الكتاب: أحكام القرآن
المؤلف: ابن العربي
الجزء: ٣
الوفاة: ٥٤٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد عبد القادر عطا
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: لبنان - دار الفكر للطباعة والنشر
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

سورة يونس
فيها من الآيات ست
الآية الأولى
قوله تعالى (* (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) *) الآية 22
فيها ست مسائل
المسألة الأولى قوله (* (في البر والبحر) *))
في تفسيره قولان
أحدهما أن البر هو الأرض اليابسة والبحر هو الماء
الثاني أن البر الفيافي والبحر الأمصار وإنما يكون تفسير كل واحد منهما بحسب ما يرتبط به من قول مقدم له أو بعده كقوله ها هنا حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة فهذا نص بين في أن المراد بالبحر غمرة الماء وقرينتها المبينة لها قوله حتى إذا كنتم في الفلك وقوله (* (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) *) [الزخرف 12] فقوله (* (من الفلك) *) هو للبحر وقوله (* (والأنعام) *) هو للبر
3

المسألة الثانية قرىء (* (يسيركم) *))
بالياء والسين المهملة وننشركم - بالنون والشين المعجمة وأراد اليحصبي يبسطكم برا وبحرا وأراد غيره من السير وهو الذي أختاره
المسألة الثالثة
في هذه الآية جواز ركوب البحر وقد ورد ذلك في الحديث الصحيح من طريقين
روى أبو هريرة أن رسول الله سئل فقيل له إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ قال ' هو الطهور ماؤه الحل ميتته '
وروى أنس بن مالك أن رسول الله دخل على أم حرام بنت ملحان فنام عندها ثم استيقظ وهو يضحك فقالت له ما يضحكك يا رسول الله؟ قال ' ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة ' قالت فادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك فقالت يا رسول الله؛ وما يضحكك؟ قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة ' كما قال في الأولى قالت فقلت أدع الله أن يجعلني منهم قال ' أنت من الأولين ' الحديث
ففي هذا كله دليل على جواز ركوب البحر ويدل عليه من طريق المعنى أن
4

الضرورة تدعو إليه؛ فإن الله ضرب به وسط الأرض فانفلقت وجعل الخلق في العدوتين وقسم المنافع بين الجهتين ولا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها فسهل الله سبيله بالفلك وعلمها نوحا صلى الله عليه وسلم وراثة في العالمين بما أراه جبريل وقال له صورها على جؤجؤ الطائر فالسفينة طائر مقلوب والماء في استفاله للسفينة نظير الهواء في اعتلائه
المسألة الرابعة
أما القرآن فيدل على جواز ركوب البحر مطلقا وأما الحديثان [اللذان جلبناهما فيدل حديث أبي هريرة على جواز ركوب البحر مطلقا وأما حديث أنس فيدل على جواز كونه في الغزو وهي رخصة من الله أجازها مع] ما فيه من الغرر ولكن الغالب منه السلامة؛ لأن الذين يركبونه لا حاصر لهم والذين يهلكون فيه محصورون
المسألة الخامسة قوله ' ملوكا على الأسرة '
فيه قولان
أحدها يركبون ظهره على الفلك ركوب الملوك الأسرة على الأرض
الثاني يركبون الفلك لسعة الحال والملك كأنهم أهل الملك
ويعارض هذا قوله تعالى (* (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) *) فإن النبي وصف هؤلاء بالملك ووصف الله هؤلاء بالمسكنة
ومن هذه المعارضة فر قوم فقالوا إن القراءة فيها أما السفينة فكانت لمساكين - بتشديد السين
5

وقال قوم إنما وصفهم بالمسكنة لما هم عليه من عدم الحول والقوة في البحر وضعف الحيلة فيه أيضا؛ فإن من أراد أن يعلم أن الحول والقوة لله عيانا فليركب البحر
وحقيقة المعنى فيه أن مسكنتهم كانت لوجهين
أحدهما لدخولهم البحر
والثاني أنه لم يكن لهم مال ولا ملك إلا السفينة وهم لا يركبون البحر بالعدد والعدة والعزم والشدة يقصدون الغلبة وهذه حالة للملك
وقد روي أن عمر كان يتوقف في ركوب البحر للمسلمين لما كان يتوهم فيه من الغرر إذ لم يره إلا لضرورة كما ركبه المهاجرون إلى الحبشة للضرورة أولا وآخرا أما
الأول ففي الفرار من نكاية المشركين وأما الآخر فلنصر النبي والكون معه
المسألة السادسة
إذا حصل المرء في ارتجاج البحر وغلبته وعصفه وتعابس أمواجه فاختلف العلماء في حكمه وقد تقدم شرحه في سورة الأعراف
الآية الثانية
قوله تعالى (* (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) *) [الآية 1]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى تفسير التحية
وفيها ثلاثة أقوال
الأول أنها الملك
6

الثاني أنها البقاء قال المعمر
(أبني إن أهلك فإني
* قد تركت لكم بنيه)
(وتركتكم أولاد سادات
* زنادكم وريه)
(ولكل ما نال الفتى
* قد نلته إلا التحيه)
يعني البقاء
الثالث أنها السلام
المسألة الثانية في تفسيرها قولان
الأول أن الملك يأتيهم بما يشتهون فيقول لهم سلام عليكم؛ أي سلمتم فيردون عليه فإذا أكلوه قالوا الحمد لله رب العالمين
الثاني أن معنى تحيتهم تحية بعضهم بعضا؛ فقد ثبت في الخبر كما بينا ' أن الله خلق آدم ثم قال له اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم فجاءهم فقال سلام عليكم فقالوا له وعليك السلام ورحمة الله وبركاته فقال له هذه تحيتك وتحية ذريتك إلى يوم القيامة '؛ وبين في القرآن هاهنا أنها تحيتهم في الجنة فهي تحية موضوعة من ابتداء الخلقة إلى غير غاية
وقد روى ابن القاسم عن مالك في قول الله تحيتهم فيها سلام؛ أي هذا السلام الذين بين أظهركم تتقابلون به
والقولان محتملان وهذا أظهر؛ لأنه ظاهر القرآن والله أعلم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) *) [الآية 32]
7

فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في تفسير (* (الحق) *))
وقد مهدناه في كتاب ' الأمد الأقصى ' في تسمية الباري تعالى به ولبابه أن الحق هو الوجود والوجود على قسمين وجود حقيقي ووجود شرعي
فأما الوجود الحقيقي فليس إلا لله وصفاته وعليه جاء قوله ' أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والساعة حق '
فأما الله وصفاته فوجودها [هو] حق؛ لأنه لم يسبقها عدم ولا يعقبها فناء وأما لقاء الله فهو حق سبقه عدم ويعقبه مثله وأما الجنة والنار فهما حقان سبقهما عدم ولا يعقبهما فناء لكن ما فيها من أنواع العذاب أعراض وأما الوجود الشرعي فهو الذي يحسنه الشرع وهو واجب وغير واجب
المسألة الثانية في تحقيق معنى الباطل
وهو ضد الحق والضد ربما أظهر حقيقة الضد فإذا قلنا إن الله هو الحق حقيقة فما سواه باطل وعنه عبر الذي يقول
(ألا كل شيء ما خلا الله باطل
* وكل نعيم لا محالة زائل)
وإن قلنا [إن] الحق هو الحسن شرعا فالباطل هو القبيح شرعا ومقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا كما قال سبحانه وتعالى (* (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) *) [الحج 62] كما أن مقابلة الحق بالضلال عرف أيضا لغة وشرعا كما قال الله تعالى في هذه الآية (* (فماذا بعد الحق إلا الضلال)
*) وقد بين حقيقة الحق فأما حقيقة الضلال وهي
8

المسألة الثالثة
فهو الذهاب عن الحق أخذ من ضلال الطريق وهو العدول عن سمت القصد وخص في الشرع بالعبارة عن العدول عن السداد في الاعتقاد دون الأعمال
ومن غريب أمره انه يعبر به عن عدم المعرفة بالحق إذا قابله غفلة ولم يقترن بعدمه جهل أو شك وعليه حمل العلماء قوله (* (ووجدك ضالا فهدى) *) [الضحى 7] الذي حققه قوله (* (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) *) [الشورى 52]
المسألة الرابعة
روى عبد الله بن عبد الحكم عن أشهب عن مالك قال يقول الله فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فاللعب بالشطرنج والنرد من الضلال
وروى يونس عن أشهب قال سئل - يعني مالكا - عن اللعب بالشطرنج قال لا خير فيه وليس بشيء وهو من الباطل واللعب كله من الباطل وأنه ينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل وقد قال عمر بن الخطاب لأسلم في شيء أما تنهاك لحيتك هذه؟ قال أسلم فمكثت زمانا وأنا أظن أنها ستنهاني فقيل لمالك لما كان عمر لا يزال يقول فيكون فقال نعم [في رأيي]
وروى يونس عن ابن وهب عن مالك - أنه سئل عن الرجل يلعب مع امرأته في بيته فقال مالك ما يعجبني ذلك وليس من شأن المؤمنين اللعب؛ يقول الله (* (فماذا بعد الحق إلا الضلال) *) وهذا من الباطل
وروى مخلد بن خداش عن مالك - أنه سئل عن اللعب بالشطرنج قال (* (فماذا بعد الحق إلا الضلال) *) رواه عبد العزيز الجهني؛ قال قلت لمالك بن أنس أدعو الرجل لعبثي فقال مالك أذلك من الحق؟ قلت لا قال فماذا بعد الحق إلا الضلال
9

قال القاضي الإمام هذا منتهى ما تحصل لي من ألفاظ مالك في هذه المسألة وقد اعترض بعض المتقدمين عليه من المخالفين فقال ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال؛ لأن أولها (* (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال) *)؛ فهذا في الإيمان والكفر يعني ليس في الأعمال
وأجاب عن ذلك بعض علماء المتقدمين؛ فقال إن الكفر تغطية الحق وكل ما كان من غير الحق يجري هذا المجرى هذا منتهى السؤال والجواب
وتحقيقه أن يقال إن الله أباح وحرم فالحرام ضلال والمباح هدى؛ فإن كان المباح حقا - كما اتفق عليه العلماء - فالشطرنج من المباح فلا يكون من الضلال؛ لأن من استباح من أباح الله لا يقال له ضال وإن كان الشطرنج خارجا من المباح فيفتقر إلى دليل فإذا قام الدليل على أنه حرام فحينئذ يكون من الضلال الذي تضمنته هذه الآية وقد قدمنا القول فيه وأن قول الشافعية إنه يخالف النرد لأن فيه إكداد الفهم واستعمال القريحة والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه كالاستقسام بالأزلام
وقال علماؤنا إن الحديث الصحيح الثابت عن النبي أنه قال ' من لعب بالنردشير فقد غمس يده في لحم الخنزير ودمه ' يوجب النهي عن الشطرنج؛ لأن الكل يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة والفهم يكد في كل واحد منهما وإن تفاضلا فيه
وأما لعب الرجل مع امرأته بالأربع عشرة فالممتنع لا تفترق فيه المرأة تكون للرجل ولا الأجنبي منه كما لا يجوز له أن يلعب معها بالنردشير لعموم النهي فيه والأربع عشرة قمار مثله
وأما الغناء فإنه من اللهو المهيج للقلوب عند أكثر العلماء منهم مالك بن أنس وليس في القرآن ولا في السنة دليل على تحريمه
10

أما إن في الحديث الصحيح [دليلا على] إباحته وهو الحديث الصحيح - أن أبا بكر دخل على عائشة وعندها جاريتان حاديتان من حاديات الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار به يوم بعاث فقال أبو بكر أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ فقال رسول الله ' دعهما يا أبا بكر فإنه يوم عيد ' فلو كان الغناء حراما ما كان في بيت رسول الله وقد أنكره أبو بكر بظاهر الحال فأقره النبي بفضل الرخصة والرفق بالخليقة في إجمام القلوب؛ إذ ليس جميعها يحمل الجد دائما وتعليل النبي بأنه يوم عيد يدل على كراهية دوامه ورخصته في الأسباب كالعيد والعرس وقدوم الغائب ونحو ذلك من المجتمعات التي تؤلف بين المفترقين والمفترقات عادة وكل حديث يروى في التحريم أو آية تتلى فيه فإنه باطل سندا باطل معتقدا خبرا وتأويلا وقد ثبت أن النبي رخص في الغناء في العيدين وفي البكاء على الميت من غير نوح من حديث ثابت بن وديعة
الآية الرابعة
قوله سبحانه وتعالى (* (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون) *) [الآية 59]
وهي دليل على أن التحريم والتحليل لا يكونان عقلا ولا تشهيا؛ وإنما المحرم والمحلل هو الله حسبما تقدم في سورة الأنعام في مثل هذه الآية
11

الآية الخامسة
قوله تعالى (* (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) *) [الآية 64]
فيها مسألتان
المسألة الأولى في تفسيرها قولان
أحدهما أنها بشرى الله لعباده بما أخبرهم به من وعده الكريم في قوله (* (وبشر المؤمنين) *) [البقرة 223] [يونس 87] (* (وبشر الذين آمنوا) *) [البقرة 25] وقوله (* (يبشرهم ربهم برحمة منه) *) [التوبة 21] ونظائره
الثاني ما روى ابن القاسم وغيره عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه في هذه الآية قال ' هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له '
الثاني ما روى ابن القاسم وغيره عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه في هذه الآية قال ' هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له '
قال رجل من أهل مصر سألت أبا الدرداء عن قوله سبحانه (* (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) *) فقال ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله عنها؛ سألت رسول الله عنها؛ فقال ' ما سألني أحد عنها غيرك منذ أنزلت؛ فهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له '
وروي عن أبي هريرة وابن عمر وطلحة ولم يصح منها طريق ولكنها حسان
المسألة الثانية
والذي ثبت عن النبي في الباب ' الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ' والحديث صحيح ومعناه بديع قد تكلمنا عليه في موضعه من شرح الحديث الصحيح وسيأتي جملة من ذلك في تفسير سورة يوسف إن شاء الله
12

الآية السادسة
قوله تعالى (* (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) *) [الآية 87]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
القول في القبلة وقد تقدم في سورة البقرة
المسألة الثانية في تفسيرها
هذا يدل على أن القبلة في الصلاة كانت شرعا لموسى في صلاته ولقومه ولم تخل الصلاة قط عن شرط الطهارتين واستقبال القبلة وستر العورة؛ فإن ذلك أبلغ في التكليف وأوقر للعبادة
المسألة الثالثة قيل أراد بقوله (* (واجعلوا بيوتكم قبلة) *))
يعني بيت المقدس أمروا أن يستقبلوها حيثما كانوا وقد كانت مدة من الزمان قبلة ثم نسخ ذلك حسبما تقدم في سورة البقرة
وقيل أراد به صلوا في بيوتكم دون بيعكم إذا كنتم خائفين؛ لأنه كان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم والأول أظهر الوجهين لأن الثاني دعوى
[والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله]
13

سورة هود
فيها ثماني آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) *) [الآية 15] فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (من كان يريد الحياة الدنيا) *))
بيان لما قال النبي ' إنما الأعمال بالنيات '؛ وذلك لأن العبد لا يعطى إلا على وجه قصده وبحكم ما ينعقد ضميره عليه وهذا أمر متفق عليه في الأمم من أهل كل ملة
المسألة الثانية
أخبر الله سبحانه أن من يريد الدنيا يعطى ثواب علمه فيها ولا يبخس منه شيئا
واختلف بعد ذلك في وجه التوفية؛ فقيل في ذلك صحة بدنه أو إدرار رزقه وقيل هذه الآية مطلقة وكذلك الآية التي في حم عسق (* (من كان يريد حرث الآخرة) *) [الشورى 2]
الآية قيدها وفسرها بالآية التي في سورة سبحان وهي قوله (* (من كان يريد) *
14

* (العاجلة عجلنا له) * ' إلى (* (محظورا) *) [الإسراء 18 - 2]؛ فأخبر سبحانه أن العبد ينوي ويريد والله أعلم بما يريد
المسألة الثالثة
اختلف في المراد بهذه الآية؛ فقيل إنه الكافر فأما المؤمن فله حكمه الأفضل الذي بينه الله في غير موضع
وقال مجاهد هي في الكفرة وفي أهل الرياء
قال القاضي هي عامة في كل من ينوي غير الله بعلمه كان معه أصل إيمان أو لم يكن وقد قال النبي ' قال الله إني لا أقبل عملا أشرك فيه معي غيري أنا أغنى الأغنياء عن الشرك '
وقال أبو هريرة عن النبي قال ' إن الله جل ثناؤه إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل
الله ورجل كثير المال فيقول الله للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت؟ قال كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار فيقول الله جل ثناؤه كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول الله جل جلاله بل أردت أن يقال فلان قارئ؛ فقد قيل ذلك
ويؤتى بصاحب المال فيقول الله تعالى أو لم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ فيقول بلى يا رب فيقول فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال كنت أصل الرحم وأتصدق فيقول الله كذبت وتقول الملائكة كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل لك ذلك
ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له في فيماذا قتلت؟ فيقول أمرت بالجهاد في سبلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك '
15

ثم ضرب رسول الله على ركبتي وقال ' يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ' ثم قال تعالى (* (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) *) [هود 16]؛ أي في الدنيا وهذا نص في مراد الآية والله أعلم
الآية الثانية في قصة نوح
[الآيات 25 - 48]
وفيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
روى ابن القاسم عن ابن أشرس عن مالك قال بلغني أن قوم نوح ملأوا الأرض حتى ملأوا السهل والجبل فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء ولا هؤلاء أن ينزلوا مع هؤلاء فلبث نوح يغرس الشجر مائة عام لعلم السفينة ثم جمعها ييبسها مائة عام وقومه يسخرون منه وذلك لما رأوه يصنع ذلك حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان
المسألة الثانية
قوله تعالى (* (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم) *)
وذلك نص في ذكر الله في كل حال وعلى كل أمر
وقد روى الدارقطني وغيره ' كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر '
16

وكان رسول الله يذكر الله في كل أحيانه حتى قال جماعة إنه يقول بسم الله مع النية في الوضوء حتى يجمع بين الذكر والنية ومن أشده في الندب ذكر الله في ابتداء الشراب والطعام ومن الوجوب فيه ذكر الله عند الذبح كما تقدم ذكره في سورة الأنعام وغير ذلك من تعديد مواضعه
المسألة الثالثة قال (* (من كل زوجين اثنين وأهلك) *))
قال علماؤنا لما استنقذ الله من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فاصنع الفلك قال يا رب ما أنا بنجار قال بلى فإن ذلك بعيني؛ فأخذ القدوم فجعلت يده لا تخطىء فجعلوا يمرون به فيقولون هذا النبي الذي يزعم أنه نبي قد صار نجارا فعملها في أربعين سنة ثم أوحى الله إليه أن احمل فيها من كل زوجين اثنين فحمل فيها فأرسل الله الماء من السماء وفتح الأرض ولجأ ابن نوح إلى جبل فعلا الماء على الجبل سبعة عشرة ذراعا وذلك قوله (* (ونادى نوح ابنه وكان في معزل) *) يعني عنه - إلى قوله (* (من الجاهلين) *)
قال علماؤنا إنما سأل نوح ربه لأجل قول الله احمل فيها من كل زوجين إلى وأهلك وترك نوح قوله إلا من سبق عليه القول منهم؛ لأنه رآه استثناء عائدا إلى قوله من كل زوجين اثنين وحمله الرجاء على ذلك فأعلمه الله أن الاستثناء عائد إلى الكل وأنه قد سبق القول على بعض أهله كما سبق على بعض من الزوجين وأن الذي سبق عليه القول من أهله هو ابنه تسلية للخلق في فساد أبنائهم وإن كانوا صالحين ونشأت عليه مسألة وهي أن الابن من الأهل اسما ولغة ومن أهل البيت على ما يأتي بيانه في الآية السادسة بعد هذا إن شاء الله
17

الآية الثالثة
قوله (* (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب) *) [الآية 61]
قال بعض علماء الشافعية الاستعمار طلب العمارة والطلب المطلق من الله على الوجوب
قال القاضي الإمام تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان منها استفعل بمعنى طلب الفعل كقوله استحملت فلانا؛ أي طلبت منه حملانا
ومنها استفعل بمعنى اعتقد كقولهم استسهلت هذا الأمر أي اعتقدته سهلا أو وجدته سهلا واستعظمته؛ أي اعتقدته عظيما
ومنها استفعل بمعنى أصبت الفعل كقولك استجدته أي أصبته جيدا وقد يكون طلبته جيدا
ومنها بمعنى فعل كقوله قر في المكان واستقر وقالوا إن قوله يستهزئون ويستحسرون منه فقوله تعالى استعمركم خلقكم لعمارتها على معنى استجدته واستسهلته أي أصبته جيدا وسهلا وهذا يستحيل في الخالق فترجع إلى أنه خلق لأنه الفائدة ويعبر عن الشيء بفائدته مجازا كما بيناه في الأصول ولا يصح أن يقال إنه طلب من الله ضمارتها؛ فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه أما إنه يصح أن قال إنه استدعى عمارتها فإنه جاء بلفظ استفعل وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمر أو طلب الفعل إذا
كان من الأدنى إلى الأعلى رغبة وقد بينا ذلك في الأصول
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) *) [الآية 69]
فيها تسع مسائل
18

المسألة الأولى
قد بينا في الرسالة الملجئة إعراب الآية وقد قال الطبري إنه عمل في ' سلام ' الأول القول كأنه قال قالوا قولا وسلموا سلاما وقال الزجاج معناه سلمنا سلاما قال شيخنا أبو عبد الله المغربي إن نصبه على المصدر أظهر وجوهه؛ لأنه إن عمل فيه القول كان على معنى السلام ولم يكن عمل لفظه كأنه أخبر أنه على المعنى كما تقول قلت حقا ولم ينطق بالحاء والقاف وإنما قلت قولا معناه حق وهم إنما تكلموا بسلام ولذا أجابهم بالسلام وعلى هذا جرى قراءة من قرأ قال فإنه يقول أمري سلام أجابهم على المعنى
المسألة الثانية قال علماؤنا قوله (* (قالوا سلاما قال سلام) *))
يدل على أن تحية الملائكة هي تحية بني آدم
قال القاضي الإمام الصحيح أن ' سلاما ' ها هنا معنى كلامهم لا لفظه وكذلك هو في قوله (* (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *) [الفرقان 63] ولو كان لفظ كلامهم سلام عليكم فإنه لم يقصد ذكر اللفظ وإنما قصد ذكر المعنى الذي يدل عليه لفظ سلام ألا ترى أن الله سبحانه لما ذكر اللفظ قاله بعينه فقال مخبرا عن الملائكة (* (سلام عليكم بما صبرتم) *) [الرعد 24] (* (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) *) [الزمر 73] وأبدع منه في الدلالة أنه قال (* (وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون) *) [الصافات 11912] وقال أيضا (* (وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين) *) [الصافات 12913]
المسألة الثالثة قال علماؤنا قوله (* (قالوا سلاما قال سلام) *))
يدل على أن السلام يرد بمثله كما روى ابن وهب عن مالك عن أبي جعفر القاري قال كنت مع ابن عمر فيسلم عليه فيقول السلام عليكم ويرد كما يقال
قال القاضي الإمام هذا على أن القول ها هنا سلام بلفظه أو بمعناه كما تقدم بيانه
19

المسألة الرابعة قوله تعالى (* (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) *))
قدمه إليهم نزلا وضيافة وهو أول من ضيف الضيف حسبما ورد في الحديث
وفي الإسرائيليات أنه كان لا يأكل وحده فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه؛ فلقي يوما رجلا فلما جلس معه على الطعام قال له إبراهيم سم الله قال له الرجل لا أدري ما الله؛ قال له فأخرج عن طعامي فلما خرج الرجل نزل إليه جبريل فقال له يقول [الله] إنه يرزقه على كفره مدى عمره وأنت بخلت عليه بلقمة فخرج إبراهيم مسرعا فرده فقال [ارجع قال] لا أرجع تخرجني ثم تردني لغير معنى! فأخبره بالأمر فقال هذا رب كريم آمنت ودخل وسمى الله وأكل مؤمنا
المسألة الخامسة
ذهب الليث بن سعد من العلماء إلى أن الضيافة واجبة؛ لقوله ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة وما وراء ذلك صدقة ' وفي رواية [أنه قال] ' ثلاثة أيام ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه ' وهذا حديث [صحيح] خرجه الأئمة ولفظه للترمذي
وذهب علماء الفقه إلى أن الضيافة لا تجب؛ وإنما هي من مكارم الأخلاق وحسن المعاملة بين الخلق وتأولوا هذا الحديث بأنه محمول على الندب بدليل قوله فليكرم ضيفه؛ والكرامة من خصائص الندب دون الوجوب
20

وقد قال قوم إن هذا كان في صدر الإسلام ثم نسخ وهذا ضعيف؛ فإن الوجوب لم يثبت والناسخ لم يرد
أما أنه قد روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري أنه قال نزلنا بحي من [أحياء] العرب فاستضفناهم فأبوا فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء فلم ينفعه فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عندهم شيء فقالوا يا أيها الرهط؛ إن سيدنا لدغ وقد سعينا له بكل شيء فلم ينفعه فهل عند أحد منكم شيء؟ قال بعضهم إني والله أرقى ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين فكأنما أنشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة قال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقال بعضهم اقسموا وقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي النبي فنذكر له الذي كان فننظر الذي يأمر به فقدموا على رسول الله فذكروا له [ذلك] فقال ' وما يدريك أنها رقية ' ثم قال ' اقسموا واضربوا لي معكم سهما ' فضحك النبي
فقوله في هذا الحديث فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقا للام النبي القوم الذين أبوا وبين ذلك لهم ولكن الضيافة حقيقة فرض على الكفاية ومن الناس من قال إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمأويات والأقوات ولا شك أن الضيف كريم والضيافة كرامة فإن كان عديما فهي فريضة
المسألة السادسة قوله تعالى (* (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) *))
قال كبراء النحويين فما لبث حتى جاء بعجل حنيذ وأعجب لهم كيف استجازوا
21

ذلك مع سعة معرفتهم وقال غيرهم ما قد استوفينا ذكره في الملجئة وحققنا [إن موضع] ' أن جاء ' منصوب على حكم المفعول
المسألة السابعة
مبادرة إبراهيم بالنزول حين ظن أنهم أضياف مشكورة من الله متلوة من كلامه في الثناء بها عليه تبين ذلك في إنزاله فيه حين قال في موضع فجاء بعجل سمين وفي آخر فجاء بعجل حنيذ؛ أي مشوي ووصفه بالطيبين طيب السمن وطيب العمل بالإشواء وهو أطيب للمحاولة في تناوله؛ فكان لإبراهيم فيه ثلاث خصال الضيافة والمبادرة بها جيدا لسمن فيها وصفا
المسألة الثامنة
قال بعض علمائنا كانت ضيافة قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب وهذا تحكم بالظن في موضع القطع وبالقياس في موضع النقل من أين علم أنه قليل؟ بل قد نقل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل وعجل لثلاثة عظيم فما هذا التفسير في كتاب الله بالرأي؟ هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم فاجتنبوه فقد علمتموه
المسألة التاسعة
السنة إذا قدم للضيف الطعام أن يبادر المقدم إليه بالأكل منه فإن كرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول فلما قبض الملائكة أيديهم نكرهم إبراهيم؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه
وقد كان من الجائز - كما يسر الله للملائكة أن يتشكلوا في صفة الآدمي جسدا وهيئة - أن ييسر لهم أكل الطعام إلا أنه في قول العلماء أرسلهم في صفة
22

الآدميين وتكلف إبراهيم الضيافة حتى إذا رأى التوقف وخاف جاءته البشرى فجأة وأكمل المبشرات ما جاء فجأة ولم يظنه المسرور حسابا
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد) *) [الآية 87]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
كان شعيب كثير الصلوات مواظبا للعبادة فلما أمرهم ونهاهم عيروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة الطاعة
المسألة الثانية قوله (* (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) *))
قال ابن وهب قال مالك كانوا يكسرون الدنانير والدراهم وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين؛ وكسر الدنانير والدراهم ذنب عظيم لأنها الواسطة في تقدير قيم الأشياء والسبيل إلى معرفة كمية الأموال وتنزيلها في المعاوضات حتى عبر عنها بعض العلماء إلى أن يقولوا إنها القاضي بين الأموال عند اختلاف المقادير أو جهلها وإن من حبسها ولم يصرفها فكأنه حبس القاضي وحجبه عن الناس والدراهم والدنانير إذا كانت صحاحا قام معناها وظهرت فائدتها فإذا كسرت صارت سلعة وبطلت الفائدة فيها فأضر ذلك بالناس؛ فلأجله حرم
وقد قال ابن المسيب قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض وكذلك قال زيد بن أسلم في هذه الآية وفسره به ومثلها عن يحيى بن سعيد من رواية مالك عنهم كلهم
23

وقد قال عمر بن عبد العزيز إن ذلك تأويل قوله (* (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) *) [الأعراف 56]
وقد قيل في قوله تعالى (* (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون) *) [النمل 48]؛ قال زيد بن أسلم كانوا يكسرون الدراهم والدنانير والمعاصي تتداعى
المسألة الثالثة
قال أصبغ قال عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زيد بن الحارث العتقي من كسرها لم تقبل شهادته وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر وليس هذا بموضع عذر فأما قوله لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبيرة؛ والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر
وأما قوله لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بين لا يخفى على أحد وإنما يقبل العذر إذا ظهر الصدق فيه أو خفي وجه الصدق فيه وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك
المسألة الرابعة
إذا كان هذا معصية وفسادا يرد الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك
اختلف في عقوبته على ثلاثة أقوال
[الأول] قال مالك يعاقبه السلطان على ذلك هكذا مطلقا من غير تحديد للعقوبة
الثاني قال ابن المسيب - ونحوه عن سفيان إنه مر برجل قد جلد فقال ابن المسيب ما هذا؟ فقالوا رجل كان يقطع الدراهم قال ابن المسيب هذا من الفساد في الأرض - ولم ينكر جلده
24

الثالث قال أبو عبد الرحمن التجيبي كنت عند عمر بن عبد العزيز قاعدا وهو إذ ذاك أمير المدينة فأتي برجل يقطع الدراهم وقد شهد عليه فضربه وحلقه فأمر فطيف به
وأمره أن يقول هذا جزاء من يقطع الدراهم ثم أمر به أن يرد إليه فقال له إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم فقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع
قال القاضي ابن العربي أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه وأما حلقه فقد فعله عمر كما تقدم
وقد كنت أيام الحكم بين الناس أضرب وأحلق؛ وإنما كنت أفعل ذلك بمن يربي شعره عونا على المعصية وطريقا إلى التجمل به في الفسوق وهذا هو الواجب في كل طريقة للمعصية أن يقطع إذا كان ذلك غير مؤثر في البدن
وأما قطع يده فإنما أخذ ذلك عمر - والله أعلم - من فصل السرقة وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها فإن الكسر إفساد الوصف والقرض تنقيص القدر فهو أخذ مال على جهة الاختفاء
فإن قيل ليس من حرز والحرز أصل في القطع
قلنا يحتمل أن يكون عمر رأى أن تهيئتها للفصل بين الخلق دينارا أو درهما حرز لها وحرز كل شيء على قدر حاله
وقد أنفذ بعد ذلك ابن الزبير وقطع يد رجل في قطع الدراهم والدنانير
وقد قال علماؤنا المالكية إن الدراهم والدنانير خواتيم الله عليها اسم الله ولو قطع على قول أهل التأويل من كسر خاتما لله لكان أهلا لذلك إذ من كسر خاتم سلطان عليه اسمه أدب وخاتم الله تقضى به الحوائج فلا يستويان في العقوبة
25

وأرى القطع في قرضها دون كسرها وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم إلا أني كنت محفوفا بالجهال لم أجب بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يوما من أهل الحق فليفعله احتسابا لله تعالى
الآية السادسة
قوله تعالى (* (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) *) [الآية 113]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
الركون فيه اختلاف بين النقلة للتفسير وحقيقته الاستناد والاعتماد على الذين ظلموا
المسألة الثانية
قيل في الظالمين إنهم المشركون وقيل إنهم المؤمنون وأنكره المتأخرون وقالوا أما الذين ظلموا من أهل الإسلام فالله أعلم بذنوبهم لا ينبغي أن يصالح على شيء من معاصي الله ولا يركن إليه فيها
وهذا صحيح؛ لأن هذا لا ينبغي لأحد أن يصحب على الكفر وفعل ذلك كفر؛ ولا على المعصية وفعل ذلك معصية قال الله في الأول (* (ودوا لو تدهن فيدهنون) *) [القلم 9] وسيأتي إن شاء الله تعالى والآية إن كانت في الكفار فهي عامة فيهم وفي العصاة وذلك على نحو من قوله (* (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) *) [الأنعام 68] الآية
وقد قال حكيم
(عن المرء لا تسل وسل عن قرينه
* فكل قرين بالمقارن مقتد)
26

والصحبة لا تكون إلا عن مودة فإن كانت عن ضرورة وتقية فقد تقدم ذكرها في سورة آل عمران على المعنى وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي لحال الاضطرار
الآية السابعة
قوله تعالى (* (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) *) [الآية 114]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى عبد الله بن مسعود قال جاء رجل إلى النبي فقال إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وها أنا فاقض في بما قضيت فقال له عمر لقد سترك الله لو سترت على نفسك فلم يزد عليه شيئا رسول الله فانطلق الرجل فأنزلت على النبي (* (وأقم الصلاة) *) الآية فأتبعه رسول الله رجلا فدعاه فتلا عليه (* (وأقم الصلاة) *) الآية فقال رجل من القوم هذا له خاصة فقال بل للناس كلهم عامة
وهذا صحيح رواه الأئمة كلهم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (أقم الصلاة) *))
هذه الآية تضمنت ذكر الصلاة وهي في كتاب الله سبع آيات متضمنة ذكر الصلاة هذه هي الآية الأولى
الثانية قوله تعالى (* (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر) *) [الإسراء 78]
27

الثالثة قوله تعالى (* (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس) *) إلى (* (ترضى) *) [طه 13]
الرابعة (* (وسبح بحمد ربك) *) إلى (* (السجود) *) [ق 394]
الخامسة قوله تعالى (* (فسبحان الله حين تمسون) *) إلى (* (تظهرون) *) [الروم 1718]
السادسة قوله تعالى (* (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل) *) [الإنسان 2526] الآية وقد جاء ذكر بعض الصلاة فيها وهذه الآيات الست هي المستوفية لجميعها وكل آية منها تأتي مشروحة في مكانها إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة
اختلف في تفسير هذه الآية على ثلاثة أقوال
الأول أنها تضمنت صلاة الغداة وصلاة العشي؛ قاله مجاهد
الثاني أنها تضمنت الظهر والعصر والمغرب؛ قاله الحسن وابن زيد
الثالث تضمنت الصلوات الخمس؛ قاله ابن عباس ومجاهد
واختلفوا في صلاة طرفي النهار وصلاة الليل اختلافا لا يؤثر فتركنا استيفاءه والإشارة إليه أن طرفي النهار الظهر والمغرب
الثاني أنهما الصبح والمغرب
الثالث أنها الظهر والعصر وكذلك أفردوا بالاختلاف زلفا من الليل فمن قائل إنها العتمة ومن قائل إنها المغرب والعتمة والصبح
المسألة الرابعة
لا خلاف أنها تضمنت الصلوات الخمس فلا يضر الخلاف في تفصيل تأويلها بين الطرفين والزلف فإذا أردنا سلوك سبيل التحقيق قلنا أما من قال إن طرفي النهار الصبح والمغرب فقد أخرج الظهر والعصر عنها
وأما من قال إنها الصبح والظهر فقد أسقط العصر
28

وأما من قال إنه العصر والصبح فقد أسقط الظهر
والذي نختاره أنه ليس في النهار من الصلوات إلا الظهر والعصر وباقيها في الليل فزلف الليل ثلاث في ابتدائه وهي المغرب وفي اعتدال فحمته وهي العشاء وعند انتهائه وهي الصبح
وأما طرفا النهار فهما الدلوك والزوال وهو طرفه الأول والدلوك الغروب وهو طرفه الثاني قال النبي من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر
والعجب من الطبري الذي يقول إن طرفي النهار الصبح والمغرب وهما طرفا الليل فقلب القوس ركوة وحاد من البرجاس غلوة
قال الطبري والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح فدل على أن الطرف الآخر المغرب ولم يجمع معه على ذلك أحد وإن قول من يقول إنها الصبح والعصر أنجب لقول النبي من صلى البردين دخل الجنة وقد قرنها بها في الآية الثالثة والرابعة
المسألة الخامسة
قال شيوخ الصوفية إن المراد بهذه الآية استغراق الأوقات بالعبادات نفلا وفرضا وهذا ضعيف فإن الأمر لم يتناول ذلك لا واجبا فإنها خمس صلوات ولا نفلا فإن الأوراد معلومة وأوقات النوافل المرغب فيها محصورة وما سواها من
الأوقات يسترسل عليه الندب على البدل لا على العموم؛ فليس ذلك في قوة بشر
وقد روى ابن وهب عن مالك في هذه الآية أنها الصلاة المكتوبة
وقد روى مالك عن هشام عن عروة عن أبيه عن عثمان بن عفان - أنه جلس على المقاعد فجاء المؤذن فأذن بصلاة العصر فدعا بماء فتوضأ ثم قال والله لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ثم قال سمعت رسول الله يقول ' ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها ' قال عروة أراه يريد هذه الآية (* (إن الذين يكتمون ما أنزلنا) *) [البقرة 159] الآية
وقال مالك أراه يريد هذه الآية (* (أقم الصلاة) *) [الإسراء 78] الآية
فعلى قول عروة يعني عثمان لولا أن الله حرم علي كتمان العلم لما ذكرته وعلى قول مالك [يعني عثمان] لولا أن معنى ما أذكره لكم مذكور في كتاب الله ما ذكرته لئلا تتهموني
المسألة السادسة قوله (* (إن الحسنات يذهبن السيئات) *))
قال ابن المسيب ومجاهد وعطاء هي الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
وقال جماعة هي الصلوات الخمس؛ وبه قال مالك وعليه يدل أول الآية في ذكر الصلاة فعليه يرجع آخرها وعليه يدل الحديث الصحيح ' الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت المقتلة ' وروي ما اجتنبت الكبائر وكل ذلك في الصحيح
29

وقد روي أن النبي أعرض عنه وأقيمت صلاة العصر فلما فرغ منها نزل عليه جبريل بالآية فدعاه فقال له أشهدت معنا الصلاة؟ قال نعم قال اذهب فإنها كفارة لما فعلت وروي أن النبي لما تلا هذه الآية قال له قم فصل أربع ركعات والله أعلم
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) *) [الآيتان 118119]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى في معنى الأمة
وقد قدمنا الإشارة إليها؛ وجمع بعض العلماء فيها نيفا وثلاثين معنى وهي هاهنا بمعنى الجماعة يعني جماعة واحدة على دين واحد كما يقال كان الناس أمة واحدة؛ أي جماعة على دين واحد
المسألة الثانية
قال قتادة معناه لو شاء ربك لجعل الناس كلهم مسلمين
31

وقيل معناه لجعلهم كفارا أجمعين وهذه آية لا يؤمن بها إلا أهل السنة الذين يعتقدون ما قام الدليل عليه من أن الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأن مشيئته وإرادته تتعلق بالخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية
والأولى عندي أن يكون المعني ها هنا بالآية المسلمين تقديرها لو شاء ربك لجعل الخلق كلهم مسلمين ولكنه قسمهم إلى الإسلام والكفر بحكمته وسابق علمه ومشيئته
المسألة الثالثة (* (ولا يزالون مختلفين) *))
قيل يهودي ونصراني ومجوسي وهذا يرجع إلى الأديان
وقال الحسن يعني الاختلاف في الرزق غني وفقير وهذا بعيد في هذا الموضع وإنما جاءت الآية لبيان الأديان والاختلاف فيها وإخبار الله عن حكمه عليها ورحمة من يرحم منها فرجع وصف الاختلاف في هذا التقدير إلى أهل الباطل من سائر الأمم ولا إشكال في أن هذه الآية تدخل في هذا الحكم؛ فإن النبي قال ' لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه ' وقال ' افترقت اليهود والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ' قيل من هم يا رسول الله؟ قال ' ما أنا عليه وأصحابي '
المسألة الرابعة قوله (* (إلا من رحم ربك) *))
فيه أربعة أقوال
الأول بالهداية إلى الحنيفية
32

الثاني بالهداية إلى الحق
الثالث بالطاعة
الرابع إلا من رحم ربك؛ فإنه لا يختلف؛ قاله ابن عباس
وكلها استثناء متصل لا انقطاع فيه لانتظام المعنى معه
المسألة الخامسة قوله (* (ولذلك خلقهم) *))
فيه قولان
أحدهما للاختلاف خلقهم
الثاني للرحمة خلقهم
والصحيح أنه خلقهم ليختلفوا فيرحم من يرحم ويعذب من يعذب كما قال (* (فمنهم شقي وسعيد) *) [هود 15] وقال (* (فريق في الجنة وفريق في السعير) *) [الشورى 7]
واعجبوا ممن يسمع الملائكة تقول (* (أتجعل فيها من يفسد فيها) *) [البقرة 3] الآية ويتوقف في معرفة ما يكون من خلق الله للفساد وهل يكون الفساد وسفك الدماء إلا بالاختلاف
وقد قال أشهب سمعت مالكا يقول في قول الله (* (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) *) للاختلاف فقال لي ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير وهذا قول من فهم الآية كما قال عمر بن عبد العزيز حين قرأ (* (ولذلك خلقهم) *) قال خلق أهل رحمته لئلا يختلفوا ونحوه عن طاوس وما اخترناه وأخبرنا به هو
الصحيح كما تقدم والله أعلم ألا ترون إلى خاتمة الآية حين قال (* (وتمت كلمة ربك) *) وهي [المسألة السادسة]
33

المسألة السادسة (* (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) *))
ثم أخبر النبي أن أهل النار أكثر من أهل الجنة فقال ' يقول الله يوم القيامة لآدم ابعث بعث النار قال وما بعث النار؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون للنار وواحد إلى الجنة '؛ فلهذا خلقهم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
34

سورة يوسف
فيها اثنتان وعشرون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين) *) [الآية 5]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في حقيقة الرؤيا
وهي حالة شريفة جعلها الله للخلق بشرى كما تقدم وقال ' لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا ' وحكم بأنها جزء من سبعين جزءا من النبوة واختلف الناس فيها؛ فأنكرتها المعتزلة لأنها ليست من الشريعة في شيء وقد اتفقت الأمم عليها مع اختلافهم في الآراء والنحل
35

واختلف علماؤنا في حقيقتها؛ فقال القاضي والأستاذ أبو بكر إنها أوهام وخواطر واعتقادات
وقال الأستاذ أبو إسحاق هي إدراك حقيقة وحمل القاضي والأستاذ ذلك على رؤية الإنسان لنفسه يطير وهو قائم وفي المشرق وهو في المغرب ولا يكون ذلك إدراكا حقيقة
وعول الأستاذ أبو إسحاق على أن الرؤيا إدراك في أجزاء لم تحلها الآفة ومن بعد عهده بالنوم استغرقت الآفة أجزاءه وتقل الآفة في آخر الليل وقال إن الله سبحانه يخلق له علما ناشئا ويخلق له الذي يراه ليصح الإدراك فإذا رأى شخصا وهو في طرف العالم فالموجود كأنه عنده ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة ولذلك لا نرى شخصا قائما قاعدا في المنام بحال وإنما يرى الجائزات الخارقة للعادات أو الأشياء المعتادات وإذا رأى نفسه يطير أو يقطع يده أو رأسه فإنما رأى غيره على مثاله وظنه من نفسه وهذا معنى قول القاضي الأستاذ أبي بكر إنها أوهام ويتفقون في هذا الموضع وإلى هذا المعنى وقع البيان بقوله [عليه السلام] ' من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي '؛ فإن المرء يعلم قطعا أنه لم ير الذات النبوية ولا العين المرسلة إلى الخلق وإنما رأى مثالا صادقا في التعبير عنه والخبر به إذ قد يراه شيخا أشمط ويراه شابا أمرد وبين هذا
36

المعنى بيانا زائدا فقال ' من رآني فقد رأى الحق '؛ أي لم يكن تخييلا ولا تلبيسا ولا شيطانا؛ ولكن الملك يضرب الأمثلة على أنواع بحسب ما يرى من التشبيه بين المثال والممثل به؛ إذ لا يتكلم مع النائم إلا بالرمز والإيماء في الغالب وربما خاطبه بالصريح البين وذلك نادر قال النبي ' رأيت سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة فأولتها الحمى ورأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر فأولتها رجل من أهلي يقتل والبقر نفر من أصحابي يقتلون ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ورأيت في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي ' إلى غير ذلك مما ضربت له به الأمثال
ومنها ما يظهر معناه أولا ومنها ما لا يظهر [معناه] إلا بعد الفكر
وقد رأى النائم في زمان يوسف بقرا فأولها يوسف السنين ورأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فأول الشمس والقمر أبويه وأول الكواكب الأحد عشر إخوته الأحد عشر وفهم يعقوب مزية حاله وظهور خلاله؛ فخاف عليه حسد الإخوة الذي ابتدأه ابنا آدم فأشار عليه بالكتمان
فإن قيل فقد كان يوسف في وقت رؤياه صغيرا والصغير لا حكم لفعله فكيف يكون لرؤياه حكم؟
فالجواب من ثلاثة أوجه
الأول أن الصغير يكون الفعل منه بالقصد فينسب إلى التقصير والرؤيا لا قصد فيها فلا ينسب تقصير إليها
الثاني أن الرؤيا إدراك حقيقة كما بيناه فيكون من الصغير كما يكون منه
37

الإدراك الحقيقي في اليقظة وإذا أخبر عما رأى صدق فكذلك إذا أخبر عما رأى في المنام تأول
الثالث أن خبره يقبل في كثير من الأحكام منها الاستئذان فكذلك في الرؤيا
المسألة الثانية قوله (* (لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) *))
حكم بالعادة من الحسادة بين الإخوة والقرابة كما تقدم بيانه والحكم بالعادة أصل يأتي بيانه إن شاء الله بعد
وقيل إن يعقوب قد كان فهم من إخوة يوسف حسدا له بما رأوا من شغف أبيه به؛ فلذلك حذره
المسألة الثالثة
قال علماؤنا هذا يدل على معرفة يعقوب بتأويل الرؤيا؛ لأن نهيه لابنه عن ذكرها وخوفه على إخوته من الكيد له من أجلها علم بأنها تقتضي ظهوره عليهم وتقدمه فيهم ولم
يبال بذلك يعقوب؛ فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه والأخ لا يود ذلك لأخيه
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وجاؤوا أباهم عشاء يبكون) *) (* (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) *) [الآيتان 16 17]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال علماؤنا هذا يدل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله؛ لاحتمال أن
38

يكون تصنعا ومن الخلق من يقدر على ذلك ومنهم من لا يقدر وقد قيل إن الدمع المصنوع لا يخفى كما قال حكيم
(إذا اشتبكت دموع في خدود
* تبين من بكى ممن تباكى)
والأصح عندي أن الأمر مشتبه وأن من الخلق في الأكثر من يقدر من التطبع على ما يشبه الطبع
المسألة الثانية قوله تعالى (* (إنا ذهبنا نستبق) *))
اعلموا وفقكم الله أن المسابقة شرعة في الشريعة وخصلة بديعة وعون على الحرب وقد فعله النبي بنفسه وبخيله؛ فروى أنه سابق عائشة فسبقها فلما كبر رسول الله سابقها فسبقته فقال لها ' هذه بتلك '
وروي أنه سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع وسابق الخيل التي لا تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها
وقد روي أن النبي سابق بين العضباء وغيرها فسبقت العضباء فقال النبي ' حق على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه '
وفي ذلك في الفوائد رياضة النفس والدواب وتدريب الأعضاء على التصرف ولا مسابقة إلا بين الخيل والإبل خاصة
39

المسألة الثالثة
يجوز الاستباق من غير سبق يجعل ويجوز بسبق فإن أخرج أحد المتسابقين سبقا على أن يأخذه الآخر إن سبق وإن سبق هو أخذه الذي يليه فإنه جائز عند أكثر العلماء وقاله مالك وروى ابن مزيد عن مالك أن يأخذه من حضر فذلك أيضا جائز وإن كان على أن يأخذه الخارج إن سبق ففيه ثلاث روايات كرهه مالك وقال ابن القاسم لا خير فيه وجوزه ابن وهب وبه أقول؛ لأنه لا غرر فيه ولا دليل يحرمه
قال علماؤنا وهذا إن كان بينهما محلل على أنه إن سبق أخذ منهما أو من أحدهما وإن سبق لم يكن عليه شيء جاز جوزه ابن المسيب ومالك في أحد قوليه ومنعه في الآخر ولا يشترط فيه معرفة أحد بحال فرس صاحبه بل يجوز على الجهالة ولهما حكم القدر ومسائل السباق في الفروع مستوفاة
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) *) [الآية 18]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم فروي في الإسرائيليات أن الله تعالى قرن بهذه العلامة علامة تعارضها؛ وهي سلامة القميص في التلبيب؛ والعلامات إذا تعارضت تعين الترجيح فيقضى بجانب الرجحان وهي قوة التهمة لوجوه تضمنها القرآن منها طلبهم إياه شفقة ولم يكن من فعلهم ما يناسبها فيشهد بصدقها بل كان سبق ضدها وهي تبرمهم به
ومنها أن الدم محتمل أن يكون في القميص موضوعا ولا يمكن افتراس الذئب
40

ليوسف وهو لابس للقميص ويسلم القميص من تخريق وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات [والعلامات] وتعارضها
المسألة الثانية
القضاء بالتهمة إذا ظهرت كما قال يعقوب (* (بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل) *)
ولا خلاف في الحكم بالتهمة؛ وإنما اختلف الناس [في التأثير في] أعيان التهم حسبما يأتي منثورا في المسائل الأحكامية في هذا الكتاب ولذلك قالوا له (* (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) *) [يوسف 17] أي تهمتك لنا بعظم محبتك تبطل عندك صدقنا؛ وهذا كله تخييل
المسألة الثالثة
قال علماؤنا كان في قميص يوسف ثلاث آيات جاؤوا عليه بدم كذب وقد من دبر وألقي على وجه يعقوب فارتد بصيرا
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون) *) [الآية 19]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال ابن وهب حدثني مالك قال طرح يوسف في الجب وهو غلام وكذلك روى ابن القاسم عنه - يعني أنه كان صغيرا والدليل عليه قوله [تعالى] (* (لا) *)
41

* (تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة) *) [يوسف 1] ولا يلتقط الكبير وقوله (* (وأخاف أن يأكله الذئب) *) [يوسف 13]؛ وذلك أمر يختص بالصغار؛ فمن ها هنا أخذ مالك وغيره أنه غلام
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وأسروه بضاعة) *))
قيل الضمير في (* (وأسروه) *) يرجع إلى الملتقطين
وقيل يرجع إلى الإخوة فإن رجع إلى الإخوة كان معنى الكلام أنهم كتموا أخوته وأظهروا مملوكيته وقطعوه عن القرابة إلى الرق وإن عاد الضمير إلى الملتقطين كان معنى الكلام أنهم أخفوه عن أصحابهم وباعوه دون علمهم بضاعة اقتطعوها عنهم وجحدوها منهم؛ وساعد يوسف على ذلك كله تحت التخويف والتهديد
وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر وقرأ (* (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) *) [يوسف 2]
وكذلك يروى عن علي وجماعة وقال إبراهيم إن نوى رقه فهو مملوك وإن نوى الحسبة فيه فهو حر
وقد روى الزهري قال كنت عند سعيد بن المسيب فحدثه سنين أبو جميلة قال وجدت منبوذا على عهد عمر فأخذته فانطلق عريفي فذكره لعمر فدعاني عمر والعريف عنده فلما رآني مقبلا قال عسى الغوير أبؤسا قال الزهري مثل كان أهل المدينة يضربونه قال عريفي يا أمير المؤمنين إنه لا يتهم به فقال لي علام أخذت هذا؟ قلت وجدته نفسا بمضيعة فأحببت أن يأجرني الله قال هو حر وولاؤه لك ورضاعته علينا
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) *) [الآية 2]
42

فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
يقال شريت بمعنى بعت وشريت بمعن اشتريت لغة والبخس الناقص ومنه قوله تعالى (* (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) *) [هود 85] وهي
المسألة الثانية
وقيل في بخس إنه بمعنى حرام ولا وجه له وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدون من ثمنه وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه وإن كان الذين باعوه هم الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا أو قالوا لأصحابهم أرسل معنا بضاعة فرأوا أنه لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوه فيه ربح كله
المسألة الثالثة قوله (* (وكانوا فيه من الزاهدين) *))
إخوته أو الواردة على التقديرين المتقدمين لم يكن عندهم أمره عبيطا لا عند الإخوة لأن مقصدهم زوال عينه لا ماله ولا عند الواردة لأنهم خالفوا اشتراك أصحابهم معهم ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى
المسألة الرابعة قوله (* (دراهم معدودة) *))
وذلك يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عددا لا وزنا وأصل النقدين الوزن لقوله ' لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن؛ فمن زاد أو ازداد فقد أربى ' ولأنه لا فائدة فيها إلا المقدار؛ فأما عينها فلا منفعة فيه ولكن جرى فيها العدد تخفيفا عن الخلق؛ لكثرة المعاملة فيشق الوزن حتى لو
44
ضربت مثاقيل ودارهم لجاز بيع بعضها ببعض عددا إذا لم يكن فيها نقصان [ولا رجحان]؛ لأن خاتم الله عليهافي التقدير حتى ينقص وزنها من نقص ويفض خاتم الله من فض؛ فيعود الأمر إلى الوزن ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حين كان حكم جريانها العدد
المسألة الخامسة
إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد فيقضى بالغالب كما حكم بأنه مسلم أخذا بالغالب فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون فقال ابن القاسم يحكم بالأغلب وقال غيره لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى [عليه] وما ذكره ابن القاسم أولى قد بيناه في كتاب المسائل والله أعلم
الآية السادسة
قوله تعالى (* (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *) [الآية 21]
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (أو نتخذه ولدا) *))
هذا يدلك على أن التبني كان أمرا معتادا عند الأمم وسيأتي بيانه إن شاء الله
المسألة الثانية
روي عن ابن مسعود أنه قال أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر حين قال لامرأته
43

ضربت مثاقيل ودراهم لجاز بيع بعضها ببعض عددا إذا لم يكن فيها نقصان [ولا رجحان]؛ لأن خاتم الله عليها في التقدير حتى ينقص وزنها من نقص ويفض خاتم الله من فض؛ فيعود الأمر إلى الوزن ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حين كان حكم جريانها العدد
المسألة الخامسة
إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد فيقضى بالغالب كما حكم بأنه مسلم أخذا بالغالب فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون فقال ابن القاسم يحكم بالأغلب وقال غيره لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى [عليه] وما ذكره ابن القاسم أولى وقد بيناه في كتاب المسائل والله أعلم
الآية السادسة
قوله تعالى (* (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *) [الآية 21]
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (أو نتخذه ولدا) *))
هذا يدلك على أن التبني كان أمرا معتادا عند الأمم وسيأتي بيانه إن شاء الله
المسألة الثانية
روي عن ابن مسعود أنه قال أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر حين قال لامرأته
44

أكرمي مثواه الخ الثاني بنت شعيب في فراسة موسى حين قالت (* (إن خير من استأجرت القوي الأمين) *) [القصص 26] الثالث أبو بكر حين ولى عمر قال أقول لربي وليت عليهم خيرهم
قال الفقيه القاضي أبو بكر رضي الله عنه عجبا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر! والفراسة هي علم غريب حده وحقيقته - كما بيناه في غير موضع - الاستدلال بالخلق على الخلق فيما لا يتعدى المتفطنون إلى غير ذلك من الصيغ والأغراض فأما أمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة؛ لأن لم يكن معه علامة ظاهرة
وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة أما القوة فعلامتها رفع الحجر الثقيل الذي لا يستطيع أحد أن يرفعه وأما الأمانة فبقوله لها - وكان يوما رياحا امشي خلفي لئلا تصفك الريح بضم ثوبك لك وأنا عبراني لا أنظر في أدبار النساء
وأما أبو بكر في ولاية عمر فبالتجربة في الأعمال والمواظبة على الصحبة [وطولها] والاطلاع على ما شاهد منه من العلم والمنة وليس ذلك من طريق الفراسة والله أعلم
الآية السابعة
قوله تعالى (* (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) *) [الآية 22]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (أشده) *))
في لغته خمسة أقوال
الأول أنه جمع لا واحد له كالإصر والأشر
الثاني أن واحده شدة كنعمة وأنعم؛ قاله سيبويه
45

الثالث واحده شد كقولك قد وأقد
الرابع قال يونس واحده شد وهو يذكر ويؤنث
الخامس أشد بضم الهمزة والشين
المسألة الثانية في تقديره
وفي ذلك أقوال كثيرة من الحلم إلى أربعين سنة أمهاتها خمس
الأول أنه من الحلم؛ قاله الشعبي وربيعة وزيد بن أسلم ومالك
الثاني قال الزجاج تهو من سبعة عشر عاما إلى أربعين؛ وهو الأول بعينه إلا أنه رأى أن الحلم من سبعة عشر عاما
الثالث أنه عشرون سنة؛ قاله الضحاك
الرابع أنه بضع وثلاثون؛ قاله ابن عباس
الخامس أنه أربعون؛ يروى عن جماعة
والصحيح أن الحلم إلى خمسين سنة؛ فإن من الحلم يشتد الآدمي إلى خمسين ثم يأخذ في القهقرى قال الشاعر
(أخو خمسين مجتمع أشدي
* وتجريبي مداراة الشؤون))
المسألة الثالثة (* (آتيناه حكما وعلما) *))
الحكم هو العمل بالعلم وقد تقدم في سورة البقرة معنى ترتيب ' حكم '
والعمل بمقتضى العلم إنما يكون بعد البلوغ وما قبله في زمان عدم التكليف فإنه فيه معدوم إلا في النادر قال الله تعالى في يحيى بن زكريا (* (وآتيناه الحكم صبيا) *) [مريم 12]
قال المفسرون قيل له وهو صغير ألا تذهب تلعب؟ قال ما خلقت للعب وهذا إنما بين الله به حال يوسف من حين بلوغه بأنه آتاه العلم وآتاه العمل بما علم؛ وخبر الله صادق ووصفه صحيح وكلامه حق فقد عمل يوسف بما علمه الله من
46

تحريم الزنا وتحريم خيانة السيد أو الجار أو الأجنبي في أهله فما تعرض لامرأة العزيز ولا أناب إلى المراودة [بحكم المراودة]؛ بل أدبر عنها وفر منها؛ حكمة خص بها وعملا بمقتضى ما علمه الله سبحانه؛ وهذا يطمس وجوه الجهلة من الناس والغفلة من العلماء في نسبتهم إليه ما لا يليق به وأقل ما اقتحموا من ذلك أنه هتك السراويل وهم بالفتك فيما رأوه من تأويل وحاش لله ما علمت عليه من سوء بل أبرئه مما برأه منه فقال (* (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما) *) كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا الذين استخلصناهم والفحشاء هي الزنا والسوء هو المراودة والمغازلة فما ألم بشيء ولا أتى بفاحشة
فإن قيل فقد قال الله (* (ولقد همت به وهم بها) *) [يوسف 24]
قلنا قد تقصينا عن ذلك في كتاب الأنبياء من شرح المشكلين وبينا أن الله [سبحانه] ما أخبر عنه أنه أتى في جانب القصة فعلا بجارحة وإنما الذي كان منه الهم وهو فعل القلب فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفقهون حديثا ويقولون فعل وفعل؟ والله إنما قال هم بها لا أقالهم ولا أقاتهم الله ولا عالهم
كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية وأي إمام يعرف بابن عطاء تكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته من مكروه ما نسب إليه فقام رجل من آخر مجلسه - وهو مشحون بالخليقة من كان طائفة فقال له يا سيدي فإذن يوسف هم وما تم فقال نعم؛ لأن العناية من ثم فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله وجواب العالم في اختصاره واستيفائه ولذلك قال علماء الصوفية إن فائدة قوله (* (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما) *) أن الله أعطاه العلم والحكمة إبان غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة
47

الآية الثامنة
قوله تعالى (* (قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) *) [الآيتان 2627]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
قال علماؤنا ليست هذه الشهادة من شهادات الأحكام التي تفيد الإعلام عند الحكام ويتفرد بعلمها الشاهد فيطلع عليها الحاكم وإنما هي بمعنى أخبر عن علم ما كان عنه القوم غافلين؛ وذلك أن القميص جرت العادة فيه أنه إذا جذب من خلفه تمزق من تلك الجهة وإذا جذب من قدام تمزق من تلك الجهة ولا يجذب القميص من خلف اللابس إلا إذا كان مدبرا وهذا في الأغلب وإلا فقد يتمزق [القميص بالقلب من ذلك] إذا كان الموضع ضعيفا
المسألة الثانية
يتكلم الناس في هذا الشاهد من أربعة أوجه
الأول الشاهد هو القميص
الثاني أنه كان ابن عمها
الثالث أنه كان من أصحاب العزيز
الرابع أنه كان صبيا في المهد
فأما إذا قلنا إنه القميص فكان يصح من جهة اللغة أن يخبر عن حاله بتقدير مقاله؛ فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال في بعض الأمور وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات ومن أجلاه قول بعضهم قال
48

الحائط للوتد لم تشقني قال سل من يدقني ما تركني ورأيي هذا الذي ورائي ولكن قوله بعد ذلك (* (من أهلها) *) في صفة الشاهد يبطل أن يكون القميص
وأما من قال إنه ابن عمها أو رجل آخر من أصحاب العزيز فإنه محتمل؛ لكن قوله (* (من أهلها) *) يعطي اختصاصا من جهة القرابة
وأما من قال إنه كان صغيرا فهو الذي يروى عن ابن عباس وأنه قد تكلم في المهد أربعة ' عيسى بن مريم وابن ماشطة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج ' ونقصهم اثنان أحدهما وهو الذي ذكر النبي في قصة [أصحاب] الأخدود أنهم لما حفرت لهم الأرض ورمي فيها بالحطب وأوقدت النار عليها وعرض عليهم أن يقعوا فيها أو يكفروا الحديث بطوله فوقفت امرأة منهم وكان في ذراعها صبي فقال لها يا أمه إنك على الحق وهذا حديث صحيح خرجه مسلم
والثاني ما روي أن امرأة كانت ترضع صبيا في حجرها فمر بها رجل له شارة وحوله حفدة فقالت اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الصبي الثدي وقال اللهم لا تجعلني مثله ومر بامرأة وهم يضربونها ويقولون سرقت ولم تسرق وزنيت لوم تزن فقالت اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الصبي الثدي وقال اللهم اجعلني مثلها
وأوحى إلى نبي ذلك الزمان أن الأول لا خير فيه وأن هذه يقولون فعلت وهي لم تفعل هذا معنى الحديث
فالذي صح فيمن تكلم في المهد أربعة صاحب الأخدود وصاحب جريج
49

وعيسى ابن مريم وهذا الصبي الذي تكلم في حجر المرأة بالرد على أمه فيما اختارته وكرهه
المسألة الثالثة
قال بعض [العلماء] المفسرين لو كان هذا المشاهد طفلا لكان في كلامه في المهد وشهادته آية ليوسف ولم يحتج إلى ثوب ولا إلى غيره وهذا ضعيف؛ فإنه يحتمل أن يكون الصبي يتكلم في المهد منبها لهم على هذا الدليل الذي كانوا عنه غافلين وكانت آية كما قال تبينت بها براءة يوسف من الوجهين من جهة نطق الصبي ومن جهة ذكر الدليل
المسألة الرابعة
قال علماؤناك في هذا دليل على العمل بالعرف والعادة لما ذكر من أخذ القميص مقبلا ومدبرا وما دل عليه الإقبال من دعواها والإدبار من صدق يوسف؛ وهذا أمر تفرد به المالكية كما بيناه في كتبنا
فإن قيل هذا شرع من قبلنا
قلنا عنه جوابان
أحدهما أن شرع من قبلنا شرع لنا وقد بيناه في غير موضع
الثاني أن المصالح والعادات لا تختلف فيها الشرائع أما أنه يجوز أن يختلف وجود المصالح فيكون في وقت دون وقت فإذا وجدت فلا بد من اعتبارها وقد استدل يعقوب بالعلامة فروى العلماء أن الإخوة لما ادعوا أكل الذئب [له] قال أروني القميص فلما رآه سليمان قال لقد كان هذا الذئب حليما وهكذا فاطردت العادة والعلامة وليس هذا بمناقض لقوله [عليه السلام] ' البينة على المدعي
50

واليمين على من أنكر ' والبينة إنما هي البيان ودرجات البيان تختلف بعلامة تارة وبأمارة أخرى؛ وبشاهد أيضا وبشاهدين ثم بأربع
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) *) [الآية 33]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
أكره يوسف على الفاحشة بالسجن وأقام فيه سبعة أعوام وما رضي بذلك لعظيم منزلته وشريف قدره ولو أكره رجل بالسجن على الزنا ما جاز له ذلك إجماعا فإن أكره بالضرب فاختلف فيه العلماء؛ والصحيح أنه إذا كان فادحا فإنه يسقط إثم الزنا وحده
وقال بعض علمائنا إن الإكراه لا يسقط الحد وهو ضعيف فإن الله لا يجمع على عبده العذابين ولا يصرفه بين البلاءين؛ فإنه من أعظم الحرج في الدين وصبر يوسف على الجن واستعاذ من الكيد فقال (* (وإلا تصرف عني كيدهن) *) الآيتين
المسألة الثانية قوله (* (أحب) *))
بناء أفعل في التفضيل يكون للمشتركين في الشيء ولأحدهما المزيد في المشترك فيه على الآخر ولم يكن المدعو إليه حبيبا إلى يوسف ولكنه كنحو القول الجنة أحب
51

إلي من النار والعافية أحب إلي [قلبي] من البلاء؛ وقد بيناه فيما تقدم من كلامنا
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) *) [الآية 41]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
روي أن الفتيين لما صحباه في السجن وكلماه ورأيا فضله وأدبه وفهمه سألاه عن الذي قالا إنهما رأياه من أمر الخمر والخبز فأعرض يوسف عنهما وأخذ في حديث آخر يتكلم فيه معهما فقال لهما لا يأتيكا طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله وذلك لأن الله كان قد علمه تأويل الرؤيا وذلك بين في قوله (* (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) *) [يوسف 21] يعني ما يكون سببا لظهور براءته ومنزلته وقد كان أطلعه من الغيوب على ما يخبر به عن البواطن حتى روي أنه كان الملك إذا أراد إهلاك أحد أرسل إليه طعاما مسموما فلما سألاه عما رأيا في المنام من أمر الطعام أعلمهما أنه يخبرهما بحال كل طعام يأتيهما في اليقظة والمنام وأقبل يبين لهما حال الإيمان والتوحيد وما هو عليه من الحق وما كان عليه آباؤه من قبله كذلك ونصب لهما الأدلة ثم عطف على تأويل ما رأيا فلما أخبرهما بالتأويل ندما على ما فعلا وقالا كذبنا فقال لهما يوسف قضي الأمر الذي فيه تستفتيان
فإن قيل ومن كذب في رؤيا ففسرها العابر له أيلزمه حكمها؟ وهي
52

المسألة الثانية
قلنا لا يلزمه؛ وإنما كان كذلك في يوسف لأنه نبي وقد قال إنه يكون كذا ويقع كذا فأوجد الله ما أخبر كما قال؛ تحقيقا لنبوته
فإن قيل إنما مخرج كلام يوسف في أنه يكون كذا إن كانا رأياه
قلنا ذلك جائز؛ ولكن الفتيان أرادا اختباره بذلك فحقق الله قوله [آية] وقابل الهزل بالجد كما قال الله تعالى (* (الله يستهزئ بهم) *) الآية
فإن قيل فقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال جاء رجل إلى عمر ابن الخطاب فقال له إني رأيت كأني أعشبت ثم أجدبت ثم أعشبت ثم أجدبت فقال له عمر أنت رجل تؤمن ثم تكفر ثم تؤمن ثم تكفر ثم تموت كافرا فقال له الرجل ما رأيت شيئا فقال عمر قد قضي لك ما قضي لصاحب يوسف
قلنا ليست لأحد بعد عمر؛ لأن عمر كان محدثا وكان إذا ظن ظنا كان وإذا تكلم به وقع على ما ورد في أخباره وهي كثيرة؛ منها أنه دخل عليه رجل فقال له أظنك كاهنا فكان كما ظن - خرجه البخاري
ومنها أنه سأل رجلا عن اسمه فقال له أسماء فيها النار كلها فقال له أدرك أهلك فقد احترقوا؛ فكان كما قال والله أعلم
المسألة الثالثة
ها هنا نكتة بديعة وهي أن يوسف وإن كان قال لهما (* (قضي الأمر الذي فيه) *)
53

(* (تستفتيان) *) - فقد قال الله عنه (* (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك) *) [يوسف 42]؛ فكيف يقول قضي الأمر ثم يجعل نجاته ظنا؟
وأجاب عنه الناس من وجهين
الأول قالوا إنما أخبر عنه بالظن؛ لأن تفسير الرؤيا ليس بقطع وإنما هو ظن وهذا باطل؛ وإنما يكون ذلك في حق الناس فأما في حق الأنبياء فلا؛ فإن حكمهم حق كيفما وقع
الثاني إن ظن ها هنا بمعنى أيقن وعلم وقد يستعمل أحدهما موضع الآخر لغة
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين) *) [الآية 42]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
اختلف الناس في الضمير من قوله (* (فأنساه) *) هل هو عائد على يوسف أم على الفتى؟
فقيل هو عائد على يوسف أنساه الشيطان أن يذكر الله وذكر الملك؛ فعوقب بطول اللبث في السجن وكانت كلمته كقول لوط (* (لو أن لي بكم قوة) *) [هود 8] الآية فقال رسول الله ' يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد '
54

وقيل هو عائد على الفتى نسي تذكرة الملك فدام طول مكث يوسف في السجن يدل عليه قوله (* (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة) *) [الآية 45]
المسألة الثانية
[فإن قيل] إن كان الضمير عائدا على يوسف فكيف يصح أن يضاف نسيانه إلى الشيطان وليس له على الأنبياء سلطان؟
قلنا أما النسيان فلا عصمة للأنبياء عنه إلا في [وجه واحد هو] جهة الخبر عن الإبلاغ؛ فإنهم معصومون فيه نسيانا وذكرا وإذا وقع منهم النسيان حيث يجوز وقوعه فإنه ينسب إلى الشيطان إطلاقا ولكن ذلك إنما يكون فيما يخبر الله به عنهم أو يخبرون به عن أنفسهم ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم
المسألة الثالثة
لما تعلق يوسف بالمخلوق دام مكثه في السجن بضع سنين وسيأتي ذلك في تفسير سورة الروم قال علماؤنا البضع من ثلاث إلى عشر وعينه بعضهم بأنه كان سبع سنين وهي مدة بلاء أيوب
المسألة الرابعة
فيها جواز التعلق بالأسباب وإن كان اليقين حاصلا؛ لأن الأمور بيد مسببها ولكنه جعلها سلسلة وركب بعضها على بعض؛ فتحريكها سنة والتعويل على المنتهى يقين والذي يدلك على جواز ذلك نسبة ما جرى من النسيان إلى الشيطان كما جرى لموسى في لقاء الخضر وهذا بين فتأملوه
المسألة الخامسة قوله (* (عند ربك) *))
أطلق ها هنا على السيد اسم الرب؛ لأنه من ربه يربه إذا دبره بوجوه التغذية وحفظ عليه مراتب التنمية وقد قال النبي ' لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي؛
55

ليقل فتاي وفتاتي ولا يقل ربي وليقل سيدي وقد بيناه في موضعه ويحتمل أن يكون هذا جائزا في شرع يوسف والله أعلم
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون) *) [الآية 43]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
فيها صحة رؤيا الكافر ولا سيما إذا تعلقت بمؤمن فكيف إذا كانت آية لنبي ومعجزة لرسول وتصديقا لمصطفى للتبليغ وحجة للواسطة بين الله وبين العباد
المسألة الثانية
قالوا أضغاث أحلام يعني أخلاطا مجموعة واحدها ضغث وهو مجموع من حشيش أو حطب ومنه قوله تعالى (* (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) *) [ص 44]
وقد روي ' الرؤيا لأول عابر ' وقد قالوا أضغاث أحلام ولم يكن من صحيح الكلام ولا قطع تفسير الرؤيا إذ لم يأتها من بابها ألا ترى أن الصديق لما أخطأ في تفسير الرؤيا لم يكن ذلك حكما عليها وإنما ذلك إذا احتملت وجوها من التفسير فعين بتأويله أحدها جاز ومن تكلم بجهل لا يكون حكما عليها وإن أصاب
والحديث الصحيح ' الرؤيا على رجل طائر ما لم تتحدث بها فإذا تحدثت بها سقطت ولا تحدث بها إلا حبيبا أو لبيبا ' وهذا معنى الرؤيا لأول عابر فإنه
56

إذا تحدث بها ففسرت نفذ حكمها إذا كان بحق عن علم لا كما قال أصحاب الملك وأيضا فإنهم لم يقصدوا تفسيرا وإنما أرادوا أن يمحوها عن صدر الملك حتى لا تشغل له بالا
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (لعلهم يعلمون) *) [يوسف 46]
يحتمل أن يكون يعلمون بمكانك فيظهر عندهم فضلك حتى يكون سبب خلاصك فعلى هذا يكون العلم على بابه ويحتمل أن يكون معناه لعلهم يعلمون تأويل الرؤيا ويسمى علما وإن كان ظنا؛ لأن الأصل كل ظن شرعي يرجع إلى العلم بالدليل القطعي الذي أسند إليه وقد بيناه في أصول الفقه
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ثم يأتي من بعد ذلك عام) *) [يوسف 49]
وهذا عام لم يقع السؤال عنه فقيل إن الله زاده علما على ما سألوه عنه إظهارا لفضله وإعلاما بمكانه من العلم ومعرفته وقيل أدرك ذلك بدقائق من تأويل الرؤيا لا ترتقي إليها درجتنا وهذا صحيح محتمل والأول أظهر
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك) *) [يوسف 5]
ثبت في الصحيح أن النبي قال ' يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ' وفي رواية الطبري ' يرحم الله يوسف لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلي لخرجت سريعا إن كان لحليما ذا أناة '
57

وقال ' لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات ولو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني لقد عجبت منه حين أتاه الرسول لو كنت مكانه لبادرتهم الباب '
المسألة السادسة
قال علماؤنا إنما لم يرد يوسف الخروج [من السجن] حتى تظهر براءته لئلا ينظر إليه الملك بعين الخائن فيسقط في عينه أو يعتقد له حقدا ولم يتبين أن سجنه كان جورا محضا وظلما صريحا وانظروا - رحمكم الله - إلى عظيم حلمه ووفور أدبه كيف قال ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن! فذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح ولا يقع عليها تصريح
الآية الثالثة عشرة [والرابعة عشرة]
قوله تعالى (* (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) *) [الآيتان 5455]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قال الملك ليوسف (* (إنك اليوم لدينا مكين أمين) *))
أي متمكن مما أردت أمين على ما ائتمنت عليه من شيء أما أمانته فلما ظهر من براءته وأما مكانته فلأنه ثبتت عفته ونزاهته
58

المسألة الثانية قوله تعالى (* (اجعلني على خزائن الأرض) *))
كيف سأل الإمارة وطلب الولاية وقد قال لسمرة ' لا تسأل الإمارة وإنك إن سألتها وكلت إليها وإن لم تسألها أعنت عليها ' وقد قال النبي ' إنا لا نولي على عملنا من أراده؟ '
وعن ذلك أربعة أجوبة
الأول أنه لم يقل إني حسيب كريم وإن كان كما قال النبي ' الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ' ولا قال إني مليح جميل إنما قال إني حفيظ عليم سألها بالحفظ والعلم لا بالحسب والجمال
الثاني سأل ذلك ليوصل إلى الفقراء حظوظهم لا لحظ نفسه
الثالث إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد التعريف بنفسه وصار ذلك مستثنى من قوله (* (فلا تزكوا أنفسكم) *) [النجم 32]
الرابع أنه رأى ذلك فرضا متعينا عليه؛ لأنه لم يكن هنالك غيره
فإن قيل وهي
59

المسألة الثالثة
كيف استجاز أن يقبلها بتولية كافر وهو مؤمن نبي؟
قلنا لم يكن سؤال ولاية إنما كان سؤال تخل وترك لينتقل إليه؛ فإن الله لو شاء لمكنه منها بالقتل والموت والغلبة والظهور والسلطان والقهر لكن الله أجرى سنته على ما ذكر في الأنبياء والأمم فبعضهم عاملهم الأنبياء بالقهر [والسلطان] والاستعلاء وبعضهم عاملهم الأنبياء بالسياسة والابتلاء يدل على ذلك قوله (* (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) *) [الآية 56] حسبما تقدم في سورة الأعراف وهي الآية الرابعة عشرة
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) *) [الآية 67]
فيها مسألتان
المسألة الأولى في أمره لهم بالتفرق
وفي ذلك أقوال؛ أظهرها أنه تقاة العين ولا خلاف بين الموحدين أن العين حق وهو من أفعال الله موجود وعند جميع المتشرعين معلوم والبارئ تعالى هو الفاعل الخالق لا فاعل بالحقيقة ولا خالق إلا هو سبحانه وتعالى (* (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار) *) [الرعد 16]
60

فليس في الوجود شيء من الفلك إلى الذرة ولا من دورانه إلى حركة واحدة إلا وهي موجودة بقدرته وعلمه ومصرفه بقضائه وحكمه فكل ما ترى بعينك أو تتوهمه بقلبك فهو صنع الله وخلقه إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ولو شاء لجعل الكل ابتداء من غير شيء ولكنه سبب الأسباب وركب المخلوقات بعضها على بعض؛ فالجاهل إذا رأى موجودا بعد موجود أو موجودا مرتبطا في العيان بموجود ظن أن ذلك إلى الرابطة منسوب وعليها في الفعل محسوب وحاش لله بل الكل له والتدبير تدبيره والارتباط تقديره والأمر كله له
ومن أبدع ما خلق النفس؛ ركبها في الجسم وجعلها معلومة للعبد ضرورة مجهولة الكيفية إن جاء ينكرها لم يقدر بما يظهر من تأثيرها على البدن وجودا وعدما وإن أراد المعرفة بها لم يستطع؛ فإنه لا يعلم لأي شيء ينسبها ولا على أي معنى يقيسها وضعها الله المدبر في البدن على هذا الوضع ليميز الإيمان به؛ إذ يعلم بأفعاله ضرورة ولا يوصل إلى كيفيته لعدمها فيه واستحالتها عليه؛ وذلك هو معنى قوله (* (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) *) [الذاريات 21] على أحد التأويلات
ولها آثار يخلقها الباري في الشيء عند تعلقها به منها العين وهو معنى يحدث بقدرة الله على جري العادة في المعين إذا أعجبت منظرته العائن فيلفظ به إما إلى عرو ألم في المعين وإما إلى الفناء بحسب ما يقدره الله تعالى؛ ولهذا المعنى نهي العائن عن التلفظ بالإعجاب؛ لأنه إن لم يتكلم لم يضر اعتقاده عادة وكما أنفذ الباري من حكمه أن يخلق في بدن المعين ألما أو فناء فكذلك سبق من حكمته أن العائن إذا برك أسقط قوله بالبركة قوله بالإعجاب فإن لم يفعل سقط حكمه بالاغتسال
وقد اعترض على ذلك الأطباء واعتقدوه من أكاذيب النقلة وهم محجوجون بما سطروا في كتبهم من أن الكون والفساد يجري على حكم الطبائع الأربع فإذا شذ شيء
61

قالوا هذه خاصة خرجت من مجرى الطبيعة لا يعرف لها سبب وجمعوا من ذلك ما لا يحصى كثرة؛ فهذا الذي نقله الرواة عن صاحب الشريعة خواص شرعية بحكم إلهية يشهد لصدقها وجودها كما وصفت؛ فإنا نرى العائن إذا برك امتنع ضرره وإن اغتسل شفي معينه وهذا بالغ في فنه فلينظر على التمام في مواضعه من كتب الأصول
وشرح الحديث؛ وهذه النبذة تكفي في هذه العارضة
المسألة الثالثة قوله (* (ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) *))
قالوا هذا يدل على أنه حملهم على التفرق مخافة العين ثم قال وهذا لا يرد القدر إنما هو أمر تأنس به النفوس وتتعلق به القلوب؛ إذ خلقت ملاحظة للأسباب ويفترق اعتقاد الخلق؛ فمن لحظ الأسباب من حيث إنها أسباب في العادة لا تفعل شيئا وإنا هي علامات؛ فهو الموحد ومن نسبه إليها فعلا واعتقدها مدبرة فهو الجاهل أو الملحد
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون) *) [الآية 7]
الآية فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
إنما جعل السقاية حيلة في الظاهر لأخذ الأخ منهم؛ إذ لم يكن ذلك ممكنا له ظاهرا من غير إذن من الله [ولم يمنع الحيلة] والله قادر على الظاهر والباطن حكيم في تفصيل الحالين
62

فإن قيل - وهي
المسألة الثانية
كيف رضي يوسف أن ينسب إليهم السرقة ولم يفعلوها؟
قيل عنه ثلاثة أجوبة
أحدها أن القوم كانوا سرقوه من أبيه وباعوه فاستحقوا هذا الاسم بذلك الفعل
الثاني أنه أراد أيتها العير حالكم حال السراق المعنى إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه
الثالث وهو التحقيق أن هذا كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه وفصله عنه إليه وهو ضرر دفعه بأقل منه
فإن قيل - وهي
المسألة الثالثة
فكيف استجاز يوسف الحيلولة بين أخيه وأبيه فيزيده حزنا على حزن وكربا على كرب
قلنا إذا استوى الكرب جاء الفرج
جواب آخر وذلك أنه كان بإذن من الله فلا اعتراض فيه
جواب ثالث وذلك أن الحزن كان قد غلب على يعقوب غلبة لا يؤثر فيها فقد أخيه كل التأثير أو لا تراه لما فقد أخاه قال يا أسفي على يوسف
63

الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) *) [الآية 72]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
قال علماؤنا هذا نص في جواز الكفالة وقد قال القاضي أبو إسحاق ليس هذا من باب الكفالة فإنها ليس فيها كفالة إنسان عن إنسان وإنما هو رجل التزم عن نفسه وضمن عنها وذلك جائز لغة لازم شرعا قال الشاعر
(فلست بآمر فيها بسلم
* ولكني على نفسي زعيم)
وقال الآخر
(وإني زعيم إن رجعت مملكا
* بسير ترى منه الغرانق أزورا)
قال الإمام أبو بكر هذا الذي قاله القاضي أبو إسحاق صحيح [بيد أن الزعامة] فيه نص فإذا قال أنا زعيم فمعناه أني ملتزم وأي فرق بين أن يقول ألتزمه عن نفسي أو التزمت عن غيري؟
المسألة الثانية قوله (* (وأنا به زعيم) *))
إنما يكون في الحقوق التي تجوز النيابة فيها؛ وأما كل حق لا يقوم فيه أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيها وقد تقدم ذكره وتركب على هذه مسألة وهي
المسألة الثالثة
إذا قال أنا زعيم لك بوجه فلان قال مالك يلزمه وقال الشافعي لا يلزمه؛
64

لأنه غرر؛ إذ لا يدري هل يجده أم لا؟ والدليل على جوازه أن المقصود بالزعامة تنزيل الزعيم مقام الأصل والمقصود من حضور الأصل أداء المال فكذلك الزعيم ومسائل الضمان كثيرة ذكرناها في مسائل الخلاف والفروع
المسألة الرابعة
كما أن لفظ الآية نص في الزعامة فمعناها نص في الجعالة وهي نوع من الإجارة لكن الفرق بين الجعالة والإجارة أن الإجارة يتقدر فيها العوض والمعوض من الجهتين والجعالة يتقدر فيها الجعل والعمل غير مقدر
ودليله أن الله سبحانه شرع البيع والابتياع في الأموال لاختلاف الأغراض وتبدل الأحوال فلما دعت الحاجة إلى انتقال الأملاك شرع لها سبيل البيع وبين أحكامه ولما كانت المنافع كالأموال في حاجة إلى استيفائها؛ إذ لا يقدر كل أحد أن يتصرف لنفسه في جميع أغراضه نصب الله الإجارة في استيفاء المنافع بالأعواض لما في ذلك من حصول الإغراض وأنكرها الأصم وهو عن الشريعة أصم؛ فقد فعل النبي الإجارة وفعلها الصحابة وقد بيناها في كتب الخلاف
المسألة الخامسة
فإذا ثبت هذا فقد يمكن تقدير العمل بالزمان كقوله تخدمني اليوم وقد يقول تخيط لي هذا الثوب؛ فيقدر العمل بالوجهين وقد يتعذر تقدير العمل كقوله من جاءني بضالتي أو جلب عبدي الآبق فله كذا فأحد العوضين لا يصح تقديره والعوض الآخر لا بد من تقديره فإن ما يسقط بالضرورة لا يتعدى سقوطه إلى ما لا ضرورة فيه
والأصل فيه الحديث الذي قدمنا من أخذ الأجرة على الرقية وهو عمل لا يتقدر وقد كانت الإجارة والجعالة قبل الإسلام فأقرتهما الشريعة ونفت عنهما الغرر والجهالة وقد بينا ذلك في كتب المسائل
65

المسألة السادسة في حقيقة القول في الآية
إن المنادي لم يكن مالكا إنما كان نائبا عن يوسف ورسولا له فشرط حمل البعير على يوسف لمن جاء بالصواع وتحمل هو به عن يوسف فصارت فيه ثلاث فوائد
الأول الجعالة وهو عقد يتقدر فيه الثمن ولا يتقدر فيه الثمن
الثانية الكفالة وهي ها هنا مضافه إلى سبب موجب على وجه التعليق بالشرط وقد اختلف الناس فيها اختلافا متباينا تقريره في المسائل؛ وهذا دليل على جوازه فإنه فعل نبي ولا يكون إلا شرعا
وقد اختلف الناس في الكفالة؛ فجوزها أصحاب أبي حنيفة محالة على سبب وجوب؛ كقوله ما كان لك على فلان فهو علي أو إذا أهل الهلاك فلك علي عنه كذا بخلاف أن تكون معلقة بشرط محض كقوله إن قدم فلان أو إن كلمت زيدا
وقال الشافعي لا يجوز بشيء من ذلك وهذه الآية نص على جوازها محالة على سبب الوجوب
الثالثة جهالة المضمون له
قال علماؤنا هي جائزة وتجوز عندهم أيضا مع جهالة الشيء المضمون أو كليهما ومن العجب أن أبا حنيفة والشافعي اتفقا على أنه لا تجوز الكفالة مع الجهالة المكفول له وادعى أصحاب أبي حنيفة أن هذا الخبر منسوخ من الآية خاصة
وقال أصحاب الشافعي هذه الآية دليل على جواز الجعل وهي شرع من قبلنا وليس لهم فيه تعلق في مذهب
وقال أصحاب الشافعي إن معرفة المضمون عنه والمضمون له فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه لا بد من معرفتهما؛ أما معرفة المضمون عنه فليعلم هل هو أهل للإحسان أم لا؟ وأما معرفة المضمون له فليعلم هل يصلح للمعاملة أم لا؟
66

الثاني أنه افتقر إلى معرفة المضمون خاصة؛ لأن المعاملة معه خاصة
الثالث أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما وهو الصحيح لما ثبت عن النبي في حديث أبي قتادة أنه ضمن عن الميت ول يسأله النبي عن المضمون له ولا عن المضمون عنه والآية نص في جهالة المضمون له وحمل جهالة المضمون عنه عليه أخف والله أعلم
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) *) [الآيات 747576]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
لما قال إخوة يوسف (* (تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) *) [يوسف 73] قال أصحاب يوسف (* (فما جزاؤه إن كنتم كاذبين) *)؟ فقال إخوة يوسف (* (جزاؤه من وجد في رحله) *)
قال الطبري المعنى جزاؤه من وجد في رحله على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه التقدير جزاؤه استعباد من وجد في رحله أو أخذه واسترقاقه أو ما أشبه ذلك
وقال غيره التقدير جزاء السارق من وجد في رحله فهو جزاؤه ويكون جزاؤه الأول الابتداء والجملة بعده الخبر المعنى من وجد في رحله فهو هو وكرره تأكيدا للبيان كما قال الشاعر
(لا أرى الموت يسبق الموت شيء
* نغص الموت ذا الغنى والفقيرا)
67

المسألة الثانية في تحقيق هذا الكلام بالتفسير
وذلك أن دين الملك كان أن يأخذ المجني عليه من السارق مثلي السرقة وكان دين يعقوب أن يسترق السارق فأخذ يوسف إخوته بما في دين يعقوب بإقرارهم بذلك وتسليمهم فيه
وقد روي عن مجاهد أن عمة يوسف بنت إسحاق وكانت أكبر من يعقوب صارت إليها منطقة إسحاق لسنها لأنهم كانوا يتوارثونها بالسن وكان من سرقها استملك وكانت عمة يوسف قد حضنته وأحبته حبا شديدا فلما ترعرع قال لها يعقوب سلمي يوسف إلي؛ فلست أقدر أن يغيب عن عيني ساعة قالت له دعه عندي أياما أنظر إليه فلعلي أتسلى عنه فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ثم قالت لقد فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها ومن أصابها فالتمست ثم قالت اكشفوا أهل البيت فكشفوا فوجدت مع يوسف فقالت والله إنه لي سلم أصنع فيه ما شئت ثم أتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها أنت وذاك إن كان فعل فهو سلم لك فأمسكته حتى ماتت فبذلك عيره إخوته في قولهم إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل معناه أن القرابة شجنة والصحابة شجنة
ومن ها هنا تعلم يوسف وضع السقاية في رحل أخيه كما عملت عمته به
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) *))
إذ كان لا يرى استرقاق السارق إلا أن يشاء الله فكيف التزام الإخوة لدين يعقوب بالاسترقاق فقضى عليهم به والكيد والمكر هو الفعل الذي يخالف فيه الباطن الظاهر والقول الذي يحتمل معنيين؛ فيتأوله أحد المتخاطبين على وجه والآخر على وجه آخر
المسألة الرابعة
قد ذكرنا في سورة المائدة أن القطع في السرقة ناسخ لما تقدم من الشرائع؛ إذ كان
68

في شرع يعقوب استرقاق السارق كما تقدم ولا نعلم ما نفذ به الحكم في شرع يعقوب هل كان مخصوصا بعين مسروقة دون عين أم عاما في كل عين؟ والأول أصح؛ لأنه ثبت في الصحيح أن النبي قال ' إن بني إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ' وهذا نص في الغرض موضح للمقصود فافهموه
المسألة الخامسة قوله (* (كذلك كدنا ليوسف) *))
فيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل؛ إذا لم تخالف الشريعة ولا هدمت أصلا خلافا لأبي حنيفة في تجويزه الحيل وإن خالفت الأصول وخرمت التحليل؛ سمعت أبا بكر محمد بن الوليد الفهري وغيره يقول كان شيخنا قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني صاحب عشرات آلاف من المال فإذا جاء رأس الحول دعا بنيه فقال لهم قد كبرت سني وضعفت قوتي وهذا مال لا أحتاجه فهو لكم ثم يخرجه ويحتمله الرجال على أعناقهم إلى دور بنيه فإذا جاء رأس الحول ودعا بنيه لأمر قالوا يا أبانا؛ إنما أملنا حياتك وأما المال فأي رغبة لنا فيه ما دمت حيا أنت ومالك لنا فخذه إليك ويسير الرجال به حتى يضعوه بين يديه فيرده إلى موضعه - يريد بتبديل الملك إسقاط الزكاة على رأي أبي حنيفة في التفريق بين المجتمع والجمع بين المفترق وهذا خطب عظيم بيناه في شرح الحديث وقد صنف البخاري عليه في جامعه كتابا مقصودا
المسألة السادسة
قال بعض علماء الشافعية قوله تعالى (* (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) *) [يوسف 56] دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح واستخراج الحقوق
69

قال القاضي الإمام أبو بكر رضي الله عنه هذا وهم عظيم
وقوله (* (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) *) قيل فيه كما مكنا ليوسف ملك نفسه عن امرأة العزيز مكنا له ملك الأرض عن العزيز أو مثله مما لا يشبه ما ذكره قال الشفعوي ومثله (* (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) *) [ص 44]
قال الإمام الفقيه القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه ليس هذا حيلة؛ إنما هو حمل لليمين على الألفاظ أو على المقاصد وقد بيناه في كتب المسائل قال الشفعوي وحديث أبي سعيد في عامل خيبر - [قال الإمام ابن العربي نص هذا الحديث] أن عامل خيبر أتى رسول الله بتمر جنيب فقال له رسول الله ' أكل تمر خيبر هكذا '؟ قال لا يا رسول الله ولكنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين من تمر الجمع فقال له رسول الله ' لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وكذلك البسر - ' خرجه الأئمة
ومقصود الشافعية من هذا الحديث أن النبي أمره أن يبيع جمعا ويبتاع جنيبا من الذي باع منه الجمع أو من غيره
قال المالكية معناه من غيره لئلا يكون جنيبا بجمع؛ والدراهم ربا كما قال ابن عباس جريرة بجريرة والدراهم ربا
قال الشفعوي ومنه قول النبي لهند ' خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف '
70

قال القاضي قالت هند للنبي إن أبا سفيان رجل مسيك لا يعطيني ما يكفيني وولدي قال لها النبي ' خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ' وهذا من باب الفتوى وتسليط المفتي
للمستفتي على حكم الدعوى فهو أعلم بنفسه وربه أعلم من الكل بكذبه أو صدقه ولا حيلة في شيء من هذا
وعجبا لمن يتصدى للإمامة ويتميز في الفرق بالزعامة ويأتي بهذا السفساف من المقال
قال القاضي وزاد بعد ذلك من معاريض النبي في الحرب ما هو خارج عن هذا الغرض على خط لا يجتمع مع هذا المقصد في دائرة الأفق فكيف في مقدار من التقابل أصغر من نفق
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) *) [الآية 81]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا فلا تسمع إلا ممن علم ولا تقبل إلا منه ومراتب العلم في طرقه مختلفة ولكنه يعود إلى أصل واحد وهو تعلقه بالمعلوم على ما هو بها فإذا نسي الشهادة فذكر به وتذكرها أداها وذلك لقول الله سبحانه (* (إن) *
71

تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) [البقرة 282] وإذا لم يذكرها لم يؤدها على أحد التأويلين كما تقدم في سورة البقرة
المسألة الثانية
قال علماؤنا إن عرف خطه ولم يذكر الشهادة قالوا يؤديها ولا يمتنع أن يؤدي منها ما علم وهو خطه ويترك ما لم يعلم وقد بيناها في سورة البقرة فلينظر فيها
المسألة الثالثة
إذا أدعى الرجل شهادة لا يحتملها عمره ولا حاله ردت؛ لأنه ادعى باطنا ما كذبه العيان ظاهرا
المسألة الرابعة شهادة المرور
وهو أن يقول مررت بفلان فسمعته فإن استوعب القول شهد في أحد قولي مالك وفي القول الآخر لا يشهد حتى يشهداه
والذي نختاره الشهادة عند الاستيعاب وبه قال جماعة من العلماء وهو الحق؛ لأنه قد حصل له المطلوب وتعين عليه أداء العلم وكان خير الشهداء إذا أعلم المشهود له وشر الشهداء إذا كتمها
المسألة الخامسة
وكذلك اختلف علماؤنا إذا جلس رجلان للمحاسبة فأبرز الحساب بينهما ذكرا هل يشهد به من حضره وقد كلف ذلك وأجلس له؟ والصحيح وجوب الأداء عليه؛ لأنه قد حصل له علمه
72

المسألة السادسة
إذا أجلس رجل شاهدين من وراء حجاب وكلمه وقرره فاستوعبا كلامه فقال في كتاب محمد لا يثبت ذلك ويحلف أنه ما أقر إلا بأمر كذا يذكره؛ فإن نكل لزمه ما يشهد به والأصل في الباب ما قدمناه من تحصيل العلم والله أعلم
الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) *) [الآية 84]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
حدث مالك عن حزن يعقوب إنه حزن سبعين ثكلى قيل فما أعطي؟ قال أجر سبعين شهيدا قال مالك قال يوسف لما حضرته الوفاة ما انتقمت لنفسي من شيء أتى إلي فذلك زادي اليوم من الدنيا وإن عملي لاحق بعمل آبائي فألحقوا قبري بقبورهم
قال علماؤنا يريد مالك بالكلام الثاني قول يوسف لإخوته (* (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) *) [يوسف 92]؛ أي لا تبكيت ولا مؤاخذة لكم بما فعلتم؛ لأن شفاء الغيظ والجزاء بالذنب في الدنيا من عمل الدنيا لاحظ له في الآخرة وذلك قول يوسف ما انتقمت لنفسي من شيء أتى إلي فذلك زادي اليوم من الدنيا وإن عملي لاحق بعمل آبائي؛ أي في الصفح والإحسان وهو فعل أهل النبوة صلى الله عليهم وسلم
المسألة الثانية
قوله ' ألحقوا قبري بقبور آبائي ' شاهدناه سنة سبع وثمانين وجاوزنا فيه [أعواما
73

و] أياما آمنين في نعم فاكهين وعلى الدرس والمناظرة متقابلين وهو في قرية جيرون التي كانت لإبراهيم الخليل بينها وبين المسجد الأقصى ستة فراسخ في سفح الجبل الذي كان فيه بيت رامة متعبد إبراهيم [الخليل عليه السلام] المشرق على مدائن لوط وفي وسط القرية بنيان مرصوص من حجارة عظام سورا عظيما في داخله مسجد في الجانب الغربي منه مما يلي القبلة إسحاق ويليه في الجانب المذكور إبراهيم الخليل ويليه في الطرف الجواني من الجانب الغربي يعقوب على نسبة متماثلة وفيما يقابلها
من الجانب الشرقي قبور أزواجهم على الاعتدال على كل قبر حجر عظيم واحد له الطول والعرض والعمق حسبما بيناه في كتاب ترتيب الرحلة
وفي الجانب القبلي منه خارج هذا الحرم قبر يوسف منتبذا كان له قيم طرطوشي زمن وله أم تنوب عنه وهيئة قبر يوسف كهيئة قبورهم وهذا أصح الأقاويل في موضع قبره لأجل ذكر مالك له فلم يذكر رضي الله عنه إلا أشبه ما اطلع عليه
المسألة الثالثة
كان يعقوب حزينا في الدرجة التي قد بيناها ولكن حزنه كان في قلبه جبلة ولم يكتسب لسانه قولا قلقا يخالف الشريعة كما قال النبي في ابنه في صحيح الخبر ' تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون '
وقال أيضا في الصحيح ' إن الله لا يعذب بدمع العين ولا يحزن القلب
74

وإنما يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه أو يرحم ' وهو تفضل منه سبحانه حين علم عجز الخلق عن الصبر؛ فأذن لهم في الدمع والحزن ولم يؤاخذهم به وخطم الفم بالزمام عن سوء الكلام فنهى عما نهى وأمر بالتسليم والرضا لنافذ القضاء وخاصة عند الصدمة الأولى وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى وذلك قول يعقوب (* (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) *) [يوسف 86] من جميل صنعه وغريب لطفه وعائدته على عبادة
الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى (* (فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين) *) [الآية 88]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى القول في البضاعة
قد تقدم ذكر معنى البضع في البضع آنفا
المسألة الثانية قوله (* (مزجاة) *))
فيها قولان
أحدهما يعني قليلة إما لأنه متاع البادية الذي لا يصلح للملوك وإما لأنه لا سعة فيه إنما يدافع به المعيشة من قولك فلان يزجي كذا أي يدفع قال الشاعر
(الواهب المائة الهجان وعبدها
* عوذا تزجي خلفها أطفالها)
يعني تدفع
75

الثاني قال مالك مزجاة تجوز في كل مكان فهي المزجاة - رواه الحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك
ولا أدري ما هذا إلا أن يكون من باب جبذ وجذب وإلا فالله أعلم بصحة الرواية فيه
وقد فسرها بعضهم بأنها البطم والصنوبر والبطم هو الحبة الخضراء
المسألة الثالثة قوله (* (فأوف لنا الكيل وتصدق علينا) *))
المعنى جئنا بقدرنا فأعطنا بقدرك تضاءلوا بالحاجة وتمسكنوا بفادحة المصيبة في الأخوين وما صار إليه أمر الأب بعدهما
المسألة الرابعة
قال ابن القاسم وابن نافع عن مالك قالوا ليوسف فأوف لنا الكيل فكان يوسف هو الذي يكيل إشارة إلى أن الكيل والوزن على البائع؛ لأن الواجب عليه تمييز حق المشتري من حقه إلا أن يبيع منه معينا صبرة أو ما لا حق توفية فيه فقبل أن يوفى فما جرى على المبيع فهو منه ولذلك قال علماؤنا أجرة الكيل على البائع وأجرة النقد على المبتاع لأن الدافع لدراهمه يقول إنها طيبة فأنت الذي تدعي الرداءة فانظر لنفسك فإن خرج فيها رديء كانت الأجرة على الدافع والله أعلم
المسألة الخامسة قوله (* (وتصدق علينا) *))
قال علماؤنا لما علموا أن بضاعتهم غير مرضية قالوا اجعلها حباء إن لم تكن شراء وقال آخرون منهم طلبوا منه وفاء الكيل والصدقة بعد ذلك وكل ما كان صدقة أو هبة يتبع البيع فإنه يلحق به في إحدى الروايتين وكذلك النكاح وبه قال أبو حنيفة ولا يلحق به في الرواية الأخرى وبه قال الشافعي وهي مسألة طيولية قد بيناها في مسائل الخلاف
76

فإن قيل فكيف جاز لهم أن يطلبوا الصدقة وهم الأنبياء؟
قلنا عنه خمسة أجوبة
أحدها لا يعلم العلماء أنهم أنبياء وآمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله
الثاني أنهم لم يكونوا بعد أنبياء
الثالث أنه لا يعلم حالهم مع الصدقة في شرعهم فلعل ذلك كان مباحا لهم
الرابع معنى تصدق سامح لا أصل الصدقة
الخامس قيل تصدق علينا بأخينا وبالقولين الأخيرين أقول والله أعلم
الآية الثانية والعشرون
قوله تعالى (* (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم) *) [الآية 1]
قال العلماء كان هذا سجود تحية لا سجود عبادة وهكذا كان سلامهم بالتكبير وهو الانحناء وقد نسخ الله في شرعنا ذلك وجعل الكلام بدلا عن الانحناء والقيام ومنه الحديث قال النبي ' إذا أصبح ابن آدم كفرت أعضاؤه اللسان تقول له اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا '
فإن قيل فما تقول في الإشارة بالإصبع؟
قلنا فيه ثلاثة أوجه
77

أحدها أن اللسان يكفي في السلام وأما حركة البدن أو شيء منه فلم يشرع في السلام لا تحريك يد [ولا قدم] ولا قيام بدن
الثاني أن رد السلام فرض وابتداؤه سنة في مشهور الأقوال ولكن يجوز القيام للرجل الكبير بداءة إذا لم يؤثر ذلك في نفسه كما قال النبي لجلسائه - حين جاء سعد ' قوموا إلى سيدكم '؛ فإن أثر فيه لم يجز عونه على ذلك لما روي ' من سره أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار '
الثالث أنه يجوز الإشارة بالإصبع إذا بعد عنك لتعين له أو به وقت السلام فإن كان دانيا فلا بأس بالمصافحة فقد صافح النبي جعفرا حين قدم من الحبشة وقال النبي ' ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما ' - خرجه الترمذي وغيره وإن كان كره مالك المصافحة؛ لأنه لم يرها أمرا عاما في الدين ولا شائعا بين الصحابة ولا منقولا نقل السلام؛ ولو كان منه لاستوى معه وقد بيناه في شرح الحديث
78

سورة الرعد
فيها خمس آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار) *) [الآية 8]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله (* (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) *))
تمدح من الله سبحانه بعلم الغيب والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق؛ فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد وأهل الطب يقولون إذا ظهر النفخ في ثدي الحامل الأيمن فالحمل ذكر وإن ظهر في الثدي الأيسر فالحمل أنثى وإذا كان الثقل للمرأة في الجانب الأيمن فالحمل ذكر وإن وجدت الثقل في الجانب الأيسر فالولد أنثى؛ فإن قطعوا بذلك فهو كفر وإن قالوا إنها تجربة وجدناها تركوا وما هم عليه ولم يقدح ذلك في التمدح؛ فإن العادة يجوز انكسارها والعلم لا يجوز تبدله
المسألة الثانية قوله (* (وما تغيض الأرحام وما تزداد) *))
وقد تباين الناس فيها فرقا أظهرها تسعة أقوال
الأول ما تغيض الأرحام من تسعة أشهر وما تزيد عليها كقوله (* (مخلقة وغير مخلقة) *) [الحج 5] قاله الحسن
الثاني ما تغيض الأرحام ما تسقط وما تزداد يعني عليه إلى التسعة؛ قال قتادة
79

الثالث إذا حاضت الحامل نقص الولد فذلك غيضه وإذا لم تحض ثم فتلك على النقصان؛ قاله مجاهد وسعيد بن جبير
الرابع ما تغيض الأرحام فتلك لستة أشهر وما تزداد فتلك لعامين؛ قالته عائشة
الخامس ما تزداد لثلاثة أعوام؛ قاله الليث
السادس ما تزداد إلى أربع سنين؛ قاله الشافعي ومالك في إحدى روايتيه
السابع قال مالك في مشهور قوله إلى خمس سنين
الثامن إلى ست سنين وسبع سنين؛ قاله الزهري
التاسع لا حد له ولو زاد على العشرة الأعوام وأكثر منها؛ قاله مالك في الرواية الثالثة
المسألة الثالثة
نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر مدة الحمل تسعة أشهر وهذا ما لم ينطق به قط إلا هالكي وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل في الرحم الكواكب السبعة تأخذه شهرا شهرا ويكون الشهر الرابع منها للشمس ولذلك يتحرك ويضطرب وإذا كمل التداول في السبعة الأشهر بين السبعة الكواكب عاد في الشهر الثامن إلى زحل فيبقله ببرده فيا ليتني تمكنت من مناظرتهم أو مقاتلتهم
ما بال المرجع بعد تمام الدور يكون إلى زحل دون غيره؟ الله أخبركم [بهذا] أم على الله تفترون؟ وإذا جاز أن يعود إلى اثنين منها لم لا يجوز أن يعود التدبير إلى ثلاث أو أربع أو يعود إلى جميعها مرتين أو ثلاث؟ ما هذا التحكم بالظنون الباطلة
80

على الأمور الباطنة؟ [فمن] نصيري من هذا الاعتقاد وعذيري من المسكين الذي تصور عنده أن أكثر مدة الحمل تسعة أشهر! ويالله ويالضياع العلم بين العالم في هذه الأقطار الغاربة مطلعا العازبة مقطعا!
المسألة الرابعة
فإن قيل إن الحامل لا تحيض وهو قول جماعة منهم أبو حنيفة؛ لأن تماسك الحيض علامة على شغل الرحم واسترساله علامة على براءة الرحم؛ فمحال أن يجتمع مع الشغل؛ لأنه ما كان يكون دليلا على البراءة لو اجتمعا ومعنى قوله الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وما تغيض الأرحام في الدم والحيض في غير حال الحمل وما تزداد بعد غيضها من ذلك حتى يجتمع في الرحم
فالجواب عنه من وجهين
أحدهما أن الدم علامة على براءة الرحم من حيث الظاهر لا من حيث القطع؛ فجاز أن يجتمعا بخلاف وضع الحمل؛ فإنه براءة للرحم قطعا فلا يجوز أن يجتمع مع الشغل
الثاني أن قوله في تفسير ما تغيض الأرحام في غير حال الحمل وما تزداد بعد غيضها حتى يجتمع في الرحم فإنا نقول إن الآية عامة في كل غيض وازدياد وسيلان وتوقف وإذا سال الدم على عادته بصفته ما الذي يمنع من حكمه؟ ولا جواب لهم عن هذا
الآية الثانية
قوله تعالى ' (* (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) *) [الآية 15]
فيها مسألتان
81

المسألة الأولى
إذا وجد الفعل في الآدمي مع خلق الإرادة فيه كان طوعا وإذا وجد الفعل مع عدم الإرادة كان كرها ويأتي تحقيق القول فيه في سورة النحل إن شاء الله تعالى
المسألة الثانية
اختلف الناس في تفسيرها على أقوال جمهورها أربعة
الأول المؤمن يسجد طوعا والكافر يسجد خوف السيف؛ فالأول أبو بكر الصديق آمن طوعا من غير لعثمة
والثاني الكافر يسجد لله إذا أصابه الضر يسجد لله كرها وذلك قوله (* (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم) *) [الاسراء 67] يريد عنه وعبدتم غيره
الثالث قال الصوفية المخلص يسجد لله محبة وغيره يسجد لابتغاء عوض أو لكشف محنة فهو يسجد كرها
الرابع الخلق كلهم ساجد إلا أنه من سجد بقلبه فهو طوع ومن سجد بحاله فهو كره؛ إذ الأحوال تدل على الوحدانية من غير اختيار ذي الحال
قال القاضي أبو بكر أما من سجد لدفع شر فذلك بأمر الله هو الذي أمرنا بالطاعة ووعدنا بالثواب عليها ونهانا عن المعصية وأوعد بالعقاب عليها وهذا حال التكليف فلا يتكلف فيها تعليلا إلا ناقص الفطرة قاصر العلم؛ وغرض الصوفية ساقط وقد بيناه في كتب الأصول فما عبد الله نبي مرسل ولا ولي مكمل إلا طلب النجاة
82

