الكتاب: تفسير الثعلبي
المؤلف: الثعلبي
الجزء: ٩
الوفاة: ٤٢٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور ، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠٢م
المطبعة: بيروت - لبنان - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

((سورة الأحقاف))
مكية. وهي خمسة وثلاثون آية وستمائة وأربع وأربعون كلمة. وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا
أخبرنا أبو جعفر كامل بن أحمد المفيد، أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد الحبري، حدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا سلام بن سليم، حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة الباهلي، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الأحقاف أعطي من الأجر بعدد كل نمل في الدنيا عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ويرفع له عشر درجات).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * ما خلقنا السماوات والارض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عمآ أنذروا معرضون * قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك فى السماوات ائتونى بكتاب من قبل هاذآ أو أثارة من علم إن كنتم صادقين * ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعآئهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كافرين * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جآءهم هاذا سحر مبين * أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بينى وبينكم وهو الغفور الرحيم) *) 2
" * (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون قل أرأيتم) *) في مصحف عبد الله (أرأيتكم). " * (ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب) *) من عند الله جاءكم.
" * (من قبل هذا) *) القرآن فيه بيان ما تقولون. " * (أو أثارة من علم) *) قرأه العامة بالألف واختلف العلماء في تأويلها، أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا مكي بن عبدان، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن صفوان بن سليم، عن أبي سلمة، عن ابن عباس
5

وأظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " * (أو أثارة من علم) *) قال: (الخط)، وقال ميمون بن مهران وأبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة: خاصة من علم. الحسن: أثارة من علم يستخرجوه فيثير.
مجاهد: رواية تأثرونها عمن كان قبلهم. عكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء (عليهم السلام).
محمد بن كعب القرضي: الإسناد وأصل الكلمة من الأثر وهي الرواية. يقال: نموت الحديث أثره، أثرا وأثارة، كالشجاعة، والجلادة، والصلابة، فما آثروا، ومنه قيل للخبر: أثر.
قال الأعشى:
إن الذي فيه تماريتما
بين للسامع والآثر
وقال الكلبي: بقية من علم. قال الأخفش: تقول العرب: لهذه الناقة أثارة من سمن، أي بقية. قال الراعي:
وذات أثارة أكلت عليها
بناتا في أكمتها قصارا
وقرأ علي بن أبي طالب ح " * (أو أثارة) *) بفتح (الألف) وسكون (الثاء) من غير (ألف). وقرأ السلمي " * (أو أثارة) *) بفتح (الهمزة) و (الثاء) من غير (ألف)، أي خاصة من علم أوتيتموه وأوثرتم بها على غيركم. وقول عكرمة: أو ميراث من علم.
" * (إن كنتم صادقين ومن أضل) *) أجهل. " * (ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم) *) يعني الأوثان. " * (عن دعائهم غافلون) *) لا يسمعون ولا يفهمون. فأخرجها وهي جماد مخرج ذكور بني آدم إذ كانت قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم.
" * (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) *) جاحدين وعنهم متبرئين. بيانه قوله: " * (تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) *).
" * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) *) إن عذبني على افترائي
6

" * (هو أعلم بما تفيضون) *) تخوضون. " * (فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم) *).
2 (* (قل ما كنت بدعا من الرسل ومآ أدرى ما يفعل بى ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى ومآ أنا إلا نذير مبين * قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنىإسراءيل على مثله فئامن واستكبرتم إن الله لا يهدى القوم الظالمين * وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونآ إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هاذآ إفك قديم * ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهاذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) *) 2
" * (قل ما كنت بدعا من الرسل) *) بديعا مثل نصف ونصيف، من الرسل، لست بأول مرسل، فلم تنكرون نبوتي؟ هل أنا إلا كالأنبياء قبلي؟ وجمع البدع: أبداع، قال عدي بن زيد:
فلا أنا بدع من حوادث تعتري
رجالا عرت من بعد بؤسي وأسعدي
" * (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) *) اختلف العلماء في معنى هذه الآية وحكمها، فقال بعضهم: معناها وما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة. فلما نزلت هذه الآية فرح المشركون فرحا شديدا، وقالوا: واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد صلى الله عليه وسلم عند الله إلا واحد، وما له علينا من مزية وفضل، ولولا إنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به. فأنزل الله تعالى " * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *).
فبين له أمره ونسخت هذه الآية، فقالت الصحابة: هنيئا لك يا نبي الله، قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: " * (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) *) الآية. وأنزل " * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) *) فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم. وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني، حدثنا إسماعيل بن داود، حدثنا هارون بن سعيد، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن أبي شهاب إن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره أن أم العلاء امرأة من الأنصار قد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته أنهم اقتسموا والمهاجرين سكناهم قرعة
7

قالت: فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه أبياتنا موضعه الذي توفي فيه، فلما توفي غسل وكفن في أثوابه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لعثمان بن مظعون: رحمة الله عليك أبا السائب، لقد أكرمك الله، فقال رسول الله: (وما يدريك إن الله تعالى أكرمه).
قالت: فقلت: بأبي أنت وأمي لا أدري. قال: (أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيرا. فوالله إني لأرجو له الجنة، فوالله ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي). قالت: فوالله لا أزكي بعده أحدا.
قالوا: وإنما قال هذا حين لم يخبر بغفران ذنبه، وإنما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بسنتين وشئ، وقال ابن عباس: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رسول الله فيما يرى النائم وهو بمكة أرضا ذات سباخ ونخل رفعت له، يهاجر إليها.
فقال له أصحابه وهم بمكه: إلى متى نكون في هذا البلاء الذي نحن فيه؟ ومتى نهاجر إلى الأرض التي أريت. فسكت.
فأنزل الله تعالى: " * (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) *) أترك في مكاني أو أخرج إلى الأرض التي رفعت لي، وقال بعضهم: معناها: ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم، إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا؟
أنبأني عقيل بن محمد، أخبرنا المعافى بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير، أخبرنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا أبو بكر الهذل، عن الحسن. في قوله تعالى: " * (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) *)، فقال: أما في الآخرة فمعاذ الله قد علم إنه في الجنه حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال: " * (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم) *) في الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم، أمتي المكذبة أم المصدقة، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا أم مخسوف بها خسفا.
ثم أنزل الله تعالى: " * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) *). يقول: سيظهر دينكم على الأديان. ثم قال في أمته: " * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) *) فأخبره الله تعالى ما يصنع به وبأمته. وهذا قول السدي واليماني، وقال الضحاك: " * (ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم) *) أي ما تؤمرون وما تنهون عنه.
8

" * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله) *).
قال قتادة والضحاك وابن زيد: هو عبد الله بن سلام شهد على نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم " * (فآمن واستكبرتم) *) اليهود، فلم يؤمنوا.
أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أخبرنا عبدوس بن الحسين بن منصور، حدثنا محمد بن إدريس يعني الحنظلي، وأخبرنا عبد الله بن حامد، حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي، حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق، حدثنا عمر بن محمد بن عبد الله الأنصاري.
حدثني حميد الطويل، عن أنس، قال: جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟، وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟، والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟.
قال: (أخبرني جبريل بهن آنفا) قال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة.
قال: (أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة مرارة كبد حوت، فأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت الولد).
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسائلهم عني بهتوا علي عندك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (أي رجل عبد الله فيكم؟) قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: (أرأيتم إن أسلم عبد الله). قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. قالوا: شرنا وابن شرنا. وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر.
ودليل هذا التأويل أنبأني عقيل بن محمد أن المعافى بن زكريا أخبرهم، عن محمد بن جرير، أخبرنا يونس، أخبرنا عبد الله بن يوسف السبكي قال: سمعت مالك بن أنس يحدث، عن أبي النضر، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام.
9

قال: وفيه نزلت " * (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله) *).
وقال آخرون: هو موسى بن عمران (عليه السلام).
وروى الشعبي، عن مسروق في هذه الآية، قال: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأن ل " * (حم) *) نزلت بمكة، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة، وإنما كانت محاجة من رسول الله لقومه، فأنزل الله تعالى هذه الآية ومثل القرآن التوراة، فشهد موسى على التوراة، ومحمد على القرآن، وكلاهما مصدق أحدهما الآخر، وقيل: هو ابن يامين.
وقيل: هو نبي من بني إسرائيل " * (فآمن واستكبرتم) *) فلم يؤمنوا.
" * (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *) لدينه وحجته، وقال أهل المعاني: هذه الآية محذوفة الجواب مجازها " * (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله) *) من المحق منا ومنكم، ومن المبطل؟
" * (وقال الذين كفروا) *) من اليهود. " * (للذين آمنوا لو كان) *) دين محمد " * (خيرا ما سبقونا إليه) *) يعني عبد الله بن سلام وأصحابه، قاله أكثر المفسرين، وقال قتادة: نزلت هذه الآية في ناس من مشركي قريش، قالوا: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه فلان، وفلان " * (يختص برحمته من يشاء) *).
وقال الكلبي: " * (وقال الذين كفروا) *) يعني أسدا وغطفان " * (للذين آمنوا) *) يعني جهينة ومزينة. " * (لو كان) *) ما جاء به محمد " * (خيرا) *) ما سبقنا إليه رعاء البهم ورذال الناس.
قال الله تعالى: " * (وإذ لم يهتدوا به) *) أي بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان. " * (فسيقولون هذا إفك قديم) *) كما قالوا: أساطير الأولين. " * (ومن قبله) *) أي ومن قبل القرآن.
" * (كتاب موسى إماما) *) يؤتم به. " * (ورحمة) *) لمن آمن وعمل به، ونصبا على الحال، عن الكسائي، وقال أبو عبيدة: فيه إضمار أي أنزلناه أو جعلناه إماما ورحمة. الأخفش على القطع لأن قوله: " * (كتاب موسى) *) معرفة بالإضافة، والنكرة إذا أعيدت وأضيفت أو أدخلت عليها الألف واللام، صارت معرفة.
" * (وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا) *) نصب على الحال، وقيل: أعني لسانا. وقيل: بلسان. " * (لينذر) *) (بالتاء) مدني وشامي ويعقوب وأيوب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم على خطاب النبي (عليه السلام)، وقرأ الباقون (بالياء) على الخبر عنه. وقيل: عن الكتاب.
" * (الذين ظلموا) *) أنفسهم بالكفر والمعصية. " * (وبشرى للمحسنين) *) وجهان من الإعراب
10

الرفع على العطف على الكتاب مجازه " * (وهذا كتاب مصدق) *) وبشرى، والنصب على معنى " * (لتنذر الذين ظلموا) *) أو تبشر. فلما جعل مكان وتبشر وبشرى أو وبشارة نصب كما يقال: أتيتك لأزورك وكرامة لك، وقضاء حقك يعني لازورك وأكرمك وأقضي حقك، فنصبت الكرامة والقضاء بفعل مضمر.
2 (* (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أولائك أصحاب الجنة خالدين فيها جزآء بما كانوا يعملون * ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنىأن أشكر نعمتك التىأنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لى فى ذريتىإنى تبت إليك وإنى من المسلمين * أولائك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم فىأصحاب الجنة وعد الصدق الذى كانوا يوعدون * والذى قال لوالديه أف لكمآ أتعداننى أن أخرج وقد خلت القرون من قبلى وهما يستغيثان الله ويلك ءامن إن وعد الله حق فيقول ما هاذآ إلا أساطير الاولين * أولائك الذين حق عليهم القول فىأمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين * ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون * ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون فى الارض بغير الحق وبما كنتم تفسقون * واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إنىأخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا أجئتنا لتأفكنا عن ءالهتنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين * قال إنما العلم عند الله وأبلغكم مآ أرسلت به ولاكني أراكم قوما تجهلون * فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هاذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شىء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزى القوم المجرمين) *) 2
" * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ووصينا الانسان بوالديه إحسانا) *) قرأ العامة: (حسنا) بدون ألف، وقرأ أهل الكوفة: (إحسانا) وهي قراءة ابن عباس.
" * (حملته أمه كرها) *) بكره ومشقة. " * (ووضعته كرها وحمله وفصاله) *) وفطامه، وقرأ الحسن
11

ويعقوب: (وفصله) بغير ألف. " * (ثلاثون شهرا) *) قال المفسرون: حمله ستة أشهر ورضاعه أربعة وعشرون شهرا.
وقال ابن إسحاق: حمله تسعة أشهر وفصاله من اللبن لأحد وعشرين شهرا.
" * (حتى إذا بلغ أشده) *) نهاية قوته وقامته وغاية شبابه واستوائه وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة، فذلك قوله تعالى: " * (وبلغ أربعين سنة) *) قال السدي والضحاك: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص. وقد مضت القصة، وقال الآخرون: نزلت في أبي بكر الصديق ح وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرة، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو بن عامر، فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال لربه: إني تبت إليك وإني من المسلمين.
أخبرنا ابن منجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا إسحاق بن صدقة، حدثنا عبد الله بن هاشم، عن سيف بن عمر، عن عطية، عن أبي أيوب، عن علي ح في قوله: " * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) *) نزلت في أبي بكر، أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من أصحاب رسول الله (من) المهاجرين (أسلم) أبواه غيره، أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده.
" * (قال رب أوزعني) *) ألهمني وأوسعني. " * (أن أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي) *) أن تجعلهم مؤمنين صالحين. قالوا: فأجاب الله تعالى أبا بكر في أولاده فأسلموا، ولم يكن أحد من الصحابة أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته إلا أبو بكر ح.
" * (إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) *) يعني أعمالهم الصالحة فيثيبهم عليها.
" * (ونتجاوز عن سيئاتهم) *) فلا يعاقبهم بها. " * (في أصحاب الجنة) *) أي مع أصحاب الجنة، و (في) بمعنى مع " * (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) *) وهو قوله: * (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) * * (والذي قال لوالديه) *) إذا دعوه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث والجزاء. " * (أف لكما) *) وهي كلمة كراهية.
" * (أتعدانني) *) قراءة العامة (بنونين) حقيقيتين، وروى أهل الشام (بنون) واحدة مشددة " * (أن أخرج) *) من قبري حيا بعد فنائي وبلائي. " * (وقد خلت) *) مضت " * (القرون من قبلي) *) فلم يبعث منهم أحد. وقرأ الحسن والأعمش وأبو معمر أن أخرج بفتح وضم (الراء).
" * (وهما يستغيثان الله) *) يستصرخان الله ويستغيثانه عليه ويقولان له: " * (ويلك آمن إن وعد
12

الله حق فيقول ما هذا) *) الذي تعدانني وتدعوانني إليه. " * (إلا أساطير الاولين) *) قال ابن عباس وأبو العالية والسدي ومجاهد: نزلت هذه الآية في عبد الله. وقيل: في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. قال له أبواه: أسلم وألحا عليه في دعائه إلى الإيمان. فقال: أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقولون.
قال محمد بن زياد: كتب معاوية إلى مروان حتى يبايع الناس ليزيد، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم؟
فقال مروان: هذا الذي يقول الله تعالى فيه: " * (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني) *)... الآية. فسمعت عائشة خ بذلك فغضبت، وقالت: والله ما هي به، ولو شئت لسميته ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه فأنت نضض من لعنة الله.
" * (أولئك الذين حق عليهم القول) *) وجب عليهم العذاب. قالوا: يعني الذين أشار عليهم ابن أبي بكر، وقال أحيوهم إلي، هم الذين حق عليهم القول، وهم الماضون بقوله: " * (وقد خلت القرون من قبلي) *)، فإما ابن أبي بكر فقد أجاب الله تعالى فيه دعاء أبيه بقوله: " * (وأصلح لي في ذريتي) *) فأسلم وحسن إسلامه.
وقال الحسن وقتادة: هذه الآية مرسلة عامة، وهي نعت عبد كافر فاجر عاق لوالديه. " * (في أمم) *) مع أمم. " * (قد خلت من قبلهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين ولكل) *) واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين.
" * (درجات مما عملوا) *) منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بإعمالهم فيجازيهم عليها، وقال ابن زيد: في هذه الآية درج أهل النار تذهب سفالا، ودرج أهل الجنة تذهب علوا. " * (وليوفيهم) *) أجورهم (بالياء) مكي وبصري وهشام، والباقون (بالنون).
" * (أعمالهم وهم لا يظلمون ويوم يعرض الذين كفروا على النار) *) فيقال لهم: " * (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) *) قرأ أبو جعفر وابن كثير ويعقوب (أذهبتم طيباتكم) بالاستفهام، واختلف فيه عن أهل الشام، وغيرهم بالخبر، وهما صحيحتان فصيحتان لأن العرب تستفهم بالتوبيخ وتترك الاستفهام فيه. فتقول: أذهبت ففعلت كذا وكذا؟، وذهبت ففعلت وفعلت؟
" * (فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الارض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) *) أخبرنا ابن محمد بن الحسين بن منجويه، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الكرابيسي، حدثنا حميد بن الربيع، حدثنا أبو معمر
13

حدثنا عبد الوارث، حدثنا محمد بن حجارة، عن حميد الشامي، عن سليمان، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رسول الله إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة عليها السلام.
فلما قدم من غزوة فأتاها فإذا لمح وقيل: لمح على بابها ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة، فرجع ولم يدخل عليها، فلما رأت ذلك فاطمة ظنت إنه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين، فقطعتهما، فبكى الصبيان، فقسمته بينهما نصفين، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يبكيان، فأخذه رسول الله منهما، وقال: (يا ثوبان إذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج) قال: (فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في الحياة الدنيا).
أنبأني عقيل بن محمد، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير، حدثنا كثير، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا صاحب لنا، عن أبي هريرة، قال: إنما كان طعامنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسودان: الماء، والتمر، والله ما كنا نرى سمراكم هذه ولا ندري ما هي. وبه عن قتادة، عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس الأشعري، عن أبيه، قال: أي بني لو شهدتنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم إذا أصابتنا السماء حسبت إن ريحنا ريح الضأن، إنما كان لباسنا الصوف.
وبه عن قتادة، قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب ح كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي. وذكر لنا أنه لما قدم الشام صنع له طعام لم ير قبله مثله. قال: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد ابن الوليد: لهم الجنة. فاغرورقت عينا عمر، وقال: لئن كان حظنا في الحطام وذهبوا فيما أرى أنا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا. وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصفة، مكانا يجتمع فيه فقراء المسلمين وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا.
قال: أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى، ويغدى عليه بحفئة ويراح عليه بأخرى، ويستر بيته كما يستر الكعبة؟ قالوا: نحن يومئذ خير.
أخبرنا الحسين بن منجويه، حدثنا محمد بن أحمد بن نصرويه، حدثنا أبو العباس أحمد ابن موسى الجوهري، حدثنا علي بن سهل الرملي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني رزق أبو الهذيل، حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب ح أنه حدثه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هجر نساءه فوافاه على سرير رميل، يعني مرمولا مشدودا، قد أثر الحصير في جنبه، متوسد وسادة من أدم محشوة ليف.
14

فقال عمر: والتفت في البيت فوالله ما رأيت شيئا يرد البصر إلا أهب يعني جلدا معطوبة قد سطع ريحها، فبكيت، فقلت: يا رسول الله أنت رسول الله وخيرته، فيما أرى وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟ فاستوى رسول الله جالسا، وقال: (أوفي شك أنت يا بن الخطاب؟) (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا).
أخبرنا ابن منجويه الدينوري، حدثنا عبيد الله بن محمد بن عتبة، حدثنا الفرماني، حدثنا أبو أمية الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مبارك بن فضالة، حدثنا حفص بن أبي العاص، قال: كنت أتغدى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغدينا الخبز والزيت والخل، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم العريض، وكان يقول: (لا تنخلوا الدقيق فإنه كله طعام). فيجىء بخبز منقلع غليظ، فجعل يأكل ويقول لنا: كلوا. فجعلنا نعتذر، فقال: ما لكم لا تأكلون؟ فقلت: لا نأكله والله يا أمير المؤمنين، نرجع إلى طعام ألين من طعامك.
قال: بخ يا بن أبي العاص، ألا ترى أني عالم بأن آمر بدقيق أن ينخل بخرقة فيخبز في كذا، وكذا؟ أما ترى أني عالم إن آمر إلى عناق سمينة فيلقى عنها شعرها، ثم تخرج صلاء كأنه كذا وكذا؟ أما ترى أني عالم أن أعمل إلي صاع أو صاعين من زبيب فاجعله في سقاء ثم أرش عليه من الماء فيطبخ كإنه دم غزال؟
قال: قلت: والله يا أمير المؤمنين إني لأراك عالما بطيب العيش، فقال عمر: أجل، والله الذي لا إله إلا هو لولا إني أخاف أن ينقص من حسناتي يوم القيامة لشاركتكم في العيش، ولكني سمعت الله يقول لقوم: " * (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعم بها) *).
أخبرنا ابن منجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن بكار الريان، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن قيس، عن جابر بن عبد الله. قال: اشتهى أهلي لحما، فمررت بعمر بن الخطاب ح، فقال: ما هذا يا جابر؟ فقلت: أشتهي أهلي لحما، فاشتريت لحما بدرهم. فقال: أوكلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه؟ أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية " * (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) *)؟
أخبرنا ابن منجويه، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا بشر، حدثنا ابن أبي الخصيب، أخبرني أحمد بن محمد بن أبي موسى، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا أبي، قال: قال وهب بن الورد: خلق ابن آدم والخبز معه، فما زاد على الخبز ينمو شهوة. قال: فحدثت به أبا سليمان. فقال: صدق، الملح مع الخبز شهوة.
" * (واذكر أخا عاد) *) يعني هود (عليه السلام)
15

" * (إذ أنذر قومه بالاحقاف) *) قال ابن عباس: الأحقاف واد بين عمان ومهرة. مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له: مهرة إليها تنسب الجمال، فيقال: إبل مهرية ومهاري، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم.
وقال الضحاك: الأحقاف جبل بالشام. مجاهد: هي أرض جساق من جسمي. قتادة: ذكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشحر. ابن زيد: هي ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا.
الكلبي: الأحقاف ما نضب عنه الماء زمان الغرق، كان ينضب الماء من الأرض ويبقى أثره. الخليل: هي الرمال العظام. الكسائي: هي ما استدار من الرمل، وواحدها حقف وحقاف، مثل دبغ ودباغ، ولبس ولباس. وقيل: الحقاف جمع الحقف، والأحقاف جمع الجمع.
ونظير حقف أحقاف شبر وأشبار. قال الأعشى:
فبات إلى أرطاة حقف تلفه
حريق شمال يترك الوجه أقتما
وقال: بنا بطن حرى ذي حقاف عقنقل. ويقال: حقف أحقف أي رمل متناه في الاستدار. قال العجاج: بات إلى إرطاة حقف أحقفا، والفعل منه أحقف. قال الراجز:
سماوة الهلال حتى احقوقفا. أي انحنى واستدار.
" * (وقد خلت النذر) *) مضت الرسل. " * (من بين يديه) *) أي قبل هود. " * (ومن خلفه) *) وهي في قراءة عبد الله " * (ومن بعده) *). " * (ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا أجئتنا لتأفكنا) *) لتصرفنا. " * (عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا) *) من العذاب. " * (إن كنت من الصادقين قال إنما العلم) *) بوقت مجيء العذاب.
" * (عند الله) *) لا عندي وإنما أنا مبلغ. " * (وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه) *) يعني العذاب. " * (عارضا) *) نصب على الحال، وإن شئت بالتكرير أي رأوه عارضا وهو السحاب، سمي بذلك لأنه يعرض أي يبدو في عرض السماء.
قال مجاهد: استعرض بهم الوادي. قال الأعشى:
يا من يرى عارضا قد بت أرمقه
كإنما البرق في حافاته الشعل
قال المفسرون: ساق الله تعالى السحابة السوداء التي اختار قيل بن عتز رأسه وقد عاد بما
16

فيها من النقمة إلى عاد فخرجت عليهم من واد لهم يقال له: المغيث. وكانوا قد حبس عنهم المطر أياما، فلما رأوها.
(قالوا: هذا عارض ممطرنا حتى عرفت أنها ريح امرأة منهم يقال لها مهدر فصاحت وصعقت، فلما أفاقت قيل لها: ما رأيت؟ قالت: ريحا فيها كشهب النار).
" * (مستقبل أوديتهم) *) استبشروا بها.
" * (قالوا هذا عارض ممطرنا) *) يقول الله تعالى: " * (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) *) فجعلت تحمل الفسطاط، وتحمل الظعينة، فترفعها حتى ترى كأنها جرادة.
أخبرنا ابن منجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن منصور الكسائي، حدثنا الحارث بن عبد الله، حدثنا هشيم، عن جويبر، حدثنا أبو داود الأعمى، عن ابن عباس في قول الله تعالى: " * (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم) *) الآية، قال: لما دنا العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنها عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم، من رحالهم، ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض، مثل الرشا، قالوا: فدخلوا بيوتهم، وأغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح فغلقت أبوابهم وصرعتهم، وأمر الله تعالى الريح فأهالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال، وثمانية أياما حسوما لهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال ثم أمرها فاحتملتهم، فرمت بهم في البحر.
فهم الذين يقول الله تعالى: " * (تدمر كل شيء بأمر ربها) *) مرت به من رجال عاد وأموالها بأذن ربها. أخبرنا ابن منجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل، حدثنا أبو هشام، حدثنا حفص، عن ابن جريح، عن عطاء، عن عائشة خ قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الريح فزع، وقال: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به).
فإذا رأى مخيلة قام، وقعد، وجاء، وذهب، وتغير لونه، فنقول: يا رسول الله، فيقول: (إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد، حيث قالوا هذا عارض ممطرنا).
" * (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) *) قرأ الحسن (لا ترى) بتاء مضمومة " * (إلا مساكنهم) *) برفع (النون). ومثله روى شعيب بن أيوب، عن يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم. قال أبو حاتم: هذا لا يستقيم في اللغة إلا إن أول فيه إضمار كما تقول في الكلام: لا ترى
17

النساء إلا زينب، ولا يجوز لا ترى إلا زينب، وقال سيبويه: معناه (لا ترى) أشخاصهم. " * (إلا مساكنهم) *) وأجرى الفراء هذه الآية على الاستكراه، وذكر أن المفضل أنشده:
نارنا لم تر نارا مثلها
قد علمت ذاك معد كرما
فأنث فعل مثل لأنه للنار، قال: وأجود الكلام أن يقول: لم تر مثلها نار.
وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة ويعقوب وخلف (بياء) مضمومة " * (مساكنهم) *) رفعا واختاره أبو عبيدة رفعا وأبو حاتم. قال الكسائي: معناه لا يرى شيء إلا مساكنهم.
وقال الفراء: لا يرى الناس لأنهم كانوا تحت الرمل، فإنما يرى مساكنهم لأنها قائمة. وقرأ الباقون (ترى) (بتاء) مفتوحة (مساكنهم) نصبا على معنى (لا ترى) يا محمد (إلا مساكنهم).
" * (كذلك نجزي القوم المجرمين) *))
.
* (ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شىء إذ كانوا يجحدون بئايات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الايات لعلهم يرجعون * فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ءالهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم
وما كانوا يفترون * وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا ياقومنآ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدىإلى الحق وإلى طريق مستقيم * ياقومنآ أجيبوا داعى الله وءامنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الارض وليس له من دونه أوليآء أولائك فى ضلال مبين) *) 2
" * (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) *) أي فيما لا يمكنكم فيه من بسطة الأجسام، وقوة الأبدان، وطول العمر، وكثرة المال.
" * (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ولقد أهلكنا ما حولكم) *) يا أهل مكة.
" * (من القرى) *) كحجر ثمود، وأرض سدوم ونحوهما.
" * (وصرفنا الايات) *) الحجج والبينات وأنواع العبر والعظات " * (لعلهم يرجعون) *) عن كفرهم، فلم يرجعوا، فأهلكناهم، يخوف مشركي قريش. " * (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون
18

الله قربانا آلهة) *) يعني الأوثان، قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة، ونسكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين.
" * (بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم) *) أي كذبهم الذي كانوا يقولون: إنها تقربهم إلى الله تعالى، وتشفع لهم عنده. وقرأ ابن عباس وابن الزبير " * (ذلك إفكهم) *) بفتح (الألف) و (الفاء) على الفعل، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. وقرأ عكرمة " * (إفكهم) *) بتشديد (الفاء) على التأكيد والتفسير. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم. ودليل قراءة العامة قوله: " * (وما كانوا يفترون) *).
" * (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) *) الآية. قال المفسرون: لما مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس ثقيف النصرة، والمنعة له من قومه، فروى محمد بن أحمد عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم اخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمر بن عمير، عندهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله تعالى وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال أحدهم، هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله تعالى أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحد يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: (إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموه).
وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه فيديرهم عليه ذلك، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم، وعبيدهم يسبونه، ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة، وشيبة ابني ربيعة، هما فيه، ورجع عنه سفهاء ثقيف.
ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة من بني جمح، فقال لها: (ماذا لقينا من أحمائك؟).
فلما اطمئن رسول الله، قال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك علي غضب، فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع، وأعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، ويحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول، ولا قوة إلا بك).
19

فلما رأى أبناء ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له: عداس. فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وضع رسول الله يده، قال: (بسم الله).
ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. قال له رسول الله: (ومن أي أهل البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟). قال: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال له رسول الله: (من قرية الرجل الصالح يونس بن متى). قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال له رسول الله: (ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي). فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه، ويديه، ورجليه.
قال: فيقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه، أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهم عداس، قالا له: ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل، ويديه، ورجليه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا، لقد خبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. فقال: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة حتى يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلي، فمر به نفر من جن أهل نصيبين اليمن، وكان سبب ذلك أن الجن كانت تسترق السمع، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب. قال إبليس: إن هذا الذي حدث في السماء لشيء في الأرض، فبعث سراياه لتعرف الخبر، فكان أول بعث بعث ركب من أهل نصيبين وهم أشراف الجن وساداتهم، فبعثهم إلى تهامة، فاندفعوا حتى بلغوا وادي نخلة، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه يصلي صلاة الغداة، ببطن نخلة ويتلو القرآن، فاستمعوا إليه، وقالوا: أنصتوا. هذا معنى قول سعيد بن جبير وجماعة من أئمة الخبر، ورواية العوفي عن ابن عباس، وقال آخرون: بل أمر رسول الله أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى، ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرا من الجن من
نينوى وجمعهم له، فقال رسول الله: (إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني؟) فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة، فاتبعه عبد الله بن مسعود، قال عبد الله: ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له: شعب الحجون وخط إلي خطا، ثم أمرني أن أجلس فيه.
قال: (لا تخرج منه حتى أعود إليك). ثم انطلق حتى قام وافتتح القرآن فجعلت أرى أمثال
20

النسور تهوي تمشي في رفوفها، وسمعت لغطا شديدا، حتى خفت على نبي الله، وغشيته أسورة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب داهنين، ففزغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، ثم انطلق إلي، وقال: (أنمت؟) فقلت: لا والله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك. تقول: (اجلسوا).
قال: (لو خرجت لم آمن أن يتخطفك بعضهم).
ثم قال: (هل رأيت شيئا؟). قلت: نعم رأيت رجالا سودا مسفري ثياب بيض. فقال: (أولئك جن نصيبين سألوني المتاع) والمتاع الزاد (فمتعتهم بكل عظم حائل وبعرة وروثة).
فقالوا: يا رسول الله يقذرها الناس علينا. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث. قال: فقلت: يا رسول الله وما يعني ذلك عنهم؟ قال: (إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمة يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت).
فقلت: يا رسول الله، لغطا شديدا. فقال: (إن الجن يدارك في قتيل قتل بينهم) وقيل: قتل (فتحاكموا إلي، فقضيت بينهم بالحق). قال: ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاني فقال: (هل معك ماء؟). قلت: يا رسول الله معي أداوة فيها شيء من نبيذ التمر، فاستدعاه فصببت على يديه فتوضأ.
وقال: (تمرة طيبة وماء طهور). قال قتادة: فذكر لنا ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخا شمطا من الزط، فأفزعوه حين رآهم. وقال: اظهروا. فقيل له: إن هؤلاء قوم من الزط، فقال: ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الجن.
قال: أخبرنيه ابن منجويه، حدثنا ابن حنش المقري، حدثنا ابن زنجويه، حدثنا سلمة، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة بمثل معناه إلا إنه لم يذكر قصة نبيذ التمر.
أخبرنا الحسين بن محمد الحديثي، حدثنا محمد بن الحسن الصوفي، حدثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن ذريح، حدثنا مسروق بن المرزبان، حدثنا ابن أبي زائدة، حدثنا داود بن أبي هند، عن علقمة، قال: سألت عبد الله بن مسعود، هل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الجن؟.
فقال: لا لم يصحبه منا أحد. ولكنا فقدناه ذات ليلة، فقلنا استطير أو اغتيل، فتفرقنا في الشعاب والأودية نلتمسه، فلما أصبحنا رأيناه مقبلا من نحو حراء.
فقلنا: يا رسول الله، بتنا بشر ليلة بات بها قوم، نقول: استطير أو اغتيل.
فقال: (إنه أتاني داع من الجن، فذهبت أقرئهم القرآن). قال: وأراني آثارهم وآثار نيرانهم. قال: (فسألوه ليلتيئذ الزاد).
21

فقال: (فكل عظم لم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحما، والبعر لدوابكم).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تستنجوا بالعظام ولا بالبعر فإنه زاد إخوانكم من الجن) (14).
أخبرنا أبو عبد الله بن منجويه، حدثنا أبو بكر بن خرجه، حدثنا محمد بن أيوب، أخبرنا سلمان بن داود الشاذكوي، عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن خالد الحذاء، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لم أكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وودت أني كنت معه.
أخبرنا ابن منجويه، حدثنا موسى بن محمد بن علي، حدثنا يوسف بن يعقوب القاضي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سألت أبا عبيدة بن عبد الله، أكان عبد الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا. قال: وسألت إبراهيم. فقال: ليت صاحبنا كان ذاك.
قوله تعالى: " * (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن) *) اختلفوا في مبلغ عددهم، فقال ابن عباس: كانوا سبعة نفر من جن نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم: / /
أخبرنا ابن منجويه، حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، وعبيد الله بن أحمد بن يعقوب، قالا: أخبرنا أبو بكر بن مجاهد، حدثني أحمد بن حرب، حدثنا سنيد، حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريح: أخبرني وهب بن سلمان، عن شعيب الحماني. إن أسماء الجن الذين صرفهم الله تعالى إلى رسوله شاصر، وماصر، ومنشي، وماشي، والأحقب وقال آخرون: كانوا تسعة.
أخبرني أبو علي السراج، أخبرنا أبو بكر القطان، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، قال: ذكر سفيان، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم.
" * (فلما حضروه قالوا أنصتوا) *) قالوا: صه. وبإسناده عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ثابت بن قطبة الثقفي، قال: جاء أناس إلى عبد الله بن مسعود، قالوا: كنا في سفر فرأينا حية متشحطة في دمها مقتولة، فأخذها رجل منا، فواريناها، فلما ولوا جاءهم ناس، فقالوا: إنكم دفنتم عمرا، فقالوا ومن عمر؟ قالوا: الحية التي دفنتم في مكان كذا وكذا. أما إنه كان من النفر
22

الذين استمعوا القرآن من النبي (عليه السلام) وكان بين حيتين من الجن من المسلمين وغيرهم، فزال، فقتل.
أخبرنا ابن منجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل، حدثنا سهل بن حمزة، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن أبي ثعلبة الحشي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الجن على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواءو وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون).
فلما حضروه، قالوا: قال: بعضهم لبعض أنصتوا، فأنصتوا واستمعوا القرآن، حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم، نظيرما في سورة الجن.
" * (فلما قضي) *) فرغ من تلاوة القرآن واستماع الجان. وقرأ لاحق بن حميد (قضى) بفتح (القاف) و (الضاد)، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
" * (ولوا إلى قومهم منذرين) *) مخوفين داعين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم
" * (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله) *) يعني محمد صلى الله عليه وسلم
" * (وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) *)
قال ابن عباس: فاستجاب لهم من فوقهم نحو من سبعين رجلا من الجن فرجعوا إلى رسول الله فوافقوه بالبطحاء. فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم. واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن، فقال قوم: ليس لمؤمني الجن ثواب إلا نجاتهم من النار، وتأولوا قوله تعالى: " * (يغفر لكم ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) *) وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة.
أخبرنا الحسين بن محمد بن منجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الحسن بن نجيويه، حدثنا عمرو بن ثور، وإبراهيم بن أبي سفيان، قالا: حدثنا محمد بن يوسف الفرباني، حدثنا سفيان، عن ليث، قال: الجن ثوابهم أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم.
وقال آخرون: إن كان عليهم العقاب في الإساءة وجب أن يكون لهم الثواب في الإحسان مثل الإنس. وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى.
أخبرنا أبو عبد الله الثقفي الدينوري، حدثنا أبو علي بن حبش المقري، حدثنا محمد بن عمران، حدثنا ابن المقري وأبو عبيد الله. قالا: حدثنا العبدي، عن سفيان، عن جويبر، عن الضحاك، قال: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون
23

" * (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين) *))
.
* (أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والارض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحى الموتى بلى إنه على كل شىء قدير * ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هاذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) *) 2
" * (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والارض ولم يعي بخلقهن) *) لم يضعف عن إبداعهن، ولم يعجز عن اختراعهن. " * (بقادر) *) قراءة العامة (بالباء) و (الألف) على الاسم واختلفوا في وجه دخول (الباء) فيه، فقال أبو عبيدة والأخفش: هي صلة، كقوله: " * (تنبت بالدهن) *) وقال الحارث بن حلزة:
قيل ما اليوم بيضت بعيون
الناس فيها تغيظ وإباء
أراد بيضت عيون الناس.
وقال الكسائي والفراء: (الباء) فيه جلبت الاستفهام والجحد في أول الكلام، كقوله: " * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر) *). والعرب تدخلها في الجحود، إذا كانت رافعة لما قبلها، كقول الشاعر:
فما رجعت بخائبة ركاب
حكيم بن المسيب منتهاها
وقرأ الأعرج وعاصم الجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب بن إسحاق " * (يقدر) *) (بالياء) من غير (ألف) على الفعل، واختار أبو عبيد قراءة العامة لأنها في قراءة عبد الله " * (خلق السماوات والأرض قادر) *) بغير (باء).
" * (على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ويوم يعرض الذين كفروا على النار) *) فيقال لهم: " * (أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال) *) لهم المقرر بذلك " * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) *).
قال ابن عباس: ذوو الحزم. ضحاك: ذوو الجد والصبر. القرظي: ذوو الرأي
24

والصواب. واختلفوا فيهم، فقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم، ولم يتخذ الله رسولا، إلا كان ذا عزم، وهو اختيار علي بن مهدي الطبري، قال: وإنما دخلت " * (من) *) للتجنيس لا للتبعيض، كما يقال: اشتريت أكسية من الخز، وأردية من البز. حكاها شيخنا أبو القاسم بن حبيب عنه.
وقال بعضهم: كل الأنبياء (عليهم السلام) أولوا عزم، إلا يونس، ألا ترى إن نبينا صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يكون مثله، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولى من قومه مغاضبا، فابتلاه الله بثلاث: سلط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله، وسلط الذئب على ولده فأكلهم، وسلط الحوت عليه حتى ابتلعه.
سمعت أبا منصور الجمشاذي يحكيها، عن أبي بكر الرازي، عن أبي القاسم الحكيم. وقيل: هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر، وهو اختيار الحسين بن الفضل، قال: لقوله في عقبه: " * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) *).
وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة، وجاهدوا الكفرة بالبراءة، وجاهدوهم. أخبرنا ابن منجويه الدينوري، عن أبي علي حبش المقري، قال: قال بعض أهل العلم: أولو العزم اثنا عشر نبيا أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم، فأوحى الله تعالى إلى الأنبياء (عليهم السلام): (إني مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل)، فشق ذلك عليهم، فأوحى الله تعالى إليهم أن اختاروا لأنفسكم، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل، وإن شئتم أنجيتكم وأنزلت ببني إسرائيل. فتشاوروا بينهم، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي بني إسرائيل، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب، وذلك إنه سلط عليهم ملوك الأرض، فمنهم من نشر بالمناشير، ومنهم من سلخ جلد رأسه ووجهه، ومنهم من رفع على الخشب، ومنهم من أحرق بالنار، وقيل هم ستة: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى.
وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراب والشعراء. وقيل أصحاب الشرائع، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم
وقال مقاتل: أولو العزم ستة: نوح صبر على أذى قومه فكانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف صبر في البئر وفي السجن، وأيوب صبر على ضره.
25

وقال الحسن البصري: هم أربعة: إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى. فقال: إبراهيم فعزمه قيل له: أسلم، قال: أسلمت لرب العالمين. ثم ابتلي في ماله، وولده، ووطنه، ونفسه، فوجد صادقا وافيا في جميع ما أبتلي به، وأما موسى، فعزمه قوله حين قال له قومه: * (إنا لمدركون قال) * * (كلا إن معي ربي سيهدين) *).
وأما داود، فعزمه أنه أخطأ خطيئة، فنبه عليها، فبلي أربعين سنة على خطيئته حتى نبتت من دموعه شجرة، وقعد تحت ظلها، وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع في الدنيا لبنة على لبنة، وقال: إنها معبر فاعبروها، ولا تعمروها. فكان الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم " * (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) *) أي كن صادقا فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم، واثقا بنصرة مولاك مثل ثقة موسى، مهتما لما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى (عليه السلام).
حدثنا الإمام أبو منصور محمد بن عبد الله الجمشاذي لفظا، أخبرنا أبو عمرو محمد بن محمد بن أحمد القاضي، أخبرنا أبو عبد الرحمن، أخبرنا ابن أبي الربيع، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى: " * (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) *)، قال: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى (عليهم السلام).
أخبرنا أبو منصور الجمشاذي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الدقاق، أخبرنا الحسن ابن محمد بن جابر، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا وكيع، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع ابن أنس، عن أبي العالية في قوله: " * (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) *)، قال: كانوا ثلاثة: نوح، وإبراهيم، وهود، ومحمد رابعهم، أمر أن يصبر كما صبروا.
أخبرني أبو عبد الله بن منجويه، حدثنا محمد بن عبد الله بن برزة، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا داود بن المخبر، حدثنا سليمان بن الحكم، عن الأحوص بن حكيم بن كعب الحبر، قال: في جنة عدن مدينة من لؤلؤ بيضاء، تكل عنها الأبصار، لم يرها نبي مرسل ولا ملك مقرب، أعدها الله سبحانه وتعالى لأولي العزم من الرسل والشهداء والمجاهدين، لأنهم فضلوا الناس عقلا وحلما وإنابة ولبا.
" * (ولا تستعجل) *) العذاب. " * (لهم) *) فإنه نازل بهم لا محالة. " * (كأنهم يوم يرون ما يوعدون) *) من العذاب في الآخرة " * (لم يلبثوا) *) في الدنيا " * (إلا ساعة من نهار) *) يعني في جنب يوم القيامة، وقيل: لأنه ينسيهم هول ما عاينوا قدر مكثهم في الدنيا. ثم قال: " * (بلاغ) *) أي هذا
26

القرآن وما ذكر فيه من البيان بلاغ بلغكم محمد صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، دليله ونظيره في سورة إبراهيم.
(عليه السلام) * * (فهل يهلك) *) بالعذاب إذا نزل " * (إلا القوم الفاسقون) *) الخارجون عن أمر الله تعالى.
أخبرنا الحسين بن محمد الحديثي، حدثنا سعد بن محمد بن إسحاق الصيرفي، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شنبه، حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا علي بن مهير، حدثنا ابن أبي ليلى، عن الحكيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا عسر على المرأة ولدها، فلتكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة، ثم تغسل، ثم تسقى منها: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله * (رب السماوات السبع ورب العرش العظيم) * * (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) *).
27

((سورة محمد))
مدنية، وهي ثمان وثلاثون آية وتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا
أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد الفارسي بقراءتي عليه، أخبرنا أبو عمر، وإسماعيل بن مجيد بن أحمد بن يوسف السلمي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشيخي، حدثنا سعيد بن حفص، قال: قرأت على معقل بن عبد الله، عن عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة محمد كان حقا على الله تعالى أن يسقيه من أنهار الجنة).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم * والذين ءامنوا وعملوا الصالحات وءامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم * ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين ءامنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم * فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذآ أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فدآء حتى تضع الحرب أوزارها ذالك ولو يشآء الله لانتصر منهم ولاكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا فى سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم * ياأيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم * والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم * ذلك بأنهم كرهوا مآ أنزل الله فأحبط أعمالهم * أفلم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها * ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا وأن الكافرين لا مولى لهم * إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الانهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم) *) 2
" * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) *) أي أبطلها فلم يقبلها، وقال الضحاك: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعل الديرة عليهم
28

" * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) *) حالهم، وجمعه بالات. قال سفيان الثوري: " * (وآمنوا بما نزل على محمد) *) لم يخالفوه في شيء. قال ابن عباس: " * (الذين كفروا وصدوا) *) أهل مكة. " * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) *) الأنصار.
" * (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل) *) يعني الشياطين. " * (وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم) *) يعني القرآن. " * (كذلك يضرب الله للناس) *) يبين الله للناس. " * (أمثالهم) *) أشكالهم.
" * (فإذا لقيتم الذين كفروا) *) من أهل الحرب. " * (فضرب) *) نصب على الإغراء " * (الرقاب) *) الأعناق، واحدتها رقبة. " * (حتى إذا أثخنتموهم) *) أي غلبتموهم، وقهرتموهم، وصاروا أسرى في أيديكم. " * (فشدوا الوثاق) *) كي لا يفلتوا منكم، فيهربوا. " * (فإما منا) *) عليهم " * (بعد) *) الأسر، بإطلاقكم إياهم من غير عوض، ولا فدية.
" * (وإما فداء) *) (و) نصبا بإضمار الفعل، مجازه: فإما أن تمنوا عليهم منا، وإما أن تفادوهم، واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هي منسوخة بقوله: " * (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم) *)... الآية. وقوله: " * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *)، وإلى هذا القول ذهب قتادة، والضحاك، والسدي، وابن جريج، وهي رواية العوفي، عن ابن عباس.
أخبرنا عقيل بن محمد أن أبا الفرج البغدادي أخبرهم، عن محمد بن جرير، حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، قال: كتب إلى أبي بكر ح في أسير أسر، فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا، وكذا، فقال أبو بكر: اقتلوه، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا، وكذا.
وقال آخرون: هي محكمة والإمام مخير بين القتل، والمن، والفداء. وإليه ذهب ابن عمر، والحسن، وعطاء، وهو الاختيار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كل ذلك فعلوا، فقتل رسول الله عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، يوم بدر صبرا فادى سائر أسارى بدر. وقيل: بني قريظة، وقد نزلوا على حكم سعد، وصاروا في يده سلما ومن على أمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده.
أخبرنا عقيل أن أبا الفرج القاضي البغدادي أخبرهم، عن محمد بن جرير، حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن رجل من أهل الشام ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز، قال: ما رأيت عمر قتل أسيرا إلا واحدا من الترك، كان جيء بأسارى من الترك، فأمر
29

بهم أن يسترقوا، فقال رجل ممن جاء بهم: يا أمير المؤمنين لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين، لكثر بكاؤك عليهم فقال عمر: قد فدك، فاقتله، فقام إليه فقتله.
" * (حتى تضع الحرب أوزارها) *) أثقالها وأحمالها فلا تكون حرب، وقيل: حتى تضع الحرب آثامها، وأجرامها، فيرتفع، وينقطع، لأن الحرب لا تخلو من الإثم في أحد الجانبين والفريقين. وقيل: معناه حتى يضع أهل الحرب آلتها وعدتها أو آلتهم وأسلحتهم فيمسكوا عن الحرب.
والحرب القوم المحاربون كالشرب والركب، وقيل حتى يضع الأعداء المتحاربون أوزارها وآثامها بأن يتوبوا من كفرهم ويؤمنوا بالله ورسوله. ويقال للكراع: أوزار، قال الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها
رماحا طوالا وخيلا ذكورا
ومعنى الآية أثخنوا المشركين بالقتل، والأسر حتى يظهر الإسلام على الأديان كلها، ويدخل فيه أهل كل ملة طوعا أو كرها " * (ويكون الدين كله لله) *) فلا نحتاج
إلى قتال وجهاد، وذلك عند نزول عيسى (عليه السلام).
وقال الحسن: معناه حتى لا يعبد إلا الله. الكلبي: حتى يسلموا أو يسالموا. " * (ذلك) *) الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار " * (ولو يشاء الله لانتصر منهم) *) فأهلكهم وكفاكم أمرهم بغير قتال.
" * (ولكن ليبلو بعضكم ببعض) *) من حكم الكفار ونعلم المجاهدين منكم والصابرين " * (والذين قتلوا في سبيل الله) *) قرأ الحسن بضم (القاف) وكسر (التاء) مشددا من غير (ألف)، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وحفص بضم (القاف) وكسر (التاء) مخففا من غير (ألف)، واختاره أبو حاتم يعني الشهداء، وقرأ عاصم الحجدري " * (قتلوا) *) بفتح (القاف) و (التاء) من غير (ألف)، يعني والذين قتلوا المشركين.
وقرأ الباقون " * (قاتلوا) *) (بالألف) من المقاتلة، وهم المجاهدون، واختاره أبو عبيد. " * (فلن يضل أعمالهم) *) قال قتادة: ذكر لنا إن هذه الآية أنزلت يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: أعل هبل، فنادى المسلمون: الله أعلى وأجل. فنادى المشركون: يوم بيوم والحرب سجال، لنا عزى ولا عزى لكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، إن القتال مختلفة، إما قتلانا فأحياء عند ربهم يرزقون، وإما قتلاكم ففي النار يعذبون)
30

" * (سيهديهم) *) في الدنيا إلى الطاعة وفي العقبى إلى الدرجات.
" * (ويصلح بالهم) *) يرضي خصماءهم، ويقبل أعمالهم " * (ويدخلهم الجنة عرفها لهم) *) أي بين لهم منازلهم فيها حتى يهتدوا إلى مساكنهم، ودرجاتهم التي قسم الله لهم، لا يخطئون، ولا يستدلون عليها أحد، كأنهم سكانها منذ خلقوا، وإن الرجل ليأتي منزله منها إاذ دخلها كما كان يأتي منزله في الدنيا، لا يشكل ذلك عليه. وإنه أهدى إلى درجته وزوجته وخدمه ونعمه منه إلى أهله ومنزله في الدنيا. هذا قول أكثر المفسرين، وقال المؤرخ: يعني طيبها، والعرف: الريح الطيبة، تقول العرب: عرفت المرقة إذا طيبتها بالملح والأبازير، قال الشاعر:
وتدخل أيد في حناجر أقنعت
لعادتها من الحزير المعرف
" * (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله) *) أي رسوله ودينه.
" * (ينصركم ويثبت أقدامكم) *) على الإسلام، وفي القتال " * (والذين كفروا فتعسا لهم) *) قال ابن عباس: بعدا لهم، وقال أبو العالية: سقوطا، وقال الضحاك: خيبة، وقال ابن زيد: شقا، وقال ابن جرير: حزنا، وقال الفراء: هو نصب على المصدر على سبيل الدعاء، وأصل التعس في الناس والدواب، وهو أن يقال للعاثر: تعسا، إذا لم يريدوا قيامه، ويقال: أتعسه الله، فتعس وهو متعس، وضده لعاء إذا أرادوا قيامه، وقد جمعها الأعمش في بيت واحد يصف ناقته:
بذات لوث غفرناه إذا عثرت
فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
" * (وأضل أعمالهم) *) لأنها كانت في طاعة الشيطان خالية عن الإيمان. " * (ذلك) *) الإضلال، والإبعاد. " * (بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم) *) أي أهلكهم ودمر عليهم منازلهم، ثم توعد مشركي قريش. " * (وللكافرين أمثالها) *) إن لم يؤمنوا " * (ذلك) *) الذي ذكرت، وفعلت " * (بأن الله مولى الذين آمنوا) *) وليهم، وناصرهم، وحافظهم، وفي حرف ابن مسعود ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا.
" * (وأن الكافرين لا مولى لهم إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار والذين كفروا) *) محله رفع على الابتداء " * (يتمتعون) *) في الدنيا " * (ويأكلون كما تأكل الانعام) *) ليس لهم همة إلا بطونهم، وفروجهم، وهم لاهون ساهون عما في غدهم، وقيل: المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع.
" * (والنار مثوى لهم) *).
31

2 (* (وكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم * أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم * مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من مآء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد فى النار وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم * ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال ءانفا أولائك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوآءهم * والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم * فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جآء أشراطها فأنى لهم إذا جآءتهم ذكراهم * فاعلم أنه لا إلاه إلأ الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم * ويقول الذين ءامنوا لولا نزلت سورة فإذآ أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت فأولى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم * فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا فى الارض وتقطعوا أرحامكم * أولائك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) *) 2
" * (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك) *) أي أخرجك أهلها يدل عليه " * (أهلكناهم) *) ولم يقل: أهلكناها " * (فلا ناصر لهم) *) عن ابن
عباس: لما خرج رسول الله عليه السلام من مكة إلى الغار، التفت إلى مكة، وقال: (أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إلي، ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك). فأنزل الله تعالى هذه الآية.
" * (أفمن كان على بينة من ربه) *) وهو محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون " * (كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) *) وهم أبو جهل والمشركون.
" * (مثل) *) شبه وصفة " * (الجنة التي) *) وقرأ علي بن أبي طالب أمثال الجنة التي " * (وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن) *) آجن متغير منتن، يقال: آسن الماء يأسن، وآجن يأجن، وأسن يأسن ويأسن، وأجن يأجن، ويأجن، أسونا، وأجونا، إذا تغير، ويقال: أسن الرجل: بكسر السين لا غير، إذا أصابته ريح منتنة، فغشى عليه قال زهير:
يغادر القرن مصفرا أنامله
يميد في الرمح ميل المائح الأسن
وقرأ العامة آسن بالمد، وقرأ ابن كثير بالقصر وهما لغتان.
" * (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين) *) لم تدنسها الأيدي، ولم تدنسها الأرجل، ونظير لذ ولذيذ، طب وطبيب. " * (وأنهار من عسل مصفى) *) قال كعب الأحبار:
32

نهر دجلة نهر ماء الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر.
" * (ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار) *) يعني المتقين الذين هم أهل الجنة، كمن هو خالد في النار، فاستغنى بدلالة للكلام عليه، وقال ابن كيسان: مثل الجنة التي فيها هذه الأنهار، والثمار، كمثل النار التي فيها الحميم، ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم، كمثل أهل النار في العذاب الأليم.
" * (وسقوا ماء حميما فقطع) *) إذا أدني منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم، فإذا شربوه قطع.
" * (أمعاءهم ومنهم) *) يعني ومن هؤلاء الكفار " * (من يستمع إليك) *) وهم المنافقون يستمعون قولك، فلا يعونه، ولا يفهمونه تهاونا منهم بذلك، وتغافلا " * (حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم) *) من الصحابة " * (ماذا قال آنفا) *) (الآن) وأصله الابتداء. قال مقاتل: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم يخطب ويحث المنافقين، فسمع المنافقون قوله، فلما خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود عما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء وتهاونا منهم بقوله.
قال ابن عباس في قوله: " * (قالوا للذين أوتوا العلم) *): أنا منهم وقد سئلت فيمن سئل. قال قتادة: هؤلاء المنافقون، دخل رجلان: رجل عقل عن الله تعالى وانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل عن الله، فلم ينتفع بما سمع، وكان يقال: الناس ثلاثة: سامع عاقل، وسامع عامل، وسامع غافل تارك.
" * (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) *) فلم يؤمنوا. " * (واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا) *) يعني المؤمنين. " * (زادهم هدى وآتاهم) *) وقرأ ابن مسعود والأعمش وأنطاهم وأعطاهم " * (تقواهم) *) ألهمهم ذلك، ووفقهم، وقال سعيد بن جبير: وآتاهم ثواب تقواهم.
" * (فهل ينظرون) *) ينتظرون. " * (إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها) *) أماراتها وعلاماتها، وبعث (النبي) صلى الله عليه وسلم منها وقيل: أدلتها وحجج كونها، واحدها شرط، وأصل الأشراط الإعلام، ومنه الشرط، لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، ومنه الشرط في البيع وغيره.
ويقال: أشرط نفسه في عمل كذا، وأعلمها وجعلا له. قال أوس بن حجر يصف رجلا وقد تدلى بحبل من رأس جبل إلى نبعة ليقطعها ويتخذ منها قوسا:
فأشرط فيها نفسه وهو معصم
وألقى بأسباب له وتوكلا
33

" * (فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم) *) يعني فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة، نظيره قوله تعالى: " * (وأنى لهم التناوش من مكان بعيد) *).
" * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) *) قال بعضهم: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره وأخواتها كثيرة، وقيل: فاثبت عليه، وقال الحسين بن الفضل: فازدد علما على علمك، وقال عبد العزيز ابن يحيى الكناني: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضجر، ويضيق صدره من طعن الكافرين، والمنافقين فيه، فأنزل الله هذه الآية، يعني فاعلم إنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله، فلا تعلق قلبك على أحد سواه.
وقال أبو العالية وابن عيينة: هذا متصل بما قبله، معناه فاعلم إنه لا ملجأ، ولا مفزع عند قيام الساعة، إلا الله. سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عدش يقول: معناه فاعلم إنه لا قاضي في ذلك اليوم إلا الله، نظيره " * (مالك يوم الدين) *).
" * (واستغفر لذنبك) *) ليتسن أمتك بسنتك، وقيل: واستغفر لذنبك من التقصير الواقع لك في معرفة الله.
" * (وللمؤمنين والمؤمنات) *) أخبرني عقيل بن محمد أن أبا الفرج القاضي أخبرهم، عن محمد بن جرير، حدثنا أبو كريب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا إبراهيم بن سليمان، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرحس، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: غفر الله لك يا رسول الله، فقال رجل من القوم: استغفر لك يا رسول الله؟ قال: (نعم ولك). ثم قرأ " * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين وللمؤمنات) *).
أخبرنا ابن منجويه الدينوري، حدثنا أحمد بن علي بن عمر بن حبش الرازي، حدثنا أبو بكر محمد بن عياش العتبي، حدثنا أبو عثمان سعيد بن عنبسة الحراز، حدثنا عبد الرحمن بن محمد، عن بكر بن حنيس، عن محمد بن يحيى، عن يحيى بن وردان، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يكن عنده مال يتصدق به، فليستغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنها صدقة).
" * (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) *) قال عكرمة: يعني منقلبكم من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، ومثواكم: مقامكم في الأرض. ابن كيسان: متقلبكم من ظهر إلى بطن، ومثواكم: مقامكم في القبور. ابن عباس والضحاك: منصرفكم ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا،
34

ومثواكم: مصيركم إلى الجنة وإلى النار. ابن جرير: متقلبكم: منصرفكم لأشغالكم بالنهار، ومثواكم: مضجعكم للنوم بالليل، لا يخفى عليه شيء من ذلك.
" * (ويقول الذين آمنوا) *) اشتياقا منهم إلى الوحي وحرصا على الجهاد. " * (لولا نزلت سورة) *) تأمرنا بالجهاد. " * (فإذا أنزلت سورة محكمة) *) بالأمر والنهي، قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد، فهي محكمة، وهي أشد للقرآن على المنافقين. وفي حرف عبد الله (سورة محدثة) * * (وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض) *) يعني المنافقين " * (ينظرون إليك) *) شزرا، بتحديق شديد كراهة منهم للجهاد، وجبنا منهم على لقاء العدو " * (نظر) *) كنظر " * (المغشى عليه من الموت فأولى لهم) *) وعيد وتهديد، قال: " * (طاعة) *) مجازه، ويقول هؤلاء المنافقون قبل نزول الآية المحكمة (طاعة) رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة أو منا طاعة.
" * (وقول معروف) *) حسن وقيل: هو متصل بالكلام الأول، (واللام) في قوله (لهم) بمعنى (الباء) مجازه فأولى بهم طاعة لله ورسوله " * (وقول معروف) *) بالإجابة والطاعة.
" * (فإذا عزم الامر) *) أي جد الأمر وعزم عليه وأمروا بالقتال. " * (فلو صدقوا الله) *) في إظهار الإيمان والطاعة " * (لكان خيرا لهم فهل عسيتم) *) فلعلكم " * (إن توليتم) *) أعرضتم عن الإيمان، وعن القرآن، وفارقتم أحكامه.
" * (أن تفسدوا في الارض) *) بالمعصية، والبغي، وسفك الدماء، وتعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الفرقة، بعدما جمعكم الله تعالى بالإسلام، وأكرمكم بالألفة.
قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله؟ ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن؟، وقال بعضهم: هو من الآية. قال المسيب بن شريك والفراء: يقول: " * (فهل عسيتم إن توليتم) *) إن وليتم أمر الناس " * (أن تفسدوا في الأرض) *) بالظلم، نزلت في بني أمية، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين، حدثنا هارون بن محمد بن هارون، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا القاسم بن يونس الهلالي، عن سعيد بن الحكم الوراق، عن ابن داود، عن عبد الله بن مغفل، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يقرأ " * (فهل عسيتم إن وليتم أن تفسدوا في الأرض) *) ثم قال: (هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألا يفسدوا في الأرض ولا يقطعوا أرحامهم).
وقرأ علي بن أبي طالب " * (إن توليتم) *) بضم (التاء) و (الواو) وكسر (اللام)، يقول: إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة، وعاونتموهم. ومثله روى رويس عن يعقوب
35

" * (وتقطعوا أرحامكم) *) قرأ يعقوب، وأبو حاتم، وسلام (وتقطعوا) خفيفة من القطع اعتبارا بقوله: " * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) *) وقرأ الحسن " * (يقطعوا) *) مفتوحة الحروف، اعتبارا بقوله: " * (فتقطعوا أمرهم بينهم) *). وقرأ غيرهم " * (وتقطعوا) *) بضم (التاء) مشددا من التقطيع على التكثير لأجل الأرحام.
" * (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) *) عن الحق.
2 (* (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ * إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم * ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم فى بعض الامر والله يعلم إسرارهم * فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم * أم حسب الذين فى قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشآء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم فى لحن القول والله يعلم أعمالكم * ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم * إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشآقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم * ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم * إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم * فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم * إنما الحيواة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم * ؤإن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم * هآ أنتم هاؤلاء تدعون لتنفقوا فى سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنى وأنتم الفقرآء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) *) 2
" * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) *) تفهم مواعظ القرآن، وأحكامه، أخبرنا عقيل ابن محمد، أخبرنا المعافى بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير، حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، قال: ما من الناس أحد إلا وله أربع أعين: عينان في وجهه لدنياه، ومعيشته، وعينان في قلبه لدينه، وما وعد الله من الغيب. وما من أحد إلا وله شيطان متبطن فقار ظهره، عاطف عنقه على عاتقه، فاغر فاه إلى ثمرة قلبه، فإذا أراد الله بعبد خيرا
أبصرت عيناه اللتان في قلبه ما وعد الله تعالى من الغيب، فيعمل به، وإذا أراد الله بعبد شرا طمس عليهما، فذلك قوله: " * (أم على قلوب أقفالها) *).
36

وبه عن ابن جرير، حدثنا بشير، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا هشام بن عبده عن أبيه، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: " * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) *) فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به.
" * (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى) *) قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد وهم يعرفونه ويجدون نعته مكتوبا عندهم، وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون.
" * (الشيطان سول لهم) *) زين لهم " * (وأملى لهم) *) قرأ أبو عمرو بضم (الألف) وفتح (الياء) على وجه ما لم يسم فاعله. وقرأ مجاهد، ويعقوب بضم (الألف) وإرسال (الياء) على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم وهو اختيار أبي حاتم. وقرأ الآخرون " * (وأملى) *) بفتح (الألف) بمعنى وأملى الله لهم وهو اختيار أبي عبيدة.
" * (ذلك بأنهم) *) يعني هؤلاء المنافقين أو اليهود " * (قالوا للذين كرهوا ما نزل الله) *) وهم المشركون. " * (سنطيعكم في بعض الامر) *) في مخالفة محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد.
" * (والله يعلم إسرارهم) *) قرأ أهل الكوفة إلا أبو بكر بكسر (الألف) على الفعل، غيرهم بفتحها على جمع السر.
" * (فكيف إذا توفتهم) *) (بالتاء) قراءة العامة، وقرأ عيسى بن عمر (توفيهم) (بالياء). " * (الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) *) عند الموت، نظيرها في الأنفال والنحل. " * (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم أم حسب الذين في قلوبهم مرض) *) شك، يعني المنافقين " * (أن لن يخرج الله أضغانهم) *) أحقادهم على المؤمنين، واحدها ضغن، فيبديها لهم حتى يعرفوا نفاقهم. " * (ولو نشاء لااريناكهم) *) أي لأعلمناكهم، وعرفناكهم، ودللناك عليهم، تقول العرب: سأريك ما أصنع بمعنى سأعلمك، ومنه قوله تعالى: " * (بما أريك الله) *).
" * (فلعرفتهم بسيماهم) *) بعلامتهم، قال أنس بن مالك: ما أخفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنا معه في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشكوهم الناس، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كل واحد منهم مكتوب هذا منافق. فذلك قوله: " * (سيماهم) *).
وقال ابن زيد: قد أراد الله إظهار نفاقهم، وأمر بهم أن يخرجوا من المسجد، فأبوا إلا أن
37

يمسكوا بلا إله إلا الله، فلما أبوا أن يمسكوا إلا بلا إله إلا الله، حقنت دماؤهم، ونكحوا، ونكحوا بها.
" * (ولتعرفنهم في لحن القول) *) قال ابن عباس: في معنى " * (القول) *): الحسن في فحواه. القرظي: في مقصده ومغزاه. واللحن وجهان: صواب، وخطأ، فأما الصواب فالفعل منه لحن يلحن لحنا، فهو لحن إذا فطن للشيء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)، والفعل من الخطأ لحن يلحن لحنا، فهو لاحن، والأصل فيه إزالة الكلام عن جهته، وفي الخبر أنه قيل لمعاوية: إن عبيد الله بن زياد يتكلم بالفارسية، فقال: أليس طريفا من ابن أخي أن يلحن في كلامه أي يعدل به من لغة إلى لغة، قال الشاعر:
وحديث الذه هو مما
ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا
نا وخير الحديث ما كان لحنا
يعني ترتل حديثها.
" * (والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم) *) بالجهاد " * (حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) *) قرأ العامة كلها بالنون لقوله: " * (ولو نشاء لأريناكهم) *). وروى أبو بكر والمفضل، عن عاصم كلها (بالياء). وقرأ يعقوب، (ونبلوا) ساكنة (الواو) ردا على قوله: (نعلم).
قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضل إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبلنا، فإنك إن بلوتنا هتكت أستارنا، وفضحتنا.
" * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم) *) قال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر، نظيره قوله: " * (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) *)... الآية.
" * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) *) بمعصيتها، قال مقاتل والثمالي: لا تمنوا على رسول الله فتبطلوا أعمالكم، نزلت في بني أسد. وسنذكر القصة في سورة الحجرات إن شاء الله. وقيل: بالعجب والرياء.
" * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) *) قيل: هم أصحاب القليب، وحكمها عام " * (فلا تهنوا) *) تضعفوا " * (وتدعوا إلى السلم) *) إلى الصلح " * (وأنتم
38

الاعلون) *) لأنكم مؤمنون محقون.
" * (والله معكم) *) قال قتادة: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها " * (ولن يتركم أعمالكم) *) قال ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد: لن يظلمكم.
مجاهد: لن ينقصكم أعمالكم بل يثيبكم عليها، ويزيدكم من فضله، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) أي ذهب بهما.
" * (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم) *) ربكم. " * (أموالكم) *) لا يسألكم الأجر، بل يأمركم بالإيمان، والطاعة ليثيبكم عليها الجنة، نظيره قوله: " * (ما أريد منهم من رزق) *).. الآية، وقيل: (ولا يسألكم) محمد صدقة أموالكم، نظيره قوله: " * (قل ما أسألكم عليه من أجر...) *) وقيل: معنى الآية ولا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها إنما يسألانكم غيضا من فيض، ربع العشر فطيبوا بها نفسا، وإلى هذا القول ذهب ابن عيينة وهو اختيار أبي بكر بن عبدش، قال: حكى لنا ابن حبيب عنه، يدل عليه سياق الآية.
" * (إن يسألكموها فيحفكم) *) فيجهدكم ويلح ويلحفكم عليها، وقال ابن زيد: الإحفاء أن تأخذ كل شيء بيدك.
" * (تبخلوا ويخرج أضغانكم) *) قال قتادة: قد علم الله تعالى أن في مسألة المال خروج الأضغان " * (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني) *) عن صدقاتكم وطاعتكم " * (وأنتم الفقراء) *) إليها " * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) *) في الطواعية، بل يكونوا أطوع لله تعالى وأمثل منكم، قال الكلبي: هم كندة والنخع. الحسن: هم العجم. عكرمة: فارس والروم. أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد ابن الحسين بن عبد الله بن منجويه الدينوري، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عبد الله بن نجيح، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن إن تولينا استبدلوا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان وقال: (هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله لتناوله رجال من فارس).
39

((سورة الفتح))
مدنية، وهي تسع وعشرون آية، وخمسمائة وستون كلمة، وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا
أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد بقراءتي عليه، حدثنا أبو العباس السراج، حدثنا أبو الأشعث، حدثنا أبو المعتمر، قال: سمعت أبي يحدث عن قتادة، عن أنس، قال: لما رجعنا من غزوة الحديبية، قد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فأنزل الله تعالى عليه " * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *) الآية كلها.
فقال رسول الله: (لقد نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا).
أخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل القهندري بقراءتي عليه، أخبرنا مكي بن عبدان، حدثنا محمد بن يحيى، قال: وفيما قرأت على عبد الله بن نافع وحدثني مطرف، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب ح يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، قال عمر: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس، وخشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)، ثم قرأ " * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *).
أخبرنا الحسين بن محمد بن منجويه الثقفي، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي، حدثنا حمزة بن الحسين بن عمر البغدادي، حدثنا محمد بن عبد الملك، قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: سمعت المسعودي يذكر، قال: بلغني أن من قرأ في أول ليلة من رمضان " * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *) في التطوع حفظ ذلك العام.
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك
40

صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا * هو الذىأنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والارض وكان الله عليما حكيما * ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما * ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظن السوء عليهم دآئرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وسآءت مصيرا * ولله جنود السماوات والارض وكان الله عزيزا حكيما * إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا) *) 2
" * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *) أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد، أخبرنا أبو العباس السراج، حدثنا هناد بن السري، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا علي بن عبد الله التيمي يعني أبا جعفر الرازي، عن قتادة، عن أنس " * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *) قال: فتح مكة، وقال مجاهد والعوفي: فتح خيبر، وقال الآخرون: فتح الحديبية.
روى الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية.
وروى إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة. والحديبية بئر.
أخبرنا عقيل بن محمد الفقيه أن أبا الفرج القاضي البغدادي، أخبرهم، عن محمد بن جرير، حدثنا موسى بن سهل الرملي، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا مجمع بن يعقوب الأنصاري، قال: سمعت أبي يحدث، عن عمه عبد الرحمن بن يزيد، عن عمه، مجمع بن حارثة الأنصاري وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها، إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: فخرجنا نوجف، فوجدنا النبي (عليه السلام) واقفا على راحلته عند كراع العميم، فلما اجتمع إليه الناس، قرأ " * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *). فقال عمر: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: (نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح). فقسم صلى الله عليه وسلم الخمس بخيبر على أهل الحديبية، لم يدخل فيها أحد إلا من شهد الحديبية.
أخبرنا الحسين بن محمد بن منجويه العدل، حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا عبيد الله بن أحمد الكسائي، حدثنا الحارث بن عبد الله، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن
41

الشعبي في قوله: " * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *) قال: فتح الحديبية، غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس.
وقال مقاتل بن حيان: يسرنا لك يسرا بينا، وقال مقاتل بن سليمان: لما نزل قوله: " * (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم) *) فرح بذلك المشركون، والمنافقون، وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به وبأصحابه، ما أمرنا وأمره إلا واحد، فأنزل الله تعالى بعدما رجع من الحديبية " * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *) أي قضينا لك قضاء بينا.
" * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *) فنسخت هذه الآية تلك الآية، وقال صلى الله عليه وسلم (لقد نزلت علي آية ما يسرني بها حمر النعم).
وقال الضحاك: " * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *) بغير قتال، وكان الصلح من الفتح، وقال الحسن: فتح الله عليه بالإسلام.
" * (ليغفر لك الله) *) قال أبو حاتم: هذه (لام) القسم، لما حذفت (النون) من فعله كسرت اللام ونصب فعلها بسببها بلام كي، وقال الحسين بن الفضيل: هو مردود إلى قوله: * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) * * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *) * * (وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري) *) وقال محمد بن جرير: هو راجع إلى قوله: " * (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره) *) * * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك) *) قبل الرسالة " * (وما تأخر) *) إلى وقت نزول هذه السورة.
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عمرو عثمان بن عمر ابن حقيف الدراج، حدثنا حامد بن شعيب، حدثنا شريح بن يونس، حدثنا محمد بن حميد، عن سفيان الثوري " * (ما تقدم من ذنبك) *) ما عملت في الجاهلية " * (وما تأخر) *) كل شيء لم تعمله.
وقال عطاء بن أبي مسلم الخرساني: " * (ما تقدم من ذنبك) *) يعني ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك " * (وما تأخر) *) ديوان أمتك بدعوتك. سمعت الطرازي يقول: سمعت أبا القاسم النصر آبادي يقول: سمعت أبا علي الرودباري بمصر يقول: في قول الله تعالى: " * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *)، قال: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه.
" * (ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما) *) أي ويثبتك عليه، وقيل: يهدي بك.
42

" * (وينصرك الله نصرا عزيزا) *) غالبا. وقيل: معزا. " * (هو الذي أنزل السكينة) *) الرحمة، والطمأنينة " * (في قلوب المؤمنين) *) قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن فهي الطمأنينة إلا التي في البقرة.
" * (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) *) قال ابن عباس: بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوا فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوا زادهم الصيام، فلما صدقوا زادهم الزكاة، فلما صدقوا زادهم الحج، ثم زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم بذلك، وقوله تعالى: " * (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) *) أي تصديقا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان.
وقال الضحاك: يقينا مع يقينهم، وقال الكلبي: هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق.
" * (ولله جنود السموات والارض وكان الله عليما حكيما) *) أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد، أخبرنا أبو العباس السراج، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان، عن قتادة في قوله سبحانه: " * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *) قال أنس بن مالك: إنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من الحديبية، وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة، قد حيل بينهم وبين مناسكهم ونحروا بالحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا) فقرأها على أصحابه، فقالوا: هنيئا مريئا يا رسول الله، قد بين الله تعالى ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: " * (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار) *) قال أهل المعاني: وإنما كرر (اللام) في قوله: " * (ليدخل المؤمنين والمؤمنات) *) بتأويل تكرير الكلام مجازه " * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *) إنا فتحنا لك " * (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء) *) أي لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
" * (عليهم دائرة السوء) *) بالذل والعذاب " * (وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ولله جنود السماوات والارض وكان الله عزيزا حكيما إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله) *) قرأ ابن كثير وأبو عمرو أربعتها (بالياء) واختاره أبو عبيد، قال: لذكر الله المؤمنين قبله، وبعده، فأما قبله فقوله تعالى: " * (في قلوب المؤمنين) *) وبعده قوله: " * (إن الذين يبايعونك) *) وقرأها الآخرون (بالتاء) واختاره أبو حاتم.
" * (وتعزروه) *) وقرأ محمد بن السميقع (بزايين)، وغيره (بالراء) أي لتعينوه، وتنصروه. قال
43

عكرمة: تقاتلون معه بالسيف، أخبرنا علي بن محمد بن محمد بن أحمد البغدادي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الشيباني، أخبرنا عيسى بن عبد الله البصري بهراة، حدثنا أحمد بن حرب الموصلي، حدثنا القاسم بن يزيد الحرمي، حدثنا سفيان بن سعيد الثوري، عن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا سفيان بن عينية، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم " * (وتعزروه) *)، قال لنا: ماذا كم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: لتنصروه وتوقروه وتعظموه وتفخموه. وهاهنا وقف تام.
" * (وتسبحوه) *) أي وتسبحوا الله بالتنزيه والصلاة. " * (بكرة وأصيلا) *))
.
* (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما * سيقول لك المخلفون من الاعراب شغلتنآ أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا * بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك فى قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا * ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنآ أعتدنا للكافرين سعيرا * ولله ملك السماوات والارض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء وكان الله غفورا رحيما * سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا * قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما * ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما * لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما فى قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما * وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هاذه وكف أيدى الناس عنكم ولتكون ءاية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما * وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شىء قديرا) *) 2
" * (إن الذين يبايعونك) *) يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا " * (إنما يبايعون الله) *).
أخبرنا ابن منجويه، حدثنا ابن حبش المقري، حدثنا محمد بن عمران، حدثنا أبو عبد الله المخزومي، حدثنا سفيان بن عينية، عن عمرو بن دينار إنه سمع جابرا يقول: كنا يوم الحديبية ألف وأربعمائة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنتم اليوم خير أهل الأرض). قال: وقال لنا
44

جابر: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة، وقال: بايعنا رسول الله تحت السمرة على الموت على أن لا نفر، فما نكث أحد منا البيعة، إلا جد بن قيس وكان منافقا، اختبأ تحت أبط بعيره، ولم يسر مع القوم. " * (يد الله فوق أيديهم) *) قال ابن عباس: " * (يد الله) *) بالوفاء لما وعدهم من الخير " * (فوق أيديهم) *) بالوفاء.
وقال السدي: " * (يد الله فوق أيديهم) *) وذلك إنهم كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعونه، و " * (يد الله فوق أيديهم) *) عند المبايعة.
وقال الكلبي: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة، وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم.
" * (فمن نكث) *) يعني البيعة " * (فإنما ينكث على نفسه) *) عليه وباله " * (ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه) *) قرأ أهل العراق (بالياء)، وغيرهم (بالنون).
" * (أجرا عظيما) *) وهو الجنة " * (سيقول لك المخلفون من الأعراب) *) قال ابن عباس ومجاهد: يعني أعراب غفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، والديك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب، وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب ويصدوه عن البيت، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وقالوا: نذهب معه إلى قوم، قد جاؤوه، فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم، فتخلفوا عنه. واعتلوا بالشغل، فأنزل الله تعالى: " * (سيقول لك المخلفون من الأعراب) *) الذين خلفهم الله عن صحبتك، وخدمتك في حجتك، وعمرتك إذا انصرفت إليهم، فعاتبتهم على التخلف عنك.
" * (شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا) *) ثم كذبهم في اعتذارهم واستغفارهم وأخبر عن إسرارهم وإضمارهم، فقال: " * (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا) *) قرأ حمزة والكسائي وخلف بضم (الضادد والباقون بالفتح، واختاره أبو عبيد، وأبو حاتم، قالا: لأنه قابله بالنفع ضد الضر.
" * (أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء) *) وذلك بأنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون، فأين تذهبون؟ انتظروا ما يكون من أمرهم.
" * (وكنتم قوما بورا) *) هالكين، فاسدين، لا تصلحون لشيء من الخير. " * (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ولله ملك السماوات والارض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما سيقول المخلفون) *) عن الحديبية " * (إذا انطلقتم إلى مغانم) *) يعني غنائم خيبر " * (لتأخذوها ذرونا نتبعكم) *) إلى خيبر فنشهد معكم، فقال أهلها: " * (يريدون أن يبدلوا
45

كلام الله) *) قرأ حمزة والكسائي (كلم الله) بغير (ألف)، وغيرهم (كلام الله)، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال الفراء: الكلام مصدر، والكلم جمع الكلمة، ومعنى الآية يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية، وذلك أن الله تعالى جعل غنائم خيبر لهم عوضا من غنائم أهل مكة، إذا انصرفوا عنهم على صلح، ولم يصيبوا منهم شيئا، وقال ابن زيد: هو قوله تعالى: " * (فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) *). والقول الأول أصوب، وإلى الحق أقرب، لأن عليه عامة أهل التأويل، وهو أشبه بظاهر التنزيل لأن قوله: " * (فقل لن تخرجوا معي أبدا) *) نزلت في غزوة تبوك. " * (قل لن تتبعونا) *) إلى خيبر. " * (كذلكم قال الله من قبل) *) أي من قبل مرجعنا إليكم: إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب.
" * (فسيقولون بل تحسدوننا) *) أن نصيب معكم من الغنائم. " * (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) *) قال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومجاهد: هم فارس. كعب: الروم. الحسن: فارس، والروم. عكرمة: هوازن. سعيد بن جبير: هوازن، وثقيف. قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. الزهري، ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة، أصحاب مسيلمة الكذاب.
قال رافع بن جريج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى " * (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) *) فلا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر ح إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم، وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد.
" * (تقاتلونهم أو يسلمون) *) قرأ العامة يسالمون في محل الرفع عطفا على قوله: " * (تقاتلونهم) *)، وفي حرف أبي (أو يسلموا) بمعنى حتى يسلموا، كقول امرئ القيس: أو يموت فنعذرا.
" * (فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل) *) يعني عام الحديبية " * (يعذبكم عذابا أليما) *) وهو النار. قال ابن عباس: فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة: فكيف بنا رسول الله؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: " * (ليس على الاعمى حرج) *) في التخلف عن الجهاد، والقعود عن الغزو.
" * (ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج) *) في ذلك. " * (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما) *) قرأ أهل المدينة والشام (يدخله) (ويعذبه) فيهما (بالنون) فيهما وقرأ الباقون (بالياء) فيهما، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لذكر الله تعالى قبل ذلك
46

" * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك) *) بالحديبية على أن يناجزوا قريشا، ولا يفروا. " * (تحت الشجرة) *) وكانت سمرة، ويروى أن عمر بن الخطاب ح مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هاهنا، وبعضهم هاهنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا، هذا التكلف، وقد ذهبت الشجرة، أما ذهب بها سيل وأما شيء سوى ذلك. وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على جمل له يقال له: الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، وذلك حين نزل الحديبية.
فعقروا له جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله، فدعا رسول الله (عليه السلام) عمر بن الخطاب ح ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليهم، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله عثمان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت، معظما لحرمته، فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فنزل عن دابته وحمله بين يديه، ثم ردفه وأجازه حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله.
فاحتبسته قريش عندهم، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل، فقال رسول الله: (لا نبرح حتى نناجز القوم). ودعا الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله على الموت، وقال بكير بن الأشج: بايعوه على الموت، فقال رسول الله (عليه السلام): (بل على ما استطعتم).
وقال عبد الله بن معقل: كنت قائما على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم، وبيدي غصن من السمرة، أذب عنه، وهو يبايع الناس، فلم يبايعهم على الموت، وإنما بايعهم على أن لا يفروا، وقال جابر بن عبد الله: فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته مستتر بها من الناس.
وكان أول من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسد يقال له: أبو سنان بن وهب. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الذي ذكر من أمر عثمان باطل، واختلفوا في مبلغ عدد أهل بيعة الرضوان، فروى شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: كنا يوم الشجرة ألف وثلاثمائة، وكانت أسلم يومئذ من المهاجرين.
47

وقال قتادة: كانوا خمسة عشر ومائة. وروى العوفي عن ابن عباس، قال: كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرون. وقال آخرون: كانوا ألفا وأربعمائة.
أخبرنا الحسين بن محمد بن منجويه، حدثنا علي بن أحمد بن نصرويه، حدثنا أبو عمران موسى بن سهل بن عبد الحميد الخولي، حدثنا محمد بن رمح، حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة).
" * (فعلم ما في قلوبهم) *) من الصدق، والصبر، والوفاء. " * (فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) *) وهو خيبر " * (ومغانم كثيرة يأخذونها) *) وكانت خيبر ذات عقار وأموال. فاقتسمها رسول الله بينهم.
" * (وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها) *) وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة " * (فعجل لكم هذه) *) يعني يوم خيبر. " * (وكف أيدي الناس عنكم) *) أهل مكة عنكم بالصلح، وقال قتادة: يعني وكف اليهود من خيبر، وحلفاءهم من أسد، وغطفان، عن بيضتكم، وعيالكم، وأموالكم بالمدينة، وذلك أن مالك بن عوف النصري، وعيينة بن حصن الفزاري، ومن معهما من بني أسد وغطفان جاءوا لنصرة أهل خيبر فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فانصرفوا.
" * (ولتكون) *) هزيمتهم، وسلامتكم " * (آية للمؤمنين) *) ليعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم، وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم. " * (ويهديكم صراطا مستقيما) *) طريق التوكل، والتفويض حتى تتقوا في أموركم كلها بربكم، وتتوكلوا عليه، وقيل: يثبتكم على الإسلام، ويزيدكم بصيرة ويقينا بصلح الحديبية، وفتح خيبر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة الحديبية إلى المدينة، أقام بها بقية ذي الحجة، وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم سنة سبع إلى خيبر، واستخلف على المدينة سماع بن عرفطة الغفاري.
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله الزاهد، قرأه عليه، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا عثمان بن عمر، أخبرنا ابن عون، عن عمرو ابن سعيد، عن أنس بن مالك، أخبرنا عبيد الله بن محمد، أخبرنا أبو العباس السراج، حدثنا عبد الأعلى بن حماد أبو يحيى الباهلي، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا عن ابن أبي عروبة، قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد، حدثنا أبو العباس السراج، حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا روح، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: كنت رديف أبي طلحة يوم أتينا خيبر، فصبحهم
48

رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذوا مساحيهم، وفؤوسهم، وغدوا على حرثهم، وقالوا: محمد والخميس. فقال رسول الله: (الله أكبر هلكت خيبر، إنا إذا نزلنا ساحة قوم فساء صباح المنذرين). ثم نكصوا، فرجعوا إلى حصونهم.
أخبرنا عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد، حدثنا أبو العباس السراج، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع.
وأخبرنا عبيد الله بن محمد، أخبرنا أبو العباس السراج، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: وحدثت عن محمد بن جرير، عن محمد بن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن رحالة، قال: وعن ابن جرير، حدثنا ابن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر يسير بنا ليلا، وعامر بن الأكوع معنا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هينهاتك؟ وكان عامر شاعرا فنزل يحدو بالقوم وهو يرجز لهم:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
ان الذين هم بغوا علينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا
فاغفر فداء لك ما اقتفينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا
إنا إذا صيح بنا أتينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من هذا؟). قالوا: عامر بن الأكوع. فقال: (غفر لك ربك). فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لو أمتعتنا به. وذلك أن رسول الله (عليه السلام) ما استغفر قط لرجل يخصه إلا استشهد. قالوا: فلما قدمنا خيبر وتصاف القوم، خرج يهودي، فبرز إليه عامر، وقال:
قد علمت خيبر إني عامر
شاك السلاح بطل مغامر
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف اليهودي في ترس عامر، ووقع سيف عامر عليه، وأصاب ركبة نفسه، وساقه، فمات منها، قال سلمة بن الأكوع: فمررت على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
49

وهم يقولون: بطل عمل عامر، فأتيت نبي الله وأنا شاحب أبكي، فقلت: يا رسول الله أبطل عمل عامر؟ فقال: (ومن قال ذاك؟) قلت: بعض أصحابك. قال: (كذب من قال، بل له أجره مرتين، إنه لجاهد مجاهد).
قال: فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة ثم إن الله تعالى فتحها علينا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى اللواء عمر بن الخطاب، ونهض من نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر، فانكشف عمر، وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحينه أصحابه، ويحينهم، وكان رسول الله قد أخذته الشقيقة، فلم يخرج إلى الناس، فأخذ أبو بكر راية رسول الله، ثم نهض فقاتل قتالا شديدا، ثم رجع، فأخذها عمر، فقاتل قتالا شديدا، وهو أشد من القتال الأول، ثم رجع،
فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أما والله لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله، ورسوله، ويحبه الله، ورسوله يأخذها عنوة).
وليس ثم علي، فلما كان الغد تطاول لها أبو بكر وعمر وقريش رجاء كل واحد منهم أن يكون صاحب ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع إلى علي، فدعاه، فجاء علي على بعير له حتى أناخ قريبا من خباء رسول الله، وهو أرمد قد عصب عينيه بشقة برد قطري، قال سلمة: فجئت به أقوده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله: (ما لك؟). قال: رمدت. فقال: (إدن مني). فدنا منه فتفل في عينيه، فما وجعهما بعد حتى مضى لسبيله، ثم أعطاه الراية، فنهض بالراية وعليه حلة أرجوان حمراء، قد أخرج حملها، فأتى مدينة خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر معصفر، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا
وحينا أضرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
كان حمائي كالحمى لا يقرب
فبرز إليه علي ح، وقال:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غابات شديد قسوره
أكيلكم بالسيف كيل السندره
فاختلفا ضربتين، فبدره علي، فضربه، فقد الحجر والمغفرة، وفلق رأسه حتى أخذ السيف
50

في الأضراس، وأخذ المدينة، وكان الفتح على يديه، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر بن نحر، وهو يقول:
قد علمت خيبر أني ياسر
شاكي السلاح بطل مغاور
إذا الليوث أقبلت تبادر
وأحجمت عن صولتي المغاور
إن حمائي فيه موت حاضر
وهو يقول: هل من مبارز؟ فخرج إليه الزبير بن العوام، وهو يقول:
قد علمت خيبر أني زبار
قرم لقرم غير نكس فرار
ابن حماة المجد ابن الأخيار
ياسر لا يغررك جمع الكفار
وجمعهم مثل السراب الحبار
فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: أيقتل ابني يا رسول الله؟ فقال: (بل ابنك يقتله إن شاء الله) ثم التقيا، فقتله الزبير، فقال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله (عليه السلام) برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود، فطرح ترسه من يده، فتناول علي بابا كان عند الحصن، فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده، وهو يقاتل حتى فتح الله تعالى عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فما نقلبه.
ثم لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الحصون حصنا حصنا، ويجوز الأموال حتى انتهوا إلى حصن الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر افتتح، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة، فلما أمسى الناس يوم الفتح أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول الله: (على أي شيء توقدون؟) قالوا: على لحم، قال: (على أي لحم؟) قالوا: لحم الحمر الأنسية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اهريقوها واكسروها). فقال رجل: أو نهرقها ونغسلها؟ فقال: (أو ذاك).
قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسول الله (عليه السلام) القموص حصن بني أبي الحقيق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حي بن أحطب، وبأخرى معها،
فمر بهما بلال، وهو الذي جاء بهما على قتلى من قتل من اليهود، فلما رأتهما التي مع صفية، صاحت، وصكت وجهها، وحثت
51

التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أغربوا عني هذه الشيطانة). وأمر بصفية، فجرت خلفه وألقى عليها رداءه، فعلم المسلمون أن رسول الله قد اصطفاها لنفسه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال لما رأى من تلك اليهودية ما رأى: (أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟) وكانت صفية قد رأت في المنام، وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤيتها على زوجها، فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا، فلطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منها.
فسألها: (ما هو؟) فأخبرته هذا الخبر، وأتى رسول الله بزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله، فجحده أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله برجل من اليهود، فقال لرسول الله (عليه السلام): إني قد رأيت كنانة يطيف هذه الخزنة كل غداة، فقال رسول الله لكنانة: (أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك). قال: نعم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخزنة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي، فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله الزبير بن العوام. فقال: (عذبه حتى تستأصل ما عنده).
فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد ابن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة، وكانت اليهود ألقت عليه حجرا عند حصن ناعم، فقتله، كان أول حصن افتتح من حصون خيبر.
قالوا: فلما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، بعثوا إلى رسول الله أن يسترهم ويحقن لهم دماءهم ويخلوا له الأموال، ففعل، ثم إن أهل خيبر سألوا رسول الله أن يعاطيهم الأموال على النصف ففعل على إنا إن شئنا فخرجنا أخرجناكم، وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، وكانت خيبر فيئا للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله (عليه السلام) لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.
فلما اطمئن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم، شاة مصلية، وقد سألت، أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السم، وسمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله، تناول الذراع، فأخذها، فلاك منها مضغة، فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، وقد أخذ منها كما أخذ منها رسول الله، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله فلفظها، ثم قال: (إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم). ثم دعاها، فاعترفت، فقال: (ما حملك على ذلك؟) قالت: بلغت من
52

قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان نبيا فسيخبر، وإن كان ملكا استرحت منه. قال: فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل.
قال: ودخلت أم بشر بن البراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعوده في مرضه الذي توفى فيه، فقال: (يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعادني، فهذا أوان انقطاع أبهري).
وكان المسلمون يرون أن رسول الله مات شهيدا مع ما أكرمه الله تعالى به من النبوة. " * (وأخرى) *) أي وعدكم فتح بلدة أخرى. " * (لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها) *) حتى يفتحها عليكم، وقال ابن عباس: علم الله أنه يفتحها لكم. واختلفوا فيها، فقال ابن عباس وعبد الرحمن بن أبي ليلى والحسن ومقاتل: هي فارس والروم.
وقال الضحاك وابن زيد وابن إسحاق: هي خيبر، وعدها الله تعالى نبيه قبل أن يصيبها، ولم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها، حتى أخبرهم الله تعالى بها. وهي رواية عطية، وماذان، عن ابن عباس، وقال قتادة: هي مكة. عكرمة: هي خيبر. مجاهد: ما فتحوا حتى اليوم. " * (وكان الله على كل شيء قديرا) *))
.
* (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا * سنة الله التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا * وهو الذى كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا * هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونسآء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله فى رحمته من يشآء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما * إذ جعل الذين كفروا فى قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شىء عليما * لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله ءامنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) *) 2
" * (ولو قاتلكم الذين كفروا) *) يعني أسد، وغطفان، وأهل خيبر، وقال قتادة: يعني كفار قريش " * (لولوا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله) *) أي كسنة الله " * (التي قد خلت من قبل) *) في نصرة أوليائه، وقهر أعدائه " * (ولن تجد لسنة الله تبديلا وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة) *) وهو الحديبية " * (من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون
53

بصيرا) *) (الياء) أبو عمرو، وغيره (بالتاء)، واختلفوا فيهم، فقال أنس: إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله وأصحابه من جبل التنعيم عند
صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوهم، فأخذهم رسول الله سلما، وأعتقهم، فأنزل الله تعالى: " * (هو الذي كف أيديهم عنكم) *)... الآية. عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله عام الحديبية ليصيبوا من أصحابه أحدا، وأخذوا أخذا، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم، وخلى سبيلهم، وقد كانوا يرمون عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة، والنبل فأنزل الله تعالى: " * (وهو الذي كف أيديهم عنكم) *)... الآية.
وقال عبد الله بن المغفل: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة، فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح، وسهيل بن عمرو، فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا رسول الله (عليه السلام)، فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم، فأخذناهم، فخلى عنهم رسول الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مجاهد: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم معتمرا، وأخذ أصحابه ناسا من أهل الحرم غافلين، فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم فذلك الإظفار ببطن مكة، وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله يقال له: زنيم اطلع الثنية من الحديبية، فرماه المشركون بسهم، فقتلوه، فبعث رسول الله خيلا، فأتوا باثني عشر فارسا من الكفار، فقال لهم نبي الله: (هل لكم علي عهد؟ هل لكم علي ذمة؟). قالوا: لا، فأرسلهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن ايزي، والكلبي: هم أهل الحديبية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة، فقال له عمر ح: يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح، ولا كراع؟ قال: فبعث إلى المدينة، فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى، فنزل منى، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال لخالد بن الوليد: (يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل).
فقال خالد: أنا سيف الله، وسيف رسوله، يا رسول الله، أرم بي حيث شئت، فيومئذ سمي سيف الله، فبعثه على خيل، فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عادوا في الثانية، فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله تعالى هذه الآية: " * (وهو الذي كف أيديهم عنكم) *) إلى قوله: " * (عذابا أليما) *) فكف النبي صلى الله عليه وسلم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية، أن تطأهم
54

الخيل بغير علم، وذلك قوله تعالى: " * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا) *) محبوسا. أي وصدوا الهدي معكوفا محبوسا.
" * (أن يبلغ محله) *) منحره، وكان سبعين بدنة، روى الزهيري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا، وساق معه سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر، فلما بلغ ذا الحليفة، تنامى إليه الناس، فخرج في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة، وكشف بين يديه عينا من خزاعة يخبره عن قريش.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط، قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أشيروا علي، أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين، وان نجوا تكن عنقا قطعها الله أو ترون أن نأم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه).
فقام أبو بكر ح، فقال: يا رسول الله إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن من حال بيننا، وبين البيت قاتلناه، فقال رسول الله (عليه السلام): (فروحوا إذا).
وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط أكثر مشاورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم فراحوا حتى إذا كانوا بعسفان، لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال له: يا رسول الله هذه قريش، قد سمعوا بسيرك، فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود المنون، ونزلوا بذي طوى، يحلفون بالله لا يدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع العميم. وقد ذكرت قول من قال: إن خالد بن الوليد يومئذ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما، فقال رسول الله (عليه السلام): (يا ويح قريش، قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش، فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة).
ثم قال: (من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها)، فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فخرج على طريق وعر حزن بين شعاب، فلما خرجوا منه، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضى إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: (قولوا:
55

نستغفر الله، ونتوب إليه). ففعلوا، فقال: (والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل، فلم يقولوها).
ثم قال رسول الله للناس: (اسلكوا ذات اليمين) في طريق يخرجه على ثنية المرار على مهبط الحديبية من أسفل مكة.
فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش فترة قريش وأن رسول الله قد خالفهم عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش ينذرونهم، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك ثنية المرار بركت به ناقته، فقال الناس: حل حل. فقال: (ما حل؟) قالوا: حلأت الفضول. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما حلأت، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل).
ثم قال: (والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون بها حرمات الله، وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)، ثم قال للناس: (انزلوا) فنزلوا بأقصى الحديبية على بئر قليلة الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن ترجوه، فشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فنزع سهما من كنانته،
وأعطاه رجلا من أصحابه يقال له: ناجية بن عمير بن يعمر بن دارم، وهو سائق بدن رسول الله، فنزل في ذلك البئر، فغرزه في جوفه، فجاش الماء بالري، حتى صدروا عنه، ويقال: إن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها، وناجية في القليب يمتح على الناس، فقالت:
يا أيها الماتح دلوي دونكا
إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيرا ويمجدونكا
أرجوك للخير كما يرجونكا
فقال:
قد علمت جارية يمانية
أني أنا الماتح واسمي ناجية
وطعنة ذات رشاش واهية
طعنتها عند صدور العادية
قال: فبينا هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا بعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددناهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، وإن
56

شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد حموا، فوالله لأقاتلنهم على أمري هذا، حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره).
فقال بديل: سنبلغهم ما تقول.
فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤوهم: لا حاجة لنا في أن تحدثنا بشيء عنه، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا، وكذا. فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي قوم، ألستم بال الوالد؟ قالوا: بلى. قال: ألست بالولد؟ قالوا: بلى.
قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: أفلستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما ألحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا الرجل، قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آئته، قالوا: آتيه. فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي نحوا من مقالته لبديل، فقال عروة عند ذلك: يا محمد، أرأيت إن استأصلت قومك، فهل سمعت بأحد من العرب استباح، وقيل اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأشوابا من الناس خلقا أن يفروا ويدعوك.
فقال أبو بكر الصديق ح: امصص بظر اللات واللات طاغية ثقيف التي كانوا يعبدون أنحن نفر وندعه؟ فقال: من هذا؟ قالوا: أبو بكر. فقال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك، وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله، ومعه السيف وعلى رأسه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحيته، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. قال: أي غدار، أولست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة قد صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال، فإنه مال غدر لا حاجة لنا فيه). وإن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله بعينه، فقال: والله
57

لن يتنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه، وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له.
فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن يتنجم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه، وجلده، وإذا أمرهم أمرا ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم، وما يحدون النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من كنانة: دعوني آتيه. قالوا: أتيه. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال النبي: (هذا فلان من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له) فبعثت له، واستقبله قوم يلبون، فلما رأى ذلك، قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، ثم بعثوا إليه الجليس بن علقمة بن ريان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله قال صلى الله عليه وسلم (إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه).
فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، قد أكل أوتاده من طول الحبس، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى، فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما لا يحل صده، الهدي في قلائده، قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محله، فقالوا له: اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم
لك، فغضب الجليس عند ذلك، فقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظما له، والذي نفس الجليس بيده، لتخلن بين محمد، وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا له: كف عنا يا جليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به.
فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم (هذا مكرز بن حفص، وهو رجل فاجر)، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء سهيل بن عمرو فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد سهل لكم أمركم، القوم يأتون إليكم بأرحامكم، وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهدي وأظهروا التلبية لعل ذلك يلين قلوبهم) فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجت أصواتهم بالتلبية، فجاءوا، فسألوا الصلح، وقال سهيل: هات نكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ح فقال له: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم). فقال سهيل: أما الرحمن فلا أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله). فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني). ثم قال لعلي: (امح رسول الله)،
58

فقال: والله لا أمحوك أبدا، فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب، فمحاه، ثم قال: (اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم من بعض، وعلى أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجا أو معتمرا أو يبغي من فضل الله، فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله، فهو آمن على دمه وماله، وعلى إنه من أتى رسول الله من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله لم يردوه عليه).
فاشتد ذلك على المسلمين، فقال رسول الله (عليه السلام): (من جاءهم منا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا أسلال، ولا أغلال، وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد، وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش، وعهدهم دخل فيه).
فتواثبت خزاعة، فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (وعلى أن يخلوا بيننا وبين البيت، فنطوف به). فقال سهيل: ولا يتحدث العرب إنا أخذتنا ضغطة، ولكن لك ذلك من العام المقبل، فكتب: وعلى إنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت فيها ثلاثا، ولا تدخلها بالسلاح إلا السيوف في القراب، وسلاح الراكب، وعلى أن هذا الهدي حيث ما حبسناه محله، ولا تقدمه علينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (نحن نسوقه، وأنتم تردون وجوهه).
قال: فبينا رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، وإذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو، يرسف في قيوده، قد انفلت، وخرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فلما رأى سهيل أبا جندل، قام إليه، فضرب وجهه، وأخذ سلسلته، وقال: يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، وهذا أول من أقاضيك عليه، أترده إلينا؟ ثم جعل يجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين، وقد جئت مسلما لتنفرني عن ديني؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أبا جندل احتسب، فإن الله جاعل لك، ولمن معك من المستضعفين فرجا، ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا، وبين القوم عقدا، وصلحا، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهدا، وإنا لا نغدر).
59

فوثب عمر بن الخطاب إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه.
قالوا: وقد كان أصحاب رسول الله خرجوا، وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ذلك دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، وزادهم أمر أبي جندل شرا إلى ما بهم، فقال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلى يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست رسول الله؟ قال: (بلى). قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: (بلى). قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟
قال: (إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري).
قلت: ألست تحدثنا أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟ قال: (بلى). قال: (هل أخبرتك أنا نأتيه العام؟). قلت: لا، قال: (فإنك آتيه ومطوف به)، قال: ثم أتيت أبا بكر، وقلت: أليس هذا نبي الله حقا؟
قال: بلى. قلت: أفلسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قلت: فلم يعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق. قلت: أوليس كان يحدث أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟ قال: بلى. قال: أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه وتطوف به. قال عمر: فما زلت أصوم وأتصدق، وأصلي، وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به.
قالوا: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب أشهد رجالا على الصلح من المسلمين، ورجالا من المشركين، أبا بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة أخا بني عبد الأشهل، ومكرز بن حفص بن الأحنف، وهو مشرك، وعلي بن أبي طالب،
وكان هو كاتب الصحيفة.
فلما فرغ رسول الله من قصته سار مع الهدي، وسار الناس، فلما كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية، عرض له المشركون فردوا وجوهه، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم حيث حبسوه، وهي الحديبية وقال لأصحابه: (قوموا، فانحروا، ثم احلقوا). قال: فوالله ما قام منهم رجل. حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد. قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس.
فقالت أم سلمة: يا نبي الله اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنتك وتدعو
60

حلاقك فيحلقك. فقام فخرج، فلم يكلم أحدا منهم كلمة حتى نحر بدنته، ودعا حالقه، فحلقه، وكان الذي حلقه ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فأما يوم الحديبية فحلق رجال وقصر آخرون، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله المحلقين). قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: (يرحم الله المحلقين)، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قالوا: فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين؟. قال: (لأنهم لم يشكوا). قال ابن عمر: وذلك أنه تربض القوم، قالوا: لعلنا نطوف بالبيت. قال ابن عباس: وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة، ليغيظ المشركين بذلك، ثم جاءه صلى الله عليه وسلم نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: " * (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) *)... الآية، قال: فطلق عمر امرأتين كانتا له في الشرك. قال: فنهاهم أن يردونهن وأمرهم أن ترد الصدقات، حينئذ، قال رجل للزهري: أمن أجل الفروج؟ قال: نعم، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو نصير عتبة بن أسيد بن حارثة وهو مسلم، وكان ممن جلس بمكة، فكتب فيه أزهر بن عبد عوف، والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا رجلا من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابهما، وقالا: العهد الذي جعلت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله تعالى جاعل لك، ولمن معك من المستضعفين فرجا، ومخرجا).
ثم دفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو نصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيدا، فاستله الآخر، فقال: أجل والله إنه لجيد. قال: أرني أنظر إليه. فأخذه وعلا به أخا بني عامر حتى قتله، وفر المولى وخرج سريعا حتى أتى رسول الله (عليه السلام)، وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم طالعا قال: (إن هذا الرجل قد رأى فزعا).
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ويلك مالك؟) قال: قتل صاحبكم صاحبي. فوالله ما برح حتى طلع أبو نصير متوشحا بالسيف، حتى وقف على رسول الله، فقال: يا رسول الله وفت ذمتك أسلمتني ورددتني وقيل: وذريتني إليهم ثم نجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ويل أمه مستعر حرب لو كان معه رجال).
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج أبو نصير حتى أتى سيف البحر، ونزل بالغيض من ناحية ذي المروة، على ساحل البحر بطريق قريش، الذي كانوا يأخذون إلى الشام
61

وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله (عليه السلام) لأبي نصير: (ويل أمه مستعر حرب لو كان معه رجال). فخرج عصابة منهم إليه، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي نصير حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لهم فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، حتى ضيقوا على قريش، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) يناشدونه الله، والرحم، لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموا عليه المدينة.
قال الله تعالى: " * (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم) *) بأن يقتلوهم " * (فتصيبكم منهم معرة) *) قال ابن زيد: إثم، وقال ابن إسحاق: غرم الدية. وقيل: الكفارة؛ لأن الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها، ولم يعلم قاتله إيمانه الكفارة دون الدية، فقال جل ثناؤه: " * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن، فتحرير رقبة) *).
ولم يوجب على قاتل خطأ دية، وقيل: هو أن المشركين يعيبونكم ويقولون: قتلوا أهل دينهم. (والمعرة) المشقة، وأصلها من العر وهو الحرب لإذن ذلك في دخولها، ولكنه حال بينكم، وبين ذلك " * (ليدخل الله في رحمته) *) دينه الإسلام " * (من يشاء) *) من أهل مكة قبل أن تدخلوها، هكذا نظم الآية وحكمها، فحذف جواب (لولا) استغناء بدلالة الكلام عليه، وقال بعض العلماء: قوله: (لعذبنا) جواب لكلامين: أحدهما " * (لولا رجال مؤمنين) *)، والثاني: " * (لو تزيلوا) *) أي تميزوا.
ثم قال: " * (ليدخل الله في رحمته من يشاء) *) يعني المؤمنين، والمؤمنات " * (في رحمته) *) لكن جنته. قال قتادة: في هذه الآية إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار، كما يدفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة.
أخبرنا أبو عبد الله بن منجويه الدينوري، حدثنا أبو علي بن حبش المقري، حدثنا أبو الطيب أحمد بن عبد الله بن بجلي الدارمي بأنطاكية، حدثني أحمد بن يعقوب الدينوري، حدثنا محمد بن عبد الله بن محمد الأنصاري، حدثني محمد بن الحسن الجعفري، قال: سمعت جعفر ابن محمد يحدث، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: " * (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) *) قال: (هم المشركون من
أجداد النبي صلى الله عليه وسلم ممن كان بعده في عصره، كان في أصلابهم المؤمنون، فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكفار يعذب الله عذابا أليما). إذ من صلة قوله تعالى:
62

* (لعذبنا) * * (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) *) حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا برسالة رسول الله، (والحمية) فعيلة من قول القائل: حمي فلان أنفه، يحمي حمية، وتحمية. قال المتلمس:
ألا إنني منهم وعرضي عرضهم
كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما
أي يمنع. " * (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى) *) يعني الإخلاص، نظيرها قوله تعالى: " * (ولكن يناله التقوى منكم) *) وقوله: " * (إنما يتقبل الله من المتقين) *).
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن شاذان الرازي بقراءتي عليه، حدثنا أبو عبد الله الحسين ابن علي بن أبي الربيع القطان، حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، وهيثم أو وهضيم ابن همام الآملي، وعلي بن الحسين بن الجنيد، قالوا: حدثنا الحسن بن قزعة، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي ناجية، عن الطفيل بن أبي، عن أبيه، عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في قول الله تعالى: " * (وألزمهم كلمة التقوى) *) قال: (لا إله إلا الله).
وهو قول ابن عباس، وعمرو بن ميمون، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وسلمة بن كهيل، وعبيد بن عمير، وعكرمة، وطلحة بن مصرف، والربيع، والسدي، وابن زيد، وقال عطاء الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق، أخبرنا أبو بكر بن حبيب، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى المزني، حدثنا أبو نعيم، وأبو حذيفة، قالا: حدثنا سفيان، عن سلمة ابن كهيل، عن عباية بن ربعي، عن علي ح " * (وألزمهم كلمة التقوى) *) قال: لا إله إلا الله والله أكبر. وهو قول ابن عمر، وقال عطاء بن رباح: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون، أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد، حدثنا أحمد بن منصور المروزي بنيشابور، حدثنا سلمة بن سليم السلمي، حدثنا عبد الله ابن المبارك عن معمر عن ابن شهاب الزهري " * (وألزمهم كلمة التقوى) *) قال: بسم الله الرحمن الرحيم.
63

" * (وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما لقد صدق الله رسوله) *) محمدا عليه السلام. " * (الرؤيا) *) التي أراها إياه في مخرجه إلى الحديبية، أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام. " * (بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم) *) كلها " * (ومقصرين) *) بعض رؤوسكم " * (لا تخافون) *) وقوله: " * (لتدخلن) *) يعني وقال: " * (لتدخلن) *) لأن عبارة (الرؤيا) قول، وقال ابن كيسان: قوله: " * (لتدخلن) *) من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه، فأخبر الله تعالى، عن رسوله أنه قال ذلك، ولهذا استثنى تأدبا بأدب الله تعالى حيث قال له: " * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) *)، وقال أبو عبيدة: " * (إن) *) بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله كقوله: * (إن كنتم مؤمنين) * * (إن أردن تحصنا) *).
وقال الحسين بن الفضل: يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول لأن بين (الرؤيا) وتصديقها سنة، ومات منهم في السنة أناس، فمجاز الآية لتدخلن المسجد الحرام كلكم إن شاء الله آمنين.
ويجوز أن يكون الاستثناء واقعا على الخوف، والأمن لا على الدخول، لأن الدخول لم يكن فيه شك، لقوله صلى الله عليه وسلم عند دخول المقبرة: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) فالاستثناء واقع على اللحوق دون الموت.
" * (فعلم ما لم تعلموا) *) أن الصلاح كان في الصلح، وهو قوله: " * (ولولا رجال مؤمنون) *).. الآية. " * (فجعل من دون ذلك) *) أي من دون دخولهما المسجد الحرام، وتحقيق رؤيا رسول الله " * (فتحا قريبا) *) وهو صلح الحديبية عن أكثر المفسرين، قال الزهري: ما فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية، لأنه إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث، والمناظرة، فلم يكلم أحد بالإسلام بعقل شيئا إلا دخل فيه في تينك السنتين في الإسلام، مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر، وقال ابن زيد: هو فتح خيبر فتحها الله تعالى عليهم حين رجعوا من الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحديبية كلهم إلا رجلا واحدا من الأنصار، وهو أبو دجانة سماك بن خرشة كان قد شهد الحديبية، وغاب عن خيبر.
2 (* (هو الذىأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا * محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم فى وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره
64

فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) *) 2
" * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) *) أنك نبي صادق فيما تخبر، ونصب " * (شهيدا) *) على التفسير وقيل: على الحال، والقطع، ثم قال: " * (محمد رسول الله) *) تم الكلام هاهنا، ثم قال مبتدئا: " * (والذين معه) *) (الواو) فيه (واو) الاستئناف " * (والذين)
*) في محل الرفع على الابتداء " * (أشداء) *) غلاظ " * (على الكفار) *) لا تأخذهم فيهم رأفة. " * (رحماء بينهم) *) متعاطفون متوادون بعضهم على بعض كقوله تعالى: * (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * * (تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله) *) أن يدخلهم جنته " * (ورضوانا) *) أن يرضى عنهم. " * (سيماهم) *) علامتهم " * (في وجوههم من أثر السجود) *) واختلف العلماء في هذه السيماء، فقال قوم: هو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة، يعرفون بتلك العلامة، أنهم سجدوا في الدنيا، وهي رواية العوفي، عن ابن عباس، وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس: استنارت وجوههم من كثرة ما صلوا.
وقال شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم، كالقمر ليلة البدر. قال آخرون: السمت الحسن، والخشوع، والتواضع، وهو رواية الوالبي عن ابن عباس، قال: أما إنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيماء الإسلام وسجيته، وسمته وخشوعه، وقال منصور: سألت مجاهدا عن قوله سبحانه وتعالى: " * (سيماهم في وجوههم) *)، أهو الأثر يكون بين عيني الرجل؟ قال: لا ربما يكون بين عيني الرجل، مثل ركبة العنز، وهو أقسى قلبا من الحجارة، ولكنه نور في وجوههم من الخشوع، وقال ابن جريج: هو الوقار، والبهاء، وقال سمرة بن عطية: هو البهج، والصفرة في الوجوه، وأثر السهرة. قال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى، وما هم بمرضى، وقال الضحاك: أما إنه ليس بالندب في الوجوه، ولكنه الصفرة.
وقال عكرمة، وسعيد بن جبير: هو أثر التراب على جباههم. قال أبو العالية: يسجدون على التراب لا على الأثواب، وقال سفيان الثوري: يصلون بالليل، فإذا أصبحوا رؤي ذلك في وجوههم، بيانه قوله: صلى الله عليه وسلم: (من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار).
قال الزهري: يكون ذلك يوم القيامة، وقال بعضهم: هو ندب السجود، وعلته في الجبهة من كثرة السجود
65

وبلغنا في بعض الأخبار إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا نار أنضجي، يا نار أحرقي، وموضع السجود فلا تقربي، وقال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمسة.
" * (ذلك) *) الذي ذكرت " * (مثلهم) *) صفتهم " * (في التوراة) *) وهاهنا تم الكلام، ثم قال: " * (ومثلهم) *) صفتهم " * (في الانجيل) *) فهما مثلان " * (كزرع أخرج شطأه) *) قرأه العامة بجزم (الطاء)، وقرأ بعض أهل مكة، والشام بفتحه، وقرأ أنس، والحسن، ويحيى بن وثاب (شطاه) مثل عصاه. وقرأ الجحدري (شطه) بلا همزة، وكلها لغات. قال أنس: (شطأه) نباته، وقال ابن عباس: سنبلة حين يلسع نباته عن جنانه. ابن زيد: أولاده. مجاهد، والضحاك: ما يخرج بجنب الحقلة فينمو ويتم عطاء جوانبه. مقاتل: هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده، فهو (شطأه). السدي: هو أن يخرج معه ألطافه الأخرى. الكسائي: طرفه. الفراء: شطأ الزرع أن ينبت سبعا، أو ثمانيا، أو عشرا. قال الأخفش: فراخة يقال: أشطأ الزرع، فهو مشطي إذا أفرخ، وقال الشاعر:
أخرج الشطأ على وجه الثرى
ومن الأشجار أفنان الثمر
وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمد (عليه السلام) يعني أنهم يكونون قليلا، ثم يزدادون، ويكثرون، ويقوون، وقال قتادة: مثل أصحاب محمد (عليه السلام) في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. " * (فآزره) *) قواه وأعانه وشد أزره " * (فاستغلظ) *) فغلظ، وقوى " * (فاستوى) *) نما وتلاحق نباته، وقام " * (على سوقه) *) أصوله " * (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) *) يعني أن الله تعالى فعل ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه " * (ليغيظ بهم الكفار) *).
أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق، أخبرنا أبو بكر محمد بن يوسف بن حاتم بن نصر، حدثنا الحسن بن عثمان، حدثنا أحمد بن منصور الحنظلي، المعروف بزاج المروزي، حدثنا سلمة بن سليمان، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مبارك بن فضلة، عن الحسن في قوله تعالى: " * (محمد رسول الله) *) قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم " * (والذين معه) *) أبو بكر الصديق ح " * (أشداء على الكفار) *) عمر بن الخطاب ح " * (رحماء بينهم) *) عثمان بن عفان ح " * (تراهم ركعا سجدا) *) علي بن أبي طالب ح " * (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) *) طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وسعيد، وأبو عبيدة الجراح " * (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) *) قال: المبشرون عشرة أولهم أبو بكر، وآخرهم أبو عبيدة الجراح " * (ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل) *) قال: نعتهم في التوراة والإنجيل " * (كمثل زرع) *) قال
66

الزرع محمد صلى الله عليه وسلم " * (أخرج شطأه) *) أبو بكر الصديق، " * (فآزره) *) عمر بن الخطاب " * (فاستغلظ) *) عثمان بن عفان، يعني استغلظ بعثمان الإسلام " * (فاستوى على سوقه) *) علي بن أبي طالب يعني استقام الإسلام بسيفه " * (يعجب الزراع) *) قال: المؤمنون " * (ليغيظ بهم الكفار) *) قال: قول عمر لأهل مكة: لا نعبد الله سرا بعد هذا اليوم.
أخبرنا ابن منجويه الدينوري، حدثنا عبد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا محمد بن مسلم بن واره، حدثنا الحسين بن الربيع، قال: قال ابن إدريس ما آمن بأن يكونوا قد ضارعوا الكفار، يعني الرافضة، لأن الله تعالى يقول: " * (ليغيظ بهم الكفار) *).
أخبرنا الحسين بن محمد العدل، حدثنا محمد بن عمر بن عبد الله بن مهران، حدثنا أبو مسلم الكجي، حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا عمران، عن الحجاج، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يكون في آخر الزمان قوم ينبزون أو يلمزون الرافضة يرفضون الإسلام ويلفظونه، فاقتلوهم فإنهم مشركون).
أخبرنا الحسين بن محمد، حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي، حدثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي، حدثنا أبي، حدثنا أبو العوام أحمد بن يزيد الديباجي، حدثنا المدني، عن زيد، عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: (يا علي أنت في الجنة وشيعتك في الجنة، وسيجئ بعدي قوم يدعون ولايتك، لهم لقب يقال له: الرافضة، فإن أدركتهم فاقتلوهم فإنهم مشركون).
قال: يا رسول الله ما علامتهم؟ قال: (يا علي إنهم ليست لهم جمعة، ولا جماعة يسبون أبا بكر، وعمر).
" * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *) أي الطاعات، وقد مر تأويله، وقال أبو العالية في هذه الآية: " * (وعملوا الصالحات) *) يعني الذين أحبوا أصحاب رسول الله المذكورين فيها فبلغ ذلك الحسن، فارتضاه، فاستصوبه منهم، قال ابن جرير: يعني من الشطأ الذي أخرجه الزرع، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة رد (الهاء) و (الميم) على معنى الشطأ لا على لفظه، لذلك قال: " * (منهم) *) ولم يقل: منه. " * (منهم مغفرة وأجرا عظيما) *).
(في فضل المفضل)، حدثنا الشيخ أبو محمد المخلدي، إملاء يوم الجمعة في شعبان سنة
67

أربع وثمانين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد، وعبد الله بن محمد بن مسلم، قالا: حدثنا هلال بن العلاء، قال: حدثنا حجاج بن محمد، عن أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن شداد بن عبد الله، عن أبي أسماء الرجبي، عن ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضلني بالمفضل).
وأخبرنا أبو الحسن الحباري، قال: حدثنا أبو الشيخ الإصبهاني، قال: أخبرنا ابن أبي عاصم، قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، قال: حدثنا سعد ابن قيس، عن قتادة، عن أبي الملح الهذلي، عن واثلة بن الأسقع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت السبع الطوال مكان التوراة، وأعطيت المثاني مكان الإنجيل، وأعطيت المئين مكان الزبور، وفضلت بالمفضل).
68

((سورة الحجرات))
مدنية. وهي ألف وأربعمائة وخمسة وسبعون حرفا، وثلاثمائة وثلاثة وأربعون كلمة، وثماني عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم العبدوي قرأه عليه سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عمر ومحمد بن جعفر بن محمد العدل، قال: حدثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا سلام بن سليم المدائني، قال: حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ الحجرات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله ومن عصاه).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم * ياأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولائك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) *) قرأ العامة (تقدموا) بضم (التاء) وكسر (الدال) من التقديم، وقرأ الضحاك، ويعقوب بفتحهما من التقدم. واختلف المفسرون في معنى الآية، فروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. عطية عنه: لا تتكلموا بين يدي كلامه.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسن بن مالك الشيباني، قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن سعيد بن عثمان الخزاز. قال: حدثنا حسين بن محارق أبو جنادة، عن عبد الله بن سلامة، عن السبعي، عن جابر بن عبد الله " * (لا تقدموا بين يدي الله
69

ورسوله) *) قال: في الذبح يوم الأضحى، وإليه ذهب الحسن، قال: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن ناسا من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
وأخبرنا عبد الخالق، قال: أخبرنا ابن حيي قال: حدثنا أبو بكر بن أبي العوام الرياحي، قال: حدثنا أبي. قال: حدثنا النعمان بن عبد السلم التيمي، عن زفر بن الهذيل، عن يحيى بن عبد الله التيمي عن حبال بن رفيدة، عن مسروق، عن عائشة خ في قوله: " * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) *) قالت: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم.
وروي عن مسروق أيضا، قال: دخلت على عائشة في اليوم الذي جئت فيه، فقالت للجارية: اسقيه عسلا، فقلت: إني صائم. فقالت: قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم، وفيه نزلت " * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) *) وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدثنا عمر بن الخطاب. قال: حدثنا عبد الله بن الفضل. قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم. قال: حدثني هشام بن يوسف، عن ابن جريح، قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبرهم، قال: قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد زرارة، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فأنزل الله سبحانه: " * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) *)... الآية.
وقال قتادة: نزلت في ناس كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، لوضع كذا. فكره الله ذلك وقدم فيه. مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيه الله على لسانه.
الضحاك: يعني في القتال وشرائع الدين يقول: لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله. حيان، عن الكلبي لا تستبقوا رسول الله بقول، ولا فعل حتى يكون هو الذي يأمركم.
وبه قال السدي، وقال عطاء الخراساني: نزلت في قصة بئر معونة، وقيل في الثلاثة الذين نجوا الرجلين السلميين، اللذين اعتزما إلى بني عامر وأخذهم مالهما وكانا من أهل العهد، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق الخبر إليه، فقال: (بئس ما صنعتم، هما من أهل ميثاقي وهذا الذي معكم من نسوتي)، قالا: يا رسول الله إنهما زعما أنهما من بني عامر، فقلنا: رجلان ممن قتل إخواننا.
فقلنا: هما لذلك. وأتاه السلميون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا قود لهما لأنهما إعتزما إلى
70

عدونا). ولكنه أيدهما، فوادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله سبحانه في ذلك: " * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) *) حين قتلوا الرجلين، وهذه رواية ماذان عن ابن عباس.
وقال ابن زيد: لا تقطعوا أمرا دون رسول الله، وقيل: لا تمشوا بين يدي رسول الله، وكذلك بين أيدي العلماء فإنهم ورثة الأنبياء.
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن الخبازي، قال: حدثنا أبو القاسم موسى بن محمد الدينوري بها، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا رجل بمكة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي الدرداء، قال: رآني النبي صلى الله عليه وسلم أمشي أمام أبي بكر، فقال: (تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت الشمس، ولا غربت على أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ن والمرسلين خيرا وأفضل من أبي بكر).
وقيل: إنها نزلت في قوم كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سئل الرسول عن شيء، خاضوا فيه، وتقدموا بالقول، والفتوى، فنهوا عن ذلك، وزجروا عن أن يقول أحد في شيء من دين الله سبحانه، قبل أن يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقيل: لا تطلبوا منزلة وراء منزلته. قال الأخفش: تقول العرب: فلان تقدم بين يدي أبيه، وأمه، ويتقدم إذا استبد بالأمر دونهما. " * (واتقوا الله) *) في تضييع حقه، ومخالفة أمره. " * (إن الله سميع) *) لأقوالكم " * (عليم) *) بأفعالكم، وأحوالكم.
" * (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) *) الآية نزلت في ثابت بن قيس ابن شماس، كان في أذنه وقر، وكان جهوري الصوت، فإذا كلم إنسانا جهر بصوته، فربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينادي بصوته، فأنزل الله سبحانه " * (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) *) * * (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) *) أي لا تغلظوا له في الخطاب، ولا تنادوه باسمه يا محمد، يا أحمد، كما ينادي بعضكم بعضا، ولكن فخموه، واحترموه، وقولوا له قولا لينا، وخطابا حسنا، بتعظيم، وتوقير: يا نبي الله، يا رسول الله، نظيره قوله سبحانه: " * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) *).
" * (أن تحبط أعمالكم) *) كي لا تبطل حسناتكم. تقول العرب: أسند الحائط أن يميل " * (وأنتم لا تشعرون) *) فلما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق، فمر به عاصم بن عدي، فقال: ما
71

يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في، وأنا رفيع الصوت، أخاف أن يحبط عملي، وأن أكون من أهل النار، فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتا البكاء، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي، فشدي على الضبة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرجت عطفه، وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله، أو يرضى عني رسول الله، فأتى عاصم رسول الله، فأخبره بخبره. فقال: (اذهب، فادعه لي). فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده، فجاء إلى أهله، فوجده في بيت الفرس، فقال له: إن رسول الله يدعوك، فقال: أكسر الصبة، فأتيا رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما يبكيك يا ثابت؟) فقال: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما ترضى أن تعيش سعيدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة)، فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله، فأنزل الله سبحانه: " * (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) *) الآية.
قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة، يمشي بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة، رأى ثابت في المسلمين بعض الانكسار، وانهزمت طائفة منهم، فقال: أف لهؤلاء، وما يصنعون. ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله مثل هذا، ثم ثبتا، ولم يزالا يقاتلان حتى قتلا. وثابت بن قيس عليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام أنه قال له: اعلم أن فلانا رجل من المسلمين نزع درعي، فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عنده فرس تستر في طوله، وقد وضع على درعي لرمه، فأت خالد بن الوليد، فأخبره حتى يسترد درعي وأت أبا بكر خليفة رسول الله وقل له: إن علي دينا حتى يقضي، وفلان من رقيقي عتيق.
فأخبر الرجل خالدا فوجد درعه والفرس على ما وصفه، فاسترد الدرع، وأخبر خالد أبا بكر تلك الرؤيا، فأجاز أبو بكر وصيته. قال مالك بن أنس: لا أعلم أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.
حدثنا أبو محمد المخلدي، قال: أخبرنا أبو العباس السراج، قال: حدثنا زياد بن أيوب، قال: حدثنا عباد بن العوام، ويزيد بن هارون وسعيد بن عادر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، قال: حدثنا سعيد، عن أبي هريرة. قال: لما نزلت " * (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) *)... الآية، قال أبو بكر: والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار.
72

وروى ابن أبي مليكة عن أبي الزبير، قال: لما نزلت هذه الآية، ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى
يستفهمه مما يخفض صوته، فأنزل الله سبحانه فيهم: " * (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) *) إجلالا له " * (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) *) أي اختبرها، فأخلصها، واصطفاها كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج خالصه، وقال ابن عباس: أكرمها.
وأخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل النيسابوري، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن أحمد الإصبهاني، قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد القريشي، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن أبي خاتم، قال: حدثني جعفر بن أبي جعفر، عن أحمد بن أبي الخولدي، قال: سمعت أبا سلمان يقول: قال عمر بن الخطاب في قوله: " * (الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) *) قال: أذهب الشهوات منها " * (لهم مغفرة وأجر عظيم) *) ويقال: إن هذه الآيات الأربع من قوله: " * (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم) *) إلى قوله: " * (والله غفور رحيم) *) نزلت في وفد تميم.
وهو ما أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمد، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن صالح بن هاني الوراق سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، قال: حدثنا الفضل بن محمد بن المسيب بن موسى الشعراني، قال: حدثنا القاسم بن أبي شيبة، قال: حدثنا معلى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر بن عمر بن الحكم، عن جابر بن عبد الله، قال: جاءت بنو تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب: يا محمد اخرج علينا، فإن مدحنا زين وذمنا شين. قال: فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، فخرج عليهم، وهو يقول: (إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين).
قالوا: نحن ناس من بني تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا).
فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك، وفضل قومك.
73

فقام، فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عدة، ومالا، وسلاحا، فمن أنكر علينا قولنا، فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وفعال هي خير من فعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيب رسول الله: (قم فأجبه).
فقام، فقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوها وأعظمهم أحلاما. فأجابوه، فقالوا: الحمد لله الذي جعلنا أنصاره، ووزراء رسوله، وعزا لدينه، فنحن نقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها منع منا ماله، ونفسه، ومن أبى قتلناه، وكان زعمه في الله علينا هينا، أقول قولي وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم يا فلان، فقل أبياتا تذكر فيها فضلك، وفضل قومك. فقام الشاب، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم الناس عند القحط كلهم
من السديف إذا لم يؤنس القزع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد
إنا كذلك عند الفخر نرتفع
قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حسان بن ثابت، فانطلق إليه الرسول، فقال: وما تريد مني وكنت عنده؟ قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم، وخطيبهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس، فأجابه، وتكلم شاعرهم، فأرسل إليك لتجيبه.
وذكر له قول شاعرهم. قال: فجاء حسان، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبه فقال: يا رسول الله مره، فليسمعني ما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اسمعه ما قلت)، فأنشده ما قال، فقال حسان:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
قد شرعوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته
تقوى الإله وكل الخير يصطنع
ثم قال حسان:
نصرنا رسول الله والدين عنوة
على رغم عات من معد وحاضر
بضرب كأبزاغ المخاض مشاشه
وطعن كأفواه اللقاح الصوادر
وسل أحدا يوم استقلت شعابه
بضرب لنا مثل الليوث الجواذر
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى
إذا طاب ورد الموت بين العساكر
ونضرب هام الدارعين وننتمي
إلى حسب من جذم غسان قاهر
فلولا حياء الله قلنا تكرما
على الناس بالخيفين هل من منافر
فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى
وأمواتنا من خير أهل المقابر
74

قال: فقام الأقرع بن حابس، فقال: إني والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء، وإني قد قلت شعرا، فاسمعه مني، فقال: هات، فقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا
إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنا رؤس الناس من كل معشر
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وإن لنا المرباع في كل غارة
تكون بنجد أو بأرض التهائم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قم يا حسان فأجبه). فقام حسان، فقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم
يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم
لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد كنت غنيا يا أخا دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أن الناس قد نسوه).
قال: فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد عليهم من قول حسان. ثم رجع حسان إلى شعره. فقال:
كأفضل ما نلتم من المجد والعلى
ردافتنا من بعد ذكر الأكارم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم
وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا
ولا تفخروا عند النبي صلى الله عليه وسلم بدارم
وإلا ورب البيت مالت أكفنا
على هامكم بالمرهفات الصوارم
قال: فقام الأقرع بن حابس، فقال: إن محمدا المولى، إنه والله ما أدري ما هذا الأمر، تكلم خطيبنا، فكان خطيبهم أحسن قولا، وتكلم شاعرنا، فكان شاعرهم أشعر، وأحسن قولا. ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ما يضرك ما كان قبل هذا). ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وقد كان يخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم، وكان قيس بن عاصم يبغضه لحداثة سنه، فأعطاه رسول الله مثل ما أعطى القوم، فأزرى به قيس، وقال فيه أبيات شعر وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: " * (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) *) إلى قوله " * (وأجر عظيم) *) يعني جزاء وافرا، وهو الجنة.
2 (* (إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم
75

لكان خيرا لهم والله غفور رحيم * ياأيها الذين ءامنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين * واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم فى كثير من الامر لعنتم ولاكن الله حبب إليكم الايمان وزينه فى قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولائك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم
حكيم * وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) *) 2
" * (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) *) يعني أعراب تميم، حيث نادوا: يا محمد اخرج علينا، فإن مدحنا زين وذمنا شين، قاله قتادة. قال ابن عباس: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى حي من بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصين الفزاري، فلما علموا أنه توجه نحوهم، هربوا، وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة، وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري، فقدموا وقت الظهيرة، وواقفوا رسول الله في أهله قائلا، فلما رأتهم الذراري جهشوا إلى آبائهم يبكون، وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت، وحجرة، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلوا ينادون: يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد فادنا عيالنا.
فنزل جبريل، فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن تجعل بينك، وبينهم رجلا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (أترضون أن يكون بيني وبينكم سمرة بن عمرو، وهو على دينكم؟).
فقالوا: نعم. قال سمرة: أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد، وهو الأعور بن شامة فرضوا به.
فقال الأعور: أرى أن يفادي نصفهم، ويعتق نصفهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (قد رضيت).
ففادى نصفهم وأعتق نصفهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان عليه محرر من ولد إسماعيل، فليعتق منهم). فأنزل الله سبحانه وتعالى: " * (إن الذين ينادونك) *)... الآية، وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من الغرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به، وأن يكن ملكا نعش في جناحه. فجاءوا إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله تعالى: " * (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) *) وهي جمع الحجر، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع، وفيه لغتان: فتح (الجيم) وهي قراءة أبي جعفر، كقول الشاعر:
76

أما كان عباد كفيا لدارم
يلي ولأبيات بها الحجرات
يعني يلي ولبني هاشم.
" * (أكثرهم) *) جهلاء " * (لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم) *) لأنك كنت تعتقهم جميعا، وتطلقهم بلا فداء. " * (والله غفور رحيم) *) أخبرنا ابن منجويه، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي، قال: حدثني هاشم بن القاسم الحراني، قال: حدثني يعلى بن الأشدق، قال: حدثني سعد بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله سبحانه: " * (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) *) قال: (هم الجفاة من بني تميم، لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال، لدعوت الله عز وجل أن يهلكهم).
" * (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ) *) الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا، وكان بينه، وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فهابهم، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق، قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله، وهم أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقاه، ونكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله، فبدا له في الرجوع، فخشينا أن يكون إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه، وغضب رسوله، فأبهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر، وأمره أن يخفي عليهم قدومه.
وقال له: (انظر، فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم، فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم تر ذلك، فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار).
ففعل ذلك خالد ووافاهم، فسمع منهم آذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ منهم صدقاتهم، ولم ير منهم إلا الطاعة، والخير، فانصرف خالد إلى رسول الله، وأخبره الخبر، فأنزل الله سبحانه: " * (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) *) يعني الوليد بن عقبة بن أبي معيط سماه الله فاسقا، نظيره " * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) *)، قال سهل بن عبد الله وابن زيد: الفاسق الكذاب. أبو الحسين الوراق: هو المعلن بالذنب، وقال ابن طاهر وابن زيد: الفاسق الذي لا يستحي من الله سبحانه
77

بنبا: بخبر " * (فتبينوا أن تصيبوا) *) كي لا تصيبوا بالقتل، والقتال. " * (قوما) *) براء " * (بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله) *) فاتقوا أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإن الله سبحانه يخبره أنباءكم، ويعرفه أحوالكم، فتفتضحوا. " * (لو يطيعكم في كثير من الامر) *) فيحكم برأيكم، ويقبل قولكم. " * (لعنتم) *) لأثمتم وهلكتم. " * (ولكن الله حبب إليكم الايمان) *) فأنتم تطيعون رسول الله وتأتمون به، فيقيكم الله بذلك العنت. " * (وزينه) *) وحسنه " * (في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) *).
ثم انتقل من الخطاب إلى الخبر، فقال عز من قائل: " * (أولئك هم الراشدون) *) نظيرها قوله سبحانه: " * (وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) *)، قال النابغة:
يا دارمية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأبد
" * (فضلا) *) أي كان هذا فضلا " * (من الله ونعمة والله عليم حكيم وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) *) قال أكثر المفسرين: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على مجلس من مجالس الأنصار وهو على حماره، فبال حماره، فأمسك عبد الله بن أبي بأنفه وقال: إليك عنا بحمارك، فقد آذانا نتنه. فقال عبد الله بن رواحة: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك.
فغضب لعبد الله بن أبي رجل من قومه، وغضب لعبد الله بن رواحة رجل من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه حتى استسبوا، وتجالدوا بالأيدي، والجريد، والنعال، ولم يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمساكهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، فلما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطلحوا، وكف بعضهم عن بعض، وأقبل بشير بن النعمان الأنصاري مشتملا على سيفه، فوجدهم قد اصطلحوا، فقال عبد الله بن أبي: أعلي تشتمل بالسيف يا بشير؟ قال: نعم، والذي أحلف به لو جئت قبل أن تصطلحوا لضربتك حتى أقتلك، فأنشأ عبد الله بن أبي يقول:
متى ما يكن مولاك خصمك جاهدا
تظلم ويصرعك الذين تصارع
قال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار، كانت بينهما مذاراة في حق بينهما، فقال أحدهما للآخر: لآخذن حقي منك عنوة، لكثرة عشيرته، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما، حتى تدافعوا، وقد تناول بعضهم بعضا بالأيدي، والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف. وروى محمد بن الفضيل، عن الكلبي أنها نزلت في حرب
78

سمير وحاطب، وكان سمير قتل حاطبا، فجعل الأوس والخزرج يقتتلون إلى أن أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وأمر نبيه، والمؤمنين أن يصلحوا بينهم.
وروى سفيان عن السدي، قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل، وكان بينها، وبين زوجها شيء، فرمى بها إلى علية، وحبسها فيها، فبلغ ذلك قومها فجاءوا، وجاء قومه، فاقتتلوا بالأيدي، والنعال، فأنزل الله سبحانه تعالى: " * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) *) الآية.
" * (فأصلحوا بينهما) *) بالدعاء إلى حكم كتاب الله سبحانه، والرضا بما فيه لهما، وعليهما. " * (فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء) *) ترجع " * (إلى أمر الله) *) وأبت الإجابة إلى حكم الله تعالى له، وعليه في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه. " * (فإن فاءت) *) رجعت إلى الحق " * (فأصلحوا بينهما بالعدل) *) بحملهما على الإنصاف والرضى بحكم الله، وهو العدل، " * (وأقسطوا) *) واعدلوا. " * (إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة) *) في الدين، والولاية " * (فأصلحوا بين أخويكم) *) إذا اختلفا، واقتتلا، وقرأ ابن سيرين، ويعقوب. بين (اخوتكم) (بالتاء) على الجمع، وقرأ الحسن (إخوانكم) (بالألف) و (النون). " * (واتقوا الله) *) فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره " * (لعلكم ترحمون) *).
قال أبو عثمان البصري: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن اخوة النسب تنقطع لمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وسئل الجنيد عن الأخ، فقال: هو أنت في الحقيقة إلا إنه غيرك في الشخص. أخبرني ابن منجويه، قال: حدثنا عمر بن الخطاب. قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسوحي. قال: حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم. قال: حدثنا إسماعيل بن رافع، عن ابن أبي سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يعيبه، ولا يخذله، ولا يتطاول عليه في البنيان، فيستر عليه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يعرف له، ولا يشتري لبنيه الفاكهة، فيخرجون بها إلى صبيان جاره، ولا يطعمونهم منها).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (احفظوا، ولا يحفظه منكم إلا قليل).
وفي هاتين الآيتين دليل على ان البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله سبحانه وتعالى سماهم أخوة مؤمنين مع كونهم باغين، عاصين. يدل عليه ما روى الأعور أن علي بن أبي طالب ح سئل وهو القدوة في قتال أهل البغي، عن أهل الجمل، وصفين، أمشركون هم؟
فقال: لا، من الشرك فروا. فقيل: أهم منافقون؟ فقال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا
79

وقد أخبرني ابن منجويه، قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبار الصوفي قال: حدثنا أبو نصر التمار، قال: حدثنا كوثر، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عبد الله هل تدري كيف حكم الله سبحانه فيمن بغى من هذه الأمة؟).
قال: الله ورسوله أعلم. قال: (لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها). وسئل محمد بن كعب القرظي عن هاتين الآيتين، فقال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم أجر المصلح بين الناس، كأجر المجاهد عند الناس، وقال بكر بن عبد الله: امش ميلا، وعد مريضا، امش ميلين، وأصلح بين اثنين، امش ثلاثة أميال، وزر أخاك في الله.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولائك هم الظالمون * ياأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب
أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) *) الآية، قال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس، وذلك أنه كان في إذنه وقر، فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس، أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه، فيسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم، وقد فاته من صلاة الفجر ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم (منه، فربض) كل رجل بمجلسه، فلا يكاد يوسع أحد لأحد، فكان الرجل إذا جاء، فلم يجد مجلسا، قام قائما، كما هو، فلما فرغ ثابت من الصلاة، وقام منها، أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يتخطى رقاب الناس، ويقول: تفسحوا تفسحوا، فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل.
فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد أصبت مجلسا، فاجلس، فجلس ثابت من خلفه مغضبا، فلما أبينت الظلمة، غمز ثابت الرجل، وقال: من هذا؟ قال: أنا فلان. فقال له ثابت: ابن فلانة. ذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسه واستحيى، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال الضحاك: نزلت في وفد تميم الذين ذكرناهم في صدر السورة، استهزءوا بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمار، وخباب، وبلال، وصهيب، وسلمان، وسالم مولى أبي حذيفة، لما رأوا من رثاثة حالهم، فأنزل الله سبحانه في الذين آمنوا منهم " * (يا أيها الذين آمنوا لا
80

يسخر قوم من قوم) *) أي رجال من رجال، والقوم اسم يجمع الرجال والنساء، وقد يختص بجمع الرجال، كقول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
" * (عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن) *) نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سخرتا من أم سلمة، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة وهي ثوب أبيض ومثلها السب وسدلت طرفيها خلفها. فكانت تجرها.
فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب. فهذا كان سخريتهما.
وقال أنس: نزلت في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عيرن أم سلمة بالقصر. ويقال: نزلت في عائشة، أشارت بيدها في أم سلمة أنها قصيرة، وروى عكرمة، عن ابن عباس أن صفية بنت حي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يعيرني فيقلن: يا يهودية بنت يهوديين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هلا قلت: إن أبي هارون، وابن عمي موسى، وإن زوجي محمد)، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
" * (ولا تلمزوا أنفسكم) *) أي لا يعيب بعضكم بعضا، ولا يطعن بعضكم على بعض. وقيل: اللمز العيب في المشهد، والهمز في المغيب، وقال محمد بن يزيد: اللمز باللسان، والعين، والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان، قال الشاعر:
إذا لقيتك عن شخط تكاشرني
وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه
" * (ولا تنابزوا بالالقاب) *) قال أبو جبير بن الضحاك: فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وما منا رجل إلا له اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا الرجل الرجل باسم، قلنا: يا رسول الله، إنه يغضب من هذا. فأنزل الله عز وجل: " * (ولا تنابزوا بالألقاب) *).
قال قتادة، وعكرمة: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق، يا كافر، وقال الحسن: كان اليهودي، والنصراني يسلم، فيقال له بعد إسلامه: يا يهودي، يا نصراني، فنهوا عن ذلك، وقال ابن عباس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات، ثم تاب منها، وراجع الحق، فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله
81

" * (بئس الإسم الفسوق بعد الايمان) *) يقول: من فعل ما نهيت عنه من السخرية، واللمز والنبز، فهو فاسق، و " * (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) *) فلا تفعلوا ذلك، فتستحقوا (اسم الفسوق) وقيل: معناه بئس الاسم الذي تسميه، بقولك فاسق، بعد أن علمت أنه آمن.
" * (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن) *)... الآية نزلت في رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتابا رفيقيهما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر، ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسورين يخدمهما، ويحقب حوائجهما، ويتقدم لهما إلى المنزل، فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام، والشراب، فضم سلمان الفارسي ح إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدم سلمان، فغلبته عيناه، فلم يهيئ لهما شيئا، فلما قدما، قالا له: ما صنعت شيئا؟ قال: لا. قالا: ولم؟ قال: غلبتني عيناي، فقالا له: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واطلب لنا منه طعاما وإداما، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له: إن كان عنده فضل من طعام، وإدام، فليعطك).
وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله، فأتاه، فقال: ما عندي شيء، فرجع سلمان إليهما، وأخبرهما بذلك، فقالا: كان عند أسامة، ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة، فلم يجد عندهم شيئا، فلما رجع سلمان، قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: (ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما) قالا: يا رسول الله، والله ما تناولنا يومنا هذا لحما، فقال: (ظللتم
تأكلون لحم سلمان، وأسامة).
فأنزل الله سبحانه: " * (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن) *). " * (إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا) *) قرأه العامة (بالجيم) وقرأ ابن عباس، وأبو رجاء العطاردي (ولا تحسسوا) (بالحاء)، قال الأخفش: ليس يبعد أحدهما عن الآخر. إلا أن التجسس لما يكتم، ويوارى، ومنه الجاسوس، والتحسس (بالحاء) تحبر الأخبار، والبحث عنها، ومعنى الآية خذوا ما ظهر، ودعوا ما ستر الله، ولا تتبعوا عورات المسلمين.
أخبرني ابن منجويه، قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا الفريابي قال: حدثنا قتيبة بن سعد، عن مالك، عن أبي الزياد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم
82

والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا).
وأخبرني ابن منجويه، قال: حدثنا ابن حبش، قال: أخبرنا علي بن زنجويه. قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، عن المسور بن مخرمة، عن عبد الرحمن بن عوف، أنه حرس ليلة عمر بن الخطاب بالمدينة، فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فلما دنوا منه، إذا باب يجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة، ولغط، فقال عمر، وأخذ بيد عبد الرحمن: أتدري بيت من هذا؟ قال: قلت: لا.
قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن بيثرب، فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى أنا قد أتينا ما قد نهى الله سبحانه، فقال: " * (ولا تجسسوا) *) فقد تجسسنا، فانصرف عمر عنهم، وتركهم.
وبه عن معمر، قال: أخبرني أيوب، عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب، حدث أن أبا محجن الثقفي شرب الخمر في بيته هو وأصحابه، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين إن هذا لا يحل لك، فقد نهاك الله عز وجل عن التجسس، فقال عمر: ما يقول هذا؟ فقال زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم: صدق يا أمير المؤمنين، هذا التجسس، قال: فخرج عمر ح، وتركه. وروى زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب خرج ذات ليلة، ومعه عبد الرحمن بن عوف ذ يعسان إذ شب لهما نار، فأتيا الباب، فاستأذنا، ففتح الباب، فدخلا، فإذا رجل، وامرأة تغني، وعلى يد الرجل قدح، وقال عمر للرجل: وأنت بهذا يا فلان؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: فمن هذه منك؟ قال: امرأتي. قال: وما في القدح؟ قال: ماء زلال. فقال للمرأة: وما الذي تغنين؟ فقالت: أقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه
وأرقني ألا حبيب ألاعبه
فوالله لولا خشية الله والتقى
لزعزع من هذا السرير جوانبه
ولكن عقلي والحياء يكفني
وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ثم قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين، قال الله: " * (ولا تجسسوا) *) فقال عمر: صدقت، وانصرف. وأخبرنا الحسين، قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي. قال: حدثنا
83

الحسين بن علوية. قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدثنا المسيب، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: قيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا؟ فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، فإن يظهر لنا شيئا نأخذه به.
" * (ولا يغتب بعضكم بعضا) *) أخبرنا الحسين، قال: حدثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقري. قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زيد أبو بكر السطوي، قال: حدثنا علي بن اشكاب، قال: حدثنا عمر بن يونس اليمامي، قال: حدثنا جهضم بن عبد الله، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال: (أن يذكر أخاك بما يكره، فإما إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته).
وقال معاذ بن جبل: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القوم رجلا، فقالوا: ما يأكل إلا ما أطعم، ولا يرحل إلا ما رحل، فما أضعفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتبتم أخاكم).
قالوا: يا رسول الله وغيبة أن نحدث بما فيه؟ فقال: (بحسبكم أن تحدثوا عن أخيكم بما فيه).
وروى موسى بن وردان عن أبي هريرة أن رجلا قام من عند رسول الله، فرأوا في قيامه عجزا، فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلانا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكلتم أخاكم واغتبتموه).
" * (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) *)، قال قتادة: يقول: كما أنت كاره أن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها، فكذلك فأكره لحم أخيك وهو حي، " * (فكرهتموه) *) قال الكسائي، والفراء: معناه، فقد كرهتموه. وقرأ أبو سعيد الخدري (فكرهتموه) بالتشديد على غير تسمية الفاعل.
أخبرني الحسن، قال: حدثنا عمر بن نوح البجلي، قال: حدثنا أبو صالح عبد الوهاب بن أبي عصمة. قال: حدثنا إسماعيل بن يزيد الأصفهاني. قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن كهمس، عن ميمون بن سباه، وكان يفضل على الحسن، ويقال: قد لقي من لم يلق، قال: بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي: كل، قلت: يا عبد الله، ولم آكل؟ قال: بما اغتبت عبد فلان، قلت: والله ما ذكرت منه خيرا، ولا شرا، قال: لكنك استمعت، ورضيت، فكان
84

ميمون بعد ذلك لا يغتاب أحدا، ولا يدع أن يغتاب عنده أحد، وحكي عن بعض الصالحين أنه قال: كنت قاعدا في المقبرة الفلانية، فاجتازني شاب جلد، فقلت: هذا، وأمثاله، وبال على الناس، فلما كانت تلك الليلة رأيت في المنام أنه قدم إلي جنازة عليها ميت، وقيل لي كل من لحم هذا، وكشف عن وجهه، فإذا ذلك الشاب، فقلت: أنا لم آكل من لحم الحيوان الحلال منذ سنين، فكيف آكل هذا؟ فقيل: فلم اغتبته إذا؟ فانتبهت حزينا، فكنت آوي إلى تلك المقبرة سنة واحدة، فرأيت الرجل، فقمت إليه لأستحل منه، فنظر إلي من بعيد، فقال: تبت. قلت: نعم، قال: ارجع إلى مكانك.
وقد أخبرنا ابن منجويه، قال: حدثنا عمر بن الخطاب. قال: حدثنا عبد الله بن الفضل. قال: أخبرنا علي بن محمد. قال: حدثنا يحيى بن آدم. قال: حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن ابن عمر، لأبي هريرة، قال: جاء ماعر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه زنى، فأعرض عنه، حتى أقر أربع مرات، فأمر برجمه، فمر النبي صلى الله عليه وسلم على رجلين يذكران ماعرا، فقال أحدهما: هذا الذي ستر عليه، فلم تدعه نفسه حتى رجم برجم الكلب.
قال: فسكت عنهما حتى مرا معه على جيفة حمار شائل رجله، فقال صلى الله عليه وسلم لهما: (انزلا فأصيبا منه). فقالا: يا رسول الله غفر الله لك، وتؤكل هذه الجيفة؟
قال: (ما أصبتما من لحم أخيكما آنفا أعظم عليكما، أما إنه الآن في أنهار الجنة منغمس فيها).
وأخبرني ابن منجويه، قال: حدثنا ابن شيبة قال: حدثنا الفريابي، قال: حدثنا محمد بن المصفى، قال: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عبد القدوس بن الحجاج، قال: حدثني صفوان بن عمرو، قال: حدثنا راشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم).
" * (واتقوا الله إن الله تواب رحيم) *) أخبرني الحسين، قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي، قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثنا أسباط، عن أبي رجاء الخراساني، عن عباد بن كثير، عن الحريري، عن أبي نصرة، عن جابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الغيبة أشد من الزنا). قيل: وكيف؟ قال: (إن الرجل يزني، ثم يتوب، فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه)
85

وأخبرني الحسين، قال: حدثنا الفضل. قال: حدثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر البزاز البغدادي، قال: حدثنا محمد بن علي الوراق. قال: حدثنا هارون بن معروق، قال: حدثنا ضمرة، عن ابن شوذي، قال: قال رجل لابن سيرين: إني قد اغتبتك، فاجعلني في حل، قال: إني أكره أن أحل ما حرم الله.
وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدثنا أبو الطيب بن حفصويه، قال: حدثنا عبد الله بن جامع. قال: قرأت على أحمد بن سعيد، حدثنا سعيد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان عن خالد الربعي، قال: قال عيسى ابن مريم لأصحابه: أرأيتم لو أن أحدكم رأى أخاه المسلم قد كشف الريح عن ثيابه؟ قالوا: سبحان الله إذا كنا نرده. قال: لا، بل كنتم تكشفون ما بقي، مثلا ضربه لهم يسمعون للرجل سيئة أو حسنة، فيذكرون أكثر من ذلك.
2 (* (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبآئل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير * قالت الاعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان فى قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم * إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله أولائك هم الصادقون * قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما فى السماوات وما فى الارض والله بكل شىء عليم * يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين * إن الله يعلم غيب السماوات والارض والله بصير بما تعملون) *) 2
" * (يا أيها الناس إنا خلقناكم) *) الآية. قال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس وقوله للرجل الذي لم يفسح له: ابن فلانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من الذاكر فلانة؟). فقام ثابت، فقال: أنا يا رسول الله. فقال: (انظر في وجوه القوم). فنظر إليهم، فقال: (ما رأيت يا ثابت؟).
قال: رأيت أبيض وأسود وأحمر. قال: (فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى) (79)، فأنزل الله سبحانه في ثابت هذه الآية وبالذي لم يفسح له: " * (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس، فافسحوا...) *) الآية.
وقال مقاتل: لما كان يوم فتح مكة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة وأذن، فقال عتاب بن أسد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم، وقال الحرث بن هاشم: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟ وقال سهيل بن عمرو:
86

إن يرد الله شيئا يغيره، وقال أبو سفيان بن حرب: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء.
فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عما قالوا، فأقروا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وزجرهم، عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء للفقراء، وقال يزيد بن سخرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يمر ببعض أسواق المدينة، فإذا غلام أسود قائم، ينادى عليه ليباع، فمن يريد.
وكان الغلام قال: من اشتراني فعلي شرط، قيل: ما هو، قال: ألا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتراه رجل على هذا الشرط، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند كل صلاة مكتوبة، ففقده ذات يوم، فقال لصاحبه: (أين الغلام؟). فقال: محموم يا رسول الله، فقال لأصحابه: (قوموا بنا نعوده). فقاموا معه فعادوه، فلما كان بعد أيام قال لصاحبه: (ما حال الغلام؟).
قال: يا رسول الله، إن الغلام لما به، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وهو في ذهابه، فقبض على تلك الحال، فتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم غسله، وتكفينه، ودفنه، فدخل على المهاجرين، والأنصار من ذلك أمر عظيم، فقال المهاجرون: هاجرنا ديارنا، وأموالنا، وأهالينا، فلم ير أحد منا في حياته ومرضه وموته ما لقي منه هذا الغلام، وقال الأنصار: آويناه، ونصرناه، وواسيناه فآثر علينا عبدا حبشيا، فعذر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم فيما تعاطاه من أمر الغلام، وأراهم فضل التقوى، فأنزل الله سبحانه: " * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا) *) وهي رؤوس القبائل وجمهورها مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج. واحدها شعب بفتح الشين، سموا بذلك لتشعبهم واجتماعهم، كتشعب أغصان الشجر، والشعب من الأضداد يقال: شعبته إذا جمعته، وشعبته إذا فرقته، ومنه قيل للموت: شعوب.
" * (وقبائل) *) وهي دون الشعوب، واحدها قبيلة، وهم كندة من ربيعة، وتميم من مضر، ودون القبائل العمائر، واحدها عمارة بفتح العين كشيبان من بكر، ودارم من تميم، ودون العمائر البطون، واحدها بطن، وهم كبني غالب ولؤي من قريش، ودون البطون الأفخاذ، واحدها فخذ، وهم كبني هاشم، وأمية من بني لؤي، ثم الفصائل، والعشائر، واحدتها فصيلة، وعشيرة، وقيل: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والأسباط من بني إسرائيل، وقال أبو رزين وأبو روق: الشعوب الذين لا يصيرون إلى أحد، بل ينسبون إلى المدائن، والقرى، والأرضين، والقبائل العرب الذين ينسبون إلى آبائهم.
87

" * (لتعارفوا) *) يعرف بعضكم بعضا في قرب النسب، وبعده لا لتفاخروا. وقرأ الأعمش (ليتعارفوا)، وقرأ ابن عباس (ليعرفوا) بغير (ألف).
" * (إن أكرمكم) *) بفتح (الألف)، وقرأه العامة (إن) بكسر (الألف) على الاستئناف، والوقوف على قوله لتعارفوا إن أكرمكم " * (عند الله أتقاكم) *) قال قتادة: في هذه الآية أكرم الكرم التقوى. وألأم اللوم الفجور، وقال صلى الله عليه وسلم (من سره أن يكون أكرم الناس، فليتق الله).
وقال: (كرم الرجل دينه، وتقواه، وأصله عقله، وحسبه خلقه)، وقال ابن عباس: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقوى: " * (إن الله عليم خبير) *).
أخبرنا الحسن، قال: حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي، قال: حدثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله المقري، قال: حدثنا ابن رجاء، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه، فما وجد لها مناخ في المسجد، حتى أخرجنا إلى بطن الوادي، فأناخت فيه، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد أيها الناس، قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية، وفخرها بالآباء وفي بعض الألفاظ: وتعظمها بآبائها إنما الناس رجلان، بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله). ثم تلا هذه الآية: " * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل) *)... الآية، وقال: (أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم).
وأخبرني الحسين، قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسين الصوفي. قال: حدثنا أبو شعيب الحراني. قال: حدثنا يحيى بن عبد الله الكابلي. قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم، وإنما أنتم بنو آدم " * (أكرمكم عند الله أتقاكم) *)).
وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدثنا ابن حفصويه، قال: حدثنا عبد الله بن جامع المقري، قال: حدثنا أحمد بن خادم. قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا طلحة، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: الله سبحانه يقول يوم القيامة: إني جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت " * (أكرمكم عند الله أتقاكم) *) فأنتم تقولون: فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبي، وأضع أنسابكم، أين المتقون؟ أين المتقون؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم
88

وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب. قال: حدثنا يوسف بن يعقوب. قال: حدثنا محمد بن أبي بكر. قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن عمر، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقري، عن أبي هريرة، قال: قيل: يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: (أتقاهم).
وأنشدني ابن حبيب، قال: أنشدنا ابن رميح، قال: أنشدنا عمر بن الفرحان:
ما يصنع العبد بعز الغنى
والعز كل العز للمتقي
من عرف الله فلم تغنه
معرفة الله فذاك الشقي
" * (قالت الاعراب آمنا) *) الآية نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة، ثم من بني الحلاف بن الحارث بن سعيد، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في سنة جدبة، وأظهروا شهادة أن لا إله إلا الله، ولم يكونوا مؤمنين في السر، وأفسدوا طرق المدينة بالعدوان، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون، ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأفعال، والعيال والذراري، يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، وبنو فلان، ويريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية.
وقال السدي: نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح، وهم أعراب مزينة، وجهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، كانوا يقولون: آمنا بالله، ليأمنوا على أنفسهم، وأموالهم، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا، فأنزل الله سبحانه: " * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) *) أي انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي. " * (ولما يدخل الايمان في قلوبكم) *) فأخبر أن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب، وأن الإقرار به باللسان، وإظهار شرائعه بالأبدان، لا يكون إيمانا دون الإخلاص الذي محله القلب، وأن الإسلام غير الإيمان.
يدل عليه ما أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي، قرأه عليه محمد بن زكريا في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن الدغولي، قال: حدثنا محمد بن الليث المروزي، قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن عبدان، قال: حدثنا عبد الله ابن المبارك، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري. قال: أخبرني عامر، عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطي رهطا، وسعد جالس فيهم، فقال سعد: فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا منهم، فلم يعطه، وهو أعجبهم إلي. فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال رسول الله: (أو مسلما)
89

فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أو مسلما).
فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أو مسلما، فإني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه).
فاعلم أن الإسلام الدخول في السلم، وهو الطاعة والانقياد، والمتابعة، يقال: أسلم الرجل إذا دخل في السلم وهو الطاعة والانقياد والمتابعة.
يقال: أسلم الرجل إذا دخل في السلم، كما يقال: أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء، وأصاف إذا دخل في الصيف، وأربع إذا دخل في الربيع، وأقحط إذا دخل في القحط، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان فالجنان، كقوله عز وجل لإبراهيم: " * (أسلم قال أسلمت) *)، وقوله: " * (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) *).
ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله: " * (ولكن قولوا أسلمنا) *) بيانه قوله سبحانه: " * (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) *).
" * (وإن تطيعوا الله ورسوله) *) ظاهرا وباطنا، سرا وعلانية " * (لا يلتكم) *) (بالألف) أبو عمر، ويعقوب، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله: " * (وما ألتناهم) *) يقال ألت يألت ألتا، قال الشاعر:
أبلغ بني ثعل عني مغلغلة
جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا
وقرأ الآخرون (يلتكم) من لات يليت ليتا، كقول رؤبة:
وليلة ذات ندى سريت
ولم يلتني عن سراها ليت
ومعناهما جميعا لا ينقصكم، ولا يظلمكم. " * (من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم) *) ثم بين حقيقة الإيمان، فقال: " * (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) *) لم يشكوا في وحدانية الله، ولا بنبوة أنبيائه ولا فيما آمنوا به، بل أيقنوا وأخلصوا.
" * (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) *) في إيمانهم، لا من أسلم خوف السيف ورجاء الكسب، فلما نزلت هاتان الآيتان، أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم
90

فحلفوا بالله إنهم مؤمنون في السر، والعلانية، وعرف الله غير ذلك منهم، فأنزل الله سبحانه " * (قل أتعلمون الله بدينكم) *) الذي أنتم عليه. " * (والله يعلم ما في السماوات وما في الارض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم) *) أي بإسلامكم. " * (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) *) وفي مصحف عبد الله (إذ هداكم للإيمان) * * (إن كنتم صادقين) *) أنكم مؤمنون. " * (إن الله يعلم غيب السماوات والارض والله بصير بما تعملون) *) قرأ ابن كثير، والأعمش، وطلحة، وعيسى (بالياء)، غيرهم (بالتاء).
91

((سورة ق))
مكية، وهي ألف وأربعمائة وأربع وتسعون حرفا، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة، وخمسة وأربعون آية
أخبرنا أبو الحسين محمد بن القاسم بن أحمد الماوردي، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد ابن محمد بن سادة الكرابيسي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا مسلم بن قتيبة، عن سعيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حش، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة ق، هون الله عليه تارات الموت، وسكراته).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (قوالقرءان المجيد * بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال الكافرون هاذا شىء عجيب * أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد * قد علمنا ما تنقص الارض منهم وعندنا كتاب حفيظ * بل كذبوا بالحق لما جآءهم فهم فىأمر مريج * أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والارض مددناها وألقينا فيها
رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب * ونزلنا من السمآء مآء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذالك الخروج * كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود * وعاد وفرعون وإخوان لوط * وأصحاب الايكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد * أفعيينا بالخلق الاول بل هم فى لبس من خلق جديد) *) 2
" * (ق) *) قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله سبحانه، أقسم به. قتادة: اسم من أسماء القرآن، القرظي: افتتاح أسماء الله، قدير، وقادر، وقاهر، وقاضي، وقابض. الشعبي: فاتحة السورة. بريد، وعكرمة، والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء، خضرة السماء منه، وعليه كتفا السماء، وما أصاب الناس من زمرد، فهو ما يسقط من الجبل، وهي رواية أبي
92

الحوراء، عن ابن عباس. قال وهب بن منبه: إن ذا القرنين أتى على جبل قاف، فرأى حوله جبالا صغارا، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: وما هذه الجبال حولك؟ قال: هي عروقي، وليست مدينة من المدائن إلا وفيها عرق منها، فإذا أراد الله أن يزلزل تلك الأرض أمرني، فحركت عرقي ذلك، فتزلزلت تلك الأرض، فقال له: يا قاف، فأخبرني بشيء من عظمة الله، قال: إن شأن ربنا لعظيم، تقصر عنه الصفات، وتنقضي دونه الأوهام.
قال: فأخبرني بأدنى ما يوصف منها. قال: إن ورائي لأرضا مسيرة خمسمائة عام في عرض خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضه بعضا، لولا ذاك الثلج لاحترقت من حر جهنم. قال: زدني، قال: إن جبريل ج واقف بين يدي الله سبحانه ترعد فرائصه، يخلق الله من كل رعدة مائة ألف ملك، وأولئك الملائكة صفوف بين يدي الله سبحانه، منكسو رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام، قالوا: لا إله إلا الله، وهو قوله: " * (يوم تقوم الروح، والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا) *) يعني لا إله إلا الله.
وقال الفراء: وسمعت من يقول: (ق): قضي ما هو كائن، وقال أبو بكر الوراق: معناه قف عند أمرنا، ونهينا، ولا تعدهما. وقيل: معناه قل يا محمد.
أحمد بن عاصم الأنطاكي، هو قرب الله سبحانه من عباده، بيانه " * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) *) وقال ابن عطاء: أقسم بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم حيث حمل الخطاب، ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله. " * (والقرآن المجيد) *) الشريف، الكريم على الله الكبير، الخبير.
واختلف العلماء في جواب هذا القسم، فقال أهل الكوفة: " * (بل عجبوا) *)، وقال الأخفش: جوابه محذوف مجازه " * (ق والقرآن المجيد) *) لتبعثن، وقال ابن كيسان: جوابه قوله: " * (ما يلفظ من قول) *) الآية، وقيل: قد علمنا، وجوابات القسم سبعة: " * (إن) *) الشديدة، كقوله: " * (إن ربك لبالمرصاد) *) و (ما) النفي كقوله: " * (والضحى... ما ودعك) *) و (اللام) المفتوحة، كقوله: " * (فوربك لنسألنهم أجمعين) *) و (إن) الخفيفة كقوله سبحانه: " * (تالله إن كنا لفي) *)، و (لا) كقوله: " * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) *)، لا يبغث الله من يموت، وقد
93

كقوله: " * (والشمس وضحاها.. قد أفلح من زكاها) *) وبل كقوله: " * (ق والقرآن المجيد) *) * * (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم) *) يعرفون حسبه، ونسبه، وصدقه، وأمانته. " * (فقال الكافرون هذا شىء عجيب) *) غريب.
" * (أئذا متنا وكنا ترابا) *) نبعث، فترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه. " * (ذلك رجع بعيد) *) يقال: رجعته رجعا، فرجع هو رجوعا، قال الله سبحانه: " * (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) *) قال الله سبحانه: " * (قد علمنا ما تنقص الارض منهم) *) ما تأكله من عظامهم، وأجسامهم، وقيل: معناه قد علمنا ما يبلى منهم، وما يبقى لأن العصعص لا تأكله الأرض كما جاء في الحديث: (كل ابن آدم يبلى، إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب) وأبدان الأنبياء والشهداء أيضا لا تبلى.
وقال السدي: والموت يقول: قد علمنا من يموت منهم، ومن يبقى. " * (وعندنا كتاب حفيظ) *) محفوظ من الشياطين، ومن أن يدرس، ويبعثر، وهو اللوح المحفوظ، المكتوب فيه جميع الأشياء المقدرة.
" * (بل كذبوا بالحق) *) بالقرآن. " * (لما جاءهم فهم في أمر مريج) *) قال أبو حمزة: سئل ابن عباس عن المريج، فقال: هو الشيء المكر، أما سمعت قول الشاعر:
فجالت فالتمست به حشاها
فخر كأنه خوط مريج
الوالبي عنه: أمر مختلف. العوفي عنه: أمر ضلالة. سعيد بن جبير، ومجاهد: ملتبس، قال قتادة: في هذه الآية من نزل الحق مرج أمره عليه، والتبس دينه عليه. ابن زيد: مختلط، وقيل: فاسد، وقيل: متغير. وكل هذه الأقاويل متقاربة، وأصل المرج الاضطراب، والقلق، يقال: مرج أمر الناس، ومرج الدين، ومرج الخاتم في إصبعي وخرج إذا قلق من الهزال، قال الشاعر:
مرج الدين فأعددت له
مشرف الحارك محبوك الكتد
وفي الحديث: (مرجت عهودهم، وأمانيهم).
" * (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) *) أي شقوق، وفتوق، واحدها فرج، وقال ابن زيد: الفروج الشيء المتفرق المتبري
بعضه من بعض، وقال
94

