الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٤
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير) *
اعلم أنه تعالى أمر بالعفو والصفح عن اليهود، ثم عقبه بقوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * تنبيها على أنه كما ألزمهم لحظ الغير وصلاحه العفو والصفح، فكذلك ألزمهم لحظ أنفسهم وصلاحها القيام بالصلاة والزكاة الواجبتين، ونبه بهما على ما عداهما من الواجبات. ثم قال بعده: * (وما تقدموا لأنفسكم من خير) * والأظهر أن المراد به التطوعات من الصلوات والزكوات، وبين تعالى أنهم يجدونه وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال لأنها لا تبقى ولأن وجدان عين تلك الأشياء لا يرغب فيه، فبقي أن المراد وجدان ثوابه وجزائه، ثم قال: * (إن الله بما تعملون بصير) * أي أنه لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال وهو ترغيب من حيث يدل على أنه تعالى يجازي على القليل كما يجازي على الكثير، وتحذير من خلافه الذي هو الشر، وأما الخير فهو النفع الحسن وما يؤدي إليه، فلما كان ما يأتيه المرء من الطاعة يؤدي به إلى المنافع العظيمة، وجب أن يوصف بذلك، وعلى هذا الوجه قال تعالى: * (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) * (الحج: 77).
* (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم
2

إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من تخليط اليهود وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين، واعلم أن اليهود
لا تقول في النصارى: إنها تدخل الجنة، ولا النصارى في اليهود، فلا بد من تفصيل في الكلام فكأنه قال: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، ولا يصح في الكلام سواه، مع علمنا بأن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر، ونظيره: * (قالوا كونوا هودا أو نصارى) * (البقرة: 135) والهود: جمع هائد، كعائذ وعوذ وبازل وبزل، فإن قيل: كيف قيل: كان هودا، على توحيد الاسم، وجمع الخبر؟ قلنا: حمل الاسم على لفظ (من) والخبر على معناه كقراءة الحسن: * (إلا من هو صال الجحيم) * (الصافات: 163) وقرأ أبي بن كعب: * (إلا من كان يهوديا أو نصرانيا) * أما قوله تعالى: * (تلك أمانيهم) * فالمراد أن ذلك متمنياتهم، ثم إنهم لشدة تمنيهم لذلك قدروه حقا في نفسه، فإن قيل: لم قال: * (تلك أمانيهم) * وقولهم: * (لن يدخل الجنة) * أمنية واحدة؟ قلنا: أشير بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي: تلك الأماني الباطلة أمانيهم، وقوله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم) * متصل بقوله: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * و * (تلك أمانيهم) * اعتراض، قال عليه الصلاة والسلام " الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني " وقال علي رضي الله عنه: " لا تتكل على المنى فإنها بضائع التولي ".
أما قوله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: هات: صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفيا، أو إثباتا، فلا بد له من الدليل والبرهان، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد قال الشاعر:
من ادعى شيئا بلا شاهد * لا بد أن تبطل دعواه
أما قوله تعالى: * (بلى) * ففيه وجوه. الأول: أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة. الثاني: أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهانا. الثالث: كأنه قيل لهم: أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة، فيكون ذلك ترغيبا لهم في الإسلام، وبيانا لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يقلعوا
3

عما هم عليه ويعدلوا إلى هذه الطريقة، فأما معنى: * (من أسلم وجهه لله) * فهو إسلام النفس لطاعة الله، وإنما خص الوجه بالذكر لوجوه. أحدها: لأنه أشرف الأعضاء من حيث أنه معدن الحواس والفكر والتخيل، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى. وثانيها: أن الوجه قد يكنى به عن النفس، قال الله تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) *، (القصص: 88) * (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) * (الليل: 20). وثالثها: أن أعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه فلا جرم خص الوجه بالذكر، ولهذا قال زيد بن عمرو بن نفيل.
وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الأرض تحمل صخرا ثقالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا
فيكون المرء واهبا نفسه لهذا الأمر باذلالها، وذكر الوجه وأراد به نفس الشيء، وذلك لا يكون إلا بالانقياد والخضوع وإذلال النفس في طاعته وتجنب معاصيه، ومعنى (لله) أي: خالصا لله لا يشوبه شرك، فلا يكون عابدا مع الله غيره، أو معلقا رجاءه بغيره، وفي ذلك دلالة على أن المرء لا ينتفع بعمله إلا إذا فعله على وجه العبادة في الإخلاص والقربة.
أما قوله تعالى: * (وهو محسن) * أي: لا بد وأن يكون تواضعه لله بفعل حسن لا بفعل قبيح، فإن الهند يتواضعون لله لكن بأفعال قبيحة، وموضع قوله: * (وهو محسن) * موضع حال كقولك: جاء فلان وهو راكب، أي جاء فلان راكبا، ثم بين أن من جمع بين هذين فله أجره عند ربه، يعني به الثواب العظيم، ثم مع هذا النعيم لا يلحقه خوف ولا حزن، فأما الخوف فلا يكون إلا من المستقبل، وأما الحزن فقد يكون من الواقع والماضي كما قد يكون من المستقبل فنبه تعالى بالأمرين على نهاية السعادة لأن النعيم العظيم إذا دام وكثر وخلص من الخوف والحزن فلا يحزن على أمر فاته ولا على أمر يناله ولا يخاف انقطاع ما هو فيه وتغيره فقد بلغ النهاية وفي
ذلك ترغيب في هذه الطريقة وتحذير من خلافها الذي هو طريقة الكفار المذكورين من قبل، واعلم أنه تعالى وحد أولا ثم جمع، ومثله قوله: * (وكم من ملك في السماوات) * (النجم: 26) ثم قال: * (شفاعتهم) * وقوله: * (ومنهم من يستمع إليك) * (الأنعام: 25) وقال في موضع آخر: * (يستمعون إليك) * (يونس: 42) (الإسراء: 47) وقال: * (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك) * (محمد: 16) ولم يقل: خرج، واعلم أنا لما فسرنا قوله: * (من أسلم وجهه لله) * بالإخلاص فلنذكر ههنا حقيقة الإخلاص وذلك لا يمكن بيانه إلا في مسائل:
المسألة الأولى: في فضل النية قال عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنيات "، وقال: " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم " وفي الإسرائيليات أن
4

رجلا مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه: لو كان هذا الرمل طعاما لقسمته بين الناس فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له: إن الله قبل صدقتك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتصدقت به.
المسألة الثانية: الإنسان إذا علم أو ظن أو اعتقد أن له في فعل من الأفعال جلب نفع أو دفع ضر ظهر في قلبه ميل وطلب، وهو صفة تقتضي ترجيح وجود ذلك الشيء على عدمه، وهي الإرادة فهذه الإرادة هي النية والباعث له على تلك النية ذلك العلم أو الاعتقاد أو الظن، إذا عرفت هذا فنقول: الباعث على الفعل إما أن يكون أمرا واحدا، وإما أن يكون أمرين، وعلى التقدير الثاني فإما أن يكون كل واحد منهما مستقلا بالبعث، أو لا يكون واحد منهما مستقلا بذلك، أو يكون أحدهما مستقلا بذلك دون الآخر، فهذه أقسام أربعة. الأول: أن يكون الباعث واحدا
وهو كما إذا هجم على الإنسان سبع فلما رآه قام من مكانه فهذا الفعل لا داعي إليه إلا اعتقاده ما في الهرب من النفع وما في ترك الهرب من الضرر، فهذه النية تسمى خالصة، ويسمى العمل بموجبها إخلاصا. الثاني: أن يجتمع على الفعل باعثان مستقلان، كما إذا سأله رفيقه الفقير حاجة فيقضيها لكونه رفيقا له، وكونه فقيرا، مع كون كل واحد من الوصفين بحيث لو انفرد لاستقل بالاستقضاء، واسم هذا موافقة الباعث. الثالث: أن لا يستقل واحد منهما لو انفرد، لكن المجموع مستقل، واسم هذا مشاركة. الرابع: أن يستقل أحدهما ويكون الآخر معاضدا مثل أن يكون للإنسان ورد من الطاعات فاتفق أن حضر في وقت أدائها جماعة من الناس فصار الفعل عليه أخف بسبب مشاهدتهم، واسم هذا معاونة.
المسألة الثالثة: في تفسير قوله عليه السلام: " نية المؤمن خير من عمله " ذكروا فيه وجوها. أحدها: أن النية سر، والعمل علن، وطاعة السر أفضل من طاعة العلانية، وهذا ليس بشيء لأنه يقتضي أن تكون نية الصلاة خيرا من نفس الصلاة. وثانيها: النية تدوم إلى آخر العمل، والأعمال لا تدوم، والدائم خير من المنقطع، وهذا ليس بشيء لأنه يرجع معناه إلى أن العمل الكثير خير من العمل القليل، وأيضا فنية عمل الصلاة قد لا تحصل إلا في لحظات قليلة، والأعمال تدوم، وثالثها: أن النية بمجردها خير من العمل بمجرده، وهو ضعيف، إذ العمل بلا نية لا خير فيه، وظاهر الترجيح للمشتركين في أصل الخيرية. ورابعها: أن لا يكون المراد من الخير إثبات الأفضلية بل المراد أن النية خير من الخيرات الواقعة بعمله، وهو ضعيف، لأن حمل الحديث عليه لا يفيد إلا إيضاح الواضحات، بل الوجه الجيد في التأويل أن يقال: النية ما لم تخل عن جميع أنواع الفتور
5

لا تكون نية جازمة، ومتى خلت عن جميع جهات الفتور وجب ترتب الفعل عليها لو لم يوجد عائق، وإذا كان كذلك: ثبت أن النية لا تنفك البتة عن الفعل، فيدعى أن هذه النية أفضل من ذلك العمل، وبيانه من وجوه. أولها: أن المقصود من جميع الأعمال تنوير القلب بمعرفة الله وتطهيره عما سوى الله، والنية صفة القلب، والفعل ليس صفة القلب، وتأثير صفة القلب أقوى من تأثير صفة الجوارح في القلب، فلا جرم نية المؤمن خير من عمله. وثانيها: أنه لا معنى للنية إلا القصد إلى إيقاع تلك الأعمال طاعة للمعبود وانقيادا له، وإنما يراد الأعمال ليستحفظ التذكر بالتكرير، فيكون الذكر والقصد الذي في القلب بالنسبة إلى العمل كالمقصود بالنسبة إلى الوسيلة، ولا شك أن المقصود أشرف من الوسيلة. وثالثها: أن القلب أشرف من الجسد، ففعله أشرف من فعل الجسد، فكانت النية أفضل من العمل.
المسألة الرابعة: اعلم أن الأعمال على ثلاثة أقسام: طاعات، ومعاصي، ومباحات، أما المعاصي فهي لا تتغير عن موضوعاتها بالنية، فلا يظن الجاهل أن قوله عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنيات " يقتضي انقلاب المعصية طاعة بالنية كالذي يطعم فقيرا من مال غيره، أو يبني
مسجدا من مال حرام. الثاني: الطاعات وهي مرتبطة بالنيات في الأصل وفي الفضيلة، أما في الأصل فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى، فإن نوى الرياء صارت معصية، وأما الفضيلة فبكثرة النيات تكثر الحسنة كمن قعد في المسجد وينوي فيه نيات كثيرة. أولها: أن يعتقد أنه بيت الله ويقصد به زيارة مولاه كما قال عليه الصلاة والسلام: " من قعد في المسجد فقد زار الله وحق على المزور إكرام زائره ". وثانيها: أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون حال الانتظار كمن هو في الصلاة. وثالثها: إغضاء السمع والبصر وسائر الأعضاء كما لا ينبغي، فإن الإعتكاف كف وهو في معنى الصوم، وهو نوع ترهب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " رهبانية أمتي القعود في المساجد ". ورابعها: صرف القلب والأسر بالكلية إلى الله تعالى. وخامسها: إزالة ما سوى الله عن القلب. وسادسها: أن يقصد إفادة علم أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر. وسابعها: أن يستفيد أخا في الله فإن ذلك غنيمة أهل الدين. وثامنها: أن يترك الذنوب حياء من الله فهذا طريق تكثير النيات، وقس به سائر الطاعات.
القسم الثالث: سائر المباحات ولا شيء منها إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات، فما أعظم خسران من يغفل عنها ولا يصرفها إلى القربات، وفي الخبر: من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الحيفة فإن قلت: فاشرح لي كيفية هذه النية،
فاعلم أن القصد من التطيب إن كان هو التنعم وريحه أنتن من الحيفة، فإن قلت: فاشرح لي كيفية هذه النية، فاعلم أن القصد من التطيب إن كان هو التنعم بلذات الدنيا أو
6

إظهار التفاخر بكثرة المال أو رياء الخلق أو ليتودد به إلى قلوب النساء، فكل ذلك يجعل التطيب معصية، وإن كان القصد إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد، فهو عين الطاعة، وإذا عرفت ذلك فقس عليه سائر المباحات، والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق، وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب.
المسألة الخامسة: اعلم أن الجاهل إذا سمع الوجوه العقلية والنقلية في أنه لا بد من النية فيقول في نفسه عند تدريسه وتجارته: نويت أن أدرس لله وأتجر لله يظن أن ذلك نية وهيهات فذاك حديث نفس أو حديث لسان والنية بمعزل عن جميع ذلك إنما النية انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلا وإما آجلا. والميل إذا لم يحصل لم يقدر الإنسان على اكتسابه وهو كقول الشبعان نويت أن أشتهي الطعام، أو كقول الفارغ نويت أن أعشق، بل لا طريق إلى اكتساب الميل إلى الشيء إلا باكتساب أسبابه وليست هي إلا تحصيل العلم بما فيه من المنافع، ثم هذا العلم لا يوجب هذا الميل إلا عند خلو القلب عن سائر الشواغل، فإذا غلبت شهوة النكاح ولم يعتقد في الولد غرضا صحيحا لا عاجلا ولا آجلا، لا يمكنه أن يواقع على نية الولد بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة فكيف ينوي الولد؟ فثبت أن النية ليست عبارة عن القول باللسان أو بالقلب بل هي عبارة عن حصول هذا الميل، وذلك أمر معلق بالغيب فقد يتيسر في بعض الأوقات، وقد يتعذر في بعضها.
/ المسألة السادسة: اعلم أن نيات الناس في الطاعات أقسام: فمنهم من يكون عملهم إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار، ومنهم من يعمل لباعث الرجاء وهو الرغبة في الجنة والعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه، كالأجير السوء ودرجته درجة البله، وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله والفكر فيه حبا لجلاله وسائر الأعمال مؤكدات له وهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وثواب الناس بقدر نياتهم فلا جرم صار المقربون متنعمين بالنظر إلى وجهه الكريم ونسبة شرف الالتذاذ بنعيم الجنة إلى شرف الالتذاذ بهذا المقام كنسبة نعيم الجنة إلى وجهه الكريم.
* (وقالت اليهود ليست النصارى على شىء وقالت النصارى ليست اليهود على شىء
7

وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) *
اعلم أنه تعالى لما جمعهم في الخبر الأول فصلهم في هذه الآية، وبين قول كل فريق منهم في الآخر، وكيف ينكر كل طائفة دين الأخرى، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (ليست النصارى على شيء) * أي على شيء يصح ويعتد به وهذه مبالغة عظيمة وهو كقولهم: أقل من لا شيء، ونظيره قوله تعالى: * (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة) * (المائدة: 68)، فإن قيل: كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانا يثبتان الصانع وصفاته سبحانه وتعالى، وذلك قول فيه فائدة؟ قلنا: الجواب من وجهين، الأول: أنهم لما ضموا إلى ذلك القول الحسن قولا باطلا يحبط ثواب الأول، فكأنهم ما أتوا بذلك الحق. الثاني: أن يخص هذا العام بالأمور التي اختلفوا فيه، وهي ما يتصل بباب النبوات.
المسألة الثانية: روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل، وقالت النصارى لهم: نحوه وكفروا بموسى عليه السلام والتوراة.
المسألة الثالثة: اختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أهم الذين كانوا من بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام، والظاهر الحق أنه لا دليل في الظاهر عليه وإن كان الأولى أن يحمل على كل اليهود وكل النصارى بعد بعثة عيسى عليه السلام، ولا يجب لما نقل في سبب الآية
أن يهوديا خاطب النصارى بذلك فأنزل الله هذه الآية أن لا يراد بالآية سواه، إذا أمكن حمله على ظاهره وقوله: * (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) * يفيد العموم فما الوجه في حمله على التخصيص ومعلوم من طريقة اليهود والنصارى أنهم منذ كانوا فهذا قول كل فريق منهما في الآخر.
أما قوله تعالى: * (وهم يتلون الكتاب) * قالوا وللحال، والكتاب للجنس. أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلوم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني شاهد لصحته، فإن التوراة مصدقة بعيسى عليه السلام، والإنجيل مصدق بموسى عليه السلام.
أما قوله تعالى: * (كذلك قال الذين لا يعلمون) * فإنه يقتضي أن من تقدم ذكره يجب أن يكون عالما لكي يصح هذا الفرق، فبين تعالى أنهم مع المعرفة والتلاوة إذا كانوا يختلفون هذا الاختلاف
8

فكيف حال من لا يعلم، واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن كل طائفة تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن، ثم اختلفوا فيمن هم الذين لا يعلمون على وجوه. أولها: أنهم كفار العرب الذين قالوا: إن المسلمين ليسوا على شيء فبين تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنصارى وهم يقرأون الكتب لا ينبغي أن يقبل ويلتفت إليه فقول كفار العرب أولى أن لا يلتفت إليه. وثانيها: أنه إذا حملنا قوله: * (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) * على الذين كانوا حاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، حملنا قوله: * (كذلك قال الذين لا يعلمون) * على المعاندين وعكسه أيضا محتمل. وثالثها: أن يحمل قوله: * (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) * على علمائهم ويحمل قوله: * (كذلك قال الذين لا يعلمون) * على عوامهم فصلا بين خواصهم وعوامهم، والأول أقرب: لأن كل اليهود والنصارى دخلوا في الآية فمن ميز عنهم بقوله: * (كذلك قال الذين لا يعلمون) * يجب أن يكون غيرهم.
أما قوله تعالى: * (فالله يحكم بينهم) * ففيه أربعة أوجه. أحدها: قال الحسن: يكذبهم جميعا ويدخلهم النار. وثانيها؛ حكم الانتصاف من الظالم المكذب للمظلوم المكذب. وثالثها: يريهم من يدخل الجنة عيانا ومن يدخل النار عيانا، وهو قول الزجاج. ورابعها: يحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه والله أعلم.
* (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى فى خرابهآ أولئك ما كان لهم أن يدخلوهآ إلا خآئفين لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الاخرة عذاب عظيم) *
اعلم أن في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: أجمع المفسرون على أنه ليس المراد من هذه الآية مجرد بيان الشرط والجزاء، أعني مجرد بيان أن من فعل كذا فإن الله يفعل به كذا بل المراد منه بيان أن منهم من منع عمارة المساجد وسعى في خرابها، ثم أن الله تعالى جازاهم بما ذكر في الآية إلا أنهم اختلفوا في أن الذين منعوا من عمارة المسجد وسعوا في خرابه من هم؟ وذكروا فيه أربعة أوجه. أولها: قال ابن عباس:
9

أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه وألقى فيه الجيف وحاصر أهله وقتلهم وسبى البقية وأحرق التوراة، ولم يزل بيت المقدس خرابا حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر. وثانيها: قال الحسن وقتادة والسدي: نزلت في بختنصر حيث خرب بيت المقدس وبعض النصارى أعانه على ذلك بغضا لليهود. قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: هذان الوجهان غلطان لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل والنصارى كانوا بعد المسيح فكيف يكونون مع بختنصر في تخريب بيت المقدس وأيضا فإن النصارى يعتقدون في تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود وأكثر، فكيف أعانوا على تخريبه. وثالثها: أنها نزلت في مشركي العرب الذين منعوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن الدعاء إلى الله بمكة وألجؤه إلى الهجرة، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام، وقد كان الصديق رضي الله عنه بنى مسجدا عند داره فمنع وكان ممن يؤذيه ولدان قريش ونساؤهم، وقيل: إن قوله تعالى: * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * (الإسراء: 110) نزلت في ذلك فمنع من الجهر لئلا يؤذى، وطرح أبو جهل العذرة على ظهر لنبي صلى الله عليه وسلم فقيل: ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحدون الله ولا يشركون به شيئا ويصلون له تذللا وخشوعا، ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه، وألسنتهم بالذكر له، وجميع جسدهم بالتذلل لعظمته وسلطانه. ورابعها: قال أبو مسلم: المراد منه الذين صدوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من المدينة عام الحديبية، واستشهد بقوله تعالى: * (هم الذين كفروا وصدوكم عند المسجد الحرام) * (الفتح: 25) وبقوله: * (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام) * (الأنفال: 34) وحمل قوله: * (إلا خائفين) * بما يعلى الله من يده، ويظهر من كلمته، كما قال في المنافقين: * (لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) * (الأحزاب: 60 - 61) وعندي فيه وجه خامس وهو أقرب إلى رعاية النظم: وهو أن يقال: أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فكانوا يمنعون الناس عن الصلاة عند توجههم إلى الكعبة، ولعلهم سعوا أيضا في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها، وسعوا أيضا في تخريب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يصلوا فيه متوجهين إلى القبلة، فعابهم الله بذلك وبين سوء طريقتهم فيه، وهذا التأويل أولى مما قبله، وذلك لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السابقة على هذه الآية إلا قبائح أفعال اليهود
والنصارى، وذكر أيضا بعدها قبائح أفعالهم فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صدهم الرسول عن المسجد الحرام، وأما حمل الآية على سعي النصارى في تخريب بيت المقدس فضعيف أيضا على ما شرحه أبو بكر الرازي، فلم يبق إلا ما قلناه.
10

المسألة الثانية: في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه: فأما من حملها على النصارى وخراب بيت المقدس قال: تتصل بما قبلها من حيث أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط، فقيل لهم: كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد والسعي في خرابها هكذا، وأما من حمله على المسجد الحرام وسائر المساجد قال: جرى ذكر مشركي العرب في قوله: * (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) * (البقرة: 113) وقيل: جرى ذكر جميع الكفار وذمهم، فمرة وجه الذم إلى اليهود والنصارى ومرة إلى المشركين.
المسألة الثالثة: قوله: * (مساجد الله) * عموم فمنهم من قال: المراد به كل المساجد، ومنهم من حمله على ما ذكرناه من المسجد الحرام وغيره من مساجد مكة، وقالوا: قد كان لأبي بكر رضي الله عنه مسجد بمكة يدعو الله فيه، فخربوه قبل الهجرة، ومنهم من حمله على المسجد الحرام فقط وهو قول أبي مسلم حيث فسر المنع بصد الرسول عن المسجد الحرام عام الحديبية، فإن قيل: كيف يجوز حمل لفظ المساجد على مسجد واحد؟ قلنا: فيه وجوه. أحدها: هذا كمن يقول لمن آذى صالحا واحدا: ومن أظلم ممن آذى الصالحين. وثانيها: أن المسجد موضع السجود فالمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مسجدا واحدا بل مساجد.
المسألة الرابعة: قوله: * (أن يذكر فيها اسمه) * في محل النصب واختلفوا في العامل فيه على أقوال. الأول: أنه ثاني مفعولي منع لأنك تقول: منعته كذا، ومثله: * (وما منعنا أن نرسل بالآيات، وما منع الناس أن يؤمنوا) *. الثاني: قال الأخفش: يجوز أن يكون على حذف (من) كأنه قيل: منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه. الثالث: أن يكون على البدل من مساجد الله. الرابع: قال الزجاج: يجوز أن يكون على معنى كراهة أن يذكر فيها اسمه، والعامل فيه (منع).
المسألة الخامسة: السعي في تخريب المسجد قد يكون لوجهين. أحدهما: منع المصلين والمتعبدين والمتعهدين له من دخوله فيكون ذلك تخريبا. والثاني: بالهدم والتخريب وليس لأحد أن يقول: كيف يصح أن يتأول على بيت الله الحرام ولم يظهر فيه التخريب لأن منع الناس من إقامة شعار العبادة فيه يكون تخريبا له، وقيل: إن أبا بكر رضي الله عنه كان له موضع صلاة فخربته قريش لما هاجر.
المسألة السادسة: ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم وفيه إشكال لأن الشرك ظلم على ما قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) مع
أن الشرك أعظم من هذا الفعل، وكذا الزنا وقتل النفس أعظم من هذا الفعل، والجواب عنه: أقصى ما في الباب أنه عام دخله
11

التخصيص فلا يقدح فيه.
أما قوله تعالى: * (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) * فاعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر الكلام أن الذين آمنوا وسعوا في تخريب المسجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلا خائفين، وأما من يجعله عاما في الكل فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوها. أحدها: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال الهيبة وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليهم ويمنعوا المؤمنين منها، والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم. وثانيها: أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب، أو يقتل أن لم يسلم، وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام، ونادى فيهم عام حج أبو بكر رضي الله عنه: ألا لا يحجن بعد العام مشرك، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود من جزيرة العرب، فحج من العام الثاني ظاهرا على المساجد لا يجترئ أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام، وهذا هو تفسير أبي مسلم في حمل المنع من المساجد على صدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية ويحمل هذا الخوف على ظهور أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وغلبته لهم بحيث يصيرون خائفين منه ومن أمته. وثالثها: أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصغار والذل بالجزية والإذلال. ورابعها: أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام إلا في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمخاصمة والمحاكمة والمحاجة، لأن كل ذلك يتضمن الخوف والدليل عليه قوله تعالى: * (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) * (التوبة: 17). وخامسها: قال قتادة والسدي: قوله: * (إلا خائفين) * بمعنى أن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين، ولا يوجد فيه نصراني إلا أوجع ضربا وهذا التأويل مردود، لأن بيت المقدس بقي أكثر من مائة سنة في أيدي النصارى بحيث لم يتمكن أحد من المسلمين من الدخول فيه إلا خائفا، إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين رحمه الله في زماننا. وسادسها: أن قوله: * (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) * وإن كان لفظه لفظ الخبر لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول، والتخلية بينهم وبينه كقوله: * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) * (الأحزاب: 53). أما قوله تعالى: * (لهم في الدنيا خزي) * فقد اختلفوا في الخزي، فقال بعضهم: ما يلحقهم من الذل بمنعهم من المساجد، وقال آخرون بالجزية في حق أهل الذمة وبالقتل في حق أهل الحرب، واعلم أن كل ذلك محتمل فإن الخزي لا يكون إلا ما يجري مجرى العقوبة من الهوان والإذلال فكل ما هذه صفته
12

يدخل تحته وذلك ردع من الله تعالى عن ثباتهم على الكفر لأن الخزي الحاضر يصرف عن التمسك بما يوجبه ويقتضيه، وأما العذاب العظيم فقد وصفه الله تعالى بما جرى مجرى النهاية
في المبالغة، لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم بأعظم الظلم، فبين أنهم يستحقون العقاب العظيم، وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى: في أحكام المساجد وفيه وجوه. الأول: في بيان فضل المساجد ويدل عليه القرآن والأخبار والمعقول، أما القرآن فآيات، أحدها: قوله تعالى: * (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) * (الجن: 18). أضاف المساجد إلى ذاته يلزم الاختصاص ثم أكد ذلك الاختصاص بقوله: * (فلا تدعوا مع الله أحدا) *. وثانيها: قوله تعالى: * (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) * (التوبة: 18) فجعل عمارة المسجد دليلا على الإيمان، بل الآية تدل بظاهرها على حصر الإيمان فيهم، لأن كلمة إنما للحصر. وثالثها: قوله تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال) * (النور: 36). ورابعها: هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) * فإن ظاهرها يقتضي أن يكون الساعي في تخريب المساجد أسوأ حالا من المشرك لأن قوله: * (ومن أظلم) * يتناول المشرك لأنه تعالى قال: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) فإذا كان الساعي في تخريبه في أعظم درجات الفسق وجب أن يكون الساعي في عمارته في أعظم درجات الإيمان. وأما الأخبار، فأحدها: ما روى الشيخان في صحيحيهما أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه، فقال عثمان رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من بنى لله مسجدا بنى الله له كهيئته في الجنة ". وفي رواية أخرى: " بنى الله له بيتا في الجنة ". وثانيها: ما روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: " أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها "، واعلم أن هذا الخبر تنبيه على ما هو السر العقلي في تعظيم المساجد وبيانه أن الأمكنة والأزمنة إنما تتشرف بذكر الله تعالى، فإذا كان المسجد مكانا لذكر الله تعالى حتى أن الغافل عن ذكر الله إذا دخل المسجد اشتغل بذكر الله والسوق على الضد من ذلك، لأنه موضع البيع والشراء والإقبال على الدنيا وذلك مما يورث الغفلة عن الله، والأعراض عن التفكر في سبيل الله، حتى أن ذاكر الله إذا دخل السوق فإنه يصير غافلا عن ذكر الله لا جرم كانت المساجد أشرف المواضع والأسواق أخس المواضع. الثاني: في فضل المشي إلى المساجد (أ) عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: " من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئته والأخرى ترفع درجته "، رواه مسلم. (ب) أبو هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: " من غدا أو راح إلى المسجد أعد الله له في الجنة منزلا كلما غدا أو راح " أخرجاه في الصحيح. (ج) أبي بن كعب قال: كان رجل
13

ما أعلم أحدا من أهل المدينة ممن يصلى إلى القبلة أبعد منزلا منه من المسجد وكان لا تخطئه الصلوات مع الرسول عليه السلام، فقيل له: لو اشتريت حمارا لتركبه في الرمضاء والظلماء، فقال: والله ما أحب أن منزلي بلزق المسجد، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فسأله فقال: يا رسول الله كيما يكتب أثري وخطاي ورجوعي إلى أهلي وإقبالي وإدباري، فقال عليه الصلاة والسلام
" لك ما احتسبت أجمع " أخرجه مسلم. (د) جابر قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: " أنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد، فقالوا: نعم قد أردنا ذلك قال يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم ". رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في حقهم: * (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم) * (يس: 12). (ه) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إلى المسجد مشيا والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام في جماعة أعظم أجرا ممن يصليها ثم ينام " أخرجاه في الصحيح. (و) عقبة بن عامر الجهني أنه عليه السلام قال: " إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتبه أو كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات والقاعد الذي يرعى الصلاة كالقانت ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع ". (ز) عن سعيد بن المسيب قال: حضر رجلا من الأنصار الموت فقال لأهله: من في البيت، فقالوا: أهلك، وأما أخوتك وجلساؤك ففي المسجد، فقال: ارفعوني فأسنده رجل منهم إليه ففتح عينيه وسلم على القوم فردوا عليه وقالوا له: خيرا. فقال: إني مورثكم اليوم حديثا ما حدثت به أحدا منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم احتسابا وما أحدثكموه اليوم إلا احتسابا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد يصلي في جماعة المسلمين لم يرفع رجله اليمنى إلا كتب الله له بها حسنة ولم يضع رجله اليسرى إلا حط الله عنه بها خطيئة حتى يأتي المسجد، فإذا صلى بصلاة الإمام انصرف وقد غفر له، فإن هو أدرك بعضها وفاته بعض كان كذلك ". (ح) عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: " من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها ولم ينقص ذلك من أجرهم شيئا ". (ط) أبو هريرة قال عليه السلام: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط " رواه أبو مسلم. (ي) قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لداود بن صالح: هل تدري فيم نزلت: * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) * (آل عمران: 200) قال: قلت لا يا ابن أخي، قال: سمعت
14

أبا هريرة يقول لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكن انتظار الصلاة بعد الصلاة. (يا) بريدة قال عليه السلام: " بشر المشائين في الظلم إلى المسجد بالنور التام يوم القيامة "، قال النخعي كانوا يرون المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة موجبة. (يب) قال الأوزاعي: كان يقال خمس كان عليها أصحاب محمد عليه السلام والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة واتباع السنة، وعمارة المسجد وتلاوة القرآن والجهاد في سبيل الله. (يج) أبو هريرة قال عليه السلام: " من بنى لله بيتا يعبد الله فيه من مال حلال بنى الله له بيتا في الجنة من دور ياقوت. (يد) أبو ذر قال عليه السلام: " من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ". (يه) أبو سعيد الخدري: قال عليه السلام: " إذا رأيتم الرجل
يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله تعالى قال: * (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) * " (التوبة: 18). (يو) عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: إن المساجد بيوت الله وأنه لحق على الله أن يكرم من زاره فيها. (يز) أنس قال عليه السلام: " إن عمار بيوت الله هم أهل بيوت الله ". (يح) أنس قال عليه السلام: " يقول الله تعالى: كأني لأهم بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت إلى عمار بيوتي والمتحابين في وإلى المستغفرين بالأسحار صرفت عنهم ". (يط) عن أنس: قال عليه السلام: " إذا أنزلت عاهة من السماء صرفت عن عمار المساجد ". (ك) كتب سلمان إلى أبي الدرداء: يا أخي ليكن بيتك المساجد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المسجد بيت كل تقي وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله تعالى ". (كا) قال سعيد بن المسيب: عن عبد الله بن سلام: إن المساجد أوتادا من الناس، وإن لهم جلساء من الملائكة، فإذا فقدوهم سألوا عنهم، وإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم. (كب) الحسن قال عليه السلام: " يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم فلا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة ". (كج) أبو هريرة: قال عليه السلام: " إن للمنافقين علامات يعرفون بها تحيتهم لعنة وطعامهم نهبة، وغنيمتهم غلول، لا يقربون المساجد إلا هجرا ولا الصلاة إلا دبرا، لا يتألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل سحب بالنهار ". (كد) أبو سعيد الخدري وأبو هريرة: قال عليه السلام: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ". هذا حديث أخرجه الشيخان في الصحيحين. (كه) عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من خرج من بيته إلى المسجد كتب له كاتبه بكل خطوة
15

يخطوها عشر حسنات، والقاعد في المسجد ينتظر الصلاة كالقانت ويكتب من المصلين حتى يرجع إلى بيته ". (كو) روى عبد الله بن المبارك عن حكيم بن زريق بن الحكم، قال: سمعت سعيد بن المسيب وسأله أبي: أحضور الجنازة أحب إليك أم القعود في المسجد؟ قال: من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تقبر فله قيراطان، والجلوس في المسجد أحب إلي، تسبح الله وتهلل وتستغفر والملائكة تقول: آمين اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فإذا فعلت ذلك فقل: اللهم اغفر لسعيد بن المسيب. الثالث: في تزيين المساجد. (أ) ابن عباس: قال عليه الصلاة والسلام: " ما أمرت بتشييد المساجد " والمراد من التشييد رفع البناء وتطويله، ومنه قوله تعالى: * (في بروج مشيدة) * (النساء: 78) وهي التي يطول بناؤها. (ب) أمر عمر ببناء مسجد وقال للبناء: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. (ج) روى أن عثمان رأى أثرجة من جص معلقة في المسجد، فأمر بها فقطعت. (د) قال أبو الدرداء: إذا حليتم مصاحفكم وزينتم مساجدكم فالدمار عليكم. (ه) قال أبو قلابة: غدونا مع أنس بن مالك إلى
الزاوية فحضرت صلاة الصبح فمررنا بمسجد فقال أنس: لو صلينا في هذا المسجد؟ فقال بعض القوم: حتى نأتي المسجد الآخر، فقال أنس: أي مسجد، قالوا:
مسجد أحدث الآن، فقال أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سيأتي على أمتي زمان يتباهون في المساجد ولا يعمرونها إلا قليلا ". الرابع: في تحية المسجد، في الصحيحين عن أبي قتادة السلمي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس "، واعلم أن القول بذلك مذهب الحسن البصري ومكحول وقول الشافعي وأحمد وإسحق، وذهب قوم إلى أنه يجلس ولا يصلي، وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة، وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي. الخامس: فيما يقول إذا دخل المسجد، روت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيها، قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال قال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ". السادس: في فضيلة القعود في المسجد لانتظار الصلاة. (أ) أبو هريرة: قال عليه الصلاة والسلام: " الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه فتقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يحدث ". وروي أن عثمان بن مظعون أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ائذن لي في الاختصاء، فقال عليه الصلاة والسلام: " ليس منا من خصي أو اختصى إن خصاء أمتي الصيام ". فقال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة، فقال: " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله "، فقال: يا رسول الله ائذن لي في الترهب، فقال: " إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظارا للصلاة ".
16

السابع: في كراهية البيع والشراء في المسجد، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تناشد الأشعار في المساجد، وعن البيع والشراء فيه، وعن أن يتحلق الناس في المساجد يوم الجمعة قبل الصلاة، واعلم أنه كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد وبه يقول أحمد وإسحق وعطاء بن يسار، وكان إذا مر عليه بعض من يبيع في المسجد قال: عليك بسوق الدنيا فإنما هذا سوق الآخرة، وكان لسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم رحبة إلى جنب المسجد سماها البطحاء، وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إلى هذه الرحبة، واعلم أن الحديث الذي رويناه يدل على كراهية التحلق والاجتماع يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم، بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة، ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة، وأما طلب الضالة في المسجد، ورفع الصوت بغير الذكر، فمكروه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك "، قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: ويدخل في هذا كل أمر لم يبن له المسجد من أمور معاملات الناس، واقتضاء حقوقهم، وقد كره بعض
السلف المسألة في المسجد، وكان بعضهم يرى أن لا يتصدق على السائل المتعرض في المسجد، وورد النهي عن إقامة الحدود في المساجد، قال عمر فيمن لزمه حد: أخرجاه من المسجد، ويذكر عن علي رضي الله عنه مثله، وقال معاذ بن جبل: إن المساجد طهرت من خمس: من أن يقام فيها الحدود أو يقبض فيها الخراج، أو ينطق فيها بالأشعار أو ينشد فيها الضالة أو تتخذ سوقا، ولم ير بعضهم بالقضاء في المسجد بأسا، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لاعن بين العجلاني وامرأته في المسجد ولاعن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجا من المسجد. الثامن: في النوم في المسجد في الصحيحين: عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى وعن ابن شهاب قال: كان ذلك من عمر وعثمان وفيه دليل على جواز الاتكاء والاضطجاع وأنواع الاستراحة في المسجد مثل جوازها في البيت، إلا الانبطاح فإنه عليه الصلاة والسلام نهى عنه وقال: أنها ضجعة يبغضها الله، وعن نافع أن عبد الله كان شابا أعزب لا أهل له فكان ينام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورخص قوم من أهل العلم في النوم في المسجد، وقال ابن عباس: لا تتخذوه مبيتا أو مقيلا. التاسع: في كراهية البزاق في المسجد عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " البزاق
17

في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها "، وفي الصحيح عن أبي ذر قال عليه الصلاة والسلام: " عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت من محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن " وفي الحديث: " إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة في النار "، أي ينضم وينقبض، فقال بعضهم: المراد أن كونه مسجدا يقتضي التعظيم والقاء النخامة يقتضي التحقير، وبينهما منافاة، فعبر عليه الصلاة والسلام عن تلك المنافاة بقوله: لينزوي، وقال آخرون: أراد أهل المسجد وهم الملائكة، وفي الصحيحين عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنه يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، ولكن ليبصق عن شماله أو تحت رجليه فيدفنه ". وعن أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه فقام فحكه بيده وقال: " إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه فلا يبزقن أحدكم في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه قال: ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض وقال: يفعل هكذا " أخرجه البخاري في صحيحه. العاشر: في الثوم والبصل: في الصحيحين عن أنس وابن عمر وجابر قال عليه الصلاة والسلام: " من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس "، وعن جابر أنه عليه الصلاة والسلام قال: " من أكل ثوما أو بصلا فليعتزل مسجدنا " وأن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بقدر فيه خضر فوجد لها ريحا، فسأل فأخبر بما فيه من البقول، فقال: " قربوها إلى بعض من كان حاضرا، وقال
له كل فإني أناجي من لا تناجي " أخرجاه في الصحيحين. الحادي عشر: في المساجد في الدور، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد في الدور، وأن ينظف ويطيب، أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه أصحابه إذ جاء أعرابي فبال في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا تزرموه "، ثم دعاه فقال: " إن هذه المساجد لا
تصلح لشيء من العذرة والبول والخلاء، إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة "، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فصبوا عليه.
المسألة الثانية: اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد، فجوزه أبو حنيفة مطلقا، وأباه مالك مطلقا، وقال الشافعي رضي الله عنه: يمنع من دخول الحرم والمسجد الحرام، احتج الشافعي بوجوه. أولها: قوله تعالى: * (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) * (التوبة: 28) قال
18

الشافعي: قد يكون المراد من المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) * (الإسراء: 1) وإنما أسرى به من بيت خديجة. فالآية دالة إما على المسجد فقط، أو على الحرم كله، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل، لأن الخلاف حاصل فيهما جميعا، فإن قيل: المراد به الحج ولهذا قال: * (بعد عامهم هذا) * لأن الحج إنما يفعل في السنة مرة واحدة، قلنا: هذا ضعيف لوجوه. أحدها: إنه ترك للظاهر من غير موجب. الثاني: ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وهذا يقتضي أن المانع من قربهم من المسجد الحرام نجاستهم، وذلك يقتضي أنهم ما داموا مشركين كانوا ممنوعين عن المسجد الحرام. الثالث: أنه تعالى لو أراد الحج لذكر من البقاع ما يقع فيه معظم أركان الحج وهو عرفة. الرابع: الدليل على أن المراد دخول الحرم لا الحج فقط قوله تعالى: * (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) * (التوبة: 28) فأراد به الدخول للتجارة. وثانيها: قوله تعالى: * (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) * وهذا يقتضي أن يمنعوا من دخول المسجد، وأنهم متى دخلوا كانوا خائفين من الإخراج إلا ما قام عليه الدليل فإن قيل: هذه الآية مخصوصة بمن خرب بيت المقدس، أو بمن منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من العبادة في الكعبة، وأيضا فقوله: * (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) * ليس المراد منه خوف الإخراج، بل خوف الجزية والإخراج، قلنا: الجواب عن الأول: أن قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله) * ظاهر في العموم، فتخصيصه ببعض الصور خلاف الظاهر. وعن الثاني: أن الظاهر قوله: * (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) * يقتضي أن يكون ذلك الخوف إنما حصل من الدخول، وعلى ما يقولونه لا يكون الخوف متولدا من الدخول بل من شيء آخر، فسقط كلامهم. وثالثها: قوله تعالى: * (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) * (التوبة: 17) وعمارتها تكون بوجهين. أحدهما: بناؤها وإصلاحها. والثاني: حضورها ولزومها، كما تقول: فلان يعمر
مسجد فلان أي يحضره ويلزمه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان "، وذلك لقوله تعالى: * (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) * (التوبة: 18)، فجعل حضور المساجد عمارة لها. ورابعها: أن الحرم واجب التعظيم لقوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء: " اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة " فصونه عما يوجب تحقيره واجب وتمكين الكفار من الدخول فيه تعريض للبيت للتحقير لأنهم لفساد اعتقادهم فيه ربما استخفوا به وأقدموا على تلويثه وتنجيسه. وخامسها: أن الله تعالى أمر بتطهير البيت في قوله: * (وطهر بيتي للطائفين) * (الحج: 26) والمشرك نجس لقوله تعالى؛ * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) والتطهير على النجس واجب فيكون
19

