الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ١٤
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

قوله تعالى
* (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى قرأ ابن عامر * (وأن هذا) * بفتح الألف وسكون النون وقرأ حمزة والكسائي * (وإن) * بكسر الألف وتشديد النون أما قراءة ابن عامر فأصلها * (وإنه هذا صراطي) * والهاء ضمير الشأن والحديث وعلى هذا الشرط تخفف. قال الأعشى:
في فتية كسيوف الهند قد علموا * أن هالك كل من يحفى وينتعل
أي قد علموا أنه هالك، وأما كسر * (إن) * فالتقدير * (أتل ما حرم) * (الأنعام: 151) وأتل * (أن هذا صراطي) * بمعنى أقول وقيل على الاستئناف. وأما فتح أن فقال الفراء فتح * (أن) * من وقوع أتل عليها يعني وأتل عليكم * (أن هذا صراطي مستقيما) * قال: وإن شئت جعلتها خفضا والتقدير * (ذلكم وصاكم به) * وبأن هذا صراطي. قال أبو علي: من فتح * (أن) * فقياس قول سيبويه أنه حملها على قوله: * (فاتبعوه) * والتقدير لأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه كقوله: * (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) * (المؤمنون: 52) وقال سيبويه لأن هذه أمتكم، وقال في قوله: * (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) * (الجن: 18) والمعنى ولأن المساجد لله.
المسألة الثانية: القراء أجمعوا على سكون الياء من * (صراطي) * غير ابن عامر فإنه فتحها وقرأ ابن كثير وابن عامر * (سراطي) * بالسين وحمزة بين الصاد والزاي والباقون بالصاد صافية وكلها لغات قال صاحب " الكشاف ": قرأ الأعمش * (وهذا صراطي) * وفي مصحف عبد الله * (وهذا صراط ربكم) * وفي مصحف أبي * (وهذا صراط ربك) *.
2

المسألة الثالثة: أنه تعالى لما بين في الآيتين المتقدمين ما وصى به أجمل في آخره إجمالا يقتضي دخول ما تقدم فيه، ودخول سائر الشريعة فيه فقال: * (وأن هذا صراطي مستقيما) * فدخل فيه كل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام وهو المنهج القويم والصراط المستقيم، فاتبعوا جملته وتفصيله ولا تعدلوا عنه فتقعوا في الضلالات. وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطا، ثم قال: هذا سبيل الرشد ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا، ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه؟ ثم تلا هذه الآية: * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) * وعن ابن عباس هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار.
ثم قال: * (ذلكم وصاكم به) * أي بالكتاب * (لعلكم تتقون) * المعاصي والضلالات.
المسألة الرابعة: هذه الآية تدل على أن كل ما كان حقا فهو واحد، ولا يلزم منه أن يقال: إن كل ما كان واحدا فهو حق، فإذا كان الحق واحدا كان كل ما سواه باطلا، وما سوى الحق أشياء كثيرة، فيجب الحكم بأن كل كثير باطل، ولكن لا يلزم أن يكون كل باطل كثيرا بعين ما قررناه في القضية الأولى.
قوله تعالى
* (ثم ءاتينا موسى الكتاب تماما على الذى أحسن وتفصيلا لكل شىء وهدى ورحمة لعلهم بلقآء ربهم يؤمنون) *.
اعلم أن قوله: * (ثم آتينا) * فيه وجوه: الأول: التقدير: ثم إني أخبركم بعد تعديد المحرمات وغيرها من الأحكام، إن آتينا موسى الكتاب، فذكرت كلمة " ثم " لتأخير الخبر عن الخبر، لا لتأخير الواقعة، ونظيره قوله تعالى: * (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * (الأعراف: 11) والثاني: أن التكاليف التسعة المذكورة في الآية المتقدمة التكليف لا يجوز اختلافها بحسب اختلاف الشرائع بل هي أحكام واجبة الثبوت من أول زمان التكليف إلى قيام القيامة. وأما الشرائع التي كانت التوبة مختصة بها، فهي إنما حدثت بعد تلك التكاليف التسعة، فتقدير الآية أنه تعالى لما ذكرها قال: ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديما وحديثا، ثم بعد ذلك آتينا موسى الكتاب. الثالث: أن
3

فيه حذفا تقديره: ثم قل يا محمد إنا آتينا موسى، فتقديره: أتل ما أوحى إليك، ثم أتل عليهم خبر ما آتينا موسى.
أما قوله: * (تماما على الذي أحسن) * ففيه وجوه: الأول: معناه تماما للكرامة والنعمة على الذي أحسن. أي على كل من كان محسنا صالحا، ويدل عليه قراءة عبد الله * (على الذين أحسنوا) * والثاني: المراد تماما للنعمة والكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة بالتبليغ، وفي كل ما أمر به والثالث: تماما على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع، من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته، أي زيادة على علمه على وجه التتميم، وقرأ يحيى بن يعمر * (على الذي أحسن) * أي على الذي هو أحسن بحذف المبتدأ كقراءة من قرأ * (مثلا ما بعوضة) * (البقرة: 26) بالرفع وتقدير الآية: على الذي هو أحسن دينا وأرضاه، أو يقال المراد: آتينا موسى الكتاب تماما، أي تاما كاملا على أحسن ما تكون عليه الكتب، أي على الوجه الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي: أتم له الكتاب على أحسنه، ثم بين تعالى ما في التوراة من النعم في الدين وهو تفصيل كل شيء، والمراد به ما يختص بالدين فدخل في ذلك بيان نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم دينه، وشرعه، وسائر الأدلة والأحكام إلا ما نسخ منها ولذلك قال: * (وهدى ورحمة) * والهدى معروف وهو الدلالة، والرحمة هي النعمة * (لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) * أي لكي يؤمنوا بلقاء ربهم، والمراد به لقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب.
قوله تعالى
* (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنمآ أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنآ أنزل علينا الكتاب
4

لكنآ أهدى منهم فقد جآءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزى الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون) *.
اعلم أن قوله: * (وهذا كتاب) * لا شك أن المراد هو القرآن وفائدة وصفه بأنه مبارك أنه ثابت لا يتطرق إليه النسخ كما في الكتابين، أو المراد أنه كثير الخير والنفع.
ثم قال: * (فاتبعوه) * والمراد ظاهر.
ثم قال: * (واتقوا لعلكم ترحمون) * أي لكي ترحموا. وفيه ثلاثة أقوال: قيل اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة، وقيل: اتقوا لترحموا، أي ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله، وقيل: اتقوا لترحموا جزاء على التقوى.
ثم قال تعالى: * (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) * وفيه وجوه:
الوجه الأول: قال الكسائي والفراء، والتقدير: أنزلناه لئلا تقولوا، ثم حذف الجار وحرف النفي، كقوله: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * (النساء: 176) وقوله: * (رواسي أن تميد بكم) * (النحل: 15) أي لئلا.
والوجه الثاني: وهو قول البصريين معناه: أنزلناه كراهة أن تقولوا ولا يجيزون إضمار " لا " فإنه لا يجوز أن يقال: جئت أن أكرمك بمعنى: أن لا أكرمك، وقد ذكرنا تحقيق هذه المسألة في آخر سورة النساء.
والوجه الثالث: قال الفراء: يجوز أن يكون " إن " متعلقة باتقوا، والتأويل: واتقوا أن تقولوا إنما أنزل الكتاب.
البحث الثاني: قوله: * (أن تقولوا) * خطاب لأهل مكة، والمعنى: كراهة أن يقول أهل مكة أنزل الكتاب، وهو التوراة والإنجيل على طائفتين من قبلنا، وهم اليهود والنصارى، وإن كنا " إن " هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والأصل وأنه كنا عن دراستهم لغافلين، والمراد بهذه الآيات إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد كي لا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما، فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم وقوله: * (وإن كنا عن دراستهم لغافلين) * أي لا نعلم ما هي، لأن كتابهم ما كان بلغتنا، ومعنى أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، مفسر للأول في أن معناه لئلا يقولوا ويحتجوا بذلك، ثم بين تعالى قطع احتجاجهم بهذا، وقال: * (فقد جاءكم بينة من ربكم) * وهو القرآن وما جاء به الرسول * (وهدى ورحمة) *.
فإن قيل: البينة والهدى واحد، فما الفائدة في التكرير؟
5

قلنا: القرآن بينة فيما يعلم سمعا وهو هدى فيما يعلم سمعا وعقلا، فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف، وقد بينا أن معنى * (رحمة) * أي أنه نعمة في الدين.
ثم قال تعالى: * (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله) * والمراد تعظيم كفر من كذب بآيات الله، وصدف عنها، أي منع عنها، لأن الأول ضلال، والثاني منع عن الحق وإضلال.
ثم قال تعالى: * (سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب) * وهو كقوله: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب) *.
قوله تعالى
* (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى ربك أو يأتى بعض ءايات ربك يوم يأتى بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا قل نتظروا إنا منتظرون) *.
قرأ حمزة والكسائي: * (يأتيهم) * بالياء وفي النحل مثله، والباقون * (تأتيهم) * بالتاء.
واعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر، وإزاحة للعلة، وبين أنهم لا يؤمنون البتة وشرح أحوالا توجب اليأس عن دخولهم في الإيمان فقال: * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) * ونظير هذه الآية قوله في سورة البقرة: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) * (الأنعام: 158) ومعنى ينظرون ينتظرون وهل استفهام معناه النفي، وتقدير الآية: أنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءهم أحد هذه الأمور الثلاثة، وهي مجيء الملائكة، أو مجيء الرب، أو مجيء الآيات القاهرة من الرب.
فإن قيل: قوله: * (أو يأتي ربك) * هل يدل على جواز المجيء والغيبة على الله.
قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن هذا حكاية عنهم، وهم كانوا كفارا، واعتقاد الكافر ليس بحجة، والثاني: أن هذا مجاز. ونظيره قوله تعالى: * (فأتى الله بنيانهم) * (النحل: 26) وقوله: * (إن الذين يؤذون الله) * (الأحزاب: 57) والثالث: قيام الدلائل القاطعة على أن المجيء والغيبة على الله تعالى محال، وأقربها قول الخليل صوات الله عليه في الرد على عبدة الكواكب * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76).
6

فإن قيل: قوله: * (أو يأتي ربك) * لا يمكن حمله على إثبات أثر من آثار قدرته، لأن على هذا التقدير: يصير هذا عين قوله: * (أو يأتي بعض آيات ربك) * فوجب حمله على أن المراد منه إتيان الرب.
قلنا: الجواب المعتمد أن هذا حكاية مذهب الكفار، فلا يكون حجة، وقيل: يأتي ربك بالعذاب، أو يأتي بعض آيات ربك وهو المعجزات القاهرة.
ثم قال تعالى: * (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) * وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة، عن البراء بن عازب قال: كنا نتذاكر أمر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تتذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة قال: " إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، الدخان، ودابة الأرض، وخسفا بالمشرق، وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب، والدجال. وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن " وقوله: * (لم تكن آمنت من قبل) * صفة لقوله: * (نفسا) * وقوله: * (أو كسبت في إيمانها خيرا) * صفة ثانية معطوفة على الصفة الأولى، والمعنى: أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان نفسا ما آمنت قبل ذلك، وما كسبت في إيمانها خيرا قبل ذلك.
ثم قال تعالى: * (قل انتظروا إنا منتظرون) * وعيد وتهديد.
قوله تعالى
* (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شىء إنمآ أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) *.
قرأ حمزة والكسائي * (فارقوا) * بالألف والباقون * (فرقوا) * ومعنى القراءتين عند التحقيق واحد لأن الذي فرق دينه بمعنى أنه أقر ببعض وأنكر بعضا، فقد فارقه في الحقيقة، وفي الآية أقوال:
القول الأول: المراد سائر الملل. قال ابن عباس: يريد المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويزعمون أنهم بنات الله، وبعضهم يعبدون الأصنام، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فهذا معنى فرقوا دينهم وكانوا شيعا، أي فرقا وأحزابا في الضلالة. وقال مجاهد وقتادة: هم اليهود والنصارى، وذلك لأن النصارى تفرقوا فرقا، وكفر بعضهم بعضا، وكذلك اليهود، وهم أهل
7

كتاب واحد، واليهود تكفر النصارى.
والقول الثاني: أن المراد من الآية أخذوا ببعض وتركوا بعضا، كما قال تعالى: * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) * (البقرة: 85) وقال أيضا: * (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) *.
والقول الثالث: قال مجاهد: إن الذين فرقوا دينهم من هذه الأمة، هم أهل البدع والشبهات واعلم أن المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة، وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع وقوله: * (لست منهم في شيء) * فيه قولان: الأول: أنت منهم بريء وهم منك برآء وتأويله: إنك بعيد عن أقوالهم ومذاهبهم، والعقاب اللازم على تلك الأباطيل مقصور عليهم ولا يتعداهم. والثاني: لست من قتالهم في شيء. قال السدي: يقولون لم يؤمر بقتالهم، فلما أمر بقتالهم نسخ، وهذا بعيد، لأن المعنى لست من قتالهم في هذا الوقت في شيء، فورد الأمر بالقتال في وقت آخر لا يوجب النسخ.
ثم قال: * (إنما أمرهم إلى الله) * أي فيما يتصل بالإمهال والأنظار، والاستئصال والإهلاك * (ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) * والمراد الوعيد.
قوله تعالى
* (من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جآء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم: الحسنة قول لا إله إلا الله، والسيئة هي الشرك، وهذا بعيد بل يجب أن يكون محمولا على العموم إما تمسكا باللفظ وإما لأجل أنه حكم مرتب على صف مناسب له فيقتضي كون الحكم معللا بذلك الوصف. فوجب أن يعم لعموم العلة.
المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه الله: حذفت الهاء من عشر والأمثال جمع مثل، والمثل مذكر لأنه أريد عشر حسنات أمثالها، ثم حذفت الحسنات وأقيمت الأمثال التي هي صفتها مقامها وحذف الموصوف كثير في الكلام، ويقوي هذا قراءة من قرأ عشر أمثالها بالرفع والتنوين.
المسألة الثالثة: مذهبنا أن الثواب تفضل من الله تعالى في الحقيقة، وعلى هذا التقدير فلا إشكال في الآية، أما المعتزلة فهم فرقوا بين الثواب والتفضل بأن الثواب هو المنفعة المستحقة
8

والتفضل هو المنفعة التي لا تكون مستحقة ثم إنهم على تقريع مذاهبهم اختلفوا. فقال بعضهم: هذه العشرة تفضل والثواب غيرها وهو قول الجبائي قال: لأنه لو كان الواحد ثوابا وكانت التسعة تفضلا لزم أن يكون الثواب دون التفضل، وذلك لا يجوز، لأنه لو جاز أن يكون التفضل مساويا للثواب في الكثرة والشرف، لم يبق في التكليف فائدة أصلا فيصير عبثا وقبيحا، ولما بطل ذلك علمنا أن الثواب يجب أن يكون أعظم في القدر وفي التعظيم من التفضل. وقال آخرون: لا يبعد أن يكون الواحد من هذه التسعة ثوابا، وتكون التسعة الباقية تفضلا، إلا أن ذلك الواحد يكون أوفر وأعظم وأعلى شأنا من التسعة الباقية.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: التقدير بالعشرة ليس المراد منه التحديد، بل أراد الإضعاف مطلقا، كقول القائل لئن أسديت إلي معروفا لأكافئنك بعشر أمثاله، وفي الوعيد يقال: لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشرا، ولا يريد التحديد فكذا ههنا. والدليل على أنه لا يمكن حمله على التحديد قوله تعالى: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) * (البقرة: 261).
ثم قال تعالى: * (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) * أي الأجزاء يساويها ويوازيها. روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى قال الحسنة
عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو عفو فالويل لمن غلب آحاده أعشاره " وقال صلى الله عليه وسلم: " يقول الله إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة وإن لم يعملها فإن عملها فعشر أمثالها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها وإن عملها فسيئة واحدة " وقوله: * (وهم لا يظلمون) * أي لا ينقص من ثواب طاعتهم، ولا يزاد على عقاب سيئاتهم في الآية سؤالان:
السؤال الأول: كفر ساعة كيف يوجب عقاب الأبد على نهاية التغليظ.
جوابه: أنه كان الكافر على عزم أنه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد أبدا، فلما كان ذلك العزم مؤبدا عوقب بعقاب الأبد خلاف المسلم المذنب، فإنه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب، فلا جرم كانت عقوبته منقطعة.
السؤال الثاني: إعتاق الرقبة الواحدة تارة جعل بدلا عن صيام ستين يوما، وهو في كفارة الظهار، وتارة جعل بدلا عن صيام أيام قلائل، وذلك يدل على أن المساواة غير معتبرة.
جوابه: إن المساواة إنما تحصل بوضع الشرع وحكمه.
السؤال الثالث: إذا أحدث في رأس إنسان موضحتين: وجب فيه أرشان، فإن رفع الحاجز بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة، فههنا ازدادت الجناية. وقل العقاب، فالمساواة غير معتبرة.
9

وجوابه: إن ذلك من تعبدات الشرع وتحكماته.
السؤال الرابع: أنه يجب في مقابلة تفويت أكثر كل واحد من الأعضاء دية كاملة، ثم إذا قتله وفوت كل الأعضاء، وجبت دية واحدة، وذلك يمتنع القول من رعاية المماثلة.
جوابه: أنه من باب تحكمات الشريعة. والله أعلم.
قوله تعالى
* (قل إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *.
اعلم أنه تعالى لما علم رسوله أنواع دلائل التوحيد، والرد على القائلين بالشركاء والأنداد والأضداد وبالغ في تقرير إثبات التوحيد، والرد على القائلين بالشركاء والأنداد والأضداد، وبالغ في تقرير إثبات التوحيد والنافين للقضاء والقدر، ورد على أهل الجاهلية في أباطيلهم، أمره أن يختم الكلام بقوله: * (إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) * وذلك يدل على أن الهداية لا تحصل إلا بالله وانتصب دينا لوجهين: أحدهما: على البدل من محل صراط لأن معناه هداني ربي صراطا مستقيما كما قال: * (ويهديك صراطا مستقيما) * (الفتح: 2) والثاني: أن يكون التقدير الزموا دينا، وقوله: فيما قال صاحب " الكشاف " القيم فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من القائم، وقرأ أهل الكوفة قيما مكسورة القاف خفيفة الياء قال الزجاج: هو مصدر بمعنى القيام كالصغر والكبر والحول والشبع، والتأويل دينا ذا قيم ووصف الدين بهذا الوصف على سبيل المبالغة، وقوله: * (ملة إبراهيم حنيفا) * فقوله: * (ملة) * بدل من قوله: * (دينا قيما) * وحنيفا منصوب على الحال من إبراهيم، والمعنى هداني ربي وعرفني ملة إبراهيم حال كونها موصوفة بالحنيفية، ثم قال في صفة إبراهيم: * (وما كان من المشركين) * والمقصود منه الرد على المشركين.
قوله تعالى
* (قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) *.
اعلم أنه تعالى كما عرفه الدين المستقيم عرفه كيف يقوم به ويؤديه فقوله: * (قل إن صلاتي ونسكي
10

ومحياي ومماتي لله رب العالمين) * يدل على أنه يؤديه مع الإخلاص وأكده بقوله: * (لا شريك له) * وهذا يدل على أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل يجب أن يؤتى بها مع تمام الإخلاص وهذا من أقوى الدلائل على أن شرط صحة الصلاة أن يؤتى بها مقرونة بالإخلاص.
أما قوله: * (ونسكي) * فقيل المراد بالنسك الذبيحة بعينها، يقول: من فعل كذا فعليه نسك. أي دم يهريقه، وجمع بين الصلاة والذبح، كما في قوله: * (فصل لربك وانحر) * (الكوثر: 2) وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، وقيل: للمتعبد ناسك، لأنه خلص نفسه من دنس الآثام، وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث، وعلى هذا التأويل، فالنسك كل ما تقربت به إلى الله تعالى. إلا أن الغالب عليه في العرف الذبح وقوله: * (ومحياي ومماتي) * أي حياتي وموتي لله.
واعلم أنه تعالى قال: * (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) * فأثبت كون الكل لله، والمحيا والممات ليسا لله بمعنى أنه يؤتى بهما لطاعة الله تعالى، فإن ذلك محال، بل معنى كونهما لله أنهما حاصلان بخلق الله تعالى، فكذلك أن يكون كون الصلاة والنسك لله مفسرا بكونهما واقعين بخلق الله، وذلك من أدل الدلائل على أن طاعات العبد مخلوقة لله تعالى. وقرأ نافع * (محياي) * ساكنة الياء ونصبها في مماتي، وإسكان الياء في محياي شاذ غير مستعمل، لأن فيه جمعا بين ساكنين لا يلتقيان على هذا الحد في نثر ولا نظم، ومنهم من قال: إنه لغة لبعضهم، وحاصل الكلام، أنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى، وتقديره وقضاءه وحكمه، ثم نص على أنه لا شريك له في الخلق، والتقدير: ثم يقول وبذلك أمرت أي وبهذا التوحيد أمرت.
ثم يقول: * (وأنا أول المسلمين) * أي المستسلمين لقضاء الله وقدره، ومعلوم أنه ليس أولا لكل مسلم، فيجب أن يكون المراد كونه أولا لمسلمي زمانه.
قوله تعالى
* (قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شىء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) *.
11

اعلم أنه تعالى لما أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد المحض، وهو أن يقول: * (إن صلاتي ونسكي) * إلى قوله: * (لا شريك له) * أمره بأن يذكر ما يجري مجرى الدليل على صحة هذا التوحيد، وتقريره من وجهين: الأول: أن أصناف المشركين أربعة، لأن عبدة الأصنام أشركوا بالله، وعبدة الكواكب أشركوا بالله والقائلون: بيزدان، وأهرمن. وهم الذين قال الله في حقهم: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * أشركوا بالله والقائلون: بأن المسيح ابن الله والملائكة بناته، أشركوا أيضا بالله، فهؤلاء هم فرق المشركين، وكلهم معترفون أن الله خالق الكل، وذلك لأن عبدة الأصنام معترفون بأن الله سبحانه هو الخالق للسموات والأرض، ولكل ما في العالم من الموجودات، وهو الخالق للأصنام والأوثان بأسرها. وأما عبدة الكواكب فهم معترفون بأن الله خالقها وموجدها. وأما القائلون بيزدان، وأهرمن فهم أيضا معترفون بأن الشيطان محدث، وأن محدثه هو الله سبحانه. وأما القائلون بالمسيح والملائكة فهم معترفون بأن الله خالق الكل، فثبت بما ذكرنا أن طوائف المشركين أطبقوا واتفقوا على أن الله خالق هؤلاء الشركاء.
إذا عرفت هذا فالله سبحانه قال له يا محمد: * (قل أغير الله أبغي ربا) * مع أن هؤلاء الذين اتخذوا ربا غير الله تعالى أقروا بأن الله خالق تلك الأشياء، وهل يدخل في العقل جعل المربوب شريكا للرب وجعل العبد شريكا للمولى، وجعل المخلوق شريكا للخالق؟ ولما كان الأمر كذلك، ثبت بهذا الدليل أن اتخاذ رب غير الله تعالى قول فاسد، ودين باطل.
الوجه الثاني: في تقرير هذا الكلام أن الموجود، إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته. وثبت أن الواجب لذاته واحد، فثبت أن ما سواه ممكن لذاته، وثبت أن الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، وإذا كان الأمر كذلك كان تعالى ربا لكل شيء.
وإذا ثبت هذا فنقول: صريح العقل يشهد بأنه لا يجوز جعل المربوب شريكا للرب وجعل المخلوق شريكا للخالق فهذا هو المراد من قوله: * (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء) * (الأنعام: 164) ثم إنه تعالى لما بين بهذا الدليل القاهر القاطع هذا التوحيد بين أنه لا يرجع إليه من كفرهم وشركهم ذم ولا عقاب، فقال: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * (الأنعام: 164) ومعناه أن إثم الجاني عليه، لا على غيره * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الإسراء: 15) أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، ثم بين تعالى أن رجوع هؤلاء المشركين إلى موضع لا حاكم فيه ولا آمر إلا الله تعالى، فهو قوله: * (ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) * (الأنعام: 164).
12

قوله تعالى
* (وهو الذى جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فى مآ آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم) *.
اعلم أن في قوله: * (جعلكم خلائف الأرض) * وجوها: أحدها: جعلهم خلائف الأرض لأن محمدا عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، فخلفت أمته سائر الأمم. وثانيها: جعلهم يخلف بعضهم بعضا. وثالثها: أنهم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها.
ثم قال: * (ورفع بعضكم فوق بعض درجات) * في الشرف. والعقل، والمال، والجاه، والرزق، وإظهار هذا التفاوت ليس لأجل العجز والجهل والبخل، فإنه تعالى متعال عن هذه الصفات، وإنما هو لأجل الابتلاء والامتحان وهو المراد من قوله: * (ليبلوكم فيما أتاكم) * (المائدة: 48) وقد ذكرنا أن حقيقة الابتلاء والامتحان على الله محال، إلا أن المراد هو التكليف وهو عمل لو صدر من الواحد منا لكان ذلك شبيها بالابتلاء والامتحان، فسمى لهذا الاسم لأجل هذه المشابهة، ثم إن هذا المكلف إما أن يكون مقصرا فيما كلف به، وإما أن يكون موفرا فيه، فإن كان الأول كان نصيبه من التخويف والترهيب، وهو قوله: * (إن ربك سريع العقاب) * (الأنعام: 165) ووصف العقاب بالسرعة، لأن ما هو آت قريب، وإن كان الثاني، وهو أن يكون موفرا في تلك الطاعات كان نصيبه من التشريف والترغيب هو قوله: * (وإنه لغفور رحيم) * أي يغفر الذنوب ويستر العيوب في الدنيا بستر فضله وكرمه ورحمته، وفي الآخرة بأن يفيض عليه أنواع نعمه، وهذا الكلام بلغ في شرح الأعذار والإنذار والترغيب والترهيب إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه، وهذا آخر الكلام في تفسير سورة الأنعام، والحمد لله الملك العلام.
13

الأعراف
مكية إلا من آية: 163 إلى غاية آية 170، فمدنية وآياتها 206 نزلت بعد
* (المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس * (المص) * أنا الله أفصل، وعنه أيضا: أنا الله أعلم وأفصل: قال الواحدي: وعلى هذا التفسير فهذه الحروف واقعة في موضع جمل، والجمل إذا كانت ابتداء وخبرا فقط لا موضع لها من الإعراب، فقوله: أنا الله أعلم، لا موضع لها من الأعراب، فقوله: " أنا " مبتدأ وخبره قوله: " الله " وقوله: " أعلم " خبر بعد خبر، وإذا كان المعنى * (المص) * أنا الله أعلم كان أعرابها كإعراب الشيء الذي هو تأويل لها، وقال السدي: * (المص) * على هجاء قولنا في أسماء الله تعالى أنه المصور. قال القاضي: ليس هذا اللفظ على قولنا: أنا الله أفصل، أولى من حمله على قوله: أنا الله أصلح، أنا الله أمتحن، أنا الله الملك، لأنه إن كانت العبرة بحرف الصاد فهو
14

موجود في قولنا أنا الله أصلح، وإن كانت العبرة بحرف الميم، فكما أنه موجود في العلم فهو أيضا موجود في الملك والامتحان، فكان حمل قولنا: * (المص) * على ذلك المعنى بعينه محض التحكم، وأيضا فإن جاء تفسير الألفاظ بناء على ما فيها من الحروف من غير أن تكون تلك اللفظة موضوعة في اللغة لذلك المعنى، انفتحت طريقة الباطنية في تفسير سائر ألفاظ القرآن بما يشاكل هذا الطريق. وأما قول بعضهم: إنه من أسماء الله تعالى فأبعد، لأنه ليس جعله إسما لله تعالى، أولى من جعله اسما لبعض رسله من الملائكة، أو الأنبياء، لأن الاسم إنما يصير اسما للمسمى بواسطة الوضع والاصطلاح، وذلك مفقود ههنا، بل الحق أن قوله: * (المص) * اسم لقب لهذه السورة، وأسماء الألقاب لا تفيد فائدة في المسميات، بل هي قائمة مقام الإشارات، ولله تعالى أن يسمي هذه السورة بقوله: * (المص) * كما أن الواحد منا إذا حدث له ولد فإنه يسميه بمحمد.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (المص) * مبتدأ، وقوله: * (كتاب) * خبره، وقوله: * (أنزل إليك) * صفة لذلك الخبر. أي السورة المسماة بقولنا: * (المص كتاب أنزل إليك) *.
فإن قيل: الدليل الذي دل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو أن الله تعالى خصه بإنزال هذا القرآن عليه، فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته، وما لم نعرف نبوته، لا يمكننا أن نحتج بقوله. فلو أثبتنا كون هذه السورة نازلة عليه من عند الله بقوله: لزم الدور.
قلنا: نحن بمحض العقل نعلم أن هذه السورة كتاب أنزل إليه من عند الله. والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام ما تلمذ لأستاذ، ولا تعلم من معلم، ولا طالع كتابا ولم يخالط العلماء والشعراء وأهل الأخبار، وانقضى من عمره أربعون سنة، ولم يتفق له شيء من هذه الأحوال، ثم بعد انقضاء الأربعين ظهر عليه هذا الكتاب العزيز المشتمل على علوم الأولين والآخرين، وصريح العقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا بطريق الوحي من عند الله تعالى. فثبت بهذا الدليل العقلي أن * (المص) * كتاب أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه وإلهه.
المسألة الثانية: احتج القائلون بخلق القرآن بقوله: * (كتاب أنزل إليك) * قالوا إنه تعالى وصفه بكونه منزلا، والإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال، وذلك لا يليق بالقديم، فدل على أنه محدث.
وجوابه: أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو هذه الحروف ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة. والله أعلم.
فإن قيل: فهب أن المراد منه الحروف، إلا أن الحروف أعراض غير باقية بدليل أنها متوالية،
15

وكونها متوالية يشعر بعدم بقائها، وإذا كان كذلك فالعرض الذي لا يبقى زمانين كيف يعقل وصفه بالنزول.
والجواب: أنه تعالى أحدث هذه الرقوم والنقوش في اللوح المحفوظ، ثم إن الملك يطالع تلك النقوش، وينزل من السماء إلى الأرض، ويعلم محمدا تلك الحروف والكلمات، فكان المراد بكون تلك الحروف نازلة، هو أن مبلغها نزل من السماء إلى الأرض بها.
المسألة الثالثة: الذين أثبتوا لله مكانا تمسكوا بهذه الآية فقالوا: إن كلمة " من " لابتداء الغاية، وكلمة " إلى " لانتهاء الغاية فقوله: * (أنزل إليك) * يقتضي حصول مسافة مبدؤها هو الله تعالى وغايتها محمد، وذلك يدل على أنه تعالى مختص بجهة فوق، لأن النزول هو الانتقال من فوق إلى أسفل.
وجوابه: لما ثبت بالدلائل القاهرة أن المكان والجهة على الله تعالى محال وجب حمله على التأويل الذي ذكرناه، وهو أن الملك انتقل به من العلو إلى أسفل.
ثم قال تعالى: * (فلا يكن في صدرك حرج منه) * وفي تفسير الحرج قولان: الأول: الحرج الضيق، والمعنى: لا يضيق صدرك بسبب أن يكذبوك في التبليغ. والثاني: * (فلا يكن في صدرك حرج منه) * أي شك منه، كقوله تعالى: * (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) * (يونس: 94) وسمي الشك حرجا، لأن الشاك ضيق الصدر حرج الصدر، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسح القلب.
ثم قال تعالى: * (لتنذر به) * هذه " اللام " بماذا تتعلق؟ فيه أقوال: الأول: قال الفراء: إنه متعلق بقوله: * (أنزل إليك) * على التقديم والتأخير، والتقدير: كتاب أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه.
فإن قيل: فما فائدة هذا التقديم والتأخير؟
قلنا: لأن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر، فلهذا السبب أمره الله تعالى بإزالة الحرج عن الصدر، ثم أمره بعد ذلك بالإنذار والتبليغ. الثاني: قال ابن الأنباري: اللام ههنا بمعنى: كي. والتقدير: فلا يكن في صدرك شك كي تنذر غيرك. الثالث: قال صاحب " النظم ": اللام ههنا: بمعنى: أن. والتقدير: لا يضق صدرك ولا يضعف عن أن تنذر به، والعرب تضع هذه اللام في موضع " أن " قال تعالى: * (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) * (التوبة: 32) وفي موضع أخر * (يريدون ليطفئوا) * (الصف: 8) وهما بمعنى واحد. والرابع: تقدير الكلام: أن هذا الكتاب أنزله الله عليك، وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى، فاعلم أن عناية الله معك، وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج، لأن من كان الله حافظا له وناصرا، لم يخف أحدا، وإذا زال الخوف
16

والضيق عن القلب، فاشتغل بالإنذار والتبليغ والتذكير اشتغال الرجال الأبطال، ولا تبال بأحد من أهل الزيغ والضلال والإبطال.
ثم قال: * (وذكرى للمؤمنين) * قال ابن عباس: يريد مواعظ للمصدقين. قال الزجاج: وهو اسم في موضع المصدر. قال الليث: * (الذكرى) * اسم للتذكرة، وفي محل ذكرى من الإعراب وجوه قال الفراء: يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: لتنذر به ولتذكر، ويجوز أن يكون رفعا بالرد على قوله: * (كتاب) * والتقدير: كتاب حق وذكرى، ويجوز أيضا أن يكون التقدير، وهو ذكرى، ويجوز أن يكون خفضا، لأن معنى لتنذر به، لأن تنذر به فهو في موضع خفض، لأن
المعنى للإنذار والذكرى.
فإن قيل: لم قيد هذه الذكرى بالمؤمنين.
قلنا: هو نظير قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) والبحث العقلي فيه أن النفوس البشرية على قسمين: نفوس بليدة جاهلة، بعيدة عن عالم الغيب، غريقة في طلب اللذات الجسمانية، والشهوات الجسدانية ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة بالحوادث الروحانية، فبعثة الأنبياء والرسل في حق القسم الأول، إنذار وتخويف، فإنهم لما غرقوا في نوم الغفلة ورقدة الجهالة، احتاجوا إلى موقظ يوقظهم، وإلى منبه ينبههم. وأما في حق القسم الثاني فتذكير وتنبيه، وذلك لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمدية، إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الجسم، فيعرض لها نوع ذهول وغفلة، فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى، تذكرت مركزها وأبصرت منشأها، واشتاقت إلى ما حصل هنالك من الروح والراحة والريحان، فثبت أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذارا في حق طائفة، وذكرى في حق طائفة أخرى. والله أعلم.
* (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون) *.
اعلم أن أمر الرسالة إنما يتم بالمرسل وهو الله سبحانه وتعالى والمرسل وهو الرسول، والمرسل إليه، وهو الأمة، فلما أمر في الآية الأولى الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي، وعزم
17

صحيح أمر المرسل إليه. وهم الأمة بمتابعة الرسول. فقال: * (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الحسن: يا ابن آدم، أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله.
واعلم أن قوله: * (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) * يتناول القرآن والسنة.
فإن قيل: لماذا قال: * (أنزل إليكم) * وإنما أنزل على الرسول.
قلنا: إنه منزل على الكل بمعنى أنه خطاب للكل.
إذا عرفت هذا فنقول: هذه الآية تدل على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز لأن عموم القرآن منزل من عند الله تعالى. والله تعالى أوجب متابعته، فوجب العمل بعموم القرآن ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس، وإلا لزم التناقض.
فإن قالوا: لما ورد الأمر بالقياس في القرآن. وهو قوله: * (فاعتبروا) * (الحشر: 2) كان العمل بالقياس عملا بما أنزل الله.
قلنا: هب أنه كذلك إلا أنا نقول: الآية الدالة على وجوب العمل بالقياس إنما تدل على الحكم المثبت بالقياس، لا ابتداء بل بواسطة ذلك القياس. وأما عموم القرآن، فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم ابتداء لا بواسطة، ولما وقع التعارض كان الذي دل عليه ما أنزله الله ابتداء أولى بالرعاية من الحكم الذي دل عليه ما أنزله الله بواسطة شيء آخر، فكان الترجيح من جانبنا. والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (ولا تتبعوا من دونه أولياء) * قالوا معناه ولا تتولوا من دونه أولياء من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع. ولقائل أن يقول: الآية تدل على أن المتبوع إما أن يكون هو الشيء الذي أنزله الله تعالى أو غيره.
أما الأول: فهو الذي أمر الله باتباعه.
وأما الثاني: فهو الذي نهى الله عن اتباعه، فكان المعنى أن كل ما يغاير الحكم الذي أنزله الله تعالى فإنه لا يجوز اتباعه.
إذا ثبت هذا فنقول: إن نفاة القياس تمسكوا به في نفي القياس. فقالوا الآية تدل على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس متابعة لغير ما أنزله الله تعالى، فوجب أن لا يجوز.
فإن قالوا: لما دل قوله فاعتبروا على العمل بالقياس كان العمل بالقياس عملا بما أنزله الله تعالى أجيب عنه بأن العمل بالقياس، لو كان عملا بما أنزله الله تعالى، لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافرا لقوله تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * (المائدة: 44) وحيث أجمعت الأمة على عدم التكفير علمنا أن العمل بحكم القياس ليس عملا بما أنزله الله تعالى، وحينئذ يتم الدليل.
18

وأجاب عنه مثبتو القياس: بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل قاطع وما ذكرتموه تمسك بظاهر العموم، وهو دليل مظنون والقاطع أولى من المظنون.
وأجاب: الأولون بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله: * (ويتبع غير سبيل المؤمنين) * (النساء: 115) وعموم قوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) وعموم قوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * (آل عمران: 110) وبعموم قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تجتمع أمتي على الضلالة " وعلى هذا فإثبات كون الإجماع حجة، فرع عن التمسك بالعمومات، والفرع لا يكون أقوى من الأصل.
فأجاب مثبتو القياس: بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في أثبات القياس قويت القوة وحصل الترجيح. والله أعلم.
المسألة الثالثة: الحشوية الذين ينكرون النظر العقلي والبراهين العقلية، تمسكوا بهذه الآية وهو بعيد لأن العلم بكون القرآن حجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية، فلو جعلنا القرآن طاعنا في صحة الدلائل العقلية لزم التناقض وهو باطل.
المسألة الرابعة: قرأ ابن عامر * (قليلا ما يتذكرون) * (النمل: 62) بالياء تارة والتاء أخرى. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء وتخفيف الذال، والباقون بالتاء وتشديد الذال. قال الواحدي رحمه الله: تذكرون أصله تتذكرون فأدغم تاء تفعل في الذال لأن التاء مهموسة، والذال مجهورة والمجهور أزيد صوتا من المهموس، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد، وما موصولة بالفعل وهي معه بمنزلة المصدر. فالمعنى: قليلا تذكركم، وأما قراءة ابن عامر * (يتذكرون) * بياء وتاء فوجهها أن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي قليلا ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب، وأما قراءة حمزة والكسائي وحفص، خفيفة الذال شديدة الكاف، فقد حذفوا التاء التي أدغمها الأولون، وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة والله أعلم. قال صاحب " الكشاف ": وقرأ مالك بن دينار ولا تبتغوا من الابتغاء من قوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا) * (آل عمران: 85).
* (وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون * فما كان دعواهم إذ جآءهم بأسنآ إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) *.
19

اعلم أنه تعالى لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ، وأمر القوم بالقبول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: موضع كم رفع بالابتداء وخبره أهلكناها. قال: وهو أحسن من أن يكون في موضع نصب لأن قولك زيد ضربته أجود من قولك زيدا ضربته، والنصب جيد عربي أيضا كقوله تعالى: * (إنا كل شيء خلقناه بقدر) *.
المسألة الثانية: قيل: في الآية محذوف والتقدير: وكم من أهل قرية ويدل عليه وجوه: أحدها: قوله: * (فجاءها بأسنا) * والبأس لا يليق إلا بالأهل. وثانيها: قوله: * (أو هم قائلون) * فعاد الضمير إلى أهل القرية. وثالثها: أن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بإهلاكهم. ورابعها: أن معنى البيات والقائلة لا يصح إلا فيهم.
فإن قيل: فلماذا قال أهلكناها؟ أجابوا بأنه تعالى رد الكلام على اللفظ دون المعنى كقوله تعالى: * (وكأين من قرية عتت) * (الطلاق: 8) فرده على اللفظ. ثم قال: * (أعد الله لهم) * (الأحزاب: 25) فرده على المعنى دون اللفظ، ولهذا السبب قال الزجاج: ولو قال فجاءهم بأسنا لكان صوابا، وقال بعضهم: لا محذوف في الآية والمراد إهلاك نفس القرية لأن في إهلاكها بهدم أو خسف أو غيرهما إهلاك من فيها، ولأن على هذا التقدير يكون قوله: * (فجاءها بأسنا) * محمولا على ظاهره ولا حاجة فيه إلى التأويل. المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: قوله: * (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا) * يقتضي أن يكون الإهلاك متقدما على مجيء البأس وليس الأمر كذلك، فإن مجيء البأس مقدم على الإهلاك والعلماء أجابوا عن هذا السؤال من وجوه: الأول: المراد بقوله: * (أهلكناها) * أي حكمنا بهلاكها فجاءها بأسنا. وثانيها: كم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كقوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) * (المائدة: 6) وثالثها: أنه لو قال وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا لم يكن السؤال واردا فكذا ههنا لأنه تعالى عبر عن ذلك الإهلاك بلفظ البأس. فإن قالوا: السؤال باق، لأن الفاء في قوله: * (فجاءها بأسنا) * فاء التعقيب، وهو يوجب المغايرة. فنقول: الفاء قد تجيء بمعنى التفسير كقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه " فالفاء في قوله فيغسل للتفسير، لأن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه. فكذلك ههنا البأس جار مجرى التفسير، لذلك الإهلاك، لأن الإهلاك، قد يكون بالموت المعتاد، وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم، فكان ذكر البأس تفسيرا لذلك الإهلاك. الرابع: قال الفراء: لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معا كما يقال: أعطيتني فأحسنت، وما كان الإحسان بعد الإعطاء
20

ولا قبله، وإنما وقعا معا فكذا ههنا، وقوله: * (بياتا) * قال الفراء يقال: بات الرجل يبيت بيتا، وربما قالوا بياتا قالوا: وسمي البيت لأنه يبات فيه. قال صاحب " الكشاف ": قوله: * (بياتا) * مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين وقوله: * (أو هم قائلون) * فيه بحثان:
البحث الأول: أنه حال معطوفة على قوله: * (بياتا) * كأنه قيل: فجاءها بأسنا بائتين أو قائلين. قال الفراء: وفيه واو مضمرة، والمعنى: أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو وهم قائلون، إلا أنهم استثقلوا الجمع بين حرفي العطف، ولو قيل: كان صوابا، وقال الزجاج: أنه ليس بصواب لأن واو الحال قريبة من واو العطف، فالجمع بينهما يوجب الجمع بين المثلين وأنه لا يجوز، ولو قلت: جاءني زيد راجلا وهو فارس لم يحتج فيه إلى واو العطف.
البحث الثاني: كلمة " أو " دخلت ههنا بمعنى أنهم جاءهم بأسنا مرة ليلا ومرة نهارا، وفي القيلولة قولان: قال الليث: القيلولة نومة نصف النهار. وقال الأزهري: القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر، وإن لم يكن مع ذلك نوم، والدليل عليه: إن الجنة لا نوم فيها والله تعالى يقول: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * (الفرقان: 24) ومعنى الآية أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له، أما ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائلون، والمقصود: أنهم جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم إمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب، فكأنه قيل: للكفار لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ، فإن عذاب الله إذا وقع، وقع دفعة من غير سبق إمارة فلا تغتروا بأحوالكم.
ثم قال تعالى: * (فما كان دعواهم) * قال أهل اللغة: الدعوى اسم يقوم مقام الادعاء، ومقام الدعاء. حكى سيبويه: اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين، ودعوى المسلمين. قال ابن عباس: فما كان تضرعهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا أنا كنا ظالمين فأقروا على أنفسهم بالشرك. قال ابن الأنباري: فما كان قولهم إذ جاءهم بأسنا إلا الاعتراف بالظلم والإقرار بالإسارة وقوله: * (إلا أن قالوا) * الاختيار عند النحويين أن يكون موضع أن رفعا بكان ويكون قوله: * (دعواهم) * نصبا كقوله: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا) * (النمل: 56) وقوله: * (فكان عاقبتهما أنهما في النار) * (الحشر: 17) وقوله: * (ما كان حجتهم إلا أن) * (الجاثية: 25) قال ويجوز أن يكون أيضا على الضد من هذا بأن يكون الدعوى رفعا، وإن قالوا نصبا كقوله تعالى: * (ليس البر أن تولوا) * (البقرة: 177) على قراءة من
رفع البر، والأصل في هذا الباب أنه إذا حصل بعد كلمة كان معرفتان فأنت بالخيار في رفع أيهما شئت، وفي نصب الآخر كقولك كان زيد أخاك وإن شئت كان زيدا أخوك. قال الزجاج: إلا أن الاختيار إذا جعلنا قوله: * (دعواهم) * في موضع
21

رفع أن يقول: * (فما كانت دعواهم) * فلما قال: كان دل على أن الدعوى في موضع نصب، ويمكن أن يجاب عنه بأنه يجوز تذكير الدعوى، وإن كانت رفعا فتقول: كان دعواه باطلا، وباطلة، والله أعلم.
* (فلنسالن الذين أرسل إليهم ولنسالن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غآئبين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في تقرير وجه النظم وجهان:
الوجه الأول: أنه تعالى لما أمر الرسل في الآية المتقدمة بالتبليغ، وأمر الأمة بالقبول والمتابعة، وذكر التهديد على ترك القبول والمتابعة بذكر نزول العذاب في الدنيا، أتبعه بنوع آخر من التهديد، وهو أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم يوم القيامة.
الوجه الثاني: أنه تعالى لما قال: * (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) * (الأعراف: 5) أتبعه بأنه لا يقع يوم القيامة الاقتصار على ما يكون منهم من الاعتراف. بل ينضاف إليه أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم، وبين أن هذا السؤل لا يختص بأهل العقاب. بل هو عام في أهل العقاب وأهل الثواب.
المسألة الثانية: الذين أرسل إليهم. هم الأمة، والمرسلون هم الرسل، فبين تعالى أنه يسأل هذين الفريقين، ونظير هذه الآية قوله: * (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) * (الحجر: 92).
ولقائل أن يقول: المقصود من السؤال أن يخبر المسؤول عن كيفية أعماله، فلما أخبر الله عنهم في الآية المتقدمة أنهم يقرون بأنهم كانوا ظالمين، فما الفائدة في ذكر هذا السؤال بعده؟ وأيضا قال تعالى بعد هذه الآية: * (فلنقصن عليهم بعلم) * فإذا كان يقصه عليهم بعلم، فما معنى هذا السؤال.
والجواب: أنهم لما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين، سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير، والمقصود منه التقريع والتوبيخ.
فإن قيل: فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير البتة؟
قلنا: لأنهم إذا أثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير البتة التحق التقصير بكليته بالأمة، فيتضاعف
22

إكرام الله في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير، ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار، لما ثبت أن كل التقصير كان منهم.
ثم قال تعالى: * (فلنقصن عليهم بعلم) * والمراد أنه تعالى يكرر ويبين للقوم ما أعلنوه وأسروه من أعمالهم، وأن يقص الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال، ثم بين تعالى أنه إنما يصح منه أن يقص تلك الأحوال عليهم لأنه ما كان غائبا عن أحوالهم بل كان عالما بها. وما خرج عن علمه شيء منها، وذلك يدل على أن الإلهية لا تكمل إلا إذا كان عالما بجميع الجزئيات، حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي، والمحسن عن المسئ، فظهر أن كل من أنكر كونه تعالى عالما بالجزئيات، امتنع منه الاعتراف بكونه تعالى آمرا ناهيا مثيبا معاقبا، ولهذا السبب فإنه تعالى أينما ذكر أحوال البعث والقيامة بين كونه عالما بجميع المعلومات.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (فلنقصن عليهم بعلم) * يدل على أنه تعالى عالم بالعلم، وأن قول من يقول: إنه لا علم لله قول باطل.
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) * وبين قوله: * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) * (الرحمان: 39) وقوله: * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) * (القصص: 78).
قلنا فيه وجوه: أحدها: أن القوم لا يسألون عن الأعمال، لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتم عنها. وثانيها: أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة، وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة، كقول القائل ألم أعطك وقوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم) * (يس: 60) قال الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا (c)
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى لا يسأل أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد، ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم، ونظيره قوله تعالى: * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * (الصافات: 27) ثم قال: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * (المؤمنون: 101) فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضا، والدليل عليه قول: * (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) * (القلم: 30) وقوله: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * (القلم: 30) معناه أنه لا يسأل بعضهم بعضا على سبيل الشفقة واللطف، لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام.
والوجه الثالث: في الجواب: أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة، فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال، وعن بعضها بعدم السؤال.
23

المسألة الرابعة: الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده، لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رسلا أو مرسلا إليهم، ويبطل قول من يزعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار.
المسألة الخامسة: الآية تدل على كونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة، لأنه تعالى قال: * (وما كنا غائبين) * ولو كان تعالى على العرش لكان غائبا عنا.
فإن قالوا: نحمله على أنه تعالى ما كان غائبا عنهم بالعلم والإحاطة.
قلنا: هذا تأويل والأصل في الكلام حمله على الحقيقة.
فإن قالوا: فأنتم لما قلتم أنه تعالى غير مختص بشيء من الأحياز والجهات، فقد قلتم أيضا بكونه غائبا.
قلنا: هذا باطل لأن الغائب هو الذي يعقل أن يحضر بعد غيبة، وذلك مشروط بكونه مختصا بمكان وجهة، فأما الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة وكان ذلك محالا في حقه، امتنع وصفه بالغيبة والحضور، فظهر الفرق والله أعلم.
* (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن من جملة أحوال القيامة السؤال والحساب، بين في هذه الآية أن من جملة أحوال القيامة أيضا وزن الأعمال، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: * (الوزن) * مبتدأ و * (يومئذ) * ظرف له و * (الحق) * خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون * (يومئذ) * الخبر و * (الحق) * صفة للوزن، أي والوزن الحق، أي العدل يوم يسأل الله الأمم والرسل.
المسألة الثانية: في تفسير وزن الأعمال قولان: الأول: في الخبر أنه تعالى ينصب ميزانا له لسان وكفتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها وشرها، ثم قال ابن عباس: أما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فتوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته، فذلك قوله: * (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون) * الناجون قال وهذا كما قال في سورة الأنبياء: * (ونضع
24

الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا) * (الأنبياء: 47) وأما كيفية وزن الأعمال على هذا القول ففيه وجوه: أحدهما: أن أعمال المؤمن تتصور بصورة حسنة، وأعمال الكافر بصورة قبيحة، فتوزن تلك الصورة: كما ذكره ابن عباس. والثاني: أن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد مكتوبة، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يوزن يوم القيامة فقال: " الصحف " وهذا القول مذهب عامة المفسرين في هذه الآية، وعن عبد لله بن سلام، أن ميزان رب العالمين ينصب بين الجن والإنس يستقبل به العرش إحدى كفتي الميزان على الجنة، والأخرى على جهنم، ولو وضعت السماوات والأرض في إحداهما لوسعتهن، وجبريل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلا كل سجل منها مد البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله يوضع في الأخرى فترجح " وعن الحسن: بينما الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم واضع رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها قد أغفى فسالت الدموع من عينها فقال: " ما أصابك ما أبكاك؟ " فقالت: ذكرت حشر الناس وهل يذكر أحد أحدا، فقال لها: " يحشرون حفاة عراة غرلا " * (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) * (عبس: 37) لا يذكر أحد أحدا عند الصحف، وعند وزن الحسنات والسيئات، وعن عبيد بن عمير يأتي بالرجل العظيم الأكول الشروب فلا يكون له وزن بعوضة.
والقول الثاني: وهو قول مجاهد والضحاك والأعمش، أن المراد من الميزان العدل والقضاء وكثير من المتأخرين ذهبوا إلى هذا القول، وقالوا حمل لفظ الوزن على هذا المعنى سائغ في اللغة والدليل عليه فوجب المصير إليه. وأما بيان أن حمل لفظ الوزن على هذا المعنى جائز في اللغة، فلأن العدل في الأخذ والإعطاء، لا يظهر إلا بالكيل والوزن في الدنيا فلم يبعد جعل الوزن كناية عن العدل، ومما يقوي ذلك أن الرجل إذا لم يكن له قدرة ولا قيمة عند غيره يقال: إن فلانا لا يقيم لفلان وزنا قال تعالى: * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * (الكهف: 105) ويقال أيضا فلان استخف بفلان، ويقال هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه مع أنه ليس هناك وزن في الحقيقة قال الشاعر: قد كنت قبل لقائكم ذا قوة * عندي لكل مخاصم ميزانه
أراد عندي لكل مخاصم كلام يعادل كلامه فجعل الوزن مثلا للعدل.
إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يكون المراد من هذه الآية هذا المعنى فقط والدليل عليه أن
25

الميزان، إنما يراد ليتوصل به إلى معرفة مقدار الشيء، ومقادير الثواب والعقاب لا يمكن إظهارها بالميزان، لأن أعمال العباد أعراض وهي قد فنيت وعدمت، ووزن المعدوم محال، وأيضا فبتقدير بقائها كان وزنها محالا، وأما قولهم الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال. فنقول: المكلف يوم القيامة، إما أن يكون مقرا بأنه تعالى عادل حكيم أو لا يكون مقرا بذلك فإن كان مقرا بذلك، فحينئذ كفاه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب وإن لم يكن مقرا بذلك لم يعرف من رجحان كفة الحسنات على كفة السيئات أو بالعكس حصول الرجحان لاحتمال أنه تعالى أظهر ذلك الرجحان لا على سبيل العدل والإنصاف. فثبت أن هذا الوزن لا فائدة فيه البتة، أجاب الأولون وقالوا إن جميع المكلفين يعلمون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور، والفائدة في وضع ذلك الميزان أن يظهر ذلك الرجحان لأهل القيامة، فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات، ازداد فرحه وسروره بسبب ظهور فضله وكمال درجته لأهل القيامة وإن كان بالضد فيزداد غمه وحزنه وخوفه وفضيحته في موقف القيامة، ثم اختلفوا في كيفية ذلك الرجحان، فبعضهم قال يظهر هناك نور في رجحان الحسنات، وظلمة في رجحان السيئات، وآخرون قالوا بل بظهور رجحان في الكفة.
المسألة الثالثة: الأظهر إثبات موازين في يوم القيامة لا ميزان واحد والدليل عليه قوله: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) * (الأنبياء: 47) وقال في هذه الآية: * (فمن ثقلت موازينه) * وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان، ولأفعال الجوارح ميزان، ولما يتعلق بالقول ميزان آخر. قال الزجاج: إنما جمع الله الموازين ههنا، فقال: * (فمن ثقلت موازينه) * ولم يقل ميزانه لوجهين: الأول: أن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد. فيقولون: خرج فلان إلى مكة على
البغال. والثاني: أن المراد من الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان وأراد بالموازين الأعمال الموزونة ولقائل أن يقول هذان الوجهان يوجبان العدول عن ظاهر اللفظ، وذلك إنما يصار إليه عند تعذر حمل الكلام على ظاهره ولا مانع ههنا منه فوجب إجراء اللفظ على حقيقته فكما لم يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة، فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل.
وأما قوله تعالى: * (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) *.
اعلم أن هذه الآية فيها مسائل:
المسألة الأولى: أنها تدل على أن أهل القيامة فريقان منهم من يزيد حسناته على سيئاته، ومنهم من يزيد سيئاته على حسناته، فأما القسم الثالث وهو الذي تكون حسناته وسيئاته متعادلة متساوية
26

فإنه غير موجود.
المسألة الثانية: قال أكثر المفسرين المراد من قوله: * (ومن خفت موازينه) * الكافر والدليل عليه القرآن والخبر والأثر. أما القرآن فقوله تعالى: * (فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) * ولا معنى لكون الإنسان ظالما بآيات الله إلا كونه كافرا بها منكرا لها، فدل هذا على أن المراد من هذه الآية أهل الكفر، وأما الخبر فما روي أنه إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجرته بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول: " أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي قد وفيتك أحوج ما تكون إليها "، وهذا الخبر رواه الواحدي في " البسيط "، وأما جمهور العلماء فرووا ههنا الخبر الذي ذكرناه من أنه تعالى يلقى في كفة الحسنات الكتاب المشتمل على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. قال القاضي: يجب أن يحمل هذا على أنه أتى بالشهادتين بحقهما من العبادات، لأنه لو لم يعتبر ذلك لكان من أتى بالشهادتين يعلم أن المعاصي لا تضره، وذلك إغراء بمعصية الله تعالى.
ولقائل أن يقول: العقل يدل على صحة ما دل عليه هذا الخبر، وذلك أن العمل كلما كان أشرف وأعلى درجة، وجب أن يكون أكثر ثوابا، ومعلوم أن معرفة الله تعالى ومحبته أعلى شأنا، وأعظم درجة من سائر الأعمال، فوجب أن يكون أوفى ثوابا، وأعلى درجة من سائر الأعمال. وأما الأثر فلأن ابن عباس وأكثر المفسرين حملوا هذه الآية على أهل الكفر.
وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: إن المرجئة الذين يقولون المعصية لا تضر مع الإيمان تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنه تعالى حصر أهل موقف القيامة في قسمين: أحدهما: الذين رجحت كفة حسناتهم وحكم عليهم بالفلاح. والثاني: الذين رجحت كفة سيئاتهم، وحكم عليهم بأنهم أهل الكفر الذين كانوا يظلمون بآيات الله، وذلك يدل على أن المؤمن لا يعاقب البتة. ونحن نقول في الجواب: أقصى ما في الباب أنه تعالى لم يذكر هذا القسم الثالث في هذه الآية إلا أنه تعالى ذكره في سائر الآيات فقال: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 116) والمنطوق راجح على المفهوم، فوجب المصير إلى إثباته، وأيضا فقال تعالى في هذا القسم: * (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) * ونحن نسلم أن هذا لا يليق إلا بالكافر وأما العاصي المؤمن فإنه يعذب أياما ثم يعفى عنه، ويتخلص إلى رحمة الله تعالى، فهو في الحقيقة ما خسر نفسه بل فاز برحمة الله أبد الآباد من غير زوال وانقطاع. والله أعلم.
27

* (ولقد مكناكم فى الارض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما أمر الخلق بمتابعة الأنبياء عليهم السلام، وبقبول دعوتهم ثم خوفهم بعذاب الدنيا، وهو قوله: * (وكم من قرية أهلكناها) * (الأعراف: 4) ثم خوفهم بعذاب الآخرة من وجهين: أحدهما: السؤال؛ وهو قوله: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم) * (الأعراف: 6) والثاني: بوزن الأعمال، وهو قوله: * (والوزن يومئذ الحق) * (الأعراف: 8) رغبهم في قبول دعوة الأنبياء عليهم السلام في هذه الآية بطريق آخر وهو أنه كثرت نعم الله عليهم، وكثرة النعم توجب الطاعة، فقال: * (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش) * فقوله: * (مكناكم في الأرض) * أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا ومكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها وجعلنا لكم فيها معايش، والمراد من المعايش: وجوه المنافع وهي على قسمين، منها ما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء مثل خلق الثمار وغيرها، ومنها ما يحصل بالاكتساب وكلاهما في الحقيقة إنما حصل بفضل الله وإقداره وتمكينه، فيكون الكل إنعاما من الله تعالى، وكثرة الانعام لا شك أنها توجب الطاعة والانقياد، ثم بين تعالى أنه مع هذا الإفضال والانعام عالم بأنهم لا يقومون بشكره كما ينبغي، فقال: * (قليلا ما تشكرون) * وهذا يدل على أنهم قد يشكرون والأمر كذلك، وذلك لأن الإقرار بوجود الصانع كالأمر الضروري اللازم لجبلة عقل كل عاقل، ونعم الله على الإنسان كثيرة، فلا إنسان إلا ويشكر الله تعالى في بعض الأوقات على نعمه، إنما التفاوت في أن بعضهم قد يكون كثير الشكر، وبعضهم يكون قليل الشكر. المسألة الثانية: روى خارجة عن نافع أنه همز * (معائش) * قال الزجاج: جميع النحويين البصريين يزعمون أن همز * (معائش) * خطأ، وذكروا أنه إنما يجوز جعل الياء همزة إذا كانت زائدة نحو صحيفة وصحائف، فأما * (معايش) * فمن العيش، والياء أصلية، وقراءة نافع لا أعرف لها وجها، إلا أن لفظة هذه الياء التي هي من نفس الكلمة أسكن في معيشة فصارت هذه الكلمة مشابهة لقولنا صحيفة، فجعل قوله: * (معائش) * شبيها لقولنا صحائف فكما أدخلوا الهمزة في قولنا: - صحائف - فكذا في قولنا معائش على سبيل التشبيه، إلا أن الفرق ما ذكرناه أن الياء في - معيشة - أصلية وفي - صحيفة - زائدة.
28

* (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى رغب الأمم في قبول دعوة الأنبياء عليهم السلام بالتخويف أولا ثم بالترغيب ثانيا على ما بيناه، والترغيب إنما كان لأجل التنبيه على كثرة نعم الله تعالى على الخلق، فبدأ في شرح تلك النعم بقوله: * (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش) * ثم أتبعه بذكر أنه خلق أبانا آدم وجعله مسجودا للملائكة، والإنعام على الأب يجري مجرى الإنعام على الابن فهذا هو وجه النظم في هذه الآيات، ونظيره أنه تعالى قال في أول سورة البقرة: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * (البقرة: 28) فمنع تعالى من المعصية بقوله: * (كيف تكفرون بالله) * وعلل ذلك المنع بكثرة نعمه على الخلق، وهو أنهم كانوا أمواتا فأحياهم، ثم خلق لهم ما في الأرض جميعا من المنافع، ثم أتبع تلك المنفعة بأن جعل آدم خليفة في الأرض مسجودا للملائكة، والمقصود من الكل تقرير أن مع هذه النعم العظيمة لا يليق بهم التمرد والجحود فكذا في هذه السورة ذكر تعالى عين هذا المعنى بغير هذا الترتيب فهذا بيان وجه النظم على أحسن الوجوه:
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى ذكر قصة آدم عليه السلام مع قصة إبليس في القرآن في سبعة مواضع: أولها: في سورة البقرة، وثانيها: في هذه السورة، وثالثها: في سورة الحجر، ورابعها: في سورة بني إسرائيل، وخامسها: في سورة الكهف، وسادسها: في سورة طه، وسابعها: في سورة ص.
إذا عرفت هذا فنقول: في هذه الآية سؤال، وهو أن قوله تعالى: * (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) * يفيد أن المخاطب بهذا الخطاب نحن.
ثم قال بعده: * (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * وكلمة * (ثم) * تفيد التراخي، فظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك، فلهذا السبب اختلف الناس في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال: الأول: أن قوله: * (ولقد خلقناكم) * أي
29

خلقنا أباكم آدم وصورناكم، أي صورنا آدم * (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * (الأعراف: 11) وهو قول الحسن ويوسف النحوي وهو المختار، وذلك لأن أمر الملائكة بالسجود لآدم تأخر عن خلق آدم وتصويره، ولم يتأخر عن خلقنا وتصويرنا أقصى ما في الباب أن يقال: كيف يحسن جعل خلقنا وتصويرنا كناية عن خلق آدم وتصويره؟ فنقول: إن آدم عليه السلام أصل البشر، فوجب أن تحسن هذه الكناية نظيرة قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) * (البقرة: 63) أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام، ويقال: قتلت بنو أسد فلانا، وإنما قتله أحدهم. قال عليه السلام: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل، وإنما قتله أحدهم، وقال تعالى مخاطبا لليهود في زمان محمد صلى الله عليه وسلم: * (وإذا أنجيناكم من آل فرعون) * (الأعراف: 141) * (وإذ قتلتم نفسا) * (البقرة: 72) والمراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم، فكذا ههنا. الثاني: أن يكون المراد من قوله: * (خلقناكم) * آدم * (ثم صورناكم) * (الأعراف: 11) أي صورنا ذرية آدم عليه السلام في ظهره، ثم بعد ذلك قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، وهذا قول مجاهد. فذكر أنه تعالى خلق آدم أولا، ثم أخرج أولاده من ظهره في صورة الذر، ثم بعد ذلك أمر الملائكة بالسجود لآدم.
الوجه الثالث: خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فهذا العطف يفيد ترتيب خبر على خبر، ولا يفيد ترتيب المخبر على المخبر.
والوجه الرابع: أن الخلق في اللغة عبارة عن التقدير، كما قررناه في هذا الكتاب، وتقدير الله عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين فقوله: * (خلقناكم) * إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم. وقوله: * (صورناكم) * إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورة كل شيء كائن محدث إلى قيام الساعة على ما جاء في الخبز أنه تعالى قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فخلق الله عبارة عن حكمه ومشيئته، والتصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ، ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له وهذا التأويل عندي أقرب من سائر الوجوه.
المسألة الثالثة: ذكرنا في سورة البقرة أن هذه السجدة فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد منها مجرد التعظيم لا نفس السجدة. وثانيها: أن المراد هو السجدة، إلا أن المسجود له هو الله تعالى، فآدم كان كالقبلة. وثالثها: أن المسجود له هو آدم، وأيضا ذكرنا أن الناس اختلفوا في أن الملائكة الذين أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم هل هم ملائكة السماوات والعرش أو المراد ملائكة الأرض، ففيه خلاف، وهذه المباحث قد سبق ذكرها في سورة البقرة.
30

المسألة الرابعة: ظاهر الآية يدل على أنه تعالى استثنى إبليس من الملائكة، فوجب كونه منهم وقد استقصينا أيضا هذه المسألة في سورة البقرة، وكان الحسن يقول: إبليس لم يكن من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة من نور، والملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ولا يعصون، وليس كذلك إبليس، فقد عصى واستكبر، والملائكة ليسوا من الجن، وإبليس من الجن، والملائكة رسل الله، وإبليس ليس كذلك، وإبليس أول خليقة الجن وأبوهم، كما أن آدم صلى الله عليه وسلم أول خليقة الإنس وأبوهم. قال الحسن: ولما كان إبليس مأمورا مع الملائكة استثناه الله تعالى، وكان اسم إبليس شيئا آخر، فلما عصى الله تعالى سماه بذلك وكان مؤمنا عابدا في السماء حتى عصى ربه فأهبط إلى الأرض.
* (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) *.
قوله سبحانه وتعالى: * (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أمر الملائكة بالسجود. فإن ذلك الأمر قد تناول إبليس، وظاهر هذا يدل على أن إبليس كان من الملائكة، إلا
أن الدلائل التي ذكرناها تدل على أن الأمر ليس كذلك. وأما الاستثناء فقد أجبنا عنه في سورة البقرة.
المسألة الثانية: ظاهر الآية يقتضي أنه تعالى، طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود، وليس الأمر كذلك. فإن المقصود طلب ما منعه من السجود، ولهذا الإشكال حصل في الآية قولان:
القول الأول: وهو المشهور أن كلمة * (لا) * صلة زائدة، والتقدير: ما منعك أن تسجد؟! وله نظائر في القرآن كقوله: * (لا أقسم بيوم القيامة) * (القيامة: 1) معناه: أقسم. وقوله: * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) * (الحديد: 29) أي يرجعون. وقوله: * (لئلا يعلم أهل الكتاب) * أي ليعلم أهل الكتاب. وهذا قول الكسائي، والفراء، والزجاج، والأكثرين.
والقول الثاني: أن كلمة * (لا) * ههنا مفيدة وليست لغوا وهذا هو الصحيح، لأن الحكم
31

بأن كلمة من كتاب الله لغو لا فائدة فيها مشكل صعب، وعلى هذا القول ففي تأويل الآية وجهان: الأول: أن يكون التقدير: أي شيء منعك عن ترك السجود؟! ويكون هذا الاستفهام على سبيل الإنكار ومعناه: أنه ما منعك عن ترك السجود؟! كقول القائل لمن ضربه ظلما: ما الذي منعك من ضربي، أدينك، أم عقلك، أم حياؤك؟! والمعنى: أنه لم يوجد أحد هذه الأمور، وما امتنعت من ضربي. الثاني: قال القاضي: ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه قال: ما دعاك إلى أن لا تسجد؟! لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها.
المسألة الثالثة: احتج العلماء بهذه الآية على أن صيغة الأمر تفيد الوجوب، فقالوا: إنه تعالى ذم إبليس بهذه الآية على ترك ما أمر به ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به موجبا للذم.
فإن قالوا: هب أن هذه الآية تدل على أن ذلك الأمر كان يفيد الوجوب، فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب. فلم قلتم إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك؟
قلنا: قوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * يفيد تعليل ذلك الذم بمجرد ترك الأمر، لأن قوله: * (إذ أمرتك) * مذكور في معرض التعليل، والمذكور في قوله: * (إذ أمرتك) * هو الأمر من حيث أنه أمر لا كونه أمرا مخصوصا في صورة مخصوصة، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون ترك الأمر من حيث أنه أمر موجبا للذم، وذلك يفيد أن كل أمر فإنه يقتضي الوجوب وهو المطلوب.
المسألة الرابعة: احتج من زعم أن الأمر يفيد الفور بهذه الآية قال: إنه تعالى ذم إبليس على ترك السجود في الحال، ولو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب هذا الذم بترك السجود في الحال.
المسألة الخامسة: اعلم أن قوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد) * طلب الداعي الذي دعاه إلى ترك السجود، فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي، وهو أنه قال: * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * ومعناه: أن إبليس قال إنما لم أسجد لآدم، لأني خير منه، ومن كان خيرا من غيره فإنه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدون! ثم بين المقدمة الأولى وهو قوله: * (أنا خير منه) * بأن قال: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) * والنار أفضل من الطين والمخلوق من الأفضل أفضل، فوجب كون إبليس خيرا من آدم. أما بيان أن النار أفضل من الطين، فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف
32

حار يابس مجاور لجواهر السماوات ملاصق لها، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السماوات، وأيضا فالنار قوية التأثير والفعل، والأرض ليس لها إلا القبول والانفعال. والفعل أشرف من الانفعال، وأيضا فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة، وأما الأرضية والبرد واليبس فهما مناسبان الموت. والحياة أشرف من الموت، وأيضا فنضج الثمار متعلق بالحرارة، وأيضا فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين، وأما وقت الشيخوخة، فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية، لا جرم كان هذا الوقت أردأ أوقات عمر الإنسان، فأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر، لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع. وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فلأنه قد تقرر في العقول أن من أمر أبا حنيفة والشافعي وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحا في العقول، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس. فنقول: هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاثة. أولها: أن النار أفضل من التراب، فهذا قد تكلمنا فيه في سورة البقرة. وأما المقدمة الثانية: وهي أن من كانت مادته أفضل فصورته أفضل، فهذا هو محل النزاع والبحث، لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة. ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر، والنور من الظلمة والظلمة من النور، وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله تعالى لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر. وأيضا التكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل، فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه، وأيضا فالفضل إنما يكون بالأعمال وما يتصل بها لا بسبب المادة. ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر.
المسألة السادسة: احتج من قال: أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس بأنه لو كان تخصيص عموم النص بالقياس جائزا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد والتوبيخ العظيم، ولما حصل ذلك دل على أن تخصيص عموم النص بالقياس لا يجوز، وبيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة: * (اسجدوا لآدم) * (البقرة: 34) خطاب عام يتناول جميع الملائكة. ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس. وهو أنه مخلوق من النار والنار أشرف من الطين، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف، فيلزم كون إبليس أشرف من آدم عليه السلام، ومن كان أشرف من غيره، فإنه لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون الأدنى. والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر، ولا معنى للقياس إلا ذلك، فثبت أن إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئا إلا أنه خصص عموم قوله تعالى
33

