأيام أصلا عند الناس * (ثم استوى على العرش) * فيها تقديم يعني خلق العرش قبل السماوات
ويقال علا فوق العرش
30

من غير أن يوصف بالاستقرار على العرش ويقال استوى أمره على بريته فوق عرشه كما استوى أمره وسلطانه وعظمته دون عرشه وسمائه
(ما لكم من دونه من ولي) يعني من قريب ينفعكم في الآخرة * (ولا شفيع) * من الملائكة * (أفلا تتذكرون) * يعني أفلا تتعظون فيما ذكره من صفته فتوحدونه
ثم قال عز وجل * (يدبر الأمر) * يقول يقضي القضاء * (من السماء إلى الأرض) * يعني يبعث الملائكة من السماء بالقضاء إلى الأرض * (ثم يعرج إليه) * يعني يصعد إليه
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا عمرو بن محمد بإسناده عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط
قال يدبر أمر الدنيا أربعة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل
أما جبرائيل فموكل بالرياح والجنود وأما ميكائيل فموكل بالنبات والقطر وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمور عليهم فذلك قوله عز وجل * (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) *
ثم قال * (ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره) * يعني في يوم واحد من أيام الدنيا كان مقدار ذلك اليوم * (ألف سنة مما تعدون) * أنتم
وقال القتبي معناه يقضي في السماء وينزله مع الملائكة إلى الأرض فتوقعه الملائكة عليهم السلام في الأرض
" ثم يعرج إلى السماء " فيكون نزولها ورجوعها في يوم واحد مقدار المسير على قدر سيرنا * (ألف سنة) * لأن بعد ما بين السماء والأرض خمسمائة عام فيكون نزوله وصعوده ألف سنة في يوم واحد
وروى جويبر عن الضحاك * (في يوم كان مقداره ألف سنة) * قال يصعد الملك إلى السماء مسيرة خمسمائة عام ويهبط مسيرة خمسمائة عام في كل يوم من أيامكم وهو مسيرة ألف سنة
سورة السجدة 6 - 9
ثم قال عز وجل * (ذلك عالم الغيب) * يعني ذلك الذي يفعل هذا هو * (عالم الغيب والشهادة) * يعني ما غاب من العباد وما شاهدوه
ويقال عالم بما كان وبما يكون
ويقال عالم السر والعلانية
ويقال عالم بأمر الآخرة وأمر الدنيا * (العزيز) * في ملكه * (الرحيم) * بخلقه
قوله عز وجل " الذي أحسن كل شيء خلقه " قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر * (خلقه) * بجزم اللام وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالجزم فمعناه الذي أحسن كل شيء
31

وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال الإنسان في خلقه حسن والخنزير في خلقه حسن وكل شيء في خلقه حسن
ومن قرأ بالنصب فعلى فعل الماضي يعني خلق كل شيء على إرادته وخلق الإنسان في أحسن تقويم
ويقال الذي علم خلق كل شيء خلقه
يعني علم كيف خلق
ويقال هل تحسن شيئا
يعني تعلم
ومعناه الذي علم خلق كل شيء خلقه
ويقال الحسن عبارة عن الزينة
يعني الذي زين كل شيء خلقه وأتقنه كما قال " صنع الله الذي أتقن كل شيء " [النمل 88]
ثم قال * (وبدأ خلق الإنسان من طين) * يعني خلق آدم عليه السلام من طين من أديم الأرض * (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) * يعني خلق ذريته من سلالة من النطفة التي تنسل من الإنسان وقال أهل اللغة كل شيء على ميزان فعالة فهو ما فضل من شيء
يقال نشارة ونخالة
ثم رجع إلى آدم عليه السلام فقال عز وجل * (ثم سواه) * يعني سوى خلقه * (ونفخ فيه من روحه) *
ثم رجع إلى ذريته فقال * (وجعل لكم السمع والأبصار) * ويقال هذا كله في صفة الذرية يعني ثم * (جعل نسله من سلالة من ماء مهين) * يعني من نطفة ضعيفة * (ثم سواه) * يعني جمع خلقه في رحم أمه * (ونفخ فيه من روحه) * يعني جعل فيه الروح بأمره * (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) *
ثم قال * (قليلا ما تشكرون) * يعني لا تشكرون رب هذه النعم على حسن خلقكم فتوحدوه
فلا تستعملوا سمعكم وأفئدتكم إلا في طاعتي
ويقال " ما " ههنا صلة فكأنه يقول تشكرونه قليلا
ويقال " ما " بمعنى الذي فكأنه قال فقليل الذي تشكرون وقد يكون الكلام بعضه بلفظ المغايبة وبعضه بلفظ المخاطبة كما قال ها هنا * (ثم جعل نسله) * * (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) * بلفظ المغايبة
ثم قال * (وجعل لكم) * بلفظ المخاطبة
سورة السجدة 10 - 12
ثم قال عز وجل * (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض) * يعني هلكنا وصرنا ترابا * (أئنا لفي خلق جديد) * يعني أنبعث بعد الموت
وأصله ضل الماء في اللبن إذا غاب وهلك
وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قرأ " أئذا صللنا " بالصاد وتفسيره النتن
يقال صل اللحم إذا أنتن
وقراءة العامة بالضاد المعجمة أي هلكنا
وقرأ ابن عامر " وقالوا إذا ضللنا " بغير استفهام * (أئنا لفي خلق جديد) * على وجه الاستفهام
قال لأنهم كانوا يقرون بالموت
32

ويشاهدونه
وإنما أنكروا البعث
ويكون الاستفهام في البعث دون الموت
ثم قال عز وجل * (بل هم بلقاء ربهم كافرون) * يعني بالبعث جاحدون فلا يؤمنون به
قوله عز وجل * (قل يتوفاكم) * يعني يقبض أرواحكم * (ملك الموت) * واسمه عزرائيل وروي في الخبر أن له وجوها أربعة فوجه من نار يقبض به أرواح الكفار ووجه من ظلمة يقبض به أرواح المنافقين ووجه من لحم يقبض به أرواح المؤمنين ووجه من نور يقبض به أرواح الأنبياء والصديقين عليهم السلام والدنيا بين يديه كالكف وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب
فإذا قبض روح المؤمن دفعها إلى ملائكة الرحمة وإذا قبض روح الكافر دفعها إلى ملائكة العذاب
وروى جابر بن زيد أن ملك الموت كان يقبض الأرواح بغير وجه فأقبل الناس يسبونه ويلعنونه
فشكى إلى ربه عز وجل فوضع الله عز وجل الأمراض والأوجاع
فقالوا مات فلان بكذا وكذا * (الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) * بعد الموت أحياء فيجازيكم بأعمالكم
ثم قال عز وجل * (ولو ترى إذ المجرمون) * يعني المشركين * (ناكسو رؤوسهم عند ربهم) * استحياء من ربهم بأعمالهم يقولون * (ربنا أبصرنا) * الهدى * (وسمعنا) * الإيمان
ويقال * (أبصرنا) * يوم القيامة بالمعاينة * (وسمعنا) * يعني أيقنوا حين لم ينفعهم يقينهم * (فارجعنا) * إلى الدنيا * (نعمل صالحا إنا موقنون) * يعني أيقنا بالقيامة
ويقال * (إنا موقنون) * يعني قد آمنا ولكن لا ينفعهم
وقد حذف الجواب لأن في الكلام دليلا ومعناه ولو ترى يا محمد ذلك لرأيت ما تعتبر به غاية الاعتبار
سورة السجدة 13 - 14
يقول الله تعالى * (ولو شئنا لآتينا) * يعني لأعطينا * (كل نفس هداها ولكن حق القول مني) * يعني وجب العذاب مني
ويقال ولكن سبق القول بالعذاب وهو قوله " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " من كفار الإنس ومن كفار الجن أجمعين
فتقول لهم الخزنة * (فذوقوا بما نسيتم) * يعني ذوقوا العذاب بما تركتم * (لقاء يومكم هذا) * يعني تركتم العمل بحضور يومكم هذا
قال القتبي النسيان ضد الحفظ والنسيان الترك
فقوله * (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا) * أي تركتم الإيمان بلقاء هذا اليوم * (إنا نسيناكم) * يعني تركناكم في العذاب
ويقال نجازيكم بنسيانكم كما قال الله عز وجل * (نسوا الله فنسيهم) * [التوبة 67] * (وذوقوا عذاب الخلد) * الذي لا ينقطع أبدا * (بما كنتم تعملون) * من الكفر
33

سورة السجدة 15 - 20
ثم قال عز وجل * (إنما يؤمن بآياتنا) * يعني يصدق بآياتنا
يعني بالعذاب * (الذين إذا ذكروا بها) * يعني وعظوا بها
يعني بآيات الله عز وجل * (خروا سجدا) * على وجوههم * (وسبحوا بحمد ربهم) * يقول وذكروا الله عز وجل بأمره * (وهم لا يستكبرون) * عن السجود كفعل الكفار
ويقال * (الذين إذا ذكروا) * يعني دعوا إلى الصلوات الخمس أتوها فصلوها ولا يستكبرون عنها
قوله عز وجل * (تتجافى جنوبهم) * قال مقاتل نزلت في الأنصار كانت منازلهم بعيدة من المسجد فإذا صلوا المغرب كرهوا أن ينصرفوا
مخافة أن تفوتهم صلاة العشاء في الجماعة فكانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء
ويقال الذي يصلي العشاء والفجر بجماعة
وقال أنس بن مالك الذي يصلي ما بين المغرب والعشاء وهو صلاة الليل كما جاء في الخبر
قال النبي صلى الله عليه وسلم (ركعة في الليل خير من ألف ركعة في النهار)
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل بن أحمد
قال حدثنا السراج
قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد العبسية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (يحشر الناس يوم القيامة في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينقدهم البصر ثم ينادي مناد سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم فأين الذين يحمدون الله عز وجل على كل حال فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب
ثم ينادي مناد أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب
ثم ينادي مناد أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب
ثم يؤمر بسائر الناس فيحاسبون)
فذلك قوله عز وجل * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * يعني يصلون
34

بالليل ويقومون عن فرشهم " يدعون ربهم خوفا وطعما " * (خوفا) * من عذابه * (وطمعا) * في رحمته * (ومما رزقناهم ينفقون) * يعني يتصدقون من أموالهم
يعني صدقة التطوع لأنه قرية كصلاة التطوع
ويقال يعني الزكاة المفروضة
والأول أراد به العشاء والفجر
ثم بين ثوابهم فقال عز وجل * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم) * يعني ما أعد لهم * (من قرة أعين) * يعني من الثواب في الجنة
ويقال من طيبة النفس
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يقول الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)
قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) *
قال مقاتل قيل لابن عباس ما الذي أخفي لهم قال في جنة عدن ما لم يكن في جناتهم
قرأ حمزة * (ما أخفي) * بسكون الياء
وقرأ الباقون بنصبها
فمن قرأ بالسكون فهو على معنى الخبر عن نفسه فكأنه قال * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم) * يعني الجزاء الذي أخفي لهم ويشهد قراءة عبد الله بن مسعود " ما يخفى لهم " ومن قرأ بالنصب فهو على فعل ما لم يسم فاعله على معنى أفعل
وقرئ في الشاذ " وما أخفي " يعني وما أخفى الله عز وجل لهم
ثم قال * (جزاء بما كانوا يعملون) * يعني جزاء لأعمالهم
قوله عز وجل * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) * يعني لا يستوون عند الله عز وجل في الفضل
نزلت الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط وذلك أنه جرى بينهما كلام فقال الوليد لعلي بأي شيء تفاخرني أنا والله أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ منك في الكتيبة عينا
يعني أكون أملأ مكانا في العسكر
فقال له علي رضي الله عنه اسكت فإنك فاسق فنزل * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) *
وقال الزجاج نزلت في عقبة بن أبي معيط
قال ويجوز في اللغة لا يستويان ولم يقرأ والقراءة * (لا يستوون) * ومعناهما لا يستوي المؤمنون والكافرون
ثم بين مصير كلا الفريقين فقال تعالى * (أما الذين آمنوا) * أي أقروا بالله ورسوله والقرآن * (وعملوا الصالحات) * يعني الطاعات * (فلهم جنات المأوى نزلا) * يعني يأوي إليها المؤمنون
ويقال يأوي إليها أرواح الشهداء وهو أصح في اللغة
ثم قال * (نزلا) * يعني رزقا
والنزل في اللغة هو الرزق
ويقال * (نزلا) * يعني منزلا * (بما كانوا يعملون) * يعني بأعمالهم
ثم بين مصير الفاسقين فقال * (وأما الذين فسقوا) * يعني عصوا ولم يتوبوا * (فمأواهم النار) * ويقال * (فسقوا) * يعني نافقوا وهو الوليد بن عتبة ومن كان مثل حاله * (فمأواهم النار) * يعني مصيرهم إلى النار ومرجعهم إليها * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها) * يعني من النار
35

* (أعيدوا فيها) * ويقال إن جهنم إذا جاشت ألقتهم في أعلى الباب فطمعوا في الخروج منها فتلقاهم الخزنة بمقامع فتضربهم فتهوي بهم إلى قعرها وتقول لهم * (وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) * وقال في آية أخرى * (ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) * [سبأ 42] بلفظ التأنيث لأنه أراد به النار وهي مؤنثة
وههنا قال * (الذي كنتم به تكذبون) * بلفظ التذكير لأنه أراد به العذاب وهو مذكر
سورة السجدة 21 - 22
ثم قال عز وجل وجن * (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى) * وهو المصيبات والقتل والجوع * (دون العذاب الأكبر) * وهو عذاب النار
يعني إن لم يتوبوا
ويقال * (العذاب الأدنى) * هو السجن في الدنيا للفاسقين والعذاب الأكبر النار إن لم يتوبوا
ويقال * (العذاب الأدنى) * عذاب القبر
وقال إبراهيم يعني سنين جدب أصابتهم
وقال أبو العالية مصيبات في الدنيا * (لعلهم يرجعون) * يعني يتوبون
قوله عز وجل * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه) * يعني وعظ بآيات ربه بالقرآن * (ثم أعرض عنها) * يعني عن الإيمان بها ولم يؤمن بها * (إنا من المجرمين منتقمون) * بالعذاب يعني منتصرون
سورة السجدة 23 - 24
ثم قال عز وجل * (ولقد آتينا موسى الكتاب) * يعني أعطينا موسى التوراة * (فلا تكن في مرية من لقائه) * قال مقاتل يعني فلا تكن في شك من لقاء موسى التوراة
فإن الله عز وجل ألقى عليه الكتاب
وقال في رواية الكلبي * (فلا تكن في مرية) * من لقاء موسى عليه السلام فلقيه ليلة أسري به في بيت المقدس يعني النبي صلى الله عليه وسلم لقي موسى عليه السلام هناك
ويقال لقيه في السماء
وذكر الخبر المعروف أنه فرض على النبي صلى الله عليه وسلم خمسون صلاة
فقال له موسى عليه السلام ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك
فلم يزل يرجع حتى حط الله عز وجل إلى الخمس ويقال * (فلا تكن في مرية من لقائه) * يعني من لقاء الله عز وجل وهو البعث بعد الموت
ويقال * (فلا تكن في مرية من لقائه) * يعني لا تشكن أنك تلقى موسى يوم القيامة
ثم قال عز وجل * (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) * يعني جعلنا التوراة بيانا لهم وهدى من الضلالة
ويقال * (وجعلناه هدى) * يعني جعلنا موسى هاديا لنبي إسرائيل يدعوهم * (وجعلنا منهم أئمة) * يعني وجعلنا من بني إسرائيل قادة في الخير * (يهدون بأمرنا) * يعني
36

يدعون الناس إلى أمر الله عز وجل * (لما صبروا) * قرأ حمزة والكسائي * (لما صبروا) * بكسر اللام والتخفف وقرأ الباقون بالنصب والتشديد
فمن قرأ بالتشديد * (لما صبروا) * أي حين صبروا ويقال هو حكاية المجازاة يعني لما صبروا جعلناهم أئمة
ومن قرأ بالتخفيف * (لما صبروا) * أي بما صبروا
وتشهد لها قراءة ابن مسعود كان يقرأ * (بما صبروا) *
ويقال معناه كما صبروا عن الدنيا وصبروا على دينهم فلم يرجعوا عنه
ويقال معناه وجعلناهم أئمة بصبرهم * (وكانوا بآياتنا يوقنون) * يعني يصدقون بالعلامات التي أعطي موسى
سورة السجدة 25 - 27
ثم قال عز وجل * (إن ربك هو يفصل بينهم) * يعني يقضي بينهم * (يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * من الدين
ثم خوف كفار مكة فقال عز وجل " أو لم يهد لهم " يعني أو لم يبين لهم الله تعالى
وقرئ في الشاذ " أو لم نهد لهم " بالنون
وقرأ العامة بالياء
* (كم أهلكنا) * يعني أو لم نبين لهم الهلاك * (من قبلهم من القرون) * يعني قوم لوط وصالح وهود * (يمشون في مساكنهم) * يعني يمرون في منازلهم * (إن
في ذلك لآيات) * يعني في إهلاكهم * (لآيات) * لعبرات * (أفلا يسمعون) * أي أفلا يسمعون المواعظ فيعتبرون بها
ثم قال عز وجل " أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز " يعني اليابسة الملساء التي ليس فيها نبات
يقال أرض جرز أي أرض جدب للتي لا نبات فيها
يقال جرزت الجراد إذا أكلت وتركت الأرض جرزا * (فنخرج به زرعا) * يعني نخرج بالماء النبات * (تأكل منه أنعامهم) * أي من الكلأ والعشب والتبن * (وأنفسهم) * من الحبوب والثمار * (أفلا يبصرون) * هذه العجائب فيوحدوا ربهم
سورة السجدة 28 - 30
قوله عز وجل * (ويقولون متى هذا الفتح) * قال مقاتل أي متى هذا القضاء وهو البعث وقال قتادة * (الفتح) * القضاء
وقال مجاهد * (الفتح) * يوم القيامة * (إن كنتم صادقين) * تكذيبا منهم يعنون به النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال عز وجل * (قل) * يا محمد * (يوم الفتح) * يعني يوم القيامة " لا ينفع الذين كفروا
37

إيمانهم) قال في رواية الكلبي إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتذاكرون فيما بينهم وهم بمكة قبل فتح مكة لهم
وكان ناس من بني خزيمة كانوا إذا سمعوا ذلك منهم يستهزئون بهم ويقولون لهم متى فتحكم هذا الذين كنتم تزعمون ويقولون فنزل
* (متى هذا الفتح) * يا أصحاب محمد إن كنتم صادقين
* (قل) * يا محمد * (يوم الفتح) * يعني فتح مكة * (لا ينفع الذين كفروا إيمانهم) * من القتل * (ولا هم ينظرون) * حتى يقتلوا
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة بعث خالد بن الوليد إلى بني خزيمة وقد كانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية
يعني الحقد
فقالوا قد أسلمنا
فقال لهم انزلوا فنزلوا فوضع فيهم السلاح فقتل منهم وأسر
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد فبعث إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالدية من غنائم خيبر فذلك قوله تعالى * (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم) * من القتل " ولاهم ينظرون " يعني يؤجلون
ثم قال عز وجل * (فأعرض عنهم) * يا محمد " وانتظر " لهم فتح مكة ويقال العذاب
* (إنهم منتظرون) * بهلاكك
وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ آلم تنزيل وتبارك الذي بيده الملك
وروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من قرأ آلم السجدة وتبارك الذي بيده الملك فكأنما أحيى ليلة القدر) والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
38

سورة الأحزاب مكية وهي سبعون وثلاث آيات
سورة الأحزاب 1 - 3
قول الله سبحانه وتعالى * (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين) * قال مقاتل وذلك أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة بعد أحد وبعد الهزيمة فمروا على عبد الله بن أبي المنافق
فقام معهم عبد الله بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق
فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا له اترك ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة في الآخرة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربك
فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه إئذن لي في قتلهم) فقال (قد أعطيتهم الأمان) فلم يأذن له بالقتل وأمره بأن يخرجهم من المدينة
فقال لهم عمر اخرجوا في لعنة الله وغضبه
فنزل * (يا أيها النبي اتق الله) * وقال مقاتل في رواية الكلبي قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وجد بن قيس فتكلموا فيما بينهم
فلما اجتمعوا في أمر فيما بينهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونه إلى أمرهم وعرضوا عليه أشياء فكرهها منهم
فهم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن يقتلوهم فنزل * (يا أيها النبي اتق الله) * ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم إلى المدة
(ولا تطع الكافرين) من أهل مكة * (والمنافقين) * من أهل المدينة فيما دعوك إليه
ويقال إن المسلمين أرادوا أن ينقضوا العهد فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم
فنزل * (يا أيها النبي اتق الله) * في نقض العهد
وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأراد هو وأصحابه
ألا ترى أنه قال في سياق الآية * (إن الله كان بما تعملون خبيرا) * ثم قال * (إن الله كان عليما) * بما اجتمعوا عليه * (حكيما) * حيث نهاك عن نقض العهد وحكم بالوفاء
قوله عز وجل * (واتبع ما يوحى إليك من ربك) * يعني بما في القرآن * (إن الله كان بما تعملون خبيرا) * من وفاء العهد ونقضه * (وتوكل على الله) * يعني ثق بالله وفوض أمرك إلى الله تعالى * (وكفى بالله وكيلا) * يعني حافظا وناصرا
قرأ أبو عمرو * (بما يعملون) * بالياء على معنى الخبر عنهم
وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
39

سورة الأحزاب 4 - 5
قوله عز وجل * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) * قال مقاتل نزلت في جميل بن معمر ويكنى أبا معمر وكان حافظا بما يسمع وأهدى الناس للطريق يعني طريق البلدان وكان مبغضا للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول إن لي قلبين أحدهما أعقل من قلب محمد فنزل * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) * وكان الناس يظنون أنه صادق في ذلك حتى كان يوم بدر فانهزم وهو آخذ بإحدى نعليه والأخرى في رجله حتى أدركه أبو سفيان بن حرب وكان لا يعلم بذلك حتى أخبر أن إحدى نعليه في أصبعه والأخرى في رجله فعرفوا أنه ليس له قلبان
ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهى في صلاته فقال المنافقون لو أن له قلبين أحدهما في صلاته والآخر مع أصحابه فنزل * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) *.
وروى معمر عن قتادة قال كان رجل لا يسمع شيئا إلا وعاه فقال الناس ما يعي هذا إلا أن له قلبين وكان يسمى ذا القلبين فنزلت هذه الآية
وروى معمر عن الزهري قال بلغنا أن ذلك في شأن زيد بن حارثة ضرب الله له مثلا يقول ليس ابن رجل آخر ابنك كما لا يكون لرجل آخر قلبان
وذكر عن الشافعي رحمه الله أنه احتج على محمد بن الحسن قال * (ما جعل الله لرجل من قلبين) * يعني ما جعل الله لرجل من أبوين في الإسلام يعني لا يجوز أن يثبت نسب صبي واحد من اثنين ولكن هذا التفسير لم يذعن به أحد من المتقدمين فلو أراد به على وجه القياس لا يصح
لأنه ليس بينهما جامع يجمع بينهما
وذكر عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما أن جارية كانت بين رجلين جاءت بولد فادعياه فقالا إنه ابنهما يرثهما ويرثانه
ثم قال عز وجل * (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) * قرأ عاصم * (تظاهرون) * بضم التاء وكسر الهاء والألف
وقرأ ابن عامر * (تظاهرون) * بنصب التاء والهاء وتشديد الظاء مع الألف
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو * (تظهرون) * بنصب التاء والهاء بغير ألف والتشديد
وقرأ حمزة والكسائي * (تظاهرون) * بنصب التاء والتخفيف مع الألف وهذه كلها لغات
يقال ظاهر من امرأته وتظاهر وتظهر بمعنى واحد وهو أن يقول لها أنت علي كظهر أمي
فمن قرأ * (تظهرون) * بالتشديد فالأصل تتظهرون فأدغمت إحدى التاءين في الظاء وشددت
من قرأ * (تظاهرون) * فالأصل تتظاهرون فأدغمت إحدى التاءين
ومن قرأ بالتخفيف
40

حذف إحدى التاءين ولم يشدد للتخفيف كقوله * (تسألون) * والأصل تتساءلون والآية نزلت في شأن أوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته وذكر حكم الظهار في سورة المجادلة
ثم قال تعالى * (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) * نزلت في شأن زيد بن حارثة حين تبناه النبي صلى الله عليه وسلم قال فكما لا يجوز أن يكون لرجل واحد قلبان فكذلك لا يجوز أن تكون امرأته أمه ولا ابن غيره يكون ابنه
ثم قال * (ذلكم قولكم بأفواهكم) * يعني قولكم الذي قلتم زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم أنتم قلتموه بألسنتكم * (والله يقول الحق) * يعني يبين الحق ويأمركم به كي لا تنسوا إليه غير النسبة * (وهو يهدي السبيل) * يعني يدل على طريق الحق
ويقال يدل على الصواب بأن تدعوهم إلى آبائهم
وروى أبو بكر بن عياش عن الكلبي قال كان زيد بن حارثة مملوكا لخديجة بنت خويلد رضي الله عنها فوهبته خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه فكانوا يقولون زيد بن محمد فنزل قوله * (ادعوهم لآبائهم) * يعني انسبوهم لآبائهم
فقالوا زيد بن حارثة * (هو أقسط عند الله) * يعني أعدل عند الله عز وجل * (فإن لم تعلموا آباءهم) * يعني إن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم * (فإخوانكم في
الدين) * أي قولوا ابن عبد الله وابن عبد الرحمن * (ومواليكم) * يعني قولوا مولى فلان وفلان
وكان أبو حذيفة أعتق عبدا يقال له سالم وتبناه فكانوا يسمونه سالم بن أبي حذيفة فلما نزلت هذه الآية سموه سالما مولى أبي حذيفة
ثم قال * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) * يعني أن تنسبوهم إلى غير آبائهم قبل النهي
ويقال ما جرى على لسانهم بعد النهي لأن ألسنتهم قد تعودت بذلك * (ولكن ما تعمدت قلوبكم) * يعني ولكن الجناح فيما قصدت قلوبكم بعد النهي
وروي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه حلف باللات والعزى ناسيا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم (فأمره أن ينفث عن يساره ثلاثا وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم
ثم قال * (وكان الله غفورا رحيما) * يعني * (غفورا) * لمن أخطأ ثم رجع * (رحيما) * بهم
41

سورة الأحزاب 6 - 8
قوله عز وجل * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) * يعني ما يرى لهم رأيا فذلك أولى وأحسن لهم من رأيهم
ويقال معناه النبي أرحم بالمؤمنين من أنفسهم * (وأزواجه أمهاتهم) * يعني كأمهاتهم في الحرمة
وذكر عن أبي أنه كان يقرأ * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) * وهو أب لهم * (وأزواجه أمهاتهم) *
ثم قال * (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) * قال في رواية الكلبي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الناس فكان يواخي بين الرجلين فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله فمكثوا في ذلك ما شاء الله حتى نزلت هذه الآية * (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) * * (في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين) * الذين آخى بينهم فصارت المواريث بالقرابات روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أنا ولي كل مسلم فمن ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فإلى الله وإلى رسوله)
فأمر بصرف الميراث إلى العصبة
ثم قال * (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) * يعني إلا أن يوصي له بثلث ماله
وقال مقاتل كان المهاجرون والأنصار يرثون بعضهم من بعض بالقرابة ولا يرث من لم يهاجر إلى أن يوصي للذي لم يهاجر ثم نسخ بما في آخر سورة الأنفال
ثم قال * (كان ذلك في الكتاب مسطورا) * يعني هكذا كان مكتوبا في التوراة ويقال في اللوح المحفوظ ويقال في القرآن
قوله عز وجل * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) * وهو الوحي الذي أوحى إليهم أن يدعوا الخلق إلى عبادة الله عز وجل وأن يصدق بعضهم بعضا
ويقال الميثاق الذي أخذ عليهم من ظهورهم ويقال كل نبي أمر بأن يأمر من بعده بأن يخبروا ببعث محمد صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي إليه
ثم قال * (ومنك ومن نوح) * في هذا تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قد ذكر جملة الأنبياء عليهم السلام ثم خصه بالذكر قبلهم وكان آخرهم خروجا
ثم ذكر نوحا لأنه كان أولهم ثم ذكر * (إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم) * صلوات الله عليهم لأن كل واحد منهم كان على أثر بعض * (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) * يعني عقدا وثيقا أن يعبدوا الله ويدعوا الخلق إلى عبادة الله عز وجل وأن يبشر كل واحد منهم بمن بعده
42

ثم قال عز وجل * (ليسأل الصادقين عن صدقهم) * يعني أخذ عليهم الميثاق لكي يسأل الصادقين عن صدقهم
يعني يسأل المرسلين عن تبليغ الرسالة ويسأل الوافين عن وفائهم
وروي في الخبر أنه يسأل القلم يوم القيامة فيقول له ما فعلت بأمانتي فيقول يا رب سلمتها إلى اللوح ثم جعل يرتعد القلم مخافة أن لا يصدقه اللوح فيسأل اللوح بأن القلم قد أدى الأمانة وأنه قد سلم إلى إسرافيل
فيقول لإسرافيل ما فعلت بأمانتي التي سلمها إليك اللوح فيقول سلمتها إلى جبريل
فيقول لجبريل عليه السلام ما فعلت بأمانتي فيقول سلمتها إلى أنبيائك فيسأل الأنبياء عليهم السلام فيقولون قد سلمناها إلى خلقك فذلك قوله تعالى * (ليسأل الصادقين عن صدقهم) * * (وأعد للكافرين عذابا أليما) * يعني الذين كذبوا الرسل
سورة الأحزاب 9
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم) * يعني احفظوا منة الله عليكم بالنصرة
" إذا جاءتكم جنود " يعني الأحزاب
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صالح بني قريظة وبني النضير على أن لا يكون عليه ولا معه
فنقضت بنو النضير عهودهم وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم منها وذكر قصتهم في سورة الحشر
ثم إن بني قريظة جددوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم
ثم إن حيي بن أخطب ركب وخرج إلى مكة فقال لأبي سفيان بن حرب إن قومي مع بني قريظة وهم سبعمائة وخمسون مقاتلا فحثه على الخروج إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم خرج من مكة إلى غطفان وحثهم على ذلك ثم خرج إلى كنانة وحثهم على ذلك
فخرج أبو سفيان مع جماعة من أهل مكة وخرج غطفان وبنو كنانة حتى نزلوا قريبا من المدينة مع مقدار خمسة عشر ألف رجل
ويقال ثمانية عشر ألف رجل
ثم جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة فجاء إلى باب كعب بن الأشرف وهو رئيس بني قريظة فاستأذن عليه فقال لجاريته انظري من هذا فعرفته الجارية فقالت هذا حيي بن أخطب
فقال لا تأذني له علي فإنه مشؤوم إنه قد شام قومه يريد أن يشأمنا زيادة
فقالت له الجارية ليس هاهنا فقال حيي بن أخطب بلى هو ثم ولكن عنده قدر جشيش لا يحب أن يشركه فيها أحد
فقال كعب أحفظني أخزاه الله يعني أغضبني إئذني له في الدخول
فدخل عليه فقال له يحييك مليكك قد جئتك بعارض برد جئتك بقريش بأجمعها وكنانة بأجمعها وغطفان بأجمعها لا يذهب هذا الفوز حتى تقتل محمدا
فانقض الحلف بينك وبين محمد
فقال له كعب بن الأشرف إن العارض ليصيب بنفحاته شيئا ثم يرجع وأنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري ومالي والله ما رأينا جارا قط خيرا من محمد ما أخفر لنا بذمة ولا هتك لنا سترا ولا
43

آذانا وإنما أخشى أن لا يقتل محمد وترجع أنت وأقتل أنا
قال لكم ما في التوراة إن لم يقتل محمدا في هذا الغور لأدخلن معكم حصنكم فيصيبني ما أصابكم
فنقض الحلف وشق الصحيفة فقدم نعيم بن مسعود المدينة وكان تاجرا يقدم من مكة فقال يا محمد شعرت أن بني قريظة نقضوا الحلف الذي كان بينك وبينهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لعلنا نحن أمرناهم بذلك)
فقال عمر إن كنت أمرتهم بذلك وإن كنت تأمرهم بذلك فقتالهم علينا هين
فقال ما أنا بكذاب ولكن الحرب خدعة
ونعيم لم يسلم ذلك اليوم
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة إلى كعب بن الأشرف يناشدوه الله الحلف الذي كان بينهم وأن يرجعوا إلى ما كانوا عليه من قبل
فأبى كعب بن الأشرف وجرى بينهم كلام
وسب سعد بن معاذ فقال أسيد بن حضير أتسب سيدك معاذا يا عدو الله ما هو لك بكفؤ
فقال سعد اللهم لا تميتني حتى أشفي نفسي منهم فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثوه الحديث
فانطلق نعيم بن مسعود إلى أبي سفيان فقال يا أبا سفيان والله ما كذب محمد قط كذبة أخبرني أنه أمر بنقض الحلف بينه وبين بني قريظة
فقال سلمان الفارسي يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الجنود خندقنا على أنفسنا فهل لك أن تخندق خندقا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل المدينة وخندق وأخذ المعول بيده فضرب لكي يقتدي الناس به فضرب ضربة فأبرق برقة حتى ظهر ضوء بضربته
ثم ضرب ضربة أخرى فأبرق برقة ثم ضرب الثالثة فقال سلمان لقد رأيت أمرا عجيبا
لقد رأيت ذلك قال نعم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لقد رأيت بالأولى قصور الشام وبالثانية قصور كسرى وبالثالثة قصور اليمن
فهذه فتوح يفتح الله عليكم)
فقال ناس من المنافقين يعدنا أن تفتح الشام وأرض فارس واليمن
وما يستطيع أحد منا أن يذهب إلى الخلاء ما يعدنا إلا غرورا
فمكث الجنود حول المدينة بضعة عشرة ليلة فأرسل عيينة بن حصن الفزاري والحرث بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك إن أعطيتنا تمر المدينة هذه السنة نرجع عنك بغطفان وكنانة ونخلي بينك وبين قومك فتقاتلهم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا)
فقال فنصف ذلك التمر
قال (نعم)
وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصين والحارث بن
عوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب لنا كتابا
فدعى بصحيفة ليكتب بينهم
فقال سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يا رسول الله أوحي إليك في هذا الشيء فقال (لا ولكنني رأيت العرب رمتكم من قوس واحدة فقلت أرد
44

هؤلاء وأقاتل هؤلاء) فقالا ما رجوا هذا منا في الجاهلية قط أن يأخذوا منا تمرة واحدة إلا شراء أو قرى
فحين زادنا الله بك وأمدنا بك وأكرمنا بك نعطيهم الدنية لا نعطيهم شيئا إلا بالسيف
فشق النبي صلى الله عليه وسلم الصحيفة وقال (اذهبوا فلا نعطيكم شيئا إلا بالسيف)
فلما كان يوم الجمعة أرسل أبو سفيان إلى حيي بن أخطب أن استعد غدا إلى القتال فقد طال المقام هاهنا وقل لقومك يغدوا
فلما جاء بني قريظة الرسول فقالوا غدا يوم السبت لا نقاتل فيه
فقال أبو سفيان ما اشأن السبت قال قوم من الأمم يعظمون القتال فيه
قال أبو سفيان نحن نؤخر القتال إلى يوم الأحد هاتوا لنا رهونا أبناءكم نثلج إليهم يعني نطمئن بذلك
فجاء رسول أبي سفيان إلى بني قريظة وقد أمسوا فقالوا هذه الليلة لا يدخل علينا أحد ولا يخرج من عندنا أحد
فوقع في نفس أبي سفيان من قول نعيم بن مسعود أنه حق وأن نقض العهد كان مكرا منهم
فلما كانت الليلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند الخندق فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ثم قال (من رجل ينظر ما يفعل القوم أدخله الله الجنة)
فما تحرك منهم إنسان
ثم صلى الثلث الثاني فقال (من رجل ينظر ما يفعل القوم) فما تحرك منهم إنسان ثم صلى ساعة ثم هتف مرة أخرى فما تحرك منهم إنسان
فقال (يا حذيفة) فجاء حذيفة
فقال (أما سمعت كلامي منذ هذه الليلة)
قال بلى
ولكن بي من الجوع والقر يعني البرد لم أقدر على أن أجيبك
قال (اذهب فانظر ما فعل القوم ولا ترمي بسهم ولا بحجر ولا تطعن برمح ولا تضرب بسيف)
فقال يا رسول الله إني لا أخشى أن يقتلوني إني لميت
ولكن أخشى أن يمثلوا بي
فقال (ليس عليك بأس)
فلما قال هذا قال حذيفة آمنت وعرفت أنه لا بأس علي
فلما ولى حذيفة قال النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته)
فدخل حذيفة رضي الله عنه في عسكر قريش فإذا هم يصطلون يعني يجتمعون على نار لهم فجلس حذيفة في حلقة منهم فقال أتدرون ما يريد الناس غدا قالوا ماذا يريدون قال يقولون يعني أهل العساكر أين قريش أين سادات الناس وقادتهم فتجيبون فيطرحونكم في نحور العدو فتقتلوا أو تفروا فما زال ذلك الحديث يفشو في العسكر
ثم دخل عسكر بني كنانة
فقال أتدرون ماذا يريد الناس غدا قالوا ماذا يريدون قالوا يقولون أين بنو كنانة أين ذروة العرب أين رماة الحدق فتجيبون فيطرحونكم في نحور العدو فتقتلوا ويفروا
ثم دخل عسكر غطفان فقال أتدرون ماذا يريد الناس غدا قولوا ماذا يريدون قال يقولون أين غطفان أين بنو فزارة أين أحلاس الخيول فتجيبوا فيطرحونكم في نحور العدو فتقتلوا أو تفروا
45

قال فبعث الله تعالى عليهم ريحا شديدة فلم تترك لهم خباء إلا قلعته ولا إناء إلا أكفأته
وقلعت أوتاد خيولهم وجالت الخيول بعضها في بعض فقالوا فيما بينهم لقد بدا محمد بالسر فالنجاة النجاة
فركب أبو سفيان جمله معقولا فما حل عقاله إلا بعد أن انبعث
قال حذيفة ولو شئت أن أضربه بسيفي أو أطعنه برمحي لفعلت ولكن نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فترحلوا كلهم وذهبوا
فرجع حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه عن العساكر وما فعل الله عز وجل بها
فنزل * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم) * في الدفع عنكم * (إذ جاءتكم جنود) * من المشركين * (فأرسلنا عليهم ريحا) * شديدة * (وجنودا لم تروها) * من الملائكة
وذلك أن الملائكة عليهم السلام كبرت حوالي العسكر حتى انهزموا حين هبت بهم الريح وهي ريح الصبا
وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور) ثم قال تعالى * (وكان الله بما تعملون بصيرا) * في أمر الخندق
سورة الأحزاب 10 - 14
قوله عز وجل * (إذ جاؤوكم من فوقكم) * يعني أتاكم المشركون من فوق الوادي يعني طلحة بن خويلد الأسدي * (ومن أسفل منكم) * من قبل المغرب وهو أبو الأعور السلمي
ويقال * (من فوقكم) * أي من قبل المشرق مالك بن عوف وعيينة بن حصن الفزاري ويهود بني قريظة
* (ومن أسفل منكم) * أبو سفيان
فلما رأوا ذلك * (وإذ زاغت الأبصار) * يعني شخصت الأبصار فرقا يعني أبصار المنافقين لأنهم أشد خوفا كأنهم خشب مسندة * (وبلغت القلوب الحناجر) * خوفا هذا على وجه المثل
ويقال اضطراب القلب يبلغ الحناجر ويقال إذا خاف الإنسان تنتفخ الرئة وإذا انتفخت الرئة يبلغ القلب الحنجرة
ويقال للجبان منتفخ الرئة
* (وتظنون بالله الظنونا) * يعني الإياس من النصرة
يعني ظننتم أن لن ينصر الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم
قرأ ابن كثير والكسائي وعاصم في رواية حفص الظنون بالألف عند الوقف ويطرحونها عند الوصل
وكذلك في قوله * (وأطعنا الرسولا) * [الأحزاب 66] " فأضلونا
46

السبيلا) [الأحزاب 67] وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بالألف في حال الوصل والوقف
وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف في الحالين جميعا
فمن قرأ بالألف في الحالين فلاتباع الخط لأن في مصحف الإمام وفي سائر المصاحف بالألف
ومن قرأ بغير ألف فلأن الألف غير أصلية وإنما يستعمل هذه الألف الشعراء في القوافي
وقال أبو عبيدة أحب إلي في هذه الحروف أن يتعمد الوقف عليها بالألف ليكون متبعا للمصحف واللغة
قوله عز وجل * (هنالك ابتلي المؤمنون) * يعني عند ذلك اختبر المؤمنون يعني أمروا بالقتال والحضور وكان في ذلك اختبارا لهم * (وزلزلوا زلزالا شديدا) * أي حركوا تحريكا شديدا واجتهدوا اجتهادا شديدا
* (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) * وهم لم يقولوا رسول الله وإنما قالوا باسمه ولكن الله عز وجل ذكره بهذا اللفظ
قوله عز وجل * (وإذ قالت طائفة منهم) * يعني جماعة من المنافقين * (يا أهل يثرب) * يعني يا أهل المدينة وكان اسم المدينة يثرب فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة * (لا مقام لكم) * قرأ عاصم بضم الميم وقرأ الباقون بالنصب
فمن يقرأ بالضم فمعناه لا إقامة لكم
ومن قرأ بالنصب فهو بالمكان أي لامكان لكم تقومون فيه والجمع المقامات
وكان أبو عبيدة يقرأ بالنصب لأنه يحتمل المقام والمكان جميعا يعني أن المنافقين قالوا خوفا ورعبا منهم لا مقام لكم عند القتال
* (فارجعوا) * يعني فانصرفوا إلى المدينة * (ويستأذن فريق منهم النبي) * وهم بنو حارثة وبنو سلمة وذلك أن بيوتهم كانت من ناحية المدينة * (يقولون إن بيوتنا عورة) * يعني ضائعة نخشى عليها السراق
ويقال معناه أن بيوتنا مما يلي العدو وإنا لا نأمن على أهالينا
وقال القتبي أصل العورة ما ذهب عنه الستر والحفظ وكان الرجال سترا وحفظا للبيوت
فقالوا * (إن بيوتنا عورة) * يعني خالية والعرب تقول أعور منزلك إذا سقط جداره
يقول الله تعالى * (وما هي بعورة) * لأن الله عز وجل يحفظها يعني وما هي بخالية * (إن يريدون إلا فرارا) * أي ما يريدون إلا فرارا من القتال
ثم قال * (ولو دخلت عليهم من أقطارها) * يعني لو دخل العسكر من نواحي المدينة * (ثم سئلوا الفتنة) * يعني دعوهم إلى الشرك * (لآتوها) * قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر * (لآتوها) * بالهمزة بغير مد وقرأ الباقون بالهمز والمد
فمن قرأ بالمد * (لآتوها) * يعني لأعطوها
ومن قرأ بغير مد معناه صاروا إليها وجاؤوها وكلاهما يرجع إلى معنى واحد يعني لو دعوا إلى الشرك لأجابوا سريعا
* (وما تلبثوا بها إلا يسيرا) * أي وما تحسبوا بالشرك إلا قليلا
يعني يجيبوا سريعا
ويقال لو فعلوا ذلك لم يلبثوا بالمدينة إلا قليلا
47

سورة الأحزاب 15 - 17
ثم قال عز وجل * (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل) * يعني من قبل قتال الخندق حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خرج سبعون رجلا من المدينة إلى مكة
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة إلى السبعين فبايعهم وبايعوه
فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك ما شئت
فقال (أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما منعتم به أنفسكم وأولادكم)
فقالوا فإذا فعلنا ذلك
فما لنا قال صلى الله عليه وسلم (لكم النصرة في الدنيا والجنة في الآخرة)
قالوا قد فعلنا ذلك فذلك قوله * (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل) * * (لا يولون الأدبار) * منهزمين * (وكان عهد الله مسؤولا) * يعني يسأل في الآخرة من ينقض العهد
قوله عز وجل * (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا) * أي لا تؤجلون إلا يسيرا لأن الدنيا كلها قليلة
ثم قال عز وجل * (قل من ذا الذي يعصمكم من الله) * يعني يمنعكم من الله يعني من قضاء الله وعذابه * (إن أراد بكم سوءا) * يعني القتل * (أو أراد بكم رحمة) * أي عافية
ويقال * (سوءا) * يعني الهزيمة * (أو أراد بكم رحمة) * يعني خيرا
وهو النصر
يعني من يقدر على دفع السوء عنكم وجر الخير إليكم * (ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) * يعني قريبا ومانعا
سورة الأحزاب 18 - 20
قوله عز وجل * (قد يعلم الله المعوقين منكم) * يعني يرى المثبطين منكم المانعين من القتال منكم وهم المنافقون * (والقائلين لإخوانهم) * يعني لأوليائهم وأصدقائهم * (هلم إلينا) * يعني ارجعوا إلينا إلى المدينة ويقال هذا بلغة أهل المدينة يقولون للواحد وللأثنين وللجماعة هلم وسائر العرب تقول للجماعة هلموا
ثم قال * (ولا يأتون البأس إلا قليلا) * وذلك أن المنافقين كانوا يقولون إن لنا شغلا
48

فيرجعون إلى المدينة فإذا لقيهم أحد بالمدينة من المؤمنين يقولون دخلنا لشغل ونريد أن نرجع
وإذا لقوا أحدا من المنافقين يقولون إيش تصنعون هناك ارجعوا إلينا * (ولا يأتون البأس) * يعني ولا يحضرون القتال إلا قليلا رياء وسمعة
ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا وهذا كقوله * (ولا يذكرون الله إلا قليلا) *
ثم قال عز وجل * (أشحة عليكم) * يعني أشفقة عليكم حتى يعوقكم يا معشر المسلمين
ويقال يعني بخلاء في النفقة عليكم ويقال فيه تقديم
فكأنه يقول ولا يأتون البأس شفقة عليكم أي لم يحضروا شفقة عليكم * (إلا قليلا) * يعني لا قليلا ولا كثيرا
* (فإذا جاء الخوف) * يعني خوف القتال * (رأيتهم ينظرون إليك) * من الخوف * (تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) * يعني تدور أعينهم كدوران الذي هو في غشيان الموت ونزعاته جبنا وخوفا * (فإذا ذهب الخوف) * وجاءت قسمة الغنيمة * (سلقوكم) * يعني رموكم
ويقال طعنوا فيكم * (بألسنة حداد) * يعني سلاط باسطة بالشر * (أشحة على الخير) * يعني حرصا على الغنيمة
ويقال بخلا على الغنيمة
* (أولئك لم يؤمنوا) * يعني لم يصدقوا حق التصديق * (فأحبط الله أعمالهم) * يعني أبطل الله ثواب أعمالهم
* (وكان ذلك على الله يسيرا) * يعني إبطال أعمالهم
ويقال عذابهم في الآخرة على الله * (يسيرا) * يعني على الله هين
ثم قال عز وجل * (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) * يعني يظنون أن الجنود لم يذهبوا من الخوف والرعب * (وإن يأت الأحزاب) * مرة أخرى
ويقال حكاية عن الماضي * (يودوا لو أنهم بأدون في الأعراب) * يعني تمنوا أنهم خارجون في البادية مع الأعراب " يسألون عن أبنائكم " يعني عن أخباركم وأحاديثكم * (ولو كانوا فيكم) * يعني معكم في القتال * (ما قاتلوا إلا قليلا) * رياء وسمعة من غير حسبة
وقرئ في الشاذ * (يسألون) * بتشديد السين وأصله يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضا
وقراءة العامة * (يسألون) * لأنهم يسألون القادمين ولا يسأل بعضهم بعضا
سورة الأحزاب 21 - 22
قوله عز وجل * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * قرأ عاصم * (أسوة) * بضم الألف وقرأ الباقون بالكسر
وهما لغتان ومعناهما واحد
يعني لقد كان لكم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة وسنة صالحة لأنه كان أسبقهم في الحرب وكسرت رباعيته يوم أحد وواساكم بنفسه في مواطن الحرب
* (لمن كان يرجو الله) * يعني يخاف الله عز وجل * (واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) * باللسان * (ولما رأى المؤمنون الأحزاب) * يعني الجنود يوم الخندق والقتال * (قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) * في سورة البقرة وهو قوله عز وجل " أم
49

حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) [البقرة 214] الآية
ويقال إنه قد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه نازل ذلك الأمر
فلما رأوه * (قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) * * (وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) * يعني لم يزدهم الجهد والبلاء إلا تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم وجرأة * (وتسليما) * يعني تواضعا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم
سورة الأحزاب 23 - 27
ثم نعت المؤمنين فقال عز وجل * (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) * يعني وفوا بالعهد الذي عاهدوا ليلة العقبة * (فمنهم من قضى نحبه) * يعني أجله فمات أو قتل على الوفاء يعني وفي بعهده
وقال القتبي النحب في اللغة النذر وذلك أنهم نذروا إذا لقوا العدو أن يقاتلوا فقتل في القتال فسمي قتله قضاء نحبه واستعير النحب مكان الموت
وقال مجاهد النحب العهد
وروى عيسى بن طلحة قال جاء أعرابي فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذين قضوا نحبهم فأعرض عنه
وطلع طلحة بن عبيد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هذا ممن قضى نحبه)
ثم قال عز وجل * (ومنهم من ينتظر) * يعني ينتظر أجله * (وما بدلوا تبديلا) * يعني ما غيروا بالعهد الذي عهدوا تغييرا
ثم قال عز وجل * (ليجزي الله الصادقين بصدقهم) * يعني الوافين بوفائهم * (ويعذب المنافقين) * يعني إذا ماتوا على النفاق * (إن شاء أو يتوب عليهم) * يعني يقبل توبتهم إن تابوا * (إن الله كان غفورا رحيما) * لمن تاب منهم رحيما بهم
قوله عز وجل * (ورد الله الذين كفروا) * يعني صدهم وهم الكفار الذين جاؤوا يوم الخندق * (بغيظهم) * يعني صرفهم عن المدينة مع غيظ منهم * (لم ينالوا خيرا) * يعني لم يصيبوا
50

ما أرادوا من الظفر والغنيمة * (وكفى الله المؤمنين القتال) * يعني دفع الله عنهم مؤنة القتال حيث بعث عليهم ريحا وجنودا
* (وكان الله قويا عزيزا) * فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق دخل المدينة ودخل على فاطمة رضي الله عنها وأراد أن يغسل رأسه
فجاءه جبريل عليه السلام وقال لا تغسل رأسك ولكن اذهب إلى بني قريظة
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال إن جبريل عليه السلام قال له حين وضع سلاحه وضعت سلاحك قال نعم قال ما وضعت الملائكة عليهم السلام سلاحها بعد وقد أمرك الله عز وجل أن تنهض نحو بني قريظة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقال (عزمت عليكم أن لا تصلوا العصر إلا ببني قريظة)
فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه وخرج المسلمون معه واللواء في يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه
فمر على بني عدي وبني النجار وقد أخذوا السلاح
فقال (من أمركم أن تلبسوا السلاح)
فقالوا دحية الكلبي
وكان جبريل عليه السلام يتمثل في صورته
فلما جاء بني قريظة وجد بعض الصحابة قد صلوا العصر قبل أن يأتوا بني قريظة مخافة أن تفوتهم عن وقتها وأبى بعضهم فقالوا نهانا رسول الله أن نصلي حتى نأتي بني قريظة
فلم ينتهوا إلى بني قريظة حتى غابت الشمس ولم يصلوا العصر
قال فلم يؤنب أحدا من الفريقين أي رضي بما فعل الفريقان جميعا وفيه دليل لقول بعض الناس إن كل مجتهد نصيب
فجاء علي رضي الله عنه باللواء حتى غرزه عند الحصن فسبت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه ورجع إليه علي رضي الله عنه فقال تأخر يا رسول الله ونحن نكفيك
قال (سبوني ولو كانوا دوني لم يسبوني)
فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا أخوة القردة والخنازير أنزلوا على حكم الله وحكم رسوله "
فقالوا يا أبا القاسم ما كنت فحاشا
ورجع حيي بن أخطب من الروحاء ذكر يمينه التي حلف بها لكعب بن الأشرف ودخل معهم في حصنهم ونزل بنو شعبة أسد وأسيد وثعلبة فأسلموا وأبى من بقي
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة بن عبد المنذر (اذهب فقل لحلفائك ومواليك ينزلوا على حكم الله تعالى ورسوله) عليه السلام
فجاءهم أبو لبابة
فقال انزلوا على حكم الله ورسوله
فقالوا يا أبا لبابة نصرناك يوم بغاث ويوم الحدائق والمواطن كلها التي كانت بين الأوس والخزرج ونحن مواليك وحلفاؤك فانصح لنا ماذا ترى فأشار إليهم ووضع يده على حلقه يعني الذبح
فقالوا لا تفعل يعني لا ننزل
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (خنت الله ورسوله) فقال نعم
فانطلق فربط نفسه بخشبة من خشب المسجد حتى تاب الله عليه والتمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجده
فقالوا إنه قد ربط نفسه بخشبة من خشب المسجد
فقال صلى الله عليه وسلم (لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ ربط نفسه فدعوه حتى يتوب الله
51

عليه)
ثم أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فحله فقال كعب بن أسد لأصحابه من بني قريظة أما تعلمون أنه قد جاءنا ابن فلان اليهودي من الشام فقال لنا جئتكم لنبي ينتهي إلى هذه الأرض من قريش وأنه يبعث بالذبح والقتل والسبي فلا يهولنكم ذلك وكونوا أولياءه وأنصاره
فقالوا لا نكون تبعا لغيرنا نحن أهل الكتاب والنبوة لا نتبع قوما أميين ما درسوا كتابا قط فلا نفعل
فقال كعب بن أسد أطيعوني في إحدى ثلاث قالوا وما هي فقال إنكم لتعرفون أنه رسول الله فاتبعوه وانصروه فتكونوا أنصاره وأولياءه
فقالوا لا نكون تبعا لغيرنا
فقال أما إذا أبيتم فإن هذه ليلة السبت هم يأمنونكم انزلوا إليهم فبيتوهم حتى تقتلوهم
فقالوا لا نكسر سبتنا
فقد كسر قوم من بني إسرائيل سبتهم فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير
قال فإن أبيتم هذا فإذا كان يوم الأحد فاقتلوا أبناءكم ونساءكم ثم أنزلوا إليهم بأسيافكم فقاتلوهم حتى تموتوا كراما
فقالوا لا نفعل
فلبثوا خمسة عشر ليلة محاصرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (على حكم من تنزلون) قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ وكان جريحا قد رمته بني قريظة فأصاب أكحله فدعا الله تعالى أن لا يميته حتى يشفي صدره من بني قريظة
فأتي به على حمار فتبعه قوم كان ميلهم إلى بني قريظة وكانوا يقولون له يا أبا عمرو أحسن في حلفائك ومواليك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب البقية وقد نصروك يوم بغاث ويوم الحدائق فلم يكلمهم حتى نظر إلى بيوت بني قريظة
فقال سعد قد آن لي أن لا أخاف في الله لومة لائم فعرفوا أنه سوف يقتلهم فرجعوا عنه
فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حوله (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)
فقام إليه الأنصار فأنزلوه
فقال احكم فيهم يا أبا عمرو
فقال سعد لليهود أترضون بحكمي قالوا نعم
فقال عليكم بذلك عهد الله وميثاقه قالوا نعم
فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهاب أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وعلي من هاهنا مثل ذلك وإنه ليغض بصره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (نعم نعم وعلينا)
فقال لبني قريظة انزلوا فلما نزلوا
قال احكم فيهم يا رسول الله أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم وتقسم أموالهم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لقد حكمت بحكم من فوق سبعة أرقعة)
فأتى حيي بن أخطب مأسورا في حلة فجاءه رجل من الأنصار فنزع رداءه فبقي في إزاره فجعل يمزق إزاره لكي لا يلبسه أحد وهو يقول لا بأس بأمر الله
فلما جاء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألم يمكني الله منك يا عدو
52

الله فقال بلى وما ألوم نفسي فيك قد التمست العز في مظانه وقلقلت في كل مقلقل فأبى الله إلا أن يمكنك مني
فأمر بضرب عنقه
ثم جاؤوا بعزاز بن سموأل فقال (ألم يمكني الله منك) فقال بلى يا أبا القاسم فضرب عنقه
ثم قال لسعد (عليك بمن بقي)
وقال (لا تجمعوا عليهم حرين حر الهاجرة وحر السيف)
فحبسهم في دار الحارث وفي بعض الروايات ببيت خراب
ثم أخرجهم رسلا فقتلهم على الولاء والترتيب
فقال بعضهم لبعض في الحبس ما تراهم يصنعون بنا فقال واحد ألا تعقلون أنهم يقتلون ألا ترون أن الداعي لا يسكت ومن ذهب لا يرجع فقتلوا كلهم ولم يسلم أحد منهم
كان فيهم رجل يقال له زبير بن باطا فكلم ثابت بن قيس بن شماس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره فقال إن الزبير بن باطا له عندي يد وقد أعانني يوم بغاث فهبه لي يا رسول الله حتى أعتقه
فقال عليه السلام (هو لك)
فجاء إليه فقال يا أبا عبد الرحمن أتعرفني قال نعم
وهل ينكر الرجل أخاه أنت ثابت بن قيس
قال أتذكر يدا لك عندي يوم بغاث
قال نعم إن الكريم يجزي باليد فاجز بها
فقال قد وهبك النبي صلى الله عليه وسلم لي وقد أعتقتك
قال شيخ كبير لا أهل له كيف يعيش فجاء ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه في أهله فقال (لك أهله)
فجاء إليه
فقال قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك فهي لك
فقال شيخ كبير أعمى وامرأة ضعيفة وأطفال صغار لا مال لهم كيف يعيشون فقام ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ماله
فقال (لك ماله)
فجاء إليه
فقال قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك لي فهو لك
فقال ما فعل كعب بن أسد الذي وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي قال قتل
قال فما فعل بعزاز بن سموأل مقدم اليهود إذا حملوا وحاميهم إذا انصرفوا قال قتل قال فما فعل بسيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب يحملهم في الحرب ويطعمهم في المحل قال قتل
قال فما فعل بفلان وفلان قال قتل
قال فقال يا ابن الأخ لا خير في الحياة بعد أولئك ألا اصبر فيه قدر فراغ دلو ماء حتى ألقى الأحبة
قال أبو بكر ويلك يا ابن باطا والله ما هو إفراغ دلو ماء ولكنه عذاب الله أبدا
يا ابن الأخ قدمني إلى مصارع قومي فاضرب ضربة أجهز بها وأرفع يدك عن العظام وألصق بالرأس فإن أحسن الجسد أن يكون فيه شيء من العنق
فقال ثابت ما كنت لأقتلك
قال ما أبالي من قتلني فتقدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه
وغنم الله عز وجل رسوله أموال بني قريظة وذراريها فقسمها بين المسلمين
فنزل قوله تعالى * (وأنزل الذين ظاهروهم) * يعني عاونوهم * (من أهل الكتاب) * وهم بنو قريظة
(من صياصيهم) يعني من قصورهم وحصونهم وأصل الصياصي في اللغة قرون الثور لأنه يتحصن بها
فقيل للحصون صياصي لأنها تمنع
53

ثم قال * (وقذف في قلوبهم الرعب) * حين انهزم الأحزاب * (فريقا تقتلون) * يعني رجالهم * (وتأسرون فريقا) * تسبون طائفة وهم النساء والصبيان
قال مقاتل قتل أربعمائة وخمسون رجلا وسبي من النساء والصبيان ستمائة وخمسون
وقال في رواية الكلبي كانوا سبعمائة فقسمها بين المهاجرين
ثم قال عز وجل * (وأورثكم أرضهم) * يعني مزارعهم * (وديارهم) * يعني منازلهم * (وأموالهم) * يعني العروض والحيوان * (وأرضا لم تطؤوها) * يعني لم تملكوها ولم تقدروا عليها
يعني ورثكم تلك الأرض أيضا وهي أرض خيبر
وروي عن الحسن وغيره في قوله " أرضنا لم تطؤوها " قال كل ما فتح على المسلمين إلى يوم القيامة " وكان الله على كل شيء قديرا " يعني على فتح مكة وغيرها من القرى
سورة الأحزاب 28 - 29
قوله عز وجل * (يا أيها النبي قل لأزواجك) * وذلك أنه رأى منهن الميل إلى الدنيا وطلبن منه فضل النفقة * (إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) * يعني وزهرتها * (فتعالين أمتعكن) * متعة الطلاق * (وأسرحكن سراحا جميلا) * يعني أطلقكن طلاق السنة من غير إضرار
قوله عز وجل * (وإن كنتن تردن الله ورسوله) * يعني تطلبن رضاء الله ورضاء رسوله * (والدار الآخرة) * يعني الجنة * (فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) * يعني ثوابا جزيلا في الجنة
فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا
فلما نزلت هذه الآية جمع نساءه
فبدأ بعائشة فقال (يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك)
قالت وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية
فقالت أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة ثم خير نساءه فاخترنه سائر النساء
سورة الأحزاب 30 - 31
ثم قال عز وجل * (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة) * يعني الزنى * (يضاعف) * لها
54

العذاب ضعفين) يعني تعاقب مثلي ما يعاقب غيرها
ويقال الجلد والرجم وهذا قول الكلبي ويقال * (من يأت منكن بفاحشة مبينة) * يعني بمعصية * (يضاعف لها العذاب ضعفين) * لأن كرامتهن كانت أكثر فجعل العقوبة عليهن أشد وهذا كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال يغفر للجاهل سبعون ما لا يغفر للعالم واحد
ثم قال * (وكان ذلك على الله يسيرا) * يعني هينا
قرأ ابن كثير وعاصم في إحدى الروايتين * (مبينة) * بنصب الياء وقرأ الباقون بالكسر
وقرأ ابن كثير وابن عامر " نضعف " بالنون وتشديد العين * (لها العذاب) * بنصب الباء ومعناه لها العذاب
وقرأ أبو عمرو " يضعف " بالياء والتشديد وضم الباء في * (العذاب) * على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون * (يضاعف) * وهما لغتان
والعرب تقول ضعفت الشيء وضاعفته
قوله عز وجل * (ومن يقنت منكن لله ورسوله) * يعني ومن تطع منكن الله ورسوله * (وتعمل صالحا) * يعني تعمل بالطاعات فيما بينها وبين ربها * (نؤتها أجرها مرتين) * يعني ثوابها ضعفين * (وأعتدنا لها رزقا كريما) * يعني وثوابا حسنا في الجنة
قرأ حمزة والكسائي * (ويعمل صالحا) * بالياء وقرأ الباقون بالتاء
فمن قرأ بالياء فللفظ " من " لأن لفظها لفظ واحد مذكر كما اتفقوا في قوله * (ومن يقنت) *
ومن قرأ بالياء ذهب إلى المعنى وصار * (منكن) * فاصلا بين الفعلين
وقرأ حمزة والكسائي " يؤتها " بالياء يعني يؤتها الله وقرأ الباقون بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه
سورة الأحزاب 32 - 33
ثم قال عز وجل * (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) * يعني لستن كسائر النساء
فقال لستن كأحد
ولم يقل كواحد
لأن لفظ الأحد يصلح للواحد والجماعة وأما لفظ الواحد فلا يصلح إلا للواحد
ثم قال عز وجل * (إن اتقيتن) * يعني إن اتقيتن المعصية وأطعتن الله ورسوله * (فلا تخضعن بالقول) * يعني لا تلن بالقول
ويقال * (لستن كأحد من النساء إن اتقيتن) * فأنتن أحق الناس بالتقوى وتم الكلام
ثم قال * (فلا تخضعن بالقول) * يعني لا ترفقن بالقول وهو اللين من الكلام
ومعلوم أن الرجل إذا أتى باب إنسان والرجل غائب فلا يجوز للمرأة أن تلين بالقول معه
55

ثم قال * (فيطمع الذي في قلبه مرض) * يعني فجورا
وقال عكرمة هو شهوة الزنى
ويقال الميل إلى المعصية * (وقلن قولا معروفا) * يعني صحيحا جميلا
ويقال قولا حسنا يعني لينا
ويقال لا يقلن باللين فتفتن ولا بالخشن فتؤذين * (وقلن قولا معروفا) * بين ذلك
ثم قال عز وجل * (وقرن في بيوتكن) * من الوقار وهو من وقر يقر
ويقال هو من التقرير
ويقال قر يقر وأصله أقررن
ولكن المضاعف يراد به التخفيف فحذف إحدى الراءين للتخفيف فلما طرحوا إحدى الراءين استثقلوا الألف ولم تكن أصلية وإنما دخلت للوصل
فحذفت الألف
ومن قرأ * (وقرن) * بنصب القاف لا يكون إلا للتقرير
ثم قال
* (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) * يعني لا تتزين كتزين الجاهلية الأولى
والتبرج إظهار الزينة
ويقال التبرج الخروج من المنزل و * (الجاهلية الأولى) * قال الكلبي يعني الأزمنة التي ولد فيها إبراهيم عليه السلام
فكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتخذ الدروع من اللؤلؤ ثم تمشي وسط الطريق وكان ذلك في زمن نمرود الجبار
وروي عن الحكم بن عيينة قال * (الجاهلية الأولى) * كانت بين نوح وآدم عليهما السلام وكانت نساؤهم أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان وكانت المرأة تريد الرجل على نفسها
وروى عكرمة عن ابن عباس أن * (الجاهلية الأولى) * كانت بين نوح وإدريس عليهما السلام وكانت ألف سنة
وقال مقاتل * (الجاهلية الأولى) * كانت قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما سمى جاهلية الأولى لأنه كان قبله
ثم قال * (وأقمن الصلاة) * يعني أتممن الصلوات الخمس * (وآتين الزكاة) * يعني إن كان لكن مال * (وأطعن الله ورسوله) * فيما ينهاكن وفيما يأمركن * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) * يعني الإثم
وأصله في اللغة كل خبيث من المأكول وغيره
* (أهل البيت) * يعني يا أهل البيت وإنما كان نصبا للنداء ويقال إنما صار نصبا للمدح ويقال صار نصبا على جهة التفسير فكأنه يقول أعني أهل البيت
وقال * (عنكم) * بلفظ التذكير ولم يقل عنكن لأن لفظ أهل البيت يصلح أن يذكر ويؤنث
* (ويطهركم تطهيرا) * يعني من الإثم والذنوب
سورة الأحزاب 34
قوله عز وجل * (واذكرن ما يتلى في بيوتكن) * يعني احفظن ما يقرأ عليكن * (من آيات الله) * يعني القرآن * (والحكمة) * يعني أمره ونهيه في القرآن
فوعظهن ليتفكرون ثم قال * (إن الله كان لطيفا) * لطيف علمه فيعلم حالهن إن خضعن بالقول
ويقال * (لطيفا) * أمر نبيه بأن يلطف بهن * (خبيرا) * يعني عالما بأعمالهن
56

سورة الأحزاب 35
قوله عز وجل * (إن المسلمين والمسلمات) * وذلك أن أم سلمة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه فأخشى أن لا يكون فيهن خير ولا لله عز وجل فيهن حاجة فنزل * (إن المسلمين والمسلمات) * ويقال إن النس اء اجتمعن وبعثن أنيسة رسولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت أنيسة إن الله تبارك وتعالى خالق الرجال والنساء وقد أرسلك إلى الرجال والنساء فما بال النساء ليس لهن ذكر في الكتاب فنزلت هذه الآية
وقال قتادة لما ذكر الله عز وجل أزواج النبي دخل نساء مسلمات عليهن فقلن ذكرتن ولم نذكر
ولو كان فينا خيرا ذكرنا
فنزلت هذه الآية * (إن المسلمين والمسلمات) * يعني المسلمين من الرجال والمسلمات من النساء
* (والمؤمنين) * يعني المصدقين الموحدين من الرجال * (والمؤمنات) * يعني المصدقات الموحدات من النساء * (والقانتين) * يعني المطيعين وأصل القنوت القيام
ثم يكون للمعاني ويكون للطاعة
كقوله * (والقانتين) * ويكون للإقرار بالعبودية كقوله * (كل له قانتون) * [البقرة 116 والروم 26] * (والقانتات) * أي المطيعات من النساء * (والصادقين) * يعني الصادقين في إيمانهم من الرجال * (والصادقات) * من النساء * (والصابرين والصابرات) * على أمر الله تعالى من الرجال والنساء * (والخاشعين والخاشعات) * يعني المتواضعين من الرجال والنساء * (والمتصدقين والمتصدقات) * يعني المنفقين أموالهم في طاعة الله من الرجال والنساء * (والصائمين والصائمات) * قال مقاتل من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر فهو من الصائمين والصائمات
ثم قال * (والحافظين فروجهم والحافظات) * يعني من الفواحش من الرجال والنساء * (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) * يعني باللسان من الرجال والنساء
فذكر أعمالهم
ثم ذكر ثوابهم فقال * (أعد الله لهم مغفرة) * في الدنيا لذنوبهم * (وأجرا عظيما) * في الآخرة وهو الجنة
سورة الأحزاب 36
قوله عز وجل * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) * الآية
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب (إني أريد أن أزوجك من زيد بن حارثة)
فقالت يا رسول الله لا أرضاه لنفسي وأنا أرفع قريش لأنني من قريش
57

وابنة عمتك
فنزل * (وما كان لمؤمن) * يعني ما جاز لمؤمن يعني زيد بن حارثة * (ولا مؤمنة) * يعني زينب بنت جحش * (إذا قضى الله ورسوله أمرا) * يعني حكم حكما في تزويجهما * (أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) * يعني اختيارا من أمرهم بخلاف ما أمر الله ورسوله
قرأ حمزة والكسائي وعاصم * (أن يكون) * بالياء بالتذكير
وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث
فمن قرأ بالتاء فلأن لفظ الخيرة مؤنث ومن قرأ بالياء فإنه ينصرف إلى المعنى ومعناهما الاختيار ولتقدم الفعل
ثم قال * (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) * يعني بينا فلما سمعت زينب بنت جحش نزول هذه الآية قالت قد أطعتك يا رسول الله
سورة الأحزاب 37 - 39
ثم قال عز وجل * (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) * يعني زيد بن حارثة قد أنعم الله عز وجل عليه بالإسلام * (وأنعمت عليه) * بالعتق * (أمسك عليك زوجك) * قال قتادة جاء زيد بن حارثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن زينب اشتد علي لسانها وإني أريد أن أطلقها
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اتق الله " وأمسك عليك زوجك) *
وكان يحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها وخشي مقالة الناس أن أمره بطلاقها فنزلت هذه الآية
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إلى زيد بن حارثة يطلبه في حاجة له فإذا زينب بنت جحش قائمة في درع وخمار فلما رآها أعجبته ووقعت في نفسه فقال (سبحان الله يا مقلب القلوب ثبت قلبي)
فلما سمعت زينت جلست فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما جاء زيد ذكرت ذلك له فعرف زيد أنها وقعت في نفسه وأعجب بها النبي صلى الله عليه وسلم
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إن زينب امرأة فيها كبر تعصي أمري ولا تبر قسمي فلا حاجة لي فيها
فقال له (اتق الله يا زيد في أهلك وأمسك عليه زوجك)
58

فطلقها زيد ونزلت هذه الآية * (وتخفي في نفسك) * يعني تسر في نفسك ليت أنه طلقها * (ما الله مبديه) * يعني مظهره عليك حتى ينزل به قرآنا * (وتخشى الناس) * يعني تستحي من الناس
ويقال * (وتخشى) * مقالة الناس * (والله أحق أن تخشاه) * في أمرها
قال الحسن ما أنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد منها ولو كان كاتما شيئا من الوحي لكتمها
ثم قال * (فلما قضى زيد منها وطرا) * يعني حاجة * (زوجناكها) * فلما انقضت عدتها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم
قال الحسن فكانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول أما أنتن فزوجكن آباؤكن وأما أنا فزوجني رب العرش تعني قوله * (زوجناكها) * ثم قال " لكيلا يكون على المؤمنين حرج " يعني لكيلا يكون على الرجل حرج بأن يتزوج امرأة ابنه الذي تبناه * (في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا) * يعني حاجة * (وكان أمر الله مفعولا) * يعني تزوج النبي صلى الله عليه وسلم إياها كائن لا بد واللام للزيادة وكي مثله فلو كان أحدهما لكان يكفي ولكن يجوز أن يجمع بين حرفين زائدين إذا كانا جنسين وإنما لا يجوز إذا كانا من جنس واحد كما قال " ليس كمثله شيء " [الشورى 11] ولا يصلح أن يقال مثل مثل أو كي كي فإذا كانا جنسين جاز
فقالت اليهود والمنافقون يا محمد تنهى عن تزوج امرأة الابن ثم تتزوجها فنزل قوله عز وجل * (ما كان على النبي من حرج) * يقول ليس على النبي إثم * (فيما فرض الله له) * يعني في الذي رخص الله عز وجل من تزوج زينب * (سنة الله في الذين خلوا من قبل) * يعني هكذا سنة الله في الذين مضوا يعني في كثرة تزوج النساء كما فعل الأنبياء عليهم السلام * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) * يعني قضاء كائنا
قوله عز وجل * (الذين يبلغون رسالات الله) * قال مقاتل يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده
ويقال ينصرف إلى قوله * (سنة الله في الذين خلوا من قبل) * * (الذين يبلغون رسالات الله) *
* (ويخشونه) * في كتمان ما أظهر الله عليهم * (ولا يخشون أحدا) * في البلاغ * (إلا الله وكفى بالله حسيبا) * يعني شهيدا بأن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة عن الله عز وجل ويقال شهيدا يعني حفيظا
سورة الأحزاب 40
قوله عز وجل * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) * يعني بالتبني
وليس بأب لزيد بن حارثة * (ولكن رسول الله) * يعني ولكنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال لم يكن أب الرجال لأن
59

بنيه ماتوا صغارا ولو كان الرجال بنيه لكانوا أنبياء ولا نبي بعده فذلك قوله * (وخاتم النبيين) * قرأ بعضهم * (ولكن رسول الله) * بضم اللام ومعناه ولكن هو رسول الله ومن قرأ بالنصب معناه ولكن كان رسول الله وكان * (خاتم النبيين) * وقرأ عاصم في إحدى الروايتين * (وخاتم النبيين) * بنصب التاء وقرأ الباقون بالكسر
فمن قرأ بالكسر يعني آخر النبيين
ومن قرأ بالنصب فهو على معنى إضافة الفعل إليه يعني أنه ختمهم وهو خاتم
قال أبو عبيد وبالكسر نقرأ لأنه رويت الآثار عنه أنه قال (أنا خاتم النبيين) فلم يسمع أحد من فقهائنا يروون إلا بكسر التاء
" وكان الله بكل شيء عليما " بمن يصلح للنبوة وبمن لا يصلح
فإن قيل كيف يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يظهر من نفسه خلاف ما في قلبه قيل له يجوز مثل هذا لأن في قوله * (أمسك عليك زوجك واتق الله) * أمر بالمعروف وفيه رد النفس عما تهوى وهذا عمل الأنبياء والصالحين عليهم السلام
وقال بعضهم للآية وجه آخر وهو أن الله تعالى قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون زوجته فلما زوجها من زيد بن حارثة لم يكن بينهما ألفة وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه عن الطلاق ويخفي في نفسه ما أخبره الله تعالى وقال بأنها تكون زوجته
فلما طلقها زيد بن حارثة كان يمتنع من تزوجها خشية مقالة الناس يتزوج امرأة ابنه المتبنى به
فأمره الله عز وجل بأن يتزوجها ليكون ذلك سبب الإباحة لنكاح امرأة الابن المتبنى لأمته فنزل * (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) * [الأحزاب 37] الآية
سورة الأحزاب 41 - 44
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) * يعني اذكروا الله باللسان
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد)
قيل يا رسول الله فما جلاؤها قال (تلاوة كتاب الله عز وجل وكثرة ذكره)
وذكر أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن شرائع الإسلام قد كثرت فأنبئني منها بأمر أتشبث به
فقال (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل)
ويقال ليس شيء من العبادات أفضل من ذكر الله تعالى لأنه قدر لكل عبادة مقدارا ولم يقدر للذكر وأمر بالكثرة فقال * (اذكروا الله ذكرا كثيرا) * يعني اذكروه في الأحوال كلها لأن الإنسان لا يخلو من أربعة
60

أحوال إما أن يكون في الطاعة أو في المعصية أو في النعمة أو في الشدة
فإذا كان في الطاعة ينبغي أن يذكر الله عز وجل بالإخلاص ويسأله القبول والتوفيق
وإذا كان في المعصية ينبغي أن يذكر الله عز وجل بالامتناع عنها ويسأل منه التوبة منها والمغفرة
وإذا كان في النعمة يذكره بالشكر وإذا كان في الشدة يذكره بالصبر
ثم قال * (وسبحوه بكرة وأصيلا) * يعني غدوا وعشيا
يعني صلوا لله بالغداة والعشي
يعني الفجر والعصر
ويقال بالغداة
يعني صلوا أول النهار وهي صلاة الفجر * (وأصيلا) * يعني صلوا آخر النهار وأول النهار وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء
ثم قال عز وجل * (هو الذي يصلي عليكم) * يقول هو الذي يرحمكم ويغفر لكم * (وملائكته) * أي يأمر الملائكة عليهم السلام بالاستغفار لكم * (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) * يعني أخرجكم من ظلمة الكفر إلى الإيمان ووفقكم لذلك
اللفظ لفظ المستأنف والمراد به الماضي يعني أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ونور قلوبكم بالمعرفة
ويقال معناه ليثبتكم على الإيمان ويمنعكم عن الكفر
ويقال * (ليخرجكم من الظلمات) * يعني من المعاصي إلى نور التوبة والطهارة من الذنوب
ويقال من ظلمات القبر إلى نور المحشر
ويقال من ظلمات الصراط إلى نور الجنة
ويقال من ظلمات الشبهات إلى نور البرهان والحجة
ثم قال * (وكان بالمؤمنين رحيما) * يعني بالمصدقين الموحدين * (رحيما) * يرحم عليهم
ثم قال عز وجل * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * قال مقاتل يعني يلقون الرب في الآخرة بسلام
وقال الكلبي تجيبهم الملائكة عليهم السلام على أبواب الجنة بالسلام فإذا دخلوها حيا بعضهم بالسلام
وتحية الرب إياهم حين يرسل إليهم بالسلام
ويقال يعني يسلم بعضهم على بعض ويقال يسلمون على الله تعالى * (وأعد لهم أجرا كريما) * يعني جزاء حسنا في الجنة
ويقال مساكن في الجنة حسنة
سورة الأحزاب 45 - 48
قوله عز وجل * (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا) * يعني شهيدا على أمتك بالبلاغ * (ومبشرا) * بالجنة لمن أطاع الله في الآخرة وفي الدنيا بالنصرة * (ونذيرا) * من النار يعني مخوفا لمن عصى الله عز وجل * (وداعيا إلى الله) * يعني أرسلناك داعيا إلى توحيد الله ومعرفته * (بإذنه) * يعني بأمره * (وسراجا منيرا) * يعني أرسلناك سراجا منيرا لأنه يضيء الطريق فهذه كلها صارت نصبا لنزع الخافض
61

ثم قال عز وجل * (وبشر المؤمنين) * يعني بشر يا محمد المصدقين بالتوحيد * (بأن لهم من الله فضلا كبيرا) * في الجنة
وذلك أنه لما نزل قوله عز وجل * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * [الفتح 20] فقال المؤمنون هذا لك
فما لنا فنزل قوله تعالى * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) * في الجنة فلما سمع المنافقون ذلك قالوا فما لنا فنزل و " وبشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " [النساء 138]
ثم رجع إلى ما ذكر في أول السورة فقال تعالى * (ولا تطع الكافرين) * من أهل مكة * (والمنافقين) * من أهل المدينة * (ودع أذاهم) * أي تجاوز عن المنافقين ولا تقتلهم
ويقال * (ودع أذاهم) * يعني اصبر على أذاهم
وإن خوفك شيء منهم * (فتوكل على الله) * يعني فوض أمرك إلى الله
وروى الأعمش عن سفيان بن سلمة عن ابن مسعود قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة فقال رجل من الأنصار إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فأخبر بذلك فاحمر وجهه فقال (رحم الله أخي موسى عليه السلام لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)
ثم قال * (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) * يعني حافظا نصيرا
سورة الأحزاب 49
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) * قرأ حمزة والكسائي " تماسوهن " وقرأ الباقون * (تمسوهن) * مثل الاختلاف الذي ذكرنا في سورة البقرة * (فما لكم عليهن من عدة) * يعني ليس للأزواج عليهن عدة * (تعتدونها) * وإنما خص المؤمنات لأن نكاح المؤمنات كان مباحا في ذلك الوقت فلما أحل الله تعالى نكاح الكتابيات صار حكم الكتابية وحكم المؤمنة في هذا سواء إذا طلقها قبل أن يخلو بها لا عدة عليها بالإجماع وإن طلقها بعد ما
خلا بها ولم يدخل بها فقد روي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا لا عدة عليها
وقال عمر وعلي ومعاذ وزيد بن ثابت وجماعة منهم رضي الله عنهم أن عليها العدة وهو أحوط الوجهين أنه إذا خلا بها ولم تكن المرأة حائضا ولم يكن أحدهما مريضا ولا محرما ولا صائما صوم فرض يجب على الزوج المهر كاملا وعليها العدة احتياطا
وأما إذا كانت المرأة حائضا أو مريضة أو محرمة أو صائمة عن فرض أو الرجل مريض أو صائم عن فرض أو محرم فطلقها بعد الخلوة قبل الدخول فعليه نصف المهر وعليها العدة احتياطا
ثم قال * (فمتعوهن) * يعني متعة الطلاق ثلاثة أبواب وهي مستحبة غير واجبة * (وسرحوهن سراحا جميلا) * يعني خلو سبيلهن تخلية حسنة وهو أن يعطيها حقها
62

سورة الأحزاب 50
قوله عز وجل * (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) * يعني نساءك * (اللاتي آتيت أجورهن) * يعني أعطيت مهورهن لأن غيره كان له أكثر من أربع نسوة أمره أن يترك ما زاد على الأربع وقد أحل للنبي صلى الله عليه وسلم إمساك التسع ولم يأمره بالفرقة
* (وما ملكت يمينك) * يعني أحللنا لك من الإماء مثل مارية القبطية * (مما أفاء الله عليك) * من الغنيمة يعني أعطاك الله كقوله تعالى * (وما أفاء الله على رسوله) * [الحشر 7]
ثم قال * (وبنات عمك) * يعني أحللنا لك نكاح بنات عمك * (وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك) * يعني هاجرن معه من مكة إلى المدينة أو قبله أو بعده
ثم قال * (وامرأة مؤمنة) * يعني أحللنا لك امرأة مؤمنة * (إن وهبت نفسها للنبي) * صلى الله عليه وسلم وقرأ الحسن * (إن وهبت) * بنصب الألف ومعناه إذا وهبت ويكون ذلك الفعل خاصة لامرأة واحدة
وقراءة العامة * (أن) * بالكسر فيكون معناه لكل امرأة إن فعلت ذلك في المستقبل
قال مقاتل وذلك أن أم شريك وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم بغير مهر كذا قال الكلبي
وروى معمر عن الزهري في قوله * (إن وهبت نفسها للنبي) * قال بلغنا أن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ووهبت سودة يومها لعائشة رضي الله عنهن
وروى وكيع عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي وعمرو بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قال تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشر امرأة ستة من قريش خديجة بنت خويلد وعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية
وثلاثا من بني عامر وامرأتين من بني هلال ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وزينب أم المساكين وامرأة من بني بكر وهي التي اختارت الدنيا وامرأة من بني الحزن من كندة وهي التي استعاذت منه
وقال يحيى بن أبي كثير تزوج أربعة عشر خديجة وسودة وعائشة تزوج هؤلاء الثلاث بمكة وتزوج بالمدينة زينب بنت خزيمة وأم سلمة وجويريه من بني المصطلق
63

وميمونة بنت الحارث وصفية بنت حيي بن أخطب وزينب بنت جحش وكانت امرأة زيد بن حارثة وعالية بنت ظبيان وحفصة وأم حبيبة والكندية وامرأة من كلب
وروى الزهري عن عروة قال لما دخلت الكندية على النبي صلى الله عليه وسلم قالت أعوذ بالله منك فقال (لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك)
ثم قال * (إن أراد النبي أن يستنكحها) * يعني أن يتزوجها بغير صداق * (خالصة لك من دون المؤمنين) * يعني خالصا للنبي صلى الله عليه وسلم بغير مهر ولا يحل لغيره
وقال الزهري الهبة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ولا تحل لأحد أن تهب له امرأة نفسها بغير صداق
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال لم تحل الموهوبة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم
واختلف الناس في جواز النكاح قال أهل المدينة باطل وقال أهل العراق النكاح جائز ولها مهر مثلها
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أجاز ذلك
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن خولة بنت حكيم وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت من المهاجرات الأول
وقال القتبي العرب تخبر عن الغائب ثم ترجع إلى الشاهد فتخاطبه كما قال هاهنا * (إن وهبت نفسها للنبي) * بلفظ الغائب ثم قال * (خالصة لك من دون المؤمنين) *
ثم قال * (قد علمنا ما فرضنا عليهم) * يعني ما أوجبنا عليهم * (في أزواجهم) * يعني في أن لا يتزوجوا إلا بالمهر
ويقال إلا أربعا * (وما ملكت أيمانهم) * ويقال يعني إلا ما لا وقت فيهن * (لكيلا يكون عليك حرج) * في الهبة بغير مهر
وفي الآية ومعناه أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم لكي لا يكون عليك حرج
ثم قال * (وكان الله غفورا) * يعني غفورا فيما تزوج قبل النهي * (رحيما) * في تحليل ذلك
سورة الأحزاب 51 - 52
64

قوله عز وجل * (ترجي من تشاء منهن) * قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم " ترجىء " بالهمزة وقرأ الباقون بغير الهمز كلاهما في اللغة واحد
وأصله من التأخير
يقول تؤخر من تشاء منهن ولا تتزوجها * (وتؤوي إليك من تشاء) * يعني تضم فتتزوجها فخيره في تزويج القرابة
ويقال تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء
وقال قتادة جعله في حل أن يدع من يشاء منهن ويضم إليه من يشاء يعني إن شاء جعل لهن قسما وإن شاء لم يجعل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم
وقال الحسن كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة فليس لأحد أن يخطبها حتى يتزوجها أو يدعها وفي ذلك نزل * (ترجي من تشاء منهن) *
ثم قال * (ومن ابتغيت) * يعني آثرت * (ممن عزلت) * يعني تركت * (فلا جناح عليك) * يعني لا إثم عليك * (ذلك أدنى) * يعني أحرى وأجدر إذا علمن أنك تفعل بأمر الله * (أن تقر أعينهن) * يعني تطمئن قلوبهن * (ولا يحزن) * مخافة الطلاق * (ويرضين بما آتيتهن) * يعني أعطيتهن * (كلهن) * من النفقة إذا علمن أنه من الله عز وجل
وقرئ في الشاذ * (كلهن) * بالنصب صار نصبا لوقوع الفعل عليه وهو الإعطاء وقراءة العامة * (آتيتهن كلهن) * بالضم ومعناه يرضين كلهن بما أعطيتهن
ثم قال * (والله يعلم ما في قلوبكم) * من الحب والبغض * (وكان الله عليما) * بما في قلوبكم * (حليما) * بالتجاوز
قوله عز وجل * (لا يحل لك النساء من بعد) * قال مجاهد أي لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات * (من بعد) * يعني من بعد المسلمات * (ولا أن تبدل بهن من أزواج) *
يقول لا تبديل اليهوديات ولا النصرانيات على المؤمنات
يقول لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية إلا ما ملكت يمينك من اليهوديات والنصرانيات يتسراهن
قال الحسن وابن سيرين خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه بين الدنيا والآخرة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة فشكر الله لهن على ذلك فحبسه عليهن
فقال * (لا يحل لك النساء من بعد) * * (ولا أن تبدل بهن من أزواج) * يعني لا يحل لك أن تطلق واحدة منهن وتتزوج غيرهن
قرأ أبو عمرو * (لا تحل) * بالتاء بلفظ التأنيث وقرأ الباقون بالياء يعني لا يحل لك من النساء شيء
ويقال معناه لا تحل لك جميع النساء
فمن قرأ بالتاء بالتأنيث يعني جماعة النساء
ثم قال * (ولو أعجبك حسنهن) * يعني أسماء بنت عميس أراد أن يتزوجها فنهاه الله تعالى عز وجل عن ذلك فتركها وتزوجها أبو بكر رضي الله عنه بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم * (إلا ما ملكت يمينك) * من السريات " وكان الله على كل شيء رقيبا " من أمر التزويج * (رقيبا) * يعني
65

حفيظا
وروى عمرو بن دينار عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حل له النساء بعد قوله * (لا يحل لك النساء) *
سورة الأحزاب 53 - 55
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) * وذلك أن أناسا من المسلمين كانوا يتحينون غذاء النبي صلى الله عليه وسلم ويدخلون عليه بغير إذن ويجلسون وينتظرون الغداء وإذا أكلوا جلسوا طويلا ويتحدثون طويلا فأمرهم الله عز وجل بحفظ الأدب فقال * (لا تدخلوا بيوت النبي) * * (إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) * يعني إلا أن يدعوكم ويأذن لكم في الدخول * (غير ناظرين إناه) * يعني من غير أن تنتظروا وقته
ويقال أصله إدراك الطعام يعني غير ناظرين إدراكه
ويقال * (أناه) * يعني نضج الطعام
ثم قال * (ولكن إذا دعيتم فأدخلوا) * يعني إذا دعاكم إلى الطعام فأدخلوا بيته * (فإذا طعمتم) * الطعام * (فانتشروا) * يعني تفرقوا * (ولا مستأنسين لحديث) * أي لا تدخلوا مستأنسين للحديث * (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم) * أن يقول لكم تفرقوا " والله لا يستحي من الحق " يعني من بيان الحق أن يأمركم بالخروج بعد الطعام
قال الفقيه أبو الليث في الآية حفظ الأدب والتعليم أن الرجل إذا كان ضيفا لا ينبغي أن يجعل نفسه ثقيلا ولكنه إذا أكل ينبغي أن يخرج
ثم قال * (وإذا سألتموهن متاعا) * يعني إذا سألتم من نسائه متاعا فلا تدخلوا عليهن * (فاسألوهن من وراء حجاب) * يعني من خلف الستر
ويقال خارج الباب * (ذلكم أطهر) * من الريبة * (لقلوبكم وقلوبهن) *
ثم قال * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) * قال وذلك أن طلحة بن عبيد الله قال لئن مات محمد لأتزوجن بعائشة فنزل * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) * * (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) * يعني ولا أن تتزوجوا أزواجه من بعد وفاته أبدا " إن ذلك كان عند الله عظيما " في العقوبة
ويقال إنما نهى عن ذلك لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة
وروي عن حذيفة أنه قال لامرأته إن أردت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تتزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها ولذلك حرم الله تعالى على أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم أن يتزوجن بعده
وروي أن أم الدرداء قالت لأبي الدرداء عند موته إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا فأنكحاك وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة فقال لها فلا تنكحي بعدي فخطبها معاوية بن أبي سفيان فأخبرته بالذي كان وأبت أن تتزوجه
وروي في خبر آخر بخلاف هذا أن أم حبيبة قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المرأة منا كان لها زوجان لأيهما تكون في الآخرة فقال (إنها تخير فتختار أحسنهما خلقا معها)
ثم قال (يا أم حبيبة إن حسن الخلق ذهب بالدنيا والآخرة)
ثم قال عز وجل * (إن تبدوا شيئا أو تخفوه) * يعني إن تظهروا شيئا من أمر التزويج أو تسروه وتضمروه " فإن الله كان بكل شيء عليما " من السر والعلانية يعلم ما أعلنتم وما أخفيتم يجازيكم به
ثم خص الدخول على نساء ذوات محرم بغير حجاب فرخص في ذلك وهو قوله عز وجل * (لا جناح عليهن في آبائهن) * يعني في الدخول عليهن * (ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن) * يعني نساء أهل دينهن * (ولا ما ملكت أيمانهن) * من الخدم * (واتقين الله) * يعني اخشين الله وأطعن الله فلا يراهن غير هؤلاء " إن الله كان على كل شيء شهيدا " يعني عالما بأعمالهم
سورة الأحزاب 56 - 58
قوله عز وجل * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * فالصلاة من الله الرحمة والمغفرة ومن الملائكة عليهم السلام الاستغفار يعني أن الله عز وجل يغفر للنبي ويأمر ملائكته بالاستغفار والصلاة عليه
66

سورة سبأ 34 - 35
قوله عز وجل * (وما أرسلنا في قرية من نذير) * يعني من رسول * (إلا قال مترفوها) * يعني جبابرتها ورؤساؤها للرسل * (إنا بما أرسلتم به كافرون) * يعني جاحدون بالتوحيد والمترف المتنعم وإنما أراد به المتكبرين * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا) * في الدنيا * (وما نحن بمعذبين) * في الآخرة
ومعناه أن الكفار المتقدمين استخفوا بالفقراء وآذوا الرسل كما يفعل بك قومك وافتخروا بما أعطاهم الله عز وجل من الأموال كما افتخر قومك
وأمره بأن يأمرهم بأن لا يفتخروا بالمال فإن الله تعالى يعطي المال لمن يشاء
سورة سبأ 36 - 39
قوله عز وجل * (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء) * أي يوسع المال لمن يشاء وهو مكر منه واستدراج " ويقدر " يعني يقتر على من يشاء وهو نظر له لكي يعطى في الآخرة من الجنة بما قتر عليه في الدنيا * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * أن التقتير والبسط من الله عز وجل
ويقال لا يصدقون أن الذين اختاروا الآخرة خير من الذين اختاروا الدنيا فأخبرهم الله تعالى أن أموالهم لا تنفعهم يوم القيامة فقال عز وجل * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) * يعني قربة ومعناه وما أموالكم بالتي تقربكم ولا أولادكم ولو كان على سبيل الجمع لقال بالذين يقربونكم لأن الحكم للآدميين إذا اجتمع معهم غيرهم
ثم قال * (إلا من آمن) * يعني إلا من صدق بالله ورسوله * (وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف) * يعني أجرة مثل ما يكون لغيره
ويقال الذي يقربكم إلى الله * (فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) * يعني للواحد عشرة إلى سبعمائة وإلى ما لا يحصى
وقال القتبي أراد بالضعف التضعيف أي لهم جزاء وزيادة
قال ويحتمل * (جزاء الضعف) * أي جزاء الأضعاف كقوله * (عذابا ضعفا من النار) * [الأعراف 38] أي مضافا
وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال إن الغني إذا كان تقيا يضاعف الله له الأجر مرتين ثم قرأ هذه الآية
* (وما أموالكم ولا أولادكم) * إلى قوله * (فأولئك لهم جزاء الضعف) * يعني أجره مثلي ما يكون لغيره
ويقال هذا لجميع من عمل صالحا
67

ثم أمر المسلمين بالصلاة عليه فقال * (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه) * روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أنه قال قلنا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال (قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) إلى آخره
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (صلوا علي فإن الصلاة علي زكاة لكم واسألوا الله لي الوسيلة)
قالوا وما الوسيلة يا رسول الله قال (أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو)
وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات)
ويقال ليس شيء من العبادات أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن سائر العبادات أمر الله تعالى بها عباده
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد صلى عليه أولا هو بنفسه وأمر الملائكة بذلك ثم أمر العباد بذلك
ثم قال * (وسلموا تسليما) * يعني اخضعوا له خضوعا
ويقال ائتمروا بما يأمركم الله تعالى
ويقال لما نزلت هذه الآية قال المسلمون هذا لك فما لنا فنزل * (هو الذي يصلي عليكم وملائكته) * [الأحزاب 43]
ثم قال عز وجل * (إن الذين يؤذون الله ورسوله) * يعني اليهود والنصارى حيث قالوا * (يد الله مغلولة غلت أيديهم) * [المائدة 64] ونحو ذلك من الكلمات ويقال أذاهم الله وهو قولهم لله ولد ونحو ذلك وإيذاءهم رسوله أنهم زعموا أنه ساحر ومجنون * (لعنهم الله في الدنيا) * يعني عذبهم الله في الدنيا بالقتل والسبي * (والآخرة) * بالنار
ويقال هم الذين يجعلون التصاوير ويقولون تخلق كما يخلق الله تعالى * (وأعد لهم عذابا مهينا) * يهانون فيه
ثم قال عز وجل * (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) * يعني بغير جرم * (فقد احتملوا بهتانا) * يعني قالوا كذبا * (وإثما مبينا) * يعني ذنبا بينا
قال مقاتل قال السدي نزلت هذه الآية في أمر عائشة وصفوان ويقال في جميع من يؤذي مسلما بغير حق
وقال عثمان لأبي بن كعب إني قرأت هذه الآية * (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات) * فوقعت مني كل موقع والله إني لأضربهم وأعاقبهم
فقال له أبي إنك لست منهم إنك مؤدب معلم
سورة الأحزاب 59
68

قوله عز وجل * (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك) * وذلك أن المهاجرين نزلوا في ديار الأنصار فضاقت الدور عليهم وكن النساء يخرجن بالليل إلى التخلي يقضين حوائجهن وكان الزناة يرصدون في الطريق المؤمنات وكانوا يطلبون الولائد ولم يعرفوا المرأة الحرة من الأمة بالليل
فأمر الحرائر بأخذ الجلباب
وقال الحسن كن النساء والإماء بالمدينة يقال لهن كذا وكذا يخرجن فيتعرض لهن السفهاء فيؤذونهن فكانت الحرة تخرج فيحسبون أنها أمة ويؤذونها فأمر الله تعالى المؤمنات " أن يدنين عليهم من جلابيبهن "
وقال القتبي يلبسن الأردية
ويقال يعني يرخين الجلابيب على وجههن
وقال مجاهد * (يدنين عليهن من جلابيبهن) * يعني متجلببين ليعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى من قول ولا ريبة
* (ذلك أدنى) * يعني أحرى أن يعرفن الحرائر * (فلا يؤذين) * * (وكان الله غفورا رحيما) * إذا تابوا ورجعوا
سورة الأحزاب 60 - 62
ثم أوعد المنافقين وخوفهم لينزجروا عن الحرائر والإماء فقال عز وجل * (لئن لم ينته المنافقون) * عن نفاقهم * (والذين في قلوبهم مرض) * يعني الميل إلى الزنى إن لم يتوبوا عن ذلك * (والمرجفون في المدينة) * يعني الذي يخبرون بالأراجيف
وكانوا يخبرون المؤمنين بما يكرهون من أمر عدوهم
والأراجيف هي أول الأخبار وأصل الرجف هو الحركة فإذا وقع خبر الكذب فإنه يقع الحركة بالناس فسمي إرجافا
ويقال الأراجيف تلقح الفتنة يعني إن لم ينتهوا عن النفاق وعن والفجور وعن القول بالأراجيف
* (لنغرينك بهم) * يعني لنسلطنك عليهم ويقال لنحملنك على قتلهم
وروى سفيان عن منصور عن أبي رزين قال * (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة) * فإن هذا كله شيء واحد
يعني أنه نعتهم بأعمالهم الخبيثة
* (ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا) * يعني لا يساكنونك في المدينة إلا قليلا حتى أهلكهم
ويقال إلا جوارا قليلا ويقال إلا قليلا منهم
وقال قتادة إن أناسا من المنافقين أرادوا أن يظهروا نفاقهم فنزلت هذه الآية
ثم قال عز وجل * (ملعونين أينما ثقفوا) * يعني يجعلهم ملعونين أينما وجدوا فأوجب الله تعالى لهم اللعنة على كل حال أينما وجدوا وأدركوا * (أخذوا وقتلوا تقتيلا) * فلما سمعوا بالقتل انتهوا عن ذلك
قوله عز وجل " سنة الله في الذين خلو من قبل " يعني سنة الله في الزناة القتل
69

ويقال هكذا سنة الله في الذين مضوا
يعني الذين أضمروا النفاق بأن يسلط الله عليهم الأنبياء بالقتل ويقال * (سنة الله) * * (ولن تجد لسنة الله تبديلا) * يعني مبدلا ومغيرا
سورة الأحزاب 63 - 68
قوله عز وجل * (يسألك الناس عن الساعة) * يعني عن قيام الساعة وذلك أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله متى الساعة فقال صلى الله عليه وسلم (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)
فنزل * (قل إنما علمها عند الله) * يعني علم قيام الساعة عند الله * (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) * يعني سريعا
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال من أشراط الساعة أن يفتح القول ويحزن الفعل وأن ترفع الأشرار وتوضع الأخيار
ومعنى يفتح الأقوال أن تقول أفعل غدا
فإذا جاء غدا خالف قوله وقت الفعل
وأصل الفتح الابتداء وأن يعد لأخيه عدة حسنة ثم يخالفه وقال عطاء بن أبي رباح من اقتراب الساعة مطر ولا نبات وعلو أصوات الفساق في المساجد وظهور أولاد الزنا وموت الفجأة وانبعاث الدويبضة يعني السفلة من الناس
وقوله * (لعل الساعة تكون قريبا) * ولم يقل قريبة لأنها جعلت ظرفا وبدلا ولم تجعل نعتا وصفة
ثم قال عز وجل * (إن الله لعن الكافرين) * يعني خذلهم وطردهم من رحمته * (وأعد لهم سعيرا) * يعني جهنم
ويقال لعن الكافرين في الدنيا بالقتل وفي الآخرة أعد لهم سعيرا * (خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا) * يعني قريبا ينفعهم * (ولا نصيرا) * أي مانعا يمنعهم من العذاب والسعير في اللغة هو النار الموقدة
ثم قال عز وجل * (يوم تقلب وجوههم في النار) * يعني هذا العذاب في * (يوم تقلب وجوههم في النار) * يعني تحول عن الحسن إلى القبح من حال البياض إلى حال السواد وزرقة الأعين
ويقال * (تقلب) * يعني تجدد كقوله * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * [النساء 56] فيندمون على فعلهم ويوبخون أنفسهم و * (يقولون يا ليتنا أطعنا الله) * فيما أمرنا ونهانا * (وأطعنا الرسولا) * فيما دعانا إلى الحق * (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا) * يعني قادتنا وأشرافنا وعظماءنا * (فأضلونا السبيلا) * يعني صرفونا عن طريق الإسلام
ويقال أضللت
70

الطريق وأضللته عن الطريق بمعنى واحد
قرأ ابن عامر " ساداتنا "
وقرأ الباقون * (سادتنا) * جمع سيد وساداتنا جمع الجمع
ثم قال عز وجل * (ربنا آتهم ضعفين من العذاب) * يعني زدهم واحمل عليهم
يعني عذبهم بذنوبهم وارفع عنا بعض العذاب واحمل عليهم فإنهم هم الذين أضلونا * (والعنهم لعنا كبيرا) * قرأ عاصم وابن عامر في إحدى الروايتين * (كبيرا) * بالباء من الكبر والعظم يعني عذبهم عذابا عظيما
وقرأ الباقون * (كثيرا) * من الكثرة يعني عذبهم عذابا كثيرا دائما
سورة الأحزاب 69 - 71
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى) * يعني لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى عليه السلام
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الثقة بإسناده عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده
فقال بعضهم والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا به أدرة فذهب موسى عليه السلام مرة يغتسل
فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه فخرج موسى بأثره يقول حجر ثوبي حجر ثوبي حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى
فقالوا والله ما بموسى من بأس
فقام الحجر وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا)
فقال أبو هريرة ستة أو سبعا
والله إن بالحجر لندبا سبعة بضرب موسى وذلك قوله * (فبرأه الله مما قالوا) * ويقال إن موسى وهارون خرجا فتوفي هارون في تلك الخرجة فلما رجع موسى إلى قومه قالت السفهاء من بني إسرائيل لموسى أنت قتلت هارون
فخرج موسى مع جماعة من بني إسرائيل فأحيا الله تعالى هارون عليه السلام فأخبر أنه لم يقتله أحد وأنه مات بأجله فذلك قوله تعالى * (فبرأه الله مما قالوا) * * (وكان عند الله وجيها) * يعني مكينا وكان له جاه عنده منزلة وكرامة
ثم قال عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * يعني أطيعوا الله واخشوا الله * (وقولوا قولا سديدا) * يعني عدلا صوابا وهو قولهم ابن فلان فأمرهم أن ينسبوهم
إلى آبائهم
ويقال * (قولوا قولا سديدا) * يعني لا إله إلا الله
ويقال قولا مخلصا * (يصلح لكم أعمالكم) * يعني يقبل أعمالكم * (ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله) * في السر والعلانية * (فقد فاز فوزا عظيما) * يعني نجا بالخير وأصاب نصيبا وافرا
71

سورة الأحزاب 72 - 73
قوله عز وجل * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال) * قال مجاهد لما خلق الله عز وجل الأمانة عرضها على السماوات والأرض والجبال * (فأبين أن يحملنها) * فلما خلق آدم عليه السلام عرض عليه الأمانة فحملها فما كان بين أن حملها وبين أن أخرج من الجنة إلا كما بين الظهر والعصر
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال " إنا عرضنا الأمانة يعني الفرائض على السماوات والأرض والجبال
فقال لهن أتأخذن بما فيها فقلن وما فيها يا رب قال إن أحسنتن جزيتن وإن أسأتن عوقبتن
فقلن يا رب إن تعرضها علينا فلا نريد وإن أمرتنا بها فنحن نجتهد
وعرضت على الإنسان يعني آدم عليه السلام فقبلها وحملها
وقال بعضهم هذا على وجه المثل إن لم تظهر الخيانة في الأمانة إلا من الإنسان فلم تظهر من السماوات والأرض والجبال كما قال " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل " [الحشر 21] فكأنه يقول لو عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال لأبين عن حملها " وأشفقن منها وحملها الإنسان " يعني آدم وذريته " إنه كان ظلوما جهولا " بالقبول
وروي عن الحسن أنه قال عرض على السماوات عرض التخيير لا عرض الإيجاب فلذلك لم تعص بترك قبولها ويقال " عرضنا الأمانة على السماوات " يعني على ملائكة السماوات والأرض والجبال كما قال " وسئل القرية " [يوسف 82] يعني أهل القرية
وقال السدي لما آدم أراد أن يحج عرض الأمانة يعني أمر ولده شيث وهابيل وقابيل فعرض على قابيل أخذ خزائنه والائتمار والقيام في شغل الدنيا والعيش حتى يرجع هو من الحج إلى وطنه فقبله فقبله ثم خانه فقتل أخاه
وإنما كان عرض آدم عليه السلام بأمر الله عز وجل فلذلك قال " عرضنا "
وقال بعضهم إن الله عز وجل لما استخلف آدم على ذريته وسلطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والوحوش والطير عهد إليه عهدا أمره فيه ونهاه فقبله ولم يزل عاملا به إلى أن حضرته الوفاة فسأل ربه أن يعلمه من يستخلف بعده ويقلده الأمانة فأمره أن يعرض على السماوات والأرض بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى " فأبين " أن يقبلنها شفقا من عذاب الله عز وجل فأمره أن يعرض على الأرض والجبال وكلها
72

أبت ثم أمره أن يعرض على ولده فعرض عليه فقبله بالشرط * (إنه كان ظلوما جهولا) * لعاقبة ما تقلده يعني المتقبل الذي تقبله
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم قال * (الأمانة) * ثلاث في الصلاة والصيام والجنابة
ثم قال عز وجل * (ليعذب الله المنافقين والمنافقات) * يعني عرضنا الأمانة على الإنسان لكي يعذب الله المنافقين والمنافقات * (والمشركين والمشركات) * بما خانوا الأمانة * (ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات) * بما أوفوا الأمانة * (وكان الله غفورا رحيما) * * (وكان) * صلة في الكلام يعني والله غفور لذنوب المؤمنين رحيم بهم
وروى سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال قال أبي بن كعب كانت سورة الأحزاب لتقارب سورة البقرة أو أطول منها وكان فيها آية الرجم قلت يا أبا المنذر وما آية الرجم فقال إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله العزيز الحكيم والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وسلم
73

سورة سبأ مكية وهي خمسون وأربع آيات
سورة سبأ 1 - 2
قول الله تعالى * (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * من الخلق * (وله الحمد في الآخرة) * يعني يحمده أهل الجنة
ويقال يحمدونه في ستة مواضع أحدهما حين نودي * (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) * [يس 59] فإذا تميز المؤمنون من الكافرين يقولون * (الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين) * [المؤمنون 28] كما قال نوح عليه السلام حين أنجاه الله عز وجل من قومه
والثاني حين جازوا الصراط قالوا * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) * [فاطر 34]
والثالث لما دنوا إلى باب الجنة واغتسلوا بماء الحيوان ونظروا إلى الجنة وقالوا * (الحمد لله الذي هدانا لهذا) * [الأعراف 43]
والرابع لما دخلوا الجنة استقبلتهم الملائكة عليهم السلام بالتحية فقالوا * (الحمد لله الذي صدقنا وعده) * [الزمر 74] الآية
والخامس حين استقروا في منازلهم وقالوا " الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله " [فاطر 34، 35]
والسادس كلما فرغوا من الطعام قالوا * (والحمد لله رب العالمين) * [الفاتحة 1] وقال بعضهم أنا الذي أتوجب الحمد في الآخرة كما استوجب الحمد في الدنيا ثم قال
* (وهو الحكيم الخبير) * يعني حكم بالبعث * (الخبير) * يعني العليم
ثم قال عز وجل * (يعلم ما يلج في الأرض) * يعني ما يدخل في الأرض من المطر والأموات والطيور والكنوز * (وما يخرج منها) * من النبات والكنوز والميت * (وما ينزل من السماء) * من مطر أو وحي أو رزق أو مصيبة * (وما يعرج فيها) * يعني يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال بني آدم * (وهو الرحيم) * بخلقه * (الغفور) * بتأخير العذاب عنهم
سورة سبأ 3
74

سورة سبأ 4 - 5
قوله عز وجل " وقال الذين كفورا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي " قسم أقسم به يعني بلى والله
(لتأتينكم عالم الغيب) قرأ ابن عامر ونافع * (عالم) * بالضم جعله رفعا بالابتداء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم * (عالم الغيب) * بكسر الميم وهو صفة لله تعالى وهو قوله * (الحمد لله) * ويقال رده إلى حرف القسم وهو قوله " قل بلى وربي عالم الغيب "
وقرأ حمزة والكسائي " علام الغيب " وهو على المبالغة في وصف الله عز وجل بالعلم
ويقال من قرأ * (عالم الغيب) * بضم الميم فهو على المدح ومعناه هو * (عالم الغيب) *
ويقال هو على الابتداء وخبره * (لا يعزب عنه) *
قرأ الكسائي * (لا يعزب) * بكسر الزاي وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد أي لا يغيب عنه * (مثقال ذرة) * يعني وزن ذرة صغيرة
والذرة النملة الصغيرة الحمراء ويقال التي ترى في شعاع الشمس * (في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) * يعني قد بين الله عز وجل في اللوح المحفوظ
قوله عز وجل * (ليجزي) * يعني لكي يثيب * (الذين آمنوا) * بأعمالهم في الدنيا * (وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة) * لذنوبهم " وزرق كريم " أي ثواب حسن في الجنة
قوله عز وجل * (والذين سعوا في آياتنا) * يعني عملوا في القرآن * (معاجزين) * يعني متسابقين ليسبق كل واحد منهم بالتكذيب قرأ أبو عمرو وابن كثير " معجزين " أي مثبطين يثبطون الناس عن الإيمان بالقرآن * (أولئك لهم عذاب من رجز أليم) * قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص * (أليم) * بضم الميم وكذلك في الجاثية جعلاه من نعت العذاب يعني عذاب أليم من رجز على معنى التقديم عذاب شديد
وقرأ الباقون بالكسر فيكون صفة للرجز يعني عذاب من العذاب الأليم
سورة سبأ 6 - 9
ثم قال عز وجل * (ويرى الذين أوتوا العلم) * يعني ويعلم الذين أتوا العلم
وهكذا في قراءة ابن مسعود يعني به مؤمني أهل الكتاب يعني إنهم يعلمون أن * (الذي أنزل إليك من ربك) * يعني القرآن * (هو الحق ويهدي) * يعني يدعو ويدل * (إلى صراط العزيز الحميد) *
75

يعني إلى طريق الرب العزيز بالنقمة لمن لم يجب الرسل * (الحميد) * في فعاله
قوله عز وجل * (وقال الذين كفروا) * يعني كفار أهل مكة * (هل ندلكم على رجل) * يعني قال بعضهم لبعض هل ندلكم على رجل * (ينبئكم) * يعني يخبركم * (إذا مزقتم كل ممزق) * يعني يخبركم أنكم إذا متم وتفرقتم في الأرض وأكلتكم الأرض كل ممزق وكنتم ترابا * (إنكم لفي خلق جديد) * يعني بعد هذا كله صرتم خلقا جديدا
قوله عز وجل * (افترى على الله كذبا) * يعني قالوا إن الذي يقول إنكم لفي خلق جديد اختلق على الله كذبا * (أم به جنة) * يعني به جنون
يقول الله * (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة) * هم أكذب حين كذبوا بالبعث * (في العذاب والضلال البعيد) * يعني هم في العذاب في الآخرة والخطأ الطويل في الدنيا عن الحق
ثم خوفهم ليعتبروا فقال عز وجل * (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض) * لأن الإنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض
قال قتادة إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك أو بين يديك أو من خلفك رأيت السماء والأرض " إن يشأ يخسف بهم الأرض " يعني تغور بهم وتبتلعهم الأرض * (أو نسقط عليهم كسفا من السماء) * يعني جانبا من السماء
قرأ حمزة والكسائي " إن يشأ يخسف " " أو يسقط " الثلاثة كلها بالياء
وقرأ الباقون كلها بالنون
فمن قرأ بالياء فمعناه إن يشأ الله ومن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه
ثم قال عز وجل * (إن في ذلك لآية) * يعني لعبرة * (لكل عبد منيب) * يعني مقبل إلى طاعة الله عز وجل ويقال مخلص القلب بالتوحيد ويقال * (أفلم يروا إلى ما
بين أيديهم) * يعني أفلم يعلموا أن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض وهو قادر على أن يخسف بهم إن لم يوحدوا * (إن في ذلك لآية) * أي لعلامة لوحدانيتي
سورة سبأ 10 - 11
قوله عز وجل * (ولقد آتينا داود منا فضلا) * يعني أعطيناه النبوة والملك حتى قلنا * (يا جبال أوبي معه) * يعني سبحي مع داود
وأصله في اللغة من الرجوع وإنما سمي التسبيح إيابا لأن المسبح يسبح مرة بعد مرة
وقال القتبي أصله التأويب من السير وهو أن يسير النهار كله كأنه أراد أوبي النهار كله بالتسبيح إلى الليل
ثم قال * (والطير) * وقرئ في الشاذ * (والطير) * بالضم وقراءة العامة بالنصب
فمن قرأ بالضم فهو على وجهين
أحدهما أن يكون نسقا على ما في * (أوبي) * والمعنى يا جبال ارجعي بالتسبيح معه أنت والطير
ويجوز أن يكون مرفوعا على النداء والمعنى أيها الجبال وأيها الطير
ومن قرأ بالنصب فلثلاث معان أحدها لنزع الخافض ومعناه أوبي معه ومع
76

الطير
والثاني أنه عطف على قوله * (ولقد آتينا داود منا فضلا) * وآتيناه الطير يعني وسخرنا له الطير
والثالث أن النداء إذا كان على أثره اسم فكان الأول بغير الألف واللام والثاني بالألف واللام فإنه في الثاني بالخيار إن شاء نصبه وإن شاء رفعه والنصب أكثر كما قال الشاعر
(ألا يا زيد والضحاك سيرا
* فقد جاوزتما خمر الطريق)
ورفع زيدا لأنه نداء مفرد ونصب الضحاك بإدخال الألف واللام
ثم قال عز وجل * (وألنا له الحديد) * يعني جعلنا له الحديد مثل العجين * (أن اعمل سابغات) * يعني قلنا له اعمل الدروع الواسعة وكان قبل ذلك صفائح الحديد مضروبة
ثم قال * (وقدر في السرد) * قال السدي * (السرد) * المسامير التي في حلق الدروع
وقال مجاهد * (وقدر في السرد) * أي لا تدق المسامير فتقلقل في الحلقة ولا تغلظها فتقصمها واجعله قدرا بين ذلك
وقال في رواية الكلبي هكذا وقال بعضهم هذا لا يصح لأن الدروع التي عملها داود عليه السلام بغير مسامير لأنها كانت معجزة له ولو كان محتاجا إلى المسمار لما كان بينه وبين غيره فرق
وقد يوجد من بقايا تلك الدروع بغير مسامير ولكن معنى قوله * (وقدر في السرد) * أي قدر في نسجها وطولها وعرضها وضيقها وسعتها
ويقال * (قدر) * في تأليفه
والسرد في اللغة تقدمة الشيء إلى الشيء يأتي متسقا بعضه في أثر بعض متتابعا
ويقال سرد في الكلام إذا ذكره بالتأليف ومنه قيل لصانع الدروع سردا وزراد يبدل من السين الزاي
ثم قال * (واعملوا صالحا) * يعني أدوا فرائضي وقد خاطبه بلفظ الجماعة كما قال " يا أيها الرسل كلوا من الطيبيات " [المؤمنون 51] وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة
ويقال إنه أراد به داود وقومه * (إني بما تعملون بصير) * يعني عالم
سورة سبأ 12 - 14
قوله عز وجل * (ولسليمان الريح) * قرأ عاصم في رواية أبي بكر * (الريح) * بالضم وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالنصب فمعناه " وسخرنا لسليمان الريح " كما اتفقوا في سورة الأنبياء ومن قرأ بالضم فمعناه * (ولسليمان الريح) * مسخرة يكون رفعا على معنى الخبر
77

ثم قال * (غدوها شهر ورواحها شهر) * تسير به الريح عند الغداة مسيرة شهر فتحمله مع جنوده من بيت المقدس إلى إصطخر
* (ورواحها شهر) * يعني تسير به عند آخر النهار مسيرة شهر من إصطخر إلى بيت المقدس واصطخر عند بلاد فارس * (وأسلنا له عين القطر) * يعني أجرينا له عين الصفر المذاب
يقال تسيل له في كل شهر ثلاثة أيام يعمل بها ما أحب
وروى سفيان عن الأعمش قال سيلت له كما سيل الماء ويقال جرى له عين النحاس في اليمن
وقال شهر بن حوشب جرى له عين النحاس من صنعاء * (ومن الجن من يعمل بين يديه) * يعني وسخرنا لسليمان * (من الجن من يعمل بين يديه) * * (بإذن ربه)
* أي بأمر ربه * (ومن يزغ منهم عن أمرنا) * يعني من يعص سليمان فيما أمره * (نذقه من عذاب السعير) * قال بعضهم كان معه ملك ومعه سوط من عذاب السعير فإذا خالف سليمان أحد الشياطين ضربه بذلك السوط
وقال مقاتل يعني به عذاب الوقود في الآخرة
قوله عز وجل * (يعملون له ما يشاء من محاريب) * يعني المساجد
ويقال الغرف
* (وتماثيل) * يعني على صور الرجال من الصفر والنحاس لأجل الهيبة في الحرب وغيره
ويقال ويجعلون صورا للأنبياء ليستزيد الناس رغبة في الإسلام
ثم قال * (وجفان كالجواب) * يعين قصاعا كالحياض الكبيرة ويجلس على قصعة واحدة ألف رجل أو أقل أو أكثر
الجابية في اللغة الحوض الكبير وجماعته جوابي
قرأ ابن كثير " كالجوابي " بالياء في الوقف والوصل جميعا وقرأ أبو عمرو وبالياء في الوصل والباقون بغير ياء
فمن قرأ بالياء فلأنه الأصل ومن حذف فلاكتفائه بكسر الياء
* (وقدور راسيات) * يعني ثابتات في الأرض وكان سليمان يتخذ القدور من الجبال
قال مقاتل كان ملكه ما بين مصر وبابل وقال بعضهم جميع الأرض
ثم قال * (اعملوا آل داود) * يعني يا آل داود * (شكرا) * لما أعطيتكم من الفضل
ويقال معناه اعملوا عملا تؤدوا بذلك شكر نعمتي * (وقليل من عبادي الشكور) * و * (الشكور) * هو المبالغة في الشكر وهو من كان عادته الشكر في الأحوال كلها وقيل مثل هذا في الناس قليل وهذا معنى قوله * (وقليل من عبادي الشكور) * وروي عن أبي العالية أنه قال هو شكر الشكر يعني إذا شكر النعمة يعلم أن ذلك الشكر بتوفيق الله عز وجل ويشكر لذلك الشكر وهذا في الناس قليل
ثم قال عز وجل * (فلما قضينا عليه الموت) * يعني على سليمان عليه الصلاة والسلام فكان سليمان يبني في بيت المقدس فرأى أن ذلك لا يتم إلا بالجن فأمرهم بالعمل وقال لأهله لا تخبروهم بموتى
فكان قائما في الصلاة متكئا على عصاه وكان سليمان عليه السلام يطول الصلاة وكان الجن إذا حضروا رأوه قائما فرجعوا ويقولون إنه قائم يصلي فيقبلون على أعمالهم
78

وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال كان سليمان عليه السلام إذا مر بشجرة يعني بشيء من نبات الأرض قال لها ما شأنك فتخبره الشجرة أنها كذا وكذا ولمنفعة كذا وكذا فيدفعها إلى الناس حتى ينتفعوا بها
فمر بشجرة فقال لها ما اسمك يا شجرة فقالت أنا خرنوبة
فقال ما شأنك قالت أنا لخراب المسجد
فتعصى سليمان منها عصا فكانت الجن يقولون للإنس إنا نعلم الغيب وإن سليمان سأل الله عز وجل أن يخفي موته
فلما قضى الله عز وجل على سليمان الموت لم تدر الجن ولا الإنس ولا أحد كيف مات ولم يطلع أحد على موته
والجن تعمل أشد ما كانوا عليه حتى خر سليمان عليه السلام فنظروا كيف مات فلم يدروا فنظروا إلى العصا فرأوا العصا قد أكلت يعني قد أكل منها وفي العصا أرضة
فنظروا إلى أين أكلت الأرضة من العصا فجعلوا لها علما ثم ردوا الأرضة فيها فأكلت شهرا ثم نظروا كم أكلت في هذا الشهر ثم قاسوها بما أكلت من قبل فكان لموته اثنا عشر شهرا فتبين للجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين
فقالت الجن إن لها علينا حقا يعني للأرضة فم يبلغونها الماء فلا يزل لها طينة رطبة فذلك قوله * (فلما قضينا عليه الموت) * * (ما دلهم على موته) * يعني ما دل الجن على موت سليمان * (إلا دابة الأرض) * يعني الأرضة * (تأكل منسأته) * يعني عصاه
قرأ نافع وأبو عمرو * (منسأته) * بلا همز وقرأ الباقون بالهمز
فمن قرأ بالهمز فهو من نسأ ينسأ إذا زجر الدابة ثم تمسى عصاه منسأة لأنه يزجر بها الدابة
ومن قرأ بغير همز فقد حذف الهمزة للتخفيف وكلاهما جائز
* (فلما خر) * يعني سقط سليمان عليه السلام * (تبينت الجن) * عند ذلك للأنس أن الجن لا يعلمون الغيب
ويقال * (تبينت الجن) * يعني ظهر لهم أنهم لو علموا الغيب * (ما لبثوا في العذاب المهين) * فتفرقوا عند ذلك
قرأ حمزة * (من عبادي الشكور) * بسكون الياء وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان وكلاهما جائز
سورة سبأ 15 - 17
قوله عز وجل * (لقد كان لسبأ) * قرئ بالنصب والكسر وقد ذكرناه من قبل
فمن قرأ بالكسر والتنوين جعله اسم أب القبيلة ومن قرأ بالنصب جعله أرضا والأول أشبه
لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن سبأ
فقال (هو اسم رجل)
ويقال هو سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان
وروي عن ابن بعاس أنه قال (هي قرى اليمن بعث عز وجل ثلاثة عشر نبيا
79

عليهم السلام إلى ثلاث عشرة قرية باليمن اتبع بعضهم بعضا حتى اجتمعت الرسل في آل سبأ
وقرية أخرى فأتوهم فذكروهم نعم الله عز وجل وخوفوهم عقابه)
وروى أسباط عن السدي قال كانت أرضهم أرضا خصيبة وكانت المرأة تخرج على رأسها مكتلا فلا ترجع حتى تملأ مكتلها من أنواع الفاكهة من غير أن تمد يدها وكان الماء يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يحبس بين جبلين وكانوا قد ردموا ردما بين جبلين فحبسوا الماء وكان يأتيهم من السيول فيسقون بساتينهم وأشجارهم
ويقال كان لهم وادي وكان للوادي ثلاث درقات فإذا كثر الماء فتحوا الدرقة العليا وإذا انتقص فتحوا الدرقة الوسطى وإذا قل الماء فتحوا السفلى فأخصبوا وكثرت أموالهم واتخذوا من الجنان ما شاؤوا
فلما أحبوا ذلك وكذبوا رسلهم بعث الله عز وجل عليهم جرذا فنقب ذلك الردم بجنب بستان رجل منهم يقال له عمران بن عامر وهو أبو الأنصار والأزد وغسان وخزاعة وكانوا يسمون المنسأة العرم فدخل البستان فإذا هو ينقب العرم وقد سال فأمر به فسد ثم نظر إلى الجرذة تنقل أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه
وكان كاهنا فقال ما تنقل هذه أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه إلا وقد حضر هلاك هذه البلدة
فدعا ابن أخ له فقال إذا رأيتني جلست في جماعة قومي فائتني فقل أي عم أعطني ميراثي من أبي فإني سأقول وهل ترك أبوك شيئا فأردد علي وكذبني فإذا كذبتني فإني سألطمك فالطمني
فقال أي عم ما كنت لأفعل هذا بك قال بلى
فلما رأى لعمه في ذلك هوى منه فعل ما مره ففعل
فقال ابن عامر لله علي كذا وكذا أن أسكن هذه البلاد من يشتري ما لي
فلما عرفوا منه الجد قال هذا أعطيك كذا
وقال هذا أعطيك كذا فنظر إلى أجودهم صفقة فقال عجل إلى مالي فقد حلفت أن لا أبيت بها فعجلوا إليه ماله وارتحل من يومه حتى شخص عنهم فاتسع ذلك الخرق حتى انهدم وغرق بلادهم وتفرقوا في البلدان
فذلك قوله * (لقد كان لسبأ) * * (في مسكنهم) * قرأ الكسائي * (في مسكنهم) * بكسر الكاف والنون وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص * (مسكنهم) * بنصب الكاف وكسر النون وقرأ الباقون * (مساكنهم) * بالألف المسكن والمسكن بنصف الكاف وكسره واحد وهما لغتان مثل مطلع ومطلع والمساكن جمع مسكن
وقد قيل المسكن جمع المساكن يعني لقد كان في منازلهم وقرياتهم * (أيه) * أي علامة لوحدانيتي * (جنتان عن يمين وشمال) * يعني بستانان عن يمين الوادي وعن شماله
وإنما أراد بالبستان البساتين
ويقال بساتين عن يمين الطريق وبساتين عن شماله فأرسل الله تعالى إليهم الرسل فذكروهم النعم فقيل لهم * (كلوا من رزق ربكم) * يعني من فضل ربكم عليكم * (واشكروا له) * فيما رزقكم * (بلدة طيبة) * يعني هذه بلدة طيبة لينة بلا سبخة * (ورب غفور) * لمن تاب من الشرك
* (فأعرضوا) * عن الإيمان
وقالوا من الذي يأخذ منا هذه النعم * (فأرسلنا عليهم سيل العرم) * والعرم هو اسم لذلك الوادي ويقال اسم للمنسأة
ويقال هو اسم للفأرة التي
80

قرضت النهر حتى سال علهم الماء وجرى في بساتينهم وفي بيوتهم فخربها وندت أنعامهم وأخذ كل واحد منهم بيد ولده وامرأته فصعدوا بهم الجبل فذلك قوله تعالى * (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط) * يعني أبدلهم الله تعالى مكان الفاكهة ذواتي أكل خمط أي الأراك * (وأثل) * يعني الطرفاء " وشئ من سدر قليل " والسدر كانوا يستظلون في ظله ويأكلون من ثمره
قرأ أبو عمرو * (أكل خمط) * بكسر اللام بغير تنوين وقرأ الباقون بالتنوين فمن قرأ بالتنوين أراد * (ذواتي) * ثمر يؤكل ثم قال * (خمط) * جعله بدلا من أكل
والمعنى ذواتي خمط وأكله ثمرة
ومن قرأ بغير تنوين أضاف الأكل إلى الخمط والخمط هو الأراك في اللغة المعروفة
وقال بعضهم كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا مكن أكله فهو خمط
ثم قال * (ذلك جزيناهم) * يعني ذلك الذي أصابهم عقوبة لهم عاقبناهم * (بما كفروا) * أي بكفرهم * (وهل نجازي إلا الكفور) * يعني وهل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلا الكفور بنعمة الله تعالى ويقال * (الكفور) * الكافر
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص * (وهل نجازي) * بالنون وكسر الزاي * (إلا الكفور) * بالنصب
وقرأ الباقون " يجازي " بالياء وفتح الزاي * (إلا الكفور) * بالضم
فمن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه والكفور نصب لوقوع الفعل عليه
ومن قرأ " يجازى " بالياء فهو على فعل ما لم يسم فاعله يعني هل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلى الكفور بنعمة الله تعالى ويقال هل يجازي الله ومعنى الآية أن المؤمن يكفر عنه السيئات بالحسنات وأما الكافر فإنه يحبط عمله كله فيجازى بكل سوء يعمله كما قال * (أضل أعمالهم) * [محمد 1] أي أبطل أعمالهم وأحبطها فلم ينفعهم منها شيء وهذا معنى قوله " وهل يجازي إلا الكفور "
سورة سبأ 18 - 21
ثم قال عز وجل * (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها) * قال في رواية الكلبي إنهم قالوا للرسل إنا قد عرفنا نعمة الله علنيا فوالله لئن رد الله فيئتنا وجماعتنا والذي كنا عليه لنعبدنه عبادة لم يعبدها إياه قوم قط
ودعت لهم الرسل ربهم فرد الله لهم ما كانوا عليه وأتاهم نعمه وجعل لهم من أرضهم إلى أرض الشام قرى متصلة بعضها إلى بعض فذلك
81

قوله * (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها) * * (قرى ظاهرة) * ثم عادوا إلى الكفر فأتاهم الرسل فذكروهم نعمة الله فكذبوهم فمزقهم الله كل ممزق
وقال غيره * (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها) * هذا حكاية عما كانوا فيه من قبل أن يرسل عليهم سيل العرم * (قرى ظاهرة) * يعني متصلة على الظهور من حيث يرى بعضها من بعض * (وقدرنا فيها السير) * للمبيت والمقيل من قرية إلى قرية * (سيروا فيها) * يعني ليسيروا فيها
اللفظ لفظ الأمر والمراد به الشرط والجزاء
فلم يشكروا ربهم فسألوا ربهم أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض
* (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) * وقد كانوا في قراهم منعمين آمنين فذلك قوله * (ليالي وأياما آمنين) * يعني أنهم كانوا يسيرون من قرية إلى قرية بالليل والنهار آمنين من الجوع والعطش واللصوص والسباع
قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (بعد) * بغير ألف وتشديد العين وقرأ الباقون * (بأعد) * بالألف وهما لغتان بعد باعد
وقرأ يعقوب الحضرمي وكان من أهل البصرة * (ربنا) * بضم الباء * (بأعد) * بنصب العين وهو على معنى الخبر
وروى الكلبي عن أبي صالح أنه قرأ هكذا معناه وقالوا * (ربنا باعد بين أسفارنا) * فلذلك لا ينصب
ثم قال * (وظلموا أنفسهم) * بالشرك وتكذيب الأنبياء * (فجعلناهم أحاديث) * يعني أهلكهم الله تعالى فصاروا أحاديث للناس يتحدثون في أمرهم وشأنهم لم يبق أحد منهم في تلك القرى * (ومزقناهم كل ممزق) * أي فرقناهم في كل وجه فألقى الله الأزد بعمان والأوس والخزرج بالمدينة وهما أخوان وأهل المدينة كانوا من أولادهما إحدى القبيلتين الخزرج والأخرى ألاوس فسموا باسم أبيهم
وخزاعة بمكة كانوا بنو خزاعة منهم لخم وجذام بالشام ويقال كلب وغسان * (إن في ذلك) * يعني في هلاكهم وتفريقهم * (لآيات) * أي لعبرات * (لكل صبار شكور) * يعني للمؤمنين الذين صبورا على طاعة الله تعالى وشكروا نعمته
قوله عز وجل * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) * يعني على أهل سبأ ويقال هذا ابتداء يعني جميع الكفار
وذلك أن إبليس قد قال * (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) * [ص 82 - 83] فكان ذلك ظنا منه فصدق ظنه * (فاتبعوه إلا فريقا) * يعني طائفة * (من المؤمنين) * وهم الذين قال الله تعالى * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * [الحجر 42] وقال سعيد بن جبير كان ظنه أنه قال أنا ناري وآدم طيني والنار تأكل الطين
وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر * (ولقد صدق) * بالتخفيف يعني صدق في ظنه وقرأ الباقون * (صدق) * بالتشديد يعني صار ظنه صدقا
قوله عز وجل * (وما كان له عليهم من سلطان) * يعني لم يكن له عليهم ملك يقهرهم
وقال الحسن البصري رحمه الله والله ما ضربهم بعصا ولا أكرههم على شيء وما كان إلا
82

غرورا وأماني دعاهم إليها فأجابوه
وقال قتادة والله ما كان ظنه إلا ظنا فنزل الناس عند ظنه
وقال معمر قال لي مقاتل إن إبليس لما أنزل آدم عليه السلام ظن أن في ذريته من سيكون أضعف منه فصدق عليهم ظنه
فإن قيل في آية أخرى " إنما سلطنه على الذين يتولونه " [النحل 100] وهاهنا يقول * (وما كان له عليهم من سلطان) * قيل له أراد بالسلطان هناك الحجة يعني إنما
حجته على الذين يتولونه وهاهنا أراد به الملك والقهر يعني لم يكن له عليهم ملك يقهرهم به
ويقال معنى الآيتين واحد لأن هناك قال إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا
وهاهنا قال * (وما كان له عليهم من سلطان) * يعني حجة وعلى فريق من المؤمنين إلا بالتزيين والوسوسة منه
* (إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة) * يعني يميز من يصدق بالبعث " ممن هو في شك " يعني من قيام الساعة
وقال القتبي علم الله نوعان أحدهما علم ما يكون من إيمان المؤمنين وكفر الكافرين من قبل أن يكون وهذا علم لا يجب به حجة ولا عقوبة
والآخر علم الأمور الظاهرة فيحق به القول ويقع بوقوعها الجزاء
يعني ما سلطانه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهرا موجودا وكفر الكافرين ظاهرا موجودا
وكذلك قوله * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) * [آل عمران 142] الآية
ثم قال عز وجل " وربك على كل شيء حفيظ " يعني عالما باليقين والشك ويقال عالم بما يكون منهم قبل كونه ويقال * (حفيظ) * يحفظ أعمالهم ليجازيهم
سورة سبأ 22 - 23
ثم قال عز وجل * (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) * يعني قل لكفار مكة " ادعو الذين زعمتم من دون الله " أنهم آلهة فيكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم من الجوع يعني الأصنام
ويقال الملائكة عليهم السلام * (لا يملكون مثقال ذرة) * يعني نملة صغيرة * (في السماوات ولا في الأرض) * يعني إذا كان حالهم هذا فمن أين جعلوا لهم الشركة في العبادة
ثم قال * (وما لهم فيهما من شرك) * يعني في خلق السماوات والأرض من عون ويقال ما لهم فيها من نصيب * (وما له منهم من ظهير) * يعني معين من الملائكة الذين يعبدونهم
ثم ذكر أن الملائكة لا يملكون شيئا من الشفاعة فقال عز وجل * (ولا تنفع الشفاعة عنده) * يعني لا تنفع الشفاعة لأحد لا نبيا ولا ملكا * (إلا لمن أذن له) * أن يشفع لأحد من أهل التوحيد
قرأ نافع وابن كثير وعاصم في إحدى الروايتين * (إلا لمن أذن له) * بالنصب يعني حتى يأذن الله عز وجل له
قرأ الباقون بالضم على فعل ما لم يسم فاعله ومعناه مثل الأول
83

ثم أخبر عن خوف الملائكة أنهم إذا سمعوا الوحي خروا سجدا من مخافة الله عز وجل وكيف يعبد من هذه حاله فذلك قوله * (حتى إذا فزع عن قلوبهم) * وذلك أن أهل السماوات لم يكونوا سمعوا صوت الوحي بين عيسى ومحمد عليهما السلام فسمعوا صوتا كوقع الحديد على الصفا وذلك صوت الوحي ويقال صوت نزول جبريل عليه السلام فخروا سجدا مخافة القيامة فهبط جبريل عليه السلام على أهل كل سماء فأخبرهم أنه الوحي فذلك قوله * (حتى إذا فزع عن قلوبهم) * وذكر عن بعض أهل اللغة أنه قال إذا كانت * (حتى) * موصولة بإذا تكون بمعنى لما ويقع موقع الابتداء كقوله عز وجل * (حتى إذا فتحنا عليهم بابا) * [المؤمنون 77] كقوله * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج) * [الأنبياء 96] وكقوله * (حتى إذا فزع عن قلوبهم) * [سبأ 23] يعني لما فزع عن قلوبهم ومعناه انجلاء الفزع عن قلوبهم فقاموا عن السجود وسأل بعضهم بعضا * (قالوا ماذا قال ربكم) * يعني ماذا قال جبريل عليه السلام عن ربكم * (قالوا الحق) * يعني الوحي
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل بن أحمد
قال حدثنا الدبيلي
قال حدثنا أبو عبد الله
قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خفقانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان " فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم " قالوا الذي قال * (الحق) * الذي قال والشياطين بعضهم فوق بعض فإذا سمع الأعلى منهم الكلمة رمى بها إلى الذي تحته وربما أدركه الشهاب قبل أن ينبذها وربما نبذها قبل أن يدركه الشهاب فينبذها بعضهم إلى بعض حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على لسان الكاهن والساحر فيكذب معها مائة كذبة فيصدق فيقول أليس قد أخبر بكذا وكذا وكان حقا وهي الكلمة التي سمع من السماء)
قرأ ابن عامر * (حتى إذا فزع) * بنصب الفاء والزاي يعني كشف الله الفزع وقرأ الباقون بضم الفاء وكسر الزاي على معنى فعل ما لم يسم فاعله
وقرأ الحسن " حتى إذا فرغ " بالراء والغين يعني فرغ الفزع عن قلوبهم وقراءة العامة بالزاي أي خفف عنها الفزع
وقال مجاهد معناه حتى إذا كشف عنها الغطاء يوم القيامة ثم قال * (وهو العلي الكبير) * يعني هو أعلى وأعظم وأجل من أن يوصف له شريك
سورة سبأ 24 - 25
84

سورة سبأ 26 - 30
قوله عز وجل * (قل من يرزقكم من السماوات والأرض) * يعني المطر والنبات فإن أجابوك وإلا ف * (قل الله) * يعني الله يرزقكم من السماوات والأرض ثم قال
* (وإنا أو إياكم) * يعني قل لهم أحدنا * (لعلى هدى) * والأخرى على الضلالة
يعني إنا على الهدى وأنتم على الضلالة وهذا كرجل يقول لآخر أحدنا كاذب وهو يعلم أنه أراد به صاحبه
ويقال في الآية تقديم يعني وإنا على الهدى وإياكم لفي * (ضلال مبين) *
ثم قال عز وجل * (قل لا تسألون عما أجرمنا) * يعني لا تسألون عن جرم أعمالنا * (ولا نسأل عما تعملون) * يعني لا نسأل عن جرم أعمالكم
ويقال لا تأخذون بجرمنا ولا نؤخذ بجرمكم
قوله عز وجل * (قل يجمع بيننا ربنا) * يعني يوم القيامة نحن وأنتم * (ثم يفتح بيننا) * يعني يقضي بيننا بالحق يعني بالعدل * (وهو الفتاح) * يعني القاضي * (العليم) * بما يقضي * (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء) * يعني أروني آلهتكم الذين تعبدون من دون الله وتزعمون أنها له شركاء
أي ماذا خلقوا في السماوات والأرض من الخلق * (كلا) * يعني ما خلقوا شيئا * (بل هو الله) * خالق كل شيء * (العزيز) * في ملكه * (الحكيم) * في أمره
قوله عز وجل * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) * أي عامة للناس * (بشيرا) *
وروى خالد الحذاء عن قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي بعثت إلى كل أحمر وأسود فليس أحد من أحمر وأسود يدخل في أمتي إلا كان منهم ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر وجعلت فاتحا وخاتما وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتنا الصلاة صلينا وإن لم نجد ماء تيممنا وأطعمنا غنائمنا ولم يطعمها أحد كان قبلنا كانت قربانهم تأكله النار)
ثم قال * (بشيرا ونذيرا) * يعني * (بشيرا) * بالجنة لمن أطاعه * (ونذيرا) * بالنار لمن عصاه * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * يعني لا يصدقون بالجنة ولا بالنار * (ويقولون متى هذا الوعد) * يعني البعث * (إن كنتم صادقين) * يعني إن كنت صادقا بالعبث
ويقال إن كنت رسول الله
85

قوله عز وجل * (قل لكم ميعاد يوم) * يعني ميقاتا في العذاب
ويقال ميعادا في البعث والعذاب * (لا تستأخرون عنه) * يعني عن الميعاد والعذاب * (ساعة) * يعني قدر ساعة * (ولا تستقدمون) * قبل الأجل
ويقال معناه أنا قادر اليوم على عذابهم ولكن أؤخرهم في الوعد الذي كتب لهم في اللوح المحفوظ
سورة سبأ 31 - 33
قوله عز وجل * (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه) * من التوراة والإنجيل
يعني لا نصدق بذلك كله فحكى قولهم ثم ذكر عقوبتهم في الآخرة فقال * (ولو ترى إذ الظالمون) * يعني لو رأيت يا محمد الظالمين يوم القيامة * (موقوفون عند ربهم) * يعني محبوسين في الآخرة * (يرجع بعضهم إلى بعض القول) * يعني يرد بعضهم بعضا الجواب
ثم أخبر عن قولهم فقال * (يقول الذين استضعفوا) * وهم السفلة والأتباع * (للذين استكبروا) * يعني القادة والرؤساء * (لولا أنتم لكنا مؤمنين) * يعني لولا دعوتكم وتعريفكم إيانا لكنا مصدقين
قوله عز وجل * (قال الذين استكبروا للذين استضعفوا) * وهم الأتباع * (أنحن صددناكم عن الهدى) * يعني أنحن منعناكم عن الإيمان * (بعد إذ جاءكم) * به الرسول * (بل كنتم مجرمين) * يعني مشركين
قوله عز وجل * (وقال الذين استضعفوا) * يعني ردت الضعفاء عليهم الجواب ويقولون * (للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار) * يعني قولكم لنا بالليل والنهار واحتيالكم بالدعوة إلى الشرك
* (إذ تأمروننا أن نكفر بالله) * يعني نجحد بوحدانية الله تعالى * (ونجعل له أندادا) * يعني نقول له شركاء * (وأسروا الندامة) * يعني أخفوا الحسرة
ويقال أظهروا الندامة والحسرة * (لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال) * يعني نجعل الأغلال يوم القيامة * (في أعناق الذين كفروا) * من الرؤساء والسفلة * (هل يجزون) * يعني هل يثابون في الآخرة * (إلا ما كانوا يعملون) * في الدنيا
86

ثم قال * (وهم في الغرفات آمنون) * قرأ حمزة " وهم في الغرفة "
وقرأ الباقون * (وهم في الغرفات) * والغرفة في اللغة كل بناء يكون علوا فوق سفل وجمعه غرف وغرفات
ومعناه وهم في الجنة آمنون من الموت والهرم والأمراض والعدو وغير ذلك من الآفات
ثم قال عز وجل " والذين يسعون في آياتنا معجزين " والقراءة قد ذكرناها * (أولئك في العذاب محضرون) * يعني في النار معذبون * (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له) * وقد ذكرناه " وما أنفقتم من شيء " يعني ما تصدقتم من صدقة * (فهو يخلفه) * يعني فإن الله يعطي خلفه في الدنيا وثوابه في الآخرة * (وهو خير الرازقين) * يعني أقوى المعطين
وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما طلعت الشمس ولا غربت الشمس إلا بعث بجنبيها ملكان يناديان اللهم عجل لمنفق ماله خلفا وعجل لممسك ماله تلفا))
سورة سبأ 40 - 42
ثم قال عز وجل * (ويوم يحشرهم جميعا) * يعني الملائكة عليهم السلام ومن عبدهم
قرأ بعضهم من أهل البصرة * (يحشرهم) * بالياء يعني يحشرهم الله عز وجل وقراءة العامة بالنون على معنى الحكاية عن نفسه * (ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * يعني أنتم أمرتم عبادي أن يعبدوكم وهذا سؤال توبيخ كقوله لعيسى عليه السلام " أأنت قلت للناس اتخذوني " [المائدة 116] الآية * (قالوا سبحانك) * فنزهت الملائكة ربها عن الشرك وقالوا * (سبحانك) * يعني تنزيها لك * (أنت ولينا من دونهم) * ونحن براء منهم من أن نأمرهم أن يعبدونا * (بل كانوا يعبدون الجن) * يعني أطاعوا الشياطين في عبادتهم إيانا * (أكثرهم بهم مؤمنون) * يعني مصدقين الشياطين مطيعين لها
يقول الله تعالى * (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا) * يعني شفاعة * (ولا ضرا) * يعني ولا دفع الضر عنهم * (ونقول للذين ظلموا) * يعني كفروا في الدنيا
يعني يقال لهم في الآخرة * (ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) * إنها غير كائنة
سورة سبأ 43
88

سورة سبأ 44 - 45
ثم أخبر عن أفعالهم في الدنيا فقال عز وجل * (وإذا تتلى) * يعني تقرأ وتعرض * (عليهم آياتنا بينات) * بالأمر والنهي والحلال والحرام * (قالوا) * ما نعرف هذا * (ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم) * يعني يصرفكم * (عما كان يعبد آباؤكم) * من عبادة الأصنام * (وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى) * يعني كذبا مختلقا * (وقال الذين كفروا للحق) * يعني القرآن * (لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين) * يعني كذب بين
ثم قال عز وجل * (وما آتيناهم) * يعني وما أعطيناهم * (من كتب يدرسونها) * يعني يقرؤونها وفيها حجة لهم بأن مع الله شريكا * (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) * يعني من رسول في زمانهم * (وكذب الذين من قبلهم) * يعني من قبل قومك رسلهم كما كذبك قومك * (وما بلغوا) * يعني ما بلغ قومك * (معشار ما آتيناهم) * يعني ما بلغ أهل مكة عشر الذي أعطينا الأمم الخالية من الأموال والقوة فأهلكتهم بالعذاب حين * (فكذبوا رسلي فكيف كان نكير) * يعني كيف كان إنكاري وتغييري عليهم وإيش خطر هؤلاء بجنب أولئك فاحذروا مثل عذابهم
سورة سبأ 46 - 49
ثم قال عز وجل * (قل إنما أعظكم بواحدة) * يعني بكلمة واحدة ويقال بخصلة واحدة * (أن تقوموا لله) * بالحق * (مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) * يعني آمركم بالإنصاف أن تتأملوا حق التأمل وتتفكروا في أنفسكم هل لهذا الرجل الذي يدعوكم إلى خالقكم وخالق السماوات والأرض هل رأيتم به جنونا
ثم قال * (ما بصاحبكم من جنة) * يعني من جنون
وقال القتبي تأويله أن المشركين لما قالوا إنه ساحر ومجنون وكذاب فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم اعتبروا أمري بواحدة أن تنصحوا لأنفسكم ولا يميل بكم هوى فتقوموا لله في دار يخلو فيها الرجل منكم بصاحبه فيقول لهم هلم فلنتصادق هل رأينا بهذا الرجل جنة أم جربنا عليه كذبا ثم ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه فيتفكروا وينظروا فإن ذلك يدل على أنه نذير
قال وكل من تحير في أمر قد اشتبه عليه واستبهم أخرجه من الحيرة أن يسأل ويناظر فيه ثم يتفكر ويعتبر
89

ثم قال * (إن هو إلا نذير لكم) * أي ما هو إلا مخوف لكم * (بين يدي عذاب شديد) * أي بين يدي القيامة
ثم قال عز وجل * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) * وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كفار مكة أن لا يؤذوا قراباته فكفوا عن ذلك ونزل " قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " [الشورى 23] فكفوا عن ذلك
ثم سمعوا بذكر آلهتهم فقالوا لا تنظرون إليه ينهانا عن إيذاء قرابته وسألناه أن لا يؤذينا في آلهتنا فلا يمتنع فنزل * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) * إن شئتم آذوهم وإن شئتم امتنعتم
* (إن أجري إلا على الله) * فهو الحافظ والناصر " وهو على كل شيء شهيد " بأني نذير وما بي جنون
ثم قال عز وجل * (قل إن ربي يقذف بالحق) * يعني يبين الحق من الباطل ويقال يأمر بالحق ويقال يتكلم بالحق يعني بالوحي * (علام الغيوب) * يعني هو عالم كل غيب
قوله عز وجل * (قل جاء الحق) * يعني ظهر الإسلام * (وما يبدئ الباطل) * يعني لا يقدر الشيطان أن يخلق أحدا * (وما يعيد) * يعني لا يقدر أن يحييه بعد الموت والله تعالى يفعل ذلك
ويقال * (الباطل) * أيضا الصنم
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول * (جاء الحق وزهق الباطل) * * (قل جاء الحق) * " وما يبدي الباطل وما يعيد "
سورة سبأ 50 - 54
قوله عز وجل * (قل) * يا محمد * (إن ضللت فإنما أضل على نفسي) * يعني وزر الضلال على نفسي * (وإن اهتديت) * إلى الحق والهدى * (فبما يوحي إلي ربي) * يعني اهتديت بما يوحي إلي من القرآن * (إنه سميع) * للدعاء * (قريب) * بالإجابة ممن دعاه
وقيل للنابغة حين أسلم أصبوت يعني آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم قال بلى هو غلبني بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل فأردت أن أقول ثلاثة أبيات من الشعر على قافيتها فلما سمعت هذه الآيات فعييت فيها ولم أطق فعلمت أنه ليس من كلام البشر وهي هذه * (قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب) * * (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) * " قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فيما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب "
قوله عز وجل * (ولو ترى إذ فزعوا) * يعني خافوا من العذاب * (فلا فوت) * يعني فلا
90

نجاة لهم منها * (وأخذوا من مكان قريب) *
روي عن الكلبي أنه قال نزلت الآية في قوم يقال لهم السفيانية يخرجون في آخر الزمان عددهم ثلاثون ألف رجل إلى أن يبلغوا أرض الحجاز فافترقوا فرقتين فتقدمت فرقة إلى موضع يقال له بيداء صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فخسف بهم الأرض كلهم إلا واحدا منها ينجو فيحول وجهه إلى خلفه فيرجع إلى الفرقة الأخرى فيخبرهم بما أصابهم يعني ولو ترى يا محمد فزعهم حين صاح بهم جبريل عليه السلام * (فلا فوت) * أي لا يفوت منهم فائت * (وأخذوا من مكان قريب) * يعني خسف بهم بالبيداء بقرب مكة
ويقال يعني يوم القيامة
* (ولو ترى) * يا محمد * (إذ فزعوا) * حين نزل بهم العذاب يوم القيامة * (فلا فوت وأخذوا من مكان قريب) * كما قال * (وبرزت الجحيم) * [النازعات 36]
وقال الحسن * (ولو ترى إذ فزعوا) * من قبورهم يوم القيامة وقال الضحاك يعني يوم بدر
ثم قال عز وجل * (وقالوا آمنا به) * يعني بالعذاب حين رأوه يقول الله تعالى * (وأنى لهم التناوش) * يعني من أين لهم التوبة ويقال من أين لهم الرجفة
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في إحدى الروايتين " التناؤش " بالهمز وقرأ الباقون بغير همز
فمن قرأ بالهمز فهو من التناوش وهو الحركة في إبطاء والمعنى من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم
ومن قرأ بغير همز فهو من التناول ويقال تناول إذا مد يده إلى شيء ليصل إليه وتناوش يده إذا مد يده إلى شي لا يصل إليه
ثم قال * (من مكان بعيد) * يعني من الآخرة إلى الدنيا
وروي عن ابن عباس أنه قال * (من مكان بعيد) * قال سألوا الرد حين لا رد
ثم قال عز وجل * (وقد كفروا به من قبل) * يعني كفروا بالله من قبل الموت ويقال " به " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال بالقرآن * (ويقذفون بالغيب) * يعني يتكلمون بالظن في الدنيا * (من مكان بعيد) * أنه لا جنة ولا نار ولا بعث
ثم قال * (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) * يعني من الرجعة إلى الدنيا ويقال من التوبة
كيف ينالون التوبة في هذا الوقت وقد كفروا به من قبل
ثم قال * (كما فعل بأشياعهم من قبل) * يعني بأهل دينهم الأقدمون الأولون من قبل والأشياع جمع الجمع
يقال شيعة وشيع وأشياع
ثم قال * (إنهم كانوا في شك مريب) * يعني هم في شك مما نزل بهم * (مريب) * يعني إنهم لا يعرفون شكهم
وقال القتبي في قوله * (فلا فوت) * يعني لا مهرب ولا ملجأ وهذا مثل قوله * (فنادوا ولات حين مناص) * [ص 3 أي نادوا حين لا مهرب والله أعلم
91

سورة فاطر مكية وهي أربعون وخمس آيات
سورة فاطر 1 - 2
قوله الله سبحانه وتعالى * (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) * يعني خالق السماوات والأرض
يقال فطر الشيء إذا بدأه قال ابن عباس رضي الله عنه ما كنت أعرف فاطر حتى اختصما لي أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها يعني بدأتها
* (جاعل الملائكة رسلا) * يعني مرسل الملائكة بالرسالة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والكرام الكاتبين عليهم السلام * (أولي أجنحة) * يعني ذوي أجنحة ولفظ * (أولي) * يستعمل في الجماعة ولا يستعمل في الواحد وواحدها ذو
ثم قال * (مثنى وثلاث ورباع) * يعني من الملائكة من له جناحان ومنهم من له ثلاثة أجنحة ومنهم من له أربعة أجنحة
ويقال * (ثلاث) * معدول من ثلاثة ثلاثة يعني ثلاثة ثلاثة
* (ورباع) * معدول من أربعة أربعة يعني أربعة أربعة
ثم قال * (يزيد في الخلق ما يشاء) * يعني يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء
وروي عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته فقال له جبريل إنك لا تطيق ذلك فقال (إني أحب أن تفعل)
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه ثم أفاق وجبريل عليه السلام يسنده واضع إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبحان الله ما كنت أرى شيئا من الخلق هكذا) فقال جبريل فكيف لو رأيت إسرافيل إن له اثني عشر جناحا منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب وأن العرش لعلى كاهله وإنه لينضال بالأحايين لعظمة الله فيعود مثل الوضع يعني عصفورا حتى لا يحمل عرشه إلا عظمته
92

فذلك قوله تعالى * (يزيد في الخلق ما يشاء) * يعني في خلق الملائكة
ويقال * (يزيد في الخلق ما يشاء) * يعني الشعر الحسن والصوت الحسن
ويقال * (يزيد في الخلق ما يشاء) * يعني في الجمال والكمال والدماثة
ثم قال " إن الله على كل شيء قدير " من الزيادة والنقصان وغيره
ثم قال عز وجل * (ما يفتح الله للناس من رحمة) * يعني ما يرسل الله للناس من رزق كقوله * (ابتغاء رحمة من ربك) * [الإسراء 28] ويقال الغيث
ويقال * (من رحمة) * يعني من كل خير * (فلا ممسك لها) * يعني لا يقدر أحد على حبسها * (وما يمسك) * يعني ما يحبس من رزق * (فلا مرسل له من بعده) * يعني فلا معطي أحد بعد الله عز وجل
قال في أول الكلام * (فلا ممسك لها) * بلفظ التأنيث لأنه انصرف إلى اللفظ وهو الرحمة
ثم قال * (فلا مرسل له) * بلفظ التذكير لأنه ينصرف إلى المعنى وهو المطر والرزق ولو كان كلاهما بلفظ التذكير أو كلاهما بلفظ التأنيث لجاز في اللغة
فذكر الأول بلفظ التأنيث لأن الرحمة كانت أقرب إليه وفي الثاني كان أبعد وقد ذكر بلفظ التذكير لجاز حذف ما
ثم قال * (وهو العزيز) * فيما أمسك * (الحكيم) * فيما أرسل
سورة فاطر 3 - 4
قوله عز وجل * (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم) * يعني احفظوا نعمة الله عليكم ثم ذكر النعمة فقال * (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) * يعني النبات والمطر
قرأ حمزة والكسائي * (غير الله) * بكسر الراء وقرأ الباقون بالضم مثل ما في سورة الأعراف
والاستثناء إذا كان بحرف إلا فإن الإعراب يكون على ما بعده
وإذا كان الاستثناء بحرف غير فإن الإعراب يقع على نفس الغير
فمن قرأ بالكسر صار كسرا على البدل
ومن قرأ بالرفع فمعناه هل خالق غير الله لأن " من " مؤكدة ولفظ الآية لفظ الاستفهام والمراد به النفي يعني أنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه ولا يرزقكم أحد سواه
ثم وحد نفسه فقال * (لا إله إلا هو) * يفعل بكم ذلك * (فأنى تؤفكون) * يعني من أين تكذبون وأنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه
ثم قال عز وجل * (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) * كما كذبك قومك وهذا تعزية يعزي بها نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم * (وإلى الله ترجع الأمور) * يعني إليه ترجع عواقب الأمور بالبعث
سورة فاطر 5
93

سورة فاطر 6 - 8
ثم قال عز وجل * (يا أيها الناس) * يعني يا أهل مكة * (إن وعد الله حق) * يعني البعث بعد الموت حق كائن * (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) * يعني حياتكم في الدنيا والدنيا في الأصل هي القربى سميت بهذا لأن حياتهم صارت هذه أقرب إليهم
ويقال هي فعلى من الأدون يعني حياة الأدون * (ولا يغرنكم بالله الغرور) * يعني الباطل وهو الشيطان
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثني أبي قال حدثنا أبو الحسن الفراء الفقيه السمرقندي قال حدثنا أبو بكر الجرجاني الإمام بسمرقند ذكر بإسناده عن العلاء بن زياد
قال رأيت الدنيا في النوم امرأة قبيحة عمشاء عليها من كل زينة فقلت من أنت أعوذ بالله منك فقالت أنا الدنيا فإن سرك أن يعيذك الله مني فأبغض الدراهم يعني لا تمسكها عن النفقة في موضع الحق
ثم قال عز وجل * (إن الشيطان لكم عدو) * يعني حين يأمركم بالكفر ومن عداوته مع أبيكم ترك طاعة الله * (فاتخذوه عدوا) * يعني فعادوه بطاعة الله
ومعناه أطيعوا الله عز وجل لأنك إذا أطعت الله فقد اتخذت الشيطان عدوا * (إنما يدعو حزبه) * يعني شيعته إلى الكفر * (ليكونوا من أصحاب السعير) * يعني من أهل النار
ثم بين مصير من أطاع الشيطان ومصير من عصاه فقال * (الذين كفروا) * يعني جحدوا بوحدانية الله عز وجل * (لهم عذاب شديد) * في الآخرة * (والذين آمنوا
وعملوا الصالحات) * يعني صدقوا بوحدانية الله وعملوا الطاعات واتخذوا الشيطان عدوا * (لهم مغفرة) * في الدنيا لذنوبهم * (وأجر كبير) * يعني ثوابا حسنا في الجنة
قوله عز وجل * (أفمن زين له سوء عمله) * يعني قبيح عمله * (فرآه حسنا) * يعني يظنه حقا
والجواب فيه مضمرا يعني أفمن زين له سوء عمله كمن لم يزين له ذلك وقال الزجاج " أقمن زين له سوء عمله " يعني أبا جهل وأصحابه كمن لم يزين له ذلك وهداه الله تعالى
ثم قال * (فإن الله يضل من يشاء) * عن دينه * (ويهدي من يشاء) * لدينه * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) * قال القتبي هذا من الإضمار
يعني ذهبت نفسك حسرة عليهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات بتركهم الإيمان
وقرئ في الشاذ * (فلا تذهب) * بضم التاء وكسر الهاء
94

* (نفسك) * بنصب السين
من أذهب يذهب يعني لا تقتل نفسك وقراءة العامة * (فلا تذهب نفسك) * بنصب التاء والهاء وضم السين * (إن الله عليم بما يصنعون) * من الخير والشر
سورة فاطر 9 - 11
ثم قال عز وجل * (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا) * أي ترفعه وتهيجه * (فسقناه) * يعني نسوقه * (إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها) * يعني بعد يبسها * (كذلك النشور) * يعني هكذا تحيون بعد الموت يوم القيامة وروي عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن ابن الزبعرى عن عبد الله بن مسعود أنه قال تقوم الساعة على شرار الناس ثم يقوم ملك بالصور فينفخ فيه فلا يبقى خلق في السماوات والأرض إلا مات إلا ما شاء الله ثم يكون بين النفختين ما شاء الله فيرسل الله الماء من السماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت لحومهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الندى
ثم قرأ * (فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور) * ثم ينفخ في الصور
قوله عز وجل * (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) * يعني من طلب العزة بعبادة الأوثان فليتعزز بطاعة الله عز وجل فإن العزة لله جميعا
يقول من يتعزز بإذن الله ويقال معناه من كان يريد أن يعلم لمن تكون العزة فليعلم بأن العزة لله جميعا
ويقال من كان يطلب لنفسه العزة فإن العزة لله جميعا
ثم قال * (إليه يصعد الكلم الطيب) * قال مقاتل يصعد إلى السماء كلمة التوحيد * (والعمل الصالح يرفعه) * يقول التوحيد يرفع العمل الصالح إلى الله تعالى في السماء فيها تقديم
وقال الحسن البصري العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إلى الله عز وجل فإذا كان الكلام الطيب عملا غير صالح يرد القول إلى العمل لأنه أحق من القول
وقال قتادة * (والعمل الصالح يرفعه) * قال الله يرفعه
ويقال العمل الصالح يرفعه لصاحبه
ويقال * (يرفعه) * يعني يعظمه
ويقال * (العمل الصالح يرفعه) * أي يقبل الأعمال بالإخلاص
معناه العمل الخالص الذي يقبله
ثم قال * (والذين يمكرون السيئات) * أي يعملون بالشرك ويقال يعملون بالرياء لا يقبل منهم * (لهم عذاب شديد) * في الآخرة * (ومكر أولئك هو يبور) * يعني شرك أولئك وفسقهم
95

وصنيعهم يهلك صاحبه في الآخرة
يقال بارت السلعة إذا كسدت لأنها إذا كسدت فقد تعرضت للهلاك
ثم قال عز وجل * (والله خلقكم من تراب) * يعني آدم عليه السلام وهو أصل الخلق * (ثم من نطفة) * يعني خلقكم من نطفة " ثم جعلهم أزواجا " يعني أصنافا ذكرا وأنثى
ويقال أصنافا أحمر وأبيض أسود
يعني فاذكروني ووحدوني * (وما تحمل من أنثى) * و " من " صلة في الكلام * (ولا تضع إلا بعلمه) * يعني بمشيئته * (وما يعمر من معمر) * فيطول عمره * (ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) * يعني إلا وكل ذلك في كتاب الله قد بين في اللوح المحفوظ
وروي عن ابن عمر أنه قرأ * (من عمره) * بجزم الميم وهما لغتان مثل نكر ونكر * (ان ذلك على الله يسير) * يعني حفظه على الله هين بغير كتابة
سورة فاطر 12 - 14
ثم قال عز وجل * (وما يستوي البحران) * العذب والمالح * (هذا عذب فرات) * يعني طيب هين شربه ويقال سلس في حلقه حلو في شرابه * (سائغ) * يعني
شهيا شرابه
ويقال يسوغه الشراب * (وهذا ملح أجاج) * يعني الشديد الذي يضرب إلى المرارة * (ومن كل تأكلون لحما طريا) * يعني السمك * (وتستخرجون) * يعني من المالح * (حليه) * وهي اللؤلؤ * (تلبسونها) * يعني تستعملونها وتلبسون نساءكم
وهذا المثل لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار يعني وما يستوي الذين صدقوا والذين كذبوا ومن كل يظهر شيء من الصلاح يعني يلد الكافر المسلم مثل ما ولد للوليد بن المغيرة خالد بن الوليد وأبو جهل عكرمة بن أبي جهل
قوله * (وترى الفلك) * يعني السفن * (مواخر) * يعني تذهب وتجيء * (فيه) * يعني في البحر * (لتبتغوا من فضله) * يعني من رزقه * (ولعلكم تشكرون) * يعني لكي تشكروا رب هذه النعمة
يقال في اللغة مخر يمخر إذا شق الماء
يعني أن السفينة تشق الماء في حال جريها يقال مخرت السفينة إذا جرت وشقت الماء في جريها
ثم قال عز وجل * (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) * وقد ذكرناه * (وسخر الشمس والقمر) * يعني ذلل الشمس والقمر لبني آدم
* (كل يجري لأجل مسمى) * يعني إلى
96

أقصى منازلها في الغروب لأنها تغرب كل ليلة في موضع وهو قوله عز وجل * (فلا أقسم برب المشارق والمغارب) * [المعارج 30] ويقال * (إلى أجل مسمى) * يعني يجريان دائما إلى يوم القيامة * (ذلكم الله ربكم) * يعني هذا الذي فعل الفعل هو ربكم وخالقكم * (له الملك) * فاعرفوا توحيده وادعوه ولا تدعوا غيره * (والذين تدعون من دونه) * يعني الأوثان وما تعبدونهم من دون الله * (ما يملكون من قطمير) * يعني لا يقدرون أن يعطوكم ولا ينفعوكم بمقدار القطمير
والقطمير قشر النواة الأبيض الذي يكون بين النوى والتمر
وقال مجاهد القطمير لفاف النوى
ثم قال * (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم) * يعني ولو كانوا بحال يسمعون أيضا فلا يجيبونكم ولا يكشفون عنكم شيئا * (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) * يعني يتبرؤون من عبادتكم
ويقولون ما كنتم إيانا تعبدون
يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم * (ولا ينبئك مثل خبير) * يعني لا يخبركم من عمل الآخرة مثل الرب تبارك وتعالى
ويقال لا يخبرك أحد مثل الرب بأن هذا الذي ذكر عن الأصنام أنهم يتبرؤون عن عبادتهم
سورة فاطر 15 - 18
ثم قال عز وجل * (يا أيها الناس أنتم الفقراء) * يعني أنتم محتاجون إلى ما عنده
ويقال * (أنتم الفقراء إلى الله) * في رزقه ومغفرته * (والله هو الغني الحميد) * عن عبادتكم * (الحميد) * في سلطانه
وهذا كما قال في آية أخرى * (والله الغني وأنتم الفقراء) * [محمد 38] لأن كل واحد يحتاج إليه ولأن أحدا لا يقدر أن يصلح أمره إلا بالأعوان والأمير ما لم يكن له خدم وأعوان لا يقدر على الإمارة
وكذلك التاجر يحتاج إلى المكارين والله عز وجل غني عن الأعوان وغيره
ثم قال عز وجل * (إن يشأ يذهبكم) * يعني يهلككم ويميتكم * (ويأت بخلق جديد) * أفضل منكم وأطوع لله تعالى * (وما ذلك على الله بعزيز) * يعني شديد
ثم قال عز وجل * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * يعني لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى
ويقال لا تحمل بالطوع ولكن يحمل عليها إذا كان له خصما
ثم قال * (وإن تدع مثقلة إلى حملها) * يعني الذي أثقلته الذنوب والأوزار أن لو دعا
97

أحدا ليحمل عنه بعض أوزاره لا يحمل من وزره شيئا * (ولو كان ذا قربى) * أي وإن كان ذا قرابة لا يحمل من وزره
وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال إن الوالد يتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بني إني كنت لك والدا فيثني عليه خيرا فيقول يا بني قد احتجت إلى مثقال ذرة
وفي رواية أخرى إلى مثقال حبة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى فيقول له ولده ما أيسر ما طلبت ولكن لا أطيق إني أخاف مثل الذي تخوفت
ثم يتعلق بزوجته فيقول لها إني كنت لك زوجا في الدنيا فيثني عليها خيرا ويقول إني أطلب إليك حسنة واحدة لعلي أنجو بها مما ترين فتقول ما أيسر ما طلبت ولكن لا أطيق إني أتخوف مثل الذي تخوفت فذلك قوله " وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى "
ثم قال * (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) * يعني إنما تخوف بالقرآن الذين يخافون ربهم بالغيب
يعني آمنوا بالله وهم يعلمونه وهم في غيب منه * (وأقاموا الصلاة) * يعني يقيمون الصلاة
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينذر المؤمنين والكافرين ولكن الذين يخشون ربهم هم الذين يقبلون الإنذار فكأنه أنذرهم خاصة
ثم قال * (ومن تزكى) * يعني توحد
ويقال يطهر نفسه من الشرك
ويقال من صلح فإنما صلاحه لنفسه يثاب عليه في الآخرة
وقال من يعطي الزكاة فإنما ثوابه لنفسه
* (فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير) * فيجازيهم بعملهم
سورة فاطر 19 - 26
قوله عز وجل * (وما يستوي الأعمى) * يعني الكافر الأعمى عن الهدى * (والبصير) * يعني المؤمن * (ولا الظلمات ولا النور) * يعني الكفر والإيمان * (ولا الظل ولا الحرور) * يعني الجنة والنار * (ولا الحرور) * هو استقرار الحر * (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) * قال القتبي مثل الأعمى والبصير كالكافر والمسلم والظلمات والنور مثل الكفر والإيمان والظل والحرور مثل الجنة والنار * (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) * مثل العقلاء والجهال
ثم قال * (إن الله يسمع من يشاء) * يعني يفقه من يشاء * (وما أنت بمسمع من في القبور) * يعني لا تقدر أن تفقه الأموات وهم الكفار
98

ثم قال * (إن أنت إلا نذير) * يعني ما أنت إلا رسول * (إنا أرسلناك بالحق) * يعني بالقرآن ويقال لبيان الحق * (بشيرا ونذيرا) * وقد ذكرناه * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * يعني وما من أمة فيما مضى إلا فيهم نذير
يعني إلا جاءهم رسول
ثم قال * (وإن يكذبوك) * يا محمد * (فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات) * يعني بالأمر والنهي * (وبالزبر) * يعني بالكتب وبأخبار من كان قبلهم * (وبالكتاب المنير) * يعني المضيء الكتاب هو نعت لما سبق ذكره من البينات والزبر * (ثم أخذت الذين كفروا) * يعني الذين كذبوهم فعاقبتهم * (فكيف كان نكير) * يعني كيف كان إنكاري وتغييري عليهم
سورة فاطر 27 - 28
ثم ذكر خلقه ليعتبروا به ويوحدوه فقال عز وجل * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) * يعني المطر * (فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها) * من الثمار الأحمر والأصفر والحلو والحامض * (ومن الجبال جدد بيض) * يعني خلق من الجبال جددا يعني جماعة الجدة والجدة هي الطريق التي في الجبل والجدد هي الطرائق فترى الطريق من البعد منها بيض وبعضها حمر
وقال القتبي الجدد الخطوط والطرق تكون في الجبال فبعضها بيض وبعضها حمر وبعضها * (غرابيب سود) * وهو جمع غربيب وهو الشديد السواد ويقال أسود غربيب
ثم قال عز وجل * (ومن الناس والدواب) * يعني خلق من الناس والدواب * (والأنعام مختلف ألوانه كذلك) * قال بعضهم إنما يتم الكلام عند قوله * (كذلك) * يعني من الناس والدواب والأنعام * (مختلفا ألوانه) * كذلك كاختلاف الثمرات
ثم استأنف فقال * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * قال بعضهم تم الكلام عند قوله * (مختلف ألوانه) * ثم استأنف فقال * (كذلك إنما يخشى الله) * يعني هكذا يخشى الله من عباده العلماء
يعني لأن العلماء يعلمون خلق الله تعالى ويتفكرون في خلقه ويعملون ثوابه وعقابه فيخشونه ويعلمون بالطاعة طمعا لثوابه ويمتنعون عن المعاصي خشية عقابه
وقال مقاتل أشد الناس خشية أعلمهم بالله تعالى فيها تقديم
وروى سفيان عن بعض المشيخة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل يا رسول الله أينا أعلم فقال (أخشاكم لله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء) قالوا يا رسول الله فأي الأصحاب أفضل قال (الذي إذا ذكرت أعانك وإذا نسيت ذكرك) قالوا فأي الأصحاب شر قال (الذي إذا ذكرت لم يعنك وإذا نسيت لم يذكرك) قالوا فأي الناس شر قال (اللهم اغفر للعلماء
والعالم إذا فسد فسد الناس)
ثم قال * (أن الله عزيز) * في ملكه * (غفور) * لمن تاب
99