تبعيد الكفار عنه واجبا. وسادسها: أجمعنا على أن الجنب يمنع منه، فالكافر بأن يمنع منه أولى إلا أن هذا مقتضى مذهب مالك وهو أن يمنع عن كل المساجد واحتج أبو حنيفة رحمه الله بأمور، الأول: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم عليه وفد يثرب فأنزلهم المسجد. الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن " وهذا يقتضي إباحة الدخول. الثالث: الكافر جاز له دخول سائر المساجد فكذلك المسجد الحرام كالمسلم، والجواب عن الحديثين الأولين: أنهما كانا في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بالآية، وعن القياس أن المسجد الحرام أجل قدرا من سائر المساجد فظهر الفرق والله أعلم.
* (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) *
قوله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) *.
اعلم أن في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، الضابط أن الأكثرين زعموا أنها إنما نزلت في أمر يختص بالصلاة ومنهم من زعم أنها إنما نزلت في أمر لا يتعلق بالصلاة، أما القول الأول فهو أقوى لوجهين، أحدها: أنه هو المروي عن كافة الصحابة والتابعين وقولهم حجة. وثانيهما: أن ظاهر قوله: * (فأينما تولوا) * يفيد التوجه إلى القبلة في الصلاة، ولهذا لا يعقل من قوله: * (فولوا وجوهكم) * (البقرة: 144) إلا هذا المعنى إذا ثبت هذا فنقول: القائلون بهذا القول اختلفوا على وجوه: أحدها: أنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة، فبين تعالى أن المشرق والمغرب وجميع الجهات والأطراف كلها مملوكة له سبحانه ومخلوقة له، فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة، لأن القبلة ليست قبلة لذاتها، بل لأن الله تعالى جعلها قبلة، فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك لأنه تعالى يدبر عباده كيف يريد وهو واسع عليم بمصالحهم فكأنه تعالى ذكر ذلك بيانا لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر، فيصير ذلك مقدمة لما كان يريد تعالى من نسخ القبلة. وثانيها: أنه لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت الآية
ردا عليهم وهو قول ابن عباس وهو نظير قوله: * (قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * (البقرة: 142). وثالثها: قول أبي مسلم وهو أن اليهود والنصارى كل واحد منهم قال: إن الجنة له لا لغيره، فرد الله عليهم بهذه الآية لأن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصخرة والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى عليه السلام إنما ولد هناك
20

على ما حكى الله ذلك في قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) * (مريم: 16) فكل واحد من هذين الفريقين وصف معبوده بالحلول في الأماكن ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق، فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق. ورابعها: قال بعضهم: إن الله تعالى نسخ بيت
المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية، فكان للمسلمين أن يتوجهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختار التوجه إلى بيت المقدس مع أنه كان له أن يتوجه حيث شاء، ثم أنه تعالى نسخ ذلك بتعيين الكعبة، وهو قول قتادة وابن زيد. وخامسها: أن المراد بالآية من هو مشاهد للكعبة فإن له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد. وسادسها: ما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه، ثم صلينا فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا الحديث يدل على أنهم كانوا قد نقلوا حينئذ إلى الكعبة لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ قبلة بيت المقدس. وسابعها: أن الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجه به راحلته. وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال: إنما نزلت هذه الآية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر. وكان عليه السلام إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة، فمعنى الآية: * (فأينما تولوا) * وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم: * (فثم وجه الله) * فقد صادفتم المطلوب: * (إن الله واسع) * الفضل غني، فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين، إما ترك النوافل، وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة بخلاف الفرائض، فإنها صلوات معدودة محصورة فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج بخلاف النوافل، فإنها غير محصورة، فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرج. فإن قيل: فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصواب. قلنا: إن قوله: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * مشعر بالتخيير والتخيير لا يثبت إلا في صورتين. أحدهما: في التطوع على الراحلة. وثانيهما: في السفر عند تعذر الاجتهاد للظلمة أو لغيرها، لأن في هذين الوجهين المصلي مخير فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير وقول من يقول: إن الله تعالى خير المكلفين في استقبال أي جهة شاءوا بهذه الآية، وهم كانوا يختارون بيت المقدس لا لأنه لازم، بل لأنه أفضل وأولى بعيد لأنه لا خلاف أن لبيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة اختصاصا في الشريعة ولو كان الأمر كما قالوا: لم يثبت
ذلك الاختصاص وأيضا فكان يجب أن يقال: إن بيت المقدس صار منسوخا بالكعبة فهذه الدلالة
21

تقتضي أن يكون حمل الآية على الوجه الثالث والرابع، وأما الذين حملوا الآية على الوجه الأول فلهم أن يقولوا: إن القبلة لما حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صوابا في ذلك الوقت والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت، وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القبلتين في المأذون فيه فثم وجه الله، قالوا: وحمل الكلام على هذا الوجه أولى، لأنه يعم كل مصل، وإذا حمل على الأول لا يعم لأنه يصير محمولا على التطوع دون الفرض، وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر، وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه فهو أولى من التخصيص، وأقصى ما في الباب أن يقال: إن على هذا التأويل لا بد أيضا من ضرب تقييد وهو أن يقال: * (فأينما تولوا) * من الجهات المأمور بها: * (فثم وجه الله) * إلا أن هذا الإضمار لا بد منه على كل حال، لأنه من المحال أن يقول تعالى: * (فأينما تولوا) * بحسب ميل أنفسكم * (فثم وجه الله) * بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناه، وإذا كان كذلك فقد زالت طريقة التخيير ونظيره: إذا أقبل أحدنا على ولده وقد أمره بأمور كثيرة مترتبة فقال له: كيف تصرفت فقد اتبعت رضائي، فإنه يحمل ذلك على ما أمره على الوجه الذي أمره من تضييق أو تخيير، ولا يحمل ذلك على التخيير المطلق فكذا ههنا.
القول الثاني: وهو قول من زعم أن هذه الآية نزلت في أمر سوى الصلاة فلهم أيضا وجوه: أولها: أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجدي أن يذكر فيها اسمي وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا، ثم أنهم أينما ولوا هاربين عني وعن سلطاني فإن سلطاني يلحقهم، وقدرتي تسبقهم وأنا عليم بهم، لا يخفى علي مكانهم وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها، وقوله تعالى: * (إن الله واسع عليم) * نظير قوله: * (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) * (الرحمن: 33) فعلى هذا يكون المراد منه سعة العلم، وهو نظير: * (وهو معكم أينما كنتم) * (الحديد: 4) وقوله: * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) * (المجادلة: 7) وقوله: * (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما) * (غافر: 7) وقوله: * (وسع كل شيء علما) * (طه: 98) أي عم كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوه عليه. وثانيها: قال قتادة: إن النبي عليه السلام قال: " إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه، قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم " فنزل قوله تعالى: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) * (آل عمران: 199) فقالوا: إنه كان يصلي إلى غير القبلة، أنزل الله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) * ومعناها أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب وما بينهما، كلها لي فمن وجه وجهه نحو شيء منها بأمر
22

يريدني ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق وهو نحو قوله تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * (البقرة: 143). وثالثها:
لما نزل قوله تعالى: * (ادعوني استجب لكم) * (غافر: 60) قالوا: أين ندعوه فنزلت هذه الآية، وهو قول الحسن ومجاهد والضحاك. ورابعها: أنه خطاب للمسلمين، أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فلله المشرق والمغرب والجهات كلها، وهو قول علي بن عيسى. وخامسها: من الناس من يزعم أنها نزلت في المجتهدين الوافين بشرائط الاجتهاد سواء كان في الصلاة أو في غيرها، والمراد منه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد فهو مصيب.
المسألة الثانية: إن فسرنا الآية بأنها تدل على تجويز التوجه إلى أي جهة أريد، فالآية منسوخة وإن فسرناها بأنها تدل على نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فالآية ناسخة، وإن فسرناها بسائر الوجوه فهي لا ناسخة ولا منسوخة.
المسألة الثالثة: اللام في قوله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب) * لام الاختصاص أي هو خالقهما ومالكهما، وهو كقوله: * (رب المشرقين ورب المغربين) * (الرحمن: 17) وقوله: * (برب المشارق والمغارب، ورب المشرق والمغرب) * ثم أنه سبحانه أشار بذكرهما إلى ذكر من بينهما من المخلوقات، كما قال: * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11).
المسألة الرابعة: الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه، وبيانه من وجهين، الأول: أنه تعالى قال: * (ولله المشرق والمغرب) * فبين أن هاتين الجهتين مملوكتان له وإنما كان كذلك لأن الجهة أمر ممتد في الوهم طولا وعرضا وعمقا، وكل ما كان كذلك فهو منقسم، وكل منقسم فهو مؤلف مركب، وكل ما كان كذلك فلا بد له من خالق وموجد، وهذه الدلالة عامة في الجهات كلها، أعني الفوق والتحت، فثبت بهذا أنه تعالى خالق الجهات كلها، والخالق متقدم على المخلوق لا محالة، فقد كان الباري تعالى قبل خلق العالم منزها عن الجهات والأحياز، فوجب أن يبقى بعد خلق العالم كذلك لا محالة لاستحالة انقلاب الحقائق والماهيات. الوجه الثاني: أنه تعالى قال: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * ولو كان الله تعالى جسما وله وجه جسماني لكان وجهه مختصا بجانب معين وجهة معينة فما كان يصدق قوله: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * فلما نص الله تعالى على ذلك علمنا أنه تعالى منزه عن الجسمية واحتج الخصم بالآية من وجهين، الأول: أن الآية تدل على ثبوت الوجه لله تعالى والوجه لا يحصل إلا من كان جسما. الثاني: أنه تعالى وصف نفسه بكونه واسعا، والسعة من صفة الأجسام. والجواب عن الأول: أن الوجه وإن كان في أصل اللغة عبارة عن العضو المخصوص
23

لكنا بينا أنا لو حملناه ههنا على العضو لكذب قوله تعالى: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * لأن الوجه لو كان محاذيا للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذيا للمغرب أيضا، فإذن لا بد فيه من التأويل وهو من وجوه. الأول: أن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله، والمراد منها الإضافة بالخلق والإيجاد على سبيل التشريف، فقوله: * (فثم وجه الله) * أي: فثم وجهه الذي وجهكم إليه لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما، والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها
فأي وجه من وجوه العالم المضاف إليه بالخلق والإيجاد نصبه وعينه فهو قبلة. الثاني: أن يكون المراد من الوجه القصد والنية قال الشاعر:
استغفر الله ذنبا لست أحصيه * رب العباد إليه الوجه والعمل
ونظيره قوله تعالى: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) * (الأنعام: 79). الثالث: أن يكون المراد منه فثم مرضاة الله، ونظيره قوله تعالى: * (إنما نطعمكم لوجه الله) * (الإنسان: 9) يعني لرضوان الله، وقوله: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) يعني ما كان لرضا الله، ووجه الاستعارة أن من أراد الذهاب إلى إنسان فإنه لا يزال يقرب من وجهه وقدامه، فكذلك من يطلب مرضاة أحد فإنه لا يزال يقرب من مرضاته، فلهذا سمي طلب الرضا بطلب وجهه. الرابع: أن الوجه صلة كقوله: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * ويقول الناس هذا وجه الأمر لا يريدون به شيئا آخر غيره، إنما يريدون به أنه من ههنا ينبغي أن يقصد هذا الأمر، واعلم أن هذا التفسير صحيح في اللغة إلا أن الكلام يبقى، فإنه يقال لهذا القائل: فما معنى قوله تعالى: * (فثم وجه الله) * مع أنه لا يجوز عليه المكان فلا بد من تأويله بأن المراد: فثم قبلته التي يعبد بها، أو ثم رحمته ونعمته وطريق ثوابه والتماس مرضاته. والجواب عن الثاني: وهو أنه وصف نفسه بكونه واسعا فلا شك أنه لا يمكن حمله على ظاهره وإلا لكان متجزئا متبعضا فيفتقر إلى الخالق، بل لا بد وأن يحمل على السعة في القدرة والملك، أو على أنه واسع العطاء والرحمة، أو على أنه واسع الإنعام ببيان المصلحة للعبيد لكي يصلوا إلى رضوانه، ولعل هذا الوجه بالكلام أليق، ولا يجوز حمله على السعة في العلم، وإلا لكان ذكر العليم بعده تكرارا، فأما قوله: * (عليم) * في هذا الموضع فكالتهديد ليكون المصلي على حذر من التفريط من حيث يتصور أنه تعالى يعلم ما يخفي وما يعلن، وما يخفي على الله من شيء، فيكون متحذرا عن التساهل، ويحتمل أن يكون قوله تعالى: * (واسع عليم) * أنه تعالى واسع القدرة في توفية ثواب من يقوم بالصلاة على شرطها، وتوفية عقاب من يتكاسل عنها.
المسألة الخامسة: ولى إذا أقبل، وولى إذا أدبر، وهو من الأضداد ومعناه ههنا الإقبال، وقرأ الحسن: * (فأينما تولوا) * بفتح التاء من التولي، يريد فأينما توجهوا القبلة.
24

* (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون * بديع السماوات والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *
اعلم أن هذا هو النوع العاشر من مقابح أفعال اليهود والنصارى والمشركين، واعلم أن الظاهر قوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الله ولدا) * أن يكون راجعا إلى قوله: * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله) * (البقرة: 114) وقد ذكرنا أن منهم من تأوله على النصارى، ومنهم من تأوله على مشركي العرب، ونحن قد تأولناه على اليهود وكل هؤلاء أثبتوا الولد لله تعالى، لأن اليهود قالوا: عزيز ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ومشركو العرب قالوا: الملائكة بنات الله فلا جرم صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ووهب بن يهودا فإنهم جعلوا عزيزا ابن الله، أما قوله تعالى: * (سبحانه) * فهو كلمة تنزيه ينزه بها نفسه عما قالوه، كما قال تعالى في موضع آخر: * (سبحانه أن يكون له ولد) * (النساء: 171) فمرة أظهره، ومرة اقتصر عليه لدلالة الكلام عليه، واحتج على هذا التنزيه بقوله: * (بل له ما في السماوات والأرض) * ووجه الاستدلال بهذا على فساد مذهبهم من وجوه. الأول: أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته محدث، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود، والمخلوق لا يكون ولدا، أما بيان أن ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته، فلأنه لو وجد موجودان واجبان لذاتهما لاشتركا في وجوب الوجود، ولامتاز كل واحد منهما عن الآخر بما به التعين، وما به المشاركة، غير ما به الممايزة، ويلزم تركب كل واحد منهما من قيدين، وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه من غيره، فكل مركب
فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، فكل واحد من الموجودين الواجبين لذاتهما ممكن لذاته، هذا خلف، ثم نقول: إن كان كل واحد من ذينك الجزءين واجبا عاد التقسيم المذكور فيه، ويقضي إلى كونه مركبا من أجزاء غير متناهية، وذلك محال، ومع تسليم أنه غير محال فالمقصود حاصل، لأن كل كثرة
25

فلا بد فيها من الواحد، فتلك الآحاد إن كانت واجبة لذواتها كانت مركبة على ما ثبت، فالبسيط مركب هذا خلف، وإن كانت ممكنة كان المركب المفتقر إليها أولى بالإمكان، فثبت بهذا البرهان أن كل ما عدا الموجود الواجب ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محتاج إلى المؤثر، وتأثير ذلك المؤثر فيه إما أن يكون حال عدمه أو حال وجوده، فإن كان الأول فذلك الممكن محدث، وإن كان الثاني فاحتياج ذلك الموجود إلى المؤثر، إما أن يكون حال بقائه أو حال حدوثه، والأول محال لأنه يقتضي إيجاد الوجود فتعين الثاني وذلك يقتضي كون ذلك الممكن محدثا فثبت أن كل ما سوى الله محدث مسبوق بالعدم وأن وجوده إنما حصل بخلق الله تعالى وإيجاده وإبداعه، فثبت أن كل ما سواه فهو عبده وملكه فيستحل أن يكون شيء مما سواه ولدا له، وهذا البرهان إنما استفدناه من قوله: * (بل له ما في السماوات والأرض) * أي له كل ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع. والثاني: أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده إما أن يكون قديما أزليا أو محدثا، فإن كان أزليا لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولدا والآخر والدا أولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكما مجردا من غير دليل
وإن كان الولد حادثا كان مخلوقا لذلك القديم وعبدا له فلا يكون ولدا له. والثالث: أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد، فلو فرضنا له ولدا لكان مشاركا له من بعض الوجوه، وممتازا عنه من وجه آخر، وذلك يقتضي كون كل واحد منهما مركبا ومحدثا وذلك محال، فإذن المجانسة ممتنعة فالولدية ممتنعة. الرابع: أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة، فإذا كان كل ذلك محال كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالا، واعلم أنه تعالى حكى في مواضع كثيرة عن هؤلاء الذين يضيفون إليه الأولاد قولهم، واحتج عليهم بهذه الحجة وهي أن كل من في السماوات والأرض عبد له، وبأنه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وقال في مريم: * (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * (مريم: 34، 35) وقال أيضا في آخر هذه السورة: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * (مريم: 88 - 93) فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى استدل في هذه الآية بكونه مالكا لما في السماوات والأرض، وفي سورة مريم بكونه مالكا لمن في السماوات والأرض على ما قال: * (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * قلنا: قوله تعالى في هذه السورة: * (بل له ما في السماوات والأرض) * أتم، لأن كلمة (ما) تتناول جميع الأشياء، وأما قوله تعالى: * (كل له قانتون) * (الروم: 26) ففيه مسائل:
26

المسألة الأولى: القنوت: أصله الدوام، ثم يستعمل على أربعة أوجه: الطاعة، كقوله تعالى: * (يا مريم اقنتي لربك) * (آل عمران: 43) وطول القيام، كقوله عليه السلام لما سئل: أي الصلاة أفضل؟ قال: " طول القنوت " وبمعنى السكوت، كما قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: * (وقوموا لله قانتين) * (البقرة: 238) فأمسكنا عن الكلام، ويكون بمعنى الدوام، إذا عرفت هذا فنقول: قال بعض المفسرين: * (كل له قانتون) * أي كل ما في السماوات والأرض قانتون مطيعون، والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه وهو قول مجاهد وابن عباس، فقيل لهؤلاء الكفار: ليسوا مطيعين، فعند هذا قال آخرون: المعنى أنهم يطيعون يوم القيامة، وهو قول السدي، فقيل لهؤلاء: هذه صفة المكلفين، وقوله: * (له ما في السماوات) * يتناول من لا يكون مكلفا فعند هذا فسروا القنوت بوجوه أخر. الأول: بكونها شاهدة على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصنعة وأمارات الحدوث والدلالة على الربوبية. الثاني: كون جميعها في ملكه وقهره يتصرف فيها كيف يشاء، وهو قول أبي مسلم، وعلى هذين الوجهين الآية عامة. الثالث: أراد به الملائكة وعزيزا والمسيح، أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليهم بالولد أنهم قانتون له، يحكى عن علي بن أبي طالب قال لبعض النصارى: لولا تمرد عيسى عن عبادة الله لصرت على دينه، فقال النصراني: كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى
عيسى مع جده في طاعة الله، فقال علي رضي الله عنه: فإن كان عيسى إلها فالإله كيف يعبد غيره إنما العبد هو الذي يليق به العبادة، فانقطع النصراني.
المسألة الثانية: لما كان القنوت في أصل اللغة عبارة عن الدوام كان معنى الآية أن دوام الممكنات وبقاءها به سبحانه ولأجله وهذا يقتضي أن العالم حال بقائه واستمراره محتاج إليه سبحانه وتعالى، فثبت أن الممكن يقتضي أن لا تنقطع حاجته عن المؤثر لا حال حدوثه ولا حال بقائه.
المسألة الثالثة: يقال كيف جاء بما الذي لغير أولى العلم مع قوله: * (قانتون) * جوابه: كأنه جاء بما دون من تحقيرا لشأنهم.
أما قوله تعالى: * (بديع السماوات والأرض) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: البديع والمبدع بمعنى واحد. قال القفال: وهو مثل أليم بمعنى مؤلم وحكيم بمعنى محكم، غير أن في بديع مبالغة للعدول فيه وأنه يدل على استحقاق الصفة في غير حال الفعل على تقدير أن من شأنه الإبداع فهو في ذلك بمنزلة: سامع وسميع وقد يجيء بديع بمعنى مبدع، والإبداع الإنشاء ونقيض الإبداع الاختراع على مثال ولهذا السبب فإن الناس يسمون من قال أو عمل ما لم يكن قبله مبتدعا. المسألة الثانية: اعلم أن هذا من تمام الكلام الأول، لأنه تعالى قال: * (بل له ما في السماوات
27

والأرض) * فبين بذلك كونه مالكا لما في السماوات والأرض ثم بين بعده أنه المالك أيضا للسموات والأرض، ثم أنه تعالى بين أنه كيف يبدع الشيء فقال: * (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعض الأدباء: القضاء مصدر في الأصل سمي به ولهذا جمع على أقضية كغطاء وأغطية، وفي معناه القضية، وجمعها القضايا ووزنه فعال من تركيب " ق ض ى " وأصله " قضاي " إلا أن الياء لما وقعت طرفا بعد الألف الزائدة اعتلت فقلبت ألفا، ثم لما لاقت هي ألف فعال قلبت همزة لامتناع التقاء الألفين لفظا، ومن نظائره المضاء والأتاء، من مضيت وأتيت والسقاء والشفاء، من سقيت وشفيت، والدليل على إصالة الياء دون الهمزة ثباتها في أكثر تصرفات الكلمة تقول: قضيت وقضينا، وقضيت إلى قضيتن، وقضيا وقضين، وهما يقضيان، وهي وأنت تقضي، والمرأتان وأنتما تقضيان، وهن يقضين، وأما أنت تقضين، فالياء فيه ضمير المخاطبة، وأما معناه فالأصل الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع، من ذلك قولهم؛ قضى القاضي لفلان على فلان بكذا قضاء إذا حكم، لأنه فصل للدعوى، ولهذا قيل: حاكم فيصل إذا كان قاطعا للخصومات وحكى ابن الأنباري عن أهل اللغة أنهم قالوا: القاضي معناه القاطع للأمور المحكم لها، وقولهم انقضى الشيء إذا تم وانقطع، وقولهم: قضى حاجته، معناه قطعها عن المحتاج ودفعها عنه وقضى دينه إذا أداه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه أو انقطع كل منهما عن صاحبه،
قولهم: قضى الأمر، إذا أتمه وأحكمه، ومنه قوله تعالى: * (فقضاهن سبع سماوات) * (فصلت: 12) وهو من هذا لأن في إتمام العمل قطعا له وفراغا منه، ومنه: درع قضاء من قضاها إذا أحكمها وأتم صنعها، وأما قولهم؛ قضى المريض وقضى نحبه إذا مات، وقضى عليه: قتله فمجاز مما ذكر والجامع بينهما ظاهر، وأما تقضي البازي فليس من هذا التركيب، ومما يعضد ذلك دلالة ما استعمل من تقليب ترتيب هذا التركيب عليه وهو القيض والضيق، أما الأول فيقال: قاضه فانقاض، أي شقه فانشق، ومنه قيض البيض لما انفلق من قشره الأعلى، وانقاض الحائط إذا انهدم من غير هدم، والقطع والشق والفلق والهدم متقاربة، وأما الضيق وما يشتق منه فدلالته على معنى القطع بينة، وذلك أن الشيء إذا قطع ضاق أو على العكس، ومما يؤكد ذلك أن ما يقرب من هذا التركيب يدل أيضا على معنى القطع، فأولها: قضية إذا قطعه، ومنه القضبة المرطبة، لأنها تقضب أي تقطع تسمية بالمصدر، والقضيب: الغصن، فعيل بمعنى مفعول، والمقضب ما يقضب به كالمنجل. وثانيها؛ القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان، لأن فيه قطعا للمأكول، وسيف قضيم: في طرفه
28

تكسر وتفلل. وثالثها: القضف وهو الدقة، يقال رجل قضيف، أي: نحيف، لأن القلة من مسببات القطع. ورابعها: القضأة فعلة وهي الفساد، يقال قضئت القربة إذا عفيت وفسدت وفي حسبه قضأة أي عيب، وهذا كله من أسباب القطع أو مسبباته فهذا هو الكلام في مفهومه الأصلي بحسب اللغة.
المسألة الثانية: في محامل لفظ القضاء في القرآن قالوا: أنه يستعمل على وجوه. أحدها: بمعنى الخلق، قوله تعالى: * (فقضاهن سبع سماوات) * يعني خلقهن. وثانيها: بمعنى الأمر قال تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * (الإسراء: 23). وثالثها: بمعنى الحكم، ولهذا يقال للحاكم: القاضي. ورابعا: بمعنى الإخبار، قال تعالى: * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) * (الإسراء: 4) أي أخبرناهم، وهذا يأتي مقرونا بإلى. وخامسها: أن يأتي بمعنى الفراغ من الشيء قال تعالى: * (فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين) * (الأحقاف: 29) يعني لما فرغ من ذلك، وقال تعالى: * (وقضى الأمر واستوت على الجودي) * (هود: 44) يعني فرغ من إهلاك الكفار وقال: * (وليقضوا تفثهم) * (الحج: 29) بمعنى ليفرغوا منه، إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (إذا قضى أمرا) * (آل عمران: 47) قيل: إذا خلق شيئا، وقيل: حكم بأنه يفعل شيئا، وقيل: أحكم أمرا، قال الشاعر: وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص، وهل هو حقيقة في الفعل والشأن الحق؟ نعم وهو المراد بالأمر ههنا، وبسط القول فيه مذكور في أصول الفقه.
المسألة الرابعة: قرأ ابن عامر: * (كن فيكون) * (آل عمران: 47) بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين: في أول آل عمران: * (كن فيكون * الحق) * (آل عمران: 59، 60) وفي الأنعام: * (كن فيكون قوله الحق) * (الأنعام: 73) فإنه رفعهما، وعن الكسائي بالنصب في النحل ويس وبالرفع في سائر القرآن، والباقون بالرفع في كل القرآن، أما النصب فعلى جواب الأمر، وقيل هو بعيد، والرفع على الاستئناف أي فهو يكون.
المسألة الخامسة: اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى: * (فإنما يقول له كن فيكون) * (آل عمران: 47) هو أنه تعالى يقول له: * (كن) * فحينئذ يتكون ذلك الشيء فإن ذلك فاسد والذي يدل عليه وجوه. الأول: أن قوله: * (كن فيكون) * إما أن يكون قديما أو محدثا والقسمان فاسدان فبطل القول بتوقف حدوث الأشياء على * (كن) * إنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون قديما لوجوه. الأول: أن كلمة * (كن) * لفظة مركبة من الكاف والنون بشرط تقدم الكاف على النون، فالنون لكونه مسبوقا بالكاف لا بد وأن يكون محدثا، والكاف لكونه متقدما على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثا. الثاني: أن كلمة * (إذا) * لا تدخل إلا على سبيل الاستقبال، فذلك القضاء لا بد وأن يكون
29

محدثا لأنه دخل عليه حرف * (إذا) * وقوله * (كن) * مرتب على القضاء بفاء التعقيب لأنه تعالى قال: * (فإنما يقول له كن) * والمتأخر عن المحدث محدث، فاستحال أن يكون: * (كن) * قديما. الثالث: أنه تعالى رتب تكون المخلوق على قوله: * (كن) * بفاء التعقيب فيكون قوله: * (كن) * مقدما على تكون المخلوق بزمان واحد والمتقدم على المحدث بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثا فقوله: * (كن) * لا يجوز أن يكون قديما، ولا جائز أيضا أن يكون قوله: * (كن) * محدثا لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله: * (كن) * وقوله: * (كن) * أيضا محدث فيلزم افتقار: * (كن) * آخر ويلزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله: * (كن) *.
الحجة الثانية: أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق بكن قبل دخوله في الوجود أو حال دخوله في الوجود، والأول: باطل لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه، والثاني: أيضا باطل لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجودا وذلك أيضا لا فائدة فيه.
الحجة الثالثة: أن المخلوق قد يكون جمادا، وتكليف الجماد عبث ولا يليق بالحكيم.
الحجة الرابعة: أن القادر هو الذي يصح منه الفعل وتركه بحسب الإرادات، فإذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله: * (كن) * فإما أن يتمكن من الإيجاد والأحداث أو لا يتمكن، فإن تمكن لم يكن الإيجاد موقوفا على قوله: * (كن) * وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم أن لا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه بكن فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمعتم القدرة بكن وذلك نزاع في اللفظ.
الحجة الخامسة: أن * (كن) * لو كان له أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير، ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة.
الحجة السادسة: أن * (كن) * كلمة مركبة من الكاف والنون، بشرط كون الكاف متقدما على النون، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما، فإن كان الأول لم يكن لكلمة * (كن) * أثر البتة، بل التأثير لأحد هذين الحرفين، وإن كان الثاني فهو محال، لأنه لا وجود لهذا المجموع البتة لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثاني حاصلا، وحين جاء الثاني فقد فات الأول، وإن لم يكن للمجموع وجود البتة استحال أن يكون للمجموع أثر البتة.
الحجة السابعة: قوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * (آل عمران: 59) بين أن قوله: * (كن) * متأخر عن خلقه إذ المتأخر عن الشيء لا يكون مؤثرا في المتقدم عليه، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله: * (كن) * في وجود الشيء فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب، وإذا ثبت هذا فنقول لا بد من التأويل وهو من وجوه:
الأول: وهو الأقوى أن المراد من
30

هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة ونظيره قوله تعالى عند وصف خلق السماوات والأرض: * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11) من غير قول كان منهما لكن على سبل سرعة نفاذ قدرته في تكوينهما من غير ممانعة ومدافعة ونظيره قول العرب: قال الجدار للوتد لم تشقني؟ قال: سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي ونظيره قوله تعالى: * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) * (الإسراء: 44). الثاني: أنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا يحكى ذلك عن أبي الهذيل. الثالث: أنه خاص بالموجودين الذين قال لهم؛ * (كونوا قردة خاسئين) * (البقرة: 65) ومن جرى مجراهم وهو قول الأصم. الرابع: أنه أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة والكل ضعيف والقوي هو الأول.
* (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينآ ءاية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) *
اعلم أن هذا هو النوع الحادي عشر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين، ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أن الله تعالى لما حكى عن اليهود والنصارى والمشركين ما يقدح في التوحيد وهو أنه تعالى اتخذ الولد، حكى الآن عنهم ما يقدح في النبوة، وقال أكثر المفسرين؛ هؤلاء هم مشركو العرب والدليل عليه قوله تعالى: * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90) وقالوا: * (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) * (الأنبياء: 5)، وقالوا * (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) * (الفرقان: 21) هذا قول أكثر المفسرين، إلا أنه ثبت أن أهل الكتاب سألوا ذلك، والدليل عليه قوله تعالى: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) * (النساء: 153) فإن قيل: الدليل على أن المراد مشركو العرب أنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون، وأهل الكتاب أهل العلم، قلنا: المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي، وأهل الكتاب كانوا كذلك.
المسألة الثانية: تقرير هذه الشبهة التي تمسكوا بها أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء فلا بد
وأن يختار أقرب الطرق المفضية إليه وأبعدها عن الشكوك والشبهات، إذا ثبت هذا فنقول: إن
31

الله تعالى يكلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول: يا محمد، إنه كلمك والدليل عليه قوله تعالى: * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * (النجم: 10) فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة وأيضا فإن كان تعالى لا يفعل ذلك فلم لا يخصك بآية ومعجزة وهذا منهم طعن في كون القرآن آية ومعجزة، لأنهم لو أقروا بكونه معجزة لاستحال أن يقولوا: هلا يأتينا بآية ثم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: * (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) *، وحاصل هذا الجواب أنا قد أيدنا قول محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، وبينا صحة قوله بالآيات وهي القرآن وسائر المعجزات، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت وإذا كان كذلك لم يجب إجابتها لوجوه. الأول: أنه إذا حصلت الدلالة الواحدة فقد تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب، فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة، فحيث لم يكتف بها وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك للطلب من باب العناد واللجاج، فلم تكن إجابتها واجبة ونظيره قوله تعالى: * (وقالوا لو أنزل عليه آية من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) * (العنكبوت: 50، 51) فبكتهم بما في القرآن من الدلالة الشافية. وثانيها: لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآية لفعلها، ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجا فلا جرم لم يفعل ذلك ولذلك قال تعالى: * (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) * (الأنفال: 23). وثالثها: إنما حصل في تلك الآيات أنواع من الفساد وربما أوجب حصولها هلاكهم واستئصالهم إن استمروا بعد ذلك على التكذيب وربما كان بعضها منتهيا إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف، وربما كانت كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة، لأن الخوارق متى توالت صار انخراق العادة عادة، فحينئذ يخرج عن كونه معجزا وكل ذلك أمور لا يعلمها إلا الله علام الغيوب
فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة.
أما قوله تعالى: * (تشابهت قلوبهم) * فالمراد أن المكذبين للرسل تتشابه أقوالهم وأفعالهم، فكما أن قوم موسى كانوا أبدا في التعنت واقتراح الأباطيل، كقولهم: * (لن نصبر على طعام واحد) * (البقرة: 61) وقولهم: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * (الأعراف: 138) وقوله: * (أتتخذنا هزوا) * (البقرة: 67) وقولهم: * (أرنا الله جهرة) * (النساء: 153) فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبدا في العناد واللجاج وطلب الباطل.
أما قوله تعالى: * (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) * فالمراد أن القرآن وغيره من المعجزات كمجئ الشجرة وكلام الذئب، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، آيات قاهرة، ومعجزات باهرة لمن كان طالبا لليقين.
32

* (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسال عن أصحاب الجحيم) *
اعلم أن القوم لما أصروا على العناد واللجاج الباطل واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بين الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا مزيد على ما فعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة وكما بين ذلك بين أنه لا مزيد على ما فعله الرسول في باب الإبلاغ والتنبيه لكي لا يكثر غمه بسبب إصرارهم على كفرهم وفي قوله: * (بالحق) * وجوه. أحدها: أنه متعلق بالإرسال، أي أرسلناك إرسالا بالحق. وثانيها: أنه متعلق بالبشير والنذير أي أنت مبشر بالحق ومنذر به. وثالثها: أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن، أي أرسلناك بالقرآن حال كونه بشيرا لمن أطاع الله بالثواب ونذيرا لمن كفر بالعقاب، والأولى أن يكون البشير والنذير صفة للرسول صلى الله عليه وسلم فكأنه تعالى قال: إنا أرسلناك يا محمد بالحق لتكون مبشرا لمن اتبعك واهتدى بدينك ومنذرا لمن كفر بك وضل عن دينك.
أما قوله تعالى: * (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) * ففيه قراءتان:
الجمهور برفع التاء واللام على الخبر، وأما نافع فبالجزم وفتح التاء على النهي.
أما على القراءة الأولى ففي التأويل وجوه. أحدها: أن مصيرهم إلى الجحيم فمعصيتهم لا تضرك ولست بمسؤول عن ذلك وهو كقوله: * (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) * (الرعد: 40)، وقوله: * (عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) * (النور: 54). والثاني: أنك هاد وليس لك من الأمر شيء، فلا تأسف ولا تغتم لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب ونظيره قوله: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) * (فاطر: 8). الثالث: لا تنظر إلى المطيع والعاصي في الوقت، فإن الحال قد يتغير فهو غيب فلا تسأل عنه، وفي الآية دلالة على أن أحدا لا يسأل عن ذنب غيره ولا يؤاخذ بما اجترمه سواه سواء كان قريبا أو كان بعيدا.
أما القراءة الثانية ففيها وجهان، الأول: روي أنه قال: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنهي عن السؤال عن الكفرة وهذه الرواية بعيدة لأنه عليه الصلاة والسلام كان عالما بكفرهم، وكان عالما بأن الكافر معذب، فمع هذا العلم كيف يمكن أن يقول: ليت شعري ما فعل أبواي. والثاني: معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب، كما إذا سألت عن إنسان واقع في بلية فيقال لك: لا تسأل عنه، ووجه التعظيم أن المسؤول يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره، أو أنت
33

يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره، فلا تسأل، والقراءة الأولى يعضدها قراءة أبي: (وما تسأل) وقراءة عبد الله (ولن تسأل).
* (ولن ترضى عنك اليهود ولآ النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوآءهم بعد الذي جآءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) *
اعلم أنه تعالى لما صبر رسوله بما تقدم من الآية وبين أن العلة قد انزاحت من قبله لا من قبلهم وأنه لا عذر لهم في الثبات على التكذيب به عقب ذلك بأن القوم بلغ حالهم في تشددهم في باطلهم وثباتهم على كفرهم أنهم يريدون مع ذلك أن يتبع ملتهم ولا يرضون منه بالكتاب، بل يريدون منه الموافقة لهم فيما هم عليه فبين بذلك شدة عداوتهم للرسول وشرح ما يوجب اليأس من موافقتهم والملة هي الدين ثم قال: * (قل إن هدى الله هو الهدى) * بمعنى أن هدى الله هو الذي يهدي إلى الإسلام وهو الهدي الحق والذي يصلح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى، وما يدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى، ألا ترى إلى قوله: * (ولئن ابتعت أهواءهم) * أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع، * (بعد الذي جاءك من العلم) * أي من الدين المعلوم صحته بالدلائل القاطعة. * (ما لك من الله من ولي ولا نصير) * أي معين يعصمك ويذب عنك، بل الله يعصمك من الناس إذا أقمت على الطاعة والاعتصام بحبله قالوا: الآية تدل على أمور منها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله، فإن في هذه الصورة علم الله أنه لا يتبع أهواءهم ومع ذلك فقد توعده عليه ونظيره قوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) وإنما حسن هذا الوعيد لاحتمال أن الصارف له عن ذلك الفعل هو هذا الوعيد أو هذا الوعيد أحد صوارفه. وثانيها: أن قوله: * (بعد الذي جاءك من العلم) * يدل على أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلة وإذا صح ذلك فبأن لا يجوز الوعيد إلا بعد القدرة أولى فبطل به قول من يجوز تكليف ما لا يطاق. وثالثها: فيها دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلا، فمن هذا الوجه يدل على بطلان التقليد. ورابعها:
34

فيها دلالة على أنه لا شفيع لمستحق العقاب لأن غير الرسول إذا اتبع هواه لو كان يجد شفيعا ونصيرا لكان الرسول أحق بذلك وهذا ضعيف، لأن اتباع أهوائهم كفر، وعندنا لا شفاعة في الكفر.
* (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) *
شا المسألة الأولى: * (الذين) * موضعه رفع بالابتداء. و * (أولئك) * ابتداء ثان و * (يؤمنون به) * خبره.
المسألة الثانية: المراد بقوله:
* (الذين آتيناهم الكتاب) * من هم فيه قولان:
القول الأول: أنهم المؤمنون الذين آتاهم الله القرآن واحتجوا عليه من وجوه. أحدها: أن قوله: * (يتلونه حق تلاوته) * حث وترغيب في تلاوة هذا الكتاب، ومدح على تلك التلاوة، والكتاب الذي هذا شأنه هو القرآن لا التوراة والإنجيل، فإن قراءتهما غير جائزة. وثانيها: أن قوله تعالى: * (أولئك يؤمنون به) * يدل على أن الإيمان مقصود عليهم، ولو كان المراد أهل الكتاب لما كان كذلك. وثالثها: قوله: * (ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) * والكتاب الذي يليق به هذا الوصف هو القرآن.
القول الثاني: أن المراد بالذين آتاهم الكتاب، هم الذين آمنوا بالرسول من اليهود، والدليل عليه أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب فلما ذم طريقتهم وحكى عنهم سوء أفعالهم، أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم، بل تأمل التوراة وترك تحريفها وعرف منها صحة نبوة محمد عليه السلام. أما قوله تعالى: * (يتلونه حق تلاوته) * فالتلاوة لها معنيان. أحدهما: القراءة. الثاني: الاتباع فعلا، لأن من اتبع غيره يقال تلاه فعلا، قال الله تعالى: * (والقمر إذا تلاها) * (الشمس: 2) فالظاهر أنه يقع عليهما جميعا، ويصح فيهما جميعا المبالغة لأن التابع لغيره قد يستوفي حق الاتباع فلا يخل بشيء منه، وكذلك التالي يستوفي حق قراءته فلا يخل بما يلزم فيه، والذين تأولوه على القراءة هم الذين اختلفوا على وجوه. فأولها: أنهم تدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما. وثانيها: أنهم خضعوا عند تلاوته، وخشعوا إذا قرأوا القرآن في صلاتهم وخلواتهم. وثالثها: أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه وفوضوه إلى الله سبحانه. ورابعها:
35