للملائكة: * (اسجدوا لآدم) * بهذا القياس، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لوجب أن لا يستحق إبليس الذم على هذا العمل: وحيث استحق الذم الشديد عليه، علمنا أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز، وأيضا ففي الآية دلالة على صحة هذه المسألة من وجه آخر، وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى: * (اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها) * فوصف تعالى إبليس بكونه متكبرا بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص، وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله، ولما دلت هذه الآية على أن تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله، ودلت هذه الآية على أن التكبر على الله يوجب العقاب الشديد والإخراج من زمرة الأولياء والإدخال في زمرة الملعونين، ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز. وهذا هو المراد مما نقله الواحدي في " البسيط "، عن ابن عباس أنه قال: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربه وقاس، وأول من قاس إبليس، فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس. هذا جملة الألفاظ التي نقلها الواحدي في " البسيط " عن ابن عباس.
فإن قيل: القياس الذي يبطل النص بالكلية باطل.
أما القياس الذي يخصص النص في بعض الصور فلم قلتم أنه باطل؟ وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقا من النار بالسجود لمن كان مخلوقا من الأرض، لكان قبح أمر من كان مخلوقا من النور المحض بالسجود لمن كان مخلوقا من الأرض أولى وأقوى، لأن النور أشرف من النار، وهذا القياس يقتضي أن يقبح أمر أحد من الملائكة بالسجود لآدم، فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النص بالكلية وأنه باطل.
وأما القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النص العام، لم قلتم: إنه باطل؟ فهذا سؤال حسن أوردته على هذه الطريقة وما رأيت أحدا ذكر هذا السؤال ويمكن أن يجاب عنه، فيقال: إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أمر من لا يرضى أن يلجأ إلى خدمة الأدنى الأدون، أما لو رضي ذلك الشريف بتلك الخدمة لم يقبح، لأنه لا اعتراض عليه في أنه يسقط حق نفسه، أما الملائكة فقد رضوا بذلك، فلا بأس به، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق، فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود، فهذا قياس مناسب، وأنه يوجب تخصيص النص ولا يوجب رفعه بالكلية ولا إبطاله. فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا، لما استوجب الذم العظيم، فلما استوجب استحقاق هذا الذم العظيم في حقه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن تخصيص النص بالقياس غير جائز. والله أعلم.
34

المسألة السابعة: قوله تعالى: * (ما منعك أن لا تسجد) * لا شك أن قائل هذا القول هو الله لأن قوله: * (إذ أمرتك) * لا يليق إلا بالله سبحانه.
وأما قوله: * (خلقتني من نار) * فلا شك أن قائل هذا القول هو إبليس.
* (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) *.
وأما قوله: * (قال فاهبط منها) * فلا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى، ومثل هذه المناظرة بين الله سبحانه وبين إبليس مذكور في سورة * (ص) * على سبيل الاستقصاء.
إذا ثبت هذا فنقول: إنه لم يتفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم السلام مكالمة مع الله مثل ما اتفق لإبليس، وقد عظم الله تشريف موسى بأن كلمه حيث قال: * (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) * (الأعراف: 143) وقال: * (وكلم الله موسى تكليما) * (النساء: 164) فإن كانت هذه المكالمة تفيد الشرف العظيم فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس؟ وإن لم توجب الشرف العظيم، فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف الكامل لموسى عليه السلام؟
والجواب: أن بعض العلماء قال: إنه تعالى قال لإبليس على لسان من يؤدي إليه من الملائكة ما منعك من السجود؟ ولم يسلم أنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة. قالوا: لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله تعالى إلا بواسطة، ومنهم من قال: إنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة، ولكن على وجه الإهانة بدليل أنه تعالى قال له: * (فاخرج إنك من الصاغرين) * وتكلم مع موسى ومع سائر الأنبياء عليهم السلام على سبيل الإكرام. ألا ترى أنه تعالى قال لموسى: * (وأنا اخترتك) * (طه: 13) وقال له * (واصطنعتك لنفسي) * (طه: 41) وهذا نهاية الإكرام.
المسألة الثامنة: قوله تعالى: * (فاهبط منها) * قال ابن عباس: يريد من الجنة، وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم. وقال بعض المعتزلة: أنه إنما أمر بالهبوط من السماء، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في سورة البقرة: * (فما يكون لك أن تتكبر فيها) * أي في السماء. قال ابن عباس: يريد أن أهل السماوات ملائكة متواضعون خاشعون فاخرج إنك من الصاغرين، والصغار الذلة. قال الزجاج: إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله تعالى بالذلة والصغار تنبيها على صحة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: " من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله " وقال بعضهم: لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار. والله أعلم.
35

* (قال أنظرنى إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبمآ أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمآئلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (قال أنظرني إلى يوم يبعثون) * يدل على أنه طلب الإنظار من الله تعالى إلى وقت البعث وهو وقت النفخة الثانية حين يقوم الناس لرب العالمين. ومقصوده أنه لا يذوق الموت فلم يعطه الله تعالى ذلك. بل قال إنك من المنظرين ثم ههنا قولان: الأول: أنه تعالى أنظره إلى النفخة الأولى لأنه تعالى قال في آية أخرى: * (إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) * (الحجر: 37، 38) والمراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحياء كلهم، وقال آخرون: لم يوقت الله له أجلا بل قال: * (إنك من المنظرين) * وقوله في الأخرى: * (إلى يوم الوقت المعلوم) * المراد منه. الوقت المعلوم في علم الله تعالى. قالوا: والدليل على
صحة هذا القول أن إبليس كان مكلفا والمكلف لا يجوز أن يعلم أن الله تعالى أخر أجله إلى الوقت الفلاني لأن ذلك المكلف يعلم أنه متى تاب قبلت توبته فإذا علم أن وقت موته هو الوقت الفلاني أقدم على المعصية بقلب فارغ، فإذا قرب وقت أجله تاب عن تلك المعاصي. فثبت أن تعريف وقت الموت بعينه يجري مجرى الإغراء بالقبيح، وذلك غير جائز على الله تعالى.
وأجاب الأولون: بأن تعريف الله عز وجل كونه من المنظرين إلى يوم القيامة لا يقتضي إغراءه بالقبيح لأنه تعالى كان يعلم منه أنه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق سواء أعلمه بوقت موته أو لم يعلمه بذلك، فلم يكن ذلك الإعلام موجبا إغراءه بالقبيح، ومثاله أنه تعالى عرف أنبياءه أنهم يموتون على الطهارة والعصمة، ولم يكن ذلك موجبا إغراءهم بالقبيح لأجل أنه تعالى علم منهم سواء عرفهم تلك الحالة أو لم يعرفهم هذه الحالة أنهم يموتون على الطهارة والعصمة. فلما كان
36

لا يتفاوت حالهم بسبب هذا التعريف لا جرم ما كان ذلك التعريف إغراء بالقبيح فكذا ههنا، والله أعلم.
المسألة الثانية: قول إبليس: * (فيما أغويتني) * يدل على أنه أضاف إغواءه إلى الله تعالى، وقوله في آية أخرى: * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) * (ص: 82) يدل على أنه أضاف إغواء العباد إلى نفسه. فالأول: يدل على كونه على مذهب الجبر. والثاني: يدل على كونه على مذهب القدر، وهذا يدل على أنه كان متحيرا في هذه المسألة، أو يقال: أنه كان يعتقد أن الإغواء لا يحصل إلا بالمغوي فجعل نفسه مغويا لغيره من الغاوين، ثم زعم أن المغوي له هو الله تعالى قطعا للتسلسل، واختلف الناس في تفسير هذه الكلمة، أما أصحابنا فقالوا: الإغواء إيقاع الغي في القلب، والغي هو الاعتقاد الباطل وذلك يدل على أنه كان يعتقد أن الحق والباطل إنما يقع في القلب من الله تعالى. أما المعتزلة فلهم ههنا مقامان: أحدهما: أن يفسروا الغي بما ذكرناه. والثاني: أن يذكروا في تفسيره وجها آخر. أما الوجه الأول: فلهم فيه أعذار. الأول: أن قالوا هذا قول إبليس فهب أن إبليس اعتقد أن خالق الغي والجهل والكفر هو الله تعالى، إلا أن قوله ليس بحجة. الثاني: قالوا: إن الله تعالى لما أمر بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر غيه وكفره فجاز أن يضيف ذلك الغي إلى الله تعالى بهذا المعنى، وقد يقول القائل: لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضر بك عنده. الثالث: * (قال رب بما أغويتني لأقعدن لهم) * والمعنى: إنك بما لعنتني بسبب آدم فإنا لأجل هذه العداوة ألقى الوساوس في قلوبهم. الرابع: * (رب بما أغويتني) * أي خيبتني من جنتك عقوبة على عملي لأقعدن لهم.
الوجه الثاني: في تفسير الإغواء - الإهلاك - ومنه قوله تعالى: * (فسوق يلقون غيا) * (مريم: 59) أي هلاكا وويلا، ومنه أيضا قولهم: غوى الفصيل يغوي غوى إذا أكثر من اللبن حتى يفسد جوفه، ويشارف الهلاك والعطب، وفسروا قوله: * (إن كان الله يريد أن يغويكم) * (هود: 34) إن كان الله يريد أن يهلككم بعنادكم. الحق، فهذه جملة الوجوه المذكورة.
واعلم أنا لا نبالغ في بيان أن المراد من الإغواء في هذه الآية الإضلال، لأن حاصله يرجع إلى قول إبليس وأنه ليس بحجة، إلا أنا نقيم البرهان اليقيني على أن المغوي لإبليس هو الله تعالى، وذلك لأن الغاوي لا بد له من مغو، كما أن المتحرك لا بد له من محرك، والساكن لا بد له من مسكن، والمهتدي لا بد له من هاد. فلما كان إبليس غاويا فلا بد له من مغوي، والمغوي له إما أن يكون نفسه أو مخلوقا آخر أو الله تعالى، والأول: باطل. لأن العاقل لا يختار الغواية مع
37

العلم بكونها غواية. والثاني: باطل وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور. والثالث: هو المقصود. والله أعلم.
المسألة الثالثة: الباء في قوله: * (فبما أغويتني) * فيه وجوه: الأول: إنه باء القسم أي بإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم أي، بقدرتك علي ونفاذ سلطانك في لأقعدن لهم على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة، بأن أزين لهم الباطل، وما يكسبهم المآثم، ولما كانت * (الباء) * باء القسم كانت * (اللام) * جواب القسم * (وما) * بتأويل المصدر و * (أغويتني) * صلتها. والثاني: أن قوله: * (فبما أغويتني) * أي فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم، والمراد إنك لما أغويتني فأنا أيضا أسعى في إغوائهم. الثالث: قال بعضهم: * (ما) * في قوله: * (فيما أغويتني) * للاستفهام. كأنه قيل: بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ وقال: * (لأقعدن لهم) * وفيه إشكال، وهو أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على " ما " الاستفهامية قليل.
المسألة الرابعة: قوله: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) * لا خلاف بين النحويين أن " على " محذوف والتقدير: لأقعدن لهم على صراطك المستقيم. قال الزجاج: مثاله قولك ضرب زيد الظهر والبطن والمعنى على الظهر والبطن. وإلقاء كلمة " على " جائز، لأن الصراط ظرف في المعنى: فاحتمل ما يحتمله لليوم والليلة، في قولك آتيك غدا وفي غد.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) * فيه أبحاث.
البحث الأول: المراد منه أنه يواظب على الإفساد مواظبة لا يفتر عنها، ولهذا المعنى ذكر القعود لأن من أراد أن يبالغ في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود ومواظبته على الإفساد هي مواظبته على الوسوسة حتى لا يفتر عنها.
والبحث الثاني: إن هذه الآية تدل على أنه كان عالما بالدين الحق والمنهج الصحيح، لأنه قال: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) * وصراط الله المستقيم هو دينه الحق.
البحث الثالث: الآية تدل على أن إبليس كان عالما بأن الذي هو عليه من المذهب والاعتقاد هو محض الغواية والضلال، لأنه لو لم يكن كذلك لما قال: * (رب بما أغويتني) * وأيضا كان عالما بالدين الحق، ولولا ذلك لما قال: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) *.
وإذا ثبت هذا فكيف يمكن: أن يرضى إبليس بذلك المذهب مع علمه بكونه ضلالا وغواية وبكونه مضادا للدين الحق ومنافيا للصراط المستقيم. فإن المرء إنما يعتقد الفاسد
إذا غلب على ظنه كونه حقا، فأما مع العلم بأنه باطل وضلال وغواية يستحيل أن يختاره ويرضى به ويعتقده.
38

واعلم أن من الناس من قال أن كفر إبليس كفر عناد لا كفر جهل لأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغواية، فقد علم أن ضده هو الحق، فكان إنكاره إنكارا بمحض اللسان، فكان ذلك كفر عناد، ومنهم من قال لا. بل كفره كفر جهل وقوله: * (فبما أغويتني) * وقوله: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) * يريد به في زعم الخصم، وفي اعتقاده. والله أعلم.
المسألة الخامسة: احتج أصحابنا بهذه الآية في بيان أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنياه وتقريره أن إبليس استمهل الزمان الطويل فأمهله الله تعالى، ثم بين أنه إنما استمهله لإغواء الخلق وإضلالهم وإلقاء الوساوس في قلوبهم، وكان تعالى عالما بأن أكثر الخلق يطيعونه ويقبلون وسوسته كما قال تعالى: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) * (سبأ: 20) فثبت بهذا أن إنظار إبليس، وإمهاله هذه المدة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة والكفر الكبير، فلو كان تعالى مراعيا لمصالح العباد لامتنع أن يمهله، وإن يمكنه من هذه المفاسد فحيث أنظره وأمهله علمنا أنه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح أصلا، ومما يقوي ذلك أنه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق، وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال، ثم إنه تعالى أمات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق إلى الكفر والباطل ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك. قالت المعتزلة: اختلف شيوخنا في هذه المسألة. فقال الجبائي: إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه، ولا يضل بقوله أحد إلا من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضا، والدليل عليه قوله تعالى: * (ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم) * (الصافات: 162 - 163) ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة. وقال أبو هاشم يجوز أن يضل به قوم، ويكون خلقه جاريا مجرى خلق زيادة الشهوة، فإن هذه الزيادة من الشهوة لا توجب فعل القبيح إلا أن الامتناع منها يصير أشق، ولأجل تلك الزيادة من المشقة تحصل الزيادة في الثواب، فكذا ههنا بسبب إبقاء إبليس يصير الامتناع من القبائح أشد وأشق، ولكنه لا ينتهي إلى حد الإلجاء والإكراه.
والجواب: أما قول أبي علي فضعيف، وذلك لأن الشيطان لا بد وأن يزين القبائح في قلب الكافر ويحسنها إليه، ويذكره ما في القبائح من أنواع اللذات والطيبات، ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حصول هذا التذكير والتزيين لا يكون مساويا لحاله عند عدم هذا التذكير، وهذا التزيين والدليل عليه العرف، فإن الإنسان إذا حصل له جلساء يرغبونه في أمر من الأمور ويحسنونه في عينه ويسهلون طريق الوصول إليه ويواظبون على دعوته إليه، فإنه لا يكون حاله في
39

الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التذكير والتحسين والتزيين. والعلم به ضروري، وأما قول أبي هاشم فضعيف أيضا لأنه إذا صار حصول هذا التذكير والتزيين حاصلا للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعيا في إلقائه في المفسدة، وما ذكره من خلق الزيادة في الشهوة، فهو حجة أخرى لنا في أن الله تعالى لا يراعي المصلحة، فكيف يمكنه أن يحتج به؟ والذي يقرره غاية التقرير: أن لسبب حصول تلك الزيادة في الشهوة يقع في الكفر وعقاب الأبد، ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أنه يزداد ثوابه من الله تعالى بسبب زيادة تلك المشقة وحصول هذه الزيادة من الثواب شيء لا حاجة إليه البتة، إما دفع العقاب المؤبد فإليه أعظم الحاجات، فلو كان إله العالم مراعيا لمصالح العباد لاستحال أن يهمل الأهم الأكمل الأعظم لطلب الزيادة التي لا حاجة إليها ولا ضرورة، فثبت فساد هذه المذاهب وأنه لا يجب على الله تعالى شيء أصلا. والله أعلم بالصواب.
أما قوله تعالى: * (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في ذكر هذه الجهات الأربع قولان:
القول الأول: أن كل واحد منها مختص بنوع من الآفة في الدين. والقائلون بهذا القول ذكروا وجوها: أحدها: * (ثم لآتينهم من بين أيديهم) * يعني أشككهم في صحة البعث والقيامة * (ومن خلفهم) * ألقى إليهم أن الدنيا قديمة أزلية. وثانيها: * (ثم لآتينهم من بين أيديهم) * والمعنى أفترهم عن الرغبة في سعادات الآخرة * (ومن خلفهم) * يعني أقوى رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها وأحسنها في أعينهم، وعلى هذين الوجهين فالمراد من قوله: * (بين أيديهم) * الآخرة لأنهم يردون عليها ويصلون إليها، فهي بين أيديهم، وإذا كانت الآخرة بين أيديهم كانت الدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها. وثالثها: وهو قول الحاكم والسدي * (من بين أيديهم) * يعني الدنيا * (ومن خلفهم) * الآخرة، وإنما فسرنا * (بين أيديهم) * بالدنيا، لأنها بين يدي الإنسان يسعى فيها ويشاهدها، وأما الآخرة فهي تأتي بعد ذلك. ورابعها: * (من بين أيديهم) * في تكذيب الأنبياء والرسل الذين يكونون حاضرين * (ومن خلفهم) * في تكذيب من تقدم من الأنبياء والرسل.
وأما قوله: * (وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * ففيه وجوه: أحدها: * (عن أيمانهم) * في الكفر والبدعة * (وعن شمائلهم) * في أنواع المعاصي. وثانيها: * (عن أيمانهم) * في الصرف عن الحق * (وعن شمائلهم) * في الترغيب في الباطل. وثالثها: * (عن أيمانهم) * يعني أفترهم عن الحسنات * (وعن شمائلهم) * أقوى دواعيهم في السيئات. قال ابن الأنباري: وقول من قال، الإيمان كناية عن الحسنات
40

والشمائل عن السيئات. قول حسن، لأن العرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، يريد اجعلني من المقدمين عندك ولا تجعلني من المؤخرين. وروى أبو عبيد عن الأصمعي أنه يقال: هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة، وإذا خبثت منزلته قال: أنت عندي بالشمال، فهذا تلخيص ما ذكره المفسرون في تفسير هذه الجهات الأربع. أما حكماء الإسلام فقد ذكروا فيها وجوها أخرى. أولها: وهو الأقوى الأشرف أن في البدن قوى أربعا، هي الموجبة لقوات السعادات الروحانية، فإحداها: القوة الخالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها. وهي موضوعة في البطن المقدم من الدماغ، وصور المحسوسات إنما ترد عليها من مقدمها، وإليه الإشارة بقوله: * (من بين أيديهم) *.
والقوة الثانية: القوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات، وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدماغ، وإليها الإشارة بقوله: * (ومن خلفهم) *.
والقوة الثالثة: الشهوة وهي موضوعة في الكبد وهي من يمين البدن.
والقوة الرابعة: الغضب، وهو موضوع في البطن الأيسر من القلب، فهذه القوى الأربع هي التي تتولد عنها أحوال توجب زوال السعادات الروحانية والشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع، لم تقدر على إلقاء الوسوسة، فهذا هو السبب في تعيين هذه الجهات الأربع، وهو وجه حقيقي شريف. وثانيها: أن قوله: * (لآتينهم من بين أيديهم) * المراد منه الشبهات المبنية على التشبيه. أما في الذات والصفات مثل شبه المجسمة. وأما الأفعال: مثل شبه المعتزلة في التعديل والتخويف والتحسين والتقبيح * (ومن خلفهم) * المراد منه الشبهات الناشئة عن التعطيل، وإنما جعلنا قوله: * (من بين أيديهم) * لشبهات التشبيه، لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات وأحوالها، فهي حاضرة بين يديه، فيعتقد أن الغائب يجب أن يكون مساويا لهذا الشاهد، وإنما جعلنا قوله: * (ومن خلفهم) * كناية عن التعطيل، لأن التشبيه عين التعطيل، فلما جعلنا قوله: * (من بين أيديهم) * كناية عن التشبيه وجب أن نجعل قوله: * (ومن خلفهم) * كناية عن التعطيل. وأما قوله: * (وعن أيمانهم) * فالمراد منه الترغيب في ترك المأمورات * (وعن شمائلهم) * الترغيب في فعل المنهيات. وثالثها: نقل عن شقيق رحمه الله أنه قال: ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع، من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي. أما من بين يدي فيقول: لا تخف فإن الله غفور رحيم. فاقرأ * (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا) * (طه: 82) وأما من خلفي: فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر، فاقرأ * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * (هود: 6) وأما من قبل يميني: فيأتيني من قبل الثناء فاقرأ * (والعاقبة للمتقين) * (والقصص: 83) وأما من قبل شمالي: فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ * (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) * (سبأ: 54).
41

والقول الثاني: في هذه الآية أنه تعالى حكى عن الشيطان ذكر هذه الوجوه الأربعة، والغرض منه أنه يبالغ في إلقاء الوسوسة، ولا يقصر في وجه من الوجوه الممكنة البتة. وتقدير الآية: ثم لآتينهم من جميع الجهات الممكنة بجميع الاعتبارات الممكنة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام " فقال له: تدع دين آبائك فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال له: تدع ديارك وتتغرب فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: تقاتل فتقتل، ويقسم مالك، وتنكح امرأتك، فعصاه فقاتل، وهذا الخبر يدل على أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب.
فإن قيل: فلم لم يذكر مع الجهات الأربع من فوقهم ومن تحتهم.
قلنا: أما في التحقيق فقد ذكرنا أن القوى التي يتولد منها ما يوجب تفويت السعادات الروحانية، فهي موضوعة في هذه الجوانب الأربعة من البدن. وأما في الظاهر: فيروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر، فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع، فأوحى الله تعالى إليهم أنه بقي للإنسان جهتان: الفوق والتحت، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة. والله أعلم.
المسألة الثانية: أنه قال: * (من بين أيديهم ومن خلفهم) * فذكر هاتين الجهتين بكلمة * (من) *.
ثم قال: * (وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * فذكر هاتين الجهتين بكلمة * (عن) * ولا بد في هذا الفرق من فائدة. فنقول: إذا قال القائل جلس عن يمينه، معناه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين غير ملتصق به. قال تعالى: * (عن اليمين وعن الشمال قعيد) * (ق: 17) فبين أنه حضر على هاتين الجهتين ملكان، ولم يحضر في القدام والخلف ملكان، والشيطان يتباعد عن الملك، فلهذا المعنى خص اليمين والشمال بكلمة * (عن) * لأجل أنها تفيد البعد والمباينة، وأيضا فقد ذكرنا أن المراد من قوله: * (من بين أيديهم ومن خلفهم) * الخيال، والوهم، والضرر الناشئ منهما هو حصول العقائد الباطلة، وذلك هو حصول الكفر، وقوله: * (وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * الشهوة، والغضب، والضرر الناشئ منهما هو حصول الأعمال الشهوانية والغضبية، وذلك هو المعصية، ولا شك أن الضرر الحاصل من الكفر لازم، لأن عقابه دائم. أما الضرر الحاصل من المعصية فسهل لأنه عقابه منقطع، فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة * (عن) * تنبيها على أن هذين القسمين في اللزوم والاتصال دون القسم الأول. والله أعلم بمراده.
42

المسألة الثالثة: قال القاضي: هذا القول من إبليس كالدلالة على بطلان ما يقال: إنه يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه، لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المبالغة أحق.
ثم قال تعالى حكاية عن إبليس أنه قال: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * وفيه سؤال: وهو أن هذا من باب الغيب فكيف عرف إبليس ذلك فلهذا السبب اختلف العلماء فيه فقال بعضهم كان قد رآه في اللوح المحفوظ، فقال له على سبيل القطع واليقين. وقال آخرون: إنه قاله على سبيل الظن لأنه كان عازما على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات، وعلم أنها أشياء يرغب فيها غلب على ظنه أنهم يقبلون قوله فيها على سبيل الأكثر والأغلب ويؤكد هذا القول بقوله تعالى: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا) * (سبأ: 20) والعجب أن إبليس قال للحق سبحانه وتعالى: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * فقال الحق ما يطابق ذلك * (وقليل من عبادي الشكور) * (سبأ: 13) وفيه وجه آخر. وهو أنه حصل للنفس تسع عشرة قوة، وكلها تدعو النفس إلى اللذات الجسمانية. والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة، وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة، واثنان الشهوة والغضب، وسبعة هي القوى الكامنة، وهي الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة،
والغاذية، والنامية، والمولدة فمجموعها تسعة عشر وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وترغبها في طلب اللذات البدنية، وأما العقل فهو قوة واحدة، وهي التي تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة. لا سيما وتلك القوى التسعة عشر تكون في أول الخلقة قوية ويكون العقل ضعيفا جدا وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلما كان الأمر كذلك، لزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات الجسمانية معرضين عن معرفة الحق ومحبته فلهذا السبب قال: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * والله أعلم.
* (قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن اتبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) *.
اعلم أن إبليس لما وعد بالإفساد الذي ذكره، خاطبه الله تعالى بما يدل على الزجر والإهانة فقال: * (اخرج منها) * من الجنة أو من السماء * (مذؤوما) * قال الليث: ذأمت الرجل فهو مذؤم أي محقور والذام الاحتقار، وقال الفراء: ذأمته إذا عبته يقولون في المثل لا تعدم الحسناء ذاما. وقال ابن
43

الأنباري المذؤم المذموم قال ابن قتيبة مذؤما مذموما بأبلغ الذم قال أمية:
وقال لإبليس رب العباد * أن اخرج دحيرا لعينا ذؤما
وقوله: * (مدحورا) * الدحر في اللغة الطرد والتبعيد، يقال دحره دحرا ودحورا إذا طرده وبعده ومنه قوله تعالى: * (ويقذفون من كل جانب دحورا) * (الصافات: 8، 9) وقال أمية:
وبإذنه سجدوا لآدم كلهم * إلا لعينا خاطئا مدحورا
وقوله: * (لمن تبعك منهم) * اللام فيه لام القسم، وجوابه قوله: * (لأملأن) * قال صاحب " الكشاف " روى عصمة عن عاصم: * (لمن تبعك) * بكسر اللام بمعنى * (لمن تبعك منهم) * هذا الوعيد وهو قوله: * (لأملأن جهنم منكم أجمعين) * وقيل: إن لأملأن في محل الابتداء * (ولمن تبعك) * خبره قال أبو بكر الأنباري الكناية في قوله: * (لمن تبعك منهم) * عائد على ولد آدم لأنه حين قال: * (ولقد خلقناكم) * (الأعراف: 11) كان مخاطبا لولد آدم فرجعت الكناية إليهم. قال القاضي: دلت هذه الآية على أن التابع والمتبوع معنيان في أن جهنم تملأ منهما ثم أن الكافر تبعه، فكذلك الفاسق تبعه فيجب القطع بدخول الفاسق النار، وجوابه أن المذكور في الآية أنه تعالى يملأ جهنم ممن تبعه، وليس في الآية أن كل من تبعه فإنه يدخل جهنم فسقط هذا الاستدلال، ونقول هذه الآية تدل على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأن كلهم متابعون لإبليس. والله أعلم.
* (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) *.
اعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل: أحدها: أن قوله: * (أسكن) * أمر تعبد أو أمر إباحة وإطلاق من حيث إنه لا مشقة فيه. فلا يتعلق به التكليف. وثانيها: أن زوج آدم هو حواء، ويجب أن نذكر أنه تعالى كيف خلق حواء، وثالثها: أن تلك الجنة كانت جنة الخلد، أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض. ورابعها: أن قوله: * (فكلا) * أمر إباحة لا أمر تكليف. وخامسها: أن قوله: * (ولا تقربا) * نهي تنزيه أو نهي تحريم. وسادسها: أن قوله: * (هذه الشجرة) * المراد شجرة واحدة بالشخص أو النوع. وسابعها: أن تلك الشجرة أي شجرة كانت. وثامنها: أن ذلك الذنب
44

كان صغيرا أو كبيرا. وتاسعها: أنه ما المراد من قوله: * (فتكونا من الظالمين) * وهل يلزم من كونه ظالما بهذا القربان الدخول تحت قوله تعالى: * (ألا لعنة الله على الظالمين) * (هود: 18)، وعاشرها: أن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم عليه السلام أو بعدها، فهذه المسائل العشرة قد سبق تفصيلها وتقريرها في سورة البقرة فلا نعيدها، والذي بقي علينا من هذه الآية حرف واحد، وهو أنه تعالى قال في سورة البقرة: * (وكلا منها رغدا) * (البقرة: 35) بالواو، وقال ههنا: * (فكلا) * بالفاء فما السبب فيه، وجوابه من وجهين: الأول: أن الواو تفيد الجمع المطلق، والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب، فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا منافاة بين النوع والجنس، ففي سورة البقرة ذكر الجنس وفي سورة الأعراف ذكر النوع.
* (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكم الشجرة وأقل لكمآ إن الشيطان لكما عدو مبين) *.
يقال: وسوس إذا تكلم كلاما خفيا يكرره، وبه سمي صوت الحلي وسواسا وهو فعل غير متعد كقولنا: ولولت المرأة، وقولنا: وعوع الذئب، ورجل موسوس بكسر الواو ولا يقال موسوس بالفتح، ولكن موسوس له وموسوس إليه، وهو الذي يلقي إليه الوسوسة، ومعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ووسوس إليه ألقاها إليه، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: كيف وسوس إليه وآدم كان في الجنة وإبليس أخرج منها.
45

والجواب: قال الحسن: كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى له، وقال أبو مسلم الأصفهاني: بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض، والذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية ودخلت الحية في الجنة فتلك القصة الركيكة مشهورة، وقال آخرون: إن آدم وحواء ربما قربا من باب الجنة، وكان إبليس واقفا من خارج الجنة على بابها، فيقرب. فيقرب أحدهما من الآخر وتحصل الوسوسة هناك.
السؤال الثاني: أن آدم عليه السلام كان يعرف ما بينه وبين إبليس من العداوة فكيف قبل قوله.
والجواب: لا يبعد أن يقال إن إبليس لقي آدم مرارا كثيرة ورغبه في أكل الشجرة بطرق كثيرة فلأجل المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثر كلامه في آدم عليه السلام.
السؤال الثالث: لم قال: * (فوسوس لهما الشيطان) *.
والجواب: معنى وسوس له أي فعل الوسوسة لأجله والله أعلم. أما قوله تعالى: * (ليبدي لهما) * في هذا اللام قولان: أحدهما: أنه لام العاقبة كما في قوله: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) وذلك لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهور عورتهما، ولم يعلم أنهما إن أكلا من الشجرة بدت عوراتها، وإنما كان قصده أن يحملهما على المعصية فقط. الثاني: لا يبعد أيضا أن يقال: إنه لام الغرض ثم فيه وجهان: أحدهما: أن يجعل بدو العورة كناية عن سقوط الحرمة وزوال الجاه، والمعنى: أن غرضه من إلقاء تلك الوسوسة إلى آدم زوال حرمته وذهاب منصبه. والثاني: لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من بعض الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته، وذلك يدل على نهاية الضرر وسقوط الحرمة، فكان يوسوس إليه لحصول هذا الغرض، وقوله: * (ما وري عنهما من سوآتهما) * فيه مباحث:
البحث الأول: ما وري مأخوذ من المواراة يقال: واريته أي سترته. قال تعالى: يواري سوأة أخيه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي لما أخبره بوفاة أبيه: " اذهب فواره ".
البحث الثاني: السوأة فرج الرجل والمرأة، وذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان. قال ابن عباس رضي الله عنهما كأنهما قد ألبسا ثوبا يستر عورتهما، فلما عصيا زال عنهما ذلك الثوب فذلك قوله تعالى: * (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما) *.
البحث الثالث: دلت هذه الآية على أن كشف العورة من المنكرات وإنه لم يزل مستهجنا
46

في الطباع مستقبحا في العقول وقوله: * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) * (الأعراف: 20) يمكن أن يكون هذا الكلام ذكره إبليس بحيث خاطب به آدم وحواء، ويمكن أيضا أن يكون وسوسة أوقعها في قلوبهما، والأمران مرويات إلا أن الأغلب أنه كان ذلك على سبيل المخاطبة بدليل قوله تعالى: * (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) * ومعنى الكلام أن إبليس قال لهما في الوسوسة: إلا أن تكون ملكين وأراد به أن تكونا بمنزلة الملائكة إن أكلتما منها أو تكونا من الخالدين إن أكلتما، فرغبهما بأن أوهمهما أن من أكلها صار كذلك وإنه تعالى إنما نهاهما عنها لكي لا يكونا بمنزلة الملائكة ولا يخلدا، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: كيف أطمع إبليس آدم في أن يكون ملكا عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة متواضعين ساجدين له معترفين بفضله. والجواب: من وجوه: الأول: أن هذا المعنى أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض. أما ملائكة السماوات وسكان العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا البتة لآدم، ولو كانوا سجدوا له لكان هذا التطميع فاسدا مختلا. وثانيها: نقل الواحدي عن بعضهم أنه قال: إن آدم علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة، ولم يعلم ذلك لنفسه فعرض عليه إبليس أن يصير مثل الملك في البقاء، وأقول: هذا الجواب ضعيف، لأن على هذا التقدير المطلوب من الملائكة هو الخلود وحينئذ لا يبقى فرق بين قوله: * (إلا أن تكونا ملكين) * (الأعراف: 20) وبين قوله: * (أو تكونا من الخالدين) * (الأعراف: 20).
والوجه الثاني: قال الواحدي: كان ابن عباس يقرأ ملكين ويقول: ما طمعا في أن يكونا ملكين لكنهما استشرفا إلى أن يكونا ملكين، وإنما أتاهما الملعون من جهة الملك، ويدل على هذا قوله: * (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) * (طه: 20) وأقول هذا الجواب أيضا ضعيف، وبيانه من وجهين: الأول: هب أنه حصل الجواب على هذه القراءة: فهل يقول ابن عباس إن تلك القراءة المشهورة باطلة. أو لا يقول ذلك؟ والأول باطل، لأن تلك القراءة قراءة متواترة، فكيف يمكن الطعن فيها، وأما الثاني: فعلى هذا التقدير الإشكال باق. لأن على تلك القراءة يكون بالتطميع قد وقع في أن يصير بواسطة ذلك الأكل من جملة الملائكة وحينئذ يعود السؤال.
والوجه الثاني: أنه تعالى جعل سجود الملائكة والخلق له في أن يسكن الجنة، وأن يأكل منها رغدا كيف شاء وأراد، ولا مزيد في الملك على هذه الدرجة.
السؤال الثاني: هل تدل هذه الآية على أن درجة الملائكة أكمل وأفضل من درجة النبوة.
والجواب من وجوه: الأول: أنا إذا قلنا إن هذه الواقعة كانت قبل النبوة لم يدل على ذلك
47

ولأن آدم حين طلب الوصول إلى درجة الملائكة ما كان من الأنبياء، وعلى هذا التقدير فزال الاستدلال. والثاني: إن بتقدير " أن " تكون هذه الواقعة وقعت في زمان النبوة فلعل آدم عليه السلام رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والشدة أو في خلقة الذات بأن يصير جوهرا نورانيا، وفي أن يصير من سكان العرش والكرسي، وعلى هذا التقدير يسقط الاستدلال.
السؤال الثالث: نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن في قوله: إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وفي قوله: وقاسمهما قال عمر وقلت للحسن: فهل صدقاه في ذلك. فقال الحسن معاذ الله لو صدقاه لكانا من الكافرين ووجه السؤال: إنه كيف يلزم هذا التكفير بتقدير: أن يصدقا إبليس في ذلك القول.
والجواب: ذكروا في تقرير ذلك التكفير أنه عليه السلام لو صدق إبليس في الخلود لكان ذلك يوجب إنكار البعث والقيامة، وأنه كفر. ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه يلزم من ذلك التصديق حصول الكفر؟ وبيانه من وجهني: الأول: أن لفظ الخلود محمول على طول المكث لا على الدوام، وعلى هذا الوجه يندفع ما ذكروه.
الوجه الثاني: هب أن الخلود مفسر بالدوام، إلا أنا نسلم أن اعتقاد الدوام يوجب الكفر وتقريره أن العلم بأنه تعالى هل يميت هذا المكلف أو لا يميته، علم لا يحصل إلا من دليل السمع فلعله تعالى ما بين في وقت آدم عليه السلام أنه يميت الخلق، ولما لم يوجد ذلك الدليل السمعي كان آدم عليه السلام يجوز دوام البقاء، فلهذا السبب رغب
فيه، وعلى هذا التقدير: فالتكفير غير لازم.
السؤال الرابع: ثبت بما سبق أن آدم وحواء لو صدقا إبليس فيما قال لم يلزم تكفيرهما، فهل يقولون إنهما صدقاه فيه قطعا؟ وإن لم يحصل القطع فهل يقولون إنهما ظنا أن الأمر كما قال؟ أو ينكرون هذا الظن أيضا.
والجواب: أن المحققين أنكروا حصول هذا التصديق قطعا وظنا، بل الصواب أنهما إنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة، لا أنهما صدقاه علما أو ظنا كما نجد أنفسنا عند الشهوة نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه، وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال.
السؤال الخامس: قوله: * (إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) * هذا الترغيب والتطميع وقع في مجموع الأمرين أو في أحدهما.
والجواب: قال بعضهم: الترغيب كان في مجموع الأمرين، لأن أدخل في الترغيب. وقيل: بل هو على ظاهره على طريقة التخيير.
48

ثم قال تعالى: * (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) * أي وأقسم لهما إني لكما لمن الناصحين.
فإن قيل: المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك. تقول: قاسمت فلانا أي حالفته، وتقاسما تحالفا ومنه قوله تعالى: * (تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله) * (النمل: 49).
قلنا: فيه وجوه: الأول: التقدير أنه قال: أقسم لكما إني لكما لمن الناصحين. وقالا له: أتقسم بالله إنك لمن الناصحين؟ فجعل ذلك مقاسمة بينهم. والثاني: أقسم لهما بالنصيحة، وأقسما له بقبولها. الثالث: أنه أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة، لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم.
إذا عرفت هذا فنقول: قال قتادة: حلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله، وقوله: * (إني لكما لمن الناصحين) * أي قال إبليس: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم أحوالا كثيرة من المصالح والمفاسد لا تعرفانها فامتثلا قولي أرشدكما.
ثم قال تعالى: * (فدلاهما بغرور) * وذكر أبو منصور الأزهري لهذه الكلمة أصلين: أحدهما: أصل الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. فيقال: دلاه إذا أطعمه. الثاني: * (فدلاهما بغرور) * أي أجرأهما إبليس على أكل الشجرة بغرور، والأصل فيه دللهما من الدل، والدالة وهي الجرأة.
إذا عرفت هذا فنقول: قال ابن عباس: * (فدلاهما بغرور) * أي غرهما باليمين، وكان آدم يظن أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا. وعن ابن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه، فكان عبيده يفعلون ذلك طلبا للعتق. فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له.
ثم قال تعالى: * (فلما ذاقا الشجرة بدت) * وذلك يدل على أنهما تناولا اليسير قصدا إلى معرفة طعمه، ولولا أنه تعالى ذكر في آية أخرى أنهما أكلا منها، لكان ما في هذه الآية لا يدل على الأكل، لأن الذائق قد يكون ذائقا من دون أكل.
ثم قال تعالى: * (بدت لهما سوآتهما) * أي ظهرت عوراتهما، وزال النور عنهما * (وطفقا يخصفان) * قال الزجاج: معنى طفق: أخذ في الفعل * (يخصفان) * أي يجعلان ورقة على ورقة. ومنه قيل للذي يرقع النعل خصاف، وفيه دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم، ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة * (وناداهما ربهما) * قال عطاء: بلغني أن الله ناداهما أفرارا مني يا آدم. قال بل حياء منك يا رب ما ظننت أن أحدا يقسم باسمك كاذبا، ثم ناداه ربه أما خلقتك بيدي، أما نفخت فيك من روحي، أما أسجدت لك ملائكتي، أما أسكنتك في جنتي في جواري!
49

ثم قال: * (وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) * قال ابن عباس: بين العداوة حيث أبى السجود وقال: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) * (الأعراف: 16).
قوله تعالى (قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين).
اعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة، وقد ذكرنا هناك أن هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم من آدم عليه السلام، إلا أنا نقول: هذا الذنب إنما صدر عنه قبل النبوة. وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.
* (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الارض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) *.
اعلم أن هذا الذي تقدم ذكره هو آدم، وحواء، وإبليس، وإذا كان كذلك فقوله: * (اهبطوا) * يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة * (بعضكم لبعض عدو) * يعني العداوة ثابتة بين الجن والإنس لا تزول البتة. وقوله: * (فيها تحيون) * الكناية عائدة إلى الأرض في قوله: * (ولكم في الأرض) * والمراد في الأرض تعيشون وفيها تموتون ومنها تخرجون إلى البعث والقيامة. قرأ حمزة والكسائي * (تخرجون) * بفتح التاء وضم الراء، وكذلك في الروم والزخرف والجاثية، وقرأ ابن عامر ههنا، وفي الزخرف بفتح التاء، وفي الروم والجاثية بضم التاء، والباقون جميع ذلك بضم التاء.
* (يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون) *.
في نظم الآية وجهان:
50

الوجه الأول: أنه تعالى لما بين أنه أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض، وجعل الأرض لهما مستقرا بين بعده أنه تعالى أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا، ومن جملتها اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا.
الوجه الثاني: أنه تعالى لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة أنه كان يخصف الورق عليها، أتبعه بأن بين أنه خلق اللباس للخلق ليستروا بها عورتهم، ونبه به على المنة العظيمة على الخلق بسبب أنه أقدرهم على التستر.
فإن قيل: ما معنى إنزال اللباس؟
قلنا: إنه تعالى أنزل المطر، وبالمطر تتكون الأشياء التي منها يحصل اللباس، فصار كأنه تعالى أنزل اللباس، وتحقيق القول أن الأشياء التي تحدث في الأرض لما كانت معلقة بالأمور النازلة من السماء صار كأنه تعالى أنزلها من السماء. ومنه قوله تعالى: * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) * (الزمر: 6) وقوله: * (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) * (الحديد: 25) وأما قوله: * (وريشا) * ففيه بحثان:
البحث الأول: الريش لباس الزينة، استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته، أي أنزلنا عليكم لباسين: لباسا يواري سوآتكم، ولباسا يزينكم، لأن الزينة غرض صحيح كما قال: * (لتركبوها وزينة) * (النحل: 8) وقال: * (ولكم فيها جمال) * (النحل: 6).
البحث الثاني: روي عن عاصم رواية غير مشهورة * (ورياشا) * وهو مروي أيضا عن عثمان رضي الله عنه، والباقون * (وريشا) * واختلفوا في الفرق بين الريش والرياش فقيل: رياش جمع ريش، وكذياب وذيب، وقداح وقدح، وشعاب وشعب، وقيل: هما واحد، كلباس ولبس وجلال وجل، روى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: كل شيء يعيش به الإنسان من متاع أو مال أو مأكول فهو ريش ورياش، وقال ابن السكيت: الرياش مختص بالثياب والأثاث، والريش قد يطلق على سائر الأموال وقوله تعالى: * (ولباس التقوى) * فيه بحثان:
البحث الأول: قرأ نافع وابن عامر والكسائي * (ولباس) * بالنصب عطفا على قوله: * (لباسا) * والعامل فيه أنزلنا وعلى هذا التقدير فقوله: * (ذلك) * مبتدأ وقوله: * (خير) * خبره والباقون بالرفع وعلى هذا التقدير فقوله: * (ولباس التقوى) * مبتدأ وقوله: * (ذلك) * صفة أو بدل أو عطف بيان وقوله خير خبر لقوله: * (ولباس التقوى) * ومعنى قولنا صفة أن قوله: * (ذلك) * أشير به إلى اللباس كأنه قيل ولباس التقوى المشار إليه خير.
البحث الثاني: اختلفوا في تفسير قوله: * (ولباس التقوى) * والضابط فيه أن منهم من حمله على
51

نفس الملبوس ومنهم من حمله على غيره.
أما القول الأول: ففيه وجوه: أحدها: أن المراد أن اللباس الذي أنزله الله تعالى ليواري سوآتكم هو لباس التقوى وعلى هذا التقدير فلباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده الله لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن جماعة من أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت فجرى هذا في التكرير مجرى قول القائل: قد عرفتك الصدق في أبواب البر، والصدق خير لك من غيره. فيعيد ذكر الصدق ليخبر عنه بهذا المعنى. وثانيها: أن المراد من لباس التقوى ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقي به في الحروب. وثالثها: المراد من لباس التقوى الملبوسات المعدة لأجل إقامة الصلوات.
والقول الثاني: أن يحمل قوله: * (ولباس التقوى) * على المجازات ثم اختلفوا فقال قتادة والسدي وابن جريج: لباس التقوى الإيمان. وقال ابن عباس: لباس التقوى العمل الصالح، وقيل هو السمت الحسن، وقيل هو العفاف والتوحيد، لأن المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عاريا من الثياب. والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسيا، وقال معبد هو الحياء. وقيل هو ما يظهر على الإنسان من السكينة والإخبات والعمل الصالح، وإنما حملنا لفظ اللباس على هذه المجازات لأن اللباس الذي يفيد التقوى، ليس إلا هذه الأشياء أما قوله: * (ذلك خير) * قال أبو علي الفارسي: معنى الآية * (ولباس التقوى خير) * (الأعراف: 26) لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله تعالى مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به. قال: وأضيف اللباس إلى التقوى كما أضيف إلى الجوع في قوله: * (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) * (النحل: 112) وقوله: * (ذلك من آيات الله) * معناه من آيات الله الدالة على فضله ورحمته على عباده يعني إنزال اللباس عليهم * (لعلهم يذكرون) * فيعرفون عظيم النعمة فيه.
* (يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان كمآ أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أوليآء للذين لا يؤمنون) *.
52

اعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم وبين فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده أتبعها بأن حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان فقال: * (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) * وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده ولطف وسوسته وشدة اهتمامه إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى. فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان فقال: * (لا يفتننكم الشيطان) * فيترتب عليه أن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم، فترتب عليه خروجهما منها وأصل الفتون عرض الذهب على النار وتخليصه من الغش. ثم أتى في القرآن بمعنى المحنة وههنا بحثان:
البحث الأول: قال الكعبي: هذه الآية حجة على من نسب خروج آدم وحواء وسائر وجوه المعاصي إلى الشيطان وذلك يدل على أنه تعالى بريء منها. فيقال له لم قلتم أن كون هذا العمل منسوبا إلى الشيطان يمنع من كونه منسوبا إلى الله تعالى؟ ولم لا يجوز أن يقال إنه تعالى لما خلق القدرة والداعية الموجبتين لذلك العمل، كان منسوبا إلى الله تعالى؟ ولما أجرى عادته بأنه يخلق تلك الداعية بعد تزيين الشيطان، وتحسينه تلك الأعمال عند ذلك الكافر، كان منسوبا إلى الشيطان.
البحث الثاني: ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما أخرج آدم وحواء من الجنة، عقوبة لهما على تلك الزلة، وظاهر قوله: * (إني جعلك في الأرض خليفة) * (البقرة: 30) يدل على أنه تعالى خلقهما لخلافة الأرض وأنزلهما من الجنة إلى الأرض لهذا المقصود. فكيف الجمع بين الوجهين؟
وجواب: أنه ربما قيل حصل لمجموع الأمري، والله أعلم.
ثم قال: * (ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما) * وفيه مباحث:
البحث الأول: * (ينزع عنهما لباسهما) * حال، أي أخرجهما نازعا لباسهما وأضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يتول ذلك لأن كان بسبب منه، فأسند إليه كما تقول أنت فعلت هذا؟ لمن حصل منه ذلك الفعل بسبب. وإن لم يباشره، وكذلك لما كان نزع لباسهما بوسوسة الشيطان وغروره أسند إليه. البحث الثاني: اللام في قوله: * (ليريهما) * لام العاقبة كما ذكرنا في قوله: * (ليبدي لهما) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: يرى آدم سوأة حواء وترى حواء سوأة آدم.
البحث الثالث: اختلفوا في اللباس الذي نزع منهما فقال بعضهم إنه النور، وبعضهم التقى، وبعضهم اللباس الذي هو ثياب الجنة وهذا القول أقرب لأن إطلاق اللباس يقتضيه والمقصود
53

من هذا الكلام، تأكيد التحذير لبني آدم، لأنه لما بلغ تأثير وسوسة الشيطان في حق آدم مع جلالة قدره إلى هذا الحد فكيف يكون حال آحاد الخلق؟ ثم أكد تعالى هذا التحذير بقوله: * (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) * وفيه مباحث:
البحث الأول: * (إنه يراكم) * يعني إبليس * (هو وقبيله) * أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله: * (أسكن أنت وزوجك الجنة) * (البقرة: 35).
البحث الثاني: قال أبو عبيدة عن أبي زيد: " القبيل " الجماعة يكونون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى، وجمعه قبل. والقبيلة: بنو أب واحد. وقال ابن قتيبة، قبيله أصحابه وجنده، وقال الليث: * (هو وقبيله) * أي هو ومن كان من نسله.
البحث الثالث: قال أصحابنا: إنهم يرون الأنس لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكا والإنس لا يرونهم لأنه تعالى لم يخلق هذا الإدراك في عيون الإنس، وقالت المعتزلة: الوجه في أن الإنس لا يرون الجن، رقة أجسام الجن ولطافتها. والوجه في رؤية الجن للإنس، كثافة أجسام الإنس، والوجه في أن يرى بعض الجن بعضا، أن الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجن ويزيد فيه، ولو زاد الله في قوة أبصارنا لرأيناهم كما يرى بعضنا بعضا، ولو أنه تعالى كثف أجسامهم وبقيت أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم، فعلى هذا كون الإنس مبصرا للجن موقوف عند المعتزلة إما على زيادة كثافة أجسام الجن، أو على زيادة قوة أبصار الإنس.
البحث الرابع: قوله تعالى: * (من حيث لا ترونهم) * يدل على أن الإنس لا يرون الجن لأن قوله: * (من حيث لا ترونهم) * يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص، قال بعض العلماء ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاؤوا وأرادوا، لوجب أن ترتفع الثقة عن معرفة الناس، فلعل هذا الذي أشاهده وأحكم عليه بأنه ولدي أو زوجتي جنى صور نفسه بصورة ولدي أو زوجتي وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاص، وأيضا فلو كانوا قادرين على تخبيط الناس وإزالة العقل عنهم مع أنه تعالى بين العداوة الشديدة بينهم وبين الإنس، فلم لا يفعلون ذلك في حق أكثر البشر؟ وفي حق العلماء والأفاضل والزهاد، لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزهاد أكثر وأقوى، ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنه لا قدرة لهم على البشر بوجه من الوجوه. ويتأكد هذا بقوله: * (ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22) قال مجاهد: قال إبليس أعطينا أربع خصال: نرى ولا نرى، ونخرج من تحت الثرى، ويعود شيخنا فتى.
ثم قال تعالى: * (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) * فقد احتج أصحابنا بهذا النص على
54

أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان الرجيم عليهم حتى أضلهم وأغواهم، قال الزجاج: ويتأكد هذا النص بقوله تعالى: * (إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) * (مريم: 83) قال القاضي: معنى قوله: * (جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) * هو أنا حكمنا بأن الشيطان ولي لمن لا يؤمن، قال ومعنى قوله: * (أرسلنا الشياطين على الكافرين) * هو أنا خلينا بينهم وبينهم، كما يقال فيمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل؛ إنه أرسل عليه كلبه.
والجواب: أن القائل إذا قال: إن فلانا جعل هذا الثوب أبيض أو أسود، لم يفهم منه أنه حكم به، بل يفهم منه أنه حصل السواد أو البياض فيه، فكذلك ههنا وجب حمل الجعل على التأثير والتحصيل، لا على مجرد الحكم، وأيضا فهب أنه تعالى حكم بذلك، لكن مخالفة حكم الله تعالى توجب كونه كاذبا وهو محال، فالمفضي إلى المحال محال، فكون العبد قادرا على خلاف ذلك، وجب أن يكون محالا. وأما قوله أن قوله تعالى: * (إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) * أي خلينا بينهم وبين الكافرين فهو ضعيف أيضا، ألا ترى أن أهل السوق يؤذي بعضهم بعضا، ويشتم بعضهم بعضا، ثم إن زيدا وعمرا إذا لم يمنع بعضهم عن البعض. لا يقال أنه أرسل بعضهم على البعض، بل لفظ الإرسال إنما يصدق إذا كان تسليط بعضهم على البعض بسبب من جهته، فكذا ههنا. والله أعلم.
* (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ ءاباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشآء أتقولون على الله ما لا تعلمون) *.
اعلم أن في الناس من حمل الفحشاء على ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة وغيرهما، وفيهم من حمله على أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء، والأولى أن يحكم بالتعميم، والفحشاء عبارة عن كل معصية كبيرة، فيدخل فيه جميع الكبائر، واعلم أنه ليس المراد منه أن القرم كانوا يسلمون كون تلك الأفعال فواحش. ثم كانوا يزعمون أن الله أمرهم بها، فإن ذلك لا يقوله عاقل. بل المراد أن تلك الأشياء كانت في أنفسها فواحش، والقوم كانوا يعتقدون أنها طاعات، وإن الله أمرهم بها، ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش بأمرين.
55

أحدهما: أنا وجدنا عليها آباءنا. والثاني: أن الله أمرنا بها.
أما الحجة الأولى: فما ذكر الله عنها جوابا، لأنها إشارة إلى محض التقليد، وقد تقرر في عقل كل أحد أنه طريقة فاسدة، لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة، فلو كان التقليد طريقا حقا للزم الحكم بكون كل واحد من المتناقضين حقا ومعلوم أنه باطل، ولما كان فساد هذا الطريق ظاهرا جليا لكل أحد لم يذكر الله تعالى الجواب عنه.
وأما الحجة الثانية: وهي قولهم: * (والله أمرنا بها) * فقد أجاب عنه بقوله تعالى: * (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) * والمعنى أنه ثبت على لسان الأنبياء والرسل
كون هذه الأفعال منكرة قبيحة، فكيف يمكن القول بأن الله تعالى أمرنا بها؟ وأقول للمعتزلة أن يحتجوا بهذه الآية على أن الشيء إنما يقبح لوجه عائد إليه، ثم إنه تعالى نهى عنه لكونه مشتملا على ذلك الوجه، لأن قوله تعالى: * (إن الله لا يأمر بالفحشاء) * إشارة إلى أنه لما كان ذلك موصوفا في نفسه بكونه من الفحشاء امتنع أن يأمر الله به، وهذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه من الفحشاء مغايرا لتعلق الأمر والنهب به، وذلك يفيد المطلوب.
وجوابه: يحتمل أنه لما ثبت بالاستقراء أنه تعالى لا يأمر إلا بما يكون مصلحة للعباد، ولا ينهي إلا عما يكون مفسده لهم، فقد صح هذا التعليل لهذا المعنى. والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (أتقولون على الله ما لا تعلمون) * وفيه بحثان:
البحث الأول: المراد منه أن يقال: إنكم تقولون إن الله أمركم بهذه الأفعال المخصوصة فعلمكم بأن الله أمركم بها حصل لأنكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة، أو عرفتم ذلك بطريق الوحي إلى الأنبياء؟
أما الأول: فمعلوم الفساد بالضرورة.
وأما الثاني: فباطل على قولكم، لأنكم تنكرون نبوة الأنبياء على الإطلاق، لأن هذه المناظرة وقعت مع كفار قريش، وهم كانوا ينكرون أصل النبوة، وإذا كان الأمر كذلك، فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحكام الله تعالى، فكان قولهم أن الله أمرنا بها قولا على الله تعالى بما لا يكون معلوما. وإنه باطل.
البحث الثاني: نفاة القياس قالوا: الحكم المثبت بالقياس مظنون وغير معلوم، وما لا يكون معلوما لم يجز القول به لقوله تعالى في معرض الذم والسخرية: * (أتقولون على الله ما لا تعلمون) * وجواب مثبتي القياس عن أمثال هذه الدلالة قد ذكرناه مرارا. والله أعلم.
56

* (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم تخذوا الشياطين أوليآء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أمر الأمر بالفحشاء بين تعالى أنه يأمر بالقسط والعدل، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (أمر ربي بالقسط) * يدل على أن الشيء يكون في نفسه قسطا لوجوه: عائدة إليه في ذاته، ثم أنه تعالى يأمر به لكونه كذلك في نفسه، وذلك يدل أيضا على أن الحسن إنما يحسن لوجوه عائدة إليه، وجوابه ما سبق ذكره.
المسألة الثانية: قال عطاء، والسدي * (بالقسط) * بالعدل وبما ظهر في المعقول كونه حسنا صوابا. وقال ابن عباس: هو قول لا إله إلا الله، والدليل عليه قوله: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) * (آل عمران: 18) وذلك القسط ليس إلا شهادة أن لا إله إلا الله. فثبت أن القسط ليس إلا قول لا إله إلا الله.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء. أولها: أنه أمر بالقسط، وهو قول: لا إله إلا الله. وهو يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه، ثم على معرفة أنه واحد لا شريك له. وثانيها: أنه أمر بالصلاة وهو قوله: * (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) * وفيه مباحث:
البحث الأول: أنه لقائل أن يقول: * (أمر ربي بالقسط) * خبر وقوله: * (وأقيموا وجوهكم) * أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز. وجوابه التقدير: قل أمر ربي بالقسط. وقل: أقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين.
البحث الثاني: في الآية قولان: أحدهما: المراد بقوله: * (أقيموا) * هو استقبال القبلة. والثاني: أن المراد هو الإخلاص، والسبب في ذكر هذين القولين، أن إقامة الوجه في العبادة قد
57

تكون باستقبال القبلة، وقد تكون بالإخلاص في تلك العبادة، والأقرب هو الأول، لأن الإخلاص مذكور من بعد، ولو حملناه على معنى الإخلاص، صار كأنه قال: وأخلصوا عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين، وذلك لا يستقيم.
فإن قيل: يستقيم ذلك، إذا علقت الإخلاص بالدعاء فقط.
قلنا: لما أمكن رجوعه إليهما جميعا، لم يجز قصره على أحدهما، خصوصا مع قوله: * (مخلصين له الدين) * فإنه يعم كل ما يسمى دينا.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (عند كل مسجد) * اختلفوا في أن المراد منه زمان الصلاة أو مكانه والأقرب هو الأول، لأنه الموضع الذي يمكن فيه إقامة الوجه للقبلة، فكأنه تعالى بين لنا أن لا نعتبر الأماكن، بل نعتبر القبلة، فكان المعنى: وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقال ابن عباس: المراد إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه، ولا يقولن أحدكم، لا أصلي إلا في مسجد قومي.
ولقائل أن يقول: حمل لفظ الآية على هذا بعيد، لأن لفظ الآية يدل على وجوب إقامة الوجه في كل مسجد، ولا يدل على أنه لا يجوز له العدول من مسجد إلى مسجد.
وأما قوله: * (وادعوه مخلصين له الدين) * فاعلم أنه تعالى لما أمر في الآية الأولى بالتوجه إلى القبلة، أمر بعده بالدعاء، والأظهر عندي أن المراد به أعمال الصلاة، وسماها دعاء، لأن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء، ولأن أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر، وبين أنه يجب أن يؤتى بذلك الدعاء مع الإخلاص، ونظيره قوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * (البينة: 5) ثم قال تعالى: * (كما بدأكم تعودون) * وفيه قولان:
القول الأول: قال ابن عباس: * (كما بدأكم) * خلقكم مؤمنا أو كافرا * (تعودون) * فبعث المؤمن مؤمنا، والكافر كافرا، فإن من خلقه الله في أول الأمر للشقاوة، أعمله بعمل أهل الشقاوة، وكانت عاقبته الشقاوة، وان خلقه للسعادة أعمله بعمل أهل السعادة، وكانت عاقبته السعادة.
والقول الثاني: قال الحسن ومجاهد: * (كما بدأكم) * خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا، كذلك تعودون أحياء، فالقائلون بالقول الأول: احتجوا على صحته بأنه تعالى ذكر عقيبه قوله: * (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) * وهذا يجري مجرى التفسير لقوله: * (كما بدأكم تعودون) * وذلك يوجب ما قلناه. قال القاضي: هذا القول باطل، لأن أحدا لا يقول إنه تعالى بدأنا مؤمنين أو كافرين، لأنه لا بد في الإيمان والكفر أن يكون طارئا وهذا السؤال ضعيف، لأن جوابه أن
58

يقال: كما بدأكم بالإيمان، والكفر، والسعادة، والشقاوة، فكذلك يكون الحال عليه يوم القيامة. واعلم أنه تعالى أمر في الآية أولا بكلمة " القسط " وهي كلمة لا إله إلا الله، ثم أمر بالصلاة ثانيا، ثم بين أن الفائدة في الإتيان بهذه الأعمال، إنما تظهر في الدار الآخرة، ونظيره قوله عالي في " طه " لموسى عليه السلام: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها) * (طه: 14، 15).
ثم قال تعالى: * (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) * وفيه بحثان:
البحث الأول: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله تعالى. قالت المعتزلة: المراد فريقا هدى إلى الجنة والثواب، وفريقا حق عليهم الضلالة، أي العذاب والصرف عن طريق الثواب. قال القاضي: لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيرهم، إذ العبد لا يستحق، لأن يضل عن الدين، إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين، كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة، وفي ذلك زوال الثقة بالنبوات.
واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين: الأول: أن قوله: * (فريقا هدى) * إشارة إلى الماضي وعلى التأويل الذي يذكرونه يصير المعنى إلى أنه تعالى سيهديهم في المستقبل، ولو كان المراد أنه تعالى حكم في الماضي بأنه سيهديهم إلى الجنة، كان هذا عدولا عن الظاهر من غير حاجة، لأنا بينا بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى. والثاني: نقول هب أن المراد من الهداية والضلال حكم الله تعالى بذلك، إلا أنه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره، وإلا لزم انقلاب ذلك الحكم كذبا، والكذب على الله محال، والمفضي إلى المحال محال، فكان صدور غير ذلك الفعل من العبد محالا، وذلك يوجب فساد مذهب المعتزلة من هذا الوجه. والله أعلم.
البحث الثاني: انتصاب قوله: * (وفريقا حق عليهم الضلالة) * بفعل يفسره ما بعده، كأنه قيل: وخذل فريقا حق عليهم الضلالة، ثم بين تعالى أن الذي لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة، هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله فقبلوا ما دعوهم إليه، ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا التفصيل مع قولكم، بأن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء. فنقول: عندنا مجموع القدرة، والداعي يوجب الفعل، والداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل، هي: أنهم اتخذوا الشيطان أولياء من دون الله.
ثم قال تعالى: * (ويحسبون أنهم مهتدون) * قال ابن عباس: يريد ما بين لهم عمرو بن لحي، وهذا بعيد
59

بل هو محمول على عمومه، فكل من شرع في باطل، فهو يستحق الذم والعذاب سواء حسب كونه حقا، أو لم يحسب ذلك، وهذا الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين، بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين، لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين، ولولا أن هذا الحسبان مذموم، وإلا لما ذمهم بذلك. والله أعلم.
* (يا بنى ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين * قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين ءامنوا فى الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) *.
اعلم أن الله تعالى لما أمر بالقسط في الآية الأولى، وكان من جملة القسط أمر اللباس وأمر المأكول والمشروب، لا جرم أتبعه بذكرهما، وأيضا لما أمر بإقامة الصلاة في قوله: * (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) * (الأعراف: 29) وكان ستر العورة شرطا لصحة الصلاة. لا جرم أتبعه بذكر اللباس وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: أن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة. الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى، طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، ومنهم من يقول: نفعل ذلك تفاؤلا حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب، وكانت المرأة منهم تتخذ سترا تعلقه على حقويها، لتستتر به عن الحمس، وهم قريش، فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك، وكانوا يصلون في ثيابهم، ولا يأكلون من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما، فقال المسلمون: يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي: " البسوا ثيابكم وكلوا اللحم والدسم واشربوا ولا تسرفوا ".
المسألة الثانية: المراد من الزينة لبس الثياب، والدليل عليه. قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن) * (النور: 31)
60

يعني الثياب، وأيضا فالزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات، ولذلك صار التزيين بأجود الثياب في الجمع والأعياد سنة، وأيضا أنه تعالى قال في الآية المتقدمة: * (قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا) * فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة، ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية فوجب حمل هذه الزينة على ستر العورة، وأيضا فقد أجمع المفسرون على أن المراد بالزينة ههنا لبس الثوب الذي يستر العورة، وأيضا فقوله: * (خذوا زينتكم) * أمر. والأمر للوجوب، فثبت أن أخذ الزينة واجب، وكل ما سوى اللبس فغير واجب، فوجب حمل الزينة على اللبس عملا بالنص بقدر الإمكان.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (خذوا زينتكم) * أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فهذا يدل على وجوب ستر العورة عنه إقامة كل صلاة، وههنا سؤالان:
السؤال الأول: إنه تعالى عطف عليه قوله: * (وكلوا واشربوا) * ولا شك أن ذلك أمر إباحة فوجب أن يكون قوله: * (خذوا زينتكم) * أمر إباحة أيضا.
وجوابه: أنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه، وأيضا فالأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضا في الحكم.
السؤال الثاني: أن هذه الآية نزلت في المنع من الطواف حال العري.
والجواب: أنا بينا في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * يقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة لأن اللبس التام هو الزينة. ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء، إجماعا، فبقي الباقي داخلا تحت اللفظ، وإذا ثبت أن ستر العورة واجب في الصلاة، وجب أن تفسد الصلاة عند تركه، لأن تركه يوجب ترك المأمور به، وترك المأمور به معصية، والمعصية توجب العقاب على ما شرحنا هذه الطريقة في الأصول.
المسألة الثالثة: تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في مسألة إزالة النجاسة بماء الورد. فقالوا: أمرنا بالصلاة في قوله: * (أقيموا الصلاة) * (يونس: 87) والصلاة عبارة عن الدعاء، وقد أتى بها، والإتيان بالمأمور به يوجب الخروج عن العهدة، فمقتضى هذا الدليل أن لا تتوقف صحة الصلاة على ستر العورة، إلا أنا أوجبنا هذا المعنى عملا بقوله تعالى: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * ولبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ الزينة، فوجب أن يكون كافيا
61

في صحة الصلاة.
وجوابنا: أن الألف واللام في قوله: * (أقيموا الصلاة) * ينصرفان إلى المعهود السابق، وذلك هو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، لم قلتم أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى في الثوب المغسول بماء الورد؟ والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وكلوا واشربوا) * فاعلم أنا ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من الطعام في أيام حجهم إلا القليل، وكانوا لا يأكلون الدسم، يعظمون بذلك حجهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان فساد تلك الطريقة.
والقول الثاني: أنهم كانوا يقولون أن الله تعالى حرم عليهم شيئا مما في بطون الأنعام فحرم عليهم البحيرة والسائبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لفساد قولهم في هذا الباب.
واعلم أن قوله: * (وكلوا واشربوا) * مطلق يتناول الأوقات والأحوال، ويتناول جميع المطعومات والمشروبات، فوجب أن يكون الأصل فيها هو الحل في كل الأوقات، وفي كل المطعومات والمشروبات إلا ما خصه الدليل المنفصل، والعقل أيضا مؤكد له، لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة.
وأما قوله تعالى: * (ولا تسرفوا) * ففيه قولان:
القول الأول: أن يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام، ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقدارا كثيرا يضره ولا يحتاج إليه.
والقول الثاني: وهو قول أبي بكر الأصم: أن المراد من الإسراف، قولهم بتحريم البحيرة والسائبة، فإنهم أخرجوها عن ملكهم، وتركوا الانتفاع بها، وأيضا أنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج أيضا أشياء أحلها الله تعالى لهم، وذلك إسراف.
واعلم أن حمل لفظ الإسراف على الاستكثار، مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع من لا يجوز وينبغي. ثم قال تعالى: * (إنه لا يحب المسرفين) * وهذا نهاية التهديد، لأن كل ما لا يحبه الله تعالى بقي محروما عن الثواب، لأن معنى محبة الله تعالى العبد إيصاله الثواب إليه، فعدم هذه المحبة عبارة عن عدم حصول الثواب، ومتى لم يحصل الثواب، فقد حصل العقاب، لانعقاد الإجماع على أنه ليس في الوجود مكلف، لا يثاب ولا يعاقب.
ثم قال تعالى: * (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) * وفيه مسائل:
62

المسألة الأولى: أن هذه الآية ظاهرها استفهام، إلا أن المراد منه تقرير الإنكار، والمبالغة في تقرير ذلك الإنكار، وفي الآية قولان:
القول الأول: أن المراد من الزينة في هذه الآية اللباس الذي تستر به العورة، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وكثير من المفسرين.
والقول الثاني: أنه يتناول جميع أنواع الزينة، فيدخل تحت الزينة جميع أنواع التزيين، ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه، ويدخل تحتها المركوب، ويدخل تحتها أيضا أنواع الحلي، لأن كل ذلك زينة، ولولا النص الوارد في تحريم الذهب والفضة والإبريسم على الرجال لكان ذلك داخلا تحت هذا العموم، ويدخل تحت الطيبات من الرزق، كل ما يستلذ ويشتهي من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخل أيضا تحته التمتع بالنساء وبالطيب. وروي عن عثمان بن مظعون: أنه أتى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: غلبني حديث النفس، عزمت على أن أختصي، فقال: " مهلا يا عثمان إن خصاء أمتي الصيام " قال: فإن نفسي تحدثني بالترهب. قال: " إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلاة فقال: تحدثني نفسي بالسياحة ". فقال: " سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة " فقال: إن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك، فقال: " الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم اليتيم والمسكين فتعطيه أفضل من ذلك " فقال: إن نفسي تحدثني أن أطلق خولة فقال: " إن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله " قال: فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها. قال: " إن المسلم إذا غشى أهله أو ما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولدا كان له وصيف في الجنة وإذا كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعا ورحمة يوم القيامة " قال: فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم قال: " مهلا إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله " قال: فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب. قال: " مهلا فإن جبريل أمرني بالطيب غبا وقال لا تتركه يوم الجمعة " ثم قال: " يا عثمان لا ترغب عن سنتي فإن من رغب عن سنتي ومات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي ".
واعلم أن هذا الحديث يدل على أن هذه الشريعة الكاملة تدل على أن جميع أنواع الزينة مباح مأذون فيه، إلا ما خصه الدليل، فلهذا السبب أدخلنا الكل تحت قوله: * (قل من حرم زينة الله) *.
المسألة الثانية: مقتضى هذه الآية أن كل ما تزين الإنسان به، وجب أن يكون حلالا، وكذلك كل ما يستطاب وجب أن يكون حلالا، فهذه الآية تقتضي حل كل المنافع، وهذا أصل معتبر في كل الشريعة، لأن كل واقعة تقع، فإما أن يكون النفع فيها خالصا، أو راجحا أو الضرر يكون
63