سورة فاطر 29 - 30
قوله عز وجل * (إن الذين يتلون كتاب الله) * يعني يقرؤون القرآن ويقال معناه يتبعون كتاب الله تعالى
يقال تلا يتلو إذا تبعه كقوله تعالى * (والقمر إذا تلاها) * [الشمس 2] * (وأقاموا الصلاة) * يعني أتموا الصلوات في مواقيتها " وأنفقوا مما رزقناهم " يعني تصدقوا مما أعطيناهم من الأموال * (سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور) * يعني لن تهلك ولن تخسر ومعناه * (يرجون تجارة) * رابحة وهي الجنة مكان الحياة الدنيا
ثم قال عز وجل * (ليوفيهم أجورهم) * يعني يوفر ثواب أعمالهم * (ويزيدهم من فضله) * يعني من رزقه من الجزاء والثواب في الجنة
ويقال * (من فضله) * يعني من تفضله * (أنه غفور) * لذنوبهم * (شكور) * لأعمالهم اليسيرة
والشكر على ثلاثة أوجه الشكر ممن يكون دونه الطاعة لأمره وترك مخالفته والشكر ممن هو شكله يكون الجزاء والمكافأة والشكر ممن فوقه يكون رضي منه باليسير
سورة فاطر 31 - 32
قوله عز وجل * (والذي أوحينا إليك من الكتاب) * يعني أرسلنا إليك جبريل عليه السلام بالقرآن * (هو الحق) * لا شك فيه * (مصدقا لما بين يديه) * يعني موافقا لما قبله من الكتب * (إن الله بعباده لخبير بصير) * يعني عالم بهم وبأعمالهم
قوله عز وجل * (ثم أورثنا الكتاب) * " ثم " بمعنى العطف يعني وأورثنا الكتاب ويقال " ثم " بمعنى التأخير يعني بعد كتب الأولين
* (ثم أورثنا الكتاب) * ويقال أعطينا القرآن * (الذين اصطفينا من عبادنا) * يعني اخترنا من عبادنا من هذه الأمة
* (فمنهم ظالم لنفسه) * يعني من الناس ظالم لنفسه * (ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) *
روي عن ابن عباس في إحدى الروايتين أنه قال الظالم الكافر والمقتصد المنافق والسابق المؤمن
وروي عنه رواية أخرى أنه قال هؤلاء كلهم من المؤمنين فالسابق الذي أسلم قبل الهجرة والمقتصد الذي أسلم بعد الهجرة قبل فتح مكة والظالم الذي أسلم بعد فتح مكة
وطريق ثالث ما روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (السابق الذي يدخل الجنة
100

بغير حساب والمقتصد الذي يحاسب حسابا يسيرا والظالم الذي يحاسب في طول المحشر)
وطريق رابع ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال سابقنا سابق ومقتصدنا ناجي وظالمنا مغفور له
وطريق خامس ما روى أسد بن رفاعة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال سابقنا أهل الجهاد ومقتصدنا أهل حضرنا يعني أهل الأمصار وهم أهل الجماعات والجمعات وظالمنا أهل بدونا
وطريق سادس ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن هذه الآية فقالت السابق النبي صلى الله عليه وسلم ومن مضى معه والمقتصد مثل أبي بكر ومن مضى معه والظالم فمثلي ومثلكم
وطريق سابع ما روي عن مجاهد قال الظالم هم أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق هم السابقون بالخيرات فكأنه استخرجه من قوله * (فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة) * [الواقعة 8] إلى قوله * (والسابقون السابقون) * [الواقعة 10]
وطريق ثامن ما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال الظالم هم المنافقون والمقتصد هم التابعون بإحسان والسابق هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وطريق تاسع ما روي عن الحسن أيضا أنه قال السابق الذي ترك الدنيا والمقتصد الذي أخذ من الحلال والظالم الذي لا يبالي من أين أخذ
وقيل طريق عاشر السابق الذي رجحت حسناته على سيئاته والمقتصد الذي استوت حسناته مع سيئاته والظالم الذي رجحت سيئاته على حسناته
وقيل طريق حادي عشر السابق الذي سره خير من علانيته والمقتصد الذي سره وعلانيته سواء والظالم الذي علانيته خير من سره
وقيل طريق ثاني عشر السابق الذي تهيأ للصلاة قبل دخول وقتها والمقتصد الذي تهيأ للصلاة بعد دخول وقتها والظالم الذي ينتظر الإقامة
وقيل وطريق ثالث عشر السابق الذي يتوكل على الله ويجعل جميع جهده في طاعة
101

الله عز وجل والمقتصد الذي يطلب قوته ولا يطلب الزيادة والظالم الذي يطلب فوق القوت والكفاف
طريق رابع عشر السابق الذي شغله معاده عن معاشه والمقتصد الذي يشتغل بهما جميعا والظالم الذي شغله معاشه عن معاده
وقيل طريق خامس عشر السابق الذي ينجو بنفسه وينجو غيره بشفاعته والمقتصد الذي يدخل الجنة برحمة الله وفضله والظالم الذي يدخل الجنة بشفاعة الشافعين
وطريق سادس عشر السابق الذي يعطى كتابه بيمينه والمقتصد الذي يعطى كتابه بشماله والظالم الذي يعطى كتابه وراء ظهره
وطريق سابع عشر قيل السابق الذي ركن إلى المولى والمقتصد الذي ركن إلى العقبى والظالم الذي ركن إلى الدنيا
وطريق ثامن عشر ما روي عن يحيى بن معاذ الرازي قال الظالم الذي يضيع العمر في الشهوة والمعصية والمقتصد الذي يحارب فيهما والسابق الذي يجتهد في الزلات ثم قال لأن محاربة الصديقين في الزلات ومحاربة الزاهدين في الشهوات ومحاربة التائبين في الموبقات
وطريق تاسع عشر قال الظالم يطلب الدنيا تمتعا والمقتصد الذي يطلب الدنيا تلذذا والسابق الذي ترك الدنيا تزهدا
وطريق العشرين قال الظالم الذي يطلب ما لم يؤمر بطلبه وهو الرزق والمقتصد الذي يطلب ما أمر به وما لم يؤمر بطلبه
والسابق الذي طلبه مرضاة الله ومحبته
وطريق حادي وعشرين قيل الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر والسابق المجتنب عن الصغائر والكبائر
وطريق ثاني وعشرين قيل السابق الخارج إلى الغزو والرباطات قبل الناس والمقتصد الخارج إليها مع الناس والظالم المتخلف عن الجمعة والجماعة
وطريق ثالث وعشرون قيل السابق الذي يعلم ويعلم الناس ويعمل به والمقتصد الذي يعلم ويعلم ولا يعمل به والظالم الذي لا يعلم ولا يرغب إلى التعلم
وطريق رابع وعشرون السابق الذي هو مشغول في عيب نفسه ولا يطلب عيب غيره
والمقتصد الذي يطلب عيب نفسه ويطمع في عيب غيره
والظالم الذي هو مشغول في عيب غيره ولا يصلح عيب نفسه
وطريق خامس وعشرون ما روي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا " إلى قوله * (الفضل الكبير) * قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هؤلاء كلهم في الجنة
أما السابق بالخيرات فإنه يدخل الجنة بدون حساب وأما المقتصد فإنه يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة وأما الظالم لنفسه فإنه يحاسب حسابا شديدا أو يحبس حبسا طويلا ثم
102

يدخل الجنة فإذا دخلوا الجنة قالوا * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور) *
وقد قيل غير هذا إلا أنه يطول وفيما ذكرنا كفاية لمن عمل به
وأكثر الروايات أن الأصناف الثلاثة كلهم مؤمنون وأول الآية وآخرها دليل على ذلك
فأما أول الآية فقوله عز وجل * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) * يعني أعطينا الكتاب فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاثة
وقال في آخر الآية " جنات عدن يدخلونها " [النحل 31] فأشار إلى الأصناف الثلاثة
وقال بعضهم تأول قول ابن عباس الذي قاله في رواية أبي صالح إن الظالم كافر يعني كفر النعمة ومعناه فمنهم من كفر بهذه النعمة ولم يشكر الله عز وجل عليها ومنهم مقتصد يعني يشكر ويكفر ومنهم سابق يعني يشكر ولا يكفر
وروي عن كعب الأحبار أنه قيل له ما منعك أن تسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال كان أبي مكنني من جميع التوراة إلا ورقات منعني أن أنظر فيها فخرج أبي يوما لحاجة فنظرت فيها فوجدت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته وأنه يجعلهم يوم القيامة ثلاثة أثلاث ثلث يدخلون الجنة وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ويدخلون الجنة وثلث تشفع لهم الملائكة والنبيون عليهم السلام فأسلمت وقلت لعلي أكون من الصنف الأول وإن لم أكن من الصنف الأول لعلي أن أكون من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث
فلما قرأت القرآن وجدتها في القرآن وهو قوله عز وجل * (ثم أورثنا الكتاب الذين) * إلى قوله " جنات عدن يدخلونها " الآية
فإن قيل إيش الحكمة في ذكره الظالم ابتداء وتأخيره ذكر السابق قيل له الحكمة فيه والله أعلم لكيلا يعجب السابق بنفسه ولا ييأس الظالم من رحمة الله عز وجل
ثم قال * (ذلك هو الفضل الكبير) * من الله تعالى يعني الذي أورثهم الكتاب واختارهم هو الفضل الكبير من الله تعالى
سورة فاطر 33 - 35
ثم قال عز وجل * (جنات عدن) * يعني لهم جنات عدن أي دار الإقامة
يقال عدن يعدن إذا قام
قرأ أبو عمرو وابن كثير في إحدى الروايتين " يدخلونها " بضم الياء وفتح الخاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله
وقرأ الباقون " يدخلونها " على معنى أن الفعل لهم * (يحلون فيها من أساور) * يعني يلبسون الحلي من أساور * (من ذهب ولؤلؤا) * قرأ نافع وعاصم
103

* (ولؤلؤا) * بالنصب ومعناه يحلون أساور ولؤلؤا
وقرأ الباقون بالكسر يعني من ذهب ومن لؤلؤ
ثم قال * (ولباسهم فيها حرير) * يعني لباسهم في الجنة من حرير الجنة لا كحرير الدنيا
قوله عز وجل * (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) * يعني حزن الموت وحزن خوف الخاتمة
ويقال هم العيش ويقال هم المرور على الصراط * (إن ربنا لغفور) * يغفر الذنوب * (شكور) * يقبل اليسير من العمل ويعطي الجزيل عز وجل * (الذي أحلنا دار المقامة من فضله) * يعني الحمد لله الذي أنزلنا دار الخلود والمقامة
والمقام بمعنى واحد يعني الإقامة والدوام من فضله يعني بفضله وكرمه * (لا يمسنا فيها نصب) * يعني لا يصيبنا في الجنة تعب * (ولا يمسنا فيها لغوب) * يعني لا يصيبنا فيها من أعباء كما يصيبنا في الدنيا
سورة فاطر 36 - 37
ثم بين حال المشركين في النار فقال عز وجل * (والذين كفروا) * يعني جحدوا بوحدانية الله عز وجل * (لهم نار جهنم لا يقضى عليهم) * الموت
ويقال لا يرسل عليهم ولا ينزل الموت * (فيموتوا) * حتى يستريحوا * (ولا يخفف عنهم من عذابها) * يعني من عذاب جهنم * (كذلك نجزي كل كفور) * يعني هكذا نعاقب كل كافر بالله تعالى
قرأ أبو عمرو * (يجزي) * بالياء وضم الياء ونصب الزاي * (كل كفور) * بضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله
وقرأ الباقون * (نجزي) * بالنون والنصب * (كل كفور) * بنصب اللام ومعنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد يعني كذلك يجزي الله تعالى
ثم أخبر عن حالهم فيها فقال عز وجل * (وهم يصطرخون فيها) * يستغيثون صرخ يصرخ إذا أغاث واستغاث وهو من الأضداد ويستعمل للإغاثة والاستغاثة لأن كل واحد منهما يصلح وهو افتعال من الصراخ
يعني يدعون في النار ويقولون * (ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) * يعني نعمل غير الشرك وغير المعصية
يقول الله تعالى * (أولم نعمركم) * يعني أو لم نعطكم من العمر والمهلة في الدنيا * (ما يتذكر فيه من تذكر) * يعني يتعظ فيه من أراد أن يتعظ
وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى " أو لم نعمركم " يعني أو لم نعطكم من
104

العمر والمهلة في الدنيا ما نتذكر فيه لمن تذكر يعني يتعظ فيه من أراد أن يتعظ
وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى " أو لم نعمركم " قال العمر ستون سنة * (وجاءكم النذير) * يعني الشيب والهرم
وروي أن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام أول من رأى الشيب فقال ما هذا يا رب فقال هذا وقار في الدنيا ونور في الآخرة
فقال رب زدني وقارا
ويقال " أو لم نعمركم " يعني نطول أعماركم و * (ما يتذكر فيه من تذكر) * أي مقدار ما يتعظ فيه من يتعظ
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين سنة) * (وجاءكم النذير) * يعني الرسول * (فذوقوا) * العذاب في النار * (فما للظالمين من نصير) * يعني ما للمشركين من مانع من عذاب الله عز وجل
سورة فاطر 38 - 40
ثم قال عز وجل * (إن الله عالم غيب السماوات والأرض) * يعني غيب ما يكون في السماوات والأرض
يعني يعلم أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه * (إنه عليم بذات الصدور) * يعني عليم بما في قلوبهم ويقال عالم بما في قلوب العباد من الخير والشر
ثم قال عز وجل * (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) * يعني قل لهم يا محمد للكفار الله تعالى جعلكم سكان الأرض من بعد الأمم الخالية * (فمن كفر) * بتوحيد الله عز وجل * (فعليه كفره) * يعني عاقبة كفره وعقوبة كفره * (ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا) * وهو الغضب الشديد الذي يستوجب العقوبة
يعني لا يزدادون في طول أعمارهم إلا غضب الله تعالى عليهم
وقال الزجاج المقت أشد الغضب * (ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا) * يعني غبنا في الآخرة وخسرانا
ثم قال عز وجل * (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله) * يعني تعبدون من دون الله * (أروني ماذا خلقوا من الأرض) * يعني أخبروني أي شيء خلقوا مما في السماوات أو مما في الأرض من الخلق
وقال القتبي " من " بمعنى في يعني أروني ماذا خلقوا في الأرض يعني أي شيء خلقوا في الأرض كما خلق الله عز وجل * (أم لهم شرك في السماوات) *
105

يعني عون على خلق السماوات والأرض ويقال نصيب في السماوات اللفظ لفظ الاستفهام والشك والمراد به النفي يعني ليس لهم شرك في السماوات
ثم قال * (أم آتيناهم كتابا) * يعني أعطيناهم كتابا اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به النفي يعني ليس لهم كتاب فيه حجة على كفرهم * (فهم على بينة منه) * يعني ليسوا على بيان مما يقولون
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم في رواية حفص * (على بينة) * بغير ألف وقرأ الباقون * (بينات) * بلفظ الجماعة ومعناهما واحد لأن الواحد ينبئ عن الجماعة
ثم قال * (بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا) * يعني ما يعد الظالمون بعضهم بعضا
يعني الشياطين للكافرين من الشفاعة لمعبودهم * (إلا غرورا) * يعني باطلا
سورة فاطر 41 - 43
قوله عز وجل * (إن الله يمسك السماوات والأرض) * يعني يحفظ السماوات والأرض * (أن تزولا) * يعني لئلا تزولا عن مكانهما * (ولئن زالتا) * يعني يوم القيامة * (إن أمسكهما من أحد من بعده) * يعني لا يقدر أحد أن يمسكهما
ويقال * (ولئن زالتا) * يعني إن زالتا في الحال وهما لا يزولان * (إنه كان حليما) * عن قول الكفار حيث قالوا لله ولد فكادت السماوات والأرض أن تزولا فأمسكهما بحلمه فلم يزولا * (غفورا) * يعني متجاوزا عنهم إن تابوا
ويقال * (غفورا) * حيث لم يعجل عليهم بالعقوبة وأمسك السماوات والأرض أن تزولا
وقوله عز وجل * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) * يعني كفار مكة كانوا يعيرون اليهود والنصارى بتكذيبهم أنبياءهم وقالوا لو أرسل الله عز وجل إلينا رسولا لكنا أهدى من إحدى الأمم وكانوا يحلفون على ذلك فذلك قوله * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) * فكل من حلف بالله فهو جهد اليمين * (لئن جاءهم نذير) * يعني رسول * (ليكونن أهدى من إحدى الأمم) * يعني أصوب دينا من اليهود والنصارى * (فلما جاءهم نذير) * وهو محمد صلى الله عليه وسلم * (ما زادهم إلا نفورا) * يعني ما زادهم الرسول إلا تباعدا عن الهدى
قوله عز وجل * (استكبارا في الأرض) * يعني تكبرا في الأرض * (استكبارا) * مفعول المعنى زادهم الرسول تكبرا وهذا كقوله * (ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) * [الإسراء 82] وكان القرآن سببا لخسرانهم فأضاف إليه
106

ثم قال " ومكر السيئ " يقول قول الشرك واجتماعهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم
قرأ حمزة " ومكر السيئ " بجزم الياء وقرأ الباقون بالكسر لتبين الحروف وجزم حمزة لكثرة الحركات
ثم قال " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " يعني عقوبة المكر إلا بأهله يعني لا يدور وينزل المكر السيئ إلا بأهله
يعني عقوبة المكر ترجع إليهم
ثم قال * (فهل ينظرون) * يعني ما ينتظرون * (إلا سنة الأولين) * يعني عقوبة الأمم الخالية أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأولين * (فلن تجد لسنة الله تبديلا) * يعني لصنعة الله تعالى ويقال لملة الله ويقال لسنة الله في العذاب * (تبديلا) * يعني لا يقدر أحد أن يبدله * (ولن تجد لسنة الله تحويلا) * يعني تغييرا يعني لا يقدر أحد أن يغير فعل الله تعالى
سورة فاطر 44 - 45
ثم وعظهم ليعتبروا فقال عز وجل * (أو لم يسيروا في الأرض) * يعني أو لم يسافروا * (فينظروا) * فيعتبروا * (كيف كان عاقبة) * يعني آخر أمر * (الذين) * كفروا * (من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة) * يعني منعة " وما كان الله ليعجزه من شيء " يعني يفوته من شيء ويقال لا يقدر أحد أن يهرب من عذابه * (في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما) * بخلقه بأنه لا يفوت منه أحد * (قديرا) * يعني قادرا عليهم بالعقوبة
قوله عز وجل * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا) * يعني لو عاقبهم بذنوبهم * (ما ترك على ظهرها) * يعني على ظهر الأرض * (من دابة) * يعني لهلكت الدواب من قحط المطر
قال قتادة * (ما ترك على ظهرها) * من دابة إلا أهلكهم كما أهلك من كان في زمان نوح عليه السلام ويقال * (من دابة) * يعني من الجن والإنس فيعاقبهم بذنوبهم فيهلكهم
وقال مجاهد * (ما ترك على ظهرها من دابة) * يعني من هوام الأرض من العقارب ومن الخنافس
وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال كاد الجعل أن يعذب في حجره بذنب ابن آدم
ثم قرأ * (ولو يؤاخذ الله الناس) * الآية
والعرب تكني عن الشيء إذا كان مفهوما كما كنى ها هنا عن الأرض كقوله * (ما ترك على ظهرها) * وإن لم يسبق ذكر الأرض
ثم قال * (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) * يعني إلى الميعاد الذي وعدهم الله تعالى
107

ويقال إلى الوقت الذي وقت لهم في اللوح المحفوظ * (فإذا جاء أجلهم) * يعني إلى انقضاء حياتهم
ويقال هو البعث
ثم قال * (فإن الله كان بعباده بصيرا) * يعني عالما بهم وبأعمالهم
روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال لما طعن عمر رضي الله عنه قال كعب لو دعا الله عمر لآخر في أجله
فقال الناس سبحان الله أليس قد قال الله تعالى * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * [الأعراف 34] فقال كعب وقد قال * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير) * [فاطر 11] قال الزهري فيرون أن ذلك ما لم يحضر الأجل فإذا حضر لم يؤخر وليس أحد إلا وعمره مكتوب في اللوح المحفوظ والله سبحانه وتعالى أعلم صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
108

سورة يس كلها مكية وهي ثمانون وثلاث آيات
سورة يس 1 - 4
قول الله سبحانه وتعالى * (يس) * قرأ حمزة بين الكسر والفتح وقرأ الكسائي بالإمالة وقرأ الباقون بالفتح وقرأ ابن عامر والكسائي * (يس والقرآن) * مدغم النون وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة بإظهار النون وكل ذلك جائز في اللغة
وقرئ في الشاذ * (ياسين) * بنصب النون ومعناه أتل ياسين لأن يس اسم السورة وقراءة العامة بالتسكين لأنها حروف هجاء ولا تحتمل الإعراب مثل قوله تعالى * (ألم) *
وروي عن ابن عباس في تفسير قوله * (يس) * يعني يا إنسان بلغة طيئ وهكذا قال مقاتل عن قتادة والضحاك
وروي عن محمد ابن الحنفية أنه قال * (يس) * يعني يا محمد
وروى معمر عن قتادة قال * (يس) * اسم من أسماء القرآن ويقال افتتاح السورة
وقال مجاهد هذه فواتح السور يفتتح بها كلام رب العاليمن
وقال شهر بن حوشب قال كعب * (يس) * قسم أقسم الله تعالى به قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام يا محمد * (إنك لمن المرسلين) * وقال ابن عباس في قوله * (والقرآن الحكيم) * أي أحكم حلاله وحرامه وأمره ونهيه
ويقال حكيم يعني محكم من التناقض والعيب
ويقال * (الحكيم) * أي الحاكم كالعليم يعني العالم يعني القرآن حاكم على جميع الكتب التي أنزلها الله تعالى من قبل * (إنك لمن المرسلين) * فهذا جواب القسم ومعناه يا إنسان * (والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين) * يعني رسولا كسائر المرسلين جوابا لقولهم لست مرسلا * (على صراط مستقيم) * يعني أي على طريق الإسلام
سورة يس 5 - 10
109

ثم قال عز وجل * (تنزيل العزيز الرحيم) * قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في إحدى الروايتين * (تنزيل) * بضم اللام ومعناه هذا القرآن تنزيل أو هو تنزيل العزيز الرحيم وقرأ الباقون * (تنزيل) * بالنصب ومعناه نزله تنزيلا فصار نصبا بالمصدر
" لتنذر " يعني لتخوف بالقرآن * (قوما ما أنذر آباؤهم) * يعني لم ينذر آباؤهم ولم يرسل إليهم رسولا منهم * (فهم غافلون) * عن ذلك ويقال * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) * يعني كما أنذر آباؤهم الأولون * (فهم غافلون) * عن ذلك يعني عما أنذر آباؤهم
ثم قال عز وجل * (لقد حق القول) * أي وجب القول بالعذاب * (على أكثرهم) * أي على الكفار
ويقال * (لقد حق القول) * وهو قوله * (لأملأن جهنم) * [الأعراف 18] ويقال * (القول) * كناية عن العذاب أي وجب عليهم العذاب * (فهم لا يؤمنون) * يعني لا يصدقون بالقرآن
* (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) * قال مقاتل وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليدمغنه بحجر فأتاه وهو يصلي فرفع الحجر ليدمغه فيبست يده إلى عنقه والتزق الحجر بيده ورجع إلى أصحابه فخلصوا الحجر من يده
ورجل آخر من بني المغيرة أتاه ليقتله فطمس الله على بصره فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم وسمع قوله فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فذلك قوله * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) * * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا) * وذكر في رواية الكلبي نحو هذا
وقال بعضهم * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) * أي جعلنا أيديهم ممسكة عن الخيرات مجازاة لكفرهم
* (وجعلنا من بين أيديهم سدا) * أي حائلا لا يهتدون إلى الإسلام ولا يبصرون الهدى وقال بعضهم * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) * يعني أيديهم
ولم يذكر في الآية اليد وفيها دليل لأن الغل لا يكون إلا باليد إلى العنق فلما ذكر العنق فكأنما ذكر اليد
وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قرآ " إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا "
وقرأ بعضهم * (في أيديهم) *
وكل ذلك يرجع إلى معنى واحد لأنه لا يجوز أن يكون الغل بأحدهما دون الآخر كقوله * (سرابيل تقيكم الحر) * [النحل 81] ولم يذكر البرد لأن في الكلام دليلا عليه
ثم قال * (فهي إلى الأذقان) * أي تلك الأغلال إلى الأذقان * (فهم مقمحون) * أي الحنك الأيسر * (مقمحون) * أي رافع الرأس إلى السماء غاض الطرف لا يبصر موضع قدميه وقال قتادة أي مغلولين من كل خير
ثم قال عز وجل * (وجعلنا من بين أيديهم سدا) * أي ظلمة * (ومن خلفهم سدا) * أي ظلمة * (فأغشيناهم) * بالظلمة * (فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم) *
يعني خوفتهم اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التوبيخ * (أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * يعني سواء خوفتهم أم لم تخوفهم * (فهم لا يؤمنون) * يعني لا يصدقون
وإنما نزلت الآية في شأن الذين ماتوا على
110

كفرهم أو قتلوا على كفرهم
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص * (سدا) * بنصب السين في كلاهما وقرأ الباقون بالضم
وقال أبو عبيدة قراءتنا بالضم لأنهما من فعل الله تعالى وليس من فعل بني آدم
وقال القتبي المقمح الذي يرفع رأسه ويغض بصره يقال بعير قامح إذا روي من الماء فقمحت عيناه وقال والسد الجبل * (فأغشيناهم) * قال أعمينا أبصارهم عن الهدى
سورة يس 11 - 12
ثم قال عز وجل * (إنما تنذر من اتبع الذكر) * يعني تخوف بالقرآن من اتبع الذكر يعني من قبل الموعظة وسمع القرآن * (وخشي الرحمن بالغيب) * يعني أطاعه في الغيب * (فبشره بمغفرة) * في الدنيا * (وأجر كريم) * في الآخرة
ثم قال عز وجل * (إنا نحن نحيي الموتى) * يعني نبعثهم في الآخرة * (ونكتب ما قدموا) * يعني نحفظ ما اعملوا وما أسلفوا من أعمالهم
ويقال * (ونكتب ما قدموا) * يعني تكتب أعمالهم الكرام الكاتبون ما عملوا من خير أو شر * (وآثارهم) * يعني ما استنوا من سنة خيرا أو شرا عملوه واقتدى بهم من بعدهم فلهم مثل أجورهم أو عليهم مثل أوزارهم من غير أن ينقص منه شيئا وهذا كقوله عز وجل " ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " [القيامة 14] وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من سن سنة حسنة) إلى آخره وقال مجاهد * (وآثارهم) * يعني خطاهم
وروى مسروق أنه قال ما خطا عبد خطوة إلا كتبت له بها حسنة أو سيئة
وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال إن بني سلمة ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم (يا بني سلمة دياركم فإنما تكتب آثاركم)
ثم قال " وكل شيء أحصيناه " أي حفظناه وبيناه * (في إمام مبين) * يعني في اللوح المحفوظ
سورة يس 13 - 14
قوله عز وجل * (واضرب لهم مثلا) * أي وصف لهم شبها * (أصحاب القرية) * أهل القرية
111

وهي أنطاكية * (إذ جاءها المرسلون) * يعني رسل عيسى عليهم السلام * (إذ أرسلنا إليهم اثنين) * قال مقاتل هما تومان وطالوس * (فكذبوهما فعززنا بثالث) * يعني قويناهما بثالث وهو شمعون رضي الله عنه وقرأ عاصم في رواية أبي بكر * (فعززنا) * بالتخفيف ومعناهما غلبنا
نقول عزه يعزه إذا غلبه ومنه قوله تعالى * (وعزني في الخطاب) * [ص 23] يعني غلبني في القول وقرأ الباقون * (فعززنا) * بالتشديد ومعناه قوينا وشددنا الرسالة برسول ثالث
وذلك أن عيسى ابن مريم عليهما السلام بعث رسولين إلى أنطاكية وإنما كان إرساله بإذن الله عز وجل فأضاف إليه حيث قال * (إذ أرسلنا إليهم اثنين) * ثم بعث بعد ذلك شمعون
وروي في بعض الروايات أن عيسى عليه السلام أوصى إلى الحواريين أن يتفرقوا في البلدان ثم رفع عيسى إلى السماء وكان مجيء الرسل بعدما رفع عيسى
وفي بعض الروايات أنه أرسل الرسل ثم رفع
وكان للرسل من المعجزة ما للأنبياء عليهم السلام بدعاء عيسى عليه السلام فلما جاء الرسولان الأولان ودخلا أنطاكية وجعلا يناديان فيها بالإيمان بالرحمن يدعوان إلى الإيمان بالله عز وجل ويزجران أهلها عن عبادة الأصنام والشيطان فأخذوهما شرط الملك وأتوا بهما إلى الملك
فلما دخلا على الملك قالا إن الأوثان التي تعبدون ليست بشيء وإن إلهكم الله الذي في السماء وأن من مات منكم صار إلى النار
فغضب الملك وجلدهما وسجنهما ثم حضر شمعون ودخل أنطاكية وجاء إلى السجن فقال للسجان ائذن لي حتى أدخل السجن فإني أريد أن أدفع إلى كل واحد فهما كسرة خبز
فأذن له فدخل وجعل يعطي لكل واحد كسرة خبز حتى انتهى إلى صاحبيه فقال لهما إني أريد أن آتي الملك وأطلب فكاكما حتى أخلصكما فإنكما لم تأتيا الأمر من قبل وجهه ألم تعلما أنكما لا تطاعان إلا بالرفق واللطف وأن مثلكما مثل امرأة لم تلد زمانا من دهرها ثم ولدت غلاما فأسرعت لشبابه فأطعمته الخبز قبل أوانه فغض بلقمة فمات فكذلك دعوتكما هذا الملك قبل أوان الدعاء فأصابكما البلاء
ثم انطلق شمعون وتركهما فقعد حتى إذا دخلوا بيت الأصنام دخل في صلاتهم فقام بين يدي تلك الأصنام يصلي ويتضرع ويسجد لله تعالى ولا يشكون أنه على ملتهم وأنه إنما يدعو آلهتهم
ففعل ذلك أياما فذكروا ذلك للملك فدعاه وكلمه وقال له من أين أنت فقال أنا رجل من بني إسرائيل وقد انقرضوا وكنت بقيتهم وجئت إلى أصحابك آنس بكم وأسكن إليكم
فسأله الملك عن أشياء فوجده حسن الرأي فلبث فيهم ما شاء الله
فلما رأى أمره قد استقام قال يا أيها الملك قد بلغني أنك سجنت رجلين منذ زمان يدعوانك إلى غير إلهك فهل لك أن تدعوهما فأسمع كلاهما وأخاصمهما عنك فقال الملك نعم
فدعاهما وأقيما بين يديه فقال لهما شمعون أخبراني عن إلهكما فقالا إنه يبرئ الأكمه والأبرص فدعي برجل ولد أعمى فدعوا الله تعالى فأبصر الأعمى
قال شمعون فأنا أفعل مثل ذلك فأتي بآخر فدعا شمعون رضي الله عنه فبرئ فقال لهما شمعون لا فضل لكما علي بهذا
112

ثم أتي برجل أبرص فدعا شمعون فبرئ وفعل شمعون بآخر مثل ذلك
فقال لهما شمعون فهل عندكما شيء غير هذا فقالا نعم إن ربنا يحيي الميت
فقال شمعون أنا لا أقدر على ذلك ثم قال للملك هل لك أن تأتي بالصنم فلعله يحيي الميت فيكون لك الفضل عليهما ولإلاهك فقال الملك إنك تعلم أنه لا يسمع ولا يبصر فكيف يحيي الموتى ثم قال له شمعون سلهما هل يستطيعان أن يفعلا مثل ما قالا فقال الملك عندما ميت قد مات منذ سبعة أيام وكان لأبيه ضيعة قد خرج إليها وأهله ينتظرون قدومه واستأذنوا في دفنه فأمرهم أن يؤخروه حتى يحضر أبوه فأمرهم بإحضار ذلك الميت
فلم يزالا يدعوان الله تعالى وشمعون يعينهما بالدعاء في نفسه حتى أحياه الله تعالى
فقال شمعون أنا أشهد أنهما صادقان وأن إلههما حق
فاجتمع أهل المصر وقالوا إن كلمتهم كانت واحدة فرجموهم بالحجارة وجاء أب الغلام فأسلم وقتل أب الغلام أيضا وهو حبيب النجار
ثم إن الله عز وجل بعث جبريل عليه السلام فصاح صيحة فماتوا كلهم فذلك قوله تعالى " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذوبهما فعززنا بثالث فقالوا " يعني هؤلاء الثلاثة * (إنا إليكم مرسلون) * وأروهم العلامات
سورة يس 15 - 19
قوله عز وجل * (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) * يعني آدميا مثلنا " وما أنزل الرحمن من شيء " يعني لم يرسل الرسل من الآدميين * (إن أنتم إلا تكذبون) * بأنكم رسل الله تعالى
يعني أرسلكم عيسى بأمر الله تعالى فأنكروا ذلك * (قالوا ربنا يعلم) * يعني الرسل قالوا * (ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) * يعني أرسلنا عيسى عليه السلام بأمر الله تعالى * (وما علينا إلا البلاغ المبين) *
قوله عز وجل * (قالوا إنا تطيرنا بكم) * يعني قال أهل أنطاكية إنا تشاءمنا بكم وهذا الذي يصيبنا من شؤمكم وهو قحط المطر * (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) * يعني لنقتلنكم * (وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم) * يعني شؤمكم معكم وبأعمالكم الخبيثة
ويقال إن الذي يصيبكم كان مكتوبا في أعناقكم * (أئن ذكرتم) * يعني إن وعظتم بالله
قرأ نافع وأبو عمرو " آين ذكرتم " بهمزة واحدة ممدودة وقرأ الباقون بهمزتين
وقرأ زر بن حبيش " أن ذكرتم " بهمزة واحدة مع الفتح يعني لأنكم وعظتم فلم تتعظوا
ومن قرأ بالاستفهام فمعناه إن وعظتم تطيرتم هذا جوابا لقولهم * (إنا تطيرنا بكم) * ويقال معناه * (أئن ذكرتم) *
يعني حين وعظتم بالله تعالى تشاءمتم بنا
113

ثم قال * (بل أنتم قوم مسرفون) * يعني مشركون
سورة يس 20 - 27
قوله عز وجل * (وجاء من أقصى المدينة) * يعني من وسط المدينة وهو حبيب النجار * (رجل يسعى) * يعني يسعى في مشيه
وقال بعضهم هو الذي عاش ابنه بعد الموت بدعاء الرسل فجاء وأسلم
وقال بعضهم كان ابنه مريضا فبرئ بدعوة الرسل فصدق بهم
فلما بلغه أن القوم أرادوا قتل الرسل جاء إليهم ليمنع الناس عن قتلهم
وقال قتادة كان في غار يدعو ربه فلما بلغه مجيء الرسل أتاهم * (قال يا قوم اتبعوا المرسلين) * يعني دين المرسلين ثم قال للرسل هل تسألون على هذا أجرا فقالوا لا
فقال القوم * (اتبعوا من لا يسألكم أجرا) * يعني على الإيمان * (وهم مهتدون) * يدعوكم إلى التوحيد
فقال له قومه تبرأت عن ديننا واتبعت دين غيرنا
قوله عز وجل * (وما لي لا أعبد الذي فطرني) * يعني خلقني
قرأ حمزة وابن عامر في إحدى الروايتين " وما لي " بسكون الياء وقرأ الباقون بالفتح " ومالي " وهما لغتان وكلاهما جائز
ثم قال * (وإليه ترجعون) * يعني تصيرون إليه بعد الموت وهذا كقوله * (ولله ميراث السماوات والأرض) * [آل عمران 180] فقالوا له ارجع إلى ديننا
فقال حبيب * (أأتخذ من دونه آلهة) * يعني أعبد من دونه أصناما * (إن يردن الرحمن بضر) * يعني ببلاء وشدة يعني إذا فعلت ذلك * (لا تغن عني شفاعتهم شيئا) * يعني لا تقدر الآلهة أن يشفعوا لي * (ولا ينقذون) * يعني لا يدفعون عني الضرر * (إني) * * (لفي ضلال مبين) * يعني إذا فعلت ذلك لفي خسران بين * (إني آمنت بربكم فاسمعون) * يعني فاشهدوني وأعينوني بقول لا إله إلا الله
وقال ابن عباس ألقي في البئر وهو الرس كما قال * (وأصحاب الرس) * [ق 12] وقال قتادة قتلوه بالحجارة وهو يقول رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون
وقال مقاتل أخذوه ووطوؤه تحت أقدامهم حتى خرجت أمعاؤه ثم ألقي في البئر وقتلوا الرسل الثلاثة
فلما ذهب بروح حبيب النجار إلى الجنة * (قيل) * له * (ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون) * وذلك حين دخلها وعاين ما فيها من النعيم تمنى أن يسلم قومه فقال " يا ليت
114

قومي يعلمون بما غفر لي ربي) بالذي غفر لي ربي
ويقال بمغفرتي
ويقال بماذا غفر لي ربي فلو علموا لآمنوا بالرسل
وقال * (وجعلني من المكرمين) * أي الموحدين في الجنة
فنصح لهم في حياته وبعد وفاته
سورة يس 28 - 32
يقول الله تعالى * (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء) * يعني من بعد حبيب النجار * (من جند) * من السماء يعني الملائكة * (وما كنا منزلين) * يعني لم نبعث إليهم أحدا * (إن كانت إلا صيحة واحدة) * يعني ما كانت إلا صيحة جبريل عليه السلام * (فإذا هم خامدون) * يعني ميتين لا يتحركون
قوله عز وجل * (يا حسرة على العباد) * يعني يا ندامة على العباد في الآخرة يعني يقولون يا حسرتنا على ما فعلنا بالأنبياء عليهم السلام * (ما يأتيهم من رسول) * في الدنيا " إلا كانوا به يستهزئون "
ثم خوف المشركين بمثل عذاب الأمم الخالية ليعتبروا فقال * (ألم يروا كم أهلكنا) * يعني ألم يعلموا ويقال ألم يخبروا كم أهلكنا * (قبلهم من القرون) * يعني كم عاقبنا من القرون الماضية * (أنهم إليهم لا يرجعون) * إلى الدنيا
قوله عز وجل * (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) * قرأ عاصم وحمزة وابن عامر بتشديد الميم وقرأ الباقون بالتخفيف
فمن قرأ بالتشديد فمعناه وما كل إلا جميع ومن قرأ بالتخفيف فما زائدة مؤكدة والمعنى " وإن كل لجميع لدينا محضرون "
يعني يوم القيامة محضرون عندنا
سورة يس 33 - 35
ثم وعظهم كي يعتبروا من صنعه فيعرفوا توحيده فقال تعالى * (وآية لهم) * يعني علامة وحدانيته * (الأرض الميتة أحييناها) * يعني الأرض اليابسة أحييناها بالمطر لتنبت * (وأخرجنا منها حبا) * يعني الحبوب كلها * (فمنه يأكلون وجعلنا فيها) * يعني وخلقنا في
115

الأرض * (جنات) * يعني البساتين * (من نخيل وأعناب) * وهي والكروم * (وفجرنا فيها من العيون) * يعني أجرينا في الأرض الأنهار تخرج من العيون * (ليأكلوا من ثمره) * يعني من الثمرات * (وما عملته أيديهم) * يعني لم تعمل أيديهم
ويقال والذي عملت أيديهم مما يزرعون * (أفلا يشكرون) * رب هذه النعم فيوحدوه
وقرأ حمزة والكسائي * (ثمرة) * بالضم وقرأ الباقون بالنصب والثمر بالنصب جماعة الثمرة والثمرات جمع الجمع وهو الثمر مثل كتاب وكتب
والثمر بالضم جمع الثمرات
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر * (وما عملت) * بغير هاء وقرأ الباقون بالهاء ومعناهما واحد
ثم قال * (أفلا يشكرون) * اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الأمر يعني اشكروا رب هذه النعم ووحدوه
سورة يس 36 - 40
ثم قال عز وجل * (سبحان الذي خلق الأزواج كلها) * يعني تنزيها لله عز وجل الذي خلق الأصناف كلها * (مما تنبت الأرض) * يعني ألوانا من النبات والثمار ففي كل شيء خلق الله تعالى دليل على وحدانيته تعالى وربوبيته
ثم قال * (ومن أنفسهم) * يعني خلق من جنسهم أصنافا فالذكر والأنثى وألوانا مختلفة * (ومما لا يعلمون) * يعني وخلق من الخلق ما لا يعلمون وهذا كقوله * (ويخلق ما لا تعلمون) * [النحل 8]
ثم ذكر لهم دلالة أخرى ليعتبروا بها فقال عز وجل * (وآية لهم الليل) * يعني علامة وحدانيته الليل * (نسلخ منه النهار) * يعني نخرج ونميز منه النهار * (فإذا هم مظلمون) * يعني داخلون في الظلمة ويقال يبقون في الظلمة ويقال إن الذي خلق الدنيا مظلمة هو الله تعالى
ثم قال * (والشمس) * سراجا فإذا طلعت الشمس صارت الدنيا مضيئة وإذا غربت الشمس بقيت الظلمة كما كانت وهو قوله تعالى * (نسلخ منه النهار) * يعني ننزع الضوء منه * (فإذا هم مظلمون) * يعني يبقون في الظلمة
ويقال " نسلخ الليل "
يعني نخرج منه النهار إخراجا لا يبقى منه شيء يعني من ضوء النهار كما نسلخ النهار من الليل فكذلك نسلخ الليل من النهار
فكأنه يقول الليل نسلخ منه النهار والنهار نسلخ منه الليل فاكتفى بذكر
116

أحدهما لأن في الكلام دليلا وقد ذكر في آية أخرى قال " يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل " [الزمر 5]
ثم قال عز وجل * (والشمس تجري لمستقر لها) * قال مقاتل يعني لوقت لها
وقال الكلبي تسير في منازلها
وقال القتبي * (والشمس تجري لمستقر لها) * ومستقرها أقصى منازلها في الغروب وذلك لأنها لا تزال تتقدم في كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزها
وطريق آخر ما روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم عند غروب الشمس فقال (يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس) قلت الله ورسوله أعلم
قال (فإنها تغرب وتذهب حتى تسجد تحت العرش وتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها حتى تستشفع وتطلب فإذا طال عليها قيل لها اطلعي مكانك فذلك قوله * (والشمس تجري لمستقر لها) * قال مستقرها تحت العرش)
ثم قال * (ذلك تقدير العزيز العليم) * * (العزيز) * بالنقمة * (العليم) * بما قدره من أمرها وخلقها
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان يقرأ " والشمس تجري لا مستقر لها " يعني لا تقف ولا تستقر ولكنها جارية أبدا
ثم قال عز وجل * (والقمر قدرناه منازل) * قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو * (والقمر) * بالضم وقرأ الباقون بنصب الراء
فمن قرأ بالضم فله وجهان
أحدهما أن يكون على الابتداء والثاني معناه * (وآية لهم) * القمر عطف على قوله * (وآية لهم الليل) *
ومن قرأ بالنصب فمعناه وقدرنا القمر
وقال مقاتل في قوله * (والقمر قدرناه منازل) * يعني قدرنا منازل في السماء يبدو رقيقا ثم يستوي ثم ينقص في آخر الشهر
وقال الكلبي * (قدرناه منازل) * أي قدرناه منازل بالليل ينزل كل ليلة في منزل ويصعد في منزل حتى ينتهي إلى مستقره الذي لا يجاوزه ثم يعود إلى أدنى منازله
ويقال إن القمر يدور في منازله في شهر واحد مثل ما تدور الشمس في منازلها في سنة واحدة
قال مقاتل وذلك أن القمر عرضه ثمانون فرسخا مستديرة والشمس هكذا وكان ضوؤهما واحدا فأخذ تسعة وتسعون جزءا من القمر فألحقت بالشمس
وروي عن ابن عباس أنه قال القمر أربعون فرسخا في أربعين فرسخا والشمس ستون فرسخا في ستين فرسخا
وقال بعضهم القمر والشمس عرض كل واحد منهما مثل الدنيا كلها
ثم قال تعالى * (حتى عاد كالعرجون القديم) * يعني صار كالعذق اليابس المتقوس
117

الذي حال عليه الحول ويقال للقمر ثمانية وعشرون منزلا فإذا صار في آخر منازله دق حتى يعود كالعذق اليابس
والعرجون إذا يبس دق واستقوس فشبه القمر به
يعني صار في عين الناظر كالعرجون وإن كان هو في الحقيقة عظيم بنفسه إلا أنه في عين الناظر يراه دقيقا
ثم قال عز وجل * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) * يعني أن تطلع في سلطان القمر
وقال عكرمة كل واحد منهما سلطان للشمس سلطان بالنهار وللقمر سلطان بالليل فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل * (ولا الليل سابق النهار) * يعني لا يدرك سواد الليل ضوء النهار فيغلبه على ضوئه * (وكل في فلك يسبحون) * يعني في دوران يجرون ويدورون ويقال * (يسبحون) * يعني يسيرون فيه بالانبساط وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه
وقال بعضهم السماء كالموج المكفوف والشمس والقمر والكواكب الدوارة يسبحون فيها وقال بعضهم الأفلاك كثيرة مختلفة في السير يقطع القمر في ثمانية وعشرين يوما والشمس تقطع في سنة
وقال بعضهم الفلك واحد وجريهن مختلف والفلك في اللغة كل ما يدور
سورة يس 41 - 44
ثم قال عز وجل * (وآية لهم) * يعني علامة لكفار مكة على معرفة وحدانية الله تعالى * (أنا حملنا ذريتهم) * آباءهم واسم الذرية يقع على الآباء والنسوة والصبيان وأصله الخلق كقوله عز وجل * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا) * [الأعراف 179] يعني خلقنا
* (ذريتهم) * خاصة
ثم قال عز وجل * (في الفلك المشحون) * يعني في سفينة نوح عليه السلام الموقرة المملوءة
يعني حملنا ذريتهم في أصلاب آبائهم
قرأ نافع وابن عامر " ذرياتهم " بلفظ الجماعة وقرأ الباقون * (ذريتهم) * وأراد به الجنس
ثم قال عز وجل * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * يعني من مثل سفينة نوح عليه السلام ما يركبون في البحر
وقال قتادة يعني الإبل يركب عليها في البر كما تركب السفن في البحر
وقال السدي * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) *
فقال هذه السفن الصغار يعني الزوارق وقال عبد الله بن سلام هي الإبل
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الثقة بإسناده عن أبي صالح قال قال لي ابن عباس ما تقول في قوله * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * قلت هي السفن قال خذ مني إنما هي الإبل
فلقيني بعد ذلك فقال إني ما رأيتك إلا وقد غلبتني فيها هي كما قلت ألا ترى أنه يقول * (وإن نشأ نغرقهم) * يعني إن نشأ نغرقهم في الماء * (فلا صريخ لهم) * يعني لا مغيث لهم * (ولا هم ينقذون) * يعني لا يمنعون فلا ينجون من الغرق
118

قوله عز وجل * (إلا رحمة منا) * يعني إلا نعمة منا حين لم نغرقهم
ويقال معناه لكن رحمة منا بحيث لم نغرقهم * (ومتاعا إلى حين) * يعني بلاغا إلى آجالهم
سورة يس 45 - 47
ثم قال عز وجل * (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم) * يعني * (ما بين أيديكم) * من أمر الآخرة فاعملوا لها * (وما خلفكم) * من أمر الدنيا فلا تغتروا بها
وقال مقاتل * (اتقوا ما بين أيديكم) * لكيلا يصيبكم مثل عذاب الأمم الخالية * (وما خلفكم) * يعني واتقوا ما بعدكم أي من عذاب الآخرة والأول قول الكلبي
ثم قال * (لعلكم ترحمون) * يعني لكي ترحموا فلا تعذبوا
قوله عز وجل * (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم) * مثل انشقاق القمر * (إلا كانوا عنها معرضين) * يعني مكذبين وهذا جواب لقوله عز وجل * (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم) * الآية
ثم أخبر عن حال زنادقة الكفار فقال عز وجل " وإذا قيل لهم انفقوا مما رزقكم الله " يعني تصدقوا من المال الذي أعطاكم الله عز وجل * (قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) * على وجه الاستهزاء منهم * (إن أنتم إلا في ضلال مبين) * يعني في خطأ بين
قال بعضهم هذا قول الكفار الذين أمرهم بالنفقة
وقال بعضهم هذا قول الله تعالى يعني قل لهم يا محمد * (إن أنتم إلا في ضلال مبين) * وروي عن ابن عباس مثل هذا
سورة يس 48 - 52
ثم قال عز وجل * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * يعني متى هذا الوعد الذي تعدنا به يوم القيامة * (إن كنتم صادقين) * بأنا نبعث بعد الموت فيقول الله تعالى * (ما ينظرون) * بالعذاب * (إلا صيحة واحدة) * يعني لا خطر لإهلاكهم فليس إلا صيحة واحدة * (تأخذهم وهم يخصمون) * قرأ عاصم في رواية أبي بكر * (يخصمون) * بكسر الياء والخاء وقرأ نافع * (يخصمون) * بنصب الياء وسكون الخاء
وقرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص
119

بنصب الياء وكسر الخاء
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب الياء والخاء وقراءة حمزة * (يخصمون) * بنصب الياء وجزم الخاء بغير تشديد ومعناه تأخذهم وبعضهم يخصم بعضا
ومن قرأ بالتشديد فالأصل فيه يختصمون فأدغمت التاء في الصاد وشددت ومن قرأ بنصب الخاء طرح فتحة التاء على الخاء ومن قرأ بكسر الخاء فلسكونها وسكون الصاد
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لينفخن في الصور والناس في طرقهم وأسواقهم حتى أن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان فما يرسله واحد منهما حتى ينفخ في الصور فيصعق بها فيضعونه وهي التي قال الله تعالى * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) *
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله وأخبرني الثقة بإسناده عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب فلا يطويانه ولا يتبايعانه
وتقوم الساعة والرجل يحلب الناقة فلا يصل الإناء على فيه
وتقوم الساعة وهو يلوط الحوض فلا يسقى فيه)
ثم قال تعالى * (فلا يستطيعون توصية) * يعني يموتون من ساعتهم بغير وصية فلا يستطيعون أن يوصوا إلى أهلهم بشيء * (ولا إلى أهلهم يرجعون) * يعني ولا إلى منازلهم يرجعون من الأسواق
فأخبر الله تعالى بما يلقون في النفخة الأولى
ثم أخبر بما يلقون في النفخة الثانية يعني إذا بعثوا من قبورهم بعد الموت فذلك قوله * (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث) * من القبور * (إلى ربهم ينسلون) * يعني يخرجون من قبورهم أحياء
وكان بين النفختين أربعين عاما في رواية ابن عباس وقيل أكثر من ذلك
ورفع العذاب عن الكفار بين النفختين فكأنهم رقدوا فلما بعثوا * (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) * يعني من أيقظنا من منامنا قال لهم الحفظة من الملائكة * (هذا ما وعد الرحمن) * على ألسنة الرسل * (وصدق المرسلون) * بأن البعث حق
ويقال إن المؤمنين هم الذين يقولون * (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) * بأن البعث كائن
سورة يس 53 - 58
ثم قال عز وجل * (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) * قال الكلبي يعني في الآخرة
وقال مقاتل في بيت المقدس يجاء بهم
120

ثم قال * (فاليوم لا تظلم نفس شيئا) * يعني يوم القيامة لا تنقص نفس مؤمنة ولا كافرة من أعمالهم شيئا * (ولا تجزون) * يعني ولا تثابون * (إلا ما كنتم تعملون) * من خير أو شر
ثم قال * (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) * يعني في شغل مما هم فيه أي عن الذي هم فيه * (فاكهون) * يعني ناعمين
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو * (في شغل) * بجزم الغين وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان
يقال شغل وشغل مثل عذر وعذر وعمر وعمر
قرأ أبو جعفر المدني * (فكهون) * بغير ألف وقراءة العامة (فاكهون) بالألف
فمن قرأ بغير ألف يعني يتفكهون قال أبو عبيد يقال للرجل إذا كان يتفكه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض الناس إن فلانا يتفكه ومنه يقال للمزاحة فكاهة
ومن قرأ بالألف يعني ذوي فاكهة وفكهة
وقال الفراء فاكهة وفكهة لغتان كما يقال حذر وحاذر
وروي في التفسير * (فاكهون) * ناعمون وفكهون معجبون
وقال الكلبي ومقاتل في قوله * (إن أصحاب الجنة) * يعني شغلوا بالنعم في افتضاض العذارى الأبكار عن أهل النار فلا يذكرونهم يعني معجبين بما هم فيه من النعم والكرامة
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا محمد بن الفضل بإسناده عن عكرمة * (في شغل فاكهون) * قال افتضاض الأبكار
وروى زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الرجل ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع) فقال رجل من أهل الكتاب إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة فقال صلى الله عليه وسلم (يفيض من جسد أحدهم عرق مثل المسك أذفر فيضمر بذلك بطنه)
ثم قال تعالى * (هم وأزواجهم في ظلال) * قرأ حمزة والكسائي * (في ظلل) * وقرأ الباقون * (في ظلال) * فمن قرأ * (في ظلل) * فهو جمع الظلة يقال ظلة وظلل مثل حلة وحلل
ومن قرأ بكسر الظاء فهو جمع الظل يعني هم في ظلال العرش والشجر
ويقال معنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد يعني إن أهل الجنة " هم وأزواجهم " الحور العين في القصور * (على الأرائك متكئون) * يعني على السرر عليها الحجال
وروى مجاهد عن ابن عباس قال الأرائك سرر في الحجال
وقال الكلبي لا تكون أريكة إلا إذا اجتمعتا فإذا تفرقا فليست بأريكة * (متكئون) * يعني ناعمون
وإنما سمي هذا لأن الناعم يكون متكئا
ثم قال * (لهم فيها فاكهة) * يعني لهم في الجنة من أنواع الفاكهة * (ولهم ما يدعون) * يعني ما يتمنون مما شاءوا من الخير * (سلام قولا من رب رحيم) * يعني يرسل إليهم ربهم بالتحية والسلام والعرب تقول ادعي ما شئت * (يدعون) * يتمنون
فقوله عز وجل * (سلام قولا) * يعني يقال لهم سلام كأنهم يتلقونه بالسلام * (من رب رحيم) * ويقال * (ولهم ما يدعون سلام) * يعني لهم ما يشاؤون خالصا
ثم قال * (قولا من رب رحيم) *
121

سورة يس 59 - 66
يقول الله تعالى * (وامتازوا اليوم) * وذلك أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد * (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) * يعني اعتزلوا أيها الكفار من المؤمنين فإنهم قد تأذوا منكم في الدنيا فاعتزلوهم حتى ينجوا منكم
ويقال إن المنادي ينادي * (أيها المجرمون) * امتازوا فإن المؤمنين قد فازوا
وأيها المنافقون امتازوا فإن المخلصين قد فازوا
ويا أيها الفاسقون امتازوا فإن الصالحين قد فازوا ويا أيها العاصون امتازوا فإن المطيعين قد فازوا
ثم يقول للكفار والمنافقين بعدما امتازوا * (ألم أعهد إليكم) * يعني ألم أتقدم إليكم
ويقال ألم أبين لكم في القرآن ويقال ألم أوضح لكم * (يا بني آدم) * بالكتاب والرسل
وقال القتبي العهد يكون لمعان يكون للأمانة كقوله * (فأتموا إليهم عهدهم) * [التوبة 4] ويكون لليمين ويكون للوثاق للميثاق ويكون للزمان كما يقال كان ذلك في عهد فلان أي في زمانه
ويكون العهد للوصية * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) * يعني أن لا تطيعوا الشيطان
قال ابن عباس من أطاع شيئا فقد عبده * (إنه لكم عدو مبين) * يعني بين العداوة * (وأن اعبدوني) * يعني أطيعوني ووحدوني * (هذا صراط مستقيم) *
يعني هذا التوحيد طريق مستقيم ويقال دين الإسلام هو طريق مستقيم لا عوج فيه وهو طريق الجنة
قوله عز وجل * (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) * يعني خلقا كثيرا
وقرأ نافع وعاصم * (جبلا) * بكسر الجيم والباء والتشديد وقرأ أبو عمرو وابن عامر * (جبلا) * بضم الجيم وجزم الباء
والباقون بضم الجيم والباء ومعنى ذلك كله واحد
وقال أهل اللغة الجبل والجبلة واحد يعني الناس الكثير * (أفلم تكونوا تعقلون) * ما فعل من كان قبلكم فتعتبروا فلم تطيعوه فلما دنوا من الباب قال لهم الخزنة * (هذه جهنم التي كنتم توعدون) * في الدنيا فلم تصدقوا بها * (اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون) * في الدنيا يعني عقوبة لكم بما كفرتم
قوله عز وجل * (اليوم نختم على أفواههم) * وذلك حين قالوا * (والله ربنا ما كنا مشركين) * * (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) * يعني تعملون من الشرك والمعاصي
122

ثم قال * (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) * قال مقاتل يعني لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى * (فاستبقوا الصراط) * أي لجازوا * (الصراط) * الطريق * (فأنى يبصرون) * يعني فمن أين يبصرون الهدى بعدما جعلت قلوبهم قاسية وجعلت أعمالهم غطاء وأكنة على قلوبهم
قال الكلبي * (ولو نشاء) * لفقأنا أعين الضلالة فأبصروا الطريق و * (استبقوا) * يعني الطريق * (فأنى يبصرون) * الطريق وقفأنا أعينهم
وقال بعضهم ولو نشاء لأعمينا أبصارهم في أسواقهم ومجالسهم كما فعلنا بقوم لوط عليه السلام حين كذبوه وراودوه عن ضيفه * (فاستبقوا الصراط) * يعني فابتدروا الطريق هربا إلى منازلهم لو فعلنا ذلك بهم
سورة يس 67 - 70
ثم قال عز وجل * (ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم) * يعني إن شئت لمسختهم حجارة في ضلالتهم أي منازلهم ليس فيها أرواح * (فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) * ولا يتقدمون ولا يتأخرون
وهذا قول مقاتل
وقال الكلبي لو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير * (فما استطاعوا مضيا) * يعني فما قدروا ذهابا * (ولا يرجعون) *
قوله عز وجل * (ومن نعمره) * يعني من أطلنا عمره في الدنيا * (ننكسه في الخلق) * يعني نرده إلى أرذل العمر فلا يعقل فيه كعقله الأول
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر * (ننكسه) * بضم النون الأولى ونصب الثانية وكسر الكاف مع التشديد
وقرأ الباقون (ننكسه) بنصب النون الأولى وجزم الثانية وضم الكاف والتخفيف ومعناهما واحد
يقال نكسه ونكسه وأنكسه بمعنى واحد
ومعناه من أطلنا عمره نكسنا خلقه فصار بدل القوة ضعفا وبدل الشباب هرما
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " مكاناتهم " وقرأ الباقون * (مكانتهم) * والمكانة والمكان واحد مثل المنزل والمنزلة والمكانات جمع المكانة
ثم قال * (أفلا يعقلون) * يعني أفلا تفهمون أن الله هو الذي يفعل ذلك فتوحدوه وليس لمعبودهم قدرة ذلك
قرأ نافع وأبو عمرو * (أفلا تعقلون) * بالتاء على معنى المخاطبة
وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر
وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة * (وأن اعبدوني) * بالياء وقرأ الباقون بغير ياء لأن الكسر يدل عليه
ثم قال عز وجل * (وما علمناه الشعر) * جوابا لقولهم إنه شاعر يعني أرسلنا إليه القرآن ولم نرسل إليه الشعر * (وما ينبغي له) * يعني لم يكن أهلا لذلك
وقال ما يسهل له وما يحضره الشعر * (إن هو إلا ذكر) * يعني القرآن عظة لكم * (وقرآن مبين) * يعني يبين الحق من الضلالة
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال سألت عائشة رضي الله عنها هل
123

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر قالت كان أبغض الحديث إليه الشعر ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس بن طرفة
(ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
* ويأتيك بالأخبار من لم تزود)
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول (ويأتيك بالأخبار من لم تزود بالأخبار)
فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس هكذا يا رسول الله
فقال (لست بشاعر ولا ينبغي لي أن أتكلم بالشعر)
فإن قيل روي عنه أنه كان يتكلم بالشعر لأنه ذكر أنه قال
(أنا النبي لا كذب
* أنا ابن عبد المطلب)
وذكر أنه عثر يوما فدميت أصبعه فقال
(هل أنت إلا إصبع دميت
* وفي كتاب الله ما لقيت)
وذكر أنه قال يوم الخندق
(بسم الإله وبه هدينا
* ولو عبدنا غيره شقينا)
قيل له هذه كلمات تكلم بها فصارت موافقة للشعر وليست بشعر
ثم قال عز وجل * (لينذر من كان حيا) * يعني من كان مؤمنا لأن المؤمن هو الذي يقبل الإنذار
ويقال * (من كان حيا) * يعني عاقلا راغبا في الطاعة
قرأ نافع وابن عامر " لتنذر " بالتاء على معنى المخاطبة يقول لتنذر يا محمد
وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنه يعني لينذر محمد صلى الله عليه وسلم
ويقال يعني لتنذر بالقرآن من كان مهتديا في علم الله تعالى * (ويحق القول) * يعني وجب العذاب * (على الكافرين) * يعني قوله * (لأملأن جهنم) * [الأعراف 18] ثم وعظهم ليعتبروا
سورة يس 71 - 76
ثم وعظهم ليعتبروا فقال * (أو لم يروا أنا خلقنا لهم) * يعني أو لم ينظروا فيعتبروا فيما أنعم الله عز وجل عليهم
* (أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا) * يعني أنا خلقنا بقوتنا وبقدرتنا وبأمرنا * (أنعاما) * يعني الإبل والبقر والغنم * (فهم لها مالكون) * يعني الأنعام
وقال قتادة يعني ما في بطونها * (وذللناها لهم) * يعني سخرناها لهم فيحملون عليها ويسوقونها حيث شاؤوا فلا تمتنع منهم * (فمنها ركوبهم) * في انتفاعهم وحوائجهم * (ومنها يأكلون) * من
124

الإبل والبقر والغنم * (ولهم فيها) * يعني في الأنعام * (منافع) * في الركوب والحمل والصوف والوبر * (ومشارب) * يعني ألبانها * (أفلا يشكرون) * رب هذه النعمة فيوحدونه
يعني اشكروا ووحدوا
قوله عز وجل * (واتخذوا من دون الله آلهة) * يعني تركوا عبادة رب هذه النعم وعبدوا الآلهة * (لعلهم ينصرون) * يعني لعل هذه الآلهة تمنعهم من العذاب في ظنهم
يقول الله عز وجل * (لا يستطيعون نصرهم) * يعني منعهم من العذاب * (وهم لهم جند محضرون) * يعني الكفار للأصنام جند يغضبون لها ويحضرونها للآلهة
كالعبيد والخدم ويحضرونها في الدنيا ويقال * (وهم لهم جند محضرون) * في النار
ثم قال عز وجل * (فلا يحزنك قولهم) * يعني لا يحزنك يا محمد تكذيبهم إياك * (إنا نعلم ما يسرون) * من التكذيب * (وما يعلنون) * يعني ما يظهرون لك من العداوة
سورة يس 77 - 83
قوله عز وجل * (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة) * روي سفيان عن الكلبي عن مجاهد قال أتى أبي بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بالي قد أتى عليه حين ففته بيده ثم قال يا محمد أتعدنا أنا إذا متنا وكنا مثل هذا بعثنا فأنزل الله تعالى * (أو لم ير الإنسان) * الآية
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم القرون الماضية أنهم يبعثون بعد الموت وأنكم يا أهل مكة معهم فأخذ أبي بن خلف الجمحي عظما باليا فجعل يفته بيده ويذروه في الرياح ويقول عجبا يا أهل مكة إن محمدا يزعم أنا إذا متنا وكنا عظاما بالية مثل هذا العظم وكنا ترابا أنا نعاد خلقا جديدا وفينا الروح وذلك ما لا يكون أبدا فنزل " أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة " يعني أو لم يعلم هذا الكافر أنا خلقناه
125

أول مرة من نطفة * (فإذا هو خصيم مبين) * يجادل بالباطل
ويقال * (خصيم) * بين الخصومة فيما يخاصم * (مبين) * أي بين
ثم قال عز وجل * (وضرب لنا مثلا) * يعني وصف لنا شبها في أمر العظام
ويقال وصف لنا بالعجز * (ونسي خلقه) * يعني وترك ابتداءه حين خلقه من نطفة
ويقال ترك النظر في خلق نفسه فلم يعتبر و * (قال من يحيي العظام وهي رميم) * يعني بالية والرميم العظم البالي يقال رم العظم إذا بلي
قال الله تعالى لنبيه * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * يعني قل يا محمد العظام يحييها الذي * (أنشأها) * يعني خلقها أول مرة يعني في أول مرة ولم تكن شيئا
ثم قال عز وجل * (وهو بكل خلق عليم) * يعني عليما ببعثهم وبخلقهم في الدنيا
ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا في البعث فقال * (الذي جعل لكم) * يعني قل يا محمد العظام يحييها * (الذي جعل لكم) * * (من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون) * قال الكلبي كل شجرة يقدح منها النار إلا شجرة العناب فمن ذلك القصارون يدقون عليه * (فإذا أنتم منه توقدون) * يعني تقدحون يعني فهو الذي يقدر على أن يبعثكم
ثم قال عز وجل * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض) * وهي أعظم خلقا * (بقادر على أن يخلق مثلهم) * في الآخرة
والكلام يخرج على لفظ الاستفهام ويراد به التقرير
ثم قال * (بلي) * هو قادر على ذلك * (وهو الخلاق العليم) * يعني الباعث * (العليم) * ببعثهم
قوله عز وجل * (إنما أمره إذا أراد شيئا) * من أمر البعث وغيره * (أن يقول له كن فيكون) * خلقا
قرأ ابن عامر والكسائي * (فيكون) * بالنصب
وقد ذكرناه في سورة البقرة
ثم قال عز وجل " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء " يعني خلق كل شيء من البعث وغيره ويقال خزائن كل شيء ويقال له القدرة على كل شيء * (وإليه ترجعون) * بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا أبو الحسن أحمد بن حمدان بإسناده عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس فمن قرأ يس يريد بها وجه الله تعالى غفر له وأعطي من الأجر كمن قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة وإيما مسلم قرئت عنده سورة يس حين ينزل به ملك الموت ينزل إليه بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون قبضه ويشهدون غسله ويشيعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه
وأيما مسلم مريض قرئ عنده سورة يس وهو في سكرات الموت لا يقبض ملك الموت روحه حتى يجيء رضوان خازن الجنة بشربة من
126

شراب الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان ويدخل قبره وهو ريان ويمكث في قبره وهو ريان ويخرج من القبر وهو ريان ويحاسب وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء عليهم السلام حتى يدخل الجنة وهو ريان) والله تعالى أعلم بالصواب و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد النبي الأداب وعلى آله وسلم
127

سورة الصافات كلها مكية وهي مائة واثنتان وثمانون آية))
سورة الصافات 1 - 5
قول الله سبحانه وتعالى * (والصافات صفا) * قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى * (والصافات صفا) * أقسم الله تعالى بصفوف الملائكة الذين في السماوات كصفوف المؤمنين في الصلاة
ويقال يعني صفوف الغزاة في الحرب كقوله عز وجل * (صفا كأنهم بنيان مرصوص) * [الصف 4] ويقال صفوف الأمم يوم القيامة كقوله عز وجل * (وعرضوا على ربك صفا) * [الكهف 48] ويقال الطيور بين السماء والأرض صافات بأجنحتها كقوله * (والطير صافات) * [النور 41] ويقال صفوف الجماعات في المساجد وفي الآية بيان فضل الصفوف حيث أقسم الله بهن
ثم قال عز وجل " فالزجرات زجرا " يعني الملائكة الذين يزجرون السحاب ويؤلفونه ويسوقونه إلى البلد الذي لا مطر بها
ويقال * (فالزاجرات) * يعني فالدافعات وهم الملائكة الذين يدفعون الشر عن بني آدم موكلون بذلك
ويقال * (الزاجرات) * يعني ما زجر الله تعالى في القرآن كقوله تعالى " لا تأكلوا الربوا " [آل عمران 130] * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * [النساء 2] ويقال هي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وما كان من عند الله من كتب
ويقال * (فالزاجرات زجرا) * يعني هم الأنبياء والرسل والعلماء يزجرون الناس عن المعاصي والمناهي والمناكر
* (فالتاليات ذكرا) * يعني الملائكة وهو جبريل يتلو القرآن على الأنبياء ويقال هم المؤمنون الذين يقرؤون القرآن
ويقال * (فالتاليات ذكرا) * قال هم الصبيان يتلون في الكتاب من الغدو العشي وأن الله تعالى يحول العذاب عن الخلق ما دامت تصعد هذه الأربعة إلى السماء أولها أذان المؤذنين والثاني تكبير المجاهدين والثالث تلبية الملبين والرابع صوت الصبيان في الكتاب
وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال * (والصافات صفا) * قال الملائكة * (فالزاجرات زجرا) * قال الملائكة * (فالتاليات ذكرا) * قال الملائكة وهكذا قال مجاهد قد أقسم الله بهذه الأشياء * (إن إلهكم لواحد) * ويقال
128

أقسم بنفسه فكأنه يقول وخالق هذه الأشياء * (إن إلهكم لواحد) * يعني ربكم وخالقكم ورازقكم لواحد لا شريك له
" رب السماوات " يعني الذي خلق السماوات * (والأرض وما بينهما) * من خلق * (ورب المشارق) * يعني مشرق كل يوم وقال في آية أخرى " ورب المشرق والمغرب " أي ناحية المشرق وناحية المغرب
وقال في آية أخرى * (رب المشرقين ورب المغربين) * أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف
وقال في هذه السورة * (رب المشارق) * أي مشرق كل يوم
سورة الصافات 6 - 11
ثم قال * (إنا زينا السماء الدنيا) * يعني الأدنى
وإنما سميت سماء الدنيا لأنها أقرب إلى الأرض * (بزينة الكواكب) * بضوء الكواكب
قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص * (بزينة) * بالتنوين * (الكواكب) * بكسر الباء
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر * (بزينة) * بالتنوين * (الكواكب) * بالنصب جعل الكواكب بدلا من الزينة والمعنى إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب
ومن قرأ بالنصب أقام الزينة مقام التزيين فكأنه قال إنا زينا السماء الدنيا بتزيننا الكواكب فيكون الكواكب على معنى التفسير
ومن قرأ بغير تنوين فهو على إضافة الزينة إلى الكواكب
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال الكواكب معلقة بالسماء كالقناديل
ويقال إنها مركبة عليها كما تكون في الصناديق والأبواب
ثم قال * (وحفظا من كل شيطان مارد) * يعني حفظ الله تعالى السماء بالكواكب من كل شيطان متمرد
يعني شديدا يقال مرد يمرد إذا اشتد
ثم قال * (لا يسمعون) * قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص * (لا يسمعون) * بنصب السين والتشديد والباقون * (يسمعون) * بنصب الياء وجزم السين مع التخفيف
قمن قرأ بجزم السين فهو بمعنى يسمعون ومن قرأ بالتشديد فأصله يتسمعون فأدغمت التاء في السين وشددت
يعني لكيلا يستمعون * (إلى الملإ الأعلى) * يعني إلى الكتبة * (ويقذفون) * يعني ويرمون * (من كل جانب دحورا) * يعني طردا من كل ناحية من السماء وكانوا من قبل يستمعون إلى كلام الملائكة عليهم السلام
قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم
قال حدثنا عبد الرزاق
قال أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس
قال بينما
129

رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية) قالوا يموت عظيم أو يولد عظيم فقال صلى الله عليه وسلم (إنه لا يرمى لموت أحد ولا لحياته ولكن الله عز وجل إذا قضى أمرا يسبحه حملة العرش وأهل السماء السابعة
يقول ماذا قال ربكم فيخبرونهم فيستخبر أهل كل سماء أهل السماء الأخرى حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا فتخطف الجن ويرمون فيما جاؤوا به على وجهه فهو حق
ولكنهم يزيدون فيه ويكذبون) قال معمر قلت للزهري أو كان يرمى به في الجاهلية
قال نعم
قال قالت الجن لرسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنا كنا نقعد منها مقعد للسمع " [الجن 9] فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا قال غلظ وشدد أمرها حيث بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقوله * (دحورا) * يعني طردا بالشهب فيعيدونهم * (ولهم عذاب واصب) * يعني دائم
يعني الشيطان لمن استمع ولمن لم يستمع في الآخرة
وقال مقاتل في الآية تقديم * (إلا من خطف الخطفة) * من الشياطين
ويختطف يعني يستمع إلى الملأ الأعلى من كلام الملائكة عليهم السلام * (فأتبعه شهاب ثاقب) * والشهاب في اللغة كل أبيض ذي نور والثاقب المضيء
قوله عز وجل * (فاستفتهم) * يعني سل أهل مكة
وهذا سؤال تقدير لا سؤال استفهام
وقال تعالى * (أهم أشد خلقا) * بالبعث يعني بعثهم أشد * (أم من خلقنا) * يعني أم خلقهم في الابتداء
فقال * (إنا خلقناهم من طين لازب) * يعني خلقنا آدم وهم من نسله من طين حمئة
ويقال * (لازب) * أي لاصق
ويقال * (لازب) * يعني لازم إلا أن الباء تبدل من الميم لقرب مخرجيهما كما يقال سمد رأسه وسبد إذا استأصله واللازب واللاصق واحد
سورة الصافات 12 - 18
ثم قال * (بل عجبت ويسخرون) * قرأ حمزة والكسائي * (عجبت) * بضم التاء وقرأ الباقون * (عجبت) * بالنصب
فمن قرأ بالنصب فالمعنى بل عجبت يا محمد من نزول الوحي عليك والكافرون يسخرون مكذبين لك
ومن قرأ * (بل عجبت) * بالضم فهو إخبار عن الله تعالى
وقد أنكر قوم هذه القراءة وقالوا إن الله تعالى لا يعجب من شيء لأنه علم الأشياء قبل كونها وإنما يتعجب من سمع أو رأى شيئا لم يسمعه ولم يره
ولكن الجواب أن يقال العجب من الله عز وجل بخلاف العجب من الآدميين ولا يكون على وجه التعجب ويكون
130

على وجه الإنكار والاستعظام لذلك القول
كما قال في آية أخرى * (وإن تعجب فعجب قولهم) * [الرعد 5] وروى الأعمش عن سفيان بن سلمة فذكر ذلك لإبراهيم النخعي فقال إبراهيم أن شريحا كان يقرأ * (بل عجبت) * بالنصب ويقول إنما يعجب من لا يعلم وقال الأعمش فقلت ذلك لإبراهيم النخعي فقال إبراهيم إن شريحا كان معجبا برأيه وعبد الله بن مسعود كان أعلم منه وهو كان يقرؤها * (بل عجبت) * بالضم
وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ هكذا بالضم وهو اختيار أبي عبيدة
ثم قال * (ويسخرون) * يعني يسخرون حين سمعوا * (وإذا ذكروا لا يذكرون) * يعني إذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون * (وإذا رأوا آية) * يعني علامة مثل انشقاق القمر * (يستسخرون) * يعني يستهزئون ويسخرون وقال أهل اللغة سخر واستسخر بمعنى واحد مثل قر واستقر * (وقالوا إن هذا إلا سحر مبين) * يعني بين
قوله عز وجل * (أئذا متنا) * يعني يقولون إذا متنا * (وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) * يعني لمحيون بعد الموت * (أو آباؤنا الأولون قل) * يا محمد * (نعم وأنتم داخرون) * يعني صاغرون
سورة الصافات 19 - 25
ثم قال عز وجل * (فإنما هي زجرة واحدة) * يعني صيحة ونفخة واحدة ولا يحتاج إلى الأخرى * (فإذا هم) * يعني الخلائق * (ينظرون) * يعني يخرجون من قبورهم وينظرون إلى السماء كيف غيرت والأرض كيف بدلت فلما عاينوا البعث ذكروا قول الرسل إن البعث حق
(وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين) يعني يوم الحساب
ويقال يوم الجزاء
فردت عليهم الحفظة ويقولون * (هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون) * أنه لا يكون
ثم ينادي المنادي * (احشروا الذين ظلموا) * يعني سوقوا الذين كفروا " وأزواجهم " يعني وأشباههم ويقال وقرناءهم وضرباءهم
ويقال وأشياعهم وأعوانهم
ويقال وأمثالهم * (وما كانوا يعبدون من دون الله) * يعني من الشياطين الذين أضلوهم
ويقال كل معبود وكل من يطاع في المعصية * (فاهدوهم) * يعني ادعوهم جميعا
ويقال اذهبوا بهم وسوقوهم جميعا * (إلى صراط الجحيم) * يعني إلى طريق الجحيم والجحيم ما عظم من النار
ويقال إلى وسط الجحيم
فلما انطلق بهم إلى جهنم أرسل الله عز وجل ملكا يقول * (وقفوهم) * أي احبسوهم
131

* (إنهم مسؤولون) * عن ترك قول لا إله إلا الله
ويقال في الآية تقديم يعني يقال لهم قفوا قبل ذلك فحبسوا وسئلوا
ثم يساق بهم إلى الجحيم فيقال لهم * (ما لكم لا تناصرون) * يعني لم ينصر بعضكم بعضا ولا يدفع بعضكم عن بعض كما كنتم تفعلون في الدنيا
سورة الصافات 26 - 31
قوله عز وجل * (بل هم اليوم مستسلمون) * أي خاضعون ذليلون * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * يعني يسأل ويخاصم بعضهم بعضا القادة والسفلة والعابد والمعبود ومتابعي الشيطان للشيطان
ويقال * (يتساءلون) * يعني يتلاومون * (قالوا) * يعني السفلة للرؤساء * (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) * يعني من قبل الحق يعني الدين فزينتم لنا ضلالتنا
وروي عن الفراء أنه قال * (اليمين) * في اللغة القوة والقدرة ومعناه * (إنكم كنتم تأتوننا) * بأقوى الحيل وتزينون علينا أعمالنا
وقال الضحاك تقول السفلة للقادة إنكم قادرون وظاهرون علينا ونحن ضعفاء أذلاء في أيديكم
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال * (تأتوننا عن اليمين) * عن الحق يعني الكفار يقولون ذلك للشيطان
وقال القتبي إنما يقول هذا المشركون لقرنائهم من الشياطين * (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) * يعني عن أيماننا لأن إبليس قال * (لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم) * [الأعراف 17] وقال المفسرون من أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين ولبس عليه الحق
ومن أتاه من قبل الشمال أتاه من قبل الشهوات
ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل التكذيب بالقيامة
ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة
وقال المشركون لقرنائهم * (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) * في الدنيا من جهة الدين يعني أضللتمونا * (قالوا) * قرناؤهم * (بل لم تكونوا مؤمنين) * أي لم تكونوا
على حق فنشهد عليكم ونزيلكم عنه إلى الباطل * (وما كان لنا عليكم من سلطان) * يعني من قدرة فنقهركم ويقال من ملك فنجبركم عليه * (بل كنتم قوما طاغين) * يعني كافرين عاصين * (فحق علينا) * يعني وجب علينا جميعا * (قول ربنا) * وهو السخط
ويقال * (قول ربنا) * يوم قال لإبليس * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * [ص 85] * (إنا لذائقون) * يعني العذاب جميعا في النار
سورة الصافات 32 - 35
132

سورة الصافات 36 - 40
قوله عز وجل * (فأغويناكم) * يعني أضللناكم عن الهدى * (إنا كنا غاوين) * يعني ضالين
يقول الله تعالى * (فإنهم) * يعني الكفار والشياطين * (يومئذ) * يعني يوم القيامة * (في العذاب مشتركون) * يعني شركاء في النار وفي العذاب * (إنا كذلك نفعل بالمجرمين) * يعني هكذا نفعل بمن أشرك فنجمع بينهم وبين الذين أضلوهم في النار
ثم أخبر عنهم فقال * (أنهم كانوا) * يعني في الدنيا * (إذا قيل لهم لا إله إلا الله) * يعني قولوا لا إله إلا الله * (يستكبرون) * عنها فلا يقولونها * (ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا) * يعني أنترك عبادة آلهتنا * (لشاعر) * يعني لقول شاعر * (مجنون) * أي مغلوب على عقله
يقول الله تعالى * (بل جاء بالحق) * يعني بالقرآن ويقال بأمر التوحيد ويقال جاء ببيان الحق * (وصدق المرسلين) * الذين قبله
قال مقاتل يعني صدق محمد صلى الله عليه وسلم بالمرسلين الذين قبله
وقال الكلبي وبتصديق المرسلين الذين قبله ومعناهما واحد
ويقال معناه جاء محمد صلى الله عليه وسلم بموافقة المرسلين عليهم السلام
ثم قال * (إنكم) * يعني العابد والمعبود * (لذائقوا العذاب الأليم) * يعني لتصيبوا العذاب الوجيع الدائم * (وما تجزون) * في الآخرة * (إلا ما كنتم تعملون) * يعني إلا بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي والشرك
ثم استثنى المؤمنين فقال عز وجل * (إلا عباد الله المخلصين) * يعني الموحدين ويقال * (الآ) * بمعنى لكن يعني لكن * (عباد الله المخلصين) *
سورة الصافات 41 - 50
ثم قال * (أولئك لهم رزق معلوم) * يعني طعاما معلوما معروفا حين يشتهونه على قدر غدوة وعشية
ثم بين الرزق فقال * (فواكه) * يعني ألوان الفاكهة * (وهم مكرمون) * بالثواب ويقال منعمون * (في جنات النعيم على سرر متقابلين) * في الزيارة * (يطاف عليهم) * يعني يطوف خدمهم عليهم * (بكأس من معين) * خمرا جاريا من معين يعني الطاهر الجاري * (بيضاء) *
يعني بخمرة توجب اللذة * (بيضاء لذة) * يعني شهوة * (للشاربين لا فيها غول) * يعني ليس
133

فيها أثم ويقال لا غائلة لها ولا يوجع منها الرأس
وروى شريك عن سالم قال * (لا فيها غول) * أي لا مكروه فيها ولا أذى
وقال القتبي * (لا فيها غول) * أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها
يقال الخمر غول للحلم والحرب غول للنفوس والغول البعد " ولاهم عنها ينزفون " قرأ حمزة والكسائي * (ينزفون) * بكسر الزاي وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالنصب فمعناه لا يذهب عقولهم شربها
ويقال للسكران نزيف ومنزوف إذا زال عقله
ومن قرأ بالكسر فله معنيان أحدهما لا ينفد شرابهم أبدا والثاني أنهم لا يسكرون
ثم قال عز وجل * (وعندهم قاصرات الطرف عين) * يعني غاضات الأعين عن غير أزواجهن
يعني قصرن طرفهن على أزواجهن وقنعن بهم ولا يبغين بهم بدلا
ثم قال * (عين) * أي حسان الأعين شدة البياض في شدة السواد
ويقال لواحدة العين عيناء يعني كبيرة العين
ويقال الحسن العيناء التي سواد عينها أكثر من بياضها
ثم قال * (كأنهن بيض مكنون) * يعني إنهن أحسن بياضا من بيض النعام والعرب تشبه النساء ببيض النعام يقال لا يكون لون البياض في شيء أحسن من بيض النعام
وقال قتادة البيض التي لم تلوثه الأيدي ويقال البيض أراد به القشر الداخل من البيض المكنون قد خبئ وكنن من القر والحر * (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * يعني يسأل بعضهم بعضا عن حاله في الدنيا
سورة الصافات 51 - 56
قوله عز وجل * (قال قائل منهم) * يعني من أهل الجنة * (إني كان لي قرين) * وهو الذي بين الله تعالى أمرهما في سورة الكهف * (جعلنا لأحدهما جنتين من
أعناب) * [الكهف 32] فكانا أخوين أو شريكين وأنفق أحدهما ماله في أمر الآخرة واتخذ الآخر لنفسه ضياعا وخدما واحتاج المؤمن إلى شيء فجاء إلى أخيه الكافر يسأله فقال له الكافر ما صنعت بمالك فأخبره أنه قدمه إلى الآخرة فقال له الكافر * (أئنك لمن المصدقين) * يعني إنك ممن يصدق بالبعث وطلب منه أن يدخل في دينه ولم يقض حاجته فذلك قوله * (أئنك لمن المصدقين) * يعني بالبعث بعد الموت
قوله عز وجل * (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون) * يعني لمحاسبون
فيقول المؤمن لأصحابه في الجنة * (قال هل أنتم مطلعون) * حتى ننظر إلى حاله وإلى منزله فيقول أصحابه اطلع أنت فإنك أعرف به منا * (فاطلع) * يعني فنظر في النار * (فرآه في سواء الجحيم) * يعني رأى أخاه في وسط الجحيم أسود الوجه مزرق العين فيقول المؤمن عند
134

ذلك * (قال تالله إن كدت لتردين) * يعني والله لقد هممت لتغويني ولتضلني
ويقال * (لتردين) * أي لتهلكني يقال أرديت فلانا أي أهلكته
والردى الموت والهلاك
وقال القتبي في قوله " إنا لمدينون " أي مجازون بأعمالنا يقال دنته بما صنع أي جازيته
سورة الصافات 57 - 65
ثم قال عز وجل * (ولولا نعمة ربي) * يعني لولا ما أنعم الله علي بالإسلام * (لكنت من المحضرين) * معك في النار
ثم أقبل المؤمن على أصحابه في الجنة فقال يا أهل الجنة * (أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى) * اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به النفي
يعني لا نموت أبدا سوى موتتنا الأولى
وذلك حين يذبح الموت فيأمنوا من الموت * (وما نحن بمعذبين) * يعني لم نكن من المعذبين مثل أهل النار
قال الله عز وجل * (إن هذا لهو الفوز العظيم) * يعني النجاة الوافرة فازوا بالجنة ونجوا من النار * (لمثل هذا) * يعني لمثل هذا الثواب والنعم والخلود * (فليعمل العاملون) * يعني فليبادر المبادرون
ويقال فليجتهد المجتهدون
ويقال فليحتمل المحتملون الأذى لأنه فد حفت الجنة بالمكاره
ثم قال * (أذلك خير نزلا) * يعني الذي وصفت في الجنة خير ثوابا
ويقال رزقا
ويقال منزلا * (أم شجرة الزقوم) * للكافرين * (إنا جعلناها فتنة للظالمين) * يعني بلاء للمشركين
قال قتادة زادتهم تكذيبا فقالوا يخبركم محمد أن في النار شجرة والنار تحرق الشجرة وقال مجاهد * (إنا جعلناها فتنة) * قول أبي جهل إنما الزقوم التمر والزبد فقال لجاريته زقمينا فزقمته
فأخبر الله تعالى عن الزقوم أنه لا يشبه النخل ولا طلعها كطلع النخل فقال * (أذلك خير نزلا) * يعني نعيم الجنة وما فيها من اللذات * (خير نزلا) * أي طعاما * (أم شجرة الزقوم) * لأهل النار قوله عز وجل * (إنا جعلناها فتنة للظالمين) *
ثم وصف الشجرة فقال * (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) * يعني في وسط الجحيم * (طلعها) * يعني ثمرتها * (كأنه رؤوس الشياطين) * يعني رؤوس الحيات قبيح في النظر
ويقال هو نبت لا يكون شيء من النبات أقبح منه وهو يشبه الحسك فيبقى في الجلود
ويقال هي رؤوس الشياطين بعينها وذلك أن العرب إذا وصفت الشيء بالقبح تقول كأنه شيطان
135

سورة الصافات 66 - 70
ثم وصف أكلهم فقال * (فإنهم لآكلون منها) * يعني من ثمرها * (فمالئون منها البطون) * وهو جماعة المالئ
يعني يملؤون منها البطون
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا محمد بن عقيل قال حدثنا عباس الدوري قال حدثنا وهب بن جرير عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيها الناس اتقوا الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون
فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامه وشرابه منه وليس له طعام غيره
قوله عز وجل * (ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم) * يعني خلطا من حميم من ماء حار في جهنم * (ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم) * يعني مصيرهم إلى النار
ثم بين المعنى الذي به يستوجبون العقوبة فقال * (إنهم ألفوا) * يعني وجدوا * (آباءهم ضالين) * عن الهدى * (فهم على آثارهم يهرعون) * يعني يسعون في مثل أعمال آبائهم والإهراع في اللغة المشي بين مشيتين وقال مجاهد كهيئة الهرولة
سورة الصافات 71 - 74
ثم قال عز وجل * (ولقد ضل قبلهم) * يعني أضل إبليس قبلهم * (أكثر الأولين) * يعني من الأمم الخالية
ولم يذكر إبليس لأن في الكلام دليلا عليه فاكتفى بالإشارة ومثل هذا كثير في القرآن
ثم قال عز وجل * (ولقد أرسلنا فيهم منذرين) * يعني رسلا ينذرونهم كما أرسلناك إلى قومك فكذبوهم بالعذاب كما كذبك قومك فعذبهم الله تعالى في الدنيا * (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) * يعني آخر أمر من أنذر فلم يؤمن * (إلا عباد الله المخلصين) * يعني الموحدين المطيعين فإنهم لم يعذبوا
سورة الصافات 75 - 82
136

قوله عز وجل * (ولقد نادانا نوح) * يعني دعا نوح ربه على قومه وهو قوله * (أني مغلوب فانتصر) * [القمر 10] * (فلنعم المجيبون) * يعني نعم المجيب أنا * (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) * يعني من الهول الشديد وهو الغرق
قوله * (وجعلنا ذريته هم الباقين) * لأن الذي حمل معه من الناس ثمانون رجلا وامرأة غرقوا كلهم ولم يبق إلا ولده سام وحام ويافث
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا أبو جعفر
قال حدثنا أبو القاسم الصفار ذكر بإسناده عن سمرة بن جندب
إن النبي صلى الله عليه وسلم (قال سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم)
ثم قال تعالى * (وتركنا عليه في الآخرين) * يعني أبقينا عليه ذكرا حسنا في الباقين من الأمم وهذا قول القتبي
وقال مقاتل يعني أثنينا على نوح بعد موته ثناء حسنا
ثم قال عز وجل * (سلام على نوح في العالمين) * يعني السعادة والبركة على نوح من بين العالمين * (إنا كذلك نجزي المحسنين) * يعني هكذا نجزي كل محسن * (إنه من عبادنا المؤمنين) * يعني المصدقين بالتوحيد * (ثم أغرقنا الآخرين) * يعني قومه الكافرين
سورة الصافات 83 - 98
قوله عز وجل * (وإن من شيعته لإبراهيم) * قال مقاتل يعني إبراهيم من شيعة نوح عليه السلام وعلى ملته
وقال الكلبي يعني من شيعة محمد صلى الله عليه وسلم لأن إبراهيم على دينه ومنهاجه
وذكر عن الفراء أنه قال هذا جائز وإن كان إبراهيم قبله كما قال * (حملنا ذريتهم) * [يس 41] يعني آباءهم ذريته الذين هو منهم
قوله عز وجل * (إذ جاء ربه بقلب سليم) * يعني إبراهيم دعا ربه * (بقلب سليم) * أي خالص
ويقال * (إذ جاء ربه) * يعني أقبل على طاعة الله تعالى * (بقلب سليم) * يعني بقلب
137

خالص ويقال * (إذ جاء ربه بقلب سليم) * أي مخلص ويقال * (سليم) * من الشرك * (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون) * يعني إيش الذي تعبدون
ويقال معناه لماذا تعبدون هذه الأوثان
قوله عز وجل * (أئفكا آلهة) * يعني أكذبا آلهة * (دون الله تريدون) * عبادتها * (فما ظنكم برب العالمين) * إذا عبدتم غيره فما ظنكم به إذ لقيتموه
* (فنظر نظرة في النجوم) * قال مقاتل يعني في الكواكب ويقال * (فنظر نظرة في النجوم) * أي في أمر النجوم
وذلك أنه رأى كوكبا قد طلع * (فقال إني سقيم) * أي سأسقم يقال فكر فكرة في النجوم * (فقال إني سقيم) * يعني مطعونا
وهو قول سعيد بن جبير والضحاك
وقال القتبي نظر في الحساب لأنه لو نظر إلى الكواكب لقال نظر نظرة إلى النجوم
وإنما يقال نظر فيه إذا نظر في الحساب * (فقال إني سقيم) * أي سأمرض غدا وكانوا يتطيرون من المريض فلما سمعوا ذلك منه هربوا فذلك قوله * (فتولوا عنه مدبرين) *
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا خزيمة قال حدثنا عيسى بن إبراهيم قال حدثنا ابن وهب عن جرير بن حازم عن أيوب السجستاني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله * (إني سقيم) * وقوله * (بل فعله كبيرهم هذا) * [الأنبياء 63] وواحدة في شأن سارة ذلك أنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن النساء فقال لها إن هذا الجبار إن علم أنك امرأتي يغلبني عليك
فإن سألك فأخبريه أنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك فلما دخل الأرض رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له لقد دخل اليوم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك
فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم إلى الصلاة فلما أدخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة
فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت
فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت
فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولك علي ألا أضرك ففعلت فأطلقت يده
فدعا الذي جاء بها فقال له إنك أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي وأعطاها هاجر فأقبلت تمشي حتى جاءت إلى إبراهيم فلما رآها إبراهيم انصرف من الصلاة فقال لها مهيم يعني ما الخبر فقالت خيرا كفيت الفاجر وأخدمني خادما)
فقال أبو هريرة فتلك أمكم يا بني ماء السماء
يعني نسل العرب منها
لأنه روي في الخبر أنها وهبت هاجر من إبراهيم فولد منها إسماعيل ويقال * (فتولوا عنه مدبرين) * يعني أعرضوا عنه ذاهبين إلى عيدهم
138

قوله عز وجل * (فراغ إلى آلهتهم) * يعني مال إلى أصنامهم
ويقال دخل بيوت الأصنام فرأى بين أيديهم طعاما * (فقال ألا تأكلون) * فلم يجيبوه فقال * (ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين) * يعني أقبل يضربهم بيمينه
ويقال يضربهم باليمين التي حلف وهو قوله * (وتالله لأكيدن أصنامكم) * [الأنبياء 57] ويقال ضربهم * (باليمين) *
يعني يضربهم بالقوة واليمين كناية عنها لأن القوة في اليمين * (فأقبلوا إليه يزفون) * يعني يسرعون " قال " إبراهيم عليه السلام * (أتعبدون ما تنحتون) * بأيديكم من الأصنام
قرأ حمزة * (يزفون) * بضم الياء وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالنصب فأصله من زفيف النعام وهو ابتداء عدوه
ومن قرأ بضم يصيروا إلى الزفيف ويدخلون في الزفيف وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد وهو الإسراع في المشي
ثم قال عز وجل * (والله خلقكم وما تعملون) * يعني وما تنحتون به بأيديكم من الأصنام
ومعناه تتركون عبادة من خلقكم وخلق ما تعملون وتعبدون غيره * (قالوا ابنوا له بنيانا) * يعني أتونا * (فألقوه في الجحيم) * يعني في النار العظيمة * (فأرادوا به كيدا) * يعني أرادوا حرقه وقتله * (فجعلناهم الأسفلين) * يعني الآخرين ويقال الأذلين
وعلاهم إبراهيم فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى أهلكهم الله عز وجل
سورة الصافات 99 - 102
ثم قال * (وقال إني ذاهب إلى ربي) * يعني إني مهاجر إلى طاعة ربي
وقال مقاتل يعني من بابل إلى بيت المقدس
ويقال من أرض حران إلى بيت المقدس
* (سيهدين) * يعني يحفظني ويقال إني مهاجر إلى ربي يعني مقبل إلى طاعة ربي * (سيهدين) * أي سيرشدني ربي
ويقال سيعينني
قوله عز وجل * (رب هب لي من الصالحين) * يعني يا رب أعطني ولدا صالحا من المسلمين * (فبشرناه بغلام حليم) * يعني حليم في صغره عليم في كبره
قوله عز وجل * (فلما بلغ معه السعي) * أي الحج ويقال إلى الجبل " قال " إبراهيم عليه السلام لابنه * (يا بني إني أرى في المنام) * قال مقاتل هو إسحاق
وقال الكلبي هو إسماعيل
وروى معمر عن الزهري أنه قال في قوله * (فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي) * قال ابن عباس هو إسماعيل وكان ذلك بمنى
وقال كعب هو إسحاق وكان ذلك ببيت المقدس
وقال مجاهد وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي هو إسماعيل
وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال هو إسحاق وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة
139

وقتادة وأبو هريرة وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم وهكذا قال أهل الكتابين كلهم
والذي قال هو إسماعيل احتج بالكتاب والخبر
أما الكتاب فهو أنه لما ذكر قصة الذبح قال على أثر ذلك * (وبشرناه بإسحاق نبيا) *
وأما الخبر فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (أنا ابن الذبيحين) يعني أباه عبد الله بن عبد المطلب وإسماعيل بن إبراهيم
وأما الذي يقول هو إسحاق فيحتج بما روي في الخبر أنه ذكر نسبة يوسف فقال كان يوسف أشرف نسبا
يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله قد اختلفوا فيه هذا الاختلاف والله أعلم بالصواب
والظاهر عند العامة هو إسحاق
فذلك قوله " يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك " فظاهر اللفظ أنه رأى في المنام أنه يذبحه ولكن معناه * (إني أرى في المنام) * أني قد أمرت بذبحك بدليل ما قال في سياق الآية * (يا أبت افعل ما تؤمر) *
وروي في الخبر أنه رأى في المنام أنه قيل له إن الله يأمرك أن تذبح ولدك فاستيقظ خائفا وقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ثم رأى في المنام في الليلة الثانية والثالثة مثل ذلك فاستيقظ وضم ابنه إلى نفسه وجعل يبكي حتى أصبح فانقاد لأمر الله تعالى وقال لامرأته سارة إني أريد أن أخرج إلى طاعة ربي فابعثي ابني معي فجهزته وبعثته معه قال كعب الأحبار فقال الشيطان إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا
فلما خرج إبراهيم بابنه ليذبحه فذهب الشيطان ودخل على سارة فقال أين ذهب إبراهيم بابنك فقالت غدا به لبعض حاجته
قال إنه لم يغد به لحاجته ولكنه إنما ذهب به ليذبحه فقالت ولم يذبحه قال يزعم أن ربه أمره بذلك
فقالت قد أحسن أن يطيع ربه
فخرج في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك قال لبعض حاجته
قال فإنه لا يذهب بك لحاجته ولكنه إنما يذهب بك ليذبحك
فقال ولم يذبحني قال يزعم أن ربه أمره بذلك
قال فوالله لئن كان الله أمره بذلك ليفعلن
فتركه ولحق بإبراهيم فقال أين غدوت بابنك قال لحاجة
قال فإنك لم تغد به لحاجة وإنما غدوت به لتذبحه
قال ولم أذبحه قال تزعم أن الله تعالى أمرك بذلك
قال فوالله لئن كان الله أمرني بذلك لأفعلن
فتركه وأيس من أن يطاع
قوله عز وجل * (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم) * فأوحى الله تعالى إلى إسحاق أن ادع فإن لك دعوة مستجابة
فقال إسحاق اللهم إني أعوذ أن تستجيب لي في أيما عبد من الأولين والآخرين لقيك لا يشرك بك شيئا أن تدخله الجنة
وقال مجاهد إن إبراهيم عليه السلام لما أراد أن يذبح ابنه بالسكين قال ابنه يا أبت خذ بناصيتي واجلس بين كتفي حتى لا أوذيك إذا أصابني حد السكين ولا تذبحني وأنت تنظر في وجهي عسى أن ترحمني واجعل
140

وجهي إلى الأرض ففعل إبراهيم
فلما أمر السكينة على حلقه انقلبت فقال يا أبت ما لك قال قد انقلبت السكين
قال فاطعن بها طعنا
قال فطعن فانثنت
قال فعرف الله عز وجل الصدق منه ففداه بذبح عظيم وقال هو إسحاق
وروى أسباط عن السدي قال كان من شأن إسحاق حين أراد أبوه أن يذبحه أنه ركب مع أبيه في حاجة فأعجبه شبابه وحسن هيئته وكان إبراهيم حين بشر بإسحاق قبل أن يولد له قال هو إذا لله ذبيح
فقيل لإبراهيم في منامه قد نذرت لله نذرا ف بنذرك فلما أصبح قال * (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) * يقول قد أمرت بذبحك * (قال يا أبت افعل ما تؤمر) * قال فانطلق معي وأخبر أمك أنك تنطلق إلى أخوالك وأخذ إبراهيم معه حبلا ومدية يعني السكين
فقال له يا أبتاه حدها فإنه أهون للموت
فانطلق به حتى أتى به جبلا من جبال الشام فأضجعه وربط يديه ورجليه فقال له إسحاق يا أبتاه شد رباطي لكي لا أضطرب فيصيب الدم ثيابك فتراه سارة فتحزن
فبكى إبراهيم بكاء شديدا وأخذ الشفرة فوضعها على حلقه وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة نحاس فجعل يحز فلا تصنع شيئا
فلما رأى إبراهيم ذلك قلبه على وجهه فضرب الله تعالى على قفاه صفيحة نحاس وبكيا حتى ابتلت الأرض من دموعهما
فجعل يحز فلا تقطع شيئا فنودي * (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) * ودونك هذا الكبش فهو فداه
فالتفت إبراهيم فإذا هو بكبش أبيض أملح ينحط من الجبل وقد كان رعي في الجنة أربعين خريفا فخلى عن ابنه وأخذ الكبش فذبحه
وقال وهب بن منبه قال إبراهيم لإسحاق * (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر) * ثم قال يا أبت إني أوصيك بثلاثة أشياء
قال وكان إسحاق في ذلك اليوم ابن سبع سنين
أحدهما أن تربط يدي لكيلا أضرب فأؤذيك والثاني أن تجعل وجهي إلى الأرض لكيلا تنظر إلى وجهي وترحمني والثالث أن تذهب بقميصي إلى أمي ليكون القميص عندها تذكرة مني فذلك قوله " فلما بلع معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " قرأ حمزة والكسائي * (ماذا ترى) * بضم التاء يعني ماذا ترى من صبرك
ويقال معناه ماذا تشير
وقرأ الباقون بالنصب وهو من الرأي يعني ماذا ترى من صبرك
ويقال معناه ماذا تشير فيما أمر الله به
ويقال هو من المشورة والرأي قال أبو عبيد بالنصب تقرأ لأن هذا في موضع المشورة والرأي والآخر يستعمل في رؤية العين * (قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) * على الذبح
سورة الصافات 103 - 111
141

سورة الصافات 112 - 113
قوله عز وجل * (فلما أسلما) * يعني اتفقا على أمر الله تعالى قال قتادة أسلم هذا نفسه لله تعالى وأسلم هذا ابنه لله تعالى
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ " فلما سلما " يعني رضيا * (وتله للجبين) * يعني صرعه على جبينه
أي على وجهه
وقال القتبي * (وتله للجبين) * يعني جعل إحدى جبينيه على الأرض وهما جبينان والجبهة بينهما * (وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) * وقال القتبي الواو زيادة ومعناه فلما أسلما وتله للجبين ناديناه وهذا كما قال امرئ القيس
(فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
* بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل)
يعني انتحى والواو زيادة
وقال بعضهم في الآية مضمر ومعناه * (فلما أسلما) * وسلما * (وتله للجبين) * وذكر عن الخليل بن أحمد أنه سئل عن هذه الآية فقال ليس لنا في كتاب الله عز وجل تكلم
فقيل له فما مثله في العربية فقال قول امرئ القيس فلما أجزنا ساحة الحي أجزنا وانتحى بنا
كذلك قوله * (أسلما) * سلما * (وتله للجبين) * * (وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) * يعني أوفيت الوعد وائتمرت ما أمرت
يقول الله تعالى * (إنا كذلك نجزي المحسنين) * كما فعلت يا إبراهيم
وقد * (فديناه بذبح عظيم) *
قوله عز وجل * (إن هذا لهو البلاء المبين) * يعني الاختبار البين
ثم قال * (وفديناه بذبح عظيم) * يعني بكبش عظيم والذبح بكسر الذال اسم لما يذبح وبالنصب مصدر
وروي عن ابن عباس أنه قال حدثني من رأى قرني الكبش معلقين في الكعبة وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عن إسماعيل عليهما السلام
ثم قال عز وجل * (وتركنا عليه في الآخرين) * قال الثناء الحسن * (سلام على إبراهيم) * يعني سلام الله على إبراهيم
ويقال هذا موصول بالأول يعني * (وتركنا عليه في الآخرين) * * (سلام على إبراهيم) * يعني أثنينا ثناء عليه السلام في الآخرين
ثم قال * (كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين) * يعني المصدقين المخلصين
ثم قال عز وجل * (وبشرناه بإسحاق) * قال ابن عباس بشرنا بإسحاق بعدما أمر بذبح إسماعيل وكان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة
ويقال * (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) * يعني بشرناه بنبوة إسحاق بعدما أمر بذبح إسحاق عليه السلام
142

ثم قال عز وجل * (وباركنا عليه وعلى إسحاق) * يعني على إبراهيم وعلى إسحاق * (وباركنا) * أي النماء والزيادة في الأموال والأولاد فكان من صلبه ذرية لا تحصى * (ومن ذريتهما محسن) * مثل موسى وهارون وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام ومؤمنو أهل الكتاب * (وظالم لنفسه مبين) * يعني الذين كفروا بآيات الله عز وجل
وروي عن ابن عباس أنه قال قد رعى الكبش في الجنة أربعين خريفا
وقال بعضهم هي الشاة التي تقرب بها هابيل ابن آدم عليهما السلام فتقبل منه قربانه ورفع إلى السماء حيا ثم جعل بدلا عن ذبح إسماعيل أو إسحاق عليهما السلام
ويقال هي الشاة التي خلقها الله تعالى لأجله
وقال بعضهم إنها وعلة من البر يعني بقرة وحش من البر جبلية
سورة الصافات 114 - 122
قوله عز وجل * (ولقد مننا على موسى وهارون) * يعني أنعمنا عليهما بالنبوة * (ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم) * يعني من الغرق * (ونصرناهم) * يعني موسى وقومه * (فكانوا هم الغالبين) * بالحجة على فرعون * (وآتيناهما) * يعني موسى وهارون * (الكتاب المستبين) * يعني المبين قد بين فيه الحلال والحرام * (وهديناهما الصراط المستقيم) * يعني ثبتناهما على دين الإسلام * (وتركنا عليهما في الآخرين) * يعني الثناء الحسن في الباقين * (سلام على موسى وهارون) * يعني السلام منا والمغفرة عليهما * (إنا كذلك نجزي المحسنين) * أي نكافئ المحسنين * (إنهما من عبادنا المؤمنين) * يعني من المرسلين
سورة الصافات 123 - 132
قوله عز وجل * (وإن إلياس لمن المرسلين) * يعني نبي من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام وقال بعضهم إنه إدريس عليه السلام
وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ " وإن إدريس لمن المرسلين سلام على إدريس "
وقال بعضهم إلياس هو الخضر عليه السلام
وقال بعضهم إلياس غير الخضر وإلياس صاحب البراري والخضر صاحب الجزائر ويجتمعان
143

في كل يوم عرفة بعرفات
ويقال هو من سبط يوشع بن نون بعثه الله تعالى إلى أهل بعلبك فكذبوه فأهلكهم الله تعالى بالقحط
وقال الله عز وجل لإلياس سلني أعطك
قال ترفعني إليك فرفعه الله تعالى إليه وجعله أرضيا سماويا إنسيا ملكيا يطير مع الملائكة فذلك قوله تعالى * (إذ قال لقومه ألا تتقون) * اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الأمر يعني اتقوا الله تعالى * (أتدعون بعلا وتذرون) * ربا
روى عكرمة عن ابن عباس قال البعل الصنم
وقال مجاهد " أتعدون بعلا " قال ربا
وروى جويبر عن الضحاك قال مر رجل وهو يقول من يعرف بعل البقرة
فقال رجل أنا بعلها فقال له ابن عباس إنك زوج البقرة فقال الرجل يا ابن عباس أما سمعت قول الله تعالى يقول * (أتدعون بعلا) * يعني ربا وأنا ربها ويقال البعل كان اسم ذلك الصنم خاصة الذي كان لهم ويقال كان صنما من ذهب فقال لهم * (أتدعون بعلا) * أي الصنم * (وتذرون أحسن الخالقين) * الذي خلقكم يعني تتركون عبادة الله * (الله ربكم) * قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص * (الله ربكم) * * (ورب آبائكم) * كلها بالنصب وقرأ الباقون كلها بالضم * (الله ربكم ورب آبائكم) *
فمن قرأ بالنصب يرده إلى قوله * (وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب) * على صفة أحسن
ومن قرأ بالضم فهو على معنى الاستئناف فكأنه قال هو الله ربكم ورب آبائكم الأولين
ثم قال عز وجل * (فكذبوه) * يعني إلياس * (فإنهم لمحضرون) * النار * (إلا عباد الله المخلصين) * فإنهم لا يحضرون النار * (وتركنا عليه في الآخرين) * يعني الثناء الحسن * (سلام على إل ياسين) * قرأ نافع وابن عامر * (سلام على إل ياسين) * وقرأ الباقين " إلياسين "
ومن قرأ * (إل ياسين) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ويقال آل محمد فياسين اسم والال مضاف إليه وآل الرجل أتباعه وقيل أهله
ومن قرأ " إلياسين " فله طريقان أحدهما أنه جمع الياس ومعناه الياس وأمته من المؤمنين
كما يقال رأيت المهالبة يعني بني المهلب
والثاني أن يكون لغتان إلياس وإلياسين مثل ميكال وميكائيل
ثم قال * (إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين) * وقد ذكرناه
سورة الصافات 133 - 138
قوله عز وجل * (وإن لوطا لمن المرسلين) *
وقوله * (إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين) * وقد ذكرناه
ثم قال عز وجل * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين) * يعني يا أهل مكة لتمرون على قرياتهم إذا سافرتم بالليل والنهار وذلك قوله * (وبالليل أفلا تعقلون) * يعني أليس لكم ذهن الإنسانية فتعتبروا
144

سورة الصافات 139 - 148
قوله عز وجل * (وإن يونس لمن المرسلين) * يعني من جملة المرسلين * (إذ أبق) * يعني إذ فزع ويقال إذ هرب
ويقال خرج * (إلى الفلك المشحون) * يعني الموقد من الناس والدواب
ويقال المجهز الذي قد فرغ من جهازه * (فساهم) * يعني اقترعوا وقد ذكرت قصته في سورة الأنبياء عليهم السلام * (فكان من المدحضين) * يعني من المقروعين والمدحض في اللغة هو المغلوب في الحجة وأصله من دحض الرجل إذ زل من مكانه
* (فالتقمه الحوت) * يعني ابتلعه الحوت * (وهو مليم) * يعني يلوم نفسه قال أهل اللغة المليم الذي استوجب اللوم سواء لأمره أو لا
والملوم الذي يلام سواء استوجب اللوم أم لا
ثم قال عز وجل * (فلولا أنه كان من المسبحين) * قال مقاتل والكلبي لولا أنه كان من المصلين قبل ذلك ويقال * (لولا أنه كان من المسبحين) * في بطن الحوت * (للبث) * أي لمكث * (في بطنه) * ولكان بطنه قبره * (إلى يوم يبعثون) * يعني إلى يوم القيامة
قوله عز وجل * (فنبذناه بالعراء) * يعني نبذه الحوت على ساحل البحر
ويقال بالفضاء على ظاهر الأرض
وقال أهل اللغة العراء هو المكان الخالي من البناء والشجر والنبات
فكأنه من عرى الشيء * (وهو سقيم) * يعني مريض
وذكر في الخبر أنه لم يبق له لحم ولا ظفر ولا شعر فألقاه على الأرض كهيئة الطفل لا قوة له وقد كان مكث في بطن الحوت أربعين يوما
* (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) * قال مقاتل يعني من قرع وهكذا قال قتادة ومجاهد
وقال أهل اللغة كل شيء ينبت بسطا فهو يقطين وهكذا قال الكلبي
وذكر في الخبر أن وعلة كانت تختلف إليه ويشرب من لبنها فكان تحت ظل اليقطين ويشرب من لبن الوعلة حتى تقوى ثم يبست تلك الشجرة فاغتم لذلك وحزن حزنا شديدا وبكى فأوحى الله تعالى إليه إنك قد اغتممت بسبب هذه الشجرة فكيف لم تغتم بهلاك مائة ألف أو يزيدون
قال * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * يعني كما أرسلناه قبل ذلك إلى قومه وهم مائة ألف يعني أهل نينوى * (أو يزيدون) *
يعني بل يزيدون ويقال يعني ويزيدون وكانوا مائة وعشرين ألفا * (فآمنوا) * لما جاءهم العذاب أقروا وصدقوا فصرف الله عنهم العذاب فذلك قوله * (فمتعناهم إلى حين) * يعني أبقيناهم إلى منتهى آجالهم
فخرج يونس عليه السلام فمر بجانب مدينة نينوى فرأى هناك غلاما يرعى فقال ممن أنت يا غلام فقال من
145

قوم يونس
فقال فإذا رجعت إليهم فأخبرهم بأنك قد رأيت يونس
فقال الغلام إنه من يحدث ولم تكن له بينة قتلوه فقال له يونس عليه السلام تشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة
فدخل وقال للملك إني رأيت يونس عليه السلام يقرئك السلام فلم يصدقوه حتى خرجوا وشهدت الشجرة والبقعة
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأخذ الملك بيدي الغلام وقال أنت أحق بالملك مني فأقام الغلام أميرهم أربعين سنة
سورة الصافات 149 - 157
قوله عز وجل * (فاستفتهم) * يعني سل أهل مكة * (ألربك البنات) * قال مقاتل وذلك أن جنسا من الملائكة يقال لهم الجن منهم إبليس قال بعض الكفار إن الله عز وجل اتخذهم بناتا لنفسه فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه فمن أمهم فقالوا سروات الجن فذلك قوله * (ألربك البنات ولهم البنون) * يعني يختارون له البنات ولأنفسهم البنين
ثم قال * (أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون) * يعني كانوا شاهدين حاضرين حين خلقهم بناتا * (ألا إنهم من إفكهم) * يعني من كذبهم * (ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون) * في قلوبهم
ثم قال عز وجل * (أصطفى البنات على البنين) * وذكر عن نافع أنه قرأ بإسقاط الألف في الوصل وهو قوله * (لكاذبون أصطفى) * وبكسرها في الابتداء وجعلها ألف الوصل ولم يجعلها ألف القطع ولا ألف الاستفهام ومعناها أن الله عز وجل حكى عن الكفار أنهم يزعمون أن الملائكة بنات الله وأنهم من إفكهم ليقولون اصطفى البنات على البنين
وقرأ الباقون * (لكاذبون أصطفى) * بإثبات الألف على معنى الاستفهام فلفظه لفظ الاستفهام والمراد به الزجر
ثم قال عز وجل * (ما لكم كيف تحكمون) * يعني كيف تقضون بالحق * (أفلا تذكرون) * أنه لا يختار البنات على البنين * (أم لكم سلطان مبين) * يعني ألكم حجة بينة
ويقال ألكم عذر بين في كتاب الله أنزل الله إليكم بأن الملائكة بناته * (فأتوا بكتابكم) * يعني أي بعذركم وحجتكم * (إن كنتم صادقين) * في مقالتكم
سورة الصافات 158 - 162
146

سورة الصافات 163 - 170
ثم قال عز وجل * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * يعني وصفوا بين الرب وبين الملائكة نسبا حين زعموا أنهم بناته
ويقال جعلوا بينه وبين إبليس قرابة
وروى جويبر عن الضحاك قال قالت قريش إن إبليس أخو الرحمن وقال عكرمة * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * قالوا الملائكة بنات الله وجعلوهم من الجن
وهكذا قال القتبي
ثم قال * (ولقد علمت الجنة) * قال مقاتل والكلبي يعني علمت الملائكة الذين قالوا إنهم البنات * (إنهم لمحضرون) * أن من قال إنهم بناته لمحضرون في النار
ويقال لو علمت الملائكة أنهم لو قالوا بذلك أدخلوا النار
ثم قال الله عز وجل * (سبحان الله عما يصفون) * يعني تنزيها لله عما يصف الكفار
ثم استثنى على معنى التقديم والتأخير يعني فقال * (إنهم لمحضرون) * * (إلا عباد الله المخلصين) * يعني الموحدين فإنهم لا يحضرون النار
ويقال بغير تقديم وتأخير ومعناه " سبحانه عما يصنعون إلا عباد الله المخلصين " يعني الموحدين فإنهم لا يقولون ذلك
ثم قال عز وجل * (فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين) * يعني ما أنتم عليه بمضلين أحدا بآلهتكم * (إلا من هو صال الجحيم) * يعني إلا من قدر الله له أن يصلى الجحيم
ويقال إلا من كان في علم الله تعالى أنه يصلى الجحيم ويقال إلا من قدر عليه الضلالة وعلم ذلك منه وأنتم لا تقدرون على الضلالة وعلى الهدى
قوله عز وجل * (وما منا إلا له مقام معلوم) * يعني قل يا جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم
* (وما منا) * معشر الملائكة * (إلا له مقام معلوم) * يعني مصلى معروفا في السماء يصلي فيه ويعبد الله تعالى فيه * (وإنا لنحن الصافون) * يعني صفوف الملائكة في السماوات
وروي مسروق عن ابن مسعود قال إن في السماوات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك ساجد أو قدماه ثم قرأ * (وإنا لنحن الصافون) *
وروي عن مجاهد عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه جبهة ملك ساجد)
ويقال إن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له " إنك تقوم أدنى من ثلثي اليل ونصفه وثلثه "
147

[المزمل 20] * (وما منا إلا له مقام معلوم) * في السماوات يعبد الله عز وجل فيه * (وإنا لنحن المسبحون) * يعني المصلين * (وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا) * يعني إن أهل مكة كانوا يقولون لو أتانا بكتاب مثل اليهود والنصارى لكنا نؤمن فذلك قوله عز وجل * (لو أن عندنا ذكرا من الأولين) * يعني لو جاءنا رسول * (لكنا عباد الله المخلصين) * يعني الموحدين
فلما جاءهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به
يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال يعني بالقرآن * (فكفروا به فسوف يعلمون) * يعني يعرفون في الآخرة ويقال هذا وعيد لهم
ويقال في الدنيا
سورة الصافات 171 - 182
قوله عز وجل * (ولقد سبقت كلمتنا) * يعني قد مضت كلمتنا بالنصرة * (لعبادنا) * * (المرسلين) * يعني الأنبياء عليهم السلام وهو قوله عز وجل * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * [المجادلة 21] * (إنهم لهم المنصورون) * في الدنيا على أعدائهم * (وإن جندنا لهم الغالبون) * يعني المؤمنين أهل ديننا
ويقال رسلنا لهم الغالبون في الدنيا بالغلبة والحجة في الآخرة * (فتول عنهم) * يعني فأعرض عنهم إلى نزول العذاب وكان ذلك قبل أن يؤمر بالقتال * (حتى حين) * قال الكلبي إلى فتح مكة
ويقال إلى أن تؤمر بالقتال * (وأبصرهم) * يعني أعلمهم ذلك * (فسوف يبصرون) * يعني يرون ماذا يفعل بهم إذا نزل بهم العذاب * (أفبعذابنا يستعجلون) * يعني أفبعذاب مثلي * (يستعجلون) * * (فإذا نزل بساحتهم) * يعني بقربهم وحضرتهم * (فساء صباح المنذرين) * يعني بئس الصباح صباح من أنذر بالعقاب
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما نزل بقرب خيبر قال (هلكت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين) يعني من أنذرتهم فلم يؤمنوا
قوله عز وجل * (وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون) * وقد تكرر الكلام للتأكيد والمبالغة في الحجة
ثم نزه نفسه عما قالت الكفار فقال عز وجل * (سبحان ربك) * يا محمد * (رب العزة) *
148

والقدرة * (عما يصفون) * يعني عما يقولون وقرئ في الشاذ * (رب العزة) * ويكون نصبا على المدح وفي الشاذ قرئ * (رب العزة) * بالرفع على معنى هو رب العزة
وقراءة العامة بالكسر على معنى النعت
ثم قال عز وجل * (وسلام على المرسلين) * بتبليغ الرسالة
ففي الآية دليل وتنبيه للمؤمنين بالتسليم على جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام
ثم قال * (والحمد لله رب العالمين) * على هلاك الكافرين الذين لم يوحدوا ربهم ويقال حمد الرب نفسه ليكون دليلا لعباده ليحمدوه سبحانه وتعالى والحمد لله رب العالمين
149

سورة ص مكية وهي ثمانون وثمان آيات
سورة ص 1 - 3
قوله الله سبحانه تعالى * (ص والقرآن) * قرأ الحسن صاد بالكسر وجعلها من المصاداة يقول عارض القرآن أي عارض عملك بالقرآن
ويقال بقلبك
وروى معمر عن قتادة في قوله * (ص والقرآن) * قال هو كما تقول تلق كذا أي هيء نفسك بقدوم فلان يعني طهر نفسك بآداب القرآن كما قال صلى الله عليه وسلم (القرآن مأدبة الله فتطعموا من مأدبته) وكان عيسى بن عمر يقرأ صاد بالنصب وكذلك يقرأ قاف ونون بالنصب ومعناه اقرأ صاد
وقراءة العامة بسكون الدال لأنها حروف هجاء فلا يدخلها الإعراب وتقديرها الوقف عليها
وقيل في التفسير قول الله تعالى * (ص) * يعني الصادق وهو الله
ويقال هو قسم
* (والقرآن) * عطف عليه فقسم بعد قسم ومعناه أقسمت ب (ص) وبالقرآن وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الصاد اسم بحر في السماء
وقال ابن مسعود في قوله * (ص والقرآن) * يعني صادقوا القرآن حتى تعرفوا الحق من الباطل
وقال الضحاك معناه صدق الله
ثم قال * (والقرآن ذي الذكر) * يعني والقرآن ذي الشرف
ويقال فيه ذكر من كان قبله وجواب القسم عند قوله * (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) * [ص 64] والجواب قد يكون مؤخرا عن الكلام كما قال * (والفجر وليال عشر) * [الفجر 1، 2] وجوابه قوله * (إن ربك لبالمرصاد) * [الفجر 14] وقوله * (والسماء ذات البروج) * [البروج 1] وجوابه قوله * (إن بطش ربك لشديد) * [البروج 12] وقال بعضهم جواب القسم ههنا * (كم أهلكنا) * ومعناه لكم أهلكنا فلما طال الكلام حذف اللام
ثم قال * (بل الذين كفروا في عزة) * أي في حمية
كقوله * (أخذته العزة) * [البقرة 206] يعني الحمية
ويقال * (في عزة) * يعني في تكبر * (وشقاق) * يعني في خلاف من الدين ويقال في عداوة ومباعدة وتكذيب
وقال القتبي * (بل) * في اللغة على وجهين أحدهما
150

لتدارك كلام غلط فيه
تقول رأيت زيدا بل عمروا
والثاني أن يكون لترك شيء وأخذ غيره من الكلام كقوله * (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) *
ثم خوفهم فقال عز وجل * (كم أهلكنا من قبلهم من قرن) * يعني من أمة * (فنادوا) * يعني فنادوا في الدنيا واستغاثوا * (ولات حين مناص) * يعني وليس تحين فرار
قال الكلبي وكانوا إذا قاتلوا قال بعضهم لبعض * (ولات حين مناص) * يقول احمل حملة واحدة فينجو من نجا ويهلك من هلك
فلما أتاهم العذاب قالوا * (مناص) * مثل ما كانوا يقولون
فقال الله تعالى لهم ليس بحين فرار وهي لغة اليمن
وقال القتبي النوص التأخر والبوص التقدم في كلام العرب
وروى معمر عن قتادة في قوله * (فنادوا ولات حين مناص) * قال نادوا على غير حين النداء
وقال عكرمة نادوا وليس تحين انفلات
وقال أبو عبيدة اختلفوا في الوقف فقال بعضهم يوقف عند قوله * (ولأت) * يم يبتدئ " تحين مناص " على خط الكتاب
والذي عندنا أن الوقف عند قوله ولا ثم يبتدأ حين مناص
لأنا لا نجد في اليوم شيء من كلام العرب ولات أما المعروف لا ولأن تفسير ابن عباس يشهد لها وذلك أنه قال ليس تحين فرار وليس هي أخت لا ولا بمعناها
قال أبو عبيدة ومع هذا تعمدت النظر في الذي يقال له مصحف الإمام وهو مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه فوجدت التاء متصلة مع حين
سورة ص 4 - 7
ثم قال عز وجل * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) * يعني مخوف منهم ورسول منهم يعني من العرب وهو محمد صلى الله عليه وسلم * (وقال الكافرون هذا ساحر
كذاب) * يكذب على الله تعالى أنه رسوله * (أجعل الآلهة إلها واحدا) * يعني كيف يتسع لحاجتنا إله واحد " إن هذا لشيء عجاب " يعني لأمر عجيب والعرب تحول فعيلا إلى فعال وههنا أصله شيء عجيب كما قال في سورة ق * (عجيب) * [هود 72، ق 2] * (وانطلق الملأ منهم) * قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرنا الثقة بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما مرض أبو طالب دخل عليه نفر من قريش فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويقول ويقول ويفعل ويفعل فأرسل إليه فانهه عن ذلك فلما فأرسل إليه أبو طالب قام النبي صلى الله عليه وسلم وجاء إلى عمه أبي طالب وكان إلى جنب أبي طالب موضع رجل فخشي أبو جهل إن جاء النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إلى جنب عمه أن يكون أرق له عليه فوثب أبو جهل فجلس في ذلك المجلس فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد مجلسا إلا عند الباب
فلما دخل قال له أبو طالب يا ابن أخي إن قومك
151

يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول وتفعل وتفعل
فقال (يا عم إني إنما أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها والعجم الجزية)
فقالوا وما هي فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا إله إلا الله) فقاموا فزعين ينقضون ثيابهم ويقولون " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب "
قوله عز وجل * (وانطلق الملأ منهم) * يعني الأشراف من قريش * (أن امشوا) * يعني امكثوا * (واصبروا) * يعني اثبتوا * (على آلهتكم) * يعني على عبادة آلهتكم " إن هذا لشيء يراد " يعني لأمر يراد كونه بأهل الأرض
ويقال إن هذا لشيء يراد يعني لا يكون ولا يتم له * (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة) * يعني في اليهود والنصارى * (إن هذا إلا اختلاق) * يعني يختلقه من قبل نفسه
ويقال في قوله " إن هذا لشيء يراد " يعني أراد أن يكون
سورة ص 8 - 10
ثم قال عز وجل * (أأنزل عليه الذكر من بيننا) * يعني أخص بالنبوة من بيننا يقول الله عز وجل * (بل هم في شك من ذكري) * يعني في ريب من القرآن والتوحيد * (بل لما يذوقوا عذاب) * أي لم يذوقوا عذابي كقوله * (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * [الحجرات 14] أي لم يدخل فهذا تهديد لهم أي سيذوقون عذابي
ثم قال * (أم عندهم خزائن رحمة ربك) * يعني مفاتيح رحمة ربك
يعني مفاتيح النبوة بأيديهم يعني ليس ذلك بأيديهم وإنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء * (العزيز الوهاب) * يعني بيد الله * (العزيز) * في ملكه * (الوهاب) * لمن يشاء
قوله عز وجل * (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما) * يعني ألهم ملكنا فيختاروا النبوة من يشاء بل الله يختار من يشاء يوحي إليه بالرسالة أي يوحي الله عز وجل بالرسالة لمن يشاء * (فليرتقوا في الأسباب) * يعني إن لم يرضوا بما فعل الله تعالى فليتكلفوا الصعود إلى السماء
وقال القتبي أسباب السماء أي أبواب السماء كما قال القائل أسباب السماء بسلم
قال ويكون أيضا * (فليرتقوا في الأسباب) * يعني في الجبال إلى السماء كما سألوك أن ترقى في السماء فتأتيهم بكتابة وهذا كله توبيخ وتهديد بالعجز
152

سورة ص 11 - 16
ثم قال عز وجل * (جند ما هنالك) * يعني جند عند ذلك و " ما " زائدة يعني حين أرادوا قتل النبي * (مهزوم) * يعني مغلوب * (من الأحزاب) * يعني من الكفار
وقال مقاتل فأخبر الله تعالى بهزيمتهم ببدر
وقال الكلبي يعني عند ذلك إن أرادوه * (مهزوم) * مغلوب
ثم قال عز وجل * (كذبت قبلهم) * يعني من قبل أهل مكة * (قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد) * يعني ذو ملك ثابت شديد دائم ويقال ذو بناء محكم ويقال يعني في عز ثابت
والعرب تقول فلان في عز ثابت الأوتاد يريدون دائما شديدا وأصل هذا أن بيوت العرب تثبت بأوتاد ويقال هي أوتاد كانت لفرعون يعذب بها وكان إذا غضب على أحد شده بأربعة أوتاد
ثم قال * (وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة) * يعني الغيضة وهم قوم شعيب عليه السلام * (أولئك الأحزاب) * يعني الكفار سموا أحزابا لأنهم تحزبوا على أنبيائهم
أي تجمعوا
وأخبر في الابتداء أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب " إن كل " يعني ما كل * (إلا كذب الرسل فحق عقاب) * يعني وجب عذابي عليهم
قوله عز وجل * (وما ينظر هؤلاء) * يعني قومك * (إلا صيحة واحدة) * يعني النفخة الأولى * (ما لها من فواق) * يعني من نظرة ومن رجعة
قرأ حمزة والكسائي * (فواق) * بضم الفاء وقرأ الباقون بالنصب
ويقال ومعناهما واحد يسمى ما بين حلبتي الناقة * (فواق) * لأن اللبن يعود إلى الضرع وكذلك إفاقة المريض يعني يرجع إلى الصحة
فقال * (ما لها من فواق) * يعني من رجوع
وقال أبو عبيدة من فتحها أراد ما لها من راحة ولا إفاقة يذهب بها إلى إفاقة المريض ومن ضمها جعلها من فواق الناقة وهو ما بين الحلبتين يعني ما لها من انتظار
وقال القتبي الفواق والفواق واحد وهو ما بين الحلبتين
ثم قال تعالى * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا) * قال ابن عباس وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش (من لم يؤمن بالله أعطي كتابه بشماله)
فقالوا * (ربنا عجل لنا قطنا) * يعني صحيفتنا وكتابنا في الدنيا * (قبل يوم الحساب) * والقط في اللغة الصحيفة المكتوبة ويقال
153

لما نزل قوله * (فأما من أوتي كتابه بيمينه) * [الحاقة 19] فقالوا * (ربنا عجل لنا) * هذا الكتاب * (قبل يوم الحساب) * استهزاء
سورة ص 17 - 20
ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل * (اصبر على ما يقولون) * من التكذيب * (واذكر عبدنا داود ذا الأيد) * يعني ذا القوة على العبادة * (إنه أواب) * يعني مقبل على طاعة الله عز وجل
وقال مقاتل * (أواب) * يعني مطيع
قوله عز وجل * (إنا سخرنا الجبال معه) * يعني ذللنا الجبال * (يسبحن) * مع داود عليه السلام * (بالعشي والإشراق) * يعني في آخر النهار وأوله
وروى طاوس أن ابن عباس قال لأصحابه هل تجدون صلاة الضحى في القرآن قالوا لا
قال بلى قوله * (يسبحن بالعشي والإشراق) * كانت صلاة الضحى يصليها داود عليه السلام
ثم قال عز وجل * (والطير محشورة) * يعني مجموعة * (كل له أواب) * يعني مطيع
وقال عمرو بن شرحبيل الأواب بلغة الحبشة المسيح وقال الكلبي المقبل على طاعة الله تعالى
قوله عز وجل * (وشددنا ملكه) * يعني قوينا حراسه
قال مقاتل والكلبي كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل ويقال قوينا ملكه وأثبتناه وحفظناه عليه
وروي في الخبر أن غلاما استعدى على رجل وادعى عليه بقرا فأنكر المدعى عليه وقد كان لطمه لطمة حين ادعى عليه فسأل داود من الغلام البينة فلم يقمها فرأى داود في منامه أن الله عز وجل يأمره أن يقتل المدعى عليه ويسلم البقر إلى الغلام
فقال داود هو منام ثم أتاه الوحي بذلك فأخبر بذلك بنو إسرائيل فجزعت بنو إسرائيل وقالوا رجل لطم غلاما لطمة فتقتله بذلك فقال داود عليه السلام هذا أمر الله تعالى به فسكتوا
ثم أحضر الرجل فأخبره أن الله تعالى أمره بقتله فقال الرجل صدقت يا نبي الله إني قتلت أباه غيلة وأخذت البقر فقتله داود فعظمت هيبته وشدد ملكه وقالوا إنه يقضي بوحي الله تعالى
ثم إن الله تعالى أرخى سلسلة من السماء وأمره بأن يقضي بها بين الناس فمن كان على الحق يأخذ السلسلة ومن كان ظالما لا يقدر على أخذ السلسلة
وقد كان غصب رجل من رجل لؤلؤا فجعل اللؤلؤ في جوف عصا له ثم خاصمه المدعي إلى داود عليه السلام فقال المدعي إن هذا أخذ مني لؤلؤا وإني لصادق في مقالتي
فجاء وأخذ السلسلة ثم قال المدعى عليه خذ مني العصا فأخذ عصاه وقال إني قد دفعت إليه اللؤلؤ وإني لصادق في مقالتي فجاء وأخذ السلسلة
فتحير
154

داود عليه السلام في ذلك فرفعت السلسلة وأمره بأن يقضي بالبينات والأيمان فذلك قوله عز وجل * (وآتيناه الحكمة) * يعني الفهم والعلم
ويقال يعني النبوة * (وفصل الخطاب) * يعني القضاء بالبينات والأيمان
وقال قتادة والحسن * (وفصل الخطاب) * يعني البينة على الطالب واليمين على المطلوب
سورة ص 21 - 26
ثم قال عز وجل * (وهل أتاك نبأ الخصم) * يعني خبر الخصم
ويقال خبر الخصوم * (إذ تسوروا المحراب) * والتسور أن يصعد في مكان مرتفع وإنما سمي المحراب سورا لارتفاعه من الأرض
ويقال * (تسوروا) * يعني دخلوا عليه من فوق الجدار
وقال الحسن البصري جزأ داود عليه السلام الدهر أربعة أيام فيوما لنسائه ويوما لقضائه ويوما يخلو فيه لعبادة ربه ويوما لبني إسرائيل ليسألونه
فقال يوما لبني إسرائيل أيكم يستطيع أن يتفرغ لعبادة ربه يوما لا يصيب الشيطان منه شيئا فقالوا يا نبي الله لا يستطيع ذلك أحد
فحدث نفسه أنه يستطيع ذلك فدخل محرابه وأغلق أبوابه فقام يصلي في المحراب فجاء طائر في أحسن صورة مزين كأحسن ما يكون فوقع قريبا منه فنظر إليه فأعجبه فوقع في نفسه منه شيء فدنا منه ليأخذه فوقع قريبا منه وأطمعه وأراد أن يأخذه ففعل ذلك ثلاث مرات حتى إذا كان في الرابعة ضرب يده عليه فأخطأه ووقع على سور المحراب
قال وخلف المحراب حوض تغتسل فيه النساء فضرب يده عليه وهو على سور المحراب فأخطأه وهرب الطائر فأشرف داود فإذا بامرأة تغتسل فلما رأته نقضت شعرها فغطت جسدها فوقع في نفسه منها ما يشغله عن صلاته فنزل من محرابه ولبست المرأة ثيابها وخرجت إلى بيتها فخرج حتى عرف بيتها وسألها من أنت فأخبرته فقال هل لك زوج قالت نعم
قال أين هو فقالت في بعث كذا وكذا وجند كذا وكذا
فرجع وكتب إلى عامله إذا جاءك كتابي هذا فاجعل فلانا في أول الخيل
فقدم في فوارس فقاتل فقتل
ثم انتظر حتى انقضت عدتها فخطبها وتزوجها
فبينما هو في المحراب إذا تسور عليه ملكان وكان الباب مغلقا ففزع منهما فقالا لا تخف
155

* (خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق) * يعني اقض بيننا بالعدل
ثم خاصم أحدهما الآخر فقال * (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة) * إلى آخره
فعلم داود عليه السلام أنه مراد بذلك فخر راكعا وأناب
قال الحسن سجد أربعين ليلة لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة قال ولم يذق طعاما ولا شرابا حتى أوحى الله عز وجل إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك وهكذا ذكر في رواية الكلبي عن ابن عباس أنه سجد أربعين يوما حتى سقط جلد وجهه ونبت العشب من دموعه قال يا رب كيف ترحمني وأنا أعلم أنك منتقم مني بخطيئتي وذكر أن جبريل عليه السلام قال له اذهب إلى أوريا فاستحل منه فإنك تسمع صوته في يوم كذا
فأتاه ذات ليلة فناداه فأجابه فاستحل منه فقال أنت في حل
فلما رجع قال له جبريل هل أخبرته بجرمك
قال لا
قال فإنك لم تفعل شيئا
قال فارجع فأخبره بالذي صنعت
فرجع داود فأخبره بذلك فقال أنا خصمك يوم القيامة
فرجع مغتما وبكى أربعين يوما فأتاه جبريل عليه السلام فقال إن الله تعالى يقول إني أستوهبك من عبدي فيهبك لي وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء فسري عنه ذلك وكان محزونا في عمره باكيا على خطيئته
وروي في خبر آخر أن داود سمع بني إسرائيل كانوا يقولون في دعائهم يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود فيستجاب لهم
فقال لهم داود عليه السلام اذكروني فيهم فقولوا يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود فقالوا الله أمرك بهذا قال لا
فقالوا لا نزيد فيهم مالم يأمرك الله تعالى بذلك
فسأل داود ربه أن يجعله فيهم فأوحى الله تعالى إليه وذكر له ما لقي إبراهيم من الشدائد وما لقي إسحاق ويعقوب عليهم السلام
فسأل داود ربه أن يبتليه ببلية لكي يبلغ منزلتهم فابتلي بذلك حتى بلغ مبلغهم
وقال بعضهم هذه القصة لا تصح لأنه لا يظن بالنبي أنه يفعل مثل ذلك ولكن كانت خطيئته أنه لما اختصما إليه فقال للمدعي لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فنسبه إلى الظلم بقول المدعي وكان ذلك منه زلة فاستغفر ربه عن زلته فذلك قوله * (إذ دخلوا على داود) * وقال بعضهم كانوا اثنين فذكر بلفظ الجماعة فقال * (إذ دخلوا على داود) * وقال بعضهم كانوا جماعة ولكنهم كانوا فريقين فقال * (إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض) * يعني استطال وظلم بعضنا بعضا * (فاحكم بيننا بالحق) * يعني اقض بيننا بالعدل * (ولا تشطط) * أي ولا تجر في الحكم والقضاء
ويقال أشططت إذا جرت * (واهدنا إلى سواء الصراط) * يعني أرشدنا إلى أعدل الطريق
قوله عز وجل * (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها) * يعني أعطني هذه النعجة وهذا قول الكلبي ومقاتل
وقال القتبي * (أكفلنيها) * يعني ضمها إلي واجعلن كافلها * (وعزني في الخطاب) * يعني غلبني في الكلام " قال " داود " لقد ظلمك
156

بسؤال نعجتك إلى نعاجه) أي مع نعاجه * (وإن كثيرا من الخلطاء) * يعني من الإخوان والشركاء * (ليبغي بعضهم على بعض) * يعني ليظلم بعضهم بعضا * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * فإنهم لا يظلمون * (وقليل ما هم) * يعني قليل منهم الذين لا يظلمون
فلما قضى بينهما داود عليه السلام أحب أن يعرفهما فصعدا إلى السماء حيال وجهه * (وظن داود) * يعني علم داود
ويقال ظن بمعنى أيقن إلا أنه ليس بيقين عيان لأن العيان لا يقال فيه إلا العلم
* (أنما فتناه) * يعني ابتليناه واختبرناه
ويقال إنهما ضحكا وذهبا فعلم داود أن الله عز وجل ابتلاه بذلك
وروي عن أبي عمرو في بعض الروايات أنه قرأ * (أنما فتناه) * بالتخفيف ومعناه ظن أن الملكين اختبراه وامتحناه في الحكم وقراءة العامة * (فتناه) * بالتشديد يعني أن الله عز وجل قد اختبره وامتحنه بالملكين
* (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) * يعني أقبل إلى طاعة الله بالتوبة
وروى عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجبلي قال إن داود عليه السلام لم يرفع رأسه إلى السماء مذ أصاب الخطيئة حتى مات
وذكر في الخبر أن داود عليه السلام كان له تسع وتسعون امرأة فتزوج امرأة أوريا على شرط أن يكون ولدها خليفة بعده فولد له منها سليمان عليه السلام وكان خليفته بعده
يقول الله عز وجل * (فغفرنا له ذلك) * يعني ذنبه * (وإن له عندنا لزلفى) * لقربة " وحسن مآب " أي المرجع في الآخرة وروي أن كاتبا كان يكتب قوله تعالى * (وخر راكعا وأناب) * وكان تحت شجرة فقرأها وكتبها فخرت الشجرة ساجدة لله تعالى وهي تقول اللهم اغفر بها ذنبا وخرت الدواة ساجدة كذلك وهي تقول اللهم أحطط عني بها وزرا وكذلك الصحيفة التي في يده وهي تقول اللهم أحدث مني بها شكرا
وعن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود
قال ابن عباس فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم آية سجدة ثم سجد فسمعته وهو يقول مثلما أخبره الرجل عن قول الشجرة
وأيضا سئل ابن عباس عن سجدة * (ص) * من أين سجدت قال أما تقرأ هذه الآية * (ومن ذريته داود وسليمان) * ثم قال * (فبهداهم اقتده) * فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدى به فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء به
157

قوله عز وجل * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) * يعني أكرمناك بالنبوة وجعلناك خليفة والخليفة الذي يقوم مقام الذي قبله فقام مقام الخلفاء الذين قبله وكان قبله النبوة في سبط والملك في سبط آخر فأعطاهما الله تعالى لداود
* (فاحكم بين الناس بالحق) * يعني بالعدل * (ولا تتبع الهوى) * أي لا تمل إلى هوى نفسك فتقضي بغير عدل
ويقال لا تعمل بالجور في القضاء * (ولا تتبع الهوى) * كما اتبعت في بتشايع وهي امرأة أوريا * (فيضلك عن سبيل الله) * يعني عن طاعة الله تعالى
ويقال يعني الهوى يستزلك عن دين الله * (إن الذين يضلون عن سبيل الله) * يعني عن دين الله الإسلام * (لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) * يعني بما تركوا من العمل ليوم القيامة فلم يخافوه
ويقال بما تركوا الإيمان بيوم القيامة
سورة ص 27 - 29
قوله عز وجل * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما) * من الخلق * (باطلا) * يعني عبثا لغير شيء بل خلقناهما لأمر هو كائن * (ذلك ظن الذين كفروا) * يعني يظنون أنهما خلقتا لغير شيء وأنكروا البعث * (فويل للذين كفروا من النار) * يعني جحدوا من النار يعني من عذاب النار
ثم قال " أم نجعل الذي آمنوا وعملوا الصالحات " وذلك أن كفار مكة قالوا إنا نعطى في الآخرة من الخير أكثر مما تعطون فنزل * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * في الثواب * (كالمفسدين في الأرض) * يعني كالمشركين
وقال في رواية الكلبي نزلت في مبارزي يوم بدر * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * عليا وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم * (كالمفسدين في الأرض) * يعني عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد
ويقال نزلت في جميع المسلمين وجميع الكافرين يعني لا نجعل جزاء المؤمنين كجزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما قال في آية أخرى " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سواء " [الجاثية 21]
ثم قال عز وجل * (أم نجعل المتقين كالفجار) * يعني كالكفار في الثواب اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الوعيد
ثم قال عز وجل * (كتاب أنزلناه إليك مبارك) * يعني أنزلنا جبريل عليه السلام به إليك * (مبارك) * يعني كتاب مبارك فيه مغفرة للذنوب لمن آمن به وصدقه وعمل بما فيه * (ليدبروا آياته) * لكي يتفكروا آياته
قرأ عاصم في إحدى الروايتين " لتدبروا " بالتاء مع النصب وتخفيف الدال وهو بمعنى لتتدبروا
فحذفت إحدى التاءين وتركت الأخرى خفيفة وقراءة
158

العامة * (ليدبروا) * بالياء وتشديد الدال
وهو بمعنى ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال وشددت
ثم قال عز وجل * (وليتذكر) * يعني وليتعظ بالقرآن " أولو الألباب " يعني ذوي العقول من الناس
سورة ص 30 - 34
قوله عز وجل * (ووهبنا لداود سليمان) * يعني أعطينا لداود سليمان
وروي عن ابن عباس أنه قال أولادنا من مواهب الله عز وجل لنا
ثم قرأ و * (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) * [الشورى 49] فوهب الله تعالى لداود سليمان * (نعم العبد إنه أواب) * يعني مقبلا إلى طاعة الله تعالى
قوله عز وجل * (إذ عرض عليه بالعشي) * يعني في آخر النهار * (الصافنات الجياد) * يعني الخيل
قال الكلبي ومقاتل صفن الفرس إذا رفع إحدى رجليه فيقوم على طرف حافره
وقال أهل اللغة الصافن الواقف من الخيل
وفي الخبر (من أحب أن يقوم له الرجال صفوفا فليتبوأ مقعده من النار) يعني يديمون له القيام والجياد الحسان
ويقال الإسراع في المشي
وقال ابن عباس في رواية الكلبي إن أهل دمشق من العرب وأهل نصيبين جمعوا جموعا وأقبلوا ليقاتلوا سليمان فقهرهم سليمان وأصاب منهم ألف فرس عراب فعرضت على سليمان الخيل فجعل ينظر إليها ويتعجب من حسنها حتى شغلته عن صلاة العصر وغربت الشمس ثم ذكرها بعد ذلك فغضب وقال * (ردوها علي) * فضرب سوقها وأعناقها بالسيف حتى عقر منها تسعمائة فرس وهي التي كانت عرضت عليه وبقيت مائة فرس لم تعرض عليه فما كان في أيدي الناس فهو منها من نسل المائة الباقية
* (فقال إني أحببت حب الخير) * يعني آثرت حب المال * (عن ذكر ربي) * يعني عن الصلاة وهي صلاة العصر * (حتى توارت بالحجاب) * يعني حتى غابت الشمس وهذا إضمار لما لم يسبق ذكرها يعني ذكر الشمس لأن في الكلام دليلا فاكتفى بالإشارة عن العبارة
قوله عز وجل * (ردوها علي) * يعني قال سليمان ردوا الخيل علي فردت عليه * (فطفق مسحا بالسوق) * يعني يضرب السوق وهو جماعة الساق * (والأعناق) * جمع العنق
وروي عن إبراهيم النخعي قال كانت عشرين ألف فرس
وقال السدي كانت خيل لها أجنحة
وقال أبو الليث يجوز أن يكون مراده في سرعة السير كأن لها أجنحة
وقال بعضهم كانت الشياطين والجن أخرجتها من البحر
وقال عامة المفسرين في قوله * (فطفق مسحا بالسوق والأعناق) *
159

يعني يضرب سوقها وأعناقها
وقال بعضهم لم يعقر ولكن جعل على سوقهن وعلى أعناقهن سمة وجعلها في سبيل الله
قال لأن التوبة لا تكون بأمر منكر
ولكن الجواب عنه أن يقال له يجوز أن يكون ذلك مباحا في ذلك الوقت وإنما أراد بذلك الاستهانة بمال الدنيا لمكان فريضة الله تعالى
قوله عز وجل * (ولقد فتنا سليمان) * ابتليناه * (وألقينا على كرسيه جسدا) * يعني شيطانا
قال ابن عباس في رواية أبي صالح إن سليمان أمر بأن لا يتزوج إلا من بني إسرائيل فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل فعاقبه الله تعالى فأخذ شيطان يقال له صخر خاتمه وجلس على كرسيه أربعين يوما وقد ذكرنا قصته في سورة البقرة * (ثم أناب) * يعني رجع إلى ملكه وأقبل على طاعة الله تعالى
وقال الحسن في قوله تعالى * (وألقينا على كرسيه جسدا) * قال شيطانا
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال سألت كعبا عن قوله * (وألقينا على كرسيه جسدا) * قال شيطانا
يعني أخذ خاتم سليمان الذي فيه ملكه فقذفه في البحر فوقع في بطن سمكة وانطلق سليمان يطوف فتصدق عليه بسمكة فشواها ليأكل فإذا فيها خاتمه
قوله * (ثم أناب) * يعني رجع إلى ملكه
وقال وهب بن منبه إن سليمان تزوج امرأة من أهل الكتاب وكان لها عبد فطلبت منه أن يجزرها لعبدها
يعني ينحر الجزور فأجزرها فكره ذلك منه ثم ابتلي بالجسد الذي ألقي على كرسيه
وروى معمر عن قتادة في قوله * (وألقينا على كرسيه جسدا) * قال كان الشيطان جلس على كرسيه أربعين ليلة حتى رد الله تعالى إليه ملكه
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله * (وألقينا على كرسيه جسدا) * قال شيطان يقال له صخر
قال له سليمان يوما كيف تفتنون الناس فقال له أرني خاتمك أخبرك
فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد صخر على كرسيه ومنعه الله تعالى نساء سليمان فلم يقربهن
فأنكرته أم سليمان أهو سليمان أم آصف فكان يقول أنا سليمان
فيكذبونه حتى أعطته امرأة يوما حوتا فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه ودخل صخر البحر فارا
وذكر شهر بن حوشب نحو هذا وقال لما جلس سليمان على سريره بعث في طلب صخر فأتي به فأمر به فقورت له صخرة وأدخله فيها ثم أطبق عليها وألقاه في البحر وقال هذا سجنك إلى يوم القيامة
وقال بعضهم هذا التفسير الذي قاله هؤلاء الذين ذكروا أنه شيطان لا يصح لأنه لا يجوز من الحكيم أن يسلط شيطانا من الشياطين على أحكام المسلمين ويجلسه على كرسي نبي من الأنبياء عليهم السلام ولكن تأويل الآية والله أعلم أن سليمان كان له ابن فجاء ملك الموت يوما زائرا لسليمان فرآه ابنه فخافه وتغير لونه ومرض من هيبته فأمر سليمان عليه السلام الريح بأن تحمل ابنه فوق السحاب ليزول ذلك عنه فلما رفعته الريح فوق السحاب ودنا أجله فقبض ابنه وألقي على كرسيه فذلك قوله " وألقينا على كرسيه
160

جسدا) يعني ابنه الميت
قال والدليل على ذلك أن الجسد في اللغة هو الميت الذي لا يأكل الطعام والشراب كالميت ونحوه
وذكر أن سليمان جزع على ابنه إذ لم يكن له ابن إلا إياه فدخل عليه ملكان فقال أحدهما إن هذا مشى في زرعي فأفسده فقال له سليمان لم مشيت في زرعه فقال لأن هذا الرجل زرع في طريق الناس ولم أجد مسلكا غير ذلك
فقال سليمان للآخر لم زرعت في طريق الناس أما علمت أن الناس لا بد لهم من طريق يمشون فيه فقال لسليمان صدقت
لم ولدت على طريق الموت أما علمت أن ممر الخلق على الموت ثم غابا عنه
فاستغفر سليمان فذلك قوله * (ثم أناب) * يعني تاب ورجع إلى طاعة الله عز وجل
سورة ص 35 - 40
قوله عز وجل * (قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * قال سعيد بن جبير أعطني ملكا لا تسلبه كما سلبت المرة الأولى
ويقال إنما تمنى ملكا لا يكون لأحد من بعده حتى يكون ذلك معجزة له وعلامة لنبوته
* (إنك أنت الوهاب) * يعني المعطي الملك
قوله عز وجل * (فسخرنا له الريح تجري بأمره) * وكان من قبل ذلك لم تسخر له الريح والشياطين فلما دعا بذلك سخرت له الريح والشياطين
فقال * (فسخرنا له الريح تجري بأمره) * يعني بأمر سليمان
ويقال بأمر الله تعالى * (رخاء) * يعني لينة مطيعة * (حيث أصاب) * يعني حيث أراد من الأرض والنواحي * (أصاب) * يعني أراد
وقال الأصمعي العرب تقول أصاب الصواب فأخطأ الجواب يعني أراد الصواب وأخطأ الجواب
* (والشياطين) * يعني سخرنا له كل شيء وسخرنا له الشياطين أيضا * (كل بناء وغواص) * يعني يغوصون في البحر ويستخرجون اللؤلؤ وقال مقاتل وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر * (وآخرين مقرنين) * يعني مردة الشياطين موثقين * (في الأصفاد) * يعني في الحديد ويقال * (الأصفاد) * الأغلال
ثم قال عز وجل * (هذا عطاؤنا) * يعني هذا عطاؤنا لك وكرامتنا عليك * (فامنن) * يعني اعتق من شئت منهم فخل سبيله من الشياطين * (أو أمسك) * يعني احبس في العمل والوثاق والسلاسل من شئت منهم * (بغير حساب) * أي فلا تبعة عليك في الآخرة فيمن أرسلته وفيمن حبسته
ويقال ليس عليك بذلك إثم * (وإن له عندنا لزلفى) * يعني لقربى " وحسن مآب " يعني حسن المرجع
سورة ص 41
161

سورة ص 42 - 44
قوله عز وجل * (واذكر عبدنا أيوب) * يعني واذكر صبر عبدنا أيوب * (إذ نادى ربه) * يعني دعا ربه * (أني مسني الشيطان) * يعني أصابني الشيطان * (بنصب وعذاب) * وهو المشقة والعناء والأمراض وعذاب في ماله
يعني هلاك أهله وماله وقد ذكرناه في سورة الأنبياء
قوله عز وجل * (اركض برجلك هذا) * يعني قال له جبريل عليه السلام اضرب الأرض برجلك فضرب فنبعت عين من تحت قدميه فاغتسل منها فخرج منها صحيحا ثم ضرب برجله الأخرى فنبعت عين أخرى ماء عذب بارد فشرب منها فذلك قوله * (هذا مغتسل) * يعني الذي اغتسل منها
ثم قال * (بارد وشراب) * يعني الذي شرب منها
قوله عز وجل * (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا) * يعني قبضة من سنبل فيها مائة سنبلة
وقال الكلبي * (ضغثا) * أي مجتمعا
وقال مقاتل الضغث القبضة الواحدة فأخذ عيدانا رطبة وهي الآس فيه مائة عود
وقال القتبي الضغث الحزمة من الكلأ أو العيدان * (فاضرب به) * يعني اضرب به امرأتك * (ولا تحنث) * في يمينك
وقال الزجاج قالت امرأته لو ذبحت عناقا باسم الشيطان فقال لا ولا كفا من تراب وحلف أنه يضربها مائة سوط وأمر بأن يبر في يمينه * (إنا وجدناه صابرا) * على البلاء الذي ابتليناه * (نعم العبد إنه أواب) * يعني مقبلا على طاعة ربه
وقال وهب بن منبه أصاب أيوب البلاء سبع سنين ومكث يوسف في السجن سبع سنين ويقال لأنه أواب لما هلك ماله قال كان ذلك من عطاء الله
ولما هلك أولاده قال إن لله وإن إليه راجعون
ولما ابتلي بالنفس قال أنى له ويقال واذكر أنت يا محمد صبر عبدنا أيوب إذ ضاق صدرك من أذى الكفار وأمر أمتك ليذكروا صبره ويعتبروا ويصبروا
سورة ص 45 - 54
ثم قال عز وجل * (واذكر عبادنا إبراهيم) * قرأ ابن كثير * (واذكر عبدنا) * بغير ألف وقرأ
162

الباقون * (عبادنا) * بالألف
فمن قرأ عبدنا فمعناه " واذكر عبدنا إبراهيم " فجعل العبد نعتا لإبراهيم خاصة فكأنه قال " واذكر عبدنا إبراهيم " " و " اذكر * (إسحاق ويعقوب) *
ومن قرأ * (عبادنا) * يعني ما بعده مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب * (أولي الأيدي والأبصار) * يعني أولي القوة في العبادة والأبصار يعني ذوي البصر في أمر الله تعالى
قوله عز وجل * (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) * يعني اختصصناهم بذكر الله تعالى وبذكر الجنة وليس لهم هم إلا هم الآخرة
ويقال معناه واذكر صبر إبراهيم وصبر إسحاق وصبر يعقوب ولم يذكر صبر إسماعيل لأنه لم يبتل بشيء
قرأ نافع * (بخالصة) * بغير تنوين على معنى الإضافة
وقرأ الباقون بالتنوين
وروى مالك بن دينار قال نزع الله ما في قلوبهم من حب الدنيا وذكرها وقد أخلصهم بحب الآخرة وذكرها
ومن قرأ * (بخالصة) * بالتنوين جعل قوله * (ذكرى الدار) * بدلا من خالصة والمعنى * (إنا أخلصناهم) * بذكر الدار والدار هاهنا دار الآخرة يعني جعلناهم لنا خالصين بأن جعلناهم يكثرون ذكر الدار الآخرة والرجوع إلى الله تعالى
ثم قال عز وجل * (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) * يعني المختارين بالرسالة الأخيار في الجنة
ثم قال * (واذكر إسماعيل) * قال مقاتل واذكر صبر إسماعيل وهو أشمويل بن هلقانا
وقال غيره هو إسماعيل بن إبراهيم يعني اذكر لقومك إسماعيل وصدق وعده * (واليسع وذا الكفل) * * (واليسع) * كان خليفة إلياس * (وذا الكفل) * كفل مائة نبي أطعمهم وكساهم * (وكل من الأخيار هذا ذكر) * يعني هذا الذي ذكرنا من الأنبياء عليهم السلام في هذه السورة * (ذكر) * يعني بيان لعظمته * (وإن للمتقين) * من هذه الأمة * (لحسن مآب) * يعني حسن المرجع
ثم وصف الجنة فقال عز وجل * (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) * يعني تفتح لهم الأبواب فيدخلونها
يعني الجنة كما قال تعالى في آية أخرى " حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها " [الزمر 73] فإذا دخلوها وجلسوا على السرر وكانوا * (متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب) * يعني ألوان الفاكهة والشراب * (وعندهم قاصرات الطرف) * يعني غاضات أعينهن عن غير أزواجهن * (أتراب) * يعني ذات أقران يعني مستويات على سن واحد * (هذا ما توعدون ليوم الحساب) * يقول إن هذا الثواب الذي توعدون بأنه يكون لكم في يوم الحساب
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على معنى الإخبار وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة
يقول الله تعالى * (إن هذا لرزقنا) * يعني هذا الذي ذكرنا لعطاؤنا للمتقين * (ما له من نفاد) * يعني لا يكون له فناء ولا انقطاع عنهم وهذا كما قال تعالى في آية أخرى * (لا مقطوعة ولا ممنوعة) * [الواقعة 33] ثم قال * (هذا) * يعني هذا الرزق للمتقين فيتم الكلام عند قوله * (هذا) *
163

سورة ص 55 - 60
ثم ذكر ما أوعد الكفار فقال عز وجل * (وإن للطاغين لشر مآب) * يعني للكافرين لبئس المرجع في الآخرة
ثم بين مرجعهم فقال عز وجل * (جهنم يصلونها) * يعني يدخلونها * (فبئس المهاد) * يعني فبئس موضع القرار * (هذا) * يعني العذاب * (فليذوقوه حميم وغساق) * وهو ماء حار قد انتهى حره
قرأ حمزة والكسائي وحفص * (غساق) * بتشديد السين وقرأ الباقون بالتخفيف وعن عاصم روايتان
فمن قرا بالتشديد فهو بمعنى سيال وهو ما يسيل من جلود أهل النار
ومن قرأ بالتخفيف جعله مصدر غسق يغسق غساقا أي سال
وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قرآ * (غساق) * بالتشديد وفسراه بالزمهرير
وقال مقاتل " الغساق " البارد الذي انتهى برده
وقال الكلبي الحميم هو ماء حار قد انتهى حره وأما غساق فهو الزمهرير يعني برد يحرق كما تحرق النار
وقال بعضهم الغساق المنتن بلفظ التخاوية
ثم قال عز وجل * (وآخر من شكله أزواج) * يعني وعذاب آخر من نحوه يعني من نحو الحميم والزمهرير
قرأ أبو عمر وابن كثير في إحدى الروايتين * (وآخر من شكله) * بضم الألف وقرأ الباقون * (وأخر) * بالنصب فمن قرأ بالضم فهو لفظ الجماعة ومعناه وأنواع أخر ومن قرأ * (وأخر) * بنصب الألف بلفظ الواحد يعني وعذاب آخر من شكله أي مثل عذابه الأول * (أزواج) * يعني ألوان * (هذا فوج مقتحم معكم) * يعني جماعة داخلة معكم النار
يقال اقتحم إذا دخل في المهالك وأصله الدخول
فتقول الخزنة للقادة وهذه جماعة داخلة معكم النار وهم الأتباع * (لا مرحبا بهم) * يعني لا وسع الله لهم * (إنهم صالوا النار) * يعني داخل النار معكم فردت الأتباع على القادة * (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم) * يعني لا وسع الله عليكم * (أنتم قدمتموه لنا) * يعني أسلفتموه لنا وبدأتم بالكفر قبلنا فاتبعناكم * (فبئس القرار) * يعني بئس موضع القرار في النار
سورة ص 61 - 64
قوله عز وجل * (قالوا ربنا من قدم لنا هذا) * يعني هذا الأمر الذي كنا فيه * (فزده عذابا ضعفا في النار وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار) * يعني فقراء المسلمين
قوله عز وجل * (اتخذناهم سخريا) * قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو " سخريا
164

اتخذناهم) بالوصل وقرأ الباقون * (اتخذناهم) * بالقطع
فمن قرأ بالقطع فهو على معنى الاستفهام بدليل قوله * (أم زاغت عنهم الأبصار) * لأن * (أم) * تدل على الاستفهام
ومن قرأ بالوصل فمعناه أنا * (اتخذناهم سخريا) * وجعل * (أم) * بمعنى بل
وقرأ حمزة والكسائي ونافع * (سخريا) * بضم السين وقرأ الباقون بالكسر
قال القتبي فمن قرأ بالضم جعله من السخرة يعني تستذلهم
ومن قرأ بالكسر فمعناه إنا كنا نسخر منهم
ثم قال * (أم زاغت عنهم الأبصار) * يعني مالت وحادت أبصارنا عنهم فلا نراهم
قال الله سبحانه وتعالى * (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) * يعني يتكلم به أهل النار ويتخاصمون فيما بينهم
سورة ص 65 - 70
* (قل) * يا محمد * (إنما أنا منذر) * يعني رسول أخوفكم عذاب الله تعالى وأبين لكم أن الله تعالى واحد * (وما من إله إلا الله الواحد القهار) * يعني قاهر لخلقه * (رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز) * بالنقمة * (الغفار) * للمؤمنين
قوله عز وجل * (قل هو نبأ عظيم) * يقول القرآن حديث عظيم لأنه كلام رب العالمين * (أنتم عنه معرضون) * يعني تاركون فلا تؤمنون به وقال الزجاج * (قل هو نبأ عظيم) * يعني قل إن النبأ الذي أنبأتكم عن الله عز وجل * (نبأ عظيم) * فيه دليل نبوتي مما ذكر فيه من قصة آدم عليه السلام فإن ذلك لا يعرف إلا بوحي أو بقراءة كتب ولم يكن قرأ الكتب
ثم قال * (ما كان لي من علم بالملإ الأعلى) * يعني الملائكة عليهم السلام * (إذ يختصمون) * يعني يتكلمون حين قالوا * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * [البقرة 30] وإنما عرفت ذلك بالوحي
* (إن يوحى إلي) * يعني ما يوحي إلي * (إلا أنما أنا نذير مبين) * إلا أنا رسول بين
سورة ص 71 - 76
ثم قال عز وجل * (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين) * يعني آدم " فإذا
165

سويته) يعني جمعت خلقه * (ونفخت فيه من روحي) * يعني وجعلت الروح فيه * (فقعوا له ساجدين) * يعني اسجدوا له " نسجد الملائكة كلهم أجمعون " سجدوا كلهم دفعة واحدة * (إلا إبليس) * أبى عن السجود * (استكبر وكان من الكافرين) * يعني صار من الكافرين * (قال يا إبليس ما منعك) * يعني يا خبيث * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) * يعني الذي خلقته بيدي
قال بعضهم نؤمن بهذه الآية ونقرؤها هنا ولا نعرف تفسيرها
يعني قوله * (بيدي) *
وقال بعضهم تفسيرها كما قال الله تعالى " خلقته بيدي "
ولا نفسر اليد ونقول يد لا كالأيدي
وهذا قول أهل السنة والجماعة
وقال بعضهم نفسرها بما يليق من صفات الله تعالى يعني خلقه بقدرته وقوته وإرادته
فإن قيل قد خلق الله عز وجل سائر الأشياء بقوته وقدرته وإرادته فما الفائدة في التخصيص هاهنا قيل له قد قد ذكر اليد في خلق سائر الأشياء أيضا وهو قوله * (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما) * [يس 71] ويقال * (لما خلقت بيدي) * أي بقوتي قوة العلم وقوة القدرة
ويقال * (خلقت بيدي) * أي بماء السماء وتراب الأرض كما قال عليه السلام خلق الله الخلق من ماء وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن
وكذلك الأخبار قد جاء فيها أيضا ما له ظهر وبطن وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تقولوا فلان قبيح فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته)
ومن قال إن الله صورة كصورة آدم فهو كافر ولكن المعنى في الخبر ما روي عن بعض المتقدمين أنه قال إن الله تبارك وتعالى اختار من الصور صورة وخلق آدم عليه السلام بتلك الصورة فمن ذلك قال (إن الله تعالى خلق آدم على صورته) أي على تلك الصورة التي اختارها الله
روى شبل عن ابن كثير أنه قرأ * (بيدي أستكبرت) * موصولة الألف وقراءة العامة بقطع الألف على الاستفهام بدليل قوله عز وجل * (أم كنت من العالين) * ومن قرأ موصولة فهو على معنى الوجوب وتكون * (أم) * بمعنى بل * (استكبرت) * يعني تعظمت عن السجود * (أم كنت من العالين) * بل كنت من العالين يعني من المخالفين لأمري
" قال " إبليس * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) *
سورة ص 77 - 84
166

سورة ص 85 - 88
قوله عز وجل * (قال فأخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) * وقد ذكرناه من قبل
* (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال) * الله تعالى * (فالحق والحق أقول) * يقال معناه قولي الحق
وأقول الحق والحق قولي قرأ حمزة وعاصم * (فالحق) * بالضم القاف وقرأ الباقون بالنصب واتفقوا في الثاني أنه بالنصب
فمن قرأ بالضم فمعناه أنا الحق والحق أقول
ويقال فمعناه فالحق مني والحق أقول
ويقال معناه فقولنا الحق وأقول الحق * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * يعني من ذريتك ومن تبعك في دينك
ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الإغراء
يعني الزموا الحق واتبعوا الحق
ثم قال * (والحق أقول) * يعني وأقول الحق كقوله عز وجل * (ومن أصدق من الله قيلا) * [النساء 122] ثم قال عز وجل * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * يعني من ذريتك ومن تبعك في دينك
ثم قال عز وجل * (قل) * يا محمد * (ما أسألكم عليه) * يعني على الذي أتيتكم به من القرآن * (من أجر) * ولكن أعلمكم بغير أجر * (وما أنا من المتكلفين) * يعني ما أتيتكم به من قبل نفسي وما تكلفته من تلقاء نفسي * (ان هو) * يعني ما هذا القرآن * (إلا ذكر للعالمين) * يعني إلا عظة للجن والإنس * (ولتعلمن نبأه بعد حين) * يعني خبر هذا القرآن أنه حق بعد حين يعني بعد الموت
ويقال بعد الإسلام ويقال بعد ظهور الإسلام والله أعلم بالصواب
167

سورة الزمر مكية وهي سبعون وخمس آيات
سورة الزمر 1 - 3
قول الله تعالى " تنزل الكتاب من الله " يعني القرآن صار رفعا بالابتداء وخبره * (من الله) * تعالى * (العزيز) *
أي نزل الكتاب من عند * (الله العزيز) * يعني المنيع بالنقمة * (الحكيم) * في أمره
ومعناه نزل جبريل بهذا القرآن من عند الله * (العزيز الحكيم) * وقال بعضهم صار رفعا لمضمر فيه ومعناه هذا الكتاب تنزيل
قوله تعالى * (إنا أنزلنا إليك الكتاب) * يعني أنزلنا إليك جبريل بالكتاب * (بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين) * يعني استقم على التوحيد وعلى عبادة الله تعالى مخلصا وإنما خاطبه والمراد به قومه
يعني وحدوا الله تعالى ولا تقولوا مع الله شريكا
ثم قال * (ألا لله الدين الخالص) * يعني له الولاية والوحدانية
ويقال له * (الدين الخالص) * والخالص هو دين الإسلام فلا يقبل غيره من الأديان لأن غيره من الأديان ليس هو بخالص سوى دين الإسلام
قوله عز وجل * (والذين اتخذوا من دونه أولياء) * يعني عبدوا من دونه أربابا وأوثانا * (ما نعبدهم) * يعني يقولون ما نعبدهم
وروي عن عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب أنهما كانا يقرآن " والذين اتخذوا من دونه ما نعبدهم " على وجه الإضمار لان في الكلام دليلا عليه * (إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * يعني ليشفعوا لنا ويقربونا عند الله
ويقال * (ليقربونا إلى الله زلفى) * يعني منزلة
يقول الله تعالى * (إن الله يحكم بينهم) * يعني يقضي بينهم يوم القيامة * (فيما هم فيه يختلفون) * من الدين
ثم قال عز وجل * (إن الله لا يهدي من هو كاذب) * يعني لا يرشد إلى دينه " من هو كاذب " يعني في قوله الملائكة بنات الله وعيسى ابن الله * (كفار) * يعني كفروا بالله بعبادتهم
168

إياهم
ويقال معناه لا يوفق لتوحيده من هو كاذب على الله حتى يترك كذبه ويرغب في دين الله
سورة الزمر 4 - 5
قوله عز وجل * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا) * كما قلتم * (لاصطفى) * يعني لاختار من الولد * (مما يخلق ما يشاء) * من خلقه إن فعل ذلك
ثم قال * (سبحانه) * نزه نفسه عن الولد وعن الشريك * (هو الله الواحد القهار) * يعني الذي لا شريك له * (القهار) * يعني القاهر لخلقه
ثم بين ما يدل على توحيده ويعجز عنه المخلوقون قوله عز وجل * (خلق السماوات والأرض بالحق) * يعني للحق ولم يخلقهما باطلا لغير شيء * (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) * قال مجاهد يعني يدور الليل على النهار * (ويكور النهار على الليل) * يعني يدور النهار على الليل
وقال مقاتل * (يكور) * يعني يسلط عليه وهو انتقاص كل واحد منهما من صاحبه
وقال الكلبي * (يكور) * يعني يزيد من النهار إلى الليل فيكون الليل أطول من النهار ويزيد من الليل في النهار فيكون النهار أطول من الليل
هذا يأخذ من هذا وهذا يأخذ من هذا
وقال القتبي * (يكور) * يعني يدخل هذا على هذا وأصل التكوير اللف والجمع ومنه كور العمامة ومنه قوله " إذ الشمس كورت " [التكوير 1] وقال * (وسخر الشمس والقمر) * يعني ذلك ضوء الشمس والقمر للخلق * (كل يجري لأجل مسمى) * يعني إلى أقصى منازله
ويقال إلى يوم القيامة
* (ألا هو العزيز الغفار) * يعني * (العزيز) * بالنقمة لمن لم يتب * (الغفار) * لمن تاب
ويقال * (العزيز) * في ملكه * (الغفار) * لخلقه بتأخير العذاب
سورة الزمر 6 - 7
قوله عز وجل * (خلقكم من نفس واحدة) * يعني من نفس آدم عليه السلام * (ثم جعل منها زوجها) * حواء * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) * يعني ثمانية أصناف وقد فسرناه في
169