يقرؤنه كما أنزل الله، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يتأولونه على غير الحق. وخامسها: أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد، وهو تعظيمها، والانقياد لها لفظا ومعنى، فوجب حمل اللفظ على هذا القدر المشترك تكثيرا لفوائد كلام الله تعالى والله أعلم.
* (يا بنى إسراءيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين * واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون * وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتى قال لا ينال عهدي الظالمين) *
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما استقصى في شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل ثم في شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم وختم هذا الفصل بما بدأ به وهو قوله: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي) * إلى قوله: * (ولا هم ينصرون) * شرع سبحانه ههنا في نوع آخر من البيان وهو أن ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وكيفية أحواله، والحكمة فيه أن إبراهيم عليه السلام شخص يعترف بفضله جميع الطوائف والملل، فالمشركين كانوا معترفين بفضله متشرفين بأنهم من أولاده ومن ساكني حرمه وخادمي بيته. وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا أيضا مقرين بفضله متشرفين بأنهم من أولاده، فحكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام أمورا توجب على المشركين وعلى اليهود والنصارى قبول قول محمد صلى الله عليه وسلم والاعتراف بدينه والانقياد لشرعه، وبيانه من وجوه:
أحدها: أنه تعالى لما أمره ببعض التكاليف فلما وفى بها
36

وخرج عن عهدتها لا جرم نال النبوة والإمامة وهذا مما ينبه اليهود والنصارى والمشركين على أن الخير لا يحصل في الدنيا والآخرة إلا بترك التمرد والعناد والانقياد لحكم الله تعالى وتكاليفه. وثانيها: أنه تعالى حكى عنه أنه طلب الإمامة لأولاده فقال الله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) * فدل ذلك على أن منصب الإمامة والرياسة في الدين لا يصل إلى الظالمين، فهؤلاء متى أرادوا وجدان هذا المنصب وجب عليهم ترك اللجاج والتعصب للباطل. وثالثها: أن الحج من خصائص دين محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله تعالى ذلك عن إبراهيم ليكون ذلك كالحجة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك. ورابعها: أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود والنصارى، فبين الله تعالى أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه ووجوب الاقتداء به فكان ذلك مما يوجب زوال ذلك الغضب عن قلوبهم. وخامسها: أن من المفسرين من فسر الكلمات التي ابتلى الله تعالى إبراهيم بها بأمور يرجع حاصلها إلى تنظيف البدن وذلك مما يوجب على المشركين اختيار هذه الطريقة لأنهم كانوا معترفين بفضل إبراهيم عليه السلام ويوجب عليهم ترك ما كانوا عليه من التلطخ بالدماء وترك النظافة ومن المفسرين من فسر تلك الكلمات بما أن إبراهيم عليه السلام صبر على ما ابتلى به في دين الله تعالى
وهو النظر في الكواكب والقمر والشمس ومناظرة عبدة الأوثان، ثم الانقياد لأحكام الله تعالى في ذبح الولد والإلقاء في النار، وهذا يوجب على هؤلاء اليهود والنصارى والمشركين الذين يعترفون بفضله أن يتشبهوا به في ذلك ويسلكوا طريقته في ترك الحسد والحمية وكراهة الانقياد لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهذه الوجوه التي لأجلها ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام.
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أمورا يرجع بعضها إلى الأمور الشاقة التي كلفه بها، وبعضها يرجع إلى التشريفات العظيمة التي خصه الله بها، ونحن نأتي على تفسيرها إن شاء الله تعالى، وهذه الآية دالة على تكليف حصل بعده تشريف.
أما التكليف فقوله تعالى: * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: العامل في * (إذا) * إما مضمر نحو: واذكر إذ ابتلى إبراهيم أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت وإما * (قال إني جاعلك) *.
المسألة الثانية: أنه تعالى وصف تكليفه إياه ببلوى توسعا لأن مثل هذا يكون منا على جهة البلوى والتجربة والمحنة من حيث لا يعرف ما يكون ممن يأمره، فلما كثر ذلك في العرف بيننا جاز أن يصف الله تعالى أمره ونهيه بذلك مجازا لأنه تعالى لا يجوز عليه الاختبار والامتحان لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات
37

التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد، وقال هشام بن الحكم: إنه كان في الأزل عالما بحقائق الأشياء وماهياتها فقط، فأما حدوث تلك الماهيات ودخولها في الوجود فهو تعالى لا يعلمها إلا عند وقوعها واحتج عليه بالآية والمعقول، أما الآية فهي هذه الآية، قال: إنه تعالى صرح بأنه يبتلي عباده ويختبرهم وذكر نظيره في سائر الآيات كقوله تعالى: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) * وقال: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * وقال في هذه السورة بعد ذلك: * (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع) * (البقرة: 155) وذكر أيضا ما يؤكد هذا المذهب نحو قوله: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) وكلمة * (لعل) * للترجي وقال: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * (البقرة: 21) فهذه الآيات ونظائرها دالة على أنه سبحانه وتعالى لا يعلم وقوع الكائنات قبل وقوعها، أما العقل فدل على وجوه. أحدها: أنه تعالى لو كان عالما بوقوع الأشياء قبل وقوعها لزم نفي القدرة عن الخالق وعن الخلق، وذلك محال فما أدى إليه مثله بيان الملازمة: أن ما علم الله تعالى وقوعه استحال أن لا يقع لأن العلم بوقوع الشيء وبلا وقوع ذلك الشيء متضادان والجمع بين الضدين محال، وكذلك ما علم الله أنه لا يقع كان وقوعه محالا لعين هذه الدلالة، فلو كان الباري تعالى عالما بجميع الأشياء الجزئية قبل وقوعها لكان بعضها واجب الوقوع وبعضها ممتنع الوقوع، ولا قدرة البتة لا على الواجب ولا على الممتنع فيلزم نفي القدرة على هذه الأشياء عن الخالق تعالى وعن الخلق وإنما قلنا: إن ذلك محال أما في حق الخالق فلأنه ثبت أن العالم محدث وله مؤثر وذلك المؤثر يجب أن يكون قادرا إذ لو كان موجبا لذاته لزم من قدمه قدم العالم أو من حدوث العالم حدوثه، وأما
في حق الخلق فلأنا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا كوننا متمكنين من الفعل والترك، على معنى أنا إن شئنا الفعل قدرنا عليه، وإن شئنا الترك قدرنا على الترك، فلو كان أحدهما واجبا والآخر ممتنعا لما حصلت هذه المكنة التي يعرف ثبوتها بالضرورة. وثانيها: أن تعلق العلم بأحد المعلومين مغاير لتعلقه بالمعلوم الآخر، ولذلك فإنه يصل منا تعقل أحد التعلقين مع الذهول عن التعلق الآخر، ولو كان التعلقان تعلقا واحدا لاستحال ذلك، لأن الشيء الواحد يستحيل أن يكون معلوما مذهولا عنه، وإذا ثبت هذا فنقول: لو كان تعالى عالما بجميع هذه الجزئيات، لكان له تعالى علوم غير متناهية، أو كان لعلمه تعلقات غير متناهية، وعلى التقديرين فيلزم حصول موجودات غير متناهية دفعة واحدة وذلك محال، لأن مجموع تلك الأشياء أزيد من ذلك المجموع بعينه عند نقصان عشرة منه، فالناقص متناه، والزائد زاد على المتناهي بتلك العشرة، والمتناهي إذا ضم إليه غير المتناهي كان الكل متناهيا، فإذا وجود أمور غير متناهية محال، فإن قيل: الموجود هو العلم،
38

فأما تلك التعلقات فهي أمور نسبية لا وجود لها في الأعيان، قلنا: العلم إنما يكون علما لو كان متعلقا بالمعلوم، فلو لم يكن ذلك التعلق حاصلا في نفس الأمر لزم أن لا يكون العلم علما في نفس الأمر وذلك محال. وثالثها: أن هذه المعلومات التي لا نهاية لها، هل يعلم الله عددها أو لا يعلم، فإن علم عددها فهي متناهية، لأن كل ما له عدد معين فهو متناه، وإن لم يعلم الله تعالى عددها لم يكن عالما بها على سبيل التفصيل، وكلامنا ليس إلا في العلم التفصيلي. ورابعها: أن كل معلوم فهو متميز في الذهن عما عداه، وكل متميز عما عداه فإن ما عداه خارج عنه، وكل ما خرج عنه فهو متناه، فإذن كل معلوم فهو متناه، فإذن كل ما هو غير متناه استحال أن يكون معلوما. وخامسها: أن الشيء إنما يكون معلوما لو كان للعلم تعلق به ونسبة إليه وانتساب الشيء إلى الشيء يعتبر تحققه في نفسه، فإنه إذا لم يكن للشيء في نفسه تعين استحال أن يكون لغيره إليه من حيث هو هو نسبة، والشيء المشخص قبل دخوله في الوجود لم يكن مشخصا البتة، فاستحال كونه متعلق العلم، فإن قيل: يبطل هذا بالمحالات والمركبات قبل دخولها في الوجود، فإنا نعلمها وإن لم يكن لها تعينات البتة، قلنا: هذا الذي أوردتموه نقض على كلامنا، وليس جوابا عن كلامنا، وذلك مما لا يزيل الشك والشبهة، قال هشام: فهذه الوجوه العقلية تدل على أنه لا حاجة إلى صرف هذه الآيات عن ظواهرها، واعلم أن هشاما كان رئيس الرافضة، فلذلك ذهب قدماء الروافض إلى القول بالنداء، أما الجمهور من المسلمين فإنهم اتفقوا على أنه سبحانه وتعالى يعلم الجزئيات قبل وقوعها، واحتجوا عليها بأنها قبل وقوعها تصح أن تكون معلومة لله تعالى إنما قلنا أنها تصح أن تكون معلومة لأنا نعلمها قبل وقوعها فإنا نعلم أن الشمس غدا تطلع من مشرقها، والوقوع يدل على الإمكان، وإنما قلنا: أنه لما صح أن تكون معلومة وجب أن تكون معلومة لله تعالى، لأن تعلق علم الله تعالى بالمعلوم أمر ثبت له لذاته، فليس تعلقه ببعض ما يصح أن يعلم أولى من تعلقه بغيره، فلو حصل التخصيص لافتقر إلى مخصص، وذلك
محال، فوجب أن لا يتعلق بشيء من المعلومات أصلا وإن تعلق بالبعض فإنه يتعلق بكلها وهو المطلوب.
أما الشبهة الأولى: فالجواب عنها أن العلم بالوقوع تبع للوقوع، والوقوع تبع للقدرة، فالتابع لا ينافي المتبوع، فالعلم لازم لا يغني عن القدرة.
وأما الشبهة الثانية: فالجواب عنها: أنها منقوضة بمراتب الأعداد التي لا نهاية لها.
وأما الشبهة الثالثة: فالجواب عنها: أن الله تعالى لا يعلم عددها، ولا يلزم منه إثبات الجهل، لأن الجهل هو أن يكون لها عدد معين، ثم أن الله تعالى لا يعلم عددها، فأما إذا لم يكن في نفسها عدد، لم يلزم من قولنا: أن الله تعالى لا يعلم عددها إثبات الجهل.
39

وأما الشبهة الرابعة: فالجواب عنها: أنه ليس من شرط المعلوم أن يعلم العلم تميزه عن غيره، لأن العلم بتميزه عن غيره يتوقف على العلم بذلك الغير، فلو كان توقف العلم بالشيء على العلم بتميزه عن غيره، وثبت أن العلم بتميزه من غيره يوقف على العلم بغيره، لزم أن لا يعلم الإنسان شيئا واحدا إلا إذا علم أمورا لا نهاية لها.
وأما الشبهة الخامسة: فالجواب عنها بالنقض الذي ذكرناه، وإذا انتقضت الشبهة سقطت، فيبقى ما ذكرناه من الدلالة على عموم عالمية الله تعالى سالما عن المعارض، وبالله التوفيق.
المسألة الثالثة: اعلم أن الضمير لا بد وأن يكون عائدا إلى مذكور سابق، فالضمير إما أن يكون متقدما على المذكور لفظا ومعنى، وإما أن يكون متأخرا عنه لفظا ومعنى
، وإما أن يكون متقدما لفظا ومتأخرا معنى، وإما أن يكون بالعكس منه. أما القسم الأول: وهو أن يكون متقدما لفظا ومعنى فالمشهور عند النحويين أنه غير جائز، وقال ابن جنى بجوازه، واحتج عليه بالشعر والمعقول، أما الشعر فقوله:
جزى ربه عني عدي بن حاتم * جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
وأما المعقول فلأن الفاعل مؤثر والمفعول قابل وتعلق الفعل بهما شديد، فلا يبعد تقديم أي واحد منهما كان على الآخر في اللفظ، ثم أجمعنا على أنه لو قدم المنصوب على المرفوع في اللفظ فإنه جائز، فكذا إذا لم يقدم مع أن ذلك التقديم جائز. القسم الثاني: وهو أن يكون الضمير متأخرا لفظا ومعنى، وهذا لا نزاع في صحته، كقولك: ضرب زيد غلامه. القسم الثالث: أن يكون الضمير متقدما في اللفظ متأخرا في المعنى وهو كقولك: ضرب غلامه زيد، فههنا الضمير وإن كان متقدما في اللفظ لكنه متأخر في المعنى، لأن المنصوب متأخر عن المرفوع في التقدير، فيصير كأنك قلت: زيد ضرب غلامه فلا جرم كان جائزا. القسم الرابع: أن يكون الضمير متقدما في المعنى متأخرا في اللفظ، وهو كقوله تعالى: * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه) * فإن المرفوع مقدم في المعنى على المنصوب، فيصير التقدير: وإذ ابتلى ربه إبراهيم، إلا أن الأمر وإن كان كذلك بحسب المعنى لكن لما لم يكن الضمير متقدما في اللفظ بل كان متأخرا لا جرم كان جائزا حسنا.
المسألة الرابعة: قرأ ابن عامر: (إبراهام) بألف بين الهاء والميم، والباقون (إبراهيم) وهما لغتان، وقرأ ابن عباس وأبو حياة رضي الله عنه (إبراهيم ربه) برفع إبراهيم ونصب ربه، والمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه الله تعالى إليهن أم لا.
المسألة الخامسة: اختلف المفسرون في أن ظاهر اللفظ هل يدل على تلك الكلمات أم لا؟
40

فقال بعضهم: اللفظ يدل عليها وهي التي ذكرها الله تعالى من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بإبعاث محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الأشياء أمور شاقة، أما الإمامة فلأن المراد منها ههنا هو النبوة، وهذا التكليف يتضمن مشاق عظيمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يتحمل جميع المشاق والمتاعب في تبليغ الرسالة، وأن لا يخون في أداء شيء منها، ولو لزمه القتل بسبب ذلك ولا شك أن ذلك من أعظم المشاق، ولهذا قلنا: إن ثواب النبي أعظم من ثواب غيره، وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدة البلوى فيه، ثم أنه يتضمن إقامة المناسك، وقد امتحن الله الخليل عليه الصلاة والسلام بالشيطان في الموقف لرمي الجمار وغيره، وأما اشتغاله بالدعاء في أن يبعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، فهذا مما يحتاج إليه إخلاص العمل لله تعالى، وإزالة الحسد عن القلب بالكلية، فثبت أن الأمور المذكورة عقيب هذه الآية: تكاليف شاقة شديدة، فأمكن أن يكون المراد من ابتلاء الله تعالى إياه بالكلمات هو ذلك، ثم الذي يدل على أن المراد ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف من حروف العطف فلم يقبل، وقال: إني جاعلك للناس إماما، بل قال: * (إن جاعلك) * فدل هذا على أن ذلك الابتلاء ليس إلا التكليف بهذه الأمور المذكورة، واعترض القاضي على هذا القول فقال: هذا إنما يجوز لو قال الله تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم، ثم أنه تعالى قال له بعد ذلك: إني جاعلك للناس إماما فأتمهن، إلا أنه ليس كذلك، بل ذكر قوله: * (إني جاعلك للناس إماما) * بعد قوله: * (فأتمهن) * وهذا يدل على أنه تعالى امتحنه بالكلمات وأتمها إبراهيم، ثم أنه تعالى قال له بعد ذلك: * (إني جاعلك للناس إماما) * ويمكن أن يجاب عنه بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كأن الله تعالى ابتلاه بمجموع هذه الأشياء، فأخبر الله تعالى عنه أنه ابتلاه بأمور على الإجمال، ثم أخبر عنه أنه أتمها، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل، وهذا مما لا يعد فيه. القول الثاني: أن ظاهر الآية لا دلالة فيه على المراد بهذه الكلمات وهذا القول يحتمل وجهين، أحدهما: بكلمات كلفه الله بهن، وهي أوامره ونواهيه فكأنه تعالى قال: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) * مما شاء كلفه بالأمر بها. والوجه الثاني: بكلمات تكون من إبراهيم يكلم بها قومه، أي يبلغهم إياها، والقائلون بالوجه الأول اختلفوا في أن ذلك التكليف بأي شيء كان على أقوال. أحدها: قال ابن عباس: هي عشر خصال كانت فرضا في شرعه وهي سنة في شرعنا، خمس في الرأس وخمس في الجسد، أما التي في الرأس: فالمضمضة، والاستنشاق وفرق الرأس، وقص الشارب، والسواك، وأما التي في البدن: فالختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، والاستنجاء بالماء. وثانيها: قال بعضهم: ابتلاه بثلاثين خصلة من خصال
41

الإسلام، عشر منها في سورة براءة: * (التائبون العابدون) * (التوبة: 112) إلى آخر الآية، وعشر منها في سورة الأحزاب: * (إن المسلمين والمسلمات) * (الأحزاب: 35) إلى آخر الآية، وعشر منها في المؤمنون: * (قد أفلح المؤمنون) * (المؤمنون: 1) إلى قوله: * (أولئك هم الوارثون) * (المؤمنون: 10) وروى عشر في: * (سأل سائل) * (المعارج: 1) إلى قوله: * (والذين هم على صلاتهم يحافظون) * (المعارج: 34) فجعلها أربعين سهما عن ابن عباس. وثالثها: أمره بمناسك الحج، كالطواف والسعي والرمي والإحرام وهو قول قتادة وابن عباس. ورابعها: ابتلاه بسبعة أشياء: بالشمس، والقمر، والكواكب، والختان على الكبر، والنار، وذبح الولد، والهجرة، فوفي بالكل فلهذا قال الله تعالى: * (وإبراهيم الذي وفى) * (النجم: 37) عن الحسن. وخامسها: أن المراد ما ذكره في قوله: * (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) * (البقرة: 131). وسادسها: المناظرات الكثيرة في التوحيد مع أبيه وقومه ومع نمرود والصلاة والزكاة والصوم، وقسم الغنائم، والضيافة، والصبر عليها، قال القفال رحمه الله: وجملة القول أن الابتلاء يتناول إلزام كل ما في فعله كلفة شدة ومشقة، فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء ويتناول كل واحد منها، فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل، ولو ثبتت الرواية في البعض دون البعض فحينئذ يقع التعارض بين هذه الروايات، فوجب التوقف والله أعلم.
المسألة السادسة: قال القاضي: هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة، لأن الله تعالى نبه على أن قيامه عليه الصلاة والسلام بهن كالسبب لأن يجعله الله إماما، والسبب مقدم
على المسبب، فوجب كون هذا الابتلاء متقدما في الوجود على صيرورته إماما وهذا أيضا ملائم لقضايا العقول، وذلك لأن الوفاء من شرائط النبوة لا يحصل إلا بالإعراض عن جميع ملاذ الدنيا وشهواتها وترك المداهنة مع الخلق وتقبيح ما هم عليه من الأديان الباطلة والعقائد الفاسدة، وتحمل الأذى من جميع أصناف الخلق، ولا شك أن هذا المعنى من أعظم المشاق وأجل المتاعب، ولهذا السبب يكون الرسول عليه الصلاة والسلام أعظم أجرا من أمته، وإذا كان كذلك فالله تعالى ابتلاه بالتكاليف الشاقة، فلما وفى عليه الصلاة والسلام بها لا جرم أعطاه خلعة النبوة والرسالة، وقال آخرون: إنه بعد النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم كونه مكلفا بتلك التكاليف إلا من الوحي، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك، أجاب القاضي عنه بأنه يحتمل أنه تعالى أوحى إليه على لسان جبريل عليه السلام بهذه التكاليف الشاقة، فلما تمم ذلك جعله نبيا مبعوثا إلى الخلق، إذا عرفت هذه المسألة فنقول ما قال القاضي: يجوز أن يكون المراد بالكلمات، ما ذكره الحسن من حديث الكوكب والشمس والقمر، فإنه عليه الصلاة والسلام ابتلاه الله بذلك قبل النبوة، أما ذبح الولد والهجرة والنار فكل ذلك كان بعد النبوة، وكذا الختان، فإنه عليه السلام يروي أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين سنة، ثم قال: فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات
42

هذه الأشياء كان المراد من قوله: * (أتمهن) * أنه سبحانه علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة.
المسألة السابعة: الضمير المستكن في * (فأتمهن) * في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى فقام بهن حق القيام، وأداهن أحسن التأدية، من غير تفريط وتوان. ونحوه: * (وإبراهيم الذي وفى) * وفي الأخرى لله تعالى بمعنى: فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئا.
أما قوله تعالى: * (إني جاعلك للناس إماما) * فالإمام اسم من يؤتم به كالإزار لما يؤتزر به، أي يأتمون بك في دينك. وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال أهل التحقيق: المراد من الإمام ههنا النبي ويدل عليه وجوه. أحدها: أن قوله: * (للناس إماما) * يدل على أنه تعالى جعله إماما لكل الناس والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولا من عند الله مستقلا بالشرع لأنه لو كان تبعا لرسول آخر لكان مأموما لذلك الرسول لا إماما له، فحينئذ يبطل العموم. وثانيها: أن اللفظ يدل على أنه إمام في كل شيء والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبيا. وثالثها: أن الأنبياء عليهم السلام أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم، قال الله تعالى: * (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) * (الأنبياء: 73) والخلفاء أيضا أئمة لأنهم رتبوا في المحل الذي يجب على الناس اتباعهم وقبول قولهم وأحكامهم والقضاة والفقهاء أيضا أئمة لهذا المعنى، والذي يصلي بالناس يسمى أيضا إماما لأن من دخل في صلاته لزمه الائتمام به. قال عليه الصلاة والسلام: " إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا ولا تختلفوا على إمامكم " فثبت بهذا أن اسم الإمام لمن استحق الاقتداء به في الدين وقد يسمى بذلك أيضا من يؤتم به في الباطل، قال الله تعالى: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) * (القصص: 41) إلا أن اسم الإمام لا يتناوله على الإطلاق بل لا يستعمل فيه إلا مقيدا، فإنه لما ذكر أئمة الضلال قيده بقوله تعالى: * (يدعون إلى النار) * كما أن اسم الإله لا يتناول إلا المعبود الحق، فأما المعبود الباطل فإنما يطلق عليه اسم الإله مع القيد، قال الله تعالى: * (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء) * (هود: 101) وقال: * (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا) * (طه: 97) إذا ثبت أن اسم الإمام يتناول ما ذكرناه، وثبت أن الأنبياء في أعلى مراتب الإمامة وجب حمل اللفظ ههنا عليه، لأن الله تعالى ذكر لفظ الإمام ههنا في معرض الامتنان، فلا بد وأن تكون تلك النعمة من أعظم النعم ليحسن نسبة الامتنان فوجب حمل هذه الإمامة على النبوة.
المسألة الثانية: أن الله تعالى لما وعده بأن يجعله إماما للناس حقق الله تعالى ذلك الوعد
43

فيه إلى قيام الساعة، فإن أهل الأديان على شدة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب وإما في الدين والشريعة حتى إن عبدة الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه السلام، وقال الله تعالى في كتابه: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم
حنيفا) * (النحل: 123) وقال: * (من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) * (البقرة: 130) وقال في آخر سورة الحج: * (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) * (الحج: 78) وجميع أمة محمد عليه الصلاة والسلام يقولون في آخر الصلاة وارحم محمدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
المسألة الثالثة: القائلون بأن الإمام لا يصير إماما إلا بالنص تمسكوا بهذه الآية فقالوا: إنه تعالى بين أنه إنما صار إماما بسبب التنصيص على إمامته ونظيره قوله تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (البقرة: 30) فبين أنه لا يحصل له منصب الخلافة بالتنصيص عليه وهذا ضعيف لأنا بينا أن المراد بالإمامة ههنا النبوة، ثم إن سلمنا أن المراد منها مطلق الإمامة لكن الآية تدل على أن النص طريق الإمامة وذلك لا نزاع فيه، إنما النزاع في أنه هل تثبت الإمامة بغير النص، وليس في هذه الآية تعرض لهذه المسألة لا بالنفي ولا بالإثبات.
المسألة الرابعة: قوله: * (إني جاعلك للناس إماما) * يدل على أنه عليه السلام كان معصوما عن جميع الذنوب لأن الإمام هو الذي يؤتم به ويقتدى، فلو صدرت المعصية منه لوجب علينا الاقتداء به في ذلك، فيلزم أن يجب علينا فعل المعصية وذلك محال لأن كونه معصية عبارة عن كونه ممنوعا من فعله وكونه واجبا عبارة عن كونه ممنوعا من تركه والجميع محال.
أما قوله: * (من ذريتي) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الذرية: الأولاد وأولاد الأولاد للرجل وهو من ذرأ الله الخلق وتركوا همزها للخفة كما تركوا في البرية وفيه وجه آخر وهو أن تكون منسوبة إلى الذر.
المسألة الثانية: قوله؛ * (ومن ذريتي) * عطف على الكاف كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيدا.
المسألة الثالثة: قال بعضهم: إنه تعالى أعلمه أن في ذريته أنبياء فأراد أن يعلم هل يكون ذلك في كلهم أو في بعضهم وهل يصلح جميعهم لهذا الأمر؟ فأعلمه الله تعالى أن فيهم ظالما لا يصلح لذلك وقال آخرون: إنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل الاستعلام ولما لم يعلم على وجه المسألة، فأجابه الله تعالى صريحا بأن النبوة لا تنال الظالمين منهم، فإن قيل: هل كان إبراهيم عليه السلام مأذونا في قوله: * (ومن ذريتي) * أو لم يكن مأذونا فيه؟ فإن أذن الله تعالى في هذا الدعاء فلم رد
44

دعاءه؟ وإن لم يأذن له فيه كان ذلك ذنبا، قلنا: قوله: * (ومن ذريتي) * يدل على أنه عليه السلام طلب أن يكون بعض ذريته أئمة للناس، وقد حقق الله تعالى إجابة دعائه في المؤمنين من ذريته كإسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وجعل آخرهم محمدا صلى الله عليه وسلم من ذريته الذي هو أفضل الأنبياء والأئمة عليهم السلام.
أما قوله تعالى: * (قال لا ينال عهدي الظالمين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة وحفص عن عاصم: * (عهدي) * بإسكان الياء، والباقون بفتحها،
وقرأ بعضهم: * (لا ينال عهدي الظالمون) * أي من كان ظالما من ذريتك فإنه لا ينال عهدي.
المسألة الثانية: ذكروا في العهد وجوها. أحدها: أن هذا العهد هو الإمامة المذكورة فيما قبل، فإن كان المراد من تلك الإمامة هو النبوة فكذا وإلا فلا. وثانيها: * (عهدي) * أي رحمتي عن عطاء. وثالثها: طاعتي عن الضحاك. ورابعها: أماني عن أبي عبيد، والقول الأول أولى لأن قوله: * (ومن ذريتي) * طلب لتلك الإمامة التي وعده بها بقوله: * (إني جاعلك للناس إماما) * فقوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) * لا يكون جوابا عن ذلك السؤال إلا إذا كان المراد بهذا العهد تلك الإمامة.
المسألة الثالثة: الآية دالة على أنه تعالى سيعطي بعض ولده ما سأل، ولولا ذلك لكان الجواب: لا، أو يقول: لا ينال عهدي ذريتك، فإن قيل: أفما كان إبراهيم عليه السلام عالما بأن النبوة لا تليق بالظالمين، قلنا: بلى، ولكن لم يعلم حال ذريته، فبين الله تعالى أن فيهم من هذا حاله وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم.
المسألة الرابعة: الروافض احتجوا بهذه الآية على القدح في إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من ثلاثة أوجه. الأول: أن أبا بكر وعمر كانا كافرين، فقد كانا حال كفرهما ظالمين، فوجب أن يصدق عليهما في تلك الحالة أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة، وإذا صدق عليهما في ذلك الوقت أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة ولا في شيء من الأوقات ثبت أنهما لا يصلحان للإمامة. الثاني: أن من كان مذنبا في الباطن كان من الظالمين، فإذن ما لم يعرف أن أبا بكر وعمر ما كانا من الظالمين المذنبين ظاهرا وباطنا وجب أن لا يحكم بإمامتهما وذلك إنما يثبت في حق من تثبت عصمته ولما لم يكونا معصومين بالاتفاق وجب أن لا تتحقق إمامتهما البتة. الثالث: قالوا: كانا مشركين، وكل مشرك ظالم والظالم لا يناله عهد الإمامة فيلزم أن لا ينالهما عهد الإمامة، أما
45

أنهما كانا مشركين فبالاتفاق، وأما أن المشرك ظالم فلقوله تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) وأما أن الظالم لا يناله عهد الإمامة فلهذه الآية، لا يقال إنهما كانا ظالمين حال كفرهما، فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم لأنا نقول الظالم من وجد منه الظلم، وقولنا: وجد منه الظلم أعم من قولنا وجد منه الظلم في الماضي أو في الحال بدليل أن هذا المفهوم يمكن تقسيمه إلى هذين القسمين، ومورد التقسيم بالتقسيم بالقسمين مشترك بين القسمين وما كان مشتركا بين القسمين لا يلزم انتفاؤه لانتفاء أحد القسمين، فلا يلزم من نفى كونه ظالما في الحال نفي كونه ظالما والذي يدل عليه نظرا إلى الدلائل الشرعية أن النائم يسمى مؤمنا والإيمان هو التصديق والتصديق غير حاصل حال كونه نائما، فدل على أنه يسمى مؤمنا لأن الإيمان كان حاصلا قبل، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ظالما لظلم وجد من قبل، وأيضا فالكلام عبارة عن حروف متوالية، والمشي عبارة عن حصولات متوالية في أحياز متعاقبة، فمجموع تلك الأشياء البتة لا وجود لها، فلو كان حصول المشتق منه شرطا في كون الاسم المشتق حقيقة وجب أن يكون اسم المتكلم والماشي وأمثالهما حقيقة في شيء أصلا، وأنه باطل قطعا
فدل هذا على أن حصول المشتق منه ليس شرطا لكون الاسم المشتق حقيقة؟ والجواب: كل ما ذكرتموه معارض، بما أنه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافرا قبل بسنين متطاولة فإنه لا يحنث، فدل على ما قلناه، ولأن التائب عن الكفر لا يسمى كافرا والتائب عن المعصية لا يسمى عاصيا، فكذا القول في نظائره، ألا ترى إلى قوله: * (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) * (هود: 113) فإنه نهى عن الركون إليهم حال إقامتهم على الظلم، وقوله: * (ما على المحسنين من سبيل) * (التوبة: 91) معناه: ما أقاموا على الإحسان، على أنا بينا أن المراد من الإمامة في هذه الآية: النبوة، فمن كفر بالله طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة.
المسألة الخامسة: قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين: الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، واختلفوا في أن الفسق الطارئ هل يبطل الإمامة أم لا؟ واحتج الجمهور على أن الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية، ووجه الاستدلال بها من وجهين. الأول: ما بينا أن قوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) * جواب لقوله: * (ومن ذريتي) * وقوله: * (ومن ذريتي) * طلب للإمامة التي ذكرها الله تعالى، فوجب أن يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة، ليكون الجواب مطابقا للسؤال، فتصير الآية كأنه تعالى قال: لا ينال الإمامة الظالمين، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه، فكانت الآية دالة على ما قلناه، فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين
46

ظاهرا وباطنا ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة، قلنا: أما الشيعة فيستدلون بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العصمة ظاهرا وباطنا، وأما نحن فنقول: مقتضى
الآية ذلك، إلا أنا تركنا اعتبار الباطن فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة، فإن قيل: أليس أن يونس عليه السلام قال: * (سبحانك إني كنت من الظالمين) * (الأنبياء: 87) وقال آدم: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * (الأعراف: 23) قلنا: المذكور في الآية هو الظلم المطلق، وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما السلام. الوجه الثاني: أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر، قال الله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) * (يس: 60) يعني ألم آمركم بهذا، وقال الله تعالى: * (قالوا إن الله عهد إلينا) * (آل عمران: 183) يعني أمرنا، ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول: لا يخلو قوله؛ * (لا ينال عهدي الظالمين) * من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين، وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله تعالى، ولما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر الله تعالى لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر، وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها فلا يكونون أئمة في الدين، فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق، قال عليه السلام: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "، ودل أيضا على أن الفاسق لا يكون حاكما، وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولي الحكم، وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فتياه إذا أفتى، ولا يقدم للصلاة وإن كان هو بحيث لو اقتدي به فإنه لا تفسد صلاته، قال أبو بكر الرازي: ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أنه يجوز كون الفاسق إماما وخليفة، ولا يجوز كون الفاسق قاضيا، قال: وهذا خطأ، ولم يفرق أبو حنيفة بين الخليفة والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وكيف يكون خليفة وروايته غير مقبولة، وأحكامه غير نافذة، وكيف يجوز أن يدعي ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على القضاء، وضربه فامتنع من ذلك فحبس، فلح ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطا، فلما خيف عليه، قال له الفقهاء: تول له شيئا من عمله أي شيء كان حتى يزول عنك الضرب، فتولي له عد أحمال التبن التي تدخل فخلاه، ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور مدينة المنصور إلى مثل ذلك وقصته في أمر زيد بن علي مشهورة، وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سرا في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن، ثم قال: وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنيفة: أن القاضي إذا كان عدلا في نفسه، وتولي القضاء من إمام جائر فإن أحكامه نافذة، والصلاة خلفه جائزة، لأن القاضي إذا كان عدلا في نفسه ويمكنه تنفيذ
47

الأحكام كانت أحكامه نافذة، فلا اعتبار في ذلك بمن ولاه، لأن الذي ولاه بمنزلة سائر أعوانه، وليس شرط أعوان القاضي أن يكون عدولا ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعوانا له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذا وأن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان والله أعلم.
المسألة السادسة: الآية تدل على عصمة الأنبياء من وجهين. الأول: أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد: الإمامة. ولا شك أن كل نبي إمام، فإن الإمام هو الذي يؤتم به، والنبي أولى الناس، وإذا دلت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقا، فبأن تدل على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقا فاعلا للذنب والمعصية أولى. الثاني: قال: * (ولا ينال عهدي الظالمين) * فهذا العهد إن كان هو النبوة؛ وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظالمين وإن كان هو الإمامة، فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماما يؤتم به، وكل فاسق ظالم لنفسه فوجب أن لا تحصل النبوة لأحد من الفاسقين والله أعلم.
المسألة السابعة؛ اعلم أنه سبحانه بين أن له معك عهدا، ولك معه عهدا، وبين أنك متى تفي بعهدك، فإنه سبحانه يفي أيضا بعهده فقال: * (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40) ثم في سائر الآيات فإنه أفرد عهدك بالذكر، وأفرد عهد نفسه أيضا بالذكر، أما عهدك فقال فيه: * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) * (البقرة: 177) وقال: * (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) * (المؤمنون: 8) وقال: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) وقال: * (لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * (الصف: 32) وأما عهده سبحانه وتعالى فقال فيه: * (ومن أوفى بعهده من الله) * (التوبة: 111) م بين كيفية عهده إلى أبينا آدم فقال: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) * (طه: 115) ثم بين كيفية عهده إلينا فقال: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم) * (يس: 60) ثم بين كيفية عهده مع بني إسرائيل فقال: * (إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول) * (آل عمران: 183) ثم بين كيفية عهده مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال: * (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) * (البقرة: 125) ثم بين في هذه الآية أن عهده لا يصل إلى الظالمين فقال: * (لا ينال عهدي الظالمين) * فهذه المبالغة الشديدة في هذه المعاهدة تقتضي البحث عن حقيقة هذه المعاهدة فنقول: العهد المأخوذ عليك ليس إلا عهد الخدمة والعبودية، والعهد الذي التزمه الله تعالى من جهته ليس إلا عهد الرحمة والربوبية، ثم إن العاقل إذا تأمل في حال هذه المعاهدة لم يجد من نفسه إلا نقض هذا العهد، ومن ربه إلا الوفاء بالعهد، فلنشرع في معاقد هذا الباب فنقول: أول إنعامه عليك إنعام الخلق والإيجاد والإحياء وإعطاء العقل والآلة والمقصود من كل ذلك اشتغالك بالطاعة والخدمة والعبودية
48

على ما قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) ونزه نفسه عن أن يكون هذا الخلق والإيجاد منه على سبيل العبث فقال: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينها لاعبين) * (الأنبياء: 16) * (ما خلقناهما إلا بالحق) * (الدخان: 39) وقال أيضا: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا) * (ص: 27) وقال: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) * (المؤمنون: 115) ثم بين على سبيل التفصيل ما هو الحكمة في الخلق والإيجاد فقال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * فهو سبحانه وفى بعهد الربوبية حيث خلقك وأحياك وأنعم عليك بوجوه النعم وجعلك عاقلا مميزا فإذا لم تشتغل بخدمته وطاعته وعبوديته فقد نقضت عهد عبوديتك مع أن الله تعالى وفى بعهد ربوبيته. وثانيها: أن عهد الربوبية يقتضي إعطاء التوفيق والهداية وعهد العبودية منك يقتضي الجد والاجتهاد في العمل، ثم إنه وفى بعهد الربوبية فإنه ما ترك ذرة من الذرات إلا وجعلها هادية لك إلى سبيل الحق: * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44) وأنت ما وفيت البتة بعهد الطاعة والعبودية. وثالثها: أن نعمة الله بالإيمان أعظم النعم، والدليل عليه أن هذه النعمة لو فاتتك لكنت أشقى
الأشقياء أبد الآبدين ودهر الداهرين، ثم هذه النعمة من الله تعالى لقوله: * (وما بكم من نعمة فمن الله) * (النحل: 53) ثم مع أن هذه النعمة منه فإنه يشكرك عليها وقال: * (فأولئك كان سعيهم مشكورا) * (الإسراء: 19) فإذا كان الله تعالى يشكرك على هذه النعمة فبأن تشكره على ما أعطى من التوفيق والهداية كان أولى، ثم إنك ما أتيت إلا بالكفران على ما قال: * (قتل الإنسان ما أكفره) * (عبس: 17) فهو تعالى وفى بعهده، وأنت نقضت عهدك. ورابعها: أن تنفق نعمه في سبيل مرضاته، فعهده معك أن يعطيك أصناف النعم وقد فعل وعهدك معه أن تصرف نعمه في سبيل مرضاته وأنت ما فعلت ذلك: * (كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى) * (العلق: 6، 7). وخامسها: أنعم عليك بأنواع النعم لتكون محسنا إلى الفقراء: * (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) * ثم إنك توسلت به إلى إيذاء الناس وإيحاشهم: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * (الحديد: 24) (النساء: 37). وسادسها: أعطاك النعم العظيمة لتكون مقبلا على حمده وأنت تحمد غيره فانظر إلى السلطان العظيم لو أنعم عليك بخلعة نفيسة، ثم إنك في حضرته تعرض عنه وتبقى مشغولا بخدمة بعض الإسقاط كيف تستوجب الأدب والمقت فكذا ههنا، واعلم أنا لو اشتغلنا
بشرح كيفية وفائه سبحانه بعهد الإحسان والربوبية وكيفية نقضنا لعهد الإخلاص والعبودية لما قدرنا على ذلك فإنا من أول الحياة إلى آخرها ما صرنا منفكين لحظة واحدة من أنواع نعمه على ظاهرنا وباطننا وكل واحدة من تلك النعم تستدعي شكرا على حدة وخدمة على حدة، ثم أنا ما أتينا بها بل ما تنبهنا لها وما عرفنا كيفيتها وكميتها، ثم إنه سبحانه على تزايد غفلتنا وتقصيرنا يزيد في أنواع النعم والرحمة والكرم، فكنا من أول عمرنا إلى آخره لا نزال نتزايد في درجات النقصان والتقصير
49

واستحقاق الذم، وهو سبحانه لا يزال يزيد في الإحسان واللطف والكرم، واستحقاق الحمد والثناء فإنه كلما كان تقصيرنا أشد كان إنعامه علينا بعد ذلك أعظم وقعا وكلما كان إنعامه علينا أكثر وقعا، كان تقصيرنا في شكره أقبح وأسوأ، فلا تزال أفعالنا تزداد قبائح ومحاسن أفعاله على سبيل الدوام بحيث لا تفضي إلى الانقطاع ثم إنه قال في هذه الآية: * (لا ينال عهدي الظالمين) * وهذا تخويف شديد لكنا نقول: إلهنا صدر منك ما يليق بك من الكرم والعفو والرحمة والإحسان وصدر منا ما يليق بنا من الجهل والغدر والتقصير والكسل، فنسألك بك وبفضلك العميم أن تتجاوز عنا يا أرحم الراحمين.
* (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى للطآئفين والعاكفين والركع السجود) *
اعلم أنه تعالى بين كيفية حال إبراهيم عليه السلام حين كلفه بالإمامة، وهذا شرح التكليف الثاني، وهو التكليف بتطهير البيت، ثم نقول: أما البيت فإنه يريد البيت الحرام، واكتفى بذكر البيت مطلقا لدخول الألف واللام عليه، إذا كانتا تدخلان لتعريف المعهود أو الجنس، وقد علم المخاطبون أنه لم يرد به الجنس فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة، ثم نقول: ليس المراد نفس الكعبة، لأنه تعالى وصفه بكونه (أمنا) وهذا صفة جميع الحرم لا صفة الكعبة فقط والدليل على أنه يجوز إطلاق البيت والمراد منه كل الحرم قوله تعالى: * (هديا بالغ الكعبة) * (المائدة: 95) والمراد الحرم كله لا الكعبة نفسها، لأنه لا يذبح في الكعبة، ولا في المسجد الحرام وكذلك قوله: * (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) * (التوبة: 28)، المراد والله أعلم منعهم من الحج حضور مواضع النسك، وقال في آية أخرى: * (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) * (العنكبوت: 67) وقال الله تعالى في آية أخرى مخبرا عن إبراهيم: * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * (إبراهيم: 35) فدل هذا على أنه وصف البيت بالأمن فاقتضى جميع الحرم، والسبب في أنه تعالى أطلق لفظ البيت وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت.
50