الكسائي: ليس فيها تفاوت، ولا اختلاف " * (والارض مددناها) *) بسطناها على وجه الماء " * (وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج) *) لون " * (بهيج) *) حسن كريم يبهج به أي يسر. " * (تبصرة) *) أي جعلنا ذلك تبصرة، وقال أبو حاتم: نصبت على المصدر. " * (وذكرى لكل عبد منيب) *) يعني تبصر أو تذكر إنابتها له، لأن من قدر على خلق السماوات، والأرض، والنبات، قدر على بعثهم، ونظير التبصرة من المصادر التكملة، والتفضلة، ومن المضاعف النخلة، والبعرة.
" * (ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) *) يعني البر، والشعير، وسائر الحبوب التي تحصد وتدخر وتقتات، وأضاف الحب إلى الحصيد، وهما واحد، لاختلاف اللفظين، كما يقال: مسجد الجامع، وربيع الأول، وحق اليقين، وحبل الوريد، ونحوها. " * (والنخل باسقات) *) قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة: طوالا، وقال عبد الله بن شداد بن الهاد: سوقها لاستقامتها في الطول. سعيد بن جبير: مستويات. الحسن والفراء: مواقير حوامل، يقال للشاة إذا ولدت: أبسقت، ومحلها نصب على الحال، والقطع.
أخبرني الحسن، قال: حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، قال: حدثنا عبيد بن محمد بن صبح الكناني. قال: حدثنا هشام بن يونس النهشلي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك. قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: (والنخل باصقات) بالصاد.
" * (لها طلع) *) تمر، وحمل سمي بذلك لأنه يطلع. " * (نضيد) *) متراكب متراكم، قد نضد بعضه على بعض. قال بن الأجدع: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال (القلال) والدلاء، وأنهارها تجري في (عبر) أخدود " * (رزقا) *) أي جعلناه رزقا " * (للعباد وأحيينا به بلدة ميتا) *).
أخبرني ابن منجويه، قال: حدثنا ابن صقلاب. قال: حدثنا ابن أبي الخصيب، قال: حدثني ابن أبي الجوادي، قال: حدثنا (عتيق) بن يعقوب، عن إبراهيم بن قدامة، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءهم المطر، فسالت الميازيب، قال: (لا محل عليكم العام) أي الجدب. " * (كذلك الخروج) *) من القبور.
" * (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع) *) وهو ملك اليمن، ويسمى تبعا لكثرة أتباعه، وكان يعبد النار فأسلم، ودعا
95

قومه إلى الإسلام، وهم من حمير، فكذبوه، وكان خبره وخبر قومه ما أخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرني أبو علي إسماعيل بن سعدان، قال: أخبرني علي بن أحمد، قال: حدثنا محمد ابن جرير، وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: كان تبع الآخر، وهو أسعد أبو كرب بن ملكي كرب، حين أقبل من المشرق، جعل طريقه على المدينة، وكان حين مر بها لم يهيج أهلها، وخلف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة، فقدمها، وهو مجمع لإخراجها، واستئصال أهلها، وقطع نخيلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار، حين سمعوا ذلك من أمره امتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن ظلم أخو بني النجار أحد بني عمرو، فخرجوا لقتاله، وكان تبع نزل بهم قبل ذلك، فقتل رجل منهم، من بني عدي بن النجار، يقال له: أحمر، رجلا من صحابة تبع، وجده في عذق له بجدة فضربه بنخلة فقتله.
وقال: إنما التمرة لمن أبره، ثم ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة، يقال لها: ذات تومان، فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم، فبينا تبع على ذلك من حربهم يقاتلهم ويقاتلونه، قال: فيزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيعجبه ذلك، ويقول: والله إن قومنا هؤلاء لكرام، إذ جاءه حبران من أحبار يهود بني قريظة، عالمان راسخان، وكانا ابني عمرو، وكانا أعلم أهل زمانهما، فجاءا تبعا حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة، وأهلها، فقالا له: أيها الملك لا تفعل، فإنك إن أتيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم يأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذاك؟ قالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره، فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة، ورأى أن لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما، أنهما دعواه إلى دينهما، فليتبعهما على دينهما، فقال تبع في ذلك:
ما بال نومك مثل نوم الأرمد
أرقا كأنك لا تزال تسهد
حنقا على سبطين حلا يثربا
أولى لهم بعقاب يوم مفسد
ولقد هبطنا يثربا وصدورنا
تغلي بلابلها بقتل محصد
ولقد حلفت يمين صبر مؤليا
قسما لعمرك ليس بالتمردد
أن جئت يثرب لا أغادر وسطها
عذقا ولا بسرا بيثرب يخلد
حتى أتاني من قريظة عالم
خبر لعمرك في اليهود مسود
قال ازدجر عن قرية محفوظة
لنبي مكة من قريش مهتد
فعفوت عنهم عفو غير مثرب
وتركتهم لعقاب يوم سرمد
وتركتهم لله أرجو عفوه
يوم الحساب من الجحيم الموقد
ولقد تركت بها له من قومنا
نفرا أولي حسب وبأس يحمد
96

نفرا يكون النصر في أعقابهم
أرجو بذاك ثواب رب محمد
فلما (......) تبع إلى دينهما أكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما إلى اليمن ولما (دنا من) اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا، وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم.
قالوا: فحاكمنا إلى النار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يقال له: ندا، يتحاكمون إليها، فيما يختلفون فيه، فتحكم بينهم، تأكل الظالم، ولا تضر المظلوم، فلما قالوا ذلك لتبع، قال: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم، وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران، مصاحفهما في أعناقهما متقلداهما، حتى قعدوا للنار عند مخرجها التي تخرج منه، فخرجت النار إليهم، ولما أقبلت نحو حمير، حادوا عنها، وهابوها فدعاهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها؛ فصبروا حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان، وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما، يتلون التوراة، تعرق جباههما، لم تضرهما، ونكصت النار حتى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأطبقت حمير عند ذلك على دينهما.
فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن.
وكان لهم بيت يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلمون منه، إذا كانوا على شركهم، فقال الحبران القرظيان، واسماهما كعب وأسد لتبع: إنما هو شيطان (يفنيهم ويلغيهم)، فخل بيننا وبينه. قال: فشأنكما به. فاستخرجا منه كلبا أسود، فذبحاه، ثم هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم باليمن كما ذكر لي.
وروى أبي دريد، عن أبي حاتم، عن الرياشي، قال: كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة، آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقال في ذلك شعرا:
شهدت على أحمد أنه
رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره
لكنت صهرا له وابن عم
" * (كل كذب الرسل فحق) *) وجب " * (وعيد) *) لهم بالعذاب يخوف كفار مكة، قال قتادة: دمر الله سبحانه وتعالى قوم تبع، ولم يدمره، وكان من ملوك اليمن، فسار بالجيوش، وافتتح البلاد،
97

وقصد مكة ليهدم البيت، فقيل له: إن لهذا البيت ربا يحميه، فندم وأحرم، ودخل مكة، وطاف بالبيت، وكساه، فهو أول من كسا البيت " * (أفعيينا بالخلق الاول) *) أي عجزنا عنه، وتعذر علينا (الأول فهم في شك الإعادة للخلق) الثاني. " * (بل هم في لبس من خلق جديد) *) وهو البعث.
2 (* (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد * وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد * ونفخ فى الصور ذلك يوم الوعيد * وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد * لقد كنت فى غفلة من هاذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد) *) 2
" * (ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه) *) يحدثه قلبه، فلا يخفى علينا أسراره، وضمائره " * (ونحن أقرب إليه) *) أي أعلم به، وأقدر عليه " * (من حبل الوريد) *) لأن أبعاضه، وأجزاءه يحجب بعضها بعضا، ولا يحجب علم الله سبحانه عن جميع ذلك شيء، وحبل الوريد: عرق العنق، وهو عرق بين الحلقوم، والعلباوين، وجمعه أوردة، والحبل من الوريد وأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين، قال الشاعر:
فقرت للفجار فجاء سعيا
إذا ما جاش وانتفخ الوريد
" * (إذ يتلقى المتلقيان) *) أي يتلقى، ويأخذ الملكان الموكلان عليك، وكل الله سبحانه بالإنسان مع علمه بأحواله، ملكين بالليل، وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكبتان أثره، إلزاما للحجة، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، فذلك قوله سبحانه: " * (عن اليمين وعن الشمال قعيد) *) ولم يقل: قعيدان. قال أهل البصرة: لأنه أراد عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك
راض والرأي مختلف
وقول الفرزدق:
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى
وأبى فكان وكنت غير غدور
ولم يقل: غدورين، والقعيد، والقاعد كالسميع، والعليم، والقدير، فقال أهل الكوفة: أراد قعودا رده إلى الجنس، فوضع الواحد موضع الجمع، كالرسول في الاثنين يجعل للاثنين، والجمع، قال الله سبحانه في الاثنين: " * (إنا رسول رب العالمين) *) وقال الشاعر:
ألكني إليها وخير الرسول
أعلمهم بنواحي الخبر
98

أخبرنا الحسين، قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن سالم الختلي. قال: حدثنا أحمد بن أيوب الرخاني. قال: حدثنا جميل بن الحسن، قال: حدثنا أرطأة بن الأشعث العدوي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن مقعد ملكيك على ثنيتيك، ولسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري أظنه قال: فيما لا يعنيك لا تستحي من الله، ولا منهما).
وأخبرنا الحسين بن محمد بن منجويه الدينوري، قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدثنا الفضل بن العباس بن مهران. قال: حدثنا طالوت. قال: حدثنا حماد بن سلمة. قال: أخبرنا جعفر بن الزبير، عن القاسم بن محمد، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة، قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر).
قال الحسن: إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين: عند غائطه، وعند جماعه، وقال أبو الجوزاء، ومجاهد: يكتبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه، وقال عكرمة: لا يكتبان عليه إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر فيه، وقال الضحاك: مجلسهما تحت الشعر على الحنك. ومثله روى عوف عن الحسن، قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته.
وقال عطية ومجاهد: القعيد الرصيد.
أخبرنا أبو القاسم بن حبيب في سنة ست وثمانين وثلاثمائة، قال: حدثنا أبو محمد البلاذري. قال: حدثنا محمد بن أيوب الرازي. قال: حدثنا أبو التقى هشام بن عبد الملك. قال: حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن تمام بن نجيح، عن الحسن، عن أبي هريرة، وأنس، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من حافظين يرفعان إلى الله سبحانه ما حفظا فيرى الله سبحانه في أول الصحيفة خيرا، وفي آخرها خيرا، إلا قال لملائكته: اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة).
وأخبرنا أبو سهل بن حبيب بقراءتي عليه، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن موسى، قال: حدثنا زنجويه بن محمد. قال: حدثنا إسماعيل بن قتيبة. قال: حدثنا يحيى بن يحيى. قال: حدثنا عثمان بن مطر الشيباني، عن ثابت عن أنس. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بأن الله سبحانه
99

وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فإذا مات، قال الملكان اللذان وكلا به يكتبان عمله: قد مات فلان، فيأذن لنا، فنصعد إلى السماء، فيقول الله سبحانه: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحون، فيقولان: نقيم في الأرض. فيقول الله سبحانه: أرضي مملوءة من خلقي يسبحون. فيقولان: فأين؟ فيقول: قوما على قبر عبدي. فكبراني، وهللاني، واكتبا ذلك لعبدي ليوم القيامة).
" * (ما يلفظ) *) يتكلم. " * (من قول إلا لديه) *) عنده " * (رقيب) *) حافظ " * (عتيد) *) حاضر، وهو بمعنى المعتد من قوله: " * (اعتدنا) *) والعرب تعاقب بين (التاء) و (الذال) لقرب مخرجهما، فيقول: اعتددت، وأعذدت، وهرذ، وهرت، وكبذ، وكبت، ونحوهما، قال الشاعر:
لئن كنت مني في العيان مغيبا
فذكرك عندي في الفؤاد عتيد
" * (وجاءت سكرة الموت بالحق) *) أي وجاءت سكرة الحق بالموت؛ لأن السكرة هي الحق، فأضيفت إلى نفسه لاختلاف الإسمين وقيل: الحق هو الله عز وجل، مجازه وجاء سكرة أمر الله بالموت. أنبأني عقيل، قال: أخبرنا المعافى، قال: أخبرنا جوير. قال: حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن واصل، عن أبي وائل قال: لما كان أبو بكر يقضي، قالت عائشة:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: يا بنية لا هو لي، ولكنه كما قال الله سبحانه: " * (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) *) أي تكره، عن ابن عباس، وقال الحسن: تهرب. الضحاك: تروغ. عطاء الخراساني: تميل. مقاتل بن حيان: تنكص.
وأصل الحيد الميل، يقال: حدت عن الشيء أحيد حيدا، ومحيدا إذا ملت عنه. قال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته
وحدت كما حاد البعير عن الدحض
" * (ونفخ في الصور) *) يعني نفخة البعث. " * (ذلك يوم الوعيد) *) الذي وعده الله سبحانه للكفار يلعنهم فيه. " * (وجاءت) *) ذلك اليوم " * (كل نفس معها سائق) *) يسوقها إلى المحشر " * (وشهيد) *) شهد عليه بما عملت في الدنيا من خير أو شر. وروي أن عثمان بن عفان خطب، وقرأ هذه الآية،
100

فقال: السائق يسوقها إلى الله سبحانه، والشاهد يشهد عليه بما عملت، وقال الضحاك: السائق الملائكة، والشاهد من أنفسهم الأيدي، والأرجل. وهي رواية العوفي عن ابن عباس، وقال أبو هريرة: السائق الملك، والشهيد العمل، وقال الباقون: هما جميعا من الملائكة، فيقول الله سبحانه لها: " * (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك) *) ورفعنا عنك عماك، وخلينا عنك سترك، حتى عاينته. " * (فبصرك اليوم حديد) *) قوي، نافذ، ثابت، ترى ما كان محجوبا عنك. وروى عبد الوهاب، عن مجاهد، عن أبيه " * (فبصرك اليوم حديد) *) قال: نظرك إلي لبيان ميزانك حين توزن حسناتك، وسيئاتك.
وقيل: أراد بالبصر العلم، علم حين لم ينفعه العلم، وأبصر حين لم ينفعه البصر. وقرأ عاصم الجحدري " * (لقد كنت) *) بكسر (التاء)، وبكسر (الكاف)، رد الكتابة إلى النفس. " * (وقال قرينه) *) الملك الموكل به " * (هذا ما لدى عتيد) *) معد محفوظ محضر، قال مجاهد: هذا الذي وكلني به من بني آدم، قد أحضرته، وأحضرت ديوان أعماله، فيقول الله سبحانه لقرينه: " * (ألقيا في جهنم) *) قال الخليل، والأخفش: هذا كلام العرب الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين، وهو جيد حسن، فيقول: ويلك أرحلاها، وازجراها، وخذاه واطلقاه للواحد. قال الفراء: وأصل ذلك إذا دنا أعوان الرجل في إبله، وغنمه، وبقره، اثنان، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر: خليلي (ثم يقول: يا صاح). قال امرؤ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب
نقض لبانات الفؤاد المعذب
وقال:
قفا نبك عن ذكرى حبيب ومنزل
وقال: قفا نبك من ذكرى حبيب وعروان.
قال الآخر:
فقلت لصاحبي لا تعجلانا
بنزع أصوله واجتز شيحا
وأنشد أبو ثروان:
فإن تزجرني يا بن عفان أنزجر
وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وقيل: يشبه أن يكون عني به تكرار القول فيه، فكأنه يقول: إلق إلق، فناب ألقيا مناب التكرار، ويجوز أن تكون ألقيا تثنية على الحقيقة، ويكون الخطاب للمتلقيين معا أو السائق والشاهد جميعا، وقرأ الحسن (ألقين) بنون التأكيد الخفيفة، كقوله: " * (ليسجنن وليكونا من
101

الصاغرين) *) * * (كل كفار عنيد) *) عاص معرض عن الحق، قال مجاهد وعكرمة: مجانب للحق معاند لله.
" * (مناع للخير) *) أي للزكاة المفروضة، وكل حق واجب في ماله.
" * (معتد) *) ظالم. " * (مريب) *) مشكك، وقال قتادة: شاك ومعناه: إنه داخل في الريب " * (الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديدو النار) *) وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، فأراد بقوله: " * (مناع للخير) *) أنه كان يمنع بني أخيه عن الإسلام، ويقول: لئن دخل أحدكم في دين محمد لا أنفعه بخير ما عشت.
(* (وقال قرينه هاذا ما لدى عتيد * ألقيا فى جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذى جعل مع الله إلاها ءاخر فألقياه فى العذاب الشديد * قال قرينه ربنا مآ أطغيته ولاكن كان فى ضلل بعيد * قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد * ما يبدل القول لدى ومآ أنا بظلام للعبيد * يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد * وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد * هاذا ما توعدون لكل أواب حفيظ * من خشى الرحمان بالغيب وجآء بقلب منيب * ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود * لهم ما
يشآءون فيها ولدينا مزيد) *) 2
" * (وقال قرينه) *) يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد " * (ربنا ما أطغيته) *) ما أضللته، وما أغويته.
وقال القرظي: ما أكرهته على الطغيان. " * (ولكن كان في ضلال بعيد) *) عن الحق فتبرأ شيطانه عنه، وقال ابن عباس، ومقاتل: قال قرينه يعني الملك، وذلك أن الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب السيئات: رب إنه أعجلني، فيقول الملك ربنا ما أطغيته، ما أعجلته، وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر: رب إن الملك زاد علي في الكتابة، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته، يعني ما زدت عليه، وما كتبت إلا ما قال وعمل، فحينئذ يقول الله سبحانه: " * (قال لا تختصموا لدي) *) فقد قضيت ما أنا قاض. " * (وقد قدمت إليكم بالوعيد) *) في القرآن حذرتكم، وأنذرتكم، فلا تبديل لقولي ولوعيدي. قال ابن عباس: إنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم، ورد عليهم قولهم " * (ما يبدل القول لدي) *) وهو قوله: " * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) *)، وقال الفراء: معناه ما يكذب عندي لعلمي بالغيب " * (وما أنا بظلام للعبيد) *) فأعاقبهم بغير جرم أو أجزي بالحسن سيئا. " * (يوم نقول لجهنم) *) قرأ قتادة، والأعرج، وشيبة، ونافع (نقول) (بالتاء)، ومثله روى أبو بكر عن عاصم، اعتبارا بقوله، قال: لا تختصموا لدي،
102

وقرأ الحسن يوم (يقال) وقرأ الباقون يوم (نقول) (بالنون) (لجهنم) * * (هل امتلأت) *) لما سبق من وعده إياها أنه يملأها " * (من الجنة والناس أجمعين) *) وهذا السؤال منه على طريق التصديق بخبره، والتحقيق لوعده والتقريع لأهل عذابه، والتنبيه لجميع عباده. " * (وتقول هل من مزيد) *) يحتمل أن يكون جحدا مجازه ما من مزيد، ويحتمل أن يكون استفهاما، بمعنى هل من مزيد، فأزاده وإنما صلح " * (هل) *) للوجهين جميعا، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد، وطرفا من النفي، قال ابن عباس: إن الله سبحانه وتعالى، قد سبقت كلمته " * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) *) فلما بعث للناس، وسبق أعداء الله إلى النار زمرا، جعلوا يقحمون في جهنم فوجا فوجا، لا يلقى في جهنم شيء إلا ذهب فيها، ولا يملأها شيء.
فقالت: ألست قد أقمت لتملأني؟ فوضع قدمه عليها، ثم يقول لها: هل امتلأت؟ فتقول: قط قط، قد امتلأت، فليس من مزيد. قال ابن عباس: ولم يكن يملأها شيء حتى مس قدم الله فتضايقت فما فيها موضع إبرة، ودليل هذا التأويل ما أنبأني عقيل، قال: أخبرنا المعافى، قال: أخبرنا ابن جرير، قال: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العالمين فيها قدمه، فتتزاوي بعضها إلى بعض، وتقول: قد قد بعزتك، وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل، حتى ينشئ الله سبحانه لها خلقا، فيسكنهم فضل الجنة).
وأخبرنا ابن حمدون، قال: أخبرنا ابن الشرقي، قال: حدثنا محمد بن يحيى، وعبد الرحمن بن بشر، وأحمد بن يوسف، قالوا: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن همام ابن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ فقال الله سبحانه للجنه: إنما أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملأها، فأما النار، فإنهم يلقون فيها وتقول: هل من مزيد؟ فلا تمتلئ حتى يضع الله سبحانه وتعالى فيها رجله فتقول: قط قط، فهناك تمتلأ وتزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدا، وأما الجنة، فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا).
قلت: هذان الحديثان في ذكر القدم، والرجل، صحيحان مشهوران، ولهما طرق من حديث أبي هريرة، وأنس، تركت ذكرهما كراهة الإطالة، ومعنى القدم المذكور في هذا الحديث المأثور قوم يقدمهم الله إلى جهنم، يملأها بهم، قد سبق في عمله إنهم صائرون إليها وخالدون
103

فيها، وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن معنى هذا الحديث، فقال: هم قوم قدمهم الله للنار، وقال عبد الرحمن بن المبارك: هم من قد سبق في علمه أنه من أهل النار. وكل ما يقدم، فهو قدم. قال الله سبحانه: إن لهم قدم صدق عند ربهم، يعني أعمال صالحة قدموها، وقال الشاعر يذم رجلا:
قعدت به قدم الفجار وغودرت
وعود رب أسبابه من فتنة من خالق
يعني ليس له ما يفتخر بهم.
على ان الأوزاعي روى هذا الحديث عن حسان بن عطية، حتى يضع الجبار قدمه بكسر القاف، وكذلك روى وهب بن منبه، وقال: إن الله سبحانه كان قد خلق قوما قبل آدم، يقال لهم: القدم، رؤوسهم كرؤوس الكلاب والذباب، وسائر أعضائهم كأعضاء بني آدم، فعصوا ربهم، وأهلكهم الله، يملأ الله بهم جهنم حين تستزيد. وأما الرجل فهو العدد الكبير من الناس وغيرهم.
يقال: رأيت رجلا من الناس، ومر بنا رجل من جياد، وقال الأصمعي: سمعت بعض الأعراب تقول: ما هلك على رجل نبي من الأنبياء ما هلك على رجل موسى، يعني القبط، وقال الشاعر:
فمر بنا رجل من الناس وانزوى
إليهم من الحي اليمانين أرجل
قبائل من لخم وحمير
على ابني نزار بالعداوة أحفل
ويصدق هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في سياق الحديث: (ولا يظلم الله من خلقه أحدا)، فدل أن الموضوع الملقى في النار خلق من خلقه، وقال بعضهم: أراد قدم بعض ملائكته ورجله، وأضاف إليه كقوله: وسئل القرية. والله أعلم. " * (وأزلفت) *) وأدنيت " * (الجنة للمتقين) *) حتى يروها قبل أن يدخلوها. " * (غير بعيد) *) منهم وهو تأكيد، ويقال لهم: " * (هذا ما توعدون) *) في الدنيا على ألسنة الأنبياء.
" * (لكل أواب) *) تواب، عن الضحاك. وقيل: رجاع إلى الطاعة عن ابن زيد، وقال ابن عباس وعطاء: الأواب المسبح من قوله سبحانه: " * (يا جبال أوبي معه) *). الحكم بن عيينة: هو الذاكر لله في الخلاء. الشعبي ومجاهد: الذي يذكر ذنوبه في الخلاء، فيستغفر منها. قتادة: المصلي. مقاتل بن حيان: المطيع. عبيد بن عسر: هو الذي لا يقوم من مجلسه حتى يستغفر الله تعالى. أبو بكر الوراق: المتوكل على الله سبحانه في السراء والضراء لا يهتدي إلى غير الله. المحاسني: هو الراجع بقلبه إلى ربه. القاسم: هو الذي لا ينشغل إلا بالله.
104

" * (حفيظ) *) قال ابن عباس: هو الذي حفظ ذنوبه حتى يرجع عنها. قتادة: حفيظ لما استودعه الله سبحانه من حقه ونعمته. وعن ابن عباس أيضا: الحافظ لأمر الله. الضحاك: المحافظ على نفسه المتعهد لها. عطاء: هو الذي يذكر الله في الأرض القفر. الشعبي: هو المراقب. أبو بكر الوراق: الحافظ لأوقاته وهماته وخطواته. سهل: المحافظ على الطاعات والأوامر. " * (من خشي) *) في محل من وجهان من الإعراب: الخفض على نعت الأواب، والرفع على الاستئناف، وخبره في قوله ادخلوها، ومعنى الآية من خاف " * (الرحمان بالغيب) *) ولم يره، وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلاء حيث لا أحد، وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب.
" * (وجاء بقلب منيب) *) مقبل إلى طاعة الله. قال أبو بكر الوراق: علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته، مواليا له، متواضعا لحلاله تاركا لهوى نفسه. " * (ادخلوها) *) أي يقال لأهل هذه الصفة: ادخلوها " * (بسلام) *) بسلامة من العذاب وسلام الله وملائكته عليهم، وقيل: السلامة من زوال النعيم وحلول النقم.
" * (ذلك يوم الخلود لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) *) يعني الزيادة لهم في النعم مما لم يخطر ببالهم، وقال جابر وأنس: هو النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى بلا كيف.
(* (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا فى البلاد هل من محيص * إن فى ذالك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد * ولقد خلقنا السماوات والارض وما بينهما فى ستة أيام وما مسنا من لغوب * فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب * ومن اليل فسبحه وأدبار السجود * واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب * يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج * إنا نحن نحى ونميت وإلينا المصير * يوم تشقق الارض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير * نحن أعلم بما يقولون ومآ أنت عليهم بجبار فذكر بالقرءان من يخاف وعيد) *) 2
" * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد) *) قال ابن عباس: أثروا. مجاهد: ضربوا. الضحاك: طافوا. النضر بن شميل: دوحوا. الفراء: خرقوا. المؤرخ: تباعدوا. ومنه قول امرئ القيس:
لقد نقبت في الأفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
وقرأ الحسن فنقبوا بفتح القاف مخففة. وقرأ السلمي ويحيى بن معمر بكسر القاف مشددا
105

على التهديد والوعيد أي طوفوا في البلاد، وسيروا في الأرض، فانظروا " * (هل من محيص) *) من الموت وأمر الله سبحانه.
" * (إن في ذلك) *) أي في القرى التي أهلكت والعبر التي ذكرت " * (لذكرى) *) التذكرة " * (لمن كان له قلب) *) أي عقل، فكني عن العقل بالقلب لأنه موضعه ومتبعه. قال قتادة: لمن كان له قلب حي، نظيره " * (لينذر من كان حيا) *)، وقال الشبلي: قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين، وقال يحيى بن معاذ: القلب قلبان: قلب قد احتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من أمور الآخرة لم يدر ما يصنع من شغل قلبه بالدنيا. وقلب قد احتشى بأهوال الآخرة، حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سألت أبا الحسن علي بن عبد الرحمن العباد عن هذه الآية، فقال: معناها إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب مستقر لا يتقلب عن الله في السراء والضراء.
" * (أو ألقى السمع) *) أي استمع القرآن، يقول العرب: ألق إلي سمعك أي استمع، وقال الحسين بن الفضل: يعني وجه سامعه وحولها إلى الذكر كما يقال اتبعي إليه.
" * (وهو شهيد) *) أي حاضر القلب، وقال قتادة: وهو شاهد على ما يقرأ ويسمع في كتاب الله سبحانه من حب محمد صلى الله عليه وسلم وذكره. " * (ولقد خلقنا السماوات والارض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) *) إعياء وتعب.
نزلت في اليهود حيث قالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيام الستة؟
فقال صلى الله عليه وسلم (خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين، والجبال يوم الثلاثاء والمدائن والأنهار والأقوات يوم الأربعاء، والسماوات والملائكة يوم الخميس، إلى ثلاث ساعات من يوم الجمعة وخلق في أول الثلاث ساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم).
قال: قالوا: صدقت إن أتممت. فقال: وما ذاك؟ فقالوا: ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
" * (فاصبر على ما يقولون) *) فإن الله سبحانه لهم بالمرصاد، " * (وسبح بحمد ربك) *) يعني قل: سبحان الله والحمد لله. عن عطاء الخراساني، وقال الآخرون: وصل بأمر ربك وتوفيقه، " * (قبل طلوع الشمس) *) يعني صلاة الصبح، " * (وقبل الغروب) *) صلاة العصر، وروي عن ابن عباس، " * (وقبل الغروب) *): يعني الظهر والعصر، " * (ومن الليل فسبحه) *) يعني صلاة العشائين، وقال مجاهد: من الليل كله، يعني: صلاة الليل، في أي وقت صلى، " * (وأدبار السجود) *) قال
106

عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي: أدبار السجود: الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم: الركعتان قبل الفجر، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، وقد روي عنه مرفوعا أخبرنيه عقيل قال: أخبرنا المعافى، قال حدثنا ابن جرير، قال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن فضيل عن رشيد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم (يا بن عباس ركعتان بعد المغرب أدبار السجود).
وقال أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين)، قال أنس: يقرأ في الركعة الأولى: " * (قل يا أيها الكافرون) *) وفي الأخرى: " * (قل هو الله أحد) *).
قال مقاتل: وقتهما مالم يغب الشفق، وقال مجاهد: هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات، ورواه عن ابن عباس. وقال ابن زيد: هو النوافل أدبار المكتوبات.
واختلف القراء في قوله: " * (وأدبار) *)، فقرأ الحسن والأعرج وخارجة وأبو عمر ويعقوب وعاصم والكسائي: بفتح الألف، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الآخرون: بالكسر، وهي قراءة علي وابن عباس.
وقال بعض العلماء في قوله سبحانه: " * (قبل طلوع الشمس) *) قال: ركعتي الفجر، " * (وقبل الغروب) *) قال: الركعتين قبل المغرب.
روى عمارة بن زاذان عن ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك قال: كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلون الركعتين قبل المغرب.
وروى شعبة عن يزيد بن جبير عن خالد بن معدان عن رغبان مولى حبيب بن مسلمة قال: رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يهبون إليها كما يهبون إلى المكتوبة يعني الركعتين قبل المغرب.
وقال قتادة: ما أدركت أحدا يصلي الركعتين قبل المغرب إلا أنس وأبا برزة.
" * (واستمع) *) يا محمد صيحة القيامة " * (يوم ينادي المناد) *) إسرافيل ج تأتيه العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة: إن الله (يأمركن) أن تجتمعن بفصل القضاء. " * (من مكان قريب) *) صخرة بيت المقدس، وهي وسط الأرض وأقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا، " * (يوم تسمعون الصيحة بالحق) *) وهي النفخة الأخيرة، " * (ذلك يوم
107

الخروج) *) من القبور. " * (إنا نحن نحي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا) *) جمع سريع، وهو نصب على الحال، مجازه: فيخرجون سراعا، " * (ذلك حشر علينا يسير نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار) *): بمسلط قهار يجبرهم على الاسلام، إنما بعثت مذكرا مجددا.
قال ثعلب: قد جاءت أحرف فعال بمعنى مفعل وهي شاذة، جبار بمعنى مجبر، ودراك بمعنى مدرك، وسراع بمعنى مسرع، وبكاء بمعنى مبك، وعداء بمعنى معد، وقد قريء: " * (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) *) بمعنى المرشد، وسمعت أبا منصور الجمشاذي يقول: سمعت أبا حامد الجازرنجي يقول: (العون) سيف سقاط، بمعنى مسقط.
وقال بعضهم: الجبار من قولهم جبرته على الأمر بمعنى أجبرته، وهي لغة كنانة وهما لغتان.
وقال الفراء: وضع الجبار في موضع السلطان من الجبرية. قال: وأنشدني المفضل:
ويوم الحزن إذ حشدت معد
وكان الناس إلا نحن دينا
عصتنا عزمة الجبار حتى
صبحنا الجوف ألفا معلمينا
قال: أراد بالجبار المنذر بن النعمان لولايته.
" * (فذكر) *) يا محمد " * (بالقرآن من يخاف وعيد) *) قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو خوفتنا؟ فنزلت " * (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) *))
.
108

((سورة الذاريات))
مكية، وهي ألف ومائتان وسبعة وثمانون حرفا، وثلاثمائة وستون كلمة، وستون آية
أخبرني نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار الناجي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي قال: حدثنا عمرو بن محمد قال: حدثنا أسباط بن اليسع قال: حدثنا يحيى بن عبد الله السلمي قال: حدثنا نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن خنيس عن أبى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة والذاريات أعطي
من الأجر عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع * والسمآء ذات الحبك * إنكم لفى قول مختلف * يؤفك عنه من أفك * قتل الخراصون * الذين هم فى غمرة ساهون * يسئلون أيان يوم الدين * يوم هم على النار يفتنون * ذوقوا فتنتكم هاذا الذى كنتم به تستعجلون * إن المتقين فى جنات وعيون * ءاخذين مآ ءاتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من اليل ما يهجعون * وبالاسحار هم يستغفرون * وفىأموالهم حق للسآئل والمحروم * وفى الارض ءايات للموقنين) *) 2
" * (والذاريات ذروا) *) الرياح التي تذرو التراب ذروا، يقال: ذرت الريح التراب وأذرته.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا ابن ماجة قال: حدثنا الحسن بن أيوب، قال: حدثنا عبد الله بن أبي زياد قال: حدثنا سيار بن حاتم قال: حدثنا أيوب بن خوط قال: حدثنا عمر الأعرج قال: بلغنا أن مساكن الرياح تحت أجنحة الكروبيين حملة الكرسي، فتهيج من ثم فتقع بعجلة الشمس، ثم تهيج من عجلة الشمس فتقع برؤوس الجبال، ثم تهيج من رؤوس الجبال فتقع في البر. فأما الشمال فإنها تمر بجنة عدن، فتأخذ من عرق طيبها فتمر على أرواح
109

الصديقين، ثم تأخذ حدها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشمس، ويأتي الدبور حدها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل، ويأتي الجنوب حدها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس، ويأتي الصبا حدها من مطلع الشمس إلى كرسي بنات نعش، فلا تدخل هذه في حد هذه، ولا هذه في حد هذه.
أخبرني الحسن قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا إبراهيم بن الحسين بن ديزيل، قال: حدثنا الحكم سليمان، قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي ح " * (والذاريات ذروا) *)، قال: (الرياح).
" * (فالحاملات وقرا) *) قال: (السحاب). " * (فالجاريات يسرا) *) قال: (السفن).
" * (فالمقسمات أمرا) *)، قال: (الملائكة).
" * (إن ما توعدون) *) من الخير والشر والثواب والعقاب " * (لصادق وإن الدين) *) الحساب والجزاء " * (لواقع) *) لنازل كائن.
(ثم) ابتدأ قسما آخر فقال عز وجل: " * (والسماء ذات الحبك) *) قال ابن عباس وقتادة والربيع: ذات الخلق الحسن المستوي، وإليه ذهب عكرمة، قال: ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، قيل: ما أحسن حبكه
وقال سعيد بن جبير: ذات الزينة، وقال الحسن: حبكت النجوم.
مجاهد: هو المتقن البنيان، الضحاك: ذات الطرائق، ولكنها بعيد من العباد فلا يرونها، قال: ومنه حبك الرمل والماء إذا ضربهما الريح، وحبك الشعر الجعد والدرع، وهو جمع حباك وحبيكة، قال الراجز:
كأنما جللها الحواك
طنفسة في وشيها حباك
ومنه الحديث في صفة الجبال: (راسية حبك حبك) يعني الجعودة، وقال ابن زيد: ذات الشدة، وقرأ قول الله سبحانه: " * (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) *)، وقال عبد الله بن عمرو: هي السماء السابعة.
" * (إنكم) *) يا أهل مكة " * (لفي قول مختلف) *) في القرآن ومحمد عليه السلام، فمن مصدق ومكذب، ومقر ومنكر، وقيل: نزلت في المقتسمين.
" * (يؤفك) *) يصرف " * (عنه) *) أي عن الإيمان بهما " * (من أفك) *) صرف فنجويه، وقيل: يصرف
110

عن هذا القول، أي من أجله وسببه عن الإيمان من صرف، وذلك أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون له: إنه ساحر وكاهن ومجنون، فيصرفونه عن الإيمان، وهذا معنى قول مجاهد.
وقد يكون (عن) بمعنى (أجل). أنشد العبسي:
عن ذات أولية أساود ربها
وكأن لون الملح فوق شفارها
أي من أجل ناقة ذات أوليه.
" * (قتل) *) لعن " * (الخراصون) *) الكذابون.
وقال ابن عباس: المرتابون، وهم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب الله، واقتسموا القول في النبي صلى الله عليه وسلم ليصرفوا الناس عن دين الإسلام.
وقال مجاهد: الكهنة.
" * (الذين هم في غمرة) *): شبهة وغفلة " * (ساهون) *): لاهون.
" * (يسألونك أيان يوم الدين) *) متى يوم القيامة استهزاء منهم بذلك وتكذيبا.
قال الله سبحانه وتعالى: " * (يوم هم) *) أي يكون هذا الجزاء في يوم هم " * (على النار يفتنون) *) يعذبون ويحرقون وينضجون بالنار كما يفتن الذهب بالنار. ومجازه بكلمة (على) ههنا: أنهم موقوفون على النار، وقيل: هو بمعنى الباء.
ويقول لهم الخزنة: " * (ذوقوا فتنتكم هذا) *) ولم يقل هذه؛ لأن الفتنة هاهنا بمعنى العذاب، فرد الإشارة إلى المعنى * (الذي كنتم به تستعجلون) * * (إن المتقين في جنان وعيون آخذين ما آتاهم ربهم) *) من الثواب وأنواع الكرامات.
وقال سعيد بن جبير: تعني آخذين بما أمرهم ربهم، عاملين بالفرائض التي أوجبها عليهم.
" * (إنهم كانوا قبل ذلك) *) قبل دخولهم الجنة " * (محسنين) *) في الدنيا، وقيل: قبل نزول الفرائض محسنين في أعمالهم.
" * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) *) اختلف العلماء في حكم (ما)، فجعله بعضهم جحدا، وقال: تمام الكلام عند قوله: " * (كانوا قليلا) *) أي كانوا قليلا من الناس، ثم ابتدأ " * (ما يهجعون) *) أي لا ينامون بالليل، بل يقومون للصلاة والعبادة، وجعله بعضهم بمعنى (الذي)، والكلام متصل
111

بعضه ببعض، ومعناه: كانوا قليلا من الليل الذي يهجعون، أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم؛ لأن (ما) إذا اتصل به الفعل، صار في تأويل المصدر كقوله: " * (بما ظلموا) *) أي بظلمهم، وجعله بعضهم صلة، أي كانوا قليلا من الليل يهجعون.
قال محمد بن علي: (كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة)، وقال أنس بن مالك: يصلون ما بين المغرب والعشاء، وقال مطرف: قل ليلة تأتي عليهم لا يصلون فيها لله سبحانه، إما من أولها، وإما من أوسطها، وقال الحسن: لا ينامون من الليل إلا أقلة، وربما نشطوا فمدوا إلى السحر.
" * (وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) *)، قال ابن عباس وسعيد بن المسيب: السائل: الذي يسأل الناس، والمحروم: المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم.
وقال قتادة والزهري: السائل الذي يسألك، والمحروم: المتعفف الذي لا يسألك، وقال إبراهيم: هو الذي لا سهم له في الغنيمة، يدل عليه ما روى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسين بن محمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا، فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة، فنزلت هذه الآية، وقال عكرمة: المحروم: الذي لا ينمي له مال، وقال زيد بن أسلم: هو المصاب بثمره أو زرعه أو نسل ماشيته.
أخبرني الحسن بن محمد، قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا الحسن بن علي الفارسي قال: حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي عن أيوب بن موسى عن محمد بن كعب القرظي: المحروم صاحب الحاجة، ثم قرأ: " * (إنا لمغرمون بل نحن محرومون) *)، ونظيره في قصة ضروان " * (بل نحن محرومون) *)، وأخبرنا الحسين قال: حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم قال: حدثنا محمد بن أيوب قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد (...) عن شعبة عن عاصم يعني الأحول عن أبي قلابة، قال: كان رجل من أهل اليمامة له مال، فجاء سيل فذهب بماله، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المحروم فاقسموا له.
وقال الشعبي: أعناني أن أعلم ما المحروم، لقد سألت عن المحروم منذ سبعين سنة، فما أنا اليوم بأعلم مني من يومئذ.
112

وأصله في اللغة الممنوع، من الحرمان، وهو المنع.
أخبرنا أبو سهيل بن حبيب قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن موسى قال: حدثنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن خالد قال: حدثنا علي بن عثمان النفيلي الحراني، قال: حدثنا علي بن عباس الحمصي، قال: حدثنا سعيد بن عمارة بن صفوان الكلاعي عن الحرث بن النعمان ابن أخت سعيد بن جبير قال: سمعت أنس بن مالك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أنس ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون: يا رب ظلمونا حقوقنا التي فرضتها عليهم. قال: فيقول: وعزتي وجلالي لأقربنكم ولأبعدنهم).
قال: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه هذه الآية: " * (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) *))
.
* (وفىأنفسكم أفلا تبصرون * وفى السمآء رزقكم وما توعدون * فورب السمآء والارض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون) *) 2
" * (وفي الأرض آيات) *) عبر وعظات إذا ساروا فيها. * (للموقنين) * * (وفي أنفسكم) *) أيضا آيات " * (أفلا تبصرون) *).
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر بن الطيب الكلماباذي بقراءتي عليه، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص، قال: حدثنا السري بن خزيمة الآبيوردي، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان عن ابن جريج عن محمد بن المرتفع عن الزبير " * (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) *)، قال: سبيل الغايط والبول، وقال المسيب بن شريك: يأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج من مكانين، ولو شرب لبنا محضا خرج ماء، فتلك الآية في النفس.
وقال أبو بكر الوراق: " * (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) *) يعني في تحويل الحالات وضعف القوة وقهر المنة وعجز الأركاب وفسخ الصريمة ونقض العزيمة، ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه وضع رزقك حيث لا يأكله السوس ولا يناله اللصوص، فقال سبحانه: " * (وفي السماء رزقكم وما توعدون) *) يعني المطر والثلج اللذين بهما تخرج الأرض النبات الذي هو سبب الأقوات، وقال بعض أهل المعاني: معناه: وفي المطر والنبات سبب رزقكم، فسمي المطر سماء؛ لأنه عن السماء ينزل، قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم " * (في) *) بمعنى (على) كقوله: " * (في جذوع
113

النخل) *)، وذكر الرب مختصرا، كقوله: " * (واسأل القرية) *)، ونظيره قوله: " * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) *).
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن المعتز من أهل الري عن سفيان الثوري قال: قرأ واصل الأحدب هذه الآية: " * (وفي السماء رزقكم وما توعدون) *) فقال: ألا أرى رزقي في السماء، وأنا أطلبه في الأرض؟ فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا، فلما أن كان اليوم الثالث إذا هو يرى جلة من رطب، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه (فصارتا جلتين)، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا ابن خميس قال: حدثنا ابن مجاهد قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي قال: حدثنا ابن أبي بزة، قال: حدثنا حسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد عن شبل بن عباد عن ابن (أبي نجيح) أنه قرأ (وفي السماء رازقكم وما توعدون) بالألف يعني الله.
قال مجاهد: " * (وما توعدون) *) من خير أو شر، وقال الضحاك " * (وما توعدون) *) من الجنة والنار، وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا المسيب بن شريك قال: قال أبو بكر بن عبد الله: سمعت ابن سيرين يقول: " * (وما توعدون) *): الساعة.
" * (فورب السماء والأرض إنه) *) يعني أن الذي ذكرت من أمر الرزق " * (لحق مثل) *) بالرفع قرأه أهل الكوفة بدلا من (الحق)، وغيرهم بالنصب أي كمثل.
" * (ما أنكم تنطقون) *) فتقولون: لا إله إلا الله، وقيل: كما أنكم ذوو نطق خصصتم بالقوة الناطقة العاقلة فتتكلمون، هذا حق كما حق أن الآدمي ناطق، وقال بعض الحكماء: كما أن كل انسان ينطق بلسان نفسه، ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه الذي قسم له، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره، وقال الحسن في هذه الآية: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه).
حدثنا أبو القاسم بن حبيب قال: أخبرنا أبو الحسن الكائيني وأبو الطيب الخياط وأبو
114

محمد يحيى بن منصور الحاكم في القسطنطينية قالوا: حدثنا أبو رجاء محمد بن أحمد القاضي، قال: حدثنا أبو الفضل العباس بن الفرج الرياسي البصري، قال: سمعت الأصمعي يقول: أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع في البصرة فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس، فدنا وسلم وقال لي: من الرجل؟، قلت: من بني الأصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟، قلت من موضع مليء بكلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه (الآدمين).
قلت: نعم، قال: اتل علي شيئا منه، فقلت له: انزل عن قعودك. فنزل، وابتدأت بسورة والذاريات، فلما انتهيت إلى قوله سبحانه: " * (وفي السماء رزقكم وما توعدون) *). قال: يا أصمعي هذا كلام الرحمن؟، قلت: أي والذي بعث محمدا بالحق، إنه لكلامه أنزله على نبيه محمد، فقال لي: حسبك، ثم قام إلى الناقة فنحرها وقطعها كلها، وقال: أعنى على توزيعها ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرمل وولى مدبرا نحو البادية وهو يقول: " * (وفي السماء رزقكم وما توعدون) *).
فأقبلت على نفسي باللوم وقلت: لم تنتبهي لما انتبه له الأعرابي، فلما حججت مع الرشيد دخلت مكة، فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق فالتفت فإذا أنا بالأعرابي نحيلا مصفارا فسلم على وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام وقال لي: أتل كلام الرحمن، فأخذت في سورة والذاريات، فلما انتهيت إلى قوله: " * (وفي السماء رزقكم وما توعدون) *)، صاح الاعرابي فقال: وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم يقول الله سبحانه " * (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) *)، فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟، ألم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا وخرجت فيها نفسه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شيبة، قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا شبانة، قال حدثنا صدقة، قال حدثنا الوضين بن عطاء عن زيد بن جرير أن رجلا جاع في مكان ليس فيه شيء، فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به، قال: فشبع وروى من غير طعام ولا شراب.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن القاسم الخطيب. قال: حدثنا إسماعيل بن العباس بن محمد الوراق، قال: حدثنا الحسين بن سعيد بن محمد المحرمي، قال: حدثنا علي ابن يزيد العبداني قال: حدثنا فضيل بن مسروق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، قال:
115

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت) وأنشدت في معناه:
الرزق في القرب وفي البعد
أطلب للعبد من العبد
لو قصر الطالب في سعيه
أتاه ما قدر في قصد
وقال دعبل:
أسعى لأطلب رزقي وهو يطلبني
والرزق أكثر لي مني له طلبا
2 (* (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون * فراغ إلى أهله فجآء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون * فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم * فأقبلت امرأته فى صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم * قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم * قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين * لنرسل عليهم حجارة من طين * مسومة عند ربك للمسرفين * فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين * وتركنا فيهآ ءاية للذين يخافون العذاب الاليم * وفى موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين * فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم وهو مليم * وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم * وفى ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين * فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون * فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين) *) 2
" * (هل أتاك) *) يا محمد " * (حديث ضيف إبراهيم) *) اختلفوا في عددهم فقال ابن عباس ومقاتل: كانوا اثني عشر ملكا، وقال محمد بن كعب: كان جبريل ومعه سبعة، وقال عطاء وجماعة: كانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر " * (المكرمين) *) قال ابن عباس: سماهم مكرمين؛ لأنهم كانوا غير مدعوين.
وأخبرني محمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قال: حدثني عبد الله بن أحمد الشعراني، قال: أخبرنا عبد الواحد بن محمد بن سعيد الأرعيالي قال: سمعت محمد بن عبد الوهاب يقول: قال لي علي بن غنام: عندي هريسة، ما رأيك فيها؟ قلت: ما أحسن رأيي، قال: امض، فدخلت الدار فجعل ينادي يا غلام يا غلام، والغلام غايب، فأدخلني بيتا فجلست فيه، فما راعني (إلا معه) القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل، فقلت: إنا لله يا أبا الحسن لو علمت أن الأمر
116

عندك هكذا ما دخلت. قال: هون عليك، حدثنا أبو أسامة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله سبحانه: " * (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) *) قال: خدمته إياهم بنفسه، وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: كانوا مكرمين عند الله، نظيره في سورة الأنبياء " * (بل عباد مكرمون) *).
قال أبو بكر الوراق وابن عطاء: سماهم مكرمين، لأن أضياف الكرام مكرمون، وكان إبراهيم ج أكرم الخليقة وأطهرهم فتوة.
" * (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم) *) أي أنتم قوم " * (منكرون) *) غرباء لا نعرفكم، وقيل: إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان، وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.
" * (فراغ) *) فعدل ومال إبراهيم " * (إلى أهله) *) قال الفراء: لا ينطق بالروغ حتى يكون صاحبه محتفيا لذهابه ومجيئه " * (فجاء بعجل سمين) *) قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر " * (فقربه إليهم فقال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة) *) أي صيحة، ولم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان وإنما هو كقول القائل: أقبل يشتمني، بمعنى أخذ في شتمي.
" * (فصكت) *) قال ابن عباس: لطمت " * (وجهها) *) وقال الآخرون: ضربت يدها على جبهتها تعجبا، كعادة النساء إذا أنكرن شيئا أو تعجبن منه، وأصل الصك الضرب " * (وقالت عجوز عقيم) *) مجازه: أتلد عجوز عقيم؟ وكانت سارة لم تلد قبل ذلك وكان بين البشارة والولادة سنة، فولدت له سارة وهي بنت سبع وتسعين، وإبراهيم ابن مائة سنة.
" * (قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحليم العليم) *) حدثنا أبو بكر بن عبدوس إملاء قال: أخبرنا أبو سهل القطان ببغداد، قال: حدثنا يحيى بن جعفر، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن يوسف، قال: حدثنا يوسف بن يعقوب، قال حدثنا نصر بن علي، قال: أخبرنا نوح بن قيس، قال: حدثنا عون بن أبي شداد أن ضيف إبراهيم المكرمين لما دخلوا عليه فقرب إليهم العجل فسحه جبريل ج بجناحه، فقام العجل يدرج في الدار حتى لحق بأمه.
" * (قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل إليهم حجارة من طين) *) قال الكلبي من سنك، وكل بيانه قوله سبحانه " * (من سجيل) *).
" * (مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) *))
.
117

" * (وتركنا فيها آية) *) عبرة " * (للذين يخافون العذاب الأليم) *).
" * (وفي موسى) *) أي وتركنا في إرسال موسى أيضا عبرة وقال الفراء: هو معطوف على قوله: " * (وفي الأرض آيات..، وفي موسى) *) * (إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين) * * (فتولى) *) فأعرض وأدبر عن الإيمان " * (بركنه) *) بقوته وقومه، نظيره " * (أو آوي إلى ركن شديد) *) يعني المنعة والعشيرة، وقال المؤرخ: بجانبه " * (وقال ساحر أو مجنون) *) قال أبو عبيدة: (أو) بمعنى (الواو)؛ لأنهم قد قالوهما جميعا، وأنشد بيت جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا
عدلت بهم طهية والخشابا
وقد يوضع (أو) بمعنى (الواو) كقوله: " * (آثما أو كفورا) *) و (الواو) بمعنى (أو) كقوله سبحانه: " * (وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) *).
" * (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم) *) قد أتى بما يلام عليه.
" * (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) *) وهي التي لا تلقح شجرا ولا تنشئ سحابا ولا رحمة فيها (ولا) بركة.
" * (ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم) *) كالنبت الذي قد يبس وديس.
قال ابن عباس كالشئ الهالك. مقاتل: كالبالي. مجاهد: كالتبن اليابس. قتادة: كرميم الشجر. أبو العالية: كالتراب المدقوق. (قال) يمان: ما رمته الماشية بمرمتها من (الكلأ)، ويقال للنسفة: المرمة والمقمة، وقيل: أصله من العظم البالي.
" * (وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين) *) يعني وقت فناء آجالهم.
" * (فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة) *) قال الحسين بن واقد: كل صاعقة في القرآن فهي عذاب " * (وهم ينظرون) *) إليها نهارا.
" * (فما استطاعوا من قيام) *) فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض به ولا دفاع " * (وما كانوا منتصرين) *) منتقمين منا.
قال قتادة: وما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من الله.
(* (وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين * والسمآء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والارض
118

فرشناها فنعم الماهدون * ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون * ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلاها ءاخر إنء لكم منه نذير مبين * كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون * فتول عنهم فمآ أنت بملوم * وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين * وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين * فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون * فويل للذين كفروا من يومهم الذى يوعدون) *) 2
" * (وقوم نوح) *) قرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف (وقوم) بجر الميم في " * (قوم نوح) *)، وقرأ الباقون بالنصب، وله وجوه: أحدهما: أن يكون مردودا على الهاء والميم في قوله " * (فأخذتهم الصاعقة) *) أي وأخذت قوم نوح، والثاني: وأهلكنا قوم نوح، والثالث: واذكر قوم نوح " * (من قبل) *) أي من قبل عاد وثمود وقوم فرعون * (إنهم كانوا قوما فاسقين) * * (والسماء بنيناها بأيد) *) بقوة " * (وإنا لموسعون) *) قال ابن عباس قادرون، وعنه أيضا: لموسعون الرزق على خلقنا. الضحاك: أغنياء، دليله قوله سبحانه " * (على الموسع قدره) *) القتيبي: ذوو سعة على خلقنا. الحسين بن الفضل: أحاط علمنا بكل شيء. الحسن: مطبقون.
" * (والأرض فرشناها) *) بسطنا ومهدنا لكم " * (فنعم الماهدون) *) الباسطون، والمعنى في الجمع التعظيم.
" * (ومن كل شيء خلقنا زوجين) *) صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والشتاء والصيف، والجن والانس، والكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والحق والباطل، والذكر والأنثى، والجنة والنار. " * (لعلكم تذكرون) *) فتعلمون أن خالق الأزواج فرد.
" * (ففروا إلى الله) *) أي: فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان ومجانبة العصيان.
قال ابن عباس: فروا منه إليه، واعملوا بطاعته، وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن يوسف قال: حدثنا محمد بن حمدان بن سفيان، قال: حدثنا محمد بن زياد قال: حدثنا يعقوب بن القاسم، قال: حدثنا محمد بن معز عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان في قوله سبحانه " * (ففروا إلى الله) *) قال: اخرجوا إلى مكة. الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء دونه، فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه.
قال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل، ففروا إلى الله يمنعكم منه. ذو النون: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم
119

الواسطي: فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله. * (إني لكم منه نذير مبين) * * (ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين) *).
" * (كذلك) *) أي: كما كفر بك قومك، وقالوا ساحر ومجنون كذلك " * (ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون) *).
" * (أتواصوا به) *) أوصى بعضهم بعضا بالتكذيب وتواطؤوا عليه، والألف فيه ألف التوبيخ. " * (بل هم قوم طاغون) *) عاصون.
" * (فتول) *) فأعرض " * (عنهم فما أنت بملوم) *) فقد بلغت ما أرسلت به وما قصرت فيما أمرت.
قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد ذلك على أصحابه، ورأوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر، فأنزل الله سبحانه " * (فذكر إن الذكرى تنفع المؤمنين وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *) قال علي بن أبي طالب: معناه إلا لآمرهم أن يعبدون، وأدعوهم إلى عبادتي، واعتمد الزجاج هذا القول، ويؤيده قوله " * (وما أمروا إلا ليعبدوا الها واحدا) *) وقوله: " * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) *).
قال ابن عباس: ليقروا لي بالعبودية طوعا أو كرها.
فإن قيل: فكيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته، وأنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضى عليهم؟
(قلنا:) لأن قضاءه جار عليهم ولا يقدرون الامتناع منه إذا نزل بهم، وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع فيه، وقال مجاهد: إلا ليعرفون.
ولقد أحسن في هذا القول لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده، ودليل هذا التأويل قوله: " * (ولئن سألتهم) *) الآيات.
وروى حيان عن الكلبي: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشده والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه قوله سبحانه: " * (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) *) الآية.
وقال عكرمة: إلا ليعبدون ويطيعون. فأثيب العابد وأعاقب الجاحد، وقال الضحاك وسفيان: هذا خاص لأهل عبادته وطاعته. يدل عليه (ما) قرأه ابن عباس: " * (وما خلقت الجن والإنس) *) من المؤمنين " * (إلا ليعبدون) *). قال في آية أخرى: " * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) *) وقال بعضهم: معناه وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي، والأشقياء
120

منهم إلا لمعصيتي، وهذا معنى قول زيد بن أسلم، قال: ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة، وقال الحسين بن الفضل: هو الاستعباد الظاهر.
وليس على هذا القدر؛ لأنه لو قدر عليهم عبادته لما عصوه ولما عبدوا غيره وإنما هو كقوله: " * (جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) *) ثم قال: " * (قليلا ما تشكرون) *) * * (وقليل من عبادي الشكور) *).
ووجه الآية في الجملة أن الله تعالى لم يخلقهم للعبادة خلق جبلة وإجبار وإنما خلقه لهم خلق تكليف واختيار، فمن وفقه وسدده أقام العبادة التي خلق لها، ومن خذله وطرده حرمها وعمل بما خلق لها. كقوله صلى الله عليه وسلم (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) والله أعلم.
" * (ما أريد منهم من رزق) *) أي رزقا " * (وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) *) قراءة العامة برفع النون على نعت الله سبحانه وتعالى، وهو القوي المقتدر المبالغ في القوة والقدرة.
قال ابن عباس: المتين الصلب الشديد، وقرأ يحيى والأعمش " * (المتين) *) خفضا على نعت القوة. قال الفراء: كان حقه التأنيث فذكره؛ لأنه ذهب به إلى الشيء المبرم المحكم الفتل، كما يقال: حبل متين، وأنشد الفراء:
لكل دهر قد لبست أثوبا
حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا
من ريطة واليمنة المعصبا
فذكر المعصب؛ لأن اليمنة صنف من الثياب.
ومن هذا الباب قوله سبحانه: " * (من جاءه موعظة) *) أي وعظ، وقوله: " * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) *) أي الصياح والصوت.
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، قال: حدثنا القطيفي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي كثير قالا: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (إني أنا الرازق ذو القوة المتين) *).
" * (فإن للذين ظلموا) *) كفروا من أهل مكة " * (ذنوبا) *) قال ابن عباس وسعيد بن جبير: سجلا
121

مجاهد: سبيلا. النخعي: طرفا. عطاء وقتادة: عذابا. الحسن: دولة. الكسائي: حظا. الأخفش: نصيبا.
وأصل الذنوب في اللغة الدلو الكبيرة العظيمة المملوءه ماء.
قال الراجز:
لها ذنوب ولكم ذنوب
فإن أبيتم فلنا القليب
ثم يستعمل في الحظ والنصيب كقول علقمة بن عبيدة.
وفي كل قوم قد خبطت بنعمة
فحق لشأس من نداك ذنوب
لعمرك والمنايا طارقات
لكل بني أب منهم ذنوب
" * (مثل ذنوب أصحابهم) *) من كفار الأمم الخالية " * (فلا يستعجلون) *) بالعذاب، فإنما أمهلوا مع ذنوبهم لأجل ذنوبهم.
" * (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون) *) وهو يوم بدر، وقيل: يوم القيامة.
122

((سورة الطور))
مكية، وهي ألف وخمسمائة حرف، وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة، وتسع وأربعون آية
أخبرني أبو الحسن الفارسي قال: حدثنا أبو محمد بن أبي حامد قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الصبهاني، قال: حدثنا المؤمل بن إسماعيل، قال: حدثنا سفيان الثوري، قال: حدثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبدالرحمن بن ايزي عن أبيه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الطور كان حقا على الله عز وجل أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (والطور * وكتاب مسطور * فى رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور * إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع) *) 2
" * (والطور) *) كل جبل طور، لكنه سبحانه عنى بالطور هاهنا الجبل الذي كلم عليه موسى بالأرض المقدسة، وهي بمدين واسمه زبير، وقال مقاتل بن حيان: هما طوران يقال لأحدهما: طور تينا، وللآخر طور زيتونا؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون.
" * (وكتاب مسطور) *) مكتوب.
" * (في رق) *) جلد " * (منشور) *) وهو الصحيفة، واختلفوا في هذا الكتاب ما هو؟ فقال الكلبي: هو كتاب الله سبحانه بيد موسى ج من التوراة، وموسى يسمع صرير القلم، وكان كلما مر القلم بمكان خرقه إلى الجانب الآخر، فكان كتابا له وجهان، وقيل: اللوح المحفوظ (وهو) دواوين الحفظة، تخرج إليهم يوم القيامة منشورة؛ فآخذ بيمينه وآخذ بشماله، دليله ونظيره قوله سبحانه: " * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) *) وقوله سبحانه: " * (وإذا الصحف نشرت) *)
123

، وقيل: هو ما كتب الله تعالى في قلوب أوليائه من الإيمان، بيانه: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان، وقيل: هو ما كتب الله تعالى للخلق من السابقة والعاقبة.
" * (والبيت المعمور) *) بكثرة الحاشية والأهل، وهو بيت في السماء السابعة، حذاء العرش، حيال الكعبة، يقال له: الضراح، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف من الملائكة، يطوفون به ويصلون فيه، ثم لا يعودون إليه أبدا، وخازنه ملك يقال له: (الجن).
وقيل: كان البيت المعمور من الجنة، حمل إلى الأرض لأجل آدم ج، ثم رفع إلى السماء أيام الطوفان.
أخبرنا الحسين بن محمد، قال: حدثنا هارون بن محمد بن هارون، قال: حدثنا إبراهيم ابن الحسين بن دربل، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثني سفيان بن نسيط عن أبي محمد عن الزبير عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قدم مكة فأرادت عائشة أن تدخل البيت يعني ليلا فقال لها بنو شيبة: أن أحدا لا يدخله ليلا ولكنا نخليه لك نهارا، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت إليه أنهم منعوها أن تدخل البيت، فقال: (إنه ليس لأحد أن يدخل البيت ليلا، إن هذه الكعبة بحيال البيت المعمور الذي في السماء، يدخل ذاك المعمور سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه أبدا إلى يوم القيامة، لو وقع حجر منه لوقع على ظهر الكعبة، ولكن انطلقي أنت وصواحبك فصلين في الحجر)
ففعلت فأصبحت وهي تقول: قد دخلت البيت على رغم من رغم.
وأخبرنا الحسين بن محمد، قال: حدثنا هارون بن محمد، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا كثير بن يحيى بن كثير، قال: حدثنا أبي عن عمر وعن الحسن في قوله سبحانه: " * (والبيت المعمور) *) قال: هو الكعبة البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، يعمره الله كل سنة، أول مسجد وضع للعبادة في الأرض.
" * (والسقف المرفوع) *) يعني السماء، سماها سقفا؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت، دليله ونظيره قوله سبحانه: " * (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) *).
" * (والبحر المسجور) *) قال مجاهد والضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش: يعني الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور، ومنه قيل للمسعر مسجر، ودليل هذا التأويل ما
124

روي أن النبى صلى الله عليه وسلم قال (لا يركبن البحر إلا حاج أو معتمر أو مجاهد في سبيل الله، فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا، وتحت البحر نارا.
وقال صلى الله عليه وسلم (البحر نار في نار)، وروى سعيد بن المسيب أن عليا كرم الله وجهه قال لرجل من اليهود: أين جهنم؟ فقال: البحر. فقال: ما أراه إلا صادقا ثم قرأ * (والبحر المسجور) * * (وإذا البحار سجرت) *) مخففة.
وتفسير هذه الأخبار ما روي في الحديث: (إن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلها نارا فيسجر بها نار جهنم).
وقال قتادة: المسجور: المملوء. ابن كيسان: المجموع ماؤه بضعه إلى بعض، ومنه قول لبيد:
فتوسطا عرض السرى وصدعا
مسجورة متجاور أقلامها
وقال النمر بن تولب:
إذا شاء طالع مسجورة
ترى حولها النبع والسماسما
وقال أبو العالية: هو اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب، وفي رواية عطية وذي الرمة الشاعر: أخبرنيه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن الدينوري. قال: حدثنا عبيد الله بن أبي سمرة، قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا السدوسي أبو جعفر، قال: حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة عن ابن عباس " * (والبحر المسجور) *) الفارغ. قال: خرجت أمة تسقي فرجعت فقالت: إن الحوض مسجور. تعني فارغا.
قال ابن أبي داود: ليس لذي الرمة حديث غير هذا.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسجور: المحبوس، وقال الربيع بن أنس: المختلط العذب بالملح.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا مخلد بن جعفر، قال: حدثنا الحسن بن علوية، قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدثنا إسحاق بن بسر، قال: أخبرني جويبر عن الضحاك، ومقاتل بن سليمان عن الضحاك عن النزال بن سبرة، عن علي بن أبي طالب أنه قال في البحر المسجور: (هو بحر تحت العرش، غمره كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين، وهو ماء
125

غليظ يقال له: بحر الحيوان، يمطر العباد بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون من قبورهم).
" * (إن عذاب ربك لواقع) *) نازل " * (ماله من دافع) *) مانع.
قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله في أسارى بدر (فذهبت) إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب، وصوته يخرج من المسجد، فسمعته يقرأ " * (والطور) *) إلى قوله: " * (إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع) *) فكأنما صدع قلبي، وكان أول ما دخل قلبي الإسلام، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب.
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدثنا أبو بكر بن مالك، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: أخبرت عن (محمد) بن الحرث المكي، عن عبد الله بن رجاء المكي، عن هشام بن حسان، قال: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن فانتهينا إليه وعنده رجل يقرأ، فلما بلغ هذه الآية " * (إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع) *) بكى الحسن وبكى أصحابه، وجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه.
(* (يوم تمور السمآء مورا * وتسير الجبال سيرا * فويل يومئذ للمكذبين * الذين هم فى خوض يلعبون * يوم يدعون إلى نار جهنم دعا * هاذه النار التى كنتم بها تكذبون * أفسحر هاذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سوآء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون * إن المتقين فى جنات ونعيم * فاكهين بمآ ءاتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين * والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ومآ ألتناهم من عملهم من شىء كل امرىء بما كسب رهين * وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون * يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم * ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون) *) 2
" * (يوم تمور السماء مورا) *) أي تدور كدوران الرحى، وتتكفأ بأهلها تكفأ السفينة، ويموج بعضها في بعض.
واختلفت عبارات المفسرين فيها: قال ابن عباس: تدور دورانا. قتادة: تتحرك. الضحاك: تحرك. عطاء الخراساني: تختلف إحداها بعضها في بعض. قطرب: تضطرب. عطية: تختلف. المؤرخ: يتحول بعضهم تحولا. الأخفش: تتكفأ، وكلها متقاربة.
126

وأصل المور الاختلاف والاضطراب، قال رؤبة:
مسودة الأعضاد من وشم العرق
مائرة الضبعين مصلات العنق
أي مضطربة العضدين.
" * (وتسير الجبال سيرا) *) فتزول عن أماكنها وتصير هباء منبثا.
" * (فويل يومئذ للمكذبين) *) وإنما أدخل الفاء في قوله " * (فويل) *)؛ لأن في الكلام معنى المجاراة مجازه: إذا كان هذا فويل يومئذ للمكذبين.
" * (الذين هم في خوض) *) باطل " * (يلعبون) *) غافلين جاهلين ساهين لاهين.
" * (يوم يدعون) *) يدفعون " * (إلى نار جهنم دعا) *) دفعا ويزعجون إليها إزعاجا، وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم، وتجافى أقفيتهم حتى يردوا النار.
وقرأ أبو رجاء العطاردي " * (يوم يدعون إلى النار دعاء) *) بالتخفيف من الدعاء. قالوا: فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة:
* (هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون) * * (اصلوها) *) ادخلوها " * (فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين) *) ذوي فاكهة كثيرة، وفكهين: معجبين ناعمين.
" * (بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم) *) ثم يقال لهم: " * (وكلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة) *) قد صف بعضها إلى بعض، وقوبل بعضها ببعض " * (وزوجناهم بحور عين والذين آمنوا واتبعتهم) *) قرأ أبو عمرو (وأتبعناهم) بالنون والألف (ذرياتهم) بالألف فيهما، وكسر التائين لقوله: * (ألحقنا) * * (وما ألتناهم) *) ليكون الكلام على نسق واحد، وقرأ الآخرون " * (واتبعتهم) *) بالتاء من غير ألف ثم اختلفوا في قوله: " * (ذريتهم
) *)، وقرأ أهل المدينة الأولى بغير ألف وضم التاء، والثانية بالألف وكسر التاء، وقرأ أهل الشام بالألف فيهما وكسر تاء الثانية، وهو اختيار يعقوب وأبي حاتم، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما وفتح تاء الثانية، وهو اختيار أبي عبيد.
واختلف المفسرون في معنى الآية، فقال قوم: معناها والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم التي بلغت الإيمان " * (بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) *) الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان، وهو قول الضحاك ورواية العوفي عن ابن عباس. فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه يجمع لعبده المؤمن ذريته في الجنة
127

كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا له، ويدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته، بعمل الأب من غير أن ينقص الآباء من أجور أعمالهم شيئا فذلك قوله سبحانه: " * (وما ألتناهم من عملهم من شيء) *) يعني الآباء، والهاء والميم راجعان إلى قوله: " * (والذين آمنوا) *)، والألت: النقص والبخس.
أخبرني الحسن بن محمد بن عبد الله الحديثي، قال: حدثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جنادة بن المفلس، قال: حدثنا قيس بن الربيع، قال: حدثنا عمرو بن المسرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه) ثم قرأ " * (والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) *) قال: (ما نقصنا الآباء بما أعطينا (البنين)).
وأخبرنا الحسن بن محمد قال: حدثنا أحمد بن محمد بن علي بن الحسن الهمداني، قال: حدثنا أبو عبد الله عمر بن نصر البغدادي ببردعة، قال: حدثنا محمد بن عبدالرحمن بن غزوان، قال: حدثنا شريك بن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أظنه ذكره عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة فسأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يدركوا ما أدركت، فيقول: عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به) وتلا ابن عباس: " * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم) *).
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا القطيعي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال: سألت خديجة النبى صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هما في النار) قال: فلما رأى الكراهية في وجهها قال: (لو رأيت مكانهما لأبغضتهما) قالت: يا رسول الله فولداي منك؟
قال: (في الجنة).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم
128

ذرياتهم) *) * * (كل امرئ بما كسب) *) من الخير والشر " * (رهين) *) مرهون فيؤخذ بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره.
" * (وأمددناهم) *) وأعطيناهم " * (بفاكهة ولحم مما يشتهون) *) من أنواع اللحمان " * (يتنازعون) *) يتعاطون فيتناولون ويتداولون " * (فيها كأسا) *) إناء فيها خمر " * (لا لغو فيها) *) وهو الباطل. عن قتادة. مقاتل بن حيان: لا فضول فيها. سعيد بن المسيب: لا رفث فيها. ابن زيد: لا سباب ولا تخاصم فيها. القتيبي: لا يذهب بعقولهم فيلغوا ويرفثوا، وقال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن، والساقي فيه الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم تحية من عند الله مباركة طيبة، والقوم أضياف الله " * (ولا تأثيم) *) أي فعل يؤثمهم، وهو تفعيل من الإثم، يعني: إنهم لا يأثمون في شربها.
وقال ابن عباس: يعني ولا كذب، وقال الضحاك: يعني لا يكذب بعضهم بعضا.
" * (ويطوف عليهم) *) بالخدمة " * (غلمان لهم كأنهم) *) من بياضهم وصفاء لونهم " * (لؤلؤ مكنون) *) مخزون مصون، قال سعيد بن جبير: يعني في الصدف.
أخبرني الحسن بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن علي بن عمر بن خنيس، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن عصام، قال: حدثنا عمر بن عبد العزيز المصري، قال: حدثنا يوسف بن أبي طيبة عن وكيع بن الجراح عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة خ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف، يناديه كلهم: لبيك).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أبو علي المقرئ، قال: حدثنا محمد بن عمران قال: حدثنا هاني بن المسري، قال: حدثنا عبيده بن سعيد عن قتادة بن عبد الله بن عمر قال: ما من أحد من أهل الجنة إلا سعى له ألف غلام، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب المنوي قال: حدثنا الحسن ابن الكميت الموصلي قال: حدثنا المعلى بن مهدي، قال: أخبرنا مسكين عن حوشب عن الحسن أنه كان إذا تلا هذه الآية " * (يطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون) *) قالوا: يا رسول الله الخادم كاللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ قال (ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب).
129

2 (* (وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون * قالوا إنا كنا قبل فىأهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم * فذكر فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون * أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين * أم تأمرهم أحلامهم بهاذآ أم هم قوم طاغون * أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين * أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والارض بل لا يوقنون * أم عندهم
خزآئن ربك أم هم المسيطرون * أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين * أم له البنات ولكم البنون * أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم عندهم الغيب فهم يكتبون * أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون * أم لهم إلاه غير الله سبحان الله عما يشركون * وإن يروا كسفا من السمآء ساقطا يقولوا سحاب مركوم * فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذى فيه يصعقون * يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون * وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولاكن أكثرهم لا يعلمون * واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم * ومن اليل فسبحه وإدبار النجوم) *) 2
" * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) *) يسأل بعضهم بعضا قال ابن عباس: إذا بعثوا من قبورهم، وقال غيره: في الجنة وهو الأصوب لقوله سبحانه " * (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) *) خائفين من عذاب الله " * (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) *) قال الحسن: السموم: اسم من أسماء جهنم.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أبو بكر بن مالك، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أنس بن عياض، قال: حدثني شيبة بن نصاح عن القاسم بن محمد قال: غدوت يوما وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة خ أسلم عليها، فوجدتها ذات يوم تصلي السبحة وهي تقرأ " * (فمن الله علينا و وقانا عذاب السموم) *) وترددها وتبكي، فقمت حتى مللت ثم ذهبت إلى السوق بحاجتي ثم رجعت فإذا هي تقرأ وترددها وتبكي وتدعو.
" * (إنا كنا من قبل) *) في الدنيا " * (ندعوه) *) نخلص له العبادة " * (إنه) *) قرأ الحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي بفتح الألف، أي لأنه، وهو اختيار أبي حاتم، وقرأ الآخرون بالكسر على الابتداء، وهو اختيار أبي عبيدة " * (هو البر) *) قال ابن عباس: اللطيف، وقال الضحاك: الصادق فيما وعد * (الرحيم) * * (فذكر) *) يا محمد " * (فما أنت بنعمة ربك) *) أي برحمته وعصمته " * (بكاهن) *) يبتدع القول ويخبر بما في غد من غير وحي، والكاهن: الذي يقول: إن معي قرينا من الجن.
130

" * (ولا مجنون) *) نزلت هذه الآية في الخراصين الذين اقتسموا عقاب مكة، يصدون الناس عن الإيمان، ويرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكهانة والجنون والسحر والشعر. فذلك قوله سبحانه:
" * (أم يقولون) *) يعني هؤلاء المقتسمين الخراصين " * (شاعر نتربص به ريب المنون) *) حوادث الدهر فيكفينا أمره بموت أو حادثة متلفة فيموت ويتفرق أصحابه، وذلك أنهم قالوا: ننتظر به ملك الموت فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة وفلان وفلان، إنما هو كأحدهم، وإن أباه توفي شابا، ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه.
والمنون يكون بمعنى الدهر، ويكون بمعنى الموت، سميا بذلك لأنهما ينقصان ويقطعان الأجل، قال الأخفش: لأنهما يمنيان قوى الانسان ومنيه أي ينقصان، وأنشد ابن عباس:
تربص بها ريب المنون لعلها
تطلق يوما أو يموت حليلها
" * (قل تربصوا فإني من المتربصين) *) حتى يأتي أمر الله فيكم.
" * (أم تأمرهم أحلامهم) *) عقولهم " * (بهذا) *) وأنهم كانوا يعدون في الجاهلية أهل الأحلام ويوصفون بالعقل، وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله سبحانه بالعقول؟. فقال: تلك عقول كادها الله، أي لم يصحبها التوفيق. " * (أم هم) *) بل هم " * (قوم طاغون) *).
" * (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون) *) استكبارا.
" * (فليأتوا بحديث مثله) *) أي مثل هذا القرآن يشبهه " * (إن كانوا صادقين) *) أن محمدا تقوله من تلقاء نفسه، فإن اللسان لسانهم، وهم مستوون في البشرية واللغة والقوة.
" * (أم خلقوا من غير شيء) *) قال ابن عباس: من غير رب، وقيل: من غير أب ولا أم، فهم كالجماد لا يعقلون، ولا يقوم لله عليهم حجة، أليسوا خلقوا من نطفة ثم علقة ثم مضغة؟ قاله ابن عطاء، وقال ابن كيسان: أم خلقوا عبثا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون، وهذا كقول القائل: فعلت كذا وكذا من غير شيء يعني لغير شيء. " * (أم هم الخالقون) *) لأنفسهم.
" * (أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك) *) قال ابن عباس: المطر والرزق، وقال عكرمة: يعني النبوة، وقيل: علم ما يكون " * (أم هم المسيطرون) *) المسلطون الجبارون. قاله أكثر المفسرين، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس، وقال عطاء: أرباب قاهرون، وقال أبو عبيدة: يقال: خولا تسيطرت علي: اتخذتني، وروى العوفي عن ابن عباس: أم هم المنزلون
131

" * (أم لهم سلم) *) (يدعون أن لهم) مصعدا ومرقاة يرتقون به إلى السماء " * (يستمعون فيه) *) الوحي فيدعون أنهم سمعوا هناك أن الذي هم عليه حق، فهم مستمسكون به لذلك. " * (فليأت مستمعهم) *) إن ادعوا ذلك " * (بسلطان مبين) *) حجة بينة.
" * (أم تسألهم أجرا) *) جعلا على ما جئتهم به ودعوتهم إليه " * (فهم من مغرم) *) غرم " * (مثقلون) *) مجهودون.
" * (أم عندهم الغيب) *) أي علم ما غاب عنهم حتى علموا أن ما يخبرهم الرسول من أمر القيامة والبعث والحساب والثواب والعقاب باطل غير كائن، وقال قتادة: لما قالوا " * (نتربص به ريب المنون) *) أنزل الله سبحانه " * (أم عندهم الغيب) *) فهم يعلمون حتى بموت محمد، وإلى ماذا يؤول أمره؟ وقال ابن عباس:
يعني أم عندهم اللوح المحفوظ " * (فهم يكتبون) *) ما فيه، ويخبرون الناس به، وقال القتيبي " * (فهم يكتبون) *) أي يحكمون.
والكتاب: الحكم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين تخاصما (لأقضين بينكم بكتاب الله). أي بحكم الله.
" * (أم يريدون كيدا) *) مكرا في دار الندوة " * (فالذين كفروا هم المكيدون) *) الممكور بهم يعود الضرر عليهم، ويحيق المكر بهم، وكل ذلك أنهم قتلوا ببدر.
" * (أم لهم إله غير الله سبحانه الله عما يشركون) *) قال الخليل بن أحمد: ما في سورة الطور من ذكر " * (أم) *) كله استفهام وليس بعطف.
" * (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا) *) كسفا قطعة وقيل: قطعا واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر " * (من السماء ساقطا) *) ذكره على لفظ الكسف " * (يقولوا) *) بمعاندتهم وفرط غباوتهم ودرك شقاوتهم هذا " * (سحاب مركوم) *) موضوع بعضه على بعض.
هذا جواب لقولهم: " * (فأسقط علينا كسفا من السماء) *) وقولهم: " * (وأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) *) فقال: لو فعلنا هذا لقالوا: سحاب مركوم.
" * (فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون) *) أي يموتون، وقرأ الأعمش وعاصم وابن عامر " * (يصعقون) *) بضم الياء وفتح العين، أي يهلكون، وقال الفراء: هما لغتان مثل سعد وسعد.
" * (يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون وإن للذين ظلموا) *) كفروا " * (عذابا دون ذلك) *) قال البراء بن عازب: هو عذاب القبر، وقال ابن عباس: هو القتل ببدر، وقال مجاهد:
132

الجوع والقحط سبع سنين، وقال ابن زيد: المصايب التي تصيبهم من الأوجاع وذهاب الأموال والأولاد. " * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) *) إن العذاب نازل بهم.
" * (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) *) بمرأى ومنظر منا " * (وسبح بحمد ربك حين تقوم) *) قال أبو الأحوص عوف بن مالك وعطاء وسعيد بن جبير: قل سبحانك اللهم وبحمدك حين تقوم من مجلسك، فإن كان المجلس خيرا ازددت احتسابا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له.
ودليل هذا التأويل ما أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن الحسن بن صقلاب، قال: حدثنا ابن الحسن أحمد بن عيسى بن حمدون الناقد بطرطوس. قال: حدثنا أبو أمية، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جلس في مجلس كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم: " * (سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك) *) غفر له ما كان في مجلسه ذلك).
وقال ابن زيد: (سبح) بأمر ربك حين تقوم من منامك، وقال الضحاك والربيع: إذا قمت إلى الصلاة فقل: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك: ولا إله غيرك، وعن الضحاك أيضا يعني: قل حين تقوم إلى الصلاة: (الله أكبر كبير ا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا)، وقال الكلبي: يعني ذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة، وقيل: هي صلاة الفجر.
" * (ومن الليل فسبحه) *) أي وصل له، يعني صلاتي العشاء، " * (وإدبار النجوم) *).
قال علي بن أبي طالب وابن عباس وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك يعني: ركعتي الفجر.
أنبأني عقيل، قال: أخبرنا المقابي، قال: أخبرنا ابن جرير، قال: أخبرنا بسر قال: حدثنا سعيد بن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ركعتي الفجر (هما خير من الدنيا جميعا).
وقال الضحاك وابن زيد: هي صلاة الصبح الفريضة.
قرأ سالم بن أبي الجعد (وأدبار) بفتح الألف، ومثله روى زيد عن يعقوب يعني: بعد غروب النجوم.
133

((سورة النجم))
مكية، وهي ألف وأربعمائة وخمسة أحرف، وثلاثمائة وستون كلمة، واثنتان وستون آية.
أخبرني أبو الحسن بن القاسم بن أحمد بقراءتي عليه، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر، قال: أخبرنا أبو عمرو الحيري وعمر بن عبد الله البصري، قالا: حدثنا محمد ابن عبد الوهاب قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: حدثنا سلام بن سليم قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة النجم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد ومن جحد به).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالافق الاعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده مآ أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى) *) 2
" * (والنجم إذا هوى) *) قال ابن عباس في رواية الوالبي والعوفي ومجاهد برواية ابن أبي نجح: يعني والثريا إذا سقطت وغابت، والعرب تسمي الثريا نجما، وإن كانت في العدد نجوما.
قال أبو بكر محمد بن الحسن الدربندي: هي سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة، وواحد منها خفي، يختبر الناس به أبصارهم، ومنه قول العرب إذا طلع النجم عشاء: ابتغى الراعي كساء وعن مجاهد أيضا: يعني نجوم السماء كلها حتى تغرب، لفظه واحد ومعناه الجمع، كقول الراعي:
فباتت تعد النجم في مستحيره
سريع بأيدي الآكلين جمودها
134

وسمي الكوكب نجما لطلوعه، وكل طالع نجم، ويقال: نجم السر والقرب والندب إذا طلع.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه الرجم من النجوم، يعني ما يرمى به الشياطين عند استراقهم السمع، وقال الضحاك: يعني القرآن إذا نزل ثلاث آيات وأربع وسورة، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة، وهي رواية الأعمش عن مجاهد وحيان عن الكلبي، والعرب تسمي التفريق تنجيما والمفرق نجوما ومنه نجوم الدين.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثنا إسحاق بن محمد قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدثنا علي بن علي قال: حدثني أبو حمزة الثمالي " * (والنجم إذا هوى) *) قال: يقال: هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة، وقال الأخفش هي النبت، ومنه قوله: " * (والنجم والشجر يسجدان) *) وهويه: سقوطه على الأرض، لأنه ما ليس له ساق، وقال جعفر الصادق: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم إذا نزل من السماء ليلة المعراج.
فالهوي: النزول والسقوط، يقال: هوى يهوى هويا: مضى يمضي مضيا، قال زهير:
يشج بها الأماعز وهي تهوي
هوي الدلو أسلمها الرشاء
وروى عروة بن الزبير عن رجال من أهل بيته قالوا: كانت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عتبة بن أبي لهب فأراد الخروج إلى الشام فقال: الأبتر محمد فلأوذينه في جابنتهج فأتاه فقال: يا محمد هو يكفر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل في وجهه ورد عليه ابنته وطلقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم سلط عليه كلبا من كلابك) قال: وأبو طالب حاضر فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة.
فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره بذلك ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه: أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا أحمالهم وفرشوا لعتبة في أعلاها وناموا حوله، فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم ثم ثنى ذنبه فوثب وضرب عتبة بيده ضربة، وأخذه فخدشه، فقال: قتلني ومات مكانه. فقال في ذلك حسان بن ثابت:
سائل بني الأصغر إن جئتهم
ما كان أنباء أبي واسع
لا وسع الله له قبره
بل ضيق الله على القاطع
رمى رسول الله من بينهم
دون قريش رمية القاذع
135

