الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٥
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (يا أيها الناس كلوا مما فى الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بالسوء والفحشآء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين التوحيد ودلائله، وما للموحدين من الثواب وأتبعه بذكر الشرك ومن يتخذ من دون الله أندادا، ويتبع رؤساء الكفر أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وإحسانه إليهم وأن معصية من عصاه وكفر من كفر به لم تؤثر في قطع إحسانه ونعمه عنهم، فقال: * (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: نزلت الآية في الذين حرموا على أنفسهم السوائب، الوصائل والبحائر وهم قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج. المسألة الثانية: الحلال المباح الذي انحلت عقدة الخطر عنه وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد ومنه: حل بالمكان إذا نزل به، لأنه حل شد الارتحال للنزول وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بإنقضاء المدة، وحل من إحرامه، لأنه حل عقدة الإحرام، وحلت عليه العقوبة، أي وجبت لانحلال العقدة بالمانعة من العذاب والحلة الإزار والرداء، لأنه يحل عن الطي للبس، ومن هذا تحلة اليمين، لأنه عقدة اليمين تنحل به، واعلم أن الحرام قد يكون حراما لخبثه كالميتة والدم والخمر، وقد يكون حراما لا لخبثه، كملك الغير إذا لم يأذن في أكله فالحلال هو الخالي عن القيدين.
2

المسألة الثالثة: قوله (حلالا طيبا) إن شئت نصبته على الحال مما في الأرض وإن شئت فصبته على أنه مفعول.
المسألة الرابعة: الطيب في اللغة قد يكون بمعنى الطاهر والحلال يوصف بأنه طيب، لأن الحرام يوصف بأنه خبيث قال تعالى: * (قل لا يستوي الخبيث والطيب) * (المائدة: 100) والطيب في الأصل هو ما يستلذ به ويستطاب ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه، لأن النجس تكرهه النفس فلا تستلذه والحرام غير مستلذ، لأن الشرع يزجر عنه وفي المراد بالطيب في الآية وجهان الأول: أنه المستلذ لأنا لو حملناه على الحلال لزم التكرار فعلى هذا إنما يكون طيبا إذا كان من جنس ما يشتهي لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه عاد حراما وإن كان يبعد أن يقع ذلك من العاقل إلا عند شبهة والثاني: المراد منه المباح وقوله يلزم التكرار قلنا: لا نسلم فإن قوله: * (حلالا) * المراد منه ما يكون جنسه حلالا وقوله * (طيبا) * المراد منه لا يكون متعلقا به حق الغير فإن أكل الحرام وإن استطابه الآكل فمن حيث يفضي إلى العقاب يصير مضرة ولا يكون مستطابا، كما قال تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (النساء: 10).
أما قوله تعالى: * (لا تتبعوا خطوات الشيطان) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر والكسائي، وهي إحدى الروايتين عن ابن كثير وحفص عن عاصم * (خطوات) * بضم الخاء والطاء والباقون بسكون الطاء، أما من ضم العين فلأن الواحدة خطوة فإذا جمعت حركت العين للجمع، كما فعل بالأسماء التي على هذا الوزن نحو غرفة وغرفات، وتحريك العين للجمع كما فعل في نحو هذا الجمع للفصل بين الاسم والصفة، وذلك أن ما كان اسما جمعته بتحريك العين نحو تمرة وتمرات وغرفة وغرفات وشهوة وشهوات، وما كان نعتا جمع بسكون العين نحو ضخمة وضخمات وعبلة وعبلات، والخطوة من الأسماء لا من الصفات فيجمع بتحريك العين، وأما من خفف العين فبقاه على الأصل وطلب الخفة.
المسألة الثانية: قال ابن السكيت فيما رواه عنه الجبائي الخطوة والخطوة بمعنى واحد وحكى عن الفراء: خطوت خطوة والخطوة ما بين القدمين كما يقال: حثوت حثوة، والحثوة اسم لما تحثيت، وكذلك غرفت غرفة والغرفة اسم لما اغترفت، وإذا كان كذلك فالخطوة المكان المتخطى كما أن الغرفة هي الشيء المغترف بالكف فيكون المعنى: لا تتبعوا سبيله ولا تسلكوا طريقه لأن الخطوة اسم مكان، وهذا قول الزجاج وابن قتيبة فإنهما قالا: خطوات الشيطان طرفه وإن جعلت الخطوة بمعنى الخطوة كما ذكره الجبائي فالتقدير: لا تأتموا به ولا تقفوا أثره
3

والمعنيان متقاربان وإن اختلف التقديران هذا ما يتعلق باللغة، وأما المعنى فليس مراد الله ههنا ما يتعلق باللغة بل كأنه قيل لمن أبيح له الأكل على الوصف المذكور احذر أن تتعداه إلى ما يدعوك إليه الشيطان وزجر المكلف بهذا الكلام عن تخطي الحلال إلى الشبه كما زجره عن تخطيه إلى الحرام لأن الشيطان إنما يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة فيزين بذلك ما لا يحل له فزجر الله تعالى عن ذلك، ثم بين العلة في هذا التحذير، وهو كونه عدوا مبينا أي متظاهر بالعداوة، وذلك لأن الشيطان التزم أمورا سبعة في العداوة أربعة منها في قوله تعالى: * (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * (النساء: 119) وثلاثة منها في قوله تعالى: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) * (الأعراف: 16 - 17) فلما التزم الشيطان هذه الأمور كان عدوا متظاهرا بالعداوة فلهذا وصفه الله تعالى بذلك.
وأما قوله تعالى: * (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * فهذا كالتفصيل لجملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثة أولها: السوء، وهو متناول جميع المعاصي سواء كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح أو من أفعال القلوب وثانيها: الفحشاء وهي نوع من السوء، لأنها أقبح أنواعه، وهو الذي يستعظم ويستفحش من المعاصي وثالثها: * (أن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * وكأنه أقبح أنواع الفحشاء، لأنه وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فصارت هذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى: * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) * فيدخل في الآية أن الشيطان يدعو إلى الصغائر والكبائر والكفر والجهل بالله، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن أمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي نجدها من أنفسنا، وقد اختلفت الناس في هذه الخواطر من وجوه أحدها: اختلفوا في ماهياتها فقال بعضهم إنها حروف وأصوات خفية، وقال الفلاسفة: إنها تصورات الحروف والأصوات وتخيلاتها على مثال الصور المنطبعة في المرايا، فإن تلك الصور تشبه تلك الأشياء من بعض الوجوه، وإن لم تكن مشابهة لها في كل الوجوه.
ولقائل أن يقول: صور هذه الحروف وتخيلاتها هل تشبه هذه الحروف في كونها حروفا أولا تشبهها؟ فإن كان الأول فصور الحروف حروف، فعاد القول إلى أن هذه
الخواطر أصوات وحروف خفية، وإن كان الثاني لم تكن تصورات هذه الحروف حروفا، لكني أجد من نفسي هذه الحروف والأصوات مترتبة منتظمة على حسب انتظامها في الخارج، والعربي لا يتكلم في
4

قلبه إلا بالعربية، وكذا العجمي، وتصورات هذه الحروف وتعاقبها وتواليها لا يكون إلا على مطابقة تعاقبها وتواليها في الخارج، فثبت أنها في أنفسها حروف وأصوات خفية وثانيها: أن فاعل هذه الخواطر من هو؟ أما على أصلنا وهو أن خالف الحوادث بأسرها هو الله تعالى، فالأمر ظاهر وأما على أصل المعتزلة فهم لا يقولون بذلك، وأيضا فلأن المتكلم عندهم من فعل الكلام فلو كان فاعل هذه الخواطر هو الله تعالى، وفيها ما يكون كذبا وسخفا، لزم كون الله موصوفا بذلك تعالى الله عنه، ولا يمكن أن يقال: إن فاعلها هو العبد، لأن العبد قد يكره حصول تلك الخواطر، ويحتال في دفعها عن نفسه مع أنها البتة لا تندفع، بل ينجر البعض إلى البعض على سبيل الاتصال، فإذن لا بد ههنا من شيء آخر، وهو إما الملك وإما الشيطان، فلعلهما يتكلمان بهذا الكلام في أقصى الدماغ، وفي أقصى القلب، حتى إن الإنسان وإن كان في غاية الصمم، فإنه يسمع هذه الحروف والأصوات ثم إن قلنا بأن الشيطان والملك ذوات قائمة بأنفسها، غير متحيزة البتة، لم يبعد كونها قادرة على مثل هذه الأفعال، وإن قلنا بأنها أجسام لطيفة لم يبعد أيضا أن يقال: إنها وإن كانت لا تتولج بواطن البشر إلا أنهم يقدرون على إيصال هذا الكلام إلى بواطن البشر، ولا بعد أيضا أن يقال إنها لغاية لطافتها تقدر على النفوذ في مضايق باطن البشر ومخارق جسمه وتوصل الكلام إلى أقصى قلبه ودماغه، ثم إنها مع لطافتها تكون مستحكمة التركيب، بحيث يكون اتصال بعض أجزائه بالبعض اتصالا لا ينفصل، فلا جرم لا يقتضي نفوذها في هذه المضايق والمخارق انفصالها وتفرق أجزائها وكل هذه الاحتمالات مما لا دليل على فسادها والأمر في معرفة حقائقها عند الله تعالى، ومما يدل على إثبات إلهام الملائكة بالخير قوله تعالى: * (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا) * (الأنفال: 12) أي ألهموهم الثبات وشجعوهم على أعدائهم، ويدل عليه من الأخبار قوله عليه الصلاة والسلام " إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة " وفي الحديث أيضا " إذا ولد المولود لبني آدم قرن إبليس به شيطانا وقرن الله به ملكا، فالشيطان جاثم على أذن قلبه الأيسر، والملك جاثم على أذن قلبه الأيمن فهما يدعوانه " ومن صوفية والفلاسفة من فسر الملك الداعي إلى الخير بالقوة العقلية، وفسر الشيطان الداعي إلى الشر بالقوة والشهوانية والغضبية.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح لأنه تعالى ذكره بكلمة * (إنما) * وهي للحصر، وقال بعض العارفين: إن الشيطان قد يدعو إلى الخير لكن لغرض أن يجره منه إلى الشر وذلك يدل على أنواع: إما أن يجره من الأفضل إلى الفاضل ليتمكن من أن يخرجه من الفاضل إلى الشر، وإما أن يجره من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الأشق ليصير ازدياد المشقة سببا
5

لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * يتناول جميع المذاهب الفاسدة بل يتناول مقلد الحق لأنه وإن كان مقلدا للحق لكنه قال ما لا يعلمه فصار مستحقا للذم لاندراجه تحت الذم في هذه الآية.
المسألة الرابعة: تمسك نفاة القياس بقوله: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * والجواب عنه: أنه متى قامت الدلالة على أن العمل بالقياس واجب كان العمل بالقياس قولا على الله بما يعلم لا بما لا يعلم.
* (وإذا قيل لهم تبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه ءابآءنآ أو لو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) *.
اعلم أنهم اختلفوا في الضمير في قوله: * (لهم) * على ثلاثة أقوال أحدها: أنه عائد على * (من) * في قوله: * (من يتخذ من دون الله أندادا) * (البقرة: 165) وهم مشركو العرب، وقد سبق ذكرهم وثانيها: يعود على * (الناس) * في قوله: * (يا أيها الناس) * (البقرة: 21) فعدل عن المخاطبة إلى المغايبة على طريق الالتفات مبالغة في بيان ضلالهم، كأنه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون وثالثها: قال ابن عباس: نزلت في اليهود، وذلك حين دعاهم رسول الله إلى الإسلام، فقالوا: نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا خير منا، وأعلم منا، فعلى هذا الآية مستأنفة، والكناية في * (لهم) * تعود إلى غير مذكور، إلا أن الضمير قد يعود على المعلوم، كما يعود على المذكور، ثم حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا: * (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الكسائي يدغم لام * (هل) * و * (بل) * في ثمانية أحرف: التاء كقوله * (بل تؤثرون) * (الأعلى: 16) والنون * (بل نتبع) * والثاء * (هل ثوب) * (المصطفين: 36) والسين * (بل سولت) * (يوسف: 18) والزاي * (بل زين) * (الرعدة: 33) والضاد * (بل ضلوا) * (الأحقاف: 28) والظاء * (بل ظننتم) * والطاء * (بل طبع) * (النساء: 155) وأكثر القراء على الإظهار، ومنهم من يوافقه في البعض، والإظهار هو الأصل.
6

المسألة الثانية: * (ألفينا) * بمعنى وجدنا، بدليل قوله تعالى في آية أخرى * (بل نتبع ما وجدنا عليه
آباءنا) * (لقمان: 21) ويدل عليه أيضا قوله تعالى: * (وألفيا سيدها لدى الباب) * (يوسف: 25) وقوله: * (إنهم ألفوا آباءهم ضالين) * (الصافات: 69).
المسألة الثالثة: معنى الآية: أن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة فهم قالوا لا نتبع ذلك، وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا، فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد، وأجاب الله تعالى عنهم بقوله: * (أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الواو في * (أو لو) * واو العطف، دخلت عليها همزة الاستفهام المنقولة إلى معنى التوبيخ والتقريع، وإنما جعلت همزة الاستفهام للتوبيخ، لأنها تقتضي الإقرار بشيء يكون الإقرار به فضيحة، كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه.
الثانية: تقرير هذا الجواب من وجوه أحدها: أن يقال للمقلد: هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقا أم لا؟ فإن اعترفت بذلك لم نعلم جواز تقليده
إلا بعد أن تعرف كونه محقا، فكيف عرفت أنه محق؟ وإن عرفته بتقليد آخر لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل فذاك كاف، فلا حاجة إلى التقليد، وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقا، فإذن قد جوزت تقليده، وإن كان مبطلا فإذن أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل وثانيها: هب أن ذلك المتقدم كان عالما بهذا الشيء إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالما بذلك الشيء قط وما اختار فيه البتة مذهبا، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه كان لا بد من العدول إلى النظر فكذا ههنا وثالثها: أنك إذا قلدت من قبلك، فذلك المتقدم كيف عرفته؟ أعرفته بتقليد أم لا بتقليد؟ فإن عرفته بتقليد لزم إما الدور وإما التسلسل، وإن عرفته لا بتقليد بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد، لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل، مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد كنت مخالفا له، فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلا.
المسألة الثالثة: إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان، تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان، وبين متابع التقليد، وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والاستدلال، وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.
المسألة الرابعة: قوله: * (لا يعقلون شيئا) * لفظ عام، ومعناه الخصوص، لأنهم كانوا يعقلون كثيرا من أمور الدنيا، فهذا يدل على جواز ذكر العام مع أن المراد به الخاص.
المسألة الخامسة: قوله: * (لا يعقلون شيئا) * المراد أنهم لا يعلمون شيئا من الدين وقوله تعالى:
7

* (ولا يهتدون) * المراد أنهم لا يهتدون إلى كيفية اكتسابه.
* (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعآء وندآء صم بكم عمى فهم لا يعقلون) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتباع ما أنزل الله تركوا النظر والتدبر، وأخلدوا إلى التقليد، وقالوا: * (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) * (البقرة: 170) ضرب لهم هذا المثل تنبيها للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ترك الإصغاء، وقلة الإهتمام بالدين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزل الأنعام، ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: نعق الراعي بالغنم إذا صاح بها وأما نعق الغراب فبالغين المعجمة.
المسألة الثانية: للعلماء من أهل التأويل في هذه الآية طريقان أحدهما: تصحيح المعنى بالإضمار في الآية والثاني: إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار، أما الذين أضمروا فذكروا وجوها الأول: وهو قول الأخفش والزجاج وابن قتيبة، كأنه قال: ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق، فصار الناعق الذي هو الراعي بمنزل الداعي إلى الحق، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وسائر الدعاة إلى الحق وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد، وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول وألفاظه، وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها لا جرم حصل وجه التشبيه الثاني: مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع كالغنم، وما يجرى مجراه من الكلام والبهائم لا تفهم: فشبه الأصنام في أنها لا تفهم بهذه البهائم، فإذا كان لا شك أن ههنا المحذوف هو المدعو، وفي القول الذي قبله المحذوف هو الداعي، وفيه سؤال، وهو أن قوله: * (إلا دعاء ونداء) * لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئا الثالث: قال ابن زيد: مثل
8

الذين كفروا في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه عند الجبل، فإنه لا يسمع إلا صدى صوته فإذا قال: يا زيد يسمع من الصدى: يا زيد. فكذلك هؤلاء الكفار إذا دعو هذه الأوثان لا يسمعون إلا ما تلفظوا به من الدعاء والنداء.
الطريق الثاني: في الآية وهو إجراؤها على ظاهرها من غير إضمار وفيه وجهان أحدهما: أن يقول: مثل الذين كفروا في قلة عقلهم في عبادتهم لهذه الأوثان، كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أنه يقضي على ذلك الراعي بقلة العقل، فكذا ههنا الثاني: مثل الذين كفروا في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم، كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أن الكلام مع البهائم عبث عديم الفائدة، فكذا التقليد عبث عديم الفائدة.
أما قوله تعالى: * (صم بكم عمي) * فاعلم أنه تعالى لما شبههم بالبهائم زاد في تبكيتهم، فقال: * (صم بكم عمي) * لأنهم صاروا بمنزلة الصم في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه وبمنزلة البكم في أن لا يستجيبوا لما دعوا إليه وبمنزلة العمى من حيث أنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها، قال النحويون * (صم) * أي هم صم وهو رفع على الذم، أما قوله: * (فهم لا يعقلون) * فالمراد العقل الاكتسابي لأن العقل المطبوع كان حاصلا لهم قال: العقل عقلان مطبوع ومسموع.
ولما كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة فلما أعرضوا عنها فقدوا العقل المكتسب ولهذا قيل: من فقد حسا فقد علما.
* (يا أيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون) *.
اعلم أن هذه الآية شبيهة بما تقدم من قوله: * (كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) * (البقرة: 168) ثم نقول: إن الله سبحانه وتعالى تكلم من أول السورة إلى ههنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى في الرد على اليهود والنصارى، ومن هنا شرع في بيان الأحكام، اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الأكل قد يكون واجبا، وذلك عند دفع الضرر عن النفس، وقد
9

يكون مندوبا، وذلك أن الضيف قد يمتنع من الأكل إذا انفرد وينبسط في ذلك إذا سوعد، فهذا الأكل مندوب، وقد يكون مباحا إذا خلا عن هذه العوارض، والأصل في
الشيء أن يكون خاليا عن العوارض، فلا جرم كان مسمى الأكل مباحا وإذا كان الأمر كذلك كان قوله * (كلوا) * في هذا الموضع لا يفيد الإيجاب والندب بل الإباحة.
المسألة الثانية: احتج الأصحاب على أن الرزق قد يكون حراما بقوله تعالى: * (من طيبات ما رزقناكم) * فإن الطيب هو الحلال فلو كان كل رزق حلالا لكان قوله: * (من طيبات ما رزقناكم) * معناه من محللات ما أحللنا لكم، فيكون تكرارا وهو خلاف الأصل، أجابوا عنه بأن الطيب في أصل اللغة عبارة عن المستلذ المستطاب، ولعل أقواما ظنوا أن التوسع في المطاعم والاستكثار من طيباتها ممنوع منه. فأباح الله تعالى ذلك بقوله: كلوا من لذائذ ما أحللناه لكم فكان تخصيصه بالذكر لهذا المعنى.
المسألة الثالثة: قوله: * (وأشكروا الله) * أمر: وليس بإباحة فإن قيل: الشكر إما أن يكون بالقلب أو باللسان أو بالجوارح، أما بالقلب فهو إما العلم بصدور النعمة عن ذلك المنعم، أو العزم على تعظيمه باللسان وبالجوارح، أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل، فإن العاقل لا ينسى ذلك فإذا كان ذلك العلم ضروريا فكيف يمكن إيجابه، وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح فذلك العزم القلبي مع الإقرار باللسان والعمل بالجوارح، فإذا بينا أنهما لا يجيبان كان العزم بأن لا يجب أولى، وأما الشكر باللسان فهو إما أن يقر بالاعتراف له بكونه منعما أو بالثناء عليه فهذا غير واجب بالاتفاق بل هو من باب المندوبات، وأما الشكر بالجوارح والأعضاء فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه، وذلك أيضا غير واجب، وإذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنه لا يمكن القول بوجوب الشكر قلنا الذي تلخص في هذا الباب أنه يجب عليه اعتقاد كونه مستحقا للتعظيم وإظهار ذلك باللسان أو بسائر الأفعال إن وجدت هناك تهمة.
أما قوله تعالى: * (إن كنتم إياه تعبدون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية وجوها أحدها: * (واشكروا لله) * إن كنتم عارفين بالله وبنعمه، فعبر عن معرفة الله تعالى بعبادته، إطلاقا لإسم الأثر على المؤثر وثانيها: معناه: إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله فاشكروه، فإن الشكر رأس العبادات وثالثها: * (واشكروا لله) * الذي رزقكم هذه النعم * (إن كنتم إياه تعبدون) * أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه سبحانه المنعم لا غيره، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأزرق ويشكر غيري ".
10

المسألة الثانية: احتج من قال: إن المعلق بلفظ: أن، لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء بهذه الآية، فإنه تعالى علق الأمر بالشكر بكلمة * (إن) * على فعل العباد، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضا.
* (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل به لغير الله فمن ضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمرنا في الآية السالفة بتناول الحلال فصل في هذه الآية أنواع الحرام، والكلام فيها على نوعين النوع الأول: ما يتعلق بالتفسير والنوع الثاني: ما يتعلق بالأحكام التي استنبطها العلماء من هذه الآية " فالنوع الأول " فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن كلمة * (إنما) * على وجهين أحدهما: أن تكون حرفا واحدا، كقولك: إنما داري دارك، وإنما مالي مالك الثاني: أن تكون * (ما) * منفصلة من: إن، وتكون * (ما) * بمعنى الذي، كقولك: إن ما أخذت مالك، وإن ما ركبت دابتك، وجاء في التنزيل على الوجهين، أما على الأول فقوله: * (إنما الله إله واحد وإنما أنت نذير) * وأما على الثاني فقوله: * (إنما صنعوا كيد ساحر) * (طه: 69) ولو نصبت كيد ساحر على أن تجعل * (إنما) * حرفا واحدا كان صوابا، وقوله: * (إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم) * (العنكبوت: 25) تنصب المودة وترفع على هذين الوجهين، واختلفوا في حكمها على الوجه الأول، فمنهم من قال * (إنما) * تفيد الحصر واحتجوا عليه بالقرآن والشعر والقياس، أما القرآن فقوله تعالى: * (إنما الله إله واحد) * (النساء: 171) أي ما هو إلا إله واحد، وقال: * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * (التوبة: 60) أي لهم لا لغيرهم وقال تعالى لمحمد: * (قل إنما أنا بشر مثلكم) * (الكهف: 110) أي ما أنا إلا بشر مثلكم، وكذا هذه الآية فإنه تعالى قال في آية أخرى * (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) * (الأنعام: 145) فصارت الآيتان واحدة فقوله: * (إنما حرم عليكم) * في هذه الآية مفسر لقوله: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) * إلا كذا في
11

تلك الآية، وأما الشعر فقوله الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى * وإنما العزة للكاثر
وقول الفرزدق:
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما * يدافع عن أحسابه أنا أو مثلي
وأما القياس، فهو أن كلمة * (إن) * للإثبات وكلمة * (ما) * للنفي فإذا اجتمعا فلا بد وأن يبقيا على أصليهما؛ فإما أن يفيدا ثبوت غير المذكور، ونفي المذكور وهو باطل بالاتفاق، أو ثبوت المذكور، ونفي غير المذكور وهو المطلوب، واحتج من قال: إنه لا يفيد الحصر بقوله تعالى: * (إنما أنت نذير) * ولقد كان غيره نذيرا، وجوابه معناه: ما أنت إلا نذير فهو يفيد الحصر، ولا ينفي وجود نذير آخر.
المسألة الثانية: قرىء * (حرم) * على البناء للفاعل و * (حرم) * للبناء للمفعول و * (حرم) * بوزن كرم.
المسألة الثالثة: قال الواحدي: الميتة ما فارقته الروح من غير زكاة مما يذبح، وأما الدم فكانت العرب تجعل الدم في المباعر وتشويها ثم تأكلها، فحرم الله الدم وقوله:
* (لحم الخنزير) * أراد الخنزير بجميع أجزائه، لكنه خص اللحم لأنه المقصود بالأكل وقوله: * (وما أهل به لغير الله) * قال الأصمعي: الإهلال أصله رفع الصوت فكل رافع صوته فهو مهل، وقال ابن أحمر:
يهل بالفدفد ركبانها * كما يهل الراكب المعتمر
هذا معنى الإهلال في اللغة، ثم قيل للمحرم مهل لرفعه الصوت بالتلبية عند الإحرام، هذا معنى الإهلال، يقال: أهل فلان بحجة أو عمرة أي أحرم بها، وذلك لأنه يرفع الصوت بالتلبية عند الإحرام، والذابح مهل، لأن العرب كانوا يسمون الأوثان عند الذبح، ويرفعون أصواتهم بذكرها ومنه: استهل الصبي، فمعنى قوله: * (وما أهل به لغير الله) * يعني ما ذبح للأصنام، وهو قول مجاهد، والضحاك وقتادة، وقال الربيع بن أنس وابن زيد: يعني ما ذكر عليه غير اسم الله، وهذا القول أولى، لأنه أشد مطابقة للفظ، قال العلماء: لو أن مسلما ذبح ذبيحة، وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله. صار مرتدا وذبيحته ذبيح مرتد، وهذا الحكم في غير ذبائح أهل الكتاب، أما ذبائح أهل الكتاب، فتحل لنا لقوله تعالى: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * (المائدة: 5).
أما قوله تعالى: * (فمن اضطر) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر والكسائي: * (فمن اضطر) * بضم النون
12

والباقون بالكسر، فالضم للاتباع، والكسر على أصل الحركة لإلتقاء الساكنين.
المسألة الثانية: اضطر: أحوج وألجئ، وهو افتعل من الضرورة، وأصله من الضرر، وهو الضيق.
المسألة الثالثة: لما حرم الله تعالى تلك الأشياء، استثنى عنها حال الضرورة، وهذه الضرورة لها سببان أحدهما: الجوع الشديد، وأن لا يجد مأكولا حلالا يسد به الرمق، فعند ذلك يكون مضطرا الثاني: إذا أكرهه على تناوله مكره، فيحل له تناوله.
المسألة الرابعة: أن الاضطرار ليس من أفعال المكلف، حتى يقال إنه * (لا إثم عليه إن الله غفور رحيم) * فإذن لا بد ههنا من إضمار وهو الأكل والتقدير: فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه والحذف ههنا كالحذف في قوله: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 184) أي فأفطر فحذف فأفطر وقوله: * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة) * (البقرة: 196) ومعناه فحلق ففدية، وإنما جاز الحذف لعلم المخاطبين بالحذف، ولدلالة الخطاب عليه.
أما قوله تعالى: * (غير باغ) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء * (غير) * ههنا لا تصلح أن تكون بمعنى الاستثناء، لأن غير ههنا بمعنى النفي، ولذلك عطف عليها لا لأنها في معنى: لا، وهي ههنا حال للمضطر، كأنك قلت: فمن اضطر باغيا، ولا عاديا فهو له حلال.
المسألة الثاني: أصل البغي في اللغة الفساد، وتجاوز الحد قال الليث: البغي في عدو الفرس اختيال ومروح، وأنه يبغي في عدوه ولا يقال: فرس باغ، والبغي الظلم والخروج عن الإنصاف ومنه قوله تعالى: * (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) * (الشورى: 39) وقال الأصمعي: بغي الجرح يبغي بغيا، إذا بدأ بالفساد، وبغت السماء، إذا كثر مطرها حتى تجاوز الحد، وبغي الجرح والبحر والسحاب إذا طغى.
أما قوله تعالى: * (ولا عاد) * فالعدو هو التعدي في الأمور، وتجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه، يقال عدا عليه عدوا، وعدوانا، واعتداء وتعديا، إذا ظلمه ظلما مجاوزا للحد، وعدا طوره: جاوز قدره.
المسألة الثالثة: لأهل التأويل في قوله: * (غير باغ ولا عاد) * قولان أحدهما: أن يكون قوله * (غير باغ ولا عاد) * مختصا بالأكل والثاني: أن يكون عاما في الأكل وغيره، أما على القول الأول ففيه وجوه الأول: * (غير باغ) * وذلك بأن يجد حلالا تكرهه النفس، فعدل إلى أكل الحرام
13

اللذيذ * (ولا عاد) * أي متجاوز قدر الرخصة الثاني: غير باغ للذة أي طالب لها، ولا عاد متجاوز سد الجوعة، عن الحسن، وقتاد، والربيع، ومجاهد، وابن زيد الثالث: غير باغ على مضطر آخر بالاستيلاء عليه، ولا عاد في سد الجوعة.
القول الثاني: أن يكون المعنى غير باغ على إمام المسلمين في السفر من البغي، ولا عاد بالمعصية أي مجاوز طريقة المحقين، والكلام في ترجيح أحد هذين التأويلين على الآخر سيجيء إن شاء الله تعالى.
أما قوله: * (فلا إثم عليه) * ففيه سؤالان أحدهما: أن الأكل في تلك الحالة واجب وقوله: * (لا إثم عليه) * يفيد الإباحة الثاني: أن المضطر كالملجأ إلى الفعل والملجأ لا يوصف بأنه لا إثم عليه، قلنا: قد بينا في تفسير قوله: * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * (البقرة: 158) أن نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح، وأيضا فقوله تعالى: * (فلا إثم عليه) * معناه رفع الحرج والضيق، واعلم أن هذا الجائع إن حصلت فيه شهوة الميتة، ولم يحصل فيه النفرة الشديدة فإنه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرمق كما يصير ملجأ إلى الهرب من السبع إذا أمكنه ذلك، أما إذا حصلت النفرة الشديدة فإنه بسبب تلك النفرة يخرج عن أن يكون ملجأ ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النفار، وههنا يتحقق معنى الوجوب.
أما قوله تعالى: في آخر الآية: * (إن الله غفور رحيم) * ففيه إشكال وهو أنه لما قال: * (فلا إثم عليه) * فكيف يليق أن يقول بعده: * (إن الله غفور رحيم) * فإن الغفران إنما يكون عند حصول الإثم.
والجواب: من وجوه أحدهما: أن المقتضى للحرمة قائم في الميتة والدم، إلا أنه زالت الحرمة لقيام المعارض، فلما كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضى للحرمة عبر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنه رحيم، يعني لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك وثانيها: لعل المضطر يزيد على تناول الحاجة، فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة، رحيم حيث أباح في تناول قدر الحاجة وثالثها: أنه تعالى لما بين هذه الأحكام عقبها بكونه غفورا رحيما لأنه غفور للعصاة إذا تابوا، رحيم بالمطيعين المستمرين على نهج حكمه سبحانه وتعالى.
النوع الثاني: من الكلام في هذه الآية المسائل الفقهية التي استنبطها العلماء منها وهي مرتبة على فصول:
14

الفصل الأول فيما يتعلق بالميتة
والكلام فيه مرتب على مقدمة ومقاصد:
أما المقدمة: ففيها ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن التحريم المضاف إلى الأعيان، هل يقتضي الإجمال؟ فقال الكرخي: إنه يقتضي الإجمال، لأن الأعيان لا يمكن وصفها بالحل والحرمة، فلا بد من صرفهما إلى فعل من أفعالنا فيها، وليست جميع أفعالنا فيها محرمة لأن تبعيدها عن النفس وعما يجاوز المكان فعل من الأفعال فيها، وهو غير محرم، فإذن لا بد من صرف هذا التحريم إلى فعل خاص، وليس بعض الأفعال أولى من بعض فوجب صيرورة الآية مجملة، وأما أكثر العلماء فإنهم أصروا على أنه ليس من المجملات بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرف في هذه الأجسام كما أن الذوات لا تملك وإنما يملك التصرفات فيها، فإذا قيل فلان يملك جارية فهم كل أحد أنه يملك التصرف فيها فكذا هنا، وقد استقصينا الكلام فيه من كتاب المحصول في علم الأصول.
المسألة الثانية: لما ثبت الأصل الذي قدمناه وجب أن تدل الآية على حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل المخصص، فإن قيل: لم لا يجوز تخصيص هذا التحريم بالأكل، والذي يدل عليه وجوه أحدها: أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم أكلها وثانيها: أنه ورد عقيب قوله: * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) * (البقرة: 57) وثالثها: ما روي عن الرسول عليه السلام في خبر شاة ميمونة، إنما حرم من الميتة أكلها.
والجواب عن الأول: لا نسلم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم أكلها وعن الثاني: أن هذه الآية مستقلة بنفسها فلا يجب قصرها على ما تقدم، بل يجب إجراؤها على ظاهرها وعن الثالث: أن ظاهر القرآن مقدم على خبر الواحد، لكن هذا إنما يستقيم إذا لم يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد، ويمكن أن يجاب عنه بأن المسلمين إنما رجعوا في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية، فدل انعقاد اجماعهم على أنها غير مخصوصة ببيان حرمة الأكل، وللسائل أن يمنع هذا الإجماع.
المسألة الثالثة: الميتة من حيث اللغة هو الذي خرج من أن يكون حيا من دون نقض بنية ولذلك فرقوا بين المقتول والميت، وأما من جهة الشرع فهو غير المذكي إما لأنه لم يذبح أو
15

أنه ذبح ولكن لم يكن ذبحه ذكاة وسنذكر حد الزكاة في موضعه، فإن قيل: كيف يصح ذلك وقد قال تعالى في سورة المائدة: * (حرمت عليكم الميتة والدم) * (المائدة: 3) ثم ذكر من بعده المنخنقة والموقوذة والمتردي فدل هذا على أن غير المذكى منه ما هو ميتة ومنه ما ليس كذلك، قلنا لعل الأمر كان في ابتداء الشرع على أصل اللغة، وأما بعد استقرار الشرع فالميتة ما ذكرناه والله أعلم.
أما المقاصد فاعلم أن الخطأ في المسائل المستنبطة من هذه الآية من وجهين أحدهما: ما أخرجوه عن الآية وهو داخل فيها والثاني: ما أدخلوه فيها وهو خارج عنها.
أما القسم الأول ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذهب الشافعي رضي الله عنه في أظهر أقواله إلى أنه يحرم الانتفاع بصوف الميتة وشعرها وعظمها وقال مالك: يحرم الانتفاع بعظمها خاصة وجل الفقهاء اتفقوا على تحريم الانتفاع بشعر الخنزير، واحتج هؤلاء بأن هذه الأشياء ميتة فوجب أن يحرم الانتفاع بها، إنما قلنا إنها ميتة لقوله عليه السلام: " ما أبين من حي فهو ميت " وهذا الخبر يعم الشعر والعظم والكل وأما الذي يدل على أن العظم ميتة خاصة فقوله تعالى: * (من يحيي العظام وهي رميم) * (يس: 78) فثبت أنها كانت حية فعند الموت تصير ميتة وإذا ثبت أنها ميتة وجب أن يحرم الانتفاع بها لقوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة) * اعترض المخالف عليه بأن الشعر والصوف لا حياة فيه، لأن حكم الحياة الإدراك والشعور وذلك مفقود في الشعر ولأجل هذا الكلام ذهب مالك إلى تنجيس العظام دون الشعور.
والجواب: أن الحياة ليست عبارة عن المعنى المقتضى للإدراك والشعور بدليل الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى: * (كيف يحيي الأرض بعد موتها) * (الروم: 50) وأما الخبر فقوله عليه السلام: " من أحيا أرضا ميتة فهي له " والأصل في الإطلاق الحقيقة، فعلمنا أن الحياة في أصل اللغة ليست عبارة عما ذكرتموه، بل عن كون الحيوان أو النبات صحيحا في مزاجه معتدلا في حاله غير معترض للفساد والتعفن والتفرق، وإذا ثبت ذلك ظهر اندراجه تحت الآية، واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر والإجماع والقياس، أما القرآن فقوله تعالى: * (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) * (النحل: 80) حيث ذكرها في معرض المنة، والامتنان لا يقع بالنجس الذي لا يحل الانتفاع به، وأما الخبر فقوله عليه السلام في شاة ميمونة " إنما حرم من الميتة أكلها " وأما الإجماع، فهو أنهم كانوا يلبسون جلود الثعالب، ويجعلون منها القلانس، وعن النخعي: كانوا لا يرون بجلود السباع وجلود الميتة إذا دبغت بأسا، وما خصوا حال الشعر وعدمه وقول الشافعي: كانوا إشارة إلى الصحابة وليس لأحد أن يقول الثعلب عند الشافعي رضي الله عنه حلال، فلهذا يقول بإباحته لأن الزكاة شرط بالاتفاق وهو غير حاصل في هذه الثعالب،
16

وأما القياس فلأن هذه الشعور والعظام أجسام منتفع بها غير متعرضة للتعفن والفساد، فوجب أن يقضي بطهارتها كالجلود المدبوغة، وأما النفع بشعر الخنزير: ففي
الفقهاء من منع نجاسته وهو الأسلم، ثم قالوا: هب أن عموم قوله: * (حرمت عليكم الميتة) * يقتضي حرمة الانتفاع بالصوف والعظم وغيرهما إلا أن هذه الدلائل تنتج الانتفاع بها، والخاص مقدم على العام فكان هذا الجانب أولى بالرعاية.
المسألة الثانية: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا مات في الماء دابة ليس لها نفس سائلة لم يفسد الماء قل أو كثر، وللشافعي رضي الله عنه قولان في الماء القليل، واحتجوا للشافعي، بأنها حيوانات فإذا ماتت صارت ميتة فيحرم استعمالها بمقتضى الآية، وإذا حرم استعمالها بمقتضى الآية وجب الحكم بنجاستها، وإذا ثبت الحكم بنجاستها، وجب الحكم بنجاسة الماء القليل الذي وقعت هي فيه، وأجابوا عنه بأنه ميتة، ويحرم الانتفاع بها ولكن لم قلتم إنها متى كانت كذلك كانت نجسة، ثم لم يلزم من نجاستها تنجس الماء بها، واحتجوا على القول الثاني للشافعي رضي الله عنه بقوله عليه السلام: " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه ثم انقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء " وأمر بالمقل فربما كان الطعام حارا فيموت الذباب فيه فلو كان ذلك سببا للتنجيس لما أمر النبي عليه السلام به.
المسألة الثالثة: للفقهاء مذاهب سبعة في أمر الدباغ، فأوسع الناس فيه قولا الزهري، فإنه يجوز استعمال الجلود بأسرها قبل الدباغ، ويليه داود فإنه قال تطهر كلها بالدباغ، ويليه مالك فإنه قال يطهر ظاهرها دون باطنها، ويليه أبو حنيفة فإنه قال يطهر كلها إلا جلد الخنزير، ويليه الشافعي فإنه قال يطهر الكل إلا جلد الكلب والخنزير، ويليه الأوزاعي وأبو ثور فإنهما يقولان: يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط، ويليه أحمد بن حنبل رضي الله عنهم فإنه قال: لا يطهر منها شيء بالدباغ، واحتج أحمد بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة) * (المائدة: 3) أطلق التحريم وما قيده بحال دون حال، وأما الخبر فقول عبد الله بن حكيم: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، أجابوا عن التمسك بالآية، بأن تخصيص العموم بخبر الواحد وبالقياس جائز، وقد وجدا ههنا خبر الواحد فقوله عليه الصلاة والسلام: أيما إهاب دبغ فقد طهر " وأما القياس: فهو أن الدباغ يعود الجلد إلى ما كان عليه حال الحياة وكما كان حال الحياة طاهرا كذلك بعد الدباغ وهذا القياس والخبر هما معتمد الشافعي رحمه الله.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع بالميتة، بإطعام البازي والبهيمة، فمنهم
17

من منع منه لأنه إذا أطعم البازي ذلك فقد انتفع بتلك الميتة والآية دالة على تحريم الانتفاع بالميتة فاما إذا أقدم البازي من عند نفسه على أكل الميتة فهل يجب علينا منعه أم لا فيه احتمالان.
المسألة الخامسة: اختلفوا في دهن الميتة وودكها هل يجوز الاستصباح به أم لا، وهذا ينظر فيه فإن كان ذلك مما حلته الحياة، أو في جملته ما هو هذا حاله، فالظاهر يقتضي المنع منه وإن لم يكن كذلك فهو خارج من جملة الميتة، وإنما يحرم ذلك الدليل سوى الظاهر، وعن عطاء بن جابر قال لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة أتاه الذين يجمعون الأوداك، فقالوا يا رسول الله إنا نجمع الأوداك وهي من الميتة وغيرها وإنما هي للأديم والسفن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها " فنهاهم عن ذلك وأخبرهم بأن تحريمه إياها على الإطلاق أوجب تحريم بيعها كما أوجب تحريم أكلها.
المسألة السادسة: الظاهر يقتضي حرمة السمك والجراد إلا أنهما خصا بالخبر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، قال عليه الصلاة والسلام: " أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالجراد والنون وأما الدمان فالطحال والكبد " وعن جابر في قصة طويلة: أن البحر ألقى إليهم حوتا فأكلوا منه نصف شهر، فلما رجعوا أخبروا النبي عليه الصلاة والسلام بذلك فقال: هل عندكم منه شيء تطعموني، وقال عليه الصلاة والسلام في صفة البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وأيضا فإنه ثبت بالتواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام: حل السمك، واختلفوا في السمك الطافي وهو الذي يموت في الماء حتف أنفه، فقال مالك والشافعي رضي الله عنهما لا بأس به، وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح إنه مكروه واختلف الصحابة في هذه المسألة فعن علي رضي الله عنه أنه قال: ما طفا من صيد البحر فلا نأكله، وهذا أيضا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبي أيوب إباحته، وروى أبو بكر الرازي روايات مختلفة عن جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال: " ما ألقى البحر أو جرد عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه " وأما الشافعي رضي الله عنه فقد احتج بالآية والخبر والمعقول، أما الآية فقوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه) * (المائدة: 96) وهذا السمك الطافي من طعام البحر فوجب حله، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام: " أحلت لنا ميتتان السمك والجراد " وهذا مطلق، وقوله في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتة " وهذا عام وروي عن أنس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: " كل ما طفا على البحر ".
المسألة السابعة: قال الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما: لا بأس بأكل الجراد كله ما أخذته
18

وما وجدته، وروي عن مالك رضي الله عنه أن ما وجد ميتا لا يحل، وأما ما أخذ حيا ثم قطع رأسه وشوي أكل، وما أخذ حيا فغفل عنه حتى يموت لم يؤكل حجة مالك ظاهر الآية، وحجة الشافعي وأبي حنيفة قوله عليه السلام: " أحلت لنا ميتتان السمك والجراد " فوجب حملهما على الإطلاق فتبين بذلك أن قطع رأسه إن جعل له ذكاة فهو كالشاة المذكاة في أنه لا يكون ميتة، فلا يكون لقوله عليه السلام " أحلت لنا ميتتان " فائدة وقال عبد الله بن أبي أوفي: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد ولا نأكل غيره، فلم يفرق بين ميتة وبين مقتولة. المسألة الثامنة: اختلفوا في الجنين إذا خرج ميتا بعد ذبح الأم، فقال أبو حنيفة، لا يؤكل إلا أن يخرج حيا فيذبح، وهو قول حماد، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: أنه يؤكل وهذا هو المروى عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وقال مالك: إن تم خلقه ونبت شعره أكل، وإلا لم يؤكل، وهو قول سعيد بن المسيب، واحتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية وهو أنه ميتة، فوجب أن يحرم، قال الشافعي، أخصص هذا العموم بالخبر والقياس، أما الخبر فهو أنا أجمعنا على أن المذكى مباح وهذا مذكى، لما روى أبو سعيد الخدري، وأبو الدرداء، وأبو أمامة، وكعب بن مالك، وابن عمر وأبو
أيوب، وأبو هريرة رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ذكاه الجنين ذكاة أمه " وتقريره أن كون الذكاة سببا للإباحة حكم شرعي، فجاز أن تكون ذكاة الجنين حاصلة شرعا بتحصيل ذكاة أمه، أجاب الحنفيون بأن قوله ذكاة الجنين ذكاة أمه، يحتمل أن يريد به أن ذكاة أمه ذكاة له، ويحتمل أن يريد به إيجاب تذكيته كما تذكي أمه، وأنه لا يؤكل بغير ذكاة، كقوله تعالى: * (وجنة عرضها السماوات والأرض) * (آل عمران: 133) ومعناه كعرض السماوات والأرض، وكقول القائل: قولي قولك، ومذهبي مذهبك، وإنما المعنى: قولي كقولك، ومذهبي كمذهبك، وقال الشاعر: فعيناك عيناها * وجيدك جيدها
وإذا ثبت ما ذكرنا كان أحد، الإحتمالين إيجاب تذكيته، وأنه لا يؤكل غير مذكى في نفسه، والآخر أن ذكاة أمه تبيح أكله، وإذا كان كذلك لم يجز تخصيص الأمر بل يجب حمله على المعنى الموافق للآية، أجاب الشافعي رضي الله عنه من وجوه أحدها: أن على الإحتمال الذي ذكرتموه لا بد فيه من إضمار وهو أن ذكاة الجنين كذكاة أمه، والإضمار خلاف الأصل وثانيها: أنه لا يسمى جنينا إلا حال كونه في بطن أمه، ومتى ولد لا يسمى جنينا، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما أثبت له الذكاة حال كونه جنينا، فوجب أن يكون في تلك الحالة مذكي
19

بذكاتها وثالثها: أن حمل الخبر على ما ذكرت من إيجاب ذكاته إذا خرج حيا تسقط فائدته، لأن ذلك معلوم قبل وروده ورابعها: ما روي عن أبي سعيد أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الجنين يخرج ميتا، قال: إن شئتم فكلوه، فإن ذكاته ذكاة أمه، وأما القياس فمن وجوه أحدهما: أنا أجمعنا على أن من ضرب بطن امرأته فماتت وألقيت جنينا ميتا، لم ينفرد الجنين بحكم نفسه، ولو خرج الولد حيا ثم مات انفرد بحكم نفسه دون أمه في إيجاب الغرة، فكذلك جنين الحيوان إذا مات عن ذبح أمه وخرج ميتا، كان تبعا للأم في الذكاة، وإذا خرج حيا لم يؤكل حتى يذكى وثانيها: أن الجنين حال اتصاله بالأم في حكم عضو من أعضائها فوجب أن يحل بذكاتها كسائل الأعضاء وثالثها: الواجب في الولد أن يتبع الأم في الذكاة، كما يتبع الولد الأم في العتاق والإستيلاد والكتابة ونحوها.
المسألة التاسعة: ما قطع من الحي من الأبعاض فهو محرم لأنه ميتة، فوجب أن يكون حراما إنما قلنا: إنه ميتة، للنص والمعقول، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام: " ما أبين من حي فهو ميت " وأما المعقول فهو أن ذلك البعض كان حيا لأنه يدرك الألم واللذة، وبالقطع زال ذلك الوصف فصار ميتا، فوجب أن يحرم لقوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة) * (المائدة: 3).
المسألة العاشرة: اختلفوا في أن ذبح ما لا يؤكل لحمه هل يستعقب طهارة الجلد، فعند الشافعي رضي الله عنه، لا يستعقبه، لأن هذا الذبح لا يستعقب حل الأكل فوجب أن لا يستعقب الطهارة كذبح المجوسي، وعند أبي حنيفة يستعقبه.
القسم الثاني: مما دخل في الآية وليس منها، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله تعالى: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم) * و * (حرمت عليكم الميتة) * لا يقتضي تحريم ما مات فيه من المائعات، وإنما يقتضي تحريم عين الميتة، وما جاور الميتة فلا يسمى ميتة، فلا يتناوله لفظ التحريم، كالسمن إذا وقعت فيه فأرة وماتت فإنه لا يتناولها، هذا الظاهر وجملة الكلام في هذا الباب تدور على فصلين أحدهما: أما الذي ينجس بمجاورته الميتة فيحرم، وأما الذي لا ينجس فلا يحرم والثاني: أن الذي ينجس كيف الطريق إلى تطهيره؟
المسألة الثانية: سأل عبد الله بن المبارك أبا حنيفة عن طائر وقع في قدر مطبوخ فمات، فقال أبو حنيفة لأصحابه: ما ترون فيها؟ فذكروا له عن ابن عباس: أن اللحم يؤكل بعد ما يغسل ويراق المرق، فقال أبو حنيفة بهذا نقول على شريطة إن كان وقع فيها في حال سكونها كما في هذه الرواية وإن كان وقع في حال غليانها: لم يؤكل اللحم ولا المرق، قال ابن المبارك: ولم ذاك؟ قال: لأنه
20

إذا سقط فيها في غليانها فمات فقد داخلت الميتة اللحم، وإذا وقع فيها حال سكونها فمات فإنما رشحت الميتة اللحم، قال ابن المبارك وعقد بيده ثلاثين: هذا زرين، بالفارسية يعني المذهب، وروى ابن المبارك مثل هذا عن الحسن.
المسألة الثالثة: قال أبو حنيفة لبن الشاة الميتة وأنفحتها طاهرتان، وقال الشافعي ومالك: لا يحل هذا اللبن والأنفحة، وقال الليث: لا تؤكل البيضة التي تخرج من دجاجة ميتة، واعلم أن الشافعي رضي الله عنه لا يتمسك في هذه المسألة بظاهر قوله: * (حرمت عليكم الميتة) * لأن اللبن لا يوصف بأنه ميتة، فوجب الرجوع فيه نفيا وإثباتا إلى دليل آخر، ومعتمد الشافعي أن اللبن لو كان مجموعا في إناء فسقط فيه شيء من الميتة ينجس فكذلك إذا ماتت وهو في ضرعها، وهكذا الخلاف في الأنفحة، أما البيض إذا أخرج من جوف الدجاج فهو طاهر إذا غسل، ويحل أكله لأن القشرة إذا صلبت حجزت بين المأكول وبين الميتة فتحل، ولذلك لو كانت البيضة غير منعقدة لحرمت.
ولنختم هذا الفصل بمسائل مشتركة بين القسمين.
المسألة الأولى: اختلف المتكلمون في أن الميتة هل تكون ميتة بمعنى الموت، فمنهم من أثبت الموت بمعنى مضاد للحياة، على ما قال تعالى: * (الذي خلق الموت والحياة) * (الملك: 2) ومنهم من قال: إنه عدم الحياة عما من شأنه أن يقبل الحياة وهذا أقرب.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن حرمة الميتة هل تقتضي نجاستها، والحق أن حرمة الانتفاع لا تقتضي النجاسة، لأن لا يمتنع في العقل أن يحرم الانتفاع بها، ويحل الانتفاع بما جاورها، إلا أنه قد ثبت بالإجماع أن الميتة نجسة. الفصل الثاني في تحريم الدم، وفيه مسألتان
المسألة الأولى: الشافعي رضي الله عنه حرم جميع الدماء سواء كان مسفوحا أو غير مسفوح وقال أبو حنيفة: دم السمك ليس بمحرم، أما الشافعي فإنه تمسك بظاهر هذه الآية، وهو قوله: * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) * وهذا دم فوجب أن يحرم، وأبو حنيفة تمسك بقوله تعالى: * (قل لا أجد في ما أوحي إلي
محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) * (الأنعام: 145) فصرح بأنه لم يجد شيئا من المحرمات إلا هذه الأمور، فالدم الذي لا يكون مسفوحا وجب أن لا يكون
21

محرما بمقتضى هذه الآية فإذن هذه الآية خاصة وقوله: * (حرمت عليكم الميتة والدم) * عام والخاص مقدم على العام، أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قوله: * (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما) * ليس فيه دلالة على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية، بل على أنه تعالى ما بين له إلا تحريم هذه الأشياء، وهذا لا ينافي أن يبين له بعد ذلك تحريم ما عداها، فلعل قوله تعالى: * (إنما حرم عليكم الميتة) * نزلت بعد ذلك، فكان ذلك بيانا لتحريم الدم سواء كان مسفوحا أو غير مسفوح، إذا ثبت هذا وجب الحكم بحرمة جميع الدماء ونجاستها فتجب إزالة الدم عن اللحم ما أمكن، وكذا في السمك، وأي دم وقع في الماء والثوب فإنه ينجس ذلك المورود.
المسألة الثانية: اختلفوا في قوله عليه الصلاة والسلام: " أحلت لنا ميتتان ودمان الطحال والكبد " هل يطلق اسم الدم عليهما فيكون استثناء صحيحا أم لا؟ فمنهم من منع ذلك لأن الكبد يجري مجرى اللحم وكذا الطحال وإنما يوصفان بذلك تشبيها، ومنهم من يقول هو كالدم الجامد ويستدل عليه بالحديث.
الفصل الثالث في الخنزير، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم، وإنما ذكر الله تعالى لحمه لأن معظم الإنتفاع متعلق به، وهو كقوله: * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) * (الجمعة: 9) فخص البيع بالنهي لما كان هو أعظم المهمات عندهم، أما شعر الخنزير فغير داخل في الظاهر وإن أجمعوا على تحريمة وتنجيسه، واختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع به للخرز، فقال أبو حنيفة ومحمد: يجوز، وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز، وقال أبو يوسف: أكره الخرز به، وروى عنه الإباحة، حجة أبي حنيفة ومحمد أنا نرى المسلمين يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير ظهر منهم، ولأن الحاجة ماسة إليه، وإذا قال الشافعي في دم البراغيث، أنه لا ينجس الثوب لمشقة الإحتراز فهلا جاز مثله في شعر الخنزير إذا خرز به؟.
المسألة الثانية: اختلفوا في خنزير الماء، قال ابن أبي ليلى ومالك والشافعي والأوزاعي: لا بأس يأكل شيء يكون في البحر، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤكل، حجة الشافعي قوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه) * (المائدة: 96) وحجة أبي حنيفة أن هذا خنزير فيحرم لقوله تعالى: * (حرمت
22

عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) * (المائدة: 13) وقال الشافعي: الخنزير إذا أطلق فإنه يتبادر إلى الفهم خنزير البر لا خنزير البحر، كما أن اللحم إذا أطلق يتبادر إلى الفهم لحم غير السمك لا لحم السمك بالاتفاق ولأن خنزير الماء لا يسمى خنزيرا على الإطلاق بل يسمى خنزير الماء.
المسألة الثالثة: للشافعي رضي الله عنه قولان: في أنه هل يغسل الإناء من ولغ الخنزير سبعا؟ أحدها: نعم تشبيها له بالكلب والثاني: لا لأن ذلك التشديد إنما كان فطما لهم عن مخالطة الكلاب وهم ما كانوا يخالطون الخنزير فظهر الفرق.
الفصل الرابع في تحريم ما أهل به لغير الله
من الناس من زعم أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان الذين كانوا يذبحون لأوثانهم، كقوله تعالى: * (وما ذبح على النصب) * (المائدة: 3) وأجازوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح، وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه لا يحل ذلك والحجة فيه أنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله، فوجب أن يحرم وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم، وهو يعلم ما يقولون، واحتج المخالف بوجوه الأول: إنه تعالى قال: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * (المائدة: 5) وهذا عام، الثاني: أنه تعالى قال: * (وما ذبح على النصب) * فدل على أن المراد بقوله: * (وما أهل به لغير الله) * هو المراد بقوله: * (وما ذبح على النصب) * الثالث: أن النصراني إذا سمى الله تعالى وإنما يريد به المسيح فإذا كانت إرادته لذلك لم تمنع حل ذبيحته مع أنه يهل به لغير الله فكذلك ينبغي أن يكون حكمه إذا أظهر ما يضمره عند ذكر الله وإرادته المسيح.
والجواب عن الأول: أن قوله: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * عام وقوله: * (وما أهل به لغير الله) * خاص والخاص مقدم على العام
وعن الثاني: أن قوله: * (وما ذبح على النصب) * لا يقتضي تخصيص قوله: * (وما أهل به لغير الله) * لأنهما آيتان متباينتان ولا مساواة بينهما
وعن الثالث: أنا إنما كلفنا بالظاهر لا بالباطن، فإذا ذبحه على اسم الله وجب أن يحل، ولا سبيل لنا إلى الباطن.
23

الفصل الخامس
القائلون بأن كلمة * (إنما) * للحصر اتفقوا على أن ظاهر الآية يقتضي أن لا يحرم سوى هذه الأشياء لكنا نعلم أن في الشرع أشياء أخر سواها من المحرمات فتصير كلمة * (إنما) * متروكة الظاهر في العمل ومن قال إنها لا تفيد الحصر فالإشكال زائل.
الفصل السادس في " المضطر " وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الشافعي رضي الله عنه: قوله تعالى: * (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) * معناه أن من كان مضطرا ولا يكون موصوفا بصفة البغي، ولا بصفة العدوان البتة فأكل، فلا إثم عليه وقال أبو حنيفة معناه فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد في الأكل فلا إثم عليه فخصص صفة البغي والعدوان بالأكل ويتفرع على هذا الاختلاف أن العاصي بسفره هل يترخص أم لا؟ فقال الشافعي رضي الله عنه لا يترخص لأنه موصوف بالعدوان فلا يندرج تحت الآية وقال أبو حنيفة بل يترخص لأنه
مضطر غير باغ ولا عاد في الأكل فيندرج تحت الآية، واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وبالمعقول، أما الآية فهي أنه سبحانه وتعالى حرم هذه الأشياء على الكل بقوله: * (حرمت عليكم الميتة والدم) * (المائدة: 3) ثم أباحها للمضطر الذي يكون موصوفا بإنه غير باغ ولا عاد، والعاصي بسفره غير موصوف بهذه الصفة لأن قولنا: فلان ليس بمتعد نقيض لقولنا: فلان متعد ويكفي في صدقة كونه متعديا في أمر ما من الأمور سواء كان في السفر، أو في الأكل، أو في غيرهما، وإذا كان اسم المتعدي يصدق بكونه متعديا في أمر ما أي أمر كان وجب أن يكون قولنا: فلان غير معتدلا يصدق إلا إذا لم يكن متعديا في شيء من الأشياء البتة، فاذن قولنا: غير باغ ولا عاد لا يصدق إلا إذا انتفى عنه صفة التعدي من جميع الوجوه، والعاصي بسفره متعد بسفره، فلا يصدق عليه كونه غير عاد، وإذا لم يصدق عليه ذلك وجب بقاؤه تحت الآية وهو قوله: * (حرمت عليكم الميتة والدم) * أقصى ما في الباب أن يقال: هذا يشكل بالعاصي في سفره، فإنه يترخص مع أنه موصوف بالعدوان لكنا نقول: إنه عام دخله التخصيص في هذه الصورة، والفرق بين الصورتين أن الرخصة إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية، أما إذا لم
24

يكن السفر في نفسه معصية لم تكن الإعانة عليه إعانة على المعصية فظهر الفرق، واعلم أن القاضي وأبا بكر الرازي نقلا عن الشافعي أنه قال في تفسير قوله: * (غير باغ ولا عاد) * أي باغ على إمام المسلمين، ولا عاد بأن لا يكون سفره في معصية، ثم قالا. تفسير الآية غير باغ ولا عاد في الأكل أولى مما ذكره الشافعي رضي الله عنه، وذلك لأن قوله: * (غير باغ ولا عاد) * شرط والشرط بمنزلة الاستثناء في أنه لا يستقل بنفسه فلا بد من تعلقه بمذكور وقد علمنا أنه لا مذكور إلا الأكل لأنا بينا أن معنى الآية فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وإذا كان كذلك وجب أن يكون متعلقا بالأكل الذي هو في حكم المذكور دون السفر الذي هو البتة غير مذكور.
واعلم أن هذا الكلام ضعيف، وذلك لأنا بينا أن قوله: * (غير باغ ولا عاد) * لا يصدق إلا إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور، فيدخل فيه نفي العدوان بالسفر ضمنا، ولا نقول: اللفظ يدل على التعيين وأما تخصيصه بالأكل فهو تخصيص من غير ضرورة، فكان على خلاف الأصل، ثم الذي يدل على أنه لا يجوز صرفه إلى الأكل وجوه أحدها: أن قوله: * (غير باغ ولا عاد) * حال من الاضطرار، فلا بد وأن يكون وصف الاضطرار باقيا مع بقاء كونه غير باغ ولا عاد فلو كان المراد بكونه غير باغ ولا عاد كونه كذلك في الأكل لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه لأن حال الأكل لا يبق وصف الاضطرار وثانيها: أن الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم، وما كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي عنه فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة وثالثها: أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية وكذا العدوان في السفر فرد آخر من أفرادها فاذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات فكان تخصيصه بالأكل غير جائز، وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه لا يخصصه بنفي العدوان في السفر بل يحمله على ظاهره، وهو نفي العدوان من جميع الوجوه، ويستلزم نفي العدوان في السفر وحينئذ يتحقق مقصوده ورابعها: أن الاحتمال الذي ذكرناه متأيد بآية أخرى وهي قوله تعالى: * (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم) * (المائدة: 3) وهو الذي قلناه من أن الآية تقتضي أن لا يكون موصوفا بالبغي والعدوان في أمر من الأمور، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجوه أحدها: قوله تعالى في آية أخرى * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) * (الأنعام: 119) وهذا الشخص مضطر فوجب أن يترخص وثانيها: قوله تعالى:
25

* (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) * (النساء: 29) وقال: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (البقرة: 195) والامتناع من الأكل سعى في قتل النفس وإلقاء النفس في التهلكة، فوجب أن يحرم وثالثها: روي أنه عليه السلام رخص للمقيم يوما وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع ورابعها: أن العاصي بسفره إذا كان نائما فأشرف على غرق أو حرق يجب على الحاضر الذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه من الغرق أو الحرق فلأن يجب عليه في هذه الصورة أن يسعى في إنقاذ المهجة أولى وخامسها: أن يدفع أسباب الهلاك، كالفيل، والجمل الصؤل، والحية، والعقرب، بل يجب عليه، فكذا ههنا وسادسها: أن العاصي بسفره إذا اضطر فلو أباح له رجل شيئا من ماله فإنه يحل له ذلك بل يجب عليه فكذا ههنا والجامع دفع الضرر عن النفس وسابعها: أن المؤنة في دفع ضرر الناس أعظم في الوجوب من كل ما يدفع المرء من المضار عن نفسه، فكذلك يدفع ضرر الهلاك عن نفسه بهذا الأكل وإن كان عاصيا، وثامنها: أن الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا ههنا أجاب الشافعي عن التمسك بالعمومات بأن دليلنا النافي للترخص أخص من دلائلهم المرخصة والخاص مقدم على العام، وعن الوجوه القياسية بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة وإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه، ثم عارض هذه الوجوه بوجه قوي وهو أن الرخصة إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية وذلك محال لأن المعصية ممنوع منها والإعانة سعي في تحصيلها والجمع بينهما متناقص والله أعلم.
المسألة الثانية: قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه: لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، وقال عبد الله بن الحسن العنبري: يأكل منها ما يسد جوعه، وعن مالك: يأكل منها حتى يشبع ويتزود، فإن وجد غني عنها طرحها، والأقرب في دلالة الآية ما ذكرناه أولا لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة، كما لو وجد الحلال لم يجز له تناول الميتة لارتفاع الإلجاء إلى أكلها لوجود الحلال، فكذلك إذا زال الاضطرار بأكل قدر منه فالزائد محرم، ولا اعتبار في ذلك بسد الجوعة على ما قاله العنبري، لأن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضررا بتركه، فكذا ههنا، ويدل عليه أيضا أنه لو كان معه من الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه لم يجز له أن يتناول الميتة، فإذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة، فكذا إذا أكل من الميتة ما زال معه
خوف الضرر وجب أن
26

يحرم عليه الأكل بعد ذلك.
المسألة الثالثة: اختلفوا في المضطر إذا وجد كل ما يعد من المحرمات، فالأكثرون من العلماء خيروه بين الكل لأن الميتة والدم ولحم الخنزير سواء في التحريم والاضطرار، فوجب أن يكون مخيرا في الكل وهذا هو الأليق بظاهر هذه الآية وهو أولى من قول من أوجب أن يتناول الميتة دون لحم الخنزير أعظم شأنا في التحريم.
المسألة الرابعة: اختلفوا في المضطر إلى الشرب إذا وجد خمرا، أو من غص بلقمة فلم يجد ماء يسيغه ووجد الخمر، فمنهم من أباحه بالقياس على هذه الصورة، فإن الله تعالى إنما أباح هذه المحرمات إبقاء للنفس ودفعا للهلاك عنها، فكذلك في هذه الصورة وهذا هو الأقرب إلى الظاهر، والقياس وهو قول سعيد بن جبير وأبي حنيفة، وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يشرب لأنه يزيده عطشا وجوعا ويذهب عقله، وأجيب عنه بأن قوله: لا يزيده إلا عطشا وجوعا مكابرة، وقوله: يزيل العقل فكلامنا في القليل الذي لا يكون كذلك. المسألة الخامسة: اختلفوا إذا كانت الميتة يحتاج إلى تناولها للعلاج إما بانفرادها أو بوقوعها في بعض الأدوية المركبة، فأباحه بعضهم للنص والمعنى، أما النص فهو أنه أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها للتداوي، وأما المعنى فمن وجوه الأول: أن الترياق الذي جعل فيه لحوم الأفاعي مستطاب فوجب أن يحل لقوله تعالى: * (أحل لكم الطيبات) * (المائدة: 4) غاية ما في الباب أن هذا العموم مخصوص ولكن لا يقدح في كونه حجة الثاني: أن أبا حنيفة لما عفا عن قدر الدرهم من النجاسة لأجل الحاجة، والشافعي عفا عن دم البراغيث للحاجة فلم لا يحكمان بالعفو في هذه الصورة للحاجة الثالث: أنه تعالى أباح أكل الميتة لمصلحة النفس فكذا ههنا، ومن الناس من حرمه واحتج بقوله عليه السلام: " إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم " وأجاب الأولون بأن التمسك بهذا الخبر إنما يتم لو ثبت أنه يحرم عليه تناوله، والنزاع ليس إلا فيه.
المسألة السادسة: اختلفوا في التداوي بالخمر، واعلم أن الحاجة إلى ذلك التداوي إن انتهت إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الرابعة، فإن لم تنته إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الخامسة
27

الحكم الثاني
قوله تعالى
* (إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) *.
اعلم أن في قوله: * (إن الذين يكتمون) * مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود؛ كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وأبي ياسر بن أخطب، كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا، فلما بعث محمد عليه السلام خافوا انقطاع تلك المنافع، فكتموا أمر محمد عليه السلام وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية: اختلفوا في أنهم أي شيء كانوا يكتمون؟ فقيل: كانوا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته والبشارة به، وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي والأصم وأبي مسلم، وقال الحسن: كتموا الأحكام وهو قوله تعالى: * (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) * (التوبة: 34).
المسألة الثالثة: اختلفوا في كيفية الكتمان، فالمروي عن ابن عباس: أنهم كانوا محرفين يحرفون التوراة والإنجيل، وعند المتكلمين هذا ممتنع، لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما، بل كانوا يكتمون التأويل، لأنه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد عليه السلام، وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة، ويصرفونها عن محاملها الصحيحة الدالة على نبوة محمد عليه السلام، فهذا هو المراد من الكتمان، فيصير المعنى: إن الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب.
أما قوله تعالى: * (ويشترون به ثمنا قليلا) * ففيه مسائل:
28

المسألة الأولى: الكناية في: به، يجوز أن تعود إلى الكتمان والفعل يدل على المصدر، ويحتمل أن تكون عائدة إلى ما أنزل الله، ويحتمل أن تكون عائدة إلى المكتوم.
المسألة الثانية: معنى قوله: * (ويشترون به ثمنا قليلا) * كقوله: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * (البقرة: 41) وقد مر ذلك وبالجملة فكان غرضهم من ذلك الكتمان: أخذ الأموال بسبب ذلك، فهذا هو المراد من اشترائهم بذلك ثمنا قليلا.
المسألة الثالثة: إنما سماه قليلا إما لأنه في نفسه قليل، وإما لأنه بالإضافة إلى ما فيه من الضرر العظيم قليل.
المسألة الرابعة: من الناس من قال: كان غرضهم من ذلك الكتمان أخذ الأموال من عوامهم وأتباعهم، وقال آخرون: بل كان غرضهم من ذلك أخذهم الأموال من كبرائهم وأغنيائهم الذين كانوا ناصرين لذلك المذهب، وليس في الظاهر أكثر من اشترائهم بذلك الكتمان الثمن القليل، وليس فيه بيان من طمعوا فيه وأخذوا منه، فالكلام مجمل وإنما يتوجه الطمع في ذلك إلى من يجتمع إليه الجهل، وقلة المعرفة المتمكن من المال والشح على المألوف في الدين فينزل عليه ما يلتمس منه فهذا هو معلوم بالعادة، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الحكاية عنهم ذكر الوعيد على ذلك من وجوه أولها: قوله تعالى: * (أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال بعضهم: ذكر البطن ههنا زيادة بيان لأنه يقال أكل فلان المال إذا بدره وأفسده وقال آخرون: بل فيه فائدة فقوله: * (في بطونهم) * أي ملء
بطونهم يقال: أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه.
المسألة الثانية: قيل: إن أكلهم في الدنيا وإن كان طيبا في الحال فعاقبته النار فوصف بذلك كقوله: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (النساء: 10) عن الحسن والربيع وجماعة من أهل العلم، وذلك لأنه لما أكل ما يوجب النار فكأنه أكل النار، كما روي في حديث آخر " الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " وقوله: * (إني أراني أعصر خمرا) * (يوسف: 36) أي عنبا فسماه باسم ما يؤول إليه وقيل: إنهم في الآخرة يأكلون النار لأكلهم في الدنيا الحرام عن الأصم وثالثها: قوله تعالى: * (ولا يكلمهم الله) * فظاهره: أنه لا يكلمهم أصلا لكنه لما أورده مورد الوعيد فهم منه ما يجري مجرى العقوبة لهم، وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول: أنه قد دلت الدلائل على أنه سبحانه وتعالى يكلمهم، وذلك قوله: * (فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون) * (الحجر: 92 - 93)
29

وقوله: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) * (الأعراف: 6) فعرفنا أنه يسأل كل واحد من المكلفين، والسؤال لا يكون إلا بكلام فقالوا: وجب أن يكون المراد من الآية أنه تعالى لا يكلمهم بتحية وسلام وإنما يكلمهم بما يعظم عنده من الغم والحسرة من المناقشة والمساءلة وبقوله: * (اخسئوا فيها ولا تكلمون) * (المؤمنون: 108) الثاني: أنه تعالى لا يكلمهم وأما قوله تعالى: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) * (الحجر: 92) فالسؤال إنما يكون من الملائكة بأمره تعالى وإنما كان عدم تكليمهم يوم القيامة مذكورا في معرض التهديد لأن يوم القيامة هو اليوم الذي يكلم الله تعالى فيه كل الخلائق بلا واسطة فيظهر عند كلامه السرور في أوليائه، وضده في أعدائه، ويتميز أهل الجنة بذلك من أهل النار فلا جرم كان ذلك من أعظم الوعيد الثالث: أن قوله: * (ولا يكلمهم) * استعارة عن الغضب لأن عادة الملوك أنهم عند الغضب يعرضون عن المغضوب عليه ولا يكلمونه كما أنهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث وثالثها: قوله: * (ولا يزكيهم) * وفيه وجوه الأول: لا ينسبهم إلى التزكية ولا يثني عليهم الثاني: لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء الثالث: لا ينزلهم منازل الأزكياء ورابعها: قوله: * (ولهم عذاب أليم) * واعلم أن الفعيل قد يكون بمعنى الفاعل كالسميع بمعنى السامع والعليم بمعنى العالم، وقد يكون بمعنى المفعول كالجريح والقتيل بمعنى المجروح والمقتول، وقد يكون بمعنى المفعل كالبصير بمعنى المبصر والأليم بمعنى المؤلم واعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل:
المسألة الأولى: أن علماء الأصول قالوا: العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإهانة فقوله: * (ولا يكلمهم الله ولا يزكيهم) * إشارة إلى الإهانة والاستخفاف، وقوله: * (ولهم عذاب أليم) * إشارة إلى المضرة وقدم الإهانة على المضرة تنبيها على أن الإهانة أشق وأصعب.
المسألة الثانية: دلت الآية على تحريم الكتمان لكل علم في باب الدين يجب إظهاره.
المسألة الثالثة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية وإن نزلت في اليهود لكنها عامة في حق كل من كتم شيئا من باب الدين يجب إظهاره فتصلح لأن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر والله أعلم.
30

قوله تعالى
* (أولئك لذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فمآ أصبرهم على النار) *.
اعلم أنه تعالى لما وصف علماء اليهود بكتمان الحق وعظم في الوعيد عليه، وصف ذلك الجرم ليعلم أن ذلك العقاب إنما عظم لهذا الجرم العظيم، واعلم أن الفعل إما أن يعتبر حاله في الدنيا أو في الآخرة، أما في الدنيا فأحسن الأشياء الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضلال والجهل فلما تركوا الهدى والعلم في الدنيا، ورضوا بالضلال والجهل، فلا شك أنهم في نهاية الخيانة في الدنيا، وأما في الآخرة فأحسن الأشياء المغفرة، وأخسرها العذاب، فلما تركوا المغفرة ورضوا بالعذاب، فلا شك أنهم في نهاية الخسارة في الآخرة وإذا كانت صفتهم على ما ذكرناه، كانوا لا محالة أعظم الناس خسارا في الدنيا وفي الآخرة، وإنما حكم تعالى عليهم بأنهم استروا العذاب بالمغفرة، لأنهم لما كانوا عالمين بما هو الحق، وكانوا عالمين بأن في إظهاره وإزالة الشبهة عنه أعظم الثواب، وفي إخفائه وإلقاء الشبهة فيه أعظم العقاب، فلما أقدموا على إخفاء ذلك الحق كانوا بائعين للمغفرة بالعذاب لا محالة.
أما قوله: * (فما أصبرهم على النار) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن في هذه اللفظة قولان أحدهما: أن * (ما) * في هذه الآية استفهام التوبيخ معناه: ما الذي أصبرهم وأي شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل وهذا قول عطاء وابن زيد وقال ابن الأنباري: وقد يكون أصبر بمعنى صبر وكثيرا ما يكون أفعل بمعنى فعل نحو أكرم وكرم، وأخبر وخبر الثاني: أنه بمعنى التعجب وتقريره أن الراضي بموجب الشيء لا بد وأن يكون راضيا بمعلوله ولازمه إذا علم ذلك اللزوم فلما أقدموا على ما يوجب النار ويقتضي عذاب الله مع علمهم بذلك صاروا كالراضين بعذاب الله تعالى، والصابرين عليه، فلهذا قال تعالى: * (فما أصبرهم على النار) * وهو كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان ما أصبرك على التقيد والسجن إذا عرفت هذا ظهر أنه يجب حمل قوله: * (فما أصبرهم على النار) * على حالهم في الدنيا لأن ذلك وصف لهم في حال التكليف، وفي حال اشترائهم الضلالة بالهدى، وقال الأصم: المراد أنه إذا قيل لهم * (اخسئوا فيها ولا تكلمون) * (المؤمنون: 108) فهم يسكتون ويصبرون على النار لليأس من الخلاص، وهذا ضعيف لوجوه أحدها: أن الله تعالى وصفهم بذلك في الحال فصرفه إلى أنهم سيصيرون كذلك خلاف الظاهر وثانيها: أن أهل النار قد يقع منهم الجزع والاستغاثة.
المسألة الثانية: في حقيقة التعجب وفي الألفاظ الدالة عليه في اللغة
31