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) *) [الآية 2
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
القول في العهد
المسألة الثانية
القول في الوفاء به وقد تقدم شرحهما
المسألة الثالثة
في تعديد عهود الله وهي كثيرة العدد مستمرة [المدد و] الأمد
أعظمها عهدا وأوكدها عقدا ما كان في صلب آدم على الإيمان
الثاني ما كان مع النبي
الثالث ما ربطه المرء على نفسه عند الإقرار بالشهادتين فإنها ألزمت عهودا وربطت عقودا ووظفت تكليفا وذلك يتعدد بعدد الوظائف الشرعية ويختلف باختلاف أنواعها
منها الوفاء بالعرفان والقيام بحق الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إلا تره فإنه يراك
ومنها الانكفاف عن العصيان وأقله درجة اجتناب الكبائر ومن أعظم المواثيق في الذكر ألا تسأل سواه فقد كان أبو حمزة الخراساني من كبار العباد سمع أن ناسا بايعوا رسول الله ألا يسألوا أحدا شيئا فكان أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه فقال أبو حمزة رب إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه وأنا أعاهدك ألا أسأل أحدا شيئا أبدا قال فخرج حاجا من الشام يريد مكة فبينا هو يمشي في الطريق بالليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ثم اتبعهم فبينا هو يمشي إليهم إذ سقط في بئر على حاشية الطريق فلما حصل في قعره قال أستغيث؛ لعل أحدا
83

يسمعني فيخرجني ثم قال إن الذي عاهدته يراني ويسمعني والله لا تكلمت بحرف لبشر ثم لم يلبث إلا يسيرا إذ مر بتلك البئر نفر فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا إنه لينبغي سد هذه البئر ثم قطعوا خشبا ونصبوها على فم البئر وغطوها بالتراب فلما رأى ذلك أبو حمزة قال هذه مهلكة فأراد أن يستغيث بهم ثم قال والله لا أخرج منها أبدا ثم رجع إلى نفسه فقال أليس الذي عاهدت يرى ذلك كله فسكت وتوكل ثم استند في قعر البئر مفكرا في أمره فإذا بالتراب يقع عيه والخشب يرفع عنه؛ وسمع في أثناء ذلك من يقول هات يدك قال فأعطيته يدي فأقلني في مرة واحدة إلى فم البئر فخرجت ولم أر أحدا ثم سمعت هاتفا يقول كيف رأيت ثمرة التوكل؟ وأنشد
(نهاني حيائي منك أن أكتم الهوى
* وأغنيتني بالعلم منك عن الكشف)
(تلطفت في أمري فأبديت شاهدي
* إلى غائبي واللطف يدرك باللطف)
(تراءيت لي بالعلم حتى كأنما
* تخبرني بالغيب أنك في كفي)
(أراني وبي من هيبتي لك وحشة
* فتؤنسي باللطف منك وبالعطف)
(وتحيي محبا أنت في الحب حتفه
* وذا عجب كون الحياة مع الحتف)
فهذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام والكمال؛ فبه فاقتدوا تهتدوا
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار) *) [الآية 35]
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (أكلها دائم) *))
بضم الهمزة في الأكل يعني به المأكول لا الفعل وصف الله طعام الجنة بأنه غير مقطوع ولا ممنوع وطعام الدنيا ينقطع ويمنع فيمتنع
84

المسألة الثانية
قال إبراهيم بن نوح سمعت مالك بن أنس يقول ' ليس في الدنيا من ثمار ما يشبه ثمار الجنة إلا الموز ' لأن الله يقول (* (أكلها دائم) *) وأنت تجد الموز في الصيف والشتاء
قال القاضي وكذلك رمان بغداد شاهدت المحول قرية من قرى نهر عيسى وفي شجر الرمان حب العامين يجتمع تقطع منه متى شئت صيفا وشتاء وقيظا وخريفا إلا أن الحبة التي بقيت في الشجرة عاما لا تفلقها إلا بالقدوم من شدة القشر فإذا انفلقت ظهر تحته حب الرمان أجمل ما كان وأينعه
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) *) [الآية 43]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله (* (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) *))
فيها الاكتفاء بشهادة واحد وهو خير الشاهدين إن كان يعلم مني الحق في الدعوى والصدق في التبليغ فسينصرني فلا جرم صدقة بالمعجزات ونصره بالدلالات وأكرمه بالظهور في العواقب
فإن قيل فقد قال (* (ومن عنده علم الكتاب) *)؟
قيل هو وإن كان معطوفا عليه في اللفظ فإنه مقطوع عنه في المعنى التقدير ومن عنده علم الكتاب يشهد لي بصدقي؛ ولهذا المعنى قال مجاهد إن من عنده علم الكتاب هو الله تعالى وهذه غفلة؛ فإنه قد قال (* (قل كفى بالله شهيدا) *) فلو كان الذي عنده علم الكتاب هو الله لكان تكرارا محضا خارجا عن صحة المعنى وجزالة اللفظ؛
وإنما الذي عنده علم الكتاب في
85

المسألة الثانية
اختلف فيمن عنده علم الكتاب بعد ذكر قول مجاهد على أربعة أقوال
الأول أن المراد به من آمن من اليهود والنصارى
الثاني أنه عبد الله بن سلام
الثالث أنه علي بن أبي طالب وقد قرئ ومن عنده علم بخفض الميم من من ورفع العين من علم وقرئ بخفض الميم من من وباقيه على المشهور
الرابع المؤمنون كلهم
المسألة الثالثة في تدبر ما مضى
أما من قال إنهم الذين آمنوا من اليهود كابن سلام وابن يامين ومن النصارى كسلمان وتميم الداري؛ فإن المعني عنده بالكتاب التوراة والإنجيل
وأما من قال إنه علي بن أبي طالب فعول على أحد وجهين إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك؛ بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه حسبما بيناه في أصول الدين في ذكر الخلفاء الراشدين؛ أو لقول النبي ' أما مدينة العلم وعلي بابها ' وهو حديث باطل النبي مدينة علم وأبوابها أصحابها؛ ومنهم الباب المنفسح ومنهم المتوسط على قدر منازلهم في العلوم
وأما من قال إنهم جميع المؤمنين فصدق؛ لأن كل مؤمن يعلم الكتاب ويدرك وجه إعجازه؛ يشهد للنبي بالصدق
86

وأما من قال إنه عبد الله بن سلام فعول على حديث خرجه للترمذي وغيره أنه لما أريد قتل عثمان جاء عبد الله بن سلام فقال له عثمان ما جاء بك؟ قال جئت في نصرك قال اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجا خير لي منك داخلا فخرج عبد الله إلى الناس فقال أيها الناس إنه كان اسمي في الجاهلية فلان فسماني رسول الله عبد الله ونزلت في آيات من القرآن فنزلت في (* (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله) *) [الأحقاف 1] الآية إلى آخرها ونزلت في (* (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) *)
إن لله سيفا مغمودا عنكم وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل به رسول الله الله الله في هذا الرجل أن تقتلوه فوالله لئن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة وليسلن سيف الله المغمود عنكم فلا يغمد إلى يوم القيامة
قالوا اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان وليس يمتنع أن تنزل في عبد الله سببا وتتناول جميع المؤمنين لفظا؛ ويعضده من النظام أن قوله ويقول الذين كفروا - يعني به قريشا؛ فالذي عنده علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى الذين هم إلى معرفة النبوة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان
المسألة الرابعة
في هذا قول المتجادلين كفى بفلان بيننا شهيدا فيرضيان به وقد قدمناه ويزيد هذا عليه ظهور هذا الحق يقينا وأن الله ينصره نصرا مبينا ويوفق من يعرفه حقا ويشهد به تصديقا وصدقا والذي اختاره مالك في هذه الآية أنه عبد الله بن سلام كذلك روى عنه ابن وهب وقد تقدم بيانه
87

سورة إبراهيم
فيها أربع آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) *) [الآية 5]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
معنى ذكرهم قل لهم قولا يتذكرون به أيام الله
المسألة الثانية في أيام الله قولان
أحدهما نعمه الثاني نقمه؛ قاله الحسن وكذلك روى ابن وهب عن مالك قال بلاؤه الحسن وأياديه عندهم وقد أخبرني بعض أشياخي من الصوفية أنه كان من جملتهم رجل إذا صفا له يوم [واحد] جعل جوزا في قدر وختم عليه فإذا سئل عن عمره أخرج القدر وفض الختم وعد الجوز فيرى أن أيامه بعددها
المسألة الثالثة
في هذا دليل على جواز الوعظ المرقق للقلوب المقوي لليقين؛ فقد روى سعيد ابن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال سمعت رسول الله يقول
88

' بينما موسى في قومه يذكرهم بأيام الله وأيام الله نعماؤه وبلاؤه ' وذكر حديث الخضر وقد استوفينا فيه الغاية في شرح الصحيحين سندا ومتنا
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين) *) [الآية 13]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال الطبري معناه لنخرجنكم من أرضنا إلا أن تعودوا في ملتنا وهو غير مفتقر إلى هذا التقدير فإن (أو) على بابها من التخيير خير الكفار الرسل بين أن يعودوا في ملتهم أو يخرجوهم من أرضهم؛ وهذه سيرة الله في رسله وعباده ألا ترى إلى قوله تعالى (* (وإن كادوا ليستفزونك) *) الآيتين
وقال في الصحيح في حديث ورقة [بن نوفل] وقوله للنبي يا ليتني فيها جذعا يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قال ' أو مخرجي هم '؟ قال له ورقة نعم لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وأخرج وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا
المسألة الثانية
فيه إكراه الرسل بالخروج عن أرضهم وقد تقدم شدة ذلك ووقعه من النفوس في قوله تعالى (* (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من) *
89

* (دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) *) [النساء 66]؛ فهو من أعظم وجوه الإكراه المبيحة للمحظور ويأتي ذلك في سورة النحل إن شاء الله تعالى وهذه سيرة الله في رسله كما قدمناه؛ فلذلك أخبر عن بعضهم وهم قوم شعيب في سورة الأعراف فقال (* (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك) *) [الأعراف 88] الآية وأخبر هنا عن عموم الأمر فقال (* (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم) *) الآية
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) *) [الآيتان 2425]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في تفسير نزولها على معناها
روى حماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس بن مالك؛ قال أتي رسول الله بقناع من رطب فقال مثل كلمة طيبة الآية قال هي النخلة
وفي الصحيح عن النبي أنه قال ' إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها تؤتي أكلها كل حين مثلها كمثل المسلم خبروني ما هي ' الحديث حتى قال النبي ' هي النخلة ' فذكر خصالا في هذه الشجرة ومنها أنها تؤتي أكلها كل حين
90

المسألة الثانية في تفسير الحين
وفيه عشرة أقوال
الأول أنه ساعة أقل الزمان
الثاني أنه غدوة وعشية؛ قاله ابن عباس
الثالث أنه ثلاثة أيام
الرابع أنه شهران؛ قاله ابن المسيب
الخامس أنه ستة أشهر؛ قاله ابن عباس
السادس أنه سنة؛ قاله علي
السابع أنه سبعة أعوام
الثامن أنه ثلاث عشرة سنة
التاسع أنه يوم القيامة
العاشر أنه مجهول
المسألة الثالثة في تحقيق معناه
اعلموا - أفادكم الله العرفان - أنا قد أحكمنا هذه المسألة في كتاب ملجئة المتفقهين؛ ونحن الآن نشير إلى ما يغني في ذلك الغرض ويشرف بكم على مقصود الفتوى المفترض فنقول إن الحين ظرف زمان وهو مبهم لا تخصيص فيه ولا تعيين في المفسر له وهذا مقرر لغة مجمع عليه من علماء اللسان وإنما يفسره ما يقترن به وهو يحتمل ساعة لحظية ويحتمل يوم الساعة الأبدية ويحتمل حال العدم كقوله تعالى (* (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) *) [الإنسان] الآية ولأجل إبهامه علق الوعيد به ليغلب الخوف لاستغراق مدة العذاب نهاية الأبد فيه فيكف عن الذنب أو يرجو لاقتضاء الوعيد أقل مدة احتماله؛ فيغلب الرجاء ولا يقع اليأس عن المغفرة الذي هو أشد من الذنب ثم يفعل الله ما يشاء
وتعلق من قال إن الحين غدوة وعشية بقوله تعالى (* (فسبحان الله حين تمسون) *
91

وحين تصبحون) [الروم 17] ومن قال إنه ثلاثة أيام نزع بقوله تعالى - في قصة ثمود (* (وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين) *) [الذاريات 43]
وتعلق ابن المسيب ببقاء الثمر في النخل
واستدل من قال إنه ستة أشهر بأنه مدة الثمر من حين الابتداء إلى حين الجنى
وتعلق من قال إنه يوم القيامة بقوله تعالى (* (حتى حين) *)
وتعلق من قال إنه سبع سنين أو ثلاث عشرة سنة بأخبار إسرائيلية وردت في مدة بقاء يوسف في السجن باختلاف في الرواية عنهم
ومن هذه الأقوال صحيح وفاسد وقوي وضعيف؛ وأظهرها اللحظة؛ لأنه اللغة والمجهول لأنه لا يعلم مقداره على التعيين والشهران والستة أشهر والسنة [لأنها] كلها تخرج من ذكر الحين في ذكر النخلة في القرآن والسنة
وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك من نذر أن يصوم حينا فليصم سنة قال الله تعالى (* (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) *)
وروى أشهب عن مالك قال الحين الذي يعرف من الثمرة إلى الثمرة قال الله تعالى (* (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) *)
ومن الحين الذي لا يعرف قوله (* (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) *) الآية
وقال أشهب في رواية آخرى الحين الذي يعرف قوله (* (تؤتي أكلها كل حين) *) فهذا سنة والحين الذي لا يعرف قوله (* (ومتاعا إلى حين) *) [النحل 8] فهذا حين لا يعرف
وقد قال سعيد بن المسيب إن الحين في هذه الآية من حين تطلع الثمرة إلى أن
92

ترطب ومن حين ترطب إلى أن تطلع والحين ستة أشهر ثم قال يقول الله (* (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) *)
ومن الحين المجهول قوله (* (ولتعلمن نبأه بعد حين) *) [ص 88]
قال القاضي الذي اختاره مالك في الصحيح سنة واختار أبو حنيفة ستة أشهر وتباين العلماء والأصحاب من كل باب على حال احتمال اللفظ؛ وأصل المسألة الذي تدور عليه أن الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف وأكثر المعلوم سنة
ومالك يرى في الأيمان والأحكام أعم الأسماء والأزمنة وأكثرها استظهارا والشافعي يرى الأقل؛ لأنه المتعين
وأبو حنيفة توسط فقال ستة أشهر ولا معنى لقوله؛ لأن المقدرات عنده لا تثبت قياسا وليس فيه نص عن صاحب الشريعة؛ وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة وهو أمر يختلف باختلاف الأمثلة؛ ونحن نضرب في ذلك الأمثلة ما نبين به المقصود وذلك ثلاثة أمثلة
المثل الأول فنقول إذا نذر أن يصلي حينا فيحتمل ركعة عند الشافعي؛ لأنه أقل النافلة وركعتين عند المالكية؛ لأنهما أقل النافلة فيتقدر الزمان بقدر الفعل
المثال الثاني إذا نذر أن يصوم حينا فيحتمل يوما لا أقل منه؛ لأنه معيار الصوم [الشرعي]؛ إذ هي عبادة تتقدر بالزمان لا بالأفعال؛ لأنه ترك فلا يحده إلا الوقت بخلاف الفعل فإنه يحد نفسه ويحتمل الدهر ويحتمل سنة فرأى الشافعي يوما أخذا بالأقل وألزم مالك الدهر لأنه الأكثر وتركه مالك للعلة التي أشار إليها من أنه مجهول ويلزمه أن يقضي به وإن كان مجهولا لأنه عنده أنه لو قال علي صوم الدهر لزمه وتوسط فقال سنة فإنه عدل بين الأقل والأكثر وبين في كتاب
93

الله في ذكر النخلة ويعارضه أن ستة أشهر بين أيضا ولكنه أخذ بالأكثر في ذكر النخلة
المثال الثالث إذا حلف ألا يدخل الدار حينا وهي متركبة على ما قبلها في تحديد الحين لكنه يلحق الصلاة في احتمال أقل من يوم ويحتمل سائر الوجوه والمعول عند علمائنا على العرف في ذلك إن لم تكن نية ولا سبب ولا بساط حال؛ فيركب البر والحنث على النية أولا وعلى السبب ثانيا وعلى البساط ثالثا وعلى اللغة رابعا وعلى العرف خامسا وهو أولى من اللغة عندنا؛ وسيأتي ذلك محققا في سورة ' ص ' وغيرها إن شاء الله
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) *) [الآية 37]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
في تفسيرها
روي عن ابن عباس من طرق أن أول من سعى بين الصفا والمروة أم إسماعيل وأن أول من أجرت الذيل أم إسماعيل وذلك أنه لما فرت هاجر من سارة أرخت ذيلها لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعها هنالك ووضع عندها جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفل إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له آلله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت إذن لا يضيعنا الله ثم رجعت
فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم
94

دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال (* (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) *) حتى بلغ (* (يشكرون) *) وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل
وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط؛ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي؛ ثم أتت المروة فقامت عليه ونظرت هل ترى أحدا فعلت ذلك سبع مرات
قال ابن عباس قال النبي ' فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بقدر ما تغرف '
قال ابن عباس قال النبي ' يرحم الله أم إسماعيل لو تركت ماء زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت عينا معينا '
قال فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافي الضيعة؛ فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله
وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله وكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائر عائفا فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا قال وأم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا نعم
95

قال ابن عباس قال النبي ' فألفت ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم أعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة فيهم '
وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بشر في ضيق وشدة وشكت إليه فقال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه فلما حاء إسماعيل - كأنه آنس شيئا - فقال هل جاءكم من أحد؟ قالت جاءنا شيخ صفته كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جهد وشدة قال فهل أوصاك بشيء؟ قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول [لك] غير عتبة بابك قال ذاك أبي وقد امرني أن أفارقك الحقي بأهلك
فطلقها وتزود منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا قال كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله فقال ما طعامكم قالت اللحم قال فما شرابكم؟ قالت الماء قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء
قال النبي ' لم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه ' قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه
فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد؟ قالت نعم؛ أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير قال فأوصاك بشيء؟ قالت نعم؛ هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال ذلك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك
96

ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد ثم قال يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال فاصنع ما أمرك ربك قال وتعينني قال وأعينك قال فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا - وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة؛ وهما يقولان (* (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) *) [البقرة 127]
قال فجعلا يبنيان حتى تدور حول البيت وهما يقولان (* (ربنا تقبل منا) *) الآية
المسألة الثانية في قوله تعالى (* (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) *))
لا يجوز لأحد أن يتعلق به في طرح عياله وولده بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم واقتداء بفعل إبراهيم كما تقول الغلاة من الصوفية في حقيقة التوكل؛ فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله؛ لقولها له في هذا الحديث آلله أمرك بهذا؟ قال نعم ولما كان بأمر منه أراد تأسيس الحال وتمهيد المقام وخط الموضع للبيت المحرم والبلدة الحرام أرسل الملك فبحث بالماء وأقامه مقام الغذاء ولم يبق من تلك الحال إلا هذا المقدار؛ فإن النبي قال ' ماء زمزم لما شرب له '
97

وقد اجتزأ به أبو ذر ليالي أقام بمكة ينتظر لقاء النبي ليستمع منه قال حتى سمنت وتكسرت عكن بطني وكان لا يجترئ على السؤال ولا يمكنه الظهور ولا التكشف فأغناه الله بماء زمزم عن الغذاء وأخبر النبي بأن هذا موجود فيه إلى يومه ذلك وكذلك يكون إلى يوم القيامة لمن صحت نيته وسلمت طويته ولم يكن به مكذبا ولا شربه مجربا؛ فإن الله مع المتوكلين وهو يفضح المجربين
ولقد كنت بمكة مقيما في ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة وكنت أشرب ماء زمزم كثيرا وكلما شربته نويت به العلم والإيمان حتى فتح الله لي بركته في المقدار الذي يسره لي من العلم ونسيت أن أشربه للعمل؛ ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله علي فيهما ولم يقدر؛ فكان صغوي إلى العلم أكثر منه إلى العمل ونسأل الله الحفظ والتوفيق برحمته
المسألة الثالثة قوله (* (ليقيموا الصلاة) *))
خصها من جملة الدين لفضلها فيه ومكانها منه وهي عهد الله عند العباد قال النبي ' خمس صلوات كتبهن الله على عباده في اليوم والليلة من جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة '
98

المسألة الرابعة قوله (* (عند بيتك المحرم) *))
قد قدمنا القول في تحريم مكة وفائدة حرمتها وما يترتب على ذلك من حكمة وتحريمها كان بالعلم وكان بقوله مخبرا عنه؛ وكل ذلك قديم لا أول له وحرمها بالكتاب حين خلق القلم وهو التحريم الثالث وقال له اكتب فكتب ما يكون إلى يوم القيامة
ومن جملة ما كتب أن مكة بيت محرم مكرم معظم؛ وقد روي في ذلك آثار منها أنه كان المسجد الحرم ليس عليه جدار محيط على عهد رسول الله وأبي بكر فلما كان عمر بن الخطاب فضاق على الناس وسع عمر المسجد واشترى دورا فهدمها فيه وهدم على الناس ما قرب من المسجد حتى أبوا أن يبيعوا ووضع الأثمان حتى أخذوها بعد ثم أحاط عليه بجدار قصير دون القامة وأن عثمان لما ولي وسع المسجد الحرام واشترى من قوم وأبى آخرون أن يبيعوا فهدم عليهم فصيحوا فأمر بهم إلى الحبس حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد ووجد في المقام كتاب فجعلوا يخرجونه لكل من أتاهم من أهل الكتاب فلا يعلمونه حتى أتاهم حبر من اليمن فقرأه عليهم فإذا فيه أنا الله ذو بكة صغتها يوم صغت الشمس والقمر وباركت لأهلها في اللحم واللبن وأول من يحلها أهلها وذكر حديثا طويلا خرجه جماعة واللفظ للترمذي
99

سورة الحجر
فيها عشر آيات
الآية الأولى
قوله (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) [الآية 22]
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (لواقح) *))
وفيه ثلاثة أقوال
الأول تلقح الشجر والسحاب وجمعت على حذف الزائد
الثاني أنه موضوع على النسب أي ذات لقح ولقاح
الثالث أن (* (لواقح) *) جمع لاقح أي حامل وسميت بذلك لأنها تحمل السحاب والعرب تقول للجنوب لاقح وحامل وللشمال حائل وعقيم ويشهد له قوله (* (حتى إذا أقلت سحابا ثقالا) *) [الأعراف 57] معناه حملت وأقوى الوجه فيه النسبة
المسألة الثانية
روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك واللفظ لأشهب قال مالك قال الله تعالى (* (وأرسلنا الرياح لواقح) *) فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أدري ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فسادا لا خير فيه ولقاح الشجر كلها أن يثمر الشجر ويسقط منه ما يسقط ويثبت ما يثبت وليس ذلك بأن تورد الشجر
100

قال القاضي الإمام إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وسنبلته ولأنه سمي باسم تشترك فيه كل حاملة وهو اللقاح وعليه جاء الحديث ' نهى النبي عن بيع الحب حتى يشتد '
الآية الثانية
قوله تعالى (* (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) *) [الآية 24]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى الترمذي وغيره عن ابن عباس أنه قال كانت امرأة تصلي خلف رسول الله قال ابن عباس لا والله ما رأيت قط مثلها قال فكان بعض المسلمين إذا صلوا تقدموا وبعضهم يستأخر فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم فأنزل الله الآية
المسألة الثانية في شرح المراد بها
فيها خمسة أقوال
الأول المتقدمين في الخلق إلى اليوم والمتأخرين الذين لم يلحقوا بعد؛ بيانا لأن الله تعالى يعلم الموجود والمعدوم؛ قاله قتادة وجماعة
الثاني من مات ومن بقي؛ قاله ابن عباس
الثالث المستقدمين [من] سائر الأمم والمستأخرين من أمة محمد؛ قاله مجاهد
الرابع قال الحسن معناه المستقدمين في الطاعة والمستأخرين في المعصية
101

الخامس روي عن ابن عباس أيضا أن معناه ولقد علمنا المستقدمين في الصفوف في الصلاة والمستأخرين بها حسبما تقدم في الحديث؛ وكل هذا معلوم لله سبحانه؛ فإنه عالم بكل موجود ومعدوم وبما كان و [بما] يكون وبما لا يكون أن لو كان كيف [كان] يكون
المسألة الثالثة
هذا يدل على فضل أول الوقت في الصلاة خاصة وعلى فضل المبادرة إلى سائر الأعمال والمسارعة إليها عامة؛ وقد تقدم بيان ذلك
المسألة الرابعة
ويدل أيضا على فضل الصف الأول في الصلاة قول النبي ' لو يعلمون ما في الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه '
فإذا جاء الرجل المسجد عند الزوال فنزل في الصف الأول مما يلي الإمام فقد حاز ثلاث مراتب في الفضل أول الوقت والصف الأول ومجاورة الإمام
فإن جاء عند الزوال ونزل في الصف الآخر أو فيما نزل عن الأول فقد حاز فضل أول الوقت وفاته فضل الصف الأول والمجاورة
102

فإن جاء وقت الزوال ونزل في الصف الأول دون ما يلي الإمام فقد حاز فضل أول الوقت وفضل الصف الأول وفاته مجاورة الإمام وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
ومجاورة الإمام لا تكون لكل أحد وإنما هي كما قال النبي ' ليليني منك أولو الأحلام والنهى ' فما يلي الإمام ينبغي أن يكون لمن كانت هذه صفته فإن نزلها غيره أخر له وتقدم هو إلى هذا الموضع؛ لأنه حقه بأمر صاحب الشريعة كالمحراب هو موضع الإمام تقدم أو تأخر
المسألة الخامسة
وكما تدل هذه الآية على فضل الصف الأول في الصلاة فكذلك تدل على فضل الصف الأول في القتال؛ فإن القيام في نحر العدو وبيع النفس من الله تعالى لا يوازنه عمل؛ فالتقدم إليه أفضل ولا خلاف فيه ولا خفاء به فلم يكن أحد يتقدم في الحرب بين يدي رسول الله؛ لأنه كان أشجع الناس قال البراء كنا إذا حمي البأس اتقينا برسول الله
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين) *) [الآيتان 596]
قد تكلمنا على الاستثناء في أصول الفقه بما فيه بلاغ للطلبة وأوضحنا أن الاستثناء الثاني يرجع إلى ما يليه ولا يتعلق بالأول من الكلام تعلق الأول من الاستثناء به لاستحالة ذلك فيه
103

وبيانه الآن على اختصار لكم أنا لو علقناه بالأول كما علقناه بما يليه لكان ذلك تناقضا وصار الكلام نفيا لما أثبت وإثباتا لما نفي وذلك لأن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات فإذا كان الأول إثباتا فالاستثناء منه نفي؛ ثم إن استثنى من النفي فإنما يستثنى به إثبات فيصير هذا المستثنى الآخر منفيا بالاستثناء الأول مثبتا بالثاني وهذا تناقض وبسطه وإيضاحه في الأصول فأبان الله تعالى بقوله (* (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) *) [الحجر 58] إلا آل لوط فليسوا منهم إلا امرأته فإنها خارجة عن آله فترتب عليها من الفقه قول المقر عندي عشرة إلا ثلاثة إلا واحدا فثبت الإقرار بثمانية ويترتب عليه قول المطلق لزوجته أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة فتكون اثنتين وهذا ظاهر فأغنى عن الاطناب فيه
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين) *) [الآية 71]
لما تداعى أهل المدينة إلى لوط حين رأوا وسمعوا بجمال أضيافه وحسن شارتهم؛ قصدا للفاحشة فيهم تحرم لهم لوط بالضيافة وسألهم ترك الفضيحة وإتيان المراعاة فلما قالوا له (* (أو لم ننهك عن العالمين) *) [الحجر 7] قال لهم لوط إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فهؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين
ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم أن يعرضوا بناتهم على الفاحشة فداء لفاحشة أخرى؛ وإنما معناه هؤلاء بنات أمتي؛ لأن كل نبي أزواجه أمهات أمته وبناتهم بناته فأشار عليهم بالتزويج الشرعي وحملهم على النكاح الجائز كسرا لسورة الغلمة وإطفاء لنار الشهوة كما قال تعالى (* (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) *) [الشعراء 165166] الآيتين والله أعلم
104

الآية الخامسة
قوله تعالى (* (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) *) [الآية 72]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال المفسرون بأجمعهم أقسم الله هنا بحياة محمد تشريفا له أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون قالوا روي عن ابن عباس أنه قال ' ما خلق الله وما ذرأ ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ' وهذا كلام صحيح ولا أدري ما الذي أخرجهم عن ذكر لوط إلى ذكر محمد وما الذي يمنع أن يقسم الله بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء؛ فكل ما يعطي الله للوط من فضل؛ ويؤتيه من شرف فلمحمد ضعفاه؛ لأنه أكرم على الله منه
أولا تراه قد أعطى لإبراهيم الخلة ولموسى التكليم وأعطى ذلك لمحمد فإذا أقسم الله بحياة لوط فحياة محمد أرفع ولا يخرج من كلام إلى كلام آخر غيره لم يجر له ذكر لغير ضرورة
المسألة الثانية قوله (* (لعمرك إنهم لفي سكرتهم) *))
أراد به الحياة والعيش يقال عمر وعمر بضم العين وفتحها لغتان وقالوا إن أصلها الضم ولكنها فتحت في القسم خاصة لكثرة الاستعمال؛ والاستعمال إنما هو في غير القسم فأما القسم فهو بعض الاستعمال؛ فلذلك صارا لغتين فتدبروا هذا
المسألة الثالثة
قال أحمد بن حنبل من أقسم بالنبي لزمته الكفارة؛ لأنه أقسم بما لا يتم الإيمان إلا به فلزمته الكفارة كما لو أقسم بالله
وقدمنا أن الله تعالى يقسم بما يشاء من لخلقه وليس خلقه أن يقسموا إلا به
105

لقوله ' من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ' فإن أقسم بغيره فإنه آثم أو قد أتى مكروها على قدر درجات القسم وحاله
وقد قال مالك إن المستضعفين من الرجال والمؤنثين منهم يقسمون بحياتك وبعيشك وليس من كلام أهل الذكر وإن كان الله أقسم به في هذه القصة فذلك بيان لشرف المنزلة وشرف المكانة فلا يحمل عليه سواه ولا يستعمل في غيره
وقال قتادة هو من كلام العرب وبه أقول؛ لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه وقد بيناه في [الأصول وفي] مسائل الخلاف
الآية السادسة
قوله تعالى (* (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) *) [الآية 75]
فيها مسألتان
المسألة الأولى في التوسم
وهو تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها قال الشاعر - يمدح النبي
(إني توسمت فيك الخير نافلة
* والله يعلم أني صادق البصر)
وفي الفراسة أيضا يقال تفرست وتوسمت وحقيقتها الاستدلال بالخلق على الخلق وذلك يكون بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر
يحكى أن الشافعي ومحمد بن الحسن كانا جالسين بفناء الكعبة ودخل رجل على باب المسجد فقال أحدهما أراه نجارا وقال الآخر بل حدادا فتبادر من حضر إلى الرجل فسألوه فقال لهم كنت نجارا وأنا الآن حداد وهذه زيادة على العادة فزعمت الصوفية أنها كرامة
106

وقال غيرهم بل هي استدلال بالعلامة ومن العلامات ظاهر يبدو لكل أحد بأول نظر ومنها ما هو خفي فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادئ النظر
وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال ' اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ' وهذا مبين في كتب الأصول
المسألة الثانية
إذا ثبت أن التوهم والتفرس من مدارك المعاني ومعالم المؤمنين فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس وقد كان قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد أيام كوني بالشام يحكم بالفراسة في الأحكام جريا على طريقة إياس بن معاوية أيام كان قاضيها ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد عليه كتبه لي بخطه وأعطانيه وذلك صحيح فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا وليست الفراسة منها
الآية السابعة
قوله تعالى (* (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين) *) [الآية 8]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في الحجر وتفسيره
وفيها ثلاثة أقوال
الأول أنها ديار ثمود
107

الثاني أنه واد
الثالث أنه كل بناء بنيته وحظرت عليه ومنه (* (وحجرا محجورا) *) [الفرقان 53]؛ ولكن المراد به ههنا ديار ثمود
المسألة الثانية
ثبت عن النبي من طريق البخاري وغيره عن ابن عمر أن رسول الله لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا واستقينا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا الماء
وعنه فيه أيضا أن الناس نزلوا مع رسول الله أرض ثمود الحجر واستقوا من بئرها واعتجنوا به فأمرهم رسول الله أن يهريقوا ما استقوا من بئرها وأن يعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة
المسألة الثالثة
روى مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر - أن النبي قال لأصحاب الحجر ' لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم حذرا أن يصيبكم ما أصابهم '
وفي حديث ابن الزبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال لما نزل النبي الحجر قال ' لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت ترد من هذا
108

الفج وتصدر من هذا الفج وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فأخذتهم صيحة أخمدت من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا منهم كان في حرم الله ' فقيل من هو يا رسول الله؟ قال ' أبو رغال ' فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه
المسألة الرابعة
أمر النبي بهرق ماء ديار ثمود وإلقاء ما عجن وحيس به لأجل أنه ماء سخط فلم يجز الانتفاع به فرارا من سخط الله وقال ' اعلفوه الإبل '؛ فكان في هذا دليل أيضا على أن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن يعلفه الإبل والبهائم؛ إذ لا تكليف عليها ولأجل هذا قال مالك في العسل النجس إنه تعلفه النحل وكذلك لا يجوز الصلاة فيها لأنها دار سخط وبقعة غضب؛ قال النبي ' لا تدخلوها إلا باكين ' وروي أنه تقنع بردائه وأوضع راحلته حتى خرج عنها
المسألة الخامسة
فصارت هذه بقعة مستثناة من قوله ' جعلت لي الأرض مسجدا وجعل ترابها طهورا '؛ فلا يجوز التيمم بها ولا الوضوء من مائها ولا الصلاة فيها
وقد روى الترمذي وغيره عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ' الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ' - رواه الترمذي وغيره وهو حديث مضطرب
109

وقد روى الترمذي وغيره ' أن النبي نهى عن الصلاة في سبعة مواطن المزبلة والمجزرة والمقبرة والحمام والطريق وظهر الكعبة وأعطان الإبل ' وذكر علماؤنا منها جملة وجماعها هذه الثمانية
التاسع البقعة النجسة
العاشر البقعة المغصوبة
الحادي عشر أمامك جدار عليه نجس
الثاني عشر الكنيسة
الثالث عشر البيعة
الرابع عشر بيت فيه تماثيل
الخامس عشر الأرض المعوجة
السادس عشر موضع تستقبل فيه نائما أو وجه رجل
السابع عشر الحيطان
وقد قررنا ذلك في مسائل الخلاف وشرح الحديث ومن هذا ما منع لحق الغير ومنه ما منع لأجل النجاسة المحققة أو لغلبتها ومنه ما منع منه عبادة فما منع منه لأجل النجاسة إن فرش فيه ثوب طاهر كالمقبرة والحمام فيها أو إليها فإن ذلك جائز في المدونة وذكر أبو مصعب عنه الكراهية وفرق علماؤنا بين المقبرة الجديدة والقديمة لأجل النجاسة إلا أن ينزل عليها ماء كثير والنهي عن المقبرة يتأكد إذا كانت للمشركين لأجل النجاسة وأنها دار عذاب كالحجر
وفي صحيح مسلم إلا تجلسوا على القبور ولا يصلى إليها '
110

وفي صحيح الحديث قال النبي ' لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ' - يحذر مما صنعوا
وقال مالك في المجموعة لا يصلي في أعطان الإبل وأن فرش ثوبا كأنه رأى لها علتين الاستقذار بها وقفارها فتفسد على المصلي صلاته فإن كان واحدا فلا بأس به كما كان النبي يفعل في الحديث الصحيح
وقال مالك لا يصلي على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة وكره ابن القاسم الصلاة إلى قبلة فيها تماثيل وفي الدار المغصوبة فإن فعل أجزأه
وذكر بعضهم عن مالك أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تجزىء وذلك عندي بخلاف الأرض؛ فإن الدار لا تدخل إلا بإذن والأرض وإن كانت ملكا فإن المسجدية فيها قائمة لا يبطلها الملك
وقد روى الترمذي ' لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج '
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل) *) [الآية 85]
قد بينا أنه كان أمر أن يصفح عنهم صفحا جميلا ويعرض عنهم إعراضا حسنا ثم نسخ ذلك بالأمر بالقتال وقد بيناه في القسم الثاني
111

الآية التاسعة
قوله تعالى (* (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) *) [الآية 87]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى في تفسير السبع
وفي ذلك أربعة أقوال
الأول أن السبع قيل هي [أول] السور الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف وبراءة تتمة الأنفال وقيل السابعة التي يذكر فيها يونس؛ قاله ابن عباس وابن عمر وغيرهم
الثاني أنها الحمد سبع آيات؛ قاله ابن مسعود وغيره
الثالث أنها سبع آيات من القرآن
الرابع أنها الأمر والنهي والبشرى والنذارة وضرب الأمثال وإعداد النعم ونبأ الأمم
المسألة الثانية في المثاني
وفيها [أربعة] أقوال
الأول هي السبع الطوال بنفسها؛ لأنها تثنى فيها المعاني
الثاني أنها آيات الفاتحة؛ لأنها تثنى في كل ركعة
الثالث أنها آيات القرآن كما قال (* (مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) *) [الزمر 23]
الرابع أنها القرآن
112

المسألة الثالثة (* (والقرآن العظيم) *))
فيها ثلاثة أقوال
الأول هو القرآن كله
الثاني هو الحواميم
الثالث أنها الفاتحة
المسألة الرابعة في تحقيق هذا المسطور
يحتمل أن يكون السبع من السور ويحتمل أن يكون من الآيات؛ لكن النبي قد كشف قناع الإشكال وأوضح شعاع البيان؛ ففي الصحيح عند كل فريق ومن كل طريق أنها أم الكتاب والقرآن العظيم - حسبما تقدم من قول النبي لأبي بن كعب ' هي السبع المثاني والقرآن العظيم العظيم الذي أوتيت '
وبعد هذا فالسبع المثاني كثير والكل محتمل والنص قاطع بالمراد قاطع بمن أراد التكليف والعناد وبعد تفسير النبي فلا تفسير وليس للمتعرض إلى غيره إلا النكير وقد كان يمكن لولا تفسير النبي أن أحرر في ذلك مقالا وجيزا وأسبك من سنام المعارف إبريزا إلا أن الجوهر الأغلى من عند النبي أولى وأعلى؛ وقد بينا تفسيرها في أول سورة من هذا الكتاب إذ هي الأولى منه فلينظر هناك من هاهنا إن شاء الله
المسألة الخامسة قوله (* (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) *) [الحجر 88]
المعنى قد أعطيناك الآخرة فلا تنظر إلى الدنيا وقد أعطيناك العلم فلا تتشاغل بالشهوات وقد منحناك لذة القلب فلا تنظر إلى لذة البدن وقد أعطيناك القرآن فتغن به فليس منا من لم يتغن بالقرآن؛ أي ليس منا من رأى بما عنده من القرآن أنه ليس بغني حتى يطمح ببصره إلى زخارف الدنيا وعنده معارف المولى حيي بالباقي فغني عن الفاني
113

وقد روي عن النبي أنه قال ' حبب إلى من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة ' فكان يتشاغل بالنساء جبلة الآدمية وتشوف الخلفة الإنسانية ويحافظ على الطيب منفعة خاصية وعامية ولا يقر له عين إلا في الصلاة لدى مناجاة المولى ويرى أن مناجاة المولى أجدر من ذلك وأولى
وقد بينا تحقيق ذلك في شرح الحديث ولم يكن في دين محمد الرهبانية والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية؛ كما كان في دين عيسى؛ وإنما شرع الله له ولنا بحكمته حنيفية سمحة خالصة عن الحرج خفيفة عن الإصر نأخذ من الآدمية وشهواتها بحظ وافر ونرجع إلى الله بقلب سليم إن شغل بدنه باللذات عكف قلبه على المعارف ورأى اليوم علماء القراء والمخلصون من الفضلاء أن الانكفاف عن اللذات والخلوص لرب السماوات اليوم أولى لما غلب على الدنيا من الحرام واضطر إليه العبد في المعاش من مخالطة من لا تجوز مخالطته ومصانعة من تحرم مصانعته وحماية الدنيا بالدين وصيانة المال بتبدل الطاعة بدلا عنه؛ فكانت العزلة أفضل والفرار عن الناس أصوب للعبد وأعدل حسبما تقدم به الوعد الذي لا خلف له من الصادق؛ ' يأتي على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن '
فإن قيل ففي هذا الحديث الذي ذكرتم - وهي
المسألة السادسة
أنه قال في الفاتحة ' هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ' فتكون الفاتحة هي القرآن العظيم
قلنا المراد بالمثاني القرآن كله فالمعنى ولقد آتيناك سبعا من المثاني مما ثنى بعض آية بعضا ويكون المثاني جمع مثناة وتكون آي القرآن موصوفة بذلك لأن بعضها تلا بعضا بفصول بينها فيعرف انقضاء الآية وابتداء الآية التي بعدها وذلك قوله
114

تعالى (* (كتابا متشابها مثاني) *) [الزمر 23] ويحتمل أن يكون (* (مثاني) *)؛ لأن المعاني كررت فيه والقصص
وقد قيل إنها سميت مثاني لأن الله استثناها لمحمد دون سائر الأنبياء ولأمته دون سائر الأمم
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين) *) [الآية 98]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى التسبيح
هو ذكر الله تعالى بما هو عليه من صفات الجلال والتعظيم بالقلب اعتقادا وباللسان قولا والمراد به هاهنا الصلاة قال الله تعالى لنبيه نعلم ضيق صدرك بما تسمعه من تكذيبك ورد قولك ويناله أصحابك من إذاية أعدائك؛ فافزع إلى الصلاة فهي غاية التسبيح ونهاية التقديس وكان النبي إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وذلك تفسير قوله (وكن من الساجدين) أي من المصلين - وهي
المسألة الثانية
فإن دعامة القربة في الصلاة حال السجود
وقد ظن بعض الناس أن المراد به هاهنا الأمر بالسجود نفسه فيرى هذا الموضع محل سجود في القرآن
وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله يسجد في هذا الموضع عند قراءته له في تراويح رمضان وسجدت معه فيها ولم يره جماهير العلماء
115

المسألة الثالثة قوله (* (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) *) [الحجر 99]
أمره بعبادته إذا قصر عباده في خدمته؛ فإن ذلك طب علته وهي كما قدمنا أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط
قال شيوخ المعاني ألا ترى كيف سمى الله بها رسوله عند أفضل منازله وهي الإسراء فقال (* (سبحان الذي أسرى بعبده) *) [الاسراء 1] ولم يقل نبيه ولا رسوله ولقد أحسن الشاعر فيما جاء به من اللفظ حيث يقول
(يا قوم قلبي عند زهراء
* يعرفه السامع والرائي)
(لا تدعني إلا بيا عبدها
* فإنه أشرف أسمائي))
المسألة الرابعة اليقين
الموت فأمره باستمرار العبادة أبدا وذلك مدة حياته وكان هذا أبلغ من قوله أبدا لاحتمال لفظه الأبد للحظة الواحدة ولجميع الأبد كما قال العبد الصالح وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا
والدليل على أن اليقين الموت أن أم العلاء الأنصارية - وكانت بايعت رسول الله - أخبرت أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة فصار لنا عثمان بن مظعون قالت فأنزلناه مع أبنائنا فوجع وجعه الذي مات فيه فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله فقلت رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال رسول الله ' وما يدريك أن الله أكرمه؟ ' قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمه؟ فقال رسول الله ' أما هو فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخيرالحديث '
ويتركب على هذا أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق أبدا وقال نويت يوما أو شهرا كانت له عليها الرجعة ولو قال طلقتها حياتها لم يراجعها وقد مهدنا ذلك في كتب الفروع والله أعلم
116

سورة النحل
وتسمى سورة النعم فيها إحدى وعشرون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) *) [الآية 5]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله (* (الأنعام) *))
وقد تقدم بيانه في سورة المائدة فأغنى عن إعادته
المسألة الثانية قوله (* (لكم فيها دفء) *))
يعني من البرد بما فيها من الأصواف والأوبار والأشعار كما قال تعالى (* (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) *) [النحل 81] فامتن ههنا بالدفء وامتن هناك هناك بالظل إن كان لاصقا بالبدن ثوبا أو كان منفصلا بناء
وقد روي عن ابن عباس أنه قال دفؤها نسلها؛ فربك أعلم بها
المسألة الثالثة قوله (* (منافع) *))
يعني ما وراء ذلك من الألبان خاصة؛ لأنه قد ذكر بعد ذلك سواها من المنافع فقال ومنها تأكلون وقد ذكر وجه اختصاصه باللبن ويأتي ذلك إن شاء الله
المسألة الرابعة
في هذا دليل على لباس الصوف فهو أولى ذلك وأولاه فإنه شعار المتقين
117

ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين واختيار الزهاد والعارفين وهو يلبس لينا وخشنا وجيدا ومقاربا ورديئا وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية لأنه لباسهم في الغالب فالياء للنسب والهاء للتأنيث وقد أنشدني بعض أشياخهم بالبيت المقدس
(تشاجر الناس في الصوفي واختلفوا
* فيه وظنوه مشتقا من الصوف)
(ولست أنحل هذا الاسم غير فتى
* صافي فصوفي حتى سمي الصوفي))
المسألة الخامسة قوله (* (ومنها تأكلون) *))
فأباح لنا أكلها كما تقدم بيانه بشروطه وأوصافه وكان وجه الامتنان بها أنسها كما امتن بالوحشية على وجه الاصطياد فالأول نعمة هنية والصيد متعة شهية ونصبة نصية وهو الأغلب فيها
الآية الثانية
قوله تعالى (* (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) *) [الآية 6]
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (ولكم فيها جمال) *))
كما قال في الآية بعدها (* (لتركبوها وزينة) *) [النحل 8] والجمال قد بيناه في كتب الأصول وشرح الحديث وأوضحنا أنه يكون في الصورة وتركيب الخلقة ويكون في الأخلاق الباطنة ويكون في الأفعال
فأما جمال الخلقة فهو أمر يدركه البصر فيلقيه إلى القلب متلائما فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا بسببه لأحد من البشر
وأما جمال الأخلاق فبكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل واحد
وأما جمال الأفعال فهو وجودها ملائمة لصالح الخلق وقاضية بجلب المنافع إليهم وصرف الشر عنهم
118

وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة محسوب وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر ومن جمالها كثرتها
فإذا وردت الإبل على الذرى سامية الذرى هجمات هجانا توافر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها
وإذا رأيت البقر نعاجا ترد أفواجا أفواجا تقر بقريرها معها صلغها وأتابعها فقد انتظم جمالها وانتفاعها
وإذا رأيت الغنم فيها السالغ والسخلة والغريض والسديس صوفها أهدل وضرعها منجدل وظهرها منسجف إذا صعدت ثنية مرعت وإذا أسهلت عن ربوة طمرت تقوم بالكساء وتقر على الغداء والعشاء وتملأ الحواء سمنا وأقطا بله البيت حتى يسمع الحديث عنها كيت وكيت فقد قطعت عنك لعل وليت
وإذا رأيت الخيل نزائع يعابيب كأنها في البيداء أهاضيب وفي الهجاء يعاسيب رؤوسها عوال وأثمانها غوال لينة الشكير وشديدة الشخير تصوم وإن رعت وتفيض إذا سعت فقد متعت الأحوال وأمتعت
وإذا رأيت البغال كأنها الأفدان بأكفال كالصوى وأعناق كأعناق الظبا ومشي كمشي القطا أو الدبى فقد بلغت فيها المنى
وليس في الحمير زينة وإن كانت عن الخدمة مصونة ولكن المنفعة بها مضمونة
المسألة الثانية
هذا الجمال والتزين وإن كان من متاع الدنيا فقد أذن الله فيه لعباده وقال النبي في الحديث الصحيح - خرجه البرقاني وغيره ' الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ' وإنما جمع النبي العز في الإبل؛ لأن
119

فيها اللباس والأكل واللبن والجمل والغزو وإن نقصها الكر والفر وجعل البركة في الغنم لما فيها من اللباس والطعام والشراب وكثرة الولادة فإنها تلد في العام ثلاث مرات
إلى ما يتبعها من السكينة وتحمل صاحبها عليه من خفض الجناح ولين الجانب بخلاف الفدادين أهل الإبل وقرن الخير بنواصي الخيل بقية الدهر لما فيها من الغنيمة المستفادة للكسب والمعاش وما توصل إليه من قهر الأعداء وغلبة الكفار وإعلاء كلمة الله
وقد روى أشهب عن مالك قال يقول الله تعالى (* (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) *)؛ ذلك في المواشي تروح إلى المرعى وتسرح عليه
الآية الثالثة
قوله (* (وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم) *) [الآية 7]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قد من الله علينا بالأنعام عموما وخص الإبل ههنا بالذكر في حمل الأثقال تنبيها على ما تتميز به على سائر الأنعام؛ فإن الغنم للسرح والذبح والبقر للحرث والإبل للحمل وفي الحديث الصحيح أن النبي قال ' بينا راع في غنم عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب وقال من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري وبينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفت إليه فكلمته فقالت إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله [بقرة تتكلم]! ' فقال النبي ' آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم '
120

المسألة الثانية
فيه جواز السفر بالدواب عليها الأثقال الثقال ولكن على قدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل مع الرفق في السير والنزول للراحة
وقد أمر النبي بالرفق بها والإراحة لها ومراعاة التفقد لعلفها وسقيها وفي الموطأ قال مالك عن أبي عبيد عن خالد بن معدان ' إن الله رفيق يحب الرفق ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف فإذا ركبتم هذه الدواب العجم فأنزلوها منازلها فإن كانت الأرض جدبة فانجوا عليها بنقيها وعليكم بسير الليل؛ فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار وإياكم والتعريس على الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الحيات '
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) *) [الآية 8]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
ذكر الله الأنعام في معرض الامتنان فساق فيها وجوها من المتاع وأنواعا من الانتفاع وساق الخيل والبغال والحمير فكشف قناعها وبين انتفاعها وذلك الركوب والزينة كما بين في تلك المتقدمة ' الدفء واللبن والأكل
121

قال ابن القاسم وابن وهب قال مالك قال الله تعالى (* (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) *)؛ فجعلها للركوب والزينة ولم يجعلها للأكل ونحوه عن أشهب ففهم مالك رحمه الله وجه إيراد النعم وما أعد الله له في كل نعمة من الانتفاع فاقتصرت كل منفعة على وجه منفعتها التي عين الله له ورتبها فيه فأما الخيل وهي
المسألة الثانية
فقال الشافعي إنها تؤكل وعمدته الحديث الصحيح عن جابر ' نحرنا على عهد رسول الله فرسا فأكلناه '
وروي أن النبي أذن في لحوم الخيل وحرم لحوم الحمر
وقال علماؤنا كانت هذه الرواية عن جابر حكاية حال وقضية في عين؛ فيحتمل أن يكونوا ذبحوا لضرورة ولا يحتج بقضايا الأحوال المحتملة وأما الحمر وهي
المسألة الثالثة
فقد ثبت في الصحيح أن النبي حرمها يوم خيبر واختلف في تحريمها على أربعة أقوال
الأول أنها حرمت شرعا
الثاني أنها حرمت لأنها كانت جوال القرية أي تأكل الجلة وهي النجاسة
الثالث أنها كانت حمولة القوم؛ ولذلك روي في الحديث أنه قيل يا رسول الله؛ أكلت الحمر فنيت الحمر؛ فحرمها
122

الرابع أنها حرمت لأنها أفنيت قبل القسم فمنع النبي من أكلها حتى تقسم
وأما البغال وهي
المسألة الرابعة
فإنها تلحق الحمير على كل قول
فأما إن قلنا إن الخيل لا تؤكل فهي متولدة بين عينين لا يؤكلان وإن قلنا تؤكل الخيل فإنها عين متولدة بين مأكول وبين ما لا يؤكل؛ فغلب التحريم على ما يلزم في الأصول
المسألة الخامسة في تحقيق المقصود
قد بينا فيما تقدم أن المحرمات مقصورة على ما في سورة الأنعام وحققنا ما يتعلق به وينضاف إليه في آيات الأحكام منها وقد حررنا في كتب الخلاف أن مدار التحليل والتحريم في المطعومات يدور على ثلاث آيات وخبر واحد
الآية الأولى قوله (* (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) *) [الأعراف 157]
الآية الثانية قوله (* (حرمت عليكم الميتة) *) [المائدة 3]
الآية الثالثة آية الأنعام - قوله (* (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) *) [الأنعام 145]
الرابع الخبر قوله ' أكل كل ذي ناب من السباع حرام ' وفي لفظ آخر ' نهى النبي عن أكل كل ذي ناب من السباع وحرم لحوم الحمر
123

الأهلية ' وقوله (* (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) *) آخر آية نزلت كما سبق بيانه فإن عولنا عليها فالكل سواها مباح وإن رأينا إلحاق غيرها بها حسبما يترتب في الأدلة كما قال النبي ' لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ' ثم جاءت الزيادة عليها حتى انتهت أسباب إباحة الدم عند المالكية إلى عشرة أسباب فالحال في ذلك مترددة ولأجله اختار المتوسطون من علمائنا الكراهية في هذه الحرمات توسطا بين الحل والحرمة؛ لتعارض الأدلة وإشكال مأخذ الفتوى فيها
وقد قال الشافعي الثعلب والضبع حلال وهو قد عول على قوله ' أكل كل ذي ناب من السباع حرام ' ولكنه زعم أن الضبع يخرج عنه بحديث يرويه جابر أن النبي سئل عن الضبع أحلال هي؟ قال نعم وفيها إذا أتلفها المحرم كبش
وفي رواية هي صيد وفيها كبش
وهذا نص في الاستثناء كما زعم لو صح ولكنه لم يثبت سنده ولو عولنا عليه لما خصصنا التحليل من جملة السباع بالضبع ولكنا نقول إنه ينبني على قاعدة التحليل وإن الكل قد خرج عن التحريم وانحصرت المحرمات في آية الأنعام؛ وهذه المعارضات هي التي أوجبت اختلاف العلماء فانظروها واسبروها وما ظهر هو الذي يتقرر والله أعلم
المسألة السادسة
ذكر الله الأنعام والخيل والبغال والحمير في مساق النعم ذكرا واحدا وذكر لكل جنس منها منفعة حسبما سردناه لكم؛ ثم اختلف العلماء في الخيل منها؛ هل تؤخذ الزكاة من مالكها أم لا؟
124

فقال جمهور العلماء لا زكاة فيها وقال أبو حنيفة فيها الزكاة منتزعا من قول النبي ' الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر الحديث ' قال فيه ' ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها '
واحتجوا بأثر يروى عن النبي أنه قال ' في الخيل السائمة في كل فرس دينار '
وعول أصحابه من طريق المعنى على أن الخيل جنس يسام ويبتغى نسله في غالب البلدان؛ فوجبت الزكاة فيه كالأنعام
وتعلق علماؤنا بقول النبي ' ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة ' فنفى الصدقة عن العبد والفرس نفيا واحدا وساقهما مساقا واحدا؛ وهو صحيح
وروى الترمذي وغيره من المصنفين عن علي أن النبي قال ' عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق إلا أن في الرقيق صدقة الفطر '
وقد كتب معاوية إلى عمر إني وجدت أموال أهل الشام - الرقيق والخيل فكتب إليه [عمر] أن دعهما؛ ثم استشار عثمان فقال مثل ما قال عمر
125

وروي أن أهل الشام قد جمعوا صدقة خيولهم وأموالهم وأتوا بها عمر فاستشار عليا فقال لا أرى به بأسا إلا أن تكون سنة باقية بعدك
فأما قوله ' ولم ينس حق الله في [رقابها ولا] ظهورها ' فيعني به الحملان في سبيل الله على معنى الندب والخلاص من الحساب
وأما حديثهم ' في الخيل السائمة في كل فرس دينار ' فيرويه غورك السعدي وهو مجهول
جواب آخر قد ناقضوا فقالوا إن الصدقة في إناثها لا في ذكورها وليس في الحديث فضل بينهما ونقيس الإناث على الذكور في نفي الصدقة؛ فإنه حيوان يقتنى لنسله لا لدره لا تجب الزكاة في ذكوره فلم تجب في إناثه كالبغال والحمير والله أعلم
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *) [الآية 14]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (لتأكلوا منه لحما طريا) *))
فسمى الحوت لحما وأنواع اللحم أربعة لحوم الأنعام ولحوم الوحش ولحوم الطير ولحوم الحوت ويعمها اسم اللحم ويخصها أنواعه وفي كل نوع من هذه الأنواع تتشابه؛ ولذلك اختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يأكل لحما؛ فقال ابن القاسم يحنث بكل نوع من هذه الأنواع الأربعة
وقال أشهب في المجموعة لا يحنث إلا بأكل لحوم الأنعام دون الوحش وغيره
126

مراعاة للعرف والعادة وتقديما لها على إطلاق اللفظ اللغوي وهذا يختلف في البلاد فإنه من كان بتنيس أو بالفرما لا يرى لحما إلا الحوت والأنعام قليلة فيها فعرفها عكس
عرف بغداد فإنه لا أثر للحوت فيها وإنما المعول على لحوم الأنعام وإذا أجرينا اليمين على الأسباب فسبب اليمين يدخل فيها ما لا يجري على العرف ويخرجه منها والنية تقضى على ذلك كله
المسألة الثانية قوله (* (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) *))
يعني به اللؤلؤ والمرجان لقوله سبحانه (* (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *) [الرحمن 22] وهذا امتنان عام للرجال والنساء فلا يحرم عليهم شيء منه وإنما حرم الله على الرجال الذهب والحرير
المسألة الثالثة
قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد من حلف ألا يلبس حليا فلبس لؤلؤا - إنه يحنث لقول الله سبحانه (* (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) *) والذي يخرج منه اللؤلؤ
وقال أبو حنيفة لا يحنث ولم أر لعلمائنا فيها نصا فإن لم يكن له نية فإنه حانث
الآية السادسة
قوله تعالى (* (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) *) [الآية 16]
فيها ثلاث مسائل
127

المسألة الأولى
قال مجاهد من النجوم ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به
وقال قتادة خلق الله هذه النجوم لثلاث خصال جعلها الله زينة للسماء وجعلها يهتدون بها وجعلها رجوما للشياطين فمن تعاطى منها غير ذلك سفه رأيه وأخطأ حظه وأضاع نفسه وتكلف ما لا علم له به
وقد بينا في كتب الأصول وشرح الحديث تحقيق ذلك وتبيانه
المسألة الثانية قوله (* (وبالنجم) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول أن الألف واللام للجنس والمراد به جمع النجوم [ولا يهتدي بها إلا العارف]
الثاني أن المراد به الثريا
الثالث أن المراد به الجدي والفرقدان
فأما جميع النجوم فلا يهتدي بها إلا العارف بمطالعها ومغاربها والمفرق بين الجنوبي والشمالي منها؛ وذلك قليل في الآخرين
وأما الثريا فلا يهتدي بها إلا من يهتدي بجميع النجوم وإنما الهدى لكل أحد بالجدي والفرقدين؛ لأنهما من النجوم المنحصرة المطلع الظاهرة السمت الثابتة في المكان؛ فإنها تدور على القطب الثابت دورانا محصلا فهي أبدا هدى الخلق في البر إذا عميت الطرق وفي البحر عند مجرى السفن وعلى القبلة إذا جهل السمت وذلك على الجملة بأن تجعل القطب على ظهر منكبك الأيسر فما استقبلت فهو سمت الجهة وتحديدها في الإبصار أنك إذا نظرت الشمس في اليوم الرابع والعشرين من كانون الأول طالعة فاجعل بين وجهك وبينها في التقدير ذراعا وتكون مستقبلا
128

للكعبة على التقريب سالكا إلى التحقيق وقد بينا ذلك في كتب الفقه وشرح الحديث
المسألة الثالثة
ومن الناس من قال إنها يهتدي بها في الأنواء فإن الله قدر المنازل ونزل فيها الكواكب ورتب لها مطالع ومغارب وربط بها عادة نزول الغيث وبهذا عرفت العرب أنواءها وتنظرت سقياها وأضافت كثرة السقيا إلى بعض وقلتها إلى آخر
ويروى في الأثر أن عمر قال للعباس كم بقي لنوء الثريا؟ فقال له إن العرب تقول إنها تدور في الأفق سبعا ثم يدر الله الغيث فما جاءت السبع حتى غيث الناس
وفي الموطأ إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة
ومن البلاد ما يكون مطرها بالصبا ومنها ما يكون مطرها بالجنوب ويزعم أهلها أن ذلك إنما يدور على البحر فإذا جرت الريح ذيلها على البحر ألقحت السحاب منه وإذا جرت ذيلها على البيداء جاءت سحابا عقيما وهذا فاسد من وجهين
أحدهما أنا لا نمنع ذلك في قدرة الله؛ فإن ربنا قادر على أن ينشئ الماء في السحاب إنشاء وهو قادر على أن يسيب له ماء البحر الملح ويصعده بعد أن كان مستفلا ويحاولي بتدبيره وقد كان ملحا وينزله إلينا فراتا عذبا؛ ولكن تعيين أحد الوجهين لا يكون بنظر؛ لأنه ليس في العقل لذلك أثر وإنما طريقه الخبر فنحن نقول هو جائز ولو أخبر به الصادق لكان واجبا
الثاني أن الشمال تسميها العرب المجرة؛ لأنها تمخر السحاب ولا تمطر معها وقد تأتي بحرية وبرية فدل هذا على أن الأمر موقوف على المشيئة؛ وأنه لا يخبر عن الآثار العلوية إلا السنة النبوية لا العقول الأرسطاط اليسية
فإن قيل فقد قال النبي في الحديث الصحيح الذي أجمعت عليه الأئمة ' قال
129

الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب
قلنا إنما خرج هذا على قول العرب التي كانت تعتقد أن ذلك من تأثير الكواكب لجاهليتها وأما من اعتقدها وقتا ومحلا وعلامة ينشئه الله فيها ويدبره عليها فليس من الذي نهى عنه رسول الله في معنى وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف وسيأتي إن شاء الله
الآية السابعة
قوله تعالى (* (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) *) [الآية 66]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى (* (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه) *))
فجاء الضمير بلفظ التذكير عائدا على جمع مؤنث
وأجاب العلماء عن ذلك بستة أجوبة
الأول قال سيبويه العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد وما أراه عول عليه إلا في هذه الآية وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه
الثاني قال الكسائي معناه نسقيكم مما في بطون ما ذكرنا وهذا تقدير بعيد لا يحتاج إليه
الثالث قال الفراء الأنعام والنعم واحد والنعم مذكر ولهذا تقول العرب هذا نعم وارد فرجع إلى لفظ النعم الذي هو معنى الأنعام وهذا تركيب طويل مستغنى عنه
130

الرابع قال الكسائي أيضا إنما يريد نسقيكم مما في بطون بعضه وهو الذي عول عليه أبو عبيدة فإنه قال معناه نسقيكم مما في بطون أيها كان له لبن منها
الخامس أن التذكير إنما جيء به؛ لأنه راجع على ذكر النعم؛ لأن اللبن للذكر منسوب؛ ولذلك قضى النبي بأن اللبن للفحل حين أنكرته عائشة رضي الله عنها في حديث أفلح أخي أبي القعيس؛ فقالت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فقال لها النبي ' إنه عمك فليلج عليك ' بيان منه؛ لأن اللبن للمرأة سقي وللرجل إلقاح فجرى الاشتراك بينهما فيه وقد بيناه في كتب الخلاف وشرح الحديث فلينظر هنالك إن شاء الله
السادس قال القاضي الإمام أبو بكر إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع والتأنيث إلى معنى الجماعة فذكر في آية النحل باعتبار لفظ الجمع المذكر وأنث في آية المؤمن باعتبار تأنيث لفظ الجماعة وينتظم المعنى بهذا التأويل انتظاما حسنا
والتأنيث باعتبار الجماعة والتذكير باعتبار الجمع أكثر في القرآن واللغة من رمل يبرين ومها فلسطين
المسألة الثانية
نبه الله على عظيم القدرة بخروج اللبن خالصا من بين الفرث والدم بين حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد وجرى الكل في سبيل متحدة فإذا نظرت إلى لونه وجدته أبيض ناصعا خالصا من شائبة الجار وإذا شربته وجدته سائغا عن بشاعة الفرث يريد لذيذا وبعضهم قال سائغا أي لا يغص به وإنه لصفته ولكن
131

التنبيه إنما وقع على اللذة وطيب المطعم مع كراهية الجار الذي انفصل عنه في الكرش وهو الفرث القذر
وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة
المسألة الثالثة
قال بعض المتصورين بصورة المصنفين المتسورين في علوم الدين إن هذه الآية تدل على بطلان قول من يقول إن المني نجس لأنه خارج من المخرج الذي يخرج منه البول وهذ الله يقول في اللبن (* (من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) *) فكما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا طاهرا فكذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهرا
قال القاضي قد بينا في كتاب أصول الفقه صفة المجتهد المفتي في الأحكام المستنبط لها من الوحي المنزل ولو كانت تلك الصفات موجودة في هذا القائل ما نطق بمثل هذا فإن اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة فاقتضى ذلك كله له وصف الخلوص واللذة والطهرة وأين المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه؛ إن هذا لجهل عظيم
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون) *) [الآية 67]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
قال قوم المعنى ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا
وقال آخرون معناه شيء تتخذون منه سكرا ودل على حذفه قوله (* (منه) *) فلذلك ساغ حذفه والأمر في ذلك قريب
132

المسألة الثانية قوله (* (سكرا) *))
فيه خمسة أقوال
الأول تتخذون منه ما حرم الله؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما
الثاني أنه خمور الأعاجم؛ قاله قتادة ويرجع إلى الأول
الثالث أنه الخل؛ قاله الحسن أيضا
الرابع أنه الطعم الذي يعرف من ذلك كله؛ قاله أبو عبيدة
الخامس أنه ما يسد الجوع مأخوذ من سكرت النهر إذا سددته
المسألة الثالثة الرزق الحسن
فيه ثلاثة أقوال
الأول أنه ما أحل الله؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما
الثاني أنه النبيذ والخل؛ قاله قتادة
الثالث أنه الأول يقول تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا فجعل له اسمين وهو واحد
المسألة الرابعة
أما هذه الأقاويل فأسدها قول ابن عباس إن السكر الخمر والرزق الحسن ما أحله الله بعدها من هذه الثمرات ويخرج ذلك على أحد معنيين إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر وإما أن يكون المعنى أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم وما أحل الله لكم اتفاقا أو قصدا إلى منفعة أنفسكم
والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر؛ فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء وتحريم الخمر مدني
فإن قيل وهي
133

المسألة الخامسة
إن المراد بقوله (* (تتخذون منه سكرا) *) ما يسكر من الأنبذة وخلا وهو الرزق الحسن
والدليل على هذا أن الله امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم فيكون ذلك دليلا على جواز ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز؛ قاله أصحاب أبي حنيفة وعضدوا رأيهم هذا من السنة بما روي عن النبي أنه قال ' حرم الله الخمر لعينها والسكر من غيرها) وبما روي أيضا عنه أنه كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم فإذا كان في اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخدم إذا تغير؛ ولو كان حراما ما سقاه إياهم
فالجواب أنا نقول قد عارض علماؤنا هذه الأحاديث بمثلها فروي عنه أنه قال ' ما أسكر كثيره فقليله حرام ' خرجه الدارقطني وجوده وثبت في الصحاح عن الأئمة أنه قال ' كل مسكر حرام ' وروى الترمذي وغيره عن عائشة أنها قالت قال رسول الله ' كل مسكر حرام ما أسكر الفرق فملء الكف منه حرام ' وروي ' فالحسوة منه حرام '
وقد ثبت تحريم الخمر باتفاق من الأئمة وقد روي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله ' إن من الحنطة خمرا وإن من الشعير خمرا وإن من التمر خمرا وإن من الزبيب خمرا وإن من العسل خمرا ' خرجه الترمذي وغيره
134

وفي الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك على المنبر فإن كان قاله عن النبي فهو شرع متبع وإن كان أخبر به عن اللغة فهو حجة فيها لا سيما وهو نطق به على المنبر ما بين أظهر الصحابة فلم يقم من ينكر عليه
جواب آخر أما قولهم إن الله امتن ولا يكون امتنانه وتعديده إلا بما أحل فصحيح؛ بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر ثم حرمت بعد
فإن قيل كيف يحرم ما أحل الله هاهنا وينسخ هذا الحكم وهو خبر والأخبار لا يدخلها النسخ
قلنا هذا كلام من لم يتحقق الشريعة وقد بينا حقيقته قبل وأوضحنا أن الخبر إذا كان عن الوجود الحقيقي فذلك الذي لا يدخله نسخ أو كان عن الفضل المعطى ثوابا فهو أيضا لا يدخله نسخ؛ فأما إن كان خبرا عن حكم الشرع فالأحكام تتبدل وتنسخ جاءت بخبر أو بأمر ولا يرجع ذلك إلى تكذيب في الخبر أو الشرع الذي كان مخبرا عنه قد زال بغيره
وإذا فهمتم هذا خرجتم عن الصنف الغبي الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله تعالى (* (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) *) [النحل 11] يعني أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما يشاء ويكلف ما يشاء ويرفع من ذلك بعدله ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب
جواب ثالث وأما ما عضدوه به من الأحاديث فالأول ضعيف والثاني في سقي النبي ما بقي للخدم صحيح لكنه ما كان يسقيه للخدم لأنه مسكر وإنما كان يسقيه لأنه متغير الرائحة وكان أكره الخلق في خبيث الرائحة ولذلك تحيل عليه أزواجه في عسل زينب فإنهن قلن له إنا نجد منك ريح مغافير - يعني ريحا ننكره وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة مع أصحاب أبي حنيفة في كتب الخلاف أثرا ونظرا فلينظر هنالك إن شاء الله تعالى
135

المسألة السادسة قوله تعالى (* (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) *))
وإذا قيل إن ثمرات الحبوب وغيرها تتخذ من رزق حسن وسكر
قلنا هذه الحبوب وسائر الثمرات وإن وقع الامتنان بها وكانت لها وجوه ينتفع منها فلا يقوم مقام النخل والعنب شيء؛ لأن فيه الخل وهو أجل منفعة في العالم فإنه دواء وغذاء فلما لم يحل محل هاتين الثمرتين شيء خصا بالتنبيه عليهما
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) *) [الآيتان 6869]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
قد بينا في شرح الحديث وكتب الأصول أن الوحي ينقسم على ثمانية أقسام منها الإلهام وهو ما يخلقه الله في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر وهو من قوله تعالى (* (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) *) [الشمس 78] ومن ذلك البهائم وما يخلق الله فيها من درك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها
ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة؛ فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة؛ وذلك أن الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج إلا الشكل المسدس؛ فإنه إذا جمع إلى أمثاله التسديس يحمي بعضها بعضا عند الاتصال وجعلت كل بيت على قدرها فإذا تشكل عند حركة النحلة بقدرة الله وعلمه وملأته عسلا انتقلت إلى غيره بتسخير الله وتقديره وتذليله إن تركت عسلت وإن حملت اتبعت وهي ذات جناح ولكن القابض الباسط هو الذي سخرها ودبرها
136

المسألة الثانية قوله (* (يخرج من بطونها شراب) *))
يعني العسل عددها الله في نعمه وذكر شرابه ممتنا به وسماه شرابا وإن كان مطعوما؛ لأنه يصرف في الأشربة أكثر من تصريفه في الأطعمة ولأنه مائع وذلك بالشرابية أخص كما أن الجامد أخص بالطعامية
المسألة الثالثة قوله (* (مختلف ألوانه) *))
يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر والجامد والسائل؛ والأم واحدة والأولاد مختلفون دليل على أن القدرة نوعته بحسب تنويع الغذاء وإن كان لا يخرج على صفته ولا يجيء إلا من جنسه ولكن يؤثر بعض التأثير فيه ليدل عليه؛ ويغيره الله لتتبين قدرته في التصريف بين الأمرين كما قال تعالى (* (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل) *) [الرعد 4]
المسألة الرابعة قوله (* (فيه شفاء للناس) *))
وقد روى الأئمة واللفظ للبخاري قال عروة عن عائشة ' كان النبي يعجبه الحلواء والعسل ' وروي أيضا عن جابر بن عبد الله أن النبي قال ' إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة نار '
وروي أيضا عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي فقال إن أخي يشتكي بطنه فقال ' اسقه عسلا ' ثم أتاه الثانية فقال ' اسقه عسلا ' ثم أتاه
137

الثالثة فقال ' اسقه عسلا ' ثم أتاه فقال فعلت فما زاده ذلك إلا استطلاقا فقال ' صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا فسقاه فبرئ '
وكان ابن عمر لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا خرج عليه طلاه بعسل فقيل له في ذلك فقال أليس الله يقول (* (فيه شفاء للناس) *)
وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض فقيل له ألا نعالجك! قال ائتوني بماء سماء فإن الله يقول (* (ونزلنا من السماء ماء مباركا) *) [ق 9] وائتوني بعسل فإن الله يقول (* (فيه شفاء للناس) *) وائتوني بزيت فإن الله يقول (* (من شجرة مباركة) *) [النور 35] فجاؤوه بذلك كله فخلطه جميعا ثم شربه فبرئ
وقال مجاهد والحسن والضحاك إن الهاء في قوله (* (فيه) *) يعود على القرآن أي القرآن شفاء للناس
وهذا قول بعيد ما أراه يصح عنهم؛ ولو صح نقلا لم يصح عقلا؛ فإن مساق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر؛ وكيف يرجع ضمير في كلام إلى ما لم يجر له ذكر فيه وإن كان كله منه؟ ولكنه إنما يراعي مساق الكلام ومنحى القول وقد حسم النبي في ذلك ذا الإشكال وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكي بطنه بشرب العسل فلما أخبره بأن العسل لما سقاه إياه ما زاده إلا استطلاقا أمره النبي بعود الشرب له وقال له ' صدق الله وكذب بطن أخيك '
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (فيه شفاء للناس) *))
اختلف في محمله فقالت طائفة هو على العموم في كل حال ولكل أحد كما سقناه من رواية ابن عمر وعوف ومنهم من قال إنه على العموم بالتدبير؛ إذ يخلط الخل بالعسل ويطبخ فيأتي شرابا ينفع في كل حالة من كل داء
138

وقد اتفق الأطباء عن بكرة أبيهم على مدح عموم منفعة السكنجبين في كل مرض
ومنهم من قال إن ذلك على الخصوص وليس هذا بأول لفظ عام حمل على مقصد خاص؛ فالقرآن مملوء منه ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص والخاص بمعنى العام؛ ألا ترى إلى قول الشاعر
(وتراك أمكنة إذا لم أرضها
* أو يرتبط بعض النفوس حمامها)
والمراد كل النفوس؛ إذ لا تخلو نفس من ارتباط الحمام لها
والصحيح عندي أنه يجري على نية كل أحد فمن قويت نيته وصح يقينه ففعل فعل عوف وابن عمر وجده كذلك ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهوما على قول الأطباء والكل من حكم الفعال لما يشاء
المسألة السادسة
اتفق العلماء على أن العسل لا زكاة فيه وإن كان مطعوما مقتاتا ولكنه كما روي في ذكر النحل ذباب غيث وكما جاء في العنبر أنه شيء دسره البحر فأحدهما يطير في الهواء والآخر يطفو على الماء وكلاهما في هذا الحكم سواء؛ وقد خص الله الزكاة بما خصها من الأموال المقتاتة والأعيان النامية حسبما بيناه منها في مواضعها فليقف عندها
وقد روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أنه قال جاء كتاب من عمر ابن عبد العزيز إلى أبي وهو بمنى ألا يأخذ من العسل ولا من الخيل صدقة
وقد قال علماؤنا إن العسل طعام يخرج من حيوان فلم تجب فيه الزكاة كاللبن
139

وليس هذا بشيء فإن الأصل الذي يخرج منه اللبن عين زكاتية وقد قضى حق النعمة فيه وحاز الاستيفاء لمنافعها بخلاف العسل فإنه لا زكاة في أصله فلا يصح اعتباره باللبن
وقد قال أبو حنيفة تجب الزكاة في العسل محتجا بما روي أن النبي أخذ من العسل العشر
والحديث لا أصل له اللهم إلا أن سعد بن أبي ذباب روى عنه أنه قال قدمت على النبي فقلت يا رسول الله؛ اجعل لقومي ما أسلموا عليه من أموالهم ففعل رسول الله واستعملني عليهم ثم استعملني أبو بكر وعمر قال فكلمت قومي في العسل فقلت لهم زكوه فإنه لا خير في ثمرة لا تزكى قالوا كم؟ فقلت العشر فأخذت منهم العشر فأتيت عمر فأخبرته فقبضه وباعه وجعله في صدقات المسلمين فإن صح هذا كان بطواعيتهم صدقة نافلة وليس كلامنا في ذلك وإنما نحن في فرض أصل الصدقة عليه ولم يثبت ذلك فيه وفيما ذكرناه كفاية والله أعلم
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون) *) [الآية 72]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) *))
يعني من جنسكم يعني من الآدميين ردا على العرب التي كانت تعتقد أنها تزوج الجن وتباضعها حتى روت أن عمرو بن هند تزوج منهم غولا وكان يخبؤها عن البرق لئلا تراه فتنفر فلما كان في بعض الليالي لمح البرق وعاينته السعلاة
140

فقالت عمرو! ونفرت فلم يرها أبدا وهذا من أكاذيبها وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته ردا على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجن ويحيلون طعامهم ونكاحهم
وقيل أراد به قوله (* (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها) *) [الأعراف 189] حسبما تقدم بيانه في سورة الأعراف
المسألة الثانية قوله (* (أزواجا) *))
زوج المرأة هي ثانيته فإنه فرد فإذا انضافت إليه كانا زوجين وإنما جعلت الإضافة إليه دونها لأنه أصلها في الوجود وقوامها في المعاش وأميرها في التصرف وعاقلها في النكاح ومطلقها من قيده وعاقل الصداق والنفقة عنها فيه وواحد من هذا كله يكفي للأصالة فكيف بجميعها؟
المسألة الثالثة قوله (* (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) *))
وجود البنين يكون منهما معا ولكنه لما كان تخلق المولود فيها ووجوده ذا روح وصورة بها وانفصاله كذلك عنها أضيف إليها ولأجله تبعها في الرق والحرية وصار مثلها في المالية
سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبو الوفاء علي بن عقيل يقول إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية؛ لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة مثبوتة عليه وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلأجل ذلك تبعها كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل فسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت من الآكل ولا قيمة لها؛ وهذه من البدائع
المسألة الرابعة في تفسير قوله (* (وحفدة) *))
وفيها ثمانية أقوال
الأول أنهم الأختان؛ قاله ابن مسعود
141

الثاني أنهم الأصهار؛ قاله ابن عباس
الثالث قال محمد بن الحسن الختن الزوج ومن كان من ذوي رحمه والصهر من كان من قبل المرأة من الرجال
الرابع أنها ضد ذلك؛ قاله ابن الأعرابي
الخامس قال الأصمعي الختن من كان من الرجال من قبل المرأة والأصهار منهما جميعا
السادس الحفدة أعوان الرجل وخدمه روي عن ابن عباس أنه قال من أعانك فقد حفدك؛ وبه قال عكرمة
السابع حفدة الرجل أعوانه من ولده
الثامن أنه ولد الرجل وولد ولده
المسألة الخامسة
هذه الأقوال كما سردناها إما أخذت عن لغة وإما عن تنظير وإما عن اشتقاق وقد قال الله تعالى (* (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) *) [الفرقان 54]؛ فالنسب ما دار بين الزوجين والصهر ما تعلق بهما ويقال أختان المرأة وأصهار الرجل عرفا ولغة ويقال لولد الولد الحفيد ويقال حفده يحفده - بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل - إذا خدمه ومنه قولهم في الدعاء وإليك نسعى ونحفد فالظاهر عندي من قوله (* (بنين) *) أولاد الرجل من صلبه ومن قوله (* (وحفدة) *) أولاد ولده وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا ونقول تقدير الآية على هذا والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن أزواجكم بنين ومن البنين حفدة
ويحتمل أن يريد به والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة فيكون (البنين) من الأزواج والحفدة من الكل من زوج وابن يريد به خداما يعني أن الأزواج والبنين يخدمون الرجل بحق قواميته وأبوته وقد قال علماؤنا يخدم الرجل زوجه فيما خف من الخدمة ويعينها وقد قالوا في موضع آخر يخدمها وقالوا في موضع آخر ينفق على خادم واحدة وفي رواية على أكثر من
142

واحدة على قدر الثروة والمنزلة؛ وهذا أمر دائر على العرف والعادة الذي هو أصل من أصول الشريعة؛ فإن نساء الأعراب وسكان البادية يخدمن أزواجهن حتى في استعذاب الماء وسياسة الدواب ونساء الحواضر يخدم المقل منهم زوجه فيما خف ويعينها وأما أهل الثروة فيخدمون أزواجهم ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب في ذلك وإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك فتشهد عليه أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها فالتزم إخدامها؛ فينفذ ذلك عليه وتنقطع الدعوى فيه وهذا هو القول الصحيح في الآية لما قدمناه
وقد روى ابن القاسم عن مالك قال وسألته عن قول الله (* (بنين وحفدة) *) ما الحفدة؟ قال الخدم والأعوان في رأي
ويروى أن الحفدة البنات يخدمن الأبوين في المنازل
ويروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن قوله (* (وحفدة) *) - قال هم الأعوان؛ من أعانك فقد حفدك قال فهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم وتقوله أما سمعت قول الشاعر
(حفد الولائد حولهن وألقيت
* بأكفهن أزمة الأجمال)
وتصريف الفعل حفد يحفد كما قدمنا حفدا وحفودا وحفدانا
وقال الخليل بن أحمد إن الحفدة عند العرب الخدم وكفى بمالك فصاحة وهو محض الرب في قوله إنهم الخدم وبقول الخليل وهو ثقة في نقله عن العرب؛ فخرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان
وقد روى البخاري وغيره - واللفظ له - عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي لعرسه فكانت امرأته خادمهم يومئذ وهي العروس فقال أوتدرون ما أنقعت لرسول الله؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور
143

وكذلك روي عن عائشة أن النبي كان يكون في مهنة أهله فإذا سمع الأذان خرج وهذا هو قول مالك ويعينها
وفي أخلاق النبي أنه ' كان يخصف النعل ويقم البيت ويخيط الثوب '
وقد روى الترمذي أنه ' كان يعود المريض ويشهد الجنازة ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف وقال عن عائشة - وقد قيل لها ما كان رسول الله يعمل في البيت؟ قالت كان بشرا من البشر يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه '
قال القاضي أبو بكر حتى في وضوئه؛ فروى من طريق عن ابن عباس أنه بات عند النبي في بيت خالته ميمونة في ليلة كانت لا تصلي فيها فأوى رسول الله إلى فراشه فلما كان في جوف الليل قام فخرج إلى الحجرة فقلب في أفق السماء وجهه ثم قال ' نامت العيون وغارت النجوم والله حي قيوم ' ثم عمد إلى قربة في جانب الحجرة فحل شناقها ثم توضأ فأسبغ الوضوء خرجه ابن حماد الحافظ وقد بيناه في كتاب التقصي وغيره
ومن أفضل ما يخدم المرء فيه نفسه العبادات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه حتى يكون عملها كلها لوجه الله وعمل شروطها وأسبابها كلها منه؛ فذلك أعظم للأجر إذا أمكن
وقد خرج البخاري في كتاب الصلاة عن الأسود بن يزيد سألت عائشة ما كان النبي يصنع في بيته؟ قال ' كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة
144

خرج ' ومن الرواة من قال إذا سمع الأذان خرج قال الإمام يعني الإقامة
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) *) [الآية 75]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن في قول وللمخلوق والخالق في [قول] آخر معناه أن العبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر ومن رزقناه منا رزقا حسنا هو المؤمن آتاهما الله مالا كثيرا ورزقا واسعا فأما الكافر فبخل به وأمسك عليه وأما المؤمن فقلب به في ذات الله يمينا وشمالا هكذا وهكذا سرا وجهارا
وأما المعنى على ضرب المثل للمخلوق والخالق فهو عندهم أن العبد المملوك هو الصبي لا يقدر على شيء لغرارته وجهالته كما قال بعد ذلك (* (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) *) [النحل 78] وضرب المثل بقوله (* (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) *) لله
وقد ضرب الله الأمثال لنفسه على وجه بديع بيناه في قانون التأويل ولم يأذن لأحد من الخلق فيه وقال (* (فلا تضربوا لله الأمثال) *) [النحل 74] يعني [لا تضربوا] أنتم الأمثال لله؛ فإن الله يعلم ما يقول ويريد وأنتم لا تعلمون ما تقولون وما تريدون إلا إذا علمتم وأذن لكم في القول
145

المسألة الثانية قوله (* (عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) *))
إثبات في نكرة فليس يقتضي الشمول ولا يعطي العموم؛ وإنما يفيد واحدا بهذه الصفة
ويجوز أن يكون العبد المملوك يقدر بأن يقدره مولاه فينقسم حال العبيد المماليك إلى قسمين
أحدهما ما يكون في أصل وضعه لا يقدر
الثاني أن يقدر بأن توضع له القدرة ويمكن من التصرف والمنفعة وبه قال مالك
وقال أبو حنيفة لا يقدر وإن أقدر؛ ولا يملك وإن ملك
وللشافعي قولان
وتعلق أصحاب أبي حنيفة بأنه مملوك فلا يملك أصله البهيمة قال أهل خراسان وهذا الفقه صحيح وذلك أن المملوكية تنافي المالكية؛ فإن المملوكية تقتضي الحجر والمنع والمالكية تقتضي الإذن والإطلاق؛ فلما تناقضا لم يجتمعا
وقال علماؤنا إن الحياة والآدمية علة الملك فهو آدمي حي فجاز أن يملك كالحر وإنما طرأ عليه الرق عقوبة فصار للسيد عليه حق الحجر وذمته خالية عن ذلك فإذا أذن له سيده وفك الحجر عنه رجع إلى أصله في المالكية بعلة الحياة والآدمية وبقاء ذمته خالية عن ذلك كله
والذي يدل على صحة هذا قوله ' من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ' فأضاف المال إلى العبد وملكه إياه وجعله في البيع تبعا له
146

فإن قيل هذه إضافة محل كما يقال سرج الدابة وباب الدار فيضاف ذلك إليها إضافة محل لا إضافة تمليك
قلنا إنما كانت هذه إضافة محل؛ لأن الدابة والدار لا يصح منهما الملك ولا يصح لهما التمليك؛ بخلاف العبد فإنه آدمي حي فصح أن يملك ويملك وجاز أن يقدر ويقدر
والدليل القاطع لرأيهم المفسد لكلامهم أنه إذا أذن له سيده في النكاح جاز فنقول من ملك الأبضاع ملك المتاع كالحر وهذا لأن البضع أشرف من المال فإذا ملك البضع بالإذن فأولى وأحرى أن يملك المال الذي هو دونه في الحرمة بالإذن
فإن قيل إنما جاز له النكاح ضرورة؛ لأنه آدمي يشتهي طبعا؛ فلو منعناه استيفاء شهوته الجبلية لأضررنا به ولو سلطناه على اقتضائها بصفة البهائم لعطلنا التكليف؛ فدعت الضرورة إلى الإذن في النكاح له؛ إذ لا يصح الانتفاع بالبضع على ملك الغير بخلاف المال فإنه يستباح على ملك الغير بالأكل واللباس والركوب ويكفي فيه مجرد الإذن والإباحة دون التمليك؛ وهذه عمدتهم
وقد أجاب عنها علماؤنا بأجوبة كثيرة؛ عمدتها أن الضرورة لا تبيح الفروج وإنما إباحتها في الأصل طلبا للنسل بتكثير الخلق وتنفيذا للوعد؛ فبهذه الحكمة وضعت إباحتها وشرع النكاح لاستبقائها
فقولهم إنها أبيحت ضرورة غلط وقد أجابوا عنه بأن النكاح لو كان مباحا له بالضرورة لتقدر بقدر الضرورة فلا يجوز له إلا نكاح واحدة
فإن قلتم إنها ربما لا تعصمه فكان من حقكم أن تبلغوه إلى أربع كما قال علماؤنا فلما لم يفعلوا ذلك استدللنا به على أن هذا الحكم إنما جرى على مقتضى الدليل لا بحكم الضرورة
وأما قولهم إن المملوكية تناقض المالكية على ما بسطوه فلا يلزم؛ لأنها إنما تناقضها إذا تقابلتا بالبداءة فأما إذ كان الحجر طارئا بالرق وكان الأصل بالحياة
147

والآدمية الإطلاق فلا بأس أن يرفع المالك للحجر حكمه بالإذن كما يرتفع في النكاح ولا جواب لهم عن هذا
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) *) [الآية 8]
فيها ثماني مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (من بيوتكم) *))
اعلموا وفقكم الله لسلوك سبيل المعارف أن كل ما علاك فأظلك فهو سقف وكل ما أقلك فهو أرض وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت
المسألة الثانية قوله تعالى (* (سكنا) *))
يعني محلا تسكنون فيه وتهدأ جوارحكم عن الحركة وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره إلا أن القول خرج فيه على غالب الحال وهو أن الحركة تكون فيما خرج عن البيت فإذا عاد المرء إليه سكن وبهذا سميت مساكن لوجود السكون فيها في الأغلب وعد هذا في جملة النعم فإنه لو خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد ولو خلق ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد ولكنه أوجده خلقا يتصرف بالوجهين ويختلف حاله بين الحالين وردده بين كيف وأين
المسألة الثالثة قوله (* (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها) *))
يعني جلود الإبل والبقر والغنم فإنه يتخذ منها بيوتا وهي الأخبية فتضرب فيسكن فيها ويكون بنيانا عاليها ونواحيها وهذا أمر انتشر في تلك الديار وعريت عنه بلادنا فلا تضرب الأخبية إلا من الكتان والصوف وقد كان النبي
148

قبة من أدم وناهيك بأديم الطائف غلاء في القيمة واعتلاء في الصفة وحسنا في البشرة ولم يعد ذلك ترفا ولا رآه سرفا؛ لأنه مما امتن الله به من نعمه وأذن فيه من متاعه وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان
ومن غريب ما جرى أني زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض رجال المحدثين فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا وقال إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك فقال له هذا الخباء لنا كثير وكان في صنفها من الحقير فقلت له ليس كما زعمت قد كانت لرسول الله - وهو رئيس الزهاد - قبة من أدم طائفي يسافر معها ويستظل بها فبهت ورأيته على منزلة من العي فتركته مع صاحبي وخرجت عنه
المسألة الرابعة قوله (* (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها) *))
أذن الله سبحانه في هذه الآية بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز كما أذن في الأعظم وهو ذبحها وأكل لحومها كما أخبر أنه خلق لنا ما في الأرض جميعا وعلم كيفية الانتفاع بها
المسألة الخامسة قوله (* (أثاثا) *))
هو كل ما يحتاج المرء إلى استعماله من آلة ويفتقر إليه في تصريف منافعه من حاجة ومنه أثاث البيت وأصله من الكثرة يقال أث النبث يئث إذا كثر وكذلك الشعر يقال شعر أثيث إذا كان كثيرا ملتفا
المسألة السادسة قوله (* (ومتاعا) *))
وهو كل ما انتفع به المرء في مصالحه وصرفه في حوائجه يقال تمتع الرجل بماله إذا نال لذته وببدنه إذا وجد صحته وبأهله إذا أصاب حاجته وببنيه إذا ظهر بنصرتهم وبجيرته إذا رأى منفعتهم
149

المسألة السابعة قوله (* (إلى حين) *))
واختلف فيه فقيل إلى أن يفنى كل واحد منهما بالاستعمال وقيل إلى حين الموت
واختلف الفقهاء بحسب اختلاف التأويل فقال مالك وأبو حنيفة إن الموت لا يؤثر في تحريم الصوف والوبر والشعر لأنه لا يلحقها إذ الموت عبارة عن معنى يحل بعد عدم الحياة ولم تكن الحياة في الصوف والوبر والشعر فيخلفها الموت فيها
وقال الشافعي إن ذلك كله يحرم بالموت؛ لأنه جزء من أجزاء الميتة وقد قال تعالى (* (حرمت عليكم الميتة) *) [المائدة 3]؛ وذلك عبارة عن الجملة وإن كان الموت يحل ببعضها
والجواب عن قوله هذا أن الميتة وإن كان اسما ينطلق على الجملة فإنه إنما يرجع بالحقيقة إلى ما فيه حياة فنحن على الحقيقة لا نعدل عنها إلى سواها
وقد تعلق إمام الحرمين من أصحابهم بأن الموت وإن كان لا يحل الصوف والوبر والشعر ولكن الأحكام المتعلقة بالجثة تتعدى إلى هذه الأجزاء من الحل والحرمة والأرش وتتبعها في حكم الإحرام وغير ذلك من الأحكام فكذلك الطهارة والتنجيس
وتحريره أن نقول حكم من أحكام الشريعة متعلق بالأجزاء من الجملة أصله سائر الأحكام المذكورة وهذا لا تعويل عليه؛ فإنا بينا أن الحقيقة معنا وأما الأحكام فهي متعارضة فلئن شهد له ما ذكر من الأحكام على اتباع هذه الأجزاء للجملة فليشهدن لنا بانفصال هذه الأجزاء عن الجملة الحكم الأكبر؛ وهي إبانتها عن الجثة في حالة الحياة وإزالتها منها وهو دليل يعضدنا ظاهرا وباطنا فلو كانت هذه
150

الأجزاء تابعة في الجملة لتنجست بإبانتها عنها كأجزاء الأعضاء؛ وإذا تعارضت الأحكام وجب الترجيح بالحقيقة على أن هذه الأحكام التي تعلقوا بها لا حجة فيها؛ أما الحل والحرمة فإنما يتعلقان باللذة وهي في الشعر كما تكون في البدن
وأما الإحرام فإنه يتعلق بإلقاء التفث وإذهاب الزينة والشعر من ذلك الوصف
وأما الأرش فإنه يتعلق بإبطال الجمال تارة وإبطال المنفعة أخرى والجمال والمنفعة معا موجودان في الشعر أو أحدهما بخلاف الطهارة والتنجيس فإنه حكم يترتب على الحياة والموت وليس للصوف ولا للوبر ولا للشعر مدخل بحال
وقد عول الشيخ أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أن الشعر والصوف والوبر جزء متصل بالحيوان اتصال خلقة ينمى بنمائة فينجس بموته كسائر الأجزاء
وأجاب عن ذلك علماؤنا بأن النماء ليس بدليل على الحياة؛ فإن النبات ينمى وليس بحي وإذا عولوا على النماء المتصل بالحيوان عولنا على الإبانة التي تدل على عدم الإحساس الذي يدل على عدم الحياة وقد استوفينا القول فيها في مسائل الخلاف وأشرنا إليه فيما تقدم وبمجموع هذه الأقوال يتحصل العلم لكم ويخلص من الإشكال عندكم
المسألة الثامنة قوله (* (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها) *))
ولم يذكر القطن ولا الكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا وما قام مقام هذه وناب منابها يدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها وهذا كقوله (* (وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء) *) [النور 43]؛ فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم وسكت عن ذكر الثلج لأنه لم يكن في بلادهم وهو مثله في الصفة والمنفعة وقد ذكرهما النبي معا في التطهير فقال ' اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب [الأبيض] الدنس بالماء '
151

الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) *) [الآية 81]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
عدد الله في هذه الآية من نعمه ما شرح فيها حاله فمنها الظلال تقي من حر الشمس الذي لا تحتمله الأبدان ولا يبقى معه ولا دونه الإنسان من شجر وحجر وغمام ومن جملتها الجبال وهي
المسألة الثانية
خلقها الله عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون الخلق فيها فقد كان النبي يتعبد بغار حراء ويمكث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى أهله وقد خرج مهاجرا إلى ربه هاربا من قومه فارا بدينه من الفتن مع أصحابه واستحصن بغار ثور وأقام فيه ثلاث ليال مع الصديق صاحبه ثم أمضى هجرته وأنفذ عزمته حتى انتهى إلى دار هجرته
وقد قيل أراد به السهل والجبال ولكنه حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه كما قال الشاعر
(وما أدري إذا يممت أرضا
* أريد الخير أيهما يليني)
(أألخير الذي أنا مبتغيه
* أم الشر الذي هو يبتغيني)
وكما قال في الحر بعد هذا (* (سرابيل تقيكم الحر) *) أراد والبرد فحذف؛ لأن ما بقي أحدهما بقي الآخر
المسألة الثالثة قوله (* (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر) *))
والسربال كل ما ستر باللباس من ثوب من صوف أو وبر أو شعر أو قطن أو
152

كتان وهذه نعمة أنعم الله بها على الآدمي؛ فإنه خلقه عاريا ثم جعله بنعمته بعد ذلك كاسيا؛ وسائر الحيوانات سرابيلها جلودها أو ما يكون من صوف أو شعر أو وبر عليها؛ فشرف الآدمي بأن كسي من أجزاء سواه
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وسرابيل تقيكم بأسكم) *))
يعني دروع الحرب؛ من الله بها على العباد عدة للجهاد وعونا على الأعداء وعلمها كما علم صنعة غيرها ولبسها النبي حين ظاهر يوم أحد بين درعين تقاة الجراحة وإن كان يطلب الشهادة كما يعد السيف والرمح والسهم للقتل بها لغيره والمدافعة بها عن نفسه ثم ينفذ الله ما شاء من حكمه وليس على العبد أن يطلب الشهادة بأن يستقتل مع الأعداء ولا بأن يستسلم للحتوف ولكنه يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ويأخذ حذره ويسأل الله الشهادة خالصا من قلبه ويعطيه الله بعد ما سبق في علمه وهذا معنى قوله (* (لعلكم تسلمون) *) بفتح التاء على [قراءة] من قرأها كذلك ومن قرأها بالضم فمعناه لعلكم تنقادون إلى طاعته شكرا على نعمه
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) *) [الآية 9]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (بالعدل) *))
وهو مع العالم وحقيقته التوسط بين طرفي النقيض وضده الجور؛ وذلك أن الباري خلق العالم مختلفا متضادا متقابلا مزدوجا وجعل العدل في اطراد الأمور بين ذلك على أن يكون الأمر جاريا فيه على الوسط في كل معنى فالعدل بين العبد وربه
153

إيثار حق الله على حظ نفسه وتقديم رضاه على هواه والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر
وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها عما فيه هلاكها كما قال تعالى (* (ونهى النفس عن الهوى) *) [النازعات 4] وعزوب الأطماع عن الاتباع ولزوم القناعة في كل حال ومعنى
وأما العدل بينه وبين الخلق ففي بذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل وكثر والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه ولا يكون منك إلى أحد مساءة بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن حتى بالهم والعزم والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى وأقل ذلك الإنصاف من نفسك وترك الأذى
المسألة الثانية الإحسان
وهو في العلم والعمل
فأما في العلم فبأن تعرف حدوث نفسك ونقصها ووجوب الأولية لخالقها وكماله
وأما الاحسان في العمل فالحسن ما أمر الله به حتى إن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر في تعهده فقد ثبت في الصحيح عن النبي أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها لا هي سقتها ولا أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض
ويقال الإحسان ألا تترك لأحد حقا ولا تستوفي مالك وقد قال جبريل للنبي ' ما الإحسان؟ قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ' وهذا إشارة إلى ما تعتقده الصوفية من مشاهدة الحق في كل حال واليقين بأنه مطلع عليك؛ فليس من الأدب أن تعصي مولاك بحيث يراك
154

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وإيتاء ذي القربى) *))
يعني في صلة الرحم وإيفاء الحقوق؛ كما قال ابن عباس العدل أداء الفرائض وكذلك يلزم إيتاء حقوق الخلق إليهم
وإنما خص ذوي القربى؛ لأن حقوقهم أوكد وصلتهم أوجب لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله اسمها من اسمه وجعل صلتها من صلته
المسألة الرابعة الفحشاء
وذلك كل قبيح من قول أو فعل وغايته الزنا؛ والمنكر ما أنكره الشرع بالنهي عنه؛ والبغي هو الكبر والظلم والحسد والتعدي وحقيقته تجاوز الحد من بغى الجرح فهذه ست مسائل
وقد قال ابن مسعود هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل وشر يجتنب وأراد ما قال قتادة إنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به إلا أمر الله به ولا من خلق سئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وأن يريد الخير للخلق كلهم؛ إن كان مؤمنا فيزداد إيمانا وإن كان كافرا فيتبدل إسلاما وموالاة الخلق بالبشر والسياسة ولهذا يروى أن عيسى عرض له كلب أو خنزير فقال له اذهب بسلام إشارة إلى ترك الإذاية حتى في الحيوانية المؤذية
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون) *) [الآية 91]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في ذكر العهد والوفاء به
وقد تقدم في المائدة والرعد شرحه وأشرنا إليه حيث وقع ذكره بما أمكن فيه
155

المسألة الثانية قوله تعالى (* (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) *))
قال ابن وهب وابن القاسم عن مالك أما التوكيد فهو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا يردد فيه الأيمان يمينا بعد يمين كقوله والله لا أنقصه من كذا وكذا يحلف بذلك مرارا ثلاثة أو أكثر من ذلك فقال كفارة ذلك واحدة [إنما عليه] مثل كفارة اليمين
وقال يحيى بن سعيد هي في العهود والعهد يمين ولكن الفرق بينهما أن العهد لا يكفر؛ قال النبي ' ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان '
وأما اليمين فقد شرع الله فيها الكفارة مخلصة منها وحالة ما انعقدت عليه
وقال ابن عمر التوكيد [في اليمين المكررة] هو أن يحلف مرتين فإن حلف مرة واحدة فلا كفارة عليه وقد بينا ذلك في سورة المائدة وأوضحنا صحة قول العلماء وضعف
هذه الرواية عن ابن عمر
المسألة الثالثة
إن كرر اليمين مرارا أو كثرها أعدادا فلا يخلو أن يقصد بذلك التأكيد مع التوحيد أو يقصد بذلك التأكيد مع تثنية اليمين؛ فإن قصد بذلك التأكيد مع التوحيد فلا خلاف في أنها كفارة واحدة وإن كان قصد التوكيد مع تثنية اليمين فقال الشافعي وأبو حنيفة تكون يمينين وقال مالك تكون يمينا واحدة إلا أن يريد به كفارتين
وتعلق الفقهاء بأنها تثنية يمين فتثنية الكفارة أصل فله أن يعقدها بذلك
156

وعول مالك على أنه إذا قصد الكفارة فيلزمه ما التزم وأما إذا لم يقصد الكفارة وإنما قصد إلى تثنية اليمين فلا يفتقر إلى كفارتين كما لو حلف بيمين واحدة على معنيين أو شيئين فإن كفارة واحدة تجزية
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) *) [الآية 98]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
انتهى العي بقوم إلى أن قالوا إن القارئ إذا فرغ من قراءة القرآن حينئذ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم
وقال العلماء إذا أراد قراءة القرآن تعوذ بالله وتأولوا ظاهر (* (فإذا قرأت) *) على أنه إذا أردت كما قال (* (إذا قمتم إلى الصلاة) *) معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة وكقوله إذا أكلت فسم الله؛ معناه إذا أردت الأكل
وحقيقة القول فيه أن قول القائل ' فعل ' يحتمل ابتدأ الفعل ويحتمل تماديه في الفعل ويحتمل تمامه للفعل
وحقيقته تمام الفعل وفراغه عندنا وعند قوم أن حقيقته كان في الفعل والذي رأيناه أولى؛ لأن بناء الماضي هو فعل كما أن بناء الحال هو يفعل وهو بناء المستقبل بعينه
ويخلصه للحال تعقيبه بقولك الآن ويخلصه للاستقبال قولك سيفعل هذا منتهى الحقيقة فيه
وإذا قلنا قرأ بمعنى أراد كان مجازا ووجدناه مستعملا وله مثال فحملناه عليه
فإن قيل وما الفائدة في الاستعاذة من الشيطان وقت القراءة؟ وهي
157

المسألة الثانية
قلنا فائدته امتثال الأمر؛ وليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء في امتثالها أمرا أو اجتنابها نهيا
وقد قيل فائدتها الاستعاذة من وساوس الشيطان عند القراءة كما قال تعالى (* (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) *) [الحج 52]؛ يعني في تلاوته وقد بينا ذلك في جزء تنبيه الغبي على مقدار النبي
المسألة الثالثة
كان النبي إذا افتتح القراءة في الصلاة كبر ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول لا إله إلا أنت ثلاثا ' ثم يقول ' الله أكبر كبيرا ثلاثا أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ' ثم يقرأ هكذا رواه أبو داود وغيره واللفظ له
وعن أبي سعيد الخدري ' أن النبي كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة ' وهذا نص في الرد على من يرى القراءة قبل الاستعاذة بمطلق ظاهر اللفظ
وقال مالك لا يتعوذ في الفريضة ويتعوذ في النافلة وفي رواية في قيام رمضان وكان مالك يقول في خاصة نفسه ' سبحانك اللهم وبحمدك ' قبل القراءة في الصلاة
وقد روى مسلم أن عمر بن الخطاب كان يجهر بذلك في الصلاة وحديث أبي هريرة صحيح متفق عليه قال ' كان رسول الله يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة ' فقلت يا رسول الله؛ إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ قال ' أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني
158

من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد '
وما أحقنا بالاقتداء برسول الله في ذلك لولا غلبة العامة على الحق
وتعلق من أخذ بظاهر المدونة بما كان في المدينة من العمل ولم يثبت عندنا أن أحدا من أئمة الأمة ترك الاستعاذة فإنه أمر يفعل سرا فكيف يعرف جهرا
ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة - في تفسير هذه الآية (* (فإذا قرأت القرآن) *) الآية - قال ذلك بعد قراءة أم القرآن لمن قرأ في الصلاة وهذا قول لم يرد به أثر ولا يعضده نظر؛ فإنا قد بينا حكم الآية وحقيقتها فيما تقدم ولو كان هذا كما قال بعض الناس إن الاستعاذة بعد القراءة لكان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة لا تشبه أصول مالك ولا فهمه والله أعلم بسر هذه الرواية
الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) *) [الآية 16]
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى
هذه الآية نزلت في المرتدين وقد تقدم ذكر بعض من أحكام الردة في سورة المائدة وبينا أن الكفر بالله كبيرة محبطة للعمل سواء تقدمها إيمان أو لم يتقدم والكافر أو المرتد هو الذي جرى بالكفر لسانه مخبرا عما انشرح به من الكفر صدره فعليه من الله الغضب وله العذاب الأليم إلا من أكره وهي
159

المسألة الثانية
فذكر استثناء من تكلم بالكفر بلسانه عن إكراه ولم يعقد على ذلك قلبه فإنه خارج عن هذا الحكم معذور في الدنيا مغفور في الأخرى
والمكره هو الذي لم يخل وتصريف إرادته في متعلقاتها المحتملة لها فهو مختار بمعنى أنه بقي له في مجال إرادته ما يتعلق به على البدل وهو مكره بمعنى أنه حذف له من متعلقات الإرادة ما كان تصرفها يجري عليه قبل الإكراه وسبب حذفها قول أو فعل؛ فالقول هو التهديد والفعل هو أخذ المال أو الضرب أو السجن وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في سورة يوسف
وقد اختلف الناس في التهديد هل هو إكراه أم لا؟ والصحيح أنه إكراه؛ فإن القادر الظالم إذا قال لرجل إن لم تفعل كذا وإلا قتلتك أو ضربتك أو أخذت مالك أو سجنتك ولم يكن له من يحميه إلا الله فله أن يقدم على الفعل ويسقط عنه الإثم في الجملة إلا في القتل فلا خلاف بين الأمة أنه إذا أكره عليه بالقتل أنه لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره؛ ويلزمه أن يصبر على البلاء الذي ينزل به ونسأل الله العافية في الدنيا والآخرة
واختلف في الزنا والصحيح أنه يجوز له الإقدام عليه ولا حد عليه خلافا لابن الماجشون فإنه ألزمه الحد؛ لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور عليها إكراه ولكنه غفل عن السبب في باعث الشهوة وأنه باطل
وإنما وجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري فقاس الشيء على ضده فلم يحل بصواب من عنده
وأما الكفر بالله فذلك جائز له بغير خلاف على شرط أن يلفظ بلسانه وقلبه منشرح بالإيمان فإن ساعد قلبه في الكفر لسانه كان آثما كافرا؛ لأن الإكراه لا سلطان له في الباطن وإنما سلطته على الظاهر؛ بل قد قال المحققون من علمائنا إنه
160