واستوجب الدعوة منه بما
بين للناظر والسامع
فسلط الله به كلبه
يمشي الهوينا مشية الخادع
حتى أتاه وسط أصحابه
وفد عليهم سمة الهاجع
فالتقم الرأس بيافوخه
والنحر منه قفرة الجائع
ثم علا بعد بأسنانه
منعفرا وسط دم ناقع
قد كان هذا لكم عبرة
للسيد المتبوع والتابع
من يرجع العام إلى أهله
فما أكيل السبع بالراجع
" * (ما ضل صاحبكم) *) محمد " * (وما غوى) *) وهذا جواب القسم.
" * (وما ينطق عن الهوى) *) أي بالهوى يعاقب بين عن وبين الباء، فيقيم أحدهما مكان الآخر.
" * (إن هو) *) ما ينطقه في الدين " * (إلا وحي يوحى) *) إليه.
" * (علمه شديد القوى) *) وهو جبريل.
" * (ذو مرة) *) قوة وشدة، ورجل ممر أي قوي، قال الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه رجل مزير
وأصله من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله، ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي).
قال الكلبي: وكانت شدته أنه اقتلع قريات قوم لوط من الماء الأسود، وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وكانت شدته أيضا أنه أبصر إبليس وهو يكلم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه في أقصى جبل بالهند، وكانت شدته أيضا صيحته بثمود فأصبحوا جاثمين خامدين، وكانت شدته أيضا هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف، وقال قطرب: يقول العرب لكل حرك الرأي حصف العقل: ذو مرة، قال الشاعر:
قد كنت قبل لقائكم ذا مرة
عندي لكل مخاصم ميزانه
136

وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله أن الله تعالى ائتمنه على تبليغ وحيه إلى جميع رسله.
وقال ابن عباس: ذو مرة، أي ذو منظر حسن، وقال قتادة: ذو خلق طويل حسن.
" * (فاستوى) *) يعني جبريل " * (وهو) *) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أن يظهروا كناية المعطوف عليه فيقولون: استوى هو وفلان، ما يقولون: استوى وفلان، وأنشد الفراء:
ألم تر أن النبع يصلب عوده
ولا يستوي والخروع المتقصف
والمعنى: لا يستوي هو والخروع.
ونظير هذه الآية قوله سبحانه: " * (إذا كنا ترابا وآباؤنا) *) فعطف بالآباء على الكنى في " * (كنا) *) من غير إظهار نحن، ومعنى الآية: استوى جبريل ومحمد ليلة المعراج " * (بالأفق الأعلى) *) وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس في السماء، وقيل: استويا في القوة والصعود إلى السماء، وقيل: استويا في العلم بالوحي، وقال بعضهم: معنى الآية: استوى جبريل أي ارتفع وعلا في السماء بعد أن علم محمدا، عن سعيد بن المسيب، وقيل: فاستوى أي قام في صورته التي خلقه الله سبحانه عليها، وذلك أنه كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التييجبل عليها، وأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض، ومرة في السماء فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب، فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه، ونزل جبريل في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه.
يدل عليه قوله سبحانه: " * (ولقد رآه بالأفق المبين) *)، وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمد المصطفى صلوات الله عليه.
" * (ثم دنا فتدلى) *) اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال بعضهم: معناها ثم دنا جبرئيل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فتدلى فنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي وهوى عليه " * (فكان) *) منه " * (قاب قوسين أو أدنى) *) أي: بل أدنى، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع.
قال أهل المعاني: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ثم تدلى فدنا؛ لأن التدلي: الدنو، ولكنه سامع حسن؛ لأن التدلي يدل على الدنو، والدنو يدل على التدلي، وإنما تدلى للدنو ودنا للتدلي، وقال آخرون: معناه ثم دنا الرب سبحانه من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى فقرب منه حتى كان قاب
137

قوسين أو أدنى، وأصل التدلى: النزول إلى الشيء حتى يقرب منه، فوضع موضع القرب، قال لبيد:
فتدليت عليه قافلا
وعلى الأرض غيابات الطفل
وهذا معنى قول أنس ورواية أبي سلمة عن ابن عباس.
وأخبرني عقيل بن محمد أن أبا الفرج البغدادي، أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدثنا الربيع قال: حدثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن شريك بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة المسرى أنه عرج جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة، ثم علا به بما لا يعلمه إلا الله (عز وجل) حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه ما شاء، ودنو الله من العبد ودنو العبد منه بالرتبة والمكانة والمنزلة وإجابة الدعوة وإعطاء المنية، لا بالمكان والمسافة والنقلة، كقوله سبحانه: " * (فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) *).
وقال بعضهم: معناه: ثم دنا جبريل من ربه عز وجل فكان منه قاب قوسين أو أدنى، وهذا قول مجاهد، يدل عليه ما روي في الحديث: (إنه أقرب الملائكة من
جبرائيل إلى الله سبحانه).
وقال الضحاك: ثم دنا محمد من ربه عز وجل فتدلى فأهوى للسجود، فكان منه قاب قوسين أو أدنى، وقيل: ثم دنا محمد من ساق العرش فتدلى، أي: جاور الحجب والسرادقات، لا نقلة مكان، وهو قائم بإذن الله كالمتعلق بالشيء لا يثبت قدمه على مكان، وهذا معنى قول الحسين بن الفضل.
ومعنى قوله " * (قاب قوسين) *) قدر قوسين عربيتين عن ابن عباس وعطاء، وألقاب والقيب والقاد والقيد عبارة عن مقدار الشيء، ونظيره من الكلام زير وزار. قال صلى الله عليه وسلم (لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدينا وما فيها).
وقال مجاهد: معناه حيث الوتر من القوس، وقال سعيد بن المسيب: ألقاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد، فأخبر أن قرب جبرئيل من محمد صلى الله عليه وسلم عند الوحي كقرب قاب قوسين.
وقال أهل المعاني: هذا إشارة إلى تأكيد المحبة والقربة ورفع المنزلة والرتبة، وأصله أن
138

الحليفين والمحبين في الجاهلية كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد والوفاء خرجا بقوسيهما والصفا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران متحاميان يحامي كل واحد منهما عن صاحبه.
وقيل: هذا تمثيل في تقريب الشيء من الشيء، وهو مستعمل في أمثال العرب وأشعارهم، وقال سفيان بن سلمة وسعيد بن جبير وعطاء وابن إسحاق الهمداني: " * (فكان قاب قوسين) *) قدر ذراعين، والقوس: الذراع يقاس بها كل شيء، وهي لغة بعض أهل الحجاز. " * (أو أدنى) *) بل أقرب.
وقال بعض: إنما قال " * (أو أدنى) *)؛ لأنه لم يرد أن يجعل لذلك حدا محصورا.
وسئل أبو العباس بن عطاء عن هذه الآية فقال: كيف أصف لكم مقاما انقطع عنه جبريل وميكائيل وإسرافيل، ولم يكن إلا محمد وربه؟ وقال الكسائي: " * (فكان قاب قوسين) *) أراد قوسا واحدا كقول الشاعر:
ومهمهين قذقين مرتين
قطعته بالسمت لا بالسمتين
أراد مهمها واحدا.
وقال بعض أهل المعاني: معنى قوله: " * (فتدلى) *) فتدلل من الدلال كقولهم: (تظني بمعنى تظنن) وأملى وأملل بمعنى واحد.
" * (فأوحى) *) يعني فأوحى الله سبحانه وتعالى " * (إلى عبده) *) محمد صلى الله عليه وسلم " * (ما أوحى) *) قال الحسن والربيع وابن زيد: معناه فأوحى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه، قال سعيد: أوحى إليه " * (ألم يجدك يتيما) *) إلى قوله " * (ورفعنا لك ذكرك) *)، وقيل: أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك، وسئل أبو الحسن الثوري عنه فقال: أوحى إليه سرا بسر من سر في سر وفي ذلك يقول القائل:
بين المحبين سر ليس يفشيه
قول ولا قلم للخلق يحكيه
سر يمازجه أنس يقابله
نور تحير في بحر من التيه
" * (ما كذب الفؤاد ما رأى) *) قرأ الحسن وأبو جعفر (والحجدري) وقتادة (كذب) بتشديد الذال، أي: ما كذب قلب محمد ما رآى بعينه تلك الليلة، بل صدقه وحققه، وقرأ الباقون بالتخفيف، أي ما كذب فؤاد محمد محمدا الذي رآى بل صدقه، ومجاز الآية: ما كذب الفؤاد فيما رأى، فأسقط الصفة، كقول الشاعر
139

لو كنت صادقة الذي حدثتني
لنجوت منجى الحارث بن هشام
أي: في التي حدثتني، وقال بندار بن الحسن: الفؤاد وعاء القلب فيما ارتاب الفؤاد فيما أرى الأصل وهو القلب.
واختلفوا في الذي رآه. فقال قوم: رأى جبريل، وإليه ذهب ابن مسعود، وقال آخرون: هو الله سبحانه، ثم اختلفوا في معنى الرؤية، فقال بعضهم: جعل بصره في فؤاده، فرآه في فؤاده ولم يره بعينه، وقال قوم: بل رآه بعينه.
ذكر من قال: إنه رآه بعينه
أخبرني الحسن بن الحسين قال: حدثنا الفضل بن الفضل، قال: حدثنا أبو يعلى محمد بن زهير الإبلي، قال: حدثنا بن نحويه، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا ابن التيمي عن المبرك بن فضالة، قال: كان الحسن يحلف بالله عز وجل لقد رأى محمد ربه.
وأنبأني عقيل بن محمد قال: أخبرنا المعافي بن زكريا قال: حدثنا محمد بن جرير قال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران عن سفيان عن أبي إسحاق عمن سمع ابن عباس يقول: " * (ما كذب الفؤاد ما رأى) *) قال: رأى محمد ربه.
وبإسناده عن ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا عيسى بن عبيد سمعت عكرمة و (قد) سئل: هل رأى محمد ربه؟ فقال: نعم، قد رأى ربه.
وبه عن ابن حميد قال: حدثنا حكام عن أبي جعفر عن الربيع " * (ما كذب الفؤاد ما رأى) *) قال: رأى ربه عز وجل.
ذكر من قال: لم يره
أخبرنا أبو عبيد الله الحسين بن محمد الحافظ بقراءتي عليه في داري قال: حدثنا موسى ابن محمد بن علي، قال: حدثنا إبراهيم بن زهير، قال: حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا موسى بن عبيده عن محمد بن كعب قال: قال بعض أصحاب رسول الله: يا رسول الله، أرأيت ربك؟ قال: (رأيته مرتين، بفؤادي ولم أره بعيني) ثم تلا هذه الآية " * (ما كذب الفؤاد ما رأى) *) ومثله روي عن ابن الحنفية عن أبيه، وأبو العالية عن ابن عباس.
وأخبرني الحسن، قال: حدثنا أبو القاسم عن بن محمد بن عبد الله بن حاتم الترمذي
140

قال: حدثنا جدي لأمي محمد بن عبد الله بن مرزوق، قال: حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا همان بن عبد الله بن شفيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته، قال: وعما كنت تسأله؟ قلت: كنت أسأله: هل رأى ربه عز وجل؟ قال: فإني قد سألته فقال: (قد رأيت نورا، أنى أراه؟).
وكذلك روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (ما كذب الفؤاد ما رأى) *) قال: (رأيت نورا)، ومثله روى مجاهد وعكرمة عن ابن عباس.
وقد ورد في هذا الباب حديث جامع وهو ما أخبرني الحسين بن الحسن، قال: حدثنا ابن حبش، قال: أخبرنا علي بن زنجويه، قال: حدثنا سلمة بن عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة عن مجالد عن سعيد عن الشعبي عن عبد الله بن الحرث قال: اجتمع ابن عباس وكعب فقال ابن عباس: أما نحن بنو هاشم فنقول: إن محمدا رأى ربه مرتين، وقال ابن عباس يحبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد. قال: فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله سبحانه قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ج، فكلمه موسى ورآه محمد.
قال مجالد: وقال الشعبي: فأخبرني مسروق أنه قال لعائشة خ: يا أمتاه، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه تعالى قط؟، قالت: إنك لتقول قولا، إنه ليقف منه شعري، قال: قلت: رويدا فقرأت عليها: " * (والنجم إذا هوى) *) حتى " * (قاب قوسين أو أدنى) *). فقالت: رويدا، أين يذهب بك؟ إنما رأى جبريل في صورته. من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، والله عز وجل يقول: " * (لا تدركه الأبصار) *)، ومن حدثك أنه يعلم الخمس من الغيب فقد كذب، والله سبحانه يقول: " * (إن الله عنده علم الساعة) *) الآية، ومن حدثك أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب، والله عز وجل يقول: " * (بلغ ما أنزل إليك من ربك) *) الآية.
قال عبد الرزاق: فذكرت هذا الحديث لعمر، فقال: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس.
" * (أفتمارونه على ما يرى) *) أي: رأى.
قرأ علي وابن مسعود وابن عباس وعائشة ومسروق والنخعي وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب " * (أفتمراونه) *) بفتح الباء من غير ألف على معنى أفتجحدونه، واختاره أبو عبيد، قال: لأنهم لم يماروه وإنما يجحدونه، يقول العرب: مريت الرجل حقه إذا جحدته. قال الشاعر:
لئن هجرت أخا صدق ومكرمة
لقد مريت أخا ما كان يمريكا
141

أي جحدته.
وقرأ سعيد بن جبير وطلحة بن مسرف " * (أفتمراونه) *) بضم التاء بلا ألف، أي تريبونه وتشككونه، وقرأ الباقون " * (أفتمارونه) *) بالألف وضم التاء على معنى أفتجادلونه، وهو اختيار أبي حاتم، وفي الحديث (لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر).
2 (* (ولقد رءاه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من ءايات ربه الكبرى * أفرءيتم اللات والعزى * ومنواة الثالثة الاخرى * ألكم الذكر وله الانثى * تلك إذا قسمة ضيزى * إن هى إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جآءهم من ربهم الهدى) *) 2
" * (ولقد رآه نزلة أخرى) *) مرة أخرى، فسماها نزلة على الاستعارة، وذلك أن جبريل رآه النبي صلى الله عليه وسلمعلى صورته التي خلق عليها مرتين: مرة بالأفق الأعلى في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى في السماء، وهذا قول عائشة وأكثر العلماء وهو الاختيار، لأنه قرن الرؤية بالمكان فقال " * (عند سدرة المنتهى) *)، ولأنه قال: " * (نزلة أخرى) *) وتقديرها: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى، ووصف الله سبحانه بالمكان والنزول الذي هو الانتقال محال؛ ولأنه قال: " * (نزلة أخرى) *) ولم يرو في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل قبل ليلة المعراج فيراه تلك الليلة مرة أخرى، يدل عليها ما أخبرني عقيل بن محمد أن أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير عن محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي. قال: حدثنا داود بن عامر عن مسروق أن عائشة خ قالت: من زعم أن محمدا رآى ربه فقد أعظم الفرية على الله.
قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجلي، أرأيت قول الله سبحانه * (ولقد رآه نزلة أخرى) * * (ولقد رآه بالأفق المبين) *). قالت:
إنما هو جبريل رآه على صورته التي خلق عليها مرتين: مرة حين هبط من السماء إلى الأرض سادا أعظم حلقة ما بين السماء إلى الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. قالت: وأنا أول من سأل النبي (عن هذه الآية فقال: (هو جبريل).
" * (عند سدرة المنتهى) *) (عند) صلة من قوله: " * (رآه) *) والسدرة: شجرة النبق، وقيل لها سدرة المنتهى؛ لأنه إليها ينتهي علم كل عالم.
وقال هلال بن سياف: سأل ابن عباس كعبا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب:
142

إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه.
وقال ابن مسعود: سميت بذلك؛ لأنه ينتهى إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله سبحانه وتعالى إذا انتهى من يصعد إليها من الأرض قبض منها، وقيل: لأنه ينتهى إليها ما عرج من أرواح المؤمنين، وقيل: لأنه ينتهي إليها كل من مات على سنة رسول الله (ومنهاجه.
روى الربيع عن أبي العالية عن أبي هريرة قال: لما أسري بالنبي (انتهى إلى السدرة، فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن إلى قوله: مصفى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة منها مغطية الأمة كلها.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا بن شيبة، قال: حدثنا التنوخي قال: حدثنا عبيد بن يعيش، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قال: سمعت النبي (يذكر سدرة المنتهى قال: (يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة عام، ويستظل في الفنن منها مائة راكب. فيها فراش من ذهب، كأن ثمارها القلال).
وقال مقاتل: هي شجرة لو أن ورقة منها وضعت في الأرض لأضاءت لأهل الأرض، تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان، ولو أن رجلا ركب حقة فطاف على ساقها ما بلغ المكان الذي ركب منه حتى يقتله الهرم، وهي طوى التي ذكرها الله سبحانه في سورة الرعد، وقد تقصيت وصفها في قصة المسرى.
" * (عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى) *) قال ابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قال الحسن: غشيها نور رب العزة فاستنارت، وقيل: الملائكة، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله عز وجل)، وروى الربيع عن أبي هريرة أو غيره قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى السدرة، قال: فغشيها نور الخلائق وغشيها الملائكة من حب الله مثل الغربان حين يقعن على الشجر.
قال: فكلمه عند ذلك وقال له: سل
143

وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فغشيها رفرف من طير خضر).
قال السدي: من الطيور فوقها، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انتهيت إلى السدرة وأنا لأعرف أنها سدرة، أعرف ورقها وثمرها، وإذا ينعها مثل الجرار، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتا وزمردا حتى ما يستطيع أحد يصفها، عندها جنة المأوى).
قال ابن عباس: هي يمين العرش، وهي منزلة الشهداء، نظيره " * (فلهم جنات المأوى) *) وأخبرنا الحسن بن محمد قال: حدثنا أبو عبد الله عمر بن أحمد بن محمد بن الحرث القضباني. قال: حدثنا علي بن العباس المقانعي، قال: حدثنا ميمون بن الأصبع، قال: حدثنا يحيى بن صالح الوحاطي قال: حدثنا محمد بن سليمان بن حمزة البصري، قال: حدثنا عبد الله بن أبي قيس، قال سمعت عبد الله بن الزبير يقرأ هذه الآية " * (عندها جنه) *) بالهاء " * (المأوى) *) يعني جنه المبيت، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدثنا أبو بكر بن مجاهد، قال: حدثني أبو صدقة قال: حدثنا أبو الأسباط قال: حدثنا عبدالرحمن عن علي بن القاسم الكندي عن موسى بن عبيدة، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقرأ " * (جنه المأوى) *) وقال مجاهد: يريد أجنه، والهاء في هذه القراءة كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو حاتم: وهي قراءة علي وأنس يعني ستره، وقال الأخفش: أدركه.
" * (ما زاغ البصر وما طغى) *) أي: ما جاور ما أمر به، ولا مال عما قصد له.
" * (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) *) أي الآية الكبرى.
قال ابن مسعود: رآى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق، وقال الضحاك: سدرة المنتهى، وقال عبدالرحمن بن يزيد ومقاتل بن حيان: رأى جبريل في صورته التي تكون في السماوات، وقيل: المعراج، وما أري تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه. دليله قوله سبحانه " * (لنريه من آياتنا الكبرى) *).
" * (أفرأيتم اللات) *) قراءة العامة بتخفيف التاء، وهي من (الله) ألحقت بها التاء فاثبت. كما قيل: عمر للذكر، ثم قيل: للأنثى عمرة، وكما قيل عباس وعباسة، وكذلك سمى المشركون أوثانهم بأسماء الله فقالوا: من الله (اللات)، ومن العزيز (العزى).
144

قال قتادة: أما اللات فكانت بالطائف. ابن زيد: اللات بيت بنخلة كانت قريش تعبده.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح اللات بتشديد التاء، وقالوا: كان رجلا يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه، وروى السدي عن أبي صالح أنه كان بالطائف، وكان يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق، فلما مات عبدوه.
وقال مجاهد: كان رجلا في رأس جبل له غنم يسلى منهاالسمن، ويأخذ منها الأقط، ويجمع رسلها ثم يتخذ منها (حيسا) فيطعم الحاج، وكان ببطن نخلة، فلما مات عبدوه، وهو اللات، وقال الكلبي: كان رجلا من ثقيف يقال له: (صرمة) بن غنم كان يسلأ السمن فيضعها على صخرة ثم تأتيه العرب فتلت به سيوفهم، فلما مات الرجل (اخذت) ثقيف الصخرة إلى منازلها فعبدتها فمدرة الطائف على وضع اللات.
" * (والعزى) *) اختلفوا فيها فقال مجاهد: هي شجرة لغطفان يعبدونها، وهي التي بعث إليها رسول الله خالد بن الوليد فقطعها، وجعل خالد يضربها بالفأس ويقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
فخرجت منها شيطانة، ناشرة شعرها داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، ويقال: إن خالدا رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد قطعتها، فقال: (ما رأيت؟)، قال: لم أر شيئا، قال صلى الله عليه وسلم (ما قطعت). فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتث أصلها، فخرجت جمنهاج امرأة عريانة فقتلها، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال: (تلك العزى ولن تعبد أبدا).
وقال الضحاك: وهي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنه قدم مكة فرأى الصفا والمروة، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما، فعاد إلى (بطن نخلة) وقال لقومه: إن لأهل مكة الصفا والمروة وليست لكم، ولهم اله يعبدونه وليس لكم، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم كذلك، فأخذ حجرا من الصفا وحجرا من المروة فنقلهما إلى بطن نخلة، فوضع الذي من الصفا، فقال: هذا الصفا، ثم وضع الذي أخذ من المروة، فقال: هذه المروة، ثم أخذ ثلاثة أحجار فاسندها إلى شجرة وقال: هذا ربكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين وعبدون
145

الحجارة حتى افتتح رسول الله مكة فأمر برفع الحجارة، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعهما، وقال ابن زيد: هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف.
" * (ومناة) *) قرأ ابن كثير بالمد، ومثله روى الشموني عن أبي بكر عن عاصم وأنشد:
ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة
على الشنئ فيما بيننا ابن تميم
والباقون بالقصر.
قال قتادة: هي حجارة كانت تعبد. ابن زيد: بيت كان بالمشلل يعبده بنو كعب. الضحاك: مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة، وقيل: إن اشتقاقه من ناء النجم ينوء نوءا، وقال بعضهم: اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
واختلف القراء في الوقف على اللات ومناة، فوقف بعضهم عليهما بالهاء وبعضهم بالتاء، وقال بعضهم: كل شيء في القرآن مكتوب بالتاء فإنه يوقف عليه بالتاء نحو " * (نعمة ربك) *) و " * (شجرة الزقوم) *) ونحوهما، وما كان منها مكتوبا بالهاء فالوقف عليه بالهاء، وقال بعضهم: الاختيار في كل ما لم يضف ان يكون بالهاء، نحو " * (رحمة من ربي) *) و " * (شجرة تخرج) *) وما كان مضافا فجائز بالهاء والتاء، فالتاء للإضافة والهاء لأنه تفرد دون التاء.
وأما قوله سبحانه " * (الثالثة الأخرى) *) قال: العرب لا تقول للثالثة أخرى وأنما الأخرى نعت للثانية، واختلفوا في وجهها فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله: " * (مآرب أخرى) *) ولم يقل: أخر، وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير، مجازها: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة، ومعنى الآية: أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله.
" * (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى) *) روى القواس والبزي عن ابن كثير بالهمز. الباقون بغير همز، وقال ابن عباس وقتادة: يعني قسمة جائرة حيث جعلتم لربكم من الولد ما تكرهون لأنفسكم. مجاهد ومقاتل: عوجا. الحسن: غير معتدلة. ابن سيرين: غير مستوية أن يكون لهم الذكور ولله الإناث. الضحاك: ناقصة. سفيان منقوصة. ابن زيد: مخالفة.
قال الكسائي: يقال فيه: ضاز يضيز ضيزا. ضاز يضوز ضوزا. ضاز يضاز ضأزا إذا ظلم ونقص. قال الشاعر:
ضازت بنو أسد بحكمهم
إذ يجعلون الرأس كالذنب
146

وأنشد الأخفش:
فإن تنأ عنا ننتقصك وإن تغب
فسهمك مضئوز وأنفك راغم
وتقدير ضيزى من الكلام فعلى بضم الفاء؛ لأنها صفة من الصفات، والصفات لا تكون إلا (فعلى) بضم الفاء، نحو: حبلى وأنثى ويسرى، أو (فعلى) بفتح الفاء نحو: غضبى وسكرى وعطشى، وليس في كلام العرب (فعلى) بكسر الفاء في النعوت، إنما يكون في الأسماء نحو: دفرى، وذكرى وشعرى. قال المؤرخ: كرهوا ضم الضاد وخافوا انقلاب الياء واوا وهو من بنات الياء فكسروا الضاد لهذه العلة، كما قالوا في جمع أبيض: بيض، والأصل بوض مثل: حمر وصفر، وأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى.
" * (إن هي) *) يعني هذه الأوثان " * (إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون) *) قرأ العامة بالياء، وقرأ عيسى بالتاء " * (إلا الظن) *) في قولهم: إنها آلهة وإنها شفعاؤهم " * (وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) *) لبيان أنها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار.
2 (* (أم للإنسان ما تمنى * فلله الاخرة والاولى * وكم من ملك فى السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشآء ويرضى * إن الذين لا يؤمنون بالاخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى * وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا * فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيواة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى * ولله ما فى السماوات وما فى الارض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى * الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) *) 2
" * (أم للإنسان ما تمنى) *) اشتهى، وهم الكفار وزعموا أن الأصنام تشفع لهم عند الله، يعني: أتظنون أن لهم ما يتمنون من شفاعة الأصنام، ليس كما ظنوا أو تمنوا، بل لله الآخرة والأولى، يعني الدنيا، يعطي ما يشاء ويمنع ما يشاء، لا ما تمنى الانسان واشتهى، وهذا كقوله: " * (أإله مع الله) *) أي لا إله مع الله، وقال ابن زيد: إن كان محمد تمنى شيئا فأعطاه الله ذلك فلا تنكروه.
" * (فلله الآخرة والأولى) *) يعطي من يشاء ما يشاء، ويحرم من يشاء ما يشاء.
" * (وكم من ملك في السماوات) *) ممن يعبدونهم هؤلاء الكفار ويزعمون أنهم بنات الله
147

ويرجون شفاعتهم عند الله. " * (لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) *) قال الأخفش: الملك موحد ومعناه الجمع، وهو مثل قوله: " * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) *).
" * (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية) *) أي كتسمية أو بتسمية " * (الأنثى وما لهم) *) وذلك حين قالوا: إنهم بنات الله سبحانه، تعالى الله عن افترائهم " * (به من علم إن يتبعون إلا الظن وأن الظن لا يغني عن الحق) *) أي من العذاب " * (شيئا) *) نظيره " * (ما ننزل من الملائكة إلا بالحق) *). يعني أنها لا تشفع لهم، وأن ظنهم لا ينقذهم من العذاب.
" * (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا) *) يعني القرآن، وقيل: الإيمان، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم
" * (ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم) *) قال الفراء: وذلك حين قالوا: إنهم بنات الله، تعالى الله عن افترائهم وازرى بهم بعد ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. " * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) *) دينه " * (وهو أعلم بمن اهتدى ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين آساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) *) اختلفوا في معنى " * (إلا) *) فقال قوم: هو استثناء صحيح، واللمم من الكبائر والفواحش، ومعنى الآية: إلا ان يلم بالفاحشة ثم يتوب وتقع الوقعة ثم ينتهي، وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن وأبي صالح، ورواية عطاء عن ابن عباس قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم: ما دون الشرك.
وقال آخرون: هو استثناء منقطع مجازه: لكن اللمم، ولم يجعل اللمم من الكبائر والفواحش، ثم اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنما كانوا بالأمس يعملون معنا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه، وروى الوالبي عن ابن عباس، وقال بعضهم: هو صغار الذنوب مثل النظرة والغمزة والقبلة، وهو من ألم بالشيء إذا لم يتعمق فيه ولم يلزمه، وهو قول ابن مسعود ومسروق والشعبي وأبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان، ورواية طاووس عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان المنطق، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق أو يكذبه، فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم).
148

وقال ابن الزبير وعكرمة وقتادة والضحاك: هو ما بين الحدين: حد الدنيا وعذاب الآخرة، وهي رواية العوفي والحكم بن عيينة عن ابن عباس، وقال الكلبي: اللمم على وجهين، كل ذنب لم يذكر عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر، والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه، وقال مقاتل: اللمم ما بين الحدين من الذنوب. [نزلت في نبهان التمار وقد مضت القصة في سورة آل عمران، وقال عطاء بن أبي رياح: اللمم عباده النفس الحين بن الحين، وقال سعيد بن المسيب: هو ما لم على القلب، اي حظر، وقال محمد بن الحنفية: كل ما هممت به من خير أو شر فهو لمم.
ودليل هذا التأويل الخبر المروي (إن للشيطان لمة، وللملك لمة، فلمة الشيطان الوسوسة، ولمة الملك الإلهام)
وقال الحسين بن الفضل: اللمم: النظرة من غير تعمد، وهو مغفور، فإن أعاد النظر فليس بلمم وهو ذنب، وقال الفراء: اللمم: المتقارب من صغار الذنوب، وأصل
اللمم والإلمام هو ما يعمله الانسان المرة بعد المرة، والحين بعد الحين ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه. يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت، المام الخيال، قال الأعشى:
ألم خيال من قتيلة بعدما
وهى حبلها من حبلنا فتصرما
وقال آخر:
أنى ألم بك الخيال يطيف
ومطافه لك ذكرة وشغوف
" * (إن ربك واسع المغفرة) *) لا يتعاظمه ذنب، نظيره " * (ورحمتي وسعت كل شيء) *).
أخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن النعمان بن عبد السلام الأصفهاني قال: حدثنا محمد بن عاصم، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا العوام بن حوشب عن عمرو بن مرة عن أبي وائل قال: رأى أبو مسيرة عمرو بن شرحبيل، وكان من أفاضل أصحاب عبد الله في المنام قال: رأيت كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لذي الكلاع وحوشب وكانا ممن قتل مع معاوية فقلت فأين عمار وأصحابه؟ فقالوا: أمامك، قلت: وقد قتل بعضهم بعضا؟: إنهم لقوا الله سبحانه فوجدوه واسع المغفرة.
149

قال أبو خالد: بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثنتي عشر ألف بنت.
" * (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض) *) أي خلق أباكم من التراب " * (وإذ أنتم أجنة) *) جمع جنين، وهو الولد ما دام في البطن، سمي جنينا لاجتنانه أي استتاره.
روى مسروق عن عائشة خ قالت: كانت اليهود إذا هلك لهم صديق قالوا: هو صديق. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (كذبوا ما من نسمة يخلقها الله سبحانه في بطن أمها إلا شقي أو سعيد) فأنزل الله سبحانه * (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة) * * (في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم) *) قال ابن عباس: لا تمدحوها. مجاهد وزيد بن أسلم: فلا تبرئوها، وقال الكلبي ومقاتل: كان أناس يعملون أعمالا خبيثة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا. فأنزل الله سبحانه هذه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب.
" * (هو أعلم بمن أتقى) *) الشرك فآمن، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يعني عمل حسنة وارعوى عن سيئة، وقال الحسن: أخلص العمل لله.
(* (أفرأيت الذى تولى * وأعطى قليلا وأكدى * أعنده علم الغيب فهو يرى * أم لم ينبأ بما فى صحف موسى * وإبراهيم الذى وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزآء الأوفى * وأن إلى ربك المنتهى * وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا) *) 2
" * (أفرأيت الذي تولى) *)... الآيات، قال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب بن شريك: نزلت في عثمان بن عفان رضوان الله عليه كان يتصدق وينفق في الخير، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع؟ يوشك أن لا يبقى لك شيء. فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله وأرجو عفوه. فقال له عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن بعض ما كان يصنع من الصدقة والنفقة فأنزل الله سبحانه " * (أفرأيت الذي تولى) *) يعني يوم أحد حين نزل ترك المركز.
" * (وأعطى) *) يعني صاحبه " * (قليلا وأكدى) *) ثم قطع نفقته فعاد عثمان ح إلى أحسن ذلك وأجمله
150

وقال مجاهد وابن زيد: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له: أتركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار، كان ينبغي لك ان تنصرهم. قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له الذي عاتبه ان هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، ففعل وأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له، ثم بخل ومنحه تمام ما ضمن له فأنزل الله سبحانه " * (أفرأيت الذي تولى) *) أدبر عن الإيمان " * (وأعطى) *) يعني صاحبه الضامن قليلا " * (وأكدى) *) بخل بالباقي، وقال مقاتل: يعني أعطى الوليد قليلا من الخير بلسانه ثم " * (أكدى) *) اي قطعه ولم يقم عليه.
وروى موسى بن عبيدة الزبيدي عن عطاء بن يسار قال: نزلت في رجل قال لأهله: جهزوني انطلق إلى هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم فتجهز وخرج، فلقيه رجل من الكفار فقال له: أين تريد؟ قال: محمدا، لعلي أصيب من خيره، فقال له الرجل: أعطني جهازك وأحمل عنك إثمك، فنزلت فيه هذه الآية.
وروي عن السدي أيضا قال: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه كان ربما يوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأمورا، وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الاخلاق فذلك قوله: " * (أعطى قليلا وأكدى) *) أي لم يؤمن.
قال المفسرون: أكدى أي قطعه ولم يقم عليه، وأصله من الكديه وهي حجر يظهر في البئر ويمنع من الحفر ويؤيس من الماء.
قال الكسائي: تقول العرب: أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في الحفر الكديه والجبل، وقال: كديت أصابعه إذا محلت، وكديت يده إذا كلت فلم يعمل شيئا، وكدى النبت إذا قل ريعه، وقال المؤرخ: أكدى أي منع الخير، قال الحطيئة:
فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه
ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
" * (أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ) *) يخبر " * (بما في صحف موسى) *) يعني أسفار التوراة " * (وإبراهيم الذي وفى) *) ما أرسل به من تبليغ رسالة الله وهي قوله: " * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *) روى عكرمة وطاووس عن ابن عباس قال: كانوا قبل إبراهيم صلوات الله عليه يأخذون الرجل بذنب غيره، ويأخذون الولي بالولي في القتل، حتى أن الرجل يقتل بأبيه وأخيه وابنه وعمه وخاله، والزوج يقتل بامرأته، والسيد يقتل بعبده، حتى كان إبراهيم ج فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله " * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *).
151

وقال الحسن وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد: عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه إلى خلقه مجاهد: وفى بما فرض عليه. ربيع: وفى رؤياه وقام بذبح ابنه. عطاء الخراساني: استعمل الطاعة. أبو العالية: وفى بتمام الإسلام وهو قوله: " * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) *)، وما ابتلى بهذا الدين أحد فأقام سهامه كلها إلا إبراهيم، والتوفية: الاتمام. فقال: وفيت عليه حقه ووفرته، قال الله سبحانه: " * (ليوفيهم أجورهم) *). سفيان بن عيينة: أدى الأمانة. الضحاك: وفى بشأن المناسك. عطاء بن السائب: بلغني أن إبراهيم كان عهد أن لا يسأل مخلوقا شيئا، فلما قذف في النار وأتاه جبريل فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فأثنى الله سبحانه وتعالى عليه بقيامه بما قال ووفائه بما عهد فقال عز من قائل: " * (وإبراهيم الذي وفى) *). الحسين ابن الفضل: وفى بشأن الأضياف حتى سمي أبا الأضياف. أبو بكر الوراق: قام بشرط ما ادعى، وذلك أن الله سبحانه قال له: أسلم قال: أسلمت، فطالبه الله سبحانه بصحة دعواه، فابتلاه في ماله وولده ونفسه، فوجده في ذلك كله وافيا، فقال سبحانه " * (وإبراهيم الذي وفى) *) أي ادعى الاسلام ثم صحح دعواه.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية قولان:
أحدهما: ما أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا القطيعي قال: حدثنا ابن حنبل قال: حدثني أبي، قال: حدثنا حسين، قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا ريان بن فائد عن سهل عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أخبركم لم سمى تعالى إبراهيم خليله الذي وفى؛ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: (سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) حتى تختم الآية).
والآخر: ما أخبرنا الحسن بن محمد قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدثنا أحمد بن الفرج المقري، قال: حدثنا أبو عمر، قال: حدثنا نصر بن علي قال: أخبرنا معمر بن سليمان عن جعفر عن القاسم عن أبي أمانة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " * (وإبراهيم الذي وفى) *) قال: (أتدرون بما وفى؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وفى: يعني عمل يومه بأربع ركعات كان يصليهن من أول النهار.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن ملك قال: حدثنا ابن حنبل، قال: حدثنا أبي: قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا معاوية عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن نعيم بن همار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا بن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره).
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا عبيد الله بن أبي سمرة قال: حدثنا أبو طلحة أحمد بن
152

محمد بن عبد الكريم قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا المعمر بن سليمان، قال: حدثنا محمد بن المعتصم أبو جميل عن أبي يزيد عن سعيد بن جبير أنه قرأ " * (وإبراهيم الذي وفى) *) خفيفة.
فأما الجامع بين قوله سبحانه: " * (لا تزر وازرة وزر أخرى) *) وبين قوله: " * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) *) فهو ما قال الحسين بن الفضل: " * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *) طوعا، " * (وليحملن أثقالا مع أثقالهم) *) كرها.
أخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي، قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: حدثنا عبد الله بن أياد بن لقيط عن أبي رمتة، قال: انطلقت مع أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأيته قال لي أبي: أتدري من هذا؟، هذا رسول الله. قال: فاقشعررت عن ذلك حين قال لي، وكنت أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لا يشبه الناس، فإذا هو بشر ذا وفرة بها ردع من حناء وعليه ثوبان أخضران، فسلم عليه أبي، ثم جلسنا فتحدثنا ساعة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: (هذا ابنك؟) قال أبي: ورب الكعبة حقا أشهد به، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا من تثبيت شبهي في أبي، ومن حلف أبي علي قال: (أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *). ثم نظر أبي إلى مثل السلعة بين كتفيه، فقال: يا رسول الله إني أطبب الرجال، ألا أعالجها لك؟ قال: (لا طبيبها الذي خلقها).
" * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) *) أي عمل. نظيره قوله سبحانه: " * (إن سعيكم لشتى) *).
قال ابن عباس: هذه الآية منسوخة، فأنزل الله بعدها " * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم) *) فادخل الأبناء بصلاح الآباء الجنة، وقال عكرمة: كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى، فأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى غيرهم. بخبر سعد حين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال: (نعم)، وخبر المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي مات ولم يحج، قال: (فحجي عنه).
وقال الربيع بن أنس: " * (وإن للإنسان) *) يعني الكافر، فأما المؤمن فله ما سعى وما سعي، وقيل: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله فيثاب عليه في دار الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير.
ويروى أن عبد الله بن أبي كان أعطى العباس قميصا ألبسه إياه، فلما مات عبد الله أرسل رسول الله قميصه ليكفن فيه. فلم تبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها.
153

وسمعت ابن حبيب يقول: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب يقول: سمعت أبي يقول: دعا عبد الله بن طاهر والي خراسان الحسين بن الفضل قال: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي، قال: وما هي أيها الأمير؟، قال: قوله تعالى في وصف ابني آدم " * (فأصبح من النادمين) *) وصح الخبر بأن (الندم توبة)، وقوله: " * (كل يوم هو في شأن) *)، وصح الخبر (جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة)، وقوله تعالى: " * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) *) فما بال الأضعاف فقال الحسين: يجوز ان لا يكون ندم قابيل توبة له، ويكون ندم هذه الأمة توبة لها، إن الله سبحانه خص هذه الأمة بخصائص لم يشركهم فيها الأمم.
وفيه قول آخر: وهو أن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، وإنما كان على حمله، وأما قوله: " * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) *) يعني عن طريق العدل، ومجاز الآية: وأن ليس للانسان إلا ما سعى عدلا، (ولى أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا)، وأما قوله: " * (كل يوم هو في شأن) *) فإنها شؤون يعيدها لا شؤون يبديها، ومجاز الآية سوق المقادير إلى المواقيت. قال: فقام عبد الله بن طاهر وقبل رأسه وسوغ خراجه.
قال أبو بكر الوراق: " * (إلا ما سعى) *) أي نوى، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم (يبعث الناس على نياتهم).
" * (وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى) *) قال الأخفش: يقال: جزيته الجزاء وجزيته بالجزاء لا فرق بينهما، قال الشاعر:
إن أجز علقمة بن سعد سعيه
لم أجزه ببلاء يوم واحد
فجمع بين اللغتين.
" * (وأن إلى ربك المنتهى) *) أي منتهى الخلق ومصيرهم، وهو مجازيهم بأعمالهم، وقيل: منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال.
أخبرني الحسن بن محمد السفياني قال: حدثنا محمد بن سماء بن فتح الحنبلي، قال: حدثنا علي بن محمد المصري قال: حدثنا إسحاق بن منصور الصعدي، قال: حدثنا العباس بن زفر عن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: " * (وأن إلى ربك المنتهى) *) قال: (لا فكرة في الله).
والشاهد لهذا الحديث ما أخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا ابن شيبة، قال: حدثنا عمير بن
154

مرداس قال: حدثنا عبدالرحمن بن إبراهيم السلمي، قال: حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ذكر الله عز وجل فانتهوا).
(أخبرنا) أبو منصور محمد بن عبد الله الجمشاذي لفظا سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، قال: حدثنا أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن مجبور قال: حدثنا أبو يحيى البزاز قال: حدثني محمد ابن زكريا، قال: حدثني إبراهيم بن الجنيد، قال: محمد بن يحيى المغني، قال: حدثنا داود عم الحسين بن قابيل عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتفكرون، فقال: (فيم أنتم؟) قالوا: نتفكر في الخالق. فقال: (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنه لا تحيط به الفكرة، تفكروا أن الله خلق السماوات والأرض سبعا غلظ كل أرض خمسمائة عام، وما بين كل أرضين خمسمائة عام، وما بين السماء والأرض خمسمائة عام، غلظ كل سماء خمسمائة عام، وما بين كل سمائين خمسمائة عام، وفي السماء السابعة بحر عمقه مثل ذلك كله، فيه ملك لم يجاور الماء كعبه).
" * (وإنه هو أضحك) *) من شاء من خلقه " * (وأبكى) *) من شاء منهم.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا عمر بن الخطاب، قال: حدثنا عبد الله بن الفضل، قال: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، قال: حدثتنا دلال بنت أبي المدل، قالت: حدثتنا الصهباء، عن عائشة خ قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يضحكون فقال: (لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا) فنزل عليه جبريل فقال: إن الله تعالى يقول: " * (وأنه هو أضحك وأبكى) *) فرجع إليهم فقال (ما خطوت أربعين خطوة حتى أتى جبريل وقال: أئت هؤلاء فقل لهم: إن الله عز وجل يقول: هو أضحك وأبكى).
وقال عطاء بن أبي أسلم: يعني: أفرح وأحزن، لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء.
سمعت ابا منصور الحمساذي يقول: سمعت أبا بكر بن عبد الله الرازي يقول: سمعت يوسف بن جبير يقول: سئل طاهر المقدسي: أتضحك الملائكة؟ فقال: ما ضحك من دون العرش منذ خلقت جهنم، وقيل لعمر: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم والله، والإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي، وقال مجاهد: أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر، وقيل: أضحك الاسحار بالأنوار وأبكى السماء بالأمطار. ذون النون: أضحك قلوب
155

المؤمنين والعارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب الكافرين العاصين بظلمة نكرته ومعصيته. سهل: أضحك المطيع بالرحمة وأبكى العاصي بالسخط. محمد بن علي الترمذي: أضحك المؤمن في الآخرة، وأبكاه في الدنيا. قسام بن عبد الله: أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم وأنشد في معناه:
اللسن تضحك والأحشاء تحترق
وإنما ضحكها زور ومختلق
يا رب باك بعين لا دموع لها
ورب ضاحك سن ما به رمق
" * (وأنه هو أمات) *) أفنى في الدنيا " * (وأحيى) *) للبعث، وقيل: أمات الآباء وأحيى الأبناء، وقيل: أمات النطفة وأحيى النسمة، وقيل: أمات الكافر بالنكرة والقطيعة، وأحيى المؤمن بالمعرفة والوصلة، قال سبحانه: " * (أو من كان ميتا فأحييناه) *)، وقال القاسم: أمات عن ذكره وأحيى بذكره. ابن عطاء: أمات بعدله وأحيا بفضله، وقيل: أمات بالمنع والبخل وأحيى بالجود والبذل.
(* (وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى * من نطفة إذا تمنى * وأن عليه النشأة الاخرى * وأنه هو أغنى وأقنى * وأنه هو رب الشعرى * وأنه أهلك عادا الاولى * وثمود فمآ أبقى * وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى * والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشى * فبأى آلاء ربك تتمارى * هاذا نذير من النذر الاولى * أزفت الازفة * ليس لها من دون الله كاشفة * أفمن هاذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون * فاسجدوا لله واعبدوا) *) 2
" * (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى) *) تصب في الرحم، يقال: مني الرجل وأمنى، قاله الضحاك، وعطاء بن أبي رياح، وقال آخرون: تقدر، يقال: منيت الشيء إذا قدرته، ويقال: إرض بما يمنى لك الماني، ومنه سميت المنية؛ لأنها مقدرة، وأصلها ممينة.
" * (وأن عليه النشأة الأخرى) *) الخلق الآخر، يعيدهم أحياء.
" * (وأنه هو أغنى وأقنى) *) قال أبو الصلاح: أغنى الناس بالمال، وأقنى: أعطى القينة وأصول الأموال. الضحاك: أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال، وأقنى بالإبل والغنم والبقر. مجاهد والحسن وقتادة: أخدم. ابن عباس: أرضى بما أعطى، وهي رواية بن أبي نجيح وليث عن مجاهد. سليمان التيمي عن الحضرمي: أغنى نفسه وأفقر الخلائق إليه. ابن زيد: أغنى: أكثر وأفقر: أقل، وقرأ " * (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) *). الأخفش أقنى: أفقر. ابن كيسان: أولد
156

" * (وأنه هو رب الشعرى) *) وهي كوكب خلف الجوزاء تتبعه، يقال له مرزم الجوزاء، وهما شعريان يقال لأحدهما: العبور، وللأخرى: الغميضاء.
وقالت العرب في خرافاتها: إن سهيلا والشعرتين كانت مجتمعة فأخذ سهيل فصار يمانيا فتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة، فسميت العبور، فأقامت الغميضاء فبكت لفقد سهيل حتى غمضت عينها؛ لأنه أخفى من الآخر، وأراد هاهنا الشعرى العبور، وكانت خزاعة تعبده، وأول من سن لهم ذلك رجل من أشرافهم يقال له: أبو كبشة عبدالشعرى العبور وقال: لأن النجوم تقطع السماء عرضا والشعرى طولا فهي مخالفة لها، فعبدتها خزاعة جميعا، فلما خرج رسول الله على خلاف العرب في الدين شبهوه بأبي كبشة فسموه بأبي كبشة، بخلافه إياهم كخلاف أبي كبشة في عبادة الشعرى.
" * (وأنه أهلك عادا الأولى) *) وهم قوم هود.
وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو ويعقوب عادا الأولى مدرجا مدغما، وهمز واوه نافع برواية المسيبي، وقال بطريق الحلواني:، والعرب تفعل ذلك فتقول: قم لان عنا. يريدون جقم الآن عناج وضم لثنين يريدون: ضم الاثنين.
" * (وثمودا) *) يعني قوم صالح " * (فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة) *) المنقلبة، وهي قرى لوط الأربع: صنواهم، وداذوما، وعامورا، وسدوم. " * (أهوى) *) يعني اهواها جبريل إلى الأرض بعدما رفعها إلى السماء.
" * (فغشياها ما غشى) *) يعني الحجارة المنضودة المسومة.
" * (فبأي آلاء ربك) *) أي نعمائه عليك " * (تتمارى) *) تشك وتجادل.
" * (هذا) *) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " * (نذير) *) رسول " * (من النذر) *) الرسل " * (الأولى) *) أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم، وهذا كما يقال: فلان واحد من بني آدم، وواحد من الناس، وقال أبو ملك: يعني هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأمم الخالية العاصية في صحف إبراهيم وموسى.
" * (أزفت الآزفة) *) قربت القيامة.
" * (ليس لها من دون الله كاشفة) *) مطهرة مقيمة، و (الهاء) فيه للمبالغة، بيانه قوله: " * (لا يجليها لوقتها إلا هو) *)، وقال قتادة: ليس لها من دون الله راد، وقيل: ليس لها من دون الله كشف وقيام، ولا تقوم إلا بإقامة الله إياها، وهي على هذا القول اسم و (الهاء) فيه كالهاء في الباقية والعافية والراهية. ثم قال لمشركي العرب: " * (أفمن هذا الحديث) *) يعني القرآن " * (تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون) *) ساهون لاهون غافلون. يقال: دع عنك سمودك أي لهوك، وهي رواية الوالبي والعوفي عن ابن عباس، وقال عكرمة: عنه هو الغناء وكانوا إذا سمعوا القرآن سمدوا ولعبوا، وهي لغة أهل اليمن يقولون: اسمد لنا أي تغن
157

قال الكلبي: السامد: الحزين بلسان طي، وبلسان أهل اليمن: اللاهي. الضحاك: أشرون بطرون. قال: وقال ابن عباس: كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم شامخين، ألم تر إلى الفحل يخطر شامخا. عكرمة: هو الغناء باللغة الحميرية.
قال أبو عبيدة: يقال للجارية: اسمدي لنا أي غني. مجاهد: غضاب مبرطمون، فقيل له: ما البرطمة قال الإعراض.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن صقلاب، قال: حدثنا ابن أبي الخصيب. قال: حدثنا محمد بن يونس، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو الباهلي قال: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الآية " * (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون) *) بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على
خدودهم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه، فقال صلى الله عليه وسلم (لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مصر على معصية، ولو لم تذنبوا لجاء الله سبحانه بقوم يذنبون ثم يغفر لهم).
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا القطيعي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا أبي. قال: حدثنا إبراهيم بن خالد، قال: حدثنا رباح قال: حدثنا أبو الجراح عن رجل من أصحابهم يقال له: حارم أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل وعنده رجل يبكي فقال له: من هذا؟ قال: (فلان) قال: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء فإن الله سبحانه ليطفئ بالدمعة بحورا من نيران جهنم.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا ابن حمدان بن عبد الله، قال: حدثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدثنا جعفر بن محمد أبو بكر الجرار، قال: حدثنا سعيد بن يعقوب والطالقاني، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا إسماعيل بن رافع، قال: حدثني ابن أبي مليكة الأحول عن عبد الله بن السايب، قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص بعدما كف بصره، فأتيته مسلما عليه، فانتسبني فانتسبت، فقال: مرحبا بابن أخي بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا).
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا القطيعي، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا زياد بن أبي مسلم عن صالح أبي الخليل، قال: لما نزل " * (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون) *) ما رأي النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكا.
158

" * (فاسجدوا لله واعبدوا) *) أخبرنا الحسين قال: حدثنا ابن حمدان، قال: حدثنا ابن ماهان، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن محبوب بن حسان البصري، قال: حدثنا عبد الوارث ابن سعيد قال: حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم فسجد فيها، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
وأخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: وفيما قرأت على عبد الله بن نافع، وحدثني مطرف بن عبد الله، عن ملك، عن ابن شهاب، عن عبدالرحمن الأعرج عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قرأ لهم " * (والنجم إذا هوى) *) فسجد فيها.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا بن حمدان، قال: حدثنا بن ماهان، قال: حدثنا عبد الله ابن مسلمة عن ابن أبي ذيب عن زيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت أنه قرأ عند النبي بالنجم صلى الله عليه وسلم فلم يسجد فيها.
159

((سورة القمر))
مكية، وهي ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا، وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة وخمس وخمسون آية
أخبرني أبو الحسين محمد بن القاسم الفقيه، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن زيد العدل، قال: حدثنا أبو يحيى البزاز، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا محمد بن عمران بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثني أبي عن مجالد بن عبد الواحد عن الحجاج بن عبد الله عن أبي الخليل، وعن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمون عن زيد بن حبيش عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة " * (اقتربت الساعة) *) في كل غداة بعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر ومن قرأها كل ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق).
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر * وكذبوا واتبعوا أهوآءهم وكل أمر مستقر * ولقد جآءهم من الانبآء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغنى النذر * فتول عنهم يوم يدعو الداع إلى شىء نكر * خشعا أبصارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر * مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هاذا يوم عسر) *) 2
" * (اقتربت الساعة) *) دنت القيامة " * (وانشق القمر) *) قال ابن كيسان: في الآية تقديم وتأخير، مجازها: انشق القمر واقتربت الساعة، يدل عليه قراءة حذيفة (اقتربت الساعة وقد انشق القمر)، وروى عثمان بن عطاء عن أبيه أن معناه: (وسينشق القمر)، والعلماء على خلافه والأخبار الصحاح ناطقة بأن هذه الآية قد مضت.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي، قال: حدثنا أبو الأزهر قال: حدثنا روح عن شعبة قال: سمعت سليمان قال: سمعت إبراهيم يحدث عن أبي معمر عن عبد الله أن القمر انشق
160

على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فكانت إحداهما فوق الجبل والأخرى أسفل من الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم اشهد)، وقال أيضا: (اشهدوا).
وأخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك القاضي قال: حدثنا أحمد بن الحسين بن سعيد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا حصين عن الأعمش وعبدة الضبي عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت فلقتيه.
وأخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا مكي، قال: حدثنا أبو الأزهر قال: حدثنا روح عن شعبة عن سليمان عن مجاهد عن ابن عمر نحو حديث ابن مسعود.
وأخبرنا عبد الله قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن زيد الصيرفي قال: حدثنا علي بن حرب، قال: حدثنا ابن فضيل، قال: حدثنا حصين عن محمد بن جبير بن مطعم عن
أبيه، قال: انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
وأخبرنا عبد الله قال: أخبر عمر بن الحسن الشيباني قال: حدثنا أحمد بن الحسن قال: حدثنا أبي قال: حدثنا حصين عن سعد عن عكرمة عن ابن عباس والحكم عن مجاهد عن ابن عباس ومقسم عن ابن عباس قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باثنين: شطره على السويداء، وشطره على الجندمة.
وأخبرني عقيل بن محمد أن أبا الفرج القاضي حدثهم عن محمد بن جرير قال: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا بشر بن المفضل. قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا الجبل بينهما.
وبه عن محمد بن جرير قال: حدثنا علي بن سهل قال: حدثنا حجاج بن محمد عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين.
وبه عن محمد بن جرير قال: حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا عطاء بن السايب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ، فجاءت الجمعة فحضر أبي فحضرنا معه فخطبنا حذيفة، فقال: ألا إن الله سبحانه يقول: " * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *)، ألا فإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد أذنت بفراق،
161

ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، فقلت لأبي أيستبق الناس غدا؟ فقال: يا بني إنك لجاهل، إنما هو السباق بالأعمال، ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرنا فخطب حذيفة فقال: ألا إن الله يقول: " * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *) ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد أذنت بفراق، ألا وإن المضمار اليوم وغدا السباق، ألا وإن الغاية النار والسابق من سبق إلى الجنة.
وبه عن ابن جرير قال: حدثنا الحسن بن أبي يحيى المقدسي قال: حدثنا يحيى بن حماد، قال: حدثنا أبو عوانة عن المغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة سحركم، فسألوا السفار فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأينا. فأنزل الله سبحانه " * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *).
" * (وإن ايروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) *) ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم: مر الشيء واستمر إذا ذهب، ونظيره: قر واستقر، هذا قول مجاهد وقتادة والفراء والكسائي.
وقال أبو العالية والضحاك: محكم شديد قوي. سيان عن قتادة: غالب، وهو من قولهم: مر الحبل إذا صلب واشتد وقوي، وامررته أنا إذا أحكمت فتله. ربيع: نافذ. يمان: ماض. أبو عبيدة: باطل، وقيل: يشبه بعضه بعضا.
" * (وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر) *) يقول: وكل أمر من خير أو شر مستقر قراره، ومتناه نهايته، فالخير مستقر بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار.
قال قتادة: وكل أمر مستقر: أي بأهل الخير الخير، وبأهل الشر الشر، وقال مقاتل: لكل امرئ منتهى، وقيل: لكل أمر حقيقته، وقال الحسن بن الفضل: يعني يستقر قرار تكذيبهم وقرار تصديق المؤمنين حتى يعرفوا حقيقته في الثواب والعقاب، وقيل: مجازه: كل ما قدر كائن واقع لا محالة، وقيل: لكل أمر من أموري التي أمضيتها في خلقي مستقر قراره لا يزول، وحكى أبو حاتم عن شيبة ونافع مستقر بفتح القاف، وذكر الفضل بن شاذان عن أبي جعفر بكسر الراء، ولا وجه لهما.
قال مقاتل: انشق القمر ثم التأم بعد ذلك.
" * (ولقد جاءهم) *) يعني أهل مكة " * (من الأنباء ما فيه مزدجر) *) متناهي. قاله مجاهد. سفيان: منتهى، وهو مفتعل من الزجر، وأصله مزتجر. فقلبت التاء دالا.
" * (حكمة بالغة) *) تامة ليس فيها نقصان وهي القرآن " * (فما تغني النذر) *) إذا كذبوهم وخالفوهم.
" * (فتول عنهم) *) نسختها آية القتال " * (يوم) *) إلى يوم " * (يدع الداعي إلى شيء نكر) *) منكر فظيع
162

عظيم وهو النار، وقيل: القيامة، وخفف الحسن وابن كثير كافه. غيرهما مثقل، وقرأ مجاهد (نكر) على الفعل المجهول أي أنكر.
" * (خشعا) *) ذليلة " * (أبصارهم) *) وهو نصب على الحال مجازه " * (يخرجون من الأجداث خشعا) *)، وقرأ ابن عباس ويعقوب وحمزة والكسائي وخلف (خاشعا) بالألف على الواحد، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا بقراءة عبد الله وأبي رجاء خاشعة أبصارهم، وقرأ الباقون (خشعا) بلا ألف على الجمع.
قال الفراء وأبو عبيدة: إذا تأخرت الأسماء عن فعلها فلك فيه التوحيد والجمع والتأنيث والتذكير تقول من ذلك: مررت برجال حسن وجوههم، وحسنة وجوههم وحسان وجوههم. قال الشاعر:
وشباب حسن أوجههم
من إياد بن نزار بن معد
فمن وحد فلأنه في معنى الجمع، ومن جمع فلأنه صفات، والصفات أسماء، ومن أنث فلتأنيث الجماعة، وقال الآخر:
يرمي الفجاج بها الركبان معترضا
أعناق بزلها مزجى لها الجدل
قال الفراء: لو قال: معترضة أو معترضات أو مزجاة أو مزجيات كان كل ذلك جائزا.
" * (يخرجون من الأجداث) *) القبور " * (كأنهم جراد منتشر) *) حيارى، وذكر المنتشر على لفظ الجراد، نظيره " * (كالفراش المبثوث) *).
" * (مهطعين) *) مسرعين منقلبين عامدين " * (إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر) *).
2 (* (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر * فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر * ففتحنآ أبواب السمآء بماء منهمر * وفجرنا الارض عيونا فالتقى المآء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجرى بأعيننا جزآء لمن كان كفر * ولقد تركناها ءاية فهل من مدكر * فكيف كان عذابى ونذر) *) 2
" * (كذبت قبلهم) *) أي قبل أهل مكة " * (قوم نوح فكذبوا عبدنا) *) نوحا ج " * (وقالوا مجنون) *) أي هو مجنون " * (وازدجر) *) أي زجروه عن دعوته ومقالته، وقال مجاهد: استطر جنونا، وقال ابن زيد: اتهموه وزجروه وواعدوه (لئن لم تنته لتكونن من المرجومين).
163

" * (فدعا ربه أني مغلوب) *) مقهور " * (فانتصر) *) فانتقم لي منهم.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن يوسف، قال: حدثنا الوفراوندي، قال: حدثنا يوسف ابن موسى، قال: حدثنا وكيع عن الأعمش عن مجاهد عن عبد بن عمير، قال: إن الرجل من قوم نوح ليلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا، فيفيق حين يفيق وهو يقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
" * (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) *) منصب مندفق ولم يقلع ولم ينقطع أربعين يوما.
قال ابن عباس والقرظي: منفجر من الأرض. يمان: طبق ما بين السماء والأرض. أبو عبيدة: هايل. الكسائي: سايل. قال امرؤ القيس يصف غيثا:
راح تمريه الصبا ثم انتحى
فيه شؤبوب جنوب منهمر
وقال سلامة بن جندل يصف فرسا:
والماء منهمر والشد منحدر
والقصب مضطمر واللون غربيب
" * (وفجرنا) *) شققنا " * (الأرض) *) بالماء " * (عيونا فالتقى الماء) *) يعني ماء السماء وماء الأرض، وانما قال: التقى الماء، والالتقاء لا يكون من واحد وانما يكون من اثنين فصاعدا، لأن الماء جمعا وواحدا.
وقرأ عاصم الجحدري (فالتقى الماءان)، وقرأ الحسن (فالتقى الماوان) بجعل إحدى الألفين واوا. " * (على أمر قد قدر) *) قضي عليهم في أم الكتاب.
قال محمد بن كعب القرظي: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء، وتلا هذه الآية.
" * (وحملناهم على ذات ألواح) *) ذكر النعت وترك الاسم، مجازه: على سفينة ذات ألواح من الخشب " * (ودسر) *) مسامير، واحدها دسار، يقال منه: دسرت السفينة إذا شددتها بالمسامير، وهذا قول القرظي وقتادة، وابن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس وشهر بن حوشب: هي صدر السفينة سميت بذلك لأنها تدسر الماء بجؤجئها، اي تدفع، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، قال: الدسر: كلكل السفينة، وأصل الدسر الجر والدفع، ومنه الحديث في العنبر (إنما هو شيء دسره البحر)، أي دفعه ورمى به، وقال مجاهد: هي عوارض السفينة. الضحاك: ألواح جانبها، والدسر أصلها وطرفها. ليث بن أبي نجيح عن مجاهد: أضلاعها
164

" * (تجري بأعيننا) *) أي بمرأى منا. مقاتل بن حيان: بحفظنا، ومنه قول الناس للدموع: عين الله عليك. مقاتل بن سليمان: بوحينا. سفيان: بأمرنا. " * (جزاء لمن كان كفر) *) يعني فعلنا ذلك ثوابا لنوح، ومجاز الآية: لمن جحد وأنكر وكفر بالله فيه، وجعل بعضهم " * (من) *) هاهنا بمعنى (ما)، وقال معناه: جزاء لمن كان كفر من أيادي الله ونعمائه عند الذين غرقهم، وإليه ذهب ابن زيد، وقيل: معناه عاقبناهم لله ولأجل كفرهم به.
وقرأ مجاهد " * (جزاء لمن كان كفر) *) بفتح الكاف والفاء يعني كان الغرق جزاء لمن يكفر بالله، وكذب رسوله فأهلكهم الله.
وما نجا من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق كان الماء إلى حجزته، وكان السبب في نجاته على ما ذكر أن نوحا ج احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقلها، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام. فشكر الله تعالى ذلك له ونجاه من الغرق.
" * (ولقد تركناها) *) يعني السفينة " * (آية) *) عبرة.
قال قتادة: أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة نظرا، وكم من سفينة كانت بعدها قد صارت رمدا. " * (فهل من مدكر) *) متعظ معتبر وخائف مثل عقوبتهم.
" * (فكيف كان عذابي ونذر) *) أي إنذاري. قال الفراء: الإنذار والنذر مصدران تقول العرب: أنذرت إنذارا ونذرا، كقولك: أنفقت إنفاقا ونفقة، وأيقنت إيقانا ويقينا.
" * (ولقد يسرنا) *) سهلنا وهونا " * (القرآن للذكر) *) اي ليتذكر ويعتبر به ويتفكر فيه، وقال سعيد ابن جبير: يسرنا للحفظ ظاهرا، وليس من كتب الله كتابا يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن. " * (فهل من مدكر) *) متعظ بمواعظه.
أخبرني الحسن بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي، قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن راهويه قال: حدثنا أبو عمير بن النحاس ببيت المقدس، قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة عن عبد الله بن شوذب عن مطر الوراق في قول الله سبحانه " * (فهل من مدكر) *) قال: هل من طالب علم فيعان عليه.
" * (كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس) *) شؤم وشر " * (مستمر) *) وكان يوم الأربعاء، مستمر: شديد ماض على الصغير والكبير فلم تبق منهم أحدا إلا أهلكته، وقرأ هارون الأعور " * (نحس) *) بكسر الحاء.
" * (تنزع الناس) *) تقلع الناس ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم، قال ابن إسحاق: لما هاجت الريح قام نفر من عاد سبعة يسمى لنا منهم ستة من أشد عاد وأجسمها منهم: عمرو بن
165

الحلي، والحرث بن شداد والهلقام وابناتيقن، وخلجان بن سعد فأولجوا العيال في شعب بين جبلين، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردوا الريح عمن في الشعب من العيال، فجعلت الريح تخفقهم رجلا رجلا، فقالت امرأة من عاد:
ذهب الدهر بعمر بن حلي والهنيات
ثم بالحرث والهلقام طلاع الثنيات
والذي سد مهب الريح أيام البليات
وبإسناد أبي حمزة الثمالي قال: حدثني محمد بن سفيان عن محمد بن قرظة بن كعب عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (انتزعت الريح الناس من قبورهم).
" * (كأنهم أعجاز) *) قال ابن عباس: أصول، وقال الضحاك: أوراك. " * (نخل منقعر) *) منقلع من مكانه، ساقط على الأرض، وواحد الأعجاز عجز مثل عضد وأعضاد، وإنما قال: أعجاز نخل وهي أصولها التي تقطعت فروعها، لأن الريح كانت ترمي رؤوسهم من أجسادهم، فتبقى أجسام بلا رؤوس.
سمعت أبا القاسم الجنيني يقول: سمعت أبا علي الحسين بن أحمد القاضي البيهقي. يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن القاسم بن سياب الأنباري يقول: سئل المبرد بحضرة إسماعيل بن إسحاق القاضي عن ألف مسألة هذه من جملتها، وهو أن السائل قال: ما الفرق بين قوله: * (جاءتها ريح عاصف و) * * (لسليمان الريح عاصفة) *) وقوله: " * (كأنهم أعجاز نخل خاوية) *) و " * (كأنهم أعجاز نخل منقعر) *)؟ فقال: كل ما ورد عليك من هذا الباب فلك أن ترده إلى اللفظ تذكيرا، ولك أن ترده إلى المعنى تأنيثا.
" * (فكيف كان عذابي ونذر) *))
.
* (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر * كذبت عاد فكيف كان عذابى ونذر * إنآ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابى ونذر * ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر * كذبت ثمود بالنذر * فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنآ إذا لفى ضلال وسعر * أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر * سيعلمون غدا من الكذاب الاشر * إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر * ونبئهم أن المآء قسمة بينهم كل شرب محتضر * فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر * فكيف كان عذابى ونذر * إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر * ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر * كذبت قوم لوط بالنذر * إنآ أرسلنا
166

عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر * نعمة من عندنا كذلك نجزى من شكر * ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر * ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنآ أعينهم فذوقوا عذابى ونذر * ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر * فذوقوا عذابى ونذر * ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر * ولقد جآء ءال فرعون النذر * كذبوا بئاياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر * أكفاركم خير من أولائكم أم لكم برآءة فى الزبر * أم يقولون نحن جميع منتصر * سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر * إن المجرمين فى ضلال وسعر * يوم يسحبون فى النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شىء خلقناه بقدر) *) 2
" * (لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا) *) آدميا واحدا منا " * (نتبعه) *) ونحن جماعة كثيرة وهو واحد، وقرأ أبو السماك العدوي بالرفع، وكلا الوجهين سايغ في عايد الذكر " * (إنا إذا) *) إن فعلنا ذلك وتركنا دين آبائنا وتابعناه على دينه، وهو واحد منا آدمي مثلنا " * (لفي ضلال) *) ذهاب عن الصواب " * (وسعر) *) قال ابن عباس: يعني وعذاب، قال الحسن: شدة العذاب. قتادة: عناء. سفيان بن عيينة: هو جمع سعيرة. الفراء: جنون، يقال: ناقة مسعورة إذا كانت خفيفة الرأس هايمة على وجهها. قال الشاعر يصف ناقة:
تخال بها سعرا إذا السفر هزها
ذميل وإيقاع من السير متعب
وقال وهب: وسعر: أي بعد من الحق.
" * (أألقي الذكر) *) أأنزل الوحي " * (عليه من بيننا بل هو كذاب أشر) *) ترح مرح بطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بادعائه النبوة.
وقال عبدالرحمن بن أبي حماد: الأشر الذي لا يبالي ما قال، وقرأ مجاهد " * (أشر) *) بفتح الألف وضم الشين وهما لغتان مثل حذر وحذر ويقظ ويقظ وعجل
وعجل ومجد ومجد الشجاع.
" * (سيعلمون) *) غدا بالتاء شامي، والأعمش ويحيى وابن ثوبان وحمزة وغيره بالياء، فمن قرأ بالتاء فهو من قول صالح لهم، ومن قرأ بالياء فهو من قول الله سبحانه، ومعنى الكلام: في الغد القريب على عادة الناس في قولهم للعواقب: إن مع اليوم غدا، وإن مع اليوم أخاه غدا، وأراد به وقت نزول العذاب بهم " * (من الكذاب الأشر) *) قرأ أبو قلامة: من الكذاب الأشر بفتح الشين وتشديد الراء على وزن أفعل من الشر، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة.
قال أبو حاتم: لا يكاد العربي يتكلم بالأشر والأخير إلا في ضرورة الشعر كقول رؤبة
167

بلال خير الناس وابن الأخير
إنما يقولون: خير وشر. قال الله عز وجل " * (كنتم خير أمة) *) وقال سبحانه " * (بل أنتم شر مكانا) *).
" * (إنا مرسلوا الناقة) *) باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا " * (فتنة) *) محنة " * (لهم فارتقبهم) *) وانتظرهم وننظر ما هم صانعون " * (واصطبر) *) واصبر على ظلمهم وأذاهم، ولا تعجل حتى يأتيهم أمري، واصطبر: افتعل من الصبر، وأصل (الطاء) فيه (تاء) فحولت (طاء) لأجل (الصاد).
" * (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم) *) وبين الناقة بالسوية لها يوم ولهم يوم، وإنما قال: بينهم؛ لأن العرب إذا أخبرت عن بني آدم وعن البهائم غلبوا بني آدم على البهائم. " * (كل شرب) *) نصيب من الماء " * (محتضر) *) يحضره من كانت نوبته، فإذا كان يوم الناقة حضرت شربها، وإذا كان يومهم حضروا شربهم، وقال مجاهد: يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة، وإذا جاءت حضروا اللبن.
" * (فنادوا صاحبهم) *) قدار بن سالف وكان أشقر؛ ولذلك قيل له: أشقر ثمود " * (فعقر) *) فتناول الناقة بسيفه فعقرها، ولذلك سميت العرب الجزار قدارا تشبيها به، وقال الشاعر:
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم
ضرب القدار نقيعة القدام
" * (فكيف كان عذابي ونذر) *) ثم بين عذابهم فقال عز من قائل: " * (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) *) قرأ الحسن وقتادة بفتح (الظاء) أراد الحظيرة، وقرأ الباقون بكسر (الظاء) أرادوا صاحب الحظيرة.
قال ابن عباس: هو أن الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك دون السباع، فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم، وقال قتادة: يعني كالعظام النخرة المحترقة وهي رواية العوفي عن ابن عباس ورواية أبي ظبيان عنه أيضا، كحشيش يأكله الغنم، وقال سعيد بن جبير: هو التراب الذي يتناثر من الحائط. ابن زيد: هو الشجر البالي الذي تهشم حتى ذرته الريح، والعرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما.
" * (ولقد يسرنا) *) هونا عليهم " * (القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا) *) ريحا ترميهم بالحصباء، وهي الحصى، وقال بعضهم: هو الحجر نفسه.
قال الضحاك: يعني صغار الحصى، والحاصب والحصب والحصباء هي الحجر الذي
168

دون ملء الكف، والمحصب الموضع الذي يرمى فيه الجمار، وقال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب ح يقول لأهل المدينة: حصبوا المسجد، أي صبوا فيه الحجارة.
ثم استنثى فقال: " * (إلا آل لوط) *) أي أتباعه على دينه من أهله وأمته " * (نجيناهم) *) من العذاب " * (بسحر) *) قال الأخفش: إنما أجراه، لأنه نكرة، ومجازه: بسحر من الأسحار، ولو أراد بسحر يوم بعينه لقال: سحر غير مجرى، ونظيره قوله: " * (اهبطوا مصرا) *).
" * (نعمة) *) يعني كان ذلك أو جعلناه نعمة " * (من عندنا) *) عليهم حيث أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم " * (كذلك) *) كما جزيناهم، لوطا وآله " * (نجزي من شكر) *) فآمن بالله وأطاعه.
" * (ولقد أنذرهم) *) لوط " * (بطشتنا) *) أخذنا لهم بالعقوبة قبل حلولها بهم " * (فتماروا بالنذر) *) فكذبوا بإنذاره شكا منهم فيه وهو تفاعل من المرية.
" * (ولقد راودوه عن ضيفه) *) طالبوه وسألوه أن يخلي بينهم وبينهم. يقول العرب: راده تروده وارتاده وراوده يراوده نظيرها * (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه) * * (فطمسنا أعينهم) *) أي أعميناهم، وصيرناها كساير الوجه لا يرى لها شق، وذلك أنهم لما قصدوا دار لوط ج وعالجوا بابه ليدخلوا، قالت الرسل للوط: خل بينهم وبين الدخول فإنا رسل ربك لن يصلوا إليك، فدخلوا الدار فاستأذن جبريل ربه عز وجل في عقوبتهم فأذن له فصفقهم بجناحه، فتركهم عميا يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب، وأخرجهم لوط عميا لا يبصرون. هذا قول عامة المفسرين، وقال الضحاك: طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل وقالوا: قد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا؟، فلم يروهم ورجعوا * (فذوقوا عذابي ونذر) * * (ولقد صبحهم) *) جاءهم العذاب وقت الصبح " * (بكرة عذاب مستقر) *) دائم عام استقر فيهم حتى يقضى بهم إلى عذاب الآخرة.
" * (فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ولقد جاء آل فرعون النذر) *) يعني موسى وهارون ج.
" * (كذبوا بآياتنا) *) التسع " * (كلها فأخذناهم) *) بالعذاب " * (أخذ عزيز مقتدر) *) قادر لا يعجزه ما أراد، ثم خوف أهل مكة فقال عز من قائل: " * (أكفاركم خير من أولئكم) *) الذين أحللت بهم نقمتي من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون " * (أم لكم براءة) *) من العذاب " * (في الزبر) *) الكتب تأمنون.
" * (أم يقولون) *) يعني كفار مكة " * (نحن جميع منتصر) *) أي جماعة لا ترام ولا تضام، ولا يقصدنا أحد بسوء، ولا يريد حربنا وتفريق جمعنا إلا انتقمنا منهم، وكان حقه: منتصرون فتبع رؤوس الآي.
169

" * (سيهزم الجمع) *) قراءة العامة على غير تسمية الفاعل، وقرأ يعقوب بالنون والنصب وكسر الزاي، وفتح العين على التعظيم " * (ويولون الدبر) *) أي الأدبار، فوحد والمراد الجمع لأجل رؤوس الآي، كما يقال: ضربنا منهم الرؤوس، وضربنا منهم الرأس، إذا كان الواحد يؤدي عن معنى جميعه، فصدق الله سبحانه وتعالى وعده وهزمهم يوم بدر.
قال مقاتل: ضرب أبو جهل فرسه فتقدم يوم بدر في الصف وقال: نحن منتصر اليوم من محمد وأصحابه.
قال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب لما نزلت " * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) *): كنت لا أدري أي جمع نهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في درعه ويقول: " * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) *).
" * (بل الساعة موعدهم) *) جميعا " * (والساعة أدهى وأمر) *) أعظم بلية وأشد مرارة من عذاب يوم بدر.
أخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن زياد، قالد حدثنا أبو مصعب قال: حدثنا مجرد بن هارون عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال سبعا ما ينتظرون هل هو إلا فقر منسي أو غنى مطع أو مرض مفسد أو كبر معند أو موت مجهز، والدجال شر مستطر، والساعة والساعة أدهى وأمر).
" * (إن المجرمين) *) المشركين " * (في ضلال وسعر) *) قال الضحاك: يعني نارا ستعرض عليهم. قال الحسين بن الفضل: إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونار في الآخرة، وقال ابن كيسان: بعد من الحق، وقيل: جنون، وقال قتادة في عناء وعذاب، ثم بين عذابهم، فقال: " * (يوم يسحبون) *) يجرون " * (في النار على وجوههم) *) ويقال لهم: " * (ذوقوا مس سقر) *) وإنما هو كقولك: ذق المر السياط.
" * (إنا كل شيء) *) بالنصب قراءة العامة، وقرأ أبو السماك العدوي بالرفع " * (خلقناه بقدر) *) قال الحسن: قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له، وقال الربيع: هو كقوله: " * (قد جعل الله لكل شيء قدرا) *) أي أجلا لا يتقدم ولا يتأخر، وقال ابن عباس: إنا كل شيء جعلنا له شكلا يوافقه ويصلح له، فالمرأة للرجل، والأتان للحمار، والرمكه للفرس، وثياب الرجال للرجال لا تصلح للنساء، وثياب النساء لا تصلح للرجال وكذلك ما شاكلها على هذا.
170

وروى علي بن أبي طلحة عنه قال: خلق الله سبحانه الخلق كلهم بقدر، وخلق لهم الخير والشر فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاوة.
2 (* (ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر * ولقد أهلكنآ أشياعكم فهل من مدكر * وكل شىء فعلوه فى الزبر * وكل صغير وكبير مستطر * إن المتقين فى جنات ونهر * فى مقعد صدق عند مليك مقتدر) *) 2
" * (وما أمرنا إلا واحدة) *) وحقه واحد، قال أبو عبيدة هو نعت للمعنى دون اللفظ مجازها: وما أمرنا إلا مرة واحدة، يعني الساعة وقيل: معناه وما أمرنا الشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة (كن فيكون) لا مراجعة فيها. " * (كلمح البصر) *) وذكر أن هذه الآيات نزلت في القدرية.
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن بقراءتي عليه في داري قال: حدثنا الفضل ابن الفضل الكندي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن النعمان قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن حفص قال: حدثنا الحسن بن حفص قال: حدثنا سفيان عن زياد ابن إسماعيل السهمي، عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت هذه الآية " * (إن المجرمين في ضلال وسعر) *) إلى آخر السورة.
وأخبرنا الحسين قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا القرماني قال: حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال: حدثنا المعتمر بن سليمان قال حدثني أبو مخزوم عن سيار أبي الحكم قال: بلغنا أن وفد نجران قالوا: أما الارزاق والأقدار فبقدر الله، وأما الاعمال فليس بقدر، فأنزل الله سبحانه فيهم " * (إن المجرمين في ضلال وسعر) *) إلى آخر الآية.
وأخبرنا الحسين قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال: حدثنا ابن أبي العوام قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الصباح بن سهل البصري أبو سهل قال: حدثنا جعفر بن سليمان عن خالد بن سلمة عن سعيد بن عمر عن عمر بن زرارة عن أبيه قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: " * (إن المجرمين في ضلال وسعر) *) إلى آخر السورة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نزلت هذه الآيات في ناس يكونون في آخر أمتي يكذبون بقدر الله).
وأخبرنا أحمد بن محمد بن يعقوب بن محمويه الفقيه بالقصر قال: حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل قال: حدثنا الحسين بن عرفه العبدي قال: حدثنا مروان بن شجاع الجزري عن عبد الملك بن جريج عن عطاء بن أبي رياح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع
171

في زمزم قد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تكلم في القدر، فقال: أو قد فعلوها؟، قلت: نعم، قال: فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم " * (ذوقوا مس سقر إنا كل
شيء خلقناه بقدر) *)، أولئك شرار هذه الأمة، لا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم. إن أريتني أحدا منهم فقأت عينيه بإصبعي هاتين.
وأخبرني عقيل بن محمد الفقيه أن أبا الفرج البغدادي أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا حصين عن سعيد بن عبيده عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: لما نزلت هذه الآية " * (إنا كل شيء خلقناه بقدر) *) قال رجل: يا رسول الله ففيم العمل في شيء يستأنفه أو في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اعملوا فكل ميسر، سنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن الحسين بن صقلاب قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبيد الطوابيقي قال: حدثنا علي بن حرب الطائي قال: حدثنا أبو مسعود يعني الزجاج. قال: حدثنا أبو سعد عن طلق بن حبيب عن كعب قال: نجد في التوراة أن القدرية يسحبون في النار على وجوههم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثني موسى بن محمد بن علي قال: حدثنا عبد الله بن محمد ابن سنان قال: حدثنا عمرو بن منصور أبو عثمان العيسي قال: حدثني أبو أسيد الثقفي، قال: حدثني ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: تمارينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل شيء بقدر حتى هذه) وأشار بأصبعه السبابة حتى ضرب على ذراعه الأيسر).
وأخبرني ابن السري النحوي في (درب حاجب) قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن محمد العماني قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن عامر قال: حدثنا أبي قال: حدثني علي بن موسى الرضا قال: حدثني أبي موسى بن جعفر قال: حدثني أبي جعفر بن محمد قال: حدثني أبي محمد بن علي قال: حدثني أبي علي بن الحسين قال: حدثني أبي الحسين بن علي قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل قدر المقادير ودبر التدبر قبل أن يخلق ادم بألفي عام).
وأخبرني الحسين قال: حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدثني أحمد بن حماد بن سفيان قال: حدثنا السري بن عاصم الهمداني قال: حدثنا محمد بن مصعب القرقساني
172

عن الأوزاعي عن عبده بن أبي لبابة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن).
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثني إبراهيم بن أبي الوزير قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن سيف الكوفي عن أبي فزارة قال: قال ابن عباس: إذا كثرت القدرية بالبصرة ائتفكت بأهلها، وإذا كثرت السبائية بالكوفة ائتفكت بأهلها.
وبه عن الساجي قال: حدثنا الحسن بن حميد قال: حدثني عبد الله بن الحسن بن عبد الملك بن حسان الكلبي قال: حدثني سعيد بن محمد الغساني قال: لما أخذ أبو شاكر الديصاني بالبصرة فأقر أنه ديصاني، وكان يجهر القول بالرفض والقدر، فقيل له: لم اخترت القول بالقدر والرفض؟، قال: اخترت القول بالقدر لأخرج أفعال العباد من قدرة الله، وأنه ليس بخالقها، فإذا جاز أن يخرج من قدرته شيء جاز أن تخرج الأشياء من قدرته كلها، واخترت القول بالرفض لاتصول بالطعن إلى نقلة هذا الدين، فإذا بطل النقلة بطل المنقول.
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا عبد الله بن عبدالرحمن الدقاق قال: حدثنا محمد ابن عبد العزيز قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال: حدثنا الدراوردي قال: قال لي أبو سهيل: إذا سلم عليك القدرية فرد عليهم كما ترد على اليهود قل: وعليك.
" * (ولقد أهلكنا أشياعكم) *) أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة " * (فهل من مدكر وكل شيء فعلوه) *) من خير أو شرع يعني الأشياع " * (في الزبر) *) في كتب الحفظة، وقيل: في اللوح المحفوظ.
" * (وكل صغير وكبير) *) منهم ومن أعمالهم " * (مستطر) *) مكتوب محفوظ عليهم. يقال: كتبت واكتتبت وسطرت واستطرت، وقرأ واقترأت.
" * (إن المتقين في جنات) *) بساتين " * (ونهر) *) أنهار، ووحده لأجل رؤوس الآي. كقوله سبحانه: " * (ويولون الدبر) *)، وقال الضحاك: يعني في ضياء وسعة، ومنه النهار قال الشاعر:
ملكت بها كفي وانهرت فتقها
يرى قائم من دونها ما وراءها
173