سورة الجاثية 32 - 37
وقال تعالى * (وإذا قيل إن وعد الله حق) * يعني إذا قال لكم الرسل في الدنيا إن البعث بعد الموت حق * (والساعة لا ريب فيها) * يعني لا شك فيها
قرأ حمزة * (والساعة) * بالنصب عطف على قوله * (أن وعد الله حق وأن الساعة) * وقرأ الباقون بالضم ومعناه وإذا قيل * (إن وعد الله حق) * وقيل * (والساعة لا ريب فيها) * أي لا شك فيها * (قلتم ما ندري ما الساعة) * يعني ما القيامة وما البعث * (إن نظن إلا ظنا) * يعني قلتم ما نظن إلا ظنا غير اليقين * (وما نحن بمستيقنين) * أنها كائنة
قوله عز وجل * (وبدا لهم) * يعني ظهر لهم * (سيئات ما عملوا) * يعني عقوبات ما عملوا في الدنيا
ويقال تشهد عليهم جوارحهم " وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " يعني نزل بهم العذاب ووجب عليهم العذاب باستهزائهم أنه غير نازل بهم * (وقيل) * يعني قالت لهم الخزنة * (اليوم ننساكم) * يعني نترككم في النار
* (كما نسيتم لقاء يومكم هذا) * يعني كما تركتم الإيمان والعمل لحضور يومكم هذا
" ومأواكم النار " يعني مثواكم ومستقركم النار " وما لكم من ناصرين " يعني ليس لكم مانع يمنعكم مما نزل بكم من العذاب يعني هذا العذاب * (ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا) * فلم تؤمنوا بها * (وغرتكم الحياة الدنيا) * يعني ما في الدنيا من زينتها وزهرتها * (فاليوم لا يخرجون منها) * قرأ حمزة والكسائي بنصب الياء فيجعلان
الفعل لهم
والباقون بالضم على فعل ما لم يسم فاعله
* (ولا هم يستعتبون) * يعني لا يرجعون إلى الدنيا
وقال الكلبي لا يعاتبون بعد هذا القول ويتركون في النار
ويقال لا يراجعون الكلام بعد دخولهم النار * (فلله الحمد) * يعني عند ذلك يحمد المؤمنون الله في الجنة
كقوله * (الحمد لله الذي صدقنا وعده) * [الزمر 74] ويقال * (فلله الحمد) * يعني له آثار الحمد فعلى جميع الخلق أن يحمدوه
ويقال * (فلله الحمد) * يعني الألوهية والربوبية " رب السماوات " يعني لرب السماوات * (ورب الأرض) * يعني لرب الأرض * (رب العالمين) * يعني لرب جميع الخلق الحمد والثناء * (وله الكبرياء) * يعني العظمة والقدرة والسلطان والعزة * (في السماوات والأرض وهو العزيز) * في ملكه * (الحكيم) * في أمره وقضائه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
269

سورة الأنعام * (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) * يعني خلقكم خلقا من خلق يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة حالا بعد حال * (في ظلمات ثلاث) * يعني ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وهو الذي يكون فيه الولد في الرحم فتخرج بعد ما يخرج الولد * (ذلكم الله ربكم) * يعني الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم * (له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون) * يعني من أين تكذبون على الله ومن أين تعدلون عنه إلى غيره بعدما علموا أنه خالق هذه الأشياء
ثم قال * (إن تكفروا) * يعني أن تجحدوا وحدانيته * (فإن الله غني عنكم) * يعني عن إقراركم وعبادتكم * (ولا يرضى لعباده الكفر) * قال الكلبي يعني ليس يرضى من دينه الكفر
ويقال * (لا يرضى لعباده الكفر) * وهو ما قاله لإبليس * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * [الحجر 42]
ويقال * (لا يرضى لعباده الكفر) * يعني بشيء من عبادة الكفر * (وإن تشكروا يرضه لكم) * يعني إن تؤمنوا بالله وتوحدوه * (يرضه لكم) * يعني يقبله منكم لأنه دينه * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * يعني لا يؤاخذ أحد بذنب غيره * (ثم إلى ربكم مرجعكم) * يعني مصيركم في الآخرة * (فينبئكم) * يعني فيخبركم * (بما كنتم تعملون) * من خير أو شر فيجازيكم * (إنه عليم بذات الصدور) * يعني عالما بما في ضمائر قلوبهم
سورة الزمر 8 - 9
قوله عز وجل * (وإذا مس الإنسان ضر) * يعني أصاب الكافر شدة في جسده * (دعا ربه منيبا إليه) * يعني مقبلا إليه بدعائه * (ثم إذا خوله نعمة منه) * قال مقاتل يعني أعطاه وقال الكلبي يعني بدله العافية مكان البلاء * (نسي) * ترك الدعاء الذي * (ما كان يدعو إليه من قبل) * ويتضرع به * (وجعل لله أندادا) * يعني يصف لله شريكا * (ليضل عن سبيله) *
قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ليضل) * بنصب الياء وهو من ضل يضل يعني ترك الهدى
وقرأ الباقون * (ليظل) * بالضم يعني ليضل الناس
ويقال ليضل نفسه بعبادة غير الله ويصرفهم عن سبيل الله يعني عن دين الله * (قل تمتع بكفرك قليلا) * يعني عش في الدنيا مع كفرك قليلا * (إنك من أصحاب النار) * يعني من أهل النار
قوله عز وجل " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما " وأصل القنوت هو القيام ثم سمي المصلي فانتا لأنه بالقيام يكون ومعناه أمن هو مصل كمن لا يكون مصليا على وجه
170

الإضمار
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت القائم) يعني المصلي القائم
قرأ ابن كثير ونافع وحمزة * (آمن) * بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد
فمن قرأ بالتخفيف فقد روي عن الفراء أنه قال معناه يا من هو قانت كما تقول في الكلام فلان لا يصوم ولا يصلي فيا من يصلي ويصوم أبشر
فكأنه قال يا من هو قانت أبشر
ومن قرأ بالتشديد فإنه يريد به معنى الذي ومعناه الذي هو من أصحاب النار فهذا أفضل أم الذي هو قانت آناء الليل يعني ساعات الليل في الصلاة ساجدا وقائما يعني في الصلاة * (يحذر الآخرة) * يعني يخاف عذاب الآخرة * (ويرجو رحمة ربه) * يعني مغفرة الله تعالى
* (قل هل يستوي الذين يعلمون) * وهم المؤمنون * (والذين لا يعلمون) * وهم الكفار في الثواب والطاعة ويقال * (قل هل يستوي الذين يعلمون) * يعني يصدقون بما وعد الله في الآخرة من الثواب * (والذين لا يعلمون) * يعني لا يصدقون
ويقال معناه قل هل يستوي العالم والجاهل فكما لا يستوي العالم والجاهل كذلك لا يستوي المطيع والعاصي
" إنما يتذكر أولو الألباب " يعني يعتبر في صنعي وقدرتي من له عقل وذهن
سورة الزمر 10
قوله عز وجل * (قل يا عباد الذين آمنوا) * يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم * (اتقوا ربكم) * يعني أخشوا ربكم في صغير الأمور وكبيرها واثبتوا على التوحيد
ثم قال * (للذين أحسنوا في هذه الدنيا) * يعني من عمل بالطاعة في الدنيا * (حسنة) * له الجنة في الآخرة
ويقال * (للذين أحسنوا) * يعني شهدوا أن لا إله إلا الله في الدنيا * (حسنة) * يعني لهم الجنة في الآخرة
ويقال * (للذين أحسنوا) * أي ثبتوا على إيمانهم فلهم الجنة
قوله * (وأرض الله واسعة) * قال مقاتل يعني الجنة واسعة وقال الكلبي * (وأرض الله واسعة) * يعني المدينة فتهاجروا فيها يعني انتقلوا إليها واعملوا لآخرتكم * (إنما يوفى الصابرون أجرهم) * يعني الذين يصبرون على طاعة الله في الدنيا جزاؤهم وثوابهم * (بغير حساب) * يعني بلا عدد ولا انقطاع
وروى سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أنا فرطكم على الحوض)
قال سفيان لما نزل * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * [الأنعام 160] قال النبي صلى الله عليه وسلم (رب زد أمتي)
فنزل " مثل الذين
171

ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل) [البقرة 261] قال (رب زد أمتي) فنزل * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) * [البقرة 245] فقال النبي صلى الله عليه وسلم (رب زد أمتي) فنزل * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
سورة الزمر 11 - 16
قوله عز وجل * (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) * وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله وملة جدك عبد المطلب وسادات قومك يعبدون الأصنام فنزل * (قل) * يا نبي الله صلى الله عليه وسلم * (إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) * يعني التوحيد * (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) * من أهل بلدي
قوله عز وجل * (قل إني أخاف إن عصيت ربي) * وعبدت غيره ينزل علي * (عذاب يوم عظيم) * يعني في يوم القيامة * (قل الله أعبد) * يعني أعبد الله * (مخلصا له ديني) * يعني توحيدي
* (فاعبدوا ما شئتم من دونه) * من الآلهة
وهذا كقوله * (لكم دينكم ولي دين) * [الكافرون 6] ويقال * (فاعبدوا ما شئتم من دونه) * لفظه لفظ التخيير والأمر والمراد به التهديد والتخويف كقوله " اعملوا ما شئتم من دونه " وكقوله * (قل تمتع بكفرك قليلا) * ويقال قد بين الله ثواب المؤمنين وعقوبة الكافرين
ثم قال * (فاعبدوا ما شئتم من دونه) * وذلك قبل أن يؤمر بالقتال فلما أيسوا منه أن يرجع إلى دينهم قالوا خسرت إن خالفت دين آبائك فقال الله تعالى * (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) * يعني إن الخاسرون أنتم لا أنا
ويقال * (الذين خسروا أنفسهم) * بفوات الدرجات ولزوم الدركات * (ألا ذلك هو الخسران المبين) * يعني الظاهر حيث خسروا وأهلهم وأزواجهم يعني في الجنة
قوله عز وجل * (لهم من فوقهم ظلل من النار) * يعني أطباقا من نار * (ومن تحتهم ظلل) * يعني مهادا من نار أو معناه أن فوقهم نار وتحتهم نار * (ذلك يخوف الله به عباده) * أي ذلك الذي ذكر يخوف الله به عباده في القرآن لكي يؤمنوا
* (يا عباد فاتقون) * أي فوحدوني وأطيعوني
سورة الزمر 17 - 18
172

سورة الزمر 19 - 20
قوله عز وجل * (والذين اجتنبوا الطاغوت) * قال مقاتل يعني اجتنبوا عبادة الأوثان
وقال الكلبي * (الطاغوت) * يعني الكهنة * (أن يعبدوها) * يعني أن يطيعوها ورجعوا إلى عبادة ربهم * (وأنابوا إلى الله) * يعني أقبلوا إلى طاعة الله
ويقال رجعوا من عبادة الأوثان إلى عبادة الله * (لهم البشرى) * يعني الجنة
ويقال الملائكة يبشرونهم في الآخرة * (فبشر عباد الذين يستمعون القول) * يعني القرآن * (فيتبعون أحسنه) * يعني يعملون بحلاله وينتهون عن حرامه
وقال الكلبي يعني يجلس الرجل مع القوم فيستمع الأحاديث في محاسن ومساوئ فيتبع أحسنه فيأخذ المحاسن فيحدث بها ويدع مساوئه
ويقال يستمعون القرآن ويتبعون أحسن ما فيه وهو القصاص والعفو يأخذ العفو لقوله * (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * [النحل 126] وقال بعضهم يسمع النداء فيجيب ويسرع إلى الجماعة
وقال بعضهم يسمع الناسخ والمنسوخ والمحكم من القرآن فيعمل بالمحكم ويؤمن بالناسخ والمنسوخ
ثم قال * (أولئك الذين هداهم الله) * أي وفقهم الله لمحاسن الأمور
ويقال * (هداهم الله) * أي أكرمهم الله تعالى بدين التوحيد " وأولئك هم أولو الألباب " يعني ذوي العقول
قوله عز وجل * (أفمن حق عليه كلمة العذاب) * يعني وجب له العذاب ويقال أفمن سبق في علم الله تعالى أنه في النار كمن لا يجب عليه الوعيد
* (أفأنت تنقذ من في النار) * يعني تستنقذ من هو في علم الله تعالى أنه يكون في النار بعمله الخبيث
ويقال من وجب له النار وقدرت عليه النار
ثم ذكر حال المتقين فقال عز من قائل * (لكن الذين اتقوا ربهم) * يعني وحدوا ربهم وأطاعوه * (لهم غرف من فوقها غرف مبنية) * في الجنة وهي العلالي
غرف مبنية مرتفعة بعضها فوق بعض * (تجري من تحتها الأنهار وعد الله) * في القرآن * (لا يخلف الله الميعاد) *
سورة الزمر 21
قوله عز وجل * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه) * أي فأدخله في الأرض يعني جاريا في الأرض فجعله * (ينابيع) * يعني عيونا في الأرض تنبع
ويقال * (فسلكه ينابيع في الأرض) * يعني جاريا في الأرض وهي تجري فيها
ويقال جعل فيها أنهارا وعيونا " ثم
173

يخرج به زرعا مختلفا ألوانه) أحمر وأصفر وأخضر * (ثم يهيج فتراه مصفرا) * يعني يتغير فتراه * (مصفرا) * يعني يابسا بعد الخضرة
ويقال * (ثم يهيج) * يعني ييبس
ويقال * (يهيج) * أي يتم ويشتد من هاج يهيج
أي تم يتم * (فتراه مصفرا) * متغيرا عن حاله * (ثم يجعله حطاما) * قال القتبي * (حطاما) * مثل الرفات والفتات
وقال الزجاج الحطام ما تفتت وتكسر من النبت
وقال مقاتل * (حطاما) * يعني هالكا * (إن في ذلك لذكرى) * أي فيما ذكر لعظة * (لأولي الألباب) * يعني لذوي العقول من الناس
سورة الزمر 22 - 23
قوله عز وجل * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) * يعني وسع الله قلبه للإسلام
ويقال لين الله قلبه لقبول التوحيد * (فهو على نور من ربه) * يعني على هدى من الله تعالى
وجوابه مضمر يعني أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى كمن طبع على قلبه وختم على قلبه فلم يهتد
ويقال * (فهو على نور من ربه) * يعني القرآن لأن فيه بيان الحلال والحرام فهو على نور من ربه لمن تمسك به
ويقال * (على نور) * يعني التوحيد والمعرفة
وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) * قالوا فكيف ذلك يا رسول الله قال (إذا دخل النور في القلب انفسح وانشرح)
قالوا فهل لذلك علامة قال (نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله)
ثم قال * (فويل) * يعني الشدة من العذاب * (للقاسية قلوبهم) * يعني لمن قست ويبست قلوبهم * (من ذكر الله) * تعالى
ويقال القاسية الخالية من الخير * (أولئك) * يعني أهل هذه الصفة * (في ضلال مبين) * أي في خطأ * (مبين) * أي بين
قوله عز وجل * (الله نزل أحسن الحديث) * يعني أحكم الحديث وهو القرآن وذلك أن المسلمين قالوا لبعض مؤمني أهل الكتاب نحو عبد الله بن سلام أخبرنا عن التوراة فإن فيها علم الأولين والآخرين فأنزل الله تعالى * (الله نزل أحسن الحديث) * يعني أنزل عليكم أحسن الحديث وهو القرآن
ويقال * (أحسن الحديث) * يعني أحسن من سائر الكتب لأن سائر الكتب صارت منسوخة بالقرآن * (كتابا متشابها) * يعني يشبه بعضه بعضا ولا يختلف
ويقال * (متشابها) * يعني موافقا لسائر الكتب في التوحيد وفي بعض الشرائع
وروي عن
174

الحسن البصري أنه قال * (متشابها) * يعني خيارا لا رذالة فيه
ويقال * (متشابها) * اشتبه على الناس تأويله
ثم قال * (مثاني) * يعني أن الأنباء والقصص تثنى فيه
ويقال سمي * (مثاني) * لأن فيه سورة المثاني يعني سورة الفاتحة * (الحمد لله رب العالمين) *
ثم قال * (تقشعر منه) * يعني ترتعد مما فيه من الوعيد * (جلود الذين يخشون ربهم) *
ويقال * (تقشعر منه) * يعني تتحرك مما في القرآن من الوعيد
ويقال ترتعد منه الفرائص
* (ثم تلين جلودهم وقلوبهم) * يعني بعد الاقشعرار * (إلى ذكر الله) * من آية الرحمة والمغفرة
يعني إذا قرأت آيات الرجاء والرحمة تطمئن قلوبهم وتسكن
* (ذلك) * يعني القرآن * (هدى الله يهدي به) * يعني بالقرآن * (من يشاء) * الله أن يهديه إلى دينه * (ومن يضلل الله) * عن دينه " فما له من هاد " يعني لا يقدر أحد أن يهديه بعد خذلان الله تعالى
سورة الزمر 24 - 26
قوله عز وجل * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب) * يعني أفمن يدفع بوجهه شدة العذاب وجوابه مضمر
يعني هل يكون حاله كحال من هو في الجنة يعني ليس الضال الذي تصل النار إلى وجهه كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه ليسا سواء
وقال أهل اللغة أصل الاتقاء في اللغة الإوتقاء وهو التستر
يعني وجهه إلى النار كالذي لا يفعل ذلك به
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب) * يعني يجر على وجهه في النار قال وهذا كقوله " أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي ءامنا يوم القيامة " [فصلت 40] ويقال * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب) * معناه أنه يلقى في النار مغلولا لا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه * (يوم القيامة وقيل للظالمين) * يعني للكافرين * (ذوقوا ما كنتم تكسبون) * من التكذيب
قوله عز وجل * (كذب الذين من قبلهم) * يعني من قبل قومك رسلهم * (فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) * يعني لا يعلمون ولا يحتسبون وهم غافلون
* (فأذاقهم الله الخزي) * يعني العذاب * (في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر) * يعني أعظم مما عذبوا به في الدنيا * (لو كانوا يعلمون) * ولكنهم لا يعلمون
سورة الزمر 27
175

سورة الزمر 28 - 29
قوله عز وجل * (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) * يعني بينا في هذا القرآن من كل شيء
وقد بين بعضه مفسرا وبعضه مبهما مجملا * (لعلهم يتذكرون) * لكي يتعظوا * (قرآنا عربيا) * يعني أنزلناه قرآنا أي عربيا بلغة العرب * (غير ذي عوج) * يعني ليس بمختلف ولكنه مستقيم
ويقال غير ذي نقض
ويقال غير ذي عيب
ويقال * (غير ذي عوج) * أي غير مخلوق
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا محمد بن داود
قال حدثنا محمد بن أحمد باستراباذ
قال حدثنا أبو حاتم الداري عن سليمان بن داود العتكي عن يعقوب بن محمد بن عبد الله الأشعري عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال في قوله تعالى * (قرآنا عربيا غير ذي عوج) * قال غير مخلوق * (لعلهم يتقون) * أي لكي يتقوا الشرك
قوله عز وجل * (ضرب الله مثلا) * أي بين شبها * (رجلا فيه شركاء متشاكسون) * أي عبدا بين موالي مختلفين يأمره هذا بأمر وينهاه هذا عنه
ويقال * (متشاكسون) * أي مختلفين يتنازعون * (ورجلا سلما لرجل) * أي خالصا لرجل لا شركة فيه لأحد
قرأ ابن كثير وأبو عمر " سالما " بالألف وكسر اللام وقرأ الباقون * (سلما) * بغير ألف ونصب السين
فمن قرأ " سالما " فهو اسم الفاعل على معنى سلم فهو سالم ومعناه الخالص
ومن قرأ * (سلما) * فهو مصدر
فكأنه أراد به رجلا ذا سلم لرجل ومعنى الآية هل يستوي من عبد آلهة مختلفة كمن عبد ربا واحدا
وقال قتادة الرجل الكافر والشركاء الشياطين والآلهة ورجلا سلما المؤمن يعمل لله تعالى وحده
وقال بعضهم هذه المثل للراغب والزاهد
فالراغب شغلته أمور مختلفة فلا يتفرغ لعبادة ربه
فإذا كان في العبادة فقلبه مشغول بها والزاهد قد يتفرغ عن جميع أشغال الدنيا فهو يعبد ربه خوفا وطمعا * (هل يستويان مثلا) * يعني عنده في المنزلة يوم القيامة
* (الحمد لله) * قال مقاتل * (الحمد لله) * حين خصهم
يقال * (الحمد لله) * على تفضيل من اختاره على من اشتغل بما دونه
ويقال يعني قولوا الحمد لله * (بل أكثرهم لا يعلمون) * أن عبادة رب واحد خير من عبادة أرباب شتى
ويقال * (لا يعلمون) * أنهما لا يستويان
ويقال * (لا يعلمون) * توحيد ربهم
سورة الزمر 30 - 31
176

قوله تعالى * (إنك ميت وإنهم ميتون) * ذلك أن كفار قريش قالوا * (نتربص به ريب المنون) * [الطور 30] يعني ننتظر موت محمد عليه السلام فنزل * (إنك ميت وإنهم ميتون) * يعني أنت ستموت وهم سيموتون
ويقال * (إنك ميت وإنهم ميتون) * يعني إنك لميت لا محالة وإنهم لميتون لا محالة والشيء إذا قرب من الشيء سمي باسمه
فالخلق كلهم إذا كانوا بقرب من الموت فكل واحد منهم يموت لا محالة فسماهم ميتين
* (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) * أي تتكلمون بحججكم
الكافر مع المؤمن والظالم مع المظلوم
فإن قيل قد قال في آية أخرى * (لا تختصموا لدي) * [ق 28] قيل له إن في يوم القيامة ساعات كثيرة وأحوالها مختلفة مرة يختصمون ومرة لا يختصمون
كما أنه قال فهم لا يتساءلون وقال في آية أخرى * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * [الصافات 27] يعني في حال يتساءلون وفي حال لا يتساءلون وهذا كما قال في موضع آخر " فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان " [الرحمن 39] وقال في آية أخرى " فوربك لنسئلنهم أجمعين " [الحجر 92] وكما قال في آية أخرى لا يتكلمون وفي آية أخرى أنهم يتكلمون ونحو هذا كثير في القرآن
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى تتخاصم الروح والجسد فيقول الجسد إنما كنت بمنزلة جزع ملقى لا أستطيع شيئا
وتقول الروح إنما كنت ريحا لا أستطيع أن أعمل شيئا
فضرب لهما مثل الأعمى والمقعد فحمل الأعمى المقعد فيدله المقعد ببصره ويحمله الأعمى برجليه)
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أنس قال سألت أبا العالية عن قوله * (لا تختصموا لدي) * ثم قال * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) * فكيف هذا قال أما قوله " لا تختصمون لدي " فهو لأهل الشرك وأما قوله * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) * فهو لأهل القبلة يختصمون في مظالم ما بينهم
سورة الزمر 32 - 35
قوله تعالى * (فمن أظلم) * يعني فلا أحد أظلم * (ممن كذب على الله) * بأن معه شريكا * (وكذب بالصدق إذ جاءه) * يعني بالقرآن والتوحيد
ويقال * (وكذب بالصدق) * يعني بالصادق وهو النبي صلى الله عليه وسلم * (أليس في جهنم مثوى للكافرين) * يعني مأوى للذين يكفرون بالقرآن
177

فاللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التحقيق كقوله * (أليس الله بأحكم الحاكمين) * [التين 8]
قوله تعالى * (والذي جاء بالصدق) * أي بالقرآن * (وصدق به) * أي أصحابه
ويقال * (وصدق به) * المؤمنون
وقال القتبي * (والذي جاء بالصدق وصدق به) * هو في موضع جماعة
ومعناه والذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به وهذا موافق لخبر ابن مسعود
وقال قتادة والشعبي ومقاتل والكلبي * (والذي جاء بالصدق) * يعني النبي صلى الله عليه وسلم * (وصدق به) * يعني المؤمنون
وذكر عن علي رضي الله عنه أنه قال * (والذي جاء بالصدق) * يعني النبي صلى الله عليه وسلم * (وصدق به) * يعني أبو بكر * (أولئك هم المتقون) * الذين اتقوا الشرك والفواحش
وقرأ بعضهم * (وصدق) * بالتخفيف يعني النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الناس كما أنزل عليه ولم يزد في الوحي شيئا ولم ينقص من الوحي شيئا
ثم قال * (لهم ما يشاؤون عند ربهم) * يعني لهم ما يريدون ويحبون في الجنة * (ذلك جزاء المحسنين) * أي ثواب الموحدين المطيعين المخلصين
قوله تعالى * (ليكفر الله عنهم) * يعني ليمحو عنهم ويغفر لهم * (أسوأ الذي عملوا) * يعني أقبح ما عملوا مخالفا للتوحيد * (ويجزيهم أجرهم) * يعني ثوابهم * (بأحسن الذي كانوا يعملون) * يعني يجزيهم بالمحاسن ولا يجزيهم بالمساوئ لأنه ليس لهم ذنب ولا خطايا فلا يجزيهم بمساوئهم
سورة الزمر 36 - 37
قوله عز وجل * (أليس الله بكاف عبده) * قرأ حمزة والكسائي * (عباده) * بالألف بلفظ الجماعة يعني الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والباقون " عبده " بغير ألف يعني النبي صلى الله عليه وسلم
* (ويخوفونك بالذين من دونه) * يعني بالذين يعبدون من دونه وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لا تزال تقع في آلهتنا فاتق كيلا يصيبك منها معرة أو سوء
فنزل * (أليس الله بكاف عبده) * الآية
وروى معمر عن قتادة قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها فمشى إليها بالفأس
فقال له قيمها يا خالد احذر فإن لها شدة لا يقوم لها أحد فمشى إليها خالد فهشم أنفها بالفأس ويقال * (أليس الله بكاف عبده) * يعني الأنبياء عليهم السلام
ثم قال " ومن يضلل الله فما له من هاد " يعني من يخذله الله عن الهدى فما له من مرشد ولا ناصر * (ومن يهد الله فما له من مضل) * يعني ليس له أحد يخذله * (أليس الله بعزيز ذي انتقام) * يعني عزيزا في ملكه * (ذي انتقام) * من عدوه
178

سورة الزمر 38 - 40
قوله عز وجل * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * فعل ذلك * (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله) * يعني ما تعبدون من دون الله من الآلهة * (إن أرادني الله بضر) * يعني إن أصابني الله ببلاء ومرض في جسدي وضيق في معيشتي أو عذاب في الآخرة * (هل هن كاشفات ضره) * يعني هل تقدر الأصنام على دفع ذلك عني * (أو أرادني برحمة) * أي بنعمة وعافية وخير * (هل هن ممسكات رحمته) * يعني هل تقدر الأصنام منع الرحمة عني
قرأ أبو عمر * (كاشفات) * بالتنوين * (ضره) * بالنصب * (ممسكات) * بالتنوين * (رحمته) * بالنصب وقرأ الباقون بغير تنوين وكسر ما بعده على وجه الإضافة
فمن قرأ بالتنوين نصب * (ضره) * * (ورحمته) * لأنه مفعول به
قوله تعالى " قل حسبي الله " يعني يكفيني الله من شر آلهتكم
ويقال * (حسبي الله) * يعني أثق به * (عليه توكلت) * أي فوضت أمري إلى الله * (عليه يتوكل المتوكلون) * أي يثق به الواثقون
فأنا متوكل وعليه توكلت
قوله عز وجل * (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) * يعني في منازلكم
ويقال * (على مكانتكم) * أي على قدر طاقتكم وجهدكم * (إني عامل) * في إهلاككم
لأنهم قالوا له إن لم تسكت عن آلهتنا نعمل في إهلاكك
فنزل * (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) * إهلاكي في مكانتكم * (إني عامل) * * (فسوف تعلمون) * من نجا ومن هلك
قرأ عاصم في رواية أبي بكر " مكاناتكم " بلفظ الجماعة
والباقون * (مكانتكم) * والمكانة والمكان واحد
قوله عز وجل * (من يأتيه عذاب يخزيه) * أي من يأتيه عذاب الله يهلكه * (ويحل عليه عذاب مقيم) * يعني دائم لا ينقطع أبدا
سورة الزمر 41 - 44
179

سورة الزمر 45
قوله عز وجل * (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق) * يعني أنزلنا عليك جبريل بالقرآن * (للناس بالحق) * يعني لتدعو الناس إلى الحق وهو التوحيد * (فمن اهتدى) * أي وحد وصدق بالقرآن وعمل بما فيه فإنما يهتدي لنفسه أي ثواب الهدى لنفسه * (ومن ضل فإنما يضل عليها) * يعني أعرض ولم يؤمن بالقرآن فقد أوجب العقوبة على نفسه
* (وما أنت عليهم بوكيل) * يعني ما أنت يا محمد عليهم بحفيظ
ويقال بمسلط
وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
قوله عز وجل * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * قال الكلبي الله تعالى يقبض الأنفس عند موتها * (والتي لم تمت في منامها) * فيقبض نفسها إذا نامت أيضا * (فيمسك التي قضى عليها الموت) * فلا يردها * (ويرسل الأخرى) * التي لم تبلغ أجلها * (إلى أجل مسمى) * يردها إلى أجلها
وقال مقاتل * (الله يتوفى الأنفس) * عند أجلها والتي قضى عليها الموت فيمسكها عن الجسد
على وجه التقديم * (والتي لم تمت في منامها) * فتلك الأخرى التي أرسلها لتعود إلى الجسد إلى أجل مسمى
وقال سعيد بن جبير الله يقبض أنفس الأحياء والأموات فيمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء إلى أجل مسمى
ثم قال * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) * أي يعتبرون قرأ حمزة والكسائي * (قضى عليها) * بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء وبضم التاء في الموت على فعل ما لم يسم فاعله
والباقون * (قضى عليها) * بالنصب
يعني قضى الله عليها الموت ونصب الموت لأنه مفعول به
وقال عز وجل * (أم اتخذوا من دون الله) * الميم صلة ومعناه اتخذوا
فاللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التوبيخ والزجر
فقال * (أم اتخذوا من دون الله) * * (شفعاء) * يعني يعبدون الأصنام لكي تشفع لهم
" قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون " يعني يعبدونهم وإن كانوا لا يعقلون شيئا
ثم قال * (قل لله الشفاعة جميعا) * قل يا محمد لله الأمر والإذن في الشفاعة وهذا كقوله * (من ذا الذي يشفع عنده) * [البقرة 255] وكما قال * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له) * [طه 100]
ثم قال * (له ملك السماوات والأرض) * يعني خزائن السماوات والأرض
ويقال نفاذ الأمر في السماوات والأرض وله نفاذ الأمر في السماوات والأرض
* (ثم إليه ترجعون) * في الآخرة
وقال * (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت) * إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله * (اشمأزت) *
قال مقاتل يعني انقبضت عن التوحيد
وقال الكلبي أعرضت ونفرت
وقال القتبي العرب
180

تقول اشمأز قلبي من فلان
أي نفر منه
* (قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) * يعني لا يصدقون بيوم القيامة
* (وإذا ذكر الذين من دونه) * يعني الآلهة * (إذا هم يستبشرون) * بذكرها
وذلك أنه حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم وذكر آلهتهم استبشروا
سورة الزمر 46 - 48
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم * (قل اللهم فاطر السماوات والأرض) * صار نصبا بالنداء يعني يا خالق السماوات والأرض * (عالم الغيب والشهادة) * يعني عالما بما غاب عن العباد وما لم يغب عنهم
ويقال عالما بما مضى وما لم يمض وما هو كائن
ويقال عالم السر والعلانية
* (أنت تحكم بين عبادك) * يعني أنت تقضي في الآخرة بين عبادك * (فيما كانوا فيه يختلفون) * من أمر الدين
قوله عز وجل * (ولو أن للذين ظلموا) * أي كفروا * (ما في الأرض جميعا ومثله معه) * أي مثل ما في الأرض " لافتدوا به " يعني لفادوا به أنفسهم * (من سوء العذاب) * يعني من شدة العذاب * (يوم القيامة) *
وفي الآية مضمر
أي لا يقبل منهم ذلك
* (وبدا لهم من الله) * أي ظهر لهم حين بعثوا من قبورهم * (ما لم يكونوا يحتسبون) * في الدنيا أنه نازل بهم يعني يعملون أعمالا يظنون أن لهم فيها ثوابا فلم تنفعهم مع شركهم فظهرت لهم العقوبة مكان الثواب
قوله عز وجل * (وبدا لهم سيئات ما كسبوا) * يعني عقوبات ما عملوا * (وحاق بهم) * يعني نزل بهم عقوبة " ما كانوا به يستهزئون " يعني باستهزائهم بالمسلمين
ويقال باستهزائهم بالرسول والكتاب والعذاب
سورة الزمر 49 - 51
قوله عز وجل * (فإذا مس الإنسان ضر دعانا) * يعني أصاب الكافر شدة وبلاء وهو أبو جهل
ويقال جميع الكفار * (دعانا) * يعني أخلص في الدعاء * (ثم إذا خولناه) * يعني بدلناه
181

نعمة وأعطيناه مكانها عافية * (نعمة منا قال إنما أوتيته على علم) * يعني على علم عندي
* (بل هي فتنة) * يعني بلية وعطية يبتلى بها العبد ليشكر أو ليكفر * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * أن إعطائي ذلك بلية وفتنة ذلك لأنه علم أني أهل لذلك ويقال معناه على علم عندي بالدواء * (بل هي فتنة) * أي بلية
قوله عز وجل * (قد قالها الذين من قبلهم) * يعني قال تلك الكلمة الذين من قبل كفار مكة مثل قارون وأشباهه
* (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) * يعني لم ينفعهم ما كانوا يجمعون من الأموال * (فأصابهم سيئات ما كسبوا) * أي عقوبات ما عملوا
* (والذين ظلموا من هؤلاء) * يعني من أهل مكة * (سيصيبهم سيئات ما كسبوا) * يعني عقوبات ما عملوا مثل ما أصاب الذين من قبلهم * (وما هم بمعجزين) * أي غير فائتين من عذاب الله
سورة الزمر 52 - 53
ثم قال " أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء " أي يوسع الزرق لمن يشاء " ويقدر " أي يقتر على من يشاء * (إن في ذلك) * يعني في القبض والبسط * (لآيات) * لعلامات لوحدانيتي * (لقوم يؤمنون) * أي يصدقون بتوحيد الله تعالى
قوله عز وجل * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * يعني أسرفوا بالذنوب على أنفسهم قرأ نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر * (قل يا عبادي) * بفتح الياء والباقون بالإرسال وهما لغتان ومعناهما واحد * (لا تقنطوا من رحمة الله) * يعني لا تيأسوا من رحمة الله * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * الكبائر وغير الكبائر إذا تبتم * (إنه هو الغفور) * لمن تاب * (الرحيم) * بعد التوبة لهم
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة
قال أصاب قوم في الشرك ذنوبا عظاما وكانوا يخافون أن لا يغفر الله لهم فدعاهم الله تعالى بهذه الآية * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) *
وقال مجاهد * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * بقتل الأنفس في الجاهلية
وقال في رواية الكلبي نزلت الآية في شأن وحشي يعني أسرفوا على أنفسهم بالقتل والشرك والزنى
لا تيأسوا * (من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) * لمن تاب
وقال ابن مسعود أرجى آية في كتاب الله عز وجل هذه الآية
وهكذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال فيها عظة
182

سورة الزمر 54 - 58
قوله تعالى * (وأنيبوا إلى ربكم) * يعني أقبلوا وارجعوا إلى ربكم بالطاعة * (وأسلموا له) * يعني أقروا وأخلصوا له بالتوحيد * (من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) * أي لا تمنعون مما نزل بكم
قوله تعالى * (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) * قال الكلبي هذا القرآن أحسن ما أنزل إليهم يعني اتبعوا ما أمرتم به
ويقال أحلوا حلاله وحرموا حرامه * (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة) * أي فجأة * (وأنتم لا تشعرون) * بنزوله
قوله تعالى * (أن تقول نفس) * يعني لكي لا تقول نفس
ويقال معناه اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم خوفا قبل أن تصيروا إلى حال الندامة
وتقول نفس * (يا حسرتي) * يعني يا ندامتا * (على ما فرطت في جنب الله) * يعني تركت وضيعت من طاعة الله
وقال مقاتل يعني ما ضيعت من ذكر الله
ويقال يا ندامتاه على ما فرطت في أمر الله
* (وإن كنت لمن الساخرين) * يعني كنت من المستهزئين بالقرآن في الدنيا
ويقال قد كنت من اللاهين
يعني المستهزئين بالقرآن في الدنيا
وقال أبو عبيدة في جنب الله وذات الله واحد
ثم قال عز وجل * (أو تقول) * يعني قبل أن تقول * (لو أن الله هداني) * بالمعرفة * (لكنت من المتقين) * أي من الموحدين
يعني لو بين لي الحق من الباطل لكنت من المؤمنين * (أو تقول حين ترى العذاب) * يعني من قبل أن تقول * (لو أن لي كرة) * أي رجعة إلى الدنيا * (فأكون من المحسنين) * يعني من الموحدين
سورة الزمر 59 - 61
يقول الله تعالى * (بلى قد جاءتك آياتي) * يعني القرآن * (فكذبت بها واستكبرت) * أي تكبرت وتجبرت عن الإيمان بها * (وكنت من الكافرين) *
قرأ عاصم الجحدري * (بلى قد جاءتك آياتي) * يعني القرآن
* (فكذبت بها واستكبرت) * * (وكنت) * كلها بالكسر
وهو
183

اختيار ابن مسعود وصالح وتابعه من قراء سمرقند
وإنما قرأ بالكسر لأنه سبق ذكر النفس والنفس مؤنث
وقراءة العامة كلها بالنصب لأنه انصرف إلى المعنى يعني يقال للكافر
قوله تعالى * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله) * يعني قالوا بأن لله شريكا * (وجوههم مسودة) * صار * (وجوههم) * رفعا بالابتداء ويقال معناه مسودة وجوههم * (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) * يعني مأوى للذين تكبروا عن الإيمان * (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم) * يعني ينجي الله الذين اتقوا الشرك من جهنم
قال الكلبي ومقاتل يعني بأعمالهم الحسنة لا يصيبهم العذاب
وقال القتبي يعني بمنجاتهم
قرأ حمزة والكسائي " بمفازاتهم " بالألف وكذلك عاصم في رواية أبي بكر
والباقون * (بمفازتهم) * بغير ألف والمفازة الفوز والسعادة والفلاح والمفازات جمع
* (لا يمسهم السوء) * أي لا يصيبهم العذاب * (ولا هم يحزنون) * في الآخرة
سورة الزمر 62 - 66
يقول الله تعالى " الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل " يعني حفيظ
ويقال كفيل بأرزاقهم
قوله تعالى * (له مقاليد السماوات والأرض) * يعني مفاتيح السماوات والأرض
ويعني خزائن السماوات والأرض وهو المطر والنبات
وقال القتبي المقاليد المفاتيح
يعني مفاتيحها وخزائنها وواحدها إقليد
وقال ويقال إنها فارسية معربة إكليد
" والذين كفروا بآيات الله " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن * (أولئك هم الخاسرون) * يعني اختاروا العقوبة على الثواب
قوله عز وجل * (قل أفغير الله تأمروني) * قرأ ابن عامر " تأمرونني " بنونين وقرأ نافع * (تأمروني) * بنون واحد والتخفيف
والباقون بنون واحدة والتشديد وأصله تأمرونني كما روي عن ابن عامر إلا أنه أدغم إحداهما في الأخرى وشدد وتركها نافع على التخفيف
* (أعبد أيها الجاهلون) * يعني أيها المشركون تأمروني أن أعبد غير الله
قوله * (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك) * يعني الأنبياء بالتوحيد * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * يعني ثوابك وإن كنت كريما علي
فلو أشركت بالله * (ليحبطن عملك) * * (ولتكونن من الخاسرين) * في الآخرة فكيف لو أشرك غيرك فالله تعالى علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشرك بالله ولكنه أراد تنبيها لأمته أن من أشرك بالله حبط عمله وإن كان كريما على الله
184

قوله عز وجل * (بل الله فاعبد) * يعني استقم على عبادة الله وتوحيده
وقال مقاتل * (بل الله فاعبد) * أي فوحد الله تعالى
وقال الكلبي يعني أطع الله تعالى * (وكن من الشاكرين) * على ما أنعم الله عليك من النبوة والرسالة
ويقال هذا الخطاب لجميع المؤمنين أمرهم بأن يشكروا الله تعالى على ما أنعم عليهم وأكرمهم بمعرفته ووفقهم لدينه
سورة الزمر 67 - 70
* (وما قدروا الله حق قدره) * أي ما عظموا الله حق عظمته ولا وصفوه حق صفته ولا عرفوا الله حق معرفته
وذلك أن اليهود والمشركين وصفوا الله تعالى بما لا يليق بصفاته فنزل * (وما قدروا الله حق قدره) * وفيه تنبيه للمؤمنين لكيلا يقولوا مثل مقالتهم ويعظموا الله حق عظمته ويصفوه حق صفته " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " [الشورى 11]
ثم قال * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) * أي في قدرته وملكه وسلطانه لا سلطان لأحد عليها وهذا كقوله * (مالك يوم الدين) * [الفاتحة 4]
وقال القتبي " في قبضته " أي في ملكه نحو قولك للرجل هذا في يدك وقبضتك
يعني في ملكك
* (والسماوات مطويات بيمينه) * أي بقدرته
ويقال في الآية تقديم معناه * (والسماوات مطويات بيمينه) * يوم القيامة أي في يوم القيامة
ويقال * (بيمينه) * يعني عن يمين العرش وقال القتبي * (بيمينه) * أي بقدرته نحو قوله * (أو ما ملكت أيمانهم) * [الأحزاب 50] يعني ما كانت لهم عليه قدرة وليس الملك لليمين دون الشمال
ويقال اليمين هاهنا الحلف لأنه حلف بعزته وجلاله ليطوين السماوات والأرض
ثم نزه نفسه سبحانه وتعالى فقال * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * يعني عما يصفون له من الشريك " ونفح في الصور " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الصور فقال (هو القرن وإن عظم دائرته مثل ما بين السماء والأرض فينفخ نفخة فيفزع الخلق ثم ينفخ نفخة أخرى فيموت أهل السماوات والأرض فإذا كان وقت النفخة الثالثة تجمعت الأرواح كلها في الصور ثم ينفخ النفخة الثالثة فتخرج الأرواح كلها كالنحل وكالزنابير وتأتي كل روح إلى جسدها) فذلك قوله تعالى * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض) * يعني يموت من
185

في السماوات ومن في الأرض * (إلا من شاء الله) * يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت
ويقال أرواح الشهداء
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال استثنى الله تعالى الشهداء حول العرش متقلدين سيوفهم
وقال بعضهم النفخة نفختان
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ينفخ في الصور ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين) وهو قوله * (ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * أي ينظرون ماذا يأمرهم
ويقال ينظرون إلى السماء كيف غيرت وينظرون إلى الأرض كيف بدلت وينظرون إلى الداعي كيف يدعوهم إلى الحساب وينظرون فيما عملوا في الدنيا وينظرون إلى الآباء والأمهات كيف ذهبت شفقتهم عنهم واشتغلوا بأنفسهم وينظرون إلى خصمائهم ماذا يفعلون بهم
قوله تعالى * (وأشرقت الأرض) * يعني أضاءت * (بنور ربها) * أي بعدل ربها ويقال * (وأشرقت) * وجوه من على الأرض بمعرفة ربها وأظلم وجوه من على الأرض بنكرة ربها
وقال بعضهم هذا من المكتوم الذي لا يفسر
* (ووضع الكتاب) * يعني ووضع الحساب
ويقال ووضع الكتاب في أيدي الخلق في أيمانهم وشمائلهم " وجئ بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق " أي بين الخلق بالعدل بين الظالم والمظلوم وبين الرسل وقومهم * (وهم لا يظلمون) * أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا
ثم قال * (ووفيت) * أي وفرت * (كل نفس ما عملت) * أي جزاء ما عملت من خير أو شر * (وهو أعلم بما يفعلون) * لأنه قد سبق ذكر قوله " وجئ بالنبين والشهداء " ثم أخبر أنه لم يدع الشهداء ليشهدوا بما يعلموا بل هو أعلم بما يفعلون وإنما يدعو الشهداء لتأكيد الحجة عليهم
سورة الزمر 71 - 72
186

قوله عز وجل * (وسيق الذين كفروا) * أي يساق الذين كفروا * (إلى جهنم زمرا) * يعني أمة أمة فوجا فوجا وواحدتها زمرة * (حتى إذا جاؤوها) * يعني جهنم * (فتحت أبوابها) * وقال أصحاب اللغة جهنم في أصل اللغة جهنام وهي بئر لا قعر لها
فحذفت الألف وشددت النون فسميت جهنم
قرأ حمزة والكسائي وعاصم * (فتحت) * بتخفيف التاء وقرأ الباقون بالتشديد
فمن قرأ بالتشديد فلتكثير الفعل
ومن قرأ بالتخفيف فعلى الفعل الواحد وكذلك الاختلاف في الثني الذي بعده
* (وقال لهم خزنتها) * يعني خزنة جهنم وواحدها خازن
وقال القتبي الواو قد تزاد في الكلام والمراد به حذفه كقوله * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق) * [الأنبياء 96] يعني اقترب وكقوله * (وقال لهم خزنتها) * [الزمر 71] يعني قال لهم
وهذا في كلام العرب ظاهر كما قال امرؤ القيس
(فلم أجزنا ساحة الحي وانتحى
*)
يعني انتحى بغير واو
ثم قال * (ألم يأتكم رسل منكم) * يعني آدميا مثلكم تفهمون كلامه * (يتلون عليكم آيات ربكم) * يعني يقرؤون عليكم ما أوحي إليهم * (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) * يعني أنهم يخوفونكم بهذا اليوم فكأنه يقول لهم يا أشقياء ألم يأتكم رسل منكم فأجابوه * (قالوا بلى) * فيقرون بذلك في وقت لا ينفعهم الإقرار ولو كان قولهم بلى في الدنيا لكان ينفعهم
ولكنهم قالوا بلى في وقت لا ينفعهم
* (ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) * أي وجبت كلمة العذاب في علم الله السابق أنهم من أهل النار
ويقال وجبت كلمة العذاب وهي قوله الله تعالى * (لأملأن جهنم) * [الأعراف 18 وغيرها] * (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها) * يعني دائمين فيها * (فبئس مثوى المتكبرين) * يعني بئس موضع القرار لمن تكبر عن الإيمان
سورة الزمر 73 - 75
ثم بين حال المؤمنين المطيعين فقال عز وجل " وسبق الذين اتقوا ربهم " يعني اتقوا الشرك والفواحش * (إلى الجنة زمرا) * يعني فوجا فوجا بعضهم قبل الحساب اليسير وبعضهم بعد الحساب الشديد على قدر مراتبهم * (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها) * يعني وقد فتحت
187

أبوابها * (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) * أي فزتم ونجوتم
ويقال طابت لكم الجنة
وقال بعض أهل العربية في الآية دليل على أن أبواب الجنة ثمانية لأنه قد ذكر بالواو
وإنما يذكر بالواو إذا بلغ الحساب ثمانية كما قال في آية أخرى * (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم) * [الكهف 22] فذكر الواو عند الثمانية وكما قال * (التائبون العابدون) * [التوبة 112] فذكرها كلها بغير واو فلما انتهى إلى الثمانية قال * (والناهون عن المنكر) * [التوبة 112] وقال في آية أخرى * (مسلمات مؤمنات) * [التحريم 5] ثم قال عند الثمانية * (وأبكارا) * [التحريم 5] وعرف أن أبوب جهنم سبعة بالآية
وهي قوله * (لها سبعة أبواب) * [الحجر 44]
وقال أكثر أهل اللغة ليس في الآية دليل لأن الواو قد تكون عند الثمانية وقد تكون عند غيرها ولكن عرف أن أبوابها ثمانية بالأخبار
ثم لما دخلوا الجنة حمدوا الله تعالى * (وقالوا الحمد لله) * يعني الشكر لله * (الذي صدقنا وعده) * يعني أنجز لنا وعده على لسان رسله * (وأورثنا الأرض) * يعني أنزلنا أرض الجنة * (نتبوأ من الجنة حيث نشاء) * أي ننزل في الجنة ونستقر فيها حيث نشاء ونشتهي * (فنعم أجر العاملين) * أي ثواب الموحدين المطيعين
قوله عز وجل * (وترى الملائكة حافين) * يعني ترى يا محمد الملائكة يوم القيامة محدقين * (من حول العرش يسبحون بحمد ربهم) * أي يسبحونه ويحمدونه
* (وقضي بينهم بالحق) * أي بين الخلق
وهو تأكيد لما سبق من قوله " وجائ بالنبين والشهداء وقضى بينهم بالحق " [الزمر 69] * (وقيل الحمد لله رب العالمين) * يعني لما قضي بينهم بالحق وميزوا من الكفار حمدوا لله تعالى وقالوا الحمد لله رب العالمين الذي قضى بيننا بالحق ونجانا من القوم الظالمين
وقال مقاتل ابتدأ الدنيا بالحمد لله رب العالمين وهو قوله * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * وختمها بقوله * (الحمد لله رب العالمين) *
188

سورة غافر مكية وهي ثمانون وخمس آيات
سورة غافر 1 - 3
قوله تبارك وتعالى * (حم) * روي عن ابن عباس قال الحواميم كلها مكية وهكذا روي عن محمد بن الحنفية
وقال ابن مسعود إن * (حم) * ديباج القرآن وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم)
وقال قتادة * (حم) * اسم من أسماء القرآن
ويقال اسم من أسماء الله
ويقال قسم أقسم الله بحم
ويقال معناه قضى بما هو كائن
ويقال * (حم) * الأمر قدر قدر وقضى وتم
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم * (حم) * بفتح الحاء وقرأ أبو عمرو ونافع بين الفتح والكسر والباقون بالكسر
وكل ذلك جائز في اللغة
ثم قال * (تنزيل الكتاب من الله) * يعني هذا القرآن الذي يقرأه عليكم محمد صلى الله عليه وسلم هو من عند الله * (العزيز) * في سلطانه وملكه * (العليم) * بخلقه وبأعمالهم * (غافر الذنب) * لمن يقول لا إله إلا الله مخلصا يستر عليه ذنوبه * (وقابل التوب) * لمن رجع وتاب * (شديد العقاب) * لمن مات على الشرك ولم يقل لا إله إلا الله * (ذي الطول) * يعني ذي الفضل على عباده والطول في اللغة التفضل
يقال طل علي برحمتك أي تفضل
وقال مقاتل * (ذي الطول) * يعني ذي الغنى عمن لم يوحده
ثم وحد نفسه فقال * (لا إله إلا هو إليه المصير) * يعني إليه مصير العباد ومرجعهم في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم
سورة غافر 4 - 6
189

قوله عز وجل * (ما يجادل في آيات الله) * يعني ما يخاصم في آيات الله بالتكذيب * (إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد) * يعني ذهابهم ومجيئهم في
أسفارهم وتجاراتهم فإنهم ليسوا على شيء من الدين
وقال مقاتل * (تقلبهم) * يعني ما هم فيه من السعة في الرزق
ثم خوفهم ليحذروا فقال عز وجل * (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم) * يعني الأمم من بعد قوم نوح * (وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه) * يعني أرادوا أن يقتلوه * (وجادلوا بالباطل) * يعني بالشرك * (ليدحضوا به الحق) * يعني ليبطلوا به دين الحق وهو دين الإسلام والذي جاء به الرسل
* (فأخذتهم) * أي عاقبتهم " فكيف كان عقاب " يعني كيف رأيت عذابي لهم أليس قد وجدوه حقا
قوله تعالى " وكذلك حقت كلمت ربك " يعني سبقت ووجبت كلمة ربك * (على الذين كفروا) * بالعذاب * (أنهم أصحاب النار) * يعني يصيرون إليها
قرأ نافع وابن عامر " كلمات ربك " بلفظ الجماعة والباقون * (كلمة ربك) * بلفظ الواحد وهي عبارة عن الجنس والجنس يقع على الواحد وعلى الجماعة
وقرئ في الشاذ * (إنهم) * بالكسر على معنى الابتداء وقراءة العامة بالنصب على معنى البناء
سورة غافر 7 - 9
قوله عز وجل * (الذين يحملون العرش) * وهم الملائكة * (ومن حوله) * من المقربين * (يسبحون بحمد ربهم) * يعني يسبحون الله تعالى ويحمدونه * (ويؤمنون به) * أي يصدقون بالله * (ويستغفرون للذين آمنوا) * يعني المؤمنين
وفي الآية دليل فضل المؤمنين وبيانه أن الملائكة مشتغلون بالدعاء لهم
ثم وصف دعاءهم للمؤمنين وهو قولهم * (ربنا) * يقولون يا ربنا " وسعت كل شيء رحمة وعلما " يعني يا ربنا رحمتك واسعة وعلمك محيط بكل شيء
ويقال معناه ملأت كل شيء نعمة وعلما على ما فيها من الخلق
روى قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة
ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله
190

الشياطين
وروى الأعمش عن إبراهيم قال كان أصحاب عبد الله بن مسعود يقولون الملائكة خير للمسلمين من ابن الكواء فالملائكة يستغفرون لمن في الأرض وابن الكواء يشهد عليهم بالكفر وكان ابن الكواء رجلا خارجيا
قوله تعالى * (فاغفر للذين تابوا) * يعني تجاوز عنهم يعني الذين رجعوا عن الشرك * (واتبعوا سبيلك) * يعني دينك الإسلام * (وقهم عذاب الجحيم) * يعني ادفع عنهم في الآخرة عذاب النار
ثم قال * (ربنا) * يعني ويقولون ربنا * (وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم) * على لسان رسلك " ومن صلح " أي من وحد الله تعالى " من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " وأدخلهم معهم الجنة أيضا * (إنك أنت العزيز) * في ملكك * (الحكيم) * في أمرك * (وقهم السيئات) * أي ادفع عنهم العذاب في الآخرة
* (ومن تق السيئات يومئذ) * يعني من دفعت العذاب عنه فقد رحمته
قال مقاتل * (السيئات) * يعني الشرك في الدنيا * (فقد رحمته) * في الآخرة * (وذلك هو الفوز العظيم) * يعني النجاة الوافرة
سورة غافر 10 - 12
قوله تعالى * (إن الذين كفروا ينادون) * قال مقاتل والكلبي لما عاين الكفار النار ودخلوها مقتوا أنفسهم أي لاموا أنفسهم وغضبوا عليها
فتقول لهم خزنة جهنم * (لمقت الله أكبر من مقتكم) * يعني غضب الله عليكم وسخطه عليكم أكبر من مقتكم * (أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون) * أي تجحدون وتثبتون على الكفر
قوله تعالى * (قالوا ربنا أمتنا اثنتين) * يعني كنا أمواتا نطفا فأحييتنا ثم أمتنا عند آجالنا ثم أحييتنا اليوم
وذكر عن القتبي نحو هذا
وقال بعضهم إحدى الإماتتين يوم الميثاق حين صيروا إلى صلب آدم والأخرى في الدنيا عند انقضاء الأجل وإحدى الإحيائين في بطن الأمهات والأخرى في القبر
* (فاعترفنا بذنوبنا) * يعني أقررنا بشركنا وظهر لنا أن البعث حق * (فهل إلى خروج من سبيل) * يعني فهل سبيل إلى الخروج من النار
ويقال فهل من حيلة إلى الرجوع
191

ثم قال * (ذلكم) * يعني يقال لهم ذلك الخلود * (بأنه إذا دعي الله وحده) * يعني إذا قيل لكم لا إله إلا الله * (كفرتم) * يعني جحدتم وأقمتم على الكفر * (وإن يشرك به تؤمنوا) * يعني إذا دعيتم إلى الشرك وعبادة الأوثان تصدقوا * (فالحكم لله العلي الكبير) * يعني القضاء فيكم * (لله العلي الكبير) * يعني الرفيع فوق خلقه القاهر لخلقه * (الكبير) * بالقدرة والمنزلة
سورة غافر 13 - 16
ثم قال عز وجل * (هو الذي يريكم آياته) * يعني عجائبه ودلائله من خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار وذلك أنه لما ذكر ما يصيبهم يوم القيامة
عظم نفسه تعالى
ثم ذكر لأهل مكة من الدلائل ليؤمنوا به فقال * (هو الذي يريكم آياته) * * (وينزل لكم من السماء رزقا) * يعني المطر
ويقال الملائكة لتدبير الرزق
* (وما يتذكر إلا من ينيب) * يعني ما يتعظ بالقرآن إلا من يقبل إليه بالطاعة
ويقال * (وما يتذكر) * فيوحد الرب إلا من يرجع إليه * (فادعوا الله مخلصين له الدين) * يعني اعبدوه بالإخلاص * (ولو كره الكافرون) * يعني وإن شق ذلك على المشركين الكافرين
قوله عز وجل * (رفيع الدرجات) * يعني رافع وخالق السماوات مطبقا بعضها فوق بعض
ويقال هو رافع الدرجات في الدنيا بالمنازل وفي الآخرة الجنة ذو الدرجات * (ذو العرش) * يعني رافع العرش
ويقال خالق العرش هو رب العرش * (يلقي الروح من أمره) * يعني ينزل جبريل بالوحي * (على من يشاء من عباده) * وهو النبي صلى الله عليه وسلم * (لينذر يوم التلاق) * يعني ليخوف بالقرآن
وقرأ الحسن " لتنذر " بالتاء على معنى المخاطبة
يعني لتنذر يا محمد صلى الله عليه وسلم
وقراءة العامة بالياء لينذر الله تعالى
ويقال * (لينذر) * من أنزل عليه الوحي * (يوم التلاق) * قرأ ابن كثير " يوم التلاقي " بالياء
وهي إحدى الروايتين عن نافع والباقون بغير ياء
فمن قرأ بالياء فهو الأصل ومن قرأ بغير ياء فلأن الكسر يدل عليه
وقال في رواية الكلبي * (يوم التلاق) * يوم يلتقي أهل السماوات وأهل الأرض
ويقال يوم يلتقي الخصم والمخصوم * (يوم هم بارزون) * يعني ظاهرين خارجين من قبورهم " لا يخفى على الله منهم شيء " يعني من أعمال أهل السماوات وأهل الأرض
* (لمن الملك اليوم) * قال بعضهم هذا بين النفختين يقول الرب تبارك وتعالى * (لمن الملك اليوم) * فلا يجيبه أحد فيقول لنفسه
192

* (لله الواحد القهار) *
قال بعضهم إن ذلك لأهل الجمع يوم القيامة
يقول * (لمن الملك اليوم) * فأقر الخلائق كلهم وقالوا * (لله الواحد القهار) *
سورة غافر 17 - 19
يقول الله تعالى * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * يعني ما عملت في الدنيا من خير أو شر * (لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) * وقد ذكرناه
قوله عز وجل * (وأنذرهم يوم الآزفة) * يعني خوفهم بيوم القيامة فسمي الأزفة لقربه
ويقال أزف شخوص فلان يعني قرب كما قال * (أزفت الآزفة) *
ثم قال * (إذ القلوب لدى الحناجر) * من الخوف لا تخرج ولا تعود إلى مكانها * (كاظمين) * يعني مغمومين يتردد خوفهم في أجوافهم * (ما للظالمين) * يعني المشركين * (من حميم) * يعني من قريب * (ولا شفيع يطاع) * أي له الشفاعة فيهم
* (يعلم خائنة الأعين) * هذا موصول بقوله " لا يخفى على الله منهم شيء " وهو * (يعلم خائنة الأعين) *
وقال أهل اللغة الخائنة والخيانة واحدة كقوله * (ولا تزال تطلع على خائنة) * [المائدة 13]
وقال مجاهد * (خائنة الأعين) * يعني نظر العين إلى ما نهى الله عنه وقال مقاتل الغمزة فيما لا يحل له والنظرة إلى المعصية
ويقال النظرة بعد النظرة
وقال قتادة * (يعلم خائنة الأعين) * يعني يعلم غمزه بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى * (وما تخفي الصدور) *
سورة غافر 20
ثم قال تعالى * (والله يقضي بالحق) * يحكم بالحق ويقال يأمر بما يجب الثواب به وينهى عما يجب به العقاب
" والذين يدعون من دونه " يعني يعبدون من الآلهة
قرأ نافع وابن عامر * (تدعون) * بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
" لا يقضون بشيء " يعني ليس لهم قدرة ولا يحكمون بشيء * (إن الله هو السميع البصير) * يعني * (السميع) * لمقالة الكفار * (البصير) * بأعمالهم
سورة غافر 21 - 22
قوله تعالى * (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا) * يعني فيعتبروا * (كيف كان عاقبة) *
193

يعني آخر أمر * (الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة) * يعني منعة
قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام
* (أشد منكم) * بالكاف على معنى المخاطبة والباقون * (أشد منهم) * بالهاء على معنى الخبر عنهم
* (وآثارا في الأرض) * يعني أكثر أعمالا ويقال أشد لها طلبا وأبعد لها ذهابا
* (فأخذهم الله بذنوبهم) * يعني عاقبهم الله * (وما كان لهم من الله من واق) * يعني من مانع يمنعهم من عذاب الله
* (ذلك) * أي ذلك العذاب * (بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات) * يعني بالأمر والنهي
ويقال بالدلائل الواضحات * (فكفروا) * بهم وبدلائلهم * (فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب) * أي عاقبهم الله بذنوبهم * (شديد العقاب) * لمن عاقب
سورة غافر 23 - 27
قوله عز وجل " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا " التسع " وسلطان مبين " أي حجة بينة * (إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) * يعني لم يصدقوا موسى
قوله عز وجل * (فلما جاءهم بالحق من عندنا) * يعني بالرسالة * (قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه) * يعني أعيدوا القتل عليهم * (واستحيوا نساءهم) * فلا تقتلوهن * (وما كيد الكافرين إلا في ضلال) * أي في خطأ بين
قوله تعالى * (وقال فرعون) * لقومه * (ذروني أقتل موسى) * يعني خلوا عني حتى أقتل موسى
* (وليدع ربه) * يعني ليدعوا ربه موسى لكي يمنعه عني
وذلك أن قومه كانوا يقولون أرجئه وأخاه ولا تقتله حتى لا يفسدوا عليك الملك
فقال لهم فرعون * (ذروني أقتل موسى) * فإني أعلم أن صلاح ملكي في قتله
* (إني أخاف أن يبدل دينكم) * يعني عبادتكم إياي * (أو أن يظهر في الأرض الفساد) * يعني الدعاء إلى غير عبادتي
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو * (وإن يظهر) * على معنى العطف
والباقون * (أو أن يظهر) * على معنى الشك وكلاهما جائز
و * (أو) * لأحد الشيئين إما لشك المتكلم أو أحدهما
والواو للجمع وتقع على الأمرين جميعا
وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم * (يظهر) * بضم الياء وكسر الهاء * (الفساد) * بالنصب
والباقون * (يظهر) * بنصب الياء والهاء * (الفساد) * بالضم
فمن قرأ يظهر بالضم فالفعل لموسى والفساد نصب لوقوع الفعل عليه
ومن قرأ * (يظهر) * فالفعل للفساد فيصير الفساد رفعا لأنه فاعل
فلما سمع موسى ذلك
194

التهديد استعاذ بالله من شره فذلك قوله * (وقال موسى إني عذت بربي وربكم) * يعني استعيذ بربي وربكم * (من كل متكبر) * عن الإيمان يعني * (لا يؤمن) * أي لا يصدق * (بيوم الحساب) *
سورة غافر 28 - 29
ثم قال * (وقال رجل مؤمن من آل فرعون) * وهو حزبيل بن ميخائيل هو ابن عم قارون وكان أبوه من آل فرعون وأمه من بني إسرائيل
ويقال كان ابن عم فرعون * (يكتم إيمانه) * وكان قد أسلم سرا من فرعون
* (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) * يعني اليد والعصا
وروى الأوزاعي عن يحيى بن كثير عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن عروة بن الزبير قال قلت لعبد الله بن عمرو حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقبل عقبة بن أبي معيط ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة فلوى ثوبه على عنقه وخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أبو بكر يا قوم * (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) * * (وإن يك كاذبا فعليه كذبه) * يعني فعليه وبال كذبه فلا ينبغي أن تقتلوه بغير حجة ولا برهان
* (وإن يك صادقا) * في قوله وكذبتموه * (يصبكم بعض الذي يعدكم) * من العذاب يعني بعض ذلك العذاب يصبكم في الدنيا
ويقال " بعض الذي يعدكم فيه " أي جميع الذي يعدكم كقوله * (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) * [الزخرف 63] أي جميع الذي تختلفون فيه * (إن الله لا يهدي
) * يعني لا يرشد ولا يوفق إلى دينه * (من هو مسرف) * في قوله * (كذاب) * يعني الذي عادته الكذب
قوله عز وجل * (يا قوم لكم الملك اليوم) * يعني ملك مصر * (ظاهرين في الأرض) * يعني غالبين على أرض مصر * (فمن ينصرنا من بأس الله) * يعني من يعصمنا من عذاب الله * (إن جاءنا) * يعني أرأيتم إن قتلتم موسى فمن يمنعنا من عذاب الله
فلما سمع فرعون قول
195

المؤمن * (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى) * يعني ما أريكم من الهدى إلا ما أرى لنفسي
ويقال ما آمركم إلا ما رأيت لنفسي أنه حق وصواب * (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) * يعني ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى
وقرئ في الشاذ * (الرشاد) * بتشديد الشين يعني سبيل الرشاد الذي يرشد الناس ويقال رشاد اسم من أسماء أصنامه
سورة غافر 30 - 33
قوله تعالى * (وقال الذي آمن) * وهو حزبيل * (يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) * يعني أخاف عليكم من تكذيبكم مثل عذاب الأمم الخالية * (مثل دأب قوم نوح) * أي مثل عذاب قوم نوح * (وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد) * يعني لا يعذبهم بغير ذنب * (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد) * وهو من تنادى يتنادى تناديا
وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قرأ * (يوم التناد) * بتشديد الدال وقال تندون كما تند الإبل وهذا موافق لما بعده * (يوم تولون مدبرين) * وكقوله * (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه) * [عبس 34، 35]
وقرأ الحسن يوم التنادي بالياء وهو من النداء يوم ينادى كل قوم بأعمالهم
وينادي المنادي من مكان بعيد
وينادي أهل النار أهل الجنة
وينادي أهل الجنة أهل النار * (قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا) * [الأعراف 44] وقراءة العامة * (التناد) * بالتخفيف بغير ياء وأصله الياء فحذف الياء لأن الكسرة تدل عليه
ثم قال عز وجل * (يوم تولون مدبرين) * يعني هاربين
قال الكلبي انطلقوا بهم إلى النار فعاينوها هربوا فيقال لهم * (ما لكم من الله من عاصم) * يعني ليس لكم من عذاب الله من مانع
وقال مقاتل * (يوم تولون مدبرين) * يعني ذاهبين بعد الحساب إلى النار كقوله * (فتولوا عنه مدبرين) * أي ذاهبين * (ما لكم من الله من عاصم) * يعني من مانع من عذاب الله أي مانع يمنع عنكم عذاب الله
* (ومن يضلل الله) * عن الهدى " فما له من هاد " يعني من مرشد وموفق
سورة غافر 34 - 35
196

قوله عز وجل * (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات) * هذا قول حزبيل أيضا لقوم فرعون قال * (ولقد جاءكم يوسف) * ويقال يعني به أهل مصر وهم الذين كانوا قبل فرعون لأن القرون الذين كانوا في زمان فرعون لم يروا يوسف وهذا كما قال تعالى * (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) * [البقرة 91] وإنما أراد به آباءهم * (بالبينات) * أي بتعبير الرؤيا
وروي عن وهب بن منبه قال فرعون موسى هو الذي كان في زمن يوسف فعاش إلى زمان موسى وهذا خلاف قول جميع المفسرين * (فما زلتم في شك مما جاءكم به) * من تصديق الرؤيا وبما أخبركم * (حتى إذا هلك) * يعني مات * (قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا) *
يقول الله تعالى * (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) * يعني من هو مشرك شاك في توحيد الله
ثم وصفهم فقال * (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان) * يعني بغير حجة * (أتاهم كبر مقتا عند الله) * يعني عظم بغضا لهم من الله * (وعند الذين آمنوا) * يعني عند المؤمنين ثم قال * (كذلك يطبع الله) * يعني يختم الله بالكفر * (على كل قلب متكبر جبار) * يعني متكبر عن عبادة الله تعالى
قرأ أبو عمرو * (قلب متكبر) * بالتنوين
جعل قوله * (متكبر) * نعتا للقلب
ومعناه أن صاحبه متكبر والباقون * (قلب متكبر) * بغير تنوين على معنى الإضافة لأن المتكبر هو الرجل فأضاف القلب إليه
سورة غافر 36 - 41
قوله تعالى * (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا) * أي قصرا مشيدا * (لعلي أبلغ الأسباب) * يعني أصعد طرق السماوات * (فاطلع) * يعني انظر * (إلى إله موسى) * الذي يزعم أنه أرسله
وقال مقاتل والقتبي * (أسباب السماوات) * أبوابها
قرأ عاصم في رواية حفص * (فاطلع) * بنصب العين والباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب جعله جوابا للفعل
ومن قرأ بالضم رده إلى قوله * (أبلغ الأسباب) * فأطلع
ثم قال * (وإني لأظنه كاذبا) * يعني لأحسب موسى كاذبا في قوله
197

قال الله تعالى * (وكذلك زين لفرعون سوء عمله) * أي قبح عمله * (وصد عن السبيل) * يعني عن الدين والتوحيد
قرأ حمزة والكسائي وعاصم * (وصد) * بضم الصاد والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم فمعناه إن فرعون صرف عن طريق الهدى يعني أن الشيطان زين له سوء عمله وصرفه عن طريق الهدى
ومن قرأ بالنصب فمعناه صرف فرعون الناس عن الدين
* (وما كيد فرعون إلا في تباب) * أي ما صنيع فرعون إلا في خسارة يوم القيامة كقوله * (تبت يدا أبي لهب) * [المسد 1] يعني إن فرعون اختار متاعا قليلا وترك الجنة الباقية فكان عمله في الخسارة
قوله تعالى * (وقال الذي آمن) * وهو حزبيل * (يا قوم) * " اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد " يعني أطيعوني حتى أرشدكم وأبين لكم دين الصواب
قوله تعالى * (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع) * يعني قليل * (وإن الآخرة هي دار القرار) * لا زوال لها
قوله تعالى * (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها) * يعني من عمل الشرك فلا يجزى إلا النار في الآخرة
* (ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) * يعني من رجل أو امرأة * (فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) * يعني بغير مقدار
وقال بعض الحكماء إن الله تعالى قال * (من عمل سيئة) * ولم يفل من ذكر أو أنثى وقال * (ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى) * لأن العمل الصالح يحسن من الرجل والمرأة
والسيئة من المرأة أقبح من الرجل فلم يذكر من ذكر أو أنثى
قوله * (يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة) * يعني أن حزبيل قال لقومه مالي أدعوكم إلى التوحيد والطاعة وذلك سبب النجاة والمغفرة فلم تطيعوني * (وتدعونني إلى النار) * يعني إلى عمل أهل النار
سورة غافر 42 - 46
ثم بين عمل أهل النار فقال * (تدعونني لأكفر بالله) * يعني لأجحد بوحدانية الله * (وأشرك به) * يعني أشرك بالله * (ما ليس لي به علم) * يعني ما ليس لي به حجة بأن مع الله
198

شريكا * (وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار) * يعني إلى دين العزيز الغفار * (العزيز) * في ملكه * (الغفار) * لمن تاب
قوله * (لا جرم) * يعني حقا
* (أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا) * يعني ليس له قدرة
ويقال ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا
* (ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله) * يعني مصيرنا ومرجعنا إلى الله يوم القيامة * (وأن المسرفين) * يعني المشركين * (هم أصحاب النار) * يعني هم في النار أبدا
قوله * (فستذكرون ما أقول لكم) * يعني ستعرفون إذا نزل بكم العذاب وتعلمون أن ما أقول لكم من النصيحة أنه حق
* (وأفوض أمري إلى الله) * يعني أمر نفسي إلى الله وأدع تدبيري إليه * (إن الله بصير بالعباد) * يعني عالم بأعمالهم وبثوابهم
فأرادوا قتله فهرب منهم فبعث فرعون في طلبه فلم يقدروا عليه فذلك قوله * (فوقاه الله سيئات ما مكروا) * يعني دفع الله عنه شر ما أرادوا * (وحاق بآل فرعون) * يعني نزل بهم * (سوء العذاب) * يعني شدة العذاب وهو الغرق
قوله عز وجل * (النار يعرضون عليها) * قال ابن عباس يعني تعرض أرواحهم على النار * (غدوا وعشيا) * هكذا قال قتادة ومجاهد
وقال مقاتل تعرض روح كل كافر على منازلهم من النار كل يوم مرتين
وقال ابن مسعود أرواحهم في جوف طير سود يرون منازلهم غدوة وعشية
وقال هذيل بن شرحبيل أرواح الشهداء في جوف طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش
وإن أرواح آل فرعون في جوف طير سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها
وفي الآية دليل على إثبات عذاب القبر لأنه ذكر دخولهم النار يوم القيامة وذكر أنه تعرض عليهم النار قبل ذلك غدوا وعشيا
ثم قال * (ويوم تقوم الساعة) * يعني يقال لهم يوم القيامة * (أدخلوا آل فرعون) *
قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو * (ادخلوا) * بضم الألف والخاء
وهكذا قرأ عاصم في رواية أبي بكر والباقون بنصب الألف وكسر الخاء
فمن قرأ * (ادخلوا) * بالضم
فمعناه * (أدخلوا آل فرعون) * يعني يا قوم فرعون * (أشد العذاب) * فصار الآل نصبا بالنداء
ومن قرأ * (ادخلوا) * بالنصب
معناه يقال للخزنة أدخلوا آل فرعون
يعني قوم فرعون * (أشد العذاب) * يعني أسفل العذاب
فصار الآل نصبا لوقوع الفعل عليه
199

سورة غافر 47 - 50
قوله تعالى * (وإذ يتحاجون في النار) * يعني يتخاصمون في النار الضعفاء والرؤساء * (فيقول الضعفاء للذين استكبروا) * يعني لرؤسائهم * (إنا كنا لكم تبعا) * يعني لدينكم (فهل أنتم مغنون عنا) يعني حاملين عنا * (نصيبا من النار) * يعني بعض الذي علينا من العذاب باتباعنا إياكم كما كنا ندفع عنكم المؤونة في دار الدنيا
* (قال الذين استكبروا) * يعني الرؤساء يقولون للضعفاء * (إنا كل فيها) * يعني نعذب نحن وأنتم على قدر حصصكم في الذنوب فلا يغني واحد واحدا * (إن الله قد حكم بين العباد) * يعني قضى بين العباد بين التابع والمتبوع
ويقال * (حكم بين العباد) * يعني أنزلنا منازلنا وأنزلكم منازلكم
قوله تعالى * (وقال الذين في النار لخزنة جهنم) * إذا اشتد عليهم العذاب * (ادعوا ربكم) * يعني سلوا ربكم
* (يخفف عنا يوما من العذاب) * يعني يوما من أيام الدنيا حتى نستريح فترد الخزنة عليهم فتقول " قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات " يعني ألم تخبركم الرسل أن عذاب جهنم إلى الأبد ويقال " أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات " يعني ألم تخبركم الرسل بالدلائل والحجج والبراهين فكذبتموهم
* (قالوا بلى قالوا فادعوا) * يعني تقول لهم الخزنة فادعوا ما شئتم فإنه لا يستجاب لكم
" وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " يعني في خطأ بين
سورة غافر 51 - 52
قوله عز وجل * (إنا لننصر رسلنا) * بالغلبة والحجة * (والذين آمنوا) * يعني الذين صدقوهم * (في الحياة الدنيا) * أي بالحجة والغلبة على جميع أهل الأديان * (ويوم يقوم الأشهاد) * قال مقاتل يعني الحفظة من الملائكة يشهدون عند رب العالمين للرسل بالبلاغ وعلى الكافرين بتكذيبهم قال الكلبي يعني يوم القيامة يقوم الرسل عند رب العالمين * (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) * يعني لا ينفع الكافرين اعتذارهم
قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (يوم لا ينفع الظالمين) * بالتاء بلفظ التأنيث لأن المعذرة مؤنثة والباقون بالياء وانصرف إلى المعنى يعني لا ينفع لهم اعتذارهم * (ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) * يعني السخطة وعذاب جهنم
200

سورة غافر 53 - 57
قوله عز وجل * (ولقد آتينا موسى الهدى) * يعني التوراة فيها هدى ونور من الضلالة * (وأورثنا بني إسرائيل الكتاب) * يعني أعطيناهم الكتاب على لسان الرسل التوراة والإنجيل والزبور * (هدى) * يعني بيانا من الضلالة
ويقال فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم * (وذكرى لأولي الألباب) * يعني عظة لذوي العقول
قوله تعالى * (فاصبر إن وعد الله حق) * يعني اصبر يا محمد على أذى المشركين فإن وعد الله حق وهو ظهور الإسلام على الأديان كلها وفتح مكة
* (واستغفر لذنبك) *
وهذا قبل نزول قوله * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * [الفتح 2]
ويقال * (استغفر لذنبك) * يعني لذنب أمتك * (وسبح بحمد ربك) * أي صل بأمر ربك * (بالعشي) * يعني صلاة العصر * (والإبكار) * يعني صلاة الغداة
ويقال سبح الله تعالى واحمده بلسانك في أول النهار وآخره
قوله عز وجل * (إن الذين يجادلون في آيات الله) * قال الكلبي ومقاتل يعني اليهود والنصارى يجادلون في الدجال
وذلك أنهم يقولون إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان وله سلطان فيخوض البحر وتجري معه الأنهار ويرد علينا الملك
فنزل * (إن الذين يجادلون في آيات الله) * يعني في الدجال لأن الدجال آية من آيات الله * (بغير سلطان) * يعني بغير حجة * (آتاهم) * من الله
* (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) * أي ما في قلوبهم إلا عظمة * (ما هم ببالغيه) * يعني ما هم ببالغي ذلك الكبر الذي في قلوبهم بأن الدجال منهم
وقال القتبي إن في صدورهم إلا تكبرا على محمد صلى الله عليه وسلم وطمعا أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك
وقال الزجاج معناه وما هم ببالغي إرادتهم وإرادتهم دفع آيات الله تعالى
وروى أبو جعفر الرازي عن أبي الربيع عن أبي العالية قال إن اليهود ذكروا الدجال وعظموا أمره فنزل * (إن الذين يجادلون في آيات الله) * يعني أن الدجال من آيات الله * (فاستعذ بالله) * من فتنة الدجال فإنه ليس ثم فتنة أعظم من فتنة الدجال
* (إنه هو السميع) * لقول اليهود * (البصير) * يعني العليم بأمر الدجال
ويقال * (السميع) * لدعائك * (البصير) * برد فتنة الدجال عنك
ثم قال عز وجل * (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) * قال الكلبي ومقاتل * (لخلق السماوات والأرض) * أعظم من خلق الدجال
ويقال * (لخلق السماوات والأرض) * أعظم من خلق الناس بعد موتهم
يعني أنهم يبعثون يوم القيامة " ولكن أكثر الناس لا
201

يعلمون) أن الدجال خلق من خلق الله تعالى
ويقال لا يعلمون أن الله يبعثهم ولا يصدقون
سورة غافر 58 - 60
ثم قال تعالى * (وما يستوي الأعمى والبصير) * يعني الكافر والمؤمن بالثواب " والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ " يعني لا يستوي الصالح مع الطالح * (قليلا ما تذكرون) * أي تتعظون وتعتبرون
قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (تتذكرون) * بالتاء على وجه المخاطبة والباقون بالياء * (يتذكرون) * على معنى الخبر عنهم وفي كلا القراءتين " ما " للصلة والزينة
وقال الله تعالى * (إن الساعة لآتية لا ريب فيها) * يعني قيام الساعة كائنة لا شك فيها عند المؤمنين * (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) * يعني لا يصدقون الله تعالى
وقال عز وجل * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * قال الكلبي وحدوني أغفر لكم
وقال مقاتل معناه * (وقال ربكم) * لأهل الإيمان * (ادعوني أستجب لكم) * * (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) * يعني عن توحيدي فلا يؤمنون بي ولا يطيعونني
* (سيدخلون جهنم داخرين) * أي صاغرين
ويقال * (وقال ربكم ادعوني) * بلا غفلة * (أستجب لكم) * يعني أستجب لكم بلا مهلة
وقيل أيضا * (ادعوني) * بلا جفاء * (أستجب لكم) * بالوفاء
وقيل أيضا * (ادعوني) * بلا خطأ * (أستجب لكم) * مع العطاء
وروى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) *) قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وإحدى الروايتين عن أبي عمرو * (سيدخلون جهنم) * بضم الياء ونصب الخاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وتكون * (جهنم) * مفعولا ثانيا
والباقون * (يدخلون) * بنصب الياء وضم الخاء على الإخبار عنهم بالفعل المستقبل على معنى سوف يدخلون
سورة غافر 61 - 65
202

قول الله عز وجل * (الله الذي جعل لكم الليل) * يعني خلق لكم الليل * (لتسكنوا فيه) * يعني لتستقروا فيه وتستريحوا فيه * (والنهار مبصرا) * يعني مضيئا لابتغاء الرزق والمعيشة
ويقال " مبصرا فيه " لتبصروا فيه * (إن الله لذو فضل على الناس) * يعني على أهل مكة بتأخير العذاب عنهم
وقيل على جميع الناس بخلق الليل والنهار * (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) * لربهم في النعمة فيوحدونه ويطيعونه
قوله تعالى * (ذلكم الله ربكم) * يعني الذي خلق هذا هو ربكم " خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون " أي تصرفون وتحولون
ويقال * (فأنى تؤفكون) * أي من أين تكذبون * (كذلك يؤفك) * يعني هكذا يكذب
ويقال هكذا يحول * (الذين كانوا بآيات الله يجحدون) * ويقال هكذا يؤفك الذين كانوا من قبلهم
قوله تعالى * (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا) * أي بسط لكم الأرض وجعلها موضع قراركم * (والسماء بناء) * يعني خلق السماء فوقكم مرتفعا * (وصوركم) * يعني خلقكم * (فأحسن صوركم) * ولم يخلقكم على صورة الدواب * (فأحسن صوركم) * يعني أحكم خلقكم * (ورزقكم من الطيبات) * يعني الحلالات
يقال اللذيذات * (ذلكم الله ربكم) * يعني الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم * (فتبارك الله رب العالمين) * يقال هو من البركة يعني البركة منه
قوله تعالى * (هو الحي) * يعني هو الحي الذي لا يموت ويميت الخلائق * (لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين) * يعني بالتوحيد * (الحمد لله رب العالمين) * يعني قولوا الحمد لله رب العالمين الذي صنع لنا هذا
سورة غافر 66 - 68
قوله تعالى * (قل إني نهيت) * يعني قل يا محمد لأهل مكة * (إني نهيت) * * (أن أعبد الذين تدعون من دون الله) * يعني نهاني ربي أن أعبد الذين تعبدون من دون الله من الأصنام * (لما جاءني البينات من ربي) * الواضحات وهو القرآن * (وأمرت أن أسلم لرب العالمين) * يعني أستقيم على التوحيد
قوله عز وجل " هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم " وقد ذكرناه من قبل
* (ثم لتكونوا شيوخا) * يعني يعيش الإنسان إلى أن يصير شيخا
203

* (ومنكم من يتوفى من قبل) * * (ولتبلغوا أجلا مسمى) * يعني الشباب والشيخ يبلغ * (أجلا مسمى) * وقتا معلوما
ويقال في الآية تقديم ومعناه * (ثم لتكونوا شيوخا) * أي ثم لتبلغوا * (أجلا مسمى) * يعني وقت انقضاء أجله * (ومنكم من يتوفى من قبل) * أي من قبل أن يبلغ أشده
ويقال من قبل أن يصير شيخا
ثم قال * (ولعلكم تعقلون) * أي لكي تعقلوا أمر ربكم ولتستدلوا به وتتفكروا في خلقه
ثم قال عز وجل * (هو الذي يحيي ويميت) * أي يحيي للبعث ويميت في الدنيا على معنى التقديم ويقال معناه هو الذي يحيي في الأرحام ويميت عند انقضاء الآجال * (فإذا قضى أمرا) * يعني أراد أن يخلق شيئا * (فإنما يقول له كن فيكون) *
سورة غافر 69 - 76
قوله عز وجل * (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله) * أي يجادلون في القرآن أنه ليس منه * (أنى يصرفون) * يعني من أين يصرفون عن علي القرآن والإيمان ويقال من أين تعدلون عنه إلى غيره ويقال عن الحق والتوحيد
ثم وصفهم فقال " الذي كذبوا بالكتاب " يعني بالقرآن * (وبما أرسلنا به رسلنا) * يعني بالتوحيد
ويقال بالأمر والنهي * (فسوف يعلمون) * ماذا ينزل بهم في الآخرة
ثم وصف ما ينزل بهم فقال عز وجل * (إذ الأغلال في أعناقهم) * يعني ترد أيمانهم إلى أعناقهم * (والسلاسل يسحبون) * يعني تجعل السلاسل في أعناقهم ويجرون * (في الحميم) * يعني في ماء حار قد انتهى حره
قال مقاتل * (يسحبون في الحميم) * يعني في حر النار
وقال الكلبي يعني في الماء الحار
* (ثم في النار يسجرون) * أي يوقدون فصاروا وقودا
وروي عن ابن عباس أنه قرأ * (والسلاسل) * بنصب اللام * (يسحبون) * بنصب الياء يعني أنهم يسحبون السلاسل
وقال هو أشد عليهم
وقراءة العامة * (والسلاسل) * بضم اللام * (يسحبون) * بالضم على معنى فعل ما لم يسم فاعله
والمعنى أن الملائكة يسحبونهم في السلاسل
* (ثم قيل لهم) * أي تقول لهم الخزنة * (أين ما كنتم تشركون) * يعني تعبدون * (من دون الله) * من الأوثان * (قالوا ضلوا عنا) * يعني اشتغلوا بأنفسهم عنا
204

قال * (بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا) * وذلك أنهم يندمون على إقرارهم وينكرون ويقولون * (بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا) * في الدنيا
ويقال معناه بل لم نكن ندعو شيئا ينفعنا
يقول الله تعالى * (كذلك يضل الله الكافرين) * عن الحجة * (ذلكم) * أي ذلك العذاب * (بما كنتم تفرحون في الأرض) * يعني تبطرون وتتكبرون في الأرض * (بغير الحق وبما كنتم تمرحون) * يعني تعصون وتستهزئون بالمسلمين
وقال تعالى * (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) * يعني فبئس مقام المتكبرين عن الإيمان
سورة غافر 77 - 78
ثم قال * (فاصبر إن وعد الله حق) * يعني اصبر يا محمد صلى الله عليه وسلم على أذى الكفار * (إن وعد الله حق) * يعني كائن * (فإما نرينك بعض الذي نعدهم) * يعني نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب في الدنيا وهو القتل والهزيمة
* (أو نتوفينك) * من قبل أن نرينك عذابهم في الدنيا * (فإلينا يرجعون) * يعني يرجعون إلينا في الآخرة فنجزيهم بأعمالهم
وقال عز وجل " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك " يعني إلى قومهم * (منهم من قصصنا عليك) * يعني سميناهم لك فأنت تعرفهم * (ومنهم من لم نقصص عليك) * يعني لم نسمهم لك ولم نخبرك بهم يعني أنهم صبروا على أذاهم فاصبر أنت يا محمد على أذى قومك كما صبروا
ثم قال " وما كان لرسول أن يأتي بآية " أي ما كان لرسول من القدرة " أن يأتي بآية " أي بدلائل وبراهين * (إلا بإذن الله) * يعني بأمره
* (فإذا جاء أمر الله) * يعني العذاب * (قضي بالحق) * يعني عذبوا ولم يظلموا حين عذبوا * (وخسر هنالك المبطلون) *
أي خسر عند ذلك المبطلون
يعني المشركين ويقال يعني الظالمين
ويقال الخاسرين
سورة غافر 79 - 84
205

سورة غافر 85
ثم ذكر صنعه ليعتبروا فقال * (الله الذي جعل لكم الأنعام) * يعني خلق لكم البقر والغنم والإبل * (لتركبوا منها) * يعني بعضها يعني الإبل * (ومنها تأكلون) * من لحومها وألبانها * (ولكم فيها منافع) * يعني في الأنعام * (منافع) * في ظهورها وشعورها وشرب ألبانها * (ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم) * يعني ما في قلوبكم من بلد إلى بلد * (وعليها وعلى الفلك تحملون) * يعني على الأنعام وعلى السفن
قوله عز وجل * (ويريكم آياته) * يعني دلائله وعجائبه * (فأي آيات الله تنكرون) * بأنها ليست من الله تعالى
ثم قال * (أفلم يسيروا في الأرض) * يعني يسافروا في الأرض * (فينظروا) * يعني فيعتبروا * (كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) * يعني آخر أمر من كان قبلهم كيف فعلنا بهم حين كذبوا رسلهم * (كانوا أكثر منهم) * يعني أكثر من قومك في العدد * (وأشد قوة) * من قومك * (وآثارا في الأرض) * يعني مصانعهم أعظم آثارا في الأرض وأطول أعمارا وأكثر ملكا في الأرض * (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) * يعني لم ينفعهم ما عملوا في الدنيا حين نزل بهم العذاب
قوله عز وجل * (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات) * بالأمر والنهي وبخبر العذاب * (فرحوا بما عندهم من العلم) * يعني من قلة علمهم رضوا بما عندهم من العلم ولم ينظروا إلى دلائل الرسل
ويقال رضوا بما عندهم فقالوا لن نعذب ولن نبعث
ويقال * (فرحوا بما عندهم من العلم) * أي علم التجارة كقوله * (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) * [الروم 7]
* (وحاق بهم) * يعني نزل بهم " ما كانوا يستهزئون " يعني يسخرون به ويقولون إنه غير نازل بهم
قوله عز وجل * (فلما رأوا بأسنا) * يعني عذابنا في الدنيا * (قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا) * يعني تبرأنا * (بما كنا به مشركين) * يعني بما كنا به مشركين من الأوثان
يقول الله تعالى * (فلم يك ينفعهم إيمانهم) * يعني تصديقهم * (لما رأوا بأسنا) * يعني حين رأوا عذابنا
قال القتبي البأس الشدة والبأس العذاب كقوله * (فلما رأوا بأسنا) * وكقوله * (فلما أحسوا) * بأسنا " سنت الله التي قد خلت في عباده " قال مقاتل يعني كذلك كانت سنة الله * (في عباده) *
يعني العذاب في الأمم الخالية إذا عاينوا العذاب لم ينفعهم الإيمان
وقال القتبي هكذا سنة الله أنه من كفر عذبه * (وخسر هنالك الكافرون) * أي خسر عند ذلك الكافرون بتوحيد الله عز وجل و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم
206

سورة فصلت مكية خمسون وأربع آيات
سورة فصلت 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (حم) * يعني قضى ما هو كائن ويقال هو قسم أقسم الله تعالى به
* (تنزيل) * يعني نزل بهذا القرآن جبريل * (من الرحمن الرحيم) * * (تنزيل) * صار رفعا بالابتداء وخبره * (كتاب فصلت آياته) * ويقال صار رفعا بإضمار فيه
ومعناه هذا تنزيل من الرحمن الرحيم * (كتاب) * يعني القرآن * (فصلت آياته) * يعني بينت وفسرت دلائله وحججه
ويقال بين حلاله وحرامه * (قرآنا عربيا) * صار نصبا على الحال أي بينت آياته في حال جمعه * (لقوم يعلمون) * يعني يصدقون ويقرون بالرسل ويقال يعلمون ما فيه ويفهمونه
* (قرآنا عربيا) * أخذ من الجمع ولو كان غير عربي لم يعلمون
قوله تعالى * (بشيرا ونذيرا) * يعني * (بشيرا) * للمؤمنين بالجنة * (ونذيرا) * للكافرين بالنار
* (فأعرض أكثرهم) * يعني أعرض أكثر أهل مكة * (فهم لا يسمعون) * يعني لا يسمعون سمعا ينفعهم لأنهم لا يجيبون ولا يطيعون
وقال * (وقالوا قلوبنا في أكنة) * يعني في غطاء لا نفقه ما تقول * (مما تدعونا إليه) * من التوحيد لا يصل إلى قلوبنا * (وفي آذاننا وقر) * يعني ثقلا فلا نسمع قولك
يعني نحن في استماع قولك كالصم لا نسمع ما تقول * (ومن بيننا وبينك حجاب) * أي ستر وغطاء * (فاعمل إننا عاملون) * يعني اعمل على أمرك نعمل على أمرنا
ويقال اعمل لإلهك الذي أرسلك إننا عاملون لآلهتنا وهذا قول مقاتل والأول قول الكلبي
ويقال اعمل في هلاكنا إننا عاملون في هلاكك
روى محمد بن كعب القرظي عمن حدثه أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ألا أقوم إلى هذا الرجل وأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل منا بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا وذلك حين رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون
فقالوا بلى يا أبا الوليد
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من المكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت
207

جماعتهم وعبت آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم فإن كنت إنما تريد بما جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثر مالا منا وإن كنت تريد شرفا شرفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رؤيا تراه أي خيالا لا تستطيع أن ترده عنك نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا لك فيه أموالنا حتى نبريك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه
فلما فرغ منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته " حتى انتهى إلى قوله * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) * [فصلت 13] " فقام عتبة وجاء إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض تالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك قال سمعت قولا ما سمعت بمثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة
يا معشر قريش أطيعوني وخلوا بين ما هو فيه
فقالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه فقال هذا الرأي لكم فاصنعوا ما بدا لكم
سورة فصلت 6 - 9
يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي " يعني آدميا مثلكم " يوحى إلي " ما أبلغكم من الرسالة " أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه " يعني أقروا له بالتوحيد " واستغفروه " من الشرك " وويل للمشركين " يعني الشدة من العذاب للمشركين " الذين لا يؤتون الزكاة " يعني لا يعطون الزكاة ولا يقرون بها " وهم بالآخرة هم كافرون " يعني بالبعث بعد الموت
ثم وصف المؤمنين فقال " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني صدقوا بالله وأدوا الفرائض " لهم أجر غير ممنون " يعني غير منقوص
ويقال غير مقطوع عنهم في حال ضعفهم ومرضهم
فقال عز وجل " قل أئنكم لتكفرون " اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الزجر يعني أئنكم لتكذبون بالخالق الذي " خلق الأرض في يومين " يعني في يوم الأحد ويوم الاثنين
فبدا خلقها في يوم الأحد وبسطها في يوم الاثنين " وتجعلون له أندادا " يعني تصفون له شركاء من الآلهة " ذلك رب العالمين " يعني الذي خلق الأرض فهو رب جميع الخلق ولو أراد
208

الله أن يخلقها في لحظة واحدة لفعل وكان قادرا ولكنه أحب أن يبصر الخلق وجوه الأناة والقدرة على خلق السماوات والأرض في أيام كثيرة وفي لحظة واحدة سواء لأن الخلق عاجزون عن مثقال ذرة منها وكان ابتداء خلق الأرض في يوم الأحد وإتمام خلقها وبسطها في يوم الاثنين
سورة فصلت 10 - 12
قوله تعالى * (وجعل فيها رواسي من فوقها) * يعني وخلق في الأرض رواسي يعني الجبال الثوابت من فوقها * (وبارك فيها) * بالماء والشجر * (وقدر فيها أقواتها) * يعني قسم فيها الأرزاق
وقال عكرمة * (قدر فيها أقواتها) * يعني قدر في كل قرية عملا لا يصلح في الأخرى مثل النيسابوري لا يكون إلا بنيسابور والهروي لا يكون إلا بهراة
وقال قتادة * (وقدر فيها أقواتها) * قال جبالها ودوابها وأنهارها وثمارها
وقال الحسن * (وقدر فيها أقواتها) * قال أرزاقها
وقال مقاتل يعني أرزاقها ومعايشها
وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهم قال أول ما خلق الله من شيء خلق القلم فقال له اكتب
فقال يا رب وما أكتب فقال اكتب القدر فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم القيامة ثم خلق النون ثم رفع بخار الماء ففتق منه السماوات ثم بسط الأرض على ظهر النون فاضطرب النون فتمادت الأرض فأوتدت بالجبال
ثم قال * (في أربعة أيام) * يعني من أيام الآخرة ويقال من أيام الدنيا * (سواء للسائلين) * يعني لمن سأل الرزق ومن لم يسأل
وقال مقاتل * (سواء للسائلين) * يعني عدلا لمن سأل الرزق كقوله * (واهدنا إلى سواء الصراط) * [ص 22] يعني عدلا
وقال ابن عباس سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال (خلق الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة) وهكذا خلق الأرزاق قبل الأرواح بأربع آلاف سنة
" وفي أربعة أيام سواء "
قرأ الحسن * (سواء) * بكسر الألف وقرأ أبو جعفر المدني * (سواء) * بالضم وقراءة العامة بالنصب
فمن قرأ بالكسر جعل * (سواء) * صفة للأيام والمعنى في أربعة أيام مستويات تامات * (للسائلين) *
ومن قرأ بالضم فمعناه في أربعة أيام وقد تم الكلام ثم استأنف فقال * (سواء للسائلين) * ومن قرأ بالنصب يعني قدرها سواء صار نصبا على المصدر ومعناه استوت استواء
* (ثم استوى إلى السماء) * أي صعد أمره إلى السماء وهو قوله * (كن) * ويقال عمد
209

إلى خلق السماء * (وهي دخان) * يعني السماء بخار الماء كهيئة الدخان وذلك أنه لما خلق العرش لم يكن تحت العرش شيء سوى الماء كما قال
* (وكان عرشه على الماء) * ثم ألقى الحرارة على الماء حتى ظهر منه البخار فارتفع بخاره كهيئة الدخان فارتفع البخار وألقى الريح الزبد على الماء فخلق الأرض من الزبد وخلق السماء من الدخان وهو البخار
ثم قال * (لها وللأرض) * يعني للسماء والأرض * (ائتيا طوعا أو كرها) * يعني أعطيا الطاعة كرها أو طوعا
يعني ائتيا بالمعرفة لربكما والذكر له طوعا أو كرها * (قالتا أتينا طائعين) * فأعطيا الطاعة بالطوع
ويقال كانت السماء رتقا عن المطر والأرض عن النبات فقال لهما * (ائتيا) * يعني أطيعا وأخرجا ما فيكما من المطر والنبات منفعة للخلق إن شئتما طائعين وإن شئتما كارهين
* (قالتا أتينا طائعين) * يعني أخرجنا ما فينا طائعين غير كارهين
وروي عن مجاهد أنه قال معناه يا سماء أبرزي شمسك وقمرك ونجومك ويا أرض أخرجي نبأتك طوعا أو كرها
ويقال هذا على وجه المثل يعني أمرهما بإخراج ما فيهما فأخرجتا طائعتين
قوله عز وجل * (فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) * يعني أمر أهل كل سماء بأمرها
قال السدي خلق في كل سماء خلقا من الملائكة * (وزينا السماء الدنيا بمصابيح) * يعني بالنجوم * (وحفظا) * يعني من الشيطان الرجيم أن يسترق السمع * (ذلك) * يعني الذي ذكر من صنعه * (تقدير العزيز) * في ملكه * (العليم) * بخلقه
سورة فصلت 13 - 14
قوله تعالى * (فإن أعرضوا) * يعني عن الأمر * (فقل أنذرتكم) * يعني خوفتكم * (صاعقة) * يعني عذابا * (مثل صاعقة) * يعني مثل عذاب " عاد وثمود "
وقال مقاتل كان عاد وثمود ابني عم وموسى وقارون ابني عم وإلياس واليسع ابني عم وعيسى ويحيى ابني خالة
ومعنى الآية إن لم يعتبروا فيما وصفت لهم من قدرتي وعظمتي في خلق السماوات والأرض وأعرضوا عن الإيمان فقل أنذرتكم عذابا مثل عذاب عاد وثمود أنه يصيبكم مثل ما أصابهم
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الخليل بن أحمد
قال حدثنا علي بن المنذر
قال حدثنا أبو فضيل عن الأجلح عن ابن حرملة عن جابر بن عبد الله أن أبا جهل والملأ من قريش بعثوا عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال له أنت يا محمد خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب فلم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك لواء وكنت رأسا ما بقيت
وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشرة نسوة تختارهن من
210

أي بنات قريش شئت
وإن كنت تريد المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك
فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته " " إلى قوله " فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " "
فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم أن يكف
ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا وقد صبأ فأتوه فقال أبو جهل والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبوت إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبك أمره
فغضب عتبة وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا وقال إني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني والله بقول ليس فيه سحر ولا شعر ولا كهانة فأمسكت على فيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال قولا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب
ثم قال تعالى * (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم) * يعني من قبل عاد وثمود * (ومن خلفهم) * يعني من بعد عاد وثمود * (ألا تعبدوا إلا الله) * يعني ألا تطيعوا
في التوحيد غير الله وهذا قول الرسل لقومهم
فأجابهم قومهم * (قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة) * ولم يرسل إلينا آدميا * (فإنا بما أرسلتم به كافرون) * أي جاحدون
وقد قيل في قوله * (من بين أيديهم ومن خلفهم) * يعني خوفوهم * (من بين أيديهم) * من أمر الآخرة وحذروهم النار ورغبوهم في الجنة
* (ومن خلفهم) * يعني زهدوهم في الدنيا فلم يقبلوا
وقد قيل * (من بين أيديهم) * يعني ما خلق قبلهم كيف أهلكهم الله ومما خلفهم من أمر الآخرة
سورة فصلت 15 - 18
قوله تعالى * (فأما عاد فاستكبروا في الأرض) * يعني تعظموا عن الإيمان أي عن قول لا إله إلا الله * (بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة) *
يقول الله تعالى " أو لم يروا أن الله الذي خلقهم " وقواهم * (هو أشد منهم قوة) * يعني
211

بطشا ولم يعتبروا بذلك
* (وكانوا بآياتنا يجحدون) * يعني جاحدين بما آتاهم هود عليه السلام أنه لا ينزل بهم
قوله عز وجل * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا) * يعني ريحا باردة تحرق كما تحرق النار
ويقال * (ريحا صرصرا) * يعني شديدة الصوت * (في أيام نحسات) *
قال مقاتل يعني شدائد
وقال الكلبي يعني أيام مشؤومات
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو * (في أيام نحسات) * بجزم الحاء والباقون بكسر الحاء ومعناهما واحد
ويقال يوم نحس ويوم نحس وأيام نحسه ونحسه والنحسات جمع الجمع
* (لنذيقهم عذاب الخزي) * يعني عذابا شديدا في الدنيا قبل عذاب الآخرة
وهذا كقوله * (ليذيقهم بعض الذي عملوا) * [الروم 41] يعني ليصيبهم بعض العقوبة في الدنيا
كقوله تعالى * (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) * يعني يتوبون
ثم قال عز وجل * (ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون) * يعني أشد مما كان في الدنيا
* (وهم لا ينصرون) * يعني لا يمنعهم أحد من عذاب الله
ثم قال * (وأما ثمود) * قرأ الأعمش * (ثمود) * بالتنوين وقراءة العامة بغير تنوين
* (فهديناهم) * يعني بينا لهم الحق من الباطل والكفر من الإيمان
وقال مجاهد * (فهديناهم) * أي دعوناهم
وقال قتادة ومقاتل بينا لهم
وقال القتبي دعوناهم ودللناهم * (فاستحبوا العمى على الهدى) * يعني اختاروا الكفر على الإيمان
ويقال اختاروا طريق الضلالة على طريق الهدى * (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون) * والصاعقة هي العذاب الهون يعني يهانون فيه
ويقال الهون الشديد
* (بما كانوا يكسبون) * يعني يعملون من الشرك والمعاصي
قوله عز وجل * (ونجينا الذين آمنوا) * بصالح * (وكانوا يتقون) * عقر الناقة ويتقون الشرك والفواحش
سورة فصلت 19 - 23
ثم قال عز وجل * (ويوم يحشر أعداء الله) * يعني يساق أعداء الله وهم الكفار والمنافقون * (إلى النار) *
قرأ نافع * (ويوم نحشر) * بالنون * (أعداء الله) * بالنصب على معنى الإضافة إلى نفسه وقرأ الباقون بالياء والضم
* (شر أعداء الله) * على معنى فعل ما لم يسم فاعله * (ويوم) *
212

صار نصبا لإضمار فيه يعني واذكر يوم يحشر أعداء الله إلى النار * (فهم يوزعون) * يعني يحبس أولهم ليلحق بهم آخرهم وأصله من وزعته أي كففته
* (حتى إذا ما جاؤوها) * يعني إذا جاؤوها " ما " صلة في الكلام
يعني جاؤوا النار وعاينوها
قيل لهم * (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) * [الأنعام 22] فقالوا عند ذلك والله ربنا ما كنا مشركين فيختم على أفواههم وتستنطق جوارحهم فتنطق بما كتمت الألسن فذلك قوله * (شهد عليهم سمعهم) * يعني آذانهم بما سمعت * (وأبصارهم) * يعني أعينهم بما نظرت ورأت * (وجلودهم) * يعني فروجهم * (بما كانوا يعملون)
* يعني بجميع أعمالهم
قوله تعالى * (وقالوا لجلودهم) * يعني لجوارحهم
وقال القتبي الجلود كناية عن الفروج " لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء " يعني أنطق الدواب وغيرهم " وهم خلقكم أول مرة " يعني أنطقكم في الدنيا * (وإليه ترجعون) * في الآخرة
يقول الله تعالى * (وما كنتم تستترون) * يعني ما كنتم تمتنعون ويقال ما كنتم تحسبون وتستيقنون إلا * (أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) * من الخير والشر * (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) * يعني ذلك الظن الذي أهلككم ويقال * (أرداكم) * يعني أغواكم
ويقال أهلككم سوء الظن وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني) وقال الحسن إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل
وإن المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل
* (فأصبحتم من الخاسرين) * يعني صرتم من المغبونين
* (فإن يصبروا) * يعني على النار * (فالنار مثوى لهم) * أي مأوى لهم ويقال هذا جواب لقولهم * (اصبروا على آلهتكم) *
سورة فصلت 24 - 25
يقول الله تعالى * (فإن يصبروا) * يعني على النار * (النار مثوى لهم) * * (وإن يستعتبوا) * يعني يسترجعوا من الآخرة إلى الدنيا * (فما هم من المعتبين) * أي من المرجوعين إلى الدنيا
ويقال * (وإن يستعتبوا) * يعني وإن يطلبوا العذر * (فما هم من المعتبين) * يعني لا يسمع ولا يقبل منهم عذرهم
قوله عز وجل * (وقيضنا لهم قرناء) * من الشياطين
وقال أهل اللغة قيض يعني سلط ويقال قيض بمعنى قدر
* (فزينوا لهم) * يعني زينوا لهم التكذيب بالحساب وقال الحسن
213

" وقضينا لهم قرناء " أي خلينا بينهم وبين الشياطين بما استحقوا من الخذلان فزينوا لهم * (ما بين أيديهم وما خلفهم) * قال الضحاك
يعني شككوهم في أمر الآخرة * (وما خلفهم) * يعني رغبوهم في الدنيا
ويقال زينوا لهم ما بين أيديهم يعني ما كان عليه آباؤهم من أمر الجاهلية * (وما خلفهم) * يعني تكذيبهم بالعبث * (وحق عليهم القول) * يعني وجب عليهم العذاب * (في أمم قد خلت من قبلهم) * يعني أمم قد مضت * (من قبلهم) * يعني من قبل أهل مكة * (من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين) * بالعقوبة
ويقال إنهم كانوا خاسرين قبلهم
سورة فصلت 26 - 29
قوله تعالى * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن) * نزلت الآية في أبي جهل وأصحابه فإنه قال إذ تلى محمد القرآن فارفعوا أصواتكم بالأشعار والكلام في وجوههم حتى تلبسوا عليهم فذلك قوله * (والغوا فيه) * يعني الغطوا فيه واللغط هو الشغب والجلبة * (لعلكم تغلبون) * يعني تغلبوهم ويسكتون
قال الزجاج * (والغوا فيه) * يعني عارضوا بكلام لا يفهم يكون ذلك الكلام لغوا
يقول الله تعالى * (فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا) * في الدنيا بالقتل * (ولنجزينهم) * يعني في الآخرة * (أسوأ الذي كانوا يعملون) * يعني أقبح ما كانوا يعملون ويقال هذا كله من عذاب الآخرة يعني * (فلنذيقن الذين كفروا) * في الآخرة * (عذابا شديدا) * * (ولنجزينهم) * من العذاب أسوأ ما كانوا يعملون
يعني بأسوأ أعمالهم وهو الشرك
* (ذلك جزاء أعداء الله النار) * يعني ذلك العذاب الشديد هو جزاء أعداء الله النار يعني ذلك العذاب هو النار ويقال صار رفعا بالبدل عن الجزاء
ثم قال * (لهم فيها دار الخلد) * يعني من النار موضع المقام أبدا * (جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون) * يعني بالكتاب والرسل
قوله تعالى " وقال الذي كفروا ربنا أرنا اللذين " يعني الصنفين اللذين * (أضلانا) * يعني سببا ضلالتنا * (من الجن والإنس) * ويقال جهلانا حتى نسينا الآخرة
ثم قال * (نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين) * في النار
ويقال من الجن ويقال يعني إبليس هو الذي أضلنا ومن الإنس يعني ابن آدم الذي قتل أخاه
ويقال رؤساؤهم في الضلالة
كقوله * (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا) * [الأحزاب 67] الآية
قرأ ابن كثير
214

وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر * (أرنا) * بجزم الراء والباقون بالكسر ومعناهما واحد
سورة فصلت 30 - 32
قوله تعالى * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * يعني * (قالوا ربنا الله) * فعرفوه و * (استقاموا) * على المعرفة
وقال القتبي يعني آمنوا ثم استقاموا على طاعة الله
وقال ابن عباس في رواية الكلبي * (ثم استقاموا) * على ما افترض الله عليهم
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ثم قال أتدرون ما استقاموا عليه فقالوا ما هو يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يعني استقاموا ولم يشركوا
وقال عمر رضي الله عنه * (ثم استقاموا) * ولم يروغوا روغان الثعلب على طاعة الله
وعن أبي العالية * (ثم استقاموا) * قال أخلصوا له الدين والعمل
ويقال وحدوا الله تعالى واستقاموا على طاعته ولزموا سنة نبيه
وقال بعض المتأخرين معناه * (ثم استقاموا) * فعلا كما استقاموا قولا
وقد قيل أيضا * (إن الذين قالوا ربنا الله) * يعني يقولون الله مانعنا ومعطينا وضارنا ونافعنا * (ثم استقاموا) * على ذلك القول ولا يرون النفع ولا يرجون من أحد دون الله تعالى ولا يخافون أحدا دون الله فذكر أعمالهم ثم ذكر ثوابهم فقال * (تتنزل عليهم الملائكة) * قال الكلبي يعني تتنزل عليهم الملائكة عند قبض أرواحهم ويبشرونهم ويقولون * (ألا تخافوا ولا تحزنوا) * يعني لا تخافوا أمامكم من العذاب ولا تحزنوا على ما خلفكم من الدنيا
وقال مقاتل * (تتنزل عليهم الملائكة) * يعني تتنزل عليهم الحفظة من السماء فتقول له أتعرفني فيقول لا
فيقول أنا الذي كنت أكتب عملك وبشره بالجنة فذلك قوله * (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) * في الدنيا
وقال زيد بن أسلم البشرى في ثلاث مواطن عند الموت وفي القبر وفي البعث
وقال بعض المتأخرين هذه البشرى للخائف الحزين لا للآمن المستبشر يعني الذي كان خائفا في الدنيا
ثم قال عز وجل " ونحن أولياؤكم في الحياة الدنيا " يعني تقول لهم الحفظة نحن كنا أولياؤكم في الحياة الدنيا ونحن أولياؤكم * (وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) * يعني لكم في الجنة ما تحب وتتمنى قلوبكم * (ولكم فيها ما تدعون) * يعني تسألون
215

ثم قال * (نزلا من غفور) * للذنوب العظام * (رحيم) * بالمؤمنين
حكى الزجاج عن الأخفش * (نزلا) * منصوبا من وجهين أحدهما على المصدر فمعناه أنزلناه نزلا
ويجوز أن يكون على الحال
سورة فصلت 33 - 36
قوله تعالى " وما أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا " قال بعضهم الآية نزلت في شأن المؤذنين يعني يدعون الناس إلى الصلاة
* (وعمل صالحا) * يعني يصلي بين الأذان والإقامة ويقال الأنبياء يدعون الخلق إلى توحيد الله تعالى * (عمل صالحا) * يعني الطاعات
ويقال العلماء يعلمون الناس أمور دينهم ويدعونهم إلى طريق الآخرة * (وعمل صالحا) * يعني عملوا بالعلم ويقال نزلت الآية في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يعني يأمرون بالمعروف ويعملون به ويصبرون على ما أصابهم
* (وقال إنني من المسلمين) * يعني أكون على دين الإسلام لأنه لا تقبل طاعة بغير دين الإسلام
فقال عز وجل * (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) * قال الزجاج * (لا) * زائدة مؤكدة والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة لا تستوي الطاعة والمعصية ولا يستوي الكفر والإيمان ويقال لا يستوي البصير والأعمى
ويقال لا يستوي الصبر والجزع واحتمال الأذى والإساءة
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذيه أبو جهل لعنه الله وكان صلى الله عليه وسلم يكره رؤيته بغضا له فأمره الله تعالى بالعفو والصفح فقال * (ادفع بالتي هي أحسن) * يعني ادفع بالكلمة الحسنة الكلمة القبيحة * (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) * يعني إذا فعلت ذلك يصير الذي بينك وبينه عداوة بمنزلة القرابة في النسب
قوله تعالى * (وما يلقاها إلا الذين صبروا) * على طاعة الله تعالى وأداء الفرائض * (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) * يعني ذو نصيب وافر في الآخرة
ويقال * (ادفع بالتي هي أحسن) * يعني بقول لا إله إلا الله السيئة يعني الشرك
* (وما يلقاها إلا الذين صبروا) * على كظم الغيظ
ثم قال * (وإما ينزغنك) * يعني يصيبنك * (من الشيطان نزغ) * يعني فتنة
وقيل وسوسة على الاحتمال وقال الكلبي الذنب عند دفع السيئة
ويقال * (ينزغنك) * يعني يغوينك * (فاستعذ بالله) * يعني تعوذ بالله * (إنه هو السميع) * للاستعاذة * (العليم) * بقول الكفار
216

وعقوبتهم
سورة فصلت 37 - 39
قوله تعالى * (ومن آياته) * يعني من علامات وحدانيته أن عرفوا توحيده بصنعه * (الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) * يعني خلق الشمس والقمر والليل والنهار دلالة لوحدانيته لتعرفوا وحدانيته فتعبدوه ولا تعبدوا هذه الأشياء * (واسجدوا لله الذي خلقهن) * يعني اعبدوا خالق هذه الأشياء واسجدوا له وأطيعوه * (إن كنتم إياه تعبدون) * يعني إن أردتم بعبادة الشمس والقمر رضا الله تعالى فإن رضاه أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره
ويقال * (إن كنتم إياه تعبدون) * يعني إن أردتم بعبادتهما عبادة الله تعالى فاعبدوه وأطيعوه ولا تسجدوا لغيره
قوله * (فإن استكبروا) * يعني تكبروا عن السجود لله تعالى وعن توحيده
* (فالذين عند ربك) * يعني الملائكة * (يسبحون له) * يعني يصلون لله تعالى * (بالليل والنهار) * يقال هو التسبيح بعينه يعني يسبحونه ويذكرونه * (وهم لا يسأمون) * يعني لا يملون من الذكر والعبادة والتسبيح
قوله عز وجل * (ومن آياته) * يعني من علامات وحدانيته * (أنك ترى الأرض خاشعة) * يعني غبراء يابسة لا نبت فيها * (فإذا أنزلنا عليها الماء) * يعني المطر * (اهتزت) * يعني تحركت بالنبات * (وربت) * يعني علت يعني انتفخت الأرض إذا أرادت أن تنبت * (إن الذي أحياها) * بعد موتها * (لمحيي الموتى) * للبعث في الآخرة " إنه على كل شيء قدير " أي من البعث وغيره
سورة فصلت 40 - 42
قوله تعالى * (إن الذين يلحدون في آياتنا) * قال مقاتل يعني يميلون عن الإيمان بالقرآن
وقال الكلبي يعني يميلون في آياتنا بالتكذيب وقال قتادة الإلحاد التكذيب وقال الزجاج أي يجعلون الكلام إلى غير وجهته ومن هذا سمي اللحد لحدا لأنه من جانب
217

القبر
قرأ حمزة * (يلحدون) * بنصب الياء والحاء
والباقون بضم الياء وكسر الحاء ومعناهما واحد لحد وألحد بمعنى واحد
* (لا يخفون علينا) * يعني لا يقدرون أن يهربوا من عذابنا ولا يستترون منا * (أفمن يلقى في النار) * يعني أبا جهل وأصحابه " خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة " يعني النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال نزلت في شأن جميع الكفار وجميع المؤمنين
يعني من كان مرجعه إلى النار حاله يكون خيرا أم حال من يدخل الجنة
ثم قال لكفار مكة * (اعملوا ما شئتم) * فلفظه لفظ التخيير والإباحة والمراد به التوبيخ والتهديد لأنه بين مصير كل عامل
ثم قال تعالى " إنه بما تعملون بصير " من الخير والشر و * (بصير) * يعني عالم
قوله تعالى * (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) * يعني جحدوا بالقرآن لما جاءهم * (وإنه) * يعني القرآن * (لكتاب عزيز) * يعني كريم عند المؤمنين ويقال كريم على الله أنزله آخر الكتب
وقال مقاتل * (كتاب عزيز) * يعني منيعا عن الباطل
ويقال * (عزيز) * لا يوجد مثله في النظم وكثرة فوائده
* (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * قال الكلبي ومقاتل * (لا يأتيه الباطل) * أي لا يأتيه التكذيب من الكتاب الذي قبله كل يصدق هذا ولا يجيء من بعده كتاب يكذبه
وقال قتادة * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * يعني لا يستطيع الشيطان أن يبطل منه حقا ولا يؤيد فيه باطلا
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل أبو أحمد
قال حدثنا الباغندي
قال حدثنا محمد بن سلمة عن أبي بشار عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن أمتك ستفترق من بعدك
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بلى)
فقالوا ما المخرج منها قال (كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * (تنزيل) * من حكيم حميد
من ابتغى العلم في غيره أضله الله ومن حكم بغيره قصمه الله وهو الذكر الحكيم والنور المبين والصراط المستقيم فيه خبر من كان قبلكم وبيان من بعدكم والحكم فيما بينكم
هو الفصل المبين وهو الفضل وليس بالهزل وهو الذي سمعته الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا لا يخلق على طول الدهر ولا تنقضي عبره ولا تفنى عجائبه) ثم قال للحارث (خذها إليك يا أعور)
ثم قال * (تنزيل من حكيم حميد) * يعني القرآن تنزيل من الله تعالى الحكيم في أمره المحمود في فعاله
وقال بعضهم قوله * (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) * لم يذكر جوابه وجوابه مضمر
وقال بعضهم جوابه في قوله * (وذو عقاب أليم) * ويقال جوابه في قوله * (أولئك ينادون من مكان بعيد) * [فصلت 44]
218

وسورة فصلت 43 - 44
قوله تعالى * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) * يعني اصبر على مقالة الكفار فإنهم لا يقولون من التكذيب لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك من التكذيب
ويقال معناه * (ما يقال لك) * يعني لا يؤمر لك يعني في الرسالة إلا ما قد قيل للرسل من قبلك بأن يعبدوا الله
فيقال لك أن تعبد الله تعالى أيضا
ويقال * (ما يقال لك) * إلا بأن تبلغ الرسالة * (إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) * بأن يبلغوا الرسالة * (إن ربك لذو مغفرة) * قال مقاتل أي ذو تجاوز في تأخير العذاب عنهم إلى أجلهم
وقال الكلبي * (إن ربك لذو مغفرة) * لمن تاب من الشرك * (وذو عقاب أليم) * لمن لم يتب ومات على الشرك
قوله عز وجل * (ولو جعلناه قرآنا أعجميا) * يعني لو أنزلناه بلسان العبرانية * (لقالوا لولا فصلت آياته) * يعني هلا بين بالعربية
* (أأعجمي وعربي) * ويقولون القرآن أعجمي والرسول عربي فكان ذلك أشد لتكذيبهم
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بهمزتين بغير مد والباقون بهمزة واحدة مع المد ومعناهما واحد ويكون على معنى الاستفهام
وقرأ الحسن * (أعجمي) * بهمزة واحدة بغير مد ويكون على غير وجه الاستفهام
وقرأ بعضهم * (أعجمي) * بنصب العين والجيم يقال رجل عجمي إذا كان من العجم وإن كان فصيحا
ورجل أعجمي إذا كان لا يفصح وإن كان من العرب
ثم قال تعالى * (قل هو للذين آمنوا هدى) * يعني القرآن هدى للمؤمنين من الضلالة * (وشفاء) * يعني وشفاء لما في الصدور من العمى * (والذين لا يؤمنون) * بالآخرة * (في آذانهم وقر) * يعني ثقلا وصما * (وهو عليهم عمى) * يعني القرآن عليهم حجة وهذا قول الكلبي
وقال مقاتل يعني عموا عنه فلا ينظرونه ولا يفهمونه
وروي عن ابن عباس أنه قرأ * (وهو عليهم عم) * بالكسر على معنى النعت وقراءة العامة بالنصب على معنى المصدر
كما أنه قال * (هدى وشفاء) * على معنى المصدر
ثم قال * (أولئك ينادون من مكان بعيد) * وهذا على سبيل المثل يقال للرجل إذا قل فهمه إنك تنادي من مكان بعيد يعني إنك لا تفهم شيئا
ويقال ينادون من مكان بعيد
يعني من السماء
وقال مجاهد يعني بعيدا من قلوبهم
وقال الضحاك ينادون يوم القيامة من مكان بعيد فينادى الرجل بأشنع أسمائه
يعني يقال له يا فاسق يا منافق يا كذا يا كذا
219

سورة فصلت 45 - 46
قوله تعالى * (ولقد آتينا موسى الكتاب) * يعني أعطينا موسى التوراة ويقال الألواح
" فاختلف فيه " يعني صدق بعضهم وكذب بعضهم * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * يعني وجبت بتأخير العذاب * (لقضي بينهم) * يعني لفرغ من أمرهم ولهلك المكذب
" وإنهم لفي شك منه مريب " يعني من العذاب بعد البعث * (مريب) * لا يعرفون شكهم
ويقال * (مريب) * أي ظاهر الشك
ويقال * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * بتأخير العذاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة لأتاهم العذاب إذ كذبوه كما فعل بغيرهم
قوله تعالى * (من عمل صالحا فلنفسه) * يعني ثوابه لنفسه * (ومن أساء فعليها) * يعني العذاب على نفسه * (وما ربك بظلام للعبيد) * يعني لا يعذب أحدا بغير ذنب
سورة فصلت 47 - 48
قوله تعالى * (إليه يرد علم الساعة) * يعني لا يعلم قيام الساعة أحد إلا الله يعني يرد الخلق كلهم علم قيام الساعة إلى ربهم
* (وما تخرج من ثمرات من أكمامها) * يعني حين تطلع وغلاف كل شيء كمه أي تخرج من موضعها الذي كانت فيه
قرأ نافع وابن عامر وعاصم في إحدى رواية حفص * (من ثمرات) * بلفظ الجمع والباقون * (من ثمرة) * بلفظ الواحد
ثم قال * (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) * يعني إلا وهو يعلمه ولا يعلم أحد قبل الولادة كيف صفته ولا يعلم أحد بعد وضعه كم أجله
* (ويوم يناديهم) * يعني يدعوهم * (أين شركائي) * يعني الذين كنتم تدعون من دون الله * (قالوا آذناك ما منا من شهيد) * يعني أعلمناك وقلنا لك * (ما منا من شهيد) * يعني يشهد بأن لك شريكا أي يتبرأون من أن يكون مع الله شريك
ويقال ما منا من أحد يشهد لك أنه عبد أحد دونك
وقال القتبي هذا قول الآلهة التي كانوا يعبدون في الدنيا * (ما منا من شهيد) * لهم كما قالوا
وادعوه في الدنيا فينا
* (وضل عنهم) * يعني بطل عنهم * (ما كانوا يدعون من قبل) * في الدنيا * (وظنوا ما لهم من محيص) * يعني علموا واستيقنوا ما لهم من ملجأ ولا مفر من النار
220

سورة فصلت 49 - 50
قوله تعالى " ولا يسأم الإنسان " يعني لا يمل الكافر
قال الضحاك نزلت في شأن النضر بن الحارث
* (من دعاء الخير) * يعني من سؤال الخير يعني العافية في الجسد والنعمة والسعة في الرزق
وقال * (وإن مسه الشر) * يعني أصابته الشدة والبلاء والفقر * (فيؤوس قنوط) * يعني آيسا من الخير قانطا من رحمة الله تعالى
ويقال لا يمل من دعاء الخير وإذا نزلت به شدة
يقول اللهم عافني وإذا مسه الشر * (فيؤوس قنوط) * يعني آيسا من معبوده
* (ولئن أذقناه رحمة منا) * يعني أصبناه عافية منا وغنى * (من بعد ضراء مسته) * يعني من بعد شدة أصابته " ليقولون هذا لي " يعني أنا أهل لهذا ومستحق له
ويقال أنا أحق بهذا ويقال هذا بعملي وأنا محقوق به
* (وما أظن الساعة قائمة) * يعني ما أحسب القيامة كائنة * (ولئن رجعت إلى ربي) * يعني يوم القيامة * (إن لي عنده للحسنى) * يعني الجنة ولئن كان يوم القيامة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلي الجنة
يقول الله تعالى * (فلننبئن الذين كفروا) * يعني لنخبرنهم * (بما عملوا) * من أعمالهم الخبيثة * (ولنذيقنهم) * يعني لنجزينهم * (من عذاب غليظ) * يعني عذاب شديد لا يفتر عنهم
سورة فصلت 51 - 54
قوله تعالى * (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه) * يعني أعرض الكافر وقال مقاتل أعرض الكافر فلا يدعو ربه
وقال الكلبي أعرض عن الإيمان
* (ونأى بجانبه) * يعني تباعد بجانبه عن الدعاء وعن الإيمان
* (وإذا مسه الشر) * يعني أصابته الشدة * (فذو دعاء عريض) * قال مقاتل والكلبي يعني كثير
ويقال طويل
فإن قيل قد قال في موضع
" وإذا مسه الشر فيؤوس قنوط " وقال في موضع آخر * (فذو دعاء عريض) * مرة ذكر أنه يؤوس ومرة أخرى ذكر أنه يدعو فكيف هذا قيل له هذا في شأن رجل والآخر في شأن رجل ويجوز أن يكون في شأن إنسان واحد
" وإذا مسه الشر فيؤوس قنوط " عن كل معبود دون الله فيدعو
221

الله دائما
ثم قال عز وجل * (قل أرأيتم إن كان من عند الله) * يعني إن كان هذا الكتاب من عند الله * (ثم كفرتم به) * يعني جحدتم أنه ليس من عند الله ماذا تقولون وماذا تجيبون وماذا تحتالون إذا نزل بكم العذاب يوم القيامة * (من أضل ممن هو في شقاق بعيد) * أي في خلاف طويل بعيد عن الحق
قوله تعالى * (سنريهم آياتنا في الآفاق) * يعني عذابنا في البلاد مثل هلاك عاد وثمود وقوم لوط وهم يرون إذا سافروا آثارهم وديارهم
* (وفي أنفسهم) * يبتلون بأنفسهم من البلايا
ويقال من قتل أصحابهم الكفار في الحرب * (حتى يتبين لهم أنه الحق) * يعني الذي قلت هو الحق فيصدقونك
وقال مجاهد * (سنريهم آياتنا في الآفاق) * يعني ما يفتح الله عليهم من القرى * (وفي أنفسهم) * قال فتح مكة
وقال الضحاك معناه أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم ائتنا بعلامة فانشق القمر نصفين
فقال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم إن كان القمر قد انشق فهي آية
ثم قال يا معشر قريش إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد سحر القمر فوجهوا رسلكم إلى الآفاق هل عاينوا القمر كذلك إن عاينوا القمر فهي آية وإلا فذلك سحر
فوجهوا فإذا أهل الآفاق يتحدثون بانشقاقه
فقال أبو جهل هذا سحر مستمر
يعني ذاهبا في الدنيا
فنزل * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) * وقال بعض المتأخرين * (سنريهم آياتنا في الآفاق) * ما وضع في العالم من الدلائل وفي أنفسهم ما وضع فيها من الدلائل التي تدل على وحدانية الله تعالى وأن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق ينطق بالوحي فيما يقول
وهذا كما قال " وفي الأرض آيات للمؤمنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون "
قوله تعالى " أو لم يكف بربك " يعني شاهدا أن القرآن من الله تعالى " أنه على كل شيء شهيد " عالم بأعمالهم بالبعث وغيره
وقال الكلبي " أو لم يكف بربك " يعني قد أخبرهم بذلك وإن لم يسافروا
ويقال " أو لم يكف بربك " ومعنى الكفاية ههنا أنه قد بين لهم ما فيه كفاية بالدلالة على توحيده وتثبيت رسله
ثم قال * (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم) * ألا كلمة التنبيه يعني اعلم أنهم في شك من البعث " ألا إنه بكل شيء محيط " يعني ألا إن الله تعالى عالم بأعمالهم وعقوبتهم والإحاطة إدراك الشيء بكماله يعني أحاط علمه سبحانه وتعالى بكل شيء من البعث وغيره والحمد لله وحده صلى الله عليه وسلم على من لا نبي بعده وآله وسلم
222

سورة الشورى مكية وهي خمسون وثلاث آيات
سورة الشورى 1 - 4
قوله تبارك وتعالى * (حم عسق) * روي عن ابن عباس أنه قال الحاء حكم الله والميم ملك الله والعين علو الله والسين سناء الله والقاف قدرة الله
فكأنه يقول فبحكمي وملكي وعلوي وسنائي وقدرتي لا أعذب عبدا قال لا إله إلا الله مخلصا فلقيني بها
ومعنى قول ابن عباس لا يعذب عبدا يعني لا يعذبه عذابا دائما خالدا
وروى المسيب عن رجل عن أبي عبيدة قال العين عذاب الله والسين سنون والقاف فيها القحط العجب
وقال وروي النبي صلى الله عليه وسلم قال (افتحوا صبيانكم قول لا إله إلا الله ولقنوا موتاكم لا إله إلا الله)
والحكمة في ذلك لأن حال الصبيان حال حسن لا غل ولا غش في قلوبهم وحال الموتى حال الاضطرار فإذا قلتم ذلك في أول ما يجري عليكم القلم وآخر ما يجف القلم فعسى الله أن يتجاوز ما بين ذلك وقال المسيب وحدثنا محدث قال قاف قدف
وقال الضحاك في قوله * (حم عسق) * قال عذاب سيكون واقعا وأرجو أن يكون قد مضى يوم بدر والسنون
وقال شهر بن حوشب * (حم عسق) * حرب يذل فيه العزيز ويعز فيه الذليل من قريش ثم يفضي إلى العرب ثم إلى العجم ثم هي متصلة إلى خروج الدجال
وقال عطاء الحاء حرب وهو موت ذريع في الناس وفي الحيوان حتى يبيدهم ويفنيهم
والميم تحويل ملك من قوم إلى قوم والعين عدو لقريش يركبهم ثم ترجع الدولة إليهم لحرمة البيت والسين هو استئصال بالسنين كسني يوسف والقاف قدر من الله نافذ في ملكوت الأرض لا يخرجون من قدره وهو نافذ فيهم
وقال السدي الحاء حلمه والميم ملكه والعين عظمته والسين سناؤه والقاف قدرته
وقال قتادة هو اسم من أسماء الله تعالى ويقال اسم من أسماء القرآن
223

ثم قال تعالى * (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك) * يعني أوحى الله إليك ب * (حم عسق) * كما أوحى الله بها إلى الذين كانوا من قبلك
وقال ابن عباس ليس من نبي وإلا وقد أوحى الله تعالى إليه ب * (حم عسق) * كما أوحى الله بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قرأ ابن كثير * (يوحى إليك) * بالألف على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون * (يوحى) * بالكسر يعني هكذا يوحي الله إليك
وقرئ في الشاذ (نوحي) بالنون
ثم قال * (الله العزيز) * بالنقمة على من لم يجب الرسل * (الحكيم) * حكم بإنزال الوحي عليك
وقال مقاتل * (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك) * يعني في أمر العذاب
قوله عز وجل * (له ما في السماوات وما في الأرض) * يعني من خلق * (وهو العلي) * يعني الرفيع * (العظيم) * فلا شيء أعظم منه
يعني عظيم قدرته
سورة الشورى 5 - 7
قوله تعالى * (تكاد السماوات يتفطرن) * يعني يتشققن * (من فوقهن) * يعني من هيبة الرحمن وجلاله وعظمته
قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص * (تكاد السماوات) * بالتاء بلفظ التأنيث * (يتفطرن) * بالتاء بلفظ التأنيث
وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر * (تكاد) * بالتاء بلفظ التأنيث " ينفطرن " بالنون وقرأ الباقون بالياء بلفظ التذكير * (يتفطرن) * بالياء
ثم قال * (والملائكة يسبحون بحمد ربهم) * يعني يسبحونه ويذكرونه * (ويستغفرون لمن في الأرض) * يعني للمؤمنين
وروى داود بن قيس قال دخلت على وهب بن منبه فسئل عن قوله * (ويستغفرون لمن في الأرض) * [غافر 7] قال للمؤمنين منهم
وفي رواية أنه قال نسختها الآية التي في سورة المؤمن حيث قال * (ويستغفرون للذين آمنوا) * [غافر 7]
وروى معمر عن قتادة قال * (ويستغفرون لمن في الأرض) * قال للمؤمنين منهم
قال أبو الليث رحمه الله هذا الذي روي عن قتادة أصح لأن النسخ في الأخبار لا يجوز وإنما يجوز في الأمر والنهي
قوله عز وجل * (ألا إن الله هو الغفور) * لذنوبهم (الرحيم) بهم في الرزق
ويقال * (ويستغفرون لمن في الأرض) * يعني يسألون لهم الرزق
قوله عز وجل * (والذين اتخذوا من دونه) * يعني عبدوا من دون الله * (أولياء) * يعني
224

أصناما
* (الله حفيظ عليهم) * يعني يحفظ أعمالهم ويقال يشهد عليهم * (وما أنت عليهم بوكيل) * يعني بمسلط لتجبرهم على الإيمان
وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
قوله عز وجل * (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا) * يعني هكذا أنزلنا عليك جبريل ليقرأ عليك القرآن بلغتهم ليفهموه
" لتنذر أم القرى " يعني لتخوف بالقرآن أهل مكة * (ومن حولها) * من البلدان * (وتنذر يوم الجمع) * يعني لتنذرهم بيوم القيامة والباء محذوفة منه كما قال * (لينذر بأسا شديدا) * يعني ببأس شديد
وإنما سمي يوم الجمع لأنه يجتمع فيه أهل السماء وأهل الأرض كلهم من الأولين والآخرين
* (لا ريب فيه) * يعني يوم القيامة لا شك فيه أنه كائن
* (فريق في الجنة) * وهم المؤمنون * (وفريق في السعير) * وهم الكافرون
سورة الشورى 8 - 10
قوله تعالى * (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) * يعني على ملة واحدة وهو الإسلام
* (ولكن يدخل من يشاء في رحمته) * يعني يكرم بدينه من يشاء من كان أهلا لذلك ويدخله في الآخرة في جنته * (والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير) * يعني الكافرين ليس لهم مانع يمنعهم من العذاب ولا ناصر ينصرهم
قوله تعالى * (أم اتخذوا من دونه أولياء) * يعني عبدوا من دون الله أربابا * (فالله هو الولي) * يعني هو أولى أن يعبدوه
ويقال * (الله هو الولي) *
يعني هو الرب وهو إله السماوات وإله الأرض
ويقال * (هو الولي) * لمصالحهم ينزل المطر بعد المطر * (وهو يحيي الموتى) * يعني يحيهم بعد الموت
ويقال يحيى قلوبهم بالمعرفة " وهو على كل شيء قدير " يعني قادر على ما يشاء
قوله تعالى " وما اختلفتم فيه من شيء " يعني إذا اختلفتم في أمر الدين * (فحكمه إلى الله) * يعني علمه عند الله * (ذلكم الله ربي) * يعني الذي ذكر هو الله ربي * (عليه توكلت) * يعني فوضت أمري إليه سبحانه " وإليه أنيب " يعني أقبل إلى الله تعالى بالطاعة
سورة الشورى 11 - 12
225

سورة الشورى 13
قوله تعالى * (فاطر السماوات والأرض) * يعني هو خالق السماوات والأرض * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * يعني أصنافا ذكرا وأنثى * (ومن الأنعام أزواجا) * يعني أصنافا ذكرا وأنثى
وقال القتبي * (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * يعني من جنسكم إناثا * (ومن الأنعام أزواجا) * يعني إناثا * (يذرؤكم فيه) * يعني يخلقكم فيه أي من الرحم
وقال الكلبي * (يذرؤكم فيه) * يعني يكثركم فيه في التزويج
وقال مقاتل يعيشكم فيما جعل لكم من الذكر والإناث من الأنعام
ثم قال " ليس كمثله شيء " في القدرة
وقال أهل اللغة هذا الكاف مؤكدة أي ليس مثله شيء
ويقال المثل صلة في الكلام يعني ليس هو كشيء * (وهو السميع البصير) * يعني هو * (السميع) * لمقالتهم * (البصير) * بهم وبأعمالهم
ومعنى الآية " ليس كمثله شيء " لأنه الخالق العالم بكل شيء والقادر على ما يشاء * (الحي القيوم) * [البقرة 255] وهذه المعاني بعيدة من غيره
ثم قال عز وجل * (له مقاليد السماوات والأرض) * يعني خزائن السماوات والأرض وهو المطر وخزائن الأرض وهو النبات " يبسط الرزق لمن يشاء " يعني يوسع الرزق على من كان صلاحه في ذلك " ويقدر " يعني يقتر على من كان صلاحه في ذلك " إنه بكل شيء عليم " من البسط والتقتير
قوله تعالى * (شرع لكم من الدين) * قال مقاتل بين لكم الدين وهو الإسلام
و " من " هاهنا صلة وقال الكلبي اختار لكم دينا من الأديان وأكرمكم به
ثم قال " وما وصى به نوحا " يعني الدين الذي أمر به نوحا أن يدعو الخلق إليه وأن يستقيم عليه * (والذي أوحينا إليك) * إليك بأن تدعو الخلق إليه * (وما وصينا به) * يعني الذي أمرنا به * (إبراهيم وموسى وعيسى) *
ثم بين ما أمرهم به فقال * (أن أقيموا الدين) * يعني أقيموا التوحيد * (ولا تتفرقوا فيه) * يعني لا تختلفوا في التوحيد * (كبر على المشركين) * يعني على مشركي مكة * (ما تدعوهم إليه) * وهو التوحيد
وقال أبو العالية * (أن أقيموا الدين) * قال الإخلاص لله في عبادته لا شريك له ولا تتفرقوا فيه
قال لا تتعالوا فيه وكونوا عباد الله إخوانا * (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) * يعني الإخلاص لله تعالى
ويقال * (أن أقيموا الدين) * يعني وافقوا في الدين
ولا تتفرقوا فيه يعني لا تختلفوا فيه كما اختلف أهل الكتاب
قول عز وجل * (الله يجتبي إليه من يشاء) * أي يختار لدينه من يشاء من كان أهلا
226

لذلك * (ويهدي إليه من ينيب) * يعني يرشد إلى دينه من يقبل إليه
ويقال يهدي من كان في علمه السابق أنه يتوب ويرجع ويقال * (من ينيب) * يعني من يجتهد بقلبه
كما قال " والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا "
سورة الشورى 14 - 15
قوله تعالى * (وما تفرقوا) * يعني مشركي مكة ما تفرقوا في الدين * (إلا من بعد ما جاءهم العلم) * يعني جاءهم محمد بالبينات
ويقال * (وما تفرقوا) * يعني أهل الكتاب * (إلا من بعد ما جاءهم العلم) * في كتابهم
يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم * (بغيا بينهم) * يعني حسدا فيما بينهم لأنه كان من العرب
وروى معمر عن قتادة أنه تلا * (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم) * قال إياكم والفرقة فإنها مهلكة
وروي في الخبر إن لكل شيء آفة وآفة الدين الهوى
ثم قال * (ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى) * يعني بتأخير العذاب إلى وقت معلوم
* (لقضي بينهم) * يعني لفرغ منهم بالهلاك
* (وإن الذين أورثوا الكتاب) * يعني أعطوا التوراة والإنجيل * (من بعدهم) * يعني من بعد نوح وإبراهيم
وقال مقاتل من بعد الأنبياء * (لفي شك منه) * يعني من القرآن * (مريب) * أي ظاهر الشك
قوله تعالى * (فلذلك فادع) * يعني فإلى ذلك ادعهم يعني إلى القرآن ويقال إلى التوحيد * (واستقم كما أمرت) * يعني استقم عليه كما أمرت * (ولا تتبع أهواءهم) * يعني لا تعمل بهواهم وذلك حين دعوه إلى ملة آبائه * (وقل آمنت) * يعني صدقت * (بما أنزل الله من كتاب) * يعني بجميع ما أنزل الله من الكتب علي وعلى من كان قبلي * (وأمرت لأعدل بينكم) * وهو الدعوة إلى التوحيد وإلى قول لا إله إلا الله * (الله ربنا وربكم) * يعني خلقنا وخالقكم * (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) * يعني لنا ديننا ولكم دينكم * (لا حجة بيننا وبينكم) * يعني لا خصومة بيننا وبينكم في الدين " الله يجمع بيننا وبينكم " يعني يوم القيامة * (وإليه المصير) * يعني المرجع في الآخرة
سورة الشورى 16
227

سورة الشورى 17 - 20
قوله تعالى * (والذين يحاجون في الله) * قال الضحاك نزلت هذه الآية في شأن أبي جهل حين دعا الله فقال اللهم انصر أحب الجندين إليك وأقربهم في الله يعني يخاصمون في توحيد الله ودين الله * (من بعد ما استجيب له) * يعني من بعد ما أجابوا إياه
وقال مجاهد طمع رجال بأن يعودوا إلى الجاهلية فنزل * (والذين يحاجون في الله) * إلى قوله * (حجتهم داحضة) * وروى معمر عن قتادة قال * (والذين يحاجون في الله) * قال هم اليهود والنصارى
قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن خير منكم فنزل * (والذين يحاجون في الله) * يعني في دين الله * (من بعد ما استجيب له) * يعني من بعد ما دخل الناس في الإسلام * (حجتهم داحضة) * يعني خصومتهم باطلة
ويقال احتجاجهم زائل ساقط
يقال دحض أي زال ومعناه ليس لهم حجة وسمى قولهم حجة على وجه المجاز يعني حجة بزعمهم كما قال " فما أغنت عنهم آلهتهم " يعني الآلهة بزعمهم ولم يكونوا آلهة في الحقيقة
ثم قال * (عند ربهم وعليهم غضب) * يعني بما يكابرون عقولهم * (ولهم عذاب شديد) * بما كانوا يفعلون
قوله عز وجل * (الله الذي أنزل الكتاب بالحق) * أي لبيان الحق * (والميزان) * يعني وأنزل الميزان وهو العدل
ويقال وأنزل الميزان في زمان نوح ويقال هي الحدود والأحكام والأمر والنهي
قوله * (وما يدريك لعل الساعة قريب) * يعني قيام الساعة قريب وهذا كقوله * (اقتربت الساعة) * وقال تعالى * (لعل الساعة قريب) * ولم يقل قريبة لأن تأنيثها ليس بحقيقي ولأنه انصرف إلى المعنى يعني البعث قريب
قوله تعالى * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) * يعني المشركين كانوا يقولون * (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * ويقولون * (ربنا عجل لنا قطنا) * * (والذين آمنوا مشفقون منها) * يعني خائفين من قيام الساعة لأنهم يعلمون أنهم مبعوثون محاسبون * (ويعلمون أنها الحق) * يعني يعلمون أن الساعة كائنة
* (ألا إن الذين يمارون في الساعة) * يعني يشكون ويخاصمون فيها
* (لفي ضلال بعيد) * أي في خطأ طويل بعيد عن الحق
قوله عز وجل * (الله لطيف بعباده) * يعني عالم بعباده ويقال رحيم بعباده ويقال
228

اللطيف الذي يرزقهم في الدنيا ولا يعاقبهم في الآخرة
ويقال اللطيف بعباده بالبر والفاجر لا يهلكهم جوعا * (يرزق من يشاء) * بغير حساب
ويقال * (يرزق من يشاء) * مقدار ما يشاء في الوقت الذي يشاء * (وهو القوي) * على هلاكهم
* (العزيز) * يعني المنيع لا يغلبه أحد
قوله تعالى * (من كان يريد حرث الآخرة) * يعني ثواب الآخرة بعمله
* (نزد له في حرثه) * يعني ينال كليهما * (ومن كان يريد حرث الدنيا) * يعني ثواب الدنيا بعمله
* (نؤته منها) * يعني نعطه منها
* (وما له في الآخرة من نصيب) * لأنه عمل لغير الله تعالى
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا محمد بن عقيل قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصايغ قال حدثنا الحجاج قال حدثنا شعبة عن عمرو بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من كانت نيته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره في عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له)
وقال القتبي الحرث العمل يعني من كان يريد بحرثه أي بعمله * (الآخرة) * نضاعف له الحسنات
ومن أراد بعمله الدنيا أعطيناه الدنيا ولا نصيب له في الآخرة
سورة الشورى 21 - 23
قوله عز وجل * (أم لهم شركاء) * يعني ألهم آلهة دوني
* (شرعوا لهم من الدين) * أي بينوا لهم من الدين * (ما لم يأذن به الله) * يعني ما لم يأمر به
ويقال معناه ألهم آلهة ابتدعوا لهم من الدين أي من الشريعة والطريقة
ويقال سنوا لهم ما لم يأذن به الله يعني ما لم ينزل به الله من الكتاب والدين * (ولولا كلمة الفصل) * يعني القضاء الذي سبق ألا يعذب هذه الأمة ويؤخر عذابهم إلى الآخرة
* (لقضي بينهم) * يعني أنزل بهم العذاب في الدنيا * (وإن الظالمين) * يعني المشركين
* (لهم عذاب أليم) *
قوله تعالى * (ترى الظالمين) * يعني ترى الكافرين يوم القيامة
* (مشفقين مما كسبوا) *
229

يعني خائفين مما عملوا في الدنيا * (وهو واقع بهم) * يعني نازل بهم ما كانوا يحذرون
* (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) * يعني الذين صدقوا بالتوحيد وأدوا الفرائض والسنن * (في روضات الجنات) * يعني في بساتين الجنة
* (لهم ما يشاؤون عند ربهم) * من الكرامة
* (ذلك هو الفضل الكبير) * يعني المن العظيم
قوله تعالى * (ذلك الذي يبشر الله) * يعني ذلك الثواب الذي يبشر الله * (عباده) * في الدنيا
قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وأبو عمرو * (يبشر) * بنصب الياء وجزم الباء وضم الشين مع التخفيف
والباقون بالتشديد وقد ذكرناه * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) * يعني يبشرهم بتلك الجنة وبذلك الثواب ثم قال * (قل لا أسألكم عليه أجرا) * يعني قل يا محمد لأهل مكة * (لا أسألكم عليه أجرا) * على ما جئتكم به أجرا * (إلا المودة في القربى) * قال مقاتل يعني إلا أن تصلوا قرابتي وتكفوا عني الأذى
ثم نسخ بقوله " قل ما سألتكم من أجر لكم " فهو لكم ويقال * (إلا المودة في القربى) * يعني إلا ألا تؤذونني بقرابتي منكم
قال ابن عباس ليس حي من أحياء العرب إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيه قرابة
وقال الحسن * (إلا المودة في القربى) * يعني إلا أن تتوددوا إلى الله تعالى بما يقربكم منه وهكذا قال مجاهد
وقال سعيد بن جبير * (إلا المودة في القربى) * يعني إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم
ثم قال * (ومن يقترف حسنة) * يعني يكتسب حسنة " نزد فيها حسنا " يعني للواحد عشرة
ويقال نزد له التوفيق في الدنيا ونضاعف له الثواب في الآخرة
* (إن الله غفور شكور) * يعني * (غفور) * لمن تاب * (شكور) * يقبل اليسير ويعطي الجزيل
سورة الشورى 24 - 26
قوله تعالى * (أم يقولون افترى على الله كذبا) * يعني تقوله من ذات نفسه ولم يأمره الله تعالى
يقول الله تعالى * (فإن يشأ الله يختم على قلبك) * يعني يحفظ قلبك حتى لا تدخل في قلبك المشقة من قولهم
" ويمحو الله الباطل " يعني يهلك الله تعالى الشرك * (ويحق الحق) *
230

يعني يظهر دينه الإسلام * (بكلماته) * يعني بتحقيقه وبنصرته وبالقرآن * (إنه عليم بذات الصدور) * يعني يعلم ما في قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الحزن ويعلم ما في قلوب الكافرين من التكذيب
قوله تعالى * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) * حتى يتجاوز عما عملوا قبل التوبة
وروى عبد العزيز بن إسماعيل عن محمد بن مطرف قال يقول الله تعالى (ويح ابن آدم يذنب الذنب ثم يستغفر فاغفر له ثم يذنب ذنبا ثم يستغفر فأغفر له ثم يذنب ذنبا ثم يستغفر فأغفر له لا هو يترك ذنوبه ولا هو ييأس من رحمتي
أشهدكم أني قد غفرت له)
ثم قال * (ويعلم ما تفعلون) * من خير أو شر
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية * (تفعلون) * بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
قوله عز وجل * (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * يعني يجيب دعاءهم ويعطيهم الثواب أكثر ما سألوا من المغفرة * (ويزيدهم من فضله) * يعني يزيدهم على أعمالهم من الثواب
ويقال يعطيهم الثواب في الجنة أكثر مما سألوا " والكافرين لهم عذاب شديد " يعني دائما لا يفتر عنهم
سورة الشورى 27 - 30
قوله تعالى " ولو بسط الله الزرق لعباده " يعني لو وسع الله تعالى عليهم المال * (لبغوا في الأرض) * يعني لطغوا في الأرض وعصوا * (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) * يعني يوسع على كل إنسان بمقدار صلاحه في ذلك
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا أبو القاسم حمزة بن محمد قال حدثنا أبو القاسم أحمد بن حيم قال حدثنا نصر بن يحيى قال سمعت سفيان بن إبراهيم الزاهد يقول * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) * قال لو أن الله تعالى رزق العباد من غير كسب لتفرغوا وتقاسدوا في الأرض ولكن شغلهم بالكسب حتى لا يتفرغوا للفساد
ثم قال * (إنه بعباده خبير بصير) * يعني بالبر والفاجر والمؤمن والكافر
ويقال يعني عالم بصلاح كل واحد منهم
قوله تعالى * (وهو الذي ينزل الغيث) * يعني المطر * (من بعد ما قنطوا) * أي حبس
231

عنهم * (وينشر رحمته) * يعني المطر * (وهو الولي الحميد) * يعني الولي للمطر يرسله مرة بعد مرة * (الحميد) * يعني أهلا أن يحمد على صنعه
قوله عز وجل * (ومن آياته) * يعني من علامات وحدانيته * (خلق السماوات والأرض) * يعني خلقين عظيمين لا يقدر عليهما بنو آدم ولا غيرهم * (وما بث فيهما من دابة) * يعني ما خلق في السماوات والأرض من خلق أو بشر فيهما * (وهو على جمعهم) * يعني على إحيائهم للبعث * (إذا يشاء قدير) * يعني قادرا على ذلك
ويقال * (وما بث فيهما من دابة) * يعني في الأرض خاصة كما قال * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * [الرحمن 22] يعني من أحدهما
ثم قال * (وما أصابكم من مصيبة) * يعني ما تصابون من مصيبة في أنفسكم وأموالكم * (فبما كسبت أيديكم) * يعني يصيبكم بأعمالكم ومعاصيكم * (ويعفو عن كثير) * يعني ما عفا الله عنه فهو أكثر
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال ألا أخبركم بأرجى آية في كتاب الله أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا بلى فقرأ عليهم * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) * قال فالمصائب في الدنيا بكسب الأيدي وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا ولم يعاقب فهو أجود وأمجد وأكرم من أن يعذب فيه يوم القيامة
وعن الضحاك قال ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) * وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن
قرأ نافع وابن عامر * (بما كسبت أيديكم) * بحذف الفاء ويكون " ما " بمعنى الذي ومعناه الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم الباقون * (فبما كسبت) * بالفاء وتكون الفاء جواب الشرط ومعناه ما يصيبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
سورة الشورى 31 - 35
ثم قال " وما أنتم بمعجزين في الأرض " يعني بفائتين من عذاب الله حتى يجزيكم به * (وما لكم من دون الله) * يعني من عذاب الله * (من ولي) * يعني من حافظ * (ولا نصير) * يعني مانع يمنعكم من عذاب الله تعالى
232

قوله تعالى * (ومن آياته الجوار) * قرأ ابن كثير الجواري بالياء في الوقف والوصل
وقرأ نافع وأبو عمر بالياء في الوصل وبغير الياء في الوقف والباقون بغير ياء في الوقف والوصل
فمن قرأ بالياء فهو الأصل في اللغة وهي جماعة السفن تجرين في الماء واحدتها جارية
كقوله * (حملناكم في الجارية) * [الحاقة 11] يعني السفينة
ومن قرأ بغير ياء فلأن الكسر يدل عليه * (في البحر كالأعلام) * يعني تسير في البحر كالجبال * (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) * يعني يبقين سواكن على ظهر الماء * (إن في ذلك لآيات) * يعني لعلامات لوحدانيتي * (لكل صبار شكور) * يعني الذي يصبر على طاعة الله * (شكور) * لنعم الله
قوله تعالى * (أو يوبقهن) * يعني إن يشأ يهلك السفن * (بما كسبوا) * يعني بما عملوا من الشرك وعبادة الأوثان * (ويعف عن كثير) * ولا يجازيهم * (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا) * قرأ ابن عامر ونافع * (ويعلم الذين) * بضم الميم والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم فلأنه عطف على قوله * (ويعف) * وموضعه الرفع وأصله * (ويعفو) * فاكتفى بضم الفاء و * (الذين) * كان معطوفا عليه رفع أيضا
ومن قرأ بالنصب صار نصبا للصرف يعني صرف الكلام عن الإعراب الأول ومعناه ولكي * (يعلم الذين يجادلون في آياتنا) * يعني في القرآن بالتكذيب * (ما لهم من محيص) * يعني مفر من الله تعالى
سورة الشورى 36 - 39
قوله عز وجل " فما أوتيتم من شيء " يعني ما أعطيتم من الدنيا * (فمتاع الحياة الدنيا) * يعني منفعة الحياة الدنيا * (وما عند الله خير وأبقى) * يعني في الآخرة من الثواب والكرامات * (خير وأبقى) * يعني أدوم
ثم بين لمن يكون ذلك الثواب فقال * (للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) * يعني ويفوضون الأمور إليه
قوله تعالى * (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) * وهذا نعت المؤمنين أيضا * (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) * قرأ حمزة والكسائي " كبير الإثم " بغير ألف بلفظ الواحد لأن الواحد يدل على الجمع والباقون * (كبائر) * وهو جمع كبيرة والكبيرة ما أوجب الله تعالى الحد عليها في الدنيا أو العذاب في الآخرة
ثم قال * (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) * يعني إذا غضبوا على أحد يتجاوزون ويكظمون الغيظ
ثم قال * (والذين استجابوا لربهم) * يعني أجابوا وأطاعوا ربهم فيما يدعوهم إليه ويأمرهم به
* (وأقاموا الصلاة) * يعني أتموا الصلوات الخمس في مواقيتها * (وأمرهم شورى بينهم) *
233

يعني إذا أرادوا حاجة تشاوروا فيما بينهم
وروي عن الحسن أنه قال هم الذين إذا حزبهم أمر استشاروا أولي الرأي منهم * (ومما رزقناهم ينفقون) * يعني يتصدقون في طاعة الله تعالى
ثم قال * (والذين إذا أصابهم البغي) * يعني الظلم * (هم ينتصرون) * يعني ينتقمون ويقتصون
روى سفيان عن منصور عن إبراهيم أنه قال كانوا يكرهون أن يستذلوا ويحبون العفو إذا قدروا
سورة الشورى 40 - 42
قوله تعالى " وجزاء سيئة مثلها " يعني يعاقب مثل عقوبته لغيره * (فمن عفا وأصلح) * يعني عفا عن مظلمته وأصلح بالعفو * (فأجره على الله) * يعني ثوابه على الله * (إنه لا يحب الظالمين) * يعني لمن يبدأ بالظلم
روي عن زيد بن أسلم أنه قال كانوا ثلاث فرق فرقة بالمدينة وفرقتان بمكة إحداهما تصبر على الأذى والثانية تنتصر والثالثة تكظم فنزلت الآية * (والذين استجابوا لربهم) * نزلت في الذين بالمدينة * (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) * نزلت في الذين ينتصرون وقوله * (فمن عفا وأصلح) * نزلت في الذين يصبرون
فأثنى الله تعالى عليهم جميعا
ثم نزل في الظالمين قوله عز وجل * (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) * وذكر أن أبا بكر رضي الله عنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ورجل من المنافقين يسبه وأبو بكر رضي الله عنه لم يجبه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت يبتسم فأجابه أبو بكر فقام النبي صلى الله عليه وسلم وذهب فقام إليه أبو بكر فقال يا رسول الله ما دام يسبني كنت جالسا فلما أجبته قمت فقال صلى الله عليه وسلم (إن ملكا كان يجيبه عنك فلما أجبته ذهب الملك وجاء الشيطان وأنا لا أجلس في مجلس يكون فيه الشيطان)
فنزل * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) *
وروى محمد بن المنكدر قال ينادي المنادي يوم القيامة من كان له عند الله حق فليقم قال فيقوم من عفا وأصلح
قوله عز وجل " ولم انتصر بعد ظلمه " يعني انتصف بعد ظلمه واقتص منه * (فأولئك ما عليهم من سبيل) * يعني من مأثم
وقال قتادة هذا فيما يكون بين الناس من القصاص فأما لو ظلمك لا يحل لك أن تظلمه يعني فيما لا يحتمل القصاص
وقال الحسن يعني إذا قال لعنك الله أن تقول له لعنك الله وإذا سبك أن تسبه ما لم يكن فيه حد أو كلمة لا تصلح
234

ثم قال تعالى * (إنما السبيل) * يعني الإثم والحرج * (على الذين يظلمون الناس) * يعني يبدؤون بالظلم * (ويبغون في الأرض بغير الحق) * يعني يظلمون في الأرض بالمعاصي * (أولئك لهم عذاب أليم) * يعني وجيع
سورة الشورى 43 - 46
قوله عز وجل * (ولمن صبر وغفر) * يعني * (صبر) * عن مظلمته فلم يقتص من صاحبه * (وغفر) * يعني تجاوز عنه * (ان ذلك) * يعني الصبر والتجاوز * (لمن عزم الأمور) * يعني من أفضل الأمور وأصوب الأمور
قال بعضهم هذه الآيات مدنيات
وقال بعضهم مكيات
قوله تعالى * (ومن يضلل الله) * يعني يخذله الله عن الهدى ويقال من يخذله ويتركه على ما هو فيه من ظلم الناس * (فما له من ولي من بعده) * يعني من بعد خذلان الله تعالى إياه
قوله * (وترى الظالمين) * يعني المشركين والعاصين * (لما رأوا العذاب) * في الآخرة * (يقولون هل إلى مرد من سبيل) * يعني هل من رجعة إلى الدنيا من حيلة فنؤمن بك يتمنون الرجوع إلى الدنيا
قوله تعالى * (وتراهم يعرضون عليها) * يعني يساقون إلى النار * (خاشعين من الذل) * أي خاضعين من الحزن ويقال ساكتين ذليلين مقهورين من الحياء * (ينظرون من طرف خفي) * قال الكلبي يعني ينظرون بقلوبهم ولا يرونها بأعينهم لأنهم يسحبون على وجوههم
وقال مقاتل يعني يستخفون بالنظر إليها يعني إلى النار
قال القتبي يعني غضوا أبصارهم من الذل وقال بعضهم مرة ينظرون إلى العرش بأطراف أعينهم ماذا يأمر الله تعالى بهم ومرة ينظرون إلى النار
* (وقال الذين آمنوا) * يعني المؤمنين المظلومين * (إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم) * يعني الذين يظلمون غيرهم حتى تصير حسناتهم للمظلومين فخسروا أنفسهم * (وأهليهم يوم القيامة) * قال بعضهم هذه حكاية كلام المؤمنين في الآخرة بأنهم يقولون ذلك حين رأوا الظالمين الذين خسروا أنفسهم
وقال بعضهم هذه حكاية قولهم في الدنيا فحكى الله تعالى قولهم وصدقهم على مقالتهم فقال * (ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) * يعني دائما وقال
235

بعضهم هذا اللفظ لفظ الخبر عنهم والمراد به التعليم أنه ينبغي لهم يقولوا أن هكذا حتى يصبروا على ظلمهم
قوله تعالى * (وما كان لهم من أولياء) * يعني لا يكون للظالمين يوم القيامة مانع يمنعهم من عذاب الله * (ينصرونهم من دون الله) * يعني يمنعونهم من عذاب الله * (ومن يضلل الله) * يعني يضله الله عن الهدى * (فما له من سبيل) * إلى الهدى من حجة ويقال ما له من حيلة
سورة الشورى 47 - 50
قوله عز وجل * (استجيبوا لربكم) * يعني أجيبوا ربكم في الإيمان وفيما أمركم به * (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له) * يعني لا رجعة له إذا جاء لا يقدر أحد على دفعه * (من الله) * ويقال فيه تقديم يعني من قبل أن يأتي عذاب الله يوم لا مرد له
يعني لا مدفع له * (ما لكم من ملجأ يومئذ) * يعني ما لكم من مفر ولا حرز يحرزكم من عذابه * (وما لكم من نكير) * يعني من مغير يغير العذاب عنكم
قوله عز وجل * (فإن أعرضوا) * يعني عن الإيمان وعن الإجابة بعد ما دعوتهم * (فما أرسلناك عليهم حفيظا) * تحفظهم على الإيمان وتجبرهم على ذلك * (إن عليك إلا البلاغ) * يعني ليس عليك إلا تبليغ الرسالة وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
ثم قال * (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة) * يعني أصبنا الإنسان منا نعمة * (فرح بها) * أي بطر بالنعمة
وقال بعضهم يعني أبا جهل وقال بعضهم جميع الناس والإنسان هو لفظ الجنس وأراد به جميع الكافرين بدليل أنه قال * (وإن تصبهم) * ذكر بلفظ الجماعة يعني إن تصبهم * (سيئة) * يعني القحط والشدة * (بما قدمت أيديهم) * يعني بما عملوا في المعاصي * (فإن الإنسان كفور) * لنعم الله يعني يشكو ربه عند المصيبة ولا يشكره عند النعمة
قوله تعالى * (لله ملك السماوات والأرض) * يعني القدرة على أهل السماوات والأرض * (يخلق ما يشاء) * يعني على أي صورة يشاء * (يهب لمن يشاء إناثا) * يعني يعطي من يشاء الأولاد الإناث فلا يجعل معهن ذكورا * (ويهب لمن يشاء الذكور) * يعني يعطي من يشاء الأولاد الذكور ولا يكون معهم إناث * (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) * يعني من يشاء الأولاد الذكور والإناث * (ويجعل من يشاء عقيما) * فلا يعطيه شيئا من الولد ويقال " يهب لمن يشاء
236

إناثا) كما وهب للوط النبي عليه السلام * (ويهب لمن يشاء الذكور) * كما وهب إبراهيم عليه السلام * (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) * كما جعل للنبي صلى الله عليه وسلم وكما وهب ليعقوب عليه السلام * (ويجعل من يشاء عقيما) * كما جعل ليحيى وعيسى عليهما السلام * (إنه عليم قدير) * يعني عالم بما يصلح لكل واحد منهم
القادر على ذلك
سورة الشورى 51 - 53
قوله عز وجل * (وما كان لبشر) * يعني لأحد من خلق الله * (أن يكلمه الله إلا وحيا) * يعني يرسل إليه جبريل ليقرأ عليه
ويقال * (إلا وحيا) * يعني إلهاما ويقال يسمع الصوت فيفهمه
وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يكلمك الله أو ينظر إليك إن كنت نبيا كما كلم موسى فنزل * (وما كان لبشر أن يكلمه الله) * يعني ما جاز لأحد من الآدميين * (أن يكلمه الله إلا وحيا) * يعني يسمع الصوت أو يرى في المنام ولا يجوز أن يكلمه مواجهة عيانا في الدنيا
* (أو من وراء حجاب) * فيكلمه كما كلم موسى * (أو يرسل رسولا) * كما أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم * (فيوحي بإذنه ما يشاء) * يعني فيرسل بأمره
ويقال * (بإذنه ما يشاء) * من أمره
قرأ نافع وابن عامر * (أو يرسل) * بضم اللام وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالضم فمعناه أو هو يرسل رسولا
ومن قرأ بالنصب فعلى الإضمار أيضا ومعناه أو يرسل رسولا * (فيوحي) * قرأ نافع وابن عامر * (فيوحي) * بسكون الياء ومعناه أو هو يرسل رسولا فيوحي وقرأ الباقون * (فيوحي) * بالنصب لإضمار أن
ثم قال * (إنه علي حكيم) * يعني أعلى من أن يكلم أحدا في الدنيا مواجهة ولا يراه فيها أحد عيانا * (حكيم) * حكم ألا يكلم أحدا في المواجهة ولا يراه أحد
قوله عز وجل * (وكذلك أوحينا إليك روحا) * يعني جبريل * (من أمرنا) * يعني بأمرنا
ويقال * (أوحينا إليك روحا) * يعني القرآن
وقال القتبي الروح روح الأجسام ويسمى كلام الله تعالى روحا لأن فيه حياة من الجهل وموت الكفر كما قال * (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) * [غافر 15] قال * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * يعني ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ولا تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان
* (ولكن جعلناه نورا) * يعني أنزلنا جبريل بالقرآن ضياء من العمى وبيانا من الضلالة
فإن قيل سبق ذكر الكتاب والإيمان ثم قال * (ولكن جعلناه نورا) * ولم يقل جعلناهما قيل
237

له لأن المعنى هو الكتاب وهو دليل على الإيمان
ويقال لأن شأنهما واحد كقوله " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " [المؤمنون 50] ولم يقل آيتين ويقال * (ولكن جعلناه نورا) * يعني الإيمان كناية عنه ولأنه أقرب
* (نهدي به من نشاء من عبادنا) * يعني نوفق من نشاء إلى الهدى من كان أهلا لذلك * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * يعني لتدعو الخلق إلى دين الإسلام
قوله عز وجل * (صراط الله) * يعني دين الله * (الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * من خلق * (ألا إلى الله تصير الأمور) * أي إليه ترجع عواقب الأمور والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
238

سورة الزخرف مكية وهي تسع وثمانون آية
سورة الزخرف 1 - 4
قوله تعالى * (حم والكتاب المبين) * يعني أقسم بحم وبالكتاب الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة وأبان كل ما تحتاج إليه الأمة ويقال مبين لما بين بلغة تعرفونها
يعني بين فيه الحلال والحرام * (إنا جعلناه) * فهذا جواب القسم يعني * (إنا جعلناه) * قلناه ووصفناه وبيناه
ويقال أنزلنا به جبريل * (قرآنا عربيا) * يعني بلغة العرب * (لعلكم تعقلون) * يعني لكي تعقلوا وتفهموا ما فيه ولو نزل بغير لغة العرب لم تفهموا ما فيه
ثم قال * (وإنه في أم الكتاب لدينا) * يعني إن كذبتم بالقرآن فإن نسخته في أصل الكتاب يعني اللوح المحفوظ عندنا
* (لعلي حكيم) * يعني مرتفعا محكما من الباطل
ويقال * (حكيم) * أحكم حلاله وحرامه
ويقال * (حكيم) * أي حاكم على الكتب كلها
ويقال * (حكيم) * أي ذو حكمة كما قال * (حكمة بالغة) *
قرأ حمزة والكسائي * (في أم الكتاب) * بكسر الألف في جميع القرآن لأن الياء أخت الكسرة فاتبع الكسرة الكسرة والباقون أم بضم الألف وهو الأصل في اللغة
سورة الزخرف 5 - 11
قوله عز وجل * (أفنضرب عنكم الذكر صفحا) * يعني أفندع ونترك أن نرسل إليكم الوحي مبهما لا آمركم ولا أنهاكم
وقال القتبي معناه أن أمسك عنكم فلا أذكركم إعراضا
يقال صفحت عن فلان إذا أعرضت عنه
وقال مجاهد معناه تكذبون بالقرآن ولا تعاقبون فيه
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر * (أن كنتم قوما مسرفين) * بنصب الألف
239

الباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب فمعناه أفنضرب عنكم ذكر العذاب بأن أسرفتم يعني إن أشركتم وعصيتم
ويقال أفنضرب عنكم ذكر العذاب لأن أسرفتم وكفرتم ومن قرأ بالكسر فمعناه إن كنتم قوما مسرفين ويقال هو على معنى الاستقبال ومعناه إن تكونوا مسرفين أفنضرب عنكم الذكر
ثم قال عز وجل * (وكم أرسلنا من نبي في الأولين) * يعني كم بعثنا من نبي في أمر الأمم الأولين كما أرسلناك إلى قومك " وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون " يعني يسخرون منه
قوله تعالى * (فأهلكنا أشد منهم بطشا) * يعني من كان أشد منهم قوة * (ومضى مثل الأولين) * يعني سنة الأولين بالهلاك
قوله تعالى * (ولئن سألتهم) * يعني المشركين * (من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) * يعني يقولون خلقهن الله تعالى الذي هو * (العزيز) * في ملكه * (العليم) * بخلقه فزاد الله في جوابهم
فقال * (الذي جعل لكم الأرض مهدا) * قرأ حمزة والكسائي وعاصم * (مهدا) * والباقون * (مهادا) * بالألف يعني قرارا للخلق * (وجعل لكم فيها سبلا) * يعني طرقا * (لعلكم تهتدون) * يعني لكي تعرفوا طرقها من بلد إلى بلد ويقال * (لعلكم تهتدون) * يعني لكي تعرفوا هذه النعم وتأخذوا طريق الهدى
ثم ذكر النعم فقال عز وجل * (والذي نزل من السماء ماء بقدر) * يعني بمقدار ووزن * (فأنشرنا به) * يعني أحيينا بالمطر * (بلدة) * يعني أرضا * (ميتة) * لا نبات فيها * (كذلك تخرجون) * أنتم من قبوركم
سورة الزخرف 12 - 14
قوله تعالى * (والذي خلق الأزواج كلها) * يعني الأصناف كلها من الحيوان والنبات وغير ذلك * (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) * يعني جعل لبني آدم من السفن والإبل والدواب ما يركبون عليها
ثم قال * (لتستووا على ظهوره) * يعني لتركبوا ظهور الأنعام ولم يقل ظهورها لأنه انصرف إلى المعنى وهو جنس الأنعام * (ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه) * يعني إذا ركبتم فتحمدوا الله تعالى * (وتقولوا) * عند ذلك * (سبحان الذي سخر لنا هذا) * يعني ذلل لنا هذا * (وما كنا له مقرنين) * يعني مطيعين
وقال أهل اللغة أنا مقرن لك أي مطيق لك ويقال مقرنين أي مالكين
ويقال ضابطين
240