إذا تلفظ بالكفر أنه لا يجوز له أن يجري على لسانه إلا جريان المعاريض ومتى لم يكن كذلك كان كافرا أيضا وهو الصحيح؛ فإن المعاريض أيضا لا سلطان للإكراه عليها مثاله أن يقال له اكفر بالله فيقول أنا كافر بالله يريد باللاهي ويحذف الياء كما تحذف من الغازي والقاضي والرامي فيقال الغاز والقاض والرام وكذلك إذا قيل له اكفر بالنبي فيقول هو كافر بالنبي وهو يريد بالنبي المكان المرتفع من الأرض
فإن قيل له اكفر بالنبيء مهموزا فيقول أنا كافر بالنبيء بالهمز ويريد به المخبر أي مخبر كان أو يريد به النبيء الذي قال فيه الشاعر
(فأصبح رتما دقاق الحصى
* مكان النبيء من الكاثب)
ولذلك يحكى عن بعض العلماء من زمن فتنة أحمد بن حنبل على خلق القرآن أنه دعي إلى أن يقول بخلق القرآن فقال القرآن والتوراة والإنجيل والزبور - يعددهن بيده - هذه الأربعة مخلوقة يقصد هو بقلبه أصابعه التي عدد بها وفهم الذي أكرهه أنه يريد الكتب الأربعة المنزلة من الله على أنبيائه فخلص في نفسه ولم يضره فهم الذي أكرهه
ولما كان هذا أمرا متفقا عليه عند الأئمة مشهورا عند العلماء ألف في ذلك شيخ اللغة ورئيسها أبو بكر بن دريد كتاب الملاحن للمكرهين فجاه ببدع في العالمين ثم ركب عليه المفجع الكابت فجمع في ذلك مجموعا وافرا حسنا استولى فيه على الأمد وقرطس الغرض
المسألة الثالثة
هذا يدل على أن الكفر ليس بقبيح لعينه وذاته؛ إذ لو كان كذلك لما حسنه الإكراه ولكن الأمر كما قاله علماؤنا من أهل السنة أن الأشياء لا تقبح لذواتها ولا تحسن لذواتها؛ وإنما تقبح وتحسن بالشرع؛ فالقبيح ما نهى الشرع عنه والحسن ما أمر الشرع به
161

والدليل على صحة ذلك أن القتل الواقع اعتداء يماثل القتل المستوفى قصاصا في الصورة والصفة بدليل أن الغافل عن سببهما لا يفرق بينهما وكذلك الإيلاج في الفرج عن نكاح يماثل الإيلاج عن سفاح في اللذات والحركات إنما فرق بينهما الإذن؛ وكذلك الكفر الذي يصدر عن الإكراه يماثل الصادر عن الاختيار؛ ولكن فرق بينهما إذن الشرع في أحدهما وحجره في الآخر وقد أحكمنا ذلك في كتب الأصول
المسألة الرابعة
إن الكفر وإن كان بالإكراه جائزا عند العلماء فإن من صبر على البلاء ولم يفتتن حتى قتل فإنه شهيد ولا خلاف في ذلك وعليه تدل آثار الشريعة التي يطول سردها وإنما وقع الإذن رخصة من الله رفقا بالخلق وإبقاء عليهم ولما في هذه الشريعة من السماحة ونفي الحرج ووضع الإصر
المسألة الخامسة
قد آن الآن أن نذكر سبب نزول هذه الآية المكية وفي ذلك ثلاث روايات
الأولى أنها نزلت في عمار بن ياسر وأمه سمية وخباب بن الأرت وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة والمقداد بن الأسود وقوم أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم؛ فثبت بعضهم على الإسلام وافتتن بعضهم وصبر بعضهم على البلاء ولم يصبر بعض فقتلت سمية وافتتن عمار في ظاهره دون باطنه وسأل النبي
فنزلت الآية
الثانية قال عكرمة نزلت الآية في قوم أسلموا بمكة ولم يمكنهم الخروج فلما كان يوم بدر أخرجهم المشركون معهم كرها فقتلوا قال وفيهم نزلت (* (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) *) [النساء 98 - 99]
الثالثة قال مجاهد أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله وأبو بكر
162

وبلال وخباب وعمار وصهيب وسمية فأما رسول الله فمنعه أبو طالب وأما أبو بكر فمنعه قومه وأما الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد وأوقفوهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس فلما كان من العشاء أتاهم أبو جهل ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبخهم ثم أتى سمية فطعن بالحربة في قبلها حتى خرجت من فمها فهي أول شهيد استشهد في الإسلام
وقال الآخرون ما سألوهم إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه فجعلوا يعذبونه ويقولون له ارجع إلى ربك وهو يقول أحد أحد حتى ملوه ثم كتفوه وجعلوا في عنقه حبلا من ليف ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبي مكة حتى ملوه وتركوه فقال عمار كلنا قد تكلم بالذي قالوا له لولا أن الله تداركنا غير بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله فهان على قومه حتى تركوه فنزلت هذه الآية في هؤلاء
والصحيح أن أبا بكر اشترى بلالا فأعتقه
المسألة السادسة
لما سمح الله تعالى في الكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به حمل العلماء عليه فروع الشريعة فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولا يترتب حكم عليه وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء ' رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه '
والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء ولكنهم اختلفوا في تفاصيل منها قول ابن الماجشون في حد الزنا وقد تقدم ومنها قول أبي حنيفة إن طلاق المكره يلزم؛ لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل وهذا قياس باطل؛ فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راض به
قوله (* (إن ذلكم كان يؤذي النبي) *) وكذلك يؤذي أزواجه ولكن لما كان البيت بيت النبي والحق حق النبي أضافه إليه
وقد اختلف العلماء في بيوت النبي إذ كن يسكن فيها هل هن ملك لهن أم لا
فقال طائفة كانت ملكا لهن بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي إلى وفاتهن وذلك أن النبي وهب لهن ذلك في حياته
وقالت عائشة لم يكن ذلك لهن هبة وإنما كان إسكانا كما يسكن الرجل أهله وتمادى سكناهن بها إلى الموت لأحد وجهين إما لأن عدتهن لم تنقض إلا بموتهن وإما لأن النبي استثنى لذلك لهن مدة حياتهن كما استثنى نفقاتهن بقوله ما تركت بعد نفقة عيالي ومؤنة عاملي فهو صدقة فجعلها النبي صدقة بعد نفقة العيال والسكنى من جملة النفقات فإذا متن رجعت مساكنهن إلى أصلها من بيت المال كرجوع نفقاتهن
والدليل القاطع لذلك أن ورثتهن لم يرثوا عنهن شيئا من ذلك ولو كانت المساكن ملكا لهن لورث ذلك ورثتهن عنهن فلما ردت منازلهن بعد موتهن في المسجد الذي تعم منفعته جميع المسلمين دل ذلك على أن سكناهن إنا كانت متاعا لهن إلى الممات ثم رجعت إلى أصلها في منافع المسلمين
المسألة الرابعة قوله (* (إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) *))
وقد تقدم القول في الإذن وأحكامه في سورة النور
المسألة الخامسة قوله (* (إلى طعام) *))
يعني به هاهنا طعام الوليمة والأطعمة عند العرب عشرة
المأدبة وهي طعام الدعوة كيفما وقعت
طعام الزائر التحفة فإن كان بعده غيره فهو النزل
163

والمكره غير راض به ولا نية له في الطلاق وقد قال النبي ' إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى '
ومنها أن المكره على القتل إذا قتل يقتل؛ لأنه قتل من يكافئه ظلما استبقاء لنفسه فقتل كما لو قتله الجماعة
وقال أبو حنيفة وسحنون لا يقتل وهي عثرة من سحنون وقع فيها بأسد بن الفرات الذي تلقفها عن أصحاب أبي حنيفة بالعراق وألقاها إليه ومن يجوز له أن يقي نفسه بأخيه المسلم وقد قال رسول الله ' المسلم أخو المسلم لا يثلمه ولا يظلمه ' وقال النبي ' انصر أخاك ظالما أو مظلوما ' قالوا يا رسول الله؛ هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال ' تكفه عن الظلم؛ فذلك نصرك إياه '
المسألة السابعة
من غريب الأمر أن علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث في اليمين هل يقع به أم لا؟ وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم لا كانت هذه المسألة ولا كانوا هم وأي فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع فاتقوا الله وراجعوا بصائركم ولا تغتروا بذكر هذه الرواية فإنها وصمة في الدراية
164

المسألة الثامنة
إذا اكره الرجل على إسلام أهله لما لا يحل أسلمها ولم يقتل نفسه دونها ولا احتمل إذاية في تخليصها
والأصل في ذلك ما أخبرنا أبو الحسن بن أيوب بمدينة السلام أنبأنا أبو عبد الله الحسن بن محمد أنبأنا أبو علي بن حاجب حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل أنبأنا أبو اليمان أنبأنا شعيب أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله ' هاجر إبراهيم بسارة ودخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فأرسل إليه أن أرسل إلي بها فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي فقالت اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي الكافر فغط حتى ركض برجله '
المسألة التاسعة
فإن كان الإكراه بحق عند الإباية من الانقياد إليه فإنه جائز شرعا تنفذ معه الأحكام ولا يؤثر في رد شيء منها ولا خلاف فيه
وقد اتفق العلماء على أن دليل ذلك ما روى أبو هريرة قال بينا نحن في المسجد الحرام إذ خرج علينا رسول الله فقال ' انطلقوا إلى يهود ' فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدارس فقام النبي فناداهم ' يا معشر يهود أسلموا تسلموا ' فقالوا له قد بلغت يا أبا القاسم فقال ' ذلك أريد ' ثم قالها الثانية فقالوا قد بلغت يا أبا القاسم ثم قال الثالثة فقال ' اعلموا أنما الأرض لله ولرسوله وأني أريد أن أجليكم فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله ' ولهذا الحديث من قول النبي وفعله ومن حكم عمر بن الخطاب وعمله نظائر ويترتب على بيع المضطر أحكام بيانها في كتب الفروع والله أعلم
165

الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) *) [الآية 116]
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في قراءتها
قرأها الجماعة الكذب - بنصب الكاف؛ وخفض الذال ونصب الباء وقرأها الحسن وغيره مثله إلا أن الباء مخفوضة وقرأها قوم بضم الكاف والذال فالقراءة الأولى يكون فيها الكذب على الاتباع لموضع ما يقولون ومن رفع الكاف والذال جعله نعتا للألسنة ومن نصب الكاف والباء جعله مفعول قوله تقولوا وهو بين كله
المسألة الثانية معنى الآية
لا تصفوا الأعيان بأنها حلال أو حرام من قبل أنفسكم؛ إنما المحرم المحلل هو الله سبحانه وهذا رد على اليهود الذين كانوا يقولون أن الميتة حلال وعلى العرب الذين كانوا يقولون ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا؛ افتراء على الله بضلالهم واعتداء وإن أمهلهم الباري في الدنيا فعذاب الآخرة أشد وأبقى
المسألة الثالثة
قال ابن وهب قال لي مالك لم يكن من فتيا المسلمين أن يقولوا هذا حرام وهذا حلال ولكن يقولون إنا نكره هذا ولم أكن لأصنع هذا فكان الناس يطيعون ذلك ويرضون به ومعنى هذا أن التحريم والتحليل إنما هو لله كما تقدم
166

بيانه فليس لأحد أن يصرح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون الباري يخبر بذلك عنه وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول إني أكره كذا وكذلك كان مالك يفعل؛ اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى
فإن قيل فقد قال فيمن قال لزوجته أنت علي حرام - إنها حرام - وتكون ثلاثا قلنا سيأتي بيان ذلك في سورة التحريم إن شاء الله
ونقول ها هنا إن الرجل هو الذي ألزم ذلك لنفسه فألزمه مالك ما التزم
جواب آخر
وهو أقوى؛ وذلك أن مالكا لما سمع علي بن أبي طالب يقول إنها حرام أفتى بذلك اقتداء به وقد يتقوى الدليل على التحريم عند المجتهد فلا بأس أن يقول ذلك عندنا كما يقول إن الربا حرام في غير الأعيان الستة التي وقع ذكرها في الربا وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح وكثيرا ما يطلق مالك فذلك حرام لا يصلح في الأموال الربوية وفيما خالف المصالح وخرج عن طريق المقاصد لقوة الأدلة في ذلك
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين) *) [الآية 12]
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال ابن وهب وابن القاسم كلاهما عن مالك قال بلغني أن عبد الله بن مسعود قال يرحم الله معاذ بن جبل كان أمة قانتا لله فقيل يا أبا عبد الرحمن؛ إنما ذكر الله بهذا إبراهيم! فقال ابن مسعود إن الأمة الذي يعلم الناس الخير وإن القانت هو المطيع
وقال الشعبي حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال قال ابن مسعود إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا فقلت في نفسي غلط أبو عبد الرحمن إنما قال الله تعالى إن
167

إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا فقال أتدري ما الأمة القانت؟ قلت الله أعلم قال الأمة الذي يعلم الخير والقانت لله المطيع لله ولرسوله وكذلك كان معاذ بن جبل يعلم الخير وكان مطيعا لله ولرسوله
المسألة الثانية الحنيف
المخلص وكان إبراهيم قائما لله بحقه صغيرا وكبيرا آتاه الله رشده كما أخبر عنه فنصح له وكسر الأصنام وباين قومه بالعداوة ودعا إلى عبادة ربه ولم تأخذه في الله لومة لائم؛ فأعطاه الله ألا يبعث نبيا بعده إلا من ذريته وأعطاه الله ألا يسافر في الأرض فتخطر سارة بقلبه إلا هتك الله بينه وبينها الحجاب فيراها وكان أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى وعمل بالسنن نحو قص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة وأعطاه الله الذكر الجميل في الدنيا فاتفقت الأمم عليه ولم ينقص ما أعطي في الدنيا من حظه في الآخرة وأوحي إلى محمد وأمته أن اتبع ملة إبراهيم فإنه كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين فعلى كل عبد أن يطيع الله ويعلم الأمة فيكون في دين إبراهيم على الملة
الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) *) [الآية 124]
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
المراد بالذين اختلفوا فيه اليهود والنصارى أي فرض تعظيم يوم السبت على الذين اختلفوا فيه؛ فقال بعضهم؛ هو أفضل الأيام؛ لأن الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثم سبت يوم السبت
168

وقال آخرون أفضل الأيام يوم الأحد؛ لأنه اليوم الذي ابتدأ فيه خلق الأشياء فاختلفوا في تعظيم غير ما فرض عليهم تعظيمه ثم بعد ذلك استحلوه
المسألة الثانية ما الذي اختلفوا فيه؟
فيه خمسة أقوال
الأول أنهم اختلفوا في تعظيمه كما تقدم؛ قاله مجاهد
الثاني اختلفوا فيه؛ استحله بعضهم وحرمه آخرون؛ قاله ابن جبير
الثالث قال ابن زيد كانوا يطلبون يوم الجمعة فأخطأوه وأخذوا السبت ففرض عليهم
وقيل في القول الرابع إنهم ألزموا يوم الجمعة عيدا فخالفوا وقالوا نريد يوم السبت؛ لأنه فرغ فيه من خلق السماوات
الخامس روي أن عيسى أمر النصارى أن يتخذوا يوم الجمعة عيدا فقالوا لا يكون عيدنا إلا بعد عيد اليهود فجعلوه الأحد
وروي أن موسى قال لبني إسرائيل تفرغوا إلى الله في كل سبعة أيام في يوم تعبدونه ولا تعملون فيه شيئا من أمر الدنيا؛ فاختاروا يوم السبت فأمرهم موسى بالجمعة فأبوا إلا السبت فجعله الله عليهم
المسألة الثالثة
الذي يفصل هذا القول ما روي أن النبي قال ' نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد '
169

فقوله ' فهذا اليوم اختلفوا فيه فهدانا الله له ' يدل على أنه عرض عليهم فاختار كل أحد ما ظهر إليه وألزمناه من غير عرض فالتزمناه
وقد روي في بعض طرق الحديث الصحيح ' فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه '
وفي الصحيح في بعض طرق الحديث ' فسكت ثم قال حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده وهذا مجمل فسره الحديث الصحيح ' غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم '
المسألة الرابعة
روي أن اليهود حين اختاروا يوم السبت قالوا إن الله ابتدأ الخلقة يوم الأحد وأتمها يوم الجمعة واستراح يوم السبت فنحن نترك العمل يوم السبت
فأكذبهم الله في قولهم بقوله تعالى ' ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهم في ستة أيام) [ق 38] الآية
فلما تركوا العمل في يوم السبت بالتزامهم وابتدعوه برأيهم الفاسد واختيارهم الفائل كان منهم من رعاه ومنهم من اخترمه فسخط الله على الجميع حسبما تقدم في سورة الأعراف
واختار الله لنا يوم الجمعة فقبلنا خيرة ربنا لنا والتزمنا من غير مثنوية ما
170

ألزمنا وعرفنا مقدار فضله فقال لنا في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ' خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح إلى حين تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ' في حديث طويل هذا أكثره
وجمع لنا فيه الوجهين فضل العمل في الآخرة وجواز العمل في الدنيا وخشي علينا رسول الله ما جرى لمن كان قبلنا من التنطع في يومهم الذي اختاروه فمنعنا من صيامه
فقال ' لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام ' وعلى ذلك كثير من العلماء
ورأى مالك أن صومه جائز كسائر الأيام وقال إن بعض أهل العلم في زمانه كان يصومه وأراه كان يتحراه
ونهي النبي عن تخصيصه أشبه بحال العالم اليوم؛ فإنهم يخترعون في الشريعة ما يلحقهم بمن تقدم ويسلكون به سنتهم؛ وذلك مذموم على لسان الرسول؛ فإن الله شرع فيه الصلاة ولم يشرع فيه الصيام وشرع فيه الذكر والدعاء؛ فوجب الاقتفاء لسنته والاقتصار على ما أبان من شرعته والفرار عن الرهبانية المبتدعة والخشية من الباطل المذموم على لسان الرسول
171

المسألة الخامسة
قوله ' فيه خلق آدم ' يعني جمع فيه خلقه ونفخ فيه الروح وهذا فضل بين
وقوله ' فيه أهبط إلى الأرض ' يخفى وجه الفضل فيه؛ ولكن العلماء أشاروا إلى أن وجه التفضيل فيه أنه تيب عليه من ذنبه وهبط إلى الأرض لوعد ربه حين قال (* (إني جاعل في الأرض خليفة) *) [البقرة 3] فلما سبق الوعد به حققه الله له في ذلك ونفاذ الوعد خير كثير وفضل عظيم ووجه الفضل في مونه أن الله جعل له ذلك اليوم للقائه
فإن قيل فقد جعل الله لمحمد يوم الاثنين وقتا للقائه
قلنا يكون هذا أيضا فضلا يشترك فيه مع يوم الجمعة ويبقى ليوم الجمعة فضله الذي أعطاه الله له زائدا على سائر أيام الجمعة؛ ومن شارك شيئا في وجه وساواه فيه لا يمتنع أن يفضله في وجوه أخر سواه
وأما وجه تفضيله في قيام الساعة فيه فلأن يوم القيامة أفضل الأيام فجعل قدومه في أفضل الأوقات وتكون فاتحته في أكرم أوقات سائر الأيام ومن فضله استشعار كل دابة وتشوقها إليه؛ لما يتوقع فيه من قيام الساعة؛ إذ هو وقت فنائها وحين اقتصاصها وجزائها حاش الجن والإنس اللذين ركبت فيهما الغفلة التي تردد فيها الآدمي بين الخوف والرجاء وهما ركنا التكليف ومعنى القيام بالأمر والنهي وفائدة جريان الأعمال على الوعد والوعيد وتمام الفضل ووجه الشرف تلك الساعة التي ينشر الباري فيها رحمته ويفيض في الخلق نيله ويظهر فيها كرمه؛ فلا يبقى داع إلا يستجيب له ولا كرامة إلا ويؤتيها ولا رحمة إلا يبثها لمن تأهب لها واستشعر بها ولم يكن غافلا عنها
ولما كان وقتا مخصوصا بالفضل من بين سائر الأوقات قرنه الله بأفضل الحالات للعبد وهي حالة الصلاة فلا عبادة أفضل منها ولا حالة أخص بالعبد من تلك الحالة؛ لأن الله جمع فيها عبادات الملائكة كلهم؛ إذ منهم قائم لا يبرح عن قيامه
172

وراكع لا يرفع عن ركوعه وساجد لا يتفصى من سجوده فجمع الله لبنى آدم عبادات الملائكة في عبادة واحدة
وقد جاء في الحديث ' إن العبد إذا نام في سجوده باهى الله به ملائكته يقول يا ملائكتي انظروا عبدي روحه عندي وبدنه في طاعتي ' وصارت هذه الساعة في الأيام كليلة القدر في الليالي في معنى الإبهام لما بيناه من قبل في أن إبهامها أصلح للعباد من تعيينها لوجهين
أحدهما أنها لو علمت وهتكوا حرمتها ما أمهلوا وإذا أبهمت عليهم عم عملهم اليوم كله والشهر كله كما أبهمت الكبائر في الطرف الآخر وهو جانب السيئات ليجتنب العبد الذنوب كلها؛ فيكون ذلك أخلص له فإذا أراد العبد تحصيل ليلة القدر فليقم الحول على رأي ابن مسعود أو الشهر كله على رأى آخرين أو العشر الأواخر على رأي كل أحد
ولقد كنت في البيت المقدس ثلاثة أحوال وكان بها متعبد يترصد ساعة الجمعة في كل جمعة فإذا كان هذا يوم الجمعة مثلا خلا بربه من طلوع الفجر إلى الضحى ثم انصرف فإذا كان في الجمعة الثانية خلا بربه من الضحى إلى زوال الشمس فإذا كان في الجمعة الثالثة خلا بربه من زوال الشمس إلى العصر ثم انقلب فإذا كان في الجمعة الرابعة خلا بربه في العصر إلى مغرب الشمس فتحصل له الساعة في أربع جمع فاستحسن الناس ذلك منه
وقال لنا شيخنا أبو بكر الفهري هذا لا يصح له؛ لأن من الممكن أن تكون في اليوم الذي يرصدها من الزوال إلى العصر تكون من العصر إلى الغروب وفي اليوم الذي تكون من العصر إلى الغروب يترصدها هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إلى الضحى؛ إذ يمكن أن تنتقل في كل جمعة ولا تثبت على ساعة واحدة في كل يوم؛ يشهد لصحة ذلك انتقال ليلة القدر في ليالي الشهر؛ فإنها تكون في كل عام في ليلة لا تكون فيها في العام الآخر
173

والدليل عليه أن النبي نصب لهم عليها علامة مرة فوجدوا تلك العلامة ليلة سبع وعشرين وسأله آخر متى ينزل فإنه شاسع الدار؟ فقال له انزل ليلة ثلاث وعشرين وما كان ليعلم علامة فلا يصدق وما كان أيضا ليسأله سائل ضعيف لا يمكنه ملازمته عن أفضل وقت ينزل إليه فيه وأكرم ليلة يأتيه فيها ليحصل له فضله فيحمله على الناقص عن غيره المحطوط عن سواه وهذا كله يدلك على أن من أراد تحصيل الساعة عمر اليوم كله بالعبادة أو تحصيل الليلة قام الشهر كله في جميع لياليه
فإن قيل فإذا خرج إلى الوضوء أو اشتغل بالأكل فجاءت تلك الساعة في تلك الحالة وهو غير داع ولا سائل كيف يكون حاله؟
قلنا إذا كان وقته كله معمورا بالعبادة والدعاء فجاءت وقت الوضوء أو الأكل أعطي طلبته وأجيبت دعوته ولم يحاسب من أوقاته بما لا بد له منه على أني قد رأيت من علمائنا من قال إذا توضأ أو أكل فاشتغل بذلك بدنه ولسانه فليقبل على الطاعة بقلبه حتى يلقى تلك الساعة متعبدا بقلبه وهذا حسن وهو عندي غير لازم؛ بل يكفي أن يكون ملازما للعبادة ما عدا أوقات الوضوء والاكل فيعفى عنه فيها ويعطى عندها كل ما سأل في غيرها بلطف الله بعباده وسعة رحمته لهم وعموم فضله لا رب غيره
على أن مسلما قد كشف الغطاء عن هذا الخلفاء فقال - عن النبي إنه سئل عن الساعة التي في يوم الجمعة فقال ' هي من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة '
هذا نص جلي والحمد لله
وفي سنن أبي داود عن النبي نص في أنها بعد العصرولا يصح
174

الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى (* (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) *) [الآية 126]
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك روايات أصلها روايتان
إحداهما أنه لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثلوا بهم فقالت الأنصار لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم قال فلما كان فتح مكة فأنزل الله (* (وإن عاقبتم) *) الآية فقال رجل لا قريش بعد اليوم؛ فقال رسول الله ' كفوا عن القوم إلا أربعة '
الثانية أن النبي وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد فنظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء كان أوجع منه لقلبه ونظر إليه قد مثل به فقال ' رحمة الله عليك فإنك كنت - ما عرفتك - فعولا للخيرات وصولا للرحم ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفراد شتى أما والله مع ذلك لأمثلن بسبعين منهم '
فنزل جبريل - والنبي واقف - بخواتيم النحل (* (وإن عاقبتم) *) الآيات؛ فصبر النبي وكفر عن يمينه ولم يمثل بأحد
175

المسألة الثانية
قال علماؤنا الجزاء على المثلة عقوبة؛ فأما ابتداء فليس بعقوبة ولكنها سميت باسمها كما قال (* (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) *) [البقرة 194] وكما قال (* (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *) [الشورى 4]؛ وعادة العرب هكذا في الازدواج فجاء القرآن على حكم اللغة وقد تقدم بيان ذلك
المسألة الثالثة
في هذه الآية جواز التماثل في القصاص فمن قتل بحديدة قتل بها وكذلك من قتل بحجر أو حبل أو عود امتثل فيه ما فعل وقد بينا ذلك فيما تقدم في البقرة والمائدة وغيرهما فلا معنى لإعادته
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) *))
إشارة إلى فضل العفو وقد تقدم في المائدة وغيرها والله الموفق للصواب
176

سورة الإسراء
فيها عشرون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) *) [الآية 1]
فيها ست مسائل
المسألة الأولى في (* (سبحان) *))
وفيه أربعة أقوال
الأول أنه منصوب على المصدر؛ قاله سيبويه والخليل ومنعه عندهما من الصرف كونه معرفة في آخره زائدان وذكر سيبويه أن من العرب من يصرفه ويصرفه
الثاني قال أبو عبيدة هو منصوب على النداء
الثالث أنه موضوع موضع المصدر منصوب لوقوعه موقعه
الرابع أنها كلمة رضيها الله لنفسه؛ قاله علي بن أبي طالب ومعناها عندهم براءة الله من السوء وتنزيه الله منه قال الشاعر
(أقول لما جاءني فخره
* سبحان من علقمة الفاخر))
المسألة الثانية
أما القول بأنه مصدر فلأنه جار على بناء المصادر فكثيرا ما يأتي على فعلان وأما القول بأنه اسم وضع للمصدر فلأنهم رأوه لا يجري على الفعل الذي هو سبح وأما
177

قول أبي عبيدة بأنه منادى فإنه ينادى فيه بالمعرفة من مكان بعيد وهو كلام جمع فيه بين دعوى فارغة لا برهان عليها ثم لا يعصمه ذلك من أن يقال له هل هو اسم أو مصدر؟ وما زال أبو عبيدة يجري في المنقول طلقه حتى إذا جاء المعقول عقله العي وأغلقه
وقد جمع في هذه الكلمة أبو عبد الله بن عرفة جزءا قرأناه بمدينة السلام ولم يحصل له فيه عن التقصير سلام والقدر الذي أشار إليه سيبويه فيه يكفي فليأخذ كل واحد منكم ويكتفي
المسألة الثالثة قوله (* (أسرى بعبده) *))
قال علماؤنا لو كان للنبي اسم أشرف منه لسماه في تلك الحالة العلية به وفي معناه تنشد الصوفية
(يا قوم قلبي عند زهراء
* يعرفها السامع والرائي)
(لا تدعني إلا بيا عبدها
* فإنه أشرف أسمائي)
وقال الأستاذ جمال الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن لما رفعه إلى حضرته السنية وأرقاه فوق الكواكب العلوية ألزمه اسم العبودية له تواضعا للإلهية
المسألة الرابعة
قضى الله بحكمته وحكمه أن يتكلم الناس هل أسري بجسد رسول الله أم بروحه؟ ولولا مشيئة ربنا السابقة بالاختلاف لكانت المسألة أبين عند الإنصاف؛ فإن المنكر لذلك لا يخلو أن يكون ملحدا ينكر القدرة ويرى أن الثقيل لا يصعد علوا وطبعه استفال فما باله يتكلم معنا في هذا الفرع وهو منكر للأصل؛ وهو وجود الإله وقدرته وأنه يصرف الأشياء بالعلم والإرادة لا بالطبيعة
وإن كان المنكر من أغبياء الملة يقر معنا بالإلهية والعلم والإرادة والقدرة على التصريف والتدبير والتقدير فيقال له وما الذي يمنع من ارتقاء النبي في الهواء بقدرة خالق الأرض والسماء؟
178

فإن قال لأنه لم يرد
قلنا له قد ورد من كل طريق على لسان كل فريق منهم أبو ذر؛ قال أنس قال أبو ذر قال رسول الله ' فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا فلما انتهينا إلى سماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء افتح قال من هذا؟ قال هذا جبريل قال هل معك أحد؟ قال نعم معي محمد فقال أرسل إليه؟ فقال نعم فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح
قلت يا جبريل من هذا؟ قال هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى ثم عرج بي إلى السماء الدنيا الثانية فقال لخازنها افتح فقال له خازنها مثل ما قال له الأول ففتح
قال أنس فذكر أنه وجد في السماء آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة
قال أنس فلما مر النبي مع جبريل بإدريس فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح فقلت من هذا؟ قال هذا إدريس ثم مررت بموسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا؟ قال موسى ثم مررت بعيسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا؟ قال عيسى ثم مررت بإبراهيم فقال مرحبا بالنبي الصلاح والابن الصالح قلت من هذا؟ قال إبراهيم '
قال ابن شهاب فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان قال النبي ' ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام '
179

قال ابن حزم وأنس بن مالك قال النبي ففرض الله على أمتي خمسين صلاة فرجعت بذلك حتى مررت بموسى فقال ماذا فرض الله على أمتك قلت فرض خمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعني فرجعت فوضع شطرها فرجعت إلى موسى قلت وضع شطرها فقال ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجعت فوضع شطرها فرجعت إليه فقال ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجعت فوضع شطرها فرجعت إليه فقال ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعته فقال هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي
فرجعت إلى موسى فقال ارجع إلى ربك فقلت قد استحييت من ربي
قال ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك
فإن قيل فقد ثبت في الصحيح عن أنس أنه قال قال رسول الله بينا أنا بين النائم واليقظان وذكر حديث الإسراء بطوله إلى أن قال ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام
قلنا عنه أجوبة منها
أن هذا اللفظ رواه شريك عن أنس وكان تغير بأخرة فيعول على روايات الجميع
الثاني أنه يحتمل أنه أرى النبي الإسراء رؤيا منام وطده الله بها ثم أراه إياها رؤيا عين كما فعل به حين أراد مشافهته بالوحي أرسل إليه الملك في المنام بنمط من ديباج فيه اقرأ باسم ربك وقال الله اقرأ فقال ما أنا بقارئ فغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ إلى آخر الحديث
180

فلما كان بعد ذلك جاءه الملك في اليقظة بمثل ما أراده في المنام وكانت الحكمة في ذلك أن أراه الله في المنام ما أراه من ذلك توطيدا وتثبيتا لنفسه حتى لا يأتيه الحال فجأة فتقاسي نفسه الكريمة منها شدة لعجز القوى الآدمية عن مباشرة الهيئة الملكية
وقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق عن ابن عباس في قوله تعالى (* (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) *) الإسراء 6 ولو كانت رؤيا منام ما افتتن بها
أحد ولا أنكرها فإنه لا يستبعد على أحد أن يرى نفسه يخترق السماوات ويجلس على الكرسي ويكلمه الرب
المسألة الخامسة
في هذه القصة كان فرض الصلاة وقد روي أن النبي كان يصلي قبل الإسراء صلاة العشي والإشراق ويتنفل في الجملة ولم يثبت ذلك من طريق صحيحة حتى رفعه الله مكانا عليا وفرض عليه الصلاة ونزل عليه جبريل فعلمه أعدادها وصفاتها وهي
المسألة السادسة
قال النبي أمني جبريل عند البيت مرتين وصلى بي الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس وصلى بي العصر عندما صار ظل كل شيء مثله وصلى بي المغرب حين غربت الشمس وصلى بي العشاء عندما غاب الشفق وصلى بي الصبح حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب على الصائم ثم صلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه وصلى بي المغرب حين غربت الشمس لوقتها بالأمس وصلى بي العشاء حين ثلث الليل وصلى بي الصبح وقائل يقول أطلعت الشمس لم تطلع ثم قال يا محمد هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين
181

وقد مهدنا القول في الحديث في شرح الصحيحين وبينا ما فيه من علوم على اختلاف أنواعها من حديث وطرقه ولغة وتصريفها وتوحيد وعقليات وعبادات وآداب ونحو ذلك فيما نيف على ثلاثين ورقة فلينظر هنالك ففيه الشفاء من داء الجهل إن شاء الله
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) *) الآية 16
فيها مسألة واحدة وهي قوله أمرنا
فيها من القراءات ثلاث قراءات
القراءة الأولى أمرنا بتخفيف الميم القراءة الثانية بتشديدها القراءة الثالثة آمرنا بمد بعد الهمزة وتخفيف الميم
فأما القراءة الأولى فهي المشهورة ومعناه أمرناهم بالعدل فخالفوا ففسقوا بالقضاء والقدر فهلكوا بالكلمة السابقة الحاقة عليهم
وأما القراءة الثانية بتشديد الميم فهي قراءة علي وأبي العالية وأبي عمرو وأبي عثمان النهدي ومعناه كثرناهم والكثرة إلى التخليط أقرب عادة
وأما قراءة المد في الهمزة وتخفيف الميم فهي قراءة الحسن والأعرج وخارجة عن نافع ويكون معناه الكثرة فإن أفعل وفعل ينظران في التصريف من مشكاة واحدة
ويحتمل أن يكون من الإمارة أي جعلناهم أمراء فإما أن يريد من جعلهم ولاة فيلزمهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيقصرون فيه فيهلكون
وإما أن يكون من أن كل من ملك دارا وعيالا وخادما فهو ملك وأمير فإذا
182

صلحت أحوالهم أقبلوا على الدنيا وآثروها على الآخرة فهلكوا ومنه الأثر خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة أي كثيرة النتاج وإليه يرجع قوله (* (لقد جئت شيئا إمرا) *) الكهف 71 أي عظيما
والقول فيها من كل جهة متقارب متداخل وقد قدمنا القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يغني عن إعادته وأكثر ما يكون هذا الفسق وأعظمه في المخالفة الكفر أو البدعة وقد قال تعالى في نظيره (* (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) *) هود 1 11 12
فهؤلاء قوم عصوا وكفروا وهذه صفة الأمم السالفة في قصص القرآن وأخبار من مضى من الأمم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) *) الآيتان 18 19
قد قدمنا أن الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى وبينا أن من أراد غير الله فهو متوعد وأوضحنا أن آية الشورى مطلقة في أن من أراد الدنيا يؤتيه الله منها وليس له في الآخرة نصيب وهذه مقيدة في أنه إنما يؤتى حظه في الدنيا من يشاء الله أن يؤتيه ذلك وليس الوعد بذلك عاما لكل أحد ولا يعطى لكل مريد لقوله (* (عجلنا له فيها) *) الآية
183

الآية الرابعة
قوله تعالى (* (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) *) الآية 23 24
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله (* (وقضي) *))
قد بينا تفسير هذه اللفظة في كتاب المشكلين بجميع وجوهها وأوضحنا أن من معانيها خلق ومنها أمر ولا يجوز أن يكون معناها هاهنا إلا أمر لأن الأمر يتصور وجود
مخالفته ولا يتصور وجود خلاف ما خلق الله لأنه الخالق هل من خالق غير الله فأمر الله سبحانه بعبادته وببر الوالدين مقرونا بعبادته كما قرن شكرهما بشكره ولهذا قرأها ابن مسعود ووصى ربك
وفي الصحيح عن أبي بكرة قال رسول الله ألا أخبركم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين
وعن أنس في الصحيح أيضا الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين ومن البر إليهما والإحسان إليهما ألا نتعرض لسبهما وهي
المسألة الثانية
ففي الصحيح عن عبد الله بن عمرو أنه قال قال رسول الله إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل
184

والديه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه حتى إنه يبره وإن كان مشركا إذا كان له عهد قال الله (* (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) *) الممتحنة 8 وهي
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما) *))
خص حالة الكبر لأنها بطول المدى توجب الاستثقال عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه ويستطيل عليهما بدالة النبوة وقلة الديانة
وأقل المكروه أن يؤفف لهما وهو ما يظهره بتنفسه المردد من الضجر وأمر بأن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة وهو السالم عن كل عيب من عيوب القول المتجرد عن كل مكروه من مكروه الأحاديث ثم قال وهي
المسألة الرابعة (* (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) *))
المعنى تذلل لهما تذليل الرعية للأمير والعبيد للسادة وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده أو لغيرهم من شدة الإقبال والذل هو اللين والهون في الشيء ثم قال وهي
المسألة الخامسة (* (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) *))
معناه ادع لهما في حياتهما وبعد مماتهما بأن يكون البارئ يرحمهما كما رحماك وترفق بهما كما رفقا بك فإن الله هو الذي يجزي الوالد عن الولد إذ لا يستطيع الولد كفاء على نعمة والده أبدا
وفي الحديث الصحيح لن يجزي ولد والده إلا أن يجد مملوكا فيشتريه فيعتقه معناه يخلصه من أسر الرق كما خلصه من أسر الصغر
185

وينبغي له أن يعلم أنهما ولياه صغيرا جاهلا محتاجا فآثراه على أنفسهما وسهرا ليلهما وأناماه وجاعا وأشبعاه وتعريا وكسواه فلا يجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر إلى الحد الذي كان هو فيه من الصغر فيلي منهما ما وليا منه ويكون لهما حينئذ عليه فضل التقدم بالنعمة على المكافئ عليها
وقد أخبرني الشريف الأجل الخطيب نسيب الدولة أبو القاسم علي ابن القاضي ذو الشرفين أبو الحسين إبراهيم بن العباس الحسيني بدمشق أنبأنا أبو نصر أحمد بن الحسن ابن الحسين بن الشيرازي بمكة في المسجد الحرام سمعته داخل الكعبة من هذا الرجل وكان حافظا حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن ريدة الضبي الأصبهاني بأصبهان قراءة أنبأنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الحافظ الطبري حدثنا محمد ابن خالد بن يزيد البردعي بمصر حدثني أبو سلمة عبيد بن خلصة بمعرة النعمان حدثنا عبد الله بن نافع المدني عن المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي للرجل فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي فقال إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبي ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله فقال سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي فقال النبي إيه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال الشيخ والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي فقال قل وأنا أسمع قال قلت
(غذوتك مولودا ومنتك يافعا
* تعل بما أجني عليك وتنهل)
(إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت
* لسقمك إلا ساهرا أتململ)
(كأني أنا المطروق دونك بالذي
* طرقت به دوني فعيني تهمل)
(تخاف الردى نفسي عليك وإنها
* لتعلم أن الموت وقت مؤجل)
(فلما بلغت السن والغاية التي
* إليها مدى ما كنت فيك أؤمل)
186

(جعلت جزائي غلظة وفظاظة
* كأنك أنت المنعم المتفضل)
(فليتك إذ لم ترع حق أبوتي
* فعلت كما الجار المجاور يفعل)
قال فحينئذ أخذ النبي بتلابيب ابنه وقال أنت ومالك لأبيك
قال سليمان لا يروى هذا الحديث عن محمد بن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الإسناد تفرد به عبيد بن خلصة
وأخبرنا أبو المعالي ثابت بن بندار في دارنا بالمعتمدية أخبرنا أبو بكر أحمد بن غالب الحافظ أنبأنا أبو بكر الإسماعيلي أخبرنا أبو يعلى الموصلي حدثنا سويد بن سعيد بن عبد الغفار بن عبد الله وأخبرني عبد الله بن صالح حدثنا أبو هشام بن الوليد بن شجاع بن قيس بن هشام السكوني قالوا حدثنا علي بن مسهر عن عبد الله ابن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي قال بينا ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون غذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم الله أنه قد صدق
فقال أحدهم اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق أرز فذهب وتركه فزرعته فصار من أمره أنى اشتريت من ذلك الفرق بقرا ثم أتاني يطلب أجره فقلت له اعمد إلى تلك البقر فسقها فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساحت عنهم الصخرة
فقال الآخر اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكانت لي غنم وكنت آتيهما في كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عنهما ذات ليلة فأتيتهما وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما من رقدتهما وكرهت أن أرجع فيستيقظا لشربهما فلم أزل أنتظرهما حتى طلع
187

الفجر فقاما فشربا فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء
فقال الآخر اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم من أحب الناس إلي وأني راودتها عن نفسها فأبت على إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت عليها فجئت بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قال لي اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت عنها وتركت لها المائة دينار فإن كنت تعلم أني تركت ذلك من خشيتك فافرج عنا ففرج الله عنهم وخرجوا يمشون
ومن تمام بر الأبوين صلة أهل ودهما لما صح عن النبي أنه قال إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه
وروي عن عبد الله بن عمرو عن النبي أنه قال رضا الرب في رضا الوالدين وسخط الرب في سخط الوالدين خرجهما الترمذي
ولذلك عدل عقوقهما الإشراك في الإثم وهذا يدل على أن برهما قرين الإيمان في الأجر والله أعلم
وقد أخبرنا الشريف الأجل أبو القاسم علي بن أبي الحسن الشاشي بها قال حدثنا أبو محمد الجوهري في كتابه أنبأنا أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى الوزير حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا محمد بن عبد الوهاب حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن أسيد عن أبيه علي بن عبيد عن أبي أسيد وكان بدريا
188

قال كنت عند النبي جالسا فجاء رجل من الأنصار فقال يا رسول الله هل بقي من بر والدي من بعد موتهما شيء أبرهما به قال نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وأنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذي بقي عليك
وقد كان النبي يهدي لصدائق خديجة برا بها ووفاء لها وهي زوجة فما ظنك بالأبوين
وقد أخبرني شيخنا الفهري في المذاكرة أن البرامكة لما احتبسوا أجنب الأب فاحتاج إلى غسل فقام ابنه بالإناء على السراج ليلة حتى دفئ واغتسل به ونسأل الله التوفيق لنا ولكم برحمته
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا) *) الآيات 26 28
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
قدمنا القول في حق ذوي القربى في سورة البقرة والنساء وأكد الله ها هنا حقه لأنه وصى ببر الوالدين خصوصا من القرابة ثم ثنى التوصية بذي القربى عموما وأمر بتوصيل حقه إليه من صلة رحم وأداء حق من ميراث وسواه فلا يبدل فيه ولا يغير عن جهته بتوليج وصية أو سوى ذلك من الدخل ويدخل في ذلك قرابة رسول الله دخولا متقدما أو من طريق الأولى من جهة أن الآية للقرابة الأدنين المختصين
189

بالرجل فأما قرابة رسول الله فقد أبان الله على الاختصاص حقهم وأخبر أن محبتهم هي أجر النبي على هداه لنا
المسألة الثانية قوله تعالى (* (والمسكين وابن السبيل) *))
ولهم حقان
أحدهما أداء الزكاة
والثاني الحق المفترض من الحاجة عند عدم الزكاة أو فنائها أو تقصيرها من عموم المحتاجين وأخذ السلطان دونهم وقد حققنا ذلك فيما مضى فانظروا فيه
المسألة الثالثة قوله (* (ولا تبذر تبذيرا) *))
قال أشهب عن مالك التبذير هو منعه من حقه ووضعه في غير حقه وهو أيضا تفسير الحديث نهى النبي عن إضاعة المال وكذلك يروى عن ابن مسعود وهو الإسراف وذلك حرام بقوله (* (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) *) وذلك نص في التحريم
فإن قيل فمن أنفق في الشهوات هل هو مبذر أم لا
قلنا من أنفق ماله في الشهوات زائدا على الحاجات وعرضه بذلك للنفاد فهو مبذر ومن أنفق ربح ماله في شهواته أو غلته وحفظ الأصل أو الرقبة فليس بمبذر ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر يحجر عليه في نفقة درهم في الحرام ولا يحجر عليه ببذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد
المسألة الرابعة قوله (* (وإما تعرضن عنهم) *) الآية
أمر الله بالإقبال على الآباء والقرابة والمساكين وأبناء السبيل عند التمكن من العطاء والقدرة فإن كان عجز عن ذلك جاز الإعراض حتى يرحم الله بما يعاد عليهم به فاجعل بدل العطاء قولا فيه يسر
190

وقيل إنما أمر بالإعراض عنهم عند خوف نفقتهم في معاصي الله فينتظر رحمة الله بالتوبة عليهم
وقد قال جماعة من المفسرين إن هذه الآية نزلت في خباب وبلال وعامر بن فهيرة وغيرهم من فقراء المسلمين كانوا يأتون النبي فيسألونه فيعرض عنهم إذ لا يجد ما يعطيهم فأمر أن يحسن لهم القول إلى أن يرزقه الله ما يعطيهم وهو قوله (* (ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) *))
الآية السادسة
قوله تعالى (* (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) *) الآية 29
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) *))
هذا مجاز عبر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله فضرب له مثلا الغل الذي يمنع من تصرف اليدين وقد ضرب له النبي مثلا آخر فقال مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت ووفرت على جلده حتى يخفى بنانه ويعفو أثره وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزمت كل حلقة مكانها فهو يوسع ولا يتسع
المسألة الثانية قوله (* (ولا تبسطها كل البسط) *))
ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال فإن قبض الكف يحبس ما فيها وبسطها
191

يذهب ما فيها ومنه المثل المضروب في سورة الرعد (* (إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه) *) الرعد 14 في أحد وجهي تأويله كأنه حمله على التوسط في المنع والدفع كما قال قال (* (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) *) الفرقان 67 فيؤول معنى الكلام إلى أوجه ثلاثة
الأول لا يمتنع عن نفقته في الخير ولا ينفق في الشر
الثاني لا يمنع حق الله ولا يتجاوز الواجب لئلا يأتي من يسأل فلا يجد عطاء
الثالث لا تمسك كل مالك ولا تعط جميعه فتبقى ملوما في جهات المنع الثلاث محسورا أي منكشفا في جهة البسط والعطاء للكل أو لسائر وجوه العطاء المذمومة
المسألة الثالثة
هذا خطاب للنبي والمراد أمته وكثيرا ما جاء في القرآن فإن النبي لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب في ذلك فإنه كان قد خيره الله في الغنى والفقر فاختار الفقر يجوع يوما ويشبع يوما ويشد على بطنه من الجوع حجرين وكان على ذلك صبارا وكان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه النضير وفدك وخيبر ثم يصرف ما بقي في الحاجات حتى يأتي أثناء الحول وليس عنده شيء فلم يدخل في هذا الخطاب بإجماع من الأمة لما هو عليه من الخلال والجلال وشرف المنزلة وقوة النفس على الوظائف وعظيم العزم على المقاصد فأما سائر الناس فالخطاب عليهم وارد والأمر والنهي كما تقدم إليهم متوجه إلا أفرادا خرجوا من ذلك بكمال صفاتهم وعظيم أنفسهم منهم أبو بكر الصديق خرج عن جميع ماله للنبي فقبله منه لله سبحانه وأشار على أبي لبابة وكعب بالثلث من جميع مالهم لنقصهم عن هذه المرتبة في أحوالهم وأعيان من الصحابة كانوا على هذا فأجراهم النبي وائتمروا بأمر الله واصطبروا على بلائه ولم تتعلق قلوبهم بدنيا ولا ارتبطت أبدانهم بمال منها وذلك لثقتهم بموعود الله في الرزق وعزوب أنفسهم عن التعلق بغضارة الدنيا
192

وقد كان في أشياخي من ارتقى إلى هذه المنزلة فما ادخر قط شيئا لغد ولا نظر بمؤخر عينه إلى أحد ولا ربط على الدنيا بيد وقد تحقق أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وهو بعباده خبير بصير
الآية السابعة
قوله تعالى (* (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا) *) الآية 31
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
روى ابن مسعود عن النبي أنه سئل أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك وهذا نص صريح وحديث صحيح وذلك لأن القتل أعظم الذنوب إذ فيه إذاية الجنس وإيثار النفس وتعاطي الوحدة التي لا قوام للعالم بها وتخلق الجنسية بأخلاق السبعية وإذا كانت مع قوة الأسباب في جار أو قريب والولد ألصق القرابة وأعظم الحرمة فيتضاعف الإثم بتضاعف الهتك للحرمة
المسألة الثانية
وكان مورد هذا النهي في المقصد الأكبر أهل الموءودة الذين كانوا يرون قتل
193

الإناث مخافة الإنفاق عليهن وعدم النصرة منهن ويدخل فيه كل من فعل فعلهم من قتل ولده إما خشية الإنفاق أو لغير ذلك من الأسباب لكن هذا أقوى فيها
وقد قدمنا بيان القول في جريان القصاص بين الأب والابن بما يغني عن إعادته ها هنا
المسألة الثالثة قوله (* (إن قتلهم كان خطأ كبيرا) *))
الخاء والطاء والهمزة تتعلق بالقصد وبعدم القصد تقول خطئت إذا تعمدت وأخطأت إذا تعمدت وجها وأصبت غيره وقد يكون الخطأ مع عدم القصد وهو معنى متردد كما بينا لقوله (* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) *) النساء 92
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) *) الآية 33
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله (* (فقد جعلنا لوليه) *))
المعنى للقريب منه مأخوذ من الولي وهو القرب على ما حققناه في كتاب الأمد الأقصى والقرب في المعاني ليس بالمسافة وإنما هو بالصفات والصفة التي بها كان قريبا هي السب الذي هو البعضية فكل من كان ينتسب إليه بنوع من أنواع البعضية فهو ولي
واختلف العلماء في ذلك حسبما بيناه في مواضع كثيرة فمنهم من قال هو الوارث مطلقا فكل من ورثه فهو وليه وعلى ذلك ورد لفظ الولاية في القرآن
وتحقيق ذلك أن الله تعالى أوجب القصاص ردعا عن الإتلاف وحياة للباقين وظاهره أن يكون حقا لجميع الناس كالحدود والزواجر عن السرقة والزنا حتى لا
194

يختص بها مستحق بيد أن البارئ تعالى استثنى القصاص من هذه القاعدة وجعله للأولياء الوارثين ليتحقق فيه العفو الذي ندب إليه في باب القتل ولم يجعل عفوا في سائر الحدود لحكمته البالغة وقدرته النافذة ولهذا قال من قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يقتل أو يأخذ الدية وكانت هذه كما تقدم ذكره خاصية أعطيتها هذه الأمة تفضلا وتفضيلا وحكمة وتفصيلا فخص بذلك الأولياء ليتصور العفو أو الاستيفاء لاختصاصه بالحزن فإذا ثبت هذا وهي
المسألة الثانية
فقد اختلف قول مالك في دخول النساء في الدم فإذا قال بدخولهن فيه فلعموم الآية وإذا قال بخروجهن عنه فلأن طلب القصاص مبناه على النصر والحماية وليست المرأة من أهلها وإليه وقعت الإشارة بقوله (* (إنه كان منصورا) *)
فإذا قلنا بدخولهن فيه وهي الرواية الأخرى ففي أي شيء يكون دخولهن في ذلك روايتان
إحداهما في القود دون العفو ووجهه أن الغرض استبقاؤه لحصول الحياة والتشفي من عدم النصير وعظيم الحزن على الفقيد والنساء بذلك أخص
والثانية أن دخولهن في العفو دون القود تغليبا لجانب الإسقاط الذي يغلب في الحدود فمن أي وجه وجدنا الإسقاط وإن ضعف أمضيناه
انتصاف ذكر علي بن محمد الطبري عن إسماعيل بن إسحاق القاضي أنه احتج على منع النساء من الدخول في الآية بوجوه ركيكة منها
أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد ولم يعلم أن ما كان بمعنى الجنس استوى المذكر والمؤنث فيه
قال القاضي لم ينصف الطبري من وجهين أحدهما أنه لم يستوف كلام إسماعيل واستركه قبل استيفائه فالركيك هو قوله الذي لم يتم وتمام قول إسماعيل هو أنه
195

قال إن الولي ها هنا على التذكير لأنه واحد في معنى الجنس كما قال (* (إن الإنسان لفي خسر) *) العصر 2 فيمكن أن يكون ولي القتيل واحدا ويمكن أن يكون جماعة ولا تدخل المرأة في جملة الأولياء كما دخلت في جملة الناس حين قال (* (إن الإنسان لفي خسر) *) لأنها في هذا الموضع معناها ومعنى الرجل سواء إذ كان الخير وعمل الصالحات إنما هو شيء يخصهما في أنفسهما والولي يكون وليا لغيره وهو واحد أو أكثر والمرأة لا تستحق الولاية كلها
قال الطبري قال إسماعيل المرأة لا تستحق كل القصاص والقصاص لا بعض له فلزمه من ذلك إخراج الزوج من الولاية
قال ابن العربي تبصر أيها الطبري ما قاله إسماعيل المالكي إنما لا تستحق المرأة الولاية كلها لأنها ليست بكاملة لا في شهادة ولا في تعصيب فكيف تضعف عن الكمال في
أضعف الأحكام ويثبت القصاص لها على الكمال أين يا طبري تحقيق شيخك إمام الحرمين من هذا الكلام
وأما احتجاجك بالزوج فهو الركيك من القول فإن الزوج لا مدخل له في ولاية الدم
قال الطبري قال إسماعيل المقصود من القصاص تقليل القتل والمقصود بكثرة القتل الرجال دون النساء ويلزم على هذا ألا يجري القصاص بين الرجال والنساء
قال القاضي أبو بكر إما أن فكيك ضعفا عن لوك ما قاله إسماعيل وإما تعاميت عمدا وذلك لأن القتل والاعتداء إنما شأنه الغوائل والشحناء وهي بين الرجال دون النساء ولا يقتل على الغائلة امرأة إلا دنيء الهمة ويعير به بقية الدهر فكان ذلك واقعا في الغالب على الرجال دون النساء فوقع القول بجزاء ذلك وهو القصاص على الرجال دون النساء إذ خروج الكلام على غالب الأحوال هي الفصاحة العربية والقواعد الدينية
وقد تفطن لذلك شيخك إمام الحرمين فجعله أصلا من أصول الفقه ورد إليه كثيرا من مسائل الاجتهاد فكيف ذهلت عنه وأنت تحكيه وتعول في تصانيفك عليه
196

المسألة الثالثة قوله (* (سلطانا) *))
فيه خمسة أقوال
الأول قال ابن وهب قال مالك السلطان أمر الله في أرضه
الثاني قال ابن عباس السلطان الحجة
الثالث قال الضحاك وغيره السلطان إن شاء عفا وإن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية قاله أشهب والشافعي
الرابع السلطان طلبه حتى يدفع إليه
وهذه الأقوال متقاربة وإن كان بعضها أظهر من بعض أما طلبه حتى يدفع إليه فهو ابتداء الحق وآخره استيفاؤه وهو القول الخامس
وأمر الله هو حجة الخلق لعباده وعليهم والاستيفاء هو المنتهى وقد تداخلت وتقاربت وأوضحها قول مالك وأبي حنيفة إنه أمر الله ثم إن أمر الله لم يقع نصا فاختلق العلماء فيه فقال ابن القاسم عن مالك وأبي حنيفة القتل خاصة
وقال أشهب عنه الخيرة بين القتل والدية وبه قال الشافعي وقد قدمناه في موضعه فلينظر فيه من سورة البقرة وفي مسائل الخلاف
المسألة الرابعة قوله (* (فلا يسرف في القتل) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول قال الحسن لا يقتل غير قاتله
الثاني قال مجاهد لا يقتل بدل وليه اثنين كما كانت العرب تفعله
الثالث لا يمثل بالقاتل قاله طلق بن حبيب وكله مراد لأنه إسراف كله منهي عنه
المسألة الخامسة قوله (* (إنه كان منصورا) *))
يعني معانا
197

فإن قيل وكم من ولي مخذول لا يصل إلى حقه
قلنا المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى وبمجموعهما ثالثة فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وحكمته في الجمع بين الوجهين وفي إفراد النوعين والله أعلم
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا) *) الآيتان 34 35
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
قد قدمنا القول في مال اليتيم في مواضع بما يغني عن إعادته وقوله (* (إلا بالتي هي أحسن) *) يعني التي هي أحسن لليتيم وذلك بكل وجه تكون المنفعة فيه لليتيم لا للمتصرف فيه كقوله عائشة اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة وقد فسر مجاهد وغيره الحسن فيه يعني التجارة
المسألة الثانية قوله (* (حتى يبلغ أشده) *))
يعني قوته وقد تقدم القول في الأشد في سورة يوسف وسردنا الأقوال فيه والأشد كما قلنا في القول وقد تكون في البدن وقد تكون في المعرفة والتجربة ولا بد من حصول الوجهين فإن الأشد ها هنا وقعت مطلقة وجاء بيان اليتيم في سورة النساء مقيدا قال تعالى (* (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا) *) النساء 6
198

فجمع بين قوة البدن ببلوغ النكاح وبين قوة المعرفة بإيناس الرشد وعضد ذلك المعنى فإنه لو اقتضت الآية تمكين اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة له وبعد حصول قوة
البدن لأذهبه في شهواته وبقي صعلوكا لا مال له وخص اليتيم بهذا الشرط في هذا الذكر لغفلة الناس عنه وافتقاد الآباء لبنيهم فكان الإهمال لفقيد الأب أولى
المسألة الثالثة قوله (* (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) *))
يعني مسؤولا عنه وقد تقدم القول في العهد في مواضع
المسألة الرابعة قوله (* (وأوفوا الكيل إذا كلتم) *))
يريد أعطوه بالوفاء وهو التمام لا بخس فيه بالقسط كما أمر الله به
المسألة الخامسة قوله (* (وزنوا بالقسطاس المستقيم) *))
يعني الميزان العدل وقال الحسن هو القبان يعني به ما قال الله مخبرا عنه في موضع آخر (* (ولا تنقصوا المكيال والميزان) *) هود 84 وقال (* (ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان) *) الرحمن 7 8 لا بزيادة ولا بنقصان
ومن نوادر أبي الفضل الجوهري ما أنبأنا عنه محمد بن عبد الملك الواعظ وغيره أنه كان يقول إذا أمسكت علاقة الميزان بالإبهام والسبابة وارتفعت سائر الأصابع كان تشكلها مقروءا بقولك الله فكأنها إشارة منه سبحانه في تسيير الوزن كذلك إلى أن الله مطلع عليك فاعدل في وزنك
المسألة السادسة قوله (* (ذلك خير وأحسن تأويلا) *))
أي عاقبة معناه أن العدل والوفاء في الكيل أفضل للتاجر وأكرم للبائع من طلب الحيلة في الزيادة لنفسه والنقصان على غيره وأحسن عاقبة فإن العاقبة للمتقين
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) *) الآية 36
199

فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله (* (ولا تقف) *))
تقول العرب قفوته أقفوه وقفته أقوفه وقفيته إذا اتبعت أثره وقافية كل شيء آخره ومنه اسم النبي المقفى لأنه جاء آخر الأنبياء وأخيرهم
ومنه القائف وهو الذي يتبع أثر الشبه يقال قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك وكذلك قرأه بعضهم ولا تقف مثل تقل
المسألة الثانية في تفسير هذه اللفظة
للناس فيها خمسة أقوال
الأول لا تسمع ولا تر ما لا يحل سماعه ولا رؤيته
الثاني قال ابن عباس لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك
الثالث قال قتادة لا تقل رأيت ما لم أر ولا سمعت ما لم اسمع
الرابع قال محمد ابن الحنفية هو شهادة الزور
الخامس قيل عن ابن عباس معناه لا تقف لا تقل
المسألة الثالثة
هذه الأقوال كلها صحيحة وبعضها أقوى من بعض وإن كانت مرتبطة لأن الإنسان لا يحل له أن يسمع ما لا يحل ولا يقول باطلا فكيف أعظمه وهو الزور
ويرجع الخامس إلى الثالث لأنه تفسير له وإذا لم يحل له أن يقول ذلك فلا يحل له أن يتبعه ولذلك قال علماؤنا رحمة الله عليهم إن المفتي بالتقليد إذا خالف نص الرواية في نص النازلة عمن قلده أنه مذموم داخل في الآية لأنه يقيس ويجتهد في غير محل الاجتهاد وإنما الاجتهاد في قول الله وقول الرسول لا في قول بشر بعدهما
200

ومن قال من المقلدين هذه المسألة تخرج من قول مالك في موضع كذا فهو داخل في الآية
فإن قيل فأنت تقولها وكثير من العلماء قبلك
قلنا نعم نحن نقول ذلك في تفريع مذهب مالك على أحد القولين في التزام المذهب بالتخريج لا على أنها فتوى نازلة تعمل عليها المسائل حتى إذا جاء سائل عرضت المسألة على الدليل الأصلي لا على التخريج المذهبي وحينئذ يقال له الجواب كذا فاعمل عليه
ومنها قول الناس هل الحوض قبل الميزان والصراط أو الميزان قبلهما أم الحوض فهذا قفو مالا سبيل إلى علمه لأن هذا أمر لا يدرك بنظر العقل ولا بنظر السمع وليس فيه خبر صحيح فلا سبيل إلى معرفته ومثله كيف كفة من خفت موازينه من المؤمنين كيف يعطى كتابه
المسألة الرابعة قوله (* (إن السمع والبصر والفؤاد) *))
يسأل كل واحد منها عن ذلك كله فيسأل الفؤاد عما افتكر واعتقد والسمع والبصر عما رأى من ذلك أو سمع فأما الكافر فينكر فتنطق عليه جوارحه فإذا شهدت استوجبت الخلود الدائم وأما المؤمن العاصي فلم يأت فيه أمر صحيح فهو مثال رابع منها وقد بينا هذه المسألة في رسالة تقويم الفتوى على أهل الدعوى
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) *) الآيات 37 38 39
فيه خمس مسائل
201

المسألة الأولى قوله (* (مرحا) *))
فيه أربعة أقوال
الأول متكبرا
الثاني بطرا
الثالث شديد الفرح
الرابع النشاط
فإذا تتبعت هذه الأقوال وجدتها متقاربة ولكنها منقسمة قسمين مختلفين أحدهما مذموم والآخر محمود فالتكبر والبطر مذمومان والفرح والنشاط محمودان ولذلك يوصف الله بالفرح ففي الحديث لله أفرح بتوبة العبد من رجل الحديث
والكسل مذموم شرعا والنشاط ضده وقد يكون التكبر محمودا وذلك على أعداء الله وعلى الظلمة
وحقيقة القول في ذلك الآن أن الفرح إذا كان بدنيا وصفات ليس لها في الآخرة نصيب أو كان النشاط إلى ما لا ينفع في الآخرة ولا يكون في الوجهين جميعا نية دينية للمتصف بهما فذلك الذي ذم الله ها هنا والدليل عليه قوله في
المسألة الثانية (* (إنك لن تخرق الأرض) *))
يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها ولن تبلغ الجبال طولا وهي
المسألة الثالثة
يريد لن تساوي الجبال بطولك ولا بطولك وإنما تستقبل ما أمامك وأي فضل لك في ذلك والمساواة فيه موجودة بين الخلق
202

ويروى أن سبأ دوخ الأرض بأجناده شرقا وغربا سهلا وجبلا وقتل وأسر وبه سمي سبأ ودان له الخلق فلما قال ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج عليهم فقال إني لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا شرقت فسجدوا لها فكان ذلك أول عبادة الشمس فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر والمرح
المسألة الرابعة قوله (* (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) *))
قرئ (* (سيئة) *) برفع الهمزة وبالهاء وبنصب الهمزة والتاء فمن قرأه برفع الهمزة والهاء أراد أن الكلام المتقدم فيه حسن مأمور به وفيه سيىء منهي عنه فرجع الوصف بالسوء إلى السئ منه
ومن قرأه بالهمزة المنصوبة والتاء رجع إلى ما نهي عنه منها لأنه أكثر من المأمور به واختار الطبري الأول
فإن قيل فكيف يكون الشيء مكروها والكراهية عندكم إرادة عدم الشيء فكيف يوجد ما أراد الله عدمه
قلنا قد أجبنا عن ذلك في كتاب شرح المشكلين ببسط بيانه على الإيجاز أن معنى مكروها منهيا عنه في أحد الوجهين ومرادا مأمورا به وعلى هذا جاء قوله تعالى (* (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) *) البقرة 185 أي يأمر باليسر ولا يأمر بالعسر ويكون معناه أيضا كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها شرعا أي لا يريد أن يكون من الشرع وإن أراد وجوده كقوله (* (ولا يرضى لعباده الكفر) *) الزمر 7 معناه دينا لا وجودا لأنه وجد بإرادته ومشيئته تعالى أن يكون من عبده في ملكه ما لا يريده
المسألة الخامسة قوله (* (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة) *))
قد قدمنا بيان الحكمة هاهنا وفي كتبنا وفسرنا وجوهها ومواردها ولبابها هاهنا أنها العمل بمقتضى العلم وأعظمها قدرا وأشرفها مأمورا ما بدأ به من قوله (* (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) *) ولا تجعل مع الله إلها آخر
203

الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) *) الآية 44
فيها مسألتان
المسألة الأولى
اختلف الناس في معنى هذه الآية على أقوال كثيرة أمهاتها ستة
الأول دلالتها على وحدانية الله وقدرته وعلمه وإرادته وسائر صفاته العلا وأسمائه الحسنى
الثاني تذكرتها للتسبيح بها
الثالث كل شيء له يسبح لمح البرق وصريف الرعد وصرير الباب وخرير الماء
الرابع قال قتادة والحسن كل ذي روح يسبح
الخامس قال النخعي وغيره الطعام يسبح
السادس قال أكثر الناس من قراءة القرآن والحديث كل شيء يسبح تسبيحا لا يعلمه الآدميون
المسألة الثانية
اعلموا نور الله بصائركم بعرفانه أن هذه مسألة كثر الخوض فيها بين الناس وقد أوضحناها في كتاب المشكلين على مقتضى أدلة المعقول والمنقول وترتيب القول هاهنا أنه ليس يستحيل أن يكون للجمادات فضلا عن البهائم تسبيح بكلام وإن لم نفقهه نحن عنها إذ ليس من شرط قيام الكلام بالمحل عند أهل السنة هيئة آدمية ولا وجود بلة ولا رطوبة وإنما تكفي له الجوهرية أو الجسمية خلافا للفلاسفة وأخوتهم من القدرية الذين يرون الهيئة الأدمية والبلة والرطوبة شرطا في الكلام فإذا ثبت هذا الأصل بأدلته التي تقررت في موضعه وبأن كل عاقل يعلم أن الكلام في
204

الآدميين عرض يخلقه الله فيهم وليس يفتقر العرض إلا لوجود جوهر أو جسم يقوم به خاصة وما زاد على ذلك من الشروط فإنما هي عادة وللباري تعالى نقض العادة وخرقها بما شاء من قدرته لمن شاء من مخلوقاته وبريته ولهذا حن الجذع لرسول الله وسبح الحصى في كفه وكف أصحابه وكان بمكة حجر يسلم عليه قبل أن يبعث وكانت الصحابة تسمع تسبيح الطعام ببركته ولم يكن لذلك كله هيئة ولا جدت له رطوبة ولا بلة وعلى إنكار هذه المعجزات وإبطال هذه الآيات حامت بما ابتدعته من المقالات فيعلم كل أحد أن دلالة المخلوقات على الخالق ظاهرة وتذكرته للمؤمنين من الآدميين والمسبحين من المخلوقين بينة
وهذا وإن سمي تسبيحا فذلك شائع لغة كما كانت العرب تعبر عن لسان الحال بلسان المقال فتقول يشكو إلي جملي طول السرى وكما قالت قف بالديار فقل يا ديار من غرس أشجارك وجنى ثمارك وأجرى أنهارك فإن لم تجبك جؤارا أجابتك اعتبارا وكما قال شاعرهم عن شجرة
(رب ركب قد أناخوا حولنا
* يشربون الخمر بالماء الزلال)
(سكت الدهر زمانا عنهم
* وكذاك الدهر حالا بعد حال)
وذلك ما لا يحصى كثرة وهو عندهم من البديع في الفصاحة والغاية في البلاغة
وإن قلنا إن تسبيح البرق لمعانه والرعد هديره والماء خريره والباب صريره فنوع من الدلالة وجه من التسمية بالمجاز ظاهر
وإن قلنا إن كل ذي روح يسبح بنفسه وصورته فمثله في الدلالة وفي المجاز في التسمية
وإن قلنا إن الطعام يسبح التحق بالجماد في المعنى والعبارة عنه كما تقدم
وإن قلنا إن لكل شيء تسبيحا ربنا به أعلم لا نعلمه نحن أخذا بظاهر القرآن لم نكذب ولم نغلط ولا ركبنا محالا في العقل ونقول إنها تسبح دلالة وتذكرة وهيئة ومقالة ونحن لا نفقه ذلك كله ولا نعلم إنما يعلمه من خلقه كما قال ألا يعلم من خلق وقد مهدنا القول في ذلك في شرح الحديث عند قوله شكت النار إلى
205

ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا هل هو بكلام أو على تقدير قوله امتلأ الحوض وقال قطني والكل جاء من عندنا وربنا عليه قادر
وأكمل التسبيح تسبيح الملائكة والآدميين والجن فإنه تسبيح مقطوع بأنه كلام معقول مفهوم للجميع بعبارة مخلصة وطاعة مسلمة وأجلها ما اقترن بالقول فيها فعل من ركوع أو سجود أو مجموعهما وهي صلاة الأدميين وذلك غاية التسبيح وبه سميت الصلاة سبحة
فإن قيل فما معنى قوله (* (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) *)
قلنا أما الكفار المنكرون للصانع فلا يفقهون من وجوه التسبيح في المخلوقات شيئا كالفلاسفة فإنهم جهلوا دلالتها على الصانع فهم لما وراء ذلك أجهل
وأما من عرف الدلالة وفاته ما وراءها فهو يفقه وجها ويخفى عليه آخر فتكون الآية عل العموم في حق الفلاسفة وتكون على الخصوص فيما وراءهم ممن أدرك شيئا من تسبيحهم ولذلك قال تعالى (* (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) *) الرعد 15 فجعل تصريف الظل ذلا وعبر عنه بالسجود وهي غاية المذلة لمن له بالحقيقة وحده العزة وهذا توقيف نفيس للمعرفة فإذا انتهيتم إليه عارفين بما تقدم من بياننا فقفوا عنده فليس وراءه مزيد إلا في تفصيل الإيمان والتوحيد وذلك مبين في كتب الأصول والله أعلم
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *) الآية 64
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (واستفزز) *))
فيه قولان
206

أحدهما استخفهم
الثاني استجهلهم
ولا يخف إلا من يجهل فالجهل تفسير مجازي والخفة تفسير حقيقي
المسألة الثانية قوله (* (بصوتك) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول بدعائك
الثاني بالغناء والمزمار
الثالث كل داع دعاه إلى معصية الله قاله ابن عباس
فأما القول الأول فهو الحقيقة وأما الثاني والثالث فهما مجازان إلا أن الثاني مجاز خاص والثالث مجاز عام
وقد دخل أبو بكر بيت عائشة وفيه جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث فقال أمزمار الشيطان في بيت رسول الله فقال دعهما يا أبا بكر فإنه يوم عيد فلم ينكر النبي على أبي بكر تسمية الغناء مزمار الشيطان وذلك لأن المباح قد يستدرج به الشيطان إلى المعصية أكثر وأقرب إلى الاستدراج إليها بالواجب فيكون إذا تجرد مباحا ويكون عند الدوام وما تعلق به الشيطان من المعاصي حراما فيكون حينئذ مزمار الشيطان
ولذلك قال النبي نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين فذكر الغناء والنوح وقدمنا شرح ذلك كله
207

المسألة الثالثة قوله (* (وشاركهم في الأموال والأولاد) *))
وذلك قوله (* (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) *) النساء 119 وهذا تفسير أن صوته أمره بالباطل ودعاؤه إليه على العموم ويدخل فيه ما كانت العرب تدينه من تحريم بعض الأموال على بعض الناس وبعض الأولاد حسبما تقدم في سورة الأنعام ويدخل فيه ما شرحناه في قوله في سورة الأعراف (* (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) *) الأعراف 19 وقد أوضحنا ذلك كله
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما) *) الآية 66
قد بينا أن ركوب البحر جائز على العموم والإطلاق وقسمنا وجوه ركوبه في مقاصد الخلق به وذكرنا أن من جملته التجارة وجلب المنافع من بعض البلاد إلى بعض وهذا تصريح بذلك في هذه الآية بقوله (* (لتبتغوا من فضله) *) يعني التجارة كما قال تعالى (* (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) *) البقرة 198 وقال (* (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) *) الجمعة 1 ولا خلاف أن ذلك في هاتين الآيتين التجارة فكذلك هذه الآية وكذلك يدل
الآية الخامسة عشرة
قوله (* (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) *) الإسراء 7 على جواز ركوبه أيضا وهي الآية الخامسة عشرة وقد أوضحنا تفسيرها في اسم الكريم من كتاب الأمد الأقصى فليطلب ذلك فيه
208

الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) *) الآية 78
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى (* (أقم الصلاة) *))
أي اجعلها قائمة أي دائمة وقد تقدم
المسألة الثانية قوله (* (لدلوك الشمس) *))
وفيه قولان
أحدهما زالت عن كبد السماء قاله عمر وابن عمر وأبو هريرة وابن عباس وطائفة سواهم من علماء التابعين وغيرهم
الثاني أن الدلوك هو الغروب قاله ابن مسعود وعلي وأبي بن كعب وروي عن ابن عباس
المسألة الثالثة (* (غسق الليل) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول إقبال ظلمته
الثاني اجتماع ظلمته
الثالث مغيب الشفق وقد قيدت عن بعض العلماء أن الدلوك إنما سمي به لأن الرجل يدلك عينيه إذا نظر إلى الشمس فيه أما في الزوال فلكثرة شعاعها وأما في الغروب فليتبينها وهذا لو نقل عن العرب لكان قويا وقد قال الشاعر
(هذا مقام قدمي رباح
* حتى يقال دلكت براح)
كقوله قطام وجذام وفي ذلك كلام
وقد روى مالك في الموطأ عن ابن عباس أنه قال دلوك الشمس ميلها وغسق
209

الليل اجتماع الليل وظلمته ورواية مالك عنه أصح من رواية غيره وهو اختيار مالك في تأويل هذه الآية
وقد روي أن ابن مسعود صلى المغرب والناس يتمارون في الشمس لم تغب فقال ما شأنكم قالوا نرى أن الشمس لم تغب قال هذا والذي لا إله غيره وقت هذه الصلاة ثم قرا (* (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) *) قال وهذا دلوك الشمس وهذا غسق الليل
وتحقيق ذلك أن الدلوك هو الميل وله أول عندنا وهو الزوال وآخر وهو الغروب وكذلك الغسق هو الظلمة ولها ابتداء وانتهاء فابتداؤها عند دخول الليل وانتهاؤها عند غيبوبة الشفق فرأى مالك أن الآية تضمنت الصلوات الخمس فقوله (* (لدلوك الشمس) *) يتناول الظهر والعصر وقوله (* (غسق الليل) *) اقتضى المغرب والعشاء وقوله (* (قرآن الفجر) *) اقتضى صلاة الصبح وهي
المسألة الرابعة
وسمى صلاة الصبح قرآنا ليبين أن ركن الصلاة ومقصودها الأكبر الذكر بقراءة القرآن ولقوله تعالى (* (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) *) المزمل 2 معناه صلوا على ما يأتي بيانه إن شاء الله أطول الصلوات قراءة ولقول النبي قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يقول العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي ويقول النبي للأعرابي الذي علمه الصلاة اقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر معك من القرآن معناه صلوا على ما يأتي بيانه إن شاء الله وهي أطول الصلوات قراءة
المسألة الخامسة قوله (* (الفجر) *))
يعني سيلان الضوء وجريان النور في الأفق من فجر الماء وهو ظهوره وسيلانه فيكون كثيرا ومن هذا الفجر وهو كثرة الماء وهو ابتداء النهار وأول اليوم
210

والوقت الذي يحرم فيه الطعام والشراب على الصائم وتجوز فيه صلاة الصبح فعلا وتجب إلزاما في الذمة وحتما ويستحب فيه فعلها ندبا حسبما كان رسول الله يفعله فيها من مواظبته على صلاتها في الوقت الأول ولا يجوز أن يصلى بالمنازل لا بالطالع منها ولا بالغارب ولا بالمتوسط في كبد السماء لأنك إذا تراءيت الطالع أو الغارب فتراءى الفجر أولا لأنه لا يجوز ترك الأصل مع القدرة عليه والرجوع إلى البدل وإنما جعل الله مواقيت الصلاة بينة ليتساوى في دركها العامي والخاص ولأجل ذلك نصبها بينة للأبصار ظاهرة دون استبصار فلا عذر لأحد أن يقلبها خفية فذلك عكس الشريعة وخلط التكليف وتبديل الأحكام
المسألة السادسة قوله (* (إن قرآن الفجر كان مشهودا) *))
يعني مشهودا الملائكة الكرام والكاتبين
ثبت عن النبي من رواية الأئمة أنه قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وآتيانهم وهم يصلون
وبهذا فضلت صلاة الصبح على سائر الصلوات ويشاركها في ذلك العصر فيكونان جميعا أفضل الصلوات ويتميز عليها الصبح بزيادة فضل حتى تكون الوسطى كما بيناه في سورة البقرة والله أعلم
المسألة السابعة
ذهب قوم إلى أن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب لأن الله علق وجوبها على الدلوك وهذا دلوك كله قاله الأوزاعي وأبو حنيفة في تفصيل وأشار إليه مالك والشافعي في حال الضرورة
211

وقال آخرون وقت المغرب يكون من الغروب إلى مغيب الشفق لأنه غسق كله وهو المشهور من مذهب مالك وقوله في موطئه الذي قرأه طول عمره وأملاه حياته
ومن مسائل أصول الفقه التي بيناها فيها وأشرنا إليها في كتبنا عند جريانها أن الأحكام المعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أم بآخرها فيرتبط الحكم بجميعها
وقد اختلف في ذلك العلماء وجرى الخلاف في مسائل مالك على وجه يدل على أن ذلك مختلف عنده
والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يعود ذكرها لغوا فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكل إلى الآخر أم اقتصاره على الأول على ما يعطيه الدليل ولا بد من تعلق الصلاة بالزوال لأنه أول الدلوك وكنا نعلقها بالجميع إلا أن صلاة العصر قد أخذت منها وقتها من كون ظل كل شيء مثله فانقطع حكم الظهر لدخول وقت العصر فبقي النظر في اشتراكهما معا بدليل آخر بيناه في مسائل الفقه وشرح الحديث وفيه طول
وأما صلاة المغرب فأمرها أبين من الأول لأنها تتعلق بآخر الدلوك وهو الغروب وليس بعدها صلاة تقطع بها وتأخذ الوقت منها إلى مغيب الشفق فهل يتمادى وقتها إلى دخول وقت الصلاة الأخرى أم يتعلق بالأول خاصة
وقد بين النبي في الحديث الصحيح هذا كله فقال وقت المغرب ما لم يحضر وقت العشاء وقال أيضا فيه وقت المغرب لم من يسقط نور الشفق فارتفع الخلاف ببيان مبلغ الشريعة
212

الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *) الآية 79
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله (* (فتهجد به) *))
يعني اسهر به والهجود النوم والتهجد تفعل وهو لاكتساب الفعل وإثباته في الأصل وقد يأتي لنفيه في حروف معدودة جماعها سبعة
تهجد نفى الهجود تخوف نفى الخوف تحنث نفى الحنث تنجس ألقى النجاسة عن نفسه تحرج نفى الحرج تأثم نفى الإثم تعذر نفى العذر تقذر نفى القذر
وفي البخاري تجزع نفى الجزع
المسألة الثانية قوله (* (نافلة لك) *))
والنفل هو الزيادة كما تقدم بيانه وفي وجه الزيادة ههنا قولان
الأول أنه زيادة على فرضه خاصة دون الناس
الثاني قوله (* (نافلة لك) *) أي زيادة لأنه لا يكفر شيئا إذ غفر له ذنبه
والأول أصح لأن الثاني فاسد إذ نفله وفرضه لا يصادف ذنبا ولا صلاة الليل ولا صلاة النهار تكفران خطيئة لأن ذلك معدوم في حده وجودا معدوم في حقه مؤاخذة لو كان لفضل المغفرة من الله عليه ومن خصائص رسول الله قيام الليل وكان يقوم حتى ترم قدماه وقد بينا ذلك في سورة الأحزاب وفي سورة المزمل
المسألة الثالثة في صفة هذا التهجد
وفيه ثلاثة أقوال
الأول أنه النوم ثم الصلاة ثم النوم ثم الصلاة
213

الثاني أنه الصلاة بعد النوم
الثالث أنه بعد صلاة العشاء
وهذا دعاوي من التابعين فيها ولعلهم إنما عولوا على أن النبي كان ينام ويصلي وينام ويصلي فعولوا على أن ذلك الفعل كان امتثالا لهذا الأمر فإن كان ذلك فالأمر فيه قريب
المسألة الرابعة في وجه كون قيام الليل سببا للمقام المحمود
وفيه قولان للعلماء
أحدهما أن البارئ يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله من غير معرفة بوجه الحكمة فيه أو بمعرفة وجه الحكمة
الثاني أن قيام الليل فيه الخلوة مع البارئ والمناجاة دون الناس فيعطى الخلوة به ومناجاته في القيامة فيكون مقاما محمودا ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم فأجلهم فيه درجة محمد فإنه يعطى من المحامد ما لم يعط أحد ويضعف ولا يشفع أحد والله أعلم
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) *) الآية 85
قد أطلنا النفس في هذه الآية في كتاب المشكلين وشرح الصحيح بما يقف بكم فيها على المعرفة فأما الآن فخذوا نبذة تشرف بكم على الغرض
ثبت عن النبي من طريق ابن مسعود وغيره قال بينا أنا مع النبي في حرث وهو متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح فقال ما رابكم إليه لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه قالوا سلوه فسألوه عن
214

الروح فأمسك النبي فلم يرد عليهم شيئا فعلمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي فلما نزل الوحي قال (* (ويسألونك عن الروح) *) الآية
قال ابن وهب عن مالك لم يأته في ذلك جواب وقد قال بكر بن مضر في رواية ابن وهب عنه إن اليهود قالوا سلوه عن الروح فإن أخبركم فليس بنبي وإن لم يخبركم فهو نبي فسألوه فنزلت الآية
ومعنى هذا أن الأنبياء لا يتكلمون مع الخلق في المتشابهات ولا يفيضون معهم في المشكلات وإنما يأخذون في البين من الأمور المعقولات والروح خلق من خلق الله تعالى جعله الله في الأجسام فأحياها به وعلمها وأقدرها وبنى عليها الصفات الشريفة والأخلاق الكريمة وقابلها بأضدادها لنقصان الآدمية فإذا أراد العبد إنكارها لم يقدر لظهور آثارها وإذا أراد معرفتها وهي بين جنبيه لم يستطع لأنه قصر عنها وقصر به دونها
وقال أكثر العلماء إنه سبحانه ركب ذلك فيه عبرة كما قال (* (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) *) الذاريات 21 ليرى أن البارئ تعالى لا يقدر على جحده لظهور آياته في
أفعاله
(ففي كل شيء آية
* تدل على أنه واحد)
ولا يحيط به لكبريائه وعظمته فإذا وقف متفكرا في هذا ناداه الاعتبار لا ترتب ففيك من ذلك آثار انظر إلى موجود في إهابك لا تقدر على إنكاره لظهور آثاره ولا تحيط بمقداره لقصورك عنه فيأخذه الدليل وتقوم لله الحجة البالغة عليه
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا) *) الآية 11
215

فيها مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الآيات
وفيها خمسة أقوال
الأول قال ابن عباس هي يده وعصاه ولسانه والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم
الثاني أنها الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر وعصاه والطمسة والحجر قاله محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز فقال له عمر ما الطمسة قال قوله (* (ربنا اطمس على أموالهم) *) يونس 88 قال فدعا عمر بخريطة كانت لعبد الملك بن مروان أصيبت بمصر فإذا فيها الجوزة والبيضة والعدسة مسخت حجارة كانت من أموال فرعون بمصر
الثالث روى ابن وهب عن مالك هي الحجر والعصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطود وقال مالك الطوفان الماء
الرابع روى مطرف عن مالك هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والبحر والجبل في أقوال كثيرة
الخامس روى الترمذي وغيره عن صفوان بن عسال المرادي أن يهوديين سألا النبي عن التسع الآيات فقال هي ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ولا تسخروا ولا تقذفوا المحصنات ولا تولوا الأدبار عند الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعتدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد أنك نبي فقال وما يمنعكما أن تتبعاني فقالا إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود
216

المسألة الثانية
الذي جرى من الأحكام هاهنا ذكر العصا وسنستوفي القول فيها في سورة طه إن شاء الله
الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) *) الآية 11
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك خمسة أقوال
الأول روى البخاري وغيره عن ابن عباس أن الصلاة هنا القراءة في الصلاة قال كان النبي إذا صلى بأصحابة رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله لنبيه (* (ولا تجهر بصلاتك) *) فيسمع المشركون (* (ولا تخافت بها) *) حتى لا يسمعك أصحابك الآية
الثاني أنها نزلت في الدعاء قاله البخاري وغيره عن عائشة وابن وهب أيضا رواه عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه
الثالث قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قيل لمحمد لا تحسن صلاتك في العلانية مراءاة ولا تسيئها في المخافتة
الرابع روي عن عكرمة عن ابن عباس إنما نزلت هذه لأمر وذلك أن الله لما أنزل على رسوله في عدد خزنة النار عليها تسعة عشر قالوا في ذلك ما قالوا وجعلوا إذا سمعوا النبي يتفرقون عنه فكان الرجل إذا أراد أن يسمع استرق السمع
217

دونهم فرقا منهم فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم وإن خفض صوته يظن الذي يسمع أنهم لا يسمعون من قراءته شيئا وسمع هو شيئا منهم أصاخ له يسمع منه فقيل له لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك ولا تخافت بها فلا يسمعها من يسترق السمع رجاء أن يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به الوسنان
قال محمد بن سيرين كان أبو بكر يخافت وعمر يجهر فقيل لأبي بكر في ذلك فقال أسمع من أناجي وقيل لعمر فيه فقال أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان وأذكر الرحمن فقيل لأبي بكر ارفع قليلا وقيل لعمر اخفض قليلا وذكر هذا عند قوله تعالى (* (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) *))
المسألة الثانية
عبر الله هاهنا بالصلاة عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله (* (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) *) الإسراء 78 لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها فيعبر بالجزء عن الجملة وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز وهو كثير
المسألة الثالثة في تتبع الأسباب بالتنقيح
أما روايات ابن عباس فأصحها الأول وأما رواية عائشة فيعضدها ما روي أن النبي كان في مسير فرفعوا أصواتهم بالتكبير فقال إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا وإنما تدعون سميعا قريبا إنه بينكم وبين رؤوس رحالكم
وأما الثالث فإن صح فيكون خطابا للنبي والمراد أمته إذ لا يجوز عليه شيء من ذلك
218

وأما الرابع فمحتمل لكنه لم يصح
وأما حديث أبي بكر وعمر فيشبه الحديث الوارد في الدعاء ولعل ذلك محمول على الزيادة في الجهر حتى يضر ذلك بالقارئ ولا يمكنه التمادي عليه فأخذ بالوسط من الجهر المتعب والإسرار المخافت
وقد رأيت بعض العلماء قال فيها قولا سادسا وهو لا تجهر بصلاتك بالنهار ولا تخافت بها بالليل وابتغ بين ذلك سبيلا سنها الله لنبيه وأوعز بها إليكم
219

سورة الكهف
فيها عشرون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) *) الآية 7
قد تقدم بيانه في قوله (* (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) *) الأعراف 32 فلا معنى لإعادته
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) *) الآيتان 19 2
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) *))
هذا يدل على صحة الوكالة وهو عقد نيابة أذن الله فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة به إذ يعجز كل أحد عن تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من يريحه حتى جاز ذلك في العبادات لطفا منه سبحانه ورفقا بضعفة الخليقة ذكرها الله كما ترون وبينها رسول الله كما تسمعون وهو أقوى آية في الغرض
220

وقد تعلق بعض علمائنا في صحة الوكالة من القرآن بقوله تعالى (* (والعاملين عليها) *) التوبة 6 وبقوله (* (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) *) يوسف 93
وآية القميص ضعيفة وآية العاملين حسنة وقد روى جابر بن عبد الله قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله وقلت له إني أريد الخروج إلى خيبر فقال ائت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته
وقد وكل عمر بن أمية الضمري على عقد نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان عند النجاشي ووكل أبا رافع على نكاح ميمونة في إحدى الروايتين ووكل حكيم بن حزام على شراء شاة والوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه وقد مهدنا ذلك في كتب المسائل تحريره في خمسة وعشرين مثالا
الأول الطهارة وهي عبارة تجوز النيابة فيها في صب الماء خاصة على أعضاء الوضوء ولا تجوز على عركها إلا أن يكون المتوضئ مريضا لا يقدر عليه
الثاني النجاسة
الثالث الصلاة ولا تجوز النيابة فيها بحال بإجماع من الأمة وإنما يؤديها المكلف ولو بأشفار عينيه إشارة إلا في ركعتي الطواف
الرابع الزكاة وتجوز النيابة في أخذها وإعطائها
الخامس الصيام ولا تجوز النيابة فيه بحال إلا عند الشافعي وأحمد وجملة من السلف الأول وقد بيناه في مسائل الخلاف
السادس الاعتكاف وهو مثله
السابع الحج
الثامن البيع وهي المعاوضة وأنواعها
221

التاسع الرهن
العاشر الحجر يصح أن يوكل الحاكم من يحجر وينفذ سائر الأحكام عنه وكذلك الحوالة والضمان والشركة والإقرار والصلح والعارية فهذه ستة عشر مثالا
وأما الغصب فإن وكل فيه كان الغاصب الوكيل دون الموكل لأن كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه ويتبع ذلك الشفعة والقرض ولا يصح التوكيل في اللقطة
وأما قسم الفيء والغنيمة فتصح النيابة فيه والنكاح وأحكامه تصح النيابة فيه كالطلاق والإيلاء يمين لا وكالة فيه
وأما اللعان فلا تصح الوكالة فيه بحال
وأما الظهار فلا تصحي النيابة فيه لأنه منكر من القول وزور ولا يجوز فعله
والخيانات لا يصح التوكيل فيها لهذه العلة من أنها باطل وظلم ويجوز التوكيل على طلب القصاص واستيفائه وكذلك في الدية ولا وكالة في القسامة لأنها أيمان
ويصح التوكيل في الزكاة وفي العتق وتوابعه إلا في الاستيلاد فهذه خمسة وعشرون مثالا تكون دستورا لغيرها وإن كان لم يبق بعدها إلا يسير فرع لها
المسألة الثانية
قال علماؤنا في هذه الآية دليل على جواز الاجتماع على الطعام المشترك وأكله على الإشاعة وليس في هذه الآية دليل على ما قالوه لأنه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه ورقه مفردا فلا يكون فيه اشتراك ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين
أحدهما أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال نهى النبي عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل أخاه
222

الثاني حديث أبي عبيدة في جيش الخبط وأن النبي بعثهم وفقدوا الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمعت فكان يقوتنا كل يوم قليلا
وهذا دون الأول في الظهور لأنه كان يحتمل أن يكون أبو عبيدة كان يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه وقد بينا أحاديث ذلك ومسائله في شرح الصحيح
المسألة الثالثة
في هذه الآية نكتة وهي أن الوكالة فيها إنما كانت مع التقية وخوف أن يشعر بهم أحد لما كانوا يخافون على أنفسهم منهم وجواز توكيل ذي العذر متفق عليه فأما من لا عذر له فأكثر العلماء على جواز توكيله
وقال أبو حنيفة لا يجوز وكان سحنون قد تلقفه عن أسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت إنصافا منهم وإرذالا بهم وهو الحق فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل
والدليل على جواز النيابة في ذلك قائم لأنه حق من الحقوق التي تجوز النيابة فيها فجازت الوكالة عليه أصله دفع الدين
ومعولهم على أن الحقوق تختلف والناس في الأخلاق يتفاوتون فربما أضر الوكيل بالآخر
قلنا وربما كان أحدهما ضعيفا فينظر لنفسه فيمن يقاوم خصمه وهذا مما لا ينضبط فرجعنا إلى الأصل وهو جواز النيابة على الإطلاق وللوكالة مسائل يأتي في أبوابها ذكر فروعها إن شاء الله
المسألة الرابعة قوله (* (فلينظر أيها أزكى طعاما) *))
قيل أراد أكثر
223

وقيل أراد أطهر يعني أزكى وأحل ولا ينبغي لأحد أن يستبعد طلبه أكثر لأنه ليس من باب النهامة وإنما محمله على أنه إن كان مرادا فمعناه يرجع إلى أن رزقهم كان من عددهم فاحتاجوا إلى وضع في المطعوم ليقوم بهم والمعنى الآخر من طلب الطهارة بين ولعله أراد المعنيين جميعا والله أعلم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا) *) الآيتان 23 24
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
قال ابن إسحاق وغيره قال أبو جهل يا معشر قريش والله ما أرانا إلا قد أعذرنا في أمر هذا الرجل من بني عبد المطلب والله لئن أصبحت ثم صنع كما كان يصنع في صلاته لقد أخذت صخرة ثم رضخت رأسه فاسترحنا منه فامنعوني عند ذلك أو أسلموني قالوا يا أبا الحكم والله لا نسلمك أبدا
فلما أصبح رسول الله من تلك الليلة غدا إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه وغدا أبو جهل معه حجر وقريش في أنديتهم ينظرون ما يصنع فلما سجد رسول الله قام إليه أبو جهل بذلك الحجر فلما دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه كادت روحه تفارقه فقام إليه نفر من قريش ممن سمع ما قال تلك الليلة قالوا يا أبا الحكم مالك فوالله لقد كنت مجدا في أمرك ثم رجعت بأسوأ هيئة رجع بها رجل وما رأينا دون محمد شيئا يمنعه منك فقال ويلكم والله لعرض دونه لي فحل من الإبل ما رأيت مثل هامته وأنيابه وقصرته لفحل قط يخطر دونه لو دنوت لأكلني
فلما قالها أبو جهل قام النضر بن الحارث فقال يا معشر قريش والله لقد نزل
224

بساحتكم أمر ما أراكم ابتليتم به قبله قلتم لمحمد شاعر والله ما هو بشاعر وقلتم كاهن والله ما هو بكاهن وقلتم ساحر والله ما هو بساحر وقلتم مجنون والله ما هو بمجنون والله لقد كان محمد أرضاكم فيكم أصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة وخيركم جوارا حتى بلغ من السن ما بلغ فأبصروا بصركم وانتبهوا لأمركم
فقال قريش هل أنت يا نضر خارج إلى أحبار يهود بيثرب ونبعث معك رجلا فإنهم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف نحن ومحمد فيه تسألهم ثم تأتينا عنهم بما يقولون قال نعم فخرجوا وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط فقدما على أحبار اليهود فوصفا لهم أمر رسول الله وما يدعوهم إليه وخلافهم إياه فقالوا لهما سلوه عن ثلاث خلال نأمركم بهن سلوه عن فتية مضوا في الزمن الأول وقد كان لهم خبر ونبأ وحديث معجب وأخبروهم خبرهم وسلوه عن رجل طواف قد بلغ من البلاد ما لم يبلغ غيره من مشارقها ومغاربها يقال له ذو القرنين وأخبروهم خبره وسلوه عن الروح ما هو فإن أخبركم بهؤلاء الثلاث فالرجل نبي فاتبعوه وإن لم يفعل فالرجل كذاب فروا رأيكم
فقدم النضر وعقبة على قريش مكة فقالا قد أتيناكم بفصل ما بينكم وبين محمد أمرتنا أحبار يهود أن نسأله عن ثلاثة أمور فإن أخبرنا بهن فهو نبي مرسل فاتبعوه وإن عجز عنها فالرجل كذاب
فمشوا إلى رسول الله فقالوا يا محمد أخبرنا عن ثلاثة أمور نسألك عنها فإن أخبرتنا عنها فأنت نبي أخبرنا عن فتية مضوا في الزمن الأول كان لهم حديث معجب وعن رجل طواف بلغ من البلاد ما لم يبلغه غيره وعن الروح ما هو
فقال رسول الله غدا أخبركم عن ذلك ولم يستثن فمكث عنه جبريل بضع عشرة ليلة ما يأتيه ولا يراه حتى أرجف به أهل مكة قالوا إن محمدا وعدنا أن يخبرنا عما سألناه عنه غدا فهذه بضع عشرة ليلة فكبر على رسول الله لبث جبريل عنه ثم جاءه بسورة الكهف فقال رسول الله لقد احتبست عني
225

يا جبريل حتى سؤت ظنا فقال له جبريل (* (وما نتنزل إلا بأمر ربك) *) مريم 64 الآية ثم قرأ سورة الكهف
فنزل في أمر الفتية (* (أم حسبت أن أصحاب الكهف) *) الكهف 9 إلى آخر القصة
فقال حين فرغ من وصفهم وتبين له خبرهم (* (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا) *) الكهف 22 يقول لا منازعة ولا تبلغ بهم فيها جهد الخصومة ولا تستفت فيهم منهم أحدا لا اليهود الذين أمروهم أن يسألوك ولا الذين سألوا من قريش يقول قد قصصنا عليك خبرهم على حقه وصدقه ونزل في قوله أخبركم به غدا قوله تعالى (* (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) *) فإنك لا تدري ما الله صانع في ذلك أيخبرهم عما يسألونك عنه أم يتركهم (* (واذكر ربك إذا نسيت) *) الآية
وجاءه (* (ويسألونك عن الروح) *) الإسراء 85 الآية وزعموا أنه ناداهم الروح جبريل
قال ابن إسحاق وبلغنا أن رسول الله لما قدم المدينة قال له أحبار يهود بلغنا يا محمد أن فيما تلوت حين سالك قومك عن الروح وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فإيانا أردت بها أم قومك فقال كلا أريدكم بها قالوا أوليس فيما تتلو إنا أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء قال بلى والتوراة في علم الله قليل وهي عندكم كثير مجزئ فيذكرون والله أعلم أن هؤلاء الآيات نزلن عند ذلك (* (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام) *) لقمان 27 إلى آخر الآيات
وقد روي في الصحيح أن اليهود سألوه عن الروح بالمدينة وقد تقدم ذلك من قبل وهو أصح
226

المسألة الثانية قوله تعالى (* (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) *))
قال علماؤنا هذا تأديب من الله لرسوله أمره فيه أن يعلق كل شيء بمشيئة الله إذ من دين الأمة ومن نفيس اعتقادهم (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) لا جرم فلقد تأدب نبينا بأدب الله حين علق المشيئة بالكائن لا محالة فقال يوما وقد خرج إلى المقبرة اللسام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وقال أيضا إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني
المسألة الثالثة
فإذا ثبت هذا فقاله المرء كما يلزمه في الاعتقاد فهل يكون استثناء في اليمين أم لا
قال جمهور فقهاء الأمصار يكون استثناء
وقال ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم وأسامة بن أحمد بن محمد عن أبيه عن مالك إن قوله تعالى (* (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) *)
إنما قصد بذلك ذكر الله عند السهو والغفلة وليس باستثناء
وهذا الذي قاله مالك رضي الله عنه لم أجد عليه دليلا لأن ربط المشيئة وذكرها قولا من العبد لفعل العبد فقال لعبده لا تقل إني فاعل شيئا فيما تستقبله إلا أن يشاء الله تقديره عند قوم إلا بمشيئة الله وتقديره عند آخرين إلا أن تقول إن شاء الله
227

وقد مهدناه في رسالة الملجئة وهذا عزم من الله لعبده على أن يدخل قولا وعقدا في مشيئة ربه فما تشاؤون إلا أن يشاء الله وقول ذلك أجدر في قضاء الأمر ودرك الحاجة قال النبي قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه إن شاء الله فلم يقل فلم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقيه فقال النبي لو قالها لجاهدوا في سبيل الله
فهذا بيان الثنيا في اليمين وأنها حالة لعقد الأيمان وأصل في سقوط سبب الكفارة عنها وإنما الذي قاله مالك من أن النبي أمر أن يذكر الله عند السهو والغفلة يصح أن يكون تفسيرا لقوله (* (واذكر ربك إذا نسيت) *)
وفيها ثلاثة أقوال
الأول قال ابن عباس معناه واذكر ربك إذا نسيت بالاستثناء في الأيمان متى ذكرت ولو إلى سنة وتابعه على ذلك أبو العالية والحسن
الثاني قال عكرمة معناه واذكر ربك إذا غضبت
الثالث أن معناه واذكر ربك إذا نسيب بالاستثناء فيرفع عنه ذكر الاستثناء الحرج وتبقى الكفارة وإن كان الاستثناء متصلا انتفى الحرج والكفارة
فأما من قال إن معناه واذكر ربك إذا نسيت بالاستثناء فقد قال وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني
وأما من قال معناه واذكر ربك إذا غضبت بالغين والضاد المعجمتين فمعناه التثبت عند الغضب فإنه موضع عجلة ومزلة قدم والمرء يؤاخذ بما ينطق به فمه كما تقدم بيانه
228

ومن رواه بالعين والصاد المهملتين فهو خطاب للنبي والمراد به أمته لاستحالة المعصية على الأنبياء شرعا بالخبر الوارد الصادق في تنزيههم عنها
وأما من قال إ ' ن معناه واذكر ربك بالاستثناء في اليمين ليرتفع عنك الحرج دون الكفارة فهو تحكم بغير دليل
فتبين أن الصحيح في معنى الآية إرادة الاستثناء الذي يرفع اليمين المنعقدة بالله تعالى وهي رخصة من الله وردت في اليمين به خاصة لا تتعداه إلى غيره من الأيمان وهي
المسألة الرابعة
وخالف في ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم فقالوا إن الاستثناء نافع في كل يمين كالطلاق والعتق لأنها يمين تنعقد مطلقة فإذا قرن بها ذكر الله على طريق الاستثناء كان ذلك مانعا من انعقداها كاليمين بالله
ومعول المالكية على أن مشيئة الله سبحانه إنما تعلم بوقوع الفعل لأنه لا يكون إلا ما يشاء فإذا قال أنت طالق إن شاء الله أو أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله فقد كان الطلاق بوجود المشيئة لأن وجود الفعل علامة عليها وهذا أصل من أصول السنة وقد مهدناه في مسائل الخلاف
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وقل عسى أن يهدين ربي) *) الآية
فيه ثلاثة أقوال
الأول أمر قيل للنبي على معنى التبرك أو التأديب
الثاني أن المعنى عسى أن يهدين ربي لأقرب من ميعادكم
فإن قيل وأي قرب وقد فات الأجل
قلنا القرب هو ما أراد الله وقته وإن بعد والبعد ما لم يرد الله وقته وإن قرب
الثالث المعنى إنكم طلبتم مني آيات دالة على نبوتي فأخبرتكم فلم تقبلوا مني فعسى أن يعطيني الله ما هو أقرب لإجابتكم مما سألتم
229

المسألة السادسة
قال قوم أي فائدة لهذا الاستثناء وهو حقيق واقع لا محالة لأن الدليل قد قام وكل أحد قد علم بأن ما شاء الله كان
قلنا عنه أربع أجوبة
الأول أنه تعبد من الله فامتثاله واجب لالتزام النبي له وانقياده إليه ومواظبته عليه
الثاني أن المرء قد اشتمل عقده على أنه إن شاء الله كان ما وعد بفعله أو تركه واتصل بكلامه في ضميره فينبغي ان يتصل ذلك من قوله في كلامه بلسانه حتى ينتظم اللسان والقلب على طريقة واحدة
الثالث أنه شعار أهل السنة فتعين الإجهار به ليميز من أهل البدعة
الرابع أن فيه التنبيه على ما يطرأ في العواقب بدفع أو تأت ورفع الإيهام المتوقع بقطع العقل المطلق في الاستغناء عن مشيئة الله سبحانه
وهذه كانت فائدة الاستثناء دخلت في اليمين بالله رخصة وبقيت سائر الالتزامات على الأصل ولهذا يروى عن بعض المتقدمين أنه إذا قال لعبده أنت حر إن شاء الله فهو حر لأنه قربة ولو قالها في الطلاق لم تلزم لأنه أبغض الحلال إلى الله
وهذا ضعيف لأنه إن كان الاستثناء يرفع العقد الملتزم في اليمين بالله والطلاق فليرفعه في العتق وإن كانت رخصة في اليمين بالله لكثرة ترددها فلا يقاس على الرخص
المسألة السابعة
هذه الآية حجزة بين الكفر والإيمان والبدعة والسنة وذلك أن الله أدب رسوله عليه السلام بربط الأمور بمشيئة الله تقدس تعالى وأجمعت الأمة على أن الرجل لو قال لرجل آخر له عليه حق والله لأعطينك حقك غدا إن شاء الله فجاء الغد ولم يعطه شيئا أنه لا حنث عليه في يمينه ولا يلحقه فيه كذب والتأخير معصية من الغني
230

القادر ولو كان الله لم يشأ التأخير لأنه معصية وهو لا يشاء المعاصي كما يقولون إذن كان يكون الحالف كاذبا حانثا ألا ترى أنه لو قال والله لأعطينك حقك إن عشت غدا فعاش فلم يعطه كان حانثا كاذبا
وعند معتزلة البصرة وبغداد أن مشيئة الله لإعطاء هذا الحالف ما عليه من الحق أمره وقد علم حصول أمره بذلك فيجب أن يكون استثناء الحالف بمشيئة الله في ذلك المعلوم حصوله بمنزلة استثناء الحالف بكل معلوم حصوله وكما لو قال والله لأعطينك حقك إن أمرني الله غدا بذلك ولا فرق بينهما بيد أن أهل البصرة قالوا إن الله أراد إعطاء حق هذا إرادة متقدمة للأمر به وبذلك صار الأمر أمرا وهي متجددة في كل وقت والحالف كاذب على كل قول من أقوالهم حانث
وقد زعم البغداديون أن مشيئة الله هي تقية العبد إلى غد وتأخيره له ورفع العوائق عنه ولو كان صحيحا لوجب إذا أصبح الحالف حيا باقيا سالما من العوائق أن يكون كاذبا حانثا إذا لم يعطه حقه
وقد قالوا إنما لم يلزمه الحنث إذا قال إن شاء الله رخصة من الشرع
قلنا حكم الشرع بسقوط الحرج والحنث عنه إذا قال إن شاء الله وبقائه عليه إذا قال إن أبقاني الله دليل على أن الفرق بينهما بين معنى كما هو بين لفظا إذ لو كان معنى واحدا لما اختلف الحكم
ومنهم من قال إن معناه إلا أن يشاء الله إلجائي إليه وهذا فاسد فإن الله لو ألجأه إليه لم يتصور التكليف فيه بالإلزام لأن الإكراه على فعل الشيء مع الأمر به عندهم محال
فلا وجه لقولهم بحال وقد بسطناه في كتب الأصول بأعم من هذا التفصيل
الآية الرابعة
قوله (* (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) *) الآيتان 25 26
231

فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال مالك الكهف من ناحية الروم وروى سفيان عن يعلى بن مسلم عن سعيدي ابن جبير عن ابن عباس قال غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذي ذكر الله في القرآن وذكر الحديث بطوله
واسم الجبل الذي فيه الكهف بنجلوس وقال الضحاك الكهف الغار في الوادي والأول أصح
وقال قوم إن الكهف في ناحية الشام على قرب من وادي موسى ينزله الحجاج إذا ساروا إلى مكة والله أعلم بصحة ذلك
وقال البخاري في باب أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ثم أدخل عليه باب حديث الغار وذكر عليه خبر الثلاثة الذين آواهم المطر إلى غار وانطبق عليهم فقالوا والله لا ينجيكم إلا الصدق وذكر الحديث
المسألة الثانية في قوله (* (قل الله أعلم بما لبثوا) *))
هي الحجة لأن قوله (* (ولبثوا في كهفهم) *) من كلامهم وقد قدمنا فيما قبل سكنى الجبال ودخول الغيران للعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق والله أعلم
المسألة الثالثة فيه جواز الفرار من الظالم
وهي سنة الأنبياء والأولياء وحكمة الله في الخليقة وقد شرحناها في كتب الحديث
232