أما قوله تعالى: * (مثابة للناس) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أهل اللغة: أصله من ثاب يثوب مثابة وثوبا إذا رجع يقال: ثاب الماء إذا رجع إلى النهر بعد انقطاعه، وثاب إلى فلان عقله أي رجع وتفرق عنه الناس، ثم ثابوا: أي عادوا مجتمعين، والثواب من هذا أخذ، كأن ما أخرجه من مال أو غيره فقد رجع إليه، والمثاب من البئر: مجتمع الماء في أسفلها، قال القفال قيل: إن مثابا ومثابة لغتان مثل: مقام ومقامة وهو قول الفراء والزجاج، وقيل: الهاء إنما دخلت في مثابة مبالغة كما في قولهم: نسابة وعلامة، وأصل مثابة مثوبة مفعلة.
المسألة الثانية: قال الحسن: معناه أنهم يثوبون إليه في كل عام، وعن ابن عباس ومجاهد: أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه، قال الله تعالى: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) * (إبراهيم: 37) وقيل: مثابة أي يحجون إليه فيثابون عليه، فإن قيل: كون البيت مثابة يحصل بمجرد عودهم إليه، وذلك يحصل بفعلهم لا بفعل الله تعالى، فما معنى قوله: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) * قلنا: أما على قولنا ففعل العبد مخلوق لله تعالى فهذه الآية حجة على قولنا في هذه المسألة، وأما على قول المعتزلة فمعناه أنه تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعيا لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى، وإنما فعل الله تعالى ذلك لما فيه من منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الدنيا فلأن أهل المشرق والمغرب يجتمعون هناك، فيحصل هناك من التجارات وضروب المكاسب ما يعظم به النفع، وأيضا فيحصل بسبب السفر إلى الحج عمارة الطريق والبلاد، ومشاهدة الأحوال المختلفة في الدنيا، وأما منافع الدين فلأن من قصد البيت رغبة منه في النسك والتقرب إلى الله تعالى، وإظهار العبودية له، والمواظبة على العمرة والطواف، وإقامة الصلاة في ذلك المسجد المكرم والاعتكاف فيه، يستوجب بذلك ثوابا عظيما عند الله تعالى.
المسألة الثانية: تمسك بعض أصحابنا في وجوب العمرة بقوله تعالى: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) * ووجه الاستدلال به أن قوله: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) * إخبار عن أنه تعالى جعله موصوفا بصفة كونه مثابة للناس، لكن لا يمكن إجراء الآية على هذا المعنى لأن كونه مثابة للناس صفة تتعلق باختيار الناس، وما يتعلق باختيار الناس لا يمكن تحصيله بالجبر والإلجاء، وإذا ثبت تعذر إجراء الآية على ظاهرها وجب حمل الآية على الوجوب لأنا متى حملناه على الوجوب كان ذلك
أفضى إلى صيرورته كذلك مما إذا حملناه على الندب، فثبت أن الله تعالى أوجب علينا العود إليه مرة بعد أخرى، وقد توافقنا على أن هذا الوجوب لا يتحقق فيما سوى الطواف، فوجب
51

تحققه
في الطواف، هذا وجه الاستدلال بهذه الآية، وأكثر من تكلم في أحكام القرآن طعن في دلالة هذه الآية على هذا المطلوب، ونحن قد بينا دلالتها عليه من هذا الوجه الذي بيناه.
أما قوله تعالى: * (وأمنا) * أي موضع أمن، ثم لا شك أن قوله: * (جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) * خبر، فتارة نتركه على ظاهره ونقول أنه خبر، وتارة نصرفه عن ظاهره ونقول أنه أمر.
أما القول الأول: فهو أن يكون المراد أنه تعالى جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب على ما قال: * (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) * (العنكبوت: 67) وقوله: * (أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء) * (القصص: 57) ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم، لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه، وأيضا فالقتل المباح قد يوجد فيه، قال الله تعالى: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم) * (البقرة: 191) فأخبر عن وقوع القتل فيه.
القول الثاني: أن نحمله على الأمر على سبيل التأويل، والمعنى أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع أمنا من الغارة والقتل، فكان البيت محترما بحكم الله تعالى، وكانت الجاهلية متمسكين بتحريمه، لا يهيجون على أحد التجأ إليه، وكانوا يسمون قريشا: أهل الله تعظيما له، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليهم بالظبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكلب، ورويت الأخبار في تحريم مكة قال عليه الصلاة والسلام: " إن الله حرم مكة وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها كما كانت "، فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن المعنى: أنها لم تحل لأحد بأن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما من دخل البيت من الذين تجب عليهم الحدود فقال الشافعي رضي الله عنه: إن الإمام يأمر بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه من الحرم، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز، واحتج الشافعي رحمه الله بأنه عليه الصلاة والسلام أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره بمكة غيلة إن قدر عليه، قال الشافعي رحمه الله: وهذا في الوقت الذي كانت مكة فيه محرمة فدل أنها لا تمنع أحدا من شيء وجب عليه وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها، واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية، والجواب عنه أن قوله: * (وأمنا) * ليس فيه بيان أنه جعله أمنا فيماذا فيمكن أن يكون أمنا من القحط، وأن يكون أمنا من نصب الحروب، وأن يكون أمنا من إقامة الحدود، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على
52

الكل، بل حمله على الأمن من القحط والآفات أولى لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك، فكان قول الشافعي رحمه الله أولى. أما قوله تعالى: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم والكسائي: * (واتخذوا) * بكسر الخاء على صيغة الأمر، وقرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على صيغة الخبر.
أما القراءة الأولى: فقوله: * (واتخذوا) * عطف على ماذا، وفيه أقوال، الأول: أنه عطف على قوله: * (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) * (البقرة: 122)، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) *.
الثاني: إنه عطف على قوله: * (إني جاعلك للناس إماما) * (البقرة: 124) والمعنى أنه لما ابتلاه بكلمات وأتمهن، قال له جزاء لما فعله من ذلك: * (إني جاعلك للناس إماما) * وقال: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * ويجوز أن يكون أمر بهذا ولده، إلا أنه تعالى أضمر قوله وقال، ونظيره قوله تعالى: * (وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة) * (الأعراف: 171). الثالث: أن هذا أمر من الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وهو كلام اعترض في خلال ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، وكأن وجهه: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا) * أنتم من مقام إبراهيم مصلى والتقدير أنا لما شرفناه ووصفناه بكونه مثابة للناس وأمنا فاتخذوه أنتم قبلة لأنفسكم، والواو والفاء قد يذكر كل واحد منهما في هذا الوضع وإن كانت الفاء أوضح، أما من قرأ: * (واتخذوا) * بالفتح فهو إخبار عن ولد إبراهيم أنهم اتخذوا من مقامه مصلى، فيكون هذا عطفا على: * (جعلنا البيت) * واتخذوه مصلى، ويجوز أن يكون عطفا على: * (وإذ جعلنا البيت) * وإذ اتخذوه مصلى.
المسألة الثانية: ذكروا أقوالا في أن مقام إبراهيم عليه السلام أي شيء هو:
القول الأول: إنه موضع الحجر قام عليه إبراهيم عليه السلام، ثم هؤلاء ذكروا وجهين: أحدهما: أنه هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه فوضع إبراهيم عليه السلام رجله عليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحته وقد غاصت رجله في الحجر فوضعته تحت الرجل الأخرى فغاصت رجله أيضا فيه فجعله الله تعالى من معجزاته وهذا قول الحسن وقتادة والربيع بن أنس. وثانيها: ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: * (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) * (البقرة: 127) فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم
عليه الصلاة والسلام عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام.
القول الثاني: أن مقام إبراهيم الحرم كله وهو قول مجاهد.
53

الثالث: أنه عرفة والمزدلفة والجمار وهو قول عطاء. الرابع: الحج كله مقام إبراهيم وهو قول ابن عباس، واتفق المحققون على أن القول الأولى أولى ويدل عليه وجوه. الأول: ما روى جابر أنه عليه السلام لما فرغ من الطواف أتى المقام وتلا قوله تعالى: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * فقراءة هذه اللفظة عند ذلك الموضع تدل على أن المراد من هذه اللفظة هو ذلك الموضع ظاهر. وثانيها: أن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع والدليل عليه أن سائلا لو سأل المكي بمكة عن مقام إبراهيم لم يجبه ولم يفهم منه إلا هذا الموضع
. وثالثها: ما روي أنه عليه السلام مر بالمقام ومعه عمر فقال: يا رسول الله أليس هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: بلى. قال: أفلا نتخذه مصلى؟ قال: لم أومر بذلك، فلم تغب الشمس من يومهم حتى نزلت الآية. ورابعها: أن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجلا إبراهيم عليه السلام، وذلك من أظهر الدلائل على وحدانية الله تعالى ومعجزة إبراهيم عليه السلام فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره به، فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى. وخامسها: أنه تعالى قال: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * وليس للصلاة تعلق بالحرم ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع، فوجب أن يكون مقام إبراهيم هو هذا الموضع. وسادسها: أن مقام إبراهيم هو موضع قيامه، وثبت بالأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل ولم يثبت قيامه على غيره فحمل هذا اللفظ، أعني: مقام إبراهيم عليه السلام على الحجر يكون أولى قال القفال: ومن فسر مقام إبراهيم بالحجر خرج قوله: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * على مجاز قول الرجل: اتخذت من فلان صديقا وقد أعطاني الله من فلان أخا صالحا ووهب الله لي منك وليا مشفقا وإنما تدخل (من) لبيان المتخذ الموصوف وتميزه في ذلك المعنى من غيره والله أعلم.
المسألة الثالثة: ذكروا في المراد بقوله: * (مصلى) * وجوها. أحدها: المصلى المدعى فجعله من الصلاة التي هي الدعاء، قال الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه) * (الأحزاب: 56) وهو قول مجاهد، وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله: إن كل الحرم مقام إبراهيم. وثانيها: قال الحسن: أراد به قبلة. وثالثها: قال قتادة والسدي: أمروا أن يصلوا عنده. قال أهل التحقيق: هذا القول أولى لأن لفظ الصلاة إذا أطلق يعقل منه الصلاة المفعولة بركوع وسجود ألا ترى أن مصلى المصر وهو الموضع الذي يصلى فيه صلاة العيد وقال عليه السلام لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة المفعولة، وقد دل عليه أيضا فعل النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة عنده بعد تلاوة الآية ولأن حملها على الصلاة المعهودة أولى لأنها جامعة لسائر المعاني التي فسروا الآية
54

بها وههنا بحث فقهي وهو أن ركعتي الطواف فرض أم سنة ينظر إن كان الطواف فرضا فللشافعي رضي الله عنه فيه قولان، أحدهما: فرض لقوله تعالى: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * والأمر للوجوب. والثاني: سنة لقوله عليه السلام للأعرابي حين قال: هل على غيرها، قال: لا إلا أن تطوع وإن كان الطواف نفلا مثل طواف القدوم فركعتاه سنة والرواية عن أبي حنيفة مختلفة أيضا في هذه المسألة والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فضائل البيت: روى الشيخ أحمد البيهقي كتاب شعب الإيمان عن أبي ذر قال: " قلت يا رسول الله أي مسجد وضع على الأرض أولا؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة فأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد " أخرجاه في الصحيحين، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: خلق البيت قبل الأرض بألفي عام ثم دحيت الأرض منه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال عليه السلام: " أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت ثم مدت منها الأرض، وأن أول جبل وضعه الله تعالى على وجه الأرض أبو قبيس ثم مدت منه الجبال ". وعن وهب بن منبه قال: إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض استوحش منها لما رأى من سعتها ولأنه لم ير فيها أحدا غيره، فقال: يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري. فقال الله تعالى: إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري فيسبحني فيها خلقي وسأبوئك منها بيتا أختاره لنفسي وأخصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي وأسميه بيتي أعظمه بعظمتي وأحوطه بحرمتي وأجعله أحق البيوت كلها وأولاها بذكري وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي فإني اخترت مكانه يوم خلقت السماوات والأرض، أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرما آمنا أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي ومن أحله فقد أباح حرمتي، ومن آمن أهله استوجب بذلك أماني ومن أخافهم فقد أخافني ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني ومن تهاون به فقد صغر في عيني سكانها جيراني وعمارها وفدي وزوارها أضيافي اجعله أول بيت وضع للناس وأعمره بأهل السماء والأرض، يأتونه أفواجا شعثا غبرا: * (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) * (الحج: 27) يعجون بالتكبير عجا إلي ويثجون بالتلبية ثجا، فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زارني وضافني ونزل بي ووفد علي، فحق لي أن أتحفه بكرامتي وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزواره وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته تعمره يا آدم
55

ما كنت حيا ثم يعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن ونبيا بعد نبي حتى ينتهي بعد ذلك إلى نبي من ولدك يقال له محمد عليه السلام وهو خاتم النبيين فأجعله من سكانه وعماره وحماته وولاته فيكون أميني عليه ما دام حيا، فإذا انقلب إلي وجدني قد ادخرت له من أجره ما يتمكن به من القربة إلى الوسيلة عندي واجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وسناه وتكرمته لنبي من ولدك يكون قبل هذا النبي وهو أبوه، يقال له إبراهيم أرفع له قواعده وأقضي على يديه عمارته وأعلمه مشاعره ومناسكه وأجعله أمة واحدة قانتا قائما بأمري داعيا إلى سبيلي أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم أبتليه فيصبر وأعافيه فيشكر، وآمره فيفعل وينذر لي فيفي ويدعوني فأستجيب دعوته في ولده وذريته من بعده وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وولاته وحماته وسقاته وخدامه وخزانه وحجابه حتى يبدلوا أو يغيروا وأجعل إبراهيم إمام ذلك البيت وأهل تلك الشريعة يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الجن والإنس. وعن عطاء قال: أهبط آدم بالهند فقال: يا رب مالي لا
أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنة؟ قال: بخطيئتك يا آدم فانطلق إلى مكة فابن بها بيتا تطوف به كما رأيتهم يطوفون فانطلق إلى مكة فبنى البيت، فكان موضع قدمي آدم قرى وأنهارا وعمارة وما بين خطاه مفاوز فحج آدم البيت من الهند أربعين سنة، وسأل عمر كعبا فقال: أخبرني عن هذا البيت فقال إن هذا البيت أنزله الله تعالى من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم عليه السلام، فقال:
يا آدم إن هذا بيتي فطف حوله وصل حوله كما رأيت ملائكتي تطوف حول عرشي وتصلي ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة، فوضع البيت على القواعد فلما أغرق الله قوم نوح رفعه الله وبقيت قواعده. وعن علي رضي الله عنه قال: البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح، وهو بحيال الكعبة من فوقها حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة لا يعودون فيه أبدا، وذكر علي رضي الله عنه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم فانهدم فبنته العمالقة ومر عليه الدهر فانهدم فبنته جرهم ومر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شاب، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا: يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثم ترفعه جميع القبائل فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، وعن الزهري قال: بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم عليه السلام ثلاث صفوح في كل صفح منها كتاب، في الصفح الأول: أنا الله ذو بكة صنعتها يوم
56

صنعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حفا وباركت لأهلها في اللحم واللبن. وفي الصفح الثاني: أنا الله ذو بكة خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته. وفي الثالث: أنا الله ذو بكة خلقت الخير والشر، فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه.
المسألة الخامسة: في فضائل الحجر والمقام، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال عليه السلام: " الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب وما مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلا شفي " وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال عليه السلام: " إنه كان أشد بياضا من الثلج فسودته خطايا أهل الشرك "، وعن ابن عباس قال عليه السلام: " ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق ". وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه انتهى إلى الحجر الأسود فقال: إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. أخرجاه في الصحيح.
أما قوله تعالى: * (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) * فالأولى أن يراد به ألزمناهما ذلك وأمرناهما أمرا وثقنا عليهما فيه وقد تقدم من قبل معنى العهد والميثاق. أما قوله: * (أن طهرا بيتي) * فيجب أن يراد به التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت، فإذا كان موضع البيت وحواليه مصلى وجب تطهيره من الأنجاس والأقذار، وإذا كان موضع العبادة والإخلاص لله تعالى: وجب تطهيره من الشرك وعبادة غير الله. وكل ذلك داخل تحت الكلام ثم إن المفسرين ذكروا وجوها. أحدها: أن معنى: * (طهرا بيتي) * ابنياه وطهراه من الشرك وأسساه على التقوى، كقوله تعالى: * (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله) * (التوبة: 109). وثانيها: عرفا الناس أن بيتي
طهرة لهم متى حجوه وزاروه وأقاموا به، ومجازه: اجعلاه طاهرا عندهم، كما يقال: الشافعي رضي الله عنه يطهر هذا، وأبو حنيفة ينجسه. وثالثها: ابنياه ولا تدعا أحدا من أهل الريب والشرك يزاحم الطائفين فيه، بل أقراه على طهارته من أهل الكفر والريب، كما يقال: طهر الله الأرض من فلان، وهذه التأويلات مبنية على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تطهيره من الأوثان والشرك، وهو كقوله تعالى: * (ولهم فيها أزواج مطهرة) * (البقرة: 25) فمعلوم أنهن لم يطهرن من نجس بل خلقن طاهرات، وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهرا، والله أعلم. ورابعها: معناه نظفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي، ليقتدي الناس بكما في ذلك. وخامسها: قال بعضهم:
57

إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجيف والأقذار فأمر الله تعالى إبراهيم بإزالة تلك القاذورات وبناء البيت هناك، وهذا ضعيف لأن قبل البناء ما كان البيت موجودا فتطهير تلك العرصة لا يكون تطهيرا للبيت، ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتا لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتا ولكنه مجاز.
أما قوله تعالى: * (للطائفين والعاكفين والركع السجود) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: العكف مصدر عكف يعكف بضم الكاف وكسرها عكفا إذا لزم الشيء وأقام عليه فهو عاكف، وقيل: إذا أقبل عليه لا يصرف عنه وجهه.
المسألة الثانية: في هذه الأوصاف الثلاثة قولان، الأول: وهو الأقرب أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة، لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف، فالمراد بالطائفين: من يقصد البيت حاجا أو معتمرا فيطوف به، والمراد بالعاكفين: من يقيم هناك ويجاور، والمراد بالركع السجود: من يصلي هناك. والقول الثاني: وهو قول عطاء: أنه إذا كان طائفا فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليا فهو من الرجع السجود.
المسألة الثالثة: هذه الآية، تدل على أمور. أحدها: أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة، لأنه تعالى كما خصهم بالطواف دل على أن لهم به مزيد اختصاص. وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء: أن الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل. وثانيها: تدل الآية على جواز الاعتكاف في البيت. وثالثها: تدل على جواز الصلاة في البيت فرضا كانت أو نفلا إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها، وهو خلاف قول مالك في امتناعه من جواز فعل الصلاة المفروضة في البيت، فإن قيل: لا نسلم دلالة الآية على ذلك، لأنه تعالى لم يقل: والركع السجود في البيت، وكما لا تدل الآية على جواز فعل
الطواف في جوف البيت، وإنما دلت على فعله خارج البيت، كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصلاة إلى البيت متوجها إليه، قلنا: ظاهر الآية يتناول الركوع والسجود إلى البيت، سواء كان ذلك في البيت أو خارجا عنه، وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت لأن الطواف بالبيت هو أن يطوف بالبيت، ولا يسمى طائفا بالبيت من طاف في جوفه، والله تعالى إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه، لقوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * (الحج: 29) وأيضا المراد لو كان التوجه إليه للصلاة، لما كان للأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه، إذا كان حاضر والبيت والغائبون عنه سواء
58

في الأمر بالتوجه إليه، واحتج مالك بقوله تعالى: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجها إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه. والجواب: أن المتوجه الواحد يستحيل أن يكون متوجها إلى كل المسجد، بل لا بد وأن يكون متوجها إلى جزء من أجزائه ومن كان داخل البيت فهو كذلك فوجب أن يكون داخلا تحت الآية. ورابعها: أن قوله: * (للطائفين) * يتناول مطلق الطواف سواء كان منصوصا عليه في كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * أو ثبت حكمه بالسنة، أو كان من المندوبات.
* (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من ءامن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) *
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من أحوال إبراهيم عليه السلام التي حكاها الله تعالى ههنا، قال القاضي: في هذه الآيات تقديم وتأخير، لأن قوله: * (رب اجعل هذا بلدا آمنا) * لا يمكن إلا بعد دخول البلد في الوجود، والذي ذكره من بعد وهو قوله: * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) * (البقرة: 128) وإن كان متأخرا في التلاوة فهو متقدم في المعنى، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: المراد من الآية دعاء إبراهيم للمؤمنين من سكان مكة بالأمن والتوسعة بما يجلب إلى مكة لأنها بلد لا زرع ولا غرس فيه، فلولا الأمن لم يجلب إليها من النواحي وتعذر العيش فيها. ثم إن الله تعالى أجاب دعاءه وجعله آمنا من الآفات، فلم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل، وههنا سؤالان:
السؤال الأول: أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك؟
الجواب: لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها، بل كان مقصوده شيئا آخر.
السؤال الثاني: المطلوب من الله تعالى هو أن يجعل البلد آمنا كثير الخصب، وهذا مما يتعلق بمنافع الدنيا فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها.
59

والجواب عنه من وجوه، أحدها: أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين، كان ذلك من أعظم أركان الدين، فإذا كان البلد آمنا وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى، وإذا كان البلد على ضد ذلك كانوا على ضد ذلك. وثانيها: أنه تعالى جعله مثابة للناس والناس إنما يمكنهم الذهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة والأقوات هناك رخيصة. وثالثها: لا يبعد أن يكون الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهد المشاعر المعظمة والمواقف المكرمة فيكون الأمن والخصب سبب اتصاله في تلك الطاعة.
المسألة الثانية: * (بلدا آمنا) * يحتمل وجهين. أحدهما: مأمون فيه كقوله تعالى: * (في عيشة راضية) * (القارعة: 7) أي مرضية. والثاني: أن يكون المراد أهل البلد كقوله: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) أي أهلها وهو مجاز لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد.
المسألة الثالثة: اختلفوا في الأمن المسؤول في هذه الآية على وجوه. أحدها: سأله الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع. وثانيها: سأله الأمن من الخسف والمسخ. وثالثها: سأله الأمن من القتل وهو قول أبو بكر الرازي، واحتج عليه بأنه عليه السلام سأله الأمن أولا، ثم سأله الرزق ثانيا، ولو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرزق بعده تكرارا فقال في هذه الآية: * (رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات) * وقال في آية أخرى: * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * ثم قال في آخر القصة: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) * إلى قوله: * (وارزقهم من الثمرات) * (إبراهيم: 37) واعلم أن هذه الحجة ضعيفة فإن لقائل أن يقول: لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخسف والمسخ، أو لعله الأمن من القحط، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية وقد يكون بالتوسعة فيها فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط وبالسؤال الثاني طلب التوسعة العظيمة.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام أو إنما صارت كذلك بدعوته فقال قائلون: إنها كانت كذلك أبدا لقوله عليه السلام: " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض " وأيضا قال إبراهيم: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) * (إبراهيم: 37) وهذا يقتضي أنها كانت محرمة قبل ذلك، ثم إن إبراهيم عليه السلام أكده بهذا الدعاء، وقال آخرون: إنها إنما صارت حرما آمنا بدعاء إبراهيم عليه السلام وقبله كانت لسائر البلاد والدليل عليه قوله عليه السلام: " اللهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ". والقول الثالث: إنها كانت حراما قبل الدعوة بوجه غير
60

الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة. فالأول: يمنع الله تعالى من الاصطلام وبما جعل في النفوس من التعظيم. والثاني: بالأمر على ألسنة الرسل. المسألة الخامسة: إنما قال في هذه السورة: * (بلدا آمنا) * على التنكير وقال في سورة إبراهيم: * (هذا البلد آمنا) * على التعريف لوجهين. الأول: أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا، كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلدا آمنا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) * (إبراهيم: 37) فقال: ههنا اجعل هذا الوادي بلدا آمنا، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته بلدا ذا أمن وسلامة، كقولك: جعلت هذا الرجل آمنا. الثاني: أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلدا، فقوله: * (اجعل هذا بلدا آمنا) * تقديره: اجعل هذا البلد بلدا آمنا، كقولك: كان
اليوم يوما حارا، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة، لأن التنكير يدل على المبالغة، فقوله: * (رب اجعل هذا بلدا آمنا) * معناه: اجعله من البلدان الكاملة في الأمن، وأما قوله: * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة، وأما قوله: * (وارزق أهله من الثمرات) * فالمعنى أنه عليه السلام سأل أن يدر على ساكني مكة أقواتهم، فاستجاب الله تعالى له فصارت مكة يجبى إليها ثمرات كل شيء، أما قوله: * (من آمن منهم) * فهو يدل من قوله: * (أهله) * يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة، وهو كقوله: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (آل عمران: 97) واعلم أنه تعالى لما أعلمه أن منهم قوما كفارا بقوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) لا جرم خصص دعاءه بالمؤمنين دون الكافرين وسبب هذا التخصيص النص والقياس، أما النص فقوله تعالى: * (فلا تأس على القوم الكافرين) * (المائدة: 124) وأما القياس فمن وجهين:
الوجه الأول: أنه لما سأل الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته، قال الله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) فصار ذلك تأديبا في المسألة، فلما ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة، لا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء دون الكافرين ثم أن الله تعالى أعلمه بقوله:
فأمتعه قليلا) * الفرق بين النبوة ورزق الدنيا، لأن منصب النبوة والإمامة لا يليق بالفاسقين، لأنه لا بد في الإمامة والنبوة من قوة العزم والصبر على ضروب المحنة حتى يؤدي عن الله أمره ونهيه ولا تأخذه في الدين لومة لائم وسطوة جبار، أما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المطيع والكافر والصادق والمنافق، فمن آمن فالجنة مسكنه ومثواه، ومن كفر فالنار مستقره ومأواه.
الوجه الثاني: يحتمل أن إبراهيم عليه السلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكل كثر في البلد الكفار فيكون في غلبتهم وكثرتهم مفسدة ومضرة من ذهاب الناس إلى الحج، فخص المؤمنين بالدعاء لهذا السبب، أما قوله تعالى: * (ومن كفر فأمتعه قليلا) * ففيه مسألتان:
61

المسألة الأولى: قرأ ابن عامر * (فأمتعه) * بسكون الميم خفية من أمتعت، والباقون بفتح الميم مشددة من متعت، والتشديد يدل على التكثير بخلاف التخفيف.
المسألة الثانية: أمتعه قيل: بالرزق، وقيل: بالبقاء في الدنيا، وقيل: بهما إلى خروج محمد صلى الله عليه وسلم فيقتله أو يخرجه من هذه الديار إن أقام على الكفر، والمعنى أن الله
تعالى كأنه قال: إنك وإن كنت خصصت بدعائك المؤمنين فإني أمتع الكافر منهم بعاجل الدنيا، ولا أمنعه من ذلك ما أتفضل به على المؤمنين إلى أن يتم عمره فأقبضه ثم اضطره في الآخرة إلى عذاب النار، فجعل ما رزق الكافر في دار الدنيا قليلا، إذ كان واقعا في مدة عمره، وهي مدة واقعة فيما بين الأزل والأبد، وهو بالنسبة إليهما قليل جدا، والحاصل أن الله تعالى بين أن نعمة المؤمن في الدنيا موصولة بالنعمة في الآخرة، بخلاف الكافر فإن نعمته في الدنيا تنقطع عند الموت وتتخلص منه إلى الآخرة، أما قوله: * (ثم اضطره إلى عذاب النار) * فاعلم أن في الاضطرار قولين: أحدهما: أن يفعل به ما يتعذر عليه الخلاص منه وههنا كذلك، كما قال الله تعالى: * (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) * و * (يوم يسبحون في النار على وجوههم) * (القمر: 48) يقال: اضطررته إلى الأمر أي ألجأته وحملته عليه من حيث كان كارها له، وقالوا: إن أصله من الضر وهو إدناء الشيء من الشيء، ومنه ضرة المرأة لدنوها وقربها. والثاني: أن الاضطرار هو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختيارا، كقوله تعالى: * (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) * (البقرة: 173) (الأنعام: 145) (النحل: 115) فوصفه بأنه مضطر إلى تناول الميتة، وإن كان ذلك الأكل فعله فيكون المعنى: أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار والاستقرار فيها بأن أعلمه بأنه لو رام التخلص لمنع منه، لأن من هذا حاله يجعل ملجأ إلى الوقوع في النار، ثم بين تعالى أن ذلك بئس المصير، لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور، وبئس المصير ضده.
* (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منآ إنك أنت السميع
62

العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينآ إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) *
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأمور التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو أنهما عند بناء البيت ذكرا ثلاثة من الدعاء ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وإذ يرفع) * حكاية حال ماضية والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس، والأصل لما فوقه، وهي صفة غالبة، ومعناها الثابتة، ومنه أقعدك الله أي أسأل الله أن يقعدك أي يثبتك ورفع الأساس البناء عليها، لأنها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه، ومعنى رفع القواعد رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافا فوق ساف فقد رفع السافات والله أعلم.
المسألة الثانية: الأكثرون من أهل الأخبار على أن هذا البيت كان موجودا قبل إبراهيم عليه السلام على ما روينا من الأحاديث فيه واحتجوا بقوله: * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) * فإن هذا صريح في أن تلك القواعد كانت موجودة متهدمة إلا أن إبراهيم عليه السلام رفعها وعمرها.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أنه هل كان إسماعيل عليه السلام شريكا لإبراهيم عليه السلام في رفع قواعد البيت وبنائه؟ قال الأكثرون: إنه كان شريكا له في ذلك والتقدير وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت والدليل عليه أنه تعالى عطف إسماعيل على إبراهيم فلا بد وأن يكون ذلك العطف في فعل من الأفعال التي سلف ذكرها ولم يتقدم إلا ذكر رفع قواعد البيت موجب أن يكون إسماعيل معطوفا على إبراهيم في ذلك، ثم إن اشتراكهما في ذلك يحتمل وجهين. أحدهما: أن يشتركا في البناء ورفع الجدران. والثاني: أن يكون أحدهما بانيا للبيت والآخر يرفع إليه الحجر والطين، ويهيئ له الآلات والأدوات، وعلى الوجهين تصح إضافة الرفع إليهما، وإن كان الوجه الأول أدخل في الحقيقة ومن الناس
63

من قال: إن إسماعيل في ذلك الوقت كان طفلا صغيرا وروي معناه عن علي رضي الله عنه، وأنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر فقالا: إلى من تكلنا؟ فقال إبراهيم: إلى الله فعطش إسماعيل فلم ير شيئا من الماء فناداهما جبريل عليه السلام وفحص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم وهؤلاء جعلوا الوقف على قوله: * (من البيت) * ثم ابتدؤا: وإسماعيل ربنا تقبل منا طاعتنا ببناء هذا البيت فعلى هذا التقدير يكون إسماعيل شريكا في الدعاء لا في البناء، وهذا التأويل ضعيف لأن قوله: * (تقبل منا) * ليس فيه ما يدل على أنه تعالى ماذا يقبل فوجب صرفه إلى المذكور السابق وهو رفع البيت فإذا لم يكن ذلك من فعله كيف يدعو الله بأن يتقبله منه، فإذن هذا القول على خلاف ظاهر القرآن فوجب رده والله أعلم.
المسألة الرابعة: إنما قال: * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) * ولم يقل يرفع قواعد البيت لأن في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام من تفخيم الشأن ما ليس في العبارة الأخرى، واعلم أن الله تعالى حكى عنهما بعد ذلك ثلاثة أنواع من الدعاء.
النوع الأول: في قوله تعالى: * (تقبل منا إنك أنت السميع العليم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في تفسير قوله: * (تقبل منا) * فقال المتكلمون: كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه، والذي لا يثيبه عليه ولا يرضاه منه فهو المردود، فههنا عبر عن أحد المتلازمين باسم الآخر، فذكر لفظ القبول وأراد به الثواب والرضا لأن التقبل هو أن يقبل الرجل ما يهدى إليه، فشبه الفعل من العبد بالعطية، والرضا من الله بالقبول توسعا. وقال العارفون: فرق بين القبول والتقبل فإن التقبل عبارة عن أن يتكلف الإنسان في قبوله وذلك إنما يكون حيث يكون العمل ناقصا لا يستحق أن يقبل فهذا اعتراف منهما بالتقصير في العمل، واعتراف بالعجز والانكسار، وأيضا فلم يكن المقصود إعطاء الثواب عليه، لأن كون الفعل واقعا موقع القبول من المخدوم ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه وتمام تحقيقه سيأتي في تفسير المحبة في قوله تعالى: * (والذين آمنوا أشد حبا لله) * (البقرة: 165) والله أعلم.
المسألة الثانية: إنهم بعد أن أتوا بتلك العبادة مخلصين تضرعوا إلى الله تعالى في قبولها وطلبوا الثواب عليها على ما قاله المتكلمون، ولو كان ترتيب الثواب على الفعل المقرون بالإخلاص واجبا على الله تعالى، لما كان في هذا الدعاء والتضرع فائدة، فإنه يجري مجرى أن الإنسان يتضرع إلى الله فيقول: يا إلهي اجعل النار حارة والجمد باردا بل ذلك الدعاء أحسن لأنه لا استبعاد عند المتكلم في صيرورة النار حال بقائها على صورتها في الإشراق والاشتعال باردة، والجمد حال بقائه على
64

صورته في الإنجماد والبياض حارا ويستحيل عند المعتزلة أن لا يترتب الثواب على مثل هذا الفعل فوجب أن يكون الدعاء ههنا أقبح فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا يجب للعبد على الله شيء أصلا والله أعلم.
المسألة الثانية: إنما عقب هذا الدعاء بقوله: * (إنك أنت السميع العليم) * كأنه يقول: تسمع دعاءنا وتضرعنا، وتعلم ما في قلبنا من الإخلاص وترك الالتفات إلى أحد سواك. فإن قيل: قوله: * (إنك أنت السميع العليم) * يفيد الحصر وليس الأمر كذلك، فإن غيره قد يكون سميعا. قلنا: إنه سبحانه لكماله في هذه الصفة يكون كأنه هو المختص بها دون غيره.
النوع الثاني: من الدعاء قوله: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد، أو الاستسلام والانقياد، وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة: وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلا خلق ذلك فيهما، فإن الجعل عبارة عن الخلق، قال الله تعالى: * (وجعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1) فدل هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى، فإن قيل: هذه الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي أنهما وقت السؤال غير مسلمين، إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلبا لتحصيل الحاصل وإنه باطل، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين، ولأن صدور هذا الدعاء منهما لا يصلح إلا بعد أن كانا
مسلمين، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسك بها، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الجعل عبارة عن الخلق والإيجاد، بل له معان أخر سوى الخلق. أحدها: جعل بمعنى صير، قال الله تعالى: * (هو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا) * (الفرقان: 47). وثانيها: جعل بمعنى وهب، نقول: جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الفرس. وثالثها: جعل بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * (الزخرف: 19)، وقال: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * (الأنعام: 10). ورابعها: جعله كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى: * (وجعلناهم أئمة) * (الأنبياء: 73) يعني أمرناهم بالاقتداء بهم، وقال: * (إني جاعلك للناس إماما) * (البقرة: 124) فهو بالأمر. وخامسها: أن يجعله بمعنى التعليم كقوله: جعلته كاتبا وشاعرا إذا علمته ذلك. وسادسها: البيان والدلالة تقول: جعلت كلام فلان باطلا إذا أوردت من الحجة ما يبين بطلان ذلك، إذا ثبت ذلك فنقول: لم لا يجوز أن يكون المراد وصفهما بالإسلام والحكم لهما بذلك كما يقال: جعلني فلان لصا وجعلني فاضلا أديبا إذا وصفه بذلك، سلمنا أن المراد من الجعل الخلق، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف
65

الداعية لهما إلى الإسلام وتوفيقهما لذلك فمن وفقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها فقد جعله مسلما له، ومثاله: من يؤدب ابنه حتى يصير أديبا فيجوز أن يقال: صيرتك أديبا وجعلتك أديبا، وفي خلاف ذلك يقال: جعل ابنه لصا محتالا، سلمنا أن ظاهر الآية يقتضي كونه تعالى خالقا للإسلام، لكنه على خلاف الدلائل العقلية فوجب ترك القول به، وإنما قلنا: أنه على خلاف الدلائل العقلية لأنه لو كان فعل العبد خلقا لله تعالى لما استحق العبد به مدحا ولا ذما، ولا ثوابا ولا عقابا، ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد. والجواب: قوله: الآية متروكة الظاهر، قلنا: لا نسلم وبيانه من وجوه. الأول: أن الإسلام عرض قائم بالقلب وأنه لا يبقى زمانين
فقوله: * (واجعلنا مسلمين لك) * أي اخلق هذا العرض فينافي الزمان المستقبل دائما، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال. الثاني: أن يكون المراد منه الزيادة في الإسلام كقوله: * (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) * (الفتح: 4)، * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (محمد: 17) وقال إبراهيم: * (ولكن ليطمئن قلبي) * (البقرة: 26) فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال. الثالث: أن الإسلام إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد، فأما إذا أضيف بحرف اللام كقوله: * (مسلمين لك) * فالمراد الاستسلام له والانقياد والرضا بكل ما قدر وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال، فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر، قوله: يحمل الجعل على الحكم بذلك، قلنا: هذا مدفوع من وجوه:
أحدها: أن الموصوف إذا حصلت الصفة له فلا فائدة في الصفة، وإذا لم يكن المطلوب
بالدعاء هو مجرد الوصف وجب حمله على تحصيل الصفة، ولا يقال: وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح وهو مرغوب فيه، قلنا: نعم لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من الرغبة في تحصيل الوصف به والحكم به، فكان حمله على الأول أولى. وثانيها: أنه متى حصل الإسلام فيهما فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذب، فكان ذلك الوصف حاصلا وأي فائدة في طلبه بالدعاء. وثالثها: أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كل من سمى إبراهيم مسلما جاز أن يقال جعله مسلما، أما قوله: يحمل ذلك على فعل الألطاف، قلنا: هذا أيضا مدفوع من وجوه. أحدها: أن لفظ الجعل مضاف إلى الإسلام فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر. وثانيها: أن تلك الألطاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة، فطلبها يكون طلبا لتحصيل الحاصل وأنه غير جائز. وثالثها: أن
66

تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في ترجيح جانب الفعل على الترك أو لا يكون، فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفا وإن كان لها أثر في الترجيح فنقول: متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح إما أن يجب الفعل أو يمتنع أو لا يجب ولا يمتنع، فإن وجب فهو المطلوب، وإن امتنع فهو مانع لا مرجح، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع إما أن يكون لانضمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أوليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجموع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلا وقد فرضناه كذلك هذا خلف، وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول، قوله: الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم، قلنا: إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم تقريره مرارا وأطوارا والله أعلم.
واعلم أن السؤال المشهور في هذه الآية من أنهما لما كانا مسلمين فكيف طلبا الاسلام؟ قد أدرجناه في هذه المسألة وذكرنا عنه أجوبة شافية كافية والحمد لله على ذلك، ثم إن الذي يدل من جهة العقل على أن صيرورتهما مسلمين له سبحانه لا يكون إلا منه سبحانه وتعالى ما ذكرنا أن القدرة الصالحة للإسلام هل هي صالحة لتركه أم لا؟ فإن لم تكن صالحة لتركه فتلك القدرة موجبة فخلق تلك القدرة الموجبة فيهما جعلهما مسلمين، وإن كانت صالحة لتركه فهو باطل ومع تسليم إمكانه فالمقصود حاصل أما بطلانه فلان الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصل والعدم نفي محض فيستحيل أن يكون للقدرة فيه أثر ولأنه عدم باق والباقي لا يكون متعلق القدرة فثبت بهذا أنه لا قدرة على ذلك العدم المستمر، فإذن لا قدرة إلا على الوجود، فالقدرة غير صالحة إلا للوجود، وأما أن بتقدير تسليم كون القدرة صالحة للوجود والعدم فالمقصود حاصل، فلأن تلك القدرة الصالحة لا تختص بطرف الوجود إلا لمرجح، ويجب انتهاء المرجحات إلى فعل الله تعالى قطعا للتسلسل، وعند حصول
المرجح من الله تعالى يجب وقوع الفعل، فثبت أن قوله: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * هو الذي يصح على قوانين الدلائل العقلية.
المسألة الثانية: قوله: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * يفيد الحصر أي نكون مسلمين لك لا لغيرك وهذا يدل على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلما لأحكام الله تعالى وقضائه وقدره، وأن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سواه، وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه السلام في موضع آخر: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) * (الشعراء: 77) ثم ههنا قولان: أحدهما:: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * أي
67

موحدين مخلصين لا نعبد إلا إياك. والثاني: قائمين بجميع شرائع الإسلام وهو الأوجه لعمومه.
المسألة الثالثة: أما إن العبد لا يخاطب الله تعالى وقت الدعاء إلا بقوله: ربنا فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في تفسير قوله: * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) في شرائط الدعاء.
أما قوله تعالى: * (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) * فالمعنى: واجعل من أولادنا و (من) للتبعيض وخص بعضهم لأنه تعالى أعلمهما أن في ذريتهما الظالم بقوله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) ومن الناس من قال: أراد به العرب لأنهم من ذريتهما، و (أمة) قيل هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله: * (وابعث فيهم رسولا منهم) * وههنا سؤالات:
السؤال الأول: قد بينا أن قوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) * كما يدل على أن في ذريته من يكون ظالما فكذلك يوجد فيهم من لا يكون ظالما، فإذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوما بتلك الآية فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى؟
الجواب: تلك الدلالة ما كانت قاطعة، والشفيق بسوء الظن مولع.
السؤال الثاني: لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجري مجرى البخل في الدعاء؟
والجواب: الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى: * (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * (التحريم: 6) ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وتابعهم على الخيرات، ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون إلى سداد من وراءهم.
السؤال الثالث: الظاهر أن الله تعالى لو رد هذا الدعاء لصرح بذلك الرد فلما لم يصرح بالرد علمنا أنه أجابه إليه، وحينئذ يتوجه الإشكال، فإن في زمان أجداد محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد من العرب مسلما، ولم يكن أحد سوى العرب من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
والجواب: قال القفال: أنه لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا، ولم تزل الرسل من ذرية إبراهيم، وقد كان في الجاهلية: زيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامر بن الظرب كانوا على دين الإسلام يقرون بالإبداء والإعادة، والثواب والعقاب، ويوحدون الله تعالى، ولا يأكلون الميتة، ولا يعبدون الأوثان.
أما قوله تعالى: * (وأرنا مناسكنا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في * (أرنا) * قولان، الأول: معناه علمنا شرائع حجنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعوا الناس إلى حجه، فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول مجاز هذا
68