خالصا أو راجحا، أو يتساوى الضرر والنفع، أو يرتفعا. أما القسمان الأخيران، وهو أن يتعادل الضرر والنفع، أو لم يوجدا قط ففي هاتين الصورتين، وجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، وإن كان النفع خالصا، وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية، وإن كان النفع راجحا والضرر مرجوحا يقابل المثل بالمثل، ويبقى القدر الزائد نفعا خالصا، فيلتحق بالقسم الذي يكون النفع فيه خالصا، وإن كان الضرر خالصا، كان تركه خالص النفع، فيلتحق بالقسم المتقدم، وإن كان الضرر راجحا بقي القدر الزائد ضررا خالصا، فكان تركه نفعا خالصا، فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة، ثم إن وجدنا نصا خالصا في الواقعة، قضينا في النفع بالحل، وفي الضرر بالحرمة، وبهذا الطريق صار جميع الأحكام التي لا نهاية لها داخلا تحت النص ثم قال نفاة القياس. فلو تعبدنا الله تعالى بالقياس، لكان حكم ذلك القياس. إما أن يكون موافقا لحكم هذا النص العام، وحينئذ يكون ضائعا، لأن هذا النص مستقل به. وإن كان مخالفا كان ذلك القياس مخصصا لعموم هذا النص، فيكون مردودا لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس. قالوا: وبهذا الطريق يكون القرآن وحده وافيا ببيان كل أحكام الشريعة، ولا حاجة معه إلى طريق آخر، فهذا تقرير قول من يقول: القرآن واف ببيان جميع الوقائع. والله أعلم.
وأما قوله تعالى: * (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: تفسير الآية هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم، لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد.
فإن قيل: هلا قيل للذين آمنوا ولغيرهم؟
قلنا: فهم منه التنبيه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأن الكفرة تبع لهم، كقوله تعالى: * (ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار) * (البقرة: 126) والحاصل: أن ذلك تنبيه على أن هذه النعم إنما تصفوا عن شوائب الرحمة يوم القيامة. أما في الدنيا. فإنها تكون مكدرة مشوبة.
المسألة الثانية: قرأ نافع * (خالصة) * بالرفع والباقون بالنصب، قال الزجاج: الرفع على أنه خبر بعد خبر، كما تقول: زيد عاقل لبيب، والمعنى: قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة. قال أبو علي: ويجوز أن يكون قوله: * (خالصة) * خبر المبتدأ وقوله: * (للذين آمنوا) * متعلقا بخالصة. والتقدير: هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا. وأما القراءة بالنصب، فعلى الحال. والمعنى: أنها ثابتة للذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يوم القيامة.
64

ثم قال تعالى: * (كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) * ومعنى تفصيل الآيات قد سبق وقوله: * (لقوم يعلمون) * أي لقوم يمكنهم النظر به والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية، والله أعلم.
* (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *.
في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: أسكن حمزة الياء من * (ربي) * والباقون فتحوها.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذي حرموه ليس بحرام بين في هذه الآية أنواع المحرمات، فحرم أولا الفواحش، وثانيا الإثم، واختلفوا في الفرق بينهما على وجوه: الأول: أن الفواحش عبارة عن الكبائر، لأنه قد تفاحش قبحها أي تزايد والإثم عبارة عن الصغائر فكان معنى الآية: أنه حرم الكبائر والصغائر، وطعن القاضي فيه، فقال هذا يقتضي أن يقال: الزنا، والسرقة، والكفر ليس بإثم. وهو بعيد.
القول الثاني: أن الفاحشة اسم لا يجب فيه الحد، والإثم اسم لما يجب فيه الحد، وهذا وإن كان مغايرا للأول إلا أنه قريب منه، والسؤال فيه ما تقدم.
والقول الثالث: أن الفاحشة اسم للكبيرة، والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيرا أو صغيرا. والفائدة فيه: أنه تعالى لما حرم الكبيرة أردفها بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم أن التحريم مقصود على الكبيرة. وعلى هذا القول اختيار القاضي.
والقول الرابع: أن الفاحشة وإن كانت بحسب أصل اللغة اسما لكل ما تفاحش وتزايد في أمر من الأمور، إلا أنه في العرف مخصوص بالزيادة. والدليل عليه أنه تعالى قال في الزنا: * (إنه كان فاحشة) * (النساء: 22) ولأن لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلا ذلك، وإذا قيل فلان فحاش: فهم أنه يشتم الناس بألفاظ الوقاع، فوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا فقط.
65

إذا ثبت هذا فنقول: في قوله: * (ما ظهر منها وما بطن) * على هذا التفسير وجهان: الأول: يريد سر الزنا، وهو الذي يقع على سبيل العشق والمحبة، وما ظهر منها بأن يقع علانية. والثاني: أن يراد بما ظهر من الزنا الملامسة والمعانقة * (وما بطن) * الدخول. وأما الإثم فيجب تخصيصه بالخمر، لأنه تعالى قال في صفة الخمر: * (وإثمهما أكبر من نفعهما) * (البقرة: 219) وبهذا التقدير: فإنه يظهر الفرق بين اللفظين.
النوع الثالث: من المحرمات قوله: * (والبغي بغير الحق) * فنقول: أما الذين قالوا: المراد بالفواحش جميع الكبائر، وبالإثم جميع الذنوب. قالوا: إن البغي والشرك لا بد وأن يكونا داخلين تحت الفواحش وتحت الإثم، إلا أن الله تعالى خصهما بالذكر تنبيها على أنهما أقبح أنواع الذنوب، كما في قوله: * (وملائكته ورسله
وجبريل وميكال) * (البقرة: 98) وفي قوله: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) * (الأحزاب: 7) ومنك ومن نوح، وأما الذين قالوا الفاحشة مخصوصة بالزنا والإثم بالخمر، قالوا: البغي والشرك على هذا التقرير غير داخلين تحت الفواحش والإثم. فنقول: البغي لا يستعمل إلا في الإقدام على الغير نفسا، أو مالا، أو عرضا، وأيضا قد يراد بالبغي الخروج على سلطان الوقت.
فإن قيل: البغي لا يكون إلا بغير الحق، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط.
قلنا أنه مثل قوله تعالى: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * (الإسراء: 33) والمعنى: لا تقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر، إلا أن يكون لكم فيه حق، فحينئذ يخرج من أن يكون بغيا.
والنوع الرابع: من المحرمات قوله تعالى: * (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) * وفيه سؤال: وهو أن هذا يوهم أن في الشرك بالله ما قد أنزل به سلطانا، وجوابه: المراد منه أن الإقرار بالشيء الذي ليس على ثبوته حجة، ولا سلطان ممتنع، فلما امتنع حصول الحجة والتنبيه على صحة القول بالشرك، فوجب أن يكون القول به باطلا على الإطلاق، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل.
والنوع الخامس: من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * وقد سبق تفسير هذه الآية في هذه السورة عند قوله: * (إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) * (الأعراف: 28) وبقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: كلمة " إنما " تفيد الحصر، فقوله: * (إنما حرم ربي) * كذا وكذا يفيد الحصر، والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء.
والجواب: إن قلنا الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر، والإثم على مطلق الذنب دخل كل
66

الذنوب فيه، وإن حملنا الفاحشة على الزنا، والإثم على الخمر.
قلنا: الجنايات محصورة في خمسة أنواع: أحدها: الجنايات على الأنساب، وهي إنما تحصل بالزنا، وهي المراد بقوله: * (إنما حرم ربي الفواحش) * وثانيها: الجنايات على العقول، وهي شرب الخمر، وإليها الإشارة بقوله: * (الإثم) * وثالثها: الجنايات على الأعراض. ورابعها: الجنايات على النفوس وعلى الأموال، وإليهما الإشارة بقوله: * (والبغي بغير الحق) * وخامسها: الجنايات على الأديان وهي من وجهين: أحدها: الطعن في توحيد الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله: * (وأن تشركوا بالله) * وثانيها: القول في دين الله من غير معرفة، وإليه الإشارة بقوله: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء، وكانت البواقي كالفروع والتوابع، لا جرم جعل تعالى ذكرها جاريا مجرى ذكر الكل، فأدخل فيها كلمة " إنما " المفيدة للحصر.
السؤال الثاني: الفاحشة والإثم هو الذي نهى الله عنه، فصار تقدير الآية: إنما حرم ربي المحرمات، وهو كلام خال عن الفائدة. والجواب كون الفعل فاحشة هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه، وعلى هذا التقدير: فيسقط السؤال، والله أعلم.
* (ولكل أمة أجل فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما بين الحلال والحرام وأحوال التكليف، بين أن لكل أحد أجلا معينا لا يتقدم ولا يتأخر، وإذا جاء ذلك الأجل مات لا محالة، والغرض منه التخويف ليتشدد المرء في القيام بالتكاليف كما ينبغي.
المسألة الثانية: اعلم أن الأجل، هو الوقت الموقت المضروب لانقضاء المهلة، وفي هذه الآية قولان:
القول الأول: وهو قول ابن عباس، والحسن ومقاتل أن المعنى أن الله تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين، وهو تعالى لا يعذبهم إلى أن ينظروا ذلك الوقت الذي يصيرون فيه مستحقين لعذاب الاستئصال، فإذا جاء ذلك الوقت نزل ذلك العذاب لا محالة.
والقول الثاني: أن المراد بهذا الأجل العمر، فإذا انقطع ذلك الأجل وكمل امتنع وقوع التقديم والتأخير فيه، والقول الأول: أولى، لأنه تعالى قال: * (ولكل أمة) * ولم يقل ولكل أحد أجل
67

وعلى القول الثاني: إنما قال: * (ولكل أمة) * ولم يقل لكل أحد لأن الأمة هي الجماعة في كل زمان، ومعلوم من حالها التقارب في الأجل، لأن ذكر الأمة فيما يجري مجرى الوعيد أفحم، وأيضا فالقول الأول: يقتضي أن يكون لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال عليهم وليس الأمر كذلك لأن أمتنا ليست كذلك.
المسألة الثالثة: إذا حملنا الآية على القول الثاني: لزم أن يكون لكل أحد أجل، لا يقع فيه التقديم والتأخير فيكون المقتول ميتا بأجله، وليس المراد منه أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك، ولا أنقص، ولا يقدر على أن يميته في ذلك الوقت لأن هذا يقتضي خروجه تعالى عن كونه قادرا مختارا، وصيرورته كالموجب لذاته، وذلك في حق الله تعالى ممتنع بل المراد أنه تعالى أخبر أن الأمر يقع على هذا الوجه.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * المراد أنه لا يتأخر عن ذلك الأجل المعين لا بساعة ولا بما هو أقل من ساعة إلا أنه تعالى ذكر الساعة لأن هذا اللفظ أقل أسماء الأوقات.
فإن قيل: ما معنى قوله: * (ولا يستقدمون) * فإن عند حضور الأجل امتنع عقلا وقوع ذلك الأجل في الوقت المتقدم عليه.
قلنا: يحمل قوله: * (فإذا جاء أجلهم) * على قرب حضور الأجل. تقول العرب: جاء الشتاء، إذا قارب وقته، ومع مقاربة الأجل يصح التقدم على ذلك تارة والتأخر عنه أخرى.
* (يا بنى آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم ءاياتى فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنهآ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أحوال التكليف وبين أن لكل أحد أجلا معينا لا يتقدم ولا يتأخر بين أنهم بعد الموت كانوا مطيعين فلا خوف عليهم ولا حزن وإن كانوا متمردين وقعوا في أشد العذاب وقوله: * (إما يأتينكم) * هي أن الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط ولذلك لزمت فعلها النون
68

الثقيلة وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء، وهو قوله: * (فمن أتقى وأصلح) * وإنما قال رسل وإن كان خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليه وعليهم السلام لأنه تعالى أجرى الكلام على ما يقتضيه سنته في الأمم وإنما قال: * (منكم) * لأن كون الرسول منهم أقطع لعذرهم وأبين للحجة عليهم من جهات: أحدها: أن معرفتهم بأحواله وبطهارته تكون متقدمة. وثانيها: أن معرفتهم بما يليق بقدرته تكون متقدمة فلا جرم لا يقع في المعجزات التي تظهر عليه شك وشبهة في أنها حصلت بقدرة الله تعالى لا بقدرته فلهذا السبب قال تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * (الأنعام: 9). وثالثها: ما يحصل من الألفة وسكون القلب إلى أبناء الجنس، بخلاف ما لا يكون من الجنس، فإنه لا يحصل معه الألفة.
وأما قوله: * (يقصون عليم آياتي) * فقيل تلك الآيات هي القرآن. وقيل الدلائل، وقيل الأحكام والشرائع والأولى دخول الكل فيه، لأن جميع هذه الأشياء آيات الله تعالى لأن الرسل إذا جاؤوا فلا بد وأن يذكروا جميع هذه الأقسام، ثم قسم تعالى حال الأمة فقال: * (فمن أتقى وأصلح) * وجمع هاتين الحالتين مما يوجب الثواب لأن الملتقي هو الذي يتقي كل ما نهى الله تعالى عنه، ودخل في قوله: * (وأصلح) * أنه أتي بكل ما أمر به.
ثم قال تعالى في صفته: * (فلا خوف عليهم) * أي بسبب الأحوال المستقبلة * (ولا هم يحزنون) * أي بسبب الأحوال الماضية لأن الإنسان إذا جوز وصول المضرة إليه في الزمان المستقبل خاف وإذا تفكر فعلم أنه وصل إليه بعض ما لا ينبغي في الزمان الماضي، حصل الحزن في قلبه، لهذا السبب والأولى في نفي الحزن أن يكون المراد أن لا يحزن على ما فاته في الدنيا، لأن حزنه على عقاب الآخرة يجب أن يرتفع بما حصل له من زوال الخوف، فيكون كالمعاد وحمله على الفائدة الزائدة أولى فبين تعالى أن حاله في الآخرة تفارق حاله في الدنيا، فإنه في الآخرة لا يحصل في قلبه خوف ولا حزن البتة، واختلف العلماء في أن المؤمنين من أهل الطاعات هل يلحقهم خوف، وحزن عند أهوال يوم القيامة. فذهب بعضهم إلا أنه لا يلحقهم ذلك، والدليل عليه هذه الآية، وأيضا قوله تعالى: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * (الأنبياء: 103) وذهب بعضهم إلى أن يلحقهم ذلك الفزع لقوله تعالى: * (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) * (الحج: 2) أي من شدة الخوف.
وأجاب: هؤلاء عن هذه الآية: بأن معناه أن أمرهم يؤول إلى الأمن والسرور، كقول الطبيب للمريض: لا بأس عليك، أي أمرك يؤول إلى العافية والسلامة، وإن كان في الوقت في بأس من
69

علته، ثم بين تعالى أن الذين كذبوا بهذه الآيات التي يجيء بها الرسل * (واستكبروا) * أن أنفوا من قبولها وتمردوا عن التزامها * (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * وقد تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة، لا يبقى مخلدا في النار، لأنه تعالى بين أن المكذبين بآيات الله والمستكبرين عن قبولها، هم الذين يبقون مخلدين في النار، وكلمة * (هم) * تفيد الحصر، فذلك يقتضي أن من لا يكون موصوفا بذلك التكذيب والاستكبار، لا يبقى مخلدا في النار. والله أعلم.
* (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جآءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) *.
اعلم أن قوله تعالى: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته) * يرجع إلى قوله والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها وقوله: * (فمن أظلم) * أي فمن أعظم ظلما ممن يقول على الله ما لم يقله أو كذب ما قاله. والأول: هو الحكم بوجود ما لم يوجد. والثاني: هو الحكم بإنكار ما وجد. والأول دخل فيه قول من أثبت الشريك لله سواء كان ذلك الشريك عبارة عن الأصنام أو عن الكواكب أو عن مذهب القائلين بيزدان وأهرمن. ويدخل فيه قول من أثبت البنات والبنين لله تعالى، ويدخل فيه قول من أضاف الأحكام الباطلة إلى الله تعالى. والثاني: يدخل فيه قول من أنكر كون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى. وقول من أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: * (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) * واختلفوا في المراد بذلك النصيب على قولين: أحدهما: أن المراد منه العذاب، والمعنى ينالهم ذلك العذاب المعين الذي جعله نصيبا لهم في الكتاب، ثم اختلفوا في ذلك العذاب المعين. فقال بعضهم هو سواد الوجه وزرقة العين، والدليل عليه قوله تعالى: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) * (الزمر: 60) وقال الزجاج:
70

هو المذكور في قوله تعالى: * (فأنذرتكم نارا تلظى) * (الليل: 14) وفي قوله: * (يسلكه عذابا صعدا) * (الجن: 17) وفي قوله: * (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل) * (غافر: 71) فهذه الأشياء هي نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم. والقول الثاني: أن المراد من هذا النصيب شيء سوى العذاب، واختلفوا فيه فقيل: هم اليهود والنصارى يجب لهم علينا إذا كانوا أهل ذمة لنا أن لا تتعدى عليهم وأن ننصفهم وأن نذب عنهم فذلك هو معنى النصيب من الكتاب وقال ابن
عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب. أي ما سبق لهم في حكم الله وفي مشيئته من الشقاوة والسعادة، فإن قضى الله لهم بالختم على الشقاوة، أبقاهم على كفرهم، وإن قضى لهم بالختم على السعادة نقلهم إلى الإيمان والتوحيد، وقال الربيع وابن زيد. يعني: ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار، فإذا فنيت وانقرضت وفرغوا منها * (جاءتهم رسلنا يتوفونهم) * واعلم أن هذا الاختلاف إنما حصل، لأنه تعالى قال: * (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) * ولفظ " النصيب " مجمل محتمل لكل الوجوه المذكورة. وقال بعض المحققين: حمله على العمر والرزق أولى، لأنه تعالى بين أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم، إلا أن ذلك ليس بمانع من أن ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر تفضلا من الله تعالى، لكي يصلحوا ويتوبوا، وأيضا فقوله: * (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم) * يدل على أن مجيء الرسل للتوفي، كالغاية لحصول ذلك النصيب، فوجب أن يكون حصول ذلك النصيب متقدما على حصول الوفاة، والمتقدم على حصول الوفاة، ليس إلا العمر والرزق.
أما قوله: * (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أينما كنتم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الخليل وسيبويه: لا يجوز إمالة " حتى " و " ألا " و " أما " وهذه ألفات ألزمت الفتح، لأنها أواخر حروف جاءت لمعان يفصل بينها وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف، نحو: حبلى وهدى. إلا أن * (حتى) * كتبت بالياء لأنها على أربعة أحرف فأشبهت سكرى. وقال بعض النحويين: لا يجوز إمالة * (حتى) * لأنها حرف لا يتصرف، والإمالة ضرب من التصرف.
المسألة الثانية: قوله: * (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم) * فيه قولان:
القول الأول: المراد هو قبض الأرواح، لأن لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى. قال ابن عباس الموت قيامة الكافر، فالملائكة يطالبونهم بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزجر والتوبيخ والتهديد، وهؤلاء الرسل هم ملك الموت وأعوانه.
والقول الثاني: وهو قول الحسن، وأحد قولي الزجاج أن هذا لا يكون في الآخرة ومعنى قوله: * (حتى إذا جاءتهم رسلنا) * أي ملائكة العذاب * (يتوفونهم) * أي يتوفون مدتهم عند حشرهم إلى
71

النار على معنى أنهم يستكملون عدتهم، حتى لا ينفلت منهم أحد.
المسألة الثالثة: قوله: * (أينما كنتم) * معناه. أين الشركاء الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم من دون الله: ولفظة " ما " وقعت موصولة بأين في خط المصحف. قال صاحب " الكشاف ": وكان حقها أن تفصل، لأنها موصولة بمعنى: أين الآلهة الذين تدعون.
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: * (ضلوا عنا) * أي بطلوا وذهبوا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين عند معاينة الموت.
واعلم أن على جميع الوجوه، فالمقصود من الآية زجر الكفار عن الكفر، لأن التهويل يذكر هذه الأحوال مما يحمل العاقل على المبالغة في النظر والاستدلال والتشدد في الاحتراز عن التقليد.
* (قال ادخلوا فى أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس فى النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لاولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون * وقالت أولاهم لاخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) *.
اعلم أن هذه الآية من بقية شرح أحوال الكفار وهو أنه تعالى يدخلهم النار.
أما قوله تعالى: * (قال ادخلوا) * ففيه قولان: الأول: إن الله تعالى يقول ذلك. والثاني: قال مقاتل: هو من كلام خازن النار، وهذا الاختلاف بناء على أنه تعالى هل يتكلم مع الكفار أم لا، وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء.
72

أما قوله تعالى: * (ادخلوا في أمم) * ففيه وجهان:
الوجه الأول: التقدير: ادخلوا في النار مع أمم، وعلى هذا القول ففي الآية إضمار ومجاز أما الإضمار فلأنا أضمرنا فيها قولنا: في النار. وأما المجاز، فلأنا حملنا كلمة " في " على " مع " لأنا قلنا معنى قوله: * (في أمم) * أي مع أمم.
والوجه الثاني: أن لا يلتزم الإضمار ولا يلتزم المجاز، والتقدير: ادخلوا في أمم في النار، ومعنى الدخول في الأمم، الدخول فيما بينهم وقوله: * (قد خلت من قبلكم من الجن والإنس) * أي تقدم زمانهم زمانكم، وهذا يشعر بأنه تعالى لا يدخل الكفار بأجمعهم في النار دفعة واحدة، بل يدخل الفوج بعد الفوج، فيكون فيهم سابق ومسبوق، ليصح هذا القول، ويشاهد الداخل من الأمة في النار من سبقها وقوله: * (كلما دخلت أمة لعنت أختها) * والمقصود أن أهل النار يلعن بعضهم بعضا فيتبرأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * (الزخرف: 67) والمراد بقوله: * (أختها) * أي في الدين، والمعنى: أن المشركين يلعنون المشركين، وكذلك اليهود، تلعن اليهود، والنصارى النصارى، وكذا القول في المجوس، والصابئة وسائر أديان الضلالة. وقوله: * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا) * أي تداركوا، بمعنى تلاحقوا، واجتمعوا في النار، وأدرك بعضهم بعضا، واستقر معه * (قالت أولاهم لأخراهم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسير الأولى والأخرى قولان: الأول: قال مقاتل أخراهم يعني آخرهم دخولا في النار، لأولاهم دخولا فيها. والثاني: أخراهم منزلة، وهم الأتباع والسفلة، لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء.
المسألة الثانية: " اللام " في قوله: * (لأخراهم) * لام أجل، والمعنى: لأجلهم ولإضلالهم إياهم * (قالوا ربنا هؤلاء أضلونا) * (الأعراف: 38) وليس المراد
أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم، لأنهم ما خاطبوا أولاهم، وإنما خاطبوا الله تعالى بهذا الكلام.
أما قوله تعالى: * (ربنا هؤلاء أضلونا) * فالمعنى: أن الأتباع يقولون إن المتقدمين أضلونا، واعلم أن هذا الإضلال يقع من المتقدمين للمتأخرين على وجهين: أحدهما: بالدعوة إلى الباطل، وتزيينه في أعينهم، والسعي في إخفاء الدلائل المبطلة لتلك الأباطيل.
والوجه الثاني: بأن يكون المتأخرون معظمين لأولئك المتقدمين، فيقلدونهم في تلك الأباطيل والأضاليل التي لفقوها ويتأسون بهم، فيصير ذلك تشبيها بإقدام أولئك المتقدمين على الإضلال.
73

ثم حكى الله تعالى عن هؤلاء المتأخرين أنهم يدعون على أولئك المتقدمين بمزيد العذاب وهو قوله: * (فآتهم عذابا ضعفا من النار) * وفي الضعف، قولان:
القول الأول: قال أبو عبيدة " الضعف " هو مثل الشيء مرة واحدة. وقال الشافعي رحمه الله: ما يقارب هذا، فقال في رجل أوصى. فقال أعطوا فلانا ضعف نصيب ولدي. قال: يعطي مثله مرتين.
والقول الثاني: قال الأزهري: " الضعف " في كلام العرب المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين، وجائز في كلام العرب أن تقول: هذا ضعفه، أي مثلاه وثلاثة أمثاله، لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، والدليل عليه: قوله تعالى: * (فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) * (سبأ: 37) ولم يرد به مثلا ولا مثلين، بل أولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله، لقوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (الأنعام: 160) فثبت أن أقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور إلى ما لا نهاية له.
وأما مسألة الشافعي رحمه الله: فاعلم أن التركة متعلقة بحقوق الورثة، إلا أنا لأجل الوصية صرفنا طائفة منها إلى الموصى له، والقدر المتيقن في الوصية هو المثل، والباقي مشكوك، فلا جرم أخذنا المتيقن وطرحنا المشكوك، فلهذا السبب حملنا الضعف في تلك المسألة على المثلين.
أما قوله تعالى: * (قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ أبو بكر عن عاصم * (يعلمون) * بالياء على الكناية عن الغائب، والمعنى: ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر، فيحمل الكلام على كل، لأنه وإن كان للمخاطبين فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة، فحمل على اللفظ دون المعنى، وأما الباقون فقرؤوا بالتاء على الخطاب والمعنى: ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون، ما لكل فريق منكم من العذاب، ويجوز ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إن كان المراد من قوله: * (لكل ضعف) * أي حصل لكل أحد من العذاب ضعف ما يستحقه، فذلك غير جائز لأنه ظلم، وإن لم يكن المراد ذلك، فما معنى كونه ضعفا؟
والجواب: أن عذاب الكفار يزيد، فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدة لا إلى آخر، ثم بين تعالى أن أخراهم كما خاطبت أولاهم، فكذلك تجيب أولاهم أخراهم، فقال: * (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل) * أي في ترك الكفر والضلال، وإنا متشاركون في استحقاق العذاب.
74

ولقائل أن يقول: هذا منهم كذب، لأنهم لكونهم رؤساء وسادة وقادة، قد دعوا إلى الكفر وبالغوا في الترغيب فيه، فكانوا ضالين ومضلين، وأما الأتباع والسفلة، فهم وإن كانوا ضالين، إلا أنهم ما كانوا مضلين، فبطل قولهم أنه لا فضل للأتباع على الرؤساء في ترك الضلال والكفر.
وجوابه: أن أقصى ما في الباب أن الكفار كذبوا في هذا القول يوم القيامة، وعندنا أن ذلك جائز، وقد قررناه في سورة الأنعام في قوله: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23).
أما قوله: * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) * فهذا يحتمل أن يكون من كلام القادة، وإن يكون من قول الله تعالى لهم جميعا.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام التخويف والزجر، لأنه تعالى لما أخبر عن الرؤساء والأتباع أن بعضهم يتبرأ عن بعض، ويلعن بعضهم بعضا، كان ذلك سببا لوقوع الخوف الشديد في القلب.
* (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السمآء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل فى سم الخياط وكذلك نجزى المجرمين * لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزى الظالمين) *.
اعلم أن المقصود منه إتمام الكلام في وعيد الكفار، وذلك لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة * (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * (الأعراف: 36) ثم شرح تعالى في هذه الآية كيفية ذلك الخلود في حق أولئك المكذبين المستكبرين بقوله: * (كذبوا بآياتنا) * أي بالدلائل الدالة على المسائل التي هي أصول الدين، فالدهرية ينكرون دلائل إثبات الذات والصفات، والمشركون ينكرون دلائل التوحيد، ومنكرو النبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحة النبوات
75

ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على نبوته، ومنكرو المعاد ينكرون الدلائل الدالة على صحة المعاد، فقوله: * (كذبوا بآياتنا) * يتناول الكل، ومعنى الاستكبار طلب الترفع بالباطل وهذا اللفظ في حق البشر يدل على الذم قال تعالى في صفة فرعون: * (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق) *.
أما قوله تعالى: * (لا تفتح لهم أبواب السماء) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو * (لا تفتح) * بالتاء خفيفة، وقرأ حمزة والكسائي بالياء خفيفة والباقون بالتاء مشددة. أما القراءة بالتشديد فوجهها قوله تعالى: * (
فتحنا عليهم أبواب كل شيء) * (الأنعام: 44) - * (ففتحنا أبواب السماء) * (القمر: 11) وأما قراءة حمزة والكسائي فوجهها أن الفعل متقدم.
المسألة الثانية: في قوله: * (لا تفتح لهم أبواب السماء) * أقوال. قال ابن عباس: يريد لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله، وهذا التأويل مأخوذ من قوله تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * (فاطر: 10) ومن قوله: * (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين) * (المطففين: 18) وقال السدي وغيره: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، وتفتح لأرواح المؤمنين، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي في حديث طويل: أن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال مرحبا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب، ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة، ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة، فإنه لا تفتح لك أبواب السماء.
والقول الثالث: أن الجنة في السماء فالمعنى: لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء. ولا تطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة.
والقول الرابع: لا تنزل عليهم البركة والخير، وهو مأخوذ من قوله: * (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) * (القمر: 11) وأقول هذه الآية تدل على أن الأرواح إنما تكون سعيدة أما بأن ينزل عليها من السماء أنواع الخيرات، وإما بأن يصعد أعمال تلك الأرواح إلى السماوات وذلك يدل على أن السماوات موضع بهجة الأرواح، وأماكن سعادتها، ومنها تنزل الخيرات والبركات، وإليها تصعد الأرواح حال فوزها بكمال السعادات، ولما كان الأمر كذلك كان قوله: * (لا تفتح لهم أبواب السماء) * من أعظم أنواع الوعيد والتهديد.
أما قوله تعالى: * (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: " الولوج " الدخول. والجمل مشهور، و " السم " بفتح السين وضمها ثقب الإبرة قرأ ابن سيرين * (سم) * بالضم، وقال صاحب " الكشاف ": يروي * (سم) * بالحركات الثلاث، وكل ثقب
76

في البدن لطيف فهو " سم " وجمعه سموم، ومنه قيل: السم القاتل. لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، و * (الخياط) * ما يخاط به. قال الفراء: ويقال خياط ومخيط، كما يقال إزار ومئزر ولحاف وملحف، وقناع ومقنع، وإنما خص الجمل من بين سائر الحيوانات، لأنه أكبر الحيوانات جسما عند العرب. قال الشاعر: جسم الجمال وأحلام العصافير (c)
فجسم الجمل أعظم الأجسام، وثقب الإبرة أضيق المنافذ، فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة الضيقة محالا، فلما وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط، وكان هذا شرطا محالا، وثبت في العقول أن الموقوف على المحال محال، وجب أن يكون دخولهم الجنة مأيوسا منه قطعا.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": قرأ ابن عباس * (الجمل) * بوزن القمل، وسعيد بن جبير * (الجمل) * بوزن النغر. وقرئ * (الجمل) * بوزن القفل، و * (الجمل) * بوزن النصب، و * (الجمل) * بوزن الحبل، ومعناها: القلس الغليظ، لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل. يعني: أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه. إلا أنا ذكرنا الفائدة فيه.
المسألة الثالثة: القائلون بالتناسخ احتجوا بهذه الآية، فقالوا: إن الأرواح التي كانت في أجساد البشر لما عصت وأذنبت، فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن، ولا تزال تبقى في التعذيب حتى أنها تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الدودة التي تنفذ في سم الخياط، فحينئذ تصير مطهرة عن تلك الذنوب والمعاصي، وحينئذ تدخل الجنة وتصل إلى السعادة. واعلم أن القول بالتناسخ باطل وهذا الاستدلال ضعيف. والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وكذلك نجزي المجرمين) * أي ومثل هذا الذي وصفنا نجزي المجرمين، والمجرمون والله أعلم ههنا هم الكافرون، لأن الذي تقدم ذكره من صفتهم هو التكذيب بآيات الله، والاستكبار عنها.
واعلم أنه تعالى لما بين من حالهم أنهم لا يدخلون الجنة البتة بين أيضا أنهم يدخلون النار، فقال * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: " المهاد " جمع مهد، وهو الفراش. قال الأزهري: أصل المهد في اللغة الفرش، يقال للفراش مهاد لمواتاته، والغواشي جمع غاشية، وهي كل ما يغشاك، أي يجللك، وجهنم لا تنصرف لاجتماع التأنيث فيها والتعريف، وقيل اشتقاقها من الجهمة، وهي الغلظ، يقال:
77

رجل جهم الوجه غليظه، وسميت بهذا لغلظ أمرها في العذاب. قال المفسرون: المراد من هذه الآية الأخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب، فلهم منها غطاء ووطاء، وفراش ولحاف.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إن غواش، على وزن فواعل، فيكون غير منصرف، فكيف دخله التنوين؟ وجوابه على مذهب الخليل وسيبويه إن هذا جمع، والجمع أثقل من الواحد، وهو أيضا الجمع الأكبر الذي تتناهى الجموع إليه، فزاده ذلك ثقلا، ثم وقعت الياء في آخره وهي ثقيلة، فلما اجتمعت فيه هذه الأشياء خففوها بحذف يائه، فلما حذفت الياء نقص عن مثال فواعل، وصار غواش بوزن جناح، فدخله التنوين لنقصانه عن هذا المثال.
أما قوله: * (وكذلك نجزي الظالمين) * قال ابن عباس: يريد الذين أشركوا بالله واتخذوا من دونه إلها وعلى هذا التقدير: فالظالمون ههنا هم الكافرون. (42)
* (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * ونزعنا ما فى صدورهم من غل تجرى من تحتهم الانهار وقالوا الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله لقد جآءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) *.
اعلم أنه تعالى لما استوفى الكلام في الوعيد أتبعه بالوعد في هذه الآية، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن أكثر أصحاب المعاني على أن قوله تعالى: * (لا نكلف نفسا إلا وسعها) * اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) * (البقرة: 82) وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر، لأنه من جنس هذا الكلام،
78

لأنه لما ذكر عملهم الصالح، ذكر أن ذلك العمل في وسعهم غير خارج عن قدرتهم، وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب. وقال قوم: موضعه خبر عن ذلك المبتدأ والعائد محذوف، كأنه قيل: لا نكلف نفسا منهم إلا وسعها، وإنما حذف العائد للعلم به.
المسألة الثانية: معنى الوسع ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة لا في حال الضيق والشدة، والدليل عليه: أن معاذ بن جبل قال في هذه الآية إلا يسرها لا عسرها. وأما أقصى الطاقة يسمى جهدا لا وسعا، وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود.
المسألة الثالثة: قال الجبائي: هذا يدل على بطلان مذهب المجبرة في أن الله تعالى كلف العبد بما لا يقدر عليه، لأن الله تعالى كذبهم في ذلك، وإذا ثبت هذا الأصل بطل قولهم في خلق الأعمال، لأنه لو كان خالق أعمال العباد هو الله تعالى، لكان ذلك تكليف ما لا يطاق، لأنه تعالى أن كلفه بذلك الفعل حال ما خلقه فيه، فذلك تكليفه بما لا يطاق، لأنه أمر بتحصيل الحاصل، وذلك غير مقدور، وإن كلفه به حال ما لم يخلق من ذلك الفعل فيه كان ذلك أيضا تكليف ما لا يطاق، لأن على هذا التقدير: لا قدرة للعبد على تكوين ذلك الفعل وتحصيله، قالوا: وأيضا إذا ثبت هذا الأصل ظهر أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لو كانت حاصلة مع الفعل، والكافر لا قدرة له على الإيمان مع أنه مأمور به. فكان هذا تكليف ما لا يطاق، ولما دلت هذه الآية على نفي التكليف بما لا يطاق، ثبت فساد هذين الأصلين.
والجواب: أنا نقول وهذا الإشكال أيضا وارد عليكم، لأنه تعالى يكلف العبد بإيجاد الفعل، حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك، أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر والأول باطل، لأن الإيجاد ترجيح لجانب الفعل، وحصول الترجيح حال حصول الاستواء محال، والثاني باطل، لأن حال حصول الرجحان كان الحصول واجبا، فإن وقع الأمر بالطرف الراجح كان أمرا بتحصيل الحاصل، وإن وقع بالطرف المرجوح كان أمرا بتحصيل المرجوح حال كونه مرجوحا، فيكون أمرا بالجمع بين النقيضين وهو محال، فكل ما تجعلونه جوابا عن هذا السؤال، فهو جوابنا عن كلامكم. والله أعلم.
وأما قوله تعالى: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * فاعلم أن نزع الشيء قلعه عن مكانه، والغل العقد. قال أهل اللغة: وهو الذي يغل بلطفه إلى صميم القلب، أي يدخل، ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة، ويقال: انغل في الشيء، وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافة، كالحب
79

يدخل في صميم الفؤاد.
إذا عرفت هذا فنقول: لهذه الآية تأويلان:
القول الأول: أن يكون المراد أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا، ومعنى نزع الغل: تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب، فإن الشيطان لما كان في العذاب لم يتفرغ لإلقاء الوساوس في القلوب، وإلى هذا المعنى أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) *.
والقول الثاني: أن المراد منه أن درجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقصان، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى أن صاحب الدرجة النازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة. قال صاحب " الكشاف ": هذا التأويل أولى من الوجه الأول، حتى يكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعالى من تبري بعض أهل النار من بعض، ولعن بعضهم بعضا، ليعلم أن حال أهل الجنة في هذا المعنى أيضا مفارقة لحال أهل النار. فإن قالوا: كيف يعقل أن يشاهد الإنسان النعم العظيمة، والدرجات العالية، ويرى نفسه محروما عنها عاجزا عن تحصيلها، ثم أنه لا يميل طبعه إليها، ولا يغتم بسبب الحرمان عنها، فإن عقل ذلك، فلم لا يعقل أيضا أن يعيدهم الله تعالى، ولا يخلق فيهم شهوة الأكل، والشرب؟ والوقاع، ويغنيهم عنها؟
قلنا: الكل ممكن، والله تعالى قادر عليه، إلا أنه تعالى وعد بإزالة الحقد والحسد عن القلوب، وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشرب عن النفوس، فظهر الفرق بين البابين.
ثم إنه تعالى قال: * (تجري من تحتهم الأنهار) * والمعنى: أنه تعالى كما خلصهم من ربقة الحقد والحسد والحرص على طلب الزيادة فقد أنعم عليهم بالذات العظيمة، وقوله: * (تجري من تحتهم الأنهار) * من رحمة الله وفضله وإحسانه، وأنواع المكاشفات والسعادات الروحانية.
ثم حكى تعالى عن أهل الجنة أنهم قالوا: * (الحمد لله الذي هدانا لهذا) * وقال أصحابنا: معنى * (هدانا الله) * أنه أعطى القدرة، وضم إليها الداعية الجازمة، وصير مجموع القدرة وتلك الداعية موجبا لحصول تلك الفضيلة. فإنه لو أعطى القدرة، وما خلق تلك الداعية لم يحصل الأثر، ولو خلق الله الداعية المعارضة أيضا لسائر الدواعي الصارفة، لم يحصل الفعل أيضا. أما لما خلق القدرة، وخلق الداعية الجازمة، وكان مجموع القدرة مع الداعية المعينة موجبا للفعل كانت الهداية حاصلة في الحقيقة بتقدير
80

الله تعالى، وتخليقه وتكوينه. وقالت المعتزلة: التحميد إنما وقع على أنه تعالى أعطى العقل ووضع الدلائل، وأزال الموانع، وعند هذا يرجع إلى مباحث الجبر والقدر على سبيل التمام والكمال.
ثم قال تعالى: * (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر " ما كنا " بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل الشام، والباقون بالواو، والوجه في قراءة ابن عامر أن قوله: * (ما كنا لنهتدي لولا
أن هدانا الله) * جار مجرى التفسير لقوله: * (هدانا لهذا) * فلما كان أحدهما عين الآخر، وجب حذف الحرف العاطف.
المسألة الثانية: قوله: * (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) * دليل على أن المهتدي من هداه الله، وإن لم يهده الله لم يهتد، بل نقول: مذهب المعتزلة أن كل ما فعله الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام، والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد، فقد فعله في حق جميع الكفار والفساق وإنما حصل الامتياز بين المؤمن والكافر، والمحق والمبطل بسعي نفسه، واختيار نفسه فكان يجب عليه أن يحمد نفسه، لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان، وهو الذي أوصل نفسه إلى درجات الجنان، وخلصها من دركات النيران، فلما لم يحمد نفسه البتة، وإنما حمد الله فقط. علمنا أن الهادي ليس إلا الله سبحانه.
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا: * (لقد جاءت رسل ربنا بالحق) * وهذا من قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا، وقالوا: لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
ثم قال تعالى: * (ونودوا أن تلكم الجنة) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذلك النداء إما أن يكون من الله تعالى، أو أن يكون من الملائكة، والأولى أن يكون المنادي هو الله سبحانه.
المسألة الثانية: ذكر الزجاج في كلمة " أن " ههنا وجهين: الأول: أنها مخففة من الثقيلة، والتقدير: إنه والمضير للشأن، والمعنى: نودوا بأنه تلكم الجنة أي نودوا بهذا القول: والثاني: قال: وهو الأجود عندي أن تكون " أن " في معنى تفسير النداء، والمعنى: ونودوا. أي تلكم الجنة، والمعنى: قيل لهم تلكم الجنة كقوله: * (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا) * (ص: 6) يعني أي امشوا. قال: إنما قال: " تلكم " لأنهم وعدوا بها في الدنيا. فكأنه قيل: لهم هذه تلكم التي وعدتم بها وقوله: * (أورثتموها) * فيه قولان:
القول الأول: وهو قول أهل المعاني أن معناه: صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله، والإرث قد يستعمل في اللغة، ولا يراد به زوال الملك عن الميت إلى الحي كما يقال: هذا العمل
81

يورثك الشرف، ويورثك العار أي يصيرك إليه، ومنهم من يقول: إنهم أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيها بالميراث.
والقول الثاني: أن أهل الجنة يورثون منازل أهل النار. قال صلى الله عليه وسلم: " ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم: هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم " وقوله: * (بما كنتم تعملون) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: تعلق من قال العمل يوجب هذا الجزاء بهذه الآية. فإن الباء في قوله: * (بما كنتم تعملون) * تدل على العلية، وذلك يدل على أن العمل يوجب هذا الجزاء، وجوابنا: أنه علة للجزاء لكن بسبب أن الشرع جعله علة له، لا لأجل أنه لذاته موجب لذلك الجزاء، والدليل عليه أن نعم الله على العبد لا نهاية لها، فإذا أتى العبد بشيء من الطاعات وقعت هذه الطاعات في مقابلة تلك النعم السالفة فيمتنع أن تصير موجبة للثواب المتأخر.
المسألة الثانية: طعن بعضهم فقال: هذه الآية تدل على أن العبد إنما يدخل الجنة بعمله، وقوله عليه السلام: " لن يدخل أحد الجنة بعمله وإنما يدخلها برحمة الله تعالى " وبينهما تناقض، وجواب ما ذكرنا: أن العمل لا يوجب دخول الجنة لذاته، وإنما يوجه لأجل أن الله تعالى بفضله جعله علامة عليه ومعرفة له، وأيضا لما كان الموفى للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة في الحقيقة ليس إلا بفضل الله تعالى.
المسألة الثالثة: قال القاضي: قوله تعالى: * (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) * خطاب عام في حق جميع المؤمنين، وذلك يدل على أن كل من دخل الجنة فإنما يدخلها بعمله، وإذا كان الأمر كذلك امتنع قول من يقول: أن الفساق يدخلون الجنة تفضلا من الله تعالى.
إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن لا يخرج الفاسق من النار لأنه لو خرج لكان إما أن يدخل الجنة أو لا يدخلها. والثاني: باطل بالإجماع، والأول: لا يخلو إما أن يدخل الجنة على سبيل التفضل أو على سبيل الاستحقاق، والأول باطل، لأنا بينا أن هذه الآية تدل على أن أحدا لا يدخل الجنة بالتفضل، والثاني: أيضا باطل لأنه لما دخل النار وجب أن يقال: إنه كان مستحقا للعقاب فلو أدخل الجنة على سبيل الاستحقاق لزم كونه مستحقا للثواب، وحينئذ يلزم حصول الجمع بين استحقاق الثواب واستحقاق العقاب وهو محال لأن الثواب منفعة دائمة خالصة عن شوائب الضرر والعقاب مضرة دائمة خالصة عن شوائب المنفعة. والجمع بينهما محال. وإذا كان كذلك كان الجمع بين حصول استحقاقهما محالا.
82

والجواب: هذا بناء على أن استحقاق الثواب والعقاب لا يجتمعان. وقد بالغنا في إبطال هذا الكلام في سورة البقرة. والله أعلم.
* (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون) *.
اعلم أنه تعالى لما شرح وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان والطاعات أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين. وهي الأحوال التي ذكرها في هذه الآية.
واعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله: * (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها) * دل ذلك على أنهم استقروا في الجنة في وقت هذا النداء فلما قال بعده: * (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) * دل ذلك على أن هذا النداء إنما حصل بعد الاستقرار، قال ابن عباس: وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا من الثواب حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من العقاب حقا؟ والغرض من هذا السؤال إظهار أنه وصل إلى السعادات الكاملة وإيقاع الحزن في قلب العدو وههنا سؤالات:
السؤال الأول: إذا كانت الجنة في أعلى السماوات والنار في أسفل الأرضين فمع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء؟
والجواب: هذا يصح على قولنا: لأنا عندنا البعد الشديد والقرب الشديد ليس من موانع الإدراك، والتزم القاضي ذلك وقال: إن في العلماء من يقول في الصوت خاصية إن البعد فيه وحده لا يكون مانعا من السماع.
السؤال الثاني: هذا النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض؟
83

والجواب: أن قوله: * (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) * يفيد العموم. والجمع، إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، وكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في الدنيا.
السؤال الثالث: ما معنى * (أن) * في قوله: * (أن قد وجدنا) *.
والجواب: إنه يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة، وأن تكون مفسرة كالتي سبقت في قوله: * (أن تلكم الجنة) * (الأعراف: 43) وكذلك في قوله: * (أن لعنة الله على الظالمين) *.
السؤال الرابع: هلا قيل: * (ما وعدكم ربكم حقا) * (الأعراف: 44) كما قيل: * (ما وعدنا ربنا) *.
والجواب: قوله: * (ما وعدنا ربنا حقا) * يدل على أنه تعالى خاطبهم بهذا الوعد، وكونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف. ومزيد التشريف لائق بحال المؤمنين، أما الكافر فهو ليس أهلا لأن يخاطبه الله تعالى، فلهذا السبب لم يذكر الله تعالى أنه خاطبهم بهذا الخطاب بل ذكر تعالى أنه بين هذا الحكم.
أما قوله تعالى: * (قالوا نعم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الآية تدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأن وعد الله ووعيده حق وصدق ولا يمكن ذلك إلا إذا كانوا عارفين يوم القيامة بذات الله وصفاته.
فإن قيل: لما كانوا عارفين بذاته وصفاته، وثبت أن من صفاته أنه يقبل التوبة عن عباده، وعلموا بالضرورة أن عند قبول التوبة يتخلصون من العذاب، فلم لا يتوبون ليخلصوا أنفسهم من العذاب؟ وليس لقائل أن يقول أنه تعالى إنما يقبل التوبة في الدنيا لأن قوله تعالى: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) * (الشورى: 25) عام في الأحوال كلها، وأيضا فالتوبة اعتراف بالذنب وإقرار بالذلة والمسكنة واللائق بالرحيم الحكيم التجاوز عن هذه الحالة سواء كان في الدنيا أو في الآخرة.
أجاب المتكلمون: بأن شدة اشتغالهم بتلك الآلام الشديدة يمنعهم عن الإقدام على التوبة ولقائل أن يقول: إذا كانت تلك الآلام لا تمنعهم عن هذه المناظرات، فكيف تمنعهم عن التوبة التي بها يتخلصون عن تلك الآلام الشديدة؟
واعلم أن المعتزلة: الذين يقولون يجب على الله قبول التوبة لا خلاص لهم عن هذا السؤال. أما أصحابنا لما قالوا أن ذلك غير واجب عقلا. قالوا لله تعالى أن يقبل التوبة في الدنيا، وأن لا يقبلها في الآخرة، فزال السؤال. والله أعلم.
المسألة الثانية: قال سيبويه: * (نعم) * عدة وتصديق، وقال الذين شرحوا كلامه معناه: إنه
84

يستعمل تارة عدة، وتارة تصديقا، وليس معناه: أنه عدة وتصديق معا ألا ترى أنه إذا قال: أتعطيني؟ وقال نعم كان عدة ولا تصديق فيه، وإذا قال: قد كان كذا وكذا. فقلت: نعم فقد صدقت ولا عدة فيه، وأيضا إذا استفهمت عن موجب كما يقال: أيقوم زيد؟ قلت: نعم ولو كان مكان الإيجاب نفيا لقلت: بلى ولم تقل نعم فلفظة نعم مختصة بالجواب عن الإيجاب، ولفظة بلى مختصة بالنفي كما في قوله تعالى: * (ألست بربكم قالوا بلى) * (الأعراف: 172).
المسألة الثالثة: قرأ الكسائي * (نعم) * بكسر العين في كل القرآن. قال أبو الحسن: هما لغتان قال أبو حاتم: الكسر ليس بمعروف، واحتج الكسائي بأنه روى عن عمر أنه سأل قوما عن شيء فقالوا: نعم. فقال عمر: أما النعم فالإبل. قال أبو عبيدة: هذه الرواية عن عمر غير مشهورة.
أما قوله تعالى: * (فأذن مؤذن بينهم) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: معنى التأذين في اللغة النداء والتصويت بالإعلام، والأذان للصلاة إعلام بها وبوقتها، وقالوا في: * (أذن مؤذن) * نادى مناد أسمع الفريقين. قال ابن عباس: وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحب الصور.
المسألة الثانية: قوله: * (بينهم) * يحتمل أن يكون ظرفا لقوله: * (أذن) * والتقدير: أن المؤذن أوقع ذلك الأذان بينهم، وفي وسطهم، ويحتمل أن يكون صفة لقوله: * (مؤذن) * والتقدير: أن مؤذنا من بينهم أذن بذلك الأذان، والأول أولى والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (أن لعنة الله على الظالمين) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم * (أن) * مخففة * (لعنة) * بالرفع والباقون مشددة * (لعنة) * بالنصب. قال الواحدي رحمه الله: من شدد فهو الأصل، ومن خفف * (أن) * فهي مخففة من الشديدة على إرادة إضمار القصة والحديث تقديره أنه لعنه الله، ومثله قوله تعالى: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (يونس: 10) التقدير: أنه، ولا تخفف أن إلا ويكون معها إضمار الحديث والشأن. ويجوز أيضا أن تكون المخففة هي التي للتفسير كأنها تفسير لما أذنوا به كما ذكرناه في قوله: * (أن قد وجدنا) * وروى صاحب " الكشاف " أن الأعمش قرأ * (إن لعنة الله) * بكسر * (إن) * على إرادة القول، أو على إجراء * (أذن) * مجرى " قال ".
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية تدل على أن ذلك المؤذن، أوقع لعنة الله على من كان موصوفا بصفات أربعة.
الصفة الأولى: كونهم ظالمين. لأنه قال: * (أن لعنة الله على الظالمين) * قال أصحابنا المراد منه
85

المشركون، وذلك لأن المناظرة المتقدمة إنما وقعت بين أهل الجنة وبين الكفار، بدليل أن قول أهل الجنة هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ لا يليق ذكره إلا مع الكفار.
وإذا ثبت هذا فقول المؤذن بعده * (أن لعنة الله على الظالمين) * يجب أن يكون منصرفا إليهم، فثبت أن المراد بالظالمين ههنا، المشركون، وأيضا أنه وصف هؤلاء الظالمين بصفات ثلاثة. هي مختصة بالكفار وذلك يقوي ما ذكرناه، وقال القاضي المراد منه، كل من كان ظالما سواء كان كافرا أو كان فاسقا تمسكا بعموم اللفظ.
الصفة الثانية: قوله: * (الذين يصدون عن سبيل الله) * ومعناه: أنهم يمنعون الناس من قبول الدين الحق، تارة بالزجر والقهر، وأخرى بسائر الحيل.
والصفة الثالثة: قوله: * (ويبغونها عوجا) * والمراد منه إلقاء الشكوك والشبهات في دلائل الدين الحق.
والصفة الرابعة: قوله: * (وهم بالآخرة كافرون) * واعلم أنه تعالى لما بين أن تلك اللعنة إنما أوقعها ذلك المؤذن على الظالمين الموصوفين بهذه الصفات الثلاثة، كان ذلك تصريحا بأن تلك اللعنة ما وقعت إلا على الكافرين، وذلك يدل على فساد ما ذكره القاضي من أن ذلك اللعن يعم الفاسق والكافر. والله أعلم.
* (وبينهما حجاب وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقآء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) *.
اعلم أن قوله: * (وبينهما حجاب) * يعني بين الجنة والنار أو بين الفريقين، وهذا الحجاب هو المشهور المذكور في قوله: * (فضرب بينهم بسور له باب) * (الحديد: 13).
فإن قيل: وأي حاجة إلى ضرب هذا السور بين الجنة والنار؟ وقد ثبت أن الجنة فوق السماوات
86

وأن الجحيم في أسفل السافلين.
قلنا: بعد إحداهما عن الأخرى لا يمنع أن يحصل بينهما سور وحجاب، وأما الأعراف فهو جمع عرف وهو كل مكان عال مرتفع، ومنه عرف الفرس وعرف الديك، وكل مرتفع من الأرض عرف، وذلك لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض منه.
إذا عرفت هذا فنقول: في تفسير لفظ الأعراف قولان:
القول الأول: وهو الذي عليه الأكثرون أن المراد من الأعراف أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار، وهذا قول ابن عباس. وروي عنه أيضا أنه قال: الأعراف شرف الصراط.
والقول الثاني: وهو قول الحسن وقول الزجاج: في أحد قوليه أن قوله: * (وعلى الأعراف) * أي وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يعرفون كل أحد من أهل الجنة والنار بسيماهم. فقيل للحسن: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم؟ فضرب على فخذيه ثم قال: هم قوم جعلهم الله تعالى على تعرف أهل الجنة وأهل النار يميزون البعض من البعض، والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا! أما القائلون بالقول الأول فقد اختلفوا في أن الذين هم على الأعراف من هم؟ ولقد كثرت الأقوال فيهم وهي محصورة في قولين: أحدهما: أن يقال إنهم الأشراف من أهل الطاعة وأهل الثواب، الثاني: أن يقال أنهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة من أهل الثواب أما على التقدير الأول ففيه وجوه: أحدها: قال أبو مجلز. هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار، فقيل له: يقول الله تعالى: * (وعلى الأعراف رجال) * وتزعم أنهم ملائكة؟ فقال الملائكة ذكور لا إناث.
ولقائل أن يقول: الوصف بالرجولية إنما يحسن في الموضع الذي يحصل في مقابلة الرجل من يكون أنثى ولما امتنع كون الملك أنثى امتنع وصفهم بالرجولية. وثانيها: قالوا إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزا لهم عن سائر أهل القيامة، وإظهارا لشرفهم، وعلو مرتبتهم وأجلسهم على ذلك المكان العالي ليكونوا مشرفين على أهل الجنة، وأهل النار مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم. وثالثها: قالوا: إنهم هم الشهداء، لأنه تعالى وصف أصحاب الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار، ثم قال قوم: إنهم يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة، وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم، وهذا الوجه باطل، لأنه تعالى خص أهل الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم، ولو كان المراد ما ذكروه لما بقي لأهل الأعراف
87

اختصاص بهذه المعرفة، لأن كل أحد من أهل الجنة ومن أهل النار يعرفون هذه الأحوال من أهل الجنة ومن أهل النار، ولما بطل هذا الوجه ثبت أن المراد بقوله: * (يعرفون كلا بسيماهم) * هو أنهم كانوا يعرفون في الدنيا أهل الخير والإيمان والصلاح، وأهل الشر والكفر والفساد. وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية، فهو تعالى يجلسهم على الأعراف، وهي الأمكنة العالية الرفيعة ليكونوا مطلعين على الكل يشهدون على كل أحد بما يليق به، ويعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات، وأهل العقاب إلى الدركات.
فإن قيل: هذه الوجوه الثلاثة باطلة، لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف أنهم * (لم يدخلوها وهم يطمعون) * أي لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، والملائكة والشهداء.
أجاب الذاهبون إلى هذا الوجه بأن قالوا: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى بين من صفات أصحاب الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر، والسبب فيه أنه تعالى ميزهم عن أهل الجنة وأهل النار، وأجلسهم على تلك الشرفات العالية والأمكنة المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار فيلحقهم السرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال، ثم إذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فحينئذ ينقلهم الله تعالى إلى أمكنتهم العالية في الجنة، فثبت أن كونهم غير داخلين في الجنة لا يمنع من كمال
شرفهم وعلو درجتهم. وأما قوله: * (وهم يطمعون) * فالمراد من هذا الطمع اليقين. ألا ترى أنه تعالى قال حكاية عن إبراهيم عليه السلام: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * (الشعراء: 82) وذلك الطمع كان طمع يقين، فكذا ههنا. فهذا تقرير قول من يقول أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل الجنة.
والقول الثاني: وهو قول من يقول أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب والقائلون بهذا القول ذكروا وجوها: أحدها: أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلا جرم ما كانوا من أهل الجنة ولا من أهل النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة وبين النار. ثم يدخلهم الله تعالى الجنة بفضله ورحمته وهم آخر قوم يدخلون الجنة، وهذا قول حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما واختيار الفراء، وطعن الجبائي والقاضي في هذا القول. واحتجوا على فساده بوجهين: الأول: أن قالوا أن قوله تعالى: * (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) * (الأعراف: 43) يدل على أن كل من دخل الجنة فإنه لا بد وأن يكون مستحقا لدخولها، وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لا يستحقون الجنة
88

ولا النار، ثم إنهم يدخلون الجنة بمحض التفضل لا بسبب الاستحقاق. وثانيهما: إن كونهم من أصحاب الأعراف يدل على أنه تعالى ميزهم من جميع أهل القيامة بأن أجلسهم على الأماكن العالية المشرفة على أهل الجنة، وأهل النار، وذلك تشريف عظيم، ومثل هذا التشريف لا يليق إلا بالإشراف ولا شك أن الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة، فلا يليق بهم ذلك التشريف.
والجواب عن الأول: أنه يحتمل أن يكون قوله: * (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها) * خطاب مع قوم معينين، فلم يلزم أن يكون لكل أهل الجنة كذلك. والجواب عن الثاني: أنا لا نسلم أنه تعالى أجلسهم على تلك المواضع على سبيل التخصيص بمزيد التشريف والإكرام، وإنما أجلسهم عليها لأنها كالمرتبة المتوسطة بين الجنة والنار، وهل النزاع إلا في ذلك؟ فثبت أن الحجة التي عولوا عليها في إبطال هذا الوجه ضعيفة.
الوجه الثاني: من الوجوه المذكورة في تفسير أصحاب الأعراف. قالوا: المراد من أصحاب الأعراف أقوام خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فحبسوا بين الجنة والنار.
واعلم أن هذا القول داخل في القول الأول: لأن هؤلاء، إنما صاروا من أصحاب الأعراف لأن معصيتهم ساوت طاعتهم بإجهاد، فهذا أحد الأمور الداخلة تحت الوجه الأول. وبتقدير أن يصح ذلك الوجه. فلا معنى لتخصيص هذه الصورة وقصر لفظ الآية عليها.
والوجه الثالث: قال عبد الله بن الحرث: إنهم مساكين أهل الجنة.
والوجه الرابع: قال قوم أنهم الفساق من أهل الصلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم في الأعراف فهذا كله شرح قول من يقول: الأعراف عبارة عن الأمكنة العالية على السور المضروب بين الجنة وبين النار. وأما الذين يقولون الأعراف عبارة عن الرجال الذين يعرفون أهل الجنة وأهل النار؛ فهذا القول أيضا غير بعيد إلا أن هؤلاء الأقوام لا بد لهم من مكان عال يشرفون منه على أهل الجنة، وأهل النار. وحينئذ يعود هذا القول إلى القول الأول، فهذه تفاصيل أقوال الناس في هذا الباب. والله أعلم، ثم إنه تعالى أخبر أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم واختلفوا في المراد بقوله: * (بسيماهم) * على وجوه.
فالقول الأول: وهو قول ابن عباس: أن سيما الرجل المسلم من أهل الجنة بياض وجهه، كما قال تعالى: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * (آل عمران: 106) وكون وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة، وكون كل واحد منهم أغر محجلا من آثار الوضوء، وعلامة الكفار سواد وجوههم، وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة، وكون عيونهم زرقا.
89

ولقائل أن يقول: إنهم لما شاهدوا أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فأي حاجة إلى أن يستدل على كونهم من أهل الجنة بهذه العلامات؟ لأن هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحس، وذلك باطل. وأيضا فهذه الآية تدل على أن أصحاب الأعراف مختصون بهذه المعرفة، ولو حملناه على هذا الوجه لم يبق هذا الاختصاص، لأن هذه الأحوال أمور محسوسة، فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص.
والقول الثاني: في تفسير هذه الآية أن أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطاعات عليهم ويعرفون الكافرين في الدنيا أيضا بظهور علامات الكفر والفسق عليهم، فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدنيا، وهذا الوجه هو المختار.
أما قوله تعالى: * (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم) * فالمعنى إنهم إذا نظروا إلى أهل الجنة سلموا على أهلها، وعند هذا تم كلام أهل الأعراف.
ثم قال: * (لم يدخلوها وهم يطمعون) * والمعنى أنه تعالى أخبر أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة، ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها، ثم إن قلنا أن أصحاب الأعراف هم الأشراف من أهل الجنة فقد ذكرنا أنه تعالى إنما أجلسهم على الأعراف وأخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار، ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وأن أبا بكر وعمر منهم " وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة، فعند وقوف أهل القيامة في الموقف يجلس الله أهل الأعراف في الأعراف، وهي المواضع العالية الشريفة فإذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة، فهم أبدا لا يجلسون إلا في الدرجات العالية. وأما إن فسرنا أصحاب الأعراف بأنهم الذين يكونون في الدرجة النازلة من أهل النجاة قلنا أنه تعالى يجلسهم في الأعراف وهم يطعمون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من تلك المواضع إلى الجنة. وأما قوله تعالى: * (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار) * فقال الواحدي رحمه الله التلقاء جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة، ولذلك كان
ظرفا من ظروف المكان يقال فلان تلقاءك كما يقال هو حذاءك، وهو في الأصل مصدر استعمل ظرفا، ثم نقل الواحدي رحمه الله بإسناده عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أنهما قالا: لم يأت من المصادر على تفعال " إلا " حرفان تبيان وتلقاء، فإذا تركت هذين استوى ذلك القياس،
90

فقلت في كل مصدر تفعال بفتح التاء، مثل تسيار وترسال. وقلت في كل اسم تفعال بكسر التاء، مثل تمثال وتقصار، ومعنى الآية: أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم. والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف، حتى يقدم المرء على النظر والاستدلال، ولا يرضى بالتقليد ليفوز بالدين الحق، فيصل بسببه إلى الثواب المذكور في هذه الآيات، ويتخلص عن العقاب المذكور فيها.
* (ونادى أصحاب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين بقوله: * (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا) * (الأعراف: 47) أتبعه أيضا بأن أصحاب الأعراف ينادون رجالا من أهل النار، واستغنى عن ذكر أهل النار لأجل أن الكلام المذكور لا يليق إلا بهم، وهو قولهم: * (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) * وذلك لا يليق إلا بمن يبكت ويوبخ، ولا يليق أيضا إلا بأكابرهم، والمراد بالجمع، إما جمع المال، وإما الاجتماع والكثرة * (وما كنتم تستكثرون) * والمراد: استكبارهم عن قبول الحق، واستكبارهم على الناس المحقين. وقرئ * (تستكثرون) * من الكثرة، وهذا كالدلالة على شماتة أصحاب الأعراف بوقوع أولئك المخاطبين في العقاب، وعلى تبكيت عظيم يحصل لأولئك المخاطبين بسبب هذا الكلام، ثم زادوا على هذا التبكيت، وهو قولهم: * (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) * فأشاروا إلى فريق من أهل الجنة، كانوا يستضعفونهم ويستقلون أحوالهم، وربما هزؤوا بهم، وأنفوا من مشاركتهم في دينهم، فإذا رأى من كان يدعي التقدم حصول المنزلة العالية، لمن كان مستضعفا عنده قلق لذلك، وعظمت حسرته وندامته على ما كان منه في نفسه.
وأما قوله تعالى: * (ادخلوا الجنة) * فقد اختلفوا فيه. فقيل هم أصحاب الأعراف، والله تعالى يقول لهم ذلك أو بعض الملائكة الذين يأمرهم الله تعالى بهذا القول. وقيل: بل يقول بعضهم لبعض.
91

والمراد أنه تعالى يحث أصحاب الأعراف بالدخول في الجنة، واللحوق بالمنزلة التي أعدها الله تعالى لهم، وعلى هذا التقدير فقوله: * (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) * من كلام أصحاب الأعراف. وقوله: * (ادخلوا الجنة) * من كلام الله تعالى، ولا بد ههنا من إضمار، والتقدير: فقال الله لهم هذا كما قال: * (يريد أن يخرجكم من أرضكم) * (الأعراف: 110) وانقطع ههنا كلام الملأ. ثم قال فرعون: * (فماذا تأمرون) * (الأعراف: 110) فاتصل كلامه بكلامهم من غير إظهار فارق، فكذا ههنا.
* (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين * الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحيوة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقآء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين ما يقوله أصحاب الأعراف لأهل النار، أتبعه بذكر ما يقوله أهل النار لأهل الجنة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة. طمع أهل النار بفرج بعد اليأس. فقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فأمر الله الجنة فتزحزحت، ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم، وقد اسودت وجوههم وصاروا خلقا آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا: * (أفيضوا علينا من الماء) * وإنما طلبوا الماء خاصة لشدة ما في بواطنهم من الاحتراق واللهيب بسبب شدة حر جهنم. وقوله: * (أفيضوا) * كالدلالة على أن أهل الجنة أعلى مكانا من أهل النار.
فإن قيل: اسألوا مع الرجاء، والجواز، ومع اليأس؟
قلنا: ما حكيناه عن ابن عباس يدل على أنهم طلبوا الماء مع جواز الحصول. وقال القاضي: بل مع اليأس، لأنهم قد عرفوا دوام عقابهم وأنه لا يفتر عنهم، ولكن الآيس من الشيء قد يطلبه كما
92

يقال في المثل: الغريق يتعلق بالزبد، وإن علم أنه لا يغيثه. وقوله: * (أو مما رزقكم الله) * قيل إنه الثمار، وقيل إنه الطعام، وهذا الكلام يدل على حصول العطش الشديد، والجوع الشديد لهم، عن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم، فيستغيثون فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع. ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد بكلاليب الحديد فيقطع ما في بطونهم، ويستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية فيقول أهل الجنة: إن الله حرمهما على الكافرين، ويقولون لمالك: * (ليقض علينا ربك) * (الزخرف: 77) فيجيبهم على ما قيل بعد ألف عام، ويقولون: * (ربنا أخرجنا منها) * (المؤمنون: 107) فيجيبهم * (اخسؤا فيها ولا تكلمون) * (المؤمنون: 108) فعند ذلك ييأسون من كل خير، ويأخذون في الزفير والشهيق. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه ذكر في صفة أهل الجنة أنهم يرون الله عز وجل كل جمعة، ولمنزل كل واحد منهم ألف باب، فإذا رأوا الله تعالى، دخل من كل باب ملك معه الهدايا الشريفة وقال: إن نخل الجنة خشبها الزمرد، وترابها الذهب الأحمر، وسعفها حلل وكسوة لأهل الجنة، وثمرها أمثال القلال أو الدلاء، أشد بياضا من الفضة وألين من الزبد وأحلى من العسل، لا عجم له، فهذا صفة أهل الجنة، وصفة أهل النار، ورأيت في بعض الكتب: أن قارئا قرأ قوله تعالى حكاية عن الكفار: * (أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) * في تذكرة الأستاذ أبي علي الدقاق، فقال الأستاذ: هؤلاء كانت رغبتهم وشهوتهم في الدنيا في
الشرب والأكل، وفي الآخرة بقوا على هذه الحالة، وذلك يدل على أن الرجل يموت على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه، ثم بين تعالى أن هؤلاء الكفار لما طلبوا الماء والطعام من أهل الجنة قال أهل الجنة * (إن الله حرمهما على الكافرين) * ولا شك أن ذلك يفيد الخيبة التامة، ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الكفار بأنهم اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وفيه وجهان:
الوجه الأول: أن الذي اعتقدوا فيه أنه دينهم، تلاعبوا به، وما كانوا فيه مجدين.
والوجه الثاني: أنهم اتخذوا اللهو واللعب دينا لأنفسهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المستهزئين المقتسمين. ثم قال: * (وغرتهم الحياة الدنيا) * وهو مجاز لأن الحياة الدنيا لا تغر في الحقيقة بل المراد أنه حصل الغرور عند هذه الحياة الدنيا، لأن الإنسان يطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال، وقوة الجاه فلشدة رغبته في هذه الأشياء يصير محجوبا عن طلب الدين. غرقا في طلب الدنيا، ثم لما وصف الله تعالى أولئك الكفار بهذه الصفات قال: * (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) * وفي تفسير هذا النسيان قولان:
القول الأول: أن النسيان هو الترك. والمعنى: نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا، وهذا قول الحسن ومجاهد والسدي والأكثرين.
93

والقول الثاني: أن معنى ننساهم كما نسوا أي نعاملهم معاملة من نسي نتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض بآياتنا، وبالجملة فسمى الله جزاء نسيانهم بالنسيان كما في قوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) والمراد من هذا النسيان أنه لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم، ثم بين تعالى أن كل هذه التشديدات إنما كان لأنهم كانوا بآياتنا يجحدون وهذه الآية لطيفة عجيبة. وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم كانوا كافرين ثم بين من حالهم أنهم اتخذوا دينهم لهوا أولا، ثم لعبا ثانيا، ثم غرتهم الحياة الدنيا ثالثا، ثم صار عاقبة هذه الأحوال والدرجات أنهم جحدوا بآيات الله، وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة كما قال عليه الصلاة والسلام: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " وقد يؤدي حب الدنيا إلى الكفر والضلال.
* (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) *.
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الجنة، وأهل النار، وأهل الأعراف، ثم شرح الكلمات الدائرة بين هؤلاء الفرق الثلاث على وجه يصير سماع تلك المناظرات حاملا للمكلف على الحذر والاحتراز وداعيا له إلى النظر والاستدلال، بين شرف هذا الكتاب الكريم ونهاية منفعته فقال: * (ولقد جئناهم بكتاب) * وهو القرآن * (فصلناه) * أي ميزنا بعضه عن بعض، تمييزا يهدي إلى الرشد ويؤمن عن الغلط والخبط، فأما قوله: * (على علم) * فالمراد أن ذلك التفصيل والتمييز إنما حصل مع العلم التام بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد المتكاثرة، والمنافع المتزايدة، وقوله: * (هدى ورحمة) * قال الزجاج: * (هدى) * في موضع نصب أي فصلناه هاديا وذا رحمة وقوله: * (لقوم يؤمنون) * يدل على أن القرآن جعل هدى لقوم مخصوصين، والمراد أنهم هم الذين اهتدوا به دون غيرهم فهو كقوله تعالى في أول سورة البقرة: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) واحتج أصحابنا بقوله: * (فصلناه على علم) * على أنه تعالى عالم بالعلم، خلافا لما يقوله المعتزلة من أنه ليس لله علم. والله أعلم.
* (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) *.
94