ثم قال * (وإنا إلى ربنا لمنقلبون) * يعني راجعين إليه في الآخرة
وقد روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال إذا ركب الرجل الدابة ولم يذكر اسم الله تعالى ركب الشيطان من ورائه ثم صك في قفاه فإن كان يحسن الغناء قال له تغن وإن كان لا يحسن الغناء قال له تمن يعني تكلم بالباطل
وعن علي بن ربيعة أنه قال كنت رديفا لعلي رضي الله عنه فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى قال الحمد لله ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون
سورة الزخرف 15 - 19
قال الله عز وجل * (وجعلوا له من عباده جزءا) * يعني وصفوا لله من خلقه شريكا وولدا * (إن الإنسان لكفور مبين) * يعني كفور لنعمه * (مبين) * أي بين الكفر
ثم قال تعالى * (أم اتخذ مما يخلق بنات) * وهو رد على بني مليح حيث قالوا الملائكة بنات الله معناه اختار لكم البنين ولنفسه البنات ثم وصف كراهيتهم البنات فقال * (وأصفاكم بالبنين) *
قوله عز وجل * (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا) * يعني بما وصفوا لله تعالى من البنات وكرهوا لأنفسهم ذلك * (ظل وجهه مسودا وهو كظيم) * يعني تغير لونه وهو حزين مكروب
يعني أترضون لله ما لا ترضون لأنفسكم
قوله عز وجل " أو من ينشؤا في الحلية " يعني يغذى في الذهب والفضة
ويقال أفمن زين في الحلي والحلل * (وهو في الخصام غير مبين) * يعني في الكلام غير فصيح
ويقال هو في الخصومة غير مبينات في الحجة ويقال أفمن زين في الحلي وهو في الخصومة غير مبين لأن المرأة لا تبلغ خصومتها بكلامها ما يبلغ الرجل
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص * (أو من ينشأ) * بضم الياء ونصب الشين ومعناه أفمن يربى في الحلية لفظه لفظ الاستفهام والمراد به التوبيخ
وقرأ الباقون * (أو من ينشأ) * بنصب الياء
241

وجزم النون مع التخفيف يعني يشب وينبت في الحلي
ثم قال تعالى * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * يعني وصفوا الملائكة بالأنوثة
قرأ ابن كثير وابن عامر ونافع " الذين هم عبد الرحمن " يعني الملائكة الذين هم في السماء والباقون * (عباد الرحمن) * يعني جمع عبد
ثم قال * (أشهدوا خلقهم) * يعني أحضروا خلق الملائكة حين خلقهم الله تعالى فتعلموا أنهم ذكور أو إناث هذا استفهام فيه نفي يعني لم يشهدوا خلقهم على وجه التوبيخ والتقريع
ثم قال * (ستكتب شهادتهم) * يعني ستكتب مقالتهم * (ويسألون) * عنه يوم القيامة
وروي عن الحسن أنه قرأ " ستكتب شهاداتهم " بالألف يعني أقوالهم
وقرأ عبد الرحمن الأعرج * (سنكتب) * بالنون
سورة الزخرف 20 - 25
قوله تعالى * (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) * يعني ما عبدنا الملائكة ويقال الأصنام * (ما لهم بذلك من علم) * أي ما لهم بذلك القول من حجة " إن هم إلا يخرصون " يعني يكذبون بغير حجة
وقال مقاتل في الآية تقديم يعني عباد الرحمن إناثا أي ما لهم بذلك من علم
قوله عز وجل * (أم آتيناهم كتابا من قبله) * يعني أنزلنا عليهم كتابا من قبل هذا القرآن * (فهم به مستمسكون) * يعني آخذون به عاملون اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به النفي
قوله عز وجل * (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة) * يعني لكنهم قالوا * (إنا وجدنا آباءنا) * على دين وملة
وقال القتبي أصل الأمة الجماعة والصنف
كقوله * (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) * [الأنعام 38] ثم يستعار في أشياء منها الدين كقوله * (إنا وجدنا آباءنا على أمة) * أي على دين لأن القوم كانوا يجتمعون على دين واحد فتقام الأمة مكان الدين ولهذا قيل للمسلمين أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم على ملة واحدة وهي الإسلام
وروى عن مجاهد وعمر بن عبد العزيز أنهما قرآ * (أمة) * بكسر الألف أي على نعمة
ويقال على هيئة وقراءة العامة بالضمة يعني على دين
وروى أبو عبيدة عن بعض أهل اللغة أن الأمة والإمة لغتان
* (وإنا على آثارهم مهتدون) * يعني مستيقنين
242

وقال * (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها) * يعني جبابرتها * (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) * يعني بسنتهم مقتدون أي بأعمالهم
قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم * (قال أولو جئتكم بأهدى) * يعني أليس هذا الذي جئتكم به هو أهدى * (مما وجدتم عليه آباءكم) * يعني بأصوب وأبين من ذلك
قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص * (قال أولو جئتكم) * على معنى الخبر والباقون * (قل) * بلفظ الأمر
وقرأ أبو جعفر المدني " قل أو لو جئناكم " بلفظ الجماعة
* (قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) * يعني الجبابرة قالوا لرسلهم إنا بما أرسلتم به جاحدون
قوله عز وجل * (فانتقمنا منهم) * بالعذاب * (فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) * يعني آخر أمرهم
سورة الزخرف 26 - 30
قوله عز وجل " وإذا قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون " يعني بريء من معبودكم
ذكر عن الفراء أنه قال * (براء) * مصدر صرف اسما وكل مصدر صرف إلى اسم فالواحد والجماعة والذكر والأنثى فيه سواء
قوله عز وجل * (إلا الذي فطرني) * يعني إلا الذي خلقني فإني لا أتبرأ منه
* (فإنه سيهدين) * ويقال * (الآ) * بمعنى لكن
يعني لكن الذي خلقني فهو سيهدين يعني يثبتني على دين الإسلام * (وجعلها كلمة باقية في عقبه) * يعني جعل تلك الكلمة ثابتة في نسله * (وذريته) * وهي كلمة التوحيد لا إله إلا الله * (لعلهم يرجعون) * عن كفرهم إلى الإيمان
وقال قتادة هو التوحيد والإخلاص لا يزال في ذريته
من يوحد الله تعالى ويعبده وقال مجاهد يعني كلمة لا إله إلا الله في عقبه وولده
ويقال * (إنني براء) * يعني ذو البراء كما يقال رجل عدل ورجال عدل أي ذو عدل
ثم قال * (بل متعت هؤلاء) * يعني أجلت هؤلاء وأمهلتهم
يعني قومك * (وآباءهم حتى جاءهم الحق) * يعني القرآن ويقال الدعوة إلى التوحيد * (ورسول مبين) * يعني بين أمره بالدلائل والحجج
ويقال * (مبين) * يعني بين لهم الحق من الباطل
قوله تعالى * (ولما جاءهم الحق) * يعني القرآن * (قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) * يعني جاحدين
سورة الزخرف 31
243

سورة الزخرف 32
* (وقالوا) * يعني أهل مكة * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * يعني على رجل عظيم من رجلي القريتين وهو الوليد بن المغيرة من أهل مكة وأبو مسعود الثقفي بالطائف يعني لو كان حقا لأنزل على أحد هذين الرجلين
وروى وكيع عن محمد بن عبد الله بن أفلح الطائفي عن خالد بن عبيد الله بن يزيد قال كنت جالسا عند عبد الله بن عباس بالطائف فسأله رجل عن هذه الآية وهي قوله * (من القريتين عظيم) * فقال القرية التي أنت فيها يعني الطائف
والقرية التي جئت منها يعني مكة
وسئل عن الرجلين فقال جبار من جبابرة قريش وهو الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود جد المختار يعني أبا مسعود يقال اسمه عمرو بن عمير
ثم قال تعالى * (أهم يقسمون رحمة ربك) * يعني أبأيديهم مفاتيح الرسالة والنبوة فيضعونها حيث شاؤوا وإلا كما نختار للرسالة من نشاء من عبادنا * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) * يعني نحن قسمنا أرزاقهم فيما بينهم وهو أدنى من الرسالة فلم نترك اختيارها إليهم فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل منه وأعظم وهو الرسالة إليهم
ثم قال * (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) * يعني فضلنا بعضهم على بعض بالمال في الدنيا
* (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) * يعني الاستهزاء ويقال فضل بعضهم على بعض في العز والرياسة فيخدم بعضهم بعضا ويستعبد الأحرار العبيد ثم أخبر أن الآخرة أفضل مما أعطوا في الدنيا
فقال * (ورحمة ربك خير مما يجمعون) * يعني خير مما يجمع الكفار من المال في الدنيا
سورة الزخرف 33 - 35
قوله عز وجل * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) * يقول لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة المال
وقال الحسن لولا أن يتتابعوا في الكفر
* (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) * وهي سماء البيت * (ومعارج عليها) * يعني الدرج عليها * (يظهرون) * يعني يرتقون ويرتفعون
وقال الزجاج يصلح أن يكون لبيوتهم بدلا من قوله
244

* (لمن يكفر) * ويكون المعنى لجعلنا البيوت من يكفر بالرحمن ويصلح أن يكون معناه لجعلنا لمن يكفر بالرحمن على بيوتهم
قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (لبيوتهم سقفا) * بنصب السين وجزم القاف ويكون عبارة عن الواحد فدل على الجمع
والمعنى لجعلنا لبيت كل واحد منهم سقفا من فضة
وقرأ الباقون * (سقفا) * بالضم على معنى الجمع
ويقال سقف وسقف مثل رهن ورهن
قوله تعالى " ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون " يعني يجلسون وينامون * (وزخرفا) * وهو الذهب يعني لجعلنا هذا كله من ذهب وفضة
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد ولصببت عليه الدنيا صبا) وإنما أراد بعصابة الحديد كناية عن صحة البدن يعني لا يصدع رأسه
ثم أخبر أن ذلك كله مما يفنى فقال * (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) * و " ما " ها هنا زيادة ومعناه وإن كل ذلك لمتاع ويقال وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا يفنى ولا يبقى * (والآخرة عند ربك للمتقين) * يعني الجنة للذين يتقون الشرك والمعاصي
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر في رواية هشام * (وإن كل ذلك لما) * بتشديد الميم وقرأ الباقون بالتخفيف
فمن قرأ بالتخفيف فما للصلة والتوكيد
ومن قرأ بالتشديد فمعناه وما كل ذلك إلا متاع
وقال مجاهد كنت لا أعلم ما الزخرف حتى سمعت في قراءة عبد الله بيتا من ذهب
سورة الزخرف 36 - 39
قوله عز وجل * (ومن يعش عن ذكر الرحمن) * قال الكلبي يعني يعرض عن القرآن يعني لا يؤمن
ويقال من يعمى بصره عن ذكر الرحمن
وقال أبو عبيدة من يظلم بصره عن ذكر الرحمن * (نقيض له شيطانا) * يعني نسيب له شيطانا مجازاة لإعراضه عن ذكر الله
ويقال نسلط عليه ويقال نقدر له ويقال نجعل له شيطانا * (فهو له قرين) * يعني يكون له صاحبا في الدنيا فيزين له الضلالة
ويقال * (فهو له قرين) * يعني قرينه في سلسلة واحدة لا يفارقه
يعني في النار
وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال ليس مثل من أمثال العرب إلا وأصله في كتاب الله تعالى
قيل له أين قول الناس أعط أخاك تمرة فإن أبي فجمرة
فقال قوله * (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا) * الآية * (وإنهم ليصدونهم عن السبيل) * يعني يصرفونهم عن الدين * (ويحسبون أنهم مهتدون) * يعني الكفار يظنون أنهم على الحق
* (حتى إذا جاءنا) * قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر (جانآ) بالمد بلفظ التثنية يعني الكافر وشيطانه الذي هو قرينه
وقرأ الباقون * (جاءنا) * بغير مد يعني
245

الكافر يقول لقرينه * (قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) * يعني ما بين المشرق والمغرب
ويقال بين مشرق الشتاء ومشرق الصيف * (فبئس القرين) * يعني بئس الصاحب معه في النار
ويقال هذا قول الله * (فبئس القرين) * يعني بئس الصاحب معه في النار
ويقال هذا قول الكافر * (فبئس القرين) * يعني بئس الصاحب كنت أنت في الدنيا وبئس الصاحب اليوم
فيقول الله تعالى * (ولن ينفعكم اليوم) * الاعتذار * (إذ ظلمتم) * يعني كفرتم وأشركتم في الدنيا * (أنكم في العذاب مشتركون) * يعني أنكم جميعا في النار التابع والمتبوع في العذاب سواء قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم
سورة الزخرف 40 - 45
* (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) * إلى الهدى * (ومن كان في ضلال مبين) * يعني من كان في علم الله في الضلالة
ومعنى الآية إنك لا تقدر أن تفهم من كان أصم القلب ويعمى عن الحق ومن كان في ضلال مبين يعني ظاهر الضلالة
قوله * (فإما نذهبن بك) * يعني نميتك قبل أن نريك الذي وعدناهم وقبل أن نريك النقمة * (فإنا منهم منتقمون) * يعني ننتقم منهم بعد موتك
قال قتادة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت النقمة قال وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم (أري ما يصيب أمته من بعده فما رئي ضاحكا مستبشرا حتى قبض)
ثم قال * (أو نرينك الذي وعدناهم) * يعني في حياتك * (فإنا عليهم مقتدرون) * يعني إنا لقادرون على ذلك
قوله تعالى * (فاستمسك بالذي أوحي إليك) * يعني اعمل بالذي أوحي إليك من القرآن * (إنك على صراط مستقيم) * يعني على دين الإسلام * (وإنه لذكر لك
ولقومك) * يعني القرآن شرف لك ولمن آمن به ويقال * (ولقومك) * يعني العرب لأن القرآن نزل بلغتهم * (وسوف تسألون) * عن هذه النعم وعن شكر هذا الشرف
يعني القرآن إذا أديتم شكره أو لم تؤدوه
قوله تعالى * (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) * قال مقاتل والكلبي يعني سل
246

مؤمني أهل الكتاب * (أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) * يعني هل جاءهم رسول يدعوهم إلى عبادة غير الله
ويقال * (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) * يعني سل المرسلين فلقي النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء ليلة المعراج وصلى بهم ببيت المقدس فقيل له فسلهم فلم يشك ولم يسألهم
ويقال إنما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وأراد به أمته يعني سلوا أهل الكتاب وهذا كقوله " إن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب " [يونس 94] الآية
سورة الزخرف 46 - 50
قوله تعالى " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فقال إني رسول رب العالمين " وقد ذكرناه * (فلما جاءهم بآياتنا) * يعني باليد والعصا * (إذا هم منها يضحكون) * يعني يعجبون ويسخرون
* (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) * يعني أعظم من التي كانت قبلها وهي السنين والنقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فلم يؤمنوا بشيء
* (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) * يعني عاقبناهم بهذه العقوبات لكي يرجعوا ويعرفوا ضعف معبودهم * (وقالوا يا أيها الساحر) * وكان الساحر فيهم عظيم الشأن يعني قالوا لموسى يا أيها العالم * (ادع لنا ربك) * يعني سل لنا ربك * (بما عهد عندك) * يعني بحق ما أمرك به ربك أن تدعو إليه * (إننا لمهتدون) * يعني نؤمن بك ونوحد الله تعالى
قوله تعالى * (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) * يعني ينقضون عهودهم
سورة الزخرف 51 - 56
وقال عز وجل * (ونادى فرعون في قومه) * يعني خطب فرعون لقومه * (قال يا قوم أليس لي ملك مصر) * وهي أربعون فرسخا في أربعين فرسخا * (وهذه الأنهار تجري من تحتي) * يعني من تحت يدي ويقال من حولي وحول قصوري وجناني * (أفلا تبصرون) * فضلي على موسى * (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين) * يعني أنا خير و * (أم) * للصلة من هذا الذي هو مهين
247

يعني ضعيفا ذليلا * (ولا يكاد يبين) * يعني لا يكاد يعبر حجة
ويقال معناه ألا تنظرون إلى فصاحتي وإلى عي كلام موسى
ثم قال * (فلولا ألقي عليه) * يعني هلا أعطي * (أسورة من ذهب) * يعني لو كان حقا وكان رسولا كما يقول لأعطي له المال فيكون حاله خيرا من هذا وكان آل فرعون يلبسون الأساور
قرأ عاصم في رواية حفص (أسورة) بغير ألف والباقون (أساورة) فمن قرأ * (أسورة) * فهو جمع السوار ومن قرأ " أساورة " فهو جمع الجمع
ويقال أساور جمع سوار
ثم قال * (أو جاء معه الملائكة مقترنين) * يعني لو كان حقا لأتته الملائكة متتابعين فصدقوه على مقالته ويقال * (مقترنين) * أي متعاونين * (فاستخف قومه) * يعني فاستذل قومه * (فأطاعوه) * يعني حملهم على الخفة فانقادوا له * (إنهم كانوا قوما فاسقين) * يعني كافرين عاصين
وذلك أن فرعون قال لهم ما أريكم إلا ما أرى فأطاعوه على تكذيب موسى عليه السلام * (إنهم كانوا قوما فاسقين) * يعني ناقضي العهد
قوله تعالى * (فلما آسفونا انتقمنا) * يعني أغضبونا
قال أهل اللغة الأسف الغضب
وروى معمر عن سماك بن الفضل
قال كنا عند عروة بن محمد وعنده وهب بن منبه فجاء قوم فشكوا عاملهم وأثبتوا على ذلك فتناول وهب عصا كانت في يد عروة فضرب بها رأس العامل حتى أدماه فاستهابها عروة وكان حليما قال يعيب علينا أبو عبد الله الغضب وهو يغضب فقال وهب وما لي لا أغضب وقد غضب الذي خلق الأحلام إن الله تعالى يقول * (فلما آسفونا انتقمنا منهم) * يعني أغضبونا
ويقال * (فلما آسفونا) * يعني وجب عليهم عذابنا * (انتقمنا منهم) * يعني أهلكناهم * (فأغرقناهم أجمعين) * يعني لم نبق منهم أحدا
قوله تعالى * (فجعلناهم سلفا) * قال مجاهد يعني كفار قوم فرعون * (سلفا) * لكفار مكة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة جعلناهم سلفا إلى النار
قرأ حمزة والكسائي (سلفا) بالضم والباقون (سلفا) بنصب السين واللام
فمن قرأ بالنصب فمعناه جعلناهم سلفا متقدمين ليتعظ بهم الآخرون
ومن قرأ بالضم فهو جمع سليف أي جمع قد مضى
ويقال سلفا واحدها سلفة من الناس أي قطعة * (ومثلا للآخرين) * يعني عبرة لمن بعدهم
سورة الزخرف 57 - 62
قوله تعالى * (ولما ضرب ابن مريم مثلا) * يعني وصف ابن مريم شبها " إذا قومك منه
248

يصدون) يعني يعرضون عن ذكره
ويقال لما قالت النصارى إن عيسى ابن الله * (إذا قومك منه يصدون) * قرأ ابن عامر والكسائي ونافع * (يصدون) * بضم الصاد والباقون (يصدون) بكسر الصاد
فمن قرأ بالضم فمعناه يعرضون ومن قرأ بالكسر فمعناه يضجون ويرفعون أصواتهم تعجبا وذلك أنهم قالوا لما جاز أن يكون عيسى ابن الله جاز أن تكون الملائكة بناته فعارضوه بذلك يعني أهل مكة ورفعوا أصواتهم بذلك
ويقال إن عبد الله بن الزبعرى قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا في سورة الأنبياء ففرح المشركون بذلك ورفعوا أصواتهم تعجبا من قوله * (وقالوا أآلهتنا خير أم هو) * يعني أم عيسى فإذا جاز أن يكون هو ولدا جاز أن تكون الأصنام والملائكة كذلك
ويقال فإذا جاز أن يكون هو في النار جاز أن تكون الأصنام معه في النار
قوله " وما ضربوه لك إلا جدلا " يعني ما عارضوك بهذه المعارضة إلا جدلا بالباطل * (بل هم قوم خصمون) * يعني يجادلون شديد المجادلة بالباطل
قوله تعالى * (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) * أي ما كان عيسى إلا عبدا لله أنعم الله تعالى عليه بالنبوة وأكرمه بها * (وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) * يعني عبرة لبني إسرائيل ليعتبروا به حين ولد من غير أب
ثم قال * (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض) * يعني لو شاء الله لجعل مكانكم في الأرض ملائكة * (يخلفون) * فكانوا خلفا منكم
ثم رجع إلى صفة عيسى عليه السلام فقال * (وإنه لعلم للساعة) * يعني نزول عيسى علامة لقيام الساعة ويقال نزول عيسى آية للناس
وروى وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي رزين عن أبي يحيى عن ابن عباس في قوله * (وإنه لعلم للساعة) * قال خروج عيسى ابن مريم
وروى معمر عن قتادة قال نزول عيسى
وروى عبادة عن حميد عن أبي هريرة قال لا تقوم الساعة حتى يرى عيسى عليه السلام في الأرض إماما مقسطا وكنت أرجو ألا أموت حتى آكل مع عيسى عليه السلام على مائدة فمن لقيه منكم فليقرئه مني السلام قرأ بعضهم * (وإنه لعلم للساعة) * بنصب العين واللام وقراءة العام * (لعلم) * بالكسر وقال القتبي من قرأ * (وإنه لعلم للساعة) * بأسر العين أي بنزول المسيح يعلم أنه قد قربت الساعة
ومن قرأ (وإنه لعلم) بنصب العين واللام فإنه بمعنى الدليل والعلامة
قوله تعالى * (فلا تمترن بها) * يعني لا تشكن في القيامة والبعث " واتبعوني " يعني أطيعونني * (هذا صراط مستقيم) * يعني هذا التوحيد صراط مستقيم * (ولا يصدنكم الشيطان) *
249

يعني لا يضلنكم الشيطان عن طريق الهدى * (إنه لكم عدو مبين) * ظاهر العداوة
سورة الزخرف 63 - 67
قوله تعالى * (ولما جاء عيسى بالبينات) * يعني بالآيات والعلامات وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص
ويقال * (بالبينات) * يعني بالإنجيل * (قال قد جئتكم بالحكمة) * يعني بالنبوة * (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) * قال بعضهم يعني كل الذي تختلفون فيه
وقال بعضهم معناه لأبين تحليل بعض الذي تختلفون فيه
كقوله * (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * [آل عمران 50] وكانوا في ذلك التحريم مختلفين فمصدق ومكذب * (فاتقوا الله وأطيعون) * فيما آمركم به من التوحيد
قوله تعالى * (إن الله هو ربي وربكم) * يعني خالقي وخالقكم * (فاعبدوه) * يعني وحدوه وأطيعوه * (هذا صراط مستقيم) * يعني دين الإسلام * (فاختلف الأحزاب من بينهم) * أي تفرقوا في أمر عيسى وهم النسطورية والماريعقوبية والملكانية وقد ذكرناه من قبل
ويقال الأحزاب تحزبوا وتفرقوا في أمر عيسى وهم اليهود فقالوا فيه قولا عظيما وفي أمه
فقالوا إنه ساحر
ويقال اختلفوا في قتله * (فويل للذين ظلموا) * يعني أشركوا * (من عذاب يوم أليم) * يعني عذاب يوم شديد
قوله تعالى * (هل ينظرون إلا الساعة) * يعني ما ينظرون إذا لم يؤمنوا إلا أن تأتيهم الساعة * (أن تأتيهم بغتة) * يعني فجأة * (وهم لا يشعرون) * بقيامها
قوله تعالى * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو) * قال مجاهد الأخلاء في معصية الله تعالى في الدنيا يومئذ متعادين في الآخرة * (إلا المتقين) * الموحدين
قال مقاتل نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط
وقال الكلبي كل خليل في غير طاعة الله فهو عدو لخليله
وروى عبيد بن عمير
قال كان لرجل ثلاثة أخلاء بعضهم أخص به من بعض فنزلت به نازلة فلقي أخص الثلاثة فقال يا فلان إنه قد نزل في كذا وكذا وإني أحب أن تعينني
فقال له ما أنا بالذي أعينك ولا أنفعك فانطلق إلى الذي يليه
فقال له أنا معك حتى أبلغ المكان الذي تريده ثم رجعت وتركتك
فانطلق إلى الثالث فقال له أنا معك حيثما دخلت
قال فالأول ماله والثاني أهله وعشيرته والثالث عمله
وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن قوله * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * فقال خليلان مؤمنان وخليلان كافران فتوفي أحد المؤمنين
250

فيثني على صاحبه خيرا ثم يموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقول كل واحد منهما لصاحبه نعم الأخ ونعم الصاحب ويمون أحد الكافرين فيثني على صاحبه شرا ثم يموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقول كل واحد منهما لصاحبه بئس الأخ وبئس الصاحب
سورة الزخرف 68 - 76
قوله تعالى * (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) * يعني يوم القيامة
ثم وصفهم فقال * (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) * يعني مخلصين بالتوحيد
قوله تعالى * (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) * يعني تكرمون وتنعمون
ويقال تسرون والحبرة السرور
قوله تعالى * (يطاف عليهم بصحاف من ذهب) * قال كعب يطاف عليهم بسبعين ألف صحفة من ذهب في كل صحفة لون وطعام وليس في الأخرى والصحفة هي القصعة
* (وأكواب) * وهي الأباريق التي لا خراطيم لها يعني مدورة الرأس
ويقال التي لا عرى لها واحدها كوب
* (وفيها ما تشتهيه الأنفس) * يعني تتمنى كل نفس * (وتلذ الأعين) * من النظر إليها * (وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة) * يعني هذه الجنة * (التي أورثتموها) * يعني أنزلتموها * (بما كنتم تعملون) * يعني دخلتموها برحمة الله تعالى بإيمانكم واقتسمتموها بأعمالكم
* (لكم فيها فاكهة كثيرة) * لا تنقطع
لقوله * (لا مقطوعة ولا ممنوعة) * [الواقعة 33] * (منها تأكلون) * أي من الفواكه متى تشاؤوا
ثم وصف المشركين فقال * (إن المجرمين) * يعني المشركين * (في عذاب جهنم خالدون) * أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون * (لا يفتر عنهم) * يعني لا ينقطع عنهم العذاب طرفة عين * (وهم فيه مبلسون) * يعني آيسين من رحمة الله تعالى
قوله تعالى " وما ظلمناهم " يعني لم نعذبهم بغير ذنب * (ولكن كانوا هم الظالمين) * لأنهم كانوا يستكبرون عن الإيمان
251

سورة الزخرف 77 - 81
قوله تعالى " ونادوا يا ملك " وذلك لما يشتد عليهم العذاب يتمنون الموت ويقولون لخازن جهنم يا مالك * (ليقض علينا ربك) * يعني ادع لنا ربك لقبض أرواحنا فأجابهم بعد أربعين سنة * (قال إنكم ماكثون) * يعني خالدين فيها وروى عطاء بن السائب عن رجل عن ابن عباس قال يجيبهم بعد ألف سنة * (إنكم ماكثون) * ويقال إنهم ينادون * (يا مالك ليقض علينا ربك) * فأوحى الله تعالى إلى مالك ليجيبهم فيقول لهم مالك * (إنكم ماكثون) *
قوله تعالى * (لقد جئناكم بالحق) * يعني جاءكم جبريل في الدنيا بالقرآن والتوحيد * (ولكن أكثركم للحق كارهون) * يعني جاحدين
وهو قوله تعالى * (أم أبرموا أمرا) * قال مقاتل وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة ودخل إبليس عليهم وقد ذكرناه في سورة الأنفال
فنزل * (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون) * يعني أجمعوا أمرهم بالشر على النبي صلى الله عليه وسلم * (فإنا مبرمون) * أي مجمعون أمرنا على ما يكرهون
وقال الكلبي وذلك أن ثلاثة نفر اجتمعوا وقالوا إنه يقول بأن ربي يعلم السر أترى أنه يعلم ما نقول بيننا فنزل * (أم أبرموا أمرا) * يعني أقاموا على المعصية * (فإنا مبرمون) * أي معذبون عليها
قال القتبي أي أحكموه والمبرم المفتول على طاقين
قوله تعال * (أم يحسبون) * يعني بل يظنون
ويقال أيظنون والميم صلة * (أنا لا نسمع سرهم ونجواهم) * اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التوبيخ ومعناه إن الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم
قال ابن عباس الذين يتناجون خلف الكعبة يعني الذين يقولون إن الله لا يسمع مقالتنا
قال الله تعالى * (بلي) * يعني نسمع ذلك * (ورسلنا لديهم يكتبون) * مقالتهم
قوله تعالى * (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) * يعني الموحدين من أهل مكة قال مقاتل لما نزلت هذه الآية وقرئت عليهم فقال النضر بن الحارث ألا ترونه صدقني
فقال له الوليد ما صدقك ولكنه يقول ما كان للرحمن ولد
يعني * (أن) * بمعنى ما * (فأنا أول العابدين) * يعني الموحدين من أهل مكة
وقال الكلبي أنا أول الآنفين أن لله ولدا
وقال القتبي إن كان هذا في زعمكم فأنا أول الموحدين لأنكم تزعمون أن له ولدا فلم توحدوه ومن وحد الله تعالى فقد عبده ومن جعل له ولدا فليس من العابدين كقوله * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * [الذاريات 56] أي ليوحدون
سورة الزخرف 82 - 84
252

سورة الزخرف 85
ثم نزه نفسه فقال * (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون) * يعني عما يقولون إن لله ولدا * (فذرهم) * يعني كفار مكة حين كذبوا بالعذاب * (يخوضوا ويلعبوا) * في أباطيلهم ويستهزئوا * (حتى يلاقوا) * يعني حتى يعاينوا * (يومهم الذي يوعدون) * وهو يوم القيامة
قوله تعالى * (وهو الذي في السماء إله) * يعبد * (وفي الأرض إله) * يعبد ويقال يوحد في السماء ويوحد في الأرض * (وهو الحكيم) * في أمره * (العليم) * بخلقه وبمقالتهم
ثم عظم نفسه فقال تعالى * (وتبارك الذي) * يعني تعالى عما وصفوه الذي * (له ملك السماوات) * يعني خزائن السماوات المطر * (والأرض) * النبات * (وما بينهما) * من الخلق ويقال الذي له نفاذ الأمر في السماوات والأرض وما بينهما * (وعنده علم الساعة) * يعني علم قيام الساعة * (وإليه ترجعون) * قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم (ترجعون) بالتاء على معنى المخاطبة
وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
سورة الزخرف 86 - 89
قوله تعالى * (ولا يملك الذين يدعون) * يعني لا يقدر الذين يعبدون * (من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق) * يعني بلا إله إلا الله مخلصا * (وهم يعلمون) * أنه الحق حين شهدوا بها من قبل أنفسهم وأنهم يشفعون لهؤلاء
قوله تعالى * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) * يعني كفار قريش * (فأنى يؤفكون) * يعني أنى يصرفون بعد التصديق
ثم قال * (وقيله يا رب) * يعني قال النبي صلى الله عليه وسلم * (وقيله) * بمعنى وقوله
قرأ عاصم وحمزة * (قيله) * بكسر اللام والباقون بالنصب
وقرئ في الشاذ (وقيله) بضم اللام
فمن قرأ بالنصب فنصبه من وجهين أحدهما على العطف على قوله * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم) * [الزخرف 80] (وقيله) ومعنى آخر وعنده علم الساعة ويعلم * (قيله) * يعني علم الغيب ويعلم قوله ومن قرأ بالكسر معناه وعنده علم الساعة وعلم قيله يا رب
ومن قرأ بالرفع فمعناه وقيله قول يا رب * (إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) * يعني لا يصدقون * (فاصفح عنهم) * يعني أعرض عنهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال * (وقل سلام) * يعني سدادا من القول * (فسوف يعلمون) * وهذا وعيد منه
قرأ نافع وابن عامر (فسوف تعلمون) بالتاء على معنى المخاطبة لهم والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم والله أعلم
253

سورة الدخان مكية وهي خمسون وتسع آيات
سورة الدخان 1 - 6
قوله تبارك وتعالى * (حم والكتاب المبين إنا أنزلناه) * يعني الكتاب * (في ليلة مباركة) * يعني في ليلة القدر سميت مباركة لما فيها من البركة والمغفرة للمؤمنين
وذلك أن القرآن أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر إلى السفرة ثم أنزله جبريل متفرقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر مقدار ما ينزل به جبريل عليه السلام متفرقا إلى السنة الثانية ثم قال * (إنا كنا منذرين) * يعني مخوفين بالقرآن
قوله تعالى * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * يعني في ليلة القدر يقضى كل أمر محكم ما يكون في تلك السنة إلى السنة الأخرى وهذا قول عكرمة
وروى منصور عن مجاهد قال فيها يقضى أمر السنة إلى السنة من المصائب والأرزاق وغير ذلك وهذا موافق للقول الأول
ويقال في تلك الليلة * (يفرق) * يعني ينسخ من اللوح المحفوظ ما يكون إلى العام القابل من الرزق والأجل والأمراض والخصب والشدة
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال إنك لتلقى الرجل في الأسواق وقد وقع اسمه في الأموات ثم قرأ هذه الآية * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * في تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها إلى السنة من قابل من شعبان
قوله عز وجل * (أمرا من عندنا) * يعني قضاء من عندنا ويقال معناه بأمر من عندنا فنزع حرف الخافض فصار نصبا * (إنا كنا مرسلين) * يعني الرسل إلى الخلق ويقال يعني الملائكة في تلك الليلة * (رحمة من ربك) * تعالى ويقال إنزال الملائكة رحمة من الله تعالى ويقال الرسالة رحمة من الله تعالى ويقال هذا القرآن رحمة لمن آمن به * (إنه هو السميع) * لقولهم * (العليم) * بهم وبأعمالهم
سورة الدخان 7 - 8
254

قوله عز وجل " رب السماوات والأرض " قرأ أهل الكوفة " رب السماوات " بكسر الباء والباقون بالضم
فمن قرأ بالكسر رده إلى قوله * (رحمة من ربك) * " رب السماوات " ومن قرأ بالضم رده إلى قوله * (إنه هو السميع العليم) * " رب السماوات "
ويقال على الاستئناف ومعناه هو ربكم وهو رب السماوات والأرض * (وما بينهما إن كنتم موقنين) * يعني مؤمنين موحدين بتوحيد الله
* (لا إله إلا هو يحيي ويميت) * وقد ذكرناه * (ربكم ورب آبائكم الأولين) * يعني هو خالقكم ورازقكم * (ورب آبائكم الأولين) * يعني خالقهم ورازقهم
سورة الدخان 9 - 16
قوله عز وجل * (بل هم في شك يلعبون) * يعني يستهزئون ويقال هذا جواب قوله * (إن كنتم موقنين) * فكأنه قال لا يوقنون * (بل هم في شك يلعبون) * يعني يخوضون في الباطل
قوله تعالى * (فارتقب) * يعني فانتظر يا محمد صلى الله عليه وسلم * (يوم تأتي السماء بدخان مبين) * يعني الجدب والقحط قال القتبي سمي الجدب والقحط دخانا وفيه قولان أحدهما إن الجائع كأنه يرى بينه وبين السماء دخانا من شدة الجوع والثاني أنه سمي القحط دخانا ليبس الأرض وانقطاع النبات وارتفاع الغبار فشبه بالدخان
وروى الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال خمس قد مضين الدخان واللزام والروم والبطشة والقمر
وروي عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال بينما رجل يحدث في المسجد فسئل عن قوله * (يوم تأتي السماء بدخان مبين) * فقال إذا كان يوم القيامة نزل دخان من السماء فأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم وأخذ المؤمنون منه بمنزلة الزكام
قال مسروق فدخلت على عبد الله فأخبرته وكان متكئا فاستوى قاعدا ثم أنشأ فقال يا أيها الناس من كان عنده علم فسئل عنه فليقل به ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم عن قريشا حين كذبوه يعني صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال (اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها سنين كسني يوسف عليه السلام) فأصابهم سنة وشدة الجوع حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام
255

حتى كان يرى أحدهم كأن بينه وبين السماء دخانا) فذلك قوله * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) * يعني انتظر بهلاكهم يوم تأتي السماء بدخان مبين * (يغشى الناس) * يعني أهل مكة * (هذا عذاب أليم) * يعني يقولون هذا الجوع عذاب أليم
ثم إن أبا سفيان وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل وأصحابهم قالوا يا رسول الله استسق الله لنا فقد أصابنا شدة
قوله تعالى * (ربنا اكشف عنا العذاب) * يعني الجوع * (إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى) * يعني من أين لهم التوبة والعظة والتذكرة * (وقد جاءهم رسول مبين) * بلغتهم ومفقه لهم * (ثم تولوا عنه) * يعني أعرضوا عما جاء به فلم يصدقوه ومع ذلك * (وقالوا معلم مجنون) * يعلمه جبر ويسار غلامي الحضرمي " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " إلى المعصية فعادوا فانتقم منهم يوم بدر فذلك قوله * (يوم نبطش البطشة الكبرى) * يعني نعاقب العقوبة العظمى * (إنا منتقمون) * منهم بكفرهم ويقال * (يوم نبطش البطشة الكبرى) * يعني يوم القيامة
ويقال إن الدخان لم يمض وسيكون في آخر الزمان
وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال لم تمض آية الدخان بأخذ المؤمن كهيئة الزكام وينتفخ الكافر حتى يصير كهيئة الجمل
وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال أخبرت أن الكوكب ذا الذنب قد طلع فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ويقال هذا كله يوم القيامة إذا خرجوا من قبورهم تأتي السماء بدخان مبين محيط بالخلائق فيقول الكافرون * (ربنا اكشف عنا العذاب) * أي ردنا إلى الدنيا * (إنا مؤمنون) * يقول الله تعالى من أين لهم الرجعة وقد جاءهم رسول مبين فلم يجيبوه
سورة الدخان 17 - 24
ثم قال تعالى * (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون) * يعني ابتلينا قبل قومك قوم فرعون
* (وجاءهم رسول كريم) * على ربه وهو موسى عليه السلام
ويقال * (رسول كريم) * يعني شريفا * (أن أدوا إلي عباد الله) * يعني أرسلوا معي بني إسرائيل واتبعوني على ديني " إني لكم
256

رسول أمين) قد جئتكم من عند الله تعالى
ويقال كريم لأنه كان يتجاوز عنهم ويقال * (امين) * فيكم قبل الوحي فكيف تتهموني اليوم
ويقال * (كريم) * حيث يتجاوز عنهم حين دعا موسى ورفع عنهم الجراد والقمل والضفادع والدم * (إني لكم رسول أمين) * فيما بينكم وبين ربكم
قوله تعالى * (وأن لا تعلوا على الله) * يعني لا تخالفوا أمر الله تعالى
ويقال لا تستكبروا عن الإيمان ولا تعلوا بالفساد لأن فرعون لعنه الله كان عاليا من المسرفين * (إني آتيكم بسلطان مبين) * يعني آتيكم بحجة بينة اليد والعصى وغير ذلك
* (وإني عذت بربي وربكم) * يعني أعوذ بالله * (أن ترجمون) * يعني أن تقتلون ومعناه أسأل الله تعالى أن يحفظني لكي لا تقتلوني
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي * (إني عذت) * بإدغام الذال في التاء لقرب مخرجيهما والباقون بغير إدغام لتبيين الحرف
* (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) * يعني إن لم تصدقوني فاتركوني
قوله تعالى * (فدعا ربه) * يعني دعا موسى ربه كما ذكر في سورة يونس * (ربنا اطمس على أموالهم) * [يونس 88] وقوله * (ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) * [يونس 86] * (أن هؤلاء قوم مجرمون) * يعني مشركون فأبوا أن يطيعوني * (فأسر بعبادي ليلا) * فأوحى الله تعالى إليه أن أدلج ببني إسرائيل * (إنكم متبعون) * يعني إن فرعون يتبع أثركم
فخرج موسى ببني إسرائيل وضرب بعصاه البحر فصار طريقا يابسا
وهذا كقوله تعالى * (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) * [طه 77] فلما جاوز موسى مع بني إسرائيل البحر فأراد موسى أن يضرب بعصاه البحر ليعود إلى الحالة الأولى فأوحى الله تعالى إليه بقوله * (واترك البحر رهوا) * قال قتادة يعني طريقا يابسا واسعا
وقال الضحاك * (رهوا) * يعني سهلا
وقال مجاهد يعني منفرجا
وقال القتبي يعني طريقا سالكا كما هو
ويقال * (رهوا) * أي سككا جددا أي طريقا يابسا * (إنهم جند مغرقون) * وذلك أن بني إسرائيل خشوا أن يدركهم فرعون فقال لموسى اجعل البحر كما كان فإننا نخشى أن يلحق بنا
قال الله تعالى * (إنهم جند مغرقون) * يعني سيغرقون فدخل فرعون وقومه البحر فأغرقهم الله تعالى وبقيت قصورهم وبساتينهم
سورة الدخان 25 - 29
قوله تعالى * (كم تركوا من جنات وعيون) * يعني بساتين وأنهارا جارية * (وزروع) * يعني الحروث * (ومقام كريم) * يعني مساكن ومنازل حسنة
* (كذلك) * يعني هكذا
257

أخرجناهم من النعيم * (ونعمة كانوا فيها فاكهين) * يعني معجبين
وقال أهل اللغة النعمة بكسر النون في المنة واليد الصالحة والنعمة بالضم هي المسرة والنعمة بالنصب هي السعة في العيش
ثم قال * (كذلك) * يعني هكذا أخرجناهم من السعة والنعمة * (وأورثناها قوما آخرين) * يعني جعلناها ميراثا لبني إسرائيل
قوله تعالى * (فما بكت عليهم السماء والأرض) * قال بعضهم هذا على سبيل المثل والعرب إذا أرادت تعظيم ملك عظيم الشأن عظيم العطية تقول كسف القمر لفقده وبكت الريح والسماء والأرض وقد ذكروا ذلك في أشعارهم
فأخبر الله تعالى أن فرعون لم يكن ممن يجزع له جازع ولم يوجد له فقد
وقال بعضهم * (فما بكت عليهم السماء والأرض) * يعني أهل السماء وأهل الأرض فأقام السماء والأرض مقام أهلها
كما قال " وسئل القرية " [يوسف 82] وقال بعضهم يعني بكت السماء بعينها وبكت الأرض
وقال ابن عباس لكل مؤمن باب في السماء
يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه فإذا مات بكى عليه بابه في السماء وبكت عليه آثاره في الأرض وذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل أتبكي السماء والأرض على أحد قال نعم إذا مات المؤمن بكت عليه معادنه من الأرض التي كان يذكر الله تعالى فيها ويصلي وبكى عليه بابه الذي كان يرفع فيه عمله فأخبر الله تعالى أن قوم فرعون لم تبك عليهم السماء والأرض * (وما كانوا منظرين) * يعني مؤجلين
سورة الدخان 30 - 37
قوله عز وجل * (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين) * يعني من العذاب الشديد
ويقال * (المهين) * يعني الهوان وهو قتل الأبناء واستخدام البنات * (من فرعون) * يعني من عذاب فرعون * (إنه كان عاليا من المسرفين) * يعني كان عاصيا عاتيا مستكبرا متعظما " وكان من المسرفين " يعني من المشركين * (ولقد اخترناهم) * يعني اصطفينا بني إسرائيل * (على علم) * يعني على علم من الله تعالى أنهم
أهل لذلك
ويقال * (على علم) * الله فيهم من صبرهم * (على العالمين) * يعني على عالمي زمانهم * (وآتيناهم من الآيات) * يعني
258

أعطيناهم من العلامات * (ما فيه بلاء مبين) * يعني ابتلاء بينا مثل انفلاق البحر وأشباه ذلك
ثم ذكر كفار مكة فقال * (إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى) * يعني ما هي إلا موتتنا الأولى * (وما نحن بمنشرين) * بعدها " فأتوا بآياتنا إن كنتم صادقين " أنا نبعث بعد الموت يعني قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى * (أهم خير أم قوم تبع) * يعني قومك خير أم قوم تبع وإنما ذكر قوم تبع لأنهم كانوا أقرب إلى أهل مكة في الهلاك من غيرهم
قال الكلبي وكانوا أشراف حمير * (والذين من قبلهم أهلكناهم) * فكيف لا نهلك قومك إذا كذبوك قال وكان تبع اسم ملك منهم مثل فرعون
ويقال إنما سمي تبع لكثرة أتباعه فأسلم فخالفوه فأهلكهم الله تعالى وكان اسمه أسعد بن ملكي كرب
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن عائشة رضي الله عنها قالت إن تبع كان رجلا صالحا وكان كعب الأحبار يقول ذم الله قومه ولم يذمه
وقال سعيد بن جبير إن تبعا كسا البيت يعني الكعبة
وقال القتبي هم ملوك اليمن كل واحد منهم يسعى تبعا لأنه يتبع صاحبه وكذلك الظل يسمى تبعا لأنه يتبع الشمس وموضع التبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم ملوك العرب
ثم قال * (والذين من قبلهم) * يعني من قبل تبع * (أهلكناهم) * يعني عذبناهم عند التكذيب " إنهم كانوا مجرمين " يعني مشركين
سورة الدخان 38 - 42
قوله عز وجل * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) * يعني عابثين لغير شيء * (ما خلقناهما إلا بالحق) * يعني إلا لأمر هو كائن
ويقال خلقناهما للعبرة ومنفعة الخلق ويقال للأمر والنهي والترهيب والترغيب * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * يعني لا يصدقون ولا يفقهون
قوله عز وجل * (إن يوم الفصل) * أي يوم القضاء بين الخلق وهو يوم القيامة * (ميقاتهم أجمعين) * يعني ميعادهم أجمعين الأولين والآخرين
ويقال * (يوم الفصل) * يعني يوم يفصل بين الأب وابنه والأخ وأخيه والزوج والزوجة والخليل والخليلة
259

ثم وصف ذلك اليوم فقال * (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا) * يعني لا يدفع مولى عن ولي ولا قريب عن قريب شيئا في الشفاعة * (ولا هم ينصرون) * يعني لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب
يعني الكافرين
ثم وصف المؤمنين فإنه يشفع بعضهم لبعض فقال * (إلا من رحم الله إنه هو العزيز) * في نعمته للكافرين * (الرحيم) * بالمؤمنين
سورة الدخان 43 - 50
قوله تعالى * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) * يعني الفاجر وهو الوليد وأبو جهل ومن كان مثل حالهما * (كالمهل يغلي في البطون) * يعني كالصفر المذاب
قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص * (كالمهل يغلي) * بالياء بلفظ التذكير
والباقون بلفظ التأنيث
فمن قرأ بلفظ التذكير رده إلى المهل ومن قرأ بلفظ التأنيث رده إلى الشجرة * (كغلي الحميم) * يعني الماء الحار الذي قد انتهى حره
ثم قال للزبانية * (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم) * يعني فسوقوه وادفعوه إلى وسط الجحيم
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر * (فاعتلوه) * بضم التاء والباقون بالكسر وهما لغتان معناهما واحد يعني امضوا به بالعنف والشدة
وقال مقاتل يعني ادفعوه على وجهه
وقال القتبي خذوه بالعنف * (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم) * ويقال له * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * وذلك أن أبا جهل قال أنا في الدنيا أعز أهل هذا الوادي وأكرمه فيقال له في الآخرة * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * يعني المتعزز المتكرم كما قلت في الدنيا
قوله عز وجل * (إن هذا ما كنتم به تمترون) * يعني تشكون في الدنيا
قرأ الكسائي * (ذق إنك) * بنصب الألف والباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب فمعناه ذق يا أبا جهل لأنك قلت أنك أعز أهل هذا الوادي فقال الله تعالى * (ذق إنك أنت) * القائل أنا * (العزيز الكريم) * [الدخان 49] ومن قرأ بالكسر فهو على الاستئناف
سورة الدخان 51 - 59
260

ثم وصف حال المؤمنين في الآخرة فقال تعالى * (إن المتقين في مقام أمين) * يعني في منازل حسنة آمنين من العذاب
قرأ نافع وابن عامر * (في مقام) * بضم الميم والباقون بالنصب
فمن قرأ بالنصب يعني المكان والموضع ومن قرأ بالضم يعني الإقامة * (في جنات وعيون) * يعني في بساتين وأنهار جارية * (يلبسون من سندس) * يعني ما لطف من الديباج * (وإستبرق) * يعني ما ثخن منه * (متقابلين) * يعني متواجهين كما قال في آية أخرى * (إخوانا على سرر متقابلين) * [الحجر 47] ثم قال * (كذلك) * يعني هكذا كما ذكرت لهم في الجنة
ثم قال عز وجل * (وزوجناهم بحور عين) * يعني بيض الوجوه حسان الأعين * (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) * يعني ما يتمنون من الفواكه * (أمنين) * من الموت
ويقال * (أمنين) * مما يلقى أهل النار * (لا يذوقون فيها الموت) * يعني في الجنة * (إلا الموتة الأولى) * يعني سوى ما قضى عليهم من الموتة الأولى في الدنيا * (ووقاهم عذاب الجحيم) * يعني يصرف عنهم عذاب النار
قوله تعالى * (فضلا من ربك) * يعني هذا الثواب عطاء من ربك للمؤمنين المخلصين * (ذلك هو الفوز العظيم) * يعني النجاة الوافرة * (فإنما يسرناه بلسانك) * يعني هونا قراءة القرآن على لسانك لكي تقرأه وتخبرهم بذلك * (لعلهم يتذكرون) * يعني يتعظون بالقرآن * (فارتقب) * يعني انتظر لهلاكهم * (إنهم مرتقبون) * يعني منتظرون هلاكك ويقال انتظر النصرة وإظهار دينك وهلاكهم إن لم يصدقوك " إنهم مرتبون " يعني منتظرون
روي يعلى بن عبيدة عن إسماعيل عن عبد الله بن عيسى قال أخبرت أنه من قرأ ليلة الجمعة سورة الدخان إيمانا واحتسابا وتصديقا أصبح مغفورا له والله أعلم
و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وعترته الطيبين الطاهرين وسلم تسليما دائما
261

سورة الجاثية مكية وهي ثلاثون وسبع آيات
سورة الجاثية 1 - 6
قوله تبارك وتعالى * (حم تنزيل الكتاب) * يعني هذا الكتاب تنزيل * (من الله العزيز الحكيم) * وقد ذكرناه
* (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين) * يعني لعبرات للمؤمنين في خلقهن
ويقال معناه أن ما في السماوات من الشمس والقمر والنجوم وفي الأرض من الجبال والأشجار والأنهار وغيرها من العجائب لعبرات ودلائل واضحات للمؤمنين
يعني للمقرين المصدقين ويقال * (للمؤمنين) * يعني لمن أراد أن يؤمن ويتقي الشرك
قوله عز وجل * (وفي خلقكم وما يبث من دابة) * يعني وفيما خلق من الدواب * (آيات لقوم يوقنون) * يعني عبرات ودلائل لمن كان له يقين
قرأ حمزة والكسائي * (آيات) * بالكسر والباقون بالضم
وكذلك الاختلاف في الذي بعده
فمن قرأ بالكسر فإن المعنى إن في خلقكم آيات لقوم يوقنون فهو في موضع النصب إلا أن هذه التاء تصير خفضا في موضع النصب وإنما أضمر فيه إن لأن قوله * (إن في السماوات والأرض لآيات) * في موضع النصب فكذلك في الثاني معناه إن في خلقكم آيات
ومن قرأ بالضم فهو على الاستئناف على معنى وفي خلقكم آيات
قوله عز وجل * (واختلاف الليل والنهار) * يعني في اختلاف الليل والنهار في سواد الليل وبياض النهار يعني في اختلاف ألوانهما وذهاب الليل ومجئ النهار * (آيات لقوم يعقلون) * لمن كان له ذهن الإنسانية * (وما أنزل الله من السماء من رزق) * وهو المطر * (فأحيا به الأرض بعد موتها) * يعني بعد يبسها وقحطها * (وتصريف الرياح) * مرة رحمة ومرة عذابا
ويقال مرة جنوبا ومرة شمالا
ثم قال * (تلك آيات الله) * يعني هذه دلائل الله وعلامة وحدانيته * (نتلوها عليك بالحق) * يعني يقرأ عليك جبريل من القرآن بأمر الله * (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) * قال مقاتل
262

إن لم تؤمنوا بهذا القرآن فبأي حديث بعد توحيد الله وبعد القرآن تؤمنون
يعني تصدقون
سورة الجاثية 7 - 11
قوله تعالى * (ويل لكل أفاك أثيم) * يعني كذابا فاجرا * (يسمع آيات الله) * يعني القرآن * (تتلى عليه) * يعني يعرض عليه ويقرأ عليه * (ثم يصر مستكبرا) * يعني يقيم على الكفر متكبرا عن الإيمان * (كأن لم يسمعها) * يعني كأن لم يعقلها ولم يفهمها * (فبشره) * يا محمد * (بعذاب أليم) * يعني شديدا
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " وآياته تؤمنون " بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
قوله عز وجل * (وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا) * يعني إذا سمع من آياتنا يعني من القرآن اتخذها * (هزوا) * يعني سخرية
ويقال مثل حديث رستم وإسنفديار وهو النضر بن الحارث * (أولئك لهم عذاب مهين) * يهانون فيه
قوله تعالى * (من ورائهم جهنم) * يعني أمامهم جهنم
ويقال من بعدهم في الآخرة جهنم * (ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا) * يعني لا ينفعهم ما جمعوا من المال
* (ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء) * يعني لا ينفعهم ما عبدوا دونه من الأصنام * (ولهم عذاب عظيم) * في الآخرة
قوله تعالى * (هذا هدى) * يعني هذا القرآن بيان من الضلالة
ويقال هذا العذاب الذي ذكر حق * (والذين كفروا) * يعني جحدوا * (بآيات ربهم) * القرآن * (لهم عذاب من رجز أليم) * يعني وجيعا في الآخرة
قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص * (أليم) * بضم الميم والباقون * (أليم) * بالكسر كما ذكرنا في سورة سبأ
سورة الجاثية 12 - 14
ثم ذكرهم النعم ليعتبروا فقال تعالى * (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) * وقد ذكرناه
ثم قال * (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) * يعني ذلل لكم ما في السماوات وما في الأرض لصلاحكم
ثم قال تعالى " جميعا
263

منه) يعني جميع ما سخر الله تعالى وهو من قدرة ورحمته
ويقال * (جميعا منه) * يعني منة منه
قال مقاتل يعني جميعا من أمره
وروى عكرمة عن ابن عباس قال * (جميعا منه) * منه النور ومنه الشمس ومنه القمر
* (إن في ذلك) * يعني فيما ذكر * (لآيات) * يعني له دلالات وعبرات * (لقوم يتفكرون) * يعتبرون في صنعه وتوحيده
وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بقوم يتفكرون في الخالق فقال (تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق)
وروى وكيع عن هشام عن عروة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلق السماء فيقول الله فيقول من خلق الأرض فيقول الله
فيقول من خلق الله تعالى فإذا افتتن أحدكم بذلك فليقل آمنت بالله ورسوله
قول الله تعالى * (قل للذين آمنوا) * قال مقاتل والكلبي وذلك أن رجلا من الكفار من قريش شتم عمر رضي الله عنه بمكة فهم عمر بأن يبطش به فأمره الله بالتجاوز عنه
فقال * (قل للذين آمنوا) * يعني عمر رضي الله عنه * (يغفروا للذين) * يعني يتجاوزوا ولا يعاقبوا الذين * (لا يرجون أيام الله) * يعني لا يخافون عقوبته التي أهلك بها عادا وثمودا والقرون التي أهلكت قبلهم
يعني لا يخشون مثل أيام الأمم الخالية
قال قتادة ثم نسختها آية القتال * (وقاتلوا المشركين كافة) * [التوبة 36]
ثم قال * (ليجزي قوما بما كانوا يكسبون) * يعني يجزيهم بأعمالهم في الآخرة
قال مجاهد * (لا يرجون أيام الله) * يعني لا ينالون نعم الله
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر * (لنجزي) * بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه
والباقون * (لنجزي) * بالياء أي ليجزي الله
سورة الجاثية 15 - 17
قوله عز وجل * (من عمل صالحا فلنفسه) * يعني ثوابه لنفسه * (ومن أساء فعليها) * يعني عقوبته عليها * (ثم إلى ربكم ترجعون) * في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم
قال الله تعالى * (ولقد آتينا بني إسرائيل) * يعني أولاد يعقوب * (الكتاب) * أي التوراة والزبور والإنجيل لأن موسى وداود وعيسى كانوا في بني إسرائيل * (والحكم) * يعني الفهم والعلم * (والنبوة) * يعني جعلنا فيهم النبوة فكان فيهم ألف نبي
* (ورزقناهم من الطيبات) * يعني الحلال من الرزق وهو المن والسلوى
ويقال * (رزقناهم من الطيبات) * يعني أورثناهم أموال فرعون * (وفضلناهم على العالمين) * يعني فضلناهم بالإسلام على عالمي
264

زمانهم
* (وآتيناهم بينات من الأمر) * يعني الحلال والحرام وبيان ما كان قبلهم ثم اختلفوا بعده
قوله تعالى * (فما اختلفوا) * يعني في الدين * (إلا من بعد ما جاءهم العلم) * أي صفة النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم * (بغيا بينهم) * يعني حسدا منهم وطلبا للعز والملك
ويقال اختلفوا في الدين فصاروا أحزابا فيما بينهم يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من دين بعض
قال الله تعالى * (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة) * يعني يحكم بينهم * (فيما كانوا فيه يختلفون) * في الكتاب والدين
سورة الجاثية 18 - 20
قوله عز وجل * (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) * يعني أمرناك وألزمناك وأثبتناك على شريعة يعني على سنة من الأمر وذلك حين دعوه إلى ملتهم
ويقال * (على شريعة) * يعني على ملة ومذهب
ويقال * (جعلناك على شريعة من الأمر) * أي أمرناك وألزناك على شريعة
وقال قتادة الشريعة الفرائض والحدود والأحكام
* (فاتبعها) * يعني أثبت عليها
* (ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) * يعني لا يصدقون بالتوحيد * (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) * يعني إن تركت الإسلام إنهم لا يمنعوك من عذاب الله شيئا * (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) * يعني بعضهم على دين بعض * (والله ولي المتقين) * أي ناصر الموحدين المخلصين
قوله تعالى * (هذا بصائر للناس) * يعني هذا بيان للناس ويقال * (بصائر للناس) * يبصرهم ما لهم وما عليهم والواحدة بصيرة يعني يبين لهم الحلال والحرام
ويقال هذا القرآن دلائل للناس
ويقال دعوة وكرامة
* (وهدى ورحمة) * يعني هدى من الضلالة ورحمة من العذاب * (لقوم يوقنون) * يعني يصدقون بالرسل والكتاب ويوقنون أن الله تعالى أنزل نعمة وفضلا
سورة الجاثية 21 - 23
265

قوله عز وجل * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) * يعني اكتسبوا السيئات وذلك أنهم كانوا يقولون إنا نعطى في الآخرة من الخير ما لم تعطوا
قال الله تعالى * (أم حسب) * يعني أيظن الذين عملوا الشرك وهو عتبة وشيبة والوليد وغيرهم * (أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) * يعني عليا وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم * (سواء محياهم ومماتهم) * يعني يكونون سواء في نعم الآخرة
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص * (سواء) * بالنصب والباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب فمعناه أحسبوا أن نجعلهم سواء أي مستويا فيجعل * (أن نجعلهم) * متعديا إلى مفعولين
ومن قرأ بالضم جعل تمام الكلام عند قوله * (وعملوا الصالحات) * ثم ابتدأ فقال * (سواء محياهم ومماتهم) * خبر الابتداء
وقال مجاهد * (سواء محياهم ومماتهم) * قال المؤمنون في الدنيا والآخرة مؤمن يموت على إيمانه ويبعث على إيمانه والكافر في الدنيا والآخرة كافر يموت على الكفر ويبعث على الكفر
وروى أبو الزبير عن جابر قال يبعث كل عبد على ما مات عليه المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه ثم قال * (ساء ما يحكمون) * أي بئس ما يقضون الخير لأنفسهم حين يرون أن لهم ما في الآخرة ما للمؤمنين
قوله عز وجل * (وخلق الله السماوات والأرض بالحق) * وقد ذكرناه * (ولتجزى كل نفس بما كسبت) * يعني ما عملت * (وهم لا يظلمون) * يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم ولا يزادون على سيئاتهم
قوله تعالى * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى حجره وعبد الأخر
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * قال يعمل بهواه ولا يهوى شيئا إلا ركبه ولا يخاف الله
ثم قال * (وأضله الله على علم) * يعني علم منه أنه ليس من أهل الهدى * (وختم على سمعه وقلبه) * يعني خذله الله فلم يسمع الهدى قلبه يعني ختم على قلبه فلا يرغب في الحق * (وجعل على بصره غشاوة) * يعني غطاء كي لا يعتبر في دلائل الله تعالى
قرأ حمزة والكسائي " غشوة " بنصب الغين بغير ألف والباقون غشاوة
كما اختلفوا في سورة البقرة ومعناهما واحد
ثم قال * (فمن يهديه من بعد الله) * يعني من بعد ما أضله الله * (أفلا تذكرون) * أن من لا يقبل إلى دين الله ولا يرغب في طاعته لا يكرمه بالهدى والتوحيد
266

سورة الجاثية 24 - 27
قوله تعالى * (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) * يعني آجالنا تنقضي " نموت ويحيي " آخرون
يعني نموت نحن ويحيا أولادنا ويقال يموت قوم ويحيا آخرون
ووجه آخر * (نموت ونحيا) * يعني نحيا ونموت لأن الواو للجمع لا للتأخير ووجه آخر * (نموت ونحيا) * أي كنا أمواتا في أصل الخلقة ثم نحيا ثم يهلكنا الدهر فذلك قوله * (وما يهلكنا إلا الدهر) * يعني لا يميتنا إلا مضي الأيام وطول العمر
قال تعالى * (وما لهم بذلك من علم) * يعني يقولون قولا بغير حجة ويتكلمون بالجهل * (إن هم إلا يظنون) * يعني ما هم إلا جاهلون
قوله تعالى * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) * يعني القرآن آياته * (بينات) * واضحات بين فيه الحلال والحرام * (ما كان حجتهم) * يعني لم تكن حجتهم وجوابهم " إلا أن قالوا ائتوا بآيائنا " يعني أحيوا لنا آباءنا * (إن كنتم صادقين) * بأن نبعث * (قل الله يحييكم) * يخلقكم من النطفة * (ثم يميتكم) * عند انقضاء آجالكم
* (ثم يجمعكم إلى يوم القيامة) * يعني يوم القيامة يجمع أولكم وآخركم * (لا ريب فيه) * لا شك فيه عند المؤمنين
ويقال لا ينبغي أن يشك فيه * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * يعني أهل مكة لا يعلمون بالبعث بعد الموت
قوله عز وجل * (ولله ملك السماوات والأرض) * يعني خزائن السماوات والأرض
ويقال
له نفاذ الأمر في السماوات والأرض * (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) * يعني يخسر المكذبون بالبعث وهم أهل الباطل والكذب
سورة الجاثية 28 - 31
ثم قال * (وترى كل أمة جاثية) * يعني مجتمعة للحساب على الركب * (كل أمة تدعى إلى كتابها) * يعني إلى ما في كتابها من خير أو شر وهذا كقوله * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) *
267

[الإسراء 71] يعني بكتابهم * (اليوم تجزون ما كنتم تعملون) * يعني يقال لهم اليوم تثابون بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر
قوله تعالى * (هذا كتابنا ينطق عليكم) * يعني الذي كتب عليكم الحفظة * (ينطق عليكم) * * (بالحق) * يعني يشهد عليكم بالصدق
يعني أنتم تقرأونه فيذكركم فكأنه ينطق عليكم
ثم قال * (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) * يعني نستنسخ عملكم من اللوح المحفوظ نسخة أعمالكم * (ما كنتم تعملون) * من الحسنات والسيئات
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل بن أحمد
قال حدثنا الماسرجسي قال حدثنا إسحاق قال حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني أرطأة بن المنذر عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أول ما خلق الله القلم فكتب ما يكون في الدنيا من عمل معمول برا وفاجرا وأحصاه في الذكر فاقرؤوا إن شئتم * (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) * فهل يكون النسخ إلا من شيء قد فرغ منه)
وروى الضحاك عن ابن عباس قال أن الله تعالى وكل ملائكته يستنسخون عن ذلك الكتاب المكتوب عنده كل عام في شهر رمضان ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة فيعارضون به حفظه الله تعالى على عبادة كل عشية خميس فيجدون ما رفع الحفظة موافقا لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ألستم قوما عربا هل يكون النسخ إلا من أصل كان قبل ذلك وقال القتبي * (إنا كنا نستنسخ) * قال إن الحفظة يكتبون جميع ما يكون من العبد ثم يقابلونه بما في أم الكتاب فما فيه من ثواب أو عقاب أثبت وما لم يكن فيه ثواب ولا عقاب محي فذلك قوله " يمحوا الله من يشاء ويثبت " [الرعد 39] الآية
وقال الكلبي يرفعان ما كتبا فينسخان ما فيها من خير أو شر ويطرح ما سوى ذلك
ثم قال * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين) * وقد ذكرناه
قوله عز وجل * (وأما الذين كفروا) * يعني جحدوا الكتاب والرسل والتوحيد
يقال لهم * (أفلم تكن آياتي تتلى عليكم) * يعني تقرأ عليكم في الدنيا * (فاستكبرتم) * يعني تكبرتم عن الإيمان والقرآن * (وكنتم قوما مجرمين) * يعني مشركين كافرين بالرسل والكتب
268

سورة الأحقاف مكية وهي ثلاثون وخمس آيات
سورة الأحقاف 1 - 3
قوله تبارك وتعالى * (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) * وقد ذكرناه
* (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما) * من الشمس والقمر والنجوم والرياح والخلق * (إلا بالحق) * يعني إلا ببيان الحق لأمر عظيم هو كائن ولم يخلقهن عبثا * (وأجل مسمى) * يعني خلقهن لأجل أمر عظيم ينتهي إليه وهو يوم القيامة وهو الأجل المعلوم * (والذين كفروا) * يعني مشركي مكة * (عما أنذروا معرضون) * يعني عما خوفوا به تاركون فلا يؤمنون به ولا يتفكرون فيه
سورة الأحقاف 4 - 7
قوله عز وجل * (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله) * يعني ما تعبدون من الأصنام
قال القتبي " ما " ههنا في موضع الجمع يعني الذين يدعون من الآلهة * (أروني ماذا خلقوا من الأرض) * يعني أخبروني ما الذي خلقوا من الأرض كالذي خلق الله تعالى إن كانوا آلهة (أم لهم شرك في السماوات) يعني أم لهم نصيب ودعوة في السماوات يعني في خلق السماوات
ثم قال * (ائتوني بكتاب من قبل هذا) * يعني بحجة لعبادتكم الأصنام في كتاب الله ويقال ائتوني بحجة من الله ومن الأنبياء من قبل هذا القرآن الذي أتيتكم به فيه بيان ما
تقولون * (أو أثارة من علم) * يعني رواية تروونها من الأنبياء والعلماء * (إن كنتم صادقين) * أن الله
270

تعالى أمركم بعبادة الأوثان
قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن السلمي " أو أثرة من علم "
قال القتبي هو اسم مبني على فعلة من ذلك والأول فعالة والأثرة التذكرة ومنه يقال فلان يأثر الحديث أي يخبره
وقال قتادة * (أو أثارة) * يعني خاصة من علم ويقال * (أو أثارة من علم) * يؤثر عن الأنبياء والعلماء * (إن كنتم صادقين) * فلما قال لهم ذلك سكتوا
قوله تعالى * (ومن أضل ممن يدعو من دون الله) * يعني من أشد كفرا ممن * (يدعو من دون الله) * يعني آلهة * (من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) * يعني لا يجيبه وإن دعاه إلى يوم القيامة * (وهم عن دعائهم غافلون) * يعني عن عبادتهم
ثم بين إجابتهم وحالهم يوم القيامة فقال تعالى * (وإذا حشر الناس) * يعني إلى البعث * (كانوا لهم أعداء) * يعني صارت الآلهة أعداء لمن عبدهم * (وكانوا بعبادتهم كافرين) * يعني جاحدين ويتبرؤون منهم * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) * يعني تقرأ عليهم آياتنا واضحات فيها الحلال والحرام
ويقال * (بينات) * فيها دلائل واضحات * (قال الذين كفروا للحق) * يعني للقرآن * (لما جاءهم هذا سحر مبين) * أي حين جاءهم هذا سحر بين
سورة الأحقاف 8 - 10
قوله عز وجل * (أم يقولون افتراه) * يعني اختلقه من ذات نفسه * (قل إن افتريته) * يعني اختلقته من تلقاء نفسي يعذبني الله تعالى عليه
* (فلا تملكون لي من الله شيئا) * يعني لا تقدرون أن تمنعوا عذاب الله عني * (هو أعلم بما تفيضون فيه) * يعني تخوضون فيه من الكذب في القرآن * (كفى به شهيدا) * يعني كفى بالله عالما * (بيني وبينكم) * ويقال * (تفيضون) * أي تقولون ثم قال * (وهو الغفور الرحيم) * يعني * (الغفور) * لمن تاب * (الرحيم) * بهم
قوله تعالى * (قل ما كنت بدعا من الرسل) * يعني ما أنا أول رسول بعث * (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) * يعني يرحمني وإياكم أو يعذبني وإياكم
وقال الحسن في قوله * (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) * يعني في الدنيا
وقال الكلبي وذلك أنه رأى في المنام أنه أخرج إلى أرض ذات نخل وشجر فأخبر أصحابه فظنوا أنه وحي أوحي إليه فاستبشروا فمكثوا بذلك ما شاء فلم يروا شيئا مما قال لهم فقالوا يا رسول الله ما رأينا الذي قلت لنا فقال (إنما كان رؤيا رأيتها ولم يأت وحي من السماء وما أدري أيكون ذلك أو لا يكون) فنزل قوله * (قل ما كنت بدعا من الرسل) * يعني ما كنت أولهم وقد بعث قبلي رسل كثير
271

(وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * ويقال ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يرحمني وإياكم أو يعذبني وإياكم
فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إذا لا فرق بيننا وبينك كما نحن لا ندري ما يفعل بنا ولا تدري ما يفعل بك
وقد عير المشركون المسلمين فقالوا * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * [الإسراء 47] لا يدري ما يفعل به فأنزل الله تبارك وتعالى * (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) * [الفرقان 10] فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة نزل عليه * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * [الفتح 20] وقد نسخت هذه الآية * (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * [الإسراء 47]
ثم قال تعالى * (وما أنا إلا نذير مبين) * يعني مخوفا مفقها لكم بلغة تعرفونها
قوله تعالى * (قل أرأيتم إن كان من عند الله) * يعني إن كان القرآن من عند الله تعالى * (وكفرتم به) * يعني جحدتم بالقرآن * (وشهد شاهد من بني إسرائيل) * قال مجاهد وعكرمة وقتادة هو عبد الله بن سلام
وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يشهد لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام) وفيه نزلت * (وشهد شاهد من بني إسرائيل) * * (على مثله) * ويقال * (وشهد شاهد) * يعني ابن بنيامين مثل شهادة عبد الله بن سلام وكان ابن أخ عبد الله بن سلام يشهد على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وروى وكيع عن ابن عون قال ذكر عند الشعبي * (وشهد شاهد من بني إسرائيل) * أنه عبد الله بن سلام
فقال الشعبي وكيف يكون عبد الله بن سلام هو الشاهد وهذه السورة مكية وكان ابن سلام بالمدينة قال ابن عون صدق الشعبي إن تلك السورة نزلت بمكة ولكن هذه الآية نزلت بالمدينة فوضعت في هذه السورة
وروى داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق قال والله ما هو عبد الله بن سلام ولقد أنزلت بمكة فخاصم به النبي صلى الله عليه وسلم الذين كفروا من أهل مكة أن التوراة مثل القرآن وموسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم وكل مؤمن بالتوراة فهو شاهد من بني إسرائيل
ثم قال * (فآمن واستكبرتم) * يعني تكبرتم وتعاظمتم عن الإيمان * (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * يعني الكافرين
سورة الأحقاف 11 - 14
قوله عز وجل * (وقال الذين كفروا للذين آمنوا) * يعني قال رؤساء المشركين لضعفاء
272

المسلمين * (لو كان خيرا) * يعني لو كان هذا الدين حقا * (ما سبقونا إليه) * وقال قتادة قال أناس من المشركين نحن أعز ونحن أغنى ونحن أكرم فلو كان خيرا لما سبقنا إليه فلان وفلان
قال الله تعالى * (يختص برحمته من يشاء) * [البقرة 105 وآل عمران 74] يعني يختار لدينه من كان أهلا لذلك * (وإذ لم يهتدوا به) * يعني لم يؤمنوا بهذا
أي بالقرآن كما اهتدى به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم * (فسيقولون هذا إفك قديم) * يعني القرآن كذب قديم أي من محمد صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى * (ومن قبله كتاب موسى) * يعني قد أنزل قبل هذا القرآن الكتاب على موسى يعني التوراة * (إماما) * يقتدى به * (ورحمة) * من العذاب لمن آمن به * (وهذا كتاب مصدق) * يعني وأنزل إليك هذا الكتاب مصدق للكتب التي قبله * (لسانا عربيا) * بلغتكم لتفهموا ما فيه * (لينذر الذين ظلموا) * يعني مشركي مكة
وقرا نافع وابن عامر " لتنذر " بالتاء على معنى المخاطبة يعني لتنذر أنت يا محمد صلى الله عليه وسلم
والباقون بالياء على معنى الأخبار عنه يعني ليخوف محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن * (وبشرى للمحسنين) * يعني بشارة بالجنة للموحدين ويقال معناه هو " بشرى للحسنين " يعني بشارة للموحدين بالجنة
ثم قال تعالى * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون) * وقد ذكرناه
سورة الأحقاف 15 - 16
ثم قال الله تعالى * (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا) * يعني أمرنا الإنسان بالإحسان إلى والديه
قال مقاتل والكلبي نزلت الآية في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويقال هذا أمر عام لجميع الناس
قرأ حمزة والكسائي وعاصم * (إحسانا) * بالألف ومعناه أمرناه بأن يحسن إليهما إحسانا
والباقون * (حسنا) * بغير ألف فجعلوه اسما وأقاموه مقام الإحسان
ثم ذكر حق الوالدين فقال * (حملته أمه كرها ووضعته كرها) * يعني في مشقة * (وحمله وفصاله) * يعني حمله في بطن أمه وصاله ورضاعه * (ثلاثون شهرا) * وروى وكيع بإسناده عن علي رضي الله عنه قال إن رجلا قال له إني تزوجت جارية سليمة بكرا لم أر منها ريبة وإنها ولدت لستة أشهر
فقرأ علي * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * [البقرة 233] وقرأ * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * فالحمل ستة أشهر والرضاع سنتين والولد ولدك
وقال وكيع هذا أصل إذا جاءت بولد دون ستة أشهر لم يلزمه فيفرق بينهما
273

ثم قال * (حتى إذا بلغ أشده) * يعني بلغ ثلاثون وثلاثا وثلاثين * (وبلغ أربعين سنة) * صدق بالنبي صلى الله عليه وسلم يعني أبا بكر * (قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك) * يعني ألهمني ما أؤدي به شكر نعمتك وما أوزعت به نفسي أن أكفها عن كفران نعمتك وأصله من وزعته أي دفعته * (قال رب أوزعني أن أشكر) * يعني أن أؤدي به شكر نعمتك * (التي أنعمت علي وعلى والدي) * بالإسلام * (وأن أعمل صالحا ترضاه) * يعني تقبله * (وأصلح لي في ذريتي) * يعني أكرمهم بالتوحيد
ويقال اجعلهم أولادا صالحين مسلمين فأسلموا كلهم
ثم قال * (إني تبت إليك) * يعني أقبلت إليك بالتوبة * (وإني من المسلمين) * يعني المخلصين الموحدين على دينهم
قوله تعالى * (أولئك) * يعني أهل هذه الصفة
يعني أبا بكر ووالديه وذريته ومن كان في مثل حالهم " والذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا " يعني ستجزيهم بإحسانهم
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص
* (نتقبل) * بالنون * (ونتجاوز) * بالنون والباقون بالياء والضم
فمن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه يعني نتقبل نحن والنصب أحسن لوقوع الفعل عليه
ومن قرأ بالياء والضم فهو على معنى فعل ما لم يسم فاعله ولهذا رفع قوله (أحسن) لأنه مفعول ما لم يسم فاعله
ثم قال * (ونتجاوز عن سيئاتهم) * يعني ما فعلوا قبل التوبة فلا يعاقبون عليها * (في أصحاب الجنة) * يعني هم مع أصحاب الجنة
وروى أبو معاوية عن عاصم الأحول عن الحسن قال * (من يعمل سوءا يجز به) * إنما ذلك لمن أراد الله هوانه وأما من أراد الله كرامته فإنه يتجاوز عن سيئاته في أصحاب الجنة
ثم قال * (وعد الصدق) * يعني وعد الصدق في الجنة
قوله * (الذي كانوا يوعدون) *
سورة الأحقاف 17 - 20
قوله عز وجل * (والذي قال لوالديه أف لكما) * يعني عبد الرحمن بن أبي بكر قال لوالديه أف لكما يعني قذرا لكما وهو الرديء من الكلام وقد ذكرنا الاختلاف في موضع آخر وقد قرئ على سبع قراءات بالكسر والنصب والضم وكل قراءة تكون بالتنوين وبغير تنوين فتلك ست قراءات والسابع * (أف) * بالسكون * (أتعدانني أن
أخرج) * يعني أن أبعث بعد
274

الموت وذلك قبل أن يسلم * (وقد خلت القرون من قبلي) * أي مضت الأمم ولم يبعث أحدهم " ومما يستغيثان الله " يعني أبويه يدعوان الله تعالى له بالهدى اللهم اهده وارزقه الإيمان ويقولان له * (ويلك آمن إن وعد الله حق) * يعني ويحك أسلم وصدق بالبعث فإن البعث كائن * (فيقول) * لهما * (ما هذا إلا أساطير الأولين) * يعني كذبهم فقال عبد الرحمن إن كنتما صادقين فأخرجا فلانا وفلانا من قبورهما فنزل * (أولئك) * يعني القرون التي ذكر * (الذين حق عليهم القول) * أي وجب عليهم العذاب
* (في أمم قد خلت من قبلهم) * يعني في أمم قد مضت من قبلهم من كفار * (الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين) * في الآخرة بالعقوبة فأسلم عبد الرحمن وحسن إسلامه وذكر في الخبر أن مروان بن الحكم قال نزلت هذه الآية في شأن عبد الرحمن فبلغ ذلك عائشة فقالت بل نزلت في أبيك وأخيك
قوله عز وجل * (ولكل درجات مما عملوا) * يعني فضائل في الثواب والعقاب مما عملوا * (وليوفيهم أعمالهم) * يعني أجورهم * (وهم لا يظلمون) * يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا ولا يزادون على سيئات أعمالهم
قوله تعالى * (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) * يعني يكشف الغطاء عنها فينظرون إليها فيقال لهم * (أذهبتم طيباتكم) * يعني أكلتم حسناتكم * (في حياتكم الدنيا) * وقرأ ابن عامر " أأذهبتم " بهمزتين وقرأ ابن كثير * (أذهبتم) * بالمد ومعناهما واحد ويكون استفهاما على وجه التوبيخ
والباقون * (أذهبتم) * بهمزة واحدة بغير مد على معنى الخبر * (واستمتعتم بها) * يعني انتفعتم بها في الدنيا
وروي عن عمر أنه اشتهى شرابا فأتي بقدح فيه عسل فأدار القدح في يده فقال أشربها فتذهب حلاوتها أو تبقى نقمتها
ثم ناول القدح رجلا فسئل عن ذلك فقال خشيت أن أكون من أهل هذه الآية * (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) *
وروي عن عمر أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير وقد أثر بجنبه الشريط فبكى عمر فقال (ما يبكيك يا عمر) فقال ذكرت كسرى وقيصر وما كانا فيه من الدنيا وأنت رسول رب العالمين قد أثر بجنبيك الشريط
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة)
ثم قال * (فاليوم تجزون عذاب الهون) * يعني العذاب الشديد * (بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق) * يعني تستكبرون عن الإيمان * (وبما كنتم تفسقون) * يعني تعصون الله تعالى
سورة الأحقاف 21
275

سورة الأحقاف 22 - 25
قوله تعالى * (واذكر أخا عاد) * يعني واذكر لأهل مكة ويقال معناه واصبر على ما يقولون
واذكر هودا " إذا أنذر قومه بالأحقاف " يعني خوف قومه بموضع يقال له أحقاف
روى منصور عن مجاهد قال الأحقاف الأرض ويقال جبل بالشام يسمى الأحقاف
وقال القتبي الأحقاف جمع حقف وهو من الرمل ما أشرف من كثبانه واستطال وانحنى * (وقد خلت النذر من بين يديه) * يعني مضت من قبل هود * (ومن خلفه) * يعني ومن بعده
* (ألا تعبدوا إلا الله) * يعني خوفهم ألا تعبدوا إلا الله ووحدوه * (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * يعني أعلم أنكم إن لم تؤمنوا يصبكم عذاب يوم كبير
وقال * (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا) * يعني لتصرفنا عن عبادة آلهتنا * (فأتنا بما تعدنا) * من العذاب * (إن كنت من الصادقين) * أن العذاب نازل بنا " قال " هود * (إنما العلم عند الله) * يعني علم العذاب عند الله يجيء بأمر الله وإنما علي تبليغ الرسالة وليس بيدي إتيان العذاب
فذلك قوله * (وأبلغكم ما أرسلت به) * يعني ما يوحي الله إلي لأدعوكم إلى التوحيد * (ولكني أراكم قوما تجهلون) * لما قيل لكم ولما يراد بكم من العذاب
* (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم) * يعني لما رأوا العذاب مقبلا وكانت السحابة إذا جاءت من قبل ذلك الوادي أمطروا
وقال القتبي العارض السحاب * (قالوا هذا عارض ممطرنا) * يعني هذه سحابة وغيم ممطرنا
أي تمطر به حروثنا لأن المطر كان حبس عنهم
فقال هود ليس هذا عارض * (بل هو ما استعجلتم به) * يعني الريح والعذاب * (ريح فيها عذاب أليم) * أي ملتف
وروى عطاء عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى رياحا مختلفة تلون وجهه وتغير وخرج ودخل وأقبل وأدبر فذكرت ذلك له فقال (وما يدريك لعله كما قال الله * (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) * فإذا أمطرت سري عنه ويقول * (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) * [الأعراف 57]
قوله عز وجل " تدمر كل شيء بأمر ربها " يعني تهلك الريح كل شيء بأمر ربها * (فأصبحوا) * يعني فصاروا من العذاب بحال " لا يرى مساكنهم " وقد ذكرناه في سورة
276

الأعراف
قرأ حمزة وعاصم * (لا يري) * بضم الياء * (مساكنهم) * بضم النون على معنى فعل ما لم يسم فاعله يعني لا يرى شيء وقد هلكوا كلهم
وقرأ الباقون * (لا ترى) * بالتاء والنصب على معنى المخاطبة ومعناه لا ترى شيئا أيها المخاطب لو كنت حاضرا ما رأيت إلا مساكنهم
* (كذلك نجزي القوم المجرمين) * يعني هكذا نعاقب القوم المشركين عند التكذيب
سورة الأحقاف 26 - 28
ثم قال * (ولقد مكناهم) * يعني أعطيناهم الملك والتمكين * (فيما إن مكناكم فيه) * يعني ما لم نمكن لكم ولم نعطكم يا أهل مكة
وقال القتبي إن الخفيفة قد تزاد في الكلام كقول الشاعر ما إن رأيت ولا سمعت به يعني ما رأيت ولا سمعت يعني * (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) * قال الزجاج إن ههنا مكان ما يعني فيما مكناكم فيه
ويقال معناه ولقد مكناهم في الذي مكناكم فيه
وقال * (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة) * يعني جعلنا لهم سمعا ليسمعوا المواعظ وأبصارا لينظروا في الدلائل وأفئدة ليتفكروا في خلق الله تعالى
* (فما أغنى عنهم) * يعني لم ينفعهم من العذاب " سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء " إذ لم يسمعوا الهدى ولم ينظروا في الدلائل ولم يتفكروا في خلقه * (إذ كانوا يجحدون بآيات الله) * يعني بدلائله * (وحاق بهم) * يعني نزل بهم من العذاب " ما كانوا به يستهزئون " يعني العذاب الذي كانوا يجحدون به ويستهزئون
قوله عز وجل * (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) * يعني أهلكنا قبلكم يا أهل مكة بالعذاب ما حولكم من القرى * (وصرفنا الآيات) * يعني بينا لهم الدلائل والحجج والعلامات * (لعلهم يرجعون) * عن كفرهم قبل أن يهلكوا
قوله تعالى * (فلولا نصرهم الذين) * يعني فهلا نصرهم الذين
يعني كيف لم يمنعهم من العذاب * (الذين اتخذوا من دون الله قربانا) * يعني عبدوا من دون الله ما يتقربون بها إلى الله تعالى * (آلهة) * يعني أصناما كما قال في آية أخرى * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * [الزمر 3] * (بل ضلوا عنهم) * يعني الآلهة لم تنفعهم شيئا ويقال اشتغلوا بأنفسهم ويقال بطلت عنهم
* (وذلك إفكهم) * يعني كذبهم * (وما كانوا يفترون) * يعني يختلفون
وذكر أبو
277

عبيدة بإسناده عن عبد الله بن عباس أنه قرأ * (إفكهم) * بنصب الألف والفاء والكاف يعني ذلك الفعل أضلهم وأهلكهم وصرفهم عن الحق وقراءة العامة بضده * (وذلك إفكهم) * يعني ذلك الفعل وهو عبادتهم وقولهم وكذبهم
ويقال * (وذلك إفكهم) * اليوم كما كان إفك من كان قبلهم
سورة الأحقاف 29 - 32
قوله تعالى " وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث خرت الأصنام على وجوهها في تلك الليلة فصاح إبليس صيحة فاجتمعت عليه جنوده فقال لهم قد عرض أمر عظيم امضوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها يعني امشوا وانظروا ماذا حدث من الأمر
وروى ابن عباس أنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حيل بين الشياطين وبين السماء وأرسل عليهم الشهب فجاؤوا إلى إبليس فأخبروه بذلك قال هذا الأمر حادث اضربوا مشارق الأرض ومغاربها فجاء نفر منهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي تحت نخلة في سوق عكاظ ومعه ابن مسعود وأصحابه وكان يقرأ سورة طه في الصلاة
وروى وكيع عن سفيان عن عاصم عن رجل عن زر بن حبيش في قوله تعالى * (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) * قال كانوا تسعة أحدهم زوبعة أتوه ببطن نخلة * (يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا) * وروى عكرمة عن الزبير قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء الأخيرة فلما حضروا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا " أنصتوا " يعني لما حضروا النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم لبعض أنصتوا للقرآن واستمعوا " فلما قضي " يعني فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة والصلاة " ولوا " يعني رجعوا " إلى قومهم منذرين " قال مقاتل يعني مؤمنين
وقال الكلبي يعني مخوفين
وقال مجاهد ليس في الجن رسل وإنما الرسل في الإنس والنذارة في الجن
ثم قرأ " فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين " يعني أنذروا قومهم من الجن
قوله تعالى " قالوا يا قومنا إنا سمعنا " من محمد صلى الله عليه وسلم " كتابا " يعني قراءة القرآن " أنزل
278

من بعد موسى) يعني أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم * (مصدقا لما بين يديه) * يعني موافقا لما قبله من الكتب * (يهدي إلى الحق) * يعني يدعو إلى توحيد الله تعالى من الشرك كما هو في سائر الكتب * (وإلى طريق مستقيم) * لا عوج فيه يعني دين الله تعالى وهو الإسلام
* (يا قومنا أجيبوا داعي الله) * يعني النبي صلى الله عليه وسلم * (وآمنوا به) * يعني صدقوا به وبكتابه * (يغفر لكم من ذنوبكم) * و " من " صلة في الكلام يعني
يغفر لكم ذنوبكم إن آمنتم وصدقتم
" ويجزكم من عذاب أليم " يعني يؤمنكم من عذاب النار * (ومن لا يجب داعي الله) * يعني من لم يجب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدعو إليه من الإيمان * (فليس بمعجز في الأرض) * يعني لا يستطيع أن يهرب في الأرض من عذاب الله تعالى
ويقال معناه فلن يجد الله عاجزا عن طلبه * (وليس له من دونه أولياء) * يعني ليس له أنصار يمنعونه مما نزل به من العذاب * (أولئك في ضلال مبين) * يعني في خطأ بين
وذكر في الخبر أنهم لما أنذروهم وخوفوهم جاء جماعة منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فلقيهم بالبطحاء فقرأ عليهم القرآن فأمرهم ونهاهم وكان معه عبد الله بن مسعود وخط له النبي صلى الله عليه وسلم خطا وقال له (لا تخرج من هذا الخط فإنك إن خرجت لن تراني إلى يوم القيامة) فلما رجع إليه قال يا نبي الله سمعت هدتين أي صوتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما إحداهما فإني سلمت عليهم فردوا علي السلام وأما الثانية فإنهم سألوا الرزق فأعطيتهم عظما رزقا لهم وأعطيتهم روثا رزقا لدوابهم "
سورة الأحقاف 33 - 35
ثم قال تعالى " أو لم يروا " يعني أو لم يعتبروا ولم يتفكروا
ويقال أو لم يخبروا * (أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر) * على أن يحيى الموتى لأنهم كانوا مقرين بأن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض وكانوا منكرين للبعث بعد مماتهم فأخبرهم الله تعالى بأن الذي كان قادرا على خلق السماوات والأرض قادر على إحيائهم بعد الموت ويقال * (ولم يعي بخلقهن) * يعني لم يعييه خلق السماوات والأرض
ثم قال * (بلي) * يعني هو قادر على البعث " إنه على كل شيء قدير " من الإحياء والبعث
قوله تعالى * (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) * يعني يكشف الغطاء عنها ويقال
279

يساق الذين كفروا إلى النار ويقال لهم * (أليس هذا بالحق) * يعني أليس هذا العذاب الذي ترون حقا وكنتم تكذبون به * (قالوا بلى) * يعني إنه الحق * (وربنا) * يعني والله إنه الحق فيقرون حين لا ينفعهم إقرارهم فيقال لهم * (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * يعني تجحدون * (فاصبر) * يا محمد صلى الله عليه وسلم يعني اصبر على أذى أهل مكة وتكذيبهم
" كما صبر أولو العزم من الرسل " يعني أولو الحزم
وهو أن يصبر في الأمور ويثبت عليها وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يدعو عليهم فأمره الله تعالى بالصبر كما صبر نوح وكما صبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين
وقال السدي " أولو العزم " الذين أمروا بالقتال من الرسل
وقال أبو العالية " أولو العزم من الرسل " كانوا ثلاثة والنبي صلى الله عليه وسلم رابعهم إبراهيم وهود ونوح فأمره الله تعالى أن يصبر كما صبروا
وقال مقاتل " أولو العزم من الرسل " اثني عشر نبيا في بيت المقدس فأوحى الله إليهم ثلاث مرات أن اخرجوا من بين أقوامكم فلم يخرجوا
فقال الله تعالى يمضي العذاب عليكم مع قومكم فتشاوروا فاختاروا هلاك أنفسهم بينهم * (ولا تستعجل لهم) * يعني لا تستعجل لهم بالعذاب * (كأنهم يوم يرون ما يوعدون) * يعني العذاب قد أتاهم من قريب في الآخرة فلقربه كأنهم يرونه في الحال
ويقال في الآية تقديم ومعناه كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة يعني إذا أتاهم ذلك اليوم يرون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا القليل
فذلك قوله * (لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) * يعني من نهار الدنيا
ويقال يعني في القبور
وقال أبو العالية معناه كأنهم يرون حين يظنون أنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار
ثم قال * (بلاغ) * يعني ذلك بلاغ يعني وبلغه وأجل فإذا بلغوا أجلهم ذلك * (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) * يعني هل يهلك في العذاب إذا جاء العذاب إلا القوم العاصون
ويقال معناه لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون
ويقال * (بلاغ) * يعني هذا الذي ذكر بلاغ أي تمام العظة
ويقال هو من الإبلاغ أي هذا إرسال وبيان لهم كقوله * (هذا بلاغ للناس) * قرأ ابن عامر * (أذهبتم طيباتكم) * بهمزتين وقرأ ابن كثير * (أذهبتم) * بالمد ومعناها واحد ويكون استفهاما على وجه التوبيخ
وقرأ الباقون * (أذهبتم) * بهمزة واحدة من غير مد صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
280

سورة محمد مكية وهي ثلاثون وثمان آيات
سورة محمد 1 - 3
قوله تبارك تعالى * (الذين كفروا) * يعني جحدوا بتوحيد الله تعالى وبالقرآن * (وصدوا عن سبيل الله) * يعني صرفوا الناس عن دين الله ويقال صرفوا الناس عن طاعة الله وهو الجهاد * (أضل أعمالهم) * يعني أبطل الله حسناتهم التي عملوا في الدنيا لأنهم عملوا بغير إيمان وكل عمل يكون بغير إيمان فهو باطل كما قال في آية أخرى * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) * [آل عمران 85] الآية
قال الكلبي نزلت في مطعمي بدر وهم رؤساء مكة الذين كانوا يطعمون الناس في حال خروجهم إلى بدر منهم أبو جهل والحارث بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبي وأمية ابنا خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج وغيرهم
ويقال هذا في عامة الكفار
وهذا كقوله * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) * [النور 39] الآية
وروى مجاهد عن ابن عباس قال * (الذين كفروا) * هم أهل مكة * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) * هم الأنصار * (الذين آمنوا) * يعني صدقوا بالله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن * (وعملوا الصالحات) * يعني أدوا الفرائض والسنن وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان في مثل حالهم * (وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم) * يعني صدقوا بما أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق وليس فيه باطل ولا تناقض * (كفر عنهم سيئاتهم) * يعني محا عنهم ذنوبهم التي عملوا في الشرك بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وطاعتهم لله تعالى فيما يأمرهم به من الجهاد * (وأصلح بالهم) * يعني حالهم
وهذا قول قتادة وقال مقاتل يعني بين أمورهم في الإسلام وعملهم وحالهم حتى يدخلوا الجنة
وروى مجاهد * (وأصلح بالهم) * يعني شأنهم وقال القتبي * (كفر عنهم سيئاتهم) * أي سترها * (وأصلح بالهم) * أي حالهم
ويقال * (أصلح بالهم) * يعني أظهر الله تعالى أمرهم في الإسلام حتى يقتدى بهم
ثم بين المعنى الذي أحبط أعمال الكافرين وأصلح شأن المؤمنين فقال " ذلك بأن الذين
281

كفروا) يعني ذلك الإبطال بأن الذين كفروا * (اتبعوا الباطل) * يعني اختاروا الشرك وثبتوا عليه ولم يرغبوا في الإسلام
ويقال معناه لأنهم اختاروا الباطل على الحق واتباع الهوى على اتباع رضى الله سبحانه وتعالى * (وأن الذين آمنوا) * وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم * (اتبعوا الحق من ربهم) * يعني اتبعوا القرآن وعملوا به
ويقال معناه اختاروا الإيمان على الكفر واتباع القرآن واتباع رضى الله تعالى على اتباع الهوى
قوله * (كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) * يعني هكذا يبين الله صفة أعمالهم
سورة محمد 4 - 6
ثم حرض المؤمنين على القتال فقال * (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) * يعني اضربوا الرقاب صار نصبا بالأمر ومعناه اضربوا الأعناق ضربا
وروى وكيع عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق) * (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) * يعني حتى إذا قهرتموهم وأسرتموهم فشدوا الوثاق يعني فاستوثقوا أيديهم من خلفهم
ويقال الإثخان أن يعطوا أيديهم ويستسلموا
وقال الزجاج " حتى أثخنتموهم " يعني أكثرتم فيهم القتل والأسر بعد المبالغة في القتل
وقال مقاتل * (حتى إذا أثخنتموهم) * بالسيف فظفرتم عليهم * (فشدوا الوثاق) * يعني الأسر
* (فإما منا بعد) * يعني عتقا بعد الأسر بغير فداء * (وإما فداء) * يعني يفادي نفسه بماله
وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال الإمام بالخيار في الأسرى إن شاء فادى وإن شاء قتل وإن شاء استرق
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لا أفادي وإن طلبوا بمدين من ذهب وذكر عنه أيضا أنه كتب إليه في أسير التمسوا منه الفداء فقال اقتلوه لأن أقتل رجلا من المشركين أحي إلي من كذا وكذا
قال أبو الليث رحمه الله وقد كره بعض الناس قتل الأسير واحتج بظاهر هذه الآية * (فإما منا بعد وإما فداء) * وقال أصحابنا لا بأس بقتله بالخبر الذي روي عن أبي بكر رضي الله عنه
وروي عن ابن جريج وغيره من أهل التفسير أن هذه الآية منسوخة بقوله * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * [التوبة 5] وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ابن خطل بعدما وقع في منعة المسلمين فهو كالأسير
وأما الفداء فإن فادوا بأسير من المسلمين فلا بأس به كما قال إبراهيم النخعي إن شاء فادى بالأسير وإن أراد أن يفتدى بمال لا يجوز إلا عند الضرورة
282

لأن في رد الأسير إلى دار الحرب قوة لهم في الحرب
فيكره ذلك كما يكره أن يحمل إليهم السلاح للبيع
ثم قال * (حتى تضع الحرب أوزارها) * روي عن ابن عباس أنه قال حتى بترك الكفار إشرارها ويوحدوا الرب تبارك وتعالى حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم يعني في ذمة المسلمين يعني الذين يعطون الجزية
وعن سعيد بن جبير قال * (حتى تضع الحرب أوزارها) * قال خروج عيسى عليه السلام يكسر الصليب فيلقى الذئب الغنم فلا يأخذها ولا تكون عداوة بين اثنين وهكذا قال مجاهد
وقال مقاتل * (حتى تضع الحرب أوزارها) * يعني في مكان يقاتل سماهم حربا
يعني الشرك وتوحدوا الرب وقال القتبي * (حتى تضع الحرب) * يعني حتى يضع أهل الحرب السلاح وقال قتادة * (حتى تضع الحرب أوزارها) * يعني في كل مكان تقاتل سماهم حربا
ثم قال عز وجل * (ذلك) * يعني افعلوا ذلك ثم استأنف فقال * (ولو يشاء الله لانتصر منهم) * بغير قتال يعني يهلكهم * (ولكن ليبلو بعضكم ببعض) * يعني لم يهلكهم لكي يختبرهم بالقتال حتى يتبين فضلهم ويستوجبوا الثواب
ثم قال * (والذين قتلوا في سبيل الله) * يعني جاهدوا عدوهم في طاعة الله تعالى * (فلن يضل أعمالهم) * يعني لن يبطل ثواب أعمالهم
قرأ أبو عمرو (والذين قتلوا) بضم القاف بغير ألف وهكذا روي عن عاصم في إحدى الروايتين يعني الذين قتلوا يوم أحد ويوم بدر وفي سائر الحروب
وقرأ الباقون " والذين قاتلوا في سبيل الله " بالنصب يعني جاهدوا الكفار وحاربوهم
ثم قال * (سيهديهم) * يعني يجنبهم من أهوال الآخرة ويقال * (سيهديهم) * يعني يثبتهم على الهدى * (ويصلح بالهم) * وقد ذكرناه
* (ويدخلهم الجنة) * في الآخرة * (عرفها لهم) * يعني هداهم الله تعالى إلى منازلهم
وروى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أذن لأهل الجنة في دخولها لأحدهم أهدى أي أعرف بمنزله في الجنة من بمنزله الذي كان في الدنيا) وعن ابن مسعود أنه قال ما أشبههم إلا أهل الجمعة حين انصرفوا من جمعتهم
يعني إن كل واحد منهم يهتدي إلى منزله
وقال الزجاج في قوله * (سيهديهم ويصلح بالهم) * أي يصلح لهم أمر معايشهم في الدنيا مع ما يجازيهم في الآخرة
وهذا كما قال تعالى * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا) * [نوح 10، 11] الآية
ويقال * (عرفها لهم) * أي طيبها لهم
يقال طعام معرف أي مطيب
283

سورة محمد 7 - 12
ثم حث المؤمنين على الجهاد فقال * (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم) * يعني إن تنصروا دين الله بقتال الكفار * (ينصركم) * بالغلبة على أعدائكم * (ويثبت أقدامكم) * فلا تزول في الحرب
ثم قال تعالى " والذين كفروا تعسا لهم " يعني بعدا ونكسا وخيبة لهم
وهو من قولك تعست أي عثرت وسقطت * (وأضل أعمالهم) * يعني أبطل ثواب حسناتهم فلم يقبلها منهم
ثم بين المعنى الذي أبطل به حسناتهم فقال * (ذلك) * يعني ذلك الإبطال * (بأنهم كرهوا ما أنزل الله) * يعني أنكروا وكرهوا الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم
* (فأحبط أعمالهم) * يعني ثواب أعمالهم
ثم خوفهم ليعتبروا فقال عز وجل * (أفلم يسيروا في الأرض) * يعني أفلم يسافروا في الأرض * (فينظروا) * يعني فيعتبروا * (كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) * يعني كيف كان آخر أمرهم
* (دمر الله عليهم) * يعني أهلكهم الله تعالى بالعذاب * (وللكافرين أمثالها) * يعني للكافرين من هذه الأمة أمثالها من العذاب وهذا وعيد لكفار قريش
ثم قال * (ذلك) * يعني النصرة التي ذكر في قوله * (إن تنصروا الله ينصركم) * [محمد 7] * (بأن الله مولى الذين آمنوا) * يعني إن الله تبارك وتعالى ناصر أوليائه بالغلبة على عدوهم * (وأن الكافرين لا مولى لهم) * يعني لا ناصر لهم ولا ولي لهم لا تنصرهم آلهتهم ولا تمنعهم مما نزل بهم من العذاب
ثم ذكر مستقر المؤمنين ومستقر الكافرين فقال * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) * وقد ذكرناه * (والذين كفروا يتمتعون) * يعني يعيشون بما أعطوا في الدنيا * (ويأكلون كما تأكل الأنعام) * ليس لهم هم إلا الأكل والشرب والجماع * (والنار مثوى لهم) * أي منزلا ومستقرا لهم
سورة محمد 13 - 14
284

سورة محمد 15
قوله تعالى * (وكأين من قرية) * يعني وكم من قرية فيما مضى يعني أهل قرية * (هي أشد قوة) * يعني أشد منعة وأكثر عددا وأكثر أموالا * (من قريتك التي أخرجتك) * يعني أهل مكة الذين أخرجوك من مكة إلى المدينة * (أهلكناهم) * يعني عذبناهم عند التكذيب " فلان ناصر لهم " يعني لم يكن لهم مانع مما نزل بهم من العذاب وهذا تخويف لأهل مكة
قوله تعالى * (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله) * قال مقاتل والكلبي يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وأبا جهل بن هشام
يعني لا يكون حال من كان على بيان من الله تعالى كمن زين له قبح عمله
* (واتبعوا أهواءهم) * بعبادة الأوثان
ويقال هذا في جميع المسلمين وجميع الكافرين
لا يكون حال الكفار مثل حال المؤمنين في الثواب
قوله تعالى " مثل الجنة " يعني صفة الجنة " التي وعد المتقون " الذين يتقون الشرك والفواحش * (فيها أنهار من ماء غير آسن) * قرأ ابن كثير * (من ماء غير آسن) * بغير مد
والباقون بالمد ومعناهما واحد يعني ماء غير منتن ولا متغير الطعم والريح
* (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) * إلى الحموضة كما يتغير لبن أهل الدنيا عن الحالة الأولى
* (وأنهار من خمر لذة للشاربين) * يعني لذيذة
ويقال * (لا يصدعون عنها ولا ينزفون) * [الواقعة 19] * (وأنهار من عسل مصفى) * ليس فيها العكر ولا الكدورة ولا الدردى كعسل أهل الدنيا
قال مقاتل هذه الأنهار الأربعة تتفجر من الكوثر إلى أهل الجنة
ويقال من تحت شجرة طوبى إلى أهل الجنة
* (ولهم فيها من كل الثمرات) * يعني من ألوان الثمرات * (ومغفرة من ربهم) * لذنوبهم في الآخرة
ويقال في الدنيا
* (كمن هو خالد في النار) * يعني هل يكون حال من هو في هذه النعم كمن هو في النار أبدا
* (وسقوا ماء حميما) * يعني حارا قد انتهى حره * (فقطع أمعاءهم) * من شدة الحر فذابت أمعاؤهم كقوله تعالى " يصر به ما في بطونهم والجلود " [الحج 20]
سورة محمد 16 - 18
ثم قال * (ومنهم) * يعني من المنافقين * (من يستمع إليك) * * (حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا) * وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة وعاب في
285

خطبته المنافقين فلما خرجوا من عنده قال بعض المنافقين لعبد الله بن مسعود وهو الذي أوتي العلم
ماذا قال آنفا يعني الساعة على جهة الاستهزاء
قال الله تعالى * (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) * مجازاة لهم * (واتبعوا أهواءهم) * يعني عملوا بهوى أنفسهم
ثم ذكر المؤمنين المصدقين فقال عز وجل * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * يعني آمنوا بالله تعالى وأحسنوا الاستماع إلى ما قال صلى الله عليه وسلم * (زادهم هدى) * يعني بصيرة في دينهم وتصديقا لنبيهم
ويقال زادهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هدى
ويقال زادهم قول المنافقين واستهزاؤهم
* (هدى) * يعني تصديقا وثباتا على الإسلام وشكر الله تعالى * (وآتاهم تقواهم) * حين بين لهم التقوى
ويقال ألهمهم قبول الناسخ وترك المنسوخ
قوله تعالى * (فهل ينظرون إلا الساعة) * أي قيام الساعة
يعني فما ينتظر قومك إن لم يؤمنوا إلا الساعة يعني قيام الساعة * (أن تأتيهم بغتة) * يعني فجأة * (فقد جاء أشراطها) * يعني علاماتها وهو انشقاق القمر والدخان وخروج النبي صلى الله عليه وسلم
وروى مكحول عن حذيفة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة فقال (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن لها أشراط تقارب الأسواق يعني كسادها ومطر ولا نبات يعني مطر في غير حينه وتفشوا الفتنة وتظهر أولاد البغية ويعظم رب المال وتعلوا أصوات الفسقة في المساجد ويظهر أهل المنكر على أهل الحق)
ثم قال " فأنى لهم إذ جاءتهم ذكراهم " يعني من أين لهم التوبة إذا جاءتهم الساعة
وقال قتادة فأنى لهم أن يتذكروا أو يتذاكروا إذا جائتهم الساعة
وقال مقاتل فيه تقديم يعني أنى لهم التذكرة والتوبة عند الساعة إذا جاءتهم وقد فرطوا فيها
سورة محمد 19 - 20
قوله عز وجل * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * قال الزجاج هذه الفاء جواب الجزاء ومعناه قد بينا ما يدل على توحيد الله فاعلم أنه لا إله إلا الله والنبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن الله تعالى واحد وإنما خاطبه والمراد به أمته
ويقال هذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ومعناه
فأثبت عن إظهار قول
286

لا إله إلا الله
يعني ادع الناس إلى ذلك
ويقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ليتني أعلم أي الكلام أفضل وأي الدعاء أفضل)
فأعلمه الله أن أفضل الكلام التوحيد وأفضل الدعاء الاستغفار)
ثم قال * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) * روى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم سبعين مرة أو أكثر)
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني أستغفر الله تعالى وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة "
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن جريج قال قلت لعطاء استغفر للمؤمنين في المكتوبة قال نعم
قلت فمن ابتدئ قال فبنفسك كما قال الله تعال * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) *
* (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) * يعني منتشركم بالنهار ومأواكم بالليل
ويقال ذهابكم ومجيئكم
قوله عز وجل * (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة) * وذلك أنهم كانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ فاشتاقوا إلى الوحي فقالوا لولا * (نزلت) * يعني هلا نزلت سورة
قال الله تعالى * (فإذا أنزلت سورة محكمة) * يعني مبينة يعني الحلال والحرام * (وذكر فيها القتال) * يعني أمروا فيها بالقتال
وقال قتادة كل سورة ذكر فيها ذكر القتال فهي محكمة
وقال القتبي في قراءة ابن مسعود سورة محدثة وتسمى المحدثة المحكمة لأنها إذا نزلت تكون محكمة ما لم ينسخ منها شيء
ويقال * (فإذا أنزلت سورة محكمة) * فيها ذكر القتال وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم فرح بها المؤمنين وكره المنافقون فذلك قوله * (رأيت الذين في قلوبهم مرض) * يعني الشك والنفاق
* (ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) * كراهية لنزول القرآن
يعني إنهم يشخصون إليك بأبصارهم وينظرون نظرا شديدا من شدة العداوة كما ينظر المريض عند الموت
* (فأولى لهم) * فهذا تهديد ووعيد
يعني وليهم المكروه يعني قل لهم احذروا العذاب وقد تقدم الكلام
سورة محمد 21 - 23
ثم قال * (طاعة وقول معروف) * قال القتبي هذا مخصوص يعني قولهم قبل نزول
287

الفرض سمعا لك وطاعة
فإذا أمروا به كرهوا ذلك
ويقال معناه * (طاعة وقول معروف) * أمثل لهم
ويقال معناه فإذا أنزلت سورة ذات طاعة يؤمر فيها بالطاعة وقول معروف * (فإذا عزم الأمر) * أي جاء الجد ووقت القتال فلم يذكر في الآية جوابه والجواب فيه مضمر معناه " فإذا عزم الأمور " يعني وجب الأمر وجد الأمر كرهوا ذلك
ثم ابتدأ قال * (فلو صدقوا الله) * في النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به * (لكان خيرا لهم) * من الشرك والنفاق
قوله * (فهل عسيتم إن توليتم) * يعني لعلكم وإن وليتم أمر هذه الأمة * (أن تفسدوا في الأرض) * بالمعاصي
يعني أن تعصوا الله في الأرض * (وتقطعوا أرحامكم) *
قال السدي * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) * بالمعاصي * (وتقطعوا أرحامكم) * قال المؤمنين إخوة فإذا قتلوهم فقد قطعوا أرحامهم
وروى جويبر عن الضحاك قال نزلت في الأمراء * (إن توليتم) * أمر الناس * (أن تفسدوا في الأرض) *
ويقال معناه إن أعرضتم عن دين الإسلام وعما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء ودفن البنات وقطع الأرحام * (فهل عسيتم إن توليتم) * يعني هل تريدون إذا أنتم تركتم النبي صلى الله عليه وسلم وما أمركم به إلا أن تعودوا إلى مثل ما كنتم عليه من الكر والمعاصي وقطع الأرحام
قرأ نافع * (فهل عسيتم) * بكسر السين والباقون بالنصب وهما لغتان إلا أن النصب أظهر عند أهل اللغة
قوله عز وجل * (أولئك الذين لعنهم الله) * يعني أهل هذه الصفة خذلهم الله وطردهم من رحمته
* (فأصمهم) * عن الهدى لا يعقلونه * (وأعمى أبصارهم) * عن الهدى فلا ينظرونه عقوبة لهم
سورة محمد 24 - 28
قوله تعالى * (أفلا يتدبرون القرآن) * يعني أفلا يسمعون القرآن ويعتبرون به ويتفكرون فيما أنزل الله تعالى فيه من وعد ووعيد وكثرة عجائبه حتى يعلموا أنه من الله تعالى وتقدس
* (أم على قلوب أقفالها) * يعني بل على قلوب أقفالها
يعني أقفل على قلوبهم ومعناه أن أعمالهم لغير الله ختم على قلوبهم
قوله تعالى * (إن الذين ارتدوا على أدبارهم) * يعني رجعوا إلى الشرك " من بعد ما تبين
288

لهم الهدى) يعني من بعد ما ظهر لهم الإسلام
قال قتادة * (إن الذين ارتدوا على أدبارهم) * وهم أهل الكتاب عرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وكفروا به
ويقال نزلت في المرتدين
ثم قال عز وجل * (الشيطان سول لهم) * يعني زين لهم ترك الهدى وزين لهم الضلالة
* (وأملى لهم ذلك) * قرأ أبو عمرو * (وأملي) * بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله
والباقون * (وأملي) * بنصب اللام والألف
يعني أمهل الله لهم فلم يعاقبهم حين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم
ويقال زين لهم الشيطان وأملى لهم الشيطان يعني خيل لهم تطويل المدة والبقاء
وقرأ يعقوب الحضرمي * (وأملي) * بضم الألف وكسر اللام وسكون الياء
ومعناه أنا أملي يعني أطول لهم المدة كما قال " إما نملي لهم ليزدادوا إنما " ثم قال ذلك يعني اللعن والصمم والعمى والتزين والإملاء
* (بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله) * وهم المنافقون قالوا ليهود بني قريظة والنضير وهم الذين كرهوا ما نزل الله يعني تركوا الإيمان بما أنزل الله من القرآن * (سنطيعكم في بعض الأمر) * يعني سنعينكم في بعض الأمر
قال الله تعالى * (والله يعلم إسرارهم) * بما قالوا فيما بينهم
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص * (إسرارهم) * بكسر الألف والباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب
فهو جمع السر
ومن قرأ بالكسر فهو مصدر أسررت إسرارا ويقال سر وأسرار
ثم خوفهم فقال الله تعالى * (فكيف) * يعني كيف يصنعون * (إذا توفتهم الملائكة) * يعني تقبض أرواحهم الملائكة ملك الموت وأعوانه * (يضربون وجوههم وأدبارهم) * يعني عند قبض الأرواح ويقال يعني يوم القيامة في النار
* (ذلك) * يعني ذلك الضرب الذي نزل بهم عند الموت وفي النار
* (بأنهم اتبعوا ما أسخط الله) * يعني اتبعوا الكفر وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم
* (وكرهوا رضوانه) * يعني عملوا بما لم يرض الله به وتركوا العمل بما يرضي الله تعالى
* (فأحبط أعمالهم) * يعني أبطل ثواب أعمالهم
سورة محمد 29 - 32
قوله تعالى * (أم حسب الذين في قلوبهم مرض) * يعني أيظن أهل النفاق والشك * (أن لن يخرج الله أضغانهم) * يعني لم يظهر الله نفاقهم
ويقال يعني الغش الذي في قلوبهم للمؤمنين وعداوتهم للنبي لله * (ولو نشاء لأريناكهم) * يعني لعرفتك المنافقين وأعلمتك
289

* (فلعرفتهم بسيماهم) * يعني بعلاماتهم الخبيثة
ويقال * (فلعرفتهم بسيماهم) * إذا رأيتهم
ويقال لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة * (فلعرفتهم بسيماهم) * يعني حتى عرفتهم
* (ولتعرفنهم في لحن القول) * يعني ستعرفهم يا محمد بعد هذا اليوم * (في لحن القول) * يعني في محاورة الكلام
ويقال * (في لحن القول) * يعني كذبهم إذا تكلموا فلم يخف على النبي لله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية منافق عنده إلا عرفه بكلامه
ثم قال * (والله يعلم أعمالكم) * يعني لم يخف عليه أعمالكم قبل أن تعلموها فكيف يخفى عليه إذا عملتموها
قوله تعالى * (ولنبلونكم) * يعني لنختبرنكم عند القتال * (حتى نعلم) * أي نميز * (المجاهدين منكم والصابرين) * يعني صبر الصابرين عند القتال " ونبلوا أخباركم " يعني نختبر أعمالكم
ويقال أسراركم
قرأ عاصم في رواية أبي بكر " وليبلوكم حتى يعلم ويبلوا " الثلاثة كلها بالياء
يعني حتى يختبركم الله
والباقون الثلاثة كلها بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه
قوله عز وجل * (إن الذين كفروا) * يعني جحدوا * (وصدوا عن سبيل الله) * يعني صرفوا الناس عن دين الإسلام قال مقاتل يعني اليهود
وقال الكلبي يعني رؤساء قريش حيث شاقوا أهل التوحيد * (وشاقوا الرسول) * يعني عادوا الله تعالى ورسوله وخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين * (من بعد ما تبين لهم الهدى) * يعني الإسلام وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه الحق * (لن يضروا الله شيئا) * يعني لن ينقصوا الله من ملكه شيئا بكفرهم بل يضروا بأنفسهم * (وسيحبط أعمالهم) * يعني يبطل ثواب أعمالهم التي عملوا في الدنيا فلا يقبلها منهم
سورة محمد 33 - 35
قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * يعني أطيعوه في السر كما في العلانية ويقال * (أطيعوا الله) * في الفرائض * (وأطيعوا الرسول) * في السنن وفيما يأمركم من الجهاد * (ولا تبطلوا أعمالكم) * يعني حسناتكم بالرياء
وقال أبو العالية كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع قول لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزل * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) * فخافوا أن تبطل الذنوب الأعمال
وقال مقاتل نزلت في الذين يمنون عليك أن أسلموا * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) * قال مقاتل وذلك أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن والده أنه كان محسنا في كفره قال (هو في النار)
فولى الرجل يبكي فدعاه فقال له (والدك ووالدي ووالد
290

إبراهيم في النار)
فنزل * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) * * (ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) * قال الكلبي نزلت الآية في رؤساء أهل بدر
قوله تعالى * (فلا تهنوا) * يعني لا تضعفوا عن عدوكم * (وتدعوا إلى السلم) * يعني إلى الصلح أي * (ولا تهنوا) * ولا تدعوا إلى الصلح نظير قوله تعالى * (ولا تلبسوا الحق) * [البقرة 42] يعني ولا تكتموا الحق وفي هذه الآية دليل على أن أيدي المسلمين إذا كانت عالية على المشركين ولا ينبغي لهم أن يجيبوهم إلى الصلح لأن فيه ترك الجهاد
وإن لم تكن يدهم عالية عليهم فلا بأس بالصلح لقوله تعالى * (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) * [الأنفال 61] يعني إن مالوا للصلح فمل إليه
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر * (إلى السلم) * بكسر السين والباقون بالنصب
قال بعضهم وهما لغتان وقال بعضهم أحدهما صلح والآخر استسلام
ثم قال * (وأنتم الأعلون) * يعني العالين يكون آخر الأمر لكم * (والله معكم) * يعني معينكم وناصركم * (ولن يتركم أعمالكم) * يعني لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا
يقال وترتني حقي يعني بخستني فيه
وقال مجاهد لن ينقصكم
وقال قتادة لن يظلمكم
سورة محمد 36 - 38
قوله عز وجل * (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) * يعني باطلا وفرح
* (وإن تؤمنوا) * أي تستقيموا على التوحيد * (وتتقوا) * النفاق * (يؤتكم أجوركم) * يعني يعطكم ثواب أعمالكم * (ولا يسألكم أموالكم) * يعني لا يسألكم جميع أموالكم ولكن ما فضل منها " وإن يسألكموها " يعني جميع الأموال * (فيحفكم تبخلوا) * يعني إن يلح عليكم بما يوجبه في أموالكم
ويقال * (فيحفكم) * يعني يجهدكم كثرة المسألة * (تبخلوا) * بالدفع * (ويخرج أضغانكم) * يعني يظهر بغضكم وعدواتكم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم
وللمؤمنين ويقال ويخرج ما في قلوبكم من حب المال
يقول هذا للمسلمين
ويقال هذا للمنافقين يعني يظهر نفاقكم
وقال قتادة علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان
ثم قوله عز وجل * (ها أنتم هؤلاء) * قرأ نافع وأبو عمرو * (ها أنتم) * بمدة طويلة بغير همز وقرأ عاصم وحمزة والكسائي
بالمد والهمز و (ها) تنبيه و (أنتم) كلمة على حدة وإنما مد ليفصل ألف هاء من ألف أنتم
وقرأ ابن كثير بالهمز بغير مد
ومعناه أأنتم
291

ثم قلبت إحدى الهمزتين هاء
ومعنى هذه القراءات كلها أنتم يا معشر المؤمنين * (تدعون لتنفقوا في سبيل الله) * يعني لتتصدقوا في سبيل الله وتعينوا الضعفاء
* (فمنكم من يبخل) * بالنفقة في سبيل الله * (ومن يبخل) * بالنفقة * (فإنما يبخل عن نفسه) * يعني لا يكون له ثواب النفقة * (والله الغني) * عما عندكم من الأموال وعن أعمالكم
* (وأنتم الفقراء) * إلى ما عند الله من الثواب والرحمة والمغفرة * (وإن تتولوا) * يعني تعرضوا عما أمركم الله به من الصدقة وغير ذلك مما افترض الله عليكم من حق
" يستبدل قوما غيركم " يعني يهلككم ويأت بخير منكم وأطوع لله تعالى منكم * (ثم لا يكونوا أمثالكم) * يعني أشباهكم في معصية الله تعالى
قال بعضهم لم يتولوا ولم يستبدل بهم
وقال بعضهم استبدل بهم أناس كنده وغيرهم
وروى أبو هريرة قال لما نزلت هذه الآية قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا قال وعنده سلمان الفارسي فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه ثم قال (هذا وقومه) ثم قال (لو كان الإيمان معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس) صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم
292

سورة الفتح مدنية وهي عشرون وتسع آيات
سورة الفتح 1 - 3
قوله تبارك وتعالى * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) * يعني قضينا لك قضاء بينا أكرمناك بالإسلام والنبوة وأمرناك بأن تدعو الخلق إليه
قال مقاتل وذلك أنه لما نزل بمكة * (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) * وكان المشركون يقولون لم تتبعون رجلا لا يدري ما يفعل به ولا بمن تابعه
فلما قدم المدينة عيرهم بذلك المنافقون أيضا فعلم الله تعالى ما في قلوب المؤمنين من الحزن وما في قلوب الكافرين من الفرح
فنزل * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) * يعني قضينا لك قضاء بينا * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * فقال المؤمنون هذا لك فمالنا فنزل * (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) * [الفتح 5] الآية
فقال المنافقون فما لنا فنزل * (ويعذب المنافقين والمنافقات) * [الفتح 6] الآية
وقال الزجاج * (إنا فتحنا لك) * يعني فتح الحديبية والحديبية بئر سمي المكان بها
والفتح هو الظفر بالمكان كان بحرب أو بغير حرب
قال ومعنى الفتح الهداية إلى الإسلام
وكان في فتح الحديبية معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنها بئر فاستسقى جميع ما فيها من ماء ولم يبق فيها شيء فمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه فيها فدرت البئر بالماء
ثم قوله تعالى * (ليغفر لك) * وقال القتبي هذه لام القسم فكأنه قال * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * وقال بعضهم هذه لام كي كأنه يقول لكي يغفر لك * (ما تقدم من ذنبك) * يعني ذنب آدم * (وما تأخر) * يعني ذنب أمتك ويقال ما كان قبل نزول الوحي وما كان بعده
قوله تعالى * (ويتم نعمته عليك) * بالنبوة وبإظهار الدين * (ويهديك صراطا مستقيما) * يعني يثبتك على الهدى وهو طريق الأنبياء * (وينصرك الله) * يعني لكي ينصرك الله على عدوك * (نصرا عزيزا) * بإظهار الإسلام
293

سورة الفتح 4
قوله تعالى * (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) * وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تجهز في سنة ست في ذي القعدة فخرج إلى العمرة معه ألف وستمائة رجل ويقال ألف وأربعمائة وساق سبعين بدنة
فبلغ قريشا خبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فبعثوا خالد بن الوليد في عصابة منهم ليصدوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان قال (إن قريشا جعلت لي عيونا فمن يدلني على طريق الثنية)
فقال رجل من المسلمين أنا يا رسول الله فسار بهم إلى أن انتهوا إلى الثنية وصعدوا فيها
فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثنية بركت ناقته القصواء فلم تنبعث فزجرها وزجرها الناس وضربوها فلم تنبعث
فقال الناس خلأت القصواء أي صارت حرونا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما خلأت القصواء وما كان ذلك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل) ثم قال (لا يسألونني فيما بيني وبينهم شيئا يعظمون به حرماتهم إلا قبلته منهم) ثم زجرها فانبعثت
فلما نزلوا على القليب بالحديبية لم يكن في البئر إلا ماء وشيك يعني قليلا متغيرا فاستسقوا فلم يبق في البئر ماء
فقال (من رجل يهيج لنا الماء) فقال رجل أنا يا رسول الله
فقال (ما اسمك) قال مرة
فقال (تأخر) فقال رجل آخر أنا يا رسول الله فقال (ما اسمك)
قال ناجية
فقال (أنزل)
فنزل فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقصا فبحت به البئر فنبع الماء
وقال في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال كان ماء الحديبية قد قل فأتى بدلو من ماء فتوضأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل منه في فيه ثم مجه في الدلو ثم أمرهم بأن يجعلوه في البئر ففعلوا فامتلأت البئر حتى كادوا يغرقون منها وهم جلوس
ففزع المشركون لنزول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية فجاؤوه واستعدوا ليصدوه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر (يا عمر اذهب فاستأذن لنا عليهم حتى نعتمر ويخلوا بيني وبين البيت لا أريد منهم غيره)
فقال عمر يا رسول الله ليس ثم أحد من قومي يمنعني
فأرسل عثمان فإن هناك ناسا من بني عمه يمنعونه فذهب عثمان فتلقاه أبان بن سعيد بن العاص فقال له أجرني من قومك حتى أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاره وحمله على فرسه وراءه ودخل به مكة فاستأذن عثمان قريشا فأبوا أن يأذنوا له
فقال أبان لعثمان طف أنت إن شئت فقال ما كنت لأتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي هناك ثلاثة أيام فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل
فقال لأصحابه (بايعوني على الموت)
فجلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة فبايعه أصحابه على الموت فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إني أخاف ألا يدرك عثمان هذه البيعة فأنا أبايع له يميني بشمالي)
294

ثم رجع عثمان فأخبر أنهم قد أبوا ذلك وبلغت قريشا البيعة فكبرت تلك البيعة عندهم وقالوا ليزيد بن الحارث الكناني أردده عنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراها فإنهم قوم يعظمون الهدي) فبعثوا الهدي في وجهه فلما رأى يزيد بن الحارث الهدى قال ما أرى أحد يفلح برد هذا الهدي ورجع إلى قريش فقال لهم لا تردوا هذا الهدي فإني أخشى أن يصيبكم عذاب من السماء
فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إليه فقال يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويومئ بيديه إلى لحيته وكان المغيرة قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالسوط على يده وقال اكفف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليك ما تكره
فقال عروة من هذا يا محمد فقال (ابن أخيك المغيرة بن شعبة)
فقال يا غدر ما غسلت سلختك عني بعد أفتضرب يدي قال اكففها قبل أن لا تصل إليك
فرجع عروة إلى قريش فقالوا له ما وراءك فقال خلوا سبيل الرجل يعتمر فإني حضرت كسرى وقيصر والنجاشي فما رأيت ملكا قط أصحابه أطوع من هذا الملك والله إنه ليتنخم فيبتدرون نخامته والله إنه ليجلس فيبتدرون التراب الذي يجلس عليه وإنه ليتوضأ فيبتدرون وضوءه
فقالوا جبنت وانتفح سحرك
ثم قالوا لسهيل بن عمرو اذهب واردده عنا وصالحه
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (قد سهل أمرهم) فجاءه سهيل في نفر من قريش فقال يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة على أن لك أن تأتيهم من العام المقبل فتعتمر أنت وأصحابك ويدخل كل إنسان منكم بسلاحه راكبا فتصالحنا على أن لا تقاتلنا ولا نقاتلك سنتين
فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك
فقال (اكتب بيننا وبينك كتابا) فأمر عليا رضي الله عنه أن يكتب فكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)
فقال سهيل لا أعرف الرحمن
قال فكيف أكتب قال (اكتب باسمك اللهم فكتب باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)
فقال سهيل لو أعلم أنك رسول الله لاتبعتك
أفترغب عن اسم أبيك فقال علي رضي الله عنه فوالله إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رغم أنفك
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا محمد رسول الله وأنا محمد بن عبد الله اكتب محمد بن عبد الله) لأنه كان عهد أن لا يسألوه عن شيئا يعظمون به حرماتهم إلا قبله
فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ألا تقاتلنا ولا نقاتلك سنتين وندخل في حلفنا من نشاء وتدخلوا في حلفكم من شئتم وعلى أنكم تأتون من العام المقبل وتقيمون ثلاثة أيام ثم ترجعون وعلى أن ما جاء منا إليكم لا تقبلوه وتردوه إلينا ومن جاء منكم إلينا فهو منا فلا نرده إليكم
فشق ذلك الشرط على المسلمين فقالوا يا رسول الله من لحق بنا منهم لم نقبله ومن لحق بهم منا فهو لهم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فأما من لحق بهم منا فأبعده الله وأولى بمن كفر
وأما من أراد أن يلحق بنا منهم فسيجعل الله له مخرجا)
فجاء أبو جندل بن سهيل يرسف في الحديد يعني يمشي مشي الأعرج قد أسلم فأوثقه أبوه حين خشي أن يذهب إلى
295

النبي صلى الله عليه وسلم فلما وقع في ظهراني المسلمين قال إني مسلم
فجاء أبوه فقال إنما كتبنا الكتاب الساعة
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا رسول الله أليس الله حق وأنت نبيه قال بلى
قال ونحن قوم مؤمنون وهم كفار قال بلى
قال فلم نعطهم الدنية في ديننا قال (إنما كتبنا الكتاب الساعة)
فتحول عمر إلى أبي جندل فقال يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في الله وإن دم الكافر لا يساوي دم كلب وجعل عمر يقرب إليه سيفه كيما يأخذه ويضرب به أباه
فقال أبو جندل مالك لا تقتله أنت فقال عمر نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال ما أنت بأحق بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني لا أقتل أبي
فأخذ سهيل بن عمرو غصنا من أغصان تلك الشجرة فضرب به وجه أبي جندل والمسلمون يبكون
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (خلو بينه وبين ابنه فإن يعلم الله من أبي جندل الصدق ينجه منهم)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهيل (هبه لي) فقال سهيل لا
فقال مكرز بن حفص قد أجرته
يعني أمنته فآمنه حتى رده إلى مكة فأنجى الله تعالى أبا جندل من أيديهم بعد ما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فخرج إلى شط البحر واجتمع إليه قريبا من سبعين رجلا كرهوا أن يقيموا مع المشركين وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يقبلهم حتى تنقضي المدة فعمدوا إلى عير لقريش مقبلة إلى الشام أو مدبرة فأخذوها وجعلوا يقطعون الطريق على المشركين فأرسل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه إلا قبضهم إليه وقالوا له أنت في حل منهم
فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم الذين كرهوا الصلح أن الخير فيما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا البدن ويحلقوا الرؤوس فلم يفعل ذلك منهم أحد
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فقال (ألا تعجبين أمرت الناس أن ينحروا البدن ويحلقوا
فلم يفعل أحد منهم)
فقالت أم سلمة قم أنت يا رسول الله وانحر بدنك واحلق رأسك فإنهم سيقتدون بك
فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم البدن وحلق رأسه ففعل القوم كلهم فحلق بعضهم وقصر بعضهم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يرحم الله المحلقين)
فقالوا والمقصرين يا رسول الله فقال (يرحم الله المحلقين والمقصرين)
فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فنزل * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) * إلى قوله * (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) * يعني السكون والطمأنينة في البيعة في قلوب المؤمنين
* (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) * يعني تصديقا مع تصديقهم الذي هم عليه
ويقال تصديقا بما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة
ويقال يعني إقرارا بالفرائض مع إقرارهم بالله تعالى
296

وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله * (هو الذي أنزل السكينة) * قال يعني الرحمة * (في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا) *
قال إن الله تعالى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله كما قال * (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) * [الإخلاص] فلما صدقوا بها زادهم الصلاة فلما صدقوا بها زادهم الزكاة فلما صدقوا بها زادهم الصوم فلما صدقوا بها زادهم الحج فلما صدقوا به زادهم الجهاد يعني إن في كل ذلك يزيد تصديقا مع تصديقهم
قوله تعالى * (ولله جنود السماوات والأرض) * فجنود السماوات الملائكة وجنود الأرض المؤمنون من الجن والإنس * (وكان الله عليما) * بخلقه * (حكيما) * في أمره حيث حكم بالنصر للمؤمنين يوم بدر
سورة الفتح 5 - 7
قوله عز وجل * (ليدخل المؤمنين والمؤمنات) * يعني المصدقين والمصدقات * (جنات تجري من تحتها الأنهار) * يعني من تحت غرفها وأشجارها * (خالدين فيها) * يعني دائمين مقيمين لا يموتون ولا يخرجون منها * (ويكفر عنهم سيئاتهم) * يعني يمحو ويتجاوز عن سيئاتهم يعني عن ذنوبهم * (وكان ذلك عند الله) * في الآخرة * (فوزا عظيما) * نجاة وافرة من العذاب
ثم قال * (ويعذب المنافقين والمنافقات) * يعني ولكن يعذب المنافقين من أهل المدينة والمنافقات * (والمشركين) * من أهل مكة * (والمشركات) * الذين أقاموا على عبادة الأصنام
* (الظانين بالله ظن السوء) * وظنهم ترك التصديق بالله تعالى ورسوله مخافة ألا ينصر محمد صلى الله عليه وسلم كما قال في آية أخرى * (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول) * [الفتح 12]
ثم قال * (عليهم دائرة السوء) * يعني عاقبة العذاب والهزيمة * (وغضب الله عليهم ولعنهم) * في الدنيا * (وأعد لهم جهنم) * في الآخرة * (وساءت مصيرا) * يعني بئس المصير الذي صاروا إليه
قوله تعالى * (ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا) * بالنقمة لمن مات على كفره ونفاقه * (حكيما) * في أمره وقضائه حكم بالنصر للنبي صلى الله عليه وسلم
297

سورة الفتح 8 - 9
ثم قال * (إنا أرسلناك شاهدا) * يعني بعثناك * (شاهدا) * بالبلاغ إلى أمتك * (ومبشرا) * لمن أجابك بالجنة * (ونذيرا) * يعني مخوفا للكفار بالنار * (لتؤمنوا بالله ورسوله) * يعني لتصدقوا بالله فيما يأمركم وتصدقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم * (وتعزروه) * يعني لكي تعينوه وتنصروه على عدوه بالسيف * (وتوقروه) * أي تعظموا النبي صلى الله عليه وسلم * (وتسبحوه) * يعني تصلوا لله تبارك وتعالى * (بكرة وأصيلا) * يعني غدوة وعشيا
فكأنه قال لتؤمنوا بالله وتسبحوه وتؤمنوا برسوله وتعزروه وتوقروه
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروه ويوقروه ويسبحوه " كلها بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون بالتاء على معنى المخاطبة
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو * (دائرة السوء) * بضم السين وقرأ الباقون بالنصب كقولك رجل سوء وعمل سوء وقد روي عن ابن كثير وأبي عمرو بالنصب أيضا
سورة الفتح 10 - 11
قوله عز وجل * (إن الذين يبايعونك) * يعني يوم الحديبية تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان قال الكلبي بايعوا تحت الشجرة وهي شجرة السمر وهم يومئذ ألف وخمسمائة وأربعون رجلا
وروى هشام عن محمد بن الحسن قال كانت الشجرة أم غيلان
* (إنما يبايعون الله) * يعني كأنهم يبايعون الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بايعهم بأمر الله تعالى ويقال * (إنما يبايعون الله) * يعني لله تعالى أي لأجله وطلب رضاه
ثم قال * (يد الله فوق أيديهم) * يعني يد الله بالقدرة والنصرة والمغفرة * (فوق أيديهم) * بالطاعة
وقال الزجاج * (يد الله فوق أيديهم) * يحتمل ثلاثة أوجه
أحدها * (يد الله فوق أيديهم) * بالوفاء ويحتمل * (يد الله فوق أيديهم) * بالثواب فهذان وجهان جاءا في التفسير ويحتمل أيضا * (يد الله فوق أيديهم) * في المنة عليهم وفي الهداية * (فوق أيديهم) * في الطاعة * (فمن نكث) * يعني نقض العهد والبيعة * (فإنما ينكث على نفسه) * يعني عقوبته على نفسه
* (ومن أوفى بما عاهد عليه الله) * من البيعة والتمام في ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
* (فسيؤتيه أجرا عظيما) * في الجنة
قرأ نافع وابن كثير وابن عامر " فسنؤتيه أجرا عظيما " بالنون والباقون بالياء وكلاهما يرجع إلى معنى واحد يعني سيؤتيه الله ثوابا عظيما
298

قوله تعالى * (سيقول لك المخلفون من الأعراب) * وهم أسلم وأشجع وغفار
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى مكة عام الحديبية فاستتبعهم وكانت منازلهم بين مكة والمدينة فقالوا فيما بينهم نذهب معه إلى قوم جاؤوه فقتلوا أصحابه فقاتلهم فاعتلوا عليه بالشغل حتى رجع فأخبر الله تعالى رسوله قبل ذلك أنه إذا رجع إليهم استقبلوه بالعذر وهم كاذبون فقال * (سيقول لك المخلفون من الأعراب) * يعني الذين تخلفوا عن بيعة الحديبية * (شغلتنا أموالنا وأهلونا) * يعني خفنا عليهم الضيعة ولولا ذلك لخرجنا معك
* (فاستغفر لنا) * في التخلف
* (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) * يعني من طلب الاستغفار وهم لا يبالون استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم
* (قل) * يا محمد * (فمن يملك لكم من الله شيئا) * يعني من يقدر أن يمنع عنكم من عذابه شيئا * (إن أراد بكم ضرا) * يعني قتلا وهزيمة * (أو أراد بكم نفعا) * يعني النصرة
قرأ حمزة والكسائي * (ضرا) * بضم الضاد وهو سوء الحال والمرض وما أشبه ذلك
والباقون بالنصب وهو ضد النفع
اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التقرير يعني لا يقدر أحد على دفع الضر ومنع النفع غير الله
ثم استأنف الكلام فقال * (بل كان الله بما تعملون خبيرا) * يعني عالما بتخلفكم ومرادكم
سورة الفتح 12 - 14
قوله عز وجل * (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون) * يعني بل منعكم من السير معه لأنكم ظننتم * (أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون) * من الحديبية * (إلى أهليهم) * بالمدينة * (أبدا وزين ذلك في قلوبكم) * يعني وحسن التخلف في قلوبكم * (وظننتم ظن السوء) * يعني حسبتم ظن القبيح * (وكنتم قوما بورا) * يعني هلكى
وروي عن ابن عباس أنه قال البور في لغة أزد وعمان الشيء الفاسد والبور في كلام العرب لا شيء
يعني أعمالهم بورا أي مبطلة
قوله عز وجل (ومن لم يؤمن بالله ورسوله) يعني من لم يصدق بالله في السر كما صدقه في العلانية * (فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا) * يعني هيأنا لهم عذاب السعير
قوله تعالى * (ولله ملك السماوات والأرض) * يعني خزائن السموان والأرض
ويقال ونفاذ الأمر في السماوات والأرض * (يغفر لمن يشاء) * وهو فضل منه * (ويعذب من يشاء) * على الذنب الصغير وهو عدل منه * (وكان الله غفورا) * لذنوبهم * (رحيما) * بهم
299

سورة الفتح 15 - 17
ثم قال عز وجل * (سيقول المخلفون) * يعني الذين تخلفوا عن الحديبية * (إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) * يعني إلى غنائم خيبر * (ذرونا نتبعكم) * يعني اتركونا نتبعكم في ذلك الغزو * (يريدون أن يبدلوا كلام الله) * يعني يغيروا كلام الله
يعني ما قاله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم لا تأذن لهم في غزاة أخرى
قرأ حمزة والكسائي * (كلم الله) * وهو جمع الكلمة
والباقون * (كلام الله) * والكلام اسم لكل ما يتكلم به
* (قل لن تتبعونا) * في المسير إلى خيبر إلا متطوعين من غير أن يكون لكم شرك في الغنيمة
* (كذلكم قال الله من قبل) * يعني من قبل الحديبية
" فسيقولون بل تحدسوننا " يعني يقولون للمؤمنين إن الله لم ينهكم عن ذلك بل تحسدوننا على ما نصيب معكم من الغنائم * (بل كانوا لا يفقهون) * أي لا يعقلون ولا يرغبون عن ترك النفاق * (إلا قليلا) * أي لا قليلا ولا كثيرا
ويقال بل كانوا لا يفقهون النهي من الله تعالى يعني إلا قليلا منهم
قوله عز وجل * (قل للمخلفين من الأعراب) * يعني الذي تخلفوا عن الحديبية مخافة القتال * (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) * يعني قتال شديد
قال بعضهم يعني قتال أهل اليمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه
وقال مجاهد * (إلى قوم أولي بأس شديد) * يعني أهل الأوثان
وقال أيضا هم أهل فارس وقال عطاء بل فارس وقال سعيد بن جبير هوازن وثقيف
وقال الحسن فارس والروم
* (تقاتلونهم أو يسلمون) * قرأ بعضهم (أو يسلموا) مع ألف يغير نون وقراءة العامة بالنون
فمن قرأ " أو يسلموا " يعني حتى يسلموا أو إلى أن يسلموا
ومن قرأ بالنون فمعناه تقاتلونهم أو هم يسلمون * (فإن تطيعوا) * يعني تجيبوا توافقوا القتال وتخلصوا لله * (يؤتكم الله أجرا حسنا) * يعني ثوابا حسنا في الآخرة
* (وإن تتولوا كما توليتم من قبل) * يعني تعرضوا كما أعرضتم عن الإجابة يوم الحديبية
* (يعذبكم عذابا أليما) * يعني شديدا دائما فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة والضعفاء فكيف بنا إذا دعينا إلى قتالهم ولا نستطيع الخروج فيعذبنا الله تعالى فنزل قوله * (ليس على الأعمى حرج) * وهذا قول الكلبي
وقال
300

مقاتل نزل العذر في الذين تخلفوا عن الحديبية
* (ليس على الأعمى حرج) * يعني ليس عليهم إثم في التخلف * (ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) * يعني إثم
* (ومن يطع الله ورسوله) * في الغزو ويقال * (ومن يطع الله ورسوله) * في السر والعلانية * (يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) * وقد ذكرناه
* (ومن يتول) * يعني يعرض عن ذلك يعني عن طاعة الله ورسوله بالتخلف * (يعذبه عذابا أليما) * يعني شديدا دائما
قرأ نافع وابن عامر " ندخله ونعذبه " كلاهما بالنون والباقون كلاهما بالياء وكلاهما يرجع إلى معنى واحد
سورة الفتح 18 - 20
قوله تعالى * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) * يعني شجرة السمرة ويقال أم غيلان
قال قتادة بايعوه يومئذ وهم ألف وأربعمائة رجل وكان عثمان يومئذ بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله وحاجة المؤمنين
ثم وضع إحدى يديه على الأخرى وقال هذه بيعة عثمان)
* (فعلم ما في قلوبهم) * أي ما في قلوبهم من الصدق والوفاء وهذا قول ابن عباس
وقال مقاتل * (فعلم ما في قلوبهم) * من الكراهية للبيعة على أن يقاتلوا ولا يفروا
* (فأنزل) * الله * (السكينة عليهم) * يعني أنزل الله تعالى الطمأنينة والرضى عليهم
* (وأثابهم) * يعني وأعطاهم
* (فتحا قريبا) * يعني فتح خيبر
قوله عز وجل * (ومغانم كثيرة يأخذونها) * يعني يغنمونها * (وكان الله عزيزا حكيما) * حكم عليهم بالقتل والسبي
ويقال حكم الغنيمة للمؤمنين والهزيمة للكافرين
ثم قال * (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها) * يعني تغنمونها وهو ما أصابوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة
وقال ابن عباس هي هذه الفتوح التي تفتح لكم " فجعل لكم هذه " يعني فتح خيبر قرأ بعضهم " وأتاهم فتحا قريبا " يعني أعطاهم وقراءة العامة * (وأثابهم فتحا قريبا) * يعني كافأهم
قوله تعالى * (وكف أيدي الناس عنكم) * يعني أيدي أهل مكة ويقال أسد وغطفان أرادوا أن يعينوا أهل خيبر فدفعهم الله عن المؤمنين فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا له ولا عليه
ثم قال * (ولتكون آية للمؤمنين) * يعني عبرة للمؤمنين وهو فتح خيبر لأن المسلمين كانوا ثمانية آلاف وأهل خيبر كانوا سبعين ألفا
301

ثم قال * (ويهديكم صراطا مستقيما) * يعني يرشدكم دينا قيما وهو دين الإسلام
سورة الفتح 21 - 24
ثم قال * (وأخرى لم تقدروا عليها) * يعني وعدكم الله غنيمة أخرى * (لم تقدروا عليها) * يعني لم تملكوها بعد وهو فتح مكة
ويقال هو فتح قرى فارس والروم
* (قد أحاط الله بها) * يعني علم الله أنكم ستفتحونها وستغنمونها فجمعها وأحرزها لكم
" وكان الله على كل شيء قديرا " من الفتح وغيره
قوله عز وجل * (ولو قاتلكم الذين كفروا) * يعني كفار مكة يوم الحديبية ويقال أسد وغطفان مع أهل خيبر
* (لولوا الأدبار) * منهزمين * (ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا) * يعني قريبا ينفعهم * (ولا نصيرا) * أي مانعا يمنعهم من الهزيمة
قوله عز وجل * (سنة الله التي قد خلت من قبل) * يعني هكذا سنة الله بالغلبة والنصرة لأوليائه والقهر لأعدائه
* (ولن تجد لسنة الله تبديلا) * يعني تغييرا وتحويلا
قوله تعالى * (وهو الذي كف أيديهم عنكم) * يعني أيدي أهل مكة * (وأيديكم عنهم) * يعني عن أهل مكة من بعد أن أظفركم عليهم
وذلك أن جماعة من أهل مكة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوهم بيوت مكة
وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال اطلع قوم وهم ثمانون رجلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل التنعيم عند صلاة الصبح ليأخذوه فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى * (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم) * * (ببطن مكة) * يعني بوسط مكة * (من بعد أن أظفركم عليهم) * يعني سلطكم عليهم * (وكان الله بما تعملون بصيرا) * بحرب بعضكم بعضا
سورة الفتح 25 - 26
قوله تعالى * (هم الذين كفروا) * يعني جحدوا بوحدانية الله تعالى " وصدوكم عن
302

المسجد الحرام) أن تطوفوا به * (والهدي معكوفا) * يعني محبوسا
يقال عكفه عن كذا أي حبسه ومنه العاكف في المسجد لأنه حبس نفسه يعني صيروا الهدي محبوسا عن دخول مكة وهي سبعون بدنة
ويقال مائة بدنة
* (أن يبلغ محله) * يعني منحره ومنحره منى للحاج وعند الصفا للمعتمر
ثم قال * (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) * بمكة * (لم تعلموهم) * أنهم مؤمنون يعني لم تعرفوا المؤمنين من المشركين * (أن تطؤوهم) * يعني تحت أقدامكم ويقال فتضربوهم بالسيف * (فتصيبكم منهم معرة) * يعني فينا لكم من قتالهم إثم ويقال المعرة والتعيير واحد ويقال * (فتصيبكم منهم معرة) * أي تلزمكم الدية * (بغير علم) * يعني بغير علم منكم لهم ولا ذنب لكم
وذلك أن بعض المؤمنين كانوا مختلطين بالمشركين غير متميزين ولا معروفي الأماكن
فقال * (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم) * لو دخلتموها أن تقتلوهم * (ليدخل الله في رحمته من يشاء) * لو فعلتم فيصيبكم من قتلهم معرة أي يعيبكم ويعيركم المشركون بذلك ويقولون قتلوا أهل دينهم كما قتلونا فتلزمكم الديات
ثم قال * (لو تزيلوا) * أي تميزوا من المشركين * (لعذبنا الذين كفروا) * يقال لو تزيلوا بالسيف
وقال القتبي صار قوله * (لعذبنا) * جوابا لكلامين أحدهما * (لولا رجال) * والآخر * (لو تزيلوا) * يعني لو تفرقوا واعتزلوا
يعني المؤمنين من الكافرين * (لعذبنا الذين كفروا) * * (منهم عذابا أليما) * يعني شديدا وهو القتل
قوله تعالى * (إذ جعل الذين كفروا) * يعني أهل مكة * (في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) * وذلك أنهم قالوا قتل آباءنا وإخواننا ثم أتانا يدخل علينا في منازلنا والله لا يدخل علينا فهذه الحمية التي في قلوبهم
* (فأنزل الله سكينته) * يعني طمأنينته * (على رسوله وعلى المؤمنين) * فأذهب عنهم الحمية حتى اطمأنوا وسكنوا
* (وألزمهم كلمة التقوى) * يعني ألهمهم كلمة لا إله إلا الله حتى قالوها * (وكانوا أحق بها) * يعني كانوا في علم الله تعالى أحق بهذه الكلمة من كفار مكة * (وأهلها) * يعني وكانوا أهل هذه الكلمة عند الله تعالى " وكان الله بكل شيء عليما " يعني عليما بمن كان أهلا للإيمان وغيره
سورة الفتح 27 - 28
قوله عز وجل * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) * يعني حقق الله تعالى رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوفاء والصدق وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام قبل الخروج إلى الحديبية أنهم يدخلون المسجد الحرام فأخبر الناس بذلك فاستبشروا
فلما صدهم المشركون قالت
303

المنافقون في ذلك ما قالوا فنزل * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) * يعني يصدق رؤياه بالحق * (لتدخلن المسجد الحرام) * في العام الثاني
ويقال نزلت الآية بعد ما دخلوا في العام الثاني * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام) * يعني ما أخبر أصحابه أنهم يدخلون المسجد الحرام * (إن شاء الله آمنين) * يعني لتدخلن * (إن شاء الله آمنين) * يعني بإذن الله وأمره
ويقال هذا اللفظ حكاية الرؤيا وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى في المنام رأى ملكا ينادي وهو يقول لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين فأنزل الله تعالى * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) * وهو قول الملك * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * من العدو * (محلقين رؤوسكم ومقصرين) * يعني منهم من يحلق ومنهم من يقصر " لا تخافون " العدو * (فعلم ما لم تعلموا) * قال مقاتل فعلم أن يفتح عليهم خيبر قبل ذلك فوعد لهم الفتح ثم دخول مكة ففتحوا خيبر ثم رجعوا ثم دخلوا مكة وأتوا عمرة القضاء
وقال الكلبي في قوله * (فعلم ما لم تعلموا) * يعني علم الله أنه سيكون في السنة الثانية ولم تعلموا أنتم فلذلك وقع في أنفسكم ما وقع * (فجعل من دون ذلك فتحا قريبا
) * يعني فتح خيبر
ثم قال عز وجل * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى) * يعني بالتوحيد شهادة أن لا إله إلا الله * (ودين الحق) * وهو الإسلام * (ليظهره على الدين كله) * يعني على الأديان كلها قبل أن تقوم الساعة فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام * (وكفى بالله شهيدا) * بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يشهد كفار مكة وذلك حين أراد أن يكتب محمد رسول الله فقال سهيل بن عمرو إنا لا نعرف بأنك رسول الله ولا نشهد
فقال الله عز وجل * (وكفى بالله شهيدا) * وإن لم يشهد سهيل وأهل مكة
سورة الفتح 29
قال عز وجل * (محمد رسول الله والذين معه) * من المؤمنين * (أشداء على الكفار) * بالغلظة * (رحماء بينهم) * يعني متوادين فيما بينهم * (تراهم ركعا سجدا) * يعني يكثرون الصلاة * (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) * يعني يلتمسون من الحلال
وقال بعضهم * (والذين معه) * يعني أبا بكر * (أشداء على الكفار) * يعني عمر * (رحماء بينهم) * يعني عثمان * (تراهم ركعا سجدا) * يعني عليا رضوان الله عليهم أجمعين * (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) * يعني الزبير وعبد الرحمن بن عوف
304

ثم قال * (سيماهم في وجوههم) * يعني علاماتهم وهي الصفرة في وجوههم * (من أثر السجود) * يعني السهر بالليل
ويقال يعرفون غرا محجلين يوم القيامة من أثر الوضوء
وقال مجاهد * (سيماهم في وجوههم) * قال الخشوع والوقار
وقال منصور قلت لمجاهد أهذا الذي يكون بين عيني الرجل قال إن ذلك قد يكون للرجل وهو أقسى قلبا من فرعون
ثم قال * (ذلك مثلهم في التوراة) * يعني هذا الذي ذكره من نعتهم وصفتهم في التوراة
ثم ذكر نعتهم في الإنجيل فقال * (ومثلهم في الإنجيل) * يعني مثل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه * (كزرع أخرج شطأه) *
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال مثلهم في التوراة والإنجيل واحد
قال * (مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه) * قرأ ابن كثير وابن عامر * (شطأه) * بنصب الشين والطاء والباقون بنصب الشين وجزم الطاء ومعناهما واحد وهو فراخ الزرع
وقال مجاهد * (شطأه) * يعني قوائمه
قرأ ابن عامر * (فآزره) * بغير مد والباقون بالمد ومعناهما واحد
يعني قواه
ومنه قوله عز وجل * (اشدد به أزري) * [طه 31] يعني أقوي به ظهري
ويقال * (كزرع أخرج شطأه) * يعني سنبله * (فآزره) * يعني أعانه وقواه
* (فاستغلظ) * يعني غلظ الزرع واستوى
* (فاستوى على سوقه) * وهو جماعة الساق * (يعجب الزراع) * يعني الزارع إذا نظر في زرعه بعدما استغلظ واستوى يعجبه ذلك
فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم تبعه أبو بكر ثم تبعه واحد بعد واحد من أصحابه حتى كثروا ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لكثرتهم
* (ليغيظ بهم الكفار) * يعني أهل مكة يكرهون ذلك لما رأوا من كثرة المسلمين وقوتهم
وروى خيثمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرئهم القرآن في المسجد فأتى على هذه الآية * (كزرع أخرج شطأه) * فقال أنتم الزرع وقد دنا حصادكم
ويقال * (كزرع) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم
* (أخرج شطأه) * يعني أبا بكر * (فآزره) * يعني أعانه عمر على كفار مكة * (فاستغلظ) * يعني تقوى بنفقة عثمان * (فاستوى على سوقه) * يعني قام على أمره يعني قام علي بن أبي طالب يعينه وينصره على أعدائه
* (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) * يعني طلحة والزبير
وكان الكفار يكرهون إيمان طلحة والزبير لشدة قوتهما وكثرة أموالهما
* (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم) * يعني لهم ويقال فيما بينهم وبين ربهم
ويقال من هاهنا لإبانة الجنس
يعني * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم) * من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم * (مغفرة) * لذنوبهم * (وأجرا عظيما) * يعني ثوابا وافرا في الجنة روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من قرأ سورة الفتح فكأنما شهد فتح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم والله سبحانه أعلم
305

سورة الحجرات مدنية وهي ثماني عشرة آية
سورة الحجرات 1
قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) * يقال * (يا) * نداء وها تنبيه و * (الذين) * إشارة و * (آمنوا) * مدحه
روي عن الضحاك أنه كان يقرأ * (لا تقدموا) * بنصب التاء والدال وقراءة العامة * (لا تقدموا) * برفع التاء وكسر الدال
فمن قرأ بالنصب فهو في الأصل لا تتقدموا فحذفت إحدى التاءين لتكون أخف ومن قرأ بالضم فهو من قدم يقدم يقال فلان تقدم بين يدي أبيه وبين يدي الإمام
يعني تعجل بالأمر وانتهى بدونه يعني لا تقدموا الكلام بين يدي الله ورسوله
ومعناه لا تقولوا قبل أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم
ويقال معناه إذا أمرتم بأمر فلا تفعلوه قبل الوقت الذي أمرتم به
وقال الحسن إن قوما ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبحوا آخر فنزل * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) * وقال مسروق كنا عند عائشة يوم الشك فأتي بلبن فناولتني فقلت إني صائم فقالت عائشة رضي الله عنها وقد نهي عن هذا وقرأت هذه الآية وقالت هذه الآية نزلت في الصوم وغيره
وقال مقاتل نزلت الآية في ثلاثة نفر وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمر عليهم المنذر بن عمرو فخرج بنو عامر بن صعصعة عند بئر معونة فرصدوهم على الطريق وقتلوهم فرجع ثلاثة منهم فلما دنوا إلى المدينة خرج رجلان من بني سليم صلحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان أهداهما وكساهما فقالا نحن من بني عامر لأن بني عامر كانوا أقرب إلى المدينة فقتلوهما وأخذوا ثيابهما وجاؤوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) * يعني لا تعجلوا بأمر ولا بقتل حتى تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروي عن الحسن في رواية أخرى أنه قال لا تعملوا بخلاف الكتاب والسنة
ثم قال * (واتقوا الله) * يعني أخشوا الله عز وجل فيما يأمركم وينهاكم ولا تخالفوا أمر الله ورسوله
وقوله * (إن الله سميع عليم) * يعني * (سميع) * الدعاء * (عليم) * بخلقه
ويقال * (سميع) * لقول المستأمنين * (عليم) * بنيات الذين قتلوهما
وفي الآية بيان رأفة الله عز وجل على عباده حيث سماهم مؤمنين مع معصيتهم
306

سورة الحجرات 2 - 3
فقال * (يا أيها الذين آمنوا) * ولم يقل يا أيها الذين عصوا وقد ذكرنا من قبل أن النداء على ست مراتب وهذا نداء مدح
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) * نزلت في وفد بني تميم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وهم سبعون أو ثمانون منهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعطارد بن الجحاف وذلك حين قالوا ائذن لشاعرنا وخطيبنا في الكلام فعلت الأصوات واللغط فنزلت الآية * (لا ترفعوا أصواتكم) * عند رسول الله فوق صوته ويقال نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذنه وقر فكان إذا تكلم رفع صوته
ثم قال " ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض " يعني لا تدعوه باسمه كما يدعو الرجل الرجل منكم باسمه ولكن عظموه ووقروه وقولوا يا رسول الله يا نبي الله
ثم قال * (أن تحبط أعمالكم) * يعني إن فعلتم ذلك فتحبط حسناتكم * (وأنتم لا تشعرون) * أن ذلك يحبطها وقال بعضهم من عمل كبيرة من الكبائر حبط جميع ما عمل من الحسنات واحتج بهذه الآية * (أن تحبط أعمالكم) * ولكن نحن نقول الكبيرة لا تبطل العمل ما لم يكفر وإنما ذكر هاهنا إبطال العمل لأن في ذلك استخفافا بالنبي صلى الله عليه وسلم
ومن قصد الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر
ولما نزلت هذه الآية دخل ثابت بن قيس بيته وجعل يبكي ويقول أنا من أهل النار فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فبعث إليه وقال (إنك من أهل الجنة بل غيرك من أهل النار)
فقال يا رسول الله لا أتكلم بعد ذلك إلا سرا أو ما كان يشبه السر فنزل * (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) * صلى الله عليه وسلم روى ثابت عن أنس قال لما نزل * (لا ترفعوا أصواتكم) * وكان ثابت بن قيس رفيع الصوت
فقال أنا الذي كنت أرفع صوتي وحبط عملي أنا من أهل النار وجلس في أهله يبكي ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال فقال صلى الله عليه وسلم (بل هو من أهل الجنة)
فقال أنس لكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة
فلما كان يوم اليمامة فكان فينا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس وقد تحنط ولبس كفنه فقال بئس ما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل
ثم قال * (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) * " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم
307

للتقوى) يعني أخلص الله عز وجل قلوبهم
ويقال أصفى الله عز وجل قلوبهم من المعصية للتقوى يعني يجعل قلوبهم موضعا للتقوى * (لهم مغفرة) * لذنوبهم * (وأجر عظيم) * أي ثواب وافر يعني في الجنة يعني يجعل ثوابهم في الدنيا أن يخلص قلوبهم للتقوى وفي الآخرة أجر عظيم
سورة الحجرات 4 - 8
وقوله عز وجل " إن الذي ينادونك من رواء الحجرات " فالحجرات جمع حجرة يقال حجرة وحجرات مثل ظلمة وظلمات
وقرئ في الشاذ الحجرات بنصب الجيم
وقرأه العامة بالضم ومعناهما واحد
نزلت الآية في شأن نفر من بني تميم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أسامة بن زيد فانتهى إلى قبيلة وكانت تسمى بني العنبر فأغار عليهم وسبى ذراريهم فجاء جماعة منهم ليشتروا أسراهم أو يفدوهم فنادوه وكان وقت الظهيرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الحجرة
فنادوه من وراء الحجرة وكان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حجرات فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم كلموه في أمر الذراري فقال لواحد منهم (أحكم)
فقال حكمت أن تخلي نصف الأسارى وتبيع النصف منا
ففعل النبي صلى الله عليه وسلم
فنزلت الآية " إن الذين ينادونك من رواء الحجرات " * (أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم) * لأنهم لو لم ينادوه لكان يعتقهم كلهم
وروى معمر عن قتادة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناداه من وراء الحجرات فقال يا محمد إن مدحي زين وإن شتمي شين فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال (ويلك ذلك الله عز وجل)
فنزل " إن الذي ينادونك " الآية
ثم قال عز وجل * (والله غفور) * يعني * (غفور) * لمن تاب * (رحيم) * بهم بعد التوبة
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) * الآية
نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليقبض الصدقات فخرجوا إليه ليبجلوه ويعظموه فخشي منهم لأنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية
فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال خرجوا إلي
308

بأسلحتهم ومنعوا مني الصدقات وطرحوني وأرادوا قتلي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث لقتالهم فجاؤوا إلى المدينة وقالوا يا رسول الله لما بلغنا قدوم رسولك خرجنا نبجله ونعظمه فانصرف عنا فاغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل الوليد بن عقبة فنزل * (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) * يعني بحديث كذب وبخبر كذب * (فتبينوا) * يعني قفوا ولا تعجلوا * (أن تصيبوا) * يعني كيلا تصيبوا * (قوما بجهالة) * وأنتم لا تعلمون بأمرهم * (فتصبحوا) * يعني فتصيروا * (على ما فعلتم نادمين) *
قرأ حمزة والكسائي " فتثبتوا " بالثاء وقرأ الباقون بالياء * (فتبينوا) * مثل ما في سورة النساء
ثم قال للمؤمنين رضي الله عنهم * (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر) * يعني ما أمرتم به لأن الناس كانوا قد حرضوه على إرسالهم لقتال بني المصطلق * (لعنتم) * يعني لأثمتم
وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية * (لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) * يعني هذا نبيكم وخياركم * (لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) * فكيف بكم اليوم
ويقال * (لعنتم) * أي لهلكتم
وأصله من عنت البعير إذا انكسرت رجله
ثم ذكر لهم النعم فقال * (ولكن الله حبب إليكم الإيمان) * يعني جعل حب الإيمان في قلوبكم * (وزينه في قلوبكم) * يعني حسنه للثواب الذي وعدكم ويقال دلكم عليه بالحجج القاطعة
ويقال زينه في قلوبكم بتوفيقه إياكم لقبوله * (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) * يعني بغض إليكم الكفر والمعاصي لما بينه من العقوبة
ثم قال * (أولئك هم الراشدون) * يعني المهتدون
فذكر أول الآية على وجه المخاطبة وآخر الآية بالمغايبة
ثم قال * (أولئك هم الراشدون) * ليعلم أن جميع من كان حاله هكذا فقد دخل في هذا المدح
وفي الآية دليل أن من كان مؤمنا فإنه لا يحب الفسوق والمعصية لأن الله تعالى قال * (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) * والمؤمن إذا ابتلي بالمعصية فإن شهوته وغفلته تحمله على ذلك لا لحبه للمعصية
ثم قال * (فضلا من الله ونعمة) * يعني كان الإيمان الذي حببه إليكم والكفر الذي بغضه إليكم كان * (فضلا من الله ونعمة) * يعني رحمة * (والله عليم) * بخلقه * (حكيم) * في أمره وقضائه
سورة الحجرات 9 - 10
قوله عز وجل * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) * وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الأنصار ليكلمهم في أمر من الأمور وهو على حمار فوقف على حمار يكلم الأنصار
309

فبال الحمار فقال عبد الله بن أبي المنافق خل للناس سبيل الريح من نتن هذا الحمار ثم قال أف وأمسك على أنفه
فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قوله فانصرف عبد الله بن رواحة الأنصاري فقال أتقول هذا لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لبوله أطيب ريحا منك
فاقتتلا فاجتمع قوم ابن رواحة وهم الأوس وقوم عبد الله بن أبي وهم الخزرج فكان بينهم ضرب النعال والأيدي والسعف
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم فاصلح بينهم فأنزل الله تعالى * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) * فكره بعضهم الصلح فأنزل قوله * (فإن بغت إحداهما على الأخرى) * يعني استطالت فلم ترجع إلى الصلح * (فقاتلوا التي تبغي) * يعني تظلم " حتى تفيء إلى أمر الله " يعني ترجع إلى ما أمر الله عز وجل
وروى أسباط عن السدي قال كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد فأبغضت زوجها وأرادت أن تلحق بأهلها وكان قد جعلها في غرفة له وأمر أهله أن يحفظوها وخرج إلى حاجة له
فأرسلت إلى أهلها فجاء ناس من أهلها وأرادوا أن يذهبوا بها فاقتتلوا بالنعال والتلاطم فنزل قوله تعالى * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * الآية
ثم صارت الآية عامة في جميع المسلمين إذا اقتتل فريقان من المسلمين وجب على المؤمنين الإصلاح بين الفريقين
فإن ظهر أن أحد الفريقين ظالم فإنه يقاتل ذلك الفريق حتى يرجع إلى حكم الله
ثم قال * (فإن فاءت) * يعني رجعت إلى الصلح * (فأصلحوا بينهما بالعدل) * يعني بالحق * (وأقسطوا) * يعني اعدلوا بين الفريقين ولا تميلوا * (إن الله يحب المقسطين) * يعني العادلين
ثم قال عز وجل * (إنما المؤمنون إخوة) * يعني كالأخوة في التعاون لأنهم على دين واحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وروي عنه أنه قال (المؤمنون كعضو واحد إذا اشتكى عضو تداعى سائر الأعضاء إلى الحمى والسهر)
قرأ ابن سيرين " فأصلحوا بين إخوانكم " بالنون
وقرأ يعقوب الحضرمي " بين إخوتكم " بالتاء
يعني جمع الأخ وقراءة العامة * (بين أخويكم) * بالياء على تثنية الأخ
يعني بين كل أخوين
ثم قال * (واتقوا الله لعلكم ترحمون) * يعني أخشوا الله عز وجل ولا تعصوه * (لعلكم ترحمون) * يعني لكي ترحموا فلا تعذبوا
310

سورة الحجرات 11
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) * يعني لا يستهزئ الرجل من أخيه
وقال بعضهم الآية نزلت في ثابت بن قيس حيث عير الذي لم يوسع له في المكان وقال بعضهم الآية نزلت في الذين ينادونه من وراء الحجرات استهزؤوا من ضعفاء المسلمين * (عسى أن يكونوا خيرا منهم) * يعني أفضل منهم وأكرم على الله تعالى * (ولا نساء من نساء) * يعني لا تستهزئ امرأة من امرأة وذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت إن أم سلمة جميلة لولا أنها قصيرة " وعسى أن يكون خيرا منهن " يعني أفضل ثم صارت الآية عامة في الرجال والنساء فلا يجوز أحد أن يسخر من صاحبه أو من أحد من خلق الله تعالى
وقال ابن مسعود رضي الله عنه البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب خشيت أن أكون مثله
ثم قال * (ولا تلمزوا أنفسكم) * يعني لا يطعن بعضكم بعضا
وقال القتبي ولا تغتابوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم كما قال * (ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) * [النور 12] يعني بأمثالهم
ثم قال * (ولا تنابزوا بالألقاب) * يعني لا تسموا باللقب
وقال محمد بن كعب القرظي هو الرجل يكون على دين من الأديان فيسلم فيدعونه بدينه الأول يا يهودي ويا نصراني
ويقال لا تعيروا المسلم بالملة التي كان عليها ولا تسموه بغير دين الإسلام
وقال أهل اللغة الألقاب والأنباز واحد ومنه قيل في الحديث (قوم نبزهم الرافضة) أي لقبهم * (ولا تنابزوا بالألقاب) * أي لا تدعوا بها
ويقال هو اللقب الذي يكرهه الرجل
يعني أنه ينبغي للمؤمن أن يخاطب أخاه بأحب الأسماء إليه
وقرأ بعضهم * (ولا تلمزوا) * بضم الميم وقراءة العامة بالكسر وهما لغتان
يقال لمز فلان فلانا يلمزه إذا عابه
وذكر في التفسير أن الآية نزلت في مالك بن أبي مالك وعبد الله بن أبي حدرد وذلك أن أبا مالك كان على المقاسم فقال لعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يا أعرابي فقال له عبد الله يا يهودي
فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخلا عليه حتى تظهر توبتهما فنزل * (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) * يعني بئس التسمية لإخوانكم بالكفر وهم مؤمنون * (ومن لم يتب) * يعني لم يرجع من قوله * (فأولئك هم الظالمون) * فأوثقا أنفسهما حتى قبلت توبتهما
311

سورة الحجرات 12 - 14
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن) * يعني لا تحققوا الظن * (إن بعض الظن إثم) * يعني معصية
أي إن ظن السوء بالمسلم معصية
وقال سفيان الثوري الظن ظنان ظن فيه إثم وظن لا إثم فيه
فالظن الذي فيه إثم أن يظن ويتكلم به
وأما الظن الذي لا إثم فيه فهو أن يظن ولا يتكلم به لأنه قال * (إن بعض الظن إثم) * ولم يقل جميع الظن إثم
ثم قال * (ولا تجسسوا) * يعني لا تطلبوا ولا تبحثوا عن عيب أخيكم * (ولا يغتب بعضكم بعضا) * روى أسباط عن السدي قال كان سلمان الفارسي في سفر مع ناس فيهم عمر فنزلوا منزلا فضربوا خيامهم وصنعوا طعامهم ونام سلمان فقال بعض القوم لبعض ما يريد هذا العبد إلا أن يجد خياما مضروبة وطعاما مصنوعا فلما استيقظ سلمان قالوا له انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمس لنا إداما نأتدم به
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم (أخبرهم أنهم قد ائتدموا)
فأخبرهم
فقالوا ما طعمنا بعد وما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأتوه فقال (ائتدمتم من صاحبكم حين قلتم ما قتلم وهو نائم) ثم قرأ * (ولا يغتب بعضكم بعضا) * * (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) * يعني فكما تكرهون أكل لحمه ميتا فكذلك اجتنبوا ذكره بالسوء وهو غائب
ويقال كان سلمان في سفر مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكان يطبخ لهما فنزلوا منزلا فلم يجد ما يصلح لهم أمر الطعام فبعثاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لينظر أعنده شيئا من الطعام فقال أسامة لم يبق عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الطعام فرجع إليهما فقالا إنه لو ذهب إلى بئر كذا ليبس ماؤها فنزلت هذه الآية
ويقال نزلت في شأن زيد بن ثابت وذلك أن نفرا ذكروا فيه شيئا فنزل * (ولا يغتب بعضكم بعضا) * قرأ نافع * (ميتا) * بتشديد الياء والخفض والباقون بالجزم
وقال أهل اللغة الميت
والميت واحد مثل ضيق وضيق وهين وهين ولين ولين
ثم قال * (واتقوا الله) * في الغيبة وتوبوا إليه * (أن الله تواب) * يعني قابل التوبة * (رحيم) * بهم بعد التوبة
312