وههنا بحثان:
البحث الأول: في التعجب: وهو استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء فما لم يوجد المعنيان لا يحصل التعجب هذا هو الأصل، ثم قد تستعمل لفظة التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير أن يكون للعظمة سبب حصول، ولهذا أنكر شريح قراءة من قرأ * (بل عجبت ويسخرون) * (الصافات: 12) بضم التاء من عجبت، فإنه رأى أن خفاء شيء ما على الله محال قال النخعي: معنى التعجب في حق الله تعالى مجرد الاستعظام، وإن كان في حق العباد لا بد مع الاستعظام من خفاء السبب كما أنه يجوز إضافة السخرية والاستهزاء والمكر إلى الله تعالى، لا بالمعني الذي يضاف إلى العباد.
البحث الثاني: اعلم أن للتعجب صيغتين أحدهما: ما أفعله كقوله تعالى: * (فما أصبرهم على النار) * والثاني: أفعل به كقوله: * (أسمع بهم وأبصر) * (مريم: 38).
أما العبارة الأولى: وهي قولهم؛ ما أصبره ففيها مذاهب.
القول الأول: وهو اختيار البصريين أن * (ما) * اسم مبهم يرتفع بالابتداء، وأحسن فعل وهو خبر المبتدأ وزيدا مفعول وتقديره: شيء حسن زيدا أي صيره حسنا.
واعلم أن هذا القول عند الكوفيين فاسدا واحتجوا عليه بوجوه الأول: أنه يصح أن يقال ما أكرم الله، وما أعظمه وما أعلمه، وكذا القول في سائر صفاته ويستحيل أن يقال: شيء جعل الله كريما وعظيما وعالما، لأن صفات الله سبحانه وتعالى واجبة لذاته فإن قيل. هذه اللفظة إذا أطلقت فيما يجوز عليه الحدوث كان المراد منه الاستعظام مع خفاء سببه وإذا أطلقت على الله تعالى كان المراد منه أحد شطريه وهو الاستعظام فحسب، قلنا: إذا قلنا ما أعظم الله فكلمة * (ما) * ههنا ليست بمعنى شيء فلا تكون مبتدأ، ولا يكون أعظم خبرا عنه، فلا بد من صرفه إلى وجه آخر، وإذا كان كذلك ثبت أن تفسير هذه الآية بهذه الأشياء في مقام التعجب غير صحيح.
الحجة الثانية: أنه لو كان معنى قولنا. ما أحسن زيدا شيء حسن زيدا، لوجب أن يبقى معنى التعجب إذا صرحنا بهذا الكلام، ومعلوم أنا إذا قلنا: شيء حسن زيدا فإنه لا يبقى فيه معنى التعجب البتة، بل كان ذلك كالهذيان، فعلمنا أنه لا يجوز تفسير قولنا: ما أحسن زيدا بقولنا شيء حسن زيدا.
الحجة الثالثة: أن الذي حسن زيدا والشمس والقمر والعالم هو الله سبحانه وتعالى ولا
32

يجوز التعبير عنه بما وإن جاز ذلك لكن التعبير عنه سبحانه بمن أولى، فكان ينبغي أنا لو قلنا من أحسن زيدا أن يبقى معنى التعجب، ولما لم يبق علمنا فساد ما قالوه.
الحجة الرابعة: أن على التفسير الذي قالوا لا فرق بين قوله: ما أحسن زيدا وبين قوله زيدا ضرب عمرا فكما أن هذا ليس بتعجب وجب أن يكون الأول كذلك.
الحجة الخامسة: أن كل صفة ثبتت للشيء فثبوتها له إما أن يكون له من نفسه أو من غيره فإذا كان المؤثر في تلك الصفة نفسه أو غيره وعلى التقديرين فشئ صيره حسنا، إما أن يكون ذلك الشيء هو نفسه أو غيره، فإذن العلم بأن شيئا صيره حسنا علم ضروري والعلم بكونه متعجبا منه غير ضروري، فاذن لا يجوز تفسير قولنا: ما أحسن زيدا بقولنا شيء حسن زيدا.
الحجة السادسة: أنهم قالوا: المبتدأ لا يجوز أن يكون نكرة فكيف جعلوا ههنا أشد الأشياء تنكيرا مبتدأ؟ وقالوا: لا يجوز أن يقال: رجل كاتب لأن كل أحد يعلم أن في الدنيا رجلا كاتبا فلا يكون هذا الكلام مفيدا: وكذا كل أحد يعلم أن شيئا ما هو الذي حسن زيدا فأي فائدة في هذا الإخبار؟
الحجة السابعة: دخول التصغير الذي هو من خاصية الأسماء في قولك: ما أحسن زيدا، فإن قيل: جواز دخول التصغير إنما كان لأن هذا الفعل قد لزم طريقة واحدة، فصار مشابها للاسم فأخذ خاصيته وهو التصغير قلنا: لا شك أن للفعل ماهية وللتصغير ماهية فهاتان الماهيتان: إما أن يكونا متنافيتين، أو لا يكون متنافيتين فإن كانتا متنافيتين استحال اجتماعهما في كل المواضع فحيث اجتماعهما ههنا علمنا أن هذا ليس بفعل، وإن لم يكونا متنافيتين وجب صحة تطرق التصغير إلى كل الأفعال، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم.
الحجة الثامنة: تصحيح هذه اللفظة وإبطال إعلاله فإنك تقول في التعجب: ما أقوم زيدا بتصحيح الواو كما تقول: زيد أقوم من عمرو، ولو كانت فعلا لكانت واوه ألفا لفتحة ما قبلها، ألا تراهم يقولون: أقام يقيم فإن قيل: هذه اللفظة لما لزمت طريقة واحدة صارت بمنزلة الاسم، وتمام التقرير أن الإعلال في الأفعال ما كان لعلة كونها فعلا ولا التصحيح في الأسماء لعلة الإسمية، بل كان الإعلال في الأفعال لطلب الخفة عند وجوب كثرة التصرف، وعدم الإعلال في الأسماء لعدم التصرف وهذا الفعل بمنزلة الاسم في علة التصحيح والإمتناع من الإعلال
33

قلنا: لما كان الإعلال في الأفعال لطلب الخفة، فكان ينبغي أن يجعل خفيفا ثم يترك على خفته فإن هذا أقرب إلى العقل.
الحجة التاسعة: أن قولك: أحسن لو كان فعلا، وقولك: زيدا مفعولا لجاز الفصل بينهما يا لظرف، فيقال: ما أحسن عندك زيدا، وما أجمل اليوم عبد الله، والرواية الظاهرة أن ذلك غير جائز، فبطل ما ذهبتم إليه.
الحجة العاشرة: أن الأمر لو كان على ما ذكرتم لكان ينبغي أن يجوز التعجب بكل فعل متعد مجردا كان أو مزيدا، ثلاثيا كان أو رباعيا، وحيث لم يجز إلا من الثلاثي المجرد دل على فساد هذا القول، واحتج البصريون على أن أحسن في قولنا، ما أحسن زيدا فعل بوجوه أولها: بأن أحسن فعل بالاتفاق فنحن على فعليته إلى قيام الدليل الصارف عنه وثانيها: أن أحسن مفتوح الآخر، ولو كان اسما لوجب أن يرتفع إذا كان خبرا لمبتدأ وثالثها: الدليل على كونه فعلا اتصال الضمير المنصوب به، وهو قولك: ما أحسنه.
والجواب عن الأول: أن أحسن كما أنه قد يكون فعلا، فهو أيضا قد يكون اسما، حين ما يكون كلمة تفضيل، وأيضا فقد دللنا بالوجوه الكثيرة على أنه لا يجوز أن يكون
فعلا وأنتم ما طلبتمونا إلا بالدلالة.
والجواب عن الثاني: أنا سنذكر العلة في لزوم الفتحة لآخر هذه الكلمة.
والجواب عن الثالث: أنه منتقض بقولك: لعلي وليتني، والعجب أن الاستدلال بالتصغير على الإسمية أقوى من الاستدلال بهذا الضمير على الفعلية، فإذا تركتم ذلك الدليل القوي، فبأن تتركوا هذا الضعيف أولى، فهذا جملة الكلام في هذا القول.
القول الثاني: وهو اختيار الأخفش قال: القياس أن يجعل المذكور بعد كلمة * (ما) * وهو قولك: أحسن صلة لما، ويكون خبر * (ما) * مضمرا، وهذا أيضا ضعيف لأكثر الوجوه المذكورة منها أنك لو قلت: الذي أحسن زيدا ليس هو بكلام منتظم، وقولك: ما أحسن زيدا كلام منتظم وكذا القول في بقية الوجوه.
القول الثالث: وهو اختيار الفراء: أن كلمة * (ما) * للاستفهام وأفعل اسم، وهو للتفضيل، كقولك: زيد أحسن من عمرو، ومعناه أي شيء أحسن من زيد فهو استفهام تحته إنكار أنه وجد شيء أحسن منه، كما يقول من أخبر عن علم إنسان فأنكره غيره فيقول هذا المخبر: ومن أعلم من فلان؟ إظهارا منه ما يدعيه منازعه على خلاف الحق، وأن لا يمكنه إقامة الدليل عليه ويظهر
34

عجزه في ذلك عند مطالبتي إياه بالدليل، ثم قولك أحسن وإن كان ينبغي أن يكون مرفوعا كما في قولك: ما أحسن زيد إذا استفهمت عن أحسن عضو من أعضائه، إلا أنه نصب ليقع الفرق بين ذلك الاستفهام وبين هذا، فإن هناك معنى قولك: ما أحسن زيد أي عضو من زيد أحسن، وفي هذا معناه أي شيء من الموجودات في العالم أحسن من زيد، وبينهما فرق كما ترى، واختلاف الحركات موضوع للدلالة على اختلاف المعاني والنصب قولنا زيدا أيضا للفرق لأنه هناك خفض لأنه أضيف أحسن إليه، ونصب هنا للفرق، وأيضا ففي كل تفضيل معنى الفعل، وفي كل ما فضل عليه غيره معنى المفعول، فإن معنى قولك: زيد أعلم من عمرو، أن زيدا جاوز عمرا في العلم، فجعل هذا المعنى معتبرا عند الحاجة إلى الفرق.
القول الرابع: وهو أيضا قول بعض الكوفيين قال إن * (ما) * للاستفهام وأحسن فعل كما يقوله البصريون، معناه: أي شيء حسن زيدا، كأنك تستدل بكمال هذا الحسن على كمال فاعل هذا الحسن، ثم تقول: إن عقلي لا يحيط بكنه كماله، فتسأل غيرك أن يشرح لك كماله، فهذا جملة ما قيل في هذا الباب.
وأما تحقيق الكلام في أفعل به فسنذكره إن شاء الله في قوله: * (أسمع بهم وأبصر) * (مريم: 38).
* (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا فى الكتاب لفى شقاق بعيد) *.
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن قوله: * (ذلك) * إشارة إلى ماذا؟ فذكروا وجهين:
الأول: أنه إشارة إلى ما تقدم من الوعيد، لأنه تعلى لما حكم على الذين يكتمون البينات بالوعيد الشديد، بين أن ذلك الوعيد على ذلك الكتمان إنما كان لأن الله نزل الكتاب بالحق في صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هؤلاء اليهود والنصارى لأجل مشاقة الرسول يخفونه ويوقعون الشبهة فيه، فلا جرم استحقوا ذلك الوعيد الشديد، ثم قد تقدم في وعيدهم أمور: أحدها: أنهم اشتروا العذاب بالمغفرة وثانيها: اشتروا الضلالة بالهدى وثالثها: أن لهم عذابا أليما ورابعها: أن الله لا يزكيهم وخامسها: أن الله لا يكلمهم فقوله: * (ذلك) * يصلح أن يكون إشارة
35

إلى كل واحد من هذه الأشياء، وأن يكون إشارة إلى مجموعها.
الثاني: أن * (ذلك) * إشارة إلى ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفتهم أمر الله، وكتمانهم ما أنزل الله تعالى، فبين تعالى أن ذلك إنما هو من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق، وقد نزل فيه أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا ينقادون، ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر، كما قال: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6). المسألة الثانية: قوله: * (ذلك) * يحتمل أن يكون في محل الرفع أو في محل النصب، أما في محل الرفع بأن يكون مبتدأ، ولا محالة له خبر، وذلك الخبر وجهان الأول: التقدير ذلك الوعيد معلوم لهم بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق، فبين فيه وعيد من فعل هذه الأشياء فكان هذا الوعيد معلوما لهم لا محالة الثاني: التقدير: ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب وكفروا به فيكون الباء في محل الرفع بالخبرية، وأما في محل النصب فلأن التقدير: فعلنا ذلك بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق وهم قد حرفوه.
المسألة الثالثة: المراد من الكتاب يحتمل أن يكون هو التوراة والإنجيل المشتملين على بعث محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون هو القرآن، فإن كان الأول كان المعنى: وإن الذين اختلفوا في تأويله وتحريفه لفي شقاق بعيد، وإن كان الثاني كان المعنى وإن الذين اختلفوا في كونه حقا منزلا من عند الله لفي شقاق بعيد.
المسألة الرابعة: قوله: * (بالحق) * أي بالصدق، وقيل ببيان الحق.
وقوله تعالى: * (وإن الذين اختلفوا) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: إن الذين اختلفوا قيل: هم الكفار أجمع اختلفوا في القرآن، والأقرب حمله على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيهما، لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه وحرفوا تأويله، فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة بهم فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم دون القرآن الذي إذا عرفوه فعلى وجه التبع لصحة كتابهم، أما قوله: * (بالحق) * فقيل: بالصدق، وقيل: ببيان الحق، وأما قوله: * (وإن الذين اختلفوا في الكتاب) * فاعلم أنا وإن قلنا: المراد من الكتاب هو القرآن، كان اختلافهم فيه أن بعضهم قال: إنه كهانة، وآخرون قالوا: إنه سحر، وثالث قال: رجز، ورابع قال
: إنه أساطير الأولين وخامس قال: إنه كلام منقول مختلق، وإن قلنا: المراد من الكتاب التوراة والإنجيل فالمراد باختلافهم يحتمل وجوها أحدها: أنهم مختلفون في دلالة التوراة على نبوة المسيح، فاليهود
36

قالوا: إنها دالة على القدح في عيسى والنصارى قالوا إنها دالة على نبوته وثانيها: أن القوم اختلفوا في تأويل الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فذكر كل واحد منهم له تأويلا آخر فاسدا لأن الشيء إذا لم يكن حقا واجب القبول بل كان متكلفا كان كل أحد يذكر شيئا آخر على خلاف قول صاحبه، فكان هذا هو الإختلاف وثالثها: ما ذكره أبو مسلم فقال: قوله: * (اختلفوا) * من باب افتعل الذي يكون مكان فعل، كما يقال: كسب واكتسب، وعمل واعتمل، وكتب واكتتب، وفعل وافتعل، ويكون معنى قوله: * (الذين اختلفوا في الكتاب) * الذين خلفوا فيه أي توارثوه وصاروا خلفاء فيه كقوله: * (فخلف من بعدهم خلف) * (الأعراف: 169) وقوله: * (إن في اختلاف الليل والنهار) * (يونس: 6) أي كل واحد يأتي خلف الآخر، وقوله: * (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر) * (الفرقان: 62) أي كل واحد منهما يخلف الآخر، وفي الآية تأويل ثالث، وهو أن يكون المراد بالكتاب جنس ما أنزل الله والمراد بالذين اختلفوا في الكتاب الذين اختلف قولهم في الكتاب، فقبلوا بعض كتب الله وردوا البعض وهم اليهود والنصارى حيث قبلوا بعض كتب الله وهو التوراة والإنجيل وردوا الباقي وهو القرآن.
أما قوله: * (لفي شقاق بعيد) * ففيه وجوه أحدها: أن هؤلاء الذين يختلفون في كيفية تحريف التوراة والإنجيل لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاق بعيد ومنازعة شديدة فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة وثانيها: كأنه تعالى يقول لمحمد هؤلاء وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم كالمتفقين على عداوتك وغاية المشاقة لك فلهذا خصهم الله بذلك الوعيد وثالثها: أن هؤلاء الذين اتفقوا على أصل التحريف واختلفوا في كيفية التحريف فإن كل واحد منهم يكذب صاحبه ويشاقه وينازعه، وإذا كان كذلك فقد اعترفوا بكذبهم بقولهم فلا يكون قدحهم فيك قادحا فيك البتة، والله أعلم.
الحكم الثالث
* (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من ءامن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن
37

السبيل والسآئلين وفي الرقاب وأقام الصلوة وءاتى الزكوة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأسآء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) *.
اعلم أن في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص فقال بعضهم: أراد بقوله: * (ليس البر) * أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه نحو بيت المقدس فقال تعالى: ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله وقال بعضهم: بل المراد مخاطبة المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام، وقال بعضهم بل هو خطاب للكل لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الإغتباط بهذه القبلة وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الغرض الأكبر في الدين فبعثهم الله تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقا وغربا، وإنما البر كيت وكيت، وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخصيص فيه فكأنه تعالى قال: ليس البر المطلوب هو أمر القبلة، بل البر المطلوب هذه الخصال التي عدها.
المسألة الثانية: الأكثرون على أن * (ليس) * فعل ومنهم من أنكره وزعم أنه حرف، حجة من قال: إنها فعل اتصال الضمائر بها التي لا تتصل إلا بالأفعال كقولك: لست ولسنا ولستم والقوم ليسوا قائمين، وهذه الحجة منقوضة بقوله: إنني وليتني ولعل وحجة المنكرين أولها: أنها لو كانت فعلا لكانت ماضيا ولا يجوز أن تكون فعلا ماضيا، فلا يجوز أن تكون فعلا، بيان الملازمة أن كل من قال إنه فعل قال: إنه فعل ماض وبيان أنه لا يجوز أن يكون فعلا ماضيا اتفاق الجمهور على أنه لنفي الحال، ولو كان ماضيا لكان لنفي الماضي لا لنفي الحال وثانيها: أنه
38

يدخل على الفعل، فنقول: ليس يخرج زيد، والفعل لا يدخل على الفعل عقلا ونقلا، وقول من قال إن * (ليس) * داخل على ضمير القصة والشأن وهذه الجملة تفسير لذلك الضمير ضعيف، فإنه لو جاز ذلك جاز مثله في * (ما) * وثالثها: أن الحرف * (ما) * يظهر معناه في غيره، وهذه الكملة كذلك فإنك لو قلت: ليس زيد لم يتم الكلام، بل لا بد وأن تقول ليس زيد قائما ورابعها: أن * (ليس) * لو كان فعلا لكان * (ما) * فعلا وهذا باطل، فذاك باطل بيان الملازمة أن * (ليس) * لو كان فعلا لكان ذلك لدلالته على حصول معنى السلب مقرونا بزمان مخصوص وهو الحال، وهذا المعنى قائم في * (ما) * فوجب أن يكون * (ما) * فعلا فلما لم يكن هذا فعلا فكذا القول ذلك، أو نذكر هذا المعنى بعبارة أخرى فنقول: * (ليس) * كلمة جامدة وضعت لنفي الحال فأشبهت * (ما) * في نفي الفعلية وخامسها: إنك تصل * (ما) * بالأفعال الماضية فتقول: ما أحسن زيد ولا يجوز أن تصل * (ما) * بليس فلا تقول ما ليس زيد يذكرك سادسها: أنه على غير أوزان الفعل لأن فعل غير موجود في أبنية الفعل، فكان في القول بأنه فعل إثبات ما ليس من أوزان الفعل.
فإن قيل: أصله ليس مثل صيد البعير إلا أنهم خففوه وألزموه التخفيف لأنه لا يتصرف للزومه حالة واحدة، وإنما تختلف أبنية الأفعال لاختلاف الأوقات التي تدل عليها، وجعلوا للبناء الذي خصوه به ماضيا، لأنه أخف الأبنية.
قلنا: هذا كله خلاف الأصل، فالأصل عدمه ولأن الأصل في الفعل التصرف، فلما منعوه التصرف كان من الواجب أن يبقوه على بنائه الأصلي لئلا يتوالى عليه النقصانات، فأما أن يجعل منع التصرف الذي هو خلاف الأصل علة لتغير البناء الذي هو أيضا خلاف الأصل فذاك فاسد جدا وسابعها: ذكر القتيبي أنها كلمة مركبة من
الحروف النافي الذي هو لا، و: أيس، أي موجود قال ولذلك يقولون: أخرجه من الليسية إلى الأيسية أي من العدم إلى الوجود، وأيسته أي وجدته وهذا نص في الباب، قال وذكر الخليل أن * (ليس) * كلمة جحود معناها: لا أيس، فطرحت الهمزة استخفافا لكثرة ما يجري في الكلام، والدليل عليه قول العرب: ائتني به من حيث أيس وليس، ومعناه: من حيث هو ولا هو وثامنها: الاستقراء دل على أن الفعل إنما يوضع لإثبات المصدر، وهذا إنما يفيد السلب أو لا يكون فعلا، فإن قيل: ينتقض قولكم بقوله: نفى زيدا وأعدمه، قلنا: قولك نفى زيدا مشتق من النفي فقولك نفي دل على حصول معنى النفي فكانت الصيغة الفعلية دالة تحقق مصدرها، فلم يكن السؤال واردا، وأما القائلون بأن * (ليس) * فعل فقد تكلفوا في الجواب عن الكلام الأول بأن * (ليس) * قد يجيء لنفي الماضي كقولهم: جاءني القوم
39

ليس زيدا، * (وعن الثاني) * أنه منقوض بقولهم: أخذ يفعل كذا وعن الثالث: أنه منقوض بسائر الأفعال الناقصة وعن الرابع: أن المشابهة من بعض الوجوه لا تقتضي المماثلة وعن الخامس: أن لك إنما امتنع من قبل أن: ما، للحال * (وليس) * للماضي، فلا يكون الجمع بينهما وعن السادس: أن تغير البناء وإن كان على خلاف الأصل لكنه يجب المصير إليه ضرورة العمل بما ذكرنا من الدليل وعن السابع:) * أن الليسية اسم فلم قلتم أن ليس اسم، وأما قوله: من حيث أيس وليس فلم قلتم أن المضاف إليه يجب كونه اسما، وأما الكتاب فممنوع منه بالدليل وعن الثامن: أن * (ليس) * مشتق من الليسية فهي دالة على تقرير معنى الليسية، فهذا ما يمكن أن يقال في هذه المسألة وإن كانت هذه الجوابات مختلفة.
المسألة الثالثة: قرأ حمزة وحفص عن عاصم * (ليس البر) * بنصب الراء، والباقون بالرفع، قال الواحدي: وكلا القراءتين حسن لأن اسم * (ليس) * وخبرها اجتمعا في التعريف فاستويا في كون كل واحد منهما اسما، والآخر خبرا، وحجة من رفع * (البر) * أن اسم * (ليس) * مشبه بالفاعل، وخبرها بالمفعول، والفاعل بأن يلي الفعل أولى من المفعول، ومن نصب * (البر) * ذهب إلى أن بعض النحويين قال: * (أن) * مع صلتها أولى أن تكون اسم * (ليس) * لشبهها بالمضمر في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر، فكان ههنا اجتمع مضمر ومظهر، والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر، وعلى هذا قرىء في التنزيل قوله: * (كان عاقبتهما أنهما في النار) * (الحشر: 12) وقوله: * (ما كان جواب قومه إلا أن قالوا) * (الأعراف: 82) * (وما كان حجتهم إلا أن قالوا) * (الجاثية: 25) والاختيار رفع البر لأنه روي عن ابن مسعور أنه قرأ: * (ليس البر بأن) * والباء تدخل في خبر ليس.
المسألة الرابعة: البر اسم جامع للطاعات، وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى، ومن هذا بر الوالدين، قال تعالى: * (إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم) * (الإنفطار: 13 - 14) فجعل البر ضد الفجور وقال: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * (المائدة: 2) فجعل البر ضد الإثم فدل على أنه اسم عام لجميع ما يؤجر عليه الإنسان وأصله من الاتساع ومنه البر الذي هو خلاف البحر لاتساعه.
المسألة الخامسة: قال القفال: قد قيل في نزول هذه الآية أقوال، والذي عندنا أنه أشار إلى السفهاء الذين طعنوا في المسلمين وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها مع أن اليهود كانوا يستقبلون المغرب، والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فقال الله تعالى: إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب، بل البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور أحدها: الإيمان بالله وأهل الكتاب أخلوا بذلك، أما اليهود فقولهم: بالتجسيم ولقولهم: بأن عزيرا ابن الله، وأما
40

النصارى، فقولهم: المسيح ابن الله، ولأن اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل، على ما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: * (قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) * (آل عمران: 181) وثانيها: الإيمان باليوم الآخر واليهود أخلوا بهذا الإيمان حيث قالوا: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * (البقرة: 111) وقالوا: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * (البقرة: 80) والنصارى أنكروا المعاد الجسماني، وكل ذلك تكذيب باليوم الآخر وثالثها: الإيمان بالملائكة، واليهود أخلوا ذلك حيث أظهروا عداوة جبريل عليه السلام ورابعها: الإيمان بكتب الله، واليهود والنصارى قد أخلوا بذلك، لأن مع قيام الدلالة على أن القرآن كتاب الله ردوه ولم يقبلوه قال تعالى: * (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) * (البقرة: 85) وخامسها: الإيمان بالنبيين واليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء، على ما قال تعالى: * (ويقتلون النبيين بغير الحق) * (البقرة: 61) وحيث طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وسادسها: بذل الأموال على وفق أمر الله سبحانه واليهود وأخلوا بذلك لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل كما قال * (واشتروا به ثمنا قليلا) * (البقرة: 187) وسابعها: إقامة الصلوات والزكوات واليهود كانوا يمنعون الناس منها وثامنها: الوفاء بالعهد، واليهود نقضوا العهد حيث قال: * (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40) وههنا سؤال: وهو أنه تعالى نفى أن يكون التوجه إلى القبلة برا ثم حكم بأن البر مجموع أمور أحدها الصلاة ولا بد فيها من استقبال فيلزم التناقض ولأجل هذا السؤال اختلف المفسرون على أقوال الأول: أن قوله: * (ليس البر) * نفي لكمال البر وليس نفيا لأصله كأنه قال ليس البر كله هو هذا، البر اسم لمجموع الخصال الحميدة واستقبال القبلة واحد منها، فلا يكون ذلك تمام البر الثاني: أن يكون هذا نفيا لأصل كونه برا، لأن استقبالهم للمشرق والمغرب كان خطأ في وقت النفي حين ما نسخ الله تعالى ذلك، بل كان ذلك إثما وفجورا لأنه عمل بمنسوخ قد نهى الله عنه، وما يكون كذلك فإنه لا يعد في البر الثالث: أن استقبال القبلة لا يكون برا إذا لم يقارنه معرفة الله، وإنما يكون برا إذا أتي به مع الإيمان، وسائر الشرائط كما أن السجدة لا تكون من أفعال البر، إلا إذا أتي بها مع الإيمان بالله ورسوله، فأما إذا أتي بها بدون هذا الشرط، فإنها لا تكون من أفعال البر، روي أنه لما حولت القبلة كثر الخوض في نسخها وصار كأنه لا يراعي بطاعة الله إلا الاستقبال، فأنزل الله تعالى هذه الآية كأنه تعالى قال ما هذا الخوض الشديد في أمر القبلة مع الإعراض عن كل أركان الدين.
المسألة السادسة: قوله: * (ولكن البر من آمن بالله) * فيه حذف وفي كفيته وجوه أحدها: ولكن البر بر من آمن بالله، فحذف المضاف وهو كثير في الكلام كقوله: * (وأشربوا في قلوبهم
41

العجل) * (البقرة: 93) أي حب العجل، ويقولون: الجود حاتم والشعر زهير، والشجاعة عنترة، وهذا اختيار الفراء، والزجاج، وقطرب، قال أبو علي: ومثل هذه الآية قوله: * (أجعلتم سقاية الحاج) * (التوبة: 19) ثم قال * (كمن آمن) * (التوبة: 19) وتقديره، أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن ليقع التمثيل بين مصدرين أو بين فاعلين، إذا لا يقع التمثيل بين مصدر وفاعل وثانيها: قال أبو عبيدة البر ههنا بمعنى الباء كقوله: * (والعاقبة للتقوى) * (طه: 132) أي للمتقين ومنه قوله: * (إن أصبح مائكم غورا) * (الملك: 30) أي غائرا، وقالت الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار (c)
أي مقبلة ومدبرة معا وثالثها: أن معناه ولكن ذا البر فحذف كقولهم: هم درجات عند الله أي ذووا درجات عن الزجاج ورابعها: التقدير ولكن البر يحصل بالإيمان وكذا وكذا عن المفصل.
واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى مقصود الكلام فيكون معناه: ولكن البر الذي هو كل البر الذي يؤدي إلى الثواب العظيم بر من آمن بالله، وعن المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن بقراءته لقرأت * (ولكن البر) * بفتح الباء، وقرأ نافع وابن عامر * (ولكن) * مخففة * (البر) * بالرفع، والباقون * (لكن) * مشددة * (البر) * بالنصب.
المسألة السابعة: اعلم أن الله تعالى اعتبر في تحقق ماهية البر أمورا الأول: الإيمان بأمور خمسة أولها: الإيمان بالله، ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه، ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلالة الدالة عليها فيدخل فيه العلم بحدوث العالم، والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم، ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوده وقدمه وبقائه، وكونه عالما بكل المعلومات، قادرا على كل الممكنات حيا مريدا سميعا بصيرا متكلما، ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزها عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية، ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثة الرسل وثانيها: الإيمان باليوم الآخر، وهذا الإيمان مفرع على الأول، لأنا ما لم نعلم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ولم نعلم قدرته على جميع الممكنات لا يمكننا أن نعلم صحة الحشر والنشر وثالثها: الإيمان بالملائكة ورابعها: الإيمان بالكتب وخامسها: الإيمان بالرسل، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: إنه لا طريق لنا إلى العلم بوجود الملائكة ولا إلى العلم بصدق الكتب
42

إلا بواسطة صدق الرسل، فإذا كانت قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب فلم قدم الملائكة والكتب في الذكر على الرسل؟.
الجواب: أن الأمل وإن كان كما ذكرتموه في عقولنا وأفكارنا، إلا أن ترتيب الوجود على العكس من ذلك، لأن الملك يوجد أولا، ثم يحصل بواسطة تبليغه نزول الكتب، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول، فالمراعي في هذه الآية ترتيب الوجود الخارجي، لا ترتيب الاعتبار الذهني.
السؤال الثاني: لم خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة؟
الجواب: لأنه دخل تحتها كل ما يلزم أن صدق به، فقد دخل تحت الإيمان بالله: معرفته بتوحيده وعدله وحكمته، ودخل تحت اليوم الآخر: المعرفة بما يلزم من أحكام الثواب والعقاب والمعاد، إلى سائر ما يتصل بذلك، ودخل تحت الملائكة ما يتصل بأدائهم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليؤديها إلينا إلى غير ذلك مما يجب أن يعلم من أحوال الملائكة، ودخل تحت الكتاب القرآن، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه، ودخل تحت النبيين الإيمان بنبوتهم، وصحة شرائعهم، فثبت أنه لم يبق شيء مما يجب الإيمان به إلا دخل تحت هذه الآية، وتقرير آخر: وهو أن للمكلف مبدأ ووسطا ونهاية، ومعرفة المبدأ والمنتهي هو المقصود بالذات، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة: الملائكة الآتين بالوحي، ونفس ذلك الوحي وهو الكتاب، والموحي إليه وهي الرسول؟
السؤال الثالث: لم قدم هذا الإيمان على أفعال الجوارح، وهو إيتاء المال، والصلاة، والزكاة.
الجواب: للتنبيه على أن أعمال القلوب أشرف عند الله من أعمال الجوارح، الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقق مسمى البر قوله: * (وآتى المال على حبه) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن الضمير في قوله: * (على حبه) * إلى ماذا يرجع؟ وذكروا فيه وجوها الأول: وهو قول الأكثرين أنه راجع إلى المال، والتقدير: وآتى المال على حب المال، قال ابن عباس وابن مسعود: وهو أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح، تأمل الغني، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وهذا التأويل يدل على أن الصدقة حال الصحة أفضل منها عند القرب من الموت، والعقل يدل على ذلك أيضا من وجوه أحدها: أن عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال وعند ظن قرب الموت يحصل ظن الاستغناء
43

عن المال، وبذل الشيء عند الاحتياج إليه أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه على ما قال: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 92) وثانيها: أن إعطاءه حال الصحة أدل على كونه متيقنا بالوعد والوعيد من إعطاءه حال المرض والموت وثالثها: أن إعطاءه حال الصحة أشق، فيكون أكثر ثوابا قياسا على ما يبذله الفقير من جهد المقل فإنه يزيد ثوابه على ما يبذله الغني ورابعها: أن من كان ماله على شرف الزوال فوهبه من أحد مع العلم بأنه لو لم يهبه لضاع فإن هذه الهبة لا تكون مساوية لما إذا لم يكن خائفا من ضياع المال ثم إنه وهبه منه طائعا وراغبا فكذا ههنا وخامسها: أنه متأيد بقوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 92) وقوله: * (ويطعمون الطعام على حبه) * (الإنسان: 80) أي على حب الطعام، وعن أبي الدرداء أنه صلى الله عليه وسلم قال: " مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعدما شبع ". القول الثاني: أن الضمير يرجع إلى الإيتاء كأنه قيل: يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله.
القول الثالث: أن الضمير عائد على اسم الله تعالى، يعني يعطون المال على حب الله أي على طلب مرضاته.
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء فقال قوم: إنها الزكاة وهذا ضعيف وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله: * (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) * ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا، فثبت أن المراد به غير الزكاة، ثم إنه لا يخلوا إما أن يكون من التطوعات أو من الواجبات، لا جائز أن يكون من التطوعات لأنه تعالى قال في آخر الآية: * (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) * وقف التقوى عليه، ولو كان ذلك ندبا لما وقف التقوى عليه، فثبت أن هذا الإيتاء، وإن كان غير الزكاة إلا أنه من الواجبات ثم فيه قولان:
القول الأول: أنه عبارة عن دفع الحاجات الضرورية مثل إطعام المضطر، ومما يدل على تحقق هذا الوجوب النص والمعقول، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام " لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره طاو إلى جنبه " وروي عن فاطمة بنت قيس: أن في المال حقا سوى الزكاة، ثم تلت * (وآتى المال على حبه) * وحكي عن الشعبي أنه سئل عمن له مال فأدى زكاته فهل عليه شيء سواه؟ فقال: نعم يصل القرابة، ويعطي السائل، ثم تلا هذه الآية، وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة، وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهرا، فهذا يدل على أن هذا الإيتاء واجب، واحتج من طعن في هذا القول بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن
44

الزكاة نسخت كل حق. والجواب: من وجوه الأول: أنه معارض بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " في المال حقوق سوى الزكاة " وقول الرسول أولى من قول علي الثاني: أجمعت الأمة على أنه إذا حضر المضطر فإنه يجب أن يدفع إليه ما يدفع الضرر، وإن كان قد أدى الزكاة بالكمال الثالث: المراد أن الزكاة نسخت الحقوق المقدرة، أما الذي لا يكون مقدرا فإنه غير منسوخ بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة، ويلزم النفقة على الأقارب، وعلى المملوك، وذلك غير مقدر، فإن قيل: هب أنه صح هذا التأويل لكن ما الحكمة في هذا الترتيب؟ قلنا فيه وجوه أحدها: أنه تعالى قدم الأولى فالأولى لأن الفقير إذا كان قريبا فهو أولى بالصدقة من غيره من حيث أنه يكون ذلك جامعا بين الصلة والصدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه وذلك يستحق به الإرث ويحجر بسببه على المالك في الوصية، حتى لا يتمكن من الوصية إلا في الثلث، ولذلك كانت الوصية للأقارب من الواجبات على ما قال * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) * (آل عمران: 180) الآية، وإن كانت تلك الوصية قد صارت منسوخة إلا عند بعضهم، فلهذه الوجوه قدم ذا القربى، ثم أتبعه تعالى باليتامى، لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه، ثم أتبعهم تعالى بذكر المساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم، ثم ذكر ابن السبيل إذ قد تشتد حاجته عند اشتداد رغبته إلى أهله، ثم ذكر السائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره وثانيها: أن معرفة المرء بشدة حاجة هذه الفرق تقوى وتضعف، فرتب تعالى ذكر هذه الفرق على هذا الوجه لأن علمه بشدة حاجة من يقرب إليه أقرب، ثم بحاجة الأيتام، ثم بحاجة المساكين، ثم على هذا النسق وثالثها: أن ذا القربى مسكين، وله صفة زائدة تخصه لأن شدة الحاجة فيه تغمه وتؤذي قلبه، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير، فلذلك بدأ الله تعالى بذي القربى، ثم باليتامى، وأخر المساكين لأن الغم الحاصل بسبب عجز الصغار عن الطعام والشراب أشد من الغم الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما فأما ابن السبيل فقد يكون غنيا، وقد تشتد حاجته في الوقت، والسائل قد يكون غنيا ويظهر شدة الحاجة وأخر المكاتب لأن إزالة الرق ليست في محل الحاجة الشديدة.
القول الثاني: أن المراد بإيتاء الماء ما روي أنه عليه الصلاة والسلام عند ذكره للإبل قال: " إن فيها حقا " هو إطراق فحلها وإعارة ذلولها، وهذا بعيد لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختص به ابن السبيل والسائل والمكاتب.
القول الثالث: أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجبا، ثم إنه صار منسوخا بالزكاة، وهذا أيضا ضعيف لأنه تعالى جمع في هذه الآية بين هذا الإيتاء وبين الزكاة.
45

المسألة الثالثة: أما ذوو القربى فمن الناس من حمل ذلك على المذكور في آية النفل والغنيمة والأكثرون من المفسرين على ذوي القربى للمعطين، وهو الصحيح لأنهم به أخص، ونظيره قوله تعالى: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى) * (النور: 22).
واعلم أن ذوي القربى هم الذين يقربون منه بولادة الأبوين أو بولادة الجدين، فلا وجه لقصر ذلك على ذوي الرحم المحرم على ما حكى عن قوم لأن المحرمية حكم شرعي أما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب وإن كان من يختص بذلك يتفاضل ويتفاوت في القرب والبعد، أما اليتامى ففي الناس من حمله على ذوي اليتامى، قال: لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه، فإنه متى فعل ذلك يكون مخطئا بل إذا كان اليتيم مراهقا عارفا بمواقع حظه، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ويلبس ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به جاز دفعها إليه، هذا كله على قول من قال: اليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر، وعند أصحابنا هذا الاسم قد يقع على الصغير وعلى البالغ والحجة فيه قوله تعالى: * (وآتوا اليتامى أموالهم) * (النساء: 20) ومعلوم أنهم لا يؤتون المال إلا إذا بلغوا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى: يتيم أبي طالب بعد بلوغه، فعلى هذا إن كان اليتيم بالغا دفع المال إليه، وإلا فيدفع إلى وليه، وأما المساكين ففيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى في سورة التوبة والذي نقوله هنا: إن المساكين أهل الحاجة، ثم هم ضربان منهم من يكف عن السؤال وهو المراد ههنا، ومنهم من يسأل وينبسط وهو المراد بقوله: * (والسائلين) * وإنما فرق تعالى بينهما من حيث يظهر على المسكين المسكنة مما يظهر من حاله، وليس كذلك السائل لأنه بمسألته يعرف فقره وحاجته، وأما ابن السبيل فروي عن مجاهد أنه المسافر، وعن قتادة أنه الضيف لأنه إنما وصل إليك من السبيل، والأول أشبه لأن السبيل اسم للطريق وجعل المسافر ابنا له للزومه إياه كما يقال لطير الماء: ابن الماء ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون: ابن الأيام. وللشجعان: بنو الحرب. وللناس: بنو الزمان. قال ذو الرمة: وردت عشاء والثريا كأنها * على قمة الرأس ابن ماء محلق
وأما قوله: * (والسائلين) * فعني به الطالبين، ومن جعل الآية في غير الزكاة أدخل في هذه الآية المسلم والكافر، روى الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: " للسائل حتى ولو جاء على فرس " وقال تعالى: * (في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم) * (المعارج: 24).
أما قوله: * (وفي الرقاب) * ففيه مسألتان.
46

المسألة الأولى: * (الرقاب) * جمع الرقبة وهي مؤخر أصل العنق، واشتقاقها من المراقبة، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم، ولهذا المعنى يقال: أعتق الله رقبته ولا يقال أعتق الله عنقه، لأنه لما سميت رقبة كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها: رقوب، لأجل مراعاتها موت ولدها.
المسألة الثانية: معنى الآية: ويؤتي المال في عتق الرقاب، قال القفال: واختلف الناس في الرقاب المذكورين في آية الصدقات، فقال قائلون: إنه يدخل فيه من يشتريه فيعتقه، ومن يكون مكاتبها فيعينه على أداء كتابته، فهؤلاء أجازوا شراء الرقاب من الزكاة المفروضة، وقال قائلون: لا يجوز صرف الزكاة إلا في إعانة المكاتبين، فمن تأول هذه الآية على الزكاة المفروضة فحينئذ يبقى فيه ذلك الاختلاف، ومن حمل هذه الآية على غير الزكاة أجاز الأمرين فيها قطعا، ومن الناس من حمل الآية على وجه ثالث وهو فداء الأسارى.
واعلم أن تمام الكلام في تفسير هذه الأصناف سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة التوبة في تفسير الصدقات.
الأمر الثالث: من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله: * (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) * وذلك قد تقدم ذكره.
الأمر الرابع: قوله تعالى: * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في رفع والموفون قولان أحدها: أنه عطف على محل * (من آمن * (تقديره لكن البر المؤمنون والموفون، عن الفراء والأخفش الثاني: رفع على المدح على أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: وهم الموفون.
المسألة الثانية: في المراد بهذا العهد قولان الأول: أن يكون المراد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم، وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده، والعمل بطاعته، فقبل العباد ذلك من حيث آمنوا بالأنبياء والكتب، وقد أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم نقضوا العهود والمواثيق وأمرهم بالوفاء بها فقال: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40) فكان المعنى في هذه الآية أن البر هو ما ذكر من الأعمال مع الوفاء بعهد الله، لا كما نقض أهل الكتاب ميثاق الله وما وفوا بعهوده فجحدوا أنبياءه وقتلوهم وكذبوا بكتابه، واعترض القاضي على هذا القول وقال: إن قوله تعالى: * (والموفون بعهدهم) * صريح في إضافة هذا العهد إليهم، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: * (إذا عاهدوا) * فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداء من قبله تعالى.
47

والجواب عنه: أنه تعالى وإن ألزمهم هذه الأشياء لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام والتزموه، فصح من هذا الوجه إضافة العهد إليهم.
القول الثاني: أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلف ابتداء من عند نفسه. واعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله، أو بينه وبين رسول الله، أو بينه وبين سار الناس أما الذي بينه وبين الله فهو ما يلزمه بالنذور والإيمان، وأما الذي بينه وبين رسول الله فهو الذي عاهد الرسول عليه عند البيعة من القيام بالنصرة والمظاهرة والمجاهدة وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وأما الذي بينه وبين سائر الناس فقد يكون ذلك من الواجبات مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم، وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن، وقد يكون ذلك من المندوبات مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال والإخلاص في المناصرة، فقوله تعالى: * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) * يتناول كل هذه الأقسام فلا معنى لقصر الآية على بعض هذه الأقسام دون البعض، وهذا الذي قلناه هو الذي عبر المفسرون فقالوا: هم الذين إذا واعدوا أنجزوا وإذا حلفوا ونذروا وفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدوا، ومنهم من حمله على قوله تعالى: * (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) * (التوبة: 75) الآية.
الأمر الخامس: من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله تعالى: * (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) * (البقرة: 177) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في نصب الصابرين أقوال الأول: قال الكسائي هو معطوف على * (ذوي القربى) * كأنه قال: وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين: قال النحويون: إن تقدير الآية يصير هكذا: ولكن البر من آمن بالله وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين، فعلى هذا قوله: * (والصابرين) * من صلة من قوله: * (والموفون) * متقدم على قوله: * (والصابرين) * فهو عطف على * (من) * فحينئذ قد عطفت على الموصول قبل صلته شيئا، وهذا غير جائز لأن الموصول مع الصلة بمنزلة اسم واحد، ومحال أن يوصف الاسم أو يؤكد أو يعطف عليه إلا بعد تمامه وانقضائه بجميع أجزائه، أما إن جعلت قوله: * (والموفون) * رفعا على المدح، وقد عرفت أن هذا الفصل غير جائز، بل هذا أشنع لأن المدح جملة فإذا لم يجز الفصل بالمفرد فلأن لا يجوز بالجملة كان ذلك أولى.
فإن قيل: أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة كقول القائل: إن زيدا فافهم ما أقول
48

رجل عالم، وكقوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) * (الكهف: 30) ثم قال: * (أولئك) * ففصل بين المتبدأ والخبر بقوله: * (إنا لا نضيع) * قلنا: الموصول مع الصلة كالشئ الواحد فالتعلق الذي بينهما أشد من التعلق بين المبتدأ والخبر، فلا يلزم من جوازه الفصل بين المبتدأ والخبر جواز بين الموصول والصلة.
القول الثاني: قول الفراء: إنه نصب على المدح، وإن كان من صفة من، وإنما رفع الموفون ونصب الصابرين لطول الكلام بالمدح، والعرب تنصب على المدح وعلى
الذم إذا طال الكلام بالنسق في صفة الشيء الواحد، وأنشد الفراء:
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم
* (حمال الحطب) * وقالوا فيمن قرأ: بنصب * (حمالة) * أنه نصب على الذم، قال أبو علي الفارسي: وإذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا.، وجملة واحدة. ثم اختلف الكوفيون والبصريون في أن المدح والذم لم صارا علتين لاختلاف الحركة؟ فقال الفراء: أصل المدح والذم من كلام السامع، وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له: قام زيد فربما أثنى السامع على زيد، وقال ذكرت والله الظريف، ذكرت العاقل، أي هو والله الظريف هو العاقل، فأراد المتكلم أن يمدح بمثل ما مدحه به السامع، فجرى الإعراب على ذلك، وقال الخليل: المدح والذم ينصبان على معنى أعني الظريف، وأنكر الفراء ذلك لوجهين الأول: أن أعني إنما يقع تفسيرا للاسم المجهول، والمدح يأتي بعد المعروف الثاني: أنه لو صح ما قاله الخليل لصح أن يقول: قام زيد أخاك، على معنى: أعني أخاك، وهذا مما لم تقله العرب أصلا.
واعلم أن من الناس من قرأ * (والموفين، والصابرين) * ومنهم من قرأ * (والموفون، والصابرون) *.
أما قوله: * (في البأساء) * قال ابن عباس: يريد الفقر، وهو اسم من البؤس * (والضراء) * قال: يريد به المرض، وهما اسمان على فعلاء ولا أفعل لهما، لأنهما ليسا بنعتين * (وحين البأس) * قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد القتال في سبيل الله والجهاد، ومعنى البأس في اللغة الشدة يقال: لا بأس عليك في هذا، أي لا شدة * (بعذاب بئيس) * (الأعراف: 165) شديد ثم تسمى الحرب بأسا لما فيها من الشدة والعذاب يسمى بأسا لشدته قال تعالى: * (فلما رأوا بأسنا) * (غافر: 84) * (فلما أحسوا بأسنا) * (الأنبياء: 12) * (فمن ينصرنا من بأس الله) * (غافر: 29). ثم
49

قال تعالى: * (أولئك الذين صدقوا) * أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم، وذكر الواحدي رحمه الله في آخر هذه الآية مسألة وهي أنه قال هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع، فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن تجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام به واحد منها لم يستحق الوصف بالبر، فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر وكذا الصابر في البأساء بل لا يكون قائما بالبر، إلا عند استجماع هذه الخصال، ولذلك قال بعضهم: هذه الصفة خاصة للأنبياء عليهم السلام، لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلها، وقال آخرون: هذه عامة في جميع المؤمنين، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت.
الحكم الرابع
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأدآء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) *.
قبل الشروع في التفسير لا بد من ذكر سبب النزول وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن سبب نزوله إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل مبعث محمد عليه السلام، وذلك لأن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط، وأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل، وأخرى يوجبون الدية لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من هذين الحكمين، أما في القتل فلأنه إذا وقع القتل بين قبيلتين إحداهما أشرف من الأخرى، فالأشراف كانوا يقولون: لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن واحدا قتل إنسانا
50

من الأشراف، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول، وقالوا: ماذا تريد؟ فقال إحدى ثلاث قالوا: وما هي؟ قال: إما تحيون ولدي، أو تملأون داري من نجوم السماء، أو تدفعوا إلى جملة قومكم حتى أقتلهم، ثم لا أرى أني أخذت عوضا.
وأما الظلم في أمر الدية فهو أنهم ربما جعلوا دية الشريف أضعاف دية الرجل الخسيس، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم أوجب رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص وأنزل هذه الآية.
والرواية الثانية: في هذا المعنى وهو قول السدي: إن قريظة والنضير كانوا مع تدينهم بالكتاب سلكوا طريقة العرب في التعدي.
والرواية الثالثة: أنها نزلت في واقعة قتل حمزة رضي الله عنه.
والرواية الرابعة: ما نقلها محمد بن جرير الطبري عن بعض الناس ورواها عن علي بن أبي طالب وعن الحسن البصري أن المقصود من هذه الآية بيان أن بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين يقع القصاص ويكفي ذلك فقط، فأما إذا كان القاتل للعبد حرا، أو للحر عبدا فإنه يجب مع القصاص التراجع، وأما حر قتل عبدا فهو قوده، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر، ويردوا إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن قتل عبدا حرا فهو به قود، فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر، وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن شاؤوا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد، وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا نصف الدية، وإن قتلت المرأة رجلا فهي به قود، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإن شاؤوا أعطوا كل الدية وتركوها، قالوا فالله تعالى أنزل هذه الآية لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والأنثيين والذكرين فأما عند إخلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص
غير مشروع فيه إذا عرفنا سبب النزول فلنرجع إلى التفسير.
أما قوله تعالى: * (كتب عليكم) * فمعناه: فرض عليكم فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين: أحدهما: أن قوله تعالى: * (كتب) * يفيد الوجوب في عرف الشرع قال تعالى: * (كتب عليكم الصيام) * وقال: * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية) * (البقرة: 180) وقد كانت الوصية واجبة ومنه الصلوات المكتوبات أي المفردات، وقال عليه السلام: " ثلاث كتبن علي ولم تكتب عليكم " والثاني: لفظة * (عليكم) * مشعرة بالوجوب كما في قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * (آل عمران: 97) وأما القصاص
51

فهو أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل، من قولك: اقتص فلان أثر فلان إذا فعل مثل فعله، قال تعالى * (فارتدا على آثارهما قصصا) * (الكهف: 64) وقال تعالى: * (وقالت لأخته قصيه) * (القصص: 11) أي اتبعي أثره، وسميت القصة قصة لأن بالحكاية تساوي المحكي، وسمي القصص لأنه يذكر مثل أخبار الناس، ويسمى المقص مقصا لتعادل جانبيه.
أما قوله تعالى: * (في القتلى) * أي بسبب قتل القتلى، لأن كلمة * (في) * قد تستعمل للسببية كقوله عليه السلام: " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " إذا عرفت هذا فصار تقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا وجب عليكم القصاص بسبب قتل القتلى، فدل ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب قتل جميع القتلى، إلا أنهم جمعوا على أن غير القاتل خارج من هذا العموم وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضا في صور كثيرة، وهي إذا قتل الوالد ولده، والسيد عبده وفيما إذا قتل المسلم حربيا أو معاهدا، وفيما إذا قتل مسلم خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه. فإن قيل: قولكم هذه الآية تقتضي وجوب القصاص فيه إشكالان الأول: أن القصاص لو وجب لوجب إما على القاتل، أو على ولي الدم، أو على ثالث، والأقسام الثلاثة باطلة، وإنما قلنا: إنه لا يجب على القاتل لأن القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه، بل يحرم عليه ذلك، وإنما قلنا: إنه غير واجب على ولي الدم لأن ولي الدم مخير في الفعل والترك، بل هو مندوب إلى الترك بقوله: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (البقرة: 237) والثالث أيضا باطل لأنه يكون أجنبيا عن ذلك القتل والأجنبي عن الشئ لا تعلق له به.
السؤال الثاني: إذا بينا أن القصاص عبارة عن التسوية فكان مفهوم الآية إيجاب التسوية وعلى هذا التقدير لا تكون الآية دالة على إيجاب القتل البتة، بل أقصى ما في الباب أن الآية تدل على وجوب رعاية التسوية في القتل الذي يكون مشروعا وعلى هذا التقدير تسقط دلالة الآية على كون القتل مشرعا بسبب القتل.
والجواب عن السؤال الأول: من وجهين الأول: أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجرى مجراه، لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود لأنه من جملة المؤمنين، والتقدير: يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أراد ولي الدم استيفاءه والثاني: أنه خطاب مع القاتل والتقدير: يا أيها القاتلون كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص وذلك لأن القاتل ليس له أن يمتنع ههنا وليس له أن ينكر، بل
52

للزاني والسارق الهرب من الحد ولهما أيضا أن يستترا بستر الله ولا يقرأ، والفرق أن ذلك حق الآدمي.
وأما الجواب عن السؤال الثاني: فهو أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل والتسوية في القتل صفة القتل وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات، فكانت الآية مفيدة لإيجاب القتل من هذا الوجه ويتفرع على ما ذكرنا مسائل:
المسألة الأولى: ذهب أبو حنيفة إلى موجب العمد هو القصاص، وذهب الشافعي في أحد قوليه إن أن موجب العمد إما القصاص وإما الدية، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية، ووجه الاستدلال بها في غاية الضعف، لأنه سواء كان المخاطب بهذا الخطاب هو الإمام أو ولي الدم فهو بالاتفاق مشروط بما إذا كان ولي الدم يريد القتل على التعيين، وعندنا أنه متى كان الأمر كذلك كان القصاص متعينا، إنما النزاع في أن ولي الدم هل يتمكن من العدول إلى الدية وليس في الآية دلالة على أنه إذا أراد الدية ليس له ذلك.
المسألة الثانية: اختلفوا في كيفية المماثلة التي دلت هذه الآية على إيجابها فقال الشافعي: يراعي جهة القتل الأول فإن كان الأول قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل فإن مات منه في تلك المرأة وإلا حزت رقبته، وكذلك لو أحرق الأول بالنار أحرق الثاني، فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته، وقال أبو حنيفة رحمه الله: المراد بالمثل تناول النفس بأرجى ما يمكن فعلى هذا لا اقتصاص إلا بالسيف بحز الرقبة، حجة الشافعي رحمه الله أن الله تعالى أوجب التسوية بين الفعلين وذلك يقتضي حصول التسوية من جميع الوجوه الممكنة، ويدل عليه وجوه أحدها: أنه يجوز أن يقال كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فدخل هذا على أن كيفية القتل داخلة تحت النص وثانيها: أنا لو لم نحكم بدلالة هذه الآية على التسوية في كل الأمور لصارت الآية مجملة ولو حكمنا فيها بالعموم كانت الآية مفيدة، لكنها بما صارت مخصوصة في بعض الصور والتخصيص أهون من الإجمال وثالثها: أن الآية لو لم تفد إلا الإيجاب للتسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور، فحينئذ لا يستفاد من هذه الآية شيء البتة، وهذا الوجه قريب من الثاني فثبت أن هذه الآية تفيد وجود التسوية من كل الوجوه ثم تأكد هذا النص بسائر النصوص المقتضية لوجوب المماثلة، كقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها) * (غافر: 40) ثم تأكدت هذه النصوص المتواترة بالخبر المشهور عن الرسول عليه السلام وهو قوله:
53

" من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه " ومما يروى أن يهوديا رضخ رأس صبيه بالحجارة فقتلها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ترضخ رأس اليهودي بالحجارة، وإذا ثبت هذا بلغت دلالة الآية مع سائر الآيات، ومع هذه الأحاديث على قول الشافعي مبلغا قويا، واحتج أبو حنيفة بقوله عليه السلام: " لا قود إلا بالسيف " وبقوله
عليه السلام: " لا يعذب بالنار إلا ربها " والجواب أن الأحاديث لما تعارضت بقيت دلالة الآيات خالية عن المعارضات والله أعلم.
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن هذا القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة؛ فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة من الله تعالى وأما إذا كان تائبا فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة وذلك لأن الدلائل دلت على أن التوبة مقبولة قال تعالى: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عبادة ويعفوا عن السيئات) * (الشورى: 25) وإذا صارت التوبة مقبولة امتنع أن يبقى التائب مستحقا لعقاب، ولأنه عليه السلام قال: " التوبة تمحو الحوبة " فثبت أن شرع القصاص في حق التائب لا يمكن أن يكون عقوبة ثم عند هذا اختلفوا فقال أصحابنا: يفعل الله ما يشاء ولا اعتراض عليه في شيء وقالت المعتزلة إنما شرع ليكون لطفا به ثم سألوا أنفسهم فقالوا: إنه لا تكلف بعد القتل فكيف يكون هذا القتل لطفا به؟ وأجابوا عنه بأن هذا القتل فيه منفعة لولي المقتول من حيث التشفي ومنفعة لسائر المكلفين من حيث يزجر سائر الناس عن القتل، ومنفعة للقاتل من حيث إنه متى علم أن لا بد وأن يقتل صار ذلك داعيا له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد.
أما قوله تعالى: * (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) * ففيه قولان:
القول الأول: إن هذه الآية تقتضي أن لا يكون القصاص مشروعا إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين.
واحتجوا عليه بوجوه الأول: أن الألف واللام في قوله: * (الحر) * تفيد العموم فقوله: * (الحر بالحر) * يفيد أن يقتل كل حر بالحر، فلو كان قتل حر بعبد مشروعا لكان ذلك الحر مقتولا لا بالحر وذلك ينافي إيجاب أن يكون كل حر مقتولا بالحر الثاني: أن الباء من حروف الجر فيكون متعلقا لا محالة بفعل، فيكون التقدير: الحر يقتل بالحر والمبتدأ لا يكون أعم من الخبر، بل إما أن يكون مساويا له أو أخص منه، وعلى التقديرين فهذا يقتضي أن يكون كل حر مقتولا بالحر وذلك ينافي كون حر مقتولا بالعبد الثالث: وهو أنه تعالى أوجب في أول الآية رعاية المماثلة وهو قوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * فلما ذكر عقيبة قوله: * (الحر بالحر والعبد بالعبد) *
54

دل ذلك على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة، لأن قوله: * (الحر بالحر والعبد بالعبد) * خرج مخرج التفسير لقوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في هذا المعنى، فوجب أن لا يكون مشروعا فإن احتج الخصم بقوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * (المائدة: 45) فجوابنا أن الترجيح معنا لوجهين أحدهما: أن قوله: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * شرع لمن قبلنا، والآية التي تمسكنا بها شرع لنا ولا شك أن شرعنا أقوى في الدلالة من شرع من قبلنا وثانيهما: أن الآية التي تمسكنا بها مشتملة على أحكام النفوس على التفصيل والتخصيص، ولا شك أن الخاص مقدم على العام، ثم قال أصحاب هذا القول مقتضى ظاهر هذه الآية أن لا يقتل العبد إلا بالعبد، وأن لا تقتل الأنثى إلا بالأنثى، إلا أنا خالفنا هذا الظاهر لدلالة الاجتماع، وللمعنى المستنبط من نسق هذه الآية، وذلك المعنى غير موجود في قتل الحر بالعبد، فوجب أن يبقى ههنا على ظاهر اللفظ، أما الإجماع فظاهر، وأما المعنى المستنبط فهو أنه لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه كان أولى، بخلاف الحر فإنه لما قتل بالحر لا يلزم أن يقتل بالعبد الذي هو دونه، وكذا القول في قتل الأنثى بالذكر، فأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع والله أعلم.
القول الثاني: أن قوله تعالى: * (الحر بالحر) * لا يفيد الحصر البتة، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام، واحتجوا عليه بوجهين الأول: أن قوله: * (والأنثى بالأنثى) * يقتضي قصاص المرأة الحرة بالمرأة الرقيقة، فلو كان قوله: * (الحر بالحر والعبد بالعبد) * مانعا من ذلك لوقع التناقض الثاني: أن قوله تعالى: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * جملة تامة مستقلة بنفسها وقوله: * (الحر بالحر) * تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر وإذا تقدم ذكر الجملة المستقلة كان تخصيص بعض الجزئيات بالذكر لا يمتنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات بل ذلك التخصيص يمكن أن يكون لفوائد سوى نفي الحكم عن سائر الصور، ثم اختلفوا في تلك الفائدة فذكروا فيها وجهين الأول: وهو الذي عليه الأكثرون أن تلك الفائدة بيان إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية على ما روينا في سبب نزول هذه الآية أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل، ففائدة التخصيص زجرهم عن ذلك، واعلم أن للقائلين بالقول الأول أن يقولوا قوله تعالى: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * هذا يمنع من جواز قتل الحر بالعبد لأن القصاص عبارة عن المساواة، وقتل الحر بالعبد لم يحصل فيه رعاية المساواة لأنه زائد عليه في الشرف وفي أهلية القضاء والإمامة والشهادة فوجب أن
55

لا يكون مشروعا، أقصى ما في الباب أنه ترك العمل بهذا النص في قتل العالم بالجاهل والشريف بالخسيس، إلا أنه يبقى في غير محل الإجماع على الأصل، ثم إن سلمنا أن قوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * يوجب قتل الحر بالعبد، إلا أنا بينا أن قوله: * (الحرب بالحر والعبد بالعبد) * يمنع من جواز قتل الحرب بالعبد؛ هذا خاص وما قبله عام والخاص مقدم على العام لا سيما إذا كان الخاص متصلا بالعام في اللفظ فإنه يكون جاريا مجرى الاستثناء ولا شك في وجوب تقديمه على العام.
الوجه الثاني: في بيان فائدة التخصيص ما نقله محمد بن جرير الطبري عن علي بن أبي طالب والحسن البصري، أن هذه الصور هي التي يكتفي فيها بالقصاص، أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعا بين الحر والعبد، وبين الذكر والأنثى، فهناك لا يكتفي بالقصاص بل لا بد فيه من التراجع، وقد شرحنا هذا القول في سبب نزول هذه الآية، إلا أن كثيرا من المحققين زعموا أن هذا النقل لم يصح عن علي بن أبي طالب وهو أيضا ضعيف عند النظر لأنه قد ثبت أن الجماعة تقتل بالواحد ولا تراجع، فكذلك يقتل الذكر بالأنثى ولا تراجع، ولأن القود نهاية ما يجب في القتل فلا يجوز وجوب غيره معه.
أما قوله تعالى: * (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) * فاعلم أن الذين قالوا: موجب العمد أحد أمرين إما القصاص وإما الدية تمسكوا
بهذه الآية وقالوا الآية تدل على أن في هذه القصة عافيا ومعفوا عنه، وليس ههنا إلى ولي الدم والقاتل، فيكون العافي أحدهما ولا يجوز أن يكون هو القاتل لأن ظاهر العفو هو إسقاط الحق وذلك إنما يتأتى من الولي الذي له الحق على القتل، فصار تقدير الآية: فإذا عفي ولي الدم عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف، وقوله: * (شيء) * مبهم فلا بد من حمله على المذكور السابق وهو وجوب القصاص إزالة للإبهام، فصار تقدير الآية إذا حصل العفو للقاتل عن وجوب القصاص، فليتبع القاتل العافي بالمعروف، وليؤد إليه مالا بإحسان، وبالإجماع لا يجب أداء غير الدية، فوجب أن يكون ذلك الواجب هو الدية، وهذا يدل على أن موجب العمد هو القود أو المال، ولو لم يكن كذلك لما كان المال واجبا عند العفو عن القود، ومما يؤكد هذا الوجه قوله تعالى: * (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) * أي أثبت الخيار لكم في أخذ الدية، وفي القصاص رحمة من الله عليكم، لأن الحكم في اليهود حتم القصاص والحكم في النصارى حتم العفو فخف عن هذه الأمة وشرع لهم التخيير بين القصاص والدية، وذلك تخفيف من الله ورحمة في حق هذه الأمة لأن ولي الدم قد تكون
56

الدية آثر عنده من القود إدا كان محتاجا إلى المال، وقد يكون القود آثر إذا كان راغبا في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه، فجعل الخيرة له فيما أحبه رحمة من الله في حقه.
فإن قيل: لا نسلم أن العافي هو ولي الدم وقوله العفو إسقاط الحق وذلك لا يليق إلا بولي الدم.
قلنا: لا نسلم أن العفو هو إسقاط الحق، بل المراد من قوله: * (فمن عفي له من أخيه شيء) * أي فمن سهل له من أخيه شيء، يقال: أتاني هذا المال عفوا صفوا، أي سهلا، ويقال: خذ ما عفا، أي ما سهل، قال الله تعالى: * (خذ العفو) * فيكون تقدير الآية: فمن كان من أولياء الدم وسهل له من أخيه الذي هو القاتل شيء من المال فليتبع ولي الدم ذلك القاتل في مطالبة ذلك المال وليؤد القاتل إلى ولي الدم ذلك المال بالإحسان من غير مطل ولا مدافعة، فيكون معنى الآية على هذا التقدير: إن الله تعالى حث الأولياء إذا دعوا إلى الصلح من الدم على الدية كلها أو بعضها أن يرضوا به ويعفوا عن القود.
سلمنا أن العافي هو ولي الدم، لكن لم لا يجوز أن يقال: المراد هو أن يكون القصاص مشتركا بين شريكين فيعفو أحدهما فحينئذ ينقلب نصيب الآخر مالا فالله تعالى أمر الشريك الساكت باتباع القاتل بالمعروف، وأمر القاتل بالأداء إليه بإحسان.
سلمنا أن العافي هو ولي الدم سواء كان له شريك أو لم يكن، لكن لم لا يجوز أن يقال: إن هذا مشروط برضا القاتل، إلا أنه تعالى لم يذكر رضا القاتل لأنه يكون ثابتا لا محالة لأن الظاهر من كل عامل أنه يبذل كل الدنيا لغرض دفع القتل عن نفسه لأنه إذا قتل لا يبقى له لا النفس ولا المال أما بذل المال ففيه إحياء النفس، فلما كان هذا الرضا حاصلا في الأعم الأغلب لا جرم ترك ذكره وإن كان معتبرا في النفس الأمر.
والجواب: حمل لفظ العفو في هذه الآية على إسقاط حق القصاص أولى من حمله على أن يبعث القاتل المال إلى ولي الدم، وبيانه من وجهين الأول: أن حقيقة العفو إسقاط الحق، فيجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك، وحمل اللفظ في هذه الآية على إسقاط الحق أولى من حمله على ما ذكرتم، لأنه لما تقدم قوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * كان حمل قوله: * (فمن عفي له من أخيه شيء) * على إسقاط حق القصاص أولى، لأن قوله: * (شيء) * لفظ مبهم وحمل هذا المبهم على ذلك المعنى الذي هو المذكور السابق أولى الثاني: أنه لو كان المراد بالعفو ما ذكرتم، لكان قوله: * (فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) * عبثا لأن بعد وصول المال
57

إليه بالسهولة واليسر لا حاجة به إلى اتباعه، ولا حاجة بذلك المعطي إلى أن يؤمر بأداء ذلك المال بالإحسان.
وأما السؤال الثاني فمدفوع من وجهين الأول: أن ذلك الكلام إنما يتمشى بفرض صورة مخصوصة، وهي ما إذا كان حق القصاص مشتركا بين شخصين ثم عفا أحدهما وسكت الآخر، والآية دالة على شرعية هذا الحكم على الإطلاق، فحمل اللفظ المطلق على الصورة الخاصة المفيدة خلاف الظاهر والثاني: أن الهاء في قوله: * (وأداء إليه بإحسان) * ضمير عائد إلى مذكور سابق، والمذكور السابق هو العافي، فوجب أداء هذا المال إلى العافي، وعلى قولكم: يجب أداؤه إلى غير العافي فكان قولكم باطلا.
وأما السؤال الثالث أن شرط الرضا إما أن يكون ممتنع الزوال، أو كان ممكن الزوال، فإن كان ممتنع الزوال، فوجب أن يكون مكنة أخذ الدية ثابتة لولي الدم على الإطلاق، وإن كان ممكن الزوال كان تقييد اللفظ بهذا الشرط الذي ما دلت الآية على اعتباره مخالفة للظاهر وأنه غير جائز ولما تلخص هذا البحث فنقول: الآية بقيت فيها أبحاث لفظية نذكرها في معرض السؤال والجواب.
البحث الأول: كيف تركيب قوله: * (فمن عفي له من أخيه شيء) *.
الجواب: تقديره: فمن له من أخيه شيء من العفو، وهو كقوله: سير بزيد بعض السير وطائفة من السير.
البحث الثاني: أن * (عفي) * يتعدى بعن لا باللام، فما وجه قوله: * (فمن عفي له) *.
الجواب: أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب، فيقال عفوت عن فلان وعن ذنبه قال الله تعالى: * (عفا الله عنك) * (التوبة: 43) فإذا تعدى إلى الذنب قيل: عفوت عن فلان عما جنتي، كما تقول: عفوت له عن ذنبه، وتجاوزت له عنه، وعليه هذه الآية، كأنه قيل: فمن عفى له من جنايته، فاستغنى عن ذكر الجناية.
البحث الثالث: لم قيل شيء من العفو؟.
والجواب: من وجهين أحدهما: أن هذا إنما يشكل إذا كان الحق ليس إلا القود فقط، فحينئذ يقال: القود لا يتبعض فلا يبقى لقوله: * (شيء) * فائدة، أما إذا كان
مجموع حقه إما القود وإما المال كان مجموع حقه متبعضا لأن له أن يعفو عن القود دون المال، وله أن يعفو عن الكل، فلما كان
58

الأمر كذلك جاز أن يقول * (فمن عفي له من أخيه شيء) *.
والجواب الثاني: أن تنكير الشيء يفيد فائدة عظيمة، لأنه يجوز أن يتوهم أن العفو لا يؤثر في سقوط القود، إلا أن يكون عفوا عن جميعه، فبين تعالى أن العفو عن جزئه كالعفو عن كله في سقوط القود، وعفو بعض الأولياء عن حقه، كعفو جميعهم عن خلقهم، فلو عرف الشيء كان لا يفهم منه ذلك، فلما نكره صار هذا المعنى مفهوما منه، فلذلك قال تعالى: * (فمن عفي له من أخيه شيء) *.
البحث الرابع: بأي معنى أثبت الله وصف الأخوة.
والجواب: قيل: إن ابن عباس تمسك بهذه الآية في بيان كون الفاسق مؤمنا من ثلاثة أوجه: الأول: أنه تعالى سماه مؤمنا حال ما وجب القصاص عليه، وإنما وجب القصاص عليه إذا صدر عنه القتل العمد العدوان وهو بالإجماع من الكبائر، وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن والثاني: أنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الذم، ولا شك أن هذه الأخوة تكون بسبب الدين، لقوله تعالى: * (إنما المؤمنون أخوة) * فلولا أن الإيمان باق مع الفسق وإلا لما بقيت الأخوة الحاصلة بسبب الإيمان الثالث: أنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل، والندب إلى العفو إنما يليق بالمؤمن، أجابت المعتزلة عن الوجه الأول فقالوا: إن قلنا المخاطب بقوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * هم الأئمة فالسؤال زائل، وإن قلنا: إنهم هم القاتلون فجوابه من وجهين أحدهما: أن القتال قبل إقدامه على القاتل كان مؤمنا، فسماه الله تعالى مؤمنا بهذا التأويل والثاني: أن القتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمنا، ثم إنه تعالى أدخل فيه غير التائب على سبيل التغليب.
وأما الوجه الثاني: وهو ذكر الأخوة، فأجابوا عنه من وجوه الأول: أن الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحدا، ولا شك أن المؤمنين إخوة قبل الإقدام على القتل والثاني: الظاهر أن الفاسق يتوب، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخا له والثالث: يجوز أن يكون جعله أخا له في النسب كقوله تعالى: * (وإلى عاد أخاهم هودا) * والرابع: أنه حصل بين ولي الدم وبين القاتل تعلق واختصاص، وهذا القدر يكفي في إطلاق اسم الأخوة، كم تقول للرجل، قل لصاحبك كذا إذا كان بينهما أدنى تعلق والخامس: ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية في الإقرار والاعتقاد.
والجواب: أن هذه الوجوه بأسرها تقتضي تقييد الأخوة بزمان دون زمان، وبصفة دون
59