من رؤية العلم، قال الله تعالى: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) * (الفرقان: 45)، * (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) * (الفيل: 1). الثاني: أظهرها لأعيننا حتى نراها. قال الحسن: إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلها، حتى بلغ عرفات، فقال: يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال: نعم فسميت عرفات فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق، فأمره جبريل عليه السلام أن يرميه بسبع حصيات ففعل، فذهب الشيطان ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كل ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي الحصيات.
وههنا قول ثالث وهو أن المراد العلم والرؤية معا. وهو قول القاضي لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعا وهذا ضعيف، لأنه يقتضي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معا وأنه جائز، فبقي القول المعتبر وهو القولان الأولان، فمن قال بالقول الثاني قال: إن المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها، ومن قال بالأول قال: إن المناسك هي أعمال الحج كالطواف والسعي والوقوف.
المسألة الثانية: النسك هو التعبد، يقال للعابد ناسك ثم سمي الذبح نسكا والذبيحة نسيكة، وسمي أعمال الحج مناسك. قال عليه السلام: " خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ". والمواضع التي تقام فيها شرائع الحج تسمى: مناسك أيضا، ويقال: المنسك بفتح السين بمعنى الفعل، وبكسر السين بمعنى المواضع، كالمسجد والمشرق والمغرب، قال الله تعالى: * (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) * (الحج: 67) قرىء بالفتح والكسر، وظاهر الكلام يدل على الفعل، وكذلك قوله عليه السلام: " خذوا عني مناسككم " أمرهم بأن يتعلموا أفعاله في الحج لا أنه أراد: خذوا عني مواضع نسككم إذا عرفت هذا فنقول: إن حملنا المناسك على مناسك الحج، فإن حملناها على الأفعال فالإراءة لتعريف تلك الأعمال، وإن حملناها على المواضع فالإراءة لتعريف البقاع ومن المفسرين من حمل المناسك على الذبيحة فقط، وهو خطأ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكا لدخولها تحت التعبد، ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك فما لأجله سميت الذبيحة نسكا، وهو كونه عملا من أعمال الحج قائم في سائر الأعمال، فوجب دخول الكل فيه وأن حملنا المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى، واللزوم لما يرضيه وجعل ذلك عاما لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فقوله: * (وأرنا مناسكنا) * أي علمنا كيف نعبدك، وأين نعبدك وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك به كما يخدم العبد مولاه.
69

المسألة الثالثة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو في بعض الروايات * (أرنا) * بإسكان الراء في كل القرآن، ووافقهما عاصم وابن عامر في حرف واحد، في حم السجدة * (أرنا الذين أضلانا) * (فصلت: 29) وقرأ أبو عمرو في بعض الروايات الظاهرة عنه باختلاس كسرة الراء من غير إشباع في كل القرآن، والباقون بالكسرة مشبعة، وأصله أرئنا بالهمزة المكسورة، نقلت كسرة الهمزة إلى الراء وحذفت الهمزة وهو الاختيار لأن أكثر القراء عليه، ولأنه سقطت الهمزة فلا ينبغي أن تسكن الراء لئلا يجحف بالكلمة وتذهب الدلالة على الهمزة، وأما التسكين فعلى حذف الهمزة وحركتها وعلى التشبيه بما سكن كقولهم: فخذ وكبد، وأما الاختلاس فلطلب الخفة وبقاء الدلالة على حذف الهمزة.
أما قوله: * (وتب علينا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج من جوز الذنب على الأنبياء بهذه الآية قال: لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب، فلولا تقدم الذنب وإلا لكان طلب التوبة طلبا للمحال، وأما المعتزلة فقالوا: إنا نجوز الصغيرة على الأنبياء فكانت هذه التوبة توبة من الصغيرة، ولقائل أن يقول: إن الصغائر قد صارت مكفرة بثواب فاعلها وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها محال، لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال.
وههنا أجوبة أخر تصلح لمن جوز الصغائر ولمن لم يجوزها، وهي من وجوه. أولها: يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشددا في الانصراف عن المعصية، لأن من تصور نفسه بصورة النادم العازم على التحرز الشديد، كان أقرب إلى ترك المعاصي، فيكون ذلك لطفا داعيا إلى ترك المعاصي، وثانيها: أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه: إما على سبيل السهو، أو على سبيل ترك الأولى، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك. وثالثها: أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالما عاصيا، لا جرم سأل ههنا أن يجعل بعض ذريته أمة مسلمة، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة المذنبين للتوبة فقال: * (وتب
علينا) * أي على المذنبين من ذريتنا، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده فاعتذر الوالد عنه فقد يقول: أجرمت وعصيت وأذنبت فاقبل عذري ويكون مراده: إن ولدي أذنب فاقبل عذره، لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه، والذي يقوي هذا التأويل وجوه. الأول: ما حكى الله تعالى في سورة إبراهيم أنه قال: * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهم أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) * (إبراهيم: 35، 36) فيحتمل أن يكون المعنى: ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب، وتغفر له ما سلف من ذنوبه. الثاني: ذكر أن في قراءة عبد الله: وأرهم مناسكهم وتب
70

عليهم. الثالث: أنه قال عطفا على هذا: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) *. الرابع: تأولوا قوله تعالى: * (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) * (الأعراف: 11) بجعل خلقه إياه خلقا لهم إذ كانوا منه، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله: * (أرنا مناسكنا) * أي أر ذريتنا.
المسألة الثانية: احتج الأصحاب بقوله: * (وتب علينا) * على أن فعل العبد خلق لله تعالى، قالوا لأنه عليه السلام طلب من الله تعالى أن يتوب عليه، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد، لكان طلبها من الله تعالى محالا وجهلا، قالت المعتزلة: هذا معارض بما أن الله تعالى طلب التوبة منا. فقال: * (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) * (التحريم: 8) ولو كانت فعلا لله تعالى، لكان طلبها من العبد محالا وجهلا، وإذا ثبت ذلك حمل قوله: * (وتب علينا) * على التوفيق وفعل الألطاف أو على قبول التوبة من العبد، قال الأصحاب: الترجيح معنا لأن دليل العقل يعضد قولنا من وجوه. أولها: أنه متى لم يخلق الله تعالى داعية موجبة للتوبة استحال حصول التوبة، فكانت التوبة من الله تعالى لا من العبد، وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرة. وثانيها: أن التوبة على ما لخصه الشيخ الغزالي رحمه الله: عبارة عن مجموع أمور ثلاثة مرتبة: علم وحال وعمل، فالعلم أول والحال ثان وهو موجب العلم والعمل ثالث وهو موجب الحال، أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب، يتولد من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوت المنفعة وحصول المضرة، وهذا التألم هو المسمى بالندم ثم يتولد من هذا الندم صفة تسمى: إرادة ولها تعلق بالحال والماضي والمستقبل، أما تعلقه بالحال فهو الترك للذنب الذي كان ملابسا له، وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر، وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين، فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب، ثم إن هذا اليقين مهما استولى على القلب اشتعل نار الندم فيتألم به القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان، أنه صار محجوبا عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فيتولد من تلك الحالة إرادته للانتهاض للتدارك إذا عرفت هذا فنقول: إن ترتب الفعل على الإرادة ضروري لأن الإرادة الجازمة الخالية عن المعارض لا بد وأن يترتب عليها الفعل وترتب الإرادة على تألم القلب أيضا ضروري، فإن من تألم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه لا بد وأن يحصل في قلبه إرادة الدفع وترتب ذلك الألم
71

على العلم بكون ذلك الشيء جالبا للمضار، ودفعا للمنافع أيضا أمر ضروري، فكل هذه المراتب ضرورية فكيف تحصل تحت الاختبار والتكلف.
بقي أن يقال: الداخل تحت التكليف هو العلم، إلا أن فيه أيضا إشكالا، لأن ذلك العلم إما أن يكون ضروريا أو نظريا، فإن كان ضروريا لم يكن داخلا تحت الاختبار والتكليف أيضا، وإن كان نظريا فهو مستنتج عن العلوم الضرورية. فمجموع تلك العلوم الضرورية المنتجة للعلم النظري الأول، إما أن يكون كافيا في ذلك الانتاج أو غير كاف، فإن كان كافيا كان ترتب ذلك العلم النظري المستنتج أولا على تلك العلوم الضرورية واجبا، والذي يجب ترتبه على ما يكون
خارجا عن الاختيار، كان أيضا خارجا عن الاختيار، وإن لم يكن كافيا فلا بد من شيء آخر، فذلك الآخر إن كان من العلوم الضرورية فهو إن كان حاصلا فالذي فرضناه غير كاف، وقد كان كافيا، هذا خلف، وإن كان من العلوم النظرية افتقر أول العلوم النظرية إلى علم نظري آخر قبله فلم يكن أول العلوم النظرية أولا للعلوم النظرية، وهذا خلف. ثم الكلام في ذلك الأول كما فيما قبله فيلزم التسلسل وهو محال، فثبت بما ذكرنا آخرا أن قوله تعالى: * (وتب علينا) * محمول على ظاهره، وهو الحق المطابق للدلائل العقلية وأن سائر الآيات المعارضة لهذه الآية أولى بالتأويل.
أما قوله: * (إنك أنت التواب الرحيم) * فقد تقدم ذكره. النوع الثالث: قوله: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * واعلم أنه لا شبهة في أن قوله: * (ربنا وابعث فيهم رسولا) * يريد من أراد بقوله: * (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) * لأنه المذكور من قبل ووصفه لذريته بذلك لا يليق إلا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فعطف عليه بقوله تعالى: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * وهذا الدعاء يفيد كمال حال ذريته من وجهين. أحدهما: أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع ويدعوهم إلى ما يثبتون به على الإسلام. والثاني: أن يكون ذلك المبعوث منهم لا من غيرهم لوجوه. أحدها: ليكون محلهم ورتبتهم في العز والدين أعظم، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معا من ذريته، كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها. وثانيها: أنه إذا كان منهم فإنهم يعرفون مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته. وثالثها: أنه إذا كان منهم كان أحرص الناس على خيرهم وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم، إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان مراد إبراهيم عليه السلام عمارة الدين في الحال وفي المستقبل، وكان قد غلب على ظنه أن ذلك إنما يتم ويكمل بأن يكون القوم من ذريته حسن منه أن يريد ذلك ليجتمع له بذلك نهاية المراد في الدين، وينضاف إليه السرور العظيم بأن يكون هذا الأمر في ذريته لأن لا عز ولا شرف أعلى
72

من هذه الرتبة. وأما إن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فيدل عليه وجوه. أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة. وثانيها: ما روي عنه عليه السلام أنه قال: " أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى " وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى عليه السلام ما ذكر في سورة الصف من قوله: * (مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) * (الصف: 6). وثالثها: أن إبراهيم عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين يكونون بها وبما حولها ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة وما حولها إلا محمدا صلى الله عليه وسلم.
وههنا سؤال وهو أنه يقال: ما الحكمة في ذكر إبراهيم عليه السلام مع محمد صلى الله عليه وسلم في باب الصلاة حيث يقال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؟
وأجابوا عنه من وجوه، أولها: أن إبراهيم عليه السلام دعا لمحمد عليه السلام حيث قال: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك) * فلما وجب للخليل على الحبيب حق دعائه له قضى الله تعالى عنه حقه بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة. وثانيها: أن إبراهيم عليه السلام سأل ذلك ربه بقوله: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * (الشعراء: 84) يعني ابق لي ثناء حسنا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأجابه الله تعالى إليه وقرن ذكره بذكر حبيبه إبقاء للثناء الحسن عليه في أمته. وثالثها: أن إبراهيم كان أب الملة لقوله: * (ملة أبيكم إبراهيم) * (الحج: 78) ومحمد كان أب الرحمة، وفي قراءة ابن مسعود: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم) وقال في قصته: * (بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (التوبة: 128) وقال عليه السلام: " إنما أنا لكم مثل الوالد "، يعني في الرأفة والرحمة، فلما وجب لكل واحد منهم حق الأبوة من وجه قرب بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة. ورابعها: أن إبراهيم عليه السلام كان منادي الشريعة في الحج: * (وأذن في الناس بالحج) * (الحج: 27) وكان محمد عليه السلام منادي الدين: * (سمعنا مناديا ينادي للإيمان) * (آل عمران: 193) فجمع الله تعالى بينهما في الذكر الجميل.
واعلم أنه تعالى لما طلب بعثة رسول منهم إليهم، ذكر لذلك الرسول صفات. أولها: قوله: * (يتلو عليهم آياتك) * وفيه وجهان. الأول: أنها الفرقان الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك، فوجب حمله عليه. الثاني: يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته سبحانه وتعالى، ومعنى تلاوته إياها عليهم: أنه كان يذكرهم بها ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها. وثانيها: قوله: * (ويعلمهم الكتاب) * والمراد أنه يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه، وذلك لأن التلاوة مطلوبة لوجوه: منها بقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونا عن التحريف والتصحيف، ومنها أن يكون لفظه
73

ونظمه معجزا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ومنها أن يكون في تلاوته نوع عبادة وطاعة، ومنها أن تكون قراءته في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة، فهذا حكم التلاوة إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأشرف تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام، فإن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى ونورا لما فيه من المعاني والحكم والأسرار، فلما ذكر الله تعالى أولا أمر التلاوة ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره فقال: * (ويعلمهم الكتاب) *. الصفة الثالثة: من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (والحكمة) أي ويعلمهم الحكمة. واعلم أن الحكمة هي: الإصابة في القول والعمل، ولا يسمى حكيما إلا من اجتمع له الأمران وقيل: أصلها من أحكمت الشيء أي رددته، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ، وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والفعل، ووضع كل شيء موضعه. قال القفال: وعبر بعض الفلاسفة عن الحكمة بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية. واختلف المفسرون في المراد بالحكمة ههنا على وجوه. أحدها: قال ابن وهب قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: معرفة الدين، والفقه فيه، والاتباع له. وثانيها: قال الشافعي رضي الله عنه: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو قول قتادة، قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه: والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولا وتعليمه ثانيا ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئا خارجا عن الكتاب، وليس ذلك إلا سنة الرسول عليه السلام. فإن قيل: لم لا يجوز حمله على تعليم الدلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة؟ قلنا: لأن العقول مستقبلة بذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يستفاد من الشرع أولى. وثالثها: الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل، وهو مصدر بمعنى الحكم، كالقعدة والجلسة. والمعنى: يعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل أقضيتك وأحكامك التي تعلمه إياها، ومثال هذا: الخبر والخبرة، والعذر والعذرة، والغل والغلة، والذل والذلة. ورابعها: ويعلمهم الكتاب أراد به الآيات المحكمة. (والحكمة) أراد بها الآيات المتشابهات. وخامسها: * (يعلمهم الكتاب) * أي يعلمهم ما فيه من الأحكام. (والحكمة) أراد بها أنه يعلمهم حكمة تلك الشرائع وما فيها من وجوه المصالح والمنافع، ومن الناس من قال: الكل صفات الكتاب كأنه تعالى وصفه بأنه آيات، وبأنه كتاب، وبأنه حكمة. الصفة الرابعة: من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم: قوله: " ويزكيهم " واعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين. أحدهما: أن يعرف الحق لذاته. والثاني: أن يعرف الخير لأجل العمل به، فإن أخل بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهرا عن الرذائل والنقائص، ولم يكن زكيا عنها، فلما ذكر صفات الفضل والكمال أردفها بذكر التزكية عن الرذائل والنقائص، فقال: (ويزكيهم) واعلم أن الرسول لا قدرة له على التصرف في بواطن المكلفين، وبتقدير أن تحصل له هذه القدرة
74

لكنه لا يتصرف فيها وإلا لكان ذلك الزكاء حاصلا فيهم على سبيل الجبر لا على سبيل الاختيار، فإذن هذه التزكية لها تفسيران. الأول: ما يفعله سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة، حتى يكون ذلك كالسبب لطهارتهم، وتلك الأمور ما كان يفعله عليه السلام من الوعد والإيعاد، والوعظ والتذكير، وتكرير ذلك عليهم، ومن التشبث بأمور الدنيا إلى أن يؤمنوا ويصلحوا، فقد كان عليه السلام يفعل من هذا الجنس أشياء كثيرة ليقوي بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح، ولذلك مدحه تعالى بأنه على خلق عظيم، وأنه أوتي مكارم الأخلاق. الثاني: يزكيهم، يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت، كتزكية المزكي الشهود، والأول أجود لأنه أدخل في مشاكلة مراده بالدعاء، لأن مراده أن يتكامل لهذه الذرية الفوز بالجنة، وذلك لا يتم إلا بتعليم الكتاب والحكمة، ثم بالترغيب الشديد في العمل والترهيب عن الاخلال بالعمل وهو التزكية، هذا هو الكلام الملخص في هذه الآية، وللمفسرين فيه عبارات. أحدها: قال الحسن: يزكيهم: يطهرهم من شركهم، فدلت الآية على أنه سيكون في ذرية إسماعيل جهال لا حكمة فيهم ولا كتاب، وأن الشرك ينجسهم، وأنه تعالى يبعث فيهم رسولا منهم يطهرهم ويجعلهم حكماء الأرض بعد جهلهم. وثانيها: التزكية هي الطاعة لله والإخلاص عن ابن عباس. وثالثها: ويزكيهم عن الشرك وسائر الأرجاس، كقوله: * (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) * (
الأعراف: 57) واعلم أنه عليه السلام لما ذكر هذه الدعوات ختمها بالثناء على الله تعالى فقال: * (إنك أنت العزيز الحكيم) * والعزيز:
هو القادر الذي لا يغلب، والحكيم هو العالم الذي لا يجهل شيئا، وإذا كان عالما قادرا كان ما يفعله صوابا ومبرأ عن العبث والسفه، ولولا كونه كذلك لما صح منه إجابة الدعاء ولا بعثة الرسل، ولا إنزال الكتاب، واعلم أن العزيز من صفات الذات إذا أريد اقتداره على الأشياء وامتناعه من الهضم والذلة، لأنه إذا كان منزها عن الحاجات لم تلحقه ذلة المحتاج، ولا يجوز أن يمنع من مراده حتى يلحقه اهتضام، فهو عزيز لا محالة، وأما الحكيم فإذا أريد به معنى العليم فهو من صفات الذات، فإذا أريد بالعزة كمال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه، وأريد بالحكمة أفعال الحكمة لم يكن العزيز والحكيم من صفات الذات بل من صفات الفعل والفرق بين هذين النوعين من الصفات وجوه. أحدها: أن صفات الذات أزلية، وصفات الفعل ليست كذلك. وثانيها: أن صفات الذات لا يمكن أن تصدق نقائضها في شيء من الأوقات، وصفات الفعل ليست كذلك. وثالثها: أن صفات الفعل أمور نسبية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفاعل، وصفات الذات ليست كذلك، واحتج النظام على أنه تعالى غير قادر على القبيح بأن قال:
75

الإله يجب أن يكون حكيما لذاته، وإذا كان حكيما لذاته لم يكن القبيح مقدورا، والحكمة لذاتها تنافي فعل القبيح، فالإله يستحيل منه فعل القبيح، وما كان محال لم يكن مقدورا، إنما قلنا: الإله يجب أن يكون حكيما لأنه لو لم يجب ذلك لجاز تبدله بنقيضه، فحينئذ يلزم أن يكون الإله إلها مع عدم الحكمة وذلك بالاتفاق محال، وأما أن الحكمة تنافي فعل السفه فذلك أيضا معلوم بالبديهة، وأما أن مستلزم المنافي مناف فمعلوم بالبديهة، فإذن الإلهية لا يمكن تقريرها مع فعل السفه، وأما أن المحال غير مقدور فبين، فثبت أن الإله لا يقدر على فعل القبيح.
والجواب عنه: أما على مذهبنا فليس شيء من الأفعال سفها منه فزال السؤال والله أعلم.
* (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه فى الاخرة لمن الصالحين) *
اعلم أن الله تعالى بعد أن ذكر أمر إبراهيم عليه السلام وما أجراه على يده من شرائف شرائعه التي ابتلاه بها، ومن بناء بيته وأمره بحج عباد الله إليه وما جبله الله تعالى عليه من الحرص على مصالح عباده ودعائه بالخير لهم، وغير ذلك من الأمور التي سلف في هذه الآية السالفة عجب الناس فقال: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) * والإيمان بما أتى من شرائعه فكان في ذلك توبيخ اليهود والنصارى ومشركي العرب لأن اليهود إنما يفتخرون به ويوصلون بالوصلة التي بينهم وبينه من نسب إسرائيل، والنصارى فافتخارهم ليس بعيسى وهو منتسب من جانب الأم إلى إسرائيل، وأما قريش فإنهم إنما نالوا كل خير في الجاهلية بالبيت الذي بناه فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله، وسائر العرب وهم العدنانيون فمرجعهم إلى إسماعيل وهم يفتخرون على القحطانيين بإسماعيل بما أعطاه الله تعالى من النبوة، فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام، ولما ثبت أن إبراهيم عليه السلام هو الذي طلب من الله تعالى بعثة هذا الرسول في آخر الزمان وهو الذي تضرع إلى الله تعالى في تحصيل هذا المقصود، فالعجب ممن أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام، ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هو دعوة إبراهيم عليه السلام ومطلوبه بالتضرع لا شك أن هذا مما يستحق أن يتعجب منه.
76

أما قوله: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: يقال: رغبت من الأمر إذا كرهته، ورغبت فيه إذا أردته. (ومن) الأول استفهام بمعنى الإنكار، والثانية بمعنى الذي، قال صاحب الكشاف: (من سفه) في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب وإنما صح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك: هل جاءك أحد إلا زيد.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول ههنا سؤال وهو أن المراد بملة إبراهيم هو الملة التي جاء بها محمد عليه السلام لأن المقصود من الكلام ترغيب الناس في قبول هذا الدين فلا يخلو إما أن يقال: إن هذه الملة عين ملة إبراهيم في الأصول والفروع، أو يقال: هذه الملة هي تلك الملة في الأصول أعني التوحيد والنبوة ورعاية مكارم الأخلاق، ولكنهما يختلفان في فروع الشرائع وكيفية الأعمال.
أما الأول: فباطل لأنه عليه السلام كان يدعي أن شرعه نسخ كل الشرائع، فكيف يقال هذا الشرع هو عين ذلك الشرع.
وأما الثاني: فهو لا يفيد المطلوب لأن الاعتراف بالأصول أعني التوحيد والعدل ومكارم الأخلاق والمعاد لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يتمسك بهذا الكلام في هذا المطلوب.
وسؤال آخر وهو أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما اعترف بأن شرع إبراهيم منسوخ، ولفظ الملة يتناول الأصول والفروع، فيلزم أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام راغبا أيضا عن ملة إبراهيم فيلزم ما ألزم عليهم.
وجوابه: أنه تعالى لما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه تضرع إلى الله تعالى وطلب منه بعثه هذا الرسول ونصرته وتأييده ونشر شريعته، عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم فلما سلم اليهود والنصارى والعرب كون إبراهيم عليه السلام محقا في مقاله، وجب عليهم الاعتراف بنبوة هذا الشخص الذي هو مطلوب إبراهيم عليه السلام.
قال السائل: إن القول ما سلموا أن إبراهيم طلب مثل هذا الرسول من الله تعالى، وإنما محمد عليه الصلاة والسلام روى هذا الخبر عن إبراهيم عليه السلام ليبني على هذه الرواية إلزام أنه يجب عليهم الاعتراف بنبوة محمد عليه السلام، فإذن لا تثبت نبوته ما لم تثبت هذه الرواية، ولا تثبت هذه الرواية ما لم تثبت نبوته، فيفضي إلى الدور وهو ساقط، سلمنا أن القوم سلموا صحة هذه الرواية لكن ليس في هذه الرواية إلا أن إبراهيم طلب من الله تعالى أن يبعث رسولا من ذريته
77

وذرية إسماعيل، فكيف القطع بأن ذلك الرسول هو هذا الشخص؟ فلعله شخص آخر سيجيء بعد ذلك، وإذا جاز أن تتأخر إجابة هذا الدعاء بمقدار ألفي سنة، وهو
الزمان الذي بين إبراهيم وبين محمد عليهما السلام، فلم لا يجوز أن تتأخر بمقدار ثلاثة آلاف سنة حتى يكون المطلوب بهذا الدعاء شخصا آخر سوى هذا الشخص المعين؟
والجواب عن السؤال الأول: لعل التوراة والإنجيل شاهدان بصحة هذه الرواية، ولولا ذلك لكان اليهود والنصارى من أشد الناس مسارعة إلى تكذيبه في هذه الدعوى. وعن الثاني: أن المعتمد في إثبات نبوته عليه السلام: ظهور المعجز على يده، وهو القرآن وإخباره عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي مثل هذه الحكايات، ثم إن هذه الحجة تجري مجرى المؤكد للمقصود والمطلوب والله تعالى أعلم. المسألة الثالثة: في انتصاب (نفسه) قولان. الأول: لأنه مفعول، قال المبرد: سفه لازم، وسفه متعد، وعلى هذا القول وجوه. الأول: امتهنها واستخف بها، وأصل السفه الخفة، ومنه زمام سفيه، والدليل عليه ما جاء في الحديث: " الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس " وذلك أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إزالة نفسه وتعجيزها، حيث خالف بها كل نفس عاقلة. والثاني: قال الحسن: إلا من جهل نفسه وخسر نفسه، وحقيقته أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من جهل فلم يفكر فيها، فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنعة على وحدانية الله تعالى وعلى حكمته، فيستدل بذلك على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. والثالث: أهلك نفسه وأوبقها عن أبي عبيدة. والرابع: أضل نفسه. القول الثاني: أن نفسه ليست مفعولا وذكروا على هذا القول وجوها. الأول: أن نفسه نصب بنزع الخافض تقديره سفه في نفسه. والثاني: أنه نصب على التفسير عن الفراء ومعناه سفه نفسا ثم أضاف وتقديره إلا السفيه، وذكر النفس تأكيد كما يقال: هذا الأمر نفسه والمقصود منه المبالغة في سفهه. الثالث: قرىء: * (إلا من سفه نفسه) * بتشديد الفاء ثم إنه تعالى لما حكم بسفاهة من رغب عن ملة إبراهيم عليه السلام بين السبب فقال: * (ولقد اصطفيناه في الدنيا) * والمراد به أنا إذا اخترناه للرسالة من دون سائر الخليقة، وعرفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد والعدل والشرائع والإمامة الباقية إلى قيام الساعة ثم أضيف إليه حكم الله تعالى فشرفه الله بهذا اللقب الذي فيه نهاية الجلالة لمن نالها من ملك من ملوك البشر فكيف من نالها من ملك الملوك والشرائع فليحقق كل ذي لب وعقل أن الراغب عن ملته فهو سفيه، ثم بين أنه في الآخرة عظيم المنزلة ليرغب في مثل طريقته لينال مثل تلك المنزلة،
78

وقيل في الآية تقديم وتأخير وتقديره: ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى، قال الحسن: من الذين يستوجبون الكرامة وحسن الثواب على كرم الله تعالى.
* (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) *
اعلم أن هذا النوع الخامس من الأمور التي حكاها الله عن إبراهيم عليه السلام وفيه مسائل:
المسألة الأولى: موضع (إذ) نصب وفي عامله وجهان. الوجه الأول: أنه نصب باصطفيناه، أي اصطفيناه في الوقت الذي قال له ربه أسلم، فكأنه تعالى ذكر الاصطفاء ثم عقبه بذكر سبب الاصطفاء، فكأنه لما أسلم نفسه لعبادة الله تعالى وخضع لها وانقاد علم تعالى من حاله أنه لا يتغير على الأوقات وأنه مستمر على هذه الطريقة، وهو مع ذلك مطهر من كل الذنوب، فعند ذلك اختاره للرسالة واختصه بها لأنه تعالى لا يختار للرسالة إلا من هذا حاله في البدء والعاقبة، فإسلامه لله تعالى وحسن إجابته منطوق به، فإن قيل قوله: * (ولقد اصطفيناه) * إخبار عن النفس وقوله: * (إذ قال له ربه أسلم) * إخبار عن المغايبة فكيف يعقل أن يكون هذا النظم واحدا؟ قلنا: هذا من باب الالتفات الذي ذكرناه مرارا. الثاني: أنه نصب باضمار أذكر كأنه قيل: أذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن الله تعالى متى قال له أسلم؟ ومنشأ الإشكال أنه إنما يقال له: أسلم في زمان لا يكون مسلما فيه، فهل كان إبراهيم عليه السلام غير مسلم في بعض الأزمنة ليقال له في ذلك الزمان أسلم؟ فالأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية وأمارات الحدوث، فلما عرف ربه قال له تعالى: * (أسلم قال أسلمت لرب العالمين) * لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن عرف ربه ويحتمل أيضا أن يكون قوله: * (أسلم) * كان قبل الاستدلال، فيكون المراد من هذا القول لا نفس القول بل دلالة الدليل عليه على حسب مذاهب العرب في هذا كقول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملأت بطني
وأصدق دلالة منه قوله تعالى: * (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) * (الروم: 35) فجعل
79

دلالة البرهان كلاما، ومن الناس من قال: هذا الأمر كان بعد النبوة، وقوله: * (أسلم) * ليس المراد منه الإسلام والإيمان بل أمور أخر. أحدها: الانقياد لأوامر الله تعالى، والمسارعة إلى تلقيها بالقبول، وترك الإعراض بالقلب واللسان، وهو المراد من قوله: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * (البقرة: 128). وثانيها: قال الأصم: (أسلم) أي أخلص عبادتك واجعلها سليمة من الشرك وملاحظة الأغيار. وثالثها: استقم على الإسلام وأثبت على التوحيد كقوله تعالى: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * (محمد: 19). ورابعها: أن الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح، وأن إبراهيم عليه السلام كان عارفا بالله تعالى بقلبه وكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح والأعضاء بقوله: (أسلم).
* (ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *
اعلم أن هذا هو النوع السادس من الأمور المستحسنة التي حكاها الله عن إبراهيم وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر (وأوصى) بالألف وكذلك هو في
مصاحف المدينة والشام والباقون بغير ألف بالتشديد وكذلك هو في مصاحفهم والمعنى واحد إلا أن في (وصى) دليل مبالغة وتكثير.
المسألة الثانية: الضمير في (بها) إلى أي شيء يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى قوله: * (أسلمت لرب العالمين) * (البقرة: 131) على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله: * (وجعلها كلمة باقية) * (الزخرف: 28) إلى قوله: * (إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني) * (الزخرف: 26) وقوله: * (كلمة باقية) * دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة. القول الثاني: أنه عائد إلى الملة في قوله: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) * (البقرة: 130) قال القاضي وهذا القول أولى من الأول من وجهين. الأول: أن ذلك غير مصرح به ورد الإضمار إلى المصرح بذكره إذا أمكن أولى من رده إلى المدلول والمفهوم. الثاني: أن الملة أجمع من تلك الكلمة ومعلوم أنه ما وصى ولده إلا بما يجمع فيهم الفلاح والفوز بالآخرة، والشهادة وحدها لا تقتضي ذلك.
المسألة الثالثة: اعلم أن هذه الحكاية اشتملت على دقائق مرغبة في قبول الدين. أحدها: أنه
80

تعالى لم يقل وأمر إبراهيم بنيه بل قال: وصاهم ولفظ الوصية أوكد من الأمر، لأن الوصية عند الخوف من الموت، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم، فإذا عرف أنه عليه السلام في ذلك الوقت كان مهتما بهذا الأمر متشددا فيه، كان القول إلى قبوله أقرب. وثانيها: أنه عليه السلام خصص بنيه بذلك، وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم، فلما خصهم بذلك في آخر عمره، علمنا أن اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بغيره. وثالثها: أنه عمم بهذه الوصية جميع بنيه ولم يخص أحدا منهم بهذه الوصية، وذلك أيضا يدل على شدة الاهتمام. ورابعها: أنه عليه السلام أطلق هذه الوصية غير مقيدة بزمان معين ومكان معين، ثم زجرهم أبلغ الزجر عن أن يموتوا غير مسلمين، وذلك يدل أيضا على شدة الاهتمام بهذا الأمر. وخامسها: أنه عليه السلام ما مزج بهذه الوصية وصية أخرى، وهذا يدل أيضا على شدة الاهتمام بهذا الأمر، ولما كان إبراهيم عليه السلام هو الرجل المشهود له بالفضل وحسن الطريقة وكمال السيرة، ثم عرف أنه كان في نهاية الاهتمام بهذا الأمر، عرف حينئذ أن هذا الأمر أولى الأمور بالاهتمام، وأجراها بالرعاية، فهذا هو السبب في أنه خص أهله وأبناءه بهذه الوصية، وإلا فمعلوم من حال إبراهيم عليه السلام أنه كان يدعو الكل أبدا إلى الإسلام والدين.
أما قوله: * (ويعقوب) * ففيه قولان: الأول: وهو الأشهر أنه معطوف على إبراهيم، والمعنى أنه وصى كوصية إبراهيم. والثاني: قرىء * (ويعقوب) * بالنصب عطفا على بنيه، ومعناه: وصى إبراهيم بنيه، ونافلته يعقوب، أما قوله: * (يا بني) * فهو على إضمار القول عند البصريين، وعند الكوفيين يتعلق بوصي لأنه في معنى القول، وفي قراءة أبي وابن مسعود، أن يا بني.
أما قوله: * (اصطفى لكم الدين) * فالمراد أنه تعالى استخلصه بأن أقام عليه الدلائل الظاهرة الجلية ودعاكم إليه ومنعكم عن غيره.
أما قوله: * (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * فالمراد بعثهم على الإسلام، وذلك لأن الرجل إذا لم يأمن الموت في كل طرفة عين، ثم إنه أمر بأن يأتي بالشيء قبل الموت صار مأمورا به في كل حال، لأنه يخشى إن لم يبادر إليه أن تعاجله المنية فيفوته الظفر بالنجاة ويخاف الهلاك فيصير مدخلا نفسه في الخطر والغرور.
* (أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب ا الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا
81

نعبد إلهك وإله آبآئك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون * تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يعملون) *
اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه في الدين والإسلام، ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيدا للحجة على اليهود والنصارى، ومبالغة في البيان وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن (أم) معناها حرف الاستفهام، أو حرف العطف، وهي تشبه من حروف العطف " أو " وهي تأتي على وجهين: متصلة بما قبلها ومنقطعة منه، أما المتصلة فاعلم أنك إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فأنت لا تعلم كون أحدهما عنده فتسأل هل أحد هذين عندك فلا جرم كان جوابه لا أو نعم، أما إذا علمت كون أحد هذين الرجلين عنده لكنك لا تعلم أن الكائن عنده زيد أو عمرو فسألته عن التعيين قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ أي اعلم أن أحدهما عندك لكن من هذا أو ذاك؟ وأما المنقطعة فقالوا: إنها بمعنى " بل " مع همزة الاستفهام، مثاله: إذا قال إنها لا بل أم شاء، فكأن قائل هذا الكلام سبق بصره إلى الأشخاص فقدر أنها إبل فأخبر على مقتضى ظنه أنها الإبل، ثم جاءه الشك وأراد أن يضرب عن ذلك الخبر وأن يستفهم أنها هل هي شاء أم لا، فالإضراب عن الأول هو معنى " بل " والاستفهام عن أنها شاء هو المراد بهمزة الاستفهام، فقولك: إنها لا بل أم شاء جار مجرى قولك: إنها لا بل أهي شاء فقولك: أي شاء كلام مستأنف غير متصل بقوله: إنها لا بل، وكيف وذلك قد وقع الإضراب عنه بخلاف المتصلة فإن قولك: أزيد عندك أم عمرو؟ بمعنى أيهما عندك ولم يكن " ما " بعد " أم " منقطعا عما قبله بدليل أن عمرا قرين زيد وكفى دليلا على ذلك أنك تعبر عن ذلك باسم مفرد فتقول: أيهما عندك؟ وقد جاء في كتاب الله تعالى من النوعين كثير، أما المتصلة فقوله تعالى: * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها) * (النازعات: 27) أي أيكما أشد،
82

وأما المنقطعة فقوله تعالى: * (ألم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه) * (السجدة: 1 - 3) والله أعلم بل يقولون افتراه، فدل على الإضراب عن الأول والاستفهام عما بعده، إذ ليس في الكلام معنى، أي كما كان في قولك: أزيد عندك أم عمرو؟ ومن لا يحقق من المفسرين يقولون إن " أم " ههنا بمنزلة الهمزة وذلك غير صحيح لما ذكرنا أن " أم " هذه المنقطعة: تتضمن معنى بل، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول " أم " في هذه الآية منفصلة أم متصلة؟ " والشهداء " جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين عندما حضر يعقوب الموت، والخطاب مع أهل الكتاب، كأنه تعالى قال لهم فيما كانوا يزعمون من أن الدين الذي هم عليه دين الرسل: كيف تقولون ذلك وأنتم تشهدون وصايا الأنبياء بالدين ولو شهدتم ذلك لتركتم ما أنتم عليه من الدين ولرغبتم في دين محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو نفس
ما كان عليه إبراهيم عليه السلام ويعقوب وسائر الأنبياء عليهم السلام بعده.
فإن قيل: الاستفهام على سبيل الإنكار إنما يتوجه على كلام باطل، والمحكى عن يعقوب في هذه الآية ليس كلاما باطلا بل حقا، فكيف يمكن صرف الاستفهام على سبيل الإنكار إليه؟ قلنا: الاستفهام على سبيل الإنكار متعلق بمجرد ادعائهم الحضور عند وفاته هذا هو الذي أنكره الله تعالى. فأما ذكره بعد ذلك من قول يعقوب عليه السلام: * (ما تعبدون من بعدي) * فهو كلام مفصل بل كأنه تعالى لما أنكر حضورهم في ذلك الوقت شرح بعد ذلك كيفية تلك الوصية.
القول الثاني: في أن (أم) في هذه الآية متصلة، وطريق ذلك أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت؛ يعني إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ دعا بنيه إلى ملة الإسلام والتوحيد، وقد علمتم ذلك فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء.
أما قوله: * (إذ قال لبنيه) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال القفال قوله: * (إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه) * أن (إذ) الأولى وقت الشهداء، والثانية وقت الحضور.
المسألة الثانية: الآية دالة على أن شفقة الأنبياء عليهم السلام على أولادهم كانت في باب الدين وهمتهم مصروفة إليه دون غيره.
83

أما قوله: * (ما تعبدون من بعدي) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لفظة (ما) لغير العقلاء فكيف أطلقه في المعبود الحق؟
وجوابه من وجهين: الأول: أن (ما) عام في كل شيء والمعنى أي شيء تعبدون. والثاني: قوله: * (ما تعبدو) * كقولك عند طلب الحد والرسم: ما الإنسان؟
المسألة الثانية؛ قوله: * (من بعدي) * أما قوله: * (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية تمسك بها فريقان من أهل الجهل. الأول: المقلدة قالوا: إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد، وهو عليه السلام ما أنكره عليهم فدل على أن التقليد كاف. الثاني: التعليمية. قالوا: لا طريق إلى معرفة الله إلا بتعليم الرسول والإمام والدليل عليه هذه الآية، فإنهم لم يقولوا: نعبد الإله الذي دل عليه العقل، بل قالوا: نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباءك يعبدونه وهذا يدل على أن طريق المعرفة هو التعلم.
والجواب: كما أنه ليس في الآية دلالة على أنهم عرفوا الإله بالدليل العقلي، فليس فيها أيضا دلالة على أنهم ما أقروا بالإله إلا على طريقة التقليد والتعليم، ثم إن القول بالتقليد والتعليم لما بطل بالدليل علمنا أن إيمان القوم ما كان على هذه الطريقة بل كان حاصلا على سبيل الاستدلال، أقصى ما في الباب أن يقال: فلم لم يذكروا طريقة الاستدلال.
والجواب عنه من وجوه، أولها: أن ذلك أخصر في القول من شرح صفات الله تعالى بتوحيده وعلمه وقدرته وعدله. وثانيها: أنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب عليه السلام فكأنهم قالوا: لسنا نجري إلا على مثل طريقتك فلا خلاف منا عليك فيما نعبده ونخلص العبادة له. وثالثها: لعل هذا إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصانع على ما ذكره الله تعالى في أول هذه السورة في قوله: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) * (البقرة: 21) وههنا مرادهم بقولهم: * (نعبد إلهك وإله آبائك) * أي: نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك وعلى هذا الطريق يكون ذلك إشارة إلى الاستدلال لا إلى التقليد.
المسألة الثانية: قال القفال: وفي بعض التفاسير أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون النيران والأوثان فخاف على بنيه بعد وفاته، فقال لهم هذا القول تحريضا لهم على التمسك بعبادة الله تعالى. وحكى القاضي عن ابن عباس: أن يعقوب عليه السلام جمعهم إليه عند الوفاة، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران، فقال: يا بني ما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد
84