قوله تعالى * (يا أيها الناس) * قال مقاتل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أمر بلالا ليؤذن فقال الحارث بن هشام أما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى هذا الغراب
يعني بلالا
فنزل * (يا أيها الناس) * " إنا خلقناكم من ذكر وأثنى " يعني آدم وحواء * (وجعلناكم شعوبا) * يعني خلقناكم قبائل مثل مضر وربيعة * (وقبائل) * يعني الأفخاذ مثل بني سعد وبني عامر
* (لتعارفوا) * في النسب * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * يعني وإن كان عبدا حبشيا أسود مثل بلال
وقال في رواية الكلبي نزلت في ثابت بن قيس كان في أذنيه ثقل وكان يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامه فأبطأ يوما واحدا وقد أخذ الناس مجالسهم فجاء وتخطى رقابهم حتى جلس قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم
فقال رجل من القوم هذا يتخطى رقابنا فلم لا يجلس حيث وجد المكان فقال ثابت من هذا فقالوا فلان
فقال ثابت يا ابن فلانة وكان يعير بأمه فخجل
فنزلت هذه الآية
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (من عير فلانا بأمه) فقال ثابت بن قيس أنا قد ذكرت شيئا فقرأ هذه الآية عليه فاستغفر ثابت
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال القبائل والأفخاذ والشعوب الجمهور مثل مضر
وقال الضحاك الشعوب الأفخاذ والقبائل مثل بني تميم وبني أسد
وقال القتبي الشعوب أكثر من القبيلة
وقال الزجاج الشعب أعظم من القبيلة ومعناه إني لم أخلقكم شعوبا وقبائل للتفاخر وإنما خلقناكم كذلك لتعارفوا
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل إنكم جعلتم لأنفسكم نسبا وجعلت لنفسي نسبا فرفعتم نسبكم ووضعتم نسبي فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم
يعني قلت * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * وقلتم أنتم فلا وفلان)
ثم قال * (إن الله عليم) * بأتقيائكم * (خبير) * بافتخاركم
قوله عز وجل * (قالت الأعراب آمنا) * قال ابن عباس نزلت الآية في بني أسد قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قحط أصابهم فجاؤوا بأهاليهم وذراريهم يطلبون الصدقة وأظهروا الإسلام وقالوا يا رسول الله نحن أسلمنا طوعا وقدمنا بأهالينا فأعطنا من الغنيمة أكثر مما تعطي غيرنا
ويقال كانت قبيلتان جهينة ومزينة قدموا بأهاليهم
فنزلت الآية * (قالت الأعراب آمنا) * يعني صدقنا * (قل لم تؤمنوا) * يعني لم تصدقوا في السر كما صدقتم في العلانية " ولكن قولوا أسملنا " يعني دخلنا في الانقياد والخضوع
ويقال استسلمنا مخافة القتل والسبي * (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * يعني لم يدخل الإيمان في قلوبكم يعني التصديق
ويقال لم يدخل حب الإيمان في قلوبكم * (وإن تطيعوا الله ورسوله) * في السر كما تطيعونه في العلانية * (لا يلتكم من أعمالكم شيئا) * يعني لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا
313

قرأ أبو عمرو " لا يألتكم " بالألف والهمز والباقون * (لا يلتكم) * بغير ألف ولا همز ومعناهما واحد
يقال لاته يلته وألته يألته إذا أنقص حقه * (إن الله غفور رحيم) * لو صدقوا بقلوبهم
سورة الحجرات 15 - 18
ثم بين الله عز وجل لهم من المصدق فقال عز وجل " إنما الؤمنون " يعني المصدقين في إيمانهم " والذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " يعني لم يشكوا في إيمانهم * (وجاهدوا) * الأعداء * (بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) * أي في طاعة الله * (أولئك هم الصادقون) * في إيمانهم
فلما نزلت هذه الآية أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفوا بالله أنهم لمصدقوه في السر فنزل * (قل أتعلمون الله بدينكم) * الذي أنتم عليه * (والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض) * يعني سر أهل السماوات وسر أهل الأرض " والله بكل شيء عليم " أي يعلم ما في قلوبكم من التصديق وغيره
قوله عز وجل * (يمنون عليك أن أسلموا) * يعني بقولهم جئناك بأهالينا وأولادنا * (قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) * يعني وفقكم للإيمان * (إن كنتم صادقين) * بأنكم مخلصون مؤمنون في السر والعلانية
قوله تعالى * (إن الله يعلم غيب السماوات والأرض) * يعني سر أهل السماوات وسر أهل الأرض
* (والله بصير بما تعملون) * من التصديق وغيره قرأ ابن كثير وعاصم في رواية إبان * (بما يعملون) * بالياء على معنى الخبر عنهم وقرأ الباقون * (تعملون) * بالتاء على معنى المخاطبة لهم أي بصير بما يعملون من التصديق وغيره والخير والشر و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم والله أعلم بالصواب
314

سورة ق مكية وهي أربعون وخمس آيات
سورة ق 1
قوله تبارك وتعالى * (ق) * قال قتادة هو اسم من أسماء الله تعالى كقوله قادر وقاهر
ويقال هو اسم من أسماء القرآن
وقال مجاهد هو افتتاح السورة
وقال بعضهم * (ق) * يعني قضي الأمر كما قال في * (حم) * حم الأمر والدليل عليه قول الشاعر
(فقلت لها قفي قالت قاف
*)
يعني وقفت فذكر القاف وأراد به تمام الكلام
وقال ابن عباس هو جبل من زمرد أخضر محيط بالعالم فخضرة السماء منها وهي من رواء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه والحجاب دون * (ق) * بمسيرة سنة وما بينهما ظلمة وأطراف السماء ملتصقة بها
ويقال خضرة السماء من ذلك الجبل
ويقال * (ق) * يعني إن الله عز وجل قائم بالقسط
ثم قال * (والقرآن المجيد) * يعني الشريف
وقال الضحاك هو جبل محدق بالدنيا من زبرجدة خضراء وخضرة السماء منها ليس في الأرض بلدة من البلدان ولا مدينة من المدائن ولا قرية من القرى إلا وفيها عرق من عروقها وملك موكل عليها واضع كفه بها
فإذا أراد الله عز وجل بقوم هلاكهم أوحى الله عز وجل إلى ذلك الملك فحرك منها عرقا فخسف بهم فأقسم الله عز وجل بقاف * (والقرآن المجيد) * يعني الشريف إنكم لمبعوثون يوم القيامة لأن أهل مكة أنكروا البعث فصار جواب القسم مضمرا فيه وهو ما ذكرناه إنكم مبعوثون
ويجوز أن يكون جواب القسم * (قد علمنا ما تنقص الأرض) * [ق 4] فيكون معناه * (ق والقرآن المجيد) * لقد علمنا ما تنقص الأرض فحذف اللام لأن ما قبلها عوض عنها كما قال * (قد أفلح من زكاها) * يعني لقد أفلح
وقال القتبي هذا من الاختصار فكأنه قال * (ق والقرآن المجيد) * لتبعثن
سورة ق 2
315

سورة ق 3 - 6
قوله عز وجل * (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم) * يعني من أهل مكة " فقال الكافرون هذا شيء عجيب " يعني أمرا عجيبا أن يكون محمد رسولا وهو من نسبهم
قوله تعالى * (أئذا متنا وكنا ترابا) * بعد الموت نجدد بعدما متنا نصير خلقا جديدا * (ذلك رجع بعيد) * أي رد طويل لا يكون أبدا
يقال رجع يرجع رجعا إذا رجعه غيره ورجع يرجع رجوعا إذا رجع بنفسه كقوله صد يصد صدودا وصد يصد صدا * (ذلك رجع بعيد) * أي ذلك صرف بعيد
قوله تعالى * (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) * يعني ما تأكل الأرض من لحومهم وعروقهم وما بقي منهم
ويقال تأكل الأرض جميع البدن إلا العصعص وهو عجب الذنب وذلك العظم آخر ما يبقى من البدن
فأول ما يعود ذلك العظم ويركب عليه سائر البدن * (وعندنا كتاب حفيظ) * يعني اللوح المحفوظ
قوله عز وجل * (بل كذبوا بالحق) * يعني كذبوا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم والبعث
* (لما جاءهم) * أي حين جاءهم * (فهم) * يعني قريشا * (في أمر مريج) * يعني في قول مختلف ملتبس
والمريج أن يقلق الشيء فلا يستقر ويقال مرج الخاتم في يدي مرجا إذا قلق للهزال
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال * (فهم في أمر مريج) * يقال من ترك الحق
أمرج عليه رأيه والتبس عليه دينه
ثم دلهم على قدرته على بعثهم بعد الموت بعظيم خلقه الذي يدل على وحدانيته فقال * (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها) * بغير عمد * (وزيناها) * بالكواكب * (وما لها من فروج) * يعني شقوق وصدوع وخلل
سورة ق 7 - 11
قوله تعالى * (والأرض مددناها) * يعني بسطناها مسير خمسمائة عام من تحت الكعبة * (وألقينا فيها رواسي) * يعني الجبال الثوابت
* (وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) * يعني حسن طيب من الثمار والنبات
قوله تعالى * (تبصرة) * يعني في هذا الذي ذكره من خلقه * (تبصرة) * لتبصروا به
316

ويقال عبرة
* (وذكرى) * يعني تفكرا وعظة
* (لكل عبد منيب) * يعني مخلص بالتوحيد
ويقال راجع إلى ربه
قوله تعالى * (ونزلنا من السماء ماء مباركا) * يعني المطر فيه البركة حياة لكل شيء * (فأنبتنا به جنات) * يعني البساتين * (وحب الحصيد) * يعني ما يخرج من سنبله
ويقال ما يحصد وما لا يحصد كل ما كان له حب ويقال هي الحبوب التي تحصد
قوله عز وجل * (والنخل باسقات) * يعني الطوال * (لها طلع) * يعني الكفري * (نضيد) * يعني مجتمع
نضد بعضه على بعض
ويقال ثمر منضود إذا كان متراكبا بعضه على بعض
ويقال إنما يسمى نضيدا ما كان في الغلاف * (رزقا للعباد) * يعني جعلناه طعاما للخلق
يعني الحبوب والثمر
* (وأحيينا به) * يعني بالماء * (بلدة ميتا) * إذا لم يكن فيها نبات فهذا كله صفات بركة المطر
ثم قال * (كذلك الخروج) * يعني هكذا الخروج من القبر
كما أحييت الأرض الميتة بالنبات فكذلك لما ماتوا وبقيت الأرض خالية أمطرت السماء أربعين ليلة كمني الرجل يدخل في الأرض فتنبت لحومهم وعروقهم وعظامهم ثم يحييهم
فذلك قوله * (كذلك الخروج) *
ثم عزى النبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على إيذاء الكفار
يعني لا تحزن بتكذيب الكفار إياك لأنك لست بأول نبي وكل أمة كذبت رسلها مثل نوح وهود عليهم السلام وغيرهم
سورة ق 12 - 16
قال عز وجل * (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس) * والرس بئر دون اليمامة وكان عليها قوم كذبوا رسلهم فأهلكهم الله تعالى
ثم قال * (وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط) * يعني قومه * (وأصحاب الأيكة) * يعني قوم شعيب * (وقوم تبع) * يعني قوم حمير
ويقال تبع كان اسم ملك
وروى وكيع عن عمران بن جرير عن أبي مجلز قال جاء عبد الله بن عباس إلى عبد الله بن سلام فسأله عن تبع فقال كان تبع رجلا من العرب ظهر على الناس وسبا فتية من الأحبار فكان يحدثهم ويحدثونه
فقال قومه إن تبعا ترك دينكم وتابع الفتية
فقال تبع للفتية ألا ترون إلى ما قال هؤلاء فقالوا بيننا وبينهم النار التي تحرق الكاذب وينجو منها الصادق
قال نعم
فقال تبع للفتية ادخلوها فتقلدوا مصاحفهم ثم دخلوها فانفرجت لهم حتى قطعوها
ثم قال لقومه ادخلوها فلما دخلوا وجدوا حر النار كفوا
فقال لهم لتدخلنها فدخلوها فلما توسطوا أحاطت بهم النار فأحرقتهم وأسلم تبع وكان رجلا صالحا
ويقال كان اسمه سعد بن ملكي
317

كرب وكنيته أبو كرب
وقيل قصة إسلام تبع خلاف ذلك وهو مذكور في مصحف الأول في آخره
* (كل كذب الرسل) * يعني جميع هؤلاء كذبوا رسلهم * (فحق وعيد) * يعني وجب عليهم عذابي
معناه فاحذروا يا أهل مكة مثل عذاب الأمم الخالية فلا تكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم قال عز وجل * (أفعيينا بالخلق الأول) * قال مقاتل يعني أعجزنا عن الخلق الأول حين خلقناهم ولم يكونوا شيئا
فكذلك نخلقهم ونبعثهم أي ما عيينا عن ذلك فكيف نعيي عن بعثهم
ويقال معناه أعيينا خلقهم الأول ولم يكونوا شيئا لأن الذي قد كان فإعادته أيسر في رأي العين من الابتداء
يقال عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه
وقال الزجاج هذا تقديم لأنهم اعترفوا أن الله عز وجل خلقهم في الابتداء ولم يكونوا شيئا
ثم قال * (بل هم في لبس من خلق جديد) * يعني في شك * (من خلق جديد) * يعني من البعث بعد الموت
ويقال بل أقاموا على شكهم
سورة ق 16 - 22
قوله عز وجل * (ولقد خلقنا الإنسان) * يعني جنس الإنسان وأراد به جميع الخلق * (ونعلم ما توسوس به نفسه) * يعني ما يحدث به قلبه ويتفكر في قلبه * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * يعني في القدرة عليه وحبل الوريد عرق يخالط القلب
ويقال هو العرق الذي داخل العنق الذي هو عرق الروح فأعلمه الله تعالى أنه أقرب إليه من ذلك العرق
ويقال الوريدان عرقان بين الحلقوم والعلباوين
والحبل هو الوريد وأضيف إلى نفسه لاختلاف لفظي اسميه
قوله عز وجل * (إذ يتلقى المتلقيان) * يعني يكتب الملكان عمله ومنطقه يعني يتلقيان منه ويكتبان
وقال أهل اللغة تلقى وتلقف بمعنى واحد
* (عن اليمين وعن الشمال قعيد) * يعني عن يمين ابن آدم وعن شماله قاعدان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وصاحب اليمين موكل على صاحب الشمال اثنان بالليل واثنان بالنهار وكان في الأصل قعيدان ولكن اكتفى بذكر أحدهما فقال قعيد
ثم قال عز وجل * (ما يلفظ من قول) * يعني ما يتكلم ابن آدم بقول " إلا لديه رقيب
318

عتيد) يعني عنده حافظ حاضر
وقال الزجاج * (عتيد) * أي ثابت لازم
قوله تعالى * (وجاءت سكرة الموت بالحق) * يعني جاءت غمرته بالحق أنه كائن
ويقال جاءت نزعات الموت * (بالحق) * يعني بالسعادة والشقاوة يعني يتبين له عند الموت
ويقال فيه تقديم ومعناه جاءت سكرة الحق بالموت
روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقرأ " وجاءت سكرة الحق بالموت " * (ذلك ما كنت منه تحيد) * يعني يقال له هذا الذي كنت تخاف منه وتكره
ويقال ذلك اليوم الذي كنت تفر منه
* (ونفخ في الصور) * يعني النفخة الأخيرة وهي نفخة البعث * (ذلك يوم الوعيد) * يعني العذاب في الآخرة * (وجاءت) * أي جاءت يوم القيامة * (كل نفس معها سائق وشهيد) * * (سائق) * يسوقها إلى المحشر ويسوقها إلى الجنة أو إلى النار
* (وشهيد) * يعني الملك يشهد عليها
وقال القتبي السائق ههنا قرينها من الشياطين يسوقها سمي سائقا لأنه يتبعها والشهيد الملك
ويقال الشاهد أعضاؤه
ويقال الليل والنهار والبقعة تشهد عليه
ويقال له * (لقد كنت في غفلة من هذا) * يعني من هذا اليوم فلم تؤمن به وقد ظهر عندك بالمعاينة * (فكشفنا عنك غطاءك) * يعني غطاء الآخرة
ويقال أريناك ما كان مستورا عنك في الدنيا
ويقال أريناك الغطاء الذي على أبصارهم كما قال * (وعلى أبصارهم غشاوة) * [البقرة 7] حيث لم يعقلوا * (فبصرك اليوم حديد) * أي نافذ ويقال شاخص بصره يديم النظر لا يطرف حين يعاين في الآخرة ما كان مكذبا به
ويقال * (حديد) * أي حاد كما يقال * (حفيظ) * يعني حافظ وقعيد بمعنى قاعد
وقال الزجاج هذا مثل ومعناه إنك كنت بمنزلة من عليه غطاء * (فبصرك اليوم حديد) * يعني علمك بما أنت فيه نافذ
سورة ق 23 - 30
قوله عز وجل * (وقال قرينه) * يعني الملك الذي كان يكتب عليه عمله * (هذا ما لدي عتيد) * يعني هذا الذي وكلتني به قد أتيتك به وهو حاضر
يقول الله عز وجل * (ألقيا في جهنم) * يعني يقول للملكين ألقيا في جهنم * (كل كفار عنيد) * وقال بعضهم هذا أمر للملك الواحد بلفظ الاثنين وقال الفراء يرى أصل هذا أن الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة نفر فجرى كلام الواحد على صاحبيه ألا ترى أن الشعراء أكثر شيء قيلا يا صاحبي ويا خليلي قال الشاعر فقلت لصاحبي لا تحبساني وأدنى ما يكون الأمر
319

والنهي في الإعراب اثنان فجرى كلامهم على ذلك ومثل هذا قول امرئ القيس
(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
*)
ويقال * (ألقيا في جهنم) * على معنى تكرير الأمر يعني ألق ألق وهو على معنى التأكيد وكذلك في قوله قفا معناه قف قف
وقال الزجاج عندي أن قوله * (القيا) * أمر للملكين وقال بعضهم العرب تأمر الأمر للواحد بلفظ الاثنين وكان الحجاج يقول يا حرسي اضربا عنقه " كل كفار عبيد " يعني كل جاحد بتوحيد الله تعالى معرض عن الإيمان وقال مقاتل يعني الوليد بن المغيرة
وقيل هذا في جميع الكفار الذين ذكر صفتهم في هذه الآية وهي قوله * (مناع للخير) * يعني بخيلا لا يخرج حق الله من ماله ويقال * (مناع للخير) * يعني يمتنع عن الإسلام * (معتد مريب) * المعتدي هو الظلوم الغشوم والمريب الشاك في توحيد الله تعالى
قوله تعالى * (الذي جعل مع الله إلها آخر) * يعني أشرك بالله عز وجل * (فألقياه في العذاب الشديد) * يعني في النار * (قال قرينه) * يعني شيطانه * (ربنا ما أطغيته) * يعني لم يكن لي قوة أن أضله " ولكن كن في ضلال بعيد " يعني في خطأ طويل عن الحق
يقول الله تعالى لابن آدم وشيطانه * (قال لا تختصموا لدي) * أي لا تختصموا عندي * (وقد قدمت إليكم بالوعيد) * يعني أخذت عليكم الحجة وأخبرتكم بالكتاب
والرسول * (ما يبدل القول لدي) * يعني لا يغير قضائي وحكمي الذي حكمت ويقال لا يكذب وعيدي * (وما أنا بظلام للعبيد) * يعني لا أعذب أحدا بغير ذنب ويقال * (ما يبدل القول لدي) * يعني لا يغير عن جهته ولا يحذف منه ولا يزاد فيه لأني أعلم كيف ضلوا وكيف أضللتموهم
وروى سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) قالوا وإياك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (وإياي ولكن الله عز وجل أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير) وعن الربيع عن أنس قال سألت أبا العالية عن قوله عز وجل * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) * [الزمر 31] وههنا يقول * (لا تختصموا لدي) * فقال إحداهما في أهل النار والأخرى في المؤمنين في المظالم فيما بينهم وقال مجاهد * (ما يبدل القول لدي) * [ق 29] يعني لقد قضيت ما أنا قاض
قوله عز وجل * (يوم نقول لجهنم) * قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر * (يقول) * بالياء
320

يعني يقول الله تعالى وقرأ الباقون بالنون ومعناه كذلك يوم صار نصبا على معنى ما يبدل القول لدي في ذلك اليوم ويقال على معنى أنذرهم يوم كقوله * (وأنذرهم يوم الحسرة) * [مريم 39]
ثم قال * (هل امتلأت) * يعني هل أوفيتك ما وعدتك وهو قوله * (لأملأن جهنم) * * (فتقول) * النار * (هل من مزيد) * يعني هل من زيادة وقال عطية هل من موضع ويقال معناه هل امتلأت أي قد امتلأت فليس من مزيد ويقال وإنما طلبت الزيادة تغيظا لمن فيها
وروى وكيع بإسناده عن أبي هريرة قال لا تزال جهنم تسأل الزيادة حتى يضع الله فيها قدمه فتقول جنهم يا رب قط قط يعني حسبي حسبي وقال في رواية الكلبي نحو هذا ويقال تضيق بأهلها حتى لا يكون فيها مدخل لرجل واحد
قال أبو الليث قد تكلم الناس في مثل هذا الخبر قال بعضهم نؤمن به ولا نفسره وقال بعضهم نفسره على ما جاء بظاهر لفظه وتأوله بعضهم وقال معنى الخبر بكسر القاف يضع قدمه وهم أقوام سالفة فتمتلئ بذلك
سورة ق 31 - 36
قوله عز وجل * (وأزلفت الجنة) * يعني قربت وأدنيت الجنة * (للمتقين) * الذين يتقون الشرك والكبائر ويقال زينت الجنة
ثم قال عز وجل * (غير بعيد) * يعني ينظرون إليها قبل دخولها ويقال * (غير بعيد) * يعني دخولهم غير بعيد فيقال لهم * (هذا ما توعدون) * في الدنيا * (لكل أواب حفيظ) * يعني مقبل إلى طاعة الله * (حفيظ) * لأمر الله تعالى في الخلوات وغيرها ويقال الأواب الحفيظ الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها وروى مجاهد عن عبيد بن عمير مثل هذا
قوله تعالى * (من خشي الرحمن بالغيب) * يعني يخاف الله عز وجل فيعمل بما أمره الله وانتهى عما نهاه وهو في غيب منه * (وجاء بقلب منيب) * يعني مقبلا على طاعة الله مخلصا ويقال لهم * (ادخلوها بسلام) * ذكر في أول الآية بلفظ الوحدان وهو قوله * (وجاء بقلب منيب) * ثم ذكر بلفظ الجماعة وهو قوله * (ادخلوها بسلام) * لأن لفظه من اسم جنس مرة تكون عبارة عن الجماعة ومرة عن الوحدان * (ادخلوها بسلام) * يعني بسلامة من العذاب والموت والأمراض والآفات * (ذلك يوم الخلود) * أي لا خروج منه
قوله عز وجل * (لهم ما يشاؤون فيها) * يعني يتمنون فيها * (ولدينا مزيد) * يعني زيادة على ما يتمنون من التحف والكرامات ويقال هو الرؤية كقوله * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * [يونس 26]
321

ثم قال عز وجل * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) * يعني قبل أهل مكة قوة * (هم أشد منهم بطشا) * يعني أشد من أهل مكة * (فنقبوا في البلاد) * يعني طافوا وتقلبوا في أسفارهم وتجاراتهم ويقال تغربوا في البلاد * (هل من محيص) * يعني هل من فرار وهل من ملجأ من عذاب الله
سورة ق 37 - 42
قوله عز وجل * (إن في ذلك لذكرى) * يعني فيما صنع بقومك * (لمن كان له قلب) * يعني عقلا لأنه يعقل بالقلب فكني عنه * (أو ألقى السمع) * يعني استمع إلى القرآن * (وهو شهيد) * يعني قلبه حاضر غير غائب عنه وقال القتبي * (وهو شهيد) * يعني استمع كلام الله وهو شاهد الفهم والقلب ليس بغافل ولا ساه
وروى معمر عن قتادة قال * (لمن كان له قلب) * من هذه الأمة * (أو ألقى السمع) * قال رجل من أهل الكتاب استمع إلى القرآن وهو شهيد على ما في يديه من كتاب الله تعالى وروي عن عمر أنه قرأ * (فنقبوا) * بالتخفيف يعني فتبينوا ونظروا وذكروا ومنه قيل للعريف نقيب القوم لأنه يتعرف أمرهم ويبحث عنهم
وقرأ الباقون بالتشديد يعني طوفوا
وقوله تعالى * (هل من محيص) * [ق 36] يعني هل من ملجأ من الموت وقرأ يحيى بن يعمر * (فنقبوا) * بضم النون وكسر القاف يعني ففتشوا
قوله عز وجل * (ولقد خلقنا السماوات والأرض) * وذلك أن اليهود قالوا لما خلق الله السماوات والأرض وفرغ منهما استراح في يوم السبت فنزل قوله * (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) * يعني ما أصبانا من إعياء وإنما يستريح من يعيى
قوله عز وجل * (فاصبر على ما يقولون) * من المنكر وهو قولهم استراح ويقال فاصبر على ما يقولون من التكذيب وقال في رواية الكلبي نزلت في المستهزئين من قريش وفي أذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم * (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) * يعني صل لربك صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر * (
ومن الليل) * يعني المغرب والعشاء * (فسبحه) * يعني صل له وهو المغرب والعشاء * (وأدبار السجود) * يعني ركعتي المغرب
قرأ ابن كثير ونافع وحمزة * (وأدبار) * بكسر الألف والباقون بالنصب * (وأدبار) *
فمن قرأ بالنصب فهو جمع
322

الدبر فهو جمع الدبر ومن قرأ بالكسر فعلى مصدر أدبر يدبر إدبارا قال أبو عبيدة هكذا نقرأ بالنصب لأنه جمع الدبر وإنما الإدبار هو المصدر كقولك أدبر يدبر إدبارا ولا إدبار للسجود وإنما ذلك للنجوم
قوله عز وجل * (واستمع يوم يناد المناد) * قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير " المنادي " بالياء في الوصل وهو الأصل في اللغة والباقون بغير ياء لأن الكسر يدل على فاكتفى به ومعنى الآية اعمل واجتهد واستعد ليوم القيامة يعني استمع صوت إسرافيل * (من مكان قريب) * يعني من صخرة بيت المقدس * (يوم يسمعون الصيحة بالحق) * يعني نفخة إسرافيل بالحق أنها كائنة وقال مقاتل في قوله * (من مكان قريب) * قال صخرة بيت المقدس وهي أقرب الأرض من السماء بثمانية عشر ميلا وقال الكلبي باثني عشر ميلا * (ذلك يوم الخروج) * من قبورهم إلى المحاسبة ثم إلى إحدى الدارين إما إلى الجنة وإما إلى النار
وقال أبو عبيدة * (يوم الخروج) * اسم من أسماء يوم القيامة واستشهد بقول العجاج
(أليس يوم سميت خروجا
* أعظم يوما سميت عروجا))
سورة ق 43 - 45
قوله تعالى * (إنا نحن نحيي ونميت) * يعني نحيي في الدنيا للموت ونميت في الدنيا للإحياء ويقال * (إنا نحن نحيي الموتى) * ونميت الأحياء * (وإلينا المصير) * يعني المرجع في الآخرة يعني مصير الخلائق كلهم
قوله عز وجل * (يوم تشقق الأرض عنهم سراعا) * يعني تصدع الأرض عنهم قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر * (تشقق) * بتشديد الشين والباقون بالتخفيف لأنه لما حذف إحدى التاءين ترك الشين على حاله ثم قال * (سراعا) * يعني خروجهم من القبور سراعا * (ذلك حشر علينا يسير) * يعني جمع الخلائق علينا هين * (نحن أعلم بما يقولون) * في البعث من التكذيب * (وما أنت عليهم بجبار) * يعني بمسلط يعني لم تبعث لتجبرهم على الإسلام وإنما بعثت بشيرا ونذيرا وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
ثم قال * (فذكر بالقرآن) * يعني فعظ بالقرآن بما وعد الله فيه * (من يخاف وعيد) * يعني من يخاف عقوبتي وعذابي
323

سورة الذاريات كلها مكية وهي ستون آية
سورة الذارايات 1 - 9
قوله تبارك وتعالى * (والذاريات ذروا) * أقسم الله عز وجل بالرياح إذا أذرت ذروا وروى يعلى بن عطاء عن ابن عمر قال الرياح ثمانية أربعة منها رحمة وأربعة منها عذاب فالرحمة منها الناشرات والمبشرات والذاريات والمرسلات وأما العذاب العاصف والقاصف والصرصر والعقيم وعن أبي الطفيل قال شهدت عليا رضي الله عنه وهو يخطب ويقول سلوني عن كتاب الله عز وجل فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم بالليل أنزلت أم بالنهار فسأله ابن الكواء فقال له ما * (الذاريات ذروا) * قال الرياح
قال و * (فالحاملات وقرا) * قال السحاب قال فما * (فالجاريات يسرا) * قال السفن قال فما * (فالمقسمات أمرا) * قال الملائكة
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال * (والذاريات) * الرياح * (ذروا) * قال ما ذرت الريح * (فالحاملات وقرا) * يعني السحاب الثقال الموقرة من المطر * (فالجاريات يسرا) * يعني السفن جرت بالتسيير على الماء * (فالمقسمات أمرا) * يعني أربعة من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت لكل واحد منهم أمر مقسوم وهم المدبرات أمرا أقسم الله تعالى بهذه الآيات * (إنما توعدون) * يعني الذي توعدون من قيام الساعة * (لصادق) * يعني لكائن ويقال في الآية مضمر فأقسم برب الذاريات يعني ورب الرياح الذاريات ورب السحاب الحاملات ورب السفن الجاريات ورب الملائكة المقسمات * (إنما توعدون لصادق) *
* (وإن الدين لواقع) * يعني المجازاة على أعمالهم لواقع ثم بين في آخر الآية ما لكل فريق من الجزاء فبين جزاء أهل النار أنهم يفتنون وبين جزاء المتقين أنهم في جنات وعيون
قوله عز وجل * (والسماء ذات الحبك) * أقسم بالسماء ذات الحسن والجمال وقال علي بن أبي طالب يعني ذات الخلق الحسن
وقال مجاهد الحبك المتقن البنيان يعني البناء المحكم
ويقال * (الحبك) * يعني ذات الطرائق ويقال للماء القائم إذا ضربته الريح
324

فصارت فيه الطرائق له حبك وكذلك الرمل إذا هبت عليه الريح فرأيت فيه كالطرائق فبذلك حبك
قوله تعالى * (إنكم لفي قول مختلف) * يعني متناقض مرة قالوا ساحر ومرة قالوا مجنون والساحر عندهم من كان عالما غاية في العلم والمجنون من كان جاحدا غاية في الجهل فتحيروا فقالوا مرة مجنون ومرة ساحر ويقال * (إنكم لفي قول مختلف) * يعني مصدقا ومكذبا يعني يؤمن به بعضهم
ويكفر به بعضهم
ثم قال عز وجل * (يؤفك عنه من أفك) * يعني يصرف عنه من صرف وذلك أن أهل مكة أقاموا رجالا على عقاب مكة يصرفون الناس فمنهم من يأخذ بقولهم ويرجع ومنهم من لا يرجع فقال يصرف عنه من قد صرفه الله عن الإيمان وخذله ويقال يصرف عنه من قد صرفه يوم الميثاق ويقال يصرف عنه من كان مخذولا لم يكن من أهل الإيمان
سورة الذاريات 10 - 16
ثم قال عز وجل * (قتل الخراصون) * يعني لعن الكاذبون * (الذين هم في غمرة) * يعني في جهالة وعماء وغفلة عن أمر الآخرة * (ساهون) * يعني لاهين عن الإيمان وعن أمر الله تعالى
قوله تعالى * (يسألون أيان يوم الدين) * يعني أي أوان يكون يوم الحساب استهزاء منهم به فأخبر الله تعالى عن ذلك اليوم فقال * (يوم هم على النار يفتنون) * يعني بالنار يحرقون ويعذبون
ويقول لهم الخزنة * (ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون) * يعني هذا العذاب الذي كنتم به تستهزئون
يعني تستعجلون على وجه الاستهزاء
ثم بين ثواب المتقين فقال عز وجل * (إن المتقين في جنات وعيون) * يعني في بساتين وأنهار
قوله تعالى * (آخذين ما آتاهم ربهم) * يعني قابضين ما أعطاهم ربهم من الثواب * (إنهم كانوا قبل ذلك) * في الدنيا * (محسنين) * بأعمالهم
* (آخذين) * نصب على الحال ومعناه * (في جنات وعيون) * في حال أخذ ما آتاهم ربهم
سورة الذاريات 17 - 22
325

ثم قال * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) * يعني قليلا من الليل ما ينامون
وقال بعضهم * (كانوا قليلا) * تم الكلام يعني مثل هؤلاء المتقين * (كانوا قليلا) *
ثم أخبر عن أعمالهم فقال * (من الليل ما يهجعون) * يعني لا ينامون بالليل كقوله * (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) * [الفرقان 64]
وقال الضحاك كانوا من النائمين قليلا
وقال الحسن لا ينامون إلا قليلا
وقال الربيع بن أنس لا ينامون بالليل إلا قليلا * (وبالأسحار هم يستغفرون) * يعني يصلون عند السحر
ويقال يصلون بالليل ويستغفرون عند السحر عن ذنوبهم * (وفي أموالهم حق) * يعني نصيب للفقراء * (للسائل والمحروم) * السائل المسكين الذي يسأل الناس
* (والمحروم) * المتعفف الذي لا يسأل الناس
ويقال * (المحروم) * المحترف الذي لا يبلغ عيشه
وقال الشعبي أعياني أن أعلم من المحروم
روى سفيان عن ابن إسحاق عن قيس قال سألت ابن عباس من السائل والمحروم فقال السائل الذي يسأل والمحروم المحارب الذي ليس له سهم في الغنيمة وهكذا قال إبراهيم النخعي ومجاهد والربيع بن أنس
وروى عكرمة عن ابن عباس قال المحروم الفقير الذي إذا خرج إلى الناس استعف ولم يعرف مكانه ولا يسأل الناس فيعطونه
وقال الزجاج المحروم الذي لا ينمو له مال ويقال هي بالفارسية بي دولت يعني لا إقبال له
ثم قال * (وفي الأرض آيات للموقنين) * يعني فيمن أهلك قبلهم لهم عبرة
ويقال فيها علامة وحدانية الله تعالى كأنه قال جعلت جميع الأشياء مرآتك لتنظر إليها وترى ما فيها ومراد النظر في المرآة رؤية من لم ير ليرى فكأنه قال فانظر في آيات صنعي لتعلم أني صانع كل الأشياء فإذا نظرت إلى النقش والنقش يدل إلى نقاشه وإذا نظرت إلى النفس وعجائب تركيبها يدل على خالقها وإذا نظرت في الأرض فمختلف الأشياء عليها يدل إلى ربها وهي البحار والجبال والأنهار والثمار
* (وفي أنفسكم) * يعني وعلامة وحدانيته في أنفسكم * (أفلا تبصرون) * يعني تتفكرون في خلق أنفسكم كيف خلقكم وهو قادر على أن يبعثكم
قوله عز وجل * (وفي السماء رزقكم) * يعني من السماء يأتي سبب رزقكم وهو المطر
ويقال وعلى خالق السماء رزقكم * (وما توعدون) * يعني ما توعدون من الثواب والعقاب والخير والشر
قال مجاهد * (وما توعدون) * يعني الجنة والنار
وهكذا قال الضحاك
سورة الذاريات 23 - 29
326

سورة الذاريات 30 - 37
ثم قال عز وجل * (فورب السماء والأرض) * أقسم الرب بنفسه * (إنه لحق) * يعني ما قسمت من الرزق لكائن * (مثل ما أنكم تنطقون) * يعني كما تقولون لا إله إلا الله بمعنى كما أن قولكم لا إله إلا الله حق كذلك قولي سأرزقكم حق
ويقال معناه كما أن الشهادة واجبة عليكم فكذلك رزقكم واجب علي
ويقال معناه هو الذي ذكر في أمر الآيات والرزق حق يعني صدق مثل ما أنكم تنطقون
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أبى ابن آدم أن يصدق ربه حتى أقسم له * (فورب السماء والأرض إنه لحق) *)
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر * (مثل ما أنكم تنطقون) * بضم اللام والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم فهو نعت للحق وصفة له
ومن قرأ بالنصب فهو على التوكيد على معنى أنه لحق حقا مثل نطقكم
قوله عز وجل * (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) * يعني جاء جبريل مع أحد عشر ملكا عليهم السلام * (المكرمين) * أكرمهم الله تعالى وقال أكرمهم إبراهيم عليه السلام وأحسن عليهم القيام * (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما) * فسلموا عليه فرد عليهم السلام * (قال سلام) * قرأحمزة والكسائي " قال سلم " أي أمري سلم
والباقون * (سلام) * أي أمري * (سلام) * أي صلح
ثم قال * (قوم منكرون) * يعني أنكرهم ولم يعرفهم وقال كانوا لا يسلمون في ذلك الوقت فلما سمع منهم السلام أنكرهم
* (فراغ إلى أهله) * يعني عمد إلى أهله ويقال عدل ومال إلى أهله
ويقال عدل من حيث لا يعلمون لأي شيء عدل ويقال راغ فلان عنا إذا عدل عنهم من حيث لا يعلمون
* (فجاء بعجل سمين) * قال بعضهم كان لبن البقرة كله سمنا فلهذا كان العجل سمينا * (فقربه إليهم) * فلم يأكلوا * (فقال ألا تأكلون) * فقالوا نحن لا نأكل بغير ثمن
فقال إبراهيم كلوا وأعطوا الثمن
قالوا وما ثمنه فقال إذا أكلتم فقولوا بسم الله وإذا فرغتم فقولوا الحمد لله فتعجبت الملائكة عليهم السلام لقوله فلما رآهم لا يأكلون * (فأوجس منهم خيفة) * يعني أظهر في نفسه خيفة
ويقال ملأ نفسهم خيفة فلما رأوه يخاف * (قالوا لا تخف) * منا يعني لا تخش منا * (وبشروه بغلام عليم) * يعني إسحاق * (فأقبلت امرأته في صرة) * يعني أخذت امرأته في صيحة * (فصكت وجهها) * يعني ضربت بيديها خديها تعجبا * (وقالت عجوز عقيم) * يعني عجوزا عاقرا لم تلد قط كيف يكون لها ولد فقال لها جبريل قال * (كذلك قال ربك إنه) * يكون لك ولد * (هو الحكيم) * في أمره حكم بالولد بعد الكبر * (العليم) * بخلقه
ويقال عليم بوقت الولادة
327

فلما رآهم أنهم الملائكة " قال " لهم * (فما خطبكم أيها المرسلون) * يعني ما أمركم وما شأنكم ولماذا جئتم أيها المرسلون * (قالوا إنا أرسلنا) * يعني قال جبريل عليه السلام أرسلنا الله تعالى * (إلى قوم مجرمين) * يعني قوما كفارا مشركين * (لنرسل عليهم) * يعني لكي نرسل عليهم * (حجارة من طين) * مطبوخ كما يطبخ الآجر * (مسومة عند ربك للمسرفين) * يعني معلمة ويقال مخططة بسواد وحمرة
ويقال مكتوب على كل واحد اسم صاحب الذي يصيبه
ثم قال * (عند ربك) * يعني جاءت الحجارة من عند ربك للمشركين فاغتم إبراهيم لأجل لوط
قال الله تعالى * (فأخرجنا من كان فيها) * أي في قريات لوط * (من المؤمنين) * يعني من المصدقين * (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) * يعني غير بيت لوط
قوله عز وجل * (وتركنا فيها آية) * يعني أبقينا في قريات لوط آية
يعني عبرة في هلاكهم من بعدهم
* (للذين يخافون العذاب الأليم) * يعني العذاب الشديد
سورة الذاريات 38 - 40
ثم قال * (وفي موسى) * عطف على قوله * (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) * [الذاريات 21] * (وفي موسى) * * (إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين) * يعني حجة بينة وهي اليد والعصا * (فتولى بركنه) * يعني أعرض عنه فرعون بجموعه يعني مع جموعه وجنوده
ويقال * (فتولى بركنه) * يعني أعرض بجانبه * (وقال ساحر أو مجنون) * يعني قال لموسى هو ساحر أو مجنون * (فأخذناه وجنوده) * يعني عاقبناه وجموعه * (فنبذناهم في اليم) * قال الكلبي يعني أغرقناهم في البحر وقال مقاتل يعني في النيل * (وهو مليم) * يعني يلوم نفسه ويلومه الناس
وقال * (مليم) * أي مذنب
وقال أهل اللغة ألام الرجل إذا أتى بذنب يلام عليه
سورة الذاريات 41 - 45
ثم قال * (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) * يعني سلطنا عليهم الريح الشديد وإنما سميت عقيما لأنها لا تأتي على شيء إلا جعلته كالرميم لا خير فيه
ويقال سميت عقيما لأنها لا تلقح الأشجار ولا تثير السحاب وهي الدبور
وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس قال ما أنزل الله قطرة من ماء إلا بمثقال ولا أنزل سفرة من ريح إلا بمكيال إلا قوم نوح
328

وقوم عاد طغى على خزانة الماء فلم يكن لهم عليه سبيل وعتت الريح يوم عاد على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل وروى عكرمة عن ابن عباس قال * (العقيم) * الذي لا منفعة لها
ثم قال " ما تذر من شيء " يعني ما تترك من شيء هو لهم ولا منهم * (أتت عليه إلا جعلته كالرميم) * يعني مرت عليه إلا جعلته كالرماد
ويقال الرميم الورق الجاف المتحطم مثل الهشيم المحتضر بعد ما كانوا كنخل منقعر
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما أرسل على عاد من الريح إلا مثل خاتمي هذا
يعني إن الريح العقيم تحت الأرض فأخرج منها مثل ما يخرج من ثقب الخاتم فأهلكهم
ثم قال تعالى * (وفي ثمود) * يعني قوم صالح * (إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين) * يعني قال لهم نبيهم صالح عليه السلام عيشوا إلى منتهى آجالكم ولا تعصوا أمر الله * (فعتوا عن أمر ربهم) * يعني تركوا طاعة ربهم * (فأخذتهم الصاعقة) * يعني العذاب
قرأ الكسائي " فأخذتهم الصعقة " بغير ألف وجزم العين
والباقون بألف وهي الصيحة التي أهلكتهم بالصعقة من قولك صعقتهم الصاعقة
يعني أهلكتهم
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ " صعقة " مثل الكسائي
* (وهم ينظرون) * يعني ظهرت النار من تحت أرجلهم وهم يرونها بأعينهم
ويقال سمعوا الصيحة وهم ينظرون متحيرون
* (فما استطاعوا من قيام) * يعني ما استطاعوا أن يقوموا لعذاب الله تعالى حتى أهلكوا
* (وما كانوا منتصرين) * يعني ممتنعين من العذاب
سورة الذاريات 46 - 53
ثم قال * (وقوم نوح) * وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي * (وقوم نوح) * بكسر الميم يعني في قوم نوح كما قال * (وفي ثمود) * والباقون بالنصب يعني وأهلكنا قوم نوح ويقال معناه فأخذناه وأخذنا قوم نوح * (من قبل) * هؤلاء الذين سميناهم * (إنهم كانوا قوما فاسقين) * يعني عاصين
قوله عز وجل * (والسماء بنيناها بأيد) * يعني خلقناها أو حملناها بقوة وقدرة * (وإنا لموسعون) * يعني نحن قادرون على أن نوسعها كما نريد ويقال * (والسماء) * صار نصبا لنزع الخافض ومعناه و * (وفي السماء) * [الزخرف 84] آية
ثم قال * (والأرض فرشناها) * يعني وفي الأرض آية بسطناها مسيرة خمسمائة عام من
329

تحت الكعبة * (فنعم الماهدون) * يعني نعم الماهدون نحن ويقال في قوله * (وإنا لموسعون) * يعني نحن جعلنا بينهما وبين الأرض سعة
ثم قال عز وجل " ومن كل شيء خلقنا زوجين " يعني صنفين الذكر والأنثى والأحمر والأبيض والليل والنهار والدنيا والآخرة والشمس والقمر والشتاء والصيف
* (لعلكم تذكرون) * يعني تتعظون فيما خلق الله فتوحدوه
قوله عز وجل * (ففروا إلى الله) * يعني توبوا إلى الله من ذنوبكم ويقال معناه * (ففروا) * من الله * (إلى الله) * أو * (ففروا) * من عذاب الله إلى رحمة الله أو * (ففروا) * من معصية الله إلى طاعة الله
ومن الذنوب إلى التوبة
* (إني لكم منه نذير مبين) * يعني مخوفا من عذاب الله تعالى بالنار * (ولا تجعلوا مع الله إلها آخر) * يعني لا تقولوا له شريكا وولدا * (إني لكم نذير مبين) * يعني فإن فعلتم فإني لكم مخوف من عذابه فلم يقبلوا قوله وقالوا هذا * (ساحر أو مجنون) *
يقول الله تعالى تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم * (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول) * يعني هكذا ما أتى في الأمم الخالية من رسول * (إلا قالوا ساحر أو مجنون) * كقول كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم * (أتواصوا به) * يعني توافقوا وتواطؤوا فيما بينهم
وأوصى الأول الآخر أن يقولوا ذلك
ويقال توافقوا وتواطؤوا به كل قوم وجعلوا كلمتهم واحدة أن يقولوا * (ساحر أو مجنون) *
قال الله عز وجل * (بل هم قوم طاغون) * يعني عاتين في معصية الله تعالى
سورة الذاريات 54 - 60
ثم قال * (فتول عنهم) * يعني فأعرض عنهم يا محمد بعد ما بلغت الرسالة وأعذرت * (فما أنت بملوم) * يعني لا تلام على ذلك لأنك قد فعلت ما عليك * (وذكر) * يعني عظ أصحابك بالقرآن * (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * يعني المصدقين تنفعهم العظة
ويقال فعظ أهل مكة * (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * يعني من قدر لهم الإيمان
ثم قال عز وجل * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * يعني ما خلقتهم إلا أمرتهم بالعبادة فلو أنهم خلقوا للعبادة لما عصوا طرفة عين
وقال مجاهد يعني ما خلقتهم إلا لآمرهم وأنهاهم
ويقال * (إلا ليعبدون) * يعني إلا ليوحدون وهم المؤمنون وهم خلقوا
330

للتوحيد والعبادة وخلق بعضهم لجنهم كما قال * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * [الأعراف 179] فقد خلق كل صنف للأمر والنهي الذي يصلح له
ثم قال * (ما أريد منهم من رزق) * يعني ما خلقتهم لأن يرزقوا أنفسهم * (وما أريد أن يطعمون) * يعني لا أكلفهم أن يطعموا أحدا من خلقي
وأصل هذا أن الخلق عباد الله وعياله فمن أطعم عيال رجل ورزقهم فقد رزقه إذا كان رزقهم عليه
ثم قال * (إن الله هو الرزاق) * يعني * (الرزاق) * لجميع خلقه * (ذو القوة المتين) * يعني * (ذو القوة) * على أعدائه الشديد العقوبة لهم و * (المتين) * في اللغة الشديد القوي
قرأ الأعمش * (ذو القوة المتين) * بكسر النون جعله من نعت القوة وقراءة العامة بالضم ومعناه * (إن الله هو الرزاق) * وهو * (ذو القوة المتين) *
قوله عز وجل * (فإن للذين ظلموا) * يعني أشركوا وهم مشركو مكة * (ذنوبا) * يعني نصيبا من العذاب * (مثل ذنوب أصحابهم) * يعني مثل نصيب أصحابهم من عذاب الذين مضوا وأصل الذنوب في اللغة هو الدلو الكبير فكني عنه لأنه تتابع
يعني مثل عذاب الذين أهلكوا نحو قوم عاد وثمود وغيرهم * (فلا يستعجلون) * يعني بالعذاب لأن النضر بن الحارث كان يستعجل بالعذاب فأمهله إلى يوم بدر ثم قتل في ذلك اليوم وصار إلى النار
قوله عز وجل * (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون) * يعني من عذاب يوم القيامة
والويل الشدة من العذاب ويقال الويل واد في جهنم والله سبحانه أعلم
331

سورة الطور كلها مكية وهي أربعون وتسع آيات
سورة الطور 1 - 8
قوله تبارك وتعالى * (والطور) * أقسم الله تعالى بالجبل وكل جبل فهو طور بلغة النبط ويقال بلغة السريانية ولكن عني به الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام بمدين واسمه زبير
ثم قال * (وكتاب مسطور) * يعني اللوح المحفوظ
ويقال أعمال بني آدم * (في رق منشور) * يعني في صحيفة منشورة كما قال " ويخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " [الإسراء 13] يعني مفتوحا يقرؤونه
ويقال * (كتاب مسطور) * يعني القرآن
* (في رق منشور) * يعني المصاحف ويقال في اللوح المحفوظ
ثم قال * (والبيت المعمور) * وهو في السماء السابعة
ويقال في السماء السادسة ويقال في السماء الرابعة
وروى وكيع بإسناده عن علي وابن عباس في قوله * (والبيت المعمور) * قالا هو بيت في السماء حيال الكعبة يزوره كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه إلى يوم القيامة
قال بعضهم بناه الملائكة قبل أن يخلق آدم عليه السلام وقال بعضهم هو البيت الذي بناه آدم بمكة فرفعه الله تعالى في أيام الطوفان إلى السماء بحيال الكعبة
وقال بعضهم أنزل الله بيتا من ياقوتة في زمان آدم عليه السلام ووضع بمكة فكان آدم يطوف به وذريته من بعده إلى زمن الطوفان فرفع إلى السماء وهو * (البيت المعمور) * طوله كما بين السماء والأرض
ثم قال * (والسقف المرفوع) * يعني السماء المرتفعة من الأرض مقدار خمسمائة عام * (والبحر المسجور) * يعني البحر الممتلئ تحت العرش وهو بحر مكفوف يقال له بحر الحيوان يحمي الله به الموتى يوم القيامة فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء
ويقال أقسم بخالق هذه الأشياء * (إن عذاب ربك لواقع) * يعني العذاب الذي أوقع للكفار فهو كائن * (ما له من دافع) * يعني لا يقدر أحد أن يدفع عنهم العذاب
سورة الطور 9 - 11
332

سورة الطور 12 - 16
ثم بين أن ذلك العذاب في أي يوم يكون فقال * (يوم تمور السماء مورا) * يعني تدور السماء بأهلها دروا كدوران الرحى وتموج بعضهم في بعض من الخوف
صار اليوم نصبا لنزع الخافض ومعناه أن عذاب ربك لواقع في * (يوم تمور السماء مورا) * يعني في يوم القيامة * (وتسير الجبال سيرا) * يعني * (تسير) * على وجه الأرض * (سيرا) * مثل السحاب حتى تستوي بالأرض * (فويل) * الشدة من العذاب * (يومئذ) * يعني يوم القيامة " للمكذيبن " بيوم القيامة
ثم نعتهم فقال * (الذين هم في خوض يلعبون) * يعني في باطل يلهون ويهزأون
قوله عز وجل * (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) * يعني تدفعهم خزنة جهنم ويقال * (يدعون) * يعني يزعجون إليها إزعاجا شديدا ويدفعون دفعا عنيفا
ومنه قوله تعالى * (يدع اليتيم) * [الماعون 2] أي يدفع عما يجب له
ويقال * (دعا) * يعني دفعا على وجوههم يجرون فإذا دنوا منها قالت لهم الخزنة * (هذه النار التي كنتم بها تكذبون) * يعني لم تصدقوا بها ولم تأمنوا بها في الدنيا
* (أفسحر هذا) * العذاب الذي ترون لأنفسكم لأنكم قلتم في الدنيا للرسول ساحر أو مجنون
* (أم أنتم لا تبصرون) * النار
ويقال بل أنتم لا تعقلون
ثم قال لهم * (اصلوها) * يعني ادخلوا فيها * (فاصبروا أو لا تصبروا) * يعني فإن صبرتم أو لم تصبروا فهو * (سواء عليكم) * اللفظ لفظ الأمر المراد به الخبر
يعني إن صبرتم أو لم تصبروا فهو * (سواء عليكم) * فلا تنجون منها أبدا * (إنما تجزون ما كنتم تعملون) * من الكفر والتكذيب
سورة الطور 17 - 24
ثم بين حال المتقين فقال * (إن المتقين في جنات) * يعني الذين يتقون الشرك والفواحش في بساتين * (ونعيم فاكهين) * يعني معجبين ويقال ناعمين ويقال فرحين
* (بما آتاهم ربهم) * في الجنة من الكرامة * (ووقاهم ربهم عذاب الجحيم) * يعني دفع عنهم عذاب النار
333

ويقول لهم * (كلوا واشربوا) * يعني كلوا من ألوان الطعام والثمار واشربوا من ألوان الشراب * (هنيئا) * يعني لا داء ولا غائلة فيه ولا يخاف في الأكل والشرب من الآفات ما يكون في الدنيا * (بما كنتم تعملون) * يعني هذا الثواب لأعمالكم التي عملتم في الدنيا
ثم قال * (متكئين على سرر) * يعني نائمين على سرر * (مصفوفة) * قد صف بعضها إلى بعض وكل من كان اشتاق إلى صديقه يلتقيه
* (وزوجناهم بحور عين) * يعني بيض العين حسان الأعين
قوله تعالى * (والذين آمنوا) * يعني صدقوا بالله ورسوله وصدقوا بالبعث * (واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) * يعني ألحقناهم ذرياتهم
قرأ أبو عمرو " واتبعناهم ذرياتهم " " ألحقنا بهم ذرياتهم " الثلاث كلها بالألف
وقرأ نافع اثنان بغير ألف والآخر بالألف
وقرأ ابن عامر الأول بغر ألف والآخران بالألف والباقون كلها بغير ألف فمن قرأ * (أتبعناهم) * معناه ألحقناهم يعني الذين آمنوا وجعلنا ذريتهم مؤمنين ألحقنا بهم ذريتهم في الجنة في درجتهم
ومن قرأ * (واتبعتهم) * بغير ألف يعني ذريتهم معهم
ومن قرأ " ذرياتهم " بالألف فهو جمع الذرية
ومن قرأ بغير ألف فهو عبارة عن الجنس ويقع على الجماعة أيضا
وقال مقاتل معناه الذين أدركوا مع آبائهم وعملوا خيرا في الجنة ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل فهم معهم في الجنة
ويقال إن أحدهم إذا كان أسفل منه يحلق بهم لكي تقر عينه
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال يرفع الله للمسلم ذريته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه
ثم قال " وما ألتناهم من عملهم من شيء " يعني ما نقصناهم من عمل الآباء إذا كانوا مع الأبناء يعني حتى يبلغ بهم ذريتهم من غير أن ينقص من أجر أولئك شيئا ولا من ذريتهم
* (كل امرئ بما كسب رهين) * يعني كل نفس مرتهنة بعملها يوم القيامة
ثم رجع إلى صفة المتقين في التقديم وكرامتهم قوله تعالى * (وأمددناهم بفاكهة) * يعني أعطيناهم من ألوان الفاكهة * (ولحم مما يشتهون) * يعني يتمنون
قرأ ابن كثير * (ألتناهم) * بكسر اللام وهي لغة لبعض العرب واللغة الظاهرة بالفتح وهي من يألت يلت وهو النقصان
وقال عز وجل * (يتنازعون فيها كأسا) * يعني يتعاطون في الجنة تعطيهم الخدم قدح الشراب ولا يكون كأسا إلا مع الشراب * (لا لغو فيها) * يعني لا باطل في الجنة * (ولا تأثيم) * يعني لا إثم في شرب الخمر
ويقال * (لا تأثيم) * يعني لا تكذيب فيما بينهم
قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (لا لغو فيها) * بنصب الواو * (ولا تأثيم) * بنصب الميم والباقون بالضم مع التنوين
فمن قرأ بالنصب فهو على التبرئة
ومن قرأ بالضم فهو على معنى الخبر يعني ليس فيها لغو ولا تأثيم كما قال * (لا فيها غول) * [الصافات 47]
334

ثم قال عز وجل * (ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون) * يعني في الحسن والبياض مثل اللؤلؤ في الصدف لم تمسه الأيدي ولم تره الأعين
وروى سعيد عن قتادة قال ذكر لنا أن رجلا قال يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم فقال (والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب))
سورة الطور 25 - 28
قوله تعالى * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * يعني يتحدثون ويتساءلون في الجنة عن أحوالهم التي كانت في الدنيا ثم يقول بم صرتم إلى هذه المنزلة الرفيعة
قوله تعالى * (قالوا إنا كنا قبل) * يعني في الدنيا * (في أهلنا مشفقين) * يعني خائفين من العذاب
ثم قال * (فمن الله علينا) * يعني من علينا بالمغفرة والرحمة
* (ووقانا عذاب السموم) * يعني دفع عنا عذاب النار
* (إنا كنا من قبل ندعوه) * يعني في الدنيا ندعو الرب * (إنه هو البر) * الصادق في قوله وفيما وعد لأوليائه
* (الرحيم) * بهم قرأ نافع والكسائي * (إنه) * بالنصب ومعناه إنا كنا من قبل ندعوه بأنه هو البر
وقرأ الباقون بالكسر على معنى الاستئناف
سورة الطور 29 - 33
ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعظ قومه ولا يبالي من قولهم فقال عز وجل * (فذكر) * يعني فعظ بالقرآن * (فما أنت بنعمة ربك) * يعني برحمة ربك
ويقال هو كقوله ما أنت بحمد الله مجنون
وقال أبو سهل عظ بالقرآن ولست أنت والحمد لله * (بكاهن ولا مجنون) * ويقال * (فذكر) *
يعني ذكرهم بما اعتدنا للمؤمنين المتقين وبما اعتدنا لضالين الكافرين * (فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون) * يعني لست تقول بقول الكهنة ولا تنطق إلا بوحي من الله
ثم قال * (أم يقولون شاعر) * يعني أيقولون هو شاعر يأتي من قبل نفسه وهو وقول الوليد بن المغيرة وأبي جهل وأصحابهما
* (نتربص به ريب المنون) * يعني أوجاع الموت وحوادثه
قال قتادة * (ريب المنون) * الموت
وقال مجاهد * (ريب المنون) * حوادث الدهر
وقال القتبي حوادث الدهر وأوجاعه ومصايبه
ويقال إنهم كانوا يقولون قد مات أبوه
335

شابا وهم ينتظرون موته * (قل تربصوا) * يعني انتظروا هلاكي * (فإني معكم من المتربصين) * وذكر في التفسير أن الذين قالوا هكذا ماتوا كلهم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى * (أم تأمرهم أحلامهم بهذا) * يعني أتأمرهم عقولهم بهذا وتدلهم على التكذيب والإيذاء بمحمد صلى الله عليه وسلم
* (أم هم قوم طاغون) * يعني بل هم قوم عاتون في معصية الله تعالى
(أم يقولون تقوله) يعني أيقولون أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول من ذات نفسه فاللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الزجر والوعيد
ثم قال * (بل لا يؤمنون) * يعني لا يصدقون بالرسول والكتاب عنادا وحسدا منهم
سورة الطور الآية 34 - 38
قوله عز وجل * (فليأتوا بحديث مثله) * يعني إن قلتم إن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول من ذات نفسه فأتوا بمثل هذا القرآن كما جاء به * (إن كانوا صادقين) * في قولهم
ثم قال " أم خلقوا من غير شيء " يعني من غير رب أكانوا هكذا خلقا من غير شيء ومعناه كيف لا يعتبرون أن الله تعالى خلقهم فيوحدونه ويعبدونه
ويقال " أم خلقوا من غير شيء " يعني لغير شيء ومعناه أخلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون
ثم قال * (أم هم الخالقون) * يعني أهم خلقوا الخلق أما الله تعالى ومعناه الله تعالى خلق الخلق وهو الذي يبعثهم يوم القيامة
ثم قال * (أم خلقوا السماوات والأرض) * يعني بل الله تعالى خلقهما * (بل لا يوقنون) * بتوحيد الله الذي خلقهما أنه واحد لا شريك له
ثم قال * (أم عندهم خزائن ربك) * يعني مفاتيح رزق ربك ويقال مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا ولكن الله يختار من يشاء كقولهم " أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر " [القمر: 25]
ثم قال " أم هم المسيطرون " يعني أهم المسلطون عليهم يحملونهم حيث شاؤوا يعني على الناس فيخبرونهم بما شاؤوا
قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي في إحدى الروايتين " المسيطرون " بالسين والباقون بالصاد
وقال الزجاج تسيطر علينا وتصيطر وأصله السين وكل سين بعدها طاء يجوز أن تقلب صادا مثل يسيطر ويبسط
ثم قال * (أم لهم سلم) * يعني سببا إلى السماء * (يستمعون فيه) * يعني يرتقون عليه فيستمعون القول من رب العالمين * (فليأت مستمعهم بسلطان مبين) * أي بحجة بينة
336

سورة الطور الآية 39 - 43
ثم قال عز وجل * (أم له البنات ولكم البنون) * بين جهلهم وقلة أحلامهم أنهم يجعلون لله ما يكرهون لأنفسهم
ثم قال عز وجل * (أم تسألهم أجرا) * معناه أن الحجة واجبة عليهم من كل وجه لأنك قد أتيتهم بالبيان والبرهان ولم تسألهم على ذلك أجرا
فقال * (أم تسألهم) * يعني أتطلب منهم * (أجرا) * بما تعلمهم من الأحكام والشرائع
* (فهم من مغرم مثقلون) * يعني من أجل المغرم يمتنعون عن الإيمان
يعني لا حجة لهم في الامتناع لأنك لا تسأل منهم أجرا فيثقل عليهم لأجل الأجر
قوله عز وجل * (أم عندهم الغيب) * يعني عندهم الغيب بأن الله لا يبعثهم * (فهم يكتبون) * يعني أمعهم كتاب يكتبون بما شاؤوا يعني ما في اللوح المحفوظ فهذا كله اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الزجر
ثم قال عز وجل * (أم يريدون كيدا) * يعني بل يريدون كيدا بالنبي صلى الله عليه وسلم * (فالذين كفروا هم المكيدون) * يعني بل هم المعذبون الهالكون
قوله عز وجل * (أم لهم إله غير الله) * يعني ألهم خالق غير الله يخلق ويرزق ويمنعهم من عذابنا * (سبحان الله عما يشركون) * يعني تنزيها لله تعالى عما يصفون من الشريك والولد
سورة الطور 44 - 49
ثم ذكر قسوة قلوبهم فقال * (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا) * يعني جانبا من السماء ساقطا عليهم * (يقولوا) * يعني لقالوا من تكذيبهم * (سحاب مركوم) * يعني متراكما بعضه على بعض لأنهم كانوا يقولون لا نؤمن بك حتى تسقط علينا كسفا
ثم قال الله تعالى لو فعلنا ذلك لم يؤمنوا ولا ينفعهم من قسوة قلوبهم
ثم قال * (فذرهم) * يعني فتخل عنهم يا محمد * (حتى يلاقوا يومهم) * يعني يعاينوا يومهم * (الذي فيه يصعقون) * يعني يموتون ويقال يعذبون
قرأ عاصم وابن عامر * (يصعقون) * بضم الياء والباقون * (يصعقون) * بنصب الياء وكلاهما واحد وهما لغتان
337

ثم وصف حالهم في ذلك اليوم فقال * (يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا) * يعني لا ينفعهم صنيعهم شيئا * (ولا هم ينصرون) * يعني لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب
ثم قال عز وجل " وإن للذين ظلموا عذابا دون الله " يعني قبل عذاب النار
وقد روى عبد الله بن عباس قال عذاب القبر وقال معمر عن قتادة قال عذاب القبر في القرآن
ثم قرأ * (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك) * ويقال * (عذابا دون ذلك) * يعني القتل ويقال الشدائد والعقوبات في الدنيا
* (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * يعني لا يصدقون بالعذاب
ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم فقال * (واصبر لحكم ربك) * يعني لما أمرك ربك ونهاك عنه
ويقال واصبر على تكذيبهم وأذاهم
* (فإنك بأعيننا) * يعني فأنك بمنظر منا والله تعالى يرى أحوالك ولا يخفى عليه شيء
وقال الزجاج * (فإنك بأعيننا) * بمعنى فإنك بحيث نراك ونحفظك ولا يصلون إليك بمكرهم ويقال نرى ما ينصع بك
* (وسبح بحمد ربك حين تقوم) * يعني صل بأمر ربك قبل طلوع الشمس يعني صلاة الفجر وقبل الغروب يعني صلاة العصر
* (ومن الليل فسبحه) * يعني صل صلاة المغرب والعشاء ويقال حين تقوم صلاة الفجر والظهر والعصر ومعناه صل صلاة النهار وصلاة الليل
ويقال * (سبح بحمد ربك حين تقوم) * يعني قل سبحانك اللهم وبحمدك إذا قمت إلى الصلاة وهذا قول ربيع بن أنس
* (وإدبار النجوم) * يعني ركعتي الفجر
وروى سعيد بن جبير عن زاذان عن عمر رضي الله عنه قال لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر وهما * (إدبار النجوم) * وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال * (أدبار السجود) * الركعتان بعد المغرب * (وإدبار النجوم) * الركعتان قبل الفجر
وروى وكيع عن ابن عباس أنه قال بت ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتي الفجر ثم خرج إلى الصلاة
فقال ابن عباس الركعتان اللتان قبل الفجر * (إدبار النجوم) * واللاتي بعد المغرب * (أدبار السجود) * وفي الآية دليل على أن تأخير صلاة الفجر أفضل لأنه أمر بركعتي الفجر بعد ما أدبرت النجوم وإنما أدبرت النجوم بعد ما أسفر والله سبحانه أعلم
338

سورة النجم مكية وهي ستون وآيتان
سورة النجم 1 - 9
قوله تبارك وتعالى * (والنجم إذا هوى) * قال ابن عباس رضي الله عنه أقسم الله تعالى بالقرآن إذ أنزل نجوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتا بعد وقت الآية والآيتان والسورة والسورتان وكان بين أوله وآخره إحدى وعشرون سنة
قال مجاهد أقسم الله بالثريا إذا غابت وسقطت والعرب تسمي الثريا نجما
ويقال أقسم بالكواكب المضيئة
ويقال أقسم بجميع الكواكب
* (ما ضل صاحبكم) * وذلك أن قريشا قالوا له قد تركت دين آباءك وخرجت من الطريق وتقول شيئا من ذات نفسك فنزل * (والنجم إذا هوى) * * (ما ضل صاحبكم) * يعني ما ترك دين أبيه إبراهيم * (وما غوى) * يعني لم يضل قوما والغاوي والضال واحد
يقال الضلال قبل البيان والفساد بعد البيان
قرأ حمزة والكسائي * (إذا هوى) * * (وما غوى) * كله بالإمالة في جميع السورة وقرأ نافع وأبو عمرو بين الإمالة والفتح في جميع السورة والباقون بالتخفيف وكل ذلك جائز في اللغة
ثم قال * (وما ينطق عن الهوى) * يعني ما ينطق بهذا القرآن بهوى نفسه والعرب تجعل عن مكان الباء تقول رميت عن القوس أي بالقوس * (وما ينطق عن الهوى) * أي بالهوى * (إن هو إلا وحي يوحى) * يعني ما هذا القرآن إلا وحي يوحى إليه * (علمه شديد القوى) * يعني أتاه جبريل عليه السلام فعلمه وهو * (شديد القوى) * وأصله في اللغة من قوى الحبل وهي طاقته والواحدة قوة
ويقال * (علمه شديد القوى) * يعني الله تعالى يعلمه بالوحي وهو ذو القوة المتين
قوله عز وجل * (ذو مرة) * يعني ذي قوة
وأصل المرة القتل فيعبر به عن القوة ومنه الحديث (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)
ثم قال عز وجل * (فاستوى) * يعني جبريل عليه السلام ويقال * (فاستوى) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم * (وهو بالأفق الأعلى) * يعني من قبل مطلع الشمس فرآه على صورته وله
339

جناحان أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب
* (ثم دنا فتدلى) * إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكل ما دنا منه انتقص حتى إذا قرب منه مقدار قوسين رآه كما في سائر الأوقات حتى لا يشك أنه جبريل * (فكان قاب قوسين) * يعني في القرب مقدار قوسين
وقال بعضهم ليلة المعراج دنا من العرش مقدار قوسين وإنما ذكر القوسين لأن القرآن نزل بلغة العرب والعرب تجعل مساحة الأشياء بالقوس
ويقال * (فكان قاب قوسين) * يعني قدر ذراعين وإنما سمي الذراع قوسا لأنه تقاس به الأشياء
* (أو أدنى) * يعني بل أدنى ويقال أو بمعنى واو العطف يعني مقدار قوسين أو أقرب من ذلك
سورة النجم 10 - 18
قوله تعالى * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * يعني أوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه جبريل ما قرأ
ويقال تكلم مع عبده ليلة المعراج ما تكلم ويقال أمر عبده بما أمر
ثم قال * (ما كذب الفؤاد ما رأى) * يعني ما كذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ما رأى بصره من أمر ربه في رؤية جبريل عليه السلام ويقال في رؤية الله تعالى بقلبه
قال محمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال (رأيته بفؤادي ولم أره بعيني) قرأ الحسن * (ما كذب) * بتشديد الذال وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ومعناه لم يجعل الفؤاد رؤية العين كذبا والباقون بالتخفيف يعني ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم فيما رأى
ثم قال عز وجل * (أفتمارونه على ما يرى) * قرأ حمزة " أفتمرونه " بنصب التاء وجزم الميم بغير ألف وهكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما
ومعناه أفتجحدونه فيما رأى
والباقون * (أفتمارونه) * يعني أفتجادلونه لأنه رأى من آيات ربه الكبرى
ثم قال * (ولقد رآه نزلة أخرى) * يعني لقد رأى جبريل مرة أخرى
وروي عن كعب الأحبار أنه قال رأى ربه مرة فقال إن الله كلم موسى مرتين ورأى محمدا صلى الله عليه وسلم مرتين فبلع ذلك إلى عائشة رضي الله عنها فقالت قد اقشعر جلدي من هيبة هذا الكلام فقيل لها يا أم المؤمنين أليس يقول الله تعالى * (ولقد رآه نزلة أخرى) * فقالت أنا سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال (رأيت جبريل نازلا في الأفق على خلقته وصورته)
ويقال " ولقد رآه نزلة
340

أخرى) يعني رآه بفؤاده وأكثر المفسرين يقولون إن المراد به جبريل يعني أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما رجع من عند ربه ليلة أسري به رأى جبريل * (عند سدرة المنتهى) * فقال مقاتل السدرة هي شجرة طوبى ولو أن رجلا ركب نجيبه وطاف على ساقها حتى أدركه الهرم لما وصل إلى المكان الذي ركب منه تحمل لأهل الجنة الحلي والحلل وجميع ألوان الثمار
ويقال هي شجرة غير شجرة طوبى وهي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة تخرج أنهار الجنة من أصل تلك الشجرة
وإنما سميت * (سدرة المنتهى) * لأن أرواح المؤمنين تنتهي إليها
ويقال أرواح الشهداء تنتهي إليها
ويقال الملائكة ينتهون إليها ولا يجاوزونها
ويقال لأن علم كل واحد ينتهي إليها ولا يتجاوزنها ولا يدري ما فوق ذلك
وروي عن طلحة بن مطرف عن مرة عن عبد الله قال لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وإليها ينتهي ما عرج من تحتها وإليها ينتهي ما هبط من فوقها وهي النهاية التي ينتهي إليها من فوق ومن تحت ولا يتجاوز عن ذلك
ثم قال عز وجل * (عندها جنة المأوى) * وإنما سميت * (المأوى) * لأنه يأوي إليها أرواح الشهداء
قرأ سعد بن أبي وقاص وعائشة رضي الله عنهما * (عندها جنة المأوى) * بالتاء فقيل لسعد إن فلانا يقرأ * (عندها جنة المأوى) * بالهاء
قال سعد ما له أجنه الله
وعن أبي العالية قال سألني ابن عباس كيف تقرأها يا أبا العالية قال قلت له جنة
قال صدقت هي مثل قوله * (جنات المأوى) *
وقراءة العامة * (جنة) * وهي من الجنات
ثم قال * (إذ يغشى السدرة ما يغشى) * يعني يغشاها من الملائكة ما يغشى
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل ماذا يغشى قال (جراد من ذهب)
ويقال فراش من ذهب وقال الحسن يغشاها نور مثل الجراد من ذهب
ثم قال * (ما زاغ البصر) * يعني ما مال وما عدل بصر محمد صلى الله عليه وسلم عما رأى * (وما طغى) * وما تعدى وما جاوز إلى غيره
ويقال * (وما طغى) * يعني وما ظلم صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما رأى تلك الليلة التي عرج به إلى السماء * (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) * وهو الرفرف الأخضر وقد غطى الأفق فجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاوز سدرة المنتهى
وقال ابن مسعود رأى جبريل وله ستمائة جناح وهو * (من آيات ربه الكبرى) * وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر برؤية جبريل تعجبوا منه وأنكروا فأخبر الله تعالى أنه قد رآه مرة أخرى وأنه قد * (رأى من آيات ربه الكبرى) *
سورة النجم 19 - 23
341

ثم قال عز وجل * (أفرأيتم اللات والعزى) * قرأ مجاهد * (اللات) * بتشديد التاء وقال كان رجلا يلت السويق بالزيت ويطعم الناس
وقال السدي كان رجل يقوم على آلهتهم ويلت السويق لهم
ويقال كانت حجارة يعبدونها وينزل عندها رجل يبيع السويق ويلته فسميت تلك الحجارة باللات وقرأه العامة بغير تشديد
قال مقاتل وإنما سمي * (اللات والعزى) * لأنهم قالوا هكذا أسماء الملائكة وهم بناته فنزل " ألكم الذكر وله والأنثى " وقال قتادة * (اللات) * كان لأهل الطائف * (والعزى) * لقريش ومناة للأنصار
ويقال إن المشركين أرادوا أن يجعلوا من آلهتهم من أسماء الحسنى فأرادوا أن يسموا الواحد منها الله فجرى على لسانهم * (اللات) * وأرادوا أن يسموا الواحد منها العزيز فجرى على لسانهم * (العزي) * وأرادوا أن يسموا الواحد منها المنان فجرى على لسانهم * (مناه) * ويقال إن العزى كانت نخلة بالطائف يعبدونها فبعث النبي
صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حتى قطع تلك النخلة فخرجت منها امرأة تجر شعرها على الأرض فأتبعها بفأس فقتلها فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (تلك العزى قتلتها فلا تعبد العزى أبدا)
ويقال أول الأصنام كانت اللات ثم العزى ثم مناة وهو قوله * (أفرأيتم اللات والعزى) * * (ومناة الثالثة الأخرى) * يعني أفرأيتم عبادتها تنفعكم في الآخرة فلا تنفعكم
ثم قال * (ألكم الذكر وله الأنثى) * يعني بني مدلج يعبدون الملائكة ويقولون هم بناته فيشفعون لنا * (تلك إذا قسمة ضيزى) * أي قسمة جائزة معوجة
قرأ ابن كثير بهمز الألف والباقون بغير همز ومعناهما واحد وهو اسم الصنم
وقرأ ابن كثير " ضئزى " بالهمزة والباقون بغير همزة ومعناهما واحد
يقال ضازه يضيزه إذا نقصه حقه يقال بالهمز وبغير الهمز
ويقال ضزت في الحكم أي جرت
ثم قال * (إن هي إلا أسماء سميتموها) * يعني الأصنام * (أنتم وآباؤكم) * يعني اتبعتم آباءكم بالتقليد * (ما أنزل الله بها من سلطان) * يعني من عذر وحجة لكما بما تقولون * (إن يتبعون إلا الظن) * يعني ما تعبدون وما تتبعون إلا الظن ولا تعرفون يقينا أنها آلهة
* (وما تهوى الأنفس) * يعني ما يتبعون ما تشتهي أنفسهم وعبدوه وتركوا دين الله * (ولقد جاءهم من ربهم الهدى) * يعني أتاهم الكتاب والرسول وبين لهم طريق الهدى
سورة النجم 24 - 27
342

ثم قال عز وجل * (أم للإنسان ما تمنى) * يعني بأن الملائكة تشفع له فيكون الأمر بتمنيه * (فلله الآخرة والأولى) * يعني ثواب الآخرة والأولى ويقال أهل السماوات وأهل الأرض كلهم عبيده ويقال له نفاذ الأمر في الآخرة والأولى ويقال جميع ما فيها يدل على وحدانيته
ثم قال * (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا) * يعني لا تنفع شفاعتهم ردا لقولهم إنهم يشفعون لنا
ثم استثنى فقال * (إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) * يعني من كان معه التوحيد فيشفع له بإذن الله تعالى
ثم قال * (أن الذين لا يؤمنون بالآخرة) * يعني لا يصدقون بالبعث * (ليسمون الملائكة تسمية الأنثى) * باسم البنات وفيه تنبيه للمؤمنين لكي لا يقولوا مثل مقالتهم وزجرا للكافرين عن تلك المقالة
سورة النجم 28 - 31
قال عز وجل * (وما لهم به من علم) * يعني ليس لهم حجة على مقالتهم * (إن يتبعون إلا الظن) * يعني ما يتبعون إلا الظن يعني على غير يقين * (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) * يعني لا يمنعهم من عذاب الله شيئا " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا " يعني اترك من أعرض عن القرآن ولا يؤمن به
* (ولم يرد إلا الحياة الدنيا) * يعني لم يرد بعلمه الدار الآخرة إنما يريد به منفعة الدنيا * (ذلك مبلغهم من العلم) * يعني غاية علمهم الحياة الدنيا ويقال ذلك منتهى علمهم لا يعلمون من أمر الآخرة شيئا وهذا كقوله * (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) * [الروم 7]
ثم قال عز وجل * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) * يعني هو أعلم بمن ترك طريق الهدى * (وهو أعلم بمن اهتدى) * يعني من تمسك بدين الإسلام ومعناه فأعرض عنهم ولا تعاقبهم فإن الله عليم بعقوبة المشركين وبثواب المؤمنين وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
ثم عظم نفسه بأنه غني عن عبادتهم فقال * (ولله ما في السماوات وما في الأرض) * من الخلق * (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا) * يعني ليعاقب في الآخرة الذين أشركوا وعملوا المعاصي * (ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * يعن ويثيب الذين آمنوا وأدوا الفرائض الخمسة بإحسانهم
343

سورة النجم 32
ثم نعت المحسنين فقال * (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) * قرأ حمزة والكسائي " كبير الإثم والفحش " بلفظ الوحدان والمراد به الجنس
والباقون * (كبائر الإثم) * بلفظ الجماعة
قال بعضهم * (كبائر الإثم) * يعني الشرك بالله * (والفواحش) * يعني المعاصي
وقال بعضهم * (كبائر الإثم والفواحش) * بمعنى واحد لأن كل فاحشة كبيرة وكل كبيرة فاحشة
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الكبائر أربعة الشرك بالله واليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله)
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال الكبائر سبعة فبلغ ذلك إلى عبد الله بن عباس فقال هي إلى السبعين أقرب
ويقال كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة
وقيل كل ما أصر العبد عليه فهو كبيرة كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار)
ثم قال * (إلا اللمم) * وقال بعضهم * (اللمم) * هو الصغائر من الذنوب يعني إذا اجتنبت الكبائر يغفر الله صغار الذنوب من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة وهو كقوله تعالى * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) * [النساء 31] قال مقاتل نزلت في شأن نبهان التمار وذلك أن امرأة أتت لتشتري التمر
فقال لها ادخلي الحانوت فعانقها وقبلها
فقالت المرأة خنت أخاك ولم تصب حاجتك فندم وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروى مسروق عن ابن مسعود قال زنى العينين النظر وزنى اليدين البطش وزنى الرجلين المشي وإنما يصدق ذلك الفرج أو يكذبه
فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما
وقال عكرمة * (اللمم) * النظر وحديث النفس ونحو ذلك
وروى طاوس عن ابن عباس قال ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى
فزنى العينين نظر الناظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)
وقال عبد الله بن الزبير * (اللمم) * القبلة واللمس باليد
وقال بعضهم * (اللمم) * كل ذنب يتوب عنه ولا يصر عليه
وروى منصور عن مجاهد قال في قوله * (إلا اللمم) * هو الرجل يذنب الذنب ثم ينزع عنه
وروي عن أبي هريرة قال * (اللمم) * النكاح وذكر ذلك لزيد بن أسلم فقال صدق إنما اللمم لمم أهل الجاهلية
344

يقول الله تعالى في كتابه * (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) * [النساء 23]
وروي عن الحسن أنه قال * (اللمم) * هو أن يصيب النظرة من المرأة والشربة من الخمر ثم ينزع عنه
وروي عن مجاهد أنه قال * (اللمم) * الذي يلم بالذنب ثم يدعه
وقد قال الشاعر
" إن تغفر اللهم تغفر جما
* وأي عبد لله لا ألما "
وقال بعضهم * (إلا اللمم) * ومعناه ولا اللمم
كما قال القائل وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير والعيس
يعني لا اليعافير ولا العيس
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إياكم والمحقرات من الذنوب)
وسئل زيد بن ثابت عن قوله * (إلا اللمم) * قال حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن
ثم قال * (إن ربك واسع المغفرة) * يعني واسع الفضل غافر الذنوب للذين يتوبون
ويقال معناه رحمته واسعة على الذين يجتنبون الكبائر
ثم قال * (هو أعلم بكم) * يعني هو أعلم بحالكم منكم * (إذ أنشأكم من الأرض) * يعني إذ هو خلقكم من الأرض
يعني خلق آدم من تراب وأنتم من ذريته
* (وإذ أنتم أجنة) * يعني كنتم صغارا * (في بطون أمهاتكم) * كان هو أعلم بحالكم منكم في ذلك كله * (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم) * يعني لا تبرؤوا أنفسكم من الذنوب ولا تمجدوها
ويقال " ولا تزكوا أنفسكم " يعني لا يمدح بعضكم بعضا
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)
والمدح على ثلاثة أوجه أوله أن يمدحه في وجهه فهو الذي نهي عنه
والثاني أن يمدحه بغير حضرته ويعلم أنه يبلغه فهو أيضا منهي عنه
والثالث أن يمدحه في حال غيبته وهو لا يبالي بلغه أو لم يبلغه ويمدحه بما هو فيه فلا بأس بهذا
ويقال * (فلا تزكوا أنفسكم) * يعني لا تطهروا أنفسكم من العيوب وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الناس كإبل مائة لم يكن فيها راحلة)
ثم قال * (هو أعلم بمن اتقى) * يعني من يستحق المدح ومن لا يستحق المدح
سورة النجم 33 - 42
345

ثم قال (أفرأيت الذي تولى) يعني أعرض عن الحق وهو الوليد بن المغيرة ومن كان في مثل حاله * (وأعطى قليلا) * يعني وأنفق قليلا من ماله * (وأكدى) * يعني ثم أمسك عن النفقة
قال مقاتل أنفق الوليد بن المغيرة على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نفقة قليلة ثم انتهى عن ذلك
وقال القتبي * (وأكدى) * أصله من كديه الركية وهي الصلابة فيها
فإذا بلغها الحافر يبس حفرها فقطع الحفرة يعني تركها
فقيل لمن طلب شيئا ولم يدرك أخره أو أعطى شيئا ولم يتم أكدى
ثم قال عز وجل * (أعنده علم الغيب فهو يرى) * يعني أعنده علم الآخرة * (فهو يرى) * صنيعه
وقيل يعلم ما في اللوح المحفوظ فيرى صنيعه
* (أم لم ينبأ بما في صحف موسى) * يعني ألم يخبر بما بين الله تعالى في صحف موسى
قال بعضهم * (صحف موسى) * يعني التوراة وقال بعضهم هو كتاب أنزل عليه قبل التوراة * (وإبراهيم الذي وفى) * يعني في كتاب إبراهيم * (الذي وفى) * يعني بلغ الرسالة
ويقال * (وفي) * يعني عمل ما أمر به
وذلك أن الوليد بن عقبة بن أبي معطي قال لعثمان إنك تنفق مالك فعن قريب تفتقر
فقال عثمان إن لي ذنوبا فقال الوليد ادفع إلي بعض المال حتى أدفع ذنوبك فدفع إليه فأنزل الله تعالى * (أم لم ينبأ بما في صحف موسى) * يعني ألم يبين الله تعالى في كتاب موسى وكتاب إبراهيم * (ألا تزر وازرة وزر أخرى) * يعني لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى
ويقال * (وإبراهيم الذي وفى) * يعني بما ابتلاه الله تعالى بعشر كلمات
ويقال بذبح الولد ويقال كان يصلي كل غداة أربع ركعات صلاة الضحى فسماه وفيا
ثم قال عز وجل * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * يعني ليس للإنسان في الآخرة إلا ما عمل في الدنيا من خير أو شر * (وأن سعيه سوف يرى) * يعني يرى وثواب عمله في الآخرة
قوله عز وجل * (ثم يجزاه الجزاء الأوفى) * يعني يعطى ثوابه كاملا * (وأن إلى ربك المنتهى) * يعني إليه ينتهي أعمال العباد وإليه يرجع الخلق كلهم فهذا كله في مصحف موسى وإبراهيم
سورة النجم 43 - 48
ثم قال عز وجل * (وأنه هو أضحك وأبكى) * يعني * (أضحك) * أهل الجنة في الجنة
* (وأبكى) * أهل النار في النار
ويقال * (أضحك) * في الدنيا أهل النعمة * (وأبكى) * أهل الشدة والمعصية
* (وأنه هو أمات وأحيا) * يعني يميت في الدنيا ويحيى في الآخرة للبعث * (وأنه خلق الزوجين) * يعني اللونين والصنفين * (الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى) * يعني تهراق في
346

رحم الأنثى
وقال القتبي * (من نطفة إذا تمنى) * يعني تقدر وتخلق ويقال ما تدري ما يمني لك الماني
يعني ما يقدر لك المقدر
ثم قال عز وجل * (وأن عليه النشأة الأخرى) * يعني البعث بعد الموت يعني ذلك إليه وبيده وهو قادر على ذلك فاستدل عليهم بالفعل الآخر بالفعل الأول أنه خلقهم في الابتداء من النطفة وهو الذي يحييهم بعد الموت * (وأنه هو أغنى وأقنى) * يعني حول وأعطى المال
* (وأقنى) * يعني أفقر
ويقال * (أغني) * يعني يعطي * (وأقنى) * يعني يرضي بما يعطي
ويقال * (أغني) * نفسه عن الخلق * (وأقنى) * يعني أفقر الخلق إلى نفسه
وروى السدي عن أبي صالح * (أغني) * بالمال * (وأقنى) * يعني بالقنية
وقال الضحاك * (أغني) * بالذهب وبالفضة والثياب والمسكن * (وأقنى) * بالإبل والبقر والغنم والدواب
وقال عكرمة * (أغني) * يعني أرضى * (وأقنى) * يعني أقنع
سورة النجم 49 - 58
ثم قال * (وأنه هو رب الشعرى) * يعني وأن الله هو خالق الشعرى
قال ابن عباس هو كوكب تعبده خزاعة يطلع بعد الجوزاء يقول الله تعالى وأنا ربها وأنا خلقتها فاعبدوني
ثم خوفهم فقال عز وجل * (وأنه أهلك عادا الأولى) * بالعذاب وهم قوم هود وكان بعدهم عاد آخر سواهم فلهذا سماهم عاد الأولى * (وثمود فما أبقى) * يعني قوم
صالح فأهلكهم الله وما بقي منهم أحد
قرأ نافع وأبو عمرو " عاد الأولى " بحذف الهمزة وإدغام التنوين والباقون * (عادا) * بالتنوين الأولى بالهمزة وكلاهما جائز عند العرب
وقرأ حمزة وعاصم رواية حفص * (وثمود) * بغير تنوين
والباقون " ثمودا " بالتنوين
قال أبو عبيدة نقرأ بالتنوين مكان الألف الثانية في المصحف
ثم قال * (وقوم نوح من قبل) * يعني أهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود * (إنهم كانوا هم أظلم وأطغى) * يعني أشد من كفرهم وطغيانهم لأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فدعاهم فلم يجيبوا وكان الآباء يوصون الأبناء بتكذيبه
ثم قال عز وجل * (والمؤتفكة أهوى) * يعني مدينة قوم لوط سماها مؤتفكة لأنها ائتفكت أي انقلبت * (أهوى) * أي أسقط
ويقال * (المؤتفكة) * يعني المكذبة * (أهوى) * يعني أهوى من السماء إلى الأرض وذلك أن جبريل عليه السلام حيث قلع تلك المدائن
347

فرفعها إلى قريب من السماء ثم قلبها وأهواها إلى الأرض
* (فغشاها ما غشى) * يعني فغشاها من الحجارة * (ما غشي) * كقوله * (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) * [الحجر 74]
ثم قال * (فبأي آلاء ربك تتمارى) * يعني بأي نعمة من نعماء ربك تتجاحد أيها الإنسان بأنها ليست من الله تعالى
قوله عز وجل * (هذا نذير من النذر الأولى) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم * (نذير) * مثل * (النذر الأولى) * يعني رسولا مثل الرسل الأولى مثل نوح وهود وصالح صلوات الله عليهم وقد خوفهم الله ليحذروا معصيته ويتبعوا ما أمرهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
ثم قال عز وجل * (أزفت الآزفة) * يعني دنت القيامة * (ليس لها من دون الله كاشفة) * يعني ليس للساعة من دون الله * (كاشفة) * يعني عن علم قيامها وهذا كقوله " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلاهكم إله واحد " [الأعراف 187]
سورة النجم 59 - 62
ثم قال عز وجل * (أفمن هذا الحديث تعجبون) * يعني من القرآن تعجبون تكذيبا * (وتضحكون) * استهزاء
* (ولا تبكون) * مما فيه من الوعد * (وأنتم سامدون) * يعني لاهين عن القرآن
روي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال هو الغناء
كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا وهي بلغة أهل اليمن
وقال قتادة * (سامدون) * يعني غافلون
ثم قال عز وجل * (فاسجدوا لله) * يعني صلوا لله
ويقال اخضعوا لله بالتوحيد * (واعبدوا) * يعني أطيعوه
ويقال * (فاسجدوا لله) * في الصلاة * (واعبدوا) * يعني وحدوه
ويقال هي سجدة التلاوة بعينها
وروي عن الشعبي أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في النجم وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس والله أعلم بالصواب
348

سورة القمر كلها مكية وهي خمسون وخمس آيات
سورة القمر 1 - 4
قوله تبارك وتعالى * (اقتربت الساعة) * يعني دنا قيام الساعة لأن خروج النبي صلى الله عليه وسلم كان من علامات الساعة * (وانشق القمر) * وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علامة لنبوته فانشق القمر نصفين
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانشق القمر نصفين فرأيت حراء بين فلقتي القمر
وعن جبير بن مطعم قال انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
وروى قتادة عن أنس قال سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة
وقال بعضهم * (اقتربت الساعة وانشق القمر) * يعني تقوم الساعة وينشق القمر يوم القيامة
وأكثر المفسرين قالوا إن هذا قد مضى
وقال عبد الله بن مسعود ما وعد الله ورسوله من أشراط الساعة كلها قد مضى إلا أربعة طلوع الشمس من مغربها ودابة الأرض وخروج الدجال وخروج يأجوج ومأجوج
ثم قال * (وإن يروا آية يعرضوا) * يعني إذا رأوا آية من آيات الله ثمل انشقاق القمر * (يعرضوا) * عنها ولا يتفكروا فيها
* (ويقولوا سحر مستمر) * يعني مصنوعا سيذهب
ويقال معناها ذاهبا يذهب ثم التئام القمر
وقال القتبي * (سحر مستمر) * يعني شديد قوي وهو من المرة وهو القتل
وقال الزجاج في * (مستمر) * قولان قول ذاهب وقول دائم
وقال الضحاك لما رأى أهل مكة انشقاق القمر وقال أبو جهل هذا سحر مستمر فابعثوا إلى أهل
349

الآفاق حتى ينظروا إذا رأوا القمر منشقا أم لا فأخبر أهل الآفاق أنهم رأوه منشقا قالوا هذا * (سحر مستمر) * يعني استمر سحره في الآفاق
قوله عز وجل * (وكذبوا) * يعني كذبوا بالآية وبقيام الساعة
* (واتبعوا أهواءهم) * في عبادة الأصنام * (وكل أمر مستقر) * يعني كل قول من الله له حقيقة منه في الدنيا سيظهر وما كان منه في الآخرة سيعرف يعني ما وعد لهم من العقوبة
ويقال معناه * (مستقر) * لأهل النار عملهم ولأهل الجنة عملهم
يعني يعطي لكل فريق جزاء أعمالهم
ثم قال * (ولقد جاءهم من الأنباء) * يعني جاء لأهل مكة من الأخبار عن الأمم الخالية * (ما فيه مزدجر) * يعني ما فيه موعظة لهم وزجر عن الشرك والمعاصي
سورة القمر 5 - 8
قوله تعالى * (حكمة بالغة) * يعني جاءهم كلمة بالغة وهو القرآن يعني حكمة وثيقة * (فما تغن النذر) * يعني لا تنفعهم النذر إن لم يؤمنوا كقوله * (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * [يونس 101] ويقال * (فما تغن النذر) * لم تنفعهم الرسل إذا نزل بهم العذاب إن لم يؤمنوا
قوله تعالى * (فتول عنهم) * يعني اتركهم وأعرض عنهم بعدما أقمت عليهم الحجة
* (يوم يدع الداع) * يعني يدعو إسرافيل على صخرة بيت المقدس " إلى شيء نكر " يعني إلى أمر فظيع شديد منكر * (خشعا) * يعني ذليلة * (أبصارهم) * خاشعا نصب على الحال يعني يخرجون خاشعا
قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو * (خاشعا) * بالألف مع النصب والباقون * (خشعا) * بضم الخاء بغير ألف وتشديد الشين بلفظ الجمع لأنه نعت للجماعة
ومن قرأ بلفظ الواحد فلأجل تقديم النعت
وقرأ ابن مسعود * (خاشعة) * بلفظ التأنيث لأجل جماعة البصر وقرأ ابن كثير " إلى شيء نكر " بجزم الكاف والباقون بالضم وهما لغتان
ثم قال عز وجل * (يخرجون من الأجداث) * يعني من القبور * (كأنهم جراد منتشر) * يعني انتشروا على معدنهم ويجول بعضهم في بعض
ثم قال * (مهطعين إلى الداع) * يعني مقبلين إلى صوت إسرافيل * (يقول الكافرون هذا يوم عسر) * يعني شديد عسر علينا
وروي في الخبر (أنهم إذا خرجوا من قبورهم يمكثون واقفين أربعين سنة) ويقال مائة سنة حتى يقولوا أرحنا من هذا ولو إلى النار ثم يؤمرون بالحساب
350

سورة القمر 9 - 14
ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى قومه كما لقي الرسل من قومهم فقال عز وجل * (كذبت قبلهم) * يعني قبل قومك يا محمد * (قوم نوح) * حين أتاهم بالرسالة * (فكذبوا عبدنا) * نوحا * (وقالوا مجنون) * يعني قالوا لنوح إنك مجنون * (وازدجر) * يعني أوعد بالوعيد
ويقال صاحوا به حتى غشي عليه
وقال القتبي * (وازدجر) * أي زجر وهو افتعل من ذلك
فلما ضاق صدره * (فدعا ربه أني مغلوب) * يعني مقهور فيما بينهم * (فانتصر) * يعني أعني عليهم بالعذاب فأجابه الله كما في سورة الصافات * (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون) * [الصافات 75]
قوله عز وجل * (ففتحنا أبواب السماء) * يعني طرق السماء * (بماء منهمر) * يعني منصبا كثيرا
وقال القتبي * (بماء منهمر) * أي كثير سريع الانصباب
ومنه يقال همر الرجل إذا أكثر من الكلام وأسرع فيه
قرأ ابن عامر * (ففتحنا) * بتشديد التاء على تكثير الفعل وقرأ الباقون بالتخفيف لأنها فتحت فتحا واحدا
قوله عز وجل * (وفجرنا الأرض عيونا) * يعني أخرجنا من الأرض عيونا مثل الأنهار الجارية * (فالتقى الماء) * يعني ماء السماء وماء الأرض * (على أمر قد قدر) * يعني على وقت قد قضى * (وحملناه) * يعني حملنا نوحا * (على ذات ألواح) * يعني على سفينة قد اتخذت بألواح * (ودسر) * يعني سفينة قد شدت بالمسامير
وقال بعضهم كانت سفينة نوح من صاج وقال بعضهم من خشب شمشاذ ويقال من الجوز
وقال القتبي الدسر المسامير واحدها دسار وهي أيضا الشريط الذي يشد بها السفينة
ثم قال * (تجري بأعيننا) * يعني تسير السفينة بمنظر منا وأمرنا
ويقال بمرأى وحفظ منا
وقال الزجاج في قوله * (فالتقى الماء) * ولم يقل الماءان لأن الماء اسم لجميع ماء السماء وماء الأرض
فلو قال ماءان لكان جائزا لكنه لم يقل
ثم قال * (جزاء لمن كان كفر) * يعني الحمل على السفينة ثواب لنوح الذي كفر به قومه
وقرأ بعضهم * (جزاء لمن كان كفر) * بالنصب يعني الغرق عقوبة لمن كذب بالله تعالى وبنوح
سورة القمر 15 - 17
351

قوله تعالى * (ولقد تركناها آية) * أي سفينة نوح أبقيناها عبرة للخلق
وقال بعضهم يعني تلك السفينة بعينها كانت باقية على الجبل إلى قريب من خروج النبي صلى الله عليه وسلم
وقال بعضهم يعني جنس السفينة صارت عبرة لأن الناس لم يعرفوا قبل ذلك سفينة فاتخذت الناس السفن بعد ذلك في البحر فلذلك كانت آية للناس
ثم قال * (فهل من مدكر) * يعني هل من معتبر يعتبر بما صنع الله تعالى بقوم نوح فيترك المعصية ويقال * (فهل من مدكر) * متعظ يتعظ بأنه حق ويؤمن به
وقال أهل اللغة أصل * (مدكر) * مفتعل من الذكر فأدغمت الذال في التاء ثم قلبت دالا مشددة
ثم قال * (فكيف كان عذابي ونذر) * يعني كيف رأيت عذابي وإنذاري لمن أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا والنذر بمعنى الإنذار
قوله عز وجل * (ولقد يسرنا القرآن) * يعني هونا القرآن * (للذكر) * يعني للحفظ
ويقال هونا قراءاته
وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لولا قول الله تعالى * (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) * ما طاقت الألسن أن تتكلم به) ويقال هوناه لكي يذكروا به
ثم قال * (فهل من مدكر) * يعني متعظ يتعظ بما هون من قراءة القرآن
وروى الأسود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم * (فهل من مدكر) * بالذال فقال النبي صلى الله عليه وسلم * (فهل من مدكر) * يعني بالدال
سورة القمر 18 - 22
قوله تعالى * (كذبت عاد) * يعني كذبوا رسولهم هود * (فكيف كان عذابي ونذر) * يعني أليس وجوده حقا وثابتا * (ونذر) * جمع نذير قال القتبي النذر جمع النذير والنذير بمعنى الإنذار مثل النكير بمعنى الإنكار يعني كيف كان عذابي وإنكاري
ثم بين عذابه فقال عز وجل * (إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا) * يعني سلطنا عليهم ريحا باردة * (في يوم نحس مستمر) * يعني شديدة استمرت عليهم لا تفتر عنهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما دائمة * (تنزع الناس) * يعني تنزع أرواحهم من أجسادهم وهذا قول مقاتل
ويقال * (في يوم نحس) * يعني يوم مشؤوم عليهم * (مستمر) * يعني استمر عليهم بالنحوسة
وقال القتبي الصرصر ريح شديدة ذات صوت تنزع الناس يعني تقلعهم من مواضعهم
* (كأنهم أعجاز نخل منقعر) * يعني صرعهم فكبهم على وجوههم كأنهم أصول نخل منقلعة من
352

الأرض فشبههم لطول كل واحد بالنخل الساقطة
وقال مقاتل كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعا
وقال في رواية الكلبي كان طول كل واحد منهم سبعين ذراعا فاستهزؤوا حين ذكر لهم الريح فخرجوا إلى الفضاء فضربوا بأرجلهم وغيبوا في الأرض إلى قريب من ركبهم فقالوا قل للريح حتى ترفعنا فجاءت الريح فدخلت تحت الأرض وجعلت ترفع كل اثنين وتضرب أحدهما على الآخر بعدما ترفعهما في الهواء ثم تلقيهما في الأرض والباقون ينظرون إليهم حتى رفعتهم كلهم ثم رمت بالرمل والتراب عليهم وكان يسمع أنينهم من تحت التراب كذا وكذا يوما
قال الله تعالى * (فكيف كان عذابي ونذر) * ثم قال * (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) * وقد ذكرناه
سورة القمر 23 - 31
قوله عز وجل * (كذبت ثمود بالنذر) * يعني صالحا حين أتاهم * (فقالوا أبشرا منا واحدا) * يعني خلقا مثلنا * (نتبعه) * في أمره * (إنا إذا لفي ضلال وسعر) * يعني إنا إذا فعلنا ذلك * (لفي) * خطأ وعناء
وقال الزجاج يعني * (إنا إذا لفي ضلال) * وجنون
وهذا كما يقال ناقة مسعورة إذا كان بها جنون
ويجوز أن يكون * (وسعر) * جمع سعير في معنى العذاب
ثم قال عز وجل " أألقي الذكر عليه من بيننا " يعني اختص بالنبوة والرسالة من بيننا * (بل هو كذاب أشر) * يعني كاذبا على الله * (أشر) * يعني بطرا متكبرا
قوله عز وجل حدثنا * (سيعلمون غدا) * قرأ ابن عامر وحمزة * (ستعلمون) * بالتاء على معنى المخاطبة
يعني أن صالحا قال لهم " ستعلمون غدا " والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم أنهم يعلمون غدا يعني يوم القيامة * (من الكذاب الأشر) * أهم أم صالح ومعناه أنه يتبين لهم أنهم هم الكاذبون وكان صالح صادقا في مقالته
ثم قال " إنا مرسلوا " يعني نخرج لهم * (الناقة) * وذلك حين سألوا صالحا بأن يخرج لهم ناقة من الحجر فدعا صالح ربه فأوحى الله تعالى إليه أني مخرج الناقة * (فتنة) * يعني بلية * (لهم فارتقبهم) * يعني انتظر هلاكهم * (واصطبر) * على الإيذاء
قوله تعالى * (ونبئهم) * يعني وأخبرهم * (أن الماء قسمة بينهم) * يوم للناقة ويوم لأهل القرية * (كل شرب محتضر) * يعني إذا كان يوم الناقة تحضر الناقة ولا يحضرون وإذا كان
353

يومهم لا تحضر الناقة وكل فريق يحضر في نوبته * (فنادوا صاحبهم) * يعني نادوا مصدع أو قذار * (فتعاطى فعقر) * يتناول الناقة بالسهم فعقرها * (فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة) * يعني صحية جبريل * (فكانوا كهشيم المحتظر) * قال قتادة يعني كرماد محترق
وقال الزجاج الهشيم ما يبس من الورق وتحطم وكسر
قرأ بعضهم * (كهشيم المحتظر) * بنصب الظاء وقراءة العامة بالكسر
فمن قرأ بالنصب فهو اسم الحظيرة ومعناه كهشيم المكان الذي يحضر فيه الهشيم
ومن قرأ بالكسر فهو صاحب الحظيرة يعني يجمع الحشيش في الحظيرة لغنمه فداسته الغنم
سورة القمر 32 - 40
ثم قال عز وجل * (ولقد يسرنا القرآن للذكر) * يعني سهلناه للحفظ لأن كتب الأولين يقرؤها أهلها نظرا ولا يكادون يحفظون من أولها إلى آخرها كما يحفظ القرآن * (فهل من مدكر) * يعني متعظ به
قوله تعالى * (كذبت قوم لوط بالنذر) * يعني بالرسل لأن لوطا عليه السلام يدعوهم إلى الإيمان بجميع الرسل فكذبوهم ولم يؤمنوا فأهلكهم الله تعالى
وهو قوله * (إنا أرسلنا عليهم حاصبا) * يعني حجارة من سجين * (إلا آل لوط نجيناهم بسحر) * يعني وقت السحر
قوله تعالى * (نعمة من عندنا) * يعني رحمة من عندنا على آل لوط صار * (نعمة) * نصبا لأنه مفعول ومعناه ونجيناهم بالإنعام عليهم * (كذلك نجزي من شكر) * يعني هكذا يجزي الله تعالى من شكر نعمته ولم يكفرها
ويقال * (من شكر) * يعني من وحد الله تعالى لم يعذبه في الآخرة مع المشركين فكما أنجاهم في الدنيا ينجيهم في الآخرة ولا يجعلهم مع المشركين
قوله عز وجل * (ولقد أنذرهم بطشتنا) * يعني خوفهم لوط عقوبتنا * (فتماروا بالنذر) * يعني شكوا بالرسل فكذبوا يعني لوطا
ويقال معناه شكوا بالعذاب الذي أخبرهم به الرسل أنه نازل بهم
قوله تعالى * (ولقد راودوه عن ضيفه) * يعني طلبوا منه الضيافة وكانت أضيافه جبريل مع الملائكة فمسح جبريل بجناحه على أعينهم فذهب أبصارهم وذلك قوله " فطمسنا
354

أعينهم) يعني أذهبنا أعينهم وأبصارهم * (فذوقوا عذابي ونذر) * اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخبر يعني فذوقوا عذاب الله تعالى أي عقوبة الله كما أخبرتهم النذر
ثم قال * (ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر) * يعني أخذهم وقت الصبح عذاب دائم يعني عذاب الدنيا موصولة بعذاب الآخرة * (فذوقوا عذابي ونذر) * يعني يقال لهم ذوقوا عذاب الله تعالى وإنذاره
ثم قال * (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) * وقد ذكرناها
سورة القمر 41 - 48
قوله تعالى * (ولقد جاء آل فرعون النذر) * يعني الرسل وهو موسى وهارون * (كذبوا بآياتنا كلها) * يعني بالآيات التسع * (فأخذناهم) * يعني عاقبناهم عند التكذيب * (أخذ عزيز مقتدر) * يعني عقوبة منيع بالنقمة على عقوبة الكفار * (مقتدر) * يعني قادرا على عقوبتهم وهلاكهم
ثم خوف كفار مكة فقال * (أكفاركم خير من أولئكم) * يعني أكفاركم أقوى في النذر من الذين ذكرناهم فأهلكهم الله تعالى وهو قادر على إهلاكهم * (أم لكم براءة في الزبر) * يعني براءة في الكتب من العذاب
اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الزجر يعني ليس لكم براءة ونجاة من العذاب
ثم قال عز وجل * (أم يقولون نحن جميع منتصر) * يعني ممتنع من العذاب يقول الله تعالى * (سيهزم الجمع) * يعني سيهزم جمع أهل مكة في الحرب * (ويولون الدبر) * يعني ينصرفون من الحرب منهزمين
يعني به يوم بدر وفي هذا علامة من علامات النبوة لأن هذه الآية نزلت بمكة وأخبرهم أنهم سيهزمون في الحرب فكان كما قال
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * فكنت لم أعلم ما هي وكنت أقول أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في الدرع ويقول (سيهزم الجمع ويولون الدبر) وقال الزجاج * (ويولون الدبر) *
355

يعني الإدبار كقوله تعالى * (يولوكم الأدبار) * [آل عمران 111] لأن اسم الواحد يدل على الجمع وكذلك قوله تعالى * (في جنات ونهر) * [القمر 54] أي أنهار
وذكر عن الفراء أنه قال إنما وحد لأنه رأس آية تقابل بالتوحيد رؤوس الآي
وكذلك في الدبر لموافقته رؤوس الآي
ثم قال * (بل الساعة موعدهم) * يعني مجمعهم * (والساعة أدهى وأمر) * يعني عذاب الساعة أعظم وأشد من عذاب الدنيا
ثم وصف عذاب الآخرة فقال * (إن المجرمين في ضلال وسعر) * يعني المشركين في الدنيا في ضلالة وخطأ وخلاف وفي سعير في الآخرة
والسعر جماعة السعير ويقال السعر يعني في عناء
ثم أخبرهم بمستقرهم فقال عز وجل * (يوم يسحبون في النار على وجوههم) * يعني يجرون في النار على وجوههم ويقول لهم الخزنة * (ذوقوا مس سقر) * يعني عذاب النار
سورة القمر 49 - 55
ثم قال " إنا كل شيء خلقناه بقدر " يعني خلقنا لكل شيء شكله مما يوافقه
وروي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال نزلت هذه الآية في أهل القدر " يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر " وقال محمد بن كعب القرظي " إنا كل شيء خلقناه بقدر " نزلت تعبيرا لأهل القدر
قال أبو الليث حدثنا أبو جعفر
قال حدثنا أبو القاسم حدثنا محمد بن الحسن قال حدثنا سفيان عن وكيع عن زياد بن إسماعيل عن محمد بن عباد عن أبي هريرة قال جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية " يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر " وروى الضحاك عن ابن عباس في قوله " إنا كل شيء خلقناه بقدر " قال خلق لكل شيء من خلقه ما يصلحهم من رزق ومن الدواب وخلق لدواب البر ولغيرها من الرزق ما يصلحها وكذلك لسائر خلقه
قوله عز وجل * (وما أمرنا إلا واحدة) * يعني وما أمرنا بقيام الساعة إلا مرة واحدة * (كلمح بالبصر) * يعني كرجع البصر
ومعناه إذا أمرنا بقيام الساعة مرة واحدة فنقول كن فيكون أقرب من طرف البصر
ثم قال * (ولقد أهلكنا أشياعكم) * يعني عذبنا أشباهكم وأهل ملتكم
ويقال إخوانكم حين كذبوا رسلهم * (فهل من مدكر) * يعني معتبر يعتبر فيكم فيعلم أن ذلك حق ويخاف عقوبة الله
356

ثم قال عز وجل " وكل شيء فعلوه في الزبر " يعني وكل شيء عملوه في الكتاب يحصى عليهم * (وكل صغير وكبير مستطر) * يعني مكتوبا في اللوح المحفوظ
ثم قال * (إن المتقين) * يعني الذين يتقون الشرك والفواحش * (في جنات ونهر) * يعني في بساتين وأنهار جارية * (في مقعد صدق) * يعني في أرض كريمة
ويقال في مجلس حسن وهي أرض الجنة * (عند مليك مقتدر) * يعني في جوارمليك قادر على الثواب قادر على خلقه مثيب ومعاقب
وقال القتبي النهر الضياء والسعة من قولك انهرت الطعنة إذا وسعتها والله أعلم
357

سورة الرحمن مدنية وهي سبعون وثمان آيات
سورة الرحمن 1 - 6
قوله تبارك وتعالى * (الرحمن علم القرآن) * وذلك أنه لما نزل قوله تعالى * (اسجدوا للرحمن) * قال كفار مكة وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وقالوا ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب
فأنزل الله تعالى * (الرحمن) * فأخبر عن نفسه وذكر صفة توحيده فقال * (الرحمن) * يعني الرحمن الذي أنكروه * (علم القرآن) * يعني أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ليقرأ عليه جبريل عليه السلام ويعلمه * (خلق الإنسان) * يعني الذي خلق آدم من أديم الأرض ويقال * (خلق الإنسان) * أراد به جنس الإنسان * (علمه البيان) * يعني جعله مخبرا مميزا حتى يميز الإنسان من جميع الحيوان ويقال * (علمه البيان) * يعني الكلام ويقال يعني الفصاحة ويقال الفهم
ثم قال * (الشمس والقمر بحسبان) * يعني بحساب ومنازل ولا يتعدانها يعني تجريان بحساب
ويقال * (بحسبان) * يعني يدلان على عدد الشهور والأوقات ويعرف بهما الحساب * (والنجم والشجر يسجدان) * * (والنجم) * كل نبات ينبسط على وجه الأرض ليس له ساق مثل الكرم والقرع ونحو ذلك * (والشجر) * كل نبات له ساق * (يسجدان) * يعني ظلهما يسجدان لله تعالى في أول النهار وآخره ويقال * (يسجدان) * يعني يسبحان الله تعالى كما قال " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " [الإسراء 44] ويقال خلقهما على خلقه فيها دليل لربوبيته ويدل الخلق على سجوده
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله * (والنجم والشجر يسجدان) * قال نجوم السماء وأشجار الأرض * (يسجدان) * بكرة وعشيا
سورة الرحمن 7 - 11
ثم قال عز وجل * (والسماء رفعها) * يعني من الأرض مسيرة خمسمائة عام * (ووضع الميزان) * يعني أنزل الميزان للخلق يوزن به وإنما أنزل في زمان نوح ولم يكن قبل ذلك ميزان * (ألا تطغوا في الميزان) * لكي لا تظلموا في الميزان
ويقال * (ووضع الميزان) * يعني
358

أنزل العدل في الأرض * (ألا تطغوا في الميزان) * يعني لكي لا تميلوا عن العدل * (وأقيموا الوزن بالقسط) * يعني اعدلوا في الوزن * (ولا تخسروا الميزان) * يعني لا تنقصوا حقوق الناس في الوزن
ويقال * (وأقيموا الوزن) * يعني أقيموا اللسان بالقول * (ولا تخسروا الميزان) * يعني لا تقولوا بغير حق
ثم قال * (والأرض وضعها للأنام) * يعني بسط الأرض للخلق * (فيها فاكهة) * يعني وخلق من الأرض من ألوان الفاكهة * (والنخل ذات الأكمام) * يعني ذات النخيل الطويل الموقرة بالطلع ذات الغلف وإنما العجائب في خلقه وما يتولد منه لأنه يتولد من النخيل من المنافع ما لا يحصى
وقال القتبي * (ذات الأكمام) * يعني ذات الكفرى قبل أن تتفتق وغلاف كل شيء كمه * (ذات الأكمام) * يعني ذات الغلف
سورة الرحمن 12 - 18
ثم قال * (والحب ذو العصف) * يعني ذو الورق * (والريحان) * يعني ثمره
وقال مجاهد * (العصف) * يعني ورق الحنطة * (والريحان) * الرزق
وقال الضحاك * (الحب) * الحنطة والشعير " والعصف " التبن وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال * (العصف) * الزرع * (والريحان) * الورق وقال القتبي * (الريحان) * الرزق يقال خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه وقال مقاتل * (الريحان) * الرزق بلسان حمير
ويقال * (العصف) * السنبل * (والريحان) * ثمرته وما ينتفع به
ويقال * (الريحان) * يعني الرياحين قرأ ابن عامر " والحب ذا العصف والريحان " بنصب النون والباء وإنما نصبه لأنه عطف على قوله * (والأرض وضعها للأنام) * * (والحب) * يعني وخلق الحب ذا العصف * (والريحان) *
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم * (والحب ذو العصف والريحان) * بضم النون والباء لأنه عطف على قوله * (فيها فاكهة) * وقرأ حمزة والكسائي هكذا إلا أنهما كسرا النون في قوله * (والريحان) * عطفا على * (العصف) * على وجه المجاورة
وقد ذكر الله تعالى من أول السورة نعماءه إلى هنا ثم خاطب الإنس والجن فقال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * وإن لم يسبق ذكرهما لأن في الكلام دليلا وقد ذكرهما من بعده وهو قوله * (يا معشر الجن والإنس) * وقال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني فبأي نعمة من نعماء ربكما أيها الجن والإنس * (تكذبان) * يعني تتجاحدان بأنها ليست من الله تعالى
قال بعضهم
359

* (آلاء الله) * ونعماء الله واحد إلا أن الآلاء أعم والنعماء أخص
ويقال الآلاء النعمة الظاهرة وهو التوحيد والنعماء النعمة الباطنة وهو المعرفة بالقلب كقوله * (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) * [لقمان 20] وقال بعضهم الآلاء إيصال النعم والنعماء دفع البلايا
ومثاله أن رجلا لو كانت له يد شلاء فله الآلاء وليست النعماء
وكذلك لسان الأخرس ورجل مقعد فله الآلاء وليست له النعماء
وأكثر المفسرين لم يفصلوا بينهما وقد ذكر في هذه السورة دفع البلية وإيصال النعمة
فكل ذلك سماه الآلاء
وروى محمد بن المنذر عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على أصحابه سورة الرحمن فسكت القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (الجن كانوا أحسن ردا منكم ما قرأت عليهم * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * إلا قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)
وفي رواية أخرى أنه قال (ما قرأت عليهم إلا قالوا ولا بواحدة منها فلك الحمد)
ثم قال * (خلق الإنسان) * يعني آدم * (من صلصال) * يعني الطين اليابس الذي يتصلصل أي يصوت من يبسه كما يصوت الفخار
ويقال الصلصال الطين الجيد الذي ذهب عنه الماء وتشقق
* (كالفخار) * يعني الطين الذي يصنع به الفخار
وقال في موضع آخر * (خلقناكم من تراب) * [الحج 5] وقال في موضع آخر * (من طين) * [السجدة 7] وقال في موضع آخر * (من صلصال) * فهذا كله قد كان حالا بعد حال
ثم قال * (وخلق الجان) * يعني أبا الجن ويقال هو إبليس * (من مارج من نار) * يعني من لهب من نار وليس لها دخان
وقال بعضهم خلق من نار جهنم
وقال بعضهم من النار التي بين الكلة الرقيقة وبين السماء ومنها يكون البرق ولا ترى السماء إلا من وراء تلك الكلة
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني خلقكم أيها الإنس من نفس واحدة وخلقكم أيها الجن من نفس واحدة فكيف تنكرون هذه النعمة أنها ليست من الله تعالى
ثم قال * (رب المشرقين ورب المغربين) * يعني هو * (رب المشرقين) * مشرق الشمس ومشرق القمر
وقيل مشرق الشتاء ومشرق الصيف * (ورب المغربين) * يعني مغرب الشتاء والصيف
* (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني فبأي نعمة أنتم من نعم الله أيها الجن والإنس تتجاحدان ومعناه أنتم حيث ما كنتم من مشارق الأرض ومغاربها في ملك الله تعالى وتأكلون رزقه وهو عالم حيث ما كنتم وهو حافظكم وناصركم فكيف تنكرون هذه النعم
سورة الرحمن 19 - 23
360

قوله عز وجل * (مرج البحرين يلتقيان) * يعني أرسل البحرين ويقال خلى البحرين ويقال خلق البحرين * (يلتقيان) * يعني مالح وعذب * (بينهما برزخ) * يعني حاجز * (لا يبغيان) * يعني لا يختلطان فيغير طعمه
وأصل البغي التطاول والجور والظلم
وقال بعضهم بينهما حاجر لطيف لا يراه الخلق وإنما العبرة في ذلك أنه لا يرى
ويقال بعضهم ليس هناك شيء وإنما تمنعهما من الاختلاط قدرة الله تعالى
ويقال * (يلتقيان) * أي يتقابلان أحدهما بحر الروم والآخر بحر فارس
وقيل بحر الهند " وبينهما برزخ لا يبغيان " أي لا يختلطان * (بينهما برزخ) *
بلطف الله تعالى أي باللطف تمنع عن الامتزاج وهما بحر واحد لن يمس أحدهما بالآخر
وقال الزجاج البرزخ الحاجر فهما من مرأى العين مختلطان وفي قدرة الله منفصلان
وقيل * (بينهما برزخ) * أي جزيرة العرب وقيل بحر السماء والأرض كقوله تعالى " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر [القمر 11 - 12] وبينهما برزخ الهواء والأرض وسكان الأرض
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني خلق البحرين لمنفعة الخلق وبين لكم العبرة وقدرته ولطفه لتعبتروا به وتوحدوه فكيف تنكرون هذه النعمة بأنها ليست من الله تعالى
ثم قال " يخرج منهما " يعني من بحر مالح " اللؤلؤ والمرجان " يعني من اللؤلؤ ما عظم و " المرجان " ما صغر منه
ويقال " اللؤلؤ " يعني الصغار " والمرجان " يعني الكبار
وقرأ نافع وأبو عمرو " يخرج " بضم الياء ونصب الراء على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الراء
وقرأ بعضهم بكسر الراء يعني يخرج الله تعالى ونصب اللؤلؤ والمرجان لأنه مفعول به
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني خلق في البحر اللؤلؤ لمنفعة الخلق ولصلاحهم ولكي تعتبروا به فكيف تنكرون هذه النعمة
سورة الرحمن 24 - 28
ثم قال عز وجل " وله الجوار المنشآت في البحر " يعني السفن التي تجري في الماء " في البحر " " كالأعلام " يعني كالجبال في البر فشبه السفن في البحر بالجبال
وقرأ حمزة " المنشآت " بكسر الشين والباقون بالنصب
فمن قرأ بالكسر يعني المبتدئات في السير
ومن قرأ بالنصب يعني مرفوعات الشراع
ويقال الذي ابتدئ مهن في السير
ثم قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أنه جعل السفن في البحر لمنفعة الخلق فكيف تنكرون هذه النعمة بأنها ليست من الله تعالى
361

ثم قال عز وجل * (كل من عليها فان) * يعني كل شيء على وجه الأرض يفنى * (ويبقى وجه ربك) * يعني يبقى الله تعالى * (ذو الجلال والإكرام) * يعني ذو الملك والعظمة والإكرام يعني ذو الكرم والتجاوز
فلما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلكت بنو آدم فلما نزل * (كل نفس ذائقة الموت) * أيقنوا بهلاك أنفسهم وهذا من النعم لأنه يحذرهم وبين لهم ليتهيؤوا لذلك
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * ومعناه إن الله تعالى يعينكم فتوكلوا عليه ولا تعتمدوا على الناس لأنهم لا يقدرون على دفع الهلاك عن أنفسهم والله هو الباقي بعد فناء الخلق وهو الذي يتجاوز عنكم ويعينكم فكيف تنكرون ربكم الذي خلقكم وأحسن إليكم
سورة الرحمن 29 - 32
قوله تعالى * (يسأله من في السماوات والأرض) * يعني الملائكة يسألون لأهل الأرض المغفرة ويسأل أهل الأرض جميع حوائجهم من الله تعالى
ثم قال * (كل يوم هو في شأن) * يعني في كل يوم يعز ويذل ويحيي ويميت ويعطي ويمنع
وذلك أن اليهود قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا فنزل * (كل يوم هو في شأن) * فأخبر الله تعالى أنه يقضي في جميع الأيام وكان هذا من النعم
وذكر أن الحجاج بن يوسف الثقفي أرسل إلى محمد بن الحنفية يتوعده قال لأفعلن بك كذا وكذا
فأرسل إليه محمد بن الحنفية وقال إن الله تعالى ينظر في كل يوم ثلاث مائة وستين نظرة إلى اللوح المحفوظ وكل يوم يعز ويذل ويعطي ويمنع فأرجو أن يرزقني الله تعالى ببعض نظراته وأن لا يجعل لك علي سلطانا
فكتب بها الحجاج إلى عبد الملك بن مروان فكتب عبد الملك بهذه الكلمات التي قالها محمد بن الحنفية ووضعها في خزانته فكتب إليه ملك الروم يتوعده في شيء فكتب إليه عبد الملك بتلك الكلمات التي قالها محمد بن الحنفية فكتب إليه صاحب الروم والله ما هذا من كنزك ولا من كنز أهل بيتك ولكنها من كنز أهل بيت النبوة
ثم قال عز وجل * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني تجحدون نعمته وأنتم تسألون حوائجكم منه
قوله تعالى * (سنفرغ لكم أيها الثقلان) * أي سنحفظ عليكم أعمالكم أيها الجن والإنس فنجازيكم بذلك
وروى جبير عن الضحاك في قوله * (سنفرغ لكم أيها الثقلان) * قال هذا
362

وعيد من غير شغل إن الله تعالى لا يشغله شيء بشيء
وقال الزجاج الفراغ في اللغة على ضربين
أحدهما الفراغ من الشغل والآخر القصد للشيء كما تقول سأفرغ لفلان أي سأجعل قصدي له
قرأ حمزة والكسائي " سيفرغ لكم " بالياء والباقون بالنون وكلاهما يرجع إلى معنى واحد
يعني سيحفظ الله عليكم أعمالكم ويحاسبكم بما تعملون
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني ما عملتم فإنه لا ينسى ولا يمنح ثوابه وينصفكم من ظلمكم فيكف تنكرون هذه النعم بأنها ليست من الله تعالى واعلموا أن هذه النعم كلها من الله فاشكروه
فكيف تنكرون من هو يجازيكم بأعمالكم ولا يمنع ثواب حسناتكم وينصركم على أعدائكم فهذه النعم كلها من الله فاشكروه ووحدوه
سورة الرحمن 33 - 36
ثم قال * (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم) * يعني إن قدرتم * (أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض) * يعني أن تخرجوا من أطراف السماوات والأرض ونواحيها * (فانفذوا) * يعني فأخرجوا إن استطعتم
قال مقاتل هذا الخطاب للجن والإنس في الدنيا
يعني إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السماوات والأرض هروبا من الموت * (فانفذوا) * * (لا تنفذون إلا بسلطان) * يعني أينما توجهتم أدرككم الموت
وروي عن ابن عباس أنه قال هذا الخطاب في يوم القيامة وذلك أن السماء تتشقق بالغمام وتنزل ملائكة السماوات ويقومون حول الدنيا محيطين بها وجاء الروح وهو ملك يقوم صفا وهو أكبر من جميع الخلق فحينئذ يقال لهم * (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) * يعني لا تنجون إلا بحجة وبرهان
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني فبأي نعمة من نعمائه تجحدون حيث بين لكم أحوال يوم القيامة حتى تتوبوا وترجعوا
ويقال معناه ذلك اليوم لا يفوته أحد ولا يعينكم أحد غيره فكيف تجحدون هذه النعم
ثم قال " يرسل عليكم شواظ من نار " يعني يرسل على كفار الجن وكفار الإنس لهبا من النار * (ونحاس) * يعني الصفر المذاب يعذبون بهما
ويقال دخان لا لهب فيه
ويقال النحاس هو لباس أهل النار * (فلا تنتصران) * يعني لا تمنعان من ذلك
قرأ ابن كثير * (يرسل عليكما شواظ) * بكسر الشين والباقون بالضم فهما لغتان ومعناهما واحد
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ونحاس) * بكسر السين والباقون بالضم
فمن قرأ بالكسر عطف على قوله * (من نار) * ومن قرأ بالضم عطف على قوله * (شواظ) *
363

ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني لا يعينكم أحد غير الله ولا يحفظكم حين يرسل عليكم العذاب إلا الله فكيف تنكرون قدرته وتوحيده
سورة الرحمن 37 - 40
ثم قال عز وجل * (فإذا انشقت السماء) * يعني انفرجت السماء لنزول الملائكة كقوله * (ويوم تشقق السماء بالغمام) * [الفرقان 25]
* (فكانت وردة كالدهان) * يعني صارت كدهن الورد الصافي من الخوف وهذا قول مقاتل
وقال القتبي صارت حمراء في لون الفرس يعني بمنزلة الدابة الجلجون الذي يتغير لونه في كل وقت يرى لونه على خلاف اللون الأول ويقال له الورد ويقال الدهان الأديم الأحمر الكلكون بلغة الفارسي
يعني الفرس الذي يكون لونه لون الورد الأحمر يعنون أخضر يضرب إلى سواد يتغير لونه بياض
ويقال من هيبة ذلك زاغ فيرى أنه كالدهن
ثم قال عز وجل * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني إذا كان يوم القيامة تغيرت السماوات من هيبته ويأمر الخلق بالحساب فهو الذي ينجيكم من هول ذلك اليوم فكيف تنكرون هذه النعمة
ثم قال عز وجل * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه) * يعني عن علمه * (إنس ولا جان) * يعني إنسيا ولا جنيا لأن الله تعالى قد أحصى عملهم ويقال لا يسأل سؤال استفهام ولكن يسأل سؤال التوبيخ والزجر كقوله تعالى " فوربك لنسئلنهم أجمعين " [الحجر 92] ويقال لا يسأل الكافر لأنه قد عرف بعلامته
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني إذا كان يوم القيامة أعطاكم الثواب وأدخلكم في جنته فكيف تنكرون وحدانيته ويقال معناه إن الله قد بين لكم أنه يعلم أعمالكم ونهاكم عن الذنوب وتجاوز عنكم فكيف تنكرون وحدانيته
سورة الرحمن 41 - 45
قوله عز وجل * (يعرف المجرمون بسيماهم) * يعني يعرف الكافر بسواد وجهه وزرقة عينيه * (فيؤخذ بالنواصي والأقدام) * وذلك أن خزنة جهنم بعد الحساب يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون بين نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعونهم على وجوههم فيطرحونهم في النار
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني هو الذي يدفع عنكم ذلك العذاب إذا أطعتموه ووحدتموه فكيف تنكرون هذه النعمة إن آمنتم وأطعتم فكيف تنكرون وحدانيته
364

ثم قال عز وجل * (هذه جهنم) * وذلك أن الكفار إذا دنوا من النار تقول لهم الخزنة هذه جهنم * (التي يكذب بها المجرمون) * يعني جهنم التي كنتم بها تكذبون في الدنيا
ثم أخبر عن حالهم فيها فقال * (يطوفون بينها وبين حميم آن) * يعني الشراب الحار الذي قد انتهى حره وذلك أنه يسلط عليهم الجوع فيؤتى بهم إلى الزقوم الذي طلعها كرؤوس الشياطين فأكلوا منها فأخذ في حلقهم فاستغاثوا بالماء فأتوا من الحميم فإذا قربوا إلى وجوههم تناثر لحم وجوههم فيشربون فيغلي في أجوافهم ويخرج جميع ما فيها ثم يلقى عليهم الجوع فمرة يذهب بهم إلى الحميم ومرة إلى الزقوم فذلك قوله تعالى * (يطوفون بينها وبين حميم آن) *
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني هو الذي ينجيكم من عذاب الآخرة إن أطعتم أمره وآمنتم برسله فكيف تنكرون وحدانية الله تعالى ويقال معناه إن إخباري إياكم بهذه العقوبة نعمة لكم لكي تنتهوا عن الكفر والمعاصي فلا تنكروا نعمتي عليكم
سورة الرحمن 46 - 55
ذكر الله في هذه الآيات دفع البلاء ثم ذكر إيصال النعم لمن اتقاه وأطاع أمره فقال تعالى * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * يعني من خاف عند المعصية مقامه يوم القيامة بين يدي ربه فانتهى عن المعصية فله في الآخرة * (جنتان) * يعني بستانان
وقال مجاهد هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله عندها فيدعها فله أجران
وذكر عن الفراء أنه قال * (جنتان) * أراد به جنة واحدة وإنما ذكر * (جنتان) * للقوافي والقوافي تحتمل الزيادة والنقصان ما لا يحتمل الكلام
وقال القتبي هذا لا يجوز لأن الله تعالى قد وعد ببستانين فلا يجوز أن يريد بهما واحدا فلو جاز هذا لجاز أن يقال في قوله تسعة عشر إنما هم عشرون ولكن ذكر للقوافي
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني بأي نعمة من نعماء الله تعالى تتجاحدان إذ جعل الجنة ثواب أعمالكم فيكف تنكرون وحدانية الله تعالى ونعمته
قوله تعالى * (ذواتا أفنان) * يعني ذواتا ألوان
يعني البساتين فيها ألوان من الثمرات
ويقال * (ذواتا) * أغصان
وقال الزجاج الأفنان ألوان وهي الأغصان أيضا واحدها فنن
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني قد وعدتم الجنة والراحة فكيف تنكرون وحدانيته ونعمته
365

ثم قال عز وجل * (فيهما عينان تجريان) * يعني في البساتين نهران من ماء غير آسن يعني غير متغير
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني جعل الأنهار نزهة لكم وزيادة في النعمة فكيف تنكرون نعمة الله تعالى وقدرته
ثم قال * (فيهما من كل فاكهة زوجان) * يعني في هذين البستانين من كل لون من الفاكهة صنفان الحلو والحامض ويقال لونان * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني جعل فيهما من الراحة والنزهة من كل نوع من الفاكهة فكيف تنكرون نعمته وقدرته
قوله عز وجل * (متكئين على فرش) * يعني ناعمين على فرش * (بطائنها من إستبرق) * هو الديباج الغليظ الأخضر بلغة فارس
وقال مقاتل * (بطائنها) * يعني ظواهرها وذكر عن الفراء أنه قال * (بطائنها) * يعني الظهارة وقد تكون الظهارة بطانة والبطانة ظهارة لأن كل واحد منهما يكون
وجها
وقال القتبي هذا لا يصح ولكن ذكر البطانة تعليما لنا أن البطانة إذا كانت من إستبرق فالظهارة تكون أجود
وروي عن ابن عباس أنه سئل أن * (بطائنها من إستبرق) * فما الظواهر قال هو مما قال الله تعالى * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) * [السجدة 17]
ثم قال * (وجنى الجنتين دان) * يعني اجتناؤهما قريب إن شاء تناولهما قائما وإن شاء تناولهما قاعدا وإن شاء متكئا
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني جعل لكم مجالس الملوك مع الفرش المرتفعة فكيف تنكرون وحدانية الله ونعمته
سورة الرحمن 56 - 61
ثم قال عز وجل * (فيهن قاصرات الطرف) * يعني في الجنان من الزوجات غاضات البصر قانعات بأزواجهن لا يشتهين غيرهم ولا ينظرون إلى غيرهم
قوله تعالى * (لم يطمثهن إنس) * يعني لم يمسسهن إنسيا * (قبلهم ولا جان) * يعني لا إنسيا ولا جنيا * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني جعل لكم أزواجا موافقة ليطعنكم وهن لا يردن غيركم فكيف تنكرون الله تعالى
ثم وصف الزوجات فقال * (كأنهن الياقوت والمرجان) * يعني في الصفاء كالياقوت وفي البياض كالمرجان * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني جعلهن بحال تتلذذ أعينكم بالنظر إليهن فكيف تنكرون وحدانية الله تعالى ونعمته
366

ثم قال عز وجل * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) * يعني هل جزاء التوحيد وهو قول لا إله إلا الله إلا الجنة ويقال هل جزاء من خاف مقام ربه إلا هاتان الجنتان اللتان ذكرناها في الآية
ثم قال * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني فكيف تنكرون نعمة ربكم حيث جعل ثواب إحسانكم الجنة وبين لكم لكي تحسنوا وتنالوا ثواب الله وإحسانه
سورة الرحمن 62 - 69
ثم قال عز وجل * (ومن دونهما جنتان) * يعني من دون الجنتين اللتين ذكرهما جنتان أخروان
فالأوليان جنة النعيم وجنة عدن والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني قد ذكر للمتقين جنتين وجنتان أخريان زيادة على الكرامة فكيف تنكرون فضل ربكم وكرامته
ثم وصف الجنتين الأخريين فقال * (مدهامتان) * يعني خضراوان
ويقال التي تضرب خضرتها إلى السواد * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني جعل لكم الجنان المخضرة لأن النظر في الخضرة يجلي البصر فكيف تنكرون وحدانيته
ثم قال * (فيهما عينان نضاختان) * يعني ممتلئتان فوارتان
وقال القتبي يعني تفوران بالماء والنضخ أكثر من النضح
وقال مجاهد * (نضاختان) * يعني مملوءتان من الخير لا ينقطعان * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني كيف تنكرون من جعل لكم فيهما عينان تفوران على الدوام ولا انقطاع لهما
ثم قال عز وجل * (فيهما فاكهة ونخل ورمان) * يعني في الجنتين الأخريين من ألوان الفاكهة
* (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * معناه في الجنتين الأخريين من ألوان الفاكهة كمثل ما في الأوليين فأنتم تجدون فيها ألوانا من الثمار والفواكه
فكيف تنكرون نعمة ربكم ولا توحدوه
سورة الرحمن 70 - 78
ثم قال عز وجل * (فيهن خيرات حسان) * يعني في الجنان كلها زوجات حسان
وقال الزجاج أصله في اللغة خيرات وقد قرئ بتشديد الياء وقراءة العامة بالتخفيف
وقال مقاتل * (خيرات) * الأخلاق * (حسان) * الوجوه * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني في هذه
367

الجنان الأربعة في كل واحدة منها تجدون خيرة هي زوجة هي أحسن بما في الأخرى فكيف تنكرون عزة ربكم ولا تشكرونه
ثم وصف الخيرات فقال * (حور مقصورات) * يعني محبوسات * (في الخيام) * على أزواجهن
وقال ابن عباس الخيمة الواحدة من لؤلؤة مجوفة فرسخا في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * يعني فكيف تنكرون هذه النعمة حين حبس الأزواج الطيبات لكم إن أطعتم الله تعالى
ثم قال عز وجل * (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) * يعني لم يمسسهن إنس قبلهم ولا جان
قرأ الكسائي * (لم يطمثهن) * بضم الميم والباقون بالكسر
وهما لغتان ومعناهما واحد
" فبأي آلاء ربكما تكذبان)
ثم قال " متكئين على رفرف " يعني نائمين على المجالس الخضر على السرر الحسان
ويقال على رياض " خضر وعبقري حسان " يعني الزرابي الكثيرة الألوان وهي الطنافس الحسان
وقال مجاهد " وعبقري حسان " يعني الديباج وقال الزجاج وإنما قال " عبقري حسان " ولم يقل حسن لأن العبقري جماعة يقال للواحد عبقرية كما تقول ثمرة وثمر لوزة ولوز وأيضا يكون العبقري اسم جنس والعبقري كل شيء بولغ في وصفه والعبقري البسط ويقال الطنافس المبسوطة
ثم قال عز وجل " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يعني فبأي نعمة من نعماء ربكما أيها الجن والإنس تتجاحدان مع هذه الكرامات التي بين الله تعالى لكم لتعلموا فتناولوا تلك الكرامات ما شاء الله
ثم قال عز وجل " تبارك اسم ربك ذي الجلال " أي تعالى وتعظم عما يقول الكفار (ذي الجلال) يعني ذي الارتفاع ارتفاع المنزلة والقدرة " والإكرام " يعني الكريم المتجاوز عن المذنبين
ويقال الاسم زيادة في الكلام ومعناه تبارك ربك
قرأ ابن عامر (ذو الجلال) بالواو والباقون " ذي الجلال " بالياء
فمن قرأ (ذو الجلال) جعله نعتا للاسم والاسم رفع وكذلك نعمته
ومن قرأ بالكسر جعله نعتا للرب عز وجل والله أعلم والله سبحانه وتعالى أعلم صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم
368

سورة الواقعة كلها مكية وهي تسعون وست آيات
سورة الواقعة 1 - 3
قوله تبارك وتعالى * (إذا وقعت الواقعة) * يعني قامت القيامة وإنما سميت القيامة * (الواقعة) * لصوتها وهي النفخة الأخيرة
وقال قتادة هي الصيحة أسمعت القريب والبعيد * (ليس لوقعتها كاذبة) * يعني ليس لها مثوبة ولا ارتداد ولا خلف
ويقال ليس لقيامها تكذيب
ثم وصف القيامة فقال * (خافضة رافعة) * يعني خفضت أقواما بأعمالهم فأدخلتهم النار ورفعت أقواما بأعمالهم فأدخلتهم الجنة
وقال قتادة في قوله * (خافضة رافعة) * يعني خفضت أقواما في عذاب الله ورفعت أقواما في كرامة الله
سورة الواقعة 4 - 9
ثم قال عز وجل * (إذا رجت الأرض رجا) * يعني زلزلت الأرض زلزلة وحركت تحريكا شديدا لا تسكن حتى تلقي جميع ما في بطنها على ظهرها
ثم قال * (وبست الجبال بسا) * يعني فتتت الجبال فتا
ويقال قلعت الجبال قلعا ويقال كسرت الجبال كسرا
* (فكانت هباء منبثا) * يعني ترابا منتشرا وهو ما يسطع من سنابك الخيل
ويقال الغبار الذي في شعاع الكوة
وقال القتبي * (وبست الجبال بسا) * يعني فتتت حتى صارت كالدقيق والسويق المبسوس
ثم وصف حال الخلق في يوم القيامة وأخبر أنهم ثلاثة أصناف
اثنان في الجنة وواحد في النار
ثم نعت كل صنف من الثلاثة على حده فقال " وكنتم أزوجا ثلاثة " يعني تكونون يوم القيامة ثلاث أصناف * (فأصحاب الميمنة) * يعني الذي يعطون كتابهم بأيمانهم * (ما أصحاب الميمنة) * يعني ما تدري ما لأصحاب الميمنة من الخير والكرامات " وأصحاب المشئمة " يعني الذين يعطون كتابهم بشمالهم " ما أصحاب المشئمة " يعني ما تدري ما لأصحاب المشئمة من الذل والعذاب
ويقال * (أصحاب الميمنة) * يعني الذين كانوا يوم الميثاق على يمين آدم عليه السلام ويقال على يمين العرش " وأصحاب المشئمة " الذين كانوا على شمال
369

آدم عليه السلام
ويقال على شمال العرش
ويقال * (أصحاب الميمنة) * الذين يكونون يوم القيامة على يمين العرش ويأخذون طريق الجنة " وأصحاب المشئمة " الذين يأخذون على طريق الشمال فيفضي بهم إلى النار
سورة الواقعة 10 - 24
ثم قال عز وجل * (والسابقون السابقون) * يعني السابقين إلى الإيمان والجهاد والطاعات " السابقون " يعني هم السابقون إلى الجنة
فذكر الأصناف الثلاثة
أحدها أصحاب اليمين الثاني أصحاب الشمال والثالث السابقون
ثم وصف كل صنف منهم بصفة فبدأ بصفة السابقين فقال * (أولئك المقربون) * يعني المقربون عند الله في الدرجات * (في جنات النعيم) * يعني في جنات عدن * (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) * يعني إن السابقين تكون جماعة من الأولين يعني من أول هذه الأمة مثل الصحابة والتابعين * (وقليل من الآخرين) * يعني إن السابقين في آخر هذه الأمة يكونون قليلا
وقال بعضهم * (ثلة من الأولين) * يعني جمع من الأمم الخالية * (وقليل من الآخرين) * يعني من هذه الأمة فحزن المسلمون بذلك حتى نزلت * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) * فطابت أنفسهم
والطريق الأول أصح
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كلتا الثلتين من أمتي)
وروي عن عبد الله بن يزيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أهل الجنة عشرون ومائة صنف هذه الأمة منها ثمانون صنفا)
ثم قال * (على سرر موضونة) * يعني إن السابقين في الجنة على سرر منسوجة بالدر والياقوت
وقال مجاهد * (موضونة) * مرمولة بالذهب
وقال القتبي * (موضونة) * أي منسوجة كأن بعضها أدخل في بعض أو نضد بعضها على بعض ومنه قيل للدرع * (موضونة) *
ثم قال * (متكئين عليها متقابلين) * يعني ناعمين على سرر متقابلين في الزيادة
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ " متكئين عليها ناعمين " وقال مجاهد * (متقابلين) * يعني لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض
ثم قال عز وجل * (يطوف عليهم ولدان) * يعني في الخدمة * (ولدان مخلدون) * يعني غلمان خلدوا في الجنة
ويقال على سن واحد لا يتغيرون لأنهم خلقوا للبقاء ومن خلق
370

للبقاء لا يتغير
ويقال * (مخلدون) * يعني لا يكبرون
ويقال هم أولاد الكفار لم يكن لهم ذنب يعذبون به ولا طاعة يثابون فيكونون خداما لأهل الجنة
قوله تعالى * (بأكواب وأباريق) * يعني بأيدي الغلمان أكواب يعني أكواب من فضة مدورة الرأس ليست لها عرى وهذا قول مقاتل
والأباريق التي لها عرى
ثم قال * (وكأس من معين) * يعني خمرا بيضاء من نهر جار * (لا يصدعون عنها) * يعني لا يصدع رؤوسهم بشرب الخمر في الآخرة * (ولا ينزفون) * يعني لا تذهب عقولهم ولا ينفد شرابهم ولا اختلاف في القراءة مثلما ذكرنا في سورة الصافات
ثم قال * (وفاكهة مما يتخيرون) * يعني مما يتمنون ويختارون من ألوان الفاكهة * (ولحم طير مما يشتهون) * يعني إن شاء مشويا وإن شاء مطبوخا
ثم قال عز وجل * (وحور عين) * قرأ حمزة والكسائي * (وحور عين) * بالكسر عطفا على قوله * (بأكواب وأباريق) * فصار خفضا على المجاورة والباقون * (وحور عين) * بالضم
ومعناه ولهم حور عين والحور البيض والعين الحسان الأعين * (كأمثال اللؤلؤ المكنون) * يعني اللؤلؤ الذي في الصدف لم تمسه الأيدي ولم تره الأعين * (جزاء بما كانوا يعملون) * يعني هذه الجنة مع هذه الكرامات ثوابا لأعمالهم
سورة الواقعة 25 - 36
ثم قال * (لا يسمعون فيها لغوا) * يعني في الجنة خلفا وكذبا * (ولا تأثيما) * يعني كلام فيه إثم عند الشرب كما يكون في الدنيا
ويقال * (ولا تأثيما) * يعني ولا إثم عليهم فيما شربوا * (إلا قيلا سلاما سلاما) * يعني إلا قولا وكلاما يسلم بعضهم على بعض ويقال * (الآ) * بمعنى لكن فكأنه يقول لكن قولا سلاما يسلم عليهم الملائكة ويبعث الله تعالى إليهم الملائكة بالسلام فهذا كله نعت السابقين
ثم ذكر الصنف الثاني فقال * (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) * يعني مالهم من الخير والكرامة على وجه التعجب
ثم وصف حالهم فقال * (في سدر مخضود) * يعني لا شوك له كالسدر الذي يكون في الدنيا والسدرة شجرة بالبصرة وغيرها لها ثمرة وفي تلك الشجرة شوك ويتخذون من ورقها الخوص
وقال قتادة * (في سدر مخضود) * يعني الكثير الحمل الذي ليس له شوك
وقال
371

القتبي كأنه حصد شوكه يعني قطع
وروي في الخبر أنه لما نزل ذكر السدر قال أهل الطائف إنها سدرنا هذا فنزل * (مخضود) * يعني موقر بلا شوك
ثم قال * (وطلح منضود) * وقال مقاتل يعني الموز المثمر المتراكم بعضه على بعض
وقال قتادة هو الموز وهكذا روي عن ابن عباس
والمنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ " وطلع منضود " كقوله تعالى * (طلع نضيد) *
ثم قال عز وجل * (وظل ممدود) * يعني دائما لا يزول
وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها اقرؤوا إن شئتم * (وظل ممدود) * يعني دائما لا يزول
ثم قال * (وماء مسكوب) * يعني منصبا كثيرا
ويقال منصبا من ساق العرش * (وفاكهة كثيرة) * يعني ألوان الفاكهة كثيرة * (لا مقطوعة) * يعني لا تنقطع عنهم في حين كما يكون في فواكه الدنيا بل توجد في جميع أوقات الدنيا * (ولا ممنوعة) * يعني لا تمنع منهم والممنوعة أن ينظر إليها ولا يقدر أن يأكل منها كأشجار الدنيا
* (وفرش مرفوعة) * يعني بعضها فوق بعض ويقال مرتفعة
ثم قال عز وجل * (إنا أنشأناهن إنشاء) * يعني الجواري والزوجات
يقال نساء الدنيا خلقناهن خلقا بعد خلق الدنيا ويقال إنهن أفضل وأحسن من حور الجنة لأنهن عملن في الدنيا والحور لم يعملن
وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم * (إنا أنشأناهن إنشاء) * قال (إن من المنشآت التي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا زمنا)
ثم قال * (فجعلناهن أبكارا) * يعني خلقناهن أبكارا عذارى
سورة الواقعة 37 - 40
* (عربا) * يعني محبات عاشقات لأزواجهن لا يردن غيرهم
قرأ حمزة وعاصم في إحدى الروايتين * (عربا) * بجزم الراء والباقون بالضم ومعناهما واحد
وقال أبو عبيد نقرأ بالضم لأنها أقيس في العربية لأن واحدتها عروب وجمعها عرب مثل صبور وصبر
ثم قال * (أترابا) * يعني مستويات في السن كلهن على ميلاد واحد بنات ثلاث وثلاثين سنة
وروي عن عكرمة أنه قال أهل الجنة مثل أولاد ثلاثين سنة رجالهم ونساؤهم
372

قامة أحدهم ستون ذراعا على قامة أبيهم آدم صلوات الله عليه شباب جرد مكحلون أعينهم كالقمر ليلة البدر وآخرهم كالكوكب الدري في السماء يبصر وجهه في وجهها وكبده في كبدها وفي مخ ساقها وتبصر هي وجهها في وجهه وفي كبده وفي مخ ساقه ولا يبزقون ولا يتمخطون وما كان فوق ذلك من الأذى فهو أبعد * (لأصحاب اليمين) * يعني هذا الذي ذكر كرامة لأصحاب اليمين
ثم قال عز وجل * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) * يعني جماعة من أول هذه الأمة وجماعة من الآخرين
وذكر في السابقين أنهم جماعة من الأولين وقليل من الآخرين لأن السابق في أخر الأمة قليل وأما أصحاب اليمين يكون جماعة من أول الأمة وجماعة من آخر الأمة
سورة الواقعة 41 - 38
ثم ذكر الصنف الثالث فقال * (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال) * يعني ما لأصحاب الشمال من الشدة والشر والهوان
ثم وصف حالهم فقال * (في سموم وحميم) * والسموم الزمهرير يقطع الوجوه وسائر اللحم
ويقال السموم النار الموقدة
والحميم الماء الحار الشديد * (وظل من يحموم) * واليحموم الدخان يعني دخان جهنم أسود * (لا بارد ولا كريم) * يعني * (لا بارد) * شرابهم * (ولا كريم) * منقلبهم
ثم بين أعمالهم التي استحقوا بها العقوبة فقال * (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين) * يعني متنعمين أي كانوا في الدنيا متكبرين في ترك أمر الله تعالى
ويقال كانوا مشركين * (وكانوا يصرون على الحنث العظيم) * يعني يثبتون على الذنب العظيم وهو الشرك
وإنما سمي الشرك حنثا لأنهم كانوا يحلفون بالله لا يبعث الله من يموت وكانوا يصرون على ذلك
وقال القتبي * (الحنث العظيم) * اليمين الغموس
وقال مجاهد الذنب العظيم
وقال ابن عباس * (الحنث العظيم) * هو الشرك * (وكانوا يقولون) * مع شركهم * (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) * يعني بعدما صرنا ترابا وعظاما
بالية صرنا أحياء بعد الموت " وآباؤنا الأولون " الذين مضوا قبلنا وصاروا ترابا
سورة الواقعة 49 - 56
373

قال الله تعالى * (قل) * يا محمد * (إن الأولين والآخرين) * يعني الأمم الخالية وهذه الأمة * (لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) * يعني في يوم القيامة يجتمعون فيه * (ثم إنكم أيها الضالون) * يعني المشركون * (المكذبون لآكلون من شجر من زقوم) * وقد ذكرناه * (فمالئون منها البطون) * يعني يملؤون من طلعها البطون * (فشاربون عليه من الحميم) * يعني على إثره يشربون من الحميم * (فشاربون شرب الهيم) * يعني كشرب الهيم وهي الإبل التي يصيبها داء فلا تروى من الشراب
ويقال الأرض التي أصابتها الشمس وهي أرض سهلة من الرملة
قرأ نافع وعاصم وحمزة * (شرب الهيم) * بضم الشين والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم فهو اسم
ومن قرأ بالنصب فهو المصدر
ويقال كلاهما مصدر شربت
ثم قال * (هذا نزلهم يوم الدين) * يعني جزاءهم يوم الجزاء
ويقال معناه هو الذي ذكرناه من الزقوم والشراب طعامهم وشرابهم يوم الحساب
سورة الواقعة 57 - 62
ثم قال * (نحن خلقناكم) * يعني خلقناكم ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون * (فلولا تصدقون) * يعني أفلا تصدقون بالبعث وبالرسل
ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا فقال * (أفرأيتم ما تمنون) * يعني ما خرج منكم من النطفة ويقع في الأرحام * (أأنتم تخلقونه) * يعني أنتم تخلقون منه بشرا في بطون النساء ذكرا أو أنثى * (أم نحن الخالقون) * يعني بل نحن نخلقه * (نحن قدرنا بينكم الموت) * يعني نحن قسمنا بينكم الآجال فمنكم من يموت صغيرا ومنكم من يموت شابا ومنكم من يموت شيخا
قرأ ابن كثير * (نحن قدرنا) * بالتخفيف وقرأ الباقون * (قدرنا) * بالتشديد ومعناهما واحد لأن التشديد للتكثير
ثم قال * (وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم) * يعني وما نحن بعاجزين إن أردنا أن نأتي بخلق مثلكم وأمثل منكم وأطوع لله تعالى * (وننشئكم في ما لا تعلمون) * يعني ونخلقكم سوى خلقكم من الصور فيما لا تعلمون من الصور مثل القردة والخنازير
ويقال وما نحن بعاجزين على أن نرد أرواحكم إلى أجسامكم بعد الموت
ثم قال عز وجل * (ولقد علمتم النشأة الأولى) * يعني علمتم ابتداء خلقكم إذ خلقناكم في بطون أمهاتكم ثم أنكرتم البعث * (فلولا تذكرون) * يعني فلولا تتعظون وتعتبرون بالخلق الأول أنه قادر على أن يبعثكم كما خلقكم أول مرة ولم تكونوا شيئا
374

سورة الواقعة 63 - 67
ثم قال * (أفرأيتم ما تحرثون) * يعني فهلا تعتبرون بالزرع الذي تزرعونه في الأرض وتبذرون فيها " أأنتم تزرعونه " يعني تنبتونه * (أم نحن الزارعون) * يعني أم نحن المنبتون
يعني بل الله تعالى أنبته * (لو نشاء لجعلناه حطاما) * يعني يابسا هالكا بعدما بلغ * (فظلتم تفكهون) * يعني فصرتم ثم تندمون
ويقال تتعجبون من يبسه بعد خضرته * (إنا لمغرمون) *
يعني لقلتم غرمنا وذهب زرعنا
ويقال * (إنا لمغرمون) * يعني معذبون * (بل نحن محرومون) * يعني حرمنا منفعة زرعنا
قرأ عاصم في رواية أبي بكر " أئنالمغرمون " بهمزتين على الاستفهام وقرأ الباقون بهمزة واحدة على معنى الخبر
سورة الواقعة 68 - 73
ثم قال * (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن) * يعني من السحاب * (أم نحن المنزلون) * يعني بل نحن المنزلون عليكم * (لو نشاء جعلناه أجاجا) * يعني مرا مالحا لا تقدرون على شربه * (فلولا تشكرون) * يعني هلا تشكرون رب هذه النعمة وتوحدونه حين سقاكم ماء عذبا
ثم قال عز وجل * (أفرأيتم النار التي تورون) * يعني تقدحون والعرب تقدح بالزند والزند خشب يحك بعضه على بعض فتخرج منه النار " أأنتم أنشأتم شجرتها " يعني خلقتم شجرها * (أم نحن المنشئون) * يعني الخالقون
يعني الله أنشأها وجعلها لمنفعة الخلق * (نحن جعلناها تذكرة) * يعني النار عظة وعبرة في الدنيا من نار جهنم
وقال مجاهد * (نحن جعلناها تذكرة) * يعني النار الصغرى عظة للنار الكبرى * (ومتاعا للمقوين) * يعني منفعة لمن كان مسافرا
وقال قتادة المقوي الذي قد فني زاده
وقال الزجاج المقوي الذي قد نزل بالقداء وهي الأرض الخالية
سورة الواقعة 74 - 82
375

ثم قال عز وجل * (فسبح باسم ربك العظيم) * يعني اذكر التوحيد باسم ربك يا محمد صلى الله عليه وسلم الرب العظيم
ويقال يعني صل بأمر ربك
ويقال سبح لله واذكره
قوله عز وجل * (فلا أقسم) * يعني أقسم و * (لا) * زيادة في الكلام
وقال بعضهم * (لا) * رد لقول الكفار
ثم قال * (بمواقع النجوم) * يعني بنزول القرآن نزل نجوما آية بعد آية وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال * (بمواقع النجوم) * يعني بمحكم القرآن * (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) * يعني القسم بالقرآن عظيم * (لو تعلمون) * ذلك
ويقال * (لو تعلمون) * يعني لو تصدقون
قرأ حمزة والكسائي " بموقع النجوم " بغير ألف وقرأ الباقون * (بمواقع النجوم) * بلفظ الجماعة
فمن قرأ " بموقع " فهو واحد دل على الجماعة ويقال * (بمواقع النجوم) * يعني بمساقط النجوم
يعني الكواكب
ثم قال عز وجل * (إنه لقرآن كريم) * يعني الذي يقرأ عليك يا محمد لقرآن شريف كريم على ربه * (في كتاب مكنون) * يعني مستور من خلق الله وهو اللوح المحفوظ * (لا يمسه إلا المطهرون) * يعني لا تمسه إلا الملائكة المطهرون من الذنب ويقال لا يقرؤه إلا الطاهرون
ويقال لا يمس المصحف إلا طاهر
وروى معمر عن محمد بن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا فيه (لا يمس القرآن إلا على طهور)
وروى إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال كنا مع سلمان فخرج يقضي حاجته ثم جاء فقلنا يا أبا عبد الله لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات الله فقال إني لست أمسه لأنه لا يمسه إلا المطهرون
فقرأ علينا ما نسينا يعني يجوز للمحدث أن يقرأ ولا يجوز أن يمس المصحف
وأما الجنب فلا يجوز له أن يمس المصحف ولا يقرأ آية تامة
ثم قال عز وجل * (تنزيل من رب العالمين) * يعني أنزل الله تعالى جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن يقرأه عليه من رب العالمين
ثم قال عز وجل * (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) * يعني تكفرون
وقال الزجاج المدهن والمداهن الكذاب المنافق
وقال بعض أهل اللغة أصله من الدهن لأنه يلين في دينه
يعني ينافق ويرى كل واحد أنه على دينه
ويقال * (أنتم مدهنون) * يعني مكذبون * (وتجعلون رزقكم) * يعني شكر رزقكم * (أنكم تكذبون) * يعني تقولون للمطر إذا مطرتم مطرنا بنوء كذا
وروي عن عاصم في بعض الروايات * (أنكم تكذبون) * بالتخفيف
يعني تجعلون شكر رزقكم الكذب وهو أن تقولوا مطرنا بنوء كذا
وقرأ الباقون * (تكذبون) * بالتشديد
376

يعني تجعلون شكر رزقكم التكذيب ولا تنسبون السقيا إلى الله تعالى الذي رزقكم
سورة الواقعة 83 - 96
ثم قال * (فلولا إذا بلغت الحلقوم) * يعني بلغ الروح الحلقوم * (وأنتم حينئذ تنظرون) * إلى الميت * (ونحن أقرب إليه منكم) * يعني أمر الله تعالى وهو ملك الموت أقرب إليه منكم حين أتاه لقبض روحه * (ولكن لا تبصرون) * ما حضر الميت * (فلولا إن كنتم غير مدينين) * يعني غير محاسبين
ويقال غير مملوكين أذلاء من قولك دنت له بالطاعة وإنما سمي * (يوم الدين) * لأنه يوم الإذلال والهوان
ويقال * (غير مدينين) * يعني غير مجزيين * (ترجعونها إن كنتم صادقين) * يعني إنكم غير محاسبين فهلا رددتهم عنه الموت
ثم ذكر الأصناف الثلاثة الذين ذكرهم في أول السورة فقال * (فأما إن كان من المقربين) * يعني إذا كان هذا الميت من المقربين عند الله ومن السابقين * (فروح وريحان) * قرأ الحسن * (فروح) * بضم الراء وقراءة العامة بالنصب
وقال أبو عبيد لولا خلاف الأمة لقرأته بالضم
وروت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالضم وقال القتبي * (الروح) * يعبر عن معان فالروح روح الأجسام الذي تقبض عند الممات وفيه حياة النفس
والروح جبريل وكلام الله روح لأنه حياة من الجهل وموت الكفر ورحمة الله روح كقوله * (وأيدهم بروح منه) * [المجادلة 22] أي برحمة
والروح الرحمة والرزق
ويقال * (الروح) * حياة دائمة لا موت فيها * (والريحان) * الرزق
ويقال هي النبات بعينها
ومن قرأ بالنصب فهو الفرح
ويقال الراحة ويقال هي الرحمة كقوله * (لا تيأسوا من روح الله) *
ثم قال * (وجنة نعيم) * يعني لا انقطاع لها * (وأما إن كان من أصحاب اليمين) * يعني إن كان الميت من أصحاب اليمين * (فسلام لك من أصحاب اليمين) * يعني سلام الله لهم
ويقال يسلمون عليك من الجنة
ويقال * (سلام لك) * يعني سلام عليك منهم
ويقال ترى منهم ما تحب من السلام
ويقال * (فسلام لك) * يعني يقال لهم عند الموت وفي القبر وعلى الصراط وعند الميزان بشارة لك إنك من أهل الجنة
ثم قال عز وجل * (وأما إن كان من المكذبين) * يعني إن كان الميت * (من المكذبين) * بالبعث * (الضالين) * عن الهدى * (فنزل من حميم) * يعني جزاؤهم وثوابهم من حميم يعني
377

شرابهم من حميم * (وتصلية جحيم) * يعني يدخلون الجحيم وهي ما عظم من النار * (إن هذا لهو حق اليقين) * يعني إن هذا الذي قصصنا عليك في هذه السورة من الأقاصيص وما أعد الله لأوليائه وأعدائه وما ذكر مما يدل على وحدانيته * (لهو حق اليقين) * * (فسبح باسم ربك العظيم) * يعني اذكر اسم ربك بالتوحيد
ويقال نزه الله تعالى عن السوء يعني قل سبحان الله ويقال أثن على الله تعالى ويقال صل لله تعالى وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من قرأ سورة الواقعة في كل يوم لم تصبه فاقة)
والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد
378

سورة الحديد مدنية وهي عشرون وتسع آيات
سورة الحديد 1
قوله تبارك وتعالى * (سبح لله) * يعني صلى لله * (ما في السماوات) * من الملائكة * (والأرض) * من المؤمنين فسمى الصلاة تسبيحا لأنه يجري فيها التسبيح
ويقال * (سبح لله) * يعني ذكر الله * (ما في السماوات) * يعني جميع ما في السماوات من الشمس والقمر والنجوم * (والأرض) * يعني جميع ما في الأرض من الإنس والأشجار والأنهار والجبال وغير ذلك
ويقال * (سبح لله) * يعني خضع لله جميع ما في السماوات والأرض وقال بعضهم التسبيح آثار صنعه يعني في كل شيء دليل لربوبيته ووحدانيته
ويقال هو التسبيح بعينه يعني يسبح جميع الأشياء كقوله " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " [الإسراء 44] وقال الحسن البصري لولا ما يخفى عليكم من تسبيح من معكم في البيوت ما تقادرتم
وروى سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (أفضل الكلام أربعة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) ولا يضرك بأيهن بدأت
* (وهو العزيز الحكيم) * يعني * (العزيز) * بالنقمة لمن لا يوحده " والعزيز " في اللغة الذي لا يعجزه عما أراد
ويقال * (العزيز) * الذي لا يوجد مثله * (الحكيم) * في أمره وقضائه
سورة الحديد 2 - 6
ثم قال عز وجل * (له ملك السماوات والأرض) * يعني له خزائن السماوات والأرض
يعني خزائن السماوات المطر وخزائن الأرض النبات
ويقال معناه له نفاذ الأمر في السماوات والأرض
379

ثم قال * (يحيي ويميت) * يعني * (يحيي) * للبعث * (ويميت) * في الدنيا " وهو على كل شيء قدير " من الإحياء والإماتة
ثم قال عز وجل * (هو الأول) * يعني الأول قبل كل أحد * (والآخر) * بعد كل أحد * (والظاهر) * يعني الغالب على كل شيء * (والباطن) * يعني العالم بكل شيء
ويقال * (هو الأول) * يعني مؤول كل شيء * (والآخر) * يعني مؤخر كل شيء * (والظاهر) * يعني المظهر * (والباطن) * يعني المبطن
ويقال هو * (الأول) * يعني خالق الأولين * (والآخر) * يعني خالق الآخرين * (والظاهر) * يعني خالق الآدميين وهم ظاهرون
* (والباطن) * يعني خالق الجن والشياطين الذين لا يظهرون
ويقال * (هو الأول) * يعني خالق الدنيا * (والآخر) * يعني خالق الآخرة
* (والظاهر والباطن) * يعني عالم بالظاهر والباطن
ويقال * (هو الأول) * بلا ابتداء * (والآخر) * بلا انتهاء
* (والظاهر والباطن) * يعني منه نعمة ظاهرة باطنة
ويقال هو * (الأول والآخر والظاهر والباطن) * يعني هو الرب الواحد
ثم قال " وهو بكل شيء عليم " يعني من أمر الدنيا والآخرة
قوله عز وجل * (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) * قد سبق ذكره * (يعلم ما يلج في الأرض) * يعني ما يدخل في الأرض من الماء والكنوز والموات * (وما يخرج منها) * من النبات والكنوز والأموات * (وما ينزل من السماء) * وهو المطر والثلج والرزق والملائكة * (وما يعرج فيها) * يعني ما يصعد فيها من الملائكة وأعمال العباد والأرواح " وهو معكم أينما كنتم " يعني عالما بكم وبأعمالكم أينما كنتم في الأرض * (والله بما تعملون بصير) * فيجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا
ثم قال عز وجل * (له ملك السماوات والأرض) * وقد ذكرناه * (وإلى الله ترجع الأمور) * يعني إليه عواقب الأمور
ثم قال عز وجل * (يولج الليل في النهار) * يعني يدخل الليل في النهار يعني إذا جاء الليل ذهب النهار
* (ويولج النهار في الليل) * يعني يدخل النهار في الليل فإذا جاء النهار ذهب الليل
ومعنى آخر يعني يدخل زيادة الليل في النهار حتى يصير النهار أطول ما يكون خمس عشرة ساعة والليل أقصر ما يكون تسع ساعات
ويدخل زيادة النهار في الليل حتى يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة والنهار أقصر ما يكون تسع ساعات والليل والنهار أبدا أربع وعشرون ساعة
ثم قال عز وجل * (وهو عليم بذات الصدور) * يعني بما في القلوب من الخير والشر
سورة الحديد 7
380

سورة الحديد 8 - 9
ثم قال * (آمنوا بالله ورسوله) * يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى وصدقوا برسوله * (وأنفقوا) * يعني تصدقوا في طاعة الله تعالى * (مما جعلكم مستخلفين فيه) * يعني مما جعلكم مالكين من المال
ويقال معناه إن الأموال والدنيا كلها لله تعالى فجعل العباد مستخلفين على أمواله وأمرهم بالنفقة مما جعلهم خليفة فيها
ثم بين ثواب الذين آمنوا فقال * (فالذين آمنوا منكم وأنفقوا) * يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى وتصدقوا * (لهم أجر كبير) * يعني عظيما وهو الثواب الحسن في الجنة
ويقال إن هذه الآية نسخت بآية الزكاة ويقال إنها ليست بمنسوخة ولكنها حث على الصدقة والنفقة في طاعة الله تعالى
ثم قال عز وجل * (وما لكم لا تؤمنون بالله) * يعني ما لكم لا تصدقون بوحدانية الله تعالى * (والرسول يدعوكم) * قرأ بعضهم * (والرسول) * بنصب اللام
يعني ما لكم لا تصدقون بوحدانية الله تعالى * (والرسول) * وقرأ بعضهم * (والرسول) * بضم اللام يعني ما لكم لا تصدقون بوحدانية الله وتم الكلام
ثم قال * (والرسول يدعوكم) * إلى توحيد الله تعالى
وقراءة العامة بذلك يعني بضم اللام
وقرأ بعضهم * (والرسول) * بكسر اللام
يعني مالكم لا تصدقون بالله وبرسوله حين يدعوكم * (لتؤمنوا بربكم) * يعني لتصدقوا بوحدانية الله ربكم * (وقد أخذ ميثاقكم) * يعني قد أخذ الله تعالى إقراركم يوم الميثاق حين أخرجكم من صلب آدم * (إن كنتم مؤمنين) * يعني مصدقين قرأ أبو عمرو * (وقد أخذ) * بضم الألف وكسر الخاء * (ميثاقكم) * يضم القاف على معنى فعل ما لم يسم فاعله والباقون بالنصب بمعنى أخذ الله ميثاقكم
ثم قال * (هو الذي ينزل على عبده) * هو الذي ينزل جبريل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ليقرأ عليه * (آيات بينات) * يعني آيات القرآن بين فيها الحلال والحرام والأمر والنهي
* (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) * يعني يدعوكم من الشرك إلى الإيمان
ويقال * (آيات بينات) * يعني واضحات
ويقال * (آيات) * يعني علامات النبوة * (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) * يعني ليوفقكم الله تعالى للهدى ويخرجكم من الكفر
* (وإن الله بكم لرؤوف رحيم) * حين هداكم لدينه وأنزل عليكم القرآن
سورة الحديد 10 - 11
381

قوله عز وجل * (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله) * يعني ما لكم لا تصدقوا ولا تنفقوا أموالكم في طاعة الله
* (ولله ميراث السماوات والأرض) * يعني إلى الله يرجع ميراث السماوات والأرض يعني لا ينفعكم ترك الإنفاق وأنت ميتون تاركون أموالكم
ويقال معناه * (وما لكم ألا تنفقوا) * والأموال كلها لله تعالى وهو يأمركم بالنفقة
ويقال أنفقوا مادمتم في الحياة فإنكم إن بخلتم فإن الله هو يرثكم ويرث أهل السماوات
يعني أنفقوا قبل أن تفنوا وتصير كلها ميراثا لله تعالى بعد فنائكم وإنما ذكر لفظ الميراث لأن العرب تعرف ما ترك الإنسان يكون ميراثا فخاطبهم بما يعرفون فيما بينهم
ثم قال * (لا يستوي منكم) * يعني لا يستوي منكم في الفضل والثواب عند الله تعالى * (من أنفق) * ماله في طاعة الله تعالى * (من قبل الفتح) * يعني قاتل العدو
وفي الآية تقديم يعني من أنفق وقاتل * (من قبل الفتح) * يعني فتح مكة
ونزلت الآية في شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار يعني الذين أنفقوا أموالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا الكفار لا يستوي حالهم وحال غيرهم
ويقال نزلت الآية في شأن أبي بكر رضي الله عنه كان جالسا مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع بينهم منازعة في شيء فنزل في تفضيل أبي بكر رضي الله عنه * (لا يستوي منكم من أنفق) * ماله * (من قبل الفتح) * يعني من قبل ظهور الإسلام * (وقاتل) * يعني وجاهد عدوه * (أولئك أعظم درجة) * يعني أبا بكر رضي الله عنه * (من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) * العدو مع النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال هذا التفضيل لجميع الصحابة
وروى سفيان عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سيأتي قوم بعدكم يحقرون أعمالكم مع أعمالهم)
قالوا يا رسول الله نحن أفضل أم هم فقال (لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك فضل أحدكم ولا نصفه)
ففرقت هذه الآية بينكم وبين الناس ولا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل * (أولئك أعظم درجة) * من الذين أنفقوا من بعد
قال الفقيه حدثني الخليل بن أحمد
قال حدثنا الدبيلي
قال حدثنا عبيد الله عن سفيان عن زيد بن أسلم
ثم قال * (وكلا وعد الله الحسنى) * يعني وكلا الفريقين من أنفق من قبل الفتح وبعد الفتح * (وعد الله الحسنى) * يعني وعد الله الحسنى
قرأ ابن عامر " وكل وعد الله الحسنى " بضم اللام
والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم صار ضما لمضمر فيه فكأنه قال أولئك وعد الله الحسنى
ومن نصب معناه وعد الله كلا الحسنى يعني الجنة
ثم قال * (والله بما تعملون خبير) * يعني بما أنفقتم
382

ثم قال * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * يعني من ذا الذي يعطي من أموال الله * (قرضا حسنا) * يعني دفعا بالإخلاص وطلب ثواب الله تعالى * (فيضاعفه له) * يعني يقبل منه ويضاعفه له في الحساب ويعطيه من الحسنات ويعطيه من الثواب ما لا يحصى * (وله أجر كريم) * يعني ثوابا حسنا في الآخرة
ويقال نزلت الآية في شأن أبي الدحداح وقد سبق ذكره
ويقال هو حث لجميع المسلمين واختلاف القراء في قوله * (فيضاعفه) * قد سبق ذكره
سورة الحديد 12 - 15
ثم قال عز وجل * (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات) * يعني في يوم القيامة على الصراط * (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) * يعني بتصديقهم في الدنيا وبأعمالهم الصالحة فيعطى لهم النور يمضون به على الصراط فيكون النور بين أيديهم وبأيمانهم وعن شمائلهم إلا أن ذكر الشمائل مضمر
وتقول لهم الملائكة * (بشراكم اليوم) * يعني أبشروا هذا اليوم بكرامة الله تعالى
* (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) * يعني مقيمين في الجنة * (ذلك هو الفوز العظيم) * يعني النجاة الوافرة فازوا بالجنة ونجوا من العذاب
قوله تعالى * (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم) * يعني نصب من نوركم فنمضي معكم
وروي عن أبي أمامة الباهلي أنه قال بينما العباد يوم القيامة عند الصراط إذ غشيتهم ظلمة ثم يقسم الله تعالى النور بين عباده فيعطي الله المؤمن نورا ويبقى الكافر والمنافق
لا يعطيان نورا فكما لا يستضئ الأعمى بنور البصر كذلك لا يستضيء الكافر والمنافق بنور الإيمان فيقولان انظرونا نقتبس من نوركم فيقال لهم * (قيل ارجعوا) * حيث قسم النور فيرجعون فلا يجدون شيئا فيرجعون وقد ضرب بينهم بسور
وعن الحسن البصري قال إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم لأنه يعطي المؤمن نورا والمنافق نورا فإذا بلغو الصراط اطفئ نور المنافق فيقول المنافقون عند ذلك * (انظرونا نقتبس من نوركم) * قال فيشفق المؤمنون حين طفئ نور المنافقين فيقولون عند ذلك * (ربنا أتمم لنا نورنا) *
قرأ حمزة " أنطرونا " بنصب الألف وكسر الظاء والباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب فمعناه أمهلونا
ويقال بمعنى أنظرونا ومن قرأ بالضم فمعناه انتظرونا
383