صفة، والله تعالى أثبت الأخوة على الإطلاق.
وأما قوله تعالى: * (فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: قوله: * (فاتباع بالمعروف) * رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره: فحكمه اتباع، أو هو مبتدأ خبره محذوف تقديره: فعليه اتباع بالمعروف.
البحث الثاني: قيل: على العافي الاتباع بالمعروف، وعلى المعفو عنه أداء بإحسان، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، وقيل: هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف، ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان. البحث الثالث: الاتباع بالمعروف أن لا يشدد بالمطالبة، بل يجرى فيها على العادة المألوفة فإن كان معسرا فالنظرة، وإن كان واجدا لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق، وإن كان واجدا لغير المال الواجب، فالإمهال إلى أن يبتاع ويستبدل، وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات، فأما الأداء بإحسان فالمراد به أن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل.
أما قوله تعالى: * (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) * ففيه وجوه أحدها: أن المراد بقوله: * (ذلك) * أي الحكم بشرع القصاص والدية تخفيف في حقكم، لأن العفو وأخذ الدية محرمان على أهل التوراة والقصاص مكتوب عليهم البتة والقصاص والدية محرمان على أهل الإنجيل والعفو مكتوب عليهم وهذه الأمة مخيرة بين القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيرا، وهذا قول ابن عباس، وثانيها: أن قوله: * (ذلك) * راجع إلى قوله: * (فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) *.
أما قوله: * (فمن اعتدى بعد ذلك) * التخفيف يعني جاوز الحد إلى ما هو أكثر منه قال ابن عباس والحسن: المراد أن لا يقتل بعد العفو والدية، وذلك لأن أهل الجاهلية إذا عفوا وأخذوا الدية، ثم ظفروا بعد ذلك بالقاتل قتلوه، فنهى الله عن ذلك وقيل المراد: أن يقتل غير قاتله، أو أكثر من قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية أو جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص ويجب أن يحمل على الجميع لعموم اللفظ (فله عذاب أليم) وفيه قولان أحدهما: وهو المشهور أنه نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة والثاني: روي عن قتادة أن العذاب الأليم هو أن يقتل لا محالة ولا يعفى عنه ولا يقبل الدية منه لقوله عليه السلام: " لا أعافي أحدا قتل بعد أن أخذ الدية " وهو المروي عن الحسن وسعيد بن جبير وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها: أن المفهوم من العذاب
60

الأليم عند الإطلاق هو عذاب الآخرة وثانيها: أنا بينا أن القود تارة يكون عذابا وتارة يكون امتحانا، كما في حق التائب فلا يصح إطلاق اسم العذاب عليه إلا في وجه دون وجه وثالثها: أن القاتل لمن عفي عنه لا يجوز أن يختص بأن لا يمكن ولي الدم من العفو عنه لأن ذلك حق ولي الدم فله إسقاطه قياسا على تمكنه من إسقاط سائر الحقوق والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولكم في القصاص حيوة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) *.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أوجب في الآية المتقدمة القصاص وكان القصاص من باب الإيلام توجه فيه سؤال وهو أن يقال كيف يليق بكمال رحمته إيلام العبد الضعيف؟
فلأجل دفع هذا السؤال ذكر عقيبه حكمة شرع القصاص فقال: * (ولكم في القصاص حياة) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في الآية وجوه الأول: أنه ليس المراد من هذه الآية أن نفس القصاص حياة لأن القصاص إزالة للحياة وإزالة الشيء يمتنع أن تكون نفس ذلك الشيء، بل المراد أن شرع القصاص يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلا، وفي حق من يراد جعله مقتولا وفي حق غيرهما أيضا، أما في حق من يريد أن يكون قاتلا فلأنه إذا علم أنه لو قتل قتل ترك القتل فلا يقتل فيبقى حيا، وأما في حق من يراد جعله مقتولا فلأن من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله فيبقى غير مقتول، وأما في حق غيرهما فلأن في شرع القصاص بقاء من هم بالقتل، أو من يهم به وفي بقائهما بقاء من يتعصب لهما، لأن الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدي إلى المحاربة التي تنتهي إلى قتل عالم من الناس وفي تصور كون القصاص مشروعا زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكل.
الوجه الثاني: في تفسير الآية أن المراد منها أن نفس القصاص سبب الحياة وذلك لأن سافك الدم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل، فكان القصاص نفسه سببا للحياة من هذا الوجه، واعلم أن الوجه الذي ذكرناه غير مخص بالقصاص الذي هو القتل، يدخل فيه القصاص في الجوارح والشجاج وذلك لأنه إذا علم أنه إن جرح عدوه اقتص منه زجره ذلك عن الإقدام فيصير سببا لبقائهما لأن المجروح لا يؤمن فيه الموت وكذلك الجارح إذا اقتص منه وأيضا
61

فالشجة والجراحة التي لا قود فيها داخلة تحت الآية لأن الجارح لا يأمن أن تؤدى جراحته إلى زهوق النفس فيلزم القود، فخوف القصاص حاصل في النفس.
الوجه الثالث: أن المراد من القصاص إيجاب التسوية فيكون المراد أن في إيجاب التسوية حياة لغير القاتل، لأنه لا يقتل غير القاتل بخلاف ما يفعله أهل الجاهلية وهو قول السدي.
والوجه الرابع: قرأ أبو الجوزاء * (ولكم في القصاص حياة) * أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص وقيل: * (القصاص) * القرآن، أي لكم في القرآن حياة للقلوب كقوله: * (روحا من أمرنا ويحيى من حي عن بينة) * والله أعلم.
المسألة الثانية: اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات، وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثير، كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقول آخرين: أكثروا القتل ليقل القتل، وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل، ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا، وبيان التفاوت من وجوه: أحدها: أن قوله: * (ولكم في القصاص حياة) * أخصر من الكل، لأن قوله: * (ولكم) * لا يدخل في هذا الباب، إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك، لأن قول القائل: قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله، وكذلك في قولهم: القتل أنفى للقتل فإذا تأملت علمت أن قوله: * (في القصاص حياة) * أشد اختصارا من قولهم: القتل أنفى للقتل وثانيها: أن قولهم: القتل أنفى للقتل ظاهرة يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال، وقوله: * (في القصاص حياة) * ليس كذلك، لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص، ثم ما جعله سببا لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة، بل جعله سببا لنوع من أنواع الحياة وثالثها: أن قولهم القتل أنفى للقتل، فيه تكرار للفظ القتل وليس قوله: * (في القصاص حياة) * كذلك ورابعها: أن قول القائل: القتل أنفى للقتل. لا يفيد إلا الردع عن القتل، وقوله: * (في القصاص حياة) * يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد وخامسها: أن نفي القتل مطلوب تبعا من حيث إنه يتضمن حصول الحياة، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي، فكان هذا أولى وسادسها: أن القتل ظلما قتل، مع أنه لا يكون نافيا للقتل بل هو سبب لزيادة القتل، إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص، فظاهر قولهم باطل، أما الآية فهي صحيحة ظاهرا وتقديرا، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب.
62

المسألة الثالثة: احتجت المعتزلة بهذه الآية على فساد قول أهل السنة في قولهم: إن المقتول لو لم يقتل لوجب أن يموت. فقالوا إذا كان الذي يقتل يجب أن يموت لو لم يقتل، فهب أن شرع القصاص يزجر من يريد أن يكون قاتلا عن الإقدام على القتل، لكن ذلك الإنسان يموت سواء قتله هذا القاتل أو لم يقتله، فحينئذ لا يكون شرع القصاص مفضيا إلى حصول الحياة.
فإن قيل: أنا إنما نقول فيمن قتل لو لم يقتل كان يموت لا فيمن أريد قتله ولم يقتل فلا يلزم ما قلتم، قلنا أليس إنما يقال فيمن قتل لو لم يقتل كيف يكون حاله؟ فإذا قلتم: كان يموت فقد حكمتم في أن من حق كل وقت صح وقوع قتله أن يكون موته كقتله، وذلك يصحح ما ألزمناكم لأنه لا بد من أن يكون على قولكم المعلوم أنه لو لم يقتله إما لأن منعه مانع عن القتل، أو بأن خاف قتله أنه كان يموت وفي ذلك صحة ما ألزمناكم، هذا كله ألفاظ القاضي.
أما قوله تعالى: * (يا أولي الألباب) * فالمراد به العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف، فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعداءهم، وعلموا أنهم يطالبون بالقود صار ذلك رادعا لهم لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه فإذا خاف ذلك كان خوفه سببا للكف والامتناع، إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب.
وأما قوله تعالى: * (لعلكم تتقون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: لفظة * (لعل) * للترجي، وذلك إنما يصح في حق من لم يكن عالما بجميع المعلومات، وجوابه ما سبق في قوله تعالى: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * (البقرة: 21).
المسألة الثانية: قال الجبائي: هذا يدل على أنه تعالى أراد من الكل التقوى، سواء كان في المعلوم أنهم يتقون أو لا يتقون بخلاف قول المجبرة، وقد سبق جوابه أيضا في تلك الآية.
المسألة الثالثة: في تفسير الآية قولان أحدهما: قول الحسن والأصم أن المراد لعلكم تتقون نفس القتل بخوف القصاص والثاني: أن المراد هو التقوى من كل الوجوه وليس في الآية تخصيص للتقوى، فحمله على الكل أولى: ومعلوم أن الله تعالى إنما كتب على العباد الأمور الشاقة من القصاص وغيره لأجل أن يتقوا النار باجتناب المعاصي ويكفوا عنها، فإذا كان هذا هو المقصود الأصلي وجب حمل الكلام عليه.
63

الحكم الخامس
قوله تعالى
* (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين) *.
اعلم أن قوله تعالى: * (كتب عليكم) * يقتضي الوجوب على ما بيناه، أما قوله: * (إذا حضر أحدكم الموت) * فليس المراد منه معاينة الموت، لأن في ذلك الوقت يكون عاجزا عن الإيصاء ثم ذكروا في تفسيره وجهين الأول: وهو اختيار الأكثرين أن المراد حضور أمارة الموت، وهو المرض المخوف وذلك ظاهر في اللغة، يقال فيمن يخاف عليه الموت: إنه قد حضره الموت كما يقال لمن قارب البلد إنه قد وصل والثاني: قول الأصم أن المراد فرض عليكم الوصية في حالة الصحة بأن تقولوا: إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا قال القاضي: والقول الأول أولى لوجهين أحدهما: أن الموصي وإن لم يذكر في وصيته الموت جاز والثاني: أن ما ذكرناه هو الظاهر، وإذا أمكن ذلك لم يجز حمل الكلام على غيره.
أما قوله * (إن ترك خيرا) * (العاديات: 8) فلا خلاف أنه المال ههنا والخير يراد به المال في كثير من القرآن كقوله: * (وما تنفقوا من خير) * (البقرة: 272) * (وإنه لحب الخير) * (العاديات: 8) * (من خير فقير) * وإذا عرفت هذا فنقول: ههنا قولان: أحدهما: أنه لا فرق بين القليل والكثير، وهو قول الزهري، فالوصية واجبة في الكل، واحتج عليه بوجهين: * (الأول) * أن الله تعالى أوجب الوصية فيما إذا ترك خيرا، والمال القليل خير، يدل عليه القرآن والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى: * (فم يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7 - 8) وأيضا قوله تعالى: * (لما أنزلت إلي من خير فقير) * وأما المعقول فهو أن الخير ما ينتفع به، والمال القليل كذلك فيكون خيرا.
الحجة الثانية: أن الله تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر، بدليل قوله تعالى: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) * (النساء: 7) فوجب أن يكون الأمر كذلك في الوصية.
64

والقول الثاني: وهو أن لفظ الخير في هذه الآية مختص بالمال الكثير، واحتجوا عليه بوجوه الأول: أن من ترك درهما لا يقال: إنه ترك خيرا، كما يقال: فلان ذو مال، فإنما يراد تعظيم ماله ومجاوزته حد أهل الحاجة، وإن كان اسم المال قد يقع في الحقيقة على كل ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير، وكذلك إذا قيل: فلان في نعمة، وفي رفاهية من العيش. فإنما يراد به تكثير النعمة، وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله، وهذا باب من المجاز مشهور وهو نفي الاسم عن الشيء لنقصه، كما قد روي من قوله: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " وقوله: " ليس بمؤمن من باب شبعانا وجاره جائع " ونحو هذا.
الحجة الثالثة: لو كانت الوصية واجبة في كل ما ترك، سواء كان قليلا، أو كثيرا، لما كان التقييد بقوله: * (إن ترك خيرا) * كلاما مفيدا، لأن كل أحد لا بد وأن يترك شيئا ما، قليلا كان أو كثيرا، أما الذي يموت عريانا ولا يبقى معه كسرة خبر، ولا قدر من الكرباس الذي يستر به عورته، فذاك في غاية الندرة، فإذا ثبت أن المراد ههنا من الخير المال الكثير، فذاك المال هل هو مقدر بمقدار معين محدود أم لا فيه قولان:
القول الأول: أنه مقدر بمقدار معين، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فروي عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مولى لهم في الموت، وله سبعمائة درهم، فقال أولا أوصي، قال لها: لا إنما قال الله تعالى: * (إن ترك خيرا) * وليس لك كثير مال، وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال: إني أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال أربعة قالت: قال الله * (إن ترك خير) * وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل، وعن ابن عباس إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصي وعن قتادة ألف درهم، وعن النخعي من ألف وخمسمائة درهم.
والقول الثاني: أنه غير مقدر بمقدار معين. بل يختلف دلك باختلاف حال الرجال، لأن بمقدار من المال يوصف المرء بأنه غني، وبذلك القدر لا يوصف غيره بالغني لأجل كثرة العيال وكثرة النفقة، ولا يمتنع في الإيجاب أن يكون متعلقا بمقدار مقدر بحسب الاجتهاد، فليس لأحد أن يجعل فقد البيان في مقدار المال دلالة على أن هذه الوصية لم تجب فيها قط بأن يقول لو وجبت لوجب أن يقدر المال الواجب فيها.
أما قوله: * (الوصية) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: إنما قال: * (كتب) * لأنه أراد بالوصية الإيصاء، ولذلك ذكر الضمير في قوله: * (فمن بدله بعدما سمعه) * (البقرة: 181) وأيضا إنما ذكر للفصل بين الفعل والوصية، لأن الكلام لما طال
65

كان الفاصل بين المؤنث والفعل، كالعوض من تاء التأنيث، والعرب تقول حضر القاضي امرأة، فيذكرون لأن القاضي بين الفعل وبين المرأة.
المسألة الثانية: رفع الوصية من وجهين أحدهما: على ما لم يسم فاعله والثاني: على أن يكون مبتدأ وللوالدين الخبر، وتكون الجملة في موضع رفع بكتب، كما تقول قيل عبد الله قائم، فقولك عبد الله قائم جملة مركبة من تبدأ وخبر، والجملة في موضع رفع بقيل.
أما قوله: * (للوالدين والأقربين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الله تعالى لما بين أن الوصية واجبة، بين بعد ذلك أنها واجبة لمن فقال: للوالدين والأقربين، وفيه وجهان: الأول: قال الأصم: إنهم كانوا يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشرف، ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة، فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصية لهؤلاء منعا للقوم عما كانوا اعتادوه وهذا بين الثاني: قال آخرون إن إيجاب هذه الوصية لما كان قبل آية المواريث، جعل الله الخيار إلى الموصي في ماله وألزمه أن لا يتعدى في إخراجه ماله بعد موته عن الوالدان والأقربين فيكون واصلا إليهم بتمليكه واختياره، ولذلك لما نزلت آية المواريث قال عليه الصلاة والسلام: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " فبين أن ما تقدم كان واصلا إليهم بعطية الموصي، فأما الآن فالله تعالى قدر لكل ذي حق حقه، وأن عطية الله أولى من عطية الموصي، وإذا كان كذلك فلا وصية لوارث البتة، فعلى هذا الوجه كانت الوصية من قبل واجبة للوالدين والأقربين.
المسألة الثانية: اختلفوا في قوله: * (والأقربين) * من هم؟ فقال قائلون: هم الأولاد فعلى هذا أمر الله تعالى بالوصية للوالدين والأولاد وهو قول عبد الرحمن بن زيد عن أبيه.
والقول الثاني: وهو قول ابن عباس ومجاهد أن المراد من الأقربين من عدا الوالدين.
والقول الثالث: أنهم جميع القرابات من يرث منهم ومن لا يرث وهذا معنى قول من أوجب الوصية للقرابة، ثم رآها منسوخة.
والقول الرابع: هم من لا يرثون من الرجل من أقاربه، فأما الوارثون فهم خارجون عن اللفظ، أما قوله: * (بالمعروف) * فيحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به، ويحتمل أن يكون المراد منه تمييز من يوصى له من الأقربين ممن لا يوصى، لأن كلا الوجهين يدخل في المعروف، فكأنه تعالى أمره في الوصية أن يسلك الطريق الجميلة، فإذا فاضل بينهم، فبالمعروف وإذا سوى فكمثل، وإذا حرم البعض فكمثل لأنه لو حرم الفقير وأوصى للغني لم يكن ذلك معروفا، ولو سوى بين
66

الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفا، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الأخوة لم يكن ما يأتيه معروفا فالله تعالى كلفه الوصية على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش وذلك من باب ما يعلم بالعادة فليس لأحد أن يقول: لو كانت الوصية واجبة لم يشترط تعالى فيه هذا الشرط، الذي لا يمكن الوقوف عليه لما بينا.
أما قوله تعالى: * (حقا على المتقين) * فزيادة في توكيد وجوبه، فقوله: * (حقا) * مصدر مؤكد، أي حق ذلك حقا، فإن قيل: ظاهر هذا الكلام يقتضي تخصيص هذا التكليف بالمتقين دون غيرهم.
فالجواب: من وجهين الأول: أن المراد بقوله: * (حقا على المتقين) * أنه لازم لمن آثر التقوى، وتحراه وجعله طريقة له ومذهبا فيدخل الكل فيه الثاني: أن هذه الآية تقتضي وجوب هذا المعنى على المتقين والإجماع دل على أن الواجبات والتكاليف عامة في حق المتقين، وغيرهم، فبهذا الطريق يدخل الكل تحت هذا التكليف؛ فهذا جملة ما يتعلق بتفسير هذه الآية.
واعلم أن الناس اختلفوا في هذه الوصية، منهم من قال: كانت واجبة ومنهم من قال: كانت ندبا واحتج الأولون بقوله: * (كتب) * وبقوله: * (عليكم) * وكلا اللفظين ينبئ عن الوجوب، ثم إنه تعالى أكد ذلك الإيجاب بقوله: * (حقا على المتقين) * وهؤلاء اختلفوا منهم من قال هذه الآية صارت منسوخة، ومنهم من قال إنها ما صارت منسوخة، وهذا اختيار أبي مسلم الأصفهاني، وتقرير قوله من وجوه أحدها: أن هذه الآية ما هي مخالفة لآية المواريث ومعناها كتب عليكم ما أوصى به الله تعالى من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم) * (النساء: 11) أو كتب على المختصر أن يوصيكم للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم وأن لا ينقص من أنصباتهم وثانيها: أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت، فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين وثالثها: لو قدرنا حصول المنافاة لكان يمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية وذلك لأن هذه الآية توجب الوصية للأقربين، ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثا داخلا تحت هذه الآية، وذلك لأن من الوالدين من يرث، ومنهم من لا يرث، وذلك بسبب اختلاف الدين والرق والقتل ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة من لا يرث بهذه الأسباب الحاجبة ومنهم من يسقط في حال ويثبت في حال، إذا كان في الواقعة من هو أولى بالميراث منهم، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم فكل من كان من هؤلاء وارثا لم يجز الوصية له، ومن لم يكن وارثا
67

جازت الوصية له لأجل صلة الرحم، فقد أكد الله تعالى ذلك بقوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) * (النساء: 1) وبقوله: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) * (النحل: 90) فهذا تقرير مذهب أبي مسلم في هذا الباب. أما القائلون بأن الآية منسوخة فيتوجه تفريعا على هذا المذهب أبحاث:
البحث الأول: اختلفوا في أنها بأي دليل صارت منسوخة؟ وذكروا وجوها أحدهما: أنها صارت منسوخة بإعطاء الله تعالى أهل المواريث كل ذي حق حقه فقط وهذا بعيد لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوب قدر آخر بالوصية وأكثر ما يوجبه ذلك التخصيص لا النسخ بأن يقول قائل: إنه لا بد وأن تكون منسوخة فيمن لم يختلف إلا الوالدين من حيث يصير كل المال حقا لهما بسبب الإرث فلا يبقى للوصية شيء إلا أن هذا تخصيص لا نسخ وثانيها: أنها صارت منسوخة بقوله عليه السلام: " ألا لا وصية لوارث " وهذا أقرب إلا أن الإشكال فيه أن هذا خبر واحد فلا يجوز نسخ القرآن به، وأجيب عن هذا السؤال بأن هذا الخبر وإن كان خبر واحد إلا أن الأئمة تلقته بالقبول فالتحق بالمتواتر. ولقائل أن يقول: يدعى أن الأئمة تلقته بالقبول على وجه الظن أو على وجه القطع، والأول مسلم إلا أن ذلك يكون إجماعا منهم على أنه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به والثاني ممنوع لأنهم لو قطعوا بصحته مع أنه من باب الآحاد لكانوا قد أجمعوا على الخطأ وأنه غير جائز وثالثها أنها
صارت منسوخة بالإجماع والإجماع لا يجوز أن ينسخ به القرآن. لأن الإجماع يدل على أنه كان الدليل الناسخ موجودا إلا أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدليل، ولقائل أن يقول: لما ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ فكيف يدعى انعقاد الإجماع على حصول النسخ؟ ورابعها: أنها صارت منسوخة بدليل قياسي وهو أن نقول: هذه الوصية لو كانت واجبة لكان عندما لم توجد هذه الوصية وجب أن لا يسقط حق هؤلاء الأقربين قياسا على الديون التي لا توجد الوصية بها لكن عندما لم توجد الوصية لهؤلاء الأقربين لا يستحقون شيئا، بدليل قوله تعالى في آية المواريث: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * (النساء: 11) وظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم تكن وصية ولا دين، فالمال أجمع مصروف إلى أهل الميراث، ولقائل أن يقول: نسخ القرآن بالقياس غير جائز والله أعلم.
البحث الثاني: القائلون بأن هذه الآية صارت منسوخة اختلفوا على قولين منهم من قال:
68

إنها صارت منسوخة في حق من يرث وفي حق من لا يرث وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء، ومنهم من قال: إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث، وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك: من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية، وقال طاوس: إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب، فعند هؤلاء أن هذه الآية بقيت دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثا، وحجة هؤلاء من وجهين:
الحجة الأولى: أن هذه الآية دالة على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق الوارث القريب، إما بآية المواريث وإما بقوله عليه الصلاة والسلام: " ألا لا وصية لوارث " أو بالإجماع على أنه لا وصية للوارث، وههنا الإجماع غير موجود مع ظهور الخلاف فيه قديما وحديثا، فوجب أن تبقى الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثا.
الحجة الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: " ما حق امرئ مسلم له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " وأجمعنا على أن الوصية لغير الأقارب غير واجبة، فوجب أن تكون هذه الوصية الواجبة مختصة بالأقارب، وصارت السنة مؤكدة للقرآن في وجوب هذه الوصية.
وأما الجمهور القائلون بأن هذه الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثا فأجود ما لهم التمسك بقوله تعالى: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * وقد ذكرنا تقريره فيما قبل.
البحث الثالث: القائلون بأن هذه الآية ما صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثا، اختلفوا في موضعين الأول: نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء، وقال الحسن البصري: هم الأغنياء سواء الثاني: روي عن الحسن وخالد بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه: يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة وثلث الثلث لمن أوصي له وعن طاوس أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزعت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب والله أعلم.
قوله تعالى
* (فمن بدله بعد ما سمعه فإنمآ إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر أمر الوصية ووجوبها، وعظم أمرها، أتبعه بما يجري مجرى
69

الوعيد في تغييرها.
أما قوله تعالى: * (فمن بدله) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا المبدل من هو؟ فيه قولان أحدهما: وهو المشهور أنه هو الوصي أو الشاهد أو سائر الناس، أما الوصي فبأن يغير الوصي الوصية إما في الكتابة وإما في قسمة الحقوق وأما الشاهد فبأن يغير شهادة أو يكتمها، وأما غير الوصي والشاهد فبأن يمنعوا من وصل ذلك المال إلى مستحقه، فهؤلاء كلهم داخلوا تحت قوله تعالى: * (فمن بدله) *.
والقول الثاني: أن المنهي عن التغيير هو الموصي نهى عن تغيير الوصية عن المواضع التي بين الله تعالى بالوصية إليها وذلك لأنا بينا أنهم كانوا في الجاهلية يوصون للأجانب ويتركون الأقارب في الجوع والضر، فالله تعالى أمرهم بالوصية للأقربين، ثم زجر بقوله: * (فمن بدله بعد ما سمعه) * من أعرض عن هذا التكليف.
المسألة الثانية: الكناية في قوله: * (فمن بدله) * عائد إلى الوصية، مع أن الكناية المذكورة مذكرة والوصية مؤنثة، وذكروا فيه وجوها أحدها: أن الوصية بمعنى الإيصاء ودالة عليه، كقوله تعالى: * (فمن جاءه موعظة) * (البقرة: 275) أي وعظ، والتقدير: فمن بدل ما قاله الميت، أو ما أوصى به أو سمعه عنه وثانيها: قيل الهاء راجعة إلى الحكم والفرض والتقدير فمن بدل الأمر المقدم ذكره وثالثها: أن الضمير عائد إلى ما أوصى به الميت فلذلك ذكره، وإن كانت الوصية مؤنثة ورابعها: أن الكناية تعود إلى معنى الوصية وهو قول أو فعل وخامسها: أن تأنيث الوصية ليس بالحقيقي فيجوز أن يكنى عنها بكناية المذكر.
أما قوله: * (بعدما سمعه) * فهو يدل على أن الإثم إنما يثبت أو يعظم بشرط أن يكون المبدل قد علم ذلك، لأنه لا معنى للسماع لو لم يقع العلم به، فصار إثبات سماعه كإثبات علمه.
أما قوله: * (فإنما إثمه على الذين يبدلونه) * فاعلم أن كلمة * (إنما) * للحصر والضمير في قوله: * (إثمه) * عائد إلى التبديل، والمعنى: أن إثم ذلك التبديل لا يعود إلا إلى المبدل، وقد تقدم بيان أن المبدل من هو.
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أحكام أحدها: أن الطفل لا يعذب على كفر أبيه وثانيها: أن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه، ثم إن الوارث قصر فيه بأن لا يقضي دينه فإن الإنسان الميت لا يعذب بسبب تقصير ذلك الوارث خلافا لبعض الجهال وثالثها: أن الميت لا يعذب ببكاء غيره عليه، وذلك لأن هذه الآية دالة على أن إثم التبديل لا يعود إلا إلى المبدل،
70

فإن الله تعالى لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره وتتأكد دلالة هذه الآية بقوله تعالى: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (البقرة: 164) * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) * (الجاثية: 15، فصلت: 46) * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * (البقرة: 286).
المسألة الثالثة: إذا أوصى للأجانب، وفي الأقارب من تشتد حاجته هل يجوز للوصي تغيير الوصية أما من يقول بوجوب الوصية لمن لا يرث من الوالدين والأقربين اختلفوا فيه، فمنهم من قال: كانت الوصية للأقارب واجبة عليه، فإذا لم يفعل وصرف الوصية إلى الأجانب كان ذلك الأجنبي أحق به، ومنهم من قال: ينقض ذلك ويرد إلى الأقربين وقد ذكرنا تفصيل قول هؤلاء، أما من لا يوجب الوصية للقريب الذي لا يرث، فإما أن يكون ذلك بالثلث أو بأكثر من الثلث، فإن كان بالثلث فهو جائز ولا يجوز تغييره، ثم اختلفوا في المستحب، فكان الحسن يقول: المستحب هو النقصان من الثلث، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: " الثلث والثلث كثير " فندب إلى النقصان، ومنهم من قال: بل الثلث مستحب، لأنه حقه والثواب فيه أكثر، ومنهم من يعتبر حال الميت وحال الورثة وقدر التركة، وهذا هو الأولى، فأما إن كانت الوصية بأكثر من الثلث فقد اختلفوا فيه، فمنهم من قال: لا يجوز ذلك إلا بأمر الورثة، والتماس الرضا منهم، وقال آخرون: لا تأثير لقول الورثة إلا بعد الموت، ثم إذا أوصى بأكثر من الثلث اختلفوا فمنهم من قال: يجوز إن أجازه الوارث ويكون عطية من الميت، ومنهم من يقول: بل يكون كابتداء عطية من الوارث.
أما قوله: * (إن الله سميع عليم) * فمعناه أنه تعالى سميع للوصية على حدها، ويعلمها على صفتها، فلا يخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها، والله أعلم.
قوله تعالى
* (فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) *.
اعلم أنه تعالى لما توعد من يبدل الوصية، بين أن المراد بذلك التبديل أن يبدله عن الحق إلى الباطل، أما إذا غيره عن باطل إلى حق على طريق الإصلاح فقد أحسن، وهو المراد من قوله: * (فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم) * لأن الإصلاح يقتضي ضربا من التبديل والتغيير
71

فذكر تعالى الفرق بين هذا التبديل وبين ذلك التبديل الأول بأن أوجب الإثم في الأول وأزاله عن الثاني بعد اشتراكهما في كونهما تبديلين وتغييرين، لئلا يقدر أن حكمهما واحد في هذا الباب، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم * (موص) * بالتشديد، والباقون بالتخفيف وهما لغتان: وصى وأوصى بمعنى واحد.
المسألة الثانية: الجنف: الميل في الأمور، وأصله العدول عن الاستواء، يقال: جنف يجنف بكسر النون في الماضي، وفتحها في المستقبل، جنفا، وكذلك: تجانف، ومنه قوله تعالى: * (غير متجانف لإثم) * (المائدة: 3) والفرق بين الجنف والإثم أن الجنف هو الخطأ من حيث لا يعلم به والإثم هو العمد.
المسألة الثالثة: في قوله تعالى: * (فمن خاف) * قولان: أحدهما: أن المراد منه هو الخوف والخشية.
فإن قيل: الخوف إنما يصح في أمر منتظر، والوصية وقعت فكيف يمكن تعلقها بالخوف.
والجواب من وجوه أحدها: أن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريقة الحق مع ضرب من الجهالة، أو مع التأويل أو شاهد منه تعمدا بأن يزيد غير المستحق، أو ينقص المستحق حقه، أو يعدل عن المستحق، فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقيق الوصية يأخذ في الإصلاح، لأن إصلاح الأمر عند ظهور أمارات فساده وقبل تقرير فساده يكون أسهل، فلذلك علق تعالى بالخوف من دون العلم، فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة، أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب وأن أزيد فلانا مع أنه لا يكون مستحقا للزيادة، أو أنقص فلانا مع أنه مستحق للزيادة، فعند ذلك يصير السامع خائفا من حنث وإثم لا قاطعا عليه، ولذلك قال تعالى: * (فمن خاف من موص جنفا) * فعلقه بالخوف الذي هو الظن ولم يعلقه بالعلم.
الوجه الثاني: في الجواب أنه إذا أوصى على الوجه الذي ذكرناه لكنه يجوز أن لا يستمر الموصي على تلك الوصية بل يفسخها ويجوز أن يستمر لأن الموصي ما لم يمت فله الرجوع عن الوصية وتغييرها بالزيادة والنقصان فلما كان كذلك لم يصر الجنف والإثم معلومين، لأن تجويز فسخة يمنع من أن يكون مقطوعا عليه، فلذلك علقه بالخوف.
الوجه الثالث: في الجواب أن بتقدير أن تستقر الوصية ومات الموصي، فمن ذلك يجوز أن
72

يقع بين الورثة والموصي لهم مصالحة على وجه ترك الميل والخطأ، فلما كان ذلك منتظرا لم يكن حكم الجنف والإثم ماضيا مستقرا، فصح أن يعلقه تعالى بالخوف وزوال اليقين، فهذه الوجوه يمكن أن تذكر في معنى الخوف وإن كان الوجه الأول هو الأقوى.
القول الثاني: في تفسير قوله تعالى: * (فمن خاف) * أي فمن علم والخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص وبين العلم وبين الظن مشابهة في أمور كثيرة فلهذا صح إطلاق اسم كل واحد منهما على الآخر، وعلى هذا التأويل يكون معنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمدا فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويرده إلى الصلاح بعد موته، وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع.
المسألة الرابعة: قد ذكرنا أن الجنف هو الخطأ والإثم هو العمد ومعلوم أن الخطأ في حق الغير في أنه يجب إبطاله بمنزلة العمد فلا فصل بين الخطأ والعمد في ذلك،
فمن هذا الوجه سوى عز وجل بين الأمرين.
أما قوله تعالى: * (فأصلح بينهم) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا المصلح من هو؟ الظاهر أنه هو الوصي الذي لا بد منه في الوصية وقد يدخل تحته الشاهد، وقد يكون المراد منه من يتولى ذلك بعد موته من وال أو ولي أو وصي، أو من يأمر بالمعروف. فكل هؤلاء يدخلون تحت قوله تعالى: * (فمن خاف من موص) * إذا ظهرت لهم أمارات الجنف والاسم في الوصية، أو علموا ذلك فلا وجه للتخصيص في هذا الباب، بل الوصي والشاهد أولى بالدخول تحت هذا التكليف وذلك لأن بهم تثبت الوصية فكان تعلقهم بها أشد.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الضمير في قوله: * (فأصلح بينهم) * لا بد وأن يكون عائدا إلى مذكور سابق فما ذلك المذكور السابق؟
وجوابه: أن لا شبهة أن المراد بين أهل الوصايا، لأن قوله: * (من موص) * دل على من له الوصية فصار كأنهم ذكروا فصلح أن يقول تعالى فأصلح بينهم كأنه قال: فأصلح بين أهل الوصية وقال القائلون: المراد فأصلح بين أهل الوصية والميراث، وذلك هو أن يزيد الموصي في الوصية على قدر الثلث، فالمصلح يصلح بين أهل الوصايا والورثة في ذلك، وهذا القول ضعيف من وجوه أحدها: أن لفظ الموصي إنما يدل على أهل الوصية لا على الورثة وثانيها: أن الجنف والإثم لا يدخل في أن يوصي بأكثر من الثلث لأن ذلك لما لم يجز إلا بالرضا صار ذكره كلا ذكر، ولا يحتاج في إبطاله إلى إصلاح لأنه ظاهر البطلان.
73

المسألة الثالثة: في بيان كيفية هذا الإصلاح وههنا بحثان:
البحث الأول: في بيان كيفية هذا الإصلاح قبل أن صارت هذه الآية منسوخة، فنقول بينا أن ذلك الجنف والإثم كان إما بزيادة أو نقصان أو بعدول فاصلاحها إنما يكون بإزالة هذه الأمور الثلاثة ورد كل حق إلى مستحقه.
البحث الثاني: في كيفية هذا الإصلاح بعد أن صارت هذه الآية المنسوخة فنقول الجنف والإثم ههنا يقع على وجوه منها أن يظهر من المريض ما يدل على أنه يحاول منع وصول المال إلى الوارث، إما بذكر إقرار، أو بالتزام عقد، فههنا يمنع منه ومنها أن يوصي بأكثر من الثلث ومنها أن يوصي للأباعد وفي الأقارب شدة حاجة، ومنها أن يوصي مع قلة المال وكثرة العيال إلى غير ذلك من الوجوه.
أما قوله تعالى: * (فلا إثم عليه) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: هذا المصلح قد أتي بطاعة عظيمة في هذا الإصلاح وهو يستحق الثواب عليه، فكيف يليق به أن يقال: فلا إثم عليه. وجوابه من وجوه الأول: أنه تعالى لما ذكر إثم المبدل في أول الآية، وهذا أيضا من التبديل بين مخالفته للأول، وأنه لا إثم عليه لأنه رد الوصية إلى العدل والثاني: لما كان المصلح ينقص الوصايا وذلك يصعب على الموصي له ويوهم فيه إثما أزال الشبهة وقال: * (فلا إثم عليه) * والثالث: بين أن بالوصية والإشهاد لا يتحتم ذلك، وأنه متى غير إلى الحق وإن كان خالف الوصية فلا إثم عليه، وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي وصرف لماله عمن أحب إلى من كره، لأن ذلك يوهم القبح، فبين الله عز وجل أن ذلك حسن لقوله: * (فلا إثم عليه) * والرابع: أن الإصلاح بين الجماعة يحتاج فيه إلى الإكثار من القول ويخاف فيه أن يتخلله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل، فبين تعالى أنه لا إثم على المصلح في هذا الجنس إذا كان قصده في الإصلاح جميلا.
المسألة الثانية: دلت هذه الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع.
أما قوله: * (إن الله غفور رحيم) * ففيه أيضا سؤال: وهو أن هذا الكلام إنما يليق بمن فعل فعلا لا يجوز، أما هذا الإصلاح فهو من جملة الطاعات فكيف به هذا الكلام وجوابه من وجوه أحدها: أن هذا من باب تنبيه الأدنى على الأعلى كأنه قال أنا الذي أغفر الذنوب ثم أرحم المذنب فبأن أوصل رحمتي وثوابي إليك مع أنك تحملت المحن الكثيرة في
74

إصلاح هذا المهم كان أولى، وثانيها: يحتمل أن يكون المراد أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم متى أصلحت وصيته فإن الله غفور رحيم يغفر له ويرجحه بفضله وثالثها: أن المصلح ربما احتاج في إيتاء الإصلاح إلى أقوال وأفعال كان الأولى تركها فإذا علم تعالى منه أن غرضه ليس إلا الإصلاح فإنه لا يؤاخذه بها لأنه غفور رحيم.
الحكم السادس
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) *.
اعلم أن الصيام مصدر صام كالقيام، وأصله في اللغة الإمساك عن الشيء والترك له، ومنه قيل للصمت: صوم لأنه إمساك عن الكلام، قال الله تعالى: * (إني نذرت للرحمن صوما) * (مريم: 26) وصوم النهار إذا اعتدل وقام قائما الظهيرة قال امرؤ القيس:
فدعها وسل الهم عنها بحسرة * ذمول إذا صام النهار وهجرا
وقال آخر: حتى إذا صام النهار واعتدل (c)
وصامت الريح إذا ركدت، وصام الفرس إذا قام على غير اعتلاف وقال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة * تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
ويقال: بكرة صائمة إذا قامت فلم تدر قال الراجز:
والبكرات شرهن الصائمة
ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار، وكذلك مصام النجم قال امرؤ القيس:
كأن الثريا علقت في فصامها * بأمراس كتان إلى صم جندل
هذا هو معنى الصوم في اللغة، وفي الشريعة هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات حال العلم بكونه صائما مع اقتران النية.
75

أما قوله تعالى: * (كما كتب على الذين من قبلكم) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في هذا التشبيه قولان أحدهما: أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، يعني هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم، ما أخلى الله أمة من إيجابها عليهم لا يفرضها عليكم وحدكم وفائدة هذا الكلام أن الصوم عبادة شاقة، والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله.
والقول الثاني: أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره، وهذا ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور فاما أن يقال: إنه يقتضي الاستواء في كل الأمور فلا، ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوها أحدها: أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى، أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر وصامت يوما من السنة، زعموا أنه يوم غرق فيه فرعون، وكذبوا في ذلك أيضا، لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما النصارى فإنهم صاموا رمضان فصادفوا فيه الحر الشديد فحولوه إلى وقت لا يتغير، ثم قالوا عند التحويل نزيد فيه فزادوا عشرا، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فنذر سبعا فزادوه، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال: ما بال هذه الثلاثة فأتمه خمسين يوما، وهذا معنى قوله تعالى: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا) * (التوبة: 31) وهذا مروي عن الحسن وثانيها: أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما، ولهذا كره صوم يوم الشك، وهو مروي عن الشعبي وثالثها: أن وجه التشبيه أنه يحرم الطعام والشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك حراما على سائر الأمم واحتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * (البقرة: 187) يفيد نسخ هذا الحكم، فهذا الحكم لا بد فيه من دليل يدل عليه ولا دليل عليه إلا هذا التشبيه وهو قوله: * (كما كتب على الذين من قبلكم) * فوجب أن يكون هذا التشبيه دليلا على ثبوت هذا المعنى، قال أصحاب القول الأول: قد بينا أن تشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصا برمضان، وأن يكون صومهم مقدرا بثلاثين يوما، ثم إن هذه الرواية مما ينفر من قبول الإسلام إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك.
المسألة الثانية: في موضع * (كما) * ثلاثة أقول الأول: قال الزجاج موضع * (كما) * نصب على المصدر لأن المعنى: فرض عليكم فرضا كالذي فرض على الذين من قبلكم الثاني: قال ابن الأنباري
76

يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من الصيام يراد بها: كتب عليكم الصيام مشبها وممثلا بما كتب على الذين من قبلكم الثالث: قال أبو علي: هو صفة لمصدر محذوف تقديره: كتابة كما كتب عليهم، فحذف المصدر وأقيم نعته مقامه قال: ومثله في الإتساع والحذف قولهم في صريح الطلاق: أنت واحدة، ويريدون أنت ذات تطليقة واحدة، فحذف المضاف والمضاف إليه وأقيم صفة المضاف مقام الاسم المضاف إليه. أما قوله تعالى: * (لعلكم تتقون) * فاعلم أن تفسير * (لعل) * في حق الله تعالى قد تقدم، وأما أن هذا الكلام كيف يليق بهذا الموضع ففيه وجوه أحدها: أنه سبحانه بين بهذا الكلام أن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش ويهون لذات الدنيا ورياستها، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر: المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه؛ فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين وخفت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونا عليه أمر الرياسة في الدنيا وذلك جامع لأسباب التقوى فيكون معنى الآية فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم في كتابي، وأعلمت أن هذا الكتاب هدى لهم ولما اختص الصوم بهذه الخاصية حسن منه تعالى أن يقول عند إيجابها * (لعلكم تتقون) * منها بذلك على وجه وجوبه لأن ما يمنع النفس عن المعاصي لا بد وأن يكون واجبا وثانيها: المعنى ينبغي لكم بالصوم أن يقوى وجاؤكم في التقوى وهذا معنى * (لعل) * وثانيها: المعنى: لعلكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات فإن الشيء كلما كانت الرغبة فيه أكثر كان الاتقاء عنه أشق والرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في سائر الأشياء فإذا سهل عليكم اتقاء الله بترك المطعوم والمنكوح، كان اتقاء الله بترك سائر الأشياء أسهل وأخف ورابعها: المراد * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) * إهمالها وترك المحافظة عليها بسبب عظم درجاتها وأصالتها وخامسها: لعلكم تنتظمون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين لأن الصوم شعارهم والله أعلم.
قوله تعالى
* (أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين
77

يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) *.
اعلم أن في قوله تعالى: * (أياما معدودات) * مسائل:
المسألة الأولى: في انتصاب * (أياما) * أقوال الأول: نصب على الظرف، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام في أيام، ونظيره قولك: نويت الخروج يوم الجمعة والثاني: وهو قول الفراء أنه خبر ما لم يسم فاعله، كقولهم: أعطى زيد مالا والثالث: على التفسير والرابع: بإضمار أي فصوموا أياما.
المسألة الثانية: اختلفوا في هذه الأيام على قولين: الأول: أنها غير رمضان، وهو قول معاذ وقتادة وعطاء، ورواه عن ابن عباس، ثم اختلف هؤلاء فقيل: ثلاثة أيام من كل شهر، عن عطاء، وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عاشوراء، عن قتادة، ثم اختلفوا أيضا فقال بعضهم: إنه كان تطوعا ثم فرض، وقيل: بل كان واجبا واتفق هؤلاء على أنه منسوخ بصوم رمضان، واحتج القائلون بأن المراد بهذه الأيام غير صوم رمضان بوجوه الأول: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صوم رمضان نسخ كل صوم، فدل هذا على أن قبل وجوب رمضان كان صوما آخر واجبا الثاني: أنه تعالى ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية، ثم ذكر حكمهما أيضا في الآية التي بعد هذه الآية الدالة على صوم رمضان، فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان، لكان ذلك تكريرا محضا من غير فائدة أنه لا يجوز الثالث: أن قوله تعالى في هذا الموضع: * (وعلى الذين يطيقونه فدية) * يدل على أن الصوم واجب على التخيير، يعني: إن شاء صام، وإن شاء أعطى الفدية، وأما صوم رمضان فإنه واجب على التعيين، فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان.
القول الثاني: وهو اختيار أكثر المحققين، كابن عباس والحسن وأبي مسلم أن المراد بهذه الأيام المعدودات: شهر رمضان قالوا، وتقريره أنه تعالى قال أولا: * (كتب عليكم الصيام) * (البقرة: 183) وهذا محتمل ليوم ويومين وأيام ثم بينه بقوله تعالى: * (أياما معدودات) * فزال بعض الإحتمال ثم بينه بقوله: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * (البقرة: 185) فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النسخ فيه، لأن كل ذلك زيادة لا يدل اللفظ عليها فلا يجوز القول به.
78

أما تمسكهم أولا بقوله عليه السلام: " إن صوم رمضان نسخ كل صوم ".
فالجواب: أنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يكون المراد أنه نسخ كل صوم واجب في الشرائع المتقدمة، لأنه كما يصح أن يكون بعض شرعه ناسخا للبعض، فيصح أن يكون شرعه ناسخا لشرع غيره.
سلمنا أن هذا الخبر يقتضي أن يكون صوم رمضان نسخ صوما ثبت في شرعه، ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخا لصيام وجب بغير هذه الآية فمن أين لنا أن المراد بهذه الآية غير شهر رمضان.
وأما حجتهم الثانية: وهي أن هذه الأيام لو كانت هي شهر رمضان، لكان حكم المريض والمسافر مكررا.
فالجواب: أن في الابتداء كان صوم شهر رمضان ليس بواجب معين، بل كان التخيير ثابتا بينه وبين الفدية، فلما كان كذلك ورخص للمسافر الفطر كان من الجائز أن يظن أن الواجب عليه الفدية دون القضاء، ويجوز أيضا أنه لا فدية عليه ولا قضاء لمكان المشقة التي يفارق بها المقيم، فلما لم يكن ذلك بعيدا بين تعالى أن إفطار المسافر والمريض في الحكم خلاف التخيير في حكم المقيم، فإنه يجب عليهما القضاء في عدة من أيام أخر، فلما نسخ الله تعالى ذلك عن المقيم الصحيح وألزمه بالصوم حتما، كان من الجائز أن يظن أن حكم الصوم لما انتقل عن التخيير إلى التضييق حكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم الصحيح من حيث تغير حكم الله في الصوم، فبين تعالى أن حال المريض والمسافر ثابت في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالها أولا، فهذا هو الفائدة في إعادة ذكر حكم المسافر والمريض، لا لأن الأيام المعدودات سوى شهر رمضان.
وأما حجتهم الثالثة: وهي قولهم صوم هذه الأيام واجب مخير، وصوم شهر رمضان واجب معين.
فجوابه ما ذكرنا من أن صوم شهر رمضان كان واجبا مخيرا، ثم صار معينا، فهذا تقرير هذا القول، واعلم أن على كلا القولين لا بد من تطرق النسخ إلى هذه الآية، أما على القول الأول فظاهر، وأما على القول الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجبا مخيرا والآية التي بعدها تدل على التعيين، فكانت الآية الثانية ناسخة لحكم هذه الآية، وفيه إشكال وهو أنه كيف يصح أن يكون قوله: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (البقرة: 185) ناسخا للتخيير مع اتصاله
79

بالمنسوخ وذلك لا يصح.
وجوابه: أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول وهذا كما قاله الفقهاء في عدة المتوفى عنها زوجها أن المقدم في التلاوة وهو الناسخ والمنسوخ متأخر وهذا ضد ما يجب أن يكون عليه حال الناسخ والمنسوخ فقالوا: إن ذلك في التلاوة أن في الإنزال فكان الاعتداد بالحول هو المتقدم والآية الدالة على أربعة أشهر وعشر هي المتأخرة فصح كونها ناسخة وكذلك نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير.
المسألة الثالثة: في قوله: * (معدودات) * وجهان أحدهما: مقدرات بعدد معلوم وثانيهما: قلائل كقوله تعالى: * (دراهم معدودة) * (يوسف: 20) وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد ويحتاط في معرفة تقديره، وأما الكثير فإنه يصب صبا ويحثى حثيا والمقصود من هذا الكلام كأنه سبحانه يقول: إني رحمتكم وخففت عنكم حين لم أفرض عليكم صيام الدهر كله، ولا صيام أكثره، ولو شئت لفعلت ذلك ولكني رحمتكم وما أوجبت الصوم عليكم إلا في أيام قليلة، وقال بعض المحققين: يجوز أن يكون قوله: * (أياما معدودات) * من صلة قوله: * (كما كتب على الذين من قبلكم) * (البقرة: 183) وتكون المماثلة واقعة بين الفرضين من هذا الوجه، وهو تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان في الطول والقصر، ويكون المراد ما ذكرناه من تعريفه سبحانه إيانا أن فرض الصوم علينا وعلى من قبلنا ما كان إلا مدة قليلة لا تشتد مشقتها، فكان هذا بيانا لكونه تعالى رحيما بجميع الأمم، ومسهلا أمر التكاليف على كل الأمم.
أما قوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * فالمراد منه أن فرض الصوم في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المقيمين فأما من كان مريضا أو مسافرا فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر قال القفال رحمه الله: انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، وأنه
تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة والغرض منه ما ذكرنا أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت، ثم ثانيا بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم، وهو أنه سبب لحصول التقوى، فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف، ثم ثالثا: بين أنه مختص بأيام معدودة، فإن لو جعله أبدا أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة ثم بين رابعا: أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة، ثم بين خامسا: إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون، فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه
80

الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيرا، إذا عرفت هذا فنقول في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا) * إلى قوله: * (أخر) * فيه معنى الشرط والجزاء أي من يكن منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فليقض، وإذا قدرت فيه معنى الشرط كان المراد بقوله كان الاستقبال لا الماضي، كما تقول: من أتاني أتيته.
المسألة الثانية: المرض عبارة عن عدم اختصاص جميع أعضاء الحي بالحالة المقتضية لصدور أفعاله سليمة سلامة تليق به، واختلفوا في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال أحدها: أن أي مريض كان، وأي مسافر كان، فله أن يترخص تنزيلا للفظه المطلق على أقل أحواله، وهذا قول الحسن وابن سيرين، يروى أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل، فاعتل بوجع أصبعه وثانيها: أن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد، وبالمسافر الذي يكون كذلك، وهذا قول الأصم، وحاصله تنزيل اللفظ المطلق على أكمل الأحوال وثالثها: وهو قول أكثر الفقهاء: أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر النفس أو زيادة في العلة، إذ لا فرق في الفعل بين ما يخاف منه وبني ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحموم إذا خاف أنه لو صام تشتد حماه، وصاحب وجع العين يخاف إن صام أن يشتد وجع عينه، قالوا: وكيف يمكن أن يقال كل مرض مرخص مع علمنا أن في الأمراض ما ينقصه الصوم، فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته، ثم تأثيره في الأمر اليسير لا عبرة به، لأن ذل قد يحصل فيمن ليس بمريض أيضا، فإذن يجب في تأثيره ما ذكرناه.
المسألة الثالثة: أصل السفر من الكشف وذلك أنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم والمسفرة المكنسة، لأنها تسفر التراب عن الأرض، والسفير الداخل بين اثنين للصلح، لأنه يكشف المكروه الذي اتصل بهما، والمسفر المضئ، لأنه قد انكشف وظهر ومنه أسفر الصبح والسفر الكتاب، لأنه يكشف عن المعان ببيانه، وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب، قال الأزهري: وسمي المسافر مسافرا لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء، وسمي السفر سفرا لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، ويظهر ما كان خافيا منهم، واختلف الفقهاء في قدر السفر المبيح للرخص، فقال داود: الرخص حاصلة في كل سفر ولو كان السفر فرسخا، وتمسك فيه بأن الحكم لما كان معلقا على كونه مسافرا، فحيث تحقق هذا المعنى حصل هذا الحكم أقصى ما في الباب أنه يروي خبر واحد في تخصيص هذا العموم، لكن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز، وقال الأوزاعي: السفر المبيح مسافة يوم: وذلك لأن أقل من
81

هذا القدر قد يتفق للمقيم، وأما الأكثر فليس عدد أولى من عدد، فوجب الاقتصار على الواحد، ومذهب الشافعي أنه مقدر بستة عشر فرسخا، ولا يحسب منه مسافرة الإياب، كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قدر أميال البادية، كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة، فإن كل ثلاث أقدام خطوة، وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحق وقال أبو حنيفة والثوري: رخص السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل أربعة وعشرين فرسخا، حجة الشافعي وجهان الأول: قوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * مقتضاه أن يترخص المسافر مطلقا ترك العمل به فيما إذا كان السفر مرحلة واحدة لأن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله، أما إذا تكرر التعب في اليومين فإنه يشق تحمله فيناسب الرخصة تحصيلا لهذا التخفيف.
الحجة الثانية: من الخبر: وهو ما رواه الشافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان، قال أهل اللغة: وكل بريد أربعة فراسخ فيكون مجموعة ستة عشر فرسخا، وروي عن الشافعي أيضا أن عطاء قال لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ فقال: لا. فقال إلى مر الظهران؟ فقال: لا. ولكن اقصر إلى جدة وعسفان والطائف، قال مالك: بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد، وحجة أبي حنيفة أيضا من وجهين الأول: أن قوله: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (البقرة: 185) يقتضي وجوب الصوم عدلنا عنه في ثلاثة أيام بسبب الإجماع على أن هذا القدر مرخص، والأقل منه مختلف فيه، فوجب أن يبقى وجوب الصوم.
الحجة الثانية: من الخبر وهو قوله عليه السلام: " يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن " دل الخبر على أن لكل مسافر أن يمسح ثلاثة أيام، ولا يكون كذلك حتى تتقدر مدة السفر ثلاثة أيام، لأنه عليه الصلاة والسلام جعل السفر علة المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن وجعل هذا المسح معلولا والمعلول لا يزيد على العلة.
والجواب عن الأول: أنه معارض بما ذكرناه من الآية فإن رجحوا جانبهم بأن الاحتياط في العبادات أولى، رجحنا جانبنا بأن التخفيف في رخص السفر مطلوب الشرع، بدليل قوله عليه السلام: " هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقتبلوا منه صدقته " والترجيح لهذا الجانب، لأن الدليل الدال على أن رخص السفر مطلوبة للشرع أخص من الدليل الدال على وجوب رعاية الاحتياط
82

والجواب عن الثاني: أنه عليه السلام قال: " يمسح المقيم يوما وليلة " وهذا لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة، لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة صار مقيما فكذا قوله: " والمسافر ثلاثة أيام " لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام.
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: رعاية اللفظ تقتضي أن يقال فمن كان منكم مريضا أو مسافرا ولم يقل هكذا بل قال: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر) *.
وجوابه: أن الفرق هو أن المرض صفة قائمة بالذات: فإن حصلت حصلت وإلا فلا وأما السفر فليس كذلك لأن الإنسان إذا نزل في منزل فإن عدم الإقامة كان سكونه هناك إقامة لا سفرا وإن عدم السفر كان هو في ذلك الكون مسافرا فإذن كونه مسافرا أمر يتعلق بقصده واختياره، فقوله: * (على سفر) * معناه كونه على قصد السفر والله أعلم بمراده.
المسألة الخامسة: * (العدة) * فعلة من العد، وهو بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون ومنه يقال للجماعة المعدودة من الناس عدة وعدة المرأة من هذا.
فإن قيل: كيف قال: * (فعدة) * على التنكير ولم يقل فعدتها أي فعدة الأيام المعدودات.
قلنا: لأنا بينا أن العدة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياما معدودة مكانها والظاهر أنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة.
المسألة السادسة: * (عدة) * قرئت مرفوعة ومنصوبة، أما الرفع فعلى معنى فعليه صوم عدة فيكون هذا من باب حذف المضاف، وأما إضمار * (عليه) * فيدل عليه حرف الفاء. وأما النصب فعلى معنى: فليصم عدة.
المسألة السابعة: ذهب قوم من علماء الصحابة إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر، وهو قول ابن عباس وابن عمر، ونقل الخطابي في أعلام التنزيل عن ابن عمر أنه قال لو صام في السفر قضي في الحضر، وهذا اختيار داود بن علي الأصفاني، وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام حجة الأولين من القرآن والخبر أما القرآن فمن وجهين الأول: أنا إن قرأنا * (عدة) * بالنصب كان التقدير: فليصم عدة من أيام أخر وهذا للإيجاب، ولو أنا قرأنا بالرفع كان التقدير: فعليه عدة من أيام، وكلمة * (على) * للوجوب فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إيجاب صوم أيام أخر، فوجب أن يكون فطر هذه الأيام واجبا ضرورة أنه لا قائل بالجمع.
الحجة الثانية: أنه تعالى أعاد فيما بعد ذلك هذه الآية، ثم قال عقيبها * (يريد الله بكم اليسر
83

ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) ولا بد وأن يكون هذا اليسر والعسر شيئا تقدم ذكرهما، وليس هناك يسر إلا أنه أذن للمريض والمسافر في الفطر، وليس هناك عسر إلا كونهما صائمين فكان قوله: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * معناه يريد منكم الإفطار ولا يريد منكم الصوم فذلك تقرير قولنا، وأما الخبر فإثنان الأول: قوله عليه السلام: " ليس من البر الصيام في السفر " لا يقال هذا الخبر وارد عن سبب خاص، وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام مر على رجل جالس تحت مظلة فسأل عنه فقيل هذا صائم أجهده العطش، فقال: " ليس من البر الصيام في السفر " لأنا نقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ".
أما حجة الجمهور: فهي أن في الآية إضمارا لأن التقدير: فأفطر فعدة من أيام أخر وتمام تقرير هذا الكلام أن الإضمار في كلام الله جائز في الجملة وقد دل الدليل على وقوعه ههنا أما بيان الجواز فكما في قوله تعالى: * (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت) * (البقرة: 60) والتقدير فضرب فانفجرت وكذلك قوله تعالى: * (ولا تحلقوا رؤسكم) * إلى قوله: * (أو به أذى من رأسه ففدية) * (البقرة: 96) أي فحلق فعليه فدية فثبت أن الإضمار جائز، أما أن الدليل دل على وقوعه ففي تقريره وجوه الأول: قال القفال: قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (البقرة: 185) يدل على وجوب الصوم ولقائل أن يقول هذا ضعيف وبيانه من وجهين الأول: أنا إذا أجرينا ظاهر قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (البقرة: 185) على العموم لزمنا الإضمار في قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * وقد بينا في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص وبين الإضمار كان تحمل التخصيص أولى والثاني وهو أن ظاهر قوله تعالى: * (فليصمه) * يقتضي الوجوب عينا، ثم إن هذا الوجوب منتف في حق المريض والمسافر، فهذه الآية مخصوصة في حقهما على جميع التقديرات سواء أجرينا قوله تعالى فعليه: * (عدة من أيام أخر) * على ظاهره أو لم نفعل ذلك وإذا كان كذلك وجب إجراء هذه الآية على ظاهرها من غير إضمار.
الوجه الثاني: ما ذكره الواحدي في كتاب البسيط، فقال: القضاء إنما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر، فلما أوجب الله القضاء والقضاء مسبوق بالفطر، دل على أنه لا بد من إضمار الإفطار وهذا في غاية السقوط لأن الله تعالى لم يقل: فعليه قضاء ما مضى بل قال: فعليه صوم عدة من أيام أخر وإيجاب الصوم عليه في أيام أخر لا يستدعي أن يكون مسبوقا بالإفطار.
الوجه الثالث: ما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة
84

الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل أصوم على السفر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " صم إن شئت وأفطر إن شئت " ولقائل أن يقول: هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد لأن ظاهر القرآن يقتضي وجوب صوم سائر الأيام، فرفع هذا الخبر غير جائز إذا ثبت ضعف هذه الوجوه، فالاعتماد في إثبات المذهب على قوله تعالى بعد هذه الآية: * (وأن تصوموا خير لكم) * وسيأتي بيان وجه الاستدلال إن شاء الله تعالى.
المسألة الثامنة: لمذهب القائلين بأن الصوم جائز فرعان:
الفرع الأول: اختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر؟ فقال أنس بن مالك وعثمان بن أبي أوفى الصوم أفضل وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد، وقالت طائفة أفضل الأمرين الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقالت فرقة ثالثة: أفضل الأمرين أيسرهما على المرء. حجة الأولين: قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * وقوله تعالى: * (وأن تصوموا خير لكم) *.
حجة الفرقة الثانية: أن القصر في الصلاة أفضل، فوجب أن يكون الإفطار أفضل.
والجواب: أن من أصحابنا من قال: الإتمام أفضل إلا أنه ضعيف، والفرق من وجهين: أحدهما: أن الذمة تبقى مشغولة بقضاء الصوم دون الصلاة إذا قصرها والثاني: أن فضيلة الوقت تفوت بالفطر ولا تفوت بالقصر.
حجة الفرقة الثالثة: قوله تعالى: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) فهذا يقتضي أنه إن كان الصوم أيسر عليه صام وإن كان الفطر أيسر أفطر.
الفرع الثاني: أنه إذا أفطر كيف يقضي؟ فمذهب علي وابن عمر والشعبي أنه يقضيه متتابعا وقال الباقون: التتابع مستحب وإن فرق جاز حجة الأولين وجهان الأول: أن قراءة أبي * (فعدة من أيام متتابعات) * والثاني: أن القضاء نظير الأداء فلما كان الأداء متتابعا، فكذا القضاء.
حجة الفرقة الثانية: أن قوله: * (فعدة من أيام أخر) * نكرة في سياق الإثبات، فيكون ذلك أمرا بصوم أيام على عدد تلك الأيام مطلقا، فيكون التقييد بالتتابع مخالفا لهذا التعميم، وعن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: إن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه، إن شئت فواتر وإن شئت ففرق والله أعلم.
وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم على أيام من رمضان أفيجزيني أن أقضيها متفرقا فقال له: " أرأيت لو كان عليك دين فقضيته الدرهم والدرهمين أما كان يجزيك؟ فقال: نعم. قال:
85

فالله أحق أن يعفو ويصفح ".
المسألة التاسعة: * (أخر) * لا ينصرف لأنه حصل فيه سببان الجمع والعدل أما الجمع فلأنها جمع أخرى، وأما العدل فلأنها جمع أخرى، وأخرى تأنيث آخر، وآخر على وزن أفعل، وما كان على وزن أفعل فإنه إما أن يستعمل مع * (من) * أو مع الألف واللام، يقال: زيد أفضل من عمرو وزيد الأفضل، وكان القياس أن يقال رجل آخر من زيد كما تقول قدم أمن عمرو، إلا أنهم حذفوا لفظ * (من) * لأن لفظه اقتضى معنى * (من) * فأسقطوا * (من) * اكتفاء بدلالة اللفظ عليه، والألف واللام منافيان * (من) * فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أخر وآخر وأخرى معدولة عن حكم نظائرها، لأن الألف واللام استعملتا فيها ثم حذف.
أما قوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: القراءة المشهورة المتواترة * (يطيقونه) * وقرأ عكرمة وأيوب السختياني وعطاء * (يطيقونه) * ومن الناس من قال: هذه القراءة مروية عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد قال: ابن جني: أما عين الطاقة فواو كقولهم: لا طاقة لي به ولا طوق لي به وعليه قراءة (يطوقونه) فهو يفعلونه فهو كقولك: يجشمونه. أي يكلفونه.
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله: * (وعلى الذين يطيقونه) * على ثلاثة أقوال الأول: أن هذا راجع إلى المسافر والمريض وذلك لأن المسافر والمريض قد يكون منهما من لا يطيق الصوم ومنهما من يطيق الصوم.
وأما القسم الأول: فقد ذكر الله حكمه في قوله: * (ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) *.
وأما القسم الثاني: وهو المسافر والمريض اللذان يطيقان الصوم، فإليهما الإشارة بقوله: * (وعلى الذين يطيقونه فدية) * فكأنه تعالى أثبت للمريض وللمسافر حالتين في إحداهما يلزمه أن يفطر وعليه القضاء وهي حال الجهد الشديد لو صام والثانية: أن يكون مطيقا للصوم لا يثقل عليه فحينئذ يكون مخيرا بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية.
القول الثاني: وهو قول أكثر المفسرين أن المراد من قوله: * (وعلى الذين يطيقونه) * المقيم الصحيح فخيره الله تعالى أولا بين هذين، ثم نسخ ذلك وأوجب الصوم عليه مضيقا معينا.
القول الثالث: أنه نزلت هذه الآية في حق الشيخ الهرم قالوا: وتقريره من وجهين أحدهما: أن الوسع فوق الطاقة فالوسع اسم لمن كان قادرا على الشيء على وجه السهولة أما
86

الطاقة فهو اسم لمن كان قادرا على الشيء مع الشدة والمشقة فقوله: * (وعلى الذين يطيقونه) * أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدة والمشقة.
الوجه الثاني: في تقرير هذا القول القراءة الشاذة * (وعلى الذين يطيقونه) * فإن معناه وعلى الذين يجشمونه ويكلفونه، ومعلوم أن هذا لا يصح إلا في حق من قدر على الشئ مع ضرب من المشقة.
إذا عرفت هذا فنقول: القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين أحدهما: وهو قول السدي: أنه هو الشيخ الهرم، فعلى هذا لا تكون الآية منسوخة، يروى أن أنسا كان قبل موته يفطر ولا يستطيع الصوم ويطعم ويطعم لكل يوم مسكينا وقال آخرون: إنها تتناول الشيخ الهرم والحامل والمرضع سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسهما وعلى ولديهما فقال: فأي مرض أشد من الحمل تفطر وتقضي.
واعلم أنهم أجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر فعليه الفدية، أما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فهل عليهما الفدية؟ فقال الشافعي رضي الله عنه: عليهما الفدية، فقال أبو حنيفة: لا تجب حجة الشافعي أن قوله: * (وعلى الذين يطيقونه فدية) * يتناول الحامل والمرض، وأيضا المدية واجبة على الشيخ الهرم فتكون واجبة أيضا عليهما، وأبو حنيفة فرق فقال: الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه فلا جرم وجبت الفدية، أما الحامل والمرضع فالقضاء واجب عليهما، فأوجبنا الفدية عليهما أيضا كان ذلك جمعا بين البدلين وهو غير جائز لأن القضاء بدل والفدية بدل، فهذا تفصيل هذه الأقوال الثلاثة في تفسير قوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه) *.
أما القول الأول: وهو اختيار الأصم فقد احتجوا على صحته من وجوه أحدها: أن المرض المذكور في الآية إما أن يكون هو المرض الذي يكون في الغاية، وهو الذي لا يمكن تحمله، أو المراد كل ما يسمى مرضا، أو المراد منه ما يكون متوسطا بين هاتين الدرجتين، والقسم الثاني باطل بالإتفاق، والقسم الثالث أيضا باطل، لأن المتوسطات لها مراتب كثيرة غير مضبوطة، وكل مرتبة منها فإنها بالنسبة إلى ما فوقها ضعيفة وبالنسبة إلى ما فوقها إلى ما تحتها قوية، فإذا لم يكن في اللفظ دلالة على تعيين تلك المرتبة مع أن مراد الله هو تلك المرتبة صارت الآية مجملة وهو خلاف الأصل، ولما بطل هذان القسمان تعين أن المراد هو القسم الأول، وذلك لأنه مضبوط، فحمل الآية عليه أولى لأنه لا يفضي إلى صيرورة الآية مجملة.
إذا ثبت هذا فنقول: أول الآية دل على إيجاب الصوم، وهو قوله: كتب عليكم الصيام
87

أياما معدودات ثم بين أحوال المعذورين، ولما كان المعذورون على قسمين: منهم من لا يطيق الصوم أصلا، ومنهم من يطيقه مع المشقة والشدة، فالله تعالى ذكر حكم القسم الأول ثم أردفه بحكم القسم الثاني.
الحجة الثانية: في تقرير هذا القول أنه لا يقال في العرف للقادر القوي: إنه يطيق هذا الفعل لأن هذا اللفظ لا يستعمل إلا في حق من يقدر عليه مع ضرب من المشقة.
الحجة الثالثة: أن على أقوالكم لا بد من إيقاع النسخ في هذه الآية وعلى قولنا لا يجب، ومعلوم أن النسخ كلما كان أقل كان أولى فكان المصير إلى إثبات النسخ من غير أن يكون في اللفظ ما يدل عليه غير جائز.
الحجة الرابعة: أن القائلين بأن هذه الآية منسوخة اتفقوا على أن ناسخها آية شهود الشهر، وذلك غير جائز لأنه تعالى قال في آخر تلك الآية: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) ولو كانت الآية ناسخة لهذا لما كان قوله: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * لائقا بهذا الموضع، لأن هذا التقدير أوجب الصوم على سبيل التضييق، ورفع وجوبه على سبيل التخيير، فكان ذلك رفعا لليسر وإثباتا للعسر فكيف يليق به أن يقول: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) *.
واحتج القاضي رحمه الله في فساد قول الأصم فقال: إن قوله: * (وعلى الذين يطيقونه) * معطوف على المسافر والمريض، ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه فبطل قول الأصم. والجواب: أنا بينا أن المراد من المسافر والمريض المذكورين في الآية هما اللذان لا يمكنهما الصوم البتة، والمراد من قوله: * (وعلى الذين يطيقونه) * المسافر والمريض اللذان يمكنهما الصوم، فكانت المغايرة حاصلة فثبت بما بينا أن القول الذي اختاره الأصم ليس بضعيف، أما إذا وافقنا الجمهور وسلمنا فساده بقي القولان الآخران، وأكثر المفسرين والفقهاء على القول الثاني، واختاره الشافعي واحتج على فساد القول الثالث، وهو قول من حمله على الشيخ الهرم والحامل والمرضع بأن قال: لو كان المراد هو الشيخ الهرم لما قال في آخر الآية: * (وأن تصوموا خير لكم) * لأنه لا يطيقه، ولقائل أن يقول: هذا محمول على الشيخ الهرم الذي يطيق الصوم ولكنه يشق عليه، وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يقال له: لو تحملت هذه المشقة لكان ذلك خيرا لك فإن العبادة كلما كانت أشق كانت أكثر ثوابا.
أما قوله تعالى: * (فدية طعام مسكين) * ففيه مسألتان:
88

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر * (فدية) * بغير تنوين * (طعام) * بالكسر مضافا إليه * (مساكين) * جمعا، والباقون * (فدية) * منونة * (طعام) * بالرفع * (مسكين) * مخفوض، أما القراءة الأولى ففيها بحثان الأول: أنه ما معنى إضافة فدية إلى طعام؟ فنقول فيه وجهان: أحدهما: أن الفدية لها ذات وصفتها أنها طعام، فهذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، كقولهم: مسجد الجامع وبقلة الحمقاء والثاني: قال الواحدي: الفدية اسم للقدر الواجب، والطعام اسم يعم الفدية وغيرها، فهذه الإضافة من الإضافة التي تكون بمعنى * (من) * كقولك: ثوب خز وخاتم حديد، والمعنى: ثوب من خز وخاتم من حديد، فكذا ههنا التقدير: فدية من طعام فأضيفت الفدية إلى الطعام مع أنك تطلق على الفدية اسم الطعام.
البحث الثاني: أن في هذه القراءة جمعوا المساكين لأن الذين يطيقونه جماعة، وكل واحد منهم يلزمه مسكين، وأما القراءة الثانية وهي * (فدية) * بالتنوين فجعلوا ما بعده مفسرا له ووحدوا المسكين لأن المعنى على كل واحد لكل يوم طعام مسكين.
المسألة الثانية: الفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم على الشيء وعند أبي حنيفة أنه نصف صاع من بر أو صاع من غيره، وهو مدان وعند الشافعي مد.
المسألة الثالثة: احتج الجبائي بقوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية) * على أن الاستطاعة قبل الفعل فقال: الضمير في قوله: * (وعلى الذين يطيقونه) * عائد إلى الصوم فأثبت القدرة على الصوم حال عدم الصوم، لأنه أوجب عليه الفدية، وإنما يجب عليه الفدية إذا لم يصم، فدل هذا على أن القدرة على الصوم حاصلة قبل حصول الصوم.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون الضمير عائد إلى الفدية؟
قلنا لوجهين أحدهما: أن الفدية غير مذكورة من قبل فكيف يرجع الضمير إليها والثاني: أن الضمير مذكر والفدية مؤنثة، فإن قيل: هذه الآية منسوخة فكيف يجوز الاستدلال بها قلنا: كانت قبل أن صارت منسوخة دالة على أن القدرة حاصلة قبل الفعل، والحقائق لا تتغير.
أما قوله تعالى: * (فمن تطوع خيرا فهو خير له) * ففيه ثلاثة أوجه أحدها: أن يطعم مسكينا أو أكثر والثاني: أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب والثالث: قال الزهري: من صام مع الفدية فهو خير له.
أما قوله: * (وأن تصوموا خير لكم) * ففيه وجوه أحدها: أن يكون هذا خطابا مع الذين يطيقونه فقط، فيكون التقدير: وأن تصوموا أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتم المشقة فهو
89

خير لكم من الفدية والثاني: أن هذا خطاب مع كل من تقدم ذكرهم، أعني المريض والمسافر والذين يطيقونه، وهذا أولى لأن اللفظ عام، ولا يلزم من اتصاله بقوله: * (وعلى الذين يطيقونه) * أن يكون حكمه مختصا بهم، لأن اللفظ عام ولا منافاة في رجوعه إلى الكل، فوجب الحكم بذلك وعند هذا يتبين أنه لا بد من الإضمار في قوله: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * وأن التقدير: فأفطر فعدة من أيام أخر الثالث: أن يكون قوله: * (وأن تصوموا خير لكم) * عطفا عليه على أول الآية فالتقدير: كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم.
أما قوله: * (إن كنتم تعلمون) * أي أن الصوم عليكم فاعلموا صدق قولنا وأن تصوموا خير لكم الثاني: أن آخر الآية متعلق بأولها والتقدير كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أي أنكم إذا تدبرتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للتقوى وغيرها مما ذكرناه في صدر هذه الآية الثالثة: أن العالم بالله لا بد وأن يكون في قلبه خشية الله على ما قال: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) فذكر العلم والمراد الخشية، وصاحب الخشية يراعي الإحتياط والاحتياط في فعل الصوم، فكأنه قيل: إن كنتم تعلمون الله حتى تخشونه كان الصوم خيرا لكم.
قوله تعالى
* (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: الشهر مأخوذ من الشهرة يقال، شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا إذا ظهر، وسمي الشهر شهرا لشهرة أمره وذلك لأن حاجات الناس ماسة إلى معرفته بسبب أوقات ديونهم،
90