أي وسعت خرقها.
وقرأ الأعرج وطلحة (ونهر) بضمتين كأنها جمع نهار يعني لا ليل لهم.
قال الفراء: أنشدني بعض العرب:
إن تك ليليا فإني نهر
متى أتى الصبح فلا أنتظر
أي صاحب نهار، وقال الآخر:
لولا الثريدان هلكنا بالضمر
ثريد ليل وثريد بالنهر
" * (في مقعد صدق) *) في مجلس حق لا لغو فيه ولا مأثم وهو الجنة " * (عند مليك مقتدر) *) ملك قادر و (عند) إشارة إلى القربة والرتبة.
قال الصادق: مدح الله المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا المسيب بن إبراهيم البكري عن صالح بن حيان عن عبد الله بن بريده أنه قال في قوله سبحانه وتعالى: " * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) *): إن أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى فيقرأون عليه القرآن، وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو يجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة باعمالهم، فلم تقر أعينهم بشيء قط كما تقر أعينهم بذلك، ولم يسمعوا شيئا أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى رحالهم ناعمين، قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد.
وأخبرني الحسين قال: حدثنا سعد بن محمد بن أبي إسحاق الصيرفي قال: حدثنا محمد ابن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا زكريا بن يحيى قال: حدثنا عمرو بن ثابت عن أبيه عن عاصم بن ضمرة عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما في مسجد المدينة، فذكر بعض أصحابه الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن لله لواء من نور وعمودا من زبرجد خلقهما قبل أن يخلق السماوات بألفي عام، مكتوب على رداء ذلك اللواء: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، محمد خير البرية، صاحب اللواء أمام القوم) فقال علي: الحمد لله الذي هدانا بك وكرمنا وشرفنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (يا علي أما علمت أن من أحبنا وانتحل محبتنا أسكنه الله تعالى معنا) وتلا هذه الآية " * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) *).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن ماجة قال: حدثنا الحسن ين أيوب. قال: حدثنا
174

عبد الله بن أبي زياد. قال: حدثنا سيار قال: حدثنا رياح القيسي عن ثور قال: بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون: يا أولياء الله انطلقوا، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقولون: إنكم لتذهبون بنا إلى غير بغيتنا، فيقال لهم: وما بغيتكم؟ فيقولون: المقعد مع الحبيب.
وسمعت أبا القاسم يقول: سمعت أبا محمد أحمد بن محمد بن إبراهيم البلاذري يقول: سمعت بكر بن عبدالرحمن يقول: كان ذو النون المصري يحض أصحابه على التهجد وقيام الليل. فإذا أحس منهم فتره قال: كدوا يا أولياء الله، فإن للأولياء (في الجنة) مقعد صدق يكشف حجب يوم يرون الجليل حقا.
175

((سورة الرحمن))
مكية، وهي ألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا، وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة، وثمان وسبعون آية
أخبرنا الأستاذ أبو الحسين الجباري قال: حدثت عن أحمد بن الحسن المقري قال: حدثنا محمد بن يحيى الكيساني قال: حدثنا هشام البربري قال: حدثنا علي بن حمزة الكسائي قال: حدثنا موسى بن جعفر عن أبيه جعفر عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لكل شيء عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن جل ذكره).
وأخبرني أبو الحسين أحمد بن إبراهيم العبدي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد الحبري قال: حدثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل الكوفي قال: حدثنا أحمد بن عبد الله قال: حدثنا سلام بن سليم المدائني قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الرحمن رحم الله ضعفه، وأدى شكر ما أنعم الله عليه).
روى هشام بن عروة عن أبيه قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن مسعود، وذلك أن أصحاب رسول الله اجتمعوا فقالوا: ما سمعت قريش القرآن يجهر به، فمن رجل يسمعهم؟
فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك منهم، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فقال: دعوني فإن الله سيمنعني، ثم قام عند المقام فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن علم القرآن، رافعا بها صوته، وقريش في أنديتها فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ ثم قاموا إليه فجعلوا يضربونه وهو يقرأ حتى يبلغ منها ما شاء، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا في وجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك.
بسم الله الرحمن الرحيم
176

2 (* (الرحمان * علم القرءان * خلق الإنسان * علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان * والسمآء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا فى الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان * والارض وضعها للانام * فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام * والحب ذو العصف والريحان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *) 2
" * (الرحمان علم القرآن) *) نزلت حين قالوا: وما الرحمن؟، وقيل: هو جواب لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر.
" * (خلق الانسان) *) قال ابن عباس وقتادة: يعني آدم ج.
" * (علمه البيان) *) أسماء كل شيء، وقيل: علمه اللغات كلها، وكان آدم ج يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية، وقال آخرون: أراد جميع الناس؛ لأن الانسان اسم الجنس ثم اختلفوا في معنى البيان، فروي عن قتادة أنه قال: علمه بيان الحلال والحرام، وبين له الخير والشر، وما يأتي وما يذر؛ ليحتج بذلك عليه.
وقال أبو العالية ومرة الهمذاني وابن زيد: يعني الكلام. الحسن: النطق والتمييز. محمد ابن كعب: ما يقول وما يقال له. السدي: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به
. يمان: الكتابة والخط بالقلم. نظيره " * (علم بالقلم) *). ابن كيسان: خلق الانسان يعني محمدا صلى الله عليه وسلم علمه البيان يعني بيان ما كان وما يكون؛ لأنه كان يبين عن الأولين والآخرين وعن يوم الدين.
" * (الشمس والقمر بحسبان) *) أي بحساب ومنازل لا تعدونها، قاله ابن عباس وقتادة وأبو ملك.
قال ابن زيد وابن كيسان: يعني بهما بحسب الأوقات والأعمار والآجال، لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف نحسب شيئا، لو كان الدهر كله ليلا كيف نحسب؟ أو كله نهارا كيف نحسب؟ وقال الضحاك: يجريان بعدد. مجاهد: كحسبان الرحى يدوران في مثل قطب الرحا. السدي: بأجل كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا. نظيره " * (كل يجري لأجل مسمى) *). يمان: يجريان بأهل الدنيا وقضائها وفنائها.
والحسبان قد يكون مصدر حسبت حسابا وحسبانا مثل الغفران والكفران والرجحان والنقصان، وقد تكون جمع الحساب كالشهبان والرهبان والقضبان والركبان.
وارتفاع الشمس والقمر باضمار فعل مجازه الشمس والقمر يجريان بحسبان، وقيل: مبتدأ وخبره فيما بعده.
177

ونظم الآية الرحمن علم القرآن وقدر الشمس والقمر، وقيل: هو مردود على البيان، أي علمه البيان، إن الشمس والقمر بحسبان.
ويقال: سعة الشمس ستة آلاف فرسخ وأربعمائة فرسخ في مثلها، وسعة القمر ألف فرسخ في ألف فرسخ.
مكتوب في وجه الشمس: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، خلق الشمس بقدرته، وأجراها بأمره، وفي بطنها مكتوب: لا إله إلا الله، رضاه كلام، وغضبه كلام، ورحمته كلام، وعذابه كلام، وفي وجه القمر مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، خلق الله القمر، وخلق الظلمات والنور، وفي بطنه مكتوب: لا إله إلا الله خلق الخير والشر بقدرته، يبتلي بهما من يشاء من خلقه، فطوبى لمن أجرى الله الخير على يديه، والويل لمن أجرى الله الشر على يديه.
" * (والنجم والشجر يسجدان) *). قيل: هو ما ليس له ساق من الأشجار، وينبسط على وجه الأرض، وقال السدي: هو جمع النبات سمي نجما لطلوعه من الأرض، وسجودها سجود ظلها، وقال مجاهد وقتادة: هو الكوكب، وسجوده طلوعه.
" * (والسماء رفعها ووضع الميزان) *) قال مجاهد: العدل، وقال الحسن والضحاك وقتادة: هو الذي يوزن به ليوصل به الإنصاف والانتصاف، وقال الحسين بن الفضل: هو القرآن، وأصل الوزن التقدير.
" * (أن لا تطغوا) *) يعني لئلا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق " * (في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط) *) بالعدل، وقال أبو الدرداء: أقيموا لسان الميزان بالقسط، وقال ابن عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب " * (ولا تخسروا) *) ولا تنقصوا " * (الميزان) *) ولا تطففوا في الكيل والوزن.
قال قتادة في هذه الآية: اعدل يا بن آدم كما تحب أن يعدل عليك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن العدل صلاح الناس.
وقراءة العامة " * (تخسروا) *) بضم التاء وكسر السين، وقرأ بلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين وهما لغتان.
" * (والأرض وضعها للأنام) *) للخلق، وقال الحسن: للجن والإنس، وقال ابن عباس والشعبي: لكل ذي روح.
" * (فيها فاكهة) *) يعني (ألوان) الفواكه، وقال ابن كيسان: يعني ما يفكههم به من النعم التي لا تحصى، وكل النعم يتفكه بها " * (والنخل ذات الأكمام) *) أوعية التمر، واحدها: كم، وكل ما يسترنا فهو كم وكمة، ومنه كم القميص، ويقال: للقلنسوة: كمة، قال الشاعر:
178

فقلت لهم كيلوا بكمة بعضكم
دراهمكم إني كذاك أكيل
قال الضحاك: ذات الأكمام أي ذات الغلف. الحسن: أكمامها: ليفها. قتادة: رقابها. ابن زيد: الطلع قبل أن يتفتق.
" * (والحب ذو العصف) *) قال مجاهد: هو ورق الزرع، قال ابن السكيت: يقول العرب لورق الزرع: العصف والعصيفة والجل بكسر الجيم، قال علمقة بن عبدة:
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها
حدورها من أتي الماء مطموم
العصف: ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس. نظيره " * (كعصف مأكول) *).
" * (والريحان) *) قال مجاهد: هو الرزق، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس قال: كل ريحان في القرآن فهو رزق.
قال مقاتل بن حيان: الريحان: الرزق بلغة حمير. قال الشاعر:
سلام الإله وريحانه
ورحمته وسماء درر
سعيد بن جبير عن ابن عباس: الريحان: الريع. الضحاك: هو الطعام. قال: فالعصف هو التين والريحان ثمرته. الحسن وابن زيد: هو ريحانكم هذا الذي يشم. الوالبي عن ابن عباس: هو خضرة الزرع. سعيد بن جبير: هو ما قام على ساق.
وقراءة العامة (والحب ذو العصف والريحان) كلها مرفوعا بالرد على الفاكهة، ونصبها كلها ابن عامر على معنى خلق هذا الانسان وخلق هذه الأشياء، وقرأ أهل
الكوفة إلا عاصم (والريحان) بالجر عطفا على العصف.
" * (فبأي آلاء) *) نعم " * (ربكما تكذبان) *) أيها الثقلان.
يدل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمد قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن مسلم الحنبلي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الخالق قال: حدثنا عبد الوهاب الوراق قال: حدثنا أبو إبراهيم الترجماني قال: حدثنا هشام بن عمار الدمشقي، قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا وهب ابن محمد عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها. ثم قال: (ما لي أراكم سكوتا؟ للجن أحسن منكم ردا، ما قرأت عليهم هذه الآية مرة " * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *) إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب).
179

وقيل: خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب، وقد مضت هذه المسألة في قوله سبحانه: " * (ألقيا في جهنم) *).
وأما الحكمة من تكرارها فقال القتيبي: إن الله سبحانه وتعالى عدد في هذه السورة نعماه، وذكر خلقه آلاءه. ثم أتبع ذكر كل كلمة وضعها، ونعمة ذكرها بهذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها، وهو كقولك لرجل: أحسنت إليه وتابعت بالأيادي، وهو في كل ذلك ينكرك ويكفرك: ألم تكن فقيرا فأغنيتك؟ أفتنكر؟ ألم تكن عريانا فكسوتك؟، أفتنكر هذا؟ ألم أحملك وأنت راحل؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملا فعززتك؟، أفتنكر هذا؟ ألم تكن صرورة فحججت بك؟ أفتنكر هذا؟
والتكرار سايغ في كلام العرب، حسن في مثل هذا الموضع. قال الشاعر:
المم سلومه المم المم
وقال الآخر:
كم نعمة كانت لكم
كم كم وكم
وقال آخر:
فكادت فرارة تصلى بنا
فأولى فرارة أولى فرارا
وقال آخر:
لا تقطعن الصديق ماطرفت
عيناك من قول كاشح أشر
ولا تملن من زيارته
زره وزره وزر وزر وزر
وقال الحسين بن الفضل: التكرار لطرد الغفلة وتأكيد الحجة.
(* (خلق الإنسان من صلصال كالفخار * وخلق الجآن من مارج من نار * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * رب المشرقين ورب المغربين * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * وله الجوار المنشئات فى البحر كالاعلام * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * يسأله من فى السماوات والارض كل يوم هو فى شأن * فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *
180

" * (خلق الانسان من صلصال كالفخار وخلق الجان) *) وهو أب الجن، وقال الضحاك: هو إبليس، وقال أبو عبيدة: الجان واحد الجن " * (من مارج) *) لهب صاف وخالص لا دخان فيه. قال ابن عباس: هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت. عكرمة: هو أحسنها. مجاهد: هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت، وهو من قولهم: مرج القوم إذا اختطلوا، ومرجت عهودهم وأماناتهم. " * (من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين) *) مشرق الصيف والشتاء " * (ورب المغربين) *) مغرب الصيف والشتاء.
* (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * * (مرج) *) أرسل " * (البحرين) *) العذب والملح وخلاهما وخلقهما " * (يلتقيان بينهما برزخ) *) حاجز وحائل من قدرة الله وحكمته " * (لا يبغيان) *) لا يختلطان ولا يتغيران ولا يبغي أحدهما على صاحبه، وقال قتادة: لا يبغيان على الناس بالغرق، وقال الحسن: (مرج البحرين) يعني بحر الروم وبحر الهند واسم الحاجز بينهما، وعن قتادة أيضا: يعني بحر فارس والروم، (بينهما برزخ) وهو الجزائر، وقال مجاهد والضحاك: يعني بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام.
" * (يخرج) *) قرأ أهل المدينة وأبو عمرو ويعقوب بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون على الضد.
" * (منهما اللؤلؤ) *) أي من البحرين، قال أهل المعاني: إنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب، ولكن هذا جائز في كلام العرب ان يذكر شيئا ثم يخص
أحدهما بفعل دون الآخر، كقول الله سبحانه: " * (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) *) والرسل من الإنس دون الجن، قاله الكلبي. قال: وجعل القمر فيهن نورا وإنما هو في واحدة منهما، وقال بعضهم يخرج من ماء السماء وماء البحر اللؤلؤ وهو أعظم من الدر، واحدتها لؤلؤة. " * (والمرجان) *) وهو صغارها، وقال مرة: المرجان جيد اللؤلؤ، وروى السدي عن أبي مالك أن المرجان الخرز الأحمر، وقال عطاء الخراساني هو البسذ، يدل عليه قول ابن مسعود: المرجان حجر، والذي حكينا من أن المراد بالبحرين القطر والبحر، وأن الكناية في قوله: (منهما) راجعة إليهما (وهو) قول الضحاك، ورواية عطية عن ابن عباس وليث عن مجاهد.
وتصديقهم ما أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا علي بن محمد بن لؤلؤ قال: أخبرنا الهيثم بن خلف قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قرأ " * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *) قال: إذا مطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها، فحيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة.
181

ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدف، فأصابت بعض النواة ولم يصب بعضها فكانت حيث القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة.
وأخبرنا الحسين قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: قرأ أبي على أبي محمد بن الحسن بن علوية القطان من كتابه وأنا اسمع، قال: حدثنا بعض أصحابنا قال: حدثني رجل من أهل مصر يقال له: طسم قال: حدثنا أبو حذيفة عن أبيه عن سفيان الثوري في قول الله سبحانه: " * (مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان) *) قال: فاطمة وعلي " * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *) قال: الحسن والحسين.
وروي هذا القول أيضا عن سعيد بن جبير، وقال: " * (بينهما برزخ) *) محمد صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وقال أهل الإشارة " * (مرج البحرين) *) أحدهما معرفة القلب والثاني معصية النفس، بينهما برزخ الرحمة والعصمة.
" * (لا يبغيان) *) لا تؤثر معصية النفس في معرفة القلب، وقال ابن عطاء: بين العبد وبين الرب بحران: أحدهما بحر النجاة، وهو القرآن من تعلق به نجا، والثاني بحر الهلاك وهو الدنيا من تمسك بها وركن إليها هلك، وقيل: بحرا الدنيا والعقبى، بينهما برزخ وهو القبر قال الله سبحانه: " * (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) *).
" * (لا يبغيان) *) لا يحل أحدهما بالآخر، وقيل: بحرا العقل والهوى " * (بينهما برزخ) *) لطف الله تعالى. " * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *) التوفيق والعصمة، وقيل: بحر الحياة وبحر الوفاة، بينهما برزخ وهو الأجل، وقيل: بحر الحجة والشبهة، بينهما برزخ وهو النظر والاستدلال " * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *) الحق والصواب.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار) *) السفن الكبار " * (المنشآت) *) كسر حمزة سينها، وهي رواية المفضل عن عاصم تعني المقبلات المبتديات اللاتي أنشأن بجريهن وسيرهن، وقرأ الآخرون بفتحه أي المخلوقات المرفوعات المسخرات " * (في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان كل من عليها) *) أي على الأرض من حيوان كناية عن غير مذكور كقول الناس: (ما عليها أكرم من فلان) يعنون الأرض، وما بين لابتيها أفضل منه يريدون جزئي المدينة " * (فان) *) هالك، قال ابن عباس: لما أنزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك أهل الأرض فأنزل الله تعالى " * (كل شيء هالك إلا وجهه) *) فأيقنت الملائكة بالهلاك
182

" * (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) *) قراءة العامة بالواو، وقرأ عبد الله ذي الجلال بالياء نعت الرب.
أخبرني الحسين أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن منصور الكناني قال: حدثنا الحرث بن عبد الله قال: أخبرنا عبدالرحمن بن عثمان الوقاصي، قال: حدثنا محمد بن كعب القرظي قال: قال عبد الله بن سلام: بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن سلام إن الله عز وجل يقول: " * (ذو الجلال والإكرام) *) فأما الإكرام فقد عرفت فما الجلال؟ فقال: بأبي أنت إنا نجد في الكتب أنها الجنة المحيطة بالعرش.
قال: فكم بينهما وبين الجنات التي يسكن الله عباده؟ قال: مدى سبعمائة سنة، قال: فنزل جبرئيل بتصديقه.
وأخبرني الحسين قال: حدثنا ابن حمدان قال: حدثنا بن ماهان قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: حدثنا سعيد الجزيري عمن سمع اللجلاج يقول: سمعت معاذ بن جبل وكان له أخا وصديقا قال: سمعته يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يصلي وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام. فقال صلى الله عليه وسلم (قد استجيب لك).
وأخبرني الحسين قال: حدثنا محمد بن الحسن بن بشر قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الخصيب المصيصي قال: حدثنا هلال بن العلاء قال: حدثنا أبو الجرار قال: حدثنا عمار بن زريق عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألظوا ب (يا ذا الجلال والإكرام)).
واخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن صقلاب قال: حدثنا ابن أبي الخصيب. قال: حدثنا محمد بن يونس عن بسر بن عمر قال: حدثنا وهيب بن خالد عن ابن عجلان عن سعيد المنقري قال: الحح رجل فقعد ينادي: يا ذا الجلال والإكرام. فنودي: إني قد سمعت فما حاجتك؟
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان يسأله من في السماوات والأرض) *) من ملك وإنس وجن وغيرهم لا غنى لأحد منهم منه قال ابن عباس: وأهل السماوات يسألونه المغفرة، ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة
183

" * (كل يوم هو في شأن) *) قال مقاتل: أنزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا، فأنزل الله سبحانه: " * (كل يوم هو في شأن) *).
أخبرني أبو القاسم عبدالرحمن بن محمد إبراهيم الحوضي قال: أخبرنا أبو أحمد عبد الله ابن عدي الحافظ قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن طويط أبو القاسم البزاز قال:
حدثنا إبراهيم ابن محمد بن يوسف الفريابي قال: حدثنا عمر بن بكر قال: حدثنا حارث بن عبيدة بن رياح الغساني عن أبيه عن عبدة بن أبي رياح عن مثبت بن عبد الله الأزدي عن أبيه عن عبد الله بن منيب قال: تلا علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " * (كل يوم هو في شأن) *) فقلنا: يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال: (يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين).
وحدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس إملاء قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد ابن يحيى البزاز، قال: حدثنا يحيى بن الربيع المكي قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: حدثنا أبو حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن مماخلق الله سبحانه وتعالى لوحا من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، ينظر الله سبحانه فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، فذلك قوله سبحانه " * (كل يوم هو في شأن) *).
وقال مجاهد وعبيدة بن عمير: من شأنه أن يجيب داعيا ويعطي سائلا ويفك غائبا ويشفي سقيما ويغفر ذنبا ويتوب على قوم، وقال سفيان بن عيينة: الدهر كله عند الله سبحانه يومان: أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة، والشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا، الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب، وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت.
ويقال: شأنه سبحانه أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر: عسكرا من أصلاب الآباء إلى الأرحام، وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا، وعسكرا من الدنيا إلى القبور، ثم يرحلون جميعا إلى الله سبحانه، وقال الربيع بن أنس: يخلق خلقا ويميت آخرين ويرزقهم ويكلؤهم. سويد بن جبلة الفراري: يعتق رقابا ويقحم عقابا ويعطي رغابا، وقال بعضهم: هو الجمع والتفريق. أبو سليمان الداراني: هو إيصاله المنافع إليك، ودفعه المضار عنك. فلم نغفل عن طاعة من لا يغفل عنا؟ وقال أيضا: في هذه الآية كل يوم له إلى العبيد بر جديد.
ويحكى أن بعض الأمراء سأل وزيره عن معنى هذه الآية فلم يعرفه واستمهله إلى الغد، فرجع الوزير إلى داره كئيبا، فقال له غلام أسود من غلمانه: يا مولاي ما أصابك؟ فزجره.
184

فقال: يا مولاي، أخبرني، فلعل الله سبحانه يسهل لك الفرج على يدي، فأخبره بذلك فقال له: عد إلى الأمير وقل له: إن لي غلاما أسود إن أذنت له فسر لك هذه الآية، ففعل ذلك ودعا الأمير الغلام وسأله عن ذلك فقال: أيها الأمير شأن الله هو انه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الميت من الحي ويخرج الحي من الميت، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا ويغني فقيرا. فقال الأمير: أحسنت يا غلام، قد فرجت عني. ثم أمر الوزير بخلع ثياب الوزارة وكساها الغلام، فقال: يا مولاي، هذا شأن الله عز وجل.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *))
.
* (سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فإذا انشقت السمآء فكانت وردة كالدهان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *) 2
" * (سنفرغ لكم) *) قرأ عبد الله وأبي (سنفرغ إليكم)، وقرأ الأعمش بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية، وقرأ الأعرج بفتح النون والراء. قال الكسائي: هي لغة تميم، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الياء وفتح الراء، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقوله: " * (يسأله من في السماوات والأرض) *) فاتبع الخبر الخبر، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الراء، واختاره أبو حاتم.
فإن قيل: إن الفراغ لا يكون إلا عن شغل والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن. قلنا: اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال قوم: هذا وعيد وتهديد من الله سبحانه وتعالى لهم كقول القائل: لأتفرغن لك وما به شغل، وهذا قول ابن عباس والضحاك، وقال آخرون: معناه سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم، وقد يقول القائل للذي لا شغل له: قد فرغت لي وفرغت لشتمي، أي أخذت فيه وأقبلت عليه. قال جرير بن الخطفي:
ولما التقى القين العراقي بأسته
فرغت إلى القين المقيد بالحجل
أي قصدته بما يسوؤه، وهذا القول اختيار الفندي والكسائي.
وقال بعضهم: إن الله سبحانه وعد على التقوى وأوعد على الفجور، ثم قال: سنفرغ لكم مما أوعدناكم وأخبرناكم فنحاسبكم ونجازيكم، وننجز لكم ما وعدناكم، ونوصل كلا إلى ما عدناه، فيتم ذلك ويفرغ منه، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل وابن زيد، وقال ابن كيسان: الفراغ
185

للفعل هو التوفر عليه دون غيره. " * (أيها الثقلان) *) أي الجن والإنس، دليله قوله في عقبه " * (يا معشر الجن والإنس) *) سميا ثقلين؛ لأنهما ثقل أحياء وأمواتا، قال الله سبحانه: " * (وأخرجت الأرض أثقالها) *) وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قدر ينافس فيه فهو ثقل، ومنه قيل لبيض النعام: ثقل؛ لأن واجده وصائده يفرح إذا ظفر به قال الشاعر:
فتذكرا ثقلا رثيدا بعدما
ألقت ذكاء يمينها في كافر
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما، وقال جعفر الصادق: سمي الجن والإنس ثقلين؛ لأنهما مثقلان بالذنوب.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم) *) ولم يقل: استطعتما؛ لأنهما فريقان في حال جمع كقوله سبحانه: " * (فإذا هم فريقان يختصمون) *) وقوله سبحانه: " * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) *).
" * (أن تنفذوا) *) تجوزوا " * (من أقطار السماوات والأرض) *) أي أطرافها " * (فانفذوا) *) ومعنى الآية إن استطعتم ان تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا، وانما يقال لهم هذا يوم القيامة، وقال الضحاك: يعني هاربين من الموت، فأخبر أنه لا يجيرهم من الموت ولا محيص لهم منه، ولو نفذوا من أقطار السماوات والأرض كانوا في سلطان الله عز وجل وملكه، وقال ابن عباس: يعني: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا، ولن تعلموه إلا بسلطان يعني البينة من الله سبحانه. " * (لا تنفذون إلا بسلطان) *) أي حجة.
قال ابن عباس وعطاء: لا تخرجون من سلطان، وقيل معناه إلا إلى سلطاني كقوله " * (وقد أحسن بي) *) أي أحسن ألي، وقال الشاعر:
أسىء بنا أفأحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وفي الخبر (يحاط على الخلق الملائكة وبلسان من نار ثم ينادون: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم... فذلك قوله تعالى...).
" * (يرسل عليكم شواظ من نار) *) قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق بكسر الشين، غيرهما بضمه، وهما لغتان مثل صوار من البقر، وصوار وهو اللهب، قال حسان بن ثابت يهجو أمية بن أبي الصلت:
هجوتك فاختضعت لها بذل
بقافية تأجج كالشواظ
186

وقال رؤبة:
إن لهم من وقعنا أقياظا
ونار حرب تسعر الشواظا
وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب " * (ونحاس) *) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر السين عطفا على النار، واختاره أبو حاتم، وقرأ الباقون بالرفع عطفا على الشواط، واختاره أبو عبيد.
قال سعيد بن جبير: النحاس: الدخان، وهي رواية أبي صالح وابن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال النابغة:
يضيء كضوء سراج السليط
لم يجعل الله فيه نحاسا
قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: السليط: دهن السنام ولا دخان له، وقال مجاهد وقتادة: هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. قال مقاتل: هي خمسة أنهار من صفر ذائب تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار، وقال عبد الله بن مسعود: النحاس: المهل. ربيع: القطر. الضحاك: دردي الزيت. الكسائي: هو الذي له ريح شديدة " * (فلا تنتصران) *) فلا تنتقمان وتمتنعان.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان فإذا انشقت) *) انفرجت " * (السماء) *) فصارت أبوابا لنزول الملائكة، بيانه قوله سبحانه: * (يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) * * (فكانت) *) صارت " * (وردة) *) مشرقة، وقيل: متغيرة، وقيل: بلون الورد.
قال قتادة: إنها اليوم خضراء وسيكون لها يومئذ لون آخر " * (كالدهان) *) اختلفوا فيه. قال ابن عباس والضحاك وقتادة والربيع: يعني كلون غرس الورد، يكون في الربيع كميتا أصفر، فإذا ضربه أول الشتاء يكون كميتا أحمر، فإذا اشتد الشتاء يكون كميتا أغبر، فشبه السماء في تلونها عند انشقاقها بهذا الغرس في تلونه، وقال مجاهد وأبو العالية: كالدهن، وهي رواية شيبان عن قتادة، قال: الدهان جمع الدهن، وللدهن ألوان، شبه السماء بألوانه. (وقال:) عطاء بن أبي رياح: كعصير الزيت يتلون في الساعة ألوانا.
(وقال:) الحسين بن الفضل: كصبيب الدهن يتلون. (وقال:) ابن جريج: تذوب السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم، (وقال:) مقاتل: كدهن الورد الصافي. (وقال) مؤرخ: كالوردة الحمراء، (وقال:) الكلبي: كالأديم الأحمر، وجمعه أدهنة.
187

" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *) أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن ماجة، قال: حدثنا ابن أيوب قال: حدثنا لقمان الحنفي قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم على شاب في جوف الليل وهو يقرأ هذه الآية: " * (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) *) فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول: ويحي من يوم تنشق فيه السماء، ويحي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (يا فتى مثلها أو مثلها، فوالذي نفسي بيده لقد بكت الملائكة يا فتى من بكائك).
2 (* (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جآن * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى والاقدام * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * هاذه جهنم التى يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم ءان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * ذواتآ أفنان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *) 2
" * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) *) قال الحسين وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم، لأن الله سبحانه علمها منهم وحفظها (عليهم)، وكتبت الملائكة عليهم، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، وعنه أيضا لا يسأل الملائكة (المجرمين)؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم، دليله ما بعده، وإلى هذا القول ذهب مجاهد، وعن ابن عباس أيضا في قوله سبحانه: " * (فوربك لنسألنهم أجمعين) *) وقوله: " * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) *) قال: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا؟، وقال عكرمة أيضا: مواطن يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها، وعن ابن عباس أيضا: لا يسألون سؤال شفاء وراحة، وانما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، وقال أبو العالية: لا يسأل غير المذنب عن ذنب المجرم.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم) *) وهو سواد الوجه وزرقة العيون " * (فيؤخذوا بالنواصي والأقدام) *) فيسحبون إلى النار ويقذفون فيها ثم يقال لهم: " * (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون) *) المشركون. " * (يطوفون بينها وبين حميم آن) *) قد انتهى خبره، وقال قتادة: آني طبخه منذ خلق الله السماوات الأرض، ومعنى الآية أنهم يسعون بين الجحيم وبين الحميم.
قال كعب الأحبار: (آن) (وادي) من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم وهم في الأغلال فيغمسون في ذلك الوادي حتى تخلع أوصالهم، ثم يخرجون منها وقد أحدث
188

الله سبحانه لهم خلقا جديدا، فيلقون في النار فذلك قوله سبحانه: * (يطوفون بينها وبين حميم آن) * * (فبأي آلاء ربكما تكذبان ولمن خاف مقام ربه) *) أي مقامه بين يدي ربه، وقيل: قيامه لربه، بيانه قوله: " * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) *)، وقيل: قيام ربه عليه، بيانه قوله: " * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) *) قال إبراهيم ومجاهد: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها من مخافة الله. قال ذو النون: علامة خوف الله أن يؤمنك خوفه من كل خوف، وقال السدي: شيئان مفقودان الخوف المزعج والشوق المقلق.
" * (جنتان) *) بستانان من الياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، ترابهما الكافور والعنبر وحمأتهما المسك الأذفر، كل بستان منهما مسيرة مائة سنة، في وسط كل بستان دار من نور.
قال محمد بن علي الترمذي: جنة بخوفه ربه، وجنة بتركه شهوته. قال مقاتل: هما جنة عدن وجنة النعيم، وقال أبو موسى الأشعري: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (هل تدرون ما هاتان الجنتان؟، هما بستانان في بساتين، قرارهما ثابت، وفرعهما ثابت، وشجرهما ثابت).
وأخبرني عقيل إجازة قال: أخبرنا المعافى قراءة قال: أخبرنا محمد بن جرير الطبري قال: حدثني محمد بن موسى الجرشي قال: حدثنا عبد الله بن الحرث القرشي قال: حدثنا شعبة بن الحجاج قال: حدثنا سعيد الحريري عن محمد بن سعد عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *) فقلت: وإن زنى وإن سرق؟، قال: (وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء).
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان) *) قال ابن عباس: ألوان، وواحدها فن وهو من قولهم: افتن فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه وضروب، قال الضحاك: ألوان الفواكه. مجاهد: أغصان وواحدها فنن. عكرمة: ظل الأغصان على الحيطان. الحسن: ذواتا ظلال، وهو كقوله: " * (وظل ممدود) *). (قال) الضحاك أيضا: ذواتا أغصان وفصول. قال: وغصونها كالمعروشات تمس بعضها بعضا، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. (قال) قتادة: ذواتا فضل وسعة على ما سواهما. (قال) ابن كيسان: ذواتا أصول.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان) *) قال ابن عباس: بالكرامة والزيادة على أهل الجنة، وقال الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل
189

عطية: إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين، وقيل: إنهما تجريان من جبل من مسك، وقال أبو بكر محمد بن عمر الوراق: فيهما عينان تجريان لمن كانت له في الدنيا عينان تجريان بالبكاء.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان) *) صنفان.
قال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة حلوة أو مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين) *) حال " * (على فرش) *) جمع فراش " * (بطائنها) *) جمع بطانة " * (من إستبرق) *) وهو ما غلظ من الديباج وحسن، وقيل: هو أستبر معرب.
قال ابن مسعود وأبو هريرة: هذه البطائن فما ظنكم بالظهائر؟، وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله سبحانه: " * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) *).
وعنه أيضا قال: بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد، وقال الفراء: أراد بالبطائن الظواهر.
قال المؤرخ: هو بلغة القبط، وقد تكون البطانة ظهارة والظهارة بطانة؛ لأن كل واحد منهما يكون وجها، تقول العرب: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء للذي يراه، وقال عبد الله ابن الزبير في قتلة عثمان: قتلهم الله شر قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب، يعني هربوا ليلا، فجعل ظهور الكواكب بطونا.
قال القتيبي: هذا من عجيب التفسير، وكيف تكون البطانة ظهارة، والظهارة بطانة؟ والبطانة من بطن من الثوب، وكان من شأن الناس إخفاؤه، والظهارة ما ظهر منه، ومن شأن الناس إبداؤه، وهل يجوز لأحد ان يقول لوجه المصلي: هذا بطانته، ولما ولي الأرض: هذا ظهارته، لا والله لا يجوز هذا، وانما أراد الله سبحانه وتعالى ان يعرفنا لطفه من حيث يعلم فضل هذه الفرش، وأن ما ولي الأرض منها إستبرق، وإذا كانت البطانة كذلك فالظهارة أعلى وأشرف، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه الحلة). فذكر المناديل دون غيرها؛ لأنها أحسن ويصدق قول القتيبي ما حكيناه عن ابن مسعود وأبي هريرة، والله أعلم.
" * (وجنا الجنتين) *) ثمرهما " * (دان) *) قريب يناله القائم والقاعد والنائم " * (فبأي آلاء ربكما
190

تكذبان فيهن قاصرات الطرف) *) غاضات الأعين، قد قصر طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ولا يردن غيرهم، قال ابن زيد: تقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك. " * (لم يطمثهن) *) لم يجامعهن ولم يفترعهن، وأصله من الدم، ومنه قيل للحائض: طامث، كأنه قال لم يدمهن بالجماع. " * (إنس قبلهم ولا جان) *). قال مجاهد: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله سبحانه: " * (لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان) *) أي لم يجامعهن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا امرأة ماتت بجمع لم تطمث دخلت الجنة) وقال الشاعر:
دفعن الي لم يطمثن قبلي
وهن أصح من بيض النعام
قال سهل: من أمسك طرفه في الدنيا عن اللذات عوض في الآخرة القاصرات، وقال أرطأة بن المنذر سألت ضمرة بن حبيب: هل للجن من ثواب؟ قال: نعم، وقرأ هذه الآية، قال: فالإنسيات للإنس والجنيات للجن.
" * (كأنهن الياقوت والمرجان) *) قال قتادة: صفاء الياقوت في بياض المرجان.
أخبرنا الحسن بن محمد قال: حدثنا هارون بن محمد بن هارون قال: حدثنا حازم بن يحيى الحلواني قال: حدثنا سهل بن عثمان العسكري قال: حدثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة من أهل الجنة ليرى بياض ساقها من سبعين حلة حتى يرى مخها، إن الله سبحانه وتعالى يقول: " * (كأنهن الياقوت والمرجان) *) فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه).
وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) *)، (هل) في كلام العرب على أربعة أوجه:
الأول: بمعنى (قد) كقوله: " * (هل أتى) *) و " * (هل أتاك) *))
.
191

والثاني: بمعنى الاستفهام، كقوله سبحانه: " * (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا) *).
والثالث: بمعنى الأمر، كقوله سبحانه: " * (فهل أنتم منتهون) *).
والرابع: بمعنى (ما) الجحد، كقوله سبحانه: * (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين و) * * (هل جزاء الاحسان إلا إلاحسان) *).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شيبة وابن حمدان والفضل بن الفضل والحسن بن علي ابن الفضل قالوا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام قال: حدثنا الحجاج بن يوسف المكتب قال: حدثنا بشر بن الحسين عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) *) قال: (هل تدرون ما قال ربكم عز وجل؟) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة).
وحدثنا أبو العباس بن سهل بن محمد بن سعيد المروزي لفظا بها قال: حدثنا جدي أبو الحسن محمد بن محمود بن عبيد الله، قال: أخبرنا عبد الله بن محمود، قال: حدثنا محمد بن مبشر، قال: حدثنا إسحاق بن زياد الأبلي قال: حدثنا بشر بن عبد الله الدارمي، عن بشر بن عبادة عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: سمعت ابن عمر وابن عباس يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم * (* (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) *) يقول الله سبحانه: هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي).
وأخبرني الحسين قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الملك بن محمد بن عدي قال: حدثنا صالح بن شعيب الخواص ببيت المقدس قال: حدثنا عبيدة بن بكار قال: حدثنا محمد بن جابر اليمامي عن ابن المكندر " * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) *) قال: هل جزاء من أنعمت عليه بالاسلام إلا الجنة، وقال ابن عباس: هل جزاء من
عمل في الدنيا حسنا، وقال: لا إله إلا الله، إلا الجنة في الآخرة، هل جزاء الذين أطاعوني في الدنيا إلا الكرامة في الآخرة، وقال الصادق: (هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد)، وقال محمد ابن الحنفية والحسن: هي مسجلة للبر والفاجر (للفاجر) في دنياه وللبر في آخرته.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان ومن دونهما) *) يعني: ومن دون الجنتين الأولتين " * (جنتان) *))
192

أخريان، واختلف العلماء في معنى قوله " * (ومن دونهما) *)، فقال ابن عباس: ومن دونهما في الدرج، وقال ابن زيد: ومن دونهما في الفضل، قال ابن زيد: هي أربع: جنتان للمقربين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان، وجنتان لأصحاب اليمين والتابعين، فيهما فاكهة ونخل ورمان، وقال أبو معاذ الفضل بن يحيى: أراد غيرهما؛ لأنهما دون الاوليين، وقال الكسائي: يعني أمامهما وقبلهما، كقول الشاعر:
رب خرق من دونها يخرس السفر
وميل يفضي إلى أميال
أي قبل الفلاة الأولى، ودليل هذا التأويل قول الضحاك: الجنتان الأوليان من ذهب وفضة، والأخريان من ياقوت وزمرد، وهما أفضل من الأوليين.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان) *) ناعمتان سوداوان من ريهما وشدة خضرتهما؛ لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد، قال ذو الرمة:
كسا الأكم بهمي غضة حبشية
تواما ونقعان الظهور الأقارع
فجعلها حبشية لما اشتدت خضرتها، وقيل ملتقيان.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان) *) ممتلئتان قباضتان فوارتان بالماء لا ينقطعان، وقال الحسن بن أبي مسلمد ينبعان ثم يجريان، وقال ابن عباس: تنضحان بالخير والبركة على أهل الجنة، (وقال) ابن مسعود: تنضخان على أولياء الله بالمسك والكافور. سعيد ابن جبير: نضاختان بالماء وألوان الفواكه. أنس بن مالك: تنضخ المسك والعنبر في دور أهل الجنة كما ينضخ طش المطر، وأصل النضخ الرش، وهو أكثر من النضخ.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *).
2 (* (فيهما عينان تجريان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهما من كل فاكهة زوجان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * متكئين على فرش بطآئنها من إستبرق وجنى الجنتين دان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * كأنهن الياقوت والمرجان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * هل جزآء الإحسان إلا الإحسان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * ومن دونهما جنتان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * مدهآمتان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهما عينان نضاختان * فبأىءالاء ربكما تكذبان * فيهما فاكهة ونخل ورمان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * فيهن خيرات حسان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * حور مقصورات
193

فى الخيام * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * متكئين على رفرف خضر وعبقرى حسان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * تبارك اسم ربك ذى الجلال والإكرام) *) 2
" * (فيهما فاكهة ونخل ورمان) *) كأنما أعاد ذكر النخل والرمان وهما من حملة الفاكهة للتخصيص والتفضيل، كقوله: " * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل) *) وقوله: " * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) *) وقوله: " * (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض) *) ثم قال: " * (وكثير من الناس) *) وقوله سبحانه: " * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) *).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شيبة، قال: حدثنا الفريابي قال: حدثنا سحاب بن الحرث قال: أخبرنا علي بن مسير عن مسيعر عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة قال: إن نخل الجنة نضدها ما بين أصله إلى فرعه، وثمره كأمثال القلال، كلما نزعت عادت مكانها أخرى، العنقود منها اثنا عشر ذراعا، وأنهارها تجري في غير أخدود.
قال: قلت: من حدثك؟ قال: أما إني لم اخترعه، حدثني مسروق.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حمدان قال: حدثنا ابن ماهان قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كجلد البعير المقتب، وإذا طيرها كالبخت، وإذا فيها جارية، قلت: يا جارية، لمن أنت؟
قالت: لزيد بن حارثة، وإذا في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *) قال الكسائي: ذكر الله سبحانه وتعالى الجنتين والجنتين ثم جمعهن فقال: " * (فيهن خيرات حسان) *) قرأ العامة بالتخفيف، وقرأ أبو رجاء العطاردي (خيرات) بتشديد الياء.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن خنيس قال: حدثنا ابن مجاهد قال: حدثنا الصاغاني قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أنه قرأ (فيهن خيرات) بالتشديد، وهما لغتان مثل (هين وهين، ولين ولين).
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدثنا أحمد بن عبدالرحمن
194

ابن وهب قال: حدثنا محمد بن الفرج الصدفي عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة عن هشام ابن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني عن قوله سبحانه: " * (خيرات حسان) *) قال صلى الله عليه وسلم (خيرات الأخلاق حسان الوجوه).
وقال الحسن: خيرات فاضلات. إسماعيل بن أبي خالد: عذارى. جرير بن عبد الله: مختارات.
وقال المفسرون: خيرات لسن بذربات ولا ذفرات ولا نجرات ولا متطلعات ولا متشوقات ولا متسلطات ولا طماحات ولا طوافات في الطرق، ولا يغرن ولا يؤذين.
وأخبرنا الحسين قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا حامد بن شعيب البخلي قال: حدثنا سريح بن يونس قال: حدثنا مسلم بن قتيبة عن سلام بن مسكر عن قتادة عن عقبة بن عبدالغفار قال: نساء أهل الجنة يأخذ بعضهن بأيدي بعض ويتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها: نحن الراضيات فلا نسخط، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا، ونحن خيرات حسان حبينا لأزواج كرام.
وروى الأسود عن عائشة خ: أن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابتهن المؤمنات من نساء الدنيا: نحن المصليات وما صليتن، ونحن الصائمات وما صمتن، ونحن المتوضئات وما توضأتن، ونحن المتصدقات وما تصدقتن.
قالت عائشة: فغلبتهن والله.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام) *) محبوسات مستورات في الحجال. يقال للمرأة: قصيرة وقصورة ومقصورة إذا كانت مخدرة مستورة لا تخرج.
قال الشاعر:
وأنت التي حببت كل قصيرة
إلي وماتدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد
قصار الخطى شر النساء البحاتر
(الراجز) وقيل: قصر بهن على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلا.
أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن شاذان، حدثنا القطان، حدثنا ابن حسان حدثني نصر
195

العطار، أخبرنا عمر بن سعد عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو أن حوراء بزقت في بحر (لجي) لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها).
" * (في الخيام) *) جمع الخيم، قال ابن مسعود: لكل زوجة خيمة طولها ستون ميلا، وتصديق هذا التفسير، ما أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا ابن شنبه، حدثنا الفراتي، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا همام بن يحيى عن أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، عبد أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون).
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن يحيى بن طلحة اليربوعي، حدثنا فضل بن (عياض)، عن هشام عن محمد عن ابن عباس في قوله: " * (حور مقصورات في الخيام) *) قال: الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
أخبرني الحسين، حدثنا عبد الله بن (....) حدثنا (....) أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني، محمد بن موسى القرشي، حدثنا حماد بن هلال السكري، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مررت ليلة أسري بي بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه: السلام عليك يا رسول الله.
فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جوار من الحور العين استأذن ربهن في أن يسلمن عليك فأذن لهن، فقلن: نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نيئس (أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا) أزواج رجال كرام ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (حور مقصورات في الخيام) *).
قال: (محبوسات).
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *) * * (لم يطمثهن) *) يمسسهن " * (إنس قبلهم ولا جان) *) قرأه العامة بكسر الميم وهي إختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
196

وقرأ أبو يحيى الشامي وطلحة بن مصرف: بالضم فيهما، وكان الكسائي يكسر إحداهما ويضم الأخرى مخيرا في ذلك، والعلة فيه ما أخبرني أبو محمد شيبة بن محمد المقري، أخبرني أبو عمرو محمد بن محمد بن عبدوس حدثني ابن شنبوذ أخبرني عياش بن محمد الجوهري، حدثنا أبو عمر الدوري عن الكسائي قال: إذا رفع الأول كسر الآخر، وإذا رفع الآخر كسر الأول. قال: وهي قراءة أبي إسحاق السبيعي. قال: قال أبو إسحاق: كنت أصلي خلف أصحاب علي بن أبي طالب فأسمعهم يقرؤون (يطمثهن) بكسر الميم، وكان الكسائي يقرأ واحدة برفع الميم والأخرى بكسر الميم؛ لئلا يخرج من هذين الأثرين، وهما لغتان.
" * (فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف) *) قال سعيد بن جبير: هي رياض الجنة خضر مخضبة. وروي ذلك عن ابن عباس. واحدتها رفرفة والرفارف جمع الجمع.
وروى العوفي عن ابن عباس قال: الرفرف: فضول المجالس البسط. عيره عنه: فضول الفرش والمجالس. قتادة والضحاك: محابس خضر فوق الفرش.
الحسن والقرظي: البسط. ابن عيينة: الزرابي. ابن كيسان: المرافق وهي رواية.
قتادة عن الحسن وأبو عبيدة: حاشية الثوب وغبره: واكل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف.
قال ابن مقبل:
وإنا لنزالون نغشى نعالنا
سواقط من أصناف ريط ورفرف
" * (وعبقري حسان) *) وهي الزرابي والطنافس الثخان وهي جمع، واحدتها عبقرية. وقد ذكر عن العرب أنها تسمى كل شيء من البسط عبقريا.
قال قتادة: العبقري عتاق الزرابي، وقال مجاهد: هو الديباج.
أبو العالية: الطنافس المخملة إلى الرقة (ما هي).
الحسن: الدرانيك يعني (الثخان)، القتيبي: كل ثوب موشى عند العرب عبقري.
قال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي.
قال ذو الرمة:
197

حتى كأن رياض القف ألبسها
من وشي عبقر تجليل وتنجيد
قال: ويقال: إن عبقر أرض يسكنها الجن.
قال الشاعر (زهير):
بخيل عليها جنة عبقرية
جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا
وقال قطرب: ليس هذا بمنسوب. وكل جليل فاضل فاخر من الرجال (وغيرهم) عند العرب عبقري، ومنه الحديث في عمر: فلم أر عبقريا يفري فريه.
حدثنا أبو محمد الحسن بن علي بن المؤمل بقراءتي عليه، أخبرنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصغاني، حدثنا الحسين بن محمد، ح.
وأخبرني الحسين، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي، حدثنا محمد بن إبراهيم بن ناصح، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب، حدثنا أبو أحمد الحسين بن محمد الزوزني الأرطباني وهو ابن عم عبد الله بن عون عن عاصم الجحدري عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (متكئين على رفرف خضر وعباقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام) بالواو، شامي وكذلك هو في مصاحفهم.
الباقون: (ذي الجلال والإكرام).
198

((سورة الواقعة))
مكية، وهي ألف وسبعمائة وثلاثة أحرف وثلاثمائة وثمان وسبعون كلمة وست وتسعون آية
أخبرنا أبو الحسين الخبازي عن مرة، عن الشيخ الحافظ ابن أبي عاصم، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو بكر العطار، حدثنا السدي بن يحيى عن شجاع عن أبي طيبة الجرجاني قال: دخل عثمان بن عفان على عبد الله بن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال: ما تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: أشتهي رحمة ربي. قال: أفلا ندعو الطبيب؟
قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا نأمر بعطائك؟ قال: لا حاجة لي به. قال: أندفعه إلى بناتك؟ قال: لا حاجة لهن بها؛ قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا).
وأخبرني محمد بن القاسم، حدثنا عبد الله بن أحمد الشعراني، حدثنا أحمد بن علي بن رزين، حدثنا أحمد بن عبد الله العتكي، حدثنا جرير عن منصور عن هلال بن سياف عن مسروق قال: من أراد أن يتعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار، ونبأ الدنيا ونبأ الآخرة فليقرأ سورة الواقعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة * إذا رجت الارض رجا * وبست الجبال بسا * فكانت هبآء منبثا * وكنتم أزواجا ثلاثة * فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة * وأصحاب المشئمة مآ أصحاب المشئمة * والسابقون السابقون * أولائك المقربون * فى جنات النعيم) *) 2
" * (إذا وقعت الواقعة) *) أي إذا نزلت صبيحة القيامة وتلك النفخة الأخيرة " * (ليس لوقعتها كاذبة) *) تكذيب ذكره سيبوبه، وهو اسم كالعافية والنازلة والعاقبة، عن الفراء. قال الكسائي: هي
199

بمعنى الكذب كقوله " * (لا تسمع فيها لاغية) *) أي لغوا، ومنه قول العامة: عائذ بالله أي معاذ الله، وقم قائما أي قياما.
ولبعض نساء العرب ترقص ابنها:
قم قائما قم قائما
أصبت عبدا نائما
" * (خافضة) *) أي هي خافضة " * (رافعة) *) تخفض قوما إلى النار وترفع آخرين إلى الجنة.
وقال عكرمة والسدي ومقاتل: خفضت الصوت فأسمعت من دنا ورفعت الصوت فأسمعت من نأى يعني أنها أسمعت القريب والبعيد، ورفعت قوما كانوا مذللين فرفعتهم إلى أعلى عليين ووضعت قوما كانوا في الدنيا مرتفعين فوضعتهم إلى أسفل سافلين.
ابن عطاء: خفضت قوما بالعدل ورفعت قوما بالفضل.
" * (إذا رجت الأرض رجا) *) أي رجفت وزلزلت وحركت تحريكا من قولهم: السهم يرتج في الغرض، بمعنى يهتز ويضطرب.
قال الكلبي: وذلك أن الله عز وجل إذا أوحى إليها اضطربت فرقا.
وقال المفسرون: ترج كما يرج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها.
وأصل الرج في اللغة التحريك يقال: رججته فإرتج (فارتضى عنقه) ورجرجته فترجرج.
" * (وبست الجبال بسا) *) أي حثت حثا وفتت فتا فصارت كالدقيق المبسوس، وهو المبلول والبسبسة عند العرب الدقيق أو السويق يلت ويتخذ زادا.
وذكر عن لص من غطفان أنه أراد أن يخبز فخاف أن يعجل عن الخبز فقال لا تخبزا خبزا وبسا بسا ولا تطيلا بمناخ حبسا.
وقال عطاء: أذهبت إذهابا قال سعيد بن المسيب والسدي: كسرت كسرا.
الكلبي: سيرت عن وجه الأرض تسييرا. مجاهد: لتت لتا.
الحسن: قلعت من أصلها فذهبت بعدما كانت صخرا صماء: نظيرها " * (فقل ينسفها ربي نسفا) *).
عطية: بسطت بسطا كالرمل والتراب.
ابن كيسان: جعلت كثيبا مهيلا بعد أن كانت شامخة طويلة.
200

" * (فكانت هباء منبثا) *) قال ابن عباس: شعاع الشمس حين يدخل من الكوة.
علي ح: رهج الدواب.
عطية: ما تطاير من شرر النار، قتادة: حطام الشجر.
وقراءة العامة: " * (منبثا) *) بالثاء أي متفرقا، وقرأ النخعي بالتاء أي منقطعا.
" * (وكنتم أزواجا) *) أصنافا " * (ثلاثة) *) ثم بين من هم فقال عز من قائل: " * (فأصحاب الميمنة) *) وهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة.
وقال ابن عباس: وهم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه. وقال الله (إن) هؤلاء في الجنة ولا أبالي.
وقال الضحاك: هم الذين يعطون كتبهم بإيمانهم.
وقال الحسن والربيع: هم الذين كانوا ميامين مباركين على أنفسهم، وكانت أعمارهم في طاعة الله عز وجل، وهم التابعون بإحسان.
ثم عجب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: " * (ما أصحاب الميمنة) *) وهذا كما يقال: زيد ما زيد، يراد زيد شديد.
" * (وأصحاب المشأمة) *) أي الشمال، والعرب تسمي اليد اليسرى شؤمى.
قال الشاعر:
السهم والشرى في شوءمى يديك لهم
وفي يمينك ماء المزن والضرب
ومنه الشام واليمن لأن اليمن عن يمين الكعبة والشام عن شمالها إذا (دخل الحجر) تحت الميزاب.
وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار.
وقيل: هم الذين كانوا على شمال آدم عند إخراج الذرية، وقال الله لهم هؤلاء في النار ولا أبالي
201

وقيل: هم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم.
وقال الحسن: هم المشائيم على أنفسهم، وكانت أعمارهم في المعاصي.
" * (ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون) *) قال ابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين دليله قوله " * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) *).
أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن حمران، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن داود الدينوري، حدثنا (.....) عن ابن بن الجارود عن عبد الغفور ابن أبي الصباح عن ابن علي، عن كعب في قول الله عز وجل: " * (والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم) *) قال: هم أهل القرآن وهم المتوجون يوم القيامة.
وأخبرني الحسين، حدثنا موسى بن محمد بن علي، حدثنا أبو شعيب، حدثنا عبد الله بن الحسن الحراني، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، حدثنا الأوزاعي قال: سمعت عثمان بن أبي سودة يقول: السابقون أولهم رواحا إلى المسجد وأولهم خروجا في سبيل الله عز وجل.
وأخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن ماجة، حدثنا ابن أيوب، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سياد بن حاتم، حدثنا عبد الله بن شميط قال: سمعت أبي يقول: الناس ثلاثة: فرجل إبتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج عن الدنيا فهذا السابق المقري، ورجل ابتكر عمره بالذنوب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبة فهذا صاحب يمين، ورجل ابتكر الشر في حداثته ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال.
وقال ابن عباس: السابقون إلى الهجرة هم السابقون في الآخرة. وقال علي بن أبي طالب: إلى الصلوات الخمس.
عكرمة: إلى الإسلام. الضحاك: إلى الجهاد. القرظي: إلى كل خير. سعيد بن جبير: هم المسارعون إلى التوبة وإلى أعمال البر. نظيره " * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) *) * * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم) *).
ثم أثنى عليهم فقال عز من قائل " * (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) *) الربيع عن أنس: السابقون إلى إجابة الرسول في الدنيا، وهم السابقون إلى الجنة في العقبى.
ابن كيسان: السابقون إلى كل ما دعا الله سبحانه وتعالى إليه.
" * (أولئك المقربون) *) إلى الله " * (في جنات النعيم) *).
202

أخبرني الحسين، حدثنا علي بن إبراهيم بن موسى الموصلي، حدثنا محمد بن مخلد العطار، محمد بن إسماعيل، حدثنا وكيع، حدثنا شعبة ومسعر عن سعد بن إبراهيم عن عروة بن الزبير قال: كان يقال: تقدموا تقدموا.
وأخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن ماجة، حدثنا ابن أيوب، حدثنا القطواني، حدثنا سيار، حدثنا جعفر حدثني عوف حدثني رجل من أهل الكوفة قال: بلغني أنه إذا خرج رجل من السابقين المقربين من مسكنه في الجنة كان له ضوء يعرفه من دونه فيقول: هذا ضوء رجل من السابقين المقربين.
2 (* (ثلة من الاولين * وقليل من الاخرين * على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزآء بما كانوا يعملون * لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما * وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين * فى سدر مخضود * وطلح منضود) *) 2
" * (ثلة) *) جماعة " * (من الأولين) *) أي الأمم الماضية " * (وقليل من الآخرين) *) أمة محمد صلى الله عليه وسلم " * (على سرر موضونة) *) مرمولة منسوجة مشبكة بالذهب والجواهر، قد إتصل بعضها في بعض، كما توضن حلق الدرع (.......) بعضها في بعض مضاعفة.
ومنه قول الأعشى:
ومن نسج داود موضونة
تساق مع الحي عيرا فعيرا
وقال أيضا:
وبيضاء كالنهي موضونة لها
قونس فوق جيب البدن
ومنه وضين الناقة وهو البطان من السيور إذا نسج بعضه على بعض مضاعفا كحلق الدرع.
قال الكلبي: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت.
وقال الضحاك: موضونة مصفوفة، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. يقال: آجر موضون إذا صف بعضها على بعض.
203

" * (متكئين عليها متقابلين) *) في الزيارة لا ينظر بعضهم في قفا بعض " * (يطوف عليهم) *) للخدمة " * (ولدان) *) غلمان " * (مخلدون) *) أي لا يموتون عن مجاهد، وقال الكلبي: لا يهرمون ولا يكبرون ولا ينقصون ولا يتغيرون، وليس كخدم الدنيا يتغيرون من حال إلى حال.
ابن كيسان: يعني (ولدانا مخلدين) لا يتحولون من حالة إلى حالة، عكرمة: منعمون. سعيد بن جبير: مقرطون.
قال المؤرخ: ويقال للقرط الخلد.
قال الشاعر:
ومخلدات باللجين كأنما
أعجازهن أفاوز الكثبان
وقال علي والحسن: (هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها، لأن الجنة لا ولادة فيها).
وفي الحديث: (أطفال الكفار خدم أهل الجنة).
" * (بأكواب) *) جمع كوب " * (وأباريق) *) جمع إبريق، سمي بذلك لبريق لونه " * (وكأس من معين) *) خمر جارية " * (لا يصدعون عنها) *) لا تصدع رؤوسهم عن شربها " * (ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون) *) يختارون ويشتهون.
أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن حبش، حدثنا ذكار، حدثنا هناد، حدثنا أبو معونة عن عبيد الله بن الوليد عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن في الجنة لطيرا فيه سبعون ألف ريشة، فيجيء فيقع على صحيفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض، فيخرج من كل ريشة لون أبيض من الثلج والبرد وألين من الزبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه ثم يطير فيذهب).
" * (وحور عين) *) قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي والمفضل بكسر الواو والنون أي وبحور عين، أتبعوا الآخر الأول في الا عراب على اللفظ وإن اختلفا في المعنى، لأن الحور لا يطاف بهن، كقول الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يوما
وزججن الحواجب والعيونا
204

والعين لا تزجج وإنما تكحل.
وقال الآخر: متقلدا سيفا ورمحا، ومثله كثير.
وقرأ إبراهيم النخعي واشهب العقيلي: (وحورا عينا) بالنصب، وكذلك هو في مصحف أبي، على معنى: ويزوجون حورا عينا. وقال الأخفش: رفع بخبر الصفة، أي لهم حور عين.
وقيل: هو ابتداء وخبره فيما بعده.
أخبرنا الحسين، حدثنا محمد بن الحسن بن صقلاب، حدثنا أبو عبد الله محمد بن بشير ابن يوسف بن النضر، حدثنا بكر بن سهل الدمياطي، حدثنا عمرو بن هاشم، حدثنا سليمان بن أبي كرعة، عن هشام بن حسان، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل " * (حور عين) *)؟ قال: (حور بيض عين ضخام العيون).
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا ابن صقلاب، حدثنا أبو بكر بن أبي الخصيب حدثني محمد بن غالب حدثنا الحرث بن خليفة، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خلق الحور العين من الزعفران).
وأخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن يودة، حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك البزاز، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ابن بنت شرحبيل، حدثنا خالد بن يزيد، عن أبي مالك، عن أبيه عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يدخل الجنة إلا وهو يزوج ثنتين وسبعين زوجة، ثنتين من الحور العين وسبعين من ميراثه من أهل النار، وليس منهن امرأة إلا ولها قبل شهي وله ذكر لا ينثني).
وأخبرني ابن فنجويه، حدثنا أحمد بن محمد بن علي، حدثنا عثمان بن نصر البغدادي، حدثنا محمد بن مهاجر أبو حنيف، حدثنا حلبس بن محمد الكلابي، حدثنا سفيان الثوري، عن منصور أو المغيرة، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يسطع نور في الجنة فقالوا: ما هذا؟ قالوا: ضوء ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها).
وروي أن الحوراء إن مشت سمع تقديس الخلاخيل من ساقيها وتمجيد الأسورة من ساعديها، وإن عقد الياقوت يضحك من نحرها، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكها من لولؤ تصران بالتسبيح
205

وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول: اخطب زوجة (لا تسلبها) منك المنايا، وأعرس بها في دار لا يخربها دوران البلايا وشبك لها حجله لا تحرقها نيران الرزايا.
وقال مجاهد: سميت حورا لأنه يحار فيهن الطرف.
" * (كأمثال اللؤلؤ المكنون) *) المخزون في الصدف الذي لم تمسه الأيدي " * (جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) *) في نصبهما وجهان:
أحدهما: اتباع للقيل.
والثاني: على (يسمعون سلاما)، ثم رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة فقال " * (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود) *) لا شوك فيه، كأنه خضد شوكها أي قطع ونزع.
ومنه الحديث في المدينة: (لا يخضد شوكها ولا يعصر شجرها) وهذا قول ابن عباس وعكرمة وقسامة بن زهير.
وقال الحسن: لا تعقر الأيدي. قتادة: هو الذي لا يرد اليد منها شوك ولا بعد.
وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: هو الموقر حملا.
قال سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من الفلال. وقال ابن كيسان: هو الذي لا أذى فيه.
قال: وليس شيء من ثمر الجنة في غلف كما تكون في الدنيا من الباقلاء وغيره، بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه.
قال أبو العالية والضحاك: نظر المسلمون إلى وج وهو واد مخصب بالطائف، وأعجبهم سدرها.
وقالوا: يا ليت لنا مثل هذا، فأنزل الله عز وجل " * (وطلح) *) وموز واحدتها طلحة، عن أكثر المفسرين.
وقال الحسن: ليس هو موزا ولكنه شجر له ظل بارد طيب.
وقال الفراء وأبو عبيدة: الطلح عند العرب شجر عظام لها شوك.
قال بعض الحداة:
بشرها دليلها وقالا
غدا ترين الطلح والجبالا
206

وأخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن حيان، حدثنا ابن مروان، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن عيسى، حدثنا علي بن علي قال: زعم أبو حمزة الثمالي عن الحسن مولى الحسن بن علي أن عليا قرأ: وطلع منضود.
وأنبأني عقيل، أنبأنا المعافي محمد بن جرير، حدثنا سعيد بن يحيى، حدثنا أبي، حدثنا مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن سعد قال: قرأ رجل عند علي ح " * (وطلح منضود) *) فقال علي: (وما شأن الطلح؟ إنما هو طلع منضود) ثم قرأ (طلع منضود).
فقلت: إنها في المصحف بالحاء فلا تحولها؟ فقال: (إن القرآن لا يهاج (اليوم) ولا يحول).
والمنضود: المتراكم الذي قد نضد بأكمله من أوله إلى آخره، ليست له سوق بارزة.
قال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أغصانها ثمر كله.
(* (وظل ممدود * ومآء مسكوب * وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة * وفرش مرفوعة * إنآ أنشأناهن إنشآء * فجعلناهن أبكارا * عربا أترابا) *) 2
" * (وظل ممدود) *) دائم لا تسخنه الشمس.
قال الربيع: يعني ظل العرش. عمرو بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة.
قال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل، وللشيء الذي لا ينقطع: ممدود.
قال لبيد:
غلب العزاء وكنت غير مقلب
دهر طويل دائم ممدود
حدثنا أبو محمد مهدي بن عبد الله بن القاسم بن الحسن العلوي إملاء في شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد الحجاج حدثني محمد بن يونس الكديمي، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " * (وظل ممدود) *) قال: شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة، أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في أصلها ويتذكر بعضهم ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله عز وجل عليها ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا
207

وأخبرني ابن فنجويه، حدثنا محمد بن حبيش بن عمر المقرئ، حدثنا ذكار بن الحسن، حدثنا هناد بن السري، حدثنا عبدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها، إقرؤوا إن شئتم قول الله عز وجل: * (وظل ممدود) * * (وماء مسكوب) *) مصبوب يجري دائما في غير إخدود لا ينقطع.
أخبرني الحسين، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا محمد بن موسى الحلواني، حدثنا خزيمة بن أحمد الباوردي، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا الحسين بن علي الجعفي، حدثنا مزاحم بن داود بن علبة قال: مات أخ لي وكان بارا بأمه فرأيته فيما يرى النائم فقلت له: أي أخي إن أخاك يحب أن يعلم إلى أي شيء صرت؟
فقال لي: أنا في سدر مخضود وطلح منضود، وظل ممدود وماء مسكوب.
" * (وفاكهة كثيرة لا مقطوعة) *) بالأزمان " * (ولا ممنوعة) *) بالأثمان.
وقال القتيبي: لا محظور عليها كما يحظر على بساتين الدنيا. وقيل: لا تنقطع الثمرة إذا جنيت، بل تخرج مكانها مثلها.
أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن شيبة، حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن حسان الأزرق، حدثنا ريحان بن سعيد، حدثنا عباد بن كثير عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما قطعت من ثمار الجنة إلا أبدل الله مكانها ضعفين).
" * (وفرش مرفوعة) *) أخبرنا أبو علي بن أبي عمرو الجيري الجرشي، حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن هارون، حدثنا عمار بن عبد الجبار، حدثنا رشيد، ح.
وأخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن حبش، حدثنا أبو عبد الرحمن الشائي، حدثنا أبو كريب، حدثنا رشد بن سعد عن عمرو بن الحرث عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " * (وفرش مرفوعة) *) قال: (إن ارتفاعها لكما بين السماء والأرض، وإن ما بين السماء والأرض لمسيرة خمسمائة عام).
208

وقال أبو امامة الباهلي: لو طرح فراش من أعلاها إلى أسفلها لم يستقر إلا بعد سبعين خريفا. وقال علي بن أبي طالب: مرفوعة على الأسرة.
وقيل: إنه أراد بالفرش النساء، والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا على الاستعارة، لأن الفرش محل للنساء " * (مرفوعة) *) رفعن بالجمال والفضل على نساء أهل الدنيا.
ودليل هذا التأويل قوله في عقبه " * (إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا) *) عذارى " * (عربا) *) عرائس متحببات إلى أزواجهن. قاله الحسن وقتادة وسعيد بن جبير وهي رواية الوالبي عن ابن عباس وعكرمة عنه ملقة. وقال عكرمة: غنجة.
ابن بريدة: الشركلة بلغة مكة. والمغنوجة بلغة المدينة.
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الحافظ، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان، حدثنا عبيد الله بن ثابت بن أحمد، حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن يمان عن أسامة بن زيد عن أبيه " * (عربا) *) قال: حسنات الكلام.
وأخبرني أبو عبد الله الحافظ أحمد بن محمد بن إسحاق السني، حدثنا حامد بن شعيب البلخي، حدثنا سريج بن يونس، هشام، حدثنا مغيرة عن عثمان عن تيم بن حزام قال: هي الحسنة التبعل وكانت العرب تقول للمرأة إذا كانت حسنة التبعل إنها لعربة واحدتها عروب. " * (أترابا) *) مستويات في السن.
عن ابن فنجويه، حدثنا ابن شنبه، الفراتي، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل أهل الجنة الجنة مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم، طوله ستون ذراعا في سبعة أذرع).
قال المفسرون: هذه صفات نساء الدنيا ومعنى قوله " * (أنشأناهن) *) خلقناهن بعد الخلق الأول، وبهذا جاءت الأخبار.
أخبرني الحسين، محمد بن الحسن الثقفي، حدثنا محمد بن الحسن بن علي اليقطيني، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد العزيز بن الحصين عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وعندها عجوز من بني عامر فقال: (من هذه العجوز عندك يا عائشة؟)
قالت: إحدى خالاتي يا رسول الله فقال: (إن الجنة لا تدخلها عجوز) فبلغ ذلك من
209

العجوز كل مبلغ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت له عائشة ما لقيت العجوز فقال: (إنها إذا دخلت الجنة أنشئت خلقا آخر).
وأخبرني الحسين، حدثنا أبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي الرازي، حدثنا أبو علي الحسين بن إسماعيل الفارسي نزيل بخارى، حدثنا عيسى بن عمرو بن (ميمون) البخاري حدثنا المسيب بن إسحاق، حدثنا عيسى بن موسى غنجار، حدثنا إسماعيل بن أبي زياد عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى " * (إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا) *). فقال: (يا أم سلمة، هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا عمشا رمصا جعلهن الله عز وجل بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء).
وأخبرني الحسين بن محمد، حدثنا موسى بن محمد، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا المسيب بن شريك " * (إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا) *).
قال: هن عجائز الدنيا أنشأهن الله عز وجل خلقا جديدا، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا، فلما سمعت عائشة قالت: وا وجعا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس هناك وجع).
وأخبرني الحسين، حدثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي أبو مسلم الكجي، حدثنا حجاج، حدثنا مبارك، حدثنا الحسن بن أبي الحسن إن امرأة عجوزا (كبيرة) أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة. قال: (يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها العجائز) فولت وهي تبكي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إخبروها ليست يومئذ بعجوز فإن الله عز وجل قال " * (إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا) *)).
وبإسناد المسيب، حدثنا عبد الرحمن الأفريقي عن سعد بن مسعود قال: إذا دخلت الجنة نساء الدنيا فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا.
وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن الطيب، حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن
210

منصور، حدثنا أبو بكر محمد بن سليمان بن الحرث الواسطي ببغداد، حدثنا خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي، حدثنا سفيان الثوري عن يزيد بن ابان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " * (إنا أنشأناهن إنشاء) *) قال: (عجائز كن في الدنيا عمشا رمصا فجعلهن إبكارا).
وقيل هي الحور العين.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عبد الملك العثماني، حدثنا العباس، حدثنا الوليد عبد الله بن هارون عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة خ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خلق الحور العين من تسبيح الملائكة فليس فيهن أذى) قال الله عز وجل " * (إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا) *) عواشق لأزواجهن " * (أترابا) *))
.
* (لاصحاب اليمين * ثلة من الاولين * وثلة من الاخرين * وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال * فى سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم * إنهم
كانوا قبل ذلك مترفين * وكانوا يصرون على الحنث العظيم * وكانوا يقولون أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * أو ءابآؤنا الاولون * قل إن الاولين والاخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم * ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون * لاكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم * هاذا نزلهم يوم الدين * نحن خلقناكم فلولا تصدقون * أفرءيتم ما تمنون) *) 2
" * (لأصحاب اليمين ثلة من الأولين) *) يعني من الأمم الماضية " * (وثلاثة من الآخرين) *) من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
أخبرني الحسين، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق، حدثنا محمد بن الوليد القرشي وعيسى بن المساور واللفظ له قالا: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عيسى بن موسى أبو محمد وغيره، عن عروة بن دويم قال: لما أنزل الله عز وجل على رسوله ثلة من الأولين وقليل من الآخرين بكى عمر ح فقال: يا نبي الله ثلة من الأولين وقليل من الآخرين؟ آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منا قليل فأنزل الله عز وجل " * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) *) فدعا رسول الله عمر فقال: (يا بن الخطاب قد أنزل الله عز وجل فيما قلت، فجعل: " * (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) *).
فقال عمر: رضينا عن ربنا ونصدق نبينا
211

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من آدم إلينا ثلة ومني إلى (يوم) القيامة ثلة ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل من قال لا إله إلا الله).
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير، حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة قال الحسن: حدثني عمر بن أبي حصين عن عبد الله بن مسعود قال: تحدثنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى أكرينا الحديث ثم رجعنا إلى أهلنا فلما أصبحنا غدونا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عرضت علي الأنبياء الليلة بأتباعها من أمتها، وكان النبي يجيء معه الثلاثة من أمته والنبي معه العصابة من أمته والنبي معه النفر من أمته والنبي معه الرجل من أمته والنبي ما معه من أمته أحد حتى أتى موسى في كبكبة بني إسرائيل، فلما رأيتهم أعجبوني فقلت: أي رب من هؤلاء؟ قيل: هذا أخوك موسى بن عمران ومن حفه من بني إسرائيل.
قلت: ربي فأين أمتي؟ قيل: انظر عن يمينك فإذا ظراب مكة قد سدت بوجوه الرجال.
فقلت: من هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء أمتك أرضيت؟ فقلت: رب رضيت، قيل: انظر عن يسارك فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال.
فقلت: رب من هؤلاء؟ قيل: هؤلاء أمتك أرضيت؟ قلت: رب رضيت، فقيل: إن مع هؤلاء سبعين ألفا من أمتك يدخلون الجنة. لا حساب عليهم.
قال: فأنشأ كاشة بن محصن رجل من بني أسد بن خزيمة فقال: يا نبي الله إدع ربك أن يجعلني منهم فقال: (اللهم إجعله منهم) ثم أنشأ رجل آخر فقال: يا نبي الله ادع ربك أن يجعلني منهم.
قال: (سبقك بهما عكاشة).
فقال صلى الله عليه وسلم (فداكم أبي وأمي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا، وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب، فإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الأفق، فإني قد رأيت ثم أناسا يتهاوشون كثيرا).
قال: فقلت: من هؤلاء السبعون ألفا؟ فاتفق رأينا على أنهم أناس ولدوا في الإسلام فلم يزالوا يعملون به حتى ماتوا عليه فنهي حديثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ليس كذلك ولكنهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني لأرجو أن يكون من تبعني من أمتي ربع أهل الجنة) فكبرنا ثم
212

قال: (إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة) فكبرنا. ثم قال: (إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " * (ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين) *).
وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك " * (ثلة من الأولين) *) يعني من سابقي هذه الأمة " * (وقليل من الآخرين) *) من هذه الأمة في آخر الزمان.
يدل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمد، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني، حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب محمد بن كثير، حدثنا سفيان عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية " * (ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين) *) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هما جميعا من أمتي).
" * (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم) *) ريح حارة " * (وحميم) *) ماء حار " * (وظل من يحموم) *) دخان شديد السواد. تقول العرب: أسود يحموم إذا كان شديد السواد.
وأنشد قطرب:
وما قد شربت ببطن (مكة)
فراتا لمد كاليحموم جاري
وقال ابن بريدة: اليحموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار
" * (لا بارد) *) بل حار لأنه من دخان سعير جهنم " * (ولا كريم) *) ولا عذب عن الضحاك، سعيد ابن المسيب والحسن: نظيره: " * (من كل زوج كريم)
*).
مقاتل: طيب. قتادة: " * (لا بارد) *) المنزل " * (ولا كريم) *) المنظر.
قال الفراء: يجعل الكريم تابعا لكل شيء نفت عنه فعلا فيه ذم.
وقال ابن كيسان: اليحموم اسم من أسماء النار. وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود.
" * (إنهم كانوا قبل ذلك) *) في الدنيا " * (مترفين) *) منعمين " * (وكانوا يصرون) *) يقيمون " * (على الحنث العظيم) *) على الذنب الكبير، وهو الشرك.
213

وقال أبو بكر الأصم: كانوا يقسمون أن لا بعث، وأن الأصنام أنداد لله وكانوا يقيمون عليه فذلك حنثهم.
" * (وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعثون) *) لحق " * (أو آباؤنا الأولون * قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) *) ثم يقال لهم: " * (إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم) *).
قرأ أهل المدينة وعاصم وحمزة والأعمش وأيوب: (شرب) بضم الشين، واختاره أبو حاتم، وقرأ الباقون: بفتحه، واختاره أبو عبيد.
وروي عن الكسائي عن يحيى بن سعيد عن جريج إنه قال: ذكرت لجعفر بن محمد قراءة أصحاب عبد الله (شرب الهيم) بفتح الشين، فقال: (أما بلغك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء الخزاعي إلى أهل منى في أيام التشريق فقال: (إنها أيام أكل وشرب).
ويقال هي بفتح الشين (و.......) وهما لغتان جيدتان.
تقول العرب: شربت شربا وشربا وشربا بضمتين.
وقال أبو زيد الأنصاري: سمعت العرب تقول: شربت شربا، بكسر الشين.
وأما (الهيم) فالإبل العطاش. وقال عكرمة وقتادة: هو داء بالإبل لا تروى (معه) ولا تزال تشرب حتى تهلك ويقال لذلك الداء الهيام، ويقال: حمل أهيم وناقة هيماء وإبل هيم.
قال لبيد:
أجزت على معارفها بشعث
وأطلاح من المهري هيم
وقال الضحاك وابن عيينة وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل.
" * (هذا نزلهم) *) رزقهم وغذاؤهم وما أعد لهم " * (يوم الدين * نحن خلقناكم فلولا تصدقون) *) بالبعث " * (أفرأيتم ما تمنون) *) تصبون في الأرحام من النطف؟.
وقرأ أبو السماك: (تمنون) بفتح التاء وهما لغتان.
" * (أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا) *) (قرأ مجاهد وحميد وابن محيصن (قدرنا
214

بتخفيف الدال)، الباقون بالتشديد " * (بينكم الموت) *) فمنكم من يعيش إلى أن يبلغ الهرم، ومنكم من يموت شابا وصبيا صغيرا " * (وما نحن بمسبوقين) *) عاجزين عن إهلاككم " * (على أن نبدل أمثالكم) *) أو إبدالكم بامثالكم " * (وننشئكم) *) ونخلقكم " * (فيما لا تعلمون) *) من الصور. قال مجاهد: في أي خلق شئنا.
وقال سعيد بن المسيب " * (فيما لا تعلمون) *) يعني في حواصل طير تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف، وبرهوت واد باليمن. وقال الحسن " * (وننشئكم فيما لا تعلمون) *) أي نبدل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم.
وقال السدي: نخلقكم في سوى خلقكم.
" * (ولقد علمتم النشأة) *) الخلقة " * (الأولى) *) ولم تكونوا شيئا، " * (فلولا تذكرون) *) أي قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم.
وقال الحسين بن الفضل في هذه الوجوه: وإن كانت غير مردودة، فالذي عندي في هذه الآية " * (وننشئكم فيما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الأولى) *) أي خلقتكم للبعث بعد الموت من حيث لا تعلمون كيف شئت وذلك أنكم علمتم النشأة الأولى كيف كانت في بطون الأمهات وليست الأخرى كذلك.
" * (أفرأيتم ما تحرثون) *) أي تثيرون الأرض وتعملون فيها وتطرحون البذر " * (أأنتم تزرعونه) *) تنبتونه " * (أم نحن الزارعون) *)؟.
أخبرني الحسين، حدثنا عمر بن محمد بن علي الزيات، حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن مرزوق، حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي، حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم: زرعت وليقل حرثت).
قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله عز وجل * (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) * * (لو نشاء لجعلناه حطاما) *) هشيما لا ينتفع به في مطعم وغذاء. وقال مرة: يعني نبتا لا قمح فيه.
" * (فظلتم) *) قرأت العامة بفتح الظاء. وقرأ عبد الله بكسره: والأصل ظللتم، فحذف إحدى
215

اللامين تخفيفا، فمن فتحه فعلى الأصل ومن كسره نقل حركة اللام المحذوفة إلى الظاء.
" * (تفكهون) *) قال يمان: تندمون على نفقاتكم، نظيره " * (فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها) *).
قتادة: تعجبون. عكرمة: تلاومون. الحسن: تندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت لكم عقوبته حتى نالكم في زرعكم ما نالكم. ابن زيد: تتفجعون. ابن كيسان: تحزنون.
قال: وهو من الأضداد. تقول العرب: تفكهت: أي تنعمت، وتفكهت: أي حزنت.
قال الفراء: تفكهون وتفكنون واحد، والنون لغة عكل.
وقيل: التفكة التكلم فما لا يعنيك، ومنه قيل للمزاح: فكاهة.
" * (إنا) *) قرأ عاصم برواية أبي بكر والمفضل بهمزتين. الباقون على الخبر. ومجاز الآية " * (فظلتم تفكهون) *) وتقولون " * (إنا لمغرمون) *) قال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا. قال ابن عباس وقتادة: يعذبون، والغرام: العذاب.
ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: ملقون للشر. مقاتل بن حيان: مهلكون.
وقال الضحاك: غرمنا أموالنا وصار ما أنفقنا غرمنا عليه. مرة الهمداني: محاسبون.
" * (بل نحن محرومون) *) محدودون (ممنوعون) محارفون، والمحروم ضد المرزوق.
قال أنس بن مالك: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض الأنصار فقال: (ما يمنعكم من الحرث؟
قالوا: الجدوبة. قال: (فلا تفعلوا فإن الله عز وجل يقول: أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (أفرأيتم ما تحرثون) *) الآيات.
" * (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن) *) السحاب، واحدتها مزنة.
قال الشاعر:
فنحن كماء المزن ما في نصابنا
كهام ولا فينا يعد بخيل
216

" * (أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا) *) قال ابن عباس: شديد الملوحة. وقال الحسن: قعاعا مرا.
" * (فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون) *) تقدحون وتستخرجون من زندكم " * (أأنتم أنشأتم شجرتها) *) التي تقدح منها النار وهي المرخ والعفار " * (أم نحن المنشؤن) *) المخترعون؟
" * (نحن جعلناها) *) يعني نار الدنيا " * (تذكرة) *) للنار الكبرى.
أخبرنا ابن سعيد بن حمدون، حدثنا ابن الشرقي، حدثنا محمد بن يحيى وعبد العزيز بن بشير وأحمد بن يوسف قالوا: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ناركم هذه التي توقد بنو آدم جزءا من سبعين جزءا من حر جهنم).
قالوا: والله إن كانت لكافيتنا برسول الله. قال: (فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها).
" * (ومتاعا) *) بلغة ومنفعة " * (للمقوين) *) المسافرين النازلين في الأرض القي والقوى، وهي القفر الخالية البعيدة من العمران والأهلين، يقال: أقوت الدار إذا دخلت من سكانها.
قال الشاعر:
أقوى وأقفر من نعم وغيرها
هوج الرياح بهابي الترب موار
وقال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
بها أقوت وطال عليها سالف الأبد
هذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد " * (للمقوين) *) يعني للمستمتعين من الناس أجمعين، المسافرين والحاضرين يستضيء بها في الظلمة ويصطلي بها في البرد وينتفع بها في الطبخ والخبز ونتذكر بها نار جهنم فنستجير الله منها.
وقال الحسن: بلغة المسافرين يبلغون بها إلى أسفارهم يحملونها في الخرق والجواليق.
وقال الربيع والسدي: يعني للمرملين المعترين الذين لا زاد معهم، نارا يوقدون فيختبزون بها، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. قال ابن زيد: للجائعين. تقول
العرب: أقويت مذ كذا وكذا أي ما أكلت شيئا
217

قال قطرب: المقوي من الأضداد يكون بمعنى الفقر ويكون بمعنى الغنى. يقال: أقوى الرجل إذا قويت دوابه، وإذا كثر ماله.
" * (فسبح باسم ربك العظيم فلا اقسم) *) قال أكثر المفسرين: معناه: أقسم، و " * (لا) *) صلة، وتصديقه قراءة عيسى بن عمر: (فلا أقسم) على التحقيق.
وقال بعض أهل العربية: معناه فليس الأمر كما يقولون، ثم استأنف القسم فقال: " * (أقسم بمواقع النجوم) *) يعني نجوم القرآن التي كانت تنزل على انكدارها وانتشارها يوم القيامة.
واختلف القراء فيه فقرأ حمزة والكسائي وخلف: " * (بموقع) *) على الواحد، غيرهم: (بمواقع) على الجمع. وهو الاختيار.
" * (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه) *) يعني هذا الكتاب، وهو موضع القسم " * (لقرآن كريم) *) (حصين) عزيز مكرم.
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: غير مخلوق، وقيل: سمي كريما لأن يسره يغلب عسره.
" * (في كتاب مكنون) *) مصون. عند الله سبحانه محفوظ عن الشياطين وعن جميع ما يشين.
(* (أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فى ما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون * أفرءيتم ما تحرثون * أءنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشآء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون * بل نحن محرومون * أفرءيتم المآء الذى تشربون * أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشآء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون * أفرءيتم النار التى تورون * أءنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون * نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين * فسبح باسم ربك العظيم * فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرءان كريم * فى كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين * أفبهاذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون * فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولاكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونهآ إن كنتم صادقين * فأمآ إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنات نعيم * وأمآ إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين * وأمآ إن كان من المكذبين الضآلين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن هاذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم) *
218