فقال لهم المؤمنون ارجعوا * (وراءكم فالتمسوا نورا) * يعني ارجعوا إلى الدنيا فإنا حصلنا النور في الدنيا
ويقال ارجعوا إلى المحشر حيث أعطينا النور واطلبوا نورا فيرجعون في طلب النور فلم يجدوا شيئا
* (فضرب بينهم بسور) * يعني فظهر لهم ويقال بين أيديهم بسور يعني بحائط بين أهل الجنة وأهل النار * (له باب باطنه) * يعني باطن السور * (فيه الرحمة) * يعني الجنة * (وظاهره من قبله العذاب) * يعني النار
ويقال هو السور الذي عليه أصحاب الأعراف يظهر بين الجنة والنار باب يعني عليه باب فيجاوز فيه المؤمنون ويبقى المنافقون على الصراط في الظلمة * (ينادونهم) * من وراء السور * (ألم نكن معكم) * يعني ألم نكن معكم في الدنيا على دينكم وكنا معكم في الجماعات والصلوات فيجيبهم المؤمنون ويقولون * (قالوا بلى) * يعني قد كنتم معنا في الظاهر
* (ولكنكم فتنتم أنفسكم) * يعني قد أهلكتم أنفسكم حيث كفرتم في السر ويقال أهلكتم أنفسكم حين استوجبتم الحرق
ويقال * (فتنتم أنفسكم) * يعني ثبتم على الكفر الأول في السر * (وتربصتم) * يعني انتظرتم موت نبيكم
ويقال * (تربصتم) * يعني أخرتم التوبة وسوفتم فيها
* (وارتبتم) * يعني شككتم في الدين وشككتم في البعث * (وغرتكم الأماني) * يعني أباطيل الدنيا * (حتى جاء أمر الله) * يعني القيامة * (وغركم بالله الغرور) * يعني الشياطين
وقال الزجاج * (الغرور) * على ميزان فعول وهو من أسماء المبالغة يقال فلان أكول أي كثير الأكل وكذلك الشياطين * (الغرور) * لأنه يغري ابن آدم كثيرا وقد قرئ بضم الغين يعني غرور متاع الدنيا
ثم قال * (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية) * يعني في هذا اليوم وهو يوم القيامة
وقرأ ابن عامر " فاليوم لا تؤخذ " بالتاء لأن الفدية مؤنثة
وقرأ الباقون بالياء رجع إلى المعنى لأن معنى الفدية فداء ومعناه * (لا يؤخذ منكم) * الفداء يعني المنافقين * (ولا من الذين كفروا) * يعني الذين جحدوا بتوحيد الله تعالى " مأواكم النار " يعني مصيركم إلى النار يعني المنافقين والكافرين مأواكم النار * (هي مولاكم) * يعني هي أولى بكم بما أسلفتم من الذنوب * (وبئس المصير) * يعني بئس المرجع النار يعني للكافرين والمنافقين
سورة الحديد 16 - 17
قوله تعالى * (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) * يعني ألم يجئ وقت تخاف قلوبهم فترق قلوبهم
يقال أنى يأنى أينا إذا حان وجاء وقته وأوانه
قال الفقيه أبو الليث رحمة الله عليه حدثنا الخليل بن أحمد
قال حدثنا أبو جعفر
384

ومحمد بن إبراهيم الدبيلي
قال حدثنا أبو عبيد الله
قال حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن عبد الله عن القاسم قال مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى * (نحن نقص عليك أحسن القصص) * [يوسف 3] ثم ملوا ملة أخرى فقالوا حدثنا يا رسول الله
فأنزل الله تعالى * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها) * [الزمر 23] ثم ملوا ملة أخرى فقالوا حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى * (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) * ويقال إن المسلمين قالوا لسلمان حدثنا عن التوراة فإن فيها عجائب
فنزل * (نحن نقص عليك أحسن القصص) * فكفوا عن السؤال ثم سألوه فنزل * (الله نزل أحسن الحديث) * [الزمر 23] فكفوا عن السؤال ثم سألوه فنزلت هذه الآية * (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) * يعني ترق قلوبهم لذكر الله * (وما نزل من الحق) * يعني القرآن بذكر الحلال والحرام
قرأ نافع وعاصم في رواية حفص * (وما نزل) * بالتخفيف والباقون بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة
ثم وعظهم فقال * (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل) * يعني ولا تكونوا في القسوة كاليهود والنصارى من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم * (فطال عليهم الأمد) * يعني الأجل
ويقال خروج النبي صلى الله عليه وسلم * (فقست قلوبهم) * يعني جفت ويبست قلوبهم عن الإيمان فلم يؤمن بالقرآن إلا قليل منهم * (وكثير منهم فاسقون) * يعني عاصون
ويقال * (ألم يأن للذين آمنوا) * يعني المنافقين الذين آمنوا بلسانهم دون قلوبهم
وقال أبو الدرداء استعيذوا بالله من خشوع النفاق
قيل وما خشوع النفاق قال أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع
قوله تعالى * (اعلموا أن الله يحيي الأرض) * يعني يصلح الأرض فاعتبروا بذلك * (بعد موتها) * يعني بعد يبسها وقحطها فكذلك يحيي القلوب بالقرآن ويصلح بعد قساوتها حتى تلين كما أحيا الأرض بعد موتها بالمطر
* (قد بينا لكم الآيات) * يعني العلامات في القرآن * (لعلكم تعقلون) * يعني لكي تعقلوا أمر البعث إنكم أيضا كذلك تبعثون
سورة الحديد 18 - 19
قوله تعالى * (إن المصدقين والمصدقات) * قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر * (إن المصدقين والمصدقات) * كليهما بالتخفيف والباقون بالتشديد
فمن قرأ بالتخفيف فمعناه إن المؤمنين من الرجال والمؤمنات من النساء فمن صدق الله ورسوله ورضي بما جاء به
385

النبي صلى الله عليه وسلم
ومن قرأ بالتشديد يعني المتصدقين من الرجال والمتصدقات من النساء فأدغمت التاء في الصاد وشددت
* (وأقرضوا الله قرضا حسنا) * يعني يتصدقون محتسبين بطبيعة أنفسهم صادقين من قلوبهم * (يضاعف لهم) * الحسنات والثواب بكل واحد عشرة إلى سبعمائة إلى ما لا يحصى * (ولهم أجر كريم) * يعني ثوابا حسنا في الجنة
ثم قال عز وجل * (والذين آمنوا بالله ورسله) * يعني صدقوا بتوحيد الله وصدقوا بجميع الرسل * (أولئك هم الصديقون) * والصديق اسم للمبالغة في الفعل يقال رجل صديق كثير الصدق
وقال ابن عباس فمن آمن بالله ورسله فهو من الصديقين
ثم قال * (والشهداء عند ربهم) * قال مقاتل هذا استئناف فقال
* (والشهداء) * يعني من استشهد عند ربهم
يعني يطلب شهادته على الأمم * (لهم أجرهم) * يعني ثوابهم * (ونورهم) * ويقال هذا بناء على الأول
يعني * (أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) * يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة
ويقال معناه * (أولئك هم الصديقون) * " وأولئك هم الشهداء " عند ربهم ويكون لهم أجرهم ونورهم
قال مجاهد كل مؤمن صديق شهيد
ثم وصف حال الكفار فقال عز وجل * (والذين كفروا) * يعني جحدوا بوحدانية الله تعالى * (وكذبوا بآياتنا) * يعني جحدوا بالقرآن * (أولئك أصحاب الجحيم) *
سورة الحديد 20
ثم قال عز وجل * (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) * يعني باطل * (ولهو) *
يعني فرح يلهون فيها * (وزينة) * يعني زينة الدنيا * (وتفاخر بينكم) * في الحسب * (وتكاثر في الأموال والأولاد) * تفتخرون بذلك
وروى إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قام في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها)
ثم ضرب للدنيا مثلا آخر فقال * (كمثل غيث) * يعني كمثل مطر نزل من السماء فنبت به الزرع والنبات * (أعجب الكفار نباته) * يعني فرح الزارع بنباته ويقال * (أعجب الكفار) * يعني الكفار بالله لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين
ويقال * (الكفار) * كناية عن الزراع لأن الكفر في اللغة هو التغطية ولهذا سمي الكافر كافرا لأنه يغطي الحق بالباطل فسمي الزراع كفارا لأنهم يغطون الحب تحت الأرض وليس ذلك الكفر الذي هو ضد الإيمان والطريقة الأولى أحسن إن أراد به الكفار لأن ميلهم إلى الدنيا أشد * (ثم يهيج) * يعني ييبس فيتغير * (فتراه مصفرا) * بعد خضرته * (ثم يكون حطاما) * يعني يابسا
ويقال * (حطاما) * يعني
386

هالكا فشبه الدنيا بذلك لأنه لا يبقى ما فيها كما لا يبقى هذا النبت و * (في الآخرة عذاب شديد) * لمن افتخر بالدنيا واختارها * (ومغفرة من الله ورضوان) * لمن ترك الدنيا واختار الآخرة على الدنيا
ويقال عذاب شديد لأعدائه ومغفرة من الله لأوليائه
ثم قال * (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) * يعني كالمتاع الذي يتخذ من الزجاج والخزف إنه يسرع إلى الفناء ولا يبقى إلا العمل الصالح
سورة الحديد 21
ثم قال عز وجل * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم) * يعني سارعوا بالأعمال الصالحة ويقال بادروا بالتوبة وقال مكحول سابقوا إلى تكبيرة الافتتاح * (وجنة) * يعني إلى جنة * (عرضها كعرض السماء والأرض) * يعني لو ألصق بعضها إلى بعض
يعني سبع سماوات وسبع أرضين ومدت مد الأديم لكان عرض الجنة أوسع من ذلك
وإنما بين عرضها ولم يبين طولها
ويقال لو جعلت السماوات والأرض خردلا لكانت الجنة بعدد ذلك وهذا مثل يعني إنها أوسع شيء رأيتموه * (أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) * يعني خلقت وهيئت للذين صدقوا بوحدانية الله تعالى وصدقوا برسله * (ذلك فضل الله) * يعني ذلك الثواب فضل الله على العباد * (يؤتيه من يشاء) * يعني يعطيه من يشاء من عباده وهم المؤمنون * (والله ذو الفضل العظيم) * يعني ذو العطاء العظيم وذو المن الجسيم
سورة الحديد 22 - 23
قوله تعالى * (ما أصاب من مصيبة في الأرض) * يعني من قحط المطر وغلاء السعر وقلة النبات ونقص الثمار * (ولا في أنفسكم) * من البلايا والأمراض والأوجاع
* (إلا في كتاب) * يعني إلا في اللوح المحفوظ * (من قبل أن نبرأها) * يعني من قبل أن نخلق تلك النسمة
وذكر الربيع بن أبي صالح الأسلمي قال دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج وأراد قتله فبكى رجل من قومه فقال سعيد ما يبكيك قال لما أصابك
قال فلا تبك قد كان في علم الله تعالى أن يكون هذا ألم تسمع قول الله تعالى * (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) * يعني من قبل أن نخلقها
ويقال قبل أن نخلق تلك النفس * (ان ذلك على الله يسير) * يعني هينا " لكيلا تأسوا على ما فاتكم " يعني لكيلا تحزنوا * (على ما فاتكم) * من الرزق والعافية إذا علمتم أنها مكتوبة عليكم
387

قبل خلقكم * (ولا تفرحوا بما آتاكم) * يعني بما أعطاكم في الدنيا ولا تفتخروا بذلك * (والله لا يحب كل مختال فخور) * يعني متكبرا فخورا بنعم الله تعالى ولا يشكروه
قرأ أبو عمرو * (بما آتاكم) * بغير مد والباقون بالمد
فمن قرأ بغير مد فمعناه لكيلا تفرحوا بما جاءكم من حطام الدنيا فإنه إلى نفاد
ومن قرأ بالمد يعني بما أعطاكم
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن من جعل الفرح شكرا والمصيبة صبرا
سورة الحديد 24 - 25
ثم قال عز وجل * (الذين يبخلون) * يعني لا يحب الذي يبخلون يعني يمسكون أموالهم ولا يخرجون منها حق الله تعالى * (ويأمرون الناس بالبخل) * ويقال الذين يبخلون يعني يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم * (ويأمرون الناس بالبخل) * يعني يكتمون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته
* (ومن يتول) * يعني يعرض عن النفقة ويقال يعرض عن الإيمان * (فإن الله هو الغني الحميد) * يعني غني عن نفقتهم وعن إيمانهم * (الحميد) * في فعاله
قرأ حمزة والكسائي * (ويأمرون الناس بالبخل) * بنصب الخاء والباء وقرأ الباقون بضم الباء وإسكان الخاء ومعناهما واحد
قرأ نافع وابن عامر " فإن الله الغني الحميد " بحذف " هو " هكذا في مصاحف أهل الشام والمدينة ومعناه إن الله الغني الحميد الذي لا غني مثله
والباقون * (فإن الله هو الغني الحميد) * بإثبات هو وهو للفرد ويقال للصلة
ثم قال * (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) * يعني بالأمر والنهي والحلال والحرام * (وأنزلنا معهم الكتاب) * يعني أنزلنا عليهم الكتاب ليعلموا أمتهم * (والميزان) * يعني العدل
ويقال هو الميزان بعينه أنزل على عهد نوح عليه السلام * (ليقوم الناس بالقسط) * يعني لكي يقوم الناس * (بالقسط) * يعني بالعدل * (وأنزلنا الحديد) * يعني وجعلنا الحديد * (فيه بأس شديد) * يعني فيه قوة شديدة في الحرب
وعن عكرمة أنه قال * (وأنزلنا الحديد) * يعني أنزل الله تعالى الحديد لآدم عليه السلام العلاة والمطرقة والكلبتين * (فيه بأس شديد) *
ثم قال عز وجل * (ومنافع للناس) * يعني في الحديد * (منافع للناس) * مثل السكين والفأس والإبرة
يعني من معايشهم
* (وليعلم الله من ينصره) * يعني ولكن يعلم الله من ينصره على عدوه * (ورسله بالغيب) * بقتل أعدائه كقوله * (إن تنصروا الله ينصركم) * ويقال لكي يرى الله من استعمل هذا السلاح في طاعة الله تعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم * (بالغيب) * يعني يصدق بالقلب * (إن الله قوي) * في أمره * (عزيز) * في ملكه
388

سورة الحديد 26 - 27
ثم قال عز وجل * (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم) * يعني بعثناهما إلى قومهما * (وجعلنا في ذريتهما) * يعني في نسليهما " النبوة والكتاب " وكان فيهم الأنبياء مثل موسى وهارون وداود ويونس وسليمان وصالح ونوح وإبراهيم عليهم السلام * (فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) * يعني كثير من ذريتهم تاركون للكتاب
قوله عز وجل * (ثم قفينا على آثارهم) * يعني وصلنا وأتبعنا على آثارهم * (برسلنا) * يعني واحدا بعد واحد * (وقفينا بعيسى ابن مريم) * يعني وأرسلنا على آثارهم بعيسى ابن مريم * (وآتيناه الإنجيل) * يعني أعطينا عيسى الإنجيل * (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه) * يعني الذين آمنوا به وصدقوه واتبعوا دينه * (رأفة ورحمة) * يعني المودة والمتوادين بعضهم بعضا
ويقال الرأفة على أهل دينهم يرحم بعضهم بعضا وهم الذين كانوا على دين عيسى لم يتهودوا ولم يتنصروا
ثم استأنف الكلام فقال * (ورهبانية ابتدعوها) * يعني ابتدعوا رهبانية * (ما كتبناها عليهم) * يعني لم تكتب عليهم الرهبانية * (إلا ابتغاء رضوان الله) * وذلك أنه لما كثر المشركون خرج المسلمون منهم فهربوا واعتزلوا في الغيران وابتغوا الصوامع فطال عليهم الأمد ورجع بعضهم عن دين عيسى ابن مريم وابتدعوا النصرانية
قال الله تعالى * (ابتدعوها) * يعني الرهبانية والخروج إلى الصوامع يعني باعدوا التبتل للعبادة * (ما كتبناها عليهم) * يعني ما أوجبنا عليهم ولم نأمرهم إلا ابتغاء رضوان الله يعني أمرناهم بما يرضي الله تعالى لا غير ذلك
ويقال * (ابتدعوها) * لطلب رضى الله تعالى * (فما رعوها حق رعايتها) * يعني لم يحافظوا على ما أوجبوا على أنفسهم
ويقال فما أطاعوا الله حين تهودوا وتنصروا
قال الله تعالى * (فآتينا الذين آمنوا منهم) * يعني أعطينا الذين ثبتوا على ما أوجبوا على أنفسهم وثبتوا على الإيمان * (أجرهم) * في الآخرة * (وكثير منهم فاسقون) * يعني عاصين
وهم الذين تهودوا
وفي هذه الآية دليل وتنبيه للمؤمنين أن من أوجب على نفسه شيئا لم يكن واجبا عليه أن يتبعه ولا يتركه فيستحق اسم الفسق
وروي عن بعض الصحابة أنه قال عليكم بإتمام هذه التراويح لأنها لم تكن واجبة عليكم فقد أوجبتموها على أنفسكم فإنكم إن تركتموها صرتم فاسقين ثم قرأ هذه الآية * (وكثير منهم فاسقون) *
389

سورة الحديد 28 - 29
ثم قال عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * يعني أطيعوه فيما يأمركم به وفيما ينهاكم عنه * (وآمنوا برسوله) * محمد صلى الله عليه وسلم يعني اثبتوا على الإسلام بعد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ويقال يا أيها الذين آمنوا بعيسى ابن مريم آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم * (يؤتكم كفلين من رحمته) * يعني أجرين من فضله ويقال لما نزلت في أهل الكتاب * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) * [القصص 54] حزن المسلمون فنزل فيهم * (يؤتكم كفلين من رحمته) * وأصل الكفل النصيب يعني نصيبين من رحمته أحدهما بإيمانه بنبيه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم والآخر الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال عز وجل * (ويجعل لكم نورا تمشون به) * يعني يجعل لكم سبيلا واضحا تهتدون به * (ويغفر لكم) * يعني يغفر لكم ذنوبكم * (والله غفور رحيم) * يعني يغفر الذنوب للمؤمنين * (رحيم) * بهم * (لئلا يعلم أهل الكتاب) * يعني لكيلا يعلم و (لا) لا مؤكدة في الكلام ومعناه لأن يعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله ورحمته يعني مؤمني أهل الكتاب يعلمون أنهم لا يقدرون من فضل الله إلا برحمته * (وأن الفضل بيد الله) * يعني الثواب من الله تعالى * (يؤتيه من يشاء) * يعني من يعطيه من يشاء من كان أهلا لذلك من العبادة * (والله ذو الفضل العظيم) * يعني هو المعطي وهو المانع وقد ذكرناه والله أعلم بالصواب
390

سورة المجادلة مدنية وهي اثنتان وعشرون آية
سورة المجادلة 1
قوله تبارك تعالى * (قد سمع الله قول التي تجادلك) * يعني تخاصمك * (في زوجها) * يعني تخاصمك من قبل زوجها
روى أبو العالية الرياحي أن الآية نزلت في شأن أوس بن الصامت وفي امرأته خولة بنت دعلج وعن عكرمة أنه قال نزلت في امرأة اسمها خولة بنت ثعلبة وفي زوجها أوس بن الصامت جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما أراك إلا وقد حرمت عليه)
قالت انظر يا نبي الله جعلني الله فداك في شأني وجعلت تجادله وعائشة رضي الله عنها تغسل رأس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة رضي الله عنها اقصري
حديثك ومجادلتك يا خولة أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تربد ليوحى إليه فأنزل الله تعالى * (قد سمع الله قول التي تجادلك) *
وروى سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة قال كان طلاقهم في الجاهلية الظهار والإيلاء فلما جاء الإسلام جعل الله تعالى في الظهار ما جعل وجعل في الإيلاء ما جعل
ثم قال * (وتشتكي إلى الله) * يعني تتضرع المرأة إلى الله مخافة الفرقة * (والله يسمع تحاوركما) * يعني محاورتكما ومراجعتكما * (أن الله سميع بصير) * يعني * (سميع) * لمقالة خولة * (بصير) * بأمرها وقال مقاتل هي خولة بنت ثعلبة
سورة المجادلة 2 - 4
391

قوله تعالى * (الذين يظاهرون منكم من نسائهم) * قرأ عاصم * (يظاهرون) * بضم الياء وكسر الهاء والتخفيف من ظاهر يظاهر
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو * (يظهرون) * بنصب الياء والهاء مع التشديد وهو في الأصل يتظهرون فأدغمت التاء في الظاء والمعنى في هذا كله واحد يقال ظاهر من امرأته وتظهر منها وأظهر منها إذا قال لها أنت علي كظهر أمي
ثم قال * (ما هن أمهاتهم) * وروى المفضل عن عاصم * (أمهاتهم) * بضم التاء لأنه خبر ما كقولك ما زيد عالم وقرأ الباقون بالكسر لأن التاء في موضع النصب فصار خفضا لأنها تاء الجماعة وهي لغة أهل الحجاز فينصبون خبر " ما " كقوله ما هذا بشرا ما هن كأمهاتهم في الحرمة * (إن أمهاتهم) * يعني ما أمهاتهم * (إلا اللائي ولدنهم) * يعني الأم التي ولدته والأم التي أرضعته لأنه قال في موضع آخر " وأمهاتكم التي أرضعنكم " [النساء 23]
ثم قال * (وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) * يعني قولا منكرا وكذبا * (وإن الله لعفو غفور) * يعني ذو تجاوز * (غفور) * حيث جعل الكفارة لرفع الحرمة ولم يجعل فرقة بينهما
ثم قال * (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا) * يعني يعودون لنقض ما قالوا ولرفع ما قالوا في الجاهلية * (فتحرير رقبة) * يعني فعليه تحرير رقبة ويقال * (ثم يعودون لما قالوا) * فيه تقديم وتأخير يعني ثم يعودون فتحرير رقبة لما قالوا
ويقال * (ثم يعودون لما قالوا) * في الجاهلية وذلك أنهم كانوا يتكلمون بهذا القول فيرجعون إلى ذلك القول بعد الإسلام وقال بعضهم لا تجب الكفارة حتى يقول مرتين لأنه قال * (ثم يعودون لما قالوا) * يعني يعودون مرة أخرى * (فتحرير رقبة) * هذا القول خلاف جميع أهل العلم وإنما تجب الكفارة إذا قال مرة واحدة
والكفارة ما قال الله تعالى * (فتحرير رقبة) * [النساء 92] يعني عتق رقبة * (من قبل أن يتماسا) * يعني من قبل أن يجامعها
ويقال من قبل أن يمس كل واحد منهما صاحبه * (ذلكم توعظون به) * يعني هذا الحكم الذي تؤمرون به * (والله بما تعملون خبير) * من الوفاء وغيره
وقوله تعالى * (فمن لم يجد) * يعني من لم يجد الرقبة * (فصيام شهرين متتابعين) * يعني فعليه صيام شهرين متتابعين لا يفصل بينهما * (من قبل أن يتماسا) * يعني من قبل أن يمس كل واحد منهما صاحبه
وفي الآية دليل أن المرأة لا يسعها أن تدع الزوج يقربها قبل الكفارة لأنه نهاهما جميعا عن المسيس قبل الكفارة واتفقوا على أنه إذا أفطر في شهرين يوما بغير عذر عليه أن يستقبل واختلفوا فيمن أفطر لمرض أو عذر أو غيره
قال عطاء إذا أفطر من مرض فالله أعذره بالعذر
ببدله ولا يستأنف
وقال طاوس يقضي ولا يستأنف وهكذا قال الحسن وسعيد بن المسيب فهؤلاء كلهم قالوا لا يستقبل وقال إبراهيم النخعي والزهري والشعبي يستقبل وهكذا قال عطاء الخراساني والحكم بن كيسان وبه قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم
392

ثم قال * (فمن لم يستطع) * يعني لم يستطع الصيام * (فإطعام ستين مسكينا) * يعني فعليه إطعام ستين مسكينا في قول أهل المدينة لكل مسكين صاع من حنطة أو تمر
وفي قول أهل العراق منوان حنطة أو صاع من تمر بدليل ما روى سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياض قال كنت أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من أهلي فتظاهرت من أهلي حتى ينسلخ الشهر فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذا انكشف لي منها شيء فواقعتها فلما أصبحت أخبرت قومي فقلت اذهبوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما نذهب وما نأمن أن ينزل فيك قرآن فأتيته فأخبرته فقال (حرر رقبة) فقلت ما أملك إلا رقبتي قال (فصم شهرين) قلت وهل أصابني إلا من قبل الصيام قال (فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا) قلت والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا ما لنا طعام
ثم قال (انطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك) فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم فقد بين في هذا الخبر أنه يجب وسقا من تمر والوسق ستون صاعا بالاتفاق
ثم قال * (ذلك لتؤمنوا) * يعني هذا الذي ذكر في أمر الكفارة لتعلموا أن الله يعلم سرائركم * (لتؤمنوا بالله) * يعني لتصدقوا بوحدانية الله تعالى * (ورسوله) * يعني وتصدقوا برسوله * (وتلك حدود الله) * يعني هذه فرائض الله وأحكامه * (وللكافرين عذاب أليم) * يعني للذين لا يؤمنون بالله وبرسوله
وروي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن المرأة لتناجي النبي صلى الله عليه وسلم يسمع بعض كلامها ويخفى عليه بعضه إذ أنزل الله تعالى " قد سمع الله قول النبي تجادلك في زوجها " وهكذا قال الأعمش
سورة المجادلة 5 - 8
393

قوله تعالى * (إن الذين يحادون الله ورسوله) * يعني يعادون ويشاقون الله ورسوله ويقال يشاقون أولياء الله ورسوله يعني الذين يشاقون أولياء الله لأن أحدا لا يعادي الله ولكن من عادى أولياء الله فقد عادى الله تعالى
ثم قال * (كبتوا كما كبت الذين من قبلهم) * قال مقاتل أخذوا كما أخذ الذين من قبلهم من الأمم ويقال عذبوا كما عذب الذين من قبلهم وقال أبو عبيد يعني أهلكوا ويقال أغيظوا كما غيظ الذين من قبلهم والكبت هو الغيظ ويقال أحزنوا وقال الزجاج أذلوا وغلبوا * (وقد أنزلنا آيات بينات) * يعني القرآن فيه بيان أمره ونهيه ويقال * (آيات) * واضحات * (وللكافرين عذاب مهين) * يهانون فيه
ثم قال * (يوم يبعثهم الله جميعا) * * (يوم) * صار نصبا لنزع الخافض يعني لهم عذاب مهين في * (يوم يبعثهم الله جميعا) * الأولين والآخرين يبعثهم الله من قبورهم * (فينبئهم بما عملوا) * من خير أو شر ليعلموا وجوب الحجة عليهم * (أحصاه الله ونسوه) * يعني حفظ الله عليهم أعمالهم وهم نسوا أعمالهم ويقال * (ونسوه) * يعني وتركوا العمل في الدنيا " والله على كل شيء شهيد " يعني شاهدا بأعمالهم
ثم قال * (ألم تر أن الله يعلم) * يعني ألم تعلم اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التقرير يعني أنك تعلم ويقال معناه إني أعلمتك أن الله يعلم * (ما في السماوات وما في الأرض) *
يعني يعلم سر أهل السماوات وسر أهل الأرض * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) * يعني لا يتناجى ثلاثة فيما بينهم ولا يتكلمون فيما بينهم بكلام الشر إلا هو رابعهم لأنه يعلم ما يقولون فيما بينهم
* (ولا خمسة إلا هو سادسهم) * يعني كان هو سادسهم لأنه يعلم ما يقولون فيما بينهم * (ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) * يعني عالم بهم وبأحوالهم " أينما كانوا " في الأرض
* (ثم ينبئهم بما عملوا) * يعني يخبرهم بما عملوا يوم القيامة من خير أو شر
وذلك أن نفرا كانوا يتناجون عند الكعبة قال بعضهم لبعض لا ترفعوا أصواتكم حتى لا يسمع رب محمد صلى الله عليه وسلم
ويقال إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين فينظرون نحو المؤمنين فإذا رأوهم ينظرون نحوهم تركوا كلامهم فأخبرهم الله تعالى أن الله يعلم ما يقولون فيما بينهم ونهاهم أن يتناجوا فيما بينهم دون المؤمنين
فامتنعوا عن ذلك ثم عادوا إلى النجوى فنزل " إن الله بكل شيء عليم " ثم نزل * (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى) * يعني عن قول السر فيما بينهم * (ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم) * يعني بالكذب * (والعدوان) * يعني بالجور والظلم * (ومعصية الرسول) * يعني خلاف أمر الله وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم
قرأ حمزة " وينتجون " والباقون * (ويتناجون) * وهما لغتان يقال تناجى القوم وأنتجوا
ثم قال * (وإذا جاؤوك) * يعني إذا جاءك اليهود * (حيوك بما لم يحيك به الله) * وذلك
394

أنهم كانوا يقولون إذا دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم السام عليكم
فيقول (وعليكم)
فقالت عائشة رضي الله عنها وعليكم السام لعنكم الله وغضب عليكم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش)
قالت أو لم تسمع ما قالوا قال (أو لم تسمعي ما رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في)
فقالت اليهود فيما بينهم لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول لاستجيب دعاؤه علينا حيث قال عليكم فنزل * (وإذا جاؤوك حيوك) * يعني سلموا عليك * (بما لم يحيك به الله) * يعني بما لم يأمرك به الله أن تحيي به ويقال بما لم يسلم عليك به الله
* (ويقولون في أنفسهم) * يعني فيما بينهم
* (لولا يعذبنا الله) * يعني هلا يعذبنا الله * (بما نقول) * لنبيه يقول الله تعالى * (حسبهم جهنم) * يعني مصيرهم إلى جهنم * (يصلونها) * يعني يدخلونها * (فبئس المصير) * ما صاروا إليه
سورة المجادلة 9 - 10
قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم) * قال مقاتل * (يا أيها الذين آمنوا) * باللسان دون القلب * (إذا تناجيتم) * فيما بينكم * (فلا تتناجوا بالإثم والعدوان) * وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية كان المنافقون يتناجون فيما بينهم ليخونوا المؤمنين
وهذا الخطاب للمخلصين في قول بعضهم لأن الله تعالى يأمرهم أن لا يتناجوا بالإثم والعدوان كفعل المنافقين يعني بالعداوة والظلم * (ومعصية الرسول) * يعني خلاف أمر الرسول أن لا تخالفوا أمره * (وتناجوا بالبر والتقوى) * يعني بالذي أمركم الله تعالى به بالطاعة والتقى يعني ترك المعصية
ثم خوفهم فقال * (واتقوا الله) * يعني أخشوا الله وقيل اجتنبوا مخالفة الله فلا تتناجوا بمثل ما تتناجى اليهود والمنافقون
* (الذي إليه تحشرون) * بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم
ثم قال عز وجل * (إنما النجوى من الشيطان) * يعني نجوى المنافقين من تزيين الشيطان
قال قتادة إذا رأى المسلمون المنافقين جاؤوا متناجين فشق عليهم فنزل * (إنما النجوى من الشيطان) * يعني نجوى المنافقين في المعصية من الشيطان
* (ليحزن الذين آمنوا) * قرأ نافع * (ليحزن الذين آمنوا) * بضم الياء وكسر الزاي والباقون بالنصب ومعناهما واحد
395

ثم قال * (وليس بضارهم شيئا) * يعني ليس نجوى المنافقين يضر شيئا للمؤمنين أي لا يضرهم * (إلا بإذن الله) * إلا أن يشاء الله
ويقال ويحكم الله ويقال يقضي الله إلا وأن يشاء الله
ثم أمر المؤمنين بأن يتوكلوا على الله وهو قوله تعالى * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *
سورة المجادلة 11
ثم قال عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس) *
يعني في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عاصم * (في المجالس) * بلفظ الجمع والباقون " في المجلس " يعني في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم
نزلت في ثابت بن قيس وكان في أذنيه شيء من الثقل فحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذوا مجالسهم فبقي قائما فقال النبي صلى الله عليه وسلم (رحم الله من وسع لأخيه) فنزلت الآية
وروى معمر عن قتادة أنه قال كان الناس يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لهم تفسحوا وهو قوله * (إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس) * تفسحوا * (فافسحوا) * يعني وسعوا المجلس
* (يفسح الله لكم) * * (وإذا قيل انشزوا فانشزوا) * يعني إذا دعيتم إلى لخير فأجيبوا
وروى معمر عن الحسن قال هذا في الغزو وقال مجاهد " تفسحوا في المجلس " يعني مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة * (وإذا قيل انشزوا فانشزوا) * إلى كل خير ويقال وقتال عدو وأمر بالمعروف
وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يقيم الرجل الرجل في مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا)
قرأ نافع وابن عامر وعاصم في إحدى الروايتين * (انشزوا فانشزوا) * بضم الشين والباقون بالكسر وهما لغتان
يقال نشز ينشز ونشز ينشز يعني إذ قيل لكم انهضوا يعني قوموا لا تتثاقلوا ويقال * (انشزوا) * يعني قوموا للصلاة أو قضاء حق أو شهادة * (فانشزوا) * يعني انهضوا
ثم قال * (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) * يعني من كان له إيمان وعلم وكان له فضائل على الذين يقومون وليس بعالم
وقال الضحاك * (يرفع الله الذين آمنوا منكم) * وقد تم الكلام
ثم قال * (والذين أوتوا العلم درجات) * يعني لأهل العلم درجات وللعلماء مثل درجة الشهداء وقال مقاتل إذا انتهى المؤمن إلى باب الجنة يقال للمؤمن الذي ليس بعالم ادخل الجنة بعملك ويقال للعالم أقم على باب الجنة واشفع للناس
وقال ابن مسعود * (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم) * على الذين آمنوا منكم ولم يؤتوا العلم * (درجات) *
ثم قال * (والله بما تعملون خبير) * من التفسح في المجلس وغيره
396

سورة المجادلة 12 - 13
قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول) * يعني إذا كلمتم الرسول سرا * (فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) * يعني تصدقوا قبل كلامكم بصدقة
* (ذلك خير لكم) * يعني التصدق خير لكم من إمساكه * (وأطهر) * لقلوبكم وأزكى من المعصية
* (فإن لم تجدوا) * ما تتصدقون * (فإن الله غفور رحيم) * لمن لم يجد الصدقة
وذلك أن الأغنياء كانوا يكثرون مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمكنوا الفقراء من سماع كلامه وكان يكره طول مجالستهم وكثرة نجواهم فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند المناجاة فانتهوا عن ذلك فقدرت الفقراء على سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسته
وقال مجاهد نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قدم دينارا تصدق به وكلم النبي صلى الله عليه وسلم في عشر كلمات ثم أنزلت الرخصة بالآية التي بعدها وهو قوله " أأشفقتم " يعني أبخلتم يا أهل الميسرة * (أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات) * فلو فعلتم كان خيرا لكم * (فإن لم تفعلوا) * وتكرهوا ذلك فإن الله تعالى غني عن صدقاتكم
* (وتاب الله عليكم) * يعني تجاوز عنكم
* (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * فنسخت الزكاة الصدقة التي عند المناجاة
* (وأطيعوا الله ورسوله) * فيما يأمركم به وينهاكم عنه
* (والله خبير بما تعملون) * من الخير والشر والتصدق والنجوى
سورة المجادلة 14 - 16
قوله تعالى * (ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم) * يعني المنافقين اتخذوا اليهود أولياء وتولوهم ونصحوهم وهم اليهود * (وغضب الله عليهم) *
ثم قال * (ما هم منكم ولا منهم) * يعني ليسوا منكم في الحقيقة ولا من اليهود في العلانية وهذا كقوله * (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) * وكانوا إذا سألهم المسلمون إنكم تتولون اليهود كانوا يحلفون بالله إنهم من المؤمنين كما قال الله تعالى في آية أخرى " يحلفون بالله إنهم منكم وما هم منكم " فأخبر الله تعالى إنهم لكاذبون في أيمانهم فقال * (ويحلفون على الكذب وهم يعلمون) * يعني يحلفون أنهم مصدقون في السر وهم يعلمون أنهم
397

مكذبون
* (أعد الله لهم عذابا شديدا) * في الآخرة
* (إنهم ساء ما كانوا يعملون) * يعني بئس ما كانوا يعملون بولايتهم اليهود وكذبهم وحلفهم
ثم قال عز وجل * (اتخذوا أيمانهم جنة) * يعني اتخذوا حلفهم ترسا عن القتل والسبي ليأمنوا بها عن القتل والسبي
* (فصدوا عن سبيل الله) * يعني صدوا وصرفوا الناس عن دين الله تعالى في السر * (فلهم عذاب مهين) * يهانون فيه
سورة المجادلة 17 - 19
قوله تعالى * (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) * يعني لم تنفعهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا
* (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * يعني دائمين
ثم قال عز وجل * (يوم يبعثهم الله جميعا) * يعني المنافقين واليهود * (فيحلفون له) * يعني يحلفون لله تعالى في الآخرة * (كما) * كانوا * (يحلفون لكم) * في الدنيا وحلفهم في الآخرة كما قال الله تعالى في سورة الأنعام * (والله ربنا ما كنا مشركين) * [الأنعام 23] وروى معمر عن قتادة قال المنافق يحلف لله تعالى يوم القيامة كما كان حلف لأوليائه في الدنيا
ثم قال " ويحسبون إنهم على شيء " يعني يحسبون أيمانهم تنفعهم وأنهم على شيء من الهدى * (ألا إنهم هم الكاذبون) * في قولهم ويقال " ويحسبون أنهم على شيء " من الدين ويقال * (ويحسبون) * يعني يحسب المؤمنون " أنهم على شيء " إن المنافقين على شيء من الدين إذا سمعوا حلفهم
قال الله تعالى * (ألا إنهم هم الكاذبون) * في حلفهم وهم كافرون في السر
ثم قال * (استحوذ) * يعني غلب * (عليهم الشيطان) * ويقال استولى عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله يعني منعهم من التوحيد ويقال خذلهم عن طاعة الله تعالى
* (أولئك حزب الشيطان) * يعني جند الشيطان * (ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) * يعني خسروا أنفسهم وأموالهم في الآخرة
سورة المجادلة 20 - 22
398

قوله عز وجل * (إن الذين يحادون الله ورسوله) * يعني يعادون الله ويخالفون الله ورسوله * (أولئك في الأذلين) * يعني في الأسفلين في الدرك الأسفل من النار وهم المنافقون ويقال * (أولئك في الأذلين) * يعني في الهالكين
قوله تعالى * (كتب الله) * يعني قضى الله * (لأغلبن أنا ورسلي) * يعني * (لأغلبن) * في الدنيا بالحجة والدلائل في الآخرة ويقال * (لأغلبن) * يعني لأقهرن أنا ورسلي فتكون العاقبة للمؤمنين
* (إن الله قوي عزيز) * ويقال * (كتب الله) * يعني قضى الله ذلك قضاء ثابتا * (لأغلبن أنا ورسلي) * وغلبة الرسل تكون على نوعين من بعث منهم في الحرب فغلب في الحرب ومن بعث منهم بغير حرب فهو غالب بالحجة * (إن الله قوي عزيز) * أي مانع حزبه من أن يذل والعزيز الذي لا يغلب ولا يقهر
ثم قال * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر) * يعني البعث بعد الموت
* (يوادون من حاد الله ورسوله) * يعني يتخذون الخلة والصداقة مع الكافرين
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وفيه نزل * (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) *
ثم قال عز وجل * (ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) * يعني لا تتخذوا مع الكافرين الصداقة وإن كانوا من أقربائكم
ثم قال * (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) * يعني الذين لا يتخذون مع الكافرين صداقة هم الذين جعل في قلوبهم الإيمان يعني التصديق * (وأيدهم) * يعني أعانهم * (بروح منه) * أي قواهم بنور الإيمان وبإحياء الإيمان وذلك يوصلهم إلى الجنة * (ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) * يعني في الآخرة * (خالدين فيها) * يعني في الجنة
* (رضي الله عنهم) * بإيمانهم وطاعتهم * (ورضوا عنه) * بالثواب والجنة
* (أولئك حزب الله) * يعني جند الله
* (ألا إن حزب الله هم المفلحون) * يعني الناجون الذين فازوا بالجنة وبنعمة الله تعالى وفضله سبحانه
399

سورة الحشر مدنية وهي عشرون وأربع آيات
سورة الحشر 1 - 2
قول الله تبارك وتعالى * (سبح لله ما في السماوات) * يعني صلى لله ويقال خضع لله ويقال هو التسبيح بعينه * (ما في السماوات) * من الملائكة
* (وما في الأرض) * يعني من الخلق
* (وهو العزيز) * في ملكه * (الحكيم) * في أمره
ثم قال عز وجل * (هو الذي أخرج الذين كفروا) * يعني يهود بني النضير
* (من أهل الكتاب من ديارهم) *
وكان بدء أمر بني النضير أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثة بعوث أحد البعوث مرثد بن أبي مرثد الغنوي وأمره على سبعة نفر إلى بعض النواحي فساروا حتى جاؤوا بطن الرجيع فنزلوا عند شجرة فأكلوا من تمر عجوة كانت معهم فسقطت نويات بالأرض وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار فكمنوا بالجبل
فجاءت امرأة من هذيل ترعى الغنم فرأت النويات التي سقطت في الأرض فأنكرت صغرهن فعرفت أنها تمر المدينة فصاحت في قومها وقالت أتيتم أتيتم
فجاؤوا يطلبونهم فوجدوهم قد كمنوا في الجبل فقالوا لهم انزلوا ولكم الأمان فقالوا لا نعطي بأيدينا
فقاتلوهم فقتلوا كلهم إلا عبد الله بن طارق فجرحوه وحسبوا أنه قد مات فتركوه فنجا من بينهم وبقي أخوهم عاصم بن ثابت بن الأفلح ففرغ جعبته ثم جعل يرميهم ويرتجز ويقاتلهم حتى فنيت نبله ثم طاعن بالرمح حتى انكسر الرمح وبقي السيف
ثم قال اللهم إني قد حميت دينك أول النهار فاحم جسدي في آخره
وكانوا يجردون من قتل من أصحابه فلما قتلوا عاصما حمته الدبر وهي الذنابير حتى جاء السيل من الليل فذهب به وأسروا خبيب بن عدي ورجلا آخر اسمه زيد بن الديشة فأما خبيب بن عدي فذهبوا به إلى مكة فاشترته امرأة ومعها أناس من قريش قتل لهم قتيل يوم بدر فلما جيء بخبيب جيء به في الشهر الحرام فحبس حتى انسلخ الشهر الحرام ثم خرجوا به من الحرم ليصلبوه فقال لهم اتركوني أصلي ركعتين فصلاهما ثم قال لولا خشيت أن يقولوا جزع
400

من الموت لازددت
فقال اللهم ليس هاهنا أحد أن يبلغ عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ أنت عني السلام ثم التفت إلى وجوههم وقال اللهم أحصهم عددا وأهلكهم بددا يعني متفرقين ولا تبق منهم أحدا ثم صلبوه
وأما صاحبه الذي أسر معه فاشتراه صفوان بن أمية فقتله بابنه
وأما البعث الثاني فإنه بعث محمد بن سلمة مع أصحابه فقتل أصحابه عن نحو طريق العراق وارتث هو من وسط القتلى فنجا
وأما البعث الثالث فإن عمرو بن مالك كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلي رجالا يعلموننا القرآن ويفقهوننا في الدين فهم في ذمتي وجواري
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي في أربعة عشر من المهاجرين والأنصار فساروا نحو بئر معونة
فلما ساروا ليلة من المدينة بلغهم أن عمرو بن مالك مات فكتب المنذر بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده فأمده صلى الله عليه وسلم بأربعة نفر منهم عمرو بن أمية الضمري والحارث بن الصمة وسعد بن أبي وقاص ورجل آخر
فساروا حتى بلغوا بئر معونة وكتبوا إلى ربيعة بن مالك نحن في ذمتك وذمة أبيك أفنقدم إليك أم لا فقال أنتم في ذمتي وجواري فأقدموا
فخرج إليهم عامر بن الطفيل واستعان برعل وذكوان وعصية فخرجوا إلى المسلمين فقاتلوهم فقتلوا كلهم إلا عمرو بن أمية الضمري والحارث بن الصمة وسعد بن أبي وقاص كانوا تخلفوا فنزلوا تحت شجرة إذ وقع على الشجرة طير فرمى عليهم بعلقة دم فعرفوا أن الطير قد شرب الدم فقال بعضهم لبعض قد قتل أصحابنا
فصعدوا أعلى الجبل فنظروا فإذا القوم صرعى وقد اعتكفت عليهم الطير فقال الحارث بن الصمة أنا لا انتهي حتى أبلغ مصارع أصحابي
فخرج إليهم فقاتل القوم فقتل منهم رجلين ثم أخذوه فقالوا له ما تحب أن نصنع بك فقال لهم ابلغوا بي مصارع قومي
فلما بلغ مصارع أصحابه أرسلوه فقاتلهم فقتل منهم اثنين
ثم قتل
فرجع عمرو بن أمية الضمري ورجع معه الرجلان الآخران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج رجلان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مستأمنين قد كساهما وحملهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أنتما قال كلابيان
فقتلهما عمرو بن أمية الضمري وأخذ سلبهما ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فقال له (بئس ما صنعت حين قتلتهما)
فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه البعوث الثلاثة في ليلة واحدة صلى الصبح في ذلك اليوم وقال في الركعة الثانية (اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف اللهم العن رعلان وذكوان وبني لحيان اللهم غفارا غفر الله لها وسالم سالمها الله وعصية عصت الله ورسوله)
فجاء أناس من بني كلاب يلتمسون من رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الكلابيين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا معه ولا عليه فاستعان
401

النبي صلى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين قبائل الأنصار
فلما بلغ العالية استعان من بني النضير فقال (أعينوني في عقل أصابني فإن هؤلاء حلفائي)
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعلي إلى بني النضير فقال حيي بن أخطب اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما سألتنا
فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في صفه ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال حيي بن أخطب لأصحابه إنما هو في ثلاثة نفر لا ترونه أقرب من الآن فاقتلوه لا تروا شرا أبدا
فنزل جبريل عليه السلام وأخبره فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يريد حاجة حتى دخل المدينة فجاء إنسان فسألوه عنه فقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم دخل أول البيوت
فقاموا من هناك فقال حيي بن أخطب عجل أبو القاسم فقد أردنا أن نطعمه ونعطيه الذي سأل
فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جمع الناس وجاء بالجيش واختلفوا في قتل كعب بن الأشرف فقال بعضهم قد كان قتل قبل ذلك وقال بعضهم قتل في هذا الوقت
فبعث محمد بن سلمة فخرج محمد بن سلمة وأبو نائلة ورجلان آخران فأتوه بالليل وقالوا أتيناك نستقرض منك شيئا من التمر فخرج إليهم فقتلوه ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إلى بني النضير فقال لهم اخرجوا منها فإذا جاء وقت الجذاذ فجذوا ثماركم
فقالوا لا نفعل
فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم نحن نعطيك الذي سألتنا
قال (لا ولكن اخرجوا منها ولكم ما حملت الإبل إلا الحلقة) يعني السلاح قالوا لا
فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة وأمر بقطع نخيلهم ونقب بيوتهم
فلما رأت اليهود ما يصنعون بهم فكلما نقب المسلمون بيتا فروا إلى بيت آخر ينتظرون المنافقين
وقد المنافقون قالوا لهم لئن أخرجتم لنخرجن معكم وإن قوتلتم لننصرنكم
فلما رأوا أنه لا يأتيهم أحد من المنافقين ولحقهم من الشر ما لحقهم قال بعضهم لبعض ليس لنا مقام بعد النخيل فنحن نعطيك يا أبا القاسم على أن تعتق رقابنا إلا الحلقة ونخرج فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة
فأخذ أموالهم فقسمها بين المهاجرين ولم يعطها أحدا من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين مثل حاجة المهاجرين وهما سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبو دجانة فنزلت هذه الآية " وهو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم " يعني بني النضير * (لأول الحشر) * يعني الإجلاء من المدينة
وقال عكرمة من شك بأن الحشر هو الشام فليقرأ هذه الآية * (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب) * إلى قوله * (لأول الحشر) *
فلما قال لهم اخرجوا من المدينة قالوا إلى أين قال إلى أرض المحشر
فقال إنهم أول من يحشروا من ديارهم
ثم قال * (ما ظننتم أن يخرجوا) * يعني ما ظننتم أيها المؤمنين أن يخرجوا من ديارهم
وذلك إن بني النضير كان لهم عز ومنعة وظن الناس أنهم بعزهم ومنعتهم لا يخرجون من
402

ديارهم
* (وظنوا أنهم) * يعني وحسب بنو النضير أنهم * (مانعتهم حصونهم من الله) * يعني أن حصونهم تمنعهم من عذاب الله
* (فآتاهم الله) * يعني أتاهم أمر الله ويقال * (فآتاهم الله) * بما وعد لهم
* (من حيث لم يحتسبوا) * يعني لم يظنوا أنه ينزل بهم وهو قتل كعب بن الأشرف ويقال خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إليهم
* (وقذف في قلوبهم الرعب) * يعني جعل في قلوبهم الخوف
* (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) *
وذلك أنهم حصنوا أزقتهم بالدروب وكان المسلمون ينقبون بيوتهم ويدخلونها وكان اليهود ينقبون بيوتهم من الجانب الآخر ويخرجون منها
ويقال كان اليهود ينقبون بيوتهم ليرموا بها على المسلمين وكان المسلمون يخربون نواحي بيوتهم ليتمكنوا من الحرب
ويقال كان اليهود أنفقوا في بيوتهم فلما علموا أنهم يخرجون منها جعلوا يخربونها كيلا يسكنها المؤمنون وكان المسلمون يخربونها ليدخلوا عليهم
قرأ أبو عمرو * (يخربون) * بالتشديد والباقون بالتخفيف
قال بعضهم هما لغتان خرب وأخرب
وروي عن الفراء أنه قال من قرأ بالتشديد فمعناه يهدمون ومن قرأ بالتخفيف فمعناه يعطلون
ثم قال * (فاعتبروا يا أولي الأبصار) * يعني من له البصاير في أمر الله
سورة الحشر 3 - 5
قوله عز وجل * (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) * يعني لولا أن قضى الله عليهم الإخراج من جزيرة العرب إلى الشام * (لعذبهم في الدنيا) * يعني لعذبهم بالقتل والسبي
* (ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم) * يعني ذلك الذي أصابهم من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة
* (شاقوا الله ورسوله) * يعني خالفوا الله ورسوله في الدين ويقال عادوا الله ورسوله
* (ومن يشاق الله) * وأصله من يشاقق إلا أن إحدى القافين أدغمت في الأخرى وشددت يعني من يخالف الله ورسوله في الدين * (فإن الله شديد العقاب) * يعني إذا عاقب فعقوبته شديدة
قوله عز وجل * (ما قطعتم من لينة) * يعني من نخلة * (أو تركتموها قائمة على أصولها) * فلم تقطعوها * (فبإذن الله) * يعني بأمر الله
وقال عكرمة لما دخل المسلمون على بني النضير أخذوا يقطعون النخيل فنهاهم بعضهم وتأولوا قوله تعالى * (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) * [البقرة 205] وقال بعضهم نقطع وتأولوا قوله تعالى * (ولا ينالون من عدو نيلا) * [التوبة 120] فأنزل الله تعالى * (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله) *
وقال الزهري في قوله * (ما قطعتم من لينة) * قال اللينة ألوان
403

النخل كلها إلا العجوة وقال الضحاك اللينة النخلة الكرمة والشجرة الطيبة المثمرة وقال مجاهد اللينة النخلة المثمرة
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال نهى بعض المهاجرين بعضا عن قطع النخل وقالوا إنما هي مغانم المسلمين فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعها وبتحليل من قطعها وإنما قطعها وتركها بإذن الله تعالى
وعن ابن عباس أنه قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع النخل فشق ذلك على بني النضير مشقة شديدة فقالوا للمؤمنين تزعمون أنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون في الأرض فدعوها قائمة فإنما هي لمن غلب فنزل * (ما قطعتم من لينة) * واللينة هي النخلة كلها ما خلا العجوة * (أو تركتموها قائمة على أصولها) * وهي العجوة * (فبإذن الله) * يعني الترك والقطع بإذن الله
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر عبد الله بن سلام وأبا ليلى المازني بقطع النخل فكان أبو ليلى يقطع العجوة وكان عبد الله بن سلام يقطع اللون فقيل لأبي ليلى لم تقطع العجوة قال لأن فيه كبت العدو
وقيل لابن سلام لم تقطع اللون قال لأني أريد أن تبقى العجوة للمسلمين
فأنزل الله تعالى رضا بما فعل الفريقان فقال الله * (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله) *
ثم قال عز وجل * (وليخزي الفاسقين) * يعني وليذل العاصين الناقضين العهد
سورة الحشر 6 - 7
ثم قال عز وجل * (وما أفاء الله على رسوله) * يعني ما أعطى الله رسوله من بني النضير وذلك أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم أموالهم بين جميع المسلمين كما قسم أموال بدر فلم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقسم بين فقراء المهاجرين فنزل * (وما أفاء الله على رسوله) * * (منهم) * يعني ما أعطى الله رسوله من أموال بني النضير * (فما أوجفتم) * يعني ما أجريتم * (عليه من خيل ولا ركاب) * يعني لا على خيل ولا على إبل أتيتم بل إنكم مشيتم مشيا حتى فتحتموها
ويقال أوجف الفرس والبعير إذا أسرعا يعني لم يكن عن غزوة أوجفتم خيلا ولا ركابا
* (ولكن الله يسلط رسله) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم * (على من يشاء) * من بني النضير
" والله على كل شيء قدير " من النصرة والغنيمة
ثم بين لمن يعطي تلك الغنائم فقال * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) * يعني
404

من بني النضير وفدك ويقال بني قريظة والنضير وخيبر
* (فلله وللرسول) * يعني لله أن يأمركم فيه بما أحب
وروى عبد الرازق عن معمر عن الزهري قال كانت بنو النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خالصا لم يفتحوها عنوة ولكن افتتحوها على صلح فقسمها بين المهاجرين
ثم قال * (ولذي القربى) * يعني قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم
* (واليتامى والمساكين وابن السبيل) *
وروى مالك بن أنس عن عمر قال كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا بني النضير وخيبر وفدك
فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه وأما فدك فكانت لابن السبيل وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء فقسم جزأين بين المسلمين وحبس جزءا للنفقة
فما فضل عن أهله رده إلى فقراء المسلمين
ثم قال * (كي لا يكون) * المال * (دولة) *
قرأ أبو جعفر المدني * (دولة) * بالضم وجعله اسم يكون وقراءة العامة بالنصب يعني لكي لا يكون دولة
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي * (دولة) * بنصب الدال والباقون بالضم * (دولة) * فمن قرأ بالضم فهو اسم المال الذي يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لهذا
وأما النصب فهو النقل والانتقال من حال إلى حال * (بين الأغنياء منكم) * يعني لكيلا يغلب الأغنياء على الفقراء ليقسموه بينهم
ثم قال * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * يعني ما أعطاكم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة فخذوه ويقال وما أمركم الرسول فاعملوا به * (وما نهاكم عنه فانتهوا) * يعني فامتنعوا عنه
* (واتقوا الله إن الله شديد العقاب) * لمن عصاه
سورة الحشر 8 - 10
ثم ذكر أن الفيء للمهاجرين يعني الغنائم * (للفقراء المهاجرين) * * (الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) * يعني تركوا أموالهم وديارهم في بلادهم وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال هذا ابتداء ومعناه عليكم بالفقراء المهاجرين يعني اعرفوا حقهم وصلوهم * (الذين أخرجوا من ديارهم) * يعني أخرجهم أهل مكة من ديارهم وأموالهم
" يبتغون فضلا من الله
405

ورضوانا) يعني يطلبون رزقا في الجنة ورضوان الله تعالى * (وينصرون الله ورسوله) * بالسيف يعني يطيعون الله فيما أمرهم بطاعته
* (أولئك هم الصادقون) * يعني الصادقين في إيمانهم فطابت أنفس الأنصار في ذلك فقالوا هذا كله لهم وأموالنا أيضا لهم
فأثنى الله تعالى على الأنصار فقال عز وجل " والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم " يعني استوطنوا الدار يعني دار المدينة من قبل هجرتهم يعني نزلوا دار الهجرة في المدينة * (والإيمان) * يعني تبوءوا الإيمان أي كانوا مؤمنين من قبل أن هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قال الله تعالى * (يحبون من هاجر إليهم) *
يعني يحبون من يقدم إليهم من المؤمنين * (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) * يعني لا يكون في قلوبهم حسدا مما أعطوا يعني المهاجرين
ويقال " حاجة " يعني حزازة وهو الحزن ويقال * (ولا يجدون في صدورهم) * بخلا وكراهة بما أعطوا
* (ويؤثرون على أنفسهم) * في القسمة من الغنيمة يعني تركوها للمهاجرين
* (ولو كان بهم خصاصة) * يعني حاجة
وروى وكيع عن فضيل بن عمران عن رجل عن أبي هريرة أن رجلا من الأنصار نزل به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي إلى الضيف ما عندك فنزل * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *
ويقال إن رجلا من الأنصار أهدي له برأس مشوي فقال لعل جاري أحوج مني فبعث إليه
ثم إن جاره بعثه إلى جار آخر فطاف سبعة أبيات ثم عاد إلى الأول فنزل * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *
قال الله تعالى * (ومن يوق شح نفسه) * يعني ومن يمنع بخل نفسه * (فأولئك هم المفلحون) * يعني الناجين
وروى وكيع بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (بريء من الشح من أدى الزكاة وأقرى الضيف وأعطى في النائبة)
وقد أثنى الله تعالى على المهاجرين وعلى الأنصار ثم أثنى على الذين من بعدهم على طريقتهم فقال * (والذين جاؤوا من بعدهم) * يعني التابعين ويقال يعني الذين هاجروا من بعد الأولين
* (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) * يعني أظهروا الإيمان قبلنا يعني المهاجرين والأنصار
* (ولا تجعل في قلوبنا غلا) * يعني غشا وحسدا وعداوة * (للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) * يعني رحيما بعبادك المؤمنين
وفي الآية دليل أن من ترحم على الصحابة واستغفر لهم ولم يكن في قلبه غل لهم فله حظ في المسلمين وله أجر مثل أجر الصحابة
ومن شتمهم أو لم يترحم عليهم أو كان في قلبه غل لهم ليس له حظ في المسلمين لأنه ذكر للمهاجرين فيه حظ ثم ذكر الأنصار ثم ذكر الذين جاؤوا من بعدهم وقد وصفهم الله بصفة الأولين إذ دعا لهم
وفي الآية دليل أن
406

الواجب على المؤمنين أن يستغفروا لإخوانهم الماضين وفيه وينبغي للمؤمنين أن يستغفروا لآبائهم ولمعلميهم الذين علموهم أمور الدين
سورة الحشر 11 - 14
ثم نزل في شأن المنافقين فقال * (ألم تر إلى الذين نافقوا) * يعني منافقي المدينة
* (يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب) * يعني بني النضير
* (لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا) * يعني ولا نطيع محمدا صلى الله عليه وسلم في خذلانكم
* (وإن قوتلتم لننصرنكم) * يعني لنعينكم
* (والله يشهد إنهم لكاذبون) * في مقالتهم وإنما قالوا ذلك بلسانهم في غير حقيقة في قلوبهم
فقال الله تعالى * (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم) * يعني لئن أخرج بنو النضير لا يخرج المنافقون معهم
* (ولئن قوتلوا لا ينصرونهم) * يعني لا يمنعونهم على ذلك
* (ولئن نصروهم ليولن الأدبار) * يعني ولو أعانوهم لا يثبتون على ذلك ولن ينصروهم * (ليولن الأدبار) * يعني رجعوا منهزمين
* (ثم لا ينصرون) * يعني لا يمنعون من الهزيمة
ثم قال عز وجل * (لأنتم أشد رهبة) * يعني أنتم يا معشر المسلمين * (أشد رهبة في صدورهم من الله) * يعني خوفهم منكم أشد من عذاب الله في الآخرة
* (ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) * يعني لا يعقلون أمر الله تعالى
ثم أخبر عن ضعف اليهود في الحرب فقال عز وجل * (لا يقاتلونكم جميعا) * يعني لا يخرجون إلى الصحراء لقتالكم
* (إلا في قرى محصنة) * يعني حصينة " أو من رواء جدر " يعني يقاتلونكم من وراء الجدار فحذف الألف وهو جمع الجدار
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " من وراء جدار " بالألف والباقون " جدر " بحذف الألف وهو جماعة
فمن قرأ * (جدار) * فهو واحد يريد به الجمع
ثم قال * (بأسهم بينهم شديد) * يعني قتالهم فيما بينهم إذا اقتتلوا شديد وأما مع المؤمنين فلا
ثم قال * (تحسبهم جميعا) * يعني تظن أن المنافقين واليهود على أمر واحد وكلمتهم
407

واحدة
* (وقلوبهم شتى) * يعني قلوب اليهود مختلفة ولم يكونوا على كلمة واحدة
* (ذلك بأنهم) * يعني ذلك الاختلاف بأنهم * (قوم لا يعقلون) * يعني لا يعقلون أمر الله تعالى
سورة الحشر 15 - 17
ثم ضرب لهم مثلا فقال عز وجل * (كمثل الذين من قبلهم) * يعني مثل بني النضير مثل الذين من قبلهم يعني أهل بدر
* (قريبا) * يعني كان قتال بدر قبل ذلك بقريب وهو مقدار سنتين أو نحو ذلك
* (ذاقوا وبال أمرهم) * يعني عقوبة ذنبهم * (ولهم عذاب أليم) * يعني عذابا شديدا في الآخرة
ثم ضرب لهم مثلا آخر وهو مثل المنافقين مع اليهود حين خذلوهم ولم يعينوهم
* (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر) * يعني برصيصا الراهب
وروى عدي بن ثابت عن ابن عباس قال كان في بني إسرائيل راهب عبد الله تعالى زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين فيعودهم ويداويهم فيبرؤون على يديه
وأنه أتى بامرأة قد جنت وكان لها أخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشيطان يخوفه ويزين له حتى وقع عليها فحملت
فلما استبان حملها لم يزل به الشيطان يخوفه ويزين له حتى قتلها ودفنها
ثم ذهب الشيطان إلى إخوتها في صورة رجل حتى لقي أحدا من أخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنه دفنها في مكان كذا
فبلغ ذلك إلى ملكهم فسار الملك مع الناس فأتوه فاستنزلوه فأقر لهم بالذي فعل فأمر به فصلب
فلما رفع على خشبة تمثل له الشيطان فقال أنا الذي زينت لك هذا وألقيتك فيه فهل لك أن تطيعني فيما أقول لك وأخلصك مما أنت فيه فقال نعم
قال اسجد لي سجدة واحدة
فسجد له فذلك قوله " كمثل الشيطان إذا قال للإنسان اكفر " يعني اسجد * (فلما كفر) * يعني سجد
" قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " قال ذلك على وجه الاستهزاء كذلك المنافقون خذلوا اليهود كما خذل الشطيان الراهب * (فكان عاقبتهما) * يعني عاقبة الشيطان والراهب * (أنهما في النار خالدين فيها) * يعني مقيمين فيها
وكان ابن مسعود يقرأ " خالدان فيها " وقراءة العامة * (خالدين فيها) * بالنصب
وإنما هو نصب على الحال
* (وذلك جزاء الظالمين) * يعني الخلود في النار جزاء المنافقين والكافرين
408

سورة الحشر 18 - 19
قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * يعني أخشوا الله ويقال أطيعوا الله
* (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) * يعني ما عملت لغد وأسلفت لغد أي ليوم القيامة ومعناه تصدقوا واعملوا بالطاعة لتجدوا ثوابه يوم القيامة
ثم قال * (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) * من الخير والشر
ثم وعظ المؤمنين بأن لا يتركوا أمره ونهيه كاليهود
ويوحدوه في السر والعلانية ولا يكونوا في المعصية كالمنافقين فقال * (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) * يعني تركوا أمر الله تعالى
* (فأنساهم أنفسهم) * يعني خذلهم الله تعالى حتى تركوا حظ أنفسهم أن يقدموا خيرا لها
* (أولئك هم الفاسقون) * يعني العاصين ويقال * (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) * أي تركوا ذكر الله وما أمرهم به * (فأنساهم أنفسهم) * يعني فترك ذكرهم بالرحمة والتوفيق ويقال * (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) * يعني تركوا عهد الله ونبذوا كتابه وراء ظهورهم * (فأنساهم أنفسهم) * يعني أنساهم حالهم حتى لم يعملوا لأنفسهم ولم يقدموا لها خيرا
* (أولئك هم الفاسقون) * يعني الناقضين للعهد
سورة الحشر 20 - 22
ثم ذكر مستقر الفريقين فقال * (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) * يعني لا يستوي في الكرامة والهوان في الدنيا والآخرة لأن أصحاب الجنة في الدنيا موفقون منعمون معصومون وفي الآخرة لهم الثواب والكرامة
وأصحاب النار مخذولون في الدنيا معذبون في الآخرة
ويقال * (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) * في الآخرة لان أصحاب الجنة يتقلبون في النعيم وأصحاب النار يتقلبون في النار والهوان
ثم قال * (أصحاب الجنة هم الفائزون) * يعني المستعدون الناجون " وأصحاب النار " الهالكون
ثم وعظهم ليعتبروا بالقرآن فقال عز وجل * (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل) * يعني القرآن الذي فيه وعده ووعيده لو أنزل على جبل * (لرأيته خاشعا) * يعني خاضعا * (متصدعا من خشية الله) * يعني خاضعا متصدعا ويقال ويرق من خوف عذاب الله فكيف لا يرق هذا الإنسان ويخشع ويقال هذا على وجه المثل يعني لو كان الجبل له تميز لتصدع من الخشية من خشية الله
409

ثم قال * (وتلك الأمثال نضربها للناس) * أي نبينها للناس * (لعلهم يتفكرون) * أي لكي يتعظوا في أمثال الله يعني فيعتبرون ولا يعصون الله تعالى
ثم قال * (هو الله الذي لا إله إلا هو) * يعني لا خالق ولا رازق غيره
* (عالم الغيب والشهادة) * يعني عالم السر والعلانية ويقال الغيب ما غاب عن العباد
والشهادة ما شاهدوه وعاينوه ويقال * (عالم) * بما كان وبما يكون ويقال * (عالم) * بأمر الآخرة وبأمر الدنيا
ثم قال * (هو الرحمن الرحيم) * يعني العاطف على جميع الخلق بالرزق و * (الرحيم) * بالمؤمنين
سورة الحشر 23 - 24
ثم قال تعالى * (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك) * يعني مالك كل شيء وهو الملك الدائم الذي لا يزول ملكه أبدا
ثم قال * (القدوس) * يعني الطاهر عما وصفه الكفار ولهذا سمي بيت المقدس يعني المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب
ثم قال * (السلام) * يعني يسلم عباده من ظلمه ويقال سمى نفسه سلاما لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء
ثم قال * (المؤمن) * يعني يؤمن أولياؤه من عذابه ويقال * (المؤمن) * أي يصدق في وعده ووعيده ويقال * (المؤمن) * يعني قابل إيمان المؤمنين
ثم قال * (المهيمن) * يعني الشهيد على عباده بأعمالهم ويقال * (المهيمن) * يعني المويمن فقلبت الواو هاء وهو بمعنى الأمين
ثم قال * (العزيز) * يعني الذي لا يعجزه شيء عما أراد ويقال * (العزيز) * الذي لا يوجد مثله
ثم قال * (الجبار) * يعني القاهر لخلقه على ما أراده ويقال الغالب على خلقه ومعناهما واحد
ثم قال * (المتكبر) * يعني المتعظم على كل شيء ويقال * (المتكبر) * الذي تكبر عن ظلم عباده
ثم قال * (سبحان الله) * يعني تنزيها لله تعالى * (عما يشركون) * يعني عما وصفه الكفار من الشريك والولد ويقال * (سبحان الله) * بمعنى التعجب يعني عجبا عما وصفه الكفار من الشريك
قوله تعالى (هو الله الخالق) يعني الخالق الخلق في أرحام النساء ويقال خالق
410

النطف في أصلاب الآباء * (المصور) * للولد في أرحام الأمهات ويقال * (الخالق) * يعني المقدر
* (البارئ) * الذي يجعل الروح في الجسد ويقال * (البارئ) * يعني خالق الأشياء ابتداء
ثم قال * (له الأسماء الحسنى) * يعني الصفات العلى ويقال * (له الأسماء الحسنى) * وهي تسعة وتسعون اسما وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة "
ثم قال * (يسبح له ما في السماوات والأرض) * يعني يخضع له ما في السماوات والأرض يعني جميع الأشياء كقوله " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " [الإسراء 44]
ثم قال * (وهو العزيز) * يعني العزيز في ملكه * (الحكيم) * في أمره
فإن قال قائل قد قال الله تعالى * (فلا تزكوا أنفسكم) * [النجم 32] فما الحكمة في أنه نهى عباده عن مدح أنفسهم ومدح نفسه قيل له عن هذا السؤال جوابان أحدهما أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فهو ناقص وإن كان ناقصا لا يجوز له أن يمدح نفسه والله سبحانه وتعالى تام الملك والقدرة فيستوجب به المدح فمدح نفسه ليعلم عباده فيمدحوه
وجواب آخر أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فتلك الخصال أفضال من الله تعالى ولم يكن ذلك بقدرة العبد فلهذا لا يجوز له أن يمدح نفسه
والله سبحانه وتعالى إنما قدرته وملكه له ليس لغيره فيستوجب فيه المدح
ومثال هذا أن الله تعالى نهى عباده أن يمنوا على أحد بالمعروف وقد من الله تعالى على عباده للمعنى الذي ذكرناه في المدح والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم
411

سورة الممتحنة كلها مدنية وهي ثلاث عشرة آية
سورة الممتحنة 1 - 3
قوله سبحانه وتعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدكم أولياء " نزلت في حاطب بن أبي بلتعة العبسي ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهز الجيش للخروج إلى فتح مكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى الغزو ورى بغيره يعني يظهر من نفسه أنه يريد الخروج إلى ناحية أخرى وكان الناس لا يعلمون إلى أي ناحية يريد الخروج
فأمر الناس بأن يتجهزوا إلى الخروج للغزو ولم يعلموا إلى أين يخرج إلا الخواص من أصحابه
فبينما الناس يتجهزون إذ قدمت امرأة من مكة يقال لها سارة مولاة بني عمر بن الصيف بن هشام بن عبد مناف وكانت امرأة مغنية فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (لماذا جئت) فقالت جئت لتعطيني شيئا
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (ما فعلت بعطياتك من شبان قريش) فقالت منذ قتلتهم ببدر لم يصل إلي شيء إلا القليل
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تعطى شيئا لترجع
فلما أرادت الخروج أتاها حاطب بن أبي بلتعة فقال لها إني معطيك عشرة دنانير وكساء على أن تبلغي إلى أهل مكة كتابا
فأجابته إلى ذلك فخرجت إلى مكة فنزل جبريل عليه السلام في أثرها بالخبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي والزبير والمقداد (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة معها كتاب فخذوه منها)
فخرجوا حتى أتوا الروضة فإذا هي سارة هناك فقالوا لها أخرجي الكتاب
فقالت ما معي كتاب
فألحوا عليها فحلفت أنه ليس معها كتاب فلم يصدقوها حتى نزعت جميع ثيابها فرمت بها إليهم
فنظروا إلى ثيابها فلم يجدوا فيها الكتاب ونظروا في راحلتها وأمتعتها فلم يجدوا فيها الكتاب
فقال بعضهم لبعض تعالوا حتى نرجع
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقول المرأة أصدق أم قول
412

جبريل فوالله لا أرجع حتى آخذ منها الكتاب ولأحملن رأسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسل السيف ليضرب رأسها فأخرجت الكتاب من عقاصها
فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ الكتاب فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة وأخبرهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد الخروج إليهم وإنه أراد بالكتاب إليهم مودتهم فقام إليه عمر وقال دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما هذا يا حاطب) فقال لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكل من كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهاليهم فأردت أن أتخذ فيهم يدا يحمون قرابتي وما فعلت هذا كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام
وقد علمت أن الله تعالى منجز وعده ما وعد ألا لينصر نبيه صلى الله عليه وسلم
قال النبي صلى الله عليه وسلم (دعوه إنه شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله تعالى قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم) فنزل * (يا أيها الذين آمنوا) * فسماهم مؤمنين * (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) * يعني في العون والنصرة
* (تلقون إليهم بالمودة) * يعني تكتبون وتبعثون إليهم بالصحيفة والنصيحة ويقال معناه تخبرونهم كما يخبر الرجل أهل مودته حيث توجهون إليهم بالمودة والنصيحة والكتاب
* (وقد كفروا بما جاءكم من الحق) * يعني من القرآن والرسول
* (يخرجون الرسول وإياكم) * يعني أخرجوكم من مكة
* (أن تؤمنوا بالله ربكم) * يعني لأجل إيمانكم بربكم يعني بوحدانية ربكم
* (إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة) * يعني لا تلقون إليهم بالمودة إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي وطلب رضاي
* (وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم) * يعني ما أسررتم وما أظهرتم من المودة لأهل الكفر وأعلنتم الإقرار بالتوحيد
* (ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) * يعني من يفعل بعد منكم فقد أخطأ قصد الطريق
ثم قال عز وجل * (إن يثقفوكم) * وهذا إخبار من الله تعالى للمؤمنين بعداوة كفار مكة إياهم لكيلا يميلوا إليهم فقال * (إن يثقفوكم) * يعني أن يظهروا عليكم ويقال إن يأخذوكم ويقال إن يقهروكم ويغلبوكم
* (يكونوا لكم أعداء) * يعني يتبين لكم أنهم أعداؤكم فيظهر لكم عداوتهم عند ذلك
* (ويبسطوا إليكم أيديهم) * بالقتل والتعذيب * (وألسنتهم بالسوء) * يعني بالشتم
* (وودوا لو تكفرون) * يعني تمنوا أن ترجعوا إلى دينهم فإن فعلتم ذلك بسبب قرابتكم
* (لن تنفعكم أرحامكم) * يعني قرابتكم * (ولا أولادكم) * الذين كانوا بمكة
* (يوم القيامة يفصل بينكم) * يعني يفرق بينكم وبينهم يوم القيامة
قرأ عاصم
413

* (يفصل بينكم) * بنصب الياء وكسر الصاد مع التخفيف يعني يفصل الله بينكم وبينهم يوم القيامة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو * (يفصل بينكم) * بضم الياء ونصب الصاد مع التخفيف على معنى فعل ما لم يسم فاعله والمعنى مثل الأول
وقرأ حمزة والكسائي * (يفصل بينكم) * بضم الياء وكسر الصاد مع التشديد يعني يفصل الله بينكم والتشديد للتكثير وقرأ ابن عامر * (يفصل بينكم) * بضم الياء ونصب الصاد مع التشديد على معنى فعل ما لم يسم فاعله والتشديد للتكثير
ويقال الفصل هو القضاء يعني يقضي بينكم على هذا
* (والله بما تعملون بصير) * يعني عالم بأعمالكم
سورة الممتحنة 4 - 6
قوله عز وجل * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) * يعني هلا فعلتم كما فعل إبراهيم تبرأ من أبيه لأجل كفره ويقال * (قد كانت لكم أسوة حسنة) * يعني قدوة حسنة وسنة صالحة في إبراهيم فاقتدوا به
* (والذين معه) * يعني من كان مع إبراهيم من المؤمنين * (إذ قالوا لقومهم) * لمن كفر من قومهم * (إنا برآء منكم) * يعني من دينكم * (ومما تعبدون) * يعني براء مما تعبدون * (من دون الله) * أي براء مما تعبدون من الآلهة
* (كفرنا بكم) * يعني تبرأنا منكم
قرأ عاصم * (أسوة حسنة) * بضم الألف والباقون بالكسر وهما لغتان إسوة وأسوة وهما بمعنى الاقتداء
ثم قال * (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) * يعني حتى تصدقوا بالله وحده فأعلم الله تعالى أن أصحاب إبراهيم تبرؤوا من قومهم وعادوهم لأجل كفرهم فأمر الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا بهم
ثم قال * (إلا قول إبراهيم) * يعني اقتدوا بهم إلا قول إبراهيم * (لأبيه لأستغفرن لك) * يعني لأدعون لك أن يهديك الله ويكون على هذا التفسير إلا بمعنى لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك يعني لأدعون لك أن يهديك الله يعني إبراهيم تبرأ من قومه لكنه يدعو لأبيه بالهدى
ثم قال " وما أملك لك من الله من شيء " يعني لا أقدر أن أمنعك من عذاب الله من شيء إن لم تؤمن
414

ثم علمهم ما يقولون فقال قولوا * (ربنا عليك توكلنا) * يعني فوضنا أمرنا إليك وأمر أهالينا * (وإليك أنبنا) * يعني أقبلنا إليك بالطاعة * (وإليك المصير) * يعني المرجع في الآخرة
قوله تعالى * (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) * فتقتر علينا الرزق وتبسط عليهم فيظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل
ويقال معناه ولا تسلطهم علينا فيرون أنهم على الحق ونحن على الباطل * (واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم) * وفي قراءة عبد الله بن مسعود " إنك أنت الغفور الرحيم "
وقال بعضهم هذا كله حكاية عن قول إبراهيم أنه دعا ربه بذلك ويقال هذا تعليم لحاطب بن أبي بلتعة هلا دعوت بهذا الدعاء حتى ينجو أهلك ولا يسلط عليهم عدوك
قوله تعالى * (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة) * يعني في إبراهيم وقومه في الاقتداء
* (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) * يعني لمن يخاف الله ويخاف البعث ويقال * (لمن كان يرجو) * ثواب الله وثواب يوم القيامة
* (ومن يتول) * يعني يعرض عن الحق ويقال يأبى عن أمر الله تعالى * (فإن الله هو الغني الحميد) * يعني * (الغني) * عن عباده * (الحميد) * في أفعاله
سورة الممتحنة 7 - 9
ثم قال عز وجل * (عسى الله أن يجعل بينكم) * يعني لعل الله أن يجعل بينكم * (وبين الذين عاديتم) * يعني كفار مكة
* (منهم مودة) * وذلك أنه لما أخبرهم عن إبراهيم بعداوته مع أبيه فأظهر المسلمون العداوة مع أرحامهم فشق ذلك على بعضهم فنزل * (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) * يعني صلة
قال مقاتل فلما أسلم أهل مكة خالطوهم وناكحوهم فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان وأسلمت وأسلم أبوها
ويقال يسلم من يسلم منهم منهم فيقع بينكم وبينهم مودة بالإسلام وهذا القول أصح لأنه كان قد تزوج بأم حبيبة قبل ذلك
* (والله قدير) * على المودة
ويقال * (قدير) * بقضائه وهو ظهور النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة
* (والله غفور) * لمن تاب منهم * (رحيم) * بهم بعد التوبة
ثم رخص في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم وهم خزاعة وبنو مدلج فقال عز وجل * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) * يعني عن صلة الذين لم يقاتلوكم في الدين * (ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم) * يعني أن تصلوهم * (وتقسطوا إليهم) *
415

يعني تعدلوا معهم بوفاء عهدهم
* (إن الله يحب المقسطين) * يعني العادلين بوفاء العهد يقال أقسط الرجل فهو مقسط إذا عدل
وقسط يقسط فهو قاسط إذا جار
ثم قال عز وجل * (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين) * وهم أهل مكة ومن كان في مثل حالهم من أهل الحرب
* (وأخرجوكم من دياركم وظاهروا) * يعني عاونوا * (على إخراجكم) * من دياركم
* (أن تولوهم) * يعني أن تناصحوهم
* (ومن يتولهم) * منكم يعني يناصحهم ويحبهم منكم * (فأولئك هم الظالمون) * يعني الكافرين الظالمين بأنفسهم
سورة الممتحنة 10
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) * وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة يوم الحديبية وكتب بينه وبينهم كتابا إن من لحق من المسلمين بأهل مكة فهو منهم ومن لحق منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم رده عليهم
فجاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم اسمها سبيعة بنت الحارث الأسلمية فجاء زوجها في طلبها فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ارددها فإن بيننا وبينك شرطا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما كان الشرط في الرجال ولم يكن في النساء)
فأنزل الله تعالى * (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) * نصب على الحال * (فامتحنوهن) * يعني اختبروهن ما أخرجكن من بيوتكن ويقال * (فامتحنوهن) * يعني اسألوهن ويقال استحلفوهن ما خرجنا إلا حرصا على الإسلام ولم يكن لكراهية الزوج ولا لغير ذلك * (الله أعلم بإيمانهن) * يعني أعلم بسرائرهن
* (فإن علمتموهن مؤمنات) * يعني إذا ظهر عندكم إنها خرجت لأجل الإسلام ولم يكن خروجها لعداوة وقعت بينها وبين زوجها * (فلا ترجعوهن إلى الكفار) * يعني لا تردوهن إلى أزواجهن
* (لا هن حل لهم) * يعني لا تحل مؤمنة لكافر * (ولا هم يحلون لهن) * يعني ولا نكاح كافر لمسلمة
قوله تعالى * (وآتوهم ما أنفقوا) * يعني أعطوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهر
قال مقاتل يعني إن تزوجها أحد من المسلمين يدفع المهر إلى الزوج فإن لم يتزوجها أحد من المسلمين فليس لزوجها الكافر شيء
ثم قال * (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن) * يعني لا حرج على المسلمين أن يتزوجوهن
* (إذا آتيتموهن أجورهن) * يعني مهورهن فرد المهر على الزوج الكافر منسوخ
وفي الآية دليل
416

أن المرأة إذا خرجت من دار الحرب بانت من زوجها
وفي الآية تأييد لقول أبي حنيفة رحمه الله أنه لا عدة عليها
وفي قول أبي يوسف ومحمد عليها العدة
ثم قال * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) *
قرأ أبو عمرو * (ولا تمسكوا) * بالتشديد والباقون بالتخفيف
فمن قرأ بالتخفيف فهو من أمسك يمسك ومن قرأ بالتشديد فهو من مسك بالشيء يمسك تمسيكا ومعناهما واحد وهو أن المرأة إذا كفرت ولحقت بدار الحرب فقدزالت العصمة بينهما
فنهى أن يتبعها من بعد انقطاعها وجاز له أن يتزوج أختها أو أربعا سواها
وأصل العصمة الحبل ومن أمسك بالشيء فقد عصمه
ويقال معناه لا ترغبوا فيهن ويقال لا تعتد بامرأتك الكافرة فإنها ليست لك بامرأة
وكان للمسلمين نساء في دار الحرب فتزوجن هناك
ثم قال * (واسألوا ما أنفقتم) * يعني اسألوا من أزواجهن ما أنفقتم عليهن من المهر
* (وليسألوا) * منكم * (ما أنفقوا) * يعني ما أعطوا من مهر المرأة التي أسلمت
وهذه الآية نسخت إلا قوله * (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) *
ثم قال * (ذلكم حكم الله) * يعني أمره ونهيه * (يحكم بينكم) * يعني يقضي بينكم * (والله عليم حكيم) *
سورة الممتحنة 11 - 12
قوله عز وجل " وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار " يعني إذا ارتدت امرأة ولحقت بدار الحرب * (فعاقبتم) * يعني فغنمتم من المشركين شيئا * (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم) * من الغنيمة * (مثل ما أنفقوا) * مثل ما أعطوا نساءهم من المهر
وهذه الآية منسوخة بالإجماع
قرأ إبراهيم النخعي " فعقبتم " بغير ألف وعن مجاهد أنه قرأ " فأعقبتم " وقراءة العامة * (فعاقبتم) * فذلك كله يرجع إلى معنى واحد يعني إذا غلبتم العدو واغتنمتم واصبتموهم في القتال
ثم قال * (واتقوا الله) * يعني أخشوا الله ولا تعصوه فيما أمركم
* (الذي أنتم به مؤمنون) * يعني مصدقين
قوله عز وجل * (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) * يعني النساء إذا أسلمن فبايعهن * (على أن لا يشركن بالله شيئا) * يعني لا يعبدن غير الله
* (ولا يسرقن) * يعني لا
417

يأخذن مال أحد بغير حق
* (ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن) * يعني ولا يقتلن بناتهن كما قتلن في الجاهلية
ويقال لا يشربن دواء فيسقطن حملهن
ثم اختلفوا في مبايعة النساء وقال بعضهم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبا وأخذ في الثوب وقال بعضهم كان يشيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصافحهن عمر وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وفرغ من مبايعة الرجال وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه فبايع النساء على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن
فقالت هند امرأة أبي سفيان إني قد أصبت من مال أبي سفيان فلا أدري أحلال أم لا فقال أبو سفيان نعم ما أصبت فيما مضى وفيما غبر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (عفا الله عما سلف)
وفي خبر آخر أنها قالت أرأيت لو لم يعطني ما يكفيني ولولدي هل يحل لي أن آخذ من ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم (خذي من ماله ما يكفيك ولولدك بالمعروف)
ثم قال * (ولا يزنين) * فلما قال ذلك قالت هند أوتزني الحرة فضحك عمر رضي الله عنه عند ذلك
ثم قال * (ولا يقتلن أولادهن) * يعني لا يقتلن بناتهن الصغار فقالت هند ربيناهم صغارا أفنقتلهم كبارا فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال * (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) * يعني لا تجيء بصبي من غير زوجها فتقول للزوج هو منك
فقالت هند إن البهتان أفحش وما تأمرنا إلا بالرشد
ثم قال عز وجل * (ولا يعصينك في معروف) * يعني في طاعة مما أمر الله تعالى ويقال * (ولا يعصينك في معروف) * يعني فيما نهيتهن عن الشعر والنوح وتمزيق الثياب أو تخلو مع الأجنبي أو نحو ذلك فقالت هند ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء
ثم قال * (فبايعهن واستغفر لهن الله) * يعني إذا بايعن على ذلك فاسأل الله لهن المغفرة لما كان في الشرك
* (إن الله غفور) * غفور لهن ما كان في الشرك * (رحيم) * فيما بقي
سورة الممتحنة 13
قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) * وذلك أن ناسا من
418

فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأمر المسلمين يتواصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم وطعامهم وشرابهم فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال * (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) * يعني لا تتخذوا الصداقة مع قوم غضب الله عليهم ويقال هذا أيضا في حاطب بن أبي بلتعة
ثم قال عز وجل * (قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور) * قال مقاتل وذلك أن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك شديد الانتهار فيجلسه ثم يسأله من ربك وما دينك ومن رسولك فيقول لا أدري
فيقول الملك أبعدك الله انظر يا عدو الله إلى منزلك من النار
فينظر إليه فيدعو بالويل والثبور فيقول هذا لك يا عدو الله
فيفتح له باب إلى الجنة فيقول هذا لمن آمن بالله تعالى فلو كنت آمنت بربك نزلت الجنة فيكون حسرة عليه وينقطع رجاؤه منها وعلم أنه لاحظ له فيها ويئس من خير الجنة فذلك قوله لكفار أهل الدنيا الأحياء منهم * (قد يئسوا من الآخرة) * يعني من خير الآخرة لأنهم كذبوا بالثواب والعقاب وهم آيسون من الجنة كما يئس الكفار من أصحاب القبور حين عرفوا منازلهم من النار
ويقال إن الكفار إذا مات منهم أحد يئسوا من رجوعه فيقال قد يئس هؤلاء من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور من رجوعهم ويقال * (يئسوا من الآخرة) * يعني هؤلاء الكفار قد يئسوا من أمر الآخرة كما يئس الكفار الذين كانوا قبلهم من الآخرة وهم اليوم من أصحاب القبور و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم
419

سورة الصف مدنية وهي أربع عشرة آية
سورة الصف 1 - 4
قوله تبارك وتعالى * (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) * يعني * (العزيز) * في ملكه * (الحكيم) * في أمره وقد ذكرناه * (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) * وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا بعدما فروا يوم أحد لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى وأفضل لفعلناه فنزل * (لم تقولون ما لا تفعلون) *
ويقال قالوا ذلك قبل يوم أحد فابتلوا بذلك وفروا فنزل تعييرا لهم بترك الوفاء فقال * (لم تقولون ما لا تفعلون) *
* (كبر مقتا عند الله) * يعني عظم بغضا عند الله * (أن تقولوا ما لا تفعلون) * * (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) * يعني يصفون بمنزلة الصف في الصلاة ملتزق بعضهم ببعض لا يتأخر أحدهم عن صاحبه بمنزلة البنيان الذي بني بالرصاص
ويقال * (كأنهم بنيان مرصوص) * أي متفقي الكلمة بعضهم على بعض على عدوهم فلا يخالف بعضهم بعضا
فأخبرهم الله تعالى بأحب الأعمال إليهم بعد الإيمان فكرهوا القتال فوعظهم الله فقال * (لم تقولون ما لا تفعلون) * نزلت في الأنصار منهم عبد الله بن رواحة أحد الأمراء الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداهم يا أهل المجلس الذين وعدتم ربكم بقولكم ثم مشى فقاتل حتى قتل
سورة الصف 5 - 6
قوله تعالى * (وإذ قال موسى) * يعني وقد قال موسى * (لقومه يا قوم لم تؤذونني) * بالتكذيب وذلك أنهم كذبوه وقالوا إنه آدر ويقال إنه حين مات هارون ويقال إنه قال
420

لقومه الكفار لم تؤذونني بالتكذيب والشتم * (وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا) * يعني مالوا عن الحق وعدلوا عنه
* (أزاغ الله قلوبهم) * يعني خذلهم عن الهدى فثبتوا على اليهودية
* (والله لا يهدي) * يعني لا يرشد إلى دينه * (القوم الفاسقين) * يعني العاصين المكذبين الذين لا يرغبون في الحق
قوله تعالى * (وإذ قال عيسى ابن مريم) * يعني وقد قال عيسى ابن مريم لبني إسرائيل * (يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم) * يعني أرسلني الله تعالى إليكم لأدعوكم إلى الإسلام
* (مصدقا لما بين يدي من التوراة) * يعني أقرأ عليكم الإنجيل موافقا للتوراة في التوحيد وفي بعض الشرائع * (ومبشرا برسول) * يعني أبشركم برسول * (يأتي من بعدي اسمه أحمد) *
وروى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا يا رسول الله أخبرنا عن نفسك
فقال (أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى صلوات الله وسلامه عليهما ورأت أمي رؤياها حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى في أرض الشام)
* (فلما جاءهم بالبينات) * يعني جاءهم عيسى بالعجائب التي كان يريهم من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص
* (قالوا هذا سحر مبين) * يعني بينا ظاهرا
قرأ حمزة والكسائي * (ساحر) * بالألف والباقون * (سحر) * بغير ألف
فمن قرأ * (ساحر) * فهو فاعل ومن قرأ * (سحر) * فهو نعت الفعل
سورة الصف 7 - 9
ثم قال عز وجل * (ومن أظلم) * يعني من أشد في كفره * (ممن افترى على الله) * يعني اختلق على الله * (الكذب) * وهم اليهود
* (وهو يدعى إلى الإسلام) * يعني إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم * (والله لا يهدي القوم الظالمين) * أي لا يرشدهم
ويقال لا يرحمهم ما داموا على كفرهم
ثم قال عز وجل * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) * يعني ليبطلوا دين الله بقولهم * (والله متم نوره) * يعني مظهر توحيده وكتابه * (ولو كره الكافرون) * يعني وإن كره اليهود والنصارى
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية حفص * (والله متم نوره) * على معنى الإضافة والباقون * (متم) * بالتنوين * (نوره) * بالنصب
لأنه مفعول به
ثم قال عز وجل * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى) * يعني بالتوحيد * (ودين الحق) * يعني بشهادة أن لا إله إلا الله
* (ليظهره على الدين كله) * يعني على الأديان كلها
قال
421

مقاتل وقد فعل ويقال إنه يكون في آخر الزمان لا يبقى أحد إلا مسلم أو ذو ذمة للمسلمين وقد فعل ويقال إنه يكون في آخر الزمان
* (ولو كره المشركون) * يعني وإن كرهوا ذلك
سورة الصف 10 - 14
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) * أي من عذاب دائم
قرأ ابن عامر * (تنجيكم) * بالتشديد والباقون بالتخفيف وهما لغتان
أنجاه ونجاه بمعنى واحد
ثم بين لهم تلك التجارة فقال * (تؤمنون بالله ورسوله) * يعني تصدقون بتوحيد الله وتصدقون برسوله وبما جاء به من عنده
* (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) * فقدم ذكر المال لأن الإنسان ربما يضن بماله ما لا يضن بنفسه ولأنه إذا كان له مال فإنه يؤخذ به النفس ليغزو
* (ذلكم خير لكم) * يعني التصديق والجهاد خير لكم من تركهما
* (إن كنتم تعلمون) * أي تعلمون ثواب الله تعالى ويقال * (يعلمون) * أي يصدقون
ثم بين ثواب ذلك العمل
فقال * (يغفر لكم ذنوبكم) * يعني إن فعلتم ذلك العمل يغفر لكم ذنوبكم
* (ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة) * يعني يدخلكم منازل الجنة * (في جنات عدن ذلك الفوز العظيم) * يعني النجاة الوافرة
ثم قال عز وجل * (وأخرى تحبونها نصر من الله) * أي ولكم سوى الجنة أيضا عدة أخرى في الدنيا تحبونها ويقال معناه ونجاة أخرى تحبونها * (نصر من الله) * يعني هي النصرة من الله تعالى على عدوكم * (وفتح قريب) * يعني ظفرا سريعا عاجلا في الدنيا والجنة في الآخرة
ثم قال * (وبشر المؤمنين) * يعني بشرهم بالجنة
ثم قال عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله) * قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " أنصارا لله " بالتنوين والباقون * (أنصار الله) * بالإضافة ومعناهما واحد يعني كونوا أعوان الله بالسيف على أعدائه ومعناه انصروا الله وانصروا دين الله وانصروا محمدا صلى الله عليه وسلم كما نصر الحواريون عيسى ابن مريم عليه السلام
وهو قوله تعالى " كما قال عيسى ابن مريم للحواريين
422

من أنصاري إلى الله) يعني من أعواني إلى الله ويقال إنما سموا الحواريون لبياض ثيابهم ويقال كانوا قصارين ويقال خلصاؤه وصفوته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الزبير ابن عمتي حواري من أمتي)
وتأويل الحواريين في اللغة الذين أخلصوا وتبرؤوا من كل عيب وكذلك الدقيق الحواري لأنه ينتقى من لباب البر
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إنما سموا الحواريين لبياض ثيابهم وكانوا صيادين
وروى عبد الرزاق عن معمر قال تلا قتادة * (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله) * قال وقد كان ذلك بحمد الله جاءه السبعون فبايعوه عند العقبة فنصروه وآووه حتى أظهر الله دينه
* (قال الحواريون نحن أنصار الله) * يعني نحن أعوانك مع الله * (فآمنت طائفة من بني إسرائيل) * يعني بعيسى عليه السلام ويقال فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وسلم * (وكفرت طائفة) * يعني جماعة منهم
* (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم) * يعني قوينا الذين آمنوا على عدوهم من الكفار * (فأصبحوا ظاهرين) * فصاروا غالبين بالنصرة والحجة والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين
423

سورة الجمعة مدنية وهي إحدى عشرة آية
سورة الجمعة 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى * (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) * وقد ذكرناه
* (الملك القدوس) * يعني الملك الذي يملك كل شيء ولا يزول ملكه * (القدوس) * يعني الطاهر عن الشريك والولد
قرئ في الشاذ * (الملك القدوس) * بالضم ومعناه هو الملك القدوس وقرأه العامة بالكسر فيكون نعتا لله تعالى يعني يسبح لله الملك القدوس
ثم قال * (العزيز الحكيم) * يعني * (العزيز) * في ملكه * (الحكيم) * في أمره
ثم قال * (هو الذي بعث في الأميين) * يعني في العرب
والأميون الذين لا يكتبون وهم ما خلقت عليه الأمة قبل تعلم الكتابة
* (رسولا منهم) * يعني من قومهم العرب
* (يتلو عليهم) * يعني يقرأ عليهم * (آياته) * يعني القرآن * (ويزكيهم) * يعني يدعوهم إلى التوحيد ويطهرهم به من عبادة الأوثان ويقال * (يزكيهم) * أي يصلحهم ويقال يأمرهم بالزكاة
* (ويعلمهم الكتاب) * يعني القرآن * (والحكمة) * يعني الحلال والحرام
* (وإن كانوا) * يعني وقد كانوا * (من قبل) * أن يبعث إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم * (لفي ضلال مبين) * يعني لفي خطأ بين يعني الشرك
* (وآخرين منهم) * يعني من تابعي من هذه الأمة ممن بقي * (لما يلحقوا بهم) * يعني لم يكونوا بعد فسيكونون
وروى جويبر عن الضحاك في قوله * (آخرين منهم لما يلحقوا بهم) * قال يعني من أسلم من الناس وعمل صالحا إلى يوم القيامة من عربي وعجمي
ثم قال * (وهو العزيز الحكيم) * يعني * (العزيز) * في ملكه * (الحكيم) * في أمره
قوله تعالى * (ذلك فضل الله يؤتيه) * يعني الإسلام فضل الله يؤتيه * (من يشاء) * يعني يعطيه من يشاء ويكرم به من يشاء من كان أهلا لذلك
* (والله ذو الفضل العظيم) * يعني ذو المن العظيم لمن اختصه بالإسلام
424

سورة الجمعة 5 - 8
ثم قال عز وجل * (مثل الذين حملوا التوراة) * يعني صفة الذين علموا التوراة وأمروا بأن يعملوا بما فيها
* (ثم لم يحملوها) * أي لم يعملوا بما أمروا فيها من الأمر والنهي وبيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم
ويقال * (مثل الذين حملوا التوراة) * وأمروا بأن يعلموا تفسيرها ثم لم يحملوها يعني لم يعلموا تفسيرها فمثلهم * (كمثل الحمار يحمل أسفارا) * يعني يحمل كتبا ولا يدري ما فيها كما لا يدري اليهود ما حملوا من التوراة
ثم قال * (بئس مثل القوم الذين) * الذين ضربنا لهم المثل ويقال بئس صفة القوم الذين كذبوا بآيات الله يعني جحدوا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم
* (والله لا يهدي القوم الظالمين) * يعني إلى طريق الجنة اليهود الذين لا يرغبون في الحق
قوله تعالى * (قل يا أيها الذين هادوا) * يعني مالوا عن الإسلام والحق إلى اليهودية
* (إن زعمتم أنكم) * يعني إن ادعيتم وقلتم إنكم * (أولياء لله) * يعني أحباء الله
* (من دون الناس) * يعني من دون المؤمنين * (فتمنوا الموت) * يعني سلوا الموت فقولوا اللهم أمتنا
* (إن كنتم صادقين) * أي في مقالتكم بأنكم أولياء الله من دون المؤمنين
* (ولا يتمنونه أبدا) * يعني لا يسألونه أبدا * (بما قدمت أيديهم) * يعني بما عملت وأسلفت أيديهم
* (والله عليم بالظالمين) * يعني عليما بحالهم بأنهم لا يتمنون الموت
* (قل إن الموت الذي تفرون منه) * يعني تكرهون الموت * (فإنه ملاقيكم) * يعني نازل بكم لا محالة
* (ثم تردون) * يعني ترجعون في الآخرة
* (إلى عالم الغيب والشهادة) * وقد ذكرناه * (فينبئكم بما كنتم تعملون) * يعني يخبركم ويجازيكم بما كنتم تعملون في الدنيا
سورة الجمعة 9 - 11
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة) * يعني إذا أذن للصلاة " من يوم
425

الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) يعني امضوا إلى الصلاة فصلوها
ويقال * (إلى ذكر الله) * يعني الخطبة فاستمعوا إليها
وروى الأعمش عن إبراهيم قال كان ابن مسعود يقرأ " فامضوا إلى ذكر الله " ويقول لو قرأتها فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي
وقال القتبي السعي على وجه الإسراع في المشي كقوله تعالى " وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى " [القصص 20] والسعي العمل كقوله تعالى * (وسعى لها سعيها) * [الإسراء 19] وقال * (إن سعيكم لشتى) * [الليل 4] والسعي المشي كقوله تعالى * (يأتينك سعيا) * [البقرة 260] وكقوله تعالى * (فاسعوا إلى ذكر الله) * [الجمعة 9] وقال الحسن في قوله تعالى * (فاسعوا إلى ذكر الله) * قال ليس السعي بالأقدام ولكن سعي بالنية وسعي بالقلب وسعي بالرغبة
ثم قال عز وجل * (وذروا البيع) * ولم يذكر الشراء لأنه لما ذكر البيع فقد دل على الشراء
ومعناه اتركوا البيع والشراء
وقال جماعة من العلماء لو باع بعد الأذان يوم الجمعة لم يجز البيع
وقال الزهري يحرم البيع يوم الجمعة عند خروج الإمام
وروى جويبر عن الضحاك أنه قال إذا زالت الشمس يوم الجمعة حرم الشراء والبيع ولو كنت قاضيا لرددته
وروى معمر عن الزهري قال الأذان الذي يحرم نية البيع عند خروج الإمام وقت الخطبة وقال الحسن إذا زالت الشمس فلا تشتر ولا تبع
وقال محمد يحرم البيع عند النداء يوم الجمعة عند الصلاة
وروى عكرمة عن ابن عباس قال لا يصح البيع والشراء يوم الجمعة حين ينادى بالصلاة حتى تنقضي
وقال عامة أهل الفتوى من الفقهاء إن البيع جائز في الحكم لأن النهي لأجل الصلاة وليس بمانع لمعنى في البيع
ثم قال * (ذلكم خير لكم) * يعني السعي إلى الصلاة وترك الشراء والبيع
والاستماع إلى الخطبة خير لكم من الشراء والبيع
* (إن كنتم تعلمون) * يعني فاعلموا ذلك
وكل ما في القرآن * (إن كنتم تعلمون) * إن كنتم مؤمنين فهو بمعنى التقرير والأمر
ثم قال عز وجل * (فإذا قضيت الصلاة) * يعني فرغتم من الصلاة * (فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) * يعني اطلبوا الرزق من الله تعالى بالتجارة والكسب اللفظ لفظ الأمر والمراد به الرخصة كقوله * (وإذا حللتم فاصطادوا) * [المائدة 2] وهي رخصة بعد النهي
* (واذكروا الله كثيرا) * يعني واذكروا الله باللسان * (لعلكم تفلحون) * يعني لكي تنجوا
ثم قال عز وجل * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا) * قال مجاهد اللهو هو الضرب بالطبل
426

فنزلت الآية حين قدم دحية بن خليفة الكلبي
وروى سالم عن جابر قال أقبلت عير ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصلي الجمعة فانفض الناس إليهما فما بقي غير اثني عشر رجلا فنزلت الآية * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا) *
* (انفضوا إليها وتركوك قائما) *
وروى معمر عن الحسن أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر فقدمت عير والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب يوم الجمعة فسمعوا بها فخرجوا إليها والنبي صلى الله عليه وسلم قائم
قال الله تعالى * (وتركوك قائما) * فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ولو اتبع آخرهم أولهم لالتهب الوادي عليهم نارا)
قال معمر عن قتادة قال لم يبق يومئذ معه إلا اثنا عشر رجلا وامرأة ويقال إن أهل المدينة كانوا إذا قدمت عير ضربوا بالطبل فلما قدم دحية الكلبي بتجارته وتميم الداري ضربوا بالطبل وخرج الناس فنزل * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) * يعني خرجوا إليها يعني إلى التجارة ويقال * (إليها) * يعني جملة ما رأوا من اللهو والتجارة
* (وتركوك قائما) * على المنبر
* (قل ما عند الله خير من اللهو) * يعني خير من اللهو * (ومن التجارة) * يعني ثواب الله تعالى خير من اللهو ومن التجارة * (والله خير الرازقين) * يعني أقوى الرازقين وخير المعطين والله أعلم بالصواب و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم
427

سورة المنافقون مدنية وهي إحدى عشرة آية
سورة المنافقين 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى * (إذا جاءك المنافقون) * * (إذا) * حرف من حروف التوقيت وجوابه قوله * (فاحذرهم) * وهذا إعلام من الله تعالى بنفاقهم وكذبهم وغرورهم
* (قالوا نشهد إنك لرسول الله) * يعني يقولون ذلك بلسانهم دون قلوبهم
* (والله يعلم إنك لرسوله) * من غير قولهم
* (والله يشهد) * يعني يبين * (إن المنافقين لكاذبون) * يعني إنهم مصدقون في قولهم ولكنهم كاذبون بأنهم أرادوا به الإيمان
قوله عز وجل * (اتخذوا أيمانهم جنة) * يعني حلفهم جنة من القتل وقرأ بعضهم * (اتخذوا أيمانهم) * بكسر الألف بمعنى اتخذوا إظهار الإسلام وتصديقهم سترا لأنفسهم وقراءة العامة * (اتخذوا أيمانهم) * بالنصب يعني استتروا بالحلف
وكلما ظهر نفاقهم حلفوا كاذبين
ثم قال * (فصدوا عن سبيل الله) * يعني صرفوا الناس عن دين الله وهو الإسلام
* (إنهم ساء ما كانوا يعملون) * يعني بئس ما كانوا يعملون حيث أظهروا الإيمان وأسروا الكفر وصدوا الناس عن الإيمان
* (ذلك) * يعني ذلك الحلف وصرف الناس عن الإيمان * (بأنهم آمنوا) * يعني أقروا باللسان علانية * (ثم كفروا) * يعني كفروا في السر
* (فطبع على قلوبهم) * بالكفر * (فهم لا يفقهون) * الهدى ولا يرغبون فيه
قوله تعالى * (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) * يعني المنافقين وهم عبد الله بن أبي بن سلول وكان رجلا جسيما فصيحا يعني يعجبك منظرهم وفصاحتهم
* (وإن يقولوا تسمع لقولهم) * يعني لتصدقهم فتحسب أنهم محقون
* (كأنهم خشب مسندة) * قال مقاتل فيها تقديم يقول كأن أجسامهم خشب مسندة بعضها على بعض قائما وإنها لا تسمع ولا تعقل ويقال * (خشب مسندة) * يعني خشب أسند إلى الحائط ليس فيها أرواح فكذلك المنافقون
428

لا يسمعون الإيمان ولا يعقلون
قرأ الكسائي وأبو عمرو وابن كثير في إحدى الروايتين * (كأنهم خشب) * بجزم الشين والباقون بالضم ومعناهما واحد وهو جماعة الخشب
فوصهفم بتمام الصور ثم أعلم أنهم في ترك التفهم بمنزلة الخشب
ثم قال * (يحسبون كل صيحة عليهم) * فوصفهم بالجبن أي كلما صاح صائح ظنوا أن ذلك لأمر عليهم ويقال إن كل من خاطب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يخافون ويظنون أنه مخاطب يخاطبه في أمرهم وكشف نفاقهم
ثم أمر أن يحذرهم وبين أنهم أعداؤه فقال * (هم العدو) * يعني هم أعداؤك * (فاحذرهم) * ولا تأمن من شرهم
ثم قال * (قاتلهم الله) * يعني لعنهم * (أنى يؤفكون) * يعني من أين يكذبون ويقال من أين يصرفون عن الحق
سورة المنافقون 5 - 6
ثم قال عز وجل " وإذ قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم " يعني عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار وأعرضوا عنه
وذلك أن عبد الله بن أبي بن سلول قيل له يا أبا الحباب قد أنزل فيك أي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت وامرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت وما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وسلم
قرأ نافع * (لووا رؤوسهم) * بالتخفيف والباقون بالتشديد
ومن قرأ بالتخفيف فهو من لوى يلوي ومن قرأ بالتشديد فهو للتكثير
ثم قال * (ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون) * يعني يعرضون عن الاستغفار مستكبرين عن الإيمان في السر
ثم أخبر أن الاستغفار لا ينفعهم ما داموا على نفاقهم فقال * (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) * لأنهم منافقون
* (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) * يعني لا يرشدهم إلى دينه لأنهم لا يرغبون فيه
سورة المنافقون 7 - 8
ثم قال * (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) * يعني يتفرقوا
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله يقول كنا
429

في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين
فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال (ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها فتنة)
فقال عبد الله بن أبي والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب رأس هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)
وروى معمر عن قتادة أن عبد الله بن أبي قال لأصحابه لا تنفقوا على من عند رسول الله فإنكم لو لم تنفقوا عليهم قد انفضوا
قال واقتتل رجلان أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حليف الأنصار فظهر عليهم الغفاري فقال رجل منهم عظيم النفاق يعني عبد الله بن أبي عليكم صاحبكم عليكم حليفكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد صلى الله عليه وسلم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
وروى معمر عن الحسن أن غلاما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله إني سمعت عبد الله بن أبي يقول كذا
فقال (فلعلك غضبت عليه)
فقال أما والله يا نبي الله لقد سمعته يقول فقال (فلعله أخطأ سمعك)
فقال لا والله يا نبي الله لقد سمعته يقول
فأنزل الله تعالى تصديقا للغلام * (لئن رجعنا إلى المدينة) *
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن الغلام وقال (وعت أذنك يا غلام) فنزل قوله تعالى * (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) *
قال الله تعالى * (ولله خزائن السماوات والأرض) * يعني مفاتيح السماوات وهي المطر والرزق ومفاتيح الأرض وهي النبات
* (ولكن المنافقين لا يفقهون) * أمر الله تعالى
* (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) * يعني القوي * (منها) * أي من المدينة الذليل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قال الله تعالى * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * حيث قواهم الله تعالى ونصرهم أي القدرة والمنعة لله
* (ولكن المنافقين لا يعلمون) * يعني لا يصدقون في السر
ويقال * (ولله العزة) * يعني القدرة ويقال نفاذ الأمر * (ولرسوله) * وهو عزة النبوة والرسالة * (وللمؤمنين) * وهو عز الإيمان والإسلام أعزهم الله في الدنيا والآخرة
430

سورة المنافقون 9 - 11
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم) * يعني لا تشغلكم أموالكم * (ولا أولادكم عن ذكر الله) * يعني عن طاعة الله تعالى
* (ومن يفعل ذلك) * يعني من لم يعمل بطاعته ولم يؤمن بوحدانيته * (فأولئك هم الخاسرون) * يعني المغبونين بذهاب الدنيا وحرمان الآخرة
ثم قال عز وجل " وأنفقوا مما رزقناكم " يعني مما رزقكم الله من الأموال
* (من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب) * يعني يقول يا سيدي ردني إلى الدنيا * (فأصدق) * يعني فأتصدق ويقال أصدق بالله
(وأكن من الصالحين) يعني أفعل كما فعل المؤمنون
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال من كان له مال يجب فيه الزكاة فلم يزكه أو مال يبلغه بيت الله تعالى فلم يحج يسأل عند الموت الرجعة قال فقال رجل اتق الله يا ابن عباس إنما سألت الكفار الرجعة
قال ابن عباس إني أقرأ عليك بهذا القرآن ثم قرأ * (يا أيها الذين آمنوا) * إلى قوله * (وأكن من الصالحين) * فقال رجل وما يوجب الزكاة يا ابن عباس قال مائتا درهم فصاعدا
قال فما يوجب الحج قال الزاد والراحلة
قرأ أبو عمرو " فأصدق وأكون " بالواو وفتح النون والباقون * (وأكن) * بحذف الواو بالجزم
فمن قرأ " وأكون " لأن قوله * (فأصدق) * جواب للأول بالفاء فأكون معطوفا عليه
ومن قرأ * (وأكن) * فإنه عطفه على موضع * (فأصدق) * لأنه على معنى إن أخرتني أصدق وأكن ولم يعطفه على اللفظ
قال أبو عبيدة قرأت في مصحف عثمان هكذا بغير واو
ثم قال * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) * يعني إذ جاء وقتها
* (والله خبير بما تعملون) * من الخير والشر فيجازيكم
قرأ عاصم في رواية أبي بكر * (يعلمون) * بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون بالتاء للمخاطبة والله أعلم
431

سورة التغابن مدنية وهي ثماني عشرة آية
سورة التغابن 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى * (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك) * يعني له الملك الدائم الذي لا يزول
* (وله الحمد) * يعني يحمده المؤمنون في الدنيا وفي الجنة كما قال * (له الحمد في الأولى والآخرة) * [القصص 70] ويقال * (له الحمد) * يعني هو المحمود في شأنه وهو أهل أن يحمد لأن الخلق كلهم في نعمته
فالواجب عليهم أن يحمدوه
ثم قال " وهو على كل شيء قدير " يعني قادر على ما يشاء
* (هو الذي خلقكم) * يعني خلقكم من نفس واحدة * (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) * يعني منكم من يصير كافرا ومنكم من يصير أهلا للإيمان ويؤمن بتوفيق الله تعالى
ويقال منكم من خلقه كافرا ومنكم من خلقه مؤمنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى)
وإلى هذا ذهب أهل الجبر
ويقال * (فمنكم كافر) * يعني كافر بأن الله تعالى خلقه وهو كقوله " قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه " [عبس 17 - 18] وكقوله * (أكفرت بالذي خلقك من تراب) * [الكهف 37] ويقال * (فمنكم كافر) * يعني كافر في السر وهم المنافقون * (ومنكم مؤمن) * وهم المخلصون
ويقال هذا الخطاب لجميع الخلق ومعناه هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالله وهم المشركون ومنكم مؤمن وهم المؤمنون يعني استويتم في خلق الله إياكم واختلفتم في أحوالكم فمنكم من آمن بالله ومنكم من كفر
ثم قال * (والله بما تعملون بصير) * يعني عليم بما تعملون من الخير والشر
ثم قال عز وجل * (خلق السماوات والأرض بالحق) * يعني للحق والحجة والثواب وللعقاب
* (وصوركم) * يعني خلقكم * (فأحسن صوركم) * يعني خلقكم على أجمل
432

صورة
وهذا كقوله * (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) * [التين 4] وكقوله " ولقد كرمنا بني آدم " [الإسراء 70] ثم قال * (وإليه المصير) * يعني إليه المرجع في الآخرة فهذا تهديد يعني كونوا على الحذر لأن مرجعكم إليه
ثم قال * (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون) * يعني ما تخفون وما تضمرون في قلوبكم وما تظهرون وتعلنون بألسنتكم
* (والله عليم بذات الصدور) * يعني عليكم بسرائركم
سورة التغابن 5 - 6
قوله عز وجل * (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل) *
اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التوبيخ والتقريع يعني قد أتاكم خبر الذين كفروا من قبلكم
* (فذاقوا وبال أمرهم) * يعني أصابتهم عقوبة ذنبهم في الدنيا
ثم أخبر أن ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم فقال * (ولهم عذاب أليم) * في الآخرة
ثم بين السبب الذي أصابهم به العذاب فقال * (ذلك) * يعني وذلك العذاب
* (بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات) * يعني بالأمر والنهي ويقال * (بالبينات) * يعني بالدلائل والحجج
* (فقالوا أبشر يهدوننا) * يعني آدميا مثلنا يرشدنا ويأتينا بدين غير دين آبائنا * (فكفروا) * يعني جحدوا بالرسل والكتاب * (وتولوا) * يعني أعرضوا عن الإيمان
* (واستغنى الله) * الله تعالى عن إيمانهم
* (والله غني) * أي عن إيمان العباد * (حميد) * في فعاله يقبل اليسير ويعطي الجزيل
سورة التغابن 7 - 9
ثم قال عز وجل * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) * يعني مشركي العرب زعموا أن لن يبعثوا بعد الموت
* (قل) * يا محمد صلى الله عليه وسلم * (بلى وربي لتبعثن) *
فهذا قسم أقسم أنهم يبعثون بعد الموت
* (ثم لتنبؤن بما عملتم) * يعني تخبرون بما عملتم في دار الدنيا ويجزون على ذلك
ثم قال * (وذلك على الله يسير) * يعني البعث والجزاء على الله هين
قوله تعالى * (فآمنوا بالله ورسوله) * يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى وصدقوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم
" والنور الذي أنزلناه " يعني صدقوا بالقرآن الذي نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم
433

فسمى القرآن نورا لأنه يهتدى به في ظلمة الجهالة والضلالة ويعرف به الحلال والحرام
ثم قال * (والله بما تعملون خبير) * يعني عالم بأعمالكم فيجازيكم بها
ثم قال * (يوم يجمعكم) * يعني لتبعثن في يوم يجمعكم * (ليوم الجمع) * يعني يوم تجمع فيه أهل السماء وأهل الأرض ويجمع فيه الأولون والآخرون
قرأ يعقوب الحضرمي " يوم نجمعكم " بالنون وقراءة العامة بالياء ومعناهما واحد
ثم قال * (ذلك يوم التغابن) * يعني يغبن فيه الكافر نفسه وأهله ومنازله في الجنة يعني يكون له النار مكان الجنة وذلك هو الغبن والخسران
ثم قال * (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا) * يعني يقر بوحدانية الله تعالى ويؤدي الفرائض
* (يكفر عنه سيئاته) * يعني يغفر ذنوبه * (ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) * يعني النجاة الوافرة
قرأ نافع وابن عامر * (نكفر) * و * (ندخله) * كلاهما بالنون والباقون كلاهما بالياء ومعناهما واحد
سورة التغابن 10 - 13
ثم وصف حال الكافرين فقال عز وجل * (والذين كفروا بآياتنا) * يعني بالكتاب والرسول
* (أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير) * يعني بئس المرجع الذي صار إليه المغبونون
ثم قال عز وجل * (ما أصاب من مصيبة) * يعني ما أصاب بني آدم من شدة ومرض وموت الأهلين * (إلا بإذن الله) * يعني إلا بإرادة الله تعالى وبعلمه
* (ومن يؤمن بالله) * يعني يصدق بالله على المصيبة ويعلم أنها من الله تعالى * (يهد قلبه) * يعني إذا ابتلي صبر وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظلم غفر
وروي عن علمقة بن قيس أن رجلا قرأ عنده هذه الآية فقال أتدرون ما تفسيرها وهو أن الرجل المسلم يصاب بالمصيبة في ماله ونفسه يعلم أنها من عند الله تعالى فيسلم ويرضى
ويقال * (من يؤمن بالله يهد قلبه) * للاسترجاع يعني يوفقه الله تعالى لذلك
" والله بكل شيء عليم " أي عالم بثواب من صبر على المصيبة
ثم قال عز وجل * (وأطيعوا الله) * في الفرائض * (وأطيعوا الرسول) * في السنن
ويقال * (أطيعوا الله) * في الرضا بما يقضي عليكم من المصيبة * (وأطيعوا الرسول) * فيما يأمركم به من
434

الصبر وترك الجزع
* (فإن توليتم) * يعني أبيتم وأعرضتم عن طاعة الله وطاعة رسوله
* (فإنما على رسولنا البلاغ المبين) * أي ليس عليه أكثر من التبليغ
ثم وحد نفسه فقال عز وجل * (الله لا إله إلا هو) * يعني لا ضار ولا نافع ولا كاشف إلا هو
* (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على الله تعالى ويفوضوا أمورهم إليه
سورة التغابن 14 - 15
قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم) * حين يمنعونكم عن الهجرة * (فاحذروهم) * أن تطيعوهم في ترك الهجرة
روى سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن قوما أسلموا بمكة فأرادوا أن يخرجوا إلى المدينة فمنعهم أزواجهم وأولادهم
فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين فأرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فنزل قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذرهم " * (وأن تعفوا) * يعني إن تتركوا ولا تعاقبوهم * (وتصفحوا) * يعني وتتجاوزوا * (وتغفروا فإن الله غفور) * لذنوب المؤمنين * (رحيم) * بهم
قوله عز وجل * (أنما أموالكم وأولادكم فتنة) * يعني الذين بمكة بلية لا يقدر الرجل على الهجرة
روي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فأقبل الحسن والحسين يمشيان ويعثران فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل إليهما وأخذهما واحدا من هذا الجانب وواحدا من هذا الجانب
ثم صعد المنبر فقال (صدق الله * (أنما أموالكم وأولادكم فتنة) *
لما رأيت هذين الغلامين لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما)
ثم أتم الخطبة
ثم قال * (والله عنده أجر عظيم) * أي ثواب عظيم لمن آمن ولمن لم يعص الله تعالى لأجل الأموال والأولاد وأحسن إليهم
سورة التغابن 16 - 18
435

ثم قال عز وجل * (فاتقوا الله ما استطعتم) * يعني على قدر ما أطقتم
* (واسمعوا) * يعني اسمعوا ما تؤمرون به من المواعظ
* (وأطيعوا) * يعني وأطيعوا الله والرسول
* (وأنفقوا خيرا) * يعني تصدقوا خيرا يعني وأنفقوا من أموالكم في حق الله تعالى * (لأنفسكم) * يعني ثوابه لأنفسكم ويكون زادا لكم إلى الجنة
ويقال معناه تصدقوا خير لأنفسكم من إمساك الصدقة
* (ومن يوق شح نفسه) * يعني يدفع البخل عن نفسه * (فأولئك هم المفلحون) * يعني الناجين السعداء
وقوله تعالى * (إن تقرضوا الله قرضا حسنا) * يعني صادقا من قلوبكم
* (يضاعفه لكم) * يعني القرض يضاعف حسناتكم
ويقال * (يضاعفه لكم) * يعني الله تعالى يضاعف القرض لكم فيعطي للواحد عشرة
إلى سبعمائة إلى ما لا يحصى
* (ويغفر لكم) * يعني يغفر لكم ذنوبكم
* (والله شكور) * يعني يقبل اليسير ويعطي الجزيل
* (حليم) * لا يعجل بالعقوبة لمن يبخل
ثم قال * (عالم الغيب والشهادة) * وقد ذكرناه
* (العزيز الحكيم) * يعني * (العزيز) * في ملكه * (الحكيم) * في أمره سبحانه وتعالى و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
436

سورة الطلاق كلها مدنية وهي اثنتا عشرة آية
سورة الطلاق 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به هو وأمته بدليل قوله تعالى * (إذا طلقتم النساء) * فذكر بلفظ الجماعة فكأنه قال يا أيها النبي ومن آمن بك * (إذا طلقتم النساء) * يعني أنت وأمتك
ويقال معناه يا أيها النبي قل لأمتك * (إذا طلقتم النساء) * يعني إذا أردتم أن تطلقوا النساء
وقال الكلبي نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم حين غضب على حفصة بنت عمر رضي الله عنها فقال * (فطلقوهن لعدتهن) *
طاهرات من غير جماع
وروى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال * (فطلقوهن لعدتهن) * طاهرات من غير جماع
روى سفيان عن عمرو بن دينار أن ابن عباس قرأ " فطلقوهن لقبل عدتهن " وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لو أن الناس أصابوا حد الطلاق لما ندم رجل على امرأته يطلقها وهي طاهرة لم يجامعها
فإن بدا أن يمسكها أمسكها وإن بدا له أن يخلي سبيلها خلى سبيلها
وروى عكرمة عن ابن عباس قال الطلاق على أربعة أوجه وجهان حلال ووجهان حرام
فأما الحلال بأن يطلقها من غير جماع أو يطلقها حاملا
وأما الحرام بأن يطلقها حائضا أو يطلقها حين جامعها
وقال الحسن * (فطلقوهن لعدتهن) * قال إذا طهرن من الحيض من غير جماع
وقال الزهري وقتادة يطلقها لقبيل عدتها
وروى ابن طاوس عن أبيه
437

قال حد الطلاق أن يطلقها قبل عدتها
قلت وما قبل عدتها قال طاهرة من غير جماع
ثم قال * (وأحصوا العدة) * يعني واحفظوا العدة
فأمر الرجل بحفظ العدة لأن في النساء غفلة فربما لا تحفظ عدتها
ثم قال * (واتقوا الله ربكم) * يعني واخشوا الله ربكم فأطيعوه فيما أمركم ولا تطلقوا النساء في غير طهورهن
فلو طلقها في الحيض فقد أساء
والطلاق واقع عليها في قول عامة الفقهاء
ثم قال * (لا تخرجوهن من بيوتهن) * يعني اتقوا الله في إخراجهن من بيوتهن لأن سكناها على الزوج ما لم تنقض عدتها
ثم قال * (ولا يخرجن) * يعني ليس لهن أن يخرجن من البيوت
ثم قال * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * يعني إلا أن تزني فتخرج لأجل إقامة الحد عليها وهو قول ابن عباس
وقال الشعبي وقتادة خروجها في العدة فاحشة
وإخراج الزوج لها في العدة معصية وهكذا روي عن ابن عمر وإبراهيم النخعي
وقال ابن عباس الفاحشة أن تبذو على زوجها فتخرج
ثم قال * (وتلك حدود الله) * يعني الطلاق بالسنة وإحصاء العدة من أحكام الله تعالى
* (ومن يتعد حدود الله) * يعني يترك حكم الله فيما أمر من أمر الطلاق
" فقد ظلم نفسه يعني أضر بنفسه
ثم قال " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " يعني لا تطلقها ثلاثا فلعله يحدث من الحب أو الولد خير فيريد أن يراجعها فلا يمكنه مراجعتها
وإن طلقها واحدة أمكنه أن يراجعها
ثم قال " فإذا بلغن أجلهن " يعني إذا بلغن وقت انقضاء عدتهن وهو مضي ثلاث حيض ولم تغتسل من الحيضة الثالثة " فأمسكوهن بمعروف " يعني راجعوهن بإحسان يعني أن تمسكوهن بغير إضرار
" أو فارقوهن بمعروف " يعني اتركوهن بإحسان
ويقال " فإذا بلغن أجلهن " يعني انقضت عدتهن " فأمسكوهن بمعروف " يعني بنكاح جديد إذا طلقها واحدة أو اثنتين
ثم قال عز وجل " وأشهدوا ذوي عدل منكم " يعني أشهدوا على الطلاق وعلى المراجعة فهو على الاستحباب
ويقال على النكاح المستقبل فإن أراد به الإشهاد على الطلاق والمراجعة فهو على الاستحباب
ولو ترك الإشهاد جاز الطلاق والمراجعة
فإن أراد به الإشهاد على النكاح فهو واجب لأنه لا نكاح إلا بشهود
ثم قال " وأقيموا الشهادة لله " يعني يا معشر الشهود أدوا الشهادة عند الحاكم بالعدل على وجهها لحق الله تعالى ولسبب أمر الله تعالى
ثم قال " ذلكم يوعظ به " يعني هذا الذي يؤمر به
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " أي لا يكتم الشهادة
ثم قال " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " يعني يخشى الله ويطلق امرأته للسنة " يجعل
438

له مخرجا) يعني المراجعة
* (ويرزقه من حيث لا يحتسب) * يعني في شأن المراجعة
ويقال * (يجعل له مخرجا) * يعني ينجو من ظلمات يوم القيامة ويرزقه الجنة
ووجه آخر أن من اتقى الله عند الشدة وصبر يجعل له مخرجا من الشدة * (ويرزقه من حيث لا يحتسب) * يعني يوسع عليه من الرزق
وقال مسروق * (يجعل له مخرجا) * قال مخرجه أن يعلم أن الله هو يرزقه وهو يمنحه ويعطيه لأنه هو الرازق وهو المعطي وهو المانع
كما قال الله تعالى " هل من خلق غير الله يرزقكم " [فاطر 3] الآية
ثم قال عز وجل * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * يعني من يثق بالله في الرزق * (فهو حسبه) * يعني الله كافيه
وروى سالم بن أبي الجعد أن رجلا من أشجع أسره العدو فجاء أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه فقال (اصبر)
فأصاب ابنه غنيمة فجاء بها جبريل عليه السلام بهذه الآية * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) *
وعن عبد الله بن عباس قال جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت الأم فما تأمرني فقال (آمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)
فرجع إلى منزله فقالت له بماذا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بكذا
فقالت نعم ما أمرك به
فجعلا يقولان ذلك فخرج ابنه بغنم كثير فنزل قوله تعالى * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * يعني من يثق الله في الشدة يجعل له مخرجا من الشدة
ويقال المخرج على وجهين أحدهما أن يخرجه من تلك الشدة والثاني أن يكرمه فيها بالرضا والصبر
ثم قال * (إن الله بالغ أمره) * يعني قاضيا أمره
قرأ عاصم في رواية حفص * (بالغ أمره) * بغير تنوين بكسر الراء على الإضافة والباقون * (بالغ) * بالتنوين * (أمره) * بالنصب نصبه بالفعل يعني يمضي أمره في الشدة والرخاء أجلا ووقتا
ثم قال " قد جعل الله لكل شيء " يعني جعل لكل شيء من الشدة والرخاء * (قدرا) * أجلا ووقتا لا يتقدم ولا يتأخر
سورة الطلاق 4 - 5
قوله تعالى * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) *
قال ابن عباس لما نزل قوله
439

* (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * [البقرة 228] قال معاذ بن جبل يا رسول الله لو كانت المرأة آيسة لا تحيض كيف تعتد فنزل * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) * والآيسة أن تبلع ستين سنة ويقال خمسين سنة
* (إن ارتبتم) * إن شككتم في عدتهن * (فعدتهن ثلاثة أشهر) * فقام رجل آخر فقال لو كانت صغيرة كيف عدتها وقام آخر فقال لو كانت حاملا كيف عدتها فنزل * (واللائي لم يحضن) * يعني المرأة التي لم تحض فعدتها ثلاثة أشهر مثل عدة الآيسة
* (وأولات الأحمال أجلهن) * يعني عدتهن * (أن يضعن حملهن) * وقال عمر رضي الله عنه لو وضعت ما في بطنها وزوجها على سريره قبل أن يدلى في حفرته لانقضت عدتها وحلت للأزواج
وروى الزهري عن عبيد الله عن أبيه أن سبيعة بنت الحارث قد وضعت بعد وفاة زوجها بعشرين يوما أو شهر فمر بها أبو السنابل بن بعكك فقال لها أي بعلك أتريدين أن تتزوجي فقالت نعم
قال لا حتى يأتي عليك أربعة أشهر وعشر
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها (قد حللت للزواج) يعني انقضت عدتك
ثم قال * (ومن يتق الله) * يعني يصبر على طاعة الله تعالى * (يجعل له من أمره يسرا) * يعني ييسر عليه أمره ويوفقه ليعمل على طاعة الله تعالى ويعصمه عن معاصيه
ثم قال عز وجل * (ذلك أمر الله) * يعني هذا الذي ذكره حكم الله وفريضته
* (أنزله إليكم) * يعني أنزله في القرآن على نبيكم
* (ومن يتق الله) * يعني ويعمل بأحكامه وفريضته * (يكفر عنه سيئاته) * في الدنيا * (ويعظم له أجرا) * يعني ثوابا في الجنة
قرأ نافع وابن عامر " نكفر عنه " بالنون والباقون بالياء ومعناهما يرجع إلى شيء واحد
سورة الطلاق 6 - 7
ثم رجع إلى ذكر المطلقات فقال عز وجل * (أسكنوهن من حيث سكنتم) * يعني أنزلوهن من حيث تسكنون فيه
* (من وجدكم) * يعني من سعتكم
والوجد القدرة والغنى ويقال افتقر فلان بعد وجده
ثم قال * (ولا تضاروهن) * يعني لا تظلموهن
* (لتضيقوا عليهن) * في النفقة والسكنى
* (وإن كن أولات حمل) * يعني إن كن المطلقات ذوات حمل * (فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) * وقد أجمعوا أن المطلقة إذا كانت حاملا فلها النفقة وأما إذا لم تكن حاملا فإن كان
440

الطلاق رجعيا فلها النفقة والسكنى بالإجماع
وإن كان الطلاق بائنا فلها السكنى والنفقة في قول أهل العراق
وقال بعضهم لها السكنى ولا نفقة
ثم قال * (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) * يعني المطلقات إذا أرضعن أولادكم فأعطوهن أجورهن لأن النفقة على الأب وأجر الرضاع من النفقة فهو على الأب إذا كانت المرأة مطلقة
ثم قال * (وأتمروا بينكم بمعروف) * يعني هموا به واعزموا عليه ويقال هو أن لا تضار المرأة بالزوج ولا الزوج بالمرأة في الرضاع
ويقال * (وأتمروا بينكم) * يعني اتفقوا فيما بينكم يعني الزوج والمرأة يتفقان على أمر واحد
* (بمعروف) * يعني بإحسان
* (وإن تعاسرتم) * يعني تضايقتم وهو أن يأبى أن يعطى المرأة لأجل رضاعها وأبت المرأة أن ترضعه
ويقال يعني أراد الرجل أقل مما طلبت المرأة من النفقة ولم يتفقا على شيء واحد
قوله * (فسترضع له أخرى) * يعني يدفع الزوج الصبي إلى امرأة أخرى إن أرضعت بأقل مما ترضع الأم به
ثم قال عز وجل * (لينفق ذو سعة من سعته) * يعني ينفق على المرأة ذو الغنى على قدر غناه وعلى قدر عيشه وسعته ويسره
* (ومن قدر عليه رزقه) * يعني ضيق عليه رزقه * (فلينفق مما آتاه الله) * يعني على قدر ما أعطاه الله من المال
* (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * يعني لا يأمر الله نفسا في النفقة إلا ما أعطاها من المال * (سيجعل الله بعد عسر يسرا) * يعني المعسر ينتظر اليسر
سورة الطلاق 8 - 11
قوله تعالى * (وكأين من قرية) * يعني فكم من أهل قرية قرأ ابن كثير * (وكأين) * بمد الألف والباقون * (وكأين) * بغير مد مع تشديد الياء وهما لغتان ومعناهما واحد يعني وكم من قرية
* (عتت عن أمر ربها) * يعني أبت وعصت عن أمر ربها يعني عن طاعة ربها
قال مقاتل * (عتت عن أمر ربها) * يعني خالفت وعصت وقال الكلبي العتو المعصية
وقال أهل اللغة العتو مجاوزة الحد في المعصية
ثم قال * (ورسله) * يعني عن طاعة رسل الله تعالى
* (فحاسبناها حسابا شديدا) * يعني
441

جازاها الله بعملها
ويقال * (حاسبناها) * في الآخرة * (حسابا شديدا) *
" وعذبناها عذابا شديدا نكرا " يعني عذابا منكرا على معنى التقديم يعني عذبناها في الدنيا عذابا شديدا وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا
ويقال و * (حاسبناها) * يعني في الدنيا يعني جازيناها بخذلانها وحرمانها
ثم قال عز وجل * (فذاقت وبال أمرها) * يعني جزاء ذنبها
* (وكان عاقبة أمرها خسرا) * يعني أهل القرية يعني أن آخر أمرهم صار إلى الخسران والندامة
قوله عز وجل * (أعد الله لهم عذابا شديدا) * يعني ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم ولكن مع ما أصابهم في الدنيا * (أعد الله لهم عذابا شديدا) * في الآخرة لأنهم لم يرجعوا عن كفرهم
ثم أمر المؤمنين بأن يعتبروا بهم ويثبتوا على إيمانهم فقال * (فاتقوا الله يا أولي الألباب) * يعني أخشوا الله وأطيعوه يا ذوي العقول من الناس
* (الذين آمنوا) * بالله يعني الذين صدقوا بالله ورسوله
* (قد أنزل الله إليكم ذكرا) * يعني كتابا
ويقال شرفا وعزا وهو القرآن
ثم قال * (رسولا) * يعني أرسل إليكم رسولا " يتلوا عليكم " يعني يقرأ عليكم ويعرض عليكم
ويقال " قد أنزل إليكم ذكرا رسولا " يعني كتابا مع رسوله ليتلو عليكم يعني يقرأ عليكم * (آيات الله مبينات) * يعني واضحات
ويقال بين فيه الحلال والحرام
* (ليخرج الذين آمنوا) * يعني الذين صدقوا بتوحيد الله * (وعملوا الصالحات) * يعني الطاعات * (من الظلمات إلى النور) * يعني من الجهالة إلى البيان
ويقال * (ليخرج الذين آمنوا) * اللفظ لفظ المستقبل والمراد به الماضي يعني أخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور يعني من الكفر إلى الإيمان
ويقال هو على المستقبل يعني يخرجهم من الشبهات والجهالات إلى الدلائل والبراهين ويقال ليدعو النبي صلى الله عليه وسلم ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان من قدر الله الإيمان في سابق علمه
ثم قال عز وجل * (ومن يؤمن بالله) * يعني يصدق بالله
ويقال يثبت على الإيمان * (ويعمل صالحا) * يعني فرائض الله تعالى وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم
* (يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) *
قرأ نافع وابن عامر * (ندخله) * بالنون والباقون بالياء يعني يدخله الله تعالى جنات تجري من تحتها الأنهار
* (خالدين فيها) * يعني مقيمين في الجنة دائمين فيها
* (أبدا قد أحسن الله له رزقا) * يعني أعد الله له ثوابا في الآخرة
سورة الطلاق 12
ثم قال عز وجل * (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) * يعني خلق سبع
442

أرضين مثل عدد السماوات
* (يتنزل الأمر بينهن) * يعني ينزل الوحي من السماوات
ويقال في كل سماء وفي كل أرض مثله أمره نافذ
وقال القتبي الأمر على وجوه الأمر القضاء كقوله * (يدبر الأمر) * [يونس 3] ويعني يقضي القضاء وكقوله * (ألا له الخلق والأمر) * [الأعراف 54] أي القضاء
والأمر الدين كقوله * (وتقطعوا أمرهم بينهم) * [الأنبياء 93] أي دينهم
والأمر الدين كقوله تعالى * (وظهر أمر الله) * [التوبة 48] أي دين الله
والأمر القول كقوله * (يتنازعون بينهم أمرهم) * [الكهف 21] أي قولهم
والأمر العذاب كقوله * (إنه قد جاء أمر ربك) * [هود 76] والأمر القيامة كقوله * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) * [النحل 1] والأمر الوحي كقوله * (يتنزل الأمر بينهن) * [الطلاق 12] يعني الوحي
والأمر الذنب كقوله * (فذاقت وبال أمرها) * [الطلاق 9] أي جزاء ذنبها
وأصل هذا كله واحد لأن الأشياء كلها بأمر الله تعالى فسميت الأشياء أمورا
ثم قال تعالى " لتعلموا أن الله على كل شيء قدير " يعني لكي يمكنكم أن تعلموا أن الله على كل شيء قدير
" وأن الله قد أحاط بكل شيء علما " يعني أحاط علمه بكل شيء
وروى معمر عن قتادة في قوله * (سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) * قال في كل سماء وفي كل أرض من أرضه خلق وأمر من أمره وقضى
443

سورة التحريم مدنية وهي اثنتا عشرة آية
سورة التحريم 1 - 2
قول الله تبارك وتعالى * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خلا في يوم لعائشة رضي الله عنها مع جاريته مارية القبطية فوقفت حفصة على ذلك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تعلمي عائشة) وحرم مارية على نفسه فأخبرت حفصة عائشة بذلك فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك فطلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة فأمر الله تعالى رسوله بكفارة اليمين لتحريم مارية على نفسه وأمره بأن يراجع حفصة فقال له جبريل راجع حفصة فإنها صوامة قوامة ونزلت هذه الآية * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * يعني مارية * (تبتغي مرضات أزواجك) * يعني تطلب رضا زوجتك عائشة
* (والله غفور) * فيما حرمها على نفسه
ويقال غفور لذنب حفصة
* (رحيم) * حيث لم يعاقبها
قوله عز وجل * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) * يعني بين الله لكم كفارة أيمانكم
ويقال أوجب الله عليكم كفارة أيمانكم
وفي الآية وجه آخر روى هشام بن عروة عن أبية عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل وكان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنوا منهن
فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فسألت عائشة عن ذلك فقيل لها أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه
فقالت أما والله لنحتالن له
فذكرت ذلك لسودة وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنوا منك فقولي له أكلت مغافير فإنه سيقول لك لا
فقولي له ما هذه الريح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه إذا وجد منه الريح فإنه سيقول لك حفصة سقتني شربة عسل فقولي له جرشت نحله العرفط يعني أن تلك النحلة أكلت العرفط وهو نبات له رائحة منكرة
وسأقول له ذلك وقولي له أنت يا صفية
فلما دخل على سودة قالت سودة لقد كدت أن أناديه وإنه لعلى الباب فرقا منك فلما دنا مني قلت أكلت المغافير قال لا قالت فما هذه الريح قال سقتني حفصة شربة عسل
قلت جرشت نحلة العرفط
فلما دخل على صفية قالت له مثل ذلك فلما دخل على حفصة قالت يا رسول الله ألا أسقيك منه قال لا حاجة لي به
444

وروى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت له إني أجد منك ريحا
ثم دخل على حفصة فقالت إني أجد منك ريحا
قال أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه فنزل * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) *
ثم قال * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) * يعني أوجب عليكم كفارة أيمانكم
* (والله مولاكم) * يعني ناصركم وحافظكم * (وهو العليم) * بما قالت حفصة لعائشة في أمر مارية
* (الحكيم) * حكم بكفارة اليمين
سورة التحريم 3 - 5
ثم قال عز وجل * (وإذ أسر النبي) * يعني أخفى النبي * (إلى بعض أزواجه حديثا) * يعني كلاما
* (فلما نبأت به) * يعني أخبرت بذلك الخبر حفصة عائشة * (وأظهره الله عليه) * يعني أظهر الله قولها لرسوله الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأخبرها ببعض ما أخبرت عائشة ولم يخبرها عن الجميع فذلك قوله * (عرف بعضه وأعرض عن بعض) * يعني سكت عن بعض
ومن هذا قيل إن الكريم لا يبالغ في العتاب
قرأ الكسائي * (عرف) * بالتخفيف يعني جازاها ببعضه والباقون * (عرف) * بالتشديد يعني عرف حفصة
* (فلما نبأها به) * يعني لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الخبر حفصة * (قالت من أنبأك هذا) * يعني من أخبرك بهذا
* (قال نبأني) * يعني أخبرني * (العليم الخبير) *
قوله عز وجل * (إن تتوبا إلى الله) * يعني عائشة وحفصة * (فقد صغت قلوبكما) * يعني مالت قلوبكما عن الحق
وذكر عن الفراء أنه قال معناه إن لا تتوبا إلى الله * (فقد صغت قلوبكما) * عن الحق ويقال فيه مضمر ومعناه إن تتوبا إلى الله تعالى يقبل الله توبتكما ويقال معناه إن تتوبا إلى الله * (فقد صغت قلوبكما) * يعني مالت إلى الحق
وروى الزهري عن عبد الله بن عباس قال كنت مع عمر حين حج فلما كنا في بعض الطريق نزل في موضع فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان اللتان قال الله تعالى * (إن تتوبا إلى الله) * فقال عمر رضي الله عنه واعجبا لك يا ابن عباس
قال الزهري كأنه كره ما سأله عنه ولم يكتمه
قال هي حفصة وعائشة ثم قال كنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفقن نساؤنا يتعلمن من نسائهم
فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي
445

تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فدخلت على حفصة فذكرت لها فقالت نعم
فقلت قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك
قال وكان لي جار من الأنصار يأتيني بخبر الوحي وأتاه بمثل ذلك
فأتاني يوما فناداني فخرجت إليه فقال حدث أمر عظيم
فقلت ماذا قال طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فقلت خابت حفصة وخسرت
فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لا أدري هو ذا معتزلا في هذه المشربة
فأتيته فدخلت فسلمت عليه فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه فقلت أطلقت نساءك يا رسول الله قال لا
فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجودته حتى نزل * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * إلى قوله تعالى * (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) *
ثم قال * (وإن تظاهرا عليه) * يعني تعاونا على أذاه ومعصيته فيكون مثلكما كمثل امرأة نوح وامرأة لوط تعملان عملا تؤذيان بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (تظاهرا) * بالتخفيف وقرأ نافع وأبو عمرو بالتشديد وكذلك ابن كثير وابن عامر في إحدى الروايتين لأن أصله تتظاهران
* (فإن الله هو مولاه) * يعني وليه وناصره
* (وجبريل وصالح المؤمنين) * يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وأصحابه رضي الله عنهم ينصرونه
قال حدثنا الفقيه ابن جعفر قال حدثنا أبو بكر أحمد بن حمدان قال حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا سعيد بن هشام قال حدثنا هشام بن عبد الملك عن محمد بن أبان عن عبد الله بن عثمان عن عكرمة في قوله * (وصالح المؤمنين) * قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال عبد الله فذكرت ذلك لسعيد بن جبير قال صدق عكرمة
ويقال * (صالح المؤمنين) * يعني خيار أصحابه
ثم قال * (والملائكة بعد ذلك ظهير) * يعني الملائكة أيضا أنصار النبي صلى الله عليه وسلم * (بعد ذلك) * يعني مع ذلك أعوان النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال تعالى * (عسى ربه إن طلقكن) * فخوفهن الله تعالى بفراق النبي صلى الله عليه وسلم إياهن و * (عسى) * من الله واجب * (إن طلقكن) * عسى ربه * (أن يبدله أزواجا) *
قرأ نافع وأبو عمرو * (يبدله) * بتشديد الدال والباقون بالتخفيف ومعناهما واحد يقال بدل وأبدل
* (خيرا منكن مسلمات) * يعني مستسلمات لأمر النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال * (مسلمات) * يعني معينات
ثم قال * (مؤمنات) * يعني مصدقات في إيمانهن * (قانتات) * يعني مطيعات لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم
446

* (تائبات) * يعني راجعات عن الذنوب * (عابدات) * يعني موحدات مطيعات * (سائحات) * يعني صائمات
وقال أهل اللغة إنما سمي الصائم سائحا لأن الذي يسيح للعبادة لا زاد معه يمضي نهاره لا يطعم شيئا ولذلك سمي الصائم سائحا * (ثيبات وأبكارا) *
الثيبات جمع الثيب والأبكار جمع البكر
وهن العذارى
ويقال هذا وعد من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يزوجه في الجنة بالثيب والثيب هي آسية امرأة فرعون والبكر هي مريم أم عيسى عليه السلام وهي ابنة عمران تكون وليته في الجنة ويجتمع عليها أهل الجنة فيزوج الله تعالى هاتين المرأتين من محمد صلى الله عليه وسلم
سورة التحريم 6 - 8
قوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم) * يعني بعدوا أنفسكم عن النار بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
* (وأهليكم) * يعني وقوا أهليكم * (نارا) * بتعليمهم ما ينجيهم منها
وقال قتادة مروهم بطاعة الله تعالى وانهوهم عن معصية الله
وقال مجاهد يعني أوصوا أهليكم بتقوى الله ويقال أدبوهم وعلموهم خيرا تقوهم بذلك نارا * (وقودها) * يعني حطبها
والوقود ما توقد به النار يعني حطبها * (الناس) * إذا صاروا إليها
وحطبها * (والحجارة) * قبل أن يصير الناس إليها وهي حجارة الكبريت
ثم قال * (عليها ملائكة غلاظ شداد) * يعني على النار ملائكة موكلين * (غلاظ شداد) * يعني أقوياء يعملون بأرجلهم كما يعملون بأيديهم * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون) * يعني ليسوا كأعوان ملوك الدنيا يمتنعون بالرشوة ولكن يفعلون * (ما يؤمرون) * يعني لا يفعلون غير ما أمرهم الله تعالى
قوله عز وجل * (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) * يعني يقول لهم الملائكة يوم القيامة حين يعتذرون * (لا تعتذروا اليوم) * يعني لا يقبل منكم العذر
* (إنما تجزون ما كنتم تعملون) * يعني تعاقبون بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي
ثم أمر المؤمنين بالتوبة عن الذنوب
فقال (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) يعني صادقا في توبته ويقال تنصحون لله فيها من غير مداهنة
447

وروى سماك بن حرب عن النعمان بن بشير قال سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن التوبة النصوح فقال هو الرجل يتوب من عمل السوء ثم لا يعود إليه أبدا
وروي عن ابن عباس أنه قال توبة النصوح الندم بالقلب والاستغفار باللسان والإضمار أن لا يعود إليها
قرأ نافع وعاصم في إحدى الروايتين * (توبة نصوحا) * بضم النون والباقون بالنصب
فمن قرأ بالنصب فهو صفة التوبة يعني توبة بالغة في النصح كما يقال رجل صبور وشكور وشكور
ومن قرأ بالضم يعني ينصحوا بها نصوحا كما يقال نصحت له نصحا ونصوحا
ثم قال * (عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم) * يعني يغفر لكم ما مضى من ذنوبكم إن تبتم
* (ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي) * صار اليوم نصبا لنزع الخافض يعني يكفر عنكم في يوم لا يخزي الله النبي
قال الكلبي يوم لا يعذب الله النبي * (والذين آمنوا معه) * ويقال يوم لا يخزيه فيما أراد من الشفاعة
وغيره وتم الكلام
ثم قال تعالى * (والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم) * يعني على الصراط
وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من المؤمنين من نوره أبعد ما بيننا وبين عدن أبين ومنهم من نوره لا يجاوز قدميه) فقال * (نورهم يسعى بين أيديهم) * يعني يضيء بين أيديهم
* (وبأيمانهم) * يعني عن أيمانهم وعن شمائلهم على وجه الإضمار
* (يقولون ربنا أتمم لنا نورنا) * ذلك حين طفئت أنوار المنافقين أشفق المؤمنون على نورهم ويتفكرون فيما مضى منهم من العذاب فيقولون * (ربنا أتمم لنا نورنا) * يعني احفظ علينا نورنا * (واغفر لنا) * ما مضى من ذنوبنا " إنك على كل شيء قدير " من إتمام النور والمغفرة
سورة التحريم 9 - 11
قوله عز وجل * (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) * يعني جاهد الكفار بالسيف وجاهد المنافقين بالقول والتهديد
* (واغلظ عليهم) * يعني اشدد عليهم يعني على كلا الفريقين يعني على الكفار بالسيف وعلى المنافقين باللسان
* (ومأواهم جهنم) * يعني إن لم يرجعوا ولم يتوبوا فمرجعهم إلى جهنم * (وبئس المصير) * يعني بئس القرار وبئس المرجع
قوله تعالى * (ضرب الله مثلا) * يعني وصف الله شبها لكفار مكة وذلك أنهم استهزؤوا
448

وقالوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم يشفع لنا
فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع لكفار مكة كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته
وشفاعة لوط لامرأته
فذلك قوله * (للذين كفروا امرأة نوح) * واسمها واغلة * (وامرأة لوط) * واسمها واهلة
ويقال فيه تخويف لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليثبتن على دينه وطاعته
ثم قال * (كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين) * يعني نوحا ولوطا عليهما السلام * (فخانتاهما) * يعني خالفتاهما في الدين
وروي عن ابن عباس أنه قال ما زنت امرأة نبي قط وما كانت خيانتهما إلا في الدين
فأما امرأة نوح كانت تخبر الناس أنه مجنون وأما امرأة لوط فكانت تدل على الأضياف
وقال عكرمة الخيانة في كل شيء ليس في الزنى
* (فلم يغنيا عنهما من الله شيئا) * يعني لم يمنعهما صلاح زوجيهما مع كفرهما من الله شيئا يعني من عذاب الله شيئا
* (وقيل) * لهما في الآخرة * (ادخلا النار مع الداخلين) * فكذلك كفار مكة وإن كانوا أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفعهم صلاح النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك أزواجه إذا خالفنه
ثم ضرب الله مثلا للمؤمنين فقال عز وجل * (وضرب الله مثلا للذين آمنوا) * يعني بين الله شبها وصفة للمؤمنين الذين آمنوا
* (امرأة فرعون) * فإنها كانت صالحة لم يضرها كفر فرعون فكذلك من كان مطيعا لله لا يضره شر غيره
ويقال هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة يعني لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون صبرت على إيذاء فرعون
* (إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة) * وذلك أن فرعون لما علم بإيمانها فطلب منها أن ترجع فأبت ولم ترجع عن إيمانها فوتدها بأربعة أوتاد في يديها ورجليها وربطها وجعل على صدرها حجر الرحى وجعلها في الشمس
فأراها الله تعالى بيتها في الجنة ونسيت ما هي فيه من العذاب وضحكت فقالوا عند ذلك هي مجنونة تضحك وهي في العذاب
وروى أبو عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس فإذا ذرت أي طلعت الشمس وارتفعت أظلتها الملائكة بأجنحتها وأريت مقعدها من الجنة
وروى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وآسية امرأة فرعون)
ثم قال * (رب ابن لي عندك بيتا في الجنة) * يعني ارزقني في الجنة
* (ونجني من فرعون وعمله) * يعني من عذاب فرعون وظلمه
* (ونجني من القوم الظالمين) * يعني من قوم فرعون يعني من تعييرهم وشماتتهم
449

سورة التحريم 12
ثم قال عز وجل " ومريم ابنت عمران " يعني واذكر مريم ويقال معناه وضرب الله مثلا مريم ابنة عمران وصبرها على إيذاء اليهود * (التي أحصنت فرجها) * يعني عفت نفسها عن الفواحش
" فنفحنا فيه من روحنا " يعني أرسلنا جبريل عليه السلام فنفخ في جيب درعها وذلك قوله * (فنفخنا فيه من روحنا) * أي روحا من أرواحنا وهي روح عيسى عليه السلام * (وصدقت بكلمات ربها) * أي صدقت بعيسى عليه السلام ويقال صدقت بالبشارات التي بشرها بها جبريل عليه السلام
* (وكتبه) * يعني آمنت بكتاب الله تعالى
وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص * (وكتبه) * يعني الكتب التي أنزلت على الأنبياء والباقون " بكتابه " يعني الإنجيل
وقرأ بعضهم " وصدقت بكلمة ربها " يعني صار عيسى مخلوقا بكلمة الله فصدقت بذلك
* (وكانت من القانتين) * يعني المطيعين لله
450

سورة الملك كلها مكية وهي ثلاثون آية
سورة الملك 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى * (تبارك الذي بيده الملك) * يعني تعالى وتعظم وهذا قول ابن عباس وقيل تفاعل من البركة
وقال الحسن * (تبارك) * يعني تقدس * (الذي بيده الملك) * يعني الذي له الملك كما قال * (له ملك السماوات والأرض) * ويقال * (الذي بيده الملك) * يعني الذي له القدرة ونفاذ الأمر
" وهو على كل شيء قدير " يعني من العز والذل يعز من يشاء ويذل من يشاء
ثم قال * (الذي خلق الموت والحياة) * قال مقاتل * (خلق الموت) * يعني النطفة والعلقة والمضغة وخلق * (الحياة) * يعني خلق إنسانا ونفخ فيه الروح فصار حيا
وقال الكلبي * (خلق الموت) * بمنزلة كبش أملح لا يمر على شيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات * (والحياة) * شيء كهيئة الفرس البلقاء الأنثى التي يركب عليها جبريل والأنبياء صلوات الله عليهم
وقال قتادة في قوله * (خلق الموت والحياة) * يعني أذل الله ابن آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة وفناء وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء
ويقال * (خلق الموت والحياة) * يعني قدر الحياة ثم قدر الموت بعد الحياة
* (ليبلوكم) * يعني ليختبركم ما بين الحياة والموت
* (أيكم أحسن عملا) * في حياته ويقال أيكم أكمل عملا وأخلص عملا
ويقال * (خلق الموت والحياة) * أي خلق الحياة للامتحان وخلق الموت للجزاء كما قيل لولا المحن لقدمنا مفاليس
وذلك أن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلق النار وخلق لها أهلا وابتلاهم بالعمل والأمر والنهي فيستوجبون بفعلهم الثواب والعقاب
والابتلاء من الله تعالى أن يظهر من العبد ما كان يعلم منه في الغيب
ثم قال تعالى * (وهو العزيز الغفور) * يعني * (العزيز) * بالنقمة للكفار و * (الغفور) * لمن تاب منهم
ثم قال * (الذي خلق) * يعني تبارك الذي خلق * (سبع سماوات طباقا) * يعني مطبقا
451

بعضها فوق بعض مثل القبة * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) *
قرأ حمزة والكسائي " من تفوت " بغير ألف والباقون بالألف وهما لغتان
ويقال تفاوت الشيء وتفوت إذا اختلف يعني ما ترى في خلق الرحمن اختلافا واضطرابا ويقال ما ترى فيها من اعوجاج ولكنه مستوي
ويقال معناه ما ترى في خلق السماوات من عيب وأصله من الفوت أي يفوت الشيء فيقع فيه الخلل ولكنه متصل بعضها ببعض
سورة الملك 4 - 6
ثم أمر بأن ينظروا في خلقه ليعتبروا به ويتفكروا في قدرته فقال عز وجل * (فارجع البصر) * يعني رد البصر إلى السماء
ويقال قلب البصر في السماء ويقال اجتهد بالنظر إلى السماء
* (هل ترى من فطور) * يعني هل ترى فيها من شقوق ويقال هل ترى فروجا أو صدوعا أو خللا * (ثم ارجع البصر كرتين) * يعني انظر إليها مرتين وإنما أمر بالنظر مرتين لأن الإنسان إذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه ما لم ينظر فيه مرة أخرى فأخبر الله تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرتين لا يرى فيها عيبا بل يتحير بالنظر إليها فذلك قوله * (ينقلب إليك البصر خاسئا) * يعني يرجع البصر ذليلا
* (وهو حسير) * يعني قد أعيا تداعيا من قبل أن يرى في السماء خللا
وقال القتبي * (خاسئا) * أي مبعدا * (وهو حسير) * أي كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه قبل أن يرى شيئا من الخلل
ثم قال * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) * يعني بالنجوم والكواكب
* (وجعلناها رجوما للشياطين) * يعني جعلنا بعض النجوم رميا للشياطين إذا قصدوا استراق السمع
* (وأعتدنا لهم) * يعني للشياطين * (عذاب السعير) * يعني الوقود
* (وللذين كفروا) * يعني اعتدنا للذين جحدوا * (بربهم) * يعني بوحدانية الله تعالى * (عذاب جهنم) *
قرئ في الشاذ * (عذاب جهنم) * بالنصب يعني اعتدنا لهم عذاب جهنم فيصير نصبا لوقوع الفعل عليه وقراءة العامة بالضم على معنى خبر الابتداء
ثم قال * (وبئس المصير) * يعني المرجع
سورة الملك 7 - 11
452

ثم قال عز وجل * (إذا ألقوا فيها) * يعني ألقوا الكفار في نار جهنم
* (سمعوا لها) * يعني سمعوا منها * (شهيقا) * يعني صوتا كصوت الحمار
* (وهي تفور) * يعني تغلي كغلي المرجل
* (تكاد تميز من الغيظ) * يعني تكاد تتفرق من غيظها على أعداء الله تعالى
* (كلما ألقي فيها فوج) * يعني من النار فوج يعني أمة من الأمم
* (سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير) * يعني رسولا يخبركم ويخوفكم * (قالوا بلى) * يعني يقولون بلى * (قد جاءنا نذير) * يعني الرسل * (فكذبنا) * الرسول * (وقلنا) * إنكم لكاذبون على الله تعالى
" ما نزل الله من شيء " أي كتابا ولا رسولا
* (إن أنتم إلا في ضلال كبير) * يعني قلنا لهم ما أنتم إلا في خطأ عظيم
* (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل) * يعني لو كنا نسمع إلى الحق * (أو نعقل) * يعني نرغب في الهدى ونتفكر في الخلق
* (ما كنا في أصحاب السعير) * يعني مع أصحاب الوقود في النار
ويقال معناه ما كنا من أهل النار
* (فاعترفوا بذنبهم) * يعني أقروا بشركهم * (فسحقا) * يعني فبعدا من رحمة الله تعالى * (لأصحاب السعير) * يعني الوقود
وقال الزجاج * (فسحقا) * نصب على المصدر فمعناه أسحقهم الله سحقا فباعدهم من رحمته
والسحق البعد كقوله * (في مكان سحيق) * [الحج 31] أي بعيد
قرأ الكسائي * (فسحقا) * بضم السين والحاء والباقون بضم السين وجزم الحاء وهما لغتان معناهما واحد
سورة الملك 12 - 15
ثم بين حال المؤمنين فقال عز وجل * (إن الذين يخشون ربهم بالغيب) * يعني يخافون الله تعالى ويخافون عذابه الذي هو * (بالغيب) * فهو عذاب يوم القيامة
* (لهم مغفرة) * يعني مغفرة لذنوبهم * (وأجر كبير) * يعني ثوابا عظيما في الجنة
قوله تعالى * (وأسروا قولكم أو اجهروا به) *
اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخبر يعني إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به
* (إنه عليم بذات الصدور) * يعني بما في القلوب من الخير والشر
وذلك أن جماعة من الكفار كانوا يتشاورون فيما بينهم فقال بعضهم لبعض لا تجهروا بأصواتكم فإن رب محمد صلى الله عليه وسلم يسمع فيخبره قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم يا محمد * (وأسروا قولكم أو اجهروا به) * فإنه يعلم به
ثم أخبر بما هو أخفى من هاتين الحالتين فقال * (إنه عليم بذات الصدور) * يعني فكيف لا يعلم قول السر ثم قال عز وجل * (ألا يعلم من خلق) * يعني ألا يعلم السر من خلق السر يعني هو خلق السر في قلوب العباد فكيف لا يعلم بما في قلوب العباد
ثم قال * (وهو اللطيف الخبير) * يعني لطف علمه بكل شيء يعني يرى أثر كل شيء
453

بما في القلوب من الخير والشر ويقال " لطيف " يرى أثر النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء * (خبير) * يعني عالم بأفعال العباد وأقوالهم
ثم ذكر نعمه على خلقه ليعرفوا نعمته فيشكروه ويوحدوه فقال تعالى * (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا) * يعني خلق لكم الأرض ومدها وذللها وجعلها لينة لكي تزرعوا فيها وتنتفعوا منها بألوان المنافع * (فامشوا في مناكبها) * يعني لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وأكامها وجبالها
وهذا خبر بلفظ الأمر
وقال القتبي * (فامشوا في مناكبها) * يعني جوانبها ومنكبا الرجل جانباه
وقال قتادة * (مناكبها) * جبالها
قال وكان لبشر بن كعب سرية فقال لها إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة لوجه الله فقالت مناكبها جبالها فصارت حرة
فأراد أن يتزوجها فسأل أبو الدرداء فقال له دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
ويقال * (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا) * أي سهل لكم السلوك فيها * (فامشوا في مناكبها) * أي امشوا فيها
* (وكلوا من رزقه) * يعني تأكلون من رزق الله تعالى وتشكرونه
* (وإليه النشور) * يعني إلى الله تبعثون من قبوركم
ويقال معناه هو الذي ذلل لكم الأرض قادر على أن يبعثكم لأنه ذكر أولا خلق السماء ثم ذكر خلق الأرض ثم ذكر النشور
سورة الملك 16 - 20
ثم خوفهم فقال عز وجل " أأمنتم من في السماء " قال الكلبي ومقاتل يعني أمنتم عقوبة من في السماء يعني الرب تعالى إن عصيتموه
ويقال هذا على الاختصار ويقال أمنتم عقوبة من هو جار حكمه في السماء
قرأ أبو عمرو ونافع * (آمنتم) * بالمد والباقون بغير مد بهمزتين ومعناهما واحد وهو الاستفهام والمراد به التوبيخ
وقرأ ابن كثير بهمزة واحدة بغير مد على لفظ الخبر
* (أن يخسف بكم الأرض) * يعني تغور بكم الأرض كما فعل بقارون
* (فإذا هي تمور) * يعني تدور بكم إلى الأرض السفلى
* (أم أمنتم من في السماء) * يعني عذاب من في السماء
* (أن يرسل عليكم حاصبا) * يعني حجارة كما أرسلنا إلى قوم لوط
وقال القتبي * (أم) * على وجهين مرة يراد بها الاستفهام كقوله * (أم يحسدون الناس) * ومرة يراد بها أو كقوله * (أم أمنتم) * ويعني أو أمنتم
وهذا كقوله * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا) * [الإسراء 68]
454

ثم قال * (فستعلمون كيف نذير) * يعني تعييري عليهم بالعذاب
ويقال معناه سيظهر لكم كيف عذابي
قوله تعالى * (ولقد كذب الذين من قبلهم) * يعني الأمم الخالية كذبوا رسلهم * (فكيف كان نكير) * يعني كيف كانت عقوبتي إياهم وإنكاري لهم
ثم قال " أو لم يروا إلى الطير " يعني أو لم يعتبروا في خلق الله تعالى كيف خلق الطيور * (فوقهم صافات) * يعني باسطات أجنحتها في الهواء
* (ويقبضن) * يعني ويضممن أجنحتهن ويضربن بها
* (ما يمسكهن) * يعني ما يحفظهن في الهواء عند القبض والبسط
" إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير " يعني عالما بصلاح كل شيء
سورة الملك 21 - 23
قوله عز وجل " أمن هذا الذي هو جند لكم " يعني حزب لكم ومنفعة لكم
* (ينصركم من دون الرحمن) * يعني من عذاب الرحمن ومعناه هاتوا أخبروني من الذي يمنعكم من عذاب الله تعالى إن عصيتموه
ثم قال * (إن الكافرون إلا في غرور) * يعني ما الكافرون إلا في خداع وأباطيل
ثم قال عز وجل " أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه " يعني من ذا الذي يرزقكم إن حبس الله رزقه في الذنب وهذا كقوله " هل من خلاق غير الله يرزقكم من السماء والأرض " [فاطر 3] ثم قال * (بل لجوا) * يعني تمادوا في الذنب
ويقال تمادوا في الكفر
ويقال بل مضوا * (في عتو) * يعني في تكبر * (ونفور) * يعني تباعدا من الإيمان
ثم قال عز وجل * (أفمن يمشي مكبا على وجهه) * يعني الكافر يمشي ضالا في الظلمة أعمى القلب
* (أهدي) * يعني هو أصوب دينا
" أفمن يمشي سويا على صراط مستقيم " هو المؤمن يعمل بطاعة الله يعني على دين الإسلام
وقال قتادة * (أفمن يمشي مكبا على وجهه) * قال هو الكافر عمل بمعصية الله تعالى يحشره الله تعالى يوم القيامة على وجهه " أمن يمشي سويا على صراط مستقيم " هو المؤمن يعمل بطاعة الله تعالى يسلك به يوم القيامة طريق الجنة
وقال الزجاج أعلم الله تعالى أن المؤمن يسلك الطريق المستقيم وإن كان الكافر في ضلالته بمنزلة الذي يمشي مكبا على وجهه
قال مقاتل نزلت في شأن أبي جهل وقال بعضهم هذا لجميع الكفار وجميع المؤمنين
ثم قال * (قل هو الذي أنشأكم) * يعني خلقكم * (وجعل لكم السمع) * لكي تسمعوا بها الحق * (والأبصار) * يعني لكي تبصروا بها الحق * (والأفئدة) * يعني القلوب لكي تعقلوا بها
455

الهدى
* (قليلا ما تشكرون) * يعني شكركم فيما صنع إليكم قليلا
ويقال معناه خلق لكم السمع والأبصار والأفئدة آلة لطاعات ربكم وقطعا لحجتكم وقدرة على ما أمركم فاستعملتم الآلات في طاعة غير الله تعالى ولم توحدوه
سورة الملك 24 - 27
قوله عز وجل * (قل هو الذي ذرأكم في الأرض) * يعني خلقكم من الأرض
ويقال كثركم في الأرض وأنزلكم في الأرض
* (وإليه تحشرون) * يعني إليه ترجعون بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم
قوله تعالى * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * يعني البعث بعد الموت إن كنتم صادقين أنا نبعث خاطبوا به النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجماعة
ويقال أراد به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
* (قل إنما العلم عند الله) * يعني علم قيام الساعة عند الله * (وإنما أنا نذير مبين) * يعني مخوفا أخوفكم بلغة تعرفونها
قوله تعالى * (فلما رأوه زلفة) * يعني لما رأوا العذاب قريبا ويقال لما رأوا القيامة قريبة " وسيئت وجوه الذين كفروا " يعني ذللت ويقال قبحت وسودت
وقال القتبي * (فلما رأوه زلفة) * يعني لما رأوا ما وعدهم الله تعالى قريبا منهم وقال الزجاج * (سيئت) * أي تبين فيها السوء * (في وجوه الذين كفروا) * * (وقيل هذا الذي كنتم به تدعون) * يعني تشكون في الدنيا قرأ قتادة والضحاك ويعقوب الحضرمي * (تدعون) * بالتخفيف يعني تستعجلون وتدعون الله في قولكم فأمطر علينا حجارة من السماء وقراءة العامة * (تدعون) * بالتشديد يعني تكذبون
ويقال من أجله * (تدعون) * الأباطيل يعني تدعون أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما لا ترجعون ولا تجازون
ويقال * (تدعون) * أي تتمنون
سورة الملك 28 - 30
قوله تعالى * (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي) * يعني إن عذبنا الله
* (أو رحمنا) * يعني غفر لنا
* (فمن يجير الكافرين) * يعني من ينجيهم ويغيثهم * (من عذاب أليم) * يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم (نحن مؤمنون بالله ونتوسل بعبادته إليه لا نأمن من عذابه على معصيته
456

فكيف تؤمنون مع كفركم به من عذابه وعقوبته) * (فمن يجير الكافرين من عذاب أليم) * أي من يقدر أن ينجي الكافرين من عذاب أليم
ثم قال عز وجل * (هو الرحمن آمنا به) * يعني قل هو الرحمن بفضله إن شاء عذبنا وإن شاء رحمنا آمنا به * (وعليه توكلنا) * يعني فوضنا إليه أمورنا
* (فستعلمون من هو في ضلال مبين) * يعني فستعرفون عند نزول العذاب من هو في خطأ بين
قرأ الكسائي * (فسيعلمون) * بالياء بلفظ الخبر والباقون بالتاء على معنى المخاطبة يعني سوف تعلمون يا كفار مكة
* (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا) * يعني إن صار ماؤكم غائرا لا تناله الأيدي ولا الدلاء
* (فمن يأتيكم بماء معين) * يعني بماء طاهر
والغور والغائر يقال ماء غور ومياه غور وهو مصدر لا يثنى ولا يجمع
وقال مجاهد * (بماء معين) * يعني جار
وروى عكرمة عن ابن عباس يعني الطاهر
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له
* (تبارك الذي بيده الملك) * "
وروى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال يؤتى بالرجل في قبره من قبل رأسه فيقول له ليس لك علي من سبيل
قد كان يقرأ علي سورة الملك فيؤتى من قبل رجليه فيقول ليس لك علي سبيل كان يقوم بسورة الملك فيؤتى من قبل جوفه فيقول ليس لك علي سبيل
قد أوعاني سورة الملك قال وهي المنجية تنجي صاحبها من عذاب القبر
وروى ابن الزبير عن جابر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ سورة * (ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه) * و " تبارك الذي بيده الملك " والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم
457

سورة نون والقلم مكية وهي اثنتان وخمسون آية
سورة نون والقلم 1 - 6
قول الله تبارك وتعالى * (ن والقلم) *
قرأ الكسائي ونافع وعاصم في إحدى الروايتين بالإدغام والباقون بإظهار النون وهما لغتان ومعناهما واحد
قال ابن عباس هي السمكة التي تحت الأرضين
وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال أول ما خلق الله تعالى من شيء القلم فقال اكتب قال بم أكتب قال اكتب القدر فيجري بما هو كائن إلى قيام الساعة
ثم خلق النون يعني السمكة فدحا الأرض عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السماوات فاضطربت النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال وإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة
وقال سعيد بن جبير والحسن وقتادة النون الدواة وقال قتادة لولا الدواة والقلم ما قام لله دين ولا صلح عيش خلقه والله يعلم ما يصلح خلقه
ويقال النون افتتاح اسم الله تعالى وهو النون
ويقال هو آخر اسمه من الرحمن وهذا قسم أقسم الله تعالى بالنون والقلم وجواب القسم * (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) * فذلك قوله " نون والقلم "
* (وما يسطرون) * يكتب الحفظة من أعمال بني آدم ويقال * (وما يسطرون) * يعني تكتب الكتبة في اللوح المحفوظ
* (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) * يعني ما أنت يا محمد بحمد الله تعالى بمجنون كما يزعمون
وذلك أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * [العلق 1] إلى قوله * (علم الإنسان ما لم يعلم) * [العلق 5] وعلمه جبريل الصلاة فقال أهل مكة جن محمد صلى الله عليه وسلم
وكان النبي يفر من الشاعر والمجنون فلما نسبوه إلى الجنون شق ذلك عليه فنزل * (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) *
بل أنت رسول الله تعالى
ثم قال * (وإن لك لأجرا غير ممنون) * يعني غير مقطوع ويقال غير محسوب
458