وقضاء نسكهم في صومهم وحجهم، والشهرة ظهور الشيء وسمي الهلال شهرا لشهرته وبيانه قال بعضهم سمي الشهر شهرا باسم الهلال.
المسألة الثانية: اختلفوا في رمضان على وجوه أحدها: قال مجاهد: إنه اسم الله تعالى، ومعنى قول القائل: شهر رمضان أي شهر الله وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا: جاء شهر رمضان وذهب شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ".
القول الثاني: أنه اسم للشهر كشهر رجب وشعبان، ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه الأول: ما نقل عن الخليل أنه من الرمضاء بسكون الميم، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار والمعنى فيه أنه كما يغسل ذلك المطر وجه الأرض ويطهرها فكذلك شهر رمضان يغسل أبدان هذه الأمة من الذنوب ويطهر قلوبهم الثاني: أنه مأخوذ من الرمض وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس، والاسم الرمضاء، فسمي هذا الشهر بهذا الاسم إما لارتماضهم في هذا الشهر من حر الجوع أو مقاساة شدته، كما سموه تابعا لأنه كان يتبعهم أي يزعجهم لشدته عليهم، وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، وقيل: سمي بهذا الاسم لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباد الله " الثالث: أن هذا الاسم مأخوذ من قولهم: رمضت النصل أرمضه رمضا إذا دفعته بين حجرين ليرق، ونصل رميض ومرموض، فسمي هذا الشهر: رمضان، لأنهم كانوا يرمضون فيه أسلحتهم ليقضوا منها أوطارهم، وهذا القول يحكى عن الأزهري الرابع: لو صح قولهم: إن رمضان اسم الله تعالى، وهذا الشهر أيضا سمي بهذا الاسم، فالمعنى أن الذنوب تتلاشى في جنب رحمة الله حتى كأنها احترقت، وهذا الشهر أيضا رمضان بمعنى أن الذنوب تحترق في جنب بركته.
المسألة الثالثة: قرىء * (شهر) * بالرفع وبالنصب، أما الرفع ففيه وجوه أحدها: وهو قول الكسائي أنه ارتفع على البدل من الصيام، والمعنى: كتب عليكم شهر رمضان والثاني: وهو قول الفراء والأخفش أنه خبر مبتدأ محذوف بدل من قوله: * (أياما) * كأنه قيل: هي شهر رمضان، لأن قوله: * (شهر رمضان) * تفسير للأيام المعدودات وتبيين لها الثالث: قال أبو علي: إن شئت جعلته مبتدأ محذوف الخبر، كأنه لما تقدم * (كتب عليكم الصيام) * قيل فيما كتب عليكم من الصيام شهر رمضان أي صيامه الرابع: قال بعضهم: يجوز أن يكون بمبتدأ وخبره * (الذي) * مع صلته كقوله
91

زيد الذي في الدار، قال أبو علي: والأشبه أن يكون * (الذي) * وصفا ليكون لفظ القرآن نصا في الأمر بصوم الشهر، لأنك إن جعلته خبرا لم يكن شهر رمضان منصوصا على صومه بهذا اللفظ، إنما يكون مخبرا عنه بإنزال القرآن فيه، وأيضا إذا جعلت * (الذي) * وصفا كان حق النظم أن يكنى عن الشهر لا أن يظهر كقولك. شهر رمضان المبارك من شهده فليصمه وأما قراءة النصب ففيها وجوه أحدها: التقدير: صوموا شهر رمضان وثانيها: على الإبدال من أيام معدودات وثالثها: أنه مفعول * (وأن تصوموا) * وهذا الوجه ذكره صاحب " الكشاف " واعترض عليه بأن قيل: فعلى هذا التقدير يصير النظم: وأن تصوموا رمضان الذين أنزل فيه القرآن خير لكم، وهذا يقتضي وقوع الفصل بين المبتدأ والخبر بهذا الكلام الكثير وهو غير جائز لأن المبتدأ والخبر جاريان مجرى الشيء الواحد وإيقاع الفصل بين الشيء وبين نفسه غير جائز.
أما قوله: * (أنزل فيه القرآن) * اعلم أنه تعالى لما خص هذا الشهر بهذه العبادة بين العلة لهذا التخصيص، وذلك هو أن الله سبحانه خصه بأعظم آيات الربوبية، وهو أنه أنزل فيه القرآن، فلا يبعد أيضا تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبودية وهو الصوم، مما يحقق ذلك أن الأنوار الصمدية متجلية أبدا يمتنع عليها الإخفاء
والاحتجاب إلا أن العلائق البشرية مانعة من ظهورها في الأرواح البشرية والصوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشرية ولذلك فإن أرباب المكاشفات لا سبيل لهم إلى التوصل إليها إلا بالصوم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات " فثبت أن بين الصوم وبين نزول القرآن مناسبة عظيمة فلما كان هذا الشهر مختصا بنزول القرآن، وجب أن يكون مختصا بالصوم، وفي هذا الموضع أسرار كثيرة والقدر الذي أشرنا إليه كاف ههنا، ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (نزل فيه القرآن) * في تفسيره قولان الأول: وهو اختيار الجمهور: أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان عن النبي صلى الله عليه وسلم: " نزل صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشر والقرآن لأربع وعشرين " وههنا سؤالات:
السؤال الأول: أن القرآن ما نزل على محمد عليه الصلاة والسلام دفعة، وإنما نزل عليه في مدة ثلاث وعشرين سنة منجما مبعضا، وكما نزل بعضه في رمضان نزل بعضه في سائر الشهور، فما معنى تخصيص إنزاله برمضان.
92

والجواب عنه من وجهين الأول: أن القرآن أنزل في ليلة القدر جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى الأرض نجوما، وإنما جرت الحال على هذا الوجه لما علمه تعالى من المصلحة على هذا الوجه فإنه لا يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم أو كان في المعلوم أن في ذلك مصلحة للرسول عليه السلام في توقع الوحي من أقرب الجهات، أو كان فبه مصلحة لجبريل عليه السلام، لأنه كان هو المأمور بإنزاله وتأديته، أما الحكمة في إنزال القرآن على الرسول منجما مفرقا فقد شرحناها في سورة الفرقان في تفسير قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك) * (الفرقان: 32).
الجواب الثاني عن هذا السؤال: أن المراد منه أنه ابتدئ إنزاله ليلة القدر من شهر رمضان وهو قول محمد بن إسحاق وذلك لأن مبادئ الملل والدول هي التي يؤرخ بها لكونها أشرف الأوقات ولأنها أيضا أوقات مضبوطة معلومة.
واعلم أن الجواب الأول لا يحتاج فيه إلى تحمل شيء من المجاز وههنا يحتاج فإنه لا بد على هذا الجواب من حمل القرآن على بعض أجزائه وأقسامه.
السؤال الثاني: كيف الجمع بين هذه الآية على هذا القول، وبين قوله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) وبين قوله: * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) * (الدخان: 3).
والجواب: روي أن ابن عمر استدل بهذه الآية وبقوله: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * أن ليلة القدر لا بد وأن تكون في رمضان، وذلك لأن ليلة القدر إذا كانت في رمضان كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا له في رمضان، وهذا كمن يقول: لقيت فلانا في هذا الشهر فيقال له. في أي يوم منه فيقول يوم كذا فيكون ذلك تفسيرا للكلام الأول فكذا ههنا.
السؤال الثالث: أن القرآن على هذا القول يحتمل أن يقال: إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم منجما إلى آخر عمره، ويحتمل أيضا أن يقال: إنه سبحانه كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا من القرآن ما يعلم أن محمدا عليه السلام وأمته يحتاجون إليه في تلك السنة ثم ينزله على الرسول على قدر الحاجة ثم كذلك أبدا ما دام فأيهما أقرب إلى الصواب.
الجواب: كلاهما محتمل، وذلك لأن قوله: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * يحتمل أن يكون المراد منه الشخص، وهو رمضان معين، وأن يكون المراد منه النوع، وإذا كان كل واحد منهما محتملا صالحا وجب التوقف.
93

القول الثاني: في تفسير قوله: * (أنزل فيه القرآن) * قال سفيان بن عيينة: أنزل فيه القرآن معناه أنزل في فضله القرآن، وهذا اختيار الحسين بن الفضل قال: ومثله أن يقال: أنزل في الصديق كذا آية: يريدون في فضله قال ابن الأنباري: أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن، كأم يقول: أنزل الله في الزكاة كذا وكذا يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها.
المسألة الثانية: القرآن اسم لما بين الدفتين من كلام الله، واختلفوا في اشتقاقه، فروى الواحدي في " البسيط " عن محمد بن عبد الله بن الحكم أن الشافعي رضي الله عنه كان يقول: إن القرآن اسم وليس بمهموز ولم يؤخذ من قرأت ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل، قال ويهمز قراءة ولا يهمز القرآن كما يقول: * (وإذا قرأت القرآن) * (الآراء: 45) قال الواحدي: وقول الشافعي أنه اسم لكتاب الله يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتق، وذهب آخرون إلى أنه مشتق، واعلم أن القائلين بهذا القول منهم من لا يهمزه ومنهم من يهمزه، أما الأولون فلهم فيه اشتقاقان أحدهما: أنه مأخوذ من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، فهو مشتق من قرن والاسم قران غير مهموز، فسمي القرآن قرآنا إما لأن ما فيه من السور والآيات والحروف يقترن بعضها ببعض، أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع مقترن بعضها ببعض، أو لأن ما فيه من الدلائل الدالة على كونه من عبد الله مقترن بعضها ببعض، أعني اشتماله على جهات الفصاحة وعلى الأسلوب الغريب، وعلى الأخبار عن المغيبات، وعلى العلوم الكثيرة، فعلى هذا التقدير هو مشتق من قرن والاسم قران غير مهموز وثانيهما: قال الفراء: أظن أن القرآن سمي من القرائن، وذلك لأن الآيات يصدق بعضها بعضا على ما قال تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82) فهي قرائن، وأما الذين همزوا فلهم وجوه أحدها: أنه مصدر القراءة يقال: قرأت القرآن فأنا أقرؤه قرأ وقراءة وقرآنا، فهو مصدر، ومثل القرآن من المصادر: الرجحان والنقصان والخسران والغفران، قال الشاعر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
أي قراءة، وقال الله سبحانه وتعالى: * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) * (الإسراء: 78) هذا هو الأصل، ثم إن المقروء يسمى قرآنا، لأن المفعول يسمى بالمصدر كما قالوا للمشرب: شراب وللمكتوب كتاب، واشتهر هذا الاسم في العرف حتى جعلوه اسما لكلام الله تعالى وثانيها: قال الزجاج وأبو عبيدة: إنه مأخوذ من القرء وهو الجمع، قال عمرو: هجان اللون لم تقرأ جنينا
94

أي لم تجمع في رحمها ولدا، ومن هذا الأصل: قرء المرأة وهو أيام اجتماع الدم في رحمها، فسمي القرآن قرآنا، لأنه يجمع السور ويضمها وثالثها: قول قطرب وهو أنه سمي قرآنا، لأن القارئ يكتبه، وعند القراءة كأنه يلقيه من فيه أخذا من قول العرب: ما قرأت الناقة سلى قط، أي ما رمت بولد وما أسقطت ولدا قط وما طرحت، وسمي الحيض، قرأ لهذا التأويل، فالقرآن يلفظه القارئ من فيه ويلقيه فسمي قرآنا.
المسألة الثالثة: قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) * (البقرة: 23) أن التنزيل مختص بالنزول على سبيل التدريج، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة، ولهذا قال الله تعالى: * (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) * إذا ثبت هذا فنقول: لما كان المراد ههنا من قوله تعالى: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، لا جرم ذكره بلفظ الإنزال دون التنزيل، وهذا يدل على أن هذا القول راجح على سائر الأقوال. أما قوله: * (هدى للناس) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: بينا تفسير الهدى في قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2).
والسؤال أنه تعالى جعل القرآن في تلك الآية هدى للمتقين، وههنا جعله هدى للناس، فكيف وجه الجمع؟ وجوابه ما ذكرناه هناك.
المسألة الثانية: * (هدى للناس وبينات) * نصب على الحال، أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل.
أما قوله تعالى: * (وبينات من الهدى والفرقان) * ففيه إشكال وهو أن يقال: ما معنى قوله: * (وبينات من الهدى) * بعد قوله: * (هدى) *.
وجوابه من وجوه الأول: أنه تعالى ذكر أولا أنه هدى، ثم الهدى على قسمين: تارة يكون كونه هدى للناس بينا جليا، وتارة لا يكون كذلك، والقسم الأول لا شك أنه أفضل فكأنه قيل: هو هدى لأنه هو البين من الهدى، والفارق بين الحق والباطل، فهذا من باب ما يذكر الجنس ويعطف نوعه عليه، لكونه أشرف أنواعه، والتقدير كأنه قيل: هذا هدى، وهذا بين من الهدى، وهذا بينات من الهدى، ولا شك أن هذا غاية المبالغات الثاني: أن يقال: القرآن هدى في نفسه، ومع كونه كذلك فهو أيضا بينات من الهدى والفرقان، والمراد بالهدى والفرقان: التوراة والإنجيل قال الله تعالى: * (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل
95

هدى للناس وأنزل الفرقان) * (آل عمران: 3 - 4) وقال: * (وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) * (البقرة: 53) وقال * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين) * (الأنبياء: 480) فبين تعالى وتقدس أن القرآن مع كونه هدى في نفسه ففيه أيضا هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان الثالث: أن يحمل الأول على أصول الدين، والهدي الثاني على فروع الدين، فحينئذ يزول التكرار والله أعلم.
وأما قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: نقل الواحدي رحمه الله في " البسيط " عن الأخفش والمازني أنهما قالا: الفاء في قوله: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * زائدة، قالا: وذلك لأن الفاء قد تدخل للعطف أو للجزاء أو تكون زائدة، وليس للعطف والجزاء ههنا وجه، ومن زيادة الفاء قوله تعالى: * (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب) * (الجمعة: 8).
وأقول: يمكن أن يقال الفاء ههنا للجزاء فإنه تعالى لما بين كون رمضان مختصا بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سائر الشهور فيها، فبين أن اختصاصه بتلك الفضيلة يناسب اختصاصه بهذه العبادة، ولولا ذلك لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة ههنا وجه كأنه قيل: لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة فأنتم أيضا خصوه بهذه العبادة، أما قوله تعالى: * (فإنه ملاقيكم) * الفاء فيه غير زائدة وأيضا بل هذا من باب مقابلة الضد بالضد كأنه قيل: لما فروا من الموت فجزائهم أن يقرب الموت منهم ليعلموا أنه لا يغني الحذر عن القدر.
المسألة الثانية: * (شهد) * أي حضر والشهود الحضور، ثم ههنا قولان: أحدهما: أن مفعول شهد محذوف لأن المعنى: فمن شهد منكم البلد أو بيته بمعنى لم يكن مسافرا وقوله: * (الشهر) * انتصابه على الظرف وكذلك الهاء في قوله: * (فليصمه) *. والقول الثاني: مفعول * (شهد) * هو * (الشهر) * والتقدير: من شاهد الشهر بعقله ومعرفته فليصمه وهو كما يقال: شهدت عصر فلان، وأدركت زمان فلان، واعلم أن كلا القولين لا يتم إلا بمخالفة الظاهر، أما القول الأول فإنما يتم بإضمار أمر زائد، وأما القول الثاني فيوجب دخول التخصيص في الآية، وذلك لأن شهود الشهر حاصل في حق الصبي والمجنون والمريض والمسافر مع أنه لم يجب على واحد منهم الصوم إلا أنا بينا في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار فالتخصيص أولى، وأيضا فلانا على القول الأول لما التزمنا الإضمار لا بد أيضا من التزام التخصيص لأن الصبي والمجنون والمريض كل واحد منهم شهد الشهر مع أنه لا يجب عليهم الصوم بل المسافر لا يدخل فلا يحتاج إلى تخصيص هذه الصورة فيه فالقول الأول لا يتمشى إلا مع
96

التزام الإضمار والتخصيص والقول الثاني يتمشى بمجرد التزام التخصيص فكان القول الثاني أولى هذا ما عندي فيه مع أن أكثر المحققين كالواحدي وصاحب " الكشاف "
ذهبوا إلى الأول.
المسألة الثالثة: الألف واللام في قوله: * (فمن شهد منكم الشهر) * للمعهود السابق وهو شهر رمضان، ونظيره قوله تعالى: * (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء) * (النور: 13) أي فإذ لم يأتوا بالشهداء الأربعة.
المسألة الرابعة: اعلم أن في الآية إشكالا وهو أن قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * جملة مركبة من شرط وجزاء فالشرط هو شهود الشهر والجزاء هو الأمر بالصوم وما لم يوجد الشرط بتمامه لا يترتب عليه الجزاء والشهر اسم للزمان المخصوص من أوله إلى آخره، فشهود الشهر إنما يحصل عند الجزاء الأخير من الشهر وظاهر هذه الآية يقتضي أن عند شهود الجزء الأخير من الشهر يجب عليه صوم كل الشهر وهذا محال، لأنه يفضي إلى إيقاع الفعل في الزمان المنقضي وهو ممتنع فلهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، وأنه لا بد من صرفها إلى التأويل، وطريقه أن يحمل لفظ الشهر على جزء من أجزاء الشهر في جانب الشرط فيصير تقريره: من شهد جزأ من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر، فعلى هذا: من شهد هلال رمضان فقد شهد جزأ من أجزاء الشهر، وقد تحقق الشرط فيترتب عليه الجزاء، وهو الأمر بصوم كل الشهر، وعلى هذا التأويل يستقيم معنى الآية وليس فيه إلا حمل لفظ الكل على الجزء وهو مجاز مشهور.
واعلم أن المنقول عن علي أن المراد من هذه الآية، فمن شهد منكم أول الشهر فليصم جميعه وقد عرفت بما ذكرنا من الدليل أنه لا يصح البتة إلا هذا القول، ثم يتفرع على هذا الأصل فرعان أحدهما: أنه إذا شهد أول الشهر هل يلزمه صوم كل الشهر والثاني: أنه إذا شهد آخر الشهر هل يلزمه صوم كل الشهر.
أما الأول: فهو أنه نقل عن علي رضي الله عنه أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر، أن الواجب أن يصوم الكل، لأنا بينا أن الآية تدل على أن من شهد أول الشهر وجب عليه صوم كل الشهر، وأما سائر المجتهدين فيقولون: إن قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * وإن كان معناه: أن من شهد أول الشهر فليصمه كله إلا أنه عام يدخل فيه الحاضر والمسافر، وقوله بعد ذلك: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * خاص والخاص مقدم على العام. فثبت أنه وإن سافر بعد شهوة الشهر فإنه يحل له الإفطار.
وأما الثاني: وهو أن أبا حنيفة زعم أن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى،
97

قال: لأنا قد دللنا على أن المفهوم من هذه الآية أن من أدرك جزأ من رمضان لزمه صوم كل رمضان والمجنون إذا أفاق في أثناء الشهر فقد شهد جزأ من رمضان فوجب أن يلزمه صوم كل رمضان، فإذا لم يمكن صيام ما تقدم فالقضاء واجب.
المسألة الخامسة: اعلم أن قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * يستدعي بحثين:
البحث الأول: أن شهود الشهر بماذا يحصل؟ فنقول: إما بالرؤية وإما بالسماع، أما الرؤية فنقول: إذا رأى إنسان هلال رمضان فأما أن يكون منفردا بتلك الرؤية أو لا يكون، فإن كان منفردا بها فأما أن يرد الإمام شهادته أو لا يردها، فإن تفرد بالرؤية ورد الإمام شهادته، لزمه أن يصوم، لأن الله تعالى جعل شهود الشهر سببا لوجوب الصوم عليه، وقد حصل شهود الشهر في حقه، فوجب أن يجب عليه الصوم، وأما إن انفرد بالرؤية وقبل الإمام شهادته أو لم ينفرد بالرؤية فلا كلام في وجوب الصوم، وأما السماع فنقول إذا شهد عدلان على رؤية الهلال حكم به في الصوم والفطر جميعا، وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال لا يحكم به وإذا شهد على هلال رمضان يحكم به احتياطا لأمر الصوم والفرق بينه وبين هلال شوال أن هلال رمضان للدخول في العبادة وهلال شوال للخروج من العبادة، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا على قول الاثنين، وعلى أنه لا فرق بينهما في الحقيقة، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطا فكذلك لا يقبل قول الواحد في هلال شوال لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطا.
البحث الثاني في الصوم: نقول: إن الصوم هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائما من أول طلوع الفجر الصادق إلى حين غروب الشمس مع النية وفي الحد قيود:
القيد الأول: الإمساك وهو احتراز عن شيئين أحدهما: لو طارت ذبابة إلى حلقه، أو وصل غبار الطريق إلى بطنه لا يبطل صومه، لأن الاحتراز عنه شاق، والله تعالى يقول في آية الصوم * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * والثاني: لو صب الطعام أو الشراب في حلقه كرها أو حال نوم لا يبطل صومه، لأن المعتبر هو الإمساك والامتناع والإكراه لا ينافي ذلك.
القيد الثاني: قولنا عن المفطرات وهي ثلاثة: دخول داخل، وخروج خارج، والجماع، وحد الدخول كل عين وصل من الظاهر إلى الباطن من منفذ مفتوح إلى الباطن إما الدماغ أو البطن وما فيه من الأمعاء والمثانة، أما الدماغ فيحصل الفطر بالسعوط وأما البطن فيحصل الفطر بالحقنة وأما الخروج فالقئ بالاختيار والاستمناء يبطلان الصوم، وأما الجماع فالإيلاج يبطل الصوم.
98

القيد الثالث: قولنا مع العلم بكونه صائما فلو أكل أو شرب ناسيا للصوم لا يبطل صومه عند أبي حنيفة والشافعي وعند مالك يبطل.
القيد الرابع: قولنا من أول طلوع الفجر الصادق والدليل عليه قوله تعالى: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) * (البقرة: 187) وكلمة * (حتى) * لانتهاء الغاية، وكان الأعمش يقول: أول وقته إذا طلعت الشمس، وكان يبيح الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، ويحتج بأن انتهاء اليوم من وقت غروب الشمس، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون من عند طلوعها، وهذا باطل بالنص الذي ذكرناه، وحكي عن الأعمش أنه دخل عليه أبو حنيفة يعوده، فقال له الأعمش: إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك، فكيف إذا زرتني! فسكت عنه أبو حنيفة فلما خرج من عنده قيل له: لم سكت عنه؟ فقال: وماذا أقول
في رجل ما صام وما صلى في دهره عني به أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل الشمس فلا صوم له وكان لا يغتسل من الإنزال فلا صلاة له.
القيد الخامس: قولنا إلى غروب الشمس، ودليله قوله عليه السلام: " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم " ومن الناس من يقول وقت الإفطار عند غروب ضوء الشمس، قاس هذا الطرف على الطرف الأول من النهار. القيد السادس: قولنا مع النية، ومن الناس من يقول: لا حاجة لصوم رمضان إلى النية لأن الله تعالى أمر بالصوم في قوله: * (فليصمه) * والصوم هو الإمساك وقد وجد فيخرج عن العهدة لكنا نقول: لا بد من النية لأن الصوم عمل بدليل قوله عليه السلام: " أفضل الأعمال الصوم " والعمل لا بد فيه من النية لقوله عليه السلام: " إنما الأعمال بالنيات ".
المسألة السادسة: القائلون بأن الآية المتقدمة تدل على أن المقيم الصحيح مخير بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية قالوا: هذه الآية ناسخة لها وأبو مسلم الأصفاني والأصم ينكرون ذلك، وقد تقدم شرح هذه المسألة ثم بتقدير صحة القول بهذا النسخ فهذا يدل على أن نسخ الأخف بالأثقل جائز، لأن إيجاب الصوم على التعيين أثقل من إيجابه على التخيير بينه وبين الفدية.
أما قوله تعالى: * (فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * فقد تقدم تفسير هذه الآية، وقد تقدم بيان السبب في التكرير.
أما قوله تعالى: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * فاعلم أن هذا الكلام إنما يحسن
99

ذكره ههنا بشرط دخول ما قبله فيه والأمر ههنا كذلك لأن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر فإنه ما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض ولا على المسافر وكل ذلك رعاية لمعنى اليسر والسهولة وههنا مسائل:
المسألة الأولى: اليسر في اللغة معناه السهولة ومنه يقال للغني والسعة اليسار لأنه يسهل به الأمور واليد اليسرى قيل تلي الفعال باليسر، وقيل إنه يتسهل الأمر بمعونتها اليمنى.
المسألة الثانية: المعتزلة احتجوا بهذه الآية في أن تكليف ما لا يطاق غير واقع، قالوا لأنه تعالى لما بين أنه يريد بهم ما تيسر دون ما تعسر فكيف يكلفهم ما لا يقدرون عليه من الإيمان وجوابه أن اليسر والعسر لا يفيدان العموم لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ المفرد الذي دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم، وأيضا فلو سلمنا ذلك لكنه قد ينصرف إلى المعهود السابق فنصرفه إلى المعهود السابق في هذا الموضع.
المسألة الثالثة: المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في إثبات أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله وذلك لأن المريض لو حمل نفسه على الصوم حتى أجهده، لكان يجب أن يكون قد فعل ما لا يريده الله منه إذا كان لا يريد العسر الجواب: يحتمل اللفظ على أنه تعالى لا يريد أن يأمره بما فيه عسر، وإن كان قد يريد منه العسر وذلك لأن عندنا الأمر قد يثبت بدون الإرادة.
المسألة الرابعة: قالوا: هذه الآية دالة على رحمته سبحانه لعباده فلو أراد بهم أن يكفروا فيصيروا إلى النار، وخلق فيهم ذلك الكفر لم يكن لائقا به أن يقول: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * والجواب أنه معارض بالعلم.
أما قوله تعالى: * (ولتكملوا العدة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو بكر عن عاصم * (ولتكملوا العدة) * بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وهما لغتان: أكملت وكملت.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: * (ولتكملوا العدة) * على ماذا علق؟.
جوابنا: أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف، ثم فيه وجهان أحدهما: ما قاله الفراء وهو
100

أن التقدير: ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون، فعل جملة لما ذكر وهو الأمر بصوم العدة، وتعليم كيفية القضاء، والرخصة في إباحة الفطر، وذلك لأنه تعالى ما ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر عقيبها ألفاظا ثلاثة، فقوله: * (ولتكملوا العدة) * علة للأمر بمراعاة العدة * (ولتكبروا) * علة ما علمتم من كيفية القضاء * (ولعلكم تشكرون) * علة الترخص والتسهيل، ونظير ما ذكرنا من حذف الفعل المنبه ما قبله عليه قوله تعالى: * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) * (الأنعام: 75) أي أريناه.
الوجه الثاني: ما قاله الزجاج، وهو أن المراد به أن الذي تقدم من التكليف على المقيم صحيح والرخصة للمريض والمسافر إنما هو إكمال العدة لأنه مع الطاقة يسهل عليه إكمال العدة، ومع الرخصة في المرض والسفر يسهل إكمال العدة بالقضاء، فلا يكون عسرا، فبين تعالى أنه كلف الكل على وجه لا يكون إكمال العدة عسيرا، بل يكون سهلا يسيرا، والفرق بين الوجهين أن في الأول إضمارا وقع بعد قوله: * (ولتكملوا العدة) * وفي الثاني قبله:
المسألة الثالثة: إنما قال: * (ولتكملوا العدة) * ولم يقل: ولتكملوا الشهر، لأنه لما قال: ولتكملوا العدة دخل تحته عدة أيام الشهر وأيام القضاء لتقدم ذكرهما جميعا ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلا لعدد المقضي، ولو قال تعالى: ولتكملوا الشهر لدل ذلك على حكم الأداء فقط ولم يدخل حكم القضاء. أما قوله: * (ولتكبروا الله على ما عاهدكم) * ففيه وجهان الأول: أن المراد منه التكبير ليلة الفطر قال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا، وقال الشافعي: وأحب إظهار التكبير في العيدين، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: يكره ذلك غداة الفطر، واحتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: * (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) * وقال: معناه ولتكملوا عدة شهر رمضان لتكبروا الله عند انقضائه على ما هداكم إلى هذه الطاعة، ثم يتفرع على هذا ثلاث مسائل: إحداها: اختلف قوله في أن أي العيدين أوكد في التكبير؟ فقال في القديم: ليلة النحر أوكد لإجماع السلف عليها، وقال في الجديد: ليلة الفطر أوكد لورود
النص فيها وثانيها: أن وقت التكبير بعد غروب الشمس من ليلة الفطر، وقال مالك: لا يكبر في ليلة الفطر ولكنه يكبر في يومه، وروي هذا عن أحمد، وقال إسحق: إذا غدا إلى المصلى حجة الشافعي أن قوله تعالى: * (ولتكبروا الله على ما هداكم) * يدل على أن الأمر بهذا يوجب أن يكون التكبير وقع معللا بحصول هذه الهداية، لكن بعد غروب الشمس تحصل هذه الهداية،
101

فوجب أن يكون التكبير من ذلك الوقت وثالثها: مذهب الشافعي أن وقت هذا التكبير ممتد إلى أن يحرم الإمام بالصلاة، وقيل فيه قولان آخران أحدهما: إلى خروج الإمام والثاني: إلى انصراف الإمام والصحيح هو الأول، وقال أبو حنيفة: إذا بلغ إلى أدنى المصلى ترك التكبير.
القول الثاني: في تفسير قوله: * (ولتكبروا الله) * أن المراد منه التعظيم لله شكرا على ما وفق على هذه الطاعة، واعلم أن تمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل أما القول: فالإقرار بصفاته العلي، وأسمائه الحسنى، وتنزيهه عما لا يليق به من ند وصاحبة وولد وشبه بالخلق، وكل ذلك لا يصح إلا بعد صحة الاعتقاد بالقلب وأما العمل: فالتعبد بالطاعات من الصلاة والصيام، والحج واعلم أن القول الأول أقرب، وذلك لأن تكبير الله تعالى بهذا التفسير واجب في جميع الأوقات، ومع كل الطاعات فتخصيص هذه الطاعة بهذا التكبير يوجب أن يكون هذا التكبير له خصوصية زائدة على التكبير الواجب في كل الأوقات.
أما قوله تعالى: * (على ما هداكم) * فإنه يتضمن الإنعام العظيم في الدنيا بالأدلة والتعريف والتوفيق والعصمة، وعند أصحابنا بخلق الطاعة.
وأما قوله تعالى: * (ولعلكم تشكرون) * ففيه بحثان أحدهما: أن كلمة * (لعل) * للترجي، والترجي لا يجوز في حق الله والثاني: البحث عن حقيقة الشكر، وهذان بحثان قد مر تقريرهما.
بقي ههنا بحث ثالث، وهو أنه ما الفائدة في ذكر هذا اللفظ في هذا الموضع فنقول: إن الله تعالى لما أمر بالتكبير وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبريائه وعزته وعظمته، وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء، وأوصاف الواصفين، وذكر الذاكرين، ثم يعلم أنه سبحانه مع جلاله وعزته واستغنائه عن جميع المخلوقات، فضلا عن هذا المسكين خصه الله بهذه الهداية العظيمة لا بد وأن يصير ذلك داعيا للعبد إلى الاشتغال بشكره، والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته فلهذا قال: * (ولعلكم تشكرون) *.
قوله عز وجل
* (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا
102

لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول: أنه تعالى لما قال بعض إيجاب فرض الصوم وبيان أحكامه: * (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) * (البقرة: 185) فأمر بعد التكبير الذي هو الذكر وبالشكر، بين أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره فيسمع نداءه، ويجيب دعاءه، ولا يخيب رجاءه والثاني: أن أمر بالتكبير أولا ثم رغبه في الدعاء ثانيا، تنبيها على أن الدعاء لا بد وأن يكون مسبوقا بالثناء الجميل، ألا ترى أن الخليل عليه السلام لما أراد الدعاء قدم عليه الثناء، فقال أولا: * (الذي خلقني فهو يهدين) * (الشعراء: 78) إلى قوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * (الشعراء: 82) وكل هذا ثناء منه على الله تعالى ثم شرع بعده في الدعاء فقال: * (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) * (الشعراء: 83) فكذا ههنا أمر بالتكبير أولا ثم شرع بعده في الدعاء ثانيا الثالث: إن الله تعالى لما فرض عليهم الصيام كما فرض على الذين من قبلهم، وكان ذلك على أنهم إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم، فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا الله في ذلك التكليف، ثم ندموا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن توبتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية مخبرا لهم بقبول توبتهم، ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم.
المسألة الثانية: ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها أحدها: ما روي عن كعب أنه قال، قال موسى عليه السلام: يا رب أقريب أنت فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟ فقال: يا موسى أنا جليس من ذكرني، قال: يا رب فإنا نكون على حالة نجلك أن نذكرك عليها من جنابة وغائط، قال: يا موسى اذكرني على كل حال، فلما كان الأمر على هذه الصفة رغب الله تعالى عباده في ذكره وفي الرجوع إليه في جميع الأحوال، فأنزل الله تعالى هذه الآية وثانيها: أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وثالثها: أنه عليه السلام كان في غزوة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء، فقال عليه السلام: " إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا " ورابعها: ما روي عن قتادة وغيره أن سببه أن الصحابة قالوا: كيف ندعو ربنا يا نبي الله؟ فأنزل هذه الآية وخامسها: قال عطاء وغيره: إنهم سألوه في أي ساعة ندعو الله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وسادسها: ما ذكره ابن
103

عباس، وهو أن يهود أهل المدينة قالوا: يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا؟ فنزلت هذه الآية وسابعها: قال الحسن: سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أين ربنا؟ فأنزل الله هذه الآية وثامنها: ما ذكرنا أن قوله: * (كما كتب على الذين من قبلكم) * (البقرة: 183) لما اقتضى تحريم الأكل بعد النوم، ثم إنهم أكلوا ثم ندموا وتابوا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعالى هل يقبل توبتنا؟ فأنزل الله هذه الآية.
واعلم أن قوله: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * يدل على أنهم سألوا النبي عليه السلام عن الله تعالى، فذلك السؤال إما أنه كان سؤالا عن ذات الله تعالى، أو عن صفاته، أو عن أفعاله، أما السؤال عن الذات فهو أن يكون السائل ممن يجوز التشبيه، فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات، وأما السؤال عن الصفات فهو أن
يكون السائل سأل عن أنه تعالى هل يسمع دعاءنا فيكون السؤال واقعا على كونه تعالى سميعا، أو يكون المقصود من السؤال أنه تعالى كيف أذن في الدعاء، وهل أذن في الدعاء، وهل أذن في أن ندعوه بجميع الأسماء، أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة، وهل أذن لنا أن ندعوه كيف شئنا، أو ما أذن بأن ندعوه على وجه معين، كما قال تعالى: * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * (الإسراء: 110) وأما السؤال عن الأفعال فهو أن يكون السائل سأل الله تعالى أنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا، وهل يفعله ما نسأله عنه فقوله سبحانه: * (وإذا سألك عبادي عني) * يحتمل كل هذه الوجوه، إلا أن حمله على السؤال عن الذات أولى لوجهين الأول: أن ظاهر قوله: * (عني) * يدل على أن السؤال وقع عن ذاته لا عن فعله * (والثاني) * أن السؤال متى كان مبهما والجواب مفصلا، دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعين، فلما قال في الجواب: * (فإني قريب) * علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات، ولقائل أيضا أن يقول بل السؤال كان على الفعل، وهو أنه تعالى هل يجيب دعاءهم، وهل يحصل مقصود، بدليل أنه لما قال: * (فإني قريب) * قال: * (أجيب دعوة الداع إذا دعان) * فهذا هو شرح هذا المقام.
أما قوله تعالى: * (فإني قريب) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه ليس المراد من هذا القريب بالجهة والمكان، بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ، فيحتاج ههنا إلى بيان مطلوبين:
المطلوب الأول: في بيان أن هذا القريب ليس قربا بحسب المكان، ويدل عليه وجوه
104

الأول: أنه لو كان في المكان مشارا إليه بالحس لكان منقسما، إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد. ولو كان منقسما لكانت ماهيته مفتقرة في تحققها إلى تحقق كل واحد من أجزائها المفروضة وجزء الشيء غيره، فلو كان في مكان لكان مفتقرا إلى غيره، والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته ومحدث ومفتقر إلى الخالق، وذلك في حق الخالق القديم محال، فثبت أنه تعالى يمتنع أن يكون في المكان فلا يكون قربه بالمكان والثاني: أنه لو كان في المكان لكان إما أن يكون غير متناه عن جميع الجهات، أو غير متناه عن جهة دون جهة، أو كان متناهيا من كل الجوانب والأول: محال لأن البراهين القاطعة دلت على أن فرض بعد غير متناه محال والثاني: محال أيضا لهذا الوجه، ولأنه لو كان أحد الجانبين متناهيا والآخر غير متناه لكانت حقيقة هذا الجانب المتناهي مخالفة في الماهية لحقيقة ذلك الجانب الذي هو غير متناه، فيلزم منه كونه تعالى مركبا من أجزاء مختلفة الطبائع والخصم لا يقول بذلك.
وأما القسم الثالث: وهو أن يكون متناهيا من كل الجوانب، فذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا، فبطل القول بأنه تعالى في الجهة الثالث: وهو أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قربا بالجهة، وذلك لأنه تعالى لو كان في المكان لما كان قريبا من الكل، بل كان يكون قريبا من حملة العرش وبعيدا من غيرهم، ولكان إذا كان قريبا من زيد الذي هو بالمشرق كان بعيدا من عمرو الذي هو بالمغرب، فلما دلت الآية على كونه تعالى قريبا من الكل علمنا أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قربا بحسب الجهة، ولما بطل أن يكون المراد منه القرب بالجهة ثبت أن المراد منه القرب بمعنى أنه تعالى يسمع دعاءهم ويرى تضرعهم، أو المراد من هذا القرب: العلم والحفظ وعلى هذا الوجه قال تعالى: * (وهو معكم أينما كنتم) * (الحديد: 4) وقال: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * (ق: 16) وقال: * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) * (المجادلة: 7) والمسلمون يقولون إنه تعالى بكل مكان ويريدون به التدبير والحفظ والحراسة إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: لا يبعد أن يقال إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلا بالتشبيه، فقد كان في مشركي العرب وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته، فإذا سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا: أين ربنا؟ صح أن يكون الجواب: فإني قريب، وكذلك إن سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا: هل يسمع ربنا دعاءنا؟ صح أن يقول في جوابه: فإني قريب فإن القريب من المتكلم يسمع كلامه، وإن سألوه كيف ندعوه برفع الصوت أو بإخفائه؟ صح أن يجيب بقوله: فإني قريب، وإن سألوه هل يعطينا مطلوبنا بالدعاء؟ صلح هذا الجواب أيضا، وإن سألوه إنا إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل
105

الله توبتنا؟ صلح أن يجيب بقوله: فإني قريب أي فأنا القريب بالنظر لهم والتجاوز عنهم وقبول التوبة منهم، فثبت أن هذا الجواب مطابق للسؤال على جميع التقديرات.
المسألة الثانية: الآية تدل على أنه إنما يعرف بحدوث تلك الأشياء على وفق غرض الداعي فدل على أنه لولا مدبر لهذا العالم يسمع دعاءه ولم يخيب رجاءه وإلا لما حصل ذلك المقصود في ذلك الوقت.
واعلم أن قوله تعالى: * (فإني قريب) * فيه سر عقلي وذلك لأن اتصاف ماهيات الممكنات بوجوداتها إنما كان بإيجاد الصانع، فكان إيجاد الصانع كالمتوسط بين ماهيات الممكنات وبين وجوداتها فكان الصانع أقرب إلى ماهية كل ممكن من وجود تلك الماهية إليها، بل ههنا كلام أعلى من ذلك وهو أن الصانع هو الذي لأجله صارت ماهيات الممكنات موجودة فهو أيضا لأجله كان الجوهر جوهرا والسواد سوادا والعقل عقلا والنفس نفسا، فكما أن بتأثيره وتكوينه صارت الماهيات موجودة فكذلك بتأثيره وتكوينه صارت كل ماهية تلك الماهية، فعلى قياس ما سبق كان الصانع أقرب إلى كل ماهية من تلك الماهية إلى نفسها، فإن قيل: تكوين الماهية ممتنع لأنه لا يعقل جعل السواد سوادا فنقول؛ فكذلك أيضا لا يمكن جعل الوجود وجودا لأنه ماهية، ولا يمكن جعل الموصوفية دالة للماهية فإذن الماهية ليست بالفاعل، والوجود ماهية أيضا فلا يكون بالفاعل، وموصوفية الماهية بالوجود هو أيضا ماهية فلا تكون بالفاعل، فإذن لم يقع شيء البتة بالفاعل، وذلك باطل ظاهر البطلان، فإذن وجب الحكم بأن الكل بالفاعل، وعند ذلك يظهر الكلام الذي قررناه.
أما قوله تعالى: * (أجيب دعوة الداع إذا دعان) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو وقالون عن نافع * (الداعي إذا دعاني) * بإثبات الياء فيهما في الوصل والباقون بحذفها فالأولى على الوصل والثانية على التخفيف.
المسألة الثانية: قال أبو سليمان الخطابي: الدعاء مصدر من قولك: دعوت الشيء أدعوه دعاء ثم أقاموا المصدر مقام الاسم تقول: سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتا وقد يوضع المصدر موضع الاسم كقولهم: رجل عدل. وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه المعونة. وأقول: اختلف الناس في الدعاء، فقال بعض الجهال الدعاء شيء عديم الفائدة، واحتجوا عليه من وجوه أحدها: أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب
106

الوقوع، فلا حاجة إلى الدعاء، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا حاجة أيضا إلى الدعاء وثانيها: أن حدوث الحوادث في هذا العالم لا بد من انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم الواجب لذاته، وإلا لزم إما التسلسل، وإما الدور وإما وقوع الحادث من غير مؤثر وكل ذلك محال وإذا ثبت وجوب انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم، فكل ما اقتضى ذلك المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديما أزليا كان واجب الوقوع، وكل ما لم يقتض المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديما أزليا كان ممتنع الوقوع، ولما ثبتت هذه الأمور في الأزل لم يكن للدعاء البتة أثر، وربما عبروا عن هذا الكلام بأن قالوا: الأقدار سابقة والأقضية متقدمة والدعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص شيئا منها، فأي فائدة في الدعاء، وقال عليه الصلاة والسلام قدر الله المقادير قبل أن يخلق الخلق بكذا وكذا عاما وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " جف القلم بما هو كائن " وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " أربع قد فرغ منها: العمر والرزق والخلق والخلق " وثالثها: أنه سبحانه علام الغيوب: * (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) * (غافر: 19) فأي حاجة بالداعي إلى الدعاء؟ ولهذا السبب قالوا إن جبريل عليه السلام بلغ بسبب هذا الكلام إلى أعلى درجات الإخلاص والعبودية ولولا أن ترك الدعاء أفضل لما كان كذلك ورابعها: أن المطلوب بالدعاء إن كان من مصالح العبد فالجواد المطلق لا يهمله وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه وخامسها: ثبت بشواهد العقل والأحاديث الصحيحة أن أجل مقامات الصديقين وأعلاها الرضا بقضاء الله تعالى والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالإلتماس وترجيح لمراد النفس على مراد الله تعالى وطلبه لحصة البشر وسادسها: أن الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى الكريم الرحيم سوء أدب وسابعها: روي أنه عليه الصلاة والسلام قال رواية عن الله سبحانه وتعالى: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " قالوا فثبت بهذه الوجوه أن الأولى ترك الدعاء.
وقال الجمهور الأعظم من العقلاء: إن الدعاء أهم مقامات العبودية، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل، أما الدلائل النقلية فكثيرة الأول: أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية، أما الأصولية فقوله: * (ويسألونك عن الروح) * (الإسراء: 85) * (ويسألونك عن الجبال) * (طه: 105) * (ويسألونك عن الساعة) * (النازعات: 42) وأما الفروعية فمنها في البقرة على التوالي * (يسألونك ماذا ينفقون) * (البقرة: 219) * (يسألونك عن الشهر الحرام) * (البقرة: 217) * (يسألونك عن الخمر والميسر) * (البقرة: 219) * (يسألونك عن اليتامى) * (البقرة: 220) * (ويسألونك عن المحيض) * (البقرة: 222) وقال أيضا: * (يسألونك عن الأنفال) * (الأنفال: 1) * (ويسألونك عن ذي القرنين) * (الكهف: 83)
107

* (ويستنبئونك أحق هو) * (يونس: 53) * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) * (النساء: 176).
إذا عرفت هذا: فنقول هذه الأسئلة جاءت أجوبتها على ثلاثة أنواع فالأغلب فيها أنه تعالى لما حكى السؤال قال لمحمد: قل وفي صورة واحدة جاء الجواب بقوله: فقل مع فاء التعقيب، والسبب فيه أن قوله تعالى: * (يسألونك عن الجبال) * سؤال عن قدمها وحدوثها وهذه مسألة أصولية فلا جرم قال الله تعالى: * (فقل ينسفها ربي نسفا) * (طه: 105) كأنه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تؤخر الجواب فإن الشك فيه كفر ثم تقدير الجواب أن النسف ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل فيكون ممكنا في الكل وجواز عدمه يدل على امتناع قدمه، أما سائر المسائل فهي فروعية فلا جرم لم يذكر فيها فاء التعقيب، أما الصورة الثالثة وهي في هذه الآية قال: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * ولم ولم يقل فقل إني قريب فتدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه الأول: كأنه سبحانه وتعالى يقول عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك الثاني: أن قوله: * (وإذا سألك عبادي عني) * يدل على أن العبد له وقوله: * (فإني قريب) * يدل على أن الرب للعبد وثالثها: لم يقل: فالعبد مني قريب، بل قال: أنا منه قريب، وفيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء، فلا يمكنه القرب من الرب أما الحق سبحانه فهو القادر من أن يقرب بفضله وبرحمته من العبد، والقرب من الحق إلى العبد لا من العبد إلا الحق فلهذا قال: * (فإني قريب) * والرابع: أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولا بغير الله فإنه لا يكون داعيا له فإذا فني عن الكل صار مستغرقا في معرفة الأحد الحق، فامتنع من أن يبقى في هذا المقام ملاحظا لحقه وطالبا لنصيبه، فلما ارتفعت الوسائط بالكلية، فلا جرم حصل القرب فإنه ما دام يبقى العبد ملتفتا إلى غرض نفسه لم يكن قريبا من الله تعالى، لأن ذلك الغرض يحجبه عن الله، فثبت أن الدعاء يفيد القرب من الله، فكان الدعاء أفضل العبادات.
الحجة الثانية في فضل الدعاء: قوله تعالى: * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60). الحجة الثالثة: أنه تعالى لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه إذا لم يسأل يغضب فقال: * (فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) * (الأنعام: 43) وقال عليه السلام: " لا ينبغي أن يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت ولكن يجزم فيقول: اللهم اغفر لي " وقال عليه السلام: " الدعاء مخ العبادة " وعن النعمان بن بشير أنه عليه السلام قال: " الدعاء هو العبادة " وقرأ * (وقال ربكم ادعوني استجب لكم) * فقوله: " الدعاء هو العبادة " معناه أنه معظم العبادة وأفضل العبادة، كقوله عليه السلام " الحج عرفة " أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم.
108

الحجة الرابعة: قوله تعالى: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * (الأعراف: 55) وقال: * (قل ما يعبئوا بكم ربي لولا دعاؤكم) * (الفرقان: 77) والآيات كثيرة في هذا الباب فمن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن. والجواب عن الشبهة الأولى: أنها متناقضة، لأن إقدام الإنسان على الدعاء إن كان معلوم الوقوع فلا فائدة في اشتغالكم بإبطال الدعاء، وإن كان معلوم العدم لم يكن إلى إنكاركم حاجة، ثم نقول: كيفية علم الله تعالى وكيفية قضائه وقدره غائبة عن العقول، والحكمة الإلهية تقتضي
أن يكون العبد معلقا بين الرجاء وبين الخوف اللذين بهما تنم العبودية، وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله بالكل وجريان قضائه وقدره في الكل، ولهذا الإشكال سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرأيت أعمالنا هذه أشئ قد فرغ منه أم أمر يستأنفه؟ فقال: بل شيء قد فرغ منه. فقالوا: ففيم العمل إذن؟ قال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " فانظر إلى لطائف هذا الحديث فإنه عليه السلام علقهم بين الأمرين فرهبهم سابق القدر المفروغ منه ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبد، فلم يعطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر، ولم يترك أحد الأمرين للآخر، وأخبر أن فائدة العمل هو المقدر المفروغ منه فقال: " كل ميسر لما خلق له " يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوه، إلا أنك تحب أن تعلم ههنا فرق ما بين الميسر والمسخر فتأهب لمعرفته فإنه بمنزلة مسألة القضاء والقدر، وكذا القول في باب الكسب والرزق فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا ينقصه الترك.
والجواب عن الشبهة الثانية: أنه ليس المقصود من الدعاء الإعلام، بل إظهار العبودية والذلة والانكسار والرجوع إلى الله بالكلية.
وعن الثالثة: أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء.
وعن الرابعة: أنه إذا كان مقصوده من الدعاء إظهار الذلة والمسكنة ثم بعد رضى بما قدره الله وقضاه، فذلك أعظم المقامات وهذا هو الجواب عن بقية الشبه في هذا الباب.
المسألة الثالثة: في الآية سؤال مشكل مشهور، وهو أنه تعالى قال: * (ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) وقال في هذه الآية: * (أجيب دعوة الداع إذا دعان) * وكذلك * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) * (النمل: 62) ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب.
والجواب: أن هذه الآية وإن كانت مطلقة إلا أنه قد وردت آية أخرى مقيدة، وهو قوله تعالى: * (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) * (الأنعام: 41) ولا شك أن المطلق محمول على المقيد، ثم تقرير المعنى فيه وجوه أحدها: أن الداعي لا بد وأن يجد من دعائه عوضا، إما إسعافا بطلبته
109

التي لأجلها دعا وذلك إذا وافق القضاء، فإذا لم يساعده القضاء فإنه يعطي سكينة في نفسه، وإنشراحا في صدره، وصبرا يسهل معه احتمال البلاء الحاضر، وعلى كل حال فلا يعدم فائدة، وهو نوع من الاستجابة وثانيها: ما روى القفال في تفسيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوة المسلم لا ترد إلا لإحدى ثلاثة: ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، إما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا ".
وهذا الخبر تمام البيان في الكشف عن هذا السؤال، لأنه تعالى قال: * (ادعوني أستجب لكم) * ولم يقل: أستجب لكم في الحال فإذا استجاب له ولو في الآخرة كان الوعد صدقا وثالثها: أن قوله: * (ادعوني أستجب لكم) * يقتضي أن يكون الداعي عارفا بربه وإلا لم يكن داعيا له، بل لشيء متخيل لا وجود له البتة، فثبت أن الشرط الداعي أن يكون عارفا بربه ومن صفات الرب سبحانه أن لا يفعل إلا ما وافق قضاءه وقدره وعلمه وحكمته فإذا علم أن صفة الرب هكذا استحال مه أن يقول بقلبه وبعقله: يا رب افعل الفعل الفلاني لا محالة، بل لا بد وأن يقول: افعل هذا الفعل إن كان موافقا لقضائك وقدرك وحكمتك، وعند هذا يصير الدعاء الذي دلت الآية على ترتيب الإجابة عليه مشروطا بهذه الشرائط وعلى هذا التقدير زال السؤال الرابع أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوها كثيرة أحدها: أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله كقول العبد: يا الله الذي لا إله إلا أنت، وهذا إنما سمي دعاء لإنك عرفت الله تعالى ثم وحدته وأثنيت عليه، فهذا يسمى دعاء بهذا التأويل ولما سمي هذا المعنى دعاء سمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ ومثله كثير وقال ابن الأنباري: * (أجيب) * ههنا بمعنى أسمع لأن بين السماع وبين الإجابة نوع ملازمة، فلهذا السبب يقام كل واحد منهما مقام الآخر، فقولنا سمع الله لمن حمده أي أجاب الله فكذا ههنا قوله: * (أجيب دعوة الداع) * أي أسمع تلك الدعوة، فإذا حملنا قوله تعالى: * (ادعوني أستجب لكم) * على هذا الوجه زال الإشكال وثانيها: أن يكون المراد من الدعاء التوبة عن الذنوب، وذلك لأن التائب يدعو الله تعالى عند التوبة، وإجابة الدعاء بهذا التفسير عبارة عن قبول التوبة، وعلى هذا الوجه أيضا لا إشكال، وثالثها: أن يكون المراد من الدعاء العبادة، قال عليه الصلاة والسلام: " الدعاء هو العبادة " ومما يدل عليه قوله تعالى: * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) * (غافر: 60) فظهر أن الدعاء ههنا هو العبادة، وإذا ثبت هذا فإجابة الله تعالى للدعاء بهذا التفسير عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كما قال: * (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله) * (الشورى: 26) وعلى هذا الوجه الإشكال زائل ورابعها: أن يفسر الدعاء بطلب العبد من ربه حوائجه
110

فالسؤال المذكور إن كان متوجها على هذا التفسير لم يكن متوجها على التفسيرات الثلاثة المتقدمة، فثبت أن الإشكال زائل.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: * (أجيب دعوة الداع إذا دعان) * مختص بالمؤمنين * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * (الأنعام: 82) وذلك لأن وصفنا الإنسان بأن الله تعالى قد أجاب دعوته، صفة مدح وتعظيم، ألا ترى أنا إذا أردنا المبالغة في تعظيم حال إنسان في الدين قلنا إنه مستجاب الدعوة وإذا كان هذا من أعظم المناصب في الدين، والفاسق واجب الإهانة في الدين، ثبت أن هذا الوصف لا يثبت إلا لمن لا يتلوث إيمانه بالفسق، بل الفاسق قد يفعل الله ما يطلبه إلا أن ذلك لا يسمى إجابة الدعوة.
أما قوله تعالى: * (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: وجه الناظم أن يقال: إنه تعالى قال: أنا أجيب دعاءك مع أني غني عنك مطلقا، فكن أنت أيضا مجيبا لدعائي مع أنك محتاج إلى من كل الوجوه، فما أعظم هذا الكرم، وفيه دقيقة أخرى وهي أنه تعالى لم يقل للعبد: أجب دعائي حتى أجيب دعاءك، لأنه لو قال ذلك لصار لدعائي، وهذا تنبيه على أن إجابة الله عبده فضل منه ابتداء، وأنه غير معلل بطاعة العبد، وأن إجابة الرب في هذا الباب إلى العبد متقدمة على اشتغال العبد بطاعة الرب، وهذا يدل على فساد ما نقلناه عن
المعتزلة في المسألة الرابعة.
المسألة الثانية: قال الواحدي: أجاب واستجاب بمعنى واحد: قال كعب الغنوي:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا * فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال أهل المعنى: الإجابة من العبد لله الطاعة، وإجابة الله لعبده إعطاؤه إياه مطلوبه، لأن إجابة كل شئ على وفق ما يليق به.
المسألة الثالثة: إجابة العبد لله إن كانت إجابة بالقلب واللسان، فذاك هو الإيمان، وعلى هذا التقدير يكون قوله: * (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي) * تكرارا محضا، وإن كانت إجابة العبد لله عبارة عن الطاعات كان الإيمان مقدما على الطاعات، وكان حق النظم أن يقول: فليؤمنوا بي وليستجيبوا لي، فلم جاء على العكس منه؟.
وجوابه: أن الاستجابة عبارة عن الإنقياد والاستسلام، والإيمان عبارة عن صفة القلب، وهذا يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات.
أما قوله تعالى: * (لعلهم يرشدون) * فقال صاحب " الكشاف ": قرىء * (يرشدون) * بفتح الشين
111

وكسرها، ومعنى الآية أنهم إذا استجابوا لي وآمنوا بي: اهتدوا لمصالح دينهم ودنياهم، لأن الرشيد هو من كان كذلك، يقال: فلان رشيد، قال تعالى: * (فإن آنستم منهم رشدا) * (النساء: 6) وقال: * (أولئك هم الراشدون) * (الحجرات: 7).
قوله عز وجل
* (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالان باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه ذهب جمهور المفسرين إلى أن في أول شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كان الصائم إذا أفطر حل له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام وأن لا يصلي العشاء الأخيرة فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بهذه الآية، وقال أبو مسلم الأصفهاني هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا البتة، بل كانت ثابتة في شرع النصارى، والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان ثابتا في شرعهم، وجرى فيه على مذهبه من أنه لم يقع في شرعنا نسخ البتة، واحتج
112

الجمهور على قولهم بوجوه.
الحجة الأولى: أن قوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) * (البقرة: 183) يقتضي تشبيه صومنا بصومهم، وقد كانت هذه الحرمة ثابتة في صومهم، فوجب بحكم هذا التشبيه أن تكون ثابتة أيضا في صومنا، وإذا ثبت أن الحرمة كانت ثابتة في شرعنا، وهذه الآية ناسخة لهذه الحرمة لزم أن تكون هذه الآية ناسخة لحكم كان ثابتا في شرعنا.
الحجة الثانية: التمسك بقوله تعالى: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * ولو كان هذا الحل ثابتا لهذه الأمة من أول الأمر لم يكن لقوله * (أحل لكم) * فائدة.
الحجة الثالثة: التمسك بقوله تعالى: * (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) * ولو كان ذلك حلالا لهم لما كان بهم حاجة إلى أن يختانون أنفسهم.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: * (فتاب عليكم وعفا عنكم) * ولولا أن ذلك كان محرما عليهم وأنهم أقدموا على المعصية بسبب الإقدام على ذلك الفعل، لما صح قوله: * (فتاب عليكم وعفا عنكم) *.
الحجة الخامسة: قوله تعالى: * (فالآن باشروهن) * ولو كان الحل ثابتا قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله: * (فالآن باشروهن) * فائدة.
الحجة السادسة: هي أن الروايات المنقولة في سبب نزول هذه الآية دالة على أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا، هذا مجموع دلائل القائلين بالنسخ، أجاب أبو مسلم عن هذه الدلائل فقال:
أما الحجة الأولى: فضعيفة لأنا بينا أن تشبيه الصوم بالصوم يكفي في صدقه مشابهتهما في أصل الوجوب.
وأما الحجة الثانية: فضعيفة أيضا لأنا نسلم أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرع من قبلنا، فقوله: * (أحل لكم) * معناه أن الذي كان محرما على غيركم فقد أحل لكم.
وأما الحجة الثالثة: فضعيف أيضا، وذلك لأن تلك الحرمة كانت ثابتة في شرع عيسى عليه السلام، وأن الله تعالى أوجب علينا الصوم، ولم يبين في ذلك الإيجاب زوال تلك الحرمة فكان يخطر ببالهم أن تلك الحرمة كانت ثابتة في الشرع المتقدم، ولم يوجد في شرعنا ما دل على زوالها فوجب القول ببقائها، ثم تأكد هذا الوهم بقوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) * فإن مقتضى التشبيه حصول المشابهة في كل الأمور، فلما كانت هذه الحرمة ثابتة في الشرع المتقدم وجب أن تكون ثابتة في هذا الشرع، وإن لم تكن حجة قوية إلا أنها لا أقل
113

من أن تكون شبهة موهمة فلأجل هذه الأسباب كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا، فلا جرم شددوا وأمسكوا عن هذه الأمور فقال الله تعالى: * (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) * وأراد به تعالى النظر للمؤمنين بالتخفيف لهم بما لو لم تتبين الرخصة فيه لشددوا وأمسكوا عن هذه الأمور ونقصوا أنفسهم من الشهوة، ومنعوها
من المراد، وأصل الخيانة النقص، وخان وأختان وتخون بمعنى واحد كقولهم: كسب واكتسب وتكسب، فالمراد من الآية: علم الله أنه لو لم يتبين لكم إحلال الأكل والشرب والمباشرة طول الليل أنكم كنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذاتها ومصلحتها بالإمساك عن ذلك بعد النوم كسنة النصارى.
وأما الحجة الرابعة: فضعيفة لأن التوبة من العباد الرجوع إلى الله تعالى بالعبادة ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان، وأما العفو فهو التجاوز فبين الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما جعله ثقيلا على من قبلنا كقوله: * (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) * (الأعراف: 157).
وأما الحجة الخامسة: فضعيفة لأنهم كانوا بسبب تلك الشبهة ممتنعين عن المباشرة، فلما بين الله تعالى ذلك وأزال الشبهة فيه لا جرم قال: * (فالآن باشروهن) *.
وأما الحجة السادسة: فضعيفة لأن قولنا: هذه الآية ناسخة لحكم كان مشروعا لا تعلق له بباب العمل ولا يكون خبر الواحد حجة فيه، وأيضا ففي الآية ما يدل على ضعف هذه الروايات لأن المذكور في تلك الروايات أن القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول، وذلك على خلاف قول الله تعالى: * (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) * لأن ظاهره هو المباشرة، لأنه افتعال من الخيانة، فهذا حاصل الكلام في هذه المسألة.
المسألة الثانية: القائلون بأن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا، ثم إنها نسخت ذكروا في سبب نزول هذه الآية أنه كان في أول الشريعة يحل الأكل والشرب والجماع، ما لم يرقد الرجل أو يصل العشاء الآخرة، فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء إلى الليلة الآتية، فجاء رجل من الأنصار عشية وقد أجهده الصوم، واختلفوا في اسمه، فقال معاذ: اسمه أبو صرمة، وقال البراء: قيس بن صرمة، وقال الكلبي: أبو قيس بن صرمة، وقيل: صرمة بن أنس، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب ضعفه فقال: يا رسول الله عملت في النخل نهاري أجمع حتى أمسيت فأتيت أهلي لتطعمني شيئا فأبطأت فنمت فأيقظوني، وقد حرم الأكل فقام عمر فقال: يا رسول الله أعتذر إليك من مثله. رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء الآخرة، فأتيت امرأتي، فقال عليه الصلاة والسلام: لم تكن جديرا بذلك يا عمر ثم قام رجال فاعترفوا بالذي صنعوا فنزل قوله تعالى:
114

* (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) *.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث) * أي أحل الله وقرأ عبد الله * (الرفوث) *.
المسألة الرابعة: قال الواحدي: ليلة الصيام أراد ليالي الصيام فوقع الواحد موقع الجماعة، ومنه قول العباس بن مرادس:
فقلنا أسلموا إنا أخوكم * فقد برئت من الأحن الصدور
وأقول فيه وجه آخر وهو أنه ليس المراد من * (ليلة الصيام) * ليلة واحدة بل المراد الإشارة إلى الليلة المضافة إلى هذه الحقيقة.
المسألة الخامسة: قال الليث: الرفث أصله قول الفحش، وأنشد الزجاج:
ورب أسراب حجيج كقلم * عن اللغا ورفث التكلم
يقال رفث في كلامه يرفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح قال تعالى: * (فلا رفث ولا فسوق) * (البقرة: 197) وعن ابن عباس أنه أنشد وهو محرم:
وهن يمشين بنا هميسا * أن يصدق الطير ننك لميسا
فقيل له: أترفث؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء فثبت أن الأصل في الرفث هو قول الفحش ثم جعل ذلك اسما لما يتكلم به عند النساء من معاني الإفضاء، ثم جعل كناية عن الجماع وعن كل ما يتبعه.
فإن قيل: لم كنى ههنا عن الجماع بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله: * (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * (النساء: 21) * (فلما تغشاها) * (الأعراف: 189) * (أو لامستم النساء) * (النساء: 43) * (دخلتم بهن) * (النساء: 23) * (فأتوا حرثكم) * (البقرة: 223) * (من قبل أن تمسوهن) * (البقرة: 236) * (فما استمعتم به منهن) * (النساء: 24) * (ولا تقربوهن) * (البقرة: 222).
جوابه: السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختيانا لأنفسهم، والله أعلم.
المسألة السادسة: قال الأخفش: إنما عدى الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله: * (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * (النساء: 21).
المسألة السابعة: قوله: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث) * يقتضي حصول الحل في جميع الليل لأن * (ليلة) * نصب على الظرف، وإنما يكون الليل ظرفا للرفث لو كان الليل كله مشغولا بالرفث، وإلا لكان ظرف ذلك الرفث بعض الليل لاكله، فعلى هذا النسخ حصل بهذا اللفظ، وأما الذي بعده في قوله: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) * فذاك يكون
115

كالتأكيد لهذا النسخ، وأما الذي يقول: إن قوله: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث) * يفيد حل الرفث في الليل، فهذا القدر لا يقتضي حصول النسخ به فيكون الناسخ هو قوله: * (كلوا واشربوا) *.
أما قوله تعالى: * (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا في تشبيه الزوجين باللباس وجوها أحدها: أنه لما كان الرجل والمرأة يعتنقان، فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، سمي كل واحد منهما لباسا، قال الربيع: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن، وقال ابن زيد: عن لباس لكن وأنتم لباس لهن، يريد أن كل واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار الناس وثانيها: إنما سمي الزوجان لباسا ليستر كل واحد منهما صاحبه عما لا يحل، كما جاء في الخبر " من
تزوج فقد أحرز ثلثي دينه " وثالثها: أنه تعالى جعلها لباسا للرجل، من حيث إنه يخصها بنفسه، كما يخص لباسه بنفسه، ويراها أهلا لأن يلاقي كل بدنه كل بدنها كما يعمله في اللباس ورابعها: يحتمل أن يكون المراد ستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت، لو لم تكن المرأة حاضرة، كما يستتر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار وخامسها: ذكر الأصم أن المراد أن كل واحد منهما كان كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي يفعلونه، وهذا ضعيف لأنه تعالى أورد هذا الوصف على طريق الإنعام علينا، فكيف يحمل على التستر بهن في المحظور.
المسألة الثانية: قال الواحدي: إنما وحد اللباس بعد قوله * (هن) * لأنه يجري مجرى المصدر، وفعال من مصادر فاعل، وتأويله: هن ملابسات لكم.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": فإن قلت: ما موقع قوله: * (هن لباس لكم) * فنقول: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا حصلت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن، وضعف عليكم اجتنابهن، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن.
أما قوله تعالى: * (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: يقال: خانه يخونه خونا وخيانة إذا لم يف له، والسيف إذا نبا عن الضربة فقد خانك، وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى الشر، وخان الرجل الرجل إذا لم يؤد الأمانة، وناقض العهد خائن، لأنه كان ينتظر منه الوفاء فغدر، ومنه قوله تعالى: * (وإما تخافن من قوم خيانة) * (الأنفال: 58) أي نقضا للعهد، ويقال للرجل المدين: إنه خائن، لأنه لم يف بما يليق بدينه، ومنه قوله تعالى: * (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) * (الأنفال: 27) وقال: * (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل) * (الأنفال: 71)
116

ففي هذه الآية سمى الله المعصية بالخيانة، وإذا علمت معنى الخيانة، فقال صاحب " الكشاف ": الاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة. المسألة الثانية: أن الله تعالى ذكر ههنا أنهم كانوا يختانون أنفسهم، إلا أنه لم يذكر أن تلك الخيانة كانت فيماذا؟ فلا بد من حمل هذه الخيانة على شئ يكون له تعلق بما تقدم وما تأخر، والذي تقدم هو ذكر الجماع، والذي تأخر قوله: * (فالآن باشروهن) * فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع، ثم ههنا وجهان: أحدهما: علم الله أنكم كنتم تسرون بالمعصية في الجماع بعد العتمة والأكل بعد النوم وتركبون المحرم من ذلك وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه وقد خان الله، لأنه جلب إليها العقاب، وعلى هذا القول يجب أن يقطع على أنه وقع ذلك من بعضهم لأنه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم، لأن قوله: * (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) * إن حمل على ظاهره وجب في جميعهم أن يكونوا مختانين لأنفسهم، لكنا قد علمنا أن المراد به التبعيض للعادة والإخبار، وإذا صح ذلك فيجب أن يقطع على وقوع هذا الجماع المحظور من بعضهم، فمن هذا الوجه يدل على تحريم سابق وعلى وقوع ذلك من بعضهم، ولأبي مسلم أن يقول قد بينا أن الخيانة عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بطاعة الله، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو خير للنفس وهذا أولى، لأن الله تعالى لم يقل: علم الله أنكم كنتم تختانون الله، كما قال: * (لا تخونوا الله) * (الأنفال: 27) ما قال: * (كنتم تختانون أنفسكم) * فكان حمل اللفظ على ما ذكرناه إن لم يكن أولى فلا أقل من التساوي وبهذا التقدير لا يثبت النسخ.
القول الثاني: أن المراد: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة ومعناه: أن الله يعلم أنه لو دام ذلك التكليف الشاق لوقعوا في الخيانة، وعلى هذا التفسير ما وقعت الخيانة ويمكن أن يقال التفسير الأول أولى لأنه لا حاجة فيه إلى إضمار الشرط وأن يقال بل الثاني أولى، لأن على التفسير الأول يصير إقدامهم على المعصية سببا لنسخ التكليف، وعلى التقدير الثاني: علم الله أنه لو دام ذلك التكليف لحصلت الخيانة فصار ذلك سببا لنسخ التكليف رحمة من الله تعالى على عباده حتى لا يقعوا في الخيانة.
أما قوله تعالى: * (فتاب عليكم) * فمعناه على قول أبي مسلم فرجع عليكم بالاذن في هذا الفعل والتوسعة عليكم وعلى قول مثبتي النسخ لا بد فيه من إضمار تقديره: تبتم فتاب عليكم فيه.
أما قوله تعالى: * (وعفا عنكم) * فعلى قول أبي مسلم معناه وسع عليكم أن أباح لكم الأكل والشرب والمعاشرة في كل الليل ولفظ العفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف قال عليه
117

السلام: " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق " وقال " أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله " والمراد منه التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت ويقال: أتاني هذا المال عفوا، أي سهلا فثبت أن لفظ العفو غير مشعر بسبق التحريم، وأما على قول مثبتي النسخ فقوله: * (عفا عنكم) * لا بد وأن يكون تقديره: عفا عن ذنوبكم، وهذا مما يقوي أيضا قول أبي مسلم لأن تفسيره لا يحتاج إلى الإضمار وتفسير مثبتي النسخ يحتاج إلى الإضمار.
أما قوله تعالى: * (فالآن باشروهن) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا أمر وارد عقب الخطر فالذين قالوا: الأمر الوارد عقيب الخطر ليس إلا للإباحة، كلامهم ظاهر وأما الذين قالوا: مطلق الأمر للوجوب قالوا إنما تركنا الظاهر وعرفنا كون هذا الأمر للإباحة بالإجماع.
المسألة الثانية: المباشرة فيها قولان: أحدهما: وهو قول الجمهور أنها الجماع، سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين وإنضمامهما، ومنها ما روي أنه عليه السلام نهى أن يباشر الرجل الرجل، والمرأة المرأة الثانية: وهو قول الأصم: أنه الجماع فما دونه وعلى هذا الوجه اختلف المفسرين في معنى قوله: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * فمنهم من حمله على كل المباشرات ولم يقصره على الجماع والأقرب أن لفظ المباشرة لما كان مشتقا من تلاصق البشرتين لم يكن مختصا
بالجماع بل يدخل فيه الجماع فيما دون الفرج، وكذا المعانقة والملامسة إلا أنهم إنما اتفقوا في هذه الآية على أن المراد به هو الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم، ولأن الرفث المتقدم ذكره لا يراد به إلا الجماع إلا أنه لما كان إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه صارت إباحته دالة على إباحة ما عداه، فصح ههنا حمل الكلام على الجماع فقط، ولما كان في الاعتكاف المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه صلح اختلاف المفسرين فيه، فهذا هو الذي يجب أن يعتمد عليه، على ما لخصه القاضي.
أما قوله: * (وابتغوا ما كتب الله لكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في الآية وجوها أحدها: وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها، ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل قال عليه السلام: " تناكحوا تناسلوا تكثروا " وثانيها: أنه نهى عن العزل، وقد رويت الأخبار في كراهية ذلك وقال الشافعي: لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها ولا بأس أن يعزل عن الأمة وروى عاصم عن زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره العزل، وعن أبي هريرة أن
118

النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعزل عن الحرة إلا باذنها وثالثها: أن يكون المعنى: ابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم ونظيره قوله تعالى: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) * ورابعها: أن هذا التأكيد تقديره: فالآن باشروهن وابتغوا هذه المباشرة التي كتبها لكم بعد أن كانت محرمة عليكم وخامسها: وهو على قول أبي مسلم: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، يعني هذه المباشرة التي كان الله تعالى كتبها لكم وإن كنتم تظنوها محرمة عليكم وسادسها: أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات بسبب الحيض والنفاس والعدة والردة فقوله: * (وابتغوا ما كتب الله لكم) * يعني لا تباشروهن إلا في الأحوال والأوقات التي أذن لكم في مباشرتهن وسابعها: أن قوله: * (فالآن باشروهن) * إذن في المباشرة وقوله: * (وابتغوا ما كتب الله لكم) * يعني لا تبتغوا هذه المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة لأن ذلك هو الذي كتب الله لكم بقوله: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المؤمنون: 6) وثامنها: قال معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء: يعني اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب فيها إن وجدتموها، وجمهور المحققين استبعدوا هذا الوجه، وعندي أنه لا بأس به، وذلك هو أن الإنسان ما دام قلبه مشتغلا بطلب الشهوة واللذة، لا يمكنه حينئذ أن يتفرغ للطاعة والعبودية والحضور، أما إذا قضى وطره وصار فارغا من طلب الشهوة يمكنه حينئذ أن يتفرغ للعبودية، فتقدير الآية: فالآن باشروهن حتى تتخلصوا من تلك الخواطر المانعة عن الإخلاص في العبودية، وإذا تخلصتم منها فابتغوا ما كتب الله من الاخلاص في العبودية في الصلاة والذكر والتسبيح والتهليل وطلب ليلة القدر، ولا شك أن هذه الرواية على هذا التقدير غير مستبعدة.
المسألة الثانية: * (كتب) * فيه وجوه أحدها: أن * (كتب) * في هذا الموضوع بمعنى جعل، كقوله: * (كتب في قلوبهم الإيمان) * (المجادلة: 22) أي جعل، وقوله: * (فاكتبنا مع الشاهدين) * (آل عمران: 53) * (فأكتبها للذين يتقون) * (الأعراف: 156) أي اجعلها وثانيها: معناه قضى الله لكم كقوله: * (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) * (التوبة: 51) أي قضاه، وقوله: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * وقوله: * (لبرز الذين كتب عليهم القتل) * أي قضى، وثالثها: أصله هو ما كتب الله في اللوح المحفوظ مما هو كائن، وكل حكم حكم به على عباده فقد أثبته في اللوح المحفوظ ورابعها: هو ما كتب الله في القرآن من إباحة هذه الأفعال.
المسألة الثالثة: قرأ ابن عباس * (وابتغوا) * وقرأ الأعمش * (وابغوا) *.
أما قوله: * (وكلوا واشربوا) * فالفائدة في ذكرهما أن تحريمهما وتحريم الجماع بالليل بعد النوم، لما تقدم احتيج في إباحة كل واحد منها إلى دليل خاص يزول به التحريم، فلو اقتصر تعالى
119

على قوله: * (فالآن باشروهن) * لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشرب، فقرن إلى ذلك قوله: * (وكلوا واشربوا) * لتتم الدلالة على الإباحة.
أما قوله تعالى: * (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: روي أنه لما نزلت هذه الآية قال عدي بن حاتم أخذت عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي، وكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما، فلم يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك، وقال إنك لعريض القفا، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل، وإنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك لعريض القفا لأن ذلك مما يستدل به على بلاهة الرجل، ونقول: يدل قطعا على أنه تعالى كني بذلك عن بياض أول النهار وسواد آخر الليل، وفيه إشكال وهو أن بياض الصبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذب، لأنه بياض مستطيل يشبه الخيط، فأما بياض الصبح الصادق فهو بياض مستدير في الأفق فكان يلزم بمقتضى هذه الآية أن يكون أول النهار من طلوع الصبح الكاذب وبالإجماع أنه ليس كذلك.
وجوابه: أنه لولا قوله تعالى في آخر هذه الآية: * (من الفجر) * لكان السؤال لازما، وذلك لأن الفجر إنما يسمى فجرا لأنه ينفجر منه النور، وذلك إنما يحصل في الصبح الثاني لا في الصبح الأول، فلما دلت الآية على أن الخيط الأبيض يجب أن يكون من الفجر، علمنا أنه ليس المراد منه الصبح الكاذب بل الصبح الصادق، فإن قيل: فكيف يشبه الصبح الصادق بالخيط، مع أن الصبح الصادق ليس بمستطيل والخيط مستطيل.
وجوابه: أن القدر من البياض الذي يحرم هو أول الصبح الصادق، وأول الصبح الصادق لا يكون منتشرا بل يكون صغيرا دقيقا، بل الفرق بينه وبين الصبح الكاذب أن الصبح الكاذب يطلع دقيقا، والصادق يبدو دقيقا، ويرتفع مستطيلا فزال السؤال، فأما ما حكي عن عدي بن حاتم فبعيد، لأنه يبعد أن يخفى على مثله هذه الاستعارة مع قوله تعالى: * (من الفجر) *.
المسألة الثانية: لا شك أن كلمة * (حتى) * لانتهاء الغاية، فدلت هذه الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح، وزعم أبو مسلم الأصفهاني لا شئ من المفطرات إلا أحد هذه الثلاثة، فأما الأمور التي تذكرها الفقهاء من تكلف القئ والحقنة والسعوط فليس شئ منها بمفطر، قال لأن كل هذه الأشياء كانت مباحة ثم دلت هذه الآية على حرمة هذه الثلاثة
120

على الصائم بعد الصبح، فبقي ما عداها على الحل الأصلي، فلا يكون شئ منها مفطرا والفقهاء قالوا إن الله تعالى خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر لأن النفس تميل إليها، وأما القئ والحقنة فالنفس تكرههما، والسعوط نادر فلهذا لم يذكرها.
المسألة الثالثة: مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح بن جني أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال لم يكن له صوم، وهذه الآية تدل على بطلان قولهم لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال إلا بعد انفجار الصبح.
المسألة الرابعة: زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس قياسا لأول النهار على آخره، فكما أن آخره بغروب القرص، وجب أن يكون أوله بطلوع القرص، وقال في الآية أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود النهار والليل، ووجه الشبهة ليس إلا في البياض والسواد، فإما أن يكون التشبيه في الشكل مرادا فهذا غير جائز لأن ظلمة الأفق حال طلوع الصبح لا يمكن تشبيهها بالخيط الأسود في الشكل البتة، فثبت أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود هو النهار والليل ثم لما بحثنا عن حقيقة الليل في قوله: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * وجدناها عبارة عن زمان غيبة الشمس بدليل أن الله تعالى سمى ما بعد المغرب ليلا مع بقاء الضوء فيه فثبت أن يكون الأمر في الطرف الأول من النهار كذلك، فيكون قبل طلوع الشمس ليلا، وأن لا يوجد النهار إلا عند طلوع القرص، فهذا تقرير قول الأعمش، ومن الناس من سلم أن أول النهار إنما يكون من طلوع الصبح فقاس عليه آخر النهار، ومنهم من قال: لا يجوز الإفطار إلا بعد غروب الحمرة، ومنهم من زاد عليه وقال: بل لا يجوز الإفطار إلا عند طلوع الكواكب، وهذه المذاهب قد انقرضت، والفقهاء أجمعوا على بطلانها فلا فائدة في استقصاء الكلام فيها. المسألة الخامسة: * (الفجر) * مصدر قولك: فجرت الماء أفجره فجرا، وفجرته تفجيرا. قال الأزهري: الفجر أصله الشق، فعل هذا الفجر في آخر الليل هو انشقاق ظلمة الليل بنور الصبح، وأما قوله تعالى: * (من الفجر) * فقيل للتبعيض لأن المعتبر بعض الفجر لا كله، وقيل للتبيين كأنه قيل: الخيط الأبيض الذي هو الفجر.
المسألة السادسة: أن الله تعالى لما أحل الجماع والأكل والشرب إلى غاية تبين الصبح، وجب أن يعرف أن تبين الصبح ما هو؟ فنقول: الطريق إلى معرفة تبين الصبح إما أن يكون قطعيا أو ظنيا، أما القطعي فبأن يرى طلوع الصبح أو يتيقن أنه مضى من الزمان ما يجب طلوع الصبح عنده وأما الظني فنقول: إما أن يحصل ظن أن الصبح طلع فيحرم الأكل والشرب والوقاع
121

فإن حصل ظن أنه ما طلع كان الأكل والشرب والوقاع مباحا، فإن أكل ثم تبين بعد ذلك أن ذلك الظن خطأ وأن الصبح كان قد طلع عند ذلك الأكل فقد اختلفوا، وكذلك إن ظن أن الشمس قد غربت فأفطر ثم تبين أنها ما كانت غاربة فقال الحسن: لا قضاء في الصورتين قياسا على ما لو أكل ناسيا، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي في رواية المزني عنه: يجب القضاء لأنه أمر بالصوم من الصبح إلى الغروب ولم يأت به وأما الناسي فعند مالك يجب عليه القضاء، وأما الباقون الذين سلموا أنه لا قضاء قالوا: مقتضى الدليل وجوب القضاء عليه أيضا، إلا أنا أسقطناه عنه للنص، وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: أكلت وشربت وأنا صائم فقال عليه الصلاة والسلام: أطعمك الله وسقاك فأنت ضيف الله فتم صومك.
والقول الثالث: أنه إذا أخطأ في طلوع الصبح لا يجب القضاء، وإذا أخطأ في غروب الشمس يجب القضاء، والفرق أن الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان، والثابت في الليل حل الأكل، وفي النهار حرمته، أما إذا لم يغلب على ظنه لا بقاء الليل ولا طلوع الصبح، بل بقي متوقفا في الأمرين، فههنا يكره له الأكل والشرب والجماع، فإن فعل جاز، لأن الأصل بقاء الليل والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أن كلمة * (إلى) * لانتهاء الغاية، فظاهر الآية أن الصوم ينتهي عند دخول الليل، وذلك لأن غاية الشئ مقطعه ومنتهاه، وإنما يكون مقطعا ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك، وقد تجئ هذه الكلمة لا للانتهاء كما قوله تعالى: * (إلى المرافق) * (المائدة: 6) إلا أن ذلك على خلاف الدليل، والفرق بين الصورتين أن الليل ليس من جنس النهار، فيكون الليل خارجا عن حكم النهار، والمرافق من جنس اليد فيكون داخلا فيه، وقال أحمد بن يحيى: سبيل إلى الدخول والخروج، وكلا الأمرين جائز، تقول: أكلت السمكة إلى رأسها، وجائز أن يكون الرأس داخلا في الأكل وخارجا منه، إلا أنه لا يشك ذو عقل أن الليل خارج عن الصوم، إذ لو كان داخلا فيه لعظمت المشقة ودخلت المرافق في الغسل أخذا بالأوثق، ثم سواء قلنا إنه مجمل أو غير مجمل، فقد ورد الحديث الصحيح فيه، وهو ما روى عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وقد غربت الشمس فقد أفطر الصائم " فهذا الحديث يدل على أن الصوم ينتهي في هذا الوقت. فأما أنه يجب على المكلف أن يتناول عند هذا الوقت شيئا، فالدليل
122

عليه ما روى الشافعي رضي الله تعالى عنه بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، قيل: يا رسول الله تواصل، أي كيف تنهانا عن أمر أنت تفعله؟ فقال: إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني، وقيل فيه معان أحدها: أنه كان يطعم ويسقى من طعام الجنة والثاني: أن عليه الصلاة والسلام قال: إني على ثقة من أني لو احتجت إلى الطعام أطعمني مواصلا، وحكى محمد بن جرير الطبري عن ابن الزبير، أنه كان يواصل سبعة أيام، فلما كبر جعلها خمسا، فلما كبر جدا جعلها ثلاثا، فظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه يدل على أن هذا النهي نهي تحريم، وقيل: هو نهي تنزيه، لأنه ترك للمباح، وعلى هذا التأويل صح
فعل ابن الزبير، إذا عرفت هذا فنقول: إذا تناول شيئا قليلا ولو قطرة من الماء، فعلى ذلك هو بالخيار في الاستيفاء إلا أن يخاف المرء من التقصير في صوم المستأنف، أو في سائر العبادات، فيلزم حينئذ أن يتناول من الطعام قدرا يزول به هذا الخوف.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن الليل ما هو؟ فمن الناس من قال: آخر النهار على أوله، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشمس، كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور آثار الشمس ثم هؤلاء منهم من اكتفي بزوال الحمرة، ومنهم من اعتبر ظهور الظلام التام وظهور الكواكب، إلا أن الحديث الذي رواه عمر يبطل ذلك وعليه عمل الفقهاء.
المسألة الثالثة: الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن التبييت والتعيين غير معتبر في صحة الصوم، قالوا: الصوم في اللغة هو الإمساك، وقد وجد ههنا فيكون صائما، فيجب عليه إتمامه، لقوله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * فوجب القول بصحته، لأن الإمساك حرج ومشقة وعسر وهو منفي بقوله تعالى: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وقوله: * (ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) ترك العمل به في الصوم الصحيح فيبقى غير الصحيح على الأصل، ثم نقول: مقتضى هذا الدليل، أن يصح صوم الفرض بنية بعد الزوال إلا أنا قلنا: الأقل يلحق بالأغلب فلا جرم أبطلنا الصوم بنية بعد الزوال وصححنا نيته قبل الزوال.
المسألة الرابعة: الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن صوم النفل يجب إتمامه قالوا: لأن قوله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * أمر وهو للوجوب، وهو يتناول كل الصيامات، والشافعية قالوا: هذا إنما ورد لبيان أحكام صوم الفرض، فكان المراد منه صوم الفرض.
123

الحكم السابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة الاعتكاف
قوله تعالى: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) *.
اعلم أنه تعالى لما بين الصوم، وبين أن من حكمه تحريم المباشرة، كان يجوز أن يظن في الإعتكاف أن حاله كحال الصوم في أن الجماع يحرم فيه نهارا لا ليلا، فبين تعالى تحريم المباشرة فيه نهارا وليلا، فقال: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الشافعي رضي الله عنه: الإعتكاف اللغوي ملازمة المرء للشئ وحبس نفسه عليه، برا كان أو إثما، قال تعالى: * (يعكفون على أصنام لهم) * (الأعراف: 138) والاعتكاف الشرعي: المكث في بيت الله تقربا إليه، وحاصله راجع إلى تقييد اسم الجنس بالنوع بسبب العرف، وهو من الشرائع القديمة، قال الله تعالى: * (طهرا بيتي للطائفين والعاكفين) * (البقرة: 125) وقال تعالى: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) *.
المسألة الثانية: لو لمس الرجل المرأة بغير شهوة جاز، لأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، أما إذا لمسها بشهوة، أو قبلها، أو باشرها فيما دون الفرج، فهو حرام على المعتكف، وهو يبطل بها اعتكافه؟ للشافعي رحمه الله فيه قولان: الأصح أنه يبطل، وقال أبو حنيفة، لا يفسد الإعتكاف إذا لم ينزل، احتج من قال بالإفساد أن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين، فقوله: * (ولا تباشروهن) * منع من هذه الحقيقة، فيدخل فيه الجماع وسائر هذه الأمور، لأن مسمى المباشرة حاصل في كلها.
فإن قيل: لم حملتم المباشرة في الآية المتقدمة على الجماع؟
قلنا: لأن ما قبل الآية يدل على أنه هو الجماع، وهو قوله: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث) * وسبب نزول تلك الآية يدل على أنه هو الجماع، ثم لما أذن في الجماع كان ذلك إذنا فيما دون الجماع بطريق الأولى، أما ههنا فلم يوجد شئ من هذه القرائن، فوجب إبقاء لفظ المباشرة على موضعه الأصلي وحجة من قال: إنها لا تبطل الإعتكاف، أجمعنا على أن هذه المباشرة لا تفسد الصوم والحج، فوجب أن لا تفسد الإعتكاف لأن الاعتكاف ليس أعلى درجة منهما والجواب: أن النص مقدم على القياس.
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن شرط الإعتكاف ليس الجلوس في المسجد وذلك لأن المسجد
124

مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بني لإقامة الطاعات فيه، ثم اختلفوا فيه فنقل عن علي رضي الله عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام والحجة فيه قوله تعالى: * (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين) * (البقرة: 125) فبين ذلك البيت لجميع العاكفين، ولو جاز الإعتكاف في غيره لما صح ذلك العموم وقال عطاء: لا يجوز إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة، لما روى عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي " وقال حذيفة: يجوز في هذين المسجدين وفي مسجد بيت المقدس لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا " وقال الزهري: لا يصح إلا في الجامع وقال أبو حنيفة: لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب، وقال الشافعي رضي الله عنه: يجوز في جميع المساجد، إلا أن المسجد الجامع أفضل حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة، واحتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية لأن قوله: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * عام يتناول كل المساجد.
المسألة الرابعة: يجوز الإعتكاف بغير صوم والأفضل أن يصوم معه، وقال أبو حنيفة لا يجوز إلا بالصوم، حجة الشافعي رضي الله عنه هذه الآية، لأنه بغير الصوم عاكف والله تعالى منع العاكف من مباشرة المرأة ولو كان اعتكافه باطلا لما كان ممنوعا ترك العمل بظاهر اللفظ إذا ترك النية فيبقى فيما عداه على الأصل واحتج المزني بصحة قول الشافعي رضي الله عنهما بأمور ثلاثة الأول: لو كان الإعتكاف يوجب الصوم لما صح في رمضان، لأن الصوم الذي هو موجبه إما صوم رمضان وهو
باطل لأنه واجب بسبب الشهر لا بسبب الاعتكاف، أو صوم آخر سوى صوم رمضان، وذلك ممتنع وحيث أجمعوا على أنه يصح في رمضان، علمنا أن الصوم لا يوجبه الإعتكاف والثاني: أنه لو كان الإعتكاف لا يجوز إلا مقارنا بالصوم لخرج الصائم بالليل عن الإعتكاف لخروجه فيه عن الصوم، ولما كان الأمر بخلاف ذلك، علمنا أن الإعتكاف يجوز مفردا أبدا بدون الصوم والثالث: ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف الله ليلة فقال عليه الصلاة والسلام: أوف بنذرك ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليل.
المسألة الخامسة: قال الشافعي رضي الله عنه: لا تقدير لزمان الإعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة ينعقد ولو نذر أن يعتكف مطلقا يخرج عن نذره باعتكافه ساعة، كما لو نذر أن يتصدق
125

مطلقا تصدق بما شاء من قليل أو كثير، ثم قال الشافعي رضي الله عنه: وأحب أن يعتكف يوما وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه لا يجوز اعتكاف أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر، ويخرج بعد غروب الشمس، وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه ليس تقدير الإعتكاف بمقدار معين من الزمان أولى من بعض، فوجب ترك التقدير والرجوع إلى أقل ما لا بد منه، وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن الإعتكاف هو حبس النفس عليه، وذلك لا يحصل في اللحظة الواحدة، ولأن على هذا التقدير لا يتميز المعتكف عمن ينتظر الصلاة.
أما قوله تعالى: * (تلك حدود الله) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (تلك) * لا يجوز أن يكون إشارة إلى حكم الإعتكاف لأن الحدود جمع ولم يذكر الله تعالى في الإعتكاف إلا حدا واحدا، وهو تحريم المباشرة بل هو إشارة إلى كل ما تقدم في أول آية الصوم إلى ههنا على ما سبق شرح مسائلها على التفصيل.
المسألة الثانية: قال الليث: حد الشئ مقطعه ومنتهاه قال الأزهري: ومنه يقال للمحروم محدود لأنه ممنوع عن الرزق ويقال للبواب: حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحد الدار ما يمنع غيرها من الدخول فيها، وحدود الله ما يمنع من مخالفتها والمتكلمون يسمون الكلام الجامع المانع: حدا، وسمي الحديد: حديدا لما فيه من المنع، وكذلك إحداد المرأة لأنها تمنع من الزينة إذا عرفت الإشتقاق فنقول: المراد من حدود الله محدوداته أي مقدوراته التي قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة.
أما قوله تعالى: * (فلا تقربوها) * ففيه إشكالان الأول: أن قوله تعالى: * (تلك حدود الله) * إشارة إلى كل ما تقدم، والأمور المتقدمة بعضها إباحة وبعضها حظر فكيف قال في الكل * (فلا تقربوها) * والثاني: أنه تعالى قال في آية أخرى: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) * (البقرة: 229) وقال في آية المواريث * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده) * (تلك وقال ههنا: * (فلا تقربوها) * فكيف الجمع بينهما؟
والجواب عن السؤالين من وجوه: الأول: وهو الأحسن والأقوى أن من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق، فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الضلال، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق والباطل، لئلا يداني الباطل وأن يكون بعيدا عن الطرف فضلا أن يتخطاه كما قال عليه الصلاة والسلام: " إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " الثاني: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني: لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله: * (لا تقربوا مال اليتيم) * (الإسراء: 34) الثالث: أن
126

الأحكام المذكورة فيما قبل وإن كانت كثيرة إلا أن أقربها إلى هذه الآية إنما هو قوله: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * وقبل هذه الآية قوله: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * وذلك يوجب حرمة الأكل والشرب في النهار، وقبل هذه الآية قوله: * (وابتغوا ما كتب الله لكم) * وهو يقتضي تحريم مواقعة غير الزوجة والمملوكة وتحريم مواقعتهما في غير المأتي وتحريم مواقعتهما في الحيض والنفاس والعدة والردة، وليس فيه إلا إباحة الشرب والأكل والوقاع في الليل، فلما كانت الأحكام المتقدمة أكثرها تحريمات، لا جرم غلب جانب التحريم فقال: * (تلك حدود الله فلا تقربوها) * أي تلك الأشياء التي منعتم عنها إنما منعتم عنها بمنع الله ونهيه عنها فلا تقربوها.
أما قوله تعالى: * (كذلك يبين الله آياته للناس) * ففيه وجوه أحدها: المراد أنه كما بين ما أمركم به ونهاكم عنه في هذا الموضع، كذلك يبين سائر أدلته على دينه وشرعه وثانيها: قال أبو مسلم: المراد بالآيات الفرائض التي بينها كما قال: * (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات) * (النور: 1) ثم فسر الآيات بقوله: * (الزانية والزاني) * (النور: 2) إلى سائر ما بينه من أحكام الزنا، فكأنه تعالى قال: كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما لزم وثالثها: يحتمل أن يكون المراد أنه سبحانه لما بين أحكام الصوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بيانا شافيا وافيا، قال بعده: * (كذلك يبين الله آياته للناس) * أي مثل هذا البيان الوافي الواضح الكامل هو الذي
يذكر للناس، والغرض منه تعظيم حال البيان وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان.
أما قوله تعالى: * (لعلهم يتقون) * فقد مر شرحه غير مرة.
الحكم الثامن من الأحكام المذكورة في هذه السورة: حكم الأموال
قوله تعالى
* (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بهآ إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال
127

الناس بالإثم وأنتم تعلمون) *.
اعلم أنهم مثلوا قوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم) * بقوله: * (وتلمزوا أنفسكم) * (الحجرات: 11) وهذا مخالف لها، لأن أكله لمال نفسه بالباطل يصح كما يصح أكله مال غيره، قال الشيخ أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء: المال إنما يحرم لمعنى في عينه أو لحال في جهة اكتسابه.
والقسم الأول: الحرام لصفة في عينه.
واعلم أن الأموال إما أن تكون من المعادن أو من النبات، أو من الحيوانات، أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شئ منه إلا من حيث يضر بالأكل، وهو ما يجري مجرى السم، وأما النبات فلا يحرم منه إلا ما يزيل الحياة والصحة أو العقل، فمزيل الحياة السموم، ومزيل الصحة الأدوية في غير وقتها، ومزيل العقل الخمر والبنج وسائر المسكرات.
وأما الحيوانات فتنقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل، وما يحل إنما يحل إذا ذبح ذبحا شرعيا ثم إذا ذبحت فلا تحل بجميع أجزائها بل يحرم منها الفرث والدم، وكل ذلك مذكور في كتب الفقه.
القسم الثاني: ما يحرم لخلل من جهة إثبات اليد عليه، فنقول: أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك، أو بغير اختياره كالإرث، والذي باختياره إما أن يكون مأخوذا من المالك كأخذ المعادن، وإما أن يكون مأخوذا من مالك، وذلك إما أن يؤخذ قهرا أو بالتراضي، والمأخوذ قهرا إما أن لسقوط عصمة الملك كالغنائم أو لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم، والمأخوذ تراضيا إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية فيحصل من هذا التقسيم أقسام ستة الأول: ما يؤخذ من غير مالك كنيل المعادن، وإحياء الموت، والاصطياد، والاحتطاب، والاستقاء من الأنهار، والاحتشاش، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصا بذي حرمة من الآدميين الثاني: المأخوذ قهرا ممن لا حرمة له، وهو الفئ، والغنيمة، وسائر أموال الكفار المحاربين، وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس، وقسموه بين المستحقين بالعدل، ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهد والثالث: ما يؤخذ قهرا باستحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه، وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق، وتم وصف المستحق واقتصر على القدر
128

المستحق الرابع: ما يؤخذ تراضيا بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط اللفظين؛ أعني الإيجاب والقبول مما يعتد الشرع به من اجتناب الشرط المفسد الخامس: ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه، وشرط العاقدين، وشرط العقد، ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره السادس: ما يحصل بغير اختياره كالميراث، وهو حلال إذا كان الموروث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين، وتنفيذ الوصايا، وتعديل القسمة بين الورثة، وإخراج الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة، فهذا مجامع مداخل الحلال، وكتب الفقه مشتملة على تفاصيلها فكل ما كان كذلك كان مالا حلالا، وكل ما كان بخلافه كان حراما، إذا عرفت هذا فنقول: المال إما أن يكون لغيره أو له، فإن كان لغيره كانت حرمته لأجل الوجوه الستة المذكورة، وإن كان له فأكله بالحرام أن يصرف إلى شرب الخمر والزنا واللواط والقمار أو إلى السرف المحرم، وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * واعلم أن سبحانه كرر هذا النهي في مواضع من كتابه فقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة) * (النساء: 29) وقال: * (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * (النساء: 10) وقال: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) * (البقرة: 278) ثم قال: * (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * ثم قال: * (وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم) * (البقرة: 279) ثم قال: * (ومن عاد فأولئك أصحاب النار فيها خالدون) * (البقرة: 275) جعل آكل الربا في أول الأمر مؤذنا بمحاربة الله، وفي آخره متعرضا للنار.
المسألة الثانية: قوله: * (ولا تأكلوا) * ليس المراد منه الأكل خاصة، لأن غير الأكل من التصرفات كالأكل في هذا الباب لكنه لما كان المقصود الأعظم من المال إنما هو الأكل وقع التعارف فيمن ينفق ماله أن يقال أنه أكله فلهذا السبب عبر الله تعالى عنه بالأكل.
المسألة الثالثة: * (الباطل) * في اللغة الزائل الذاهب، يقال: بطل الشئ بطولا فهو باطل، وجمع الباطل بواطل، وأباطيل جمع أبطولة، ويقال: بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو.
أما قوله تعالى: * (وتدلوا بها إلى الحكام) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الإدلاء مأخوذ من إدلاء الدلو، وهو إرسالك إياها في البئر للإستقاء يقال. أدليت دلوي أدليها إدلاء فإذا استخرجتها قلت دلوتها قال تعالى: * (فأدلى دلوه) * (يوسف: 19)، ثم جعل
129

كل إلقاء قول أو فعل أدلاء، ومنه يقال للمحتج: أدلى بحجته، كأنه يرسلها ليصير إلى مراده كإدلاء المستقي الولد ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلان يدلى إلى الميت بقرابة أو رحم، إذا كان منتسبا إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة، طلب المستحق بالدلو الماء، إذا عرفت هذا فنقول: أنه داخل في حكم النهي، والتقدير: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولا تدلوا إلى الحكام، أي لا ترشوها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالباطل، وفي تشبيه الرشوة بالإدلاء وجهان أحدهما: أن الرشوة رشاء الحاجة، فكما أن الدلو المملوء من الماء يصل من البعيد إلى القريب بواسطة الرشاء فالمقصود البعيد يصير قريبا بسبب الرشوة والثاني: أن الحاكم بسبب أخذ الرشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبت كمضي الدلو في الإرسال، ثم المفسرون ذكروا وجوها أحدها: قال ابن عباس والحسن وقتادة: المراد منه الودائع وما لا يقوم عليه بينة وثانيها: أن المراد هو مال اليتيم في ي الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم ليبقى عليهم بعضه وثالثها: أن المراد من الحاكم شهادة الزور، وهو قول الكلبي ورابعها: قال الحسن: المراد هو أن يحلف ليذهب حقه وخامسها: هو أن يدفع إلى الحاكم رشوة، وهو أقرب إلى الظاهر، ولا يبعد أيضا حمل اللفظ على الكل، لأنها بأسره
أكل بالباطل.
أما قوله تعالى: * (وأنتم تعلمون) * فالمعنى وأنتم تعلمون أنكم مبطلون، ولا شك أن الإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أقبح، وصاحبه بالتوبيخ أحق، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال، اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم: عالم بالخصومة وجاهل بها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للعالم، فقال من قضى عليه:
يا رسول الله والذي لا إله إلا هو إني محق فقال: إن شئت أعاوده، فعاوده فقضى للعالم، فقال المقضى عليه مثل ما قال أولا ثم عاوده ثالثا، ثم قال عليه الصلاة والسلام: " من اقتطع حق امرئ مسلم بخصومته فإنما اقتطع قطعة من النار " فقال العالم المقضي له: يا رسول الله إن الحق حقه، فقال عليه الصلاة والسلام: " من اقتطع بخصومته وجد له حق غيره فليتبوأ مقعده من النار ".
الحكم التاسع
قوله تعالى
* (يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت
130

من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: نقل عن ابن عباس أنه قال: ما كان قوم أقل سؤالا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سألوا عن أربعة عشر حرفا فأجيبوا.
وأقول: ثمانية منها في سورة البقرة أولها: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * (البقرة: 186) وثانيها: هذه الآية ثم الستة الباقية بعد في سورة البقرة، فالمجموع ثمانية في هذه السورة والتاسع: قوله تعالى في سورة المائدة: * (يسألونك ماذا أحل لهم) * (المائدة: 4) والعاشر: في سورة الأنفال * (يسألونك عن الأنفال) * (الأنفال: 1) والحادي عشر: في بني إسرائيل * (يسألونك عن الروح) * (الإسراء: 85) والثاني عشر: في الكهف * (ويسألونك عن ذي القرنين) * (الكهف: 83) والثالث عشر: في طه * (ويسألونك عن الجبال) * (طه: 105) والرابع عشر: في النازعات * (يسألونك عن الساعة) * (النازعات: 42) ولهذه الأسئلة ترتيب عجيب: اثنان منها في الأول في شرح المبدأ فالأول: قوله: * (وإذا سألك عبادي عني) * (البقرة: 186) وهذا سؤال عن الذات والثاني: قوله: * (يسألونك عن الأهلة) * وهذا سؤال عن صفة الخلاقية والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه، واثنان منها في الآخرة في شرح المعاد أحدهما: قوله: * (ويسألونك عن الجبال) * والثاني: قوله: * (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) * (الأعراف: 187) ونظير هذا أنه ورد في القرآن سورتان أولهما: * (يا أيها الناس) * (البقرة: 21) أحدهما: في النصف الأول: وهي السورة الرابعة من سورة النصف الأول، فإن أولاها الفاتحة وثانيتها البقرة وثالثها آل عمران ورابعتها النساء وثانيتهما: في النصف الثاني من القرآن وهي أيضا السورة الرابعة من سور النصف الثاني أولاها مريم، وثانيتها طه، وثالثتها الأنبياء، ورابعتها الحج، ثم * (يا أيها الناس) * التي في النصف الأول تشتمل على شرح المبدأ فقال * (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) * (النساء: 1) و * (يا أيها الناس) * التي في النصف الثاني تشتمل على شرح المعاد فقال: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم) * (الحج: 1) فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفية، وحكم مطوية لا يعرفها إلا الخواص من عبيده.
المسألة الثانية: روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم وكل واحد منهما كان من الأنصار
131

قالا يا رسول الله: ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا، لا يكون على حالة واحدة كالشمس، فنزلت هذه الآية ويروى أيضا عن معاذ أن اليهود سألت عن الأهلة.
واعلم أن قوله تعالى: * (يسألونك عن الأهلة) * ليس فيه بيان إنهم عن أي شئ سألوا لكن الجواب كالدال على موضع السؤال، لأن قوله: * (قل هي مواقيت للناس والحج) * يدل على أن سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغير حال الأهلة في النقصان والزيادة، فصار القرآن والخبر متطابقين في أن السؤال كان عن هذا المعنى.
المسألة الثالثة: الأهلة جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس، يقال له: هلال ليلتين من أول الشهر ثم يكون قمرا بعد ذلك، وقال أبو الهيثم: يسمى القمر ليلتين من أول الشهر هلالا، وكذلك ليلتين من آخر الشهر، ثم يسمي ما بين ذلك قمرا، قال الزجاج: فعال يجمع في أقل العدد على أفعلة، نحو مثال وأمثلة، وحمار وأحمرة، وفي أكثر العدد يجمع على فعل مثل حمر لأنهم كرهوا في التضعيف فعل، نحو هلل وخلل، فاقتصروا على جمع أدنى العدد.
أما قوله تعالى: * (قل هي مواقيت للناس والحج) * مسألتان:
المسألة الأولى: المواقيت جمع الميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد، وقال بعضهم الميقات منتهى الوقت، قال الله تعالى: * (فتم ميقات ربه) * (الأعراف: 142) والهلال ميقات الشهر، ومواضع الإحرام مواقيت الحج لأنها مواضع ينتهي إليها، ولا تصرف مواقيت لأنها غاية الجموع، فصار كأن الجمع يكرر فيها فإن قيل: لم صرفت قوارير؟ قيل: لأنها فاصلة وقعت في رأس آية، فنون ليجري على طريقة الآيات، كما تنون القوافي، مثل قوله: أقل اللوم عاذل والعتابن (c) المسألة الثانية: اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل الزمان مقدرا من أربعة أوجه: السنة والشهر واليوم والساعة، أما السنة فهي عبارة عن الزمان الحاصل من حركة الشمس من
نقطة معينة من الفلك بحركتها الحاصلة عن خلاف حركة الفلك إلى أن تعود إلى تلك النقطة بعينها، إلا أن القوم اصطلحوا على أن تلك النقطة نقطة الإعتدال الربيعي وهو أول الحمل، وأما الشهر فهو عبارة عن حركة القمر من نقطة معينة من فلكه الخاص به إلى أن يعود إلى تلك النقطة، ولما كان أشهر أحوال القمر وضعه مع الشمس، وأشهر أوضاعه من الشمس هو الهلال العربي، مع أن القمر في هذا الوقت يشبه الموجود بعد العدم والمولود الخارج من الظلم لا جرم جعلوا هذا الوقت
132

منتهى للشهر، وأما اليوم بليلته فهو عبارة عن مفارقة نقطة من دائرة معدل النهار نقطة من دائرة الأفق، أو نقطة من دائرة نصف النهار وعودها إليها، فالزمان المقدر عبارة عن اليوم بليلتها، ثم أن المنجمين اصطلحوا على تعيين دائرة نصف النهار مبتدأ لليوم بليلته، أما أكثر الأمم فإنهم جعلوا مبادئ الأيام بلياليها من مفارقة الشمس أفق المشرق وعودها إليه من الغداة، واحتج من نصر مذهبهم بأن الشمس عند طلوعها كالموجود بعد العدم فجعله أولا أولى، فزمان النهار عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأرض، وزمان الليل عبارة عن كونها تحت الأرض، وفي شريعة الإسلام يفتتحون النهار من أول وقت طلوع الفجر في وجوب الصلاة والصوم وغيرهما من الأحكام، وعند المنجمين مدة الصوم في الشرع هي زمان النهار كله مع زيادة من زمان الليل معلومة المقدار محدودة المبدأ، وأما الساعة فهي على قسمين: مستوية جزء من أربعة وعشرين من يوم وليلة، فهذا كلام مختصر في تعريف السنة والشهر واليوم والساعة.
فنقول: أما السنة فهي عبارة عن دورة الشمس فتحدث بسببها الفصول الأربعة، وذلك لأن الشمس إذا حصلت في الحمل فإذا تركت من هذا الموضع إلى جانب الشمال، أخذ الهواء في جانب الشمال شيئا من السخونة لقربها من مسامتة الرؤوس، ويتواتر الإسخان إلى أن تصل أول السرطان، وتشتد الحرارة ويزداد الحر ما دامت في السرطان والأسد لقربها من سمت الرؤوس، ويتواتر الإسخان، ثم ينعكس إلى أن يصل الميزان: وحينئذ يطيب الهواء ويعتدل، ثم يأخذ الحر في النقصان والبرد في الزيادة، ولا يزال يزداد البرد إلى أن تصل الشمس إلى أول الجدي، ويشتد البرد حينئذ لبعدها عن سمت الرؤوس، ويتواتر البرد ثم إن الشمس تأخذ في الصعود إلى ناحية الشمال، وما دامت في الجدي والدلو، فالبرد أشد ما يكون إلى أن تنتهي إلى الحمل، فحينئذ يطيب الهواء ويعتدل، وعادت الشمس إلى مبدأ حركتها وانتهى زمان السنة نهايته، وحصلت الفصول الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومنافع الفصول الأربعة وتعاقبا ظاهرة مشهورة في الكتب.
وأما الشهر فهو عبارة عن دورة القمر في فلكه الخاص وزعموا أن نوره مستفاد من الشمس وأبدا يكون أحد نصفيه مضيئا بالتمام إلا أنه عند الاجتماع يكون النصف المضئ هو النصف الفوقاني فلا جرم نحن لا نرى من نوره شيئا وعند الاستقبال يكون نصفه المضئ مواجها لنا فلا جرم نراه مستنيرا بالتمام، وكلما كان القمر أقرب إلى الشمس، كان المرئي من نصفه المضئ أقل وكلما كان
133

أبعد كان المرئي من نصفه المضئ أكثر، ثم أنه من وقت الإجتماع إلى وقت الإنفصال يكون كل ليلة أبعد من الشمس، ويرى كل ليلة ضوءه أكثر من وقت الاستقبال إلى وقت الاجتماع، ويكون كل ليلة أقرب إلى الشمس، فلا جرم يرى كل ليلة ضوءه أقل، ولا يزال يقل ويقل: * (حتى عاد كالعرجون القديم) * (يس: 39) فهذا ما قاله أصحاب الطبائع والنجوم.
وأما الذي يقوله الأصوليون فهو أن القمر جسم، والأجسام كلها متساوية في الجسمية، والأشياء المتساوية في تمام الماهية يمتنع اختلافها في اللوازم، وهذه مقدمة يقينية فإذن حصول الضوء في جرم الشمس والقمر أمر جائز أن يحصل، وما كان كذلك امتنع رجحان وجوده على عدمه إلا بسبب الفاعل المختار، وكل ما كان فعلا لفاعل مختار، فإن ذلك يكون قادرا على إيجاده وعلى إعدامه، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى إسناد هذه الإختلافات الحاصلة في نور القمر إلى قربها وبعدها من الشمس، بل عندنا أن حصول النور في جرم الشمس إنما كان بسبب إيجاد القادر المختار، وكذا الذي في جرم القمر.
بقي ههنا أن يقال الفاعل المختار لم خصص القمر دون الشمس بهذه الإختلافات، فنقول لعلماء الإسلام في هذا المقام جوابان أحدهما: أن يقال: إن فاعلية الله تعالى لا يمكن تعليلها بغرض ومصلحة، ويدل عليه وجوه أحدها: أن من فعل فعلا لغرض فإن قدر على تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة، فحينئذ يكون فعل تلك الواسطة عبثا، وإن لم يقدر فهو عاجز وثانيها: أن كل من فعل فعلا لغرض، فإن كان وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده فهو ناقص بذاته، مستكمل بغيره، وإن لم يكن أولى له لم يكن غرضا وثالثها: أنه لو كان فعله معللا بغرض فذلك الغرض إن كان محدثا افتقر إحداثه إلى غرض آخر، وإن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال، فلا جرم قالوا: كل شئ صنعه ولا علة لصنعه، ولا يجوز تعليل أفعاله وأحكامه البتة * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * (الأنبياء: 23).
والجواب الثاني: قول من قال: لا بد في أفعال الله وأحكامه من رعاية المصالح والحكم، والقائلون بهذا المذهب سلموا أن العقول البشرية قاصرة في أكثر المواضع عن الوصول إلى أسرار حكم الله تعالى في ملكه وملكوته، وقد دللنا على أن القوم إنما سألوا عن الحكمة في اختلاف أحوال القمر فالله سبحانه وتعالى ذكر وجوه الحكمة فيه وهو قوله: * (قل هي مواقيت للناس والحج) * وذكر هذا المعنى في آية أخرى وهو قوله: * (وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) * (يونس: 5) وقال في آية ثالثة * (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد
134

السنين والحساب) * (الإسراء: 12) وتفصيل القول فيه أن تقدير الزمان بالشهور فيه منافع بعضها متصل بالدين وبعضها بالدنيا، أما ما يتصل منها بالدين فكثيرة منها الصوم، قال الله تعالى: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * (البقرة: 185) وثانيها: الحج، قال الله تعالى: * (الحج أشهر معلومات) * (البقرة: 197) وثالثها: عدة المتوفى عنها زوجها قال الله تعالى: * (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * (البقرة: 234) ورابعها: النذور التي تتعلق بالأوقات، وفضائل الصوم في أيام لا تعلم إلا بالأهلة.
وأما ما يتصل منها بالدنيا فهو كالمداينات والإجارات والمواعيد ولمدة الحمل والرضاع كما قال * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * (الأحقاف: 15) وغيرها فكل ذلك
مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الإختلاف في شكل القمر.
فإن قيل: لا نسلم أنا نحتاج في تقدير الأزمنة إلى حصول الشهر، وذلك لأنه يمكن تقديرها بالسنة التي هي عبارة عن دورة الشمس وبإجرائها مثل أن يقال: كلفتكم بالطاعة الفلانية في أول السنة، أو في سدسها، أو نصفها، وهكذا سائر الأجزاء، ويمكن تقديرها بالأيام مثل أن يقال: كلفتم بالطاعة الفلانية في اليوم الأول من السنة وبعد خمسين يوما من أول السنة، وأيضا بتقدير أن يساعد على أنه لا بد مع تقدير الزمان بالسنة وباليوم تقديره بالقمر لكن الشهر عبارة عن دورة من اجتماعه مع الشمس إلى أن يجتمع معها مرة أخرى هذا التقدير حاصل سواء حصل الإختلاف في أشكال نوره أو لم يحصل، ألا ترى أن تقدير السنة بحركة الشمس وإن لم يحصل في نور الشمس اختلافا، فكذا يمكن تقدير الشمس بحركة القمر، وإن لم يحصل في نور القمر اختلاف، وإذا لم يكن لنور القمر مخالفة بحال ولا أثر في هذا الباب لم يجز تقديره به.
والجواب عن السؤال الأول: أن ما ذكرتم وإن كان ممكنا إلا أن إحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام لأن الأهلة اثنا عشر شهرا، والأيام كثيرة، ومن المعلوم أن تقسيم جملة الزمان إلى السنين، ثم تقسيم كل سنة إلى الشهور، ثم تقسيم الشهور إلى الأيام، ثم تقسيم كل يوم إلى الساعات، ثم تقسيم كل ساعة إلى الأنفاس أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخبط، ولهذا قال سبحانه: * (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) * (التوبة: 36) وهذا كما أن المصنف الذي يراعي حسن الترتيب يقسم تصنيفه إلى الكتب، ثم كل كتاب إلى الأبواب، ثم كل باب إلى الفصول ثم كل فصل إلى المسائل فكذا ههنا الجواب عنه.
وأما السؤال الثاني: فجوابه ما ذكرتم، إلا أنه متى كان القمر مختلف الشكل، كان معرفة
135

أوائل الشهور وأنصافها وأواخرها أسهل مما إذا لم يكن كذلك، وأخبر جل جلاله أنه دبر الأهلة هذا التدبير العجيب لمنافع عباده في قوام دنياهم مع ما يستدلون بهذه الأحوال المختلفة على وحدانية الله سبحانه وتعالى وكمال قدرته، كما قال تعالى: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) * (آل عمران: 190) وقال تعالى: * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) * (الفرقان: 61) وأيضا لو لم يقع في جرم القمر هذا الاختلاف لتأكدت شبه الفلاسفة في قولهم: أن الأجرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها، فهو سبحانه وتعالى بحكمته القاهرة أبقى الشمس على حالة واحدة، وأظهر الإختلاف في أحوال القمر ليظهر للعاقل أن بقاء الشمس على أحوالها ليس إلا بإبقاء الله وتغير القمر في أشكاله ليس إلا بتغيير الله فيصير الكل بهذا الطريق شاهدا على افتقارها إلى مدبر حكيم قادر قاهر، كما قال: * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) *. إذا عرفت هذه الجملة فنقول: أنه لما ظهر أن الإختلاف في أحوال القمر معونة عظيمة في تعيين الأوقات من الجهات التي ذكرناها نبه تعالى بقوله: * (قل هي مواقيت للناس والحج) * على جميع هذه المنافع، لأن تعديد جميع هذه الأمور يقضي إلى الإطناب والاقتصار على البعض دون البعض ترجيح من غير مرجح فلم يبق إلا الاقتصار على كونه ميقاتا فكان هذا الاقتصار دليلا على الفصاحة العظيمة.
أما قوله تعالى: * (والحج) * ففيه إضمار تقديره وللحج كقوله تعالى: * (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) * أي لأوردكم، واعلم أنا بينا أن الأهلة مواقيت لكثير من العبادات فإفراد الحج بالذكر لا بد فيه من فائدة ولا يمكن أن يقال تلك الفائدة هي أن مواقيت الحج لا نعرف إلا بالأهلة، قال تعالى: * (الحج أشهر معلومات) * (البقرة: 197) وذلك لأن وقت الصوم لا يعرف إلا بالأهلة، قال تعالى: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * (البقرة: 185) وقال عليه السلام: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وأحسن الوجوه فيه ما ذكره القفال رحمه الله: وهو أن إفراد الحج بالذكر إنما كان لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسئ والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها أحدها: قال الحسن والأصم كان الرجل في الجاهلية إذا هم بشئ فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يأتيه من خلفه ويبقى على هذه الحالة حولا كاملا، فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيرا، وعلى هذا
136

تأويل الآية ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها على وجه التطير، لكن البر من يتقي الله ولم يتق غيره ولم يخف شيئا كان يتطير به، بل توكل على الله تعالى واتقاه وحده، ثم قال: * (واتقوا الله لعلكم تفلحون) * أي لتفوزوا بالخير في الدين والدنيا كقوله: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب) * (الطلاق: 2 - 3) * (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا) * (الطلاق: 4) وتمام التحقيق في الآية أن من رجع خائبا يقال: ما أفلح وما أنجح، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أن الواجب عليكم أن تتقوا الله حتى تصيروا مفلحين منجحين وقد وردت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن التطير، وقال: " لا عدوى ولا طيرة " وقال من " رده عن سفره تطير فقد أشرك " أو كما قال وأنه كان يكره الطيرة ويحب الفأل الحسن وقد عاب الله تعالى قوما تطيروا بموسى ومن معه * (قالوا أطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله) * (النمل: 47).
الوجه الثاني: في سبب نزول هذه الآية، روي أنه في أول الإسلام كان إذا أحرم الرجل منهم فإن كان من أهل المدن نقب في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما يصعد منه سطح داره ثم ينحدر، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء، فقيل لهم: ليس البر بتحرجكم عن دخول الباب، ولكن البر من اتقى.
الوجه الثالث: أن أهل الجاهلية إذا أحرم أحدهم نقب خلف بيته أو خيمته نقبا منه يدخل ويخرج إلا الحمس، وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية، وهؤلاء سموا حمسا لتشددهم في دينهم، الحماسة الشدة، وهؤلاء متى أحرموا لم يدخلوا بيوتهم البتة ولا يستظلون الوبر ولا يأكلون
السمن والأقط، ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأم محرما ورجل آخر كان محرما، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حال كونه محرما من باب بستان قد خرب فأبصره ذلك الرجل الذي كان محرما فاتبعه، فقال عليه السلام: تنح عني، قال: ولم يا رسول الله؟ قال: دخلت الباب وأنت محرم فوقف ذلك الرجل فقال: إني رضيت بسنتك وهديك وقد رأيتك دخلت فدخلت فأنزل الله تعالى هذه الآية وأعلمهم أن تشديدهم في أمر الإحرام ليس ببر ولكن البر من اتقى مخالفة الله وأمرهم بترك سنة الجاهلية فقال: * (وأتوا البيوت من أبوابها) * فهذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية.
المسألة الثانية: ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه الأول: وهو قول أكثر المفسرين حمل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول، إلا أن على هذا التقدير صعب الكلام في نظم الآية، فإن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكمة في تغيير نور القمر، فذكر
137

الله تعالى الحكمة في ذلك، وهي قوله: * (قل هي مواقيت للناس والحج) * فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر، وبين هذه القصة، ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن هذا السؤال من وجوه أحدها: أن الله تعالى لما ذكر أن الحكمة في اختلاف أحوال الأهلة جعلها مواقيت للناس والحج، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج لا جرم تكلم الله تعالى فيه وثانيها: أنه تعالى إنما وصل قوله: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) * بقوله: * (يسألونك عن الأهلة) * لأنه إنما اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معا في وقت واحد ووصل أحد الأمرين بالآخر وثالثها: كأنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة فقيل لهم: اتركوا السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم لكم فإنكم تظنون أن إتيان البيوت من ظهورها بر وليس الأمر كذلك.
القول الثاني: في تفسير الآية أن قوله تعالى: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) * مثل ضربه الله تعالى لهم، وليس المراد ظاهره، وتفسيره أن الطريق المستقيم المعلوم هو أن يستدل بالمعلوم على المظنون، فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب وضد الحق وإذا عرفت هذا فنقول: إنه قد ثبت بالدلائل أن للعالم صانعا مختارا حكيما، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البرئ عن العبث والسفه، ومتى عرفنا ذلك، وعرفنا أن اختلاف أحوال القمر في النور من فعله علمنا أن فيه حكمة ومصلحة، وذلك لأن علمنا بهذا الحكيم الذي لا يفعل إلا الحكمة يفيدنا القطع بأن فيه حكمة، لأنه استدلال بالمعلوم على المجهول، فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بالحكيم، فهذا الاستدلال باطل، لأنه استدلال بالمجهول على القدح في المعلوم إذا عرفت هذا فالمراد من قوله تعالى: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) * يعني أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق، فقد أتيتم الشئ لا من البر ولا من كمال العقل إنما البر بأن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم المتيقن وهو حكمة خالقها على هذا المجهول فتقطعوا بأن فيه حكمة بالغة، وإن كنتم لا تعلمونها، فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم، وهذا طريق مشهور في الكناية فإن من أرشد غيره إلى الوجه الصواب يقول له: ينبغي أن تأتي الأمر من بابه وفي ضده يقال: إنه ذهب إلى الشئ من غير بابه قال تعالى: * (فنبذوه وراء ظهورهم) * (آل عمران: 187) وقال: * (واتخذتموه وراءكم) * (هود: 92) فلما كان هذا طريقا مشهورا معتادا في الكنايات، ذكره الله تعالى ههنا، وهذا
138

تأويل المتكلمين ولا يصح تفسير هذه الآية فإن تفسيرها بالوجه الأول يطرق إلى الآية سوء الترتيب وكلام الله منزه عنه.
القول الثالث: في تفسير الآية ما ذكره أبو مسلم، أن المراد من هذه الآية ما كانوا يعلمونه من النسئ، فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله له فيحرمون الحلال ويحلون الحرام فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (ولكن البر من اتقى) * تقديره: ولكن البر بر من اتقى فهو كقوله: * (ولكن البر من آمن بالله) * (البقرة: 177) وقد تقدم تقريره.
المسألة الرابعة: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم، وقالون عن نافع البيوت: بكسر الباء لأنهم استثقلوا الخروج من ضمة باء إلى ياء، والباقون بالضم على الأصل وللقراء فيها وفي نظائرها نحو بيوت، وعيون، وجيوب: مذاهب واختلافات يطول تفصيلها.
أما قوله: * (واتقوا الله) * فقد بينا دخول كل واجب واجتناب كل محرم تحته * (لعلكم تفلحون) * لكي تفلحوا، والفلاح هو الظفر بالبغية، قالت المعتزلة: وهذا يدل على إرادته تعالى الفلاح من جميعهم، لأنه لا تخصيص في الآية والله أعلم. الحكم العاشر ما يتعلق بالقتال
قوله تعالى
* (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى أمر بالإستقامة في الآية المتقدمة بالتقوى في طريق معرفة الله تعالى فقال: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها) * (البقرة: 189) وأمر بالتقوى في طريق طاعة الله، وهو عبارة عن ترك المحظورات وفعل الواجبان فالإستقامة علم، والتقوى عمل، وليس التكليف إلا في هذين، ثم لما أمر في هذه الآية بأشد أقسام التقوى وأشقها على النفس، وهو قتل أعداء الله فقال: * (وقاتلوا في سبيل الله) *.
المسألة الثانية: في سبب النزول قولان الأول: قال الربيع وابن زيد: هذه الآية أول آية
139

نزلت في القتال، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتل، ويكف عن قتال من تركه، وبقي على هذه الحالة إلى أن نزل قوله تعالى: * (اقتلوا المشركين) * (التوبة: 5).
والقول الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام خرج بأصحابه لإرادة الحج ونزل الحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء فصدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهرا لا يقدر على ذلك ثم صالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في العام القابل، ويتركون له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدي ويفعل ما شاء، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وصالحهم عليه، ثم عاد إلى المدينة وتجهز في السنة القابلة، ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم، وكانوا كارهين لمقاتلتهم في الشهر الحرام وفي الحرم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، وبين لهم كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها، فقال: * (وقاتلوا في سبيل الله) *.
المسألة الثالثة: * (وقاتلوا في سبيل الله) * أي في طاعته وطلب رضوانه، روى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يقاتل في سبيل الله، فقال: هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ولا يقاتل رياء ولا سمعة.
المسألة الرابعة: اختلفوا في المراد بقوله: * (الذين يقاتلونكم) * على وجوه أحدها: وهو قول ابن عباس، المراد منه: قاتلوا الذين يقاتلونكم إما على وجه الدفع عن الحج، أو على وجه المقاتلة ابتداء، وهذا الوجه موافق لما رويناه عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية وثانيها: قاتلوا كل من له قدرة وأهلية على القتال وثالثها: قاتلوا كل من له قدرة على القتال وأهلية كذلك سوى من جنح للسلم، قال تعالى: * (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) * (الأنفال: 61) واعلم أن القول الأول أقرب إلى الظاهر لأن ظاهر قوله تعالى: * (الذين يقاتلونكم) * يقتضي كونهم فاعلين للقتال، فأما المستعد للقتال والمتأهل له قبل إقدامه عليه، فإنه لا يوصف بكونه مقاتلا إلا على سبيل المجاز.
المسألة الخامسة: من الناس من قال: هذه الآية منسوخة، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن الله تعالى أوجب قتال المقاتلين، ونهى عن قتال غير المقاتلين، بدليل أنه قال: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) * ثم بعده: ولا تعتدوا هذا القدر، ولا تقاتلوا من لا يقاتلكم فثبت أن هذه الآية مانعة من قتال غير المقاتلين، ثم قال تعالى بعد ذلك: * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * (البقرة: 191) فاقتضي هذا حصول الأول في قتال من لم يقاتل، فدل على أن هذه الآية منسوخة، ولقائل أن يقول: نسلم أن هذه الآية دالة على الأمر بقتال من لم يقاتلنا، لكن هذا الحكم ما صار منسوخا.
140

أما قوله: إنها دالة على المنع من قتال من لم يقاتلنا، فهذا غير مسلم، وأما قوله تعالى: * (ولا تعتدوا) * فهذا يحتمل وجوها أخر سوى ما ذكرتم، منها أن يكون المعنى: ولا تبدؤا في الحرم بقتال، ومنها أن يكون المراد: ولا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من الذين بينكم وبينهم عهد، أو بالحيلة أو بالمفاجأة من غير تقديم دعوة، أو بقتل النساء والصبيان والشيخ الفاني، وعلى جميع هذه التقديرات لا تكون الآية منسوخة.
فإن قيل: هب أنه لا نسخ في الآية، ولكن ما السبب في أن الله تعالى أمر أولا بقتال من يقاتل، ثم في آخر الأمر أذن في قتالهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا. قلنا: لأن في أول الأمر كان المسلمون قليلين، فكان الصلاح استعمال الرفق واللين والمجاملة، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع، وأقام من أقام منهم على الشرك، بعد ظهور المعجزات وتكررها علهم حالا بعد حال، حصل اليأس من إسلامهم، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق.
المسألة السادسة: المعتزلة احتجوا بقوله تعالى: * (إن الله لا يحب المعتدين) * قالوا: لو كان الإعتداء بإرادة الله تعالى وبتخليقه لما صح هذا الكلام، وجوابه قد تقدم والله أعلم.
قوله تعالى
* (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزآء الكافرين * فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الثقف وجوده على وجه الأخذ والغلبة ومنه رجل ثقيف سريع الأخذ لأقرانه، قال: فأما تثقفوني فاقتلوني * فمن أثقف فليس إلى خلود
141

ثم نقول قوله تعالى: * (اقتلوهم) * الخطاب فيه واقع على النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر معه وإن كان الغرض به لازما لكل مؤمن، والضمير في قوله: * (اقتلوهم) * عائد إلى الذين أمر بقتلهم في الآية الأولى وهم الكفار من أهل مكة، فأمر الله تعالى بقتلهم حيث كانوا في الحل والحرم، وفي الشهر الحرام، وتحقيق القول أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام.
المسألة الثانية: نقل عن مقاتل أنه قال: إن الآية المتقدمة على هذه الآية، وهي قوله: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) * (البقرة: 190) منسوخة بقوله تعالى: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * ثم تلك الآية منسوخة بقوله تعالى: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) * (البقرة: 193) وهذا الكلام ضعيف.
أما قوله: إن قوله تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) * منسوخ بهذه الآية، فقد تقدم إبطاله، وأما قوله: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * فهذا من باب التخصيص لا من باب النسخ، وأما قوله: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * منسوخ بقوله: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) * فهو خطأ أيضا لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم ما نسخ بل هو باق فثبت أن قوله ضعيف ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متوالية تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى.
أما قوله تعالى: * (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) * ففيه بحثان:
البحث الأول: أن الإخراج يحتمل وجهين أحدهما: أنهم كلفوهم الخروج قهرا والثاني: أنهم بالغوا في تخويفهم وتشديد الأمر عليهم، حتى صاروا مضطرين إلى الخروج.
البحث الثاني: أن صيغة * (حيث) * تحتمل وجهين أحدهما: أخرجوهم من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة والثاني: أخرجوهم من منازلكم، إذا عرفت هذا فنقول: أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يخرجوا أولئك الكفار من مكة إن أقاموا على شركهم إن تمكنوا منه، لكنه كان في المعلوم أنهم يتمكنون منه فيما بعد، ولهذا السبب أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مشرك من الحرم. ثم أجلاهم أيضا من المدينة، وقال عليه الصلاة والسلام: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ".
أما قوله تعالى: * (والفتنة أشد من القتل) * ففيه وجوه أحدها: وهو منقول عن ابن عباس: أن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى، وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى
142

الظلم والهرج، وفيه الفتنة، وإنما جعل الكفر أعظم من القتل، لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم، والقتل ليس كذلك، والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة، والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل، وروي في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة كان قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام، فالمؤمنون عابوه على ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكان المعنى ليس لكم أن تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام، فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك وثانيها: أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش، ثم صار إسما لكل ما كان سببا للامتحان تشبيها بهذا الأصل، والمعنى: أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين، وعلى تشديد الأمر عليهم بحيث صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والوطن هربا من إضلالهم في الدين، وتخليصا للنفس مما يخافون ويحذرون، فتنة شديدة بل هي أشد من القتل الذي يقتضي التخليص من غموم الدنيا وآفاتها، وقال بعض الحكماء: ما أشد من هذا القتل الذي أوجبه عليكم جزاء غير تلك الفتنة.
الوجه الثالث: أن يكون المراد من الفتة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم، فكأنه قيل: اقتلوهم من حيث ثقفتموهم، واعلم أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه كقوله: * (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) * (التوبة: 52) وإطلاق اسم الفتنة على العذاب جائز، وذلك من باب إطلاق اسم السبب على المسبب، قال تعالى: * (يوم هم على النار يفتنون) * (الذاريات: 13) ثم قال عقيبة: * (ذوقوا فتنتكم) * (الذاريات: 14) أي عذابكم، وقال: * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) * (البروج: 10) أي عذبوهم، وقال: * (فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) * (العنكبوت: 10) أي عذابهم كعذابه. الوجه الرابع: أن يكون المراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام، أشد من قتلكم إياهم في الحرم، لأنهم يسعون في المنع من العبودية والطاعة التي ما خلقت الجن والإنس إلا لها.
الوجه الخامس: أن ارتداد المؤمن أشد عليه من أن يقتل محقا والمعنى: وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم وأسهل عليكم من أن ترتدوا عن دينكم أو تتكاسلوا في طاعة ربكم.
أما قوله: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا بيان لبقاء هذا الشرط في قتالهم في هذه البقعة خاصة، وقد كان من قبل شرطا في كل القتال وفي الأشهر الحرم.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي: * (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم) * كله بغير ألف،
143

والباقون جميع ذلك بالألف، وهو في المصحف بغير ألف، وإنما كتبت كذلك للإيجاز، كما كتب: الرحمن بغير ألف، وكذلك: صالح، وما أشبه ذلك من حروف المد واللين، قال القاضي رحمه الله: القراءتان المشهورتان إذا لم يتناف العمل وجب العمل بهما، كما يعمل بالآيتين إذا لم يتناف العمل بهما، وما يقتضيه هاتان القراءتان المشهورتان لا تنافي فيه، فيجب العمل بهما ما لم يقع النسخ فيه، يروى أن الأعمش قال لحمزة: أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟ فقال حمزة: إن العرب إذا قتل رجل منهم قالوا قتلنا، وإذا ضرب رجل منهم قالوا ضربنا.
المسألة الثالثة: الحنفية تمسكوا بهذه الآية في مسألة الملتجئ إلى الحرم، وقالوا: لما لم يجز القتل عند المسجد الحرام بسبب جناية الكفر فلأن لا يجوز القتل في المسجد الحرام بسبب الذنب الذي هو دون الكفر كان أولى، وتمام الكلام فيه في كتب الخلاف.
أما قوله تعالى: * (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) * فاعلم أنه تعالى أوجب عليهم القتال على ما تقدم ذكره، وكان يجوز أن يقدر أن ذلك القتال لا يزال وإن انتهوا وتابوا كما ثبت في كثير من الحدود أن التوبة لا تزيله، فقال تعالى بعدما أوجب القتل عليهم: * (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) * بين بهذا أنهم متى انتهوا عن ذلك سقط وجوب القتل عنهم، ونظيره قوله تعالى: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * (الأنفال: 38) وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: فإن انتهوا عن القتال وقال الحسن: فإن انتهوا عن الشرك.
حجة القول الأول: أن المقصود من الإذن في القتال منع الكفار عن المقاتلة فكان قوله: * (فإن انتهوا) * محمولا على ترك المقاتلة.
حجة القول الثاني: أن الكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال، بل بترك الكفر.
المسألة الثانية: الانتهاء عن الكفر لا يحصل في الحقيقة إلا بأمرين أحدهما: التوبة والآخر التمسك بالإسلام، وإن كان قد يقال في الظاهر لمن أظهر الشهادتين: إنه
انتهى عن الكفر إلا أن ذلك إنما يؤثر في حقن الدم فقط. أما الذي يؤثر في استحقاق الثواب والغفران والحرمة فليس إلا ما ذكرنا.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن التوبة من كل ذنب مقبولة، وقول من قال: التوبة عن القتل العمد غير مقبولة خطأ، لأن الشرك أشد من القتل، فإذا قبل الله توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى، وأيضا فالكافر قد يكون بحيث جمع مع كونه كافرا كونه قاتلا. فلما دلت الآية على
144

قبول توبة كل كافر دل على أن توبته إذا كان قاتلا مقبولا والله أعلم.
* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال القوم: هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرم حتى يقاتلوكم فيه) * (البقرة: 191) والصحيح أنه ليس كذلك لأن البداية بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته أقصى ما في الباب أن هذه الصفة عامة ولكن مذهب الشافعي رضي الله عنه وهو الصحيح أن العام سواء كان مقدما على المخصص أو متأخرا عنه فإنه يصير مخصوصا به والله أعلم.
المسألة الثانية: في المراد بالفتنة ههنا وجوه أحدهما: أنها الشرك والفكر، قالوا: كانت فتنتهم أنهم كانوا يضربون ويؤذون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حتى ذهبوا إلى الحبشة ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفارا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى: قاتلوهم حتى تظهروا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم فلا تقعوا في الشرك وثانيها: قال أبو مسلم: معنى الفتنة ههنا الجرم قال: لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدؤا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار. فإن قيل: كيف يقال: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) * مع علمنا بأن قتالهم لا يزيل الكفر وليس يلزم من هذا أن خبر الله لا يكون حقا.
قلنا الجواب من وجهين الأول: أن هذا محمول على الأغلب لأن الأغلب عند قتالهم زوال الكفر والشرك، لأن من قتل فقد زال كفره، ومن لا يقتل يخاف منه الثبات على الكفر فإذا كان هذا هو الأغلب جاز أن يقال ذلك.
الجواب الثاني: أن المراد قاتلوهم قصدا منكم إلى زوال الكفر، لأن الواجب على المقاتل للكفار أن يكون مراده هذا، ولذلك متى ظن أن من يقاتله يقلع عن الكفر بغير القتال وجب
145

عليه العدول عنه.
أما قوله تعالى: * (ويكون الدين لله) * فهذا يدل على حمل الفتنة على الشرك، لأنه ليس بين الشرك وبين أن يكون الدين كله لله واسطة والمراد منه أن يكون تعالى هو المعبود المطاع دون سائر ما يعبد ويطاع غيره، فصار التقدير كأنه تعالى قال: وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويثبت الإسلام، وحتى يزول ما يؤدي إلى العقاب ويحصل ما يؤدي إلى الثواب، ونظيره قوله تعالى: * (تقاتلونهم أو يسلمون) * (الفتح: 16) وفي ذلك بيان أنه تعالى إنما أمر بالقتال لهذا المقصود.
أما قوله تعالى: * (فإن انتهوا) * فالمراد: فإن انتهوا عن الأمر الذي لأجله وجب قتالهم، وهو إما كفرهم أو قتالهم، فعند ذلك لا يجوز قتالهم، وهو كقوله تعالى: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * (الأنفال: 38).
أما قوله تعالى: * (فلا عدوان إلا على الظالمين) * ففيه وجهان الأول: فإن انتهوا فلا عدوان، أي فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون على الكفر فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم على ما قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) *.
فإن قيل: لم سمي ذلك القتل عدوانا مع أنه في نفسه حق وصواب؟.
قلنا: لأن ذلك القتل جزاء العدوان فصح إطلاق اسم العدوان عليه كقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) وقوله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى علكيم، ومكروا ومكر الله فيسخرون منهم سخر الله منهم) * (لقمان: 13) والثاني: إن تعرضتم لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كنتم أنتم ظالمين فنسلط عليكم من يعتدي عليكم.
* (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) *.
اعلم أن الله تعالى لما أباح القتال وكان ذلك منكرا فيما بينهم، ذكر في هذه الآية ما يزيل ذلك فقال: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام) * وفيه وجوه أحدها: روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية للعمرة وكان ذلك في ذي القعدة
146

سنة ست من الهجرة فصده أهل مكة عن ذلك ثم صالحوه عن أن ينصرف ويعود في العالم القابل حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام القابل وهو في ذي القعدة سنة سبع ودخل مكة واعتمر، فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني إنك دخلت الحرم في الشهر الحرام، والقوم كانوا صدوك في السنة الماضية في هذا الشهر فهذا الشهر بذاك الشهر وثانيها: ما روي عن الحسن أن الكفار سمعوا أن الله تعالى نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أن يقاتلهم في الأشهر الحرم، فأرادوا مقاتلته وظنوا أنه لا يقاتلهم، وذلك قوله تعالى: * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام) * (البقرة: 217) فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان الحكم في هذه الواقعة، فقال: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام) * أي من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام فاستحلوه فيه وثالثها: ما ذكره قوم من المتكلمين وهو أن الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله، فكيف يمنعنا عن مقاتلتكم، فالشهر الحرام من جانبنا، مقابل
بالشهر الحرام من جانبكم، والحاصل في الوجوه الثلاثة أن حرمة الشهر الحرام لما لم تمنعهم عن الكفر والأفعال القبيحة، فكيف جعلوه سببا في أن يمنع للقتال من شرهم وفسادهم.
أما قوله تعالى: * (والحرمات قصاص) * فالحرمات جمع حرمة والحرمة ما منع من انتهاكه والقصاص المساواة وإذا عرفت هذا ففي هذه الآية تعود تلك الوجوه.
أما على الوجه الأول: فهو أن المراد بالحرمات: الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام فقوله: * (الحرمات قصاص) * معناه أنهم لما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وقفتم حتى قضيتموه على زعمكم في سنة سبع.
وأما على الوجه الثاني: فهو أن المراد: إن أقدموا على مقاتلتكم فقاتلوهم أنتم أيضا، قال الزجاج: وعلم الله تعالى بهذه الآية أنه ليس للمسلمين أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء بل على سبيل القصاص، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية، وهو قوله: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) * (البقرة: 191) وبما بعدها وهو قوله: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) *.
أما على القول الثالث: فقوله: * (والحرمات قصاص) * يعني حرمة كل واحد من الشهرين كحرمة الآخر فهما مثلان، والقصاص هو المثل فلما لم يمنعكم حرمة الشهر من الكفر والفتنة والقتال فكيف يمنعنا عن القتال.
أما قوله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * فالمراد منه: الأمر
147

بما يقابل الإعتداء من الجزاء والتقدير: فمن اعتدى عليكم فقابلوه، والسبب في تسميته اعتداء قد تقدم ثم قال: * (واتقوا الله) * وقد تقدم معنى التقوى، ثم قال: * (واعلموا أن الله مع المتقين) * أي بالمعونة والنصرة والحفظ والعلم، وهذا من أقوى الدلائل على أنه ليس بجسم ولا في مكان إذا لو كان جسما لكان في مكان معين، فكان إما أن يكون مع أحد منهم ولم يكن مع الآخر أو يكون مع كل واحد من المؤمنين جزء من أجزائه وبعض من أبعاضه تعالى الله عنه علوا كبيرا.
قوله تعالى
* (وأنفقوا فى سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) *.
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الأول: أنه تعالى لما أمر بالقتال والاشتغال بالقتال لا يتيسر إلا بالآلات وأدوات يحتاج فيها إلى المال، وربما كان ذو المال عاجزا عن القتال وكان الشجاع القادر على القتال فقيرا عديم المال، فلهذا أمر الله تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفقراء الذين يقدرون على القتال والثاني: يروي أنه لما نزل قوله تعالى: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص) * (البقرة: 94) قال رجل من الحاضرين: والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة تحمل في سبيل الله فيهلكوا، فنزلت هذه الآية على وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح، فلذلك لا يقال في المضيع: إنه منفق فإذا قيد الإنفاق بذكر سبيل الله، فالمراد به في طريق الدين، لا السبيل هو الطريق، وسبيل الله هو دينه. فكل ما أمر الله به في دينه من الإنفاق فهو داخل في الآية سواء كان إنفاقا في حج أو عمرة أو كان جهادا بالنفس، أو تجهيزا للغير، أو كان إنفاقا في صلة الرحم، أو في الصدقات أو علي العيال، أو في الزكوات والكفارات، أو عمارة السبيل وغير ذلك، إلا أن الأقرب في هذه الآية وقد تقدم ذكر الجهاد أنه يراد به الإنفاق في الجهاد، بل قال: * (وأنفقوا في سبيل الله) * لوجهين الأول: أن هذا كالتنبيه على العلة في وجوب هذا الإنفاق، وذلك لأن المال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز ونشط فيسهل عليه إنفاق المال
148

الثاني: أن هذه الآية إنما نزلت وقت ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة لقضاء العمرة، وكانت تلك العمرة لا بد من أن تفضي إلى القتال إن منعهم المشركون، فكانت عمرة وجهادا، واجتمع فيه المعنيان، فلما كان الأمر كذلك، لا جرم قال تعالى: * (وأنفقوا في سبيل الله) * ولم يقل: وأنفقوا في الجهاد والعمرة.
أما قوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو عبيدة والزجاج * (التهلكة) * الهلاك يقال: هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة: قال الخارزنجي: لا أعلم في كلام العرب مصدرا على تفعلة بضم العين إلا هذا، قال أبو علي: قد حكى سيبويه: التنصرة والتسترة، وقد جاء هذا المثال اسما غير مصدر، قال: ولا نعلمه جاء صفة قال صاحب " الكشاف ": ويجوز أن يقال أصله التهلكة، كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر هكذا فأبدلت الضمة بالكسرة، كما جاء الجوار في الجوار.
وأقول: إني لأتعجب كثيرا من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا شعرا مجهولا يشهد لما أرادوه فرحوا به، واتخذوه حجة قوية، فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة، أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها.
المسألة الثانية: اتفقوا على أن الباء في قوله: * (بأيديكم) * تقتضي إما زيادة أو نقصانا فقال قوم: الباء زائدة والتقدير: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة. وهو كقوله: جذبت الثوب بالثوب، وأخذت القلم بالقلم فهما لغتان مستعملتان مشهورتان، أو المراد بالأيدي الأنفس كقوله: * (بما قدمت يداك) * (الحج: 10) أو * (بما كسبت أيديكم) * (الشورى: 30) فالتقدير: ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وقال آخرون: بل ههنا حذف. والتقدير: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة.
المسألة الثالثة: قوله: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * اختلف المفسرون فيه، فمنهم من قال: إنه راجع إلى نفس النفقة، ومنهم من قال: إنه راجع إلى غيرها، أما الأولون فذكروا فيه وجوه
الأول: أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم، فيستولي العدو عليهم ويهلكهم، وكأنه قيل: إن كنت من رجال الدين فأنفق مالك في سبيل الله وفي طلب مرضاته، وإن كنت من رجال الدنيا فأنفق مالك في دفع الهلاك والضرر عن نفسك
الوجه الثاني: أنه تعالى لما أمره بالإنفاق نهاه عن أن ينفق كل ماله، فإن إنفاق كل المال يفضي إلى التهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول والمشروب والملبوس فكان المراد منه ما ذكره
149