إلهك وإله آبائك ثم قال القاضي: هذا بعيد لوجهين.
الأول: أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين. الثاني: أنه تعالى ذكر في الكتاب حال الأسباط من أولاد يعقوب وأنهم كانوا قوما صالحين وذلك لا يليق بحالهم.
المسألة الثالثة: قوله: * (إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) * عطف بيان لآبائك. قال القفال: وقيل أنه قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق.
المسألة الرابعة: قال الشافعي رضي الله عنه: الأخوة والأخوات للأب والأم أو للأب لا يسقطون بالجد وهو قول عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وزيد رضي الله عنهم وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: إنهم يسقطون بالجد وهو قول أبو بكر الصديق وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، ومن التابعين قول الحسن وطاوس وعطاء، أما الأولون وهم الذين يقولون: إنهم لا يسقطون بالجد فلهم قولان. أحدهما: أن الجد خير الأمرين: إما المقاسمة معهم أو ثلث جميع المال، ثم الباقي بين الأخوة والأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا مذهب زيد ابن ثابت وقول الشافعي رضي الله عنه. والثاني: أنه بمنزلة أحد الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فإن نقصته المقاسمة من السدس أعطى السدس ولم ينقص منه شيء واحتج أبو حنيفة على قوله بأن الجد أب والأب يحجب الأخوات والأخوة فيلزم أن يحجبهم الجد، وإنما قلنا: إن الجد أب للآية والأثر. أما الآية فاثنان هذه الآية وهي قوله تعالى: * (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) * فأطلق لفظ الأب على الجد.
فإن قيل: فقد أطلقه في العم وهو إسماعيل مع أنه بالاتفاق ليس بأب.
قلنا: الاستعمال دليل الحقيقة ظاهرا ترك العمل به في حق العم لدليل قام فيه فيبقى في الباقي حجة الآية الثانية قوله تعالى مخبرا عن يوسف عليه السلام: * (واتبعت
ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) * (يوسف: 38).
وأما الأثر فما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال: من شاء لاعنته عند الحجر الأسود، إن الجد أب، وقال أيضا: ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا، وإذا ثبت أن الجد أب وجب أن يدخل تحت قوله تعالى: * (وورثه أبواه فلأمه الثلث) * (النساء: 11) في استحقاق الجد الثلثين دون الأخوة كما استحقه الأب دونهم إذا كان باقيا، قال الشافعي رضي الله عنه: لا نسلم أن الجد أب، والدليل عليه وجوه. أحدها: أنكم كما استدللتم بهذه الآيات على أن الجد أب، فنحن نستدل على أنه ليس بأب بقوله تعالى: * (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) * (البقرة: 132) فإن الله
85

تعالى ما أدخل يعقوب في بنيه لأنه ميزه عنهم، فلو كان الصاعد في الأبوة أبا لكان النازل في البنوة ابنا في الحقيقة، فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجد ليس بأب. وثانيها: لو كان الجد أبا على الحقيقة لما صح لمن مات أبوه وجده حي أن ينفي أن له أبا، كما لا يصح في الأب القريب ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة.
فإن قيل: اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أن رتبة الأدنى أقرب من رتبة الأبعد فلذلك صح فيه النفي.
قلنا: لو كان الاسم حقيقة فيهما جميعا لم يكن الترتيب في الوجود سببا لنفي اسم الأب عنه، وثالثها: لو كان الجد أبا على الحقيقة لصح القول بأنه مات وخلف أما وآباء كثيرين وذلك مما لم يطلقه أحد من الفقهاء وأرباب اللغة والتفسير. ورابعها: لو كان الجد أبا ولا شك أن الصحابة عارفون باللغة لما كانوا يختلفون في ميراث الجد، ولو كان الجد أبا لكانت الجدة أما، ولو كان كذلك لما وقعت الشبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر رضي الله عنه إلى السؤال عنه، فهذه الدلائل دلت على أن الجد ليس بأب. وخامسها: قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) * (النساء: 11) فلو كان الجد أبا لكان ابن الابن ابنا لا محالة فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب، فأما الآيات التي تمسكتم بها في بيان أن الجد أب فالجواب عن وجه التمسك بها من وجوه. أولها: أنه قرأ أبي: * (وإله إبراهيم) * بطرح آبائك إلا أن هذا لا يقدح في الغرض لأن القراءة الشاذة لا ترفع القراءة المتواترة، بل الجواب أن يقال: إنه أطلق لفظ الأب على الجد وعلى العم وقال عليه الصلاة والسلام في العباس: " هذا بقية آبائي " وقال: " ردوا على أبي " فدلنا ذلك على أنه ذكره على سبيل المجاز، والدليل عليه ما قدمناه أنه يصح نفي اسم الأب عن الجد، ولو كان حقيقة لما كان كذلك، وأما قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظرا إلى الحكم الشرعي لا إلى الاسم اللغوي لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أرباب اللسان والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (إلها واحدا) * فهو بدل * (إله آبائك) * كقوله: * (بالناصية * ناصية كاذبة) * (العلق: 15، 16) أو على الاختصاص، أي تريد بإله آبائك إلها واحدا، أما قوله: * (ونحن له مسلمون) * ففيه وجوه. أحدها: أنه حال من فاعل نعبد أو من مفعوله لرجوع الهاء إليه في (له). وثانيها: يجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد. وثالثها: أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون للتوحيد أو مذعنون.
86

أما قوله تعالى: * (تلك أمة قد خلت) * فهو إشارة إلى من ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة، وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنوه الموحدون. و (الأمة) الصنف. (خلت) سلفت ومضت وانقرضت، والمعنى أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه، فإن أنتم فعلتم ذلك انتفعتم وإن أبيتم لم تنتفعوا بأفعالهم، والآية دالة على مسائل:
المسألة الأولى: الآية دالة على بطلان التقليد، لأن قوله: * (لها ما كسبت) * يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره، ولو كان التقليد جائزا لكان كسب المتبوع نافعا للتابع، فكأنه قال: إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلبا منكم أن تقلدوهم، ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق.
المسألة الثانية: الآية دالة على ترغيبهم في الإيمان، واتباع محمد عليه الصلاة والسلام، وتحذيرهم من مخالفته.
المسألة الثالثة: الآية دالة على أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء بخلاف قول اليهود من أن صلاح آبائهم ينفعهم، وتحقيقه ما روي عنه عليه السلام أنه قال: " يا صفية عمة محمد، يا فاطمة بنت محمد، ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئا ". وقال: " ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ". وقال الله تعالى: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * (المؤمنون: 101) وقال تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * (النساء: 123) وكذلك قوله تعالى: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الأنعام: 164) وقال: * (فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) * (النور: 54).
المسألة الرابعة: الآية تدل على بطلان قول من يقول: الأبناء يعذبون بكفر آبائهم، وكان اليهود يقولون: إنهم يعذبون في النار لكفر آبائهم باتخاذ العجل. وهو قوله تعالى: * (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * (البقرة: 80) وهي أيام عبادة العجل فبين الله تعالى بطلان ذلك.
المسألة الخامسة: الآية دالة على أن العبد مكتسب وقد اختلف أهل السنة والمعتزلة في تفسير الكسب. أما أهل السنة فقد اتفقوا على أنه ليس معنى كون العبد مكتسبا دخول شيء من الأعراض بقدرته من العدم إلى الوجود، ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل ذكروا لهذا الكسب ثلاث تفسيرات. أحدها: وهو قول الأشعري رضي الله عنه أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير القدرة في المقدور، بل القدرة والمقدور حصلا بخلق الله تعالى، كما أن العلم والمعلوم حصلا بخلق الله تعالى، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله تعالى وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب. وثانيها:
87

أن ذات الفعل توجد بقدرة الله تعالى، ثم يحصل لذلك الفعل وصف كونه طاعة أو معصية وهذه الصفة حاصلة بالقدرة الحادثة. وهو قول أبي بكر الباقلاني. وثالثها: أن
القدرة الحادثة والقدرة القديمة، إذا تعلقتا بمقدور واحد وقع المقدور بهما، وكأنه فعل العبد وقع بإعانة الله، فهذا هو الكسب وهذا يعزى إلى أبي إسحاق الأسفرايني لأنه يروى عنه أنه قال الكسب والفعل الواقع بالمعين.
أما القائلون بأن القدرة الحادثة مؤثرة، فهم فريقان. الأول: الذين يقولون بأن القدرة مع الداعي توجب الفعل، فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه وتعالى هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة، والداعية القائمتان به، وهذا مذهب إمام الحرمين رحمه الله تعالى اختاره في الكتاب الذي سماه بالنظامية ويقرب قول أبي الحسين البصري منه وإن كان لا يصرح به. الفريق الثاني من المعتزلة: وهم الذين يقولون: القدرة مع الداعي لا توجب الفعل، بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما، إن شاء فعل وإن شاء ترك، وهذا الفعل والكسب، قالت المعتزلة للأشعري: إذا كان مقدور العبد واقعا بخلق الله تعالى، فإذا خلقه فيه: استحال من العبد أن لا يتصف في ذلك الوقت بذلك الفعل، وإذا لم يخلقه فيه: استحال منه في ذلك الوقت أن يتصف به. وإذا كان كذلك لم يكن البتة متمكنا من الفعل والترك، ولا معنى للقادر إلا ذلك، فالعبد البتة غير قادر، وأيضا فهذا الذي هو مكتسب العبد. إما أن يكون واقعا بقدرة الله، أو لم يقع البتة بقدرة الله، أو وقع بالقدرتين معا، فإن وقع بقدرة الله تعالى لم يكن العبد فيه مؤثرا فكيف يكون مكتسبا له؟ وإن وقع بقدرة العبد فهذا هو المطلوب. وإن وقع بالقدرتين معا فهذا محال، لأن قدرة الله تعالى مستقلة بالإيقاع، فعند تعلق قدرة الله تعالى به، فكيف يبقى لقدرة العبد فيه أثر، وأما قول الباقلاني فضعيف، لأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز، فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فنفس المنهي عنه قد خلقه الله تعالى فيه، وهذا هو عين تكليف ما لا يطاق، وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب، وأما قول الأسفرايني فضعيف لما بينا أن قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير، فلا يبقى لقدرة العبد معها أثر البتة، قال أهل السنة: كون العبد مستقلا بالإيجاد والخلق محال لوجوه. أولها: أن العبد لو كان موجدا لأفعاله، لكان عالما بتفاصيل فعله، وهو غير عالم بتلك التفاصيل، فهو غير موجد لها. وثانيها: لو كان العبد موجدا لفعل نفسه؛ لما وقع إلا ما أراده العبد، وليس كذلك، لأن الكافر يقصد تحصيل العلم فلا يحصل إلا الجهل. وثانيها: لو كان العبد موجدا لفعل نفسه لكان كونه موجدا لذلك الفعل زائدا على ذات ذلك الفعل، وذات القدرة لأنه يمكننا أن نعقل ذات الفعل وذات القدرة مع
88

الذهول عن كون العبد موجدا له، والمعقول غير المغفول عنه، ثم تلك الموجدية حادثة، فإن كان حدوثها بالعبد لزم افتقارها إلى موجدية أخرى، ولزم التسلسل وهو محال، وإن كان الله
تعالى والأثر واجب الحصول عند حصول الموجدية فيلزم استناد الفعل إلى الله تعالى، ولا يلزمنا ذلك في موجدية الله تعالى لأنه قديم، فكانت موجديته قديمة، فلا يلزم افتقار تلك الموجودية إلى موجودية أخرى.
هذا ملخص الكلام من الجانبين والمنازعات بين الفريقين في الألفاظ والمعاني كثيرة والله الهادي.
* (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *
اعلم أنه تعالى لما بين الدلائل التي تقدمت صحة دين الإسلام حكى بعدها أنواعا من شبه المخالفين الطاعنين في الإسلام.
الشبهة الأولى: حكى عنهم أنهم قالوا: * (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) * ولم يذكروا في تقرير ذلك شبهة، بل أصروا على التقليد، فأجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه. الأول: ذكر جوابا إلزاميا وهو قوله: * (قل بل ملة إبراهيم حنيفا) * وتقرير هذا الجواب أنه إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم، لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف إن كان المعول في الدين على التقليد، فكأنه سبحانه قال: إن كان المعول في الدين على الاستدلال والنظر، فقد قدمنا الدلائل، وإن كان المعول على التقليد فالرجوع إلى دين إبراهيم عليه السلام وترك اليهودية والنصرانية أولى.
فإن قيل: أليس أن كل واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه السلام.
قلنا: لما ثبت أن إبراهيم كان قائلا بالتوحيد، وثبت أن النصارى يقولون بالتثليث، واليهود يقولون بالتشبيه، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه السلام، وأن محمدا عليه السلام لما دعا إلى التوحيد، كان هو على دين إبراهيم.
ولنرجع إلى تفسير الألفاظ: أما قوله: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى) * فلا يجوز أن يكون
89

المراد به التخيير، إذ المعلوم من حال اليهود أنها لا تجوز اختيار النصرانية على اليهودية، بل تزعم أنه كفر. والمعلوم من حال النصارى أيضا ذلك بل المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية والنصارى إلى النصرانية، فكل فريق يدعو إلى دينه، ويزعم أنه الهدي فهذا معنى قوله: * (تهتدوا) * أي أنكم إذا فعلتم ذلك اهتديتم وصرتم على سنن الاستقامة. أما قوله: * (بل ملة إبراهيم) * ففي انتصاب ملة أربعة أقوال. الأول: لأنه عطف في المعنى على قوله: * (كونوا هودا أو نصارى) * وتقديره قالوا: اتبعوا اليهودية قل بل اتبعوا ملة إبراهيم. الثاني: على الحذف تقديره: بل نتبع ملة إبراهيم. الثالث: تقديره: بل نكون أهل ملة إبراهيم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله: * (واسأل القرية) * (يوسف: 92) أي أهلها. الرابع: التقدير: بل اتبعوا ملة إبراهيم، وقرأ الأعرج: (ملة إبراهيم) بالرفع أي ملته ملتنا، أو ديننا ملة إبراهيم، وبالجملة فأنت بالخيار في أن تجعله مبتدأ أو خبرا.
أما قوله: * (حنيفا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لأهل اللغة في الحنيف قولان. الأول: أن الحنيف هو المستقيم، ومنه قيل للأعرج: أحنف، تفاؤلا بالسلامة، كما قالوا للديغ: سليم، والمهلكة: مفازة، قالوا: فكل من أسلم لله ولم ينحرف عنه في شيء فهو حنيف، وهو مروي عن محمد بن كعب القرطي. الثاني: أن الحنيف المائل، لأن الأحنف هو الذي يميل
كل واحد من قدميه إلى الأخرى بأصابعها، وتحنف إذا مال، فالمعنى أن إبراهيم عليه السلام حنف إلى دين الله، أي مال إليه، فقوله: * (بل ملة إبراهيم حنيفا) * أي مخالفا لليهود والنصارى منحرفا عنهما، وأما المفسرون فذكروا عبارات، أحدها: قول ابن عباس والحسن ومجاهد: أن الحنيفية حج البيت. وثانيها: أنها اتباع الحق، عن مجاهد. وثالثها: اتباع إبراهيم في شرائعه التي هي شرائع الإسلام. ورابعها: إخلاص العمل وتقديره: بل نتبع ملة إبراهيم التي هي التوحيد عن الأصم قال القفال: وبالجملة فالحنيف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات، وأصله من إبراهيم عليه السلام.
المسألة الثانية: في نصب حنيفا قولان، أحدهما: قول الزجاج أنه نصب على الحال من إبراهيم كقولك: رأيت وجه هند قائمة. الثاني: أنه نصب على القطع أراد بل ملة إبراهيم الحنيف فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فانتصب، قاله نحاة الكوفة.
أما قوله: * (وما كان من المشركين) * ففيه وجوه، أحدها: أنه تنبيه على أن في مذهب اليهود والنصارى شركاء على ما بيناه، لأنه تعالى حكى عن بعض اليهود قولهم: عزير ابن الله، والنصارى قالوا:
90

المسيح ابن الله وذلك شرك. وثانيها: أن الحنيف اسم لمن دان بدين إبراهيم عليه السلام ومعلوم أنه عليه السلام أتى بشرائع مخصوصة، من حج البيت والختان وغيرهما، فمن دان بذلك فهو حنيف، وكان العرب تدين بهذه الأشياء. ثم كانت تشرك، فقيل من أجل هذا: * (حنيفا وما كان من المشركين) * ونظيره قوله: * (حنفاء لله غير مشركين به) * (الحج: 31)، وقوله: * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * (يوسف: 106) قال القاضي: الآية تدل على أن للواحد منا أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله: إفحا ماله وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه لأن من المعلوم أنه عليه السلام لم يكن يحتج على نبوته بأمثال هذه الكلمات بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة التي ظهرت عليه لكنه عليه السلام لما كان قد أقام الحجة بها وأزاح العلة ثم وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم، فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه فقال: إن كان الدين بالاتباع فالمتفق عليه وهو ملة إبراهيم عليه السلام أولى بالاتباع، ولقائل أن يقول: اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم، ومقرين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث، امتنع أن يقولوا بذلك، بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد، ومتى كانوا قائلين بذلك لم يكن في دعوتهم إليه فائدة، وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم أو كانوا مقرين به، لكنهم أنكروا كونه منكرا للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقا عليه فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه فكان الأخذ به أولى.
والجواب: أنه كان معلوما بالتواتر أن إبراهيم عليه السلام ما أثبت الولد لله تعالى فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عليه السلام.
* (قولوا ءامنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ومآ أوتى موسى وعيسى ومآ أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) *
اعلم أنه تعالى لما أجاب بالجواب الجدلي أولا، ذكر بعده جوابا برهانيا في هذه الآية وهو: أن الطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء عليهم السلام ظهور المعجز عليهم، ولما ظهر المعجز على يد
91

محمد صلى الله عليه وسلم وجب الاعتراف بنبوته والإيمان برسالته، فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وأنه ممتنع عقلا، فهذا هو المراد من قوله: * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) * إلى آخر الآية، وهذا هو الغرض الأصلي من ذكر هذه الآية. فإن قيل: كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة، قلنا: نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقا في زمانه فلا يلزم منا المناقضة، أما اليهود والنصارى لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز عليه، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع قيام المعجز على يده، فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق، ثم نقول في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أن الله تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا: * (كونوا هودا أو نصارى) * (البقرة: 135) ذكروا في مقابلته للرسول عليه السلام: * (قل بل ملة إبراهيم) * (البقرة: 135) ثم قال لأمته: * (قولوا آمنا بالله) * وهذا قول الحسن وقال القاضي قوله: * (قولوا آمنا بالله) * يتناول جميع المكلفين، أعني النبي عليه السلام وأمته، والدليل عليه وجهان: أحدهما: أن قوله: * (قولوا) * خطاب عام فيتناول الكل. الثاني: أن قوله: * (وما أنزل إلينا) * لا يليق إلا به صلى الله عليه وسلم، فلا أقل من أن يكون هو داخلا فيه، واحتج الحسن على قوله بوجهين. الأول: أنه عليه السلام أمر من قبل بقوله: * (قل بل ملة إبراهيم) *. الثاني: أنه في نهاية الشرف، والظاهر إفراده بالخطاب.
والجواب: أن هذه القرائن وإن كانت محتملة إلا أنها لا تبلغ في القوة إلى حيث تقتضي تخصيص عموم قوله: * (قولوا آمنا بالله) * أما قوله: * (قولوا آمنا بالله) * فإنما قدمه لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالشرائع، فمن لا يعرف الله استحال أن يعرف نبيا أو كتابا، وهذا يدل على فساد مذهب التعليمية والمقلدة القائلين بأن طريق معرفة الله تعالى: الكتاب والسنة.
أما قوله: * (والأسباط) * قال الخليل: السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، وقال صاحب " الكشاف " السبط، الحافد، وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأسباط: الحفدة وهم حفدة يعقوب عليه السلام وذراري أبنائه الاثني عشر.
أما قوله: * (لا نفرق بين أحد منهم) * ففيه وجهان. الأول: أنا لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، فإنا لو فعلنا ذلك كانت المناقضة لازمة على الدليل وذلك غير جائز.
الثاني: لا نفرق بين أحد منهم، أي لا نقول: إنهم متفرقون في أصول الديانات، بل هم مجتمعون على الأصول التي هي الإسلام، كما قال الله تعالى: * (شرع لكم في الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) *. الوجه الأول: أليق بسياق الآية.
92

أما قوله: * (ونحن له مسلمون) * فالمعنى أن إسلامنا لأجل طاعة الله تعالى لا لأجل الهوى، وإذا كان كذلك فهو يقتضي أنه متى ظهر المعجز وجب الإيمان به. فأما تخصيص بعض أصحاب المعجزات بالقبول، والبعض بالرد، فذلك يدل على أن المقصود من ذلك الإيمان ليس طاعة الله والانقياد له، بل اتباع الهوى والميل.
* (فإن ءامنوا بمثل مآ ءامنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم فى شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) *
اعلم أنه تعالى لما بين الطريق الواضح في الدين، وهو أن يعترف الإنسان بنبوة من قامت الدلالة على نبوته، وأن يحترز في ذلك عن المناقضة: رغبهم في مثل هذا الإيمان فقال: * (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) *.
من وجوه: أحدها: أن المقصود منه التثبيت والمعنى: إن حصلوا دينا آخر مثل دينكم ومساويا له في الصحة والسداد فقد اهتدوا، لما استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد استحال الاهتداء بغيره ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه: هذا هو الرأي والصواب فإن كان عندك رأى أصوب منه فاعمل به وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ولكنك تريد تثبيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه، وإنما قلنا: إنه يستحيل أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد لأن هذا الدين مبناه على أن كل من ظهر عليه المعجز وجب الاعتراف بنبوته، وكل ما غاير هذا الدين لا بد وأن يشتمل على المناقضة، والمتناقض يستحيل أن يكون مساويا لغير المتناقض في السداد والصحة. وثانيها: أن المثل صلة في الكلام قال الله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) أي ليس كهو شيء، وقال الشاعر: وصاليات ككما يؤثفين، وكانت أم الأحنف ترقصه وتقول: والله لولا حنف برجله (c) ودقة في ساقه من هزله (c) ما كان منكم أحد كمثله (c)
وثالثها: أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف، فإن آمنوا بمثل ذلك وهو التوراة من
93

غير تصحيف وتحريف فقد اهتدوا لأنهم يتصلون به إلى معرفة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ورابعها: أن يكون قوله: * (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به) * أي فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين فقد اهتدوا، فالتمثيل في الآية بين الإيمانين والتصديقين، وروى محمد بن جرير الطبري أن ابن عباس قال: لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فليس لله مثل ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم به، قال القاضي: لا وجه لترك القراءة المتواترة من حيث يشكل المعنى ويلبس لأن ذلك إن جعله المرء مذهبا لزمه أن يغير تلاوة كل الآيات المتشابهات وذلك محظور والوجه الأول في الجواب هو المعتمد.
أما قوله: * (فقد اهتدوا) * فالمراد فقد عملوا بما هدوا إليه وقبلوه، ومن هذا حاله يكون وليا لله داخلا في أهل رضوانه، فالآية تدل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء، وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها وبين وجوه دلالتها، ثم بين على وجه الزجر ما يلحقهم إن تولوا فقال: * (وإن تولوا فإنما هم في شقاق) * وفي الشقاق بحثان:
البحث الأول: قال بعض أهل اللغة: الشقاق مأخوذ من الشق، كأنه صار في شق غير شق صاحبه بسبب العداوة وقد شق عصا المسلمين إذا فرق جماعتهم وفارقها، ونظيره: المحادة وهي أن يكون هذا في حد وذاك في حد آخر، والتعادي مثله لأن هذا يكون في عدوة وذاك في عدوة، والمجانبة أن يكون هذا في جانب وذاك في جانب آخر وقال آخرون: إنه من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه قال الله تعالى: * (وإن خفتم شقاق بينهما) * أي فراق بينهما في الاختلاف حتى يشق أحدهما على الآخر.
البحث الثاني: قوله: * (وإن تولوا فإنما هم في شقاق) * أي إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة والعاقل لا يلتزم المناقضة البتة فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طلب الدين والانقياد للحق وإنما غرضهم المنازعة وإظهار العداوة ثم للمفسرين عبارات. أولها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: * (فإنما هم في شقاق) * في خلاف مذ فارقوا الحق وتمسكوا بالباطل فصاروا مخالفين لله. وثانيها: قال أبو عبيدة ومقاتل في شقاتل. أي في ضلال. وثالثها: قال ابن زيد في منازعة ومحاربة. ورابعها: قال الحسن في عداوة قال القاضي: ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا تكون معصية أنه شقاق وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه وفي استحقاق النار فصار هذا القول وعيدا منه تعالى لهم وصار وصفهم بذلك دليلا على أن القوم معادون للرسول مضمرون له السؤال مترصدون لإيقاعه في المحن، فعند
94

هذا آمنه الله تعالى من كيدهم وآمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال: * (فسيكفيكهم الله) * تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به قال المتكلمون: هذا أخبار عن الغيب فيكون معجزا دالا على صدقة وإنما قلنا إنه إخبار عن الغيب وذلك لأنا وجدنا مخبر هذا القول على ما أخبر به لأنه تعالى كفاه شر اليهود والنصارى ونصره عليهم حتى غلبهم المسلمون وأخذوا ديارهم وأموالهم فصاروا أذلاء في أيديهم يؤدون إليهم الخراج والجزية أو لا يقدرون البتة على التخلص من أيديهم وإنما قلنا: إنه معجز لأنه المتخرص لا يصيب في مثل ذلك على التفصيل، قال الملحدون: لا نسلم أن هذا معجز وذلك لأن المعجز هو الذي يكون ناقضا للعادة، وقد جرت العادة بأن كل من كان مبتلى بإيذاء غيره فإنه يقال له: اصبر فإن الله يكفيك شره، ثم قد يقع ذلك تارة ولا يقع أخرى، وإذا كان هذا معتادا فكيف يقال: إنه معجز وأيضا لعله توصل إلى ذلك برؤيا رآها، وذلك مما لا سبيل إلى دفعه، فإن المنجمين يقولون: من كان سهم الغيب في طالعه فإنه يأتي بمثل هذه الأخبار وإن لم يكن نبيا. والجواب: أنه ليس غرضنا من قولنا أنه معجز أن هذا الإخبار وحده معجز، بل غرضنا أن القرآن يشتمل على كثير من هذا النوع، والإخبار عن الأشياء الكثيرة على سبيل التفصيل مما لا يتأتى من المتخرص الكاذب.
ثم إنه تعالى لما وعده بالنصرة والمعونة أتبعه بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من هذا الأمر لا يخفى عليه تعالى فقال: * (وهو السميع العليم) * وفيه وجهان. الأول: أنه وعيد لهم والمعنى أنه يدرك ما يضمرون ويقولون وهو عليم بكل شيء فلا يجوز لهم أن يقع منهم أمر إلا وهو قادر على كفايته إياهم فيه. الثاني: أنه وعد للرسول عليه السلام يعني: يسمع دعاءك ويعلم نيتك وهو يستجيب لك ويوصلك إلى مرادك، واحتج الأصحاب بقوله: * (وهو السميع العليم) * على أن سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات لأن قوله: * (عليم) * بناء مبالغة فيتناول كونه عالما بجميع المعلومات، فلو كان كونه سميعا عبارة عن علمه بالمسموعات لزم التكرار وأنه غير جائز، فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعا أمرا زائدا على وصفه بكونه عليما والله أعلم بالصواب.
* (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر الجواب الثاني وهو أن ذكر ما يدل على صحة هذا الدين ذكر بعده ما يدل على أن دلائل هذا الدين واضحة جلية فقال: * (صبغة الله) * ثم في الآية مسائل:
95

المسألة الأولى: الصبغ ما يلون به الثياب ويقال: صبغ الثوب يصبغه بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغا بفتح الصاد وكسرها لغتان. (والصبغة) فعلة من صبغ كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال. الأول: أنه دين الله وذكروا في أنه لم سمي دين الله بصبغة الله وجوه. أحدها: أن بعض النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون: هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال: الآن صار نصرانيا. فقال الله تعالى: اطلبوا صبغة الله وهي الدين، والإسلام لا صبغتهم، والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم: اغرس كما يغرس فلان تريد رجلا مواظبا على الكرم، ونظيره قوله تعالى: * (إنما نحن مستهزؤن * الله يستهزئ بهم) * (البقرة: 14، 15)، * (يخادعون الله وهو خادعهم) * (النساء: 142)، * (ومكروا ومكر الله) * (آل عمران: 54)، * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40)، * (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم) * (هود: 38). وثانيها: اليهود تصبغ أولادها يهودا والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قلوبهم، عن قتادة قال ابن الأنباري: يقال: فلان يصبغ فلانا في الشيء، أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازما للثواب وأنشد ثعلب:
دع الشر وأنزل بالنجاة تحرزا * إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ
وثالثها: سمي الدين صبغة لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة، قال الله تعالى: * (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) * (الفتح: 29). ورابعها: قال القاضي قوله: * (صبغة الله) * متعلق بقوله: * (قولوا آمنا بالله) * (البقرة: 136) إلى قوله: * (ونحن له مسلمون) * (العنكبوت: 46) فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تعالى ليبين أن المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله، وبين الدين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحس السليم. القول الثاني: أن صبغة الله فطرته وهو كقوله: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) * (الروم: 30) ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبنيته بالعجز والفاقة، والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق فهذه الآثار كالصبغة له وكالسمة اللازمة. قال القاضي: من حمل قوله: * (صبغة الله) * على الفطرة فهو مقارب في المعنى، لقول من يقول: هو دين الله لأن الفطرة التي أمروا بها هو الذي تقتضيه الأدلة من عقل وشرع، وهو الدين أيضا، لكن الدين أظهر لأن المراد على ما بينا هو الذي وصفوا أنفسهم به في قوله * (قولوا آمنا بالله) * فكأنه تعالى قال في ذلك: إن دين الله الذي ألزمكم التمسك به فالنفع به سيظهر دينا ودنيا كظهور حسن الصبغة، وإذا حمل الكلام على ما ذكرناه لم يكن لقول من يقول: إنما قال ذلك
96

لعادة جارية لليهود والنصارى في صبغ يستعملونه في أولادهم معنى، لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه فلا فائدة فيه ولنذكر الآن بقية أقوال المفسرين:
القول الثالث: أن صبغة الله هي الختان، الذي هو تطهير، أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تطهير لهم فكذلك الختان تطهير للمسلمين عن أبي العالية.
القول الرابع: إنه حجة الله، عن الأصم، وقيل: إنه سنة الله، عن أبي عبيدة، والقول الجيد هو الأول، والله أعلم.
المسألة الثانية: في نصب صبغة أقوال. أحدها: أنه بدل من ملة وتفسير لها. الثاني: اتبعوا صبغة الله. الثالث: قال سيبويه: إنه مصدر مؤكد فينتصب عن قوله: * (آمنا بالله) * كما انتصب وعد الله عما تقدمه.
أما قوله: * (ومن أحسن من الله صبغة) * فالمراد أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوساخ الكفر، فلا صبغة أحسن من صبغته.
أما قوله تعالى: * (ونحن له عابدون) * فقال صاحب " الكشاف ": إنه عطف على: * (آمنا بالله) * وهذا يرد قول من يزعم أن صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام.
* (قل أتحآجوننا فى الله وهو ربنا وربكم ولنآ أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون) *
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في تلك المحاجة وذكروا وجوها. أحدها: أن ذلك كان قولهم أنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم والمعنى: أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسول من العرب لا منكم وتقولون: لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم، وترونكم أحق بالنبوة منا. وثانيها: قولهم: نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان. وثالثها: قولهم؛ * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * وقولهم: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * (البقرة: 111) وقولهم: * (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) * (البقرة: 135) عن الحسن. ورابعها: * (أتحاجوننا في الله) * أي: أتحاجوننا في دين الله.
97

المسألة الثانية: هذه المحاجة كانت مع من؟ ذكروا فيه وجوها. أحدها: أنه خطاب لليهود والنصارى. وثانيها: أنه خطاب مع مشركي العرب حيث قالوا: * (لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) والعرب كانوا مقرين بالخالق. وثالثها: أنه خطاب مع الكل، والقول الأول أليق بنظم الآية.
أما قوله: * (وهو ربنا وربكم) * ففيه وجهان. الأول: أنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها، فلا تعترضوا على ربكم، فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه، بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له. الثاني: أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلا بالعبودية، وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم، فلم ترجحون أنفسكم علينا، بل الترجيح من جانبنا لأنا مخلصون له في العبودية، ولستم كذلك، وهو المراد بقوله: * (ونحن له مخلصون) * وهذا التأويل أقرب.
أما قوله تعالى: * (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) * فالمراد منه النصيحة في الدين كأنه تعالى قال لنبيه: قل لهم هذا القول على وجه الشفقة والنصيحة، أي لا يرجع إلى من أفعالكم القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر وإنما المراد نصحكم وإرشادكم إلى الأصلح، وبالجملة فالإنسان إنما يكون مقبول القول إذا كان خاليا عن الأغراض الدنيوية، فإذا كان لشيء من الأغراض لم ينجع قوله في القلب البتة فهذا هو المراد فيكون فيه من الردع والزجر ما يبعث على النظر وتحرك الطباع على الاستدلال وقبول الحق، وأما معنى الإخلاص فقد تقدم.
* (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل ءأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون) *
اعلم أن في الآية مسألتين:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: * (أم تقولون) * بالتاء على المخاطبة كأنه قال: أتحاجوننا أم تقولون، والباقون بالياء على أنه إخبار عن اليهود والنصارى
98

فعلى الأول يحتمل أن تكون (أم) متصلة وتقديره: بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا، أبالتوحيد فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون؟ وأن تكون منقطعة بمعنى: بل أتقولون والهمزة للإنكار أيضا، وعلى الثاني تكون منقطعة لانقطاع معناه بمعنى الانقطاع إلى حجاج آخر غير الأول، كأنه قيل: أتقولون إن الأنبياء كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هودا أو نصارى.
المسألة الثانية: إنما أنكر الله تعالى ذلك القول عليهم لوجوه. أحدها: لأن محمدا صلى الله عليه وسلم ثبتت نبوته بسائر المعجزات، وقد أخبر عن كذبهم في ذلك فثبت لا محالة كذبهم فيه. وثانيها: شهادة التوراة والإنجيل على أن الأنبياء كانوا على التوحيد والحنيفية. وثالثها: أن التوراة والإنجيل أنزلا بعدهم. ورابعها: أنهم ادعوا ذلك من غير برهان فوبخهم الله تعالى على الكلام في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار والغرض منه الزجر والتوبيخ وأن يقرر الله في نفوسهم أنهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون.
أما قوله تعالى: * (قل أأنتم أعلم أم الله) * فمعناه أن الله أعلم وخبره أصدق وقد أخبر في التوراة والإنجيل وفي القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية. فإن قيل: إنما يقال هذا فيمن لا يعلم وهم علموه وكتموه فكيف يصح الكلام؟ قلنا: من قال: إنهم كانوا على ظن وتوهم فالكلام ظاهر ومن قال: علموا وجحدوا فمعناه أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله أعلم.
أما قوله: * (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) * ففيه ثلاثة أوجه. أحدها: أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير: ومن أظلم عند الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك: ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة والمعنى. لو كان إبراهيم وبنوه هود أو نصارى، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزهه عن الكذب، علمنا أنه ليس الأمر كذلك. وثانيها: ومن أظلم منكم معاشر اليهود والنصارى إن كتمتم هذه الشهادة من الله فمن في قوله: * (من الله) * تتعلق بالكاتم على القول الأول وبالمكتوم منه على القول الثاني كأنه قال: ومن أظلم ممن عنده شهادة فلم يقمها عند الله بل كتمها وأخفاها. وثالثها: أن يكون: * (من) * في قوله: * (من الله) * صلة الشهادة والمعنى: ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله فجحدها كقول الرجل لغيره عندي شهادة منك، أي شهادة سمعتها منك وشهادة جاءتني من جهتك ومن عندك.
99

أما قوله: * (وما الله بغافل عما تعملون) * فهو الكلام الجامع لكل وعيد، ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ولا يخفى عليه خافية أنه من وراء مجازاته إن خيرا فخير وإن شرا فشر لا يمضي عليه طرفة عين إلا وهو حذر خائف ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول.
* (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يعملون) *
اعلم أنه تعالى لما حاج اليهود في هؤلاء الأنبياء بهذه الآية لوجوه. أحدها: ليكون وعظا لهم وزجرا حتى لا يتكلوا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله. وثانيها: أنه تعالى بين أنه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم لاختلاف المصالح لم يستنكر أن تختلف المصالح فينقلكم محمد صلى الله عليه وسلم من ملة إلى ملة أخرى. وثالثها: أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك بل كل إنسان مسؤول عن عمله، ولا عذر له في ترك الحق بأن توهم أنه متمسك بطريقة من تقدم، لأنهم أصابوا أم أخطأوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد، فإن قيل لم كررت الآية؟ قلنا فيه قولان، أحدهما: أنه عني بالآية الأولى إبراهيم ومن ذكر معه، والثانية أسلاف اليهود. قال الجبائي قال القاضي: هذا بعيد لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يجر لهم ذكر
مصرح وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه إنهم كانوا هودا فكأنهم قالوا: إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول: * (تلك أمة قد خلت) * ويعينهم ولكن ذلك كالتعسف بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه فقوله: * (تلك أمة) * يجب أن يكون عائدا إليهم، والقول الثاني: أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التكرار عبثا فكأنه تعالى قال: ما هذا إلا بشر فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا الجنس فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة فلها ما كسبت وانظروا فيما دعاكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم ولا تسألون إلا عن عملكم.
100

* (سيقول السفهآء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *
اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية من الشبه التي ذكرها اليهود والنصارى طعنا في الإسلام فقالوا: النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل، وكلاهما لا يليق بالحكيم، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خاليا عن القيد، وإما أن يكون مقيدا بلا دوام، وإما أن يكون مقيدا بقيد الدوام، فإن كان خاليا عن القيد لم يقتض الفعل إلا مرة واحدة، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخا وإن كان مقيدا بقيد اللا دوام فههنا ظاهر أن الوارد بعده على خلافه لا يكون ناسخا له، وإن كان مقيدا بقيد الدوام فإن كان الأمر يعتقد فيه أنه يبقى دائما مع أنه ذكر لفظا يدل على أنه يبقى دائما ثم إنه رفعه بعد ذلك، فههنا كان جاهلا ثم بدا له ذلك، وإن كان عالما بأنه لا يبقى دائما مع أنه ذكر لفظا يدل على أنه يبقى دائما كان ذلك تجهيلا فثبت أن النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل وهما محالان على الله تعالى، فكان النسخ منه محالا، فالآتي بالنسخ في أحكام الله تعالى يجب أن يكون مبطلا فبهذا الطريق توصلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة فقالوا: إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح وههنا الجهات متساوية في أنها لله تعالى ومخلوقة له فتغيير القبلة من جانب فعل خال عن المصلحة فيكون عبثا والعبث لا يليق بالحكيم، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى، فتوصلوا بهذا الوجه إلى الطعن في الإسلام، ولنتكلم الآن في تفسير الألفاظ ثم لنذكر الجواب عن هذه الشبهة على الوجه الذي قرره الله تعالى في كتابه الكريم. أما قوله: * (سيقول السفهاء) * ففيه قولان. الأول: وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهرا لكنه قد يستعمل في الماضي أيضا، كالرجل يعمل عملا فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول: أنا أعلم أنهم سيطعنون علي فيما فعلت، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد، فإذا ذكروه مرة فسيذكرونه بعد ذلك مرة أخرى، فصح على هذا التأويل أن يقال: سيقول
101

السفهاء من الناس ذلك، وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية. القول الثاني: إن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد. أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه، كان هذا إخبارا عن الغيب فيكون معجزا. وثانيها: أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك أولا ثم سمعه منهم، فإنه يكون تأذية من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم أولا. وثالثها: أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولا ثم ذكر جوابه معه فحين يسمعه النبي عليه الصلاة والسلام منهم يكون الجواب حاضرا، فكان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضرا، وأما السفه في أصل اللغة فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى: * (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) * (البقرة: 13) وبالجملة فإن من لا يميز بين ما له وعليه، ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره، يوصف بالخفة والسفه، ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم مضرة منه في باب الدنيا فإذا كان العادل عن الرأي الواضح في أمر دنياه يعد سفيها، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه فهذا اللفظ يمكن حمله على اليهود، وعلى المشركين وعلى المنافقين، وعلى جملتهم، ولقد ذهب إلى كل واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين. فأولها: قال ابن عباس ومجاهد: هم اليهود، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القبلة، وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقا لهم بالكلية، فلما تحول عن تلك القبلة استوحشوا من ذلك واغتموا وقالوا: قد عاد إلى طريقة آبائه، واشتاق إلى دينهم، ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة، فقالوا: ما حكى الله عنهم في هذه الآية. وثالثها: قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم، إنهم مشركو العرب، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان متوجها إلى بيت المقدس حين كان بمكة، والمشركون كانوا يتأذون منه بسبب ذلك فلما جاء إلى المدينة وتحول إلى الكعبة قالوا: أبى إلا الرجوع إلى موافقتنا، ولو ثبت عليه لكان أولى به. وثالثها: أنهم المنافقون وهو قول السدي، وهؤلاء إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها، فكان هذا التحويل مجرد البعث والعمل بالرأي والشهوة، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين لأن هذا الاسم مختص بهم، قال الله تعالى: * (ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) * (البقرة: 13). ورابعها: أنه يدخل فيه الكل لأن لفظ السفهاء لفظ عموم دخل فيه الألف واللام، وقد بينا صلاحيته لكل الكفار بحسب الدليل العقلي والنص أيضا يدل عليه وهو قوله: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) * (البقرة: 130) فوجب أن يتناول الكل. قال القاضي: المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة وإذا
102

كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيدا قلنا: هذا القدر لا ينافي العموم ولا يقتضي تخصيصه بل الأقرب أن يكون الكل قد قال ذلك لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن فإذا وجدوا مجالا لم يتركوا مقالا البتة.
أما قوله تعالى: * (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ولاه عنه صرفه عنه وولى إليه بخلاف ولى عنه ومنه قوله: * (ومن يولهم يومئذ دبره) * (الأنفال: 16) وقوله: * (ما ولاهم) * استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب.
المسألة الثانية: في هذا التولي وجهان. الأول: وهو المشهور المجمع عليه عند المفسرين: أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة من بيت المقدس عاب الكفار المسلمين فقالوا
: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فالضمير في قوله: * (ما ولاهم) * للرسول والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس، واختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام متى حول القبلة بعد ذهابه إلى المدينة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر، وعن معاذ بعد ثلاثة عشر شهرا وعن قتادة بعد ستة عشر شهرا وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهرا، وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال وعن بعضهم ثمانية عشر شهرا من مقدمه. قال الواقدي: صرفت القبلة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا، وقال آخرون: بل سنتان. الوجه الثاني: قول أب مسلم وهو أنه لما صح الخبر بأن الله تعالى حوله عن بيت المقدس إلى الكعبة وجب القول به، ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله كانوا عليها، أي السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود وقبلة النصارى، فالأولى إلى المغرب والثانية إلى المشرق، وما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجهوا إلى شيء من الجهات فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها نحو الكعبة كان ذلك عندهم مستنكرا، فقالوا: كيف يتوجه أحد إلى هاتين الجهتين المعروفتين، فقال الله تعالى رادا عليهم؛ * (قل لله المشرق والمغرب) * واعلم أن أبا مسلم صدق فإنه لولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملا والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال القفال: القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة، وإنما سميت القبلة قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله، وقال قطرب: يقولون في كلامهم ليس لفلان قبلة، أي ليس له جهة يأوي إليها، وهو أيضا مأخوذ من الاستقبال، وقال غيره: إذ تقابل الرجلان فكل واحد منهما قبلة للآخر، وقال بعض المحدثين:
جعلت مأواك لي قرارا * وقبلة حيثما لجأت
103