ويقال لا يمن عليك
* (وإنك لعلى خلق عظيم) * يعني على خلق حسن
وقال مقاتل يعني على دين الإسلام وقال عطية يعني على آدب القرآن
ثم قال * (فستبصر ويبصرون) * يعني سترى ويرون ويقال فستعلم ويعلمون * (بأيكم المفتون) * يعني إذا نزل بكم العذاب تعلمون أيكم المفتون يعني بأيكم المجنون ويقال الباء زيادة ومعناه أيكم المفتون يعني أيكم المجنون وقال قتادة يعني أيكم أولى بالشيطان وقال أبو عبيدة أيكم المجنون والباء زيادة واحتج بقول القائل نضرب بالسيف ونرجو بالفرج يعني نرجو الفرج
سورة نون والقلم 7 - 16
قوله تعالى * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) * يعني هو عالم بمن أخطأ الطريق وضل عن دينه * (وهو أعلم بالمهتدين) * لدينه
ثم قال " فلا تطع المكذبين وذلك أنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فأمره الله تعالى أن يثبت على دينه فقال تعالى " فلا تطع المكذبين " بوحدانية الله تعالى
" ودوا لو تدهن فيدهنون " قال مجاهد ودوا لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيميلون إليك
وقال السدي ودوا لو تكفر فيكفرون وقال القتبي ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم وكانوا أرادوا أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة
ثم قال " ولا تطع كل حلاف مهين " يعني كذابا في دين الله والحلاف مكثار الحلف " مهين " ضعيف فاجر
نزلت في الوليد بن المغيرة
وقال القتبي المهين الحقير الدنئ وقال الزجاج وهو فعيل من المهانة وهي القلة
ومعناه في هذا الموضع القلة في الرأي والتمييز
ثم قال " هماز " يعني الوليد بن المغيرة طعان لعان مغتاب " مشاء بنميم " يعني يمشي بين الناس بالنميمة
وقال القتبي " هماز " يعني عياب
ثم قال " مناع للخير " يعني بخيلا لا ينتفع بماله لنفسه ولا ينفق على غيره
ويقال معناه " مناع للخير " يعني التوحيد ويمنع الناس عن التوحيد
" معتد " يعني ظلوما لنفسه " أثيم " يعني فاجرا
قوله تعالى " عتل " يعني شديد الخصومة بالباطل ويقال " عتل " يعني أكول
459

شروب صحيح الجسم رحيب البطن
* (بعد ذلك) * يعني مع ذلك * (زنيم) * يعني ملصق
وقال ابن عباس الزنيم الدعي الملصق ويستدل بقول القائل
(زنيم تداعاه الرجال زيادة
* كما زيد في عرض الأديم الأكارع)
ويقال الزنيم الشديد الخلق وقد روي في الخبر هذا التفسير
وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم) قال أما الجواظ فالذي جمع ومنع وتدعوه لظى نزاعة للشوى وأما الجعظري فالفظ الغليظ
وأما العتل الزنيم فالشديد الخلق رحيب الصدر والجوف أكول شروب ظلوم للناس
ويقال
الزنيم الدعي
وذكر أنه لما نزلت هذه الآية قال لأمه إن محمدا لصادق وأنه قال كذا وكذا فأقرت والدته له بذلك
ثم قال * (أن كان ذا مال وبنين) * يعني تطعه وإن كان ذا مال وبنين فلا تطعه بسبب ماله
ثم قال * (إذا تتلى عليه آياتنا) * يعني القرآن * (قال أساطير الأولين) * يعني كذبهم وأباطيلهم
وقال السدي يعني أساجيع الأولين
ثم قال * (سنسمه على الخرطوم) * يعني سنضربه على الوجه ويقال سنسود وجهه يوم القيامة ويقال سنسمه على أنفه وقال القتبي للعرب في هذا مذهب يقولون للرجل إذا سبه سبة قبيحة أو يثني عليه فاحشة قد وسمه ميسم سوء يريدون أنه ألصق به عارا لا يفارقه كما أن السمة لا يعفو أثرها
وقد وصف الله تعالى الوليد بالحلف والمهانة والمشي بالنميمة والبخل والظلم والإثم والدعوى فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة
قال والذي يدل على هذا ما روي عن الشعبي في قوله * (عتل بعد ذلك زنيم) * قال العتل الشديد
والزنيم له زنمة من الشر يعرف بها كما تعرف الشاة
سورة نون والقلم 17 - 30
460

سورة نون والقلم 31 - 33
ثم قال * (إنا بلوناهم) * يعني اختبرنا أهل مكة بترك الاستثناء
ويقال ابتليناهم بالجوع والشدة
* (كما بلونا أصحاب الجنة) * يعني أهل ضيروان قبيلة باليمن
وروى أسباط عن السدي قال كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلا صالحا وكان إذا بلغ ثماره أتاه المساكين فلم يمنعهم من دخولها وأن يأكلوا منها ويتزودوا فيها
فلما مات أبوهم قال بنوه بعضهم لبعض على ما نعطي أموالنا هؤلاء المساكين تعالوا فلندع من يصرفها قبل أن يعلم المساكين ولم يستثنوا فانطلقوا وهم يتخافتون أي خفيا يقول بعضهم لبعض لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين فذلك قوله * (إذ أقسموا) * يعني حلفوا فيما بينهم
* (ليصرمنها مصبحين) * يعني ليجدنها وقت الصبح أي ليقطعنها قبل أن يخرج المساكين
* (ولا يستثنون) * يعني لم يقولوا إن شاء الله
وروي في الخبر أن أباهم كان إذا أراد أن يصرم النخل اجتمع هناك مساكين كثير وقد جعل له علامة فكل ثمرة تسقط وراء العلامات تكون للمساكين
فكانوا يأخذون الثمر قدر ما يتزودون به أياما كثيرة
فلما مات الرجل قال بنوه فيما بينهم إن أبانا كان عياله أقل وحاجته أقل فصار عيالنا أكثر وحاجتنا أكثر
فخرجوا بالليل لا يشعر بهم المساكين فاحترقت نخيلهم في تلك الليلة فذلك قوله * (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون) * يعني بعث الله تعالى نارا على جنتهم بالليل
والطائف الذي أتاك ليلا فأحرقها وهم نائمون
* (من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم) * يعني صارت الحديقة كالليل المظلم
وقال القتبي الصريم من أسماء الأضداد
يسمى الليل صريما والصبح صريما لأن الليل ينصرم عن النهار والنهار ينصرم عن الليل
ويقال * (كالصريم) * يعني ذهب ما فيها فكأنه صرم أي قطع وجز
ثم قال * (فتنادوا مصبحين) * يعني نادى بعضهم بعضا عند الصبح وقال بعضهم لبعض * (أن اغدوا على حرثكم) * يعني اخرجوا بالغداة على جز زرعكم وصرام نخيلكم
* (إن كنتم صارمين) * يعني إن أردتم أن تصرموها قبل أن يحضرها المساكين
* (فانطلقوا) * يعني ذهبوا إلى نخيلهم * (وهم يتخافتون) * يعني يتشاورون فيما بينهم بكلام خفي * (أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد) * قال مقاتل يعني على جد في أنفسهم
* (قادرين) * على جنتهم
وقال الزجاج معناه على قصد وقال القتبي الحرد المنع ويقال الحرد القصد * (قادرين) * واجدين
ويقال على قوة ونشاط ويقال على طريق جنتهم ويقال الحرد اسم تلك الجنة
* (فلما رأوها) * يعني فلما أتوها ورأوها مسودة أنكروها * (قالوا إنا لضالون) * يعني
461

أخطأنا الطريق وليست هذه جنتنا
فلما تفحصوا علموا أنها جنتهم وهذا عقوبة لهم فقالوا * (بل نحن محرومون) * يعني حرمنا منفعتها
* (قال أوسطهم) * يعني أعدلهم وأعلمهم وأعقلهم * (ألم أقل لكم لولا تسبحون) * يعني هلا تستثنون في أيمانكم
ويقال كان استثناؤهم التسبيح يعني هلا قلتم سبحان الله فندموا على فعلهم و * (قالوا سبحان ربنا) * يعني نزهوه وعظموه تائبين عن ذنوبهم ويقال معناه نستغفر ربنا
* (إنا كنا ظالمين) * يعني ضارين بأنفسنا عاصين بمنعنا المساكين
* (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) * يعني جعل بعضهم يلوم بعضهم بعضا بصنيعهم ذلك ثم قالوا بأجمعهم قوله * (قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين) * يعني عاصين بمنعنا المساكين
ثم قالوا * (عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها) * يعني يعوضنا خيرا منها في الجنة
* (إنا إلى ربنا راغبون) * يعني راجين مما عنده
قال الله تعالى * (كذلك العذاب) * يعني هكذا عذاب الدنيا لمن منع حق الله تعالى
* (ولعذاب الآخرة أكبر) * لمن لم يتب ولم يرجع عن ذنبه
ويقال هكذا العذاب في الدنيا لأهل مكة بالجوع ولعذاب الآخرة أكبر إن لم يؤمنوا
* (لو كانوا يعلمون) * يعني لو كانوا يفقهون
ويقال لو كانوا يصدقون
سورة نون والقلم 34 - 39
ثم ذكر ما للمتقين من الثواب فقال تعالى * (إن للمتقين عند ربهم) * في الآخرة * (جنات النعيم) *
فلما ذكر الله تعالى نعيم الجنة قال عتبة بن ربيعة إن كان كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فإن لنا في الآخرة أكثر ما للمسلمين لأن فضلنا وشرفنا أكثر فنزل * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) * يعني أفنركم المجرمين كالمؤمنين ويقال معناه أفنهين المؤمنين كالمجرمن يعني لا يكون حال المسلمين في الهوان والذل كالمشركين
ثم قال تعالى * (ما لكم كيف تحكمون) * يعني ويحكم كيف تقضون بالجور * (أم لكم كتاب فيه تدرسون) * يعني ألكم كتاب تقرؤون فيه * (إن لكم فيه لما تخيرون) * يعني في الكتاب مما تتمنون
* (أم لكم أيمان علينا بالغة) * يعني ألكم عهد عندنا وثيق * (إلى يوم القيامة) *
يعني في يوم القيامة
* (إن لكم لما تحكمون) * يعني ما تقضون به لأنفسكم في الآخرة
سورة نون والقلم 40 - 41
462

سورة نون والقلم 42 - 43
قوله تعالى * (سلهم أيهم بذلك زعيم) * يعني أيهم كفيل يكفل بذلك * (أم لهم شركاء) * يعني شهداء يشهدون أن الذي قالوا لهم حق
* (فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين) * يعني يشهدون أن لهم في الآخرة ما للمسلمين فهذا كله لفظ الاستفهام والمراد به الزجر والإياس يعني ليس لهم ذلك
قوله عز وجل * (يوم يكشف عن ساق) * يعني اذكر ذلك اليوم ويقال معناه أن الثواب والعقاب الذي ذكر في يوم يكشف عن ساق
قال ابن عباس يعني يظهر قيام الساعة
وروى سفيان عن المغيرة عن إبراهيم عن ابن عباس قال * (عن ساق) * يعني عن أمر عظيم وقال مجاهد * (يوم يكشف عن ساق) * عن بلاء عظيم وقال قتادة يكشف شدة الأمر
* (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) *
قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد حدثنا ابن منيع قال حدثنا هدبة قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمارة القرشي عن أبي بردة عن أبي موسى قال حدثنا أبي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون في الدنيا ويبقى أهل التوحيد فيقال لهم كيف بقيتم وقد ذهب الناس فيقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا ولم نره قال أو تعرفونه إذا رأيتموه فيقولون نعم
فيقال لهم وكيف تعرفونه ولم تروه قالوا لا شبه له
فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجدا ويبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فيريدون السجود فلا يستطيعون
فيقول الله تعالى عبادي ارفعوا رؤوسكم قد جعلت بدل كل رجل منكم رجلا من اليهود والنصارى في النار)
قال أبو بردة فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال والله الذي لا إله إلا هو أحدثك أبوك بهذا الحديث فحلفت له ثلاثة أيمان فقال عمر ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا الحديث
وقال القتبي * (يوم يكشف عن ساق) * هذا من الاستعارة فسمى الشدة ساقا لأن الرجل إذا وقع في الشدة شمر عن ساقه فاستعيرت في موضع الشدة
ويقال يكشف ما كان خفيا
ويقال يبدؤون عن أمر شديد وهو عذاب عظيم يوم القيامة
ثم قال عز وجل * (خاشعة أبصارهم) * يعني ذليلة أبصارهم * (ترهقهم ذلة) * يعني تغشاهم وتعلوهم كآبة وكسوف وسواد
وذلك أن المسلمين إذا رفعوا رؤوسهم من السجود صارت وجوههم بيضاء كالثلج
فلما نظر اليهود والنصارى والمنافقون وهم الذين لم يقدروا على السجود حزنوا واغتموا واسودت وجوههم
463

ثم بين المعنى الذي عجزهم عن السجود فقال * (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) * يعني كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا وهم أصحاء معافون فلم يسجدوا
سورة نون والقلم 44 - 52
ثم قال عز وجل * (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث) * يعني دع هؤلاء الذين لا يؤمنون بهذا القرآن
ويقال فوض أمرهم إلي فإني قادر على أخذهم متى شئت
* (سنستدرجهم) * يعني سنأخذهم وسيأتيهم العذاب
* (من حيث لا يعلمون) * يعني نذيقهم من العذاب درجة درجة من حيث لا يعلمون أن العذاب نازل بهم
وأصله في اللغة من ارتقاء الدرجة
وقال السدي كلما جددوا معصية جدد لهم نعمة وأنساهم شكرها وذلك الاستدراج
* (وأملي لهم) * يعني أمهلهم وأؤجلهم إلى وقت
* (إن كيدي متين) * يعني عقوبتي شديدة إذا نزلت بهم لا يقدرون على دفعها
قوله عز وجل * (أم تسألهم أجرا) * يعني أتسألهم على الإيمان جعلا * (فهم من مغرم مثقلون) * يعني لأجل الغرم يمتنعون
وهذا يرجع إلى قوله * (أم لكم كتاب فيه تدرسون) *
ثم قال * (أم عندهم الغيب) * يعني اللوح المحفوظ
* (فهم يكتبون) * يعني ما يقولون
ثم قال عز وجل * (فاصبر لحكم ربك) * يعني على أمر ربك ولقضاء ربك
* (ولا تكن كصاحب الحوت) * يعني لا تكن في قلة الصبر والضجر مثل يونس عليه السلام * (إذ نادى وهو مكظوم) * يعني مكروبا في بطن الحوت وقال الزجاج * (مكظوم) * أي مملوء غما
* (لولا أن تداركه نعمة من ربه) * يعني لولا النعمة والرحمة التي أدركته من الله تعالى * (لنبذ بالعراء) * يعني لطرح بالصحراء
والصحراء هي الأرض التي لا يكون فيها نخل ولا شجر يوارى فيها * (وهو مذموم) * يعني يذم ويلام
ولكن كان رحمة الله تعالى حيث نبذ بالعراء وهو سقيم وليس بمذموم
قوله تعالى * (فاجتباه ربه) * يعني اختاره ربه للنبوة * (فجعله من الصالحين) * يعني من المرسلين كقوله * (وإن يونس لمن المرسلين) *
قوله عز وجل * (وإن يكاد الذين كفروا) * يعني أراد الذين كفروا
" ليزلقونك
464

بأبصارهم) يعني ليرهقونك بأبصارهم إن قدروا على ذلك
ويقال معناه إذا قرأت القرآن فينظرون إليك نظرا شديدا بالعداوة يكاد يزلقك أي يسقطك من شدة النظر
وذكر عن الفراء أنه قال * (ليزلقونك بأبصارهم) * يعني يعتانونك يعني يصيبونك بأعينهم
وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أراد أن يعتان شيئا يقبل على طريق الإبل إذا صدرت عن الماء فيصيب منها ما أراد بعينه فأرادوا أن يصيبوا النبي صلى الله عليه وسلم
قال الكلبي * (ليزلقونك) * يعني ليصرعونك
* (لما سمعوا الذكر) * يعني قراءتك القرآن * (ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين) * يعني ما هذا القرآن إلا عظة للجن والإنس ويقال عز وشرف للعالمين
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر * (أن كان ذا مال وبنين) * بهمزتين والباقون بهمزة واحدة إلا ابن عامر فإنه يقرأ * (إن كان) * بالمد
فمن قرأ بهمزتين فالألف الأولى للاستفهام والثانية ألف إن
ومن قرأ بهمزة واحدة معناه لأن كان ذا مال أي لا تعطه لماله وتحمل لأن كان ذا مال
قال أساطير الأولين
قرأ نافع * (ليزلقونك) * بنصب الياء والباقون بالضم وهما لغتان ومعناهما واحد
والله أعلم
465

سورة الحاقة مكية وهي اثنتان وخمسون آية
سورة الحاقة 1 - 8
قول الله تبارك وتعالى * (الحاقة ما الحاقة) * وهو اسم من أسماء القيامة ومعناه القيامة ما القيامة تعظيما لأمرها
وقال قتادة في قوله * (الحاقة) * يعني حقت لكل قوم أعمالهم يعني حقت للمؤمنين أعمالهم وللكافرين أعمالهم من حق يحق إذا صح
وذكر عن الفراء أنه قال إنما قيل لها الحاقة لأن فيها حواق الأمور يقال لقد حق عليك الشيء أي وجب
ثم قال * (وما أدراك ما الحاقة) * يعني ما تدري أي يوم هو تعظيما لأمرها
ثم وصف القيامة في قوله * (فإذا نفخ في الصور) * [الحاقة 13]
ثم ذكر من كذب بالساعة والقيامة وما نزل بهم فقال * (كذبت ثمود وعاد بالقارعة) * يعني كذبت قوم صالح وقوم هود بالقيامة
وإنما سميت قارعة لأنها تقرع قلوب الخلق
ثم أخبر عن عقوبتهم في الدنيا فقال * (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية) * يعني بطغيانهم ومعناه طغيانهم حملهم على التكذيب فأهلكوا
ويقال أهلكوا بالرجفة الطاغية كما قال في قصة عاد * (بريح صرصر عاتية) * يعني عتت على خزانها فذلك قوله * (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية) * يعني باردة يعني شديدة البرد * (سخرها عليهم) * يعني سلطها عليهم * (سبع ليال وثمانية أيام حسوما) * يعني دائمة متتابعة
ويقال * (عاتية) * يعني شديدة * (حسوما) * يعني كاملة دائمة لا يفتر عنهم
وقال القتبي * (حسوما) * أي تباعا
وأصله من حسم الداء لأنه يكون مرة بعد مرة
* (فترى القوم فيها صرعى) * يعني في الريح
ويقال في الأيام ويقال في القرية
* (صرعى) * يعني موتى ويقال هلكى ويقال قلعى مطروحين * (كأنهم أعجاز نخل خاوية) * يعني منقلعة ساقطة
وروى شهر بن حوشب عن عبد الله بن عباس قال ما أنزل الله تعالى قطرة من ماء إلا بمثقال ولا شعرة من الريح إلا بمكيال إلا يوم عاد ونوح
وأما
466

الريح فعتت على خزانها يوم عاد فلم يكن لهم عليها سبيل
وأما الماء طغى على خزانة يوم نوح فلم يكن لهم عليه سبيلا كما قال الله تعالى " إنا لما طغا الماء حملناكم " [الحاقة 11] الآية
ثم قال عز وجل * (فهل ترى لهم من باقية) * يعني لم يبق أحدا منهم
سورة الحاقة 9 - 10
ثم قال عز وجل * (وجاء فرعون ومن قبله) *
قرأ أبو عمرو والكسائي * (ومن قبله) * بكسر القاف ونصب الباء الموحدة يعني ظهر فرعون وأتباعه وأشياعه والباقون * (ومن قبله) * بنصب القاف وجزم الباء يعني من تقدمه من عتاة الكفار
ثم قال * (والمؤتفكات بالخاطئة) * يعني قريات قوم لوط يعني جاء فرعون وقوم لوط * (بالخاطئة) * يعني بالشرك وبأعمالهم الخبيثة
* (فعصوا رسول ربهم) * يعني كذبوا رسلهم * (فأخذهم أخذة رابية) * يعني عاقبهم الله تعالى عقوبة شديدة
سورة الحاقة 11 - 17
ثم قال عز وجل * (إنا لما طغى الماء) * يعني طغى على خزانه يوم نوح كما روي عن ابن عباس
ويقال * (طغى الماء) * أي ارتفع ويقال في اللغة طغى الشيء إذا ارتفع جدا
وقال قتادة إنه طغى فوق كل شيء خمسة عشر ذراعا
* (حملناكم في الجارية) * يعني السفينة ومعناه حين غرق الله تعالى قوم نوح حملناكم يا محمد صلى الله عليه وسلم في السفينة في أصلاب آبائكم * (لنجعلها لكم تذكرة
) * يعني لنجعل هلاك قوم نوح لكم عبرة لتعتبروا بها
(وتعيها أذن واعية) يعني لتسمع هذا الخبر أذن سامعة ويحفظها قلب حافظ على معنى الإضمار
ثم رجع إلى أول السورة فقال " فإذا نفح في الصور نفخة واحدة " يعني نفخ إسرافيل في الصور نفخة واحدة
ثم قال * (وحملت الأرض والجبال) * يعني قلعت ما على الأرض من نباتها وشجرها وحملت الجبال عن أماكنها
(فدكتا دكة واحدة) يعني فضربت على الأرض مرة واحدة وهذا قول مقاتل
وقال الكلبي يعني رفعت الأرض والجبال فزلزلتا زلزلة واحدة
ويقال * (فدكتا دكة واحدة) * أي كسرتا كسرة واحدة
* (فيومئذ وقعت الواقعة) * يعني في ذلك اليوم قامت القيامة
* (وانشقت السماء) * يعني انفرجت السماء بنزول الملائكة
* (فهي يومئذ واهية) * يعني ضعيفة منشقة متمزقة من الخوف
* (والملك على أرجائها) * يعني الملائكة على نواحيها وأطرافها يعني صفوف الملائكة حول الأرض * (ويحمل عرش ربك فوقهم) * يعني فوق الخلائق
(يومئذ ثمانية) يعني ثمانية
467

أجزاء من المقربين لا يعلم كثرة عددهم إلا الله
وروى عطاء بن السائب عن ميسرة في قوله * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * يعني ثمانية من الملائكة أرجلهم في تخوم الأرض السابعة
وقال وهب بن منبه أربعة من الملائكة يحملون العرش على أكتافهم لكل واحد منهم أربعة وجوه وجه ثور ووجه أسد ووجه نسر ووجه إنسان
روى الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب في قوله تعالى * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * ثمانية أوعال ما بين ركبهم إلى أظلافهم مسيرة خمسمائة عام
سورة الحاقة 18 - 24
ثم قال عز وجل * (يومئذ تعرضون) * أي تساقون إلى الحساب والقصاص وقراءة الكتب
ويقال * (تعرضون) * على الله تعالى كقوله * (وعرضوا على ربك صفا) * [الكهف 48] ثم قال * (لا تخفى منكم خافية) * يعني لا يخفى على الله منكم ولا من أعمالكم شيء
قرأ حمزة والكسائي * (لا يخفى) * بالياء والباقون بالتاء بلفظ التأنيث لأن لفظ خافية مؤنث
ومن قرأ بالياء انصرف إلى المعنى يعني لا يخفى منكم خاف والهاء ألحقت للمبالغة
ثم قال عز وجل * (فأما من أوتي كتابه بيمينه) * يعني كتابه الذي فيه عمله فرأى فيه الحسنات فسر بذلك * (فيقول) * لأصحابه * (هاؤم اقرؤوا كتابيه) * يعني تعالوا اقرأوا كتابيه
قال القتبي * (هاؤم) * في اللغة بمنزلة خذ وتناول ويقال للاثنين هاؤما وللجماعة هاؤموا
والأصل هاكم فحذفوا الكاف وأبدلوها همزة
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال بلغني أنهم يعرضون ثلاث عرضات
فأما عرضتان فهما الخصومات والمعاذير وأما الثالثة فتطاير الصحف في الأيدي
وروى عن عبد الله بن مسعود نحو هذا
ثم قال * (إني ظننت أني ملاق حسابيه) * يعني أيقنت وعلمت أني أحاسب
قوله تعالى * (فهو في عيشة راضية) * يعني في عيش مرضي * (في جنة عالية) * يعني مرتفعة
* (قطوفها دانية) * يعني اجتناء ثمارها قريب يعني شجرها قريب يتناوله القائم والقاعد ويقال لهم * (كلوا واشربوا هنيئا) * يعني كلوا من ثمار الجنة واشربوا من شرابها هنيئا يعني طيبا بلا داء ويقال حلال لا إثم فيه
* (بما أسلفتم) * يعني بما عملتم وقدمتم * (في الأيام الخالية) * يعني في الدنيا
ويقال بما عملتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية يعني في الدنيا
سورة الحاقة 25 - 26
468

سورة الحاقة 27 - 37
ثم قال عز وجل * (وأما من أوتي كتابه بشماله) * روي عن ابن عباس أنه قال الآية الأولى نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد وهذه الآية في الأسود بن عبد الأسد
ويقال في جميع المؤمنين وفي جميع الكفار
* (فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه) * يعني لم أعط كتابيه * (ولم أدر ما حسابيه) * يعني لم أعلم ما حسابي
قوله تعالى * (يا ليتها كانت القاضية) * يا ليتني تركت على الموتة الأولى بين النفختين ويقال * (يا ليتها كانت القاضية) * يعني المنية
قال مقاتل يعني يتمنى الموت
* (ما أغنى عني ماليه) * يعني ما أرى ينفعني مالي الذي جمعت في الدنيا
* (هلك عني سلطانيه) * يعني بطل عني عذري وحجتي
يقول الله تعالى * (خذوه فغلوه) * يعني بالأغلال الثقال
* (ثم الجحيم صلوه) * يعني أدخلوه
* (ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) * يعني أدخوله في تلك السلسلة
* (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) * يعني لا يصدق بالله العظيم
* (ولا يحض) * يعني لا يحث نفسه ولا غيره * (على طعام المسكين) * يعني لا يطعم المسكين في الدنيا
" فليس له اليوم هاهنا حميم " يعني قريب يمنع منه شيئا يعني أحدا يمنع من العذاب
* (ولا طعام إلا من غسلين) * يعني ليس له فيها طعام إلا من غسلين
وروى عكرمة عن ابن عباس قال لا أدري ما الغسلين
وروي عنه أنه قال الغسلين ما سقط عن عروقهم وذاب من أجسادهم
وقال القتبي هو فعلين من غسلت فكأنه غسالة
* (لا يأكله إلا الخاطئون) * يعني المشركين
وروى عكرمة عن ابن عباس أن رجلا قرأ عنده * (لا يأكله إلا الخاطئون) * وقال ابن عباس كلنا نخطئ ولكن * (لا يأكله إلا الخاطئون) * يعني العاصين الكافرين
سورة الحاقة 38 - 52
ثم قال عز وجل * (فلا أقسم بما تبصرون) * يعني أقسم بما تبصرون من الشيء ومن
469

الخلق
* (وما لا تبصرون) * من الخلق
* (إنه لقول رسول كريم) * يعني هذا القرآن قول رسول كريم على الله تعالى يعني جبريل وهذا قول مقاتل
ويقال * (قول رسول كريم) * يعني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني محمدا صلى الله عليه وسلم
قال أبو العالية إنه يعني القرآن * (لقول رسول كريم) * يقرأ عليك يا محمد
ويقال معناه إن الذي ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن ويقرؤه عليه جبريل الكريم على الله تعالى ليس الشياطين كما يقولون
* (وما هو بقول شاعر) * يعني القرآن ليس بقول شاعر
* (قليلا ما تؤمنون) * يعني قليلا ما تؤمنون
* (وما) * صلة
قرأ ابن كثير وابن عامر في رواية هشام * (قليلا ما يؤمنون) * بالياء " وقليلا ما يذكرون " بالياء والباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم قال * (ولا بقول كاهن) * يعني ليس بقول كاهن وليس بقول شيطان أي عراف كاذب
* (قليلا ما تذكرون) * يعني قليلا ما تتعظون
ثم قال عز وجل * (تنزيل من رب العالمين) * يعني القرآن هو كلام رب العالمين أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال * (ولو تقول علينا بعض الأقاويل) * يعني أن محمد صلى الله عليه وسلم لو قال من ذات نفسه * (لأخذنا منه باليمين) * يعني لعاقبناه
فأعلم الله تعالى أنه لا محاباه لأحد إذا عصاه بالقرآن وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم
ومعنى قوله * (باليمين) * يعني بالقوة
وقال القتبي إنما قام اليمين مقام القوة لأن قوة كل شيء في يمينه
ولأهل اللغة في هذا مذاهب أخر وهو قولهم إذا أرادوا عقوبة أحد فيقولون خذ بيده وافعل به كذا وكذا فكأنه قال الله عز وجل لو كذب علينا لأمرنا به بالأخذ بيده ثم عاقبناه
ويقال * (لو تقول علينا بعض الأقاويل) * معناه لو زاد حرفا واحدا على ما أوحيته إليه أو نقص لعاقبته وكان هو أكرم الناس علي
وفي الآية تنبيه لغيره لكيلا يغيروا شيئا من كتاب الله تعالى ولا يتقولوا فيه شيئا من ذات أنفسهم
ويقال * (باليمين) * يعني بالحق
ويقال بالحجة
* (ثم لقطعنا منه الوتين) * وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه يعني لأهلكناه
ثم قال * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * يعني ليس أحد منكم يمنعنا من عذابه
* (وإنه) * يعني القرآن * (لتذكرة للمتقين) * يعني عظة للذين يتقون الشرك والفواحش
* (وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) * يعني وإنا لنعلم أن منكم أيها المؤمنون مكذبون بالقرآن يعني المنافقين
ثم قال عز وجل * (وإنه لحسرة على الكافرين) * يعني إن هذا القرآن ندامة على الكفارين يوم القيامة لأنه يقال لهم ألم يقرأ عليكم القرآن فيكون لهم حسرة وندامة بترك الإيمان
* (وإنه لحق اليقين) * يعني إن تلك الندامة لحق اليقين ليكون ذلك
ويقال إن القرآن من الله تعالى * (حق اليقين) * حقا يقينا
* (فسبح باسم ربك العظيم) * يعني صل لله تعالى
ويقال سبحه باللسان
والله أعلم وإليه المرجع والمآب و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
470

سورة المعارج مكية وهي أربعون وأربع آيات
سورة المعارج 1 - 7
قول الله تبارك وتعالى * (سأل سائل) *
قرأ نافع * (سأل) * بغير همزة والباقون بالهمزة
فمن قرأ بغير همزة فهو من سال يسيل يعني جرى واد بعذاب الله تعالى
ومن قرأ بالهمزة فهو من سأل يسأل بمعنى دعا داع
* (بعذاب واقع) * وهو النضر بن الحارث فوقع به العذاب فقتل يوم بدر في الدنيا
وقال مجاهد دعا داع بعذاب يقع في الآخرة وهو قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء
ويقال * (سأل سائل) * عن عذاب واقع والجواب * (للكافرين ليس له دافع) * يعني مانع من الله * (ذي المعارج) * يعني ذلك العذاب من الله واقع للكافرين الذي هو * (ذي المعارج) * قال مقاتل يعني ذا الدرجات يعني السماوات السبع
وقال القتبي يعني معارج الملائكة أي تصعد تصد الملائكة * (تعرج الملائكة والروح إليه) * يعني جبريل
* (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) * يعني ذلك العذاب واقع في يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة
ويقال يعني يعرج جبريل والملائكة في يوم واحد كان مقداره إن لو صعد غيرهم خمسين ألف سنة
وقال محمد بن كعب * (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) * قال هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة
ثم قال عز وجل * (فاصبر صبرا جميلا) * يعني اصبر صبرا حسنا لا جزع فيه
ثم أخبر متى يقع العذاب فقال * (إنهم يرونه بعيدا) * يعني يوم القيامة غير كائن عندهم
* (ونراه قريبا) * لا خلف فيه
سورة المعارج 8 - 14
ثم قال * (يوم تكون السماء كالمهل) * يعني اليوم الذي تكون السماء * (كالمهل) * أي
471

كدردي الزيت من الخوف
ويقال ما أذيب من الفضة أو النحاس
* (وتكون الجبال كالعهن) * يعني كالصوف المندوف * (ولا يسأل حميم حميما) * يعني لا يسأل قريب عن قريبه
قرأ الكسائي " يعرج الملائكة " بالياء والباقون بالتاء بلفظ التأنيث لأنها جمع الملائكة
ومن قرأ بالياء فلتقديم الفعل
وروي عن ابن كثير انه قرأ * (ولا يسأل حميم) * بضم الياء والباقون بالنصب
ومن قرأ بالضم فمعناه أنه لا يسأل قريب عن ذي قرابته لأن كل إنسان يعرف بعضهم بعضا
قوله تعالى * (يبصرونهم) * يعني يعرفونهم ملائكة الله
ومن قرأ بالنصب معناه لا يسأل قريب عن قريبه لأنه يعرف بعضهم بعضا * (يبصرونهم) * يعني يعرفونهم ويقال مرة يعرفونهم ومرة لا يعرفونهم
ثم قال تعالى * (يود المجرم) * يعني يتمنى الكافر
* (لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه) * يعني يفادي نفسه بولده * (وصاحبته) * يعني وزوجته * (وأخيه وفصيلته التي تؤويه) * يعني عشيرته التي يأوى إليهم
وقال مجاهد * (وفصيلته) * أي قبيلته هكذا روي عن قتادة
وقال قتادة يعني عترته وقال الضحاك يعني عشيرته
* (ومن في الأرض جميعا) * يعني يفادي نفسه بجميع من في الأرض
* (ثم ينجيه) * يعني ينجي نفسه من العذاب
سورة المعارج 15 - 18
قال الله تعالى * (كلا) * أي حقا لا ينجيه وإن فادى جميع الخلق ولا يفادي نفسه وقال أهل اللغة * (كلا) * ردع وتنبيه يعني لا يكون كما تمنى
ثم استأنف الكلام فقال * (كلا إنها لظى) * يعني النار والعقوبة و * (لظى) * اسم من أسماء النار
* (نزاعة للشوى) * يعني قلاعة للأعضاء ويقال حراقة للأعضاء والجسد
وقال القتبي الشوى جلود الرأس واحدها شواة يعني أن النار تنزع جلود الرأس
وعن أبي صالح قال * (نزاعة للشوى) * أطراف اليدين والرجلين وقال مقاتل يعني تنزع النار الهامة والأطراف
قرأ عاصم في رواية حفص * (نزاعة) * نصبا على الحال والباقون بالضم يعني إنها نزاعة للشوى
* (تدعو من أدبر وتولى) * يعني لظى تدعو إلى نفسه تنادي من أعرض عن التوحيد وأعرض عن الإيمان
ويقال إن لظى تنادي وتقول أيها الكافر تعال إلي فإن مستقرك في
وتقول أيها المنافق تعال إلي فإن مستقرك في
فذلك قوله * (تدعو من أدبر وتولى) *
ثم قال * (وجمع فأوعى) * يعني جمع المال ومنع حق الله تعالى
قال مقاتل * (فأوعى) * يعني فأمسكه فلم يؤد حق الله تعالى
سورة المعارج 19 - 21
472

سورة المعارج 22 - 28
ثم قال عز وجل * (إن الإنسان خلق هلوعا) * يعني حريصا ضجورا بخيلا ممسكا وقال القتبي * (هلوعا) * يعني شديد الجزع
يقال ناقة هلوع إذا كانت حديدة النفس
* (إذا مسه الشر جزوعا) * يعني الفقر لا يصبر على الشدة
* (وإذا مسه الخير منوعا) * يعني إذا أصابه الغنى يمنع حق الله تعالى
* (إلا المصلين) * فإنهم ليسوا هكذا وهم يؤدون حق الله تعالى
* (الذين هم على صلاتهم دائمون) * يعني يحافظون على الصلوات
* (والذين في أموالهم حق معلوم) * يعني معروفا * (للسائل والمحروم) * يعني للسائل الذي يسأل الناس والمحروم الذي لا يشهد الغنيمة ولا يسهم له
وروى وكيع عن سفيان عن قيس عن محمد بن الحسن قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فغنمت فجاء آخرون بعد ذلك فنزل " وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم "
وقال الشعبي أعياني أن أعلم ما المحروم
ثم قال عز وجل * (والذين يصدقون بيوم الدين) * يعني بيوم الحساب
* (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) * يعني خائفين
* (إن عذاب ربهم غير مأمون) * يعني لم يأت لأحد الأمان من عذاب الله تعالى ويقال لا ينبغي لأحد أن يأمن من عذاب الله تعالى
سورة المعارج 29 - 35
ثم قال " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هو العادون " وقد ذكرناه
* (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) * يعني الأمانات التي فيما بينهم وبين الله تعالى والعهد الذي بينهم وبين الناس حافظون
* (والذين هم بشهاداتهم قائمون) * يعني يؤدون الشهادة عند الحاكم ولا يكتمونها إذا دعوا إليها فيؤدون الشهادة على الوجه الذي علموها قرأ عاصم في رواية حفص وأبو عمرو في إحدى الروايتين * (بشهاداتهم) * وهو جمع الشهادة والباقون " بشهادتهم " وهي شهادة واحدة وإنما تقع على الجنس
ثم قال * (والذين هم على صلاتهم يحافظون) * يعني يداومون عليها ويحافظون عليها في مواقيتها
* (أولئك في جنات مكرمون) * يعني أهل هذه الصفة في جنات * (مكرمون) * بثواب من الله تعالى بالتحف والهدايا
سورة المعارج 36 - 37
473

سورة المعارج 38 - 44
ثم قال عز وجل * (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) * يعني حولك ويقال عندك ناظرين
والمهطع المقبل ببصره على الشيء كانوا ينظرون إليه نظرة عداوة يعني كفار مكة
وإنما قوله * (مهطعين) * نصبا على الحال
* (عن اليمين وعن الشمال عزين) * يعني حلقا حلقا جلوسا لا يدنون منه فينتفعون بمجلسه
ويقال * (عزين) * يعني متفرقين
وروى تيمم عن طرفة عن جابر بن سمرة قال دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس متفرقين
ثم قال (ما لي أراكم عزين) يعني متفرقين * (أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم) * يعني يتمنى كل واحد منهم أن يدخل الجنة كما يدخل المسلمون
قال الله تعالى * (كلا) * يعني لا يدخلون ما داموا على كفرهم
ثم قال تعالى * (إنا خلقناهم مما يعلمون) * يعني من النطفة
وقال الزجاج معناه أنهم خلقوا من تراب ثم من نطفة
فأي شيء يدخلون به الجنة ويقال * (إنا خلقناهم مما يعلمون) * فبماذا يتكبرون ويتجبرون
ثم قال عز وجل * (فلا أقسم برب المشارق) * يعني أقسم برب المشارق وقال في آية * (رب المشرق والمغرب) * [الشعراء 28]
وإنما أراد به الناحية التي تطلع الشمس منها والناحية التي تغرب الشمس منها
وقال في آية أخرى * (رب المشرقين) * [الرحمن 17] يعني مشرق الشتاء ومشرق الصيف ورب المغربين كذلك وقال في هذه الآية * (برب المشارق) * يعني مشرق كل يوم وهي ثمانون ومائة مشرق في الشتاء مثلها في الصيف
ثم قال * (والمغارب) * يعني مغرب كل يوم
* (إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم) * يعني على أن نهلكهم ونخلق خلقا خيرا منهم * (وما نحن بمسبوقين) * يعني عاجزين
ثم قال * (فذرهم) * يعني اتركهم وأعرض عنهم
* (يخوضوا ويلعبوا) * يعني * (يخوضوا) * في الباطل ويستهزئوا
* (حتى يلاقوا يومهم) * يعني يعاينوا يومهم * (الذي يوعدون) *
قوله تعالى * (يوم يخرجون من الأجداث سراعا) * يعني في اليوم الذي يوعدون في اليوم الذي يخرجون من القبور * (سراعا) * يعني يسرعون إلى الصوت * (كأنهم إلى نصب يوفضون) * يعني إلى علم منصوب يمضون
قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص " إلى
474

نصب) بضم النون والصاد يعني أصناما لهم كقوله * (وما ذبح على النصب) * [المائدة 3] والباقون * (إلى نصب) * يعني إلى علم منصوب لهم وعن مسلم بن البطين قال * (إلى نصب) * يعني كأنهم إلى علم يستبقون
وقال أهل اللغة الإيفاض هو الإسراع
* (خاشعة أبصارهم) * يعني ذليلة أبصارهم
* (ترهقهم ذلة) * يعني تغشاهم مذلة
ثم قال * (ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون) * يعني يوعدون فيه العذاب وهم له منكرون و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد
475

سورة نوح وهي ثمان وعشرون آية مكية
سورة نوح 1 - 4
قول الله تبارك تعالى * (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) * يعني جعله الله رسولا إلى قومه
* (أن أنذر قومك) * يعني أن خوف قومك بالنار لكي يؤمنوا بالله
* (من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) * يعني الطوفان والغرق
* (قال يا قوم إني لكم نذير مبين) * يعني قال نوح لقومه أنبئكم بلغة تعرفونها * (أن اعبدوا الله) * يعني أنذركم وأقول لكم اعبدوا الله ووحدوه الله
* (واتقوه) * يعني اخشوه واجتنبوا معاصيه
* (وأطيعون) * فيما آمركم * (يغفر لكم من ذنوبكم) * يعني ذنوبكم
و " من " صلة
* (ويؤخركم إلى أجل مسمى) * يعني يؤجلكم إلى منتهى آجالكم
* (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) * يعني عذاب الله لا يستطيع أن يؤخره أحد
* (لو كنتم تعلمون) * يعني لو كان لكم علم تنتفعون به
سورة نوح 5 - 14
قوله تعالى * (قال رب) * يعني دعا نوح ربه بعد ما كذبوه في طول المدة * (قال رب) * يعني يا رب * (إني دعوت قومي) * إلى التوحيد * (ليلا ونهارا) * يعني في كل وقت سرا وعلانية
* (فلم يزدهم دعائي) * يعني إلى التوحيد * (إلا فرارا) * يعني تباعدا من الإيمان
قال عز وجل * (وإني كلما دعوتهم) * إلى التوحيد * (لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم) * لكيلا يسمعوا دعائي * (واستغشوا ثيابهم) * يعني غطوا رؤوسهم بثيابهم لكي لا
476

يسمعوا كلامي
* (وأصروا) * يعني أقاموا على الكفر والشرك * (واستكبروا استكبارا) * يعني تكبروا عن الإيمان تكبرا
قوله تعالى * (ثم إني دعوتهم جهارا) * يعني دعوتهم إلى الإيمان علانية من غير خفية * (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا) * يعني خلطت دعاءهم بالعلانية بدعائهم في السر
ويقال جعلت دعاءهم بالعلانية كدعائهم في السر * (فقلت استغفروا ربكم) * يعني توبوا وارجعوا من ذنوبكم يعني الشرك والفواحش
* (إنه كان غفارا) * يعني غفارا لمن تاب من الشرك
* (يرسل السماء عليكم مدرارا) * يعني المطر دائما كلما احتاجوا إليه
* (ويمددكم بأموال وبنين) * يعني يعطيكم أموالا وأولادا * (ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) * يعني يجعل لكم البساتين والأنهار في الجنان
قوله تعالى * (ما لكم لا ترجون لله وقارا) * ما لكم لا تخافون لله عظمة في التوحيد وهو قول الكلبي ومقاتل
وقال قتادة ما لكم لا ترجون لله عاقبة ويقال ما لكم لا ترجون عاقبة الإيمان يعني الجنة
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته وقال مجاهد ما لكم لا ترجون لله عظمة وقال مجاهد ما لكم لا ترون لله عظمة * (وقد خلقكم أطوارا) * يعني خلقا بعد خلق وحالا بعد حال نطفة ثم علقة ثم مضغة
فمعناه ما لكم لا توحدوه وقد خلقكم * (أطوارا) * يعني ضروبا ويقال أراد به اختلاف الأخلاق والمناظر
سورة نوح 15 - 20
ثم وعظهم ليعتبروا فقال عز وجل * (ألم تروا كيف خلق الله) * يعني ألم تنظروا فتعتبروا كيف خلق الله تعالى * (سبع سماوات طباقا) * يعني مطبقا بعضها فوق بعض
* (وجعل القمر فيهن نورا) * يعني ضياء لبني آدم
وإنما قال * (فيهن) * أراد به سماء الدنيا لأنها إحداهن
* (وجعل الشمس سراجا) * يعني نورا للخلق
ويقال * (جعل القمر فيهن نورا) * يعني في جميع السماوات لأن وجهه مضيء لأهل السماوات وظهره لأهل الأرض ويقال * (وجعل القمر فيهن نورا) * يعني معهن نورا
ثم قال عز وجل * (والله أنبتكم من الأرض نباتا) * يعني خلقكم في الأرض خلقا
ويقال خلقكم من الأرض وهو آدم وأنتم من ذريته
* (ثم يعيدكم فيها) * يعني بعد الموت
* (ويخرجكم إخراجا) * يعني يخرجكم من الأرض يوم القيامة
قوله تعالى " والله جعل لكم
477

الأرض بساطا) يعني فراشا * (لتسلكوا منها) * يعني فتمضوا فيها وتأخذوا فيها * (سبلا فجاجا) * يعني طرقا بين الجبال والرمال ويقال طرقا واسعة
سورة نوح 21 - 28
قوله تعالى * (قال نوح رب إنهم عصوني) * فيما أمرتهم من توحيد الله تعالى * (واتبعوا) * يعني أطاعوا * (من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) * يعني أطاعوا من لم يزده ماله * (وولده إلا خسارا) * يعني كثرة ماله وولده إلا خسرانا في الآخرة
قوله * (ومكروا مكرا كبارا) * يعني مكرا كبيرا عظيما ويقال يعني قالوا كلمة الشرك
والكبير والكبار بمعنى واحد
* (وقالوا لا تذرن آلهتكم) * يعني قال بعضهم لبعض ويقال قال الرؤساء للسفلة * (لا تذرن) * يعني لا تتركوا عبادة آلهتكم
* (ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) * فهذه أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها يعني لا تتركوا عبادة هذه الأصنام
قرأ نافع * (ودا) * بضم الواو والباقون بالنصب ومعناهما واحد وهو اسم الصنم وقال قتادة هذه الآلهة كان يعبدها قوم نوح ثم عبدها العرب بعد ذلك
وقال القتبي * (الود) * صنم ومنه كانت العرب تسمى عبد ود وكذلك تسمي عبد يغوث
قوله تعالى * (وقد أضلوا كثيرا) * يعني هذه الأصنام أضلوا كثيرا من الناس يعني ضل بهن كثير من الناس كقوله * (إنهن أضللن كثيرا من الناس) *
ثم قال * (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) * يعني إلا خسارا وغبنا
ثم قال عز وجل * (مما خطيئاتهم أغرقوا) * يعني بشركهم بالله تعالى أغرقوا في الدنيا
* (فأدخلوا نارا) * في الآخرة
قال مقاتل " بما خطيئاتهم أغرقوا " يعني بخطياتهم وقال القتبي بما خطياتهم أغرقوا يعني من خطيئاتهم أغرقوا و " ما " زائدة
ثم قال * (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) * يعني أعوانا يمنعونهم من العذاب
قرأ أبو عمرو * (خطاياهم) * والباقون * (خطيئاتهم) * ومعناهما واحد وهو جمع خطيئة
قوله تعالى * (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * يعني لا تدع على ظهر الأرض من الكافرين * (ديارا) * يعني أحدا منهم ويقال أصله من الدار يعني نازلا بها
478

ويقال في الدار أحد وما بها ديار يعني من أحد منهم ويقال
أصله ديوار فقلبت الواو ياء ثم شددت وأدغمت إحداهما في الآخرى
ثم قال عز وجل * (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك) * يعني إنك إن تتركهم ولم تهلكهم يدعوا الموحدين إلى الكفر
* (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * يعني لا يكون منهم إلا أولاد يكفرون ويفجرون بعد البلوغ ويقال يعني ولا يلدوا إلا فجارا كفارا
وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره)
ثم قال عز وجل * (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا) * يعني سفينتي وديني
وقال الكلبي * (ولمن دخل بيتي مؤمنا) * يعني مسجدي
قوله * (وللمؤمنين والمؤمنات) * يعني لجميع المؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة * (ولا تزد الظالمين إلا تبارا) * يعني لا تزد الكافرين إلا هلاكا كقوله " تبرناهم تتبيرا "
وروى عكرمة عن ابن عباس كان إذا قرأ القرآن في الليل فمر بآية فيقول لي يا عكرمة ذكرني هذه الآية غدا
فقرأ ذات ليلة هذه الآية فقال يا عكرمة ذكرني غدا فذكرته ذلك فقال إن نوحا دعا بهلاك الكافرين ودعا للمؤمنين بالمغفرة وقد استجيب دعاؤه للمؤمنين بالمغفرة وقد استجيب دعاؤه على الكافرين فأهلكوا فكذلك استجيب دعاؤه في المؤمنين فيغفر الله تعالى للمؤمنين والمؤمنات بدعائه وبهلاك الكافرين فأهلكوا
وروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال نجاة المؤمنين في ثلاثة أشياء بدعاء نوح عليه السلام وبدعاء إسحاق عليه السلام وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يعني للمذنبين والله أعلم
479

سورة الجن مكية وهي عشرون وثمان آيات
سورة الجن 1 - 4
قوله تبارك تعالى * (قل أوحي إلي) * يعني قل يا محمد أوحى الله إلي أي أخبرني الله تعالى في القرآن
* (أنه استمع نفر من الجن) * وهم تسعة من أهل نصيبين ومن أهل اليمن من أشرافهم
والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين السماء أي بين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فقالوا ما هذا إلا لشيء قد حدث
فضربوا مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء
فوجدوا النفر الذين خرجوا نحو تهامة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة وهو يصلي مع أصحابه صلاة الفجر فاستمعوا منه فقالوا هذا والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء
فرجعوا إلى قومهم * (فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد) * فأنزل الله تعالى * (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) * يعني طائفة وجماعة من الجن * (فقالوا إنا سمعنا) * يعني قالوا بعدما رجعوا إلى قومهم * (إنا سمعنا قرآنا عجبا) * يعني عزيزا شريفا كريما ويقال عزيزا لا يوجد مثله
* (يهدي إلى الرشد) * يعني يدعو إلى الهدى وهو الإسلام
ويقال إلى الصواب والتوحيد والأمر والنهي
ويقال يدل على الحق * (فآمنا به) * يعني صدقنا بالقرآن
ويقال آمنا بالله تعالى
* (ولن نشرك بربنا أحدا) * يعني إبليس يعني لن نشرك بعبادته أحدا من خلقه
قوله عز وجل * (وأنه تعالى جد ربنا) * أي ارتفعت عظمة ربنا
ويقال ارتفع ذكره ويقال ارتفع ملكه وسلطانه
* (ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) * يعني لم يتخذ زوجة ولا ولدا كما زعم الكفار
واتفق القراء في قوله * (أنه استمع) * على نصب الألف لأن معناه قل أوحي إلي بأنه استمع
واتفقوا في قوله * (إنا سمعنا) * على الكسرة لأنه على معنى الابتداء
واختلفوا فيما سوى ذلك
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر كلها بالنصب بناء على قوله * (أنه استمع) * بالنصب إلا في حرفين أحدهما * (فأن له نار جهنم) * بالكسر والأخرى قوله " فإنه يسلك من
480

بين يديه) [الجن 27] بالكسر على معنى الابتداء
وقرأ أبو عمرو وابن كثير كلها بالكسر إلا في أربعة أحرف * (قل أوحي إلي أنه استمع) * " وألوا استقاموا " [الجن 16] " وأن المسجد " [الجن 18] * (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) * [الجن 19]
قرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع في إحدى الروايتين هكذا إلا في قوله * (وأنه لما قام عبد الله) * وإنما اختاروا الكسر لهذه الأحرف بناء على قوله * (إنا سمعنا) * وقال أبو عبيدة ما كان من قول الجن فهو كسر ويكون معناه وقالوا إنه تعالى وقالوا * (أنه كان يقول) * وما كان محمولا على قوله * (أوحي إلي) * فهو نصب على معنى أوحي إلي أنه
ثم قال * (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) * يعني جاهلنا يعني إبليس لعنه الله ويقال * (وأنه كان يقول سفيهنا) * يعني كفرة الجن
* (على الله شططا) * يعني كذبا وجورا من المقال
سورة الجن 5 - 10
ثم قال عز وجل * (وأنا ظننا) * يعني حسبنا * (أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا) * يعني نتوهم أن أحدا لا يكذب على الله وإلى هاهنا حكاية كلام الجن
يقول الله تعالى * (وأنه كان رجال من الإنس) * يعني في الجاهلية * (يعوذون برجال من الجن) * وذلك أن الرجل إذا نزل في فضاء من الأرض كان يقول أعوذ بسيد هذا الوادي فيكون في أمانهم تلك الليلة
* (فزادوهم رهقا) * يعني زادوا للجن عظمة وتكبروا ويقولوا بلغ من سؤددنا أن الجن والإنس يطلبون منا الأمان * (وأنهم ظنوا كما ظننتم) * يعني كفار الجن حسبوا كما حسبتم يا أهل مكة * (أن لن يبعث الله أحدا) * يعني بعد الموت يعني إنهم كانوا غير مؤمنين كما أنكم لا تؤمنون
ويقال إنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا يعني رسولا
فقد أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم
ثم رجع إلى كلام الجن فقال * (وأنا لمسنا السماء) * يعني صعدنا السماء وأتينا السماء لاستراق السمع
* (فوجدناها ملئت حرسا شديدا) * يعني حفاظا أقوياء من الملائكة
* (وشهبا) * يعني رمينا نجما متوقدا
* (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع) * يعني كنا نقعد فيما مضى للاستماع من الملائكة ما يقولون فيما بينهم من الكوائن
* (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) * يعني نجما مضيئا
والرصد الذي أرصد للرجم يعني النجم
وروى عبد الرزاق
481

عن معمر قال قلت للزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية قال نعم
قلت أفرأيت قوله * (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) * قال غلظ وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قالت الجن بعضهم لبعض * (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض) * يعني يبعثه فلم يؤمنوا فيهلكوا * (أم أراد بهم ربهم رشدا) * يعني خيرا وصوابا فيؤمنوا ويهتدوا
ويقال لا ندري أخيرا أريد بأهل الأرض أو الشر حين حرست السماء ورمينا بالنجوم ومنعنا السمع ويقال أريد عذابا بمن في الأرض بإرسال الرسول بالتكذيب له أو أراد بهم ربهم خيرا ببيان الرسول لهم هدى وبيانا
سورة الجن 11 - 17
ثم قال عز وجل * (وأنا منا الصالحون) * يعني الموحدين والمسلمين
* (ومنا دون ذلك) * يعني ليسوا بموحدين
* (كنا طرائق قددا) * يعني فينا أهواء مختلفة وملل شتى
وقال القتبي يعني فرقا مختلفة وكل فرقة قدة مثل القطعة في التقدير والطرائق جمع الطريق
قوله تعالى * (وأنا ظننا) * يعني علمنا وأيقنا * (أن لن نعجز الله في الأرض) * يعني لا يفوت أحد من الله تعالى أي لا يفوت من حكم الله تعالى
* (ولن نعجزه هربا) * لا نقدر على الهرب منه
قال الله عز وجل * (وأنا لما سمعنا الهدى) * يعني القرآن يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم * (آمنا به) * يعني يعني صدقنا بالقرآن ويقال بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقال صدقنا بالله تعالى * (فمن يؤمن بربه) * قال بعضهم هذا من كلام الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم فمن يصدق بوحدانية الله تعالى * (فلا يخاف بخسا) * يعني نقصانا من ثواب عمله * (ولا رهقا) * يعني ذهاب عمله كقوله تعالى * (فلا يخاف ظلما ولا هضما) * [طه 112] ويقال هذا كلام الجن بعضهم لبعض * (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا) *
والرهق الظلم أن يجعل ثواب عمله لغيره
والبخس النقصان من ثواب عمله
قوله تعالى * (وأنا منا المسلمون) * يعني المصدقين بوحدانية الله تعالى * (ومنا القاسطون) * يعني العادلين عن طريق الهدى
ويقال * (القاسطون) * يعني الجائزين
يقال قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل
كقوله تعالى * (إن الله يحب المقسطين) *
482

ثم قال * (فمن أسلم) * يعني أقر بوحدانية الله تعالى وأخلص التوحيد له * (فأولئك تحروا رشدا) * يعني نووا وتمنوا وقصدوا ثوابا
ثم قال عز وجل * (وأما القاسطون) * يعني العادلين عن الطريق الجائرين * (فكانوا لجهنم حطبا) * يعني وقودا
قال الله تعالى * (وأن لو استقاموا على الطريقة) *
قال مقاتل لو استقاموا على طريقة الهدى يعني أهل مكة * (لأسقيناهم ماء غدقا) * يعني كثيرا من السماء كقوله " ولو أن أهل القرىءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " [الأعراف 96]
ثم قال عز وجل * (لنفتنهم فيه) * يعني لكي نبتليهم بالخصب قال الكلبي لو استقاموا على طريقة الكفر كلهم كانوا كفارا * (لأسقيناهم ماء غدقا) * يعني لأعطيناهم ماء كثيرا * (لنفتنهم فيه) * لنبتليهم به كقوله * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) * [الزخرف 33] الآية
وقال قتادة * (وأن لو استقاموا على الطريقة) * يعني آمنوا لوسع الله عليهم الرزق
وقال القتبي هذا مثل ضربه الله تعالى للزيادة في أموالهم ومواشيهم كقوله * (ولولا أن يكون الناس) *
ثم قال * (ومن يعرض عن ذكر ربه) * يعني توحيد ربه ويقال يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن * (يسلكه عذابا صعدا) * يعني يكلفه الصعود على جبل أملس
وقال مقاتل * (عذابا صعدا) * أي شدة العذاب
وقال القتبي يعني شاقا وقال قتادة صعودا من عذاب الله تعالى لا راحة فيه
سورة الجن 18 - 23
ثم قال عز وجل * (وأن المساجد لله) *
قال الحسن يعني الصلاة لله تعالى وقال قتادة كانت اليهود والنصارى يدخلون كنائسهم ويشركون بالله تعالى فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخلص الدعوة له إذا دخل المسجد
وقال القتبي قوله * (وأن المساجد لله) * يعني السجود لله
ويقال هي المساجد بعينها يعني بنيت المساجد ليعبدوا الله تعالى فيها
* (فلا تدعوا مع الله أحدا) * يعني لا تعبدوا أحدا غير الله تعالى
قرأ حمزة والكسائي وعاصم * (يسلكه) * بالياء والباقون بالنون ومعناهما واحد يقال سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته إذا أدخلته
قوله عز وجل * (وأنه لما قام عبد الله) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم لما قام إلى الصلاة ببطن نخلة
483

* (يدعوه) * يعني يصلي لله تعالى ويقرأ كتابه
* (كادوا يكونون عليه لبدا) * يعني يركب بعضهم بعضا ويقع بعضهم على بعض
ثم قال عز وجل * (قل إنما أدعو ربي) *
قرأ حمزة وعاصم * (قل إنما أدعو ربي) * على معنى الأمر يعني قل يا محمد إنما أدعو ربي يعني أعبده
* (ولا أشرك به أحدا) *
قرأ الباقون على معنى الخبر عنه
قرأ ابن عامر في رواية هشام * (عليه لبدا) * بضم اللام والباقون بكسرها ومعناهما واحد
وقال القتبي * (يكونون عليه لبدا) * أي يتلبدون به رغبة في استماع القرآن
يقال لبدت به أي لصقت به ومعناه كادوا أن يلصقوا به
قوله تعالى * (قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) * يعني لا أقدر لكم خذلانا ولا هداية
قوله تعالى * (قل إني لن يجيرني من الله أحد) * يعني لن يمنعني من عذاب الله أحد إن عصيته * (ولن أجد من دونه ملتحدا) * يعني ملجأ ولا مفرا
* (إلا بلاغا من الله ورسالاته) * يعني فذلك الذي يجيرني من عذاب الله ويقال في الآية تقديم ومعناه قل لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا أن أبلغكم رسالات ربي يعني ليس بيدي شيء من الضر والنفع والهداية إلا بتبليغ الرسالة
* (ومن يعص الله ورسوله) * في التوحيد ولم يؤمن به * (فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) * أي مقيمين في النار أبدا يعني دائما
وقد تم الكلام
سورة الجن 24 - 28
ثم قال عز وجل * (حتى إذا رأوا ما يوعدون) * من العذاب يعني لما رأوا العذاب ويقال معناه أمهلهم حتى إذا رأوا ما يوعدون في الدنيا وفي الآخرة " فسيعلمون من هو أضعف ناصرا " يعني مانعا من العذاب
* (وأقل عددا) * يعني رجالا
فقالوا متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمد فنزل * (قل إن أدري أقريب ما توعدون) * يعني ما أدري أقريب ما توعدون من العذاب * (أم يجعل له ربي أمدا) * يعني أجلا ينتهي إليه
قوله تعالى * (عالم الغيب) * يعني هو عالم الغيب * (فلا يظهر على غيبه أحدا) * يعني هو الذي يعلم وقت نزول العذاب ولا يطلع على غيبه أحدا من خلقه
ثم قال عز وجل * (إلا من ارتضى من رسول) * يعني إلا من اختار لرسالته فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب ليكون دلالة لنبوته
* (فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) *
484

يعني من الملائكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلفه ليحفظوه من الشياطين * (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) * يعني ليعلموا الرسول أن الذي أنزل إليه من رسالات الله وذلك أن الملائكة لو لم يرصدوهم لاستمعوا حين يقرأ جبريل ثم يفشون ذلك قبل أن يخبرهم الرسول فلا يكون بينهم وبين الأنبياء فرق ولا يكون للأنبياء دلالة ثم لا يقبل قولهم
وروى أسباط عن السدي في قوله * (إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) * قال إذا بعث إليه تعالى نبيا جعل معه حفظة من الملائكة
فإذا جاء الوحي من الله تعالى قالت له الملائكة هذا من الله
فإذا جاءه الشيطان قالت الحفظة هذا من الشيطان
* (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) * يعني ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أنهم بلغوا رسالات ربهم وقال مقاتل ليعلم الجن أن الرسل قد قاموا بإبلاغ الرسالة ولم يكونوا المبغين باستراق السمع لأنهم تمازجوا من استراق السمع
وقال سعيد بن جبير لم يجيء جبريل قط بالقرآن إلا ومعه أربعة من الحفظة
ثم قال عز وجل * (وأحاط بما لديهم) * يعني الله تعالى عالم بما عند الأنبياء ويقال عالم بهم
" وأحصى كل شيء عددا " يعني عدد الملائكة وعلم نزول العذاب ووقته وغير ذلك والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
485

سورة المزمل وهي عشرون آية مكية
سورة المزمل 1 - 8
قال الله تبارك وتعالى * (يا أيها المزمل) * يعني الملتف في ثيابه وأصله في اللغة المتزمل وهو الذي يتزمل في ثيابه وكل من التف بثوبه فهو متزمل وقد تزمل فأدغمت التاء في الزاي وشددت الزاي فقيل مزمل يعني به النبي صلى الله عليه وسلم * (قم الليل) * يعني قم الليل للصلاة * (إلا قليلا) * من الليل * (نصفه) * يعني قم نصفه
فاكتفى بذكر فعل الأول من الثاني لأنه دليل عليه * (أو انقص منه قليلا) * يعني أو انقص من النصف قليلا * (أو زد عليه) * يعني زد على النصف يعني ما بين الثلث إلى الثلثين
ثم قال * (ورتل القرآن ترتيلا) * يعني ترسل فيه وقال الحسن بينه إذا قرأته
فلما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فنزلت الرخصة في آخر السورة وقال مقاتل كان هذا قبل أن يفرض الصلوات الخمس وقال الضحاك * (ورتل القرآن ترتيلا) * قال اقرأه حرفا حرفا وقال مجاهد أحب الناس إلى الله تعالى في القراءة أعقلهم عنه
قوله تعالى * (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) * يعني سننزل عليك القرآن بالأمر والنهي يعني يثقل لما فيه من الأمر والنهي والحدود وكان هذا في أول الأمر ثم سهل الله تعالى الأمر في قيام الليل وقال قتادة في قوله * (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) * قال يثقل الله تعالى فرائضه وحدوده
ويقال يعني قيام الليل ثقيل على المجرمين ويقال ثقيل على من خالفه ويقال ثقيل في الميزان خفيف على اللسان ويقال نزوله ثقيل كما قال * (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل) * [الحشر 21] الآية
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جبرانها وما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه أي يذهب عنه
ثم قال " إن ناشئة الليل هي أشد وطئا " يعني ساعات الليل أشد موافقة للقراءة والسمع ويقال هي أشد نشاطا من النهار إذا كان الرجل محتسبا ويقال هي أرق لقلوبهم
486

* (وأقوم قيلا) * يعني أبين وأصوب وأثبت قراءة وقال القتبي * (ناشئة الليل) * يعني ساعاته وهي مأخوذة من نشأت أي ابتدأت شيئا بعد شيء فكأنه قال إن ساعات الليل الناشئة فاكتفى بالوصف من الاسم قوله " أشد وطئا " يعني أثقل على المصلي من ساعات النهار
فأخبر أن الثواب على قدر الشدة * (وأقوم قيلا) * يعني أخلص للقول وأسمع له لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات قرأ أبو عمرو وابن عامر * (أشد وطأ) * بكسر الواو ومد الألف والباقون بنصب الواو بغير مد
فمن قرأ بالكسر يعني أشد مواطأة أي موافقة لقلة السمع يعني أن القرآن في الليل يتواطأ فيه قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم ومن قرأ بالنصب يعني أبلغ في القيام وأبين في القول
ويقال أغلظ على اللسان
قوله تعالى * (إن لك في النهار سبحا طويلا) * يعني فراغا طويلا تقضي حوائجك فيه ففرغ نفسك لصلاة الليل وقال القتبي * (سبحا) * أي تصرفا إقبالا وإدبارا بحوائجك وأشغالك
قوله عز وجل * (واذكر اسم ربك) * يعني اذكر توحيد ربك ويقال فاذكر ربك
ويقال صل لربك * (وتبتل إليه تبتيلا) * يعني أخلص إليه إخلاصا في دعائك بعبادتك وهو قول مجاهد وقتادة ويقال * (وتبتل إليه تبتيلا) * يعني انقطع إليه وأصل التبتل القطع ولهذا قيل لمريم العذراء البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة
سورة المزمل 9 - 13
ثم قال عز وجل * (رب المشرق والمغرب) * قرأ حمزة وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر * (رب المشرق) * بالكسر والباقون * (رب) * بالضم فمن قرأ بالكسر اتباعا لقوله * (واذكر اسم ربك) * * (رب المشرق والمغرب) * ومن قرأ بالضم فهو على الابتداء ويقال معناه هو رب المشرق والمغرب
ثم قال * (لا إله إلا هو) * وقد ذكرناه * (فاتخذه وكيلا) * يعني وليا وحافظا وناصرا وكفيلا
ثم قال عز وجل * (واصبر على ما يقولون) * يعني على ما يقولون من التكذيب والأذى * (واهجرهم هجرا جميلا) * يعني اعتزلهم اعتزالا حسنا بلا جزع ولا فحش
قال الله تعالى * (وذرني والمكذبين) * هذا كلام على ما جرت به عادات الناس لأن الله تعالى لا يحول بينه وبين إرادته أحد ولكن معناه فوض أمورهم إلي يعني أمور المكذبين * (أولي النعمة) * يعني ذا المال والغنى * (ومهلهم قليلا) * يعني أجلهم يسيرا لأن الدنيا كلها قليلة يعني إلى قوم القيامة
487

ثم بين ما لهم من العقوبة يوم القيامة فقال عز وجل * (إن لدينا) * يعني إن عندنا * (أنكالا) * يعني قيودا في الآخرة ويقال عقوبة من ألوان العذاب * (وجحيما) * ما عظم من النار * (وطعاما ذا غصة وعذابا أليما) * يعني ذا شوك يستمسك في الحلق لا يدخل ولا يخرج فيبقى في الحلق ومع ذلك لهم عذاب أليم
سورة المزمل 14 - 20
ثم قال الله تعالى * (يوم ترجف الأرض والجبال) * يعني تتحرك وتتزلزل صار اليوم منصوبا لنزع الخافض يعني هذه العقوبة في يوم ترجف * (الأرض والجبال) * * (وكانت) * يعني وصارت * (الجبال كثيبا مهيلا) * يعني صارت الجبال رملا سائلا وهو كقوله " فكانت هباء منثورا "
ثم قال عز وجل * (إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يشهد عليكم بتبليغ الرسالة * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا) * يعني موسى بن عمران * (فعصى فرعون الرسول) * يعني كذبه ولم يقبل قوله * (فأخذناه أخذا وبيلا) * يعني عاقبناه عقوبة شديدة وهو الغرق فهذا تهديد لهم يعني إنكم إن كذبتموه فهو قادر على عقوبتكم
قوله عز وجل * (فكيف تتقون إن كفرتم) * يعني تنجون * (يوما) * في الآخرة إن كفرتم في الدنيا ويقال فيه تقديم ومعناه إن كفرتم في الدنيا كيف تحذرون * (يوما) * وتنجون
* (يوما يجعل الولدان شيبا) * وهذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان * (يجعل الولدان شيبا) * يعني يوم القيامة يشيب الولدان يعني من هيبته يشيب الصبيان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان هناك صبي يشيب رأسه من الهيبة ويقال هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق
ثم قال عز وجل * (السماء منفطر به) * يعني انشقت السماء من هيبة الرحمن * (كان وعده مفعولا) * يعني كائنا في البعث
488

ثم قال * (إن هذه تذكرة) * يعني هذه السورة موعظة * (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) * يعني من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك التوحيد إلى ربه مرجعا فليفعل وقال أهل اللغة في قوله * (السماء منفطر به) * ولم يقل السماء منفطرة به فالتذكير على وجهين أحدهما أنه انصرف إلى المعنى ومعنى السماء السقف كقوله * (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) * [الأنبياء 32] والثاني أن معناه السماء ذات الانفطار كما يقال امرأة مرضع أي ذات رضاع على وجه النسب
ويقال قوله * (السماء منفطر به) * يعني فيه شيء في يوم القيامة ويقال يعني بالله تعالى أي من هيبته
قوله تعالى * (إن هذه تذكرة) * يعني إن هذه الآيات التي ذكر موعظة بليغة * (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) * يعني من شاء أن يرغب فليرغب فقد أمكن له لأنه أظهر له الحجج والدلائل
سورة المزمل 20
ثم قال عز وجل * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى) * يعني أقل * (من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) * قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وعاصم * (ونصفه وثلثه) * كلاهما بالنصب والباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب فهو على تفسير الأدنى لأنه لما قال * (أدنى من ثلثي الليل) * وكان * (نصفه وثلثه) * تفسير لذلك الأدنى
ومن قرأ بالكسر فمعناه أدنى من نصفه وثلثه
وقال الحسن لما نزل قوله * (قم الليل إلا قليلا) * فكان قيام الليل فريضة فقام بها المؤمنون حولا فأجهدهم ذلك وما كلهم قام بها فأنزل الله تعالى رخصة * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى) * إلى قوله * (علم أن لن تحصوه) * فصار تطوعا ولا بد من قيام الليل
فذلك قوله * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) * * (وطائفة من الذين معك) * يعني وجماعة من المؤمنين معك تقومون نصف الليل وثلثه * (والله يقدر الليل والنهار) * يعني يعلم ساعات الليل والنهار * (علم أن لن تحصوه) * يعني أن لن تطيعوه ولم تقدروا أن تحفظوا ما فرض الله عليكم على الدوام
ويقال معناه لن تطيقوا حفظ ساعات الليل * (فتاب عليكم) * يعني تجاوز عنكم ورفع عنكم وجوب القيام * (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) * في صلاة الليل ويقال * (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) * في جميع الصلوات * (علم أن سيكون منكم مرضى) * يعني علم الله تعالى أن
489

منكم مرضى لا يقدرون على قيام الليل * (وآخرون يضربون في الأرض) * يعني يسافرون في الأرض * (يبتغون من فضل الله) * يعني في طلب المعيشة يطلبون الرزق من الله تعالى * (وآخرون يقاتلون في سبيل الله) * يعني يجاهدون في طاعة الله وفي الآية دليل أن الكسب الحلال بمنزلة الجهاد لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله وروى إبراهيم عن علقمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله تعالى منزلة الشهيد) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم * (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله) *
ثم قال " فاقرأوا ما تيسر منه " يعني من القرآن * (وأقيموا الصلاة) * يعني الصلوات الخمس * (وآتوا الزكاة) * يعني الزكاة المفروضة * (وأقرضوا الله قرضا حسنا) * يعني تصدقوا من أموالكم بنية خالصة من المال الحلال * (وما تقدموا لأنفسكم من خير) * يعني ما تعملون من عمل من الأعمال الصالحة بنية خالصة * (تجدوه عند الله) * يعني تجدون ثوابه عند الله في الآخرة
* (هو خيرا وأعظم أجرا) * يعني الصدقة خير من الإمساك وأعظم ثوابا من معاملتكم وتجارتكم في الدنيا وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه اتخذ له حيسا يعني تمرا بلبن فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه فقال بعضهم ما يدري هذا المسكين ما هذا فقال عمر لكن رب المسكين يدري ما هو فكأنه تأول قوله تعالى " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدون عند الله " هو خيرا وأعظم أجرا
ثم قال عز وجل * (واستغفروا الله) * يعني اطلبوا المغفرة لذنوبكم بالرجوع إلى الله تعالى * (إن الله غفور) * لمن تاب * (رحيم) * بعد التوبة والله أعلم
490

سورة المدثر وهي ست وخمسون آية مكية
سورة المدثر 1 - 10
قول الله تبارك وتعالى * (يا أيها المدثر) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وقد تدثر بثوبه وأصله المتدثر بثيابه إذا نام فأدغمت التاء في الدال وشددت
وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه (فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فخشيت فرجعت إلى أهلي فقلت زملوني زملوني فدثروني فنزل يا أيها المدثر) بثيابه المضطجع على فراشه * (قم فأنذر) * يعني فخوف قومك وادعهم إلى التوحيد ويقال * (قم فأنذر) * يعني قم فصل لله تعالى ويقال * (قم فأنذر) * يعني خوفهم بالعذاب إن لم يوحدوا يعني ادعهم من الكفر إلى الإيمان
ثم قال عز وجل * (وربك فكبر) * يعني فعظمه عما يقول فيه عبدة الأوثان
ويقال * (فكبر) * يعني فكبر للصلاة
ثم قال * (وثيابك فطهر) * يعني طهر قلبك بالتوبة من الذنوب والمعاصي وهذا قول قتادة وقال مقاتل يعني قلبك فطهر بالتوبة وكانت العرب تقول للرجل إذا أذنب دنس الثياب وقال الفراء يعني ثيابك فقصر
وقال الزجاج لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة وإن كان طويلا لا يؤمن أن يصيبه النجاسة ويقال يعني لا تغدر فتكون غادرا دنس الثياب
وقال مجاهد * (وثيابك فطهر) * يعني نفسك فطهر ويقال عملك فأخلص ويقال خلقك فحسن
ثم قال * (والرجز فاهجر) * يعني المأثم فاترك ويقال * (الرجز فاهجر) * يعني ارفض
491

عبادة الأوثان
قرأ عاصم في رواية حفص * (والرجز) * بضم الراء والباقون بكسر الراء ومعناهما واحد وهم الأوثان
يعني فارفض عبادة الأوثان ويقال الرجز العذاب كقوله تعالى * (رجزا من السماء) * [البقرة 59] ومعناه كل شيء يجرك إلى عذاب الله تعالى فاتركه
ثم قال عز وجل * (ولا تمنن تستكثر) * يعني لا تعط شيئا قليلا تطلب به أكثر وأفضل في الدنيا
وقال الحسن * (ولا تمنن تستكثر) * يعني ولا تمنن بعملك على ربك تستكثره
وقال مجاهد لا تعط مالك رجاء فضل من الثواب في الدنيا
وقال الضحاك لا تعط لتعطى أكثر منه
قوله تعالى * (ولربك فاصبر) * يعني اصبر على أمر ربك
قال إبراهيم النخعي اصبر لعظمة ربك
وقال مقاتل * (ولربك فاصبر) * يعني يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم ويقال فاصبر نفسك في عبادة ربك * (فإذا نقر في الناقور) * يعني اصبر فعن قريب ينفخ في الصور
* (فذلك يومئذ يوم عسير) * يعني يوم شديد * (على الكافرين غير يسير) * يعني غير هين
وفي الآية دليل أن ذلك اليوم يكون على المؤمنين هينا وهذا مثل قوله تعالى * (وكان يوما على الكافرين عسيرا) * [الفرقان 26] لأن الكفار يقطع رجاؤهم في جميع الوجوه
سورة المدثر 25
ثم قال عز وجل * (ذرني ومن خلقت وحيدا) * يعني اترك هذا الذي خلقته وحيدا وفوض أمره إلي وهو الوليد بن المغيرة خلقه الله تعالى وحيدا بغير مال ولا ولد * (وجعلت له مالا ممدودا) * يعني ورزقته مالا كثيرا قال مجاهد كان ماله ألف دينار وقال بعضهم كان بنوه عشرة وقال بعضهم كان ماله أربعة آلاف درهم
ثم قال عز وجل * (وبنين شهودا) * يعني حضورا لا يغيبون عنه في تجارة ولا غيرهم
وقال بعضهم * (ذرني ومن خلقت وحيدا) * يعني إنه لم يكن من قريش وكان ملصقا بهم لأنه ذكر أن أباه المغيرة تبناه بعد ما أتت عليه ثمانية أشهر ولم يكن منه كما قال الله تعالى * (عتل بعد ذلك زنيم) * [القلم 13] * (وجعلت له مالا ممدودا) * يعني غير منقطع عنه * (وبنين شهودا) * لا يغيبون عنه ولا يحتاجون إلى التصرف وكان له عشرة من البنين وهذا قول الكلبي وغيره
وقال مقاتل سبع بنين * (ومهدت له تمهيدا) * يعني بسطت له في المال والخير بسطا ويقال أمهلت له إمهالا * (ثم يطمع أن أزيد) * يعني يطمع أن أزيد ماله وولده
وذلك أن تفاخر على رسول
492

الله صلى الله عليه وسلم وقال لي مال ممدود ولي عشرة من البنين فلا يزال يزداد مالي وبني فنزل * (ثم يطمع أن أزيد) * يعني أن أزيده وهو يعصيني * (كلا) * وهو رد عليه يعني لا أزيد فما ازداد ماله بعد ذلك ولا ولده ولكن أخذ في النقصان فهلك عامة ماله وولده * (إنه كان لآياتنا عنيدا) * يعني مكذبا معرضا عنها معاندا
ثم قال عز وجل * (سأرهقه صعودا) * يعني يكلف في النار صعود جبل من صخرة ملساء في الباب الخامس يسمى سقر فإذا بلغ رأس العقبة دخل دخان في حلقه فيخرج من جوفه ما كان في جوفه من الأمعاء
فإذا سقط في أسفل العقبة سقي من الحميم فإذا بلغ أعلاه انحط منه إلى أسفله من مسيرة سبعين سنة
وقال مجاهد * (سأرهقه صعودا) * يعني مشقة من العذاب
وقال الزجاج سأحمله على مشقة من العذاب ويقال سأكلفه الصعود على عقبة شاقة والصعود والكؤود بمعنى واحد
ثم ذكر خبث أفعاله التي يستوجب بها العقوبة فقال * (إنه فكر وقدر) * يعني إنه فكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقدر في أمره وقال إنه ساحر
يقول الله عز وجل * (فقتل كيف قدر) * يعني لعن كقوله * (قتل الخراصون) * [الذاريات 10] * (ثم قتل كيف قدر) * وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة ليدبروا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا هذه أيام الموسم والناس مجتمعون وقد فشا قول هذا الرجل في الناس وهم سائلون عنه فماذا تجيبون وتردون عليهم فقالوا نقول إنه مجنون فقال بعضهم إنهم يأتونه ويكلمونه فيجدونه فصيحا عاقلا فيكذبونكم فقالوا نقول إنه شاعر قال بعضهم هم العرب وقد رأوا الشعراء وقوله لا يشبه الشعر فيكذبونكم قالوا نقول إنه كاهن
قال بعضهم إنهم لقوا الكهان وإذا سمعوا قوله وهو يستثني في كلامه المستقبل فيكذبونكم
ففكر الوليد بن المغيرة ثم أدبر عنهم ثم رجع إليهم وقال فكرت في أمره فإذا هو ساحر يفرق بين المرء وزوجه وأقربائه فاجتمع رأيهم على أن يقولوا إنه ساحر فنزل * (فقتل كيف قدر) * يعني كيف قدر بمحمد صلى الله عليه وسلم بالسحر * (ثم قتل) * يعني لعن مرة أخرى اللعنة على أثر اللعنة * (كيف قدر) * هذا التقدير الذي قال للكفرة إنه ساحر
* (ثم نظر) * يعني ثم نظر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم * (ثم عبس) * يعني عبس وجهه أي كلح وتغير لون وجهه
وقال الزجاج * (ثم عبس) * أي عبس وجهه * (وبسر) * أي نظر بكراهة شديدة * (ثم أدبر) * يعني أعرض عن الإيمان * (واستكبر) * يعني تكبر عن الإيمان ثم قال * (إن هذا إلا سحر يؤثر) * يعني تأثره من صاحب اليمامة يعني يرويه عن مسيلمة الكذاب
ويقال معناه ما هذا الذي يقول إلا سحر يرويه عن جبر ويسار ويقال عن أهل بابل * (إن هذا إلا قول البشر) * يعني ما هذا القرآن إلا قول الآدمي
سورة المدثر 26 - 29
493

سورة المدثر 30 - 31
قال الله تعالى * (سأصليه سقر) * يعني سأدخله سقر
قال مقاتل يعني الباب الخامس وقال الكلبي هو اسم من أسماء النار * (وما أدراك ما سقر) * تعظيما لأمرها
ثم بين حالها قال * (لا تبقي ولا تذر) * يعني لا تبقي لحما إلا أكلته ولا تذرهم إذا أعيدوا فيها خلقا جديدا
ويقال * (لا تبقي ولا تذر) * يعني لا تميت ولا تحيي ويقال لا تبقى اللحم ولا العظم ولا الجلد إلا أحرقته ولا تذر لحما ولا عظما ولا جلدا أي لا تدعه محرقا بل تجدده خلقا جديدا
ثم قال عز وجل * (لواحة للبشر) * يعني حراقة للأجساد شواهة للوجوه نزاعة للأعضاء وأصله في اللغة التسويد ويقال لاحته الشمس إذا غيرته وذلك أن الشيء إذا كان فيه دسومة فإذا أحرق اسود
ثم قال * (عليها تسعة عشر) * يعني على النار تسعة عشر من الملائكة مسلطون من رؤساء الخزنة وأما الزبانية فلا يحصى عددهم كما قال في سياق الآية * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) *
وإنما أراد بالتسعة عشر مالكا ومعه ثمانية عشر أعينهم كالبرق الخاطف ويخرج لهب النار من أفواههم نزعت منهم الرأفة غضاب على أهلها يدفع أحدهم سبعين ألفا
فلما نزلت هذه الآية قال الوليد بن المغيرة لعنه الله أنا أكفيكم خمسة منهم وكل ابن لي يكفي واحدا منهم وسائر أهل مكة يكفوا أربعة منهم
وقال رجل من المشركين وكان له قوة وأن أكفيكموهم وحدي أدفع عشرة بمنكبي هذا وتسعة بمنكبي الأيسر فألقيهم في النار حتى يحترقوا وتجوزون حتى تدخلوا الجنة
فنزلت هذه الآية * (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) * يعني ما سلطنا أعوان النار إلا ملائكة زبانية غلاظ شداد لا يغلبهم أحد * (وما جعلنا عدتهم) * يعني ما ذكرنا قلة عددهم وهم تسعة عشر * (إلا فتنة للذين كفروا) * يعني بلية لهم * (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) * وذلك أن أهل الكتاب وجدوا في كتابهم أن مالكا رئيسهم وثمانية عشر من الرؤساء فبين لهم أنما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم يقوله بالوحي * (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) * حتى تصديقا وعلما * (ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب) * يعني يعلموا أنه حق وعدتهم كذلك * (والمؤمنون) * أيضا لا يشكون في ذلك * (وليقول الذين في قلوبهم مرض) * يعني المنافق * (والكافرون) * يعني المشركين * (ماذا أراد الله بهذا مثلا) * يعني يذكر خزنة جهنم تسعة عشر
494

يقول الله تعالى * (كذلك يضل الله من يشاء) * يعني يخذله ولا يؤمن به وبأمثاله * (ويهدي من يشاء) * يعني يوفقه لذلك
ثم قال عز وجل * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * يعني من يعلم قوة جنود ربك وكثرتها إلا هو يعني الله تعالى
ويقال وما يعلم يعني لا يعلم عدد جموع ربك إلا الله تعالى * (وما هي إلا ذكرى للبشر) * يعني الدلائل والحجج في القرآن ويقال * (ما هي) * يعني القرآن ويقال وما هي يعني سقر * (إلا ذكرى للبشر) * يعني عظه للخلق
سورة المدثر 32 - 37
ثم أقسم الله تعالى لأجل سقر فقال * (كلا) * ردا عليهم * (والقمر) * يعني وخالق القمر " والليل إذا أدبر " يعني ذهب أقسم بخالق الليل وخالق الصبح فقال * (والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر) * يعني سقر إحدى الكبر العظام وباب من أبواب النار
قرأ نافع وحمزة وعاصم في رواية حفص * (والليل إذ) * بغير ألف * (أدبر) * بالألف والباقون * (إذا) * بالألف * (دبر) * بغير ألف وهما لغتان ومعناهما واحد دبر وأدبر ويقال دبر النهار وأدبر ودبر الليل وأدبر
وقال مجاهد سألت ابن عباس عن قوله " والليل إذا أدبر " فسكت حتى إذا كان آخر الليل قال يا مجاهد هذا حين دبر الليل ويقال الليل إذا أدبر يعني إذا جاء بعد النهار * (والصبح إذا أسفر) * يعني استضاء إنها * (لإحدى الكبر) * يعني أن سقر لأعظم دركات في النار
* (نذيرا للبشر) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم نذيرا للخلق وإنما صار نعتا لأنه معناه تم نذيرا للبشر ويقال إن العذاب الذي ذكر نذيرا للبشر
قوله تعالى * (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) * يعني يتقدم في الخير أو يتأخر عنه إلى المعصية فبينا لكم فهذا وعيد لهم لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة أو يتأخر إلى المعصية كقوله * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * [الكهف 29] ويقال معناه لمن شاء منكم أن يتقدم إلى التوبة فيوحد أو يتأخر عن التوبة فليقم على الكفر يعني نذيرا لمن شاء
سورة المدثر 38 - 54
495

سورة المدثر 55 - 56
ثم قال * (كل نفس بما كسبت رهينة) * يعني كل كافر مرتهن بعمله * (إلا أصحاب اليمين) * يعني لكن أصحاب اليمين فإنهم ليسوا مرتهنين بعملهم يعني الذين أعطوا كتابهم بأيمانهم
ويقال هم الذين عن يمين العرش ويقال * (كل نفس بما كسبت رهينة) * عند المحاسبة إلا أصحاب اليمين
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هم أطفال المسلمين يعني ليس عليهم حساب لأنهم لم يعملوا شيئا
ثم قال * (في جنات يتساءلون) * يعني إنهم في بساتين يتساءلون * (عن المجرمين) * يعني يرون أهل النار يسألونهم * (ما سلككم في سقر) * يعني ما الذي سلككم أدخلكم في سقر فأجابهم أهل النار * (قالوا لم نك من المصلين) * يعني لم نك نقر بالصلاة ولم نؤدها * (ولم نك نطعم المسكين) * يعني كنا لا نقر بالفرائض والزكاة ولا نؤديها
" وكنا نخوص مع الخائضين " يعني كنا نستهزئ بالمسلمين ونخوض بالباطل ونرد الحق مع المبطلين المستهزئين * (وكنا نكذب بيوم الدين) * يعني بيوم الحساب * (حتى أتانا اليقين) * يعني الموت والقيامة
قوله تعالى * (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) * يعني لا تنالهم شفاعة الأنبياء وشفاعة الملائكة * (فما لهم عن التذكرة معرضين) * فما للمشركين يعرضون عن القرآن والتوحيد * (كأنهم حمر مستنفرة) * يشبههم بالحمر الوحشية المذعورة حين فروا من القرآن وكذبوا به
قرأ نافع وابن عامر * (مستنفرة) * بنصب الفاء والباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب فمعناه نافرة فإن الصائد نفرها ومن قرأ بالكسر ومعناه نافرة ويقال نفر واستنفر بمعنى واحد
ثم قال * (فرت من قسورة) * فقال أبو هريرة يعني الأسد
وقال سعيد بن جبير القناص يعني الصيادين
وقال قتادة القسورة النبل يعني الرمي بالسهام ويقال هو حس الناس وأصواتهم
ثم قال عز وجل * (بل يريد كل امرئ منهم) * يعني أهل مكة " أن يؤتى صحفا منتشرة " وذلك أن كفار مكة قالوا إن الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب ذنبا يصبح وذنبه
وكفارته مكتوب عند رأسه فهل ترينا مثل ذلك إن كنت رسولا فنزل * (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) * يعني صحفا مكتوبة فيها جرمه وتوبته
ويقال نزلت في شأن عبد الله بن أمية المخزومي حين قال لن نؤمن حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه
قال الله تعالى * (كلا) * يعني لا يكون هذا أبدا
ثم ابتداء فقال * (بل لا يخافون الآخرة) * يعني البعث لكن لا يخافون عذاب الآخرة * (كلا إنها تذكرة) * يعني حقا إن القرآن عظة للخلق * (فمن شاء ذكره) * يعني من شاء أن يتعظ به فليتعظ " وما يذكرون إلا أن
496

يشاء الله) يعني إلا أن يشاء الله لهم ويقال * (إلا أن يشاء الله) * منهم
قرأ نافع " وما تذكرون " بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
ثم قال عز وجل * (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) * يعني هو أهل أن يتقى ولا يشرك به ويوحد ولا يعصى * (وأهل المغفرة) * يعني هو أهل أن يغفر لمن أطاعه ولا يشرك
ويقال هو أهل أن يتقى * (وأهل المغفرة) * لمن اتقى والله الموفق
497

سورة القيامة مكية وهي أربعون آية
سورة القيامة 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (لا أقسم بيوم القيامة) * أجمع أهل التفسير أن معناه أقسم واختلفوا في تفسير * (لا) * قال بعضهم * (لا) * في الكلام زيادة للزينة ويجري في كلام العرب زيادة لا كما قال في آية أخرى * (قال ما منعك ألا تسجد) * [الأعراف 12] يعني أن تسجد
وقال بعضهم * (لا) * رد لكلامهم حيث أنكروا البعث
فقال ليس الأمر كما ذكرتم
أقسم فقال * (لا أقسم بيوم القيامة) * * (أقسم بيوم القيامة) * ويقال معناه أقسم برب يوم القيامة يعني إنها كائنة
* (ولا أقسم بالنفس اللوامة) * يعني أقسم بخالق النفس اللوامة وهي نفس ابن آدم يلوم نفسه
كما روي عن ابن عباس وعن عمر ما من نفس برة وفاجرة إلا تلوم نفسها إن كانت محسنة تقول يا ليتني زدت إحسانا وإن كانت سيئة تقول يا ليتني تركت
ولم يذكر جواب القسم لأن في الكلام دليلا عليه وهو قوله * (بلى قادرين) * ومعناه ولا أقسم بالنفس اللوامة لتبعثن بعد الموت
ثم قال عز وجل * (أيحسب الإنسان) * يعني أيظن الكافر " أن لن نجمع عظامه " يعني أن لن يبعث الله بعد الموت
نزلت في أبي بن خلف ويقال في عدي بن ربيعة لإنكاره البعث بعد الموت
يقول الله سبحانه وتعالى * (بلى قادرين) * يعني إن الله تعالى قادر * (على أن نسوي بنانه) * يعني يجعل أصابعه ملتزقة وألحق الراحة بالأنامل وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه
وقال القتبي فكأنه قال " أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه " في الآخرة * (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) * يعني أن نجمع ما صغر منه ونؤلف بينه أي نعيد السلاميات على صغرها ومن قدر على جمع هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر
وقال مجاهد يعني قادرا على أن نسوي خفه كخف البعير لا يعمل به شيئا
وقال سعيد بن جبير يعني كخف البعير أو كحافر الدابة والحمر لأنه ليس من دابة إلا وهي تأكل بفمها غير الإنسان
498

قوله تعالى * (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) * يعني يقدم ذنوبه ويؤخر توبته ويقول سوف أتوب ولا يترك الذنوب وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه
وقال عكرمة * (ليفجر أمامه) * يعني يريد الذنوب في المستقبل
وقال القتبي * (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) * فقد كثرت فيه التفاسير
وقال سعيد بن جبير سوف أتوب وقال الكلبي يكثر الذنوب ويؤخر التوبة
وقال آخرون يتمنى الخطيئة وفيه قول آخر على طريق الإنكار بأن يكون الفجور بمعنى التكذيب بيوم القيامة ومن كذب بالحق فقد فجر وأصل الفجور الميل
فقيل للكاذب والمكذب والفاسق فاجر لأنه مال عن الحق
سورة القيامة 6 - 15
قوله تعالى * (يسأل أيان يوم القيامة) * يعني يسأل متى يوم القيامة تكذبيا بالبعث فكأنه قال بل يريد الإنسان أن يكذب بيوم القيامة وهو أمامه وهو يسال متى يكون فبين الله تعالى في أي يوم يكون فقال * (فإذا برق البصر) * يعني شخص البصر وتحير البصر
قرأ نافع * (فإذا برق البصر) * بنصب الراء والباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب فهو من برق يبرق بريقا ومعناه شخص فلا يطرق من شدة الفزع
ومن قرأ بالكسر يعني فزع وتحير
وأصله أن الرجل إذا رأى البرق تحير وإذا رأى من أعاجيب يوم القيامة تحير ودهش
قوله * (وخسف القمر) * يعني ذهب ضوؤه * (وجمع الشمس والقمر) * يعني كالثورين المقرونين
ويقال * (برق البصر) * * (وخسف القمر) *
قال كوكب العين ذهب ضوؤه
وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال يجعلان في نور الحجاب
ويقال * (جمع الشمس والقمر) * يعني سوى بينهما في ذهاب نورهما وإنما قال * (وجمع الشمس والقمر) * ولم يقل وجمعت لأن المؤنث والمذكر إذا اجتمعا فالغلبة للمذكر
* (يقول الإنسان يومئذ أين المفر) * يقول أين الملجأ من النار قرئ في الشاذ * (أين المفر) * بكسر الفاء على معنى أين مكان الفرار
وقراءة العامة بالنصب يعني أين الفرار
ثم قال عز وجل * (كلا لا وزر) * يعني حقا لا جبل يلجؤون إليه فيمنعهم من النار ولا شجر يواريهم
والوزر في كلام العرب الجبل الذي يلتجئ إليه والوزر والستر هنا الشيء الذي يستترون به
وقال عكرمة * (لا وزر) * يعني منعة
وقال الضحاك يعني لا حصن لهم يوم القيامة
ثم قال عز وجل * (إلى ربك يومئذ المستقر) * يعني المرجع " ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " يعني يسأل ويبين له ويجازى بما قدم من الأعمال وأخر من سنة صالحة أو سيئة
499

قوله عز وجل * (بل الإنسان على نفسه بصيرة) * يعني جوارح العبد شاهدة عليه
ومعناه على الإنسان من نفسه شاهد عليه يشهد كل عضو بما فعل
ويقال يعني جوارح العبد شاهدة عليه ومعناه رقيب بعضها على بعض
والبصيرة أدخلت فيها الهاء للمبالغة كما يقال رجل علامة
وقال الحسن في قوله * (على نفسه بصيرة) * يعني بصيرا بعيوب غيره جاهلا بعيوب نفسه * (ولو ألقى معاذيره) * يعني ولو تكلم بعذر لم يقبل منه
ويقال ولو أرخى ستوره يعني أنه شاهد على نفسه وإن أذنب في الستور
سورة القيامة 16 - 19
قوله تعالى * (لا تحرك به لسانك) * يعني لا تعجل بقراءة القرآن من قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام من قراءته وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال كان رسول الله إذا نزل عليه القرآن تعجل به للحفظ فنزل * (لا تحرك به لسانك) * * (لتعجل به إن علينا جمعه) * يعني حفظه في قلبك * (وقرآنه) * يعني يقرأ عليك جبريل حتى تحفظه * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) * يعني إذا قرأ عليك جبريل فاقرأ أنت بعد قراءته وفراغه
وقال محمد بن كعب " فاتبع قراءته " يعني فاتبع حلاله وحرامه
وقال الأخفش " إن علينا جمعه وقراءته " يعني تأليفه * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) * يعني تأليفه * (ثم إن علينا بيانه) * يعني بيان أحكامه وحدوده
ويقال * (علينا بيانه) * يعني شرحه
ويقال بيان فرائضه كما بين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم
سورة القيامة 20 - 30
ثم قال عز وجل * (كلا بل تحبون العاجلة) * يعني تحبون العمل للدنيا * (وتذرون الآخرة) * يعني تتركون العمل للآخرة
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " بل يحبون " بالياء على معنى الخبر عنهم
والباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم بين حال ذلك اليوم فقال * (وجوه يومئذ ناضرة) * أي حسنة مشرقة مضيئة كما قال في آية أخرى * (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) * [المطففين 24] " وإلى ربها ناظرة " يعني ناظرين يومئذ إلى الله تبارك وتعالى
وقال مجاهد * (إلى ربها ناظرة) * يعني تنتظر الثواب من ربها
وهذا القول لا يصح لأنه مقيد بالوجه موصول بإلى ومثل هذا لا يستعمل في الانتظار وعلى أن الانتظار موت الأبرار
500

ثم قال عز وجل * (ووجوه يومئذ باسرة) * يعني عابسة
ويقال كريهة
ويقال كاسفة ومسودة * (تظن أن يفعل بها فاقرة) * يعني تعلم أنه قد نزل بها العذاب والشدة
يعني تعلم هذه الأنفس
ويقال الفاقرة الداهية ويقال قد أيقنت أن العذاب نازل بها
ثم قال عز وجل * (كلا إذا بلغت التراقي) * يعني حقا إذا بلغت النفس إلى الحلقوم
يعني خروج الروح * (وقيل من راق) * يعني يقول من حضره عند الموت هل من طبيب حاذق فيداويه ويقال * (من راق) * يعني من يشفي من هذا الحال
ويقال * (من راق) * يعني من يقدر أن يرقي من الموت
يعني لا يقدر أحد أن يرقي من الموت والعرب تقول من الرقية رقى يرقي رقية ومن الرقي وهو الصعود رقي يرقى رقيا فهو راق منهما
* (وظن أنه الفراق) * يعني استيقن أنه ميت وأنه يفارق الروح من الجسد
* (وقيل من راق) * أن الملائكة الذين حضروه ليقبض روحه يقول بعضهم لبعض * (من راق) * يعني من يصعد منا بروحه إلى السماء فأيقن عند ذلك أنه الفراق يعني أن روحه تخرج من جسده
وروي عن ابن عباس أنه قرأ " وأيقن أنه الفراق " * (والتفت الساق بالساق) * قال ابن عباس يعني التفت شدتان أخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من الآخرة
وروى وكيع عن بشير بن المهاجر قال سمعت الحسن يقول * (والتفت الساق بالساق) * قال هما ساقان إذا التفتا في الكفن * (إلى ربك يومئذ المساق) * يعني يساق العبد إلى ربه
سورة القيامة 31 - 35
ثم قال عز وجل * (فلا صدق ولا صلى) * وهو أبو جهل بن هشام يعني لم يصدق بتوحيد الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يصل لله تعالى
ويقال * (ولا صلى) * يعني ولا أسلم
فسمي المسلم مصليا * (ولكن كذب وتولى) * يعني * (كذب) * بالتوحيد * (وتولى) * يعني أعرض عن الإيمان (ثم ذهب إلى أهله يتمطى) قال القتبي وأصله في اللغة يتمطط فقلبت الطاء ياء فصار يتمطى يعني * (ذهب إلى أهله يتمطى) * يعني ويتبختر في مشيته * (أولى لك فأولى) * وهذا عيد على أثر وعيد يعني احذر يا أبا جهل
وقال سعيد بن جبير قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل * (أولى لك فأولى) * * (ثم أولى لك فأولى) * ثم نزل به القرآن
وقال الزجاج معناه * (أولى لك) * يعني يوجب لك المكروه يا أبا جهل والعرب تقول أولى بفلان إذا أوعد له مكروها
وقال القتبي * (أولى لك) * تهديد ووعيد كما قال فأولى لهم
ثم ابتدأ فقال * (طاعة وقول معروف) * [محمد 21]
سورة القيامة 36 - 37
501

سورة القيامة 38 - 40
ثم قال تعالى * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) * يعني أن يترك مهملا لا يؤمر ولا ينهى * (ألم يك نطفة من مني يمنى) * يعني أليس قد خلق من ماء مهين
قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم * (من مني يمنى) * بالياء والباقون بالتاء على معنى التأنيث لأن النطفة مؤنثة
ومن قرأ بالياء انصرف إلى المعنى وهو الماء * (ثم كان علقة) * يعني صار بعد النطفة علقة * (فخلق فسوى) * يعني جمع خلقه في بطن أمه مستويا معتدل القامة * (فجعل منه) * يعني خلق من المني * (الزوجين) * يعني لونين من الخلق * (الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) * اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التقرير يعني أن هذا الذي يفعل مثل هذا هو قادر على أن يحيي الموتى
وذكر عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ * (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) * قال سبحانك اللهم فبلى أي بلى قادر والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
502

سورة الإنسان مدنية وهي إحدى وثلاثون آية
سورة الإنسان 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى * (هل أتى على الإنسان) * يعني قد أتى على آدم * (حين من الدهر) * يعني أربعين سنة * (لم يكن شيئا مذكورا) * يعني لم يدر ما اسمه ولا ما يراد به إلا الله تعالى
وذلك أن الله تعالى لما أراد أن يخلق آدم أمر جبريل عليه السلام أن يجمع التراب فلم يقدر ثم أمر إسرافيل فلم يقدر ثم أمر عزرائيل عليهم السلام فجمع التراب من وجه الأرض فصار التراب طينا ثم صار صلصالا فكان على حاله أربعين سنة قبل أن ينفخ فيه الروح
وروى معمر عن قتادة قال كان آدم آخر ما خلق من الخلق خلق كل شيء قبل آدم عليه السلام
ثم قال * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) * يعني مختلطا ماء الرجل وماء المرأة لا يكون الولد إلا منهما جميعا
ماء الرجل أبيض ثخين وماء المرأة أصفر رقيق * (نبتليه) * يعني لكي نبتليه بالخير والشر * (فجعلناه سميعا بصيرا) * يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى وبصرا يبصر بها الهدى
وقال مقاتل في الآية تقديم يعني جعلناه سميعا بصيرا يعني جعلنا له سمعا لنبتليه يعني لنختبره
قوله عز وجل * (إنا هديناه السبيل) * يعني يبينا له وعرفناه طريق الخير وطريق الشر وطرائق الإيمان والكفر ويقال سبيل السعادة والشقاوة * (إما شاكرا وإما كفورا) * يعني إما أن يكون موحدا وإما أن يكون جاحدا لوحدانية الله تعالى
ويقال * (إما شاكرا) * لنعمه * (وإما كفورا) * لنعمه
ثم بين ما أعد للكافرين فقال * (إنا اعتدنا للكافرين) * يعني في الآخرة " سلاسلا وأغلالا وسعيرا " يعني هيأنا لهم أغلالا تغل بها أيمانهم إلى أعناقهم * (وسعيرا) * يعني وقودا
سورة الإنسان 5 - 7
503

سورة الإنسان 8 - 10
ثم بين ما أعد للشاكرين فقال * (إن الأبرار) * يعني الصادقين في إيمانهم * (يشربون من كأس) * يعني من خمر * (كان مزاجها كافورا) * يعني على برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل ليس ككافور الدنيا ولا كمسكها ولكنه وصف بها حتى تهتدى به القلوب ويقال الكافور اسم عين في الجنة يمزج بها الخمر * (عينا يشرب بها عباد الله) * يعني عين الكافور يشرب بها أولياء الله تعالى في الجنة * (يفجرونها تفجيرا) * يعني يمزجونها تمزيجا
وقال ابن عباس * (يفجرونها تفجيرا) * في قصورهم وديارهم وذلك أن عين الكافور يشرب بها المقربون صرفا غير ممزوج ولغيرهم ممزوجا
ويقال * (يفجرونها تفجيرا) * يعني يفجرون تلك العين في الجنة كيف أحبوا كما يفجر الرجل النهر الذي يكون له في الدنيا هاهنا وهاهنا حيث شاء
ثم بين أفعالهم في الدنيا فقال * (يوفون بالنذر) * يعني يتمون الفرائض
ويقال أوفوا بالنذر * (ويخافون يوما) * وهو يوم القيامة * (كان شره مستطيرا) * يعني عذابه فاشيا وظاهرا وهو أن السماوات قد انشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وغارت المياه
ثم قال عز وجل * (ويطعمون الطعام على حبه) * يعني على قلته وشهوته وحاجته إليه * (مسكينا) * وهو الطائف بالأبواب * (ويتيما وأسيرا) * يعني من أسر من دار الشرك
ويقال أهل السجن
وذكر أن الآية نزلت في شأن علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما وكانا صائمين فجاءهما سائل وكان عندهما قوت يومهما فأعطيا السائل بعض ذلك الطعام ثم جاءهما يتيم فأعطياه من ذلك الطعام ثم جاءهما أسير فأعطياه الباقي فمدحهما الله تعالى لذلك
ويقال نزلت في شأن رجل من الأنصار
ثم قال عز وجل * (إنما نطعمكم لوجه الله) * يعني ينوون بأدائهم ويضمرون في قلوبهم وجه الله تعالى
ويقولون * (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) * يعني لا نريد منكم مكافأة في الدنيا ولا الثواب في الآخرة * (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) * يعني العبوس الذي تعبس فيه الوجوه من هول ذلك اليوم
والقمطرير الشديد العبوس
ويقال عبوسا أي يوم يعبس فيه الوجوه فجعل عبوسا من صفة اليوم
كما قال * (في يوم عاصف) * [إبراهيم 18] أراد عاصف الريح والقمطرير الشديد
يعني ينقبض الجبين وما بين الأعين من شدة الأهوال
ويقال قمطرير نعت لليوم
ويقال يوم قمطرير إذا كان شديدا
يعني يوما شديدا صعبا
سورة الإنسان 11 - 14
504

ثم قال عز وجل * (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) * يعني دفع الله عنهم عذاب ذلك اليوم * (ولقاهم) * يعني أعطاهم * (نضرة) * حسن الوجوه * (وسرورا) * يعني فرحا في قلوبهم
قوله تعالى * (وجزاهم بما صبروا) * يعني أعطاهم الثواب بما صبروا على الفقر في الدنيا * (جنة وحريرا) * يعني لباسهم فيها حرير
ويقال بما صبروا على الطاعات
ويقال على المصائب
قوله عز وجل * (متكئين فيها) * يعني ناعمين في الجنة * (على الأرائك) * يعني على السرر وفي الحجال واحدها أريكة * (لا يرون فيها شمسا) * يعني لا يصيبهم فيها حر الشمس * (ولا زمهريرا) * يعني ولا برد الشتاء
ثم قال عز وجل * (ودانية عليهم ظلالها) * يعني قريبة عليهم ظلال شجرها
* (وذللت قطوفها تذليلا) * يعني قربت ثمارها ويقال وذللت قطوفها يعني مجنى ثمرها تذليلا يعني قريبا ينالها القاعد والقائم
وروى بن أبي نجيح عن مجاهد قال أرض الجنة من فضة وترابها مسك وأصول شجرها ذهب وفضة وأفنانها لؤلؤ وزبرجد والورق والثمر تحت ذلك فمن أكل قائما لم يؤذه ومن أكل جالسا لم يؤذه ومن أكل مضطجعا لم يؤذه
ثم قرأ * (وذللت قطوفها تذليلا) * وقال أهل اللغة
* (ذللت) * أي أدنيت منهم من قولك حائط ذليل إذا كان قصير السمك
والقطوف والثمرة واحدها قطف وهو نحو قوله تعالى * (قطوفها دانية) * [الحاقة 23]
سورة الإنسان 15 - 22
قوله تعالى * (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب) * وهي كيزان مدققة الرأس لا عرى لها " كانت قواريرا من فضة " يعني في صفاء القارورة وبياض الفضة
وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائه ولكن قوارير الجنة من فضة في صفاء القوارير كبياض الفضة
قرأ نافع وعاصم والكسائي " سلاسلا وقواريرا " كلهن بإثبات الألف والتنوين وقرأ حمزة بإسقاط الألف كلها فكان أبو عمرو يثبت الألف في الأولى من * (قوارير) * ولا يثبتها في الثانية
قال أبو عبيد رأيت في مصحف عثمان رضي الله عنه الذي يقال له مصحف الإمام * (قوارير) * بالألف والثانية كانت بالألف فحكت ورأيت أثرها بينا هناك أما السلاسل فرأيتها قد درست
وقال بعض أهل اللغة الأجود في العربية أن لا ينصرف " سلاسل وقوارير " لأن
505

كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان أو ثلاثة أوسطها ساكن فإنه لا ينصرف فأما من صرفه ونون فإن رده إلى الأصل في الازدواج إذا وقعت الألف بغير تنوين
ثم قال * (قدروها تقديرا) * يعني على قدر كف الخدم ويقال على قدر كف المخدوم ولا يحجز عنهم ويقال على قدر ما يحتاجون إليه ويريدونه
ويقال على مقدار الذي لا يزيد ولا ينقص ليكون ألذ لشربهم * (ويسقون فيها كأسا) * يعني خمرا وشرابا * (كان مزاجها) * يعني خلطها * (زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا) * وقال القتبي يقال الزنجبيل اسم العين وكذلك السلسبيل ويقال إن السلسبيل اللبن والزنجبيل طعمه والعرب تضرب به المثل
وقال مقاتل إنما سمي السلسبيل لأنها تسيل عليهم في الطريق وفي منازلهم وقال أبو صالح بلغني أن السلسبيل شديد الجرية
وقال بعضهم معناه * (كان مزاجها زنجبيلا) * عينا فيها تسمى سلسبيلا يعني عينا تسمى الزنجبيل وتم الكلام
ثم قال * (سلسبيلا) * يعني سل الله تعالى السبيل إليها
قوله تعالى * (ويطوف عليهم ولدان مخلدون) * يعني لا يكبرون ولا يموتون ويكونون على سن واحد * (إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا) * قال قتادة كثرتهم وحسنهم كاللؤلؤ * (منثورا) * أي المنثور (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما) يعني إذا رأيت هناك ما في الجنة * (رأيت نعيما) * * (وملكا كبيرا) * يعني على رؤوسهم التيجان كما يكون على رأس ملك من الملوك
ويقال * (وملكا كبيرا) * يعني لا يدخل عليهم رسول رب العزة إلا بإذنهم
ثم قال عز وجل * (عاليهم ثياب سندس خضر) * يعني على ظهورهم ثياب سندس
قرأ نافع وحمزة * (عاليهم) * بجزم الياء وكسر الهاء
والباقون بنصب الياء وضم الهاء
فمن قرأ بالجزم فمعناه الذي يعلوهم وهو اسم فاعل من علا يعلو
ومن قرأ بالنصب نصبه على الظرف كما تقول فوقهم ثياب
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ " عاليتهم ثياب " يعني الوجه الأعلى
ثم قال * (ثياب سندس خضر) * بالكسر * (وإستبرق) * بالضم قرأ نافع وعاصم في رواية حفص * (خضر وإستبرق) * كلاهما بالضم
والباقون كلاهما بالكسر
فمن قرا بالضم لأنه نعت الثياب
يعني ثيابا خضرا
ومن قرأ بالكسر فهو نعت للسندس
ومن قرأ (وإستبرق) بالضم فهو نسق على الثياب ومعناه عليهم سندس وإستبرق ومن قرأ بالكسر يكون عليهم ثياب من هذين النوعين
ثم قال عز وجل * (وحلوا أساور من فضة) * وهو جمع السوار * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * يعني الذي سقاهم خدمهم
ويقال الذين يشربون من قبل أن يدخلوا الجنة
ثم قال * (إن هذا كان لكم جزاء) * يعني الذي وصف لكم في الجنة ثوابا لأعمالكم * (وكان سعيكم مشكورا) * يعني عملكم مقبولا
يعني يبشرون بهذا إذا أرادوا أن يدخلوا الجنة
506

سورة الإنسان 23 - 31
ثم قال * (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) * يعني أنزلنا عليك جبريل القرآن تنزيلا يعني إنزالا فالمصدر للتأكيد
ثم قال عز وجل * (فاصبر لحكم ربك) * يعني استقم على أمر الله تعالى ونهيه
ويقال اصبر على أذى الكفار
ويقال على تبليغ الرسالة * (ولا تطع منهم آثما) * يعني فاجرا وهو الوليد بن المغيرة * (أو كفورا) * يعني ولا كفورا وهو عتبة بن ربيعة وقال أهل اللغة * (أو) * توضع موضع الواو كقوله * (آثما أو كفورا) * يعني وكفورا
وذلك أن عتبة ابن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن فعلت هذا لأجل المال فارجع حتى أدفع إليك من المال ما تصير به أكثر مالا من أهل مكة
فنزلت هذه الآية " ولا تطع منهم آثما وكفورا "
ثم قال تعالى * (واذكر اسم ربك) * يعني صل باسم ربك * (بكرة وأصيلا) * يعني بكرة وعشيا يعني صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر * (ومن الليل فاسجد له) * يعني فصل لله تعالى المغرب والعشاء * (وسبحه ليلا طويلا) * يعني بعد المكتوبة فهذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة
ويقال له ولأصحابه وهذا أمر استحباب لا أمر وجوب
ثم قال عز وجل * (إن هؤلاء يحبون العاجلة) * يعني يختارون الدنيا * (ويذرون وراءهم) * يعني يتركون العمل لما هو أمامهم * (يوما ثقيلا) * يعني ليوم ثقيل
وقال مجاهد * (وراءهم) * يعني خلفهم
قوله تعالى * (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم) * يعني قوينا خلقهم ليطيعوني فلم يطيعوني
ويقال شددنا مفاصلهم بالعصب والعروق والجلد لكيلا ينقطع المفاصل وقت تحريكها
ويقال * (شددنا أسرهم) * أي قبلهم ودبرهم لكي لا يسيل البول والغائط إلا عند الحاجة
* (وإذا شئنا) * يعني إذا أردنا * (بدلنا أمثالهم تبديلا) * يعني نحن نخلق خلقا أمثل منهم وأطوع لله تعالى * (إن هذه تذكرة) * يعني هذه السورة عظة لكم
ويقال هذه الآيات * (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) * يعني فمن شاء أن يتعظ فليتعظ فقد بينا له الطريق
ثم قال عز وجل * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * يعني إلا أن يشاء لكم فيوفقكم يعني إن جاهدتم فيوفقكم كقوله * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم) * [العنكبوت 69] الآية
قرأ ابن
507

كثير وأبو عمرو " وما يشاؤون " بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم قال عز وجل * (إن الله كان عليما حكيما) * يعني كان * (عليما) * قبل خلقكم من يتخذ السبيل ولم يشرك ويوحد * (حكيما) * حكم بالهداية لمن كان أهلا لذلك
قوله تعالى * (يدخل من يشاء في رحمته) * يعني يكرم بالإسلام من كان أهلا لذلك
ويقال * (يدخل من يشاء في رحمته) * يعني في نعمته وهي الجنة في رحمته وفضله * (والظالمين أعد لهم عذابا أليما) * يعني يدخل الظالمين في عذاب أليم
ويقال يعذب الظالمين
وقرئ في الشاذ * (والظالمون) * وقراءة العامة * (والظالمين) * بالنصب ومعناه ويعذب الظالمين ويكون " أعد لهم " تفسيرا لهذا المضمر
والله أعلم
508

سورة المرسلات مكية وهي خمسون آية
سورة المرسلات 1 - 8
قول الله تبارك وتعالى * (والمرسلات عرفا) * قال الكلبي ومقاتل يعني الملائكة أرسلوا بالمعروف
ويقال كثرتها لها عرف كعرف الفرس
وقال أهل اللغة ويحتمل وجهين أحدهما أنها متتابعة بعضها في إثر بعض وهو مشتق من عرف الفرس
ووجه آخر أنه يرسل بالعرف أي بالمعروف
وروى سفيان عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي عبيدة الساعدي قال سألت عبد الله بن مسعود عن قوله * (والمرسلات عرفا) * قال الريح * (فالعاصفات عصفا) * قال الريح * (والناشرات نشرا) * قال الريح * (فالفارقات فرقا) * قال حسبك معناه * (والمرسلات عرفا) * يعني أرسل الرياح متتابعة كعرف الفرس * (فالعاصفات عصفا) * يعني الريح الشديدة التي تذر التراب بالبراري وتسمى ريح عاصف * (والناشرات نشرا) * يعني الريح التي تنشر السحاب
ويقال * (الناشرات نشرا) * يعني البعث يوم القيامة ويقال الملائكة الذي ينشرون الكتاب
* (فالفارقات فرقا) * يعني القرآن فرق بين الحق والباطل
ويقال هو القبر فرق بين الدنيا والآخرة
ويقال آيات الكتاب الذي فيه بيان عقوبة الكفار
* (فالملقيات ذكرا) * يعني فالمنزلات وحيا وهم الملائكة * (عذرا أو نذرا) * يعني أنزل الوحي * (عذرا) * من الله تعالى من الظلم * (أو نذرا) * لخلقه من عذابه
قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص * (عذرا) * بضم العين وجزم الذال * (أو نذرا) * بضم النون وجزم الذال والباقون بضم الحرفين في كليهما والنذر جمع نذير بمعنى الإنذار
ومن قرأ بالجزم فمعناه كذلك وهو للتخفيف وإنما نصب * (عذرا أو نذرا) * لأنهما مفعولا لهما فمعناه * (فالملقيات ذكرا) * للإعذار والإنذار
ثم قال عز وجل * (إنما توعدون لواقع) * وهو جواب قسم
أقسم الله تعالى بهذه الأشياء * (إن ما توعدون) * من أمر الساعة والبعث * (لواقع) * يعني لكائن ولنازل
509

سورة المرسلات 9 - 15
ثم قال عز وجل * (فإذا النجوم طمست) * يعني الموعد الذي توعدون في اليوم الذي فيه طمست النجوم يعني ذهب ضوؤها * (وإذا السماء فرجت) * يعني انشقت من خوف الرحمن * (وإذا الجبال نسفت) * يعني قلعت من أصولها حتى سويت بالأرض * (وإذا الرسل أقتت) * يعني جمعت وروى منصور عن إبراهيم قال * (وإذا الرسل أقتت) * قال وعدت
وقال مجاهد أي أجلت
قرأ أبو عمرو " وقتت " بغير همز * (اقتت) * بالهمز لأن الواو ضمت إلى الهمزة فجاز أن يبدل منها همزة
والعرب تقول صلى القوم إحدانا ووحدانا ومعناهما واحد يعني يجعل لها وقتا واحدا
وقيل جمعت لوقتها
ثم قال عز وجل * (لأي يوم أجلت) * على وجه التعظيم يعني لأي يوم أجلت الرسل ليشهدوا على قومهم
ثم بين فقال عز وجل * (ليوم الفصل) * يعني أجلها ليوم الفصل وهو يوم القضاء ويقال يوم الفصل يعني يوم يفصل بين الحبيب والحبيبة وبين الرجل وأمه وأبيه وأخيه * (وما أدراك ما يوم الفصل) * يعني ما تدري أي يوم القضاء تعظيما لذلك اليوم * (ويل يومئذ للمكذبين) * يعني الشدة من العذاب في ذلك اليوم للذين أنكروا وحدانية الله وجحدوا بيوم القيامة
سورة المرسلات 16 - 24
ثم قال عز وجل * (ألم نهلك الأولين) * يعني ألم يهلك الله تعالى من كان قبلهم بتكذيبهم لأنبيائهم * (ثم نتبعهم الآخرين) * يعني نهلك الآخرين يعني إن كذبوا رسلهم * (كذلك نفعل بالمجرمين) * يعني هكذا يفعل الله تعالى بالكفار * (ويل يومئذ للمكذبين) * يعني الذين كذبوا رسلهم
ثم قال * (ألم نخلقكم من ماء مهين) * يعني من نطفة وهو ماء ضعيف * (فجعلناه في قرار مكين) * يعني في رحم الأم
* (إلى قدر معلوم) * يعني إلى وقت معروف وهو وقت الخروج من البطن
* (فقدرنا) * يعني فخلقنا * (فنعم القادرون) * يعني نعم الخالق وهو أحسن الخالقين
قرأ نافع والكسائي * (فقدرنا) * بتشديد الدال والباقون بالتخفيف ومعناهما واحد يقال قدرت كذا
510

وكذا وقدرت يعني خلقه في بطن الأم نطفة ثم علقة ثم مضغة
يعني قدرنا خلقه قصيرا وطويلا
* (فنعم القادرون) * يعني فنعم ما قدر الله تعالى خلقهم
ثم أخبرهم بصنعه ليعتبروا فيؤمنوا بالبعث وعرفوا الخلق الأول فقال * (ويل يومئذ للمكذبين) * يعني الشدة من العذاب لمن رأى الخلق الأول فأنكر الخلق الثاني
ويقال * (فنعم القادرون) * يعني نعم المقدرون
ويقال نعم المالكون
سورة المرسلات 25 - 31
ثم قال عز وجل * (ألم نجعل الأرض كفاتا) * يعني أوعية للخلق
ويقال موضع القرار ويقال بيوتا ومنزلا * (أحياء وأمواتا) * يعني ظهرها منازل الأحياء وبطنها منازل الأموات
وقال الأخفش يعني أوعية للأحياء والأموات
وقال الشعبي بطنها لأمواتكم وظهرها لأحياءكم
ويقال يعني ويضمكم فيها والكفت الضم * (وجعلنا فيها رواسي) * يعني الجبال الثقال * (شامخات) * يعني عاليات طوالا * (وأسقيناكم ماء فراتا) * يعني ماء عذبا من السماء ومن الأرض
ثم قال تعالى * (ويل يومئذ للمكذبين) * يعني ويل لمن عاين هذه الأشياء وأنكر وحدانية الله تعالى والبعث
* (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) * يعني يوم الفصل يقال لهؤلاء الذين أنكروا البعث " انطلقوا إلى ما كنتم تكذبون " يعني انطلقوا إلى العذاب
* (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب) * وذلك أنه يخرج عنق من النار فيحيط الكفار مثل السرادق ثم يخرج من دخان جهنم ظل أسود فيتفرق فيهم ثلاث فرق رؤوسهم فإذا فرغ من عرضهم قيل لهم * (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل) * ينفعهم * (ولا يغني من اللهب) * يعني السرادق من لهب النار
وقال القتبي وذلك أن الشمس تدنو من رؤوسهم يعني رؤوس الخلق أجمع وليس عليهم يومئذ لباس ولا لهم أكنان فتلفهم الشمس يعني تسودهم وتأخذ بأنفاسهم ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله
ثم قال للمكذبين * (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) * من عذاب الله وعقابه * (انطلقوا إلى ظل) * أي دخان من نار جهنم قد سطع ثم افترق ثلاث فرق فيكونون فيه إلى أن يفرغ من الحساب كما يكون أوليائه في ظله
ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة أو النار
وصف الظل فقال * (لا ظليل) * يعني لا يظلكم من حر هذا اليوم بل يزيدكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس * (ولا يغني من اللهب) * وهذا مثل قوله * (وظل من يحموم) * [الواقعة 43] وهو الدخان وهو سرادق أهل النار كما ذكر المفسرون
511

سورة المرسلات 32 - 40
ثم قال عز وجل * (إنها ترمي بشرر كالقصر) * يعني النار ترمي بشرر القصر قال الكلبي يعني يشبه القصر وهو القصور الأعاريب التي على الماء وأحدهما عربة وهي الأرحية التي تكون على الماء تطحن الحنطة
وقال مقاتل القصور أصول الشجر العظام
وقال مقاتل * (إنها ترمي بشرر كالقصر) * أراد القصور من قصور أحياء العرب
وقرأ بعضهم * (كالقصر) * بنصب الصاد شبه بأعناق النخل ثم شبه في لونه بالجمالات الصفر
فقال " كأنه جمالت صفر " وهي السود
والعرب تسمي السود من الإبل الصفر لأنه تشوبه صفرة كما قال الأعشى
(تلك خيلي وتلك منها ركابي
* هن صفر أولادها كالزبيب)
يعني هن سود قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص * (جمالة صفر) * وهي جمع جمل يقال جمل وجمال وجمالة وقرأ الباقون " جمالات " وهو جمع الجمع
وقال ابن عباس الجمالات الصفر حبال السفينة يجمع بعضها إلى بعض حتى يكون مثل أوساط الرجال * (ويل يومئذ للمكذبين) * يعني ويل لمن جحد هذا اليوم بعدما سمعه
ثم قال عز وجل * (هذا يوم لا ينطقون) * يعني لا يتكلمون وهذا في بعض أحوال يوم القيامة ومواضعها * (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * يعني لا يؤذن لهم في الكلام يعني الكفار ليعتذروا * (ويل يومئذ للمكذبين) * يعني ويل لمن جحد يوم القيامة وهو يقدر على الكلام في هذا اليوم يعني كان في الدنيا يقدر على المعذرة فتركها
ثم قال * (هذا يوم الفصل) * يعني يوم القضاء ويقال يوم يفصل بين أهل الجنة أهل النار * (جمعناكم والأولين) * يعني جمعناكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع
من مضى قبلكم * (فإن كان لكم كيد فكيدون) * يعني إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم * (ويل يومئذ للمكذبين) * يعني ويل لمن أنكر قدرة الله والبعث والجمع يوم القيامة
سورة المرسلات 41 - 50
ثم قال تعالى * (إن المتقين) * يعني إن الذين يتقون الشرك والفواحش * (في ظلال) * قال
512

الكلبي يعني في ظلال الأشجار
وقال مقاتل يعني في الجنان والقصور يعني في قصور الجنة * (وعيون) * يعني أي وأنهار جارية * (وفواكه) * يعني وألوان الفواكه * (مما يشتهون) * يعني يتمنون ويقال لهم * (كلوا) * يعني من الطعام * (واشربوا) * من الشراب * (هنيئا) * يعني سائغا مريئا لا يؤذيهم * (بما كنتم تعملون) * يعني ثوابا لكم بما عملتم في الدنيا * (إنا كذلك نجزي المحسنين) * يعني هكذا يثيب الله الموحدين المؤمنين المحسنين في أعمالهم وأفعالهم * (ويل يومئذ للمكذبين) * يعني ويل لمن أنكر هذا الثواب
ثم قال للمجرمين * (كلوا وتمتعوا قليلا) * يعني كلوا في الدنيا كما تأكل البهائم وعيشوا مدة قليلة إلى منتهى آجالكم * (إنكم مجرمون) * يعني مشركين وهذا وعيد وتهديد * (ويل يومئذ للمكذبين) * يعني لمن رضي بالدنيا ولا يقر بالبعث
ثم قال عز وجل * (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) * يعني اخضعوا لله تعالى بالتوحيد لا يخضعون ويقال وإذا قيل لهم صلوا وأقروا بالصلاة * (لا يركعون) * يعني لا يقرون بها ولا يصلون * (ويل يومئذ للمكذبين) * يعني ويل طويل لمن لا يقر بالصلاة ولم يؤدها وقال مقاتل نزلت في ثقيف قالوا لا ننحني في الصلاة لأنه مذلة علينا * (فبأي حديث بعده يؤمنون) * يعني إن لم يصدقوا به فبأي كلام يصدقون يعني لا حديث أصدق منه ولا دعوة أبلغ من دعوى النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم بالصواب و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
513

سورة النبأ مكية وهي أربعون آية
سورة النبأ 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (عم يتساءلون) * وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث جعلوا يتساءلون فيما بينهما ويقولون ما الذي جاء به هذا الرجل فنزل * (عم يتساءلون) * يعني عماذا يتساءلون * (عن النبأ العظيم) * يعني الخبر العظيم وهو القرآن كقوله * (أنتم عنه معرضون) * [ص 68] ويقال معناه عن ماذا يتحدثون وعن أي شيء يتحدثون
ثم قال * (عن النبأ العظيم) * يعني خبرا عظيما
وقال الزجاج أصله عن ما فأدغمت النون في الميم والمعنى عن أي شيء يتساءلون ثم بين فقال * (عن النبأ العظيم) * يعني عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم
وقيل عن القرآن
وقيل * (عن النبأ العظيم) * يعني عن البعث والدليل عليه قوله تعالى * (إن يوم الفصل كان ميقاتا) * [النبأ 17] ثم بين لهم الأمر الذي كانوا يتساءلون وهو البعث
ثم قال عز وجل * (الذي هم فيه مختلفون) * يعني مصدقا ومكذبا بالبعث بعضهم مصدق وبعضهم مكذب
ويقال بالقرآن ويقال بمحمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال تعالى * (كلا سيعلمون) * يعني سيعرفون * (ثم كلا سيعلمون) * يعني سيعرفون ذلك الوعيد على أثر الوعيد يعني سيعلمون عند الموت وفي الآخرة ويتبين لهم بالمعاينة
قرأ ابن عامر * (ستعلمون) * بالتاء على وجه المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
سورة النبأ 6 - 16
ثم ذكر صنعه ليستدلوا بصنعه على توحيده فقال تعالى * (ألم نجعل الأرض مهادا) * يعني فراشا ومناما
ويقال موضع القرار ويقال معناه ذللنا لهم الأرض ليسكنوها ويسيروا فيها
* (والجبال أوتادا) * يعني أوتدها وأثبتها
514

ثم قال * (وخلقناكم أزواجا) * يعني أصنافا وأضدادا ذكرا وأنثى
ويقال ألوانا بيضا وسودا وحمرا * (وجعلنا نومكم سباتا) * يعني راحة لأبدانكم وأصله التمدد فلذلك سمي السبت لأنه قيل لبني إسرائيل استريحوا فيه
ويقال * (سباتا) * يعني سكونا وانقطاعا عن الحركات
ثم قال * (وجعلنا الليل لباسا) * يعني سكنا يسكنون فيه
ويقال سترا يستر كل شيء * (وجعلنا النهار معاشا) * يعني مطلبا للمعيشة * (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) * يعني خلقنا فوقكم سبع سماوات غلاظا غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام * (وجعلنا سراجا وهاجا) * يعني وقادا مضيئة * (وأنزلنا من المعصرات) * يعني من السحاب سمي معصرات لأنها تعصر الماء
ويقال المعصرات هي الرياح يعني ذوات الأعاصير
كقوله " إعصارا فيه نار " * (ماء ثجاجا) * يعني سيالا ويقال منصبا كبيرا * (لنخرج به حبا ونباتا) * يعني بالماء حبوبا كثيرة للناس ونباتا للدواب من العشب والكلأ * (وجنات ألفافا) * يعني شجرها ملتفا بعضها في بعض
سورة النبأ 17 - 23
فأعلم الله تعالى قدرته أنه قادر على البعث ثم بين أن البعث حق عليهم
فقال * (إن يوم الفصل كان ميقاتا) * يعني يوم القيامة ميقات وميعاد للأولين والآخرين * (يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا) * يعني جماعة جماعة
وروي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (يبعث الناس صورا مختلفة بعضهم على صورة الخنزير وبعضهم على صورة القردة وبعضهم وجوههم كالقمر ليلة البدر
ثم قال عز وجل * (وفتحت السماء) * يعني أبواب السماء * (فكانت أبوابا) * يعني فصارت طرقا
قرأ حمزة والكسائي وعاصم * (وفتحت السماء) * بالتخفيف والباقون بالتشديد وهو لتكثير الفعل والتخفيف بفتح مرة واحدة
ثم قال عز وجل * (وسيرت الجبال) * يعني قلعت من أماكنها * (فكانت سرابا) * يعني فصارت كالسراب تسير في الهواء كالسراب في الدنيا * (إن جهنم كانت مرصادا) * أي رصدا لكل كافر ويقال سجنا ومحبسا * (للطاغين مآبا) * أي للكافرين مرجعا يرجعون إليها
* (لابثين فيها أحقابا) * يعني ماكثين فيها أبدا دائما
والأحقاب وأحدها حقب والحقب ثمانون سنة وكل سنة اثنا عشر شهرا وكل شهر ثلاثون يوما وكل يوم منها مقدار ألف سنة مما تعدون بأهل الدنيا فهذا حقب واحد
والأحقاب هو التأبيد كلما مضى حقب دخل حقب
515

آخر
وإنما ذكر أحقابا لأن ذلك كان أبعد شيء عندهم
فذكر وتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونه وهو كناية عن التأبيد أي يمكثون فيها أبدا
قرأ حمزة " لبثين " بغير ألف والباقون * (لابثين) * بالألف ومعناهما واحد
سورة النبأ 24 - 30
ثم قال عز وجل * (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا) * يعني لا يكون فيها برد يمنعهم من حرها
وقال القتبي البرد النوم وقال الزجاج يجوز أن يكون البرد نوما ويجوز أن يكون معناه لا يذوقون فيها برد ريح ولا ظل * (ولا شرابا) * ينفعهم * (إلا حميما) * يعني ماء حارا قد انتهى حره * (وغساقا) * يعني زمهريرا
وقال الزجاج الغساق ما يغسق من جلودهم أي ما يسيل
وقد قيل الشديد البرد
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص * (وغساقا) * بالتشديد والباقون بالتخفيف ومعناهما واحد
ثم قال * (جزاء وفاقا) * يعني العقوبة موافقة لأعمالهم لأن أعظم الذنوب الشرك وأعظم العذاب النار ووافق الجزاء العمل
* (إنهم كانوا لا يرجون حسابا) * يعني لا يخافون البعث بعد الموت
ويقال كانوا لا يرجون ثواب الآخرة أنهم كانوا ينكرون البعث
قوله تعالى " وكذبوا بآيتنا كذابا " يعني جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن * (كذابا) * يعني تكذيبا وجحودا
" وكل شيء أحصيناه كتابا " يعني أثبتناه في اللوح المحفوظ * (فذوقوا) * يعني يقال لهم فذوقوا العذاب * (فلن نزيدكم إلا عذابا) *
سورة النبأ 31 - 37
ثم بين حال المؤمنين فقال عز وجل * (إن للمتقين مفازا) * يعني نجاة من النار إلى الجنة
ويقال المفاز بمعنى الفوز
يعني موضع النجاة * (حدائق وأعنابا) * يعني لهم حدائق في الجنة والحدائق ما أحيط بالجدار وفيه من النخيل والثمار * (وأعنابا) * يعني كروما * (وكواعب أترابا) * والكواعب الجواري مفلكات الثديين * (أترابا) * مستويات في الميلاد والسن
وقال أهل اللغة الكواعب النساء قد كعب ثديهن * (وكأسا دهاقا) * كل إناء فيه شراب فهو كأس فإذا لم يكن فيه شراب فليس بكأس كما يقال للمائدة إذا كان عليها طعام مائدة وإذا لم يكن فيها طعام خوان
يقال * (دهاقا) * يعني سائغا
وقال الكلبي * (وكأسا دهاقا) *
516

يعني إناء فيه خمر ملآن متتابعا وهذا قول عطية وسعيد والعباس بن عبد المطلب ومجاهد وإبراهيم النخعي
ثم قال * (لا يسمعون فيها لغوا) * يعني حلفا وباطلا
ويقال " لوا يسمعون " في مشربها فحشا خبثا * (ولا كذابا) * يعني تكذيبا في شربها
يعني لا يكذبون فيها
قرأ الكسائي * (كذابا) * بالتخفيف يعني لا يكذب بعضهم بعضا
وقرأ الباقون بالتشديد وهو من التكذيب
ثم قال * (جزاء من ربك) * يعني ثوابا من ربك * (عطاء حسابا) * يعني كثيرا
وقال مجاهد عطاء من الله حسابا بما عملوا
وقال أهل اللغة * (حسابا) * أي كثيرا
كما يقال أعطينا فلانا عطاء حسابا أي كثيرا
وقال قتادة * (جزاء من ربك) * جزاؤهم بالعمل اليسير الخير الجسيم حسابا أي كثيرا وأصله أن يعطيه حتى يقول حسبي
وقال الزجاج * (حسابا) * أي ما يكفيهم يعني فيه ما يشتهون
ثم قال عز وجل " رب السماوات والأرض " يعني خالق السماوات والأرض
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " رب السماوات والأرض " بضم الباء والباقون بالكسر
فمن قرأ بالضم فمعناه هو رب السماوات والأرض ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الصفة أي جزاء من ربك رب السماوات والأرض * (وما بينهما الرحمن) * يعني الرحمن هو رب السماوات والأرض * (لا يملكون منه خطابا) * يعني لا يملكون الكلام بالشفاعة إلا بإذنه
سورة النبأ 38 - 40
قوله عز وجل * (يوم يقوم الروح) * قال الضحاك هو جبريل
وقال قتادة عن ابن عباس قال هو خلق على صورة بني آدم
ويقال هو خلق واحد يقوم صفا واحدا * (والملائكة صفا) * يعني صفوفا
ويقال الروح لا يعلمه إلا الله كما قال * (قل الروح من أمر ربي) * [الإسراء 85]
* (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن) * يعني لا يتكلمون بالشفاعة * (إلا من أذن له الرحمن) * بالشفاعة * (وقال صوابا) * يعني لا إله إلا الله يعني من كان معه التوحيد فهو من أهل الشفاعة
ثم قال عز وجل * (ذلك اليوم الحق) * يعني القيامة كائنة * (فمن شاء اتخذ) * يعني من شاء وحد واتخذ بذلك التوحيد * (إلى ربه مآبا) * يعني مرجعا
ويقال من شاء اتخذ بالطاعة إلى ربه مرجعا
ثم خوفهم فقال * (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) * يعني خوفناكم بعذاب قريب وهو يوم القيامة
ثم خوف المؤمنين ووصف ذلك اليوم فقال * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) * يعني
517

عملت وأسلفت من الخير والشر يعني ينظر المؤمن إلى عمله وينظر الكافر إلى عمله * (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) * يعني لو كنت نهما منها فأكون ترابا أستوي بالأرض
وذلك أن الله تعالى يقول للسباع والبهائم كوني ترابا فعند ذلك يتمنى الكافر فيقول * (يا ليتني كنت ترابا) *
وروى عبد الله بن عمرو وأبو هريرة أن الله يحشر البهائم والدواب والناس ثم يقتص بعضهم من بعض حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء
ثم إن الله تعالى يقول لها كوني ترابا فيراها الكافر ويتمنى أن يكون مثلها ترابا
ويقول * (يا ليتني كنت ترابا) * يعني يا ليتني لم أبعث كقوله * (يا ليتني لم أوت كتابيه) * [الحاقة 25] إلى قوله * (يا ليتها كانت القاضية) * [الحاقة 27] والله أعلم و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم
518

سورة النازعات مكية وهي أربعون وست آيات
سورة النازعات 1 - 7
قول الله تبارك وتعالى * (والنازعات غرقا) * قال مقاتل يعني ملك الموت ينزع روح الكافر من صدره كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل فيخرج نفسه من حلقه معها العروق كالغريق في الماء * (والناشطات نشطا) * ملك الموت ينشط روح الكافر من قدمه إلى حلقه
وقال الكلبي * (والنازعات) * يعني ملك الموت وأعوانه * (غرقا) * أي كرها
يقال غرقت نفسه في صدره وذلك أنه ليس من كافر يحضره الموت إلا عرضت عليه جهنم فيراها قبل أن تخرج نفسه فيرى فيها أقواما مرة ينغمسون ومرة يرتفعون
فعند ذلك تغرق روحه في جسده
* (والناشطات نشطا) * يعني الملائكة الذين يقبضون أرواح المؤمنين بالتيسير وذلك أنه ما من مؤمن يحضره الموت إلا ويرى منزلته في الجنة
ويرى فيها أقواما من أهل معرفته وهم يدعون إلى أنفسهم فعند ذلك ينشط إلى الخروج
ويقال * (النازعات) * الملائكة تنزع النفس أغراقا كما يغرق النازع في القوس * (والناشطات نشطا) * الملائكة تقبض نفس المؤمن كما ينشط العقال
وقال عطاء * (والنازعات غرقا) * يعني القسي * (والناشطات نشطا) * يعني الأوهاق
ثم قال * (والسابحات سبحا) * يعني الملائكة الذين يقبضون أرواح الصالحين يسلونها سلا رقيقا ويتركونها حتى تستريح رويدا
ويقال * (والسابحات سبحا) * يعني السفن تجري في الماء
ويقال * (والسابحات سبحا) * يعني الملائكة جعل نزولها في السماء كالسباحة
ويقال * (والسابحات سبحا) * يعني النجوم الدوارة
كما قال و * (كل في فلك يسبحون) * [الأنبياء 33]
ثم قال * (فالسابقات سبقا) * يعني الملائكة الذين يسبقون إلى الخير والدعاء
ويقال * (فالسابقات سبقا) * بالخير يعني أرواح المؤمنين يعرج بها إلى السماء سراعا تفتح لهم أبواب السماء
ويقال * (فالسابقات سبقا) * يعني خيول الغزاة
* (فالمدبرات أمرا) * يعني الملائكة الذين جعل إليهم تدبير الخلق وهم جبريل
519

وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام
أما جبريل فعلى الوحي وإنزال الرحمة والعذاب على الخلائق بأمر الله
وأما ميكائيل فعلى الأمطار والنبات يقسم على البلاد والعباد بإذن الله
وأما عزرائيل وهو ملك الموت فعلى قبض الأرواح عند انقضاء أجلهم بإذن الله تعالى
وإما إسرافيل فعلى النفح في الصور متى أمره الله تعالى وهو قوله * (يوم ترجف الراجفة) * فهذا كله قسم وجواب القسم مضمر فكأنه أقسم بهذه الأشياء أنهم يبعثون يوم القيامة لأن في الكلام دليلا عليه وهو قوله * (يوم ترجف الراجفة) * يعني لتبعثن يوم القيامة في " يروم ترجف الراجفة " يعني الصيحة الأولى
ثم قال * (تتبعها الرادفة) * يعني الصيحة الثانية يعني النفخة الأولى للصعق والنفخة الأخرى للبعث
وروي عن يزيد بن ربيعة عن الحسن في قوله * (يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة) * قال هما النفختان فأما الأولى فتميت الأحياء وأما الثانية فتحيي الموتى
ثم تلا * (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض) * [الزمر 68] ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأصل الرجفة الحركة يعني تزلزلت الأرض زلزلة شديدة عند النفخة الأولى والرادفة كل شيء يجيء بعد شيء فهو يردفه
سورة النازعات 8 - 14
ثم قال عز وجل * (قلوب يومئذ واجفة) * يعني خائفة خاشعة من هول ذلك اليوم
ويقال يعني ذليلة
ويقال زائلة عن مكانها
* (أبصارها خاشعة) * يعني أبصار الخلائق ذليلة
ويقال أبصار القلوب خاشعة
ثم ذكر قول الكفار وإنكارهم البعث فقال تعالى * (يقولون أئنا لمردودون في الحافرة) * تعجبا منهم وفي الآية تقديم ومعناه " أئنا لمردودن في الحافرة " أي إلى أول أمرنا يقال رجع فلان في حافرته وعلى حافرته يعني رجع من حيث جاء
ثم قال * (أئذا كنا عظاما نخرة) * يعني بعد ما كنا عظاما بالية
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " إذا كنا عظاما ناخرة " بالألف والباقون * (نخرة) * بغير ألف
قال بعضهم معناهما واحد هما لغتان
وقال بعضهم الناخرة التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها والنخرة التي قد فسدت كلها
وقال مجاهد * (عظاما نخرة) * أو مرفوتة كما قال في قوله * (عظاما ورفاتا) * * (قالوا تلك إذا كرة خاسرة) * يعني إن كانوا كما تقولون فنحن بخسران
قال الله تعالى * (فإنما هي زجرة واحدة) * يعني يبعثهم صيحة واحدة وهو نفخ إسرافيل
520

في الصور * (فإذا هم بالساهرة) * يعني على وجه الأرض يعني هم قيام على ظهر الأرض
ويقال سميت الأرض ساهرة لمنام الخلق وسهرهم عليها
سورة النازعات 15 - 26
ثم وعظهم بما أصاب فرعون في النكال في الدنيا فقال * (هل أتاك حديث موسى) * يعني قد أتاك خبر موسى * (إذ ناداه ربه بالواد المقدس) * يعني بالوادي المطهر * (طوى) * اسم الوادي * (اذهب إلى فرعون إنه طغى) * يعني علا وتكبر وكفر
* (فقل هل لك إلى أن تزكى) * يعني ألم يأن لك أن تسلم
ويقال معناه هل ترغب في توحيد ربك وتسلم وتشهد أن لا إله إلا الله وتزكي نفسك من الكفر والشرك
قرأ ابن كثير ونافع * (إلى أن تزكى) * بتشديد الزاي لأن أصله تتزكى وأدغمت التاء في الزاي وشددت
والباقون بالتخفيف لأنه حذف إحدى التائين وتركت مخففة
ثم قال عز وجل * (وأهديك إلى ربك فتخشى) * يعني أدعوك إلى توحيد ربك * (فتخشى) * يعني تخاف عذابه فتسلم * (فأراه الآية الكبرى) * يعني العصا واليد وسائر الآيات
* (فكذب وعصى) * يعني كذب بالآيات ولم يقبل قوله * (ثم أدبر يسعى) * يعني أدبر عن التوحيد و * (يسعى) * في هلاك موسى * (فحشر) * يعني فجمع أهل المدينة * (فنادى) * يعني فخطب لهم " فقال " لهم اعبدوا أصنامكم التي كنتم تعبدون فإن هؤلاء أربابكم الصغار
و * (أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) * يعني فعاقبه بعقوبة الدنيا وهي الغرق وعقوبة الآخرة وهي النار
ويقال الآخرة والأولى
يعني العقوبة بالكلمة الأولى والكلمة الأخرى
فأما الأولى فقوله * (ما علمت لكم من إله غيري) * والأخرى قوله " وأنا ربكم الأعلى " وكان بين الكلمتين أربعون سنة
ويقال قوله " وأنا ربكم الأعلى " كان في الابتداء حيث أمرهم بعبادة الأصنام ثم نهاهم عن ذلك وأمرهم بأن لا يعبدوا غيره
وقال * (ما علمت لكم من إله غيري) *
ثم قال * (إن في ذلك) * يعني في هلاك فرعون وقومه * (لعبرة لمن يخشى) * يعني لعظة لمن يريد أن يعتبر ويسلم
سورة النازعات 27 - 32
521

سورة النازعات 33 - 41
ثم وعظ أهل مكة فقال * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها) * يعني أبعثكم بعد الموت أشد أم خلق السماء في المشاهدة عند الناس خلق السماء أشد فالذي هو قادر على خلق السماء قادر على البعث
ثم قال * (بناها) * يعني خلق السماء مرتفعة * (رفع سمكها) * أي سقفها بغير عمد * (فسواها) * يعني سوى خلقها
ويقال خلقها مستوية بلا صدع ولا شق * (وأغطش ليلها) * يعني أظلم ليلها * (وأخرج ضحاها) * يعني أنوار ضحاها وشمسها ونهارها فإنها راجعة إلى السماء
ثم قال عز وجل * (والأرض بعد ذلك دحاها) * يعني بعد خلق الأرض السماء بسط الأرض ومدها * (أخرج منها ماءها) * يعني من الأرض ماءها
يعني عيونها للناس * (ومرعاها) * للدواب والأنعام
قال القتبي هذا من جوامع الكلم حيث ذكر شيئين على جميع ما أخرج من الأرض قوتا ومتاعا للأنعام من العشب والشجر والحب والتمر والملح والنار لأن النار من العيدان والملح من الماء
ثم قال عز وجل * (والجبال أرساها) * يعني أوتدها وأثبتها * (متاعا لكم ولأنعامكم) * يعني منفعة لكم ومنفعة لأنعامكم * (فإذا جاءت الطامة الكبرى) * يعني الصيحة العظمى وإنما سميت طامة لأنها طمت وعلت فوق كل شيء * (يوم يتذكر الإنسان ما سعى) * يعني يعلم بكل شيء عمله في الدنيا
ويقال يوم ينظر الإنسان في كتابه بما عمل من الخير والشر * (وبرزت الجحيم) * يعني أظهرت الجحيم * (لمن يرى) * يعني لمن وجبت له * (فأما من طغى) * يعني كفر وعلا وتكبر
* (وآثر الحياة الدنيا) * يعني اختار ما في الدنيا على الآخرة
ويقال اختار العمل للدنيا على الآخرة * (فإن الجحيم هي المأوى) * يعني مأوى من كان هكذا
ثم قال * (وأما من خاف مقام ربه) * يعني خاف المقام بين يدي ربه * (ونهى النفس عن الهوى) * يعني منع نفسه عن معاصي الله تعالى وعمل بخلاف ما تهوى من الحرام * (فإن الجنة هي المأوى) * يعني مأوى من كان هكذا
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخوف ما أخاف عليكم اثنان طول الأجل واتباع الهوى
فأما طول الأجل فينسي الآخرة وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق
522

سورة النازعات 42 - 46
قوله تعالى * (يسألونك عن الساعة) * يعني عن قيام الساعة * (أيان مرساها) * أي وقت قيامها
وأصله يعني أي أوان ظهورها ووقتها
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم * (فيم أنت من ذكراها) * يعني ما أنت وذاك دع ذلك إلى الله
ثم قال * (إلى ربك منتهاها) * يعني عند ربك علم منتهاها وقيامها
فانتهى عند ذلك
ثم قال عز وجل * (إنما أنت منذر من يخشاها) * يعني أنت مخوف بالقرآن من يخاف قيامها وليس عليك أن تعرف متى وقتها
ثم قال عز وجل * (كأنهم يوم يرونها) * يعني قيام الساعة * (لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) * يعني كأنهم لبثوا في قبورهم مقدار عشية يعني قدر آخر النهار أو قدر ضحاها وهو قدر أول النهار
ويقال كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا مقدار العشية أو مقدار الضحى
قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين * (إنما أنت منذر) * بالتنوين والباقون بغير تنوين
فمن قرأ بالتنوين جعل " من " في موضع النصب
يعني منذر الذي يخشاها
ومن قرأ بغير تنوين جعل " من " في موضع خفض بالإضافة
والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد
523

سورة عبس مدنية وهي أربعون وآيتان
سورة عبس 1 - 7
قوله تبارك وتعالى * (عبس وتولى) * يعني كلح وأعرض بوجهه يعني النبي صلى الله عليه وسلم
وروى هشام بن عروة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا ومعه عتبة بن ربيعة في ناس من وجوه قريش وهو يحدثهم بحديث فجاء ابن أم مكتوم على تلك الحال فسأله عن بعض ما ينتفع به فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع كلامه وقال في رواية مقاتل كان اسم ابن أم مكتوم عمرو بن قيس
وقال في رواية الكلبي كان اسمه عبد الله بن شريح
فقال يا رسول الله علمني مما علمك الله تعالى
فأعرض عنه شغلا بأولئك القوم حرصا على إسلامهم فنزل * (عبس وتولى) * قال وهو بلفظ المغايبة تعليما للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه * (عبس) * محمد صلى الله عليه وسلم وجهه * (وتولى) * يعني فأعرض * (أن جاءه الأعمى) * يعني إن جاءه الأعمى
ويقال حين جاءه الأعمى وهو ابن أم مكتوم
ثم قال * (وما يدريك لعله يزكى) * يعني وما يدريك يا محمد لعله يصلي أو يفلح فيعمل خيرا أو يتعظ بالقرآن
ويقال يعني يزداد خيرا
* (أو يذكر) * يعني يتعظ بالقرآن * (فتنفعه الذكرى) * يعني العظة
ثم قال * (أما من استغنى) * يعني استغنى بنفسه عن ثواب الله
ويقال استغنى بماله ونفسه عن دينك وعظتك * (فأنت له تصدى) * يعني تقبل بوجهك عليه
ويقال * (تصدي) * أي تعرض
يقال فلان تصدى لفلان إذا تعرض له ليراه
قرأ عاصم * (أو يذكر فتنفعه الذكرى) * بنصب العين جعله جوابا ل * (لعله) * يعني " يتذكر فتنفعه " الفطة
وقرأ الباقون بالضم جعلوه جوابا للفعل
قرأ نافع وابن كثير * (تصدي) * بتشديد الصاد لأن الأصل تتصدى فأدغمت وشددت
وقرأ الباقون بحذف التاء للتخفيف فهذا كقوله * (فقل هل لك إلى أن تزكى) * [النازعات 18]
ثم قال * (وما عليك ألا يزكى) * يعني ليس شيء عليك إن لم يوحد عتبة وأصحابه
ويقال لا يضرك إن لم يؤمنوا ولم يصلحوا
524

سورة عبس 8 - 16
ثم قال عز وجل * (وأما من جاءك يسعى) * يعني يسرع إلى الخير ويعمل به وهو ابن أم مكتوم
ويقال يعني يمشي برجليه * (وهو يخشى) * يعني يخشى ربه * (فأنت عنه تلهى) * يعني تشتغل وتتلاهى وتتغافل
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم ابن أم مكتوم بعد نزول هذه الآية
ثم قال تعالى * (كلا) * يعني لا تفعل ولا تقبل على من استغنى عن الله تعالى بنفسه وتعرض عمن يخشى الله تعالى * (إنها تذكرة) * يعني هذه الموعظة تذكرة
ويقال هذه السورة تذكرة يعني موعظة * (فمن شاء ذكره) * يعني ذكر المواعظ وذكره يلفظ التذكير ولم يقل ذكرها لأنه ينصرف إلى المعنى لأن الموعظة إنما هي بالقرآن
يعني فمن شاء أن يتعظ بالقرآن فليتعظ * (في صحف مكرمة) * يعني أن هذا القرآن في صحف مكرمة
يعني مطهرة مبجلة معظمة وهو اللوح المحفوظ * (مرفوعة) * يعني مرتفعة * (مطهرة) * يعني منزهة عن التناقض والكذب والعيب
* (بأيدي سفرة) * يعني الكتبة الذين يكتبون في اللوح المحفوظ
ثم أثنى على الكتبة فقال * (كرام بررة) * يعني كراما على الله تعالى * (بررة) * أي مطيعين لله تعالى
ويقال * (بررة) * من الذنوب
وقال القتبي السفرة الكتبة
وأحدهما سافر وإنما يقال للكاتب سافر لأنه يبين الشيء ويوضحه
ويقال أسفر الصبح إذا أضاء والبررة جمع بار مثل كفرة وكافر
سورة عبس 17 - 32
ثم قال تعالى * (قتل الإنسان ما أكفره) * يعني لعن الكافر بالله تعالى يعني عتبة وأصحابه ومن كان مثل حاله إلى يوم القيامة
* (ما أكفره) * يعني ما الذي أكفره وهذا قول مقاتل
وقال الكلبي يعني أي شيء أكفره
ويقال نزلت في عتبة بن أبي لهب حيث قال إني كفرت بالنجم إذا هوى
ويقال * (ما أكفره) * يعني ما أشده في كفره
ثم قال " من أي شيء خلقه " يعني هل يعلم من أي شيء خلقه ويقال أفلا يعتبر من أي شيء خلقه ثم أعلمه ليعتبر في خلقه فقال * (من نطفة خلقه فقدره) * يعني خلقه في بطن أمه طورا بعد طور
* (ثم السبيل يسره) * يعني يسره للخروج من بطن أمه
ويقال يسره طريق الخير والشر
وقال مجاهد هو مثل قوله * (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) * [الدهر 3]
525

قوله * (ثم أماته فأقبره) * يعني جعل له قبرا يوارى فيه
ويقال أمر به ليعتبر ويقال * (فأقبره) * أي جعله ممن يقبر ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض كالبهائم * (ثم إذا شاء أنشره) * يعني يبعثه في القبر إذا جاء وقته
ثم قال * (كلا لما يقض ما أمره) * يعني لم يؤد ما أمره من التوحيد و " ما " هنا صلة كقوله * (فبما رحمة من الله) * [آل عمران 159]
وقال مجاهد " لما يقضي ما أمره " يعني لا يقضي أحدا أبدا كما افترض عليه
ثم أمرهم بأن يعتبروا بخلقه فقال تعالى * (فلينظر الإنسان إلى طعامه) * يعني إلى رزقه ومن أي شيء يرزقه فليعتبر به * (أنا صببنا الماء صبا) * يعني المطر
قرأ أهل الكوفة * (أنا صببنا) * بنصب الألف والباقون بالكسر
فمن قرأ بالنصب جعله بدلا عن الطعام يعني * (فلينظر الإنسان إلى طعامه) * أي * (أنا صببنا الماء صبا) * ومن قرا بالكسر فهو على الاستئناف * (أنا صببنا الماء صبا) * يعني المطر على الأرض بعد المطر
* (ثم شققنا الأرض شقا) * يعني شققناها بالنبات والشجر " فأنبتا فيها حبا وعنبا " يعني في الأرض ومعناه أخرجنا من الأرض * (حبا) * يعني الحبوب كلها * (وعنبا) * يعني الكروم * (وقضبا) * قال ابن عباس يعني الفصة وهي القت الرطب
وقال القتبي القضب القت سمي قضبا لأنه يقضب مرة بعد مرة أي يقطع
وكذلك القصيل لأنه يقصل أي يقطع
ويقال * (وقضبا) * يعني جميع ما يقضب مثل القت والكرات وسائر البقول التي تقطع فينبت من أصله * (وزيتونا) * وهي شجرة الزيتون * (ونخلا) * يعني النخيل * (وحدائق غلبا) * قال عكرمة غلاظ الرقاب
ألا ترى أن الرجل إذا كان غليظ الرقبة يقال له أغلب والحدائق واحدها حديقة * (غلبا) * أي نخلا غلاظا طوالا
ويقال * (حدائق غلبا) * يعني حيطان النخيل والشجر
وقال الكلبي كل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حديقة وما لم يحط به فليس بحديقة
ويقال الشجر يعني ملتف بعضه ببعض
ثم قال عز وجل * (وفاكهة وأبا) * ويعني الثمر كلها وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (خلقتم من سبع ورزقتم من سبع فاسجدوا لله على سبع) وإنما أراد بقوله (خلقتم من سبع) يعني من نطفة ثم من علقه الآية (والرزق من سبع) وهو قوله * (فأنبتنا فيها حبا وعنبا) * إلى قوله * (وفاكهة) * ثم قال * (وأبا) * يعني العنب وقال مجاهد ما يأكل الدواب والأنعام
وقال الضحاك هو التبن
* (متاعا لكم ولأنعامكم) * يعني الحبوب والفواكه منفعة لكم والكلأ والعشب منفعة لأنعامكم
سورة عبس 33 - 36
526

سورة عبس 37 - 42
ثم ذكر القيامة فقال * (فإذا جاءت الصاخة) * يعني الصيحة تصخ الأسماع أي تصمها فلا يسمع إلا ما يدعا به
ويقال * (الصاخة) * اسم من أسماء القيامة وكذلك * (الطامة) * و * (القارعة) * و * (الحاقة) *
ثم وصف ذلك اليوم فقال * (يوم يفر المرء من أخيه) * وفراره أنه يعرض عنه منشغلا بنفسه وقال شهر بن حوشب * (يوم يفر المرء من أخيه) * يعني هو هابيل يفر من أخيه قابيل * (وأمه وأبيه) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم من أمه وأبيه وإبراهيم من أبيه * (وصاحبته) * يعني لوط من امرأته * (وبنيه) * يعني نوح من ابنه
ويقال هذا في بعض أحوال يوم القيامة أن كل واحد منهم يشتغل بنفسه يعني فلا ينظر المرء إلى أخيه ولا إلى ابنه ولا إلى أبيه
ثم قال تعالى " لكل امرئ منهم شأن يغنيه " يعني لكل إنسان شغل يشغله عن هؤلاء
وروي في الخبر أن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله كيف يحشر الناس قال (حفاة عراة) فقالت وكيف يحشر النساء قال (حفاة عراة) قالت عائشة وا سوأتاه النساء مع الرجال حفاة عراة فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية * (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) * يعني لكل واحد منهم عمل يشغله بنفسه عن غيره
ثم قال تعالى * (وجوه يومئذ مسفرة) * يعني من الوجوه ما يكون في ذلك اليوم مشرقة مضيئة * (ضاحكة مستبشرة) * يعني مفرحة بالثواب وهم المؤمنون المطيعون * (ووجوه يومئذ عليها غبرة) * يعني من الوجوه ما يعلوها السواد كالدخان وأصل الغبرة يعني الغبار
* (ترهقها قترة) * يعني تلحقها قترة يعني يغشاها الكسوف والسواد * (أولئك هم الكفرة الفجرة) * يعني أن أهل هذه الصفة هم الكفرة بالله تعالى الكذبة على الله تعالى
ويقال * (ترهقها قترة) * يعني المذلة والكآبة و * (الفجرة) * يعني الظلمة
والله الموفق بمنه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله
527

سورة التكوير مكية وهي عشرون وتسع آيات
سورة التكوير 1 - 9
قول الله تبارك وتعالى * (إذا الشمس كورت) * قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الحاكم أبو الفضل قال حدثنا محمد بن أحمد الكاتب المروزي حدثنا محمد بن حموية النيسابوري قال حدثنا إبراهيم بن موسى قال حدثنا هشام بن عبد الله ويحيى بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أحب أن ينظر إلي يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت) قال روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله * (إذا الشمس كورت) * قال إذا ذهب ضوؤها وكذلك قال الضحاك وعكرمة وقال مجاهد * (إذا الشمس كورت) * يعني إذا اضمحلت وذهب نورها ويقال تكور كما تكور العمامة يعني جمع ضوؤها ولف كما تلف العمامة
ثم قال عز وجل " وإذ النجوم انكدرت " يعني تناثرت وتساقطت * (وإذا الجبال سيرت) * يعني قلعت عن الأرض وسيرت في الهواء كقوله * (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة) * [الكهف 47] يعني خالية ليس عليها شيء من الماء والشجر وغيرها ثم قال * (وإذا العشار عطلت) * يعني النوق الحوامل عطلها أربابها اشتغالا بأنفسهم وواحدها عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر وهي أحسن ما يكون في الحمل فلا يعطلها أهلها إلا في يوم القيامة
وهذا على وجه المثل لأن في يوم القيامة لا يكون ناقة عشراء ولكن أراد به المثل يعني إن هول يوم القيامة بحال لو كان عند الرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه
ثم قال * (وإذا الوحوش حشرت) * يعني جمعت * (وإذا البحار سجرت) * يعني فجرت بعضها إلى بعض فصارت بحرا واحدا فملئت وكثر ماؤها كقوله * (والبحر المسجور) * [الطور 6] يعني الممتلئ ويقال * (سجرت) * أي أحميت بالكواكب إذا تساقطت فيها
وقال ابن عباس إذا كان يوم القيامة كور الله تعالى الشمس والقمر والنجوم في البحر ثم بعث عليها ريحا دبورا فتنفخها فتصير نارا وهو قوله * (وإذا البحار سجرت) * أي أحميت
وقال قتادة * (سجرت) * أي غار ماؤها وقال الزجاج وقد قيل إنه جعل مياهها نارا يعذب بها الكفار فهذه الأشياء
528

الست التي ذكرها قبل النفخة الأخيرة والتي ذكرها بعدها تكون بعد النفخة الآخرة وهو قوله * (وإذا النفوس زوجت) * قال الكلبي ومقاتل يعني نفوس المؤمنين قرنت بالحور العين ونفوس الكفار بالشياطين
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه * (وإذا النفوس زوجت) * قال الفاجر مع الفاجر والصالح مع الصالح
وقال أبو العالية الرياحي قرنت الأجساد بالأرواح وقال القتبي الزوج القرين كقوله * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) * [الصافات 22] يعني قرناءهم
ويقال * (وإذا النفوس زوجت) * أي قرنت نفوس الكفار بعضها ببعض والعرب تقول زوجت إبلي إذا قرنت بعضها ببعض
ويقال * (وإذا النفوس زوجت) * يعني الأبرار مع الأبرار في زمرة والأشرار مع الأشرار في زمرة
ثم قال " وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت "
كانت العرب إذا ولد لأحدهم ابنة دفنها حية فهي الموءودة فتسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلك أبوك وإنما يكون السؤال على وجه التوبيخ لقاتلها يوم القيامة لأن جوابها قتلت بغير ذنب وهو مثل قوله تعالى " يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس " [المائدة 116] وإنما سؤاله وجوابه تبكيت على من ادعى هذا عليه
وقال عكرمة * (الموؤودة) * المدفونة كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت فجاء أوان ولادتها حفرت حفرة فإن ولدت جارية رمتها في الحفرة وإن ولدت غلاما حبسته
وقرئ في الشاذ " وإذا الموءودة سألت بأي ذنب قتلتماني " يعني المقتولة سألت لأبويها بأي ذنب قتلتماني ولا ذنب لي
سورة التكوير 10 - 14
قوله تعالى * (وإذا الصحف نشرت) * يعني تطايرت الصحف وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم
قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (سجرت) * و * (سعرت) * مخففتين و * (نشرت) * مشددة
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم * (سجرت) * و * (سعرت) * مشددتين و * (نشرت) * مخففة
وقرأ حمزة والكسائي * (سجرت) * و * (نشرت) * مخففتين و * (سعرت) * مشددة
فمن شددها فللتكثير ومن خففها فعلى غير التكثير
ثم قال عز وجل * (وإذا السماء كشطت) * يعني نزعت من أماكنها كما يكشف الغطاء عن الشيء يعني كشفت عما فيها
ثم قال عز وجل * (وإذا الجحيم سعرت) * يعني وقدت للكافرين * (وإذا الجنة أزلفت) * يعني قربت للمتقين
فجواب هذه الأشياء قوله تعالى * (علمت نفس ما أحضرت) * يعني عند ذلك تعلم كل نفس ما عملت من خير أو شر وهذا كقوله * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) * [آل عمران 30] الآية
529

سورة التكوير 15 - 25
قوله تعالى * (فلا أقسم بالخنس) * يعني الذي خنس بالنهار وظهر بالليل ويقال * (الخنس) * التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل * (الجوار) * الجوار التي تجري و * (الكنس) * التي ترتفع وتغيب
وقال أهل التفسير * (الخنس) * يعني خمسة من الكواكب بهرام وزحل وزهرة والمشتري وعطارد التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل " الجواري " لأنهن يجرين بالليل في السماء * (الكنس) * يعني تستتر كما تكنس الظباء في كناسة وقال أهل اللغة * (الخنس) * واحدها خانس كقوله راكع وركع
وقال بعضهم * (الخنس) * أرادها هنا الوحوش وظباء الوحوش " والجواري الكنس " التي تدخل الكنائس وهو غصن من أغصان الشجر ويكون معناه أقسم برب هذه الأشياء
وروى عكرمة عن ابن عباس قال * (الخنس) * المعز و * (الكنس) * الظباء
ألم ترها إذا كانت في الظل كيف تكنس بأعناقها ومدت ببصرها وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود قال * (الجوار الكنس) * هي بقر الوحش
وقال علي بن أبي طالب هي النجوم وقال القتبي هي النجوم الخمسة الكبار لأنها تخنس أي ترجع في مجراها وتكنس أي تستتر كما تكنس الظباء
ثم قال عز وجل * (والليل إذا عسعس) * يعني إذا أدبر
وقال الزجاج * (عسعس) * إذا أقبل
و * (عسعس) * إذا أدبر والمعنيان يرجع إلى شيء واحد وهذا ابتداء الظلام في أوله وانتهاؤه في آخره
وقال مجاهد * (إذا عسعس) * يعني إذا أظلم * (والصبح إذا تنفس) * يعني إذا استضاء وارتفع ويقال إذا ارتفع حتى يصير النهار بينا فأقسم بهذه الأشياء ويقال بخالق هذه الأشياء * (إنه) * يعني القرآن * (لقول رسول كريم) * على ربه يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام
ثم أثنى على جبريل وبين فضله فقال * (ذي قوة) * يعني ذا شدة ويقال معناه أعطاه الله تعالى القوة ومن قوته أنه قلع مدائن قوم لوط بجناحه
ثم قال عز وجل * (عند ذي العرش مكين) * يعني عند رب العرش له منزلة * (مطاع) * يعني يطيعه أهل السماوات * (ثم أمين) * فيما استودعه الله من الرسالات ويقال * (مطاع) * يعني طاعته على أهل السماوات واجبة كطاعة محمد صلى الله عليه وسلم على أهل الأرض * (امين) * على الرسالة والوحي ويقال * (امين) * في السماء كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمين في الأرض
ثم قال عز وجل * (وما صاحبكم بمجنون) * فهذا أيضا جواب القسم
يعني " وما
530

صاحبكم) الذي يدعوكم إلى التوحيد لله تعالى " بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين " يعني رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام * (بالأفق المبين) * عند مطلع الشمس
ثم قال * (وما هو على الغيب بضنين) * أي ليس محمد صلى الله عليه وسلم فيما يوحى الله تعالى إليه من القرآن ببخيل وقرأ ابن مسعود " بظنين " بالظاء وهكذا قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي " بظنين " يعني بمتهم والباقون بالضاد يعني البخيل * (وما هو بقول شيطان رجيم) * يعني القرآن ليس بمنزلة قول الكهان
سورة التكوير 26 - 29
قوله عز وجل * (فأين تذهبون) * يعني تذهبون عن طاعتي وكتابي ويقال * (أين تذهبون) * يعني تعدلون عن أمري وقال الزجاج فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم * (إن هو إلا ذكر للعالمين) * يعني ما هذا القرآن إلا عظة للجن والإنس
* (لمن شاء منكم أن يستقيم) * يعني لمن شاء أن يستقيم على التوحيد فليستقم * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) * فأعلمهم أن المشيئة والتوفيق والخذلان إليه وأن الأمور كلها بمشيئة الله وإرادته والله الموفق و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد
531

سورة الانفطار مكية وهي تسع عشرة آية
سورة الانفطار 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (إذا السماء انفطرت) * يعني انفرجت لهيبة الرب عز وجل ويقال انفرجت لنزول الملائكة كقوله تعالى * (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) * [الفرقان 25] * (وإذا الكواكب انتثرت) * يعني تساقطت * (وإذا البحار فجرت) * يعني فتحت بعضها في بعض وصارت بحرا واحدا * (وإذا القبور بعثرت) * يعني بحثت وأخرج ما فيها ويقال بعثرت المتاع وبعثرته إذا جعلت أسفله أعلاه
ثم قال عز وجل * (علمت نفس ما قدمت وأخرت) * يعني ما عملت من سنة صالحة أو سيئة وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله أجر من اتبعه إلا أنه لا ينقص من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى الضلالة فاتبع فله أجر من اتبعه إلا أنه لا ينقص من أوزارهم شيئا) ويقال * (ما قدمت) * أي ما عملت وما * (أخرت) * يعني أضاعت العمل فلم تعمل
سورة الانفطار 6 - 12
ثم قال عز وجل * (يا أيها الإنسان) * يعني يا أيها الكافر * (ما غرك بربك الكريم) * حيث لم يعجل بالعقوبة وقال مقاتل نزلت في كلدة بن أسيد حيث ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بقوسه فلم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم فبلع ذلك حمزة فأسلم حمية لذلك ثم أراد أن يعود كلدة لضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية
ويقال نزلت في جميع الكفار * (ما غرك) * يعني ما خدعك حين كفرت بربك الكريم المتجاوز لمن تاب * (الذي خلقك) * من النطفة * (فسواك) * يعني فسوى خلقك * (فعدلك) *
532