في قوله: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) * (الشورى: 67) وفي قوله: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) * (الإسراء: 29) وأما الذين قالوا: المراد منه غير النفقة فذكروا فيه وجوها أحدها: أن يخلوا بالجهاد فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب النار فحثهم بذلك على التمسك بالجهاد وهو كقوله: * (ليهلك من هلك عن بينة) * (الأنفال: 42) وثانيها: المراد من قوله: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع، ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل، وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فأما إذا كان آيسا من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول فليس له أن يقدم عليه، وهذا الوجه منقول عن البراء بن عازب، ونقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: هو الرجل يستقل بين الصفين، ومن الناس من طعن في هذا التأويل وقال: هذا القتل غير محرم واحتج عليه بوجوه الأول: روي أن رجلا من المهاجرين حمل على صف العدو فصاح به الناس فألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرناه وشهدنا معه المشاهد فلما قوي الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا وتصالحنا، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد والثاني: روى الشافعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة، فقال له رجل من الأنصار: أرأيت يا رسول الله إن قتلت صابرا محتسبا؟ قال عليه الصلاة والسلام: لك الجنة فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله، وأن رجلا من الأنصار ألقى درعا كانت عليه حين ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الجنة ثم انغمس في العدو فقتلوه والثالث: روي أن رجلا من الأنصار تخلف عن بني معاوية فرأى الطير عكوفا على من قتل من أصحابه، فقال لبعض من معه سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي، ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال فيه قولا حسنا الرابع: روي أن قوما حاصروا حصنا، فقاتل رجل حتى قتل فقيل ألقى بيده إلى التهلكة فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك فقال: كذبوا أليس يقول الله تعالى * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) * (البقرة: 207) ولمن نصر ذلك التأويل أن يجيب عن هذه الوجوه فيقول: إنا إنما حرمنا إلقاء النفس في صف العدو إذا لم يتوقع إيقاع نكاية منهم، فإما إذا توقع فنحن نجوز ذلك، فلم قلتم أنه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع الوجه الثالث: في تأويل الآية أن يكون هذا متصلا بقوله: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص) * (البقرة: 194) أي فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه فإن الحرمات قصاص، فجازوا
150

اعتداءهم عليكم ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال فإنكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة
الوجه الرابع: في التأويل أن يكون المعنى: أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إنا نخاف الفقر إن أنفقنا فنهلك ولا يبقى معنا شئ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق، والمراد من هذا الجعل والإلقاء الحكم بذلك كما يقال جعل فلان فلانا هالكا وألقاه في الهلاك إذا حكم عليه بذلك
الوجه الخامس: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة هو الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل فذاك هو إلقاء النفس إلى التهلكة فالحاصل أن معناه النهي عن القنوط عن رحمة الله لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية والإصرار على الذنب الوجه السادس: يحتمل أن يكون المراد وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط، وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلا يحبط ثوابه إما بتذكير المنة أو بذكر وجوه الرياء والسمعة، ونظيره قوله تعالى: * (ولا تبطلوا أعمالكم) * (محمد: 33).
أما قوله تعالى: * (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن المحسن مشتق من ماذا وفيه وجوه الأول: أنه مشتق من فعل الحسن وأنه كثر استعماله فيمن ينفع غيره بنفع حسن من حيث أن الإحسان حسن في نفسه، وعلى هذا التقدير فالضرب والقتل إذا حسنا كان فاعلهما محسنا الثاني: أنه مشتق من الإحسان، ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسنا إلا إذا كان فعله حسنا وإحسانا معا، فالإشتقاق إنما يحصل من مجموع الأمرين.
المسألة الثانية: قوله: * (وأحسنوا) * فيه وجوه أحدها: قال الأصم: أحسنوا في فرائض الله وثانيها: وأحسنوا في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته ونفقته، والمقصود منه أن يكون ذلك الإنفاق وسطا فلا تسرفوا ولا تقتروا، وهذا هو الأقرب لاتصاله بما قبله ويمكن حمل الآية على جميع الوجوه.
وأما قوله: * (إن الله يحب المحسنين) * فهو ظاهر وقد تقدم تفسيره مرارا.
قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله فان أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم
151

حتى يبلغ الهدي محله
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: * (الحج) * في اللغة عبارة عن القصد وإنما يقال: حج فلان الشئ إذا قصده مرة بعد أخرى، وأدام الاختلاف إليه * (والحجة) * بكسر الحاء السنة، وإنما قيل لها حجة لأن الناس يحجون في كل سنة، وأما في الشرع فهو اسم لأفعال مخصوصة منها أركان ومنها أبعاض ومنها هيئات، فالأركان ما لا يحصل
التحلل حتى يأتي به والأبعاض هي الواجبات التي إذا ترك شئ يجبر بالدم، والهيئات ما لا يجب الدم على تركها، والأركان عندنا خمسة: الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وفي حلق الرأس أو تقصيره قولان: أصحهما أنه نسك لا يحصل التحلل إلا به، وأما الأبعاض فهي الإحرام من الميقات والمقام بعرفة إلى المغرب في قول والبيتوتة بمزدلفة ليلة النحر في قول ورمي جمرة العقبة والبيتوتة بمنى ليالي التشريق في قول ورمي أيامها.
وأما سائر أعمال الحج فهي سنة.
وأما أركان العمرة فهي أربعة: الإحرام، والطواف، والسعي، وفي الحلق قولان، ثم المعتمر بعدما فرغ من السعي فإن كان معه هدي ذبحه ثم حلق أو قصر، ولا يتوقف التحلل على ذبح الهدي.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (وأتموا) * أمر بالإتمام، وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط بالدخول فيه، ذهب أصحابنا إلى أنه مطلق، والمعنى: افعلوا الحج والعمرة على نعت الكمال والتمام والقول الثاني: وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه: إن هذا الأمر مشروط، والمعنى أن من شرع فيه فليتمه قالوا: ومن الجائز أن لا يكون الدخول في الشئ واجبا إلا أن بعد الدخول فيه يكون إتمامه واجبا، وفائدة هذا الخلاف أن العمرة واجبة عند أصحابنا، وغير واجبة عن أبي حنيفة رحمه الله حجة أصحابنا من وجوه.
الحجة الأولى: قوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * وجه الاستدلال به أن الإتمام قد يراد به فعل الشئ كاملا تاما، ويحتمل أن يراد به إذا شرعتم في الفعل فأتموه، وإذا ثبت الإحتمال وجب أن يكون المراد من هذا اللفظ هو ذاك، أما بيان الإحتمال فيدل عليه قوله تعالى: * (وإذا
152

ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) * (البقرة: 124) أي فعلهن على سبيل التمام والكمال، وقوله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * (البقرة: 187) أي فافعلوا الصيام تاما إلى الليل، وحمل اللفظ على هذا أولى من قول من قال: المراد فأشرعوا في الصيام ثم أتموه، لأن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار، وعلى التقدير الذي ذكرناه لا يحتاج إليه فثبت أن قوله: * (وأتموا الحج) * يحتمل أن يكون المراد منه الإتيان به على نعت الكمال والتمام فوجب حمله عليه، أقصى ما في الباب أنه يحتمل أيضا أن يكون المراد منه أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه، إلا أن حمل اللفظ على الوجه الأول أولى، ويدل عليه وجوه الأول: أن حمل الآية على الوجه الثاني يقتضي أن يكون هذا الأمر مشروطا، ويكون التقدير: أتموا الحج والعمرة لله إن شرعتم فيهما، وعلى التأويل الأول الذي نصرناه لا يحتاج إلى إضمار هذا الشرط، فكان ذلك أولى والثاني: أن أهل التفسير ذكروا أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الحج فحملها على إيجاب الحج أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع فيه الثالث: قرأ بعضهم * (وأقيموا الحج والعمرة لله) * وهذا وإن كان قراءة شاذة جارية مجرى خبر الواحد لكنه بالإتفاق صالح لترجيح تأويل على تأويل الرابع: أن الوجه الذي نصرناه يفيد وجوب الحج والعمرة، ويفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما، والتأويل الذي ذكرتم لا يفيد إلا أصل الوجوب، فكان الذي نصرناه أكبر فائدة، فكان حمل كلام الله عليه أولى الخامس: أن الباب باب العبادة فكان الإحتياط فيه أولى، والقول بإيجاب الحج والعمرة معا أقرب إلى الاحتياط، فوجب حمل اللفظ عليه السادس: هب أنا نحمل اللفظ على وجوب الإتمام، لكنا نقول: اللفظ دل على وجوب الاتمام جزما، وظاهر الأمر للوجوب فكان الإتمام واجبا جزما والاتمام مسبوق بالشروع، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب، فيلزم أن يكون الشروع واجبا في الحج وفي العمرة السابع: روي عن ابن عباس أنه قال: والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله، أي إن العمرة لقرينة الحج في الأمر في كتاب الله يعني في هذه الآية فكان كقوله: * (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * (البقرة: 43) فهذا تمام تقرير هذه الحجة.
فإن قيل: قرأ علي وابن مسعود والشعبي * (والعمرة لله) * بالرفع وهذا يدل على أنهم قصدوا إخراج العمرة عن حكم الحج في الوجوب.
قلنا: هذا مدفوع من وجوه الأول: أن هذه قراءة شاذة فلا تعارض القراءة المتواترة، الثاني: أن فيها ضعفا في العربية، لأنها تقتضي عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية الثالث: أن قوله: * (والعمرة لله) * معناه أن العمرة عبادة الله، ومجرد كونها عبادة الله لا ينافي وجوبها، وإلا وقع
153

التعارض بين مدلول القراءتين، وهو غير جائز الرابع: أنه لما كان قوله: * (والعمرة لله) * معناه: والعمرة عبادة الله، وجب أن يكون العمرة مأمورا بها لقوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله) * (البينة: 5) والأمر للوجوب، وحينئذ يحصل المقصود.
الحجة الثانية: في وجوب العمرة أن قوله تعالى: * (يوم الحج الأكبر) * (التوبة: 3) يدل على وجوب حج أصغر على ما عليه حقيقة أفعل، وما ذاك إلا العمرة بالإتفاق، وإذا ثبت أن العمرة حج، وجب أن تكون واجبة لقوله تعالى: * (وأتموا الحج) * ولقوله: * (ولله على الناس حج البيت) * (آل عمران: 97)) *.
الحجة الثالثة: في المسألة أحاديث منها ما أورده ابن الجوزي في المتفق بين الصحيحين أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج وتعتمر، وروى النعمان بن سالم عن عمر بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إن أبي شيخ كفي أدرك الإسلام، ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، فقال عليه الصلاة والسلام: حج عن أبيك واعتمر، فأمر بهما، والأمر للوجوب، ومنها ما روى ابن سيرين عن زيد بن ثابت أنه عليه الصلاة والسلام قال: " الحج والعمرة فرضان لا يضرك بأيهما بدأت " ومنها ما روت عائشة رضي الله عنها بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين، قالت: قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة. الحجة الرابعة: في وجوب العمر، قال الشافعي رضي الله عنه: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب، وحجة من قال: العمرة ليست واجبة وجوه:
الحجة الأولى: قصد الأعرابي الذي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، فقال الأعرابي: هل على غير هذا؟ قال: لا إلا أن تطوع، فقال الأعرابي: لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال عليه الصلاة والسلام: أفلح الأعرابي إن صدق، وقال عليه الصلاة والسلام: " بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت " وقال عليه الصلاة والسلام: " صلوا خمسكم وزكوا أموالكم وحجوا بيتكم تدخلوا جنة ربكم " فهذه أخبار مشهورة كالمتواترة فلا يجوز الزيادة عليها ولا ردها، وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟ فقال: لا وإن تعتمر خير لك، وعن معاوية
154

الضرير عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الحج جهاد والعمرة تطوع ".
والجواب: من وجوه أحدها: أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن وثانيها: لعل العمرة ما كانت واجبة عندما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الأحاديث، ثم نزل بعدها قوله: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * وهذا هو الأقرب، لأن هذه الآية إنما نزلت في السنة السابعة من الهجرة وثالثها: أن قصة الأعرابي مشتملة على ذكر الحج وليس فيها بيان تفصيل الحج، وقد بينا أن العمرة حج لأنها هي الحج الأصغر، فلا تكون هي منافية لوجوب العمرة، وأما حديث محمد بن المنكدر فقالوا: رواية حجاج بن أرطاة وهو ضعيف.
المسألة الثالثة: اعلم أن الحج على ثلاثة أقسام: الإفراد، والقران، والتمتع، فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل، أو يعتمر قبل أشهر الحج، ثم يحج في تلك السنة، والقران أن يحرم بالحج والعمرة معا في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم قبل الطواف أدخل عليها الحج يصير قرانا، والتمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ثم يحج في هذه السنة، وإنما سمي تمتعا لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل عن العمرة قبل أن يحرم بالحج.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلف الناس في الأفضل من هذه الثلاثة فقال الشافعي رضي الله عنه أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران وقال في اختلاف الحديث التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: القران أفضل، ثم الإفراد، ثم التمتع، وهو قول المزني وأبي إسحق والمروزي من أصحابنا، وقال أبو يوسف ومحمد: القران أفضل، ثم التمتع، ثم الإفراد، حجة الشافعي رضي الله عنه في أن الإفراد أفضل من وجوه الأول: التمسك بقوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمر لله) * والاستدلال به من ثلاثة أوجه الأول: أن الآية اقتضت عطف العمرة على الحج، والعطف يستدعي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، والمغايرة لا تحصل إلا عند الإفراد، فأما عند القران فالموجود شئ واحد، وهو حج وعمرة وذلك مانع من صحة العطف الثاني: قوله: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * يقتضي الافراد، بدليل أنه تعالى قال: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) * والقارن يلزمه هديان عند الحصر، وأيضا أنه تعالى أوجب على الخلق عند الأداء فدية واحدة، والقارن يلزمه فديتان عند الحصر الثالث: هذه الآية تدل على وجوب الإتمام، والإتمام لا يحصل إلا عند الإفراد ويدل عليه وجهان الأول: أن
155

السفر مقصود في الحج، بدليل أن من أوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من وطنه، ولولا أن السفر مقصود في الحج لكان يحج عنه من أدنى المواقيت، ويدل عليه أيضا أنهم قالوا لو نذر أن يحج ماشيا وحج راكبا يلزمه دم، فثبت أن السفر مقصود والقران يقتضي تقليل السفر، لأن بسببه يصير السفران سفرا واحدا، فثبت أن الاتمام لا يحصل إلا بالافراد الثاني: أن الحج لا معنى له إلا زيارة بقاع مكرمة، ومشاهد مشرفة، والحاج زائر الله، والله تعالى مزوره، ولا شك أنه كلما كانت الزيارة والخدمة أكثر كان موقعها عند المخدوم أعظم، وعند القران تنقلب الزيارتان زيارة واحدة، بل الحق أن جملة أنواع الطاعات في الحج وفي العمرة تكرر عند الافراد، وتصير واحدة عند القران، فثبت أن الافراد أقرب إلى التمام، فكان الافراد إن لم يكن واجبا عليكم بحكم هذه الآية فلا أقل من كونه أفضل.
الحجة الثانية: في بيان أن الافراد أفضل: أن الافراد يقتضي كونه آتيا بالحج مرة، ثم بالعمرة بعد ذلك، فتكون الأعمال الشاقة في الأفراد أكثر فوجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام: " أفضل الأعمال أحمزها " أي أشقها.
الحجة الثالثة: أنه عليه السلام كان مفردا فوجب أن يكون الإفراد أفضل، أما قولنا: إنه كان مفردا فاعلم أن الصحابة اختلفت رواياتهم في هذا المعنى، فروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج، وروى جابر وابن عمر أنه أفرد، وأما أنس فقد روى عنه أنه قال: كنت واقفا عند جران ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لعابها يسيل على كتفي، فسمعته يقول " لبيك بحج وعمرة معا " ثم الشافعي رضي الله عنه رجح رواية عائشة رضي الله عنها وجابر وابن عمر على رواية أنس من وجوه أحدها: بحال الرواة، أما عائشة فلأنها كانت عالمة، ومع علمها كانت أشد الناس التصاقا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشد الناس وقوفا على أحواله، وأما جابر فإنه كان أقدم صحبة للرسول صلى الله عليه وسلم من أنس، وإن أنسا كان صغيرا في ذلك الوقت قبل العلم، وأما ابن عمر فإنه كان مع فقهه أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره، لأن أخته حفصة كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم والثاني: أن عدم القران متأكد بالاستصحاب والثالث: أن الافراد يقتضي تكثير العبادة، والقران يقتضي تقليلها، فكان إلحاق الإفراد بالنبي عليه الصلاة والسلام أولى، وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا وجب أن يكون الافراد أفضل لأنه عليه الصلاة والسلام كان يختار الأفضل لنفسه، ولأنه قال: " خذوا عني مناسككم " أي تعلموا مني.
156

الحجة الرابعة: أن الافراد يقتضي تكثير العبادة، والقران يقتضي تقليلها، فكان الأول أولى، لأن المقصود من خلق الجن والإنس هو العبادة، وكل ما كان أفضى إلى تكثير العبادة كان أفضل، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه:
الحجة الأولى: التمسك بقوله تعالى: * (وأتموا الحجة والعمر لله) * وهذا اللفظ يحتمل أن يكون المراد إيجاب كل واحد منهما، أو يكون المراد منه إيجاب الجمع
بينهما على سبيل التمام، فلو حملناه على الأول لا يفيد الثاني، ولو حملناه على الثاني أفاد الأول، فكان الثاني أكثر فائدة، فوجب حمل اللفظ عليه، لأن الأولى حمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة.
الحجة الثانية: أن القران جمع بين النسكين فوجب أن يكون أفضل من الإتيان بنسك واحد.
الحجة الثالثة: أن في القران مسارعة إلى التسكين وفي الإفراد ترك مسارعة إلى أحد التسكين فوجب أن يكون القران أفضل لقوله: * (وسارعوا) * (آل عمران: 133).
والجواب عن الأول: أنا بينا أن هذه الآية تدل من ثلاثة أوجه دلالة ما هو أكثر فائدة على الإفراد، وأما ما ذكرتموه فمجرد حسن ظن حيث قلتم: حمل اللفظ على ما هو أكثر فائدة أولى وإذا كان كذلك كان الترجيح لقولنا.
والجواب عن الثاني والثالث: أن كل ما يفعله القارن يفعله المفرد أيضا، إلا أن القران كان حيلة في إسقاط الطاعة فينتهي الأمر فيه أن يكون مرخصا فيه فأما أن يكون أفضل فلا، وبالجملة فالشافعي رضي الله عنه لا يقول إن الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة لكنه يقول: من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها فمجموع هذين الأمرين أفضل من الاتيان بالحجة المقرونة. المسألة الرابعة: في تفسير الإتمام في قوله: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * وفيه وجوه أحدها: روي عن علي وابن مسعود أن إتمامهما أن يحرم من دويرة أهله وثانيها: قال أبو مسلم: المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام، قال: ويدل على صحة هذا التأويل أن هذه الآية إنما نزلت بعد أن منع الكفار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الماضية عن الحج والعمرة فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية أن لا يرجع حتى يتم هذا الفرض، ويحصل من هذا التأويل فائدة فقهية وهي أن تطوع الحج والعمرة كفرضيهما في وجوب الاتمام وثالثها: قال الأصم: إن الله تعالى فرض الحج والعمرة ثم أمر عباده أن يتموا الآداب المعتبرة، وذكر الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب الاحياء ما يتعلق بهذا الباب فقال: الأمور المعتبرة قبل الخروج إلى
157

الاحرام ثمانية الأول: في المال فينبغي أن يبدأ بالتوبة، ورد المظالم، وقضاء الديون، وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع، ويرد ما عنده من الودائع، ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير بل على وجه يمكنه من التوسع في الزاد والرفق بالفقراء، ويتصدق بشئ قبل خروجه، ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها، فإن اكتراها فليظهر للمكاري كل ما يحصل رضاه فيه الثاني: في الرفيق فينبغي أن يلتمس رفيقا صالحا محبا للخير، معينا عليه، إن نسي ذكره، وإن ذكر ساعده، وإن جبن شجعه، وإن عجز قواه وإن ضاق صدره صبره، وأما الاخوان والرفقاء المقيمون فيودعهم، ويلتمس أدعيتهم، فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيرا، والسنة في الوداع أن يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك الثالث: في الخروج من الدار، فإذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة * (قل يا أيها الكافرون) * (الكافرون: 1) وفي الثانية * (الاخلاص) * وبعد الفراغ يتضرع إلى الله بالاخلاص، الرابع: إذا حصل على باب الدار قال: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، وكلما كانت الدعوات أزيد كانت أولى الخامس: في الركوب، فإذا ركب الراحلة قال: بسم الله وبالله والله أكبر، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، سبحان الله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون السادس: في النزول، والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل، ولا ينزل حتى يحمى النهار، وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيرا السابع: إن قصده عدو أو سبع في ليل أو نهار، فليقرأ آية الكرسي، وشهد الله، والاخلاص، والمعوذتين، ويقول: تحصنت بالله العظيم، واستعنت بالحي الذي لا يموت، الثامنة: مهما علا شرفا من الأرض في الطريق، فيستحب أن يكبر ثلاثا التاسع: أن لا يكون هذا السفر مشوبا بشئ من أثر الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها العاشرة: أن يصون الإنسان لسانه عن الرفث والفسوق والجدال، ثم بعد الاتيان بهذه المقدمات، يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة، ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى، فقوله: * (وأتموا الحج والعمرة) * كلمة شاملة جامعة لهذه المعاني، فإذا أتى العبد بالحج على هذا الوجه كان متبعا ملة إبراهيم حيث قال تعالى * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) * (البقرة: 124).
الوجه الرابع: في تفسير قوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * أن المراد: أفردوا كل واحد منهما بسفر وهذا تأويل من قال بالإفراد، وقد بيناه بالدليل، وهذا التأويل يروى عن
158

علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد يروى مرفوعا عن أبي هريرة، وكان عمر يترك القران والتمتع، ويذكر أن ذلك أتم للحج والعمرة وأن يعتمر في غير شهور الحج، فإن الله تعالى يقول: * (الحج أشهر معلومات) * (البقرة: 197) وروى نافع عن ابن عمر أنه قال: فرقوا بين حجكم وعمرتكم.
المسألة الخامسة: قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو عمر وأبو بكر عن عاصم * (الحج) * بفتح الحاء في كل القرآن وهي لغة الحجاز، وقرأ حمزة والكسائي وحفص، عن عاصم بالكسر في آل عمران، قال الكسائي: وهما لغتان بمعنى واحد، كرطل ورطل، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم.
وقوله تعالى: * (فإن أحصرتم) * قال أحمد بن يحيى: أصل الحصر والإحصار: الحبس ومنه يقال للذي لا يبوح بسره: حصر. لأنه حبس نفسه عن البوح والحصر احتباس الغائط والحصير الملك لأنه كالمحبوس بين الحجاب وفي شعر لبيد:
جن لدي باب الحصير قيام
والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض تشبيها باحتباس الشئ مع غيره.
إذا عرفت هذا فنقول: اتفقوا على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه، أما لفظ الإحصار فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال الأول:
وهو اختيار أبي عبيدة وابن الكسيت والزجاج وابن قتيبة وأكثر أهل اللغة أنه مختص بالمرض، قال ابن السكيت: يقال أحصره المرض إذا منعه من السفر وقال ثعلب في فصيح الكلام: أحصر بالمرض وحصر بالعدو.
والقول الثاني: أن لفظ الاحصار يفيد الحبس والمنع، سواء كان بسبب العدو أو بسبب المرض وهو قول الفراء.
والقول الثالث: أنه مختص بالمنع الحاصل من جهة العدو، وهو قول الشافعي رضي الله عنه وهو المروي عن ابن عباس وابن عمر، فإنهما قالا: لا حصر إلا حصر العدو، وأكثر أهل اللغة يردون هذا القول على الشافعي رضي الله عنه، وفائدة هذا البحث تظهر في مسألة فقهية، وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت، وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع؟ قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يثبت. وقال الشافعي: لا يثبت. وحجة أبي حنيفة ظاهرة على مذهب أهل اللغة وذلك لأن أهل اللغة رجلان أحدهما: الذين قالوا: الإحصار مختص بالحبس الحاصل بسبب المرض فقط، وعلى هذا المذهب تكون هذه الآية نصا صريحا في أن إحصار المرض يفيد هذا الحكم والثاني: الذين قالوا الإحصار اسم لمطلق الحبس سواء كان حاصلا بسبب المرض أو
159

بسبب العدو، وعلى هذا القول حجة أبي حنيفة تكون ظاهرة أيضا، لأن الله تعالى علق الحكم على مسمى الإحصار، فوجب أن يكون الحكم ثابتا عند حصول الإحصار سواء حصل بالعدو أو بالمرض وأما على القول الثالث: وهو أن الإحصار اسم للمنع الحاصل بالعدو، فهذا القول باطل باتفاق أهل اللغة وبتقدير ثبوته فنحن نقيس المرض على العدو بجامع دفع الحرج وهذا قياس جلي ظاهر فهذا تقرير قول أبي حنيفة رضي الله عنه وهو ظاهر قوي، وأما تقرير مذهب الشافعي رضي الله عنه، فهو أنا ندعي أن المراد بالإحصار في هذه الآية منع العدو فقط، والروايات المنقولة عن أهل اللغة معارضة بالروايات المنقولة عن ابن عباس وابن عمر، ولا شك أن قولهما أولى لتقدمهما على هؤلاء الأدنى في معرفة اللغة وفي معرفة تفسير القرآن، ثم إنا بعد ذلك نؤكد هذا القول بوجوه من الدلائل.
الحجة الأولى: أن الإحصار إفعال من الحصر والأفعال تارة يجئ بمعنى التعدية نحو: ذهب زيد وأذهبته أنا، ويجئ بمعنى صار ذا كذا نحو: أغد البعير إذا صار ذا غدة، وأجرب الرجل إذا صار ذا أبل جربى ويجئ بمعنى وجدته بصفة كذا نحو: أحمدت الرجل أي وجدته محمودا والإحصار لا يمكن أن يكون للتعدية، فوجب إما حمله على الصيرورة أو على الوجدان والمعنى: أنهم صاروا محصورين أو وجدوا محصورين، ثم إن أهل اللغة اتفقوا على أن المحصور هو الممنوع بالعدو لا بالمرض، فوجب أن يكون معنى الاحصار هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدو، أو وجدوا ممنوعين بالعدو، وذلك يؤكد مذهبنا.
الحجة الثانية: أن الحصر عبارة عن المنع وإنما يقال للإنسان إنه ممنوع من فعله ومحبوس عن مراده، إذا كان قادرا عن ذلك الفعل متمكنا منه، ثم إنه منعه مانع عنه، والقدرة عبارة عن الكيفية الحاصلة بسبب اعتدال المزاج وسلامة الأعضاء، وذلك مفقود في حق المريض فهو غير قادر البتة على الفعل، فيستحيل الحكم عليه بأنه ممنوع، لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضى، أما إذا كان ممنوعا بالعدو فههنا القدرة على الفعل حاصلة، إلا أنه تعذر الفعل لأجل مدافعة العدو، فصح ههنا أن يقال إنه ممنوع من الفعل، فثبت أن لفظة الاحصار حقيقة في العدو، ولا يمكن أن تكون حقيقة في المرض.
الحجة الثالثة: أن معنى قوله: * (أحصرتم) * أي حبستم ومنعتم والحبس لا بد له من حابس، والمنع لا بد له من مانع، ويمتنع وصف المرض بكونه حابسا ومانعا، لأن الحبس والمنع فعل، وإضافة الفعل إلى المرض محال عقلا، لأن المرض عرض لا يبقى زمانين، فكيف يكون فاعلا
160

وحابسا ومانعا، أما وصف العدو بأنه حابس ومانع، فوصف حقيقي، وحمل الكلام على حقيقته أولى من حمله على مجازه.
الحجة الرابعة: أن الإحصار مشتق من الحصر ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض، فلفظ الإحصار وجب أن يكون خاليا عن الاشعار بالمرض قياسا على جميع الألفاظ المشتقة.
الحجة الخامسة: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) * فعطف عليه المريض، فلو كان المحصر هو المريض أو من يكون المرض داخلا فيه، لكان هذا عطفا للشئ على نفسه.
فإن قيل: إنه خص هذا المرض بالذكر لأن له حكما خاصا، وهو حلق الرأس، فصار تقدير الآية إن منعتم بمرض تحللتم بدم، وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفرتم.
قلنا: هذا وإن كان حسنا لهذا الغرض، إلا أنه مع ذلك يلزم عطف الشئ على نفسه، أما إذا لم يكن المحصر مفسرا بالمريض، لم يلزم عطف الشئ على نفسه، فكان حمل المحصر على غير المريض يوجب خلو الكلام عن هذا الاستدلال، فكان ذلك أولى.
الحجة السادسة: قال تعالى في آخر الآية: * (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدو لا في المرض، فإنه يقال في المرض: شفي وعفي ولا يقال أمن.
فإن قيل: لا نسلم أن لفظ الأمن لا يستعمل إلا في الخوف، فإنه يقال: أمن المريض من الهلاك وأيضا خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها.
قلنا: لفظ الأمن إذا كان مطلقا غير مقيد فإنه لا يفيد إلا الأمن من العدو، وقوله خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها.
قلنا: بل يوجب لأن قوله: * (فإذا أمنتم) * ليس فيه بيان أنه حصل الأمن مماذا، فلا بد وأن يكون المراد حصول الأمن من شئ تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره هو الاحصار، فصار التقدير: فإذا أمنتم من ذلك الاحصار، ولما ثبت أن لفظ الأمن لا يطلق إلا في حق العدو، وجب أن يكون المراد من هذا الاحصار منع العدو، فثبت بهذه الدلائل أن الإحصار المذكور في الآية هو منع العدو فقط، أما قول من قال: إنه منع المرض صاحبه خاصة فهو باطل بهذه الدلائل، وفيه دليل آخر، وهو أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية أن الكفار أحصروا النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، والناس وإن اختلفوا في أن الآية النازلة في سبب هل تتناول غير
ذلك السبب؟ إلا أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجا عنه، فلو كان
161

الإحصار اسما لمنع المرض، لكان سبب نزول الآية خارجا عنها، وذلك باطل بالإجماع، فثبت بما ذكرنا أن الإحصار في هذه الآية عبارة عن منع العدو، وإذا ثبت هذا فنقول: لا يمكن قياس منع المرض عليه، وبيانه من وجهين: الأول: أن كلمة: إن، شرط عند أهل اللغة، وحكم الشرط انتفاء المشروط عن انتفائه ظاهرا، فهذا يقتضي أن لا يثبت الحكم إلا في الإحصار الذي دلت الآية عليه، فلو أثبتا هذا الحكم في غيره قياسا كان ذلك نسخا للنص بالقياس، وهو غير جائز.
الوجه الثاني: أن الإحرام شرع لازم لا يحتمل النسخ قصدا، ألا ترى أنه إذا جامع امرأته حتى فسد حجه لم يخرج من إحرامه، وكذلك لو فاته الحج حتى لزمه القضاء والمرض ليس كالعدو، ولأن المريض لا يستفيد بتحلله ورجوعه أمنا من مرضه، أما المحصر بالعدو فإنه خائف من القتل إن أقام، فإذا رجع فقد تخلص من خوف القتل، فهذا ما عندي في هذه المسألة على ما يليق بالتفسير.
أما قوله: * (فما استيسر من الهدي) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال القفال رحمه الله: في الآية إضمار، والتقدير: فحللتم فما استيسر، وهو كقوله: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 184) أي فأفطر فعدة، وفيها إضمار آخر، وذلك لأن قوله: * (فما استيسر من الهدي) * كلام غير تنام لا بد فيه من إضمار، ثم فيه احتمالان: أحدهما: أن يقال: محل، ما: رفع، والتقدير: فواجب عليكم ما استيسر والثاني: قال الفراء: لو نصبت على معنى: اهدوا ما تيسر كان صوابا، وأكثر ما جاء في القرآن من أشباهه مرفوع.
المسألة الثانية: * (استيسر) * بمعنى تيسر، ومثله: استعظم، أي تعظم واستكبر: أي تكبر، واستصعب: أي تصعب.
المسألة الثالثة: * (الهدي) * جمع هدية، كما تقول: تمر وتمرة، قال أحمد بن يحيى: أهل الحجاز يخففون * (الهدي) * وتميم تثقله، فيقولون: هدية، وهدي ومطية، ومطي، قال الشاعر:
حلفت برب مكة والمصلى * وأعناق الهدى مقلدات
ومعنى الهدي: ما يهدى إلى بيت الله عز وجل تقربا إليه، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره تقربا إليه، ثم قال علي وابن عباس والحسن وقتادة: الهدي أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس.
المسألة الرابعة: المحصر إذا كان عالما بالهدي، هل له بدل ينتقل إليه؟ للشافعي رضي الله عنه فيه قولان: أحدهما: لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبدا، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه،
162

والحجة في أنه تعالى أوجب على المحصر الهدي على التعيين، وما أثبت له بدلا والثاني: أن له بدلا ينتقل إليه، وهو قول أحمد فإذا قلنا بالقول الأول: هل له أن يتحلل في الحال أو يقيم على إحرامه فيه قولان أحدهما: أنه يقيم على إحرامه حتى يجده، وهو قول أبي حنيفة ويدل عليه ظاهر الآية والثاني: أن يتحلل في الحال للمشقة، وهو الأصح، فإذا قلنا بالقول الثاني ففيه اختلافات كثيرة وأقربها أن يقال: يقوم الهدي بالدراهم ويشتري بها طعام ويؤدي، وإنما قلنا ذلك لأنه أقرب إلى الهدي.
المسألة الخامسة: المحصر إذا أراد التحلل وذبح، وجب أن ينوي التحلل عند الذبح، ولا يتحلل البتة قبل الذبح.
المسألة السادسة: اختلفوا في العمرة فأكثر الفقهاء قالوا حكمها في الإحصار كحكم الحج وعن ابن سيرين أنه لا إحصار فيه لأنه غير مؤقت، وهذا باطل لأن قوله تعالى: * (فإن أحصرتم) * مذكور عقيب الحج والعمرة، فكان عائدا إليهما.
أما قوله تعالى: * (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر فتقدير الآية: حتى يبلغ الهدي محله وينحر فإذا نحر فاحلقوا.
المسألة الثانية: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: يجوز إراقة دم الإحصار لا في الحرم، بل حيث حبس، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: لا يجوز ذلك إلا في الحرم ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، وقال أبو حنيفة: إنه اسم للمكان.
حجة الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجوه الأول: إنه عليه الصلاة والسلام أحصر بالحديبية ونحر بها، والحديبية ليست من الحرم، قال أصحاب أبي حنيفة إنه إنما أصحر في طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة، وهو من الحرم، قال الواقدي: الحديبية على طرف الحرم على تسعة أميال من مكة، أجاب القفال رحمه الله في " تفسيره " عن هذا السؤال فقال الدليل على أن نحر ذلك الهدي ما وقع في الحرم قوله تعالى: * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) * (الفتح: 25) فبين تعالى أن الكفار منعوا النبي صلى الله عليه وسلم عن إبلاغ الهدي محله الذي كان يريده فدل هذا على أنهم نحروا ذلك الهدي في غير الحرم.
الحجة الثانية: أن المحصر سواء كان في الحل أو في الحرم فهو مأمور بنحر الهدي فوجب
163

أن يتمكن في الحل والحرم من نحر الهدى.
بيان المقام الأول: أن قوله: * (فإن أحصرتم) * يتناول كل من كان محصرا سواء كان في الحل أو في الحرم، وقوله بعد ذلك: * (فما استيسر من الهدي) * معناه
فما استيسر من الهدي نحوه واجب، أو معناه فانحروا فانحروا ما استيسر من الهدي، وعلى التقديرين ثبت أن هذه الآية دالة على أن نحر الهدي واجب على المحصر سواء كان محصرا في الحل أو في الحرم، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له الذبح في الحل والحرم، لأن المكلف بالشئ أول درجاته أن يجوز له فعل المأمور به، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المحصر قادرا على إراقة الدم حيث أحصر.
الحجة الثالثة: أن الله سبحانه إنما مكن المحصر من التحلل بالذبح ليتمكن من تخليص النفس عن خوف العدو في الحال، فلو لم يجز النحر إلا في الحرم وما لم يحصل النحر لا يحصل التحلل بدلالة الآية، فعلى هذا التقدير وجب أن لا يحصل التحلل في الحال، وذلك يناقض ما هو المقصود من شرع هذا الحكم، ولأن الموصل للنحر إلى الحرم إن كان هو فقد نفى الخوف، وكيف يؤمن بهذا الفعل من قيام الخوف وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل؟ حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه الأول: أن المحل بكسر عين الفعل عبارة عن المكان، كالمسجد والمجلس فقوله: * (حتى يبلغ الهدي محله) * يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى مكان الحل، وهو عندكم بالغ محله في الحال،
جوابه: المحل عبارة عن الزمان وأن من المشهور إن محل الدين هو وقت وجوبه الثاني: هب أن لفظ المحل يحتمل المكان والزمان إلا أن الله تعالى أزال هذا الإحتمال بقوله * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * (الحج: 33) وفي قوله: * (هديا بالغ الكعبة) * (المائدة: 95) ولا شك أن المراد منه الحرم فإن البيت عينه لا يراق فيه الدماء.
جوابه: قال الشافعي رضي الله عنه: كل ما وجب على المحرم في ماله من بدنة وجزاء هدي فلا يجزي إلا في الحرم لمساكين أهله إلا في موضعين أحدهما: من ساق هديا فعطف في طريقه ذبحه وخلى بينه وبين المساكين والثاني: دم المحصر بالعدو فإنه ينحر حيث حبس، فالآيات التي ذكرتموها في سائر الدماء فلم قلتم إنها تتناول هذه الصورة الثالث: قالوا: الهدي سمي هديا لأنه جار مجرى الهدية التي يبعثها العبد إلى ربه، والهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها المهدي إلى دار المهدى إليه وهذا المعنى لا يتصور إلا بجعل موضع الهدي هو الحرم.
جوابه: هذا التمسك بالاسم ثم هو محمول على الأفضل عند القدرة الرابع: أن سائر دماء الحج
164

كلها قربة كانت أو كفارة لا تصح إلا في الحرم، فكذا هذا.
جوابه: أن هذا الدم إنما وجب لإزالة الخوف وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر، أما لو وجب إرساله إلى الحرم لا يحصل هذا المقصود، وهذا المعنى غير موجود في سائر الدماء فظهر الفرق.
المسألة الثالثة: هذه الآية دالة على أنه لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة.
* (وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة، قال كعب: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، وكان في شعر رأسي كثير من القمل والصئبان وهو يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام تؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال أحلق رأسك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمقصود منها أن المحرم إذا تأذى بالمرض أو بهوام رأسه أبيح له المداواة والحلق بشرط الفدية والله أعلم.
المسألة الثانية: ففدية رفع لأنه مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: فعليه فدية، وأيضا ففيه إضمار آخر والتقدير: فحلق فعليه فدية.
165

المسألة الثالثة: قال بعضهم: هذه الآية مختصة بالمحصر، وذلك لأن قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله أذن له في ذلك بشرط بذل الفدية، وقال آخرون بل الكلام مستأنف لكل محرم لحقه المرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو لحقه أذى في رأسه فاحتاج إلى الحلق، فبين الله تعالى أن له ذلك، وبين ما يجب عليه من الفدية.
إذا عرفت هذا فنقول: المرض قد يحوج إلى اللباس، فتكون الرخصة في اللباس كالرخصة في الحلق، وقد يكون ذلك بغير المرض من شدة البرد وما شاكله فأبيح له بشرط الفدية، وقد يحتاج أيضا إلى استعمال الطيب في كثير من الأمراض فيكون الحكم فيه ذاك، وأما من يكون به أذى من رأسه فقد يكون ذلك بسبب القمل والصئبان وقد يكون بسبب الصداع وقد يكون عند الخوف من حدوث مرض أو ألم، وبالجملة فهذا الحكم عام في جميع محظورات الحج.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أنه هل يقدم الفدية ثم يترخص أو يؤخر الفدية عن الترخص والذي يقتضيه الظاهر أنه يؤخر الفدية عن الترخص لأن الإقدام على الترخص كالعلة في وجوب الفدية فكان مقدما عليه، وأيضا فقد بينا أن تقدير الآية: فحلق فعليه فدية، ولا ينتظم الكلام إلا على هذا الحد، فإذن يجب تأخير الفدية.
أما قوله تعالى: * (من صيام أو صدقة أو نسك) * فالمراد أن تلك الفدية أحد هذه الأمور الثلاثة وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أصل النسك العبادة، قال ابن الأعرابي النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة، ثم قيل للمتعبد: ناسك لأنه خلق نفسه من دنس الآثام وصفاها
كالسبيكة المخلصة من الخبث، هذا أصل معنى النسك، ثم قيل للذبيحة: نسك من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله.
المسألة الثانية: اتفقوا في النسك على أن أقله شاة، لأن النسك لا يتأدى إلا بأحد الأمور الثلاثة: الجمل، والبقرة، والشاة، ولما كان أقلها الشاة، لا جرم كان أقل الواجب في النسك هو الشاة، أما الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما، وبماذا يحصل بيانه فيه قولان أحدهما: أنه حصل عن كعب بن عجرة، وهو ما روى أبو داود في سننه أنه عليه الصلاة والسلام لما مر بكعب بن عجرة ورأى كثرة الهوام في رأسه، قال له: احلق ثم اذبح شاة نسكا أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين.
والقول الثاني: ما يروى عن ابن عباس والحسن أنهما قالا: الصيام للمتمتع عشرة أيام،
166

والإطعام مثل ذلك في العدة، وحجتهما أن الصيام والإطعام لما كانا مجملين في هذا الموضع وجب حملهما على المفسر فيما جاء بعد ذلك، وهو الذي يلزم المتمتع إذا لم يجد الهدي، والقول الأول عليه أكثر الفقهاء.
المسألة الثالثة: الآية دلت على حكم من أقدم على شئ من محظورات الحج بعذر، أم من حلق رأسه عامدا بغير عذر فعند الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة الواجب عليه الدم، وقال مالك رضي الله عنه: حكمه حكم من فعل ذلك بعذر، والآية حجة عليه، لأن قوله: * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام) * يدل على اشتراط هذا الحكم بهذه الأعذار، والمشروط بالشئ عدم عند عدم الشرط، وقوله تعالى: * (فإذا أمنتم) * فاعلم أن تقديره: فإذا أمنتم من الإحصار، وقوله: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى التمتع التلذذ، يقال: تمتع بالشئ أي تلذذ به، والمتاع: كل شئ يتمتع به، وأصله من قولهم: حبل ماتع أي طويل، وكل من طالت صحبته مع الشئ فهو متمتع به، والمتمتع بالعمرة إلى الحج هو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج، ثم يقيم بمكة حلالا ينشئ منها الحج، فيحج من عامه ذلك، وإنما سمي متمتعا لأنه يكون مستمتعا بمحظورات الإحرام فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامه بالحج، والتمتع على هذا الوجه صحيح لا كراهة فيه، وههنا نوع آخر من التمتع مكروه، وهو الذي حذر عنه عمر رضي الله عنه وقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج، والمراد من هذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ، روي عن أبي ذر أنه قال: ما كانت متعة الحج إلا لي خاصة، فكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدونها من أفجر الفجور فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك الإعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم، فلهذا المعنى كان فسخ الحج خاصا بهم.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (فمن تمتع بالعمرة) * أي فمن يتمتع بسبب العمرة فكأنه لا يتمتع بالعمرة ولكنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة، وهذا هو معنى التمتع بالعمرة إلى الحج.
أما قوله تعالى: * (فما استيسر من الهدي) * ففيه مسائل:
167

المسألة الأولى: قال أصحابنا: لوجوب دم التمتع خمس شرائط أحدها: أن يقدم العمرة على الحج والثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فإن أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بشئ من الطواف وإن كان شرطا واحدا ثم أكمل باقيه في أشهر الحج وحج في هذه السنة لم يلزمه دم لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، وإن أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، وأتى بأعمالها في أشهر الحج، فيه قولان: قال في " الأم " وهو الأصح: لا يلزمه دم التمتع لأنه أتى بركن من أركان العمرة قبل أشهر الحج، كما لو طاق قبله، وقال في " القديم والإملاء ": يلزمه ذلك ويجعل استدامة الإحرام في أشهر الحج كابتدائه، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا أتى ببعض الطواف قبل أشهر الحج فهو متمتع إذا لم يأت بأكثره الشرط الثالث: أن يحج في هذه السنة، فإن حج في سنة أخرى لا يلزمه الدم، لأنه لم يوجد مزاحمة الحج والعمرة في عام واحد الشرط الرابع: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى: * (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) * وحاضر المسجد الحرام من كان أهله على مسافة أقل من مسافة القصر، فإن كان على مسافة القصر فليس من الحاضرين، وهذه المسافة تعتبر من مكة أو من الحرم، وفيه وجهان الشرط الخامس: أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة فإن عاد إلى الميقات فأحرم بالحج لا يلزمه دم التمتع لأن لزوم الدم لترك الإحرام من الميقات ولم يوجد، فهذه هي الشروط المعتبرة في لزوم دم التمتع.
المسألة الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه: دم التمتع دم جبران الإساءة، فلا يجوز له أن يأكل منه، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إنه دم نسك ويأكل منه، حجة الشافعي من وجوه:
الحجة الأولى: أن التمتع حصل فيه خلل فوجب أن يكون الدم دم جبران، بيان حصول الخلل فيه من وجوه ثلاثة الأول: روي أن عثمان كان ينهي عن المتعة فقال له علي رضي الله عنهما: عمدت إلى رخصة بسبب الحاجة والغربة، وذلك يدل على حصول نقص فيها الثاني: أنه تعالى سماه تمتعا، والتمتع عبارة عن التلذذ والإرتفاع، ومبنى العبادة على المشقة، فيدل على أنه حصل في كونه عبادة نوع خلل الثالث: وهو بيان الخلل على سبيل التفصيل: أن في التمتع صار السفر للعمرة، وكان من حقه أن يكون للحج، فإن الحج الأكبر هو الحج، وأيضا حصل الترفه وقت الإحلال بينهما وذلك خلل، وأيضا كان من حقه جعل الميقات للحج، فإنه أعظم، فلما جعل الميقات للعمرة كان ذلك نوع خلل، وإذا ثبت كون الخلل في هذا الحج وجب جعل الدم دم جبران لا دم نسك.
الحجة الثانية: أن الدم ليس بنسك أصلي من مناسك الحج أو العمرة كما لو أفرد بهما، وكما
168

في حق المكي، والجمع بين العبادتين لا يوجب الدم أيضا بدليل أن من جمع بين الصلاة والصوم والاعتكاف لا يلزمه الدم، فثبت بهذا أن هذا الدم ليس دم نسك فلا بد وأن يكون دم جبران.
الحجة الثالثة: أن الله تعالى أوجب الهدي على التمتع بلا توقيت، وكونه غير مؤقت دليل على أنه دم جبران لأن المناسك كلها مؤقتة.
الحجة الرابعة: أن للصوم فيه مدخلا، ودم النسك لا يبدل بالصوم، وإذا عرفت صحة ما ذكرنا فنقول: أن الله تعالى ألزم المكلف إتمام الحج في قوله: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * وقد دللنا على أن حج التمتع غير تام، فلهذا قال تعالى: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) * وذلك لأن تمتعكم يوقع نقصا في حجتكم فأجبروه بالهدي لتكمل به حجتكم فهذا معنى حسن مفهوم من سياق الآية وهو لا يتقرر إلا على مذهب الشافعي رضي الله عنه.
المسألة الثالثة: الدم الواجب بالتمتع: دم شاة جذعة من الضأن أو ثنية من المعز، ولو تشارك ستة في بقرة أو بدنة جاز، ووقت وجوبه بعدما أحرم بالحج، لأن الفاء في قوله: * (فما استيسر من الهدي) * يدل على أنه وجب عقيب التمتع، ويستحب أن يذبح يوم النحر، فلو ذبح بعد ما أحرم بالحج جاز لأن التمتع قد تحقق، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز، وأصل هذا أن دم التمتع عندنا دم جبران كسائر دماء الجبرانات، وعنده دم نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر.
أما قوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) * فالمعنى أن المتمتع إن وجد الهدي فلا كلام وإن لم يجد فقد بين الله تعالى بدله من الصيام، فلهذا الهدي أفضل أم الصيام؟ الظاهر أن يكون المبدل الذي هو الأصل أفضل، لكنه تعالى بين في هذا البدل أنه في الكمال والثواب كالهدي وهو كقوله: * (تلك عشرة كاملة) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الآية نص فيما إذا لم يجد الهدي، والفقهاء قاسوا عليه ما إذا وجد الهدي ولم يجد ثمنه، أو كان ماله غائبا، أو يباع بثمن غال فهنا أيضا يعدل إلى الصوم.
المسألة الثانية: قوله: * (فصيام ثلاثة أيام في الحج) * أي فعليه ثلاثة أيام وقت اشتغاله بالحج ويتفرع عليه مسألة فقهية، وهي أن المتمتع إذا لم يجد الهدي لا يصح صومه بعد إحرام العمرة قبل إحرام الحج، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يصح حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه الأول: أنه صام قبل وقته فلا يجوز كمن صام رمضان قبله، وكما إذا صام السبعة أيام قبل الرجوع وإنما قلنا: إنه صام قبل وقته، لأن الله تعالى قال: * (فصيام ثلاثة أيام في الحج) * وأراد به
169

إحرام الحج، لأن سائر أفعال الحج لا تصلح طرفا للصوم، والإحرام يصلح فوجب حمله عليه الثاني: أن ما قبل الإحرام بالحج ليس بوقت للهدي الذي هو أفضل، فكذا لا يكون وقتا للصوم الذي هو بدله اعتبار بسائر الأصول والإبدال، وتحقيقه أن البدل حال عدم الأصل يقوم مقامه فيصير في الحكم كأنه الأصل، فلا يجوز أن يحصل في وقت لو وجد الأصل لم يجز إذا عرفت هذا فنقول: اتفقوا على أنه يجوز بعد الشروع في الحج إلى يوم النحر والأصح أنه لا يجوز يوم النحر ولا أيام التشريق لقوله عليه الصلاة والسلام: " ولا تصوموا في هذه الأيام " والمستحب أن يصوم في أيام الحج حيث يكون يوم عرفة مفطرا.
المسألة الثالثة: اختلفوا في المراد من الرجوع في قوله: * (إذا رجعتم) * فقال الشافعي رضي الله عنه في " الجديد ": هو الرجوع إلى الأهل والوطن، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج والأخذ في الرجوع، ويتفرع عليه أنه إذا صام الأيام السبعة بعد الرجوع عن الحج، وقبل الوصية إلى بيته، لا يجزيه عند الشافعي رضي الله عنه، ويجزيه عند أبي حنيفة رحمه الله، حجة الشافعي وجوه الأول: قوله: * (إذا رجعتم) * معناه إلى الوطن، فإن الله تعالى جعل الرجوع إلى الوطن شرطا وما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط والرجوع إلى الوطن لا يحصل إلا عند الانتهاء إلى الوطن فقبله لم يوجد الشرط فوجب أن لا يوجد المشروط ويتأكد ما قلنا بأنه لو مات قبل الوصول إلى الوطن لم يكن عليه شئ الثاني: ما روي عن ابن عباس قال: لما قدمنا مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فلما فرغنا قال: " عليكم الهدي فإن لم تجدوا فصيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم " الثالث: أن الله تعالى أسقط الصوم عن المسافر في رمضان. فصوم التمتع أخف شأنا منه.
المسألة الرابعة: قرأ ابن أبي عبلة * (سبعة) * بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام كأنه قيل: فصيام ثلاثة أيام، كقوله: * (أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما) * (البلد: 14).
أما قوله تعالى: * (تلك عشرة كاملة) * فقد طعن الملحدون لعنهم الله فيه من وجهين أحدهما: أن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة فذكره يكون إيضاحا للواضح والثاني: أن قوله: * (كاملة) * يوهم وجود عشرة غير كاملة في كونها عشرة وذلك محال، والعلماء ذكروا أنواعا من الفوائد في هذا الكلام الأول: أن الواو في قوله: * (وسبعة إذا رجعتم) * ليس نصا
170

قاطعا في الجمع بل قد تكون بمعنى أو كما في قوله: * (مثنى وثلاث ورباع) * (النساء: 3) وكما في قولهم: جالس الحسن وابن سيرين أي جالس هذا أو هذا، فالله تعالى ذكر قوله: * (عشرة كاملة) * إزالة لهذا الوهم النوع الثاني: أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالا من المبدل كما في التيمم مع الماء فالله تعالى بين أن هذا البدل ليس كذلك، بل هو كامل في كونه قائما مقام المبدل ليكون الفاقد للهدي المتحمل لكلفة الصوم ساكن النفس إلى ما حصل له من الأجر الكامل من عند الله، وذكر العشرة إنما هو لصحة التوصل به إلى قوله: * (كاملة) * كأنه لو قال: تلك كاملة، جوز أن يراد به الثلاثة المفردة عن السبعة، أو السبعة المفردة عن الثلاثة، فلا
بد في هذا من ذكر العشرة، ثم اعلم أن قوله: * (كاملة) * يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه أحدها: أنها كاملة في البدل عن الهدي قائمة مقامه وثانيها: أنها كاملة في أن ثواب صاحبه كامل مثل ثواب من يأتي بالهدي من القادرين عليه وثالثها: أنها كاملة في أن حج المتمتع إذا أتى بهذا الصيام يكون كاملا، مثل حج من لم يأت بهذا التمتع.
النوع الثالث: أن الله تعالى إذا قال: أوجبت عليكم الصيام عشرة أيام، لم يبعد أن يكون هناك دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيام عن هذا اللفظ، فإن تخصيص العام كثير في الشرع والعرف، فلو قال: ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، بقي احتمال أن يكون مخصوصا بحسب بعض الدلائل المخصصة، فإذا قال بعده: تلك عشرة كاملة فهذا يكون تنصيصا على أن هذا المخصص لم يوجد البتة، فتكون دلالته أقوى واحتماله للتخصيص والنسخ أبعد.
النوع الرابع: أن مراتب الأعداد أربعة: آحاد، وعشرات، ومئين، وألوف، وما وراء ذلك فأما أن يكون مركبا أو مكسورا، وكون العشرة عددا موصوفا بالكمال بهذا التفسير أمر يحتاج إلى التعريف، فصار تقدير الكلام: إنما أوجبت هذا العدد لكونه عددا موصوفا بصفة الكمال خاليا عن الكسر والتركيب.
النوع الخامس: أن التوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب، كقوله: * (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) * (الحج: 46) وقال: * (ولا طائر يطير بجناحيه) * والفائدة فيه أن الكلام الذي يعبر عنه بالعبارات الكثيرة ويعرف بالصفات الكثيرة، أبعد عن السهو والنسيان من الكلام الذي يعبر عنه بالعبارة الواحدة، فالتعبير بالعبادات الكثيرة يدل على كونه في نفسه مشتملا على مصالح كثيرة ولا يجوز الإخلال بها، أما ما عبر عنه بعبارة واحدة فإنه لا يعلم منه كونه مصلحة مهمة لا يجوز الإخلال بها، وإذا كان التوكيد مشتملا على هذه الحكمة كان ذكره في هذا الموضع دلالة على أن رعاية العدد في هذا الصوم من المهمات التي لا يجوز إهمالها البتة.
171

النوع السادس: في بيان فائدة هذا الكلام أن هذا الخطاب مع العرب، ولم يكونوا أهل حساب، فبين الله تعالى ذلك بيانا قاطعا للشك والريب، وهذا كما روي أنه قال في الشهر: هكذا وهكذا وأشار بيديه ثلاثا، وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة منبها بالإشارة الأولى على ثلاثين، وبالثانية على تسعة وعشرين.
النوع السابع: أن هذا الكلام يزيل الإبهام المتولد من تصحيف الخط، وذلك لأن سبعة وتسعة متشابهتان في الخط، فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة زال هذا الاشتباه.
النوع الثامن: أن قوله: * (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) * يحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع أن يكمل سبعة أيام، على أنه يحسب من هذه السبعة تلك الثلاثة المتقدمة، حتى يكون الباقي عليه بعد من الحج أربعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة، ويحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع سبعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة، فهذا الكلام محتمل لهذين الوجهين، فإذا قال بعده تلك عشة كاملة زال هذا الإشكال، وبين أن الواجب بعد الرجوع سبعة سوى الثلاثة المتقدمة.
النوع التاسع: أن اللفظ وإن كان خبرا لكن المعنى أمر والتقدير: فلتكن تلك الصيامات صيامات كاملة لأن الحج المأمور به حج تام على ما قال: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * وهذه الصيامات جبرانات للخلل الواقع في ذلك الحج، فلتكن هذه الصيامات صيامات كاملة حتى يكون جابرا للخلل الواقع في ذلك الحج، الذي يجب أن يكون تاما كاملا، والمراد بكون هذه الصيامات كاملة ما ذكرنا في بيان كون الحج تاما، وإنما عدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشئ إذا كان متأكدا جدا فالظاهر دخول المكلف به في الوجود، فلهذا السبب جاز أن يجعل الإخبار عن الشئ بالوقوع كناية عن تأكد الأمر به، ومبالغة الشرع في إيجابه.
النوع العاشر: أنه سبحانه وتعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج، فليس في هذا القدر بيان أنه طاعة عظيمة كاملة عند الله سبحانه وتعالى، فلما قال بعده: * (تلك عشرة كاملة) * دل ذلك على أن هذه الطاعة في غاية الكمال، وذلك لأن الصوم مضاف إلى الله تعالى بلام الإختصاص على ما قال تعالى: * (الصوم لي) * والحج أيضا مضاف إلى الله تعالى بلام الإختصاص، على ما قال: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * وكما دل النص على مزيد اختصاص لهاتين العبادتين بالله سبحانه وتعالى، فالعقل دل أيضا على ذلك، أما في حق الصوم فلأنه عبادة لا يطلع العقل البتة على وجه الحكمة فيها، وهو مع ذلك شاق على النفس جدا، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاة الله تعالى، والحج أيضا عبادة لا يطلع العقل البتة على وجه الحكمة فيها، وهو مع ذلك شاق جدا لأنه يوجب مفارقة الأهل والوطن، ويوجب التباعد عن أكثر اللذات، فلا جرم لا يؤتى
172

به إلا لمحض مرضاته، ثم إن هذه الأيام العشرة بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعا بين شيئين شاقين جدا، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من شاق إلى شاق، ومعلوم أن ذلك سبب لكثرة الثواب وعلو الدرجة فلا جرم أوجب الله تعلى صيام هذه الأيام العشرة، وشهد سبحانه على أنه عبادة في غاية الكمال والعلو، فقال: * (تلك عشرة كاملة) * فإن التنكير في هذا الموضع يدل على تعظيم الحال، فكأنه قال: عشرة وأية عشرة، عشرة كاملة، فقد ظهر بهذه الوجوه العشرة اشتمال هذه الكلمة على هذه الفوائد النفيسة، وسقط بهذا البيان طعن الملحدين في هذه الآية والحمد لله رب العالمين.
أما قوله تعالى: * (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (ذلك) * إشارة إلى ما تقدم، وأقرب الأمور المذكورة ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله، وأبعد منهم ذكر تمتعهم. فلهذا السبب اختلفوا، فقال الشافعي رضي الله عنه، إنه راجع إلى الأقرب، وهو لزوم الهدي وبدله على المتمتع، أي إنما يكون إذا لم يكن المتمتع من حاضري المسجد الحرام، فأما إذا كان من أهل الحرم فإنه لا يلزمه الهدي ولا بدله، وذلك لأن عند الشافعي رضي الله عنه هذا الهدي إنما لزم الآفاقي لأنه كان من الواجب عليه أن يحرم عن الحج من الميقات: فلما أحرم من الميقات عن العمرة، ثم أحرم عن الحج لا من الميقات، فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبورا بهذا الدم، والمكي لا يجب عليه أن يحرم من الميقات، فإقدامه على التمتع لا يوقع خللا في حجه، فلا جرم لا يجب عليه الهدي ولا بدل، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن قوله: * (ذلك) * إشارة إلى الأبعد، وهو ذكر
التمتع، وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام، ومن تمتع أو قرن كان عليه دم هو دم جناية لا يأكل منه، حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه. الحجة الأولى: قوله تعالى: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * عام يدخل فيه الحرمي.
الحجة الثانية: قوله: * (ذلك) * كناية فوجب عودها إلى المذكور الأقرب، وهو وجوب الهدي، وإذا خص إيجاد الهدي بالمتمتع الذي يكون آفاقيا لزم القطع بأن غير الآفاقي قد يكون أيضا متمتعا.
الحجة الثالثة: أن الله تعالى شرع القران والمتعة إبانة لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم
173

العمرة في أشهر الحج والنسخ يثبت في حق الناس كافة.
الحجة الرابعة: أن من كان من أهل الإفراد كان من أهل المتعة قياسا على المدني، إلا أن المتمتع المكي لا دم عليه لما ذكرناه، حجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن قوله: * (ذلك) * كناية فوجب عودها إلى كل ما تقدم، لأنه ليس البعض أولى من البعض.
وجوابه: لم لا يجوز أن يقال عوده إلى الأقرب أولى لأن القرب سبب للرجحان أليس أن مذهبه أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختص بالجملة الأخيرة، وإنما تميزت تلك الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب فكذا ههنا.
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بحاضري المسجد الحرام، فقال مالك: هم أهل مكة وأهل ذي طوى قال: فلو أن أهل منى أحرموا بالعمرة من حيث يجوز لهم، ثم أقاموا بمكة حتى حجوا كانوا متمتعين، وسئل مالك رحمه الله عن أهل الحرم أيجب عليهم ما يجب على المتمتع، قال: نعم وليس هم مثل أهل مكة فقيل له: فأهل منى فقال: لا أرى ذلك إلا لأهل مكة خاصة وقال طاوس حاضروا المسجد الحرام هم أهل الحرم، وقال الشافعي رضي الله عنه: هم الذي يكونون على أقل من مسافة القصر من مكة، فإن كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: حاضروا المسجد الحرام أهل المواقيت، وهي ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات العرق، فكل من كان من أهل موضع من هذه المواضع، أو من أهل ما وراءها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام، هذا هو تفصيل مذاهب الناس، ولفظ الآية موافق لمذهب مالك رحمه الله، لأن أهل مكة هم الذي يشاهدون المسجد الحرام ويحضرونه، فلفظ الآية لا يدل إلا عليهم، إلا أن الشافعي قال: كثيرا ما ذكر الله المسجد الحرام، والمراد منه الحرم، قال تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) * (الإسراء: 1) ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أسري به من الحرم لا من المسجد الحرام، وقال: * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * (الحج: 33) والمراد الحرم، لأن الدماء لا تراق في البيت والمسجد، إذا ثبت هذا فنقول: المراد من المسجد الحرام ههنا ما ذكرناه ويدل عليه وجهان الأول: الحاضر ضد المسافر، وكل من لم يكن مسافرا كان حاضرا، ولما كان حكم السفر إنما ثبت في مسافة القصر، فكل من كان دون مسافة القصر لم يكن مسافرا وكان حاضرا الثاني: أن العرب تسمي أهل القرى: حاضرة وحاضرين، وأهل البر: بادية وبادين ومشهور كلام الناس: أهل البدو والحضر يراد بهما أهل الوبر والمدر.
174

المسألة الثالثة: قال الفراء: اللام في قوله: * (لمن) * بمعنى على، أي ذلك الفرض الذي هو الدم أو الصوم لازم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله عليه الصلاة والسلام: " واشترطي لهم الولاء " أي عليهم.
المسألة الرابعة: الله تعالى ذكر حضور الأهل والمراد حضور المحرم لا حضور الأهل، لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون.
المسألة الخامسة: المسجد الحرام إنما وصف بهذا الوصف لأن أصل الحرام والمحروم الممنوع عن المكاسب والشئ المنهي عنه حرام لأنه منع من إتيانه، والمسجد الحرام الممنوع من أن يفعل فيه ما منع عن فعله قال الفراء: ويقال حرام وحرم مثل زمان وزمن.
أما قوله تعالى: * (واتقوا الله) * قال ابن عباس: يريد فيما فرض عليكم: * (وأعلموا أن الله شديد العقاب) * لمن تهاون بحدوده قال أبو مسلم: العقاب والمعاقبة سيان، وهو مجازاة المسئ على إساءته وهو مشتق من العاقبة: كأنه يراد عاقبة فعل المسئ، كقول القائل: لتذوقن عاقبة فعلك.
* (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: من المعلوم بالضرورة أن الحج ليس نفس الأشهر فلا بد ههنا من تأويل وفيه وجوه أحدها: التقدير: أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وهو كقولهم: البرد شهران، أي وقت البرد شهران والثاني: التقدير الحج حج أشهر معلومات، أي لا حج إلا في هذه الأشهر، ولا يجوز في غيرها كما كان أهل الجاهلية يستجيزونها في غيرها من الأشهر، فحذف المصدر المضاف إلى الأشهر الثالث: يمكن تصحيح الآية من غير إضمار وهو أنه
175

جعل الأشهر نفس الحج لما كان الحج فيها كقولهم: ليل قائم، ونهار صائم.
المسألة الثانية: أجمع المفسرون على أن شوالا وذا القعدة من أشهر الحج واختلفوا في ذي الحجة، فقال عروة بن الزبير: إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك رحمه الله تعالى، وقال أبو حنيفة رحمه الله: الشعر الأول من ذي الحجة من أشهر الحج، وهو قول ابن عباس وابن عمر والنخعي والشعبي ومجاهد والحسن، وقال الشافعي رضي الله عنه: التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر من أشهر الحج، حجة مالك رضي الله عنه من وجوه الأول: أن الله تعالى ذكر الأشهر بلفظ الجمع وأقله ثلاثة. الحجة الثانية: أن أيام النحر يفعل فيها بعض ما يتصل بالحج، وهو رمي الجمار والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيام بعد
العشر، ومذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر والجواب عن الأول: من وجهين أحدهما: أن لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد، بدليل قوله: * (فقد صغت قلوبكما) * (التحريم: 4) والثاني: أنه نزل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا إنما رآه في ساعة منها والجواب عن الثاني: أن رمي الجمار يفعله الإنسان وقد حج بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج، والحائض إذا طافت بعده فكأنه في حكم القضاء لا في حكم الأداء، وأما الذين قالوا إن عشرة أيام من أول ذي الحجة هي من أشهر الحج، فقد تمسكوا فيه بوجهين الأول: أن من المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر والثاني: أن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج، وهو طواف الزيارة، وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه احتج على قوله بأن الحج يفوت بطلوع الفجر يوم النحر، والعبادة لا تكون فائته مع بقاء وقتها، فهذا تقرير هذه المذاهب.
بقي ههنا إشكالان الأول: أنه تعالى قال من قبل: * (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) * (البقرة: 189) فجعل كل الأهلة مواقيت للحج الثاني: أنه اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا: من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله، ومن بعد داره البعد الشديد لا يجوز أن يحرم من دويرة أهله بالحج إلا قبل أشهر الحج، وهذا يدل على أن أشهر الحج غير مقيدة بزمان مخصوص والجواب من الأول: أن تلك الآية عامة، وهذه الآية وهي قوله: * (الحج أشهر معلومات) *
176

خاصة والخاص مقدم على العام وعن الثاني: أن النص لا يعارضه الأثر المروي عن الصحابة.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (معلومات) * فيه وجوه أحدها: أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها، ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مرارا، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع وعلى هذا القول فالشرع لم يأت على خلاف ما عرفوا وإنما جاء مقررا له الثاني: أن المراد بها معلومات ببيان الرسول عليه الصلاة والسلام الثالث: المراد بها أنها مؤقتة في أوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها، لا كما يفعله الذين نزل فيهم * (إنما النسئ زيادة في الكفر) * (التوبة: 37).
المسألة الرابعة: قال الشافعي رضي الله عنه: لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة رضي الله عنهم: لا يجوز في جميع السنة حجة الشافعي رضي الله عنه قوله: * (الحج أشهر معلومات) * وأشهر جمع تقليل على سبيل التنكير، فلا يتناول الكل، وإنما أكثره إلى عشرة وأدناه ثلاثة وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى، فثبت أن المراد أن أشهر الحج ثلاثة، والمفسرون اتفقوا على أن تلك الثلاثة: شوال، وذو القعدة، وبعض من ذي الحجة، وإذا ثبت هذا فنقول: وجب أن لا يجوز الإحرام بالحج قبل الوقت، ويدل عليه ثلاثة أوجه الأول: أن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياسا على الصلاة الثاني: أن الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت، لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر، حكما فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى الثالث: أن الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء فلأن لا ينعقد صحيحا لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه وجهان الأول: قوله تعالى: * (ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) * (الحج: 189) فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج، وهي ليست بمواقيت للحج فثبت إذن أنها مواقيت لصحة الإحرام، ويجوز أن يسمى الإحرام حجا مجازا كما سمي الوقت حجا في قوله: * (الحج أشهر معلومات) * بل هذا أولى لأن الإحرام إلى الحج أقرب من الوقت.
والحجة الثانية: أن الإحرام التزام للحج، فجاز تقديمه على الوقت كالنذر.
والجواب عن الأول: أن الآية التي ذكرناها أخص من الآية التي تمسكتم بها.
والجواب عن الثاني: أن الفرق بين النذر وبين الإحرام أن الوقت معتبر للأداء والاتصال للنذر بالأداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ وأما الإحرام فإنه مع كونه التزاما فهو أيضا شروع في الأداء وعقد عليه، فلا جرم افتقر إلى الوقت.
177

وقوله تعالى: * (فمن فرض فيهن الحج) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: معنى * (فرض) * في اللغة ألزم وأوجب، يقال: فرضت عليك كذا أي أوجبته وأصل معنى الفرض في اللغة الحز والقطع، قال ابن الأعرابي: الفرض الحز في القدح وفي الوتد وفي غيره، وفرضة القوس، الحز الذي يقع فيه الوتر، وفرضة الوتد الحز الذي فيه، ومنه فرض الصلاة وغيرها، لأنها لازمة للعبد، كلزوم الحز للقدح، ففرض ههنا بمعنى أوجب، وقد جاء في القرآن: فرض بمعنى أبان، وهو قوله: * (سورة أنزلناها وفرضناها) * (النور: 1) بالتخفيف، وقوله: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) * (التحريم: 2) وهذا أيضا راجع إلى معنى القطع، لأن من قطع شيئا فقد أبانه من غيره والله تعالى إذا فرض شيئا أبانه عن غيره، ففرض بمعنى أوجب، وفرض بمعنى أبان، كلاهما يرجع إلى أصل واحد.
المسألة الثانية: اعلم أن في هذه الآية حذفا، والتقدير: فمن ألزم نفسه فيهن الحج، والمراد بهذا الفرض ما به يصير المحرم محرما إذ لا خلاف أنه لا يصير حاجا إلا بفعل يفعله، فيخرج عن أن يكون حلالا ويحرم عليه الصيد واللبس والطيب والنساء والتغطية للرأس إلى غير ذلك ولأجل تحريم هذه الأمور عليه سمي محرما، لأنه فعل ما حرم به هذه الأشياء على نفسه ولهذا السبب أيضا سميت البقعة حرما لأنه يحرم ما يكون فيها مما لولاه كان لا يحرم فقوله تعالى: * (فمن فرض فيهن الحج) * يدل على أنه لا بد للمحرم من فعل يفعله لأجله يصير حاجا ومحرما، ثم اختلف الفقهاء في أن ذلك الفعل ما هو؟ قال الشافي رضي الله عنه: أنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يصح الشروع في الإحرام بمجرد النية حتى ينضم إليها التلبية أو سوق الهدى، قال القفال رحمه الله في " تفسيره ": يروى عن جماعة أن من أشعر هديه أو قلده فقد أحرم، وروى نافع عن ابن عمر أنه قال: إذا قلد أو أشعر فقد أحرم، وعن ابن عباس: إذا قلد الهدي
وصاحبه يريد العمرة والحج فقد أحرم، حجة الشافعي رضي الله عنه وجوه:
الحجة الأولى: قوله تعالى: * (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * وفرض الحج لا يمكن أن يكون عبارة عن التلبية أو سوق الهدي فإنه لا إشعار البتة في التلبية بكونه محرما لا بحقيقة ولا بمجاز فلم يبق إلا أن يكون فرض الحج عبارة عن النية، وفرض الحج موجب لانعقاد الحج، بدليل قوله تعالى: * (فلا رفث) * فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج.
الحجة الثانية: ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: " وإنما لكل امرئ ما نوى ".
178

الحجة الثالثة: القياس وهو أن ابتداء الحج كف عن المحظورات، فيصح الشروع فيه بالنية كالصوم، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه وجهان الأول: ما روى أبو منصور الماتريدي في " تفسيره " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يحرم إلا من أهل أو لبى الثاني: أن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيه إلا بنفس النية كالصلاة.
وأما قوله تعالى: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (فلا رفث ولا فسوق) * بالرفع والتنوين * (ولا جدال) * بالنصب، والباقون قرؤا الكل بالنصب.
واعلم أن الكلام في الفرق بين القراءتين في المعنى يجب أن يكون مسبوقا بمقدمتين الأولى: أن كل شئ له اسم، فجوهر الاسم دليل على جوهر المسمى، وحركات الاسم وسائر أحواله دليل على أحوال المسمى، فقولك: رجل يفيد الماهية المخصوصة، وحركات هذه اللفظة، أعني كونها منصوبة ومرفوعة ومجرورة، دال على أحوال تلك الماهية وهي المفعولية والفاعلية والمضافية، وهذا هو الترتيب العقلي حتى يكون الأصل بإزاء الأصل، والصفة بإزاء الصفة، فعلى هذا الأسماء الدالة على الماهيات ينبغي أن يتلفظ بها ساكنة الأواخر فيقال: رحل جدار حجر، وذلك لأن تلك الحركات لما وضعت لتعريف أحوال مختلفة في ذات المسمى فحيث أريد تعريف المسمى من غير التفات إلى تعريف شئ من أحواله وجب جعل اللفظ خاليا عن الحركات، فإن أريد في بعض الأوقات تحريكه وجب أن يقال بالنصب، لأنه أخف الحركات وأقربها إلى السكون.
المقدمة الثانية: إذا قلت: لا رجل بالنصب، فقد نفيت الماهية، وانتفاء الماهية يوجب انتفاء جميع أفرادها قطعا، أما إذا قلت: لا رجل بالرفع والتنوين، فقد نفيت رجلا منكرا مبهما، وهذا بوصفه لا يوجب انتفاء جميع أفراد هذه الماهية إلا بدليل منفصل، فثبت أن قولك: لا رجل بالنصب أدل على عموم النفي من قولك: لا رجل بالرفع والتنوين.
إذا عرفت هاتين المقدمتين فلنرجع إلى الفرق بين القراءتين فنقول: أما الذين قرؤا ثلاثة: بالنصب فلا إشكال وأما الذين قرؤا الأولين بالرفع مع التنوين، والثالث بالنصب فذلك يدل على أن الاهتمام بنفي الجدال أشد من الإهتمام بنفي الرفث والفسوق وذلك لأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة والجدال مشتمل على ذلك، لأن المجادل يشتهي تمشية قوله، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله، والمجادل لا ينقاد للحق، وكثيرا ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة
179