الآية الخامسة
قوله تعالى (* (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا) *) الآية 39
فيها مسألتان
المسألة الأولى
الذكر مشروع للعبد في كل حال على الندب وقد روى الترمذي وغيره عن عائشة أنها قالت كان رسول الله يذكر الله كل أحيانه
وقال النبي في الصحيح لو أن أحدهم إذا أتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا
ومن جملة الأوقات التي يستحب فيها ذكر الله إذا دخل أحدنا منزله أو مسجده وهي
المسألة الثانية
أن يقول كما قال الله (* (ولولا إذ دخلت جنتك) *) أي منزلك (* (قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) *)
قال أشهب قال مالك ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا
233

وقال ابن وهب قال لي حفص بن ميسرة رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا (* (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) *)
وروي أن من قال أربعا أمن من أربع من قال هذه أمن من هذا ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الناس له قال تعالى (* (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) *) آل عمران 173
ومن قال أفوض أمري إلى الله أمنه الله من المكر قال تعالى مخبرا عن العبد الصالح أنه قال (* (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب) *) غافر 44 45
ومن قال (* (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) *) أمن من الغم وقد قال قوم ما من أحد يقول ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رضي به والله أعلم
الآية السادسة
قوله تعالى (* (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) *) الآية 46
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
قد بينا في كتب الأصول أن كل موجود ما عدا الله وصفاته العلا له أول فإن كل موجود ما عدا نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار له آخر وكل ما لا آخر له فهو الباقي حقيقة ولكن الباقي بالحق والحقيقة هو الله حسبما بيناه في كتاب الأمد فأما نعيم الجنة فأصول مذ خلقت لم تفن ولا تفنى بخبر الله تعالى وفروع وهي النعم هي أعراض إنما توصف بالبقاء على معنى أن أمثالها يتجدد من غير انقطاع كما روي عن النبي على ما يأتي بيانه في سورة مريم وغيرها إن شاء الله وعلى ما تقدم بيانه قبل في سورة
النساء بقوله (* (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا) *
234

غيرها) النساء 56 فهذا فناء وتجديد فيجعله بقاء مجازا بالإضافة إلي غيره فإنه يفنى فلا يعود فإذا ثبت هذا وهي
المسألة الثانية
فالأعمال التي تصدر عن الخلق من حسن وقبيح لا بقاء لها ولا تجدد بعد فناء الخلق فهي باقيات صالحات وطالحات حسنات وسيئات في الحقيقة لكن لما كانت الأعمال أسبابا في الثواب والعقاب وكان الثواب والعقاب دائمين لا ينقطعان وباقيين لا يفنيان كما قدمنا بيانه وصفت الأعمال بالبقاء حملا مجازيا عليها على ما بيناه في كتب الأصول من وجه تسمية المجاز
وأما تسمية الشيء بسببه المتقدم عليه أو تسميته بفائدته المقصودة به فندب الله تعالى إلى الأعمال الصالحة ونبه على أنها خير ما في الدنيا من أهل ومال وعمل وحال في المآل فقال وهي
المسألة الثالثة
والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا من المال والبنين وخير أملا فيما يستقبلون إرادته واقتضى ذلك وهي
المسألة الرابعة
أن يكون بهذا العموم الباقيات الصالحات كل عمل صالح وهو الذي وعد بالثواب عليه إلا أن المفسرين عينوا في ذلك أقوالا ورووا فيه أحاديث واختاروا من ذلك أنواعا يكثر تعدادها ويطول إيرادها أمهاتها أربعة
الأول روى مالك عن سعيد بن المسيب أن الباقيات الصالحات قول العبد الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله
الثاني روى ابن وهب عن علي بن أبي طالب مثله
الثالث مثله عن رسول الله
الرابع أنها الصلوات الخمس وروي عن ابن عباس وغيره وبه أقول وإليه
235

أميل وليس في الباب حديث صحيح أما أن فضل التسبيح والتكبير والتهليل والحوقلة مشهور في الصحيح كثير ولا مثل للصلوات الخمس في ذلك بحساب ولا تقدير والله أعلم
الآية السابعة
قوله تعالى (* (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا) *) الآية 6
وهي آية سيرتبط بها غيرها لأنه حديث الخضر كله وذلك في سبع عشرة مسألة
المسألة الأولى
في سرد الحديث وقد مهدناه في شرح الصحيحين بغاية الإيعاب وشرحنا مسائله وتكلمنا على ما يتعلق به ونحن الآن هاهنا لا نعدو ما يتعلق بالآيات على التقريب الموجز الموعب فيها بعون الله ومشيئته
فأما حديثه فهو ما روى أبي بن كعب وغيره والمعول على حديث ابن عباس قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب بني إسرائيل ليس موسى صاحب الخضر فقال كذب عدو الله سمعت أبي بن كعب يقول سمعت رسول الله يقول قام موسى خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا أعلم فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى أي رب فكيف لي به فقال له احمل حوتا في مكتل فحيث تفقد الحوت فثم هو وانطلق معه فتاه يوشع ابن نون فجعل موسى حوتا في مكتل فانطلق وفتاه يمشيان حتى أتيا الصخرة فرقد موسى وفتاه فاضطرب الحوت في المكتل حتى خرج من المكتل فسقط في البحر قال وأمسك الله عنه جرية الماء حتى كان مثل الطاق وكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ونسي صاحب موسى أن يخبره فلما أصبح موسى قال لفتاه (* (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) *) الكهف 62
236

قال ولم ينصب حتى جاوز المكان الذي أمر به
قال (* (قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا) *) الكهف 63 64
قال فكانا يقصان آثارهما قال سفيان يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة ولا يصيب ماؤها ميتا إلا عاش
قال وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش
قال فقصا آثارهما حتى أتيا الصخرة فرأى رجلا مسجى عليه بثوب فلسلم عليه فقال أنى بأرضك السلام قال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال نعم قال يا موسى إنك على علم من علم الله علمكه لا أعلمه وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه فقال موسى (* (أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا) *) الكهف 66 67
قال له الخضر (* (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا) *) الكهف 7 قال نعم
فانطلق الخضر وموسى يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلماهم أن يحملوهما فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه فقال له موسى قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا
قال (* (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا) *) الكهف 72 73
ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذا بغلام يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله قال له موسى (* (أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا) *) الكهف 74 75
237

قال وهذه أشد من الأولى (* (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) *) الكهف 76 77 78
قال رسول الله يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أخبارهما قال قال رسول الله الأولى كانت من موسى نسيانا
قال وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر ما علمي وعلمك في علم الله إلا بمقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر
قال سعيد بن جبير وكان ابن عباس يقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وكان يقرأ وأما الغلام فكان كافرا
قال ابن عباس قال أبي قال النبي الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا
وقال أبو هريرة قال النبي إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحت خضراء
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وإذ قال موسى لفتاه) *))
فيه قولان
أحدهما أنه كان معه يخدمه
والثاني أنه ابن أخته وهو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب
وإنما سماه فتاه لأنه قام مقام الفتى وهو العبد قال تعالى (* (وقال لفتيانه) *
238

* (اجعلوا بضاعتهم) *) يوسف 62 وقال (* (تراود فتاها) *) يوسف 3 وقال لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي
فظاهر القرآن يقتضي أنه عبد وفي الحديث أنه كان يوشع بن نون وفي التفسير أنه ابن أخته وهذا كله ما لا يقطع به فالوقف فيه اسلم
المسألة الثالثة
فيه الرحلة فيطلب العلم الذي ليس بفرض وقد رحلت الصحابة فيه وأذن لهم في الترحل في طلب الدنيا فضلا عن الدين وقد بيناه في غير موضع
المسألة الرابعة من الآية الثامنة
((* (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا) *) الآية 61
جعل الله تعالى النسيان سببا للزيادة على مقدار الحاجة في المسير لأن الله كان كتب له لقاءه وكتب الزيادة في السير على موضع اللقاء فنفذ الكل وفيه دليل على جواز النسيان على الأنبياء وكذلك على الخلق في معاني الدين وهو عفو عند الله سبحانه كما تقدم
المسألة الخامسة من الآية التاسعة
قوله تعالى (* (قال لفتاه آتنا غداءنا) *) الآية 62
بين ذلك جواز الاستخدام للأصحاب أو العبيد في أمور المعاش وحاجة المنافع لفضل المنزلة أو لحق السيدية
239

المسألة السادسة من الآية العاشرة
قوله تعالى (* (وما أنسانيه إلا الشيطان) *) الآية 63
نسيه يوشع ونسيه أيضا موسى ونسبة الفتى نسيانه إلى الشيطان لأنه متمكن منه ولا ينسب نسيان الأنبياء إلى الشيطان لأنه لا يتمكن منهم وإنما نسيانهم أسوة للخلق وسنة فيهم
المسألة السابعة قوله تعالى (* (واتخذ سبيله في البحر عجبا) *) الآية 63
قال النبي فصار الماء على الحوت مثل الطاق ليكون ذلك علامة لموسى ولولاه ما علم أين فقد الحوت ولا وجد إلى لقاء المطلوب سبيلا
المسألة الثامنة من الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (هل أتبعك على أن تعلمن) *) الآية 66
وهو دليل على أن المتعلم تبع للعالم ول تفاوتت المراتب
المسألة التاسعة من الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (إنك لن تستطيع معي صبرا) *) الآية 67
حكم عليه بعادة الخلق في عدم الصبر عما يخرج من الاعتياد وهو أصل في الحكم بالعادة
المسألة العاشرة من الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا) *) الآية 69
قال علماؤنا رحمة الله عليهم استثنى في التصبر ولم يستثن في امتثال الأمر فلا جرم وجه ما استثنى فيه فكان إذا أراد أن يخرق السفينة أو يقتل الغلام لم يقبض يده ولا نازعه وخالفه في الأمر فاعترض عليه وسأله
240

المسألة الحادية عشرة من الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (لا تؤاخذني بما نسيت) *) الآية 73
ذكر أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة وهذا يدل على ما قدمناه من أنه لا يدخل تحت التكليف ولا يتعلق به حكم في طلاق ولا غيره
المسألة الثانية عشرة من الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) *) الآية 76
فهذا شرط وهو لازم والمسلمون عند شروطهم وأحق الشروط أن يوفى به ما التزمه الأنبياء أو التزم للأنبياء فهذا أصل من القول بالشروط وارتباط الأحكام بها وهو يستدل به في الأيمان وغيرها
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (قد بلغت من لدني عذرا) *) الآية 76
هذا يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقا وبقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع
المسألة الرابعة عشرة
صبر موسى على قتل من لا يستحق عنده القتل ولم يغتر لما كان أعلمه من أن عنده علما ليس عنده ولولا ذلك ما صبر على حال ظاهرها المحال وكان هو أعلم بباطنها في المال
المسألة الخامسة عشرة من الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها) *) الآية 77
وصلا إلى القرية محتاجين إلى الطعام فعرضوا أنفسهم عليهم وكانوا ثلاثة فأبوا عن قبول ذلك منهم وهذا سؤال وهو على مراتب في الشرع ومنازل بيناها في كتاب شرح الصحيحين
وهذا السؤال من تلك الأقسام هو سؤال الضيافة وهي فرض أو سنة كما بيناه
241

هنالك وسؤالها جائز فقد تقدم في حديث أبي سعيد الخدري أنهم نزلوا بقوم فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيدهم فسألوهم هل من راق فجاعلوهم على قطيع من الغنم الحديث إلى آخره
وذكروا ذلك للنبي فجوز الكل وقد كان موسى حين سقى لبنتي شعيب أجوع منه حين أتى القرية مع الخضر ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء وفي القرية سألا القوت وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة القرية تبعا لغيره
وقيل كان هذا سفر تأديب فوكل إلى تكليف المشقة وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والقوة
المسألة السادسة عشرة من الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) *) الآية 79
فاستدل به من قال إن المسكين هو الذي ليس له شيء وفر من ذلك قوم حتى قرأوها لمساكين بتشديد السين من الاستمساك وهذا لا حاجة إليه فإنه إنما نسبهم إلى المسكنة لأجل ضعف القوة بل عدمها في البحر وافتقار العبد إلى المولى كسبا وخلقا ومن أراد أن يعلم يقينا أن الحول والقوة لله فليركب البحر
المسألة السابعة عشرة من الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) *) الآية 82
242

الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) *) الآية 94
فيها مسالة واحدة
الخرج الجزاء والأجرة وكان ملكا ينظر في أمورهم ويقوم بمصالحهم فعرضوا عليه جزاء في أن يكف عنهم ما يجدونه من عادية يأجوج ومأجوج وعلى الملك فرض أن
يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم وسد فرجتهم وإصلاح ثغرهم من أموالهم التي تفيء عليهم وحقوقهم التي يجمعها خزنتهم تحت يده ونظره حتى لو أكلتها الحقوق وأنفذتها المؤن واستوفتها العوارض لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم وعليه حسن النظر لهم وذلك بثلاثة شروط
الأول ألا يستأثر بشيء عليهم
الثاني أن يبدأ بأهل الحاجة منهم فيعينهم
الثالث أن يسوي في العطاء بينهم على مقدار منازلهم فإذا فنيت بعد هذا ذخائر الخزانة وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير وتصرف بأحسن تدبير
فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال قال لست أحتاج إليه وإنما أحتاج إليكم فأعينوني بقوة أي اخدموا بأنفسكم معي فإن الأموال عندي والرجال عندكم ورأى أن الأموال لا تغني دونهم وأنهم إن أخذوها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه فعاد عليهم بالأخذ فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى
وقد بينا ذلك كله في كتاب الفيء والخراج والأموال من شرح الحديث بيانا شافيا وهذا القدر يتعلق بالقرآن من الأحكام وتمامه هنالك
وضبط الأمر فيه أنه لا يحل أخذ مال أحد إلا لضرورة تعرض فيؤخذ ذلك المال جهرا لا سرا وينفق بالعدل لا بالاستئثار وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالرأي والله الموفق للصواب
243

الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) *) الآيتان 13 14
فيها مسألة أجاب الله عما وقع التقرير عليهم بقوله (* (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) *) الكهف 15 لكن العلماء من الصحابة ومن بعدهم حملوا عليهم غيرهم وألحقوا بهم من سواهم ممن كان في معناهم ويرجعون في الجملة إلى ثلاثة أصناف
الصنف الأول الكفار بالله واليوم الآخر والأنبياء والتكليف فإن الله زين لكل أمة عملهم إنفاذا لمشيئته وحكما بقضائه وتصديقا لكلامه
الصنف الثاني أهل التأويل الفاسد الدليل الذين أخبر الله عنهم بقوله (* (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) *) آل عمران 7 كأهل حروراء والنهروان ومن عمل بعملهم اليوم وشغب الآن على المسلمين تشغيب أولئك حينئذ فهم مثلهم وشر منهم
قال علي بن أبي طالب يوما وهو على المنبر لا يسألني أحد عن آية من كتاب الله إلا أخبرته فقام ابن الكواء فأراد أن يسأله عما سأل عنه صبيغ عمر بن الخطاب فقال ما الذاريات ذروا قال علي الرياح قال ما الحاملات وقرا قال السحاب قال فما الجاريات يسرا قال السفن قال فما المقسمات أمرا قال الملائكة قال فقول الله تعالى (* (هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) *) الكهف 13 قال ارق إلي أخبرك قال فرقي إليه درجتين قال فتناوله بعصا كانت بيده فجعل يضربه بها ثم قال أنت وأصحابك وهذا بناء على القول بتكفير المتأولين وقد قدمنا نبذة منه وتمامها في كتب الأصول
الصنف الثالث الذين أفسدوا أعمالهم بالرياء وضيعوا أحوالهم بالإعجاب وقد
244

أتينا على البيان في ذلك من قبل ويلحق بهؤلاء الأصناف كثير وهم الذين أفنوا زمانهم النفيس في طلب الخسيس كان شيخنا الطوسي الأكبر يقول لا يذهب بكم الزمان في مصاولة الأقران ومواصلة الإخوان وقد ختم الباري البيان وختم البرهان بقوله (* (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *) الكهف 11
245

سورة مريم
فيها ست آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا) *) الآيتان 2 3
فيها مسألتان
المسألة الأولى
هذا يناسب قوله (* (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) *) الأعراف 55
وقد روى سعد عن النبي أنه قال خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي وذلك لأنه أبعد من الرياء فأما دعاء زكريا فإنما كان خفيا وهي
المسألة الثانية
لوجهين
أحدهما أنه كان ليلا
والثاني لأنه ذكر في دعائه أحوالا تفتقر إلى الإخفاء كقوله وإني خفت الموالي من ورائي وهذا مما يكتم ولا يجهر به وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي والجهر أفضل لأن النبي كان يدعو به جهرا حسبما ورد في الصحيح والله أعلم
246

الآية الثانية
قوله تعالى (* (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا) *) الآية 5
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قد بينا أن للمولى ثمانية معان في كتب الأصول والحديث وأوضحنا أن من جملتها الوارث وابن العم ولم يخف زكريا إرث المال ولا رجاه من الولد وإنما أراد إرث النبوة وعليها خاف أن تخرج عن عقبه فقد قال النبي إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وفي لفظ آخر إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا علما والأول أصح
المسألة الثانية
رجا زكريا ربه في الولد لوجهين
أحدهما أنه دعاه لإظهار دينه وإحياء نبوته ومضاعفة أجره في ولد صالح نبي بعده ولم يسأله للدنيا
الثاني لأن ربه كان قد عوده الإجابة وذلك لقوله تعالى (* (ولم أكن بدعائك رب شقيا) *) مريم 4 وهذه وسيلة حسنة أن يتشفع إليه بنعمه ويستدر فضله بفضله يروى أن حاتم الجواد لقيه رجل فسأله فقال له حاتم من أنت قال أنا الذي أحسنت إليه عام أول قال مرحبا بمن تشفع إلينا بنا
247

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا) *) الآية 12
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قد بينا الحكمة والحكم في سورة البقرة من كتابنا هذا وفي غيره من الكتب وأوضحنا وجوهها ومتصرفاتها ومتعلقاتها كلها وأجلها مرتبة النبوة
المسألة الثانية في المراد بالحكم هاهنا
وفيه ثلاثة أقوال
الأول الوحي
والثاني النبوة
والثالث المعرفة والعمل بها
وهذا كله محتمل يفتقر إلى تحقيق فأما من قال إنه الوحي فجائز أن يوحي الله إلى الصغير ويكاشفه بملائكته وأمره وتكون هذه المكاشفة نبوة غير مهموزة رفعة ومهموزة إخبارا ويجوز أن يرسله إلى الخلق كامل العقل والعلم مؤيدا بالمعجزة ولكن لم يرد بذلك خبر ولا كان فيمن تقدم وقول عيسى (* (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) *) مريم 3 إخبار عما وجب له حصوله لا عما حصل بعد
وأما العلم والعمل فقد روى ابن وهب عن مالك في قوله (* (وآتيناه الحكم صبيا) *)
قال عيسى أوصيكم بالحكمة والحكمة في قول مالك هي طاعة الله والاتباع لها والفقه في الدين والعمل به وقال ويبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا بصر فيها وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا فالحكمة الفقه في دين الله
248

وروى عنه ابن القاسم أنه سئل عن تفسير قوله تعالى (* (وآتيناه الحكم صبيا) *) قال المعرفة والعمل به انتهى قول مالك
وفي الإسرائيليات أنه قيل ليحيى وهو صغير ألا تذهب نلعب قال ما خلقت للعب
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) *) الآية 25
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (وهزي إليك بجذع النخلة) *))
أمر بتكلف الكسب في الرزق وقدكانت قبل ذلك يأتيها رزقها من غير تكسب كما قال تعالى (* (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) *) آل عمران 37
قال علماؤنا كان قلبها فارغا لله ففرغ الله جارحتها عن النصب فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه وكلها الله إلى كسبها وردها إلى العادة في التعلق بالأسباب وفي معناه أنشدوا
(ألم تر أن الله قال لمريم
* إليك فهزي الجذع يساقط الرطب)
(ولو شاء أحنى الجذع من غير هزها
* إليها ولكن كل شيء له سبب)
(وقد كان حب الله أولى برزقها
* كما كان حب الخلق أدعى إلى النصب))
المسألة الثانية في صفة الجذع قولان
أحدهما أنه كان لنخلة خضراء ولكنه كان زمان الشتاء فصار وجود التمر في غير إبانه آية
249

الثاني أنه كان جذعا يابسا فهزته فاخضر وأورق وأثمر في لحظة
ودخلت بيت لحم سنة خمس وثمانين وأربعمائة فرأيت في متعبدهم غارا عليه جذع يابس كان رهبانهم يذكرون أنه جذع مريم بإجماع فلما كان في المحرم سنة اثنتين وتسعين دخلت بيت لحم قبل استيلاء الروم عليه لستة أشهر فرأيت الغار في المتعبد خاليا من الجذع فسألت الرهبان به فقالوا نخر وتساقط مع أن الخلق كانوا يقطعونه استشفاء حتى فقد
المسألة الثالثة
قال ابن وهب قال مالك قال الله رطبا جنيا
الجني ما طاب من غير نقش ولا إفساد والنقش أن ينقش في أسفل البسرة حتى ترطب فهذا مكروه يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته وإفساد لجناه فلا ينبغي لأحد أن يفعله ولو فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه ولا حكما بطيبه وقد تقدم شيء من ذلك في سورة الأنعام
الآية الخامسة
قوله تعالى (إن كل من في السماوات والأرض إلا أتي الرحمن عبدا) الآية 93
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال محمد بن كعب لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة بقولهم هذا لقوله تعالى (* (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) *) مريم 9 93
وصدق فإنه قول عظيم سبق القضاء والقدر ولولا أن البارئ لا يضعه كفر الكافر ولا يرفعه إيمان المؤمن ولا يزيد هذا في ملكه كما لا ينقص ذلك من
250

ملكه لما جرى شيء من هذا على الألسنة ولكنه القدوس الحكيم الحليم فلم يبال بعد ذلك بما يقوله المبطلون
المسألة الثانية قوله (* (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) *)
دليل على أن الرجل لا يجوز أن يملك ابنه
ووجه الدليل عليه من هذه الآية أن الله تعالى جعل الولدية والعبدية في طرفي تقابل فنفى إحداهما وأثبت الأخرى ولو اجتمعتا لما كان لهذا القول فائدة يقع الاحتجاج بها والاستدلال عليها والتبري منها ولهذا أجمعت الأمة على أن أمة الرجل إذا حملت فإن ولدها في بطنها حر لا رق فيه بحال وما جرى في أمه موضوع عنه ولو لم يوضع عنه فلا خلاف في الولد وبه يقع الاحتجاج
وإذا اشترى الحر أباه وابنه عتقا عليه حين يتم الشراء وفي الحديث الصحيح لن يجزي والد ولده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه فهذا نص
والأول دليل من طريق الأولى فإن الأب إذا لم يملك ابنه مع علو مرتبته عليه فالابن بعدم ملك الأب أولى مع قصوره عنه وكان الفرق بينهما أن هذا الولد مملوك لغيره فإذا أزال ملك الغير بالشراء إليه تبطل عنه وعتق والتحق بالأول وفي ذلك تفريع وتفصيل موضعه شرح الحديث ومسائل الفقه فلينظر فيها
الآية السادسة
قوله تعالى (* (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) *) الآية 96
فيها مسألتان
251

المسألة الأولى
روى مالك وغيره من الأئمة قال النبي إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي ملائكة السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فتحبه ملائكة السماء ثم يوضع له القبول في الأرض فذلك قول الله سبحانه (* (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) *)
وإذا أبغض عبدا فذكر مثله وفي كتب التفسير أحاديث في هذه الآية أعرضنا عنها لضعفها
المسألة الثانية
روى ابن وهب وغيره عن مالك في حديث اتق الله يحبك الناس وإن كرهوك فقال هذا حق وقرأ (* (إن الذين آمنوا) *) الآية وقرأ مالك (* (وألقيت عليك محبة مني) *) طه 39 وهذا يبين سبب حب الله وخلقه المحبة في الخلق وذلك نص في قوله (* (فإن الله يحب المتقين) *) آل عمران 76 وهو أحد قسمي الشريعة من اجتناب النهي
252

سورة طه
فيها ست آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) *) الآية 12
فيها مسألتان
المسألة الأولى في خلع النعلين قولان
أحدهما ما أنبأنا أبو زيد الحميري أنبأنا أبو عبد الله اللخمي أنبأنا أبو علي أحمد بن عبد الوهاب أنبأنا عمي عبد الصمد حدثنا عمي أبو عمر محمد بن يوسف حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا حميد بن عبد الله عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود قال قال رسول الله كانت نعلا موسى من جلد حمار ميت
وحدثنا إبراهيم الهروي حدثنا خلف بن خليفة الأشجعي عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود قال يوم كلم الله موسى كان عليه جبة صوف وكساء صوف وسراويل صوف وكمة صوف ونعلان من جلد حمار غير مذكى ورواه ابن عرفة عن خلف بن خليفة بمثله مسندا إلى رسول الله
الثاني قال مجاهد قال له ربه اخلع نعليك أفض بقدميك إلى بركة الوادي
253

قال القاضي أبو بكر في المسألة الثانية
إن قلنا إن خلع النعلين كان لينال بركة التقديس فما أجدره بالصحة فقد استحق التنزيه عن النعل واستحق الواطئ التبرك بالمباشرة كما لا تدخل الكعبة بنعلين وكما كان مالك لا يركب دابة بالمدينة برا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة والجثة الكريمة
وإن قلنا برواية ابن مسعود وإن لم تصح فليس بممتنع أن يكون موسى أمر بخلع نعليه وكان أول تعبد أحدث إليه كما كان أول ما قيل لمحمد (* (قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) *) المدثر 2 إلى 5
وقد اختلف الناس في جلد الميتة على أربعة أقوال
الأول أنه ينتفع به على حاله وإن لم يدبغ قاله ابن شهاب لمطلق قوله هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به ولم يذكر دباغا
الثاني أنه يدبغ فينتفع به مدبوغا لقوله هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به قاله مالك في أحد أقواله
الثالث أنه إذا دبغ فقد طهر لقوله أيما إهاب دبغ فقد طهر خرجه مسلم
254

وخرج البخاري أنه كان يتوضأ من قربة مدبوغة من جلد ميتة حتى صارت شنا قاله مالك في القول الثاني وهو الرابع ووراء هذه تفصيل
والصحيح جواز الطهارة على الإطلاق ويحتمل أن تكون نعلا موسى لم تدبغا ويحتمل أن تكونا دبغتا ولم يكن في شرعه إذن في استعمالها والأظهر أنها لم تدبغ وقد استوفينا القول في كتب الفقه والحديث في الباب
الآية الثانية
قوله تعالى (* (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) *) الآية 14
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في معنى قوله (* (لذكري) *))
وفي ذلك ثلاثة أقوال
الأول أقم الصلاة لأن تذكرني قاله مجاهد
الثاني أقم الصلاة لذكري لك بالمدح
الثالث أقم الصلاة إذا ذكرتني وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ورويت عن ابن عباس أقم الصلاة للذكر وقرئ للذكرى
المسألة الثانية
لا خلاف في أن الذكر مصدر مضاف إلى الضمير ويحتلم أن يكون مضافا إلى الفاعل ويحتمل أن يكون مضافا إلى ضمير المفعول
وقد روى مالك وغيره أن النبي قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول أقم الصلاة للذكرى ولذكري ومعنى قوله للذكرى إذا ذكرتك بها ولتذكرني فيها ولذكري لك بها
255

فإن قيل الذكر مصدر في الإثبات ولا يحتمل العموم
قلنا بل يحتمل العموم كما تقول عجبت من ضربي زيدا إذا كان الضرب الواقع به عاما في جميع أنواع الضرب فيكون العموم في كيفيات الضرب ومتعلقاته والإثبات في النكرة التي لا تعم ما يتناول الأشخاص
المسألة الثالثة
قوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها يقتضي وجوب الصلاة على كل ذاكر إذا ذكر سواء كان الذكر دائما كالتارك لها عن علم أو كان الذكر طارئا كالتارك لها عن غفلة وكل ناس تارك إلا أنه قد يكون بقصد وبغير قصد فمتى كان الذكر وجب الفعل دائما أو منقطعا
فافهموا هذه النكتة تريحوا أنفسكم من شغب المبتدعة فما زالوا يزهدون الناس في الصلاة حتى قالوا إن من تركها متعمدا لا يلزمه قضاؤها ونسبوا ذلك إلى مالك وحاشاه من ذلك فإن ذهنه أحد وسعيه في حياطة الدين آكد من ذلك إنما قال إن من ترك صلاة متعمدا لا يقضي أبدا كما قال في الأثر من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه صيام الدهر وإن صامه إشارة إلى أن ما مضى لا يعود لكن مع هذا لا بد من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء واتباعه بالتوبة ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء
المسألة الرابعة
قالت المتزهدة معنى (* (وأقم الصلاة لذكري) *) أي لا تذكر فيها غيري فإنه قال فاعبدني أي لي تذلل وأقم الصلاة لمجرد ذكري تحرم عن الدنيا وأخلص للأخرى واعمر لسانك وقلبك بذكر المولى
وقد بينا أن هذا لمن قدر عليه هو الأولى فمن لم يفعل كتب له منها بمقدار ذلك فيها وقد مهدنا هذا في شرح الحديث
256

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) *) الآيتان 17 18
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وما تلك بيمينك) *))
قال علماؤنا إنما سأله عنها لما كان أضمر من الآية له فيها حتى إذا رجع عليها وتحقق حالها وكسيت تلك الحلة الثعبانية بمرأى منه لابتدائها كان تبديلها مع الذكر أوقع في القلب وأيسر له من أن يغفل عنها فيراها بحلة الثعبانية مكسوة فيظن أنها عين أخرى سواها
المسألة الثانية (* (قال هي عصاي) *))
قال أرباب القلوب الجواب المطلق أن يقول هي عصا ولا يضيف إلى نفسه شيئا فلما أراد أن يكونا اثنين أفرد عنها بصفة الحية فبقي وحده لله كما يحب حتى لا يكون معه إلا الله يقول الله أنت عبدي ويقول موسى أنت ربي
المسألة الثالثة
أجاب موسى بأكثر من المعنى الذي وقع السؤال عنه فإنه ذكر في الجواب أربعة معان وكان يكفي واحد قال الإضافة والتوكؤ والهش والمآرب المطلقة وكان ذلك دليلا على جواب السؤال بأكثر من مقتضى ظاهره وقد قال النبي هو الطهور ماؤه الحل ميتته لمن سأله عن طهور ماء البحر
المسألة الرابعة الهش
هو أن يضع المحجن في أصل الغصن ويحركه فيسقط منه ما سقط ويثبت ما
257

ثبت قاله ابن القاسم عن مالك وروي عنه أيضا أنه قال مر النبي براع يعضد شجرة فنهاه عن ذلك وقال هشوا وارعوا وهذا من باب الاقتصاد في الاقتيات فإنه إذا عضد الشجرة اليوم لم يجد فيها غدا شيئا ولا غيره ممن يخلفه فإذا هش ورعى أخذ وأبقى والناس كلهم فيه شركاء فليأخذ وليدع إلا أن يكون الشيء كثيرا فليأخذه كيف شاء
المسألة الخامسة
تعرض قوم لتعديد منافع العصا كأنهم يفسرون بذلك قول موسى (* (ولي فيها مآرب أخرى) *) وهذا مما لا يحتاج إليه في العلم وإنما ينبغي أن يصرف العصا في حاجة عرضت أما إنه يحتاج إليها في الدين في موضع واحد إجماعا وهو الخطبة وفي موضع آخر باختلاف وهو التوكؤ عليها في صلاة النافلة
وقد روي أن النبي أمر به رواه أبو داود وغيره وقد قدمنا ذكره في كل موضع هنا وسواه
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) *) الآيات 43 44 45
فيها مسألتان
المسألة الأولى
يجوز أن يرسل الله رسولين وقد بينا ذكر قاضيين وأميرين والرسالة بخلاف ذلك فإنها تبليغ عن الله فهي بمنزلة الشهادة فإن كان القضاء وقلنا لا يجوز لنبي أن يشرع إلا بوحي جاز أن يحكما معا وإن قلنا إنه يجوز أن يجتهد النبي لم يحكم إلا أحدهما وهذا يتم بيانه في قصة داود وسليمان إن شاء الله تعالى
258

المسألة الثانية
في جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللين لمن معه القوة وضمنت له العصمة ألا تراه قال لهما قولا له قولا لينا ولا تخافا إنني معكما أسمع وأرى
ففي الإسرائيليات أن موسى أقام على باب فرعون سنة لا يجد رسولا يبلغ كلاما حتى لقيه حين خرج فجرى له ما قص الله علينا من أمره وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم مع الظالمين وربك أعلم بالمهتدين
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) *) الآية 115
وقد تقدم ما في مثلها من أحكام بيد أنه كنا في الإملاء الأول قد وعدنا في قولهم إنه أكلها ناسيا ببيانه في هذا الموضع فها نحن بقوة الله ننتقض من عهدة الوعد فنقول كم قال في تنزيه الأنبياء عن الذي لا يليق بمنزلتهم مما ينسب الجهلة إليهم من وقوعهم في الذنوب عمدا منهم إليها واقتحاما لها مع العلم بها وحاش لله فإن الأوساط من المسلمين يتورعون عن ذلك فكيف بالنبيين ولكن البارئ سبحانه وتعالى بحكمه النافذ وقضائه السابق أسلم آدم إلى المخالفة فوقع فيها متعمدا ناسيا فقيل في تعمده (* (وعصى آدم ربه) *) طه 121 وقيل في بيان عذره (* (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) *) ونظيره من التمثيلات أن يحلف الرجل لا يدخل دارا أبدا فيدخلها متعمدا ناسيا ليمينه أو مخطئا في تأويله فهو عامد ناس ومتعلق العمد غير متعلق النسيان وجاز للمولى أن يقول في عبده عصى تحقيرا وتعذيبا ويعود عليه بفضله فيقول نسي تنزيها ولا يجوز لأحد منا أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا ذكرناه في أثناء قول الله عنه أو قول نبيه
وأما أن نبتدئ في ذلك من قبل أنفسنا فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا المماثلين لنا فكيف بأبينا الأقدم الأعظم النبي المقدم الذي عذره الله وتاب عليه وغفر له
259

ووجه الخطأ في قصة آدم غير متعين ولكن وجوه الاحتمالات تتصرف والمدرك منها عندنا أن يذهل عن أكل الشجرة كما ضربنا المثل في دخول الدار
الثاني أن يذهل عن جنس منهي منه ويعتقده في عينه إذ قال الله له هذه الشجرة كما تقدم في سورة البقرة
الثالث أن يعتقد أن النهي ليس على معنى الجزم الشرعي لمعنى مغيب
فإن قيل فقد قال (* (فتكونا من الظالمين) *) البقرة 35
قلنا قد قيل معناه من الظالمين لأنفسكما كما قال (* (فمنهم ظالم لنفسه) *) فاطر 32
والصحيح هو المعنى الأول وهو الذي نسي من تحذير الله له أو تأويله في تنزيله وربك أعلم كيف دار الحديث والتعيين يفتقر إلى تأويله وكذلك قلنا إن الناسي في الحنث معذور ولا يتعلق به حكم والله أعلم
الآية السادسة
قوله تعالى (* (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) *) الآية 13
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (ومن آناء) *))
وزنه أفعال واحدها إني مثل عدل وإني مثل عنب في السالم قال الله تعالى (* (غير ناظرين إناه) *) الأحزاب 53
المسألة الثانية
لا خلاف أن المراد بقوله تعالى هاهنا (* (سبح) *) صل لأنه غاية التسبيح وأشرفه
واختلف الناس هل ذلك بيان لصلاة الفرض أم لصلاة النفل
260

فقيل قبل طلوع الشمس يعني الصبح وقبل غروبها يعني العصر وقد قال إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا وفي الحديث الصحيح أيضا من صلى البردين دخل الجنة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ومن آناء الليل) *)
يعني ساعاته يريد بذلك قيام الليل كله على أحد القولين وفي الثاني صلاة المغرب والعشاء الآخرة على حد قوله تعالى (* (حين تمسون) *) الروم 17 في الفرض وعلى حد قوله تعالى (* (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) *) المزمل 1 على حد قولنا في أنه النفل
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وأطراف النهار) *))
يعني في أحد القولين صلاة الظهر وقيل صلاة المغرب لأنها في الطرف الثاني
والأول أصح لأن المغرب من طرف الليل لا من طرف النهار وفي القول الثاني يعني به صلاة التطوع وهو قول الحسن والأول أصح
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (لعلك ترضى) *))
هو مجمل قوله المفسر (* (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *) الإسراء 79 ويماثل قوله تعالى (* (ولسوف يعطيك ربك فترضى) *) الضحى 5
261

سورة الأنبياء
فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) *) الآية 63
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
روى الأئمة عن أبي هريرة وغيره واللفظ له قال النبي لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث قوله إني سقيم ولم يكن سقيما وقوله لسارة أختي وقوله تعالى (* (بل فعله كبيرهم هذا) *)
وثبت أيضا في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله قال لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات اثنتين منها في ذات الله قوله (* (إني سقيم) *) وقوله (* (بل فعله كبيرهم هذا) *) وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها فقال من هذه قال أختي فأتى سارة فقال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري
قلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقونني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون
قالت ثم تحولت فاضطجعت على فراشي قالت وأنا حينئذ اعلم أني بريئة وأن الله سيبرئني ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أنه ينزل في قرآن يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بآية تتلى ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله رؤيا في النوم يبرئني الله بها
قالت فوالله ما رام رسول الله مكانه وما خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول عليه
فلما سري عن رسول الله سري عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك
قالت أمي قومي إليه فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله وأنزل الله (* (إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم) *) العشر الآيات كلها
فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله عزل وجل (* (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) *) النور 22
قال أبو بكر بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه وقال والله لا أنزعها منه أبدا
262

وغيرك وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبينني فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيديه فأخذ فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت الله فأطلق ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد فقال ادعي الله لي ولا أضرك فأطلق الدعا بعض حجبته فقال لم تأتني بإنسان إنما أتيتني بشيطان فأخدمها هاجر
المسألة الثانية قوله تعالى (* (بل فعله كبيرهم هذا) *))
اختلف الناس في ظاهر المقصود به فمنهم من قال هذا تعريض وفي التعاريض مندوحة عن الكذب ومنهم من قال بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فشرط النطق في الفعل
والأول أصح لأنه عدده على نفسه فدل على أنه خرج مخرج التعريض وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة دون الله وهم كما قال إبراهيم لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فقال إبراهيم بل فعله كبيرهم هذا ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا يفعلون ولا ينفعون ولا يضرون فيقول لهم فلم تعبدون فتقوم الحجة عليهم منهم ولهذا يجوز عند الأئمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة كما قال لقومه هذا ربي على معنى الحجة عليهم حتى إذا أفل منهم تبين حدوثه واستحالة كونه إلها
المسألة الثالثة
قوله هذا ربي وهذه أختي وإني سقيم وبل فعله كبيرهم هذه وإن كانت معاريض وحسنات وحججا في الحق ودلالات لكنها أثرت في الرتبة وخفضت عن محمد من المنزلة واستحيا منها قائلها على ما ورد في حديث الشفاعة لأن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة أن يصدع بالحق ويصرح بالأمر فيكون ما كان ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة ولهذا جاء في حديث الشفاعة
263

إنما اتخذت خليلا من وراء وراء يعني بشرط أن تتبع عثراتي وتختبر أحوالي والخلة المطلقة لمحمد لأنه قال له (* (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *) الفتح 2 ولذلك تقول العرب في أمثالها ابغني من ورائي أي اختبر حالي
المسألة الرابعة
في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر وهي أنه قال رسول الله لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منها ما حل بهما عن دين الله وهي قوله إني سقيم وبل فعله كبيرهم هذا ولم يعد قوله هذه أختي في ذات الله وإن كان دفع بها مكروها ولكنه لما كان لإبراهيم فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله لم يجعل في جنب الله ذلك لأنه لا يجعل في ذات الله إلا العمل الخالص من شوائب الحظوظ الدنياوية أو المعاني التي ترجع إلى النفس حتى إذا خلصت للدين كانت لله كما قال (* (ألا لله الدين الخالص
) *) الزمر 3 وهذا لو صدر منا لكان لله ولكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا والله أعلم
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) *) الآيتان 78 79
فيها ثماني عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله (* (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) *))
لم يرد إذ جمعهما في القول اجتماعهما في الحكم فإن حاكمين على حكم واحد لا يجوز كما قدمناه وإنما حكم كل منهما على انفراد بحكم وكان سليمان هو الفاهم لها
264

المسألة الثانية في دستور في قصص القرآن
وذلك أن الله ذكر لرسوله ما جرى من الأمم وعليها وأقوال الأنبياء وأفعالها فأحسن القصص وهو أصدقه فإن الإسرائيليات ذكروها مبدلة وبزيادة باطلة موصولة أو بنقصان محرف للمقصد منقولة وما نقل من حديث نفش الغنم وقضاء داود وسليمان فيها انظروا إليه فما وافق منه ظاهر القرآن فهو صحيح وما خالفه فهو باطل وما لم يرد له فيه ذكر فهو محتمل ربك أعلم به
المسألة الثالثة في ذكر وصف ما قضاه النبيان صلى الله عليهما وسلم فيه
وفيه قولان
أحدهما أنه كان زرعا وقعت فيه الغنم ليلا قاله قتادة
الثاني أنه كان كرما نبتت عناقيده وهو قول ابن مسعود وشريح
وقد روي أن النفش رعي الليل والهمل رعي النهار وهذا هو المشهور في اللغة
المسألة الرابعة في ذكر وصف قضائهما
أما حكم داود فإنه يروى أنه قضى لصاحب الحرث بالغنم وأما حكم سليمان فإنه قضى بأن تدفع الغنم لصاحب الحرث عله يغتلها ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم بعمارته فإذا عاد في السنة المقبلة إلى مثل حالته رد إلى كل أحد ماله قاله ابن مسعود ومجاهد فرجع داود إلى حكم سليمان
المسألة الخامسة في صفة حكم المصطفى فيها
روى الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وحرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء دخلت حائطا فأفسدت فقضى رسول الله أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها وفي رواية وعلى أهل المواشي حفظها بالليل وهذا حديث صحيح لا كلام فيه
265

المسألة السادسة
في هذه دليل على رجوع القاضي عما حكم به إذا تبين له أن الحق في غيره وهكذا في رسالة عمر إلى أبي موسى فأما أن ينظر قاض فيما حكم به قاض فلا يجوز له لأن ذلك يتداعى إلى ما لا آخر له وفيه مضرة عظمى من جهة نقض الأحكام وتبديل الحلال بالحرام وعدم ضبط قوانين الإسلام ولم يتعرض أحد من الخلفاء إلى نقض ما رآه الآخر وإنما كان يحكم بما يظهر إليه
المسألة السابعة
قال بعض الناس إن داود لم يكن أنفذ الحكم وظهر له ما قال غيره
وقال آخرون لم يكن حكما وإنما كانت فتيا فأما القول بأن ذلك من داود كان فتيا فهو ضعيف لأنه كان النبي وفتياه حكم
وأما قوله الآخر إنه لم يكن أنفذ الحكم فظهر له ما قال غيره فهو ضعيف لأنه قال (* (إذ يحكمان) *) فبين أن كل واحد منهما كان قد حكم على أنه قد قيل إن الفتيا حكم وهو صحيح لفظا وفي بعض المعنى لأنه يلزم المقلد قوله ولا يلزم المجتهد قول غيره
وقد قيل إن الله أوحى أن الحكم حكم سليمان فعلى هذا كان القضاء من الله وكل ذلك محتمل وهذا كله مبني على أن الأنبياء يجوز لهم الحكم بالاجتهاد وهي
المسألة الثامنة
وقد بينا في كتاب التمحيص أن اجتهادهم صحيح لأنه دليل شرعي فلا إحالة في أن يستدل به الأنبياء
فإن قيل إنما يكون دليلا إذا عدم النص وهم لا يعدمونه لأجل نزول الملك
قلنا إذا لم ينزل الملك فقد عدموا النص
جواب آخر وذلك أنه عندنا دليل مع عدم النص وعندهم هو دليل مع وجوده والله أعلم
266

المسألة التاسعة في تحرير هذه المسألة كلها
وذلك أنه لا إشكال في أن من أتلف شيئا فعليه الضمان لكن المواشي جاء فيها حديث صحيح عن النبي أنه قال العجماء جرحها جبار فحكم في هذا الحديث بأن فعل البهائم
هدر وهذا عموم متفق عليه سندا ومتنا وحديث ناقة البراء خاص وما قضى به داود وسليمان غير معلوم على التعيين ممن يقطع بصدقه فتعين أن نعتني بشرعنا فنقول
لا خلاف أن العام يقضي عليه الخاص وقضاء النبي في ناقة البراء بأن حفظ الزروع والثمار بالنهار على أربابها لما على أهل المواشي من المشقة في حفظ بالنهار وبأن حظف الكل بالليل على أرباب المواشي لأن ذلك من حفظ الزروع والثمار شاق على أربابها فجرى الحكم على الأوفق والأسمح بمقتضى الحنيفية السمحة ومجرى المصلحة وكان ذلك أوفق للفريقين وأسهل على الطائفتين وأحفظ للمالكين
وليس في هذا اختلاف لما يروى عن النبيين المتقدمين صلى الله عليهما وسلم في أصل الضمان وإنما هو خلاف في صفته
المسألة العاشرة
قال مالك وأبو حنيفة والشافعي لا ضمان على أرباب المواشي فيما أصابت بالنهار
وقال الليث يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار
267

وقال أبو حنيفة إذا أفسدت المواشي ليلا أو نهارا لم يكن على صاحبها ضمان
وتحقيق المسالة أنه معنى حديث العجماء جبار وهذا ينفي الضمان كله ومعنى حديث البراء وهو نص في الفرق بين الليل والنهار فوجب تخصيص حديث البراء بحديث العجماء وليس عندنا بقضاء داود وسليمان نص فنقول إنه يعارض هذا على أحد القولين في أن شرع من قبلنا شرع لنا فيفتقر حينئذ إلى الكلام عليه والترجيح فيه فوجب الوقوف عندها وقف بناء النص عليه والله أعلم
المسألة الحادية عشرة
إذا قلنا إن أرباب المواشي يضمنون ما أفسدت ماشيتهم بالليل فإنهم يضمنون قيمة الزرع على رجاء أن يتم أو لا يتم قاله عنه مطرف ولا يستأني بالزرع أن ينبت أو لا ينبت كما يفعل في سن الصغير
وقال عيسى عن ابن القاسم قيمته لو حل بيعه
وقال أشهب وابن نافع عنه في المجموعة وإن لم يبد صلاحه
والأول أقوى لأنها صفته فيقوم كذلك لو تم أو لم يتم كما يقوم كل متلف على صفته
المسألة الثانية عشرة
إذا أفسدت المواشي ذلك فعلى أربابها قيمة ما أفسدت وإن زاد على قيمتها
وقال الليث تسقط الزيادة على القيمة وهذا باطل لأن القيمة إنما هي على أرباب المواشي وليست على المواشي وتخالف هذا جناية العبد فإنها عليه فيحمل السيد منها إن أراد فداءه قيمته
المسألة الثالثة عشرة
لو لم يقض في المفسد بشيء حتى نبت أو انجبر فإن كانت فيه قبل ذلك منفعة رعي أو شيء ضمن تلك المنفعة وإن لم يكن فيه منفعة فلا ضمان رواه ابن حبيب
وقال أصبغ يضمن لأن التلف قد تحقق والجبر ليس من جهته فلا يعتد له
268

المسألة الرابعة عشرة
قال أصبغ في المدينة ليس لأهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى الزرع بغير ذواد فركب العلماء على هذا أن البقعة لا تخلوا أن تكون بقعة زرع أو بقعة سرح فإن كانت بقعة زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تحتاج في الزرع وعلى أربابها حفظها وما أفسدت فصاحبها ضامن على أهلها ليلا أو نهارا وإن كانت بقعة سرح فعلى صاحب الزرع الذي يحرثه فيه حفظه ولا شيء على أرباب المواشي
المسألة الخامسة عشرة
قال أشهب وابن نافع في العتبية عن مالك سواء كانت الثمار والزروع محظرا عليها أو بغير حظار ولا يختلف الحكم بالحظار
وقال غيره يختلف وهذا أصوب فإن العجماء لا يردها حظار
المسألة السادسة عشرة
المواشي على قسمين ضواري وحريسة وعليهما قسمها مالك فالضواري هي المعتادة للزروع والثمار فقال مالك تغرب وتباع في بلد لا زرع فيه رواه ابن القاسم في الكتاب وغيره
وقال ابن حبيب وإن كره ذلك ربها وكذلك قال مالك في الدابة التي ضريت إفساد الزرع تغرب وتباع
وأما ما يستطاع الاحتراز منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه وهذا بين
المسألة السابعة عشرة
قال أصبغ النحل والحمام والإوز والدجاج كالماشية لا يمنع صاحبها من اتخاذها وإن أضرت وعلى أهل القرية حفظ زروعهم
269

وهذه رواية ضعيفة لا يلتفت إليها ومن أراد أن يتخذ ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكن منه وأما انتفاعه بما يتخذه بإضراره بأحد فلا سبيل إليه وهذه الضواري عن ابن القاسم في المدينة أنه لا ضمان على أربابها إلا بعد التقدم وأرى الضمان عليهم قبل التقدم إذا كانت ضواري
المسألة الثامنة عشرة
قال الحسن لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه وعذر داود باجتهاده
وقد اختلف العلماء في المجتهدين في الفروع إذا اختلفوا هل الحق في قول واحد منهم غير معين أم جميع أقوالهم حق
والذي نراه أن جميعها حق لقوله ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وقد مهدنا ذلك في كتاب التمحيص فلينظر فيه إن شاء الله
270

سورة الحج
فيها ست عشرة آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) *) الآية 5
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (فإنا خلقناكم من تراب) *))
يعني آدم (* (ثم من نطفة) *) يعني ولده وهو المني سمي نطفة لقلته وهو القليل من الماء (* (ثم من علقة) *) يعني قطعة صغيرة من دم (* (ثم من مضغة) *) يعني ثم من جزء مخثر يشبه اللقمة التي مضغت
وقوله (* (مخلقة) *) فيه أربعة أقوال
الأول صارت خلقا وغير مخلقة ما قذفته الرحم نطفة قاله ابن مسعود
الثاني تامة الخلق وغير تامة الخلق قاله قتادة
الثالث معناه مصورة وغير مصورة كالسقط قاله مجاهد
الرابع يريد تامة الشهور وغير تامة
271

المسألة الثانية
قد قدمنا شيئا من القول في هذا الغرض ونحن الآن نفيض فيه بما إذا اتصل بما في سورة الرعد كان بيانا للمسألة وعرفانا فنقول
في ذلك روايات عن النبي وأقوال عن السلف
فأما الروايات فقد قدمنا بعضها ونعيد منها هاهنا الرواية الأولى
روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود نحوه وعن ابن عمر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال أي رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل ما الأثر وبأي أرض تموت قال داود وشكلت في الخلق والخلق فيقال له انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب تتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها ثم قرأ عامر (* (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة) *)
الثانية محمد بن أبي عدي عن داود بمثله قال عبد الله إذا استقرت النطفة في الرحم أدارها ملك بكفه وقال أي رب مخلقة أو غير مخلقة قال فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما وإن كانت مخلقة قال أي رب أذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الرزق ما الأثر بأي أرض تموت
وآثار السلف أربعة
الأول قال عامر في النطفة والعلقة والمضغة فإذا انتكست في الخلق الرابع كانت نسمة مخلقة وإذا قذفتها قبل ذلك فهي غير مخلقة
الثاني قال أبو العالية غير مخلقة السقط قبل أن يخلق
الثالث قال قتادة تامة وغير تامة
272

الرابع قال ابن زيد المخلقة التي خلق فيها الرأس واليدين والرجلين وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيئا
المسألة الثالثة
قال المغيرة بن شعبة إنه كان يأمر بالصلاة على السقط ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم وحنطوهم فإن الله أكرم بالإسلام صغيركم وكبيركم ويتلو هذه الآية (* (فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة) *) لم يستتم سائر خلقها فإن الله يبعثها يوم القيامة خلقا تاما
المسألة الرابعة
إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة لأن الكل خلق الله وإذا رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال ثم أنشأناه خلقا آخر فذلك ما قال ابن زيد إنها التي صورت برأس ويدين ورجلين وبينهما حالات
فأما النطفة فليست بشيء يقينا وأما إن تلونت فقد تخلقت في رحم الأم بالتلوين وتخلقت بعد ذلك بالتخثير فإنه إنشاء بعد إنشاء
ويزعم قوم أن من التخثير يظهر التخطيط ومثال التصوير فلذلك شك مالك فيه وقال ومن رأيي من يعرف أنه سقط فهو الذي تكون به أم ولد وقد استوفيناه في سورة الرعد وشرح الحديث في كتاب الحيض فلينظر هنالك
وعلى هذا يحمل ما جاء من الأخبار والآثار على المخلق وغير المخلق وعلى التام والناقص ولعل المغيرة بن شعبة أراد السقط ما تبين خلقه فهو الذي يسمى وما لم يتبين خلقه فلا وجود له والاسم فيه دون موجود يسمى وبماذا تكون الولد وقد بيناه هنالك كما أشرنا إليه والله ينفعنا بعزته
المسألة الخامسة
إذا ثبت هذا فإن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع ذكره إسماعيل القاضي واحتج عليه بأنه حمل وقد قال الله (* (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن) *
273

* (حملهن) *) الطلاق 4 وكذلك قال لا تكون به أم ولد ولا يرتبط شيء من الأحكام به إلا أن يكون مخلقا لقوله تعالى (* (فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة) *) فيطلق عليه أنه خلق كما أنه حمل
واعترض عليه بعض الشافعية بأن الولد ليس بمضغة وإنما ذكره الله سبحانه وتعالى تنبيها على القدرة
قلنا فأين المقدور الذي تعلقت به القدرة هل هو تصريف الولد بين الأحوال ونقله من صفة إلى صفة فذكر أن أصله النطفة ثم تتداوله الصفات فيكون خلقا وحملا قال المعترض والمراد بقوله (* (وأولات الأحمال أجلهن) *) الطلاق 4 ما يسمى ولدا
قلنا بل المراد به ما يسمى حملا وخلقا لشغل الرحم فإذا سقط برئت الرحم من شغلها
قال القاضي إسماعيل والدليل على صحة ذلك أنه يرث أباه فدل على وجوده خلقا وكونه ولدا وحملا
قال المعترض لا حجة في الميراث لأنه جاء مستندا إلى حال كونه نطفة
قلنا لو لم يكن خلقا موجودا ولا ولدا محسوبا ما أسند ميراثه إلى حال ولا قضى له به
الآية الثانية
قوله تعالى (* (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) *) الآية 25
فيها ست مسائل
274

المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أنها نزلت حين خرج النبي في غزوة الحديبية عام ست فصده المشركون عن دخول البيت ومنعوه فقاضاهم على العام المستقبل وقضى عمرته في مكانه ونحر هديه وحلق رأسه ورجع إلى المدينة
المسألة الثانية قوله (* (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) *))
فيه قولان
أحدهما أنه أراد به المسجد نفسه دون الحرم وهو ظاهر القرآن لأنه لم يذكر غيره
الثاني أنه أراد به الحرم كله لأن المشركين صدوا رسول الله وأصحابه عنه فنزل خارجا منه في الحل وعيرهم الله بذلك ودل عليه أيضا قوله (* (والمسجد الحرام) *) فصفة الحرام تقتضي الحرم كله لأنه بصفته في التحريم وآخذ بجزاء عظيم من التكرمة والتعظيم بإجماع من المسلمين ألا ترى إلى قوله تعالى (* (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) *) المائدة 97 وكان الحرم مثله لأنه حريمه وحريم الدار من الدار
المسألة الثالثة قوله (* (جعلناه للناس) *))
يريد خلقناه لهم وسميناه ووضعناه شرعا ودينا وقد بينا معنى الجعل وتصرفاته
المسألة الرابعة قوله (* (سواء العاكف) *))
يعني المقيم وكذلك اسمه في اللغة والبادي يريد الطارئ عليه
وقد قال ابن وهب سألت مالكا عن قول الله (* (سواء العاكف فيه والباد) *)
275

فقال لي مالك السعة والأمن والحق قال مالك وقد كانت الفساطيط تضرب في الدور ينزلها الناس
والبادي أهل البادية وغيرهم ممن يقدم عليهم ثم قال (* (وجاء بكم من البدو) *) يوسف 1
قال ابن القاسم وسئل مالك عن ذلك فقال سواء في الحق والسعة والبادي أهل البادية ومن يقدم عليهم وقد كانت تضرب الفساطيط في الدور ولقد سمعت أن عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب مكة إذا قدم الناس قال والحج كله في كتاب الله تعالى
المسألة الخامسة في المعنى الذي فيه التسوية
وفيه قولان
أحدهما في دوره ومنازله ليس المقيم فيها أولى بها من الطارئ عليها هذا قول مجاهد ومالك كما تقدم وغيره
الثاني أنهما في الحق سواء والحرمة والنسك
والصحيح عموم التسوية في ذلك كله كما قال مالك وعليه حمله عمر بن الخطاب فقد روي أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء وهذا ينبني على أصلين
أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم هي للناس
الثاني ينبني عليه هذا الأصل وهو أن مكة هل افتتحت عنوة أو صلحا وقد بينا ذلك فيما تقدم
وقد روى علقمة بن نضلة قال توفي النبي وأبو بكر وعمر وما نرى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن وقد بينا في مسائل الخلاف القول في رباع مكة
276

والذي عندي الآن فيها أن النبي افتتح مكة عنوة لكنه من عليهم في أنفسهم فسموا الطلقاء ومن عليهم في أموالهم أمر مناديه فنادى من أغلق عليه بابه فهو آمن وتركهم في منازلهم على أحوالهم من غير تغيير عليهم ولكن الناس إذا كثروا واردين عليهم شاركوهم بحكم الحاجة إلى ذلك
وقد روى نافع عن ابن عمر أن عمر كان نهى أن تغلق مكة زمن الحاج وأن الناس كانوا ينزلون منها حيث وجدوا فارغا حتى كانوا يضربون الفساطيط في جوف الدور
المسألة السادسة قوله (* (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) *))
تكلم الناس في دخول الباء ههنا فمنهم من قال إنها زائدة كزيادتها في قوله (* (تنبت بالدهن) *) المؤمنون 2 وعليه حملوا قول الشاعر
(نحن بنو جعدة أصحاب الفلج
* نضرب بالسيف ونرجو بالفرج)
أراد ونرجو الفرج وهذا مما لا يحتاج إليه في سبيل العربية لأن حمل المعنى على الفعل أولى من حمله على الحرف
فيقال المعنى ومن يهم فيه بميل يكون ذلك الميل ظلما لأن الإلحاد هو الميل في اللغة إلا أنه قد صار في عرف الشريعة ميلا مذموما فرفع الله الإشكال وبين أن الميل بالظلم هو المراد ههنا والظلم في الحقيقة لغة وشرعا وضع الشيء في غير موضعه وذلك يكون بالذنوب المطلقة بين العبد ونفسه وبالذنوب المتعدية إلى الخلق وهو أعظم ولذلك كان ابن عمر له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم وإذا أراد الأمر لبعض شأنه دخل فسطاط الحل صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله حين عظم الله الذنب فيه وبين أن الجنايات تعظم على قدر عظم الزمان كالأشهر الحرم وعلى قدر عظم المكان كالبلد الحرام فتكون المعصية معصيتين إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة الشهر الحرام أو البلد الحرام
فإن أشرك فيه أحد فقد أعظم الذنب ومن استحله متعمدا
277

فقد أعظم الذنب ومن استحله متأولا فقد أعظم الذنب قال رسول الله إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرمة الله لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي فإن أحد ترخص فيها بقتال رسول الله فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وهذا نص
وقد قال أبو شريح العدوي لعمرو بن سعيد العاصي وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به حمد الله وأثنى عليه ثم قال إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا له إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن له فيه ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب
فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو قال أنا أعلم منك بذلك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة
وهذا من احتجاج عمرو باطل لأن ابن الزبير رضي الله عنه كان قائما بالحق عادلا في الحرم داعيا إلى الله سبحانه
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) *) الآية 26
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
قالوا معناه وطأنا ومهدنا وليس كما زعموا إنما المباءة المنزل وبوأنا فعلنا منه
278

فالمعنى وإذ نزلنا بتشديد الزاي لإبراهيم مكان البيت أي عرفناه به منزلا ولذلك دخلت اللازم فيه فخفي الأمر على يحيى بن زكريا حتى قال إن اللام هاهنا زائدة وليس كذلك
المسألة الثانية
قال الناس جعل الله لإبراهيم علامة ريحا هبت حتى كشفت أساس آدم في البيت
وقيل نصب له ظلا على قدر البيت فقدره به ويحتمل أن يكون خطه له جبريل
وهذه الجمل لا تتخصص إلا بنص صريح صحيح وقد قدمنا حديث إبراهيم وما كان منه مع هاجر وابنها وكم عاد وكيف بني وليس فيه ذكر لذلك كله
المسألة الثالثة
روى أبو ذر عن النبي أنه قال له أي المسجد وضع في الأرض الأول قال المسجد الحرام قلت ثم أي قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما قال أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة فصل كما تقدم بيانه هاهنا وفي غير موضع
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وطهر بيتي) *))
يعني لا تقربه بمعصية ولا نجاسة ولا قذارة وكان على ذلك حتى شاء الله فعبد فيه غيره وأشرك فيه به ولطخ بالدماء النجسة وملئ من الأقذار المنتنة
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) *) الآية 27
فيها سبع مسائل
279

المسألة الأولى قوله تعالى (* (وأذن) *))
تقدم بيان (* (وأذن) *) في سورة براءة وأوضحنا أن معناه أعلم وأن الله أمر نبيه إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج وذلك نص القرآن
واختلفوا في كيفية النداء كيف وقعت على قولين
أحدهما أنه أمر به في جملة شرائع الدين الصلاة والزكاة والصيام والحج حسبما تمهدت به ملة الإسلام التي أسسها لسانه وأوضحها ببيانه وختمها مبلغة تامة بمحمد في زمانه
الثاني أن الله أمره أن يرقى على أبي قبيس وينادي أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فلم تبق نفس إلا أبلغ الله نداء إبراهيم إليها فمن لبى حينئذ حج ومن سكت لم يكن له فيه نصيب وربنا على ذلك مقتدر فإن صح به الأثر استمر عقيدة واستقر وإلا فالأول يكفي في المعنى
المسألة الثانية قوله (* (يأتوك رجالا) *))
قال أكثر فقهاء الأمصار لا يفترض الحج على من ليس له زاد ولا راحلة وهي الاستطاعة حسبما تفسر في حديث الجوزي وقد بينا ذلك كله في سورة آل عمران فلا وجه لإعادته بيد أن هذه الآية نص في أن حال الحاج في فرض الإجابة منقسمة إلى راجل وراكب وليس عن هذا لأحد مذهب ولا بعده في الدليل مطلب حسبما هي عليه عند علماء المذهب فإن الاستطاعة عندنا صفة المستطيع وهي قائمة ببدنه فإذا قدر يمشي وجبت عليه العبادة وإذا عجز ووجد الزاد والراحلة وجبت عليه أيضا وتحقق الوعد بالوجهين
المسألة الثالثة قوله (* (وعلى كل ضامر يأتين) *))
يعني التي انضم جنباها من الهزال حتى أكلتها الفيافي ورعتها المفازات وإن كان خرج منها أوان انفصاله من بلده على بدن فإن حرب البيداء ومعالجة الأعداء ردها هلالا فوصفها الله بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة
280

المسألة الرابعة قوله (* (يأتين) *))
رد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها كما قال تعالى (* (والعاديات ضبحا) *) العاديات 1 في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله
المسألة الخامسة قوله (* (عميق) *))
يعني بعيد وبناء عمق للبعد قال الشاعر يصف قفرا
(وقاتم الأعماق خاوي المخترق
*)
يريد بالأعماق الأبعاد ترى عليها قتاما يخترق منها جوا خاويا وتمشي فيه كأنك وإن كنت مصعدا هاو ولذلك يقال بئر عميقة أي بعيدة القعر
المسألة السادسة
روى الدارقطني وغيره أن النبي حج قبل الهجرة حجتين وحج حجة الوداع ثالثة وظن قوم أن حجة كان على دين إبراهيم ودعوته وإنما حج على دينه وملته تنفلا بالعبادة واستكثارا من الطاعة فلما جاءه فرض الحج بعد تملكه لمكة وارتفاع العوائق وتطهير البيت وتقديس الحرم قدم أبا بكر ليقيم للناس حجهم ثم أدى الذي عليه في العام الثاني
وقد قدمنا وجه تأخيره إلى حجة الوداع من قبل
المسألة السابعة
قال علماؤنا رحمهم الله لما قدم الله تعالى ذكره رجالا على كل ضامر دل على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب وقد قال ابن عباس إنها لحوجاء في نفسي أن أموت قبل أن أحج ماشيا لأني سمعت الله يقول (* (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) *) فبدأ بأهل الرجلة
وقد جاء في الأخبار أن إبراهيم وعيسى حجا ماشيين وإنما حج النبي راكبا
281

ولم يحج ماشيا لأنه إن اقتدى به أهل ملته لم يقدروا وإن قصروا عنه تحسروا وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما ولعمر الله لقد طاف راكبا ليرى الناس هيئة الطواف
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) *) الآية 28
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
هذه لام المقصود والفائدة التي ينساق الحديث لها وتنسق عليه وأجلها قوله (* (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) *) الطلاق 12
وقد تتصل بالفعل كما قدمناه وتتصل بالحرف كقوله (* (لئلا يعلم أهل الكتاب) *) الحديد 29
وقد حققنا موردها في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين
المسألة الثانية قوله (* (منافع) *))
فيها أربعة أقوال
الأول المناسك
الثاني المغفرة
الثالث التجارة
الرابع من الأموال وهو الصحيح
وذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وآخرة
والدليل عليه عموم قوله (* (منافع) *) فكل ذلك يشتمل عليه هذا القول وهذا
282

يعضده ما تقدم في البقرة في تفسير قوله (* (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) *) البقرة 198 وذلك هو التجارة بإجماع من العلماء
المسألة الثالثة قوله (* (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) *))
فيها قولان
أحدهما أنها عشر ذي الحجة
الثاني أنها أيام التشريق
وبالأول يقول الشافعي وقد تقدم ذكر المعلومات في سورة البقرة بما يغني عن إعادته هاهنا
وقد روى ابن القاسم عن مالك الأيام المعلومات أيام النحر يوم النحر ويومان بعده وقال هو النهار دون الليل ومثله روى أشهب وابن عبد الحكم عن مالك وثبت يقينا أن المراد بذكر اسم الله هاهنا الكناية عن النحر لأنه شرطه
المسألة الرابعة قوله (* (فكلوا) *))
قد تقدم ذكر الأكل من لحم الصيد وجرى فيه شيء من ذكر الهدي وحقيقته تأتي بعد إن شاء الله
المسألة الخامسة (* (وأطعموا البائس الفقير) *))
فأما الفقير فهو الذي لا شيء له على نعت ما تقدم في سورة براءة
وأما البائس فهو الذي ظهر عليه البؤس وهو ضرر المرض أو ضرر الحاجة
الآية السادسة
قوله تعالى (* (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) *) الآية 29
فيها أربع مسائل
283

المسألة الأولى في ذكر التفث
قال القاضي الإمام هذه لفظة غريبة عربية لم يجد أهل المعرفة فيها شعرا ولا أحاطوا بها خبرا وتكلم السلف عليها على خمسة أقوال
الأول قال ابن وهب عن مالك التفث حلق الشعر ولبس الثياب وما أتبع ذلك مما يحل به المحرم
الثاني أنه مناسك الحج رواه ابن عمر وابن عباس
الثالث حلق الرأس قاله قتادة
الرابع رمي الجمار قاله مجاهد
الخامس إزالة قشف الإحرام من تقليم أظفار وأخذ شعر وغسل واستعمال طيب قاله الحسن وهو قول مالك الأول
فأما قول ابن عباس وابن عمر فلو صح عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة
وأما قول قتادة إنه حلق الرأس فمن قول مالك
وأما قول مجاهد إنه رمي الجمار فمن قول ابن عمر وابن عباس ثم تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قد قال إنه قص الأظفار وأخذ الشارب وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح ولم يجئ فيه بشعر يحتج به
وقال صاحب العين التفث هو الرمي والحلق والتقصير والذبح وقص الأظفار والشارب ونتف الإبط
وذكر الزجاج والفراء نحوه ولا أراه أخذه إلا من قول العلماء
وقال قطرب تفث الرجل إذا كثر وسخه وقال أمية بن أبي الصلت
(حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا
* ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا)
284

وإذا انتهيتم إلى هذا المقام ظهر لكم أن ما ذكر أشار إليه أمية بن أبي الصلت وما ذكره قطرب هو الذي قاله مالك وهو الصحيح في التفث وهذه صورة قضاء التفث لغة
وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه وحلق رأسه وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس الثياب فيقضي تفثه
وأما وفاء نذره وهي
المسألة الثانية
فإن النذر كل ما لزم الإنسان أو التزمه
وقال مالك في رواية ابن وهب وابن القاسم وابن بكير إنه رمي الجمار لأن النذر هو العقل فهو رمي الجمار لأجل النذر يعني بالعقل الدية
والأول أقوى لأنه يلزم الوفاء برمي الجمار وبنحر الهدي ويجتنب الوطء والطيب حتى تقع الزيارة
المسألة الثالثة قوله (* (وليطوفوا بالبيت العتيق) *))
هذا هو طواف الزيارة وهو طواف الإفاضة وهو ركن الحج باتفاق وبه يتم الحج لأنه أحد أعماله ونهاية أركانه
المسألة الرابعة قوله (* (بالبيت العتيق) *))
وفي تسميته بالعتيق قولان
أحدهما أنه من عتق أي قدم إذ هو أول مسجد وضع في الأرض
الثاني أنه عتق أي خلص من الجبابرة عن الهوان إلى انقضاء الزمان حسبما بيناه من قبل
285

الآية السابعة
قوله تعالى (* (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) *) الآية 3
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى الحرمات
امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه فإن لهذا حرمة المبادرة إلى الامتثال ولذلك حرمة الانكفاف والانزجار
المسألة الثانية قوله (* (وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم) *))
قد تقدم بيانه في سورة المائدة
المسألة الثالثة قوله (* (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) *))
وصف الله الأوثان بأنها رجس والرجس النجس وهي نجسة حكما والنجاسة ليست وصفا ذاتيا للأعيان وإنما هي وصف شرعي من أحكام الإيمان ولهذا قلنا إنها لا تزال إلا بالإيمان كما لم تجز الطهارة في الأعضاء إلا بالماء إذ المنعان متماثلان في حكم الشرع ليسا بجنسين وقد بينا ذلك في مسألة إزالة النجاسة من مسائل الخلاف
المسألة الرابعة قوله (* (واجتنبوا قول الزور) *))
وهو الكذب
وله متعلقات أعظمها عقوبة الكذب على الله في ذاته أو صفاته أو أفعاله وهو الشرك ويلحق به الكذب على النبي لأنه على الله إذ بكلامه يتكلم
المتعلق الثاني الشهادة وهو تصوير الباطل بصورة الحق في طريق الحكم ولهذا عظم النبي أمرها فذكر الكبائر فقال الإشراك بالله وشهادة الزور ثم
286

قال وقول الزور ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت
ومن طريق آخر عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثم قرأ (* (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) *)
ثم تتفاوت متعلقات الكذب بحسب عظم ضرره وقلته
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق) *) الآيتان 32 33
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله (* (شعائر الله) *))
واحدها شعيرة ولم يختلفوا أنها المعالم وحقيقتها أنها فعيلة من شعرت بمعنى مفعولة وشعرت دريت وتفطنت وعلمت وتحققت كله بمعنى واحد في الأصل وتتباين المتعلقات في العرف هذا معناه لغة
فأما المراد بها في الشرع وهي
المسألة الثانية
ففي ذلك أربعة أقوال
الأول أنها عرفة والمزدلفة والصفا والمروة ومحل الشعائر إلى البيت العتيق
287

قاله ابن القاسم عن مالك
الثاني أنها مناسك الحج وتعظيمه استيفاؤها
الثالث أنها البدن وتعظيمها استسمانها
الرابع أنه دين الله وكتبه وتعظيمها التزامها
والصحيح أنها جميع مناسك الحج
المسألة الثالثة قوله (* (فإنها من تقوى القلوب) *))
يريد فإن حالة التعظيم إذا كست العبد باطنا وظاهرا فأصله تقاة القلب بصلاح السر وإخلاص النية وذلك لأن التعظيم فعل من أفعال القلب وهو الأصل لتعظيم الجوارح بالأفعال
المسألة الرابعة قوله (* (لكم فيها منافع) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول أنها التجارة ويكون الأجل على هذا القدرة على الحج
الثاني أن المنافع الثواب والأجل يوم الدين
الثالث أن المنافع الركوب والدر والنسل والأكل وهذا على قول من قال إنها البدن والأجل إيجاب الهدي
والصحيح أنها البدن وتدل على غيرها إما من طريق المماثلة وإما من طريق الأولى
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (ثم محلها إلى البيت العتيق) *))
يريد أنها تنتهي إلى البيت العتيق وهو الطواف وهذا قول مالك إن الحج كله في كتاب الله يعني أن شعائر الحج كلها تنتهي إلى الطواف بالبيت
وقال عطاء تنتهي إلى مكة هذا عموم لا يفيد شيئا فإنه قد صرح بذكر البيت فلا معنى لإلغائه وكذلك قول الشافعي إنه إلى الحل والحرم وهذا إنما بنوه على أن الشعائر هي البدن ولا بد فيها من الجمع بين الحل والحرم ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها
288

الآية التاسعة
قوله تعالى (* (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) *) الآيتان 34 35
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
قرئ منسك بكسر السين وفتحها وباب مفعل في اللغة يختلف حال دلالته باختلاف حال فعله فإذا كان مكسور العين في المستقبل فاسم المكان منه مفعل والمصدر مفتوح
العين واسم الزمان منه كاسم المكان قالوا أتت الناقة على مضربها ومحلبها
وما كان العين في المستقبل منه مفتوحا فالمصدر والمكان مفتوحان كالمشرب والملبس ويأتي لغيره كالمكبر من كبر يكبر وما كان على فعله يفعل بضم العين فبمنزلة ما كان على يفعل مفتوحا لم يقولوا فيه مفعل بضم العين وقد جاء المصدر مكسورا في هذا الباب قالوا مطلع الشمس والحجازيون يفتحونه وقد كسروا اسم المكان أيضا فقالوا المنبت لموضعه والمطلع لموضعه فعلى هذا قل منسكا ومنسكا بالفتح والكسر
المسألة الثانية
إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في معناه فقيل معنى منسكا حجا قاله قتادة
وقيل ذبحا قاله مجاهد وقيل عيدا قاله الفراء
واشتقاقه من نسكت وله في اللغة معان
الأول تعبدت ومنه قوله تعالى (* (وأرنا مناسكنا) *) البقرة 128 خص في الحج على عادة اللغة
289

الثاني قال ثعلب هو مأخوذ من النسيكة والنسيكة المخلصة من الخبث ويقال للذبح نسك لأنه من جملة العبادات الخالصة لله لأنه لا يذبح لغيره
وادعى ابن عرفة أن معنى نسكت ذهبت وكل من ذهب مذهبا فقد نسك ولا يرجع إلا إلى العبادة والتقرب وهو الصحيح
ولما رأى قوم أن العبادة تتكرر قال إن نسكت بمعنى تعهدت والذي ذهب إليه الفراء من أنه العيد روي عن ابن عباس وهو من أفضل المناسك
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) *))
يعني يذبحونها لله دون غيره في هدي أو ضحية حسبما تقدم بيانه في سورة الأنعام
المسألة الرابعة في إقامة الصلاة
وقد تقدم
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (ومما رزقناهم ينفقون) *))
وقد تقدم في مواضع كثيرة
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون) *) الآية 36
فيها ثماني عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله تعالى (* (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) *))
البدن جمع بدنة وهي الواحدة من الإبل سميت بذلك من البدانة وهي السمن يقال بدن الرجل بضم العين إذا سمن وبدن بتشديدها إذا كبر وأسن وإنما
290

سماها بصفتها لينبة بذلك على اختيارها وتعيين الأفضل منها فإن الله أحق ما اختير له
وقد روي عن جابر وعطاء أن البقرة يقال لها بدنة
وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم وهو قول شاذ والبدن هي الإبل والهدي عام في الإبل والبقر والغنم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (جعلناها لكم من شعائر الله) *))
وهذا نص في أنها بعض الشعائر كما تقدم بيانه
المسألة الثانية قوله تعالى (* (لكم فيها خير) *))
يعني منفعة اللباس والمعاش والركوب والأجر فأما الأجر فهو خير مطلقا وأما غيره فهو خير إذا قوى على طاعة الله
المسألة الرابعة (* (فاذكروا اسم الله عليها صواف) *))
فيها ثلاث قراءات صواف بفاء مطلقة قراءة الجمهور صوافن بنون قراءة ابن مسعود صوافي بياء معجمة باثنتين من تحتها قراءة أبي بن كعب
فأما قوله صواف فمن صف يصف إذا كانت جملة من قيام أو قعود أو مشاة بعضها إلى جانب بعض على الاستواء ويكون معناها هاهنا صفت قوائمها في حال نحرها أو صفت أيديها قاله مجاهد
وأما صوافن فالصافن هو القائم
وقيل هو الذي يثني إحدى رجليه
وأما صوافي فهو جمع صافية وهي التي أخلصت لله نية وجلالا وإشعارا وتقليدا
وقال أبو حنيفة لا إشعار وهو بدعة لأنه مثلة وكأنه لا خبر عنده للسنة الواردة في ذلك ولا للأحاديث المتعاضدة فهي فعل النبي والصحابة بعده ومعه والخلفاء للإشعار
291

المسألة الخامسة قوله تعالى (* (فاذكروا اسم الله) *))
يعني انحروها كما تقدم أن ذكر الله اسم صار كناية عن النحر والذبح لما بينا من أنه شرط فيه وأصل معه
المسألة السادسة في كيفية نحر الهدي
وفيه أقوال
الأول قال ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف فقال يقيدها ثم يصفها
وقال لي مالك بن أنس مثله وقال فينحرها قائمة ولا يعقلها إلا أن يضعف إنسان فيتخوف أن تتفلت بدنته فلا بأس بأن ينحرها معقولة وإن كان يقوى عليها فلينحرها قائمة مصفوفة يداها بالقيود
قال وسألت مالكا عن البدنة تنحر وهي قائمة هل تعرقب قال ما أحب ذلك إلا أن يكون الإنسان يضعف عنها فلا يقوى عليها فيخاف أن تتفلت منه فلا أرى بأسا أن يعرقبها وهذه الأقوال الثلاثة للعلماء
الأول يقيمها
الثاني يقيدها أو يعقلها
الثالث يعرقبها
وزاد مالك أن يكون الأمر يختلف بحسب قوة الرجل وضعفه
وروي عن بعض السلف مثله والأحاديث الصحاح في ذلك ثلاثة
الأول في نحرها مقيدة في الصحيح عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته فنحرها قال أبعثها قياما مقيدة سنة محمد
الثاني في نحرها قائمة في الصحيح عن أنس أن النبي نحر بيده سبع بدن قياما
292

وقد كان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحر بها في صدرها ويخرجها على سنامها فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه ويمسك معه رجل الحربة وآخر بخطامها
والعقل بعض تقييد والعرقبة تعذيب لا أراه إلا لو ند فلا بأس بعرقبته
المسألة السابعة قوله تعالى (* (فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها) *))
يعني سقطت على جنوبها يريد ميتة كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح قال الشاعر
(لمعفر قهد ينازع شلوه
* غبس كواسب ما يمن طعامها)
وقال آخر
(فتركنه جزر السباع ينشنه
* ما بين قلة رأسه والمعصم)
في معناه وذلك كثير
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (فكلوا منها) *))
ولا يخلو أن يكون الهدي تطوعا أو واجبا فأما هدي التطوع فيأكل منه وأما الهدي الواجب فللعلماء فيه أقوال أصولها ثلاثة
الأول لا يأكل منه بحال قاله الشافعي
الثاني أنه يأكل من هدي التمتع والقرآن ولا يأكل من الواجب بحكم الإحرام قاله أبو حنيفة
الثالث أنه يأكل من الواجب كله إلا من ثلاث جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين
وتعلق الشافعي بأنه وجب عليه إخراجه من ماله فيكف يأكل منه
293

وتعلق أبو حنيفة بأن ما وجب بسبب محظور التحق بجزاء الصيد
وتعلق مالك بأن جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله (* (أو كفارة طعام مساكين) *) المائدة 95 وحكم البدل حكم المبدل وقال في فدية الأذى (* (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) *) البقرة 196
وقال النبي في فدية الأذى وأطعم ستة مساكين مدين لكل مسكين ونذر المساكين مصرح به وأما غير ذلك من الهدايا فهو على أصل قوله تعالى (* (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) *)
وهذا نص في إباحة الأكل وقد ثبت في الصحيح أن النبي نحر بدنه وأمر من كل بدنة ببضعة فطبخها وأكل منها وشرب من مرقها وكان من هديه واجبا وهو دم القرآن الذي كان عليه في حجه وإنما أذن الله تعالى في الأكل لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها فأمر الله نبيه بمخالفتهم فلا جرم كذلك شرع وبلغ وكذلك فعل حين أهدى وأحرم وما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح فليست العلة ما ذكر من الحظر وإنما هو دعوى لا برهان عليها
المسألة التاسعة
اختلف الناس في حكم قوله تعالى (* (فكلوا) * وأطعموا) على ثلاثة أقوال
الأول أنهما واجبان قاله أبو الطيب بن أبي ثعلبة
الثاني أنهما مستحبان قاله ابن شريح
الثالث أن الأكل مستحب والإطعام واجب قاله الشافعي وهو صريح قول مالك فأما من قال إنهما واجبان فتعلق بظاهر القول مع ما فيه من مخالفة الجاهلية ففيه غريبة من الفقه لم تقع لي مذ قرأت العلم لها نظير وذلك أن قول القائل إنهما
294

جميعا يتركان لأنهما مستحبان لم يتصور شرعا فإنه ليس وراء ذلك إلا إتلافها وذلك لا يجوز فلا يصح استحبابهما معا وإنما يقال أحدهما واجب على البدل أو يقال الأكل مستحب والإطعام واجب كما قال مالك
والأصح عندي أن الأكل واجب وقد احتج علماؤنا بأمثلة وردت بصيغة الأمر ولم تكن واجبة وليس في ذلك حجة لأنه إذا سقط أمر بدليل لا يسقط غيره بغير دليل
المسألة العاشرة
إذا أكل من لحم الهدي الذي لا يحل له أكله ففيه لعلمائنا قولان
أحدهما ما وقع في المدينة أنه إن كان جهل فليستغفر الله ولا شيء عليه
قال مالك وقد كان ناس من أهل العلم يقولون يأكل منه
وقال في المشهور من مذهبنا إنه إذا أكل من جزاء الصيد أو فدية الأذى بعد أن بلغ محلته غرم وماذا يغرم قولان
أحدهما يضمن الهدي كله قاله ابن الماجشون
الثاني ليس عليه إلا غرم قدر ما أكل وهذا هو الحق لا شيء غيره وكذا لو نذر هدي المساكين فأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل خلافا للمدونة لأن الصحيح عندي ما ذكرته لكم إذ النحر قد وقع والتعدي إنما هو في اللحم فيغرم بقدر ما تعدى فيه
واختلف علماؤنا فيما يغرم وهي
المسألة الحادية عشرة
فقال بعض علمائنا إنه يغرم قيمة اللحم وقال في كتاب محمد وابن حبيب عن عبد الملك إنه يغرمه طعاما
والأول أصح لأن الطعام إنما هو في مقابلة الهدي كله عند تعذره عبادة وليس
295

حكم التعدي حكم العبادة فأما إذا عطب الواجب كله قبل محله فليأكل منه لأن عليه بدله وهي
المسألة الثانية عشرة
فإن كان تطوعا فعطب قبل محله لم يأكل لأنه يتهم أن يكون أسرع به ليأكله وهذا من باب سد الذرائع وهي
المسألة الثالثة عشرة
المسألة الرابعة عشرة القانع
والخامسة عشرة المعتر
وفي ذلك خمسة أقوال
الأول قال ابن وهب وابن القاسم القانع الفقير والمعتر الزائر
الثاني قال ابن وهب وعقبة السائل وقاله زيد بن أسلم
الثالث المعتر الذي يعتريك قاله مجاهد والقانع الجالس في بيته قاله مجاهد
الرابع القانع الذي يرضى بالقليل والمعتر الذي يمر بك ولا يبايتك قاله القرطبي
الخامس الذي يقنع هو المتعفف والمعتر السائل
المسألة السادسة عشرة
هذه الأقوال متقاربة فأما القانع ففعله قنع يقنع وله في اللغة معنيان
أحدهما الذي يرضى بما عنده والثاني الذي يذل وكلاهما ينطلق على الفقير فإنه ذليل فإن وقف عند رزقه فهو قانع وإن لم يرض فهو ملحف
وأما المعتر والمعتري فهما متقاربان معنى مع افتراقهما اشتقاقا فالمعتر مضاعف والمعتري معتل اللام ومن النادر في العربية كونهما بمعنى واحد قال الحارث بن هشام
(وشيبة فيهم والوليد ومنهم
* أمية مأوى المعترين وذي الرحل)
296

يريد بالمعترين من يقيم للزيارة وذو الرحل من يمر بك فتضيفه وقال زهير
(على مكثريهم رزق من يعتريهم
* وعند المقلين السماحة والبذل)
ويعضد هذا قوله تعالى (* (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) *) هود 54 يريد نزل بك فهذا كله في المعتل
وأما ما ورد في المضاعف فكقول الشاعر
(يعطي دخائر ماله
* معتره قبل السؤال)
وقال الكميت
(أيا خير من يأته الطارقون
* إما عيادا وإما اعترارا)
وقال آخر
(لمال المرء يصلحه فيغني
* مفاقره أعف من القنوع)
قال القاضي الإمام والذي عندي فيه أن المعنى فيهما متقارب كتقارب معنى الفقير والمسكين
وحقيقة ذلك أن الله أمر بالأكل وإطعام الفقير والفقير على قسمين ملازم لك ومار بك فأذن الله في إطعام الكل منهما مع اختلاف حالهما ومن هاهنا وهم بعض الناس فيه فقال وهي
المسألة السابعة عشرة
أن القانع هو جارك الغني وليس لذلك وجه كما بيناه
المسألة الثامنة عشرة
قال بعضهم إن الهدي يقسم أثلاثا قسم يأكله صاحبه وقسم يأخذه القانع وقسم يأخذه المعتر وإنما يقسم قسمين قسم يأخذه الآكل وقسم يأخذه القانع والمعتر ولهذا قال ابن القاسم عن مالك ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف
قال مالك في حديثه بلغني عن ابن مسعود شيء ليس عليه العمل عندنا وهو
297

الذي أشرنا إليه قسمتها أثلاثا وقد قال تعالى (* (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) *) النحل 5 ولم يكن ذلك ليجزأ أثلاثا ذلك لتعلموا أن هذا التقدير ليس بأصل يرجع إليه
وفي صحيح مسلم عن ثوبان ضحى رسول الله بشاة ثم قال لي أصلح لحمها فما زال يأكل منه حتى قدمنا المدينة ولم يذكر صدقة وهذا نص في المسألة
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) *) الآية 37
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (لن ينال الله) *))
من الألفاظ المشكلة فإن النيل لا يتعلق بالبارئ سبحانه ولكن عبر به تعبيرا مجازيا عن القبول فإن كل ما نال الإنسان موافق أو مخالف فإن ناله موافق قبله أو مخالف كرهه ولا عبرة بالأفعال بدنية كانت أو مالية بالإضافة إلى الله تعالى إذ لا يختلف في حقه إلا بمقتضى نهيه وأمره وإنما مراتبها الإخلاص فيها والتقوى منها
ولذلك قال لن يصل إلى الله لحومها ولا دماؤها وإنما يصل إليه التقوى منكم فيقبله ويرفعه إليه ويسمعه
المسألة الثانية قوله (* (كذلك سخرها لكم) *))
امتن علينا سبحانه بتذليلها لنا وتمكيننا من تصريفها وهي أعظم منا أبدانا وأقوى أعضاء ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير
298

وإنما هي بحسب ما يدبرها العزيز القدير فيغلب الصغير الكبير ليعلم الخلق أن الغالب هو الله وحده القاهر فوق عباده
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (لتكبروا الله على ما هداكم) *))
ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها في الآية قبلها فقال (* (فاذكروا اسم الله عليها صواف) *) وذكر ههنا التكبير فكان ابن عمر يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول بسم الله والله أكبر وهذا من فقهه رضي الله عنه
وقد قال قوم التسمية عند الذبح والتكبير عند الإحلال بدلا من التلبية عند الإحرام وفعل ابن عمر أفقه والله أعلم
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) *) الآية 39
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك ثلاثة أقوال
الأول روي عن ابن عباس أن النبي لما خرج من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن فأنزل الله (* (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) *)
قال أبو بكر فعرفت أنه سيكون قتال خرجه الترمذي وغيره
الثاني قال مجاهد الآية مخصوصة نزلت في قوم مهاجرين وكانوا يمنعون فأذن الله في قتالهم وهي أول آية نزلت في القتال
الثالث قال الضحاك استأذن أصحاب النبي في قتال الكفار فقيل (* (إن) *
299

* (الله لا يحب كل خوان كفور) *) الحج 38 فلما هاجر نزلت (* (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) *) وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك وصفح وقد بيناه في قسم النسخ الثاني من علوم القرآن
المسألة الثانية معنى (* (آذن) *))
أبيح فإنه لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع وهو دليل على أن الإباحة من الشرع وأنه لا يحكم قبل الشرع لا إباحة ولا حظرا إلا ما حكم به الشرع وبينه وقد أوضحناه في أصول الفقه ألا ترى أن الله قد كان بعث رسوله ودعا قومه ولكنهم لم يتصرفوا إلا بأمر ولا فعلوا إلا بإذن
المسألة الثالثة
بينا أن الله سبحانه لما بعث محمدا بالحجة دعا قومه إلى الله دعاء دائما عشرة أعوام لإقامة حجة الله سبحانه ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله (* (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *) الإسراء 15 واستمر الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان وحين أعذر الله بذلك إلى الخلق وأبوا عن الصدق أمر رسوله بالقتال ليستخرج الإقرار بالحق منهم بالسيف
المسألة الرابعة
قرئ يقاتلون بكسر التاء وفتحها فإن كسرت التاء كان خبرا عن فعل المأذون لهم وإن فتحتها كان خبرا عن فعل غيرهم بهم وإن الإذن وقع من أجل ذلك لهم ففي فتح التاء بيان سبب القتال وقد كان الكفار يتعمدون النبي والمؤمنين بالإذاية ويعاملونهم بالنكاية لقد خنقه المشركون حتى كادت نفسه تذهب فتداركه أبو بكر وقال (* (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) *) غافر 28 وقد بلغ بأصحابه إلى الموت فقد قتل أبو جهل سمية أم عمار بن ياسر وقد عذب بلال وما بعد هذا إلا الانتصار بالقتال
والأقوى عندي قراءة كسر التاء لأن النبي بعد وقوع العفو والصفح عما
300

فعلوا أذن الله له في القتال عند استقراره بالمدينة فأخرج البعوث ثم خرج بنفسه حتى أظهره الله يوم بدر وذلك قوله (* (وإن الله على نصرهم لقدير) *))
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) *) الآية 4
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال علماؤنا رحمهم الله كان رسول الله قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحل له الدماء إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدة عشرة أعوام لإقامة حجة الله تعالى عليهم ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله (* (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *) الإسراء 15 فاستمر الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان
وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم فهم بين مفتون في دينه ومعذب وبين هارب في البلاد مغرب فمنهم من فر إلى أرض الحبشة ومنهم من خرج إلى المدينة ومنهم من صبر على الأذى فلما عتت قريش على الله وردوا أمره وكرامته وكذبوا نبيه وعذبوا من آمن به وعبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم فكانت أول آية أنزلت في إذنه له بالحرب وإحلاله له الدماء (* (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) *) إلى قوله (* (الأمور) *) الحج 41
301

أي إنما أحللت لهم القتال لأنهم ظلموا ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس إلا أن يعبدوا الله وأنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة
ثم أنزل الله عليهم (* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) *) الأنفال 39 وقد تقدم بيان ذلك
وعن هذا عبر رسول الله فيما أخبرنا نصر بن إبراهيم الزاهد قال حدثنا علي ابن موسى أنبأنا المروزي حدثنا الفربري حدثنا البخاري حدثنا عبد الله بن محمد المسندي حدثنا حرمي بن عمارة حدثنا شعبة عن واقد بن محمد سمعت أبي يحدث عن ابن عمر أن رسول الله قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله
المسألة الثانية قوله تعالى (* (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) *))
دليل على نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه ويترتب عليه حكم فعله ولذلك قال علماؤنا إن المكره على إتلاف المال يلزمه الغرم وكذلك المكره على قتل الغير يلزمه القتل
وروي في مختصر الطبري أن أصحاب النبي استأذنوه في قتال الكفار إذ آذوه بمكة غيلة فنزلت (* (إن الله لا يحب كل خوان كفور) *) الحج 38 فلما هاجر إلى المدينة أطلق قتالهم وهذا إن كان صحيحا فقد نسخه الحديث الصحيح إن النبي قال من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقام محمد ابن مسلمة فقال يا رسول الله أتحب أن أقتله قال نعم فقتله مع أصحابه غيلة
302

وكذلك بعث النبي رهطا إلى أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق فقتلوه غيلة
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) *) الآيات 52 53 54
فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها
في ذلك روايات مختلفة أظهرها وما فيها ظاهر أن النبي جلس في ناد من أندية قومه كثير أهله فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عند يومئذ فأنزل الله عليه (* (والنجم إذا هوى) *) فقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله (* (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) *) النجم 19 2 ألقى الشيطان كلمتين تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى
فتكلم بها ثم مضى بقراءة السورة كلها ثم سجد في آخر السورة وسجد القوم جميعا معه ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته وسجد عليه وكان شيخا كبيرا فلما أمسى أتاه جبريل فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين قال ما جئتك بهاتين فأوحى الله إليه (* (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا) *) الإسراء 73 74 75 فما زال مغموما مهموما حتى نزلت (* (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) *
303

وفي رواية أن جبريل قال له لقد تلوت يا محمد على الناس شيئا لم آتك به فحزن وخاف خوفا شديدا فأنزل الله عليه إنه لم يكن قبله رسول ولا نبي تمنى كما تمنى وأحب كما أحب إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته كما ألقى الشيطان على لسانه
المسألة الثانية
اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه ويسر لكم مقصد التوحيد ومغزاه أن الهدى هدى الله فسبحان من يتفضل به على من يشاء ويصرفه عمن يشاء وقد بينا معنى الآية في فصل تنبيه الغبي على مقدار النبي بما نرجو به عند الله الجزاء الأوفى في مقام الزلفى ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغماء ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء إلى بقاع العلماء في عشر مقامات
المقام الأول أن النبي إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه فإنه يخلق له العلم به حتى يتحقق أنه رسول من عنده ولولا ذلك ما صحت الرسالة ولا تبينت النبوة فإذا خلق الله له العلم به تميز عنده من غيره وثبت اليقين واستقام سبيل الدين ولو كان النبي إذا شافهه الملك بالوحي لا يدري أملك هو أم إنسان أم صورة مخالفة لهذه الأجناس ألقت عليه كلاما وبلغت إليه قولا لم يصح له أن يقول إنه من عند الله ولا ثبت عندنا أنه أمر الله فهذه سبيل متيقنة وحالة متحققة لا بد منها ولا خلاف في المنقول ولا في المعقول فيها ولو جاز للشيطان أن يتمثل فيها أو يتشبه بها ما أمناه على آية ولا عرفنا منه باطلا من حقيقة فارتفع بهذا الفصل اللبس وصح اليقين في النفس
المقام الثاني أن الله قد عصم رسوله من الكفر وآمنه من الشرك واستقر ذلك من دين المسلمين بإجماعهم فيه وإطباقهم عليه فمن ادعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله أو يشك فيه طرفة عين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه بل لا تجوز عليه المعاصي في الأفعال فضلا عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد بل هو المنزه عن ذلك فعلا واعتقادا وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول بأوضح دليل
304

المقام الثالث أن الله قد عرف رسوله بنفسه وبصره بأدلته وأراه ملكوت سماواته وأرضه وعرفه سنن من كان قبله من إخوته فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه اليوم
ونحن حثالة أمته ومن خطر له ذلك فهو ممن يمشي مكبا على وجهه غير عارف بنبيه ولا بربه
المقام الرابع تأملوا فتح الله أغلاق النظر عنكم إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء على الإسلام ممن صرح بعداوته أن النبي لما جلس مع قريش تمنى ألا ينزل عليه من الله وحي فكيف يجوز لمن معه أدنى مسكة أن يخطر بباله أن النبي آثر وصل قومه على وصل ربه وأراد ألا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من عند ربه من الوحي الذي كان حياة جسده وقلبه وأنس وحشته وغاية أمنيته
وكان رسول الله أجود الناس فإذا جاءه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة فيؤثر على هذا مجالسة الأعداء
المقام الخامس أن قول الشيطان تلك الغرانقة العلا وإن شفاعتها ترتجى للنبي قبله منه فالتبس عليه الشيطان بالملك واختلط عليه التوحيد بالكفر حتى لم يفرق بينهما
وأنا من أدنى المؤمنين منزلة وأقلهم معرفة بما وفقني الله له وآتاني من علمه لا يخفى علي وعليكم أن هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله ولو قاله أحد لكم لتبادر الكل إليه قبل التفكير بالإنكار والردع والتثريب والتشنيع فضلا عن أن يجهل النبي حال القول ويخفى عليه قوله ولا يتفطن لصفة الأصنام بأنها الغرانقة العلا وأن شفاعتها ترتجى وقد علم علما ضروريا أنها جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق ولا تضر ولا تنفع ولا تنصر ولا تشفع بهذا كان يأتيه جبريل الصباح والمساء وعليه انبنى التوحيد ولا يجوز نسخه من جهة المعقول ولا من جهة المنقول فكيف يخفى هذا على الرسول ثم لم يكف هذا حتى قالوا إن جبريل لما عاد إليه بعد ذلك ليعارضه فيما ألقى إليه من الوحي كررها عليه جاهلا بها تعالى الله عن ذلك فحينئذ أنكرها عليه جبريل وقال له ما جئتك بهذه فحزن النبي لذلك وأنزل عليه (* (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا) *
305

* (غيره) *) الإسراء 73 فيا لله والمتعلمين والعالمين من شيخ فاسد وسوس هامد لا يعلم أن هذه الآية نافية لما زعموا مبطلة لما رووا وتقولوا وهو
المقام السادس وذلك أن قول العربي كاد يكون كذا معناه قارب ولم يكن فأخبر الله في هذه الآية أنهم قاربوا أن يفتنوه عن الذي أوحي إليه ولم تكن فتنة ثم قال لتفتري علينا غيره وهو
المقام السابع ولم يفتر ولو فتنوك وافتريت لاتخذوك خليلا فلم تفتتن ولا افتريت ولا عدوك خليلا ولولا أن ثبتناك وهو
المقام الثامن (* (لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) *) الإسراء 74 فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه ثبته وقرر التوحيد والمعرفة في قلبه وضرب عليه سرادق العصمة وآواه في كنف الحرمة ولو وكله إلى نفسه ورفع عنه ظل عصمته لحظة لألممت بما راموه ولكنا أمرنا عليك بالمحافظة وأشرقنا بنور الهداية فؤادك فاستبصر وأزح عنك الباطل وادحر
فهذه الآية نص في عصمته من كل ما نسب إليه فكيف يتأولها أحد عدوا عما نسب من الباطل إليه
المقام التاسع قوله فما زال مهموما حتى نزلت عليه (* (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) *) الآية
فأما غمه وحزنه فبأن تمكن الشيطان مما تمكن مما يأتي بيانه وكان النبي يعز عليه أن ينال الشيطان منه شيئا وإن قل تأثيره
المقام العاشر أن هذه الآية نص في غرضنا دليل على صحة مذهبنا أصل في براءة النبي مما نسب إليه أنه قاله عندنا وذلك أنه قال تعالى (* (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) *) فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه أنهم إذا قالوا عن الله قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي كما تقول ألقيت في الدار كذا وألقيت في العكم كذا وألقيت في الكيس كذا فهذا نص في أن الشيطان زاد في الذي قاله
306

النبي لا أن النبي قاله وذلك أن النبي كان إذا قرأ تلا قرآنا مقطعا وسكت في مقاطع الآي سكوتا محصلا وكذلك كان حديثه مترسلا متأنيا فيتبع الشيطان تلك السكتات التي بين قوله (* (ومناة الثالثة الأخرى) *) النجم 2 وبين قوله تعالى (* (ألكم الذكر وله الأنثى) *) النجم 21 فقال يحاكي صوت النبي وإنهن الغرانقة العلا وإن شفاعتهن لترتجى
فأما المشركون والذين في قلوبهم مرض لقلة البصيرة وفساد السريرة فتلوها عن النبي ونسبوها بجهلهم إليه حتى سجدوا معه اعتقادا أنه معهم وعلم الذين أوتوا العلم والإيمان أن القرآن حق من عند الله فيؤمنون به ويرفضون غيره وتجيب قلوبهم إلى الحق وتنفر عن الباطل وكل ذلك ابتلاء من الله ومحنة
فأين هذا من قولهم وليس في القرآن إلا غاية البيان بصيانة النبي في الإسرار والإعلان عن الشك والكفران
وقد أوعدنا إليكم توصية أن تجعلوا القرآن إمامكم وحروفه أمامكم فلا تحملوا عليها ما ليس فيها ولا تربطوا فيها ما ليس منها وما هدي لهذا إلا الطبري بجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه في العلم وشدة ساعده وذراعه في النظر وكأنه أشار إلى هذا الغرض وصوب على هذا المرمى فقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطلة لا أصل لها ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها ولكنه فعال لما يريد عصمنا الله وإياكم بالتوفيق والتسديد وجعلنا من أهل التوحيد بفضله ورحمته
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) *) الآية 77
حملها كما تقدم بياننا له قوم على أنها سجدة تلاوة فسجدوها
وقال آخرون هو سجود الصلاة فقصروه عليه
ورأى عمر أنها سجدة تلاوة وإني لأسجد بها وأراها كذلك لما روى ابن وهب
307

وغيره عن مالك عن نافع أن رجلا من الأنصار أخبره أن عمر بن الخطاب قرأ سورة الحج فسجد فيها السجدتين ثم قال إن هذه السورة فضلت بسجدتين
قال مالك وحدثني عبد الله بن دينار قال رأيت ابن عمر يسجد في سورة الحج سجدتين وكان ابن عمر أكثر الخلق بالنبي قدوة
وروى عقبة بن عامر قلت لرسول الله يا رسول الله أفي سورة الحج سجدتان قال نعم ومن لم يسجدهما لا يقرأهما رواه وهب بن لهيعة عن مسرح بن هاعان عنه
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) *) الآية 78
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
الحرج هو الضيق ومنه الحرجة وهي الشجرات الملتفة لا تسلك لالتفاف شجراتها وكذلك وقع التفسير فيه من الصحابة رضي الله عنهم
روي أن عبيد بن عمير جاء في ناس من قومه إلى ابن عباس فسأله عن الحرج فقال أولستم العرب فسألوه ثلاثا كل ذلك يقول أولستم العرب ثم قال ادع لي رجلا من هذيل فقال له ما الحرج فيكم قال الحرجة من الشجرة ما ليس له مخرج
وقال ابن عباس ذلك الحرج ولا مخرج له
308

المسألة الثانية في محل النفي
وقد روي عن عثمان بن يسار عن ابن عباس في قوله تعالى (* (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *) قال هذا في تقديم الأهلة وتأخيرها بالفطر والأضحى وفي الصوم
وثبت صحيحا عن ابن عباس قال تقول ما جعل عليكم في الدين من حرج إنما ذلك سعة الإسلام ما جعل الله فيه من التوبة والكفارات
وقال عكرمة أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت يمينك
قال القاضي قال النبي بعثت بالحنيفية السمحة وقد كانت الشدائد والعزائم في الأمم فأعطى الله هذه الأمة من المسامحة واللين ما لم يعط أحدا قبلها في حرمة نبيها ورحمة نبيه لها
فأعظم حرج رفع المؤاخذة بما نبدي في أنفسنا ونخفيه وما يقترن به من إصر وضع كما بينا من قبل في سورة الأعراف وغيرها
ومنها التوبة بالندم والعزم على ترك العود في المستقبل والاستغفار بالقلب والسان وقيل لمن قبلنا (* (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) *) البقرة 54 ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج لطال المرام
ومن جملته أنه لا يؤاخذنا تعالى إن نسينا أو أخطأنا وقد بيناه أيضا فيما قبل ذلك
وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو وغيره أن رسول الله وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه فقال رجل لم أشعر فحلقت قبل أن اذبح قال اذبح ولا حرج فجاء آخر فقال لم اشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال ارم
309

ولا حرج فما سئل يومه عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج
فأعجب لمن يقول إن الدم على من قدم الحلق على النحر والنبي قد قال ولا حرج ولقد نزلت بي هذه النازلة سنة تسع وثمانين كان معي ما استيسر من الهدي فلما رميت جمرة العقبة وانصرفت إلى النحر جاء المزين وحضر الهدي فقال أصحابي ننحر ونحلق فحلقت ولم أشعر قبل النحر وما تذكرت إلا وجل شعري قد ذهب بالموسى فقلت دم على دم لا يلزم ورأيت بعد ذلك الاحتياط لارتفاع الخلاف والحق هو الأول فهو المعقول
المسألة الثالثة
إذا تعارض دليلان أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة فمن العلماء من مال إلى الاستظهار وقال يقدم دليل الحظر ومنهم من قال يقدم دليل الإباحة ويختلف في ذلك مقاصد مالك إلا في باب الربا فيقدم دليل الحظر وذلك من فقهه العظيم
وكذلك لو قام دليل على زيادة ركن في العبادة أو شرط وقام الدليل على إسقاطه فاختلف العلماء أيضا فيه فمن العلماء من أخذ بالاحتياط وقضى بزيادة الركن والشرط ومنهم من أخذ بالخفة وقال بدليل الإسقاط ولم يعول مالك هاهنا على أقوى الدليلين كان بزيادة أو بإسقاط ورأيه هو الذي نراه وقد مهدناه في أصول الفقه فهنالك ينظر إن شاء الله
المسألة الرابعة
إذا كان الحرج في نازلة عاما في الناس فإنه يسقط وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا وفي بعض أصول الشافعي اعتباره وذلك يعرض في مسائل الخلاف فمنه خذوه بعون الله
310

سورة المؤمنون
فيها اثنتا عشرة آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (الذين هم في صلاتهم خاشعون) *) الآية 2
فيها ست مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى الزهري عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال سمعت عمر بن الخطاب يقول كان النبي إذا أنزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فلبثنا ساعة ثم سري عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وأرضنا وارض عنا ثم قال أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قال (* (قد أفلح المؤمنون) *) المؤمنون 1 حتى ختم عشر آيات رواه الترمذي وغيره وهو صحيح وإن كان قد تكلم فيه أبو عيسى وقطعه
وكان سبب نزولها في رواية محمد أن النبي كان يقلب بصره في السماء إذا صلى فنزلت آية قال محمد إن لم تكن (* (الذين هم في صلاتهم خاشعون) *) فلا أدري أية آية هي
قال القاضي هو محمد بن سيرين وهذا الحديث مقطوع مظنون فمقصوده غير مقطوع فسقناه على حاله لكم حتى نكون في معرفته سواء معكم
311

المسألة الثانية
هو الخضوع وهو الإخبات والاستكانة وهي ألفاظ مترادفة أو متقاربة أو متلازمة وقد كان النبي يقول في دعائه خضع لك سوادي وآمن بك فؤادي
وحقيقته السكون على حالة الإقبال التي تأهب لها واحترم بها بالسر في الضمير وبالجوارح في الظاهر فقد كان النبي لا يلتفت في صلاته خاشعا خاضعا وكذلك كان أبو بكر لا يلتفت وكذلك كان حفيده عبد الله بن الزبير
قال ابن المنكدر لعروة لو رأيت قيام ابن الزبير يعني أخاه عبد الله في الصلاة لقلت غصن تصفقه الرياح وحجارة المنجنيق تقع هاهنا ورضف عن يمينه وعن يساره وهو قائم يصلي
وقال مجاهد كان ابن الزبير إذا قام يصلي كأنه عود من الخشوع
وقال عمرو بن دينار إن ابن الزبير كان يصلي في الحجر مرخيا ثيابه فجاء حجر الخذاف فذهب بطائفة من ثوبه فما التفت وكذلك كان عبد الله بن مسعود إذا صلى لا يتحرك منه شيء ومن هاهنا قال العلماء وهي
المسألة الثالثة
إنه يضع بصره في موضع سجوده وبه قال الشافعي والصوفية بأسرهم فإنه أحضر لقلبه وأجمع لفكره
قال مالك إنما ينظر أمامه فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المنقوض عليه في الرأس وهو أشرف الأعضاء منه وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج يعرفون ذلك بالتجربة وما جعل علينا في الدين من حرج وإنما أمرنا أن نستقبل الجهة ببصائرنا وأبصارنا أما إنه أفضل لمن قدر عليه متى قدر وكيف قدر وإنما الممنوع أن يرفع بصره في الصلاة إلى السماء فإنه لم يؤمر أن يستقبل السماء وإنما أمر أن يستقبل الجهة الكعبية فإذا رفع بصره فهو إعراض
312