يعني خلقك معتدل القامة * (في أي صورة ما شاء ركبك) * يعني شبهك بأي صورة شاء إن شاء بالوالد وإن شاء بالوالدة
قرأ عاصم والكسائي وحمزة * (فعدلك) * بالتخفيف والباقون بالتشديد
فمن قرأ بالتخفيف جعل " في " بمعنى إلى فكأنه قال * (فعدلك) * إلى أي صورة شاء أن يركبك يعني صرفك إلى ما شاء من الحسن والقبح
ومن قرأ بالتشديد فمعناه قومك وتكون " ما " صلة وقد تم الكلام عند قوله * (فعدلك) * ثم ابتدأ فقال " في أي صورة شاء ركبك " ويقال " ما " في معنى الشرط والجزاء والمعنى أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك ويكون * (شاء) * بمعنى يشاء ثم قال عز وجل * (كلا بل تكذبون بالدين) * يعني لا يؤمن هذا الإنسان بما ذكره من أمره وصورته * (بل تكذبون بالدين) * بأنكم مبعوثون يوم القيامة
ثم أعلم الله تعالى أن أعمالكم محفوظة عليهم فقال * (وإن عليكم لحافظين) * من الملائكة يحفظون أعمالكم * (كراما كاتبين) * يعني كراما على الله تعالى كاتبين يعني يكتبون أعمال بني آدم * (يعلمون ما تفعلون) * من الخير والشر
وروى مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى الحالتين الجنابة والغائط))
سورة الانفطار 13 - 19
قوله تعالى * (إن الأبرار) * يعني المؤمنين المصدقين في أيمانهم * (لفي نعيم) * يعني في الجنة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان حاله مثل حالهم * (وإن الفجار) * يعني الكفار * (لفي جحيم يصلونها يوم الدين) * يعني يدخلونها يوم القيامة * (وما هم عنها بغائبين) * يعني لا يخرجون منها أبدا
وقال * (وما أدراك ما يوم الدين) * تعظيما لذلك اليوم * (ثم ما أدراك ما يوم الدين) * يعني كيف تعلم حقيقة ذلك اليوم ولم تعاينه * (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا) * يعني لا تنفع نفس مؤمنة لنفس كافرة شيئا بالشفاعة
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو * (يوم) * بضم الميم والباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم معناه يوم لا تملك
ومن قرأ بالنصب فلنزع الخافض يعني في يوم
* (والأمر يومئذ لله) * يعني الحكم والقضاء لله تعالى وهو يوم القيامة
533

سورة المطففين مدنية ويقال نزلت بين مكة والمدينة ويقال مكية وهي ثلاثون وست آيات
سورة المطففين 1 - 6
قول الله تبارك وتعالى * (ويل للمطففين) * يعني الشدة من العذاب للذين ينقصون المكيال والميزان وإنما سمي الذي يجور في المكيال والميزان مطففا لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء الخفيف الطفيف
ثم بين أمرهم فقال * (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) * يعني استوفوا من الناس لأنفسهم و * (علي) * بمعنى عن بمعنى " إذا اكتالوا عن الناس يستوفون " يعني يتمون الكيل والوزن * (وإذا كالوهم) * يعني إذا باعوا لغيرهم ينقصون الكيل ومعناه * (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) * يعني ينقصون الكيل
وقال بعضهم * (كالوهم) * حرفان يعني كالوا ثم قال هم وكذلك أو وزنوا ثم قال هم * (يخسرون) * وذكر عن حمزة الزيات أنه قال هكذا * (أو) * معناه هم إذا كالوا أو وزنوا ينقصون
وكان الكسائي يجعلها حرفا واحدا * (كالوهم) * يعني كالوا لهم وكذلك أو وزنوا لهم وقال أبو عبيد وهذه هي القراءة لأنهم كتبوها في المصاحف بغير ألف ولو كان مقطوعا لكتبوا كالواهم بالألف
ثم قال عز وجل * (ألا يظن أولئك) * يعني ألا يعلم المطفف وألا يستيقن بالبعث وهو قوله تعالى * (أنهم مبعوثون) * يعني يبعثون بعد الموت * (ليوم عظيم) * يعني يوم القيامة هوله شديد * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) * يعني في يوم يقوم الناس بين يدي الله تعالى
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يقوم الناس لرب العالمين مقدار نصف يوم يعني خمسمائة عام وذلك المقام على المؤمنين كتولي الشمس) وروى نافع عن ابن عمر قال عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يقوم أحدكم ورشحه إلى أنصاف أذنيه) وقال ابن مسعود إن الكافر ليلجم بعرقه حتى يقول أرحني ولو إلى النار
534

سورة المطففين 7 - 10
ثم قال * (كلا) * يعني لا يستيقنون بالبعث ثم استأنف فقال * (إن كتاب الفجار) * ويقال هذا موصول ب * (كلا إن كتاب) * يعني حقا إن كتاب الفجار * (لفي سجين) * يعني أعمال الكفار * (لفي سجين) * قال مقاتل وقتادة السجين الأرض السفلى وقال الزجاج السجين فعيل من السجن والمعنى كتابهم في حبس جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم وقال مجاهد سجين صخرة تحت الأرض السفلى فيجعل كتاب الفجار تحتها وقال عكرمة * (لفي سجين) * أي لفي خسارة وقال الكلبي السجين الصخرة التي عليها الأرضون وهي مسجونة فيها أعمال الكفار وأزواجهم فلا تفتح لهم أبواب السماء ثم قال * (وما أدراك ما سجين) * ثم أخبر فقال * (كتاب مرقوم) * يعني مكتوبا ويقال مكتوب مختوم * (ويل يومئذ) * يعني شدة العذاب * (للمكذبين) * يعني شدة العذاب للمكذبين
سورة المطففين 11 - 17
ثم نعتهم فقال * (الذين يكذبون بيوم الدين) * يعني يكذبون بالبعث * (وما يكذب به) * يعني بيوم القيامة * (إلا كل معتد أثيم) * يعني كل معتد بالظلم * (أثيم) * عاص لربه ويقال كل مقيد للخلق * (أثيم) * يعني فاجر وهو الوليد بن المغيرة وأصحابه ومن كان في مثل حالهم
ثم قال * (إذا تتلى عليه آياتنا) * يعني القرآن * (قال أساطير الأولين) * يعني أحاديث الأولين وكذبهم
ثم قال * (كلا) * يعني لا يؤمن * (بل ران على قلوبهم) * يعني ختم ويقال غطى على قلوبهم " ما كانوا يكسبون " يعني ما عملوا من أعمالهم الخبيثة
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أذنب العبد ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإذا تاب صقل قلبه وإن زاد زادت وذلك قوله * (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) *) وقال قتادة الذنب على الذنب حتى مات القلب واسود ويقال غلف على قلوبهم ويقال غطا على قلوبهم
وقال أهل اللغة الرين هو الصدأ يغشى على القلب
ثم قال * (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) * يعني لا يرونه يوم القيامة ويقال عن
535

رحمته لممنوعون * (ثم إنهم لصالوا الجحيم) * يعني إذا دخلوا النار * (ثم يقال هذا) * يعني يقول لهم الخزنة * (هذا الذي كنتم به تكذبون) * يعني تجحدون وقلتم إنه غير كائن
سورة المطففين 18 - 21
ثم قال عز وجل * (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين) * يعني حقا إن كتاب المصدقين * (لفي عليين) * وهو فوق السماء السابعة فرفع كتابهم على قدر مرتبتهم * (وما أدراك ما عليون) *
ثم وصفه فقال * (كتاب مرقوم) * يعني مكتوبا مختوما في عليين * (يشهده المقربون) * يعني يشهد ذلك الكتاب * (المقربون) * يعني يشهده سبعة أملاك من مقربي أهل كل سماء
وقال بعضهم الكتاب أراد به الروح والأعمال يعني يرفع روحه وأعماله إلى عليين
سورة المطففين 22 - 28
ثم قال عز وجل * (إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون) * يعني المؤمنين الصالحين * (لفي نعيم) * في الجنة * (على الأرائك ينظرون) * يعني على سرر في الحجال ينظرون إلى أهل النار ويقال * (ينظرون) * إلى عدوهم حين يعذبون * (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) * يعني أثر النعمة وسرورهم في وجوههم ظاهر * (يسقون من رحيق) * يعني يسقون خمرا بيضاء وقال الزجاج الرحيق الشراب الذي لا غش فيه قال القتبي الرحيق الخمرة العتيقة
ثم قال * (مختوم ختامه مسك) * يعني إذا شرب وجد عند فراغه من الشراب ريح المسك
قرأ الكسائي " خاتمه مسك " وروي عن الضحاك أنه قرأ مثله وقرأ الباقون * (ختامه مسك) * ومعناهما قريب والخاتم اسم والختام مصدر يعني يجد شاربه ريح المسك حين ينزع الإناء من فيه
ثم قال تعالى * (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) * يعني بمثل هذا الثواب فليتبادر المتبادرون ويقال فليتحاسد المتحاسدون ويقال فليواظب المواظبون وليجتهد المجتهدون وهذا كما قال * (لمثل هذا فليعمل العاملون) *
ثم قال * (ومزاجه من تسنيم) * يعني مزاج الخمر من ماء اسمه تسنيم وهو من أشرف الشراب في الجنة
وإنما سمي * (تسنيم) * لأنه يتسنم عليهم فينصب عليهم انصبابا
وقال
536

عكرمة ألم تسمع إلى الرجل يقول إني لفي السنام من قومه فهو في السنام من الشراب وقال القتبي أصله من سنام البعير يعني المرتفع
ثم وصفه فقال * (عينا يشرب بها المقربون) * يعني التسنيم عينا يشرب بها المقربون صرفا ويمزج لأصحاب اليمين
سورة المطففين 29 - 33
ثم قال عز وجل * (إن الذين أجرموا) * يعني أشركوا * (كانوا من الذين آمنوا يضحكون) * يعني من ضعفاء المؤمنين يضحكون ويسخرون ويستهزؤون بهم * (وإذا مروا بهم يتغامزون) * يعني يطعنون ويغتابون
وذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر بنفر من المنافقين ومعه نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون ويقال هذا حكاية عن كفار مكة أنهم كانوا يضحكون من ضعفاء المسلمين وإذا مروا بهم وهم جلوس يتغامزون يعني يتطاعنون بينهم ويقولون هؤلاء الكسالى
ثم قال * (وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين) * يعني رجعوا معجبين بما هم فيه * (وإذا رأوهم) * يعني رأوا المؤمنين * (قالوا إن هؤلاء لضالون) * يعني تركوا طريقهم * (وما أرسلوا عليهم حافظين) * يعني ما أرسل هؤلاء حافظين على أصحابه وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليحفظوا عليهم أعمالهم
قال مقاتل هذا كله في المنافقين يعني ما وكل المنافقون بالمؤمنين يحفظون عليهم أعمالهم
قرأ عاصم * (انقلبوا فكهين) * بغير ألف وفي رواية حفص والباقون بالألف وقال بعضهم ومعناهما واحد
وقال بعضهم * (فاكهين) * ناعمين * (فكهين) * فرحين
سورة المطففين 34 - 36
قوله عز وجل * (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) * يعني في الجنة يضحكون على أهل النار * (على الأرائك ينظرون) * إلى أعدائهم يعذبون في النار وهم على السرر في الحجال وأعداؤهم في النار * (هل ثوب الكفار) * يعني هل جزاء الكفار ويقال هل جوزي وعوقب الكفار إلا * (ما كانوا يفعلون) * يعني إلا بما عملوا في الدنيا من الاستهزاء وقال مقاتل يعني قد جوزي الكفار بأعمالهم الخبيثة جزاء مرا والله الموفق
537

سورة الانشقاق كلها مكية وهي عشرون وخمس آيات
سورة الانشقاق 1 - 5
قوله الله تعالى * (إذا السماء انشقت) * يعني انفرجت لهيبة الرب تعالى ويقال * (انشقت) * لنزول الملائكة وما شاء من أمره
* (وأذنت لربها) * يعني أطاعت السماء لربها بالسمع والطاعة
* (وحقت) * يعني وحق للسماء أن تطيع ربها الذي خلقها
* (وإذا الأرض مدت) * يعني بسطت ومدت مد الأديم ليس فيها جبل ولا شجر يعني حتى يتسع ذلك فيها جميع الخلائق
وروى علي بن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه لكثرة الخلائق فيها)
* (وألقت ما فيها) * يعني ألقت الأرض ما فيها من الكنوز والأموات * (وتخلت) * عنها * (وأذنت لربها) * يعني أجابت الأرض لربها بالطاعة وأدت إليه ما استودعها من الكنوز والموتى * (وحقت) * يعني وحق للأرض أن تطيع ربها الذي خلقها
سورة الانشقاق 6 - 9
ثم قال عز وجل * (يا أيها الإنسان إنك كادح) * يعني الأسود بن عبد الأسد ويقال أبي بن خلف ويقال جميع الكفار
يعني أيها الكفار * (إنك كادح) * يعني ساع بعملك * (إلى ربك كدحا) * يعني سعيا قال مقاتل وقال الكلبي معناه إنك عامل لربك عملا * (فملاقيه) * يعني فملاقي عملك ما كان من خير أو شر
فالأول قول مقاتل والثاني قول الكلبي
وقال الزجاج الكدح في اللغة السعي في العمل وجاء في التفسير إنك عامل لربك عملا فملاقيه
أي فملاقي ربك
وقيل فملاقي عملك
قوله عز وجل * (فأما من أوتي كتابه بيمينه) * يعني المؤمن * (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) * يعني حسابا هينا * (وينقلب) * يرجع * (إلى أهله مسرورا) * الذي أعد الله له في الجنة مسرورا به
وروى ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من نوقش في الحساب يوم القيامة عذب) فقلت أليس يقول الله تعالى * (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) *
538

قال (ليس ذلك بالحساب إنما ذلك العرض ولكن من نوقش للحساب يوم القيامة عذب)
ويقال * (يحاسب حسابا يسيرا) * لأنه غفرت ذنوبه ولا يحاسب بها ويرجع من الجنة مستبشرا
سورة الانشقاق 10 - 13
ثم قال " وأما من أوتي كتباه وراء ظهره " يعني الكافر يخرج يده اليسرى من وراء ظهره فيعطى كتابه بها * (فسوف يدعو ثبورا) * يعني بالويل والثبور على نفسه
* (ويصلى سعيرا) * يعني يدخل في الآخرة نارا وقودا
قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة * (ويصلى سعيرا) * بنصب الياء وجزم الصاد مع التخفيف
والباقون * (ويصلى) * بضم الياء ونصب الصاد مع التشديد
فمن قرأ * (يصلي) * بالتخفيف فمعناه أنه يقاسي حر السعير وعذابه
ويقال تصليت النار إذا قاسيت عذابها وحرها
ومن قرأ بالتشديد فمعناه أنه يكثر عذابه في النار حتى يقاسي حرها
* (إنه كان في أهله مسرورا) * يعني في الدنيا مسرورا بما أعطي في الدنيا فلم يعمل للآخرة
سورة الانشقاق 14 - 19
ثم قال عز وجل * (إنه ظن أن لن يحور بلى) * قال مقاتل ظن أن لن يرجع إلى الله في الآخرة وهي لغة الحبشة وقال قتادة يعني ظن أن لن يبعثه الله تعالى
وقال عكرمة ألم تسمع الحبشي إذا قيل له حرا إلى أهلك يعني أرجع إلى أهلك
ثم قال * (بلي) * يعني ليرجعن إلى ربه في الآخرة * (إن ربه كان به بصيرا) * يعني كان عالما به من يوم خلقه إلى يوم بعثه
قوله تعالى * (فلا أقسم بالشفق) * والشفق الحمرة والبياض الذي بعد غروب الشمس وهذا التفسير يوافق قول أبي حنيفة رحمه الله
وروي عن مجاهد أنه قال الشفق هو ضوء النهار
وروي عنه أنه قال الشفق النهار كله وروي عن ابن عمر أنه قال الشفق الحمرة وهذا يوافق قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
ثم قال * (والليل وما وسق) * يعني ساق وجمع
وقال القتبي أي حمل وجمع ومنه الوسق وهو الحمل وقال الزجاج أي ضم وجمع
وقال مقاتل * (والليل وما وسق) * يعني ما ساق معه من الظلمة والكواكب
وقال الكلبي يعني ما دخل فيه * (والقمر إذا اتسق) * يعني إذا استوى وتم إلى ثلاث عشرة ليلة ويقال * (اتسق) * تم وتكامل
539

* (لتركبن طبقا عن طبق) * قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي * (لتركبن) * بنصب التاء والباقون بالضم
فمن قرأ بالنصب فمعناه لتركبن يا محمد من سماء إلى سماء
ومن قرأ بالضم فالخطاب لأمته أجمعين يعني لتركبن حالا بعد حال حتى يصيروا إلى الله تعالى من إحياء وإماتة وبعث
ويقال مرة نطفة ومرة علقة
ويقال حالا بعد حال مرة تعرفون ومرة لا تعرفون يعني يوم القيامة
ويقال يعني السماء لتحولن حالا بعد حال مرة تتشقق بالغمام ومرة تكون كالدهان
قرأ بعضهم " ليركبن " بالياء يعني ليركبن هذا المكذب طبقا عن طبق يعني حالا بعد حال يعني الموت ثم الحياة
سورة الانشقاق 20 - 25
ثم قال عز وجل * (فما لهم لا يؤمنون) * يعني ما لكفار مكة لا يصدقون بالقرآن * (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) * يعني لا يخضعون لله تعالى ولا يوحدونه
ويقال ولا يستسلمون لربهم ولا يطيعون
ويقال لا يصلون لله تعالى
قوله تعالى * (بل الذين كفروا يكذبون) * يعني يجحدون بالقرآن والبعث أنه لا يكون
وقال مقاتل نزلت في بني عمرو بن عمير وكانوا أربعة فأسلم اثنان منهم
ويقال هذا في جميع الكفار
ثم قال * (والله أعلم بما يوعون) * يعني يكتمون في صدورهم من الكذب والجحود
ويقال مما يجمعون في قلوبهم من الخيانة
ويقال معناه * (والله أعلم) * بما يقولون ويخفون
* (فبشرهم بعذاب أليم) * يعني شديدا دائما
وقال مقاتل ثم استثنى الاثنين اللذين أسلما فقال * (إلا الذين آمنوا) * ويقال هذا الاستثناء لجميع المؤمنين يعني الذين صدقوا بتوحيد الله تعالى
* (وعملوا الصالحات) * يعني أدوا الفرائض والسنن * (لهم أجر غير ممنون) * يعني غير منقوص ويقال غير مقطوع ويقال لهم أجر لا يمن عليهم
ومعنى قوله * (فبشرهم بعذاب أليم) * يعني اجعل مكان البشارة للمؤمنين بالرحمة والجنة للكفار عذابا أليما على وجه التغيير لأن ذلك لا يكون بشارة في الحقيقة والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم
540

سورة البروج مكية وهي عشرون آية واثنتان
سورة البروج 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (والسماء ذات البروج) * يعني ذات النجوم والكواكب
ويقال ذات القصور
وقال عطية العوفي كان القصور في السماء على أبوابه
وقال قتادة * (البروج) * النجوم وكذلك قال مجاهد أقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج وجواب القسم قوله تعالى * (إن بطش ربك لشديد) * [البروج 12]
ثم قال * (واليوم الموعود) * يعني يوم القيامة
قال مقاتل * (اليوم الموعود) * الذي وعدهم أن يصيرهم إليه وقال الكلبي وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يصيروا إلى ذلك اليوم
وقال * (وشاهد ومشهود) * ذكر مقاتل عن علي قال الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر يوم الحج الأكبر
وروي عن ابن عباس أنه قال الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى * (وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * [النساء 41] والمشهود يوم القيامة كقوله تعالى " وذلك يوم مشهود " [هود 103]
وروى جويبر عن الضحاك مثله
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة
وروى سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (سيد الأيام يوم الجمعة وهو شاهد ومشهود يوم عرفة)
وروى جابر بن عبد الله قال الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة
وروى مجاهد عن ابن عباس قال الشاهد ابن آدم والمشهود يوم القيامة وقال عكرمة مثله
وقال بعضهم الشاهد آدم والمشهود ذريته
ثم قال عز وجل * (قتل أصحاب الأخدود) * يعني لعن أصحاب الأخدود " النار ذات
541

الوقود) يعني يصيرون إلى النار ذات الوقود في الآخرة
وقال الكلبي يعني النار ارتفعت فوقهم أربعين ذراعا فوقعت عليهم وأحرقتهم وقتلتهم وذلك قوله * (قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود) * قال حدثنا أبو جعفر قال حدثنا علي بن أحمد قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الأخدود فقال (كان ملك من الملوك كان له ساحر فكبر الساحر فقال للملك إني قد كبرت فلو نظرت غلاما في أهلك فطنا كيسا فعلمته علمي هذا فنظر إلى غلام من أعلم أهله كيسا فظنا فأمره أن يأتيه ويلزمه وكان بين منزل الغلام ومنزل الساحر راهب فقال الغلام لو دخلت على هذا الراهب وسمعت من كلامه فدخل عليه فأعجبه قوله وكان أهله إذا بعثوه إلى الساحر دخل الغلام على الراهب واحتبس عنده
فإذا أتى الساحر ضربه وقال ما حبسك فإذا رجع من عند الساحر إلى أهله دخل على الراهب فاحتبس عنده
فإذا أتى أهله ضربوه وقالوا ما حبسك فشكى ذلك إلى الراهب فقال له الراهب إذا قالوا لك ما حبسك فقل حبسني الساحر وإذا قال لك الساحر ما حبسك فقل حبسني أهلي
فبينما هو ذات يوم يريد الساحر إذا هو بدابة هائلة يعني كبيرة قد قطعت الطريق على الناس
فقال اليوم يتبين لي أمر الراهب فأخذ حجرا ودنا من الدابة فقال اللهم إن كان أمر الراهب حقا فاقتل هذه الدابة ثم رماها فأصاب مقتلها فقلتها
فقال الناس إن هذا الغلام قتل هذه الدابة واشتهر أمره
فأتى الراهب فأخبره فقال يا بني أنت خير مني فلعلك أن تبتلى لا تدلن علي فبلغ من أمر الغلام أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي من الأمراض فعمي جليس الملك فذكر له أمر الغلام فأتاه فقال يا بني قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص فقال الغلام ما أنا بساحر ولا أشفي أحد ولا يشفي إلا ربي
فقال له الرجل هذا الملك ربك قال لا ولكن ربي ورب الملك الله تعالى فإذا آمنت بالله تعالى به دعوت الله فشفاك
فأسلم فدعا الله تعالى فبرئ فأتى الملك فقال له الملك أليس يا فلان قد ذهب بصرك فقال بلى ولكن رده علي ربي فقال أنا قال لا ولكن ربي وربك الله قال أولك رب غيري قال نعم ربي وربك الله تعالى فلم يزل به حتى أخبره بأمر الغلام فأرسل إلى الغلام فجاءه فقال يا بني قد بلغ من سحرك أنك تشفي من كذا وكذا فقال الغلام ما أنا بساحر ولا أشفي أحدا وما يشفي إلا ربي فقال أنا قال لا ولكن ربي وربك الله فلم يزل به حتى دل على الراهب
فدعا بالراهب فأتي به فأراده على أن يرجع من دينه فأبى وأمر بمنشار فوضع في مفرق رأسه فشق به حتى سقط شقاه
ثم دعا بجليسه وأراد أن يرجع عن دينه فأبى فأمر بمنشار فشق حتى سقط شقاه فأمر بالغلام أن يفعل ذلك بمكانه فقال احملوه في سفينة فانطلقوا به حتى إذا لججتم فغرقوه
542

فانطلقوا به حتى إذا كانوا في وسط اللجة فلما أرادوا به ذلك فقال اللهم اكفينيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا
فجاء الغلام حتى قام بين يدي الملك فأخبره بالذي كان فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فإذا كنتم في ذروة الجبل فدهدهوه عنه فانطلقوا به حتى إذا كانوا بذلك المكان فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فدهدهوا عن الجبل يمينا وشمالا فجاء حتى قام بين يدي الملك فأخبره بالذي كان وقال للملك إنك لن تقدر على قتلي حتى تفعل بي ما آمرك به
فقال وما هو قال تجمع أهل مملكتك في صعيد واحد ثم تصلبني وتأخذ سهما من كتابي فترميتي به وتقول بسم الله رب هذا الغلام ففعل وأخذ سهما من كنانته فرمى به وقال بسم الله رب هذا الغلام فأصاب صدغه فوضع يده على صدغه فمات
فقال الناس آمنا برب هذا الغلام فقيل للملك وقعت فيما كنت تحاذر وقد أسلم الناس
فقال خذوا يا قوم الطريق وحدوا فيها أخدودا وألقوا فيها النار
فمن رجع عن دينه وإلا فألقوه فيها ففعلوا
فجعل الناس يجيئون ويلقون أنفسهم في الأخدود حتى كان آخرهم امرأة ومعها صبي لها رضيع تحمله فلما دنت من النار وجدت حرها فولت فقال لها الصبي يا أماه امضي فإنك على الحق فرجعت وألقت نفسها في النار
فذلك قوله عز وجل * (قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود) *
وروي في خبر آخر أن الملك كان على دين اليهودية ويقال له ذو نواس واسمه زرعة ملك حمير وما حولها
فكان هناك قوم دخلوا في دين عيسى فحفر لهم أخدودا فأوقد فيها النار وألقاهم في الأخدود فحرقهم وحرق كتبهم
ويقال كان الذين على دين عيسى بأرض نجران فسار إليهم من أرض حمير حتى أحرقهم وأحرق كتبهم فأقبل منهم رجل فوجد مصحفا فيها وإنجيلا محترقا بعضه فخرج به حتى أتى به ملك الحبشة فقال له إن أهل دينك قد أوقدت لهم النار فأحرقوا بها وحرقت كتبهم وهذه بعضه
ففزع الملك لذلك وبعث إلى صاحب الروم وكتب إليه يستمده بنجارين يعملون له السفن
فبعث إليه صاحب الروم من يعمل له السفن فحمل فيها الناس وسافر بهم
فخرجوا ما بين ساحل عدن إلى ساحل جازان وخرج إليهم أهل اليمن فلقوهم بتهامة واقتتلوا فلم ير ملك حمير له بهم طاقة وتخوف أن يأخذوه فضرب فرسه حتى وقع في البحر فمات فيه
فاستولى أهل الحبشة على ملك حمير وما حوله وبقي الملك لهم إلى وقت الإسلام
وروي في الخبر أن الغلام الذي قتله الملك دفن فوجد ذلك الغلام في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه واضعا يده على صدغه كما كان وضعها حين قتل وكلما أخذت يده
543

سال منه الدم وإذا أرسل يده انقطع الدم
فكتبوا إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليهم أن ذلك الغلام صاحب الأخدود فاتركوه على حاله حتى يبعثه الله تعالى يوم القيامة على حاله فذلك قوله تعالى * (قتل أصحاب الأخدود) * يعني لعن أصحاب الأخدود وهم الذين خدوا أخدودا * (النار ذات الوقود) * يعني الأخدود ذات النار الوقود
ويقال * (قتل أصحاب الأخدود) * يعني أهل الحبشة قتلوا أصحاب الأخدود أصحاب النار ذات الوقود
سورة البروج 6 - 11
ثم قال عز وجل * (إذ هم عليها قعود) * يعني القوم عند النار حضور
قال سفيان * (إذ هم عليها) * على السرر * (قعود) * عند النار * (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) * يعني أن خدامهم وأعوانهم يفعلون بالمؤمنين ذلك وهم هناك * (شهود) * يعني حضورا
ويقال يفعلون بالمؤمنين ذلك " وهم شهود " يعني يشهدون بأن المؤمنين في ضلال حين تركوا عبادة آلهتهم
ويقال * (على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) * يشهدون على أنفسهم يوم القيامة * (وما نقموا منهم) * يعني وما طعنوا فيهم
* (إلا أن يؤمنوا بالله) * يعني سوى أنهم صدقوا بتوحيد الله تعالى * (العزيز) * في ملكه * (الحميد) * في فعاله
ويقال * (وما نقموا منهم) * يعني وما أنكروا عليهم * (إلا أن يؤمنوا بالله) * يعني إلا إيمانهم بالله " الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد "
ثم بين ما أعد الله لأولئك الكفار فقال عز وجل * (إن الذين فتنوا) * يعني عذبوا وأحرقوا * (المؤمنين والمؤمنات) * يعني في الدنيا * (ثم لم يتوبوا) * يعني لم يرجعوا عن دينهم ولم يتوبوا إلى الله تعالى * (فلهم عذاب جهنم) * في الآخرة * (ولهم عذاب الحريق) * يعني العذاب الشديد
وقال الزجاج المعنى والله أعلم * (لهم عذاب) * بكفرهم * (ولهم عذاب) * بما أحرقوا المؤمنين
قوله تعالى * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير) * وقد ذكرناه
سورة البروج 12 - 16
ثم قال عز وجل * (إن بطش ربك لشديد) * يعني عذاب ربك لشديد وهذا قول مقاتل
544

وقال الكلبي أخذ ربك لشديد ومعناهما واحد
ويقال عقوبة بك لشديدة وهذا موضع القسم
ثم قال * (إنه هو يبدئ ويعيد) * يعني يبدئ الخلق في الدنيا ويعيد في الآخرة يعني يبعثهم بعد الموت * (وهو الغفور الودود) * يعني * (الغفور) * لذنوب المؤمنين ويقال * (الغفور) * لذنوب التائبين * (الودود) * يعني المحب للتائبين
ويقال المحب لأوليائه ويقال * (الودود) * يعني الكريم
* (ذو العرش المجيد) * يعني رب السرير الشريف
قرأ حمزة والكسائي * (المجيد) * بكسر الدال وقرأ الباقون بالضم
فمن قرأ بالخفض جعله نعتا للعرش ومن قرأ بالضم جعله صفة ذو يعني * (ذو العرش) * وهو * (المجيد) * و * (المجيد) * الكريم
" فعال لما يريد " يعني يحيي ويميت ويعز ويذل
سورة البروج 17 - 22
ثم قال عز وجل * (هل أتاك حديث الجنود) * يعني قد أتاك حديثهم
ثم فسر الجنود فقال * (فرعون وثمود) * يعني قوم موسى وقوم صالح أهلكهم الله تعالى في الدنيا
وهذا وعيد لكفار هذه الأمة ليعتبروا بهم ويوحدوه
ثم قال تعالى * (بل الذين كفروا في تكذيب) * يعني إن الذين لا يعتبرون ويكذبون الرسل والقرآن * (والله من ورائهم محيط) * يعني لا يعجزه منهم أحد قدرته مشتملة عليهم هكذا قال الزجاج
ويقال اصبر على تكذيبهم فإن الله عالم بهم
* (بل هو قرآن مجيد) * يعني إنهم وإن كذبوا لا يعرفون حقه لا يقرون به وهو قرآن شريف أشرف من كل كتاب
أو يقال شريف لأنه كلام رب العزة * (في لوح محفوظ) * يعني مكتوبا في اللوح الذي هو محفوظ عند الله من الشياطين وهو عن يمين العرش من درة بيضاء
ويقال من ياقوتة حمراء
قرأ نافع * (محفوظ) * بالضم والباقون بالكسر
فمن قرأ بالضم جعله نعتا للقرآن ومعناه قرآن مجيد محفوظ من الشياطين في اللوح
ومن قرأ بالكسر فهو نعت للوح
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى جعل لوحا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء ينظر الله تعالى فيه كل يوم ثلاثمائة وستين مرة ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء
وروي عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه قال حدثني فرقد في قوله تعالى * (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) * قال هو صدر المؤمنين وقال قتادة في اللوح المحفوظ عند الله تعالى والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
545

سورة الطارق مكية وهي سبع عشرة آية
سورة الطارق 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى * (والسماء والطارق) * قال سعيد بن جبير سألت ابن عباس رضي الله عنهم عن قوله * (والسماء والطارق) * فقال * (وما أدراك ما الطارق) * * (النجم الثاقب) * وسكت فقلت له مالك فقال والله ما أعلم منها إلا ما أعلم ربي
يعني تفسير الآية ما ذكر في هذه الآية وهو قوله " والنجم الثاقب "
يعني هو الطارق
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه في رواية أخرى في قوله * (والسماء والطارق) * قال الطارق الكواكب التي تطرقن في الليل وتخفين في النهار * (وما أدراك ما الطارق) * على وجه التعجب والتعظيم
ثم بين فقال * (النجم الثاقب) * يعني هو النجم المضيء
وقال مجاهد * (الثاقب) * الذي يتوهج
وقال الحسن البصري * (الثاقب) * يعني هو النجم حين يرسل على الشياطين فيثقبه يعني فيحرقه
وقال قتادة * (النجم الثاقب) * يعني يطرق بالليل ويخنس بالنهار فأقسم الله تعالى بالسماء ونجومها
ويقال بخالق السماء ونجومها * (إن كل نفس لما عليها حافظ) * وهذا جواب القسم يعني ما من نفس إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظ قولها وفعلها
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر * (إن كل نفس لما عليها) * بتشديد الميم والباقون * (لما) * بالتخفيف
فمن قرأ بالتشديد فمعناه ما من نفس إلا وعليها حافظ من الملائكة يحفظ قولها وفعلها
ومن قرأ بالتخفيف جعل * (لما) * مؤكدة ومعناه كل نفس لعليها حافظ
سورة الطارق 5 - 10
ثم قال * (فلينظر الإنسان مم خلق) * يعني فليعتبر الإنسان من ماذا خلق
قال بعضهم نزلت في جميع من أنكر البعث
ويقال نزلت في شأن أبي طالب ثم بين أول خلقهم ليعتبروا فقال * (خلق من ماء دافق) * يعني من ماء مهراق في رحم المرأة ويقال * (دافق) * بمعنى مدفوق
كقوله * (فهو في عيشة راضية) * [القارعة 7] أي مرضية
ثم قال * (يخرج من بين الصلب والترائب) * يعني خلق من مائين من ماء الأب يخرج
546

من بين الصلب ومن ماء الأم يخرج من الترائب
* (والترائب) * موضع القلادة كما قال امرؤ القيس
(مهفهفة بيضاء غير مفاضة
* ترائبها مصقولة كالسجنجل)
ثم قال * (إنه على رجعه لقادر) * يعني على بعثه وإعادته بعد الموت لقادر ويقال على رجعه إلى صلب الآباء وترائب الأمهات لقادر والتفسير الأول أصح لأنه قال * (يوم تبلى السرائر) * يعني تظهر الضماير
ويقال يختبر السرائر * (فما له من قوة ولا ناصر) * يعني ليس له في ذلك اليوم قوة يدفع العذاب عن نفسه ولا مانع يمنع العذاب عنه
سورة الطارق 11 - 14
وقوله * (والسماء ذات الرجع) * فهو قسم أقسم الله تعالى بخالق السماء * (ذات الرجع) * يعني يرجع السحاب بالمطر بعد المطر والسحابة بعد السحابة * (والأرض ذات الصدع) * يعني يتصدع فيخرج ما بالنبات والثمار فيجعلها قوتا لبني آدم ويقال * (ذات الصدع) * يعني ذات الأودية وهو قول مجاهد
وقال قتادة يعني ذات النبات * (إنه لقول فصل) * يعني القرآن قول حق وجد * (وما هو بالهزل) * يعني باللعب
ويقال لم ينزل بالباطل
سورة الطارق 15 - 17
قوله تعالى * (إنهم يكيدون كيدا) * يعني يمكرون مكرا وهم أهل مكة في دار الندوة
ويقال يكيدون كيدا يعني يصنعون أمرا وهو الشرك والمعصية * (وأكيد كيدا) * يعني أصنع لهم أمرا وهو القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة
قوله تعالى * (فمهل الكافرين) * يعني أجل الكافرين ويقال خل عنهم * (أمهلهم رويدا) * يعني أجلهم قليلا أي إلى وقت الموت ويقال * (إنهم يكيدون كيدا) * بمعنى الخراصون الذين يصدون الناس يعني يحبسون الناس في كل طريق يعني يصدون الناس عن دينه
وروى عبد الرزاق عن أبي وائل عن همام مولى عثمان قال لما كتبوا المصحف شكوا في ثلاث آيات فكتبوها في كتف شاة وأرسلوها إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت فدخلت عليهما فناولتهما أبيا فقرأها فكان فيها * (لا تبديل لخلق الله) * وكان فيها * (لم يتسن) * فكتب * (لم يتسنه) * وكان فيها فأمهل الكافرين فمحى الألف وكتب * (فمهل الكافرين) * ونظر فيها زيد بن ثابت فانطلقت بها إليهم فناولتها زيد بن ثابت إليهم فأثبتوها في المصحف * (أمهلهم رويدا) * يعني أجلهم قليلا فإن أجل الدنيا كلها قليل
547

سورة الأعلى مكية وهي تسع عشرة آية
سورة الأعلى 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (سبح اسم ربك الأعلى) * قال الكلبي يعني صل بأمر ربك ويقال * (سبح) * هو من التنزيه والبراءة يعني نزه ربك والاسم صلة ويقال معناه * (سبح اسم ربك الأعلى) * قل سبحان ربي الأعلى كما روي في الخبر أنه قيل يا رسول الله ما نقول في ركوعنا فنزل * (سبح اسم ربك الأعلى) * بمعنى العالي كقوله أكبر بمعنى الكبير
والعلو هو القهر والغلبة يعني أمره نافذ على خلقه فلما نزل * (فسبح باسم ربك العظيم) * فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اجعلوها في ركوعكم) قالوا فما نقول في سجودنا فنزل * (سبح اسم ربك الأعلى) * قال (اجعلوها في سجودكم) ويقال * (سبح اسم ربك) * يعني اذكر توحيد ربك الأعلى ويقال كان بدء قوله " سبحان ربي الأعلى " أن ميكائيل خطر على باله عظمة الرب جلا وعلا سلطانه فقال يا رب أعطني قوة حتى أنظر إلى عظمتك وسلطانك فأعطاه قوة أهل السماوات فطار خمسة آلاف سنة فنظر فإذا الحجاب على حاله واحترق جناحه من نور العرش
ثم سأل القوة فأعطاه القوة ضعف ذلك فجعل يطير ويرتفع عشرة آلاف سنة حتى احترق جناحه وصار في آخره كالفرخ ورأى الحجاب والعرش على حاله فخر ساجدا وقال " سبحان ربي الأعلى " يعني تعالى من أن يكون محسوسا مقهورا
ثم سأل ربه أن يعيده وإلى مكانه إلى حاله الأولى
ثم قال عز وجل * (الذي خلق فسوى) * يعني الذي خلق كل ذي روح وجميع خلقه ويقال سبح لله تعالى الذي خلقك فسوى خلقك يعني اليدين والرجلين والعينين ولم يخلقك زمنا ولا مكفوفا كما قال * (وصوركم فأحسن صوركم) * [غافر 64]
قوله تعالى * (والذي قدر فهدى) * يعني قدر لكل شيء شكله يعني لكل ذكر وأنثى من شكله وهداه للأكل والشرب والجماع ويقال * (فهدى) * يعني فهداه السبيل * (إما شاكرا وإما كفورا) * [الإنسان 3] ويقال * (والذي قدر فهدى) * يعني سبح لله الذي خلقك فقدر آجلك ورزقك وعملك ثم هداك إلى المعرفة والإسلام والأكل والشرب فصل بابن آدم وسبح لهذا
548

المنعم المكرم الذي هو الأحد الصمد السيد " هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " [الحديد 3]
ثم قال عز وجل * (والذي أخرج المرعى) * يعني أنبت الكلأ ويقال هو العشب والحشيش وألقت وما أشبهه قرأ الكسائي * (والذي قدر) * بالتخفيف والباقون بالتشديد ومعناها واحد يقال قدرت الأمر وقدرته
* (فجعله غثاء أحوى) * يعني جعل المرعى يابسا بعد خضرته وقال القتبي * (غثاء) * يعني يابسا * (أحوى) * يعني أسود من قدمه واحتراقه
سورة الأعلى 6 - 13
ثم قال عز وجل * (سنقرئك فلا تنسى) * يعني سنعلمك القرآن وينزل عليك فلا تنسى * (إلا ما شاء الله) * يعني قد شاء الله أن لا تنسى القرآن فلم ينس القرآن بعد نزول هذه الآية
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ في قراءته قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام مخافة أن ينساه ويقال * (سنقرئك فلا تنسى) * يعني سنحفظ عليك حتى لا تنسى شيئا
ويقال إن جبريل كان ينزل عليه في كل زمان ويقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين له ما نسخ فذلك قوله * (إلا ما شاء الله) * أن وينسخه ويذهب من قلبك
ثم قال تعالى * (إنه يعلم الجهر وما يخفى) * يعني يعلم العلانية والسر ويقال يعلم ما يجهر به الإمام في الفجر والمغرب والعشاء والجمعة * (وما يخفى) * يعني في الظهر والعصر والسنن ويقال * (وما يخفى) * من أقوالهم وأفعالهم ويقال * (يعلم) * ما ما يظهر من أفعال العبد * (وما يخفى) * يعني ما لم يعملوه وهم عاملوه
ثم قال عز وجل * (ونيسرك لليسرى) * يعني سنهون عليك حفظ القرآن وتبليغ الرسالة ويقال نعينك على الطاعة
قوله تعالى * (فذكر) * يعني فعظ بالقرآن الناس * (إن نفعت الذكرى) * يعني إن نفعتهم العظة ومعناه ما نفعت العظة بالقرآن إلا لمن يخشى ويقال * (إن نفعت الذكرى) * يعني إن قولك ودعوتك تنفع لكل قلب عاقل
ويقال " سنيسرك لليسرى " يعني نهون عليك عمل أهل الجنة
ثم قال * (سيذكر من يخشى) * يعني سيتعظ بالقرآن من يخشى الله تعالى ويسلم
ويقال معناه سيتعظ ويؤمن ويعمل صالحا من يخشى قلبه من عذاب الله تعالى * (ويتجنبها) * يعني يتباعد عنها يعني عن عظتك * (الأشقى) * يعني الشقي الذي وجب في علم الله تعالى أنه يدخل النار مثل الوليد وأبي جهل ومن كان مثل حالهما * (الذي يصلى النار الكبرى) * يعني يدخل يوم
549

القيامة النار الكبرى يعني النار العظمى لأن نار الدنيا هي النار الصغرى ونار الآخرة هي النار الكبرى
وروى يونس عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم وقد غمست في النار مرتين ليدنى منها وينتفع بها ولولا ذلك ما دنوتم منها) ويقال إنها تستجير أن ترد إلى جهنم يعني تتعوذ منها
وقال بعض الحكماء علامة الشقاوة تسع أشياء كثرة الأكل والشرب والنوم والإصرار على الذنب والغيبة وقساوة القلب وكثرة الذنب ونسيان الموت والوقوف بين يدي الملك عز وجل وهذا هو الشقي الذي يدخل النار الكبرى * (ثم لا يموت فيها ولا يحيى) * يعني * (لا يموت) * في النار حتى يستريح من عذابها " ولا يحيا " حياة تنفعه وقال القتبي معناه هو العذاب بحال من يموت ولا يموت
سورة الأعلى 14 - 19
ثم قال عز وجل * (قد أفلح من تزكى) * يعني قد فاز ونجا من هذا العذاب وسعد بالجنة * (من تزكى) * يعني وحد الله تعالى وزكى نفسه بالتوحيد * (وذكر اسم ربه) * يعني توحيد ربه * (فصلى) * مع الإمام الصلوات الخمس ويقال * (قد أفلح من تزكى) * يعني أدى زكاة الفطر * (وذكر اسم ربه فصلى) * مع الإمام صلاة العيد
ويقال * (قد أفلح من تزكى) * يعني أدى زكاة المال يعني نجا من خصومة الفقراء يوم القيامة * (وذكر اسم ربه فصلى) * يعني كبر وصلى لله تعالى ويقال * (قد أفلح من تزكى) * يعني تاب من الذنوب * (وذكر اسم ربه) * يعني إذا سمع الآذان خرج إلى الصلاة
ثم ذم تارك الجماعة لأجل الاشتغال بالدنيا فقال * (بل تؤثرون الحياة الدنيا) * يعني تختارون عمل الدنيا على عمل الآخرة قرأ أبو عمرو " بل يؤثرون " بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون بالتاء على معنى المخاطبة
ثم قال * (والآخرة خير وأبقى) * يعني عمل الآخرة * (خير وأبقى) * من اشتغال الدنيا وزينتها ويقال معناه يختارون عيش الدنيا الفانية على عيش الآخرة الباقية وإن عيش الآخرة * (خير وأبقى) * لأن في عيش الدنيا عيوبا كثيرة خوف المرض والموت والفقر والذل والهوان والزوال والحبس والمنع وما أشبه ذلك وليس في عيش الآخرة شيء من هذه العيوب لأجل هذا قيل إن الآخرة خير من الدنيا
ثم قال عز وجل * (إن هذا لفي الصحف الأولى) * يعني الذي ذكر في هذه السورة كان في الصحف الأولى يعني في الكتب الأولى ثم فسره فقال * (صحف إبراهيم وموسى) * ويقال الذي ذكر في * (الصحف الأولى) * يعني أن الذي في آخر السورة أربع آيات لفي كتب الأولين وكل كتاب مكتوب يسمى الصحف يعني في قوله * (قد أفلح من تزكى) * إلى آخر الآية
550

سورة الغاشية وهي ست وعشرون آية مكية
سورة العاشية 1 - 7
قول الله تبارك وتعالى * (هل أتاك حديث الغاشية) * * (هل) * استفهام استفهم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يكن أتاه بعد فكأنه قال الآن يأتيك خبره ثم أخبره
ويقال معناه قد أتاك حديث الغاشية و * (الغاشية) * اسم من أسماء يوم القيامة وإنما سميت غاشية لأنها تغشى الخلق كلهم
كما قال * (يوما كان شره مستطيرا) * [الإنسان 7] ويقال * (الغاشية) * النار وإنما سميت غاشية لأنها تغشى وجوه الكفار
كما قال * (وتغشى وجوههم النار) * [إبراهيم 5] أو كقوله * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * [العنكبوت 55] ويقال * (الغاشية) * دخان النار يخرج من النار يوم القيامة عنق من النار فيحيط بالكفار مثل السرادق ويجيء دخانها فيغشى الخلائق حتى لا يرى بعضهم بعضا إلا من جعل الله تعالى له نورا بصالح عمله في الدنيا كقوله " كالقصر كأنه جمالات صفر " [المرسلات 33] وكقوله * (وظل من يحموم) * [الواقعة 43] ويقال غاشية الصراط تغشى المنافقين
كقوله * (انظرونا نقتبس من نوركم) * [الحديد 13] الآية
ثم وصف ذلك اليوم وقال * (وجوه يومئذ خاشعة) * يعني من الوجوه وجوه يومئذ خائفة ذليلة في العذاب وهي وجوه الكفار
ثم قال * (عاملة) * يعني تجر على وجوهها في النار * (ناصبة) * يعني من تعب وعذاب في النار
ويقال (عاملة ناصبة) يعني تكلف الصعود على عتبة ملساء من النار فيرتقيها في عناء ومشقة فإذا ارتقى إلى ذروتها هبط منها إلى أسفلها
ويقال نزلت في رهبان النصارى * (عاملة) * في الدنيا * (ناصبة) * في العبادة أشقياء في الدنيا والآخرة
ويقال * (عاملة) * في الدنيا بالمعاصي والذنوب * (ناصبة) * في الآخرة بالعذاب * (تصلى نارا حامية) * يعني تدخل نارا حارة قد أوقدت ثلاثة آلاف سنة حتى اسودت
فهي سوداء مظلمة
قوله تعالى * (تسقى من عين آنية) * أي من عين حارة قد انتهى حرها * (ليس لهم طعام) * وهذا في بضع دركها * (إلا من ضريع) * قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر بضم التاء * (تصلى نارا) * وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالضم بمعنى المفعول الذي لم يسم فاعله
551

ونصب * (نارا) * على أنه مفعول ثان
ومن قرأ بالنصب جعل الفعل الذي يدخل النار وهو كناية عن الوجوه ولهذا ذكره بلفظ التأنيث
ثم قال * (ليس لهم طعام إلا من ضريع) * والضريع نبات بين طريق مكة واليمن فإذا أكل الإبل منه رطبا بعضه فإذا يبس صار كأظفار الهرة فإذا أكل الكفار منه بقي في حلوقهم * (ليس لهم طعام إلا من ضريع) * يعني غير الضريع * (لا يسمن) * يعني لا يشبع الضريع * (ولا يغني من جوع) * يعني ولا ينفع من جوع وهذا الجزاء للذي يتعب نفسه للعمل في الدنيا والمعاصي وما لا يحتاج إليه
سورة الغاشية 8 - 16
ثم وصف مكان الذي يعمل لله تعالى ويترك عمل المعصية ويؤدي ما أمر الله به ويترك ما نهي عنه فقال * (وجوه يومئذ ناعمة) * يعني من الوجوه ما تكون ناعمة يعني في نعمة وكرامة وهي وجوه المؤمنين والتائبين والصالحين
ويقال * (وجوه يومئذ ناعمة) * يعني مشرقة مضيئة مثل القمر ليلة البدر * (لسعيها راضية) * يعني لثواب عملها راضية
ويقال لثواب سعيه الذي عمل في الدنيا من الخير حين رأى ثوابه في الجنة * (راضية) * مرضية رضي الله عنه بعمله في الدنيا ويرضى العبد من الله تعالى في الآخرة بالثواب * (في جنة عالية) * يعني ذلك الثواب في جنة مرتفعة في الدرجات العلى
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن المتحابين في الله في غرفة ينظر إليهم أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى كواكب السماء)
ثم قال عز وجل * (لا تسمع فيها لاغية) * يعني لا يكون في الجنة لغو ولا باطل وليس فيها غل ولا غش
قرأ نافع * (لا تسمع) * بالتاء المضمومة بلفظ التأنيث لأن * (لاغية) * مؤنثة
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو * (لا يسمع) * بضم الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وإنما ذكر بلفظ التذكير لأنه انصرف إلى المعنى
يعني إلى اللغو
وروي عن ابن كثير ونافع في إحدى الروايتين * (لا تسمع) * بنصب التاء يعني لا تسمع في الجنة أيها الداخل كلمة لغو لأن أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى
ثم قال * (فيها عين جارية) * يعني في الجنة عين جارية ماؤها أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فمن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا ويذهب من قلبه الغل والغش والحسد والعداوة والبغضاء
ثم قال * (فيها سرر مرفوعة) * يعني مرتفعة * (وأكواب موضوعة) * يعني الكيزان التي لا عرى لها مدورة الرأس * (ونمارق مصفوفة) * يعني وسائد قد صف بعضها إلى بعض على الطنافس
552

قوله عز وجل * (وزرابي مبثوثة) * قال القتبي الزرابي الطنافس
ويقال البسط زرابي واحدها زربى
قوله عز وجل * (مبثوثة) * أي كثيرة متفرقة أو مبسوطة والنمارق الوسايد واحدها نمرقة والمؤمن جالس فوق هذا كله وعلى رأسه وصفا كأنهن الياقوت والمرجان جزاء بما كانوا يعملون
فإن شك شاك فيها وتعجب كيف هذا وهو غائب عنا فقل انظر إلى صنعة الرب تبارك وتعالى في الدنيا
سورة الغاشية 17 - 26
وهو قوله تعالى * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) * يعني خلق من قطرة ماء خلقا عظيما يحمل عليه وإنما خص ذكر الإبل لأن الإبل كانت أقرب الأشياء إلى العرب
ثم قال عز وجل * (وإلى السماء) * يعني أفلا ينظرون إلى السماء * (كيف رفعت) * بلا عمد تحتها وحبست في الهواء بقدرة الرب سبحانه وتعالى
ثم قال * (وإلى الجبال) * يعني أفلا ينظرون إلى الجبال * (كيف نصبت) * على ظهر الأرض أوتادا لها وليس جبل من الجبال إلا وله عرق في قاف وملك موكل بجبل قاف
فإذا أراد الله تعالى بأهل أرض شيئا أوحى إلى ملك قاف فيحرك تلك العروق فيتزلزل
ثم قال * (وإلى الأرض كيف سطحت) * يعني بسطت على ظهر الماء
ثم قال * (فذكر إنما أنت مذكر) * يعني فذكر يا محمد صلى الله عليه وسلم وخوفهم بالعذاب في الآخرة * (إنما أنت مذكر) * يعني مخوفا بالقرآن " لست عليهم بمسيطر " يعني بمسلط تجبرهم على الإسلام وهذا قبل أن يؤمر بالقتال
وقال مقاتل في الآية تقديم يعني فذكر * (إلا من تولى) * يعني أعرض عن الإيمان * (وكفر) * بالله تعالى * (فيعذبه الله العذاب الأكبر) * يعني فيدخله النار وهو العذاب الأكبر الدائم وهو عذاب النار حرها شديد وقعرها بعيد ومقامها حديد
قوله تعالى * (إن إلينا إيابهم) * يعني إن إلينا مرجعهم بعد الموت * (ثم إن علينا حسابهم) * يعني يحاسبون بكل صغيرة وكبيرة وقليل وكثير كما قال * (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * [الكهف 49]
ويقال * (إن علينا حسابهم) * يعني جزاءهم بأعمالهم يعني ثوابهم بما عملوا
553

سورة الفجر مكية وهي ثلاثون آية
سورة الفجر 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى * (والفجر) * هو قسم وجوابه * (إن ربك لبالمرصاد) * أقسم الله تعالى بالفجر يعني الصبح والفجر فجران المستطيل وهو من الليل
والفجر المعترض وهو من النهار
ويقال أراد به أول يوم من المحرم
ثم قال عز وجل * (وليال عشر) * يعني عشر ذي الحجة ويقال إنها عشر أيام العشر التي صام فيها موسى عليه السلام وهي قوله * (وأتممناها بعشر) * [الأعراف 142]
ويقال هي أيام عاشوراء
ثم قال عز وجل * (والشفع والوتر) * قال قتادة الخلق كله شفع ووتر فأقسم الله تعالى بالخلق
وروى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال الشفع آدم وحواء والوتر الله تعالى
قال ابن عباس الوتر آدم شفع بزوجته حواء وقال عطاء الشفع الناس والوتر الله سبحانه وتعالى
وقال الحسن الشفع هو الخلق الذكر والأنثى والوتر الله تعالى
ويقال أقسم بالصلوات ومن الصلوات ما هو شفع وهو الفجر والظهر والعصر والعشاء ومنها ما هو وتر وهو الوتر في المغرب
ويقال إنما هو الأعداد كلها شفع ووتر
وعن ابن عباس الشفع أيام الذبح والوتر يوم عرفة
سورة الفجر 4 - 14
ثم قال عز وجل * (والليل إذا يسر) * قال الكلبي يعني ليلة المزدلفة يسير الخلق إلى المزدلفة
وقال القتبي * (والليل إذا يسر) * يعني يسرى فيه كقوله ليل نائم أي ينام فيه
وقال الزجاج أصله سرى يسري إلا أن الياء قد حذفت منه وهي القراءة المشهورة بغير ياء ويقرأ بالياء
قرأ حمزة والكسائي * (والوتر) * بكسر الواو
والباقون بالنصب وهما لغتان
554

يقال للفرد وتر ووتر
وقرأ ابن كثير * (إذا يسر) * بالياء في حال الوصل والقطع وقرأ نافع بالياء إذا وصل وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والقطع لأن الكسرة تدل عليه
ثم قال عز وجل * (هل في ذلك قسم لذي حجر) * يعني أن في ذلك الذي ذكرناه قسما لذي لب من الناس
ويقال إن في ذلك قسم صدق لذي عقل ولب ورشد والحجر اللب
ثم قال عز وجل * (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) * يعني ألم تعلم ويقال ألم تخبر واللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التقرير يعني فذلك خبر عاد * (إرم ذات العماد) * يعني عاقبة قوم عاد و " إرم " اسم عاد وقال بعضهم هما عادان أحدهما عاد وإرم) والآخر هم قوم هود
وقال بعضهم كلاهما واحد ويقال " إرم " اسم للجنة التي بناها فمات قبل أن يدخلها وذكر فيها حكاية طويلة عن وهب بن مبنه
ثم قال * (ذات العماد) * يعني الفساطيط والعمود عمود الفسطاط
(التي لم يخلق مثلها في البلاد) يعني في القوة والطول ويقال * (ذات العماد) * يعني ذات القوة ويقال * (ذات العماد) * يعني دائم الملك طويل العمر
ويقال * (ذات العماد) * أي ذات البناء الرفيع
وروى أسباط عن السدي قال عاد بن إرم نسبهم إلى أبيهم الأكبر
كقولك بكر بن وائل
ويقال لا ينصرف إرم لأنه اسم قبيلة
وقال مقاتل * (ذات العماد) * يعني طولها اثنا عشر ذراعا * (التي لم يخلق مثلها في البلاد) * في الطول والقوة وإرم اسم أب قبيلة ينسب إليهم وهو إرم بن سمك بن نمك بن سام بن نوح
وقال الكلبي * (ذات العماد) * يعني كانوا أهل ذات عمود وماشية فإذا هاج العمود يعني يبس العشب رجعوا إلى منازلهم
ويقال عاد وإرم شيء واحد
ثم قال عز وجل * (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد) * وهم قوم صالح نقبوا الجبل وقلعوا أحجارا لا يطيق مائتا رجل الآن بالواد
وقال الكلبي هو واد القرى
ثم قال عز وجل * (وفرعون ذي الأوتاد) * يعني قواده الكفرة الفجرة الذين خلقهم الله تعالى أوتادا لمملكته ليكفوا عنه عدوه
ويقال إن له بيتا أوتد فيه أوتادا فإذا عذب أحدا طرحه فيها
ويقال سمي ذو الأوتاد لأنه كان إذا غضب على أحد وثقه بأربعة أوتاد
ويقال الأوتاد وهي الصلب إذا غضب على أحد صلبه كقوله لأصلبنكم ويقال سمي ذو الأوتاد يعني ذو ملك ثابت
ثم قال * (الذين طغوا في البلاد) * يعني عادا وثمودا وفرعون عصوا في البلاد * (فأكثروا فيها الفساد) * يعني أكثروا في الأرض المعاصي * (فصب عليهم ربك سوط عذاب) * يعني أرسل عليهم ربك شديد العذاب حتى أهلكهم * (إن ربك لبالمرصاد) * يعني ممر الخلق عليه
ويقال * (إن ربك لبالمرصاد) * يعني ملائكة ربك على الصراط يرصدون العباد على جسر جهنم في سبع مواضع
وقال ابن عباس رضي الله عنه يحاسب العبد في أولها بالإيمان فإن
555

سلم إيمانه من النفاق والرياء نجا وإلا تردى في النار
وفي الثاني يحاسب على الصلاة فإن أتم ركوعها وسجودها في مواقيتها نجا وإلا تردى في النار وفي الثالث يحاسب على الزكاة فإن أداها بشروطها وإلا تردى في النار
والرابع يحاسب بصوم رمضان فإن صامه بحدوده وحقوقه نجا وإلا تردى في النار
وفي الخامس في الحج والعمرة وفي السادس بالوضوء والغسل من الجنابة وفي السابع بر الوالدين وصلة الرحام ومظالم العباد فإن أداها نجا وإلا تردى في النار
سورة الفجر 15 - 22
ثم قال عز وجل * (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه) * قال الكلبي ومقاتل نزلت في أمية بن خلف ويقال في أبي بن خلف * (إذا ما ابتلاه) * يعني اختبره ربه * (فأكرمه) * يعني رزقه * (ونعمة) * يعني أعطاه النعمة * (فيقول ربي أكرمن) * يعني أحبني وفضلني وأنا أهل لذلك * (وأما إذا ما ابتلاه) * بالفقر * (فقدر عليه رزقه) * أي قتر عليه رزقه قرأ أبو عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين * (فقدر) * بالتشديد والباقون بالتخفيف ومعناهما واحد أي فقتر عليه رزقه وأصابه الجوع والأمراض * (فيقول ربي أهانن) * يعني طردني وعاقبني شكاية لربه
قال الله تعالى * (كلا) * أي حقا يعني ليس إهانتي وإكرامي في نزع الماء والولد والفقر والمرض ولكن إهانتي في نزع المعرفة وإكرامي بتوفيق المعرفة والطاعة
وقال قتادة لم يكن الغنى من الكرامة ولم يكن الفقر من الذل
ولكن الكرامة مني بتوفيق الإسلام والهوان مني بالخذلان عنه
إنما المكرم من أكرم بطاعتي والمهان من أهين بمعصيتي
ثم قال * (بل لا تكرمون اليتيم) * يعني لا يعطون حق اليتيم وكان في حجر أمية بن خلف يتيم لا يؤدي حقه
فنزلت الآية بسببه فصار فيها عظة لجميع الناس
ثم قال عز وجل " ولا تحضون على طعام المسكين " يعني لا يحثون أنفسهم ولا غيرهم على إطعام المسكين
ويقال لا تحاضون على إطعام المسكين
ويقال لا يحض بعضهم بعضا
قرأ حمزة والكسائي وعاصم * (ولا تحاضون) * بالألف يعني لا يحث بعضهم بعضا
وقرأ أبو عمرو " ولا يحضون " بالياء يعني لا يحثون والباقون " لا تحضون " بالتاء على المخاطبة
ثم قال * (وتأكلون التراث) * يعني الميراث * (أكلا لما) * يعني شديدا كقولك لممت
556

الشيء إذا جمعته ومعناه يأكلون مال اليتيم أكلا شديدا سريعا
* (وتحبون المال) * يعني كثرة المال وجمع المال * (حبا جما) * يعني شديدا ويقال كثيرا
قرأ أبو عمرو " ويكرمون " * (ويأكلون) * * (ويحبون) * كلها بالياء على معنى الخبر عنهم
والباقون بالتاء على معنى الخطاب لهم
ثم قال عز وجل * (كلا) * يعني حقا * (إذا دكت الأرض دكا دكا) * يعني زلزلت الأرض زلزلة والتكرار للتأكيد
* (وجاء ربك) * قال بعضهم هذا من المكتوم الذي لا يفسر وقال أهل السنة * (وجاء ربك) * بلا كيف وقال بعضهم معناه وجاء أمر ربك بالحساب * (والملك صفا صفا) * يعني صفوفا كصفوف الملائكة وأهل الدنيا في الصلاة
سورة الفجر 23 - 30
ثم قال عز وجل " وجئ يومئذ بجهنم " يعني تحضر وتدنى من الكفار وروي عن عبد الرحمن بن حاطب قال كنا جلوسا إلى كعب يذكرنا فجاء عمر رضي الله عنه فجلس ناحية وقال ويحك يا كعب خوفنا فقال كعب إن جهنم لتقرب يوم القيامة لها زفير وشهيق حتى إذا قربت ودنت زفرت زفرة لا يبقى نبي ولا صديق إلا وهو يخر ساقطا على ركبتيه فيقول اللهم لا أسألك اليوم إلا نفسي ولو كان لك يا ابن الخطاب عمل سبعين نبيا لظننت أن لا تنجو
فقال عمر رضي الله عنه والله إن الأمر لشديد
ثم قال * (يومئذ يتذكر الإنسان) * يعني يتعظ الكافر * (وأنى له الذكرى) * يعني من تنفعه العظة ويقال * (يومئذ يتذكر الإنسان) * يعني يظهر الإنسان التوبة يعني ومن أين له التوبة يعني كيف تنفعه التوبة يومئذ
* (يقول يا ليتني قدمت لحياتي) * يعني يا ليتني عملت في حياتي الفانية لحياتي الباقية
ثم قال عز وجل * (فيومئذ لا يعذب عذابه أحد) * قرأ الكسائي * (لا يعذب) * بنصب الذال * (ولا يوثق) * بنصب التاء والباقون كلاهما بالكسر
فمن قرأ بالنصب فمعناه ولا يعذب عذاب هذا الكافر وعذاب هذا الصنف من الكفار أحد وكذلك * (لا يوثق وثاقه أحد) *
ومن قرأ بالكسر معناه لا يتولى عذاب الله يوم القيامة أحد الملك يومئذ لله وحده والأمر بيده
ويقال معناه لا يقدر أحد من الخلق أن يعذب كعذاب الله تعالى ولا يوثق في الغل والصفد كوثاق الله تعالى
ثم قال عز وجل * (يا أيتها النفس المطمئنة) * التي اطمأنت بلقاء الله عز وجل ويقال * (المطمئنة) * يعني الراضية بثواب الله القانعة بعطاء الله الشاكرة لنعمائه تعالى يقال لها عند
557

الفراق من الدنيا * (ارجعي إلى ربك) * يعني ارجعي إلى ثواب ربك إلى ما أعد الله لك في الجنة
* (راضية مرضية) * ويقال له يوم القيامة * (فادخلي في عبادي) * يعني مع عبادي الصالحين * (وادخلي جنتي) * يعني ادخلي الجنة بلا حساب
ويقال هذا الخطاب لأهل الدنيا يعني * (أيتها النفس المطمئنة) * في الدنيا التي أمنت من عذاب الله * (ارجعي إلى ربك) * يعني إلى طاعة ربك * (راضية مرضية) * * (فادخلي في عبادي) * يعني ادخلي في عبادي وفي طاعتي وادخلي في جنتي
ويقال معناه تقول الملائكة * (يا أيتها النفس المطمئنة) * ارجعي إلى ما أعد الله لك * (راضية) * * (فادخلي في عبادي) * على محض التقديم يعني يا أيتها النفس المطمئنة الراضية بما أعطيت من الثواب مرضية بما عملت وادخلي جنتي مع عبادي والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد نبيه وعبده وعلى آله وصحبه
558

سورة البلد مكية وهي عشرون آية
سورة البلد 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى * (لا أقسم بهذا البلد) * * (لا) * صلة في الكلام ومعناه أقسم برب هذا البلد الذي ولدت فيه يعني مكة * (وأنت حل بهذا البلد) * يحلها يوم فتح مكة معناه فسيحل لك هذا البلد يعني القتال فيه ساعة من النهار ولم يحل لك أكثر من ذلك
وروى عبد الملك عن عطاء في قوله * (وأنت حل بهذا البلد) * قال إن الله تعالى حرم مكة فجعلها حراما يوم خلق السماوات والأرض وهي حرام إلى أن تقوم الساعة ولم تحل إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل البيت يوم فتح مكة ووضع يده على باب الكعبة فقال (لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرام الله تعالى إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار)
ثم قال عز وجل * (ووالد وما ولد) * يعني آدم * (وما ولد) * يعني ذريته
ويقال كل والد وكل مولود
وقال عكرمة * (ووالد) * الذي يلد * (وما ولد) * التي لم تلد من النساء والرجال * (لقد خلقنا الإنسان في كبد) * يعني معتدل الخلق والقامة
فأقسم بمكة وبآدم وذريته * (لقد خلقنا الإنسان) * منتصبا قائما على رجلين
وقال مقاتل نزلت الآية في الحارث بن عامر بن نوفل
وروى مقسم عن ابن عباس في قوله * (لقد خلقنا الإنسان في كبد) * قال خلق كل شيء يمشي على أربع إلا الإنسان فإنه خلق منتصبا
وهذا كقوله * (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) * [التين 4] ويقال * (لقد خلقنا الإنسان في كبد) * يعني في مشقة وتعب
وروي عن ابن رفاعة عن سعيد بن الحسن قال وعن الحسن البصري في قوله * (لقد خلقنا الإنسان في كبد) * قال سعيد يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة
وقال الحسن لم يخلق الله تعالى خليقة يكابد مكابدة ما يكابد ابن آدم
وروي عن عطاء عن ابن عباس يقول خلق في شدة يعني مولده ونبات أسنانه وغير ذلك
ويقال معناه * (لقد خلقنا الإنسان في كبد) * وهي المضغة مثل الكبد دما عبيطا ثم يصير مضغة
559

سورة البلد 5 - 10
قوله تعالى * (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) * يعني أيحسب الكافر أن لن يقدر الله تعالى عليه يعني على أخذه وعقوبته
* (يقول أهلكت مالا لبدا) * يعني أبا جهل بن هشام يقول أنفقت مالا كثيرا في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فلم ينفعني ذلك وهو أنه ضمن مالا لمن يقتل محمدا صلى الله عليه وسلم ويقال أنفق مالا يوم بدر
ثم قال عز وجل * (أيحسب) * يعني أيظن * (أن لم يره أحد) * يعني إن لم ير الله تعالى صنيعه فلا يعاقبه بما صنع
ثم ذكر ما أنعم عليه ليعتبر به ويوحده فقال * (ألم نجعل له عينين) * يعني ألم نخلق له عينين يبصر بهما * (ولسانا) * ينطق به * (وشفتين) * يضمهما
* (وهديناه النجدين) * قال الكلبي ومقاتل يعني عرفناه طريق الخير والشر
وقال قتادة يعني طريق الهدى والضلالة وهكذا قال ابن مسعود
ويقال * (وهديناه النجدين) * يعني هديناه في الصغر لأخذ الثديين يعني خلق له شفتين يأخذ بهما ثدي أمه
ويقال بينا له طريقين طريق الدنيا وطريق الآخرة
وقال مجاهد يعني طريق السعادة وطريق الشقاوة
ويقال الطاعة والمعصية ويقال طريق الصواب الخطأ
ومعناه ألم نجعل له ما يستدل به على أن الله تعالى قادر على أن يبعثه وأن يحصي عليه ما عمله
سورة البلد 11 - 20
ثم قال عز وجل * (فلا اقتحم العقبة) * يعني فلا هو اقتحم العقبة ويقال فلم يقتحم العقبة ويقال معناه فهل جاوز العقبة الذي يزعم أنه أنفق مالا كثيرا في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أراد بالعقبة الصراط
كما روي عن أبي ذر الغفاري أنه قال إنه بين أيدينا عقبة كؤود لا ينجو منها إلا كل مخف
وكما روي عن أبي هريرة أنه بكى حين حضرته الوفاة قيل له وما يبكيك قال بعد المفازة وقلة الزاد وضعف النفس وعقبة كؤد والهبوط منها إلى الجنة أو إلى النار
ثم قال عز وجل * (وما أدراك ما العقبة) * يعني ما أدراك بماذا يكون مجاوزة الصراط
ثم قال * (فك رقبة) * يعني اقتحام العقبة هو فك الرقبة يعني إنما يجاوز الصراط أو
560

الذي يعتق نسمة
" أو إطعام في يوم ذي مسبغة " يعني يجاوز الصراط بإطعام في يوم ذي مجاعة
قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي * (فك) * بنصب الكاف والهاء وأطعم بنصب الهمزة بغير الألف والباقون * (فك رقبة) * بضم الكاف وكسر الهاء * (أو إطعام) * بكسر الهمزة وإثبات الألف
فمن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى معناه فلا فك رقبة ولا أطعم في يوم ذي مسغبة فكيف يجاوز العقبة ومن قرأ بالضم فمعناه اقتحام العقبة فك رقبة يعني مجاوزة العقبة بعتق رقبة وبإطعام في يوم ذي مسغبة أي مجاعة
ثم بين لهم لمن يطعم الطعام فقال * (يتيما ذا مقربة) * يعني يتيما بينك وبينه قرابة * (أو مسكينا ذا متربة) * يعني مسكينا لا شيء له لاصق بالتراب من الجهد فهذا الإحسان مجاوزة العقبة * (ثم كان من الذين آمنوا) * يعني من صنع هذا الإحسان يكون مؤمنا لأنه لا يقبل عمل من الأعمال بغير إيمان
ويقال معناه ثم يثبت على إيمانه
قوله تعالى * (وتواصوا بالصبر) * يعني تحاثوا أنفسهم بالصبر وتحاثوا بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله وبالصبر على المكروهات لأنه روي في الخبر (أن الجنة حفت بالمكاره)
ثم قال تعالى * (وتواصوا بالمرحمة) * يعني تحاثوا بالتراحم بعضهم على بعض يعني بالمرحمة على أنفسهم على غيرهم
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)
ثم قال * (أولئك أصحاب الميمنة) * الذين يعطون كتبهم بإيمانهم * (والذين كفروا بآياتنا) * يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ويقال كفروا بدلائل الله تعالى
" هم أصحاب المشئمة " يعني يعطون كتبهم بشمالهم * (عليهم نار مؤصدة) * يعني أدخلوا في النار وأطبقت عليهم لا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد
قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص وحمزة " عليهم نار موصدة " بالهمزة والباقون بغير همزة وهما لغتان يقال أصدت وأوصدته إذا أطبقته والله أعلم
نسأل الله العفو والعافية و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد نبي الرحمة
561

سورة الشمس وهي خمس عشرة آية مكية
سورة الشمس 1 - 10
قول الله تبارك وتعالى * (والشمس وضحاها) * أقسم الله تعالى بالشمس وضوئها وحرها
ويقال بخالق الشمس وضحاها يعني ارتفاع النهار
ويقال حر الشمس يسمى ضحى
قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم * (وضحاها) * بالتفخيم وكذلك تلاها إلى آخر السورة
وقرأ حمزة والكسائي كلها بالإمالة
وقرأ نافع وأبو عمرو بين ذلك
ثم قال عز وجل * (والقمر إذا تلاها) * يعني يتبع الشمس والهاء كناية عن الشمس
وقال قتادة * (والشمس) * هو النهار و * (القمر إذا تلاها) * قال يتلوها صبيحة الهلال فإذا سقطت الشمس رأيت الهلال عند سقوطها
ثم قال * (والنهار إذا جلاها) * يعني إذا أضاء واستنار فقال القتبي هذا من الاختصار * (والنهار إذا جلاها) * يعني والأرض أو الدنيا يعني النهار إذا أضاء الدنيا
وقال الكلبي معناه إذا جلى النهار ظلمة الليل
ثم قال * (والليل إذا يغشاها) * يعني غطى ضوء النهار ويقال * (والليل إذا يغشاها) * يعني غطى الأرض وسترها
ثم قال * (والسماء وما بناها) * يعني والذي خلقها
ويقال معناه * (السماء وما بناها) * يعني الله عز وجل بناها فأقسم بنفسه ويقال " ما " للصلة ومعناه والسماء وبنائها
ثم قال * (والأرض وما طحاها) * يعني والذي بسطها على الماء من تحت الكعبة
ثم قال * (ونفس وما سواها) * يعني * (ونفس) * والذي سوى خلقها ويقال * (ونفس) * وما خلقها * (فألهمها فجورها وتقواها) * يعني ألهمها بالطاعة والمعصية ويقال عرفها وبين لها ما تأتي وما تذر
ثم قال عز وجل * (قد أفلح من زكاها) * يعني أصلحها الله تعالى وعرفها
وهذا جواب القسم وأصله لقد أفلح ولكن اللام حذفت لثقلها لأن الكلام طال
562

ثم قال * (وقد خاب من دساها) * يعني خسر من أغفلها وأغواها وخذلها وأضلها
وقال القتبي معناه قد أفلح من زكى نفسه أي أنماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة * (وقد خاب من دساها) * يعني نقصها وأخفاها بترك عمل البر وبركوب المعاصي
وأصله دسس فجعل مكان إحدى السينين ياء كما يقال قصيت أظفاري وأصله قصصت
قال وأصل هذا أن أجواد العرب كانوا ينزلون في أرفع المواضع ويوقدون النار للطارقين لتكون أنفسهم أشهر واللئام ينزلون الأطراف والأهضام لتخفي أماكنهم على الطارقين فأخفوا أنفسهم
والبار أيضا أظهر نفسه بأعمال البر والفاجر دساها
ويقال إن الله تعالى يطلب من عباده المؤمنين يوم القيامة ستة أشياء بمكان النعمة والشكر وبمكان الشدة والصبر وبمكان الصحة العمل بالطاعة وبمكان الذنوب التوبة وبمكان العمل الإخلاص فمن يجئ بهذه الأشياء فقد أفلح ونجا ومن لم يجئ بهذه الأشياء فقد خسر وغبن
سورة الشمس 11 - 15
ثم قال * (كذبت ثمود بطغواها) * يعني طغيانهم حملهم على ذلك التكذيب " إذا انبعث أشقاها " يعني إذا قام أشقى ثمود وكلهم أشقياء في علم الله تعالى وأشقاهم عاقر الناقة وهو قذار بن سالف ومصدع بن دهر * (فقال لهم رسول الله) * صلى الله عليه وسلم يعني صالحا * (ناقة الله) * يعني احذروا ناقة الله * (وسقياها) * يعني لا تأخذوا سقياها ومعناه لا تعقروا ناقة الله وذروا شرابها
وقد ذكرناه في سورة الأعراف
* (فكذبوه) * يعني فخوفهم صالح بالعذاب * (فعقروها) * يعني فعقروا الناقة ويقال في الآية تقديم يعني فعقروها فخوفهم صالح عليه السلام بالعذاب فكذبوه
ثم قال عز وجل * (فدمدم عليهم ربهم) * يعني أنزل عليهم ربهم عقوبة * (بذنبهم) * والدمدمة المبالغة هي في العقوبة والنكال
ثم قال * (فسواها) * يعني فسواها في الهلاك يعني الصغير والكبير * (ولا يخاف عقباها) * قرأ نافع وابن عامر * (فلا يخاف) * بالفاء والباقون بالواو
فمن قرأ بالفاء فالفاء تصل الذي بعدها بالذي قبلها وهو قوله * (فدمدم عليهم ربهم) * يعني أطبق عليهم العذاب بذنوبهم * (فسواها) * يعني فسوى الأرض عليهم * (ولا يخاف عقباها) * هلاكهم ولا يقدروا أن يرجعوا إلى السلامة
ومن قرأ بالواو فمعناه التقديم والتأخير يعني الذي عقرها وهو لا يخاف عقبى عقرها
ويقال إن الله تعالى أهلكهم ولم يخف ثأرها وعاقبتها على غير وجه التقديم
وروى الضحاك عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه (أتدري من أشقى الأولين) قلت الله ورسوله أعلم
قال (عاقر الناقة) فقال (أتدري من أشقى الآخرين) قلت الله ورسوله أعلم قال (قاتلك)
وبالله المستعان
563

سورة الليل مكية وهي إحدى وعشرون آية
سورة الليل 1 - 11
قول الله تبارك وتعالى * (والليل إذا يغشى) * أقسم الله تعالى بالليل إذا غشيت ظلمته ضوء النهار ويقال أقسم بخالق الليل إذا يغشى يعني يغشى الليل ضوء النهار * (والنهار إذا تجلى) * يعني أقسم بالنهار إذا استنار وتجلى عن الظلمة * (وما خلق الذكر والأنثى) * يعني والذي خلق الذكر والأنثى يعني آدم وحواء
وقال القتبي ما ومن أصلهما واحد وجعل من للناس وما لغير الناس
ويقال من مر بك من الناس وما مر بك من الإبل
وقال أبو عبيد * (وما خلق) * أي ومن خلق وكذلك قوله * (والسماء وما بناها) * [الشمس 5] * (ونفس وما سواها) * [الشمس 7] و " ما " في هذه المواضع بمعنى من وقال أبو عمرو و " ما " بمعنى من وبمعنى الذي
وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ * (والنهار إذا تجلى) * " والذكر والأنثى " وروى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء فقال أفيكم أحد يقرأ قراءة عبد الله بن مسعود فأشاروا إلي فقلت نعم أنا
فقال كيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية قلت سمعته يقرأ " والذكر والأنثى "
قال أنا والله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها وهؤلاء يريدونني على أن أقرأها وما خلق فلا أتابعهم
ثم قال عز وجل * (إن سعيكم لشتى) * فهذا موضع القسم أقسم الله تعالى بخالق هذه الأشياء * (إن سعيكم لشتى) * يعني أعمالكم مختلفة
عامل للجنة وعامل للنار ويقال * (إن سعيكم لشتى) * يعني عامل للجنة وعامل للنار ويقال * (إن سعيكم لشتى) * يعني أديانكم ومذاهبكم مختلفة
وقال أبو الليث رحمه الله حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال أخبرنا حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا أبو عبد الرحمن راشد بن إسماعيل عن منصور بن مزاحم عن يونس بن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أبا
564

بكر رضي الله عنه اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشرة أواق من فضة فأعتقه لله تعالى فأنزل الله تعالى * (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى) * يعني سعي أبي بكر وسعي أمية وأبي ابنا خلف
* (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى) * يعني بلا إله إلا الله يعني أبا بكر * (فسنيسره لليسرى) * يعني الجنة * (وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى) * يعني بلا إله إلا الله * (فسنيسره للعسرى) * يعني أمية وأبي ابني خلف إذا ماتا
ويقال لنزول هذه الآية سبب آخر كان رجل من الكفار له نخلة في داره وسعفها في دار رجل من المسلمين وكان إذا سقطت ثمرة في دار المسلم نادى الكافر حرام حرام وكان المسلم يأخذ الثمرة فيرمي بها في دار الكافر لئلا يأكل ذلك صبيانه
فسقطت يوما ثمرة فأخذها ابن صغير للمسلم فجعلها في فيه فدخل الكافر فأخرج الثمرة من فيه وأبكى الصبي
فشكى المسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا المشرك فقال (أتبيع نخلتك ليعطيك الله أفضل منها في الجنة) فقال لا أبيع العاجل بالآجل
فسمع رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاشترى النخلة من الكافر وتصدق بها على المسلم فنزلت * (فأما من أعطى واتقى) * يعني أعطى من ماله حق الله تعالى واتقى الشرك وسخط الله تعالى * (وصدق بالحسنى) *
يعني بثواب الله في الجنة * (فسنيسره) * يعني سنعينه ونوفقه * (لليسرى) * يعني لعمل أهل الجنة * (وأما من بخل) * بالصدقة * (واستغنى) * يعني رأى نفسه مستغنيا عن ثواب الله وعن جنته * (وكذب بالحسنى) * يعني بثواب الله وهو الجنة * (فسنيسره للعسرى) * يعني نخذله ولا نوفقه للطاعة فنيسر عليه طريق المعصية * (وما يغني عنه ماله إذا تردى) * يعني ما ينفعه ماله إذا مات وتركه في الدنيا وهو يرد إلى النار
سورة الليل 12 - 21
ثم قال عز وجل * (إن علينا للهدى) * يعني بيان الهدى ويقال علينا التوفيق للهدى من كان أهلا لذلك * (وإن لنا للآخرة والأولى) * يعني الدنيا والآخرة لله تعالى يعني يعطي منها من يشاء ويقال معناه إلى الله ثواب الدنيا والآخرة
ويقال * (وإن لنا للآخرة والأولى) * يعني لله تعالى نفاذ الأمر في الدنيا والآخرة
يعطي في الدنيا المغفرة والتوفيق للطاعة وفي الآخرة الحسنة والثواب
565

ثم قال * (فأنذرتكم نارا تلظى) * يعني خوفتكم بالقرآن * (نارا تلظى) * يعني تشتعل على أهلها وتغيظ على أهلها وتزفر عليهم
قوله تعالى * (لا يصلاها) * يعني لا يدخل في النار * (إلا الأشقى) * يعني الذي ختم له بالشقاوة * (الذي كذب وتولى) * يعني كذب بالتوحيد والرسل وتولى عن الإيمان وعن طاعة الله وأخذ في طاعة الشيطان
ثم قال * (وسيجنبها) * يعني يتباعد عنها * (الأتقى) * يعني المتقي الذي يتقي الشرك وهو * (الذي يؤتي ماله يتزكى) * يعني يعطي من ماله حق الله تعالى * (يتزكى) * يعني يريد به وجه الله تعالى
ثم قال * (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) * يعني لا يفعل ذلك مجازاة لأحد * (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) * يعني يفعل ذلك طلب رضاء الله الأعلى يعني الله العلي الرفيع فوق خلقه بالقهر والغلبة
* (ولسوف يرضى) * يعني سوف يعطي الله من الثواب حتى يرضى بذلك
وقال مقاتل مر أبو بكر على بلال وسيده أمية بن خلف يعذبه فاشتراه وأعتقه فكره أبو قحافة عتقه فقال لأبي بكر أما علمت أن مولى القوم من أنفسهم فإذا أعتقت فأعتق من له منظرة وقوة فنزل * (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) * يعني لا يفعل ذلك لطلب المجازاة ولكن إنما يعطي ماله * (ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى) * بثواب الله تعالى والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
566

سورة الضحى مكية وهي إحدى عشرة آية
سورة الضحى 1 - 8
قول الله تبارك وتعالى * (والضحى) * يعني النهار كله ويقال * (والضحى) * ساعة من ساعات النهار وذلك حين يرتفع النهار ويقال الضحى حر الشمس * (والليل إذا سجى) * يعني أسود وأظلم ويقال يعني إذا سكن الناس ويقال * (والضحى والليل إذا سجى) * يعني عباده الذي يعبدونه في وقت الضحى وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم ويقال * (والضحى) * نور الجنة إذا تنور * (والليل إذا سجى) * يعني ظلمة الليل إذا أظلم ويقال * (والضحى) * يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار * (والليل إذا سجى) * يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل
فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء * (ما ودعك ربك) * يعني ما تركك ربك يا محمد صلى الله عليه وسلم منذ أوحى إليك * (وما قلى) * يعني ما أبغضك ربك منذ أحبك وذلك أن مشركي قريش أرسلوا إلى يهود المدينة وسألوهم عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم فقالت لهم اليهود اسألوه عن أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح
فإن أخبركم بقصة أهل الكهف وقصة ذي القرنين ولم يخبركم عن أمر الروح فاعلموا أنه صادق
فجاؤوه وسألوه فقال لهم (ارجعوا غدا حتى أخبركم) ونسي أن يقول إن شاء الله فانقطع عنه جبريل خمسة عشر يوما في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك أربعين يوما
فقال المشركون قد ودعه ربه وأبغضه فنزل فيهم ذلك
وروى أسباط عن السدي قال أبطأ جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ليلة حتى شكى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فقالت خديجة لعل ربك قد قلاك أو نسيك فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الآية * (ما ودعك ربك وما قلى) * * (وللآخرة خير لك من الأولى) * يعني ما أعطاك الله في الآخرة خير لك مما أعطاك في الدنيا
ويقال معناه عز الآخرة خير لك من عز الدنيا لأن عز الدنيا يفنى وعز الآخرة يبقى
567

قوله تعالى * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * يعني يعطيك ثواب طاعتك حتى ترضى وسوف من الله تعالى واجب
ويقال * (ولسوف يعطيك) * الحوض والشفاعة حتى ترضى
ثم ذكر له ما أنعم عليه في الدنيا وفي الآخرة
فقال عز وجل * (ألم يجدك يتيما فآوى) * يعني كنت يتيما فضمك إلى عمك أبي طالب فكفاك المؤنة يعني حين كنت يتيما * (ما ودعك ربك) * فكيف يودعك بعد ما أوحى إليك
ثم قال عز وجل * (ووجدك ضالا فهدى) * يعني وجدك جاهلا بالنبوة والحكمة وبالكتاب وقراءته والدعوة إلى الإيمان فهداك إلى هذه الأشياء كقوله * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * [الشورى 52] ويقال * (ووجدك ضالا) * يعني من بين قوم ضلال * (فهدى) * يعني حفظك من أمرهم وعن أخلاقهم
ويقال * (ووجدك) * بين قوم ضلال فهداهم بك
ثم قال عز وجل * (ووجدك عائلا فأغنى) * يعني وجدك فقيرا بلا مال فأغناك بمال خديجة
ويقال وجدك فقيرا عن القرآن والعلم فأغناك بالقرآن والعلم ويقال فوجدك فقير القلب يعني لترجو أموال الناس فأغناك يعني أغنى قلبك وأرضاك بما أعطاك
سورة الضحى 9 - 11
ثم قال تعالى * (فأما اليتيم فلا تقهر) * يعني لا تظلمه وادفع إليه حقه
ويقال معناه واذكر يتمك وارحم اليتيم
وقال مجاهد * (فلا تقهر) * يعني فلا تقهره
وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ " فأما اليتيم فلا تكهر "
يعني لا تعبس في وجهه
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من ضم يتيما وكان محسنا في نفقته كان له حجابا من النار يوم القيامة ومن مسح برأسه كان له بكل شعرة حسنة
قوله تعالى * (وأما السائل فلا تنهر) * يعني لا تؤذه ولا تزجره واذكر فقرك ولا تزجر السائل ولا تنهره ورده ببذل يسير أو بكلمة طيبة
وفي الآية تنبيه لجميع الخلق لأن كل واحد من الناس كان فقيرا في الأصل فإذا أنعم الله عليه وجب أن يعرف حق الفقراء
ثم قال عز وجل * (وأما بنعمة ربك فحدث) * يعني بهذا القرآن فيعلم الناس
وفي الآية تنبيه لجميع من يعلم القرآن أن يحتسب في تعليم غيره
ويقال معناه فحدث الناس بما آتاك الله من الكرامة ويقال معناه اجهر بالقرآن في الصلاة
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله تعالى جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده) يعني يشكر بما أنعم الله عليه ويحدث به فيظهر على نفسه أثر النعمة والله الموفق و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد
568

سورة الشرح وهي ثمان آيات مكية
سورة الشرح 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى * (ألم نشرح لك صدرك) * معطوف على قوله * (ألم يجدك يتيما فآوى) * [الضحى 6] وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (سألت ربي مسألة ووددت أني لم أسألها قط فقلت اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما
فقال الله تعالى * (ألم يجدك يتيما فآوى) * قلت بلى قال * (ووجدك ضالا فهدى) * [الضحى 7] قلت بلى قال * (ووجدك عائلا فأغنى) * [الضحى 8] قلت بلى
قال * (ألم نشرح لك صدرك) * الآية
وروي عن بعض المتقدمين أنه قال سورة التوبة والأنفال بمنزلة سورة واحدة وسورة ألم نشرح لك والضحى بمنزلة سورة واحدة وسورة لإيلاف قريش وألم تر كيف بمنزلة سورة واحدة
قال * (ألم نشرح لك صدرك) * يعني ألم نوسع قلبك بالتوحيد والإيمان وهذا قول مقاتل
وقال الكلبي أتاه جبريل فشرح صدره حتى أبدى قلبه ثم جاء بدلو من ماء زمزم فغسله وأنقاه مما فيه ثم جاء بطشت من ذهب قد ملئ علما وإيمانا فوضعه فيه
ويقال الانشرح للعلم حتى علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مؤمنا من وقت الميثاق فشق صدره على جهة المثل فيعبر به عنه
وقال * (ألم نشرح لك) * يعني ألم نلين قلبك بقبول الوحي وحب الخيرات ويقال معناه ألم نطهر قلبك حتى لا تؤذيك الوسواس كسائر الناس ويقال * (ألم نشرح) * يعني نوسع لك قلبك بالعلم كقوله * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * [النساء 113]
ثم قال * (ووضعنا عنك وزرك) * يعني غفرنا لك ذنبك كقوله * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * [الفتح 2] ويقال غفرنا لك ذنبك أي زلتك بترك الاستثناء ويقال معناه * (ووضعنا عنك وزرك) * يعني عصمناك من الذنوب * (الذي أنقض ظهرك) * لو لم يعصمك الله لأثقل ظهرك ويقال معناه أخرجنا من قلبك الأخلاق السيئة وطبائع السوء * (الذي أنقض ظهرك) * يعني التي لو لم ننزعها عن قلبك لأثقل عليك حمل النبوة والرسالة
569

ثم قال * (ورفعنا لك ذكرك) * يعني في التأذين والخطب حتى لا أذكر إلا وذكرت معي يعني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله في كل يوم خمس مرات في الأذان والإقامة
سورة الشرح 5 - 8
قوله تعالى * (فإن مع العسر يسرا) * يعني مع الشدة سعة يعني بعد الشدة سعة في الدنيا
ويقال بعد شدة الدنيا سعة في الآخرة يعني إذا احتمل المشقة في الدنيا ينال الجنة في الآخرة
ثم قال عز وجل * (إن مع العسر يسرا) * على وجه التأكيد
وروي عن ابن عباس أنه قال لا يغلب العسر يسرين
وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال كانوا يقولون لا يغلب عسر واحد يسرين
وقال ابن مسعود لو كان العسر في حجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه لأن الله تعالى يقول * (إن مع العسر يسرا) * ويقال * (إن مع العسر) * وهو إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم * (يسرا) * وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل في عز وشرف
ثم قال عز وجل * (فإذا فرغت فانصب) * يعني إذا فرغت من الجهاد فاجتهد في العبادة * (وإلى ربك فارغب) * يعني اطلب المسألة إليه
قال قتادة * (فإذا فرغت) * من الصلاة * (فانصب) * في الدعاء وهكذا قال الضحاك وقال مجاهد * (فإذا فرغت) * من أشغال نفسك * (فانصب) * يعني فصل
* (فإذا فرغت) * من الفرائض * (فانصب) * في الفضائل ويقال * (فإذا فرغت) * من الصلاة * (فانصب) * نفسك للدعاء والمسألة * (وإلى ربك فارغب) * يعني إلى الله فارغب في الدعاء برفع حوائجك إليه والله أعلم
570

سورة التين مكية وهي ثمان آيات
سورة التين 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (والتين والزيتون) * وهما مسجدان بالشام ويقال هما جبلان بالشام * (التين) * جبل بيت المقدس * (والزيتون) * جبل بدمشق
وقال قتادة * (التين) * الجبل الذي عليه دمشق * (والزيتون) * الجبل الذي عليه بيت المقدس
ويقال * (التين) * الذي يؤكل
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال تينكم وزيتونكم هذا
وقال مجاهد هو الذي يؤكل وهو قول سعيد بن جبير والشعبي
ثم قال " وطور سنين " يعني الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى صلوات الله عليه ويقال * (الطور) * اسم الجبل * (سينين) * يعني ذا شجر
ويقال * (والتين) * معناه علي كرم الله وجهه * (والزيتون) * فاطمة رضي الله عنها بنت محمد صلى الله عليه وسلم " وطور سنين " هما الحسن والحسين سيدا الشهداء في دار الدنيا وهذا لا يصح في اللغة * (وهذا البلد الأمين) * يعني مكة أمين من أن يهاج فيها من دخل فيها
ويقال * (الأمين) * لجميع الحيوان الذي لا يجري عليه القلم
ثم قال عز وجل * (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) * يعني في أحسن صورة لأنه يمشي مستويا وليس منكوسا وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها
قال بعضهم نزلت في شأن الوليد بن المغيرة وقال بعضهم نزلت في كلدة بن أسيد وقال بعضهم هذا عام
قوله تعالى * (ثم رددناه أسفل سافلين) * يعني رددناه بعد القوة والشباب الحسن إلى الضعف والهرم حتى يصير كالصبي في حاله الأول الأولى يعني رددناه إلى أرذل العمر
ويقال * (رددناه) * يعني الفاجر والكافر بعد موتة إلى أسفل السافلين في النار
سورة التين 6 - 8
ثم قال عز وجل * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى وعملوا الصالحات * (فلهم أجر غير ممنون) * يعني غير منقوص وذلك أن المؤمن إذا
571

عمل في حال حياته وقوته وشبابه فإذا مرض أو هرم أو مات فإنه يكتب له حسناته كما كان يعمل في حال شبابه وقوته إلى يوم القيامة
ويقال * (غير ممنون) * يعني غير مقطوع ويقال * (غير ممنون) * يعني لا يمن عليه
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن المؤمن إذا مات صعد ملكاه إلى السماء فيقولان إن عبدك فلانا قد مات فأذن لنا حتى نعبدك في السماء فيقول الله تعالى إن سماواتي مملوءة بملائكتي ولكن اذهبا إلى قبره واكتبا له حسناته إلى يوم القيامة)
ثم قال * (فما يكذبك بعد بالدين) * يعني أيها الإنسان ما الذي حملك بعدما خلقك الله تعالى في أحسن تقويم حتى كذبت بيوم الدين والقضاء
ثم قال * (أليس الله بأحكم الحاكمين) * يعني بأعدل العادلين بالعدل مع الكفار ومع المؤمنين بالفضل
وقال مقاتل * (فما يكذبك بعد بالدين) * يعني فما يكذبك أيها الإنسان بعد بيان الصورة الحسنة والشباب والهرم بالحساب لا تغتر بصورتك وشبابك فهو قادر على أن يبعثك
ويقال معنى قوله " إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات " [العصر 3] يعني لا يحزن ولا يذهب عقله من كان عالما عاملا به
وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (طوبى لمن طال عمره وحسن عمله) اللهم وفقنا لذلك ببركة النبي صلى الله عليه وسلم والحمد لله
572

سورة العلق مكية وهي تسع عشرة آية
سورة العلق 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * يقول اقرأ القرآن بأمر ربك وهذا أول شيء نزل من القرآن وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ أربعين سنة كان يسمع صوتا يناديه يا محمد ولا يرى شخصه وكان يخشى على نفسه الجنون حتى رأى جبريل عليه السلام يوما في صورته فغشي عليه فحمل إلى بيت خديجة فقالوا لها تزوجت مجنونا فلما أفاق أخبر بذلك خديجة فجاءت إلى ورقة بن نوفل وكان يقرأ الإنجيل ويفسره ثم جاءت إلى عداس وكان راهبا فقال لها إن له نبأ وشأنا يظهر أمره
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما إلى الوادي فجاء جبريل عليه السلام بهذه السورة وأمره بأن يتوضأ ويصلي ركعتين فلما رجع أعلم بذلك خديجة وعلمها الصلاة وذلك قوله * (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * [التحريم 6] يعني علموهم وأدبوهم
وروى معمر عن الزهري قال أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة الصادقة وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح
ثم حبب الخلاء إليه يعني العزلة
فكان يأتي حراء ويمكث هناك ثم يرجع إلى خديجة
فجاءه الملك وهو على حراء فقال له * (اقرأ) * فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أنا بقارئ فأخذني فغطني ثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال * (اقرأ) * فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال * (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) *) فرجع ترجف بوادره وقد أخذته الرعدة حتى دخل على خديجة فقال (زملوني زملوني) فزملوه حتى ذهب عنه الروع فذلك قوله * (اقرأ باسم ربك) * يعني اقرأ بعون الله ووحيه إليك ويقال معناه " اقرأ باسم
573

ربك) كقوله * (واذكر اسم ربك) * [المزمل 8 والإنسان 25] يعني اذكر ربك ثم وصفه فقال * (الذي خلق) * يعني ربك الذي خلق الخلائق
ثم قال عز وجل * (خلق الإنسان من علق) * يعني بني آدم من دم عبيط وقال في آية أخرى * (ألم نخلقكم من ماء مهين) * [المرسلات 20] وقال في آية أخرى * (خلقناكم من تراب) * [الحج 5] وهذه الآيات يصدق بعضها بعضا لأن أول الخلق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة
كما بين الجملة في موضع آخر
ثم قال عز وجل * (اقرأ وربك الأكرم) * يعني اقرأ يا محمد وربك يعينك ويفهمك وإن كنت غير قارئ * (الأكرم) * يعني ربك المتجاوز عن جهل العباد ويقال * (اقرأ) * وقد تم الكلام ثم استأنف فقال * (وربك الأكرم) * يعني الكريم ويقال * (الأكرم) * يعني المكرم الذي يكرم من يشاء بالإسلام
ثم قال * (الذي علم بالقلم) * علم الكتابة والخط بالقلم * (علم الإنسان ما لم يعلم) * يعني علم آدم عليه السلام أسماء كل شيء يعني ألهمه ويقال * (علم الإنسان) * يعني محمد صلى الله عليه وسلم * (ما لم يعلم) * يعني القرآن كقوله * (ما كنت تدري ما الكتاب) * [الشورى 52] ويقال * (علم الإنسان ما لم يعلم) * يعني علم بني آدم ما لم يعلموا كقوله * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) * [النحل 78]
سورة العلق 6 - 14
ثم قال عز وجل * (كلا) * يعني حقا * (إن الإنسان ليطغى) * يعني الكافر ليعصي الله
ويقال يرفع منزلة نفسه * (أن رآه استغنى) * يعني إن رأى نفسه مستغنيا عن الله تعالى مثل أبي جهل وأصحابه ومثل فرعون حيث ادعى الربوبية
قال أبو الليث رحمه الله حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أحمد بن محمد السري عن إبراهيم عن عبد الله عن جعفر بن عوف قال عن الأعمش عن القاسم قال قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه منهومان لا يشبعان طالب العلم وطالب الدنيا ولا يستويان أما طالب العلم فيزداد رضى الله وأما طالب الدنيا فيزداد في الطغيان ثم قال * (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) *
ثم قال * (إن إلى ربك الرجعى) * يعني المرجع إلى الله تعالى يوم القيامة ويقال معناه رجوع الخلائق كلهم بعد الموت إلى الله تعالى فيحاسبون ويجازون فريق في الجنة وفريق في السعير
قوله تعالى * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في
574

المسجد رفع صوته بالقراءة فلغطوا ورموه بالحجارة فخفض صوته في صلاتين يعني الظهر والعصر إذا حضروا
وأما صلاة المغرب اشتغلوا بالعشاء وصلاة العشاء ناموا وصلاة الفجر لم يقوموا فرفع في هذا فصار سنة إلى اليوم فنزل * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * ويقال إن أبا جهل بن هشام قال لئن رأيت محمدا صلى الله عليه وسلم يصلي لأطأن عنقه فنزل * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * يعني ألم تر أن هذا الكافر ينهى عبد الله عن الصلاة وهو محمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال * (أرأيت إن كان على الهدى) * يعني محمدا صلى الله عليه وسلم إن كان على الإسلام * (أو أمر بالتقوى) * يعني التوحيد
ثم قال * (أرأيت إن كذب وتولى) * يعني * (إن كذب) * بالتوحيد * (وتولى) * عن الإسلام * (ألم يعلم بأن الله يرى) * يعني يعلم بأن الله يرى أفعاله فيجازيه وهذا جواب لجميع ما تقدم من قوله * (أرأيت) *
ويقال في الآية إضمار وهو قوله * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * يعني بهذا الذي يصنع ويؤذي محمدا صلى الله عليه وسلم أليس هو على ضلالة أليس هو قد نهى عن الصلاة والخيرات * (أرأيت إن كان على الهدى) * يعني أرأيت أيها الناهي إن كان المصلي على الهدى * (أو أمر بالتقوى) * يعني بالتوحيد واجتناب المعاصي فتنهاه عن ذلك
سورة العلق 15 - 19
ثم قال تعالى * (كلا لئن لم ينته) * يعني حقا لئن لم يمتنع أبو جهل عن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتب ولم يسلم قبل الموت * (لنسفعا بالناصية) * يعني لنأخذ به بناصيته أخذا شديدا يعني يؤخذ بناصيته يوم القيامة ويطوى مع قدميه ويطرح في النار
فنزلت الآية في شأن أبي جهل وهي عظة لجميع الناس وتهديد لمن يمنع عن الخير وعن الطاعة
ثم قال عز وجل * (ناصية كاذبة) * جعل الكاذبة صفة الناصية وإنما أراد صاحب الناصية يعني * (ناصية كاذبة) * على الله تعالى * (خاطئة) * يعني مشركة
ويقال * (خاطئة) * يعني الجاحد الذي يجحد بالله ويأكل رزق الله تعالى ويعبد غيره
ثم قال عز وجل * (فليدع ناديه) * يعني قل يا محمد صلى الله عليه وسلم فليدع أهل مجلسه وأصحابه الكفرة حتى يعينوه * (سندع الزبانية) * يعني ملائكة العذاب غلاظ شداد و * (الزبانية) * أخذ من الزبن وهو الدفع وإنما سموا الزبانية لأنهم يدفعون الكفار إلى النار
ويقال إنما سموا زبانية لأنهم يعملون بأرجلهم كما يعملون بأيديهم
وروي في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ بهذه السورة وبلغ إلى قوله " لنسفعنا بالناصية " قال أبو جهل أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك
قال الله تعالى * (فليدع ناديه سندع الزبانية) * فلما سمع ذكر الزبانية رجع فزعا
فقيل له
575

خشيت منه قال لا ولكن رأيت عنده فارسا فهددني زبانيته فلا أدري ما الزبانية ومال إلى الفارس فخشيت أن يأكلني
وروى عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدد أبا جهل فقال أبو جهل لم تهددني فوالله لقد علمت أني أكثر أهل الوادي ناديا لئن دعوت يعني أهل مجلسي منعوني عن ربك فنزل * (فليدع ناديه سندع الزبانية) * قال ابن عباس رضي الله عنه لو دعا ناديه أخذته الزبانية
ثم قال * (كلا لا تطعه) * يعني حقا لا تطعه في ترك الصلاة يا محمد * (واسجد) * يعني صل إلى ربك * (واقترب) * إلى الله بالأعمال الصالحة
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ألا ترى إلى قوله * (واسجد واقترب) * يعني اقترب إلى ربك بالسجود
والله الموفق بمنه وكرمه
576

سورة القدر مكية وهي خمس آيات
سورة القدر 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * يعني أنزلنا القرآن الكريم جملة واحدة إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ في ليلة القدر يعني في ليلة القضاء وإنما سميت القضاء لأن الله تعالى يقدر في تلك الليلة ما يكون من السنة إلى السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره ويسلمه إلى مدبرات الأمور وهم أربعة من الملائكة إسرافيل وميكائيل وجبريل وملك الموت عليهم السلام
وفي آية أخرى * (في ليلة مباركة) * وإنما سميت ليلة القدر مباركة لأنه ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة
ثم قال عز وجل * (وما أدراك ما ليلة القدر) * تعظيما لها فقال * (ليلة القدر خير من ألف شهر) * يعني العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا بين أصحابه يحدث بأن رجلا كان من بني إسرائيل لبس السلاح ألف شهر وصام ولم يضع السلاح حتى مات فعظم ذلك على أصحابه فنزل * (ليلة القدر خير من ألف شهر) * يعني العمل فيها وثوابه أفضل من لبس السلاح والصيام ألف شهر ليس فيها ليلة القدر
وروي في خبر آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم (أرى أعمال الناس) فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لم يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله تعالى * (ليلة القدر خير من ألف شهر) *
فقيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ليلة هي قال (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان)
ثم قال عز وجل * (تنزل الملائكة) * يعني تتنزل الملائكة من كل سماء ومن سدرة المنتهى وهو مسكن جبريل على وسطها فينزلون إلى الأرض ويدعون الخلق ويؤمنون بدعائهم إلى وقت طلوع الفجر
فذلك قوله * (تنزل الملائكة والروح فيها) * يعني جبريل معهم
وذكر في الخبر أن جبريل عليه السلام وقف على سطح الكعبة ونشر جناحيه فبلغ أحدهما المشرق والآخر المغرب
وقال بعضهم * (الروح) * خلق يشبه الملائكة وجهه يشبه وجه بني آدم
وقال بعضهم هو ما قال الله تعالى * (قل الروح من أمر ربي) * [الإسراء 85] وقال
577

مجاهد ما نزل ملك إلا ومعه روح ولهم أيد وأرجل وهم موكلون على الملائكة كما أن الملائكة موكلون على بني آدم
ثم قال عز وجل * (بإذن ربهم) * يعني ينزلون بأمر ربهم * (من كل أمر سلام) * يعني تلك الليلة من كل أمر * (سلام) * يعني سلامة في هذه الليلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ويقال (سلام) يعني لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها شرا
وقال القتبي " من " توضع موضع الباء يعني بكل أمر هي أي بكل خير * (هي حتى مطلع الفجر) * وقال مجاهد من كل أمر سلام وسلام من أن يحدث فيها أذى أو يستطيع الشيطان أن يعمل فيها
ويقال معناه * (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) * وقد تم الكلام يعني ينزلون فيها من كل أمر من الرخصة وبكل أمر قدره الله تعالى في تلك الليلة إلى قابل
ثم استأنف فقال * (سلام هي) * يعني سلام وبركة وخير كلها * (حتى مطلع الفجر) * يعني إلى مطلع الفجر
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ " من كل امرء " يعني الملائكة يسلمون على كل امرئ
وقرأ الكسائي * (حتى مطلع الفجر) * بكسر اللام والباقون بنصب اللام
فمن قرأ بالكسر جعله اسما لوقت الطلوع ومن قرأ بالنصب جعله مصدرا يعني يطلع طلوعا ومطلعا والله الموفق و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم
578

سورة البينة مدنية وهي ثمان آيات
سورة البينة 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) * يعني اليهود والنصارى * (والمشركين) * يعني عبدة الأوثان * (منفكين) * يعني غير منتهين عن كفرهم وعن قولهم الخبيث * (حتى تأتيهم البينة) * يعني حتى أتاهم البيان فإذا جاءهم البيان فريق منهم انتهوا وأسلموا وفريق ثبتوا على كفرهم
ويقال لم يزل الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين حتى وجب في الحكمة علينا في هذه الحال إرسال الرسول إليهم
ويقال معناه لم يكونوا منتهين عن الكفر حتى أتاهم الرسول والكتاب فلما آتاهم الكتاب والرسول تابوا ورجعوا عن الكفر وهم مؤمنو أهل الكتاب والذين أسلموا من مشركي العرب
وقال قتادة * (البينة) * أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم وقال القتبي * (منفكين) * أي زائلين يقال لا أنفك من كذا أي لا أزول
قوله تعالى * (رسول من الله يتلو صحفا مطهرة) * يعني قرآنا مطهرا من الزيادة والنقصان
ويقال * (مطهرة) * من الكذب والتناقض ويقال * (صحفا مطهرة) * أي أمورا مختلفة
ويقال سمي القرآن صحفا من كثرة ما فيه من السور
قوله تعالى * (فيها كتب قيمة) * يعني صادقة مستقيمة لا عوج فيها
ويقال * (فيها كتب قيمة) * يعني تدل على الصلاح والصواب ولا تدل على الشرك والمعاصي
ثم قال عز وجل * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) * يعني وما اختلفوا في محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود والنصارى * (إلا من بعد ما جاءتهم البينة) * يعني بعدما ظهر لهم الحق فنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال * (وما أمروا) * يعني وما أمرهم محمد صلى الله عليه وسلم * (إلا ليعبدوا الله) * يعني ليوحدوا الله
ويقال * (وما أمروا) * في جميع الكتب * (إلا ليعبدوا الله) * يعني يوحدوا الله * (مخلصين له الدين حنفاء) * مسلمين
روي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال * (حنفاء) * يعني
579

متبعين
وقال الضحاك * (حنفاء) * يعني حجاجا يحجون بيت الله تعالى
ثم قال * (ويقيموا الصلاة) * يعني يقرون بالصلاة ويؤدونها في مواقيتها * (ويؤتوا الزكاة) * يعني يقرون بها ويؤدونها * (وذلك دين القيمة) * يعني المستقيم لا
عوج فيه يعني الإقرار بالتوحيد وبالصلاة والزكاة وإنما قال * (القيمة) * بلفظ التأنيث لأنه انصرف إلى المعنى والمراد به السنة المستقيمة " لا عوج فيها " يعني هذا الذي يأمرهم محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا أمروا في جميع الكتب
سورة البينة 6 - 8
ثم قال عز وجل * (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * يعني الذين جحدوا من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ومن مشركي مكة وثبتوا على كفرهم * (في نار جهنم خالدين فيها) * يعني دائمين فيها * (أولئك هم شر البرية) * يعني شر الخليقة
قرأ نافع وابن عامر " البريئة " بالهمز والباقون بغير همز
فمن قرأ بالهمز فلأن الهمزة فيها أصل يقال برا الله الخلق يبرأ أبدا وهو الخالق البارئ
ومن قرأ بغير همز فلأنه اختار حذف الهمزة وتخفيفها
ثم مدح المؤمنين ووصف أعمالهم وبين مكانهم في الآخرة حتى يرغبوا إلى جواره فقال * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * يعني صدقوا بالله وأخلصوا بقلوبهم وأفعالهم وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم إلى يوم القيامة * (أولئك هم خير البرية) * يعني هم خير الخليقة
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص والله المؤمن أكرم على الله تعالى من بعض الملائكة الذين عنده
وروي عن الحسن أنه سئل عن قوله * (أولئك هم خير البرية) * أهم خير من الملائكة قال ويلك أين تعدل الملائكة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات
ثم بين ثوابهم فقال عز وجل * (جزاؤهم عند ربهم) * يعني ثوابهم في الآخرة * (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار) * يعني انهار من الخمر والعسل واللبن وماء غير آسن * (خالدين فيها أبدا) * يعني دائمين مقيمين فيها * (رضي الله عنهم) * بأعمالهم * (ورضوا عنه) * بثوابه الجنة * (ذلك) * يعني هذا الثواب الذي ذكر * (لمن خشي ربه) * يعني وحد ربه في الدنيا واجتنب معاصيه والله الموفق بمنه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم
580

سورة الزلزلة مختلف فيها وهي ثمان آيات مدنية
سورة الزلزلة 1 - 6
قول الله تبارك وتعالى * (إذا زلزلت الأرض زلزالها) * وذلك أن الناس كانوا يرون في بدء الإسلام أن الله تعالى لا يؤاخذهم بالصغائر من الذنوب ولا يعاقب إلا في الكبائر حتى نزلت هذه السورة وقال * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * وذكر أهوال ذلك اليوم وبين أن القليل في ذلك اليوم يكون كثيرا فقال * (إذا زلزلت الأرض زلزالها) * يعني تزلزلت الأرض عند قيام الساعة وتحركت واضطربت حتى يتكسر كل شيء عليها
ويقال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة فنزل وبين متى يكون قيام الساعة فقال * (إذا زلزلت الأرض زلزالها) * يعني وتحركت تحركا وهو كقوله * (ويخرجكم إخراجا) * [نوح 18] والمصدر للتأكيد
قوله تعالى * (وأخرجت الأرض أثقالها) * يعني أظهرت ما فيها من الكنوز والأموات * (وقال الإنسان ما لها) * يعني يقول الإنسان الكافر * (ما لها) * يعني للأرض على وجه التعجب
* (يومئذ تحدث أخبارها) * يعني تخبر الأرض بكل ما يعمل فيها بنو آدم من خير أو شر وتقول المؤمن صلى علي وحج واعتمر وجاهد
فيفرح المؤمن وتقول للكافر أشرك علي وسرق وزنى وشرب الخمر فيحزن الكافر فيقول * (ما لها) * يعني ما للأرض تحدث بما عمل عليها على وجه التقديم والتأخير ومعناه * (يومئذ تحدث أخبارها) * * (وقال الإنسان ما لها) *
يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم * (بأن ربك أوحى لها) * يعني أن الأرض تحدث بأن ربك أذن لها في الكلام وألهمها * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا) * يعني يرجع الناس متفرقين فريق في الجنة وفريق في السعير وفريق مع الحور العين يتمتعون وفريق مع الشياطين يعذبون فريق على السندس والديباج على الأرائك متكئون وفريق على وجوههم في النار يجرون
لأنهم في الدنيا هكذا كانوا فريقا حول المساجد والطاعات وفريق في المعاصي والشهوات فذلك قوله
581

* (يومئذ يصدر الناس أشتاتا) * يعني يرجعون عن الحساب بعد فراغهم من الحساب * (أشتاتا) * فرقا فرقا
* (ليروا أعمالهم) * يعني ثواب أعمالهم وهذا
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه فإن كان محسنا يقول لم لم أزدد إحسانا وإن كان غير ذلك يقول لم لم ترغب عن المعاصي) وهذا عند معاينة الثواب والعقاب
وقال أبي بن كعب الزلزلة لا تخرج إلا من ثلاثة إما نظر الله تعالى بالهيبة إلى الأرض وإما لكثرة ذنوب بني آدم وأما لتحرك الحوت التي عليها الأرضون السبع تأديبا للخلق وتنبيها
سورة الزلزلة 7 - 8
ثم قال عز وجل * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * يعني مقدار ذرة وهو الذي يرى في شعاع الشمس
يعني يرى ثوابه في الآخرة * (ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * يعني يرى جزاءه في الآخرة
وروى قتادة عن محمد بن كعب القرظي في قوله * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * الآية قال ما من كافر عمل مثقال ذرة من خير إلا عجل له ثواب ذلك في الدنيا في نفسه أو في أهله أو في ماله حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله مثقال ذرة من خير وما من مؤمن عمل مثقال ذرة من شر إلا عجل له عقوبتها في الدنيا في نفسه أو في ماله أو في أهله حتى يخرج من دار الدنيا وليس له عند الله مثقال ذرة من شر
وروى معمر عن زيد بن أسلم أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال علمني مما علمك الله فدفعه إلى رجل يعلمه القرآن فعلمه * (إذا زلزلت الأرض) * حتى بلغ * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * فقال الرجل حسبي فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال (دعه فقد فقه الرجل)
وروى الأجلح عن أبي إسحاق عن امرأته أنها قالت دخلت على عائشة رضي الله عنها أنا وامرأة أبي السفر فجاء سائل يسألها وعندها سلة من عنب فأخذت حبة من عنب فأعطته فنظر بعضنا إلى بعض فقال إن قدر هذا أثقل من ذرات كثيرة ثم قرأت * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * والله أعلم
582

سورة العاديات مكية وهي إحدى عشرة آية
سورة العاديات 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (والعاديات ضبحا) * قال مقاتل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني كنانة واستعمل عليهم المنذر بن عمرو فأبطأ عليه خبرهم فاغتم لذلك فنزل عليه جبريل عليه السلام بهذه السورة يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمه عن حالهم فقال * (والعاديات ضبحا) * يعني أفراس أصحابك يا محمد صلى الله عليه وسلم إنهم يضبحون في عدوهم * (فالموريات قدحا) * يعني النار التي تقدح من حوافر الفرس إذا عدت في مكان ذي صخور وأحجار * (فالمغيرات صبحا) * يعني أصحابك يغيرون على العدو عند الصبح * (فأثرن به نقعا) * يعني يثيرون بحوافرهن التراب إذا عدت الفرس في مكان سهل يهيج التراب والغبار * (نقعا) * يعني أطراحا على الأرض * (فوسطن به جمعا) * يعني أصحابك أصبحوا في وسط العدو مع الظفر والغنيمة فلا تغتم
وقال الكلبي والعاديات ضبحا يعني أنفاس الخيل حين تتنفس إذا أجهدت وقال ابن مسعود رضي الله عنه * (والعاديات ضبحا) * يعني الإبل بعرفات إذا دخل الحجاج مكة وروى عطاء عن ابن عباس في قوله * (والعاديات ضبحا) * قال الخيل ما ضبحت دابة قط إلا كلب أو فرس وهو أن يلهث كما يلهث الكلب
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي الإبل تذهب إلى وقعة بدر
وقال أبو صالح تقاولت مع عكرمة في قوله تعالى * (والعاديات ضبحا) * قال عكرمة قال ابن عباس هي الخيل في القتال فقلت مولاي أعلم من مولاك فإنه كان يقول هي الإبل تكون بمكة حين تفيض من عرفات إلى جمع وقال أهل اللغة الضبح صوت حلقومها إذا عدت والضبح والضبع واحد يقال ضبحت النوق وضبعت إذا عدت في السير
وهذا قسم أقسم الله تعالى بهذه الأشياء وجوابه قوله * (إن الإنسان لربه لكنود) * [العاديات 6]
ثم قال * (فالموريات قدحا) * قال بعضهم فالمنجيات عملا وهذا مثل ضربه الله تعالى فكما أن الأقداح تنجي الرجل من برد الشتاء والهلاك وإذا لم يكن معه الزند هلك في البرد فكذلك العمل الصالح ينجي العبد يوم القيامة من العذاب الهلاك وإذا لم يكن معه عمل صالح
583

يهلك بالعذاب
ويقال * (فالموريات قدحا) * يعني نار أبي حباحب وكان أبو حباحب رجلا في بعض أحياء العرب من أبخل الناس ولم يوقد نارا ليخبز حتى ينام كل ذي عين ثم يوقدها فإذا استيقظ أحد أطفأها لكي لا ينتفع بناره أحد بخلا منه فكذلك الخيل حين اشتدت على أرض الحصاة فقدحت النار بحوافرها لا ينتفع بها كما لا ينتفع بنار أبي حباحب
ثم قال * (فالمغيرات صبحا) * يعني الخصماء يغيرون على حسنات العبد يوم القيامة بمنزلة ريح عاصف يجيء ويرفع التراب الناقع من حوافر الدواب فذلك قوله * (فأثرن به نقعا) * ويقال هي الإبل ترجع من عرفات إلى المزدلفة ثم يرجعن إلى منى وتذبح هناك ويقسم اللحم ويؤخذ اللحم كأنهم أغاروها * (فأثرن به نقعا) * يعني هيجن بالوادي غبارا حين يرجعون من مزدلفة إلى منى
وقوله " به " كناية عن الوادي فكأنه يقول " فأثرن بالوادي نقعا " أي غبارا
ثم قال * (فوسطن به جمعا) * يعني فوقعن بالوادي ويقال بالمكان يعني اجتمع الحاج بمنى
سورة العاديات 6 - 11
ثم قال تعالى * (إن الإنسان لربه لكنود) * فيه جواب القسم أقسم الله تعالى بهذه الأشياء وفيه بين ذكر فضل الغازي وفضل فرس الغازي على تفسير من فسر الآية على الفرس حين أقسم الله تعالى بالتراب الذي يخرج والنار التي تخرج من تحت حوافر فرس الغازي لأنه ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله تعالى
ومن فسر الآية على الإبل ففي الآية بيان فضل الحاج وفضل دواب الحاج حيث أقسم بالتراب الذي يخرج من تحت أخفاف إبل الحاج والنار التي تخرج منها حيث صارت في أرض الحجارة
* (إن الإنسان لربه لكنود) * يعني لبخيل
قال مقاتل نزلت في قرط بن عبد الله وقال معنى الكنود بلسان كندة وبني حضرموت هو العاصي لربه وبلسان بني كنانة البخيل
ويقال هو الوليد بن المغيرة ويقال هو أبو حباحب ويقال كان ثلاثة نفر في العرب في عصر واحد أحدهم آية في السخاء وهو حاتم الطائي والثاني آية في البخل وهو أبو حباحب والثالث آية في الطمع وهو أشعب كان طماعا وكان إذا رأى عروسا تزف إلى موضع جعل يكنس باب داره لكي تدخل داره وكان إذا رأى إنسانا يحك عنقه فيظن أنه ينزع القميص ليدفعه إليه
ويقال الكنود الذي يمنع رفده ويجيع أهله ويضرب عبده ويأكل وحده ولا يعبأ للنائبة في قومه وقال الحسن الكنود الذي يذكر المصائب وينسى النعم ويقال الكنود الذي لا خير فيه ويقال للأرض التي غلب عليها السبخة ولا يخرج منها البذر أرض كنود
584

ثم قال تعالى * (وإنه على ذلك لشهيد) * يعني الله تعالى حافظ على صنعه عالم به * (وإنه لحب الخير لشديد) * يعني الإنسان على جمع المال حريص
وقال القتبي معناه إنه لحب المال لبخيل والشدة ههنا البخل وقال الزجاج معناه أنه من أجل حب المال لبخيل وهذا موافق لما قال القتبي
ثم قال عز وجل * (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور) * يعني أفلا يعلم هذا البخيل إذا بعث الناس من قبورهم وعرضوا على الله تعالى * (بعثر) * يعني أخرج * (وحصل ما في الصدور) * يعني بين ما في القلوب من الخير والشر * (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) * يعني عالم بهم وبأعمالهم وبنياتهم ومن أطاعه في الدنيا ومن عصاه فيها
وفي الآية دليل أن الثواب يستوجب على قدر النية ويجري به وقوله تعالى * (وحصل ما في الصدور) * يعني يحصل له من الثواب بقدر ما كان في قلبه من النية إن نوى بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة يحصل له الثواب على قدره والله ولي الموفق بمنه
585

سورة القارعة مكية وهي إحدى عشرة آية
سورة القارعة 1 - 11
قول الله تبارك وتعالى * (القارعة ما القارعة) * يعني القيامة ما القيامة والساعة ما الساعة
وهذا من أسماء يوم القيامة مثل الحاقة والطامة والصاخة
وإنما سميت القارعة لأنها تقرع القلوب بالأهوال
ثم قال عز وجل * (وما أدراك ما القارعة) * تعظيما لشدتها
ثم وصفها فقال تعالى * (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) * يعني كالجراد وكالفراش يجول بعضهم في بعض كما قال في آية أخرى * (كأنهم جراد منتشر) * [القمر 7] متحيرين حفاة عراة
والمبثوث المبسوط المنتشر الذي يجول بعضه في بعض ويقال ويقال شبههم بالفراش لأنهم يلقون أنفسهم في النار كما يلقي الفراش نفسه في النار
قوله تعالى * (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) * يعني كالصوف المندوف وهي تمر مر السحاب * (فأما من ثقلت موازينه) * يعني رجحت حسناته على سيئاته ويقال * (ثقلت موازينه) * بالعمل الصالح بالصلاة والزكاة وغيرها من العبادات * (فهو في عيشة راضية) * يعني في عيش مرضي في الجنة لا موت فيها ولا فقر ولا مرض ولا خوف ولا جنون آمن من كل خوف * (وأما من خفت موازينه) * يعني رجحت سيئاته على حسناته يعني الكافر ويقال * (من خفت موازينه) * يعني لا يكون له عمل صالح * (فأمه هاوية) * يعني مصيره إلى النار
قال قتادة هي أمهم ومأواهم وإنما سميت الهاوية لأن الكافر إذا طرح فيها يهوي على هامته وإنما سميت أمه لأنه مصيره إليها ومسكنه فيها
ثم وصفها فقال * (وما أدراك ما هيه) * تعظيما لشدتها
ثم أخبر عنها فقال * (نار حامية) * يعني حارة قد انتهى حرها وأصله ما هي فأدخلت الهاء للوقف كقوله " اقرءوا كتابيه "
586

[الحاقة 19] وأصله كتابي
قرأ حمزة والكسائي * (وما أدراك ما هي) * بغير هاء في الوصل وبالهاء عند الوقف
وقرأ الباقون بإثباتها في الوصل والوقف
والله الموفق بمنه وكرمه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم
587

سورة التكاثر مكية وهي ثماني آيات
سورة التكاثر 1 - 8
قول الله تبارك وتعالى * (ألهاكم التكاثر) * قال الكلبي نزلت في حيين من العرب أحدهما بنو عبد مناف والآخر بنو سهم تفاخرا في الكثرة فكثرتهم بنو عبد مناف فقال بنو سهم إنما البغي والقتال قد أهلكنا فنعد أحيانا وأحياكم وأمواتنا وأمواتكم ففعلوا فكثرتهم بنو سهم فنزل * (ألهاكم التكاثر) * يعني شغلكم وأذهلكم التفاخر * (حتى زرتم المقابر) * يعني أتيتم وذكرتم وعددتم أهل المقابر ويقال معناه شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد عن طاعة الله تعالى * (حتى زرتم المقابر) * يعني حتى يدرككم الموت على تلك الحال
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ * (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) * ثم قال (يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست
فأبليت أو تصدقت فأمضيت) ويقال معناه أغفلكم التفاخر والتكاثر عن الهاوية والنار الحامية حتى زرتم المقابر يعني عددتم من في المقابر
ثم قال عز وجل * (كلا) * وهو رد عليهم صنيعهم ويقال * (كلا) * معناه لا تدعون الفخر بالأحساب حتى دخلتم المقابر وقال الزجاج * (كلا) * ردع لهم وتنبيه يعني ليس الأمر الذي ينبغي أن يكون عليه التكاثر والذي ينبغي أن يكونوا عليه طاعة الله تعالى والإيمان بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال مقاتل * (كلا سوف تعلمون) * إذا نزل بكم الموت
ويقال " كلا سوف تعملون " إن سئلتم في القبر
ثم قال * (ثم كلا سوف تعلمون) * بعد الموت حين نزل بكم العذاب أن الأحساب لا تنفعكم
قوله تعالى * (كلا لو تعلمون) * قال بعضهم معناه كلا لا تؤمنون بالوعيد وقد تم الكلام
ثم استأنف فقال * (لو تعلمون علم اليقين) * يعني لو تعلمون ما القيامة باليقين لألهاكم
588

عن ذلك ويقال هذا موصول ب * (كلا لو تعلمون) * يقول حقا لو علمتم علم اليقين بأن المال والحسب والفخر لا ينفعكم يوم القيامة ما افتخرتم بالمال والعدد والحسب
ثم قال عز وجل * (لترون الجحيم) * قرأ ابن عامر والكسائي * (لترون) * بضم التاء والباقون بالنصب وقرأ ابن كثير * (ثم لترونها) * بضم التاء
فمن قرأ بالضم فهو على فعل ما لم يسم فاعله ونصب الجحيم على أنه مفعول به ثان يعني * (لترون الجحيم) * ومن قرأ بالنصب فعلى فعل المخاطبة ونصب الجحيم لأنه مفعول يعني لترون الجحيم يوم القيامة عيانا * (ثم لترونها عين اليقين) * يعني تدخلونها عيانا لا شك فيه * (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) * يعني ولتسألن يوم القيامة عن النعيم قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أكل خبزا يابسا أو شرب الماء البارد الفرات فقد أصاب النعيم وقال ابن مسعود رضي الله عنه هو الأمن والصحة وروى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن جابر أنه قال جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأطعمناهم رطبا وأسقيناهم الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هذا من النعيم الذي تسألون عنه) وروى صالح بن محمد عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهم قال إن أبا بكر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكلة أكلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي الهيثم بن التيهان من لحم وخبز وشعير وبسر مذنب وماء عذب فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما ذلك للكفار ثم قال ثلاثة لا يسأل الله تعالى عنها العبد يوم القيامة ما يواري عورته وما يقيم به صلبه وما يكنه من الحر والقر وهو مسؤول بعد ذلك عن كل نعمة) وروى الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما أنعم الله تعالى على العبد من نعمة صغيرة أو كبيرة فيقول عليها الحمد لله إلا أعطاه الله تعالى خيرا مما أخذ) والله الموفق بمنه و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم
589

سورة العصر مكية وهي ثلاث آيات
سورة العصر 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى * (والعصر) * قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعني الدهر وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال يعني صلاة العصر وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه لما أسلم قالوا خسرت يا أبا بكر حين تركت دين آبائك فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس الخسارة في قبول الحق إنما الخسارة في عبادة الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنكم فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية
* (والعصر) * أقسم الله تعالى بصلاة العصر * (إن الإنسان لفي خسر) * يعني أن الكافر لفي خسارة
وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال * (إن الإنسان لفي خسر) * يعني الناس كلهم
ثم استثنى فقال عز وجل * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * فإنهم غير منقوصين
كما قال الله تعالى * (ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) * يعني يكتب لهم ثواب عملهم وإن ضعفوا عن العمل
قال الزجاج * (إن الإنسان) * أراد به الناس والخسر والخسران واحد ومعناه إن الإنسان الكافر والعاملين بغير طاعة الله تعالى لفي خسر
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ والعصر ونوايب الدهر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفي لعنة إلى آخر الدهر ويقال أقسم الله تعالى بخالق الدهر فقال * (إن الإنسان لفي خسر) * يعني أبا جهل والوليد بن المغيرة ومن كان في مثل حالهم ثم استثنى المؤمنين فقال * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضوان الله تعالى عليهم * (وتواصوا بالحق) * يعني تحاثوا على القرآن يعني يرغبون الناس في الإيمان والأعمال الصالحة * (وتواصوا بالصبر) * يعني تحاثوا على الصبر على عبادة الله تعالى وعلى الشدائد فيرغبون الناس على ذلك
ويقال * (وتواصوا بالصبر) * على المكاره فإن الجنة حفت بالمكاره والله الموفق بمنه
590

سورة الهمزة مكية وهي تسع آيات
سورة الهمزة 1 - 9
قول الله تبارك وتعالى * (ويل لكل همزة لمزة) * يعني الشدة من العذاب
ويقال * (ويل) * واد في جهنم " ولكل همزة لمزة " قال أبو العالية يعني يهمزه في وجهه ويلمزه من خلفه
وقال مجاهد الهمزة الطعان واللمزة الذي يأكل لحوم الناس
وقال ابن عباس الهمزة واللمزة الذي يفرق بين الناس بالنميمة
والآية نزلت في الأخنس بن شريق
ويقال الذي يسخر من الناس فيشير بعينه وبحاجبيه وبشفتيه إليه
وقال مقاتل نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم ويطعن في وجهه
ويقال نزلت في جميع المغتابين
ثم قال عز وجل * (الذي جمع مالا وعدده) * يعني استعبد بماله الخدم والحيوان * (وعدده) * أي حسبه وأحصاه قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي * (جمع) * بالتشديد والباقون بالتخفيف
فمن قرأ بالتشديد فهو للمبالغة وكثرة الجمع ومن قرأ بالتخفيف فمعناه * (جمع مالا وعدده) * أي قوما أعدهم نصارا
ثم قال عز وجل * (يحسب أن ماله أخلده) * يعني يظن أن ماله الذي جمع أخلده في الدنيا ويمنعه من الموت فلا يموت حتى يفنى ماله
يقول الله تعالى * (كلا) * لا يخلده ماله وولده
ثم استأنف فقال تعالى * (لينبذن في الحطمة) * يعني ليقذفن في الحطمة و * (الحطمة) * اسم من أسماء النار
* (وما أدراك ما الحطمة) * تعظيما لشأنها ولشدتها
ثم وصفها فقال * (نار الله الموقدة) * يعني المستعرة تحطم العظام وتأكل اللحوم فلهذا سميت الحطمة * (التي تطلع على الأفئدة) * يعني تأكل الجلد واللحم حتى تبلغ أفئدتهم
وقال القتبي * (تطلع على الأفئدة) * يعني تشرف على الأفئدة وخص الأفئدة لأن الألم إذا وصل إلى الفؤاد مات صاحبه فأخبر أنهم في حال الموت وهم لا يموتون كما قال * (لا يموت فيها ولا يحيى) * [الأعلى 13] ويقال * (تطلع على الأفئدة) * يعني تأكل الناس حتى تبلغ
591

الأفئدة فإذا بلغت الأفئدة ابتدأ خلقه
ولا تحرق القلب لأن القلب إذا احترق لا يجد الألم فيكون القلب على حاله لكي يجد الألم
ثم قال عز وجل * (إنها عليهم مؤصدة) * يعني مطبقة على الكافرين * (في عمد ممددة) * يعني طبقها ممدود مشدود إلى العمد
وقال الزجاج معناه العذاب مطبق عليهم في عمد أي في عمد من النار
وقال الضحاك * (مؤصدة) * يعني حائط لا باب فيه
وروي عن الأعمش أنه كان يقرأها * (عليهم مؤصدة) * بعمد ممدودة يعني أطبقت الأبواب ثم شددت بالأوتاد من حديد من نار حتى يرجع إليهم غمها وحرها فلا يفتح لهم باب ولا يدخل عليهم روح ولا يخرج منها غم إلى الأبد
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر * (في عمد) * ممدودة بضم العين وقرأ الباقون بالنصب ومعناهما واحد وهو جمع العماد
اللهم إنا نسألك العفو
592

سورة الفيل مكية وهي خمس آيات
سورة الفيل 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (ألم تر) * يعني ألم تخبر بالقرآن
ويقال * (ألم تر) * يعني ألم يبلغك الخبر اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الإخبار يعني اعلم واعتبر بصنيع الله تعالى * (كيف فعل ربك) * يعني كيف عذب ربك * (بأصحاب الفيل) * وكان بدء أصحاب الفيل ما ذكرناه في سورة البروج أن زرعة قتل المسلمين بالنار فهرب رجل منهم إلى ملك الحبشة وأخبره بذلك فبعث ملك الحبشة جيشا إلى أرض اليمن فأمر عليهم أرياطا ومعه في جنده أبرهة الأشرم فركب البحر فيمن معه حتى أتوا ساحلا مما يلي أرض اليمن فدخلوها ومع أرياط سبعون ألفا من الجيش وهزم زرعة وجنوده وألقى زرعة نفسه بفرسه في الماء فهلك وأقام أرياط باليمن سنين في سلطانه ذلك
ثم نازعه في أمر الحبشة أبرهة وكان من أصحابه ممن وجهه النجاشي معه إلى اليمن
وخالفه أبرهة وتفرق الجند وصار إلى كل واحد منهما طائفة منهم
ثم خرجوا للقتال فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى أرياط إنك لا تصنع شيئا بأن تلقي الحبشة بعضها في بعض حتى تفنيها فأبرز لي وأبرز لك فأينا أصاب صاحبه انصرف إلى جنده
فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فأخرج
فخرج إليه أبرهة وكان رجلا قصيرا وخرج إليه أرياط وكان رجلا طويلا عظيما في يده حربة وخلف أبرهة عبد يقال له عتودة وروي عن بعضهم عيودة بالياء فلما دنا
أحدهما من صاحبه رفع أرياط الحربة فضرب بها على رأس أبرهة يريد يافوخه فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فخدشت حاجبيه وعينه وأنفه وشفتيه فلذلك سمي أبرهة الأشرم وحمل عيودة على أرياط من خلف أبرهة فقتل أرياط وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن
وكل ما صنع أبرهة من غير علم النجاشي ملك الحبشة فلما بلغه ذلك غضب غضبا شديدا وقال عدا على أميري فقتله بغير أمري ثم حلف أن لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته
فلما بلغ ذلك أبرهة حلق رأسه وملأ جرابا من تراب أرض اليمن ثم بعث إلى النجاشي وكتب إليه أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك واختلفنا في أمرك وكل
593

طاعة لك
إلا أني قد كنت أقوى على أمر الجيش منه وأضبط له وقد حلقت رأسي حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر يمينه
فلما وصل كتاب أبرهة إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري
وقال أبرهة لعتودة حين قتل أرياط أحكمك يعني أحكم علي بما شئت فقال عتودة حكمي أن لا تدخل عروس من بيت أهل اليمن على زوجها حتى أصيبها قبله
قال ذلك لك
فأقام أبرهة باليمن وغلامه عتودة يصنع باليمن ما كان أعطاه من حكمه
ثم عدل عليه رجل من حمير أو من خثعم فقتله
فلما بلغ أبرهة قتله وكان أبرهة رجلا حليما ورعا في دينه النصرانية فقال قد آن لكم يا أهل اليمن أن يكون منكم رجل حازم يأنف مما يأنف منه الرجال إني والله لو علمت حين حكمته أنه يسأل الذي سأل ما حكمته وأيم الله لا يؤخذ منكم فيه عقل ولا قود
ثم إن أبرهة بنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانه في أرض الروم ولا في أرض الشام
ثم كتب إلى النجاشي الأكبر ملك الحبشة أني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب
فلما علمت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي خرج رجل من بني كنانة من الحمس حتى قدم اليمن فدخل الكنيسة فنظر فيها
ثم خرى فيها فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها فقال من اجترأ علي بهذا فقال له أصحابه أيها الملك رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب
فقال أعلي اجترأ بهذا ثم قال بالنصرانية لأهدمن ذلك البيت ولأخربنه حتى لا يحجه حاج أبدا
فدعا بالفيل وأذن قومه بالخروج
وروي في رواية أخرى أن فئة من قريش خرجوا حتى أتوا إلى أرض النجاشي فأوقدوا نارا فلما رجعوا تركوا النار في يوم عاصف حتى وقعت النار في الكنيسة فأحرقتها فعزم أبرهة وهو خليفة النجاشي أن يخرج إلى مكة فيهدم الكعبة وينقل أحجارها إلى اليمن فيبني هناك بيتا ليحج الناس إليه
وروي في رواية أخرى أن رجلا من أهل مكة خرج إلى اليمن فأخذ حزمة من القصب ذات ليلة وأضرم النار في الكنيسة فأحرقها ثم هرب
فبناها أبرهة مرة أخرى فحلف بعيسى ابن مريم ليهدمن الكعبة لكي يتحول الحج إلى كنيسته فتجهز فخرج معه الفيل حتى إذا كان في بعض طريقة بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حج بيته الذي بناه فتلقاه رجل من بني كنانة من الحمس فقتله
فازداد أبرهة بذلك غضبا وحث على المسير والانطلاق حتى إذا كان بأرض خثعم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو يفن فدعى قومه وأحبابه من سائر
594

العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله
فقاتله فهرب ذو يفن وأصحابه وأخذ ذو يفن وأوتي به أسيرا
فلما أراد قتله قال أيها الملك لا تقتلني فإنه عسى أن أكون معك خير لك من قتلي فتركه وحبسه عنده في وثاقه
ثم مضى على وجهه ذلك حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي فقاتله فهزمه وأخذ أسيرا
فلما أتي به وهم بقتله فقال أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب فتركه وخلى سبيله وخرج به معه يدله على أرض العرب
حتى إذا مر بالطائف فخرج إليه مسعود بن مغيث الثقفي في رجال من ثقيف فقالوا أيها الملك إنما نحن عبيدك ليس عندنا لك خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريد وليست بالتي يحج إليه العرب وإنما ذلك بيت قريش الذي بمكة فنحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال فخرج يهديهم الطريق حتى أنزلهم بالمغمس وهي على ستة أميال من مكة فمات أبو رغال هناك فرجمت العرب قبره فهو القبر الذي ترجمه الناس بالمغمس
ثم إن قريشا لما علموا أن لا طاقة لهم بالقتال مع هؤلاء القوم لم يبق بمكة أحد إلا خرج إلى الشعاب والجبال ولم يبق أحد إلا عبد المطلب على سقايته وشيبة أقام على حجابة البيت
فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي البيت ويقول اللهم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك لا يغلبوا بصليبهم فأمر ما بدا لك
ثم إن أبرهة بعث رجلا من الحبشة على جمل له حتى انتهى إلى مكة وساق إلى أبرهة أموال قريش وغيرها
فأصاب مائتي بعير لعبد المطلب وهو يومئذ كبير قريش وسيدها
ثم بعث أبرهة رجلا من أهل حمير إلى مكة وقال له سل عن سيد هذا البيت وشريفهم ثم قال له إن الملك يقول لك إني لم آت لأخرجكم وإنما جئت لأهدم هذا البيت فإن لم تتعرضوا إلى دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم
فلما دخل الرسول مكة جاء إلى عبد المطلب وأدى إليه الرسالة فقال عبد المطلب ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام
فإن يمنعه فهو بيته وحرمه وإن لم يحل بينه وبين حرمه والله ما عندنا دفع عنه
فقال له الرسول فانطلق بنا إليه فإنه قد أمرني أن آت بك إليه فانطلق إليه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتي العسكر حتى أتى العسكر فسأل عن ذي يفن وكان صديقا له فجاءه وهو في مجلسه فقال له هل عندك من عناء بما نزل بنا فقال له ذو يفن ما عناء رجل أسير بيد ملك ينتظر بأن يقتله غدوا أو عشيا ألا أن صاحب الفيل صديق لي فأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستوصي بك خيرا ويستأذن لك على الملك فتكلمه أنت بما بدا لك
فقال حسبي ففعل ذلك
فلما دخل عبد المطلب على الملك وكلمه فأعجبه كلامه ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك قال عبد المطلب حاجتي إليك أن ترد إلي مائتي بعير لي فقال لك ذلك
قال له أبرهة لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم إني زهدت فيك حين كلمتني
595

في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه
قال عبد المطلب إنني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه
فقال ما كان ليمنعه مني قال أنت وذلك
فرد عليه الإبل فانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج بمن بقي من أهل مكة إلى الجبال وفي بطون الشعاب
ثم إن عبد المطلب أخذ بحلقتي باب الكعبة وقال اللهم إن المرء يمنع رحله وذكر كلمات في ذلك ثم أرسل حلقتي الباب وانطلق ومن معه إلى قلل الجبال ينتظرون ما يصنع أبرهة بمكة
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ جيشه وهيأ فيله وكان اسم الفيل محمودا وكنيته أبو العباس وكنية أبرهة أبو البكشوم
فلما وجهوا الفيل نحو مكة أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى جاء إلى جنب الفيل ثم أخذ بأذنه فقال أبرك محمودا وارجع راشدا من حيث جئت فإنك والله في بلد الله الحرام
ثم أرسل أذنه واضطجع
فضربوه ليقوم فأبى فضربوا رأسه بالطبرزين فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك وأرسل الله تعالى عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمصة والعدسة لا تصيب أحدا منهم إلا هلك
فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاؤوا منه ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق فخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا معه يسقط من جسده أنملة أنملة كلما سقطت منه أنملة خرجت منه مده قيح ودم حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم مات
فملك ابنه يكثوم بن أبرهة ملك اليمن
وروي في الخبر أنه أول ما وقعت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام وقال بعضهم كان أمر أصحاب الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة
وقال بعضهم كان ذلك في عام مولده وروي عن قيس بن مخرمة أنه قال ولدت أنا ورسول اله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل
فنزل قوله * (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) * يعني كيف عاقب ربك أصحاب الفيل بالحجارة حين أرادوا هدم الكعبة
قال تعالى * (ألم يجعل كيدهم في تضليل) * يعني كيد الذين أرادوا هدم الكعبة يعني في خسارة
ويقال معناه ألم يجعل صنيعهم في أباطيل * (وأرسل عليهم طيرا أبابيل) * يعني متتابعا بعضها على أثر بعض وقال سعيد بن جبير أرسل الله عليهم طيورا بيضا صغارا
وقال عبيد بن عمير أرسل عليهم طيرا بلقا من البحر كأنها الخطاطيف
وروى عطاء عن ابن عباس قال طيرا سودا جاءت من قبل البحر فوجا فوجا
ثم قال * (ترميهم بحجارة من سجيل) * قال سعد بن جبير الحجارة أمثال الحمصة
596

وروي عن ابن عباس قال رأيت عند أم هانئ من تلك الحجارة مثل بعر الغنم مخططة بحمرة
وروى إسرائيل عن جابر بن أسباط قال طير كأنها رجال الهند جاءت من قبل البحر تحمل الحجارة في مناقيرها وأظافيرها أكبرها كمبارك الإبل وأصغرها كرؤوس الإنسان * (ترميهم بحجارة من سجيل) * يعني من طين خلط بالحجارة ويقال طين مطبوخ كما يطبخ الآجر
وذكر مقاتل عن عكرمة قال هي طير جاءت من قبل البحر لها رؤوس كرؤوس السباع لم تر قبل يومئذ ولا بعده فجعلت ترميهم بالحجارة فتجدر جلودهم وكان أول يوم رئي فيه الجدري
ويقال مكتوب في كل حجر اسم الرجل واسم أبيه ولا يصيب الرجل شيء إلا نفذه فما وقع على رأس رجل إلا خرج من دبره وما وقعت على جنبه إلا خرجت من الجنب الآخر
وقال وهب بن منبه " حجارة من سجيل " قال بالفارسية سخ وكل يعني حجارة وطين
وروى موسى بن بشار عن عكرمة " حجارة من سجيل " قال سنك وكل
ثم قال عز وجل * (فجعلهم كعصف مأكول) * يعني كزرع بال فأخبر الله تعالى أنه سلط على الجبابرة أضعف خلقه كما سلط على النمرود بعوضة فأكلت من دماغه أربعين يوما فمات من ذلك
نسأل الله العفو والعافية و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد
597

سورة قريش مكية وهي أربع آيات 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى * (لإيلاف قريش إيلافهم) * قرأ ابن عامر " لإلاف قريش " بهمزة مختلسة الكسر والباقون بياء قبلها همزة ومعناهما واحد
وهذا موصول بما قبله يعني أن الله تعالى أهلك أصحاب الفيل * (لإيلاف قريش) * يعني لتقر قريش بالحرم ويجاورون البيت
حيث قال * (فجعلهم كعصف مأكول) * * (لإيلاف قريش) * يعني فعل ذلك ليؤلف قريشا بهاتين الخصلتين الرحلتين اللتين بهما عيشهم ومقامهم بمكة
وقال أهل اللغة ألفت موضع كذا أي لزمته وألفينه الله كما لزمت موضع كذا ألزمنيه الله
وكرر الإيلاف على معنى التأكيد كما تقول أعطيتك المال لصيانة وجهك وصيانتك عن جميع الناس
وقال مجاهد " لئلاف قريش " يعني لنعمتي على قريش وقال سعيد بن جبير أذكر نعمتي على قريش ويقال معناه لا يشق عليهم التوحيد كما لا يشق عليهم * (رحلة الشتاء والصيف) * قال مقاتل وذلك أن قريشا كانوا تجارا ومن ذلك سمت قريشا وكانوا يمتارون في الشتاء من الأردن وفلسطين لأن ساحل البحر كان أدناها فإذا كان الصيف تركوا طريق الشام وأخذوا طريق اليمن فشق ذلك عليهم فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة حتى حملوا الطعام في السفن إلى مكة للبيع وجعل أهل مكة يخرجون إليهم على مسيرة ليلة ويشترون فكفاهم الله تعالى مؤونة الشتاء والصيف
* (فليعبدوا رب هذا البيت) * لأن * (رب هذا البيت) * كفاهم مؤونة الخوف والجوع فليألفوا العبادة كما ألفوا رحلة الشتاء والصيف
وقال الزجاج كانوا يترحلون في الشتاء إلى الشام وفي الصيف إلى اليمن
وهذا موافق لما قال مقاتل
وقال السدي في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام وهكذا قال القتبي
وروي عن أبي العالية أنه قال كانوا لا يقيمون بمكة صيفا ولا شتاء فأمرهم الله تعالى بالمقام عند البيت في العبادة
ويقال معناه قل لهم يا محمد حتى يجتمعوا على الإيمان والتوحيد وعبادة رب هذا
598

البيت كاجتماعهم على رحلة الشتاء والصيف * (فليعبدوا رب هذا البيت) * يعني السيد والخالق لهذا البيت الذي صنع هذا الإحسان إليكم حتى يكرمكم في الآخرة كما أكرمكم في الدنيا * (الذي أطعمهم من جوع) * يعني أشبعهم بعد الجوع الذي أصابهم حتى جهدوا * (وآمنهم من خوف) * يعني من خوف الجهد والعدو والغارة
وقال السدي * (امنهم) * من خوف الجذام
نسأل الله العفو والعافية
599

سورة الماعون مكية وهي سبع آيات
سورة الماعون 1 - 7
قول الله تبارك وتعالى * (أرأيت الذي يكذب بالدين) * قرأ الكسائي * (أرأيت) * بغير ألف وقرأ نافع * (أرأيت) * بالألف بغير همزة والباقون بالألف والهمزة * (أرأيت) * وهذه كلها لغات العرب واللغة المعروفة بالألف والهمزة ومعناه ألا ترى يا محمد هذا الكافر الذي يكذب بالدين يعني بيوم القيامة
ويقال معناه ما تقول يا محمد في هذا الكافر الذي يكذب بيوم القيامة فكيف يكون حاله يوم القيامة وقال قتادة نزلت في وهب بن عايل وقال جعدة بن هبيرة نزلت في العاص بن وائل ويقال هذا تهديد لجميع الكفار
ثم قال عز وجل * (فذلك الذي يدع اليتيم) * يعني يدفع اليتيم عن حقه ويقال يمنع اليتيم حقه ويظلمه * (ولا يحض على طعام المسكين) * يعني لا يحث على إطعام المسكين ويقال معناه لا يطعم المسكين
ثم قال عز وجل * (فويل للمصلين) * يعني للمنافقين * (الذين هم عن صلاتهم ساهون) * يعني لاهين عنها حتى يذهب وقتها
* (الذين هم يراؤون) * الناس بالصلاة ولا يريدون بها وجه الله تعالى حتى إذا رأوا الناس صلوا وإذا لم يروا الناس لم يصلوا
ثم قال تعالى * (ويمنعون الماعون) * قال مقاتل يمنعون الزكاة والماعون بلغة الحبش المال
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال يراؤون بصلاتهم ويمنعون الزكاة
ويقال الماعون يعني المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم
وعن أبي عبيد قال سألت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الماعون فقال ما يتعاطاه الناس فيما بينهم مثل الفأس والقدوم والقدر والدلو
وروى وكيع عن سالم بن عبد الله
قال سمعت عكرمة يقول الماعون الفأس والقدوم والقدر والدلو
قلت من منع هذا فله الويل
قال من راءى بصلاة وسها عنها ومنع هذا فله الويل
وقال القتبي الماعون الزكاة ويقال الماعون هو الماء والكلأ
وروي عن الفراء أنه قال هو المال والله أعلم وأحكم بالصواب
600

سورة الكوثر مكية وهي ثلاث آيات
سورة الكوثر 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى * (إنا أعطيناك الكوثر) * يعني الخير الكثير لفضيلة القرآن ويقال العلم وقال القتبي أحسبه فوعل من الكثرة والخير الكثير وقال مقاتل * (إنا أعطيناك الكوثر) * أراد به نهرا في الجنة طينه مسك أذفر ورضراضه اللؤلؤ أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وروى عطاء بن السائب عن محمد بن زياد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الكوثر نهر في الجنة حافتاه الذهب ومجراه على الدر والياقوت ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل تربته أطيب من المسك) وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (بينما أنا أسير في الجنة فإذا بنهر حافتاه من اللؤلؤ المجوف يعني الخيام قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك)
ثم قال عز و جل * (فصل لربك) * يعني صل لله الصلوات الخمس * (وانحر) * قال بعضهم انحر نفسك يعني اجتهد في الطاعة وقال بعضهم * (وانحر) * يعني استقبل بنحرك القبلة وقال بعضهم * (وانحر) * يعني البدنة واعرف هذه الكرامة من الله تعالى وأطعه انحر يعني استقبل بنحرك القبلة وقال بعضهم وانحر يعني البدنة يعني اعرف هذه الكرامة من الله تعالى وأطعه وقال بعضهم * (وانحر) * صل صلاة العيد يوم النحر وانحر البدنة
ثم قال عز وجل * (إن شانئك هو الأبتر) * يعني مبغضك وهو العاص بن وائل السهمي * (هو الأبتر) * يعني الأبتر من الخير
وذلك أن العاص بن وائل السهمي كان يقول لأصحابه هذا الأبتر الذي لا عقب له فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتم لذلك فنزل * (إن شانئك هو الأبتر) * وأنت يا محمد صلى الله عليه وسلم ستذكر معي إذا ذكرت فرفع الله ذكره في كل مواطن
ويقال * (فصل لربك وانحر) * بأن يستوي بين السجدتين حتى يبدي نحره فخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم
601

والمراد به جميع الأمة كما قال * (يا أيها الرسل) * وأراد به هو وأصحابه
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله * (فصل لربك وانحر) * قال يعني ضع اليمين على الشمال في الصلاة * (إن شانئك هو الأبتر) * في ماله وولده وأهله والبتر في اللغة الاستئصال والقطع وقال قتادة * (الأبتر) * الحقير الرقيق الذليل والله أعلم
602

سورة الكافرون مكية وهي ست آيات
سورة الكافرون 1 - 6
قول الله تبارك وتعالى * (قل يا أيها الكافرون) * * (يا أيها) * الياء للنداء وأي للتمييز وها للتنبيه
ألا ترى أنه لا يجوز لله أن يقال يا أيها الرحمن كما قال تعالى * (يا أيها العزيز) * لأن التنبيه لا يجوز
وذلك أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن يسرك أن نتبعك عاما وترجع إلى ديننا عاما فنزلت هذه السورة
وقال مقاتل نزلت في المستهزئين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم وجرى على لسانه ما جرى فقال أبو جهل أخزاه الله لا تفارقنا إلا على أحد أمرين ندخل معك في بعض ما تعبد وتدخل معنا في ديننا أو تتبرأ من آلهتنا ونتبرأ من إلهك فنزلت هذه السورة
وقال الكلبي وذاك أنهم أتوا العباس فقالوا له لو أن ابن أخيك استلم بعض آلهتنا لصدقناه بما يقول وآمنا به فنزل * (قل يا أيها الكافرون) * ويقال إنهم اجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا له إن ابن أخيك يؤذينا ونحن لا نؤذيه لحرمتك فدعاه أبو طالب وذكر ذلك له فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما أدعوهم إلى كلمة واحدة) فقال ما هي قال (لا إله إلا الله) فنفروا عن هذه الكلمة فنزل * (قل يا أيها الكافرون) * يعني قل يا محمد لأهل مكة * (لا أعبد ما تعبدون) * يعني * (لا أعبد) * بعد هذا * (ما تعبدون) * أنتم من الأوثان ولا أرجع إلى دينكم
ثم قال * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * يعني لا تعبدون أنتم بعد هذا الرب الذي أعبده أنا حتى ترون ما يستقبلكم غدا
وهذا كقوله عز وجل * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا) * [الكهف 29]
قوله تعالى * (ولا أنا عابد ما عبدتم) * يعني لست أنا في الحال عابدا لأصنامكم وما كنت عابدا لها قبل هذا لأني علمت مضرة عبادتها * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) *
يعني لستم عابدين في الحال لجهلكم وغفلتكم وقلة عقلكم
603

ثم قال عز وجل * (لكم دينكم ولي دين) * يعني قد أكملت عليكم الحجة وليس علي أن أجبركم على الإسلام فاثبتوا على دينكم حتى تروا ماذا يستقبلكم غدا وأنا أثبت على ديني الذي أكرمني الله تعالى به ولا أرجع إلى دينكم أبدا
وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ بآية القتال وفيها دليل أن الرجل إذا رأى منكرا أو سمع منكرا فأنكره فلم يقبل منه لا يجب عليه أكثر من ذلك وإنما عليه أن يحفظ مذهبه وطريقه ويتركهم على مذهبهم وطريقهم
وقال الحسن سمعت شيخا يحدث قال بينما أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ * (قل يا أيها الكافرون) * فقال (أما هذا فقد برئ من الشرك) وسمع رجلا يقرأ * (قل هو الله أحد) * فقال (أما هذا فقد غفر الله تعالى له والله أعلم
604

سورة النصر وهي ثلاث آيات مكية
سورة النصر 1 - 3
قول الله تبارك وتعالى * (إذا جاء نصر الله) * وروى عبد الملك بن سليمان قال سمعت سعيد بن جبير يقول كان أناس من المهاجرين قد وجدوا على عمر في إدنائه ابن عباس دونهم وكان يسأله فقال عمر أما أنا سأريكم منه اليوم ما تعرفون به فضله فسأله عن هذه السورة * (إذا جاء نصر الله والفتح) * قال بعضهم أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم * (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) * أن تحمده وتستغفره فقال يا ابن عباس ألا تتكلم فقال أعلمه الله متى يموت فقال * (إذا جاء نصر الله والفتح) * فهي آيتك من الموت
* (فسبح بحمد ربك) * قال مقاتل لما نزلت هذه السورة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فاستبشروا فسمع بذلك ابن عباس فبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما يبكيك) فقال نعيت نفسك فقال (صدقت) فعاش بعد هذه السورة سنتين
وروى أبو عبيد بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول (سبحانك ربي وبحمدك اللهم اغفر لي) وقال علي رضي الله عنه لما نزلت هذه السورة مرض النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس فخطبهم وودعهم ثم دخل المنزل وتوفي بعد أيام
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى * (إذا جاء نصر الله) * يعني إذا أتاك نصر من الله تعالى على الأعداء من قريش وغيرهم * (والفتح) * يعني فتح مكة والطائف وغيرها * (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) * يعني جماعة جماعة وقبيلة قبيلة وكان قبل ذلك يدخلون واحدا واحدا فدخلوا فوجا فوجا فإذا رأيت ذلك فاعلم أنك ميت فاستعد للموت بكثرة التسبيح والاستغفار فذلك قوله * (فسبح بحمد ربك) * يعني سبحه ويقال * (فسبح) * أي فصل لربك * (واستغفره إنه كان توابا) * يعني متجاوزا
والله الموفق اللهم إنا نسألك العفو والعافية و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد
605

سورة المسد وهي خمس آيات مكية
سورة المسد 1 - 5
قول الله تبارك وتعالى * (تبت يدا أبي لهب وتب) * يعني خسر أبو لهب وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * [الشعراء 214] صعد على الصفا ونادى واصاحبا فاجتمعوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أمرني ربي أن أنذر عشيرتي الأقربين وأدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فقولوا أشهد لكم بها عند ربي) فأنكروا ذلك فقال أبو لهب تبا لك سائر الأيام ألهذا دعوتنا وروي في خبر آخر أنه اتخذ طعاما ودعاهم ثم قال (أسلموا تسلموا وأطيعوا تهتدوا) فقال أبو لهب تبا لك سائر الأيام ألهذا دعوتنا فنزلت * (تبت يدا أبي لهب) * يعني خسرت يدا أي لهب عن التوحيد * (وتب) * يعني وقد خسر
ويقال إنما ذكر اليد وأراد به هو وقال مقاتل * (تبت يدا أبي لهب وتب) * يعني خسر نفسه وكان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى ولهذا ذكره بالكنية ولم يذكر اسمه لأن اسمه كان منسوبا إلى صنم
وقال بعضهم كنيته كان اسمه
ثم قال عز وجل * (ما أغنى عنه ماله وما كسب) * يعني ما نفعه ماله في الآخرة إذ كفر في الدنيا * (وما كسب) * يعني ما ينفعه ولده في الآخرة إذا كفر في الدنيا والكسب أراد به الولد لأن ولد الرجل من كسبه
ثم قال عز وجل * (سيصلى نارا ذات لهب) * يعني سيدخل في نار ذات لهب يعني ذات شعل
ثم قال عز وجل * (وامرأته حمالة الحطب) * يعني تدخل النار معه
قرأ عاصم * (حمالة الحطب) * بنصب الهاء ويكون على معنى الذم والشين ومعناه أعني حمالة الحطب
والباقون بالضم على معنى الابتداء
أو * (حمالة الحطب) * جعل نعتا له فقال * (حمالة الحطب) * يعني حمالة الخطايا والذنوب
ويقال * (حمالة الحطب) * يعني تمشي بالنميمة فسمى النميمة حطبا لأنه يلقي بين القوم العداوة والبغضاء
وكانت تمشي بالنميمة في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويقال كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالليل من بغضها لهم حتى
606

بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شدة وعناء
فحملت ذات ليلة حزمة شوك لكي تطرحها في طريقهم فوضعتها على جدار وشدتها بحبل من ليف على صدرها فأتاها جبريل عليه السلام ومده خلف الجدار وخنقها حتى ماتت فذلك قوله * (في جيدها حبل من مسد) * أي من ليف
وقال أكثر أهل التفسير * (في جيدها حبل من مسد) * يعني في الآخرة في عنقها سلسة من حديد وفوقها نار وتحتها نار
وروى سعيد بن جبير رضي الله عنه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال لما نزلت * (تبت يدا أبي لهب) * جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه لو تنحيت يا رسول الله فإنها امرأة بذية فقال النبي صلى الله عليه وسلم (سيحال بيني وبينها) فدخلت فلم تره فقالت لأبي بكر هجانا صاحبك فقال والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله قالت إنك لمصدق فاندفعت راجعة فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله ما رأتك فقال (لم يزل بيني وبينها ملك يسترني عنها حتى رجعت)
وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي يزيد بن زيد قال لما نزلت هذه السورة قيل لامرأة أبي لهب أن محمدا قد هجاك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الملأ وقالت يا محمد صلى الله عليه وسلم على ما تهجوني فقال (أما والله ما أنا هجوتك ما هجاك إلا الله تعالى) قالت هل رأيتني أحمل الحطب أو رأيت في جيدي حبل من مسد وقال مجاهد * (في جيدها حبل من مسد) * مثل حديد البكرة وقال غيره يعني عروة السلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا نسأل الله العفو والعافية و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم
607

سورة الإخلاص مختلف فيها وهي أربع آيات مكية
سورة الإخلاص 1 - 4
قول الله تبارك وتعالى * (قل هو الله أحد) * وذلك أن قريشا قالوا له صف لنا ربك الذي تعبده وتدعونا إليه ما هو فأنزل الله تعالى * (قل هو الله أحد) * يعني قل يا محمد للكفار إن ربي الذي أعبده * (هو الله أحد) * يعني فرد لا نظير له ولا شبيه ولا شريك ولا معين له
ثم قال عز وجل * (الله الصمد) * يعني الصمد الذي لا يأكل ولا يشرب
وقال السدي وعكرمة ومجاهد * (الصمد) * الذي لا جوف له وعن قتادة قال كان إبليس لعنه الله ينظر إلى آدم عليه السلام ودخل في فيه وخرج من دبره يعني حين كان صلصالا فقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال * (الصمد) * الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ويتضرعون إليه عند مسألتهم
وقال أبو وايل * (الصمد) * السيد الذي انتهى سؤدده وكذلك قال سعيد بن جبير
وقال الحسن البصري * (الصمد) * الدائم وقال قتادة * (الصمد) * الباقي ويقال الكافي
وقال محمد بن كعب القرظي * (الصمد) * الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
ويقال * (الصمد) * التام في سؤدده
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال * (الصمد) * الذي لا يخاف من فوقه ولا يرجو من تحته ويصمد إليه في الحوائج
ثم قال تعالى * (لم يلد ولم يولد) * يعني لم يكن له ولد يرث ملكه
* (ولم يولد) * يعني لم يكن له والد يرث عنه ملكه * (ولم يكن له كفوا أحد) * يعني لم يكن له نظير ولا شريك فينازعه في عظمته وملكه
وقال مقاتل إن مشركي العرب قالوا إن الملائكة كذا وكذا وقالت اليهود والنصارى في عزير والمسيح ما قالوا فكذبهم الله تعالى وأبرأ نفسه مما قالوا فقال * (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) * قرأ عاصم في رواية حفص * (كفوا) * بغير همزة وقرأ حمزة * (كفوا) * بسكون الفاء مهموزا والباقون بضم الفاء مهموزا بهمزة وكل ذلك يرجع إلى معنى واحد
وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال من قرأ * (قل هو الله أحد) * بعد صلاة الفجر إحدى عشرة مرة لم يلحقه ذنب يومئذ ولو اجتهد الشيطان
608

وروي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أيعجز أحدكم أن يقرأ القرآن في ليلة) فقيل يا رسول الله من يطيق ذلك قال (أن يقرأ قل هو الله أحد ثلاث مرات) وروي عن ابن شهاب عن الزهري رضي الله عنه قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من قرأ قل هو الله أحد مرة فكأنما قرأ ثلث القرآن)
والله أعلم
609

سورة الفلق مكية وهي خمس آيات
سورة الفلق 1 - 5
قوله تعالى * (قل أعوذ برب الفلق) * يعني قل يا محمد أعتصم وأستعيذ وأستعين بخالق الخلق و * (الفلق) * الخلق وأنما سمي الخلق فلقا لأنهم فلقوا من آبائهم
وأمهاتهم ويقال * (أعوذ برب الفلق) * يعني بخالق الصبح ويقال فالق الحب والنوى
قال الله تعالى * (إن الله فالق الحب والنوى) * [الأنعام 95] وقال * (فالق الإصباح) * [الأنعام 96] ويقال الفلق واد في جهنم ويقال جب في النار
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الفلق شجرة في جهنم فإن أراد الله أن يعذب الكافر بأشد العذاب يأمره أن يأكل من ثمرها)
وروي عن كعب الأحبار أنه دخل في بعض كنائس اللروم فقال أخس عمل وأضل قوم قد رضيت لكم بالفلق فقيل له ما الفلق يا كعب قال بئر في النار إذا فتح بابها صاح جميع أهل النار من شدة عذابها
ثم قال عز وجل * (من شر ما خلق) * يعني الجن والإنس
وقال الكلبي * (من شر ما خلق) * يعني من شر كل ذي شر
ثم قال عز وجل * (ومن شر غاسق إذا وقب) * يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار
ويقال * (إذا وقب) * يعني إذا جاء وأدبر
وقال القتبي الغاسق الليل والغسق الظلمة ويقال الغاسق القمر إذا انكسف واسود " وإذا وقب " يعني إذا دخل في الكسوف
ثم قال تعالى * (ومن شر النفاثات في العقد) * يعني الساحرات المؤاخذات المهيجات اللواتي ينفثن في العقد
ثم قال * (ومن شر حاسد إذا حسد) * يعني كل ذي حسد وإنما أراد به لبيد بن أعصم اليهودي ويقال لبيد بن عاصم
وروى الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم أنه قال سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود عقد له عقدا فاشتكى لذلك أياما فأتاه جبريل عليه السلام فقال له إن رجلا من اليهود سحرك فبعث عليا رضي الله عنه واستخرجها فحلها
610

فجعل كلما حل عقدة وجد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك خفة حتى حلها كلها فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال فما ذكر النبي ذلك لليهودي
وروي في خبر آخر أن لبيد بن أعصم اتخذ لعبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ من عائشة رضي الله عنها فجعل في اللعبة إحدى عشرة عقدة ثم ألقاها في بئر وألقى فوقها صخرة
فاشتكى من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا شديدا فصارت أعضاؤه مثل العقد
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين النائم واليقظان إذ أتاه ملكان أحدهما جلس عند رأسه والآخر عند قدميه فالذي عند قدميه
يقول للذي عند رأسه ما شكواه قال السحر
قال من فعل به قال لبيد بن أعصم اليهودي
قال فأين صنع السحر قال في بئر كذا
قال ماذا رأوه قال يبعث إلى تلك البئر فينزح ماؤها فإنه ينتهي إلى صخرة فإذا رأها فيلقلعها فإن تحتها كؤبة وهي كؤبة قد سقط عنقها وفي الكؤبة وتر فيه إحدى عشرة عقدة فيحرقها في النار فيبرأ إن شاء الله تعالى
فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد فهم ما قالا فبعث عليا وعمار بن ياسر رضي الله عنهما إلى تلك البئر في رهط من أصحابه فوجدوها كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم فنزلت هاتان السورتان وهما إحدى عشرة آية فكلما قرأ آية انحل منها عقدة حتى انحلت العقد كلها ثم أحرقها بالنار فبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروي في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال * (قل هو الله أحد) * و * (قل أعوذ برب الفلق) * و * (قل أعوذ برب الناس) * (ما سأل منها سائل ولا استعاذ مستعيذ بمثلها قط) وهذه الآية دليل أن الرقية جائزة إن كانت بذكر الله تعالى وبكتابه
والله أعلم
611

سورة الناس مكية وهي ست آيات
سورة الناس 1 - 6
قوله تعالى * (قل أعوذ برب الناس) * يقول أستعيذ بالله خالق الناس ويقال أستعيذ بالله الذي هو رازق الخلق
قوله تعالى * (ملك الناس) * يعني خالق الناس ومالكهم وله نفاذ الأمر والملك فيهم
ثم قال * (إله الناس) * يعني خالق الناس ومعطيهم ومانعهم * (من شر الوسواس) * يعني من شر الشيطان ويقال معناه أستعيذ بالله تعالى ليحفظني من شر الشيطان لأني لا أستطيع أن أحفظ نفسي من شره لأنه يجري في نفس الإنسان مجرى الدم ولا يراه بشر والله تعالى قادر على حفظي من شره ومن وسوسته
ثم وصف الشيطان فقال * (الخناس) * قال مجاهد هو منبسط على قلب الإنسان إذا ذكر الله خنس وانقبض فإذا غفل انبسط على قلبه
ويقال له خنوس كخنوس القنفذ
ثم قال * (الذي يوسوس في صدور الناس) * ويوسوسهم " من الجنة والناس " يعني يدخل في صدور الجن كما يدخل في صدور الإنس ويوسوس لهم
ويقال * (الناس) * في هذا الموضع يصلح للجن والإنس فإذا أراد به الجن فمعناه يوسوس في صدور المؤمنين الذين هم جن * (يوسوس في صدور الناس) * يعني
الذين هم من بني آدم
ويقال * (الناس) * معطوف على الوسواس ومعناه * (من شر الوسواس) * " ومن شر الناس " كما قال في آية أخرى * (شياطين الإنس والجن) * وقال مقاتل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له جبريل عليه السلام ألا أخبرك يا محمد صلى الله عليه وسلم بأفضل ما يتعوذ به قلت (وما هو) قال المعوذتان
وروى علقمة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما تعوذ المتعوذون بمثل المعوذتين)
وروي عن الحسن البصري في قوله " من الجنة والناس " قال إن من الناس شياطين ومن الجن شياطين فتعوذوا بالله من شياطين الجن والإنس وقال هما شيطانان
فأما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس
وأما شيطان الإنس فيأتي علانية
وروى أبو معاوية عن عثمان بن واقد قال أرسلني أبي إلى محمد بن المنكدر أسأله عن
612

المعوذتين أهما من كتاب الله تعالى قال من لم يزعم أنهما من كتاب الله تعالى فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين والله أعلم
و صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين ورسول رب العالمين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة والمقربين وأهل طاعتك أجمعين
ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
حسبنا الله ونعم الوكيل
ووافق الفراغ من كتابة هذا التفسير المبارك لمولانا الإمام العالم العلامة أبي الليث نصر بن إبراهيم السمرقندي رضي الله عنه آمين وأرضاه وجعل الجنة منقلبه ومثواه ونفعنا بعلومه ومدده وأسراره في الدارين آمين في يوم الأحد المبارك مستهل محرم الحرام افتتاح سنة اثنين وتسعين وتسعمائة المباركة
أحسن الله عاقبتها بمحمد وآله
613