أما قوله تعالى: * (قل لله المشرق والمغرب) * فاعلم أن هذا هو الجواب الأول عن تلك الشبهة، وتقريره أن الجهات كلها لله ملكا وملكا، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة، وإذا كان الأمر كذلك فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة أخرى، فإن قيل: ما الحكمة أولا في تعيين القبلة؟ ثم ما الحكمة في تحويل القبلة من جهة إلى جهة؟ قلنا: أما المسألة الأولى ففيها الخلاف الشديد بين أهل السنة والمعتزلة، أما أهل السنة فإنهم يقولون: لا يجب تعليل أحكام الله تعالى البتة، واحتجوا عليه بوجوه. أحدها: أن كل من فعل فعلا لغرض، فإما أن يكون وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده، وإما أن لا يكون كذلك، بل الوجود والعدم بالنسبة إليه سيان، فإن كان الأول، كان ناقصا لذاته مستكملا بغيره، وذلك على الله محال، وإن كان الثاني استحال أن يكون غرضا ومقصودا ومرجحا فإن قيل: إنه وإن كان وجوده وعدمه بالنسبة إليه على السوية إلا أن وجوده لما كان أنفع للغير من عدمه، فالحكيم يفعله ليعود النفع إلى الغير قلنا: عود النفع إلى الغير ولا عوده إليه، هل هما بالنسبة إلى الله تعالى على السواء، أوليس الأمر كذلك، وحينئذ يعود التقسيم. وثانيها: أن كل من فعل فعلا لغرض فإما أن يكون قادرا على تحصيل ذلك الغرض من دون تلك الواسطة، أو لا يكون قادرا عليه. فإن كان الأول كان توسط تلك الواسطة عبثا، وإن كان الثاني كان عجزا وهو على الله محال. وثالثها: أنه تعالى إن فعل فعلا لغرض فذلك الغرض وإن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال، وإن كان محدثا توقف إحداثه على غرض آخر، ولزم الدور أو التسلسل وهو محال. ورابعها: أن تخصيص إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده إن كان لحكمة اختص بها ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده كان طلب العلة في أنه لم حصلت تلك الحكمة في ذلك الوقت دون سائر الأوقات كطلب العلة في أنه لم حصل العالم في ذلك الوقت دون سائر الأوقات، فإن استغنى أحدهما عن المرجح فكذا الآخر، وإن افتقر فكذا الآخر وإن لم يتوقف ذلك على الحكمة فقد بطل توفيق فاعلية الله على الحكمة والغرض. وخامسها: ما سبق من الدلائل على أن جميع الكائنات من الخير والشر، والكفر والإيمان، والطعة والعصيان واقع بقدرة الله تعالى وإرادته، وذلك يبطل القول بالغرض، لأنه يستحيل أن يكون لله غرض يرجع إلى العبد في خلق الكفر فيه وتعذيبه عليه أبد الآباد. وسادسها: أن تعلق قدرة الله تعالى وإرادته بإيجاد الفعل المعين في الأزل، إما أن يكون جائزا أو واجبا، فإن كان جائزا افتقر إلى
104

مؤثر آخر ويلزم التسلسل، ولأنه يلزم صحة العدم على القديم، وإن كان واجبا فالواجب لا يعلل فثبت عندنا بهذه الوجوه أن تعليل أفعالي الله وأحكامه بالدواعي والأغراض محال، وإذا كان كذلك كانت فاعليته بمحض الإلهية والقدرة والنفاذ والاستيلاء، وهذا هو الذي دل عليه صريح قوله تعالى: * (قل لله المشرق والمغرب) * فإنه علل جواز النسخ بكونه مالكا للمشرق والمغرب، والملك يرجع حاصله إلى القدرة، ولم يعلل ذلك بالحكمة على ما تقوله المعتزلة، فثبت أن هذه الآية دالة بصريحها على قولنا ومذهبنا، أما المعتزلة فقد قالوا: لما دلت الدلائل على أنه تعالى حكيم، والحكيم لا يجوز أن تكون أفعاله خالية عن الأغراض، علمنا أن له سبحانه في كل أفعاله وأحكامه حكما وأغراضا، ثم إنها تارة تكون ظاهرة جلية لنا، وتارة مستورة خفية عنا، وتحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى يمكن أن يكون لمصالح خفية وأسرار مطوية عنا، وإذا كان الأمر كذلك: استحال الطعن بهذا التحويل في دين الإسلام.
المسألة الرابعة: في الكلام في تلك الحكم على سبيل التفصيل، واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تكون قطعية، بل غايتها أن تكون أمورا احتمالية أما تعيين القبلة في الصلاة فقد ذكروا فيه حكما. أحدها: أن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجساد، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ومصاحبتها، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسبها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية، ولذلك فإن المهندس إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقادير، وضع له صورة معينة وشكلا معينا ليصير الحس والخيال معينين للعقل على إدراك ذلك الحكم الكلي، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم، فإنه لا بد وأن يستقبله بوجهه، وأن لا يكون معرضا عنه، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه، ويبالغ في الخدمة والتضرع له، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلا للملك لا معرضا عنه، والقراءة والتسبيحات تجري مجرى
الثناء عليه والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة. وثانيها: أن المقصود من الصلاة حضور القلب وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات والحركة، وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلا لجهة واحدة على التعيين، فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام، كان استقبال تلك الجهة أولى. وثالثها: أن الله تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين، وقد ذكر المنة بها عليهم، حيث قال: * (واذكروا نعمة الله عليكم) * (المائدة: 7) إلى قوله: * (إخوانا) * ولو توجه كل
105

واحد في صلاته إلى ناحية أخرى، لكان ذلك يوهم اختلافا ظاهرا، فعين الله تعالى لهم جهة معلومة، وأمرهم جميعا بالتوجه نحوها، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحب الموافقة بين عباده في أعمال الخير. ورابعها: أن الله تعالى خص الكعبة بإضافتها إليه في قوله: * (بيتي) * وخص المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه، وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم فكأنه تعالى قال: يا مؤمن أنت عبدي، والكعبة بيتي، والصلاة خدمتي، فأقبل بوجهك في خدمتي إلى بيتي، وبقلبك إلي. وخامسها: قال بعض المشايخ: إن اليهود استقبلوا القبلة لأن النداء لموسى عليه السلام جاء منه، وذلك قوله: * (وما كنت بجانب الغربي) * (القصص: 44) الآية، والنصارى استقبلوا المغرب، لأن جبريل عليه السلام إنما ذهب إلى مريم عليها السلام من جانب المشرق، لقوله تعالى: * (واذكرا في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) * (مريم: 16) والمؤمنون استقبلوا الكعبة لأنها قبلة خليل الله، ومولد حبيب الله، وهي موضع حرم الله، وكان بعضهم يقول: استقبلت النصارى مطلع الأنوار، وقد استقبلنا مطلع سيد الأنوار، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فمن نوره خلقت الأنوار جميعا. وسادسها: قالوا: الكعبة سرة الأرض ووسطها، فأمر الله تعالى جميع خلقه بالتوجه إلى وسط الأرض في صلاتهم، وهو إشارة إلى أنه يجب العدل في كل شيء، ولأجله جعل وسط الأرض قبلة للخلق. وسابعها: أنه تعالى أظهر حبه لمحمد عليه الصلاة والسلام بواسطة أمره باستقبال الكعبة، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتمنى ذلك مدة لأجل مخالفة اليهود، فأنزل الله تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) * (البقرة: 144) الآية، وفي الشاهد إذا وصف واحد من الناس بمحبة آخر قالوا: فلان يحول القبلة لأجل فلان على جهة التمثيل، فالله تعالى قد حول القبلة لأجل حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام على جهة التحقيق، وقال: * (فلنولينك قبلة ترضاها) * (البقرة: 144) ولم يقل قبلة أرضاها، والإشارة فيه كأنه تعالى قال: يا محمد كل أحد يطلب رضاي وأنا أطلب رضاك في الدارين، أما في الدنيا فهذا الذي ذكرناه وأما في الآخرة فقوله تعالى: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * (الضحى: 5) وفيه إشارة أيضا إلى شرف الفقراء: * (فتطردهم فتكون من الظالمين) * (الأنعام: 52) وقال في الإعراض عن القبلة: * (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين) * فكأنه تعالى قال: الكعبة قبلة وجهك، والفقراء قبلة رحمتي، فإعراضك عن قبلة وجهك، يوجب كونك ظالما، فالأعراض عن قبلة رحمتي كيف يكون. وثامنها: العرش قبلة الحملة، والكرسي قبلة البررة، والبيت المعمور قبلة السفرة، والكعبة قبلة المؤمنين، والحق قبلة
106

المتحيرين من المؤمنين، قال الله تعالى: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * (البقرة: 115) وثبت أن العرش مخلوق من النور، والكرسي من الدر، والبيت المعمور من الياقوت، والكعبة من جبال خمسة: من طور سينا، وطور زيتا، والجودي، ولبنان، وحراء، والإشارة فيه كأن الله تعالى يقول: إن كانت عليك ذنوب بمثقال هذه الجبال فأتيت الكعبة حاجا أو توجهت نحوها مصليا كفرتها عنك وغفرتها لك فهذا جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب، والتحقيق هو الأول.
المسألة الخامسة: في حكمة تحويل القبلة من جهة إلى جهة، قد ذكرنا شبهة القوم في إنكار هذا التحويل، وهي أن الجهات لما كانت متساوية في جميع الصفات كان تحويل القبلة من جهة إلى جهة مجرد العبث، فلا يكون ذلك من فعل الحكيم.
والجواب عنه: أما على قول أهل السنة: إنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى بالحكم فالأمر ظاهر، وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان. الأول: أنه لا يمتنع اختلاف المصالح بحسب اختلاف الجهات، وبيانه من وجوه. أحدها: أنه إذا ترسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهات أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل وعظمه، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيما وخشوعا، وذلك مصلحة مطلوبة. وثانيها: أنه لما كان بناء هذا البيت سببا لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في تعظيمه أشد. وثالثها: أن اليهود لما كانوا يعيرون المسلمين عند استقبال بيت المقدس بأنه لولا أنا أرشدناكم إلى القبلة لما كنتم تعرفون القبلة، فصار ذلك سببا لتشويش الخواطر، وذلك مخل بالخضوع والخشوع، فهذا يناسب الصرف عن تلك القبلة. ورابعها: أن الكعبة منشأ محمد صلى الله عليه وسلم، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك أمر مطلوب لأنه متى رسخ في قلبهم تعظيمه، كان قبولهم لأوامره ونواهيه في الدين والشريعة أسرع وأسهل، والمفضي إلى المطلوب مطلوب، فكان تحويل القبلة مناسبا. وخامسها: أن الله تعالى بين ذلك في قوله: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) * (البقرة: 143) فأمرهم الله تعالى حين كانوا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين، فلما هاجروا إلى المدينة وبها اليهود، أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود.
أما قوله: * (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * فالهداية قد تقدم القول فيها، قالت المعتزلة: إنما هي الدلالة الموصلة، والمعنى أنه تعالى يدل على ما هو للعبادة أصلح، والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم إذا تمسكوا به إلى الجنة، قال أصحابنا: هذه الهداية إما أن يكون المراد منها الدعوة أو الدلالة أو تحصيل العلم فيه، والأولان باطلان، لأنهما عامان لجميع المكلفين فوجب حمله على الوجه الثالث وذلك يقتضي بأن الهداية
107

والاضلال من الله تعالى
قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) *.
اعلم أن في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: الكاف في * (كذلك) * كاف التشبيه، والمشبه به أي شيء هو؟ وفيه وجوه. أحدها: أنه راجع إلى معنى يهدي، أي كما أنعمنا عليكم بالهداية، كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمة وسطا. وثانيها: قول أبي مسلم تقريره كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وكذلك جعلناكم أمة وسطا. وثالثها: أنه عائد إلى ما تقدم من قوله في حق إبراهيم عليه السلام: * (ولقد اصطفيناه في الدنيا) * (البقرة: 130) أي فكما اصطفيناه في الدنيا فكذلك جعلناكم أمة وسطا. ورابعها: يحتمل عندي أن يكون التقدير: * (ولله المشرق والمغرب) * (البقرة: 115) فهذه الجهات بعد استوائها في كونها ملكا لله وملكا له، خص بعضها بمزيد التشريف والتكريم بأن جعله قبلة فضلا منه وإحسانا فكذلك العباد كلهم مشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة فضلا منه وإحسانا لا وجوبا. وخامسها: أنه قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكورا إذا كان المضمر مشهورا معروفا كقوله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من شاء وإذلال من شاء فقوله: * (وكذلك جعلناكم) * أي ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطا.
المسألة الثانية: اعلم أنه إذا كان الوسط اسما حركت الوسط كقوله: * (أمة وسطا) * والظرف مخفف تقول: جلست وسط القوم، واختلفوا في تفسير الوسط وذكروا أمور. أحدها: أن الوسط هو العدل والدليل عليه الآية والخبر والشعر والنقل والمعنى، أما الآية فقوله تعالى: * (قال أوسطهم) * (القلم: 28) أي أعدلهم، وأما الخبر فما روى القفال عن الثوري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أمة وسطا قال عدلا " وقال عليه الصلاة والسلام: " خير الأمور أوسطها " أي أعدلها، وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم أوسط قريش نسبا، وقال عليه الصلاة والسلام:
108

" عليكم بالنمط الأوسط " وأما الشعر فقول زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم * إذا نزلت إحدى الليالي العظائم
وأما النقل فقال الجوهري في " الصحاح ": * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * أي عدلا وهو الذي قاله الأخفش والخليل وقطرب، وأما المعنى فمن وجوه. أحدها: أن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رديئان فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيدا عن الطرفين فكان معتدلا فاضلا. وثانيها: إنما سمي العدل وسطا لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين. وثالثها: لا شك أن المراد بقوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * طريقة المدح لهم لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفا ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهودا له ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله: (وسطا) ما يتعلق بالمدح في باب الدين، ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهودا إلا بكونهم عدولا، فوجب أن يكون المراد في الوسط العدالة. ورابعها: أن أعدل بقاع الشيء وسطه، لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوسط محمية محوطة فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة.
القول الثاني: أن الوسط من كل شيء خياره قالوا: وهذا التفسير أولى من الأول لوجوه: الأول: أن لفظ الوسط يستعمل في الجمادات قال صاحب " الكشاف ": اكتريت جملا من أعرابي بمكة للحج فقال: أعطى من سطا تهنة أراد من خيار الدنانير ووصف العدالة لا يوجد في الجمادات فكان هذا التفسير أولى. الثاني: أنه مطابق لقوله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * (آل عمران: 110).
القول الثالث: أن الرجل إذا قال: فلان أوسطنا نسبا فالمعنى أنه أكثر فضلا وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة، وأصل هذا أن الاتباع يحوشون الرئيس فهو في وسطهم وهم حوله فقيل وسط لهذا المعنى.
القول الرابع: يجوز أن يكونوا وسطا على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر في الأشياء لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابنا وإلها ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه.
واعلم أن هذه الأقوال متقاربة غير متنافية والله أعلم.
المسألة الثالثة: احتج الأصحاب بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن هذه
109

الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيريتهم بجعل الله وخلقه وهذا صريح في المذهب، قالت المعتزلة: المراد من هذا الجعل فعل الألطاف التي علم الله تعالى أنه متى فعلها لهذه الأمة اختاروا عندها الصواب في القول والعمل، أجاب الأصحاب عنه من وجوه. الأول: أن هذا ترك للظاهر وذلك مما لا يصار إليه إلا عند قيام الدلائل على أنه لا يمكن حمل الآية على ظاهرها، لكنا قد بينا أن الدلائل العقلية الباهرة ليست إلا معنا، أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسك بفصل المدح والذم والثواب والعقاب، وقد بينا مرارا كثيرة أن هذه الطريقة منتقضة على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي، والكلام المنقوض لا التفات إليه البتة. الوجه الثاني: أنه تعالى قال قبل هذه الآية: * (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * (البقرة: 142) وقد بينا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه تعالى يخص البعض بالهداية دون البعض، فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منهما مؤكدة لمضمون الأخرى. الوجه الثالث: أن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف في حق الكل فقد فعله، وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة. الوجه الرابع: وهو أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الامتنان على هذه الأمة وفعل اللطف واجب والواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان.
المسألة الرابعة: احتج جمهور الأصحاب وجمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا: أخبر الله تعالى عن عدالة هذه الأمة وعن خيريتهم فلو أقاموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة، فإن قيل: الآية متروكة الظاهر، لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة، فلا بد من حملها على البعض فنحن نحملها على الأئمة المعصومين، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهرة لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين. الأول: أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المحرمات وهذا من فعل العبد وقد أخبر الله تعالى أن جعلهم وسطا فاقتضى ذلك أن كونهم وسطا من فعل الله تعالى، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطا غير كونهم عدولا وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال. الثاني: أن الوسط اسم لما يكون متوسطا بين شيئين، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك وهو خلال الأصل، سلمنا اتصافهم بالخيرية ولكن لم لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم، ومما يؤكد
110

هذا الاحتمال أنه تعالى حكم بكونهم عدولا ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة، سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ولكن الله تعالى بين أن اتصافهم بذلك إنما كان لكونهم شهداء على الناس معلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمل، وذلك لا نزاع فيه، لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة فلم قلت إنهم في الدنيا كذلك؟ سلمنا وجوب كونهم عدولا في الدنيا لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية لأن الخطاب مع من لم يوجد محال وإذا كان كذلك فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت ولا تقتضي عدالة غيرهم، فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق فيجب أن لا نتمسك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه لكن ذلك لا يمكن إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم وعلمنا بقاء كل واحد منهم إلى ما بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ولما كان ذلك كالمتعذر امتنع التمسك بالإجماع.
والجواب عن قوله الآية متروكة الظاهر قلنا: لا نسلم فإن قوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * يقتضي أنه تعالى جعل كل واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة، وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه فإن كل واحد منهم يكون عدلا في ذلك الأمر، بل إذا اختلفوا فعند ذلك قد يفعلون القبيح، وإنما قلنا إن هذا خطاب معهم حال الاجتماع، لأن قوله: * (جعلناكم) * خطاب لمجموعهم لا لكل واحد منهم وحده، على أن وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد منهم عدلا لكنا نقول ترك العمل به في حق البعض لدليل قام عليه فوجب أن يبقى معمولا به في حق الباقي وهذا معنى ما قال العلماء: ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة، فإذا كنا لا نعلم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماع جماعتهم على القول والفعل، لكي يدخل المعتبرون في جملتهم، مثاله: أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال إن واحدا من أولاد فلان لا بد وإن يكون مصيبا في الرأي والتدبير فإذا لم نعلمه بعينه ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقا لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق، فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقا لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد الذي خالف، ولهذا قال كثير من العلماء: إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيبا عمن كان مخطئا كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر البتة بقول المخطئ قوله: لو كان المراد من كونهم وسطا هو المراد من عدالتهم، لزم أن يكون فعل العبد خلقا لله تعالى
111

قلنا: هذا مذهبنا على ما تقدم بيانه، قوله: لم قلتم أن إخبار الله تعالى عن عدالتهم وخيريتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر؟ قلنا: خبر الله تعالى صدق، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه، وفعل الصغيرة ليس بخير، فالجمع بينهما متناقض، ولقائل أن يقول: الإخبار عن الشخص بأنه خير أعم من الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور، أو في بعض الأمور، ولذلك فإنه يصح تقسيمه إلى هذين القسمين فيقال: الخير إما أن يكون خيرا في بعض الأمور دون البعض أو في كل الأمور، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين، فمن كان خيرا من بعض الوجوه دون البعض، يصدق عليه أنه خير، فإذن إخبار الله تعالى عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره تعالى عن خيريتهم في كل الأمور، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلا عن الصغائر، وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلا أن هذا السؤال وارد عليها، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها، من كان منهم موجودا وقت نزول هذه الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، كما أن قوله: * (كتب عليكم القصاص) * (البقرة: 178)، * (كتب عليكم الصيام) * (البقرة: 183) يتناول الكل، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت، وكذلك سائر تكاليف الله تعالى وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة فإن قيل: لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطابا لجميع من يوجد إلى قيام الساعة، فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم؟ قلنا: لأنه تعالى لما جعلهم شهداء على الناس، فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة، فإن الأمة اسم للجماعة التي تؤم جهة واحدة، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ولأنه تعالى قال: * (أمة وسطا) * فعبر عنهم بلفظ النكرة ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر.
المسألة الخامسة: اختلف الناس في أن الشهادة المذكورة في قوله تعالى: * (لتكونوا شهداء على الناس) * تحصل في الآخرة أو في الدنيا. فالقول الأول: إنها تقع في الآخرة، والذاهبون إلى هذا القول لهم وجهان. الأول: وهو الذي عليه الأكثرون: أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أنهم الذين يكذبونهم، روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو
112

أعلم، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين عرفتم فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد عليه الصلاة والسلام، فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * (النساء: 41) وقد طعن القاضي في هذه الرواية من وجوه:
أولها: أن مدار هذه الرواية عن أن الأمم يكذبون أنبياءهم وهذا بناء على أن أهل القيامة قد يكذبون، وهذا باطل عند القاضي، إلا أنا سنتكلم على هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين * انظر كيف كذبوا على أنفسهم) * (الأنعام: 23، 24).
وثانيها: أن شهادة الأمة وشهادة الرسول مستندة في الآخرة إلى شهادة الله تعالى على صدق الأنبياء، وإذا كان كذلك فلم لم يشهد الله تعالى لهم بذلك ابتداء؟ وجوابه: الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الفضل عن سائر الأمم بالمبادرة إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء، والإيمان بهم جميعا، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق، فلذلك يقبل الله شهادتهم على سائر الأمم ولا يقبل شهادة الأمم عليهم إظهارا لعدالتهم وكشفا عن فضيلتهم ومنقبتهم.
وثالثها: أن مثل هذه الأخبار لا تسمى شهادة وهذا ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا علمت مثل الشمس فاشهد " والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس فوجب جواز الشهادة عليه.
الوجه الثاني: قالوا معنى الآية: لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها قال ابن زيد: الأشهاد أربعة. أولها: الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد. قال تعالى: * (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) * (ق: 21) وقال: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) * (ق: 18) وقال: * (وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون) * (الإنفطار: 10 - 12). وثانيها: شهادة الأنبياء وهو المراد بقوله حاكيا عن عيسى عليه السلام: * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) * (المائدة: 117) وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم وأمته في هذه الآية: * (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * وقال: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * (النساء: 41). وثالثها: شهادة أمة محمد خاصة. قال تعالى: * (وجئ بالنبيين والشهداء) * (الزمر: 69) وقال تعالى: * (ويوم يقوم الأشهاد) * (غافر: 51). ورابعها: شهادة الجوارح وهي بمنزلة الإقرار بل أعجب منه قال تعالى: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم) * (النور: 24) الآية، وقال: * (اليوم نختم على أفواههم) * (يس: 65) الآية.
القول الثاني: أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا وتقريره أن الشهادة والمشاهد
113

والشهود هو الرؤية يقال: شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته، ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب: مشاهدة وشهودا، والعارف بالشيء: شاهدا ومشاهدا، ثم سميت الدلالة على الشيء: شاهدا على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا، ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جاريا مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضا شاهدا، ثم اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة، إذا عرفت هذا فنقول: إن كل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهدا عليه والله تعالى وصف هذه الأمة بالشهادة، فهذه الشهادة إما أن تكون في الآخرة أو في الدنيا لا جائز أن تكون في الآخرة، لأن الله تعالى جعلهم عدولا في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا، إنما قلنا: إنه تعالى جعلهم عدولا في الدنيا لأنه تعالى قال: * (وكذلك جعلناكم أمة) * وهذا إخبار عن الماضي فلا أقل من حصوله في الحال، وإنما قلنا: إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهودا في الدنيا لأنه تعالى قال: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) * رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطا ترتيب الجزاء على الشرط، فإذا حصل وصف كونهم وسطا في الدنيا وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا، فإن قيل: تحمل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا، ومتحمل الشهادة قد يسمى شاهدا وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة قلنا: الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل، بدليل أنه تعالى اعتبر العدالة في هذه الشهادة والشهادة التي يعتبر فيها العدالة، هي الأداء لا التحمل، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدين للشهادة في دار الدنيا، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجة ولا معنى لقولنا الإجماع حجة إلا هذا، فثبت أن الآية تدل على أن الإجماع حجة من هذا الوجه أيضا، واعلم أن الدليل الذي ذكرناه على صحة هذا القول لا يبطل القولين الأولين لأنا بينا بهذه الدلالة أن الأمة لا بد وأن يكونوا شهودا في الدنيا وهذا لا ينافي كونهم شهودا في القيامة أيضا على الوجه الذي وردت الأخبار به، فالحاصل أن قوله تعالى: * (لتكونوا شهداء على الناس) * إشارة إلى أن قولهم عند الإجماع حجة من حيث أن قولهم: عند الإجماع يبين للناس الحق، ويؤكد ذلك قوله تعالى: * (ويكون الرسول عليكم شهيدا) * يعني مؤديا ومبينا، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا أثبتوا الحق عرفوا عنده من
114

القابل ومن الراد، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم.
المسألة السادسة: دلت الآية على أن من ظهر كفره وفسقه نحو المشبهة والخوارج والروافض فإنه لا يعتد به في الإجماع لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخيرية، ولا يختلف في ذلك الحكم من فسق أو كفر بقوله أو فعل، ومن كفر برد النص أو كفر بالتأويل.
المسألة السابعة: إنما قال: * (شهداء على الناس) * ولم يقل: شهداء للناس لأن قولهم يقتضي التكليف إما بقول وإما بفعل وذلك عليه لا له في الحال، فإن قيل: لم أخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا؟ قلنا؛ لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الآخر الاختصاص بكون الرسول شهيدا عليهم.
قوله تعالى: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم) *.
اعلم أن قوله: * (وما جعلنا) * معناه ما شرعنا وما حكمنا كقوله: * (ما جعل الله من بحيرة) * (المائدة: 103) أي ما شرعها ولا جعلها دينا، وقوله: * (كنت عليها) * أي كنت معتقدا لاستقبالها، كقول القائل: كان لفلان على فلان دين، وقوله: * (كنت عليها) * ليس بصفة للقبلة، إنما هو ثاني مفعولي جعل يريد: * (وما جعلنا القبلة) * الجهة التي كنت عليها. ثم ههنا وجهان.
الأول: أن يكون هذا الكلام بيانا للحكمة في جعل القبلة، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفا لليهود، ثم حول إلى الكعبة فنقول: * (وما جعلنا القبلة) * الجهة: * (التي كنت عليها) * أولا: يعني وما رددناك إليها إلا امتحانا
115

للناس وابتلاء. الثاني: يجوز أن يكون قوله: * (التي كنت عليها) * لسانا للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني إن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمرا عارضا لغرض وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا، وهي بيت المقدس، لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه وينفر عنه. وههنا وجه ثالث ذكره أبو مسلم فقال: لولا الروايات لم تدل الآية على قبلة من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام عليها، لأنه قد يقال: كنت بمعنى صرت كقوله تعالى: * (كنتم خير أمة) * (آل عمران: 110) وقد يقال: كان في معنى لم يزل كقوله تعالى: * (وكان الله عزيزا حكيما) * (النساء: 158) فلا يمتنع أن يراد بقوله: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) * أي التي لم تزل عليها وهي الكعبة إلا كذا وكذا.
أما قوله: * (إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اللام في قوله: * (إلا لنعلم) * لام الغرض والكلام في أنه هل يصح الغرض على الله أو لا يصح وبتقدير أن لا يصح فكيف تأويل هذا الكلام فقد تقدم.
المسألة الثانية: وما جعلنا كذا وكذا إلا لنعلم كذا يوهم أن العلم بذلك الشيء لم يكن حاصلا فهو فعل ذلك الفعل ليحصل له ذلك العلم وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يعلم تلك الأشياء قبل وقوعها، ونظيره في الإشكال قوله: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) * (محمد: 31) وقوله: * (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) * (الأنفال: 66) وقوله: * (لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) وقوله: * (فليعلمن الله الذين صدقوا) * (العنكبوت: 3) وقوله: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * (آل عمران: 142) وقوله: * (وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة) * (سبأ: 21) والكلام في هذه المسألة أمر مستقصى في قوله: * (وإذ ابتلى) * والمفسرون أجابوا عنه من وجوه. أحدها: أن قوله: * (إلا لنعلم) * معناه إلا ليعلم حزبنا من النبيين والمؤمنين كما يقول الملك: فتحنا البلدة الفلانية بمعنى: فتحها أولياؤنا، ومنه يقال: فتح عمر السواد، ومنه قول عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه: " استقرضت عبدي فلم يقرضني، وشتمني ولم يكن ينبغي له أن يشتمني يقول وا دهراه وأنا الدهر " وفي الحديث: " من أهان لي وليا فقد أهانني ". وثانيها: معناه ليحصل المعدوم فيصير موجودا، فقوله: * (إلا لنعلم) * معناه: إلا لنعلمه موجودا، فإن قيل: فهذا يقتضي حدوث العلم، قلنا: اختلفوا في أن العلم بأن الشيء سيوجد هل هو علم بوجوده إذا وجد الخلاف فيه مشهور. وثالثها: إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق، فيعلم المؤمنون من يوالون منهم ومن يعادون، فسمي التمييز علما، لأنه أحد فوائد العلم وثمراته. ورابعها: * (إلا لنعلم) *
116

معناه: إلا لنرى، ومجاز هذا أن العرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم كقوله: * (ألم تر كيف) * (الفجر: 6) (الفيل: 1) (إبراهيم: 19) ورأيت، وعلمت، وشهدت، ألفاظ متعاقبة. وخامسها: ما ذهب إليه الفراء: وهو أن حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين، ومثاله أن جاهلا وعاقلا اجتمعا، فيقول الجاهل: الحطب يحرق النار، ويقول العاقل: بل النار تحرق الحطب، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه معناه: لنعلم أينا الجاهل، فكذلك قوله: * (إلا لنعلم) * إلا لتعلموا والغرض من هذا الجنس من الكلام: الاستمالة والرفق في الخطاب، كقوله: * (وإنا أو إياكم لعلى هدى) * (سبأ: 24) فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقا للخطاب ورفقا بالمخاطب، فكذا قوله: * (إلا لنعلم) *. وسادسها: نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم، إذ العدل يوجب ذلك. وسابعها: أن العلم صلة زائدة، فقوله؛ * (إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) * معناه: إلا ليحصل اتباع المتبعين، وانقلاب المنقلبين، ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك: ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني والمعنى: أنه لو كان لعلمه الله.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة أو بسبب تحويلها، فمن الناس من قال: إنما حصلت بسبب تعيين القبلة لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة، فلما جاء المدينة صلى إلى بيت المقدس، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم، ثم إنه لما حوله مرة أخرى إلى الكعبة شق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم، وأما الأكثرون من أهل التحقيق قالوا: هذه المحنة إنما حصلت بسبب التحويل فإنهم قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه، روى القفال عن ابن جريح أنه قال: بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم، وقالوا مرة ههنا ومرة ههنا، وقال السدي: لما توجه النبي عليه الصلاة والسلام نحو المسجد الحرام اختلف الناس فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها، وقال المسلمون: لسنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس، وقال آخرون: اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، وقال المشركون: تحير في دينه، واعلم أن هذا القول الأخير أولى لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة، وقد وصفها الله تعالى بالكبيرة فقال: * (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) * فكان حمله عليه أولى.
المسألة الرابعة: قوله: * (ممن ينقلب على عقبيه) * استعارة ومعناه: من يكفر بالله ورسوله، ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه، فلما تركوا الإيمان
117

والدلائل صاروا بمنزلة المدبر عما بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى: * (ثم أدبر واستكبر) * (المدثر: 23) وكما قال: * (كذب وتولى) * (طه: 48) وكل ذلك تشبيه.
أما قوله تعالى: * (وإن كانت) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: (إن) المكسورة الخفيفة، معناها على أربعة أوجه: جزاء، ومخففة من الثقيلة، وجحد، وزائدة، أما الجزاء فهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى فالمستلزم هو الشرط واللازم هو الجزاء كقولك: إن جئتني أكرمتك، وأما الثانية: وهي المخففة من الثقيلة فهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة * (إن) * المشددة كقولك: إن زيدا لقائم، قال الله تعالى: * (إن كل نفس لما عليها حافظ) * (الطارق: 4) وقال: * (إن كان وعد ربنا لمفعولا) * (الإسراء: 108) ومثله في القرآن كثير، والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل، وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها، والفرق بينها وبين التي للجحد في قوله تعالى: * (إن الكافرون إلا في غرور) * (الملك: 20) وقوله: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * (الأحقاف: 9) إذ كانت كل واحدة منهما يليها الاسم والفعل جميعا كما وصفنا، وأما الثالثة: وهي التي للجحد، كقوله: * (إن الحكم إلا لله) * (الأنعام: 57) وقال: * (إن تتبعون إلا الظن) * (الأنعام: 148) وقال: * (ولئن زالتا إن أمسكهما) * (فاطر: 41) أي ما يمسكهما، وأما الرابعة وهي الزائدة فكقولك: ما إن رأيت زيدا.
إذا عرفت هذا فنقول: * (إن) * في قوله: * (وإن كانت لكبيرة) * (البقرة: 143) هي المخففة التي تلزمها اللام، والغرض منها توكيد المعنى في الجملة.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: * (كانت) * إلى أي شيء يعود؟ فيه وجهان:
الأول: أنه يعود إلى القبلة لأنه لا بد له من مذكور سابق وما ذاك إلا القبلة في قوله: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) * (البقرة: 143). الثاني: أنه عائد إلى ما دل عليه الكلام السابق وهي مفارقة القبلة، والتأنيث للتولية لأنه قال: * (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) * ثم قال عطفا على هذا: * (وإن كانت لكبيرة) * أي وإن كانت التولية لأن قوله: * (وما ولاهم) * يدل على التولية كما قيل في قوله تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) * (الأنعام: 121) ويحتمل أن يكون المعنى: وإن كانت هذه الفعلة، نظيره قوله فيها ونعمت، واعلم أن هذا البحث متفرع على المسألة التي قدمناها وهي أن الامتحان والابتلاء حصل بنفس القبلة، أو بتحويل القبلة، وقد بينا أن الثاني أولى لأن الإشكال الحاصل بسبب النسخ أقوى من الإشكال الحاصل بسبب تلك الجهات، ولهذا وصفه الله تعالى بالكبيرة في قوله: * (وإن كانت لكبيرة) *.
أما قوله تعالى: * (لكبيرة) * فالمعنى: لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله: * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) * (الكهف: 5) أي: عظمت الفرية بذلك، وقال الله تعالى: * (سبحانك هذا بهتان عظيم) * (النور: 16) وقال: * (إن ذلكم كان عند الله
118

عظيما) * (الأحزاب: 53) ثم إنا إن قلنا الامتحان وقع بنفس القبلة، قلنا: إن تركها ثقيل عليهم، لأن ذلك يقتضي ترك الألف والعادة، والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف وإن قلنا: الامتحان وقع بتحريف القبلة قلنا: إنها لثقيلة من حيث أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف أن ذلك حق إلا بعد أن عرف مسألة النسخ وتخلص عما فيها من السؤالات، وذلك أمر ثقيل صعب إلا على من هداه الله تعالى حتى عرف أنه لا يستنكر نقل القبلة من جهة إلى جهة كما لا يستنكر نقلة إياهم من حال إلى حال في الصحة والسقم والغنى والفقر، فمن اهتدى لهذا النظر ازداد بصره، ومن سفه واتبع الهوى وظواهر الأمور ثقلت عليه هذه المسألة.
أما قوله: * (إلا على الذين هدى الله) * فاحتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة خلق الأعمال فقالوا: المراد من الهداية إما الدعوة أو وضع الدلالة أو خلق المعرفة، والوجهان الأولان ههنا باطلان، وذلك لأنه تعالى حكم بكونها ثقيلة على الكل إلا على الذين هدى الله فوجب أن يقال: إن الذي هداه الله لا يثقل ذلك عليه، والهداية بمعنى الدعوة، ووضع الدلائل عامة في حق الكل، فوجب أن لا يثقل ذلك على أحد من الكفار، فلما ثقل عليهم علمنا أن المراد من الهداية ههنا خلق المعرفة والعلم وهو المطلوب، قالت المعتزلة: الجواب عنه من ثلاثة أوجه، أحدها: أن الله تعالى ذكرهم على طريق المدح فخصهم بذلك. وثانيها: أراد به الاهتداء. وثالثها: أنهم الذين انتفعوا بهدى الله فغيرهم كأنه لم يعتد بهم.
والجواب عن الكل: أنه ترك للظاهر فيكون على خلاف الأصل والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أن رجالا من المسلمين كأبي أمامة، وسعد بن زرارة، والبراء بن عازب، والبراء بن معرور، وغيرهم ماتوا على القبلة الأولى فقال عشائرهم: يا رسول الله توفى إخواننا على القبلة الأولى فكيف حالهم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
واعلم أنه لا بد من هذا السبب، وإلا لم يتصل بعض الكلام ببعض، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوزوا النسخ إلا مع البداء يقولون: إنه لما تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة وباطلا فوقع في قلبهم بناء على هذا السؤال أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة، ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الإشكال وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ومن تكليف إلى تكليف، والأول كالثاني في أن القائم به متمسك بالدين، وأن من هذا
119

حاله فإنه لا يضيع أجره ونظيره: ما سألوا بعد تحريم الخمر عمن مات وكان يشربها، فأنزل الله تعالى: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح) * (المائدة
: 93) فعرفهم الله تعالى أنه لا جناح عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى، فإن قيل: إذا كان الشك إنما تولد من تجويز البداء على الله تعالى فكيف يليق ذلك بالصحابة؟ قلنا: الجواب من وجوه. أحدها: أن ذلك الشك وقع لمنافق فذكر الله تعالى ذلك ليذكره المسلمون جوابا لسؤال ذلك المنافق. وثانيها: لعلهم اعتقدوا أن الصلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا: ليت إخواننا ممن مات أدرك ذلك، فذكر الله تعالى هذا الكلام جوابا عن ذلك. وثالثها: لعله تعالى ذكر هذا الكلام ليكون دفعا لذلك السؤال لو خطر ببالهم.
القول الثاني: وهو قول ابن زيد أن الله تعالى إذا علم أن الصلاح في نقلكم من بيت المقدس إلى الكعبة فلو أقركم على الصلاة إلى بيت المقدس كان ذلك إضاعة عنه لصلاتكم لأنها تكون على هذا التقدير خالية عن المصالح فتكون ضائعة والله تعالى لا يفعل ذلك.
القول الثالث: أنه تعالى لما ذكر ما عليهم من المشقة في هذا التحويل عقبه بذكر ما لهم عنده من الثواب وأنه لا يضيع ما عملوه وهذا قول الحسن.
القول الرابع: كأنه تعالى قال: وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا ولو كفروا لضاع إيمانهم فقال: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * فلا جرم وفقكم لقبول هذا التكليف وأعانكم عليه.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن قوله: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * خطاب مع من؟ على قولين: الأول: أنه مع المؤمنين، وذكر القفال على هذا القول وجوها أربعة. الأول: أن الله خاطب به المؤمنين الذين كانوا موجودين حينئذ، وذلك جواب عما سألوه من قبل. الثاني: أنهم سألوا عمن مات قبل نسخ القبلة فأجابهم الله تعالى بقوله: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * أي وإذا كان إيمانكم الماضي قبل النسخ لا يضيعه الله فكذلك إيمان من مات قبل النسخ. الثالث: يجوز أن يكون الأحياء قد توهموا أن ذلك لما نسخ بطل، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كفارة لما سلف واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ولم يأتوا بما يكفر ما سلف فقيل: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * والمراد أهل ملتكم كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم: * (وإذ قتلتم نفسا) * (البقرة: 72)،
120

وإذ فرقنا بكم البحر) * (البقرة: 50). الرابع: يجوز أن يكون السؤال واقعا عن الأحياء والأموات معا، فإنهم اشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم، وكان الإشفاق واقعا في الفريقين فقيل: إيمانكم للأحياء والأموات، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب فيقولوا: كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم. القول الثاني: قول أبي مسلم، وهو أنه يحتمل أن يكون ذلك خطابا لأهل الكتاب، والمراد بالإيمان صلاتهم وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ، وإنما اختار أبو مسلم هذا القول لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا.
المسألة الثالثة: استدلت المعتزلة بقوله: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات فإنه تعالى أراد بالإيمان ههنا الصلاة. والجواب: لا نسلم أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة، بل المراد منه التصديق والإقرار فكأنه تعالى قال: أنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة سلمنا أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة ولكن الصلاة أعظم الإيمان وأشرف نتائجه وفوائده فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الاستعارة من هذه الجهة.
المسألة الرابعة: قوله: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * أي لا يضيع ثواب إيمانكم لأن الإيمان قد انقضى وفنى وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته إلا أن استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه فصح حفظه وإضاعته وهو كقوله تعالى: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم) * (آل عمران: 195).
أما قوله: * (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال القفال رحمه الله: الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضرر كقوله: * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) * (النور: 2) أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما، وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام، وقد سمى الله تعالى المطر رحمة فقال: * (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) * (الأعراف: 57) لأنه إفضال من الله وإنعام، فذكر الله تعالى الرأفة أولا بمعنى أنه لا يضيع أعمالهم ويخفف المحن عنهم، ثم ذكر الرحمة لتكون أعم وأشمل، ولا تختص رحمته بذلك النوع بل هو رحيم من حيث أنه دافع للمضار التي هي الرأفة وجالب للمنافع معا.
المسألة الثانية: ذكروا في وجه تعلق هذين الاسمين بما قبلهما وجوها. أحدها: أنه تعالى لما أخبر أنه لا يضيع إيمانهم قال: * (إن الله بالناس لرؤف رحيم) * (الحج: 65) والرؤوف الرحيم كيف يتصور منه
121