" * (لا يمسه) *) أي ذلك الكتاب " * (إلا المطهرون) *) من الذنوب وهم الملائكة.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأنا ابن الشرقي، حدثنا محمد بن الحسين بن طرحان، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو الأحوص عن عاصم الأحول عن أنس في قوله عز وجل " * (لا يمسه إلا المطهرون) *) قال: الملائكة.
وأخبرنا أبو بكر بن عبدوس، أنبأنا أبو الحسن بن محفوظ، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن الربيع عن سعيد بن جبير " * (لا يمسه إلا المطهرون) *) قال: الملائكة الذين في السماء.
وقال أبو العالية وابن زيد: ليس أنتم أصحاب الذنوب إنما هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، فجبرئيل الذي ينزل به مطهر والرسل الذين يجيئهم به مطهرون.
وقال ابن عباس: من الشرك. عكرمة: هم حملة التوراة والإنجيل.
قتادة: " * (لا يمسه) *) عند الله " * (إلا المطهرون) *) فأما في الدنيا فيمسه الكافر النجس والمنافق الرجس.
حبان عن الكلبي: هم السفرة الكرام البررة. محمد بن فضيل عنه لا يقرؤه إلا الموحدون.
قال عكرمة: وكان ابن عباس ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءة القرآن.
الفراء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به.
الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق.
أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلا السعداء.
أبو العباس بن عطاء: لا يفهم حقائق القرآن إلا من طهر سره عند الأنوار من الأقذار.
جنيد: هم الذين طهر سرهم عما سوى الله.
وقال قوم: معناه " * (لا يمسه إلا المطهرون) *) من الأحداث والجنابات والنجاسات، وردوا الكناية في قوله " * (لا يمسه) *) إلى القرآن.
وقالوا: أراد بالقرآن المصحف، سماه قرآنا على قرب الجوار والاتساع، كالخبر الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو.
قالوا: وظاهر الآية نفي ومعناها نهي كقوله عز وجل: " * (والمطلقات يتربصن) *) ونحوها
219

واستدلوا بهذه الآية على منع الجنب والحائض والمحدث من مس المصحف وحمله، وقالوا: لا يجوز لأحد حمل المصحف ولا مسه حتى يكون على صفة يجوز له الصلاة. قال: هذا مذهب جمهور الفقهاء إلا إن أبا حنيفة لا يمنع من حمله بعلاقة ومسه بحائل. والاختيار أنه ممنوع منه، لأنه إذا حمله في جلده فإنما حمله بحائل ومع هذا يمنع منه.
وذهب الحكم وحماد وداود بن علي إلى أنه لا بأس بحمل المصحف ومسه على أي صفة كانت سواء كان طاهرا أو غير طاهر، مؤمنا أو كافرا. إلا أن داود قال: لا
يجوز للمشرك حمل المصحف.
والدليل على أنه لا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهرا ما روى أبو بكر محمد بن عمرو ابن جرم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن كتب في كتابه ألا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهر.
وروى سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر).
ولأن به إجماع الصحابة.
وروي أن عليا سئل: أيمس المحدث المصحف؟ قال: (لا).
وروي أن مصعب بن سعد بن أبي وقاص كان يقرأ من المصحف فأدخل يده فحك ذكره فأخذ أبوه المصحف من يده. وقال: قم فتوضأ ثم خذه، ولا مخالف لهما في الصحابة.
وقال عطاء " * (لا يمسه إلا المطهرون) *) قال: لا يقلب الورق من المصحف إلا المتوضىء. واستدل المبيحون بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر وفيه " * (بسم الله الرحمان الرحيم قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) *) الآية.
وأجاز الفقهاء ذلك إذا دعته ضرورة أو حمله عذر عليه، وأما الصبيان فلا صحابنا فيه وجهان:
أحدهما: أنهم يمنعون منه كالبالغين.
والثاني: أنهم لا يمنعون، لمعنيين: أحدهما: أن الصبي لو منع ذلك أدى إلى ألا يتلقن القرآن ولا يتعلمه ولا يحفظه، لأن وقت تعلمه وحفظه حال الصغر.
220

والثاني: أن الصبي وإن كانت له طهارة فليست بكاملة لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على طهر غير كامل جاز أن يحمله محدثا والله أعلم.
" * (تنزيل) *) أي منزل " * (من رب العالمين) *) فسمي المنزل تنزيلا على اتساع اللغة، كما تقول للمقدور قدر وللمخلوق خلق، وهذا الدرهم ضرب الأمير ووزن سبعة، ونحوها " * (أفبهذا الحديث) *) يعني القرآن " * (أنتم مدهنون) *) قال ابن عباس: مكذبون.
مقاتل بن حيان: كافرون، ونظيره " * (ودوا لو تدهن فيدهنون) *).
وقال ابن كيسان: المدهن الذي لا يفعل ما يحق عليه ويدفعه بالعلل.
وقال المؤرخ: المدهن المنافق الذي لين جانبه ليخفي كفره. وادهن وداهن واحد وأصله من الدهن. وقال مجاهد: تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم.
وقال بعض أئمة اللغة: مدهنون أي تاركون للحزم في قبول هذا القرآن والتهاون بأمره، ومداهنة العدو وملاينته مكان ما يجب من مغالظته، وأصله من اللين والضعف.
قال أبو قيس بن الأسلت:
الحزم والقوة خير من الإ
دهان والفكة والهاع
" * (وتجعلون رزقكم) *) حظكم ونصيبكم من القرآن " * (أنكم تكذبون) *).
قال الحسن: في هذه الآية خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به.
وقال آخرون: هذا في الاستسقاء بالأنواء. أنبأني عبد الله بن حامد، أنبأنا محمد بن الحسن، حدثنا أحمد بن يوسف، حدثنا النضر بن محمد، عكرمة، حدثنا أبو زميل حدثني ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا). قال: فنزلت هذه الآية.
" * (فلا أقسم بمواقع النجوم) *) حتى " * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) *)، وشرح قول ابن عباس هذا في سبب نزول هذه الآية ما روي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فنزلوا فأصابهم
221

العطش وليس معهم ماء فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيتم إن دعوت لكم فسقيتم فلعلكم تقولون سقينا هذا المطر بنوء كذا).
فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء.
قال فصلى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا حتى سالت الأودية وملوؤا الأسقية فثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر برجل يغترف بقدح له وهو يقول: سقينا بنوء فلان، ولم يقل: هذا من رزق الله، فأنزل الله عز وجل " * (وتجعلون رزقكم) *) أي شكركم لله على رزقه إياكم " * (أنكم تكذبون) *) بالنعمة وتقولون: سقينا بنوء كذا، وهذا كقول القائل: جعلت العطاء إليك إساءة منك إلي، وجعلت شكر إكرامي لك أنك اتخذتني عدوا، فمجاز الآية: وتجعلون شكر رزقكم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله " * (واسأل القرية) *) ونحوها.
قال الشاعر:
وكان شكر القوم عند المنن
كن الصحيحات وقفا الأعين
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا عمر بن الحسن، حدثنا أحمد، حدثنا أبي، حدثنا حصين عن هارون بن سعد عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون).
وذكر الهيثم عن عدي أن من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان، بمعنى ما شكر.
وأنبأني عقيل، المعافي، محمد بن جرير حدثني يونس، سفيان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ان الله سبحانه وتعالى ليصبح عباده بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح قوم كافرين يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا).
قال محمد: فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب فقال: ونحن قد سمعنا من أبي هريرة، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب ح وهو يستسقي فلما إستسقى التفت إلى العباس فقال: يا عم رسول الله كم بقي من نؤء الثريا
222

فقال: (العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا) قال: فما مضت سابعة حتى مطروا.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن خالد، أخبرنا داود بن سليمان، حدثنا عبد بن حميد، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا محمد بن طلحة، عن طلحة عن عبد الله بن محيريز قال: دعاه سليمان بن عبد الملك فقال: لو تعلمت علم النجوم فازددت إلى علمك. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: حيف الأئمة وتكذيبا بالقدر وإيمانا بالنجوم).
ثم خاطبهم خطاب التحذير والترهيب فقال عز من قائل: " * (فلولا) *) فهلا " * (إذا بلغت) *) يعني النفس " * (الحلقوم) *) عند خروجها من الجسد فأختزل النفس لدلالة الكلام عليه.
كقول الشاعر:
أماوي ما يغني الثراء عن الفنى
إذا حشرجت يوما وضاق به الصدر
" * (وأنتم حينئذ تنظرون) *) إلى أمري وسلطاني.
وقال ابن عباس: يريد: من حضر الميت من أهله ينظرون إليه متى تخرج نفسه.
قال الفراء: وذلك معروف من كلام العرب أن يخاطبوا الجماعة بالفعل كأنهم أهله وأصحابه، والمراد به بعضهم غائبا كان أو شاهدا فيقولوا: قتلتم فلانا والقاتل منهم واحد. ويقولون لأهل المسجد إذا آذوا رجلا بالازدحام: اتقوا الله فإنكم تؤذون المسلمين ونحن أقرب إليه منكم بالقدرة والعلم ولا قدرة لكم على دفع شيء عنه.
قال عامر بن عبد قيس: ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله سبحانه أقرب إلي منه.
وقال بعضهم: أراد: ورسلنا الذين يقبضون.
" * (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين) *) مملوكين ومحاسبين ومجزيين.
فإن قيل: فأين جواب قوله " * (فلولا إذا بلغت) *) وقوله " * (فلولا إن كنتم) *)؟
قلنا: قال الفراء: إنهما أجيبا بجواب واحد، وهو قوله " * (ترجعونها) *) وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد فهذا من ذلك، ومنه قوله " * (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا
223

خوف عليهم) *). أجيبا بجواب واحد، وهما جزآن ومن ذلك قوله " * (ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم) *).
وقيل: في الآية تقديم وتأخير مجازها " * (فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها) *) أي تردون نفس هذا الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم، ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وفي البعث، وبين درجاتهم فقال " * (فأما إن كان من المقربين) *) وهم السابقون " * (فروح) *) قرأ الحسن وقتادة ويعقوب: بضم الراء على معنى أن روحه تخرج في الريحان. قاله الحسن.
وقال قتادة: الروح الرحمة، وقيل: معناه فحياة وبقاء لهم، وذكر أنها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
أخبرنا محمد بن نعيم، أخبرنا الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا أبو عبيد، حدثنا مروان بن معاوية عن أبي حماد الخراساني عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذا الحرف: (فروح وريحان) بضم الراء.
وباسناده عن أبي عبيد، حدثنا حجاج عن هارون وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا عمر ابن الحسن، أخبرنا أحمد، حدثنا أبي، حدثنا الحسين عن عبيد الله البصري عن هارون بن موسى المعلم أخبرني بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة خ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ (فروح وريحان) بضم الراء.
وقرأ الآخرون: بفتح الراء.
واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس ومجاهد: فراحة. سعيد بن جبير: فرح. الضحاك: مغفرة ورحمة.
" * (وريحان) *) قال ابن عباس: مستراح. مجاهد وسعيد بن جبير: رزق. قال مقاتل: هو بلسان حمير، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه.
قال الربيع بن خثيم وابن زيد: (فروح) عند الموت (وريحان) يخبأ له في الآخرة.
وقال الآخرون: هو الريحان المعروف الذي يشم.
قال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم يقبض.
" * (وجنة نعيم) *) قال أبو بكر الوراق: الروح: النجاة من النار، والريحان: دخول دار القرار
224

الترمذي: الروح: الراحة في القبر، والريحان: دخول الجنة.
بسام بن عبد الله: الروح: السلامة، والريحان: الكرامة.
شعر:
الروح معانقة الأبكار والريحان موافقة الأبرار بحران الروح كشف الغطاء والريحان الروية واللقاء.
وقيل: الروح: الراحة، والريحان: النجاة من الآفة، وقيل: الروح: الموت على الشهادة، والريحان: نداء السعادة، وقيل: الروح: كشف الكروب، والريحان: غفران الذنوب، وقيل: الروح: الثبات على الايمان، والريحان: نيل الأمن والأمان.
وقيل: الروح فضلة، والريحان: (فضالة). وقيل: الروح تخفيف الحساب، والريحان: تضعيف الثواب.
وقيل: الروح عفو بلا عتاب، والريحان: رزق بلا حساب.
ويقال: " * (فروح) *) للسابقين " * (وريحان) *) للمقتصدين " * (وجنت نعيم) *) للطالبين.
وقيل: الروح لأرواحهم، والريحان لقلوبهم والجنة لأبدانهم والحق لأسرارهم.
" * (وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك) *) رفع على معنى: فلك سلام، وهو سلام لك، أي سلامة لك يا محمد منهم فلا تهتم لهم فإنهم سلموا من عذاب الله.
وقال الفراء: مسلم لك أنهم من أصحاب اليمين. أو يقال لصاحب اليمين: إنه مسلم لك أنك " * (من أصحاب اليمين) *) وقيل: فسلام عليك " * (من أصحاب اليمين) *).
" * (وأما إن كان من المكذبين الضالين) *) وهم أصحاب المشأمة " * (فنزل من حميم وتصلية جحيم) *) وإدخال النار " * (إن هذا) *) الذي ذكروا " * (لهو حق اليقين) *) أي الحق اليقين فأضافه إلى نفسه، وقد ذكرنا نظائره.
قال قتادة: في هذه الآية: إن الله عز وجل ليس تاركا أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه.
" * (فسبح باسم ربك) *) فصل بذكر ربك وأمره. وقيل: فاذكر اسم ربك العظيم وسبحه
225

أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا ابن شنبه، حدثنا حمزة بن محمد الكاتب، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن أيوب الغافقي عن عمه وهو اياس بن عامر عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (فسبح باسم ربك العظيم) *) قال: (اجعلوها في ركوعكم) ولما نزلت " * (سبح اسم ربك الأعلى) *) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اجعلوها في سجودكم).
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقرئ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد الحافظ أخبرنا أبو بكر بن أبي عاصم النبيل، حدثنا الحوصي، حدثنا بقية، عن يحيى بن سعيد، عن خالد بن معدان عن أبي بلال عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول: (إن فيهن آية أفضل من ألف آية).
قال: يعني بالمسبحات: الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن.
226

((سورة الحديد))
مدنية وهي ألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا وخمسمائة وأربع وأربعون كلمة وتسع وعشرون آية
أخبرنا أبو الحسين المقرئ، حدثنا أبو بكر الإسماعيلي، حدثنا وأبو الشيخ الأصفهاني قالا، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي، حدثنا سلام بن سليم المدايني، حدثنا هارون بن كثير، حدثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسوله).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (سبح لله ما فى السماوات والارض وهو العزيز الحكيم * له ملك السماوات والارض يحى ويميت وهو على كل شىء قدير * هو الاول والاخر والظاهر والباطن وهو بكل شىء عليم * هو الذى خلق السماوات والارض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج فى الارض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير * له ملك السماوات والارض وإلى الله ترجع الامور * يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وهو عليم بذات الصدور * ءامنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين ءامنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير * وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم
إن كنتم مؤمنين) *) 2
" * (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن) *) يعني " * (هو الأول) *) قبل كل شيء بلا حد ولا ابتداء، كان هو ولا شيء موجود " * (والآخر) *) بعد فناء كل شيء " * (والظاهر) *) الغالب العالي على كل شيء، وكل شيء دونه " * (والباطن) *) العالم بكل شيء، فلا أحد أعلم منه.
وهذا معنى قول ابن عباس
227

وقال ابن عمر: الأول بالخلق والآخر بالرزق، والظاهر بالاحياء والباطن بالإماتة.
وقال الضحاك: هو الذي أول الأول وآخر الاخر، وأظهر الظاهر وأبطن الباطن.
مقاتل بن حيان: هو الأول بلا تأويل أحد، والآخر بلا تأخير أحد والظاهر بلا إظهار أحد والباطن بلا إبطان أحد.
وقال يمان: هو الأول القديم، والآخر الرحيم، والظاهر الحليم، والباطن العليم.
وقال محمد بن الفضل: الأول ببره والآخر بعفوه، والظاهر بإحسانه والباطن بسره.
وقال أبو بكر الوراق: هو الأول بالأزلية والآخر بالأبدية، والظاهر بالأحدية والباطن بالصمدية.
عبد العزيز بن يحيى: هذه الواوات مقحمة والمعنى: هو الأول الآخر الظاهر الباطن، لأن من كان منا أولا لا يكون آخرا، ومن كان ظاهرا لا يكون باطنا.
وقال الحسين بن الفضل: هو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، والظاهر بلا إقتراب، والباطن بلا إحتجاب.
وقال القناد: الأول السابق إلى فعل الخير والمتقدم على كل محسن إلى فعل الإحسان، والآخر الباقي بعد فقد الخلق، والخاتم بفعل الإحسان، والظاهر الغالب لكل أحد، ومن ظهر على شيء فقد غلبه، والظاهر أيضا: الذي يعلم الظواهر ويشرف على السرائر، والظاهر أيضا: ظهر للعقول بالإعلام وظهر للأرواح باليقين وإن خفي على أعين الناظرين، والباطن الذي عرف المغيبات وأشرف على المستترات، والباطن أيضا: الذي خفي عن الظواهر فلم يدرك إلا بالسرائر.
وقال السدي: الأول ببره إذ عرفك توحيده، والآخر بجوده إذ عرفك التوبة على ما جنيت، والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له، والباطن بستره إذ عصيته فستر عليك.
وقال ابن عطاء: الأول بكشف أحوال الدنيا حتى لا يرغبوا فيها، والآخر بكشف أحوال العقبى حتى لا يشكوا فيها، والظاهر على قلوب أوليائه حتى يعرفوه، والباطن عن قلوب أعدائه حتى ينكروه.
وقيل: الأول قبل كل معلوم، والآخر بعد كل مختوم، والظاهر فوق كل مرسوم، والباطن محيط بكل مكتوم.
وقيل هو الأول بإحاطة علمه بذنوبنا قبل وجود ذنوبنا، والآخر بسترها علينا في عقبانا، والظاهر بحفظه إيانا في دنيانا، والباطن بتصفية أسرارنا وتنقية أذكارنا.
228

وقيل: هو الأول بالتكوين، بيانه قوله " * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) *)
والآخر بالتلقين، بيانه قوله " * (يثبت الله الذين آمنوا) *) الآية.
والظاهر بالتبيين بيانه " * (يريد الله ليبين لكم) *) والباطن بالتزيين بيانه " * (وزينه في قلوبكم) *).
وقال محمد بن علي الترمذي: الأول بالتأليف والآخر بالتكليف والظاهر بالتصريف، والباطن بالتعريف.
وقال الجنيد: هو الأول بشرح القلوب، والآخر بغفران الذنوب، والظاهر بكشف الكروب، والباطن بعلم الغيوب.
وسأل عمر كعبا عن هذه الآية فقال: معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن.
وقيل: هو الأول بالهيبة والسلطان، والآخر بالرحمة والاحسان، والظاهر بالحجة والبرهان، والباطن بالعصمة والامتنان.
وقيل: هو الأول بالعطاء، والآخر بالجزاء، والظاهر بالثناء، والباطن بالوفاء.
وقيل: هو الأول بالبر والكرم، والآخر بنحلة القسم، والظاهر باسباغ النعم، والباطن بدفع النقم.
وقيل: هو الأول بالهداية، والآخر بالكفاية، والظاهر بالولاية، والباطن بالرعاية.
وقيل: هو الأول بالانعام، والآخر بالاتمام، والظاهر بالاكرام، والباطن بالالهام.
وقيل: هو الأول بتسمية الأسماء، والآخر بتكملة النعماء، والظاهر بتسوية الأعضاء، والباطن بصرف الأهواء.
وقيل: هو الأول بإنشاء الخلائق، والآخر بافناء الخلائق، والظاهر باظهار الحقائق، والباطن بعلم الدقائق.
وقال الواسطي: لم يدع للخلق نفسا بعد ما أخبر عن نفسه أنه الأول والآخر والظاهر والباطن.
229

وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الشبلي يقول: في هذه الآية أشياء ساقطة فإني أول آخر ظاهر باطن.
" * (وهو بكل شيء عليم) *) أخبرنا شعيب بن محمد أخبرنا مكي بن عبدان أخبرنا أحمد بن الأزهر حدثنا روح بن عبادة، حدثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال: (هل تدرون ما هذا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (هذا العنان هذا روايا الأرض يسوقه الله عز وجل إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه)
ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (فإنها الرقيع موج مكفوف وسقف محفوظ).
قال: (فكم تدرون بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (فإن بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة)
قال: (هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (فإن فوقها سماء أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة) حتى عدد سبع سماوات بين كل سماءين مسيرة خمسمائة سنة.
ثم قال: (هل تدرون ما فوق ذلك؟) قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء السابعة مثلما بين سماءين).
ثم قال: (هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (فإنها الأرض).
قال: (فهل تدرون ما تحتها؟) قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (فإن تحتها أرضا أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة)، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على الله) ثم قرأ " * (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) *) ومعناه بالعلم والقدرة والخلق والملك.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبا مكي، أخبرنا أحمد بن منصور المروزي، حدثنا علي ابن الحسن، حدثنا أبو حمزة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: دخلت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته خادما فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك أن تقولي: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت أخذ بناصيته،
230

أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر).
" * (هو الذي خلق السماوات في ستة أيام ثم استوى على العرش) *) أخبرني ابن فنجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل حدثني أحمد بن وركان، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق قال: قلت لعبد الله بن المبارك: كيف نعرف ربنا عز وجل؟ قال: في السماء السابعة على عرشه، ولا تقول كما قالت الجهمية: ههنا في الأرض.
وقد ذكرنا معنى الاستواء وحققنا الكلام فيه فأغنى عن الإعادة.
" * (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم) *) بالعلم والقدرة " * (أينما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور آمنوا بالله ورسوله وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) *) مملكين، معمرين فيه " * (فالذين آمنوا منكم وانفقوا لهم أجر كبير ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم) *) في ظهر آدم بان الله ربكم لا إله لكم سواه. قاله مجاهد.
وقيل: " * (أخذ ميثاقكم) *) بأن ركب فيكم العقول وأقام الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول.
وقراءة العامة: بفتح الهمزة والقاف.
وقرأ أبو عمرو بضمهما على وجه ما لم يسمى فاعله. " * (ان كنتم مؤمنين) *) يوما من الأيام، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والأعلام على حقيقة الإسلام وصحة نبوة المصطفى (عليه السلام).
2 (* (هو الذى ينزل على عبده ءايات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم * وما لكم ألا تنفقوا فى سبيل الله ولله ميراث السماوات والارض لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولائك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير * من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم) *) 2
" * (هو الذي ينزل على عبده) *) محمد صلى الله عليه وسلم " * (آيات بينات ليخرجكم) *) الله بالقرآن، وقيل: ليخرجكم الرسول بالدعوة " * (من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم) *))
.
231

" * (ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض) *) ثم بين سبحانه فضل السابقين في الانفاق والجهاد فقال عز من قائل " * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح) *) يعني: فتح مكة في قول أكثر المفسرين.
وقال الشعبي: هو صلح الحديبية قال: وقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أفتح هو؟ قال: (نعم عظيم). وقاتل مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم
" * (أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد) *) أي من بعد الفتح " * (وقاتلوا) *).
أخبرني عقيل أن المعافى أخبرهم عن محمد بن جرير حدثني ابن البرقي، حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم).
قال: من هم يا رسول الله؟ قريش.
قال: (لا هم أرق أفئدة وألين قلوبا) وأشار بيده إلى اليمن فقال: (هم أهل اليمن، ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية)
فقلنا: يا رسول الله هم خير منا؟
قال: (والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) ثم جمع أصابعه ومد خنصره فقال: (ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل).
وروى محمد بن الفضل عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق ح، وفي هذه الآية دلالة واضحة وحجة بينة على فضل أبي بكر بتقديمه لأنه أول من أسلم.
232

أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر، أخبرنا أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا محمد بن أيوب، أخبرنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا عكرمة بن عماد، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار
233

وقد كان أدرك نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال أبو امامة لعمرو بن عبسة بأي شيء تدعي أنك ربع الإسلام؟ قال: إني كنت أرى الناس على الضلالة ولا أرى الأوثان شيئا، ثم
234

سمعت عن رجل يخبرنا أخبار مكة فركبت راحلتي حتى قدمت عليه، فإذا قومه عليه جرآء قال: قلت: ما أنت؟
قال: أنا نبي. قلت: وما نبي؟ قال: رسول الله.
قلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: (أوحد الله ولا أشرك به شيئا وكسر الأوثان وصلة الأرحام).
قلت: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد. وإذا معه أبو بكر وبلال، فأسلمت عند ذلك فلقد رأيتني ربع الإسلام.
ولأنه أول من أظهر الإسلام:
أخبرنا أبو محمد الأصبهاني، أخبرنا أبو بكر الصعي، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، أخبرنا أبي، حدثنا يحيى بن أبي كثير، حدثنا زائدة عن عاصم بن أبي النجود عن زر عن عبد الله ابن مسعود قال: كان أول من أظهر الإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد.
ولأنه أول من قاتل على الإسلام:
أخبرنا أبو نصر النعمان بن محمد الجرجاني بها، أخبرنا أبو الطاهر محمد بن الحسن
235

المحمدآبادي وحدثنا أبو قلابة، حدثنا يحيى بن أبي كثير، حدثنا زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ح. ولأنه أول من أنفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن يونس، حدثنا العلا بن عمرو الشيباني، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، حدثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمر قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال فقال: (أنفق ماله علي قبل الفتح).
قال: فإن الله عز وجل يقول: إقرأ عليه السلام وتقول له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟
فقال أبو بكر: أأسخط؟ إني عن ربي راض إني عن ربي راض.
ولهذا قدمه الصحابة على أنفسهم وأقروا له بالتقدم والسبق.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا محمد بن يونس عقبة بن سنان، حدثنا أبو بشر، حدثنا الهيصم بن شداخ عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي ح قال: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر فلا أوتي برجل فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري وطرح الشهادة.
" * (وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم) *))
.
* (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم * يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين ءامنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولاكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الامانى حتى جآء أمر الله وغركم بالله الغرور * فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم
النار هى مولاكم وبئس المصير * ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) *) 2
" * (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم) *) على الصراط " * (بين أيديهم وبأيمانهم) *))
.
236

قال بعضهم: أراد جميع جوانبهم، فعبر بالبعض عن الكل على مذهب العرب في الإيجاز، ومجازه: عن أيمانهم.
وقال الضحاك: أراد " * (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) *) كتبهم.
وقرأ سهل بن سعد الساعدي: بإيمانهم بكسر الهمزة، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة، وأراد بالنور: القرآن.
قال عبد الله بن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يأتي نوره كالنخلة ومنهم من يؤتي نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا على إبهامه فيطفأ مرة ويقد مرة.
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره موضع قدميه، وتقول لهم الملائكة: " * (بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم) *)).
" * (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا) *) قراءة العامة: موصولة أي انتظرونا.
وقرأ يحيى والأعمش وحمزة: (أنظرونا) بفتح الألف وكسر الظاء أي أمهلونا.
وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني أي إنتظرني، وأنشد في ذلك بيت عمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا
وانظرنا نخبرك اليقينا
قال: يعني انتظرنا.
" * (نقتبس) *) نستضيء " * (من نوركم) *) قال المفسرون: إذا كان يوم القيامة أعطى الله تعالى المؤمنين نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، وأعطى المنافقين الضالين كذلك خديعة لهم وهو قوله عز وجل " * (وهو خادعهم) *).
وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور.
قالوا فبينما هم يمشون إذ بعث الله تعالى ريحا وظلمة فأطفأ نور المنافقين، فذلك قوله عز وجل " * (يوم يجزي الله النبي والذين آمنوا معه يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا) *) مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة قالوا
237

للمؤمنين " * (انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم) *) من حيث جئتم " * (فالتمسوا) *) فاطلبوا هناك لأنفسكم " * (نورا) *) فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا " * (فضرب بينهم بسور) *) أي سور والباء صلة، عن الكسائي. وهو حاجز بين الجنة والنار " * (له باب باطنه فيه الرحمة) *) يعني الجنة " * (وظاهره من قبله) *) أي من قبل ذلك الظاهر " * (العذاب) *) وهو النار.
أخبرني ابن فنجويه، حدثنا أحمد بن ماجة القزويني، حدثنا محمد بن أيوب الرازي، حدثنا موسى بن إسماعيل قال: وأخبرني ابن حمدان، حدثنا ابن ماهان، حدثنا موسى بن إسماعيل حماد عن أبي سنان قال: كنت مع علي بن عبد الله بن عباس عند وادي جهنم فحدث عن أبيه وقرأ " * (فضرب بينهم بسور له باب) *) الآية ثم قال: أي هذا موضع السور، يعني وادي جهنم.
وأخبرني ابن فنجويه، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني أخبرني أحمد بن عمير بن يوسف، حدثنا عبد السلام بن عتيق، حدثنا أبو مسهر، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس حدثني أبو العوام مؤذن أهل بيت المقدس عن عبد الله بن عمرو قال: إن السور الذي ذكر الله عز وجل في القرآن " * (فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) *) سور مسجد بيت المقدس الشرقي باطنه من المسجد وظاهره من قبله " * (العذاب) *) الوادي: وادي جهنم.
وأخبرني ابن فنجويه، حدثنا السني، حدثنا أبو يعلي الموصلي حدثنا أبو نصر التمار، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن زياد بن أبي سودة أن عبادة بن الصامت قام على سور بيت المقدس الشرقي فبكى. فقال بعضهم: ما يبكيك يا أبا الوليد؟ فقال: من هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم.
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج حدثهم عن محمد بن جرير حدثني محمد بن عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا شريح أن كعبا يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس أنه الباب الذي قال الله عز وجل " * (فضرب بينهم بسور) *) الآية.
" * (ينادونهم) *) يعني ينادي المنافقون المؤمنين حين حجز بينهم بالسور، فبقوا في الظلمة والعذاب، وصار المؤمنون في النور والرحمة " * (ألم نكن معكم) *) في الدنيا نصوم ونصلي ونناكحكم ونوارثكم؟ " * (قالوا بلى ولكنكم فتنتم) *) أهلكتم " * (أنفسكم) *) بالنفاق " * (وتربصتم) *) بالأيمان.
وقال مقاتل: بل تربصتم بمحمد الموت وقلتم: يوشك أن يموت محمد فتستريح " * (وارتبتم) *) شككتم في التوحيد والنبوة " * (وغرتكم الأماني) *) للأباطيل.
وقال أبو بكر الوراق: طول الأمل.
238

أخبرني الحسين، حدثنا ابن حمدان، حدثنا يوسف بن عبد الله، حدثنا مسلم بن أدهم حدثنا همام بن يحيى، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطوطا وخط خطا منها ناحية فقال: (تدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني، وذلك الخط الأمل بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت).
وأخبرنا الحسين، حدثنا الكندي، حدثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر، حدثنا يحيى بن عبد الباقي، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة.
" * (حتى جاء أمر الله) *) يعني الموت " * (وغركم بالله الغرور) *) أي الشيطان. وقرأ سماك بن حرب: بضم الغين يعني الأباطيل.
قال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان وما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
" * (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية) *) بدل وعوض.
قراءة العامة يؤخذ بالياء.
وقرأ ابن عامر والحسن وأبو جعفر ويعقوب بالتاء واختاره أبو حاتم.
" * (ولا من الذين كفروا) *) يعني المشركين " * (مأواكم النار) *) أي صاحبتكم وأولى بكم وأحق بأن تكون مسكنا لكم.
قال لبيد:
فعذب كلا الفريقين بحسب أنه
مولى المخافة خلقها وإمامها
" * (وبئس المصير ألم يأن للذين آمنوا) *) الآية. قال الكلبي ومقاتل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا: حدثنا عما في التوراة فإن فيها العجائب، فنزلت الآية " * (تلك آيات الكتاب المبين) *) إلى قوله " * (نحن نقص عليك أحسن القصص) *) فخبرهم بأن هذا القرآن أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم (عادوا) فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزلت " * (الله نزل أحسن الحديث) *) الآية. فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم (عادوا) أيضا فسألوا فقالوا: حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب، ونزلت هذه الآية
239

فعلى هذا القول يكون تأويل الآية " * (ألم يأن للذين آمنوا) *) في العلانية واللسان.
وقال غيرهما: نزلت في المؤمنين.
قال عبد الله بن مسعود: مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل " * (الله نزل أحسن الحديث) *) الآية.
فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله عز وجل " * (نحن نقص عليك أحسن القصص) *) الآية.
فقالوا: يا رسول الله لو ذكرتنا ووعظتنا. فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا.
وقال ابن عباس: إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، فقال " * (ألم يأن) *) يحن " * (للذين آمنوا أن تخشع) *) ترق وتلين وتخضع " * (قلوبهم لذكر الله وما نزل) *).
قرأ شيبة ونافع وعاصم برواية المفضل وحفص: خفيفة الزاي، غيرهم: مشددة.
" * (من الحق) *) وهو القرآن، قال مجاهد: نزلت هذه الآية في المتعربين بعد الهجرة.
أخبرنا عبد الله بن حامد، حدثنا محمد بن خالد، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد بن حميد، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا الحسام بن المصك عن الحسن عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أول ما يرفع من الناس الخشوع).
" * (ولا يكونوا) *) يعني وألا يكونوا، محله نصب بالعطف على " * (تخشع) *) قال الأخفش: وإن شئت جعلته نهيا فيكون مجازه: ولا يكونن، ودليل هذا التأويل رواية يونس عن يعقوب أنه قرأ: (ولا تكونوا) بالتاء.
" * (كالذين أوتوا الكتاب من قبل) *) وهم اليهود والنصارى. " * (فطال عليهم الأمد) *) الزمان والدهر والغاية بينهم وبين أنبيائهم " * (فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) *).
روى الأعمش عن عمارة بن عمير عن الربيع بن عميلة، حدثنا عبد الله حدثنا، ما سمعت حدثنا هو أحسن منه إلا كتاب الله عز وجل أو رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لما
240

طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فقالوا: إعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فأتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم، ثم قالوا: لا بل أرسلوا إلى فلان رجلا من علمائهم فاعرضوا عليه الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد.
فأرسلوا إليه، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله عز وجل ثم جعلها في قرن ثم علقها في عنقه، ثم لبس عليه الثياب، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا: أتؤمن بهذا؟
فأومأ إلى صدره فقال: آمنت بهذا، ومالي لا أومن بهذا؟ يعني الكتاب الذي في القرن، فخلوا سبيله.
وكان له أصحاب يغشونه، فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا فيه الكتاب، فقالوا: ألا ترون قوله: آمنت بهذا، ومالي لا أومن بهذا؟ إنما عني هذا الكتاب؟ فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة، وخير مللهم أصحاب ذي القرن.
قال عبد الله: وإن من بقي منكم سيرى منكرا، وبحسب أمرى يرى منكرا لا تستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره.
وقال مقاتل بن حيان: إنما يعني بذلك مؤمني أهل الكتاب قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم " * (طال عليهم الأمد) *) يعني خروج النبي صلى الله عليه وسلم " * (فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) *) يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع، ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ومنهم طائفة رجعت عن دينها وهم الذين فسقهم فكفروا بدين عيسى ولم يؤمنوا بمحمد (عليه السلام).
وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فينبغي للمؤمنين أن يزدادوا إيمانا ويقينا وإخلاصا في طول صحبة الكتاب.
أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس الضبي، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الله النيري، حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن وائل بن بكر قال: قال عيسى (عليه السلام): (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).
241

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، حدثنا أبو عبد الله المقرئ قال: سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: سمعت أبا عمار الحسين ابن حريث يقول: سمعت الفضل بن موسى السيناني يقول: كان سبب توبة الفضل بن عياض أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرقى الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ " * (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) *) فرجع القهقرى.
وهو يقول: بلى فلان بلى والله فلان. فأواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وإذا بعضهم يقول لبعض بالفارسية: فضيل بدر أهست در ما راه برذ.
فقال الفضيل في نفسه: الا أراني أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين يخافونني؟ اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
ثم أقبل عليهم فقال لهم بالفارسية: منم فضيل كناه كار أز من ترسيد يدأكنون مترسيد.
قال الفضل بن موسى: ثم خرج فجاور.
وحدثنا أبو سعد بن أبي عثمان الزاهد، أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أبي عمران بمكة، حدثنا أبو يعقوب البزاز، حدثنا محمد بن حاتم السمرقندي، حدثنا أحمد بن زيد، حدثنا حسين ابن الحسن قال: سئل ابن المبارك وأنا حاضر عن أول زهده فقال: إني كنت في بستان، وأنا شاب مع جماعة من أترابي، وذلك في وقت الفواكه، فأكلنا وشربنا وكنت مولعا بضرب العود فقمت في بعض الليل، فإذا غصن يتحرك عند رأسي فأخذت العود لأضرب به فإذا بالعود ينطق وهو يقول " * (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) *) قال: فضربت بالعود الأرض فكسرته وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي كنت عليها مما شغلت عن الله، وجاء التوفيق من الله عز وجل فكان ما سهل لنا من الخير بفضل الله.
2 (* (اعلموا أن الله يحى الارض بعد موتها قد بينا لكم الايات لعلكم تعقلون * إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم * والذين ءامنوا بالله ورسله أولائك هم الصديقون والشهدآء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بئاياتنآ أولائك أصحاب الجحيم * اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الاموال والاولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفى الاخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحيواة الدنيآ إلا متاع الغرور * سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والارض أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم * مآ أصاب من مصيبة فى الارض ولا فىأنفسكم إلا فى كتاب من قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ ءاتاكم والله لا يحب كل
242

مختال فخور * الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد * لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز) *) 2
" * (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون إن المصدقين والمصدقات) *). قرأ ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر والمفضل بتخفيف الصادين من التصديق مجازه: إن المؤمنين والمؤمنات.
وقرأ الباقون: بتشديدهما بمعنى أن المتصدقين والمتصدقات، فأدغم التاء في الصاد كالمزمل والمدثر، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا لقراءة أبي: (إن المتصدقين والمتصدقات واقرضوا الله قرضا حسنا) بالصدقة والنفقة في سبيله.
قال الحسن: كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع وإنما عطف بالفعل على الاسم لأنه في تقدير الفعل، مجازه: إن الذين صدقوا وأقرضوا يضاعف لهم أمثالها.
قراءة العامة: بالألف وفتح العين. وقرأ الأعمش: (يضاعفه) بكسر العين وزيادة هاء.
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو جعفر (يضعف) بالتشديد.
" * (ولهم أجر كريم) *) وهو الجنة " * (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون) *) واحدهم: صديق وهو الكثير الصدق.
قال الضحاك: هم ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر وعلي وزيد وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد وحمزة بن عبد المطلب، تاسعهم عمر بن الخطاب ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نبيه.
" * (والشهداء عند ربهم) *) اختلف العلماء في نظم هذه الآية وحكمها، فقال قوم: تمام الكلام عند قوله: " * (الصديقون) *) ثم ابتدأ فقال: " * (والشهداء) *) وأراد بهم شهداء المؤمنين خاصة، والواو فيه واو الاستثناء، وهذا قول ابن عباس ومسروق وجماعة من العلماء. وقال الآخرون: هي متصلة بما قبلها، والواو فيه واو النسق.
ثم اختلفوا في معناها، فقال الضحاك: نزلت في قوم مخصوصين من المؤمنين، وكانوا كلهم شهداء، وقد مر ذكرهم.
وقال غيره: نزلت في المؤمنين المخلصين كلهم.
أخبرني عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدثنا عبد الله ابن غنام النخعي قال: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبيد بن سعيد، عن شعبة، عن أبي
243

قيس، عن الهرمل، عن عبد الله قال: إن الرجل ليقاتل الناس ليرى مكانه، وإن الرجل ليقاتل على الدنيا، وإن الرجل ليقاتل ابتغاء وجه الله، وإن الرجل ليموت على فراشه فيكون شهيدا، ثم قرأ: " * (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) *).
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان بن ليث، عن مجاهد قال: كل مؤمن صديق شهيد، ثم قرأ هذه الآية، يعني موصولة.
وقال ابن عباس في بعض الروايات: أراد بالشهداء الأنبياء خاصة.
" * (لهم أجرهم ونورهم) *) في ظلمة القيامة. * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم اعلموا أنما الحياة الدنيا) * * (ما) *) صلة مجازه * (اعلموا) * * (لعب) *) باطل لا حاصل له " * (ولهو) *): فرح ثم ينقضي " * (وزينة) *) منظر يتزينون به، " * (وتفاخر بينكم) *): يفخر به بعضكم على بعض، " * (وتكاثر في الأموال والأولاد) *) أي يتاه بكثرة الأموال والأولاد.
وقال بعض المتأولين من المتأخرين: لعب كلعب الصبيان، ولهو كلهو الفتيان، وزينة كزينة النسوان، وتفاخر كتفاخر الأقران، وتكاثر كتكاثر الدهقان.
وقال علي بن أبي طالب لعمار بن ياسر: (لا تحزن على الدنيا، فإن الدنيا ستة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومشموم، ومركوب، ومنكوح. فأكبر طعامها العسل وهي بزقة ذبابة، وأكبر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان، وأكبر الملبوس الديباج وهي نسجة دود، وأكبر المشموم المسك، وهي دم فأرة ظبية، وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأكبر المنكوح النساء وهو مبال في مبال. والله إن المرأة ليزين أحسنها يراد به أقبحها).
ثم ضرب جل ذكره لها مثلا فقال عز من قائل: " * (كمثل غيث أعجب الكفار) *) أي الزراع " * (نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما) *) فيبلى ويفنى " * (وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة) *)، يعني: أو مغفرة " * (من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا) *): سارعوا " * (إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها) *): سعتها " * (كعرض السماوات والأرض) *) لوصل بعضها ببعض.
وقال ابن كيسان: عنى به جنة واحدة من الجنان.
" * (أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ما أصاب من مصيبة في الأرض) *) بالجدب والقحط وذهاب الزرع والثمر " * (ولا في أنفسكم) *) بالأوصاب والأسقام.
244

وقال الشعبي: المصيبة: ما يكون من خير وشر وما يسيء ويسر.
ودليل هذا التأويل قوله سبحانه: " * (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) *) فذكر الحالتين جميعا: " * (إلا في كتاب) *) يعني: اللوح المحفوظ " * (من قبل أن نبرأها) *): من قبل أن نخلق الأرض والأنفس.
وقال ابن عباس: يعني المصيبة.
وقال أبو العالية: يعني النسمة
" * (إن ذلك على الله يسير) *) إن خلق ذلك وحفظه على الله هين.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن مخلد قال: أخبرنا داود قال: حدثنا عبيد قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا الربيع بن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير في نفر فبكى رجل من القوم، فقال: ما يبكيك؟ قال: أبكي لما أرى بك ولما يذهب بك إليه. قال: فلا تبك، فإنه كان في علم الله سبحانه أن يكون، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: " * (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم) *) الآية.
" * (لكيلا اتأسوا) *): تحزنوا " * (على ما فاتكم) *) من الدنيا، " * (ولا تفرحوا) *): تبطروا " * (بما آتاكم) *). قراءة العامة بمد الألف، أي (
أعطاكم)، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو بقصر الألف أي: (جاءكم)، واختاره أبو عبيد، قال: لقوله سبحانه: " * (فاتكم) *) ولم يقل: (أفاتكم) فجعل له، فكذلك (أتاكم) جعل الفعل له ليوافق الكلام بعضه بعضا.
قال عكرمة: ما من أحد إلا وهو يفرح ويحزن فاجعلوا للفرح شكرا وللحزن صبرا.
" * (والله لا يحب كل مختال فخور) *): متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس.
وقال ابن مسعود: لأن ألحس جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت، أحب إلي من أن أقول لشيء كان: ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن: ليته كان.
وقال جعفر الصادق: (يا بن آدم، مالك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت؟ ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟).
وقيل لبزرجمهر: ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت؟ فقال: لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة
245

وقال الفضيل في هذا المعنى: الدنيا مفيد ومبيد فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد فقد أذن بالرحيل.
وقال الحسين بن الفضل: حمل الله سبحانه بهذه الآية المؤمنين على مضض الصبر على الفائت، وترك الفرح بالآتي، والرضا بقضائه في الحالتين جميعا.
وقال قتيبة بن سعيد: دخلت بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء من الأرض مملوء من الإبل الموتى والجيف بحيث لا أحصي عددها، فسألت عجوزا: لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تل يغزل صوفا، فقلت له: يا شيخ ألك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي. قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها. قلت: وهل قلت في ذلك شيئا؟ قال: نعم:
لا والذي أخذ (...) من خلائقه
والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن
ما سرني أن إبلي في مباركها
وما جرى في قضاء الله لم يكن
وقال سلم الخواص: من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين؛ ليضع الله سبحانه الدنيا والآخرة بين يديه. قيل: وما مذهبكم؟ قال: الرضا بالقضا، ومخالفة الهوى. وأنشد:
لا تطل الحزن على فائت
فقلما يجدي عليك الحزن
سيان محزون على ما مضى
ومظهر حزنا لما لم يكن
" * (الذين يبخلون) *)، قيل: هو في محل الخفض على نعت (المختال)، وقيل: هو رفع بالابتداء وخبره ما بعده. " * (ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) *) قرأ أهل المدينة والشام بإسقاط " * (هو) *) وكذلك هو في مصاحفهم. الباقون بإثباته.
" * (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان) *) يعني له يعدل. وقال ابن زيد: ما يوزن به. " * (ليقوم الناس بالقسط) *): ليعمل الناس بينهم بالعدل " * (وأنزلنا الحديد) *)، قال ابن عباس: نزل آدم من الجنة معه خمسة أشياء من الحديد: السندان، والكلبتان، والمنقعة، والمطرقة، والأبرة.
وقال أهل المعاني: يعني أنه أخرج لهم الحديد من المعادن، وعلمهم صنيعته بوحيه.
وقال قطرب: هذا من النزل كما تقول: أنزل الأمر على فلان نزلا حسنا، فمعنى الآية أنه جعل ذلك نزلا لهم، ومثله قوله: " * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) *))
.
246

ودليل تأويل السلف من المفسرين ما أخبرنا أبو سفيان الحسن بن عبد الله الدهقان قال: حدثنا الحسن بن إسماعيل بن خلف الخياط قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الفرج المعدل قال: حدثنا محمد بن عبيد بن عبد الملك قال: حدثنا سفيان بن محمد أبو محمد (ابن أخت سفيان الثوري) عن عبد الملك بن ملك التميمي عن عبد الله بن خليفة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: فأنزل الحديد، والنار، والماء والملح).
" * (فيه بأس شديد) *)، قوة شديدة، يعني: السلاح والكراع، " * (ومنافع للناس) *) مما يستعملونها في مصالحهم ومعايشهم؛ إذ هو آلة لكل صنعة. " * (وليعلم الله) *)، يعني: أرسلنا رسلنا، وأنزلنا معهم هذه الأشياء؛ ليعامل الناس بالحق والعدل وليرى سبحانه " * (من ينصره) *) أي دينه " * (ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) *))
.
* (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا فى ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون * ثم قفينا علىءاثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتيناه الإنجيل وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغآء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فئاتينا الذين ءامنوا منهم أجرهم وكثير منهم
فاسقون * ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم * لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شىء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم) *) 2
" * (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه) *) على دينه " * (رأفة ورحمة) *) والرأفة أشد الرقة " * (ورهبانية ابتدعوها) *) من قبل أنفسهم " * (ما كتبناها) *) فرضناها وأوجبناها " * (عليهم إلا ابتغاء) *) يعني: ولكنهم ابتغوا " * (رضوان الله) *) بتلك الرهبانية " * (فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم) *)، وهم أهل الرأفة والرحمة والرهبانية التي ابتدعوها طلبا لرضا الله " * (وكثير منهم فاسقون) *) يعني الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها وكفروا بدين عيسى وتهودوا وتنصروا. وبنحو ما فسرنا ورد فيه الآثار.
وقال ابن مسعود: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: (يا بن أم عبد، هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟). قلت: الله ورسوله أعلم
247

قال: (ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى (عليه السلام) يعملون بمعاصي الله سبحانه، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل، فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى يعنون محمدا فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا الرهبانية، فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر). ثم تلا هذه الآية " * (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) *) الآية.
" * (فآتينا الذين آمنوا منهم) *) يعني: من ثبتوا عليها " * (أجرهم) *)، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم (يا بن أم عبد، أتدري ما رهبانية أمتي؟) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع).
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدثنا محمد بن عبد الله ابن سليمان قال: حدثنا شيبان بن فروخ قال: حدثنا الصعق بن حزن، عن عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق، عن سويد بن غفلة، عن ابن مسعود قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا بن مسعود، اختلف من كان قبلكم على ثنتين وسبعين فرقة ونجا منها ثلاث وهلك سائرهن، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم تدعوهم إلى دين الله سبحانه ودين عيسى، فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله سبحانه: " * (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) *)).
قال النبي صلى الله عليه وسلم (من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون).
وروى الضحاك وعطية عن ابن عباس قال: كتب الله سبحانه عليهم القتال قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فلما استخرج أهل الإيمان ولم يبق منهم إلا قليل وكثر أهل الشرك، وذهبت الرسل وقهروا، اعتزلوا في الغيران فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم، وتركوا أمر الله ودينه، وأخذوا بالبدعة وبالنصرانية وباليهودية، ولم يرعوها حق رعايتها، وثبتت طائفة على دين عيسى حتى جاءهم البينات، وبعث الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم وهم كذلك. فذلك قوله عز وجل: " * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله) *) إلى قوله: " * (والله غفور رحيم) *).
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا ابن فضيل قال: حدثنا عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وحدثت عن محمد بن جرير، قال: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث قال: حدثنا الفضل
248

ابن موسى عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت ملوك بعد عيسى (عليه السلام) بدلوا التوراة والإنجيل. وكان فيهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله ويأمرونهم بتقوى الله سبحانه، فقيل لملكهم: لو جمعت هؤلاء الذين شقوا عليكم وآذوكم فقتلتموهم، أقروا بما نقر به، ودخلوا فيما نحن فيه. فدعاهم ملكهم وجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل. إلا ما بدلوا فيها، فقالوا: ما تريد منا؟ نحن نكفيكم أنفسنا. فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم اعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم. وقالت طائفة أخرى: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونسرب كما تسرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا. وقالت طائفة منهم: ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم. وليس أحد من أولئك إلا له حميم منهم، ففعلوا ذلك بهم فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب، فجعل الرجل يقول: نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دورا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم، ولا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله سبحانه: " * (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله) *). قال: ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حق رعايتها، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم، " * (وآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم) *) يعني الذين: ابتدعوها " * (وكثير منهم فاسقون) *): الذين جاؤوا من بعدهم. قال: فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) ولم يبق منهم إلا قليل، انحط رجل من صومعته، وجاء السائح من سياحته وصاحب الدير من ديره، وآمنوا به وصدقوه فقال الله عز وجل: " * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله) *) محمد (عليه السلام) * * (يؤتكم كفلين من رحمته) *) قال: أجرين؛ لإيمانهم بعيسى والإنجيل وإيمانهم بمحمد والقرآن، " * (ويجعل لكم نورا تمشون به) *) يعني: القرآن " * (لئلا يعلم أهل الكتاب) *) الذين يتشبهون بهم " * (أن لا يقدرون على شيء من فضل الله) *) إلى آخرها.
وقال قوم: انقطع الكلام عند قوله: " * (ورحمة) *) ثم قال: " * (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) *)؛ وذلك أنهم تركوا الحق، وأكلوا لحم الخنزير،
وشربوا الخمر، ولم يتوضؤوا ولم يغتسلوا من جنابة، وتركوا الختان، " * (فما رعوها) *) يعني: الطاعة والملة " * (حق رعايتها) *). كناية عن غير مذكور. " * (فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم) *)، وهم أهل الرأفة والرحمة " * (وكثير منهم فاسقون) *)، وهم أهل الرهبانية والبدعة، وإليه ذهب مجاهد.
ومعنى قوله: " * (إلا ابتغاء رضوان الله) *): وما أمرناهم إلا بذلك وما أمرناهم إلا بالترهب، أو يكون وجهه: إلا ابتغاء رضوان الله بزعمهم وعندهم، والله أعلم.
" * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله) *) محمد (عليه السلام) * * (يؤتكم كفلين) *): نصيبين " * (من رحمته) *)؛ لإيمانكم بالأول وإيمانكم بالآخر.
249

وقال أبو موسى الأشعري: كفلين: ضعفين بلسان الحبشة.
قال ابن جبير: وأصله ما يكتفل به الراكب من الثياب والمتاع فيحبسه ويحفظه من السقوط، يقول: يحصنكم هذا الكفل من العذاب كما يحصن الراكب الكفل من السقوط. ومنه الكفالة؛ لأنها تحصن الحق.
" * (ويجعل لكم نورا تمشون به) *) في الناس، وعلى الصراط أحسن.
وقال ابن عباس: النور القرآن.
وقال مجاهد: الهدى والبيان، " * (ويغفر لكم والله غفور رحيم) *).
قال سعيد بن جبير: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعفرا ح في سبعين راكبا للنجاشي يدعوه، فقدم عليه فدعاه فاستجاب له وآمن به، فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا: ايذن لنا فنأتي هذا النبي صلى الله عليه وسلم فنلم به ونجدف بهؤلاء في البحر؛ فإنا أعلم بالبحر منهم. فقدموا مع جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم وقد تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) لوقعة أحد، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة وشدة الحال استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) فقالوا: يا رسول الله إن لنا أموالا، ونحن نرى ما بالمسلمين من خصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها.. فأذن لهم فانصرفوا وأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله سبحانه فيهم " * (الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) *) إلى قوله " * (ومما رزقناهم ينفقون) *) فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن قوله: " * (يؤتون أجرهم مرتين) *)، فجروا على المسلمين فقالوا: يا معشر المسلمين، أما من آمن منا بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟ فأنزل الله سبحانه: " * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) *) فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة ثم قال: " * (لئلا يعلم أهل الكتاب) *)، وهكذا قرأها سعيد بن جبير " * (أن لا يقدرون) *) الآية.
وروى حنان عن الكلبي قال: كان هؤلاء أربعة وعشرين رجلا قدموا من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، لم يكونوا يهودا ولا نصارى، وكانوا على دين الأنبياء فأسلموا، فقال لهم أبو جهل: بئس القوم أنتم والوفد لقومكم. فردوا عليه: " * (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق) *)، فجعل الله سبحانه لهم ولمؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه أجرين اثنين، فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن أفضل منكم لنا أجران ولكم أجر واحد، فأنزل الله سبحانه: " * (لئلا يعلم أهل الكتاب) *) الآية.
250

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدثنا أبو بكر بن مالك قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن سفيان، عن صالح، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له أمة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، وأعتقها وتزوجها فله أجران، وعبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل من أهل الكتاب آمن بما جاء به موسى أو ما جاء به عيسى وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فله أجران).
وقال قتادة: حسد أهل الكتاب المسلمين، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مجاهد: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا، فأنزل الله سبحانه " * (لئلا يعلم أهل الكتاب) *) أي ليعلم " * (لا) *) صلة " * (أن لا يقدرون) *) يعني أنهم لا يقدرون، كقوله: " * (ألا يرجع إليهم قولا) *) وأنشد الفراء:
إني كفيتك ما تو
ثق إن نجوت إلى الصباح
وسلمت من عرض الجنو
ن من الغدو إلى الرواح
إن تهبطن بلاد قو
مي يرتعون من الطلاح
أي: إنك تهبطن.
" * (على شيء من فضل الله) *) الآية.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثني أبو بكر بن خرجة قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدثنا الحسن بن السكن البغدادي، قال: حدثنا أبو زيد
النحوي، عن قيس بن الربيع عن الأعمش، عن عطية، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل قسم الأجر وقسم العمل، فقيل لليهود: اعملوا، فعملوا إلى نصف النهار، فقيل: لكم نصف قيراط. وقيل للنصارى: اعملوا، فعملوا من نصف النهار إلى العصر، فقيل: لكم قيراط. وقيل للمسلمين: اعملوا، فعملوا من صلاة العصر إلى غروب الشمس بقيراطين. فتكلم اليهود والنصارى في ذلك، فأنزل الله سبحانه: " * (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) *)).
251

((سورة المجادلة))
مدنية، وهي ألف وسبعمائة واثنان وتسعون حرفا، وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة، واثنتان وعشرون آية
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقرئ، عن مرة قال: حدثنا أبو بكر أحمد ابن إبراهيم الجرجاني وأبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصبهاني قالا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم ابن شريك الكوفي قال: حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدثنا سلام بن سليم المدائني قال: حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبى بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكىإلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير * الذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور * والذين يظاهرون من نسآئهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتمآسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير * فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم * إن الذين يحآدون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنآ ءايات بينات وللكافرين عذاب مهين * يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شىء شهيد * ألم تر أن الله يعلم ما فى السماوات وما فى الارض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شىء عليم) *) 2
" * (قد سمع الله قول التي تجادلك) *): تخاصمك وتحاورك وتراجعك " * (في زوجها) *) وهي امرأة من الأنصار ثم من الخزرج، واختلفوا في اسمها ونسبها، فقال ابن عباس: هي خولة بنت
252

خولد. وقال أبو العالية: خويلة بنت الدليم. وقال قتادة: خويلة بنت ثعلبة. وقال المقاتلان: خولة بنت ثعلبة ابن مالك بن خزامة الخزرجية من بني عمرو بن عوف.
عطية عن ابن عباس: خولة بنت الصامت.
وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة خ أن اسمها جميلة، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وذلك أنها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها فنظر إلى عجزها، فلما انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها، وكان امرئا فيه سرعة ولمم. فقال لها: أنت علي كظهر أمي. ثم ندم على ما قال، وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية. فقال لها: ما أظنك إلا قد حرمت علي. قالت: لا تقل ذلك، ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله. فقال: إني أجدني استحي منه أن أسأله عن هذا. قالت: فدعني أسأله. قال: سليه.
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة تغسل شق رأسه، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني، وكنت شابة جميلة ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق وكبرت سني ظاهر مني وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه ينعشني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حرمت عليه). فقالت: يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حرمت عليه). فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت صحبتي ونقصت له بطني. فقال رسول الله (عليه السلام): (ما أراك إلا وقد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء).
فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال لها رسول الله (عليه السلام): (حرمت عليه) هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، اللهم، فأنزل على لسان نبيك.
وكان هذا أول ظهار في الإسلام. فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر فقالت: انظر في أمري، جعلني الله فداك يا نبي الله. فقالت عائشة: اقصري حديثك ومحادثتك، أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه أخذه مثل السبات؟ فلما قضى الوحي قال: (ادعي زوجك). فجاء، فقرأ ما نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) *) ثم بين حكم الظهار، وجعل فيه الكفارة، فقال سبحانه: " * (الذين يظاهرون) *) إلى آخرها، قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها، إن المرأة لتحاور رسول الله وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه، إذ أنزل سبحانه: " * (قد سمع الله) *) الآيات
253

فلما نزلت هذه الآيات وتلاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (هل تستطيع أن تعتق رقبة؟). قال: إذن يذهب مالي كله. الرقبة غالية وأنا قليل المال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟). قال: والله يا رسول الله، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني. قال: (فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟). قال: لا والله، إلا أن تعينني على ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني معينك بخمسة عشر صاعا، وأنا داع لك بالبركة).
فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا واجتمع لهما أمرهما. فذلك قوله: " * (الذين يظاهرون منكم من نسائهم) *)، قد ذكرنا اختلاف القراء في هذا الحرف في سورة الأحزاب.
" * (ما هن أمهاتهم) *) قرأ العامة بخفض التاء ومحله نصب، كقوله سبحانه: " * (ما هذا بشرا) *). وقيل: (بأمهاتهم). وقرأ المفضل بضم التاء. " * (إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) *) أي كذبا، والمنكر: الذي لا تعرف صحته. * (وإن الله لعفو غفور) * * (والذين يظاهرون من نسائهم) *)، اعلم أن الألفاظ التي يصير المرء بها مظاهرا على ضربين: صريح، وكناية. فالصريح هو أن يقول: أنت علي كظهر أمي، وكذلك إذا قال: أنت علي كبطن أمي أو كرأس أمي أو كفرج أمي، وهكذا إذا قال: فرجك أو رأسك أو ظهرك أو صدرك أو بطنك أو يدك أو رجلك علي كظهر أمي، فإنه يصير مظاهرا، وكل ذلك محل قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو بطنك طالق فإنها تطلق، والخلاف في هذه المسألة بين الفريقين كالخلاف في الطلاق.
ومتى ما شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه وأمه كان ذلك ظهارا بلا خلاف. وإن شبهها بغير الأم والجدة من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالإبنة والأخت والعمة والخالة ونحوها، كان مظاهرا على الصحيح من المذاهب. فصريح الظهار هو أن يشبه زوجته أو عضوا من أعضائها بعضو من أعضاء أمه، أو أعضاء واحدة من ذوات محارمه.
والكناية أن يقول: أنت علي كأمي، أو مثل أمي أو نحوها، فإنه يعتبر فيه نيته. فإن أراد ظهارا كان مظاهرا وإن لم ينو الظهار لا يصر مظاهرا. وكل زوج صح طلاقه صح ظهاره، سواء كان عبدا أو حرا أو ذميا أو دخل بالمرأة أو لم يدخل بها، أو كان قادرا على جماعها أو عاجزا عنه. وكذلك يصح الظهار من كل زوجة، صغيرة كانت أو كبيرة، أو عاقلة أومجنونة، أو رتقاء أو سليمة، أو صائمة أو محرمة، أو ذمية، أو مسلمة، أو في عدة يملك رجعتها.
254

وقال أبو حنيفة: لا يصح ظهار الذمي. وقال مالك: لا يصح ظهار العبد، قال بعض العلماء: لا يصح ظهار غير المدخول بها. وقال المزني: إذا طلق الرجل امرأته طلقة رجعية ثم ظاهر فإنه لا يصح.
" * (ثم يعودون لما قالوا) *) اعلم أن الكفارة تلزم بالظهار وبالعود جميعا، ولا تلزم بأحدهما دون الآخر. كما أن الكفارة في باب اليمين تجب باليمين والحنث جميعا معا، فإذا عاد في ظهاره لزمته الكفارة.
واختلف العلماء والفقهاء في معنى العود؛ فقال الشافعي: العود الموجب للكفارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار وتمضي مدة يمكنه أن يطلقها فلم يطلقها.
وقال قتادة: " * (ثم يعودون لما قالوا) *) يريد أن يغشاها ويطأها بعدما حرمها. وإليه ذهب أبو حنيفة، قال: إن عزم على وطئها ونوى أن يغشاها كان عودا.
وقال مالك: إن وطئها كان عودا، وإن لم يطأها لم يكن عودا.
وقال أصحاب الظاهر: إن كرر اللفظ كان عودا وإن لم يكرر لم يكن عودا. وهو قول أبي العالية، وظاهر الآية يشهد له، وهو قوله: " * (ثم يعودون لما قالوا) *) أي إلى ما قالوا،
" * (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) *)؛ لأن الله سبحانه قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل وأطلق في هذا الموضع، ومن حكم المطلق أن يحمل على القيد. وقوله: " * (من قبل أن يتماسا) *) أي يتجامعا، فالجماع نفسه محرم على المظاهر حتى يكفر، فإن وطئ قبل التكفير فقد فعل محرما، ولا تسقط عنه الكفارة بل يأتي بها على وجه القضاء، كما لو أخر الصلاة عن وقتها، فإنه لا يسقط عنه إتيانها بل يلزمه قضاؤها. وسواء كفر بالإعتاق أو الصيام أو الإطعام فإنه يجب عليه تقديم الكفارة، ولا يجوز له أن يطأها قبل الكفارة.
وقال أبو حنيفة: إن كفر بالإطعام جاز له أن يطأ ثم يطعم ولم يخالف في العتق والصيام.
فهذا حكم وطء المظاهر قبل التكفير.
وأما غير الوطء من التقبيل والتلذذ فإنه لا يحرم في قول أكثر العلماء. وهو قول الحسن وسفيان، والصحيح من مذهب الشافعي. وقال بعضهم: عنى به جميع معاني المسيس؛ لأنه عام وهو أحد قولي الشافعي ح.
" * (ذلك توعظون به) *): تؤمرون به، " * (والله بما تعملون خبير فمن لم يجد) *) الرقبة ولا
255

ثمنها، أو يكون مالكا للرقبة إلا إنه محتاج إليها لخدمته، أو يكون مالكا للثمن ولكن يحتاج إليه لنفقته أو كان له مسكن يسكنه، فله الانتقال إلى الصوم.
وقال أبو حنيفة: ليس له أن يصوم وعليه أن يعتق الرقبة وإن كان محتاجا إليها وإلى ثمنها،
فإن عجر عن الرقبة " * (فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا) *) فإن أفطر في أثنائها بغير عذر قطع التتابع وعليه أن يستأنف شهرين متتابعين. وإن أفطر بعذر المرض أو السفر، فاختلف الفقهاء فيه، فقال قوم: لا ينقطع التتابع وله أن يبني ويقضي الباقي، وإليه ذهب سعيد بن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال آخرون: ليس له أن يبني بل يلزمه أن يستأنف ويبتدئ، وهو قول النخعي وأصحابه، والأصح من قولي الشافعي.
وإن تخلل صوم الشهرين زمان لا يصح فيه الصوم عن الكفارة كالعيدين وأيام التشريق وأيام شهر رمضان، فإن التتابع ينقطع بذلك ويجب الاستئناف.
ولو وطئ المظاهر في الشهرين، نظر؛ فإن وطئها نهارا بطل التتابع وعليه الابتداء، وإن وطئها ليلا لم يبطل التتابع. وقال أبو حنيفة: سواء وطئ ليلا أو نهارا فإنه
يبطل التتابع وعليه أن يستأنف صوم شهرين متتابعين.
" * (فمن لم يستطع) *) الصيام، وعدم الاستطاعة مثل أن يخاف من الصوم لعلة أو لحوق ومشقة شديدة ومضرة ظاهرة، " * (فإطعام ستين مسكينا) *) لكل مسكين مد من غالب قوت بلده، والخلاف فيه بين الفريقين كالاختلاف في زكاة الفطرة. " * (ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم) *).
" * (إن الذين يحادون) *): يخالفون ويعادون " * (الله ورسوله كبتوا) *): أهلكوا وأخروا وأحربوا " * (كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون) *) قراءة العامة بالياء لأجل الحائل، وقرأ أبو جعفر القارئ (تكون) بالتاء لتأنيث النجوى، والأول أفصح وأصح " * (من نجوى) *) متناجين " * (ثلاثة) *)، قال الفراء: إن شئت خفضت الثلاثة على نعت النجوى وإن شئت أضفت النجوى إليها، ولو نصبت على أنها (حال) لكان صوابا. " * (إلا هو رابعهم) *) بالعلم يسمع نجواهم ويعلم فحواهم، " * (ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر) *)، قراءة العامة بالنصب في محل الخفض عطفا. وقرأ يعقوب وأبو حاتم " * (أكثر) *) بالرفع على محل الكلام قبل دخول " * (من) *)، وقرأ
256

الزهري " * (أكثر) *) بالباء، " * (إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم) *).
2 (* (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جآءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون فىأنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير) *) 2
" * (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى) *) الآية قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم وأقرباؤهم. فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم ألا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتلان: أنزلت في اليهود، وكانت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم موادعة، فإذا مر بهم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) جلسوا يتناجون فيما بينهم حتى ينظر المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فينزل الطريق عليهم من المخافة، فبلغ ذلك النبي (عليه السلام) فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال ابن زيد: كان الرجل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الحاجة ليري الناس أنه قد ناجى فيقول لهم: إنما يتناجون في حرب حضرت، أو جمع قد جمع لكم، أو أمر مهم قد وقع، فأنزل الله سبحانه: " * (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى) *) أي المناجاة. " * (ثم يعودون لما نهوا عنه) *) أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها " * (ويتناجون) *)، قرأ يحيى والأعمش وحمزة (ينتجون) على وزن (يفتعلون)، وقرأ الباقون " * (يتناجون) *) على وزن (يتفاعلون)، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: " * (إذا تناجيتم) *) و " * (تناجوا) *) ولم يقل (أنتجيتم) و (انتجوا). " * (بالإثم والعدوان ومعصية الرسول) *) وقرأ الضحاك: (ومعصيات الرسول) فيهما بالجمع " * (وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير) *) وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على ر سول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: السام عليك. فيرد عليهم رسول الله: (وعليكم). ولا يدري ما يقولون، والسام الموت، فإذا خرجوا قالوا: لو كان نبيا لعذبنا واستجيب فينا وعرف قولنا. فدخلوا عليه ذات يوم وقالوا: السام عليك. ففطنت عائشة خ إلى قولهم وقالت: وعليكم السام والذام
257

والداء واللعنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مه يا عائشة، إن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله ولا يحب الفحش والتفحش).
فقالت: يا رسول الله، ألم تسمع ما قالوا؟، فقال رسول الله (عليه السلام): (ألم تسمعي ما رددت عليهم؟). فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم).
ثم نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال: " * (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا) *)، قراءة العامة بالألف، وروى أويس عن يعقوب: (فلا تتنجوا) من الانتجاء. " * (بالإثم والعدوان ومعصية الرسول) *) كفعل المنافقين واليهود " * (وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس) *) التناجي " * (بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *)
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثنا حماد بن الحسن قال: حدثنا عبيد الله قال: حدثنا الأعمش، عن سفيان عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون (صاحبهما)؛ فإن ذلك يحزنه).
أخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكي قال: أخبرنا عبد الله بن بشر قال: حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتناج اثنان دون الثالث).
" * (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا) *) الآية، قال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام)، وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال (المقاتلان): كان النبي (عليه السلام) في الصفة وفي المكان ضيق وذلك يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين
والأنصار، فجاء أناس من أهل بدر وفيهم ثابت بن قيس بن شماس، وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله. فرد عليهم النبي (عليه السلام) ثم سلموا على القوم بعد ذلك
258

فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي (عليه السلام) ما يحملهم على القيام فلم يفسحوا لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار والتابعين من غير أهل بدر: (قم يا فلان وأنت يا فلان).
فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) الكراهية في وجوهم، فقال المنافقون للمسلمين: ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس؟ فوالله ما عدل على هؤلاء، أن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مقامهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال الكلبي: نزلت في ثابت بن قيس بن الشماس وقد ذكرت هذه القصة في سورة الحجرات فأنزل الله عز وجل في الرجل الذي لم يتفسح له " * (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا) *): توسعوا، ومنه قولهم: مكان فسيح إذا كان واسعا في المجلس.
قرأ السلمي والحسن وعاصم " * (في المجالس) *) بالألف على الجمع، وقرأ قتادة: (تفاسحوا) بالألف فيهما، وقرأ الآخرون " * (تفسحوا) *) (في المجلس) يعنون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم واختاره أبو حاتم وأبو عبيد قال: لأنه قراءة العامة، مع أن المجلس يؤدي معناه عن المجالس كلها من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) وغيره.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا القطيعي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو قال: حدثنا فليح، عن أيوب بن عبد الرحمن بن صعصعة (الأنصاري، عن يعقوب) بن أبي يعقوب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن افسحوا يفسح الله لكم).
وقال أبو العالية والقرظي: هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصف فيقول لهم: توسعوا، فيأبون عليه لحرصهم على القتال، فأمرهم الله سبحانه أن يفسح بعضهم لبعض. وهذه رواية العوفي عن ابن عباس.
قال الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قاتل المشركين وصف أصحابه للقتال تشاحوا على الصف الأول ليكونوا في أول غارة القوم، فكان الرجل منهم يجيء إلى الصف الأول فيقول لإخوانه: توسعوا لي؛ ليلقى العدو ويصيب الشهادة، فلا يوسعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة، فأنزل الله سبحانه هذه الآية
259

" * (وإذا قيل انشزوا فانشزوا) *) قرأ عاصم وأهل المدينة والشام بضم الشينين، وقرأ الآخرون بكسرهما. وهما لغتان، يعني وإذا قيل لكم: قوموا وتحركوا وارتفعوا وتوسعوا لإخوانكم فافعلوا.
وقال أكثر المفسرين: معناه: وإذا قيل لكم: انهضوا إلى الصلاة والجهاد والذكر وعمل الخير أي حق كان فانشزوا ولا تقصروا.
قال عكرمة والضحاك: يعني إذا نودي للصلاة فقوموا لها، وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة إذا نودي لها، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال ابن زيد: هذا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن كل رجل منهم كان يحب أن يكون آخر عهده رسول الله، فقال الله سبحانه: " * (وإذا قيل انشزوا) *) عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن له حوائج " * (فانشزوا) *) ولا تطلبوا المكث عنده
" * (يرفع الله الذين آمنوا منكم) *) بطاعتهم رسول الله وقيامهم من مجالسهم وتفسحهم لإخوانهم " * (والذين أوتوا العلم) *) منهم بفضل علمهم وسابقتهم " * (درجات) *) فأخبر الله سبحانه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيب فيما أمر وأن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا، وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا من الإكرام " * (والله بما تعملون خبير) *).
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عامر البلخي قال: حدثنا القاسم ابن عباد قال: حدثنا صالح بن محمد الترمذي قال: حدثنا المسيب بن شريح، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن قال: قرأ ابن مسعود هذه الآية " * (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) *) فقال: أيها الناس، افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله سبحانه يقول: يرفع الله المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات.
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه قال: أخبرنا صالح ابن مقاتل، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فضل العالم على الشهيد درجة، وفضل الشهيد على العابد درجة، وفضل النبي صلى الله عليه وسلم على العالم درجة، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من جاءته منيته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة).
260

2 (* (ياأيها الذين ءامنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذىإليه تحشرون * إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين ءامنوا وليس بضآرهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون * ياأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا فى المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير * ياأيها الذين ءامنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم * أءشفقتم أن تقدموا بين يدى نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة وأطيعوا الله ورسوله
والله خبير بما تعملون * ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون * أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم سآء ما كانوا يعملون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين * لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شىء ألا إنهم هم الكاذبون * استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولائك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون * إن الذين يحآدون الله ورسوله أولائك فى الاذلين * كتب الله لاغلبن أنا ورسلىإن الله قوى عزيز * لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا ءابآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولائك كتب فى قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولائك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) *) قال ابن عباس: وذلك أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثروا، حتى شقوا عليه وأحفوه بالمسألة فأدبهم الله سبحانه وفطنهم عن ذلك بهذه الآية، وأمرهم أن لا يناجوه حتى يقدموا صدقة.
وقال مقاتل بن حيان: نزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على (المجالس) حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم فأمر الله تعالى بالصدقة عند المناجاة، فلما رأوا ذلك انتهوا عن المناجاة، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئا، وأما أهل الميسرة فبخلوا ومنعوا، فاشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الرخصة،
قال مجاهد: نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب ح قدم دينارا فتصدق به ثم نزلت الرخصة.
وقال علي بن أبي طالب ح: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها
261

أحد بعدي " * (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) *) فإنها فرضت ثم نسخت.
أخبرني عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه قال: أخبرنا علي بن صقر بن نصر قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الأشجعي، عن سفيان عن عثمان بن المغيرة، عن (سالم) بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة الأنماري، عن على بن أبي طالب قال: لما نزلت " * (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) *) دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما ترى بذي دينار)؟. قلت: لا يطيقونه. قال: (كم)؟. قلت: حبة أو شعيرة. قال: (إنك لزهيد). فنزلت " * (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات) *) الآية.
قال علي ح: في خفف الله سبحانه عن هذه الأمة، ولم تنزل في أحد قبلي ولن تنزل في أحد بعدي.
قال ابن عمر: كان لعلي بن أبي طالب ثلاث لو كان لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.
" * (ذلكم خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) *) يعني للفقراء. " * (أأشفقتم) *) أبخلتم وخفتم بالصدقة الفاقة " * (أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم) *) فتجاوز عنكم ولم يعاقبكم بترك الصدقة، وقيل: الواو صلة. مجازه (وإذ لم تفعلوا تاب الله عليكم) تجاوز عنكم وخفف ونسخ الصدقة.
قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ.
وقال الكلبي: ما كانت إلا ساعة من النهار.
" * (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير ما تعملون) *). " * (ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم) *) نزلت في المنافقين تولوا اليهود وناصحوهم ونقلوا إليهم أسرار المسلمين " * (ما هم منكم) *) يا معشر المسلمين " * (ولا منهم) *) يعني اليهود والكافرين. نظيره " * (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) *))
.
262

" * (ويحلفون على الكذب وهم يعلمون) *).
قال السدي ومقاتل: خاصة في عبد الله بن نبتل المنافق، كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره إذ قال: (يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان) فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (على ما تشتمني أنت وأصحابك)؟
فحلف بالله ما فعل، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم (فعلت).
وانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فأنزل الله سبحانه ذكر هذه الآية.
" * (أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم) *) الكاذبة، وقرأ الحسن بكسر الألف، أي إقرارهم " * (جنة) *) يستجنون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم " * (فصدوا عن سبيل الله ولهم عذاب مهين) *).
" * (لن تغني عنهم) *) يوم القيامة " * (أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له) *) كارهين، ما كانوا كاذبين " * (كما يحلفون لكم) *)،
قال قتادة: إن المنافق يحلف له يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا " * (ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون) *)،
أخبرنا الحسن بن محمد قال: حدثنا أحمد بن يعقوب الأنباري قال: حدثنا أبو حنيفة محمد بن حنيفة بن ماهان الواسطي قال: حدثنا إبراهيم بن سليم الهجمي قال: حدثنا إبراهيم بن سليمان الدباس قال: حدثنا ابن أخي رواد، عن الحكم عن عيينة عن مقسم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ينادي مناد يوم القيامة: أين خصماء الله؟ فيقوم القدرية وجوههم مسودة، مزرقة أعينهم، مائل شدقهم، يسيل لعابهم، فيقولون: والله ماعبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا ولا اتخذنا من دونك إلها).
فقال ابن عباس: صدقوا والله، أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا ابن عباس هذه الآية " * (ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون) *)، هم والله القدريون، هم والله القدريون.
" * (استحوذ) *): غلب واستولى " * (عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا
263

إن حزب الشيطان هم الخاسرون إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين) *): الأسفلين.
" * (كتب الله) *): قضى الله سبحانه " * (لأغلبن أنا ورسلي) *)، وذلك أن المؤمنين قالوا: لئن فتح الله لنا مكة وخيبر وما حولها فإنا لنرجو أن يظفرنا الله على الروم وفارس. فقال عبد الله بن أبى: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله لهم أكثر عددا وأشد بطشا من ذلك. فأنزل الله سبحانه: " * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) *) نظيره قوله سبحانه: " * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) *).
" * (لا تجد قوما يؤمنون بالله) *) الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة. وسنذكر القصة في سورة الامتحان إن شاء الله.
وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبي، وذلك أنه كان جالسا إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب رسول الله (عليه السلام) الماء، فقال عبد الله: يا رسول الله، أبق فضلة من شرابك. قال: (وما تصنع بها)؟ قال: أسقيها أبي لعل الله يطهر قلبه.
ففعل فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ قال من شراب رسول الله (عليه السلام) جئتك بها لتشربها لعل الله سبحانه وتعالى يطهر قلبك. فقال أبوه: هلا جئتني ببول أمك. فرجع إلى النبي (عليه السلام)، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في قتل أبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بل ترفق به وتحسن إليه).
وقال ابن جريح: حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة سقط منها، ثم ذكر ذلك للنبي (عليه السلام) فقال: (أوفعلته؟). فقال: نعم. قال: (فلا تعد إليه)
فقال أبو بكر ح: والله لو كان السيف مني قريبا لقتلته، فأنزل الله سبحانه هذه الآية: " * (يوادون من حاد الله) *).
وروى مقاتل بن حيان، عن مرة الهمذاني، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: " * (ولو كانوا آباءهم) *) يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد " * (أو أبناءهم) *) يعني أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وقال: يا رسول الله: دعني أكر في الرعلة الأولى. فقال له رسول الله: (متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري؟)
264

" * (وإخوانهم) *) يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد " * (أو عشيرتهم) *) يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعليا وحمزة وعبيدة قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر. " * (أو لئك كتب في قلوبهم الإيمان) *) قراءة العامة بفتح الكاف والنون،
وروى المفضل عن عاصم بضمهما على المجهول، والأول أجود؛ لقوله: " * (وأيدهم) *) و " * (ندخلهم) *).
قال الربيع بن أنس: يعني أثبت الإيمان في قلوبهم فهي موقنة مخلصة.
وقيل: معناه كتب في قلوبهم الإيمان، كقوله: " * (في جذوع النخل) *).
وقيل: حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنها موضعه.
" * (وأيدهم بروح منه) *): وقواهم بنصر منه، قاله الحسن،
وقال السدي: يعني بالإيمان. ربيع، بالقرآن وحجته، نظيره: " * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) *). ابن جرير: بنور وبرهان وهدى. وقيل: برحمة. وقيل: أمدهم بجبريل (عليه السلام).
" * (ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ورضواعنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) *)
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا محمد بن حمدان بن سفيان قال: حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الله بن سلمان قال: حدثنا المرداس أبو بلال قال: حدثنا إسماعيل، عن سعد بن سعيد الجرجاني، عن بعض مشيخته قال: قال داود (عليه السلام): (إلهي، من حزبك وحول عرشك؟).
فأوحى الله سبحانه إليه: (يا داود، الغاضة أبصارهم، النقية قلوبهم، السليمة أكفهم، أولئك حزبي وحول عرشي).
265

((سورة الحشر))
مدنية، وهي أربع وعشرون آية، وأربعمائة وخمس وأربعون كلمة، وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا
أخبرنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي قال: حدثني أبو الحسن المحمودي قراءة: حدثنا تميم بن محمود عن العباس بن (...) عن رجاله: قال: حدثنا
محمد بن صالح عن زيد العجمي عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام): (من قرأ سورة (الحشر) لم يبق جنة ولا نار ولا عرش ولا كرسي ولا حجاب ولا السماوات السبع والأرضون السبع والهوام والريح والطير والشجر والدواب والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه، واستغفروا له، فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (سبح لله ما فى السماوات وما فى الارض وهو العزيز الحكيم * هو الذىأخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا ياأولى الابصار * ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ولهم فى الاخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشآق الله فإن الله شديد العقاب * ما قطعتم من لينة أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين) *) 2
" * (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر) *) الآيات، قال المفسرون: نزلت هذه الآيات بأسرها في بني النضير، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على ألا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ذلك، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وظهر على المشركين قالت بنو النضير: والله إنه للنبي الذي وجدنا نعته في التوراة: لا ترد لهم راية. فلما
266

غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وهزم المسلمون ارتابوا ونافقوا وأظهروا العداوة لرسول الله (عليه السلام) والمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة، فأتوا قريشا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد (عليه السلام). ثم دخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة، ثم رجع كعب بن الأشرف وأصحابه إلى المدينة، فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان، وأمر (عليه السلام) بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة الأنصاري، وكان أخاه من الرضاعة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع منهم على خيانة ونقض عهد، حتى أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعلي (ج) يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة حين أغربا إلى بني عامر، فأجابوه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وأجلسوه وهموا بالفتك به وطرح حجر عليه من فوق الحصن، فأخبره الله سبحانه بذلك وعصمه.
وقد مضت هذه القصة وقصة مقتل كعب بن الأشرف،
فلما قتل كعب أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية لهم يقال لها: زهرة، فلما سار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب، وكان سيدهم، فقالوا: يا محمد، واعية على إثر واعية، وباكية على إثر باكية؟ قال: (نعم). قالوا: ذرنا نبكي بشجونا ثم ائتمرنا أمرك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اخرجوا من المدينة).
قالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك.
فتنادوا بالحرب وأذنوا بالقتال، ودس المنافقون: عبد الله بن أبي وأصحابه إليهم ألا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصونها. ثم أجمعوا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه: اخرج في ثلاثين رجلا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون رجلا حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينكم، فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبرا من اليهود، حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلهم يحب أن يموت قبله؟ فأرسلوا إليه: كيف نفهم ونحن ستون رجلا، اخرج في ثلاثة من أصحابك، ونخرج لك ثلاثة من علمائنا فيسمعوا منك، فإن آمنوا بك آمنا كلنا وصدقناك.
267