اعلم أنه تعالى لما بين إزاحة العلة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة، بين بعده حال من كذب فقال: * (هل ينظرون إلا تأويله) * والنظر ههنا بمعنى الانتظار والتوقع.
فإن قيل: كيف يتوقعون وينتظرون مع جحدهم له وإنكارهم؟
قلنا: لعل فيهم أقواما تشككوا وتوقفوا، فلهذا السبب انتظروه وأيضا إنهم وإن كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة، وقوله: * (إلا تأويله) * قال الفراء الضمير في قوله: * (تأويله) * للكتاب يريد عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب. والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم آل الشيء يؤول وقد احتج بهذه الآية من ذهب إلى قوله: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * (آل عمران: 7) أي ما يعلم عاقبة الأمر فيه إلا الله وقوله: * (يوم يأتي تأويله) * يريد يوم القيامة، قال الزجاج: قوله: * (يوم) * نصب بقوله: * (يقول) * وأما قوله: * (يقول الذين نسوه من قبل) * معناه أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه، ويجوز أن يكون معنى * (نسوه) * أي تركوا العمل به والإيمان، به وهذا كما ذكرنا في قوله: * (كما نسوا لقاء يومهم هذا) * (الأعراف: 51) ثم بين تعالى أن هؤلاء الذين نسوا يوم القيامة يقولون: * (قد جاءت رسل ربنا بالحق) * والمراد أنهم أقروا بأن الذي جاءت به الرسل من ثبوت الحشر، والنشر، والبعث، والقيامة، والثواب، والعقاب، كل ذلك كان حقا، وإنما أقروا بحقيقة هذه الأشياء لأنهم شاهدوها وعاينوها، وبين الله تعالى أنهم لما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا: * (هل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل) * والمعنى إنه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين. وهو أن يشفع لنا شفيع فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب أو يردنا الله تعالى إلى الدنيا حتى نعمل غير ما كنا نعمل يعني نوحد الله تعالى بدلا عن الكفر ونطيعه بدلا عن المعصية.
فإن قيل: أقالوا هذا الكلام مع الرجاء أو مع اليأس؟ وجوابنا عنه مثل ما ذكرناه في قوله: * (أفيضوا علينا من الماء) * (الأعراف: 50) ثم بين تعالى بقوله: * (قد خسروا أنفسهم) * أن الذين طلبوه، لا يكون لأن ذلك المطلوب لو حصل لما حكم الله عليهم بأنهم قد خسروا أنفسهم.
ثم قال: * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * يريد أنهم لم ينتفعوا بالأصنام التي عبدوها في الدنيا
95

ولم ينتفعوا بنصرة الأديان الباطلة التي بالغوا في نصرتها، قال الجبائي: هذه الآية تدل على حكمين: الحكم الأول
قال: الآية تدل على أنهم كانوا في حال التكليف قادرين على الإيمان والتوبة فلذلك سألوا الرد ليؤمنوا ويتوبوا ولو كانوا في الدنيا غير قادرين كما يقوله المجبرة لم يكن لهم في الرد فائدة ولا جاز أن يسألوا ذلك. الحكم الثاني
أن الآية تدل على بطلان قول المجبرة والذين يزعمون أن أهل الآخرة مكلفون لأنه لو كان كذلك لما سألوا الرد إلى حال وهم في الوقت على مثلها بل كانوا يتوبون ويؤمنون في الحال، فبطل ما حكي عن النجار وطبقته من أن التكليف باق على أهل الآخرة.
* (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى اليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين) *.
اعلم أنا بينا أن مدار أمر القرآن على تقدير هذه المسائل الأربع، وهي التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر، ولا شك أن مدار إثبات المعاد على إثبات التوحيد والقدرة والعلم، فلما بالغ الله تعالى في تقرير أمر المعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على التوحيد، وكمال القدرة، والعلم، لتصير تلك الدلائل مقررة لأصول التوحيد، ومقررة أيضا لإثبات المعاد وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: حكى الواحدي عن الليث أنه قال: الأصل في الست والستة سدس وسدسة أبدل السين تاء، ولما كان مخرج الدال والتاء قريبا أدغم أحدهما في الآخر واكتفى بالتاء، عليه أنك تقول في تصغير ستة سديسة، وكذلك الأسداس وجميع تصرفاته يدل عليه. والله أعلم.
المسألة الثانية: * (الخلق) * التقدير على ما قررناه فخلق السماوات والأرض إشارة إلى تقدير حالة
96

من أحوالهما، وذلك التقدير يحتمل وجوها كثيرة: أولها: تقدير ذواتهما بمقدار معين مع أن العقل يقضي بأن الأزيد منه والأنقص منه جائز، فاختصاص كل واحد منهما بمقداره المعين لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص، وذلك يدل على افتقار خلق السماوات والأرض إلى الفاعل المختار. وثانيها: أن كون هذه الأجسام متحركة في الأزل محال، لأن الحركة انتقال من حال إلى حال، فالحركة يجب كونها مسبوقة بحالة أخرى، والأزل ينافي المسبوقية فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالا. إذا ثبت هذا فنقول: هذه الأفلاك والكواكب إما أن يقال: أن ذواتها كانت معدومة في الأزل ثم وجدت، أو يقال: إنها وإن كانت موجودة لكنها كانت واقفة ساكنة في الأزل، ثم ابتدأت بالحركة، وعلى التقديرين فتلك الحركات ابتدأت بالحدوث والوجود في وقت معين مع جواز حصولها قبل ذلك الوقت وبعده، وإذا كان كذلك كان اختصاص ابتداء تلك الحركات بتلك الأوقات المعينة تقديرا وخلقا، ولا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر ومختار. وثالثها: أن أجرام الأفلاك والكواكب والعناصر مركبة من أجزاء صغيرة، ولا بد وأن يقال: إن بعض تلك الأجزاء حصلت في داخل تلك الأجرام وبعضها حصلت على سطوحها فاختصاص حصول كل واحدة من تلك الأجزاء بحيزه المعين لا بد وأن يكون لتخصيص المخصص القادر المختار. ورابعها: أن بعض الأفلاك أعلى من بعض، وبعض الكواكب حصل في المنطقة وبعضها في القطبين، فاختصاص كل واحد منهما بموضعه المعين لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص قادر مختار. وخامسها: أن كل واحد من الأفلاك متحرك إلى جهة مخصوصة، وحركة مختصة بمقدار معين مخصوص من البطء والسرعة، وذلك أيضا خلق وتقدير ويدل على وجود المخصص القادر. وسادسها: أن كل واحد من الكواكب مختص بلون مخصوص مثل كمودة زحل، ودرية المشتري، وحمرة المريخ، وضياء الشمس، وإشراق الزهرة، وصفرة عطارد، وزهور القمر، والأجسام متماثلة في تمام الماهية. فكان اختصاص كل واحد منها بلونه المعين خلقا وتقديرا ودليلا على افتقارها إلى الفاعل المختار. وسابعها: أن الأفلاك والعناصر مركبة من الأجزاء الصغيرة، وواجب الوجود لا يكون أكثر من واحد فهي ممكنة الوجود في ذواتها، فكل ما كان ممكنا لذاته فهو محتاج إلى المؤثر، والحاجة إلى المؤثر لا تكون في حال البقاء، وإلا لزم تكون الكائن فتلك الحاجة لا تحصل إلا في زمان الحدوث، أو في زمان العدم. وعلى التقديرين فيلزم كون هذه الأجزاء محدثة ومتى كانت محدثة كان حدوثها مختصا بوقت معين وذلك خلق وتقدير
97

ويدل على الحاجة إلى الصانع القادر المختار. وثامنها: أن هذه الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما محدثان، وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث، فهذه الأجسام محدثة، وكل محدث فقد حصل حدوثه في وقت معين، وذلك خلق وتقدير ولا بد له من الصانع القادر المختار. وتاسعها: أن الأجسام متماثلة فاختصاص بعضها بالصفات التي لأجلها كانت سماوات وكواكب، والبعض الآخر بالصفات التي لأجلها كانت أرضا أو ماء أو هواء أو نارا لا بد وأن يكون أمرا جائزا، وذلك لا يحصل إلا بتقدير مقدر وتخصيص مخصص وهو المطلوب. وعاشرها: أنه كما حصل الامتياز المذكور بين الأفلاك والعناصر فقد حصل أيضا مثل هذا الامتياز بين الكواكب وبين الأفلاك وبين العناصر، بل حصل مثل هذا الامتياز بين كل واحد من الكواكب، وذلك يدل على الافتقار إلى الفاعل القادر المختار.
واعلم أن الخلق عبارة عن التقدير، فإذا دللنا على أن الأجسام متماثلة وجب القطع بأن كل صفة حصلت لجسم معين، فإن حصول تلك الصفة ممكن لسائر الأجسام، وإذا كان الأمر كذلك كان اختصاص ذلك الجسم المعين بتلك الصفة المعينة خلقا وتقديرا فكان داخلا تحت قوله سبحانه * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) * والله أعلم.
المسألة الثالثة: لسائل أن يسأل فيقول: كون هذه الأشياء مخلوقة في ستة أيام لا يمكن جعله دليلا على إثبات الصانع؟ وبيانه من وجوه: الأول: أن وجه دلالة هذه المحدثات على وجود الصانع هو حدوثها أو إمكانها أو مجموعهما فإما وقوع ذلك الحدوث في ستة أيام أو في يوم واحد فلا أثر له في ذلك البتة. والثاني: أن العقل يدل
على أن الحدوث على جميع الأحوال جائز، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يمكن الجزم بأن هذا الحدوث وقع في ستة أيام إلا بأخبار مخبر صادق، وذلك موقوف على العلم بوجود الإله الفاعل المختار، فلو جعلنا هذه المقدمة مقدمة في إثبات الصانع لزم الدور. والثالث: أن حدوث السماوات والأرض دفعة واحدة أدل على كمال القدرة والعلم من حدوثها في ستة أيام.
إذا ثبت ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة فنقول: ما الفائدة في ذكر أنه تعالى إنما خلقها في ستة أيام في إثبات ذكر ما يدل على وجود الصانع؟ والرابع: أنه ما السبب في أنه اقتصر ههنا على ذكر السماوات والأرض، ولم يذكر خلق سائر الأشياء؟
السؤال الخامس: اليوم إنما يمتاز عن الليلة بسبب طلوع الشمس وغروبها فقبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل حصول الأيام؟
98

والسؤال السادس: أنه تعالى قال: * (وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر) * (القمر: 50) وهذا كالمناقض لقوله: * (خلق السماوات والأرض في ستة أيام) *.
والسؤال السابع: أنه تعالى خلق السماوات والأرض في مدة متراخية، فما الحكمة في تقييدها وضبطها بالأيام الستة؟ فنقول: أما على مذهبنا فالأمر في الكل سهل واضح، لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا اعتراض عليه في أمر من الأمور، وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه. ثم نقول:
أما السؤال الأول: فجوابه أنه سبحانه ذكر في أول التوراة أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، والعرب كانوا يخالطون اليهود والظاهر أنهم سمعوا ذلك منهم فكأنه سبحانه يقول لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السماوات والأرض على غاية عظمتها ونهاية جلالتها في ستة أيام.
وأما السؤال الثالث: فجوابه أن المقصود منه أنه سبحانه وتعالى وإن كان قادرا على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنه جعل لكل شيء حدا محدودا ووقتا مقدرا، فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه، فهو وإن كان قادرا على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال، وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال، إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر، فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد بل لما ذكرنا أنه خص كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته فلا يفتر عنه، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة ق: * (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب * فاصبر على ما يقولون) * (ق: 38، 39) بعد أن قال قبل هذا: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص * إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) * (ق: 36، 37) فأخبرهم بأنه قد أهلك من المشركين به والمكذبين لأنبيائه من كان أقوى بطشا من مشركي العرب، إلا أنه أمهل هؤلاء لما فيه من المصلحة، كما خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام متصلة لا لأجل لغوب لحقه في الإمهال، ولما بين بهذا الطريق أنه تعالى إنما خلق العالم لا دفعة لكن قليلا قليلا قال بعده: * (فاصبر على ما يقولون) * من الشرك والتكذيب ولا تستعجل لهم العذاب بل توكل على الله تعالى وفوض الأمر إليه، وهذا معنى ما يقوله المفسرون من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على الإهمال والتعطيل. ومن العلماء من ذكر فيه وجهين آخرين:
الوجه الأول: أن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع طريق الإحداث فلعله يخطر
99

ببال بعضهم أن ذاك إنما وقع على سبيل الاتفاق، أما إذا حدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للمصلحة والحكمة، كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث قديم حكيم، وقادر عليم رحيم.
الوجه الثاني: أنه قد ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أولا ثم يخلق السماوات والأرض بعده، ثم إن ذلك العاقل إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على التعاقب والتوالي، كان ذلك أقوى لعلمه وبصيرته، لأنه يتكرر على عقله ظهور هذا الدليل لحظة بعد لحظة، فكان ذلك أقوى في إفادة اليقين.
وأما السؤال الرابع: فجوابه أن ذكر السماوات والأرض في هذه الآية يشتمل أيضا على ذكر ما بينهما، والدليل عليه أنه تعالى ذكر سائر المخلوقات في سائر الآيات فقال: * (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) * وقال: * (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا * الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما) * (الفرقان: 58، 59) وقال: * (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) * (ق: 38).
وأما السؤال الخامس: فجوابه أن المراد أنه تعالى خلق السماوات والأرض في مقدار ستة أيام وهو كقوله: * (لهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * والمراد على مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا ليل ثم ولا نهار.
وأما السؤال السادس: فجوابه أن قوله: * (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) * (القمر: 50) محمول على إيجاد كل واحد من الذوات وعلى إعدام كل واحد منها، لأن إيجاد الذات الواحدة وإعدام الموجود الواحد لا يقبل التفاوت فلا يمكن تحصيله إلا دفعة واحدة، وأما الإمهال والمدة فذاك لا يحصل إلا في المدة.
وأما السؤال السابع: وهو تقدير هذه المدة بستة أيام، فهو غير وارد لأنه تعالى لو أحدثه في مقدار آخر من الزمان لعاد ذلك السؤال، وأيضا قال بعضهم لعدد السبعة شرف عظيم، وهو مذكور في تقرير أن ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، وإذا ثبت هذا قالوا: فالأيام الستة في تخليق العالم واليوم السابع في حصول كمال الملك والملكوت. وبهذا الطريق حصل الكمال في الأيام السبعة انتهى.
المسألة الرابعة: في هذه الآية بشارة عظيمة للعقلاء لأنه قال: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) * والمعنى أن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكروهات
100

هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأشياء العظيمة وأودع فيها أصناف المنافع وأنواع الخيرات، ومن كان له مرب موصوف بهذه الحكمة والقدرة والرحمة، فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات أو يعول على غيره في تحصيل السعادات؟ ثم في الآية دقيقة أخرى فإنه لم يقل أنتم عبيده بل قال هو ربكم، ودقيقة أخرى وهي أنه تعالى لما نسب نفسه إلينا سمى نفسه في هذه الحالة بالرب، وهو مشعر بالتربية وكثرة الفضل والإحسان، فكأنه يقول من كان له مرب مع كثرة هذه الرحمة والفضل، فكيف يليق به أن يشتغل بعبادة غيره؟
أما قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش) * فاعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقرا على العرش ويدل على فساده وجوه عقلية، ووجوه نقلية. أما العقلية فأمور: أولها: أنه لو كان مستقرا على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهيا وإلا لزم كون العرش داخلا في ذاته وهو محال، وكل ما كان متناهيا فإن العقل يقضي بأنه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرة والعلم بهذا الجواز ضروري، فلو كان الباري تعالى متناهيا من بعض الجوانب لكانت ذاته قابلة للزيادة والنقصان، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فثبت أنه تعالى لو كان على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهيا، ولو كان كذلك لكان محدثا وهذا محال فكونه على العرش يجب أن يكون محالا. وثانيها: لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات، وإما أن يكون متناهيا في كل الجهات. وإما أن يكون متناهيا من بعض الجهات دون البعض والكل باطل فالقول بكونه في المكان والحيز باطل قطعا.
بيان فساد القسم الأول: أنه يلزم أن تكون ذاته مخالطة لجميع الأجسام السفلية والعلوية، وأن تكون مخالطة للقاذورات والنجاسات، وتعالى الله عنه، وأيضا فعلى هذا التقدير: تكون السماوات حالة في ذاته، وتكون الأرض أيضا حالة في ذاته.
إذا ثبت هذا فنقول: الشيء الذي هو محل السماوات، إما أن يكون هو عين الشيء الذي هو محل الأرضين أو غيره، فإن كان الأول لزم كون السماوات والأرضين حالتين في محل واحد من غير امتياز بين محليهما أصلا، وكل حالين حلا في محل واحد، لم يكن أحدهما ممتازا عن الآخر، فلزم أن يقال: السماوات لا تمتاز عن الأرضين في الذات، وذلك باطل، وإن كان الثاني: لزم أن تكون ذات الله تعالى مركبة من الأجزاء والأبعاض وهو محال. والثالث: وهو أن ذات الله تعالى إذا كانت حاصلة في جميع الأحياز والجهات، فإما أن يقال: الشيء الذي حصل فوق هو
101

عين الشيء الذي حصل تحت، فحينئذ تكون الذات الواحدة قد حصلت دفعة واحدة في أحياز كثيرة، وإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضا حصول الجسم الواحد في أحياز كثيرة دفعة واحدة؟ وهو محال في بديهة العقل. وأما إن قيل: الشيء الذي حصل فوق غير الشيء الذي حصل تحت، فحينئذ يلزم حصول التركيب والتبعيض في ذات الله تعالى وهو محال.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: أنه تعالى متناه من كل الجهات. فنقول: كل ما كان كذلك فهو قابل للزيادة والنقصان في بديهة العقل، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين، لأجل تخصيص مخصص، وكل ما كان كذلك فهو محدث، وأيضا فإن جاز أن يكون الشيء المحدود من كل الجوانب قديما أزليا فاعلا للعالم، فلم لا يعقل أن يقال: خالق العالم هو الشمس، أو القمر، أو كوكب آخر، وذلك باطل باتفاق.
وأما القسم الثالث: وهو أن يقال: أنه متناه من بعض الجوانب، وغير متناه من سائر الجوانب، فهذا أيضا باطل من وجوه: أحدها: أن الجانب الذي صدق عليه كونه متناهيا غير ما صدق عليه كونه غير متناه، وإلا لصدق النقيضان معا وهو محال. وإذا حصل التغاير لزم كونه تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض، وثانيها: أن الجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه متناهيا، إما أن يكون مساويا للجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه غير متناه، وإما أن لا يكون كذلك، والأول باطل، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي، وإذا كان كذلك: فالجانب للذي هو غير متناه يمكن أن يصير متناهيا، والجانب الذي هو متناه يمكن أن يصير غير متناه، ومتى كان الأمر كذلك كان النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفرق والتمزق على ذاته ممكنا، وكل ما كان كذلك فهو محدث، وذلك على الإله القديم محال، فثبت أنه تعالى لو كان حاصلا في الحيز والجهة، لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات. وإما أن يكون متناهيا من كل الجهات، أو كان متناهيا من بعض الجهات، وغير متناه من سائر الجهات، فثبت أن الأقسام الثلاثة باطلة، فوجب أن نقول القول بكونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة محال.
والبرهان الثالث: لو كان الباري تعالى حاصلا في المكان والجهة، لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجودا مشارا إليه، وإما أن لا يكون كذلك، والقسمان باطلان، فكان القول بكونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة باطلا.
أما بيان فساد القسم الأول: فلأنه لو كان المسمى بالحيز والجهة موجودا مشارا إليه، فحينئذ
102

يكون المسمى بالحيز والجهة بعدا وامتداد، والحاصل فيه أيضا يجب أن يكون له في نفسه بعد وامتداد، وإلا لامتنع حصوله فيه، وحينئذ يلزم تداخل البعدين، وذلك محال للدلائل الكثيرة، المشهورة في هذا الباب، وأيضا فيلزم من كون الباري تعالى قديما أزليا كون الحيز والجهة أزليين، وحينئذ يلزم أن يكون قد حصل في الأزل موجود قائم بنفسه سوى الله تعالى، وذلك بإجماع أكثر العقلاء باطل.
وأما بيان فساد القسم الثاني: فهو من وجهين: أحدهما: أن العدم نفي محض، وعدم صرف، وما كان كذلك امتنع كونه ظرفا لغيره وجهة لغيره. وثانيهما: أن كل ما كان حاصلا في جهة فجهته ممتازة في الحس عن جهة غيره، فلو كانت تلك الجهة عدما محضا لزم كون العدم المحض مشارا إليه بالحس، وذلك باطل، فثبت أنه تعالى لو كان حاصلا في حيز وجهة لأفضى إلى أحد هذين القسمين الباطلين، فوجب أن يكون القول به باطلا.
فإن قيل: فهذا أيضا وارد عليكم في قولكم: الجسم حاصل في الحيز والجهة.
فنقول: نحن على هذا الطريق لا نثبت للجسم حيزا ولا جهة أصلا البتة، بحيث تكون ذات الجسم نافدة فيه وسارية فيه، بل المكان عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وهذا المعنى محال بالاتفاق في حق الله تعالى، فسقط هذا السؤال.
البرهان الرابع: لو امتنع وجود الباري تعالى إلا بحيث يكون مختصا بالحيز والجهة، لكانت ذات الباري مفتقرة في تحققها ووجودها إلى الغير، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ينتج أنه لو امتنع وجود الباري إلا في الجهة والحيز، لزم كونه ممكنا لذاته، ولما كان هذا محالا كان القول بوجوب حصوله في الحيز محالا.
بيان المقام الأول: هو أنه لما امتنع حصول ذات الله تعالى، إلا إذا كان مختصا بالحيز والجهة. فنقول: لا شك أن الحيز والجهة أمر مغاير لذات الله تعالى، فحينئذ تكون ذات الله تعالى مفتقرة في تحققها إلى أمر يغايرها، وكل ما افتقر تحققه إلى ما يغايره، كان ممكنا لذاته. والدليل عليه: أن الواجب لذاته هو الذي لا يلزم من عدم غيره عدمه، والمفتقر إلى الغير هو الذي يلزم من عدم غيره عدمه، فلو كان الواجب لذاته مفتقرا إلى الغير لزم أن يصدق عليه النقيضان، وهو محال. فثبت أنه تعالى لو وجب حصوله في الحيز لكان ممكنا لذاته، لا واجبا لذاته، وذلك محال.
والوجه الثاني: في تقرير هذه الحجة: هو أن الممكن محتاج إلى الحيز والجهة. أما عند من يثبت الخلاء. فلا شك أن الحيز والجهة تتقرر مع عدم التمكن، وأما عند من ينفي الخلاء فلا، لأنه وإن كان معتقدا أنه لا بد من متمكن يحصل في الجهة، إلا أنه لا يقول بأنه لابد لتلك الجهة من متمكن معين،
103

بل أي شيء كان فقد كفى في كونه شاغلا لذلك الحيز. إذا ثبت هذا فلو كان ذات الله تعالى مختصة بجهة وحيز لكانت ذاته مفتقرة إلى ذلك الحيز، وكان ذلك الحيز غنيا تحققه عن ذات الله تعالى. وحينئذ يلزم أن يقال: الحيز واجب لذاته غني عن غيره وأن يقال ذات الله تعالى مفتقرة في ذاتها واجبة بغيرها وذلك يقدح في قولنا: الإله تعالى واجب الوجود لذاته.
فإن قيل: الحيز والجهة ليس بأمر موجود حتى يقال ذات الله تعالى مفتقرة إليه ومحتاجة إليه،
فنقول: هذا باطل قطعا لأن بتقدير أن يقال إن ذات الله تعالى مختصة بجهة فوق فإنما نميز بحسب الحس بين تلك الجهة وبين سائر الجهات وما حصل فيه الامتياز بحسب الحس كيف يعقل أن يقال إنه عدم محض ونفي صرف؟ ولو جاز ذلك لجاز مثله في كل المحسوسات وذلك يوجب حصول الشك في وجود كل المحسوسات، وذلك لا يقوله عاقل.
البرهان الخامس: في تقرير أنه تعالى يمتنع كونه مختصا بالحيز والجهة. نقول: الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض، والخلاء الصرف، وصريح العقل يشهد أن هذا المفهوم مفهوم واحد لا اختلاف فيه البتة. وإذا كان الأمر كذلك كانت الأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية.
وإذا ثبت هذا فنقول: لو كان الإله تعالى مختصا بحيز، لكان محدثا، وهذا محال؛ فذاك محال. وبيان الملازمة: أن الأحياز لما ثبت أنها بأسرها متساوية، فلو اختص ذات الله تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به، لأجل أن مخصصا خصصه بذلك الحيز. وكل ما كان فعلا لفاعل مختار، فهو محدث. فوجب أن يكون اختصاص ذات الله بالحيز المعين محدثا، فإذا كانت ذاته ممتنعة الخلو عن الحصول في الحيز، وثبت أن الحصول في الحيز محدث، وبديهة العقل شاهدة بأن ما لا يخلو عن المحدث فهو محدث، لزم القطع بأنه لو كان حاصلا في الحيز لكان محدثا، ولما كان هذا محالا كان ذلك أيضا محالا. فإن قالوا: الأحياز مختلفة بحسب أن بعضها علو وبعضها سفل، فلم لا يجوز أن يقال ذات الله تعالى مختصة بجهة علو؟ فنقول: هذا باطل، لأن كون بعض تلك الجهات علو، وبعضها سفلا، أحوال لا تحصل، إلا بالنسبة إلى وجود هذا العالم، فلما كان هذا العالم محدثا كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار، بل ليس إلا الخلاء المحض، وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه، وأيضا لو جاز القول بأن ذات الله تعالى مختصة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب؟ فلم لا يعقل أيضا أن يقال: إن بعض الأجسام اختص ببعض الأحياز على سبيل الوجوب؟ وعلى ها التقدير، فذلك اسم لا يكون قابلا للحركة والسكون، فلا يجري فيه
104

دليل حدوث الأجسام، والقائل بهذا القول، لا يمكنه إقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون، والكرامية وافقونا على أن تجويز هذا يوجب الكفر. والله أعلم.
البرهان السادس: لو كان الباري تعالى حاصلا في الحيز والجهة لكان مشارا إليه بحسب الحس وكل ما كان كذلك، فإما أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه وإما أن يقبل القسمة.
فإن قلنا: إنه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحس، مع أنه لا يقبل القسمة المقدارية البتة، كان ذلك نقطة لا تنقسم، وجوهرا فردا لا ينقسم، فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة، وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء، وذلك لأن الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك، والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزأ، فثبت أن هذا بإجماع العقلاء باطل، وأيضا فلو جاز ذلك، فلم لا يعقل أن يقال: إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة، أو ذرة ملتصقة بذنب قملة، أو نملة؟ ومعلوم أن كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء، فإن صريح العقل يوجب تنزيه الله تعالى عنه.
وأما القسم الثاني: وهو أنه يقبل القسمة، فنقول: كل ما كان كذلك، فذاته مركبة وكل مركب فهو ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثر، وذلك على الإله الواجب لذاته محال.
البرهان السابع: أن نقول: كل ذات قائمة بنفسها مشارا إليها بحسب الحس فهو منقسم وكل منقسم ممكن فكل ذات قائمة بنفسها مشار إليها بحسب الحس فهو ممكن. فما
لا يكون ممكنا لذاته بل كان واجبا لذاته امتنع كونه مشارا إليه بحسب الحس.
أما المقدمة الأولى: فلأن كل ذات قائمة بالنفس مشار إليها بحسب الحس فلا بد وأن يكون جانب يمينه مغايرا لجانب يساره وكل ما هو كذلك فهو منقسم.
وأما المقدمة الثانية: وهي أن كل منقسم ممكن فإنه يفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره، وكل منقسم فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته.
واعلم أن المقدمة الأولى من مقدمات هذا الدليل إنما تتم بنفي الجوهر الفرد.
البرهان الثامن: لو ثبت كونه تعالى في حيز لكان إما أن يكون أعظم من العرش أو مساويا له أو أصغر منه فإن كان الأول كان منقسما لأن القدر الذي منه يساوي العرش يكون مغايرا للقدر الذي يفضل على العرش وإن كان الثاني كان منقسما لأن العرش منقسم والمساوي للمنقسم منقسم وإن كان الثالث، فحينئذ يلزم أن يكون العرش أعظم منه وذلك باطل بإجماع الأمة. أما عندنا
105

فظاهر، وأما عند الخصوم فلأنهم ينكرون كون غير الله تعالى أعظم من الله تعالى، فثبت أن هذا المذهب باطل.
البرهان التاسع: لو كان الإله تعالى حاصلا في الحيز والجهة لكان إما أن يكون متناهيا من كل الجوانب. وإما أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان، فالقول بكونه حاصلا في الحيز والجهة باطل أيضا. أما بيان أنه لا يجوز أن يكون متناهيا من كل الجهات، فلأن على هذا التقدير يحصل فوقه أحياز خالية، وهو تعالى قادر على خلق الجسم في ذلك الحيز الخالي، وعلى هذا التقدير لو خلق هناك عالما آخر لحصل هو تعالى تحت العالم وذلك عند الخصم محال وأيضا فقد كان يمكن أن يخلق من الجوانب الستة لتلك الذات أجساما أخرى، وعلى هذا التقدير فتحصل ذاته في وسط تلك الأجسام محصورة فيها ويحصل بينه وبين الأجسام الاجتماع تارة والافتراق أخرى، وكل ذلك على الله تعالى محال.
وأما القسم الثاني: وهو أن يكون غير متناه من بعض الجهات فهذا أيضا محال، لأنه ثبت بالبرهان أنه يمتنع وجود بعد لا نهاية له، وأيضا فعلى هذا التقدير لا يمكن إقامة الدلالة على أن العالم متناه لأن كل دليل يذكر في تناهي الأبعاد، فإن ذلك الدليل ينتقض بذات الله تعالى فإنه على مذهب الخصم بعد لا نهاية له، وهو وإن كان لا يرضى بهذا اللفظ إلا أنه يساعد على المعنى، والمباحث العقلية مبنية على المعاني، لا على المشاحة في الألفاظ.
البرهان العاشر: لو كان الإله تعالى حاصلا في الحيز والجهة لكان كونه تعالى هناك. إما أن يمنع من حصول جسم آخر هناك أو لا يمنع، والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلا في الحيز.
أما فساد القسم الأول: فلأنه لما كان كونه هناك مانعا من حصول جسم آخر هناك. كان هو تعالى مساويا لسائر الأجسام في كونه حجما متحيزا ممتدا في الحيز والجهة مانعا من حصول غيره في الحيز الذي هو فيه، وإذا ثبت حصول المساواة في ذلك المفهوم بينه وبين سائر الأجسام فإما أن يحصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه أو لا يحصل، والأول باطل لوجهين: الأول: أنه إذا حصلت المشاركة بين ذاته تعالى وبين ذوات الأجسام من بعض الوجوه، والمخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايرا لما به المخالفة، وحينئذ تكون ذات الباري تعالى مركبة من هذين الاعتبارين، وقد دللنا على أن كل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف. والثاني: وهو أن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد. إما أن يكون محلا لما به المخالفة. وإما أن يكون حالا فيه. وإما أن يقال: إنه لا محل له ولا حالا فيه. أما الأول: وهو أن يكون محلا لما به
106

المخالفة، فعلى هذا التقدير طبيعة البعد والامتداد هي الجوهر القائم بنفسه، والأمور التي حصلت بها المخالفة أعراض وصفات، وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على البواقي، فعلى هذا التقدير كل ما صح على جميع الأجسام، وجب أن يصح على الباري تعالى وبالعكس، ويلزم منه صحة التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد على ذات الله تعالى وكل ذلك محال.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: ما به المخالفة محل وذات، وما به المشاركة حال وصفة فهذا محال، لأن على هذا التقدير تكون طبيعة البعد والامتداد صفة قائمة بمحل، وذلك المحل إن كان له أيضا اختصاص بحيز وجهة، وجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية، وإن لم يكن كذلك فحينئذ يكون موجودا مجردا لا تعلق له بالحيز والجهة والإشارة الحسية البتة، وطبيعة البعد والامتداد واجبة الاختصاص بالحيز والجهة والإشارة الحسية، وحلول ما هذا شأنه في ذلك المحل يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال.
وأما القسم الثالث: وهو أن لا يكون أحدهما حالا في الآخر ولا محلا له. فنقول: فعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهما متباينا عن الآخر، وعلى هذا التقدير فتكون ذات الله تعالى مساوية لسائر الذوات الجسمانية في تمام الماهية، لأن ما به المخالفة بين ذاته وبين سائر الذوات ليست حالة في هذه الذوات، ولا محالا لها بل أمور أجنبية عنها فتكون ذات الله تعالى مساوية لذوات الأجسام في تمام الماهية، وحينئذ يعود الإلزام المذكور، فثبت أن القول: بأن ذات الله تعالى مختصة بالحيز والجهة بحيث يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز يفضي إلى هذه الأقسام الثلاثة الباطلة فوجب كونه باطلا.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: إن ذات الله تعالى وإن كانت مختصة بالحيز والجهة، إلا أنه لا يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز والجهة، فهذا أيضا محال لأنه يوجب كون ذاته مخالطة سارية في ذات ذلك الجسم الذي يحصل في ذلك الجنب والحيز وذلك بالإجماع محال، ولأنه لو عقل ذلك فلم لا يعقل حصول الأجسام الكثيرة في الحيز الواحد؟ فثبت أنه تعالى لو كان حاصلا في حيز لكان. إما أن يمنع حصول جسم آخر في ذلك الحيز أو لا يمنع، وثبت فساد القسمين، فكان القول
بحصوله تعالى في الحيز والجهة محالا باطلا.
البرهان الحادي عشر: على أنه يمتنع حصول ذات الله تعالى في الحيز والجهة هو أن نقول: لو كان مختصا بحيز وجهة لكان. إما أن يكون بحيث يمكنه أن يتحرك عن تلك الجهة أو لا يمكنه
107

ذلك، والقسمان باطلان، فبطل القول بكونه حاصلا في الحيز.
أما القسم الأول: وهو أنه يمكنه أن يتحرك فنقول: هذه الذات لا تخلو عن الحركة والسكون وهما محدثان، لأن على هذا التقدير السكون جائز عليه والحركة جائزة عليه، ومتى كان كذلك لم يكن المؤثر في تلك الحركة ولا في ذلك السكون ذاته، وإلا لامتنع طريان ضده والتقدير: هو تقدير أنه يمكنه أن يتحرك وأن يسكن، وإذا كان كذلك ان المؤثر في حصول تلك الحركة، وذلك السكون هو الفاعل المختار وكل ما كان فعلا لفاعل مختار فهو محدث، فالحركة والسكون محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فيلزم أن تكون ذاته تعالى محدثة وهو محال.
وأما القسم الثاني: وهو أنه يكون مختصا بحيز وجهة مع أنه لا يقدر أن يتحرك عنه فهذا أيضا محال لوجهين: الأول: أن على هذا التقدير يكون كالزمن المقعد العاجز، وذلك نقص، وهو على الله محال. والثاني: أنه لو لم يمتنع فرض موجود حاصل في حيز معين بحيث يكون حصوله فيه واجب التقرر ممتنع الزوال لم يبعد أيضا فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز، وعلى هذا التقدير فلا يمكن إثبات حدوثها بدليل الحركة والسكون، والكرامية يساعدون على أنه كفر. والثالث: أنه تعالى لما كان حاصلا في الحيز والجهة كان مساويا للأجسام في كونه متحيزا شاغلا للأحياز، ثم نقيم الدلالة المذكورة على أن المتحيزات لما كانت متساوية في صفة التحيز وجب كونها متساوية في تمام الماهية، لأنه لو خالف بعضها بعضا لكان ما به المخالفة إما أن يكون حالا في المتحيز أو محلا له أو لا حالا ولا محلا، والأقسام الثلاثة باطلة على ما سبق. وإذا كانت متساوية في تمام الماهية فكما أن الحركة صحيحة على هذه الأجسام وجب القول بصحتها على ذات الله تعالى وحينئذ يتم الدليل.
الحجة الثانية عشرة: لو كان تعالى مختصا بحيز معين لكنا إذا فرضنا وصول إنسان إلى طرف ذلك الشيء وحاول الدخول فيه. فإما أن يمكنه النفوذ والدخول فيه أو لا يمكنه ذلك، فإن كان الأول كان كالهواء اللطيف، والماء اللطيف، وحينئذ يكون قابلا للتفرق والتمزق وإن كان الثاني كان صلبا كالحجر الصلد الذي لا يمكنه النفوذ فيه، فثبت أنه تعالى لو كان مختصا بمكان وحيز وجهة لكان إما أن يكون رقيقا سهل التفرق والتمزق كالماء والهواء، وإما أن يكون صلبا جاسئا كالحجر الصلد، وقد أجمع المسلمون على أن إثبات هاتين الصفتين في حق الإله كفر وإلحاد في صفته، وأيضا فبتقدير أن يكون مختصا بمكان وجهة، لكان إما أن يكون نورانيا وظلمانيا، وجمهور المشبهة يعتقدون أنه نور محض، لاعتقادهم أن النور شريف والظلمة خسيسة، إلا أن
108

الاستقراء العام دل على أن الأشياء النورانية رقيقة لا تمنع النافذ من النفوذ فيها، والدخول فيما بين أجزائها، وعلى هذا التقدير فإن ذلك الذي ينفذ فيه يمتزج به ويفرق بين أجزائه ويكون ذلك الشيء جاريا مجرى الهواء الذي يتصل تارة وينفصل أخرى. ويجتمع تارة ويتمزق أخرى، وذلك مما لا يليق بالمسلم أن يصف إله العالم به، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال أن خالق العالم هو بعض هذه الرياح التي تهب؟ أو يقال إنه بعض هذه الأنوار والأضواء التي تشرق على الجدران؟ والذين يقولون إنه لا يقبل التفرق والتمزق ولا يتمكن النافذ من النفوذ فإنه يرجع حاصل كلامهم إلى أنه حصل فوق العالم جبل صلب شديد وإله هذا العالم هو ذلك الجبل الصلب الواقف في الحيز العالي، وأيضا فإن كان له طرف وحد ونهاية فهل حصل لذلك الشيء عمق وثخن أو لم يحصل؟ فإن كان الأول فحينئذ يكون ظاهره غير باطنه وباطنه غير ظاهره، فكان مؤلفا مركبا من الظاهر والباطن مع أن باطنه غير ظاهره وظاهره غير باطنه، وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذاته سطحا رقيقا في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منه ألف ألف مرة، والعاقل لا يرضى أن يجعل مثل هذا الشيء إله العالم، فثبت أن كونه تعالى في الحيز والجهة يفضي إلى فتح باب هذه الأقسام الباطلة الفاسدة.
الحجة الثالثة عشرة: العالم كرة، وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلا في جهة فوق.
أما المقام الأول: فهو مستقصي في علم الهيئة إلا أنا نقول أنا إذا اعتبرنا كسوفا قمريا حصل في أول الليل بالبلاد الغربية كان عين ذلك الكسوف حاصلا في البلاد الشرقية في أول النهار، فعلمنا أن أول الليل بالبلاد الغربية هو بعينه أول النهار بالبلاد الشرقية، وذلك لا يمكن إلا إذا كانت الأرض مستديرة من المشرق إلى المغرب، وأيضا إذا توجهنا إلى الجانب الشمالي فكلما كان توغلنا أكثر، كان ارتفاع القطب الشمالي أكثر وبمقدار ما يرتفع القطب الشمالي ينخفض القطب الجنوبي وذلك يدل على أن الأرض مستديرة من الشمال إلى الجنوب، ومجموع هذين الاعتبارين يدل على أن الأرض كرة.
وإذا ثبت هذا فنقول: إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والأخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين، والذي هو فوق بالنسبة إلى أحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني، فلو فرضنا أن إله العالم حصل في الحيز الذي فوق بالنسبة إلى أحدهما، فذلك الحيز بعينه هو تحت بالنسبة إلى الثاني، وبالعكس فثبت أنه تعالى لو حصل في حيز معين لكان ذلك الحيز تحتا
109

بالنسبة إلى أقوام معينين، وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق، فوجب أن لا يكون حاصلا في حيز معين، وأيضا فعلى هذا التقدير أنه كلما كان فوق بالنسبة إلى أقوام كان تحت بالنسبة إلى أقوام آخرين، وكان يمينا بالنسبة إلى ثالث، وشمالا بالنسبة إلى رابع، وقدام الوجه بالنسبة إلى خامس، وخلق الرأس بالنسبة إلى سادس، فإن كون الأرض كرة يوجب ذلك إلا أن حصول هذه الأحوال بإجماع العقلاء محال في حق إله العالم إلا إذا قيل إنه محيط بالأرض من جميع الجوانب فيكون هذا فلكا محيطا بالأرض وحاصله يرجع إلى أن إله العالم هو بعض الأفلاك المحيطة بهذا العالم، وذلك لا يقوله مسلم، والله أعلم.
الحجة الرابعة عشرة: لو كان إله العالم فوق العرش لكان إما أن يكون مماسا للعرش، أو مباينا له ببعد متناه أو ببعد غير متناه، والأقسام الثلاثة باطلة، فالقول بكونه فرق العرش باطل.
أما بيان فساد القسم الأول: فهو أن بتقدير أن يصير مماسا للعرش كان الطرف الأسفل منه مماسا للعرش، فهل يبقى فوق ذلك الطرف منه شيء غير مماس للعرش أو لم يبق؟ فإن كان الأول فالشئ الذي منه صار مماسا لطرف العرش غير ما هو منه غير مماس لطرف العرش، فيلزم أن يكون ذات الله تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض فتكون ذاته في الحقيقة مركبة من سطوح متلاقية موضوعة بعضها فوق بعض، وذلك هو القول بكونه جسما مركبا من الأجزاء والأبعاض وذلك محال، وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذات الله تعالى سطحا رقيقا لا ثخن له أصلا، ثم يعود التقسيم فيه، وهو أنه إن حصل له تمدد في اليمين والشمال والقدام والخلف كان مركبا من الأجزاء والأبعاض، وإن لم يكن له تمدد ولا ذهاب في الأحياز بحسب الجهات الستة كان ذرة من الذرات وجزءا لا يتجزأ مخلوطا بالهباآت، وذلك لا يقوله عاقل.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه، فهذا أيضا محال، لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماسا له، وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول.
وأما القسم الثالث: وهو أن يقال أنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية، فهذا أظهر فسادا من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مباينا للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم، ومحصورا بين هذين الحاصرين، والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعدا غير متناه.
فإن قيل: أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد، فتقدمه على العالم محصور بين
110

حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين أحدهما: الأزل، والثاني: أول وجود العالم ولم يلزم من كون هذا التقدم محصورا بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية، فكذا ههنا، وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم.
والجواب: أن هذا هو محض المغالطة، لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم، فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدودا بين حدين ومحصورا بين حاصرين، وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه. بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين البتة.
إذا عرفت هذا فنقول: إما أن نقول أنه تعالى مختص بجهة معينة، وحاصل في حيز معين وإما أن لا نقول ذلك، فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدودا بين ذينك الحدين والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه، لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف، وكونه محصورا بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين، وهو محال. ونظيره ما ذكرناه أنا متى عينا قبل العالم وقتا معينا كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعدا متناهيا لا محالة. وأما إن قلنا بالقسم الثاني: وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة، فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة. لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال، ونظير هذا قول من يقول الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث، فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل.
الحجة الخامسة عشرة: إنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان: إما السطح الباطن من الجسم الحاوي. وإما البعد المجرد والفضاء الممتد، وليس يعقل في المكان قسم ثالث.
إذا عرفت هذا فنقول: إن كان المكان هو الأول. فنقول: ثبت أن أجسام العالم متناهية، فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة، فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم، وإن كان المكان هو الثاني، فنقول طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية، فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز، وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون وكل ما كان كذلك كان محدثا بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول، وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين، فيلزم كون الإله محدثا، وهو محال. فثبت أن القول بأنه تعالى حاصل في الحيز والجهة
111

قول باطل على كل الاعتبارات.
الحجة السادسة عشرة: وهي حجة استقرائية اعتبارية لطيفة جدا، وهي أنا رأينا أن الشيء كلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقوى وأثبت، كانت القوة الفاعلية فيه أضعف وأنقص، وكلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقل وأضعف، كان حصول القوة الفاعلية أقوى وأكمل، وتقريره أن نقول وجدنا الأرض أكثف الأجسام وأقواها حجمية، فلا جرم لم يحصل فيها إلا خاصة قبول الأثر فقط، فأما أن يكون للأرض الخالصة تأثير في غيره فقليل جدا. وأما الماء فهو أقل كثافة وحجمية من الأرض، فلا جرم حصلت فيه قوة مؤثرة، فإن الماء الجاري بطبعه إذا اختلط بالأرض أثر فيها أنواعا من التأثيرات. وأما الهواء، فإنه أقل حجمية وكثافة من الماء، فلا جرم كان أقوى على التأثير من الماء، فلذلك قال بعضهم أن الحياة لا تكمل إلا بالنفس، وزعموا أنه لا معنى للروح إلا الهواء المستنشق. وأما النار، فإنها أقل كثافة من الهواء، فلا جرم كانت أقوى الأجسام العنصرية على التأثير فبقوة الحرارة يحصل الطبخ والنضج، وتكون المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان. وأما الأفلاك، فإنها ألطف من الأجرام العنصرية، فلا جرم كانت هي المستولية على مزاج الأجرام العنصرية بعضها البعض، وتوليد الأنواع والأصناف المختلفة من تلك التمزيجات، فهذا الاستقراء المطرد يدل على أن الشيء كلما كان أكثر حجمية وجرمية وجسمية كان أقل قوة وتأثيرا وكلما كان أقوى قوة وتأثيرا كان أقل حجمية وجرمية وجسمية،
وإذا كان الأمر كذلك أفاد هذا الاستقراء ظنا قويا أنه حيث حصل كمال القوة والقدرة على الإحداث والإبداع لم يحصل هناك البتة معنى الحجمية والجرمية والاختصاص بالحيز والجهة، وهذا وإن كان بحثا استقرائيا إلا أنه عند التأمل التام شديد المناسبة للقطع بكونه تعالى منزها عن الجسمية والموضع والحيز. وبالله التوفيق. فهذه جملة الوجوه العقلية في بيان كونه تعالى منزها عن الاختصاص بالحيز والجهة.
أما الدلائل السمعية فكثيرة: أولها: قوله تعالى: * (قل هو الله أحد) * (الإخلاص: 1) فوصفه بكونه أحدا والأحد مبالغة في كونه واحدا. والذي يمتلئ منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركبا من أجزاء كثيرة جدا فوق أجزاء العرش، وذلك ينافي كونه أحدا ورأيت جماعة من الكرامية عند هذا الإلزام يقولون أنه تعالى ذات واحدة، ومع كونها واحدة حصلت في كل هذه الأحياز دفعة واحدة. قالوا: فلأجل أنه حصل دفعة واحدة في جميع الأحياز امتلأ العرش منه. فقلت حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنه يجوز حصول الذات الشاغلة للحيز والجهة في أحياز كثيرة دفعة واحدة
112

والعقلاء اتفقوا على أن العلم بفساد ذلك من أجل العلوم لضرورية، وأيضا فإن جوزتم ذلك فلم لا تجوزون أن يقال: إن جميع العالم من العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة هذه الأحياز، فيظن أنها أشياء كثيرة، ومعلوم أن من جوزه، فقد التزم منكرا من القول عظيما. فإن قالوا: إنما عرفنا ههنا حصول التغاير بين هذه الذوات لأن بعضها يفنى مع بقاء الباقي. وذلك يوجب التغاير، وأيضا فنرى بعضها متحركا، وبعضها ساكنا والمتحرك غير الساكن، فوجب القول بالتغاير، وهذه المعاني غير حاصلة في ذات الله، فظهر الفرق، فنقول: أما قولك بأنا نشاهد أن هذا الجزء يبقى مع أنه يفنى ذلك الجزء الآخر، وذلك يوجب التغاير. فنقول: لا نسلم أنه فني شيء من الأجزاء بل نقول لم لا يجوز أن يقال أن جميع أجزاء العالم جزء واحد فقط؟ ثم إنه حصل ههنا وهناك، وأيضا حصل موصوفا بالسواد والبياض وجميع الألوان والطعوم، فالذي يفنى إنما هو حصوله هناك، فأما أن يقال إنه فني في نفسه، فهذا غير مسلم، وأما قوله: نرى بعض الأجسام متحركا وبعضها ساكنا، وذلك يوجب التغاير، لأن الحركة والسكون لا يجتمعان. فنقول: إذا حكمنا بأن الحركة والسكون لا يجتمعان لاعتقادنا أن الجسم الواحد لا يحصل دفعة واحدة في حيزين، فإذا رأينا أن الساكن بقي هنا، وأن المتحرك ليس هنا قضينا أن المتحرك غير الساكن. وأما بتقدير أن يجوز كون الذات الواحدة حاصلة في حيزين دفعة واحدة، ل يمتنع كون الذات الواحدة متحركة ساكنة معا، لأن أقصى ما في الباب أن بسبب السكون بقي هنا، وبسبب الحركة حصل في الحيز الآخر، إلا أنا لما جوزنا أن تحصل الذات الواحدة دفعة واحدة في حيزين معا لم يبعد أن تكون الذات الساكنة هي عين الذات المتحركة، فثبت أنه لو جاز أن يقال إنه تعالى في ذاته واحد لا يقبل القسمة، ثم مع ذلك يمتلئ العرش منه، لم يبعد أيضا أن يقال: العرش في نفسه جوهر فرد وجزء لا يتجزأ، ومع ذلك فقد حصل في كل تلك الأحياز، وحصل منه كل العرش ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى فتح باب الجهالات. وثانيها: أنه تعالى قال: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17) فلو كان إله العالم في العرش، لكان حامل العرش حاملا للإله، فوجب أن يكون الإله محمولا حاملا، ومحفوظا حافظا، وذلك لا يقوله عاقل. وثالثها: أنه تعالى قال: * (والله الغني) * (محمد: 38) حكم بكونه غنيا على الإطلاق، وذلك يوجب كونه تعالى غنيا عن المكان والجهة. ورابعها: أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات، فإنه لما قال: * (وما رب العالمين) * (الشعراء: 23) ففي المرة الأولى قال: * (رب السماوات والأرض وما بينهما
113

إن كنتم موقنين) * (الدخان: 7) وفي الثانية قال: * (ربكم ورب آبائكم الأولين) * (الشعراء: 26) وفي المرة الثالثة: * (قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) * (الشعراء: 28) وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية، وأما فرعون لعنه الله فإنه قال: * (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى) * (غافر: 36، 37) فطلب الإله في السماء، فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية، وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى، وسائر جميع الأنبياء، وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة. وخامسها: أنه تعالى قال في هذه الآية: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) * وكلمة " ثم " للتراخي وهذا يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد تخليق السماوات والأرض، فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار، لزم أن يقال: إنه ما كان مستقرا على العرش، بل كان معوجا مضطربا، ثم استوى عليه بعد ذلك، وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة تارة، والسكون أخرى، وذلك لا يقوله عاقل. وسادسها: هو أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه إنما طعن في إلهية الكوكب والقمر والشمس بكونها آفلة غاربة فلو كان إله العالم جسما، لكان أبدا غاربا آفلا. وكان منتقلا من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار، فكل ما جعله إبراهيم عليه السلام طعنا في إلهية الشمس والكوكب والقمر يكون حاصلا في إله العالم، فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته. وسابعها: أنه تعالى ذكر قبل قوله: * (ثم استوى على العرش) * شيئا وبعده شيئا آخر. أما الذي ذكره قبل هذه الكلمة فهو قوله: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) * وقد بينا أن خلق السماوات والأرض يدل على وجود الصانع وقدرته وحكمته من وجوه كثيرة. وأما الذي ذكره بعد هذه الكلمة فأشياء: أولها: قوله: * (يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا) * وذلك أحد الدلائل الدالة على وجود الله، وعلى قدرته وحكمته. وثانيها: قوله: * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) * وهو أيضا من الدلائل الدالة على الوجود والقدرة والعلم. وثالثها: قوله: * (ألا له الخلق والأمر) * وهو أيضا إشارة إلى كمال قدرته وحكمته.
إذا ثبت هذا فنقول: أول الآية إشارة إلى ذكر ما يدل على الوجود والقدرة والعلم، وآخرها يدل أيضا على هذا المطلوب، وإذ كان الأمر كذلك فقوله: * (ثم استوى على العرش) * وجب أن يكون أيضا دليلا على كمال القدرة والعلم، لأنه لو لم يدل عليه بل كان المراد كونه مستقرا على العرش كان ذلك كلاما أجنبيا عما قبله وعما بعده، فإن كونه تعالى مستقرا على العرش لا يمكن جعله دليلا على كماله في القدرة والحكمة وليس أيضا من صفات المدح والثناء، لأنه تعالى قادر على أن يجلس
114

جميع أعداد البق والبعوض على العرش وعلى ما فوق العرش، فثبت أن كونه جالسا على العرش ليس من دلائل إثبات الصفات والذات ولا من صفات المدح والثناء، فلو كان المراد من قوله: * (ثم استوى على العرش) * كونه جالسا على العرش لكان ذلك كلاما أجنبيا عما قبله وعما بعده، وهذا يوجب نهاية الركاكة، فثبت أن المراد منه ليس ذلك، بل المراد منه كمال قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المطلوب. وثامنها: أن السماء عبارة عن كل ما ارتفع وسما وعلا، والدليل عليه أنه تعالى سمى السحاب سماء حيث قال: * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) * (الأنفال: 11) وإذا كان الأمر كذلك، فكل ماله ارتفاع وعلو وسمو كان سماء، فلو كان إله العالم موجودا فوق العرش، لكان ذات الإله تعالى سماء لساكني العرش. فثبت أنه تعالى لو كان فوق العرش لكان سماء والله تعالى حكم بكونه خالقا لكل السماوات في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو قوله: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) * فلو كان فوق العرش سماء لسكان أهل العرش لكان خالقا لنفسه وذلك محال.
وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (الذي خلق السماوات والأرض) * آية محكمة دالة على أن قوله: * (ثم استوى على العرش) * من المتشابهات التي يجب تأويلها، وهذه نكتة لطيفة، ونظير هذا أنه تعالى قال في أول سورة الأنعام: * (وهو الله في السماوات) * (الأنعام: 3) ثم قال بعده بقليل: * (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) * (الأنعام: 12) فدلت هذه الآية المتأخرة على أن كل ما في السماوات، فهو ملك لله فلو كان الله في السماوات لزم كونه ملكا لنفسه، وذلك محال فكذا ههنا، فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله: * (ثم استوى على العرش) * على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز، وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان: الأول: أن نقطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله، وهو الذي قررناه في تفسير قوله: * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) * (آل عمران: 7) وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه.
والقول الثاني: أن نخوض في تأويله على التفصيل، وفيه قولان ملخصان: الأول: ما ذكره القفال رحمة الله عليه فقال: * (العرش) * في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك، يقال: ثل عرشه أي انتفض ملكه وفسد. وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا: استوى على عرشه، واستقر على سرير ملكه، هذا ما قاله القفال. وأقول: إن الذي قاله حق وصدق وصواب، ونظيره قولهم للرجل الطويل: فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر
115

الضيافة كثير الرماد، وللرجل الشيخ فلان اشتعل رأسه شيبا، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها، إنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا ههنا يذكر الاستواء على العرش، والمراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة، ثم قال القفال رحمه الله تعالى: والله تعالى لما دل على ذاته وعلى صفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم استقر في قلوبهم عظمة الله وكمال جلاله، إلا أن كل ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال: إنه عالم فهموا منه أنه لا يخفى عليه تعالى شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة ولا روية ولا باستعمال حاسة، وإذا قال: قادر علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات، وتكوين الممكنات، ثم علموا بعقولهم أنه غني في ذلك الإيجاد، والتكوين عن الآلات والأدوات، وسبق المادة والمدة والفكرة والروية، وهكذا القول في كل صفاته، وإذا أخبر أن له بيتا يجب على عباده حجة فهموا منه أنه نصب لهم موضعا يقصدونه لمسألة ربهم وطلب حوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه، وإنه لم يجعل ذلك البيت مسكنا لنفسه، ولم ينتفع به في دفع الحر والبرد بعينه عن نفسه، فإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه، ثم علموا بعقولهم أنه لا يفرح بذلك التحميد والتعظيم ولا يغتم بتركه والإعراض عنه.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه تعالى أخبر أنه خلق السماوات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ولا مدافع، ثم أخبر بعده أنه استوى على العرش، أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد، فكان قوله: * (ثم استوى على العرش) * أي بعد أن خلقها استوى على عرش الملك والجلال. ثم قال القفال: والدليل على أن هذا هو المراد قوله في سورة يونس: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر) * (يونس: 3) فقوله: * (يدبر الأمر) * جرى مجرى التفسير لقوله: * (استوى على العرش) * وقال في هذه الآية التي نحن في تفسيرها: * (ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر) * وهذا يدل على أن قوله: * (ثم استوى على العرش) * إشارة إلى ما ذكرناه.
فإن قيل: فإذا حملتم قوله: * (ثم استوى على العرش) * على أن المراد: استوى على الملك، وجب أن يقال: الله لم يكن مستويا قبل خلق السماوات والأرض.
قلنا: إنه تعالى إنما كان قبل خلق العوالم قادرا على تخليقها وتكوينها. وما كان مكونا ولا موجودا لها بأعيانها بالفعل، لأن إحياء زيد، وإماتة عمرو، وإطعام هذا وإرواء ذلك لا يحصل
116

إلا عند هذه الأحوال، فإذا فسرنا العرش بالملك والملك بهذه الأحوال، صح أن يقال: إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السماوات والأرض بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلق السماوات والأرض، وهذا جواب حق صحيح في هذا الموضع.
والوجه الثاني: في الجواب أن يقال: استوى بمعنى. استولى، وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه فلا نعيده هنا.
والوجه الثالث: أن نفسر العرش بالملك ونفسر استوى بمعنى: علا واستعلى على الملك فيكون المعنى: أنه تعالى استعلى على الملك بمعنى أن قدرته نفذت في ترتيب الملك والملكوت، واعلم أنه تعالى ذكر قوله: * (استوى على العرش) * في سور سبع. إحداها: ههنا. وثانيها: في يونس. وثالثها: في الرعد. ورابعها: في طه. وخامسها: في الفرقان. وسادسها: في السجدة. وسابعها: في الحديد، وقد ذكرنا في كل موضع فوائد كثيرة، فمن ضم تلك الفوائد بعضها إلى بعض كثرت وبلغت مبلغا كثيرا وافيا بإزالة شبه التشبيه عن القلب والخاطر.
أما قوله: * (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص * (يغشي) * بتخفيف الغين وفي الرعد هكذا، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد، وفي الرعد هكذا. قال الواحدي رحمه الله: الإغشاء والتغشية إلباس الشيء بالشيء، وقد جاء التنزيل بالتشديد والتخفيف، فمن التشديد قوله تعالى: * (فغشاها ما غشى) * (النجم: 54) ومن اللغة الثانية قوله: * (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * (يس: 9) والمفعول الثاني محذوف على معنى فأغشيناهم العمى وفقد الرؤية.
المسألة الثانية: قوله: * (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا) * يحتمل أن يكون المراد يلحق الليل بالنهار، وأن يكون المراد النهار بالليل، واللفظ يحتملهما معا وليس فيه تغيير، والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس * (يغشي الليل النهار) * بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار أي يدرك النهار الليل ويطلبه قال القفال رحمه الله: أنه سبحانه لما أخبر عباده باستوائه على العرش عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته، أراهم ذلك عيانا فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر، وتزول الشبه عن كل الجهات، فقال: * (يغشى الليل النهار) * لأنه تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة، والفوائد الجليلة، فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة، وتكمل المنفعة والمصلحة.
المسألة الثالثة: قوله: * (يطلبه حثيثا) * قال الليث: الحث: الإعجال، يقال: حثثت فلانا فاحتث، فهو حثيث ومحثوث، أي مجد سريع.
117

واعلم أنه سبحانه وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة، وذلك هو الحق، لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم، وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، وأكملها شدة، حتى أن الباحثين عن أحوال الموجودات. قالوا: الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل، فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل، وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة، فلهذا السبب قال تعالى: * (يطلبه حثيثا) * ونظير هذه الآية قوله سبحانه: * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) * (يس: 40) فشبه ذلك السير وتلك الحركة بالسباحة في الماء، والمقصود: التنبيه على سرعتها وسهولتها وكمال إيصالها.
ثم قال تعالى: * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) * بالرفع على معنى الابتداء والباقون بالنصب على معنى وجعل الشمس والقمر، قال الواحدي والنصب هو الوجه لقوله تعالى: * (واسجدوا لله الذي خلقهن) * (فصلت: 37) فكما صرح في هذه الآية أنه سخر الشمس والقمر كذلك يجب أن يحمل على أنه خلقها في قوله: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض.... والشمس والقمر والنجوم) * وهذا النصف على الحال أي خلق هذه الأشياء حال كونها موصوفة بهذه الصفات والآثار والأفعال وحجة ابن عامر قوله تعالى: * (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) * (الجاثية: 13) ومن جملة ما في السماء الشمس والقمر فلما أخبر أنه تعالى سخرها حسن الأخبار عنها بأنها مسخرة كما أنك إذا قلت ضربت زيدا استقام أن تقول زيد مضروب.
المسألة الثانية: في هذه الآية لطائف: فالأولى: أن الشمس لها نوعان من الحركة:
أحد النوعين: حركتها بحسب ذاتها وهي إنما تتم في سنة كاملة وبسبب هذه الحركة تحصل السنة.
والنوع الثاني: حركتها بسبب حركة الفلك الأعظم وهذه الحركة تتم في اليوم بليلة.
إذا عرفت هذا فنقول: الليل والنهار لا يحصل بسبب حركة الشمس وإنما يحصل بسبب حركة السماء الأقصى التي يقال لها العرش فهذا السبب لما ذكر العرش بقوله: * (ثم استوى على العرش) * ربط به قوله: * (يغشي الليل النهار) * تنبيها على أن سبب حصول الليل والنهار هو حركة الفلك الأقصى لا حركة الشمس والقمر وهذه دقيقة عجيبة. والثانية: أنه تعالى لما شرح كيفية تخليق السماوات. قال: * (فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) * (فصلت: 12) فدلت تلك الآية على أنه سبحانه خص كل ذلك بلطيفة نورانية ربانية من عالم الأمر.
118

ثم قال بعده: * (ألا له الخلق والأمر) * وهو إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى أما من عالم الخالق أو من عالم الأمر، أما الذي هو من عالم الخلق، فالخلق عبارة عن التقدير، وكل ما كان جسما أو جسمانيا كان مخصوصا بمقدار معين، فكان من عالم الخلق، وكل ما كان بريئا عن الحجمية والمقدار كان من عالم الأرواح ومن عالم الأمر، فدل على أنه سبحانه خص كل واحد من أجرام الأفلاك والكواكب التي هي من عالم الخلق بملك من الملائكة، وهم من عالم الأمر والأحاديث الصحيحة مطابقة لذلك، وهي ما روي في الأخبار أن لله ملائكة يحركون الشمس والقمر عند الطلوع وعند الغروب، وكذا القول في سائر الكواكب، وأيضا قوله سبحانه: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17) إشارة إلى أن الملائكة الذين يقومون بحفظ العرش ثمانية، ثم إذا دققت النظر علمت أن عالم الخلق في تسخير الله وعالم الأمر في تدبير الله واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقدير الله فلهذا المعنى قال: * (ألا له الخلق والأمر) *. ثم قال بعده: * (تبارك الله رب العالمين) * والبركة لها تفسيران: أحدهما: البقاء والثبات والثاني: كثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة وكلا التفسيرين لا يليق إلا بالحق سبحانه، فإن حملته على الثبات والدوام، فالثابت والدائم هو الله تعالى لأنه الموجود الواجب لذاته العالم لذاته القائم بذاته الغني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه، فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنهى الافتقارات وهو غني عن كل ما سواه في جميع الأمور وأيضا إن فسرنا البركة بكثرة الآثار الفاضلة فالكل بهذا التفسير من الله تعالى، لأن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته ليس إلا هو، وكل ما سواه ممكن، وكل ممكن فلا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وكل الخيرات منه وكل الكمالات فائضة من وجوده
وإحسانه، فلا خير إلا منه ولا إحسان إلا من فيضه، ولا رحمة إلا وهي حاصلة منه، فلما كان الخلق والأمر ليس إلا منه، لا جرم كان الثناء المذكور بقوله: * (فتبارك الله رب العالمين) * (غافر: 64) لا يليق إلا بكبريائه وكمال فضله ونهاية جوده ورحمته.
المسألة الثالثة: كون الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره سبحانه يحتمل وجوها: أحدها: أنا قد دللنا في هذا الكتاب العالي الدرجة أن الأجسام متماثلة ومتى كان كذلك، كان اختصاص جسم الشمس بذلك النور المخصوص والضوء الباهر والتسخير الشديد والتأثير القاهر والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي، لا بد وأن يكون لأجل أن الفاعل الحكيم والمقدر العليم خص ذلك الجسم بهذه الصفات وهذه الأحوال، فجسم كل واحد من الكواكب والنيرات كالمسخر في قبول تلك القوى والخواص، عن قدرة المدبر الحكيم، الرحيم العليم. وثانيها: أن يقال
119

إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب، سيرا خاصا بطيئا من المغرب إلى المشرق وسيرا آخر سريعا بسبب حركة الفلك الأعظم، فالحق سبحانه خص جرم الفلك الأعظم بقوة سارية في أجرام سائر الأفلاك باعتبارها صارت مستولية عليها، قادرة على تحريكها على سبيل القهر من المشرق إلى المغرب فأجرام الأفلاك والكواكب صارت كالمسخرة لهذا القهر والقسر ولفظ الآية مشعر بذلك لأنه لما ذكر العرش بقوله: * (ثم استوى على العرش) * رتب عليه حكمين: أحدهما: قوله: * (يغشي الليل النهار) * تنبيها على أن حدوث الليل والنهار إنما يحصل بحركة العرش. والثاني: قوله: * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) * تنبيها على أن الفلك الأعظم الذي هو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب وأنه تعالى أودع في جرم العرش قوة قاهرة باعتبارها قوى على قهر جميع الأفلاك والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها، فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله. وثانيها: أن أجسام العالم على ثلاثة أقسام، منها ما هي متحركة إلى الوسط وهي الثقال. ومنها ما هي متحركة عن الوسط، وهي الخفاف، ومنها ما هي متحركة عن الوسط، وهي الأجرام الفلكية الكوكبية، فإنها مستديرة حول الوسط فكون الأفلاك والكواكب مستديرة حول مركز الأرض لا عنه ولا إليه، لا يكون إلا بتسخير الله وتدبيره، حيث خص كل واحد من هذه الأجسام بخاصة معينة وصفة معينة وقوة مخصوصة فلهذا السبب قال: * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) * ورابعها: أن الثوابت تتحرك في كل ستة وثلاثين ألف سنة دورة واحدة، فهذه الحركة تكون في غاية البطء. ثم ههنا دقيقة أخرى وهي أن كل كوكب من الكواكب الثابتة، كان أقرب إلى المنطقة كانت حركته أسرع، وكل ما كان أقرب إلى القطب كانت حركته أبطأ، فالكواكب التي تكون في غاية القرب من القطب. مثل كوكب الجدي وهو الذي تقول العوام إنه هو القطب، يدور في دائرة في غاية الصغر، وهو إنما يتمم تلك الدائرة الصغيرة جدا في مدة ستة وثلاثين ألف سنة. فإذا تأملت علمت أن تلك الحركة بلغت في البطء إلى حيث لا توجد حركة في العالم تشاركها في البطء، فذلك الكوكب اختص بأبطأ حركات هذا العالم وجرم الفلك الأعظم اختص بأسرع حركات العالم، وفيما بين هاتين الدرجتين درجات لا نهاية لها في البطء والسرعة، وكل واحد من الكواكب والدوائر والحوامل والممثلات يختص بنوع من تلك الحركات، وأيضا فلكل واحد من تلك الكواكب مدارات مخصوصة، فأسرعها هو المنطقة وكل ما كان أقرب إليه فهو أسرع حركة مما هو أبعد منه، ثم إنه سبحانه رتب مجموع هذه الحركات على اختلاف درجاتها وتفاوت مراتبها سببا لحصول المصالح في هذا العالم. كما قال في أول سورة
120

البقرة: * (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات) * (البقرة: 29) أي سواهن على وفق مصالح هذا العالم، وهو بكل شيء عليم، أي هو عالم بجميع المعلومات. فيعلم أنه كيف ينبغي ترتيبها وتسويتها حتى تحصل مصالح هذا العالم، فهذا أيضا نوع عجيب في تسخير الله تعالى هذه الأفلاك والكواكب، فتكون داخلة تحت قوله: * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) * وربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد! فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره من وجوه: الأول: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها، والتأمل في أحوالها جائزا لما ملأ الله كتابه منها. والثاني: أنه تعالى قال: * (أولم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) * (ق: 6) فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها. والثالث: أنه تعالى قال: * (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * (غافر: 57) فبين أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السماوات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس، ثم أنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله: * (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) * (الذاريات: 21) فما كان أعلى شأنا وأعظم برهانا منها أولى بأن يجب التأمل في أحوالها ومعرفة ما أودع الله فيها من العجائب والغرائب. والرابع: أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السماوات والأرض فقال: * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا) * (آل عمران: 191) ولو كان ذلك ممنوعا منه لما فعل. والخامس: أن من صنف كتابا شريفا مشتملا على دقائق العلوم العقلية والنقلية بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق، فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان: منهم من يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين، ومنهم من وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين، واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى. وأيضا فكل من كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل.
إذا ثبت هذا فنقول: من الناس من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث،
121