والبغضاء فلما كان الجدال مشتملا على جميع أنواع القبح لا جرم خصه الله تعالى في هذه القراءة بمزيد الزجر والمبالغة في النفي، أما المفسرون فإنهم قالوا: من قرأ الأولين بالرفث والثالث بالنصب فقد حمل الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكون رفث ولا فسوق وحمل الثالث على الإخبار بانتفاء الجدال، هذا ما قالوه إلا أنه ليس بيان أنه لم خص الأولان بالنهي وخص الثالث بالنفي.
المسألة الثانية: أما الرفث فقد فسرناه في قوله: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * (البقرة: 187) والمراد: الجماع، وقال الحسن: المراد منه كل ما يتعلق بالجماع فالرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها، والرفث باليد اللمس والغمز، والرفث بالفرج الجماع، وهؤلاء قالوا: التلفظ به في غيبة النساء لا يكون رفثا، واحتجوا بأن ابن عباس كان يحدو بعيره وهو محرم ويقول: وهن يمشين بنا هميسا * إن تصدق الطير ننك لميسا
فقال له أبو العالية أترفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء، وقال آخرون: الرفث هو قول الخنا والفحش، واحتج هؤلاء بالخبر واللغة أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم " ومعلوم أن الرفث ههنا لا يحتمل إلا قول الخنا والفحش، وأما اللغة فهو أنه روى عن أبي عبيد أنه قال: الرفث الإفحاش في المنطق، يقال أرفث الرجل إرفاثا، وقال أبو عبيدة: الرفث اللغو من الكلام.
أما الفسوق فاعلم أن الفسق والفسوق واحد وهما مصدران لفسق يفسق، وقد ذكرنا فيما قبل أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة، واختلف المفسرون فكثير من المحققين حملوه على كل المعاصي قالوا: لأن اللفظ صالح للكل ومتناول له، والنهي عن الشئ يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه فحمل اللفظ على بعض أنواع الفسوق تحكم من غير دليل، وهذا متأكد بقوله تعالى: * (ففسق عن أمر ربه) * (الكهف: 50) وبقوله: * (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) * (الحجرات: 7).
وذهب بعضهم إلى أن المراد منه بعض الأنواع ثم ذكروا وجوها:
الأول: المراد منه السباب واحتجوا عليه بالقرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى: * (ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) * (الحجرات: 11) وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " والثاني: المراد منه الإيذاء والإفحاش، قال تعالى: * (لا يضار كاتب ولا شهيد، وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * (البقرة: 282) والثالث: قال ابن زيد: هو الذبح للأصنام فإنهم كانوا في حجهم يذبحون لأجل الحج، ولأجل الأصنام، وقال تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) * (الأنعام: 121) وقوله: * (أو فسقا أهل لغير الله به) * (الأنعام: 145) والرابع: قال ابن عمر: إنه العاصي في
قتل الصيد وغيره
180

مما يمنع الإحرام منه والخامس: أن الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة، والفسوق هو الجماع ومقدماته على سبيل الزنا والسادس: قال محمد بن الطبري: الفسوق، هو العزم على الحج إذا لم يعزم على ترك محظوراته.
وأما الجدال فهو فعال من المجادلة، وأصله من الجدل الذي من القتل، يقال: زمام مجدول وجديل، أي مفتول، والجديل اسم الزمام لأنه لا يكون إلا مفتولا، وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه، وذكر المفسرون وجوها في هذا الجدال.
فالأول: قال الحسن: هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل.
والثاني: قال محمد بن كعب القرظي: إن قريشا كانوا إذا اجتمعوا بمنى، قال بعضهم: حجنا أتم، وقال آخرون: بل حجنا أتم، فنهاهم الله تعالى عن ذلك.
والثالث: قال مالك في " الموطأ " الجدال في الحج أن قريشا كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح وكان غيرهم يقفون بعرفات وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء: نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، قال الله تعالى: * (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر، وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم * وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون) * الحج: 67 - 68) قال مالك هذا هو الجدال فيما يروى والله أعلم.
والرابع: قال القاسم بن محمد: الجدال في الحج أن يقول بعضهم: الحج اليوم، وآخرون يقولون: بل غدا، وذلك أنهم أمروا أن يجعلوا حساب الشهور على رؤية الأهلة، وآخرون كانوا يجعلونه على العدد فبهذا السبب كانوا يختلفون فبعضهم يقول: هذا اليوم يوم العيد وبعضهم يقول: بل غدا، فالله تعالى نهاهم عن ذلك، فكأنه قيل لهم: قد بينا لكم أن الأهلة مواقيت للناس والحج، فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه من غير هذه الجهة.
الخامس: قال القفال رحمه الله تعالى: يدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق عليهم ذلك وقالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " وتركوا الجدال حينئذ.
السادس: قال عبد الرحمن بن زيد: جدالهم في الحج بسبب اختلافهم في أيهم المصيب في الحج لوقت إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
السابع: أنهم كانوا مختلفين في السنين فقيل لهم: لا جدال في الحج فإن الزمان استدار وعاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم عليه السلام، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " فهذا مجموع ما قاله المفسرون في هذا الباب.
وذكر القاضي كلاما حسنا في هذا المواضع فقال: قوله تعالى: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون
181

نهيا كقوله: * (لا ريب فيه) * آل عمران: 9) أي لا ترتابوا فيه، وظاهر اللفظ للخبر فإذا حملناه على الخبر كان معناه أن الحج لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال بل يفسد لأنه كالضد لها وهي مانعة من صحته، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى، إلا أن يراد بالرفث الجماع المفسد للحج، ويحمل الفسوق على الزنا لأنه يفسد الحج، ويحمل الجدال على الشك في الحج ووجوبه لأن ذلك يكون كفرا فلا يصح معه الحج وإنما حملنا هذه الألفاظ الثلاثة على هذه المعاني حتى يصح خبر الله بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، فإن قيل: أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحج فاسدا ويجب على صاحبه المضي فيه، وإذا كان الحج باقيا معها لم يصدق الخبر بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، قلنا: المراد من الآية حصول المضادة بين هذه الأشياء وبين الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء بدليل أنه يجب قضاؤها، والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضي فيها شئ آخر سوى تلك الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء، وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج لأن ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام فثبت أنا إذا حملنا اللفظ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق والجدال على ما ذكرناه، أما إذا حملناه على النهي وهو في الحقيقة عدول عن ظاهر اللفظ فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش، وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه، وبالجدال جميع أنواعه، لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام فيكون النهي عنها نهيا عن جميع أقسامها، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة، والتمسك بالآداب الحسنة، والاحتراز عما يحبط ثواب الطاعات.
المسألة الثالثة: الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص، وهو قوله: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة: قوة شهوانية بهيمية، وقوة غضبية سبعية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة، أعني الشهوانية، والغضبية، والوهمية، فقوله * (فلا رفث) * إشارة إلى قهر الشهوانية، وقوله: * (ولا فسوق) * إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب، وقوله: * (ولا جدال) * إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأسمائه، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم، والمخاصمة معهم في كل شئ، فلما كان منشأ الشر محصورا في هذه الأمور الثلاثة
182

لا جرم قال: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله، والانخراط في سلك الخواص من عباده، فلا يكون فيه هذه الأمور، وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلا عنها، ومن الله التوفيق في كل الأمور.
المسألة الرابعة: من الناس من عاب الاستدلال والبحث والنظر والجدال واحتج بوجوه أحدها: أنه تعالى قال: * (ولا جدال في الحج) * وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال، ولو كان الجدال في الدين طاعة وسبيلا إلى معرفة الله تعالى لما نهى عنه في الحج، بل على ذلك التقدير كان الإشتغال بالجدال في الحج ضم طاعة إلى طاعة فكان أولى بالترغيب فيه وثانيها: قوله تعالى: * (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) * (الزخرف: 58) عابهم بكونهم من أهل الجدل، وذلك يدل على أن
الجدل مذموم، وثالثها: قوله: * (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) * (الأنفال: 46) نهى عن المنازعة.
وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا: الجدال في الدين طاعة عظيمة، واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) * (النحل: 125) وبقوله تعالى حكاية عن الكفار إنهم قالوا لنوح عليه السلام: * (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) * (هود: 32) ومعلوم أنه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين.
إذا ثبت هذا فنقول: لا بد من التوفيق بين هذه النصوص، فنحمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المال والجاه، والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله، والذب عن دين الله تعالى.
أما قوله تعالى: * (وما تفعلوا من خير يعلمه لله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * (البقرة: 197) فاعلم أن الله تعالى قبل هذه الآية أمر بفعل ما هو خير وطاعة، فقال: * (وأتموا الحج والعمر لله) * (البقرة: 196) وقال: * (فمن فرض فيهن الحج) * ونهى عما هو شر ومعصية فقال: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * ثم عقب الكل بقوله: * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) * وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال: وما تفعلوا من شئ يعلمه الله، حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر، إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف أحدها: إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته، وإذا علمت منك الشر سترته وأخفيته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا، فكيف في العقبى وثانيها: أن من المفسرين من قال في تفسير قوله: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) * (طه: 15) معناه: لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي لفعلت فكذا هذه الآية، كأنه قيل للعبد: ما تفعله من خير علمته، وأما الذي تفعله من الشر فلو أمكن أن
183

أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك وثالثها أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع: كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ومطلع عليه، كان هذا وعدا له بالثواب العظيم، ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعدا بالعقاب الشديد، ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب، ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب ورابعها: أن جبريل عليه السلام لما قال: ما الإحسان؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فههنا بين للعبد أنه يراه ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة، فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله كان أحرص على العمل وأكثر التذاذا به وأقل نفرة عنه وخامسها: أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك، فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله: * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) *.
أما قوله تعالى: * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * ففيه قولان أحدهما: أن المراد: وتزودوا من التقوى، والدليل عليه قوله بعد ذلك: * (فإن خير الزاد التقوى) * وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران: سفر في الدنيا وسفر من الدنيا، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد، وهو الطعام والشراب والمركب والمال، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضا من زاد، وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه الأول: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن وثانيها: أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم وثالثها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة، آمنة من الانقطاع والزوال ورابعها: أن زاد الدنيا وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة، وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول وخامسها: أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس، فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية، فكأنه تعالى قال: لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه كثرة المنافع، وقال
184

الأعشى في تقرير هذا المعنى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله * وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
والقول الثاني: أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون: إنا متوكلون، ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموا الناس وغصبوهم، فأمرهم الله تعالى أن يتزودوا فقال: وتزودوا ما تبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم وعن ابن زيد: أن قبائل من العرب كانوا يحرمون الزاد في الحج والعمرة فنزلت. وروى محمد بن جرير الطبري عن ابن عمر قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها فنهوا عن ذلك بهذه الآية قال القاضي: وهذا بعيد لأن قوله: * (فإن خير الزاد التقوى) * راجع إلى قوله: * (وتزودوا) * فكان تقديره: وتزودوا من التقوى والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات قال: فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان أحدهما: أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك، فعلى هذا الطريق صح دخوله تحت الآية والثاني: أن يكون في الكلام حذف ويكون المراد: وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى.
أما قوله تعالى: * (واتقون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إن قوله: * (واتقون) * فيه تنبيه على كمال عظمة الله وجلاله وهو كقول الشاعر: أنا أبو النجم وشعري شعري (c)
المسألة الثانية: أثبت أبو عمرو الياء في قوله: * (واتقون) * على الأصل، وحذفها الآخرون للتخفيف ودلالة الكسر عليه.
أما قوله تعالى: * (يا أولي الألباب) * فاعلم أن لباب الشئ ولبه هو الخالص منه، ثم اختلفوا بعد ذلك، فقال بعضهم: إنه اسم للعقل لأنه أشرف ما في الإنسان، والذي تميز به الإنسان عن البهائم وقرب من درجة الملائكة، واستعد به للتمييز بين خير الخيرين، وشر الشرين، وقال آخرون: أنه في الأصل اسم للقلب الذي هو محل العقل، والقلب قد يجعل كناية عن العقل قال تعالى: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) * (ق: 37) فكذا ههنا جعل اللب كناية عن العقل، فقوله: * (يا أولي الألباب) * معناه: يا أولي العقول، وإطلاق اسم المحل على الحال مجاز مشهور، فإنه يقال لمن له غيرة وحمية: فلان له نفس، ولمن ليس له حمية: فلان لا نفس له
185

فكذا ههنا.
فإن قيل: إذا كان لا يصح إلا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله: * (يا أولي الألباب) *.
قلنا: معناه: إنكم لما كنتم من أولي الألباب كنتم متمكنين من معرفة هذه الأشياء والعمل بها فكان وجوبها عليكم أثبت وإعراضكم عنها أقبح، ولهذا قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس شيئا * كنقص القادرين على التمام
ولهذا قال تعالى: * (أولئك كالأنعام بل هم أضل) * (الأعراف: 179) يعني الأنعام معذورة بسبب العجز، أما هؤلاء القادرون فكان إعراضهم أفحش، فلا جرم كانوا أضل.
قوله تعالى
* (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذآ أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضآلين) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية حذف والتقدير: ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فضلا والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن الشبهة كان حاصلة في حرمة التجارة في الحج من وجوه:
أحدها: أنه تعالى منع عن الجدال فيما قبل هذه الآية، والتجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة بسبب المنازعة في قلة القيمة وكثرتها، فوجب أن تكون التجارة محرمة وقت الحج وثانيها: أن التجارة كانت محرمة وقت الحج في دين أهل الجاهلية، فظاهر ذلك شئ مستحسن لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى، فوجب أن لا يتلطخ هذا العمل منه بالأطماع الدنيوية وثالثها: أن المسلمين لما علموا أنه صار كثير من المباحات محرمة عليهم في وقت الحج، كاللبس والطيب والاصطياد والمباشرة مع الأهل غلب على ظنهم أن الحج لما صار سببا لحرمة اللبس مع مساس الحاجة إليه فبأن يصير سببا لحرمة التجارة مه قلة الحاجة إليها كان أولى ورابعها: عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بسائر الطاعات فضلا عن المباحات فوجب أن يكون الأمر كذلك في الحج فهذه الوجوه تصلح أن تصير شبهة في تحريم الاشتغال بالتجارة عند الاشتغال
186

بالحج، فلهذا السبب بين الله تعالى ههنا أن التجارة جائزة غير محرمة، فإذا عرفت هذا فنقول: المفسرون ذكروا في تفسير قوله: * (أن تبتغوا فضلا من ربكم) * وجهين الأول: أن المراد هو التجارة، ونظيره قوله تعالى: * (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) * (المزمل: 20) وقوله: * (جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) * ثم الذي يدل على صحة هذا التفسير وجهان الأول: ما روى عطاء عن ابن مسعود وابن الزبير أنهما قرآ: * (أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج) * والثاني: الروايات المذكورة في سبب النزول. فالرواية الأولى: قال ابن عباس: كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع والشراء بالكلية، وكانوا يسمون التاجر في الحج: الداج ويقولون: هؤلاء الداج، وليسوا بالحاج، ومعنى الداج: المكتسب الملتقط، وهو مشتق من الدجاجة، وبالغوا في الإحتراز عن الأعمال، إلى أن امتنعوا عن إغاثة الملهوف، وإغاثة الضعيف وإطعام الجائع، فأزال الله تعالى هذا الوهم، وبين أنه لا جناح في التجارة، ثم أنه لما كان ما قبل هذه الآية في أحكام الحج، وما بعدها أيضا في الحج، وهو قوله: * (فإذا أفضتم من عرفات) * دل ذلك على أن هذا الحكم واقع في زمان الحج، فلهذا السبب استغنى عن ذكره.
والرواية الثانية: ما روي عن ابن عمر أن رجلا قال له إنا قوم نكري وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا، فقال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت ولم يرد عليه حتى نزل قوله: * (ليس عليكم جناح) * فدعاه وقال: أنتم حجاج وبالجملة فهذه الآية نزلت ردا على من يقول: لا حج للتجار والأجراء والجمالين.
والرواية الثالثة: أن عكاظ ومجنة وذا المجاز كانوا يتجرون في أيام الموسم فيها، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يتجرون في الحج بغير إذن، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
والرواية الرابعة: قال مجاهد: إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ولا منى، فنزلت هذه الآية.
إذا ثبت صحة هذا القول فنقول: أكثر الذاهبين إلى هذا القول حملوا الآية على التجارة في أيام الحج، وأما أبو مسلم فإنه حمل الآية على ما بعد الحج، قال والتقدير: فاتقون في كل أفعال الحج، ثم بعد ذلك * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) * ونظيره قوله تعالى: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) * (الجمعة: 10).
187

واعلم أن هذا القول ضعيف من وجوه أحدها: الفاء في قوله: * (فإذا أفضتم من عرفات) * يدل على أن هذه الإفاضة حصلت بعد انتفاء الفضل، وذلك يدل على وقوع التجارة في زمان الحج وثانيها: أن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لا على موضع الشبهة ومعلوم أن محل الشهبة هو التجارة في زمن الحج، فأما بعد الفراغ من الحج فكل أحد يعلم حل التجارة.
أما ما ذكره أبو مسلم من قياس الحج على الصلاة فجوابه: أن الصلاة أعمالها متصلة فلا يصح في أثنائها التشاغل بغيرها، وأما أعمال الحج فهي متفرقة بعضها عن بعض، ففي خلالها يبقى المرء على الحكم الأول حيث لم يكن حاجا لا يقال: بل حكم الحج باق في كل تلك الأوقات، بدليل أن حرمة التطيب واللبس وأمثالهما باقية، لأنا نقول: هذا قياس في مقابلة النص فيكون ساقطا.
القول الثالث: أن المراد بقوله تعالى: * (أن تبتغوا فضلا من ربكم) * هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجا أعمالا أخرى تكون موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وهذا القول منسوب إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام، واعترض القاضي عليه بأن هذا واجب أو مندوب، ولا يقال في مثله: لا جناح عليكم فيه، وإنما يذكر هذا اللفظ في المباحات.
والجواب: لا نسلم أن هذا اللفظ لا يذكر إلا في المباحات والدليل عليه قوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * (النساء: 101) والقصر بالإتفاق من المندوبات، وأيضا فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن ضم سائر الطاعات إلى الحج يوقع خللا في الحج ونقصا فيه، فبين الله تعالى أن الأمر ليس كذلك بقوله: * (لا جناح عليكم) * (الممتحنة).
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن التجارة إذا أوقعت نقصانا في الطاعة لم تكن مباحة، أما إن لم توقع نقصانا البتة فيها فهي من المباحات التي الأولى تركها، لقوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * (البنية: 5) والإخلاص أن لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة، وقال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: " أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه " والحاصل أن الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرخص.
قوله تعالى: * (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: الإفاضة الاندفاع في السير بكثرة، ومنه يقال: أفاض البعير بجرته، إذا وقع بها فألقاها منبثة، وكذلك أفاض الأقداح في الميسر، معناه جمعها ثم ألقاها متفرقة، وإفاضة
188

الماء من هذا لأنه إذا صب تفرق والإفاضة في الحديث إنما هي الاندفاع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه، وعليه قوله تعالى: * (إذ تفيضون فيه) * (يونس: 61) ومنه يقال للناس: فوض، وأيضا جمعهم فوضى ويقال: أفاضت العين دمعها فأصل هذه الكلمة الدفع للشئ حتى يتفرق. فقوله تعالى: * (أفضتم) * أي دفعتم بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم، فترك ذكر المفعول، كما ترك في قولهم: دفعوا من موضع كذا وصبوا، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: ونزل في وادي قيروان وهو يخدش بعيره بمحجنه.
المسألة الثانية: * (عرفات) * جمع عرفة، سميت بها بقعة واحدة، كقولهم: ثوب أخلاق، وبرمة أعشار، وأرض سباسب، والتقدير: كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمى مجموع تلك القطع بعرفات، فإن قيل: هلا منعت من الصرف وفيها السببان: التعريف والتأنيث قلنا: هذه اللفظة في الأصل اسم لقطع كثيرة من الأرض كل واحدة منه مسماة بعرفة، وعلى هذا التقدير لم يكن علما ثم جعلت علما لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف.
المسألة الثالثة: اعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة، وذلك الموضع المخصوص سمي بعرفات، وذكروا في تعليل هذه الأسماء وجوها أما يوم التروية ففيه قولان أحدهما: من روي يروي تروية، إذا تفكر وأعمل فكره ورويته والثاني: من رواه من الماء يرويه إذا سقاه من عطش أما الأول: ففيه ثلاثة أقوال أحدها: أن آدم عليه السلام أمر ببناء البيت، فلما بناه تفكر فقال: رب إن لكل عامل أجرا فما أجري على هذا العمل؟ قال: إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك، قال: يا رب زدني قال: أغفر لأولادك إذا طافوا به، قال: زدني قال: أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك، قال: حسبي يا رب حسبي وثانيها: أن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح مفكرا هل هذا من الله تعالى أو من الشيطان؟ فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال: عرفت يا رب أنه من عندك وثالثها: أن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في غدهم بعرفات. أما القول الثاني: وهو اشتقاقه من تروية الماء، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن أهل مكة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق، وكان الحاج يستريحون في هذا اليوم من مشاق السفر، ويتسعون في الماء، ويروون بهائمهم بعد مقاساتهم قلة الماء في طريقهم والثاني: أنهم يتزودون الماء إلى عرفة والثالث: أن المذنبين كالعطاش الذي وردوا بحار رحمة الله فشربوا منها
189

حتى رووا، وأما فضل هذا اليوم فدل عليه قوله تعالى: * (والشفع والوتر) * (الشفع: 3) عن ابن عباس بأن الشفع التروية وعرفة، والوتر يوم النحر، وعن عبادة أنه عليه الصلاة والسلام قال: " صيام عشر الأضحى كل يوم منها كالشهر، ولمن يصوم يوم التروية سنة، ولمن يصوم يوم عرفة سنتان " وروى أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال: " من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله تعالى مثل ثواب عيسى بن مريم عليه السلام ".
وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء، خمسة منها مختصة به، وخمسة مشتركة بينه وبين غيره، أما الخمسة الأولى فأحدها: عرفة، وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مشتق من المعرفة، وفيه ثمانية أقوال الأول: قول ابن عباس: إن آدم وحواء التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه فسمى اليوم عرفة، والموضع عرفات، وذلك أنهما لما
أهبطا من الجنة وقع آدم بسرنديب، وحواء بجدة، وإبليس بنيسان، والحية بأصفهان، فلما أمر الله تعالى آدم بالحج لقي حواء بعرفات فتعارفا وثانيها: أن آدم علمه جبريل مناسك الحج، فلما وقف بعرفات قال له: أعرفت؟ قال نعم، فسمى عرفات وثالثها: قول علي وابن عباس وعطاء والسدي: سمي الموضع عرفات لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة ورابعها: أن جبريل كان علم إبراهيم عليه السلام المناسك، وأوصله إلى عرفات، وقال له: أعرفت كيف تطوف وفي أي موضع تقف؟ قال نعم وخامسها: أن إبراهيم عليه السلام وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يلتقيا سنين، ثم التقيا يوم عرفة بعرفات وسادسها: ما ذكرناه من أمر منام إبراهيم عليه السلام وسابعها: أن الحاج يتعارفون فيه بعرفات إذا وقفوا وثامنها: أنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة.
القول الثاني: في اشتقاق عرفة أنه من الإعتراف لأن الحجاج إذا وقفوا في عرفة اعترفوا للحق بالربوبية والجلال والصمدية والإستغناء ولأنفسهم بالفقر والذلة والمسكنة والحاجة ويقال: إن آدم وحواء عليهما السلام لما وقفا بعرفات قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا، فقال الله سبحانه وتعالى الآن عرفتما أنفسكما.
والقول الثالث: أنه من العرف وهو الرائحة الطيبة قال تعالى: * (يدخلهم الجنة عرفها لهم) * (محمد: 6) أي طيبها لهم، ومعنى ذلك أن المذنبين لما تابوا في عرفات فقد تخلصوا عن نجاسات الذنوب، ويكتسبون به عند الله تعالى رائحة طيبة، قال عليه الصلاة والسلام: " خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك "
190

الاسم الثاني: يوم إياس الكفار من دين الإسلام الثالث: يوم إكمال الدين الرابع: يوم إتمام النعمة الخامس: يوم الرضوان، وقد جمع الله تعالى هذه الأشياء في أربع آيات، في قوله: * (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) * (المائدة: 3) الآية، قال عمر وابن عباس: نزلت هذه الآية عشية عرفة، وكان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام، وذلك في حجة الوداع، وقد اضمحل الكفر، وهدم بنيان الجاهلية، فقال عليه الصلاة والسلام: " لو يعلم الناس ما لهم في هذه الآية لقرت أعينهم " فقال يهودي لعمر: لو أن هذه الآية نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال عمر: أما نحن فجعلناه عيدين، كان يوم عرفة ويوم الجمعة فأما معنى: إياس المشركين: فهو أنهم يئسوا من قوم محمد عليه الصلاة والسلام أن يرتدوا راجعين إلى دينهم، فأما معنى إكمال الدين فهو أنه تعالى ما أمرهم بعد ذلك بشئ من الشرائع، وأما إتمام النعمة فأعظم النعم نعمة الدين، لأن بها يستحق الفوز بالجنة والخلاص من النار، وقد تمت في ذلك اليوم وكذلك قال في آية الوضوء * (وليتم نعمته عليكم لعلكم تشركون) * (المائدة: 6) ولما جاء البشير وقدم على يعقوب، قال: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على دين الإسلام قال: الآن تمت النعمة، وأما معنى الرضوان فهو أنه تعالى رضي بدينهم الذي تمسكوا به وهو الإسلام فهي بشارة بشرهم بها في ذلك اليوم فلا يوم أكمل من اليوم الذي بشرهم فيه بإكمال الدين، وقيل: هذا اليوم يوم صلة الواصلين * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) * (المائدة: 3) ويوم قطيعة القاطعين * (أن الله برئ من المشركين ورسوله) * (التوبة: 3) ويوم إقالة عثر النادمين وقبول توبة التائبين * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * (الأعراف: 23) فكما تاب برحمته على آدم فيه فكذلك يتوب على أولاده * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) * (الشورى: 25) وهو أيضا يوم وفد الوافدين * (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا) * (الحج: 27) وفي الخبر " الحاج وفد الله، والحاج زوار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره ".
وأما الأسماء الخمسة الأخرى ليوم عرفة فأحدها: يوم الحج الأكبر قال الله تعالى: * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر) * (التوبة: 3) وهذا الاسم مشترك بين عرفة والنحر، واختلف الصدر الأول من الصحابة والتابعين فيه، فمنهم من قال: إنه عرفة، وسمي بذلك لأنه يحصل فيه الوقوف بعرفات والحج عرفة إذا لو أدركه وفاته سائر
191

مناسك الحج أجزأ عنها الدم، فلهذا السبب سمي بالحج الأكبر قال الحسن: سمي به لأنه اجتمع فيه الكفار والمسلمون، ونودي فيه أن لا يحج بعده مشرك، وقال ابن سيرين: إنما سمي به لأنه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلها من اليهود والنصارى وحج المسلمون ولم يجتمع قبله ولا بعده، ومنهم من قال: إنه يوم النحر لأنه يقع فيه أكثر مناسك الحج، فأما الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزئ في الليل وروى القولان جميعا عن علي وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيها: الشفع وثالثها: الوتر ورابعها: الشاهد وخامسها: المشهود في قوله: * (وشاهد ومشهود) * (البروج: 3) وهذه الأسماء فسرناها في هذه الآية.
واعلم أنه تعالى خص يوم عرفة من بين سائر أيام الحج بفضائل، منها أنه تعالى خص صومه بكثرة الثواب قال عليه الصلاة والسلام: " صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين " وعن أنس كان يقال في أيام العشر: كل يوم بألف ويوم عرفة بعشرة آلاف بل يستحب للحاج الواقف بعرفات أن يفطر حتى يكون وقت الدعاء قوي القلب حاضر النفس.
المسألة الرابعة: اعلم أنه لا بد وأن نشير إشارة حقيقية إلى ترتيب أعمال الحج حتى يسهل الوقوف على معنى الآية، فمن دخل مكة محرما في ذي الحجة أو قبله، فإن كان مفردا أو قارنا طاف طواف القدوم، وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات، وإن كان متمتعا طاف وسعى وحلق وتحلل من عمرته وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات، وحينئذ يحرم من جوف مكة بالحج ويخرج وكذلك من أراد الحج من أهل مكة، والسنة للإمام أن يخطب بمكة يوم السابع من ذي الحجة، بعدما يصلي الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فبها بالذهاب غدا بعدما يصلون الصبح إلى منى ويعلمهم تلك الأعمال، ثم إن القوم يذهبون يوم التروية إلى منى بحيث يوافون الظهر بها، ويصلون بها مع الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة، ثم إذا طلعت الشمس على ثبير يتوجهون إلى عرفات، فإذا دنوا منها فالسنة أن لا يدخلوها، بل يضرب فيه الإمام بنمرة وهي قريبة من عرفة، فينزلون هناك حتى تزول الشمس، فيخطب الإمام خطبتين يبين لهم مناسك الحج ويحرضهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف، إذا فرغ من الخطبة الأولى جلس، ثم قام وافتتح الخطبة الثانية والمؤذنون يأخذون في الأذان معه ويخفف بحيث يكون فراغه منها مع فراغ
المؤذنين من الأذان، ثم ينزل فيقيم المؤذنون فيصلي بهم الظهر، ثم يقيمون في الحال ويصلي بهم العصر، وهذا الجمع متفق عليه، ثم بعد الفرغ من الصلاة يتوجهون إلى عرفات فيقفون عند الصخرات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف هناك، وإذا وقفوا استقبلوا القبلة يذكرون الله تعالى ويدعونه إلى غروب الشمس.
واعلم أن الوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به فمن فاته الوقوف في وقته وموضوعه فقد فاته الحج ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس من يوم عرفة، ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة، وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو
192

نهار فقد كفى، وقال أحمد: وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة، ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر فإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة.
وفي تسمية المزدلفة أقوال: أحدها: أنهم يقربون فيها من منى والإزدلاف القرب والثاني: أن الناس يجتمعون فيها والاجتماع الإزدلاف والثالث: أنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف ويقال للمزدلفة: جمع لأنه يجمع فيها بين صلاة العشاء والمغرب، وهذا قول قتادة، وقيل إن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء، وازدلف إليها أي دنا منها، ثم إذا أتى الإمام المزدلفة: جمع المغرب والعشاء بإقامتين، ثم يبيتون بها، فإن يبت بها فعليه دم شاة، فإذا طلع الفجر صلوا صلاة الصبح بغلس والتغليس بالفجر ههنا أشد استحبابا منه في غيرها، وهو متفق عليه، فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي، يأخذ كل إنسان منها سبعين حصاة، ثم يذهبون إلى المشعر الحرام، وهو جبل يقال له قزح، وهو المراد من قوله تعالى: * (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * وهذا الجبل أقصى المزدلفة مما يلي منى، فيرقى فوقه إن أمكنه، أو وقف بالقرب منه إن لم يمكنه، وبحمد الله تعالى يهلله ويكبره، ولا يزال كذلك حتى يسفر جدا، ثم يدفع قبل طلوع الشمس ويكفي المرور كما في عرفة، ثم يذهبون منه إلى وادي محسر فإذا بلغوا بطن محسر فيستحب لمن كان راكبا أن يحرك دابته، ومن كان ماشيا أن يسعى سعيا شديدا قدر رمية حجر، فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ويقطع التلبية إذا ابتدأ الرمي، فإذا رمى جمرة العقبة ذبح الهدي إن كان معه هدي وذلك سنة لو تركه لا شئ عليه، لأنه ربما لا يكون معه هدي، ثم بعدما ذبح الهدي يحلق رأسه أو يقصر والتقصير أن يقطع أطراف شعوره، ثم بعد الحلق يأتي مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة، ويصلي ركعتي الطواف، ويسعى بين الصفا والمروة، ثم بعد ذلك يعودون إلى منى في بقية يوم النحر وعليهم البيتوتة بمنى ليالي التشريق لأجل الرمي، واتفقوا على أنه متى حصل الرمي والحلق والطواف فقد حصل التحلل، والمراد من التحلل حل اللبس والتقليم والجماع، فهذا هو الكلام في أعمال الحج والله أعلم.
المسألة الخامسة: اعلم أن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج عن سنة إبراهيم عليه السلام، وذلك أن قريشا وقوما آخرين سموا أنفسهم بالحمس، وهم أهل الشدة في دينهم، والحماسة الشدة يقال: رجل أحمس وقوم حمس، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفات، ويقولون
193

لا نخرج من الحرم ولا نتركه في وقت الطاعة وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس، والذي يقفون بمزدلفة يفيضون إذا طلعت الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير، ومعناه: أشرق يا ثبير بالشمس كيما نندفع من مزدلفة فيدخلون في غور من الأرض، وهو المنخفض منها، وذلك أنهم جاوزوا المزدلفة وصاروا في غور من الأرض، فأمر الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام بمخالفة القوم في الدفعتين، وأمره بأن يفيض من عرفة بعد غروب الشمس، وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس، والآية لا دلالة فيها على ذلك، بل السنة دلت على هذه الأحكام.
المسألة السادسة: الصحيح أن الآية تدل على أن الحصول بعرفة واجب في الحج، وذلك أن الآية دالة على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام عند الإفاضة من عرفات، والإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج، فإذا لم يأت به فلم يكن آتيا بالحج المأمور به، فوجب أن لا يخرج عن العهدة وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطا أقصى ما في الباب أن الحج يحصل عند ترك بعض المأمورات إلا أن الأصل ما ذكرناه، وإنما يعدل عنه بدليل منفصل وذهب كثير من العلماء إلى أن الآية لا دلالة فيها على أن الوقوف شرط ونقل عن الحسن أن الوقوف بعرفة واجب، إلا أنه إن فاته ذلك قام الوقوف بجميع الحرم مقامه، وسائر الفقهاء أنكروا ذلك واتفقوا على أن الحج لا يحصل إلا بالوقوف بعرفة.
المسألة السابعة: قوله: * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * يدل أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ويكفي فيه المرور به كما في عرفة، فأما الوقوف هناك فمسنون، وروي عن علقمة والنخعي أنهما قالا: الوقوف بالمزدلفة ركن بمنزلة الوقوف بعرفة وحجتهما قوله تعالى: * (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * وذلك لأن الوقوف بعرفة لا ذكر له صريحا في الكتاب وإنما وجب بإشارة الآية أو بالسنة، والمشعر الحرام فيه أمر جزم، وقال جمهور الفقهاء: إنه ليس بركن، واحتجوا بقوله عليه السلام: " الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه " وبقوله: " من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة فقد فاته الحج " قالوا: وفي الآية إشارة إلى ما قلنا لأن الله تعالى قال: * (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * أمر بالذكر لا بالوقوف، فعلم أن الوقوف عند المشعر الحرام تبع للذكر،
194

وليس بأصل، وأما الوقوف بعرفة فهو أصل لأنه قال: * (فإذا أفضتم من عرفات) * ولم يقل من الذكر بعرفات.
المسألة الثامنة: * (المشعر) * المعلم وأصله من قولك: شعرت بالشئ إذا علمته، وليت شعري ما فعل فلان، أي ليس علمي بلغه وأحاط به، وشعار الشئ أعلامه، فسمى الله تعالى ذلك الموضع بالمشعر الحرام، لأنه معلم من معالم الحج، ثم اختلفوا فقال قائلون: المشعر الحرام هو المزدلفة، وسماها الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده، هكذا قاله الواحدي في " البسيط " قال صاحب " الكشاف ": الأصح أنه قزح، وهو آخر حد المزدلفة والأول أقرب لأن الفاء في قوله: * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة.
المسألة التاسعة: اختلفوا في الذكر المأمور به عند المشعر الحرام فقال بعضهم: المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك والصلاة تسمى ذكرا قال الله تعالى: * (وأقم الصلاة لذكري) * (طه: 14) والدليل عليه أن قوله: * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * أمر وهو للوجوب، ولا ذكر هناك يجب إلا هذا، وأما الجمهور فقالوا: المراد منه ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، وعن ابن عباس أنه نظر إلى الناس في هذه الليلة وقال: كان الناس إذا أدركوا هذه الليلة لا ينامون.
أما قوله تعالى: * (واذكروه كما هداكم) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: لما قال: * (اذكروا الله عند المشعر الحرام) * فلم قال مرة أخرى * (واذكروه) * وما الفائدة في هذا التكرير؟.
والجواب من وجوه أحدها: أن مذهبنا أن أسماء الله تعالى توقيفية لا قياسية فقوله أولا: * (اذكروا الله) * أمر بالذكر، وقوله ثانيا: * (واذكروه كما هداكم) * أمر لنا بأن نذكره سبحانه بالأسماء والصفات التي بينها لنا وأمرنا أن نذكره بها، لا بالأسماء التي نذكرها بحسب الرأي والقياس وثانيها: أنه تعالى أمر بالذكر أولا، ثم قال ثانيا: * (واذكروه كما هداكم) * أي وافعلوا ما أمرناكم به من الذكر كما هداكم الله لدين الإسلام، فكأنه تعالى قال: إنما أمرتكم بهذا الذكر لتكونوا شاكرين لتلك النعمة، ونظيره ما أمرهم به من التكبير إذا أكملوا شهر رمضان، فقال: * (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) * (البقرة: 185) وقال في " الأضاحي ": * (كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم) * وثالثها: أن قوله أولا: * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * أمر بالذكر باللسان وقوله ثانيا: * (واذكروه كما هداكم) * أمر بالذكر بالقلب، وتقريره أن الذكر في كلام العرب ضربان
195

أحدهما: ذكر هو ضد النسيان والثاني: الذكر بالقول، فما هو خلاف النسيان قوله: * (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) * (الكهف: 63) وأما الذكر الذي هو القول فهو كقوله: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا * واذكروا الله في أيام معدودات) * (البقرة: 203) فثبت أن الذكر وارد بالمعنيين فالأول: محمول على الذكر باللسان والثاني: على الذكر بالقلب، فإن بهما يحصل تمام العبودية ورابعها: قال ابن الأنباري: معنى قوله: * (واذكروه كما هداكم) * يعني اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته وخامسها: يحتمل أن يكون المراد من الذكر مواصلة الذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا الله واذكروه أي اذكروه ذكرا بعد ذكر، كما هداكم هداية بعد هداية، ويرجع حاصله إلى قوله: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) * (الأحزاب: 41) وسادسها: أنه تعالى أمر بالذكر عند المشعر الحرام، وذلك إشارة إلى القيام بوظائف الشريعة، ثم قال بعده: * (واذكروه كما هداكم) * والمعنى أن توقيف الذكر على المشعر الحرام فيه إقامة لوظائف الشريعة، فإذا عرفت هذا قربت إلى مراتب الحقيقة، وهو أن ينقطع قلبك عن المشعر الحرام، بل عن من سواه فيصير مستغرقا في نور جلاله وصمديته، ويذكره لأنه هو الذي يستحق لهذا الذكر ولأن هذا الذكر يعطيك نسبة شريفة إليه بكونك في هذه الحالة تكون في مقام العروج ذاكرا له ومشتغلا بالثناء عليه، وإنما بدأ بالأول وثنى بالثاني لأن العبد في هذه الحالة يكون في مقام العروج فيصعد من الأدنى إلى الأعلى وهذا مقام شريف لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال، ومن أراد أن يصل إليه، فليكن من الواصلين إلى العين، دون السامعين للأثر ورابعها: أن يكون المراد بالأول هو ذكر أسماء الله تعالى وصفاته الحسنى، والمراد بالذكر الثاني: الاشتغال بشكر نعمائه، والشكر مشتمل أيضا على الذكر، فصح أن يسمي الشكر ذكرا، والدليل على أن الذكر الثاني هو الشكر أنه علقه بالهداية، فقال: * (كما هداكم) * والذكر المرتب على النعمة ليس إلا الشكر وثامنها: أنه تعالى لما قال * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * جاز أن يظن أن الذكر مختص بهذه البقعة وبهذه العبادة، يعني الحج فأزال الله تعالى هذه الشبهة فقال * (واذكروه كما هداكم) * يعني اذكروه على كل حال، وفي كل مكان، لأن هذا الذكر إنما وجب شكرا على هدايته، فلما كانت نعمة الهداية متواصلة غير منقطعة، فكذلك الشكر يجب أن يكون مستمرا غير منقطع وتاسعها: أن قوله: * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك، ثم قوله: * (واذكروه كما هداكم) * والمراد منه التهليل والتسبيح.
السؤال الثاني: ما المراد من الهداية في قوله: * (كما هداكم) *؟.
196

الجواب: منهم من قال: إنها خاصة، والمراد منه كما هداكم بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم عليه السلام، ومنهم من قال لا بل هي عامة متناولة لكل أنواع الهداية في معرفة الله تعالى، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه.
السؤال الثالث: الضمير في قوله: * (من قبله) * إلى ماذا يعود؟.
الجواب: يحتمل أن يكون راجعا إلى * (الهدى) * والتقدير: وإن كنتم من قبل أن هداكم من الضالين، وقال بعضهم: إنه راجع إلى القرآن، والتقدير: واذكروه كما هداكم بكتابه الذي بين لكم معالم دينه، وإن كنتم من قبل إنزاله ذلك عليكم من الضالين.
أما قوله تعالى: * (وإن كنتم من قبله لمن الضالين) * فقال القفال رحمة الله عليه: فيه وجهان أحدهما: وما كنتم من قبله إلا الضالين والثاني: قد كنتم من قبله من الضالين، وهو كقوله: * (إن كل نفس لما عليها حافظ) * (الطارق: 4) وقوله: * (وإن نظنك لمن الكاذبين) * (الشعراء 186).
قوله تعالى
* (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) *.
فيه قولان الأول: المراد به الإفاضة من عرفات، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون منهم ذهبوا إلى أن هذه الآية أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس، وذلك أنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويحتجون بوجوه أحدها: أن الحرم أشرف من غيره فوجب أن يكون الوقوف به أولى وثانيها: أنهم كانوا يترفعون على الناس ويقولون: نحن أهل الله فلا نحل حرم الله وثالثها: أنهم كانوا لو سلموا أن الموقف هو عرفات لا الحرم، لكان ذلك يوهم نقصا في الحرم ثم ذلك النقص كان يعود إليهم، ولهذا كان
الحمس لا يقفون إلا في المزدلفة، فأنزل الله تعالى هذه الآية أمرا لهم بأن يقفوا في عرفات، وأن يفيضوا منها كما تفعله سائر الناس، وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جعل أبا بكر أميرا في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات، فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له: إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها، وأمر سائر الناس بالوقوف بها، وعلى هذا التأويل فقوله: * (من حيث أفاض الناس) * يعني لتكن إفاضتكم من حيث أفاض سائر الناس الذين هم واقفون بعرفات، ومن القائلين بأن
197

المراد بهذه الآية الإضافة من عرفات من يقول قوله: * (ثم أفيضوا) * أمر عام لكل الناس، وقوله: * (من حيث أفاض الناس) * المراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفات، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس، ويخالف الحمس، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيسا يقتدي به، وهو كقوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس) * (آل عمران: 173) يعني نعيم بن مسعود * (إن الناس قد جمعوا لكم) * (آل عمران: 173) يعني أبا سفيان، وإيقاع اسم الجمع على الواحد المعظم مجاز مشهور، ومنه قوله: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) وفي الآية وجه ثالث ذكره القفال رحمه الله، وهو أن يكون قوله: * (من حيث أفاض الناس) * عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفة وأنه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث كما يقال: هذا مما فعله الناس قديما، فهذا جملة الوجوه في تقرير مذهب من قال: المراد من هذه الإفاضة من عرفات. القول الثاني: وهو اختيار الضحاك: أن المراد من هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر وقوله: * (من حيث أفاض) * المراد بالناس إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما، وذلك أنه كانت طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس، فالله تعالى أمرهم بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام واعلم أن على كل واحد من القولين إشكالا:
أما الإشكال على القول الأول: فهو أن قوله تعالى: * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) * يقتضي ظاهره أن هذه الإفاضة غير ما دل عليه قوله: * (فإذا أفضتم من عرفات) * (البقرة: 198) لمكان * (ثم) * فإنها توجب الترتيب، ولو كان المراد من هذه الآية: الإفاضة من عرفات، مع أنه معطوف على قوله * (فإذا أفضتم من عرفات) * كان هذا عطفا للشئ على نفسه وأنه غير جائز ولأنه يصير تقدير الآية: فإذا أفضتم من عرفات، ثم أفيضوا من عرفات وإنه غير جائز.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذه الآية متقدمة على ما قبلها، والتقدير: فاتقون يا أولي الألباب، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم، فإذا أفضتم من عرفات فذكروا الله، وعلى هذا الترتيب يصح في هذه الإفاضة أن تكون تلك بعينها.
قلنا: هذا وإن كان محتملا إلا أن الأصل عدمه، وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني
198

من غير التزام إلى ما ذكرتم فأي حاجة بنا إلى التزامه.
وأما الإشكال على القول الثاني: فهو أن القول لا يتمشى إلا إذا حملنا لفظ * (من حيث) * في قوله: * (من حيث أفاض الناس) * على الزمان، وذلك غير جائز، فإنه مختص بالمكان لا بالزمان.
أجاب القائلون بالقول الأول: عن ذلك السؤال بأن * (ثم) * ههنا على مثال ما في قوله تعالى: * (وما أدراك ما العقبة فك رقبة) * (البلد: 13) إلى قوله: * (ثم كان من الذين آمنوا) * (البلد: 17) أي كان مع هذا من المؤمنين، ويقول الرجل لغيره: قد أعطيتك اليوم كذا وكذا، ثم أعطيتك أمس كذا فإن فائدة كلمة * (ثم) * ههنا تأخر أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخر هذا المخبر عنه عن ذلك المخبر عنه.
وأجاب القائلون بالقول الثاني: بأن التوقيت بالزمان والمكان يتشابهان جدا فلا يبعد جعل اللفظ المستعمل في أحدهما مستعملا في الآخر على سبيل المجاز.
أما قوله: * (من حيث أفاض الناس) * فقد ذكرنا أن المراد من * (الناس) * إما الواقفون بعرفات وإما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وأتباعهما، وفيه قول ثالث وهو قول الزهري. أن المراد بالناس في هذه الآية: آدم عليه السلام، واحتج بقراءة سعيد بن جبير * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) * وقال: هو آدم نسي ما عهد إليه، ويروى أنه قرأ * (الناس) * بكسر السين اكتفاء بالكسرة عن الياء، والمعنى: أن الإفاضة مع عرفات شرع قديم فلا تتركوه.
أما قوله تعالى: * (واستغفروا الله) * فالمراد منه الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب، وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد، ويكون غرضه في ذلك تحصيل مرضات الله تعالى لا لمنافعه العاجلة كما أن ذكر الشهادتين لا ينفع إلا والقلب حاضر مستقر على معناهما، وأما الاستغفار باللسان من غير حصول التوبة بالقلب فهو إلى الضرر أقرب.
فإن قيل: كيف أمر بالاستغفار مطلقا، وربما كان فيهم من لم يذنب فحينئذ لا يحتاج إلى الاستغفار.
والجواب: أنه إن كان مذنبا فالإستغفار واجب، وإن لم يذنب إلا أنه يجوز من نفسه أنه قد صدر عنه تقصير في أداء الواجبات، والاحتراز عن المحظورات، وجب عليه الاستغفار أيضا تداركا لذلك الخلل المجوز، وإن قطع بأنه لم يصدر عنه البتة خلل في شئ من الطاعات، فهذا كالممتنع في حق البشر، فمن أين يمكنه هذا القطع في عمل واحد، فكيف في أعمال كل العمر، إلا أن بتقدير إمكانه فالإستغفار أيضا واجب، وذلك لأن طاعة المخلوق لا تليق بحضرة الخالق، ولهذا قالت الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، فكان الاستغفار لازما من هذه الجهة، ولهذا قال
199

عليه الصلاة والسلام: " إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ".
وأما قوله تعالى: * (إن الله غفور رحيم) * قد علمت أن غفورا يفيد المبالغة، وكذا الرحيم، ثم في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: هذه الآية تدل على أنه تعالى يقبل التوبة من التائب، لأنه تعالى لما أمر المذنب بالاستغفار، ثم وصف نفسه بأنه كثير الغفران كثير الرحمة، فهذا يدل قطعا على أنه تعالى يغفر لذلك المستغفر، ويرحم ذلك الذي تمسك بحبل رحمته وكرمه.
المسألة الثانية: اختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية فقال قائلون: إنها عند الدفع من عرفات إلى الجمع، وقال آخرون: إنها عند الدفع من الجمع إلى منى، وهذا الاختلاف مفرع على ما ذكرنا أن قوله: * (ثم أفيضوا) * على أي الأمرين يحمل؟ قال القفال رحمه الله: ويتأكد القول الثاني بما روى نافع عن ابن عمر، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية يوم عرفة فقال: " يا أيها الناس إن الله عز وجل يطلع عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم، والتبعات عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله " فقال أصحابه: يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا، فقال عليه الصلاة والسلام: " إني سألت ربي عز وجل بالأمس شيئا لم يجد لي به: سألته التبعات فأبى علي به فلما كان اليوم أتاني جبريل عليه السلام فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: التبعات ضمنت عوضها من عندي " اللهم اجعلنا من أهله بفضلك يا أكرم الأكرمين.
قوله تعالى
* (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم ءابآءكم أو أشد ذكرا) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: روى ابن عباس أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل، ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم، ويتناشدون فيها الأشعار، ويتكلمون بالمنثور من الكلام، ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل حصول الشهرة والترفع بمآثر سلفه، فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربهم كذكرهم لآبائهم، وروى القفال في " تفسيره " عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصوى يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
200

" أما بعد أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وتفككها، يا أيها الناس إنما الناس رجلان بر تقي كريم على الله أو فاجر شقي هين على الله ثم تلا * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) * (الحجرات: 13) أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم " وعن السدي أن العرب بمنى بعد فراغهم من الحج كان أحدهم يقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القدر، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المسألة الثانية: اعلم أن القضاء إذا علق بفعل النفس، فالمراد به الإتمام والفراغ، وإذا علق على فعل الغير فالمراد به الالزام، نظير الأول قوله تعالى: * (فقضاهن سبع سماوات في يومين، فإذا قضيت الصلاة) * وقال عليه الصلاة والسلام: " وما فاتكم فاقضوا " ويقال في الحاكم عند فصل الخصومة قضي بينهما، ونظير الثاني قوله تعالى: * (وقضى ربك) * (الإسراء: 23) وإذا استعمل في الإعلام، فالمراد أيضا ذلك كقوله: * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) * (الإسراء: 4) يعني أعلمناهم.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: * (فإذا قضيتم مناسككم) * لا يحتمل إلا الفراغ من جميعه خصوصا وذكر كثير منه قد تقدم من قبل، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد: اذكروا الله عند المناسك ويكون المراد من هذا الذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات والمشعر الحرام والطواف والسعي ويكون قوله: * (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله) * كقول القائل إذا حججت فطف وقف بعرفة ولا يعني به الفراغ من الحج بل الدخول فيه، وهذا القول ضعيف لأنا بينا أن قوله: * (فإذا قضيتم مناسككم) * مشعر بالفراغ والاتمام من الكل، وهذا مفارق لقول القائل: إذا حججت فقف بعرفات، لأن مراده هناك الدخول في الحج لا الفراغ، وأما هذه الآية فلا يجوز أن يكون المراد منها إلا الفراغ من الحج.
المسألة الثالثة: " المناسك " جمع منسك الذي هو المصدر بمنزلة النسك، أي إذا قضيتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج، وإن جعلنها جمع منسك الذي هو موضع العبادة، كان التقدير: فإذا قضيتم أعمال مناسككم، فيكون من باب حذف المضاف.
إذا عرفت هذا فنقول: قال بعض المفسرين: المراد من المناسك ههنا ما أمر الله تعالى به الناس في الحج من العبادات، وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء.
المسألة الرابعة: الفاء في قوله: * (فاذكروا الله) * يدلى على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر، فلهذا اختلفوا في أن هذا الذكر أي ذكر هو؟ فمنهم من حمله على الذكر على الذبيحة، ومنهم من حمله على الذكر الذي هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشويق، على حسب
201

اختلافهم في وقته أولا وآخرا، لأن بعد الفراغ من الحج لا ذكر مخصوص إلا هذه التكبيرات، ومنهم من قال: بل المراد تحويل القوم عما اعتادوه بعد الحج من ذكر التفاخر بأحوال الآباء لأنه تعالى لو لم ينه عن ذلك بإنزال هذه الآية لم يكونوا ليعدلوا عن هذه الطريقة الذميمة، فكأنه تعالى قال: فإذا قضيتم وفرغتم من واجبات الحج وحللتم فتوفروا على ذكر الله دون ذكر الآباء، ومنهم من قال: بل المراد منه أن الفراغ من الحج يوجب الإقبال على الدعاء والاستغفار، وذلك لأن من تحمل مفارقة الأهل والوطن وإنفاق الأموال، والتزام المشاق في سفر الحج فحقيق به بعد الفراغ منه أن يقبل على الدعاء والتضرع وكثرة الاستغفار والانقطاع إلى الله تعالى، وعلى هذا جرت السنة بعد الفراغ من الصلاة بالدعوات الكثيرة وفيه وجه خامس وهو أن المقصود من الاشتغال بهذه العبادة: قهر النفس ومحو آثار النفس والطبيعة ثم هذا العزم ليس مقصودا بالذات بل المقصود منه أن تزول النقوش الباطلة عن لوح الروح حتى يتجلى فيه نور جلال الله، والتقدير: فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية،
وأمطتم الأذى عن طريق السلوك فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله، فالأول نفي والثاني إثبات والأول إزالة ما دون الحق من سنن الآثار والثاني استنارة القلب بذكر الملك الجبار.
أما قوله تعالى: * (كذكركم آباءكم) * ففيه وجوه أحدها: وهو قول جمهور المفسرين: أنا ذكرنا أن القوم كانوا بعد الفراغ من الحج يبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم فقال الله سبحانه وتعالى: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم) * يعني توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء وابذلوا جهدكم في الثناء على الله وشرح آلائه ونعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم لأن هذا أولى وأقرب إلى العقل من الثناء على الآباء، فإن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبا فذلك يوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في الآخرة وإن كان صدقا فذلك يوجب العجب والكبر وكثرة الغرور، وكل ذلك من أمهات المهلكات، فثبت أن اشتغالكم بذكر الله أولى من اشتغالكم بمفاخر آبائكم، فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من التساوي وثانيها: قال الضحاك والربيع: اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم، واكتفى بذكر الآباء عن الأمهات كقوله: * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 81) قالوا وهو قول الصبي أول ما يفصح الكلام أبه أبه، أمه أمه، أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظبا على ذكر أبيه وأمه وثالثها: قال أبو مسلم: جرى ذكر الآباء مثلا لدوام الذكر، والمعنى أن الرجل كما لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله ورابعها: قال ابن الأنباري في هذه الآية: إن العرب كان أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء كقوله
202

وأبي وأبيكم وجدي وجدكم، فقال تعالى: عظموا الله كتعظيمكم آبائكم وخامسها: قال بعض المذكورين: المعنى اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية فإن الواحد منهم لو نسب إلى والدين لتأذى واستنكف منه ثم كان يثبت لنفسه آلهة فقيل لهم: اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية، بل المبالغة في التوحيد ههنا أولى من هناك، وهذا هو المراد بقوله: * (أو أشد ذكرا) * وسادسها: أن الطفل كما يرجع إلى أبيه في طلب جميع المهمات ويكون ذاكرا له بالتعظيم، فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك وسابعها: يحتمل أنهم كانوا يذكرون آباءهم ليتوسلوا بذكره إلى إجابة الدعاء عند الله فعرفهم الله تعالى أن آباءهم ليسوا في هذه الدرجة إذ أفعالهم الحسنة صارت غير معتبرة بسبب شركهم وأمروا أن يجعلوا بدل ذلك تعديد آلاء الله ونعمائه وتكثير الثناء عليه ليكون ذلك وسيلة إلى تواتر النعم في الزمان المستقبل، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يحلفوا بآبائهم فقال: " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " إذا كان ما سوى الله فإنما هو لله وبالله فالأولى تعظيم الله تعالى ولا إله غيره وثامنها: روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: هو أن تغضب لله إذا عصى أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء.
واعلم أن هذه الوجوه وإن كانت محتملة إلا أن الوجه الأول هو المتعين وجميع الوجوه مشتركة في شئ واحد، وهو أنه يجب على العبد أن يكون دائم الذكر لربه دائم التعظيم له دائم الرجوع إليه في طلب مهماته دائم الانقطاع عمن سواه، اللهم اجعلنا بهذه الصفة يا أكرم الأكرمين.
أما قوله تعالى: * (أو أشد ذكرا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: عامل الإعراب في * (أشد) * قيل: الكاف، فيكون موضعه جرا وقيل: * (اذكروا) * فيكون موضعه نصبا، والتقدير: اذكروا الله مثل ذكركم آباءكم، واذكروه * (أشد ذكرا) * من آبائكم.
المسألة الثانية: قوله: * (أو أشد ذكرا) * معناه: بل أشد ذكرا، وذلك لأن مفاخر آبائهم كانت قليلة، أما صفات الكمال لله عز وجل فهي غير متناهية، فيجب أن يكون اشتغالهم بذكر صفات الكمال في حق الله تعالى أشد من اشتغالهم بذكر مفاخر آبائهم، قال القفال رحمه الله: ومجاز اللغة في مثل هذا معروف، يقول الرجل لغيره: افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه، لا يريد به التشكيك، إنما يريد به النقل عن الأول إلى ما هو أقرب منه.
203

قوله تعالى
* (فمن الناس من يقول ربنآ ءاتنا فى الدنيا وما له فى الاخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنآ ءاتنا فى الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار * أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الله تعالى بين أولا تفصيل مناسك الحج، ثم أمر بعدها بالذكر، فقال: * (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم) * (البقرة: 198) ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره، وأن يقتصر على ذكره فقال: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) * ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال: * (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا) * وما أحسن هذا الترتيب، فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها، ثم بعد العبادة لا بد من الإشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلى نور جلاله، ثم بعد ذلك الذكر يشتغل الرجل بالدعاء فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقا بالذكر كما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قدم الذكر فقال: * (الذي خلقني فهو يهدين) * (الشعراء: 78) ثم قال: * (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) * فقدم الذكر على الدعاء.
إذا عرفت هذا فنقول: بين الله تعالى أن الذين يدعون الله فريقان أحدهما: أن يكون دعاؤهم مقصورا على طلب الدنيا والثاني: الذين يجمعون في الدعاء بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، وقد كان في التقسيم قسم ثالث، وهو من يكون دعاؤه مقصورا على طلب الآخرة، واختلفوا في أن هذا القسم هل هو مشروع أو لا؟ والأكثرون على أنه غير مشروع، وذلك أن الإنسان خلق محتاجا ضعيفا لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بمشاق الآخرة، فالأولى له أن يستعيذ بربه من كل شرور الدنيا والآخرة، روى القفال في " تفسيره " عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض، فقال: ما كنت تدعو الله به قبل هذا قال: كنت أقول. اللهم ما كنت تعاقبني
204

به في الآخرة فعجل به في الدنيا، فقال النبي عليه السلام: " سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) * " قال فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفي.
واعلم أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن، أو على منبت شعرة واحدة، لشوش الأمر على الإنسان وصار بسببه محروما عن طاعة الله تعالى وعن الاشتغال بذكره، فمن ذا الذي يستغني عن إمداد رحمة الله تعالى في أولاه وعقباه، فثبت أن الاقتصار في الدعاء على طلب الآخرة غير جائز، وفي الآية إشارة إليه حيث ذكر القسمين، وأهمل هذا القسم الثالث. المسألة الثانية: اختلفوا في أن الذين حكى الله عنهم أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم؟ فقال قوم: هم الكفار، روي عن ابن عباس أن المشركين كانوا يقولون إذا وقفوا: اللهم ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا وإماء، وما كانوا يطلبون التوبة والمغفرة، وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والمعاد، وعن أنس كانوا يقولون: اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر، فأخبر الله تعالى أن من كان من هذا الفريق فلا خلاق له في الآخرة، أي لا نصيب له فيها من كرامة ونعيم وثواب، نقل عن الشيخ أبي علي الدقاق رحمه الله أنه قال: أهل النار يستغيثون ثم يقولون: أفيضوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله في الدنيا، طلبا للمأكول والمشروب، فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة، وقال آخرون: هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون الله لدنياهم، لا لأخراهم ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب حيث سألوا الله تعالى في أعظم المواقف، وأشرف المشاهد حطام الدنيا وعرضها الفاني، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة، وقد يقال لمن فعل ذلك إنه لا خلاق له في الآخرة، وإن كان الفاعل مسلما، كما روى في قوله: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) * (آل عمران: 77) أنها نزلت فيمن أخذ مالا بيمين فاجرة، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، " إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ثم معنى ذلك على وجوه أحدها: أنه لا خلاق له في الآخرة إلا أن يتوب والثاني: لا خلاق له في الآخرة إلا أن يعفو الله عنه والثالث: لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأل الله لآخرته، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالا بيمين فاجرة كخلاق من تورع عن ذلك والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (ربنا آتنا في الدنيا) * حذف مفعول * (آتنا) * من الكلام لأنه كالمعلوم، واعلم أن مراتب السعادات ثلاث: روحانية، وبدنية، وخارجية أما الروحانية فإثنان:
205

تكميل القوة النظرية بالعلم، وتكميل القوة العملية بالأخلاق الفاضلة، وأما البدنية فإثنان: الصحة والجمال، وأما الخارجية فإثنان: المال، والجاه، فقوله: * (آتنا في الدنيا) * يتناول كل هذه الأقسام فإن العلم إذا كان يراد للتزين به في الدنيا والترفع به على الأقران كان من الدنيا، والأخلاق الفاضلة إذا كانت تراد للرياسة في الدنيا وضبط مصالحها كانت من الدنيا، وكل من لا يؤمن بالبعث والمعاد فإنه لا يطلب فضيلة لا روحانية ولا جسمانية إلا لأجل الدنيا، ثم قال تعالى في حق هذا الفريق * (وماله في الآخرة من خلاق) * أي ليس له نصيب في نعيم الآخرة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) * (الشورى: 20) ثم إنه تعالى لم يذكر في هذه الآية أن الذي طلبه في الدنيا هل أجيب له أم لا؟ قال بعضهم: إن مثل هذا الإنسان ليس بأهل للإجابة لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح فلا تثبت إلا لمن كان وليا لله تعالى مستحقا للكرامة لكنه وإن لم يجب فإنه ما دام مكلفا حيا فالله تعالى يعطيه رزقه على ما قال: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * (هود: 6) وقال آخرون إن مثل هذا الإنسان قد يكون مجابا، لكن تلك الإجابة قد تكون مكرا واستدراجا.
أما قوله تعالى: * (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) * فالمفسرون ذكروا فيه وجوها أحدها: أن الحسنة في الدنيا عبارة عن الصحة، والأمن، والكفاية والولد الصالح، والزوجة الصالحة، والنصرة على الأعداء، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق، وما أشبهه " حسنة " فقال: * (إن تصبك حسنة تسؤهم) * (التوبة: 50) وقيل في قوله: * (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) * (التوبة: 52) أنهما الظفر والنصرة والشهادة، وأما الحسنة في الآخرة فهي الفوز بالثوب، والخلاص من العقاب، وبالجملة فقوله: * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) * كلمة جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة، روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس: ادع لنا، فقال: " اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " قالوا: زدنا فأعادها قالوا زدنا قال ما تريدون؟ قد سألت لكم خير الدنيا والآخرة ولقد صدق أنس فإنه ليس للعبد دار سوى الدنيا والآخرة فإذا سأل حسنة الدنيا وحسنة الآخرة لم يبق شئ سواه وثانيها: أن المراد بالحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة والحسنة في الآخرة اللذة الدائمة والتعظيم والتنعم بذكر الله وبالأنس به وبمحبته وبرؤيته وروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلا دعا ربه فقال في دعائه: * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) * فقال النبي عليه الصلاة والسلام: " ما أعلم أن هذا الرجل سأل الله شيئا من أمر الدنيا، فقال بعض الصحابة: بلى يا رسول الله إنه قال: " ربنا آتنا في الدنيا
206

حسنة " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه يقول: آتنا في الدنيا عملا صالحا وهذا متأكد بقوله تعالى: * (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) * (الفرقان: 74) وتلك القرة هي أن يشاهدوا أولادهم وأزواجهم مطيعين مؤمنين مواظبين على العبودية وثالثها: قال قتادة: الحسنة في الدنيا وفي الآخرة طلب العافية في الدارين، وعن الحسن: الحسنة في الدنيا فهم كتاب الله تعالى، وفي الآخرة الجنة، واعلم أن منشأ البحث في الآية أنه لو قيل، آتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة لكان ذلك متناولا لكل الحسنات، ولكنه قال: * (آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) * وهذا نكرة في محل الإثبات فلا يتناول إلا حسنة واحدة، فلذلك اختلف المتقدمون من المفسرين فكل واحد منهم حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة.
فإن قيل: أليس أنه لو قيل: آتنا الحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة لكان ذلك متناولا لكل الأقسام فلم ترك ذلك وذكر على سبيل التنكير؟
قلت: الذي أظنه في هذا الموضع والعلم عند الله أنا بينا فيما تقدم أنه ليس للداعي أن يقول: اللهم أعطني كذا وكذا بل يجب أن يقول: اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي وموافقا لقضائك وقدرك فأعطني ذلك، فلو قال: اللهم أعطني الحسنة في الدنيا والآخرة لكان ذلك جزما، وقد بينا أنه غير جائز، أما لما ذكر على سبيل التنكير فقال أعطني في الدنيا حسنة كان المراد منه حسنة واحدة وهي الحسنة التي تكون موافقة لقضائه وقدره ورضاه وحكمه وحكمته فكان ذلك أقرب إلى رعاية الأدب والمحافظة على أصول اليقين.
أما قوله تعالى: * (أولئك لهم نصيب مما كسبوا) * ففيه مسائل:
207

المسألة الأولى: قوله تعالى: * (أولئك) * فيه قولان أحدهما: إنه إشارة إلى الفريق الثاني فقط الذين سألوا الدنيا والآخرة، والدليل عليه أنه تعالى ذكر حكم الفريق الأول حيث قال: * (وما له في الآخرة من خلاق) *.
والقول الثاني: أنه راجع إلى الفريقين أي لكل من هؤلاء نصيب من عمله على قدر ما نواه، فمن أنكر البحث وحج التماسا لثواب الدنيا فذلك منه كفر وشرك والله مجازيه، أو يكون المراد أن من عمل للدنيا أعطى نصيب مثله في دنياه كما قال: * (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) * (الشورى: 20).
أما قوله تعالى: * (لهم نصيب مما كسبوا) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: قوله: * (لهم نصيب مما كسبوا) * يجري مجرى التحقير والتقليل فما المراد منه؟
الجواب: المراد: لهم نصيب من الدنيا ومن الآخرة بسبب كسبهم وعملهم فقوله: * (من) * في قوله: * (مما كسبوا) * لابتداء الغاية لا للتبعيض.
السؤال الثاني: هل تدل هذه الآية على أن الجزاء على العمل؟
الجواب: نعم. ولكن بحسب الوعد لا بحسب الاستحقاق الذاتي.
السؤال الثالث: ما الكسب؟
الجواب: الكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله فيكون كسبه ومكتسبه، بشرط أن يكون ذلك جر منفعة أو دفع مضرة، وعلى هذا الوجه يقال في الأرباح: إنها كسب فلان، وأنه كثير الكسب أو قليل الكسب، لأن لا يراد إلا الربح، فأما الذي يقوله أصحابنا من أن الكسب واسطة بين الجبر والخلق فهو مذكور في الكتب القديمة في الكلام.
أما قوله تعالى: * (والله سريح الحساب) * ففيه مسائل.
المسألة الأولى: * (سريع) * فاعل من السرعة، قال ابن السكيت: سرع يسرع سرعا وسرعة فهو سريع * (والحساب) * مصدر كالمحاسبة، ومعنى الحساب في اللغة العد يقال: حسب يحسب حسابا وحسبة وحسبا إذا عد ذكره الليث وابن السكيت، والحسب ما عد ومنه حسب الرجل وهو ما يعد من مآثره ومفاخره، والاحتساب الاعتداد بالشئ، وقال الزجاج: الحساب في اللغة مأخوذ من قولهم: حسبك كذا أي كفاك فسمى الحساب في المعاملات حسابا لأنه يعلم به ما فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان.
المسألة الثانية: اختلف الناس في معنى كون الله تعالى محاسبا لخلقه على وجوه أحدها: أن معنى الحساب أنه تعالى يعلمهم ما لهم وعليهم، بمعنى أنه تعالى يخلق العلوم الضرورية في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها، وبمقادير ما لهم من الثواب والعقاب، قالوا: ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له وعليه، فاطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون إطلاقا لاسم السبب على المسبب وهذا مجاز مشهور، ونقل عن ابن عباس أنه قال: إنه لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله تعالى ويعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم، فيقال لهم: هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها ثم يعطون حسناتهم ويقال: هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم.
208

والقول الثاني: أن المحاسبة عبارة عن المجازاة قال تعالى: * (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا) * (الطلاق: 8) ووجه المجاز فيه أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز، فحسن إطلاق لفظ الحساب عن المجازاة.
والقول الثالث: أنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية مالها من الثواب والعقاب فمن قال إن كلامه ليس بحرف ولا بصوت قال إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعا يسمع به كلامه القديم كما أنه يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة، ومن قال إنه صوت قال إنه تعالى يخلق كلاما يسمعه كل مكلف إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم أو في جسم يقرب من أذنه بحيث لا تبلغ قوة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلف به، فهذا هو المراد من كونه تعالى محاسبا لخلقه. المسألة الثالثة: ذكروا في معنى كونه تعالى سريع الحساب وجوها أحدها: أن محاسبته ترجع إما إلى أنه يخلق علوما ضرورية في قلب كل مكلف بمقادير أعماله ومقادير ثوابه وعقابه، أو إلى أنه يوصل إلى كل مكلف ما هو حقه من الثواب أو إلى أنه يخلق سمعا في أذن كل مكلف يسمع به الكلام القديم، أو إلى أنه يخلق في أذن كل مكلف صوتا دالا على مقادير الثواب والعقاب وعلى الوجوه الأربعة فيرجع حاصل كونه تعالى محاسبا إلى أنه تعالى يخلق شيئا، ولما كانت قدرة الله تعالى متعلقة بجميع الممكنات، ولا يتوقف تخليقه وإحداثه على سبق مادة ولا مدة ولا آلة ولا يشتغله شأن عن شأن لا جرم كان قادرا على أن يخلق جميع الخلق في أقل من لمحة البصر وهذا كلام ظاهر، ولذلك ورد في الخبر أن الله تعالى يحاسب الخلق في قدر حلب ناقة وثانيها: أن معنى كونه تعالى: * (سريع الحساب) * أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم، وذلك لأنه تعالى في الوقت الواحد يسأله السائلون كل واحد منهم أشياء مختلفة من أمور الدنيا والآخرة فيعطي كل واحد مطلوبه من غير أن
يشتبه عليه شئ من ذلك ولو كان الأمر مع واحد من المخلوقين لطال العد واتصل الحساب، فأعلم الله تعالى أنه * (سريع الحساب) * أي هو عالم بجملة سؤالات السائلين، لأنه تعالى لا يحتاج إلى عقد يد، ولا إلى فكرة وروية، وهذا معنى الدعاء المأثور " يا من لا يشغله شأن عن شأن " وحاصل الكلام في هذا القول أن معنى كونه تعالى * (سريع الحساب) * كونه تعالى عالما بجميع أحوال الخلق وأعمالهم ووجه المجاز فيه أن المحاسب إنما يحاسب ليحصل له العلم بذلك الشئ فالحساب سبب لحصول العلم فأطلق اسم السبب على المسبب وثالثها: أن محاسبة الله سريعة بمعنى آتية لا محالة كما قال الله عز وجل (ان ما توعدون لصادق وان الدين لواقع) وكل ما هو
209