عن الجهة التي أمر بها حتى قال النبي لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم وهي
المسألة الرابعة
حتى قال علماؤنا حين رأوا عامة الخلق يرفعون أبصارهم إلى السماء وهي سالمة إن المراد بالخطف هاهنا أخذها عن الاعتبار حين يمر بآيات السماء والأرض وهو معرض وذلك أشد الخطف ومن الحنيفية السمحة برفع الحرج الإذن في أن يلحظ يمينا وشمالا وإن كان يصلي ببصره ورأسه دون بدنه أذن الشرع فيه وهي
المسألة الخامسة
فمن مراسيل سعيد بن المسيب أن النبي كان يلمح في الصلاة ولا يلتفت وروى معاوية بن قروة قال قيل لابن عمر إن ابن الزبير إذا صلى لم يقل هكذا وهكذا فقال لكنا نقول هكذا وهكذا ونكون مثل الناس إشارة من ابن عمر إلى أنه تكليف يخرج إلى الحرج
المسألة السادسة
قال ابن القاسم عن مالك في قوله (* (الذين هم في صلاتهم خاشعون) *) قال الإقبال عليها وقال مقاتل لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره صليت المغرب ليلة ما بين باب الأخضر وباب حطة من البيت المقدس ومعنا شيخنا أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربي الزاهد فلما سلمنا تمارى رجلان كانا عن يمين أبي عبد الله المغربي وجعل أحدهما يقول للآخر أسأت صلاتك ونقرت نقر الغراب والآخر يقول له كذبت بل أحسنت وأجملت فقال المعترض لأبي عبد الله الزاهد ألم يكن إلى جانبك فكيف رأيته يصلي
313

قال أبو عبد الله لا علم لي به كنت مشتغلا بنفسي وصلاتي عن الناس وصلاتهم فخجل الرجل وأعجب الحاضرون بالقول
وصدق شيخنا أبو عبد الله الزاهد لو كان لصلاته قدر أو له بها شغل وإقبال بالكلية لما علم من عن يمينه أو عن يساره فضلا عن معرفته كيفية صلاته وإلا فأحد الرجلين
أساء صلاته في حذف صفاتها واختصار أركانها وهذا أساء صلاته في الاشتغال بصلاة هذا حتى ذهب حفظ صلاته وخشوعها
ونكتة المسألة أن قولك الله أكبر يحرم عليك الأفعال بالجوار والكلام باللسان ونية الصلاة تحرم عليك الخواطر بالقلب والاسترسال عن الأفكار إلا أن الشرع لما علم أن ضبط الشر من السر يفوت طوق البشر سمح فيه كما تقدم بياننا له والله أعلم
الآية الثانية
قوله تعالى (* (والذين هم لفروجهم حافظون) *) الآية 5
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
من غريب القرآن أن هؤلاء الآيات العشر هي عامة في الرجال والنساء كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم إلا قوله (* (والذين هم لفروجهم حافظون) *) فإنه خطاب للرجال خاصة دون النساء بدليل قوله (* (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) *) المؤمنون 6 ولا إباحة بين النساء وبين ملك اليمين في الفرج وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخر كآيات الإحصان عموما وخصوصا وغير ذلك من الأدلة
المسألة الثانية
قال محمد بن عبد الحكم سمعت حرملة بن عبد العزيز قال سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة فتلا هذه (* (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على) *
314

أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)
وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة وفيه يقول الشاعر (إذا حللت بواد لا أنيس به
* فاجلد عميرة لا داء ولا حرج)
ويسميه أهل العراق الاستمناء وهو استفعال من المني
وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة أصله الفصد والحجامة
وعامة العلماء على تحريمه وهو الحق الذي لا ينبغي أن يدان الله إلا به
وقال بعض العلماء إنه كالفاعل بنفسه وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة ويا ليتها لم تقل ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها
فإن قيل فقد قيل إنها خير من نكاح الأمة
قلنا نكاح الأمة ولو كانت كافرة على مذهب العلماء خير من هذا وإن كان قد قال به قائل أيضا ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل عار بالرجل الدنيء فكيف بالرجل الكبير
المسألة الثالثة
قال قوم هذه الآية دليل على تحريم نكاح المتعة لأن الله قد حرم الفرج إلا بالنكاح أو بملك اليمين والمتمتعة ليست بزوجة وهذا يضعف
فإنا لو قلنا إن نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل ينطلق عليها اسم الزوجة
وإن قلنا بالحق الذي أجمعت عليها الأمة من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة فلم تدخل في الآية وبقيت على أصل حفظ الفرج وتحريمه من سببها
المسألة الرابعة
قوله في الآية بعدها وهي الثالثة
315

(* (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) *) الآية 7
فسمي من نكح ما لا يحل عاديا وأوجب عليه الحد لعدوانه واللائط عاد قرآنا ولغة بدليل قوله (* (بل أنتم قوم عادون) *) الشعراء 166 فوجب أن نقيم الحد عليه وهذا ظاهر لا غبار عليه
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) *) الآية 8
قد قدمنا وجوب حفظ الأمانة والعهد وبينا قيام الدليل على ذلك فيما مضى فأد إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وكذلك من نقض العهد فيك فلا تنقضه فيه ومن كفر بالله عندك فلا تكفر به عنده ومن غدر بك فلا تغدر به وقد أوضحنا ذلك فيما سلف في مواضع فلينظر فيها وليجمع في القلب منها
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (والذين هم على صلواتهم يحافظون) *) الآية 9
قد تقدم القول في حفظ الصلاة في نفسها وبينا المحافظة عليها بإدامة أفعالها في أوقاتها متى تكررت مفروضاتها فاعلموه
الآية السادسة
قوله تعالى (* (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون) *) الآية 18
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
هذه من نعم الله على خلقه ومما امتن عليهم به ومن أعظم المنن الماء الذي به حياة الأبدان ونماء الحيوان
316

والماء المنزل من السماء على قسمين هذا الذي ذكره الله في هذه الآية وأخبر عنه بأنه استودعه في الأرض وجعله فيها مخزونا لسقيا الناس يجدونه عدة عند الحاجة إليه وهو ماء الأنهار والعيون وما يستخرج من الآبار
والقسم الآخر هو الذي ينزل من السماء على الأرض في كل وقت
المسألة الثانية
روى أشهب عن مالك أنه سئل عن قول الله تعالى (* (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض) *) الآية أهو في الخريف فيما بلغك قال لا والله بل هذا في الخريف والشتاء وكل شيء ينزل ماؤه من السماء إذا شاء ثم هو على ذهاب به لقادر
قال القاضي هذا الذي ذكره مالك محتمل فإن الله أنزل من السماء ماء فأسكنه في الأرض ثم ينزله في كل وقت فيكون منه غذاء ومنه اختزان زائد على ما كان عليه
وقد قال أشهب قال مالك هي الأرض التي لا نبات فيها يعني قوله (* (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا) *) السجدة 27 وقوله (* (والسماء ذات الرجع) *) يعني المطر (* (والأرض ذات الصدع) *) الطارق 11 و 12 يعني النبات وهذا يكون في كل لحظة كما جاء في الأثر إن الله لا يخلي الأرض من مطر في عامر أو غامر وإنه ما نزل من السماء ماء إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان فإنه خرج منه ما لم يحفظه الملك وذلك قوله تعالى (* (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية) *) الحاقة
317

11 لأن الماءين التقيا على أمر قد قدر ما كان في الأرض وما نزل من السماء بالإقلاع فلم تمتص الأرض من قطره وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط وذلك قوله تعالى (* (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء) *) هود 44
وهذا يدل على أن الأرض لم تشرب من ماء السماء قطرة
نكتة أصولية قال القاضي أبو بكر قوله (* (والسماء ذات الرجع) *) فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه ذات المطر لأنها ترجع في كل عام إلى الحالة التي كانت عليها من إنزال المطر منها
وظن بعض الناس كما بينا أنها ترد ما أخذت من الأرض من الماء إذ السحاب يستقي من البحر وأنشدوا في ذلك قول الهذلي
(شربن بماء البحر ثم ترفعت
* متى لجج لهن نئيج)
يعني السحاب وهذه دعوى عريضة طويلة وهي في قدرة الله جائزة ولكنه أمر لا يعلم بالنظر وإنما طريقه الخبر ولم يرد بذلك أثر
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وإنا على ذهاب به لقادرون) *))
يعني لقادرون على إذهاب الماء الذي أسكناه في الأرض فيهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم وهذا كقوله (* (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) *) الملك 3 وقد قال (* (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) *) الفرقان 48 وهي
المسألة الرابعة
فهذا عام في ماء المطر والماء المختزن في أرض فصارت إحدى الآيتين عامة وهي آية الطهور والآية الأخرى خاصة وهي ماء القدر المسكن في الأرض ومن هاهنا
318

قال من قال إن ماء البحر لا يتوضأ به لأنه مما لم يخبر الله عنه أنه أنزل من السماء وقد بينا أن النبي قال هو الطهور ماؤه الحل ميتته وهذا نص فيه
المسألة الخامسة
روى ابن عباس وغيره أن النبي قال أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله من عيون واحدة منعيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها معايش للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله تعالى (* (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض) *) فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم وهذه الأنهار الخمسة فيرفع ذلك إلى السماء وذلك قوله (* (وإنا على ذهاب به لقادرون) *) وهذا جائز في القدرة إن صحت به الرواية
وروى مسلم في الصحيح عن أبي هريرة قال قال سيحون وجيحون والفرات كل من أنهار الجنة وهذا تفسير لقوله تعالى (* (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون) *) يعني به نهرا يجري وعينا تسيل وماء راكدا في جوفها والله أعلم
وإنما الذي في الصحيح أن النبي ليلة الإسراء رأى سدرة المنتهى وذكر ما أنشأ من الماء ومن النبات وقد تقدم في سورة الأنعام
319

الآية السابعة
قوله تعالى (* (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) *) الآية 5
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله (* (ربوة) *))
فيها خمس لغات كسر الراء وفتحها وضمها ثلاث لغات ويقال رباوة بفتح الراء وكسرها ولم أقيد غيره فيما وجدته الآن عندي
المسألة الثانية في تعيين هذه الربوة ستة أقوال
الأول أنها الرملة وهي فلسطين قاله أبو هريرة ورواه
الثاني قال قتادة هي بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا
الثالث أنها دمشق قاله ابن المسيب ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك
الرابع أنها مصر قاله ابن زيد بن أسلم وليس الربا إلا بمصر والماء يرسل فيكون الربا عليها القرى ولولا ذلك غرقت
الخامس أنه المرتفع من الأرض قاله ابن جبير والضحاك
السادس أنها المكان المستوي قاله ابن عباس
قال القاضي هذه الأقوال منها ما تفسر لغة ومنها ما تفسر نقلا فأما التي تفسر لغة فكل أحد يشترك فيه لأنها مشتركة المدرك بين الخلق
وأما ما يفسر منها نقلا فمفتقر إلى سند صحيح يبلغ إلى النبي إلا أنه تبقى هاهنا نكتة وذلك أنه إذا نقل الناس تواترا أن هذا موضع كذا أو أن هذا الأمر جرى كذا أو وقع لزم قبوله والعلم به لأن الخبر المتواتر ليس من شرطه الإيمان وخبر الآحاد لا بد من كون المخبر به بصفة الإيمان لأنه بمنزلة الشاهد والخبر المتواتر بمنزلة العيان وقد بينا ذلك في أصول الفقه
320

والذي شاهدت عليه الناس ورأيتهم يعينونها تعيين تواتر دمشق ففي سفح الجبل في غربي دمشق مائلا إلى جوفها موضع مرتفع تتشقق منه الأنهار العظيمة وفيها الفواكه البديعة من كل نوع وقد اتخذ بها مسجد يقصد إليه ويتعبد فيه أما أنه قد قدمنا أن مولد عيسى كان ببيت لحم لا خلاف فيه وفيه رأيت الجذع كما تقدم ولكنها لما خرجت بابنها اختلفت الرواة هل أخذت به غربا إلى مصر أم أخذت به شرقا إلى دمشق فالله أعلم
المسألة الثالثة قوله (* (ذات قرار ومعين) *))
فيه قولان
أحدهما أرض منبسطة وباحة واسعة
الثاني ذات شيء يستقر فيه من قوت وماء وذلك كله محتمل
وقوله (* (ومعين) *) وهي
المسألة الرابعة قوله (* (ومعين) *))
يريد به الماء وهو مفعل بمعنى مفعول ويقال معن الماء وأمعن إذا سال فيكون فعيل بمعنى فاعل قال عبيد
(واهية أو معين ممعن
* أو هضبة دونها لهوب)
وفيها أقوال لا يتعلق بها حكم
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) *) الآية 51
قد تقدم ذكر الطيب وتفسيره بالحلال وكذلك فسره مالك في رواية أبي بكر ابن عبد العزيز العمري عنه وقد روى مالك عن عثمان أنه قال في خطبته وعليكم من المطاعم بما طاب منها وقد روى أبو هريرة أن النبي قال يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال (* (يا أيها) *
321

* (الرسل كلوا) *) الآية ثم قال (* (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) *) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه يا رب يا رب مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له
وقال النبي إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه وقال تعالى في داود (* (وعلمناه صنعة لبوس لكم) *) الأنبياء 8
وروى علماؤنا أن عيسى كان يأكل من غزل أمه
وقال النبي جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري فجعل الله رزق محمد في كسبه لفضله وخص له أفضل أنواع الكسب وهو أخذ الغلبة والقهر لشرفه
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) *) الآيتان 6 61
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
فيها قولان
أحدهما الذين يطيعون وهم خائفون ألا يقبل منهم
322

الثاني الذين يعصمون وهم يخافون أن يعذبوا
المسألة الثانية
روى الترمذي وغيره عن عائشة قالت سألت رسول الله عن هذه الآية (* (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) *) قالت عائشة أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق أو يا بنت أبي بكر ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون يسارعون في الخيرات
وقد روى عطاء قال دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فقال لها كيف كانوا يقرأون (* (يؤتون ما آتوا) *) قال يأتون ما أتوا فلما خرجنا من عندها قال لي عبيد بن عمير لأن يكون كما قالت أحب إلي من حمر النعم يعني بقولها يأتون ما أتوا من المجيء أي يأتون الذنوب وهم خائفون
المسألة الثالثة
عولوا على قراءة الجمهور ولا تتعلقوا بأعضاء الكسير إنما كان القوم إذا غلب على أعمالهم الإخلاص والقرب خافوا يوم الفزع الأكبر وهي مسألة كبيرة وهي أن الأفضل للمتقين أن يغلب عليهم مقام الرجاء أو يغلب عليهم مقام الخوف فهذه الآية تشهد بفضل غلبة مقام الخوف لقوله تعالى (* (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) *) الآيات 57 - 61
وكان النبي يوم بدر قد غلب عليه مقام الخوف فرفع يديه إلى السماء وقال اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فقال له أبو بكر كفاك يا رسول الله مناشدتك ربك فإنه منجز
323

لك ما وعدك حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك مغلبا جانب الرجاء في نفوذ الوعد
قال القاضي ليس يحتاج في هذه الآية إلى اختلاف القراءة بين يأتون ويؤتون فإن قوله يؤتون يعطى الأمرين تقول العرب آتيت من نفسي القبول وآتيت منها الإنابة تريد أعطيت القياد من نفسي يعني إذا أطاع وأعطيت العناد من نفسي يعني إذا عصى فمعناه يؤتون ما أتوا من طاعة أو من معصية ولكن ظاهر الآية وسياق الكلام يقتضي أنه يؤتى الطاعة لأنه وصفهم بالخشية لربهم والإيمان بآياته وتنزيهه عن الشرك وخوفهم عدم القبول منهم عند لقائه لهم فلا جرم من كان بهذه الصفة يسارع في الخيرات وأما من كان على العصيان متماديا في الخلاف مستمرا فكيف يوصف بأنه يسارع في الخيرات أو بالخشية لربه وغير ذلك من الصفات المتقدمة فيه
أما إن الذي يأتي المعصية على ثلاثة أقسام
أحدها الذي يأتيها ويخاف العذاب فهذا هو المذنب
والذي يأتيها آمنا من عذاب الله من جهة غلبة الرجاء عليه فهو المغرور والمغرور في حزب الشيطان
وإن أتاها شاكا في العذاب فهو ملحد لا مغفرة له
ولأجل إشكال قوله (* (يؤتون ما آتوا) *) قال بعضهم يعني به إنفاق الزكاة لأنه لم يظهر إليه صلاحية لفظ العطاء إلا في المال وقد بينا أن لفظ العطاء ينطلق في كل معنى مال وغيره وفي كل طاعة ومعصية واتضحت الآية والله أعلم
المسألة الرابعة قوله (* (أولئك يسارعون في الخيرات) *))
هذا دليل على أن المبادرة إلى الأعمال الصالحة من صلاة في أول الوقت وغير
324

ذلك من العبادات هو الأفضل ومدح الباري أدل دليل على صفة الفضل في الممدوح على غيره والله أعلم وقد بيناه في مواضع متقدمة
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (مستكبرين به سامرا تهجرون) *) الآية 67
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
لم يختلف أحد أن المراد بهذا الذم أهل الحرم قال الله لهم (* (قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون) *) المؤمنون 66 مستكبرين به أي بالحرم يريد يتعاطون به الكبر ويدعون حتى كانوا يرون الناس يتخطفون من حولهم وهم آمنون ومن الكبر كفر وهو التكبر على الله وعلى رسوله والتكبر على المؤمنين فسق والتكبر على الكفار إيمان فليس الكبر حراما لعينه وإنما يكون حكمه بحكم متعلقه
المسألة الثانية قوله (* (سامرا) *))
قال المفسرون حلقا حلقا وأصله التحلق بالليل للسمر وكنى بقوله سامرا عن الجماعة كما يقال باقر وجامل لجماعة البقر والجمال وقد جاء في المثل لا أكلمه السمر والقمر يعني في قولهم الليل والنهار وقال الثوري السمر ظل القمر
وحقيقته عندي أنه لفظ يستعمل في الليل والنهار ولذلك يقال لهما ابنا سمير لأن ذلك في النهار جبلة وفي الليل عادة فانتظما وعبر عنهما به وقد قرأه أبو رجاء سمارا جمع سامر
وقد قال الطبري إنما وحد سامرا وهو في موضع الجمع لأنه وضع موضع الوقت يعني والوقت واحد وإذا خرج الكلام عن الفاعل أو الفعل إلى الوقت وحد ليدل على خروجه عن بابه
325

المسألة الثالثة قوله (* (تهجرون) *))
قرئ برفع التاء وكسر الجيم وبنصب التاء وضم الجيم فالأول عندهم من أهجر إذا نطق بالفحش والثاني من هجر إذا هذى ومعناه تتكلمون بهوس ولا يضر النبي ولا يتعلق به إنما ضرره نازل بكم وقد بينا حقيقة هجر في سورة النساء ولذلك فسرها سعيد بن جبير فقال مستكبرين بحرمي تهجرون نبيي وزاد قتادة أن سامر الحرم آمن لا يخاف بياتا فعظم الله عليهم السمر في الأمن وإفناءه في سب الرسول
المسألة الرابعة
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية (* (مستكبرين به سامرا تهجرون) *) يعني أن الله ذم قوما بأنهم يسمرون في غير طاعة الله إما في هذيان وإما في إذاية
وفي الصحيح عن أبي برزة وغيره كان النبي يكره النوم قبلها والحديث بعدها يعني صلاة العشاء الآخرة أما الكراهية للنوم قبل العشاء فلئلا يعرضها للفوات
وكذلك قال عمر فيها فمن نام فلا نامت عينه فمن نام فلا نامت عينه فمن نام فلا نامت عينه
وأما كراهية السمر بعدها فلأن الصلاة قد كفرت خطاياه لينام على سلامة وقد ختم الملك الكريم الكاتب صحيفته بالعبادة فيملؤها بالهوس ويجعل خاتمها الباطل أو اللغو وليس هذا من فعل المؤمنين
وقد قيل إنما يكره السمر بعدها لما روى جابر بن عبد الله قال رسول الله
326

إياكم والسمر بعد هدأة الرجل فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله من خلقه أغلقوا الأبواب وأوكوا السقاء وخمروا الآنية وأطفئوا المصابيح وكان عمر يجدب السمر بعد العشاء أي يعيبه ويطوف بالمسجد بعد العشاء الآخرة ويقول ألحقوا برجالكم لعل الله أن يرزقكم صلاة في بيوتكم
وقد كان يضرب على السمر حينئذ ويقول أسمرا أول الليل ونوما آخره أريحوا كتابكم حتى إنه روى عن عبد الله بن عمر أنه قال من قرض بيت شعر بعد العشاء لم تقبل له صلاة حتى يصبح
وأسنده شداد بن أوس إلى النبي
وقد قال البخاري باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء وذكر قرة بن خالد قال انتظرنا الحسن وراث علينا حتى جاء قريبا من وقت قيامه فقال دعانا جيراننا هؤلاء ثم قال قال أنس انتظرنا النبي ذات ليلة حتى إذا كان شطر الليل فجاء فصلى ثم خطبنا فقال ألا إن الناس قد صلوا ورقدوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة قال الحسن وإن القوم لا يزالون في خير ما انتظروا الخير
ثم قال باب السمر مع الضيف والأهل وقال عبد الرحمن بن أبي بكر إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء وإن النبي قال من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث وإن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس وإن أبا
327

بكر جاء بثلاثة وانطلق النبي بعشرة قال فهو وأنا وأبي وأمي ولا أدري هل قال وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر وإن أبا بكر تعشى عند النبي ثم لبث حتى صليت العشاء ثم رجع فلبث حتى نعس النبي فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله قالت له امرأته ما حبسك عن أضيافك قال أو ما عشيتهم قالت أبوا حتى تجيء قال فذهبت أنا فاختبأت وقال يا غنثر فجدع وسب وقال كلوا لا هنيئا والله لا أطعمه أبدا وأيم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها قال وشبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر فقال لامرأته يا أخت بني فراس ما هذا قالت لا وقرة عيني فهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار فأكل منها أبو بكر وقال إنما كان ذلك من الشيطان يعني يمينه ثم أكل منها لقمة ثم حملها إلى النبي فأصبحت عنده وكان بيننا وبين قوم عقد فمضى الأجل ففرقنا اثني عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل فأكلوا منها أجمعون أو كما قال
قال الفقيه القاضي أبو بكر رضي الله عنه هذا يدلك على أن النهي عن السمر إنما هو لأجل هجر القول أو لغوه أو لأجل خوف فوت قيام الليل فإذا كان على خلاف هذا أو تعلقت به حاجة أو غرض شرعي فلا حرج فيه وليس هو من منزع الآية وإنما هو مأخذ آخر على ما بيناه والله أعلم
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون) *) الآية 96
فيها مسألتان
328

المسألة الأولى
للعلماء فيها ثلاثة أقوال
الأول ادفع بالإغضاء والصفح إساءة المسئ
الثاني ادفع المنكر بالموعظة الحسنة
الثالث ادفع سيئتك بالحسنة بعدها
المسألة الثانية
معنى هذه الآية قريب من معنى (* (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) *) فصلت 34 إلا أن هذه خاصة في العفو والتي شرحنا الكلام فيها هاهنا عامة فيه وفي غيره حسبما سطرناه آنفا وهي مخصوصة في الكفار بالانتقام منهم باقية في المؤمنين على عمومها فأما قولهم ادفع سيئتك بالحسنة بعدها فيشير إلى الغفلة وحسنتها الذكر كما قال في حديث الأغر المزني أنه قال إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة
وفي كتاب مسلم عن النبي إني لأتوب إلى الله في اليوم مائة مرة
وقالت الصوفية إنه يدخل فيه ادفع حظ الدنيا إذا زحم حظ الآخرة بحظ الآخرة وحدها
قال لي شيخنا أبو بكر الفهري متى اجتمع لك أمران أحدهما للدنيا والآخر لله فقدم مالله فإنهما يحصلان لك جميعا وإن قدمت الدنيا ربما فاتا معا وربما حصل حظ الدنيا ولم يبارك لك فيه
329

ولقد جربته فوجدته ويدخل فيه دفع الجفاء لا جرم كذلك قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
وفقه الآية اسلك مسلك الكرام ولا تلحظ جانب المكافأة ادفع بغير عوض ولا تسلك مسلك المبايعة ويدخل فيه سلم على من لم يسلم عليك وتكثر الأمثلة والقصد مفهوم فاسلكوه
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) *) الآيتان 97 98
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قد بينا أنه لا سلطان للشيطان على النبي وأن الله عصمه منه ولكنه كان يستعيذ منه كما كان يستغفر بعد إعلامه بالمغفرة له تحقيقا للموعد أو تأكيدا للشرط
المسألة الثانية
أمره لنا بالاستعاذة عام فلا جرم كان النبي يستعيذ حتى عند افتتاح الصلاة فيقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه حسبما تقدم بيانه والحمد لله
330

سورة النور
فيها تسع وعشرون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) *) الآية 1
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (سورة))
يعني منزلة ومرتبة ألم تروا قول الشاعر
(ألم تر أن الله أعطاك سورة
* ترى كل ملك دونها يتذبذب)
وعامة القراء على رفعها وقرأها عيسى بن عمر بالنصب وهو بين فأما الرفع فقال أهل العربية إنها على خبر الابتداء التقدير هذه سورة لأن الابتداء بالنكرة قبيح وقد بينا في الرسالة الملجئة أنه فصيح مليح وجئنا فيه بالمثال الصحيح
المسألة الثانية قوله (* (وفرضناها) *))
يقرأ بتخفيف الراء وتشديدها فمن خفف فمعناه أوجبناها معينة مقدرة كما قال فرض رسول الله صدقة الفطر على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين
ومن شدد فمعناه على وجهين
إما على معنى وضعناها فرائض فرائض أو فرضا فرضا كما تقول نزلت فلانا أي قدرت له المنازل واحدا بعد واحد
331

وفي صحيح مسلم فنزلني زيد أي رتب لي منازل كثيرة
الثاني على معنى التكثير وهو صحيح لا اعتراض عليه
المسألة الثالثة قوله (* (وأنزلنا فيها آيات بينات) *))
فيها حجج وتوحيد وفيها دلائل الأحكام والكل آيات بينات حجج العقول ترشد إلى مسائل التوحيد ودلائل الأحكام ترشد إلى وجه الحق وترفع غمة الجهل وهذا هو شرف السورة وهو أقل ما وقع التحدي به في سبيل المعجزة فيكون شرفا للنبي في الولاية شرفا لنا في الهداية
الآية الثانية
قوله تعالى (* (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) *) الآية 2
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى قوله (* (الزانية) *))
قد تقدم بيان حد الزنا وحقيقته وأنه الوطء المحرم شرعا في غير ملك ولا شبهة ملك كان في قبل أو دبر في ذكر أو أنثى فإن كان ذلك باسم اللغة فبها ونعمت وإن كان بأن اللواط في معنى الزنا فحسن أيضا ولا مبالاة كيف يرد الأمر عليكم فقد أحكمناه في موضعه وحققناه في مسائل الخلاف بأدلته
المسألة الثانية
قرئ بالرفع والنصب فيهما كما تقدم في آية السرقة إعرابا وقراءة ومعنى كفة كفة فلا وجه لإعادته
332

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (الزانية والزاني) *))
فذكر الذكر والأنثى فيه والزاني كان يكفي عنه
قلنا هذا تأكيد للبيان كما قال (* (والسارق والسارقة) *) ويحتمل أن يكون ذكر في الزنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ذكرهما دفعا لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء حتى قالوا لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان لأنه قال جامعت أهلي في رمضان فقال له النبي كفر والمرأة ليست بمجامعة ولا واطئة وهذا تقصير عظيم من الشافعي وقد بيناه في مسائل الخلاف وأنها تتصف بالوطء فكيف بالجماع الذي هو مفاعلة هذا ما لا يخفى على لبيب
المسألة الرابعة قوله (* (الزانية والزاني) *))
فبدأ بالمرأة قبل الرجل قال علماؤنا ذلك لفائدتين
إحداهما أن الزنا في المرأة أعر لأجل الحمل فصدر بها لعظيم حالها في الفاحشة
الثانية أن الشهوة في المرأة أكثر فصدر بها تغليظا لردع شهوتها وإن كان قد ركب فيها حياء ولكنها إذا زنت ذهب الحياء
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (فاجلدوا كل واحد منهما) *)
جعل الله كما تقدم حد الزنا قسمين رجما على الثيب وجلدا على البكر وذلك لأن قوله (* (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) *) عام في كل زان ثم شرحت السنة حال الثيب كما تقدم في سورة النساء
وقد قال النبي قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فقاله سنة وأنزل الله الجلد قرآنا وبقي الرجم على حاله في الثيب والتغريب في البكر كما تقدم بيانه هنالك
333

المسألة السادسة
لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر بالجلد الإمام ومن ناب عنه وزاد مالك والشافعي السادة في العبيد قال الشافعي في كل جلد وقطع وقال مالك في الجلد خاصة دون القطع كما وردت به السنة إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد وقد بيناه في مسائل الخلاف
المسألة السابعة قوله (* (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) *))
اختلف السلف فيها فمنهم من قال (* (ولا تأخذكم بهما رأفة) *) فتسقطوا الحد ومنهم من قال (* (ولا تأخذكم بهما رأفة) *) فتخففوا الحد وهو عندي محمول عليهما جميعا فلا يجوز أن تحمل أحدا رأفة على زان بأن يسقط الحد أو يخففه عنه
وصفة الضرب أن يكون سوطا بين السوطين وضربا بين الضربين وتستوي في ذلك الحدود كلها
وقال أبو حنيفة لا سواء بين الحدود ضرب الزاني أشد من ضرب القذف وضرب القذف أشد من ضرب الشرب وكأنهم نظروا صورة الذنب فركبوا عليه صفة العقوبة والشرب أخف من القذف والقذف أخف من الزنا فحملوه عليه وقرنوه به
وقد روي أن النبي أتي برجل قد أصاب حدا وأتي بسوط شديد فقال دون هذا وأتي بسوط دونه فقال فوق هذا
334

وأمر عمر برجل يضرب الحد فقال له لا ترفع إبطك وعنه أنه اختار سوطا بين السوطين ويفرق عليه الضرب في ظهره وتجتنب مقاتله ولا خلاف فيه
وهذا ما لم يتتابع الناس في الشر ولا احلولت لهم المعاصي حتى يتخذوها ضراوة ويعطف الناس عليهم بالهوادة فلا يتناهوا عن منكر فعلوه فحينئذ تتعين الشدة ويزيد الحد لأجل زيادة الذنب
وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه مائة ثمانين حد الخمر وعشرين لهتك حرمة الشهر فهكذا يجب أن تتركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات
وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغير ذلك مالكا حين بلغه فيكف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي والتظاهر بالمناكر وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة لمات كمدا ولم يجالس أحدا وحسبنا الله ونعم الوكيل
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) *))
وفقه ذلك أن الحد يردع المحدود ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده
المسألة التاسعة
واختلف في تحديد الطائفة على خمسة أقوال
الأول واحد فما زاد عليه قاله إبراهيم
الثاني رجلان فصاعدا قاله عطاء
الثالث ثلاثة فصاعدا قاله قوم
الرابع أربعة فصاعدا قاله عكرمة
335

الخامس أنه عشرة
وحقيقة الطائفة في الاشتقاق فاعلة من طاف وقد قال الله تعالى (* (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) *) التوبة 122 وذلك يصح في الواحد ومن هاهنا استدل العلماء على قبول خبر الواحد إلا أن سياق الآية هاهنا يقتضي أن يكونوا جماعة لحصول المقصود من التشديد والعظة والاعتبار
والذي أشار إلى أن تكون أربعة نزع بأنه أقل عدد شهوده
والصحيح سقوط العدد واعتبار الجماعة الذي يقع بهم التشديد من غير حد
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) *) الآية 3
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في وجه نزولها
فيه ستة أقوال
الأول أنها نزلت مخصوصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله في نكاح امرأة يقال لها أم مهزول كانت من بغايا الزانيات وشرطت له أن تنفق عليه فأنزل الله هذه الآية قاله ابن عمر ومجاهد
الثاني أنها نزلت في شأن رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة قال وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وأنه كان وعد رجلا من أسارى مكة يحمله قال فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة قال فجاءت عناق فأبصرت
336

سواد ظلي بجنب الحائط فلما انتهت إلي عرفتني فقالت مرثد فقالت مرثد فقلت مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة فقلت يا عناق إن الله حرم الزنا قالت يأهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة فانتهيت إلى غار فدخلت فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فبالوا فتطاير بولهم على رأسي وعماهم الله عني قال ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر ففككت عنه كبله فجعلت أحمله ويعينني حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله فقلت يا رسول الله أنكح عناق فأمسك رسول الله فلم يرد شيئا حتى نزلت (* (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) *) فقال رسول الله يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك إلى آخر الآية فلا تنكحها
الثالث أنها نزلت في أهل الصفة وكانوا قوما من المهاجرين لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة المسجد وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور مخاصيب بالكسوة والطعام فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن فنزلت فيهم هذه الآية قاله ابن أبي صالح
وقاله مجاهد وزاد أنهن كن يدعين الجهنميات نسبة إلى جهنم
الرابع معناه الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا تزني إلا بزان وروي عن ابن عباس
الخامس أنها مخصوصة في الزاني لا ينكح إلا زانية محدودة ولا ينكح الزانية المحدودة إلا زان روي عن ابن مسعود والحسن وغيرهما
السادس أنه عام في تحريم نكاح الزانية على العفيف والعفيف على الزانية
337

المسألة الثانية
هذه الآية من مشكلات القرآن من وجهين
أحدهما أن هذه صيغة الخبر وهو على معناه كما بيناه في غير موضع وشرحناه ردا على من يقول إن الخبر يرد بمعنى الأمر وذلك أن الله أخبر أن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ونحن نرى الزاني ينكح العفيفة
وقال أيضا والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ونحن نرى الزانية ينكحها العفيف فكيف يوجد خلاف ما أخبر الله به عنه وخبره صدق وقوله حق لا يجوز أن يوجد مخبره بخلاف خبره ولهذا أخذ العلماء فيها مآخذ متباينة ولم أسمع لمالك فيها كلاما وقد كان ابن مسعود يرى أن الرجل إذا زنى بالمرأة ثم نكحها أنهما زانيان ما عاشا
وقال ابن عباس أوله سفاح وآخره نكاح وقال ابن عمر مثله وقال هذا مثل رجل سرق ثمرة ثم اشتراها وأخذ مالك بقول ابن مسعود فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد
وروى الشافعي وأبو حنيفة أن ذلك الماء لا حرمة له ورأى مالك أن ماء الزنا وإن كان لا حرمة له فماء النكاح له حرمة ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح فيخلط الحرام بالحلال ويمزج ماء المهانة بماء العزة فكان نظر مالك أشد من نظر سائر فقهاء الأمصار
المسألة الثالثة في التنقيح
وأما من قال إنها نزلت في البغايا فظاهر في الرواية وأما من قال إن الزاني المحدود وهو الذي ثبت زناه لا ينكح إلا زانية محدودة فكذلك روي عن الحسن وأسنده قوم إلى النبي وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون ذلك أو على أي أصل يقاس من الشريعة
338

والذي عندي أن النكاح لا يخلو من أن يراد به الوطء كما قال ابن عباس أو العقد فإن أريد به الوطء فإن معناه لا يكون زنا إلا بزانية وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنا من الجهتين ويكون تقدير الآية وطء الزنا لا يقع إلا من زان أو مشرك وهذا يؤثر عن ابن عباس وهو معنى صحيح
فإن قيل وأي فائدة فيه وكذلك هو
قلنا علمناه كذلك من هذا القول فهو أحد أدلته
فإن قيل فإذا بالغ زنى بصبية أو عاقل بمجنونة أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنا ولا يكون ذلك من جهة المرأة زنا فهذا زان ينكح غير زانية فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم
قلنا هو زنا من كل جهة إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر ثبت فيه الحد وإن أردنا به العقد كان معناه أن يتزوج الزانية زان أو يتزوج زان الزانية وتزويج الزانية يكون على وجهين
أحدهما ورحمها مشغول بالماء الفاسد
الثاني أن تكون قد استبرئت
فإن كان رحمها مشغولا بالماء فلا يجوز نكاحها فإن فعل فهو زنا لكن لا حد عليه لاختلاف العلماء فيه وأما إن استبرئت فذلك جائز إجماعا
وقد ثبت عن ابن عمر بينما أبو بكر الصديق في المسجد إذ جاء رجل فلاث عليه لوثا من كلام وهو دهش فقال لعمر قم فانظر في شأنه فإن له شأنا فقام إليه عمر فقال إن ضيفا ضافه فزنى بابنته فضرب عمر في صدره وقال قبحك الله ألا سترت على ابنتك فأمر بهما أبو بكر فضربا الحد ثم زوج أحدهما الآخر ثم أمر بهما أن يغربا حولا
وقد روى نافع أن رجلا استكره جارية فافتضها فجلده أبو بكر ولم يجلدها ونفاه سنة ثم جاء فزوجه إياها بعد ذلك وجلده عمر ونفى أحدهما إلى خيبر والآخر إلى فدك
339

وروى الزهري أن رجلا فجر بامرأة وهما بكران فجلدهما أبو بكر ونفاهما ثم زوجه إياها من بعد الحول وهذا أقرب إلى الصواب وأشبه بالنظر وهو أن يكون الزواج بعد تمام التغريب
وقد روى مالك عن يحي بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك قال نسخت هذه الآية الآية التي بعدها (* (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) *) النور 32 وقد بينا في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ من علوم القرآن أن هذا ليس بنسخ وإنما هو تخصيص عام وبيان لمحتمل كما تقتضيه الألفاظ وتوجيه لأصول من فسر النكاح بالوطء أو بالعقد وتركيب المعنى عليه والله أعلم
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) *) الآية 4
فيها ست عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله (* (والذين يرمون) *))
يريد يشتمون واستعير له اسم الرمي لأنه إذاية بالقول ولذلك قيل له القذف ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال إن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء وقال أبو
كبشة
(وجرح اللسان كجرح اليد
*)
وقال
(رماني بأمر كنت منه ووالدي
* بريئا ومن أجل الطوي رماني))
المسألة الثانية قوله (* (والذين يرمون) *))
مختلف في كونه موضع رفع أو نصب كاختلافهم في السارق والسارقة والزانية والزاني سواء
340

المسألة الثالثة قوله (* (المحصنات) *)
قد بينا الإحصان وأقسامه في سورة النساء وقلنا إنه ينطلق على الإسلام والحرية والعفة ولا خلاف في أن المراد بها العفة ههنا
وشروط القذف عند العلماء تسعة شرطان في القاذف وشرطان في المقذوف به وخمسة في المقذوف
فأما الشرطان اللذان في القاذف فالعقل والبلوغ
وأما الشرطان في الشيء المقذوف منه فهو أن يقذفه بوطء يلزمه فيه الحد وهو الزنا أو اللواط أو ينفيه من أبيه دون سائر المعاصي
وأما الخمس التي في المقذوف فهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفا عن غيرها أو لا
فأما اشتراط البلوغ والعقل في القاذف فلأنهما أصلا التكليف إذ التكليف ساقط دونهما وإنما شرطناهما في المقذوف وإن لم يكونا في معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذاية بالمعرة الداخلة على المقذوف ولا معرة على من عدم العقل والبلوغ إذ لا يوصف الوطء فيهما ولا منهما بأنه زنا
وأما شرط الإسلام فيه فلأنه من معاني الإحصان وأشرفها كما بيناه من قبل ولأن عرض الكافر لا حرمة له يهتكها القذف كالفاسق المعلن لا حرمة لعرضه بل هو أولى لزيادة الكفر على المعلن بالفسق
وأما شرف العفة فلأن المعرة لاحقة به والحرمة ذاهبة وهي مرادة هاهنا إجماعا
وأما الحرية فإنما شرطناها لأجل نقصان عرض العبد عن عرض الحر بدليل نقصان حرمة دمه عن دمه ولذلك لا يقتل الحر بالعبد ولا يحد بقذفه وقد بيناه في مسائل الخلاف
341

المسألة الرابعة
المراد بالرمي هاهنا التعيير بالزنا خاصة لقول ابن عباس إن هلال بن أمية قذف زوجه بشريك بن السحماء فقال له النبي البينة وإلا حد في ظهرك
والنكتة البديعة فيه أنه قال (* (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) *) والذي يفتقر إلى أربعة شهداء هو الزنا وهذا قاطع
المسألة الخامسة قوله (* (يرمون) *))
اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنا كان قذفا وذنبا موجبا للحد فإن عرض ولم يصرح فقال مالك هو قذف وقال الشافعي وأبو حنيفة ليس بقذف ومالك أسد طريقة فيه لأن التعريض قول يفهم منه سامعه الحد فوجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم وقد قال الله مخبرا عن قوم شعيب (* (إنك لأنت الحليم الرشيد) *) هود 87 وقال في أبي جهل (* (ذق إنك أنت العزيز الكريم) *) الدخان 49 وهذا ظاهر
المسألة السادسة
فإن قال له يا من وطئ بين الفخذين
قال ابن القاسم فيه الحد لأنه تعريض وقال أشهب لا حد فيه لأنه نسبه إلى فعل لا يعد زنا إجماعا
وقال ابن القاسم أصوب من جهة التعريض
المسألة السابعة
إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنا كان قذفا عن مالك وقال أبو حنيفة والشافعي ليس بقذف لأنه ليس بزنا إذ لا حد عليها
342

وعول مالك على أنه تعيير تام بوطء كامل فكان قذفا والمسالة محتملة مشكلة لكن مالك غلب حماية عرض المقذوف وغيره راعى حماية طهر القاذف وحماية عرض المقذوف أولى لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد
المسألة الثامنة قوله (* (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) *)
كثر الله عدد الشهود في الزنا على سائر الحقوق رغبة في الستر على الخلق وحقق كيفية الشهادة حتى ربط أن يقول رأيت ذلك منه في ذلك منها أي المرود في المكحلة حسبما بيناه في الأحاديث من قبل
فلو قالوا رأيناه يزني بها الزنا الموجب للحد فقال ابن القاسم يكونون قذفة وقال غيره إذا كانوا فقهاء والقاضي فقيها كانت شهادة
والأول أصح لأن عدد الشهود تعبد ولفظ الشهادة تعبد وصفتها تعبد فلا يبدل شيء منها بغيره حتى قال علماؤنا وهي
المسألة التاسعة
إن من شرط أداء الشهود للشهادة أن يكون ذلك في مجلس واحد فإن افترقوا لم تكن شهادة
وقال عبد الملك تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد ورأى عبد الملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وهو أقوى
المسألة العاشرة قوله (* (المحصنات) *))
قيل هو وصف للنساء ولحق بهن الرجال واختلف في وجه إلحاق الرجال بهن فقيل بالقياس عليهن كما ألحق ذكور العبيد بإمائهم في تشطير الحد وهو مذهب شيخ السنة ومذهب لسان الأمة
وقال إمام الحرمين ليس من باب القياس وإنما هو من باب كون الشيء في معنى الشيء قبل النظر إلى علته وجعل من هذا القبيل إلحاق الأمة بالعبد في قوله من
343

أعتق شركا له في عبد فكان له من المال قدر ما يبلغ قيمته قوم عليه قيمة عدل فهذا إذا سمعه كل أحد علم أن الأمة كذلك قبل أن ينظر في وجه الجامع بينهما في الاشتراك في حكم السراية
وقيل المراد بقوله (* (المحصنات) *) الأنفس المحصنات وهذا كلام من جهل القياس وفائدته وخفي عليه ولم يعلم كونه أصل الدين وقاعدته
والصحيح ما أشار إليه أبو الحسن والقاضي أبو بكر كما قدمنا عنهما من أنه قياس صريح صحيح
المسألة الحادية عشرة
قيل نزلت هذه الآية في الذين رموا عائشة رضي الله عنها فلا جرم جلد النبي منهم من ثبت ذلك عليه
وقيل نزلت في سائر نساء المسلمين وهو الصحيح
المسألة الثانية عشرة قوله (* (فاجلدوهم) *))
فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن حد القذف حق من حقوق الله كالزنا قاله أبو حنيفة
الثاني أنه حق من حقوق المقذوف قاله مالك والشافعي
الثالث قال المتأخرون من الطائفتين في حد القذف شائبتان شائبة حق الله وهي المغلبة وقال الآخرون شائبة حق العبد هي المغلبة ولهذا الشوب اضطرب فيه رأي المالكية
والصحيح أنه حق الآدميين والدليل عليه أنه يقف على مطالبته وأنه يصح له الرجوع عنه أصله القصاص في الوجهين وعمدتهم أنه يتشطر بالرق فكان كالزنا
قلنا يبطل بالنكاح فإنه يتشطر بالرق فلا ينكح العبد إلا اثنتين في أحد قولينا وعندهم هو حق الآدمي فيبطل ما قالوه
344

المسألة الثالثة عشرة
أنه لا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف عند الجمهور
وقال ابن أبي ليلى لا يفتقر إلى مطالبة الآدمي ولعل ابن أبي ليلى يقول ذلك إذا سمعه الإمام بمحضر عدول الشهود فيكون ذلك أظهر ولكن بقي أن يقال إنه يحتمل أن يكون من حجة الإمام أن يقول لا أحده لأنه لم يدع عندي إثبات ما نسب إليه فإن ادعى سجنه ولم يحد بحال
المسألة الرابعة عشرة
قال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي يحد العبد ثمانين بعموم الآية
وقال علماؤنا إنه حد فليتشطر بالرق كحد الزنا وخصوا الأمة بالقياس
المسألة الخامسة عشرة قوله (* (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) *))
علق الله على القذف ثلاثة أحكام الحد ورد الشهادة والتفسيق تغليظا لشأنه وتعظيما لأمره وقوة في الردع عنه
وقال أبو حنيفة رد الشهادة من جملة الحد
وقال علماؤنا بل ردها من علة الفسق فإذا زال بالتوبة زال رد الشهادة بدليل قوله (* (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) *) النور 5 وهي
المسألة السادسة عشرة
ولا خلاف في أن التوبة تسقط الفسق واختلفوا في رد الشهادة على أربعة أقوال
الأول أنها تقبل قبل الحد وبعد التوبة قاله مالك والشافعي وغيرهما من جمهور الناس
الثاني أنه إذا قذف لا تقبل شهادته أبدا لا قبل الحد ولا بعده وهو مذهب شريح
345

الثالث أنها تقبل قبل الحد ولا تقبل بعده وإن تاب قاله أبو حنيفة
الرابع أنها تقبل شهادته بعد الحد ولا تقبل قبله وهو قول إبراهيم النخعي وهذه مسألة طيولية وقد حققناها في مسائل الخلاف وأوضحنا سبيل النحو فيها في كتاب الملجئة
وبالجملة فإن أبا حنيفة يجعل رد الشهادة من جملة الحد ويرى أن قبول الشهادة ولاية قد زالت بالقذف وجعلت العقوبة فيها في محل الجناية وهي اللسان تغليظا لأمرها
وقلنا نحن إنها حكم علته الفسق فإذا زالت العلة وهي الفسق بالتوبة قبلت الشهادة كما في سائر المعاصي
وقد اختلف الصحابة كاختلاف الفقهاء فكان عمر يقول لأبي بكرة تب أقبل شهادتك فيقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأن المغيرة بن شعبة زنى بفلانة
ونص الحادثة ما رواه أبو جعفر قال كان المغيرة بن شعبة يباغي أبا بكرة وينافره وكانا بالبصرة متجاورين بينهما طريق وكانا في مشربتين متقابلتين في داريهما في كل واحدة منهما كوة تقابل الأخرى فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته فهبت ريح ففتحت باب الكوة فقام أبو بكرة ليصفقه فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب الكوة في مشربته وهو بين رجلي امرأة قد توسطها فقال للنفر قوموا فانظروا ثم اشهدوا فقاموا فنظروا فقالوا ومن هذه فقال هذه أم جميل بنت الأرقم وكانت أم جميل غاشية للمغيرة والأمراء والأشراف وكان بعض النساء يفعل ذلك في زمانها فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة فقال لا تصل بنا فكتبوا إلى عمر بذلك فبعث عمر إلى أبي موسى
346

واستعمله وقال له إني أبعثك إلى أرض قد باض فيها الشيطان وفرخ فالزم ما تعرف ولا تبدل فيبدل الله بك
فقال يا أمير المؤمنين أعني بعدة من أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار فإن وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به
قال فاستعن بمن أحببت فاستعان بتسعة وعشرين رجلا منهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر
ثم خرج أبو موسى حتى أناخ بالبصرة وبلغ المغيرة إقباله فقال والله ما جاء أبو موسى زائرا ولا تاجرا ولكنه جاء أميرا ثم دخل عليه أبو موسى فدفع إلى المغيرة كتاب عمر رضي عنه وفيه
أما بعد فإنه قد بلغني أمر عظيم فبعثت أبا موسى أميرا فسلم إليه ما في يديك والعجل
فأهدى المغيرة لأبي موسى وليدة من وليدات الطائف تدعى عقيلة وقال له إني قد رضيتها لك وكانت فارهة
وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد حتى قدموا على عمر فجمع بينهم وبين المغيرة فقال المغيرة لعمر يا أمير المؤمنين سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني مستقبلهم أو مستدبرهم وكيف رأوا المرأة وهل عرفوها فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي على امرأتي والله ما أتيت إلا زوجتي وكانت تشبهها
فبدأ بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة قال وكيف رأيتهما قال مستدبرهما قال وكيف استثبت رأسها قال تحاملت حتى رأيتها
347

ثم دعا بشبل بن معبد فشهد بمثل ذلك وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم ولكنه قال رأيته جالسا بين رجلي امرأة فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان واستين مكشوفين وسمعت حفزانا شديدا قال هل رأيت كالميل في المكحلة قال لا قال فهل تعرف المرأة قال لا ولكن أشبهها قال له تنح وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد وقرأ (* (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) *) النور 13
قال المغيرة اشفني من الأعبد يا أمير المؤمنين فقال له اسكت أسكت الله نأمتك أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك
ورد عمر شهادة أبي بكرة وكان يقول له تب أقبل شهادتك فيأبى حتى كتب عهده عند موته هذا ما عهد به أبو بكرة نفيع بن الحارث وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن المغيرة بن شعبة زنا بجارية بني فلان وحمد الله عمر حين لم يفضح المغيرة
وروي أن الثلاثة لما أدوا الشهادة على المغيرة وتقدم زياد آخرهم قال له عمر قبل أن يشهد إني لأراك حسن الوجه وإني لأرجو ألا يفضح الله على يديك رجلا من أصحاب محمد فقال ما قال وكان ذلك أول ظهور زياد فليته وقف على ذلك وما زاد ولكنه استمر حتى ختم الحال بغاية الفساد وكان ذلك من عمر قضاء ظاهرا في رد شهادة القذفة إذا لم تتم شهادتهم وفي قبولها بعد التوبة وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف والأصول
وتعلق علماؤنا بقوله (* (إلا الذين تابوا) *) وقالوا إن هذا الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدم ما عدا إقامة الحد فإنه سقط بالإجماع
348

وقال أبو حنيفة إنه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور والصحيح رجوعه إلى الجميع لغة وشريعة ألا ترى إلى قوله تعالى (* (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) *) المائدة 33 34 وهذه الآية أختها ونظيرتها في المقصود
وأما قبول الشهادة قبل الحد فلأنه إذا لم يقم عليه الحد فحاله متردد بين الكذب السالب للعدالة وبين الصدق المصحح لها فلا يسقط يقين حاله بمحتمل مقاله وبهذا يتبين ضعف مقالة شريح
وأما قول إبراهيم فإن لم يكن مثل قول أبي حنيفة وإلا فلا معنى له
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) *) الآية 6
فيها أربع عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
وذلك أن الله تعالى لما أنزل قوله (* (والذين يرمون المحصنات) *) الآية كان ذلك عاما في الزوجات وغيرهن فلما علم الله من ضرورة الخلق في التكلم بحال الزوجات جعل لهم مخلصا من ذلك باللعان على ما روى ابن عباس أنه قال لما نزلت هذه الآية (* (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) *) النور 4 قال سعد بن عبادة أهكذا نزلت يا رسول الله لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه
349

وأخرجه حتى أتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته
فقال رسول الله يا معشر الأنصار أما تسمعون ما يقول سيدكم قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج فينا قط إلا عذراء ولا طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها
قال سعد يا رسول الله بأبي وأمي والله لأعرف أنها من الله وأنها الحق فوالله ما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من حديقة له فرأى بعينه وسمع بأذنيه فأمسك حتى أصبح ثم غدا على رسول الله فقال يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فرأيت رجلا مع أهلي رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله ما أتاه وثقل عليه جدا حتى عرفت الكراهية في وجهه فقال هلال يا رسول الله إني أرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به والله يعلم إني لصادق وإني لأرجو أن يجعل الله فرجا فقالوا ابتلينا بما قال سعد أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين فهم رسول الله بضربه وإنه لكذلك يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي (* (والذين يرمون أزواجهم) *) الآيات فقال رسول الله أبشر يا هلال إن الله جعل لك فرجا
فقال رسول الله أرسلوا إليهما فلما اجتمعا قيل لها فكذبت فقال رسول الله الله يعلم أن أحدكما لكاذب فهل فيكما تائب فقال هلال لقد صدقت وما قلت إلا حقا فقال رسول الله لاعنوا بينهما
قيل لهلال اشهد فشهد أربع شهادات إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين
فقيل له عند الخامسة يا هلال اتق الله فإن عذاب الله أشد من عذاب الناس
350

وإنها الموجبة التي توجب عليك العقوبة فقال هلال والله ما يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين
ثم قيل لها تشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ثم قيل لها عند الخامسة اتقي الله فإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين
ففرق رسول الله بينهما وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأبيه ولا يرمى ولدها
وفي رواية قيل لهلال إن قذفت امرأتك جلدت ثمانين قال الله أعدل من ذلك وقد علم أني قد رأيت حتى استيقنت وسمعت حتى استثبت فنزلت آية الملاعنة
وفي رواية إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فجاءت به كأنه جمل أورق فكان بعد أميرا بمصر لا يعرف نسبه وقيل لا يدري من أبوه
وفي رواية إن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرا إلا صدق وإن جاءت به أحمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها فجاء به على النعت الذي يصدق عويمرا
وفي رواية عن سهل أن رجلا من الأنصار أتي رسول الله فقال أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فأنزل الله أمر المتلاعنين فقال رسول الله قد قضى الله فيك وفي امرأتك فتلاعنا ثم فارقها عند رسول الله فكانت السنة بعدها أن يفرق بين المتلاعنين وكانت
351

حاملا فأنكره فكان ابنها يدعى إلى أمه ثم جرت السنة أن ابنها يرثها وترث ما فرض الله لها
المسألة الثانية قوله (* (والذين يرمون أزواجهم) *))
عام في كل رمي سواء قال زنت أو رأيتها تزني أو هذا الولد ليس مني فإن الآية مشتملة عليه وهو مبين الحكم فيها
واختلفت الرواية عن مالك في اقتصار اللعان على دعوى الرؤية على روايتين كما اختلف العلماء في ذلك وإذا شرطنا الرؤية أيضا فاختلفت الرواية هل يصف الرؤية صفة الشهود أم يكفي ذكرها مطلقا على روايتين عنه
ووجه القول باشتراط الرؤية الزجر عن دعواها حتى إذا رهب ذكرها وخاص من تحقيق ما لم يتيقن عيانه كف عن اللعان فوقعت السترة وتخلص منها بالطلاق إن شاء ولذلك شرطنا على إحدى الروايتين كيفية الرؤية كما يذكرها الشهود تغليظا
وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية فلتعولوا عليه لا سيما وفي الحديث الصحيح أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقال النبي اذهب فأت بها فلاعن بينهما ولم يكلفه ذكر رؤيته أما إنه قال في الحديث الثاني رأيت بعيني وسمعت بأذني كما قال سعد بن عبادة إذا أتيت لكاع وقد تفخذها رجل وكذلك إذا نفى الحمل فإنه يلتعن لأنه أقوى من الرؤية إذ قد ظهرت ثمرة الفعل ولا بد من ذكر عدم الوطء والاستبراء بعدة
واختلف علماؤنا في الاستبراء هل يكون بحيضة أو بثلاث والصحيح أن الواحدة تكفي لن براءة الرحم له من الشغل تقع بها كما في استبراء الأمة وإنما راعينا الثلاث
حيض في العدة لحكم آخر
352

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (أزواجهم) *))
عام في كل زوجين حرين كانا أو عبدين مؤمنين أو كافرين فاسقين أو عدلين لعموم الظاهر ووجود الحاجة إلى ذلك في كل رجل وامرأة وتحصيل الفائدة فيه بينهما
وقال أبو حنيفة لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين واتفق الجميع على أنه لا بد أن يكونا مكلفين وذلك لأن اللعان عنده شهادة وعندنا وعند الشافعي أنه يمين
وقد حققنا ذلك في مسائل الخلاف بما نكتته أن النبي قال لولا الأيمان لكان لي ولها شأن فسماها أيمانا
ومن طريق المعنى أن الفاسقين اللذين لا تقبل شهادتهما يلتعنان وهذا يدلك على أنه يمين
فإن قيل الدليل على أنه شهادة قوله (* (فشهادة أحدهم) *) فجاء بالاسم الخاص بها ومن طريق المعنى أنه رددها خمسا ولو كانت يمينا ما رددت والحكمة في ترديدها قيامها في الأعداد مقام عدد الشهود في الزنا
قلنا أما ذكره تبارك وتعالى للفظ الشهادة فلا يقتضي لها حكمها لوجهين
أحدهما أن العادة في العرب جارية بأن يقول اشهد بالله وأحلف بالله في معرض الإيمان دون الشهادة وأما تكرارها فيبطل بيمين القسامة فإنها تكررت وليست بشهادة إجماعا
والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء على فاعلها لعله أن يكف عنها فيقع الستر في الفروج والحقن في الدم والفيصل في أنه يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواها وتخليصه عن العذاب وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر
353

المسألة الرابعة
راعى أبو حنيفة عموم الآية فقال إن الرجل إذا قذف زوجته بالزنا قبل أن يتزوجها فإنه يلاعن ونسي أن ذلك قد تضمنه قوله (* (والذين يرمون المحصنات) *) وهذا رماها وهي محصنة غير زوجة وإنما يكون اللعان في قذف يلحق فيه النسب وهذا قذف لا يلحق فيه نسب فلا يوجب لعانا كما لو قذف أجنبية ثم تزوجها
المسألة الخامسة
إذا قذفها بعد الطلاق نظرت فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل متبرأ منه لاعن وإلا لم يلاعن
وقال عثمان البتي لا يلاعن بحال لأنها ليست بزوجة
وقال أبو حنيفة لا يلاعن في الوجهين لأنها ليست بزوجة
وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما تقدم بل هذا أولى لأن النكاح قد تقدم وهو يريد الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد يلحق به فلا بد من اللعان
وإذا لم يكن هنالك حمل يرجى ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به وكان قذفا مطلقا داخلا تحت قوله (* (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *) فوجب عليه الحد وبطل ما قال البتي لظهور فساده
المسألة السادسة
إذا انتفى من الحمل كما قدمنا ووقع ذلك بشروطه لاعن قبل الوضع وبه قال الشافعي
354

وقال أبو حنيفة لا يلاعن إلا بعد أن تضع لأنه يحتمل أن يكون ريحا أو داء من الأدواء
ودليلنا النص الصريح الصحيح أن النبي لاعن قبل الوضع وقال إن جاءت به كذا فهو لأبيه وإن جاءت به كذا فهو لفلان فجاءت به على النعت المكروه فقال النبي لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها
فإن قيل علم النبي حملها فذلك حكم باللعان والحاكم منا لا يعلم أحمل هو أم ريح
قلنا إذا جرت أحكام النبي على القضايا لم تحمل على الاطلاع على الغيب فإن الأحكام لم تبن عليه وإن كان به عليما وإنما البناء فيها على الظاهر الذي يشترك مع النبي فيه القضاة كلهم وقد أعرب عن ذلك بقوله إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فأحال على الظواهر وهذا لا إشكال فيه
المسألة السابعة إذا قذف بالوطء في الدبر لزوجه لاعن
وقال أبو حنيفة لا يلاعن وبناه على أصله في أن اللواط لا يوجب الحد
وهذا فاسد لأن الرمي به فيه معرة وقد دخل تحت قوله تعالى (* (والذين يرمون أزواجهم) *) وقد بينا في المتقدم من قولنا وفي مسائل الخلاف وجوب الحد فيه
المسألة الثامنة
من غريب أمر هذا الرجل أنه قال إذا قذف زوجته وأمها بالزنا إنه إن حد للأم سقط حد البنت وإن لاعن للبنت لم يسقط حد الأم
وهذا لا وجه له وما رأيت لهم فيه شيئا يحكى وهذا باطل جدا فإنه خص عموم الآية في البيت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه
355

المسألة التاسعة
يلاعن في النكاح الفاسد كما يلاعن في النكاح الصحيح لأن اللعان حكم من أحكام النكاح يتعلق بالفاسد منه كالنسب والعدة والمهر وهذا الفقه صحيح وذلك أن اللعان موضوع لنفي النسب وتطهير الفراش والزوجة بالنكاح الفاسد قد صارت فراشا ويلحق النسب فيه فجرى اللعان عليه
المسألة العاشرة
فائدة لعان الزوج درء الحد عنه ونفي النسب منه لقول النبي البينة وإلا حد في ظهرك فلو جاء بالبينة لدرأت الحد عنه فقد قام اللعان مقام البينة
وقال أبو حنيفة لو لم يلتعن الزوج لم يحد ولكنه يحبس حتى يلاعن وتارة يجعل اللعان شهادة وتارة يجعل حدا ولو كان حدا ما حبس على فعله لأن الحد يؤخذ قسرا من صاحبه فإذا لاعن فقد برئ من الحد وتعلق ذلك بالمرأة لأنهما خصمان يتنازعان فلو كان اللعان شهادة لكان تحقيقا للزنا عليها وإنما هو كما قدمنا لتبرئة نفسه كما قال النبي البينة وإلا حد في ظهرك ثم يقال لها اعترفي فتحدي أو برئي نفسك وذلك لقوله تعالى (* (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين) *) التوبة 8 وهي
المسألة الحادية عشرة
وقال أبو حنيفة العذاب المراد بالآية الحبس
فيقال له ولم تحبس ولم يجب عليها بقول الزوج شيء عنك
ثم قلت اللعان حد فكيف وجب عليها بقول الزوج حد والله تعالى يقول (* (ويدرأ عنها العذاب) *) وهو الحد بدليل قوله تعالى (* (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) *) النور 2 يعني الحد فسماه عذابا هاهنا وهو ذاك بعينه لاتحاد المقصد فيها
فإن قيل اللعان يمين أو شهادة من الزوج وأيما كان فلا يوجب حدا على المرأة
356

قلنا أقيم مقام الشهادة بدليل أنه يخلص به الزوج من الحد
المسألة الثانية عشرة البداءة في اللعان بما بدأ الله به
وهو الزوج ولو بدأ بالمرأة قبله لم يجزه لأنه عكس ما رتبه الله
وقال أبو حنيفة يجزيه وهذا باطل لأنه خلاف القرآن وليس له أصل يرده إليه ولا معنى يقوى به بل المعنى لنا لأن المرأة إذا بدأت باليمين فتنفي ما لم يثبت وهذا لا وجه له
المسألة الثالثة عشرة
إذا صدقته المرأة في قذفه وهناك ولد لم يلاعن عند أبي حنيفة لأنه لا لعان عنده على نفي الولد وقد بيناه
المسألة الرابعة عشرة
إذا قذفها برجل سماه كشريك بن سحماء أسقط اللعان عنه حد القذف لزوجته وحد لشريك وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي لا يحد له إذا لاعن زوجه
وظاهر القرآن لنا لأن الله وضع الحد في قذف الأجنبي والزوجة مطلقين ثم خص الزوجة بالخلاص باللعان وبقي الأجنبي على مطلق الآية
واحتج الشافعي بأن النبي لم يحد هلالا لشريك بن سحماء
قلنا لأنه لم يطلبه وحد القذف لا يقيمه الإمام إلا بعد المطالبة إجماعا
ومن العجب أن قالت أحبار الشافعية إنه يحتاج إلى ذكر الزاني بزوجه ليعره كما عره وأي معرة فيه وخبره عنه لا يقبل وحكمه فيه لا ينفذ إنما المعرة كلها بالزوج فلا وجه لذكره فإن قذفه تعلق به حكمه لعموم القرآن
357

الآية السادسة
قوله تعالى (* (إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) *) الآية 11
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى ابن شهاب عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا وكل حدثني بطائفة من الحديث وبعض حديثهم يصدق بعضا وإن كان بعضهم أوعى له من بعض
فالذي حدثني عروة عن عائشة أن عائشة زوج النبي قالت كان رسول الله إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه
قالت عائشة فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي وخرجت مع رسول الله بعدما نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش
فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه
وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثه السن فبعثوا الجمل
358

وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب
فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي
فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت
وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما كلمني كلمة وما سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك
وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما كان يدخل علي رسول الله وهو يقول كيف تيكم ثم ينصرف فذلك الذي يريبني منه ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا
فانطلت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح
359

فقلت لها بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا قالت أي هنتاه ألم تسمعي ما قال قالت قلت لها وما قال قالت فأخبرتني بقول أهل الإفك
قالت فازددت مرضا على مرضي قالت فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله فسلم ثم قال كيف تيكم فقلت أتأذن لي أن آتي أبوي قالت وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما
قالت فأذن لي رسول الله فجئت أبوي فقلت لأمي يا أمتاه ما يتحدث الناس قالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها
قالت فقلت سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا
فبكيت تلك الليل حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي فدعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله
فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله والذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا
وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير واسأل الجارية تصدقك
قالت فدعا رسول الله بريرة فقال يا بريرة هل رأيت من شيء يريبك قالت بريرة لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله
فقام رسول الله فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي بن سلول
فقال رسول الله وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت من أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي
360

فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك
فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان فينا قبل ذلك صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ كذبت لعمر الله والله لا تقتله ولا تقدر على قتله
فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم لسعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين
فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت
قالت فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد مكثت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع يظنان أن البكاء فالق كبدي
قالت فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي
قالت فبينما نحن كذلك دخل علينا رسول الله فسلم ثم جلس قالت ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل قبلها
وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني
قالت فتشهد رسول الله حين جلس ثم قال أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن
العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه
قالت فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة فقلت لأبي أجب رسول الله فيما قال قال فوالله ما أدري ما أقول لرسول الله قالت فقلت لأمي أجيبي رسول الله قالت والله ما أدري ما أقول لرسول الله
361

قالت عائشة وكان رسول الله يسأل زينب بنت جحش عن أمري قال يا زينب ماذا علمت وماذا رأيت فقالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري وما علمت إلا خيرا قالت وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك
المسألة الثانية قوله (* (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم) *))
قد بينا في كتب الأصول حقيقة الخير وأنه ما زاد نفعه على ضره وحقيقة الشر ما زاد ضره على نفعه وأن خيرا لا شر فيه هو الجنة وشرا لا خير فيه هو جهنم ولهذا صار البلاء النازل على الأولياء خيرا لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا وخيره وهو الثواب كثير في الآخرة فنبه الله تعالى عائشة ومن ماثلها ممن ناله هم من هذا الحديث أنه ما أصابهم منه شر بل هو خير على ما وضع الله الشر والخير عليه في الدنيا من المقابلة بين الضر والنفع ورجحان النفع في جانب الخير ورجحان الضر في جانب الشر
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم) *))
هذا حكم الله في كل ذنب أنه لا تحمل كل نفس إلا ما اكتسبت من الإثم ولا يكون لها إلا ما اكتسبت إلا أن الذي تولى كبره وكان يرميه ويشيعه ويستوشيه ويجمعه له عذاب عظيم
في صحيح حديث الإفك إن الذي كان يتكلم فيه مسطح وحسان بن
363

ثابت والمنافق عبد الله بن أبي بن سلول وهو الذي كان يستوشيه ويجمعه وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (عذاب عظيم) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول أنه العمى
الثاني أنه عذاب جهنم
الثالث الحد
فأما العمى فهو الذي أصاب حسان وأما عذاب جهنم فلمن كتبه الله له وأما عذاب الحد فقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي حد في الإفك رجلين وامرأة مسطحا وحسان وحمنة
الآية السابعة
قوله تعالى (* (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين) *) الآية 12
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
المعنى ظن الناس بعضهم ببعض خيرا وجعل الغير مقام النفس لذمام الإيمان كما بينا في قوله تعالى (* (ولا تقتلوا أنفسكم) *) أي لا يقتل بعضكم بعضا
المسألة الثانية
هذا أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ومنزلة الصلاح التي حلها
364

المرء ولبسة العفاف التي تستر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا
المسألة الثالثة (* (وقالوا هذا إفك مبين) *))
أي كذب ظاهر لأنه خبر عن أمر باطن ممن لم يشاهده وذلك أكذب الأخبار وشر الأقوال حيث استطيل به على العرض الذي هو أشرف المحرمات ومقرون في تأكيد التحريم بالمهجات
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) *) الآية 13
فيها مسألتان
المسألة الأولى
هذا رد إلى الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة فإن الله حكم في رمي المحصنات بالكذب إلا أن يقيم قائل ذلك أربعة من الشهداء على ما زعم من الافتراء حتى يخرجه إلى الظاهر من حد الباطن وإلا لزمه حكم المفتري في الإثم وحاله في الحد
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) *))
وهذه آية مشكلة فإنه قد يكون من القذف الظاهر ما هو عند الله في الباطن صدق ولكنه يؤخذ في الظاهر بحكم الكاذب ويجلد الحد
وهذا الفقه صحيح وهو أن معنى قوله (* (عند الله) *) يريد في حكمه لا في علمه وهو إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا مقتضى علمه الذي تعلق بالأشياء على ما هي عليه وإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة
365

الآية التاسعة
قوله تعالى (* (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين) *) الآية 17
فيها مسألة قوله تعالى (* (لمثله) *) يعني في عائشة لأن مثله لا يكون إلى نظير القول في المقول عنه بعينه أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي لما في ذلك من إذاية رسول الله في عرضه وأهله وذلك كفر من فاعله
قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول من سب أبا بكر وعمر أدب ومن سب عائشة قتل لأن الله يقول (* (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين) *) النور 17 فمن سب عائشة فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل
قال الفقيه القاضي أبو بكر رحمه الله قال أصحاب الشافعي من سب عائشة أدب كما في سائر المؤمنين وليس قوله تعالى (* (إن كنتم مؤمنين) *) في عائشة لأن ذلك كفر وإنما هو كما قال لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ولو كان سلب الإيمان في سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن حقيقة
قلنا ليس كما زعمتم إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله ومن كذب الله فهو كافر فهذا طريق قول مالك وهي سبيل لائحة لأهل البصائر ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب
366

الآية العاشرة
قوله تعالى (* (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) *) الآية 19
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله تعالى (* (يحبون أن تشيع الفاحشة) *))
يعني يريد ذلك ويتفعله له لأن المحبة فعل القلب ومن أحب شيئا أظهره فإن لم يظهر كانت نيته فاسدة يعاقب عليها في الآخرة كما بينا في شرح الحديث وليس له عقوبة في الحدود
المسألة الثانية
إذا أشاعها فقد بينا ماله من العذاب في الدنيا
وقد روى مسروق عن عائشة قال جاء حسان بن ثابت يستأذن عليها فدخل فشبب وقال
(حصان رزان ما تزن بريبة
* وتصبح غرثى من لحوم الغوافل)
قالت له لكنك لست كذلك قلت تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله (* (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) *) النور 11 قالت وأي عذاب أشد من العمى وقد كان يرد عن رسول الله فبينت له أن العمى من العذاب الدنيوي الذي قورض به وذكر ذمامه في منافحته عن رسول الله وأنها رعت له ذلك وإن كان قال فيها
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) *) الآية 22
367

فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
قد بينا أن ذلك نزل في أبي بكر قالت عائشة في حديثها فحلف أبو بكر ألا ينفع مسطحا بنافعة أبدا فأنزل الله الآية (* (ولا يأتل أولوا الفضل) *) يعني أبا بكر (* (أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله) *) يعني مسطحا إلى قوله (* (غفور رحيم) *)
قال أبو بكر بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن يغفر لنا وعاد لما كان يصنع له وفيه دليل على أن القذف وإن كان كبيرة لا يحبط الأعمال لأن الله وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان
المسألة الثانية
قال ابن العربي عجبت لقوم يتكلفون فيتكلمون بما لا يعلمون هذا أبو بكر حلف ألا ينفق على مسطح ثم رجع إليه نفقته فمن للمتكلف لنا تكلف بأن أبا بكر لم يكفر حتى يتكلم بهذا الهزء وقد بينا ذلك في شرح الحديث
المسألة الثالثة
قد بينا أن اليمين لا تحرم أو لا تحرم في سورة المائدة وتحقيقه في سورة التحريم
المسألة الرابعة
وهي حسنة أن في ذلك دليلا على أن الحنث إذا رآه خيرا أولى من البر لقول النبي فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وقد قدمناه
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) *) الآية 27
368

فيها تسع مسائل
المسألة الأولى
اعلموا وفقكم الله أن الله سبحانه وتعالى خصص الناس بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها بغير إذن أربابها لئلا يهتكوا أستارهم ويبلوا في أخبارهم
وتحقيق ذلك ما روي في الصحاح عن سهل بن سعد قال اطلع رجل من حجرة في حجر النبي ومع النبي مدرى يحك بها رأسه فقال لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر ومن حديث أنس فيها فقام النبي إليه بمشقص فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه
المسألة الثانية
نزلت هذه الآية عامة في كل بيت ونزل قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) *) الأحزاب 53 خاصة في أبياته وسيأتي بيانها في سورة الأحزاب إن شاء الله
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (حتى تستأنسوا) *))
مد الله التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس
واختلف فيه على ثلاثة أقوال
الأول أن معناه حتى تستأذنوا وكذلك كان يقرأها عبد الله بن عباس ويقول أخطأ الكاتب
369

الثاني حتى تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح فيعلموا بالدخول عليهم قاله ابن مسعود ومجاهد وغيره
الثالث حتى تعلموا أفيها من تستأذنون عليه أم لا قاله ابن قتيبة
قال الفقيه القاضي أبو بكر رحمه الله أما قوله أن تستأنسوا بمعنى تستأذنوا فلا مانع في أن يعبر عن الاستئذان بالاستئناس وليس فيه خطأ من كاتب ولا يجوز أن ينسب الخطأ إلى كتاب تولى الله حفظه وأجمعت الأمة على صحته فلا يلتفت إلى راوي ذلك عن ابن عباس
ووجه التعبير عن الاستئذان بالاستئناس أنه مثله في معنى الاستعلام
وأما من قال إنه التنحنح فهي زيادة لا يحتاج إليها وأشبه ما فيه قول ابن قتيبة فإنه عبر عن اللفظين بمعنيين متغايرين مقيدين وهذا هو حكم اللغة في جعل معنى لكل لفظ
المسألة الرابعة في كيفية الاستئذان
وهو بالسلام وصفته ما روي عن أبي سعيد الخدري قال كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور قال استأذنت على عمر ثلاثا فلم يأذن لي فرجعت قال ما منعك قلت استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت
وقال رسول الله إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبي قال أبي بن كعب والله لا
370

يقوم معك إلا أصغرنا فكنت أصغرهم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك
وهذا حديث صحيح لا غبار عليه وحكمة التعداد في الاستئذان أن الأولى استعلام والثانية تأكيد والثالثة إعذار
وقد روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن الاستئناس هو الاستئذان على التأويل الأول ويكون قوله (* (وتسلموا) *) تفسيرا للاستئذان وقد اخترنا قول ابن قتيبة والله أعلم
المسألة الخامسة
قال جماعة الاستئذان فرض والسلام مستحب وبيانه أن التسليم كيفية في الإذن روى مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم أنه استأذن على ابن عمر فقال أألج فأذن له ابن عمر قال زيد فلما قضيت حاجتي أقبل علي ابن عمر فقال مالك واستئذان العرب إذا استأذنت فقل السلام عليكم فإذا رد عليك السلام فقل أأدخل فإن أذن لك فادخل فعلمه سنة السلام
وقد روى ابن سيرين أن رجلا استأذن على النبي فقال أدخل فقال النبي لرجل عنده قم فعلم هذا كيف يستأذن فإنه لم يحسن فسمعها الرجل فسلم فاستأذن
المسألة السادسة
روى الزهري عن عبيد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال سألت عمر بن الخطاب فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي اللتان تظاهرتا عليه اللتان قال الله فيهما (* (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) *) التحريم 4 فقال حفصة وعائشة قال ثم أخذ يسوق الحديث وذكر اعتزال النبي في المشربة قال فأتيت غلاما أسود فقلت استأذن لعمر فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال قد
371

ذكرتك له فصمت فرجعت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فرجعت إلى الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت قال فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني فقال ادخل فقد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه فقلت يا رسول الله أطلقت نساءك فرفع إلي رأسه قوال لا فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت يوما علي امرأتي فطفقت تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر فوالله إن أزواج رسول الله ليراجعنه وتهجره إحداهن يومها حتى الليل فقلت قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول الله فدخلت علي حفصة فقلت لا يغررك أن كانت جاريتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله منك فتبسم أخرى فقلت استأنس يا رسول الله قال نعم فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت شيئا يرد البصر إلا أهبة ثلاث وذكر الحديث
قال الفقيه القاضي أبو بكر رضي الله عنه ففي هذا الحديث أن عمر رجع من مرتين ولم ينتظر الثالثة فهذا يدلك على أن كمال التعداد حق الذي يستأذن إن أراد استقصاءه وإلا تركه وفيه قوله بعد الدخول أستأنس يا رسول الله وهذا من الأنس والتبسط لا من الإعلام الذي تقدم في الآية
المسألة السابعة
قال علماؤنا إن وقعت العين على العين فالسلام قد تعين ولا تعد رؤيتك له إذنا لك في دخولك عليه فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد حينئذ تقول أدخل فإن أذن لك فادخل وإلا رجعت
المسألة الثامنة
هذا كله في بيت ليس لك فإما بيتك الذي تسكنه فإن كان فيه أهلك فلا إذن
372

عليها وإن كانت فيه معك أمك أو أختك فقالوا تنحنح واضرب برجليك حتى تنتبه لدخولك لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها
وأما الأم والأخت فقد تكون على حالة لا تحب أن تراها فيها
قال ابن القاسم قال مالك ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما
وقد روى عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي أستأذن على أمي قال نعم قال إني أخدمها قال استأذن عليها قال فعاوده ثلاثا قال أتحب أن تراها عريانة قال لا قال فاستأذن عليها
وعن ابن مسعود وابن عباس واللفظ له أنه قيل له استأذن على أخواتي وهن في حجرتي معي في بيت واحد قال نعم فرددت عليه ليرخص لي فأبى قال أتحب أن تراها عريانة قلت لا قال فاستأذن عليها فراجعته فقال أتحب أن تطيع الله قلت نعم قال فاستأذن عليها
وقال طاوس ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم ذكر ذلك كله الطبري
المسألة التاسعة
هذا الإذن في دخوله بيتا غير بيته فإن دخل بيت نفسه فقال علماؤنا ليقل السلام علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات لله السلام عليكم رواه ابن وهب عن النبي وسنده ضعيف
والصحيح ترك السلام والاستئذان والله أعلم
373

الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم) *) الآية 28
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
هذا تبيان من الله لإشكال يلوح في الخاطر وهو أن يأتي الرجل إلى منزل لا يجد فيه أحدا فيقول في نفسه إذا كانت المنازل خالية فلا إذن لأنه ليس هناك محتجب فيقال له إن الإذن يفيد معنيين
أحدهما الدخول على أهل البيت
والثاني كشف البيت واطلاعه فإن لم يكن هنالك أحد محتجب فالبيت محجوب لما فيه وبما فيه إلا بإذن من ربه
المسألة الثانية قوله (* (حتى يؤذن لكم) *))
يعني حتى يأتي صاحب المنزل فيأذن أو يتقدم له بالإذن
المسألة الثالثة قوله (* (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا) *))
هذا مرتبط بالآية قبلها التقدير يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها فإن أذن لكم فأدخلوا وإلا فارجعوا كما فعل عمر مع النبي وأبو موسى مع عمر حسبما تقدم تسطيره وإيراده
فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوا حتى تجدوا إذنا
المسألة الرابعة
وسواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه بل يجب عليه أن يأتي الباب ويحاول الإذن على صفة لا يطلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه
374

فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق
وقد تقدم قول النبي إنما جعل الاستئذان من أجل البصر
المسألة الخامسة
إذا استأذن أحد فينبغي للمستأذن عليه أن يقول ادخل أو ما في معناه من الألفاظ لا يزيد على ذلك ولا يستحقر فيه
روي أن عبد الله بن عمر جاء دارا لها بابان قال أدخل قال له إنسان ادخل بسلام قال له وما يدريك أني أدخل بسلام ثم انصرف كراهية ما زاد لأن الذي قال ادخلوها بسلام عالم بذلك قادر عليه والذي زاد في الإذن بسلام زاد ما لم يسمع وقال ما لم يعلم وضمن ما لم يقدر عليه
المسألة السادسة
إذا ثبت أن الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير وإن كان قول الصغير لغوا في الأحكام بإجماع أهل الإسلام ولكن الإذن في المنازل مرخص فيه للضرورة الداعية إليه وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله فيعمل على قوله وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) *) الآية 29
فيها أربع مسائل
375

المسألة الأولى في المراد بهذه البيوت
أربعة أقوال
الأول أنها الخانات والخانكات
الثاني أنها دكاكين التجار قاله الشعبي
الثالث قال مجاهد هي منازل الأسفار ومناجاة الرجال
الرابع أنها الخرابات العاطلة قاله قتادة
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فيها متاع لكم) *))
فيها ثلاثة أقوال
الأول أنها أموال التجار
الثاني أنها المنافع كلها
الثالث أنها الخلاء لحاجة الإنسان
المسألة الثالثة قال الفقيه القاضي أبو بكر رضي الله عنه
أما من قال إنها الخانات وهي الفنادق والخانكات وهي المدارس للطلبة فإنها مشتركة بين السكان فيها والعاملين بها فلا يصح المنع فلا يتصور الإذن وكذلك دكاكين التجار قال الشعبي لا إذن فيها لأن أصحابها جاؤوا ببيوعهم وجعلوها فيها وقالوا للناس هلم فالمعنى في ذلك كله ألا يدخل في كل موضع بغير إذن إلا من كان من أهله ومن خرج عنهم فلا دخول فيه لهم
المسألة الرابعة
وأما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل وبين أن دخول الداخل فيها إنما هو لماله من الانتفاع فالطالب يدخل في الخانكات للعلم والساكن يدخل في الخان للمنزل فيه أو لطلب من نزل لحاجته إليه والزبون يدخل لدكان الابتياع والحاقن يدخل الخلاء للحاجة وكل يؤتى على وجهه من بابه فإن دخل في موضع من هذه باسمها الظاهر ولمنفعتها البادية ونيته غير ذلك فالله عليم بما أبدى وبما كتم يجازيه عليه وبما يظهره منه
376

الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون) *) الآية 3
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله (* (يغضوا) *))
يعني يكفوا عن الاسترسال قال الشاعر
(فغض الطرف إنك من نمير
* فلا كعبا بلغت ولا كلابا))
المسألة الثانية قوله (* (يغضوا من أبصارهم) *))
فأدخل حرف (* (من) *) المقتضية للتبعيض وذكر (* (ويحفظوا فروجهم) *) مطلقا
وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال
الأول أن غض الأبصار مستعمل في التحريم لأن غضها عن الحلال لا يلزم وإنما يلزم غضها عن الحرام فلذلك أدخل حرف التبعيض في غض الأبصار فقال من أبصارهم
الثاني أن من نظر العين ما لا يحرم وهو النظرة الأولى والثانية فما زاد عليها محرم وليس من أمر الفرج شيء ما يحلل
الثالث أن من النظر ما يحرم وهو ما يتعلق بالأجانب ومنه ما يحلل وهو ما يتعلق بالزوجات وذوي المحارم بخلاف الفرج فإن ستره واجب في الملأ والخلوة لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة القشيري قال قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك فقال الرجل يكون مع الرجل قال إن استطعت ألا يراها أحد فافعل قلت فالرجل يكون خاليا قال الله أحق أن يستحيا منه
377

وقد ذكرت عائشة رسول الله وحالها معه فقالت ما رأيت ذلك منه ولا رأى ذلك مني
المسألة الثالثة قوله (* (ويحفظوا فروجهم) *))
يعني به العفة وهو اجتناب ما نهى الله عنه فيها وقد تقدم بيانه
وقال أبو العالية المراد به هاهنا حفظها عن الأبصار حتى لا يراها أحد وقد تقدم وجوب سترها وشئ من أحكامها في البقرة والأعراف وإيضاحه في شرح الحديث والمسائل
المسألة الرابعة قوله (* (ذلك أزكى لهم) *))
يريد أطهر على معاني الزكاة فإنه إذا غض بصره كان أطهر له من الذنوب وأنمى لأعماله في الطاعة ولذلك قال النبي لعلي يا علي إن لك كنزا في الجنة وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك والثانية ليست لك وهو أيضا أفرغ لباله وأصلح لأحواله
وقد أنشد أرباب الزهد
(وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا
* لقلبك يوما أتعبتك المناظر)
(رأيت الذي لا كله أنت قادر
* عليه ولا عن بعضه أنت صابر)
وقالوا من أرسل طرفه أدنى حتفه ومن غض البصر كفه عن التطلع إلى المباحات من زينة الدنيا وجمالها كما قال الله لنبيه (* (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) * طه 131 يريد ما عند الله تعالى
378

وفي الإسرائيليات أن رجلا كان قائما يصلي فنظر إلى امرأة بإحدى عينيه فتطأطأ إلى الأرض فأخذ عودا ففقأ به عينه التي نظر بها إلى المرأة وهي من خير عين تحشر
وتحكي الصوفية أن امرأة كانت تمشي على طريق فاتبعها رجل حتى انتهت إلى باب دارها فالتفتت إليه فقالت له يا هذا مالك تتبعني فقال لها أعجبتني عيناك فقالت البث قليلا فدخلت دارها ثم فقأت عينيها في سكرجة وأخرجتهما إليه وقالت له خذ ما أعجبك فما كنت لأحبس عندي ما يفتن الناس مني
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) *) الآية 31
فيها ثماني مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) *) الآية 3 قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين حسب كل خطاب عام في القرآن على ما بيناه في أصول الفقه إلا أن الله تعالى قد يخص الإناث بالخطاب على طريق التأكيد كما ورد في حديث أم عمارة الأنصارية أنها قالت يا رسول الله إني أرى كل شيء للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت (* (إن المسلمين والمسلمات) *) الأحزاب 35 الآية خرجه الترمذي وغيره
379

فلما أراد الله من غض البصر وحفظ الفرج أكده بالتكرار وخص النساء فيه بالذكر على الرجال
المسألة الثانية قوله تعالى (* (يغضضن من أبصارهن) *))
ذلك حرام لأن النظر إلى ما لا يحل شرعا يسمى زنا
فقال أبو هريرة سمعت رسول الله يقول إن الله إذا كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر واليدان تزنيا وزناهما البطش والرجلان تزنيا وزناهما المشي والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه
وكما لا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة فكذلك لا يحل للمرأة أن تنظر إلى الرجل فإن علاقته بها كعلاقتها به وقصده منها كقصدها منه وقد روت أم سلمة قالت كنت أنا وعائشة وفي رواية وميمونة عند النبي فاستأذن عليه ابن أم مكتوم فقال لنا أحتجبن منه فقلنا أوليس أعمى فقال النبي أفعمياوان أنتما
فإن قيل يعارضه ما روي أن النبي قالت له فاطمة بنت قيس في شأن العدة في بيت أم شريك فقال لها تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده
قلنا قد أوعبنا القول في هذا الحديث في الشرح من جميع وجوهه وسترونه في
380

موضعه إن شاء الله تعالى والذي يتعلق به هاهنا أن انتقالها من بيت أم شريك إلى بيت ابن أم مكتوم كان أولى بها من بقائها في بيت أم شريك إذ كانت في بيت أم شريك يكثر الداخل فيه والرائي لها وفي بيت ابن أم مكتوم كان لا يراها أحد وكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى فرخص لها في ذلك
المسألة الثالثة قوله (* (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *))
الزينة على قسمين خلقية ومكتسبة
فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية لما فيه من المنافع وطرق العلوم وحسن ترتيب محالها في الرأس ووضعها واحدا مع آخر على التدبير البديع
وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها بالتصنع كالثياب والحلي والكحل والخضاب
ومنه قوله تعالى (* (خذوا زينتكم عند كل مسجد) *) الأعراف 31 يعني الثياب وقال الشاعر
(يأخذن زينتهن أحسن ما ترى
* وإذا عطلن فهن خير عواطل))
المسألة الرابعة قوله (* (إلا ما ظهر منها) *))
اعلموا عرفكم الله الحقائق أن الظاهر من الألفاظ المتقابلة التي يقتضي أحدها الآخر وهو الباطن هاهنا كالأول مع الآخر والقديم مع الحديث فلما وصف الزينة بأن منها ظاهرا دل على أن هنالك باطنا
واختلف في الزينة الظاهرة على ثلاثة أقوال
الأول أنها الثياب يعني أنها يظهر منها ثيابها خاصة قاله ابن مسعود
الثاني الكحل والخاتم قاله ابن عباس والمسور
الثالث أنه الوجه والكفان
وهو والقول الثاني بمعنى لأن الكحل والخاتم في الوجه والكفين إلا أنه يخرج عنه
381

بمعنى آخر وهو أن الذي يرى الوجه والكفين هي الزينة الظاهرة يقول ذلك ما لم يكن فيها كحل أو خاتم فإن تعلق بها الكحل والخاتم وجب سترها وكانت من الباطنة
فأما الزينة الباطنة فالقرط والقلادة والدملج والخلخال وغيره
وقال ابن القاسم عن مالك الخضاب ليس من الزينة الظاهرة
واختلف الناس في السوار فقالت عائشة هي من الزينة الظاهرة لأنها في اليدين وقال مجاهد هي من الزينة الباطنة لأنها خارجة عن الكفين وإنما تكون في الذراع
وأما الخضاب فهو من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين
والصحيح أنها من كل وجه هي التي في الوجه والكفين فإنها التي تظهر في الصلاة وفي الإحرام عبادة وهي التي تظهر عادة
المسألة الخامسة قوله (* (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) *))
الجيب هو الطوق والخمار هي المقنعة
روى البخاري عن عائشة أنها قالت رحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزل () شققن مروطهن وفي رواية فيه أيضا شققن أزرهن فاختمرن بها كأنه من كان لها مرط شقت مرطها ومن كانت لها إزار شقت إزارها
وهذا يدل على أن ستر العنق والصدر بما فيه ويوضحه حديث عائشة كان رسول الله يصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس أي لا تعرف
فلانة من فلانة
المسألة السادسة قوله (* (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) *))
حرم الله إظهار الزينة كما تقدم على الإطلاق واستثنى من ذلك اثني عشر محلا
382

المستثنى الأول البعولة
والبعل هو الزوج والسيد في لسان العرب ومنه قول النبي حين ذكر أشراط الساعة حتى تلد الأمة بعلها يعني سيدها إشارة إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات فيأتي الأولاد من الإماء فتعتق كل أم بولدها فكأنه سيدها الذي من عليها بالعتق إذ كان العتق حاصلا لها من سببه فالزوج والسيد ممن يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محل من بدنها حلال له لذة ونظرا وذلك مخصوص بالزوج والسيد لقوله تعالى (* (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) *) المؤمنون 5 6
وقد اختلف الناس في جواز نظر الرجل إلى فرج زوجته على قولين
أحدهما يجوز لأنه إذا جاز له التلذذ فالنظر أولى
وقيل لا يجوز لقول عائشة في ذكر حالها مع رسول الله ما رأيت ذلك منه ولا رأى ذلك مني
والأول أصح وهذا محمول على الأدب فقد قال أصبغ من علمائنا يجوز له أن يلحسه بلسانه
المستثنى الثاني أو آبائهن
ولا خلاف أن غير الزوج لا يلحق بالزوج في اللذة وكذلك أجمعت الأمة على أنه يلحق غير الزوج بالزوج في النظر وإن كان قد شورك بينهم في لفظ العطف الذي يقتضي التشريك في ذلك كله ولكن فرقت بينهم السنة
واختلف العلماء فيما يبدو للأب من الزينة على ثلاثة أقوال
الأول أنه الرأس قاله قتادة
الثاني أن الذي تبدي القرط والقلادة والسوار فأما خلخالها وشعرها فلا قاله ابن عباس ونحوه عن ابن مسعود
الثالث أن يكون على رأسها خمار ومقنعة فتكشف المقنعة له
383

وهي متقاربة المعنى إذ الزينة الباطنة يجوز للأب النظر إليها للضرورة الداعية إلى ذلك في الخلطة ولأجل المحرمية التي مهدت الشريعة إذ لا يقترن بها النظر شهوة لتعذرها في هذا الموضع بالتحريم المتعبد به والبعضية القائمة معه
المستثنى الثالث أو آباء بعولتهن
قال أيوب السختياني قلت لسعيد بن جبير الرجل ينظر إلى شعر ختنته فقرأ هذه الآية (* (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) *) إلا آخر الآية وقال لا أراها منها
وفي الحديث إن الحمو هو الموت يعني لا بد منه كما لا بد من الموت في أحد التأويلات ولأنها بنته فنزلت منه بتلك المنزلة والأختان والأصهار والأحماء مما كثر فيهم القول وجله أن الختن الصهر وقيل من كان من قبل الزوج من رجل أو امرأة
المستثنى الرابع الأبناء
قال إبراهيم لا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أمه وأخته وعمته وكره للباقين وبالجملة فإن الابن والأب أحق الأجانب من جهة المحرمية بالاطلاع على الزينة الباطنة
المستثنى الخامس أبناء البعولة
وهم ينزلون بتلك المنزلة في جواز الزينة الباطنة لنزولهم منزلة الأبناء في المحرمية
المستثنى السادس الإخوة
وقد روي أن الحسن والحسين كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط وذلك هو الصحيح عندي
384

المستثنى السابع أبناء الإخوة وهم من آبائهم
روي علماؤنا أن صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله كانت لا تغطي رأسها منه ولا من عشرة من المهاجرين الأولين من حمزة أخيها ولا من جعفر ولا علي بن أبي طالب أخيها ولا من الزبير ابنها ولا من عثمان بن عفان ابن بنت أختها أمه أروى بنت كريز وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب ولا من أبي سلمة ابن عبدالأسد ولا من أبي سبرة بن أبي رهم ابني أختها برة بنت عبد المطلب ولا من طليب بن عمير بن وهب بن عبد بن قصي وأمه أروى بنت عبد المطلب ولا من عبد الله وأبي أحمد الشاعر واسمه عبيد ابني جحش أمهما أمية بنت عبد المطلب
المستثنى الثامن بنو الأخوات
ولما لحقوا في المحرمية بمن تقدم لحقوا بهم في جواز النظر
المستثنى التاسع قوله (* (أو نسائهن) *))
وفيه قولان
أحدهما أنه جميع النساء
والثاني أنه نساء المؤمنين
فأما أهل الذمة فلا ينبغي أن تكون المسلمة مبدية لهن زينتها
وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أما بعد فقد بلغني أن نساء لمسلمين يدخلن الحمامات معهن نساء أهل الكتاب فامنع ذلك وحل دونه
ثم إن أبا عبيدة قام في ذلك المقام ممتثلا فقال أيما امرأة دخلت الحمام من غير علة ولا سقم تريد البياض لزوجها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه
والصحيح عندي أن ذلك جائز لجميع النساء وإنما جاء بالضمير للاتباع فإنها آية لضمائر إذ فيها خمسة وعشرون ضميرا لم يروا في القرآن لها نظيرا فجاء هذا للاتباع
المستثنى العاشر قوله تعالى (* (أو ما ملكت أيمانهن) *))
حرم الله على المرأة عبدها وكانت الحكمة في ذلك فيما سمعت من شيخنا فخر
385

الإسلام بمدينة السلام تناقض الأحكام فإنها تملكه بالعبودية فلو ملكها بالزوجية لقال لها أخرجي وأطيعي زوجك وقالت هي له اسكت وأطع سيدتك
وقال أحدهما أقم وقال الآخر ارحل وقال أحدهما أنفق بالرق وقال الآخر أنفق بالزوجية فيعود الطالب مطلوبا والآخر مأمورا فحسم الله العلة بالمحرمية
وفيما يروى فيها قولان
أحدهما أن العبد كالأجنبي
والثاني أنه كذوي المحارم
وقد روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك دخل حديث بعضهم في بعض قال مالك أكره أن يسافر الرجل بامرأة أبيه أو ابنه ولله دره إنها ليست كأمه وابنته قالا قال مالك وإذا كان بعض الجارية حرا فلا يجوز لمن يملك بقيتها أن ينظر إلى شيء منها غير شعرها كما ينظر غيره ولا بأس أن يدخل على زوجته ومعها المرأة إذا كانت عليها ثيابها
وإذا كان بعض الغلام حرا فلا يرى شعر من يملك بقيته وإن كان خصيا لا تملكه لم ينظر شعرها وصدرها ولا بأس أن ينظر خصيان العبيد إلى شعور النساء فأما الأحرار فلا وذلك في الوغد منهم فأما من له المنظرة فلا
وقال مالك يجوز للوغد أن يأكل مع سيدته ولا يجوز ذلك لذي المنظرة
وقال في الخصي خادم الرجل في منزله يرى فخذه منكشفة إنه خفيف
وقال في جارية المرأة لا ينبغي أن ترى فخذ زوجها ينكشف عنها قال الله تعالى (* (أو ما ملكت أيمانهن) *) فامرأته في هذا كغيرها ونهى عمر بن الخطاب النساء أن يلبسن القباطي وقال إن كانت لا تشف فإنها تصف
قال الفقيه القاضي أبو بكر رحمه الله يريد الخصور والأرداف
قال ابن القاسم سمعت مالكا يحدث أن عائشة دخل عليها رجل أعمى وأنها
386

احتجبت منه فقيل لها يا أم المؤمنين إنه أعمى لا ينظر إليك قال ولكني أنظر إليه
قال أشهب سئل مالك أتلقي المرأة خمارها بين يدي الخصي وهل هو من غير أولي الإربة فقال نعم إذا كان مملوكا لها أو لغيرها فأما الحر فلا وإن كان فحلا كبيرا وغدا تملكه لا هيئة له ولا منظرة فلينظر إلى شعرها
قاتل الفقيه القاضي أبو بكر رحمه الله كما قال ابن عباس لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته
قال أشهب قال مالك ليس بواسع أن تدخل جارية الزوجة أو الولد على الرجل المرحاض قال الله (* (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) *) المؤمنون 6
وقال أشهب عن مالك ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته ولا أحبه لغلام الزوج
وأطلق علماؤنا المتأخرون القول بأن غلام المرأة في ذوي محارمها يحل منها ما يحل لذي المحرم وهو صحيح في القياس وقول مالك في الاحتياط أعجب إلي
فرع قال علماؤنا رحمة الله عليهم لا تسافر المرأة مع عبدها وإن كان ذا محرم منها إذ يجوز أن يعتق في السفر فيحل لها تزوجه وهذا عندي ضعيف فإن عتقه بيدها فلا يتفق له ذلك حتى يكون بموضع يتأتى فيه ما ذكرنا
المستثنى الحادي عشر قوله (* (أو التابعين غير أولي الإربة) *))
فيها ثمانية أقوال
الأول أنه الصغير قاله مجاهد
الثاني أنه العنين قاله عكرمة والعشبي
الثالث أنه الأبله المعتوه لا يدري النساء قاله سعيد بن جبير وعطاء
الرابع أنه المجبوب لفقد إربه
الخامس أنه الهرم لعجز إربه
السادس أنه الأحمق الذي لا يشتهي المرأة ولا يغار عليه الرجل قاله قتادة
387

السابع أنه الذي لا يهمه إلا بطنه قاله مجاهد
الثامن أنه خادم القوم للمعاش قاله الحسن
قال الفقيه القاضي أبو بكر رضي الله عنه أما القول الأول بأنه الصغير فلا معنى له لأن ذلك قد أفرده الله بالذكر بعد ذلك في قوله (* (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) *)
وأما غير ذلك فهم على قسمين منهم من له آلة ومنهم المجبوب الذي ليس له آلة والذي له آلة على قسمين منهم العنين الذي لا يقوم له شيء ومنهم الذي لا قلب له في ذلك ولا علاقة بينه وبينه
فأما المجبوب والعنين فلا كلام فيهما وأما من عداهما ممن لا قلب له في ذلك فالقياس يقتضي ألا يكون بينه وبين المرأة اجتماع لضرورة حاله لكن الشريعة رخصت في ذلك للحاجة الماسة إليه ولقصد نفي الحرج به
والدليل عليه حديث النبي إنه كان جالسا عند أم سلمة فدخل عليهما هيت المخنث فقال لأخيها عبد الله بن أبي أمية وهو عندها يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدا فإني أدلك على بادنة بنت غيلان يعني زوج عبد الرحمن بن عوف فإنها تنيف بالذكر والأنثى وتقبل بأربع وتدبر بثمان مع ثغر كأنه الأقحوان وبين رجليها كالإناء المكفوء إن جلست تبنت وإن قامت تثنت وإن تكلمت تغنت
(بين شكول النساء خلقتها
* قصد فلا جبلة ولا قضف)
(تغترق الطرف وهي لاهية
* كأنما شف وجهها نزف)
فقال رسول الله لأرى هذا يعرف ما ههنا لا يدخل عليكن فحجبه
388

المستثنى الثاني عشر قوله (* (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) *))
واختلف الناس في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين منه على قولين
أحدهما لا يلزم لأنه لا تكليف عليه وهو الصحيح
والآخر يلزم لأنه قد يشتهي وقد تشتهي هي أيضا فإن راهق فحكمه حكم البالغ في وجوب الستر ولزوم الحجبة
وبقي ههنا المستثنى الثالث عشر وهو الشيخ الذي سقطت شهوته
وفيه قولان كما قدمناه في الصبي والصحيح بقاء الحرمة
المسألة السابعة
قال أصحاب الشافعي عورة المرأة مع عبدها من السرة إلى الركبة وكأنهم ظنوها رجلا أو ظنوه امرأة والله تعالى حرم المرأة على الإطلاق نظرا ولذة ثم استثنى اللذة للزوج وملك اليمين ثم استثنى الزينة ظاهر الثلاثة عشر شخصا العبد منهم فما لنا ولغير ذلك هذا نظر فاسد واجتهاد عن السداد متباعد
وقد أول بعض الناس قوله (* (أو ما ملكت أيمانهن) *) على الإماء دون العبيد منهم سعيد بن المسيب فكيف يحمل على العبيد ثم يلحقون بالنساء هذا بعيد جدا
المسألة الثامنة قوله (* (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) *))
قال كانت المرأة تضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخاليها فمن فعل ذلك فرحا بحليهن فهو مكروه ومن فعل ذلك تبرجا وتعرضا للرجال فهو حرام
وكذلك من صر بنعله من الرجال إن فعل ذلك عجبا حرم فإن العجب كبيرة وإن فعل ذلك تبرجا لم يجز والله أعلم
389

الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) *) الآية 32
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى قوله (* (الأيامى منكم) *))
والأيم فيها قولان
أحدهما أنها التي توفي عنها زوجها
الثاني أنها التي لا زوج لها
وفي الحديث أنه نهى عن الأيمة وقال الشاعر
(فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي
* وإن كنت أفتى منكم أتأيم)
وفي الحديث الأيم أحق بنفسها من وليها وهي التي لا زوج لها بعد زوجها وفي لفظ الثيب أحق بنفسها
390

المسألة الثانية في المراد بالخطاب بقوله (* (وأنكحوا) *))
فقيل هم الأزواج
وقيل هم الأولياء من قريب أو سيد
والصحيح أنهم الأولياء لأنه قال أنكحوا بالهمزة ولو أراد الأزواج لقال ذلك بغير همزة وكانت الألف للوصل وإن كان بالهمزة في الأزواج له وجه فالظاهر أولى فلا يعدل إلى غيره إلا بدليل
المسألة الثالثة قوله (* (وأنكحوا) *))
لفظه بصيغة الأمر واختلف في وجوبه أو ندبه أو إباحته على ثلاثة أقوال
وقال علماؤنا يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المرء من خوفه العنت وعدم صبره ومن قوته على الصبر وزوال خشية العنت عنه
وإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حتم
وإن لم يخش شيئا وكانت الحال مطلقة فقال الشافعي النكاح مباح
وقال أبو حنيفة ومالك هو مستحب
وتعلق الشافعي بأنه قضاء لذة فكان مباحا كالأكل والشرب
وتعلق علماؤنا في ذلك بأحاديث كثيرة ولا فائدة في التعلق بغير الصحيح وفي ذلك حديثان صحيحان
الأول قال أنس بن مالك جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروها كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدا وقال الآخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال الآخر أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا فجاء رسول الله إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم
391

لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء من يرغب عن سنتي فليس مني
الثاني قال عروة سألت عائشة عن قوله (* (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) *) إلى قوله (* (ألا تعدلوا) *) النساء 3 قالت يا بن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن فيكملوا الصداق وأمروا بنكاح من سواهن من النساء
المسألة الرابعة قوله (* (والصالحين من عبادكم وإمائكم) *))
وفيها قولان
أحدهما وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وأنكحوا إماءكم وتقريرها وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم بعضهم ببعض
الثاني وهو الأظهر أنه أمر بإنكاح العبيد والإماء كما أمر بإنكاح الأيامى وذلك بيد السادة في العبيد والإماء كما هو في الأحرار بيد الأولياء إلا من ملك نفسه وائتمر أمره وأبصر رشده
أما أن أصحاب الشافعي تعلقوا بأن العبد مكلف فلم يجبر على النكاح لأن التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدمية وإنما يتعلق به المملوكية فيما كان حظا للسيد من ملك الرقبة والمنفعة فله حق المملوكية في بضع الأمة ليستوفيه ويملكه
فأما بضع العبد فلا حق له فيه ولأجل ذلك لا تباح السيدة لعبدها هذه عمدة أهل خراسان والعراق
ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه إجماعا
392

والنكاح وبابه إنما هو من المصالح ومصلحة العبد موكولة إلى السيد هو يراها ويقيمها للعبد ولذلك زوج الأمة بملكه لرقبتها لا باستيفائه لبضعها
والدليل على صحة ما نقوله من ذلك أنه لا يملك بضع امرأته وإن كان يملكها ويملك بضع أخته من الرضاع أمة وإن كان لا يستوفيه والمالكية في رقبة العبد كالمالكية في رقبة الأمة
والمصلحة في كل واحد منهما بيد السيد استيفاؤها وإقامتها والنظر إليها ومنها ومن عدهم الطلاق فإنه يملكه العبد بملك عقده وهذا لا يلزم لأن للسيد نظرا في المصلحة فإن أسقطها العبد فقد أسقط خالص حقه الذي له وقد نرى الثيب لا تملك الطلاق ولا يملك عليها النكاح ويملك النكاح على السفيه المولى عليه ولا يملك عليه الطلاق ويملك عليه البيع والشراء ولا يملك هو الإقالة ولا الفسخ ولا العتق فدل على أن مطلق كل واحد من العينين غير مطلع الآخر فافترقا
فإن قيل لو أراد المملوكين لقال من عبيدكم
قلنا عنه جوابان
أحدهما أنه قال بعده (* (وإمائكم) *) ولو أراد الناس لما جاء بالهمزة كما تقدم ولذلك قرأها الحسن من عبيدكم وليبين الإشكال ويرفع اللبس
الثاني أن هذا اللفظ لو قدرناه كما زعموا لكان عاما وكنا نحكم بعمومه فيمن كان حرا أو عبدا كما حكمنا بعمومه فيمن كانت أمة لله أو لأحد من خلقه بتمليكه إياها له
المسألة الخامسة قوله (* (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) *))
وهذا فيه قولان
أحدهما يغنيهم الله من فضله بالنكاح كقوله (* (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) *) النساء 13 يعني النكاح من غيره
الثاني يغنيهم بالمال وهو اختيار جماعة من السلف فروي عن ابن عمر أنه قال
393