فحصل له بهذا الطريق إثبات الصانع تعالى وصار من زمرة المستدلين، ومنهم من ضم إلى تلك الدرجة البحث عن أحوال العالم العلوي والعالم السفلي على سبيل
التفصيل فيظهر له في كل نوع من أنواع هذا العالم حكمة بالغة وأسرار عجيبة، فيصير ذلك جاريا مجرى البراهين المتواترة والدلائل المتوالية على عقله، فلا يزال ينتقل كل لحظة ولمحة من برهان إلى برهان آخر، ومن دليل إلى دليل آخر، فلكثرة الدلائل وتواليها أثر عظيم في تقوية اليقين وإزالة الشبهات. فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذه الفوائد والأسرار لا لتكثير النحو الغريب والاشتقاقات الخالية عن الفوائد والحكايات الفاسدة، ونسأل الله العون والعصمة.
المسألة الرابعة: الأمر المذكور في قوله: * (مسخرات بأمره) * قد فسرناه بما سبق ذكره، وأما المفسرون فلهم فيه وجوه: أحدها: المراد نفاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبيين عظمته وقدرته، وليس المراد من هذا الأمر الكلام، ونظيره في قوله تعالى: * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11) وقوله: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الثاني الذي هو الكلام، وقال: إنه تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة.
المسألة الخامسة: أن الشمس والقمر من النجوم فذكرهما ثم عطف على ذكرهما ذكر النجوم والسبب في إفرادهما بالذكر أنه تعالى جعلهما سببا لعمارة هذا العالم، والاستقصاء في تقريره لا يليق بهذا الموضع، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، والشمس تأثيرها في التسخين والقمر تأثيره في الترطيب، وتولد المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة. ثم إنه تعالى خص كل كوكب بخاصة عجيبة وتدبير غريب لا يعرفه بتمامه إلا الله تعالى، وجعله معينا لهما في تلك التأثيرات والمباحث المستقصاة في علم الهيئة تدل على أن الشمس كالسلطان، والقمر كالنائب، وسائر الكواكب كالخدم، فلهذا السبب بدأ الله سبحانه بذكر الشمس وثنى القمر ثم أتبعه بذكر سائر النجوم.
أما قوله تعالى: * (ألا له الخلق والأمر) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا موجد ولا مؤثر إلا الله سبحانه والدليل عليه أن كل من أوجد شيئا وأثر في حدوث شيء. فقد قدر على تخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت فكان خالقا، ثم الآية دلت على أنه لا خالق إلا الله لأنه قال: * (ألا له الخلق والأمر) * وهذا يفيد الحصر بمعنى أنه لا خالق إلا الله، وذلك يدل على أن كل أمر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي، فخالق
122

ذلك الأمر في الحقيقة هو الله سبحانه لا غير. وإذا ثبت هذا الأصل تفرعت عليه مسائل: إحداها: أنه لا إله إلا الله إذ لو حصل إلهان لكان الإله الثاني خالقا ومدبرا، وذلك يناقض مدلول هذه الآية في تخصص الخلق بهذا الواحد. وثانيها: أنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم، وإلا لحصل خالق سوى الله، وذلك ضد مدلول هذه الآية. وثالثها: أن القول بإثبات الطبائع، وإثبات العقول والنفوس على ما يقوله الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل، وإلا لحصل خالق غير الله. ورابعها: خالق أعمال العباد هو الله، وإلا لحصل خالق غير الله. وخامسها: القول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل. وإلا لحصل مؤثر غير الله، ومقدر غير الله، وخالق غير الله، وإنه باطل.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن كلام الله قديم. قالوا: إنه تعالى ميز بين الخلق وبين الأمر، ولو كان الأمر مخلوقا لما صح هذا التمييز. أجاب الجبائي: عنه بأنه لا يلزم من أفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلا في الخلق فإنه تعالى قال: * (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) * (الحجر: 1) وآيات الكتاب داخلة في القرآن وقال: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) * (النحل: 90) مع أن الإحسان داخل في العدل وقال: * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (البقرة: 98) وهما داخلان تحت الملائكة. وقال الكعبي: إن مدار هذه الحجة على أن المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه، فإن صح هذا الكلام بطل مذهبكم لأنه تعالى قال: * (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته) * (الأعراف: 158) فعطف الكلمات على الله فوجب أن تكون الكلمات غير الله وكل ما كان غير الله فهو محدث مخلوق، فوجب كون كلمات الله محدثة مخلوقة. وقال القاضي: أطبق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام التنزيل، بل المراد به نفاذ إرادة الله تعالى لأن الغرض بالآية تعظيم قدرته، وقال آخرون: لا يبعد أن يقال: الأمر وإن كان داخلا تحت الخلق إلا أن الأمر بخصوص كونه أمرا يدل على نوع آخر من الكمال والجلال فقوله: * (له الخلق والأمر) * معناه: له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى، ثم بعد الإيجاد والتكوين فله الأمر والتكليف في المرتبة الثانية، ألا ترى أنه لو قال له الخلق وله التكليف وله الثواب والعقاب، كان ذلك حسنا مفيدا مع أن الثواب والعقاب داخلان تحت الخلق فكذا ههنا. وقال آخرون: معنى قوله: * (ألا له الخلق والأمر) * هو أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق فكذا قوله: * (والأمر) * يجب أن يكون معناه: أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر، وإذا كان حصول الأمر متعلقا بمشيئته لزم أن يكون ذلك الأمر مخلوقا كما أنه لما كان حصول المخلوق متعلقا بمشيئته كان مخلوقا، أما لو كان أمر الله قديما لم يكن
123

ذلك الأمر بحسب مشيئته، بل كان من لوازم ذاته. فحينئذ لا يصدق عليه أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر، وذلك ينفي ظاهر الآية.
والجواب: أنه لو كان الأمر داخلا تحت الخلق كان إفراد الأمر بالذكر تكريرا محضا، والأصل عدمه. أقصى ما في الباب أنا تحملنا ذلك في صور لأجل الضرورة، إلا أن الأصل عدم التكرير. والله أعلم.
المسألة الثالثة: هذه الآية تدل على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئا إلا الله سبحانه.
وإذا ثبت هذا فنقول: فعل الطاعة لا يوجب الثواب، وفعل المعصية لا يوجب العقاب، وإيصال الألم لا يوجب العوض وبالجملة فلا يجب على الله لأحد من العبيد شيء البتة، إذ لو كان فعل الطاعة يوجب الثواب لتوجه على الله من العبد مطالبة ملزمة وإلزام جازم، وذلك ينافي قوله: * (ألا له الخلق والأمر) *.
المسألة الرابعة: دلت هذه الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه، وأن الحسن لا يجوز أن يحسن لوجه عائد إليه لأن قوله: * (ألا له الخلق والأمر) * يفيد أنه تعالى له أن يأمر بما شاء كيف شاء، ولو كان القبيح يقبح لوجه عائد إليه لما صح من الله أن يأمر إلا بما حصل منه ذلك الوجه، ولا أن ينهي إلا عما فيه وجه القبح فلم يكن متمكنا من الأمر والنهي كما شاء وأراد مع أن الآية تقتضي هذا المعنى.
المسألة الخامسة: دلت هذه الآية على أنه سبحانه قادر على خلق عوالم سوى هذا العالم كيف شاء وأراد وتقريره: إنه قال: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض... والشمس والقمر والنجوم) * والخلق إذا أطلق أريد به الجسم المقدر أو ما يظهر تقديره في الجسم المقدر. ثم بين في آية أخرى أنه أوحي في كل سماء أمرها وبين في هذه الآية أنه تعالى خصص كل واحد من الشمس والقمر والنجوم بأمره، وذلك يدل على أن ما حدث بتأثير قدرة الله تعالى فتميز الأمر والخلق، ثم قال بعد هذا التفصيل والبيان * (ألا له الخلق والأمر) * يعني له القدرة على الخلق وعلى الأمر على الإطلاق، فوجب أن يكون قادرا على إيجاد هذه الأشياء وعلى تكوينها كيف شاء وأراد، فلو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والشمس والقمر والنجوم في أقل من لحظة ولمحة لقدر عليه لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات ولهذا قال المعري في قصيدة طويلة له: يا أيها الناس كم لله من فلك * تجري النجوم به والشمس والقمر
124

ثم قال في أثناء هذه القصيدة: هنا على الله ماضينا وغابرنا * فما لنا في نواحي غيره
المسألة السادسة: قال قوم: * (الخلق) * صفة من صفات الله وهو غير المخلوق، واحتجوا عليه بالآية والمعقول. أما الآية فقوله تعالى: * (ألا له الخلق والأمر) * قالوا: وعند أهل السنة * (الأمر) * لله لا بمعنى كونه مخلوقا له، بل بمعنى كونه صفة له فكذلك يجب أن يكون * (الخلق) * لله لا بمعنى كونه مخلوقا له بل بمعنى كونه صفة له، وهذا يدل على أن الخلق صفة قائمة بذات الله تعالى. وأما المعقول فهو أنا إذا قلنا: لم حدث هذا الشيء ولم وجد بعد أن لم يكن؟ فنقول: في جوابه لأنه تعالى خلقه وأوجده فحينئذ يكون هذا التعليل صحيحا، فلو كان كونه تعالى خالقا له نفس حصول ذلك المخلوق لكان قوله أنه إنما حدث لأنه تعالى خلقه وأوجده جاريا مجرى قوله: أنه إنما حدث لنفسه ولذاته لا لشيء آخر، وذلك محال باطل، لأن صدق هذا المعنى ينفي كونه مخلوقا من قبل الله تعالى. فثبت أن كونه تعالى خالقا للمخلوق مغايرا لذات ذلك المخلوق، وذلك يدل على أن الخلق غير المخلوق وجوابه: لو كان الخلق غير المخلوق لكان أن كان قديما لزم من قدمه قدم المخلوق، وإن كان حادثا افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل وهو محال.
المسألة السابعة: ظاهر الآية يقتضي أنه كما لا خلق إلا لله، فكذلك لا أمر إلا لله، وهذا يتأكد بقوله تعالى: * (إن الحكم إلا لله) * (الأنعام: 57) وقوله: * (فالحكم لله العلي الكبير) * (غافر: 12) وقوله: * (لله الأمر من قبل ومن بعد) * (الروم: 4) إلا أنه مشكل بالآية والخبر. أما الآية فقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * (النور: 63) وأما الخبر فقوله عليه السلام: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ".
والجواب: أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أن أمر الله قد حصل، فيكون الموجب في الحقيقة هو أمر الله لا أمر غيره. والله أعلم.
المسألة الثامنة: قوله: * (ألا له الخلق والأمر) * يدل على أن لله أمرا ونهيا على عباده، وأن له تكليفا على عباده، والخلاف مع نفاة التكليف. واحتجوا عليه بوجوه: أولها: أن المكلف به إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع. فكان الأمر به أمرا بتحصيل الحاصل وأنه محال، وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع، فكان الأمر به أمرا بما يمتنع وقوعه وهو محال، وثانيها: أنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله، كان واجب الوقوع، فلا فائدة في الأمر، وإن لم يخلق الداعي إليه كان ممتنع الوقوع، فلا فائدة في الأمر به. وثالثها: أن أمر الكافر والفاسق لا يفيد إلا الضرر المحض، لأنه لما علم الله أنه لا يؤمن ولا يطيع، امتنع أن يصدر عنه الإيمان والطاعة، إلا إذا
125

صار علم الله جهلا، والعبد لا قدرة له على تجهيل الله، وإذا تعذر اللازم تعذر الملزوم. فوجب أن يقال: لا قدرة للكافر والفاسق على الإيمان والطاعة أصلا، وإذا كان كذلك لم يحصل من الأمر به إلا مجرد استحقاق العقاب، فيكون هذا الأمر والتكليف إضرارا محضا من غير فائدة البتة، وهو لا يليق بالرحيم الحكيم، ورابعها: أن الأمر والتكليف إن لم يكن لفائدة فهو عبث، وإن كان لفائدة عائدة إلى المعبود فهو محتاج وليس باله، وإن كان لفائدة عائدة إلى العابد. فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل النفع، ودفع الضرر، والله تعالى قادر على تحصيلها بالتمام والكمال من غير واسطة التكليف، فكان توسيط التكليف إضرارا محضا من غير فائدة، وأنه لا يجوز.
واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنه يحسن منه أن يأمر عباده، وأن يكلفهم بما شاء. واحتج عليه بقوله: * (ألا له الخلق والأمر) * يعني لما كان الخلق منه ثبت أنه هو الخالق لكل العبيد، وإذا كان خالقا لهم كان مالكا لهم، وإذا كان مالكا لهم حسن منه أن يأمرهم وينهاهم، لأن ذلك تصرف من المالك في ملك نفسه، وذلك مستحسن، فقوله سبحانه: * (ألا له الخلق والأمر) * يجري مجرى الدليل القاطع على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء كيف شاء.
المسألة التاسعة: دلت الآية على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقا لهم لا كما يقوله المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحا، ولا كما يقولونه أيضا من حيث العوض والثواب، لأنه تعالى ذكر أن الخلق له أولا، ثم ذكر الأمر بعده، وذلك يدل على أن حسن الأمر معلل بكونه خالقا لهم موجدا لهم، وإذا كانت العلة في حسن الأمر والتكليف، هذا القدر سقط اعتبار الحسن، والقبح، والثواب، والعقاب في اعتبار حسن الأمر والتكليف.
المسألة العاشرة: دلت هذه الآية على أنه تعالى متكلم آمر ناه مخبر مستخبر، وكان من حق هذه المسألة تقدمها على سائر المسائل، إلا أنها إنما خطرت بالبال في هذا الوقت، والدليل عليه قوله تعالى: * (ألا له الخلق والأمر) * فدل ذلك على أن له الأمر، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له النهي، والخبر، والاستخبار، ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
المسألة الحادية عشرة: أنه تعالى بين كونه تعالى خالقا للسموات، والأرض، والشمس، والقمر، والنجوم.
ثم قال: * (ألا له الخلق والأمر) * أي لا خالق إلا هو. ولقائل أن يقول: لا يلزم من كونه تعالى خالقا لهذه الأشياء أن يقال: لا خالق على الإطلاق إلا هو، فلم رتب على إثبات كونه خالق لتلك الأشياء إثبات أنه لا خالق إلا هو على الإطلاق؟
126

فنقول: الحق أنه متى ثبت كونه تعالى خالقا لبعض الأشياء، وجب كونه خالقا لكل الممكنات، وتقريره: أن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه، والإمكان واحد في كل الممكنات، وهذا الإمكان إما أن يكون علة للحاجة إلى مؤثر متعين، أو إلى مؤثر غير متعين. والثاني باطل، لأن كل ما كان موجودا في الخارج، فهو متعين في نفسه، فيلزم منه أن ما لا يكون متعينا في نفسه لم يكن موجودا في الخارج. وما لا وجود له في الخارج امتنع أن يكون علة لوجود غيره في الخارج، فثبت أن الإمكان علة للحاجة إلى موجد ومعين، فوجب أن يكون جميع الممكنات محتاجا إلى ذلك المعين. فثبت أن الذي يكون مأثرا في وجود شيء واحد، هو المؤثر في وجود كل الممكنات.
أما قوله تعالى: * (تبارك الله رب العالمين) * فاعلم أنه سبحانه لما بين كونه خالقا للسموات، والأرض، والعرش، والليل، والنهار، والشمس، والقمر، والنجوم وبين كون الكل مسخرا في قدرته وقهره ومشيئته، وبين أن له الحكم والأمر والنهي والتكليف، بين أنه يستحق الثناء والتقديس والتنزيه، فقال: * (تبارك الله رب العالمين) * وقد تقدم تفسير * (تبارك) * فلا نعيده.
واعلم أنه تعالى بدأ في أول الآية: رب السماوات والأرضين، وسائر الأشياء المذكورة، ثم ختم الآية بقوله: * (تبارك الله رب العالمين) * والعالم كل موجود سوى الله تعالى، فبين كونه ربا وإلها وموجودا ومحدثا لكل ما سواه، ومع كونه كذلك فهو رب ومرب ومحسن ومتفضل، وهذا آخر الكلام في شرح هذه الآية.
* (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا فى الارض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على كمال القدرة والحكمة والرحمة، وعند هذا تم التكليف المتوجه إلى تحصيل المعارف النفسانية، والعلوم الحقيقية، أتبعه بذكر الأعمال اللائقة بتلك المعارف وهو الاشتغال بالدعاء والتضرع، فإن الدعاء مخ العبادة، فقال: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * وفي الآية مسائل:
127

المسألة الأولى: قوله: * (ادعوا ربكم) * فيه قولان: قال بعضهم: * (اعبدوا) * وقال آخرون: هو الدعاء، ومن قال بالأول عقل من الدعاء أنه طلب الخير من الله تعالى، وهذه صفة العبادة، لأنه يفعل تقربا، وطلبا للمجازاة لأنه تعالى عطف عليه قوله: * (وادعوه خوفا وطمعا) * (الأعراف: 56) والمعطوف ينبغي أن يكون مغايرا للمعطوف عليه. والقول الثاني هو الأظهر، لأن الدعاء مغاير للعبادة في المعنى.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلف الناس في الدعاء، فمنهم من أنكره. واحتج على صحة قوله بأشياء: الأول: أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع لامتناع وقوع التغيير في علم الله تعالى، وما كان واجب الوقوع لم يكن في طلبه فائدة، وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع فلا فائدة أيضا في طلبه. الثاني: أنه تعالى إن كان قد أراد في الأزل إحداث ذلك المطلوب، فهو حاصل سواء حصل هذا الدعاء أو لم يحصل، وإن كان قد أراد في الأزل أن لا يعطيه فهو ممتنع الوقوع فلا فائدة في الطلب، وإن قلنا أنه ما أراد في الأزل إحداث ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه، ثم إنه عند ذلك الدعاء، صار مريدا له لزم وقوع التغير في ذات الله وفي صفاته، وهو محال. لأن على هذا التقدير: يصير إقدام العبد على الدعاء علة لحدوث صفة في ذات الله تعالى، فيكون العبد متصرفا في صفة الله بالتبديل والتغيير، وهو محال. والثالث: أن المطلوب بالدعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه، فهو تعالى يعطيه من غير هذا الدعاء لأنه منزه عن أن يكون بخيلا وأن اقتضت الحكمة منعه، فهو لا يعطيه سواء أقدم العبد على الدعاء أو لم يقدم عليه. والرابع: أن الدعاء غير الأمر، ولا تفاوت بين البابين إلا كون الداعي أقل رتبة، وكون الآمر أعلى رتبة وإقدام العبد على أمر الله سوء أدب، وإنه لا يجوز. الخامس: الدعاء يشبه ما إذا أقدم العبد على إرشاد ربه وإلهه إلى فعل الأصلح والأصوب، وذلك سوء أدب أو أنه ينبه الإله على شيء ما كان منتبها له، وذلك كفر وأنه تعالى قصر في الإحسان والفضل فأنت بهذا تحمله على الإقدام على الإحسان والفضل، وذلك جهل. السادس: إن الإقدام على الدعاء يدل على كونه غير راض بالقضاء إذ لو رضي بما قضاه الله عليه لترك تصرف نفسه، ولما طلب من الله شيئا على التعيين وترك الرضا بالقضاء أمر من المنكرات. السابع: كثيرا ما يظن العبد بشيء كونه نافعا وخيرا، ثم أنه عند دخوله في الوجود يصير سببا للآفات الكثيرة والمفاسد العظيمة، وإذا كان كذلك كان طلب الشيء المعين من الله غير جائز، بل الأولى طلب ما هو المصلحة والخير، وذلك حاصل من الله تعالى سواء طلبه العبد بالدعاء أو لم يطلبه. فلم يبق في الدعاء فائدة. الثامن: أن الدعاء عبارة عن
128

توجه القلب إلى طلب شيء من الله تعالى، وتوجه القلب إلى طلب ذلك الشيء المعين يمنع القلب من الاستغراق في معرفة الله تعالى، وفي محبته، وفي عبوديته، وهذه مقامات عالية شريفة، وما يمنع من حصول المقامات العالية الشريفة كان مذموما. التاسع: روي أنه عليه الصلاة والسلام. قال حاكيا عن الله سبحانه: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " وذلك يدل على أن الأولى ترك الدعاء. العاشر: إن علم الحق محيط بحاجة العبد، والعبد إذا علم أن مولاه عالم باحتياجه، فسكت ولم يذكر تلك الحاجة كان ذلك أدخل في الأدب، وفي تعظيم المولى مما إذا أخذ يشرح كيفية تلك الحالة، ويطلب ما يدفع تلك الحاجة، وإذا كان الحال على هذا الوجه في الشاهد، وجب اعتبار مثله في حق الله سبحانه، ولذلك يقال أن الخليل عليه السلام لما وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار. قال جبريل عليه السلام ادع ربك. فقال الخليل عليه السلام: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فهذه الوجوه هي المذكورة في هذا الباب.
واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة والأسئلة المذكورة واردة في جميع أنواع العبادات، فإنه يقال أن كان هذا الإنسان سعيدا في علم الله فلا حاجة إلى الطاعات
والعبادات، وإن كان شقيا في علمه فلا فائدة في تلك العبادات، وأيضا يقال وجب أن لا يقدم الإنسان على أكل الخبز وشرب الماء لأنه أن كان هذا الإنسان شبعان في علم الله تعالى فلا حاجة إلى أكل الخبز، وإن كان جائعا فلا فائدة في أكل الخبز، وكما أن هذا الكلام باطل ههنا، فكذا فيما ذكروه، بل نقول الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية ويفيد معرفة عزة الربوبية، وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجا إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزا عن تحصيله وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه، ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة، وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفا بالحاجة وبالعجز وعرف كون الإله سبحانه موصوفا بكمال العلم والقدرة والرحمة، فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية، فإذا كان الدعاء مستجمعا لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات. وقوله تعالى: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه لأن التضرع لا يحصل إلا من الناقص في حضرة الكامل فما لم يعتقد العبد نقصان نفسه وكمال مولاه في العلم والقدرة والرحمة لم يقدم على التضرع، فثبت أن المقصود من الدعاء ما ذكرناه، فثبت أن لفظ القرآن دليل عليه والذي يقوي ما ذكرناه ما روي أنه عليه السلام قال: " ما من شيء أكرم على الله من الدعاء والدعاء هو العبادة " ثم قرأ: * (إن
129

الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) * (غافر: 60) في حقائق الدعاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * (البقرة: 186) والله أعلم.
المسألة الثانية: في تقرير شرائط الدعاء.
اعلم أن المقصود من الدعاء أن يصير العبد مشاهدا لحاجة نفسه ولعجز نفسه ومشاهدا لكون مولاه موصوفا بكمال العلم والقدرة والرحمة، فكل هذه المعاني دخلت تحت قوله: * (ادعوا ربكم تضرعا) * ثم إذا حصلت هذه الأحوال على سبيل الخلوص، فلا بد من صونها عن الرياء المبطل لحقيقة الإخلاص، وهو المراد من قوله تعالى: * (وخفية) * والمقصود من ذكر التضرع تحقيق الحالة الأصلية المطلوبة من الدعاء والمقصود من ذكر الإخفاء صون ذلك الإخلاص عن شوائب الرياء، وإذا عرفت هذا المعنى ظهر لك أن قوله سبحانه: * (تضرعا وخفية) * مشتمل على كل ما يراد تحقيقه وتحصيله في شرائط الدعاء، وأنه لا يزيد عليه البتة بوجه من الوجوه، وأما تفصيل الكلام في تلك الشرائط، فقد بالغ في شرحها الشيخ سليمان الحليمي رحمة الله عليه في كتاب المنهاج فليطلب من هناك.
المسألة الثالثة: " التضرع " التذلل والتخشع، وهو إظهار ذل النفس من قولهم: ضرع فلان لفلان، وتضرع له إذا أظهر الذل له في معرض السؤال " والخفية " ضد العلانية. يقال: أخفيت الشيء إذا سترته، ويقال: * (خفية) * أيضا بالكسر، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر عنه * (خفية) * بكسر الخاء ههنا وفي الأنعام، والباقون بالضم، وهما لغتان:
واعلم أن الإخفاء معتبر في الدعاء، ويدل على وجوه: الأول: هذه الآية فإنها تدل على أنه تعالى أمر بالدعاء مقرونا بالإخفاء، وظاهر الأمر للوجوب، فإن لم يحصل الوجوب، فلا أقل من كونه ندبا.
ثم قال تعالى بعده: * (إنه لا يحب المعتدين) * والأظهر أن المراد أنه لا يحب المعتدين في ترك هذين الأمرين المذكورين، وهما التضرع والإخفاء، فإن الله لا يحبه ومحبة الله تعالى عبارة عن الثواب، فكان المعنى أن من ترك في الدعاء التضرع والإخفاء، فإن الله لا يثيبه البتة، ولا يحسن إليه، ومن كان كذلك كان من أهل العقاب لا محالة، فظهر أن قوله تعالى: * (إنه لا يحب المعتدين) * كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء.
الحجة الثانية: أنه تعالى أثنى على زكريا فقال: * (إذ نادى ربه نداء خفيا) * (مريم: 3) أي أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطع به إليه.
130

الحجة الثالثة: ما روى أبو موسى الأشعري، أنهم كانوا في غزاة فأشرفوا على واد فجعلوا يكبرون ويهللون رافعي أصواتهم فقال عليه السلام: " ارفقوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وإنه لمعكم ".
الحجة الرابعة: قوله عليه السلام: " دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية " وعنه عليه السلام: " خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي " وعن الحسن أنه كان يقول: إن الرجل كان يجمع القرآن وما يشعر به جاره، يفقه الكثير وما يشعر به الناس، ويصلي الصلاة الطويلة في ليله وعنده الزائرون وما يشعرون به ولقد أدركنا أقواما كانوا يبالغون في إخفاء الأعمال، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع صوتهم إلا همسا، لأن الله تعالى قال: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * وذكر الله عبده زكريا فقال: * (إذ نادى ربه نداء خفيا) *.
الحجة الخامسة: المعقول وهو أن النفس شديدة الميل عظيمة الرغبة في الرياء والسمعة، فإذا رفع صوته في الدعاء امتزج الرياء بذلك الدعاء فلا يبقى فيه فائدة البتة. فكان الأولى إخفاء الدعاء ليبقى مصونا عن الرياء وههنا مسائل عظم اختلاف أرباب الطريقة فيها، وهي: أنه هل الأولى إخفاء العبادات أم إظهارها؟ فقال بعضهم الأولى إخفاؤها صونا لها عن الرياء وقال آخرون: الأولى إظهارها ليرغب الغير في الاقتداء به في أداء تلك العبادات. وتوسط الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي فقال: إن كان خائفا على نفسه من الرياء الأولى الإخفاء صونا لعمله عن البطلان، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء.
المسألة الرابعة: قال أبو حنيفة رحمه الله، إخفاء التأمين أفضل. وقال الشافعي رحمه الله، إعلانه أفضل، واحتج أبو حنيفة على صحة قوله، قال: في قوله: " آمين " وجهان: أحدهما: أنه دعاء. والثاني: أنه من أسماء الله، فإن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله تعالى: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * وإن كان اسما من أسماء الله
تعالى وجب إخفاؤه لقوله تعالى: * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة) * (الأعراف: 205) فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية ونحن بهذا القول نقول:
أما قوله تعالى: * (إنه لا يحب المعتدين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أجمع المسلمون على أن المحبة صفة من صفات الله تعالى، لأن القرآن نطق بإثباتها في آيات كثيرة. واتفقوا على أنه ليس معناها شهوة النفس وميل الطبع وطلب التلذذ بالشيء، لأن كل ذلك في حق الله تعالى محال بالاتفاق، واختلفوا في تفسير المحبة في حق الله تعالى على ثلاثة أقوال:
131

فالقول الأول: أنها عبارة عن إيصال الله الثواب والخير والرحمة إلى العبد.
والقول الثاني: أنها عبارة عن كونه تعالى مريدا لإيصال الثواب والخير إلى العبد. وهذا الاختلاف بناء على مسألة أخرى وهي: أنه تعالى هل هو موصوف بصفة الإرادة أم لا؟ قال الكعبي وأبو الحسين: إنه تعالى غير موصوف بالإرادة البتة، فكونه تعالى مريدا لأفعال نفسه أنه موجد لها وفاعل لها، وكونه تعالى مريدا لأفعال غيره كونه آمرا بها ولا يجوز كونه تعالى موصوفا بصفة الإرادة. وأما أصحابنا ومعتزلة البصرة فقد أثبتوا كونه تعالى موصوفا بصفة المريدية.
إذا عرفت هذا فمن نفي الإرادة في حق الله تعالى فسر محبة الله بمجرد إيصال الثواب إلى العبد ومن أثبت الإرادة لله تعالى فسر محبة الله بإرادته لإيصال الثواب إليه.
والقول الثالث: أنه لا يبعد أن تكون محبة الله تعالى للعبد صفة وراء كونه تعالى مريدا لإيصال الثواب إليه، وذلك لأنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخير إلى ذلك الابن فكانت هذه الإرادة أثرا من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها وفائدة من فوائدها. أقصى ما في الباب أن يقال: إن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة النفس وذلك في حق الله تعالى محال، إلا أنا نقول: لم لا يجوز أن يقال محبة الله تعالى صفة أخرى، سوى الشهوة وميل الطبع يترتب عليها إرادة إيصال الخير والثواب إلى العبد؟ أقصى ما في الباب، أنا لا نعرف أن تلك المحبة ما هي وكيف هي؟! إلا أن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء. ألا ترى أن أهل السنة يثبتون كونه تعالى مرئيا، ثم يقولون إن تلك الرؤية مخالفة لرؤية الأجسام والألوان، بل هي رؤية بلا كيف، فلم لا يقولون ههنا أيضا أن محبة الله للعبد محبة منزهة عن ميل الطبع وشهوة النفس بل هي محبة بلا كيف؟ فثبت أن جزم المتكلمين بأنه لا معنى لمحبة الله إلا إرادة إيصال الثواب ليس لهم على هذا الحصر دليل قاطع. بل أقصى ما في الباب أن يقال لا دليل على إثبات صفة أخرى سوى الإرادة فوجب نفيها، لكنا بينا في كتاب نهاية العقول أن هذه الطريقة ضعيفة ساقطة.
المسألة الثانية: قوله: * (إنه لا يحب المعتدين) * أي المجاوزين ما أمروا به. قال الكلبي وابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء.
المسألة الثالثة: اعلم أن كل من خالف أمر الله تعالى ونهيه، فقد اعتدى وتعدى. فيدخل تحت قوله: * (إنه لا يحب المعتدين) * وقد بينا أن من لا يحبه الله فإنه يعذبه، فظاهر هذه الآية يقتضي أن كل من خالف أمر الله ونهيه، فإنه يكون معاقبا، والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية على القطع بوعيد
132

الفساق، وقالوا لا يجوز أن يقال المراد منه الاعتداء في رفع الصوت بالدعاء وبيانه من وجهين: الأول: أن لفظ * (المعتدين) * لفظ عام دخله الألف واللام، فيفيد الاستغراق غايته أنه إنما ورد في هذه الصورة لكنه ثبت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الثاني: أن رفع الصوت بالدعاء ليس من المحرمات بل غايته أن يقال الأولى تركه، وإذا لم يكن من المحرمات لم يدخل تحت هذا الوعيد.
والجواب المستقصى ما ذكرناه في سورة البقرة أن التمسك بهذه العمومات لا يفيد القطع بالوعيد.
ثم قال تعالى: * (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: * (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) * معناه ولا تفسدوا شيئا في الأرض، فيدخل فيه المنع من إفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة ووجوه الحيل، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على الزنا واللواطة وسبب القذف، وإفساد العقول بسبب شرب المسكرات، وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة: النفوس والأموال والأنساب والأديان والعقول. فقوله: * (ولا تفسدوا) * منع عن إدخال ماهية الإفساد في الوجود، والمنع من إدخال الماهية في الوجود يقتضي المنع من جميع أنواعه وأصنافه، فيتناول المنع من الإفساد في هذه الأقسام الخمسة، وأما قوله: * (بعد إصلاحها) * فيحتمل أن يكون المراد بعد أن أصلح خلقتها على الوجه المطابق لمنافع الخلق والموافق لمصالح المكلفين، ويحتمل أن يكون المراد بعد إصلاح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب كأنه تعالى قال: لما أصلحت مصالح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع فكونوا منقادين لها، ولا تقدموا على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع، فإن ذلك يقتضي وقوع الهرج والمرج في الأرض، فيحصل الإفساد بعد الإصلاح، وذلك مستكره في بداهة العقول.
المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار الحرمة والمنع على الإطلاق.
إذا ثبت هذا فنقول: إن وجدنا نصا خاصا دل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا بقي على التحريم الذي دل عليه هذا النص.
واعلم أنا كنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) * (الأعراف: 32) أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل، ثم بينا أنه لما كان الأمر كذلك دخل تحت تلك الآية جميع أحكام الله تعالى، فكذلك في هذه الآية أنها تدل
133

على أن الأصل في المضار والآلام، الحرمة.
وإذا ثبت هذا كان جميع أحكام الله تعالى داخلا تحت عموم هذه الآية، وجميع ما ذكرناه من المباحث واللطائف في تلك الآية فهي موجودة في هذه الآية، فتلك الآية دالة
على أن الأصل في المنافع الحل، وهذه الآية دالة على أن الأصل في جميع المضار الحرمة، وكل واحدة من هاتين الآيتين مطابقة للأخرى مؤكدة لمدلولها مقررة لمعناها، وتدل على أن أحكام جميع الوقائع داخلة تحت هذه العمومات، وأيضا هذه الآية دالة على أن كل عقد وقع التراضي عليه بين الخصمين، فإنه انعقد وصح وثبت، لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفسادا بعد الإصلاح، والنص دل على أنه لا يجوز.
إذا ثبت هذا فنقول: أن مدلول هذه الآية من هذا الوجه متأكد بعموم قوله: * (أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) وبعموم قوله تعالى: * (لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * (الصف: 2، 3) وتحت قوله: * (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) * (المؤمنون: 8 المعارج: 32) وتحت سائر العمومات الواردة في وجوب الوفاء بالعهود والعقود.
إذا ثبت هذا فنقول: إن وجدنا نصا دالا على أن بعض العقود التي وقع التراضي به من الجانبين غير صحيح، قضينا فيه بالبطلان تقديما للخاص على العام، وإلا حكمنا فيه بالصحة رعاية لمدلول هذه العمومات. وبهذا الطريق البين الواضح ثبن أن القرآن واف ببيان جميع أحكام الشريعة من أولها إلى آخرها.
ثم قال تعالى: * (وادعوه خوفا وطمعا) * وفيه سؤالات:
السؤال الأول: قال في أول الآية: * (ادعو ربكم) * ثم قال: * (ولا تفسدوا) * ثم قال: * (وادعوه) * وهذا يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو باطل.
والجواب: أن الذين قالوا في تفسير قوله: * (ادعوا ربكم تضرعا) * أي اعبدوه إنما قالوا ذلك خوفا من هذا الإشكال.
فإن قلنا بهذا التفسير فقد زال السؤال، وإن قلنا المراد من قوله: * (ادعوا ربكم تضرعا) * هو الدعاء كان الجواب أن قوله: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * يدل على أن الدعاء لا بد وأن يكون مقرونا بالتضرع وبالإخفاء، ثم بين في قوله * (وادعوه خوفا وطمعا) * أن فائدة الدعاء هو أحد هذين الأمرين، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء ومنفعته. السؤال الثاني: أن المتكلمين اتفقوا على أن من عبد ودعا لأجل الخوف من العقاب والطمع
134

في الثواب لم تصح عبادته، وذلك لأن المتكلمين فريقان: منهم من قال التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية، فكونه إلها لنا وكوننا عبيدا له يقتضي أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء، فلا يعتبر منه كونه في نفسه صلاحا وحسنا، وهذا قول أهل السنة. ومنهم من قال: التكليف إنما وردت لكونها في أنفسها مصالح؛ وهذا هو قول المعتزلة.
إذا عرفت هذا فنقول: أما على القول الأول: فوجه وجوب بعض الأعمال، وحرمة بعضها مجرد أمر الله بما أوجبه. ونهيه عما حرمه، فمن أتى بهذه العبادات صحت. أما من أتى بها خوفا من العقاب، أو طمعا في الثواب، وجب أن لا يصح، لأنه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها، وأما على القول الثاني: فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح، فمن أتى بها للخوف من العقاب، أو للطمع في الثواب فلم يأت بها لوجه وجوبها، فوجب أن لا تصح، فثبت أن على كلا المذهبين من أتى بالدعاء وسائر العبادات لأجل الخوف من العقاب، والطمع في الثواب، وجب أن لا يصح.
إذا ثبت هذا فنقول: ظاهر قوله: * (وادعوه خوفا وطمعا) * يقتضي أنه تعالى أمر المكلف بأن يأتي بالدعاء لهذا الغرض، وقد ثبت بالدليل فساده، فكيف طريق التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين ما ذكرناه من المعقول.
والجواب: ليس المراد من الآية ما ظننتم، بل المراد: وادعوه مع الخوف من وقوع التقصير، في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء، ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل؟
السؤال الثالث: هل تدل هذه الآية على أن الداعي لا بد وأن تحصل في قلبه هذا الخوف والطمع؟
والجواب: أن العبد لا يمكنه أن يقطع بكونه آتيا بجميع الشرائط المعتبرة في قبول الدعاء، ولأجل هذا المعنى يحصل الخوف، وأيضا لا يقطع بأن تلك الشرائط مفقودة، فوجب كونه طامعا في قبولها فلا جرم.
قلنا: بأن الداعي لا يكون داعيا إلا إذا كان كذلك فقوله: * (خوفا وطمعا) * أي أن تكونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم، ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم فقد أديتم حق ربكم. ويتأكد هذا بقوله: * (يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) * (المؤمنون: 60).
ثم قال تعالى: * (إن رحمة الله قريب من المحسنين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن الرحمة عبارة عن إيصال الخير والنعمة أو عن إرادة
135

إيصال الخير والنعمة، فعلى التقدير الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال، وعلى هذا التقدير الثاني تكون من صفات الذات، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير * (بسم الله الرحمن الرحيم) * (الفاتحة: 1 النمل: 30).
المسألة الثانية: قال بعض أصحابنا: ليس لله في حق الكافر رحمة ولا نعمة. واحتجوا بهذه الآية، وبيانه: أن هذه الآية تدل على أن كل ما كان رحمة فهي قريبة من المحسنين، فيلزم أن يكون كل ما لا يكون قريبا من المحسنين، أن لا يكون رحمة، والذي حصل في حق الكافر غير قريب من المحسنين، فوجب أن لا يكون رحمة من الله ولا نعمة منه.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: الآية تدل على أن رحمة الله قريب من المحسنين، فلما كان كل هذه الماهية حصل للمحسنين وجب أن لا يحصل منها نصيب لغير المحسنين، فوجب أن لا يحصل شيء من رحمة الله في حق الكافرين، والعفو عن العذاب رحمة، والتخلص من النار بعد الدخول فيها رحمة، فوجب أن لا يحصل ذلك
لمن لم يكن من المحسنين، والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا محسنين، فوجب أن لا يحصل لهم العفو عن العقاب، وأن لا يحصل لهم الخلاص من النار.
الجواب: أن من آمن بالله وأقر بالتوحيد والنبوة، فقد أحسن بدليل أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة، وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد أجمعت الأمة على أنه دخل تحت قوله: * (للذين أحسنوا الحسنى) * (يونس: 26) ومعلوم أن هذا الشخص لم يأت بشيء من الطاعات سوى المعرفة والإقرار، لأنه لما بلغ بعد الصبح لم تجب عليه صلاة الصبح، ولما مات قبل الظهر لم تجب عليه صلاة الظهر، وظاهره أن سائر العبادات لم تجب عليه. فثبت أنه محسن، وثبت أنه لم يصدر منه إلا المعرفة والإقرار، فوجب كون هذا القدر إحسانا، فيكون فاعله محسنا.
إذا ثبت هذا فنقول: كل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين، ودلت هذه الآية على أن رحمة الله قريب من المحسنين، فوجب بحكم هذه الآية أن تصل إلى صاحب الكبيرة من أهل الصلاة رحمة الله، وحينئذ تنقلب هذه الآية حجة عليهم.
فإن قالوا: المحسنون هم الذين أتوا بجميع وجوه الإحسان. فنقول: هذا باطل، لأن المحسن من صدر عنه مسمى الإحسان وليس من شرط كونه محسنا أن يكون آتيا بكل وجوه الإحسان كما أن العالم هو الذي له العلم وليس من شرطه أن يحصل جميع أنواع العلم. فثبت بهذا أن السؤال الذي ذكروه ساقط وأن الحق ما ذهبنا إليه.
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول مقتضى علم الأعراب أن يقال: إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث؟ وذكروا في الجواب عنه وجوها: الأول: أن الرحمة تأنيثها
136

ليس بحقيقي وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة. الثاني: قال الزجاج: إنما قال: * (قريب) * لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد فقوله: * (إن رحمة الله قريب من المحسنين) * بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب فأجرى حكم أحد اللفظين على الآخر. الثالث: قال النضر بن شميل: الرحمة مصدر ومن حق المصادر التذكير كقوله: * (فمن جاءه موعظة) * (البقرة: 275) فهذا راجع إلى قول الزجاج لأن الموعظة أريد بها الوعظ، فلذلك ذكره قال الشاعر: إن السماحة والمروءة ضمنا * قبرا بمرو على الطريق الواضح
قيل: أراد بالسماحة السخاء وبالمروءة الكرم. والرابع: أن يكون التأويل إن رحمة الله ذات مكان قريب من المحسنين كما قالوا: حائض ولابن تأمر أي ذات حيض ولبن وتمر. قال الواحدي: أخبرني العروضي عن الأزهري عن المنذري عن الحراني عن ابن السكيت قال: تقول العرب: هو قريب مني وهما قريب مني وهم قريب مني وهي قريب مني، لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني وقد يجوز أيضا قريبة وبعيدة تنبيها على معنى قربت وبعدت بنفسها.
المسألة الخامسة: تفسير هذا القرب هو أن الإنسان يزداد في كل لحظة قربا من الآخرة، وبعدا من الدنيا، فإن الدنيا كالماضي، والآخرة كالمستقبل، والإنسان في كل ساعة ولحظة ولمحة يزداد بعدا عن الماضي، وقربا من المستقبل. ولذلك قال الشاعر: فلا زال ما تهواه أقرب من غد * ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
ولما ثبت أن الدنيا تزداد بعدا في كل ساعة، وأن الآخرة تزداد قربا في كل ساعة، وثبت أن رحمة الله إنما تحصل بعد الموت، لا جرم ذكر الله تعالى: * (إن رحمة الله قريب من المحسنين) * بناء على هذا التأويل.
* (وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به المآء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون * والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون) *.
137

اعلم أن في كيفية النظم وجهين: الأول: أنه تعالى لما ذكر دلائل الإلهية. وكمال العلم، والقدرة من العالم العلوي، وهو السماوات والشمس والقمر والنجوم، أتبعه بذكر الدلائل من بعض أحوال العالم السفلي. واعلم أن أحوال هذا العالم محصورة في أمور أربعة: الآثار العلوية، والمعادن، والنبات، والحيوان، ومن جملة الآثار العلوية الرياح، والسحاب، والأمطار ويترتب على نزول الأمطار أحوال النبات، وذلك هو المذكور في هذه الآية.
الوجه الثاني: في تقرير النظم أنه تعالى لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم، أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة ليحصل بمعرفة هاتين الآيتين كل ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ والمعاد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي * (الريح) * على لفظ الواحد والباقون * (الرياح) * على لفظ الجمع، فمن قرأ * (الرياح) * بالجمع حسن وصفها بقوله: * (بشرا) * فإنه وصف الجمع بالجمع، ومن قرأ * (الريح) * واحدة قرأ * (بشرا) * جمعا لأنه أراد بالريح الكثرة كقولهم كثير الدرهم والدينار والشاة والبعير وكقوله: * (إن الإنسان لفي خسر) * (العصر: 2) ثم قال: * (إلا الذين آمنوا) * (العصر: 3 التين: 6) فلما كان المراد بالريح الجمع وصفها بالجمع وأما قوله: * (نشرا) * (المرسلات: 3) ففيه قراآت: إحداها: قراءة الأكثرين * (نشرا) * بضم النون والشين، وهو جمع نشور مثل رسل ورسول، والنشور بمعنى المنشر كالركوب بمعنى المركوب، فكان المعنى رياح منشرة أي مفرقة من كل جانب والنشر التفريق، ومنه نشر الثوب، ونشر الخشبة بالمنشار. وقال الفراء: النشر من الرياح الطيبة اللينة التي تنشر السحاب واحدها نشور وأصله من النشر، وهو الرائحة الطيبة ومنه قول امرئ القيس ونشر العطر.
والقراءة الثانية: قرأ ابن عامر * (نشرا) * بضم النون وإسكان الشين، فخف العين كما يقال كتب ورسل.
والقراءة الثالثة: قرأ حمزة * (نشرا) * بفتح النون وإسكان الشين والنشر مصدر نشرت الثوب
138

ضد طويته ويراد بالمصدر ههنا المفعول. والرياح كأنها كانت مطوية، فأرسلها الله تعالى منشورة بعد انطوائها، فقوله: * (نشرا) * مصدر هو حال من الرياح والتقدير: أرسل الرياح منشرات، ويجوز أيضا أن يكون النشر هنا بمعنى الحياة من قولهم أنشر الله الميت فنشر. قال الأعشى: يا عجبا للميت الناشر
فإذا حملته على ذلك وهو الوجه. كان المصدر مرادا به الفاعل كما تقول: أتاني ركضا أي راكضا، ويجوز أيضا أن يقال: أن أرسل ونشر متقاربان، فكأنه قيل: وهو الذي ينشر الرياح نشرا.
والقراءة الرابعة: حكى صاحب " الكشاف " عن مسروق * (نشرا) * بمعنى منشورات. فعل بمعنى مفعول كنقض وحسب ومنه قولهم: ضم نشره.
والقراءة الخامسة: قراءة عاصم * (بشرا) * بالباء المنقطة بالمنطقة الواحدة من تحت جمع بشيرا على بشر من قوله تعالى: * (يرسل الرياح مبشرات) * أي تبشر بالمطر والرحمة، وروى صاحب " الكشاف " * (بشرا) * بضم الشين وتخفيفه و * (بشرا) * بفتح الباء وسكون الشين مصدر من بشره بمعنى بشره أي باشرات وبشرى.
المسألة الثانية: اعلم أن قوله: * (وهو الذي يرسل الرياح) * معطوف على قوله: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) * (الأعراف: 54) ثم نقول: حد الريح أنه هواء متحرك. فنقول: كون هذا الهواء متحركا ليس لذاته ولا للوازم ذاته، وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته فلا بد وأن يكون لتحريك الفاعل المختار وهو الله جل جلاله. قالت الفلاسفة: ههنا سبب آخر وهو أنه يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنه تسخينا قويا شديدا فبسبب تلك السخونة الشديدة ترتفع وتتصاعد، فإذا وصلت إلى القرب من الفلك كان الهواء الملتصق بمقعر الفلك متحركا على استدارة الفلك بالحركة المستديرة التي حصلت لتلك الطبقة من الهواء فيمنع هذه الأدخنة من الصعود بل يردها عن سمت حركتها، فحينئذ ترجع تلك الأدخنة وتتفرق في الجوانب، وبسبب ذلك التفرق تحصل الرياح، ثم كلما كانت تلك الأدخنة أكثر، وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضا أشد حركة فكانت الرياح أقوى وأشد. هذا حاصل ما ذكروه، وهو باطل، ويدل على بطلانه وجوه: الأول: أن صعود الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها، ولا شك أن ذلك التسخن عرض لأن الأرض باردة يابسة بالطبع، فإذا كانت تلك الأجزاء الأرضية متصعدة جدا كانت سريعة الانفعال، فإذا تصاعدت، ووصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء امتنع بقاء الحرارة فيها بل تبرد جدا، وإذا بردت امتنع بلوغها في الصعود إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك، فبطل ما ذكروه.
139

الوجه الثاني: هب أن تلك الأجزاء الدخانية صعدت إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك لكنها لما رجعت، وجب أن تنزل على الاستقامة، لأن الأرض جسم ثقيل، والثقيل إنما يتحرك بالاستقامة والرياح ليست كذلك، فإنها تتحرك يمنة ويسرة.
الوجه الثالث: وهو أن حركة تلك الأجزاء الأرضية النازلة لا تكون حركة قاهرة، فإن الرياح إذا أحضرت الغبار الكثير، ثم عاد ذلك الغبار، ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها، وترى هذه الرياح تقلع الأشجاء وتهدم الجبال وتموج البحار.
والوجه الرابع: أنه لو كان الأمر على ما قالوه، لكانت الرياح كلما كانت أشد، وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر، لكنه ليس الأمر كذلك لأن الرياح قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البحر، مع أن الحس يشهد أنه ليس في ذلك الهواء المتحرك العاصف شيء من الغبار والكدرة فبطل. ما قالوه، وبطل بهذا الوجه العلة التي ذكروها في حركة الرياح. قال المنجمون: إن قوى الكواكب هي التي تحرك هذه الرياح وتوجب هبوبها، وذلك أيضا بعيد لأن الموجب لهبوب الرياح إن كان طبيعة الكواكب وجب دوام الرياح بدوام تلك الطبيعة، وإن كان الموجب هو طبيعة الكوكب بشرط حصوله في البرج المعين والدرجة المعينة وجب أن يتحرك هواء كل العالم، وليس كذلك، وأيضا قد بينا أن الأجسام متماثلة باختصاص الكوكب المعين والبرج المعين فالطبيعة التي لأجلها اقتضت ذلك الأثر الخاص، لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعل المختار. فثبت بهذا البرهان الذي ذكرناه أن محرك الرياح هو الله سبحانه وتعالى. وثبت بالدليل العقلي صحة قوله وهو: * (الذي يرسل الرياح) *.
المسألة الثالثة: قوله: * (بشرا بين يدي رحمته) * (النمل: 63) فيه فائدتان: إحداهما: أن قوله: * (نشرا) * أي منشرة متفرقة، فجزء من أجزاء الريح يذهب يمنة، وجزء آخر يذهب يسرة، وكذا القول في سائر الأجزاء، فإن كل واحد منها يذهب إلى جانب آخر فنقول: لا شك أن طبيعة الهواء طبيعة واحدة ونسبة الأفلاك والأنجم والطبائع إلى كل واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ من تلك الريح نسبة واحدة، فاختصاص بعض أجزاء الريح بالذهاب يمنة والجزء الآخر بالذهاب يسرة وجب أن لا يكون ذلك إلا بتخصيص الفاعل المختار.
والفائدة الثانية: في الآية أن قوله: * (بين يدي رحمته) * أي بين يدي المطر الذي هو رحمته والسبب في حسن هذا المجاز أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز يقال: إن الفتن تحدث بين يدي الساعة، يريدون قبيلها، والسبب في حسن هذا المجاز، أن يدي الإنسان متقدماته
140

فكل ما كان يتقدم شيئا يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة. فلما كانت الرياح تتقدم المطر، لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ.
فإن قيل: فقد نجد المطر ولا تتقدمه الرياح. فنقول: ليس في الآية إن هذا التقدم حاصل في كل الأحوال، فلم يتوجه السؤال، وأيضا فيجوز أن تتقدمه هذه الرياح وإن كنا لا نشعر بها.
ثم قال تعالى: * (حتى إذا أقلت سحابا ثقالا) * يقال: أقل فلان الشيء إذا حمله قال صاحب " الكشاف ": واشتقاق الإقلال من القلة، لأن من يرفع شيئا فإنه يرى ما يرفعه قليلا، وقوله: * (سحابا ثقالا) * أي بالماء جمع سحابة، والمعنى حتى إذا حملت هذه الرياح سحابا ثقالا بما فيها من الماء والمعنى أن السحاب الكثيف المستطير للمياه العظيمة إنما يبقى معلقا في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكا شديدا، فلأجل الحركات الشديدة التي في تلك الرياح تحصل فوائد: إحداها: أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى البعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر. وثانيها: أن بسبب تلك الحركات الشديدة التي في تلك الرياح يمنة ويسرة
يمتنع على تلك الأجزاء المائية النزول، فلا جرم يبقى متعلقا في الهواء. وثالثها: أن بسبب حركات تلك الرياح ينساق السحاب من موضع إلى موضع آخر وهو الموضع الذي علم الله تعالى احتياجهم إلى نزول الأمطار وانتفاعهم بها. ورابعها: أن حركات الرياح تارة تكون جامعة لأجزاء السحاب موجبة لانضمام بعضها إلى البعض حتى ينعقد السحاب الغليظ، وتارة تكون مفرقة لأجزاء السحاب مبطلة لها. وخامسها: أن هذه الرياح تارة تكون مقوية للزروع والأشجار مكملة لما فيها من النشو والنماء وهي الرياح اللواقح، وتارة تكون مبطلة لها كما تكون في الخريف. وسادسها: أن هذه الرياح تارة تكون طيبة لذيذة موافقة للأبدان، وتارة تكون مهلكة إما بسبب ما فيها من الحر الشديد كما في السموم أو بسبب ما فيها من البرد الشديد كما في الرياح الباردة المهلكة جدا. وسابعها: أن هذه الرياح تارة تكون شرقية، وتارة تكون غربية وشمالية وجنوبية. وهذا ضبط ذكره بعض الناس وإلا فالرياح تهب من كل جانب من جوانب العالم ولا ضبط لها، ولا اختصاص لجانب من جوانب العالم بها. وثامنها: أن هذه الرياح تارة تصعد من قعر الأرض فإن من ركب البحر يشاهد أن البحر يحصل غليان شديد فيه بسبب تولد الرياح في قعر البحر إلى ما فوق البحر، وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر، وتارة ينزل الريح من جهة فوق فاختلاف الرياح بسبب هذه المعاني أيضا عجيب، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: الرياح ثمان: أربع منها: عذاب، وهو القاصف، والعاصف، والصرصر، والعقيم، وأربعة منها رحمة: الناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذاريات،
141

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور " والجنوب من ريح الجنة، وعن كعب: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض، وعن السدي: أنه تعالى يرسل الرياح فيأتي بالسحاب ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك، ورحمته هو المطر.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلاف الرياح في الصفات المذكورة، مع أن طبيعة الهواء واحدة، وتأثيرات الطبائع والأنجم والأفلاك واحدة، يدل على أن هذه الأحوال. لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المختار سبحانه وتعالى.
ثم قال تعالى: * (سقناه لبلد ميت) * والمعنى أنا نسوق ذلك السحاب إلى بلد ميت لم ينزل فيه غيث ولم ينبت فيه خضرة.
فإن قيل: السحاب إن كان مذكرا يجب أن يقول: حتى إذا أقلت سحابا ثقيلا، وإن كان مؤنثا يجب أن يقول سقناه فكيف التوفيق؟!
والجواب: أن السحاب لفظه مذكر وهو جمع سحابة. فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزا، نظرا إلى اللفظ، وعلى سبيل التأنيث أيضا جائزا، نظرا إلى كونه جمعا، أما " اللام " في قوله: * (سقناه لبلد) * ففيه قولان: قال بعضهم هذه " اللام " بمعنى إلى يقال هديته للدين وإلى الدين. وقال آخرون: هذه " اللام " بمعنى من أجل، والتقدير سقناه لأجل بلد ميت ليس فيه حيا يسقيه. وأما البلد فكل موضع من الأرض عامر أو غير عامر، خال أو مسكون فهو بلد والطائفة منه بلدة والجميع البلاد والفلاة تسمى بلدة. قال الأعشى: وبلدة مثل ظهر الترس موحشة * للجن بالليل في حافاتها زجل
ثم قال تعالى: * (فأنزلنا به الماء) * اختلفوا في أن الضمير في قوله: * (به) * إلى ماذا يعود؟ قال الزجاج وابن الأنباري: جائز أن يكون فأنزلنا بالبلد الماء، وجائز أن يكون فأنزلنا بالسحاب الماء، لأن السحاب آلة لإنزال الماء.
ثم قال: * (فأخرجنا به من كل الثمرات) * الكناية عائدة إلى الماء، لأن إخراج الثمرات كان بالماء. قال الزجاج: وجائز أن يكون التقدير فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات، لأن البلد ليس يخص به هنا بلد دون بلد، وعلى القول الأول، فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء. وقال أكثر المتكلمين: إن الثمار غير متولدة من الماء، بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب، وقال جمهور الحكماء: لا يمتنع أن يقال إنه تعالى أودع في الماء قوة طبيعية، ثم إن تلك القوة الطبيعية توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج
142

الماء بالتراب وحدوث الطبائع المخصوصة. والمتكلمون احتجوا على فساد هذا القول، بأن طبيعة الماء والتراب واحدة. ثم إنا نرى أنه يتولد في النبات الواحد أحوال مختلفة مثل العنب فإن قشره بارد يابس، ولحمه وماؤه حار رطب، وعجمه بارد يابس، فتولد الأجسام الموصوفة بالصفات المختلفة من الماء والتراب، يدل على أنها إنما حدثت بأحداث الفاعل المختار لا بالطبع والخاصة.
ثم قال تعالى: * (كذلك نخرج الموتى) * وفيه قولان: الأول: أن المراد هو أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الأمطار، فكذلك يحيي الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة. وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطرا كالمني أربعين يوما، وإنهم ينبتون عند ذلك ويصيرون أحياء. قال مجاهد: إذا أراد الله أن يبعثهم أمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها.
والقول الثاني: أن التشبيه إنما وقع بأصل الأحياء بعد أن كان ميتا، والمعنى: أنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه، فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر، فكذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا أمواتا، لأن من يقدر على إحداث الجسم، وخلق الرطوبة والطعم فيه، فهو أيضا يكون قادرا على إحداث الحياة في بدن الميت، والمقصود منه إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق.
واعلم أن الذاهبين إلى القول الأول إن اعتقدوا أنه لا يمكن بعث الأجساد إلا بأن يمطر على تلك الأجساد البالية مطرا على صفة المني، فقد أبعد، ولأن الذي يقدر على أن يحدث في ماء المطر الصفات التي باعتبارها صار المني منيا ابتداء، فلم لا يقدر على خلق الحياة والجسم ابتداء؟ وأيضا فهب أن ذلك المطر ينزل إلا أن أجزاء الأموات غير مختلطة، فبعضها يكون بالمشرق، وبعضها يكون بالمغرب، فمن أين ينفع إنزال ذلك المطر في توليد تلك الأجساد؟
فإن قالوا: إنه تعالى بقدرته وبحكمته يخرج تلك الأجزاء المتفرقة فلم لم يقولوا إنه بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجزاء ابتداء من غير واسطة ذلك المطر؟ وإن
اعتقدوا أنه تعالى قادر على إحياء الأموات ابتداء، إلا أنه تعالى إنما يحييهم على هذا الوجه كما أنه قادر على خلق الأشخاص في الدنيا ابتداء، إلا أنه أجرى عادته بأنه لا يخلقهم إلا من الأبوين فهذا جائز.
ثم قال تعالى: * (لعلكم تذكرون) * والمعنى: أنكم لما شاهدتم أن هذه الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف بالأزهار والثمار، ثم صارت عند الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة، ثم إنه تعالى أحياها مرة أخرى، فالقادر على إحيائها بعد موتها يجب كونه أيضا قادرا على إحياء الأجساد بعد موتها، فقوله: * (لعلكم تذكرون) * المراد منه تذكر أنه لما لم يمتنع هذا المعنى في إحدى الصورتين وجب أن لا يمتنع في الصورة الأخرى.
143

ثم قال تعالى: * (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية قولان:
القول الأول: وهو المشهور أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض الخيرة والأرض السبخة، وشبه نزول القرآن بنزول المطر، فشبه المؤمن بالأرض الخيرة التي نزل عليها المطر فيحصل فيها أنواع الأزهار والثمار، وأما الأرض السبخة فهي وإن نزل المطر عليها لم يحصل فيها من النبات إلا النزر القليل، فكذلك الروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع من الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة، والروح الخبيثة الكدرة وإن اتصل به نور القرآن لم يظهر فيه من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل.
والقول الثاني: أنه ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر، وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة. فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة، فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات، كان ذلك أولى.
المسألة الثانية: هذه الآية دالة على أن السعيد لا ينقلب شقيا وبالعكس، وذلك لأنها دلت على أن الأرواح قسمان: منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومنها ما تكون في أصل جوهرها غليظة كدرة بطيئة القبول للمعارف الحقيقية، والأخلاق الفاضلة، كما أن الأراضي منها ما تكون سبخة فاسدة، وكما أنه لا يمكن أن يتولد في الأراضي السبخة تلك الأزهار والثمار التي تتولد في الأرض الخيرة، فكذلك لا يمكن أن يظهر في النفس البليدة والكدرة الغليظة من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة مثل ما يظهر في النفس الطاهرة الصافية، ومما يقوي هذا الكلام أنا نرى النفوس مختلفة في هذه الصفات فبعضها مجبولة على حب عالم الصفاء والإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانية كما قال تعالى: * (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) * (المائدة: 83) ومنها قاسية شديدة القسوة والنفرة عن قبول هذه المعاني كما قال: * (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) * (البقرة: 74) ومنها ما تكون شديدة الميل إلى قضاء الشهوة متباعدة عن أحوال الغضب، ومنها ما تكون شديدة الميل إلى إمضاء الغضب، وتكون متباعدة عن أعمال الشهوة بل نقول: من النفوس ما تكون عظيمة الرغبة في المال دون
144

الجاه، ومنهم من يكون بالعكس، والراغبون في طلب المال منهم من يكون عظيم الرغبة في العقار وتفضل رغبته في النقود، ومنهم من تعظم رغبته في تحصيل النقود ولا يرغب في الضياع والعقار، وإذا تأملت في هذا النوع من الاعتبار تيقنت أن أحوال النفوس مختلفة في هذه الأحوال اختلافا جوهريا ذاتيا لا يمكن إزالته ولا تبديله، وإذا كان كذلك امتنع من النفس الغليظة الجاهلة المائلة بالطبع إلى أفعال الفجور أن تصير نفسا مشرقة بالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة، ولما ثبت هذا كان تكليف هذه النفس بتلك المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة جاريا مجرى تكليف ما لا يطاق. فثبت بهذا البيان: أن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه، وأن النفس الطاهرة يخرج نباتها من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة بإذن ربها، والنفس الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكدا قليل الفائدة والخير، كثير الفضول والشر.
والوجه الثاني: من الاستدلال بهذه الآية في هذه المسألة قوله تعالى: * (بإذن ربه) * وذلك يدل على أن كل ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى.
المسألة الثالثة: قرىء * (يخرج نباته) * أي يخرجه البلد وينبته.
أما قوله تعالى: * (والذي خبث) * قال الفراء: يقال: خبث الشيء يخبث خبثا وخباثة. وقوله: * (إلا نكدا) * النكد: العسر الممتنع من إعطاء الخير على جهة البخل. وقال الليث: النكد: الشؤم واللؤم وقلة العطاء، ورجل أنكد ونكد قال: وأعط ما أعطيته طيبا * لا خير في المنكود والناكد
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (والذي خبث) * صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكدا، فحذف المضاف الذي هو النبات، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجح إلى ذلك البلد مقامه، إلا أنه كان مجرورا بارزا فانقلب مرفوعا مستكنا لوقوعه موقع الفاعل، أو يقدر ونبات الذي خبث، وقرئ * (نكدا) * بفتح الكاف على المصدر أي ذا نكد.
ثم قال تعالى: * (كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون) * قرىء * (يصرف) * أي يصرفها الله، وإنما ختم هذه الآية بقوله: * (لقوم يشكرون) * لأن الذي سبق ذكره هو أنه تعالى يحرك الرياح اللطيفة النافعة ويجعلها سببا لنزول المطر الذي هو الرحمة ويجعل تلك الرياح والأمطار سببا لحدوث أنواع النبات النافعة اللطيفة اللذيذة، فهذا من أحد الوجهين ذكر الدليل الدال على وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته، ومن الوجه الثاني تنبيه على إيصال هذه النعمة العظيمة إلى العباد، فلا جرم كانت
من حيث إنها دلائل على وجود الصانع وصفاته آيات ومن حيث أنها نعم يجب شكرها،
145

فلا جرم قال: * (نصرف الآيات لقوم يشكرون) * وإنما خص كونها آيات بالقوم الشاكرين لأنهم هم المنتفعون بها، فهو كقوله: * (هدى للمتقين) *.
* (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملا من قومه إنا لنراك في ضلال مبين * قال يا قوم ليس بى ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة، وبينات قاهرة، وبراهين باهرة أتبعها بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام، وفيه فوائد: أحدها: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات ليس من خواص قوم محمد عليه الصلاة والسلام بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة، والمصيبة إذا عمت خفت. فكان ذكر قصصهم وحكاية إصرارهم على الجهل والعناد يفيد تسلية الرسول عليه السلام وتخفيف ذلك على قلبه. وثانيها: أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى الكفر واللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا والسعادة في الآخرة، وذلك يقوي قلوب المحقين ويكسر قلوب المبطلين. وثالثها: التنبيه على أنه تعالى وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ولكنه لا يهملهم بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه. ورابعها: بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه عليه السلام كان أميا وما طالع كتابا ولا تلمذ أستاذا، فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ، دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله، وذلك يدل على صحة نبوته.
146

ولقائل أن يقول: الأخبار عن الغيوب الماضية لا يدل على المعجز، لاحتمال أن يقال إن إبليس شاهد هذه الوقائع فألقاها إليه، أما الأخبار عن الغيوب المستقبلة فإنه معجز لأن علم الغيب ليس إلا لله سبحانه وتعالى.
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة قصة آدم عليه السلام، وقد سبق ذكرها.
والقصة الثانية: قصة نوح عليه السلام وهي المذكورة في هذه الآية وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ اسم إدريس النبي عليه السلام، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": قوله: * (لقد أرسلنا) * جواب قسم محذوف.
فإن قالوا: ما السبب في أنهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع قد، وذكر هذه اللام بدون قد نادر كقوله: حلفت لها بالله حلفة فاجر * لناموا (c)
قلنا: إنما كان كذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها. فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى " قد " عند استماع المخاطب كلمة القسم.
المسألة الثانية: قرأ الكسائي * (غيره) * بكسر الراء على أنه نعت للإله على اللفظ والباقون بالرفع على أنه صفة للإله على الموضع. لأن تقدير الكلام ما لكم إله غيره، وقال أبو علي: وجه من قرأ بالرفع قوله: * (وما من إله إلا الله) * (آل عمران: 62) فكما أن قوله: * (إلا الله) * بدل من قوله: * (ما من إله) * كذلك قوله: * (غيره) * يكون بدلا من قوله: * (من إله) * فيكون * (غير) * رفعا بالاستثناء، وقال صاحب الكشاف: قرىء * (غير) * الحركات الثلاث، وذكر وجه الرفع والجر كما تقدم، قال وأما النصب فعلى الاستثناء بمعنى ما لكم من إله إلا إياه كقولك ما في الدار من أحد إلا زيدا وغير زيد.
المسألة الثالثة: قال الواحدي: في الكلام حذف، وهو خبر * (ما) * لأنك إذا جعلت * (غيره) * صفة لقوله: * (إله) * لم يبق لهذا المنفي خبر، والكلام لا يستقل بالصفة والموصوف، لأنك إذا قلت زيد العاقل وسكت، لم يفد ما لم تذكر خبره. ويكون التقدير ما لكم من إله غيره في الوجود، أقول: اتفق النحويون على أن قولنا لا إله إلا الله لا بد فيه من إضمار، والتقدير: لا إله في الوجود أو لا إله لنا إلا الله ولم يذكروا على هذا الكلام حجة، فإنا نقول لم لا يجوز أن يقال دخل حرف النفي على هذه الحقيقة؟ وعلى هذه الماهية، فيكون المعنى أنه لا تحقق لحقيقة الإلهية إلا في حق الله، وإذا حملنا الكلام على هذا المعنى استغنينا عن الإضمار الذي ذكروه.
فإن قالوا: صرف النفي إلى الماهية لا يمكن لأن الحقائق لا يمكن نفيها، فلا يمكن أن يقال
147

لا سواد بمعنى ارتفاع هذه الماهية، وإنما الممكن أن يقال إن تلك الحقائق غير موجودة ولا حاصلة، وحينئذ يجب إضمار الخبر.
فنقول: هذا الكلام بناء على أن الماهية لا يمكن انتفاؤها وارتفاعها، ولك باطل قطعا. إذ لو كان الأمر كذلك لوجب امتناع ارتفاع الوجود لأن الوجود أيضا حقيقة من الحقائق وماهية فلم لا يمكن ارتفاع سائر الماهيات؟
فإن قالوا: إذا قلنا لا رجل، وعنينا به نفي كونه موجودا، فهذا النفي لم ينصرف إلى ماهية الوجود، وإنما انصرف إلى كون ماهية الرجل موصوفة بالوجود.
فنقول: تلك الموصوفية يستحيل أن تكون أمرا زائدا على الماهية وعلى الوجود، إذ لو كانت الموصوفية ماهية، والوجود ماهية أخرى، لكانت تلك الماهية موصوفة أيضا بالوجود، والكلام فيه كما فيما قبله، فيلزم التسلسل، ويلزم أن لا يكون الموجود الواحد موجودا واحدا، بل موجودات غير متناهية وهو محال. ثم نقول موصوفية الماهية بالوجود إما أن يكون أمرا مغايرا للماهية والوجود، وإما أن لا يكون كذلك. فإن لم يكن أمرا مغايرا لها فحينئذ يكون لذلك المغاير ماهية ووجود، وماهيته لا تقبل الارتفاع، وحينئذ يعود السؤال المذكور. فثبت بما ذكرنا أن الماهية أن لم تقبل النفي والرفع، امتنع صرف حرف النفي إلى شيء من المفهومات، فإن كانت الماهية قابلة للنفي والرفع، فحينئذ يمكن صرف كلمة " لا " في قولنا لا إله إلا الله إلى هذه الحقيقة، وحينئذ لا يحتاج إلى التزام الحذف والإضمار الذي يذكره النحويون، فهذا كلام عقلي صرف، وقع في هذا البحث الذي ذكره النحويون.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (لقد أرسلنا) * فيه قولان: قال ابن عباس: بعثنا. وقال آخرون: معنى الإرسال أنه تعالى حمله رسالة يؤديها، فالرسالة على هذا التقدير تكون متضمنة للبعث، فيكون البعث كالتابع لا أنه الأصل، وهذا البحث بناء على مسألة أصولية، وهي أنه هل من شرط إرسال الرسول إلى قوم، أن يعرفهم على لسانه أحكاما لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم، أوليس ذلك بشرط؟ بل يكون الغرض من بعثة الرسل مجرد تأكيد ما في العقول، وهذا الخلاف إنما يليق بتفاريع المعتزلة، ولا يليق بتفاريع مذاهبنا وأصولنا.
المسألة الخامسة: في الآية فوائد:
الفائدة الأولى: إنه تعالى حكى عن نوح في هذه الآية ثلاثة أشياء: أحدها: إنه عليه السلام أمرهم بعبادة الله تعالى. والثاني: إنه حكم أن لا إله غير الله، والمقصود من الكلام الأول إثبات التكليف، والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد.
148