آت آت فكأنه قيل أن الساعة التي فيها الجزاء والحساب قريبة
قوله تعالى
* (واذكروا الله فى أيام معدودات فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) *.
اعلم أنه لما ذكر ما يتعلق بالمشعر الحرام لم يذكر الرمي لوجهين أحدهما: أن ذلك كان أمرا مشهورا فيما بينهم وما كانوا منكرين لذلك، إلا أنه تعالى ذكر ما فيه من ذكر الله لأنهم كانوا لا يفعلونه والثاني: لعله إنما لم يذكر الرمي لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيام دليلا عليه، إذ كان من سننه التكبير على كل حصاة منها ثم قال: * (واذكروا الله في أيام معدودات) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إن الله تعالى ذكر في مناسك الحج الأيام المعدودات، والأيام المعلومات فقال هنا: * (واذكروا الله في أيام معدودات) * وقال في سورة الحج: * (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) * (الحج: 28) فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة آخرها يوم النحر، وأما المعدودات فثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، واحتج على أن المعدودات هي أيام التشريع بأنه تعالى ذكر الأيام المعدودات، والأيام لفظ جمع فيكون أقلها ثلاثة، ثم قال بعده: * (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) * وهذا يقتضي أن يكون المراد * (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) * من هذه الأيام المعدودات، وأجمعت الأمة على أن هذا الحكم إنما ثبت في أيام منى وهي أيام التشريق، فعلمنا أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق، والقفال أكد هذا بما روى في " تفسيره " عن عبد الرحمن بن نعمان الديلمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديا فنادى: " الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، وأيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه " وهذا يدل على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق، قال الواحدي رحمة الله عليه: أيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر أولها: يوم النفر، وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة ينفر الناس فيه بمنى والثاني: يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى والثالث: يوم النفر الثاني، وهذه الأيام الثلاثة مع يوم النحر كلها أيام النحر، وأيام
210

رمي الجمار في هذه الأيام الأربعة مع يوم عرفة أيام التبكير إدبار الصلوات على ما سنشرح مذاهب الناس فيه.
المسألة الثانية: المراد بالذكر في هذه الأيام: الذكر عند الجمرات، فإنه يكبر مع كل حصاة والذكر إدبار الصلوات والناس أجمعوا على ذلك، إلا أنهم اختلفوا في مواضع:
الموضع الأول: أجمعت الأمة على أن التكبيرات المقيدة بإدبار الصلوات مختصة بعيد الأضحى، ثم في ابتدائها وانتهائها خلاف.
القول الأول: أنها تبتدأ من الظهر يوم النحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق فتكون التكبيرات على هذا القول في خمس عشرة صلاة، وهو قول ابن عباس وابن عمر، وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهما في أحد أقواله، والحجة فيه أن الأمر بهذه التكبيرات إنما ورد في حق الحاج، قال تعالى: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم) * ثم قال: * (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) * وهذا إنما يحصل في حق الحاج، فدل على أن الأمر بهذه التكبيرات إنما ورد في حق الحاج، وسائر الناس تبع لهم في ذلك، ثم إن صلاة الظهر هي أول صلاة يكبر الحاج فيها بمنى، فإنهم يلبون قبل ذلك، وآخر صلاة يصلونها بمنى هي صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، فوجب أن تكون هذه التكبيرات في حق غير الحاج مقيد بهذا الزمان.
القول الثاني: للشافعي رضي الله عنه أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر، إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وعلى هذا القول تكون التكبيرات بعد ثماني عشرة صلاة.
والقول الثالث: للشافعي رضي الله عنه أن يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة، وينقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر فتكون التكبيرات بعد ثمان صلوات وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة.
والقول الرابع: أنه يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة، وينقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر من آخر أيام التشريق، فتكون التكبيرات بعد ثلاث وعشرين صلاة، وهو قول أكابر الصحابة، كعلي وعمر وابن مسعود وابن عباس، ومن الفقهاء قول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق والمزني وابن شريح، وعليه عمل الناس بالبلدان، ويدل عليه وجوه الأول: ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال: الله أكبر، ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق والثاني: أن الذي قاله أبو حنيفة أخذ بالأقل،
211

وهذا القول أخذ بالأكثر، والتكثير في التكبير أولى لقوله تعالى: * (اذكروا الله ذكرا كثيرا) * (الأحزاب: 41) الثالث: أن هذا هو الأحوط، لأنه لو زاد في التكبيرات فهو خير من أن ينقص منها والرابع: أن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق، فوجب أن يؤتى بها إلى آخر أيام التشريق.
فإن قيل: هذه التكبيرات مضافة إلى الأيام المعدودات وهي أيام التشريق، فوجب أن لا تكون مشروعة يوم عرفة.
قلنا: فهذا يقتضي أن لا يكبر يوم النحر وهو باطل بالإجماع، وأيضا لما كان الأغلب في هذه المدة أيام التشريق؛ صح أن يضاف التكبير إليها.
الموضع الثاني: قال الشافعي رضي الله عنه: المستحب في التكبيرات أن تكون ثلاثا نسقا أي متتابعا، وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة وأحمد: يكبر مرتين، حجة الشافعي ما روى عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، قال: رأيت الأئمة يكبرون في أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثا، ولأنه زيادة في التكبير، فكان أولى لقوله تعالى: * (اذكروا الله ذكرا كثيرا) * ثم قال الشافعي رضي الله عنه: ويقول بعد الثلاث: " لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد " ثم قال: وما زاد من ذكر الله فهو حسن، وقال في التلبية: وأحب أن لا يزيد على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفرق أن من سنة التلبية التكرار فتكرارها أولى من ضم الزيادة إليها، وههنا يكبر مرة واحدة فتكون الزيادة أولى من السكوت، وأما التكبير على الجمار فقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكبر مع كل حصاة، فينبغي أن يفعل ذلك.
أما قوله تعالى: * (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: لم قال فمن تعجل ولم يقل فمن عجل؟.
الجواب: قال صاحب " الكشاف ": تعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل، يقال: تعجل في الأمر واستعجل، ومتعديين يقال: تعجل الذهاب واستعجله.
السؤال الثاني: قوله: * (ومن تأخر فلا إثم عليه) * فيه إشكال، وذلك لأنه إذا كان قد استوفى كل ما يلزمه في تمام الحج، فما معنى قوله: * (فلا إثم عليه) * فإن هذا اللفظ إنما يقال في حق المقصر ولا يقال في حق من أتى بتمام العمل.
والجواب: من وجوه: أحدها: أنه تعالى لما أذن في التعجل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة فإنه يأثم، ألا ترى أن أبا حنيفة رضي الله عنه يقول: القصر عزيمة، والإتمام غير جائز، فلما كان هذا الإحتمال قائما، لا جرم أزال الله
212

تعالى هذه الشبهة وبين أنه لا إثم في الأمرين، فإن شاء استعجل وجرى على موجب الرخصة، وإن شاء لم يستعجل ولم يجر على موجب الرخصة، ولا إثم عليه في الأمرين جميعا وثانيها: قال بعض المفسرين: إن منهم من كان يتعجل، ومنهم من كان يتأخر، ثم كل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله، كان المتأخر يرى أن التعجل مخالفة لسنة الحج، وكان المتعجل يرى أن التأخر مخالفة لسنة الحج، فبين الله تعالى أنه لا عيب في واحد من القسمين ولا إثم، فإن شاء تعجل وإن شاء لم يتعجل وثالثها: أن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاث، فكأنه قيل: إن أيام منى التي ينبغي المقام بها هي ثلاث، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه، ومن زاد عليها فتأخر عن الثالث إلى الرابع فلم ينفر مع عامة الناس فلا شئ عليه ورابعها: أن هذا الكلام إنما ذكر مبالغة في بيان أن الحج سبب لزوال الذنوب وتكفير الآثام وهذا مثل أن الإنسان إذا تناول الترياق، فالطبيب يقول له: الآن إن تناولت السم فلا ضرر، وإن لم تتناول فلا ضرر، مقصوده من هذا بيان أن الترياق دواء كامل في دفع المضار، لا بيان أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى وحد، فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحج مكفرا لكل الذنوب، لا بيان أن التعجل وتركه سيان، ومما يدل على كونه الحج سببا قويا في تكفير الذنوب قوله عليه الصلاة والسلام: " من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " وخامسها: أن كثيرا من العلماء قالوا: الجوار مكروه، لأنه إذا جاور الحرم والبيت سقط وقعه عن عينه، وإذا كان غائبا إزداد شوقه إليه، وإذا كان كذلك احتمل أن يخطر ببال أحدنا على هذا المعنى أن من تعجل في يومين فحاله أفضل ممن لم يتعجل، وأيضا من تعجل في يومين فقد انصرف إلى مكة لطواف الزيارة وترك المقام بمنى، ومن لم يتعجل فقد اختار المقام بمنى وترك الاستعجال في الطواف فهذا السبب يبقى في الخاطر تردد في أن المتعجل أفضل أم المتأخر؟ فبين الله تعالى أنه لا إثم ولا حرج في واحد منهما وسادسها: قال الواحدي رحمه الله تعالى: إنما قال: * (ومن تأخر فلا إثم عليه) * لتكون اللفظة الأولى موافقة للثانية، كقوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) وقوله: * (فمن اعتدى علكيم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194) ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا بعدوان، فإذا حمل على موافقة اللفظ م لا يصح في المعنى، فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى، لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه.
السؤال الثالث: هل في الآية دلالة على وجوب الإقامة بمنى بعد الإفاضة من المزدلفة؟.
الجواب: نعم، كما كان في قوله: * (فإذا أفضتم من عرفات) * (البقرة: 198) دليل على وقوفهم بها.
213

واعلم أن الفقهاء قالوا: إنما يجوز التعجل في اليومين لمن تعجل قبل غروب الشمس من اليومين فأما إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل النفر فليس له أن ينفر إلا في اليوم الثالث لأن الشمس إذا غابت فقد ذهب اليوم، وإنما جعل له التعجل في اليومين لا في الثالث هذا مذهب الشافعي، وقول كثير من فقهاء التابعين، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر، لأنه لم يدخل وقت الرمي بعد.
أما قوله تعالى: * (لمن اتقى) * ففيه وجوه أحدها: أن الحاج يرجع مغفورا له بشرط أن يتقي الله فيما بقي من عمره ولم يرتكب ما يستوجب به العذاب، ومعناه التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال الحج فبين تعالى أن عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة الاغترار بالحج السابق. وثانيها: أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقيا قبل حجه، كما قال تعالى: * (إنما يتقبل الله من المتقين) * (المائدة: 27) وحقيقته أن المصر على الذنب لا ينفعه حجة وإن كان قد أدى الفرض في الظاهر وثالثها: أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقيا عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج، كما روي في الخبر من قوله عليه الصلاة والسلام: " من حج فلم
يرفث ولم يفسق " واعلم أن الوجه الأول من هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى اعتباره في الحال والتحقيق أنه لا بد من الكل وقال بعض المفسرين المراد بقوله: * (لمن اتقى) * ما يلزمه التوقي في الحج عنه من قتل الصيد وغيره، لأنه إذا لم يجتنب ذلك صار مأثوما، وربما صار عمله محبطا، وهذا ضعيف من وجهين الأول: أنه تقييد للفظ المطلق بغير دليل الثاني: أن هذا لا يصح إلا إذا حمل على ما قبل هذه الأيام، لأنه في يوم النحر إذا رمى وطاف وحلق، فقد تحلل قبل رمي الجمار فلا يلزمه اتقاء الصيد إلا في الحرم، لكن ذاك ليس للإحرام، لكن اللفظ مشعر بأن هذا الاتقاء معتبر في هذه الأيام، فسقط هذا الوجه.
أما قوله تعالى: * (واتقوا الله) * فهو أمر في المستقبل، وهو مخالف لقوله: * (لمن اتقى) * الذي أريد به الماضي فليس ذلك بتكرار، وقد علمت أن التقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحرمات.
فأما قوله: * (واعلموا أنكم إليه تحشرون) * فهو تأكيد للأمر بالتقوى، وبعث على التشديد فيه، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار، صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى، وأما الحشر فهو اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف، لأنه لا يتم كونهم هناك إلا بجميع هذه الأمور، والمراد بقوله: * (إليه) * أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إياه، ولا يستطيع أحد دفعا عن نفسه، كما قال تعالى:
214

* (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله) * (الإنفطار: 19).
* (ومن الناس من يعجبك قوله فى الحيوة الدنيا ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى فى الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له تق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الذين يشهدون مشاعر الحج فريقان: كافر وهو الذي يقول: * (ربنا آتنا في الدنيا) * ومسلم وهو الذي يقول: * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) * (البقرة: 201) بقي المنافق فذكره في هذه الآية، وشرح صفاته وأفعاله، فهذا ما يتعلق بنظم الآية، والغرض بكل ذلك أن يبعث العباد على الطريقة الحسنة فيما يتصل بأفعال القلوب والجوارح، وأن يعلموا أن المعبود لا يمكن إخفاء الأمور عنه ثم اختلف المفسرون على قولين منهم من قال: هذه الآية مختصة بأقوام معينين ومنهم من قال: إنها عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفة المذكورة في هذه الآية، أما الأولون فقد اختلفوا على وجوه:
فالرواية الأولى: أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، وهو حليف لبني زهرة أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام، وزعم أنه يحبه ويحلف بالله على ذلك، وهذا هو المراد بقوله: * (يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه) * غير أنه كان منافقا حسن العلانية خبيث الباطن، ثم خرج من عند النبي عليه السلام فمر بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر، وهو المراد بقوله: * (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) * وقال آخرون المراد بقوله تعالى: * (يعجبك قوله) * هو أن الأخنس أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم: إن محمدا ابن أختكم، فإن يك كاذبا كفاكموه سائر الناس، وإن يك صادقا كنتم أسعد
215

الناس به قالوا: نعم الرأي ما رأيت، قال: فإذا نودي في الناس بالرحيل فإني أتخنس بكم فاتبعوني ثم خنس بثلثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمي لهذا السبب أخنس، وكان اسمه: أبي بن شريق، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه، وعندي أن هذا القول ضعيف وذلك لأنه بهذا الفعل لا يستوجب الذم وقوله تعالى: * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه) * مذكور في معرض الذم فلا يمكن حمله عليه بل القول الأول هو الأصح.
والرواية الثانية: في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس والضحاك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك، فبعث إليهم جماعة فنزلوا ببطن الرجيع، ووصل الخبر إلى الكفار، فركب منهم سبعون راكبا وأحاطوا بهم وقتلوهم وصلبوهم، ففيهم نزلت هذه الآية، ولذلك عقبه من بعد بذكر من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله منبها بذلك على حال هؤلاء الشهداء.
القول الثاني: في الآية وهو اختيار أكثر المحققين من المفسرين، أن هذه الآية عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفات المذكورة، ونقل عن محمد بن كعب القرظي، أنه جرى بينه وبين غيره كلام في هذه الآية، فقال إنها وإن نزلت فيمن ذكر فلا يمتنع أن تنزل الآية في الرجل ثم تكون عامة في كل من كان موصوفا بتلك الصفات، والتحقيق في المسألة أن قوله: * (ومن الناس) * إشارة إلى بعضهم، فيحتمل الواحد ويحتمل الجمع، وقوله: * (ويشهد الله) * لا يدل على أن المراد به واحد من الناس لجواز أن يرجع ذلك إلى اللفظ دون المعنى وهو جمع وأما نزوله على المسبب الذي حكيناه فلا يمتنع من العموم، بل نقول: فيها ما يدل على العموم، وهو من وجوه أحدها: أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية، فلما ذم الله تعالى قوما ووصفهم بصفات توجب استحقاق الذم، علمنا أن الموجب لتلك المذمة هو تلك الصفات، فيلزم أن كل من كان موصوفا بتلك الصفات أن يكون مستوجبا للذم وثانيها: أن الحمل على العموم أكثر فائدة، وذلك لأنه يكون زجرا لكل المكلفين عن تلك الطريق المذمومة وثالثها: أن هذا أقرب إلى الإحتياط لأنا إذا حملنا الآية على العموم دخل فيه ذلك الشخص، وأما إذا خصصناه بذلك الشخص لم يثبت الحكم في غيره فثبت بما ذكرنا أن حمل الآية على العموم أولى، إذا عرفت هذا فنقول: اختلفوا في أن الآية هل تدل على أن الموصوف بهذه الصفات منافق أم لا، والصحيح أنها لا تدل على ذلك، لأن الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة، وشئ منها لا يدل على النفاق
216

فأولها قوله: * (يعجبك قوله في الحياة الدنيا) * وهذا لا دلالة فيه على صفة مذمومة إلا من جهة الإيماء الحاصل بقوله: * (في الحياة الدنيا) * لأن الإنسان إذا قيل: إنه حلو الكلام فيما يتعلق بالدنيا أوهم نوعا من المذمة وثانيها: قوله: * (ويشهد الله على ما في قلبه) * وهذا لا دلالة فيه على حالة منكرة، فإن أضمرنا فيه أن يشهد
الله على ما في قلبه مع أن قلبه بخلاف ذلك فالكلام مع هذا الإضمار لا يدل على النفاق، لأنه ليس في الآية أن الذي يظهره للرسول من أمر الإسلام والتوحيد، فإنه يضمر خلافه حتى يلزم أن يكون منافقا، بل لعل المراد أنه يضمر الفساد ويظهر ضده حتى يكون مرائيا وثالثها: قوله: * (وهو ألد الخصام) * وهذا أيضا لا يوجب النفاق ورابعها: قوله: * (وإذ تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) * والمسلم الذي يكون مفسدا قد يكون كذلك وخامسها: قوله: * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) * فهذا أيضا لا يقتضي النفاق، فعلمنا أن كل هذه الصفات المذكورة في الآية كما يمكن ثبوتها في المنافق يمكن ثبوتها في المرائي، فإذن ليس في الآية دلالة على أن هذا المذكور يجب أن يكون منافقا إلا أن المنافق داخل في الآية، وذلك لأن كل منافق فإنه يكون موصوفا بهذه الصفات الخمسة بل قد يكون الموصوف بهذه الصفات الخمسة غير منافق فثبت أنا متى حملنا الآية على الموصوف بهذه الصفات الخمسة دخل فيها المنافق والمرائي، وإذا عرفت هذه الجملة فنقول: الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة.
الصفة الأولى: قوله: * (يعجبك قوله في الحياة الدنيا) * والمعنى: يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشئ العجيب الذي يعظم في النفس.
أما في قوله: * (في الحياة الدنيا) * ففيه وجوه أحدهما: أنه نظير قول القائل: يعجبني كلام فلان في هذه المسألة والمعنى: يعجبك قوله وكلامه عندما يتكلم لطلب مصالح الدنيا والثاني: أن يكون التقدير: يعجبك قوله وكلامه في الحياة الدنيا وإن كان لا يعجبك قوله وكلامه في الآخرة لأنه ما دام في الدنيا يكون جرئ اللسان حلو الكلام، وأما في الآخرة فإنه تعتريه اللكنة والإحتباس خوفا من هيبة الله وقهر كبريائه.
الصفة الثانية: قوله: * (ويشهد الله على ما في قلبه) * فالمعنى أنه يقرر صدقة في كلامه ودعواه بالاستشهاد بالله، ثم يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف واليمين، ويحتمل أن يكون ذلك بأن يقول: الله يشهد بأن الأمر كما قلت، فهذا يكون استشهادا بالله ولا يكون يمينا، وعامة القراء يقرؤن * (ويشهد الله) * بضم الياء، أي هذا القائل يشهد الله على ما في ضميره، وقرأ ابن محيصن * (يشهد الله على ما في قلبه) * بفتح الياء، والمعنى: أن الله يعلم من قلبه خلاف ما أظهره.
217

فالقراءة الأولى: تدل على كونه مرائيا وعلى أنه يشهد الله باطلا على نفاقه وريائه.
وأما القراءة الثانية: فلا تدل إلا على كونه كاذبا، فأما على كونه مستشهدا بالله على سبيل الكذب فلا، فعلى هذا القراءة الأولى أدلى على الذم.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (وهو ألد الخصام) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الألد: الشديد الخصومة، يقال: رجل ألد، وقوم لد، وقال الله تعالى: * (وتنذر به قوما لدا) * (مريم: 97) وهو كقوله: * (بل هم قوم خصمون) * (الزخرف: 58) يقال: منه لد يلد، بفتح اللام في يفعل منه، فهو ألد، إذا كان خصما، ولددت الرجل ألده بضم اللام، إذا غلبته بالخصومة، قال الزجاج اشتقاقه من لديدتي العنق وهما صفحتاه، ولديدي الوادي، وهما جانباه، وتأويله أنه في أي وجه أخذه خصمه من يمين وشمال في أبواب الخصومة غلب من خاصمه.
وأما * (الخصام) * ففيه قولان أحدهما: وهو قول خليل: إنه مصدر بمعنى المخاصمة، كالقتال والطعام بمعنى المقاتلة والمطاعنة، فيكون المعنى: وهو شديد المخاصمة، ثم في هذه الإضافة وجهان أحدهما: أنه بمعنى * (في) * والتقدير: ألد في الخصام والثاني: أنه جعل الخصام ألد على سبيل المبالغة.
والقول الثاني: أن الخصام جمع خصم، كصعاب وصعب، وضخام وضخم، والمعنى: وهو أشد الخصوم خصومة، وهذا قول الزجاج، قال المفسرون: هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق على ما شرحناه: وفيه نزل أيضا قوله: * (ويل لكل همزة) * (الهمزة: 1) وقوله: * (ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم) * (القلم: 10 - 11) ثم للمفسرين عبارات في تفسير هذه اللفظة، قال مجاهد * (ألد الخصام) * معناه: طالب لا يستقيم، وقال السدي: أعوج الخصام وقال قتادة ألد الخصام معناه أنه جدل بالباطل، شديد القصوة في معصية الله، عالم اللسان جاهل العمل.
المسألة الثانية: تمسك المنكرون للنظر والجدل بهذه الآية، قالوا إنه تعالى ذم ذلك الإنسان بكونه شديدا في الجدل، ولولا أن هذه الصفة من صفات الذم، وإلا لما جاز ذلك وجوابه ما تقدم في قوله: * (ولا جدال في الحج) * (البقرة: 197).
الصفة الرابعة: قوله تعالى: * (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) * اعلم أنه تعالى لما بين من حال ذلك الإنسان أنه حلو الكلام، وأنه يقرر صدق قوله بالاستشهاد بالله وأنه ألد الخصام، بين بعد ذلك أن كل ما ذكره باللسان فقلبه منطو على ضد ذلك فقال: * (وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها) * ثم في الآية مسائل:
218

المسألة الأولى: قوله تعالى: * (وإذا تولى) * فيه قولان: أحدهما: معناه وإذا انصرف من عندك سعى في الأرض بالفساد، ثم هذا الفساد يحتمل وجهين أحدهما: ما كان من اتلاف الأموال بالتخريب والتحريق والنهب، وعلى هذا الوجه ذكروا روايات منها ما قدمنا أن الأخنس لما أظهر للرسول عليه السلام أنه يحبه وأنه على عزم أن يؤمن فلما خرج من عنده مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر، ومنها أنه لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلا وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم.
والوجه الثاني في تفسير الفساد: أنه كان بعد الانصراف من حضرة النبي عليه السلام يشتغل بإدخال الشبه في قلوب المسلمين، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر، وهذا المعنى يسمى فسادا، قال تعالى: حكاية عن قوم فرعون حيث قالوا له: * (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) * (الأعراف: 127) أي يردوا قومك عن دينهم، ويفسدوا عليهم شريعتهم، وقال أيضا: * (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) * (غافر: 26) وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) * (البقرة: 11) ما يقرب من هذا الوجه، وإنا سمي هذا المعنى فسادا في الأرض لأنه يوقع الإختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام وينسفك الدماء، قال تعالى: * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) * (محمد: 22) فأخبر أنهم أن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد في الأرض، وقطع الأرحام، وذلك من حيث قلنا وهو كثير في القرآن، واعلم أن حمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب، لأنه تعالى قال: * (ويهلك الحرث والنسل) * والمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة.
القول الثاني: في تفسير قوله: * (وإذا تولى) * وإذا صار واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل، وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل، والقول الأول أقرب إلى نظم الآية، لأن المقصود بيان نفاقه، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد.
المسألة الثانية: قوله: * (سعى في الأرض) * أي اجتهد في إيقاع القتال، وأصل السعي هو المشي بسرعة ولكنه مستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس، ومنه يقال: فلان يسعى بالنميمة قال الله تعالى: * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) * (التوبة: 47).
المسألة الثالثة: من فسر الفساد بالتخريب قال: إنه تعالى ذكره أولا على سبيل الإجمال، وهو قوله: * (ليفسد فيها) * ثم ذكره ثانيا على سبيل التفصيل فقال: * (ويهلك الحرث والنسل) * ومن فسر
219

الإفساد بإلقاء الشبهة قال: كما أن الدين الحق أمر أن أولهما العلم، وثانيهما العمل، فكذا الدين الباطل أمران أولهما الشبهات، وثانيهما فعل المنكرات، فههنا ذكر تعالى أولا من ذلك الإنسان اشتغاله بالشبهات، وهو المراد بقوله: * (ليفسد فيها) * ثم ذكر ثانيا إقدامه على المنكرات، وهو المراد بقوله: * (ويهلك الحرث والنسل) * ولا شك في أن هذا التفسير أولى ثم من قال سبب نزول الآية أن الأخنس مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر قال: المراد بالحرث الزرع، وبالنسل تلك الحمر، والحرث هو ما يكون منه الزرع، قال تعالى: * (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه) * (الواقعة: 63) وهو يقع على كل ما يحرث ويزرع من أصناف النبات، وقيل: إن الحرث هو شق الأرض، ويقال لما يشق به: محرث، وأما النسل فهو على هذا التفسير نسل الدواب، والنسل في اللغة: الولد، واشتقاقه يحتمل أن يكون من قولهم: نسل ينسله إذا خرج فسقط، ومنه نسل ريش الطائر، ووبر البعير، وشعر الحمار، إذا خرج فسقط، والقطعة منها إذا سقطت نسالة، ومنه قوله تعالى: * (إلى ربهم ينسلون) * (يس: 51) أي يسرعون، لأنه أسرع الخروج بحدة، والنسل الولد لخروجه من ظهر الأب وبطن الأم وسقوطه، والناس نسل آدم، وأصل الحرف من النسول وهو الخروج، وأما من قال: إن سبب نزول الآية: أن الأخنس بيت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعا، فالمراد بالحرث: إما النسوان لقوله تعالى: * (نساؤكم حرث لكم) * (البقرة: 223) أو الرجال وهو قول قوم من المفسرين الذين فسروا الحرث بشق الأرض، إذ الرجال هم الذين يشقون أرض التوليد، وأما النسل فالمراد منه الصبيان.
واعلم أنه على جميع الوجوه فالمراد بيان أن ذلك الفساد فساد عظيم لا أعظم منه لأن المراد منها على التفسير الأول. إهلاك النبات والحيوان، وعلى التفسير الثاني: إهلاك الحيوان بأصله وفرعه، وعلى الوجهين فلا فساد أعظم منه، فإذن قوله: * (ويهلك الحرث والنسل) * من الألفاظ الفصيحة جدا الدالة مع اختصارها على المبالغة الكثيرة ونظيره في الاختصار ما قاله في صفة الجنة * (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) * (الزخرف: 71) وقال: * (أخرج منها ماءها ومرعاها) * (النازعات: 31). فإن قيل: أفتدل الآية على أنه يهلك الحرث والنسل، أو تدل على أنه أراد ذلك؟.
قلنا: إن قوله: * (سعى في الأرض ليفسد فيها) * دل على أن غرضه أن يسعى في ذلك، ثم قوله: * (ويهلك الحرث والنسل) * إن عطفناه على الأول لم تدل الآية على وقوع ذلك، فإن تقدير الآية هكذا: سعى في الأرض ليفسد فيها، وسعى ليهلك الحرث والنسل، وإن جعلناه كلاما مبتدأ منقطعا عن الأول، دل على وقوع ذلك، والأول أولى، وإن كانت الأخبار المذكورة في سبب نزول
220

الآية دلت على أن هذه الأشياء قد وقعت ودخلت في الوجود.
المسألة الرابعة: قرأ بعضهم * (ويهلك الحرث والنسل) * على أن الفعل للحرث والنسل، وقرأ الحسن بفتح اللام من يهلك وهي لغة نحو: أبى يأبى، وروي عنه * (ويهلك) * على البناء للمفعول.
المسألة الخامسة: استدلت المعتزلة على أن الله تعالى لا يريد القبائح بقوله تعالى: * (والله لا يحب الفساد) * قالوا: والمحبة عبارة عن الإرادة، والدليل عليه قوله تعالى: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) * (النور: 19) والمراد بذلك أنهم يريدون، وأيضا نقل عن الرسول عليه السلام أنه قال: " إن الله أحب لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا، أحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تناصحوا من ولاة أمركم وكره لكم القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال " فجعل الكراهة ضد المحبة، ولولا أن المحبة عبارة عن الإرادة وإلا لكانت الكراهة ضدا للإرادة، وأيضا لو كانت المحبة غير الإرادة لصح أن يحب الفعل وإن كرهه، لأن الكراهة على هذا القول إنما تضاد الإرادة دون المحبة، قالوا: وإذا ثبت أن المحبة نفس الإرادة فقوله: * (والله لا يحب الفساد) * جار مجرى قوله والله لا يريد الفساد كقوله: * (وما الله يريد ظلما للعباد) * (غافر: 31) بل دلالة هذه الآية أقوى لأنه تعالى ذكر ما وقع من الفساد من هذا المنافق ثم قال: * (والله لا يحب الفساد) * إشارة إليه فدل على أن ذلك الواقع وقع لا بإرادة الله تعالى وإذا ثبت أنه تعالى لا يريد الفساد وجب أن لا يكون خالقا له لأن الخلق لا يمكن إلا مع الإرادة فصارت هذه الآية دالة على مسألة الإرادة ومسألة خلق الأفعال والأصحاب أجابوا عنه بوجهين الأول: أن المحبة غير الإرادة بل المحبة عبارة عن مدح الشئ وذكر تعظيمه والثاني: إن سلمنا أن المحبة
نفس الإرادة، ولكن قوله: * (والله لا يحب الفساد) * لا يفيد العموم لأن الألف واللام الداخلين في اللفظ لا يفيدان العموم ثم الذي يهدم قوة هذا الكلام وجهان الأول: أن قدرة العبد وداعيته صالحة للصلاح والفساد فترجح الفساد على الصلاح، إن وقع لا لعلة لزم نفي الصانع، وإن وقع لمرجح فذلك المرجح لا بد وأن يكون من الله وإلا لزم التسلسل، فثبت أن الله سبحانه هو المرجح لجانب الفساد على جانب الصلاح فكيف يعقل أن يقال: إنه لا يريده والثاني: أنه عالم بوقوع الفساد فإن أراد أن لا يقع الفساد لزم أن يقال: إنه أراد أن يقلب علم نفسه جهلا وذلك محال.
الصفة الخامسة: قوله تعالى: * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: قوله تعالى: * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة) * معناه أن رسول الله دعاه إلى ترك هذه الأفعال فدعاه الكبر والأنفة إلى الظلم.
221

واعلم أن هذا التفسير ضعيف، لأن قوله: * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة) * ليس فيه دلالة إلا على أنه متى قيل له هذا القول أخذته العزة، فإما أن هذا القول قيل أو ما قيل فليس في الآية دلالة عليه فإن ثبت ذلك برواية وجب المصير إليه وإن كنا نعلم أنه عليه السلام كان يدعوا الكل إلى التقوى من غير تخصيص.
المسألة الثانية: أنه تعالى حكى عن هذا المنافق جملة من الأفعال المذمومة أولها: اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدنيا وثانيها: استشهاده بالله كذبا وبهتانا وثالثها: لجاجه في إبطال الحق وإثبات الباطل ورابعها: سعيه في الفساد وخامسها: سعيه في إهلاك الحرث والنسل وكل ذلك فعل منكر قبيح وظاهر قوله: * (إذا قيل له اتق الله) * فليس بأن ينصرف إلى بعض هذه الأمور أولى من بعض، فوجب أن يحمل على الكل فكأنه قيل: اتق الله في إهلاك الحرث والنسل وفي السعي بالفساد، وفي اللجاج الباطل، وفي الاستشهاد بالله كذلك، وفي الحرص على طلب الدنيا فإنه ليس رجوع النهي إلى البعض أولى من بعض.
المسألة الثالثة: قوله: * (أخذته العزة بالإثم) * فيه وجوه أحدها: أن هذا مأخوذ من قولهم أخذت فلانا بأن يعمل كذا، أي ألزمته ذلك وحكمت به عليه، فتقدير الآية: أخذته العزة بأن يعمل الإثم، وذلك الإثم هو ترك الالتفات إلى هذا الواعظ وعدم الإصغاء إليه وثانيها: * (أخذته العزة) * أي لزمته يقال: أخذته الحمى أي لزمته، وأخذه الكبر، أي اعتراه ذلك، فمعنى الآية إذا قيل له اتق الله لزمته العزة الحاصلة بالإثم الذين في قلبه، فإن تلك العزة إنما حصلت بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل، ونظيره قوله تعالى: * (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) * (ص: 2) والباء ههنا في معنى اللام، يقول الرجل: فعلت هذا بسببك ولسببك، وعاقبته بجنايته ولجنايته.
أما قوله تعالى: * (فحسبه جهنم) * قال المفسرون: كافيه جهنم جزاء له وعذابا يقال: حسبك درهم أي كفاك وحسبنا الله، أي كافينا الله، وأما جهنم فقال يونس وأكثر النحويين: هي اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وقال آخرون. جهنم اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها، حكى عن رؤبة أنه قال: ركية جهنام بريد بعيدة القعر.
أما قوله تعالى: * (ولبئس المهاد) * ففيه وجهان الأول: أن المهاد والتمهيد: التوطئة، وأصله من المهد، قال تعالى: * (والأرض فرشناها فنعم الماهدون) * (الذاريات: 48) أي الموطئون الممكنون، أي جعلناها ساكنة مستقرة لا تميد بأهلها ولا تنبو عنهم وقال تعالى: * (فلأنفسهم يمهدون) * (الروم: 44) أي يفرشون ويمكنون
222

والثاني: أن يكون قوله: * (ولبئس المهاد) * أي لبئس المستقر كقوله: * (جهنم يصلونها وبئس القرار) * (إبراهيم: 29) وقال بعض العلماء: المهاد الفراش للنوم، فلما كان المعذب في النار يلقى على نار جهنم جعل ذلك معادا له وفراشا.
قوله تعالى
* (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغآء مرضات الله والله روءوف بالعباد) *.
اعلم أنه تعالى لما وصف في الآية المتقدمة حال من يبذل دينه لطلب الدنيا ذكر في هذه الآية حال من يبذل دنياه ونفسه وماله لطلب الدين فقال: * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) * ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في سبب النزول روايات أحدها: روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان، وفي عمار بن ياسر، وفي سمية أمه، وفي ياسر أبيه، وفي بلال مولى أبي بكر، وفي خباب بن الأرت، وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم، فأما صهيب فقال لأهل مكة: إني شيخ كبير، ولي مال ومتاع، ولا يضركم كنت منكم أو من عدوكم تكلمت بكلام وأنا أكره أن أنزل عنه وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني، فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله، فانصرف راجعا إلى المدينة، فنزلت الآية، وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي الله عنه فقال له: ربح بيعك، فقال له صهيب: وبيعك فلا نخسر ما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليه الآية، وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرا وأتيا المدينة، وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر، وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا، وفيهم نزل قول الله تعالى: * (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) * النحل: 41) بتعذيب أهل مكة * (لنبوأنهم في الدنيا حسنة) * (النحل: 41) بالنصر والغنيمة، ولأجر الآخرة أكبر، وفيهم نزل: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *.
والرواية الثانية: أنها نزلت في رجل أمر معروف ونهى عن منكر، عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم.
والرواية الثالثة: نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم
223

ليلة خروجه إلى الغار، ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عليه السلام عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي
الله بك الملائكة ونزلت الآية.
المسألة الثانية: أكثر المفسرين على أن المراد بهذا الشراء: البيع، قال تعالى: * (وشروه بثمن بخس) * (يوسف: 20) أي باعوه، وتحقيقه أن المكلف باع نفسه بثواب الآخرة وهذا البيع هو أنه بذلها في طاعة الله، من الصلاة والصيام والحج والجهاد، ثم توصل بذلك إلى وجدان ثواب الله، كان ما يبذله من نفسه كالسلعة، وصار الباذل كالبائع، والله كالمشتري، كما قال: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) * (التوبة: 111) وقد سمى الله تعالى ذلك تجارة، فقال: * (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) * (الصف: 10 - 11) وعندي أنه يمكن إجراء لفظة الشراء على ظاهرها وذلك أن من أقدم على الكفر والشرك والتوسع في ملاذ الدنيا والإعراض عن الآخرة وقع في العذاب الدائم فصار في التقدير كأن نفسه كانت له، فبسبب الكفر والفسق خرجت عن ملكه وصارت حقا للنار والعذاب، فإذا ترك الكفر والفسق وأقدم على الإيمان والطاعة صار كأنه اشترى نفسه من العذاب والنار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دارهم معدودة ويشتري بها نفسه فكذلك المؤمن يبذل أنفاسا معدودة ويشتري بها نفسه أبدا لكن المكاتب عبد ما بقي عليه دارهم، فكذا المكلف لا ينجو عن رق العبودية ما دام له نفس واحد في الدنيا ولهذا قال عيسى عليه السلام: * (أوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) * (مريم: 31) وقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) *.
فإن قيل: إن الله تعالى جعل نفسه مشتريا حيث قال: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * (التوبة: 111) وهذا يمنع كون المؤمن مشتريا.
قلنا: لا منافاة بين الأمرين، فهو كمن اشترى ثوبا بعبد، فكل واحد منهما بائع، وكل واحد منهما مشتر، فكذا ههنا وعلى هذا التأويل فلا يحتاج إلى ترك الظاهر وإلى حمل لفظ الشراء على البيع.
إذا عرفت هذا فنقول: يدخل تحت هذا كل مشقة يتحملها الإنسان في طلب الدين، فيدخل فيه المجاهد، ويدخل فيه الباذل مهجته الصابر على القتل، كما فعله أبو عمار وأمه، ويدخل فيه الآبق من الكفار إلى المسلمين، ويدخل فيه المشتري نفسه من الكفار بماله كما فعل صهيب، ويدخل فيه من يظهر الدين والحق عند السلطان الجائر.
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه بعث جيشا فحاصروا قصرا فتقدم منهم واحد، فقاتل حتى قتل
224

فقال بعض القوم: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذبتم رحم الله أبا فلان، وقرأ * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) * ثم اعلم أن المشقة التي يتحملها الإنسان لا بد وأن تكون على وفق الشرع حتى يدخل بسببه تحت الآية، فأما لو كان على خلاف الشرع فهو غير داخل فيه بل يعد ذلك من باب إلقاء النفس في التهلكة نحو ما إذا خاف التلف عند الإغتسال من الجنابة ففعل، قال قتادة: أما والله ما هم بأهل حروراء المراق من الدين ولكنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار لما رأوا المشركين يدعون مع الله إلها آخر قاتلوا على دين الله وشروا أنفسهم غضبا لله وجهادا في سبيله.
المسألة الثانية: * (يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) * أي لابتغاء مرضاة الله، و * (يشري) * بمعنى يشتري.
أما قوله تعالى: * (والله رؤوف بالعباد) * فمن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته جوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس، ومن رأفته أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ومن رأفته ورحمته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط كل ذلك العقاب. وأعطاه الثواب الدائم، ومن رأفته أن النفس له والمال، ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلا منه ورحمة وإحسانا.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كآفة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافق أنه يسعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، أمر المسلمين بما يضاد ذلك، وهو الموافقة في الإسلام وفي شرائعه، فقال: * (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) * وفيه مسائل.
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع والكسائي * (السلم) * بفتح السين، وكذا في قوله: * (وإن جنحوا للسلم) * (الأنفال: 61) وقوله: * (وتدعوا إلى السلم) * (محمد: 35) وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بن عياش * (السلم) * بكسر
225

السين في الكل، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين في هذه، والتي في البقرة، والتي في سورة محمد في قوله: * (وتدعوا إلى السلم) * وقرأ ابن عامر بكسر السين في هذه التي في البقرة وحدها وبفتح السين في الأنفال، وفي سورة محمد، فذهب ذاهبون إلى أنهما لغتان بالفتح والكسر، مثل: رطل ورطل وجسر وجسر، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام.
المسألة الثانية: أصل هذه الكلمة من الإنقياد، قال الله تعالى: * (إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت) * (البقرة: 131) والإسلام إنما سمي إسلاما لهذا المعنى، وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب، وهذا أيضا راجع إلى هذا المعنى لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه، قال أبو عبيدة: وفيه لغات ثلاث: السلم، والسلم، والسلم.
المسألة الثالثة: في الآية إشكال، وهو أن كثيرا من المفسرين حملوا السلم على الإسلام، فيصير تقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام، والإيمان هو الإسلام، ومعلوم أن ذلك غير جائز، ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون وجوها في تأويل هذه الآية:
أحدها: أن المراد بالآية المنافقون، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، أي آثار تزيينه وغروره في الإقامة
على النفاق، ومن قال بهذا التأويل احتج على صحته بأن هذه الآية إنما وردت عقيب ما مضى من ذكر المنافقين وهو قوله: * (ومن الناس من يعجبك قوله) * الآية فلما وصف المنافق بما ذكر دعا في هذه الآية إلى الإيمان بالقلب وترك النفاق.
وثانيها: أن هذه الآية نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي عليه السلام أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحوم الإبل وألبانها، وكانوا يقولون: ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام، وواجب في التوراة، فنحن نتركها احتياطا فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة، أي في شرائع الإسلام كافة، ولا يتمسكوا بشئ من أحكام التوراة اعتقادا له وعملا به، لأنها صارت منسوخة * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) * في التمسك بأحكام التوراة بعد أن عرفتم أنها صارت منسوخة، والقائلون بهذا القول جعلوا قوله: * (كافة) * من وصف السلم، كأنه قيل: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام اعتقادا وعملا.
وثالثها: أن يكون هذا الخطاب واقعا على أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي عليه السلام فقوله: * (يا أيها الذين آمنوا) * أي بالكتاب المتقدم * (ادخلوا في السلم كافة) * أي أكملوا طاعتكم في الإيمان وذلك أن تؤمنوا بجميع أنبيائه وكتبه فأدخلوا بإيمانكم بمحمد عليه السلام وبكتابه في السلم على التمام،
226

ولا تتبعوا خطوات الشيطان في تحسينه عند الاقتصار على دين التوراة بسبب أنه دين اتفقوا كلهم على أنه حق بسبب أنه جاء في التوراة: تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض، وبالجملة فالمراد من خطوات الشيطان الشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة.
ورابعها: هذا الخطاب واقع على المسلمين * (يا أيها الذين آمنوا) * بالألسنة * (ادخلوا في السلم كافة) * أي دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من العمر ولا تخرجوا عنه ولا عن شئ من شرائعه * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) * أي ولا تلتفتوا إلى الشبهات التي تلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية ومن قال بهذا التأويل قال: هذا الوجه متأكد بما قبل هذه الآية وبما بعدها، أما ما قبل هذه الآية فهو ما ذكر الله تعالى في صفة ذلك المنافق في قوله: * (سعى في الأرض ليفسد فيها) * وما ذكرنا هناك أن المراد منه إلقاء الشبهات إلى المسلمين، فكأنه تعالى قال: دوموا على إسلامكم ولا تتبعوا تلك الشبهات التي يذكرها المنافقون، وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) * (البقرة: 210) يعني هؤلاء الكفار معاندون مصرون على الكفر قد أزيحت عللهم وهم لا يوقفون قولهم بهذا الدين الحق إلا على أمور باطلة مثل أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة.
فإن قيل: الموقوف بالشئ يقال له: دم عليه، ولكن لا يقال له: ادخل فيه والمذكور في الآية هو قوله: * (ادخلوا) *.
قلنا إن الكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجا عنها فغير ممتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالا بعد حال، وإن كان كائنا فيها في الحال، لأن حال كونه فيها غير الحالة التي أمر أن يدخلها، فإذا كان في الوقت الثاني قد يخرج عنها صح أن يؤمر بدخولها، ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال فلا يمتنع أن يأمرهم الله تعالى بالدخول في المستقبل في الإسلام وخامسها: أن يكون السلم المذكور في الآية معناه الصلح وترك المحاربة والمتنازعة، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة أي كونوا موافقين ومجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس، وهو كقوله: * (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) * (آل عمران: 103) وقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا) * (آل عمران: 200) وقال: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) * (آل عمران: 103) وقال عليه الصلاة والسلام: " المؤمن يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه " وهذه الوجوه في التأويل ذكرها جمهور المفسرين وعندي فيه وجوه أخر أحدها: أن قوله: * (يا أيها الذين آمنوا) * إشارة إلى المعرفة والتصديق بالقلب
227

وقوله: * (ادخلوا في السلم كافة) * إشارة إلى ترك الذنوب والمعاصي، وذلك لأن المعصية مخالفة لله ولرسوله، فيصح أن يسمي تركها بالسلم، أو يكون المراد منه: كونوا منقادين لله في الإتيان بالطاعات، وترك المحظورات، وذلك لأن مذهبنا أن الإيمان باق مع الاشتغال بالمعاصي وهذا تأويل ظاهر وثانيها: أن يكون المراد من السلم كون العبد راضيا ولم يضطرب قلبه على ما روي في الحديث " الرضا بالقضاء باب الله الأعظم " وثالثها: أن يكون المراد ترك الإنتقام كما في قوله: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72) وفي قوله: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) * (الأعراف: 199) فهذا هو كلام في وجوه تأويلات هذه الآية.
المسألة الرابعة: قال القفال * (كافة) * يصح أن يرجع إلى المأمورين بالدخول أي ادخلوا بأجمعكم في السلم. ولا تفرقوا ولا تختلفوا، قال قطرب: تقول العرب: رأيت القوم كافة وكافين ورأيت النسوة كافات ويصلح أن يرجع إلى الإسلام أي ادخلوا في الإسلام كله أي في كل شرائعه قال الواحدي رحمه الله: هذا أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها، ومعنى الكافة في اللغة الحاجزة المانعة يقال: كففت فلانا عن السوء أي منعته، ويقال: كف القميص لأنه منع الثواب عن الانتشار، وقيل لطرف اليد: كف لأنه يكف بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف أي كف بصره من أن يبصر، فالكافة معناها المانعة، ثم صارت اسما للجملة الجامعة وذلك لأن الإجتماع يمنع من التفرق والشذوذ، فقوله: * (ادخلوا في السلم كافة) * أي ادخلوا في شرائع الإسلام إلى حيث ينتهي شرائع الإسلام فتكفوا من أن تتركوا شيئا من شرائعه، أو يكون المعنى ادخلوا كلكم حتى تمنعوا واحدا من أن لا يدخل فيه.
أما قوله تعالى: * (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) * فالمعنى: ولا تطيعوه ومعروف في الكلام أن يقال فيمن اتبع سنة إنسان اقتفى أثره، ولا فرق بين ذلك وبين قوله: اتبعت خطواته. وخطوات جمع خطوة، وقد تقدم ذلك.
أما قوله تعالى: * (إنه لكم عدو مبين) * فقال أبو مسلم الأصفهاني: إن مبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره، وأقول: الذي يدل على صحة هذا المعنى قوله: * (حم والكتاب المبين) * (الزخرف: 1، الدخان: 1) ولا يعني بقوله مبينا إلا ذلك.
فإن قيل: كيف يمكن وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نرى ذاته ولا نسمع كلامه.
قلنا: إن الله تعالى لما بين عداوته لآدم ونسله فلذلك الأمر صح أن يوصف بأنه عدو مبين وإن لم يشاهد ومثاله: من يظهر عداوته لرجل في بلد بعيد فقد يصح أن يقال: إن فلانا عدو
228

مبين لك وإن لم يشاهده في الحال وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الأصل في الإبانة القطع والبيان إنما سمي بيانا لهذا المعنى، فإنه يقطع بعض الإحتمالات عن بعض، فوصف الشيطان بأنه مبين معناه أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه.
فإن قيل: كون الشيطان عدوا لنا إما أن يكون بسبب أن يقصد إيصال الآلام والمكاره إلينا في الحال، أو بسبب أنه بوسوسته يمنعنا عن الدين والثواب، والأول باطل، إذ لو كان كذلك لأوقعنا في الأمراض والآلام والشدائد، ومعلوم أنه ليس كذلك، وإن كان الثاني فهو أيضا باطل لأن من قبل منه تلك الوسوسة من قبل نفسه كما قال: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22) إذا ثبت هذا فكيف يقال: إنه عدو مبين العداوة، والحال ما ذكرناه؟.
الجواب: أنه عدو من الوجهين معا أما من حيث إنه يحاول إيصال الضرر إلينا فهو كذلك إلا أن الله تعالى منعه عن ذلك، وليس يلزم من كونه مريدا لإيصال الضرر إلينا أن يكون قادرا عليها وأما من حيث إنه يقدم على الوسوسة فمعلوم أن تزيين المعاصي وإلقاء الشبهات كل ذلك سبب لوقوع الإنسان في الباطل وبه يصير محروما عن الثواب، فكان ذلك من أعظم جهات العداوة.
* (فإن زللتم من بعد ما جآءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو السمال * (زللتم) * بكسر اللام الأولى وهما لغتان كضللت وضللت.
المسألة الثانية: يقال: زل يزل زلولا وزلزالا إذا دحضت قدمه وزل في الطين، ويقال لمن زل في حال كان عليها: زلت به الحال، ويسمى الذنب زلة، يريدون به الزلة للزوال عن الواجب فقوله: * (فإن زللتم) * أي أخطأتم الحق وتعديتموه، وأما سبب نزول هذه الآية فقد اختلفوا في السلم كافة، فمن قال في الأول: إنه في المنافقين، فكذا الثاني، ومن قال: إنه في أهل الكتاب فكذا الثاني، وقس الباقي عليه.
يروى عن ابن عباس: * (فإن زللتم) * في تحريم السبت ولحم الإبل * (من بعدما جاءتكم البينات) * محمد صلى الله عليه وسلم وشرائعه * (فاعلموا أن الله عزيز) * بالنقمة * (حكيم) * في كل أفعاله، فعند هذا قالوا لئن شئت يا رسول الله لتتركن كل كتاب غير كتابك، فأنزل الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) * (النساء: 136).
229

المسألة الثالثة: قوله: * (فإن زللتم) * فيه سؤال وهو أن الحكم المشروط إنما يحسن في حق من لا يكون عارفا بعواقب الأمور، وأجاب قتادة عن ذلك فقال: قد علم أنهم سيزلون ولكنه تعالى قدم ذلك وأوعد فيه لكي يكون له حجة على خلقه.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (فإن زللتم) * يعني إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به، وعلى هذا التقدير يدخل في هذا الكبائر والصغائر فإن الإنحراف كما يحصل بالكثير يحصل بالقليل. فتوعد تعالى على كل ذلك زجرا لهم عن الزوال عن المنهاج لكي يتحرز المؤمن عن قليل ذلك وكثيره لأن ما كان من جملة الكبائر فلا شك في وجوب الاحتراز عنه، وما لم يعلم كونه من الكبائر فإنه لا يؤمن كون العقاب مستحقا به وحينئذ يجب الاحتراز عنه.
المسألة الخامسة: قوله تعالى: * (من بعدما جاءتكم البينات) * يتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية أما الدلائل العقلية فهي الدلائل على الأمور التي تثبت صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد ثبوتها نحو العلم بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع يكون عالما بالمعلومات كلها، قادرا على الممكنات كلها، غنيا عن الحاجات كلها، ومثل العلم بالفرق بين المعجزة والسحر، والعلم بدلالة المعجزة على الصدق فكل ذلك من البينات العقلية، وأما البينات السمعية فهي البيان الحاصل بالقرآن والبيان الحاصل بالسنة فكل هذه البينات داخلة في الآية من حيث أن عذر المكلف لا يزول عند حصول كل هذه البينات.
المسألة السادسة: قال القاضي: دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلا بعد البيان وإزاحة العلة، فإذا علق الوعيد بشرط مجئ البينات وحصولها فبأن لا يجوز أن يحصل الوعيد لمن لا قدرة له على الفعل أصلا أولى، ولأن الدلالة لا ينتفع بها إلا أولوا القدرة، وقد ينتفع بالقدرة مع فقد الدلالة، وقال أيضا: دلت الآية على أن المعتبر حصول البينات لا حصول اليقين من المكلف فمن هذا الوجه دلت الآية على أن المتمكن من النظر والاستدلال يلحقه الوعيد كالعارف، فبطل قول من زعم أن لا حجة لله على من يعلم ويعرف.
أما قوله تعالى: * (فاعلموا أن الله عزيز حكيم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إن قوله تعالى: * (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات) * إشارة إلى أن ذنبهم وجرمهم، فكيف يدل قوله: * (أن الله عزيز حكيم) * على الزجر والتهديد.
الجواب: أن العزيز من لا يمنع عن مراده، وذلك إنما يحصل بكمال القدرة، وقد ثبت أنه سبحانه وتعالى قادر على جميع الممكنات، فكان عزيزا على الإطلاق، فصار
تقدير الآية: فإن زللتم
230

من بعد ما جاءتكم البينات، فاعلموا أن الله مقتدر عليكم لا يمنعه مانع عنكم، فلا يفوته ما يريده منكم وهذا نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب، وربما قال الوالد لولده: إن عصيتني فأنت عارف بي، وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي، فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره، فإن قيل: أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد؟ قلنا: نعم من حيث أتبعه بقوله: * (حكيم) * فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسئ فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسئ فكذلك يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن، بل هذا أليق بالحكمة وأقرب للرحمة.
المسألة الثانية: احتج من قال بأنه لا وجوب لشئ قبل الشرع بهذه الآية قال: لأنه تعالى أثبت التهديد والوعيد بشرط مجئ البينات، ولفظ * (البينات) * لفظ جمع يتناول الكل، فهذا يدل على أن الوعيد مشروط بمجئ كل البينات وقبل الشرع لم تحصل كل البينات، فوجب أن لا يحصل الوعيد، فوجب أن لا يتقرر الوجوب قبل الشرع.
المسألة الثالثة: قال أبو علي الجبائي: لو كان الأمر كما يقوله المجبرة من أنه تعالى يريد من السفهاء والكفار: السفاهة والكفر لما جاز أن يوصف بأنه حكيم، لأن من فعل السفه وأراده كان سفيها، والسفيه لا يكون حكيما أجاب الأصحاب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور فيرجع معنى كونه تعالى حكيما إلى أنه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقا لكل الأشياء ومريدا لها، بل يوجب ذلك لما بينا أنه لو أراد ما علم عدمه لكان قد أراد تجهيل نفسه فقالوا: لو لزم ذلك لكان إذا أمر بما علم عدمه فقد أمر بتجهيل نفسه.
قلنا: هذا إنما يلزم لو كان الأمر بالشئ أمرا بما لا يتم إلا به، وهذا عندنا ممنوع فإن قالوا: لو لم يكن كذلك لزم تكليف ما لا يطاق، قلنا هذا عندنا جائز والله أعلم.
المسألة الرابعة: يحكى أن قارئا قرأ * (غفور رحيم) * فسمعه أعرابي فأنكره، وقال إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه.
قوله تعالى
* (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الأمر وإلى الله
231

ترجع الأمور) *.
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: الكلام المستقصي في لفظ النظر مذكور في تفسير قوله تعالى: * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) * (القيامة: 32 - 33) وأجمعوا على أنه يجئ بمعنى الانتظار، قال الله تعالى: * (فناظرة بم يرجع المرسلون) * (النمل: 35) فالمراد من قوله تعالى: * (هل ينظرون) * هو الانتظار.
المسألة الثانية: أجمع المعتبرون من العقلاء على أنه سبحانه وتعالى منزه عن المجئ والذهاب ويدل عليه وجوه أحدها: ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصح عليه المجئ والذهاب لا ينفك عن الحركة والسكون، وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، فيلزم أن كل ما يصح عليه المجئ والذهاب يجب أن يكون محدثا مخلوقا والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك وثانيها: أن كل ما يصح عليه الإنتقال من مكان إلى مكان، فأما أن يكون في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ وذلك باطل باتفاق العقلاء، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون شيئا كبيرا فيكون أحد جانبيه مغايرا للآخر فيكون مركبا من الأجزاء والأبعاض وكل ما كان مركبا، فإن ذلك المركب يكون مفتقرا في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب هو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محتاج في وجوده إلى المرجح والموجد، فكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق مسبوق بالعدم، والإله القديم يمتنع أن يكون كذلك وثالثها: أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان فهو محدود ومتنه فيكون مختصا بمقدار معين، مع أنه كان يجوز في العقل وقوعه على مقدار أزيد منه أو أنقص فاختصاصه بذلك القدر المعين لا بد وأن يكون لترجيح مرجح، وتخصيص مخصص، وكل ما كان كذلك كان فعلا لفاعل مختار، وكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق، فالإله القديم الأزلي يمتنع أن يكون كذلك ورابعها: أنا متى جوزنا في الشئ الذي يصح عليه المجئ والذهاب أن يكون إلها قديما أزليا فحينئذ لا يمكننا أن نحكم بنفي الإلهية عن الشمس والقمر، وكان بعض الأذكياء من أصحابنا يقول: الشمس والقمر لا عيب فيهما يمنع من القول بإلهيتهما سوى أنهم جسم يجوز عليه الغيبة والحضور، فمن جوز المجئ والذهاب على الله تعالى فلم لا يحكم بإلهية الشمس، وما الذي أوجب عليه الحكم بإثبات موجود آخر يزعم أنه إله وخامسها: أن الله تعالى حكى عن الخليل عليه الصلاة والسلام أنه طعن في إلهية الكواكب والقمر والشمس بقوله: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) ولا معنى للأفول إلا الغيبة والحضور فمن جوز الغيبة والحضور على الله
232

تعالى فقد طعن في دليل الخليل عليه السلام وكذب الله في تصديق الخليل عليه السلام في ذلك.
سادسها: أن فرعون لعنة الله تعالى عليه لما سأل موسى عليه السلام فقال: * (وما رب العالمين) * (الشعراء: 23) وطلب منه الماهية والجنس والجوهر، فلو كان تعالى جسما موصوفا بالأشكال والمقادير لكان الجواب عن هذا السؤال ليس إلا بذكر الصورة والشكل والقدر: فكان جواب موسى عليه السلام بقوله: * (رب السماوات والأرض) * (مريم: 65) * (ربكم ورب آبائكم الأولين) * (الدخان: 8) * (رب المشرق والمغرب) * (المزمل: 9، الشعراء: 28) خطأ وباطلا، وهذا يقتضي تخطئة موسى عليه السلام فيما ذكر من الجواب، وتصويب فرعون في قوله: * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * (الشعراء: 27)
ولما كان كل ذلك باطلا، علمنا أنه تعالى منزه عن أن يكون جسما، وأن يكون في مكان، ومنزه عن أن يصح عليه المجئ والذهاب وسابعها: أنه تعالى قال: * (قل هو الله أحد) * (الإخلاص: 1) والأحد هو الكامل في الوحدانية وكل جسم فهو منقسم بحسب الغرض والإشارة إلى جزأين، فلما كان تعالى أحدا امتنع أن يكون جسما أو متحيزا، فلما لم يكن جسما ولا متحيزا امتنع عليه المجئ والذهاب، وأيضا قال تعالى: * (هل تعلم له سميا) * (مريم: 65) أي شبيها ولو كان جسما متحيزا لكان مشابها للأجسام في الجسمية، إنما الاختلاف يحصل فيما وراء الجسمية، وذلك إما بالعظم أو بالصفات والكيفيات، وذلك لا يقدح في حصول المشابهة في الذات، وأيضا قال تعالى * (ليس كمثله شئ) * (الشورى: 11) ولو كان جسما لكان مثلا للأجسام وثامنها: لو كان جسما متحيزا لكان مشاركا لسائر الأجسام في عموم الجسمية، فعند ذلك لا يخلو إما أن يكون مخالفا في خصوص ذاته المخصوصة، وإما أن لا يكون فإن كان الأول فما به المشاركة غير ما به الممايزة، فعموم كونه جسما مغاير لخصوص ذاته المخصوصة، وهذا محال لأنا إذا وصفنا تلك الذات المخصوصة بالمفهوم من كونه جسما كنا قد جعلنا الجسم صفة وهذا محال لأن الجسم ذات الصفة، وإن قلنا بأن تلك الذات المخصوصة التي هي مغايرة للمفهوم من كونه جسما وغير موصوف بكونه جسما، فحينئذ تكون ذات الله تعالى شيئا مغايرا للمفهوم من الجسم، وغير موصوف به وذلك ينفي كونه تعالى جسما، وإما إن قيل: إن ذاته تعالى بعد أن كانت جسما لا يخالف سائر الأجسام في خصوصية، فحينئذ يكون مثلا لها مطلقا، وكل ما صح عليها فقد صح عليه، فإذا كانت هذه الأجسام محدثة وجب في ذاته أن تكون كذلك، وكل ذلك محال، فثبت أنه تعالى ليس بجسم، ولا بمتحيز، وأنه لا يصح المجئ والذهاب عليه.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلف أهل الكلام في قوله: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * وذكروا فيه وجوها.
233

الوجه الأول: وهو مذهب السلف الصالح أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجئ والذهاب على الله تعالى محال، علمنا قطعا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجئ والذهاب، وأن مراده بعد ذلك شئ آخر فإن عينا ذلك المراد لم نأمن الخطأ، فالأولى السكوت عن التأويل، وتفويض معنى الآية على سبيل التفصيل إلى الله تعالى، وهذا هو المراد بما روي عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن على أربعة أوجه: وجه لا يعرفه أحد لجهالته، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ووجه نعرفه من قبل العربية فقط، ووجه لا يعلمه إلا الله وهذا القول قد استقصينا القول فيه في تفسير قوله تعالى: * (ألم) *.
الوجه الثالث: وهو قول جمهور المتكلمين: أنه لا بد من التأويل على سبيل الفصيل ثم ذكروا فيه وجوها الأول: المراد * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * أي آيات الله فجعل مجئ الآيات مجيئا له على التفخيم لشأن الآيات، كما يقال: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم من جهته، والذي يدل على صحة هذا التأويل أنه تعالى قال في الآية المتقدمة * (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم) * (البقرة: 209) فذكر ذلك في معرض الزجر والتهديد، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * ومعلوم أن التقدير أن يصح المجئ على الله لم يكن مجرد حضوره سببا للتهديد والزجر، لأنه عند الحضور كما يزجر الكفار ويعاقبهم، فهو يثيب المؤمنين ويخصهم بالتقريب، فثبت أن مجرد الحضور لا يكون سببا للتهديد والوعيد، فلما كان المقصود من الآية إنما هو الوعيد والتهديد، وجب أن يضمر في الآية مجئ الهيبة والقهر والتهديد، ومتى أضمرنا ذلك زالت الشبهة بالكلية، وهذا تأويل حسن موافق لنظم الآية.
والوجه الثاني: في التأويل أن يكون المراد * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * أي أمر الله، ومدار الكلام في هذا الباب أنه تعالى إذا ذكر فعلا وأضافه إلى شئ، فإن كان ذلك محالا فالواجب صرفه إلى التأويل، كما قاله العلماء في قوله: * (الذين يحارون الله) * والمراد يحاربون أولياءه، وقال: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) والمراد: واسأل أهل القرية، فكذا قوله: * (يأتيهم الله) * المراد به يأتيهم أمر الله، وقوله: * (وجاء ربك) * (الفجر: 22) المراد: جاء أمر ربك، وليس فيه إلا حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو مجاز مشهور، يقال: ضرب الأمير فلانا، وصلبه، وأعطاه، والمراد أنه أمر بذلك، لا أنه تولى ذلك العمل بنفسه، ثم الذي يؤكد القول بصحة هذا التأويل وجهان الأول: أن قوله ههنا: * (يأتيهم الله) * وقوله: * (وجاء ربك) * إخبار عن حال القيامة، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال: * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك) * (النحل: 33) فصار هذا الحكم مفسرا
234

لذلك المتشابه، لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على البعض والثاني: أنه تعالى قال بعده: * (وقضى الأمر) * (هود: 24، البقرة: 21) ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق، فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه، وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله: * (يأتيهم الله) * أي يأتيهم أمر الله.
فإن قيل: أمر الله عندكم صفة قديمة، فالإتيان عليها محال، وعند المعتزلة أنه أصوات فتكون أعراضا، فالإتيان عليها أيضا محال.
قلنا: الأمر في اللغة له معنيان، أحدهما الفعل والشأن والطريق، قال الله تعالى: * (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) * (هود: 97) * (وما أمر فرعون برشيد) * (القمر: 50) وفي المثل: لأمر ما جدع قصير أنفه، لأمر ما يسود من يسود فيحمل الأمر ههنا على الفعل، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المبينة، وهذا هو التأويل الأول الذي ذكرناه، وأما إن حملنا الأمر على الأمر الذي هو ضد النهي ففيه وجهان أحدهما: أن يكون التقدير أن مناديا ينادي يوم القيامة: ألا إن الله يأمركم بكذا وكذا، فذاك هو إتيان الأمر، وقوله: * (في ظلل من الغمام) * أي مع ظلل، والتقدير: إن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد والثاني: أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل من الغمام حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على كل أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة، أو يكون المراد أنه تعالى خلق نقوشا منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد وغيرهما وتكون فائدة الظلل من الغمام أنه تعالى جعله أمارة لما يريد إنزاله بالقوم فعنده يعلمون أن الأمر قد حضر وقرب.
الوجه الثالث: في التأويل أن المعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعد من العذاب والحساب، فحذف ما يأتي به تهويلا عليهم، إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد وإذا لم يذكر كان أبلغ لانقسام خواطرهم، وذهاب فكرهم في ك لوجه، ومثله قوله تعالى: * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) * (الحشر: 2) والمعنى أتاهم الله بخذلانه إياهم من حيث لم يحتسبوا وكذلك قوله تعالى: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب) * (النحل: 26) فقوله: * (وأتاهم العذاب) * كالتفسير لقوله تعالى: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) * ويقال في العرف الظاهر إذا سمع بولاية جائر: قد جاءنا فلان بجوره وظلمه، ولا شك أن هذا مجاز مشهور.
235

الوجه الرابع: في التأويل أن يكون * (في) * بمعنى الباء، وحروف الجر يقام بعضها مقام البعض، وتقديره هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة.
الوجه الخامس: أن المقصود من الآية تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها، وذلك لأن جميع المذنبين إذا حضروا للقضاء والخصومة، وكان القاضي في تلك الخصومة أعظم السلاطين قهرا وأكبرهم هيبة، فهؤلاء المذنبون لا وقت عليهم أشد من وقت حضوره لفصل تلك الخصومة، فيكون الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع، ونظيره قوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات يمينه) * (الزمر: 67) من غير تصوير قبضة وطي ويمين، وإنما هو تصوير لعظمة شأنه لتمثيل الخفي بالجلي، فكذا ههنا والله أعلم.
الوجه السادس: وهو أوضح عندي من كل ما سلف: أنا ذكرنا أن قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) * (البقرة: 208) إنما نزلت في حق اليهود، وعلى هذا التقدير فقوله: * (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم) * (البقرة: 209) يكون خطابا مع اليهود، وحينئذ يكون قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) * (البقرة: 210) حكاية عن اليهود، والمعنى: أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * (البقرة: 55) وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود ولم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه، وكانوا يجوزون على الله المجئ والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه، فلا يحتاج حينئذ إلى التأويل، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز، وبالجملة فالآية تدل على أن قوما ينتظرون أن يأتيهم الله، وليس في الآية دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أو مبطلون، وعلى هذا التقدير يسقط الإشكال.
فإن قيل: فعلى هذا التأويل كيف يتعلق به قوله تعالى: * (وإلى الله ترجع الأمور) *.
قلنا: الوجه فيه أنه تعالى لما حكى عنادهم وتوقفهم في قبول الدين على هذا الشرط الفاسد، فذكر بعده ما يجري مجرى التهديد فقال: * (وإلى الله ترجع الأمور) * وهذا الوجه أظهر عندي من كل ما سبق، والله أعلم بحقيقة كلامه.
236

الوجه السابع: في التأويل ما حكاه القفال في " تفسيره " عن أبي العالية، وهو أن الإتيان في الظلل مضاف إلى الملائكة؛ فأما المضاف إلى الله جل جلاله فهو الإتيان فقط، فكان حمل الكلام على التقديم والتأخير، ويستشهد في صحته بقراءة من قرأ * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام) * قال القفال رحمه الله: هذا التأويل مستنكر.
أما قوله: * (في ظلل من الغمام) * فاعلم أن * (الظلل) * جمع ظلة، وهي ما أظلك الله به، * (والغمام) * لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعا متراكما، فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم، فكل قطعة ظلة، والجمع ظلل، قال تعالى: * (وإذا غشيهم موج كالظلل) * (لقمان: 32) وقرأ بعضهم: * (إلا أن يأتيهم الله في ظلال من الغمام) * فيحتمل أن يكون الظلال جمع ظلة، كقلال وقلة، وأن يكون جمع ظل.
إذا عرفت هذا فنقول: المعنى ما ينظرون إلا أن يأتيهم قهر الله وعذابه في ظلل من الغمام.
فإن قيل: ولم يأتيهم العذاب في الغمام؟.
قلنا: لوجوه أحدها: أن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع، لأن السر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أهول وأفظع، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أكثر تأثيرا في السرور، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير، ومن هذا اشتد على المتفكرين في كتاب الله تعالى قوله: * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) * (الزمر: 47) وثانيها: أن نزول الغمام علامة لظهور ما يكون أشد الأهوال في القيامة قال تعالى: * (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا * الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا) * (الفرقان: 25 - 26) وثالثها: أن الغمام تنزل عنه قطرات كثيرة غير محصورة ولا محدودة، فكذا هذا الغمام ينزل عنه قطرات العذاب نزولا غير محصور.
أما قوله تعالى: * (والملائكة) * فهو عطف على ما سبق، والتقدير: وتأتيهم الملائكة وإتيان الملائكة يمكن أن يحمل على الحقيقة فوجب حمله عليها فصار المعنى أن يأتي أمر الله وآياته والملائكة مع ذلك يأتون ليقوموا بما أمروا به من إهانة أو تعذيب أو غيرهما من أحكام يوم القيامة.
أما قوله تعالى: * (وقضي الأمر) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المعنى أنه فرغ ما كانوا يوعدون به فعند ذلك لا تقال لهم عثرة لهم ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة.
237

المسألة الثانية: قوله: * (وقضي الأمر) * معناه: ويقضي الأمر والتقدير: إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر فوضع الماضي موضع المستقبل وهذا كثير في القرآن، وخصوصا في أمور الآخرة فإن الإخبار عنها يقع كثيرا بالماضي، قال الله سبحانه وتعالى: * (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني) * (المائدة: 116) والسبب في اختيار هذا المجاز أمران أحدهما: التنبيه على قرب أمر الآخرة فكأن الساعة قد أتت ووقع ما يريد الله إيقاعه والثاني: المبالغة في تأكيد أنه لا بد من وقوعه لتجزى كل نفس بما تسعى، فصار بحصول القطع والجزم بوقوعه كأنه قد وقع وحصل.
المسألة الثالثة: الأمر المذكور ههنا هو فصل القضاء بين الخلائق. وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته من الجنة والنار، قال تعالى: * (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق) * (إبراهيم: 22).
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (وقضي الأمر) * يدل على أن أحوال القيامة توجد دفعة من غير توقف، فإنه تعالى ليس لقضائه دافع، ولا لحكمه مانع.
المسألة الرابعة: قرأ معاذ بن جبل * (وقضاء الأمر) * على المصدر المرفوع عطفا على الملائكة.
أما قوله تعالى: * (وإلى الله ترجع الأمور) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: من المجسمة من قال: كلمة إلى لانتهاء الغاية، وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى في مكان ينتهي إليه يوم القيامة، أجاب أهل التوحيد عنه من وجهين الأول: أنه تعالى ملك عباده في الدنيا كثيرا من أمور خلقه فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواء كما قال: * (والأمر يومئذ لله) * (الانفطار: 19) وهذا كقولهم: رجع أمرنا إلى الأمير إذا كان هو يختص بالنظر فيه ونظيره قوله تعالى: * (وإلى الله المصير) * (آل عمران: 28) مع أن الخلق الساعة في ملكه وسلطانه الثاني: قال أبو مسلم: إنه تعالى قد ملك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أمورا امتحانا فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ويدخل في السلم كما أمر، ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم * (ترجع) * بضم التاء على معنى ترد، يقال: رجعته أي رددته، قال تعالى: * (ولئن رجعت إلى ربي) * (فصلت: 50) وفي موضع آخر: * (ولئن رددت إلى ربي) * (الكهف: 36) وفي موضع آخر: * (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) * (الأنعام: 62) وقال تعالى: * (رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا) * (المؤمنون: 99 - 100) أي ردني، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي * (ترجع) * بفتح التاء أي تصير، كقوله تعالى: * (ألا إلى الله تصير الأمور) * (الشورى: 53) وقوله: * (إن إلينا إيابهم، وإلى الله مرجعكم) * (هود: 4، المائدة: 48، الغاشية: 25) قال القفال رحمه الله: والمعنى في
238

القراءتين متقارب، لأنها ترجع إليه جل جلاله، وهو جل جلاله يرجعها إلى نفسه بافناء الدنيا وإقامة القيامة، ثم قال: وفي قوله: * (ترجع الأمور) * بضم التاء ثلاث معان أحدها: هذا الذي ذكرناه، وهو أنه جل جلاله يرجعها كما قال في هذه الآية: * (وقضي الأمر) * وهو قاضيها والثاني: أنه على مذهب العرب في قولهم: فلان يعجب بنفسه، ويقول الرجل لغيره: إلى أين يذهب بك، وإن لم يكن أحد يذهب به والثالث: أن ذوات الخلق وصفاتهم لما كانت شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محدثون محاسبون، وكانوا رادين أمرهم إلى خالقهم، فقوله: * (ترجع الأمور) * أي يردها العباد إليه وإلى حكمه بشهادة أنفسهم، وهو كما قال: * (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) * (الجمعة: 1، التغابن: 1) فإن هذا التسبيح بحسب شهادة الحال، لا بحسب النطق باللسان، وعليه يحمل أيضا قوله: * (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها) * (الرعد: 15) قيل: إن المعنى يسجد له المؤمنون طوعا، ويسجد له الكفار كرها بشهادة أنفسهم بأنهم عبيد الله، فكذا يجوز أن يقال: إن العباد يردون أمورهم إلى الله، ويعترفون برجوعها إليه، أما المؤمنون فبالمقال، وأما الكفار فبشهادة الحال.
239