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه، وخرج ثلاثة من اليهود، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله (عليه السلام)، فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم فرجع النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام).
فلما كان الغد عدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله سبحانه في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين سألوا نبي الله (عليه السلام) الصلح فأبى عليهم (إلا) أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم فقبلوا ذلك، وصالحهم على الإجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح، وعلى أن يخلوا له ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم.
وقال ابن عباس: صالحهم على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ما بقي.
وقال الضحاك: أعطى كل ثلاثة نفر بعيرا وسقاء، ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحا إلا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق وآل حيي بن
أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم بالحيرة، فذلك قوله سبحانه وتعالى: " * (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب) *) يعني بني النضير " * (من ديارهم) *) التي كانت بيثرب.
قال ابن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وكان فتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان.
" * (لأول الحشر) *) قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان الله سبحانه قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا وكانوا أول حشر في الدنيا حشروا إلى الشام.
قال ابن عباس: من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) قال لهم يومئذ: (اخرجوا). قالوا: إلى أين؟ فقال: (إلى أرض المحشر)، فأنزل الله سبحانه " * (لأول الحشر) *).
وقال الكلبي: إنما قال: " * (لأول الحشر) *)؛ لأنهم أول من حشروا من أهل الكتاب ونفوا من الحجاز.
وقال مرة الهمداني: كان هذا أول الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع
268

جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر بن الخطاب ح وعلى بدنه.
وقال قتادة: كان هذا أول الحشر، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلف.
قال يمان بن رباب: إنما قال: " * (لأول الحشر) *)؛ لأن الله سبحانه فتح على نبيه (عليه السلام) في أول ما قاتلهم.
" * (ما ظننتم) *) أيها المؤمنون " * (أن يخرجوا) *) من المدينة " * (وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله) *) حيث دربوها وحصنوها " * (فأتاهم الله) *) أي أمر الله وعدله " * (من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب) *) بقتل سيدهم كعب بن الأشرف.
" * (يخربون) *) قراءة العامة بالتخفيف، من الإخراب، أي يهدمون،
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وأبو عمرو بن العلاء بالتشديد، من التخريب،
وقال أبو عمرو: إنما اخترت التشديد؛ لأن الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن، وأن بني النضير لم يتركوا منازلهم فيرتحلوا عنها ولكنهم خربوها بالنقض والهدم.
وقال الآخرون: التخريب والإخراب بمعنى واحد. قال الزهري: ذلك أنهم لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه، أو العمود أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها منها ويحملونها على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها.
وقال ابن زيد: كانوا يقتلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب حتى الأوتاد يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسدا منهم وبغضا.
وقال الضحاك: جعل المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم جعلوا هم ينقضون بيوتهم بأيديهم ويخربونها ثم يبغون ما خرب المسلمون.
وقال ابن عباس: كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع لهم المقاتل، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارهم فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم منها، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها، ويخربها اليهود من داخلها فذلك قوله سبحانه " * (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) *).
269

" * (فاعتبرو) *): فاتعظوا " * (يا أولي الأبصار) *) يا ذوي العقول.
" * (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) *): الخروج عن الوطن " * (لعذبهم في الدنيا) *) بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة " * (ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله) *) وقرأ طلحة بن مصرف: (ومن يشاقق الله) (كالتي في الأنفال) * * (فإن الله شديد العقاب) *).
" * (ما قطعتم من لينة) *) الآية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا في حصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا: يا محمد، زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخيل؟ فهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم، وخشوا أن يكون ذلك فسادا، واختلف المسلمون في ذلك، فقال بعضهم: لا تقطعوا؛ فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها، فأنزل الله سبحانه هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله سبحانه.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر وأبو الأزهر وحمدان وعلي قالوا: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريح قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي (عليه السلام) قطع نخل بني النضير وحرق، ولها يقول حسان:
وهان على سراة بني لؤي
حريق بالبويرة مستطير
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله وأبو محمد إسحاق بن إبراهيم وأبو علي الحسن بن محمد وأبو القاسم الحسن بن محمد قالوا: حدثنا أبو العباس الأصم قال: أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحراق نخل بني النضير، فقال فيه حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لؤي
حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزل قوله سبحانه: " * (ما قطعتم من لينة) *). اختلفوا فيها فقال قوم: هي ما دون العجوة من النخل، فالنخل كله لينة ما خلا العجوة، وهو قول عكرمة ويزيد بن رويان وقتادة.
ورواية باذان عن ابن عباس قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخلهم إلا العجوة، وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمر: الألوان، واحدها لون ولينة، وأصلها لونة فقلبت الواو بالكسرة ما قبلها.
270

وقال الزهري: اللينة ألوان النخل كلها إلا العجوة والبرنية،
وقال مجاهد وعطية وابن زيد: هي النخل كله من غير استثناء.
العوفي عن ابن عباس: هي لون من النخل.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدثنا الحضرمي قال: حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا عبد الله بن مبارك، عن عثمان بن عطإ، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: " * (ما قطعتم من لينة) *) قال: النخلة والشجرة.
قال سفيان: هي كرام النخل.
وقال مقاتل: هي ضرب من النخل يقال لثمرتها: اللون، وهو شديد الصفرة ترى نواه من خارج يغيب فيه الضرس. وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم، وكانت النخلة الواحدة منها ثمن وصيف، وأحب إليهم من وصيف، فلما رأوا ذلك الضرب يقطع شق عليهم مشقة شديدة، وقالوا للمؤمنين: تزعمون أنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون وتخربون وتقطعون الشجر، دعوا هذا النخل، فإنما هي لمن غلب عليها.
وقيل: هي النخلة القريبة من الأرض.
وأنشد الأخفش:
قد شجاني الحمام حين تغنى
بفراق الأحباب من فوق لينه
والعرب تسمي ألوان النخل كلها لينة،
قال ذو الرمة:
كأن قتودي فوقها عش طائر
على لينة فرواء تهفو جنوبها
وقال أيضا:
طراق الخوافي واقعا فوق لينة
لدى ليلة في ريشه يترقرق
وجمع اللينة لين، وقيل: ليان،
قال امروء القيس يصف عنق فرس.
وسالفة كسحوق الليا
ن أضرم فيها الغوي السعر
271

" * (أو تركتموها قائمة على أصولها) *): سوقها فلم تقطعوها ولم تحرقوها، وقرأ عبد الله: (ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوما على أصولها إلا بإذن الله). وقرأ الأعمش: (ما قطعتم من لينة أو تركتم قوما على أصولها).
" * (فبإذن الله وليجزي الفاسقين) *) أي وليذل اليهود، ويحزنهم ويغيظهم.
2 (* (ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولاكن الله يسلط رسله على من يشآء والله على كل شىء قدير * مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كى لا يكون دولة بين الاغنيآء منكم ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) *) 2
" * (وما أفاء الله) *): رد الله " * (على رسوله) *) ورجع إليه، ومنه فيء الظل " * (منهم) *) من بني النضير من الأموال " * (فما أوجفتم) *): أوضعتم " * (عليه من خيل ولا ركاب) *) وهي الإبل، يقول: لم يقطعوا إليها شقة، ولم ينالوا فيها مشقة ولم يكلفوا مؤونة ولم يلقوا حربا وإنما كانت بالمدينة فمشوا إليها مشيا، ولم يركبوا خيلا ولا إبلا إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملا فافتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحا وأجلاهم عنها وأحرز أموالهم، فسأل المؤمنون النبي صلى الله عليه وسلم القسمة، فأنزل الله سبحانه " * (ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) *).
" * (ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير) *) فجعل أموال بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله (عليه السلام) بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحرث بن الصمة، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: أحدهما سفيان بن عمير بن وهب، والثاني سعيد بن وهب وسلما على أموالهما فأحرزاها.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد قال: أخبرنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميد قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا عمرو بن دينار ومعمر بن راشد، عن ابن شهاب الزهري أنه سمع مالك بن أوس بن الحدثان البصري يقول: سمعت عمر بن الخطاب ح يقول: إن أموال بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصا، فكان رسول الله (عليه السلام) ينفق على أهله منه نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن قال: حدثنا محمد ابن يحيى قال: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا ابن عيينة، عن معمر، عن الزهري
272

قال: وأخبرت عن محمد بن جرير قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا أبو ثور، عن معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فدخلت عليه، فقال: إنه قد حضر أهل ثبات من قومك، وأنا قد أمرنا لهم برضخ فاقسمه بينهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، مر بذلك غيري. قال: اقبضه أيها المرء.
فبينا أنا كذلك إذ جاء مولاه يرفأ فقال: عبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان وسعد يستأذنون. فقال: ايذن لهم. ثم مكث ساعة، ثم جاء فقال: هذا علي والعباس يستأذنان.
فقال: ايذن لهما. فلما دخل العباس قال: يا أمير المؤمنين، اقضض بيني وبين هذا الغادر الفاجر الخائن. وهما حينئذ يختصمان فيما أفاء الله عز وجل على رسوله من أموال بني النضير. فقال القوم: اقضض بينهما يا أمير المؤمنين وأرح كل واحد منهما من صاحبه، فقد طالت خصومتهما. فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث، ما تركناه صدقه).
قالوا: قد قال ذلك. ثم قال لهما: أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟ قالا: نعم. قال: فسأخبركم بهذا الفيء، إن الله سبحانه خص نبيه (عليه السلام) بشيء لم يعط غيره فقال: عز من قائل: " * (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) *) فكانت هذه لرسول الله (عليه السلام) خاصة، فوالله ما اختارها دونكم ولا استأثرها دونكم، ولقد قسمها عليكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله منها سنتهم ثم يجعل ما بقي في مال الله، عز وجل.
" * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) *) يعني من أموال الكفار أهل القرى.
قال ابن عباس: هي قريظة والنضير وهما بالمدينة، وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر، وقرى عرينة، وينبع جعلها الله تعالى لرسوله يحكم فيها ما أراد فاحتواها كلها. فقال ناس: هلا قسمها؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية " * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) *))
.
273

" * (فلله وللرسول ولذي القربى) *) قرابة النبي صلى الله عليه وسلم. وهم بنو هاشم وبنو المطلب.
واختلف الفقهاء في وجه استحقاقهم سهمهم من مال الفيء والغنيمة.
فقال قوم: إنهم يستحقون ذلك بالقرابة ولا تعتبر فيهم الحاجة وعدم الحاجة، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه.
وقال آخرون: إنهم يستحقون ذلك بالحاجة لا القرابة، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، فإذا قسم ذلك بينهم فضل الذكور على الإناث كالحكم في الميراث، فيكون للذكر سهمان، وللأنثى سهم.
وقال محمد بن الحسن: سوي بينهم، ولا يفضل الذكران على الإناث.
ذكر حكم هاتين الآيتين
اختلف العلماء فيه، فقال بعضهم: أراد بقوله: " * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) *): الغنائم التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة وقهرا، وكانت الغنائم في بدء الإسلام لهؤلاء الذين سماهم الله سبحانه في سورة الحشر، دون الغانمين والموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله في سورة الأنفال: " * (واعلموا أنما غنمتم من شيء) *) الآية.
وهذا قول يزيد بن رويان وقتادة.
وقال بعضهم: الآية الأولى بيان حكم أموال بني النضير خاصة لقوله سبحانه: " * (وما أفاء الله على رسوله منهم) *)، والآية الثانية بيان حكم سائر الأموال التي أصيبت بغير قتال، ولم يوجف عليها بالخيل والجمال.
وقال الآخرون: هما واحد، والآية الثانية بيان قسمة المال الذي ذكر الله سبحانه في الآية الأولى.
واعلم أن جملة الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل على ثلاثة أوجه:
أحدها: ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم كالصدقات.
والثاني: الغنائم وهي ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والعهد.
والثالث: الفيء وهو ما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أموال الكافرين عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف خيل وركاب مثل مال الصلح والجزية والخراج والعشور التي تؤخذ من تجار الكفار إذا دخلوا دار الإسلام، ومثل أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم أويموت منهم في دار الإسلام أحد، ولا يكون له وارث.
274

وأما الصدقات، فمصرفها ما ذكر الله سبحانه وتعالى: " * (إنما الصدقات للفقراء) *) الآية وقد مضى البيان عن أهل السهمين.
وأما الغنائم فإنها كانت في بدء الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بها ما يشاء، كما قال عز وجل: " * (قل الأنفال لله والرسول) *) ثم نسخ ذلك بقوله: " * (واعلموا أنما غنمتم من شيء) *) الآية: فجعل أربعة أخماسها للغانمين تقسم بينهم.
فأما ما كان من النقود والعروض والأمتعة والثياب والدواب والكراع فإنه يقسم بينهم، ولا يحبس منهم.
وأما العقار، فاختلف الفقهاء فيه، فقال مالك (رحمه الله): للإمام أن يحبس الأراضي عنهم ويجعلها وقفا على مصالح المسلمين.
وقال أبو حنيفة: الإمام مخير بين أن يقسمها بينهم وبين أن يحبسها عنهم ويجعلها وقفا على مصالح المسلمين.
وقال الشافعي ح: ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، وحكمها حكم سائر الأموال. وهو الاختيار؛ لأن الله سبحانه أخرج الخمس منها بعدما أضاف الجميع إليهم بقوله: " * (غنمتم) *) فدل أن الباقي لهم وحقهم. وأما الخمس الباقي فيقسم على خمسه أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل.
وأما الفيء فإنه كان يقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة وعشرين سهما: أربعة أخماسها، وهي عشرون سهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بها ما شاء ويحكم فيها ما أراد، والخمس الباقي يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة.
وأما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اختلف الفقهاء في الأربعة الأخماس التي كانت له صلى الله عليه وسلم من الفيء.
فقال قوم: إنها تصرف إلى المجاهدين المتصدين للقتال في الثغور، وهو أحد قولي الشافعي ح.
وقال آخرون: تصرف إلى مصالح المسلمين؛ من سد الثغور وحفر الآبار وبناء القناطر ونحوها بدءا بالأهم فالأهم، وهو القول الآخر للشافعي ح.
وأما السهم الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خمس الفيء وخمس الغنيمة فإنه يصرف بعده
275

إلى مصالح المسلمين بلا خلاف، كما قال صلى الله عليه وسلم (الخمس مردود فيكم).
وهكذا ما خلفه من مال غير موروث عنه، بل هو صدقة تصرف عنه إلى مصالح المسلمين كما قال صلى الله عليه وسلم (إنا لا نورث، ما تركناه صدقة). فكانت صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال الفيء الذي خصه الله سبحانه بها له، ينفق منها على أهله نفقة سنة، فما فضل جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله كما ذكر. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليها أبو بكر ح فجعل يفعل بها ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وليها عمر ح على ما ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فلما استخلف عثمان ولاها علي بن أبي طالب على سبيل التولية وجعله القسيم فيها، يليها على ما وليها رسول الله (عليه السلام) وصاحباه، وبالله التوفيق.
أخبرنا عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن أبي جعفر الطبري قال: حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قرأ عمر ح. " * (إنما الصدقات للفقراء) *) حتى بلغ " * (عليم حكيم) *) ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ " * (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) *) الآية ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ " * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) *) حتى بلغ " * (للفقراء المهاجرين... والذين تبوأوا... والذين جاءوا من بعدهم) *)، ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة، فليس أحد إلا له فيها حق. ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو يسير حمره نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه.
" * (كي لا يكون دولة) *) قراءة العامة " * (يكون) *) بالياء " * (دولة) *) بالنصب على معنى كي لا يكون الفيء دولة. وقرأ أبو جعفر بالتاء والرفع، أي كي لا تكون الغنيمة أو الأموال، ورفع " * (دولة) *) فاعلا ل (كان)، وجعل الكينونة بمعنى الوقوع، وحينئذ لا خبر له. والقراء كلهم على ضم الدال من ال " * (دولة) *) إلا أبا عبد الرحمن السلمي فإنه فتح دالها.
قال عيسى بن عمر: الحالتان بمعنى واحد. وفرق الآخرون بينهما، فقالوا: الدولة بالفتح الظفر والغلبة في الحرب وغيرها وهي مصدر، والدولة بالضم اسم الشيء الذي يتداوله الناس بينهم مثل العارية، ومعنى الآية: كي لا يكون الفيء دولة بين الرؤساء والأقوياء والأغنياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء؛ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها
276

لنفسه وهو المرباع، ثم يصطفي منها أيضا يعني المرباع ما شاء، وفيه يقول شاعرهم:
لك المرباع منها والصفايا
وحكمك والنشيطة والفضول
فجعل الله سبحانه أمر الرسول (عليه السلام) بقسمته في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس، فإذا خمس رفع عن المسلمين جميعا.
" * (وما آتاكم) *): أعطاكم " * (الرسول) *) من الفيء والغنيمة " * (فخذوه وما نهاكم عنه) *) من الغلول وغيره " * (فانتهوا) *).
قال الحسن في هذه الآية: يؤتيهم الغنائم ويمنعهم الغلول.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال: حدثنا أبو محمد عبيد بن أحمد بن عبيد الصفار الحمصي قال: حدثنا عطية بن بقية بن الوليد قال: حدثنا عيسى ابن أبي عيسى قال: حدثنا موسى بن أبي حبيب قال: سمعت الحكم بن عمير الثمالي وكانت له صحبة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه، يسير لمن تبعه وطلبه. وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم، فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن. ومن تهاون بالقرآن وبحديثي خسر الدنيا والآخرة. وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي، فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن، ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن. قال الله سبحانه: " * (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا) *)).
وأخبرنا الحسين قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا الفريابي وعبيد الله بن أحمد الكناني قالا: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا معاوية بن هشام قال: حدثنا سفيان الثوري، عن الأشتر، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: لقي عبد الله بن مسعود رجلا محرما وعليه ثيابه، فقال: انزع عنك. فقال الرجل: أتقرأ علي بهذا آية من كتاب الله؟ قال: نعم " * (ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا) *).
" * (واتقوا الله إن الله شديد العقاب) *))
.
* (للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولائك هم الصادقون * والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة ممآ أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح
277

نفسه فأولائك هم المفلحون * والذين جآءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين ءامنوا ربنآ إنك رءوف رحيم) *) 2
" * (للفقراء) *) يعني كي لا يكون ما أفاء الله على رسوله دولة بين الأغنياء منكم، ولكن يكون للفقراء " * (المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) *) في إيمانهم. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذي تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر وخرجوا حبا لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانت فيهم من شديدة، حتى ذكر لنا أن الرجل يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفرة في الشتاء ماله دثار غيرها.
وروى جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قالا: كان أناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحج عليها ويغزو فنسبهم الله أنهم فقراء، وجعل لهم سهما في الزكاة.
" * (والذين تبوأوا) *): توطنوا " * (الدار) *) اي اتخذوا المدينة دار الإيمان والهجرة، وهم الأنصار أسلموا في ديارهم وبنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين فأخر الله عليهم البناء. ونظم الآية: " * (والذين تبوأوا الدار من قبلهم) *) أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقد آمنوا " * (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة) *) حزازة وغيطا وحسدا " * (مما أوتوا) *) أي مما أعطوا المهاجرين من الفيء. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كما ذكرناهم، فطابت أنفس الأنصار بذلك. " * (ويؤثرون على أنفسهم) *) إخوانهم من المهاجرين بأموالهم وديارهم " * (ولو كان بهم خصاصة) *): فاقة وحاجة إلى ما هو يزول؛ وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم.
وأخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد السيستاني قال: حدثنا أبو العباس محمد بن إبراهيم الثقفي قال: أخبرنا محمود بن خداش وسمعته يقول: ما أخذت شيئا أشتري قط قال: حدثنا محمد بن الحسن السيستاني قال: حدثنا الفضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أصابه الجهد فقال: يا رسول الله، إني جائع فأطعمني. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) إلى أزواجه: (هل عندكن شيء؟). فكلهن قلن: والذي بعثك بالحق نبيا ما عندنا إلا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما عند رسول الله ما يطعمك هذه الليلة). ثم قال: (من يضف هذا هذه الليلة يرحمه الله).
278

فقام رجل من الأنصار قال: أنا يا رسول الله. فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه ولا تدخري عنه شيئا. فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية. قال: قومي فعلليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئا، ثم أسرجي فأبرزي، فإذا أخذ الضيف ليأكل قومي كأنك تصلحين السراج فأطفئيه وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشبع ضيف رسول الله. قال: فقامت إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا عن قوتهم ولم يطعموا شيئا، ثم قامت فأبرزت وأسرجت فلما أخذ الضيف ليأكل قامت كأنها تصلح السراج فأطفأته، وجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله (عليه السلام) فظن الضيف أنهما يأكلان معه، حتى شبع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتا طاويين. فلما أصبحا عدوا إلى رسول الله (عليه السلام)، فلما نظر إليهما تبسم ثم قال: (لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة). فأنزل الله سبحانه: " * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *) الآية.
قال أنس بن مالك: أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي وكان مجهودا، فوجهه إلى جار له فتناوله تسعة أنفس ثم عاد إلى الأول، فأنزل الله سبحانه: " * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *).
ويحكى عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية بقرب الري ولهم أرغفة معدودة لم تسع جميعهم ونشروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل واحد منهم إيثارا لصاحبه.
ويحكى عن حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك لطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيقه ومسحت وجهه، فإذا أنا به، قلت: أسقيك؟ فأشار أي نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر قال: آه، فأشار هشام أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قدمات، ثم رجعت إلى هشام فإذا هو قدمات، ثم رجعت إلى ابن عمي فإذا قد مات رحمه الله.
سمعت أبا القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبيد الله الجرجاني يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يحكي عن أبي يزيد البسطامي قال: ما غلبني أحد مثل ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجا، فقال لي: يا أبا يزيد، ما حد الزهد عندكم؟ قلت: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا. فقال هكذا عندنا كلاب بلخ. فقلت: ماحد الزهد عندكم؟ فقال: إذا فقدنا صبرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا محمد أحمد بن محمد بن إبراهيم البلاذري يقول: سمعت بكر بن عبد الرحمن يقول: سئل ذو النون المصري عن علامة الزاهد المشروح صدره فقال: ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت.
279

قال ابن عباس: قال رسول الله (صلى الله عليه سلم) يوم النضير للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة).
فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها. فأنزل الله سبحانه: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) * * (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) *) والشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل، يقال: فلان شحيح من الشح والشح والشحة والشحاحة، قال عمرو بن كلثوم:
ترى اللحز الشحيح إذا أمرت
عليه لماله فيها مهينا
وفرق العلماء من السلف بينهما.
فأخبرني الحسن بن محمد قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدثنا إدريس بن عبد الكريم الحداد قال: حدثنا عاصم بن علي بن عاصم، وأخبرنا عبد الخالق قال: حدثنا ابن حبيب قال: حدثنا ابن شاكر قال: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا المعادي، عن جامع بن شداد، عن أبي الشعثاء قال:
قال رجل لعبد الله بن مسعود: يا أبا عبد الرحمن، إني أخاف أن أكون قد هلكت. قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله سبحانه يقول: " * (ومن يوق شح نفسه) *) وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء. فقال: ليس ذاك الشح الذي ذكر الله سبحانه في القرآن، ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل.
الوالبي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: " * (ومن يوق شح نفسه) *) قال: يقول: هوى نفسه يتبع هواه فلم يقبل الإيمان.
وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله سبحانه ولم يدعه الشح إلى أن يمنع شيئا من شيء أمره الله تعالى به فقد وقاه شح نفسه.
وقال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشح أن يبخل بما في أيدي الناس.
وأخبرني أبي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الله النحوي قال: أخبرنا محمد بن حمدون ابن خالد قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام العسقلاني قال: حدثنا سليمان
280

ابن بنت شراحيل قال: حدثنا إسماعيل بن عباس قال: حدثنا عمارة بن عدية الأنصاري، عن عمه عمر بن جارية، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف وأعطى في النائبة).
أخبرني أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي بن عبد الله ابن محمد الطائي قال: حدثنا عبد الله بن زيد قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء قال: حدثنا إسماعيل بن عباس عن هشام بن الغاد عن أبان عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: (اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها ووسواسها).
وأخبرنا أبو عبد الله قال: حدثنا هارون بن محمد بن هارون قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن سنان قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: حدثنا داود بن قيس الفراء، عن عبد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الشح؛ فان الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم).
وروى سعيد بن جبير، عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهم قني شح نفسي. لا يزيد على ذلك. فقلت له فيه، فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل. وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف.
ويحكى أن كسرى قال لأصحابه: أي شيء أضر بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشح أضر من الفقر؛ لأن الفقير إذا وجد اتسع، والشحيح لا يتسع أبدا.
" * (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) *).
قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: الفقراء المهاجرون، والذين تبوأوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجهد ألا تكون خارجا من هذه المنازل.
أخبرني الحسن قال: حدثنا علي بن إبراهيم الموصلي قال: حدثنا محمد بن مخلد الدوري قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الحساني قال: حدثني أبو يحيى الحماني، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عيينة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم سيفتنون.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدثنا أحمد بن عبد الله قال: حدثنا محمد بن عبد الله
281

ابن سليمان قال: حدثنا ابن نمير قال: حدثنا أبي، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الملك بن عمير، عن مسروق، عن عائشة خ قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسببتموهم، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الحسن بن علي الطوسي قال: حدثنا محمد بن المؤمل بن الصباح البصري قال: حدثنا النصر بن حماد العتكي قال: حدثنا سيف ابن عمر الأسدي قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا: لعن الله شركم).
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا ابن النعمان قال: حدثنا هارون بن سليمان قال: حدثنا عبد الله يعني ابن داود قال: حدثنا كثير بن مروان الشامي، عن عبد الله بن يزيد الدمشقي قال: أتيت الحسن فذكر كلاما إلا إنه قال: أدركت ثلاثمائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منهم سبعون بدريا كلهم يحدثونني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه).
فالجماعة ألا تسبوا الصحابة، ولا تماروا في دين الله، ولا تكفروا أحدا من أهل التوحيد بذنب
قال عبد الله بن زيد: فلقيت أبا أمامة وأبا الدرداء وواثلة وأنس بن مالك، وكلهم يحدثونني بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الجماعة.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حبيش قال: حدثنا أبو الفضل صالح بن الأصبغ التنوخي قال: حدثنا أبو الفضل الربيع بن محمد بن عيسى الكندي قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا شهاب بن حراش، عن عمه العوام بن حوشب، قال: أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة وهم يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تأتلف عليهم القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرشوا الناس عليهم.
وسمعت عبد الله بن حامد يقول: سمعت محمد بن محمد بن الحسن قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن القاسم الجمحي المكي قال: سمعت محمد بن سعدان المروزي قال: سمعت أحمد بن إسماعيل المروزي، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، عن أبيه قال: قال عامر بن شراحيل الشعبي: يا مالك، تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من
282

خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: حواريو عيسى. وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم فقالوا: أصحاب محمد، أمروا بالاستغفار إليهم فسبوهم؛ فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية ولا تثبت لهم قدم، ولا تجمع لهم كلمة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم، وإدحاض حجتهم، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة.
وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد المعدل قال: حدثنا أبو عبد الله محد بن يونس المقري قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سالم قال: حدثنا سوار بن عبد الله القاضي قال: حدثنا أبي قال: قال مالك بن أنس: من ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا " * (ما أفاء الله ورسوله من أهل القرى) *) حتى أتى على هذه الآية، ثم قرأ " * (للفقراء) *) حتى أتى على هذه الآية، ثم قال: " * (والذين تبوأوا الدار والإيمان) *) حتى أتى على هذه الآية ثم قال: " * (والذين جاؤوا من بعدهم) *) إلى قوله: " * (رؤوف رحيم) *) فمن ينتقصهم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له من الفيء حق.
(* (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون * لانتم أشد رهبة فى صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون * لا يقاتلونكم جميعا إلا فى قرى محصنة أو من ورآء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون * كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم * كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنى برىء منك إنىأخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهمآ أنهما فى النار خالدين فيها وذلك جزآء الظالمين * ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولائك هم الفاسقون * لا يستوىأصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفآئزون * لو أنزلنا هاذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * هو الله الذى لا إلاه إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم * هو الله الذى لا إلاه إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارىء المصور له الاسمآء الحسنى يسبح له ما فى السماوات والارض وهو العزيز الحكيم) *) 2
" * (ألم تر إلى الذين نافقوا) *)، أي أظهروا خلاف ما أضمروا، وهو مأخوذ من (نافقاء اليربوع) وهي أخذ جحرته، إذا أخذ عليه جحر أخذ من جحر آخر، فيقال عند ذلك: نفق ونافق،
283

فشبه فعل المنافق بفعل اليربوع؛ لأنه يدخل من باب ويخرج من باب، فكذلك المنافق يدخل في الإسلام باللفظ ويخرج منه بالعقد. والنفاق لفظ إسلامي لم يكن يعرفه العرب قبل الإسلام.
" * (يقولون لإخوانهم الذين كفرو من أهل الكتاب) *) وهم بنو قريضة والنضير " * (لئن أخرجتم) *) من دياركم " * (لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا) *) سألنا خذلانكم وخلافكم " * (أبدا ولئن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم) *) يا معشر المؤمنين " * (أشد رهبة في صدورهم من الله) *) يقول: يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله " * (ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم) *) يعني اليهود " * (جميعا إلا في قرى محصنة) *)، ولا يبرزون لكم بالقتال " * (أو من وراء جدر) *).
قرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: (جدار) بالألف على الواحد.
وروي عن بعض أهل مكة: (جدر) بفتح الجيم وجزم الدال وهي لغة في الجدار.
وقرأ يحيى بن وثاب (جدر)، بضم الجيم وسكون الدال.
وقرأ الباقون بضمهما.
" * (بأسهم بينهم شديد) *) يعني: بعضهم فظ على بعض وبعضهم عدو لبعض، وعداوتهم بعضهم بعضا شديدة.
وقيل: بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديدة، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله سبحانه.
" * (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) *) متفرقة مختلفة. قال قتادة: أهل الباطل مختلفة أهواؤهم، مختلفة شهاداتهم مختلفة أعمالهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق، وقال مجاهد: أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود " * (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون كمثل الذين من قبلهم) *) يعني مثل هؤلاء كمثل الذين من قبلهم وهم مشركوا مكة. " * (قريبا ذاقوا وبال أمرهم) *) يوم بدر قاله مجاهد، وقال ابن عباس: كمثل الذين من قبلهم يعني بني قينقاع. وقيل: مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان، فربما ذاقوا وبال أمرهم الجلاء والنفي. " * (ولهم عذاب أليم) *).
ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود في تخاذلهم فقال عز من قائل: " * (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر) *) الآية.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الباقرحي قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: حدثنا مقاتل عن عطاء عن ابن عباس وعبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن عباس في قوله سبحانه: " * (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر
284

فلما كفر قال إني بريء منك) *) الآية قال: كان راهب في الفترة يقال له برصيصا وكان قد تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل، فلم يستطيع له شيء فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال: ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا، فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء وهو الذي يتصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على وجه الوحي فجاءه جبرائيل حتى دخل بينهما فدفعه بيده دفعة هينة فوقع من دفعة جبرائيل إلى أقصى أرض الهند، فذلك قوله سبحانه: " * (ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع) *).
فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه ثم مضى حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه برصيصا وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة، فكان يواصل الأيام العشرة والعشرين والأكثر، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته فلما أنفتر برصيصا اطلع من صومعته ورأى الأبيض قائما منتصبا يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لها عنه فلم يجبه، فقال له: إنك ناديتني وكنت مشتغلا عنك فحاجتك؟
قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأنادبك وأقتبس من علمك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال: برصيصا: إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنا فإن الله سبحانه سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين والمؤمنات نصيبا إن استجاب لي، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما بعدها، فلما انفتل رآه قائما يصلي، فلما رآى برصيصا شدة اجتهاده وكثرة تضرعه وابتهاله إلى الله سبحانه كلمه وقال له: حاجتك؟
قال: حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك، فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام الأبيض معه حولا يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوما ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يوما مرة وربما مد إلى الثمانين، فلما رأى برصيصا أجتهاده تفاطرت إليه نفسه فأعجبه شأن الأبيض، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق فأن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت، قال: فدخل على برصيصا من ذلك أمر شديد وكره مفارفته للذي رأى من شدة اجتهاده، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها أياك تدعو بهن فهي خير مما أنت فيه، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم بهذا الناس شغلوني عن العبادة، فلم يزل به الأبيض حتى علمه، ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال له: قد والله أهلكت
285

الرجل، قال: فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاءه في صورة رجل متطبب فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونا فأعالجه؟
قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنيته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله عز وجل فيعافى، فقالوا له: دلنا، فانطلقوا إلى برصيصا فإن عنده أسم الله الذي إذا دعى به أجاب، قال: فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان، وكان يفعل الأبيض بالناس مثل، من مكانك قال: وما هي؟ قال: تسجد لي،
قال: أفعل، فسجد له، فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك فلما كفر قال: " * (إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) *) يقول ا لله سبحانه: " * (فكان عاقبتهما) *) يعني الشيطان وذلك الإنسان " * (أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين) *).
قال ابن عباس: فضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله سبحانه أمر نبيه (عليه السلام) أن يخلي بني النضير عن المدينة، فدس المنافقون إليهم، فقالوا: لا تجيبوا محمدا إلى مادعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم كنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم. قال: فأطاعوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين حتى جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله.
قال ابن عباس: فكانت الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية والكتمان وطمع أهل الفجور والفسق في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح، حتى كان أمر جريج الراهب، فلما برأ الله جريجا الراهب مما رموه به فانبسطت بعدها الرهبان وظهروا للناس.
" * (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله) *) بأداء فرائضه واجتناب معاصيه " * (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) *) يعني يوم القيامة " * (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله) *) أي نسوا حق الله وتركوا أمره " * (فأنساهم أنفسهم) *) يعني حظ أنفسهم أن يقدموا لها خيرا " * (أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون لو أنزلنا هذا القرآن على جبل) *) وركبنا فيه العقل " * (لرأيته) *) في صلابته ورزانته " * (خاشعا) *) ذليلا خاضعا " * (متصدعا) *) يعني متشققا " * (من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو الله الذي لا اله إلا هو عالم الغيب) *) وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه " * (والشهادة) *) وهي ماعلموه وشاهدوه، وقال الحسن: يعني السر والعلانية.
" * (هو الرحمان الرحيم هو الله الذي لا إله هو الملك) *) وهو ذو الملك وقيل: القادر على
286

اختراع الأعيان " * (القدوس) *) الظاهر من كل عيب المنزه عما لا يليق به. قال قتادة: المبارك، وقال ابن كيسان: الممجد وهو بالسريانية قديشا.
" * (السلام المؤمن) *) قال بعضهم: المصدق لرسله باظهار معجزاته عليهم، ومصدق للمؤمنين ما وعدهم من الثواب وقابل إيمانهم، ومصدق للكافرين ما أوعدهم من العقاب.
قال ابن عباس ومقاتل: هو الذي آمن الناس من ظلمه وآمن من آمن به من عذابه من الإيمان الذي هو هذا التخويف كما قال: " * (وآمنهم من خوف) *).
وقال النابغة:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها
ركبان مكة بين الغيل والسند
وقال ابن زيد: هو الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه، وقال الحسين بن الفضل: هو الداعي إلى الإيمان والآمر به والموجب لأهله اسمه. القرظي: هو المجير كما قال: " * (وهو يجير ولا يجار عيله) *). " * (المهيمن) *) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: الشهيد. ضحاك: الأمين. ابن زيد: المصدق. ابن كيسان: هو اسم من أسماء الله في الكتب، الله أعلم بتأويله. عطا: المأمون على خلقه. الخليل: هو الرقيب. يمان: هو المطلع. سعيد بن المسيب: القاضي. المبرد: (المهيمن في معنى مؤيمن إلا أن الهاء بدل من الهمزة).
قال أبو عبيدة: هي خمسة أحرف في كلام العرب على هذا الوزن: المهيمن والمسيطر والمبيطر والمنيقر وهو الذاهب في الأرض، والمخيمر اسم جبل.
" * (العزيز الجبار) *) قال ابن عباس: هو العظيم، وجبروت الله عظمته، وهو على هذا القول صفة ذات، وقيل: هو من الجبر وهو الإصلاح، يقال: جبرت العظم إذا أصلحته بعد كسر، وجبرت الأمر، والجبر وجبرته فجبر تكون لازما ومتعديا قال العجاج:
قد جبر الدين الإله فجبر
ونظيره في كلام العرب: دلع لسانه فدلع، وفغر فاه ففغر، وعمر الدار فعمرت، وقال السدي: هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراد.
287

أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قال: حدثنا محمد بن بكار بن الريان. قال حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال: إنما يسمى الجبار، لأ نه جبر الخلق على ما أراد والخلق أرق شأنا من أن يعصوا (له أمرا) بل طرفة عين إلا بما أراد، وسئل بعض الحكماء عن معنى الجبار فقال: هو القهار الذي إذا أراد أمرا فعله وحكم فيه بما يريد لا يحجزه عنه حاجز ولا يفكر فيمن دونه. إن آدم أجتبي من غير طاعة وإن إبليس لعن على كثرة الطاعة، وقيل: هو الذي لا تناله الأيدي، من قول العرب: نخلة جبارة، إذا طالت وفاتت الأيدي قال الشاعر:
سوامق جبار أثيث فروعه
وعالين قنوانا من البسر أحمرا
" * (المتكبر) *) عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به، وأصل الكبر والكبرياء: الامتناع وقلة الانقياد، قال حميد بن ثور:
عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت
بها كبرياء الصعب وهي ذلول " * (الخالق) *) المقدر المقلب للشي بالتدبير إلى غيره كما قال: " * (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا بعد خلق) *) وقال: " * (
خلقكم أطوارا) *)
" * (البارئ) *) المنشيء للأعيان من العدم إلى الوجود " * (المصور) *) الممثل للمخلوقات والعلامات المميزة والهيئات المتفرقة حتى يتميز بها بعضها من بعض يقال: هذه صورة الأمر أي مثاله، فأولا يكون خلقا ثم (نطفة ثم علقة) ثم تصويرا إذا انتهى وكمل، والله أعلم.
" * (له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) *).
أخبرنا أحمد بن محمد بن يعقوب الفقيه بالقصر قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد قال: حدثنا الحسن بن عرفة قال: حدثنا محمد بن صالح الواسطي عن سليمان ابن محمد عن عمر بن نافع عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على هذا المنبر يعني منبر رسول صلى الله عليه وسلم وهو يحكي عن ربه سبحانه فقال: (إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته تبارك وتعالى ثم قال هكذا وشد قبضته ثم بسطها ثم يقول: أنا الله أنا الرحمن أنا الرحيم أنا الملك أنا القدوس أنا السلام أنا المؤمن أنا
288

المهيمن أنا العزيز أنا الجبار أنا المتكبر أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا، أنا الذي أعدتها أين الملوك أين الجبابرة).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا محمد بن يونس الكريمي قال: حدثنا عمرو بن عاصم قال حدثنا أبو الأشهب عن يزيد بن آبان عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ آخر سورة الحشر غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا أحمد بن أبي سريح وأحمد بن منصور الرمادي قالا: حدثنا أبو أحمد الزبيدي قال: حدثنا خالد بن سليمان قال: حدثني نافع عن أبي نافع عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، فأن مات في ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة).
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا السماح قال: حدثنا أحمد بن الفرح قال: حدثنا أبو عثمان يعني المؤذن قال: حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا أمامة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ خواتيم الحشر من ليل أو نهار فقبض في ذلك اليوم أو الليلة فقد أوجب الجنة).
وأخبرني ابن القاسم قال حدثنا ابن بختيار قال: حدثنا مكي بن عيدان قال: حدثنا إبراهيم ابن عبد الله قال: حدثنا عمرو بن عاصم قال: حدثنا أبو الأشهب قال: حدثنا يزيد الرقاسي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ آخر سورة الحشر: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل إلى آخرها فمات من ليلته مات شهيدا).
وأخبرني أبو عثمان بن أبي بكر الحبري قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد الحجاجي قال: أخبرنا عبد الله بن أبان بن شداد أن إسماعيل بن محمد الحبريني حدثهم قال: حدثنا علي بن زريق قال: حدثنا هشام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: (عليك بأخر سورة الحشر فأكثر قرأتها، فأعدت عليه فعاد علي، فأعدت عليه فعاد علي).
289

((سورة الممتحنة))
مدنية، وهي ألف وخمسمائة وعشرة أحرف، وثلاثمائة وثماني وأربعون كلمة، وثلاثة عشر آية
أخبرنا الجباري قال: حدثنا ابن حيان قال: أخبرنا الفرقدي قال: حدثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدثنا يوسف بن عطية قال: حدثنا هارون بن كثير قال: حدثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي ابن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الممتحنة كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أوليآء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جآءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغآء مرضاتى تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بمآ أخفيتم ومآ أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سوآء السبيل * إن يثقفوكم يكونوا لكم أعدآء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون * لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير * قد كانت لكم أسوة حسنة فىإبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك ومآ أملك لك من الله من شىء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنآ إنك أنت العزيز الحكيم * لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد * عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم * لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولائك هم الظالمون * ياأيها الذين ءامنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وءاتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن
290

إذآ ءاتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسئلوا مآ أنفقتم وليسئلوا مآ أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم * وإن فاتكم شىء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا واتقوا الله الذىأنتم به مؤمنون) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) *) نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت
رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين ورسول الله صلى الله عليه وسلم تجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمسلمة جئت؟) قالت: لا، قال: (أمهاجرة جئت؟) قالت: لا، قال: (فما جاء بك؟) قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني، فقال لها: (فأين أنت من شباب مكة؟) وكانت مغنية نائحة.
قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها بني عبد المطلب وبني المطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير، هذه رواية يادان عن أبن عباس، وقال مقاتل بن حيان: أعطاها عشرة دراهم، قالوا: وكساها بردا علم أن يوصل الكتاب إلى أهل مكة، وكتب في الكتاب: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم) فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وعمار وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مريد وكانوا كلهم فرسانا، وقال لهم: (أنطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فأن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها، وأن لم تدفعه أليكم فاضربوا عنقها).
قال: فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، فحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا فهموا بالرجوع فقال عليح والله ما كذبنا ولا كذبنا وسل سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا والله لا جردنك ولأضربن عنقك. فلما رأت الجد أخرجت من ذؤابتها قد خبأتها في شعرها، فخلوا سبيلها ولم يعترضوا لها ولا لمن معها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول صلى الله عليه وسلم إلى حاطب فأتاه، فقال له: (هل تعرف الكتاب؟) قال: نعم، قال: (فما حملك على ما صنعت)؟
فقال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت عزيزا فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي فاردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله
291

ينزل بهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره، فقام عمر بن الخطاب ح فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومايدريك يا عمر لعل الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن غالب قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا ليث عن أبي الدنير عن جابر أن عبدا لحاطب جاء يشتكي حاطبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (كذبت، لا يدخلها أبدا لأنه شهد بدرا والحديبية).
وأنزل الله سبحانه في شأن حاطب ومكاتبته المشركين " * (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) *) أي المودة، والباء صلة، كقول القائل: أريد أن أذهب، وأريد بأن أذهب، قال الله سبحانه " * (ومن يرد فيه بإلحاد) *) أي إلحادا بظلم ومنه قول الشاعر:
فلما رجت بالشرب هز لها العصا
شحيح له عند الازاء نهيم
أي رجت الشرب.
" * (وقد) *) واو الحال " * (كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وأياكم) *) من مكة " * (أن تؤمنوا) *) أي لأن آمنتم " * (بالله ربكم أن كنتم خرجتم) *) في الكلام تقديم وتأخير، ونظم الآية: لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم إن كنتم خرجتم " * (جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم) *) يروكم ويظهروا علكيم " * (يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم) *) بالقتل " * (وألسنتهم بالسوء) *) بالشتم " * (وودوا لو تكفرون) *) فلا تناصحوهم فإنهم لا يناصحوكم ولا يوادونكم.
" * (لن ينفعكم) *) يقول لا تدعونكم قرابتكم وأولادكم التي بمكة إلى خيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم ومطاهرتهم فلن ينفعكم " * (أرحامكم ولا أولادكم) *) التي عصيتم الله سبحانه لأجلهم " * (يوم القيامة يفصل بينكم) *) فيدخل أهل طاعته والإيمان به الجنة، ويدخل أهل معصيته والكفر به النار
292

واختلف القراء في قوله: " * (يفصل بينكم) *) فقرأ عاصم ويعقوب وأبو حاتم بفتح الياء وكسر الصاد مخففا، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الياء وكسر الصاد مشددا، وقرأ ابن عامر والأعرج بضم الياء وفتح الصاد وتشديده، وقرأ طلحة والنخعي بالنون وكسر الصاد والتشديد، وقرأ أبو حيوة يفصل من أفصل يفصل، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الصاد مخففا من الفصل.
" * (والله بما تعملون بصير) *) أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: أخبرنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الدين النصيحة) ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
" * (قد كانت لكم أسوة) *) قدوة " * (حسنة في إبراهيم) *) خليل الرحمن " * (والذين معه) *) من أهل الإيمان " * (إذ قالوا لقومهم) *) المشركين " * (
أنا براء منكم) *) جمع بريء، وقراءة العامة على وزن فعلا غير مجز، وقرأ عيسى بن عمر " * (براء) *) بكسر الباء، على وزن فعال مثل قصير وقصار وطويل وطوال " * (ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم) *) أي جحدنا بكم وأنكرنا دينكم " * (وبدت بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم) *) يعني قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في قوله: " * (لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء) *) أن عصيته نهوا أن يتأسوا في هذه خاصة بإبراهيم فيستغفروا للمشركين، ثم بين عذره في سورة التوبة.
وفي هذه الآية دلالة بينة على تفضيل نبينا وذلك أنه حين أمر بالاقتداء به أمر على الإطلاق ولم يستثن فقال: " * (ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *) وحين أمر بالاقتداء بإبراهيم استثنى.
" * (ربنا عليك توكلنا) *) (هذا قول) إبراهيم ومن معه من المؤمنين.
" * (وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم) *) يعني في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء " * (أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فان الله هو الغني الحميد) *) فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين في الله وأظهروا لهم العداوة والبراءة فعلم سبحانه شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله سبحانه: " * (عسى الله أن يجعل بينكم) *) أيها المؤمنون " * (وبين الذين عاديتم منهم) *) من مشركي مكة " * (مودة والله قدير والله غفور رحيم) *) يفعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانا وخالطوهم وناكحوهم وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة
293

بنت أبي سفيان بن حرب فلأن لهم أبو سفيان وكانت أم حبيبة تحت عبد الله بن جحش بن ذياب، وكانت هي وزوجها من مهاجري الحبشة، فنظر بوجهها وحاولها أن تتابعه فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فيها ليخطبها عليه، فقال النجاشي لأصحابه: من أولى بها؟
قالوا: خالد بن سعيد بن العاص، قال: فزوجها من نبيكم، ففعل ومهرها النجاشي أربعمائة دينار، وساق أليها مهرها، ويقال بل خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان فلما زوجه إياها بعث إلى النجاشي فيها، فساق عنه وبعث بها إليه فبلغ ذلك أبا سفيان وهو يومئذ مشرك فقال: ذاك الفحل لا يقرع أنفه.
رخص الله سبحانه في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من جميع الكافرين، فقال عز من قائل: " * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) *) تعدلوا فيهم بالإحسان والبر.
" * (إن الله يحب المقسطين) *) واختلف العلماء فيمن نزلت فيهم هذه الآية، فقال ابن عباس: نزلت في خزاعة منهم هلال بن عديم وخزيمة ومزلقة بن مالك بن جعشم وبنو مدلح وكانوا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا، وقال عبد الله بن الزبير: نزلت في أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها فتيلة بنت الغري بن عبد أسعد من بني مالك بن حنبل قدمت عليها المدينة بهدايا ضيابا وقرطا وسمنا وهي مشركة، فقالت أسماء: لا أقبل منك هدية ولاتدخلين علي في بيتي حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لها عائشة: رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل هذه الآية، فأمر بها رسول الله أن تدخلها منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها. وقال مرة الهمداني وعطية العوفي: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس.
" * (إنما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في دينكم وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على أخراجكم) *) وهم مشركو مكة " * (أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) *) الواضعون الولاية في غير موضعها.
" * (ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) *) الآية قال ابن عباس: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على من أتاه من أهل مكة رده عليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو لهم ولم يردوه عليه، وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم وقال مقاتلان هو صفي بن الراهب في طلبها، وكان كافرا فقال: يا محمد أردد علي امرأتي فأنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله سبحانه " * (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) *) من دار الكفر إلى دار الإسلام.
294

" * (فامتحنوهن) *) قال ابن عباس: إمتحانهن أن يستحلفهن ماخرجت من بغض زوح وما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض وما خرجت التماس دنيا وما خرجت إلا حبا لله ورسوله، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خرجت بغضا لزوجها ولا عشقا لرجل منا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام، فحلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهرها وما أنفق عليها ولم يردها عليه، فتروجها عمر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد من جاء من الرجال ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحن ويعطي أزواجهن مهورهن، فلذلك قوله سبحانه: " * (فإن علمتوهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهن) *) يعني أزواجهن الكفار ما انفقوا عليهن من المهر " * (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) *) مهورهن وأن كن لهن أزواج كفار في دار الكفر؛ لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرئت أرحامهن.
" * (ولا تمسكوا) *) قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك، وتكون الباء صلة مجازه: ولا تمسكوا عصم الكوافر وقرأ الحسن أبو عمرو ويعقوب وأبو حاتم بالتشديد من التمسك وقال: مسكت بالشيء وتمسكت به، والعصم جمع العصمة وهي ما اعتصم به من العقد والمسك، والكوافر: جمع كافرة. نهى الله المؤمنين عن المقام على
نكاح المشركات، وأمرهم بفراقهن قال ابن عباس: يقول لا تأخذوا بعقد الكوافر ممن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها فقد انقطعت عصمتها منه وليست له بامرأة، وإن جاءتكم امرأة مسلمة من أهل مكة ولها بها زوج كافر فلا تعتدن به فقد انقطعت عصمته منها.
قال الزهري: فلما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب ح امرأتين كانتا له بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمر بن حروا الخزاعية أم عبد الله بن عمر، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم رجل من قومه وهما على شركهما، وكانت عند طلحة بن عبيد الله بن عثمان ابن عمرو التيمي أروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب ففرق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر، وكان طلحة قد هاجر وهي بمكة على دين قومها ثم تزوجها في الإسلام بعد طلحة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، فكانت ممن فر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار فحبسهما وزوجها خالدا، وأميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة ففرت منه وهو يومئذ كافر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن حنيف، فولدت عبد الله بن سهل.
قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع فأسملت
295

ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وأقام العاص مشركا في مكة ثم أتى المدينة فأمنته زينب ثم أسلم فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
" * (واسألوا) *) أيها المؤمنون الذين ذهبت أزواجكم فلحقن بالمشركين " * (ما أنفقتم) *) عليهن من الصدقات من تزويجهن منهم " * (وليسألوا) *) بعد المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن فيكم من يتزوجها منكم.
" * (ما أنفقوا) *) من المهر " * (ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم) *) قال الأزهري: ولولا العهد والهدنة الذي كان بينه عليه السلام وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يردد أليهم صداقا، وكذلك يصنع بمن جاء من المسلمات قبل العهد، فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله سبحانه وأدوا ما أمروا من نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين فأنزل الله سبحانه " * (وأن فاتكم) *) أيها المؤمنون " * (شيء من أزواجكم إلى الكفار) *) فلحقن بهم مرتدات " * (فعاقبتم) *) قراءة العامة بالألف وأختاره أبو عبيدة وأبو حاتم، وقرأ إبراهيم وحميد والأعرج فعقبتم مشددا، وقرأ مجاهد فأعقبتم على وزن أفعلتم وقال: صنعتم بهم كما صنعوا بكم، وقرأ الزهري (فعقبتم) خفيفة بغير ألف، وقرأ فعقبتم كسر القاف خفيفة وقال: غنمتم.
وكلها لغات بمعنى واحد يقال: عاقب وعقب وعقب وعقب وأعقب ويعقب واعتقب وتعاقب إذا غنم.
ومعنى الآية: فغزوتم وأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة وظفرتم وكانت العاقبة لكم، وقال المؤرخ: معناه فحلقتم من بعدهم وصار الأمر إليكم، وقال الفراء: عقب وعاقب مثل تصعر وتصاعر، وقيل: غزوة بعد غزوة.
" * (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار منكم مثل ما أنفقوا) *) عليهم من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار وقيل: فعاقبتم المرتدة أي قتلتموها، وكان جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي آمنة بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، ويروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن فضلة وزوجها عمر بن عبدون، وهند بنت أبي جهل بن هشام وكانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وكلثوم بنت جدول كانت تحت عمر ابن الخطاب، وأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة.
" * (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) *).
296

2 (* (ياأيها النبى إذا جآءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك فى معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم * ياأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الاخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور) *) 2
" * (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) *) الآية وذلك يوم فتح مكة لما فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة مستنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا) فرفعت هند رأسها وقالت والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يسرقن) فقالت هند: إن أبي سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله هنات ولا أدري أتحل لي أم لا؟
فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: (وإنك لهند بنت عتبة) قالت: نعم، فأعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال: (لا يزنين) فقالت هند أوتزني الحرة؟ فقال: " * (ولا يقتلن أولادهن) *) فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " * (ولا يأتين بهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) *) وهو أن تقذف ولدا على زوجها وليس منه، فقالت هند: والله إن البهتان يقبح وما تأمرنا إلا مكارم الأخلاق، " * (ولا يعصينك في معروف) *) فقالت: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء، فأقر النسوة بما أخد عليهن.
وأختلف العلماء في كيفية بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه النساء، فأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكي قال: حدثنا عبد الرحمن بن بشر قال: حدثنا سفيان وأخبرنا عبد الله ابن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثنا بشر بن مطر قال: حدثنا سفيان بن عتبة عن محمد بن المفكر وسمع أميمة بنت رفيقة تقول: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فقال: فيما استطعتن وأطقتن فقلت: رسول الله أرحم بنا من أنفسنا، قلت: يا رسول الله صافحنا قال: (إني لا أصافح النساء إنما قولي (لامرأة واحدة) كقولي لمائة امرأة).
وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن قال: حدثنا
297

محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كان رسول صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية على أن لا يشركن بالله شيئا قالت: وما مس يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط الأيد امرأة تملكها، وقال السعري كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء وعلى يده ثوب مطري.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم غمس أيديهن فيه، وقال الكلبي: كان رسول صلى الله عليه وسلم يشرط على النساء وعمر ح يصافحهن.
وأختلف المفسرون في معنى المعروف فقال القرظي: المعروف الذي لا يعصينه فيه، ربيع: كل ما وافق طاعة الله فهو معروف، فلم يرض الله لنبيه أن يطاع في معصية الله. بكر بن عبد الله المدني: لا يعصينك في كل أمر فيه رشدهن، مجاهد: لا تخلو المرآة بالرجال، سعيد ابن المسيب ومحمد بن السائب وعبد الرحمن بن زيد: لا تحلقن ولا تسلقن ولا تحرقن ثوبا ولا ينتفن شعرا ولا يخمشن وجها ولا ينشرن شعرا ولا يحدثن الرجال إلا ذا محرم ولا تخلوا امرأة برجل غير ذي محرم ولا تسافر امرأة ثلاثة أيام مع غير ذي محرم، ابن عباس: لا ينحن.
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسين قال: حدثنا أحمد بن محمد بن علي الهمداني قال: حدثنا محمد بن علي بن مخلد الفرقدي قال: حدثنا سليمان الشادكوى قال حدثنا النعمان بن عبد السلام قال حدثني عمرو بن فروخ قال: حدثنا مصعب بن نوح قال: أدركت عجوزا ممن بايعت النبي صلى الله عليه وسلم فحدثتني عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعصينك في معروف قال: النوح وأخبرنا الحسن قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: أخبرنا أبو بكر بن سلام قال: حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال: حدثنا سعدون قال: حدثنا سليمان بن داود قال حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين صفا عن اليمين وصفا وعن الشمال وينبحن كما تنبح الكلاب).
وأخبرنا الحسين قال: حدثنا السني قال: أخبرني إسحاق بن مروان الخطراني قال: حدثنا الحسن بن عروة قال: حدثنا علي بن ثابت الحرري قال: حدثنا حسان بن حميد عن سلمة بن جعفر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء عليها جلباب من لعنة ودرع من حرب واضعة يدها على رأسها تقول: واويلاه، وملك يقول: آمين، ثم يكون من ذلك حظها النار).
298

وأخبرنا الحسن قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: أخبرنا أبو يعلي الموصلي قال: حدثنا هدية بن خالد قال حدثنا أبان بن يزيد قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير أن زيدا حدثه أن أبا سلمة حدثه أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر في الإحساب والطعن في الأنساب والإستسقاء بالنجوم والنياحة).
وقال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها يقام يوم القيامة عليها سربال من قطران ودرع من حرب).
وأخبرنا الحسن قال: أخبرنا ابن حمدان قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن سنان قال: حدثنا عبد الله بن رجاء العداي قال: حدثنا عمران بن دوار القطان قال: حدثنا قتادة عن أبي مرانة العجلي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنة.
وأخبرنا الحسن قال: حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثني عمر بن حفص المكاري قال: حدثنا أبو عتبة قال: حدثنا فقيه قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثني عطاء بن أبي رياح أنه كان عند ابن عمر وهو يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمسمعة والحالقة والسالقة والواشمة والمتوشمة وقال: (ليس للنساء في اتباع الجنائز أجر).
وأخبرنا الحسن قال: حدثنا ابن حمدان قال: حدثنا يوسف بن عبد الله قال حدثنا موسى ابن إسماعيل قال: حدثنا حماد عن أبان بن أبي عياش عن الحسين أن عمر بن الخطابح سمع نائحة فأتاها فضربها حتى وقع خمارها عن رأسها، فقيل: يا أمير المؤمنين المرأة المرأة قد وقع خمارها، قال: إنها لا حرمة لها.
" * (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) *) وهم اليهود وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين ويتواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك " * (قد يئسوا) *) يعني هؤلاء اليهود " * (من الآخرة) *) أن يكون لهم فيها ثواب " * (كما يئس الكفار من أصحاب القبور) *) أن يرجعوا إليهم أو يبعثوا.
أخبرنا الشيخ أبو علي بن أبي عمرو الخيري الحرشي قال: حدثنا أبي قال: حدثنا محمد ابن خلف بن شعبة قال: حدثنا محمد بن سائق قال: حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن
299

ابن عباس في قوله سبحانه " * (كما يئس الكفار من أصحاب القبور) *) قال: هم الكفار أصحاب القبور قد يئسوا من الآخرة.
وأخبرنا أبو علي بن أبي عمرو قال: حدثنا أبي قال: حدثنا علي بن سعيد بن جبير النسائي قال: حدثنا أبو النظر قال: حدثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد " * (كما يئس الكفار من أصحاب القبور) *) قال: الكفار حين دخلوا قبورهم يئسوا من رحمة الله.
وأخبرنا أبو علي قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: حدثنا موسى قال: حدثنا شبل عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل " * (يئسوا من الآخرة) *) بكفرهم كما يئس الكفار من الموتى في الآخرة حتى يبين لهم أعمالهم.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا عبد الله بن حبيب عن أبي ثابت قال: سمعت القاسم بن أبي بزة يقول في قول الله سبحانه " * (قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور) *) قال: من كان منهم من الكفار يئس من الخير.
300

((سورة الصف))
مكية، وهي تسعمائة حرف، ومائتان وأحدى وعشرون كلمة، وأربع عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن الحيازي قال: حدثنا ابن حبش قال: حدثني أبو عباس محمد بن موسى الرازي قال: حدثنا عبد الله بن روح المدائني قال: حدثني شبابة بن سواد الغزاري قال: حدثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد وعن عطاء بن أبي ميمونة عن بن حبش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة عيسى (عليه السلام) كان عيسى مصليا عليه مستغفرا له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه)
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (سبح لله ما فى السماوات وما فى الارض وهو العزيز الحكيم * ياأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون * إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص * وإذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذوننى وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفاسقين * وإذ قال عيسى ابن مريم يابنى إسراءيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هاذا سحر مبين * ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدى القوم الظالمين * يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذىأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون * ياأيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الانهار ومساكن طيبة فى جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين * ياأيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصارىإلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فئامنت طآئفة من بنىإسراءيل وكفرت طآئفة فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) *) 2
" * (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم
301

تقولون ما لا تفعلون) *) قال مقاتلان: قال المؤمنون قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله سبحانه لعلمناه وبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فدلهم الله على أحب الأعمال اليه فقال: " * (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) *) فبين لهم فابتلوا يوم أحد بذلك، فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال: الكلبي: قال: المؤمنون: يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال لفعلنا ونزل " * (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) *) ثم أنقطع الكلام ولم يبين لهم شيئا فمكثوا بعد ذلك ما شاء الله أن يمكثوا وهم يقولون: ليتنا نعلم ما هي أما والله إذن لأشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين، فدلهم الله سبحانه فقال: " * (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله) *) الآية، فأبتلوا بذلك يوم أحد ففروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صرع وشج في وجهه وكسرت رباعيته، فنزلت هذه الآية يعيرهم ترك الوفاء.
وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر قالت الصحابة: لئن لقينا بعده قتالا لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيرهم الله بهذه الآية، وقال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: وددنا لو أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبرهم الله تعالى أن أفضل الأعمال إيمان لا شك فيه والجهاد، فكره ذلك ناس منه وشق عليهم الجهاد وتباطؤوا عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وقال: قتادة والضحاك: نزلتا في شأن القتال، كان الرجل يقول: قتلت ولم يقاتل، وطعنت ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، وصبرت ولم يصبر.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن مقلاب قال: حدثنا أبو الحرث أحمد بن سعيد بدمشق قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال: أخبرنا حصين بن حذيف الصهري قال: حدثني عمي عن سعيد بن المسيب عن مهيب قال: كان رجل يوم بدر قد آذى المسلمين ونهاهم فقتله صهيب في القتال، فقال رجل: يا رسول الله قتلت فلانا ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمرو بن عبد الرحمن لصهيب: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك قتلته فأن فلانا ينتحله، فقال صهيب: إنما قتلته لله تعالى ولرسوله، فقال عمرو بن عبد الرحمن: يا رسول الله قتله صهيب، قال: كذلك يا أبا يحيى؟ قال: نعم يا رسول الله، فأنزل الله سبحانه " * (يا أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون) *) والآية الأخرى.
وقال الحسن: هؤلاء المنافقون ندبهم الله سبحانه ونسبهم إلى الإقرار الذي أعلنوه للمسلمين فأنزل الله فقال: " * (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) *) كذبا وزورا، وقال: ابن زيد: نزلت في المنافقين كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون، وقال: مجاهد: نزلت في نفر من الأنصار منهم عبد الله بن رواحة قال: في
مجلس لهم: لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا بها حتى نموت، فأنزل الله سبحانه هذه السورة فقال عبد الله بن رواحة: لا أبرح
302

حبيسا في سبيل الله حتى أموت أو أقتل فقتل بمؤته شهيدا رحمة الله عليه ورضوانه، وقال: ميمون بن مهران: نزلت في الرجل يقرض نفسه بما لم يفعله نظيره ويحبون أن يحمدوا عما لم يفعلوا.
حدثنا أبو القاسم الحسيني لفظا قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي قال: حدثنا عمي سعيد الدارمي قال: حدثنا محبوب بن موسى الأنطاكي قال: حدثنا أبو إسحاق الفراري عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سلام قال: خرجنا نتذاكر فقلنا: أيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أي الأعمال أحب إلى الله، ثم تفرقنا وهبنا أن يأتيه أحدنا، فأرسل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمعنا فجعل يومي بعضنا إلى بعض فقرأ علينا " * (سبح لله) *) إلى آخرها.
قال أبو سلمة: فقرأها علينا عبد الله بن سلام إلى آخرها قال يحيى بن أبي كثير: فقرأ علينا أبو سلمة إلى آخرها، قال الأوزاعي: فقرأ علينا يحيى بن إسحاق إلى آخرها، قال أبو إسحاق الفزاري: فقرأها علينا الأوزاعي إلى آخرها، قال محبوب بن موسى: قرأها علينا الفزاري إلى آخرها، قال عثمان بن سعيد: فقرأها علينا محبوب إلى آخرها، قال الطرائفي: فقرأها علينا عثمان بن سعيد إلى آخرها، قال القاسم: وقرأها علينا أبو الحسن الطرائفي إلى آخره، وقرأها علينا الأستاذ أبو القاسم إلى آخرها وسألنا أحمد الثعلبي أن يقرأ فقرأ علينا إلى آخرها.
" * (كبر مقتا) *) نصب على الحال وأن شئت على التمييز.
وقال الكسائي: " * (أن تقولوا) *) في موضع رفع لان " * (كبر) *) بمنزلة قولك بئس رجلا أخوك، وأضمر القراء فيه أسما مرفوعا، والمقت والمقاتة مصدر واحد يقال: رجل ممقوت ومقيت إذا لم تحبه الناس " * (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله) *) ولا يزولون عن أماكنهم " * (كأنهم بنيان مرصوص) *) قد رص بعضه إلى بعض أي أحكم وأيقن وأدق فليس فيه فرجه ولا خلل، وأصله من الرصاص، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (تراصوا بينكم في الصفوف لا يتخللنكم الشياطين كأنها بنات حذف).
" * (وإذ قال: موسى لقومه) *) من بني إسرائيل " * (يا قوم لم تؤذونني) *) وذلك حين رموه بالأدرة " * (وقد تعلمون أني رسول الله إليكم) *) والرسول يحترم ويعظم " * (فلما زاغوا أزاغ الله) *) عن الحق " * (قلوبهم) *) عن الدين " * (والله لا يهدي القوم الفاسقين وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي أسمه أحمد) *) وهو الذي لا يذم، وفي وجهه قولان:
303

أحدهما: أن الأنبياء كلهم حمادون لله سبحانه ونبينا صلى الله عليه وسلم أحمد، أي أكثر حمدا لله منهم.
والثاني: أن الأنبياء كلهم محمودون ونبينا أحمد أي أكثر مناقب وأجمع للفضائل.
" * (فلما جائهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن أفترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم) *) قراءة العامة بالتخفيف من الإنجاء وقرأ ابن عامر بالتشديد من (التنجية) * * (من عذاب أليم) *) بين ما هي فقال: " * (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيله الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة) *).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثني ابن حرجة قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان قال: حدثنا محمد بن الفرح البغدادي قال: حدثنا حجاج بن محمد بن جبير القصاب عن الحسن قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فقال: (قصر من لؤلؤة في الجنة وذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون، على كل فراش امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من كل الطعام، في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة، قال: فيعطي الله المؤمن من القوة في غذاءه وحده ما يأتي على ذلك كله).
" * (في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى) *) قال: نحاة البصرة: هي في محل الخفض مجازه: وتجارة أخرى، وقال نحاة الكوفة: محلها رفع أي ولكم أخرى في العاجل مع ثواب الآجل.
" * (تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين) *) ثم حثهم على نصرة الدين وجهاد المخالفين فقال: " * (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله) *) أعوانا بالسيف على أعدائه، قرأ أبو عمرو وقرأ أهل الحجاز أنصارا بالتنوين وهو اختيار أيوب، وقرأ الباقون بالإضافة وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد قال: لقوله " * (نحن أنصارا لله) *) ولم يقل: أنصارا لله.
" * (كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال: الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) *).
304

((سورة الجمعة))
مدنية، وهي سبعمائة وعشرون حرفا، ومائة وثمانون كلمة، وأحدى عشر آية
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا موسى قال: أخبرنا مكي قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا أبو معاذ عن أبي عصمة عن زيد العمي عن أبي نصرة عن ابن عباس
عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الجمعة كتب له عشر حسنات بعدد من ذهب إلى الجمعة من مصر من أمصار المسلمين ومن لم يذهب).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الارض الملك القدوس العزيز الحكيم * هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلل مبين * وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم * مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بئايات الله والله لا يهدى القوم الظالمين * قل ياأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) *) 2
" * (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس) *) قال أهل اللغة: كل أسم على فعول بتشديد للعين فالفاء منه منصوبة، نحو سفود وكلوب وسمور وشبوط وهو ضرب من السمك إلا أحرف: سبوح وقدوس، ومردوح لواحد المراديح، وحكى الفراء عن الكسائي قال: سمعت أبا الدنيا وكان إعرابيا فصيحا يقرأ القدوس بفتح القاف ولعلها لغة.
" * (العزيز الحكيم) *) وقرأ أبو وائل الملك القدوس بالرفع على معنى هو الملك القدوس.
أخبرني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدثنا محمد بن عبد الله
305

ابن سليمان قال: حدثنا محمد بن إسحاق الرازي قال: حدثنا إسحاق بن سليمان قال: سمعت عمرو بن أبي قيس عن عطاء بن السائب عن ميسرة قال: هذه الآية " * (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم) *) في التوراة سبعمائة آية.
" * (هو الذي بعث في الأميين) *) يعني العرب " * (رسولا منهم) *) محمدا صلى الله عليه وسلم " * (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وأن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم) *) في " * (آخرين) *) وجهان من الأعراب: أحدهما الخفض على الرد إلى الأميين، مجازه: وفي آخرين، والثاني: النصب على الرد إلى الهاء والميم من قوله " * (يعلمهم) *) أي ويعلم آخرين منهم أي من المؤمنين الذين يدينون بدينه.
" * (لما يلحقوا بهم) *) أي لم يدركوهم ولكنهم يكونون بعدهم.
وأختلف العلماء فيهم فقال ابن عمرو سعيد بن جبير: هم العجم، وهي رواية ليث عن مجاهد يدل عليه كما روى ثور بن يزيد عن أبي العتب عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية " * (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) *) كلمه فيها الناس فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سلمان فقال: (لو كان (الدين) عند الثريا لناله رجال من هؤلاء).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثنا إسحاق بن محمد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدثنا علي بن علي قال: حدثني أبو حمزة الثمالي قال: حدثني حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (رأيتني تبعني غنم سود ثم أتبعتها غنم سود ثم اتبعتها غنم عفر) أولها أبا بكر قال: أما السود فالعرب، وأما العفر فالعجم تبعايعك بعد العرب، قال: (كذلك عبرها الملك سحر) يعني وقت السحر.
وبه عن أبي حمزة قال: حدثني السدي قال: كان عبد الرحمن بن أبي ليلى إذا قال: رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يعني به عليا، وإذا قال: رجل من أهل بدر فأنما يعني به عليا، فكان أصحابه لا يسألونه عن أسمه، وقال: عكرمة ومقاتل: هم التابعون، وقال ابن زيد وابن حيان: هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة وهي رواية ابن أبي نحيح عن مجاهد.
وروى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأن في أصلاب أصلاب أصلاب
306

رجال (أمتي) رجالا ونساء يدخلون الجنة بغير حساب) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم * (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) * * (وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم مثل الذين حملوا التوراة) *) أي كلفوا العمل بها " * (ثم لم يحملوها) *) ولم يعملوا بما فيها ولم يؤدوا حقها " * (كمثل الحمار يحمل أسفارا) *) كتبا من العلم والحكمة.
قال الفراء: هي الكتب العظام واحدها سفر، ونظيرها في الكلام شبر وأشبار وجلد وأجلاد فكما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود يقرؤون التوراة ولا ينتفعون به، لأنهم خالفوا ما فيه.
أنشدنا أبو القاسم بن أبي بكر المكتب قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن المنذر قال: أنشدنا أبو محمد العشائي المؤدب قال: أنشدنا أبو سعيد الضرير:
زوامل للأسفار لا علم عندهم
بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري المطي إذا غدا
بأسفاره إذ راح ما في الغرائز
" * (بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس) *) محمد وأصحابه " * (فتمنوا الموت) *) فادعوا على أنفسكم بالموت " * (إن كنتم صادقين) *) أنكم أبناء الله وأحباؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه.
" * (ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) *). أخبرنا الحسن قال: حدثنا السني قال: حدثنا النسائي قال: أخبرني عمرو بن عثمان قال: حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثنا الزبيدي قال: حدثني الزهري عن أبي عبيد أنه سمع أبا هريرة يقول قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يتمن أحدكم الموت أما محسن فإن يعش يزدد خيرا فهو خير له وأما مسيئا فلعله أن يستعتب).
2 (* (قل إن الموت الذى تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون * ياأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) *) 2
" * (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم
307

بما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) *) أي في يوم الجمعة كقوله سبحانه " * (ماذا خلقوا من الأرض) *) أي في الأرض وأراد بهذا النداء الآذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة، يدل عليه ما أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا أحمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد بلال لم يكن له مؤذن آخر غيره، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر كذلك وعمر كذلك حتى إذا كان عثمان فكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذانا فأمر بالتأذين الأول على دار له بالسوق يقال لها الزوراء، فكان يؤذن له عليها، فإذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذنه الأول، فإذا نزل أقام للصلاد فلم يعب ذلك عليه.
وقراءة العامة " * (الجمعة) *) بالضم الميم، وقرأ الأعمش مخففة بجزم الميم وهما لغتان وجمعها: جمع وجمعات.
أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا أبا الحسن بن أيوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: سمعت الكسائي يخبر عن سليمان عن الزهري قال: قال ابن عباس: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم قال الفراء وأبو عبيد: التخفيف حسن وهو (........) في مذهب العربية مثل غرفة وغرف وطرفة وطرف وحجرة وحجر. وقال الفراء: وفيها لغة أخرى ثالثة: جمعة بالفتح كقولك رجل ضحكة وهمزة ولمزة وهي لغة بني عقيل، وقيل: هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما سمي هذا اليوم جمعة لما أخبرنا الحسن قال: حدثنا الكندي قال: حدثنا محمد بن مخلد العطار قال: حدثنا محمد بن عيسى بن أبي موسى قال: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي أمية قال: حدثنا قيس الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن قرثع الضبي عن سليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما سميت الجمعة لأن آدم جمع فيها خلقه). وقيل: لأن الله سبحانه فرغ فيه من خلق الأشياء فأجتمعت فيه المخلوقات.
وقيل: يجمع الجماعات فيها، وقيل: لاجتماع الناس فيه للصلاة، وقيل: أول من سماها جمعة كعب بن لؤي.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حفصويه قال: حدثنا الحسن بن أحمد بن حفص الحلواني قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا عبد العزيز عن محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي سلمة قال: أول من قال: أما بعد كعب بن لؤي، وكان
308

أول من سمى الجمعة الجمعة وكان يقال للجمعة: العروبة، وقيل: أول من سماها جمعة الأنصار.
أخبرني الحسين قال: حدثنا ابن حمدان قال: حدثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدثنا سلمة ابن شيب قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل أن ينزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم أيضا مثل ذلك، فهلموا فلنجعل يوما يجمع فيه فيذكر الله عز وجل ونصلي ونشكره أو كما قالوا.
فقالوا: يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم أسعد بن زرارة شاة فتغدوا وتعشوا من شاة واحده وذلك لقلتهم، فأنزل الله سبحانه في ذلك بعد " * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) *) الآية، فهذه أول جمعة جمعت في الإسلام.
فأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فقال أهل السير والتواريخ: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا حتى نزل قباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين أشتد الضحى فأقام صلى الله عليه وسلم بقباء يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجد وكانت هذه الجمعة أول جمعة.
وقال: الحسن هي مستحبة وليست بفرض، وقال سعيد: جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام فخطب في هذه الجمعة وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل، وقال صلى الله عليه وسلم (الحمد لله أحمده وأستعينه واستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره وأعادي من يكفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصيهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وان
يأمره بتقوى الله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه وأن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون وصدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لاينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه والله روؤف
309

بالعباد، والذي صدق قوله ونجز وعده لا خلق لذلك فإنه يقول ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد، واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فإنه من يتق الله كفر عنه سيئاته، ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وان تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه، وأن تقوى الله تبيض الوجوه وترضي الرب وترفع الدرجة خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفيه الله ما بينه وبين الناس، وذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العظيم).
فلهذا صارت الخطبة شرطا في انعقاد الجمعة وهو قول جمهور العلماء، وقال الحسن: هي مستحبة وليست بفرض، وقال سعيد بن جبير: هي بمنزلة الركعتين من الظهر فإذا تركها وصلى الجمعة فقد صلى الركعتين من الظهر، وأقل ما يجزي من الخطبة أن يحمد الله ويصلي على نبيه ويوصي بتقوى الله سبحانه ويقرأ آية من القرآن في الخطبة الأولى ويجب في الثانية أربع كالأولى إلا إن الواجب بدل قراءة الآية الدعاء، هذا قول أكثر العلماء والفقهاء، وقال أبو حنيفة: لو اقتصر على التحمد أو التسبيح أو التكبير أجزاه، وقال أبو يوسف ومحمد: الواجب ما يتناوله أسم الخطبة.
ثم القيام شرط في صحة الخطبة مع القدرة عليه في قول عامة الفقهاء إلا أبا حنيفة فإنه لم يشرطه فيها، والدليل على أن القيام شرط في الخطبة قوله سبحانه: " * (وتركوك قائما) *). وحديث ابن عمر: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين إلا وهو قائم.
وللشافعي قولان في الطهارة في حال الخطبة فقال في الجديد: هي شرط في الخطبة، وقال في القديم: ليست بشرط، وهو مذهب أبي حنيفة رحمة الله.
فهذا بيان القول في أول جمعه جمعت في الإسلام، وأول جمعه جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول خطبة خطبها فيها في المدينة، فأما أول جمعة جمعت بعدها بالمدينة فقال ابن عباس: أول جمعة جمعت في الإسلام بعد الجمعة بالمدينة بقرية يقال لها جواثا من قرى البحرين.
قوله: " * (فاسعوا إلى ذكر الله) *) أي أمضوا إليه واعملوا له.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا
310

يحيى بن حنظلة قال: سمعت سالما قال: قال ابن عمر: سمعت صلى الله عليه وسلم يقرأ فأمضوا إلى ذكر الله.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ في آخرين قالوا: حدثنا محمد بن يعقوب قال: أخبرنا الربيع ابن سليمان قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: ما سمعت عمر قط يقرأها إلا وأمضوا إلى ذكر الله.
وأخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر الكلمواني قال: حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن حفص قال: حدثنا السري بن خزيمة قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان عن حنظلة عن سالم عن عمر أنه كان يقرأها فأمضوا إلى ذكر الله، وروى الأعمش عن إبراهيم قال: كان عبد الله يقرأها فأمضوا إلى ذكر الله ويقول: لو قرأها فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي، وهي قراءة أبي العالية أيضا، وقال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع.
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا يحيى بن أبي طالب قال: أخبرنا عبد الوهاب قال: سئل سعيد عن فضل الجمعة فأخبرنا عن قتادة أنه كان يقول في هذه الآية " * (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) *) فالسعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها قال: وكان يتأول هذه الآية " * (فلما بلغ معه السعي) *) يقول فلما مشى معه، وقال: الكلبي فلما عمل مثله عمله.
وأخبرنا محمد بن حمدويه قال: حدثنا محمد بن يعقوب قال: أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: السعي في هذا الموضع هو العمل، قال الله سبحانه وتعالى " * (إن سعيكم لشتى) *) وقال سبحانه: " * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) *) وقال تعالى: " * (فإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) *) وقال زهر: سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم فلم يدركوهم ولم يلاقوا ولم يألوا إلى ذكر الله يعني الصلاة.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثنا علي بن حرب وليع قال: حدثنا منصور بن دينار عن موسى بن أبي كثير عن سعيد بن المسيب " * (فاسعوا إلى ذكر الله) *) قال: موعظة الإمام " * (وذروا البيع) *) يعني البيع والشراء لأن البيع يتناول المعنيان جميعا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) أراد البائع والمشتري، وقال الأخطل
311

وباع بنيه بعضهم بخشارة
وبعت لذبيان العلاء بمالكا
يريد بالأول البيع وبالآخر الابتياع، وإنما يحرم البيع عند الأذان الثاني، وقال الزهري: عند خروج الإمام، وقال الضحاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشرى،
وروى السدي عن أبي مالك قال: كان قوم يجلسون في بقيع الزبير ويشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ولا يقومون فنزلت هذه الآية.
" * (ذالكم) *) الذي ذكرت من حضور الجمعة والاستماع إلى الجمعة وأداء الفريضة " * (خيركم لكم) *) من المبايعة " * (إن كنتم تعلمون) *) مصالح أنفسكم ومضارها.
ذكر تلكم الآية
أعلم أن صلاة الجمعة واجب على كل مسلم إلا خمسة نفر: النساء والصبيان والعبيد والمسافر والمرضى. يدل عليه ما أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن إسحاق الأزهري (باسفرائين) قال: أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ قال: أخبرنا المزني قال: قال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني سلمة بن عبد الله الحطمي عن محمد ابن كعب القرطي أنه سمع رجلا من بني وائل يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبي أو مملوك).
وأخبرنا أن فنجويه قال: حدثنا ابن يوسف قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا الربيع بن سليمان الحبري قال: حدثنا عبد الملك بن سلمة القرشي قال: حدثنا أبو المثنى سلمان بن يزيد الكعبي عن محمد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تحرم التجارة عند الأذان يوم الجمعة ويحرم الكلام عند الخطبة وتحل التجارة بعد صلاة الجمعة ولا تجب الجمعة على أربعة: المريض والعبد والصبي والمرأة، فمن سعى بلهو أو تجارة أستغنى الله عنه والله غني حميد).
وتجب الجمعة على أهل القرى إذا سمعوا النداء من المصر، ووقت اعتبار سماع الأذان يكون المؤذن صيتا والأصوات هادئة والريح ساكنة، وموقف المؤذن عند سور البلد، ويعتبر كل قرية بالسور الذي يليها، هذا مذهب الشافعي، وقال ابن عمر وأبو هريرة وأنس: تجب الجمعة على من كان على عشرة أميال من المصر، وقال سعيد بن المسيب: يجب على من آواه المبيت، وقال الزهري: تجب على من كان على ستة أميال، ربيعة أربع أميال، مالك والليث: ثلاثة أميال
312

وقال أبو حنيفة، لا تجب الجمعة على أهل السواد سواء كانت القرية قريبة من البلد أو بعيدة، حتى حكي أن محمد بن الحسن سأله هل تجب الجمعة على أهل دياره وبينها وبين الكوفة مجرى نهر، فقال: لا.
واختلف الفقهاء في عدد من ينعقد بهم الجمعة، فقال الحسن: ينعقد بأثنين، وقال الليث ابن سعد وأبو يوسف: بثلاثة، وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة: بأربعة، وقال ربيعة: الرأي بأثني عشر، وقال الشافعي: لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين نفسا، قال: فكل قرية جمعت فيها أربعين بالغين عاقلين أحرار مقيمين لا يظعنون عنها شتاء وصيفا الا ظعن حاجة وجبت عليهم الجمعة، وقال مالك: إذا كانت قرية فيها سوق ومسجد فعليهم الجمعة من غير اعتبار عدد، وقال أبو حنيفة: لا تجب الجمعة على أهل السواد والقرى ولا يجوز لهم أقامتها فيها، وأشترط في وجوب الجمعة وأنعقادها: المصر الجامع للسلطان القاهر والسوق القائمة والنهر الجاري، واحتج بحديث علي كرم الله وجهه: لا جمعة ولا تسويق إلا في مصر جامع، وفي بعض الأخبار إلا على أهل مصر جامع وضعفه بعضهم.
والدليل على أبي حنيفة حديث ابن عباس قال: أول جمعة جمعت بعد جمعة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في قرية من قرى البحرين يقال لها جواثا، وروى أن عمر بن الخطاب ح كتب إلى أهل البحرين صلوا الجمعة حيث ما كنتم، وتصح إقامة الجمعة بغير إذن السلطان وحضوره، وقال أبو حنيفة: من شرطها الإمام أو خليفة.
والدليل على أن السلطان ليس بشرط في انعقاد الجمعة، ما روي أن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما في حضور الجمعة فتقدم عبد الله بن مسعود وصلى الجمعة بالناس من غير إذنه، وروي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه صلى الجمعة بالناس، يوم حصر عثمان ولم ينقل أنه استأذنه، وروى أن سعيد بن العاص والي المدينة لما أخرج من المدينة صلى أبو موسى الأشعري الجمعة بالناس من غير استئذان.
ولا يجوز أن يصلي في بلد واحد إلا جمعة واحدة فأن صليت ثانية بطلت، وقال أبو يوسف: فإن كان للبلد جانبان جاز أن يصلي كل جانب منه جمعة، وقال محمد بن الحسن يجوز أن يصلي في بلد واحد جمعتان أستحسانا.
فأما الوعيد الوارد لمن ترك صلاة الجمعة من غير عذر، فأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: حدثنا أبو العباس الأحمر قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الحكم قال: أخبرنا ابن أبي فديك قال: أخبرنا ابن أبي ذئب عن أسيد بن أسيد البراد عن عبد الله بن قتادة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع الله على قلبه).
313