ثم قال عقيبه: * (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * ولا شك أن المراد منه إما عذاب يوم القيامة، وعلى هذا التقدير: فهو قد خوفهم بيوم القيامة، وهذا هو الدعوى الثالثة، أو عذاب يوم الطوفان، وعلى هذا التقدير: فقد ادعى الوحي والنبوة من عند الله، والحاصل أنه تعالى حكى عنه أنه ذكر هذه الدعاوى الثلاثة، ولم يذكر على صحة واحد منها دليلا ولا حجة، فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التقليد، فهذا باطل، لما أن القول بالتقليد باطل. وأيضا فالله تعالى قد ملأ القرآن من ذم التقليد، فكيف يليق بالرسول المعصوم الدعوة إلى التقليد؟ وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدليل، فهذا الدليل غير مذكور.
واعلم أنه تعالى ذكر في أول سورة البقرة دلائل التوحيد والنبوة، وصحة المعاد، وذلك تنبيه منه تعالى على أن أحدا من الأنبياء لا يدعو أحدا إلى هذه الأصول إلا بذكر الحجة والدليل. أقصى ما في الباب أنه تعالى ما حكى عن نوح تلك الدلائل في هذا المقام إلا أن تلك الدلائل لما كانت معلومة لم يكن إلى ذكرها حاجة في هذا المقام، فترك الله تعالى ذكر الدلائل لهذا السبب.
الفائدة الثانية: أنه عليه السلام ذكر أولا قوله: * (أعبدوا الله) * وثانيا قوله: * (ما لكم من إله غيره) * والثاني كالعلة للأول، لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلا من الله، ونهاية الإنعام توجب نهاية التعظيم، فإنما وجبت عبادة الله لأجل العلم بأنه لا إله إلا الله، ويتفرع على هذا البحث مسألة وهي: أنا قبل العلم بأن لا إله واحد أو أكثر من واحد لا نعلم أن المنعم علينا بوجوه النعم الحاصلة عندنا هو هذا أم ذاك؟ وإذا جهلنا ذلك فقد جهلنا من كان هو المنعم في حقنا. وحينئذ لا يحسن عبادته، فعلى هذا القول كان العلم بالتوحيد شرطا للعلم بحسن العبادة.
الفائدة الثالثة: في هذه الآية أن ظاهر هذه الآية يدل على أنه الإله هو الذي يستحق العبادة لأن قوله: * (أعبدوا الله ما لكم من إله غيره) * إثبات ونفي، فيجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام، فكان المعنى اعبدوا الله ما لكم من معبود غيره، حتى يتطابق النفي والإثبات، ثم ثبت بالدليل أن الإله ليس هو المعبود وإلا لوجب كون الأصنام آلهة، وأن لا يكون الإله إلها في الأزل لأجل أنه في الأزل غير معبود، فوجب حمل لفظ الإله على أنه المستحق للعبادة.
واعلم أنهم اختلفوا في معنى قوله: * (إني أخاف عليكم) * هل هو اليقين، أو الخوف بمعنى الظن والشك. قال قوم: المراد منه الجزم واليقين، لأنه كان جازما بأن العذاب ينزل بهم إما في الدنيا وإما في
149

الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين. وقال آخرون: بل المراد منه الشك وتقريره من وجوه: الأول: إنه إنما قال: * (إني أخاف عليكم) * لأنه جوز أن يؤمنوا كما جوز أن يستمروا على كفرهم، ومع هذا التجويز لا يكون قاطعا بنزول العذاب، فوجب أن يذكره بلفظ الخوف. والثاني: أن حصول العقاب على الكفر والمعصية أمر لا يعرف إلا بالسمع ولعل الله تعالى ما بين له كيفية هذه المسألة فلا جرم بقي متوقفا مجوزا أنه تعالى هل يعاقبهم على ذلك الكفر أم لا؟ والثالث: يحتمل أن يكون المراد من الخوف الحذر كما قال في الملائكة: * (يخافون ربهم) * (النحل: 50) أي يحذرون المعاصي خوفا من العقاب. الرابع: إنه بتقدير أن يكون قاطعا بنزول أصل العذاب لكنه ما كان عارفا بمقدار ذلك العذاب، وهو أنه عظيم جدا أو متوسط، فكان هذا الشك راجعا إلى وصف العقاب، وهو كونه عظيما أم لا، لا في أصل حصوله.
ثم إنه تعالى حكى ما ذكره في قومه، فقال: * (قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين) * وقال المفسرون: * (الملأ) * الكبراء والسادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء، والدليل عليه أن قوله * (من قومه) * يقتضي أن ذلك الملأ بعض قومه، وذلك البعض لا بد وأن يكونوا موصوفين بصفة لأجلها استحقوا هذا الوصف، وذلك بأن يكونوا هم الذين يملأون صدور المجالس، وتمتلئ القلوب من هيبتهم، وتمتلئ الأبصار من رؤيتهم، وتتوجه العيون في المحافل إليهم، وهذه الصفات لا تحصل إلا في الرؤساء، وذلك يدل على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر. وقوله: * (إنا لنراك) * هذه الرؤية لا بد وأن تكون بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والرؤية. وقوله: * (في ضلال مبين) * أي في خطأ ظاهر وضلال بين، ولا بد وأن يكون مرادهم نسبة نوح إلى الضلال في المسائل الأربع التي بينا أن نوحا عليه السلام ذكرها، وهي التكليف والتوحيد والنبوة والمعاد، ولما ذكروا هذا الكلام. أجاب نوح عليه السلام بقوله: * (يا قوم ليس بي ضلالة) *.
فإن قالوا: إن القوم قالوا: * (إنا لنراك في ضلال مبين) *.
فجوابه أن يقال: ليس بي ضلال، فلم ترك هذا الكلام، وقال: ليس بي ضلالة؟
قلت: لأن قوله: * (ليس بي ضلالة) * أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة البتة، فكان هذا أبلغ في عموم السلب، ثم إنه عليه السلام لما نفي عن نفسه العيب الذي وصفوه به، ووصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها، وهو كونه رسولا إلى الخلق من رب العالمين. ذكر ما هو المقصود من الرسالة، وهو أمران: الأول: تبليغ
الرسالة. والثاني: تقرير النصيحة. فقال: * (أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم) * وفيه مسائل:
150

المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو * (أبلغكم) * بالتخفيف، من أبلغ، والباقون بالتشديد. قال الواحدي: وكلا الوجهين جاء في التنزيل، فالتخفيف قوله: * (فإن تولوا فقد أبلغتكم) * (هود: 57) والتشديد * (فما بلغت رسالته) * (المائدة: 67). المسألة الثانية: الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة معناه: أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه، وأما النصيحة: فهو أنه يرغبه في الطاعة، ويحذره عن المعصية، ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه، وقوله: * (رسالات ربي) * يدل على أنه تعالى حمله أنواعا كثيرة من الرسالة. وهي أقسام التكاليف من الأوامر والنواهي، وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة، ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا، وقوله: * (وأنصح لكم) * قال الفراء: لا تكاد العرب تقول: نصحتك، إنما تقول: نصحت لك، ويجوز أيضا نصحتك. قال النابغة:
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا * رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي
وحقيقة النصح الإرسال إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى: أني أبلغ إليكم تكاليف الله، ثم أرشدكم إلى الأصوب الأصلح، وأدعوكم إلى ما دعاني، وأحب إليكم ما أحبه لنفسي.
ثم قال: * (واعلم من الله ما لا تعلمون) * وفيه وجوه: الأول: واعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان. الثاني: واعلم أنه يعاقبكم في الآخرة عقابا شديدا خارجا عما تتصوره عقولكم. الثالث: يجوز أن يكون المراد: واعلم من توحيد الله وصفات جلاله ما لا تعلمون. ويكون المقصود من ذكر هذا الكلام: حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم.
* (أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون * فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنآ إنهم كانوا قوما عمين) *.
اعلم أن قوله: * (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا) * يدل على أن مراد
151

القوم من قولهم لنوح عليه السلام: * (إنا لنراك في ضلال مبين) * هو أنهم نسبوه في ادعاء النبوة إلى الضلال، وذلك من وجوه: أحدها: أنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه، لأجل أنهم اعتقدوا أن المقصود من الإرسال هو التكليف. والتكليف لا منفعة فيه للمعبود لكونه متعاليا عن النفع والضرر، ولا منفعة فيه للعابد، لأنه في الحال يوجب المضرة العظيمة، وكل ما يرجى فيه من الثواب ودفع العقاب، فالله قادر على تحصيله بدون واسطة التكليف، فيكون التكليف عبثا، والله متعال عن العبث، وإذا بطل التكليف بطل القول بالنبوة. وثانيها: أنهم وإن جوزوا التكليف إلا أنهم قالوا: ما علم حسنه بالعقل فعلناه، وما علم قبحه تركناه، وما لا نعلم فيه لا حسنه ولا قبحه، فإن كنا مضطرين إليه فعلناه، لعلمنا أنه متعال عن أن يكلف عبده ما لا طاقة له به، وإن لم نكن مضطرين إليه تركناه للحذر عن خطر العقاب، ولما كان رسول العقل كافيا فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر. وثالثها: أن بتقدير: أنه لا بد من الرسول؛ فإن إرسال الملائكة أولى، لأن مهابتهم أشد، وطهاراتهم أكمل، واستغناءهم عن المأكول والمشروب أظهر، وبعدهم عن الكذب والباطل أعظم. ورابعها: أن بتقدير: أن يبعث رسولا من البشر، فلعل القوم اعتقدوا أن من كان فقيرا، ولم يكن له تبع ورياسة فإنه لا يليق به منصب الرسالة، ولعلهم اعتقدوا أن الذي ظن نوح عليه السلام أنه من باب الوحي، فهو من جنس الجنون والعته وتخييلات الشيطان، فهذا هو الإشارة إلى مجامع الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين، فلهذه الأسباب حكموا على نوح بالضلالة، ثم أن نوحا عليه الصلام أزال تعجبهم وقال: إنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة، لأن ذلك ينتهي إلى حد الإلجاء، وهو ينافي التكليف، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة لما ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * (الأنعام: 9) فبقي أن يكون إيصال تلك التكاليف إلى الخلق بواسطة إنسان، وذلك الإنسان إنما يبلغهم تلك التكاليف لأجل أن ينذرهم ويحذرهم، ومتى أنذرهم اتقوا مخالفة تكليف الله، ومتى اتقوا مخالفة تكليف الله استوجبوا رحمة الله، فهذا هو المراد من قوله: * (لينذركم ولتتقوا لعلكم ترحمون) * (الأعراف: 63).
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية.
أما قوله: * (أوعجبتم) * فالهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم أن جاءكم؟ أي عجبتم أن جاءكم ذكر. وذكروا في تفسير هذا الذكر وجوها. قال الحسن: إنه الوحي الذي جاءهم به. وقال آخرون: المراد بهذا الذكر المعجز، ثم ذلك المعجز يحتمل
152

وجهين: أحدهما: أنه تعالى كان قد أنزل عليه كتابا، وكان ذلك الكتاب معجزا، فسماه الله تعالى ذكرا، كما سمي القرآن بهذا الاسم، وجعله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن ذلك المعجز كان شيئا آخر سوى الكتاب. وقوله: * (على رجل) * قال الفراء: * (علي) * ههنا بمعنى مع ما تقول: جاء بالخبر على وجهه ومع وجهه، كلاهما جائز. وقال ابن قتيبة: أي على لسان رجل منكم، كما قال * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) * (آل عمران: 194) أي على لسان رسلك. وقال آخرون: * (ذكر من ربكم) * منزل على رجل، وقوله: * (منكم) * أي تعرفون نسبه فهو منكم نسبا، وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب، لأن المرء بمن هو من جنسه أعرف، وبطهارة أحواله أعلم، وبما يقتضي السكون إليه أبصر، ثم بين تعالى ما لأجله يبعث الرسول، فقال: * (لينذركم) * وما لأجله ينذر، فقال: * (ولتتقوا) * وما لأجله يتقون، فقال: * (ولعلكم ترحمون) * وهذا الترتيب في غاية الحسن، فإن المقصود من البعثة الإنذار، والمقصود من الإنذار.
التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى، الفوز بالرحمة في دار الآخرة. قال الجبائي والكعبي والقاضي: هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم، التقوى والفوز بالرحمة، وذلك يبطل قول من يقول: إنه تعالى أراد من بعضهم الكفر والعناد، وخلقهم لأجل العذاب والنار.
وجواب أصحابنا أن نقول: إن لم يتوقف الفعل على الداعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح، وإن توقف لزم الجبر، ومتى لزم ذلك وجب القطع، فإنه تعالى أراد الكفر من الكافر، وذلك يبطل مذهبكم. ثم بين تعالى أنهم مع لك كذبوه في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب، ثم إنه تعالى أنجاه في الفلك وأنجى من كان معه من المؤمنين وأغرق الكفار والمكذبين. وبين العلة في ذلك فقال: * (إنهم كانوا قوما عمين) * قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد، قال أهل اللغة: يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر * (فعميت عليهم الأنباء يومئذ) * (القصص: 66) وقال: * (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها) * (الأنعام: 104) قال زهير: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله * ولكنني عن علم ما في غد عمي
قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (عامين) * والفرق بين العمي والعامي أن العمي يدل على عمي ثابت. والعامي على عمي حادث، ولا شك أن عماهم كان ثابتا راسخا، والدليل عليه قوله تعالى في آية أخرى: * (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) * (هود: 36).
153

* (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بى سفاهة ولكنى رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح أمين * أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح وزادكم فى الخلق بسطة فاذكروا ءالآء الله لعلكم تفلحون) *.
اعلم أن هذا هو القصة الثانية، وهي قصة هود مع قومه.
أما قوله: * (وإلى عاد أخاهم هودا) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: انتصب قوله: * (أخاهم) * بقوله: * (أرسلنا) * في أول الكلام والتقدير * (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه) * * (وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا) *.
البحث الثاني: اتفقوا على أن هودا ما كان أخا لهم في الدين. واختلفوا في أنه. هل كان أخا قرابة قريبة أم لا؟ قال الكلبي: إنه كان واحدا من تلك القبيلة، وقال آخرون: إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة فكفي هذا القدر في تسمية هذه الأخوة، والمعنى أنا بعثنا إلى عاد واحدا من جنسهم وهو البشر ليكون ألفهم والأنس بكلامه وأفعاله أكمل. وما بعثنا إليهم شخصا من غير جنسهم مثل ملك أو جني.
154

البحث الثالث: أخاهم: أي صاحبهم ورسولهم، والعرب تسمي صاحب القوم أخ القوم، ومنه قوله تعالى: * (كلما دخلت أمة لعنت أختها) * (الأعراف: 38) أي صاحبتها وشبيهتها. وقال عليه السلام: " إن أخا صداء قد أذن وإنما يقيم من أذن " يريد صاحبهم.
البحث الرابع: قالوا نسب هود هذا: هود بن شالخ، بن أرفخشد، بن سام. بن نوح. وأما عاد فهم قوم كانوا باليمن بالأحقاف، قال ابن إسحاق: والأحقاف، الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت.
البحث الخامس: اعلم أن ألفاظ هذه القصة موافقة للألفاظ المذكورة في قصة نوح عليه السلام إلا في أشياء: الأول: في قصة نوح عليه السلام: * (فقال يا قوم اعبدوا الله) * (الأعراف: 59) وفي قصة هود: * (قال يا قوم اعبدوا الله) * والفرق أن نوحا عليه السلام كان مواظبا على دعواهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة. وأما هود فما كانت مبالغته إلى هذا الحد فلا جرم جاء " فاء التعقيب " في كلام نوح دون كلام هود. والثاني: أن في قصة نوح * (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * (الأعراف: 59) وقال في هذه القصة: * (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) * والفرق بين الصورتين أن قبل نوح عليه السلام لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعة العظيمة وهي الطوفان العظيم، فلا جرم أخبر نوح عن تلك الواقعة فقال: * (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * وأما واقعة هود عليه السلام فقد كانت مسبوقة بواقعة نوح وكان عند الناس علم بتلك الواقعة قريبا، فلا جرم اكتفى هود بقوله: * (أفلا تتقون) * والمعنى تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله ولم يطيعوه نزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فكان قوله: * (أفلا تتقون) * إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا.
والفرق الثالث: قال تعالى في قصة نوح: * (قال الملأ من قومه) * وقال في قصة هود: * (قال الملأ الذين كفروا من قومه) * والفرق أنه كان في أشراف قوم هود من آمن به، منهم مرثد بن سعد، أسلم وكان يكتم إيمانه فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن.
والفرق الرابع: أنه تعالى حكى عن قوم نوح أنهم قالوا: * (إنا لنراك في ضلال مبين) * وحكى عن قوم هود أنهم قالوا: * (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين) * والفرق بين الصورتين أن نوحا عليه السلام كان يخوف الكفار بالطوفان العام وكان أيضا مشتغلا بإعداد السفينة وكان يحتاج إلى أن يتعب نفسه في إعداد السفينة، فعند هذا، القوم قالوا: * (إنا لنراك في ضلال مبين) * (الأعراف: 60) ولم يظهر شيء من العلامات التي تدل على ظهور الماء في تلك المفازة. أما هود عليه السلام فما ذكر شيئا
155

إلا أنه زيف عبادة الأوثان ونسب من اشتغل بعبادتها إلى السفاهة وقلة العقل. فلما ذكر هود هذا الكلام في أسلافهم قابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة ثم قالوا: * (وإنا لنظنك من الكاذبين) * في ادعاء الرسالة واختلفوا في تفسير هذا الظن فقال بعضهم: المراد منه القطع والجزم، وورود الظن بهذا المعنى في القرآن كثير. قال تعالى: * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) * (البقرة: 46) وقال الحسن والزجاج: كان تكذيبهم إياه على الظن لا على اليقين فكفروا به ظانين لا متيقنين، وهذا يدل على أن
حصول الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر.
والفرق الخامس: بين القصتين أن نوحا عليه السلام. قال: * (أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون) * (الأعراف: 62) وأما هود عليه السلام فقال: * (أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) * فنوح عليه السلام. قال: * (أنصح لكم) * وهو صيغة الفعل وهود عليه السلام قال: * (وأنا لكم ناصح) * وهو صيغة اسم الفاعل ونوح عليه السلام. قال: * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) * وهود عليه السلام لم يقل ذلك، ولكنه زاد فيه كونه أمينا، والفرق بين الصورتين أن الشيخ عبد القاهر النحوي ذكر في كتاب دلائل الإعجاز أن صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة، وأما صيغة اسم الفاعل فإنها دالة على الثبات والاستمرار على ذلك الفعل.
وإذا ثبت هذا فنقول: إن القوم كانوا يبالغون في السفاحة على نوح عليه السلام، ثم إنه في اليوم الثاني كان يعود إليهم ويدعوهم إلى الله، وقد ذكر الله تعالى عنه ذلك فقال: * (رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا) * (نوح: 5) فلما كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة لا جرم ذكره بصيغة الفعل، فقال: * (وأنصح لكم) * وأما هود عليه السلام فقوله: * (وأنا لم ناصح) * يدل على كونه مثبتا في تلك النصيحة مستقرا فيها. أما ليس فيها إعلام بأنه سيعود إلى ذكرها حالا فحالا ويوما فيوما، وأما الفرق الآخر في هذه الآية وهو أن نوحا عليه السلام قال: * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) * وهودا وصف نفسه بكونه أمينا. فالفرق أن نوحا عليه السلام كان أعلى شأنا وأعظم منصبا في النبوة من هود، فلم يبعد أن يقال: إن نوحا كان يعلم من أسرار حكم الله وحكمته ما لم يصل إليه هود، فلهذا السبب أمسك هود لسانه عن ذكر تلك الكلمة، واقتصر على أن وصف نفسه بكونه أمينا: ومقصود منه أمور: أحدها: الرد عليهم في قولهم: * (وإنا لنظنك من الكاذبين) * وثانيها: أن مدار أمر الرسالة والتبليغ عن الله على الأمانة فوصف نفسه بكونه أمينا تقريرا للرسالة والنبوة. وثالثها: كأنه قال لهم: كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم، ما وجدتم مني غدرا ولا مكرا ولا كذبا، واعترفتم لي بكوني أمينا فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟
156

واعلم أن الأمين هو الثقة، وهو فعيل من أمن يأمن أمنا فهو آمن وأمين بمعنى واحد.
واعلم أن القوم لما قالوا له: * (إنا لنراك في سفاهة) * فهو لم يقابل سفاهتهم بالسفاهة بل قابلها بالحلم والإغضاء ولم يزد على قوله: * (ليس بي سفاهة) * وذلك يدل على أن ترك الانتقام أولى كما قال: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72).
أما قوله: * (ولكني رسول من رب العالمين) * فهو مدح للنفس بأعظم صفات المدح. وإنما فعل ذلك لأنه كان يجب عليه إعلام القوم بذلك، وذلك يدل على أن مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز.
والفرق السادس: بين القصتين أن نوحا عليه السلام قال: * (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون) * (الأعراف: 63) وفي قصة هود أعاد هذا الكلام بعينه إلا أنه حذف منه قوله: * (ولتتقوا ولعلكم ترحمون) * والسبب فيه أنه لما ظهر في القصة الأولى أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة لم يكن إلى إعادته في هذه القصة حاجة، وأما بعد هذه الكلمة فكله من خواص قصة هود عليه السلام وهو قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام: * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) * (الأعراف: 69).
واعلم أن الكلام في الخلفاء والخلائف والخليفة قد مضى في مواضع، والمقصود منه أن تذكر النعم العظيمة يوجب الرغبة والمحبة وزوال النفرة والعداوة، وقد ذكر هود عليه السلام ههنا نوعين من الأنعام: الأول: أنه تعالى جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح، وذلك بأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح. والثاني: قوله: * (وزادكم في الخلق بسطة) * وفيه مباحث:
البحث الأول: * (الخلق) * في اللغة عبارة عن التقدير، فهذا اللفظ إنما ينطلق على الشيء الذي له مقدار وجثة وحجمية، فكان المراد حصول الزيادة في أجسامهم، ومنهم من حمل هذا اللفظ على الزيادة في القوة، وذلك لأن القوى والقدر متفاوتة، فبعضها أعظم وبعضها أضعف.
إذا عرفت هذا فنقول: لفظ الآية يدل على حصول الزيادة واعتداد تلك الزيادة، فليس في اللفظ البتة ما يدل عليه إلا أن العقل يدل على أن تلك الزيادة يجب أن تكون زيادة عظيمة واقعة على خلاف المعتاد، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر في معرض الأنعام فائدة. قال الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا، وقال آخرون: تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يدا إنسان إذا رفعهما، ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر، وقال قوم يحتمل أن يكون المراد من قوله:
157

* (وزادكم في الخلق بسطة) * كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدة والجلادة، وكون بعضهم محبا للباقين ناصرا لهم وزوال العداوة والخصومة من بينهم، فإنه تعالى لما خصهم بهذه الأنواع من الفضائل والمناقب فقد قرر لهم حصولها، فصح أن يقال: * (وزادكم في الخلق بسطة) * ولما ذكر هود هذين النوعين من النعمة قال: * (فاذكروا آلاء الله) * وفيه بحثان:
البحث الأول: لا بد في الآية من إضمار، والتقدير: واذكروا آلاء الله واعملوا عملا يليق بتلك الإنعامات لعلكم تفلحون. وإنما أضمرنا العمل لأن الصلاح الذي هو الظفر بالثواب لا يحصل بمجرد التذكر بل لا بد له من العمل، واستدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بهذه الآية وقالوا: إنه تعالى رتب حصول الصلاح على مجرد التذكر، فوجب أن يكون مجرد التذكر كافيا في حصول الصلاح. وجوابه ما تقدم من أن سائر الآيات ناطقة بأنه لا بد من العمل. والله أعلم.
البحث الثاني: قال ابن عباس: * (آلاء الله) * أي نعم الله عليكم. قال الواحدي: واحد الآلاء إلى وألو وإلى. قال الأعشى: فأبيض لا يرهب الهزال ولا * يقطع رحما ولا يخون إلي
قال نظير الآلاء الآناء، واحدها: أنا وإني وإني، وزاد صاحب " الكشاف " في الأمثلة فقال: ضلع وأضلاع، وعنب وأعناب.
* (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد ءاباؤنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين * قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني فى أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم ما انزل الله بها من سلطان فانتظروا إنى معكم من المنتظرين * فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا باياتنا وما كانوا مؤمنين) *.
158

اعلم أن هودا عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدليل القاطع، وذلك لأنه بين أن نعم الله عليهم كثيرة عظيمة، وصريح العقل يدل على أنه ليس للأصنام شيء من النعم على الخلق لأنها جمادات، والجماد لا قدرة له على شيء أصلا، وظاهر أن العبادة نهاية التعظيم. ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام. وذلك يدل على أنه يجب عليهم أن يعبدوا الله، وأن لا يعبدوا شيئا من الأصنام، ومقصود الله تعالى من ذكر أقسام إنعامه على العبيد، هذه الحجة التي ذكرها. ثم أن هودا عليه السلام لما ذكر هذه الحجة اليقينية لم يكن من القوم جواب عن هذه الحجة التي ذكرها إلا التمسك بطريقة التقليد. فقالوا: * (أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا) * ثم قالوا: * (فاتنا بما تعدنا) * وذلك لأنه عليه السلام قال: * (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) * (المؤمنون: 32) فقوله: * (أفلا تتقون) * مشعر بالتهديد والتخويف بالوعيد. فلهذا المعنى قالوا: * (فأتنا بما تعدنا) * وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعتقدون كونه كاذبا بدليل أنهم قالوا له: * (وإنا لنظنك من الكاذبين) * (الأعراف: 66) فلما اعتقدوا كونه كاذبا قالوا له: * (فاتنا بما تعدنا) * والغرض أنه إذا لم يأتهم بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذبا، وإنما قالوا ذلك لأنهم ظنوا أن الوعد لا يجوز أن يتأخر، فلا جرم استعجلوه على هذا الحد.
ثم حكى الله تعالى عن هود عليه السلام أنه قال عند هذا الكلام: * (قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا الذي أخبر الله عنه بأنه وقع لا يجوز أن يكون هو العذاب، لأن العذاب ما كان حاصلا في ذلك الوقت. وقد اختلفوا فيه. قال القاضي: تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر، إلا أنا نقول: معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت، لأن بعد كفرهم وتكذيبهم حدثت هذه الإرادة. واعلم أن هذا القول عندنا باطل، بل عندنا في الآية وجوه من التأويلات: أحدها: أنه تعالى أخبره في ذلك الوقت بنزول العذاب عليهم، فلما حدث الإعلام في ذلك الوقت، لا جرم قال هود في ذلك الوقت: * (وقع عليكم من ربكم رجس وغضب) * وثانيها: أنه جعل التوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع. ونظيره قولك لمن طلب منك شيئا، قد كان ذلك بمعنى أنه سيكون، ونظيره قوله تعالى: * (أتى أمر الله) * (النحل: 1) بمعنى: سيأتي أمر الله. وثالثها: أنا نحمل قوله: * (وقع) * على معنى وجد وحصل، والمعنى: إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل إلى الأبد، لأن قولنا: حصل لا إشعار له بالحدوث بعد ما لم يكن.
المسألة الثانية: الرجس لا يمكن أن يكون المراد منه العذاب لأن المراد من الغضب
159

العذاب، فلو حملنا الرجس عليه لزم التكرير، وأيضا الرجس ضد التزكية والتطهير. قال تعالى: * (تطهرهم وتزكيهم بها) * (التوبة: 103) وقال في صفة أهل البيت: * (ويطهركم تطهيرا) * (الأحزاب: 33) والمراد التطهر من العقائد الباطلة والأفعال المذمومة، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الرجس عبارة عن العقائد الباطلة والأفعال المذمومة. إذا ثبت هذا فقوله: * (قد وقع عليكم من ربكم رجس) * يدل على أنه تعالى خصهم بالعقائد المذمومة والصفات القبيحة، وذلك يدل على أن الخير والشر من الله تعالى، قال القفال: يجوز أن يكون الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب كقوله تعالى: * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * (التوبة: 125) أي قد وقع عليكم من الله
رين على قلوبكم عقوبة منه لكم بالخذلان لألفكم الكفر وتماديكم في الغي.
واعلم أنا قد دللنا على أن هذه الآية تدل على أن كفرهم من الله، فهذا الذي قاله القفال أن كان المراد منه ذلك. فقد جاء بالوفاق. إلا أنه شديد النفرة عن هذا المذهب وأكثر تأويل الآيات الدالة على هذا المذهب تدل على أنه لا يقول بهذا القول وإن كان المراد منه الجواب عما شرحناه، فهو ضعيف لأنه ليس فيه ما يوجب رفع الدليل الذي ذكرناه، والله أعلم.
وحاصل الكلام في الآية: أن القوم لما أصروا على التقليد وعدم الانقياد للدليل زادهم الله كفرا، وهو المراد من قوله: * (قد وقع عليكم من ربكم رجس) * ثم خصهم بمزيد الغضب، وهو قوله: * (وغضب) *.
ثم قال: * (أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان) * والمراد منه: الاستفهام على سبيل الإنكار، وذلك لأنهم كانوا يسمون الأصنام بالآلهة، مع أن معنى الإلهية فيها معدوم، وسموا واحدا منها بالعزى مشتقا من العز، والله ما أعطاه عزا أصلا، وسموا آخر منها باللات، وليس له من الإلهية شيء. وقوله: * (ما نزل الله بها من سلطان) * عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة، ثم إنه عليه السلام ذكر لهم وعيدا مجددا فقال: * (فانتظروا) * ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام * (إني معكم من المنتظرين) *.
ثم إنه تعالى أخبر عن عاقبة هذه الواقعة فقال: * (فأنجيناه والذين معه برحمة منا) * إذ كانوا مستحقين للرحمة بسبب إيمانهم، وقطعنا دابر الذين كذبوا بالآيات التي جعلناها معجزة لهود، والمراد أنه تعالى أنزل عليهم عذاب الاستئصال الذي هو الريح، وقد بين الله كيفيته في غير هذا الموضع، وقطع الدابر: هو الاستئصال، فدل بهذا اللفظ أنه تعالى ما أبقى منهم أحدا، ودابر الشيء آخره.
160

فإن قيل: لما أخبر عنهم بأنهم كانوا مكذبين بآيات الله لزم القطع بأنهم ما كانوا مؤمنين، فما الفائدة في قوله بعد ذلك: * (وما كانوا مؤمنين) *.
قلنا: معناه أنهم مكذبون، وعلم الله منهم أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضا، ولو علم تعالى أنهم سيؤمنون لأبقاهم.
* (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جآءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فى أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم * واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد وبوأكم فى الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا ءالآء الله ولا تعثوا فى الارض مفسدين) *.
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة، وهو قصة صالح.
أما قوله: * (وإلى ثمود) * فالمعنى * (ولقد أرسلنا نوحا) * (الأعراف: 59) * (إلى عاد أخاهم هودا) * (الأعراف: 65) * (إلى ثمود أخاهم صالحا) * (هود: 61) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمودا لقلة مائها من الثمد، وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام. وإلى وادي القرى، وقيل سميت ثمود لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوع عليه السلام.
المسألة الثانية: قرىء * (وإلى ثمود) * يمنع التصرف بتأويل القبيلة * (وإلى ثمود) * بالصرف بتأويل الحي أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر، وقد ورد القرآن بهما صريحا. قال تعالى: * (ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) * (هود: 68).
161

واعلم أنه تعالى حكى عنه أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله كما ذكره من قبله من الأنبياء.
ثم قال: * (قد جاءتكم بينة من ربكم) * وهذه الزيادة مذكورة في هذه القصة، وهي تدل على أن كل من كان قبله من الأنبياء كانوا يذكرون الدلائل على صحة التوحيد والنبوة، لأن التقليد وحده لو كان كافيا لكانت تلك البينة ههنا لغوا، ثم بين أن تلك البينة هي الناقة فقال: * (هذه ناقة الله لكم آية) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا أنه تعالى لما أهلك عادا قام ثمود مقامهم، وطال عمرهم وكثر تنعمهم، ثم عصوا الله، وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحا وكان منهم، فطالبوه بالمعجزة. فقال: ما تريدون. فقالوا: تخرج معنا في عيدنا، ونخرج أصنامنا وتسأل إلهك ونسأل أصنامنا، فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك، وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا، فخرج معهم فسألوه أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معينة، فأخذ مواثيقهم أنه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا، فصلى ركعتين ودعا الله فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل، ثم انفرجت وخرجت الناقة من وسطها، وكانت في غاية الكبر وكان الماء عندهم قليلا فجعلوا ذلك الماء بالكلية شربا لها في يوم، وفي اليوم الثاني شربا لكل القوم قال السدي: وكانت الناقة في اليوم التي تشرب فيه الماء تمر بين الجبلين فتعلوهما ثم تأتي فتشرب فتحلب ما يكفي الكل، وكأنها كانت تصب اللبن صبا، وفي اليوم الذي يشربون الماء فيه لا تأتيهم وكان معها فصيل لها. فقال لهم صالح: يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه، فذبح تسعة نفر منهم أبناءهم، ثم ولد العاشر فأبى أن يذبحه أبوه، فنبت نباتا سريعا، ولما كبر الغلام جلس مع قوم يصيبون من الشراب، فأرادوا ماء يمزجونه به، وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء، واشتد ذلك عليهم، فقال الغلام: هل لكم في أن أعقر هذه الناقة؟ فشد عليها، فلما بصرت به شدت عليه، فهرب منها إلى خلف صخرة فأحاشوها عليه، فلما مرت به تناولها فعثرها فسقطت. فذلك قوله: * (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) * وأظهروا حينئذ كفرهم وعتوا من أمر ربهم، فقال لهم صالح: إن آية العذاب أن تصبحوا غدا حمرا، واليوم الثاني صفرا، واليوم الثالث سودا، فلما صبحهم العذاب تحنطوا واستعدوا.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلف العلماء في وجه كون الناقة آية. فقال بعضهم: إنها كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة. قال القاضي: هذا إن صح فهو معجز من جهات: أحدها: خروجها من الجبل، والثانية: كونها لا من ذكر وأنثى، والثالثة: كمال خلقها من غير تدريج.
والقول الثاني: أنها إنما كانت آية لأجل أن لها شرب يوم، ولجميع ثمود شرب يوم، واستيفاء ناقة شرب أمة من الأمم عجيب، وكانت مع ذلك تأتي بما يليق بذلك الماء من
162

الكلأ والحشيش.
والقول الثاني: أن وجه الإعجاز فيها أنهم كانوا في يوم شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم لهم مقام الماء في يوم شربهم. وقال الحسن: بالعكس من ذلك، فقال إنها لم تحلب قطرة لبن قط، وهذا الكلام مناف لما تقدم.
والقول الرابع: أن وجه الإعجاز فيها أن يوم مجيئها إلى الماء كان جميع الحيوانات تمتنع من الورود على الماء، وفي يوم امتناعها كانت الحيوانات تأتي.
واعلم أن القرآن قد دل على أن فيها آية، فأما ذكر أنها كانت آية من أي الوجوه فهو غير مذكور والعلم حاصل بأنها كانت معجزة من وجه ما لا محالة. والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (هذه ناقة الله لكم آية) * فقوله: * (آية) * نصب على الحال أي أشير إليها في حال كونها آية، ولفظة (هذه) تتضمن معنى الإشارة، و * (آية) * في معنى دالة. فلهذا جاز أن تكون حالا.
فإن قيل: تلك الناقة كانت آية لكل أحد، فلماذا خص أولئك الأقوام بها؟ فقال: * (هذه ناقة الله لكم آية) *.
قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا عنها، وليس الخبر كالمعاينة. وثانيها: لعله يثبت سائر المعجزات، إلا أن القوم التمسوا منه هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقتراح، فأظهرها الله تعالى لهم، فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص.
فإن قيل: ما الفائدة في تخصيص تلك الناقة بأنها ناقة الله؟
قلنا: فيه وجوه: قيل أضافها إلى الله تشريفا وتخصيصا كقوله: بيت الله، وقيل: لأنه خلقها بلا واسطة، وقيل: لأنها لا مالك لها غير الله. وقيل: لأنها حجة الله على
القوم.
ثم قال: * (فذروها تأكل في أرض الله) * أي الأرض أرض الله، والناقة ناقة الله، فذروها تأكل في أرض ربها، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم، ولا تمسوها بسوء ولا تضربوها ولا تطردوها ولا تقربوا منها شيئا من أنواع الأذى. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يا علي أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك ".
ثم قال تعالى: * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد) * قيل إنه تعالى لما أهلك عادا عمر ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعمارا طوالا.
ثم قال: * (وبوأكم في الأرض) * أنزلكم، والمبوأ: المنزل من الأرض، أي في أرض الحجر بين الحجاز والشام.
163

ثم قال: * (تتخذون من سهولها قصورا) * أي تبوؤن القصور من سهولة الأرض، فإن القصور إنما تبنى من الطين واللبن والآجر، وهذه الأشياء إنما تتخذ من سهولة الأرض * (وتنحتون من الجبال بيوتا) * (الشعراء: 149) يريد تنحتون بيوتا من الجبال تسقفونها.
فإن قالوا: علام انتصب بيوتا؟
قلنا: على الحال كما يقال: خط هذا الثوب قميصا وأبر هذه القصبة قلما، وهي من الحال المقدرة، لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النحت، ولا الثوب والقصبة قميصا، وقلما في حال الخياطة والبري. وقيل: كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء، وهذا يدل على أنهم كانوا متنعمين مترفهين.
ثم قال: * (فاذكروا آلاء الله) * يعني قد ذكرت لكم بعض أقسام ما آتاكم الله من النعم، وذكر الكل طويل. فاذكروا أنتم بعقولكم ما فيها * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * قيل المراد منه: النهي عن عقر الناقة، والأولى أن يحمل على ظاهره وهو المنع عن كل أنواع الفساد.
* (قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن ءامن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بمآ أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذى ءامنتم به كافرون * فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) *.
164

اعلم أنا ذكرنا أن الملأ عبارة عن القوم الذين تمتلئ القلوب من هيبتهم، ومعنى الآية قال الملأ وهم الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا، يريد المساكين الذين آمنوا به، وقوله: * (لمن آمن منهم) * بدل من قوله: * (للذين استضعفوا) * لأنهم المؤمنون. واعلم أنه وصف أولئك الكفار بكونهم مستكبرين، ووصف أولئك المؤمنين بكونهم مستضعفين، وكونهم مستكبرين فعل استوجبوا به الذم، وكون المؤمنين مستضعفين معناه: أن غيرهم يستضعفهم ويستحقرهم، وهذا ليس فعلا صادرا عنهم بل عن غيرهم، فهو لا يكون صفة ذم في حقهم، بل الذم عائد إلى الذين يستحقرونهم ويستضعفونهم. ثم حكى تعالى أن هؤلاء المستكبرين سألوا المستضعفين عن حال صالح فقال المستضعفون نحن موقنون مصدقون بما جاء به صالح. وقال المستكبرون: بل نحن كافرون بما جاء به صالح، وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى، وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه، والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما، فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد، والإباء، والإنكار، والكفر. وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان، والتصديق والانقياد، وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى.
ثم قال تعالى: * (فعقروا الناقة) * قال الأزهري: العقر عند العرب، كشف عرقوب البعير، ولما كان العقر سببا للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقا لاسم السبب على المسبب. واعلم أنه أسند العقر إلى جميعهم، لأنه كان برضاهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم، وقد يقال للقبيلة العظيمة: أنتم فعلتم كذا مع أنه ما فعله إلا واحد منهم.
ثم قال: * (وعتوا عن أمر ربهم) * يقال: عتا يعتو عتوا، إذا استكبر. ومنه يقال: جبار عات قال مجاهد: العتو الغلو في الباطل وفي قوله: * (عن أمر ربهم) * وجهان: الأول: معناه استكبروا عن امتثال أمر ربهم وذلك الأمر هو الذي أوصله الله إليهم على لسان صالح عليه السلام وهو قوله: * (فذروها تأكل في أرض الله) * (الأعراف: 83) الثاني: أن يكون المعنى وصدر عتوهم عن أمر ربهم، فكان أمر ربهم بتركها صار سببا في إقدامهم على ذلك العتو، كما يقال: الممنوع متبوع * (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين) * وإنما قالوا ذلك، لأنهم كانوا مكذبين له في كل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد.
ثم قال تعالى: * (فأخذتهم الرجفة) * قال الفراء والزجاج: هي الزلزلة الشديدة. قال تعالى: * (يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا) * (المزمل: 14) قال الليث: يقال رجف الشيء يرجف رجفا ورجفانا، كرجفان البعير تحت الرحل، وكما يرجف الشجر إذا أرجفته الريح. ثم قال: * (فأصبحوا في دارهم جاثمين) * يعني في بلدهم ولذلك وحد الدار، كما يقال: دار الحرب
165

ومررت بدار البزازين، وجمع في آية أخرى فقال: * (في ديارهم) * (هود: 94) لأنه أراد بالدار ما لكل واحد منهم من منزله الخاص به. وقوله: * (جاثمين) * قال أبو عبيدة: الجثوم للناس والطير، بمنزلة البروك للإبل، فجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال سكونه بالليل، والمعنى: أنهم أصبحوا جاثمين خامدين لا يتحركون موتى، يقال: الناس جثم. أي قعود لا حراك بهم ولا يحسون بشيء، ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها، وهي البهيمة التي تربط لترمى، فثبت أن الجثوم عبارة عن السكون والخمود، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: لما سمعوا الصيحة العظيمة تقطعت قلوبهم وماتوا جاثمين على الركب، وقيل بل سقطوا على وجوههم، وقيل وصلت الصاعقة إليهم فاحترقوا وصاروا كالرماد. وقيل: بل عند نزول العذاب عليهم سقط بعضهم على بعض، والكل متقارب. وههنا سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا: * (يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين) * قال تعالى: * (فأخذتهم الرجفة) * والفاء للتعقيب وهذا يدل
على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام وليس الأمر كذلك، لأنه تعالى قال في آية أخرى: * (فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) * (هود: 65).
والجواب: أن الذي يحصل عقيب الشيء بمدة قليلة قد يقال فيه أنه حصل عقيبه فزال السؤال.
السؤال الثاني: طعن قوم من الملحدين في هذه الآيات بأن ألفاظ القرآن قد اختلفت في حكاية هذه الواقعة، وهي الرجفة والطاغية والصيحة، وزعموا أن ذلك يوجب التناقض.
والجواب: قال أبو مسلم: الطاغية. اسم لكل ما تجاوز حده سواء كان حيوانا أو غير حيوان وألحق الهاء به للمبالغة، فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت. وقال تعالى: * (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) * (العلق: 6، 7) ويقال: طغى طغيانا وهو طاغ وطاغية. وقال تعالى: * (كذبت ثمود بطغواها) * (الشمس: 11) وقال في غير الحيوان: * (إنا لما طغا الماء) * (الحاقة: 11) أي غلب وتجاوز عن الحد، وأما الرجفة، فهي الزلزلة في الأرض، وهي حركة خارجة عن المعتاد، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها، وأما الصيحة، فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة. وأما الصاعقة، فالغالب أنها الزلزلة وكذلك الزجرة قال تعالى: * (فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة) * (النازعات: 13، 14) فبطل ما قاله الطاعن.
السؤال الثالث: أن القوم قد شاهدوا خروج الناقة عن الصخرة وذلك معجزة قاهرة تقرب حال المكلفين عند مشاهدة هذه المعجزة من الإلجاء، وأيضا شاهدوا أن الماء الذي كان شربا لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين، كان شربا لتلك الناقة الواحدة في اليوم الثاني، وذلك أيضا معجزة قاهرة، ثم إن القوم لما نحروها، وكان صالح عليه السلام قد توعدهم بالعذاب الشديد إن
166

نحروها، فلما شاهدوا بعد إقدامهم على نحرها آثار العذاب، وهو ما يروى أنهم احمروا في اليوم الأول، ثم اصفروا في اليوم الثاني، ثم اسودوا في اليوم الثالث، فمع مشاهدة تلك المعجزات القاهرة في أول الأمر، ثم شاهدوا نزول العذاب الشديد في آخر الأمر، هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مصرا على كفره غير تائب منه؟
والجواب الأول أن يقال: إنهم قبل أن شاهدوا تلك العلامات كانوا يكذبون صالحا في نزول العذاب، فلما شاهدوا العلامات خرجوا عند ذلك عن حد التكليف، وخرجوا عن أن تكون توبتهم مقبولة.
ثم قال تعالى: * (فتولى عنهم) * وفيه قولان: الأول: أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا، والدليل عليه أنه تعالى قال: * (فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم) * والفاء تدل على التعقيب، فدل على أنه حصل هذا التولي بعد جثومهم. والثاني: أنه عليه السلام تولى عنهم قبل موتهم، بدليل: أنه خاطب القوم. وقال: * (يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) * وذلك يدل على كونهم أحياء من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قال لهم: * (يا قوم) * والأموات لا يوصفون بالقوم، لأن اشتقاق لفظ القوم من الاستقلال بالقيام، وذلك في حق الميت مفقود. والثاني: أن هذه الكلمات خطاب مع أولئك وخطاب الميت لا يجوز. والثالث: أنه قال: * (ولكن لا تحبون الناصحين) * فيجب أن يكونوا بحيث يصح حصول المحبة فيهم، ويمكن أن يجاب عنه فنقول: قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه، فلم يقبل تلك النصيحة حتى ألقى نفسه في الهلاك، يا أخي منذ كم نصحتك، فلم تقبل وكم منعتك فلم تمتنع، فكذا ههنا، والفائدة في ذكر هذا الكلام إما لأن يسمعه بعض الأحياء فيعتبر به وينزجر عن مثل تلك الطريقة. وإما لأجل أنه احترق قلبه بسبب تلك الواقعة. فإذا ذكر ذلك الكلام فرجت تلك القضية عن قلبه. وقيل: يخف عليه أثر تلك المصيبة، وذكروا جوابا آخر، وهو: أن صالحا عليه السلام خاطبهم بعد كونهم جاثمين، كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام خاطب قتلى بدر. فقيل: تتكلم مع هؤلاء الجيف. فقال: " ما أنتم بأسمع منهم لكنهم لا يقدرون على الجواب ".
* (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) *.
167

اعلم أن هذا هو القصة الرابعة. قال النحويون: إنما صرف لوط ونوح لخفته، فإنه مركب من ثلاثة أحرف، وهو ساكن الوسط * (أتأتون الفاحشة) * أتفعلون السيئة المتمادية في القبح؟ وفي قوله: * (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) * وفيه بحثان:
البحث الأول: قال صاحب " الكشاف ": * (من) * الأولى زائدة لتوكيد النفي، وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض.
فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: * (ما سبقكم بها من أحد العالمين) * مع أن الشهوة داعية إلى ذلك العمل أبدا؟
والجواب: أنا نرى كثيرا من الناس يستقذر ذلك العمل، فإذا جاز في الكثير منهم استقذاره لم يبعد أيضا انقضاء كثير من الإعصار بحيث لا يقدم أحد من أهل تلك الإعصاء عليه، وفيه وجه آخر، وهو أن يقال: لعلهم بكليتهم أقبلوا على ذلك العمل، والإقبال بالكلية على ذلك العمل مما لم يوجد في الإعصار السابقة. قال الحسن: كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم، وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء. وقال عطاء عن ابن عباس: استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض.
البحث الثاني: قوله: * (ما سبقكم) * يجوز أن يكون مستأنفا في التوبيخ لهم، ويجوز أن يكون صفة الفاحشة، كقوله تعالى: * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) * (يس: 37) وقال الشاعر:
* (إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء بل أنتم قوم مسرفون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وحفص عن عاصم * (إنكم) * بكسر الألف ومذهب نافع أن يكتفي بالاستفهام بالأولى من الثاني في كل القرآن. وقرأ ابن كثير * (أئنكم) * بهمزة غير ممدودة وبين الثانية، وقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة بالتخفيف، وبين الثانية. والباقون بهمزتين على الأصل. قال الواحدي: من استفهم كان هذا استفهاما معناه الإنكار لقوله: * (أتأتون الفاحشة) * (الأعراف: 80) وكل واحد من الاستفهامين جملة مستقلة لا تحتاج في تمامها إلى شيء.
المسألة الثانية: قوله: * (شهوة) * مصدر. قال أبو زيد شهي يشهي شهوة وانتصابها على المصدر، لأن قوله: * (أتأتون الرجال) * معناه أتشتهون شهوة؟ وإن شئت قلت إنها مصدر وقع موقع الحال.
168

المسألة الثالثة: في بيان الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل.
اعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع، فلا حاجة فيه إلى تعديد الوجوه على التفصيل ثم نقول موجبات القبح فيه كثيرة: أولها: أن أكثر الناس يحترزون عن حصول الولد، لأن حصوله يحمل الإنسان على طلب المال وإتعاب النفس في الكسب، إلا أنه تعالى جعل الوقاع سببا لحصول اللذة العظيمة، حتى أن الإنسان بطلب تلك اللذة يقدم على الوقاع، وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى، وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع، فوضع اللذة في الوقاع، كشبه الإنسان الذي وضع الفخ لبعض الحيوانات، فإنه لا بد وأن يضع في ذلك الفخ شيئا يشتهيه ذلك الحيوان حتى يصير سببا لوقوعه في ذلك الفخ، فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ، والمقصود منه إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع. إذا ثبت هذا فنقول: لو تمكن الإنسان من تحصيل تلك اللذة بطريق لا تفضي إلى الولد، لم تحصل الحكمة المطلوبة، ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل، وذلك على خلاف حكم الله، فوجب الحكم بتحريمه قطعا، حتى تحصل تلك اللذة بالطريق المفضي إلى الولد.
والوجه الثاني: وهو أن الذكورة مظنة الفعل، والأنوثة مظنة الانفعال، فإذا صار الذكر منفعلا، والأنثى فاعلا، كان ذلك على خلاف مقتضى الطبيعة، وعلى عكس الحكمة الإلهية.
والوجه الثالث: الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهيمة، وإذا كان الاشتغال بالشهوة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة، فليكن قضاء الشهوة من المرأة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة، وهو حصول الولد وإبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع. فأما قضاء الشهوة من الذكر فإنه لا يفيد إلا مجرد قضاء الشهوة، فكان ذلك تشبها بالبهائم، وخروجا عن الغريزة الإنسانية، فكان في غاية القبح.
والوجه الرابع: هب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل، إلا أنه يبقى في إيجاب العار العظيم، والعيب الكامل بالمفعول على وجه لا يزول ذلك العيب عنه أبدا لدهر، والعاقل لا يرضى لأجل لذة خسيسة منقضية في الحال، إيجاب العيب الدائم الباقي بالغير.
والوجه الخامس: أنه عمل يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول، وربما يؤدي ذلك إلى إقدام المفعول على قتل الفاعل لأجل أنه ينفر طبعه عند رؤيته، أو على إيجاب إنكائه بكل طريق يقدر عليه. أما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة، فإنه يوجب استحكام الألفة والمودة وحصول المصالح الكبيرة، كما قال تعالى: * (خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) * (الروم: 21).
169

والوجه السادس: أنه تعالى أودع في الرحم قوة شديدة الجذب للمني، فإذا واقع الرجل المرأة قوي الجذب، فلم يبق شيء من المني في المجاري إلا وينفصل. أما إذا واقع الرجل فلم يحصل في ذلك العضو المعين من المفعول قوة جاذبة للمني، وحينئذ لا يكمل الجذب، فيبقى شيء من أجزأ المني في تلك المجاري، ولا ينفصل، ويعفن ويفسد ويتولد منه الأورام الشديدة والأسقام العظيمة وهذه فائدة لا يمكن معرفتها إلا بالقوانين الطبية، فهذه هي الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل ورأيت بعض من كان ضعيفا في الدين يقول: إنه تعالى قال: * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المؤمنون: 5 المعارج: 29) وذلك يقتضي حل وطء المملوك مطلقا سواء كان ذكرا أو أنثى قال: ولا يمكن أن يقال أنا نخصص هذا العموم بقوله تعالى: * (أتأتون الذكران من العالمين) * (الشعراء: 165) وقوله: * (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) * (الأعراف: 80) قال لأن هاتين الآيتين كل واحد منهما أعم من الأخرى من وجه، وأخص من وجه، وذلك لأن المملوك قد يكون ذكرا، وقد يكون أنثى، وأيضا الذكر قد يكون مملوكا، وقد لا يكون مملوكا، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تخصيص إحداهما بالأخرى أولى من العكس، والترجيح من هذا الجانب، لأن قوله: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * شرع محمد، وقصة لوط، شرع سائر الأنبياء، وشرع محمد عليه الصلاة والسلام أولى من شرع من تقدمه من الأنبياء، وأيضا الأصل في المنافع والملاذ الحل، وأيضا الملك مطلق للتصرف. فقل له الاستدلال إنما يقبل في موضع الاحتمال، وقد ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد حرمة هذا العمل، والمبالغة في المنع منه، والاستدلال إذا وقع في مقابلة النقل المتواتر، كان باطلا.
ثم قال تعالى حكاية عن لوط أنه قال لهم: * (بل أنتم قوم مسرفون) * والمعنى كأنه قال لهم: أنتم مسرفون في كل الأعمال، فلا يبعد منكم أيضا إقدامكم على هذا الإسراف.
* (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) *.
والمراد منه أخرجوا لوطا وأتباعه، لأنه تعالى في غير هذه السورة قال: * (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) * (النمل: 56) ولأن الظاهر أنهم إنما سعوا في إخراج من نهاهم عن العمل الذي يشتهونه ويريدونه، وذلك الناهي ليس إلا لوطا وقومه، وفي قوله: * (يتطهرون) * وجوه: الأول:
170

ان ذلك العمل تصرف في موضع النجاسة، فمن تركه فقد تطهر. والثاني: أن البعد عن الإثم يسمى طهارة فقوله: * (يتطهرون) * أي يتباعدون عن المعاصي والآثام
. الثالث: أنهم إنما قالوا: * (أناس يتطهرون) * على سبيل السخرية بهم وتطهرهم من الفواحش، كما يقول الشيطان من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: ابعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد.
* (فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) *.
اعلم أن قوله * (فأنجيناه وأهله) * يحتمل أن يكون المراد من أهله أنصاره وأتباعه الذين قبلوا دينه ويحتمل أن يكون المراد المتصلين به بالنسب. قال ابن عباس: المراد ابنتاه. وقوله: * (إلا امرأته) * أي زوجته. يقال: امرأة الرجل بمعنى زوجته. ويقال: رجل المرأة بمعنى زوجها لأن الزوج بمنزلة المالك لها، وليست المرأة بمنزلة المالك للرجل، فإذا أضيفت إلى الرجل بالاسم العام، عرفت الزوجية. وملك النكاح، والرجل إذا أضيف إلى المرأة بالاسم العام، تعرف الزوجية. وقوله: * (كانت من الغابرين) * يقال: غبر الشيء يغبر غبورا، إذا مكث وبقي. قال الهذلي: فغبرت بعدهم بعيش ناصب * وأخال أني لاحق مستتبع
يعني بقيت فمعنى الآية: أنها كانت من الغابرين عن النجاة. أي من الذين بقوا عنها ولم يدركوا النجاة. يقال فلان غبر هذا الأمر. أي لم يدركه، ويجوز أن يكون المراد أنها لم تسر مع لوط وأهله، بل تخلفت عنه وبقيت في ذلك الموضع الذي هو موضع العذاب.
ثم قال: * (وأمطرنا عليهم مطرا) * يقال: مطرت السماء وأمطرت، والأول أفصح، وأمطرهم، مطرا وعذابا، وكذلك أمطر عليهم، والمراد أنه تعالى أمطر عليهم حجارة من السماء بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى: * (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) * (الحجر: 74).
ثم قال: * (فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ظاهر هذا اللفظ وإن كان مخصوصا بالرسول عليه السلام إلا أن المراد سائر المكلفين ليعتبروا بذلك فينزجروا.
فإن قيل: كيف يعتبرون بذلك، وقد آمنوا من عذاب الاستئصال؟
171

قلنا: إن عذاب الآخرة أعظم وأدون من ذلك، فعند سماع هذه القصة يذكرون عذاب الآخرة مؤنبة على عذاب الاستئصال، ويكون ذلك زجرا وتحذيرا.
المسألة الثانية: مذهب الشافعي رضي الله عنه: أن اللواطة توجب الحد. وقال أبو حنيفة: لا توجبه. وللشافعي رحمه الله: أن يحتج بهذه الآية من وجوه: الأول: أنه ثبت في شريعة لوط عليه السلام رجم اللوطي، والأصل في الثابت البقاء، إلا أن يظهر طريان الناسخ، ولم يظهر في شرع محمد عليه الصلاة والسلام ناسخ هذا الحكم، فوجب القول ببقائه. الثاني: قوله تعالى: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90) قد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن شرع من قبلنا حجة علينا. والثالث: أنه تعالى قال: * (فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) * والظاهر أن المراد من هذه العاقبة ما سبق ذكره وهو إنزال الحجر عليهم. ومن المجرمين، الذين يعملون عمل قوم لوط، لأن ذلك هو المذكور السابق فينصرف إليه، فصار تقدير الآية: فانظر كيف أمطر الله الحجارة على من يعمل ذلك العمل المخصوص، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب، يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، فهذه الآية تقتضي كون هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص، وإذا ظهرت العلة، وجب أن يحصل هذا الحكم أينما حصلت هذه العلة.
* (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جآءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا فى الارض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) *.
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة، وقد ذكرنا أن التقدير: * (وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا) * وذكرنا أن هذه الأخوة كانت في النسب لا في الدين، وذكرنا الوجوه فيه، واختلفوا في مدين. فقيل: أنه اسم البلد، وقيل: إنه اسم القبيلة بسبب أنهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام، ومدين صار
172

اسما للقبيلة، كما يقال: بكر وتميم. وشعيب من أولاده، وهو: شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن.
واعلم أنه تعالى حكى عن شعيب أنه أمر قومه في هذه الآية بأشياء: الأول: أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله، وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء. فقال: * (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) * والثاني: أنه ادعى النبوة فقال: * (قد جاءتكم بينة من ربكم) * ويجب أن يكون المراد من البينة ههنا المعجزة، لأنه لا بد لمدعي النبوة منها، وإلا لكان متنبئا لا نبيا، فهذه الآية دلت على أنه حصلت له معجزة دالة على صدقه. فأما أن تلك المعجزة من أي الأنواع كانت فليس في القرآن دلالة عليه، كما لم يحصل في القرآن الدلالة على كثير من معجزات رسولنا. قال صاحب " الكشاف ": ومن معجزات شعيب: أنه دفع إلى موسى عصاه، وتلك العصا حاربت التنين، وأيضا قال لموسى: أن هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد وبياض، وقد وهبتها منك، فكان الأمر كما أخبر عنه. ثم قال: وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه السلام، لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة.
واعلم أن هذا الكلام بناء على أصل مختلف بين أصحابنا، وبين المعتزلة. وذلك لأن عندنا أن الذي يصير نبيا ورسولا بعد ذلك، يجوز أن يظهر الله عليه أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي، ويسمى ذلك إرهاصا للنبوة، فهذا الإرهاص عندنا جائز، وعند المعتزلة غير جائز، فالأحوال التي حكاها صاحب " الكشاف " هي عندنا إرهاصات لموسى عليه السلام، وعند المعتزلة معجزات لشعيب لما أن الإرهاص عندهم غير جائز، والثالث: أنه قال: * (فأوفوا الكيل والميزان) *.
واعلم أن عادة الأنبياء عليهم السلام إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالا أكثر من إقبالهم على سائر أنواع المفاسد بدأوا يمنعهم عن ذلك النوع، وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف، فلهذا السبب بدأ بذكر هذه الواقعة فقال: * (فأوفوا الكيل والميزان) * وههنا سؤالان:
السؤال الأول: الفاء في قوله: * (فأوفوا) * توجب أن تكون للأمر بإيفاء الكيل كالمعلول والنتيجة عما سبق ذكره وهو قوله: * (قد جاءتكم بينة من ربكم) * فكيف
الوجه فيه؟
والجواب: كأنه يقول البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشيء القليل. وهو أمر مستقبح في العقول، ومع ذلك قد جاءت البينة والشريعة الموجبة للحرمة، فلم يبق لكم فيه عذر * (فأوفوا الكيل) *.
173

السؤال الثاني: كيف قال الكيل والميزان، ولم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود؟
والجواب: أراد بالكيل آلة الكيل، وهو المكيال، أو يسمى ما يكال به بالكيل، كما يقال العيش لما يعاش به. والرابع: قوله: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) * والمراد أنه لما منع قومه من البخس في الكيل والوزن منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه، ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة، وأخذ الرشوة، وقطع الطريق. وانتزاع الأموال بطريق الحيل. والخامس: قوله: * (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) * وذلك لأنه لما كان أخذ أموال الناس بغير رضاها يوجب المنازعة والخصومة، وهما يوجبان الفساد، لا جرم قال بعده: * (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) * وقد سبق تفسير هذه الكلمة، وذكروا فيه وجوها فقيل: * (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) * بأن تقدموا على البخس في الكيل والوزن، لأن ذلك يتبعه الفساد. وقيل: أراد به المنع من كل ما كان فسادا حملا للفظ على عمومه. وقيل: قوله: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) * منع من مفاسد الدنيا وقوله: * (ولا تفسدوا في الأرض) * منع من مفاسد الدين حتى تكون الآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين، واختلفوا في معنى * (بعد إصلاحها) * قيل: بعد أن صلحت الأرض بمجيء النبي بعد أن كانت فاسدة بخلوها منه، فنهاهم عن الفساد، وقد صارت صالحة. وقيل: المراد أن لا تفسدوا بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيهم، وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين التعظيم لأمر الله، ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة، والشفقة على خلق الله، ويدخل فيه ترك البخس، وترك الإفساد، وحاصلها يرجع إلى ترك الإيذاء، كأنه تعالى يقول: إيصال النفع إلى الكل متعذر. وأما كف الشر عن الكل فممكن، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الخمسة. قال: * (ذلكم) * وهو إشارة إلى هذه الخمسة، والمعنى: خير لكم في الآخرة إن كنتم مؤمنين بالآخرة، والمراد: أترك البخس وترك الإفساد خير لكم في طلب المال في المعنى لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة، رغبوا في المعاملات معكم، فكثرت أموالكم * (إن كنتم مؤمنين) * أي إن كنتم مصدقين لي في قولي.
* (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من ءامن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) *.
174

اعلم أن شعيبا عليه السلام ضم إلى ما تقدم ذكره من التكاليف الخمسة أشياء. الأول: أنه منعهم من أن يقعدوا على طرق الدين ومناهج الحق، لأجل أن يمنعوا الناس عن قبوله وفي قوله: * (ولا تقعدوا بكل صراط) * قولان: الأول: يحمل الصراط على الطريق الذي يسلكه الناس. روي أنهم كانوا يجلسون على الطرقات ويخوفون من آمن بشعيب عليه السلام. والثاني: أن يحمل الصراط على مناهج الدين، قال صاحب " الكشاف ": * (ولا تقعدوا بكل صراط) * أي ولا تقتدوا بالشيطان في قوله: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) * (الأعراف: 16) قال والمراد بالصراط كل ما كان من مناهج الدين، والدليل على أن المراد بالصراط ذلك قوله: * (وتصدون عن سبيل الله) * وقوله: * (بكل صراط) * يقال قعد له بمكان كذا وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا، وهذه الحروف تتعاقب في هذه المواضع لتقارب معانيها، فإنك إذا قلت قعد بمكان كذا، فالباء للإلصاق، وهو قد التصق بذلك المكان.
وأما قوله: * (توعدون) * فمحله ومحل ما عطف عليه النصب على الحال، والتقدير: ولا تقعدوا موعدين ولا صادين عن سبيل الله ولا أن تبغوا عوجا في سبيل الله، والحاصل: أنه نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأمور الثلاثة. واعلم أنه تعالى لما عطف بعض هذه الثلاثة على البعض. وجب حصول المغايرة بينها فقوله: * (توعدون) * يحصل بذلك إنزال المضار بهم وأما الصد، فقد يكون بالإيعاد بالمضار، وقد يكون بالوعد بالمنافع بما لو تركه، وقد يكون بأن لا يمكنه من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه.
أما قوله: * (وتبغونها عوجا) * فالمراد إلقاء الشكوك والشبهات والمراد من الآية أن شعيبا منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاثة. وإذا تأملت علمت أن أحدا لا يمكنه منع غيره من قبول مذهب أو مقالة إلا بأحد هذه الطرق الثلاثة.
ثم قال: * (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) * والمقصود منه أنهم إذا تذكروا كثرة إنعام الله عليهم فالظاهر أن ذلك يحملهم على الطاعة والبعد عن المعصية، قال الزجاج: وهذا الكلام يحتمل ثلاثة أوجه، كثر عددكم بعد القلة، وكثركم بالغني بعد الفقر، وكثركم بالقدرة بعد الضعف، ووجه
175

ذلك أنهم إذا كانوا فقراء أو ضعفاء فهم بمنزلة القليل، في أنه لا يحصل من وجودهم قوة وشوكة. فأما تكثير عددهم بعد القلة؛ فهو أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط، فولدت حتى كثر عددهم.
ثم قال بعده: * (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) * والمعنى تذكروا عاقبة المفسدين وما لحقهم من الخزي والنكال، ليصير ذلك زاجرا لكم عن العصيان والفساد، فقوله: * (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) * المقصود منه أنهم إذا تذكروا نعم الله عليهم انقادوا وأطاعوا، وقوله: * (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) * المقصود منه أنهم إذا عرفوا أن عاقبة المفسدين المتمردين ليست إلا الخزي والنكال، احترزوا عن الفساد والعصيان وأطاعوا، فكان المقصود من هذين الكلامين حملهم على الطاعة بطريق الترغيب أولا والترهيب ثانيا.
ثم قال: * (وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا) * والمقصود منه تسلية قلوب المؤمنين وزجر من لم يؤمن، لأن قوله: * (فاصبروا) * تهديد، وكذلك قوله: * (حتى يحكم الله بيننا) * والمراد إعلاء درجات المؤمنين، وإظهار هوان الكافرين، وهذه الحالة قد تظهر في الدنيا فإن لم تظهر
في الدنيا فلا بد من ظهورها في الآخرة.
ثم قال: * (وهو خير الحاكمين) * يعني أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف، فلا بد وأن يخص المؤمن التقي بالدرجات العالية، والكافر الشقي بأنواع العقوبات، ونظيره قوله: * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض) * (ص: 28).
* (قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين ءامنوا معك من قريتنآ أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا فى ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنآ أن نعود فيهآ إلا أن يشآء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا فتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) *.
176

اعلم أن شعيبا لما قرر تلك الكلمات قال: * (الذين استكبروا) * وأنفوا من تصديقه وقبول قوله لا بد من أحد أمرين: إما أن ونخرجك ونخرج أتباعك من هذه القرية. وإما أن تعود إلى ملتنا، والإشكال فيه أن يقال: إن قولهم: * (أو لتعودن في ملتنا) * يدل على أنه عليه السلام كان على ملتهم التي هي الكفر، فهذا يقتضي أنه عليه السلام كان كافرا قبل ذلك، وذلك في غاية الفساد، وقوله: * (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم) * يدل أيضا على هذا المعنى.
والجواب من وجوه: الأول: أن أتباع شعيب كانوا قبل دخولهم في دينه كفارا فخاطبوا شعيبا بخطاب أتباعه وأجروا عليه أحكامهم. الثاني: أن رؤساءهم قالوا ذلك على وجه التلبيس على العوام يوهمون أنه كان منهم، وأن شعيبا ذكر جوابه على وفق ذلك الإيهام. الثالث: أن شعيبا في أول أمره كان يخفي دينه ومذهبه، فتوهموا أنه كان على دين قومه. الرابع: لا يبعد أن يقال: إن شعيبا كان على شريعتهم، ثم إنه تعالى نسخ تلك الشريعة بالوحي الذي أوحاه إليه. الخامس: المراد من قوله: * (أو لتعودن في ملتنا) * أي لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود بمعنى الابتداء. تقول العرب: قد عاد إلي من فلان مكروه، يريدون قد صار إلي منه المكروه ابتداء. قال الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مدة * إلى فقد عادت لهن ذنوب
أراد فقد صارت لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوبا كانت لهن قبل الإحسان، ثم إنه تعالى بين أن القوم لما قالوا ذلك. أجاب شعيب عليه السلام عن كلامهم بوجهين: الأول: قوله: * (ولو كنا كارهين) * الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال. تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين: الثاني: قوله: * (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها) * والجواب الأول يجري مجرى الرمز في أنه لا يعود إلى ملتهم، وهذا الجواب الثاني تصريح بأنه لا يفعل ذلك فقال: إنه إن فعلنا ذلك فقد افترينا على الله. وأصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة، والبراءة عن الكذب، فالعود في ملتكم يبطل النبوة، ويزيل الرسالة. وقوله: * (إذ نجانا الله منها) * فيه وجوه: الأول: معنى * (إذ نجانا الله منها) * علمنا قبحه وفساده، ونصب الأدلة على أنه باطل. الثاني: أن المراد أن الله نجى قومه من تلك الملة، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم، وإن كان بريئا منه إجراء الكلام على حكم التغليب. والثالث: أن القوم أوهموا أنه كان على ملتهم، أو اعتقدوا أنه كان كذلك. فقوله: * (بعد إذ نجانا الله منها) * أي حسب معتقدكم وزعمكم.
177

أما قوله: * (وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشار الله) *. فاعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر، والمعتزلة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يشاء إلا الخير والصلاح. أما وجه استدلال أصحابنا بهذه، فمن وجهين: الأول: قوله: * (إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها) * يدل على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه، لا من الله تعالى، وذلك على خلاف مقتضى قوله: * (بعد إذ نجانا الله منها) * الثاني: أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة، ولما كانت تلك الملة كفرا، كان هذا تجويزا من شعيب عليه السلام أن يعيدهم إلى الكفر، فكاد هذا يكون تصريحا من شعيب بأنه تعالى قد شاء رد المسلم إلى الكفر، وذلك غير مذهبنا. قال الواحدي: ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر. ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام: * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * (إبراهيم: 35) وكثيرا ما كان محمد عليه الصلاة والسلام يقول: " يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك " وقال يوسف: * (توفني مسلما) * (يوسف: 101) أجابت المعتزلة عنه من وجوه: الأول: أن قوله ليس لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إليها قضية شرطية، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء. والثاني: أن هذا مذكور على طريق التبعيد، كما يقال: لا أفعل ذلك إلا إذا ابيض القار، وشاب الغراب: فعلق شعيب عليه السلام عوده إلى ملتهم على مشيئته. ومن المعلوم أنه لا يكون نفيا لذلك أصلا، فهو على طريق التبعيد، لا على وجه الشرط. الثالث: أن قوله: * (إلا أن يشاء الله) * ليس فيه بيان أن الذي شاءه الله ما هو، فنحن نحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله ربنا بأن يظهر هذا الكفر من أنفسنا إذا أكرهتمونا عليه بالقتل، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره، وما كان جائزا كان مرادا لله تعالى، وكون الضمير أفضل من الإظهار، لا يخرج ذلك الإظهار من أن يكون مراد الله تعالى، كما أن المسح على الخفين مراد الله تعالى وإن كان غسل الرجلين أفضل. الرابع: أن قوله: * (لنخرجنك يا شعيب) * (الأعراف: 88) المراد الإخراج عن القرية، فيحمل قوله: * (وما يكون لنا أن نعود فيها) * أي القرية، لأنه تعالى قد كان حرم عليه إذا أخرجوه عن القرية، أن يعود فيها إلا بإذن الله ومشيئته. الخامس: أن نقول يجب حمل المشيئة ههنا على الأمر، لأن قوله: * (وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله) * معناه: أنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيها. وقوله: * (لنا أن نعود فيها) * أي يكون ذلك العود جائزا، والمشيئة عند أهل السنة لا يوجب جواز الفعل، فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عندهم، ولا يجوز له فعله، إنما الذي يوجب
178