عجبت لمن لا يرغب في الباءة والله يقول (* (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) *)
ومن حديث أبي هريرة أن رسول الله قال ثلاثة كلهم حق على الله عونه المجاهد في سبيل الله والناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء
فإن قلنا قد نجد الناكح لا يستغني
قلنا عنه ثلاثة أجوبة
الأول أنه يغنيه بإيتاء المال وقد يوجد ذلك
الثاني يغنيه عن الباء بالعفة
الثالث يغنيه بغنى النفس ولا يلزم أن يكون هذا كله على الدوام بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد
وقد رأيت بعض علمائنا يقول إن هذا على الخصوص كما قدمناه في الجواب الأول وفي بعض الآثار الناكح معان والمكاتب معان وباغي الرجعة معان
المسألة السادسة
فإن قيل هذه الآية وإن وردت بلفظ واحد فإنها قد تناولت مختلفات الأحكام منها واجب ومنها غير واجب ومنها في البالغ ومنها في الصغير ومنها في الثيب ومنها في البكر
قلنا هذا لا يؤثر في الخطاب فإن ذلك كثير في القرآن وأقرب منه الآية التي تلوناها آنفا في قوله (* (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) *) إلى آخر الاثني عشر وجها وكل واحد يختلف في بابه والخطاب مشترك فيهم وإن كان الحكم يختلف في التعلق بهم
394

المسألة السابعة
في هذه الآية دليل على تزويج الفقير ولا يقولن كيف أتزوج وليس لي مال فإن رزقه ورزق عياله على الله وقد زوج النبي الموهوبة من بعض أصحابه وليس له إلا إزار واحد وليس لها بعد هذا فسخ النكاح بالإعسار لأنها عليه دخلت وإنما يكون ذلك على الحكم إذا دخلت على اليسار فخرج معسرا أو طرأ الإعسار بعد ذلك والله أعلم
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) *) الآية 33
فيها ست عشرة مسألة
المسألة الأولى
هذا خطاب لبعض من تناولته الآية الأولى ممن يملك أمر نفسه فيتعفف ويتوقف أو يقدم على النكاح ولا يتخلف وأما من زمامه بيد سواه يقوده إلى ما يراه فليس له في هذه الآية مدخل كالمحجور قولا واحدا والآمة والعبد على أحد قولي العلماء
المسألة الثانية
إن كان النكاح في الآية الأولى مختلفا فيه ما بين وجوب وندب وإباحة فالاستعفاف لا خلاف في وجوبه لأجل أنه إمساك عما حرم الله واجتناب المحارم واجب بغير خلاف
395

المسألة الثالثة
لما لم يجعل الله بين العفة والنكاح درجة دل على أن ما عداهما محرم ولا يدخل فيه ملك اليمين لأنه بنص آخر مباح وهو قوله تعالى (* (أو ما ملكت أيمانكم) *) فجاءت فيه زيادة هذه الإباحة بآية في آية ويبقى على التحريم الاستمناء ردا على أحمد ابن حنبل كما تقدم بيانه وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة لنسخه كما تقدم
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (لا يجدون نكاحا) *))
يعني يقدرون وعبر عن القدرة بالوجود وعن عدمها بعدمه كما تقدم في قوله تعالى (* (فلم تجدوا ماء) *) النساء 43 حرفا بحرف فخذه منه
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (حتى يغنيهم الله من فضله) *))
فيها قولان
أحدهما بالقدرة على النكاح
الثاني بالرغبة عنه
وقال بعض علمائنا إنه يستعف بالصوم لحديث عبد الله بن مسعود قال كنا مع النبي شبابا لا نجد شيئا فقال رسول الله يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه هي بالصوم فإنه له وجاء وهو أصح الأقوال لانتظام القرآن فيه والحديث واللفظ والمعنى والله أعلم
396

المسألة السادسة قوله تعالى (* (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم) *))
يعني يطلبون الكتاب يريد المكاتبة على مال يدفعونه إلى ساداتهم فافعلوا ذلك لهم فذكر الله طلب العبد للمكاتبة وأمر السيد بها حينئذ وهي حالتان
الأولى أن يطلبها العبد ويجيبه السيد فهذا مطلق الآية وظاهرها
الثانية أن يطلبها العبد ويأباها السيد وفيه قولان
الأول لعكرمة وعطاء أن ذلك واجب على السيد
وقال سائر علماء الأمصار لا يجب ذلك عليه وتعلق من أوجبها بمطلق قوله تعالى (* (فكاتبوهم) *) وافعل بمطلقه على الوجوب حتى يأتي الدليل بغيره وهذه مسألة أصولية قد بيناها في أصول الفقه ولا نسلمها لهم بل نقول إن لفظ افعل لاقتضاء الفعل والوجوب يكون بتعلق الذم بتركه والاقتضاء يستقل به الاستحباب فأين دليل الوجوب وهذا هو الأصل الذي لا مزعزع له
أما إن من علمائنا المتمرسين بالفقه سلموا أن مطلق افعل على الوجوب وادعوا أن الدليل هاهنا قد قام على سقوط الوجوب من ثلاثة أوجه
الأول أن الكتابة إذا طلبها العبد ففيها إخراج ملك السيد من يده بغير اختياره ولا أصل لذلك في الشريعة بل أصول الشريعة كلها تقتضي ألا يخرج ملك أحد عن يديه إلا باختيار وما جاء بخلاف الأصول لا يلتفت إليه
وهذا لا يلزم لأن الآية عندنا أو الحديث إذا جاء بخلاف الأصول فهو أصل بنفسه ويرجع إليه في بابه ويجري على حكمه كما بيناه في مسائل المضرات من كتب الخلاف وفي تعارض الأدلة من كتب أصول الفقه
الثاني قالوا إنما يكون مطلق الأمر يقتضي الوجوب إذا تعرى عن قرينة وهاهنا قرينة تقتضي صرفه عن الوجوب وهو تعليقه بشرط علم الخير فيه فتعلق الوجوب على أمر باطن وهو علم السيد بالخير فيه
397

وإذا قال العبد كاتبني فقال السيد لم أعلم فيك خيرا وهو أمر باطن فيرجع فيه إليه ويعول عليه وهو قوي في بابه
الثالث قال علماؤنا مال العبد وأكسابه ملك السيد ورقبته ملك له فإذا قال العبد خذ كسبي وخلص رقبتي فهو يطالبه بتفويت ملكه عنه فكأنه يقول أعتقني وذلك لا يلزم وهو كلام قوي في الباب على مثبتي الاجتهاد ومن رده لا يلتفت إليه
المسألة السابعة قوله تعالى (* (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) *))
وفيه ثلاثة أقوال
الأول أنه القدرة على السعي والاكتساب وبه قال مالك والشافعي
الثاني أن الخير المال وهو قول عطاء
الثالث أنه الوفاء والصدق والأمانة وهو قول الشافعي الثاني
فأما القول الأول بأنه المال فلا إشكال فيه
وأما القدرة على الأداء بحسن السعي والاكتساب فظاهر أنه يلحق به لأنه مال منجم يجتمع في مدة الأجل
وأما من قال إنه الصدق والأمانة فكأنه نظر إلى معنى هو مشروط في كل طاعة وفعل فلا تختص هذه الكتابة باشتراطه وحدها
المسألة الثامنة
إذا كاتب عبده على مال قاطعه عليه نجوما فإن جعله حالا فقد اختلف فيه السلف والعلماء على قولين واختلف قول علمائنا باختلافهم
والصحيح في النظر أن الكتابة مؤجلة كما ورد بها الأثر في حديث بريرة حين كاتبت أهلها على تسع أواق في كل عام أوقية وكما فعلت الصحابة ولذلك سميت
398

كتابة لأنها تكتب ويشهد عليها فقد استوثق الاسم والأثر وعضده المعنى فإن المال إن جعله حالا فلا يخلو أن يكون عند العبد أو لا يكون عنده شيء فإن كان عنده ما قطعه عليه فهو مال مقاطعة وعقد مقاطعة لا عقد كتابة وإن لم يكن عند العبد مال لم يجز أن يجعل ما يكاتبه عليه حالا لأنه أجل مجهول فيدخله الغرر وتقع المنازعة عند المطالبة وذلك منهي عنه شرعا من جهة الغرر ومن جهة الدين مع ما فيه من مخالفة السنة
فإن قيل إنما جعل الأجل رفقا بالعبد فإن شاء أن يرتفق وإلا ترك حقه
قلنا كل حق هو إسقاط محض وترك صرف فهو جائز وكل حق يترك في عقد يعود عليه بالغرر لا يجوز إجماعا وقد أشبعنا القول في كتب الخلاف في هذه المسألة فمن أراده فلينظره هنالك
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) *))
فيه قولان
أحدهما أنه مال الزكاة قاله إبراهيم والحسن ومالك
الثاني أنه جزء من مال الكتابة قاله علي وغيره وبه قال الشافعي
وقدره علي بربع الكتابة وقدره غيره بنجم من نجومها ورأى الشافعي أنه مجهول وأن ذلك موقوف على اجتهاد الحاكم بحسب ما يراه فإنه ينفذه في تركته ويقضي به عليه واحتج بمطلق الأمر في قوله (* (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) *) وبقول علي وروي مثله عن عمر وليس للشافعي في المسألة عمدة وإنما هي لعلمائنا وقد أوضحنا ذلك في مسائل الخلاف ولو أن الشافعي حين قال إن الإيتاء واجب يقول إن الكتابة واجبة لكان تركيبا حسنا ولكنه قال إن الكتابة لا تلزم والإيتاء يجب فجعل الأصل غير واجب والفرع واجبا وهذا لا نظير له فصارت دعوى محضة
399

فإن قيل يكون ذلك كالنكاح لا يجب فإذا انعقد وجبت أحكامه منها المتعة
قلنا عندنا لا تجب المتعة فلا معنى لأصحاب الشافعي في التعلق بها
والدليل القاطع على أن الإيتاء غير واجب أنه لو كان واجبا غير مقدر كما قال الشافعي لكان المال في أصل الكتابة مجهولا والعقد بالعوض المجهول لا يجوز أن يقال إن الله شرعه وقد عضده علماؤنا بقول الله (* (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) *) ومال الله هو الزكاة والفيء وليس بمال أوجب حقا في عقد وإن كان العباد وأموالهم لله ولكن مطلق اللفظ إنما ينطلق على الزكاة والفيء
فإن قيل يحسن أن يقال في هذا إنه مال الله لأنه وجب لحق الله من الحرية وقصد به القربة إليه
قلنا هذا مجاز لا يصار إليه إلا لضرورة
وبالجملة فإن أصحاب الشافعي يريدون أن يجعلوا المجاز حقيقة ويعدلون باللفظ عن طريقه
فإن قيل فكيف يفعلون بقول عمر وعلي
قلنا سبحان من لم يجعل الحجة إلا في قول صاحب المعجزة على أن الذي روي في ذلك إنما هو أن عمر كاتب عبدا له هو جد ميمون بن جابان فقال له عمر كم تعرض فقال عبده أعرض مائتي أوقية قال فما استزادني وكاتبني عليها فأراد أن يعجل لي من ماله طائفة فأرسل إلى حفصة أم المؤمنين إن كاتبت غلامي فأردت أن أعجل له طائفة من مالي فأرسلي إلي بمائتي درهم إلى أن يأتينا بشيء فأرسلت بها إليه فأخذها عمر بيمينه وقرأ هذه الآية (* (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) *) فخذها فبارك الله لك فيها قال فبارك الله لي فيها عتقت منها وأصبت خيرا كثيرا
وقال علي في قول الله (* (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) *) قال ربع الكتابة وكاتب عبدا له على أربعة آلاف درهم فوضع عنه ربعها وهذا من فعل عمر
400

وقول علي وفعله لا يقتضي إلا الندب وليس فيه على الوجوب دليل لا سيما وقد خالفهما عثمان فروي أنه كاتب عبده وحلف ألا يحطه في حديث طويل
المسألة العاشرة في أي وقت يؤتى
فيه أربعة أقوال
الأول قال ابن وهب سمعت مالكا يقول وسألته عما يترك للمكاتب من كتابته التي يكاتب عليها متى يترك وكيف يكتب فقال مالك يكتب في كتابه أنه كاتب على كذا وقد وضع عنه من أجر كتابته كذا
الثاني أنه يترك له من كل نجم قاله مجاهد
الثالث يوضع عنه من آخر الكتابة قاله علي بن أبي طالب
الرابع يوضع عنه من أولها قاله عمر وفعله
والأقوى عندي أنه يكون في آخرها ليستفيد بذلك براءته مما عليه وحصول العتق له والإسقاط أبدا إنما يكون في أخريات الديون
المسألة الحادية عشرة
اختلفوا في صفة عقد الكتابة وروي أنه كان يقول كاتبتك على ألفين في عامين وروي أنه يقول فإذا أديت فأنت حر وهذا لا يلزم لأن لفظ القرآن لا يقتضيه والحال يشهد له فإن ذكره فحسن وإن تركه فهو معلوم لا يحتاج إليه
المسألة الثانية عشرة قوله (* (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) *))
قال جابر بن عبد الله كانت جارية لعبد الله بن أبي يقال لها مسيكة فأكرهها على البغاء فقالت له لئن كان هذا خيرا لقد استكثرت منه وروي لقد استنكرت منه وإن كان شرا لقد بان لي أن أدعه فأنزل الله الآية
وروى الزهري أنه كان لعبد الله بن أبي جارية يقال لها معاذة وكان رجل من قريش أسر يوم بدر فكان عنده وكان القرشي يريد الجارية على نفسها وكانت
401

الجارية تمتنع منه لإسلامها وكان عبد الله بن أبي يضربها على امتناعها من القرشي رجاء أن تحمل منه فيطلب فداء ولده فأنزل الله الآية وكذا روى مالك عن الزهري
نحوه
المسألة الثالثة عشرة
وقع في مطلق هذه الآية النهي عن الإكراه على الزنا إن أرادت المكرهة الإحصان ولا يجوز الإكراه بحال فتعلق بعض الغافلين بشيء من دليل الخطاب في هذه الآية وذكروه في كتب الأصول لغفلتهم عن الحقائق في بعض المعاني وهذا مما لا يحتاج إليه وإنما ذكر الله إرادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو الذي يصور الإكراه فأما إذا كانت راغبة في الزنا لم يتصور إكراه فحصلوه إن شاء الله
المسألة الرابعة عشرة
قد تكلمنا على الإكراه فيما سبق وهذه الآية تدل على تصور الإكراه في الزنا خلافا لمن أنكر ذلك من علمائنا وهو ابن الماجشون وغيره ولا ينهى الله إلا عن متصور ولا يقع التكليف إلا بما يدخل تحت القدرة ولذلك قلنا إنه لا حد عليه لأن الإكراه يسقط حكم التكليف
فإن قيل إن الزاني ينتشر ويشتهي إذا اتصل بالمرأة طبعا
قلنا الإلجاء إلى ذلك هو الذي أسقط حكمه
المسألة الخامسة عشرة
نهى النبي في الحديث الصحيح عن مهر البغي وحلوان الكاهن فإن من البغايا كمن كان يأخذ عوضا عن البغي وكذلك كان جرى في هذه القصة روى مجاهد في قوله (* (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) *) قال كانوا يأمرون ولائدهم فيباغين فكن يفعلن ذلك فيصبن فيأتينهم بكسبهن وكانت لعبد الله بن أبي
402

ابن سلول جارية وكانت تباغي فكرهت ذلك وحلفت ألا تفعله فانطلقت فباغت ببرد أخضر فأتتهم به فأنزل الله الآية
المسألة السادسة عشرة قوله تعالى (* (فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) *))
هذه المغفرة إنما هي للمكره لا للذي أكره عليه وألجأ المكره المضطر إليه ولذلك كان يقرأها عبد الله بن مسعود فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم
والمغفرة تتعلق بالمكره المضطر إليه فضلا من الله كما قال في الميتة (* (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) *) البقرة 173
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) *) الآية 35
هذه آية عظيمة قد بيناها في كتاب المشكلين وفي قانون التأويل وأوضحنا المراد منها على أقوال العلماء وهذا الحرف منها ذكره بعض الأحكاميين فرأينا ألا نخلي هذا المختصر منه واختلف في هذه الشجرة على ستة أقوال
الأول أنها ليست من شجر الشرق دون الغرب ولا من شجر الغرب دون الشرق لأن الذي يختص بإحدى الجهتين كان أدنى زيتا وأضعف ضوءا ولكنها ما بين الشرق والغرب كالشام لاجتماع الأمرين فيه وهو قول مالك
وفي رواية ابن وهب عنه قال هو الشام الشرق من هاهنا والغرب من هاهنا ورأيته لابن شجرة أحد حداق المفسرين
الثاني أنها ليست بشرقية تستر عن الشمس عند الغروب ولا بغربية تستر عن الشمس وقت الطلوع بل هي بارزة وذلك أحسن لزيتها أيضا قاله قتادة
403

الثالث أنها وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت وذلك أجود لزيتها قاله عطية
الرابع أنها ليس في شجر الشرق ولا في شجر الغرب ملها قاله يحيى بن سلام
الخامس أنها من شجر الجنة لا من الدنيا قاله الحسن
السادس أنها مؤمنة ليست بنصرانية تصلي إلى الشرق ولا يهودية تصلي إلى الغرب وهو قول ابن عمر
قال الفقيه القاضي أبو بكر رضي الله عنه لا خلاف بين المحققين الذين ينزلون التفسير منازله ويضعون التأويل مواضعه من غير إفراط ولا تفريط أن هذا مثل ضربه الله لنوره ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلا تنبيها لخلقه إلا ببعض خلقه لأن الخلق بقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم ولولا ذلك ما عرف الله إلا الله وحده وأنور المصابيح في الدنيا مصباح يوقد من دهن الزيتون ولا سيما إذا كانت مفردة قد تباعد عنها الشجر فخلصت من الكل وأخذتها الشمس من كل جانب فذلك أصفى لنورها وأطيب لزيتها وأنضر لأغصانها وذلك معنى بركة هذه الشجرة التي فهمها الناس حتى استعملوها في أشعارهم فقالوا
(بورك الميت الغريب كما
* بورك نضر الرمان والزيتون)
وقد رأيت في المسجد الأقصى زيتونة كانت بين محراب زكريا وبين باب التوبة والرحمة الذي يقولون إنه المراد بقوله باب باطنه فيه الرحمة يعني المسجد الأقصى وظاهره من قبله العذاب بشرقيه دون السور وادي جهنم وفوقه أرض المحشر التي تسمى بالساهرة فكانوا يقولون إنها الشجرة المذكورة في هذه الآية وربك أعلم
ومن غريب الأثر أن بعض علمائنا الفقهاء قال إن هذا مثل ضربه الله لإبراهيم ومحمد ولعبد المطلب وابنه عبد الله فالمشكاة هي الكوة بلغة الحبشة فشبه عبد المطلب بالكوة
فيها القنديل وهو الزجاجة وشبه عبد الله بالقنديل وهو الزجاجة ومحمد كالمصباح يعني من أصلابهما وكأنه كوكب دري وهو المشتري يوقد من
على أن معمر بن الأشد أجاز الإجارة على الغنم بالثلث والربع
وقال ابن سيرين والزهري وعطاء وقتادة ينسج الثوب بنصيب منه وبه قال أحمد بن حنبل
وبيان ذلك في مسائل الفقه
وقرأت بباب جيرون على الشيخ الأجل الرئيس أبي محمد عبد الرزاق بن فضيل الدمشقي أخبرني أبو عمر المالكي حدثنا محمد بن علي بن حماد بن محمد حدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك قال حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري أنبأنا الحسن بن عيسى أخبرنا ابن المبارك حدثنا سعيد بن يزيد الحضرمي عن عيينة بن حصن أن رسول الله قال آجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفة فرجه فقال له شعيب لك منها يعني من نتاج غنمه ما جاءت به قالب لون واحد غير واحد أو اثنين ليس فيها عزور ولا فشوش ولا كموش ولا ضبوب ولا ثعول
العزور التي يعسر حلبها
والثعول التي لها زيادة حلمة وهو عيب فيها
وقد كان مع أبي موسى الأشعري غلام يخدمه بشبع بطنه
وجوز ذلك مالك وأباه غيره وقد بيناه في مسائل الخلاف
المسألة الثامنة عشرة
قال بعضهم إنه قال لبنت صالح مدين في الغنم حصة فلذلك صحت الإجارة صداقا لها بما كان لها من الحصة فيها
قال القاضي هذا احتراز من معنى بوقوع في آخر فإن الغنم إذا كانت بين صالح مدين وبين ابنته وأخذها موسى مستأجرا عليها ففي ذلك جمع سلعتين في عقد واحد لغير عاقد واحد
وقد اختلف في ذلك العلماء ومشهور المذهب منعه لما فيه من الجهل بالثمن في
404

شجرة مباركة يعني إرث النبوة من إبراهيم وهو الشجر المباركة يعني حنيفية لا شرقية ولا غربية لا يهودية ولا نصرانية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار
يقول يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحى إليه نور على نور إبراهيم ثم محمد
قال الفقيه القاضي أبو بكر رحمه الله وهذا كله عدول عن الظاهر وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه ولكن على الطريقة التي شرعناها في قانون التأويل لا على الاسترسال المطلق الذي يخرج الأمر عن بابه ويحمل على اللفظ مالا يطيقه فمن أراد الخبرة به والشفاء من دائه فلينظر هنالك
الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال) *) الآية 36
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
اختلف في البيوت على ثلاثة أقوال
الأول أنها المساجد وهو قول ابن عباس وجماعة
الثاني أنها بيت المقدس قاله الحسن
الثالث أنها سائر البيوت قاله عكرمة
المسألة الثانية قوله (* (ترفع) *))
فيها ثلاثة أقوال
الأول تبنى كما قال (* (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) *) البقرة 127 قاله مجاهد
405

الثاني تطهر من الأنجاس والأقذار كقوله تعالى (* (وطهر بيتي) *) الحج 26
الثالث أن تعظم قاله الحسن
فأما من قال إن معناها تبنى فهو متمعن وقد قال النبي من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة
ومن قال إنها تطهر من الأقذار والأنجاس فذلك كقوله إن المسجد لينزوي من النجاسة كما تنزوي الجلدة من النار
وهذا في النجاسة الظاهرة فما ظنك بغيرها
وأما من قال إنها ترفع فالرفع حسا كالبناء وحكما كالتطهير والتنظيف وكما تطهر عن ذلك فإنها مطهرة عن اللغو والرفث لقوله وهي
المسألة الثالثة (* (ويذكر فيها اسمه) *))
وهذا يدل على أنها المساجد كلها ضرب الله المثل لنوره بالزيت الذي يتوقد منه المصباح في البقعة المكرمة وهي المساجد تتميما لتشريف المثل بالمثل وجلاله من كل جهة وقد بينا في شرح الحديث من ذكر المساجد جملا عظيمة تربو على المأمول فيه
الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى (* (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) *) الآية 48
406

فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى الطبري أن رجلا من المنافقين كان يقال له بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة وكان اليهودي يدعوه إلى التحاكم عند النبي وكان المنافق يدعوه إلى كعب بن الأشرف وقال إن محمدا يحيف علينا وكان المنافق إذا توجه عليه الحق دعا إلى غير النبي وإذا كان له الحق دعاه إليه ليستوفيه له فنزلت الآية فيه
المسألة الثانية
قد بينا أنه إذا كان الحكم بين المعاهد والمسلم أن القضاء يكون للمسلمين لا حق لأهل الذمة فيه وإن كان بين ذميين فذلك إليهما فإذا جاء قاضي الإسلام فإن شاء حكم وإن شاء أعرض حسبما تقدم بيانه مستوفى والحمد لله
المسألة الثالثة
هذه الآية دليل على وجوب إجابة الدعوى إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذم من دعي إلى رسول الله ليحكم بينه وبين خصمه فلم يجب بأقبح المذمة وقد بينا في أصول الفقه أن حد الواجب ما ذم تاركه شرعا والله أعلم
وقد روى أبو الأشعث عن الحسن أن رسول الله قال من دعي إلى حاكم من المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له وهو حديث باطل فأما قوله فهو ظالم فكلام صحيح وأما قوله لا حق له فلا يصح ويحتمل أن يريد به أنه على غير الحق
407

الآية الثانية والعشرون
قوله تعالى (* (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون) *) الآية 53
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (جهد أيمانهم) *))
يعني غاية أيمانهم وقد تقدم بيانه
المسألة الثانية
نزلت في قوم كانوا يتخلفون عن الجهاد ثم يعتذرون فإذا عوتبوا قالوا لو أمرتنا يا رسول الله لخرجنا ويحلفون على ذلك فقال الله لهم لا تقسموا ثم قال وهي
المسألة الثالثة (* (طاعة معروفة) *))
وفيها ثلاثة تأويلات
الأول طاعة معروفة أمثل
الثاني طاعة معروفة بينكم فيها الكذب أي هي طاعة الله معروفة قولا باطلة قطعا لا يفعلونها إلا إذا أمرتهم ولو لم يؤمروا ما فعلوا
الثالث قال مجاهد معنى قوله طاعة معروفة أنكم تكذبون يعني ليست لكم طاعة وقد قرأت طاعة بالنصب على المصدر ويكون قوله طاعة منصوبة ابتداء كلام ويرجع المعنى فيه إلى قول مجاهد إلا أن الإعراب يختلف والمعنى واحد
الآية الثالثة والعشرون
قوله تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم
408

وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) الآية 55
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أن بعض أصحاب النبي شكا إليه ما هم فيه من العدو وتضييقه عليهم وشدة الخوف وما يلقون من الأذى فنزلت هذه الآية بالوعد الجميل لهم فأنجزه الله وملكهم ما وعدهم وأظهرهم على عدوهم
وروى أبو العالية قال مكث النبي عشر سنين خائفا يدعو الله سرا وجهرا ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فمكث بها وأصحابه خائفين يصبحون في السلاح ويمسون فقال رجل ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح فقال النبي كلمة معناها لا تعبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم من الملأ العظيم محتبيا ليس بيده حديدة وأنزل الله هذه الآية
المسألة الثانية
قال مالك نزلت هذه الآية في أبي بكر وعمر (* (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات) *) إلى آخرها
وقال علماؤنا هذه الآية وعد حق وقول صدق يدل ذلك على صحة إمامة الخلفاء الأربعة لأنه لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا فأولئك مقطوع بإمامتهم متفق عليهم وصدق وعد الله فيهم وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم واستقر الأمر لهم وقاموا بسياسة المسلمين وذبوا عن حوزة الدين فنفذ الوعد فيهم وصدق الكلام فيهم وإذا لم يكن هذا الوعد بهم ينجز وفيهم نفذ وعليهم ورد ففيمن يكون إذن وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا ولا يكون فيما بعده قام أبو بكر بدعوة الحق واتفاق الخلق وواضح الحجة وبرهان الدين وأدلة اليقين فبايعه
409

الصحابة ثم استخلف عمر فلزمت الخلافة ووجبت النيابة وتعين السمع والطاعة ثم جعلها عمر شورى فصارت لعثمان بالنظر الصحيح والتبجيل الصريح والمساق الفسيح جعل الثلاثة أمرهم إلى ثلاثة ثم أخرج عبد الرحمن نفسه بشرط أن يكون إلى من اختاره من الرجلين فاختار عثمان وما عدل عن الخيار وقدمه وحقه التقديم على علي
ثم قتل عثمان مظلوما في نفسه مظلوما جميع الخلق فيه فلم يبق إلا علي أخذا بالأفضل فالأفضل وانتقالا من الأول إلى الأول فلا إشكال لمن جنف عن المحال أن التنزيل على هؤلاء الأربعة وعد الله في هذه الآية
ثم كملت لحال أبي بكر فاتحة وخاتمة
ثم كملت لعمر وكسر الباب فاختلط الخشار باللباب وانجرت الحال مع عثمان واضحة للعقلاء معترضا عليها من الحمقى ثم نفذ القدر بقتله إيثارا للخلق منه على نفسه وأهله ثم قام علي أحسن قيام لو ساعده النقض والإبرام ولكنه وجد الأمور نشرا وما رام رتق خصم إلا انفتق عليه خصم ولا حاول طي منتشر إلا عارضه عليه أشر ونسبت إليه أمور هو منها بريء براءة الشمس من الدنس والماء من القبس وطالبه الأجل حتى غلبه فانقطعت الخلافة وصارت الدنيا ملكا تارة لمن غلب وأخرى لمن خلب حتى انتهى الوعد الصادق ابتداؤه وانتهاؤه
أما الابتداء فهذه الآية وأما الانتهاء فبحديث سفينة قال سعيد بن حمدان عن سفينة قال رسول الله خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك من يشاء
قال سعيد قال لي سفينة أمسك عليك أبو بكر سنتين وعمر عشرا وعثمان اثنتي عشرة وعلى كذا
قال سعيد قلت لسفينة إن هؤلاء يزعمون أن عليا لم يكن خليفة قال كذبت
410

استاءه بنور الزرقاء يعني بني مروان زاد في رواية أعدد أبو بكر كذا وعمر كذا وعثمان كذا وعلي كذا والحسن ستة أشهر فهؤلاء ثلاثون سنة
وقد روى الترمذي وغيره أن رجلا قام إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال له يا مسود وجوه المؤمنين فقال لا بأس رحمك الله فإن النبي أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت (* (إنا أعطيناك الكوثر) *) ونزلت (* (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر) *) يملكها بعدك بنو أمية يا محمد
قال القاسم راوي الحديث فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد ولا تنقص
وفي الحديث الصحيح أن النبي أجلس الحسن في حجره على المنبر وقال إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين
المسألة الثالثة
فإن قيل هذا الوعد يصح لكم في أبي بكر وحده فأما عمر فأي أمن معه وقد قتل غيلة وعثمان قد قتل غلبة وعلي قد نوزع بالجنبة والجلبة
قلنا هذا كلام جاهل غبي أو متهاون يكن على نفاق خفي أما عمر وعثمان فجاءهما أجلهما وماتا ميتتهما التي كتب الله لهما وليس في ضمن الأمن السلامة من الموت بأي وجه وقع
وأما علي فلم يكن نزاله في الحرب مذهبا للأمن فليس من شرط الأمن رفع الحرب إنما من شرطه ملك الإنسان لنفسه باختياره وسلامته عن الغلبة المشحونة بالذلة كما كان أصحاب النبي بمكة فأما بعدما صاروا إلى المدينة فقد آلوا إلى الأمن والعزة
في الصحيح عن خباب بن الأرت قال شكونا إلى النبي وهو متوسد بردة له
411

في ظل الكعبة فقلنا له ألا تستنصر لنا ألا تدعوا الله لنا قال كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنين وما يصده ذلك عن دينه ويمشطه بأمشاط الحديد ما دون لحم من عظم وعصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمة ولكنكم تستعجلون
وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين وكانوا مطلوبين فعادوا طالبين وهذا نهاية الأمن والعز
المسألة الرابعة
قال قوم إن هذا وعد لجميع الأمة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام كما قال زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها
قلنا لهم هذا وعد عام في النبوة والخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة بنفاذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله حتى في المفتين والقضاة والأئمة وليس للخلاف محل تنفذ فيه هذه الموعدة الكريمة إلا من تقدم من الخلفاء الأربعة
المسألة الخامسة قوله (* (ليستخلفنهم في الأرض) *))
فيه قولان
أحدهما أنها أرض مكة وعدت الصحابة أن يستخلفوا فيها الكفار
الثاني أنها بلاد العرب والعجم
وهو الصحيح لأن أرض مكة محرمة على المهاجرين قال النبي لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله أن مات بمكة
412

وقال في الصحيح أيضا يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا من رواية العلاء بن الحضرمي
الآية الرابعة والعشرون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم) *) الآية 58
فيها اثنتا عشرة مسألة
المسألة الأولى
هذه آية خاصة والتي قبلها عامة لأنه قال فعم (* (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) *) النور 27 ثم خص هاهنا فقال (* (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) *) فخص في هذه الآية بعض المستأذنين وهم الذين ملكت أيمانكم من مسألة جميع المسلمين في الآية قبلها وكذلك أيضا تناول القول في الآية الأولى جميع الأوقات عموما وخص في هذه الآية بعض الأوقات وهي المفسرة على ما يأتي ذكره إن شاء الله
المسألة الثانية في قوله (* (ملكت أيمانكم) *))
ثلاثة أقوال
الأول أنهم الذكران والإناث
الثاني أنه العبد دون الأمة قاله ابن عباس وابن عمر
الثالث أنهن الإناث قاله أبو عبد الرحمن السلمي
413

المسألة الثالثة هل الآية محكمة أو منسوخة
فقال ابن عمر هي محكمة يعني في الرجال خاصة
وقال ابن عباس قد ذهب حكمها روى عكرمة أن نفرا من أهل العراق سألوا ابن عباس فقالوا يا بن عباس كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا فلا يعمل بها أحد قول الله (* (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) *) وقرأوها إلى قوله تعالى (* (على بعض) *)
فقال ابن عباس إن الله رفيق بجميع المؤمنين يحب الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال فربما دخل الخادم أو ولده أو يتيمة الرجل والرجل على أهله فأمر الله بالاستئذان في تلك العورات فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحدا يعمل بذلك
وهذا ضعيف جدا بما بيناه في غير موضع من أن شروط النسخ لم تجتمع فيه من المعارضة ومن التقدم والتأخر فكيف يصح لناظر أن يحكم به
المسألة الرابعة في التنقيح
اعلموا وفقكم الله أن الحجبة واقعة من الخلق شرعا ولذلك وجب الاستئذان حتى يخلص به المحجور من المطلق والمحظور من المباح وقد قال الله تعالى (* (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) *) ثم قال (* (أو ما ملكت أيمانكم) *) على ما شرحناه فاستثنى ما ملكت اليمين من المحجور ثم استثنى في ملك اليمين هذه الأوقات الثلاثة فالعبد إذا كان وغدا أو ذا منظرة وكان حكمه في الحجبة على صفة فإن هذه الأوقات الثلاثة لا يدخل فيها عبد كيفما كان ولا أمة إلا بعد الاستئذان
المسألة الخامسة قوله (* (ثلاث مرات) *))
فذكر قبل صلاة الفجر وعند الظهيرة وهي القائلة ومن بعد صلاة العشاء وهي أوقات الخلوة التي يكون فيه التصرف بخلاف الليل كله فإنه وقت خلوة ولكن
414

لا تصرف فيه لأن كل أحد مستغرق بنومه وهذه الأوقات الثلاثة أوقات خلوة وتصرف فنهوا عن الدخول بغير إذن لئلا يصادفوا منظرة مكروهة
وفي الصحيح كان النبي يصلي كذا وركعتين قبل صلاة الصبح وكانت ساعة لا يدخل على النبي فيها من حديث ابن عمر
وفي رواية عنه لا أدخل
وعن عائشة كان النبي ينام أول الليل ويقوم آخره ثم يرجع إلى فراشه حتى يأتيه المؤذن فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج رواه البخاري وغيره
وفي الآثار التفسيرية أن النبي أرسل إلى عمر غلاما من الأنصار يقال له مدلج في الظهيرة فدخل على عمر بغير إذن فأيقظه بسرعة فانكشف شيء من جسده فنظر إليه الغلام فحزن لها عمر فقال وددت أن الله بفضله نهى عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذننا ثم انطلق إلى رسول الله فوجد هذه الآية قد أنزلت عليه فحمد الله
المسألة السادسة يريد بقوله (* (صلاة العشاء) *) التي يدعوها الناس العتمة
وفي الصحيح من رواية عبد الله بن المغفل المزني أن النبي قال لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب قال والأعراب تقول العشاء وتسمي أيضا العشاء العتمة ففي الحديث الصحيح لو يعلمون ما في العتمة والفجر لأتوهما ولو حبوا
415

وفي البخاري أيضا عن أبي برزة كان النبي يؤخر العشاء
وقال أنس أخر النبي العشاء الآخرة
وفي حديث عائشة أعتم النبي بالعتمة
وقول أنس في البخاري العشاء الآخرة يدل على العشاء الأولى
وفي الحديث لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء يدعونها العتمة لأنهم يعتمون بحلاب الإبل
وهذه أخبار متعارضة لا يعلم منها الأول من الآخر بالتاريخ لكن كل حديث بذاته يبين وقته وذلك أن النهي من النبي عن تسمية صلاة المغرب عشاء وعن تسمية صلاة العشاء عتمة ثابت فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلا عمن عداهم
وقد كان ابن عمر يقول من قال صلاة العتمة فقد أثم وقال ابن القاسم قال مالك (* (ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم) *) فالله سماها صلاة العشاء فأجب النبي أن تسمى بما سماها به الله ويعلمها الإنسان أهله وولده ولا يقل عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم وقد قال حسان
(وكان لا يزال بها أنيس
* خلال مروجها نعم وشاء)
(فدع هذا ولكن من لطيف
* يؤرقني إذا ذهب العشاء))
المسألة السابعة قوله (* (ثلاث عورات) *))
العورة كل شيء لا مانع دونه ومنه قوله تعالى (* (إن بيوتنا عورة) *) الأحزاب 13 أي سهلة المدخل لا مانع دونها فبين العلة الموجبة للإذن وهي الخلوة في حال العورة فتعين امتثاله وتعذر نسخه ثم رفع الجناح بعدهن في ذلك وهو الميل بالعتاب أو العقاب على الفاعل وهي
416

المسألة الثامنة
ثم بين العلة الأصلية والحالة الأهلية وهي
المسألة التاسعة قوله (* (طوافون عليكم) *))
أي مترددون عليكم في الخدمة وما لا غنى بكم عنه منهم فسقط الحرج عن ذلك وزال المانع كما قال في الهرة حين أصغى لها الإناء إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات وذلك مسقط لحكم سؤرها في مباشرتها النجاسة وحملها أبدا على الطهارة إلا أن يرى في فمها أذى
المسألة العاشرة قوله (* (بعضكم على بعض) *))
يريد بعضكم من بعض في المخالطة والملابسة فلذلك سقط الاستئذان لهم عليكم ولكم عليهم كما ارتفع الجناح بينكم وبينهم منهم لكم ومنكم لهم
المسألة الحادية عشرة قوله (* (كذلك يبين الله لكم الآيات) *))
المعنى يبين الله الآيات الدالة على المعجزة والتوحيد كما يبين الآيات الدالة على الأحكام وقد بينا في كتب الأصول ما يدل الشرع عليه وما يدل العقل عليه وما يشترك فيه دليل العقل والشرع بأوضح بيان والله أعلم
المسألة الثانية عشرة
لا بأس أن يجلس الرجل مع أهله وفخذه منكشفة وحديث جرهد وكان من أصحاب الصفة أنه قال جلس رسول الله عندنا وفخذي منكشفة فقال خمر عليك أما علمت أن الفخذ عورة وقد غطاها رسول الله عند دخول عثمان لأنها كانت منكشفة من جهته التي جلس منها
417

ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا زوج أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة فإنه عورة
وقال الأوزاعي إنما أمر النبي جرهدا لأنه كان في المسجد مريضا وليس الفخد عورة
الآية الخامسة والعشرون
قوله تعالى (* (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم) *) الآية 59
فيها مسألة واحدة
هذه الآية مبينة قوله (* (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) *) النور 31 فكان الطفل مستثنى من عموم الحجبة في الآية الأولى إذا لم يظهر على العورة ثم بين الله أن الطفل إذا ظهر على العورة وهو بالبلوغ يستأذن وقد كان قوله (* (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) *) كافيا لأن المستثنى طفل بصفته
المختصة به ويبقى غيره على الحجر فكانت هذه الآية زيادة بيان لإبانة الله في أحكامه وإيضاح حلاله وحرامه
الآية السادسة والعشرون
قوله تعالى (* (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم) *) الآية 6
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله (* (والقواعد من النساء) *))
جمع قاعد بغير هاء فرقا بينها وبين القاعدة من الجلوس في قول بعضهم وهن
418

اللواتي قعدن عن الحيض وعن الولد فليس فيهن رغبة لكل أحد ولا يتعلق بهن القلب في نكاح ويجوز النظر إليهن بخلاف الشباب منهن
المسألة الثانية قوله (* (فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن) *))
فيه قولان
أحدهما جلبابهن وهو قول ابن مسعود يعني به الرداء أو المقنعة التي فوق الخمار تضعه عنها إذا سترها ما بعده من الثياب
والثاني تضع خمارها وذلك في بيتها ومن وراء سترها من ثوب أو جدار وذلك قوله غير متبرجات بزينة يعني وهي
المسألة الثالثة
غير مظهرات لما يتطلع إليه منهن ولا متعرضات بالتزيين للنظر إليهن وإن كن ليس بمحل ذلك منهن وإنما خص القواعد بذلك دون غيرهن لانصراف النفوس عنهن ولأن يستعففن بالتستر الكامل خير من فعل المباح لهن من وضع الثياب والله أعلم
المسألة الرابعة
من التبرج أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصفها وهو المراد بقوله في الحديث الصحيح رب نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإنما جعلهن كاسيات لأن الثياب عليهن وإنما وصفهن بعاريات لأن الثوب إذا رق يكشفهن وذلك حرام
الآية السابعة والعشرون
قوله تعالى (* (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت) *
419

* (أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون) *) الآية 61
فيها أربع عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك ثمانية أقوال
الأول أن الأنصار كانوا يتحرجون إذا دعوا إلى طعام أن يأكلوا مع هؤلاء من طعام واحد ويقولون الأعمى لا يبصر طيب الطعام والأعرج لا يستطيع الزحام عند الطعام والمريض يضعف عن مشاركة الصحيح في الطعام وكانوا يعزلون طعامهم مفردا ويرون أنه أفضل فأنزل الله الآية ورفع الحرج عنهم في مؤاكلتهم وهذا قول ابن عباس
الثاني أن أهل الزمانة هؤلاء ليس عليهم حرج أن يأكلوا من بيوت من سمى الله بعد هذا من أهاليهم قاله مجاهد
الثالث رواه مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن الآية نزلت في أناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله يعنون في الجهاد وضعوا مفاتيح بيوتهم عند أهل العلة ممن يتخلف عن رسول الله عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا من بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك فكانوا يتقونه ويقولون نخشى ألا تكون نفوسهم بذلك طيبة فأنزل الله هذه الآية يحله لهم
الرابع أن علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس لما أنزل الله (* (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم) *) النساء 29 فقال المسلمون إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو من أفضل الأموال فلا يحل لأحد منا أن
420

يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية إلى قوله (* (أو ما ملكتم مفاتحه) *) وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته
الخامس من دعي إلى وليمة من هؤلاء الزمنى فلا حرج عليه أن يدخل معه قائده
السادس أنها نزلت حين كانت البيوت لا أبواب لها والستور مرخاة والبيت يدخل فربما لم يوجد فيه أحد والبيوت اليوم فيها أهلها فإذا خرجوا أغلقوها
السابع أنها نزلت في جواز مبايعة الزمنى ومعاملتهم قالته عائشة
الثامن قاله الحسن قوله تعالى (* (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) *) نفي لوجوب الجهاد عليهم وقوله تعالى بعد ذلك (* (ولا على أنفسكم) *) كلام مستأنف خوطب به جميع الناس
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ولا على أنفسكم) *))
يعني ولا عليكم أيها الناس ولكن لما اجتمع مخاطب وغير مخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام وكان المعنى يراد به جميع من ذكر من الأعمى والأعرج والمريض وأصحاب البيوت
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (من بيوتكم) *))
فيه ثلاثة أقاويل
الأول يعني من أموال عيالكم وأزواجكم لأنهم في بيته
الثاني من بيوت أولادكم ونسبت أولادهم إليهم لما جاء في الأثر أنت ومالك لأبيك ولذلك لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب لدخولهم فيما تقدم من ذكر الأنفس كما قررناه
الثالث أن المراد به البيوت التي أهلوها وساكنوها خدمة لأصحابها
421

المسألة الرابعة قوله تعالى (* (أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم) *))
فأباح الأكل لهؤلاء من جهة النسب من غير استئذان في الأكل إذا كان الطعام مبذولا فإن كان محرزا دونهم لم يكن لهم أخذه ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محرز عنهم إلا بإذن منهم وهي
المسألة الخامسة
المسألة السادسة قوله تعالى (* (أو ما ملكتم مفاتحه) *))
فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه عنى به وكيل الرجل على ضيعته وخازنه على ماله فيجوز له أن يأكل مما هو قيم عليه قاله ابن عباس
الثاني أنه أراد به منزل الرجل نفسه يأكل مما ادخره فيه وهذا قول قتادة
الثالث أنه عنى به أكل السيد من منزل عبده وماله لأن مال العبد لسيده حكاه ابن عيسى
المسألة السابعة قوله تعالى (* (أو صديقكم) *))
فيه قولان
أحدهما أن يأكل من بيت صديقه في وليمة أو غيرها إذا كان الطعام حاضرا غير محرز قاله ابن عباس والأصدقاء أكثر من الآباء ألا ترى أن الجهنميين لم يستغيثوا بالآباء والأمهات وإنما قالوا (* (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) *) الشعراء 1 11
المسألة الثامنة في تنقيح معاني الآية المذكورة في المسائل السبعة
وذلك يكون بنظم التأويل في الأقوال على سرد فيتبين المعنى المستقيم من غيره
422

أما إن قلنا بقول الحسن من أن نفي الحرج عن الثلاثة الأصناف الزمنى مقطوع عما قبله وأن قوله تعالى (* (ولا على أنفسكم) *) كلام مستأنف
وأما قول من قال في الأول إن الأنصار تحرجوا أن يأكلوا معهم فلو كان هذا صحيحا لكان المعنى ليس على من أكل مع هؤلاء حرج فأما أن يتحرج غيرهم منهم وينفى الحرج عنهم فهو قلب للقول من غير ضرورة عقل ولا رواية صحيحة في نقل
وأما القول الثاني فإنه كلام ينتظم لأن نفي الحرج عن أصحاب الزمانة وعمن سواهم أن يأكلوا من بيوت من سمى الله فهو كلام منتظم ولكن بقي وجه الفائدة في تخصيص أهل الزمانة بالذكر مع أن عموم قوله (* (ليس عليكم جناح أن تأكلوا) *) يكفي في تخصيصهم فيحتمل أن يكون وجهه أنه بدأ بهم لأنهم رأوا أنهم بضرارتهم أحق من الأصحاء بالمواساة والمشاركة
وأما رواية مالك عن ابن المسيب فهو أيضا كلام منتظم لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد وبقاء أموالهم بأيديهم لكن قوله (* (أو ما ملكتم مفاتحه) *) قد اقتضاه وأفاده فأي معنى لتكراره فكأن هذا القول بعيد جدا
وأما القول بأنه بيان لقوله (* (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) *) النساء 29 فينتظم معنى لكن ذكر الزمانة غير مختص به ولا منتظم معه
وأما القول الخامس في أكل الأصحاء مع الزمنى فذلك مدخول بما دخل به القول الأول من أن نظام الكلام في نفي الحرج عن الناس في الزمنى لا عن الزمنى فيهم
وأما السادس فحسن جدا وكذلك السابع مثله لو عضدته صحة النقل
المسألة التاسعة في المختار
وذلك أن يقال إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به المشي وما يتعذر من الأفعال مع وجود الحرج وعن المريض فيما يتعلق بالتكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة وأركانها والجهاد ونحو ذلك
423

ثم قال تعالى بعد ذلك مبينا () فهذا معنى صحيح وتفسير مفيد لا يفتقر في تفسير الآية إلى نقل ويعضده الشرع والعقل فأما الأكل من مال الأزواج فذلك جائز للزوجة فيما ليس بمحجوب عنها ولا محرز منها
قال النبي إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت وللزوج مثل ذلك
وأما ما كان محرزا عنها فلا سبيل لها إليه وكذلك الزوج يأكل من مال زوجه غير مفسد لكن الزوجة أبسط لما لها من حق النفقة ولما يلزمها من خدمة المنفعة
وأما بيت الابن فقد تقدم أنه كبيت المرء نفسه لكن كما بيناه فيما كان غير محرز فلا يتبسط الأب على الابن في هتك حرز وأخذ مال وإنما يأكله مسترسلا فيما لم يقع فيه حيازة ولكن بالمعروف دون فساد ولا استغنام
وأما بيت الأب للابن فمثله ولكن تبسط الابن أقل من تبسط الأب كما كان تبسط الزوج أقل من تبسط الزوجة
وأما بيوت سائر القرابة الذين ذكروا في الآية فلا يلحق بذلك ولا سبيل إليه
وأما بيت ملكتم مفاتحه فهو الوكيل قال النبي الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين ولابد للخازن من أن يأكل مما يخزن إجماعا وهذا إذا لم تكن له أجرة فإن استأجره على الخزن حرم الأكل
وأما مال العبد فيدخل في قوله (* (بيوتكم) *) لأن العبد وماله ملك للسيد
وأما من قال إنه منزل الرجل نفسه فخطأ محض لأن ذلك قد أفاده قوله (* (بيوتكم) *) كما بينا أن بيت الابن يدخل فيه فبيت العبد أولى وأحرى بإجماع
424

وأما بيت الصديق فإنه إذا استحكمت الأخوة جرى التبسط عادة وفي المثل أيهم أحب إليك أخوك أم صديقك قال أخي إذا كان صديقي
قال لنا الإمام العادل أبو الفضل بن طوق قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم القشيري إمام الصوفية في وقته عزيز من يصدق في الصداقة فيكون في الباطن كما هو في الظاهر ولا يكون في الوجه كالمرآة ومن ورائك كالمقراض وفي معناه ما قلت
(من لي بمن يثق الفؤاد بودة
* وإذا ترحل لم يزغ عن عهده)
(يا بؤس نفسي من أخ لي باذل
* حسن الوفاء بقربه لا بعده)
(يولي الصفاء بنطقه لا خلقه
* ويدس صابا في حلاوة شهده)
(فلسانه يبدي جواهر عقده
* وجنانه تغلي مراجل حقده)
(لاهم إني لا أطيق فراسة
* بك أستعيذ من الحسود وكيده))
المسألة العاشرة في تمام المعنى في الآية من قوله تعالى (* (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا) *))
فيه أربعة أقوال
الأول أنها نزلت في بني كنانة كان الرجل منهم يحرم على نفسه أن يأكل وحده حتى إن الرجل ليقيم على الجوع حتى يجد من يؤاكله وكانت هذه السيرة موروثة عندهم عن إبراهيم فإنه كان لا يأكل إلا مع غيره
الثاني أنها نزلت في قوم من العرب كانوا إذا نزل بهم ضيف تحرجوا عن أن يأكل وحده حتى يأكلوا معه
الثالث أنها نزلت في قوم كانوا يتحرجون أن يأكلوا جميعا ويقول الرجل آكل وحدي
425

الرابع أنها نزلت في المسافرين يخلطون أزودتهم فلا يأكل حتى يأتي الآخر فأبيح ذلك لهم
وهذا القول تضمن جميع ذلك فيجوز للرجل أن يأكل مع الآخر وللجماعة وإن كان أكلهم لا ينضبط فقد يأكل الرجل قليلا والآخر كثيرا وقد يأكل البصير أكثر مما يأكل الأعمى فنفى الله الحرج عن ذلك كله وأباح للجميع الاشتراك في الأكل على المعهود ما لم يكن قصدا إلى الزيادة على ما روى ابن عمر أن النبي نهى عن القرآن في التمر إلا أن يستأذن الرجل أخاه
وهذا هو النهد الذي يجتمع عليه القوم وسواء كان مشترى منهم أو كان بخلطهم له فيما بينهم فإن كان طعام ضيافة أو وليمة فلا يلزم ذلك فيه لأن كل واحد منهم يأكل من مال غيره لا سيما ونحن نقول إن طعام الضيافة والوليمة يأكله الحاضرون على ملك صاحبه على أحد القولين وهو الصحيح حسبما بيناه في أصول الفقه ولذلك لم تجز التغدية والتعشية عندنا في طعام الكفارة على ما بيناه في موضعه
وقد روى البخاري في النهد حديث أبي عبيدة في جمع الزواد وكان يغديهم كل يوم تمرة تمرة وحديث عمر في نحر الإبل ومنعه من ذلك وجمع النبي الأزواد الجيش وبرك
عليها ثم احتثى كل أحد في مزوده ووعائه من غير تسوية حتى فرغوا واشتقاقه من الخروج يقال نهد ثدي المرأة ونهد القوم لغزوهم ونهد الجماعة إذا أخرجوا طعاما أو مالا ثم جمعوه وأكلوا أو أنفقوا منه
المسألة الحادية عشرة قوله (* (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) *))
في البيوت قولان
أحدهما أنها البيوت كلها
والثاني أنها المساجد
والصحيح هو الأول لعموم القول ولا دليل على التخصيص
426

فأما قوله (* (فسلموا على أنفسكم) *) وهي
المسألة الثانية عشرة
ففيها أربعة أقوال
الأول سملوا على أهاليكم في بيوتكم قاله قتادة
الثاني إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم قاله الحسن
الثالث إذا دخلتم المساجد فسلموا على من فيها من ضيفكم
الرابع إذا دخلتم بيوتا فارغة فسلموا على أنفسكم قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قاله ابن عمر
المسألة الثالثة عشرة في المختار من هذه الأقوال
وبيانه أن الله سبحانه قال في الآية الأولى (* (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) *) النور 27 فنص على بيوت الغير ثم قال في هذه الآية الثانية (* (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) *) أي ليسلم بعضكم على بعض وأطلق القول لأنه قد بين الحكم في بيوت الغير ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه وقال (* (على أنفسكم) *) ليتناول اللفظ سلام المرء على عينه وليأخذ المعنى سلام الناس بعضهم على بعض فإذا دخل بيتا لغيره استأذن كما تقدم وإن دخل بيتا لنفسه سلم كما ورد في الحديث يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قاله ابن عمر
وهذا إذا كان فارغا فأما إذا كان فيه أهله وعياله وخدمه فليقل السلام عليكم فإنهم أهل للتحية منه وإن كان مسجدا فليقل كما جاء في الحديث السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وعليه حمل ابن عمر البيت الفارغ
والذي أختاره إذا كان البيت فارغا أنه لا يلزم السلام فإنه إذا كان المقصود الملك فالملائكة لا تفارق العبد بحال أما إنه إذا دخلت بيتك يستحب لك ذكر الله
427

بما قد شرحناه في سورة الكهف بأن يقول (* (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) *) الكهف 39 والله أعلم
المسألة الرابعة عشرة
قد بينا في سورة النساء كيفية السلام الذي شرع الله لعباده وأوضحنا مجراه ومما أجمع عليه العلماء أن سلام الواحد على الجماعة يكفي في الابتداء والرد
وقال الحسن كان النساء يسلمن على الرجال ولا يسلم الرجال على النساء وهذا صحيح فإنها خلطة وتعرض إلا أن تكون امرأة متجالة إذ الخلطة لا تكون بين الرجال والنساء وهذا هو المقصود والمنتهى
الآية الثامنة والعشرون
قوله تعالى (* (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم) *) الآية 62
فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزول الآية
والمراد بها في ذلك ثلاثة أقوال
الأول أن الأمر الجامع الجمعة والعيدان والاستسقاء وكل شيء يكون فيه الخلطة قاله يحيى بن سلام
الثاني أنه كل طاعة لله قاله مجاهد
الثالث أنه الجهاد قاله زيد بن أسلم
وقد روى أشهب ويحيى بن بكير وعبد الله بن عبد الحكم عن مالك أن هذه الآية إنما كانت في حرب رسول الله يوم الخندق وكذلك قال محمد بن إسحاق والذي بين ذلك أمران صحيحان
428

أما أحدهما فهو قوله تعالى في الآية الأخرى (* (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا) *) النور 63 وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون
رسول الله فأمر الله جميعهم بألا يخرج أحد حتى يأذن له رسول الله وبذلك يتبين إيمانه
وأما الثاني فهو قوله تعالى (* (لم يذهبوا حتى يستأذنوه) *) فأي إذن في الحدث والإمام يخطب وليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه وقد قال (* (فأذن لمن شئت منهم) *) فبين بذلك أنه مخصوص في الحرب التي يؤثر فيها التفرق أما إن الآية تدل بقوة معناها على أن من حضر جماعة لا يخرج إلا لعذر بين أو بإذن قائم من مالك الجماعة ومقدمها وذلك أن الاجتماع كان لغرض فما لم يتم الغرض لم يكن للتفرق أصل وإذا كمل الغرض جاز التفرق
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم) *))
فكان النبي بالخيارإنما شاء أذن له إذا رأى ذلك ضرورة للمستأذن ولم ير فيه مضرة على الجماعة أذن بنظر أو منع بنظر
وقد روى مكحول أن الرجل يوم الجمعة إذا رعف أو أحدث يجعل يده على أنفه ويشير إلى الإمام فيشير له الإمام بيده أن اخرج
وقال ابن سيرين كانوا يستأذنون الإمام وهو على المنبر فلما كثر ذلك قال زياد من جعل يده على أنفه فليخرج دون إذن وقد كان هذا بالمدينة حتى إن سهيل بن أبي صالح رعف يوما في الجمعة فاستأذن الإمام ولكن الأمر كما بينا من أنه لا يحتاج إليه إذ لا إذن فيه ولا خيرة ولا مشيئة تتعلق به وإنما هو أمر صاحبه مؤتمن عليه فيخرج إذا شاء ويجلس إذا شاء
429

الآية التاسعة والعشرون
قوله تعالى (* (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) *) الآية 63
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم) *))
فيه مسألة بديعة من العربية وهي أن المصدر قد يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل تقول أعجبني ضرب زيد عمرو على الأول كما تقول كرهت ضرب زيد عمرا على الثاني
وقد جهل بعض الأدباء هذا المقدار فعقد فصلا في ترغيب الناس في الدعاء قال فيه فاهتبلوا بالدعاء وابتهلوا برفع أيديكم إلى السماء وتضرعوا إلى مالك أزمة القضاء فإنه تعالى يقول (* (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) *) الفرقان 77 وأراد لولا سؤالكم إياه وطلبكم منه ورأى أنه مصدر أضيف إلى فاعل وليس كما زعم وإنما هو مصدر أضيف إلى المفعول
والمعنى قل يا محمد للكفار ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ببعثه الرسل إليكم وتبيين الأدلة لكم فقد كذبتم فسوف يكون عذابكم لزاما
المسألة الثانية
قد قال جماعة من الناس إن المراد بالإضافة هاهنا إضافة المصدر إلى الفاعل ويكون لذلك ثلاثة معان
أحدها لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم لبعض بينكم فإن إجابته واجبة وليست إجابتكم واجبة يعني على الإطلاق وإنما تجب إجابة الخلق بقرائن من حقوق الله أو من حقوق الداعي وقد تقدم بيان وجوب إجابة دعاء الرسول في سورة الأنفال
430

والثاني أن يكون معناه احذروا أن تتفرقوا عن رسول الله فيدعو عليكم وليس دعاؤه كدعاء بعضكم بعضا فإن دعوته مجابة ولذلك قال إني عاهدت ربي عهدا قلت اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما رجل لعنته أو سببته فاجعل ذلك صلاة عليه ورحمة إلى يوم القيامة
المعنى الثالث أن معناه لا تسووا بين الرسول وبينكم في الدعوة كل أحد يدعى باسمه إلا رسول الله فإنه يدعى بخطته وهي الرسالة
وكذلك قال العلماء غفيرا إن الخليفة يدعى بها والأمير والمعلم ويوفر على كل واحد حظه من الخطة فيدعى بها قصد الكرامة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) *))
بهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب
وقد بينا في أصول الفقه أن الأمر صريح في الاقتضاء والوجوب لا يؤخذ من نفس الأمر وإنما يؤخذ من توجه اللوم والذم فالأمر مقتض واللوم والذم خاتم وذكر العقاب بالثأر مكبر يعد به الفعل في جملة الكبائر فلينظر تحقيقه هنالك
وقد قال جماعة إن الأمر هاهنا بمعنى البيان من قول أو فعل وهو الصحيح والمخالفة تكون بالقول وبالفعل ولك ذلك يترتب على أمر النبي وفعله فإن كان واجبا كانت المخالفة حراما وإن كان الأمر والفعل ندبا كانت المخالفة مكروهة وذلك يترتب على الأدلة وينساق بمقتضى الأحوال والأسباب القاضية عليه بذلك
المسألة الرابعة قال علماؤنا في قوله (* (أن تصيبهم فتنة) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول الكفر
الثاني العقوبة
431

الثالث بلية يظهر بهاما في قلوبهم من النفاق
وهذه الأقوال صحيحة كلها ولكن متعلقاتها مختلفة فهنالك مخالفة توجب الكفر وذلك فيما يتعلق بالعقائد وهنالك مخالفة هي معصية وذلك فيما يتعلق بأعمال الجوارح حسبما بيناه في كتب أصول الدين والرد على المخالفين من المبتدعة والملحدين ورتبنا منازل ذلك كله ومساقه ومتعلقه بدليله
وقد أخبرنا أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أحمد بن القاسم الأزدي أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي أنبأنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيوة حدثنا جرهمي بن أبي العلاء قال سمعت الزبير بن بكار يقول سمعت سفيان بن عيينة يقول سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله من أين أحرم قال من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله فقال إني أريد أن أحرم من المسجد فقال لا تفعل قال إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر قال لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة قال وأي فتنة في هذا إنا هي أميال أزيدها قال وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله إني سمعت الله يقول (* (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) *)
وثبت أن رسول الله قال افترقت اليهود والنصارى على إحدى وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل من هم يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي
والله الموفق للعصمة بالطاعة والمتابعة في الألفة فإن يد الله مع الجماعة كما قال النبي
432

سورة الفرقان
فيها إحدى عشرة آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) *) الآية 7
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
عير المشركون رسول الله بأكله الطعام لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا وعيروه بالمشي في السوق فأجابهم الله بقوله (* (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) *) الفرقان 2 فلا ترتب بذلك ولا تغتم به فإنها شكاة ظاهر عنك عارها وحجة قاهر لك خارها
وهذا إنما أوقعهم فيه عنادهم لأنه لما ظهرت عليهم المعجزة ووضحت في صدقه الدلالة لم يقنعهم ذلك حتى سألوه آيات أخر سواها وألف آية كآية عند المكذب بها وأوقعهم أيضا في ذلك جهلهم حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق أنكروا على محمد ذلك واعتقدوه ملكا يتصرف بالقهر والجبر وجهلوا أنه نبي يعمل بمقتضى النهي والأمر وذلك أنهم كانوا يرونه في سوق عكاظ ومجنة العامة وكان أيضا يدخل الخلصة بمكة فلما أمرهم ونهاهم قالوا هذا ملك يطلب أن يتملك علينا فما له يخالف سيرة الملوك في دخول الأسواق وإنما كان يدخلها لحاجته أو لتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته ويعرض نفسه على القبائل في مجتمعهم لعل الله أن يرجع إلى الحق بهم
433

المسألة الثانية
لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر كره علماؤنا دخولها لأرباب الفضل والمهتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها
وفي الآثار من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه إنباء بأنه وحده عند صخب الخلق ورغبهم في المال أقبل على ذكر الله لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إن غمرت بالمعصية وليحليها بالذكر إن عطلت بالغفلة وليعلم الجهلة ويذكر الناسين
المسألة الثالثة
أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيها
وأما الأسواق فسمعت مشيخة العلم يقولون لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيه فإن ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة
ومن الأحاديث الموضوعة على رسول الله الأكل في السوق دناءة وهو حديث موضوع لكن رويناه من غير طريق ولا أصل له في الصحة ولا وصف
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا) *) الآية 47
434

يعني سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن ويربى عليه بعمومه وسعته وقد ظن بعض الغفلة أن من صلى عريانا في الظلام أنه يجزئه لأن الليل لباس وهذا يوجب أن يصلي عريانا في بيته إذا أغلق عليه بابه والستر في الصلاة عبادة تختص بها ليست لأجل نظر الناس ولا حاجة إلى الإطناب في هذا
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا) *) الآية 48
فيها اثنتا عشرة مسألة
المسألة الأولى
قد بينا قوله (* (وأنزلنا من السماء ماء) *) في سورة المؤمنين فلا وجه لإعادته
المسألة الثانية قوله (* (ماء طهورا) *))
فوصف الماء بأنه طهور
واختلف الناس في معنى وصفه بأنه طهور على قولين
أحدهما أنه بمعنى مطهر لغيره وبه قال مالك والشافعي وخلق كثير سواهما
والثاني أنه بمعنى طاهر وبه قال أبو حنيفة وتعلق في ذلك بقوله تعالى (* (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *) الإنسان 21 يعني طاهرا إذا لا تكليف في الجنة وقال الشاعر
(خليلي هل في نظرة بعد توبة
* أداوي بها قلبي علي فجور)
(إلى رجح الأكفال هيف خصورها
* عذاب الثنايا ريقهن طهور)
فوصف الريق بأنه طاهر وليس بمعنى أنه يطهر
وتقول العرب رجل نؤوم وليس ذلك بمعنى أنه منيم لغيره وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه ودليلنا قوله تعالى (* (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) *) وقال
435

(* (ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان) *) الأنفال 11 فبين أن وصف (طهور) يفيد التطهير
وقال جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرادوا مطهرة بالتيمم ولم يرد طاهرة به وإن كانت قبل ذلك طاهرة وقال في ماء البحر هو الطهور ماؤه ولو لم يكن معنى الطهور المطهر لما كان جوابا لسؤالهم
وأجمعت الأمة لغة وشريعة على أن وصف طهور مختص بالماء ولا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهر
فأما تعلقهم بوصف الله لشراب الجنة بأنه طهور والجنة لا تكليف فيها فلا حجة لهم فيها لأن الله تعالى أراد بذلك المبالغة في الصفة وضرب المثل بالمبالغة في الدنيا وهو التطهير
وقد قال علماؤنا إن وصف شراب الجنة بأن طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب وعن خسائس الصفات كالغل والحسد فإذا شربوا هذا الشراب طهرهم الله به من رحض الذنوب وأوضار الاعتقادات الذميمة فجاؤوا الله بقلب سليم ودخلوا الجنة بصفة التسليم
وقيل لهم حينئذ (* (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) *) كما حكم في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء وهذه حكمته في الدنيا وتلك حكمته ورحمته في الأخرى وأما قول الشاعر
(ريقهن طهور
*)
فوصف الريق بأنه طهور وهو لا يطهر فإنما قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية أراد أنه لعذوبته وتعلقه بالقلوب وطيبه في النفوس وسكون غليل الحب برشفه كأنه الماء الطهور
436

وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازات الشعرية فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون ألا ترى إلى قول بعضهم
(لو لم تلامس صفحة الأرض رجلها
* لما كنت أدري علة للتيمم)
وهذا كفر صراح نعوذ بالله منه
قال الفقيه القاضي أبو بكر رحمه الله هذا منتهى لباب كلام العلماء وهو بالغ في فنه إلا أني تأملته من طريق العربية فوجدت فيها مطلعا شريفا وهو أن بناء فعول للمبالغة إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل المتعدي كما قال الشاعر
(ضروب بنصل السيف سوق سمانها
*)
وقد تكون في الفعل القاصر كما قال الشاعر
(نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
*)
فوصفه الأول بالمبالغة في الضرب وهو فعل يتعدى ووصفها الثاني بالمبالغة في النوم وهو فعل لا يتعدى وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ومن الشرع طهارة كقوله لا يقبل الله صلاة بغير طهور
وقد يأتي بناء فعول لوجه آخر ليس من هذا كله وهو العبارة به عن آلة الفعل لا عن الفعل كقولنا وقود وسحور بفتح الفاء فإنه عبارة عن الخطب وعن الطعام المتسحر به وكذلك وصف الماء بأنه طهور يكون بفتح الطاء أيضا خبرا عن الآلة التي يتطهر بها
437

فإذ ضممت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبرا عنه فثبت بهذا أن اسم الفعول بفتح الفاء يكون بناء للمبالغة ويكون خبرا عن الآلة وهذا الذي خطر ببال الحنفية ولكن قصرت أشداقها عن لوكه وبعد هذا يقف البيان به عن المبالغة أو عن الآلة على الدليل مثاله قوله تعالى (* (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) *) وقوله جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ويحتمل العبارة به عن الآلة فلا حجة فيه لعلمائنا لكن يبقى قوله (* (ليطهركم به) *) نصا في أن فعله متعد إلى غيره وهذه المسألة إنما أوجب الخلاف فيها ما صار إليه الحنفية والشافعية وهي
المسألة الثالثة
حين قالوا إن الماء المستعمل في رفع الحدث لا يجوز الوضوء به مرة أخرى لأن المنع الذي كان في الأعضاء انتقل إلى الماء
وقال علماؤنا حينئذ إن وصف الماء بأنه طهور يقتضي التكرار على رسم بناء المبالغة وهذا مما لا يحتاج إليه حسبما بيناه في مسائل الخلاف
وإنما تنبني مسألة الماء المستعمل على أصل آخر وهو أن الآلة إذا أدي بها فرض هل يؤدى بها فرض آخر أم لا فمنع ذلك المخالف قياسا على الرقبة إنه إذا أدي بها فرض عتق لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر وهذا باطل من القول فإن العتق إذا أتى على الرق أتلفه فلا يبقى محل لأداء الفرض بعتق آخر
ونظيره من الماء ما تلف على الأعضاء فإنه لا يصح أن يؤدى به فرض آخر لتلف عينه حسا كما تلف الرق في الرقبة بالعتق الأول حكما وهذا نفيس فتأملوه وفي الصحيح عن جابر قال دخل علي رسول الله وأنا مريض لا أعقل فتوضأ فصب علي من وضوئه فأفقت وذكر الحديث
وهذا يدل على أن الماء الفاضل عن الوضوء والجنابة طاهر لا على طهارة الماء المستعمل كما توهمه علماؤنا وهذا خطأ فاحش فتأملوه
438

المسألة الرابعة
لما قال الله (* (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) *) وكان الماء معلوما بصفة طعمه وريحه ولونه
قال علماؤنا رحمة الله عليهم إذا كان بهذه الصفة فلا خلاف في طهوريته فإذا انتقل عن هذه الصفات إلى غيره بتغير وصف من هذه الأوصاف الثلاثة خرج عن طريق السنة وصف الطهورية
والمخالط للماء على ثلاثة أضرب
ضرب يوافقه في صفتيه جميعا وهي الطهارة والتطهير فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفا منهما لموافقته له فيهما وهو التراب
والضرب الثاني يوافق الماء في إحدى صفتيه وهي الطهارة ولا يوافقه في صفته الأخرى وهي التطهير فإذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير دون ما وافقه وهي الطهارة كماء الورد وسائر الطهارات
والضرب الثالث مخالفته في الصفتين جميعا وهي الطهارة والتطهير فإذا خالطه فغيره سلبه الصفقتين جميعا لمخالفته له فيهما وهو النجس وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف وكتب الفروع
وقال أبو حنيفة إذا وقعت نجاسة في ماء أفسدته كله كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت عموم النجاسة فيه
ووجه تحققها عنده أن تقع مثلا نقطة بول في بركة ماء فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحريك أحدهما فالكل نجس وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس والمصريون كابن القاسم وغيره يقولون إن قليل الماء ينجسه قليل النجاسة
وفي المجموعة نحوه من مذهب أبي حنيفة
وقال الشافعي بحديث القلتين ورواه عن الوليد بن كثير حسن ظن به وهو مطعون فيه والحديث ضعيف
439

وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحح حديث القلتين فلم يستطع واغتص بجريعة الذقن فيها فلا تعويل عليه حسبما مهدناه في مسائل الخلاف كما تعلق علماؤنا أيضا في مذهبهم بحديث أبي سعيد الخدري في بئر بضاعة الذي رواه النسائي والترمذي وأبو داود وغيرهم سئل رسول الله عن بئر بضاعة وما يطرح فيها من الجيف والنتن وما ينجي الناس فقال الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه
وهذا أيضا حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه
وقد فاوضت الطوسي الأكبر في هذه المسألة مرارا فقال إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك فإن الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه إذ لا حديث في الباب يعول عليه وإنما المعول على ظاهر القرآن وهو قوله (* (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) *) وهو ما دام بصفاته فإذا تغير عن شيء منها خرج عن الاسم بخروجه
عن الصفة ولذلك لما لم يجد البخاري إمام الحديث والفقه في الباب خبرا صحيحا يعول عليه قال باب إذا تغير وصف الماء وأدخل الحديث الصحيح ما من أحد يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك فأخبر أن الدم بحاله وعليه رائحة المسك ولم تخرجه الرائحة عن صفة الدموية
ولذلك قال علماؤنا إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفيه وساحله لم يمنع ذلك من الوضوء به ولو تغير بها وقد وقعت فيه لكان ذلك تنجيسه له للمخالطة والأولى مجاورة لا تعويل عليها
المسألة الخامسة
ثم تركب على هذا مسألة بديعة وهي الماء إذا تغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري
440

عليه أو تغير بطحلب أو بورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز منه فاتفق العلماء على أن ذلك لا يمنع من الوضوء به لعدم الاحتراز منه
وقد روى ابن وهب عن مالك أن غيره أولى منه يعني إذا وجده فإذا لم يجد سواه استعمله لأن ما يغلب عليه المرء في باب التكليف ولا يمكنه التوقي منه فإنه ساقط الاعتبار شرعا
ولذلك لما كان العبد لا يستطيع النزوع عن صغائر الذنوب ولا يمكن بشرا الاحتراز منها لم تؤثر في عدالته ولما كانت الكبائر يمكن التوقي منها والاحتراز عنها قدحت في العدالة والأمانة وكذلك العمل الكثير في الصلاة لما كان الاحتراز منه ممكنا بطلت الصلاة به ولما كان العمل اليسير لا يمكن الاحتراز منه كالالتفات بالرأس وحده والمراوحة بين الأقدام وتحريك الأجفان وتقليب اليد لم يؤثر ذلك في الصلاة
وهذه قاعدة الشريعة في باب التكليف كله فعليه خرج تغير الماء بما يغلب عليه عن تغيره بما لا يغلب عليه
المسألة السادسة
لما وصف الله الماء بأنه طهور وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك وكذلك قال لأسماء بنت الصديق في دم الحيض يصيب الثوب حتيه ثم اقرضيه ثم اغسليه بالماء فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لوجهين
أحدهما ما في ذلك من إبطال فائدة الامتنان
والثاني لأن غير الماء ليس بمطهر بدليل أنه لا يرفع الحدث والجنابة فلا يزيل النجس
وقال بعض علمائنا وأهل العراق إن كل مائع طاهر يزيل النجاسة وهذا غلط لأن ما لا يدفع النجاسة عن نفسه فكيف يدفعها عن غيره
441

وقد روى ابن نافع عن مالك أن النجاسة القليلة إذا وقعت في الزيت الكثير لم ينجس إذا لم يتغير
وهذه رواية ضعيفة لا يلتفت إليها لأن النبي في الصحيح سئل عن فأرة سقطت في سمن فقال إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه
وفي رواية وإن كان مائعا فأريقوه
وقوله إن كان جامدا فألقوها وما حولها دليل على أنها تفسد المائع لأنه عموم سئل عنه فخص أحد صنفيه بالجواز وبقي الآخر على المنع
وليس هذا بدليل الخطاب حسبما بيناه في أصول الفقه
وهذه نكتة بديعة تفهمونها فهي خير لكم من كتاب وليست النجاسة معنى محسوسا حتى يقال كلما أزالها فقد قام به الفرض وإنما النجاسة حكم شرعي عين له صاحب الشريعة الماء فلا يلحق به غيره إذ ليس في معناه ولأنه لو لحق به لأسقطه والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل بالإسقاط سقط في نفسه وقد كان تاج السنة ذو العز بن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنا
المسألة السابعة
توهم قوم أن الماء إذا فضلت للجنب منه فضلة أنه لا يتوضأ بها وهذا مذهب باطل فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت أجنبت أنا ورسول الله واغتسلت من جفنة وفضلت فضلة فجاء رسول الله ليغتسل منها فقلت إني قد اغتسلت منه فقال إن الماء ليس عليه نجاسة أو إن الماء لا يجنب وقد روي هذا الحديث من طرق
442

المسألة الثامنة
إذا كان الماء طاهرا مطهرا على أصله فولغ فيه كلب فسد عند جمهور فقهاء الأمصار لقول النبي إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب
وقد قال مالك وقد جاء هذا الحديث ولا أدري ما حقيقته وقد بينا في مسائل الخلاف حقيقته وأن الإناء يغسل عبادة لا لنجاسة بدليلين
أحدهما أن الغسل معدود بسبع
الثاني أنه جعل للتراب فيها مدخلا ولو كان لنجاسة لما كان للتراب فيها مدخل كالبول عكسه الوضوء لما كان عبادة دخل التراب مع الماء
ورأى مالك طرح الماء تقذرا لا تنجسا أو حسما لمادة الخلاف أو لأنه حيوان يأكل الأقذار ولا يحتاج إليه فيكون من الطوافين أو الطوافات وقد استوفينا القول عليه في الفقه
المسألة التاسعة إذا ولغت السباع في الماء
كل حيوان عند مالك طاهر العين حتى الخنزير كما بيناه في مسائل الخلاف ولكن تحرر من مذهب مالك أن أسئار السباع مكروهة لما بيناه في مسألة الكلب من أنها تصيب النجاسات وليست من الطوافين ولا من الطوافات
وقال أبو حنيفة أسئار السباع نجسة وقد روي عن النبي أنه سئل عن حياض
443

تكون بين مكة والمدينة تردها السباع وفي رواية والكلاب فقال لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي غير شراب وطهور
وفي الموطأ أن عمر وعمرا وقفا على حوض فقال عمرو يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع فقال له عمر يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا وهذا لأن الماء كان كثيرا ولو كان قليلا لكان للمسألة حكم قدمناه قبل في هذه الآية
وقد روي عن سهل بن سعد أن امرأة دخلت عليه مع نسوة فقال لو أني سقيتكن من بئر بضاعة لكرهتن ذلك وقد والله سقيت منها رسول الله بيدي
وهذا أيضا لأن ماءها كان كثيرا لا يؤثر فيه محائض النساء وعذرات الناس ولحوم الكلاب
وقد قال أبو داود سمعت قتيبة بن سعيد قال سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها قلت
ما أكثر ما يكون الماء فيها قال إلى العانة قلت فإذا نقص ماؤها قال إلى العورة
قال أبو داود فقدرتها بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليها هل غير بناؤها عما كانت عليه فقال لا قال أبو داود ورأيت ماءها متغير اللون جدا
قال الفقيه القاضي أبو بكر رضي الله عنه تغير ماؤها لأنها في وسط السبخة فماؤها يكون قرارها وبضاعة دور بني ساعدة ولها يقول أبو أسيد مالك بن ربيعة الساعدي
444

(نحن حمينا عن بضاعة كلها
* ونحن بنينا معرضا هو مشرف)
(فأصبح معمورا طويلا قذاله
* وتخرب آطام بها وتقصف))
المسألة العاشرة
من أصول الشريعة في أحكام المياه أن ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على النجاسة لقول النبي في الحديث الصحيح إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده
فمنع من ورود اليد على الماء وأمر بإيراد الماء عليها وهذا أصل بديع في الباب ولولا وروده على النجاسة قليلا كان أو كثيرا لما طهرت
وقد ثبت عن النبي أنه قال في بول الأعرابي في المسجد صبوا عليه ذنوبا من ماء روي أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله جالس فبايعه وصلى ركعتين ثم لم يلبث أن قام ففشج يعني فرج بين رجليه فبال في المسجد فعجل الناس إليه فقال لهم النبي لا تزرموه ثم دعا به فقال ألست برجل مسلم قال بلى قال فما حملك على أن بلت في مسجدنا قال والذي بعثك بالحق ما ظننت إلا أنه صعيد من الصعدات فبلت فيه فأمر النبي بذنوب من ماء فصب على بوله
445

وروى محمد بن إسحاق بن خزيمة في صحيحه وغيره أن النبي أمر بحفر موضع بوله وطرحه خارج المسجد
المسألة الحادية عشرة
رأى جماعة من العلماء أن الدلو يكفي لبول الرجل في إزالة عينه وطهارة موضعه وليس لذلك حد لأن الدلو غير مقدر وما لم يكن مقدرا لا يتعلق به حكم
ألا ترى أن الشافعي تعلق بحديث القلتين وجعله تقديرا وخفي عليه أن الحديث ليس بصحيح بدليل أن الحديث بأن النبي علق عليه الحكم وهو مجهول ساقط إذ لو كان النبي علق عليه الحكم لعلقه على معلوم كما علم الصاع والوسق حتى كان الحكم المعلق عليه شرعا المقدر به صحيحا وإنما المعول في إزالة النجاسة على الاجتهاد في صب الماء حتى يغلب على الظن أنها زالت
المسألة الثانية عشرة
لما قال الله (* (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) *) توقف جماعة في ماء البحر لأنه ليس بمنزل من السماء حتى رووا عن عبد الله بن عمر وابن عمرو معا أنه لا يتوضأ به لأنه ماء نار ولأنه طبق جهنم
ولكن النبي بين حكمه حين قال لمن سأله عن جواز الوضوء به هو الطهور ماؤه الحل ميتته
وهذا أصح مما ينسب إلى أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا لا يتوضأ بماء البحر لأن الماء على نار والنار على ماء والماء على نار حتى عد سبعة أبحر وسبعة أنوار وأبو هريرة هو راوي حديث هو الطهور ماؤه الحل ميتته
وقد روى عمرو بن دينار عن أبي الطفيل أن أبا بكر الصديق قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته
وقد روي أن ابن عباس سئل عن الوضوء بماء البحر فقال إنما هما بحران فلا يضرك بأيهما بدأت
446

وقد روى مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد الجارمي قال سألت ابن عمر وعبد الله بن عمرو عن الحيتان يقتل بعضها بعضا وعن ماء البحر فلم يريا بذلك بأسا
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) *) الآية 54
فيها مسألتان
المسألة الأولى في النسب
وهو عبارة عن مرج الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا ولذلك لم يدخل تحت قوله (* (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) *) النساء 23 بنته من الزنا لأنها ليست ببنت في أصح القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين قد بيناه في مسائل الخلاف
المسألة الثانية قوله (* (وصهرا) *))
أما النسب فهو ما بين الوطأين موجودا وأما الصهر فهو ما بين وشائج الواطئين معا الرجل والمرأة وهم الأحماء والأختان والصهر يجمعهما لفظا واشتقاقا وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا فلا يحرم الزنا ببنت أما ولا بأم بنتا وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام لأن الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما
وقد روي عن مالك أن الزنا يحرم المصاهرة وهذا كتابه الموطأ الذي كتبه بخطه وأملاه على طلبته وقرأه من صبوته إلى مشيخته لم يغير فيه ذلك ولا قال فيه قولا آخر واكتبوا عني هكذا وابن القاسم الذي يحرم المصاهرة بالزنا قرئ ضد ذلك عليه في الموطأ فلا يترك الظاهر للباطن ولا القول المروي من ألف للمروي من واحد وآحاد وقد قررنا ذلك في مسائل الخلاف
447

الآية الخامسة
قوله تعالى (* (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا) *) الآية 58
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في التوكل
وهو تفعل من الوكالة أي اتخذه وكيلا وقد بيناه في كتاب الأمد وهو إظهار العجز والاعتماد على الغير
المسألة الثانية
أصل هذا علم العبد بأن المخلوقات كلها من الله لا يقدر أحد على الإيجاد سواه فإن كان له مراد وعلم أنه بيد الذي لا يكون إلا ما أراد جعل له أصل التوكل وهذا فرض عين وبه يصح الإيمان الذي هو شرط التوكل قال الله تعالى (* (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) *) المائدة 23
المسألة الثالثة
يتركب على هذا من سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطراب أحوال تلحق بالتوكل في كماله ولهذه الأحوال أقسام ولكل قسم اسم
الحالة الأولى أن يكتفي بما في يده لا يطلب الزيادة عليه واسمه القناعة
الحالة الثانية أن يكتسب زيادة على ما في يده ولا ينفي ذلك التوكل عندنا قال النبي لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا
فإن قيل هذا حجة عليك لأن الطير لا تزيد على ما في اليد ولا تدخر لغد
قلنا إنما الاحتجاج بالغدو والرواح الاعتمال في الطلب
448

فإن قيل أراد بقوله تغدو في الطاعة بدليل قوله (* (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) *) طه 132
قلنا إنما أراد بالغدو الاغتداء في طلب الرزق فأما الإقبال على العبادة وهي الحالة الثالثة وهو أن يقبل على العبادة ويترك طلب العادة فإن الله يفتح له وعلى هذا كان أهل الصفة وهذا حالة لا يقدر عليها أكثر الخلق وبعد هذا مقامات في التفويض والاستسلام وقد بيناها في كتاب أنوار الفجر والله الموفق
الآية السادسة
قوله تعالى (* (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) *) الآية 62
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في تفسير الخلفة
وفيها ثلاثة أقوال
الأول أنه جعل أحدهما مخالفا للآخر يتضادان ويتعارضان وضعا ووقتا وبذلك نميز
الثاني أنه إذا مضى واحد جاء آخر ومنه قول أبي بن كعب
(بها العيس والآرام يمشين خلفة
* وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم)
الثالث معنى خلفة ما فات في هذا خلفه في هذا
في الحديث الصحيح ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه صدقة عليه
449

سمعت ذا الشهيد الأكبر يقول إن الله خلق العبد حيا وبذلك كماله وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة إذ الكمال للأول الخالق فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في الطاعة فليفعل ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا وينام نحو سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة
ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية ولا يتلف عمره بسهره في لذة باقية عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) *))
فيعمل ويشكر قدر النعمة في دلالة التضاد على الذي لا ضد له وفي دلالة المعاقبة على الذي يعدم فيعقبه غيره وعلى الفسحة في قضاء الفائت من العمل لتحصيل الموعود من الثواب
المسألة الثالثة
إن الأشياء لا تتفاضل بأنفسها فإن الجواهر والأعراض من حيث الوجود متماثلة وإنما يقع التفاضل بالصفات
وقد اختلف أي الوقتين أفضل الليل أم النهار وقد بينا في كتاب أنوار الفجر فضيلة النهار عليه وفي الصوم غنية في الدلالة والله أعلم
الآية السابعة
قوله تعالى (* (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *) الآية 63
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (هونا) *))
الهون هو الرفق والسكون وذلك يكون بالعلم والحلم والتواضع لا بالمرح والكبر والرياء والمكر وفي معناه قلت
450

(تواضعت في العلياء والأصل كابر
* وحزت نصاب السبق بالهون في الأمر)
(سكون فلا خبث السريرة أصله
* وجل سكون الناس من عظم المكر)
وقد قال أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع
وكان عمر بن الخطاب يسرع جبلة لا تكلفا والقصد والتؤدة وحسن الصمت من أخلاق النبوة وقد بيناه في قبس الموطأ
وقد قيل معناه يمشون رفقا من ضعف البدن قد براهم الخوف وأنحلتهم الخشية حتى صاروا كأنهم الفراخ
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *))
اختلف في الجاهلين على قولين
أحدهما أنهم الكفار
الثاني أنهم السفهاء
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (سلاما) *))
فيه وجهان
أحدهما أنه بمعنى حسن وسداد
الثاني أنه قول سلام عليكم قال سيبويه لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولكنه على معنى قولهم تسلمنا منكم و لا خير بيننا ولا شر
قال الفقيه القاضي أبو بكر رحمه الله ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل وقد كان من سلف من الأمم في دينهم التسليم على جميع الأمم
وفي الإسرائيليات إن عيسى مر به خنزير فقال له اذهب بسلام حين لم يقل وهو لا يعقل السلام
451

فأما الكفار فكانوا يفعلونه وتلين جوانبهم به وقد كان النبي يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم فيحتمل قوله (* (قالوا سلاما) *) المصدر ويحتمل أن يكون المراد به التحية
وقد بينا ذلك كله في سورة هود
وقد اتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك
وهل وضع السلام في أحد القولين إلا على معنى السلامة والتواد كأنه يقول له سلمت مني فأسلم منك
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) *) الآية 67
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في تفسير قوله (* (لم يسرفوا) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول لم ينفقوا في معصية قاله ابن عباس
الثاني لم ينفقوا كثيرا قاله إبراهيم
الثالث لم يتمتعوا للنعيم إذا أكلوا للقوة على الطاعة ولبسوا للسترة الواجبة وهم أصحاب رسول الله قاله يزيد بن أبي حبيب وقد بيناه في سورة الأعراف
وهذه الأقوال الثلاثة صحاح فالنفقة في المعصية حرام فالأكل واللبس للذة جائز وللتقوى والستر أفضل فمدح الله من أتى الأفضل وإن كان ما تحته مباحا وإذا أكثر ربما افتقر فالتمسك ببعض المال أولى كما قاله النبي لآبي لبابة ولكعب كما تقدم بيانه في غير موضع
452

المسألة الثانية قوله تعالى (* (ولم يقتروا) *))
فيه قولان
الأول لم يمنعوا واجبا
الثاني لم يمنعوا عن طاعة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (قواما) *))
يعني عدلا وهو أن ينفق الواجب ويتسع في الحلال في غير دوام على استيفاء اللذات في كل وقت من كل طريق
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما) *) الآية 72
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (يشهدون الزور) *))
فيه ستة أقوال
الأول الشرك
الثاني الكذب
الثالث أعياد أهل الذمة
الرابع الغناء
الخامس لعب كان في الجاهلية يسمى بالزور قاله عكرمة
السادس أنه المجلس الذي يشتم به النبي
المسألة الثانية
أما القول بأنه مجلس يشتم فيه النبي فهو القول الأول أنه الشرك لأن شتم النبي شرك والجلوس مع من يشتمه من غير تغيير ولا قتل له شرك
453

وأما القول بأنه الكذب فهو الصحيح لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع
وأما من قال إنه أعياد أهل الذمة فإن فصح النصارى وسبت اليهود يذكر فيه الكفر فمشاهدته كفر إلا لما يقتضي ذلك من المعاني الدينية أو على جهل من المشاهد له
وأما القول بأنه الغناء فليس ينتهى إلى هذا الحد وقد بينا أمره فيما تقدم وقلنا إن منه مباحا ومنه محظورا
وأما من قال إنه لعب كان في الجاهلية فإنما يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة أو أمر يعود إلى الكفر
المسألة الثالثة قوله (* (وإذا مروا باللغو مروا كراما) *))
قد بينا اللغو وأنه ما لا فائدة فيه من قول أو فعل فإن كانت فيه مضرة في دين أو دنيا فقد تأكد أمره في التحريم وذلك بحسب تلك المضرة في اعتقاد أو فعل ويتركب اللغو على الزور ولكن ينبغي أن يكون له معنى زائد ههنا لأنه قال (* (والذين لا يشهدون الزور) *) فهذا محرم بلا كلام
ثم قال (* (وإذا مروا باللغو) *) يعني الذي لا فائدة فيه تكرموا عنه حتى قال قوم من أهل التفسير إنه ذكر الرفث ويكون لغوا مجردا إذا كان في الحلال ويكون زورا محرما إذا كان في الحرام وإن احتاج أحد إذا ذكر الفرج أو النكاح لأمر يتعلق بالدين جاز ذلك كما روي أن النبي قال للذي اعترف عنده بالزنا نكتها لا تكني للحاجة إلى ذلك في تقدير الفعل الذي يتعلق به الحد
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) *) الآية 73
فيها ثلاث مسائل
454

المسألة الأولى
قال علماؤنا يعني الذين إذا قرأوا القرآن قرأوه بقلوبهم قراءة فهم وتثبت ولم ينثروه نثر الدقل فإن المرور عليه بغير فهم ولا تثبت صمم وعمى عن معاينة وعيده ووعده حتى قال بعضهم إن من سمع رجلا وهو يصلي يقرأ سجدة فسجد وهي
المسألة الثانية
فليسجد معه لأنه سمع آيات الله تتلى عليه وهذا لا يلزم إلا للقارئ وحده وأما غيره فلا يلزمه ذلك إلا في مسألة واحدة وهي
المسألة الثالثة
ذكرها مالك وهو أن الرجل إذا تلا القرآن وقرأ السجدة فإن كان الذي جلس معه جلس إليه ليسمعه فليسجد معه وإن لم يلتزم السماع معه فلا سجود عليه وعلى هذا يخرج إذا كان في صلاة فقرأ السجدة أنه لا يسجد الذي لا يصلي معه
وهذا أبعد منه
وقيل معنى الآية في الذين لا يعتبرون اعتبار الإيمان ولا يصدقون بالقرآن والكل محتمل أن يراد به إلا أنه تختلف أحوالهم بحسب اختلاف اعتقادهم وأعمالهم والله أعلم
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) *) الآية 74
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (قرة أعين) *))
معناه أن النفوس تتمنى والعيون تمتد إلى ما ترى من الزواج والذرية حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت
455

عنده ذريته محافظين على الطاعة معاونين له على وظائف الدين والدنيا لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده فتسكن عينه عن الملاحظة وتزول نفسه عن التعلق بغيرها فذلك حين قرة العين وسكون النفس
المسألة الثانية قوله (* (واجعلنا للمتقين إماما) *))
معناه قدوة
كان ابن عمر يقول في دعائه اللهم اجعلنا من أئمة المتقين
وقال عمر بن الخطاب إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم وذلك لأنهم اقتدوا بمن قبلهم فاقتدى بهم من بعدهم
وكان الأستاذ أبو القاسم القشيري شيخ السوفية يقول الإمامة بالدعاء لا بالدعوى يعني بتوفيق الله سبحانه وتيسيره وهبته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه ويرى فيها ما ليس له ولاية
456

سورة الشعراء
فيها ست آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) *) الآية 63
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال ابن القاسم قال مالك خرج مع موسى رجلان من التجار إلى البحر فلما أتيا إليه قالا له بم أمرك الله قال أمرني أن أضرب البحر بعصاي هذه فيجف فقالا له افعل ما أمرك به ربك فلن يخلفك ثم ألقيا أنفسهما في البحر تصديقا له فما زال كذلك البحر حتى دخل فرعون ومن معه ثم ارتد كما كان
وفي رواية عمرو بن ميمون أن موسى قال للبحر انفلق قال لقد استكبرت يا موسى ما انفرقت لأحد من ولد آدم فأنفلق لك فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم فصار لموسى وأصحابه البحر طريقا يابسا فلما خرج أصحاب موسى وتكامل آخر أصحاب فرعون انصب عليهم البحر وغرق فرعون فقال بعض أصحاب موسى ما غرق فرعون فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه
المسألة الثانية
قال مالك دعا موسى فرعون أربعين سنة إلى الإسلام وإن السحرة آمنوا في يوم واحد
457

المسألة الثالثة
في هذا دليل على أن مالكا كان يذكر من أخبار الإسرائيليات ما وافق القرآن أو وافق السنة أو الحكمة أو قامت به المصلحة التي لم تختلف فيها الشرائع وعلى هذه النكتة عول في جامع الموطأ
الآية الثانية
قوله تعالى (* (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) *) الآية 84
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) *))
قال مالك لا بأس أن يحب الرجل أن يثني عليه صالحا ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله وهو الثناء الصالح وقد قال الله (* (وألقيت عليك محبة مني) *) طه 39
المسألة الثانية قوله (* (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) *))
يعني أن يجعل من ولده من يقوم بالحق من بعده إلى يوم الدين فقبلت الدعوة ولم تزل النبوة فيهم إلى محمد ثم إلى يوم القيامة
وقيل إن المطلوب اتفاق الملل كلها عليه إلى يوم القيامة فلا أمة إلا تقول به وتعظمه وتدعيه إلا أن الله تعالى قد قطع ولاية الأمم كلها إلا ولايتنا فقال سبحانه (* (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) *) آل عمران 68
458

المسألة الثالثة
قال المحققون من شيوخ الزهد في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن
وقد قال النبي إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم علمه أو ولد صالح يدعو له
وفي رواية إنه كذلك في الغرس والزرع وكذلك فيمن مات مرابطا يكتب له عمله إلى يوم القيامة والخمسة صحيح أثرها ومسالة الرباط حسن سندها
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (إلا من أتى الله بقلب سليم) *) الآية 89
فيه قولان
أحدهما أنه سليم من الشرك قاله ابن عباس
الثاني أنه سليم من رذائل الأخلاق
فقد روي عن عروة أنه قال يا بني لا تكونوا لعانين فإن إبراهيم لم يلعن شيئا قط قال الله (* (إذ جاء ربه بقلب سليم) *) الصافات 84
وقال قوم معناه لديغ أحرقته المخاوف ولدغته الخشية
وقد قال بعض علمائنا إن معناه إلا من أتى الله بقلب سليم من الشرك فأما الذنوب فلا يسلم أحد منها
والذي عندي أنه لا يكون القلب سليما إذا كان حقودا حسودا معجبا متكبرا وقد شرط النبي في الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه والله الموفق برحمته
459

الآية الرابعة
قوله تعالى (* (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) *) الآية 13
فيها مسألة واحدة
في نزولها خبر عمن تقدم من الأمم ووعظ من الله لنا في مجانبة ذلك الفعل الذي ذمهم به وأنكره عليهم قال مالك بن أنس قال نافع قال ابن عمر في قوله (* (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) *) قال يعني به السوط وقال غيره بالقتل ويؤيد ما قال مالك قول الله تعالى ذكره عن موسى (* (فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) *) القصص 19 وذلك أن موسى لم يسل عليه سيفا ولا طعنه برمح وإنما وكزه فكانت ميتته في وكزته والبطش يكون باليد وأقله الوكز والدفع ويليه السوط والعصا ويليه الحديد والكل مذموم إلا بحق
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (وأنذر عشيرتك الأقربين) *) الآية 214
فيها مسألتان
المسألة الأولى في نزولها
وذاك أنها نزلت بسحر على النبي فصعد الصفا ثم نادى يا صباحاه وكانت دعوة الجاهلية إذا دعاها الرجل اجتمعت إليه عشيرته فاجتمعت إليه قريش عن بكرة أبيها فعم وخص فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد
460

قال يا بني كعب بن لؤي يا بني مرة بن لؤي يا آل قصي يا آل عبد شمس يا آل عبد مناف يا آل هاشم يا آل عبد المطلب يا صفية أم الزبير يا فاطمة بنت محمد أنقذوا أنفسكم من النار إني لا أملك لكم من الله شيئا يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب يا صفية يا فاطمة سلوني من مالي ما شئتم واعلموا أن أوليائي يوم القيامة المتقون فإن تكونوا يوم القيامة مع قرابتكم فذلك وإياي لا يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على أعناقكم فأصد بوجهي عنكم فتقولون يا محمد فأقول هكذا وصرف وجهه إلى الشق الآخر غير أن لكم رحما سأبلها ببلاها
فقال أبو لهب ألهذا جمعتنا تبا لك سائر اليوم فنزلت (* (تبت يدا أبي لهب وتب) *) المسد 1
وقد روى البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال سمعت رسول الله يقول إن آل أبي طالب ليسوا إلي بأولياء وإنما وليي الله وصالح المؤمنين
قال البخاري حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة قال وكان في كتاب محمد بن جعفر بياض يعني بعد قوله إلي وقد بينه أبو داود في جمع الصحيحين عن شعبة بالسند الصحيح فقال آل أبي طالب ليسوا إلي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين وقد تقدم ذكر ذلك
المسألة الثانية
روى ابن القاسم عن مالك قال قال رسول الله في اليوم الذي مات فيه لا يتكل الناس علي بشيء لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه يا فاطمة بنت رسول الله يا صفية عمة رسول الله اعملا لما عند الله فإني لا أغني عنكما من الله شيئا
461

الآية السادسة
قوله تعالى (* (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) *) الآيات 224 227
فيها ثماني مسائل
المسألة الأولى قوله (* (والشعراء) *))
الشعر نوع من الكلام قال الشافعي حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمتضمناته وقد كان عند العرب عظيم الموقع حتى قال الأول منهم
(وجرح اللسان كجرح اليد
*)
وقال النبي في الشعر الذي كان يرد به على المشركين إنه لأسرع فيهم من النبل)
وقد أخبرنا أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار أنبأنا البرمكي والقزويني الزاهد أنبأنا ابن حيوة أنبأنا أبو محمد السكري أنبأنا أبو محمد الدينوري حدثني يزيد بن عمرو الغنوي حدثنا زكريا بن يحيى حدثنا عمر بن زحر بن حصن عن جده حميد ابن منهب قال سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة يقول هاجرت إلى رسول الله بالمدينة منصرفه من تبوك فسمعت العباس قال يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال قل لا يفضض الله فاك فقال العباس ممتدحا
(من قبلها طبت في الظلال وفي
* مستودع حيث يخصف الورق)
(ثم هبطت البلاد لا بشر
* أنت ولا مضغة ولا علق)
462

(بل نطفة تركب السفين وقد ألجم
* نسرا وأهله الغرق)
(تنقل من صالب إلى رحم
* إذا مضى عالم بدا طبق)
(حتى استوى بينك المهيمن من
* خندف علياء تحتها النطق)
(وأنت لما بعثت أشرقت الأرض
* وضاءت بنورك الأفق)
(فنحن في ذلك الضياء وفي النور
* وسبل الرشاد نخترق)
فقال له النبي لا يفضض الله فاك
المسألة الثانية قوله (* (يتبعهم الغاوون) *))
يعني الجاهلون من الغي وقد يكون الجهل في العقيدة فيكون شركا ويراد به الكفار والشياطين وقد يكون فيما دون ذلك فيكون سفاهة
المسألة الثالثة قوله (* (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) *))
يعني يمشون بغير قصد ولا تحصيل وضرب الأودية في السير مثلا لصنوف الكلام في الشعر لجريان تلك سيلا وسير هؤلاء قولا وأحسن ما قيل في ذلك قول الشاعر
(فسار مسير الشمس في كل بلدة
* وهب هبوب الريح في البر والبحر))
المسألة الرابعة قوله (* (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) *))
يعني ما يذكرونه في شعرهم من الكذب في المدح والتفاخر والغزل والشجاعة كقول الشاعر في صفة السيف
(تظل تحفر عنه إن ضربت به
* بعد الذراعين والساقين والهادي) فهذا تجاوز بارد وتحامق جاهل
463

المسألة الخامسة
روي أن عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت أتوا رسول الله حين نزل (* (والشعراء يتبعهم الغاوون) *) وقالوا هلكنا يا رسول الله فأنزل الله (* (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا) *) يعني ذكروا الله كثيرا في كلامهم وانتصروا في رد المشركين عن هجائهم كقول حسان في أبي سفيان
(وإن سنام المجد من آل هاشم
* بنو بنت مخزم ووالدك العبد)
(وما ولدت أفناء زهرة منكم
* كريما ولا يقرب عجائزك المجد)
(ولست كعباس ولا كابن أمه
* ولكن هجين ليس يورى له زند)
(وإن امرأ كانت سمية أمه
* وسمراء مغلوب إذا بلغ الجهد)
(وأنت امرؤ قد نيط في آل هاشم
* كما نيط خلف الراكب القدح الفرد)
وروى الترمذي وصححه عن أنس أن النبي دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه يقول
(خلوا بني الكفار عن سبيله
* اليوم نضربكم على تنزيله)
(ضربا يزيل الهام عن مقيله
* ويذهل الخليل عن خليله)
فقال عمر يا بن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر فقال النبي خل عنه يا عمر فإنه أسرع فيهم من نضح النبل وفي رواية
(نحن ضربناكم على تأويله
* كما ضربناكم على تنزيله)
464

المسألة السادسة
من المذموم في الشعر التكلم من الباطل بما لم يفعله المرء رغبة في تسلية النفس وتحسين القول روي أن النعمان بن علي بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب فقال
(ألا هل أتى الحسناء أن خليلها
* بميسان يسقى في زجاج وحنتم)
(إذا شئت غنتني دهاقين قرية
* ورقاصة تجذو على كل منسم)
(فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
* ولا تسقني بالأصغر المتثلم)
(لعل أمير المؤمنين يسوءه
* تنادمنا بالجوسق المتهدم)
فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه وقال إني والله يسوءني ذلك فقال له يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت وإنما كانت فضلة من القول وقد قال الله تعالى (* (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) *)
فقال له عمر أما عذرك فقد درأ عنك الحد ولكن لا تعمل لي عملا أبدا
المسألة السابعة
وقد كشف الخليفة العدل عمر بن عبد العزيز حقيقة أحوال الشعراء وكشف سرائرهم وانتحى معايبهم في أشعارهم فروي أنه لما استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله فأقاموا ببابه أياما لا يأذن لهم بالدخول حتى قدم عدي بن أرطأة على عمر بن عبد العزيز وكانت له مكانة فتعرض له جرير فقال
(يا أيها الرجل المزجي مطيته
* هذا زمانك إني قد خلا زمني)
(أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه
* أني لدى الباب كالمصفود في قرن)
(وحش المكانة من أهلي ومن ولدي
* نائي المحلة عن داري وعن وطني)
465

فلما دخل على عمر قال يا أمير المؤمنين إن الشعراء ببابك وأقوالهم باقية وسهامهم مسمومة
فقال عمر مالي وللشعراء قال أي أمير المؤمنين إن رسول الله قد مدح وأعطى وفيه أسوة لكل مسلم قال ومن مدحه قال عباس بن مرداس السلمي فكساه حلة قطع بها لسانه قال نعم فأنشده
(رأيتك يا خير البرية كلها
* نشرت كتابا جاء بالحق معلما)
سننت لنا فيه الهدى بعد جورنا
* عن الحق لما أصبح الحق مظلما)
(فمن مبلغ عني النبي محمدا
* وكل امرئ يجزى بما قد تكلما)
(تعالى علوا فوق عرش إلهنا
* وكان مكان الله أعلى وأعظما)
قال صدقت فمن بالباب منهم قال ابن عمك عمر بن أبي ربيعة القرشي قال لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه أليس هو القائل
(ألا ليت أني يوم بانوا بميتتي
* شممت الذي ما بين عينيك والفم)
(وليت طهوري كان ريقك كله
* وليت حنوطي من مشاشك والدم)
(ويا ليت سلمى في القبور ضجيعتي
* هنالك أو في جنة أو جهنم)
فليت عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ثم يعمل عملا صالحا والله لا دخل علي أبدا
فمن بالباب غير من ذكرت قال جميل بن معمر العذري قال هو الذي يقول
(ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت
* يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها)
(فما أنا في طول الحياة براغب
* إذا قيل قد سوى عليها صفيحها)
(أظل نهاري لا أراها ويلتقي
* مع الليل روحي في المنام وروحها)
اعزب به فلا يدخل علي أبدا
فمن غير من ذكرت قال كثير عزة قال هو الذي يقول
466

(رهبان مدين والذين عهدتهم
* يبكون من حذر العذاب قعودا)
(لو يسمعون كما سمعت كلامها
* خروا لعزة ركعا وسجودا) اعزب به
فمن بالباب غير من ذكرت قال الأحوص الأنصاري قال أبعده الله وأسحقه أليس هو القائل وقد أفسد على رجل من أهل المدينة جارية له حتى هربت منه قال
(الله بيني وبين سيدها
* يفر مني بها وأتبع) اعزب به
فمن بالباب غير من ذكرت قال همام بن غالب الفرزدق قال أليس هو القائل يفخر بالزنا
(هما دلياني من ثمانين قامة
* كما انقض باز أقتم الريش كاسره)
(فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا
* أحي يرجى أم قتيل نحاذره)
(فقلت ارفعوا الأمراس لا يشعروا بنا
* ووليت في أعقاب ليل أبادره)
اعزب به فوالله لا يدخل علي أبدا
فمن بالباب غير من ذكرت قلت الأخطل التغلبي قال هو القائل
(فلست بصائم رمضان عمري
* ولست بآكل لحم الأضاحي)
(ولست بزاجر عيسا ركوبا
* إلى بطحاء مكة للنجاح)
(ولست بقائم كالعير يدعو
* قبيل الصبح حي على الفلاح)
(ولكني سأشربها شمولا
* وأسجد عند منبلج الصباح)
اعزب به فوالله لا وطئ بساطي
فمن بالباب غير من ذكرت قلت جرير بن عطية الخطفي قال أليس هو القائل
467

(لولا مراقبة العيون أريتنا
* مقل المها وسوالف الآرام)
(ذم المنازل بعد منزلة اللوى
* والعيش بعد أولئك الأيام)
(طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
* حين الزيارة فارجعي بسلام)
فإن كان ولا بد فهذا فأذن له
فخرجت إليه فقلت ادخل أبا حزرة فدخل وهو يقول
(إن الذي بعث النبي محمدا
* جعل الخلافة للإمام العادل)
(وسع البرية عدله ووفاؤه
* حتى ارعوى وأقام ميل المائل)
(إني لأرجو منك خيرا عاجلا
* والنفس مولعة بحب العاجل)
فلما مثل بين يديه قال له اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقا فأنشأ يقول
(كم باليمامة من شعثاء أرملة
* ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر)
(ممن يعدك تكفي فقد والده
* كالفرخ في العش لم يدرج ولم يطر)
(إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا
* من الخليفة ما نرجو من المطر)
(أتى الخلافة إذ كانت له قدرا
* كما أتى ربه موسى على قدر)
(هذي الأرامل قد قضيت حاجتها
* فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر)
فقال يا جرير لقد وليت هذا الأمر وما أملك إلا ثلاثمائة درهم فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله يا غلام أعطه المائة الثالثة
فقال والله يا أمير المؤمنين إنها لأحب مال كسبته إلي ثم خرج فقال له الشعراء ما وراءك قال ما يسوءكم خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض ثم أنشأ يقول
(رأيت رقى الشيطان لا تستفزه
* وقد كان شيطاني من الجن راقيا)
ولما ولي ابن الزبير وفد إليه نابغة بني جعدة فدخل عليه المسجد الحرام ثم أنشده
468