وروى عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لينتهين أقوام يسمعون النداء يوم الجمعة ثم لا يشهدونها أو ليطبعن الله على قلوبهم أو ليكونن من الغافلين أو ليكونن من أهل النار).
وروى أنه صلى الله عليه وسلم خطب فقال: (إن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، (في شهري هذا من عامي هذا إلى يوم القيامة) فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل أو جائر من غير عذر فلا بارك الله له ولا جمع الله شمله ألا فلا حج له ألا ولاصوم له، ومن تاب تاب الله عليه).
أخبرنا أبو عبد الله الفتحوي قال: حدثنا أبو بكر القطيعي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدثنا أبي قال: حدثنا حسن بن علي عن الحسن بن الحر عن ميمون بن أبي المسيب قال: أردت الجمعة زمن الحجاج، قال: فتهيأت للذهاب ثم قلت: أين أذهب أصلي خلف هذا فقلت مرة: أذهب، وقلت مرة: لا أذهب قال: فاجمع رأي على الذهاب، فناداني مناد من جانب البيت: " * (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) *) قال: وجلست اكتب كتابا فعرض لي شيء إن أنا كتبته في كتابي زين كتابي وكنت قد كذبت، فأن أنزلته كان في كتابي بعض القبح وكنت قد صدقت، فقلت مرة: اكتب، وقلت مرة: لا أكتب، فأجمع
رأي على تركه فتركته، فناداني مناد من جانب البيت " * (يثبت الله الذين آمنوابالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) *).
فأما ثواب من شهد الجمعة
وأخبرنا أحمد بن أبي قال: حدثنا الهيثم بن كليب قال: حدثنا عيسى بن أحمد قال: حدثنا بقية قال: حدثني الضحاك بن حمزة عن أبي نصرة عن أبي رجاء العطار عن أبي بكر الصديق وعمر بن حصين قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اغتسل يوم الجمعة كفرت عنه ذنوبه وخطاياه فإذا أخذ في المشي (إلى الجمعة) كتب له بكل خطوة عمل عشرين سنة فإذا (فرغ) من (الجمعة) أجيز بعمل مائتي سنة).
314

وأخبرنا أحمد بن أبي في آخرين قالوا: حدثنا أبو العباس الأصم قال: أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن سمي عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرة الملائكة يستمعون الذكر).
وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو القاسم عمر بن أحمد بن الحسن البصري قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن شودب قال: حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي قال: حدثنا الحسن بن عرفة قال: حدثنا بن يزيد بن هارون عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليلة أسري بي إلى السماء رأيت تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة يسبحون الله ويقدسونه ويقولون في تسبيحهم: اللهم أغفر لمن شهد الجمعة، اللهم أغفر لمن اغتسل في الجمعة).
فأما فضل يوم الجمعة
فأخبرنا أبو عمرو الفراتي وأبو عبد الله الحافظ وأبو محمد الكناني وأبو علي الثوري قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف قال: أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن يزيد بن عبد الله بن السهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحرث عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه (تيب) عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مسبحة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه).
قال أبو هريرة: قال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة في يوم الجمعة، فقلت له: كيف يكون آخر ساعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلي فيه فقال ابن سلام ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم (من جلس مجلسا ينتظر فيه الصلاة فهو في الصلاة حتى يصلي) فقلت بلى قال: (فهو ذلك).
وأخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا ابن هند قال: حدثنا يحيى بن أبي طالب قال حدثنا أبو
315

بدر شجاع بن الوليد السكوني قال حدثنا زياد بن خيثمة عن عثمان بن أبي مسلم عن أنس بن مالك قال: أبطأ علينا رسول الله (عليه السلام) ذات يوم فلما خرج قلنا: أحبست قال: ذلك أن جبرئيل (عليه السلام) أتاني بهيئة المرأة البيضاء فيها نكته سوداء فقال إن هذه الجمعة فيها خير لك ولأمتك وقد أرادها والنصارى فأخطؤوها، قلت: يا جبرائيل ما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذه الساعة التي في يوم الجمعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه أو ذخر له مثله يوم القيامة أو صرف عنه من السوء مثله وإنه خير الأيام عند الله، وإن أهل الجنة يسمونه يوم المرند، قلت: يا رسول الله وما يوم المرند؟
قال: إن في الجنة واديا، رائحة نبته مسك أبيض، يتنزل الله سبحانه وتعالى كل يوم جمعة ويضع كرسيه فيه، ثم يجاء بمنابر من نور وتوضع خلفه فتحف منه الملائكة ثم يجاء بكرسي من ذهب فيوضع، ثم يجيىء النبييون والصديقون والشهداء والمؤمنون أهل الغرف فيجلسون ثم يقسم الله سبحانه وتعالى فيقول: أي عبادي سلوا، فيقولون: نسألك رضوانك؟ فيقول: قد رضيت عنكم، فسلوا، فيسألون مناهم فيعطيهم الله ما شاءوا وأضعافها فيعطيهم مالا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، ثم يقول: ألم أنجزكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي، ثم ينصرفون إلى غرفهم ويعودون كل يوم جمعة قلت: يا جبرائيل ما غرفهم؟ قال: من لؤلؤة بيضاء أو ياقوته حمراء أو زبرجدة خضراء مفرزة منها أبوابها فيها أزواجها، مطردة فيها أنهارها.
وأخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا أبو العباس عبد الوهاب بن عبد الجليل ذكر قال حدثنا أبو محمد أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال حدثنا أحمد بن غالب البصري الزاهد بعد إذ قال حدثنا دينار مولى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن ليلة الجمعة ويوم الجمعة أربعة وعشرون ساعة، لله سبحانه في كل ساعة ستمائه ألف عتيق من النار).
2 (* (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الارض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) *) 2
" * (فإذا قضيت الصلاة) *) أي فرغ منها.
" * (فانتشروا في الأرض) *) للتجارة والتصرف في حوائجكم.
" * (وابتغوا من فضل الله) *) أي الرزق وهما أمر إباحة وتخيير كقوله سبحانه " * (وإذا حللتم فاصطادوا) *).
316

وقد أخبر عقيل أن أبا الفرح أخبرهم عن أبي جعفر الطبري قال: حدثني العباس بن أبي طالب قال حدثنا علي بن المعافي بن يعقوب الموصلي قال: حدثنا أبو علي الضايع عن أبي خلف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله سبحانه " * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) *) قال: ليس بطلب دنيا ولكن عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله.
قال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول " * (وابتغوا من فضل الله) *) هو طلب العلم.
وقال جعفر بن محمد الصادق " * (فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) *) هو يوم السبت.
" * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا) *) الآية أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال حدثنا علي بن حرب قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا حصين عن سالم بن الجعد عن جابر ابن عبد الله قال: أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي (عليه السلام) الجمعة فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت " * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا) *) الآية.
وقال الحسن وأبو مالك: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع، خشوا أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية فقال رسول الله (عليه السلام): (والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا).
قال المقاتلان: بينا رسول الله (عليه السلام) يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي ثم أحد بني الخزرج ثم أحد بني زيد بن مناة بن عامر من الشام بتجارة، وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتاه وكان يقدم إذا قدم كل ما يحتاج إليه من دقيق أو بر أو غيره، فينزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله (عليه السلام) قائما على المنبر يخطب، فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلا إثنا عشر رجلا وامرأة فقال النبي (عليه السلام): (لولا هؤلاء لسومت عليهم الحجارة من السماء) وأنزل الله سبحانه هذه الآية، وقال ابن عباس في رواية الكلبي لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط، وقال ابن كيسان: خرجوا إلا أحد عشر رجلا وامرأة
317

قال قتادة ومقاتل: بلغنا أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، وكل مرة بعير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة.
وقال مجاهد: كانوا يقومون إلى نواضحهم وإلى السفر، يقدمون يتبعون التجارة واللهو، فأنزل الله سبحانه " * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا) *) قال المفسرون: يعني الطبل وذلك أن العير كانت إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفير.
وقال جابر بن عبد الله: كان الجواري إذا نكحوا يمرون بالمزامير والطبل فانفضوا إليها، فنزلت هذه الآية، وقوله " * (انفضوا إليها) *) رد الكناية إلى التجارة لانها أهم وأفضل، وقد مضت هذه المسألة.
وقرأ طلحه بن مصرف " * (وإذا رأوا لهوا أو تجارة انفضوا إليها) *).
" * (وتركوك قائما) *) على المنبر.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو عمرو بن الحسن قال حدثنا أحمد بن الحسن بن سعيد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا حصين عن مسعر وأبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن حسان عن عبيدة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أنه سئل: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا؟ قال أما تقرأ * (وتركوك قائما) * * (قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة) *) قرأ أبو رجاء العطاردي " * (خير من اللهو والتجارة للذين آمنوا) *).
" * (والله خير الرازقين) *) لأنه موجد الأرزاق فإياه فاسألوا ومنه فاطلبوا.
318

((سورة المنافقون))
مدنية، وهي سبعمائة وستة وسبعون حرفا، ومائة وثمانون كلمة، وإحدى عشرة آية
أخبرنا الهادي قال: حدثنا طغران قال: حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا محمد بن عاصم قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن يزيد عن ذر بن حبيش عن أبي ابن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة المنافقين بري من النفاق).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم سآء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون * وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون * سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفاسقين * هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزآئن السماوات والارض ولاكن المنافقين لا يفقهون) *) 2
" * (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) *) فيما أظهروا لأنهم أضمروا خلافه.
" * (اتخذوا أيمانهم جنة) *) سترة * (فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون) * * (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) *) * * (
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) *) لاستواء خلقها، وحسن صورتها، وطول قامتها
319

قال ابن عباس: وكان عبد الله بن أبي جسيما صحيحا فصيحا ذلق اللسان، فإذا قال يسمع النبي (عليه السلام) قوله.
" * (وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة) *) أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام.
قرأ الأعمش والكسائي وأبو عمرو عن عابس وقيل عباس: خشب مخفف بجزم الشين، وهي قراءة البراء بن عازب واختيار أبي عبيد قال: (المد مذهبها) في العربية، وذلك أن واحدتها خشبة ولم تجد في كلامهم اسما على مثل فعلة تجمع فعل بضم الفاء والعين، ويلزم من فعلها أن ينقل البدن أيضا فيقرأ " * (والبدن جعلناها لكم) *) لأن واحدتها بدنة أيضا.
وقرأ الأخرون بالتثقيل وهي اختيار أبي حاتم واختلف فيه عن ابن كثير وعاصم.
أخبرنا أبو بكر بن أبي محمد الحمشاذي قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا محمد بن يونس بن موسى قال: حدثنا الأصمعي قال: حدثنا سليم العاملاني قال: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت حالي محتضن خشبة، فقال أحسبك من أهل هذه الآية وتلا * (كأنهم خشب مسندة) * * (يحسبون) *) من جبنهم وسوء ظنهم وقلة يقينهم.
" * (كل صيحة عليهم) *) قال مقاتل: يقول إن نادى مناد في العسكر وانقلبت دابة، ونشدت ضالة ظنوا أنهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب.
وقال بعضهم: إنما قال ذلك لأنهم على وجل من أن ينزل الله فيهم، يهتك أستارهم وتبيح دماءهم وأموالهم وقال الشاعر في هذا المعنى:
ولو أنها عصفورة لحسبتها
مسومة تدعو عبيدا وأزنما
ثم قال " * (هم العدو) *) ابتداء وخبر.
" * (فأحذرهم) *) ولا تأمنهم.
" * (قاتلهم الله) *) لعنهم الله.
" * (أنى يؤفكون) *) يصرفون عن الحق.
" * (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم) *) أي أمالوها وأظهروا بوجوههم إظهارا للكراهية.
320

وقرأ نافع والمفضل ويعقوب برواية روح وزيد بتخفيف الواو، وهي اختيار أبي حاتم.
وقرأ الباقون بالتشديد واختاره أبو عبيدة قال: لأنهم فعلوها مرة بعد مرة.
" * (ورأيتهم يصدون) *) يعرضون عما دعوا إليه، " * (وهم مستكبرون) *) لا يستغفرون.
" * (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) *) نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وذلك ما ذكره أهل التفسير وأصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحرث بن أبي ضراب أبو جويرية زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمع بهم رسول الله (عليه السلام) خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قدموا إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليه، وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كليب بن عوف بن عامر يقال له: هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ.
فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني عمار يقال له: جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين، فأعان جهجاه الغفاري رجل من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيرا، وقال عبد الله بن أبي الجعال: وإنك لهناك؟ فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك؟ فاشتد لسان جعال على عبد الله، فقال عبد الله: والذي يحلف به لأذرنك وبهمك عن هذا، وغضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلاما حديث السن، وقال ابن أبي افعلوا قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، أما والله " * (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) *) يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم أقبل على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم فيلحقوا بعشائرهم وموإليهم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل المبغض في قومك، ومحمد في عز من الرحمن ومودة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا.
فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب، فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله
321

فقال: إذا توعد أن خل عنه يدخل. فقال: أما إذا جاء أمر النبي (عليه السلام) فعمر يرحل ولم يلبث إلا أياما ولأنك حسبتني أشتكي ومات.
قالوا: فلما نزلت هذه الآية وبان كذب عبد الله بن أبي قيل له: يا أبا حباب إنه قد نزلت أي شداد، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فقد أمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد، فأنزل الله سبحانه " * (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله) *) إلى قوله " * (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض) *) فلا يعذر أحد أن يعطي هنا شيئا إلا بأذنه، ولا أن يمنعه شيئا إلا بمشيئته.
قال رجل لحاتم الأصم: من أين يأكل؟ فقرأ " * (ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون) *).
وقال الجنيد: خزائن السماء: الغيوب، وخزائن الأرض: القلوب وهو علام الغيوب ومقلب القلوب، وكان الشبلي يقول: ولله خزائن السماوات والأرض فأين تذهبون؟.
(* (يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولاكن المنافقين لا يعلمون * ياأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولائك هم الخاسرون * وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لو لا أخرتني ألى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ والله خبير بما تعملون) *) 2
" * (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة) *) يعني من غزوة بني لحيان ثم بني المصطلق، وهم حي من هذيل " * (ليخرجن الأعز منها الأذل).
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) *) فعزة الله سبحانه قهر من دونه، وعز رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعز المؤمنين نصره إياهم على أعدائهم فهم ظاهرون.
وقيل: عزة الله: الولاية، قال الله تعالى " * (هنالك الولاية لله الحق) *) وعزة الرسول: الكفاية قال الله سبحانه: " * (إنا كفيناك المستهزئين) *) وعز المؤمنين: الرفعة والرعاية قال الله سبحانه: " * (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) *) وقال " * (وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما) *).
وقيل: عزة الله الربوبية، وعزة الرسول: النبوة. وعزة المؤمنين: العبودية.
وكان جعفر الصادق يقول: (من مثلي ورب العرش معبودي، من مثلي وأنت لي).
وقيل: عزة الله خمسة: عز الملك والبقاء، وعز العظمة والكبرياء، وعزة البذل والعطاء
322

وعز الرفعة والغناء، وعز الجلال والبهاء، وعز الرسول خمسة: عز السبق والابتداء، وعز الأذان والنداء، وعز قدم الصدق على الأنبياء، وعز الاختيار والاصطفاء، وعز الظهور على الأعداء، وعز المؤمنين خمسة: عز التأخير بيانه: نحن السابقون الآخرون، وعز التيسير بيانه: " * (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر يريد الله بكم اليسر) *)، وعز التبشير بيانه: " * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) *)، وعز التوقير بيانه: " * (وأنتم الأعلون) *)، وعز التكثير وبيانه: إنهم أكثر الأمم.
" * (ولكن المنافقين لا يعلمون) *) * * (يا أيها الذين أمنوا لا تلهكم) *) لا تشغلكم " * (أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) *) قال المفسرون: يعني الصلوات الخمس، نظيره قوله سبحانه: " * (رجال لا تلهيهم تجارة) *) الآية.
" * (ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) *) * * (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني) *) أمهلتني يجوز أن يكون (لا) صلة، فيكون الكلام بمعنى التمني، ويجوز أن يكون بمعنى هلا فيكون استفهاما.
" * (إلى أجل قريب) *) يعني مثل ما أجلت في الدنيا، " * (فأصدق) *) فأتصدق وأزكي مالي.
" * (وأكن من الصالحين) *) المؤمنين نظيره قوله " * (ومن صلح من آباءهم) *) هذا قول مقاتل وجماعة من المفسرين، وقالوا: نزلت هذه الآية في المنافقين.
وقيل: الصالح ها هنا: الحج، والآية نازلة في المؤمنين.
روى الضحاك وعطية عن ابن عباس قال: ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤد زكاته وأطاق الحج ولم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت فقالوا: يا بن عباس اتق الله فأنما نرى هذا الكافر سأل الرجعة فقال: أنا أقرأ عليكم قرآنا، ثم قرأ هذه الآية إلى قوله " * (فأصدق وأكن من الصالحين) *) قال: أحج، أخبرناه ابن منجويه قال: حدثنا ابن حمدان قال: حدثنا ابن سهلويه قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري عن يحيى بن أبي حية عن الضحاك عن ابن عباس.
واختلف القراء في قوله " * (وأكن) *) فقرأ أبو عمرو وابن محيص: وأكون بالواو ونصب النون على جواب التمني أو للاستفهام بالفاء، قال أبو عمرو: وإنما حذفت الواو من المصحف اختصارا كما حذفوها في (كلمن) وأصلها الواو.
قال الفراء: ورأيت في بعض مصاحف عبد الله فقولا فقلا بغير واو، وتصديق هذه
323

القراءة ما أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدثنا حجاج عن هارون قال: في حرف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وأكون من الصالحين، بالواو.
وقرأ الآخرون: بالجزم وأكن عطفا بها على قوله فأصدق لو لم يكن فيه الفاء وذلك أن قوله فأصدق لو لم يكن فيه الفاء كان جزما، واختار أبو عبيد الجزم، قال: من ثلاث جهات: أحدها: إني رأيتها في مصحف الإمام عثمان (فأكن) بحذف الواو ثم اتفقت بذلك المصاحف فلم تختلف.
والثانية: اجتماع أكثر قراء الأمصار عليها.
والثالثة: إنا وجدنا لها مخرجا صحيحا في العربية لا يجهله أهل العلم بها وهو أن يكون نسقا على محل أصدق قبل دخول الفاء، وقد وجدنا مثله في أشعارهم القديمة منها قول القائل:
فأبلوني بليتكم لعلي
أصالحكم واستدرج نويا
فجزم واستدرج عطفا على محل أصالحكم قبل دخول لعلي.
" * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما يعملون) *) بالياء مختلف عنه غيره بالتاء.
324

((سورة التغابن))
مكية إلا قوله " * (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم) *) الآية وهي ألف وسبعون حرفا، ومائتان وإحدى وأربعون كلمة، وثماني عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن المحاربي قال: حدثنا أبو الشيخ الحافظ قال: حدثنا أبو داود سليمان ابن أحمد بن الوليد قال: حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا الوليد بن الوليد الدمشقي عن عبد الرحمن بن ثومان عن عطاء بن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة سورة التغابن).
وأخبرني نافل بن راقم قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد قال: حدثنا عمرو بن محمد قال: حدثنا أسباط بن اليسع قال: حدثنا يحيى بن عبد الله السلمي قال: حدثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن ذر عن أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة).
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الارض له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير * هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير * خلق السماوات والارض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير * يعلم ما فى السماوات والارض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور * ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم * ذالك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد * زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير * فئامنوا بالله ورسوله والنور الذىأنزلنا والله بما تعملون خبير) *) 2
" * (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) *)
325

" * (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير) *) اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: إن الله سبحانه خلق الخلق مؤمنين وكافرين.
قال ابن عباس: بدأ الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا.
واحتجوا بحديث الصادق المصدق وقوله: (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه).
وكما أخبرنا عبد الله بن كامل الأصبهاني قال: أخبرني أبو بكر أحمد بن محمد بن يحيى العبدي بنو شيخ قال: حدثنا أحمد بن نجدة بن العريان قال: حدثنا المحاملي قال: حدثنا ابن المبارك عن أبي لهيعة قال: حدثني بكر بن سوادة عن أبي تميم الحسائي عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس، فعرج به إلى الرب تبارك وتعالى، فقال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله سبحانه ما هو قاض. أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق) وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات).
وأخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا ابن حبيب قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل السيوطي قال: حدثنا داود بن المفضل قال: حدثنا نصر بن طريف قال: أخبرنا قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ناجيه بن كعب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خلق الله سبحانه فرعون في بطن أمه كافرا، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا.
وقال الله سبحانه " * (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) *).
إن الله سبحانه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا وتمام الكلام عند قوله: " * (هو الذي خلقكم) *) ثم وصفهم " * (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) *) وهو مثل قوله: " * (الله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي (على بطنه)) *) الآية، قالوا: فالله خلقهم والمشي فعلهم، وهذا اختيار الحسن ابن الفضل.
قالوا: أو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفه بفعلهم في قوله: " * (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) *) الكفر فعل الكافر، والإيمان فعل المؤمن.
واحتجوا بقوله سبحانه: " * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) *) وبقوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، وقوله حكاية عن ربه: (إني خلقت عبادي كلهم حنفاء) ونحوها من
326

الأخبار، ثم اختلفوا في تأويلها، فروى أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: (فمنكم مؤمن يكفر، ومنكم كافر يؤمن).
وقال أبو سعيد الخدري: (فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة، ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة)، وقال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر، كافر في العلانية كعمار وذويه. فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، يعني في شأن الأنوار.
قال الزجاج: وأحسن ما قيل فيها " * (هو الذي خلقكم فمنكم كافر) *) بأن الله خلقه، وهو مذهب أهل الدهر والطبائع. " * (ومنكم مؤمن) *) بأن الله خلقه.
وجملة القول في حكم هذه الآية ومعناها والذي عليه جمهور الأمة والأئمة والمحققون من أهل السنة هي أن الله خلق الكافر وكفره فعلا له وكسبا، وخلق المؤمن وإيمانه فعلا له وكسبا، فالكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله سبحانه إياه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قدر عليه ذلك وعلمه منه، والمؤمن يؤمن ويختار الإيمان بعد خلق الله تعالى إياه؛ لأن الله سبحانه أراد ذلك منه وقدره عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهم غير الذي قدره الله عليه وعلمه منه، لأن وجود خلاف المقدور عجز، وخلاف المعلوم جهل، وهما لا يليقان بالله تعالى، ولا يجوزان عليه، ومن سلك هذا السبيل سلم من الجبر والقدر فأصاب الحق كقول القائل:
يا ناظرا في الدين ما الأمر
لا قدر صح ولا جبر
وقد أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد العمدة السرخسي قال: حدثنا عبد الله بن مبشر الواسطي قال: حدثنا أحمد بن منصور الزيادي قال: سمعت سيلان يقول: قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر؟ قال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون، فالواجب علينا أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه.
* (خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير) * * (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور) *) * * (ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل) *) يعني الأمم الخالية " * (فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم) *) * (ذلك العذاب) * * (بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا) *) لأن البشر وإن كان لفظه واحد فإنه في معنى الجمع وهو اسم الجنس وواحده إنسان ولا واحد له من لفظه.
" * (فكفروا وتولوا واستغنى الله) *) عن إيمانهم " * (والله غني) *) عن خلقه، " * (حميد) *) في أفعاله
327

" * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل) *) يا محمد " * (بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير) *).
" * (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) *) وهو القرآن.
" * (والله بما تعملون خبير) *).
2 (* (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيهآ أبدا ذلك الفوز العظيم * والذين كفروا وكذبوا بئاياتنآ أولائك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير * مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شىء عليم * وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين * الله لا إلاه إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون * ياأيها الذين ءامنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم * إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم * فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لانفسكم ومن يوق شح نفسه فأولائك هم المفلحون * إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم * عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم) *) 2
" * (يوم يجمعكم) *) قراءة العامة بالياء لقوله سبحانه " * (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير) *) وقرأ (رويس عن يعقوب (يوم نجمعكم)) بالنون اعتبارا بقوله أنزلنا.
" * (ليوم الجمع ذلك يوم التغابن) *) وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ والمراد، وقد ورد في تفسير التغابن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا الحسن بن محمد قال: حدثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن سنان قال: حدثنا كثير بن يحيى قال: حدثنا أبو آمنة بن معلى الثقفي قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد المنقري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد مؤمن يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ازداد حسرة).
قال المفسرون: من غبن أهله منازله في الجنة فيظهر يومئذ غبن كل كافر ببركة الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام.
" * (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) *) قرأ أهل المدينة والشام ها هنا وفي السورة التي تليها: نكفر وندخله بالنون، والباقون بالياء.
328

* (ذلك الفوز العظيم) * * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير) *) * * (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله) *) بأرادته وقضائه.
" * (ومن يؤمن بالله) *) قصدوا به لا يصيب مصيبة إلا بإذن الله " * (يهد قلبه) *) يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه قاله ابن عباس.
وأنبأني عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا الحسن بن يعقوب قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان قال: كنا نعرض المصاحف على علقمة بن قيس فمر بهذه الآية " * (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) *) فسألناه عنها فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
وقال أبو بكر الوراق: ومن يؤمن بالله عند النعمة والرخاء، فيعلم أنها من فضل الله يهد قلبه للشكر، ومن يؤمن بالله عند الشدة والبلاء فيعلم أنها من عند الله يهد قلبه للرضا والصبر.
وقال أبو عثمان الجيري: ومن صح إيمانه يهد قلبه لاتباع السنة.
وقد اختلف القراء في هذه الآية، فقراءة العامة (يهد قلبه) بفتح الياء والباء واختاره أبو عبيده وأبو حاتم، وقرأ السلمي بضم الياء والباء وفتح الدال على الفعل المجهول، وقرأ طلحة ابن مصرف: نهد قلبه بالنون وفتح الباء على التعظيم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حمدان قال: حدثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال: حدثنا أبو عمر المقرئ قال: حدثنا أبو عمارة قال: حدثنا سهل بن موسى الأسواري قال: أخبرني من سمع عكرمة يقرأ: ومن يؤمن بالله يهدأ قلبه، من الهدوء أي يسكن ويطمئن.
وقرأ مالك بن دينار: يهدا قلبه بألف لينة بدلا من الهمزة.
" * (والله بكل شيء عليم) *) * * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين) *) التبليغ البين.
* (الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * * (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) *) نزلت في قوم أرادوا الهجرة فثبطهم عنها أزواجهم وأولادهم.
قال ابن عباس: كان الرجل يسلم، فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا له: ننشدك الله أن تذهب وتدع أهلك وعشيرتك وتصير بالمدينة بلا أهل ومال، وإنا قد صبرنا على إسلامك فلا نصبر على فراقك، ولا نخرج معك، فمنهم من يرق لهم ويقيم لذلك فلا يهاجر، فإذا هاجر رأى الناس قد نقموا في الدين منهم أن يعاقبهم في تباطئهم به عن الهجرة، ومنهم من لا يطيعهم ويقولون لهم في خلافهم في الخروج: لئن جمعنا الله وإياكم لا تصيبون مني خيرا، ولأفعلن، وأفعلن فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
329

وقال عطاء بن يسار وعطاء الخراساني: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورفقوه وقالوا: إلى من تكلنا وتدعنا فيرق ويقيم، فأنزل الله سبحانه وتعالى: " * (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم) *) لحملهم إياكم على المعصية وترك الطاعة فاحذروهم أن تقبلوا منهم.
" * (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا) *) فلا تعاقبوهم على خلافهم إياكم * (فإن الله غفور رحيم) * * (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) *) بلاء واختبار يحملكم على الكسب من الحرام والمنع عن الحق، وقال القتيبي: إغرام يقال فتن فلان بفلانه أي أغرم بها.
قالت الحكماء: أدخل من التبعيض في ذكر الأزواج والأولاد حيث أخبر عن عداوتهم، لأن كلهم ليسوا بأعداء ولم يذكر من في قوله " * (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) *) لأنها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب بها، يدل عليه قول عبد الله بن مسعود: (لا يقولن أحد: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحد يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن).
وأخبرنا ابن منجويه قال: حدثنا عمر بن الخطاب قال: حدثنا عبد الله بن الفضل قال: حدثنا أبو خثمه قال: حدثنا زيد بن حباب قال: حدثنا حسين بن واقد قاضي مرو قال: حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران، فنزل النبي (عليه السلام) اليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر فقال: (صدق الله " * (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) *) رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما) ثم أخذ في الخطبة.
" * (فاتقوا الله ما استطعتم) *) ناسخة لقوله " * (اتقوا الله حق تقاته) *) وقد مر ذكره.
" * (واسمعوا وأطيعوا وانفقوا خيرا لأنفسكم) *) مجازه: يكن الإنفاق خيرا لأنفسكم. " * (ومن يوق شح نفسه) *) ومنعها عن الحق " * (فأولئك هم المفلحون) *) قال ابن عمر: (ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، وإنما الشح أن يطمع الرجل إلى ما ليس له).
" * (إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم) *).
" * (عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم) *))
.
330

((سورة الطلاق))
مدنية، وهي ألف وستون حرفا، ومائتانوسبعة وأربعون كلمة، واثنتا عشرة آية
أخبرنا ابن المقري قال: أخبرنا ابن مطر قال: حدثنا ابن شريك قال: حدثنا ابن يونس قال: حدثنا سلام قال: حدثنا شاهرون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي ابن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة " * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) *) مات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (ياأيها النبى إذا طلقتم النسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا * فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله
ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الاخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدرا * واللائى يئسن من المحيض من نسآئكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللاتي لم يحضن وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا * ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا * أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضآروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فئاتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) *) 2
هذه السورة تسمى سورة النساء القصرى افتتحها الله سبحانه وتعالى بخطاب منه (للنبي) صلى الله عليه وسلم فقال " * (يا أيها النبي إذا طلقتم) *).
" * (يا أيها النبي) *) ثم جمع الخطاب فقال عز من قاتل " * (إذا طلقتم) *) ومجازها: يا أيها النبي
331

قل لأمتك إذا طلقتم " * (النساء) *) أي أردتم تطليقهن كقوله " * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ) *).
" * (فطلقوهن لعدتهن) *) وهو أن يطلقها طاهرا من غير جماع، يقول: طلقوهن لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن، ولا تطلقوهن لحيضهن الذي لا يعتددن به من قروئهن، وهذا للمدخول بها؛ لأن من لم يدخل بها لا عدة عليها.
فإذا طلقها في طهر لم يجامعها فيه نفذ طلاقه وأصاب السنة، وإن طلقها حائضا وقع الطلاق وأخطأ السنة.
وقال سعيد بن المسيب في آخرين: لا يقع لأنه خلاف ما أمروا، وإليه ذهب الشيعة، فإن طلقها في طهرها ثلاثا فكرهه قوم وقالوا ليس بطلاق السنة؛ لأنه لم يدع للإمساك موضعا، وكان الشافعي والجمهور يبيحونه ولا يكرهونه لأن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته ثلاثا، وإن العجلاني لما لاعن قال: كذبت عليها إن أمسكتها، هي طالق ثلاثا، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم
واختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية، قال: فأخبرنا ابن منجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شعبة، حدثنا أبو القاسم عمر بن عقبة بن الزبير الأنصاري، حدثنا أبو عبد الله محمد ابن أيوب بن معيد بن هناد الكوفي، حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا سعيد بن عروة عن قتادة عن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى: " * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) *) وقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من إحدى أزواجك ونسائك في الجنة.
وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر، وذلك أنه طلق امرأته حائضا وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ويمسكها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت طلقها إن شاء قبل أن يجامعها أو يمسكها، فإنها العدة التي أمر الله بها.
أخبرنا عبد الله بن حامد، حدثنا محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: طلقت امرأتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا طهرت فليطلقها إن شاء قبل أن يجامعها أو يمسكها، فإنها العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء).
قال فقلت لنافع ما صنعت التطليقة قال: واحدة اعتدت بها.
332

وقال المقاتلان: نزلت في عبد الله بن عمرو بن العاص وعمرو بن سعيد بن العاص وطفيل بن الحرث وعتبه بن غزوان.
أخبرنا عبد الله بن حامد، حدثنا أحمد بن عبد الله المزني، حدثنا الحضرمي، حدثنا عثمان، حدثنا عبد السلم بن حرب عن يزيد الدالاني عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن قال: بلغ أبا موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد عليهم فأتاه فذكر ذلك له فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول أحدكم: قد زوجت، قد طلقت، وليس كذلك عدة المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدتها).
وكان ابن عباس وابن عمر يقرءان: فطلقوهن قبل عدتهن، وفي هذه الآية دليل واضح أن السنة والبدعة اعتبارهما في وقت الطلاق لا في عدد الطلاق؛ لأن الله تعالى ذكر وقت الطلاق فقال: " * (فطلقوهن لعدتهن) *) ولم يذكر عدد الطلاق، فكذلك في حديث ابن عمر الذي رويناه دليل أن الاعتبار بالوقت لا بالعدد لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الوقت لا العدد.
فصل في ذكر بعض الأخبار الواردة في الطلاق
أخبرنا الحسن بن فنجويه بقراءتي عليه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي، حدثنا أبو محمد يحيى بن إسحاق بن سافرى ببغداد، حدثنا أحمد بن حباب، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق).
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا ابن حبيش المقري، حدثنا علي بن عبد الحميد العصاري بحلب، حدثنا أبو إبراهيم الترجماني، حدثنا عمرو بن جميع عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سمرة عن علي ح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز منه العرش).
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة أخبرنا أبي، حدثنا أبو أمامة عن حماد بن زيد عن أبي أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء
333

الرحبي عن ثوبان رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة).
أخبرنا الحصين بن محمد بن الحسين أخبرنا موسى بن محمد بن علي، حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا وهب بن منبه، حدثنا محمد بن عبد الملك الواسطي، حدثنا عمرو
بن قيس الملائي عن عبد الله بن عيسى عن عمارة بن راشد عن عبادة بن نسي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله تعالى لا يحب الذواقين ولا الذواقات).
أخبرنا ابن فنجويه أخبرنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي، حدثنا عبد الصمد بن سعيد قاضي حمص، حدثنا عبد السلم بن العباس بن الوليد الحضرمي، أخبرنا علي بن خالد بن خلي، حدثنا أبي، حدثنا سويد بن حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق).
" * (وأحصوا العدة) *) أي عدد أقرائها فاحفظوها.
" * (واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن) *) حتى تنقضي عدتهن.
" * (ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) *) وهي الزنا فيخرجن لإقامة الحد عليهن، هذا قول أكثر أهل المفسرين.
وقال قتادة: معناه: له أن يطلقها على نشوزها، فلها أن تتحول من بيت زوجها، والفاحشة: النشوز.
وقال ابن عمر والسدي: أي خروجها قبل انقضاء عدتها فاحشة.
أنبأني عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن الحسن، حدثنا الفضل بن المسيب، حدثنا سعيد، حدثنا سفير عن محمد بن عمرو بن علقمة عن محمد بن إبراهيم التيمي عن ابن عباس في قوله: " * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) *) قال: إلا أن تبدو على أهلها، فإذا بدت عليهم فقد حل إخراجها.
" * (وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا يدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *) أي مراجعة في الواحدة والثنتين ما دامت في العدة
334

أخبرنا عبد الله بن حامد قرأه عليه، حدثنا محمد بن جعفر المطيري، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا هيثم عن مغيرة وحصين عبد الرحمن وأشعث وإسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وشبان ومجالد كلهم عن الشعبي قال: دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: طلقني زوجي البتة، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقه، وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم.
قال هيثم: قال مجالد في حديثه: إنما النفقة والسكنى على من كانت له المراجعة.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن يوسف، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر قال: أخبرنا عقيل بن محمد الفقيه أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمد بن جهير، حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري عن عبيد الله أن فاطمة بنت قيس كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي وأنه خرج مع علي ابن أبي طالب ح إلى اليمن حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها، وأمر عباس بن أبي ربيعة والحرث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا لها: والله مالك من نفقة إلا أن تكوني حاملا.
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما، فلم يجعل لها نفقة إلا أن تكون حاملا، واستأذنته في الانتقال، فأذن لها فقالت: أين أنتقل يا رسول الله؟ قال: (عند ابن أم مكتوم) وكان أعمى، تضع ثيابها عنده ولا يراها، فلم تزل هنالك حتى مضت عدتها، فأنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة ابن زيد، فأرسل إليها مروان بن الحكم قبيصة بن ذؤيب يسألها عن هذا الحديث، فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلامن امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة حين بلغها قول ابن مروان: بيني وبينكم القرآن، قال الله تعالى: " * (لا تخرجوهن من بيوتهن) *) إلى قوله " * (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *) قالت: هذا لمن كانت له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟
" * (فإذا بلغن أجلهن) *) أي أشرفن على انقضاء عدتهن وقربن منه.
" * (فأمسكوهن) *) برجعة تراجعونهن. " * (بمعروف أو فارقوهن بمعروف) *) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيكن منكم ويكن أملك لأنفسهن.
" * (ولا تضاروهن) *) فنزل الضرار هو المعروف.
" * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) *) على الرجعة والفراق
335

" * (وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا) *) قال عكرمة والشعبي والضحاك: من يطلق السنة يجعل له مخرجا إلى الرجعة.
" * (ويرزقه من حيث لا يحتسب) *) لا يرجو ولا يتوقع.
قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أن المشركين أسروا ابنا له يسمى: سالما، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن العدو أسر ابني وشكا إليه أيضا الفاقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أمسى عند آل محمد إلا مد فاتق الله واصبر وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله) ففعل الرجل ذلك، فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه وكان فقيرا وقال الكلبي في رواية يوسف بن مالك: قدم ابنه ومعه خمسون بعيرا.
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن عامر البلخي، حدثنا القاسم بن عباد، حدثنا صالح بن محمد الترمذي، حدثنا أبو علي غالب عن سلام بن سليم عن عبد الحميد عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت الأم، فما تأمرني؟ قال: ((اتق الله واصبر) وآمرك وإياها أن تستكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله). فانصرف إليها وقالت: ما قال لك النبي صلى الله عليه وسلم قال:
أمرني وإياك أن نستكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، قالت: نعم ما أمرك به، فجعلا يقولان فغفل عنه العدو فساق غنمهم فجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة، فنزلت " * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) *) ما ساق من الغنيمة.
وقال مقاتل: أصاب غنما ومتاعا ثم رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وسأله الحل له وأن يأكل ما أتاه به ابنه، فقال النبي (عليه السلام): (نعم) وأنزل الله تعالى هذه الآية.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدثنا عبد الله بن محمد بن شيبة، حدثنا بن وهب، أخبرنا عبد الله بن إسحاق، حدثنا عمرو بن الأشعث، حدثنا سعد بن راشد الحنفي، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) *) قال: مخرجا من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة).
336

وقال ابن مسعود ومسروق: " * (يجعل له مخرجا) *) هو أن يعلم أنه من قبل الله، وأن الله تعالى رازقه وهو معطيه ومانعه. الربيع بن خيثم: " * (يجعل له مخرجا) *) من كل شيء ضاق على الناس.
أبو العالية: مخرجا من كل شدة.
الحسن: مخرجا عما نهاه عنه.
الحسين بن الفضل: " * (ومن يتق الله) *) في أداء الفرائض " * (يجعل له مخرجا) *) من العقوبة ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب.
وقال الصادق: * (* (ويرزقه من حيث لا يحتسب) *) يعني يبارك له فيما آتاه).
وقال سهل: " * (ومن يتق الله) *) في اتباع السنة " * (يجعل له مخرجا) *) من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب.
عمرو بن عثمان الصدفي: ومن يقف عند حدوده، ويحتسب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة.
أبو سعيد الخراز: ومن يتبرأ من حوله وقوته بالرجوع إليه يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونه له.
علي بن صالح: " * (يجعل له مخرجا) *) يقنعه برزقه، وقيل: ومن يتق الله في الرزق وغيره بقطع العلائق يجعل له مخرجا بالكفاية ويرزقه من حيث لا يحتسب.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، أخبرنا أبو مكي بن مالك المطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا معتمر عن كهمس عن أبي السليل عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم " * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) *) فما يزال يقولها ويعيدها).
ويحكى أن رجلا أتى عمر بن الخطابح فقال: ولني مما ولاك الله قال أتقرأ القرآن؟ قال: لا. فقال: إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن، فانصرف الرجل واجتهد في تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه عملا، فلما تعلم القرآن تخلف عن عمر، فرآه ذات يوم فقال: يا هذا هجرتنا، فقال: يا أمير المؤمنين لست ممن يهجر، ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله تعالى عن
337

عمر وعن باب عمر. فقال: أي آية أغنتك، فقال: قول الله تعالى: " * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد، أخبرنا أحمد بن محمد بن عدوس، أخبرنا عثمان بن سعيد الرازي، حدثنا مهدي بن جعفر الرملي، حدثنا الوليد بن مسلم عن الحكم بن مصعب عن محمد بن علي عن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب).
" * (ومن يتوكل على الله) *) فيثق به ويسكن قلبه إليه في الموجود والمفقود.
" * (فهو حسبه إن الله بالغ أمره) *) قرأ العامة بالغ بالتنوين " * (أمره) *) النصب: أي منفذ أمره ممضى في حلقة قضائه، وقرأ طلحة بن مضر: بالغ أمره على الإضافة، ومثله روى حفص والمفضل عن عاصم.
وقرأ داود بن أبي هند: بالغ بالتنوين أمره: رفعا.
قال الفراء: أي أمره بالغ.
قال عبد الرحمن بن نافع: لما نزلت " * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) *) قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبنا الله إذا توكلنا عليه؛ فنحن ننسى ما كان لنا ولا نحفظه، فأنزل الله تعالى " * (إن الله بالغ أمره) *) يعني منكم وعليكم.
" * (قد جعل الله لكل شيء قدرا) *) حدا وأجلا ينتهي إليه.
قال مسروق: في هذه الآية " * (إن الله بالغ أمره) *) توكل عليه أو لم يتوكل، غير أن المتوكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا.
قال الربيع: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له، وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: " * (ومن يؤمن بالله يهد قلبه ومن يتوكل على الله فهو حسبه وإن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم وإذا سألك عبادي عني فإني قريب...) *).
" * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) *) فلا يرجون أن يحضن " * (إن ارتبتم) *) قال قوم: إن شككتم أن الدم الذي يظهر منها لبكرها من الحيض أو من الاستحاضة
338

" * (فعدتهن ثلاثة أشهر) *) هذا قول الزهري وابن زيد وقال آخرون: إن ارتبتم في حلمهن؛ فلم تدروا ما الحلم في عدتهن، فعدتهن ثلاثة أشهر.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون، حدثنا أبو حاتم مكي بن عيدان، حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر، حدثنا أسباط محمد عن مطرف عن أبي عثمان عمرو بن سالم قال: لما نزلت عدة النساء في سورة البقرة في المطلقة المتوفى عنها زوجها، قال أبي بن كعب: يا رسول الله إن أناسا من أهل المدينة يقولون قد بقي من النساء ما لم يذكر فيهن شيء.
قال: وما هو؟ قال: الصغار والكبار وذوات الحمل، فنزلت هذه الآيات " * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم...) *) إلى آخرها.
وقال مقاتل: لما نزلت " * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *) الآية، قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري: يا رسول الله فما عدة من لا تحيض وعدة التي لم تحض وعدة الحبلى؟ فأنزل الله تعالى " * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) *) يعني القواعد اللاتي قعدن عن المحيض.
" * (إن ارتبتم) *) شككتم في حالها وفي حكمها.
وقال أبو علي الزهري: " * (إن ارتبتم) *) إن تعنتم، قال: وهو من الأضداد، يكون شكا ويقينا كالظن، فعدتهن ثلاثة أشهر.
" * (واللائي لم يحضن) *) يعني بهن الصغار.
" * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) *) في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن.
قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، أخبرنا محمد بن محمد بن الحسن، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر بن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: أرسل مروان عبد الله بن عتبة إلى سبيعة بنت الحرث يسألها عما أنبأها به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنها كانت عند سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع، وكان ثلاثا، فوضعت حملها قبل أن يمضي لها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجها وخطبها، قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ما قال أبو السنابل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (قد حللت حين وضعت حملك) وأمرها أن تتزوج، فإن أريقت حيضة المرأة وهي شابة، فإنها يتأنى بها أحامل أم لا؟ وإن استبان حملها فأجلها أن تضع حملها، وإن لم يستبن حملها فاختلف الفقهاء فيه:
فقال بعضهم: يستأنى بها، فأقصى ذلك سنة، وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي
339

عبيد، كانوا يرون عدة المرأة ارتفاع حيضها وهي شابة سنة، ورووا ذلك عن عمر وغيره.
فأما أهل العراق فإنهم يرون عدتها ثلاث حيضات بعد ما كانت قد حاضت مرة في عمرها وإن مكثت عشرين سنة إلى أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس من الحيض، فتكون عدتها بعد الأياس ثلاثة أشهر، وهذا الأصح من مذهب الشافي وعليه العلماء، ورووا ذلك عن ابن مسعود وأصحابه.
* (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا) * * (ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا) *).
" * (أسكنوهن) *) يعني مطلقات نسائكم.
" * (من حيث سكنتم) *) أي من المواضع التي سكنتم.
وقال الكسائي: " * (من) *) صلة مجازة أسكنوهن حيث سكنتم، مطلقات نسائكم.
" * (من وجدكم) *) سعتكم وطاقتكم، قراءة العامة بضم الواو، وقرأ الأعرج بفتحه، وروى نوح عن يعقوب بكسر الواو، وكلها لغات. حتى تنقضي عدتهن.
" * (ولا تضاروهن) *) ولا تؤذوهن " * (لتضيقوا عليهن) *) مساكنهن فيخرجن.
" * (وأن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) *) ليخرجن من عدتهن.
واختلف الفقهاء في هذه المسألة: فذهب مالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبو عبيدة ومحمد بن جرير إلى أن المبتوتة المطلقة ثلاثا لا نفقة لها، ولها سكنى، واحتجوا بأن الله تعالى عم بالسكنى المطلقات كلهن، وخص بالنفقة أولات الأحمال خاصة قال " * (فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) *).
وقال أحمد وأبو ثور: لا سكنى لها ولا نفقة، واحتجوا بحديث فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس حين أرسل زوجها المخزومي طلاقها؛ فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة وقال لها: إنما النفقة إذا كانت له عليك الرجعة، وأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وقد ذكرناه، وهذا قول أبي بن كعب وزيد بن ثابت.
وأما (سفيان) وأهل العراق فقالوا: لها السكنى والنفقة حاملا كانت أو حايلا، وهذا قول (عائشة) رضي الله عنها.
340

ويروى أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله يا فاطمة فقد فتنت الناس؛ إنما أخرجك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنك كنت امرأة لسنة فخشي لسانك على (أحمائك).
فأما نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال علي وابن عمر وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى (وسفر) وأصحابه: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.
وقال ابن عباس وعبد الله بن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة: لا ينفق عليها إلا من نصيبها.
" * (فإن أرضعن لكم) *) أولادكم منهن " * (فآتوهن أجورهن) *) على إرضاعهن " * (وأتمروا بينكم بمعروف) *) يقول: وليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف، وقال الفراء: " * (وأتمروا) *) هموا. الكسائي: شاوروا.
" * (وإن تعاسرتم) *) في الرضاع؛ فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها، وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على أرضاعه، ولكنه يستأجر للصبي مرضعا غير أمه الباينة منه، فذلك قوله " * (فسترضع له أخرى) *).
2 (* (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ ءاتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا مآ ءاتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا * وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا * فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا * أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءامنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا يتلو عليكم ءايات الله مبينات ليخرج الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيهآ أبدا قد أحسن الله له رزقا * الله الذى خلق سبع سماوات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شىء قدير وأن الله قد أحاط بكل شىء علما) *) 2
" * (لينفق ذو سعة من سعته) *) على قدر غناه " * (ومن قدر) *) ضيق " * (فلينفق مما آته الله) *) من المال.
" * (لا يكلف الله نفسا) *) في النفقة " * (إلا ما آتها) *) أعطاها من المال.
" * (سيجعل الله بعد عسر يسرا) *) * * (وكأين من قرية عتت) *) عصت وطغت وتمردت " * (عن أمر
341

ربها ورسله) *) أي وأمر رسله " * (فحاسبناها حسابا شديدا) *) بالمناقشة والاستقصاء " * (وعذبناها عذابا نكرا) *) منكرا فظيعا، وهو عذاب النار، لفظهما ماض ومعناهما الاستقبال.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير مجازها: فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والنوائب والبلايا والرزايا، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا.
* (فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا) * * (أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا) *) يعني القرآن.
" * (رسولا) *) بدل من الذكر. وقيل: مع الرسول. وقيل: وأرسل رسولا. وقيل: الذكر هو الرسول. وقيل: أراد شرفا ثم بين ما هو فقال: رسولا.
" * (يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) *) * * (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) *) في العدد.
" * (يتنزل الأمر بينهن) *) بالوحي من السماء السابعة إلى السفلى.
وقال أهل المعاني: هو مايدبر فيهن من عجيب تدبيره؛ فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار والشتاء والصيف ويخلق الحيوان على اختلاف هيأتها وأنواعها، وينقلهم من حال إلى حال.
قال ابن كيسان: وهذا على مجال اللغة واتساعها، كما يقول للموت أمر الله، وللرياح والسحاب ونحوها.
وقال قتادة: في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه.
" * (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) *) فلا يخفى عليه شيء.
342

((سورة التحريم))
مدنية، وهي اثنتا عشرة آية ومائتانوسبعة وأربعون كلمة، وألف وستون حرفا
أخبرني ابن المقرئ، أخبرنا ابن مطر، حدثنا ابن شويك، حدثنا ابن يونس، حدثنا سلام ابن سليم، حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه الباهلي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة " * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) *) أعطاه الله توبة نصوحا).
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (ياأيها النبى لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هاذا قال نبأنى العليم الخبير) *) 2
" * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم) *) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة دخل على نسائه امرأة امرأة، وكان أهديت لحفصة بنت عمر عكة عسل، فكان إذا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما حبسته وسقته منها، وإن عائشة أنكرت احتباسه عندها؛ فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها: حصن: إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة فادخلي عليها وانظري ماذا يصنع، فأخبرتها الخبر وشأن العسل، فغارت عائشة وأرسلت إلى صواحبها فأخبرتهن وقالت: إذا دخل عليكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: إنا نجد منك ريح مغافير، وهو صمغ العرفط، كريه الرائحة، وكان رسول الله يكرهه.
قال: فدخل رسول الله على سودة، قالت: فما أردت أن أقول ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أني فرقت من عائشة فقلت: يا رسول الله ما هذه الريح التي أجدها منك؟ أكلت المغافير؟ فقال: (لا، ولكن حفصة سقتني عسلا). ثم دخل رسول على امرأة امرأة وهن يقولن له ذلك، ثم دخل على عائشة فأخذت بأنفها. فقال
لها النبي صلى الله عليه وسلم (ما شأنك؟)
343

قالت: أجد ريح المغافير، أكلتها يا رسول الله؟ قال: (لا؛ بل سقتني حفصة عسلا).
قالت: حرست إذا نحلها العرفط، فقال لها صلى الله عليه وسلم (والله لا أطعمه أبدا) فحرمه على نفسه.
وقال عطاء بن أبي مسلم: إن التي كانت تسقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسن، حدثنا علي بن الحسن، حدثنا علي ابن عبد الله، حدثنا حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج قال: زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها تخبر أن رسول الله كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، قالت: فتواطأت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلنقل: إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: (لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعود له). فنزلت " * (يا أيها النبي لم تحرم...) *) الآيات.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الأيام بين نسائه فلما كان يوم حفصة قالت: يا رسول الله، إن لي إلى أبي حاجة نفقة لي عنده، فأذن لي أن أزوره وآتي، فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية أم إبراهيم وكان قد أهداها المقوقس فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها، فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا فحبست عند الباب، فخرج رسول الله (عليه السلام) ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: إنما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقا؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن؟ فقال رسول الله (عليه السلام): (أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي؟ اسكتي فهي حرام علي ألتمس بذلك رضاك، فلا تخبري بهذا امرأة منهن هو عندك أمانة).
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله قد حرم عليه أمته مارية، فقد أراحنا الله منها، فأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين، متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها؛ فأنزل الله " * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) *) يعني العسل ومارية.
وقال عكرمة: نزلت في المرأة التي وهبت نفسها للنبي عليه والسلام، ويقال لها أم شريك؛ فأبى النبي (عليه السلام) أن يصلها لأجل امرأته " * (تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم) *))
.
344

" * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *) أن تكفروها إذا حنثم، وهي قوله في سورة المائدة.
" * (والله موليكم وهو العليم الحكيم) *) فأمره أن يكفر حنثه، ويراجع أمته.
" * (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) *) وهو تحريمه صلى الله عليه وسلم فتاته على نفسه، وقوله لحفصة: لا تخبري بذلك أحدا.
وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي.
أخبرنا عبد الله بن حامد قراءة عليه، أخبرنا عمر بن الحسن، حدثنا أحمد بن الحسن بن سعيد، حدثنا أبي، حدثنا حصين عن الحر المسلي عن خلف بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: " * (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) *) قال: أسر النبي صلى الله عليه وسلم أمر الخلافة بعده؛ فحدثت به حفصة.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا نصر بن محمد بن شيرزاد، حدثنا الحسن بن سعيد البزار، حدثنا خالد بن العوام البزار، حدثني فرات بن السائب عن ميمون بن مهران في قول الله تعالى " * (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) *) قال: أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي.
" * (فلما نبأت به) *) خبرت بالحديث الذي أسر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبتها.
" * (وأظهره الله عليه) *) اي وأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أنها قد نبأت به.
وقرأ طلحة بن مصرف: فلما أنبأت به بالألف.
" * (عرف بعضه) *) قرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن البصري وقتادة والكسائي: عرف بالتخفيف.
أخبرنا محمد بن عبدوس، حدثنا محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن الجهم، حدثنا الفراء، حدثني شيخ من بني أسد يعني الكسائي عن نعيم بن عمرو عن عطاء عن أبي عبد الرحمن قال: كان إذا قرأ عليه الرجل عرف بالتشديد حصبه بالحصباء، ومعناه على هذه القراءة: عرف بعض ذلك ما فعلت الفعل الذي فعلته من إفشاء سره أي غضب من ذلك عليها وجازاها به، من قول القائل لمن أساء إليه: لأعرفن لك بمعنى لأجازينك عليه.
قالوا وجازاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإن طلقها، فلما بلغ ذلك عمر قال: لو كان في آل عمر خير لما طلقك رسول الله شهرا، فجاءه جبرائيل (عليه السلام) وأمره بمراجعتها، واعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا، وقعد في مشربة أم إبراهيم مارية حتى نزلت آية التخيير، فقال مقاتل بن حيان: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وإنما هم بطلاقها فأتاه جبرائيل (عليه السلام) فقال: لا تطلقها؛ فإنها صوامة قوامة، وإنها من أحدى نسائك في الجنة، فلم يطلقها.
وقرأ الباقون: عرف بالتشديد يعني: إنه عرف حفصة بعض ذلك الحديث وأخبرها به،
345

واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة قال: لأنه في التفسير أنه أخبرها ببعض القول الذي كان منها، ومما يحقق ذلك قوله: " * (وأعرض عن بعض) *) يعني: إنه لم يعرفها أياه ولم يخبرها به.
ولو كانت " * (عرف بعضه) *) مخففه لكان ضده وأنكر بعضا، ولم يقل أعرض عنه.
قال الحسن: ما استقصى كريم قط، قال الله تعالى " * (عرف بعضه وأعرض عن بعض) *).
قال مقاتل: يعني أخبرها ببعض ما قال لعائشة، فلم يخبرها بقولها أجمع، عرف حفصة بعضه وأعرض عن بعض الحديث بأن أبا بكر وعمر يملكان بعدي.
" * (فلما نبأها به) *) أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه.
" * (قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير) *))
.
* (إن تتوبآ إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذالك ظهير) *) 2
" * (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) *) أي زاغت ومالت واستوجبتما التوبة.
وقال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرهما ان يجتنب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جاريته، وذلك لهما موافق فسرهما ما كره رسول الله.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قراءة عليه، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا أن أسأل عمرح عن المرأتين من أزواج رسول الله اللتين قال الله تعالى: " * (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) *) حتى حج عمر وحججت معه، فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالأداوة فتبرد ثم أتاني فسكبت على يديه، فتوضأ فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى " * (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) *). فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس.
قال الزهري: كره والله ما سأله ولم يكتمه ثم قال: هي حفصة وعائشة، ثم أخذ يسوق الحديث فقال: كنا معاشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم.
قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالغوالي قال: فتعصبت يوما على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني فقالت: وما ينكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت:
346

أتراجعن رسول الله صلى الله عليه؟ قالت: نعم، قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه فإذا هي قد هلكت.
لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدالك ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك يريد عائشة رضي الله عنها
قال: وكان لي جار من الأنصار، قال: كنا نتناوب النزول إلى رسول الله (عليه السلام) فينزل يوما وأنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك، قال: وكنا نتحدث أن غسان تفعل الحيل لتغزونا، فنزل صاحبي يوما ثم أتاني غشيان فضرب بابي، ثم ناداني فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم.
قلت: ماذا، أجاءت غسان؟ قال: بل أعظم من ذلك طلق الرسول نساءه. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائنا، حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري هو معتزل في هذه المشربة، فأتيت غلاما له أسود، فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا حوله رهط جلوس بعضهم، فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت، فخرجت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت يعني الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت، قال: فوليت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني فقال: أدخل فقد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال: لا.
فقلت: الله أكبر، ثم ذكر له ما قال لامرأته وما قالت له امرأته، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد دخلت علي حفصة وذكرت ما قلت لها. فتبسم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم. فجلست فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهن ثلاثة، فقلت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا ثم قال: (أفي شك أنت يا بن الخطاب، أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا). فقلت: استغفر لي يا رسول الله، وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله تعالى.
قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: فلما مضى تسع وعشرون ليلة على رسول الله بدأني، فقلت: يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وإنك قد
347

دخلت عن تسع وعشرين، أعدهن، قال: إن الشهر تسع وعشرون، ثم قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تسامري أبويك، قالت: ثم قرأ
علي " * (يا أيها النبي قل لأزواجك) *) حتى بلغ " * (أجرا عظيما) *) قالت عائشة: قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني وقيل: ليأمراني بفراقه فقلت: أفي هذا أتسأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
قالت عائشة: فقلت له يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعثني الله مبلغا ولم يبعثني متعنتا.
" * (وإن تظاهرا) *) تعاونا على أذى النبي صلى الله عليه وسلم قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء على الحذف واختاره أبو عبيد، وقرأ الباقون بالتشديد على الإدغام واختاره أبو حاتم.
" * (فإن الله هو موليه) *) وليه وحافظه وناصره.
" * (وجبريل وصالح المؤمنين) *) قال المسيب بن شريك: هو أبو بكر ح.
وقال سعيد بن جبير: عمر (رض)، عكرمة: أبو بكر وعمر، يدل عليه ما أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا علي بن أحمد بن نصرويه، حدثنا أبو الحسن علي بن الحسن بن سليمان الباقلاني، حدثنا أبو عمار الحسين بن الحرث، حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سقيق عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل " * (فإن الله هو موليه وجبريل وصالح المؤمنين) *) قال: (إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا أبو علي المقري، حدثنا أبو القاسم بن الفضل، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، حدثني رجل ثقة يرفعه إلى علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله الله تعالى: " * (وصالح المؤمنين) *) هو علي بن أبي طالب ح).
أخبرنا عبد الله بن حامد الوران، أخبرنا عمر بن الحسن، حدثنا أحمد بن الحسن، حدثنا أبي، حدثنا حصين عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وصالح المؤمنين هو علي بن أبي طالب ح).
وقال الكلبي: هم المخلصون الذين ليسوا بمنافقين.
وقال قتادة والعلاء بن زياد العدوي: هم الأنبياء
348

" * (والملائكة بعد ذلك ظهير) *) أي أعوان، فلم يقل: صالحو ولا ظهرا، لأن لفظهما وأن كان واحدا فهو في معنى الجمع كقول الرجل: لا يقرئني إلا قارئ القرآن، فهو واحد ومعناه الجمع؛ لأنه قد أذن لكل قارئ القرآن ان يقرئه.
(* (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا * ياأيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون * ياأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون * ياأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الانهار يوم لا يخزى الله النبى والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا واغفر لنآ إنك على كل شىء قدير * ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير * ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنينا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين * وضرب الله مثلا للذين ءامنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين * ومريم ابنة عمران التىأحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) *) 2
" * (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات) *) داعيات، وقيل: مصليات.
" * (تائبات عابدات سائحات) *) يسحن معه حيث ما ساح، وقيل: صائمات.
وقال زيد بن أسلم وأبنه ويمان: مهاجرات.
" * (ثيبات وأبكارا) *) والآية واردة في الإخبار، عن القدرة لا عن الكون في الوقت؛ لأنه تعالى قال: " * (إن طلقكن) *) وقد علم أنه لا يطلقهن، وهذا قوله " * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) *) فهذا إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
" * (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) *) يعني: مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر وعلموهم وأدنوهم تقوهم بذلك نارا " * (وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ) *) فظاظ " * (شداد) *) أقوياء لم يخلق الله فيهم الرحمة، وهم الزبانيه التسعة عشر وأعوانهم من خزنه النار.
" * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) *) * (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون) * * (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) *) قراءة العامة بفتح النون على نعت التوبة.
349

وروى حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بضمه على المصدر، وهي قراءة الحسن.
قال المبرد: أراد توبة ذات نصح، واختلف المفسرون في معنى التوبة النصوح.
وقال عمر وأبي ومعاذ: التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، ورفعه معاذ.
وقال الحسن: هي أن يكون العبد نادما على ما مضى، مجمعا على أن لا يعود فيه.
الكلبي: أن يستغفر باللسان، ويندم بالقلب، ويمسك بالبدن.
قال قتادة: هي الصادقة الناصحة.
سعيد بن جبير: هي توبة مقبولة، ولا تقبل مالم يكن فيها ثلاث: خوف أن لا تقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات.
سعيد بن المسيب: توبة تنصحون بها أنفسكم.
القرظي: تجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والأقلاع بالأبدان، وإظهار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الخلان.
سفيان الثوري: علامة التوبة النصوح أربع: القلة، والعلة، والذلة، والغربة.
فضيل بن عياض: هي أن يكون الذنب نصب عينيه، ولا يزال كأنه ينظر إليه.
أبو بكر محمد بن موسى الواسطي: هي توبة لا لعقد عوض؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه، ثم تاب طلبا لرفاهيتها في الآخرة فتوبته على حظ نفسه لا لله.
أبو بكر الوراق: هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك كتوبة الثلاثة الذين خلفوا.
أبو بكر الرقاق المصري: رد المظالم واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات. رويم الراعي: هو أن تكون لله وجها بلا قفا كما كنت له عند المعصية قفا بلا.
رابعة: توبة لابيات منها. ذو النون: علامتها ثلاث: قلة الكلام وقلة الطعام وقلة المنام.
سقيق: هي أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة، لينجو من آفاتها بالسلامة.
سري السقطي: لا تصح التوبة النصوح إلا بنصحة النفس من المؤمنين؛ لأن من صحة توبته أحب أن يكون الناس مثله.
350

الجنيد: هي أن بنسى الذنب فلا يذكره أبدا؛ لأن من صحة توبته صار محبا لله، ومن أحب الله نسي ما دون الله.
سهل: هي توبة أهل السنة والجماعة لأن المبتدع لا توبة له، بدليل قوله صلى الله عليه: (حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب).
أبو الأديان: هي أن يكون لصاحبها دمع سفوح، وقلب عن المعاصي جموع، فإذا كان ذلك فإن توبته نصوح، وأمارات التوبة منه تلوح.
فتح الموصلي: علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظماء.
" * (عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار بوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم) *) على الصراط.
" * (يقولون) *) إذا طفئ نور المنافقين.
" * (ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير) *) * * (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) *) ثم ضرب مثلا للصالحات، والصالحات من النساء فقال عز من قائل: " * (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح) *) واسمها واعلة وامرأة لوط واسمها واهلة. وقال مقاتل: والعدو والهة.
" * (كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما) *) في الدين، وما بغت امرأة النبي قط.
قال ابن عباس: ليس بخيانة الزنا وهما (امرأتا) نوح ولوط (عليهما السلام) وإنما خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون وتطلع على سره، فإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به. وأما امرأة لوط فكانت تدل قومه على أضيافه.
" * (فلم يغنيا عنهما) *) مع توبتهما " * (من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) *) يخوف عائشة وحفصة رضي الله عنهما.
" * (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون) *) وهي آسية بنت مزاحم.
قال المفسرون: لما غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون فلما تبين إسلامها وثبتت عليه أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس وأمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها، فلما أتوها بالصخرة " * (إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة) *) وأبصرت بيتها في الجنة من درة، وانتزع الله روحها، فألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح، فلم تجد ألما من عذاب فرعون.
وقال الحسن وابن كيسان: رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب.
351

أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، أخبرنا علي بن عبدان، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا أسباط عن سليمان عن أبي عثمان عن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس، وإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة وجعلت ترى بيتها في الجنة.
" * (ونجني من فرعون وعمله) *) أي دينه.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد، حدثنا علي بن حرث، حدثنا أبو المنذر هشام بن محمد عن أبي صالح عن ابن عباس في قول الله تعالى " * (ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين) *) الكافرين، قطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره، وأخبر أن معصية الغير لا تضره إذا كان مطيعا.
" * (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) *) أي في درعها، لذلك ذكر الكناية.
" * (وصدقت) *) قراءة العامة بالتشديد، وقرأ لاحق بن حميد بالتخفيف.
" * (بكلمات ربها) *) قراءة العامة بالجمع.
وقرأ الحسن وعيسى والجحدري: الكلمة على الواحد يعنون عيسى (عليه السلام) * * (وكتبه) *) قرأ أبو عمر ويعقوب: وكتبه، على الجمع، وهي رواية حفص عن عاصم واختيار أبي حاتم قال: لأنها أعم.
وقرأ الباقون: " * (وكتابه) *)، على الواحد وهي اختيار أبي عبيد.
" * (وكانت من القانتين) *) المطيعين، مجازه: من القوم العابدين، ولذلك لم يقل قانتات، نظيره " * (يا مريم اقنتي لربك) *).
أخبرنا الحسن بن محمد، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني ومحمد بن المظفر قالا: حدثنا علي بن أحمد بن سليمان، حدثنا موسى بن سابق، حدثنا ابن وهب أخبرني الماضي ابن محمد عن بردة عن مكحول عن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي تجود بنفسها فقال: (أكره ما نزل بك يا خديجة وقد جعل الله في الكره خيرا كثيرا، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهن مني السلام).
قالت: يا رسول الله من هن؟
قال: (مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة أو حليمة أخت موسى). شك الراوي، فقالت: بالرفاه والبنين
352

أخبرنا الحسن بن محمد، حدثنا عبد الله بن محمد بن شيبة، حدثنا عبيد الله أحمد بن منصور الكسائي، حدثنا محمد بن عبد الجبار المعروف بسندول الهمداني، حدثنا أبو أسامة عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).
353

((سورة الملك))
مكية، وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة وثلاثون كلمة وألف وثلاثمائة حرفا
حدثنا أبو محمد المخلدي أخبرنا أبو العباس السراج، حدثنا العباس بن عبد الله الترمذي، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وددت أن " * (تبارك الذي بيده الملك) *) في قلب كل مؤمن).
أخبرني أبو الحسن الفارسي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد، حدثنا أبو يحيى البزار، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو داود، حدثنا عمران عن قتادة عن عباس الحسبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل وأخرجته يوم القيامة من النار وأدخلته الجنة وهي سورة تبارك).
أخبرنا أبو الحسن بن أبي إسحاق المزكي، وأبو الحسن بن أبي الفضل العدل قالا: حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا معمر بن سليمان عن الخليل بن مرة عن عاصم بن أبي النجود رواه عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: إذا وضع الميت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل قد كان يقوم بسورة الملك، ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه: ليس لك علي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك، ثم قال: هي المانعة من عذاب القبر، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب.
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير * الذى خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور * الذى خلق سبع سماوات طباقا ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير * ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير * وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس
354

المصير * إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهى تفور * تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتهآ ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شىء إن أنتم إلا فى ضلال كبير) *) 2
" * (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) *) * * (الذي خلق الموت والحياة) *) قدم الموت على الحياة لأنه إلى القهر أقرب، كما قدم البنات على البنين في قوله: " * (يهب لمن يشاء أناثا ويهب لمن يشاء الذكور) *).
قال قتادة: أذل الله ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء. وقيل: قدمة لأنه أقدم، وذلك أن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموات كالنطفة والتراب ونحوها، ثم اعترصت عليها الحياة.
قال ابن عباس: خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس بلقاء، وهي التي كان جبرئيل والأنبياء (عليهم السلام) يركبونها، خطوها مد البصر، وهي فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء، ولا تطأ شيئا ولا يجد ريحها شيء إلا حي، وهي التي أخذ السامري من أثرها؛ فألقاها على العجل فحيى.
" * (ليبلوكم) *) فيما بين الحياة إلى الموت، " * (أيكم أحسن عملا) *)
أخبرنا الحسن بن محمد بن فنجويه، حدثنا محمد بن عبد الله بن برزة، حدثنا الحرث بن أسامة، حدثنا داود بن المحر، حدثنا عبد الواحد بن زياد العبدي عن كليب بن وائل عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه) أنه تلا (تبارك الذي بيده الملك) حتى بلغ إلى قوله (أيكم أحسن عملا). ثم قال: أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله، وأسرعكم في طاعة الله.
وبإسناده عن داود بن المحر، حدثنا ميسر عن محمد بن زيد عن أبي سلمة عن أبي قتادة قال: قلت: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى " * (أيكم أحسن عملا) *) ما عني به؟ قال: (يقول أيكم أحسن عقلا).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتمكم عقلا وأشدكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمر الله تعالى به ونهى عنه نظرا وإن كان أقلكم تطوعا).
أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل، حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا القرشي، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن سقيق عن إبراهيم عن
355

الأشعث عن فضيل بن عياض " * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *) قال: أخلصه وأصوبة، قلت: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: إذا كان لله، والصواب: إذا كان على السنة.
وقال الحسن: يعني أيكم أزهد في الدنيا زهدا، وأترك لها تركا.
وقال سهل: أيكم أحسن توكلا على الله.
قال الفراء: لم يرفع البلوى على أي؛ لأن فيما بين أي والبلوى إضمارا وهو كما يقول في الكلام: بلوتكم لأنظر أيكم أطوع، ومثله " * (سلهم أيهم بذلك زعيم) *) أي سلهم وانظر أيهم. فأي رفع على الابتداء وأحسن خبره.
" * (وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سماوات طباقا) *) طبقا على طبق، بعضها فوق بعض، يقال: أطبقت الشيء إذا وضعت بعضه فوق بعض.
قال أبان بن تغلب: سمعت بعض الأعراب يذم رجلا فقال: شره طباق، وخيره غير باق.
قال سيبويه: ونصب طباقا لأنه مفعول ثان.
" * (ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت) *) قرأ يحيى بن ثابت والأعمش وحمزة والكسائي: من تفوت بغير ألف، وهي اختيار أبي عبيد وقراءة عبد الله وأصحابه.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوراق، أخبرنا مكي بن عبدان، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أنه كان يقرأ: من تفوت.
قال الأعمش: فذكرت لأبي رزين فقال: لقد سمعتها من عبد الله فيما قبلتها وأخذتها، وقرأ تفاوت، وهي قراءة الباقين واختيار أبي حاتم وهما لغتان مثل التعهد والتعاهد، والتحمل والتحامل، والتطهر والتطاهر. ومعناه: ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج واختلاف وتناقض وتباين، بل هي مستوية مستقيمة، وأصله من الفوت، وهي أن يفوت بعضها بعضا لقلة استوائها، يدل عليه قول ابن عباس: من تفرق.
" * (فارجع) *) فرد " * (البصر) *) قال الفراء: إنما قال فارجع وليس قبله فعل مذكور فيكون الرجوع على ذلك الفعل؛ لأن مجاز الكلام: أنظر ثم ارجع البصر.
356

" * (هل ترى من فطور) *) فتوق وشقوق وخروق.
الضحاك: اختلاف وشطور، عطية: عيب، ابن كيسان: تباعد، القرظي: قروح، أبو عبيدة: صدوع قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود:
شققت القلب ثم ذررت فيه
هواك فليم فالتأم الفطور
وقال آخر:
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
ولا سكر ولم يبلغ سرور
وقال آخر:
بنى لكم بلا عمد سماء
وزينها فما فيها فطور
" * (ثم ارجع البصر) *) رد البصر وكرر النظر " * (كرتين) *) مرتين، " * (ينقلب) *) ينصرف ويرجع " * (إليك البصر خاسئا) *) خاشعا، ذليلا، مبعدا " * (وهو حسير) *) يعني كليل، منقطع لم يدرك ما طلب قال الشاعر:
نظرت إليها بالمحصب من منى
فعاد إلي الطرف وهو حسير
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا موسى بن محمد، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا المسيب، حدثنا إبراهيم البكري عن صالح بن جبار عن عبد الله بن يزيد عن أبيه، قال المسيب: وحدثنا أبو جعفر عن الربيع عن كعب قالا: السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية مرمرة بيضاء، والثالثة حديد، والرابعة صفر وقال نحاس والخامسة فضة، والسادسة ذهب والسابعة ياقوته حمراء، وبين السماء السابعة إلى الحجب السبعة صحاري من نور، واسم صاحب الحجب (فنطاطروس).
" * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) *) أي الكواكب، واحدها مصباح وهو السراج.
" * (وجعلناها رجوما) *) مرمى " * (للشياطين) *) إذا اخترقوا السمع، " * (وأعتدنا لهم) *) في الآخرة " * (عذاب السعير) *) ما جعلنا لهم في الدنيا من الشهب، " * (والذين كفروا بربهم) *) أيضا * (عذاب جهنم وبئس المصير) * * (إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا) *) صوتا كصوت الحمار " * (وهي تفور) *) تزفر وتغلي بهم كما يغلي القدر
357

وقال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحب القليل في الماء الكثير.
" * (تكاد تميز من الغيظ) *) يتفرق بعضها من بعض على أهلها غيظا وانتقاما لله تعالى " * (كلما ألقي فيها فوج) *) قوم " * (سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير) *) رسول في الدنيا " * (قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا) *) للرسل " * (ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير) *))
.
* (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فىأصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير * إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير * وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير * هو الذى جعل لكم الارض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور * أءمنتم من فى السمآء أن يخسف بكم الارض فإذا هى تمور * أم أمنتم من فى السمآء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير * ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير * أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان إنه بكل شىء بصير * أمن هاذا الذى هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان إن الكافرون إلا فى غرور * أمن هاذا الذى يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا فى عتو ونفور * أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى أمن يمشى سويا على صراط مستقيم * قل هو الذىأنشأكم وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون * قل هو الذى ذرأكم فى الارض وإليه تحشرون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * قل إنما العلم عند الله وإنمآ أنا نذير مبين * فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هاذا الذى كنتم به تدعون * قل أرءيتم إن أهلكنى الله ومن معى أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم * قل هو الرحمان ءامنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو فى ضلال مبين * قل أرءيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء معين) *) 2
" * (وقالوا) *) وهم في النار " * (لو كنا نسمع) *) النذر من الرسل، وما جاؤونا به " * (أو نعقل) *) عنهم. قال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به.
* (ما كنا في أصحاب السعير) * * (فاعترفوا بذنبهم فسحقا) *) بعدا، وقال سعيد بن جبير: هو واد في جهنم " * (لأصحاب السعير) *) ونقله أبو جعفر والكسائي بروايتيه الدوري وقتيبة الخلاف عنهما، وحققه الآخرون: وهما لغتان مثل الرعب والرعب، السحت والسحت، أخبرنا عبد الله ابن حامد، أخبرنا محمد بن خالد حدثنا داود بن سليمان، حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبيد الله ابن موسى عن إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي، وتنقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن: مالك؟ قالت: إنه كان يستجير مني فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار، فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك قال: فما كان ظنك؟ قال: كان ظني أن تسعني رحمتك، فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى
358

النار فتشهق إليه النار شهيق البغلة إلى الشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.
" * (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) *).
قال ابن عباس: نزلت في المشركين، كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبرائيل ما قالوا فيه ونالوا منه، فيقول بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمع إله محمد. وقال أهل المعاني: إن شئت جعلت (من) في قوله: " * (من خلق) *) اسما للخالق؟ فقلت: ألا يعلم الخالق ما في الصدور وهو اللطيف الخبير، وإن شئت جعلته اسما، فقلت: ألا يعلم الله مخلوقه.
أخبرنا الفنجوي حدثنا موسى بن الحسن بن علوية حدثنا عيسى بن إسماعيل بن عيسى بن المسيب، قال: بينا رجل واقف بالليل في شجر كثير وقصفت الريح فوقع في نفس الرجل فقال: أترى الله يعلم ما يسقط من هذه الورق؟ فنودي من خلفه: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟
وروى محمد بن فضيل عن زرين عن ابن أبي أسماء أن رجلا دخل غيضة فقال: لو خلوت هاهنا للمعصية من كان يراني؟ قال: فسمع صوتا ملأ ما بين لا يتي الغيضة، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟
" * (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا) *) سهلا مسخرة لا تمتنع " * (فامشوا في مناكبها) *) قال ابن عباس وقتادة: في جبالها، ضحاك: في آكامها، مجاهد: طرقها وفجاجها، وقال الكلبي: أطرافها، الفراء: في جوانبها، مقاتل: نواحيها، الحسن: سهلها حيث أردتم فقد جعلها لكم ذلولا لا تمتنع، وأصل المنكب الجانب ومنه منكب الرجل، والريح النكاب، وتنكب فلان.
" * (وكلوا من رزقه) *) الحلال " * (وإليه النشور) *) * * (ءأمنتم من في السماء) *) وقال ابن عباس: أمنتم عذاب من في السماء أن عصيتموه. وقيل:
معنى " * (أمنتم من في السماء) *): قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته، وقيل: إنما قال: " * (من في السماء) *) لأنهم كانوا يعترفون بأنه إله السماء، ويزعمون إن الأصنام آلهة الأرض، وكانوا يدعون الله من جهة السماء، وينتظرون نزول أمره بالرحمة والسطوة منها.
وقال المحققون: معنى قوله: " * (في السماء) *) أي فوق السماء كقوله تعالى: " * (فسيحوا في الأرض) *)، أي فوقها لا بالمماسة والتحيز ولكن بالقهر والتدبير
359

وقيل: معناه على السماء كقوله: " * (ولأصلبنكم في جذوع) *) ومعناه: إنه مالكها ومدبرها والقائم عليها، كما يقال: فلان على العراق والحجاز، وفلان على خراسان وسجستان يعنون أنه واليها وأميرها.
وأعلم أن الآيات والأخبار الصحاح في هذا الباب كثيرة وكلها إلى العلو مشيرة، ولا يدفعها إلا ملحد جاحد أو جاهل معاند، والمراد بها والله أعلم توقيره وتعظيمه وتنزيهه عن السفل والتحت، ووصفه بالعلو والعظمة دون أن يكون موصوفا بالأماكن والجهات والحدود والحالات؛ لأنها صفات الأجسام وأمارات الحدث والله سبحانه وتعالى كان ولا مكان فخلق الأمكنة غير محتاج إليها، وهو على ما لا يزل، ألا يرى أن الناس يرفعون أيديهم في حال الدعاء إلى السماء مع إحاطة علمه وقدرته ومملكته بالأرض وغيرها أحاطتها بالسماء، إلا أن السماء مهبط الوحي ومنزل القطر ومحل القدس ومعدن المطهرين المقربين من ملائكته، وإليها ترفع أعمال عباده وفوقها عرشه وجنته وبالله التوفيق.
" * (أن يخسف) *) يغور " * (بكم الأرض فإذا هي تمور) *) قال الحسن: تحرك بأهلها، وقال الضحاك: تدور بهم وهم في قعرها، وقال ابن كيسان: تهوى بهم.
" * (أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) *) ريحا ذات حجارة كما فعل بقوم لوط وأصحاب الفيل " * (فستعلمون كيف نذير) *) أي إنذاري بالعذاب.
" * (ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير) *) إنكاري، وأثبت بعض القراء الياء في هذه الحروف وجوابها على الأصل وحذفها بعضهم على الخط.
* (أولم يروا إلى الطير فوقهم) * * (صافات) *) أجنحتها وهي تطير، " * (ويقبضن) *) أجنحتها بعد انبساطها، " * (ما يمسكهن) *) يحبسهن في حال القبض والبسط أن يسقطن، " * (إلا الرحمان إنه بكل شيء بصير) *).
" * (أمن هذا الذي هو جند لكم) *) قال ابن عباس: منعه لكم " * (ينصركم من دون الرحمان) *) فيدفع عنكم ما أراد بكم " * (إن الكافرون إلا في غرور) *) * * (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو) *) في الضلال " * (ونفور) *) تباعد من الحق " * (أفمن يمشي مكبا على وجهه) *) راكبا رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يبصر يمينا ولا شمالا، وهو الكافر.
وقال قتادة: هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه، " * (أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم) *) وهو المؤمن، وقوله " * (مكبا على وجهه) *) فعل غريب لأن أكثر اللغة في التعدي واللزوم أن يكون أفعلت يفعل، وهذا على ضده يقال
360

كببت فلانا على وجهه فأكب، قال الله تعالى: " * (فكبت وجوههم في النار) *)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).
ونظيره في الكلام قولهم: قشعت الريح السحاب فأقشعت، وبشرته بمولود فأبشر، وقيل مكبا لأنه فعل غير واقع، قال الأعشى:
مكبا على روقيه يحفز عرفه
على ظهر عريان الطريقة أهيما
" * (قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه) *) ويعني العذاب في الآخرة عن أكثر المفسرين، وقال مجاهد: يعني العذاب ببدر، " * (زلفة) *) قريبا، وهو اسم بوصف مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والاثنان والجميع " * (سيئت) *) أخزيت " * (وجوه الذين كفروا) *) فاسودت وعلتها الكآبة والغربة يقول العرف: سويه فسيء، ونظيره سررته فسر وشعلته فشعل " * (وقيل) *) قال لهم الخزنة: " * (هذا الذي كنتم به تدعون) *) أي أن يعجله لكم.
وقراءة العامة: (تدعون) بتشديد الدال يفتعلون من الدعاء عن أكثر العلماء أي يتمنون ويتسلون، وقال الحسن: معناه يدعون أن لا جنة ولا نار، وقرأ الضحاك وقتادة ويعقوب بتخفيف الدال، أي تدعون الله أن يأتكم به وهو قوله: " * (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) *) الآية.
" * (قل) *) يا محمد لمشركي مكة الذين يتمنون هلاكك ويتربصون بك ريب المنون " * (أرأيتم إن أهلكني الله) *) فأماتني " * (ومن معي أو رحمنا) *) أبقانا وأخر في آجالنا " * (فمن يجير الكافرين من عذاب أليم) *) فإنه واقع بهم لا محالة، وهذا اختيار الحسين بن الفضل ومحمد بن الحسن.
وقال بعضهم: " * (قل أرأيتم إن أهلكني الله) *) فعذبني (ومن معي أو رحمنا) غفر لنا (فمن يجير الكافرين من عذاب أليم) ونحن معا إنما خائفون من عذابه؛ لأن له أن يأخذنا بذنوبنا ويعاقبنا ويهلكنا؛ لأن حكمه جائز وأمره نافذ وفعله واقع في ملكه، فنحن مع إيماننا خائفون من
361

عذابه فمن يمنعكم من عذاب الله وأنتم كافرون؟ وهذا معنى قول ابن عباس واختيار عبد العزيز ابن يحيى وابن كيسان.
" * (قل هو الرحمان آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون) *) بالياء الكسائي ورواه عن عليح، الباقون بالتاء، " * (من هو في ضلال مبين) *) نحن أم أنتم " * (قل
أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا) *) يعني غائرا ذاهبا ناضبا في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء، قال الكلبي ومقاتل: يعني ماء زمزم وبئر ميمون الحضرمي وهي بئر عادية قديمة.
" * (فمن يأتيكم بماء معين) *) ظاهر تناله الأيدي والدلاء، وقال عطاء عن ابن عباس: جار، وقال المؤرخ: عذب بلغة قريش.
362