الجواز هو الأمر. فثبت أن المراد من المشيئة ههنا الأمر، فكان التقدير: إلا أن يأمر الله بعودنا في ملتكم فإنا نعود إليها، والشريعة التي صارت منسوخة، لا يبعد أن
يأمر الله بالعمل بها مرة أخرى، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم.
والوجه السادس: للقوم في الجواب ما ذكره الجبائي، فقال: المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف العبادة فيها بالأوقات، كالصلاة والصيام وغيرهما، فقال شعيب: * (وما يكون لنا أن نعود في ملتكم) * ولما دخل في ذلك كل ما هم عليه، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقيا غير منسوخ، لا جرم قال: * (إلا أن يشاء الله) * والمعنى: إلا أن يشاء الله إبقاء بعضها فيدلنا عليه، فحينئذ نعود إليها. فهذا الاستثناء عائد إلى الأحكام التي يجوز دخول النسخ والتغيير فيها، وغير عائد إلى ما لا يقبل التغير البتة. فهذه أسئلة القوم على هذه الطريقة وهي جيدة، وفي الآيات الدالة على صحة مذهبنا كثرة، ولا يلزم من ضعف استدلال أصحابنا بهذه الآية دخول الضعف في المذهب. وأما المعتزل فقد تمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين:
الوجه الأول: لما قالوا ظاهر قوله: * (وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا) * يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها، وذلك يقتضي أن كل ما شاء الله وجوده، كان فعله جائزا مأذونا فيه، ولم يكن حراما. قالوا: وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد الله حصوله، كان حسنا مأذونا فيه، وما كان حراما ممنوعا منه لم يكن مرادا لله تعالى.
والوجه الثاني: لهم أن قالوا: إن قوله: * (لنخرجنك.... أو لتعودن في ملتنا) * لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك الملة أيضا بخلق الله، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة.
واعلم أنه لما تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى سائر الآيات في هذا الباب.
أما قوله: * (وسع ربنا كل شيء علما) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعلق هذا الكلام بالكلام الأول وجوه: قال القاضي: قد نقلنا عن أبي علي الجبائي أن قول شعيب: * (إلا أن يشاء الله ربنا) * معناه: إلا أن يخلق المصلحة في تلك العبادات، فحينئذ يكلفنا بها، والعالم بالمصالح ليس إلا من وسع علمه كل شيء، فلذلك أتبعه بهذا القول. وقال أصحابنا: وجه تعلق هذا الكلام بما قبله، هو أن القوم لما قالوا لشعيب: إما أن تخرج من قريتنا وإما أن تعود إلى ملتنا، فقال شعيب: * (وسع ربي كل شيء علما) * فربما كان في علمه حصول قسم ثالث، وهو أن نبقى في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل يجعلكم مقهورين تحت
179

أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا، وهذا الوجه أولى مما قاله القاضي، لأن قوله: * (على الله توكلنا) * لائق بهذا الوجه، لا بما قاله القاضي.
المسألة الثانية: قوله: * (وسع ربنا كل شيء علما) * يدل على أنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء، لأن قوله: * (وسع) * فعل ماض، فيتناول كل ماض. وإذا ثبت أنه كان في الأزل عالما بجميع المعلومات. وثبت أن تغير معلومات الله تعالى محال، لزم أنه ثبتت الأحكام وجفت الأقلام والسعيد من سعد في علم الله، والشقي من شقي في علم الله.
المسألة الثالثة: قوله: * (وسع ربنا كل شيء علما) * يدل على أنه علم الماضي، والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف كان يكون، فهذه أقسام أربعة، ثم كل واحد من هذه الأقسام الأربعة يقع على أربعة أوجه. أما الماضي: فإنه علم أنه لما كان ماضيا، فإنه كيف كان. وعلم أنه لو لم يكن ماضيا، بل كان حاضرا، فإنه كيف يكون وعلم أنه لو كان مستقبلا كيف يكون. وعلم أنه لو كان عدما محضا كيف يكون، فهذه أقسام أربعة بحسب الماضي، واعتبر هذه الأقسام الأربعة بحسب الحال، وبحسب المستقبل، وبحسب المعدوم المحض، فيكون المجموع ستة عشر، ثم اعتبر هذه الأقسام الستة عشر بحسب كل واحد من الذوات والألوان والطعوم والروائح، وكذا القول في سائر المفردات من أنواع الأعراض وأجناسها، فحينئذ يلوح لعقلك من قوله: * (وسع ربنا كل شيء علما) * بحر لا ينتهي مجموع عقول العقلاء إلى أول خطوة من خطوات ساحله.
المسألة الرابعة: قال الواحدي: قوله: * (وسع ربنا كل شيء علما) * منصوب على التمييز.
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام ختم كلامه بأمرين: الأول: بالتوكل على الله. فقال: * (على الله توكلنا) * فهذا يفيد الحصر، أي عليه توكلنا لا على غيره، وكأنه في هذا المقام عزل الأسباب، وارتقى عنها إلى مسبب الأسباب. والثاني: الدعاء. فقال: * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * قال ابن عباس والحسن وقتادة، والسدي: احكم واقض. وقال الفراء: أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح لأنه يفتح مواضع الحق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كنت أدري قوله: * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أحاكمك. قال الزجاج: وجائز أن يكون قوله: * (افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف، والمراد منه: أن ينزل عليهم عذابا يدل على كونهم مبطلين، وعلى كون شعيب وقومه محقين، وعلى هذا الوجه يراد به الكشف والتبيين.
ثم قال: * (وأنت خير الفاتحين) * والمراد منه الثناء على الله. واحتج أصحابنا بهذا اللفظ على أنه
180

هو الذي يخلق الإيمان من العبد، وذلك لأن الإيمان أشرف المحدثات، ولو فسرنا لفتح بالكشف والتبيين، فلا شك أن الإيمان كذلك.
إذا ثبت هذا فنقول: لو كان الموجد للإيمان هو العبد، لكان خير الفاتحين هو العبد، وذلك ينفي كونه تعالى خير الفاتحين.
* (وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن تبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين * فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كافرين) *.
اعلم أنه تعالى بين عظم ضلالتهم بتكذيب شعيب. ثم بين أنهم لم يقتصروا على ذلك، حتى أضلوا غيرهم، ولاموهم على متابعته فقالوا: * (لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) * واختلفوا فقال بعضهم: خاسرون في الدين. وقال آخرون: خاسرون في الدنيا، لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس، وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال أولا وفي الإضلال ثانيا، فاستحقوا الإهلاك فلهذا قال تعالى: * (فأخذتهم الرجفة) * وهي الزلزلة الشديدة المهلكة، فإذا انضاف إليها الجزاء الشديد المخوف على ما ذكره الله تعالى من قصة الظلمة، كان الهلاك أعظم، لأنه أحاط بهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم * (فأصبحوا في دارهم) * أي في مساكنهم * (جاثمين) * أي خامدين ساكنين بلا حياة وقد سبق الاستقصاء في تفسير هذه الألفاظ.
ثم قال تعالى: * (الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها) * وفيه بحثان:
181

البحث الأول: في قوله: * (كأن لم يغنوا فيها) * قولان: أحدهما: يقال غني القوم في دارهم إذا طال مقامهم فيها. والثاني: المنازل التي كان بها أهلوها واحدها مغني. قال الشاعر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة * في ظل ملك ثابت الأوتاد
أراد أقاموا فيها، وعلى هذا الوجه كان قوله: * (كأن لم يغنوا فيها) * كأن لم يقيموا بها ولم ينزلوا فيها.
والقول الثاني: قال الزجاج: كأن لم يغنوا فيها، كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، يقال غني الرجل يغنى إذا استغنى، وهو من الغني الذي هو ضد الفقر.
وإذا عرفت هذا فنقول: على التفسيرين شبه الله حال هؤلاء المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار. قال الشاعر: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر
البحث الثاني: قوله: * (الذين كذبوا شعيبا) * كأن لم يغنوا فيها الذين يدل على أن ذلك العذاب كان مختصا بأولئك المكذبين، وذلك يدل على أشياء: أحدها: أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار، وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة، وإلا لحصل في أتباع شعيب، كما حصل في حق الكفار. والثاني: يدل على أن ذلك الفاعل المختار، عالم بجميع الجزئيات، حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي. وثالثها: يدل على المعجز العظيم في حق شعيب، لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلدة واحدة، كان ذلك من أعظم المعجزات.
ثم قال تعالى: * (الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) * وإنما كرر قوله: * (الذين كذبوا شعيبا) * لتعظيم المذلة لهم وتفظيع ما يستحقون من الجزاء على جهلهم، والعرب تكرر مثل هذا في التفخيم والتعظيم، فيقول الرجل لغيره: أخوك الذي ظلمنا، أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي هتك أعراضنا، وأيضا أن القوم لما قالوا: * (لئن أتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) * بين تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون.
ثم قال تعالى: * (فتولى عنهم) * واختلفوا في أنه تولى بعد نزول العذاب بهم أو قبل ذلك، وقد سبق ذكر هذه المسألة. قال الكلبي: خرج من بين أظهرهم، ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم.
ثم قال: * (فكيف آسى على قوم كافرين) * الأسى شدة الحزن. قال العجاج:
182

وانحلبت عيناه من فرط الأسى
إذا عرفت هذا فنقول: في الآية قولان:
القول الأول: أنه اشتد حزنه على قومه، لأنهم كانوا كثيرين، وكان يتوقع منهم الاستجابة للإيمان، فلما أن نزل بهم ذلك الهلاك العظيم، حصل في قلبه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الألفة. ثم عزى نفسه وقال: * (فكيف آسى على قوم كافرين) * لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر.
والقول الثاني: أن المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم، فلم تسمعوا قولي، ولم تقبلوا نصيحتي * (فكيف آسى عليكم) * يعني أنهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم. قال صاحب " الكشاف ": وقرأ يحيى بن وثاب * (فكيف إيسى) * بكسر الهمزة.
* (ومآ أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأسآء والضرآء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضرآء والسرآء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) *.
اعلم أنه تعالى لما عرفنا أحوال هؤلاء الأنبياء، وأحوال ما جرى على أممهم، كان من الجائز أن يظن أنه تعالى ما أنزل عذاب الاستئصال، إلا في زمن هؤلاء الأنبياء فقط، فبين في هذه الآية أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم، وبين العلة التي بها يفعل ذلك: قال تعالى: * (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) * وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين إليهم يبعث الرسل، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة، لأنها مجتمع الأقوام وقوله: * (من نبي) * فيه حذف وإضمار، والتقدير: من نبي فكذب أو كذبه أهلها، إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء. قال الزجاج: البأساء كل ما نالهم من الشدة في أحوالهم، والضراء ما نالهم من الأمراض. وقيل على العكس، ثم بين تعالى أنه يفعل ذلك لكي يضرعوا، معناه: يتضرعوا، والتضرع هو الخضوع والانقياد لله تعالى، ولما علمت أن قوله: * (لعلهم) * لا يمكن حمله على الشك في حق الله تعالى، وجب حمله على أن
183

المراد أنه تعالى فعل هذا الفعل لكي يتضرعوا. قالت المعتزلة: وهذا يدل على أنه تعالى أراد من كل المكلفين الإيمان والطاعة. وقال أصحابنا: لما ثبت بالدليل أن
تعليل أفعال الله وأحكامه محال وجب حمل الآية على أنه تعالى فعل، ما لو فعله غيره لكان ذلك شبيها بالعلة والغرض، ثم بين تعالى أن تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد، وإنما يدبرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب فقال: * (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) * (الأعراف: 95) لأن ورود النعمة في البدن والمال بعد البأساء والضراء، يدعو إلى الانقياد والاشتغال بالشكر، ومعنى الحسنة والسيئة ههنا الشدة والرخاء. قال أهل اللغة: * (السيئة) * كل ما يسوء صاحبه، و * (الحسنة) * ما يستحسنه الطبع والعقل، والمعنى: أنه تعالى أخبر أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة، وبالرخاء أخرى. وقوله: * (حتى عفوا) * قال الكسائي: يقال: قد عفا الشعر وغيره، إذا كثر، يعفو فهو عاف. ومنه قوله تعالى: * (حتى عفوا) * يعني كثروا ومنه ما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام، أمر أن تحف الشوارب، وتعفى اللحى يعني توفر وتكثر وقوله: * (وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء) * فالمعنى: أنهم متى نالهم شدة قالوا: ليس هذا بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل وتلك عادة الدهر، ولم يكن ما مسنا من البأساء والضراء عقوبة من الله وهذه الحكاية تدل على أنهم لم ينتفعوا بما دبرهم الله عليه من رخاء بعد شدة، وأمن بعد خوف، بل عدلوا إلى أن هذه عادة الزمان في أهله، فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة، فبين تعالى أنه أزال عذرهم وأزاح علتهم، فلم ينقادوا ولم ينتفعوا بذلك الإمهال، وقوله: * (فأخذناهم بغتة) * والمعنى: أنهم لما تمردوا على التقديرين، أخذهم الله بغتة أينما كانوا، ليكون ذلك أعظم في الحسرة. وقوله: * (وهم لا يشعرون) * أي يرون العذاب والحكمة في حكاية هذا المعنى أن يحصل الاعتبار لمن سمع هذه القصة وعرفها.
* (ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون * أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون *
184

أو أمن أهل لقرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا لقوم الخاسرون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إن الذين عصوا وتمردوا أخذهم الله بغتة، بين في هذه الآية أنهم لو أطاعوا لفتح الله عليهم أبواب الخيرات فقال: * (ولو أن أهل القرى آمنوا) * أي آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر * (واتقوا) * ما نهى الله عنه وحرمه * (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) * بركات السماء بالمطر، وبركات الأرض بالنبات والثمار، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة، وذلك لأن السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ومنها يحصل جميع المنافع والخيرات بخلق الله تعالى وتدبيره. وقوله: * (ولكن كذبوا) * يعني الرسل * (فأخذناهم) * بالجدوبة والقحط * (بما كانوا يكسبون) * من الكفر والمعصية.
ثم إنه تعالى أعاد التهديد بعذاب الاستئصال فقال: * (أفأمن أهل القرى) * وهو استفهام بمعنى الإنكار عليهم، والمقصود أنه تعالى خوفهم بنزول ذلك العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة، وهو حال النوم بالليل، وحال الضحى بالنهار؛ لأنه الوقت الذي يغلب على المرء التشاغل باللذات فيه. وقوله: * (وهم يلعبون) * يحتمل التشاغل بأمور الدنيا، فهي لعب ولهو، ويحتمل خوضهم في كفرهم، لأن ذلك كاللعب في أنه لا يضر ولا ينفع. قرأ أكثر القراء * (أو أمن) * بفتح الواو، وهو حرف العطف دخلت عليه همزة الاستفهام، كما دخل في قوله: * (أثم إذا ما وقع) * (يونس: 51) وقوله: * (أو كلما عاهدوا) * (البقرة: 100) وهذه القراءة أشبه بما قبله وبعده، لأن قبله * (أفأمن أهل القرى) * وما بعده * (أفأمنوا مكر الله) * (الأعراف: 99) * (أو لم يهد للذين يرثون الأرض) * (الأعراف: 100) وقرأ ابن عامر * (أو أمن) * ساكنة الواو، واستعمل على ضربين: أحدهما: أن تكون بمعنى أحد الشيئين، كقوله: زيد أو عمرو جاء، والمعنى أحدهما جاء.
والضرب الثاني: أن تكون للاضراب عما قبلها، كقولك: أنا أخرج أو أقيم، أضربت عن الخروج، وأثبت الإقامة، كأنك قلت: لا بل أقيم. فوجه هذه القراءة أنه جعل " أو " للاضراب لا على أنه أبطل الأول، وهو * (ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون) * (السجدة: 1، 2) فكان
185

المعنى من هذه الآية استواء هذه الضروب من العذاب، وإن شئت جعلت " أو " ههنا التي لأحد الشيئين، ويكون المعنى: أفأمنوا إحدى هذه العقوبات، وقوله: * (ضحى) * الضحى صدر النهار، وأصله الظهور من قولهم: ضحا للشمس إذا ظهر لها.
ثم قال تعالى: * (أفأمنوا مكر الله) * وقد سبق تفسير المكر في اللغة، ومعنى المكر في حق الله تعالى في سورة آل عمران عند قوله: * (ومكروا ومكر الله) * (آل عمران: 54) ويدل قوله: * (أفأمنوا مكر الله) * أن المراد أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون. قاله على وجه التحذير، وسمي هذا العذاب مكرا توسعا، لأن الواحد منا إذا أراد المكر بصاحبه، فإنه يوقعه في البلاء من حيث لا يشعر به، فسمي العذاب مكرا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون، وبين أنه لا يأمن من نزول عذاب الله على هذا الوجه * (إلا القوم الخاسرون) * وهم الذين لغفلتهم وجهلهم لا يعرفون ربهم، فلا يخافونه، ومن هذه سبيله، فهو أخسر الخاسرين في الدنيا والآخرة، لأنه أوقع نفسه في الدنيا في الضرر، وفي الآخرة في أشد العذاب.
* (أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلهآ أن لو نشآء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم من الآيات حال الكفار الذين أهلكهم الله بالاستئصال مجملا ومفصلا أتبعه ببيان أن الغرض من ذكر هذه القصص حصول العبرة لجميع المكلفين في مصالح أديانهم وطاعاتهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلف القراء فقرأ بعضهم * (أولم يهد) * بالياء المعجمة من تحتها، وبعضهم بالنون، قال الزجاج: إذا قرىء بالياء المعجمة من تحت كان قوله: * (أن لو نشاء) * مرفوعا بأنه فاعله
186

بمعنى أو لم يهد للذين يخلفون أولئك المتقدمين ويرثون أرضهم وديارهم، وهذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين، إذا قرىء بالنون فهو منصوب، كأنه قيل. أولم نهد للوارثين هذا الشأن. بمعنى أو لم نبين لهم أن قريشا أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم؟
المسألة الثانية: المعنى أو لم نبين للذين نبعثهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها فنهلكهم بعدهم؟ وهو معنى لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، أي عقاب ذنوبهم، وقوله: * (ونطبع على قلوبهم) * أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم * (فهم لا يسمعون) * أي لا يقبلون، ولا يتعظون، ولا ينزجرون. وإنما قلنا: إن المراد إما الإهلاك. وإما الطبع على القلب، لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب، فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه. المسألة الثالثة: استدل أصحابنا على أنه تعالى قد يمنع العبد عن الإيمان بقوله: * (ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون) * والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد على ما قررناه في آيات كثيرة. قال الجبائي: المراد من هذا الطبع أنه تعالى يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن أصحابها لا يؤمنون، وتلك العلامة غير مانعة من الإيمان. وقال الكعبي: إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى: * (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) * (نوح: 6).
واعلم أن البحث عن حقيقة الطبع والختم قد مر مرارا كثيرة فلا فائدة في الإعادة.
المسألة الرابعة: قوله: * (ونطبع) * هل هو منقطع عما قبله أو معطوف على ما قبله. فيه قولان:
القول الأول: أنه منقطع عن الذي قبله، لأن قوله: * (أصبنا) * ماض وقوله: * (ونطبع) * مستقبل وهذا العطف ليس بمستحسن، بل هو منقطع عما قبله، والتقدير: ونحن نطبع على قلوبهم.
والقول الثاني: أنه معطوف على ما قبله. قال صاحب " الكشاف ": هو معطوف على ما دل عليه معنى * (أو لم يهد) * كأنه قيل يغفلون عن الهداية، ونطبع على قلوبهم أو معطوف على قوله: * (يرثون الأرض) * ثم قال: ولا يجوز أن يكون معطوفا على * (أصبناهم) * لأنهم كانوا كفارا وكل كافر فهو مطبوع على قلبه، فقوله بعد ذلك: * (ونطبع على قلوبهم) * يجري مجرى تحصيل الحاصل. وهو محال، هذا تقرير قول صاحب " الكشاف " على أقوى الوجوه وهو ضعيف، لأن كونه مطبوعا عليه إنما يحصل حال استمراره وثباته عليه، فهو يكفر أولا، ثم يصير مطبوعا عليه في الكفر، فلم يكن هذا منافيا لصحة العطف.
187

ثم قال تعالى: * (تلك القرى نقص عليك من أنبائها) * قوله: * (تلك) * مبتدأ * (والقرى) * صفة و * (نقص عليك) * خبر، والمراد بتلك القرى قرى الأقوام الخمسة الذين وصفهم فيما سبق، وهم: قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، نقص عليك من أخبارها كيف أهلكت. وأما أخبار غير هؤلاء الأقوام، فلم نقصها عليك، وإنما خص الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق، فذكرها الله تعالى تنبيها لقوم محمد عليه الصلاة والسلام عن الاحتراز من مثل تلك الأعمال.
ثم عزاه الله تعالى بقوله: * (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات) * يريد الأنبياء الذين أرسلوا إليهم وقوله: * (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) * فيه قولان: الأول: قال ابن عباس والسدي: فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم، فآمنوا كرها، وأقروا باللسان وأضمروا التكذيب. الثاني: قال الزجاج: * (فما كانوا ليؤمنوا) * بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به قبل رؤية تلك المعجزات. الثالث: ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل إهلاكهم، ونظيره قوله: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (الإنعام: 28) الرابع: قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر، فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل أيضا. الخامس: ليؤمنوا في الزمان المستقبل.
ثم إنه تعالى بين السبب في عدم هذا القبول فقال: * (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) * قال الزجاج: والكاف في * (كذلك) * نصب، والمعنى: مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية، يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبدا. والله أعلم بحقائق الأمور.
* (وما وجدنا لاكثرهم من عهد وإن وجدنآ أكثرهم لفاسقين) *.
فيه أقوال: الأول: قال ابن عباس: يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم، حيث قال: * (ألست بربكم قالوا بلى) * (الأعراف: 172) فلما أخذ الله منهم هذا العهد وأقروا به، ثم خالفوا ذلك، صار كأنه ما كان لهم عهد، فلهذا قال: * (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) * والثاني: قال ابن مسعود: العهد هنا الإيمان، والدليل عليه قوله تعالى: * (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) * (مريم: 87) يعني آمن وقال لا إله إلا الله والثالث: أن العهد عبارة عن وضع الأدلة الدالة على صحة التوحيد والنبوة، وعلى هذا التقدير فالمراد
188

ما وجدنا لأكثرهم من الوفاء بالعهد.
ثم قال: * (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) * أي وإن الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة، صارفين عن الدين.
* (ثم بعثنا من بعدهم موسى باياتنآ إلى فرعون وملإيه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) *.
اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وذكر في هذه القصة من الشرح والتفصيل ما لم يذكر في سائر القصص، لأجل أن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات سائر الأنبياء، وجهل قومه كان أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام.
واعلم أن الكناية في قوله: * (من بعدهم) * يجوز أن تعود إلى الأنبياء الذين جرى ذكرهم، ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدم ذكرهم بإهلاكهم وقوله: * (بآياتنا)
* فيه مباحث.
البحث الأول: هذه الآية تدل على أن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن غيره، إذ لو لم يكن مختصا بهذه الآية لم يكن قبول قوله أولى من قبول قول غيره.
والبحث الثاني: هذه الآية تدل على أنه تعالى آتاه آيات كثيرة، ومعجزات كثيرة.
والبحث الثالث: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول آياته العصا ثم اليد، ضرب بالعصا باب فرعون، ففزع منها فشاب رأسه، فاستحيا فخضب بالسواد، فهو أول من خضب. قال: وآخر الآيات الطمس. قال: وللعصا فوائد كثيرة منها ما هو مذكور في القرآن كقوله: * (هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) * (طه: 18) وذكر الله من تلك المآرب في القرآن قوله: * (اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) * (البقرة: 60) وذكر ابن عباس أشياء أخرى منها: أنه كان يضرب الأرض بها فتنبت، ومنها: أنه كانت تحارب اللصوص والسباع التي كانت تقصد غنمه، ومنها: أنها كانت تشتعل في الليل كاشتعال الشمعة، ومنها: أنها كانت تصير كالحبل الطويل فينزح به الماء من البئر العميقة.
واعلم أن الفوائد المذكورة في القرآن معلومة، فأما الأمور التي هي غير مذكورة في القرآن
189

فكل ما ورد به خبر صحيح فهو مقبول. وما لا فلا، وقوله أنه كان يضرب بها الأرض فتخرج النبات ضعيف، لأن القرآن يدل على أن موسى عليه السلام، كان يفزع إلى العصا في الماء الخارج من الحجر، وما كان يفزع إليها في طلب الطعام.
أما قوله: * (فظلموا بها) * أي فظلموا بالآيات التي جاءتهم، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. فلما كانت تلك الآيات قاهرة ظاهرة، ثم إنهم كفروا بها فوضعوا الإنكار في موضع الإقرار والكفر في موضع الإيمان، كان ذلك ظلما منهم على تلك الآيات.
ثم قال: * (فانظر) * أي بعين عقلك * (كيف كان عاقبة المفسدين) * وكيف فعلنا بهم.
* (وقال موسى يا فرعون إنى رسول من رب العالمين * حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معى بنى إسراءيل * قال إن كنت جئت بآية فأت بهآ إن كنت من الصادقين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه كان يقال لملوك مصر: الفراعنة، كما يقال لملوك فارس: الأكاسرة، فكأنه قال: يا ملك مصر، وكان اسمه قايوس، وقيل: الوليد بن مصعب بن الريان.
المسألة الثانية: قوله: * (إني رسول من رب العالمين) * فيه إشارة إلى ما يدل على وجود الإله تعالى. فإن قوله: * (رب العالمين) * يدل على أن العالم موصوف بصفات لأجلها افتقر إلى رب يربيه، وإله يوجده ويخلقه.
ثم قال: * (حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق) * والمعنى أن الرسول لا يقول إلا الحق، فصار نظم الكلام. كأنه قال: أنا رسول الله، ورسول الله لا يقول إلا الحق، ينتج أني لا أقول إلا الحق، ولما كانت المقدمة الأولى خفية، وكانت المقدمة الثانية جلية ظاهرة، ذكر ما يدل على صحة المقدمة الأولى، وهو قوله: * (قد جئتكم ببينة من ربكم) * وهي المعجزة الظاهرة القاهرة. ولما قرر رسالة نفسه فرع عليه تبليغ الحكم، وهو قوله: * (فأرسل معي بني إسرائيل) * ولما سمع فرعون هذا
190

الكلام قال: * (إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين) * واعلم أن دليل موسى عليه السلام كان مبنيا على مقدمات: إحداها: أن لهذا العالم إلها قادرا عالما حكيما. والثانية: أنه أرسله إليهم بدليل أنه أظهر المعجز على وفق دعواه، ومتى كان الأمر كذلك، وجب أن يكون رسولا حقا. والثالثة: أنه متى كان الأمر كذلك كان كل ما يبلغه من الله إليهم، فهو حق وصدق. ثم إن فرعون ما نازعه في شيء من هذه المقدمات إلا في طلب المعجزة، وهذا يوهم أنه كان مساعدا على صحة سائر المقدمات، وقد ذكرنا في سورة طه أن العلماء اختلفوا في أن فرعون هل كان عارفا بربه أم لا؟ ولمجيب أن يجيب، فيقول: إن ظهور المعجزة يدل أولا على وجود الإله القادر المختار، وثانيا: على أن الإله جعله قائما مقام تصديق ذلك الرسول، فلعل فرعون كان جاهلا بوجود الإله القادر المختار، وطلب منه إظهار تلك البينة حتى أنه إن أظهرها وأتى بها كان ذلك دليلا على وجود الإله أولا، وعلى صحة نبوته ثانيا، وعلى هذا التقدير: لا يلزم من اقتصار فرعون على طلب البينة، كونه مقرا بوجود الإله الفاعل المختار.
المسألة الثالثة: قرأ نافع * (حقيق علي) * مشدد الياء والباقون بسكون الياء والتخفيف. أما قراءة نافع * (فحقيق) * يجوز أن يكون بمعنى فاعل. قال الليث: حق الشيء معناه وجب، ويحق عليك أن تفعل كذا، وحقيق علي أن أفعله، بمعنى فاعل. والمعنى: واجب علي ترك القول على الله إلا بالحق، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول، وضع فعيل في موضع مفعول. تقول العرب: حق علي أن أفعل كذا وإني لمحقوق على أن أفعل خيرا، أي حق علي ذلك بمعنى استحق.
إذا عرفت هذا فنقول: حجة نافع في تشديد الياء أن حق يتعدى بعلي. قال تعالى: * (فحق علينا قول ربنا) * وقال: * (فحق عليها القول) * فحقيق يجوز أن يكون موصولا بحرف على من هذا الوجه، وأيضا فإن قوله: * (حقيق) * بمعنى واجب، فكما أن وجب يتعدى بعلي، كذلك حقيق إن أريد به وجب، يتعدى بعلي. وأما قراءة العامة * (حقيق علي) * بسكون الياء. ففيه وجوه: الأول: أن العرب تجعل الباء في موضع " علي " تقول: رميت على القوس وبالقوس، وجئت على حال حسنة، وبحال حسنة. قال الأخفش: وهذا كما قال: * (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) * (الأعراف: 86) فكما وقعت الباء في قوله: * (بكل صراط) *
موضع " علي " كذلك وقعت كلمة " علي " موقع الباء في قوله: * (حقيق علي أن لا أقول) * يؤكد هذا الوجه قراءة عبد الله * (حقيق بأن لا أقول) * وعلى هذه القراءة فالتقدير: أنا حقيق بأن لا أقول، وعلى قراءة نافع يرتفع بالابتداء، وخبره * (أن لا أقول) * الثاني: أن الحق هو الثابت الدائم، والحقيق مبالغة فيه، وكان المعنى: أنا ثابت مستمر على أن لا أقول إلا الحق. الثالث: الحقيق ههنا
191

بمعنى المحقوق، وهو من قولك: حققت الرجل إذا ما تحققته وعرفته على يقين، ولفظة * (علي) * ههنا هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية، كقوله تعالى: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * (الروم: 30) وتقول: جاءت فلان على هيئته وعادته، وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات، فمعنى الآية: أني لم أعرف ولم أتحقق إلا على قول الحق. والله أعلم.
أما قوله: * (فأرسل معي بني إسرائيل) * أي أطلق عنهم وخلهم، وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة، مثل ضرب اللبن ونقل التراب، فعند هذا الكلام قال فرعون: * (إن كنت جئت بآية فت بها إن كنت من الصادقين) * وفيه بحثان:
البحث الأول: أن لقائل أن يقول: كيف قال له * (فت بها) * بعد قوله: * (إن كنت جئت بآية) *.
وجوابه: إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فتني بها وأحضرها عندي، ليصح دعواك ويثبت صدقك.
والبحث الثاني: أن قوله: * (إن كنت جئت بآية فت بها إن كنت من الصادقين) * جزاء وقع بين شرطين، فكيف حكمه؟ وجوابه أن نظيره قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا. وههنا المؤخر في اللفظ يكون متقدما في المعنى، وقد سبق تقرير هذا المعنى فيما تقدم.
* (فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هى بيضآء للناظرين * قال الملا من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون) *.
اعلم أن فرعون لما طالب موسى عليه السلام بإقامة البينة على صحة نبوته بين الله تعالى أن معجزته كانت قلب العصا ثعبانا، وإظهار اليد البيضاء، والكلام في هذه الآية يقع على وجوه: الأول: أن جماعة الطبيعيين ينكرون إمكان انقلاب العصا ثعبانا. وقالوا: الدليل على امتناعه أن تجويز انقلاب العصا ثعبانا يوجب ارتفاع الوثوق عن العلوم الضرورية وذلك باطل، وما يفضي إلى الباطل فهو باطل. إنما قلنا: إن تجويزه يوجب ارتفاع الوثوق على العلوم الضرورية، وذلك لأنا لو جوزنا أن يتولد الثعبان العظيم من العصا الصغيرة لجوزنا أيضا أن يتولد الإنسان الشاب القوي عن التبنة
192

الواحدة والحية الواحدة من الشعير، ولو جوز ذلك لجوزناه في هذا الإنسان الذي نشاهده الآن أنه إنما حدث الآن دفعة واحدة لا من الأبوين، ولجوزنا في زيد الذي نشاهده الآن أنه ليس هو زيد الذي شاهدناه بالأمس، بل هو شخص آخر حدث الآن دفعة واحدة، ومعلوم أن من فتح على نفسه أبواب هذه التجويزات فإن جمهور العقلاء يحكمون عليه بالخبل والعته والجنون، ولأن لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يقال: إن الجبال انقلبت ذهبا ومياه البحار انقلبت دما، ولجوزنا في التراث الذي كان في مزبلة البيت أنه انقلب دقيقا، وفي الدقيق الذي كان في البيت أنه نقلب ترابا. وتجويز أمثال هذه الأشياء مما يبطل العلوم الضرورية ويوجب دخول الإنسان في السفسطة، وذلك باطل قطعا. فما يفضي إليه كان أيضا باطلا.
فإن قال قائل: تجويز أمثال هذه الأشياء مختص بزمان دعوة الأنبياء، وهذا لزمان ليس كذلك. فقد حصل الأمان في هذا الزمان عن تجويز هذه الأحوال.
فالجواب عنه من وجوه: الأول: أن هذا التجويز إذا كان قائما في الجملة كان تخصيص هذا التجويز بزمان دون زمان مما لا يعرف إلا بدليل غامض. فكان يلزم أن يكون الجاهل بذلك الدليل الغامض جاهلا باختصاص ذلك التجويز بذلك الزمان المعين. فكان يلزم من جمهور العقلاء الذين لا يعرفون ذلك الدليل الغامض أن يجوزوا كل ما ذكرناه من الجهات وأن لا يكونوا قاطعين بامتناع وقوعها، وحيث نراهم قاطعين بامتناع وقوعها علمنا أن ما ذكرتموه فاسد. والثاني: أنا لو جوزنا أمثال هذه الأحوال في زمان دعوة النبوة فإنه يبطل أيضا به القول بصحة النبوة، فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعبانا، جاز في الشخص الذي شاهدناه أنه ليس هو الشخص الأول، بل الله أعدم الشخص الأول دفعة واحدة، وأوجد شخصا آخر يساويه في جميع الصفات. وعلى هذا التقدير فلا يمكننا أن نعلم أن هذا الذي نراه الآن هو الذي رأيناه بالأمس. وحينئذ يلزم وقوع الشك في الذين رأوا موسى وعيسى ومحمدا عليهم السلام أن ذلك الشخص هل هو الذي رأوه بالأمس أم لا؟ ومعلوم أن تجويزه يوجب القدح في النبوة والرسالة. والثالث: وهو أن هذا الزمان وإن لم لكن زمان جواز المعجزات إلا أنه زمان جواز الكرامات عندكم. فيلزمكم تجويزه، فهذا جملة الكلام في هذا المقام.
واعلم أن القول بتجويز انقلاب العادات عن مجاريها صعب مشكل، والعقلاء اضطربوا فيه وحصل لأهل العلم فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قول من يجوز ذلك على الإطلاق وهو قول أصحابنا، وذلك لأنهم جوزوا
193

تولد الإنسان وسائر أنواع الحيوان والنبات دفعة واحدة من غير سابقة مادة ولا مدة ولا أصل ولا تربية. وجوزوا في الجوهر الفرد أن يكون حيا عالما قادرا عاقلا قاهرا من غير حصول بنية ولا مزاج ولا رطوبة ولا تركيب، وجوزوا في الأعمى الذي يكون بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقعة التي تكون بأقصى المشرق، مع أن الإنسان الذي يكون سليم البصر لا يرى الشمس الطالعة في ضياء النهار، فهذا هو قول أصحابنا.
والقول الثاني: قول الفلاسفة الطبيعيين وهو أن ذلك ممتنع على الإطلاق، وزعموا أنه لا يجوز حدوث هذه الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين. وقالوا: وبهذا الطريق دفعنا عن أنفسنا التزام الجهالات التي ذكرناها والمحالات التي شرحناها، واعلم أنهم وإن زعموا أن ذلك غير لازم لهم، إلا أنهم في الحقيقة يلزمهم ذلك لزوما لا دافع له، وتقريره أن هذه الحوادث التي تحدث في عالمنا هذا إما أن تحدث لا لمؤثر أو لمؤثر، وعلى التقديرين: فالقول الذي ذكرناه
لازم أما على القول بأنها تحدث لا عن مؤثر، فهذا القول باطل في صريح العقل، إلا أن مع تجويزه فالإلزام المذكور لازم لأنا إذا جوزنا حدوث الأشياء لا عن مؤثر ولا عن موجد، فكيف يكون الأمان من تجويز حدوث إنسان لا عن الأبوين، ومن تجويز انقلاب الجبل ذهبا والبحر دما؟ فإن تجويز حدوث بعض الأشياء لا عن مؤثر ليس أبعد عند العقل من تجويز حدوث سائر الأشياء لا عن مؤثر، فثبت على هذا التقدير أن الإلزام المذكور لازم. أما على التقدير الثاني وهو إثبات مؤثر ومدبر لهذا العالم فذلك المؤثر إما أن يكون موجبا بالذات وأما أن يكون فاعلا بالاختيار. أما على التقدير الأول فالإلزامات المذكورة لازمة، وتقريره: أنه إذا كان مؤثرا ومرجحه موجبا بالذات وجب الجزم بأن اختصاص كل وقت معين بالحادث المعين الذي حدث فيه إنما كان لأجل أنه بحسب اختلاف الأشكال الفلكية تختلف حوادث هذا العالم إذ لو لم يعتبر هذا المعنى لامتنع أن تكون العلة القديمة الدائمة سببا لحدوث المعلول الحادث المتغير.
وإذا ثبت هذا فنقول: كيف الأمان من أن يحدث في الفلك شكل غريب يقتضي حدوث إنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل من الصورة الجبلية إلى الصورة الذهبية أو للصورة الحيوانية؟ وحينئذ تعود جميع الإلزامات المذكورة. وأما على التقدير الثاني وهو أن يكون مؤثر العالم ومرجحه فاعلا مختارا، فلا شك أن جميع الأشياء المذكورة محتملة لأنه لا يمتنع أن يقال أن ذلك الفاعل المختار يخلق بإرادته إنسانا دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل ذهبا والبحر دما، فثبت أن الأشياء التي ألزموها علينا واردة على جميع التقديرات وعلى جميع الفرق وأنه لا دافع لها البتة.
194

والقول الثالث: وهو قول المعتزلة فإنهم يجوزون انخراق العادات وانقلابها عن مجاريها في بعض الصور دون بعض، فأكثر شيوخهم يجوزون حدوث الإنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين، ويجوزون انقلاب الماء نارا وبالعكس، ويجوزون حدوث الزرع لا عن سابقة بذر. ثم قالوا إنه لا يجوز أن يكون الجوهر الفرد موصوفا بالعلم والقدرة والحياة، بل صحة هذه الأشياء مشروطة بحصول بنية مخصوصة ومزاج مخصوص، وزعموا أن عند كون الحاسة سليمة وكون المرئي حاضرا وعدم القرب القريب والبعد البعيد يجب حصول الإدراك وعند فقدان أحد هذه الشروط يمتنع حصول الإدراك، وبالجملة فالمعتزلة في بعض الصور لا يعتبرون مجاري العادات ويزعمون أن انقلابها ممكن وانخراقها جائز، وفي سائر الصور يزعمون أنها واجبة ويمتنع زوالها وانقلابها، وليس لهم بين الناس قانون مضبوط ولا ضابط معلوم، فلا جرم كان قولهم أدخل الأقاويل في الفساد. إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول: ذوات الأجسام متماثلة في تمام الماهية وكل ما صح على الشيء صح على مثله، فوجب أن يصح على كل جسم ما صح على غيره، فإذا صح على بعض الأجسام صفة من الصفات وجب أن يصح على كلها مثل تلك الصفة، وإذا كان كذلك كان جسم العصا قابلا للصفات التي باعتبارها تصير ثعبانا، وإذا كان كذلك كان انقلاب العصا ثعبانا أمرا ممكنا لذاته، وثبت أنه تعالى قادر على جميع الممكنات، فلزم القطع بكونه تعالى قادرا على قلب العصا ثعبانا، وذلك هو المطلوب، وهذا الدليل موقوف على إثبات مقدمات ثلاث: إثبات أن الأجسام متماثلة في تمام الذات، وإثبات أن حكم الشيء حكم مثله، وإثبات أنه تعالى قادر على كل الممكنات ومتى قامت الدلالة على صحة هذه المقدمات الثلاثة فقد حصل المطلوب التام والله أعلم. قوله:: * (فإذا هي) * أي العصا وهي مؤنثة، والثعبان الحية الضخمة الذكر في قول جميع أهل اللغة. فأما مقدارها فغير مذكور في القرآن، ونقل عن المفسرين في صفتها أشياء، فعن ابن عباس: إنها ملأت ثمانين ذراعا ثم شدت على فرعون لتبتلعه فوثب فرعون عن سريره هاربا وأحدث، وانهزم الناس ومات منهم خمسة وعشرون ألفا. وقيل: كان بين لحييها أربعون ذراعا ووضع لحيها الأسفل على الأرض، والأعلى على سور القصر، وصاح فرعون يا موسى خذها. فأنا أومن بك، فلما أخذها موسى عادت عصا كما كانت، وفي وصف ذلك الثعبان بكونه مبينا وجوه: الأول: تمييز ذلك عما جاءت به السحرة من التمويه الذي يلتبس على من لا يعرف سببه، وبذلك تتميز معجزات الأنبياء من الحيل والتمويهات. والثاني: في المراد أنهم شاهدوا كونه حية لم يشتبه الأمر عليهم فيه. الثالث: المراد أن ذلك الثعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي الكاذب.
195

وأما قوله: * (ونزع يده) * فالنزع في اللغة عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه فقوله: * (نزع يده) * أي أخرجها من جيبه أو من جناحه، بدليل قوله تعالى: * (وأدخل يدك في جيبك) * وقوله: * (واضمم يدك إلى جناحك) * وقوله: * (فإذا هي بيضاء للناظرين) * قال ابن عباس: وكان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض.
واعلم أنه لما كان البياض كالعيب بين الله تعالى في غير هذه الآية أنه كان من غير سوء.
فإن قيل: بم يتعلق قوله: * (للناظرين) *.
قلنا: يتعلق بقوله: * (بيضاء) * والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظارة، ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضا عجيبا خارجا عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب. وبقي ههنا مباحث: فأولها: أن انقلاب العصا ثعبانا، من كم وجه يدل على المعجز؟ والثاني: أن هذا المعجز كان أعظم أم اليد البيضاء؟ وقد استقصينا الكلام في هذين المطلوبين في سورة طه. والثالث: أن المعجز الواحد كان كافيا، فالجمع بينهما كان عبثا.
وجوابه: أن كثرة الدلائل توجب القوة في اليقين وزوال الشك، ومن الملحدين من قال: المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد، وهو أن حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة، فتلك الحجة من حيث إنها أبطلت أقوال المخالفين، وأظهرت فسادها، كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين، ومن حيث كانت ظاهرة في نفسها، وصفت باليد البيضاء، كما يقال في العرف: لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني. أي قوة كاملة، ومرتبة ظاهرة. واعلم أن حمل هذين المعجزين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله. ولما بينا أن انقلاب العصا حية أمر ممكن في نفسه، فأي حامل يحملنا على المصير إلى هذا التأويل؟ ولما ذكر الله تعالى أن موسى عليه السلام أظهر هذين النوعين من المعجزات. حكى عن قوم فرعون أنهم قالوا: * (إن هذا لساحر عليم) * وذلك لأن السحر كان غالبا في
ذلك الزمان، ولا شك أن مراتب السحرة كانت متفاضلة متفاوتة، ولا شك أنه يحصل فيهم من يكون غاية في ذلك العلم ونهاية فيه. فالقوم زعموا أن موسى عليه السلام. لكونه في النهاية من علم السحر، أتى بتلك الصفة، ثم ذكروا أنه إنما أتى بذلك السحر لكونه طالبا للملك والرياسة.
فإن قيل: قوله: * (إن هذا لساحر عليم) * حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قاله فرعون لقومه، وحكى ههنا أن قوم فرعون قالوه، فكيف الجمع بينهما؟ وجوابه من وجهين: الأول: لا يمتنع أنه قد قاله هو وقالوه هم، فحكى الله تعالى قوله ثم، وقولهم ههنا. والثاني: لعل فرعون قاله ابتداء
196

فتلقنه الملأ منه فقالوه لغيره أو قالوه عنه لسائر الناس على طريق التبليغ، فإن الملوك إذا رأوا رأيا ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة، فكذا ههنا.
وأما قوله: * (فماذا تأمرون) * فقد ذكر الزجاج فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن كلام الملأ من قوم فرعون تم عند قوله: * (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) * ثم عند هذا الكلام قال فرعون مجيبا لهم: * (فماذا تأمرون) * واحتجوا على صحة هذا القول بوجهين: أحدهما: أن قوله: * (فماذا تأمرون) * خطاب للجمع لا للواحد، فيجب أن يكون هذا كلام فرعون للقوم. أما لو جعلناه كلام القوم مع فرعون لكانوا قد خاطبوه بخطاب الواحد لا بخطاب الجمع. وأجيب عنه: بأنه يجوز أن يكونوا خاطبوه بخطاب الجمع تفخيما لشأنه، لأن العظيم إنما يكنى عنه بكناية الجمع كما في قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * (الحجر: 9) * (إنا أرسلنا نوحا) * (نوح: 1) * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1).
والحجة الثانية: أنه تعالى لما ذكر قوله: * (فماذا تأمرون) * قال بعده: * (قالوا أرجه) * ولا شك أن هذا كلام القوم، وجعله جوابا عن قولهم: * (فماذا تأمرون) * فوجب أن يكون القائل لقوله: * (فماذا تأمرون) * غير الذي قالوا أرجه، وذلك يدل على أن قوله: * (فماذا تأمرون) * كلام لغير الملأ من قوم فرعون. وأجيب عنه: بأنه لا يبعد أن القوم قالوا: * (إن هذا لساحر عليم) * ثم قالوا لفرعون ولأكابر خدمه * (فماذا تأمرون) * ثم أتبعوه بقولهم: * (أرجه وأخاه) * فإن الخدم والأتباع يفوضون الأمر والنهي إلى المخدوم والمتبوع أولا، ثم يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة.
والقول الثاني: أن قوله: * (فماذا تأمرون) * من بقية كلام القوم، واحتجوا عليه بوجهين: الأول: أنه منسوق على كلام القوم من غير فاصل، فوجب أن يكون ذلك من بقية كلامهم. والثاني: أن الرتبة معتبرة في الأمر، فوجب أن يكون قوله: * (فماذا تأمرون) * خطابا من الأدنى مع الأعلى، وذلك يوجب أن يكون هذا من بقية كلام فرعون معه.
وأجيب عن هذا الثاني: بأن الرئيس المخدوم قد يقول للجمع الحاضر عنده من رهطه ورعيته ماذا تأمرون؟ ويكون غرضه منه تطييب قلوبهم وإدخال السرور في صدورهم وأن يظهر من نفسه كونه معظما لهم ومعتقدا فيهم، ثم إن القائلين بأن هذا من بقية كلام قوم فرعون ذكروا وجهين: أحدهما: أن المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وحده، فإنه يقال للرئيس المطاع ما ترون في هذه الواقعة؛ أي ما ترى أنت وحدك، والمقصود أنك وحدك قائم مقام الجماعة. والغرض منه التنبيه على كماله ورفعة شأنه وحاله. والثاني: أن يكون المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وأكابر دولته وعظماء حضرته، لأنهم هم المستقلون بالأمر والنهي، والله أعلم.
197

* (قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدآئن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم * وجآء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين) *.
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع والكسائي * (ارجه) * بغير همز وكسر الهاء والإشباع، وقرأ عاصم وحمزة * (ارجه) * بغير الهمز وسكون الهاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمر * (وأرجئه) * بالهمز وضم الهاء، ثم أن ابن كثير أشبع الهاء على أصله والباقون لا يشبعون. قال الواحدي: رحمه الله * (أرجه) * مهموز وغير مهموز لغتان يقال أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته، ومنه قوله تعالى: * (وآخرون مرجون) * (التوبة: 106) * (وترجى من تشاء) * (الأحزاب: 51) قرىء في الآيتين باللغتين، وأما قراءة عاصم وحمزة بغير الهمز، وسكون الهاء. فقال الفراء: هي لغة العرب يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها وأنشد. فيصلح اليوم ويفسده غدا
قال وكذلك يفعلون بهاء التأنيث فيقولون: هذه طلحة قد أقبلت، وأنشد. لما رأى أن لا دعه ولا
ثم قال الواحدي: ولا وجه لهذا عند البصريين في القياس. وقال الزجاج: هذا شعر لا نعرف قائله، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له أخطأت.
المسألة الثانية: في تفسير قوله: * (أرجه) * قولان: الأول: الإرجاء التأخير فقوله: * (أرجه) * أي أخره. ومعنى أخره: أي أخر أمره ولا تعجل في أمره بحكم، فتصير عجلتك حجة عليك، والمقصود أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم، ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى عليه السلام.
والقول الثاني: وهو قول الكلبي وقتادة * (أرجه) * احبسه. قال المحققون هذا القول ضعيف لوجهين: الأول: أن الإرجاء في اللغة هو التأخير لا الحبس، والثاني: أن فرعون ما كان قادرا
198

على حبس موسى بعد ما شاهد حال العصا.
أما قوله: * (وأرسل في المدائن حاشرين) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وإلا لم يصح قوله: * (وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم) * ويدل على أن في طباع الخلق معرفة المعارفة، وإنها إذا أمكنت فلا نبوة، وإذا تعذرت فقد صحت النبوة، وأما بيان أن السحر ما هو وهل له حقيقة أم لا بل هو محض التمويه،
فقد سبق الاستقصاء فيه، في سورة البقرة.
المسألة الثانية: نقل الواحدي عن أبي القاسم الزجاجي: أنه قال اختلف أصحابنا في المدينة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها فعيلة لأنها مأخوذة من قولهم مدن بالمكان يمدن مدونا إذا أقام به، وهذا القائل يستدل بإطباق القراء على همز المدائن، وهي فعائل كصحائف وصحيفة وسفائن وسفينة والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة، وإذا كانت من نفس الكلمة لم تهمز في الجمع نحو معايش ومعيشة.
والقول الثاني: أنها مفعلة، وعلى هذا الوجه، فمعنى المدينة المملوكة من دانه يدينه، فقولنا مدينة من دان، مثل معيشة من عاش، وجمعها مداين على مفاعل. كمعايش، غير مهموز، ويكون اسما لمكان والأرض التي دانهم السلطان فيها أي ساسهم وقهرهم.
والقول الثالث: قال المبرد مدينة أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه، فاستثقلوا حركة الضمة على الياء فسكنوها ونقلوا حركتها إلى ما قبلها، واجتمع ساكنان الواو المزيدة التي هي واو المفعول، والياء التي هي من نفس الكلمة، فحذفت الواو لأنها زائدة، وحذف الزائد أولى من حذف الحرف الأصلي، ثم كسروا الدال لتسلم الياء، فلا تنقلب واوا لانضمام ما قبلها فيختلط ذوات الواو بذوات الياء، وهكذا القول في المبيع والمخيط والمكيل، ثم قال الواحدي: والصحيح أنها فعيلة لاجتماع القراء على همز المدائن.
المسألة الثالثة: * (وأرسل في المدائن حاشرين) * يريد وأرسل في مدائن صعيد مصر رجالا يحشروا إليك ما فيها من السحرة. قال ابن عباس: وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد، ونقل القاضي عن ابن عباس، أنهم كانوا سبعين ساحرا سوى رئيسهم، وكان الذي يعلمهم رجلا مجوسيا من أهل نينوى بلدة يونس عليه السلام، وهي قرية بالموصل. وأقول هذا النقل مشكل، لأن المجوس أتباع زرادشت، وزرادشت إنما جاء بعد مجيء موسى عليه السلام.
أما قوله: * (يأتوك بكل ساحر عليم) * ففيه مسائل:
199

المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي بكل سحار، والباقون بكل ساحر، فمن قرأ سحار فحجته أنه قد وصف بعليم، ووصفه به يدل على تناهيه فيه وحذقه به، فحسن لذلك أن يذكر بالاسم الدال على المبالغة في السحر، ومن قرأ ساحر فحجته قوله: * (وألقى السحرة) * (الأعراف: 120) * (ولعنا نتبع السحرة) * (الشعراء: 40) والسحرة جمع ساحر مثل كتبه وكاتب وفجرة وفاجر. واحتجوا أيضا بقوله: * (سحروا أعين الناس) * (الأعراف: 116) واسم الفاعل من سحروا ساحر.
المسألة الثانية: الباء في قوله: * (بكل ساحر) * يحتمل أن تكون بمعنى مع، ويحتمل أن تكون باء التعدية. والله أعلم.
المسألة الثالثة: هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان، وهذا يدل على صحة ما يقوله المتكلمون، من أنه تعالى يجعل معجزة كل نبي من جنس ما كان غالبا على أهل ذلك الزمان فلما كان السحر غالبا على أهل زمان موسى عليه السلام كانت معجزته شبيهة بالسحر وإن كان مخالفا للسحر في الحقيقة، ولما كان الطب غالبا على أهل زمان عيسى عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب، ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد عليه الصلاة والسلام لا جرم كانت معجزته من جنس الفصاحة.
ثم قال تعالى: * (وجاء السحرة فرعون قالوا أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع، وابن كثير، وحفص، عن عاصم، أن لنا لأجرا بكسر الألف على الخبر والباقون على الاستفهام، ثم اختلفوا، فقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة على أصله والباقون بهمزتين قال الواحدي رحمه الله: الاستفهام أحسن في هذا الموضع، لأنهم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا؟ ويقطعون على أن لهم الأجر ويقوي ذلك إجماعهم في سورة الشعراء على الهمز للاستفهام وحجة نافع وابن كثير على أنهما أرادا همزة الاستفهام، ولكنهما حذفا ذلك من اللفظ وقد تحذف همزة الاستفهام من اللفظ، وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى: * (وتلك نعمة تمنها علي) * (الشعراء: 22) فإنه يذهب كثير من الناس إلى أن معناه أو تلك بالاستفهام، وكما في قوله: * (هذا ربي) * (الأنعام: 77، 78) والتقدير. أهذا ربي. وقيل: أيضا المراد أن السحرة أثبتوا لأنفسهم أجرا عظيما، لأنهم قالوا: لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم. كقول العرب: إن له لإبلا، وإن له لغنما، يقصدون الكثرة.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: هلا قيل: * (وجاء السحرة فرعون قالوا).
وجوابه: هو على تقدير: سائل سأل: ما قالوا إذ جاؤه.
فأجيب بقوله: * (قالوا أئن لنا لأجرا) * أي جعلا على الغلبة.
200

فإن قيل: قوله: * (وإنكم لمن المقربين) * معطوف، وما المعطوف عليه؟
وجوابه: أنه معطوف على محذوف، سد مسده حرف الإيجاب، كأنه قال إيجابا لقولهم: إن لنا لأجرا، نعم إن لكم لأجرا، وإنكم لمن المقربين. أراد أني لا اقتصر بكم على الثواب، بل أزيدكم عليه، وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين عندي. قال المتكلمون: وهذا يدل على أن الثواب إنما يعظم موقعه إذا كان مقرونا بالتعظيم، والدليل عليه أن فرعون لما وعدهم بالأجر قرن به ما يدل على التعظيم، وهو حصول القربة.
المسألة الثالثة: الآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبدا ذليلا مهينا عاجزا، وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى عليه السلام، وتدل أيضا على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان، وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون، لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان، فلم لم يقبلوا التراب ذهبا، ولم لم ينقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم لم يجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساء الدنيا، والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق، وأن لا يغتر
بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب. والله أعلم.
* (قالوا يا موسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجآءو بسحر عظيم * وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء والكسائي: في باب " أما. وإما " إذا كنت آمرا أو ناهيا أو مخبرا فهي مفتوحة. وإذا كانت مشترطا أو شاكا أو مخيرا فهي مكسورة. تقول في المفتوحة أما الله فاعبدوه. وأما الخمر فلا تشربوها. وأما زيد فقد خرج.
201

وأما النوع الثاني: فتقول: إذا كنت مشترطا، إما تعطين زيدا فإنه يشكرك، قال الله تعالى: * (فأما تثقفنهم في الحرب فشرد) * (الأنفال: 57) وتقول في الشك لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو، وتقول في التخيير، لي بالكوفة دار فإما أن أسكنها، وإما أن أبيعها والفرق بين، إما إذا أتت للشك وبين أو، أنك إذا قلت جاءت زيد أو عمرو فقد يجوز أن تكون قد بنيت كلامك على اليقين ثم أدركك الشك فقلت أو عمرو. فصار الشك فيهما جميعا. فأول الإسمين في " أو " يجوز أن يكون بحيث يحسن السكوت عليه ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر، ألا ترى أنك تقول: قام أخوك وتسكت، ثم تشك فتقول: أو أبوك، وإذا ذكرت إما فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك وليس يجوز أن تقول ضربت إما عبد الله وتسكت وأما دخول * (أن) * في قوله: * (إما أن تلقي) * وسقوطها من قوله: * (إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) * (التوبة: 106) فقال الفراء: أدخل * (أن) * في * (إما) * في هذه الآية لأنها في موضع أمر بالاختيار وهي في موضع نصب، كقول القائل: اختر ذا أو ذا، كأنهم قالوا اختر أن تلقي أو نلقي وقوله: * (إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) * ليس فيه أمر بالتخيير. ألا ترى أن الأمر لا يصلح ههنا، فلذلك لم يكن فيه " أن " والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (إما أن تلقي) * يريد عصاه * (وإما أن نكون نحن الملقين) * أي ما معنا من الحبال والعصي فمفعول الإلقاء محذوف وفي الآية دقيقة أخرى وهي أن القوم راعوا حسن الأدب حيث قدموا موسى عليه السلام في الذكر وقال أهل التصوف إنهم لما راعوا هذا الأدب لا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركة رعاية هذا الأدب ثم ذكروا ما يدل على رغبتهم في أن يكون ابتداء الإلقاء من جانبهم وهو قولهم: * (وإما أن نكون نحن الملقين) * لأنهم ذكروا الضمير المتصل وأكدوه بالضمير المنفصل وجعلوا الخبر معرفة لا نكرة.
واعلم أن القوم لما راعوا الأدب أولا وأظهروا ما يدل على رغبتهم في الابتداء بالإلقاء قال موسى عليه السلام: ألقوا ما أنتم ملقون وفيه سؤال: وهو أن إلقاءهم حبالهم وعصيهم معارضة للمعجزة بالسحر وذلك كفر. والأمر بالكفر كفر، وحيث كان كذلك فكيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول ألقوا؟
والجواب عنه من وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقا. فإذا لم يكن كذلك فلا أمر هناك. كقول القائل منا لغيره اسقني الماء من الجرة فهذا الكلام إنما يكون أمرا بشرط حصول الماء في الجرة، فأما إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر البتة كذلك ههنا. الثاني: أن القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصي، وعلم موسى عليه السلام أنهم
202

لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير، فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما وعده الله تعالى به من التأييد والقوة، وأن المعجزة لا يغلبها سحر أبدا. الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر، وإبطاله ما كان يمكن إلا بإقدامهم على إظهاره، فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله. ومثاله أن من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها؛ يقول له هات، وقل، واذكرها، وبالغ في تقريرها، ومراده منه أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنه يظهر لكل أحد ضعفها وسقوطها، فكذا ههنا. والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (فلما ألقوا سحروا أعين الناس) * واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه. قال القاضي: لو كان السحر حقا، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم؟ فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالا عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه. قال الواحدي: بل المراد سحروا أعين الناس، أي قلبوها عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات، وقيل إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي، فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدا، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها. وأما قوله: * (واسترهبوهم) * فالمعنى: أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي. قال المبرد: * (استرهبوهم) * أرهبوهم، والسين زائدة. قال الزجاج: استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس، وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك: أيها الناس احذروا، فهذا هو الاسترهاب. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى، فأوحى الله عز وجل إليه * (أن ألق عصاك) * قال المحققون: إن هذا غير جائز، لأنه عليه السلام لما كان نبيا من عند الله تعالى كان على ثقة ويقين من أن القوم لم يغالبوه، وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة فهو من باب السحر والباطل، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف.
فإن قيل: أليس أنه تعالى قال: * (فأوجس في نفسه خيفة موسى) * (طه: 67).
قلنا: ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب، بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم.
ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم: * (وجاؤا بسحر عظيم) * روي أن السحرة قالوا قد علمنا
203

سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء، فإنه لا طاقة لنا به. وروي أنهم كانوا ثمانين ألفا. وقيل: سبعين ألفا. وقيل: بضعة وثلاثين ألفا.
واختلفت الروايات، فمن مقل ومن مكثر، وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد.
ثم قال تعالى: * (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك) * يحتمل أن يكون المراد من هذا الوحي حقيقة الوحي. وروى الواحدي عن ابن عباس: أنه قال: يريد وألهمنا موسى أن * (ألق عصاك) *.
ثم قال: * (فإذا هي تلقف ما يأفكون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: فيه حذف وإضمار والتقدير * (فألقاها فإذا هي تلقف) *.
المسألة الثانية: قرأ حفص عن عاصم * (تلقف) * ساكنة اللام خفيف القاف، والباقون بتشديد القاف مفتوحة اللام. وروي عن ابن كثير * (تلقف) * بتشديد القاف. وعلى هذا الخلاف في طه والشعراء. أما من خفف فقال ابن السكيت: اللقف مصدر لقفت الشيء ألقفه لقفا إذا أخذته، فأكلته أو ابتلعته، ورجل لقف سريع الأخذ، وقال اللحياني: ومثله ثقف يثقف ثقفا وثقيف كلقيف بين الثقافة واللقافة، وأما القراءة بالتشديد فهو من تلقف يتلقف، وأما قراءة بن كثير فأصلها تتلقف أدغم إحدى التاءين في الأخرى.
المسألة الثالثة: قال المفسرون: لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعا وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلا. واعلم أن هذا مما يدل على وجود الإله القادر المختار وعلى المعجز العظيم لموسى عليه السلام، وذلك لأن ذلك الثعبان العظيم لما ابتلعت تلك الحبال والعصي مع كثرتها ثم صارت عصا كما كانت. فهذا يدل على أنه تعالى أعدم أجسام تلك الحبال والعصي، أو على أنه تعالى فرق بين تلك الأجزاء وجعلها ذرات غير محسوسة وأذهبها في الهواء بحيث لا يحس بذهابها وتفرقها وعلى كلا التقديرين، فلا يقدر على هذه الحالة أحد إلا الله سبحانه وتعالى.
المسألة الرابعة: قوله: * (ما يأفكون) * فيه وجهان: الأول: معنى الإفك في اللغة قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذب إفك لأنه مقلوب عن وجهه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: * (ما يأفكون) * يريد يكذبون، والمعنى: أن العصا تلقف ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه وعلى هذ التقدير فلفظة * (ما) * موصولة والثاني: أن يكون * (ما) * مصدرية، والتقدير: فإذا هي تلقف إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك.
204

ثم قال تعالى: * (فوقع الحق) * قال مجاهد والحسن: ظهر. وقال الفراء: فتبين الحق من السحر. قال أهل المعاني: الوقوع: ظهور الشيء بوجوده نازلا إلى مستقره، وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد، فلما فقدت؛ ثبت أن ذلك إنما حصل بخلق الله سبحانه وتعالى وتقديره، لا لأجل السحر، فهذا هو الذي لأجله تميز المعجز عن السحر. قال القاضي قوله: * (فوقع الحق) * يفيد قوة الثبوت والظهور بحيث لا يصح فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعا.
فإن قيل: قوله: * (فوقع الحق) * يدل على قوة هذا الظهور، فكان قوله: * (وبطل ما كانوا يعملون) * تكريرا من غير فائدة!
قلنا: المراد أن مع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي، فعند ذلك ظهرت الغلبة، فلهذا قال تعالى: * (فغلبوا هنالك) * لأنه لا غلبة أظهر من ذلك * (وانقلبوا صاغرين) * لأنه لا ذل ولا صغار أعظم في حق المبطل من ظهور بطلان قوله وحجته، على وجه لا يمكن فيه حيلة ولا شبهة أصلا قال الواحدي: لفظة * (ما) * في قوله: * (وبطل ما كانوا يعملون) * يجوز أن تكون بمعنى " الذي " فيكون المعنى بطل الحبال والعصي الذي عملوا به السحر أي زال وذهب بفقدانها ويجوز أن تكون بمعنى المصدر. كأنه قيل بطل عملهم، والله أعلم.
* (وألقى السحرة ساجدين * قالوا ءامنا برب العالمين * رب موسى وهارون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال المفسرون: إن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلثمائة بعير، فلما ابتلعها ثعبان موسى عليه السلام وصارت عصا كما كانت قال بعض السحرة لبعض هذا خارج عن السحر، بلهو أمر إلهي، فاستدلوا به على أن موسى عليه السلام نبي صادق من عند الله تعالى، قال المتكلمون: وهذه الآية من أعظم الدلائل على فضيلة العلم، وذلك لأن أولئك الأقوام كانوا عالمين بحقيقة السحر واقفين على منتهاه، فلما كانوا كذلك ووجدوا معجزة موسى عليه السلام خارجة عن حد السحر، علموا أنه من المعجزات الإلهية، لا من جنس التمويهات البشرية. ولو أنهم ما كانوا كاملين في علم السحر لما قدروا على ذلك الاستدلال، لأنهم كانوا يقولون: لعله أكمل
205

منا في علم السحر، فقدر على ما عجزنا عنه، فثبت أنهم كانوا كاملين في علم السحر. فلأجل كمالهم في ذلك العلم انتقلوا من الكفر إلى الإيمان. فإذا كان حال علم السحر كذلك، فما ظنك بكمال حال الإنسان في علم التوحيد.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بقوله تعالى: * (وألقي السحرة ساجدين) * قالوا: دلت هذه الآية على أن غيرهم ألقاهم ساجدين، وما ذاك إلا الله رب العالمين. فهذا يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى. قال مقاتل: ألقاهم الله تعالى ساجدين. وقال المعتزلة: الجواب عنه من وجوه: الأول: أنهم لما شاهدوا الآيات العظيمة والمعجزات القاهرة. لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين؛ فصار كأن ملقيا ألقاهم. الثاني: قال الأخفش: من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين. الثالث: أنه ليس في الآية أنه ألقاهم ملق إلى السجود، إلا أنا نقول: إن ذلك الملقي هو أنفسهم.
والجواب: أن خالق تلك الداعية في قلوبهم هو الله تعالى، وإلا لافتقروا في خلق تلك الداعية الجازمة إلى داعية أخرى ولزم التسلسل وهو محال. ثم أن أصل تلك القدرة مع تلك الداعية الجازمة تصير موجبة للفعل. وخالق ذلك الموجب هو الله تعالى فكان ذلك الفعل والأثر مسندا إلى الله تعالى، والله أعلم.
المسألة الثالثة: أنه تعالى ذكر أولا أنهم صاروا ساجدين، ثم ذكر بعده أنهم قالوا: * (آمنا برب العالمين) * فما الفائدة فيه مع أن الأيمان يجب أن يكون متقدما على السجود؟ وجوابه من وجوه: الأول: أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال، وجعلوا ذلك السجود شكرا لله تعالى على الفوز بالمعرفة والإيمان، وعلامة أيضا على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان، وإظهار الخضوع والتذلل لله تعالى فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع.
الوجه الثاني: لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا: * (آمنا برب العالمين) * وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والوجه الصحيح هو الأول.
المسألة الرابعة: احتج أهل التعليم بهذه الآية فقالوا: الدليل على أن معرفة الله لا تحصل إلا بقول النبي إن أولئك السحرة لما قالوا: * (آمنا برب العالمين) * لم يتم إيمانهم فلما قالوا: * (رب موسى وهارون) * تم إيمانهم وذلك يدل على قولنا.
وأجاب العلماء عنه: بأنهم لما قالوا: * (آمنا برب العالمين) * قال لهم فرعون إياي تعنون فلما قالوا:
206

* (رب موسى) * قال إياي تعنون لأني أنا الذي ربيت موسى فلما قالوا: * (وهارون) * زالت الشبهة، وعرف الكل أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السماء، وقيل إنما خصهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين لأن التقدير آمنا برب العالمين، وهو الذي دعا إلى الإيمان به موسى وهارون. وقيل: خصهما بالذكر تفضيلا وتشريفا كقوله: * (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (البقرة: 98).
* (قال فرعون ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منهآ أهلها فسوف تعلمون * لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم أجمعين * قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون * وما تنقم منآ إلا أن ءامنا بآيات ربنا لما جآءتنا ربنآ أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم في رواية حفص * (أمنتم) * بهمزة واحدة على لفظ الخبر وكذلك في طه * (والشعراء) * وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي * (أأمنتم) * بهمزتين في جميع القرآن وقرأ الباقون بهمزة واحدة ممدودة في جميع على الاستفهام. قال الفراء: أما قراءة حفص * (أمنتم) * بلفظ الخبر من غير مد، فالوجه فيها أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم والإنكار عليهم، وأما القراءة بالهمزتين فأصله * (أأمنتم) * على وزن أفعلتم.
المسألة الثانية: اعلم أن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالسحر أقر بنبوة موسى عليه السلام عند اجتماع الخلق العظيم. خاف أن يصير ذلك حجة قوية عند قومه على صحة نبوة موسى عليه السلام فألقى في الحال نوعين من الشبهة إلى إسماع العوام، لتصير تلك الشبهة مانعة للقوم من اعتقاد صحة نبوة موسى عليه السلام.
207