(حكيت لنا الفاروق لما وليتنا
* وعثمان والصديق فارتاح معدم)
(وسويت بين الناس في الحق فاستووا
* فعاد صباحا حالك اللون مظلم)
(أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى
* دجى الليل جواب الفلاة عثمثم)
(لتجبر منا جانبا دعدعت به
* صروف الليالي والزمان المصمم)
فقال له ابن الزبير هون عليك أبا ليلى فالشعر أدنى وسائلك عندنا أما صفوة مالنا فلآل الزبير وأما عفوته فإن بني أسد وتميما شغلاها عنك ولكن لك في مال الله سهمان سهم برؤيتك رسول الله وسهم بشركتك أهل الإسلام في فيئهم ثم أخذ بيده ودخل دار المغنم فأعطاه قلائص سبعا وجملا رحيلا وأوقر له الركاب برا وتمرا فجعل النابغة يستعجل ويأكل الحب صرفا
فقال ابن الزبير ويح أبي ليلى لقد بلغ به الجهد فقال النابغة أشهد لسمعت رسول الله يقول ما وليت قريش فعدلت ولا استرحمت فرحمت وحدثت فصدقت ووعدت فأنجزت فأنا والنبيون فراط القاصفين
قال الزبير بن بكار فكأن الفارط الذي يتقدم إلى الماء يصلح الرشاء والدلاء والقاصف الذي يتقدم لشراء الطعام
المسألة الثامنة في تحقيق القول فيه
أما الاستعارات والتشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل وقد أنشد كعب بن زهير النبي
(بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
* متيم إثرها لم يفد مكبول)
(وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
* إلا أغن غضيض الطرف مكحول)
(تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
* كأنه منهل بالراح معلول)
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع والنبي يسمع ولا ينكر حتى في تشبيه ريقها بالراح
469

وقد كانت حرمت قبل إنشاده لهذه القصيدة ولكن تحريمها لم يمنع عندهم طيبها بل تركوها على الرغبة فيها والاستحسان لها فكان ذلك أعظم لأجورهم ومن الناس قليل من يتركها استقذارا لها وإنها لأهل لذلك عندي وإني لأعجب من الناس في تلذذهم بها واستطابتهم لها ووالله ما هي إلا قذرة بشعة كريهة من كل وجه والله يعصم من المعاصي بعزته
وبالجملة فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق قوله وزمانه فذلك مذموم شرعا قال النبي لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا والله أعلم لا رب غيره ولا معبود إلا إياه
470

سورة النمر
فيها ست عشرة آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين) *) الآية 16
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قد بينا فيما سلف أن النبي قال إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وأنه قال إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا علما والأول أصح
فإن قيل فما معنى قوله (* (وورث سليمان داود) *)
قلنا وهي
المسألة الثانية
أراد بالإرث هاهنا نزوله منزلته في النبوة والملك وكان لداود تسعة عشرة ولدا ذكرا وأنثى فخص سليمان بالذكر ولو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد فخصه بما كان لداود وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده
الآية الثانية
قوله تعالى (* (علمنا منطق الطير) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
القول في منطق الطير وهو صوت تتفاهم به في معانيها على صيغة واحدة بخلاف منطقنا فإنه على صيغ مختلفة نفهم به معانيها
قال علماؤنا وفي المواضعات غرائب ألا ترى أن صوت البوق تفهم منه أفعال مختلفة من حل وترحال ونزول وانتقال وبسط وربط وتفريق وجمع وإقبال وإدبار بحسب المواضعة والاصطلاح
وقد كان صاحبنا مموس الدريدي يقرأ معنا ببغداد وكان من قوم كلامهم حروف الشفتين ليس لحروف الحلق عندهم أصل
فجعل الله لسليمان معجزة فهم كلام الطير والبهائم والحشرات وإنما خص الطير لأجل سوق قصة الهدهد بعدها ألا تراه كيف ذكر قصة النمل معها وليست من الطير
ولا خلاف عند العلماء في أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول
وقد قال الشافعي الحمام أعقل الطير وقد قال علماء الأصوليين انظروا إلى النملة كيف تقسم كل حبة تدخرها نصفين لئلا ينبت الحب إلا حب الكزبرة فإنها تقسم الحبة منه على أربع لأنها إذا قسمت بنصفين تنبت وإذا قسمت بأربعة أنصاف لم تنبت
وهذه من غوامض العلوم عندنا وأدركتها النمل بخلق الله ذلك لها
وقال الأستاذ أبو المظفر شاه نور الإسفرايني ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث
471

الآية الثانية
قوله تعالى (* (علمنا منطق الطير) *)
فيها مسألتان
المسألة الأولى
القول في منطق الطير وهو صوت تتفاهم به في معانيها على صيغة واحدة بخلاف منطقنا فإنه على صيغ مختلفة نفهم به معانيها
قال علماؤنا وفي المواضعات غرائب ألا ترى أن صوت البوق تفهم منه أفعال مختلفة من حل وترحال ونزول وانتقال وبسط وربط وتفريق وجمع وإقبال وإدبار بحسب المواضعة والاصطلاح
وقد كان صاحبنا مموس الدريدي يقرأ معنا ببغداد وكان من قوم كلامهم حروف الشفتين ليس لحروف الحلق عندهم أصل
فجعل الله لسليمان معجزة فهم كلام الطير والبهائم والحشرات وإنما خص الطير لأجل سوق قصة الهدهد بعدها ألا تراه كيف ذكر قصة النمل معها وليست من الطير
ولا خلاف عند العلماء في أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول
وقد قال الشافعي الحمام أعقل الطير وقد قال علماء الأصوليين انظروا إلى النملة كيف تقسم كل حبة تدخرها نصفين لئلا ينبت الحب إلا حب الكزبرة فإنها تقسم الحبة منه على أربع لأنها إذا قسمت بنصفين تنبت وإذا قسمت بأربعة أنصاف لم تنبت
وهذه من غوامض العلوم عندنا وأدركتها النمل بخلق الله ذلك لها
وقال الأستاذ أبو المظفر شاه نور الإسفرايني ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث
472

العالم وخلق المخلوقات ووحدانية الإله ولكنا لا نفهم عنهم ولا تفهم عنا أما أنا نطلبها وهي تفر منا فبحكم الجنسية
المسألة الثانية
روى ابن وهب عن مالك أن سليمان النبي مر على قصر بالعراق فإذا فيه كتاب
(خرجنا من قرى إصطخر
* إلى القصر فقلناه)
(فمن سال عن القصر
* فمبنيا وجددناه)
وعلى القصر نسر فناداه سليمان فأقبل إليه فقال مذكم أنت هاهنا قال مذ تسعمائة سنة ووجدت القصر على هيئته
قال القاضي قرأت بمدينة السلام على أبي بكر النجيب بن الأسعد قال أنبأنا محمد بن فتوح الرصافي أنبأنا الخطيب أبو بكر الحافظ حدثني أبو القاسم عبد الله بن محمد الرفاعي أنبأنا علي بن محمد بن أحمد الفقيه بأصبهان أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أسيد حدثنا محمد بن زكريا الغلابي حدثنا عبيد الله بن علي بن يحيى الإفريقي حدثنا عبد الملك بن حبيب عن مالك بن أنس وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب كان سليمان بن داود يركب الريح من إصطخر فيتغدى ببيت المقدس ثم يعود فيتعشى بإصطخر فقال إن ابن حبيب أدرك مالكا وما أراه ولا هذا الحديث إلا مقطوعا والله أعلم
وروى مالك وغيره في الحديث عن النبي أنه قال نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ثم أمر ببيتها فأحرق فأوحى الله إليه فهلا نملة واحدة
473

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) *) الآية 17
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (يوزعون) *))
يعني يمنعون ويدفعون ويرد أولهم على آخرهم وقد يكون بمعنى يلهمون من قوله (* (أوزعني أن أشكر نعمتك) * الآية 19 أي ألهمني ويحتمل أن يرجع إلى الأولى ويكون معناه ردني
المسألة الثانية
روى أشهب قال قال مالك بن أنس قال عثمان ما يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن قال مالك يعني يكفهم قال ابن وهب مثله وزاد ثم تلا مالك (* (فهم يوزعون) *) أي يكفون
وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ووضعه لخلقه فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة بقوام الحق لا زيادة عليها ولا نقصان معها ولا يصلح سواها ولكن الظلمة خاسوا بها وقصروا عنها وأتوا ما أتوا بغير نية منها ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها فلذلك لم يرتدع الخلق بها ولو حكموا بالعدل وأخلصوا النية لاستقامت الأمور وصلح الجمهور وقد شاهدتم منا إقامة العدل
والقضاء والحمد لله بالحق والكف للناس بالقسط وانتشرت الأمنة وعظمت المنعة واتصلت في البيضة الهدنة حتى غلب قضاء الله بفساد الحسدة واستيلاء الظلمة
474

الآية الرابعة
قوله تعالى (* (حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) *) الآية 18
فيها مسألتان
المسألة الأولى
رأيت بعض البصريين قد قال إن النملة كان لها جناحان فصارت في جملة الطير ولذلك فهم منطقها لأنه لم يعلم إلا منطق الطير وهذا نقصان عظيم وقد بينا الحكمة في ذكر الطير خصوصا دون سائر البهائم والحشرات وما لا يعقل وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات فكان كل نبات يقول له أنا شجرة كذا أنفع من كذا وأضر من كذا وفائدتي كذا فما ظنك بالحيوان
المسألة الثانية قوله (* (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) *))
فانظر إلى فهمها بأن جند سليمان لم يكن فيهم من يؤذي نملة مع القصد إلى ذلك والعلم به تقية لسليمان لأن منهم التقي والفاجر والمؤمن والكافر إذ كان فيهم الشياطين
وقد أخبر الله عن جيش محمد بمثله في قوله (* (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم) *) الفتح 25 وهذا من فضائل محمد وقد بينا ذلك في كتاب المشكلين وفي معجزات النبي من كتاب أنوار الفجر
وقد انتهى الجهل بقوم إلى أن يقولوا إن معناه والنمل لا يشعرون فخرج من خطاب المواجهة إلى خطاب الغائب لغير ضرورة ولا فائدة إلا إبطال المعجزة لهذا النبي
475

الكريم والله ولي التقويم كما انتهى الإفراط بقوم إلى أن يقولوا إنه كان من كلام النملة له أن قالت يا نبي الله أرى لك ملكا عظيما فما أعظم جندك قال لها تسخير الريح قالت له إن الله أعلمك أن كل ما أنت فيه في الدنيا ريح وما أحسن الاقتصاد وأضبط السداد للأمور والانتقاد
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) *) الآية 19
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى القول في التبسم
وهو أول الضحك وآخره بدو النواجذ وذلك يكون مع القهقهة وجل ضحك الأنبياء التبسم
المسألة الثانية
من الضحك مكروه لقوله (* (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون) *) التوبة 82
ومن الناس من كان لا يضحك اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف وإن كان عبدا طائعا ومن الناس من يضحك وإنما قال الله في الكفار (* (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا) *) لما كانوا عليه من النفاق يعني ضحكهم في الدنيا وهو تهديد لا أمر بالضحك
وقالت عائشة جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي وكان رفاعة طلقها فبت طلاقها فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وقالت يا رسول الله والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة لهدبة أخذتها من جلبابها وأبو بكر الصديق وخالد جالسان عند النبي وإن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة ليؤذن له فطفق خالد ينادي
476

يا أبا بكر انظر ما تجهر به هذه المرأة عند رسول الله وما يزيد رسول الله على التبسم ثم قال لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة الحديث
واستأذن عمر على رسول الله وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب فأذن له النبي فدخل والنبي يضحك فقال أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي أنت وأمي فقال عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك تبادرن الحجاب وذكر الحديث
وروى عبد الله بن عمر أن النبي لما كان بالطائف قال إنا قافلون غدا إن شاء الله فقال أناس من أصحاب رسول الله لا نبرح حتى نفتحها فقال النبي فاغدوا على القتال قال فغدوا فقاتلوهم قتالا شديدا وكثرت الجراحات فقال رسول الله إنا قافلون غدا إن شاء الله قال فسكتوا قال فضحك رسول الله
وقال أبو هريرة أتى رجل رسول الله فقال هلكت وأهلكت وقعت على أهل يفي رمضان قال اعتق رقبة قال ليس لي مال قال فصم شهرين متتابعين قال لا أستطيع قال فأطعم ستين مسكينا قال لا أجد قال فأتى رسول الله بعرق تمر والعرق المكتل فقال أين السائل تصدق بها
477

قال أعلى أفقر مني والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا فضحك حتى بدت نواجذه قال فأنتم إذا
ولما سأله الناس المطر فأمطروا ثم سألوه الصحو ضحك
المسألة الثالثة
قال علماؤنا إن قيل من أي شيء ضحك سليمان
قلنا فيه أقوال
أصحها أنه ضحك من نعمة الله عليه في تسخير الجيش وعظيم الطاعة حتى لا يكون اعتداء
ولذلك قال (* (أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه) *) وهو حقيقة الشكر والله أعلم
الآية السادسة
قوله تعالى (* (وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) *) الآية 2
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب تفقده قولان
أحدهما أن الطير كانت تظل سليمان من الشمس حتى تصير عليه صافات كالغمامة فطار الهدهد عن موضعه فأصابت الشمس سليمان فتفقده حينئذ
الثاني أن الهدهد كان يرى تحت الأرض الماء فكان ينزل بجيشه ثم يقول للهدهد انظر بعد الماء من قربه فيشير له إلى بقعة فيأمر الجن فتسلخ الأرض سلخ الأديم حتى تبلغ الماء فيستقي ويسقي
478

المسألة الثانية
قال سليمان ما لي لا أرى الهدهد ولم يقل ما للهدهد لا أراه
قال لنا أبو سعيد محمد بن طاهر الشهيد قال لنا جمال الإسلام وشيخ الصوفية أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن إنما قال مالي لا أرى الهدهد لأنه اعتبر حال نفسه إذ علم أنه أوتي الملك العظيم وسخر له الخلق فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العمل فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه فقال مالي
وكذلك تفعل شيوخ الصوفية إذا فقدوا آمالهم تفقدوا أعمالهم هذا في الآداب فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض
المسألة الثالثة
قال علماؤنا هذا يدل من سليمان على تفقده أحوال الرعية والمحافظة عليهم فانظروا إلى الهدهد وإلى صغره فإنه لم يغب عنه حاله فكيف بعظائم الملك
ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته قال لو أن سخلة بشاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان وتضيع الرعية وتضيع الرعيان
المسألة الرابعة
قال ابن الأزرق لابن عباس وقد سمعه يذكر شأن الهدهد هذا قف يا وقاف كيف يرى الماء تحت الأرض ولا يرى الحبة في الفخ
فقال له ابن عباس بديهة إذا نزل القدر عشى البصر ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن
وقد أنشدني محمد بن عبد الملك التنيسي الواعظ عن الشيخ أبي الفضل الجوهري في هذا المعنى
479

(إذا أراد الله أمرا بامرئ
* وكان ذا عقل وسمع وبصر)
(وحيلة يعملها في دفع ما
* يأتي به مكروه أسباب القدر)
(غطى عليه سمعه وعقله
* وسله من ذهنه سل الشعر)
(حتى إذا أنفذ فيه حكمه
* رد عليه عقله ليعتبر))
الآية السابعة
قوله تعالى (* (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) *) الآية 21
فيها مسألتان
المسألة الأولى
هذه الآية دليل على أن الطير كانوا مكلفين إذ لا يعاقب على ترك فعل إلا من كلف ذلك الفعل وبهذا يستدل على جهل من يقول إن ذلك إنما كان من سليمان استدلالا بالأمارات وإنه لم يكن للطير عقل ولا كان للبهائم علم ولا أوتي سليمان علم منطق الطير
وقاتلهم الله ما أجرأهم على الخلق فضلا عن الخالق
المسألة الثانية
كان الهدهد صغير الجرم ووعد بالعذاب الشديد لعظيم الجرم
قال علماؤنا وهذا يدل على أن الحد على قدر الذنب لا على قدر الجسد أما إنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة على ما بيناه في أحكام استيفاء القصاص
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبأ يقين) *) الآية 22
480

وهذا دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه وقد بيناه في آداب العلم
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) *) الآية 23
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال علماؤنا هي بلقيس بنت شرحبيل ملكة سبإ وأمها جنية بنت أربعين ملكا وهذا أمر تنكره الملحدة ويقولون إن الجن لا يأكلون ولا يلدون وكذبوا لعنهم الله أجمعين ذلك صحيح ونكاحهم مع الإنس جائز عقلا فإن صح نقلا فبها ونعمت وإلا بقينا على أصل الجواز العقلي
المسألة الثانية
روى الترمذي وغيره عن النبي أنه قال في سبأ هو رجل ولد له عشرة أولاد وكان لهم خبر فسمى البلد باسم القبيلة أو ذكر أنه جاء من القبيلة
ويحتمل أن يكون سمي البلد باسم القبيلة
روى الترمذي وغيره عن فروة بن مسيك المرادي قال أتيت النبي فقلت يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم فأذن لي في قتالهم وأمرني
فلما خرجت من عنده سأل عني ما فعل القطيفي فأخبر بأني قد سرت قال فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث لك
481

وأنزل الله في سبأ ما أنزل فقال رجل يا رسول الله ما سبأ أرض أو امرأة فقال ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار فقال رجل يا رسول الله وما أنمار قال الذين منهم خثعم وبجيلة
وروي في هذا عن ابن عباس عن النبي حديث آخر
المسألة الثالثة
روي في الصحيح عن النبي قال حين بلغه أن كسرى لما مات ولى قومه بنته لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
وهذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه
ونقل عن محمد بن جرير الطبري إمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ولم يصح ذلك عنه ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم إلا في الدماء والنكاح وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستبانة في القضية الواحدة بدليل قوله لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير
وقد روي أن عمر قدم امرأة على حسبة السوق ولم يصح فلا تلتفتوا إليه فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث
482

وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري مع أبي الفرج بن طرار شيخ الشافعية ببغداد في مجلس السلطان الأعظم عضد الدولة فما حل ونصر ابن طرار لما ينسب إلى ابن جرير على عادة القوم التجادل على المذاهب وإن لم يقولوا بها استخراجا للأدلة وتمرنا في الاستنباط للمعاني فقال أبو الفرج بن طرار الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها وسماع البينة عليها والفصل بين الخصوم فيها وذلك يمكن من المرأة كإمكانه من الرجل
فاعترض عليه القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى فإن الغرض منها حفظ الثغور وتدبير الأمور وحماية البيضة وقبض الخراج ورده على مستحقيه وذلك يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل
فقال له أبو الفرج بن طرار هذا هو الأصل في الشرع إلا أن يقوم دليل على منعه
فقال له القاضي أبو بكر لا نسلم أنه أصل الشرع
قال القاضي عبد الوهاب هذا تعليل للنقض يريد والنقض لا يعلل وقد بينا فساد قول القاضي عبد الوهاب في أصول الفقه
قال الفقيه القاضي أبو بكر رحمه الله ليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجالس ولا تخالط الرجال ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها وإن كانت متجالة برزة لم يجمعها والرجال مجلس تزدحم فيه معهم وتكون منظرة لهم ولم يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده
483

الآية العاشرة
قوله تعالى (* (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) *) الآية 27
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (سننظر أصدقت) *))
لم يعاقبه لأنه اعتذر له ولا أحد أحب إليه العذر من الله ولذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين
وكذلك يجب على الوالي أن يقبل عذر رعيته ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم ولكن له أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة كما فعل سليمان فإنه لما قال له الهدهد (* (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) *) النمل 23 لم يستفزه الطمع ولا استجره حب الزيادة في الملك إلى أن يعرض له حتى قال (* (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) *) النمل 24 حينئذ غاظه ما سمع وطلب الانتهاء إلى ما أخبر وتحصيل علم ما غاب من ذلك حتى يغيره بالحق ويرده إلى الله تعالى
ونحو منه ما يروى أن عمر بن الخطاب سأل عن إملاص المرأة وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها فقال أيكم سمع من النبي فيه شيئا قلت أنا يعني المغيرة بن شعبة فقال ما هو قلت سمعت النبي يقول فيه غرة عبد أو أمة فقال لا تبرح حتى تجيء بالمخرج من ذلك
فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد
وكان هذا تثبتا من عمر احتج به لنفسه
وأما المغيرة فتوقف فيما قال لأجل قصة أبي بكرة وهذا كله مبين في أصول الفقه
484

المسألة الثانية
لو قال له سليمان سننظر في أمرك لاجتزأ به ولكن الهدهد لما صرح له بفخر العلم (* (فقال أحطت بما لم تحط به) *) النمل 22 صرح له سليمان بأنه سينظر أصدق أم كذب فكان ذلك كفؤا لما قاله
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) *) الآيات 28 29 3
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (كتاب كريم) *))
فيه ستة أقوال
الأول لختمه وكرامة الكتاب ختمه
الثاني لحسن ما فيه من بلاغة وإصابة معنى
الثالث كرامة صاحبه لأنه ملك
الرابع كرامة رسوله لأنه طائر وما عهدت الرسل منها
الخامس لأنه بدأ فيه ببسم الله
السادس لأنه بدأ فيه بنفسه ولا يفعل ذلك إلا الجلة
وفي حديث ابن عمر أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إني أقر لك بالسمع والطاعة ما استطعت وإن بني قد أقروا لك بذلك
وهذه الوجوه كلها صحيحة وقد روي أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أحد قبل سليمان
485

المسألة الثانية
الوصف الكريم في الكتاب غاية الوصف ألا ترى إلى قوله (* (إنه لقرآن كريم) *) وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير وبالأثير وبالمبرور فإن كان لملك قالوا العزيز وأسقطوا الكريم غفلة وهو أفضلها خصلة فأما الوصف بالعزيز فقد اتصف به القرآن أيضا فقال (* (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) *) فصلت 41 42
فهذه عزته وليست لأحد إلا له فاجتنبوها في كتبكم واجعلوا بدلها العالي توقية لحق الولاية وحياطة للديانة
المسألة الثالثة
هذه البسملة آية في هذا الموضع بإجماع ولذلك إن من قال إن (* (بسم الله الرحمن الرحيم) *) ليست آية من القرآن كفر ومن قال إنها ليست بآية في أوائل السور لم يكفر لأن المسألة الأولى متفق عليها والمسألة الثانية مختلف فيها ولا يكفر إلا بالنص أو ما يجمع عليه
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون) *) الآية 32
في هذا دليل على صحة المشاورة إما استعانة بالآراء وإما مداراة للأولياء
ويقال إنها أول من جاء أنه شاور وقد بينا المشورة في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته وقد مدح الله الفضلاء بقوله (* (وأمرهم شورى بينهم) *) الشورى 38
486

الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون) *) الآية 35
فيها مسألتان
المسألة الأولى
يروى أنها قالت إن كان نبيا لم يقبل الهدية وإن كان ملكا قبلها
وفي صفة النبي أنه يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة وكذلك كان سليمان وجميع الأنبياء يقبلون الهدية
وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها لأنه قال لها في كتابه (* (ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين) *) النمل 31 وهذا لا تقبل فيه فدية ولا تؤخذ عنه هدية
وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة من قبول الهدية بسبيل وإنما هي رشوة وبيع الحق بالمال هو الرشوة التي لا تحل
وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل واحد وعلى كل حال
المسألة الثانية
وهذا ما لم تكن من مشرك فإن كانت من مشرك ففي الحديث نهيت عن زبد المشركين
وفي حديث آخر لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من ثقفي أو دوسي
والصحيح ما ثبت عن عائشة أن رسول الله كان يقبل الهدية ويثيب عليها
487

ومن حديث أبي هريرة لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت
وقد قال النبي لأصحابه في الصيد هل معكم من لحمه شيء قلت نعم فناولته العضد
وقد استسقى في دار أنس فحلبت له شاة وشيب وشربه
وأهدى أبو طلحة له ورك أرنب وفخذيها فقبله
وأهدت أم حفيد إليه أقطا وسمنا وضبا فأكل النبي من الأقط والسمن وترك الضب
وقال في حديث بريرة هو عليها صدقة ولنا هدية وكان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) *) الآيات 38 39 4
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في طلب عرشها
قيل فيه أربع فوائد
الفائدة الأولى أحب أن يختبر صدق الهدهد
488

الثانية أراد أخذه قبل أن تسلم فيحرم عليه مالها
الثالثة أراد أن يختبر عقلها في معرفتها به
الرابعة أراد أن يجعله دليلا على نبوته لأخذه من ثقاتها دون جيش ولا حرب
المسألة الثانية
قد ثبت أن الغنيمة وهي أموال الكفار لم تحل لأحد قبل محمد وإنما قصد بالإرسال إليها إظهار نبوته ويرجع إليها ملكها بعد قيام الدليل على النبوة به عندها
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) *))
في تسميته خمسة أقوال لا تساوي سماعها وليس على الأرض من يعلمه
ولقد قال ابن وهب حدثني مالك في هذه الآية قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد طرفك قال كانت باليمن وسليمان عليه السلام بالشام أراد مالك أن هذه
معجزة لأن قطع المسافة البعيدة بالعرش في المدة القصيرة لا يكون إلا بأحد الوجهين إما أن تعدم المسافة بين الشام واليمن وإما أن يعدم العرش باليمن ويوجد بالشام والكل لله سبحانه مقدور عليه هين وهو عندنا غير متعين
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) *) الآية 49
فيها مسألتان
489

المسألة الأولى
لما صان الله بالقصاص في أهبها الدماء وعليها تسلط علم الأعداء شرع القسامة بالتهمة حسبما بيناه في سورة البقرة واعتبر فيها التهمة وقد حبس النبي فيها في الدماء والاعتداء ولا يكون ذلك في حقوق المعاملات
المسألة الثانية
اعتبر كثير من العلماء قتيل المحلة في القسامة وبه قال الشافعي لأجل طلب اليهود ولحديث سهل بن أبي حثمة في الصحيح أن نفرا من قومه أتوا خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلا فقالوا للذي وجد فيهم قد قتلتم صاحبنا قالوا ما قتلناه ولا علمنا قاتله
وقال عمر حين قدع عبد الله بن عمر اليهود أنتم عدونا وتهمتنا
وفي سنن أبي داود أن النبي قال لليهود وبدأ بهم أيحلف منكم خمسون رجلا فأبوا فقال للأنصار أتحلفون قالوا نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله على يهود لأنه وجد بين أظهرهم وقد بيناه في مسائل الخلاف
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين) *) الآية 91
وقد تقدم بيانه
490

سورة القصص
فيها ثمان آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) *) الآية 1
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (فارغا) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى عليه السلام
الثاني فارغا من وحينا يعني بسببه
الثالث فارغا من العقل قاله مالك يريد امتلأ ولها يروى أنها لما رمته في البحر جاءها الشيطان فقال لها لو حبسته فذبح فتوليت دفنه وعرفت موضعه وأما الآن فقد قتلته أنت وسمعت ذلك ففرغ فؤادها مما كان فيه من الوحي إلا أن الله ربط على قلبها بالصبر
المسألة الثانية
قد بينا أن هذه الآية من أعظم آي القرآن فصاحة إذ فيها أمران ونهيان وخبران وبشارتان
491

الآية الثانية
قوله تعالى (* (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) *) الآية 8
وقد قدمنا القول في اللقيط في سورة يوسف عليه السلام وهذه اللام لام العاقبة كما قال الشاعر
(وللمنايا تربي كل مرضعة
* ودورنا لخراب الدهر نبنيها))
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين) *) الآية 15
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (فاستغاثه) *))
طلب غوثه ونصرته ولذلك قال في الآية بعدها (* (فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه) *) القصص 18 وإنما أغاثه لأن نصر المظلوم دين في الملل كلها وفرض في جميع الشرائع
وفي الحديث الصحيح من حقوق المسلم على المسلم نصر المظلوم
وفيه أيضا قال النبي انصر أخاك ظالما أو مظلوما فنصره ظالما كفه عن الظلم
492

المسألة الثانية قوله (* (فوكزه موسى فقضى عليه) *))
لم يقصد قتله وإنما دفعه فكانت فيه نفسه وذلك قتل خطأ ولكنه في وقت لا يؤمر فيه بقتل ولا قتال فلذلك عده ذنبا وقد بيناه في كتاب المشكلين في باب الأنبياء منه
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) *) الآية 23
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (ما خطبكما) *))
إنما سألهما شفقة منه عليهما ورقة ولم تكن في ذلك الزمان أو في ذلك الشرع حجبة
المسألة الثانية (* (قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) *))
يعني لضعفنا لا نسقي إلا ما فضل عن الرعاء من الماء في الحوض
وقيل كان الماء يخرج من البئر فإذا كمل سقي الرعاء ردوا على البئر حجرها فإن وجد في الحوض بقية كان ذلك سقيهما وإن لم تكن فيه بقية عطشت غنمهما فرق لهما موسى ورفع الحجر وكان لا يرفعه عشرة وسقى لهما ثم رده فذلك قولهما لأبيهما (* (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) *) وهي
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من) *
493

* (القوم الظالمين قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) *) الآيتان 25 26
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال يا بنية هذه قوته فما أمانته قالت إنك لما أرسلتني إليه قال لي كوني ورائي لئلا يصفك الثوب من الريح وأنا عبراني لا أنظر إلى أدبار النساء ودليني على الطريق يمينا ويسارا
المسألة الثانية قوله (* (استأجره) *))
دليل على أن الإجارة بينهم وعندهم مشروعة معلومة وكذلك كانت في كل ملة وهي من ضرورة الخليقة ومصلحة الخلطة بين الناس خلافا للأصم وقد بيناه حيث ورد في مواضعه
الآية السادسة
قوله تعالى (* (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل) *) الآيتان 27 28
اعلموا علمكم الله الاجتهاد وحفظ سبيل الاعتقاد أن هذه الآية لم يذكرها القاضي أبو إسحاق في كتاب الأحكام مع أن مالك قد ذكرها وهذه غفلة لا تليق بمنصبه وفيها أحاديث كثيرة وآثار من جنس ما ذكرناه في غيرها ونحن نحلب درها وننظم دررها ونشد مئزرها إن شاء الله وفيها ثلاثون مسألة
المسألة الأولى قوله (* (إني أريد أن أنكحك) *))
فيه عرض المولى وليته على الزوج وهذه سنة قائمة عرض صالح مدين ابنته على
494

صالح بني إسرائيل وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما وعرضت الموهوبة نفسها على النبي
فأما حديث عمر فرواه عبد الله بن عمر حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس ابن حذافة وكان من أصحاب رسول الله قد شهد بدرا وتوفي بالمدينة قال فلقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقلت إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر
فقال سأنظر في أمري فلبثت ليالي ثم لقيني فقال قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا
قال عمر فلقيت أبا بكر الصديق فقلت إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر
فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا فكنت عليه أوجد مني على عثمان فلبثت ليالي ثم خطبها النبي فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال لعلك وحدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا فقلت نعم فقال إنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي قد ذكرها فلم أكن لأفشى سر رسول الله ولو تركها النبي لقبلتها
وأما حديث الموهوبة فروى سهل بن سعد الساعدي قال إني لفي القوم عند رسول الله إذ جاءت امرأة فقالت يا رسول الله جئت أهب لك نفسي فرأيك فنظر إليها رسول الله فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رسول الله رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست وقال رجل من أصحابه يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال هل عندك من شيء فقال لا والله يا رسول الله فقال اذهب إلى أهلك فانظر لعلك تجد شيئا فذهب ورجع فقال لا والله ما وجدت شيئا فقال رسول الله انظر ولو خاتما من حديد
فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري قال سهل ماله رداء فلها نصفه
495

فقال رسول الله ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء
فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام فرآه رسول الله موليا فأمر به فدعي فلما جاء قال ما معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا لسور عددها قال تقرؤهن عن ظهر قلبك قال نعم قال اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن
وفي رواية زوجتكها وفي أخرى انكحتكها وفي رواية أمكناكها وفي رواية ولكن اشقق بردتي هذه أعطها النصف وخذ النصف
فمن الحسن عرض الرجل وليته والمرأة نفسها على الرجل الصالح اقتداء بهذا السلف الصالح
المسألة الثانية
استدل أصحاب الشافعي رضوان الله عليه بقوله (* (إني أريد أن أنكحك) *) على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح
وقال علماؤنا ينعقد النكاح بكل لفظ
وقال أبو حنيفة ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد
ولا حجة للشافعي في هذه المسألة الآتية من وجهين
أحدهما أن هذا شرع من قبلنا وهم لا يرونه حجة في شيء ونحن وإن كنا نراه حجة فهذه الآية فيها أن النكاح بلفظ الإنكاح وقع وامتناعه بغير لفظ النكاح لا يؤخذ من هذه الآية ولا يقتضيه بظاهرها ولا ينظر منها ولكن النبي قد قال في الحديث المتقدم قد ملكتكها بما معك من القرآن
وروي أمكناكها بما معك من القرآن وكل منهما في البخاري وهذا نص
496

وقد رام المحققون من أصحاب الشافعي بأن يجعلوا انعقاد النكاح بلفظه تعبدا كانعقاد الصلاة بلفظ الله أكبر ويأبون ما بين العقود والعبادات وقد حققنا في مسائل الخلاف الأمر وسنبينه في سورة الأحزاب إن شاء الله تعالى
المسألة الثالثة
ابتداؤه بالرجل قبل المرأة في قوله (* (أنكحك) *) وذلك لأنه المقدم في العقد الملتزم للصداق والنفقة القيم على المرأة وصاحب الدرجة عليها في حق النكاح وأبين من هذا قوله في سورة الأحزاب (* (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) *) الأحزاب 37 فبدأ بالنبي قبل زينب وهو شرعنا الذي لا خلاف في وجوب الاقتداء به
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (إحدى ابنتي هاتين) *))
هذا يدل على أنه عرض لا عقد لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له لأن العلماء وإن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال له بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح لأنه خيار ولا شيء من الخيار يلصق بالنكاح
وقد روي أنه قال أيتهما تريد قال الصغرى ثم قال موسى لا حتى تبرئها مما في نفسك يريد حين قالت (* (إن خير من استأجرت القوي الأمين) *) فامتلأت نفس صالح مدين غيرة وظن أنه قد كانت بينهما مراجعة في القول ومؤانسة فقال من أين علمت ذلك فقال أما قوته فرقعه الحجر من فم البئر وحده وكان لا يرفعه إلا عشرة رجال وأما أمانته فحين مشيت قال لي كوني ورائي كما تقدم ذكره فحينئذ سكنت نفسه وتمكن أنسه
المسألة الخامسة (* (إني أريد أن أنكحك) *))
هل يكون هذا القول إيجابا أم لا وقد اختلف الناس في الاستدعاء هل يكون قبولا كما إذا قال بعني ثوبك هذا فقال بعتك هل ينعقد البيع أم لا حتى يقول بالآخر قبلت على قولين
497

فقال علماؤنا ينعقد وإن تقدم القبول على الإيجاب بلفظ الاستدعاء لحصول الغرض من الرضا به على أصلنا فإن الرضا بالقلب هو الذي يعتبر كما وقع اللفظ فكذلك إذا قال أريد أن تنكحني أو أنكحك يجب أن يكون هذا إيجابا حاصلا فإذا قال ذلك وقال الآخر نعم انعقد البيع والنكاح
وعليه يدل ظاهر الآية لأنه قال (* (إني أريد أن أنكحك) *) القصص 27 فقال له الآخر (* (ذلك بيني وبينك) *) القصص 28 وهذا انعقاد عزم وتمام قول وحصول مطلوب ونفوذ عقد
وقد قال النبي يا بني النجار ثامنوني بحائطكم فقالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله فانعقد العقد وحصل المقصود من الملك
المسألة السادسة
قولهم إنه زوج الصغرى يروى عن أبي ذر قال قال لي رسول الله إن سئلت أي الرجلين قضى موسى فقل خيرهما وأوفاهما وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى وهي التي جاءت خلفه وهي التي قالت (* (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) *) الآية 26
المسألة السابعة
عادة الناس تزويج الكبرى قبل الصغرى لأنها سبقتها إلى الحاجة إلى الرجال ومن البر تقديمها عليها
والذي أوجب تقديم الصغرى في قصة صالح مدين ثلاثة أمور
الأول أنه لعله آنس من الكبرى رفقا به ولين عريكة في خدمته
الثاني أنها سبقت الصغرى إلى خدمته فلعلها كانت أحن عليه
498

الثالث أنه توقع أن يميل إليها لأنه رآها في رسالته وما شاها في إقباله إلى أبيها معها فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره لكن عرض عليه شرطه ليبرئها مما يمكن أن يتطرق الوهم إليه
المسألة الثامنة قوله (* (على أن تأجرني ثماني حجج) *) من الآية 27
فذكر له لفظ الإجارة ومعناها
وقد اختلف علماؤنا في جعل المنافع صداقا على ثلاثة أقوال وكرهه مالك ومنعه ابن القاسم وأجازه غيرهما
وقد قال ابن القاسم يفسخ قبل البناء ويثبت بعده
وقال أصبغ إن نقد معه شيء ففيه اختلاف وإن لم ينقد فهو أشد فإن ترك مضى على كل حال بدليل قصة شعيب قاله مالك وابن المواز وأشهب وعول على هذه الآية جماعة من أئمة المتأخرين في هذه النازلة
قال القاضي صالح مدين زوج ابنته من صالح بني إسرائيل وشرط عليه خدمته في غنمه ولا يجوز أن يكون صداق فلانة خدمة فلان ولكن الخدمة لها عوض معلوم عندهم استقر في ذمة صالح مدين لصالح بني إسرائيل وجعله صداقا لابنته وهذا ظاهر
المسألة التاسعة
فإن وقع النكاح بجعل فقال ابن القاسم في سماع يحيى لا يجوز ولا كراء له ولا أجرة مثله وما ذكر الله في قصة موسى عليه السلام فالإسلام بخلافه
قال الإمام الحافظ رضي الله عنه ليس في قصة موسى عليه السلام جعل إنما فيه إجارة وليس في الإسلام خلافه بل فيه جوازه في قصة الموهوبة وهو يجوز النكاح بعدد مطلق وهو مجهول فكيف لا يجوز على تعليم عشرين سورة وهذا أقرب إلى التحصيل
وقد روى أبو داود في حديث الموهوبة علمها عشرين سورة وهي امرأتك
499

المسألة العاشرة
قال أبو حنيفة لا يجوز أن تكون منافع الحر صداقا ويجوز ذلك في منافع العبد
وقال الشافعي يجوز ذلك كله ونزع أبو حنيفة بأن منافع الحر ليست بمال لأن الملك لا يتطرق إليها بخلاف العبد فإنه مال كله
وهذا باطل فإن منافع الحر مال بدليل جواز بيعها بالمال ولو لم تكن مالا ما جاز أخذ العوض عنه مالا لأنه كان يدخل في أكل المال بالباطل بغير عوض والصداق بالمنافع إنما جاء في هذه الآية وفي الحديث فمنافع الأحرار ومنافع العبيد محمولة عليه فكيف يسقط الأصل ويحمل الفرع على أصل ساقط وقد مهدناه في مسائل الخلاف
المسألة الحادية عشرة
إذا ثبت جواز الصداق إجارة ففي قوله (* (على أن تأجرني) *) ذكر للخدمة مطلقا
وقال مالك إنه جائز ويحمل على المعروف
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز لأنه مجهول
ودليلنا أنه معلوم لأنه استحقاق لمنافعه فيما يصرف فيه مثله والعرف يشهد لذلك ويقضي به فيحمل عليه ويعضد هذا بظاهر قصة موسى فإنه ذكر إجارة مطلقة على أن أهل التفسير ذكروا أنه عين له رعية الغنم ولم يرووا ذلك من طريق صحيحة ولكن قالوا إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم فكان ما علم من حاله قائما مقام تعيين الخدمة فيه
وعلى كلا الوجهين فإن المسألة لنا فإن المخالف يرى أن ما علم من الحال لا يكفي في صحة الإجارة حتى يسمى
وعندنا أنه يكفي ما علم من الحال وما قام من دليل العرف فلا يحتاج إلى التسمية في الخدمة والعرف عندنا أصل من أصول الملة ودليل من جملة الأدلة وقد مهدناه قبل وفي موضعه من الأصول
500

المسألة الثانية عشرة
قال علماؤنا إن كان آجره على رعاية الغنم فالإجارة على رعاية الغنم على ثلاثة أقسام
إما أن تكون مطلقة أو مسماة بعدة أو معينة
فإن كانت مطلقة جازت عند علمائنا
وقال أبو حنيفة والشافعي إنها لا تجوز لجهالتها
وعول علماؤنا على العرف وأنه يعطي على قدر ما تحتمل قوته وزاد بعض علمائنا أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدر قوته
وهذا صحيح فإن صالح مدين قد علم قدر قوة موسى برفع الحجر
وأما إن كانت معدودة فإن ذلك جائز اتفاقا
وإن كانت معدودة معينة ففيها تفصيل لعلمائنا
قال ابن القاسم لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت وهي رواية ضعيفة جدا قد بينا فسادها في كتب الفقه وقد استأجر صالح مدين موسى على غنمه وقد رآها ولم يشرط خلفا
المسألة الثالثة عشرة
قال بعضهم هذا الذي كان جرى من صالح مدين لم يكن ذكرا لصداق المرأة وإنما كان اشتراطا لنفسه على ما تفعله الأعراب فإنها تشترط صداق بناتها وتقول لي كذا في خاصة نفسي
قلنا هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر وهو حرام لا يليق بالأنبياء فأما إذا شرط الولي شيئا لنفسه فقد اختلف علماؤنا فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين
501

أحدهما أنه جائز
والآخر لا يجوز
والذي يصح عندي فيه التقسيم فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا فإن كانت ثيبا جاز لأن نكاحها بيدها وإنما يكون للولي مباشرة العقد ولا يمتنع العوض عنه كما يأخذه الوكيل على عقد البيع
وإن كانت بكرا كان العقد بيده فكأنه عوض في النكاح لغير الزوجة وذلك باطل فإن وقع فسخ قبل البناء وثبت بعده على مشهور الرواية وقد بيناه في مسائل الفقه
المسألة الرابعة عشرة
قال بعض العلماء لم يكن اشتراط صالح مدين على موسى مهرا وإنما كان كله لنفسه وترك المهر مفوضا ونكاح التفويض جائز
قلنا كانت بكرا ولا يجوز ذلك بما قدمناه ولا يظن بالفضلاء فكيف بالأنبياء صلوات الله عليهم
المسألة الخامسة عشرة
لم ينقل ما كانت أجرة موسى ولكن روى يحيى بن سلام أن صالح مدين جعل لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها فأوحى الله إلى موسى ألق عصاك بينهن يلدن خلاف شبههن كلهن
والذي روى عتبة بن المنذر السلمي وهو عتبة بن عبيد وكان من أصحاب النبي قال سئل رسول الله أي الأجلين أوفى موسى فقال رسول الله أوفاهما وأبرهما ثم قال رسول الله إن موسى لما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها عن نتاج غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون ذلك العام
فقال رسول الله لما وردت الحوض وقف موسى بإزاء الحوض فلم تمر به شاة
502

إلا ضرب جنبها بعصا فوضعت قوالب ألوان كلها اثنين وثلاثة كل شاة ليس منهن فشوش ولا ضبوب ولا كميشة ولا ثعول
الفشوش التي إذا مشت سال لبنها والضبوب التي ضرعها مثل الموزتين والكميشة الصغيرة الضرع التي لا يضبطها الحالب والقالب لون صنف واحد كله
ولو صحت هذه الرواية لكان فيها مسألتان
إحداهما
المسألة السادسة عشرة
وهي الوحي لموسى عليه السلام قبل الكلام وذلك بالإلهام أو بأن يكلمه الملك كهيئة الرجل كما روي أنه هداه في طريقه لمدين حين ضل وخاف ولكن لا يكون بذلك نبيا فليس كل من يكلمه الملك ويخبره بأمر مشكل يكون نبيا وقد وردت بذلك أخبار كثيرة
الثانية وهي
المسألة السابعة عشرة
الإجارة بالعوض المجهول فإن ولادة الغنم غير معلومة وإن من البلاد الخصبة ما يعلم ولادة الغنم فيها قطعا وعدتها وسلامة سخالها منها ديار مصر وغيرها بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا لأن النبي نهى عن الغرر وربما ظن بعضهم أن هذا في بلاد الخصب ليس بغرر لاطراد ذلك في العادة فيقال له ليس كما ظننت فإن النبي كما نهى عن الغرر نهى عن المضامين والملاقيح
والمضامين ما في بطون الأمهات والملاقيح ما في أصلاب الفحول أو على خلاف ذلك كما قال الشاعر
(ملقوحة في بطن ناب حامل
*)
503

حصة كل واحد من الشريكين من غير ضرورة إلى جمع السلعتين لا سيما ويمكن التوقي من ذلك بأن يذكر كل واحد منهما قيمة سلعته ويقع الثمن مقسوما على القيمة فيكون معروفا لا غرر فيه فلا يمنع العقد حينئذ عليهما
المسألة التاسعة عشرة في هذا اجتماع إجارة ونكاح
وقد اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال
الأول قال في ثمانية أبي زيد يكره ابتداء فإن وقع مضى
الثاني قال مالك وابن القاسم في المشهور لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده
الثالث أجازه أشهب وأصبغ
الرابع قال محمد قال ابن الماجشون إن بقي بعد المبيع يعني من القيمة ربع دينار يقابل البضع جاز النكاح وإلا لم يجز
وقد بينا توجيهات هذه الأقوال في كتب المسائل والصحيح جوازه وعليه تدل الآية
وقد قال مالك النكاح أشبه شيء بالبيوع فأي فرق بين أن يجمع بين بيع وإجارة أو بين بيع ونكاح وهو شبهه إلا من جهة الرجلين يجمعان سلعتهما وإذا كانتا لرجل واحد جاز والعاقد هنا واحد وهو الولي
المسألة الموفية عشرين
قال علماؤنا في هذه الآية دليل على أن النكاح إلى الولي لاحظ للمرأة فيه لأن صالح مدين تولاه وبه قال فقهاء الأمصار
وقال أبو حنيفة لا يفتقر النكاح إلى ولي وعجبا له متى رأى امرأة قط عقدت نكاح نفسها
ومن المشهور في الآثار لا نكاح إلا بولي وقال النبي أيما امرأة
505

نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له وقد بينا ذلك في سورة البقرة ومسائل الخلاف
المسألة الحادية والعشرون
هذا دليل على أن الأب يزوج ابنته البكر من غير استئمار قاله مالك واحتج بهذه الآية وهو ظاهر قوي في الباب
وقال به الشافعي وكثير من العلماء
وقال أبو حنيفة إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها أحد إلا برضاها لأنها بلغت حد التكليف فأما إذا كانت صغيرة فإنه يزوجها بغير رضاها لأنه لا إذن لها ولا رضاء بغير خلاف
والحديث الصحيح الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها وفي رواية الأيم واليتيمة تستأمر في نفسها
فقوله الثيب أحق بنفسها دليل قوي في الباب لأنه جعل العلة في كون المرأة أحق بنفسها كونها أيما وذلك لاختيارها مقاصد في النكاح وقد حققنا ذلك في مسائل الخلاف وتكلمنا على هذا الحديث بكل فائدة ولطيفة
واحتجاج مالك بهذه الآية يدل على أنه كان يعول على الإسرائيليات وفيها أنهما كانتا بكرين وبينا ذلك في شرح الموطأ ومسائل الخلاف
وربما ظن بعضهم أنه بناء على أن الأصل في البنات ترك النكاح حتى يثبت أنهن متزوجات وليس كذلك فإن الظاهر من النساء النكاح ومتى اجتمع أصل وظاهر وهي مسألة أصولية وقد بيناها في كتب الأصول وكذلك يقال إن أباها لما
506

قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين فأشار إليهما كان هذا أكثر من الاستئمار أو مثله فإن الكلام مع الإشارة إليها بضمير الحاضر إسماع لها
وإنما يخرج من الآية مسألة وهي الاكتفاء بصمت البكر وهو في حديث محمد ظاهر وفي شريعة الإسلام أبين منه في شرع موسى وبهذه الاحتمالات يتبين لك وجه استخراج الأحكام وما يعرض على الأدلة من الشبه فيقابل كل فن بما يصلح له ويرجح الأظهر ويقضى به
المسألة الثانية والعشرون
قد بينا في مسائل الفقه أن الكفاءة معتبرة في النكاح واختلف علماؤنا فيها هل هي في الدين والمال والحسب أو في بعضها وحققنا جواز نكاح الموالي للعربيات وللقرشيات
وأن المعول على قول الله تعالى (* (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) *) الحجرات 13
وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبا طريدا وحيدا جائعا عريانا فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه ورأى من حاله وأعرض عما سوى ذلك
ولا خلاف في إنكاح الأب وإنما الخلاف في اعتبار الكفاءة في إنكاح غير الأب من الأولياء إلا أن يطرحها الأب في عار يلحق القبيل ففيه خلاف وتفصيل عريض طويل بيناه في مسائل الخلاف والفروع فلينظر هنالك
المسألة الثالثة والعشرون
اختلف الناس هل دخل موسى عليه السلام حين عقد أم حين سافر
فإن كان دخل حين عقد فماذا نقد وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار قاله ابن القاسم
فإن دخل قبل أن ينقد مضى لأن المتأخرين من أصحابنا قالوا تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب على أنه إن كان الصداق رعيه الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة
وإن كان دخل حين سافر أو أكمل المدة وهي
507

المسألة الرابعة والعشرون
وطول الانتظار في النكاح جائز وإن كان مدى العمر بغير شرط
وأما إن كان بشرط فلا يجوز إلا لغرض صحيح مثل التأهب للبناء أو انتظار صلاحية الزوجة للدخول إن كانت صغيرة نص عليها علماؤنا
والظاهر أنه دخل في الحال وما كان صالح مدين يحبسه عن الدخول يوما وقد عقد له عليها حالا
المسألة الخامسة والعشرون قوله (* (ثماني حجج) *))
فنص على عقد الإجارة بينه وبين موسى مدة من ثمانية أعوام على رعيه الغنم والحيوان فتغير في الآماد الطويلة ولم ير ابن المواز العشرين سنة في العقد طولا ولا رأى في المدونة الخمسة عشر طولا ومنعها بعضهم في العشر سنين وهو أصح لسرعة التغير في الغالب إلى الأبدان في هذه المدة
وهذه الآية تقتضي ثماني سنين وبلغها بالطوع الذي لا يلزم عشرا وهو العدل
المسألة السادسة والعشرون
لما ذكر الشرط وأعقبه بالتطوع في العشر خرج كل واحد منهما على حكمه ولم يلحق الآخر بالأول ولا اشترك الفرض والتطوع ولذلك يكتب في العقود الشروط المتفق عليها ثم يقال وتطوع بكذا فيجري الشرط على سبيله والتطوع على حكمه
وقد أفرط بعضهم بأن قال يقال في العقد وتطوع بعد كمال العقد وهذا إفراط يخرج بقائله إلى التفريط فإنه قصر نظره على الحقيقة فيه وهي أنه إذا قال عقد معه كذا وشرط كذا وتطوع بكذا فقد انفصل الواجب من التطوع وتبين أن التطوع أخرجه عن لوازم العقد وقوله بعد ذلك وذلك بعد كمال العقد حشو لا حاجة إليه تكرار لا معنى له
508

المسألة السابعة والعشرون قوله (* (أيما الأجلين قضيت) *) القصص 28
المعنى ليس لك إن وفيت أحد الأجلين أن تتعدى علي بالمطالبة بالزائد عليه فلو قصر في العامين لم يكن عليه شيء وإن قصر في الثماني لكان عليه عدوان وهو أن يعدي عليه
وكيفية العدوان نبينه بأن نقول اختلف إذا استأجر على عمل حائط مثلا يتمه فله من الأجرة بقدر ما عمل إلا أن تكون مقاطعة فلا شيء له إلا أن يتمه إلا أن يكون العرف بالنقد فينقده ويلزمه تمامه وأكثر بناء الناس على المقاطعة إذا سمى له مثل أن يقول استأجرتك على بنيان هذه الدار شهرا أو نصفا أو شهرين وإن أطلق القول وقال تبني هذه الدار كل يوم بدرهم فكلما بنى أخذ أو تبني هذا الباب أو هذا الحائط فهو مثله
وكذلك كانت إجارة موسى مقاطعة فلها حكم المقاطعة وفي ذلك تفصيل طويل يأتي في كتب المسائل
تحريره أن العمل في الإجارة إما يتقدر بالزمان أو بصفة العمل الذي يضبط فإن كان بالزمان فهو مقدر به لازم في مدته وإن كان بالعمل فإنه يضبط بصفته ويلزم الأجير تمام المدة أو تمام الصفة وليس له ترك ذلك ولا يستحق شيئا من الأجرة إذا كان هكذا إلا بتمام العمل
المسألة الثامنة والعشرون قوله تعالى (* (والله على ما نقول وكيل) *))
اكتفى الصالحان بالله في الإشهاد ولم يشهدا أحدا من الخلق
وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح على قولين
أحدهما أن النكاح لا ينعقد إلا بشاهدين وبه قال أبو حنيفة والشافعي
وقال مالك إنه ينعقد دون شهود وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح
وقد مهدنا هذه المسألة في كتب الخلاف وبينا أنه عقد معاوضة فلا يشترط
509

لانعقاده الإشهاد كالبيع وإنما شرطنا الإعلان للحديث المشهور الصحيح فرق ما بين النكاح والسفاح الدف
وربما نزع نازع بأن الإشهاد في البيع لازم واجب وقد بينا ذلك في سورة البقرة
وقد أخبرنا أبو المعالي ثابت بن بندار قال أخبرنا الرفاء الحافظ حدثنا أبو بكر الإسماعيلي حدثنا أبو بكر المروزي حدثنا عاصم بن علي حدثنا الليث وأخبرني موسى بن العباس حدثنا محمد بن الفضل حدثنا آدم حدثنا الليث بن سعد حدثنا حفص بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة قال قال رسول الله إن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار قال أتيتني بالشهداء أشهدهم قال كفى بالله شهيدا قال أتيتني بالكفيل قال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى
فخرج في البحر فقضى حاجته والتمس مركبا يركبه لئلا يقدم عليه الأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها وأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها ثم جاء بها إلى البحر فقال اللهم إنك تعلم أني تسلفت من فلان ألف دينار فسألني كفيلا فقلت له كفى بالله كفيلا فسألني شهيدا فقلت له كفى بالله شهيدا فرضي بذلك وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه بالذي له فلم أقدر وإني قد استودعتكها ورمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده
فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما نشرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الذي كان أسلفه وأتى بالألف دينار وقال والله ما زلت أجهد في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه
قال هل كنت بعثت إلي بشي قال نعم وأخبرتك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئتك فيه قال بلى والله قد أدى الله عنك الذي بعثت به فانصرف بالألف دينار راشدا
510

المسألة التاسعة والعشرون قوله تعالى (* (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) *) القصص 29
دليل على أن للرجل أن يذهب بأهله حيث شاء لما له عليها من فضل القوامية وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمرا فالمؤمنون عند شروطهم وأحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج
المسألة الموفية ثلاثين
قال علماؤنا لما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحن إلى وطنه وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغرار وتركب الأخطار وتعلل الخواطر ويقول لما طالت المدة لعله قد نسيت التهمة وبليت القصة
الآية السابعة
قوله تعالى (* (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) *) الآية 55
فيها مسألتان
المسألة الأولى في المراد بذلك
أربعة أقوال
الأول أنهم قوم من اليهود أسلموا فكان اليهود يلقونهم بالسب والشتم فيعرضون عنهم قاله مجاهد
الثاني قوم من اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيره اليهود من التوراة وبدلوه من نعت رسول الله وصفته أعرضوا عنه وذكروا الحق
الثالث أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه
الرابع أنهم أناس من أهل الكتاب لم يكونوا يهودا ولا نصارى وكانوا على دين
511

الله وكانوا ينتظرون بعث محمد فلما سمعوا به بمكة قصدوه فعرض عليهم القرآن فأسلموا فكان الكفار من قريش يقولون لهم أف لكم من قوم اتبعتم غلاما كرهه قومه وهم أعلم به منكم
المسألة الثانية (* (وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم) *))
يريد لنا حقنا ولكم باطلكم سلام عليكم
قال علماؤنا ليس هذا بسلام المسلمين على المسلمين وإنما هو بمنزلة قول الرجل للرجل اذهب بسلام أي تاركني وأتاركك
ويحتمل أن يكون قبل تبيان الحال للتحية بالسلام واختصاصها بالمسلمين وخروج الكفار عنها حسبما بيناه من قبل
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) *) الآية 77
فيها مسألتان
المسألة الأولى في معنى النصيب
وفيه ثلاثة أقوال
الأول لا تنس حظك من الدنيا أي لا تغفل أن تعمل في الدنيا للآخرة كما قال ابن عمر احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا
الثاني أمسك ما يبلغك فذلك حظ الدنيا وأنفق الفضل فذلك حظ الآخرة
الثالث لا تغفل شكر ما أنعم الله عليك
المسألة الثانية (* (وأحسن كما أحسن الله إليك) *))
ذكر فيه أقوال كثيرة جماعها استعمل نعم الله في طاعته
512

وقال مالك معناها تعيش وتأكل وتشرب غير مضيق عليك في رأي
قال القاضي أرى مالكا أراد الرد على من يرى من الغالين في العباد التقشف والتقصف والبأساء فإن النبي كان يأكل الحلوى ويشرب العسل ويستعمل الشواء ويشرب الماء البارد ولهذا قال الحسن أمر أن يأخذ من ماله قدر عيشه ويقدم ما سوى ذلك لآخرته وأبدع ما فيه عندي قول قتادة ولا تنس الحلال فهو نصيبك من الدنيا وياما أحسن هذا
513

سورة العنكبوت
فيها أربع آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) *) الآية 8
تقدم في سورة سبحان ذكر ذلك
الآية الثانية
قوله تعالى (* (ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) *) الآية 28
وقد تقدم القول فيها ويحق أن نعيده لعظمه وقد نادى الله عليهم بأنهم أول من اقتحم هذا ولقد قال النبي فينا من رواية عبد الله بن عمر وليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانية كان في أمتي من يصنع ذلك
وقد روى ابن وهب وغيره أن النبي قال فيه اقتلوا الفاعل والمفعول به ولقد كتب خالد بن الوليد في ذلك إلى أبي بكر الصديق فكتب إليه أبو بكر عليه الرجم
514

وتابعه على ذلك أصحاب رسول الله فقال علي بن أبي طالب أن العرب تأنف من العار وشهرته أنفا لا تأنفه من الحدود التي تمضي في الأحكام فأرى أن تحرقه بالنار
فقال أبو بكر صدق أبو الحسن فكتب إلى خالد أن أحرقه بالنار ففعل فقال ابن وهب لا أرى خالدا أحرقه إلا بعد قتله لأن النار لا يعذب بها إلا الله تعالى
قال القاضي ليس كما زعم ابن وهب كان علي يرى الحرق بالنار عقوبة ولذلك كان ما أخبرنا أبو المعالي ثابت بن بندار البرقاني الحافظ أخبرنا الإسماعيلي حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي حدثنا محمد بن عباد حدثنا إسماعيل قال رأيت عمرو بن دينار وأيوب وعمارا الرهيني اجتمعوا فتناكروا الذين حرقهم علي فحدث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أنه لما بلغه قال لو كنت أنا ما أحرقتهم لقول رسول الله لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم لقول النبي من ترك دينه فاقتلوه فقال عمار لم يكن حرقهم ولكنه حفر لهم حفائر وخرق بعضها إلى بعض ثم دخن عليهم حتى ماتوا فقال عمار قال الشاعر
(لترم بي المنايا حيث شاءت
* إذا لم ترم بي في الحفرتين)
(إذا ما أججوا حطبا ونارا
* هناك الموت نقدا غير دين)
ومن حديث يحيى بن بكير ما يصدق ذلك عن علي أنه وجد في ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة كان اسمه الفجاءة فاستشار أبو بكر أصحاب رسول الله وفيهم علي بن أبي طالب وكان يومئذ أشد فيهم قولا فقال علي إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما علمتم أرى أن يحرق بالنار
فاجتمع رأي أصحاب رسول الله أن يحرق بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد
515

ابن الوليد أن يحرقهم بالنار فأحرقهم بالنار ثم أحرقهم ابن الزبير في زمانه ثم أحرقهم هشام بن عبد الملك ثم أحرقهم خالد القسري بالعراق
وقد روي أن عبد الله بن الزبير أتي بسبعة أخذوا في لواط فسأل عنهم فوجدوا أربعة قد أحصنوا فأمر بهم فخرج بهم من الحرم ثم رجموا بالحجارة حتى ماتوا وجلد الثلاثة حتى ماتوا بالحد قال وعنده ابن عباس وابن عمر فلم ينكرا عليه
وقد ذهب الشافعي إلى هذا والذي صار إليه مالك أحق وهو أصح سندا وأقوى معتمدا حسبما بيناه قبل هذا
وقد روي عن ابن عباس أنه سئل عن حد اللواط فقال يصعد به في الجبل ثم يردى منه ثم يتبع بالحجارة
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) *) الآية 45
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في قوله تعالى (* (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) *) قولان
أحدهما ما دام فيها
والثاني ما دام فيها وفيما بعدها
قال ابن عباس قال رسول الله من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يردد من الله إلا بعدا
قال القاضي قال شيوخ الصوفية المعنى فيها أيضا أن من شأن المصلي أن ينهى
516

عن الفحشاء والمنكر كما من شأن المؤمن أن يتوكل على الله كما قال (* (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) *) المائدة 23
وكما لا يخرج المؤمن بترك التوكل على الله عن الإيمان كذلك لا يخرج المصلي عن الصلاة بأن صلاته قصرت عن هذه الصفة
وقال مشيخة الصوفية الصلاة الحقيقية ما كانت ناهية فإن لم تنهه فهي صورة صلاة لا معناها ومعنى ذلك أن وقوفه بين يدي مولاه ومناجاته له إن لم تدم عليه بركتها وتظهر على جوارحه رهبتها حتى يأتي عليه صلاة أخرى وهو في تلك الحالة وإلا فهو عن ربه معرض وفي حال مناجاته غافل عنه
المسألة الثانية الفحشاء
الدنيا فتنهاه الصلاة عنها حتى لا يكون لغير الصلاة حظ في قلبه كما قال النبي وجعلت قرة عيني في الصلاة
وقيل الفحشاء المعاصي وهو أقل الدرجات فمن لم تنهه صلاته عن المعاصي ولم تتمرن جوارحه بالركوع والسجود حتى يأنس بالصلاة وأفعالها أنسا يبعد به عن اقتراف الخطايا وإلا فهي قاصرة
المسألة الثالثة المنكر
وهو كل ما أنكره الشرع وغيره ونهى عنه
المسألة الرابعة (* (ولذكر الله أكبر) *))
فيها أربعة أقوال
الأول ذكر الله لكم أفضل من ذكركم له أضاف المصدر إلى الفاعل
الثاني ذكر الله أفضل من كل شيء
الثالث ذكر الله في الصلاة أفضل من ذكره في غيرها يعني لأنها عبادتان
517

الرابع ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة وهذه كلها من إضافة المصدر إلى المفعول
وهذا كله صحيح فإن الصلاة بركة عظيمة
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) *) الآية 46
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال قتادة وهي منسوخة بآية القتال فإنه رفع الجدال
المسألة الثانية
قد بينا في القسم الثاني أنها ليست منسوخة وإنما هي مخصوصة لأن النبي عليه السلام بعث باللسان يقاتل به في الله ثم أمره الله بالسيف واللسان حتى قامت الحجة على الخلق لله وتبين العناد وبلغت القدرة غايتها عشرة أعوام متصلة فمن قدر عليه قتل ومن امتنع بقي الجدال في حقه ولكن بما يحسن من الأدلة ويجمل من الكلام بأن يكون منك للخصم تمكين وفي خطابك له لين وأن تستعمل من الأدلة أظهرها وأنورها وإذا لم يفهم المجادل أعاد عليه الحجة وكررها كما فعل الخليل مع الكافر حين قال له إبراهيم (* (ربي الذي يحيي ويميت) *) البقرة 258 فقال له الكافر أنا أحيي وأميت فحسن الجدال ونقل إلى أبين منه بالاستدلال وقال إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب وهو انتقال من حق إلى حق أظهر منه ومن دليل إلى دليل أبين منه وأنور
المسألة الثالثة قوله (* (إلا الذين ظلموا) *))
فيها أربعة أقوال
518

الأول أهل الحرب
الثاني مانعو الجزية
الثالث من بقي على المعاندة بعد ظهور الحجة
الرابع الذين ظلموا في جدالهم بأن خلطوا في إبطالهم
وهذه الأقوال كلها صحيحة مرددة وقد كانت للنبي مجادلات مع المشركين ومع أهل الكتاب وآيات القرآن في ذلك كثيرة وهي أثبت في المعنى
وقد قال لليهود (* (إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم) *) البقرة 94 95 فما أجابوا جوابا
وقال لهم (* (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) *) آل عمران 59 أي إن كنتم أبعدتم ولدا بغير أب فخذوا ولدا دون أب ولا أم
وقال (* (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) *) آل عمران 64
وقال (* (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق) *) المائدة 18
وقال عمران بن حصين قال النبي لأبي حصين يا حصين كم إلها تعبد اليوم قال إني أعبد سبعة واحدا في السماء وستا في الأرض قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء قال يا حصين أما إنك إن أسلمت علمتك وذكر الحديث
519

سورة الروم
فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون) *) الآية 4
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى الترمذي وغيره واللفظ له عن أبي سعيد الخدري قال لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت (* (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض) *) إلى قوله (* (يفرح المؤمنون بنصر الله) *) قال ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس
وذكر عن ابن عباس قال غلبت الروم وغلبت كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم وإياهم كانوا أهل كتاب فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله فقال أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل أجلا خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك للنبي عليه السلام فقال ألا أخفضت وفي رواية ألا أحبطت وفي رواية ألا جعلته إلى دون أراه العشرة
520

قال أبو سعيد والبضع ما دون العشرة ثم ظهرت الروم فذلك قوله تعالى (* (ألم غلبت الروم) *) إلى قوله (* (يفرح المؤمنون بنصر الله) *)
قال سفيان سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب
وروي ايضا عن نيار بن مكرم الأسلمي قال لما نزلت (* (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) *) الروم 1 4 وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب وذلك قوله (* (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) *) فكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة (* (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) *) قال ناس من قريش لأبي بكر فذلك بيننا وبينكم زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك قال بلى وذلك قبل تحريم الرهان
فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينكم وسطا
قال فسموا بينهم ست سنين
قال فمضت الست سنين قبل أن يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فعاب المشركون على أبي بكر تسمية ست سنين لأن الله تعالى قال في بضع سنين
قال وأسلم عند ذلك ناس كثير فهذه أحاديث صحاح حسان غراب
521

المسألة الثانية في هذا الحديث جواز المراهنة
وقد نهى النبي بعد ذلك عن الغرر والقمار وذلك نوع منه ولم يبق للرهان جواز إلا في الخيل حسبما بينا في كتب الحديث والفقه
المسألة الثالثة قوله (* (في بضع سنين) *))
البضع فيه لأهل اللغة خمسة أقوال
الأول أنه ما بين اثنين إلى عشرة أو اثني عشر إلى عشرين فيقال بضع عشرة في جمع المذكر وبضعة عشر في جمع المؤنث
الثاني البضع سبعة قاله الخليل
الثالث البضع من الثلاث إلى التسع
الرابع قال أبو عبيدة هو ما بين نصف العقدين يريد ما بين الواحد إلى الأربعة
الخامس هو ما بين خمس إلى سبع قاله يعقوب عن أبي زيد
ويقال بكسر الباء وفتحها قال أكثرهم ولا يقال بضع ومائة وإنما هو إلى التسعين
والصحيح أنه ما بين الثلاث إلى العشر وبذلك يقضي في الإقرار وقد بيناه في فروع الأحكام
الآية الثانية
قوله تعالى (* (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) *) الآية 17
وقد تقدم بيانها مع نظرائها من آيات الصلاة
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) *) الآية 39
522

فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
بينا الربا ومعناه في سورة البقرة وشرحنا حقيقته وحكمه وهو هناك محرم وهنا محلل وثبت بهذا أنه قسمان منه حلال ومنه حرام
المسألة الثانية في المراد بهذه الآية
فيه ثلاثة أقوال
الأول أنه الرجل يهب هبة يطلب أفضل منها قاله ابن عباس
الثاني أنه الرجل في السفر يصحبه رجل يخدمه ويعينه فيجعل المخدوم له بعض الربح جزاء خدمته لا لوجه الله قاله الشعبي
الثالث الرجل يصل قرابته يطلب بذلك كونه غنيا لا صلة لوجه الله قاله إبراهيم
المسألة الثالثة
أما من يصل قرابته ليكون غنيا فالنية في ذلك متنوعة فإن كان ليتظاهر به دنيا فليس لوجه الله تعالى وإن كان ذلك لما له من حق القرابة وبينهما من وشيجة الرحم فإنه لوجه الله تعالى
وأما من يعين الرجل بخدمته في سفره بجزء من ماله فإنه للدنيا لا لوجه الله ولكن هذا المربي ليس ليربو في أموال الناس وإنما هو ليربو في مال نفسه وصريح الآية فيمن يهب يطلب الزيادة من أموال الناس في المكافأة وذلك له
وقد قال عمر بن الخطاب أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى منها
وقال الشافعي الهبة إنما تكون لله أو لجلب المودة كما جاء في الأثر تهادوا تحابوا
523

وهذا باطل فإن العرف جار بأن يهب الرجل الهبة لا يطلب إلا المكافأة عليها وتحصل في ذلك المودة تبعا للهبة
وقد روي أن النبي أثاب على لقحة ولم ينكر على صاحبها حين طلب الثواب إنما أنكر سخطه للثواب وكان زائدا على القيمة
وقد اختلف علماؤنا فيما إذا طلب الواهب في هبته زائدا على مكافأته وهي
المسألة الرابعة
فإن كانت الهبة قائمة لم تتغير فيأخذ ما شاء أو يردها عليه
وقيل تلزمه القيمة كنكاح التفويض
وأما إذا كان بعد فوات الهبة فليس له إلا القيمة اتفاقا
وقد قال تعالى (* (ولا تمنن تستكثر) *) المدثر 6 أي لا تعط مستكثرا على أحد التأويلات ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى
524

سورة لقمان
فيها خمس آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) *) الآية 6
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى (* (لهو الحديث) *))
هو الغناء وما اتصل به فروى الترمذي والطبري وغيرهما عن أبي أمامة الباهلي أن النبي قال لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهن ولا أثمانهن وفيهن أنزل الله تعالى (* (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم) *) الآية
وروى عبد الله بن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال قال رسول الله من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنيه الآنك يوم القيامة
وروى ابن وهب عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر أن الله يقول يوم القيامة أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان
525

أدخلوهم في رياض المسك ثم يقول للملائكة أسمعوهم حمدي وشكري وثنائي عليهم وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
ومن رواية مكحول عن عائشة قالت قال رسول الله من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه
الثاني أنه الباطل
الثالث أنه الطبل قاله الطبري
المسألة الثانية في سبب نزولها
وفيه قولان
أحدهما أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يجلس بمكة فإذا قالت قريش إن محمدا قال كذا وكذا ضحك منه وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ويقول حديثي هذا أحسن من قرآن محمد
الثاني أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية فشغل الناس بلهوها عن استماع النبي
المسألة الثالثة
هذه الأحاديث التي أوردناها لا يصح منها شيء بحال لعدم ثقة ناقليها إلى من ذكر من الأعيان فيها
وأصح ما فيه قول من قال إنه الباطل
فأما قول الطبري إنه الطبل فهو على قسمين طبل حرب وطبل لهو فأما طبل الحرب فلا حرج فيه لأنه يقيم النفوس ويرهب على العدو وأما طبل اللهو فهو كالدف وكذلك آلات اللهو المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه لما يحسن من الكلام ويسلم من الرفث
526

وأما سماع القينات فقد بينا أنه يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها فكيف يمنع من التلذذ بصوتها ولم يجز الدف في العرس لعينه وإنما جاز لأنه يشهره فكل ما أشهره جاز
وقد بينا جواز الزمر في العرس بما تقدم من قول أبي بكر أمزمار الشيطان في بيت رسول الله فقال دعهما يا أبا بكر فإنه يوم عيد ولكن لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث فإذا خرج ذلك إلى ما لا يجوز منع من أوله واجتنب من أصله
الآية الثانية
قوله تعالى (* (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد) *) الآية 12
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في ذكر لقمان
وفيه سبعة أقوال
الأول قال سعيد بن المسيب كان لقمان أسود من سودان مصر حكيما ذا مشافر ولم يكن نبيا
الثاني قال قتادة خيره الله بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة فأتاه جبريل وهو نائم فقذف عليه الحكمة فأصبح ينطق بها فسئل عن ذلك فقال إنه لو أرسل إلي النبوة عزمة لرجوت الفوز بها ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة
الثالث أنه كان من النوبة قصيرا أفطس
527

الرابع أنه كان حبشيا
الخامس أنه كان خياطا
السادس أنه كان راعيا فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك قال ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس قال بلى قال فما بلغ بك ما أرى قال قدر الله وأداء الأمانة وصدق الحديث وترك ما لا يعنيني
السابع أنه كان عبدا نجارا قال له سيده اذبح شاة وأتني بأطيبها بضعتين فأتاه بالقلب واللسان ثم أمره بذبح شاة وقال له ألق أخبثها بضعتين فألقى اللسان والقلب فقال أمرتك أن تأتيني بأطيبها بضعتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تلقى أخبثها بضعتين فألقيت اللسان والقلب فقال ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا شيء أخبث منها إذا خبثا
المسألة الثانية
روى علماؤنا عن مالك أن لقمان قال لابنه يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهم إلى الآخرة سراعا يذهبون وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنت واستقبلت الآخرة
وإن دارا تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها
وقال لقمان يا بني ليس غني كصحة ولا نعمة كطيب نفس
وقال لقمان لابنه يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشهم اتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء فيصيبك معهم
وقال يا بني جالس العلماء وماشهم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم
وقال يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب الميتة بالعلم كما يحيي الأرض بوابل المطر
المسألة الثالثة
ذكر المؤرخون أنه كان لقمان بن عاد الأكبر وكان لقمان الأصغر وليس بلقمان المذكور في القرآن وكان لقمان هذا الذي تذكره العرب حكيما
528

وفي أخبارها أن أخت لقمان كانت امرأة محمقة وكان لقمان حكيما نجييا فقالت أخته لامرأته هذه ليلة طهري فهبي لي ليلتك طمعا في أن تعلق من أخيها بنجيب ففعلت فحملت من أخيها فولدت لقيم بن لقمان وفيه يقول النمر بن تولب
(لقيم بن لقمان من أخته
* فكان ابن أخت لها وابنما)
(ليالي حمق فاستحصنت
* عليه فغر بها مظلما)
(فقر به رجل محكم
* فجاءت به رجلا محكما))
المسألة الرابعة
ذكر مالك كلاما كثيرا من الحكمة عن لقمان وأدخل من حكمته فصلا في كتاب الجامع من موطئه لأن الله ذكره في كتابه وذكر من حكمته فصلا يعضده الكتاب والسنة لينبه بذلك على أن الحكمة تؤخذ من كل أحد وجائز أن يكون نبيا وجائز أن يكون عالما أي أوتي الحكمة وهي العمل بالعلم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور) *) الآية 18
فيها مسألتان
المسألة الأولى (* (ولا تصعر خدك) *))
يعني لا تمله عنهم تكبرا يريد أقبل عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا وإذا حدثك أحدهم فأصغ إليه حتى يكمل حديثه وكذلك كان يفعل رسول الله وقال الشاعر
(وكنا إذا الجبار صعر خده
* أقمنا له من ميله فتقوم)
يريد فتقوم أنت أمر ثم كسرت للقافية
529

المسألة الثانية قوله (* (ولا تمش في الأرض مرحا) *))
قد تقدم بيان ذلك في سورة سبحان
وفي الحديث الصحيح عن مالك وغيره بينما رجل يتبختر في برديه أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض وهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
وعنه صحيحا الذي يجر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة
وعنه مثله لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا
وعنه مثله عن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن الإزار فقال أبو سعيد أنا أخبركم بعلم سمعت رسول الله يقول إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما أسفل من ذلك ففي النار
قال القاضي روي أن المختال هو قارون وذلك أن هذه الأمة معصومة من الخسف
وفي بعض الآثار وفي صحيح الأخبار أنه سيخسف بجيش في البيداء يقصد البيت
وقد بينا ذلك في شرح الحديث أما أنه يتبختر فلم تخسف به الأرض حقيقة خسف به في العمل مجازا فلم يرق له عمل إلى السماء وهو أشد الخسف
530

الآية الرابعة
قوله تعالى (* (واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) *) الآية 19
فيها مسألتان
المسألة الأولى القصد في المشي يحتمل أن يريد به وجهين
أحدهما أن تكون السرعة ويحتمل التؤدة وكلاهما صحيح في موضعه
ويحتمل أن يريد به المشي بقصد لا يكون عادة بل يجري على حكم النية ولا يسترسل استرسال البهيمة والكل صحيح مراد والله أعلم
المسألة الثانية قوله (* (واغضض من صوتك) *))
يعني لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي
وقد قال عمر لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته لقد خشيت أن تنشق مريطاؤك
والمؤذن هو أبو محذورة سمرة بن معير والمريطاء ما بين السرة إلى العانة
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) *) الآية 14
يأتي في سورة الأحقاف إن شاء الله
531

سورة السجدة
فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون) *) الآية 16
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
المضاجع جمع مضجع وهي مواضع النوم ويحتمل وقت الاضطجاع ولكنه مجاز والحقيقة أولى وذلك كناية عن السهر في طاعة الله تعالى
المسألة الثانية إلى أي طاعة الله تتجافى
وفيه قولان
أحدهما ذكر الله والآخر الصلاة
وكلاهما صحيح إلا أن أحدهما عام والآخر خاص فإن قلنا إن ذلك في الصلاة فأي صلاة هي
في ذلك أربعة أقوال وهي
المسألة الثالثة
الأول أنها النفل بين المغرب والعشاء قاله قتادة
الثاني أنها العتمة قاله أنس وعطاء
الثالث أنها صلاة العتمة والصبح في جماعة قاله أبو الدرداء
532

الرابع أنه قيام الليل قاله مجاهد والأوزاعي ومالك
قال ابن وهب هو قيام الليل بعد النوم وذلك أثقله على الناس ومتى كان النوم حينئذ أحب فالصلاة حينئذ أحب وأولى
والقول في صلاة الليل مضى وسيأتي في سورة الزمر إن شاء الله تعالى
الآية الثانية
قوله تعالى (* (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) *) الآية 11
قال القاضي هذه الآية لم يذكرها من طالعت كلامه في جميع الأحكام القرآنية وذكرها القرطبي في كتب الفقه خاصة منتزعا بها لجواز الوكالة من قوله (* (الذي وكل بكم) *) وهذا أخذ من لفظه لا من معناه فإن كل فاعل غير الله إنما يفعل بما خلق الله فيه من الفعل لا بما جعل إليه حسبما بيناه في أصول الدين ولو اطرد ذلك لقلنا في قوله (* (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) *) الأعراف 158 أنها نيابة عن الله تعالى ووكالة في تبليغ رسالته ولقلنا أيضا في قوله (* (وآتوا الزكاة) *) إنه وكالة في أن الله ضمن الرزق لكل دابة وخص الأغنياء بالأغذية وأوعز إليهم بأن رزق الفقراء عندهم وأمرهم بتسليمه إليهم مقدرا معلوما في وقت معلوم ودبره بعلمه وأنفذه من حكمه وقدره بحكمته حسبما بيناه في موضعه
ولا تتعلق الأحكام بالألفاظ إلا أن ترد على موضوعاتها الأصلية في مقاصدها المطلوبة فإن ظهرت في غير مقصدها لم تعلق عليها مقاصدها ألا ترى أن البيع والشراء معلوم اللفظ والمعنى وقد قال الله تعالى (* (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) *) التوبة 111 الآية
ولا يقال هذه الآية دليل على جواز مبايعة السيد لعبده لأن المقصودين مختلفان
533

وهذا غرض شب طوق أصحابنا عنه فإذا أرادوا لبسه لم يستطيعوا جوبه ولا وجد امرؤ منهم جيبه
وقد تكلمنا على هذه الآية في المشكلين وأحسن ما قيدنا فيها عن الإسفرايني من طريق الشهيد أبي سعيد المقدسي أن الله هو الخالق لكل شيء الفاعل حقيقة لكل فعل في أي محل كان ومتى ترتب المحال وتناسقت الأفعال فالكل إليه راجعون وعلى قدرته محالون ومن فعله محسوب وفي كتابه مكتوب وقد خلق ملك الموت وخلق على يديه قبض الأرواح واستلالها من الأجسام وإخراجها منها على كيفية بيناها في كتب الأصول وخلق جندا يكونون معه يعملون عمله بأمره مثنى وفرادى والباري تعالى خالق الكل فأخبر عن الأحوال الثلاثة بثلاث عبارات فقال (* (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) *) الزمر 42 الآية إخبارا عن الفعل الأول وهو الحقيقة
وقال في الآية الأخرى (* (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) *) السجدة 11 الآية خبرا عن المحل الأول الذي نيط به وخلق فعله فيه
وقال (* (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) *) الأنفال. 5 وما أشبه ذلك من ألفاظ الحديث خبرا عن الحالة الثانية التي تباشر فيها ذلك فالأولى حقيقة عقلية إلهية والثانية حقيقة عرفية شرعية بحكم المباشرة
وقال ملك الموت إن باشر مثلها وإن أمر فهو كقولهم حد الأمير الزاني وعاقب الجاني وهذه نهاية في تحقيق القول
قال ابن العربي أما إنه إذا لم يكن بد من التسور على المعاني ودفع الجهل عنها في غير موضعها والإعراض عن المقاصد في ذلك فيقال إن هذه الآية دليل على أن للقاضي أن يستنيب من يأخذ الحق ممن هو عليه قسرا دون أن يكون له في ذلك فعل أو يرتبط به رضا إذا وجد ذلك
534

وهو التحقيق الحاضر الآن وتمامه في الكتاب الكبير
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) *) الآية 18
فيها مسألتان
المسألة الأولى فيمن نزلت
وقد روي أنها نزلت في علي بن أبي طالب المؤمن وفي عقبة بن أبي معيط الكافر فاخر عقبة عليا فقال أنا أبسط منك لسانا وأحد سنانا وأملأ في الكتيبة منك حشوا
فقال له علي ليس كما قلت يا فاسق
قال قتادة والله ما استويا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة
المسألة الثانية
في هذا القول نفي المساواة بين المؤمن والكافر وبهذا منع القصاص بينهما إذ من شروط وجود القصاص المساواة بين القاتل والمقتول وبذلك احتج علماؤنا على أبي حنيفة في قتله المسلم بالذمي
وقال أراد نفي المساواة هاهنا في الآخرة في الثواب وفي الدنيا في العدالة ونحن حملناه على عمومه وهو أصح إذ لا دليل يخصه حسبما قررناه في مسائل الخلاف
535

سورة الأحزاب
فيها أربع وعشرون آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) *) الآية 4
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
فيها أربعة أقوال
الأول أنها مثل ضربه الله لزيد بن حارثة وللنبي يقول ليس ابن رجل آخر ابنك
الثاني قال قتادة كان رجل لا يسمع شيئا إلا وعاه فقال الناس ما يعي هذا إلا لأن له قلبين فسمي ذا القلبين فقال الله تعالى (* (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) *) فكان ما قال
الثالث قال مجاهد إن رجلا من بني فهر قال إن في جوفي قلبين أعمل بكل واحد منهما عملا أفضل من عمل محمد
الرابع قيل لابن عباس أرأيت قول الله تعالى (* (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) *) ما عنى بذلك
536

قال قام نبي الله فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترون له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله تعالى الآية
المسألة الثانية قوله تعالى (* (من قلبين) *))
القلب بضعة صغيرة الجرم على هيئة الصنوبرة خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا للعلم والروح أيضا في قول يحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار يكتبه الله له فيه بالخط الإلهي ويضبطه فيه بالحفظ الرباني حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئا
وهو بين لمتين لمة من الملك ولمة من الشيطان كما تقدم بيانه في الحديث
وهو محل الخطرات والوساوس ومكان الكفر والإيمان وموضع الإصرار والإنابة ومجرى الانزعاج والطمأنينة
والمعنى في الآية أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان والهدى والضلال والإنابة والإصرار وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز
المسألة الثالثة قوله (* (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) *))
نهى الله سبحانه أن تكون الزوجة أما بقول الرجل هي علي كظهر أمي ولكنه حرمها عليه وجعل تحريم القول يمتد إلى غاية وهي الكفارة على ما يأتي بيانه في سورة المجادلة
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) *))
كان الرجل يدعو الرجل ابنا إذا رباه كأنه تبناه أي يقيمه مقام الابن فرد الله عليهم قولهم لأنهم تعدوا به إلى أن قالوا المسيح ابن الله وإلى أن يقولوا زيد بن محمد فمسخ الله هذه الذريعة وبت حبلها وقطع وصلها بما أخبر من إبطال ذلك
537

الآية الثانية
قوله تعالى (* (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما) *) الآية 5
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (ادعوهم لآبائهم) *))
روى الأئمة أن ابن عمر قال ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت (* (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) *)
وكان من قصة زيد بن حارثة أنه قال كان جبلة في الحي فقالوا أنت أكبر أم زيد فقال زيد أكبر مني وأنا ولدت قبله وسأخبركم عن ذلك
كانت أمنا امرأة من طيء فمات أبونا وبقينا في حجر جدي فجاء عماي فقالا لجدي نحن أحق بابن أخينا منك فقال ما عندنا خير لهما فأبيا فقال خذا جبلة ودعا زيدا فانطلقا بي فجاء خيل من تهامة فأصابت زيدا فتراقى به الأمر إلى خديجة فوهبته خديجة للنبي عليه السلام
وكان النبي إذا لم يغز وغزا زيد أعطاه سلاحه
وأهدي للنبي يوما مرجلان فأعطاه أحدهما وأعطى عليا الآخر
وقد روي أن حكيم بن حزام ابتاعه وكان مسبيا من الشام فوهبه لعمته خديجة فوهبته للنبي فتبناه النبي فكان أبوه يدور بالشام ويقول
(بكيت على زيد ولم أدر ما فعل
* أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل)
(فوالله ما أدري وإني لسائل
* أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل)
(فيا ليت شعري هل لك الدهر أوبة
* فحسبي من الدنيا رجوعك لي أمل)
538

(تذكرنيه الشمس عند طلوعها
* وتعرض ذكراه إذا غربها أفل)
(فإن هبت الأرواح هيجن ذكره
* فيا طول ما حزني عليه ويا وجل)
(سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا
* ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل)
(حياتي أو تأتي علي منيتي
* فكل امرئ فان وإن غره الأمل)
فأخبره أنه بمكة فجاء إليه فهلك عنده
وروى أنه جاء إليه فخيره النبي فاختار المقام عند النبي لسعادته وتبناه ورباه ودعي له على رسم العرب فقال الله تعالى (* (وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم
بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا) *) الآيات 4 5 6
فدعاه النبي لحارثة وعرفت كلب نسبه فأقروا به وأثبتوا نسبته
وهو أقسط عند الله أي أعدل عند الله قولا وحكما
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) *))
دليل قوي على أن من لا أب له من ولد دعي أو لعان لا ينتسب إلى أمه ولكنه يقال أخو معتقه ومولده إن كان حرا أو عبده إن كان رقا
فأما ولد الملاعنة إن كان حرا فإنه يدعى إلى أمه فيقال فلان ابن فلانة لأن أسبابه في انتسابه منقطعة فرجعت إلى أمه
المسألة الثالثة
فيه إطلاق اسم الأخوة دون إطلاق اسم الأبوة لأن المؤمنين إخوة قال الله تعالى (* (إنما المؤمنون إخوة) *) الحجرات 1
539

وقال النبي وددت أني رأيت إخواننا قالوا ألسنا بإخوانك قال بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ومواليكم) *))
يجوز إطلاق المولى على المنعم عليه بالعتق وعلى المعتق بلفظ واحد والمعنى مختلف ويرجع ذلك إلى الولاية وهي القرب كما ترجع الأخوة إلى أصل هو مقام الأبوة من الدين والصداقة
وللمولى ثمانية معان منها ما يجتمع أكثرها في الشيء الواحد ومنها ما يكون فيه من معاينة اثنين بحسب ما يعضده الاشتقاق ويقتضيه الحال وتوجيه الأحكام
المسألة الخامسة
قال جماعة هذا ناسخ لما كانوا عليه في الجاهلية من التبني والتوارث ويكون نسخا للسنة بالقرآن
وقد بينا في القسم الثاني أن هذا لا يكون نسخا لعدم شروط النسخ فيه ولأن ما جاء من الشريعة لا يقال إنه نسخ لباطل الخلق وما كانوا عليه من المحال والضلال وقبيح الأفعال ومسترسل الأعمال إلا أن يريد بذلك نسخ الاشتقاق بمعنى الرفع المطلق والإزالة المبهمة
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا) *) الآية 6
فيها ست مسائل
540

المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أن النبي لما أراد غزوة تبوك أمر الناس بالخروج فقال قوم نستأذن آباءنا وأمهاتنا فأنزل الله تعالى فيهم (* (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) *)
وفي رواية عكرمة وهو أبوهم وأزواجه أمهاتهم والحديث في غزوة تبوك موضوع
المسألة الثانية
روى الأئمة واللفظ للبخاري عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة عن النبي قال ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئتم (* (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) *) فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه
فانقلبت الآن الحال بالذنوب فإن تركوا مالا ضويق العصبة فيه وإن تركوا ضياعا أسلموا إليه فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي وتعيينه ولا عطر بعد عروس
المسألة الثالثة
(* (وأزواجه أمهاتهم) *)
ولسن لهم بأمهات ولكن أنزلن منزلتهن في الحرمة كما يقال زيد الشمس أي أنزل في حسنه منزلة الشمس وحاتم البحر أي أنزل في عموم جوده بمنزلة البحر كل ذلك تكرمة للنبي وحفظا لقلبه من التأذي بالغيرة
قال النبي للأنصار تعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني ولهذا قال (* (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا) *
541

* (أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) *) الأحزاب 53 ولم ينزل في هذه الحرمة أحد منزلة النبي ولا روعيت فيه هذه الخصيصة وإن غار وتأذى ولكنه محتمل مع حظ المنزلة من خفيف الأذى
المسألة الرابعة
قال بعض المفسرين حرم أزواج النبي على الخلق من بعده وإنما أخذه من قوله (* (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) *) فكل من طلق رسول الله وتخلى عنها في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة بينه وبينهن فقيل هي لمن دخل بها دون من فارقها قبل الدخول
وقد هم عمر برجم امرأة فارقها رسول الله فنكحت بعده فقالت له ولم وما ضرب علي رسول الله حجابا ولا دعيت أم المؤمنين فكف عنها
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وأزواجه أمهاتهم) *))
اختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء أم هن أمهات الرجال خاصة على قولين
فقيل ذلك عام في الرجال والنساء
وقيل هو خاص للرجال لأن المقصود بذلك إنزالهن منزلة أمهاتهم في الحرمة حيث يتوقع الحل والحل غير متوقع بين النساء فلا يحجب بينهن بحرمة
وقد روي أن امرأة قالت لعائشة يا أماه فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم وهو الصحيح
المسألة السادسة قوله تعالى (* (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) *))
وقد قدمنا القول في ذلك في سورة الأنفال
وثبت عن عروة أن رسول الله آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك فارتث كعب يوم أحد فجاء بن الزبير يقوده بزمام راحلته فلو مات يومئذ كعب عن الضح
542

والريح لورثه الزبير فأنزل الله تعالى (* (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم) *) الأنفال 75
فبين الله سبحانه أن القرابة أولى من الحلف فتركت الموارثة بالحلف وورثوا بالقرابة وقوله (* (من المؤمنين والمهاجرين) *) يتعلق حرف الجر بأولى وما فيه من معنى الفعل لا بقوله (* (وأولو الأرحام) *) بإجماع لأن ذلك كان يوجب تخصيصها ببعض المؤمنين ولا خلاف في عمومها وهذا حل إشكالها
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا) *) الآية 9
فيها أحكام وسير وقد ذكرها مالك وتكلم عليها وهي متضمنة غزوة الخندق والأحزاب وبني قريظة وكانت حال شدة معقبة بنعمة ورخاء وغبطة وذلك مذكور في تسع عشرة آية ويقتضي مسائل ثلاثا
المسألة الأولى
قال ابن وهب سمعت مالكا يقول أمر رسول الله بالقتال من المدينة وذلك قوله (* (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر) *) الأحزاب 1 قال ذلك يوم الخندق جاءت قريش من هاهنا واليهود من هاهنا والنجدية من هاهنا يريد مالك أن الذين جاؤوا من فوقهم بنو قريظة ومن أسفل منهم قريش وغطفان
قال ابن وهب وابن القاسم كانت وقعة الخندق سنة أربع وهي وبنو قريظة في يوم واحد وبين بني قريظة والنضير أربع سنين
وقال ابن إسحاق كانت غزوة الخندق سنة خمس
543

قال ابن وهب قال مالك بلغني أن عبد الله بن أبي بن سلول قال لسعد بن معاذ في بني قريظة حين نزلت على حكم سعد وجاء ليحكم فيهم وهو على أتان فمر به حتى لقيه عبد الله بن أبي المنافق قال أنشدتك الله يا سعد في إخواني وأنصاري ثلاثمائة فارس وستمائة راجل فإنهم جناحي وهم مواليك وحلفاؤك
فقال سعد قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم فحكم فيهم سعد أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم
وقال النبي لقد حكم فيهم سعد بحكم الملك زاد غيره من فوق سبعة أرقعة
فأتى ثابت بن قيس بن شماس إلى ابن باطا وكانت له عنده يد وقال قد استوهبتك من رسول الله ليدك التي لك عندي
قال كذلك يفعل الكريم بالكريم ثم قال وكيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل قال فأتى ثابت إلى رسول الله فذكر ذلك له فأعطاه أهله وولده فأتاه فأعلمه ذلك فقال وكيف يعيش رجل لا مال له فأتى ثابت النبي فطلبه فأعطاه ماله فرجع إليه فأخبره فقال ما فعل ابن أبي الحقيق الذي كأن وجهه مرآة صينية قال قتل فما فعل المجلسان يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة قال قتلوا قال فما فعلت القينتان قال قتلتا قال برئت ذمتك ولن أصب فيها دلوا أبدا يعني النخل فألحقني بهم فأبى أن يقتله وقتله غيره
واليد التي كانت لابن باطا عند ثابت أنه أسره يوم بعاث فجز ناصيته وأطلقه وكذلك قال ابن القاسم عنه وقال ابن وهب عنه إن رسول الله قال حين توفي سعد نخشى أن نغلب عليك كما غلبنا على حنظلة قال وكان قد أصيب في أكحله فانتقله النبي إليه
وكانت عائشة مع النبي يوم الخندق وذكرت أن رسول الله كان يتعاهد ثغرة من الجبل يحافظ عليها ثم يزلفه البرد ذلك اليوم فيأتي فيضطجع في حجري ثم
544

يقوم فسمعت حس رجل عليه حديد وقد أسند في الجبل فقال رسول الله من هذا فقال سعد بن أبي وقاص جئتك لتأمرني بأمرك
فأمره رسول الله يبيت في تلك الثغرة
قالت عائشة ونام رسول الله في حجري حتى سمعت غطيطه وكانت عائشة لا تنساها لسعد
قال مالك وانصرف النبي من آخر النهار فاغتسل فأتاه جبريل عليه السلام قال أوضعت اللأمة أو لم تضعها إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة
قال ابن القاسم عنه وقسم قريظة سهمانا فأما النضير فقسمها للمهاجرين الأولين ولثلاثة نفر من الأنصار وهم سهل بن حنيف وأبو دجانة والحارث بن الصمة
قال مالك وكانت النضير خالصة لرسول الله لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب
قال ابن وهب قال مالك وسمع رسول الله المسلمين يوم الخندق وهم يرتجزون
(اللهم إلا خير الآخرة
* فاغفر للأنصار والمهاجرة)
فقال رسول الله لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للمهاجرة والأنصار
قال أبو بكر أشهد أنك رسول الله قال الله تعالى (* (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) *) يس 69
وعن ابن القاسم مثله وقال مالك لم يستشهد يوم الخندق من المسلمين إلا أربعة أو خمسة
قال القاضي قال علماؤنا استشهد يوم الخندق من المسلمين ستة نفر سعد بن معاذ وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو وعبد الله بن سهل ثلاثة نفر ومن بني جشم ابن الخزرج ثم من بني سلمة الطفيل بن النعمان وثعلبة بن غنمة رجلان من بني سلمة وكعب بن زيد من بني النجار
545

وقتل من الكفار ثلاثة منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار ونوفل ابن عبد الله بن المغيرة المخزومي وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل فغلب المسلمون على جسده فروي عن الزهري أنهم أعطوا لرسول الله في جسده عشرة آلاف درهم فقال لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه فخلى بينهم وبينه
وعمرو بن عبد ود قتله علي في المبارزة اقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل على علي فتنازلا فغلبه علي بن أبي طالب وقال علي بن أبي طالب في ذلك
(نصر الحجارة من سفاهة رأيه
* ونصرت رب محمد بصواب)
(فصددت حين تركته متجدلا
* كالجذع بين دكادك وروابي)
(وعففت عن أثوابه ولو أنني
* كنت المقطر بزني أثوابي)
(لا تحسبن الله خاذل دينه
* ونبيه يا معشر الأحزاب)
قال ابن وهب وسمعت مالكا يقول إن رسول الله بعث محمد بن مسلمة الأنصاري وعباد بن بشير وأبا عباس الحارثي ورجلين آخرين إلى كعب بن الأشرف اليهودي ليقتلوه فبلغني أنهم قالوا يا رسول الله أتأذن لنا أن ننال منك إذا جئناه فأذن لهم
فخرجوا نحوه ليلا فلما جاؤوا ونادوه ليطلع إليهم وكان بين عباد بن بشير وبين ابن الأشرف رضاع فقالت له امرأته لا تخرج إليهم فإني أخاف عليك فقال والله لو كنت نائما ما أيقظوني
فخرج إليهم فقال ما شأنكم فقالوا جئنا لتسلفنا شطر وسق من تمر ووقعوا في النبي فقال أما والله لقد كنت نهيتكم عنه ثم قال بعضهم إنا لنجد منك ريح عبير
قال فأدنى إليهم رأسه وقال شموا فذلك حين ابتدروه فقتلوه فقال رسول الله تلك الليلة إني لأجد ريح دم كافر
546

المسألة الثانية
روى أنس بن مالك قال قال عمي أنس بن النضر سميت به لم يشهد بدرا مع رسول الله فكبر عليه فقال أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله فيما بعد ليرين الله ما أصنع قال وهاب أن يقول غيرها فشهد مع رسول الله يوم أحد من العام القابل فاستقبله سعد ابن معاذ فقال يا أبا عمرو أين قال واها لريح الجنة إني أجدها من دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون جراحة بين ضربة وطعنة ورمية
قالت عمتي الربيع بنت النضر فما عرفت أخي إلا ببنانه ونزلت هذه الآية (* (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) *) الأحزاب 23
وكذلك روى طلحة أن أصحاب رسول الله قالوا لأعرابي جاهل سله عمن قضى نحبه منهم وكانوا لا يجترئون على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي فأعرض عنه ثم سأله عنه فأعرض عنه ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر فلما رآني النبي قال أين السائل عمن قضى نحبه قال الأعرابي هأناذا يا رسول الله قال هذا ممن قضى نحبه
النحب النذر
المسألة الثالثة
قال ابن وهب قال مالك سمعت أن رسول الله كان انتقل إليه سعد بن معاذ يوم الخندق حين أصابته الجراح في خص عنده في المسجد فكان فيه وكان جرحه ينفجر ثم يفيق
منه فخرج منه دم كثير حتى سال في المسجد فمات منه
وبلغني أن سعد بن معاذ مر بعائشة رضي الله عنها ونساء معها في الأطم الذي يقال له فارع وعليه درع مقلصة مشمر الكمين وبه أثر صفرة وهو يرتجز
(لبث قليلا يشهد الهيجا حمل
* لا بأس بالموت إذا حان الأجل
547

فقالت عائشة إني لست أخاف أن يصاب سعد اليوم إلا من أطرافه فأصيب في أكحله
قال القاضي فروي أن الذي أصابه عاصم بن قيس بن العرقة فلما أصابه قال خذها مني وأنا ابن العرقة
فقال له سعد عرق الله وجهك في النار اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه اللهم إن كنت وضعت الحرب بيني وبينهم فاجعله شهادة لي ولا تميتني حتى تقر عيني من بني قريظة
وقد روي أن الذي أصابه أبو أسامة يعني الجشمي قال في ذلك شعرا لعكرمة ابن أبي جهل
(أعكرم هلا لمتني إذ تقول لي
* فداك بآطام المدينة خالد)
(ألست الذي ألزمت سعدا منية
* لها بين أثناء المرافق عاقد)
(قضى نحبه منها سعيد فأعولت
* عليه مع الشمط العذارى النواهد)
(وأنت الذي دافعت عنه وقد دعا
* عبيدة جمعا منهم إذ يكايد)
(على حين ما هو جائر عن طريقه
* وآخر مدعو على القصد قاصد)
وقد روي غير ذلك
وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالت عائشة ما رأيت رجلا أجمل من سعد بن معاذ حاشا رسول الله فأصيب في أكحله ثم قال اللهم إن كان حرب قريظة لم يبق منها شيء فاقبضني إليك وإن كان قد بقيت منها بيت فأبقني حتى أجاهد مع رسولك أعداءه
فلما حكم في بني قريظة توفي ففرح الناس بذلك وقالوا نرجو أن تكون قد استجيبت دعوته
قال ابن وهب وقال مالك وقال سعد اللهم إنك تعلم أني كنت أحب أن يقتلني قوم بعثت فيهم نبيك فكذبوه وأخرجوه فإن كنت تعلم أن الحرب قد بقيت بيننا
548

وبينهم فأبقني وإن كنت تعلم أنه لم يبق منها شيء فاقبضني إليك فلما توفي سعد تباشر أصحاب رسول الله بذلك
وقال ابن القاسم حدثني يحيى بن سعيد لقد نزل بموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما نزلوا الأرض قبلها
وقال مالك قوله (* (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) *) الأحزاب 21 يعني في رجوعه من الخندق
وقال ابن وهب عنه كانت وقعة الخندق في برد شديد وما صلى رسول الله الظهر والعصر يوم الخندق إلى حين غابت الشمس
وقال ابن القاسم عنه لما انصرف عن الخندق وضع السلاح ولا أدري اغتسل أم لا فأتاه جبريل فقال يا محمد أتضعون اللأمة قبل أن تخرجوا إلى قريظة لا تضعوا السلاح حتى تخرجوا إلى بني قريظة فصاح رسول الله ألا يصلي أحد صلاة العصر إلا في بني قريظة
فصلى بعض الناس لفوات الوقت ولم يصل بعض حتى لحقوا بني قريظة اتباعا لقول رسول الله
فهذه الآيات التسع عشرة نزلن في شأن الأحزاب بما اندرج فيها من الأحكام مما قد بيناه في موضعه وشرحناه عند وروده فلم يكن لتكراره معنى وما خرج عن ظاهر القرآن فهو من الحديث يشرح في موضعه
وقد بقيت آية واحدة وهي تتمة عشرين آية نزلت في الأحزاب وهي قوله (* (وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه) *) النور 62 وقد بيناها هنالك
والذي أخبر الله عنه بالاستئذان وقوله (* (إن بيوتنا عورة) *) الأحزاب 13 أوس بن قيظي والذين (* (عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار) *) هم بنو حارثة وبنو سلمة على ما جرى عليهم في أحد وندموا ثم عادوا في الخندق وقد
549

أثنى الله عليهم في غزوة أحد بقوله (* (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) *) آل عمران 122
قال جابر وما وددت أنها لم تنزل لقوله والله وليهما
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) *) الآيتان 28 29
فيها ثمان عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفيه خمسة أقوال
الأول أن الله سبحانه صان خلوة نبيه وخيرهن ألا يتزوجن بعده فلما اخترنه أمسكهن قاله مقاتل بن حيان
الثاني أن الله سبحانه خير نبيه بين الدنيا والآخرة فجاءه الملك الموكل بخزائن الأرض بمفاتحها وقال له إن الله خيرك بين أن تكون نبيا ملكا وبين أن تكون عبدا نبيا فنظر رسول الله إلى جبريل كالمستشير فأشار إليه أن تواضع فقلت بل نبيا عبدا أجوع يوما وأشبع يوما فقال النبي اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين
فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير أزواجه ليكن على مثاله قاله ابن القاسم
الثالث أن أزواجه طالبنه بما لا يستطيع فكانت أولاهن أم سلمة سألته سترا معلما فلم يقدر عليه وسألته ميمونة حلة يمانية وسألته زينب بنت جحش ثوبا مخططا وسألته أم حبيبة ثوبا سحوليا وسألته سودة بنت زمعة قطيفة خيبرية وكل
550

واحدة منهن طلبت منه شيئا إلا عائشة فأمر بتخييرهن حكاه النقاش وهذا بهذا اللفظ باطل
والصحيح ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال جاء أبو بكر يستأذن على رسول الله فوجد الناس جلوسا عند بابه لم يأذن لأحد منهم قال فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له بالدخول فوجد النبي جالسا وحوله نساؤه واجما ساكتا قال فقال أبو بكر لأقولن شيئا يضحك النبي فقال أرأيت يا رسول الله بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله وقال هن حولي كما ترى يسألنني النفقة
فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول تسألن رسول الله ما ليس عنده
ثم اعتزلهن شهرا ثم أنزلت عليه آية التخيير (* (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا) *)
فقد خرج من هذا الحديث الصحيح أن عائشة طلبته أيضا فتبين بطلان قول النقاش
الرابع أن أزواجه اجتمعن يوما فقلن نريد ما تريد النساء من الحلي والثياب حتى قال بعضهن لو كنا عند غير رسول الله لكان لنا حلي وثياب وشأن فأنزل الله تعالى تخييرهن قاله النقاش
الخامس أن أزواجه اجتمعن في الغيرة عليه فحلف ألا يدخل عليهن شهرا ونصه ما روى عبد الله بن عبيد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي اللتين فيهما قال الله
551

تعالى (* (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) *) التحريم 4 فمكثت سنة ما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى حج عمر وحججت معه فلما كان بمر الظهران عدل عمر إلى الأراك فقال أدركني بإداوة من ماء فأتيته بها وعدلت معه بالإداوة فتبرز عمر ثم أتاني فسكبت على يده الماء فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي اللتان قال الله تعالى (* (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) *) فإني أريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك
فقال عمر واعجبا لك يا بن عباس لا تفعل ما ظننت أن عندي فيه علما فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك
قال الزهري كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه
قال هما والله عائشة وحفصة ثم أخذ يسوق الحديث قال كنا معشر قريش نغلب النساء فقدمنا المدينة فوجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم قال وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي فتغيظت يوما على امرأتي وذلك أني كنت في أمر أريده قالت لي لو صنعت كذا فقلت لها مالك أنت ولهذا وتكلفك في أمر أريده فإذا هي تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه وتهجره إحداهن يومها إلى الليل
فأخذت ردائي وشددت علي ثيابي فانطلقت وذلك قبل أن ينزل الحجاب فدخلت على عائشة فقلت لها يا بنت أبي بكر قد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله
فقالت مالي ولك يا بن الخطاب عليك بعيبتك
فدخلت على حفصة فقلت قد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله أتراجعين رسول الله
قالت نعم فقلت أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل فقالت نعم قلت قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله فإذا هي قد هلكت لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئا واسأليني ما بدا لك ولا يغرنك أن كانت جارتك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله
552

إياها هي أوسم منك وأحب إلى رسول الله منك يريد عائشة لقد علمت أن رسول الله لا يحبك ولولا أنا لطلقك فبكت أشد البكاء
ودخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها فقالت لي واعجبا لك يا بن الخطاب قد دخلت في كل شيء حتى تبغي أن تدخل بين رسول الله وبين أزواجه وإنه كسرني ذلك عن بعض ما كنت أجد
وكان لي جار من الأنصار فكنا نتناوب في النزول إلى رسول الله فينزل يوما وأنزل يوما ويأتيني بخير الوحي وآتيه بمثل ذلك وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل تغزونا فنزل صاحبي ثم أتاني عشيا فضرب بابي وناداني فحرجت إليه فقال حدث أمر عظيم فقلت ماذا أجاءت غسان فقال بل أعظم من ذلك فقلت ما تقول طلق رسول الله نساءه فقلت قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت طلقكن رسول الله فقالت لا أدري هو هذا معتزل في هذه المشربة
فأتيت غلاما أسود قاعدا على أسكفة الباب مدليا رجليه على نقير من خشب وهو جذع يرقى عليه رسول الله وينحدر فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت
فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال قد ذكرتك له فصمت فخرجت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فإني أظن أن رسول الله ظن أني جئت من أجل حفصة والله لئن أمرني أن أضرب عنقها لأضربن عنقها
قال ورفعت صوتي فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني قال ادخل فقد أذن لك
فدخلت فسلمت على رسول الله فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر
553

في جنبه ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف فقلت يا رسول الله أطلقت نساءك ما يشق عليك من أمر النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وأنا وأبا بكر والمؤمنين
قال وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول ونزلت هذه الآية آية التخيير (* (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات) *) التحريم 5
فرفع رسول الله رأسه إلي فقال لا فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء فقدمنا المدينة فوجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فتغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني قالت ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله فإذا هي قد هلكت
فتبسم رسول الله فقلت يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله منك فتبسم أخرى وإني لما قصصت على رسول الله حديث أم سلمة تبسم ولم أزل أحدثه حتى انحسر الغضب عن وجهه وكشر وكان من أحسن الناس ثغرا
فقلت أستأنس يا رسول الله عليك قال نعم فجلست فرفعت بصري في البيت فوالله ما رايت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبا ثلاثة وإلا قبضة من شعير نحو الصاع وقرظ مصبور في ناحية الغرفة وإذا أفيق معلق فابتدرت عيناي فقال ما يبكيك يا ابن الخطاب فقلت وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزائنك لا أرى فيها شيئا إلا ما أرى وذلك كسرى وقيصر في الأنهار والثمار وأنت رسول الله وصفوته وقلت ادع الله أن يوسع لأمتك فقد وسع الله على فارس والروم وهم لا يعبدون الله
554

فاستوى جالسا وقال أفي شك أنت يا بن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا
فقلت استغفر لي يا رسول الله
وإن عمر استأذن رسول الله في أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له فقام عمر على باب المسجد ينادي لم يطلق رسول الله نساءه ونزلت هذه الآية (* (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) *) النساء 83 فكنت أنا الذي استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله تعالى آية التخيير
وكان أقسم لا يدخل عليهن شهرا يعني من أجل ذلك الحديث يعني قصة شرب العسل في بيت زينب على ما يأتي بيانه في سورة التحريم
هذا نص البخاري ومسلم جميعا وهو الصحيح الذي يعول عليه ولا يلتفت إلى سواه
المسألة الثانية
هذا الحديث بطوله الذي اشتمل عليه كتاب الصحيح يجمع لك جملة الأقوال فإن فيه أن رسول الله غضب على أزواجه من أجل سؤالهن له ما لا يقدر عليه لحديث جابر ولقول عمر لحفصة لا تسألي رسول الله شيئا وسليني ما بدا لك وسبب غيرتهن عليه في أمر شرب العسل في بيت زينب لقول ابن عباس لعمر من المرأتان من أزواج النبي اللتان تظاهرتا عليه وقوله (* (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) *) التحريم 5
وذلك إنما كان في شرب العسل في بيت زينب فهذان قولان وقعا في هذا الحديث نصا
وفيه الإشارة لما فيها بما جاء في حديث جابر من عدم قدرة رسول الله على النفقة حتى تجمعن حوله بما ظهر لعمر من ضيق حال رسول الله لا سيما لما اطلع في مشربته من عدم المهاد وقلة الوساد وفيه إبطال ما ذكره النقاش من أن
555

عائشة لم تسأله شيئا بدليل قوله هن حولي كما ترى وقيام أبي بكر لعائشة يجأ في عنقها ولولا سؤالها ما أدبها
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (قل) *))
قال الجويني هو محمول على الوجوب واحتج بهذا الحديث الذي سردناه آنفا ولا حجة فيه أما أن قوله (* (قل) *) يحتمل الوجوب والإباحة فإن كان الموجب لنزول الآية تخيير الله له بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة فأمر أن يفعل ذلك بأزواجه ليكن معه في منزلته وليتخلقن بأخلاقه الشريفة وليصن خلواته الكريمة من أنه يدخل عليها غيره فهو محمول على الوجوب
وإن كان لسؤالهن الإنفاق فهو لفظ إباحة فكأنه قيل له إن ضاق صدرك بسؤالهن لك ما لا تطيق فإن شئت فخيرهن وإن شئت فاصبر معهن وهذا بين لا يفتقر إلى إطناب
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (لأزواجك) *))
اختلف العلماء في المراد بالأزواج المذكورات فقال الحسن وقتادة كان تحته يومئذ تسع نسوة سوى الخيبرية خمس من قريش عائشة وحفصة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة وسودة بنت زمعة بن قيس وكانت تحته صفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية وميمونة بنت الحارث الهلالية ويزنب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث المصطلقية
قال ابن شهاب وامرأة واحدة اختارت نفسها فذهبت وكانت بدوية
قال ربيعة فكانت البتة واسمها عمرة بنت يزيد الكلابية اختارت الفراق فذهبت فابتلاها الله بالجنون
ويقال إن أباها تركها ترعى غنما له فصارت في طلب إحداهن فلم يعلم ما كان من أمرها إلى اليوم وقيل إنها كندية وقيل لم يخيرها وإنما استعاذت منه فردها وقال لقد استعذب بمعاذ
556

هذا منتهى قولهم ونحن نبينه بيانا شافيا وهي
المسألة الخامسة
فنقول كان للنبي أزواج كثيرة بيناها في شرح الصحيحين والحاضر الآن أنه كان له سبع عشرة زوجة عقد على خمس وبنى باثنتي عشرة ومات عن تسع وذلك مذكور في كتاب النبي المخير منهن أربع
الأولى سودة بنت زمعة تجتمع مع رسول الله في لؤي
الثانية عائشة بنت أبي بكر تجتمع مع النبي في الأب الثامن
الثالثة حفصة بنت عمر بن الخطاب تجتمع مع رسول الله في الأب التاسع
الرابعة أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم تجتمع مع رسول الله في الأب السابع
وذكر جماعة من المفسرين أن المخيرات من أزواج النبي تسع وذكر النقاش أن أم حبيبة وزينب ممن سأل النبي النفقة ونزل لأجلهن آية التخيير
وهذا كله خطأ عظيم فإن في الصحيح كما قدمنا أن عمر قال في الحديث المتقدم فدخلت على عائشة قبل أن ينزل الحجاب وإنما نزل الحجاب في وليمة زينب وكذلك إنما زوج أم حبيبة من النبي النجاشي باليمن وهو أصدق عنه فأرسل بها إليه من اليمن وذلك سنة ست
وأما الكلابية المذكورة فلم يبن بها رسول الله ويقال إن أباها زوجها منه وقال له إنها لم تمرض قط فقال النبي ما لهذه قدر عند الله فطلقها ولم يبن بها وقول ابن شهاب إنها كانت بدوية فاختارت نفسها لم يصح وقول ربيعة إنها كانت البتة لم يثبت وإنما بناه من بناه على أن مذهب ربيعة في التخيير بتات ويأتي بيانه إن شاء الله عز وجل
557

المسألة السادسة قوله تعالى (* (إن كنتن تردن الحياة الدنيا) *))
وهو شرط جوابه (* (فتعالين أمتعكن وأسرحكن) *) فعلق التخيير على شرط وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان ينفذان ويمضيان خلافا للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق إنه لا يقع الطلاق إن دخلت الدار لن الطلاق الشرعي هو المنجز لا غير
المسألة السابعة قوله تعالى (* (الحياة الدنيا وزينتها) *))
معناه إن كنتن تقصدن الحالة القريبة منكن فإن للإنسان حالتين حالة هو فيها تسمى الدنيا وحالة لا بد أن يصير إليها وهي الأخرى وتقصدن التمتع بها فيها والتزين بمحاسنها سرحتكن لطلب ذلك كما قال تعالى (* (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) *) الشورى 2
ولا بد للمرء من أن يكون على صفتين
إما أن يلتفت إلى هذه الحالة القريبة ويجمع لها وينظر فيها ومنها وإما أن يلتفت إلى حالته الأخرى فإياها يقصد ولها يسعى ويطل بولذلك اختار الله لرسوله الحالة الأخرى فقال له (* (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) *) طه 131 يعني رزقه في الآخرة إذ المرء لا بد له أن يأتيه رزقه في الدنيا طلبه أو تركه فإنه طالب له طلب الأجل وأما رزقه في الآخرة فلا يأتيه إلا ويطلبه فخير الله أزواج نبيه في هذا ليكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن
وهذا معنى ما روى أحمد بن حنبل عن علي أنه قال لم يخير رسول الله
558

نساءه إلا بين الدنيا والآخرة ولذلك قال الحسن خيرهن بين الدنيا والآخرة وبين الجنة والنار
المسألة الثامنة
اختلف العلماء فيمن لو اختارت منهن الدنيا مثلا هل كانت تبين بنفس الاختيار أم لا
فمنهم من قال إنها تبين لمعنيين أحدهما أن اختيار الدنيا سبب الافتراق فإن الفرق إذا وقع لا يتعلق باختياره إمضاؤه أصله يمين اللعان
وقد اختلف العلماء هل تقع الفرقة باللعان بنفس اليمين التي هي سبب الفراق أم لا بد من حكم الحاكم حسبما بيناه في مسائل الخلاف
الثاني أن الرجل لو قال لزوجته اختاري نفسك ونوي الفراق واختارت وقع الطلاق والدنيا كناية عن ذلك وهذا أصح القولين
المسألة التاسعة
قوله تعالى (* (فتعالين أمتعكن) *)
هو جواب الشرط وهو فعل جماعة النساء من قولك تعالى وهو دعاء إلى الإقبال إليه تقول تعالى بمعنى أقبل وضع لمن له جلالة ورفعة ثم صار في الاستعمال موضوعا لكل داع إلى الإقبال
وأما في هذه المواضع فهو على أصله فإن الداعي هو رسول الله في أرفع رتبة
المسألة العاشرة
قوله تعالى (* (أمتعكن) *)
وقد تقدم في سورة البقرة
المسألة الحادية عشرة
قوله تعالى (* (وأسرحكن) *)
معناه أطلقكن وقد تقدم القول في السراح في سورة البقرة
559

المسألة الثانية عشرة
وهي مقصود الباب وتحقيقه في بيان الكتاب وذلك أن العلماء اختلفوا في كيفية تخيير النبي لأزواجه على قولين
الأول كان النبي خير أزواجه بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترن البقاء معه قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة
ومنهم من قال إنه كان التخيير بين الدنيا فيفارقهن وبين الآخرة فيمسكهن ولم يخيرهن في الطلاق ذكره الحسن وقتادة ومن الصحابة علي
وقال ابن عبد الحكم معنى خيرهن قرأ عليهن الآية ولا يجوز أن يقول ذلك بلفظ التخيير فإن التخيير إذا قبل ثلاث والله أمره أن يطلق النساء لعدتهن وقد قال (* (سراحا جميلا) *) الأحزاب 28 والثلاث ليس مما يجمل وإنما السراح الجميل واحدة ليس الثلاث التي يوجبهن قبول التخيير
قال القاضي رضي الله عنه أما عائشة فلم يثبت ذلك عنها قط إنما المروي عنها أن مسروقا سألها عن الرجل يخير زوجته فتختاره أيكون طلاقا فإن الصحابة اختلفوا فيه
فقالت عائشة خير رسول الله نساءه فاخترنه أكان ذلك طلاقا خرجه الأئمة وروي فلم يكن شيئا فلما وجدوا لفظ (خير) في حديث عائشة وقولها لما أمر رسول الله بتخيير نسائه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمرا إن الله تعالى قال (* (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن) *) الآية وليس في هذا تخيير بطلاق كما زعموا وإنما يرجع الأول إلى أحد وجهين التخيير بين الدنيا فيوقع الطلاق وبين الآخرة فيكون الإمساك ولهذا يرجع قولهم إلى آية التخيير وقولها خير رسول الله نساءه أو أمر بتخيير نسائه فإنما يعود ذلك كله إلى هذا التفسير من التخيير
والذي يدل عليه أنه قد سمى كما تقدم آية التخيير (* (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) *) التحريم 5
560

وليس للتخيير فيها ذكر لفظي ولكن لما كان فيها معنى التخيير نسبها إلى المعنى
الثاني أن ابن عبد الحكم قد قال إن معنى خيرهن قرأ عليهن آية التخيير وقوله إنه لا يجوز أن يخيرهن بلفظ التخيير صحيح
والدليل عليه نص الآية فإن التخيير فيها إنما وقع بين الآخرة فيكون التمسك وبين الدنيا فيكون الفراق وهو ظاهر من نص الآية وليس يدل عليه ما قال من أن التخيير ثلاث والله أمره بأن يطلق النساء لعدتهن فإن كون قبول الخيار ثلاثا إنما هو مذهبه ولا يصح لأحد أن يستدل على حكم بمذهب بقول يخالف فيه فإن أبا حنيفة وأحمد يقولان إنها واحدة في تفصيل وقوله إن الله قال سراحا جميلا والثلاث مما لا يجمل خطأ بل هي مما يجمل ويحسن قال الله تعالى (* (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *) البقرة 229 فسمى الثلاث تسريحا بإحسان
فإن قيل إنما توصف بالإحسان إذا فرقت فأما إذا وقعت جملة فلا
قلنا لا فرق بينهما فإن الثلاث فرقة انقطاع كما أن التخيير عندك فرقة انقطاع وإنما المعنى السراح الجميل والسراح الحسن فرقة من غير ضرر كانت واحدة أو ثلاثا وليس في شيء مما ظنه هذا العالم
المسألة الثالثة عشرة
قال ابن القاسم وابن وهب قال مالك قال رسول الله لعائشة ابعثي إلى أبويك فقالت يا رسول الله لم فقال إن الله أمرني أن أخيركن فقالت إني أختار الله ورسوله فسر رسول
الله ذلك فقالت له عائشة يا رسول الله إن لي إليك حاجة لا تخير من نسائك من تحب أن تفارقني فخيرهن رسول الله جميعا فكلهن اخترنه
قالت عائشة خيرنا فاخترناه فلم يكن طلاقا
561

وفي الصحيح عن عائشة لما نزلت (* (وإن كنتن تردن الله ورسوله) *) الآية دخل علي رسول الله وبدأ بي فقال يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم والله أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه فقرأ علي (* (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) *)
فقلت أو في هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة
هذه رواية معمر عن عروة عن الزهري عن عائشة قال معمر وقال أيوب قالت عائشة يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني اخترتك قال إن الله لم يبعثني متعنتا إنما بعثني مبلغا
وفي رواية إن رسول الله كان يقرأ على أزواجه الآية ويقول قد اختارتني عائشة فاخترنه كلهن
المسألة الرابعة عشرة
روى أنس بن مالك قال لما خيرهن اخترنه فقصره الله عليهن ونزلت (* (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج) *) الأحزاب 52
وسيأتي بيان هذه الآية في موضعها إن شاء الله
المسألة الخامسة عشرة
قد بينا كيف وقع التخيير في هذه الآية ومسألة التخيير طويلة عريضة لا يستوفيها إلا الإطناب بالتطويل مع استيفاء التفصيل وذلك لا يمكن في هذه العجالة وبيانه في كتب الفقه فنشير منه الآن إلى طرفين
أحدهما إذا خير الرجل امرأته فاختارته
562

الثاني إذا اختارت نفسها
أما الطرف الأول إذا اختارت زوجها وقد اختلف العلماء فيه فذهب ابن عمر وابن مسعود وعائشة وابن عباس وإحدى روايتي زيد وعلي إلى أنه لا يقع شيء
وذهب إلى أنها طلقة رجعية علي وزيد في الرواية الأخرى والحسن وربيعة وتعلقوا بأن قوله اختاري كناية عن إيقاع الطلاق فإذا أضافه إليها وقعت طلقة كقوله أنت بائن
ودليلنا قول عائشة خيرنا رسول الله فاخترناه أفكان ذلك طلاقا
فإن قيل قد قلتم إن تخيير عائشة لم يكن بين الزوجية والفراق وإنما كان بين البقاء فيمسك وبين الفراق فيستأنف إيقاعه وإذا كان هذا هكذا عندكم فلا حجة فيه علينا منكم
قلنا كذلك قلنا وكذلك كان وقولكم لا حجة فيه ليس كذلك بل حجته ظاهرة لأنكم قد قلتم إنها كناية فكان من حقكم أن تقولوا إنه يقع الطلاق بهذا أيضا
فإذا قلتم في هذه الصورة إنه لا يقع كانت الأخرى مثلها لأنهما كنايتان فلو لزم الطلاق بإحداهما لزم بالأخرى لأنه لا فرق بينهما
وبهذا احتجت عائشة رضي الله عنها لسعة علمها وعظيم فقهها
وقولهم إنها إيقاع باطل وإنما هو تخيير بينه وبين فراقه وهما ضدان وليس اختيار أحدهما اختيارا للثاني بحال
وأما الطرف الثاني وهو إذا اختارت الفراق ففيها ثلاثة أقوال
الأول أنها ثلاث من غير نية ولا بينونة فإن كان قبل الدخول فله ما نوى هذا مذهب مالك وبه قال الليث والحسن البصري وزيد بن ثابت
الثاني روي عن علي أنها واحدة بائنة من غير نية ولا مبتوتة وهو مذهب أبي حنيفة
563

الثالث قال الشافعي لا يقع الطلاق إلا إذا نوياه جميعا ولا يقع منه إلا ما اتفقا عليه جميعا فإن اختلفا وقع الأقل وبطل الأكثر
ودليلنا أن المقتضي لقوله اختاري ألا يكون له عليها سبيل ولا يملك منها شيئا إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها عنه أو تقيم معه فإذا أخرجت البعض لم يعمل بمقتضى اللفظ وكان بمنزلة من خير بين شيئين فاختار غيرهما
واحتج أبو حنيفة بأن الزوج علق الطلاق بخبر من جهتها وذلك لا يفتقر إلى نيتها كما لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق فإنه إذا وقع الطلاق لم يقع إلا واحدة كخيار المعتقة
الجواب إنا نقول أما اعتبار نيتها فلا بد منه لأنها موقعة للطلاق بمنزلة الوكيل ولا يصح أن يقال إنه يتعلق بفعلها ألا ترى أنها لو اختارت زوجها لم يكن شيء فثبت أنه توكيل ونيابة وأما خيار المعتقة فلا نسلمه بل هو ثلاث
واحتج الشافعي بأنه لم يقترن به لفظ الثلاث ولا نيتها
الجواب إنا نقول قد اقترن به لفظها كما بيناه
المسألة السادسة عشرة قوله تعالى (* (وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة) *))
اعلموا علمكم الله علمه وأفاض عليكم حكمه أن الموجودات على قسمين قديم ومحدث وخالق ومخلوق والمخلوق والمحدث على قسمين حيوان وجماد والحيوان على قسمين
مكلف وغير مكلف والمكلف حالتان حالة هو فيها وحالة هو منقول إليها كما قدمناه والحالة المنتقل إليها هي الحبيبة إلى الله الممدوحة منه والحالة التي هو فيها هي المبغضة إلى الله المذمومة عنده فإن ركن إليها وعمل بمقتضاها من الشهوات واللذات وأهمل الحالة التي ينتقل إليها وهي المحمودة هلك وإن كان مقصده في هذه الحالة القريبة تلك الآخرة وكان لها يعمل وإياها يطلب واعتقد نفسه بمنزلة المسافر إلى مقصد فهو في طريقه يعبر وعلى مسافته يرتحل وقلب الأول معمور بذكر الدنيا مغمور بحبها وقلب الثاني مغمور بذكر
564

الله معمور بحبه وجوارحه مستعملة بطاعته فقيل لأزواج النبي إن كنتن تردن الله ورسوله وتقصدن الدار الآخرة وثوابه فيها فقد أعد الله ثوابكن وثواب أمثالكن في أصل القصد لا في مقداره وكيفيته
وهذا يدل على أن العبد يعمل محبة في الله ورسوله لذاتيهما وفي الدار الآخرة لما فيها من منفعة الثواب
قال قوم لا يتصور أن يحب الله لذاته ولا رسوله لذاته وإنما المحبوب الثواب منهما العائد عليه وقد بينا ذلك في كتب الأصول وحققنا أن العبد يحب نفسه وأن الله ورسوله لغنيان عن العالمين في ذلك الغرض المسطور فيها
المسألة السابعة عشرة قوله تعالى (* (للمحسنات منكن) *))
الإحسان في الفعل يكون بوجهين
أحدهما الإتيان به على أكمل الوجوه
والثاني التمادي عليه من غير رجوع فكأنه قال قل لهن من جاء بهذا الفعل المطلوب منكن كما أمر به وتمادى عليه إلى حالة الاخترام بالمنية فعندنا له أفضل الجلالة والإكرام
وذلك بين في قوله (* (ومن يقنت منكن لله ورسوله) *) الأحزاب 31 إلى آخر المعنى فهذا هو المطلوب وهو الإحسان
المسألة الثامنة عشرة قوله تعالى (* (أجرا عظيما) *))
المعنى أعطاهن الله بذلك ثوابا متكاثر الكيفية والكمية في الدنيا والآخرة وذلك بين في قوله (* (نؤتها أجرها مرتين) *) وزيادة رزق كريم معد لهن
أما ثوابهن في الآخرة فكونهن مع النبي في درجته في الجنة ولا غاية بعدها ولا مزية فوقها وفي ذلك من زيادة النعيم والثواب على غيرهن فإن الثواب والنعيم على قدر المنزلة
565

وأما في الدنيا فبثلاثة أوجه
أحدها أنه جعلهن أمهات المؤمنين تعظيما لحقهن وتأكيدا لحرمتهن وتشريفا لمنزلتهن
الثاني أنه حظر عليه طلاقهن ومنعه من الاستبدال بهن فقال (* (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن) *) الأحزاب 52
والحكمة أنهن لما لم يخترن عليه غيره أمر بمكافأتهن في التمسك بنكاحهن
فأما منع الاستبدال بهن فاختلف العلماء هل بقي ذلك مستداما أم رفعه الله عنه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وهذا يدل على أن الله يثيب العبد في الدنيا بوجوه من رحمته وخيراته ولا ينقص ذلك من ثوابه في الآخرة وقد يثيبه في الدنيا وينقصه بذلك في الآخرة على ما تقدم بيانه في موضعه
الثالث أن من قذفهن حد حدين كما قال مسروق
والصحيح أنه حد واحد كما تقدم بيانه في سورة النور من أن عموم قوله (* (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *) النور 4 يتناول كل محصنة ولا يقتضي شرفهن زيادة في أن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود بزيادة ولا نقصها يؤثر في الحد بنقص والله أعلم
الآية السادسة
قوله تعالى (* (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا) *) الآية 3
566

فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قد تقدم القول في الفاحشة وتبيانها بما يغني عن إعادته وأنها تنطبق على الزنا وعلى سائر المعاصي
المسألة الثانية
أخبر الله تعالى أن من جاء من نساء النبي بفاحشة يضاعف لها العذاب ضعفين لشرف منزلتهن وفضل درجتهن وتقدمهن على سائر النساء أجمع وكذلك ثبت في الشريعة أنه كلما تضاعفت الحرمات فهتكت تضاعفت العقوبات ولذلك ضوعف حد الحر على حد العبد والثيب على البكر لزيادة الفضل والشرف فيهما على قرينهما وذلك مشروح في سورة براءة
المسألة الثالثة
قد قال مسروق إن نساء النبي يحددن حدين ويا مسروق لقد كنت في غنى عن هذا فإن نساء النبي لا يأتين أبدا بفاحشة توجب حدا ولذلك قال ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط وإنما خانت في الإيمان والطاعة ولو أمسك الناس عما لا ينبغي بل عما لا يعني لكثر الصواب وظهر الحق
الآية السابعة
قوله تعالى (* (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما) *) الآية 31
بين الله تعالى أنه كما يضاعف بهتك الحرمات العذاب كذلك يضاعف بصيانتها الثواب
567

الآية الثامنة
قوله تعالى (* (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *) الآيتان 32 33
فيها ثمان مسائل
المسألة الأولى قوله (* (لستن كأحد من النساء) *))
يعني في الفضل والشرف فإنهن وإن كن من الآدميات فلسن كإحداهن كما أن النبي وإن كان من البشر جبلة فليس منهم فضيلة ومنزلة وشرف المنزلة لا يحتمل العثرات فإن من يقتدى به وترفع منزلته على المنازل جدير بأن يرتفع فعله على الأفعال ويربو حاله على الأحوال
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فلا تخضعن بالقول) *))
أمرهن الله تعالى أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا ولا يكون على وجه يحدث في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين المطمع للسامع وأخذ عليهن أن يكون قولهن معروفا وهي
المسألة الثالثة
قيل المعروف هو السر فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام
وقيل المراد بالمعروف ما يعود إلى الشرع بما أمرن فيه بالتبليغ أو بالحاجة التي لا بد للبشر منها
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وقرن في بيوتكن) *))
يعني اسكن فيها ولا تتحركن ولا تبرحن منها حتى إنه روي ولم يصح أن
568

النبي لما انصرف من حجة الوداع قال لأزواجه هذه ثم ظهور الحصر إشارة إلى ما يلزم المرأة من لزوم بيتها والانكفاف عن الخروج منه إلا لضرورة
ولقد دخلت نيفا على ألف قرية من برية فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس التي رمي فيها الخليل عليه السلام بالنار فإن أقمت فيها أشهرا فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهم إلى الجمعة الأخرى وسائر القرى ترى نساؤها متبرجات بزينة وعطلة متفرقات في كل فتنة وعضلة وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه
المسألة الخامسة
تعلق الرافضة لعنهم الله بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ قالوا إنها خالفت أمر الله وأمر رسوله وخرجت تقود الجيوش وتباشر الحروب وتقتحم مآزق الحرب والضرب فيما لم يفرض عليها ولا يجوز لها
ولقد حصر عثمان فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى مكة فقال لها مروان بن الحكم يا أم المؤمنين أقيمي هاهنا وردي هؤلاء الرعاع عن عثمان فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك
وقال علماؤنا رحمة الله عليهم إن عائشة كانت نذرت الحج قبل الفتنة فلم تر التخلف عن نذرها ولو خرجت عن تلك الثائرة لكان ذلك صوابا لها
وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس ورجوا بركتها في
569

الإصلاح وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت إلى الخلق وظنت هي ذلك فخرجت مقتدية بالله في قوله (* (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) *) النساء 114 وبقوله (* (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) *) الحجرات 9
والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر أو أنثى حر أو عبد فلم يرد الله بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح ولكن جرت مطاعنات وجراحات حتى كاد يفنى الفريقان فعمد بعضهم إلى الجمل فعرقبه فلما سقط الجمل لجنبه أدرك محمد بن أبي بكر عائشة فاحتملها إلى البصرة وخرجت في ثلاثين امرأة قرنهن علي بها حتى أوصلوها إلى المدينة برة تقية مجتهدة مصيبة ثابتة فيما تأولت مأجورة فيما تأولت وفعلت إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب
وقد بينا في كتب الأصول تصويب الصحابة في الحروب وحمل أفعالهم على أجمل تأويل
المسألة السادسة قوله تعالى (* (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) *))
وقد تقدم معنى التبرج
وقوله (* (الجاهلية الأولى) *) روي أن عمر سأل ابن عباس فقال أفرأيت قول الله تعالى (* (وجاهدوا في الله حق جهاده) *) الحج 78 جاهدوا كما جاهدتم أول مرة
فقال عمر فمن أمر بأن نجاهد قال مخزوم وعبد شمس
570

وعن ابن عباس أيضا أنها تكون جاهلية أخرى وقد روي أن الجاهلية الأولى ما بين عيسى ابن مريم ومحمد
قال القاضي الذي عندي أنها جاهلية واحدة وهي قبل الإسلام وإنما وصفت بالأولى لأنها صفتها التي ليس لها نعت غيرها وهذا كقوله (* (قال رب احكم بالحق) *) الأنبياء 112 وهذه حقيقته لأنه ليس يحكم إلا بالحق
المسألة السابعة قوله (* (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *))
فيها أربعة أقوال
الأول الإثم
الثاني الشرك
الثالث الشيطان
الرابع الأفعال الخبيثة والأخلاق الذميمة فالأفعال الخبيثة كالفواحش ما ظهر منها وما بطن والأخلاق الذميمة كالشح والبخل والحسد وقطع الرحم
المسألة الثامنة قوله (* (أهل البيت) *))
روي عن عمر بن أبي سلمة أنه قال لما نزلت هذه الآية على النبي (* (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *) في بيت أم سلمة دعا النبي فاطمة وحسنا وحسينا وجعل عليا خلف ظهره وجللهم بكساء ثم قال اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
قالت أم سلمة وأنا معهم يا نبي الله
قال أنت على مكانك وأنت على خير
وروى أنس بن مالك أن رسول الله كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا
571

خرج إلى صلاة الفجر يقول الصلاة يا أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا
خرج هذين الحديثين الترمذي وغيره
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا) *) الآية 34
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى آيات الله القرآن
المسألة الثانية آيات الله الحكمة
وقد بينا الحكمة فيما تقدم وآيات الله حكمته وسنة رسوله حكمته والحلال والحرام حكمته والشرع كله حكمته
المسألة الثالثة
أمر الله أزواج رسوله بأن يخبرن بما أنزل الله من القرآن في بيوتهن وما يرين من أفعال النبي وأقواله فيهن حتى يبلغ ذلك إلى الناس فيعملوا بما فيه ويقتدوا به
وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدين
المسألة الرابعة
في هذا مسألة بديعة وهي أن الله أمر نبيه بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن وتعليم ما علمه من الدين فكان إذا قرأه على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض وعلى من سمعه أن يبلغه إلى غيره وليس يلزمه أن يذكره لجميع الصحابة
572

ولا كان عليه إذا علم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس فيقول لهم نزل كذا وكان كذا
وقد بينا ذلك في الأصول وشرح الحديث ولو كان الرسول لا يعتد بما يعلمه من ذلك أزواجه ما أمرن بالإعلام بذلك ولا فرض عليهن تبليغه ولذلك قلنا بجواز قبول خبر بسرة في إيجاب الوضوء من مس الذكر لأنها روت ما سمعت وبلغت ما وعت ولا يلزم أن يبلغ ذلك الرجال كما قال أبو حنيفة حسبما بيناه في مسائل الخلاف وحققناه في أصول الفقه على أنه قد نقل عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وهذا كان هاهنا
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) *) الآية 36
فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها
فيه قولان
أحدهما أنها نزلت في شأن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء وهبت نفسها للنبي قال قد قبلت فزوجها من زيد بن حارثة فسخطته قاله ابن زيد
الثاني أنها نزلت في شأن زينب بنت جحش خطبها رسول الله لزيد بن حارثة فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله لنسبها في قريش وأنها كانت بنت عمة النبي أمها أميمة بنت عبد المطلب وإن زيدا كان عبدا بالأمس إلى أن نزلت هذه الآية فقال له أخوها مرني بما شئت فزوجها من زيد
والذي روى البخاري وغيره عن أنس أن هذه الآية نزلت في شأن زينب بنت
573

جحش مطلقا من غير تفسير زاد بعضهم أنه ساق إليها عشرة دنانير وستين درهما وملحفة ودرعا وخمسين مدا من طعام وعشرة أمداد من تمر
المسألة الثانية
في هذا نص على أنه لا تعتبر الكفاءة في الأحساب وإنما تعتبر في الأديان خلافا لمالك والشافعي والمغيرة وسحنون وسيأتي ذلك في سورة التحريم وذلك أن الموالي تزوجت في قريش وتزوج زيد بزينب وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير وزوج أبو حنيفة سالما من هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار
وفي الصحيح وغيره عن أبي هريرة واللفظ للبخاري قال النبي تنكح المرأة لأربع لمالها ولدينها ولحسبها وجمالها فعليك بذات الدين تربت يداك
وفيه قال سهل مر رجل على رسول الله فقال ما تقولون في هذا فقالوا هذا حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يسمع قال ثم سكت فمر رجل من فقراء المساكين فقال ما تقولون في هذا قالوا حري إن خطب ألا ينكح وإن قال لا يسمع وإن شفع لا يشفع فقال رسول الله هذا خير من ملء الأرض مثل هذا
574

الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) *) الآية 37
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى المفسرون أن النبي دخل منزل زيد بن حارثة فأبصر امرأته قائمة فأعجبته فقال سبحان مقلب القلوب فلما سمعت زينب ذلك جلست وجاء زيد إلى منزله فذكرت ذلك له زينب فعلم أنها وقعت في نفسه فأتى زيد رسول الله فقال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها فإن بها غيرة وإذاية بلسانها فقال له رسول الله أمسك أهلك وفي قلبه غير ذلك فطلقها زيد
فلما انقضت عدتها قال رسول الله لزيد اذكرني لها فانطلق زيد إلى زينب فقال لها أبشري أرسل رسول الله يذكرك فقالت ما أنا بصانعة شيئا حتى استأمر ربي وقامت إلى مصلاها فنزلت الآية
المسألة الثانية قوله (* (أنعم الله عليه) *))
أي بالإسلام (* (وأنعمت عليه) *) أي بالعتق هو زيد بن حارثة المتقدم ذكره
وقيل أنعم الله عليه بأن ساقه إليك وأنعمت عليه بأن تبنيته وكل ما كان من الله إليه أو من محمد إليه فهو نعمة عليه
575

المسألة الثالثة قوله (* (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) *))
يعني من نكاحك لها فقد كان الله أعلمه بأنها تكون من أزواجه
وقيل تخفي في نفسك ما الله مبديه من ميلك إليها وحبك لها
المسألة الرابعة قوله (* (وتخشى الناس) *))
فيه أربعة أقوال
الأول تستحي منهم والله أحق أن تخشاه وتستحي منه والخشية بمعنى الاستحياء كثيرة في اللغة
الثاني تخشى الناس أن يعاتبوك وعتاب الله أحق أن تخشاه
الثالث وتخشى الناس أن يتكلموا فيك
وقيل أن يفتتنوا من أجلك وينسبوك إلى ما لا ينبغي والله أحق أن تخشاه فإنه مالك القلوب وبيده النواصي والألسنة
المسألة الخامسة في تنقيح الأقوال وتصحيح الحال
قد بينا في السالف في كتابنا هذا وفي غير موضع عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم من الذنوب وحققنا القول فيما نسب إليهم من ذلك وعهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردا
أن أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيا إلا بما ذكره الله لا يزيد عليه فإن أخبارهم مروية وأحاديثهم منقولة بزيادات تولاها أحد رجلين إما غبي عن مقدارهم وإما بدعي لا رأي له في برهم ووقارهم فيدس تحت المقال المطلق الدواهي ولا يراعي الأدلة ولا النواهي وكذلك قال الله تعالى (* (نحن نقص عليك أحسن القصص) *) يوسف 3 أي أصدقة على أحد التأويلات وهي كثيرة بيناها في أمالي أنوار الفجر فهذا محمد ما عصى قط ربه لا في حال الجاهلية ولا بعدها تكرمة من الله وتفضلا وجلالا أحله به المحل الجليل الرفيع ليصلح أن يقعد معه على كرسيه للفصل بين الخلق في القضاء يوم الحق
وما زالت الأسباب الكريمة والوسائل السليمة تحيط به من جميع جوانبه
576

والطرائف النجيبة تشتمل على جملة ضرائبه والقرناء الأفراد يحيون له والأصحاب الأمجاد ينتقون له من كل طاهر الجيب سالم عن العيب بريء من الريب يأخذونه عن العزلة وينقلونه عن الوحدة فلا ينتقل إلا من كرامة إلى كرامة ولا يتنزل إلا منازل السلامة حتى فجئ بالحيي نقابا أكرم الخلق سليقة وأصحابا وكانت عصمته من الله فضلا لا استحقاقا إذ لا يستحق عليه شيئا رحمة لا مصلحة كما تقوله القدرية للخلق بل مجرد كرامة له ورحمة به وتفضل عليه واصطفاء له فلم يقع قط لا في ذنب صغير حاشا لله ولا كبير ولا وقع في أمر يتعلق به لأجله نقص ولا تعيير وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول
وهذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد إنما الصحيح منها ما روي عن عائشة أنها قالت لو كان رسول الله كاتما من الوحي شيئا لكتم هذه الآية (* (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) *) يعني بالإسلام (* (وأنعمت عليه) *) يعني بالعتق فأعتقته (* (أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) *) إلى قوله (* (وكان أمر الله مفعولا) *)
وإن رسول الله لما تزوجها قالوا تزوج حليلة ابنه فأنزل الله تعالى (* (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) *)
وكان رسول الله تبناه وهو صغير فلبث حتى صار رجلا يقال له زيد بن محمد فأنزل الله تعالى (* (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) *) الأحزاب 5
فلان مولى فلان وفلان أخو فلان هو أقسط عند الله يعني أنه أعدل عند الله
قال القاضي وما وراء هذه الرواية غير معتبر فأما قولهم إن النبي رآها فوقعت في قلبه فباطل فإنه كان معها في كل وقت وموضع ولم يكن حينئذ حجاب فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج وقد وهبته نفسها وكرهت غيره فلم تخطر بباله فكيف يتجدد له هوى لم يكن حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة
577

وقد قال الله له (* (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه) *) طه 131 والسناء أفتن الزهرات وأنشر الرياحين فيخالف هذا في المطلقات فكيف في المنكوحات المحبوسات
وإنما كان الحديث أنها لما استقرت عند زيد جاءه جبريل إن زينب زوجك ولم يكن بأسرع أن جاءه زيد يتبرأ منها فقال له اتق الله وأمسك عليك زوجك فأبى زيد إلا الفراق وطلقها وانقضت عدتها وخطبها رسول الله على يدي مولاه زوجها وأنزل الله القرآن المذكور فيه خبرهما هذه الآيات التي تلوناها وفسرناها فقال واذكر يا محمد إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله في فراقها وتخفي في نفسك ما الله مبديه يعني من نكاحك لها وهو الذي أبداه لا سواه
وقد علم النبي أن الله تعالى إذ أوحى إليه أنها زوجته لا بد من وجود هذا الخبر وظهوره لأن الذي يخبر الله عنه أنه كائن لا بد أن يكون لوجوب صدقه في خبره هذا يدلك على براءته من كل ما ذكره متسور من المفسرين مقصور على علوم الدين
فإن قيل فلأي معنى قال له النبي أمسك عليك زوجك وقد أخبره الله أنها زوجته لا زوج زيد
قلنا هذا لا يلزم ولكن لطيب نفوسكم نفسر ما خطر من الإشكال فيه إنه أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبته عنها فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهية فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها
فإن قيل فكيف يأمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لا بد منه وهذا تناقض
قلنا بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يؤمن فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه
578

الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) *) من الآية 37
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى الوطر
الأرب وهو الحاجة وذلك عبارة عن قضاء الشهوة ومنه الحديث أيكم يملك أربه كما كان رسول الله يملك أربه على أحد الضبطين يعني شهوته
المسألة الثانية قوله (* (زوجناكها) *))
فذكر عقده عليها بلفظ التزويج وهذا اللفظ يدل عند جماعة على أنه القول المخصوص به الذي لا يجوز غيره فيه وعندنا يدل ذلك على أنه لا فضل فيه وقد بينا ذلك في
سورة القصص
المسألة الثالثة
روى يحيى بن سلام وغيره أن رسول الله دعا زيدا فقال ائت زينب فاذكرني لها كما تقدم
وقال يحيى فأخبرها أن الله قد زوجنيها فاستفتح زيد الباب فقالت من قال زيد قالت ما حاجتك قال أرسلني رسول الله فقالت مرحبا برسول الله ففتحت له فدخل عليها وهي تبكي فقال زيد لا أبكى الله لك عينا قد كنت نعمت المرأة تبرين قسمي وتطيعين أمري وتبغين مسرتي وقد أبدلك الله خيرا مني قالت من قال رسول الله فخرت ساجدة
وفي رواية كما تقدم قالت حتى أوامر ربي وقامت إلى مصلاها ونزل القرآن فدخل عليها النبي بغير إذن فكانت تفتخر على أزواج النبي فتقول أما أنتن فزوجكن آباؤكن وأما أنا فزوجني الله من فوق سبع سماوات
579

وفي رواية إن زيدا لما جاءها برسالة رسول الله وجدها تخمر عجينها قال فما استطعت أن أنظر إليها من عظمها في صدري فوليت لها ظهري ونكصت على عقبي وقلت يا زينب أبشري أرسل رسول الله يذكرك الحديث
وقال الشعبي قالت زينب لرسول الله إني أدل عليك بثلاث ما من أزواجك امرأة تدل بهن عليك جدي وجدك واحد وإني أنكحنيك الله من السماوات وإن السفير جبريل
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا) *))
يعني دخلوا بهن وإنما الحرج في أزواج الأبناء من الأصلاب أو ما يكون في حكم الأبناء من الأصلاب بالبعضية وهو في الرضاع كما تقدم تحريره
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) *) الآيتان 45 46
إن الله سبحانه وتعالى خطط النبي بخططه وعدد له أسماؤه والشيء إذا عظم قدره عظمت أسماؤه قال بعض الصوفية لله تعالى ألف اسم وللنبي ألف اسم
فأما أسماء الله فهذا العدد حقير فيها (* (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) *) الكهف 19
وأما أسماء النبي فلم أحصها إلا من جهة الورود الظاهر لصيغة الأسماء البينة فوعيت منها جملة الحاضر الآن منها سبعة وستون اسما
أولها الرسول المرسل النبي الأمي الشهيد المصدق النور المسلم البشير المبشر النذير المنذر المبين العبد الداعي السراج المنير الإمام الذكر
580

المذكر الهادي المهاجر العامل المبارك الرحمة الآمر الناهي الطيب الكريم المحلل المحرم الواضع الرافع المخبر خاتم النبيين ثاني اثنين منصور أذن خير مصطفى أمين مأمون قاسم نقيب مزمل مدثر العلي الحكيم المؤمن الرؤوف الرحيم الصاحب الشفيع المشفع المتوكل محمد أحمد الماحي الحاشر المقفي العاقب نبي التوبة نبي الرحمة نبي الملحمة عبد الله نبي الحرمين فيما ذكر أهل ما وراء النهر
وله وراء هذه فيما يليق به من الأسماء ما لا يصيبه إلا صميان
فأما الرسول فهو الذي تتابع خبره عن الله وهو المرسل بفتح السين ولا يقتضي التتابع
وهو المرسل بكسر السين لأنه لا يعم بالتبليغ مشافهة فلم يك بد من الرسل ينوبون عنه ويتلقون منه كما بلغ عن ربه قال النبي لأصحابه تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم
وأما النبي فهو مهموز من النبأ وغير مهموز من النبوة وهو المرتفع من الأرض فهو مخبر عن الله سبحانه وتعالى رفيع القدر عنده فاجتمع له الوصفان وتم له الشرفان
وأما الأمي ففيه أقوال أصحها أنه الذي لا يقرأ ولا يكتب كما خرج من بطن أمه لقوله تعالى (* (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) *) ثم علمهم ما شاء
وأما الشهيد فهو لشهادته على الخلق في الدنيا والآخرة قال الله تعالى (* (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) *) البقرة 143
581

وقد يكون بمعنى أنه تشهد له المعجزة بالصدق والخلق بظهور الحق
وأما المصدق فهو بما صدق بجميع الأنبياء قبله قال الله تعالى (* (ومصدقا لما بين يدي من التوراة) *) آل عمران 5
وأما النور فإنما هو نور بما كان فيه الخلق من ظلمات الكفر والجهل فنور الله الأفئدة بالإيمان والعلم
وأما المسلم فهو خيرهم وأولهم كما قال (* (وأنا أول المسلمين) *) الأنعام 163 وتقدم في ذلك بشرف انقياده بكل وجه بكل حال إلى الله وبسلامة عن الجهل والمعاصي
وأما البشير فإنه أخبر الخلق بثوابهم إن أطاعوا وبعقابهم إن عصوا قال الله تعالى (* (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان) *) التوبة 21 وقال تعالى (* (فبشرهم بعذاب أليم) *) آل عمران 21 وكذلك المبشر
وأما النذير والمنذر فهو المخبر عما يخاف ويحذر ويكف عما يؤول إليه ويعمل بما يدفع فيه
وأما المبين فما أبان عن ربه من الوحي والدين وأظهر من الآيات والمعجزات
وأما الأمين فبأنه حفظ ما أوحي إليه وما وظف إليه ومن أجابه إلى أداء ما دعاه
وأما العبد فإنه ذل لله خلقا وعبادة فرفعه الله عزا وقدرا على جميع الخلق فقال أنا سيد ولد آدم ولا فخر
وأما الداعي فبدعائه الخلق ليرجعوا من الضلال إلى الحق
وأما السراج فبمعنى النور إذ أبصر به الخلق الرشد
وأما المنير فهو مفعل من النور
582

وأما الإمام فلاقتداء الخلق به ورجوعهم إلى قوله وفعله
وأما الذكر فإنه شريف في نفسه مشرف غيره مخبر عن ربه واجتمعت له وجوه الذكر الثلاثة
وأما المذكر فهو الذي يخلق الله على يديه الذكر وهو العلم الثاني في الحقيقة وينطلق على الأول أيضا ولقد اعترف الخلق لله سبحانه بأنه الرب ثم ذهلوا فذكرهم الله بأنبيائه وختم الذكر بأفضل أصفيائه وقال (* (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر) *) الغاشية 21 22
ثم مكنه من السيطرة وآتاه السلطنة ومكن له دينه في الأرض
وأما الهادي فإنه بين الله تعالى على لسانه النجدين
وأما المهاجر فهذه الصفة له حقيقة لأنه هجر ما نهى الله عنه وهجر أهله ووطنه وهجر الخلق أنسا بالله وطاعته فخلا عنهم واعتزلهم واعتزل منهم
وأما العامل فلأنه قام بطاعة ربه ووافق فعله واعتقاده
وأما المبارك فبما جعل الله في حاله من نماء الثواب وفي حال أصحابه من فضائل الأعمال وفي أمته من زيادة العدد على جميع الأمم
وأما الرحمة فقد قال الله تعالى (* (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) *) الأنبياء 17 فرحمهم به في الدنيا من العذاب وفي الآخرة بتعجيل الحساب وتضعيف الثواب قال الله تعالى (* (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) *) الأنفال 33
وأما الآمر والناهي فذلك الوصف في الحقيقة لله تعالى ولكنه لما كان الواسطة أضيف إليه إذ هو الذي يشاهد آمرا ناهيا ويعلم بالدليل أن ذلك واسطة ونقل عن الذي له ذلك الوصف حقيقة
583

وأما الطيب فلا أطيب منه لأنه سلم عن خبث القلب حين رميت منه العلقة السوداء وسلم عن خبث القول فهو الصادق المصدق وسلم عن خبث الفعل فهو كله طاعة
وأما الكريم فقد بينا معنى الكرم وهو له على التمام والكمال
وأما المحلل والمحرم فذلك مبين الحلال والحرام وذلك بالحقيقة هو الله تعالى كما تقدم والنبي متولي ذلك بالوساطة والرسالة
وأما الواضع والرافع فهو الذي وضع الأشياء مواضعها ببيانه ورفع قوما ووضع آخرين ولذلك قال الشاعر يوم حنين حين فضل عليه بالعطاء غيره
(أتجعل نهبي ونهب العبيد
* بين عيينة والأقرع)
(وما كان بدر ولا حابس
* يفوقان مرداس في مجمع)
(وما كنت دون امرئ منهما
* ومن تضع اليوم لا يرفع)
فألحقه النبي في العطاء بمن فضل عنه
وأما المخبر فهو النبيء مهموزا
وأما خاتم النبيين فهو آخرهم وهي عبارة مليحة شريفة تشريفا في الإخبار بالمجاز عن الآخرية إذ الختم آخر الكتاب وذلك بما فضل به فشريعته باقية وفضيلته دائمة إلى يوم الدين
وأما قوله ثاني اثنين فاقترانه في الخبر بالله
وأما منصور فهو المعان من قبل الله بالعزة والظهور على الأعداء وهذا عام في الرسل وله أكثر قال الله تعالى (* (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) *) الصافات 171 172 173 وقاله له اغزهم نمدك وقاتلهم نعدك وابعث جيشا نبعث عشرة أمثاله
584

وأما أذن خير فهو بما أعطاه الله من فضيلة الإدراك لقيل الأصوات لا يعي من ذلك إلا خيرا ولا يسمع إلا أحسنه
وأما المصطفى فهو المخبر عنه بأنه صفوة الخلق كما رواه عنه واثلة بن الأسقع أنه قال إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم
وأما الأمين فهو الذي تلقى إليه مقاليد المعاني ثقة بقيامه عليها وحفظا منه
وأما المأمون فهو الذي لا يخاف من جهته شر
وأما قاسم فبما ميزه به من حقوق الخلق في الزكوات والأخماس وسائر الأموال قال رسول الله الله يعطي وإنما أنا قاسم
وأما نقيب فإنه فخر بالأنصار على سائر الأصحاب من الصحابة بأن قال لها أنا نقيبكم إذ كل طائفة لها نقيب يتولى أمورها ويحفظ أخبارها ويجمع نشرها والتزم ذلك للأنصار تشريفا لهم
وأما كونه مرسلا فببعثه الرسل بالشرائع إلى الناس في الآفاق ممن نأى عنه
وأما العلي فبما رفع الله من مكانه وشرف من شأنه وأوضح على الدعاوي من برهانه
وأما الحكيم فإنه عمل بما علم وأدى عن ربه قانون المعرفة والعمل
وأما المؤمن فهو المصدق لربه العامل اعتقادا وفعلا بما أوجب الأمن له
وأما المصدق فقد تقدم بيانه فإنه صدق ربه بقوله تعالى وصدق قوله بفعله فتم له الوصف على ما ينبغي من ذلك
585

وأما الرؤوف الرحيم فبما أعطاه الله من الشفقة على الناس قال لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة
وقال كما قال من قبله اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
وأما الصاحب فبما كان مع من اتبعه من حسن المعاملة وعظيم الوفاء والمروءة والبر والكرامة
وأما الشفيع المشفع فإنه يرغب إلى الله في أمر الخلق بتعجيل الحساب وإسقاط العذاب وتخفيفه فيقبل ذلك منه ويخص به دون الخلق ويكرم بسببه غاية الكرامة
وأما المتوكل فهو الملقي مقاليد الأمور إلى الله علما كما قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وعملا كما قال إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري
وأما المقفى في التفسير فكالعابد
ونبي التوبة لأنه تاب الله على أمته بالقول والاعتقاد دون تكليف قتل أو إصر
ونبي الرحمة تقدم في اسم الرحيم
ونبي الملحمة لأنه المبعوث بحرب الأعداء والنصر عليهم حتى يعودوا جزرا على إضم ولحما على وضم
586

الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا) *) الآية 49
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
هذه الآية نص في أنه لا عدة على مطلقة قبل الدخول وهو إجماع الأمة لهذه الآية وإذا دخل بها فعليها العدة إجماعا لقوله تعالى (* (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *) البقرة 229 ولقوله تعالى (* (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) *) إلى قوله تعالى (* (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *) الطلاق 1 وهي الرجعة على ما يأتي بيانه في آيته إن شاء الله تعالى
المسألة الثانية
الدخول بالمرأة وعدم الدخول بها إنما يعرف مشاهدة بإغلاق الأبواب على خلوة أو بإقرار الزوجين فإن لم يكن دخول وقالت الزوجة وطئني وأنكر الزوج حلف ولزمتها العدة وسقط عنه نصف المهر
وإن قال الزوج وطئتها وجب عليه المهر كله ولم تكن عليها عدة وإن كان دخول فقالت المرأة لم يطأني لم تصدق في العدة ولا حق لها في المهر
وقد تقدم القول في الخلوة هل تقرر المهر في سورة البقرة
فإن قال وطئتها وأنكرت وجبت عليها العدة وأخذ منه الصداق ووقف حتى يفيء أو يطول المدى فيرد إلى صاحبه أو يتصدق به على القولين وذلك مستوفى في فروع الفقه بخلافه وأدلته
587

المسألة الثالثة (* (ومتعوهن) *))
تقدم في سورة البقرة ذلك باختلافه وأدلته وفي مسائل الفقه بفروعه
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما) *) الآية 5
فيها ثمان وعشرون مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى الترمذي وغيره أن أم هانئ بنت أبي طالب قالت خطبني رسول الله واعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله تعالى (* (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) *) الآية
قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر كنت من الطلقاء
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح لا يعرف إلا من حديث السدي
قال القاضي وهو ضعيف جدا ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتج في مواضعه بها
588

المسألة الثانية (* (يا أيها النبي) *))
قد تقدم تفسيره في هذا الكتاب
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (أحللنا لك) *))
وقد تقدم القول في تفسير الإحلال والتحريم في سورة النساء وغيرها
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (أزواجك) *))
والنكاح والزوجية معروفة
وقد اختلف في معنى الزوجية في حق النبي هل هن كالسرائر عندنا أو حكمهن حكم الأزواج المطلقة
قال إمام الحرمين في ذلك اختلاف وسنبينه في قوله (* (ترجي من تشاء منهن) *) الأحزاب 51 والصحيح أن لهن حكم الأزواج في حق غيره فإذا ثبت هذا فهل المراد بذلك كل زوجة أم من تحته منهن وهي
المسألة الخامسة
في ذلك قولان
قيل إن المعنى أحللنا أزواجك اللاتي آتيت أجورهن أي كل زوجة آتيتها مهرها وعلى هذا تكون الآية عموما للنبي ولأمته
الثاني وهو قول الجمهور أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك وهو الظاهر لأن قوله (* (أتيت) *) خبر عن أمر ماض فهو محمول عليه بظاهره ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط ليست هاهنا يطول الكتاب بذكرها وليست مما نحن فيه
وقد عقد رسول الله على عدة من النساء نكاحه فذكرنا عدتهن في مواضع منها هاهنا وفي غيره وهن خديجة بنت خويلد وعائشة بنت أبي بكر
589

وسودة بنت زمعة وحفصة بنت عمر وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة وأم حبيبة بنت أبي سفيان فهؤلاء ست قرشيات وزينب بنت خزيمة العامرية وزينب بنت جحش الأسدية أسد خزيمة وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي بن أخطب الهارونية وجويرية بنت الحارث المصطلقية ومات عن تسع وسائرهن في شرح البخاري مذكورات
المسألة السادسة
أحل الله بهذه الآية الأزواج اللاتي كن معه قبل نزول هذه الآية فأما إحلال غيرهن فلا لقوله (* (لا يحل لك النساء من بعد) *) الأحزاب 52 وهذا لا يصح فإن الآية نص في إحلال غيرهن من بنات العم والعمات والخال والخالات وقوله (* (لا يحل لك النساء من بعد) *) يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى
المسألة السابعة قوله (* (اللاتي آتيت أجورهن) *))
يعني اللواتي تزوجت بصداق وكان أزواج النبي على ثلاثة أقسام منهن من ذكر لها صداقا ومنهن من كان ذكر لها الصداق بعد النكاح كزينب بنت جحش في الصحيح من الأقوال فإن الله تعالى أنزل نكاحها من السماء وكان فرض الصداق بعد ذلك لها ومنهن من وهبت نفسها وحلت له ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (وما ملكت يمينك) *))
يعني السراري وذلك أن الله تعالى أحل السراري لنبيه ولأمته بغير عدد وأحل الأزواج لنبيه مطلقا وأحلهن للخلق بعدد وكان ذلك من خصائصه في شريعة الإسلام
وقد روي عمن كان قبله في أحاديثهم أن داود عليه السلام كانت له مائة امرأة كما تقدم
وكان لسليمان عليه السلام ثلاثمائة حرة وسبعمائة سرية والحق ما ورد في الصحيح أن النبي قال إن سليمان قال لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل امرأة تلد
590

غلاما يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (مما أفاء الله عليك) *))
والمراد به الفيء المأخوذ على وجه القهر والغلبة الشرعية وقد كان النبي يأكل من عمله ويطأ من ملك يمينه بأشرف وجوه الكسب وأعلى أنواع الملك وهو القهر والغلبة لا من الصفق بالأسواق
وقد قال عليه السلام جعل رزقي تحت ظل رمحي
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك) *))
المعنى أحللنا لك ذلك زائدا إلى ما عندك من الأزواج اللاتي آتيت أجورهن قاله أبي بن كعب
فأما من عداهن من الصنفين من المسلمات فلا ذكر لإحلالهن هاهنا بل هذا القول بظاهره يقتضي أنه لا يحل له غير هذا وبهذا يتبين أن معناه أحللنا لك أزواجك اللاتي عندك لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجت وآتيت أجرها لما قال بعد ذلك وبنات عمك وبنات عماتك لأن ذلك داخل فيما تقدم
فإن قيل إنما كرره لأجل شرط الهجرة فإنه قال اللاتي هاجرن معك
قلنا وكذلك أيضا لا يصح هذا مع هذا القول لأن شرط الهجرة لو كان كما قلتم لكان شرطا في كل امرأة تزوجها فأما أن يجعل شرطا في القرابة المذكورة فلا يتزوج منهن إلا من هاجر ولا يكون شرطا في سائر النساء فيتزوج منهن من هاجر ومن لم يهاجر فهذا كلام ركيك من قائله بين خطؤه لمتأمله حسبما قدمنا ذكره من أن الهجرة لو كانت شرطا في كل زوجة لما كان لذكر القرابة فائدة بحال
591

المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (اللاتي هاجرن معك) *))
وفيه قولان
أحدهما أن معناه لا يحل لك أن تنكح من بنات عمك وبنات عماتك إلا من أسلم لقوله المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه
الثاني أن المعنى لا يحل لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة لأن من لم يهاجر ليس من أوليائك لقوله تعالى (* (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) *) الأنفال 72
ومن لم يهاجر لم يكمل ومن لم يكمل لم يصلح لرسول الله الذي كمل وشرف وعظم
وهذا يدل على أن الآية مخصوصة برسول الله ليست بعامة له ولأمته كما قال بعضهم لأن هذه الشروط تختص به
ولهذا المعنى نزلت الآية في أم هانئ بأنها لم تكن هاجرت فمنع منها لنقصها بالهجرة والمراد بقوله (* (هاجرن) *) خرجن إلى المدينة وهذا أصح من الأول لأن الهجرة عند الإطلاق هي الخروج من بلد الكفر إلى دار الإيمان والأسماء إنما تحمل على عرفها والهجرة في الشريعة أشهر من أن تحتاج إلى بيان أو تختص بدليل وإنما يلزم ذلك لمن ادعى غيرها
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (معك) *))
والمعية هاهنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها فمن هاجر حل له كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن يقال دخل فلان معي أي في صحبتي فكنا معا وتقول دخل فلان معي وخرج معي أي كان عمله كعملي وإن لم يقترن فيه عملكما
592

ولو قلت خرجنا معا لاقتضى ذلك المعنيين جميعا المشاركة في الفعل والاقتران فيه فصار قولك معي للمشاركة وقولك معا للمشاركة والاقتران
المسألة الثالثة عشرة قوله (* (وبنات عمك) *))
فذكره مفردا وقال (* (وبنات عماتك) *) فذكرهن جميعا وكذلك قال وبنات خالك فردا وبنات خالاتك جمعا
والحكمة في ذلك أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز وليس كذلك في العمة والخالة وهذا عرف لغوي فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال وهذا دقيق فتأملوه
المسألة الرابعة عشرة في فائدة الآية ولأجل ما سيقت له
وفي ذلك أربع روايات
الأولى نسخ الحكم الذي كان الله قد ألزمه بقوله (* (لا يحل لك النساء من بعد) *) فأعلمه الله أنه قد أحل له أزواجه اللواتي عنده وغيرهن ممن سماه معهن في هذه الآية
الثانية أن الله تعالى أعلمه أن الإباحة ليست مطلقة في جملة النساء وإنما هي في المعينات المذكورات من بنات العم والعمات وبنات الخال والخالات المسلمات والمهاجرات والمؤمنات
الثالثة أنه إنما أباح له نكاح المسلمة فأما الكافرة فلا سبيل له إليها على ما يأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالى
الرابعة أنه لم يبح له نكاح الإماء أيضا صيانة له وتكرمة لقدره على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
ومعنى هذا الكلام قد روي عن ابن عباس
المسألة الخامسة عشرة قوله (* (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) *))
وقد بينا سبب نزول هذه الآية في سورة القصص وغيرها أن امرأة جاءت إلى
593

النبي فوقفت عليه وقالت يا رسول الله إني وهبت لك نفسي الحديث إلى آخره
وورد في ذلك للمفسرين خمسة أقوال
الأول نزلت في ميمونة بنت الحارث خطبها لرسول الله جعفر بن أبي طالب فجعلت أمرها إلى العباس عمه
وقيل وهبت نفسها له قاله الزهري وعكرمة ومحمد بن كعب وقتادة
الثاني أنها نزلت في أم شريك الأزدية وقيل العامرية واسمها غزية قاله علي ابن الحسين وعروة والشعبي
الثالث أنها زينب بنت خزيمة أم المساكين
الرابع أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط
الخامس أنها خولة بنت حكيم السلمية
قال القاضي ابن العربي أما سبب نزول هذه الآية فلم يرد من طريق صحيح وإنما هذه الأقوال واردة بطرق من غير خطم ولا أزمة بيد أنه روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا لم يكن عند النبي ارمأة موهوبة
وقد بينا الحديث الصحيح في مجيء المرأة إلى النبي ووقوفها عليه وهبتها نفسها له من طريق سهل وغيره في الصحاح وهو القدر الذي ثبت سنده وصح نقله
والذي يتحقق أنها لما قالت للنبي وهبت نفسي لك فسكت عنها حتى قام رجل فقال زوجنيها يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة
ولو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله لأنه لا يقر على الباطل إذا سمعه حسبما قررناه في كتب الأصول
ويحتمل أن يكون سكوته لأن الآية قد كانت بالإحلال
594

ويحتمل أن يكون سكت منتظرا بيانا فنزلت الآية بالتحليل والتخيير فاختار تركها وزوجها من غيره
ويحتمل أن يكون سكت ناظرا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبا
وقد روى مسلم عن عائشة أنها قالت كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله وقالت أما تستحي امرأة أن تهب نفسها حتى أنزل الله (* (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) *) فقلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك
فاقتضى هذا اللفظ أن من وهبت نفسها للنبي عدة ولكنه لم يثبت عندنا أنه تزوج منهن واحدة أم لا
المسألة السادسة عشرة قوله (* (وامرأة) *))
المعنى أحللنا لك امرأة تهب نفسها من غير صداق فإنه أحل له في الآية قبلها أزواجه اللاتي آتى أجورهن وهذا معنى يشاركه فيه غيره فزاده فضلا على أمته أن أحل له الموهوبة ولا تحل لأحد غيره
المسألة السابعة عشرة قوله (* (مؤمنة) *))
وهذا تقييد من طريق التخصيص بالتعليل والتشريف لا من طريق دليل الخطاب حسبما تقدم بيانه في أصول الفقه وفي هذا الكتاب في أمثال هذا الكلام أن الكافرة لا تحل له
قال إمام الحرمين وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه
قال ابن العربي والصحيح عندي تحريمها عليه وبهذا يتميز علينا فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أظهر فجوز لنا نكاح الحرائر من الكتابيات وقصر هو لجلالته على المؤمنات وإذا كان لا يحل له من لم يهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى ألا تحل له الكتابية الحرة لنقصان الكفر
595

المسألة الثامنة عشرة قوله (* (إن وهبت) *))
قرئت بالفتح في الألف وكسرها وقرأت الجماعة فيها بالكسر على معنى الشرط تقديره وأحللنا لك امرأة إن وهبت نفسها لك لا يجوز تقدير سوى ذلك
وقد قال بعضهم يجوز أن يكون جواب إن محذوفا وتقديره إن وهبت نفسها للنبي حلت له وهذا فاسد من طريق المعنى والعربية وذلك مبين في موضعه
ويعزى إلى الحسن أنه قرأها بفتح الهمزة وذلك يقتضي أن تكون امرأة واحدة حلت له لأجل أن وهبت نفسها وهذا فاسد من وجهين
أحدهما أنها قراءة شاذة وهي لا تجوز تلاوة ولا توجب حكما
الثاني أن توجب أن يكون إحلالا لأجل هبتها لنفسها وهذا باطل فإنها حلال له قبل الهبة بالصداق
وقد نسب لابن مسعود أنه كان يسقط في قراءته أن فإن صح ذلك فإنما كان يريد أن يبين ما ذكرنا من أن الحكم في الموهوبة ثابت قبل الهبة وسقوط الصداق مفهوم من قوله (* (خالصة لك) *) لا من جهة الشرط
وقد بينا حكم هذا الشرط وأمثاله في سورة النور
المسألة التاسعة عشرة قوله (* (وهبت نفسها) *))
وهذا يبين أن النكاح عقد معاوضة ولكنه على صفات مخصوصة من جملة المعاوضات وإجارة مباينة للإجارات ولهذا سمي الصداق أجرة وقد تقدم بيان ذلك في سورة النساء فأباح الله لرسوله أن يتزوج بغير الصداق لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وقد تقدم ذكره
المسألة الموفية عشرين قوله (* (إن أراد النبي أن يستنكحها) *))
معناه أنها إذا وهبت المرأة نفسها لرسول الله فرسول الله مخير بعد
596

ذلك إن شاء نكحها وإن شاء تركها وإنما بين ذلك وجعله قرآنا يتلى والله أعلم لأن من مكارم أخلاق نبينا أن يقبل من الواهب هبته ويرى الأكارم أن ردها هجنة في العادة ووصمة على الواهب وإذاية لقلبه فبين الله سبحانه ذلك في حق رسوله لرفع الحرج عنه وليبطل ظن الناس في عادتهم وقولهم
المسألة الحادية والعشرون قوله (* (خالصة لك) *))
وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال
أحدها خالصة لك إذا وهبت لك نفسها أن تنكحها بغير صداق ولا ولي وليس ذلك لأحد بعد رسول الله قاله قتادة وقد أنفذ الله لرسوله نكاح زينب بنت جحش في السماء بغير ولي من الخلق ولا بذل صداق من النبي وذلك بحكم أحكم الحاكمين ومالك العالمين
الثاني نكاحه بغير صداق قاله سعيد بن المسيب
الثالث أن عقد نكاحها بلفظ الهبة خالصا لك وليس ذلك لغيرك من المؤمنين قاله الشعبي
قال القاضي القول الأول والثاني راجعان إلى معنى واحد إلا أن القول الثاني أصح من الأول لأن سقوط الصداق مذكور في الآية ولذلك جاءت وهو قوله إن وهبت نفسها للنبي فأما سقوط الولي فليس له فيها ذكر وإنما يؤخذ من دليل آخر وهو أن للولي النكاح وإنما شرع لقلة الثقة بالمرأة في اختيار أعيان الأزواج وخوف غلبة الشهوة في نكاح غير الكفء وإلحاق العار بالأولياء وهذا معدوم في حق النبي
وقد خصص الله رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض والتحريم والتحليل مزية على الأمة وهيبة له ومرتبة خص بها ففرضت عليه أشياء وما فرضت على غيره وحرمت عليه أشياء وأفعال لم تحرم عليهم وحللت
597

له أشياء لم تحلل لهم منها متفق عليه ومنها مختلف فيه أفادنيها الشهيد الأكبر عن إمام الحرمين وقد استوفينا ذلك في كتاب النبي بيد أنا نشير هاهنا إلى جملة الأمر لمكان الفائدة فيه وتعلق المعنى فيه إشارة موجزة تبين للبيب وتبصر المريب فنقول
أما قسم الفريضة فجملته تسعة
الأول التهجد بالليل
الثاني الضحى
الثالث الأضحى
الرابع الوتر وهو يدخل في قسم التهجد
الخامس السواك
السادس قضاء دين من مات معسرا
السابع مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع
الثامن تخيير النساء
التاسع كان إذا عمل عملا أثبته
وأما قسم التحريم فجملته عشرة
الأول تحريم الزكاة عليه وعلى آله
الثاني صدقة التطوع عليه وفي آله تفصيل باختلاف
الثالث خائنة الأعين وهو أن يظهر خلاف ما يضمر أو ينخدع عما يحب وقد ذم بعض الكفار عند إذنه ثم ألان له القول عند دخوله
الرابع حرم عليه إذا لبس لأمته أن يخلعها عنه أو يحكم بينه وبين محاربه ويدخل معه غيره من الأنبياء في الخير
الخامس الأكل متكئا
598

السادس أكل الأطعمة الكريهة الرائحة
السابع التبدل بأزواجه
الثامن نكاح امرأة تكره صحبته
التاسع نكاح الحرة الكتابية
العاشر نكاح الأمة وفي ذلك تفصيل يأتي بيانه في موضعه
وأما قسم التحليل فصفي المغنم
الثاني الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس
الثالث الوصال
الرابع الزيادة على أربع نسوة
الخامس النكاح بلفظ الهبة
السادس النكاح بغير ولي
السابع النكاح بغير صداق
وقد اختلف العلماء في نكاحه بغير ولي وقد قدمنا أن الأصح عدم اشتراط الولي في حقه وكذلك اختلفوا في نكاحه بغير مهر فالله أعلم
الثامن نكاحه في حالة الإحرام ففي الصحيح أنه تزوج ميمونة وهو محرم وقد بيناه في مسائل الخلاف
التاسع سقوط القسم بين الأزواج عنه على ما يأتي بيانه في قوله (* (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) *) الأحزاب 51
العاشر إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها وحل له نكاحها
قال القاضي هكذا قال إمام الحرمين وقد بينا الأمر في قصة زيد بن حارثة كيف وقع
الحادي عشر أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها وفي هذا اختلاف بيناه في كتاب الإنصاف ويتعلق بنكاحه بغير مهر أيضا
الثاني عشر دخول مكة بغير إحرام وفي حقنا فيه اختلاف
599

الثالث عشر القتال بمكة وقد قال عليه السلام لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وأنما أحلت لي ساعة من نهار
الرابع عشر أنه لا يورث
قال القاضي إنما ذكرته في قسم التحليل لأن الرجل إذا قارب الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه ولم يبق له إلا الثلث خالصا وبقي ملك رسول الله بعد موته ما تقدم في آية الميراث
الخامس عشر بقاء زوجيته من بعد الموت
السادس عشر إذا طلق امرأة هل تبقى حرمته عليها فلا تنكح
وهاتان المسألتان ستأتيان إن شاء الله تعالى
وهذه الأحكام في الأقسام المذكورة على اختلافها مشروحة في تفاريقها حيث وقعت مجموعة في شرح الحديث الموسوم بالنيرين في شرح الصحيحين
المسألة الثانية والعشرون
تكلم الناس في إعراب قوله (* (خالصة لك) *) وغلب عليهم الوهم فيه وقد شرحناه في ملجئة المتفقهين
وحقيقته عندي أنه حال من ضمير متصل بفعل مضمر دل عليه المظهر تقديره أحللنا لك أزواجك وأحللنا لك امرأة مؤمنة أحللناها خالصة بلفظ الهبة وبغير صداق وعليه انبنى معنى الخلوص هاهنا
المسألة الثالثة والعشرون
قيل هو خلوص النكاح له بلفظ الهبة دون غيره وعليه انبنى معنى الخلوص هاهنا
600

وهذا ضعيف لأنا إن قلنا إن نكاح النبي لابد فيه من الولي وعليه يدل قوله لعمرو بن أبي سلمة ربيبه حين زوج أمه قم يا غلام فزوج أمك
ولا يصح أن يكون المراد بهذه الآية هذا لأن قول الموهوبة وهبت نفسي لك لا ينعقد به النكاح ولا بد بعده من عقد مع الولي فهل ينعقد بلفظه وصفته أم لا مسألة أخرى لا ذكر للآية فيها
الثاني أن المقصود بالآية خلو النكاح من الصداق وله جاء البيان وإليه يرجع الخلوص المخصوص به
الثالث أنه قال بعد ذلك إن أراد النبي أن يستنكحها فذكره في جنبته بلفظ النكاح المخصوص بهذا العقد فهذا يدل على أن المرأة وهبت نفسها بغير صداق فإن أراد النبي أن يتزوج فيكون النكاح حكما مستأنفا لا تعلق له بلفظ الهبة إلا في المقصود من الهبة وهو سقوط العوض وهو الصداق
الرابع إنا لا نقول إن النكاح بلفظ الهبة جائز في حق غيره من هذا اللفظ فإن تقدير الكلام على ما بيناه أحللنا لك أزواجك وأحللنا لك المرأة الواهبة نفسها خالصة فلو جعلنا قوله (* (خالصة) *) حالا من الصفة التي هي ذكر الهبة دون الموصوف الذي هو المرأة وسقوط الصداق لكان إخلالا من القول وعدولا عن المقصود في اللفظ وذلك لا يجوز عربية ولا معنى
ألا ترى أنك لو قلت أحدثك بالحديث الرباعي خالصا لك دون أصحابك لما كان رجوع الحال إلا إلى المقصود الموصوف وهو الحديث هذا على نظام التقدير فلو قلت على لفظ أحدثك بحديث إن وجدته بأربع روايات خالصا ذلك دون أصحابك لرجعت الحال إلى المقصود الموصوف أيضا دون الصفة وهذا لا يفهمه إلا المتحققون في العربية وما أرى من عزا إلى الشافعي أنه قال الضمير في قوله (* (خالصة) *) يرجع إلى النكاح بلفظ الهبة إلا قد وهم لأجل مكانته من العربية
والنكاح بلفظ الهبة جائز عند علمائنا معروف بدليله في مسائل الخلاف
601

المسألة الرابعة والعشرون قوله تعالى (* (من دون المؤمنين) *))
فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول لأن تصريف الأحكام إنما تكون بينهم على تقدير الإسلام
المسألة الخامسة والعشرون قوله تعالى (* (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) *))
قد تقدم القول في بيان علم الله في كتاب المشكلين وكتاب الأصول وكذلك تقدم القول فيه
المسألة السادسة والعشرون وهي قوله (* (ما فرضنا) *))
وبينا معنى الفرض والقدر المختص بهذه المسألة من ذلك أن الله أخبر أن علمه سابق بكل ما حكم به وقرر على النبي وأمته في النكاح وأعداده وصفاته وملك اليمين وشروطه بخلافه فهو حكم سبق به العلم وقضاء حق به القول للنبي في تشريعه وللمنبأ المرسل إليه بتكليفه
المسألة السابعة والعشرون قوله تعالى (* (لكيلا يكون عليك حرج) *))
أي ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السعة كما أنه ضيق عليهم في أمر لا يستطيعون فيه شرط السعة عليهم
المسألة الثامنة والعشرون قوله تعالى (* (وكان الله غفورا رحيما) *))
قد بينا معنى ذلك في كتاب الأمد الأقصى بيانا شافيا
والمقدار الذي ينتظم به الكلام هاهنا أنه لم يؤاخذ الناس بذنوبهم بل بقولهم ورحمهم وشرف رسله الكرام فجعلهم فوقهم ولم يعط على مقدار ما يستحقون إذ لا يستحقون عليه شيئا بل زادهم من فضله وعمهم برفقه ولطفه ولو أخذهم
602

بذنوبهم وأعطاهم على قدر حقوقهم عند من يرى ذلك من المبتدعة أو على تقدير ذلك فيهم لما وجب للنبي شيء ولا غفر للخلق ذنب ولكنه أنعم على الكل وقدم منازل الأنبياء صلوات الله عليهم وأعطى كلا على قدر علمه وحكمه وحكمته وذلك كله بفضل الله ورحمته
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى (* (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما) *) الآية 51
فيها عشر مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك خمسة أقوال
الأول روى أبو رزين العقيلي أن نساء النبي لما أشفقن أن يطلقهن رسول الله قلن يا رسول الله اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئت فكانت منهن سودة بنت زمعة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة غير مقسوم لهن وكان ممن آوى عائشة وأم سلمة وزينب وأم سلمة يضمهن ويقسم لهن قاله الضحاك
الثاني قال ابن عباس أراد من شئت أمسكت ومن شئت طلقت
الثالث كان النبي إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوجها رسول الله أو يتركها
والمعنى اترك نكاح من شئت وانكح من شئت قاله الحسن
الرابع تعزل من شئت وتضم من شئت قاله قتادة
الخامس قال أبو رزين تعزل من شئت عن القسم وتضم من شئت إلى القسم
603

المسألة الثانية في تصحيح هذه الأقوال
أما قول أبي رزين فلم يرد من طريق صحيحة وإنما الصحيح ما روي عن عائشة مطلقا من غير تسمية على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وروي في الصحيح أن سودة لما كبرت قالت يا رسول الله اجعل يومي منك لعائشة فكان يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة
وأما قول الحسن فليس بصحيح ولا حسن من وجهين
أحدهما أن امتناع خطبة من يخطبها رسول الله ليس له ذكر ولا دليل في شيء من معاني الآية ولا ألفاظها
المسألة الثالثة قوله (* (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) *))
يعني تؤخر وتضم ويقال أرجأته إذا أخرته وآويت فلانا إذا ضممته وجعلته في ذراك وفي جملتك فقيل فيه أقوال ستة
الأول تطلق من شئت وتمسك من شئت قاله ابن عباس الثاني تترك من شئت وتنكح من شئت قاله قتادة
الثالث ما تقدم من قول أبي رزين العقيلي
الرابع تقسم لمن شئت وتترك قسم من شئت
الخامس ما في الصحيح عن عائشة قالت كنت أغار من اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله وأقول أتهب المرأة نفسها فلما أنزل الله (* (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) *)
قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك
السادس ثبت في الصحيح أيضا عن عائشة أن رسول الله كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية (* (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) *) فقيل لها ما كنت تقولين قالت كنت أقول إن كان الأمر إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا
604

وبعض هذه الأقوال يتداخل مع ما قدمناه في سبب نزولها وهذا الذي ثبت في الصحيح وهو الذي ينبغي أن يعول عليه
والمعنى المراد هو أن النبي كان مخيرا في أزواجه إن شاء أن يقسم قسم وإن شاء أن يترك القسم ترك لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون فرض ذلك عليه فإن قول من قال إنه قيل له انكح من شئت واترك من شئت فقد أفاده قوله (* (إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين) *) الأحزاب 5 حسبما تقدم بيانه من الابتداء في ذلك والانتهاء إلى آخر الآية فهذا القول يحمل على فائدة مجردة فأما وجوب القسم فإن النكاح يقتضيه ويلزم الزوج فخص النبي في ذلك بأن جعل الأمر فيه إليه
فإن قيل فكيف يقال إن القسم غير واجب على النبي وهو عليه السلام كان يعدل بين أزواجه في القسم ويقول هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني قلبه لإيثار عائشة دون أن يكون يظهر ذلك في شيء من فعله
قلنا ذلك من خلال النبي وفضله فإن الله عز وجل أعطاه سقوطه وكان هو يلتزمه تطيبا لنفوسهن وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي ربما ترقت إلى ما لا ينبغي
المسألة الرابعة قوله (* (ومن ابتغيت ممن عزلت) *))
يعني طلبت والابتغاء في اللغة هو الطلب ولا يكون إلا بعد الإرادة قال الله تعالى مخبرا عن موسى (* (ذلك ما كنا نبغ) *) الكهف 64
605

المسألة الخامسة قوله (* (ممن عزلت) *))
يعني أزلت والعزلة الإزالة وتقدير الكلام في اللفظين مفهوم
والمعنى ومن أردت أن تضمه وتؤويه بعد أن أزلته فقد نلت ذلك عندنا ووجدته تحقيقا لقول عائشة لا أرى ربك إلا وهو يسارع في هواك فإن شاء النبي أن يؤخر أخر وإن شاء أن يقدم استقدم وإن شاء أن يقلب المؤخر مقدما والمقدم مؤخرا فعل لا جناح عليه في شيء من ذلك ولا حرج فيه وهي
المسألة السادسة
وقد بينا الجناح فيما تقدم وأوضحنا حقيقته
المسألة السابعة قوله (* (ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن) *
المعنى أن الأمر إذا كان الإدناء والإقصاء لهن والتقريب والتبعيد إليك تفعل من ذلك ما شئت كان أقرب إلى قرة أعينهن وراحة قلوبهن لأن المرء إذا علم أنه لا حق له في شيء كان راضيا بما أوتي منه وإن قل وإن علم أن له حقا لم يقنعه ما أوتي منه واشتدت غيرته عليه وعظم حرصه فيه فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهن معه واستقرار أعينهن على ما يسمح به منه لهن دون أن تتعلق قلوبهن بأكثر منه وذلك قوله في
المسألة الثامنة (* (ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن) *))
المعنى وترضى كل واحدة بما أوتيت من قليل أو كثير لعلمها بأن ذلك غير حق لها وإنما هو فضل تفضل به عليها وقليل رسول الله كثير واسم زوجته والكون في عصمته ومعه في الآخرة في درجته فضل من الله كبير
606

المسألة التاسعة قوله (* (والله يعلم ما في قلوبكم) *))
وقد بينا في غير موضع وهو بين عند الأمة أن البارئ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم السر وأخفى ويطلع على الظاهر والباطن
ووجه تخصيصه بالذكر هاهنا التنبيه على أنه يعلم ما في قلوبنا من ميل إلى بعض ما عندنا من النساء دون بعض وهو يسمح في ذلك إذ لا يستطيع العبد أن يصرف قلبه عن ذلك الميل إن كان يستطيع أن يصرف فعله ولا يؤاخذ البارئ سبحانه بما في القلب من ذلك وإنما يؤاخذ بما يكون من فعل فيه وإلى ذلك يعود قوله (* (وكان الله عليما حكيما) *) طه 7 وهي
المسألة العاشرة
الآية السابعة عشرة
قوله تعالى (* (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا) *) الآية 52
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أنها نزلت في أسماء بنت عميس لما توفي زوجها جعفر بن أبي طالب أعجب النبي حسنها فأراد أن يتزوجها فنزلت الآية وهذا حديث ضعيف
المسألة الثانية قوله تعالى (* (لا يحل لك النساء من بعد) *))
اعلموا وفقكم الله أن كلمة بعد ظرف بني على الضم هاهنا لما اقترن به من الحذف فصار بهذه الدلالة كأنه بعض كلمة فربط على حرف واحد ليتبين ذلك
607

واختلف العلماء في تعيين المحذوف على ثلاثة أقوال
الأول لا يحل لك النساء من بعد من عندك منهن اللواتي اخترنك على الدنيا فقصر عليهن من أجل اختيارهن له قاله ابن عباس
الثاني من بعد ما أحللنا لك وهي الآية المتقدمة قاله أبي بن كعب
الثالث لا يحل لك نكاح غير المسلمات قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد
المسألة الثالثة في التنقيح
أما قول مجاهد وغيره بأن المعنى لا يحل لك نكاح غير المسلمات فداخل تحت قول أبي بن كعب لأن الآية لا تحتمل إلا قولين
أحدهما قول ابن عباس والثاني قول أبي بن كعب
فإذا قلنا بقول أبي وحكمنا أن المراد بالآية لا يحل لك النساء من بعد ما أحللنا لك من أزواجك اللاتي آتيت أجورهن قرابتك المؤمنات المهاجرات والواهبة نفسها بقي على التحريم من عداهن
والآية محتملة لقول ابن عباس وأبي ويقوى في النفس قول ابن عباس واله أعلم كيف وقع الأمر
وقد اختلف العلماء في ذلك فقالت عائشة وأم سلمة لم يمت رسول الله حتى أحل له النساء وبه قال ابن عباس والشافعي وجماعة وكأن الله لما أحل له النساء حتى الموت قصر عليهن كما قصرن عليه قاله ابن عباس في روايته وأبو حنيفة وجماعة وجعلوا حديث عائشة سنة ناسخة وهو حديث واه ومتعلق ضعيف وقد بيناه في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ فتم تمام القول وبيانه
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ولا أن تبدل بهن من أزواج) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول لا يحل لك أن تطلق امرأة من أزواجك وتنكح غيرها قاله ابن عباس
الثاني لا يحل لك أن تبدل المسلمة التي عندك بمشركة قاله مجاهد
608

الثالث لا تعطي زوجك في زوجة أخرى كما كانت الجاهلية تفعله قاله ابن زيد
المسألة الخامسة
أصح هذه الأقوال
قول ابن عباس له يشهد النص وعليه يقوم الدليل
وأما قول مجاهد فمبني على ما سبق من قوله في المسألة قبلها وهو ضعيف لأن اللفظ عام ولا يجوز تخصيصه بما يبطل فائدته ويسقط عمومه ويبطل حكمه ويذهب من غير حاجة إلى ذلك
وأما قول ابن زيد فضعيف لأن النهي عن ذلك لم يختص به رسول الله بل ذلك حكم ثابت في الشرع على النبي وعلى جميع الأمة إذ التعاوض في الزوجات لا يجوز
والدليل عليه أنه قال (* (بهن من أزواج) *) وهذا الحكم لا يجوز لا بهن ولا بغيرهن ولو كان المراد استبدال الجاهلية لقال أزواجك بأزواج ومتى جاء اللفظ خاصا في حكم لا ينتقل إلى غيره لضرورة
المسألة السادسة قوله تعالى (* (إلا ما ملكت يمينك) *))
المعنى فإنه حلال لك على الإطلاق المعلوم في الشرع من غير تقييد
وقد اختلف العلماء في إحلال الكافرة للنبي فمنهم من قال يحل له نكاح الأمة الكافرة ووطؤها بملك اليمين لقوله تعالى (* (إلا ما ملكت يمينك) *) وهذا عموم
ومنهم من قال لا يحل له نكاحها لأن نكاح الأمة مقيد بشرط خوف العنت وهذا الشرط معدوم في حقه لأنه معصوم فأما وطؤها بملك اليمين فيتردد فيه
والذي عندي أنه لا يحل له نكاح الكافرة ولا وطؤها بملك اليمين تنزيها لقدره
609

عن مباشرة الكفارة وقد قال الله تعالى (* (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) *) الممتحنة 1 فكيف به وقال (* (اللاتي هاجرن معك) *) فشرط في الإحلال له الهجرة بعد الإيمان فكيف يقال إن الكافرة تحل له
المسألة السابعة (* (وكان الله على كل شيء رقيبا) *))
وقد تقدم معنى الرقيب في أسمائه سبحانه وتعالى والمعنى المختص به هاهنا أن الله يعلم الأشياء علما مستمرا ويحكم فيها حكما مستقرا ويربط بعضها ببعض ربطا ينتظم به الوجود ويصح به التكليف
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فأدخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) *) الآية 53
فيها ثمان عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك ستة أقوال
الأول روي عن أنس في الصحيح وغيره كتاب البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له قال أنس بن مالك تزوج رسول الله فدخل بأهله فصنعت أم سليم أمي حيسا فجعلته في تور وقالت لي يا أنس اذهب إلى رسول الله فقل بعثت به إليك أمي وهي تقرئك السلام وتقول لك إن هذا لك منا قليل يا رسول الله
610

قال فذهبت به إلى رسول الله وقلت إن أمي تقرئك السلام وتقول لك إن هذا لك منا قليل يا رسول الله فقال ضعه ثم قال اذهب فادع لي فلانا وفلانا ومن لقيت وسمى رجالا فدعوت من سمى ومن لقيت
قال قلت لأنس عددكم كم كانوا قال زهاء ثلاثمائة فقال قال لي رسول الله يا أنس هات التور قال فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة فقال رسول الله ليتحلق عشرة عشرة وليأكل كل إنسان مما يليه قال فأكلوا حتى شبعوا قال فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم قال قال لي يا أنس ارفع قال فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت
قال وجلس منهم طوائف يتحدثون في بيت رسول الله ورسول الله جالس وزوجته مولية وجهها إلى الحائط فثقلوا على رسول الله فخرج رسول الله فسلم على نسائه ثم رجع فلما رأوا رسول الله قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه فابتدروا الباب وخرجوا كلهم وجاء رسول الله حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحجرة فلم يلبث إلا يسيرا حتى خرج علي وأنزل الله هذه الآية فخرج رسول الله فقرأها على الناس (* (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) *) إلى آخر الآية
قال أنس أنا أحدث الناس عهدا بهذه الآيات وحجب نساء النبي
الثاني روى مجاهد عن عائشة قالت كنت آكل مع رسول الله حيسا فمر عمر فدعاه فأكل فأصاب أصبعه أصبعي فقال حينئذ لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب
611

الثالث ما روى عروة عن عائشة أن أزواج النبي كن يخرجن بالليل إلى المناصع وهو صعيد أفيح يتبرزن فيه فكان عمر يقول للنبي احجب نساءك فلم يكن يفعل فخرجت سودة ليلة من الليالي وكانت امرأة طويلة فناداها عمر قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب قالت عائشة فأنزل الحجاب
الرابع روي عن ابن مسعود أمر نساء النبي بالحجاب فقال زينب بنت جحش يا بن الخطاب إنك تغار علينا والوحي ينزل علينا فأنزل الله تعالى (* (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) *)
الخامس روى قتادة أن هذا كان في بيت أم سلمة أكلوا وأطالوا الحديث فجعل النبي يدخل ويخرج ويستحي منهم والله لا يستحيي من الحق
السادس روى أنس أن عمر قال قلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب
المسألة الثانية
هذه الروايات ضعيفة إلا الأولى والسادسة وأما رواية ابن مسعود فباطلة لأن الحجاب نزل يوم البناء بزينب ولا يصح ما ذكر فيه
المسألة الثالثة قوله (* (بيوت النبي) *))
هذا يقتضي أن البيت بيت الرجل إذ جعله مضافا إليه
فإن قيل فقد قال (* (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) *) الأحزاب 34
قلنا إضافة البيوت إلى النبي إضافة ملك وإضافة البيوت إلى الأزواج إضافة محل بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي والإذن إنما يكون للمالك وبدليل
612

وطعام الإملاك الشدخية وما رأيته في أثر إلا ما روي أن النجاشي لما عقد نكاح النبي مع أم حبيبة عنده قال لهم لا تفرقوا الأطعمة وكذلك كانت الأنبياء تفعل وبعث بها إلى النبي في المدينة
طعام العرس الوليمة
طعام البناء الوكيرة
طعام الولادة الخرس
طعام سابعها العقيقة
طعام الختان الإعذار ويقال العذيرة
طعام القادم من السفر النقيعة
طعام الجنازة الوضيمة
وهناك أسماء تعد هذه أصولها المعلومة
والفائدة في قوله إلى طعام أمران
أحدهما أن الكريم إذا دعا إلى منزله أحدا لأمر لم يكن بد من أن يقدم إليه ما حضر من طعام ولو تمرة أو كسرة فإذا تناول معه ما حضر كلمه فيما عرض
المسألة السادسة قوله (* (غير ناظرين إناه) *))
معناه غير منتظرين وقته والناظر هو المستنظر والإنى هو الوقت وقد تقدم بيانه
المعنى لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم في الدخول أو يطعمكم طعاما حاضرا لا تنتظرون نضجه ولا ترتقبون حضوره فيطول لذلك مقامكم وتحصلون فيما كره منكم
614

المسألة السابعة قوله (* (ولكن إذا دعيتم فأدخلوا) *))
المعنى ادخلوا على وجه الأدب وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة
وتقدير الكلام إذا دعيتم فأذن لكم فأدخلوا وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول
المسألة الثامنة قوله (* (فإذا طعمتم) *))
هذا يدل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف لا على ملك نفسه لأنه قال (* (فإذا طعمتم) *) فلم يجعل له أكثر من الأكل ولا أضاف له سواه وبقي الملك على أصله وقد بينا ذلك في مسائل الفروع
المسألة التاسعة قوله (* (فانتشروا) *))
المراد تفرقوا من النشر وهو الشيء المفترق والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل
والدليل على ذلك أن الدخول حرام وإنما جاز لأجل الأكل فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح وعاد التحريم إلى أصله
المسألة العاشرة قوله (* (ولا مستأنسين لحديث) *))
المعنى لا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله في وليمة زينب ولكن الفائدة في عطفه على ما تقدم أن استدامة الدخول دخول فعطفه عليه وقد بينا ذلك في مسائل الفقه
المسألة الحادية عشرة قوله (* (إن ذلكم كان يؤذي النبي) *))
والإذاية كل ما تكرهه النفس وهو محرم على الناس لا سيما إذاية يكرهها رسول الله بل ألزم الخلق أن يفعلوا ما يكرهون إرضاء لرسول الله
والمعنى منعناكم منه لإذاية النبي فجعل المنع من الدخول بغير إذن والمقام بعد كمال المقصود محرما فعله لإذاية النبي والمحرمات في الشرع على قسمين منها معلل ومنها غير معلل فهذا من الأحكام المعللة بالعلة وهي إذاية النبي
615

المسألة الثانية عشرة قوله (* (فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق) *))
وقد بينا الحياء في كتب الأصول ومعناه هاهنا فيمسك عن كشف مراده لكم فيتأذى بإقامتكم على معنى التعبير عن الشيء بمقدمته وهو أحد وجوه المجاز أو بفائدته وهو الوجه الثاني أو على معنى التشبيه وهو الثالث
المسألة الثالثة عشرة قوله (* (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) *))
وفي المتاع أربعة أقوال
الأول عارية
الثاني حاجة
الثالث فتوى
الرابع صحف القرآن
وهذا يدل على أن الله أذن في مساءلتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتى فيها والمرأة كلها عورة بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة كالشهادة عيها أو داء يكون ببدنها أو سؤالها عما يعن ويعرض عندها
المسألة الرابعة قوله (* (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) *))
المعنى أن ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية
وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته
المسألة الخامسة عشرة قوله (* (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) *))
وهذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها وتأكيد العلل أقوى في الأحكام
616

المسألة السادسة عشرة قوله (* (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) *))
وهي من خصائصه فقد خص بأحكام وشرف بمعالم ومعان لم يشاركه فيها أحد تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته
وقد روي أن سبب نزول هذه الكلمة أن آية الحجاب لما نزلت قالوا يمنعنا من بنات عمنا لئن حدث به الموت لنتزوجن نساءه من بعده فأنزل الله هذه الكلمة
وروي أن رجلا قال لئن مات لأتزوجن عائشة فأنزل الله هذه الآية وصان خلوة نبيه وحقق غيرته فقصرهن عليه وحرمهن بعد موته
وقد اختلف في حالهن بعد موته وهي
المسألة السابعة عشرة هل بقين أزواجا أو زال النكاح بالموت
وإذا قلنا إن حكم النكاح زال بالموت فهل عليهن عدة أم لا
فقيل عليهن العدة لأنهن زوجات توفي عنهن زوجهن وهي عبادة
وقيل لا عدة عليهن لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة
وببقاء الزوجية أقول لقول النبي ما تركت بعد نفقة عاملي ومؤنة عالمي صدقة
وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث ما تركت بعد نفقة أهلي وهذا اسم خاص بالزوجية لأنه أبقى عليهن النفقة مدة حياتهن لكونهن نساءه
وفي بعض الآثار كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي
والأول أصح وعليه المعول
617

ومعنى إبقاء النكاح بقاء أحكامه من تحريم الزوجية ووجوب النفقة والسكنى إذ جعل الموت في حقه عليه السلام بمنزلة المغيب في حق غيره لكونهن أزواجا له قطعا بخلاف سائر الناس لأن الميت لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة فربما كان أحدهم في الجنة والآخر في النار فبهذا الوجه انقطع السبب في حق الخلق وبقي في حق النبي
المسألة الثامنة عشرة قوله (* (إن ذلكم كان عند الله عظيما) *))
يعني إذاية رسول الله أو نكاح أزواجه فجعل ذلك من جملة الكبائر ولا ذنب أعظم منه وقد بينا أحوال عظائم الذنوب في شرح الحديث والمشكلين في أبواب الكبائر
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى (* (إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما) *) الآية 54
البارئ تعالى عالم ما بدا وما خفي وما ظهر وما كان وما لم يكن لا يخفى عليه ماض يمضي ولا مستقبل يأتي وهذا على العموم تمدح الله به وهو أصل الحمد والمدح والمراد به هاهنا في قول المفسرين ما أكنوه من نكاح أزواج النبي بعده فحرم ذلك عليهن حين أضمروه في قلوبهم وأكنوه في أنفسهم فصارت هذه الآية منقطعة عما قبلها مبينة لها
الآية الموفية عشرين
قوله تعالى (* (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا) *) الآية 55
فيها أربع مسائل
618

المسألة الأولى
روي أن نزول الحجاب لما نزل وستره لما انسدل قال الآباء كيف بنا مع بناتنا فأنزل الله الآية
المسألة الثانية
اختلف العلماء في المنفي عنه الجناح
فقيل معناه لا جناح عليهن في رفع الحجاب قاله قتادة
وقيل لا جناح عليهن في سدل الحجاب قاله مجاهد
والمعنى المتقدم أن الله أمرهن بالستر عن الخلق وضرب الحجاب بينهن وبين الناس ثم أسقط ذلك بين من ذكر هاهنا من القرابات
المسألة الثالثة
روي عن الشعبي أنه قال لم يذكر الله العم فيها ولا الخال لأنها تحل لأبنائهما
وقيل لم يذكرهما لأنهما قائمان مقام الأبوين بدليل نزولهما منزلتهما في حرمة النكاح
فأما من قال بالقول الأول فقال إن حكم الرجل مع النساء ينقسم على ثلاثة أقسام
الأول من يجوز له نكاحها
والثاني من لا يحل له نكاحها لابنه كالأخ والجد والحفيد
والثالث من لا يحل له نكاحها ويجوز لولده كالعم والخال بحسب منزلتهم منها في الحرمة
فمن كان يجوز له نكاحها لم يحل له رؤية شيء منها ومن لا يحل له نكاحها ويجوز لولده جاز رؤية وجهها وكفيها خاصة ولم يحل له رؤية زينتها ومن لا يحل له ولا لولده جاز الوضع لجلبابها ورؤية زينتها
619

وهذا التقسيم إنما هو على القول بأن رفع الجناح في الآية هو في وضع الجلباب
فإن قلنا إنه في رفع الحجاب لم يصح هذا الترتيب في هذه الآية وقد بينا حكم وضع الجلباب في سورة النور وحكم العم من الرضاع والنسب بما يغني بيانه عن إعادته
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (واتقين الله) *))
فخص به النساء وعينهن في هذا الأمر بالتقوى لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن
الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى (* (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) *) الآية 56
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى في ذكر صلاة الله
قد بيناه في الأمد الأقصى وغيره من كتبنا والأمر خص به معنى صلاة الله على عباده وأنه يكون بمعنى دعائهم له وذكره الجميل وتكون حقيقة وقد تكون بمعنى رحمته له إذ هو فائدة ذلك مجازا على معنى التعبير عن الشيء بفائدته
المسألة الثانية في ذكر صلاة الملائكة
قال العلماء هو دعاؤهم واستغفارهم وتبريكهم عليهم كما قال الله تعالى (* (ويستغفرون لمن في الأرض) *) وكما روى أبو هريرة عن النبي الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه اللهم صل عليه اللهم ارحمه
المسألة الثالثة في ذكر صلاة الخلق عليه
وفي ذلك روايات مختلفة عن جماعة من الصحابة أوردناها في كتاب مختصر النيرين في شرح الصحيحين فمن ذلك ثمان روايات
620

الأولى روى مالك في الموطأ عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال رسول الله قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد
الثانية روى مالك عن أبي مسعود الأنصاري قال أتانا رسول الله في مجلس سعد بن عبادة فقال بشير بن سعد أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك
قال فسكت رسول الله حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم
الثالثة روى النسائي عن طلحة مثله بإسقاط قوله في العالمين وقوله والسلام كما قد علمتم
الرابعة عن كعب بن عجرة قال عبد الرحمن بن أبي ليلى تلقاني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية قلت بلى قال خرج علينا رسول الله فقلنا يا رسول الله هذا السلام عليك قد علمناه فكيف الصلاة عليك
قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد
الخامسة عن بريدة الخزاعي قال قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف السلام
621

عليك فكيف الصلاة عليك قال قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد
السادسة عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله قد علمنا هذا السلام عليك فكيف الصلاة عليك
قال قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم
السابعة روى أبو داود عن أبي هريرة قال من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد
الثامنة من طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم ترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم سلم على محمد وعلى آل محمد كما سلمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد
المسألة الرابعة
من هذه الروايات صحيح ومنها سقيم وأصحها ما روي عن مالك فاعتمدوه ورواية من روى غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها لا يقوى وإنما على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم وهم لا يأخذون في البيع دينارا معيبا وإنما يختارون السالم الطيب كذلك في الدين لا يؤخذ من الروايات عن النبي
622

إلا ما صح سنده لئلا يدخل في خبر الكذب على رسول الله فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص بل ربما أصاب الخسران المبين
المسألة الخامسة
الصلاة على النبي فرض في العمر مرة بلا خلاف فأما في الصلاة فقال محمد ابن المواز والشافعي إنها فرض فمن تركها بطلت صلاته
وقال سائر العلماء هي سنة في الصلاة
والصحيح ما قاله محمد بن المواز للحديث الصحيح إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك فعلم الصلاة ووقتها فتعينا كيفية ووقتا وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف
المسألة السادسة من آل محمد
وقد بيناه في شرح الحديث الصحيح
وجملته قولان
أحدهما أنهم أتباعه المتقون وكذلك قال مالك
وقال غيره وهم الأكثرون هم أهله وهو الأصح لقوله في حديث صل على محمد وعلى آل محمد وقال في آخر وصل على محمد وعلى أزواجه وذريته فتارة فسره بالذرية والأزواج وتارة أطلقه
المسألة السابعة قوله كما صليت على إبراهيم
وهي مشكلة جدا لأن محمدا أفضل من إبراهيم فكيف يكون أفضل منه ثم يطلب له أن يبلغ رتبته
وفي ذلك تأويلات كثيرة أمهاتها عشرة
الأول أن ذلك قيل له قبل أن يعرف بمرتبنه ثم استمر ذلك فيه
الثاني أنه سأل ذلك لنفسه وأزواجه لتتم عليهم النعمة كما تمت عليه
الثالث أنه سأل ذلك له ولأمته على القول بأن آل محمد كل من اتبعه
623

الرابع أنه سأل ذلك مضاعفا له حتى يكون لإبراهيم بالأصل وله بالمضاعفة
الخامس أنه سأل ذلك لتدوم إلى يوم القيامة
السادس أنه يحتمل أنه يكون أراد ذلك له بدعاء أمته تكرمة لهم ونعمة عليهم بأن يكرم رسولهم على ألسنتهم
السابع أن ذلك مشروع لهم ليثابوا عليه قال من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا
الثامن أنه أراد أن يبقى له ذلك لسان صدق في الآخرين
التاسع أن معناه اللهم ارحمه رحمة في العالمين يبقى بها دينه إلى يوم القيامة
العاشر أن معناه اللهم صل عليه صلاة تتخذه بها خليلا كما اتخذت إبراهيم خليلا
قال القاضي وعندي أيضا أن معناه أن تكون صلاة الله عليه بصلاته وصلاة أمته كما غفر لهم بشرط استغفاره فأعلم أن الله قد غفر له ثم كان يديم الاستغفار ليأتي بالشرط الذي غفر له وهذا تأكيد لما سبق من الأقوال وتحقيق فيها لما يقوى من الاحتمال
الآية الثانية والعشرون
قوله تعالى (* (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما) *) الآية 59
فيها ست مسائل
624

المسألة الأولى
روي أن عمر رضي الله عنه بينما هو يمشي بسوق المدينة مر على امرأة مخترمة بين أعلاج قائمة بسوق بعض السلع فجلدها فانطلقت حتى أتت رسول الله فقالت يا رسول الله جلدني عمر بن الخطاب على غير شيء رآه مني فأرسل إليه رسول الله فقال ما حملك على جلد ابنة عمك فأخبره خبرها فقال وابنة عمي هي يا رسول الله أنكرتها إذ لم أر عليها جلبابا فظننتها وليدة
فقال الناس الآن ينزل على رسول الله فيها قال عمر وما نجد لنسائنا جلابيب فأنزل الله تعالى (* (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) *) الآية
المسألة الثانية
اختلف الناس في الجلباب على ألفاظ متقاربة عمادها أنه الثوب الذي يستر به البدن لكنهم نوعوه هاهنا فقد قيل إنه الرداء وقيل إنه القناع
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (يدنين عليهن) *))
قيل معناه تغطي به رأسها فوق خمارها
وقيل تغطي به وجهها حتى لا يظهر منها إلا عينها اليسرى
المسألة الرابعة
والذي أوقعهم في تنويعه أنهم رأوا الستر والحجاب مما تقدم بيانه واستقرت معرفته وجاءت هذه الزيادة عليه واقترنت به القرينة التي بعده وهي مما تبينه وهو قوله تعالى (* (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) *)
والظاهر أن ذلك يسلب المعرفة عند كثرة الاستتار فدل وهي
المسألة الخامسة
على أنه أراد تمييزهن على الإماء اللاتي يمشين حاسرات أو بقناع مفرد يعترضهن
625

الرجال فيتكشفن ويكلمنهن فإذا تجلببت وتسترت كان ذلك حجابا بينها وبين المتعرض بالكلام والاعتماد بالإذاية وقد قيل وهي
المسألة السادسة
إن المراد بذلك المنافقون
قال قتادة كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالإذاية فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء لئلا يلحقهن مثل تلك الإذاية
وقد روي أن عمر بن الخطاب كان يضرب الإماء على التستر وكثرة التحجب ويقول أتتشبهن بالحرائر وذلك من ترتيب أوضاع الشريعة بين
الآية الثالثة والعشرون
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) *) الآية 69
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
روى أبو هريرة في الصحيح الثابت أن رسول الله قال إن موسى كان رجلا ستيرا حييا ما يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما آدر وإما آفة وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا وإن موسى خلا يوما وحده وخلع ثيابه ووضعها على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه فطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن الناس خلقا وأبرأهم مما كانوا يقولون له
626

قال وقام إلى الحجر وأخذ ثوبه فلبسه وطفق موسى بالحجر ضربا بعصاه فوالله إن بالحجر لندبا من أثر عصاه ثلاثا أو أربعا أو خمسا فذلك قوله (* (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى) *) الآية فهذه إذاية في بدنه
وقد روى ابن عباس عن علي بن أبي طالب في المنثور أن موسى وهارون صعدا الجبل فمات هارون فقال بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حبا فآذوه في ذلك فأمر الملائكة فحملته فمروا به على مجالس بني إسرائيل فتكلمت الملائكة بموته فما عرف موضع قبره إلا الرخم وإن الله خلقه أصم أبكم وهذه إذاية في العرض
المسألة الثانية في هذا النهي عن التشبه ببني إسرائيل في إذاية نبيهم موسى
وفيه تحقيق الوعد بقوله لتركبن سنن من كان قبلكم وهي
المسألة الثالثة
فوقع النهي تكليفا للخلق وتعظيما لقدر الرسول ووقع المنهي عنه تحقيقا للمعجزة وتصديقا للنبي وتنفيذا لحكم القضاء والقدر وردا على المبتدعة وقد بينا معاني الحديث في كتاب مختصر النيرين
الآية الرابعة والعشرون
قوله تعالى (* (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) *) الآية 72
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في حقيقة العرض
وقد بيناه في المشكلين
627

المسألة الثانية في ذكر الأمانة
وفيها اختلاط كثير من القول لبابه في عشرة أقوال
الأول أنها الأمر والنهي قاله أبو الغالية
الثاني أنها الفرائض روي عن ابن عباس وغيره
الثالث أنها أمانة الفرج عند المرأة قاله أبي
الرابع أن الله وضع الرحم عند آدم أمانة
الخامس أنها الخلافة
السادس أنها الجنابة والصلاة والصوم قاله زيد بن أسلم
السابع أنها أمانة آدم قابيل على أهله وولده فقتل قابيل هابيل
الثامن أنها ودائع الناس
التاسع أنها الطاعة
العاشر أنها التوحيد
فهذه الأقوال كلها متقاربة ترجع إلى قسمين
أحدهما التوحيد
فإنه أمانة عند العبد وخفي في القلب لا يعلمه إلا الله ولذلك قال النبي إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس
ثانيهما قسم العمل
وهو في جميع أنواع الشريعة وكلها أمانة تختص بتأكيد الاسم فيها
والمعنى ما كان خفيا لا يطلع عليه الناس فأخفاه أحقه بالحفظ وأخفاه ألزمه بالرعاية وأولاه
628

المسألة الثالثة تختص بالأحكام من هذه الجملة
ثلاثة
الأول الودائع وقد تقدم بيانها وأوضحنا وجه أداء الأمانة فيها وهل تقابل بخيانة أم لا
الثاني أمانة المرأة على حيضها وحملها وقد تقدم بيانه
الثالث الوضوء والغسل وهما أمانتان عظيمتان لا يعلمهما إلا الله وكذلك الصوم ولأجل ذلك جعل لله وحده وهو يجزي به حسبما ورد ولذلك قال علماؤنا إن الطهارة لما كانت خفية لا يطلع عليها إلا الله وحده كان الحكم فيها إذا صلى إمام بقوم ثم ذكر أنه محدث فعليه الإعادة وحده ولا إعادة عليهم لأن حدثه أو طهارته لا تعلم حقيقة وإنما تعلم بظاهر من القول واجتهاد في النظر ليس بنص ولا يقين وقد أديت الصلاة وراءه باجتهاد ولا ينقض باجتهاد لأنه يجوز أن يكون ذكره للحديث غير صحيح وهو أيضا ناس فيه إذ هو غير محقق له حتى بالغوا في ذلك النظر واستوفوا فيه الحق فقالوا إن الإمام إذا قال صليت بكم منذ كذا وكذا سنة متعمدا لترك الطهارة ما استقبلت فيها قبلة بوضوء ولا اغتسلت عن جنابة ذنبا ارتكبته وسيئة اجترمتها وأنا منها تائب لم يكن على واحد ممن صلى وراءه إعادة والله حسيبه لأن ذلك كله غير متحقق من قوله ولعل الأول هو الحق والصدق وهذا كذب لعلة أو حيلة أو لتهور والله أعلم لا رب غيره
629