فالشبهة الأولى: قوله: * (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة) * والمعنى: أن إيمان هؤلاء بموسى عليه السلام ليس لقوة الدليل، بل لأجل أنهم تواطئوا مع موسى أنه إذا كان كذا وكذا فنحن نؤمن بك ونقر بنبوتك، فهذا الإيمان إنما حصل بهذا الطريق.
والشبهة الثانية: أن غرض موسى والسحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة وإبطال ملكهم، ومعلوم عند جميع العقلاء أن مفارقة الوطن والنعمة المألوفة من أصعب الأمور فجمع فرعون اللعين بين الشبهتين اللتين لا يوجد أقوى منهما في هذا الباب. وروى محمد بن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم: أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال موسى عليه السلام: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به الحق؟ قال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأومنن بك، وفرعون ينظر إليهما ويسمع قولهما، فهذا هو قول فرعون * (إن هذا لمكر مكرتموه) * واعلم أن هذا يحتمل أنه كان قد حصل، ويحتمل أيضا أن فرعون ألقى هذا الكلام في البين، ليصير صارفا للعوام عن التصديق بنبوة موسى عليه السلام. قال القاضي: وقوله: * (قبل أن آذن لكم) * دليل على مناقضة فرعون في ادعاء الإلهية، لأنه لو كان إلها لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا به مع أنه يدعوهم إلى إلهية غيره، ثم قال: وذلك من خذلان الله تعالى الذي يظهر على المبطلين.
أما قوله: * (فسوف تعلمون) * لا شبهة في أنه ابتداء وعيد، ثم إنه لم يقتصر على هذا الوعيد المجمل، بل فسره فقال: * (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين) * وقطع اليد والرجل من خلاف معروف المعنى، وهو أن يقطعهما من جهتين مختلفتين، أما من اليد اليمنى والرجل اليسرى، أو من اليد اليسرى والرجل اليمنى، وأما الصلب فمعروف. فتوعدهم بهذين الأمرين العظيمين، واختلفوا في أنه هل وقع ذلك منه؟ وليس في الآية ما يدل على أحد الأمرين. واحتج بعضهم على وقوعه بوجوه: الأول: أنه تعالى حكى عن الملأ من قوم فرعون أنهم قالوا له: * (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) * (الأعراف: 127) ولو أنه ترك أولئك السحرة وقومه أحياء وما قتلهم، لذكرهم أيضا ولحذرهم عن الإفساد الحاصل من جهتهم. ويمكن أن يجاب عنه بأنهم دخلوا تحت قومه فلا وجه لإفرادهم بالذكر. والثاني: أن قوله تعالى حكاية عنهم * (ربنا أفرغ علينا صبرا) * يدل على أنه كان قد نزل بهم بلاء شديد عظيم، حتى طلبوا من الله تعالى أن يصبرهم عليه. ويمكن أن يجاب عنه بأنهم طلبوا من الله تعالى الصبر على الإيمان وعدم الالتفات إلى وعيده. الثالث: ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فعل ذلك وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذا هو الأظهر
208

مبالغة منه في تحذير القوم عن قبول دين موسى عليه السلام. وقال آخرون: إنه لم يقع من فرعون ذلك، بل استجاب الله تعالى لهم الدعاء في قولهم: * (وتوفنا مسلمين) * لأنهم سألوه تعالى أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القتل والقطع وهذا الاستدلال قريب.
ثم حكى تعالى عن القوم ما لا يجوز أن يقع من المؤمن عند هذا الوعيد أحسن منه، وهو قولهم لفرعون: * (وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) * فبينوا أن الذي كان منهم لا يوجب الوعيد ولا إنزال النقمة بهم، بل يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يتأسى بهم في الإقرار بالحق والاحتراز عن الباطل عند ظهور الحجة والدليل. يقال: نقمت أنقم إذا بالغت في كراهية الشيء، وقد مر عند قوله: * (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا) * (المائدة: 59) قال ابن عباس: يريد ما أتينا بذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا بآيات ربنا. والمراد: ما أتى به موسى عليه السلام من المعجزات القاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى.
ثم قالوا: * (ربنا أفرغ علينا صبرا) * معنى الإفراغ في اللغة الصب. يقال: درهم مفرغ إذا كان مصبوبا في قالبه وليس بمضروب، وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه حتى يخلو الإناء وهو من الفراغ، فاستعمل في الصبر على التشبيه بحال إفراغ الإناء. قال مجاهد: المعنى صب علينا الصبر عند الصلب والقطع، وفي الآية فوائد:
الفائدة الأولى: * (أفرغ علينا صبرا) * أكمل من قوله: أنزل علينا صبرا، لأنا ذكرنا أن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية، فكأنهم طلبوا من الله كل الصبر لا بعضه.
والفائدة الثانية: أن قوله * (صبرا) * مذكور بصيغة التنكير، وذلك يدل على الكمال والتمام، أي صبرا كاملا تاما كقوله تعالى: * (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) * (البقرة: 96) أي على حياة كاملة تامة.
والفائدة الثالثة: إن ذلك الصبر من قبلهم ومن أعمالهم، ثم إنهم طلبوه من الله تعالى، وذلك يدل على أن فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله وقضائه. قال القاضي: إنما سألوه تعالى الألطاف التي تدعوهم إلى الثبات والصبر، وذلك معلوم في الأدعية.
والجواب: هذا عدول عن الظاهر، ثم الدليل يأباه، وذلك لأن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعية الجازمة وحصولها ليس إلا من قبل الله عز وجل، فيكون الكل من الله تعالى.
وأما قوله: * (وتوفنا مسلمين) * فمعناه توفنا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه السلام وفيه مسألتان:
209

المسألة الأولى: احتج أصحابنا على أن الإيمان والإسلام لا يحصل إلا بخلق الله تعالى، ووجه الاستدلال به ظاهر. والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف والكلام عليه معلوم مما سبق.
المسألة الثانية: احتج القاضي بهذه الآية على أن الإيمان والإسلام واحد. فقال إنهم قالوا أولا * (آمنا بآيات ربنا) * ثم قالوا ثانيا: * (وتوفنا مسلمين) * فوجب أن يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان، وذلك يدل على أن أحدهما هو الآخر. والله أعلم.
* (وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الارض ويذرك وءالهتك قال سنقتل أبنآءهم ونستحيى نسآءهم وإنا فوقهم قاهرون * قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشآء من عباده والعاقبة للمتقين) *.
اعلم أن بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض فرعون لموسى ولا أخذه ولا حبسه، بل خلى سبيله فقال قومه له: * (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) *.
واعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف، فلهذا السبب لم يتعرض له إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك، فحملوه على أخذه وحبسه. وقوله: * (ليفسدوا في الأرض) * أي يفسدوا على الناس دينهم الذي كانوا عليه، وإذا أفسدوا عليهم أديانهم توسلوا بذلك إلى أخذ الملك.
أما قوله: * (ويذرك) * فالقراءة المشهورة فيه * (ويذرك) * بالنصب. وذكر صاحب " الكشاف ": فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون قوله: * (ويذرك) * عطفا على قوله: * (ليفسدوا) * لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم، كان ذلك مؤديا إلى تركه وترك آلهته، فكأنه تركهم لذلك. وثانيها: أنه جواب للاستفهام بالواو، وكما يجاب بالفاء مثل قول الحطيئة: ألم أك جاركم ويكون بيني * وبينكم المودة والإخاء؟
والتقدير: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض فيذرك وآلهتك. قال الزجاج: والمعنى
210

أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك موسى؟ وثالثها: النصب بإضمار أن تقديره: أتذر موسى وقومه ليفسدوا وأن يذرك وآلهتك؟ قال صاحب " الكشاف ": وقرئ * (ويذرك وآلهتك) * بالرفع عطفا على * (أتذر) * بمعنى أتذره ويذرك؟ أي انطلق له، وذلك يكون مستأنفا أو حالا على معنى أتذره هو يذرك وآلهتك؟ وقرأ الحسن * (ويذرك) * بالجزم، وقرأ أنس * (ونذرك) * بالنون والنصب، أي يصرفنا عن عبادتك فنذرها.
وأما قوله: * (وآلهتك) * قال أبو بكر الأنباري: كان ابن عمر ينكر قراءة العامة، ويقرأ إلاهتك أي عبادتك، ويقول إن فرعون كان يعبد ولا يعبد، قال ابن عباس: أما قراءة العامة * (وآلهتك) * فالمراد جمع إله، وعلى هذا التقدير: فقد اختلفوا فيه. فقيل إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناما صغارا، وأمرهم بعبادتها. وقال: * (أنا ربكم الأعلى) * ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: * (أنا ربكم الأعلى) * وقال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام. وأقول: الذي يخطر ببالي إن فرعون إن قلنا: إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه، وإن كان عاقلا لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالقا للسموات والأرض، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأن فساده معلوم بضرورة العقل. بل الأقرب أن يقال إنه كان دهريا ينكر وجود الصانع، وكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب، وأما المجدي في هذا العلم للخلق، ولتلك الطائفة والمربي لهم فهو نفسه، فقوله: * (أنا ربكم الأعلى) * أي مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم. وقوله: * (ما علمت بكم من إله غيري) * (القصص: 38) أي لا أعلم لكم أحدا يجب عليكم عبادته إلا أنا، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنه كان قد اتخذ أصناما
على صور الكواكب، ويعبدها ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب وعلى هذا التقدير: فلا امتناع في حمل قوله تعالى: * (ويذرك وآلهتك) * على ظاهره، فهذا ما عندي في هذا الباب. والله أعلم.
واعلم أن على جميع الوجوه والاحتمالات فالقوم أرادوا بذكر هذا الكلام حمل فرعون على أخذ موسى عليه السلام، وحبسه، وإنزال أنواع العذاب به، فعند هذا لم يذكر فرعون ما هو حقيقة الحال وهو كونه خائفا من موسى عليه السلام. ولكنه قال: * (سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير * (سنقتل) * بفتح النون والتخفيف، والباقون بضم النون والتشديد على التكثير. يعني أبناء بني إسرائيل ومن آمن بموسى عليه السلام. المسألة الثانية: أن موسى عليه السلام إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن
211

نسعى في تقليل رهطه وشيعته، وذلك بأن نقتل أبناء بني إسرائيل ونستحيي نساءهم. ثم بين أنه قادر على ذلك بقوله: * (وإنا فوقهم قاهرون) * والمقصود منه ترك موسى وقومه، لا من عجز وخوف، ولو أراد به البطش لقدر عليه، كأنه يوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه ولعدم خوفه منه. واختلف المفسرون، فمنهم من قال: كان يفعل ذلك كما فعله ابتداء عند ولادة موسى، ومنهم من قال بل منع منه واتفق المفسرون على أن هذا التهديد وقع في غير الزمان الأول ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه: * (استعينوا بالله واصبروا) * وهذا يدل على أن الذي قاله الملأ لفرعون، والذي قال فرعون لهم قد عرفه موسى عليه السلام ووصل إليه، فعند ذل فال لقومه * (استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) * فههنا أمرهم بشيئين وبشرهم بشيئين. أما الذان أمر موسى عليه السلام بهما؛ فالأول: الاستعانة بالله تعالى. والثاني: الصبر على بلاء الله. وإنما أمرهم أولا بالاستعانة بالله وذلك لأن من عرف أنه لا مدبر في العالم إلا الله تعالى انشرح صدره بنور معرفة الله تعالى وحينئذ يسهل عليه أنواع البلاء، ولأنه يرى عند نزول البلاء أنه إنما حصل بقضاء ا تعالى وتقديره. واستعداده بمشاهدة قضاء الله، خفف عليه أنواع البلاء، وأما الذان بشر بهما؛ فالأول: قوله: * (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) * وهذا إطماع من موسى عليه السلام قومه في أن يورثهم الله تعالى أرض فرعون بعد إهلاكه، وذلك معنى الإرث، وهو جعل الشيء للخلف بعد السلف. والثاني: قوله: * (والعاقبة للمتقين) * فقيل: المراد أمر الآخرة فقط، وقيل: المراد أمر الدنيا فقط وهو: الفتح، والظفر، والنصر على الأعداء، وقيل المراد مجموع الأمرين، وقوله: * (للمتقين) * إشارة إلى أن كل من اتقى الله تعالى وخافه فالله يعينه في الدنيا والآخرة.
* (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الارض فينظر كيف تعملون) *.
اعلم أن قوم موسى عليه السلام، لما سمعوا ما ذكره فرعون من التهديد والوعيد خافوا وفزعوا، وقالوا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا وذلك، لأن بني إسرائيل كانوا قبل
212

مجيء موسى عليه السلام مستضعفين في يد فرعون اللعين، فكان يأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة ويمنعهم من الترفه والتنعم ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، فلما بعث الله تعالى موسى عليه السلام قوي رجاؤهم في زوال تلك المضار والمتاعب، فلما سمعوا أن فرعون أعاد التهديد مرة ثانية عظم خوفهم وحزنهم، فقالوا هذا الكلام.
فإن قيل: أليس هذا القول يدل على أنهم كرهوا مجيء موسى عليه السلام وذلك يوجب كفرهم؟
والجواب: أن موسى عليه السلام لما جاء، وعدهم بزوال تلك المضار فظنوا أنها تزول على الفور. فلما رأوا أنها ما زالت، رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد فبين موسى عليه السلام أن الوعد بإزالتها لا يوجب الوعد بإزالتها في الحال، وبين لهم أنه تعالى سينجز لهم ذلك الوعد في الوقت الذي قدره له، والحاصل أن هذا ما كان بنفرة عن مجيء موسى عليه السلام بالرسالة، بل استكشافا لكيفية ذلك الوعد. والله أعلم.
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك قال موسى عليه السلام: * (عسى ربكم) * قال سيبويه: * (عسى) * طمع وإشفاق. قال الزجاج: وما يطمع الله تعالى فيه فهو واجب.
ولقائل أن يقول: هذا ضعيف لأن لفظ * (عسى) * ههنا ليس كلام الله تعالى بل هو حكاية عن كلام موسى عليه السلام، إلا أنا نقول مثل هذا الكلام إذا صدر عن رسول ظهرت حجة نبوته عليه الصلاة والسلام بالمعجزات الباهرة أفاد قوة النفس وأزال ما خامرها من الانكسار والضعف فقوى موسى عليه السلام قلوبهم بهذا القول وحقق عندهم الوعد ليتمسكوا بالصبر ويتركوا الجزع المذموم ثم بين بقوله: * (فينظر كيف تعملون) * ما يجري مجرى الحث لهم على التمسك بطاعة الله تعالى.
واعلم أن النظر قد يراد به النظر الذي يفيد العلم. وهو على الله محال، وقد يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماسا لرؤيته. وهو أيضا على الله محال، وقد يراد به الانتظار. وهو أيضا على الله محال، وقد يراد به الرؤية، ويجب حمل اللفظ ههنا عليها. قال الزجاج: أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم، وإنما يجازيهم على ما يقع منهم.
فإن قيل: إذا حملتم هذا النظر على الرؤية لزم الإشكال، لأن الفاء في قوله: * (فينظر) * للتعقيب فيلزم أن تكون رؤية الله تعالى لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعمال، وذلك يوجب حدوث صفة الله تعالى.
قلنا: تعلق رؤية الله تعالى بذلك الشيء نسبة حادثة والنسب والإضافات لا وجود لها في
213

الأعيان فلم يلزم حدوث الصفة الحقيقية في ذات الله تعالى. والله أعلم.
* (ولقد أخذنآ ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون * فإذا جآءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه: * (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) * (الأعراف: 129) لا جرم بدأ ههنا بذكر ما أنزله بفرعون وبقومه من المحن حالا بعد حال، إلى أن وصل الأمر إلى الهلاك تنبيها للمكلفين على الزجر عن الكفر والتمسك بتكذيب الرسل، خوفا من نزول هذه المحن بهم. فقال: * (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: السنين جميع السنة قال أبو علي الفارسي: السنة على معنيين: أحدهما: يراد بها - الحول والعام - والآخر يراد بها - الجدب - وهو خلاف الخصب فمما أريد به الجدب هذه الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف " وقول عمر رضي الله عنه: إنا لا نقع في عام السنة، فلما كانت السنة يعني بها الجدب، اشتقوا منها كما يشتق من الجدب. ويقال: أسنتوا، كما يقال أجدبوا. قال الشاعر: ورجال مكة مسنتون عجاف (c)
قال أبو زيد: بعض العرب تقول، هذه سنين ورأيت سنينا، فتعرب النون. ونحوه. قال الفراء: ومنه قول الشاعر: دعاني من نجد فإن سنينه * لعبن بنا وشيبننا مردا
قال الزجاج: السنين في كلام العرب الجدوب، يقال مستهم السنة ومعناه: جدب السنة. وشدة السنة.
إذا عرفت هذا فنقول: قال المفسرون: * (أخذنا آل فرعون بالسنين) * يريد الجوع والقحط عاما بعد عام، فالسنون لأهل البوادي * (ونقص من الثمرات) * لأهل القرى.
ثم قال تعالى: * (لعلهم يذكرون) * وفيه مسألتان:
214

المسألة الأولى: ظاهر الآية أنه تعالى إنما أنزل عليهم هذه المضار لأجل أن يرجعوا عن طريقة التمرد والعناد إلى الانقياد والعبودية، وذلك لأن أحوال الشدة ترقق القلب وترغب فيما عند الله، والدليل عليه قوله تعالى: * (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) * (ا " سراء: 67) وقوله: * (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) * (فصلت: 51).
المسألة الثانية: قال القاضي: هذه الآية تدل على أنه تعالى فعل ذلك إرادة منه أن يتذكروا، لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر.
أجاب الواحدي عنه: بأنه قد جاء لفظ الابتلاء والاختبار في القرآن، لا بمعنى أنه تعالى يمتحنهم، لأن ذلك على الله تعالى محال، بل بمعنى أنه تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء والامتحان، فكذا ههنا. والله أعلم.
ثم بين تعالى أنهم عند نزول تلك المحن عليهم يقدمون على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم فقال: * (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه) * قال ابن عباس: يريد بالحسنة العشب والخصب والثمار والمواشي والسعة في الرزق والعافية والسلامة * (وقالوا لنا هذه) * أي نحن مستحقون على العادة التي جرت من كثرة نعمنا وسعة أرزاقنا، ولم يعلموا أنه من الله فيشكروه عليه ويقوموا بحق النعمة فيه. وقوله: * (وإن تصبهم سيئة) * يريد القحط والجدب والمرض والضر والبلاء * (يطيروا بموسى ومن معه) * أي يتشاءموا به. ويقولوا إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه، والتطير التشاؤم في قول جميع المفسرين وقوله: * (يطيروا) * هو في الأصل يتطيروا، أدغمت التاء في الطاء، لأنهما من مكان واحد من طرف اللسان وأصول الثنايا وقوله: * (ألا إنما طائرهم عند الله) * في الطائر قولان:
القول الأول: قال ابن عباس: يريد شؤمهم عند الله تعالى أي من قبل الله أي إنما جاءهم الشر بقضاء الله وحكمه، فالطائر ههنا الشؤم. ومثله قوله تعالى في قصة ثمود: * (قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله) * قال الفراء: وقد تشاءمت اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا، قال الأزهري: وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة، لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزجرها، والتطير ببارحها، ونعيق غربانها، وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها، فسموا الشؤم طيرا وطائرا وطيرة لتشاؤمهم بها.
ثم أعلم الله تعالى على لسان رسوله أن طيرتهم باطلة، فقال: * (لا طيرة ولا هام) * وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل، ولا يتطير. وأصل الفأل الكلمة الحسنة، وكانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الفأل وأبطل الطيرة قال محمد الرازي رحمه الله:
215

ولا بد من ذكر فرق بين البابين. والأقرب أن يقال: إن الأرواح الإنسانية أصفى وأقوى من الأرواح البهيمية والطيرية. فالكلمة التي تجري على لسان الإنسان يمكن الاستدلال بها بخلاف طيران الطير، وحركات البهائم، فإن أرواحها ضعيفة، فلا يمكن الاستدلال بها على شيء من الأحوال.
القول الثاني: في تفسير الطائر قال أبو عبيدة: * (ألا إنما طائرهم عند الله) * أي حظهم. وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم والعرب تقول: أطرت المال وطيرته بين القوم فطار لكل منهم سهمه. أي حصل له ذلك السهم.
واعلم أن على كلا القولين، المعنى: أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله تعالى وبتقديره * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * أن الكل من الله تعالى، وذلك لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ويقطعونها عن قضاء الله تعالى وتقديره، والحق أن الكل من الله، لأن كل موجود، فهو إما واجب الوجود لذاته أو ممكن لذاته، والواجب واحد وما سواه ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذته، وبهذا الطريق يكون الكل من الله فإسنادها إلى غير الله يكون جهلا بكمال الله تعالى.
* (وقالوا مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما
مجرمين) *.
اعلم أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله تعالى وقدره، فحكى عنهم في هذه الآية نوعا آخر من أنواع الجهالة والضلالة، وهو أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السحر، وجعلوا جملة الآيات مثل انقلاب العصا حية من باب السحر منهم. وقالوا لموسى: إنا لا نقبل شيئا منها البتة. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كلمة * (مهما) * قولان: الأول: أن أصلها " ماما " الأولى هي " ما " الجزاء، والثانية هي التي تزاد توكيدا للجزاء، كما تزاد في سائر حروف الجزاء، كقولهم: إما ومما وكيفما قال الله تعالى: * (فإما تثقفنهم) * (الأنفال: 59) وهو كقولك: إن تثقفنهم، ثم أبدلوا من ألف " ما " الأولى " ها " كراهة
216

لتكرار اللفظ، فصار " مهما " هذا قول الخليل والبصريين. والثاني: وهو قول الكسائي الأصل " مه " التي بمعنى الكف، أي أكفف دخلت على " ما " التي للجزاء كأنهم قالوا أكفف ما تأتنا به من آية فهو كذا وكذا.
المسألة الثانية: قال ابن عباس: أن القوم لما قالوا لموسى: مهما أتيتنا بآية من ربك، فهي عندنا من باب السحر، ونحن لا نؤمن بها البتة، وكان موسى عليه السلام رجلا حديدا، فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله له، فأرسل عليهم الطوفان الدائم ليلا ونهارا سبتا إلى سبت، حتى كان الرجل منهم لا يرى شمسا ولا قمرا ولا يستطيع الخروج من داره وجاءهم الغرق، فصرخوا إلى فرعون واستغاثوا به، فأرسل إلى موسى عليه السلام وقال: اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحرا واحدا، فإن كشفت هذا العذاب آمنا بك، فأزال ا لله عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض، وخرج من النبات ما لم يروا مثله قط. فقالوا: هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر. فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد، فأرسل الله عليهم الجراد، فأكل النبات وعظم الأمر عليهم حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس، ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعا، فأكلت النبات، فصرخ أهل مصر، فدعا موسى عليه السلام فأرسل الله تعالى ريحا فاحتملت الجراد فألقته في البحر، فنظر أهل مصر إلى أن بقية من كلئهم وزرعهم تكفيهم. فقالوا: هذا الذي بقي يكفينا ولا نؤمن بك. فأرسل الله بعد ذلك عليهم القمل، سبتا إلى سبت، فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلا أكلته، فصاحوا وسأل موسى عليه السلام ربه، فأرسل الله عليها ريحا حارة فأحرقتها، واحتملتها الريح فألقتها في البحر، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع بعد ذلك فخرج من البحر مثل الليل الدامس ووقع في الثياب والأطعمة، فكان الرجل منهم يسقط وعلى رأسه ذراع من الضفادع، فصرخوا إلى موسى عليه السلام، وحلفوا بإلهه لئن رفعت عنا هذا العذاب لنؤمنن بك، فدعا الله تعالى فأمات الضفادع، وأرسل عليها المطر فاحتملها إلى البحر، ثم أظهروا الكفر والفساد، فأرسل الله عليهم الدم فجرت أنهارهم دما فلم يقدروا على الماء العذب، وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيب حتى بلغ منهم الجهد، فصرخوا وركب فرعون وأشراف قومه إلى أنهار بني إسرائيل فجعل يدخل الرجل منهم النهر فإذا اغترف صار في يده دما ومكثوا سبعة أيام في ذل لا يشربون إلا الدم. فقال فرعون: * (لئن كشفت عنا الرجز) * (الأعراف: 134) إلى آخر الآية، فهذا هو القول المرضي عند أكثر المفسرين، وقد وقع في أكثرها اختلافات. أما الطوفان، فقال الزجاج: الطوفان من كل شيء ما كان كثيرا محيطا مطبقا بالقوم كلهم، كالغرق الذي يشمل المدن الكثيرة،
217

فإنه يقال له طوفان، وكذلك القتل الذريع طوفان، والموت الجارف طوفان. وقال الأخفش: هو فعلان من الطوف، لأنه يطوف بالشيء حتى يعم. قال: وواحده في القياس طوفانه. وقال المبرد: الطوفان مصدر مثل " الرجحان والنقصان " فلا حاجة إلى أن يطلب له واحدا.
إذا عرفت هدا فنقول: الأكثرون على أن هذا الطوفان هو المطر الكثير على ما رويناه عن ابن عباس، وقد روى عطاء عنه أنه قال: الطوفان هو الموت، وروى الواحدي رحمه الله بإسناده خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الطوفان هو الموت ". وهذا القول مشكل لأنهم لو أميتوا لم يكن لإرسال سائر أنواع العذاب عليهم فائدة، بل لو صح هذا الخبر لوجب حمل لفظ الموت على حصول أسباب الموت، مثل المطر الشديد والسيل العظيم وغيرهما، وأما الجراد، فهو معروف والواحدة جرادة، ونبت مجرود قد أكل الجراد ورقه. وقال اللحياني: أرض جردة ومجرودة قد لحسها الجراد، وإذا أصاب الجراد الزرع قيل جرد الزرع وأصل هذا كله من الجرد، وهو أخذك الشيء عن الشيء على سبيل النحت والسحق، ومنه يقال للثوب الذي قد ذهب وبره جرد وأرض جردة لا نبات فيها، وأما القمل، فقد اختلفوا فيه. فقيل هو الدبى الصغار الذي لا أجنحة له، وهي بنات الجراد، وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه موسى عليه السلام بعصاه فصار قملا. فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزم جلودهم كأنه الجدري، فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم، فقالوا: قد تيقنا الآن أنك ساحر عليم. وعزة فرعون لا نؤمن بك أبدا، وقرأ الحسن * (والقمل) * بفتح القاف، وسكون الميم. يريد القمل المعروف. وأما الدم فما ذكرناه. ونقل صاحب " الكشاف " أنه قيل: سلط الله عليهم الرعاف. وروي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات.
وأما قوله تعالى: * (آيات مفصلات) * ففيه وجوه: أحدها: * (مفصلات) * أي مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وثانيها: * (مفصلات) * أي فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيقبلون الحجة؟ والدليل: أو يستمرون على الخلاف والتقليد. قال المفسرون: كان العذاب يبقى عليهم من السبت إلى السبت، وبين العذاب إلى العذاب شهر، فهذا معنى قوله: * (آيات مفصلات) * قال الزجاج: وقوله: * (آيات) * منصوبة على الحال. وقوله: * (فاستكبروا) * يريد عن عبادة الله * (وكانوا قوما مجرمين) * مصرين على الجرم والذنب. ونقل أيضا أن هذه الأنواع المذكورة من العذاب كانت عند وقوعها مختصة بقوم فرعون، وكان بنو إسرائيل منها في أمان وفراغ، ولا شك أن كل واحد منها فهو في نفسه معجز، واختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز آخر.
218

فإن قال قائل لما علم الله تعالى من حال أولئك الأقوام أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات، فما الفائدة في تواليها وإظهار الكثير منها؟ وأيضا فقوم محمد صلى الله عليه وسلم طلبوا المعجزات فما أجيبوا فما الفرق.
والجواب: أما على قول أصحابنا فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، وأما على قول المعتزلة في رعاية الصلاح، فلعله علم من قوم موسى أن بعضهم كان يؤمن عند ظهور تلك المعجزات الزائدة، وعلم من قوم محمد صلى الله عليه وسلم أن أحدا منهم لا يزداد بعد ظهور تلك المعجزات الظاهرة إلا كفرا وعنادا، فظهر الفرق. والله أعلم.
* (ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسراءيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون) *.
اعلم أنا ذكرنا معنى الرجز عند قوله: * (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) * (البقرة: 59) في سورة البقرة وهو اسم للعذاب، ثم إنهم اختلفوا في المراد بهذا الرجز فقال بعضهم: إنه عبارة عن الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب الذي كان نازلا بهم. وقال سعيد بن جبير * (الرجز) * معناه: الطاعون وهو العذاب الذي أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد، فتركوا غير مدفونين، واعلم أن القول الأول أقوى لأن لفظ * (الرجز) * لفظ مفرد محلي بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق، وههنا المعهود السابق هو الأنواع الخمسة التي تقدم ذكرها، وأما غيرها فمشكوك فيه، فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى بين ما كانوا عليه من المناقضة القبيحة، لأنهم تارة يكذبون موسى عليه السلام، وأخرى عند الشدائد يفزعون إليه نزع الأمة إلى نبيها ويسألونه أن يسأل ربه رفع ذلك العذاب عنهم، وذلك يقتضي أنهم سلموا إليه كونه نبيا مجاب الدعوة، ثم بعد زوال تلك الشدائد يعودون إلى تكذيبه والطعن فيه، وأنه إنما يصل إلى مطالبة بسحره، فمن هذا الوجه يظهر
219

أنهم يناقضون أنفسهم في هذه الأقاويل.
وأما قوله تعالى حكاية عنهم: * (ادع لنا ربك بما عهد عندك) * فقال صاحب " الكشاف ": ما في قوله: * (بما عهد عندك) * مصدرية والمعنى: بعهده عندك وهو النبوة، وفي هذه الباء وجهان:
الوجه الأول: أنها متعلقة بقوله: * (ادع لنا ربك) * والتقدير * (ادع لنا) * متوسلا إليه بعهده عندك.
والوجه الثاني: في هذه الباء أن تكون قسما وجوابها قوله: * (لنؤمنن لك) * أي أقسمنا بعهد الله عندك * (لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك) * وقوله: * (ولنرسلن معك بني إسرائيل) * كانوا قد أخذوا بني إسرائيل بالكد الشديد فوعدوا موسى عليه السلام على دعائه بكشف العذاب عنهم الإيمان به والتخلية عن بني إسرائيل وإرسالهم معه يذهب بهم أين شاء. وقوله: * (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه) * المعنى أنا ما أزلنا عنهم العذاب مطلقا، وما كشفنا عنهم الرجز في جميع الوقائع، بل إنما أزلنا عنهم العذاب إلى أجل معين، وعند ذلك الأجل لا نزيل عنهم العذاب بل نهلكهم به وقوله: * (إذا هم ينكثون) * هو جواب لما يعني فلما كشفنا عنهم فاجؤا النكث وبادروه ولم يؤخروه كما كشفنا عنهم نكثوا.
* (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) *.
واعلم أن المعنى أنه تعالى، لما كشف عنهم العذاب من قبل مرات وكرات ولم يمتنعوا عن كفرهم وجهلهم، ثم بلغوا الأجل المؤقت انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق، والانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب، واليم البحر، قال صاحب " الكشاف ": اليم البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه، واشتقاقه من التيمم، لأن المستقين به يقصدونه وبين تعالى بقوله: * (بأنهم كذبوا بآياتنا) * أن ذلك الانتقام هو لذلك التكذيب. وقوله: * (وكانوا عنا غافلين) * اختلفوا في الكناية في عنها فقيل أنها عائدة إلى النقمة التي دل عليها قوله: * (انتقمنا) * والمعنى وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين، وقيل الكناية عائدة إلى الآيات وهو اختيار الزجاج. قال: لأنهم كانوا لا يعتبرون بالآيات التي تنزل بهم.
فإن قيل: الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة.
220

قلنا: المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها، فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها.
فإن قيل: أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاصي كثيرة؟ فكيف يكون الانتقام لهذين دون غيرهما.
قلنا: ليس في الآية بيان أنه تعالى انتقم منهم لهذين معا دلالة على نفي ما عداه، والآية تدل على أن الواجب في الآيات النظر فيها، ولذلك ذمهم بأن غفلوا عنها، وذلك يدل على أن التقليد طريق مذموم.
* (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التى باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بنى إسرءيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) *.
اعلم أن موسى عليه السلام كان قد ذكر لبني إسرائيل قوله: * (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض) * (الأعراف: 129) فههنا لما بين تعالى إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة، بين ما فعله بالمؤمنين من الخيرات، وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم فقال: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق
الأرض ومغاربها) * والمراد من ذلك الاستضعاف أنه كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ويأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة، واختلفوا في معنى مشارق الأرض ومغاربها، فبعضهم حمله على مشارق أرض الشام. ومصر ومغاربها، لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون لعنه الله وأيضا قوله: * (التي باركنا فيها) * المراد باركنا فيها بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام.
والقول الثاني: المراد جملة الأرض وذلك لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان قد ملك الأرض، وهذا يدل على أن الأرض ههنا اسم الجنس. وقوله: * (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل) * قيل المراد من * (كلمة ربك) * قوله: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في
221

الأرض) * إلى قوله: * (ما كانوا يحذرون) * (القصص: 6) والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة، ومعنى تمت على بني إسرائيل، مضت عليهم واستمرت، من قولهم تم عليك الأمر إذا مضى عليك. وقيل: معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض، وإنما كان الإنجاز تماما للكلام لأن الوعد بالشيء يبقى كالشئ المعلق. فإذا حصل الموعود به فقد تم لك الوعد وكمل وقوله: * (بما صبروا) * أي إنما حصل ذلك التمام بسبب صبرهم، وحسبك به حاثا على الصبر، ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج، وقرأ عاصم في رواية * (وتمت كلمات ربك الحسنى) * ونظيره * (من آيات ربه الكبرى) * (النجم: 18) وقوله: * (ودمرنا) * قال الليث: الدمار الهلاك التام. يقال: دمر القوم يدمرون دمارا أي هلكوا، وقوله: * (ما كان يصنع فرعون وقومه) * قال ابن عباس يريد الصانع * (وما كانوا يعرشون) * قال الزجاج: يقال عرش يعرش ويعرش إذا بني، قيل: وما كانوا يعرشون من الجنات، ومنه قوله تعالى: * (جنات معروشات) * (الأنعام: 141) وقيل: * (وما كانوا يعرشون) * يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء، كصرح هامان وفرعون. وقرئ يعرشون بالكسر والضم، وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح، قال صاحب " الكشاف ": وبلغني أنه قرأ بعض الناس * (يغرسون) * من غرس الأشجار وما أحسبه إلا تصحيفا منه، وهذا آخر ما ذكره الله تعالى من قصة فرعون وقومه وتكذيبهم بآيات الله تعالى.
* (وجاوزنا ببنى إسرءيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا ياموسى جعل لنآ إلها كما لهم ءالهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أنواع نعمه على بني إسرائيل بأن أهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم أتبع ذلك بالنعمة العظمى، وهي أن جاوز بهم البحر مع السلامة، ولما بين تعالى في سائر السور كيف سيرهم في البحر مع السلامة، وذلك بأن فلق البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا وجعله يبسا بين أن بني إسرائيل لما شاهدوا قوما يعكفون على عبادة أصنامهم، جهلوا وارتدوا وقالوا:
222

لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، ولا شك أن القوم لما شاهدوا المعجزات الباهرة التي أظهرها الله تعالى لموسى على فرعون، ثم شاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده، وخص بني إسرائيل بأنواع السلامة والكرامة ثم إنهم بعد هذه المواقف والمقامات يذكرون هذا الكلام الفاسد الباطل كانوا في نهاية الجهل وغاية الخلاف.
أما قوله تعالى: * (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) * يقال: جاوز الوادي. إذا قطعه وخلفه وراءه وجاوز بغيره، عبر به وقرئ * (جوزنا) * بمعنى: أجزنا. يقال: أجاز المكان وجوزه بمعنى: جازه * (فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) * قال الزجاج: يواظبون عليها ويلازمونها. يقال: لكل من لزم شيئا وواظب عليه، عكف يعكف ويعكف، ومن هذا قيل لملازم المسجد معتكف. وقال قتادة: كان أولئك القوم من لخم، وكانوا نزولا بالريف. قال ابن جريج: كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول بيان قصة العجل.
ثم حكى تعالى عنهم أنهم * (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * واعلم أن من المستحيل أن يقول العاقل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وخالقا ومدبرا، لأن الذي يحصل بجعل موسى وتقديره: لا يمكن أن يكون خالقا للعالم ومدبرا له، ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3).
إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول: لم كان هذا القول كفرا؟ فنقول: أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الأنعام والأكرام.
فإن قيل: فهذا القول صدر من كل بني إسرائيل أو من بعضهم؟
قلنا: بل من بعضهم، لأنه كان مع موسى عليه السلام السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل.
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه أجابهم فقال: * (إنكم قوم تجهلون) * وتقرير هذا الجهل ما ذكر أن العبادة غاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل، وخلق الأشياء المنتفع بها، والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به.
223

فإن قالوا: إذا كان مرادهم بعبادة تلك الأصنام التقرب بها إلى تعظيم الله تعالى، فما الوجه في قبح هذه العبادة؟
قلنا: فعلى هذا التقدير: لم يتخذوها آلهة أصلا وإنما جعلوها كالقبلة، وذلك ينافي قولهم * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * واعلم أن * (ما) * في قوله: * (كما لهم آلهة) * يجوز أن تكون مصدرية أي كما ثبت لهم آلهة، ويجوز أن تكون موصولة، وفي قولهم: * (لهم) * ضمير يعود إليه، و * (آلهة) * بدل من ذلك الضمير
تقديره: كالذي هو لهم آلهة. ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال: * (إن هؤلاء متبر ما هم فيه) * قال الليث: التبار الهلاك. يقال: تبر الشيء يتبر تبارا والتتبير الإهلاك، ومنه قوله تعالى: * (تبرنا تتبيرا) * ويقال للذهب المنكسر المتفتت: التبر فقوله: * (متبر ما هم فيه) * أي مهلك مدمر، وقوله: * (وباطل ما كانوا يعملون) * قيل: البطلان عدم الشيء، إما بعدم ذاته أو بعدم فائدته ومقصوده، والمراد من بطلان عملهم: أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر، وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سببا لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير تلك الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها. فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعالى، تعلق قلبه بغير الله ويصير ذلك التعلق سببا لأعراض القلب عن ذكر الله تعالى؛ وإذا ظهر هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل، وضائع وسعى في تحصيل ضد هذا الشيء ونقيضه، لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ معرفة الله تعالى في القلب، والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفة الله عن القلب، فكان هذا ضدا للغرض ونقيضا للمطلوب والله أعلم.
* (قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين) *.
اعلم أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنهم لما قالوا له: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * فهو عليه السلام ذكر في الجواب وجوها: أولها: أنه حكم عليهم بالجهل فقال: * (إنكم قوم تجهلون) * وثانيها: أنه قال: * (إن هؤلاء متبر ما هم فيه) * أي سبب للخسران والهلاك. وثالثها: أنه قال: * (وباطل ما كانوا يعملون) * أي هذا العمل الشاق لا يفيدهم نفعا في الدنيا والدين. ورابعها: ما ذكره في هذه الآية من التعجب منهم على وجه يوجب الإنكار والتوبيخ فقال: * (أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين) * والمعنى: أن الإله ليس شيئا يطلب ويلتمس ويتخذ، بل الإله هو الله الذي يكون
224

قادرا على الأنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم، وهو المراد من قوله: * (وهو فضلكم على العالمين) * فهذا الموجود هو الإله الذي يجب على الخلق عبادته، فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره. قال الواحدي رحمه الله: يقال: بغيت فلانا شيئا وبغيت له. قال تعالى: * (يبغونكم الفتنة) * (التوبة: 47) أي يبغون لكم، وفي انتصاب قوله: * (إلها) * وجهان: أحدهما: الحال كأنه قيل: أطلب لكم غير الله معبودا، ونصب * (غير) * في هذا الوجه على المفعول به. الثاني: أن ينصب * (إلها) * على المفعول به * (وغير) * على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول: أبغيكم إلها غير الله. وقوله: * (وهو فضلكم على العالمين) * فيه قولان: الأول: المراد أنه تعالى فضلهم على عالمي زمانهم. الثاني: أنه تعالى خصهم بتلك الآيات القاهرة ولم يحصل مثلها لأحد من العالمين، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال، ومثاله: رجل تعلم علما واحدا وآخر تعلم علوما كثيرة سوى ذلك العلم، فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد، إلا أن صاحب العلوم الكثيرة مفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة.
* (وإذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) *.
واعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة، والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه، تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة، فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى. والله أعلم.
* (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لاخيه هارون اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) *.
في الآية مسائل:
225

المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو: * (وعدنا) * بغير ألف، والباقون * (واعدنا) * بالألف على المفاعلة، وقد مر بيان هذه القراءة في سورة البقرة.
المسألة الثانية: اعلم أنه روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر: أن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فهذه الآية في بيان كيفية نزول التوراة، واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة: * (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) * وذكر تفصيل تلك الأربعين في هذه الآية.
فإن قيل: وما الحكمة ههنا في ذكر الثلاثين ثم إتمامها بعشر؟ وأيضا فقوله: * (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) * كلام عار عن الفائدة، لأن كل أحد يعلم أن الثلاثين مع العشر يكون أربعين.
قلنا: أما الجواب عن السؤال الأول فهو من وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى أمر موسى عليه السلام بصوم ثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب.
والوجه الثاني: في فائدة هذا التفضيل أن الله أمره أن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى، ثم أنزلت التوراة عليه في العشر البواقي، وكلمه أيضا فيه. فهذا هو الفائدة في تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة.
والوجه الثالث: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني في سورة طه ما دل على أن موسى عليه السلام بادر إلى ميقات ربه قبل قومه، والدليل عليه قوله تعالى: * (وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري) * فجائز أن يكون موسى أتى الطور عند تمام الثلاثين، فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري، رجع إلى قومه قبل تمام ما وعده الله تعالى، ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى، فتم أربعون ليلة.
والوجه الرابع: قال بعضهم لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه السلام وحده، والوعد الثاني حضر المختارون معه ليسمعوا كلام الله تعالى، فصار الوعد مختلفا لاختلاف حال الحاضرين. والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثاني: أنه تعالى إنما قال: * (أربعين ليلة) * إزالة التوهم أن ذلك العشر من الثلاثين لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين، كأنه كان عشرين، ثم أتمة بعشر، فصار ثلاثين، فأزال هذا الإيهام.
226

أما قوله تعالى: * (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) * ففيه بحثان:
البحث الأول: الفرق بين الميقات وبين الوقت، أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال، والوقت وقت للشيء قدرة مقدر أولا.
والبحث الثاني: قوله: * (أربعين ليلة) * نصب على الحال أي تم بالغا هذا العدد.
وأما قوله: * (وقال موسى لأخيه هارون) * فقوله: * (هارون) * عطف بيان لأخيه وقرئ بالضم على النداء * (اخلفني في قومي) * كن خليفتي فيهم * (وأصلح) * وكن مصلحا أو * (وأصلح) * ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.
فإن قيل: إن هارون كان شريك موسى عليه السلام في النبوة، فكيف جعله خليفة لنفسه، فإن شريك الإنسان أعلى حالا من خليفته ورد الإنسان من المنصب الأعلى إلى الأدون يكون إهانة.
قلنا الأمر وإن كان كما ذكرتم، إلا أنه كان موسى عليه السلام هو الأصل في تلك النبوة.
فإن قيل: لما كان هارون نبيا والنبي لا يفعل إلا الإصلاح، فكيف وصاه بالإصلاح.
قلنا: المقصود من هذا الأمر التأكيد كقوله: * (ولكن ليطمئن قلبي) * (البقرة: 260) والله أعلم.
* (ولما جآء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرنى أنظر إليك قال لن ترانى ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترانى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلمآ أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) *.
اعلم أنه تعالى بين الفائدة التي لأجلها حضر موسى عليه السلام الميقات وهي أن كلمه ربه، وفي الآية مسائل شريفة عالية من العلوم الإلهية.
227

المسألة الأولى: دلت الآية على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى فمنهم من قال: كلامه عبارة عن الحروف المؤلفة المنتظمة، ومنهم من قال: كلامه صفة حقيقة مغايرة للحروف والأصوات. أما القائلون بالقول الأول فالعقلاء المحصلون، انفقوا على أنه يجب كونه حادثا كائنا بعد أن لم يكن. وزعمت الحنابلة والحشوية أن الكلام المركب من الحروف والأصوات قديم، وهذا القول أخس من أن يلتفت العاقل إليه، وذلك أني قلت يوما إنه تعالى إما أن يتكلم بهذه الحروف على الجمع أو على التعاقب والتوالي، والأول: باطل لأن هذه الكلمات المسموعة المفهومة إنما تكون مفهومة إذا كانت حروفها متوالية فأما إذا كان حروفها توجد دفعة واحدة فذاك لا يكون مفيدا البتة، والثاني: يوجب كونها حادثة، لأن الحروف إذا كانت متوالية فعند مجيء الثاني ينقضي الأول، فالأول حادث لأن كل ما ثبت عدمه امتنع قدمه، والثاني حادث، لأن كل ما كان وجوده متأخرا عن وجوده غيره فهو حادث، فثبت أنه بتقدير أن يكون كلام الله تعالى عبارة عن مجرد الحروف والأصوات محدث.
إذا ثبت هذا فنقول للناس ههنا مذهبان: الأول: أن محل تلك الحروف والأصوات الحادثة هو ذات الله تعالى، وهو قول الكرامية. الثاني: أن محلها جسم مباين لذات الله تعالى كالشجرة وغير، وهو قول المعتزلة.
أما القول الثاني: وهو أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات، فهذا قول أكثر أهل السنة والجماعة. وتلك الصفة قديمة أزلية. والقائلون بهذا القول اختلفوا في الشيء الذي سمعه موسى عليه السلام. فقالت الأشعرية: إن موسى عليه السلام سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية قالوا: وكما لا يتعذر رؤية ذاته، مع أن ذاته ليست جسما ولا عرضا، فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه لا يكون حرفا ولا صوتا. وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة، فأما الصفة الأزلية التي ليست بحرف ولا صوت فداك ما سمعه موسى عليه السلام البتة، فهذا تفصيل مذاهب الناس في سماع كلام الله تعالى.
المسألة الثانية: اختلفوا في أنه تعالى كلم موسى وحده أو كلمه مع أقوام آخرين وظاهر الآية يدل على الأول. لأن قوله تعالى: * (وكلمه ربه) * يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يدا على نفي الحكم عما عداه، وقال القاضي: بل السبعون المختارون للميقات سمعوا أيضا كلام الله تعالى. قال: لأن الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى
228

عليه السلام عما يجري هناك، وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكلام وأيضا فإن تكليم الله تعالى موسى عليه السلام على هذا الوجه معجز، وقد تقدمت نبوة موسى عليه السلام لا بد من ظهور هذا المعنى لغيره.
المسألة الثالثة: قال أصحابنا هذه الآية تدل على أنه سبحانه يجوز أن يرى وتقريره من أربعة أوجه. الأول: أن الآية دالة على أن موسى عليه السلام سأل الرؤية، ولا شك أن موسى عليه السلام يكون عارفا بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها، وحيث سألها؛ علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى. قال القاضي: الذي قاله المحصلون من العلماء في ذلك أقوال أربعة: أحدها: ما قاله الحسن وغيره: أن موسى عليه السلام ما عرف أن الرؤية
غير جائزة على الله تعالى، قال ومع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفا بربه وبعدله وتوحيده، فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفا على السمع. وثانيها: أن موسى عليه السلام سأل الرؤية على لسان قومه، فقد كانوا جاهلين بذلك يكررون المسألة عليه يقولون: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * (البقرة: 55) فسأل موسى الرؤية لا لنفسه، فلما ورد المنع ظهر أن ذلك لا سبيل إليه، وهذه طريقة أبي علي وأبي هاشم. وثالثها: أن موسى عليه السلام سأل ربه من عنده معرفة باهرة باضطرار وأهل هذا التأويل مختلفون، فمنهم من يقول سأل ربه المعرفة الضرورية. ومنهم من يقول: بل سأله إظهار الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته، وإن كانت من فعله، كما نقوله في معرفة أهل الآخرة، وهو الذي اختاره أبو القاسم الكعبي. ورابعها: المقصود من هذا السؤال أن يذكر تعالى من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع رؤيته حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي. وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء، وهو الذي ذكره أو بكر الأصم فهذا مجموع أقوال المعتزلة في تأويل هذه الآية. قال أصحابنا أما الوجه الأول، فضعيف ويدل عليه وجوه: الأول: إجماع العقلاء على أن موسى عليه السلام ما كان في العلم بالله أقل منزلة ومرتبة من أراذل المعتزلة، فلما كان كلهم عالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى وفرضنا أن موسى عليه السلام لم يعرف ذلك، كانت معرفته بالله أقل درجة من معرفة كل واحد من أراذل المعتزلة، وذلك باطل بإجماع المسلمين. الثاني: أن المعتزلة يدعون العلم الضروري، بأن كل ما كان مرئيا، فإنه يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل. فإما أن يقال إن موسى عليه السلام حصل له هذا العلم أو لم يحصل له هذا العلم. فإن كان الأول كان تجويزه لكونه تعالى مرئيا، يوجب تجويز كونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة، وتجويز هذا المعنى على الله تعالى يوجب الكفر عند المعتزلة، فيلزمهم كون
229

موسى عليه السلام كافرا، وذلك لا يقوله عاقل. وإن كان الثاني فنقول: لما كان العلم بأن كل مرئي يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل علما بديهيا ضروريا، ثم فرضنا أن هذا العلم ما كان حاصلا لموسى عليه السلام، لزم أن يقال إن موسى عليه السلام لم يحصل فيه جميع العلوم الضرورية، ومن كان كذلك فهو مجنون، فيلزمهم الحكم بأنه عليه السلام، ما كان كامل العقل بل كان مجنونا وذلك كفر بإجماع الأمة، فثبت أن القول بأن موسى عليه السلام، ما كان عالما بامتناع الرؤية مع فرض أنه تعالى ممتنع الرؤية يوجب أحد هذين القسمين الباطلين، فكان القول به باطلا والله أعلم.
وأما التأويل الثاني: وهو أنه عليه السلام إنما سأل الرؤية لقومه لا لنفسه، فهو أيضا فاسد ويدل عليه وجوه: الأول: أنه لو كان الأمر كذلك لقال موسى: أرهم ينظروا إليك، ولقال الله تعالى: لن يروني، فلما لم يكن كذلك، بطل هذا التأويل. والثاني: أنه لو كان هذا السؤال طلبا للمحال، لمنعهم عنه كما أنهم لما قالوا: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * (الأعراف: 138) منعهم عنه بقوله: * (إنكم قوم تجهلون) * (الأعراف: 138) والثالث: أنه كان يجب على موسى إقامة الدلائل القاطعة على أنه تعالى لا تجوز رؤيته، وأن يمنع قومه بتلك الدلائل عن هذا السؤال، فأما أن لا يذكر شيئا من تلك الدلائل البتة، مع أن ذكرها كان فرضا مضيقا، كان هذا نسبة لترك الواجب إلى موسى عليه السلام، وأنه لا يجوز. والرابع: أن أولئك الأقوام الذين طلبوا الرؤية، إما أن يكونوا قد آمنوا بنبوة موسى عليه السلام. أو ما آمنوا بها، فإن كان الأول كفاهم في الامتناع عن ذلك السؤال الباطل، مجرد قول موسى عليه السلام، فلا حاجة إلى هذا السؤال الذي ذكره موسى عليه السلام، وإن كان الثاني لم ينتفعوا بهذا الجواب لأنهم يقولون له لا نسلم أن الله منع من الرؤية، بل هذا قول افتريته على الله تعالى، فثبت أن على كلا التقديرين لا فائدة للقوم في قول موسى عليه السلام * (أرني أنظر إليك) *.
وأما التأويل الثالث: فبعيد أيضا ويدل عليه وجوه: الأول: أن على هذا التقدير يكون معنى الآية أرني أمرا أنظر إلى أمرك، ثم حذف المفعول والمضاف، إلا أن سياق الآية يدل على بطلان هذا، وهو قوله: * (أنظر إليك قال لن تراني) * (الأعراف: 143) فسوف تراني * (فلما تجلى ربه للجبل) * ولا يجوز أن يحمل جميع هذا على حذف المضاف. الثاني: أنه تعالى أراه من الآية ما لا غاية بعدها كالعصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وإظلال الجبل، فكيف يمكن بعد هذه الأحوال طلب آية ظاهرة قاهرة. والثالث: أنه عليه السلام كان يتكلم مع الله بلا واسطة. ففي هذه الحالة كيف يليق به أن يقول: أظهر لي آية قاهرة ظاهرة تدل على أنك موجود؟ ومعلوم أن هذا الكلام في غاية الفساد. الرابع: أنه لو كان المطلوب آية تدل على وجوده، لأعطاه تلك الآية كما أعطاه سائر الآيات
230

ولكان لا معنى لمنعه عن ذلك، فثبت أن هذا القول فاسد. وأما التأويل الرابع وهو أن يقال: المقصود منه إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه، فهو أيضا بعيد، لأنه لو كان المراد ذلك، لكان الواجب أن يقول: أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل، وحيث لم يقل ذلك بل طلب الرؤية. علمنا أن هذه التأويلات بأسرها فاسدة.
الحجة الثانية: من الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على أنه تعالى جائز الرؤية وذلك لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أرى ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر فقال له إنسان ناولني هذا لآكله، فإنه يقول له هذا لا يؤكل، ولا يقول له لا تأكل. ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة، لقال له: لا تأكلها أي هذا مما يؤكل، ولكنك لا تأكله. فلما قال تعالى: * (لن تراني) * ولم يقل لا أرى، علمنا أن هذا يدل على أنه تعالى في ذاته جائز الرؤية.
الحجة الثالثة: من الوجوه المستنبطة من هذه الآية، أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز، والمعلق على الجائز جائز، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة. إنما قلنا: إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز، لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل، بدليل قوله تعالى: * (فإن استقر مكانه فسوف تراني) * واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه. فثبت أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز الوجود في نفسه.
إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها، لأنه لما كان ذلك الشرط أمرا جائز الوجود، لم يلزم من فرض وقوعه محال، فبتقدير حصول ذلك الشرط، إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب، فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول، وإن لم يترتب عليه حصول
الرؤية قدح هذا في صحة قوله، إنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية، وذلك باطل.
فإن قيل: إنه تعالى علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته، واستقرار الجبل حال حركته محال. فثبت أن حصول الرؤية معلق على شرط ممتنع الحصول، لا على شرط جائز الحصول، فلم يلزم صحة ما قلتموه؟ والدليل على أن الشرط هو استقرار الجبل حال حركته أن الجبل إما أن يقال: إنه حال ما جعل استقراره شرطا لحصول الرؤية كان ساكنا أو متحركا، فإن كان الأول، لزم حصول الرؤية بمقتضى الاشتراط، وحيث لم تحصل علمنا أن الجبل في ذلك الوقت ما كان مستقرا، ولما لم يكن مستقرا كان متحركا. فثبت أن الجبل حال ما جعل استقراره شرطا لحصول الرؤية، كان متحركا لا ساكنا. فثبت أن الشرط هو كون الجبل مستقرا حال كونه ساكنا
231

فثبت أن الشرط الذي علق الله تعالى على حصوله حصول الرؤية، هو كون الجبل مستقرا حال كونه متحركا، وأنه شرط محال.
والجواب: هو أن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن، وكونه ممتنع الخلو عن الحركة والسكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجودا كان واجب الوجود، ولو أخذته بشرط كونه معدوما كان واجب العدم، فلو أخذته من حيث هو هو قطع النظر عن كونه موجودا أو كونه معدوما كان ممكن الوجود. فكذا ههنا الذي جعل شرطا في اللفظ هو استقرار الجبل، وهذا القدر ممكن الوجود فثبت أن القدر الذي جعل شرطا أمر ممكن الوجود جائز الحصول، وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه. والله أعلم.
الحجة الرابعة: من الوجوه المستنبطة من هذه الآية في إثبات جواز الرؤية قوله تعالى: * (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) * وهذا التجلي هو الرؤية، ويدل عليه وجهان: الأول: إن العلم بالشيء يجلي لذلك الشيء، وأبصار الشيء أيضا يجلي لذلك الشيء. إلا أن الأبصار في كونه مجليا أكمل من العلم به وحمل اللفظ على المفهوم الأكمل أولى. الثاني: أن المقصود من ذكر هذه الآية تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى بدليل أن الجبل مع عظمته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه ولولا أن المراد من التجلي ما ذكرناه وإلا لم يحصل هذا المقصود. فثبت أن قوله تعالى: * (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) * هو أن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية أقصى ما في الباب أن يقال: الجبل جماد والجماد يمتنع أن يرى شيئا، إلا أنا نقول: لا يمتنع أن يقال: إنه تعالى خلق في ذات الجبل الحياة والعقل والفهم، ثم خلق فيه رؤية متعلقة بذات الله تعالى، والدليل عليه أنه تعالى قال: * (يا جبال أوبي معه والطير) * (سبأ: 10) وكونه مخاطبا بهذا الخطاب مشروط بحصول الحياة والعقل فيه فكذا ههنا، فثبت بهذه الوجوه الأربعة دلالة هذه الآية على أنه تعالى جائز الرؤية. أمنا المعتزلة فقالوا: إنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية أنه تعالى تمتنع رؤيته فوجب صرف هذه الظواهر إلى التأويلات. أما دلائلهم العقلية فقد بينا في الكتب العقلية ضعفها وسقوطها، فلا حاجة هنا إلى ذكرها. وأما دلائلهم السمعية فأقوى ما لهم في هذا الباب التمسك بقوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار) * (الأنعام: 103) قد سبق في سورة الأنعام ما في هذه الآية من المباحث الدقيقة واللطائف العميقة. واعلم أن القوم تمسكوا بهذه الآية على عدم الرؤية من وجوه: الأول: التمسك بقوله تعالى: * (لن تراني) * وتقرير الاستدلال أن يقال: إن هذه الآية تدل على أن موسى عليه السلام لا يرى الله البتة لا في الدنيا ولا في القيامة، ومتى ثبت هذا ثبت أن أحدا لا يراه البتة
232

ومتى ثبت هذا ثبت أنه تعالى يمتنع أن يرى، فهذه مقدمات ثلاثة.
أما المقدمة الأولى: فتقريرها من وجوه: الأول: ما نقل عن أهل اللغة أن كلمة " لن " للتأبيد. قال الواحدي رحمه الله: هذه دعوى باطلة على أهل اللغة، وليس يشهد بصحته كتاب معتبر، ولا نقل صحيح. وقال أصحابنا: الدليل على فساده قوله تعالى في صفة اليهود * (ولن يتمنوه أبدا) * (البقرة: 95) مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة. والثاني: أن قوله: * (لن تراني) * يتناول الأوقات كلها بدليل صحة استثناء أي وقت أريد من هذه الكلمة، ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ وهذا أيضا ضعيف، لأن تأثير الاستثناء في صرف الصحة لا في صرف الوجوب على ما هو مقرر في أصول الفقه. الثالث: أن قوله لن أفعل كذا، يفيد تأكيد النفي، ومعناه أن فعله ينافي حالته كقوله تعالى: * (لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) * (الحج: 73) وهذا يدل على أن الرؤية منافية للإلهية، والجواب: أن * (لن) * لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه، والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال. فكان قوله: * (لن تراني) * نفيا لذلك المطلوب، فأما أن يفيد النفي الدائم فلا. فهذه جملة الكلام في تقرير هذه المسألة.
أما المقدمة الثانية: فقالوا: القائل اثنان: قائل يقول: إن المؤمنين يرون الله وموسى أيضا يراه، وقائل ينفي الرؤية عن الكل، أما القول بإثباته لغير موسى ونفيه عن موسى فهو قول خارق للإجماع وهو باطل.
وأما المقدمة الثالثة: فهي أن كل من نفي الوقوع نفي الصحة، فالقول بثبوت الصحة مع نفي الوقوع قول على خلاف الإجماع وهو باطل. واعلم أن بناء هذه الدلالة على صحة المقدمة الأولى، فلما ثبت ضعفها سقط هذا الاستدلال بالكلية.
الحجة الثانية للقوم: أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه خر صعقا، ولو كانت الرؤية جائزة. فلم خر عند سؤالها صعقا؟
والحجة الثالثة: أنه عليه السلام لما أفاق قال سبحانك، وهذه الكلمة للتنزيه، فوجب أن يكون المراد منه تنزيه الله تعالى عما تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره هو رؤية الله تعالى، فكان قوله: * (سبحانك) * تنزيها له عن الرؤية. فثبت بهذا أن نفي الرؤية تنزيه الله تعالى. وتنزيه الله إنما يكون عن النقائص والآفات، فوجب كون الرؤية من النقائص والآفات، وذلك على الله محال. فثبت أن الرؤية على الله ممتنعة.
والحجة الرابعة: قوله تعالى حكاية عن موسى لما أفاق أنه قال: * (تبت إليك) * ولولا أن طلب الرؤية ذنب لما تاب منه، ولولا أنه ذنب ينافي صحة الإسلام لما قال: * (وأنا أول المؤمنين) *.
233

واعلم أن أصحابنا قالوا: الرؤية كانت جائزة، إلا أنه عليه السلام سألها بغير الإذن وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فكانت التوبة توبة عن هذا المعنى لا عما ذكروه، فهذا جملة الكلام في هذه الآية. والله أعلم بالصواب.
المسألة الرابعة: في البحث عن هذه الآية. نقل عن ابن عباس أنه قال: جاء موسى عليه السلام ومعه السبعون وصعد موسى الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل، وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتابا وقربه نجيا، فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه، فقال: * (رب أرني أنظر إليك) * قال صاحب " الكشاف ": ثاني مفعولي * (أرني) * محذوف، أي * (أرني) * نفسك * (أنظر إليك) * وفي لفظ الآية سؤالات:
السؤال الأول: النظر: إما أن يكون عبارة عن الرؤية أو عن مقدمتها وهي تقليب الحدقة السليمة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته، وعلى التقدير الأول: يكون المعنى أرني حتى أراك، وهذا فاسد، وعلى التقدير الثاني: يكون المعنى أرني حتى أقلب الحدقة إلى جانبك وهذا فاسد لوجهين: أحدهما: أنه يقتضي إثبات الجهة لله تعالى. والثاني: أن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية فجعله كالنتيجة عن الرؤية وذلك فاسد.
والجواب: أن قوله: * (أرني) * معناه اجعلني متمكنا من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك.
السؤال الثاني: كيف قال: * (لن تراني) * ولم يقل لن تنظر إلي، حتى يكون مطابقا لقوله: * (أنظر إليك) *.
والجواب: أن النظر لما كان مقدمة للرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه.
والسؤال الثالث: كيف اتصل الاستدراك في قوله: * (ولكن انظر إلى الجبل) * بما قبله؟
والجواب: المقصود منه تعظيم أمر الرؤية وأن أحدا لا يقوى على رؤية الله تعالى إلا إذا قواه الله تعالى بمعونته وتأييده، ألا ترى أنه لما ظهر أثر التجلي والرؤية للجبل اندك وتفرق، فهذا من هذا الوجه يدل على تعظيم أمر الرؤية.
أما قوله: * (فلما تجلى ربه للجبل) * فقال الزجاج: * (تجلى) * أي ظهر وبان، ومنه يقال جلوت العروس إذا أبرزتها، وجلوت المرآة والسيف إذا أزلت ما عليهما من الصدأ، وقوله: * (جعله دكا) * قال الزجاج: يجوز * (دكا) * بالتنوين و * (دكاء) * بغير تنوين أي جعله مدقوقا مع الأرض يقال: دككت الشيء إذا دققته أدكه دكا، والدكاء والدكاوات: الروابي التي تكون مع الأرض ناشزة. فعلى هذا، الدك مصدر، والدكاء اسم. ثم روى الواحدي بإسناده عن الأخفش في قوله: * (جعله دكا) * أنه قال: دكه دكا مصدر مؤكد، ويجوز جعله ذا دك. قال ومن قرأ * (دكاء) * ممدودا أراد جعله دكاء أي أرضا مرتفعة، وهو
234

موافق لما روي عن ابن عباس أنه قال: جعله ترابا. وقوله: * (وخر موسى صعقا) * قال الليث: الصعق مثل الغشي يأخذ الإنسان، والصعقة الغشية. يقال: صعق الرجل وصعق، فمن قال صعق فهو صعق. ومن قال صعق فهو مصعوق. ويقال أيضا: صعق إذا مات، ومنه قوله تعالى: * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض) * (الزمر: 68) فسروه بالموت. ومنه قوله: * (يومهم الذي فيه يصعقون) * أي يموتون. قال صاحب " الكشاف ": صعق أصله من الصاعقة، ويقال لها: الصاقعة من صقعه إذا ضربه على رأسه.
إذا عرفت هذا فنقول: فسر ابن عباس قوله تعالى: * (وخر موسى صعقا) * بالغشي، وفسره قتادة بالموت، والأول أقوى، لقوله تعالى: * (فلما أفاق) * قال الزجاج: ولا يكاد يقال للميت: قد أفاق من موته، ولكن يقال للذي يغشى عليه: أنه أفاق من غشيه، لأن الله تعالى قال في الذين ماتوا: * (ثم بعثناكم من بعد موتكم) * (البقرة: 56).
أما قوله: * (قال سبحانك) * أي تنزيها لك عن أن يسألك غيرك شيئا بغير إذنك، * (تبت إليك) * وفيه وجهان: الأول: * (تبت إليك) * من سؤال الرؤية في الدنيا. الثاني: * (تبت إليك) * من سؤال الرؤية بغير إذنك * (وأنا أول المؤمنين) * بأنك لا ترى في الدنيا، أو يقال: * (وأنا أول المؤمنين) * بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك.
* (قال يا موسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ مآ ءاتيتك وكن من الشاكرين) *.
اعلم أن موسى عليه السلام لما طلب الرؤية ومنعه الله منها، عدد الله عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه، وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية، وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها. والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية، وهذا أيضا أحد ما يدل على أن الرؤيا جائزة على الله تعالى، إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة.
235

واعلم أن الاصطفاء استخلاص الصفوة فقوله: * (اصطفيتك) * أي اتخذتك صفوة على الناس قال ابن عباس: يريد فضلتك على الناس، ولما ذكر أنه تعالى اصطفاه ذكر الأمر الذي به حصل هذا الاصطفاء فقال: * (برسالاتي وبكلامي) * قرأ ابن كثير ونافع * (برسالتي) * على الواحد والباقون * (برسالاتي) * على الجمع، وذلك أنه تعالى أوحى إليه مرة بعد أخرى، ومن قرأ * (برسالتي) * فلأن الرسالة تجري مجرى المصدر، فيجوز إفرادها في موضع الجمع، وإنما قال: * (اصطفيتك على الناس) * ولم يقل على الخلق، لأن الملائكة قد تسمع كلام الله من غير واسطة كما سمعه موسى عليه السلام.
فإن قيل: كيف اصطفاه على الناس برسالاته مع أن كثيرا من الناس قد ساواه في الرسالة؟
قلنا: إنه تعالى بين أنه خصه من دون الناس بمجموع الأمرين، وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة، وهذا المجموع، ما حصل لغيره، فثبت أنه إنما حصل التخصيص ههنا لأنه سمع ذلك الكلام بغير واسطة، وإنما كان الكلام بغير واسطة سببا لمزيد الشرف بناء على العرف الظاهر، لأن من سمع كلام الملك العظيم من فلق فيه كان أعلى حالا وأشرف مرتبة ممن سمعه بواسطة الحجاب والنواب، ولما ذكر هذين النوعين من النعمة العظيمة. قال: * (فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) * يعني فخذ هذه النعمة، ولا يضيق قلبك بسبب منعك الرؤية، واشتغل بشكر الفوز بهذه النعمة والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علما وعملا. والله أعلم.
* (وكتبنا له فى الالواح من كل شىء موعظة وتفصيلا لكل شىء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أنه خص موسى عليه السلام بالرسالة ذكر في هذه الآية تفصيل تلك الرسالة فقال: * (وكتبنا له في الألواح) * نقل صاحب " الكشاف " عن بعضهم: أن موسى خر صعقا يوم عرفة. وأعطاه الله تعالى التوراة يوم النحر، وذكروا في عدد الألواح، وفي جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح. وقيل: سبعة. وقيل إنها كانت من زمردة جاء بها جبريل عليه السلام. وقيل من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء. وقال الحسن: كانت من خشب نزلت من السماء. وقال وهب: كانت من صخرة صماء لينها الله لموسى عليه السلام، وأما كيفية الكتابة. فقال ابن جريج كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور.
236

واعلم أنه ليس في لفظ الآية ما يدل على كيفية تلك الألواح، وعلى كيفية تلك الكتابة، فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قوي، وجب القول به وإلا وجب السكوت عنه.
وأما قوله: من كل شيء) * فلا شبهة فيه أنه ليس على العموم، بل المراد من كل ما يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والمقابح.
وأما قوله: * (موعظة وتفصيلا لكل شيء) * فهو كالبيان للجملة التي قدمها بقوله: * (من كل شيء) * وذلك لأنه تعالى قسمه إلى ضربين: أحدهما: * (موعظة) * والأخر * (تفصيلا) * لما يجب أن يعلم من الأحكام، فيدخل في الموعظة كل ما ذكره الله تعالى من الأمور التي توجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية، وذلك بذكر الوعد والوعيد، ولما قرر ذلك أولا أتبعه بشرح أقسام الأحكام وتفصيل الحلال والحرام، فقال: * (وتفصيلا لكل شيء) * ولما شرح ذلك، قال لموسى: * (فخذها بقوة) * أي بعزيمة قوية ونية صادقة، ثم أمره الله تعالى أن يأمر قومه بأن يأخذوا بأحسنها، وظاهر ذلك أن بين التكليفين فرقا، ليكون في هذا التفصيل فائدة، ولذلك قال بعض المفسرين: إن التكليف كان على موسى عليه السلام أشد، لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره، وقال بعضهم: بل خصه من حيث كلفه البلاغ والأداء. وإن كان مشاركا لقومه فيما عداه، وفي قوله: * (وامر قومك يأخذوا بأحسنها) *.
سؤال: وهو أنه تعالى لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأمورا به، وظاهر قوله * (يأخذوا بأحسنها) * يقتضي أن فيه ما لبس بأحسن، وإنه لا يجوز لهم الأخذ به، وذلك متناقض وذكر العلماء في الجواب عنه وجوها: الأول: أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن، كالقصاص، والعفو، والانتصار، والصبر، أي فمرهم أن يحملوا أنفسهم على الأخذ بما هو أدخل في الحسن، وأكثر للثواب كقوله: * (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم) * (الزمر: 55) وقوله: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * (الزمر: 18).
فإن قالوا: فلما أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن، فقد منع من الأخذ بذلك الحسن، وذلك يقدح في كونه حسنا فنقول يحمل أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن على الندب حتى يزول هذا التناقض.
الوجه الثاني: في الجواب قال قطرب * (يأخذوا بأحسنها) * أي بحسنها وكلها حسن لقوله تعالى: * (ولذكر الله أكبر) * (العنكبوت: 45) وقول الفرزدق: بيتا دعائمه أعز وأطول (c)
الوجه الثالث: قال بعضهم: الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، وأحسن هذه الثلاثة الواجبات والمندوبات.
237

وأما قوله: * (سأريكم دار الفاسقين) * ففيه وجهان: الأول: أن المراد التهديد والوعيد على مخالفة أمر الله تعالى، وعلى هذا التقدير: فيه وجهان: الأول: قال ابن عباس والحسن ومجاهد دار الفاسقين هي جهنم، أي فليكن ذكر جهنم حاضرا في خاطركم لتحذروا أن تكونوا منهم. والثاني: قال قتادة: سأدخلكم الشام وأريكم منازل الكافرين الذين كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها وما صاروا إليه من النكال. وقال الكلبي: * (دار الفاسقين) * هي المساكن التي كانوا يمرون عليها إذا سافروا، من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله تعالى.
والقول الثاني: أن المراد الوعد والبشارة بأنه تعالى سيورثهم أرض أعدائهم وديارهم. والله أعلم
238