هذه الإضاعة. وثانيها: أنه لرؤف رحيم فلذلك ينقلكم من شرع إلى شرع آخر وهو أصلح لكم وأنفع في الدين والدنيا. وثالثها: قال: * (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) * فكأنه تعالى قال: وإنما هداهم الله ولأنه رؤوف رحيم.
المسألة الثالثة: قرأ عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: * (رؤوف رحيم) * مهموزا غير مشبع على وزن رعف والباقون * (رؤوف) * مثقلا مهموزا مشبعا على وزن رعوف وفيه أربع لغات رئف أيضا كحزر، ورأف على وزن فعل.
المسألة الرابعة: استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا لأنه تعالى بين أنه بالناس لرؤف رحيم، والكفار من الناس فوجب أن يكون رؤفا رحيما بهم، وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكفر الذي يجرهم إلى العقاب الدائم والعذاب السرمدي، ولو لم يكلفهم ما لا يطيقون فإنه تعالى لو كان مع مثل هذا الإضرار رؤفا رحيما فعلى أي طريق يتصور أن لا يكون رؤفا رحيما واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مرارا والله أعلم.
* (قد نرى تقلب وجهك في ا السمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون) *
اعلم أن قوله: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) * فيه قولان:
القول الأول: وهو المشهور الذي عليه أكثر المفسرين أن ذلك كان لانتظار تحويله من بيت المقدس إلى الكعبة، والقائلون بهذا القول ذكروا وجوها. أحدها: أنه كان يكره التوجه إلى بيت المقدس، ويحب التوجه إلى الكعبة، إلا أنه ما كان يتكلم بذلك فكان يقلب وجهه في السماء لهذا المعنى، روى عن ابن عباس أنه قال: " يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقد كرهتها " فقال له جبريل: " أنا عبد مثلك فاسأل ربك ذلك " فجعل رسول الله
122

صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهؤلاء ذكروا في سبب هذه المحنة أمورا. الأول: أن اليهود كانوا يقولون: إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل، فعند ذلك كره أن يتوجه إلى قبلتهم. الثاني: أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم. الثالث: أنه عليه السلام كان يقدر أن يصير ذلك سببا لاستمالة العرب ولدخولهم في الإسلام. الرابع: أنه عليه السلام أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه لا في مسجد آخر، واعترض القاضي على هذا الوجه وقال: أنه لا يليق به عليه السلام أن يكره قبلة أمر أن يصلي إليها، وأن يحب أن يحوله ربه عنها إلى قبلة يهواها بطبعه، ويميل إليها بحسب شهوته لأنه عليه السلام علم وعلم أن الصلاح في خلاف الطبع والميل: واعلم أن هذا التأويل قليل التحصيل، لأن المستنكر من الرسول أن يعرض عما أمره الله تعالى به، ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه، فأما أن يميل قلبه إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، فذلك مما لا إنكار عليه، لا سيما إذا لم ينطق به، أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه.
الوجه الثاني: أنه عليه السلام قد استأذن جبريل عليه السلام في أن يدعو الله تعالى بذلك فأخبره جبريل بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء، وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا إلا بإذن منه لئلا يسألوا ما لا صلاح فيه فلا يجابوا إليه فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم، فلما أذن الله تعالى له في الإجابة علم أنه يستجاب إليه فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في الإجابة.
الوجه الثالث: قال الحسن: إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أن الله تعالى سيحول القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى، ولم يبين له إلى أي موضع يحولها، ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة فكان رسول الله يقلب وجهه في السماء ينتظر الوحي، لأنه عليه السلام علم أن الله تعالى لا يتركه بغير صلاة، فأتاه جبريل عليه السلام فأمره أن يصل نحو الكعبة والقائلون بهذا الوجه اختلفوا فمنهم من قال: إنه عليه السلام منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة، فكان يخاف أن يرد وقت الصلاة ولم تظهر القبلة فتتأخر صلاته فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم، وقال آخرون: بل وعد بذلك وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها، لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك، ولأنه كان يرجو عند التحويل عن بيت المقدس إلى الكعبة وجوها كثيرة من المصالح الدينية، نحو: رغبة العرب في الإسلام، والمباينة
123

عن اليهود، وتمييز الموافق من المنافق، فلهذا كان يقلب وجهه، وهذا الوجه أولى، وإلا لما كانت القبلة الثانية ناسخة للأولى، بل كانت مبتدأة، والمفسرة أجمعوا على أنها ناسخة للأولى، ولأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه. الرابع: أن تقلب وجهه في السماء هو الدعاء.
القول الثاني: وهو قول أبي مسلم الأصفهاني، قالوا: لولا الأخبار التي دلت على هذا القول وإلا فلفظ الآية يحتمل وجها آخر، وهو أنه يحتمل أنه عليه السلام إنما كان يقلب وجهه في أول مقدمة المدينة، فقد روي أنه عليه السلام كان إذا صلى بمكة جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، وهذه صلاة إلى الكعبة فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه فانتظر أمر الله تعالى حتى نزل قوله: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) *.
المسألة الثانية: اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدس، فقال قوم: كان بمكة يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا، وقال قوم: بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها: وقال قوم: بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وبالمدينة أولا سبعة عشر شهرا، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح.
المسألة الثالثة: اختلفوا في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس هل كان فرضا لا يجوز غيره، أو كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرا في توجهه إليه وإلى غيره، فقال الربيع بن أنس: قد كان مخيرا في ذلك وقال ابن عباس: كان التوجه إليه فرضا محققا بلا تخيير.
واعلم أنه على أي الوجهين كان قد صار منسوخا، واحتج الذاهبون إلى القول الأول بالقرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) * (البقرة: 115) وذلك يقتضي كونه مخيرا في التوجه إلى أي جهة شاء، وأما الخبر فما روى أبو بكر الرازي في كتاب " أحكام القرآن ": أن نفرا قصدوا الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة، وكان فيهم البراء بن معرور، فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه، وأبى الآخرون وقالوا: إنه عليه السلام يتوجه إلى بيت المقدس، فلما قدموا مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: قد كنت على قبلة - يعني بيت المقدس - لو ثبت عليها أجزأك ولم يأمره باستئناف الصلاة فدل على أنهم قد كانوا مخيرين، واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأنه تعالى قال: * (فلنولينك قبلة ترضاها) * فدل على أنه عليه السلام ما كان يرتضي القبلة الأولى، فلو كان مخيرا بينها وبين الكعبة ما كان يتوجه إليها فحيث توجه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيرا بينها وبين الكعبة.
المسألة الرابعة: المشهور أن التوجه إلى بيت المقدس إنما صار منسوخا بالأمر بالتوجه إلى
124

الكعبة، ومن الناس من قال: التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخا بقوله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) * ثم إن ذلك صار منسوخا بقوله: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * واحتجوا عليه بالقرآن والأثر، أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولا قوله: * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) * ثم ذكر بعد: * (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) * (البقرة: 142) ثم ذكر بعده: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * وهذا الترتيب يقتضي صحة المذهب الذي قلناه بأن التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخا بقوله: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * فلزم أن يكون قوله تعالى: * (سيقول السفهاء من الناس) * متأخرا في النزول والدرجة عن قوله تعالى: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل، فثبت ما قلناه، وأما الأثر فما روي عن ابن عباس أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن، إنما المذكور في القرآن: * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) * فوجب أن يكون قوله: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * ناسخا لذلك، لا للأمر بالتوجه إلى بيت المقدس.
أما قوله: * (فلنولينك قبلة ترضاها) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: * (فلنولينك) * فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا، إذا جعلته واليا له، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سميت بيت المقدس.
المسألة الثانية: قوله: * (ترضاها) * فيه وجوه. أحدها: ترضاها تحبها وتميل إليها، لأن الكعبة كانت أحب إليه من غيرها بحسب ميل الطبع، قال القاضي: هذا لا يجوز فإنه من المحال أن يقول الله تعالى: فلنولينك قبلة يميل طبعك إليها، لأن ذلك يقدح في حكمته تعالى فيما يكلف، ويقدح في حال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يريده في حال التكليف، وهذا الاعتراض ضعيف لأن الطعن إنما يتوجه لو قال الله تعالى: أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها بمجرد ميل طبعك فأما لو قال: أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها لأجل أن الحكمة والمصلحة وافقت ميل طبعك فأي ضرر يلزم منه وقال عليه الصلاة والسلام: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " فكان طبعه يميل إلى الصلاة مع أن المصلحة كانت موافقة لذلك. وثانيها: * (قبلة ترضاها) * أي تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية. وثالثها: قال الأصم: أي كل جهة وجهك الله إليها فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط، كما فعل من انقلب على عقيبه من العرب الذين كانوا قد أسلموا، فلما تحولت القبلة ارتدوا. ورابعها: * (ترضاها) * أي ترضى عاقبتها لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام، فمن يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها أو مال يكتسبه.
125

أما قوله تعالى: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المراد من الوجه ههنا جملة بدن الإنسان لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء لأن الوجه أشرف الأعضاء ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض، فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه.
المسألة الثانية: قال أهل اللغة: الشطر اسم مشترك يقع على معنيين. أحدهما: النصف يقال: شطرت الشيء أي جعلته نصفين، ويقال في المثل أجلب جلبا لك شطره أي نصفه. والثاني: نحوه وتلقاءه وجهته، واستشهد الشافعي رضي الله عنه في كتاب " الرسالة " على هذا بأبيات أربعة: قال خقاف بن ندبة:
ألا من مبلغ عمرا رسولا * وما تغني الرسالة شطر عمرو
وقال ساعدة بن جؤبة: أقول لأم زنباع: أقيمي صدور العيس شطر بني تميم
وقال لقيط الأيادي: وقد أظلكم من شطر شعركم * هول له ظلم يغشاكم قطعا
وقال آخر: إن العسير بها داء مخامرها * فشطرها بصر العينين مسحور
قال الشافعي رضي الله عنه: يريد تلقاءها بصر العينين مسحور، إذا عرفت هذا فنقول: في الآية قولان:
الأول: وهو قول جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين، واختيار الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة: أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه وجانبه، قرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام.
القول الثاني: وهو قول الجبائي واختيار القاضي أن المراد من الشطر ههنا: وسط المسجد ومنتصفه لأن الشطر هو النصف، والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب، فلما كان الواجب هو التوجه إلى الكعبة، وكانت الكعبة واقعة في نصف المسجد حسن منه تعالى أن يقول: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * يعني النصف من كل جهة، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة، قال القاضي: ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان. الأول: أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجها إلى المسجد، ولكن لا يكون متوجها إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لا تصح صلاته. الثاني: أنا لو فسرنا الشطر بالجانب لم يبق لذكر الشطر مزيد فائدة
126

لأنك إذا قلت فول وجهك شطر المسجد الحرام فقد حصلت الفائدة المطلوبة، أما لو فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة، فإنه لو قيل: فول وجهك المسجد الحرام لا يفهم منه وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو موضع الكعبة، فلما قيل: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * حصلت هذه الفائدة الزائدة، فكان حمل هذا اللفظ على هذا المحمل أولى فإن قيل: لو حملنا الشطر على الجانب يبقى لذكر الشطر فائدة زائدة، وهي أنه لو قال: فول وجهك المسجد الحرام، لزم تكليف ما لا يطاق، لأن من في أقصى المشرق أو المغرب لا يمكنه أن يولي وجهه المسجد، أما إذا قال: فول وجهك شطر المسجد الحرام، أي جانب المسجد، دخل فيه الحاضرون والغائبون قلنا: هذه الفائدة مستفادة من قوله: * (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * فلا يبقى لقوله: شطر المسجد الحرام زيادة فائدة هذا تقرير هذا
الوجه وفيه إشكال لأنه يصير التقدير فول وجهك نصف المسجد وهذا بعيد لأن هذا التكليف لا تعلق له بالنصف، وفرق بين النصف وبين الموضع الذي عليه يقبل التنصيف والكلام إنما يستقيم لو حمل على الثاني، إلا أن اللفظ لا يدل عليه، وقد اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام أي شيء هو؟ فحكي في كتاب " شرح السنة " عن ابن عباس أنه قال: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب وهذا قول مالك. وقال آخرون: القبلة هي الكعبة والدليل عليه ما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، قال: أخبرني أسامة بن زيد، قال لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج صلى ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة، قال القفال: وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة، وفي خبر البراء بن عازب: ثم صرف إلى الكعبة وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء: فأتاهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حول إلى الكعبة وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس: جاء منادي رسول الله فنادى: أن القبلة حولت إلى الكعبة وهكذا عامة الروايات وقال آخرون: بل المراد المسجد الحرام كله، قالوا: لأن الكلام يجب إجراؤه على ظاهر لفظه إلا إذا منع منه مانع، وقال آخرون: المراد من المسجد الحرام الحرم كله والدليل عليه قوله تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) * (الإسراء: 1) وهو عليه الصلاة والسلام إنما أسرى به خارج المسجد، فدل هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام.
المسألة الثالثة: قال صاحب التهذيب: الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف
127

الإمام خلف المقام والقوم يقفون مستديرين بالبيت، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز، فلو امتد الصف في المسجد فإنه لا تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة، وعند أبي حنيفة تصح، لأن عنده الجهة كافية وهذا اختيار الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء، حجة الشافعي رضي الله عنه: القرآن والخبر والقياس، أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه وجانب الشيء هو الذي يكون محاذيا له وواقعا في سمته والدليل عليه أنه إنما يقال: إن زيدا ولى وجهه إلى جانب عمرو ولو قابل بوجهه وجهه وجعله محاذيا له، حتى أنه لو كان وجه كل واحد منهما إلى جانب المشرق، إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذيا لوجه الآخر، لا يقال: إنه ولى وجهه إلى جانب عمرو فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب.
وأما الخبر فما روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قبلة الكعبة وقال: هذه القبلة وهذه الكلمة تفيد الحصر فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة وكذلك سائر الأخبار التي رويناها في أن القبلة هي الكعبة، وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعظيم الكعبة أمر بلغ مبلغ التواتر والصلاة من أعظم شعائر الدين وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة بما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة فوجب أن يكون مشروعا ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك، والأولى رعاية الاحتياط في الصلاة فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة، واحتج أبو حنيفة بأمور. الأول: ظاهر هذه الآية وذلك لأنه تعالى أوجب على المكلف أن يولي وجهه إلى جانبه فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه فقد أتى بما أمر به سواء كان مستقبلا للكعبة أم لا فوجب أن يخرج عن العهدة، وأما الخبر فما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: " ما بين المشرق والمغرب قبلة "، قال أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى: ليس المراد من هذا الحديث أن كل ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة: لأن جانب القطب الشمالي يصدق عليه ذلك وهو بالاتفاق ليس بقبلة بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ومغرب معين قبلة ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي وبين المغرب الصيفي فإن ذلك قبلة وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والذي بينهما هو سمت مكة قالوا: فهذا الحديث بأن يدل على مذهبنا أولى منه بالدلالة على مذهبكم أما فعل الصحابة فمن وجهين. الأول: أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين لبيت
128

المقدس، مستدبرين للكعبة، لأن المدينة بينهما فقيل لهم: ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة، فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وسمي مسجدهم بذي القبلتين، ومقابلة العين من المدينة إلى مكة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل. الثاني: أن الناس من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا قط مهندسا عند تسوية المحراب، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة.
وأما القياس فمن وجوه. الأول: لو كان استقبال عين الكعبة واجبا إما علما أو ظنا، وجب أن لا تصح صلاة أحد قط، لأنه إذا كان محاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعا فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة هذا المقدار، بل المعلوم أن الذي يقع منهم في محاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير، ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب، والنادر ملحق به، فوجب أن لا تصح صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في محاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في محاذاتها، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة غير معتبرة فإن قيل: الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة، والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائرة إلا أن الدائرة إذا صغرت صغر التقوس والانحناء في جميعها، وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسميها، بل نرى كل قطعة منها شبيها بالخط المستقيم، فلا جرم صحت الجماعة بصف طويل في المشرق والمغرب يزيد طولها على أضعاف البيت، والكل يسمون متوجهين إلى عين الكعبة، قلنا: هب أن الأمر على ما ذكرتموه ولكن القطعة من الدائرة العظيمة وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في الحس، إلا أنها لا بد وأن تكون منحنية في نفسها، لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة، وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة، فحينئذ تكون الدائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتصل بعضها ببعض، فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطأ مستقيما وكل ذلك محال، فعلمنا أن كل قطعة من الدائرة الكبيرة
فهي في نفسها منحنية، فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منهم مستقبلا لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على الخط المستقيم، بل إذا حصل فيها ذلك الانحناء القليل إلا أن ذلك الانحناء القليل الذي ل
129

لا يفي بإدراكه الحس البتة، لا يمكن أن يكون في محل التكليف، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلا بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أم لا فلو كان استقبال عين الكعبة شرطا لكان حصول هذا الشرط مجهولا للكل، والشك في حصول الشرط يقتضي الشك في حصول المشروط، فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكا في صحة صلاته، وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العهدة البتة، وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علما ولا ظنا، وهذا كلام بين. الثاني: أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجبا ولا سبيل إليه إلا بالدلالة الهندسية، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجبا على كل أحد، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب فإن قيل: عندنا استقبال عين الجهة واجب ظنا لا يقينا، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقينا لا ظنا، قلنا: لو كان استقبال عين الكعبة واجبا لكان القادر على تحصيل اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن، والرجل قادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة واجب. الثالث: لو كان استقبال العين واجبا إما علما أو ظنا، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الإمارات، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الامارات فرض عين على كل واحد من المكلفين، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال العين غير واجب.
المسألة الرابعة: في دلائل القبلة: اعلم أن الدلائل إما أرضية وهي الاستدلال بالجبال، والقرى، والأنهار، أو هوائية وهي الاستدلال بالرياح، أو سماوية وهي النجوم.
أما الأرضية والهوائية غير مضبوطة ضبطا كليا، فرب طريق فيه جبل مرتفع لا يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه، فكذلك الرياح قد تدل في بعض البلاد ولسنا نقدر على استقصاء ذلك، إذ كل بلد بحكم آخر في ذلك.
أما السماوية فأدلتها منها تقريبية ومنها تحقيقية، أما التقريبية فقد قالوا: هذه الأدلة إما أن تكون نهارية أو ليلية، أما النهارية فالشمس فلا بد وأن يراعى قبل الخروج من البلد أن الشمس عند الزوال أهي بين الحاجبين، أم هي على العين اليمنى أم اليسرى، أو تميل إلى الجبين ميلا أكثر من ذلك، فإن الشمس لا تعدو في البلاد الشمالية هذه المواقع، وكذلك يراعى موقع الشمس وقت العصر، وأما وقت المغرب فإنما يعرف ذلك بموضع الغروب، وهو أن يعرف بأن الشمس
130

تغرب عن يمين المستقبل، أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه، وكذلك يعرف وقت العشاء الآخرة بموضع الشفق، ويعرف وقت الصبح بمشرق الشمس، فكان الشمس تدل على القبلة في الصلوات الخمس، ولكن يختلف حكم ذلك بالشتاء والصيف، فإن المشارق والمغارب كثيرة، وكذلك يختلف الحكم في هذا الباب بحسب اختلاف البلاد، وأما الليلية فهو أن يستدل على القبلة بالكوكب الذي يقال له الجدي، فإنه كوكب كالثابت لا تظهر حركته من موضعه، وذلك إما أن يكون على قفا المستقبل أو منكبه الأيمن من ظهره، أو منكبه الأيسر في البلاد الشمالية من مكة، وفي البلاد الجنوبية منها، كاليمن وما وراءها يقع في مقابلة المستقبل فليعلم ذلك وما عرفه ببلده فليعول عليه في الطريق كله، إلا إذا طال السفر فإن المسافة إذا بعدت اختلف موقع الشمس، وموقع القطر، وموقع المشارق والمغارب إلى أن ينتهي في أثناء سفره إلى بلد، فينبغي أن يسأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو مستقبل محراب جامع البلد حتى يتضح له ذلك فمهما تعلم هذه الأدلة فله أن يعول عليها.
وأما الطريقة اليقينية وهي الوجوه المذكورة في كتب الهيئة قالوا: سمت القبلة نقطة التقاطع بين دائرة الأفق، وبين دائرة عظيمة تمر بسمت رؤسنا ورؤوس أهل مكة، وانحراف القبلة قوس من دائرة الأفق ما بين سمت القبلة دائرة نصف النهار في بلدنا، وما بين سمت القبلة ومغرب الاعتدال تمام الانحراف قالوا: ويحتاج في معرفة سمت القبلة إلى معرفة طول مكة وعرضها، فإن كان طول البلد مساويا لطول مكة وعرضها مخالف لعرض مكة، كان سمت قبلتها على خط نصف النهار فإن كان البلد شماليا فإلى الجنوب وإن كان جنوبيا فإلى الشمالي، وأما إذا كان عرض البلد مساويا لعرض مكة وطوله مخالفا لطولها فقد يظن أن سمت قبلة ذلك البلد على خط الاعتدال وهو ظن خطأ وقد يمكن أيضا في البلاد التي أطوالها وعروضها مخالفة لطول مكة وعرضها، أن يكون سمت قبلتها مطلع الاعتدال ومعربه وإذا كان كذلك فلا بد من استخراج قدر الانحراف ولذلك طرق أسهلها أن يعرف الجزء الذي يسامت رؤس أهل مكة من فلك البروج وهو (زيح) من الجوزاء (وكج ح) من السرطان فيضع ذلك الجزء على خط وسط السماء في الأسطرلاب المعمول لعرض البلد، ويعلم على المرئي علامة، ثم يدير العنكبوت إلى ناحية المغرب إن كان البلد شرقيا عن مكة كما في بلاد خراسان والعراق بقدر ما بين الطولين من أجزاء الخجرة ثم ينظر أين وقع ذلك الجزء من مقنطرات الارتفاع فما كان فهو الارتفاع الذي عنده يسامت ذلك الجزء رؤوس أهل مكة، ثم يرصد مسامتة الشمس ذلك الجزء فإذا انتهى ارتفاع الشمس إلى ذلك الارتفاع فقد سامتت
131

الشمس رؤس أهل مكة فينصب مقياسا ويخط على ظل المقياس خطا من مركز العمود إلى طرف الظل فذلك الخط خط الظل فيبني عليه المحراب فهذا هو الكلام في دلائل القبلة.
المسألة الخامسة: معرفة دلائل القبلة فرض على العين أم فرض على الكفاية ففيه وجهان أصحهما فرض على العين، لأن كل مكلف فهو مأمور بالاستقبال ولا يمكنه الاستقبال إلا بواسطة معرفة دلائل القبلة، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب.
المسألة السادسة: اعلم أن قوله تعالى: * (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * عام في الأشخاص والأحوال، إلا أنا أجمعنا على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب، بل أنه طاعة لقوله عليه السلام: " خير المجالس ما استقبل به القبلة " فيبقى أن وجوب الاستقبال من خواص الصلاة، ثم نقول: الرجل إما أن يكون معاينا للقبلة
أو غائبا عنها، أما المعاين فقد أجمعوا على أنه يجب عليه الاستقبال، وأما الغائب فإما أن يكون قادر على تحصيل اليقين أو لا يقدر عليه، لكنه يقدر على تحصيل الظن أو لا يقدر على تحصيل اليقين ولا على تحصيل الظن فهذه أقسام ثلاثة:
القسم الأول: القادر على تحصيل العلم وفيه بحثان:
البحث الأول: قد عرفت أن الغائب عن القبلة لا سبيل له إلى تحصيل اليقين بجهة القبلة إلا بالدلائل الهندسية، وما لا سبيل إلى أداء الواجب إلا به فهو واجب، فيلزم من هذا أن يكون تعلم الدلائل الهندسية فرض عين على كل أحد إلا أن الفقهاء قالوا: إن تعلمها غير واجب بل ربما قالوا: إن تعلمها مكروه أو محرم ولا أدري ما عذرهم فيه هذا؟
البحث الثاني: المصلي إذا كان بأرض مكة وبينه وبين الكعبة حائل واشتبه عليه فهل له أن يجتهد؟ قال صاحب " التهذيب " نظر إن كان الحائل أصليا كالجبال فله الاجتهاد، وإن لم يكن أصليا كالأبنية فعلى وجهين. أحدهما: له الاجتهاد لأن بينه وبينها حائلا يمنع المشاهدة كما في الحائل الأصلي. والثاني: ليس له الاجتهاد لأن فرضه الرجوع إلى اليقين، وهو قادر على تحصيل اليقين فوجب أن لا يكتفي فيه بالظن، وهذا الوجه هو اللائق بمساق الآية، لأنها لما دلت على وجوب التوجه إلى الكعبة والمكلف إذا كان قادرا على تحصيل العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن، فوجب عليه طلب اليقين.
القسم الثاني: القادر على تحصيل الظن دون اليقين. واعلم أن لتحصيل هذا الظن طرقا:
الطريق الأول: الاجتهاد وظاهر قول الشافعي رضي الله عنه يقتضي أن الاجتهاد يقدم على الرجوع إلى قول الغير وهو الحق، والذي يدل عليه وجوه. أحدها: قوله تعالى: * (فاعتبروا يا أولي
132

الأبصار) * (الحشر: 2) أمر بالاعتبار، والرجل قادر على الاعتبار في هذه الصورة، فوجب أن يتناوله الأمر. وثانيها: أن ذلك الغير إنما وصل إلى جهة القبلة بالاجتهاد، لأنه لو عرف القبلة بالتقليد أيضا لزم إما التسلسل أو الدور وهما باطلان، فلا بد من الانتهاء آخر الأمر إلى الاجتهاد فيرجع حاصل الكلام إلى أن الاجتهاد أولى أم تقليد صاحب الاجتهاد؟ ولا شك أن الأول أولى لأنه إذا أتى بالاجتهاد فلا يتطرق إليه احتمال الخطأ من جهة واحدة، فإذا قلد صاحب الاجتهاد فقد تطرق إلى عمله احتمال الخطأ من وجهين، ولا شك أنه متى وقع التعارض بين طريقين فأقلهما خطأ أولى بالرعاية. وثالثها: قوله عليه السلام: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " فههنا أمر بالاستقبال وهو قادر على الاجتهاد في الطلب فوجب أن يجب عليه ذلك.
فإن قيل: أليس أن صاحب " التهذيب " ذكر أنه إذا كان في قرية كبيرة فيها محاريب منصوبة إلى جهة واحدة أو وجد محرابا أو علامة للقبلة في طريق هي جادة للمسلمين يجب عليه أن يتوجه إليها ولا يجوز له الاجتهاد في الجهة، قال: لأن هذه العلامات كاليقين، أما في الانحراف يمنة أو يسرة فيجوز أن يجتهد مع هذه العلامات وكان عبد الله بن المبارك يقول بعد رجوعه من الحج: تياسروا يا أهل مرو وكذلك لو أخبره مسلم بأن قال، رأيت غالب المسلمين أو جماعة المسلمين اتفقوا على هذه الجهة فعليه قبوله وليس هذا بتقليد، بل هو قبول الخبر من أهله كما في الوقت، وهو ما إذا أخبره عدل: إني رأيت الفجر قد طلع أو الشمس قد زالت يجب قبول قوله، هذا كله لفظ صاحب " التهذيب "، واعلم أن هذا الكلام مشكل من وجوه. أحدها: أنه لا معنى للتقليد إلا قبول قول الغير من غير حجة ولا شبهة، فإذا قبلنا قول الغير أو فعله في تعيين القبلة من غير حجة ولا شبهة كان هذا تقليدا، ونحن قد ذكرنا الدليل على أن القادر على الاجتهاد لا بد وأن يكون مأمورا بالاجتهاد. وثانيها: أنه جوز المخالفة في اليمين واليسار بناء على الاجتهاد فنقول: هو قادر على تحصيل الظن بناء على الاجتهاد الذي يتولاه بنفسه، فوجب أن تجوز له المخالفة كما في اليمين واليسار. وثالثها: إما أن يكون ممنوعا من الاجتهاد، أو من العمل بمقتضى الاجتهاد، والأول باطل، لأن معاذا لما قال: اجتهد برأي مدحه الرسول عليه السلام على ذلك، فدل على أن الاجتهاد غير ممنوع عنه، والثاني أيضا باطل لأنه لما علم أو ظن أن القبلة ليست في الجهة التي فيها المحاريب فلو وجب عليه التوجه إلى ذلك المحراب لكان ذلك ترجيحا للتقليد على الاستدلال وأنه خطأ. ورابعها: أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يجوز للمجتهد تقليد المجتهد، فالقادر على تحصيل جهة القبلة بالأمارات كيف يجوز له تقليد محاريب البلاد؟ واحتج القائلون بترجيح محاريب الأمصار على
133

البلاد من وجوه. الأول: أنها كالتواتر مع الاجتهاد، فوجب رجحانه عليه. والثاني: أن الرجل إذا رأى المؤذن فرغ من الأذان والإقامة وقد تقدم الإمام، فههنا لا يحتاج إلى تعرف الوقت فكذا ههنا. الثالث: أن أهل البلد رضوا به، والظاهر أنه لو كان خطأ لتنبهوا له، ولو تنبهوا له لما رضوا به، فهذا ما يمكن أن يقال في الجانبين. الطريق الثاني: الرجوع إلى قول الغير، مثل ما إذا أخبره عدل عن كون القبلة في هذه الجهة فهذا يفيد ظن أن القبلة هناك، واتفقوا على أنه لا بد من شرطين: الإسلام والعقل، فلا عبرة في هذا الباب بقول الكافر والمجنون ولا بعلمهما، واختلفوا في شرائط ثلاثة. أولها: البلوغ. حكى الخيضري نصا عن الشافعي أنه لا يقبل قول الصبي، وحكى أبو زيد أيضا عن الشافعي أنه يقبل. وثانيها: العدالة قالوا: لا يقبل خبر الفاسق لأنه كالشهادة، وقيل: يقبل. وثالثها: العدد، فمنهم من اعتبره كما في الشهادة لا سيما الذين اعتبروا العدد في الرواية أيضا، ومنهم من لم يعتبر العدد ويتفرع على ما قلناه أحكام. أولها: أن كل من كان الأخذ بقوله يفيد ظنا أقوى كان الأخذ بقوله مقدما على الأخذ بقول من يفيد ظنا أضعف مثاله أن تقليد المتيقن راجح على تقليد الظان بالاجتهاد، وتقليد المجتهد الظان أولى من تقليد من قلد غيره وهلم جرا. وثانيها: أنه إذا علم أن الاجتهاد لا يتم إلا بعد انقضاء الوقت، فالأولى له تحصيل الاجتهاد حتى تصير الصلاة قضاء أو تقليد الغير حتى تبقى الصلاة أداء فيه تردد. وثالثها: أن من لا يعرف دلائل القبلة فله الرجوع إلى قول الغير حين الصلاة بل يجب.
الطريق الثالث: إن شاهد في دار الإسلام محرابا منصوبا جاز له التوجه إليه على التفصيل الذي تقدم، أما إذا رأى القبلة منصوبة في طريق يقل فيه مرور الناس أو في
طريق يمر فيه المسلمون والمشركون ولا يدري من نصبها أو رأى محرابا في قرية ولا يدري بناه المسلمون أو المشركون أو كانت قرية صغيرة للمسلمين لا يغلب على الظن كون أهلها مطلعين على دلائل القبلة وجب عليه الاجتهاد.
الطريق الرابع: ما يتركب من الاجتهاد وقول الغير، وهو أن يخبره إنسان بمواقع الكواكب وكان هو عالما بالاستدلال بها على القبلة، فههنا يجب عليه الاستدلال بما يسمع إذا كان عاجزا عن رؤيتها بنفسه.
القسم الثالث: الذي عجز عن تحصيل العلم والظن، وهو الكائن في الظلمة التي خفيت الأمارات بأسرها عليه أو الأعمى الذي لا يجد من يخبره، أو تعارضت الأمارات لديه وعجز عن
134

الترجيح، وفيه أبحاث:
البحث الأول: أن هذا الشخص يستحيل أن يكون مأمورا بالاجتهاد، لأن الاجتهاد من غير دلالة ولا أمارة تكليف ما لا يطاق وهو منفي، فلم يبق إلا أحد أمور ثلاثة: إما أن يقال التكاليف بالصلاة مشروط بالاستقبال، وتعذر الشرط يوجب سقوط التكليف بالمشروط، فههنا لا تجب عليه الصلاة، أو يقال: شرط الاستقبال قد سقط عن المكلف بعذر أقل من هذا، وهو حال المسابقة فيسقط ههنا أيضا، فيجب عليه أن يأتي بالصلاة إلى أي جهة شاء، ويسقط عنه شرط الاستقبال، أو يقال: إنه يأتي بتلك الصلاة إلى جميع الجهات ليخرج عن العهدة بيقين، فهذه هي الوجوه الممكنة، أما سقوط الصلاة عنه فذلك باطل بالإجماع، وأيضا فلأنا رأينا في الشرع في الجملة أن الصلاة صحت بدون الاستقبال كما في حال المسايفة وفي النافلة، وأما إيجاب الصلاة إلى جميع الجهات فهو أيضا باطل لقيام الدلالة على أن الواجب عليه صلاة واحدة، ولقائل أن يقول: أليس أن من نسي صلاة من صلوات يوم وليلة ولا يدري عينها فإنها يجب عليها قضاء تلك الصلوات بأسرها ليخرج عن العهدة باليقين، فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك؟ قالوا: ولما بطل القسمان تعين الثالث وهو التخيير في جميع الجهات.
البحث الثاني: أنه إذا مال قلبه إلى أن هذه الجهة أولى بأن تكون قبلة من سائر الجهات، من غير أن يكون ذلك الترجيح مبنيا على استدلال، بل يحصل ذلك بمجرد التشهي وميل القلب إليه فهل يعد هذا اجتهادا، وهل المكلف مكلف بأن يعول عليه أم لا؟ الأولى أن يكون ذلك معتبرا لقوله عليه السلام: " المؤمن ينظر بنور الله " ولأن سائر وجوه الترجيح لما انسدت وجب الاكتفاء بهذا القدر.
البحث الثالث: إذا أدى هذه الصلاة فالظاهر يقتضي أن لا يجب القضاء، لأنه أدى وظيفة الوقت وقد صحت منه، فوجب أن لا تجب عليه الإعادة، وظاهر قول الشافعي رضي الله عنه أنه تجب الإعادة سواء بأن صوابه أو خطؤه.
المسألة السابعة؛ تجوز الصلاة في جوف الكعبة عند عامة أهل العلم، ويتوجه إلى أي جانب شاء وقال مالك: يكره أن يصلى في الكعبة المكتوبة لأن من كان داخل الكعبة لا يكون متوجها إلى كل الكعبة، بل يكون متوجها إلى بعض أجزائها، ومستدبرا عن بعض أجزائها، وإذا كان كذلك لم يكن مستقبلا لكل الكعبة فوجب أن لا تصح صلاته لأن الله تعالى أمر باستقبال البيت قال: وأما النافلة فجائزة، لأن استقبال القبلة فيها غير واجب، حجة الجمهور ما أخرجه الشيخان
135

في الصحيحين، ورواه الشافعي رضي الله عنه أيضا عن مالك عن نافع عن ابن عمر، أنه عليه الصلاة والسلام دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد، وعثمان بن أبي طلحة وبلال فأغلقها عليه ومكث فيها، قال عبد الله بن عمر: فسألت بلالا حين خرج: ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: جعل عمودا عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى، واعلم أن الاستدلال بهذا الخبر ضعيف من وجوه. أحدها: أن خبر الواحد لا يعارض ظاهر القرآن. وثانيها: لعل تلك الصلاة كانت نافلة، وذلك عند مالك جائز. وثالثها: أن مالكا خالف هذا الخبر ومخالفة الراوي وإن كانت لا توجب الطعن في الخبر إلا أنها تفيد نوع مرجوحية بالنسبة إلى خبر واحد حلى عن هذا الطعن، فكيف بالنسبة إلى القرآن. ورابعها: أن الشيخين أوردا في الصحيحين عن ابن جريح عن عطاء: سمعت ابن عباس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: " هذه القبلة " والتعارض حاصل من وجهين. الأول: أن النفي والإثبات يتعارضان. والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: " هذه القبلة " يدل على أنه لا بد من توجه ذلك الموضع ومن جوز الصلاة داخل البيت لا يوجب عليه استقبال ذلك الموضع بل جوز استدباره. والجواب: عن استدلال مالك رحمه الله أن نقول قوله: (وحيثما كنتم) إما أن يكون صيغة عموم أو لا يكون فإن كان صيغة عموم فقد تناول الإنسان الذي يكون في البيت فكأنه تعالى أمر من كان في البيت أن يتوجه إليه، فالآتي به يكون خارجا عن العهدة، وإن لم يكن صيغة عموم لم تكن الآية متناولة لهذه المسألة البتة، فلا تدل على حكمها لا بالنفي ولا بالإثبات، ثم المعتمد في المسألة أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يتوجه إلى كل البيت، بل إنما يمكنه أن يتوجه إلى جزء من أجزاء البيت والذي في البيت يتوجه إلى جزء من أجزاء البيت فقد كان آتيا بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة.
المسألة الثامنة: اعلم أن الكعبة عبارة عن أجسام مخصوصة هي السقف والحيطان والبناء، ولا شك أن تلك الأجسام حاصلة في أحياز مخصوصة، فالقبلة إما أن تكون تلك الأحياز فقط، أو تلك الأجسام فقط، أو تلك الأجسام بشرط حصولها في تلك الأحياز لا جائز أن يقال أنها تلك الأجسام فقط، لأنا أجمعنا على أنه لو نقل تراب الكعبة وما في بنائها من الأحجار والخشب إلى موضع آخر وبني به بناء وتوجه إليه أحد في الصلاة لم يجز ذلك، ولا جائز أن يقال:
136

إنها تلك الأجسام بشرط كونها في تلك الأحياز لأن الكعبة لو انهدمت والعياذ بالله، وأزيل عن تلك الأحياز تلك الأحجار والخشب، وبقيت العرصة خالية، فإن أهل المشرق والمغرب إذا توجهوا إلى ذلك الجانب صحت صلاتهم وكانوا مستقبلين للقبلة، فلم يبق إلا أن يقال: القبلة هو ذلك الخلاء الذي حصل فيه تلك الأجسام، وهذا
المعنى كما ثبت بالدليل العقلي الذي ذكرناه، فهو أيضا مطابق للآية لأن المسجد الحرام اسم لذلك البناء المركب من السقف والحيطان والمقدار وجهة المسجد الحرام هو الأحياز التي حصلت فيها تلك الأجسام، فإذا أمر الله تعالى بالتوجه إلى جهة المسجد الحرام، كانت القبلة هو ذلك القدر من الخلاء والفضاء، إذا ثبت هذا فنقول: قال أصحابنا: لو انهدمت الكعبة والعياذ بالله، فالواقف في عرصتها لا تصح صلاته لأنه لا يعد مستقبلا للقبلة، وذكر ابن سريج أنه يصح، وهو قول أبي حنيفة، والاختيار عندي والدليل عليه ما بينا أن القبلة هي ذلك القدر المعين من الخلاء، والواقف في العرصة مستقبل لجزء من أجزاء ذلك الخلاء فيكون مستقبلا للقبلة، فوجب أن تصح صلاته، وقالوا أيضا: الواقف على سطح الكعبة من غير أن يكون في قبالته جدار لا تصح صلاته إلا على قول ابن سريج وهو الاختيار عندي، لأنه مستقبل لذلك الخلاء والفضاء الذي هو القبلة فوجب أن تصح صلاته.
المسألة التاسعة: لما دلت الآية على وجوب الاستقبال، وثبت بالعقل أنه لا سبيل إلى الاستقبال إلى الجهات إلا بالاجتهاد، وثبت بالعقل أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لزم القطع بوجوب الاجتهاد والاجهاد لا بد وأن يكون مبنيا على الظن، فكانت الآية دالة على التكليف بالظن، فثبت بهذا أن التكليف بالظن واقع في الجملة وقد استدل الشافعي رضي الله عنه بذلك على أن القياس حجة في الشرع وهو ضعيف لأنه إثبات للقياس بالقياس وذلك لا سبيل إليه والله أعلم.
المسألة العاشرة: الظاهر أنه لا يجب نية استقبال القبلة لأن الآية دلت على وجوب الاستقبال والآتي به آت بما دلت الآية عليه، فوجب أن لا يجب عليه نية أخرى، كما في ستر العورة وطهارة المكان والثوب.
المسألة الحادية عشرة: استقبال القبلة ساقط عند قيام العذر كما في حال المسايفة، ويلحق به الخوف على النفس من العدو، أو من السبع، أو من الجمل الصائل، أو عند الخطأ في القبلة بسبب التيامن والتياسر، أو في أداء النوافل، وهذا يقتضي أن العاجز عن تحصيل العلم والظن إذا أدى الصلاة أن يسقط عنه القضاء، وكذا المجتهد إذا بان له تعين الخطأ.
137

المسألة الثانية عشرة: إذا توجه إلى جهة ثم تغير اجتهاده وهو في الصلاة فعليه أن ينحرف ويتحول ويبني لأن عارض الاجتهاد لا يبطل السابق، فكذلك فيمن صدق مخبرا، ثم جاء آخر نفسه إليه أسكن فأخبره بخلافه، فهذا ما يتعلق بالمسائل المستنبطة من هذه الآية في حكم الاستقبال والله أعلم.
قوله تعالى: * (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا ليس بتكرار، وبيانه من وجهين. أحدهما: أن قوله تعالى: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * خطاب مع الرسول عليه السلام لا مع الأمة، وقوله: * (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * خطاب مع الكل. وثانيهما: أن المراد بالأولى مخاطبتهم وهم بالمدينة خاصة، وقد كان من الجائز لو وقع الاختصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل المدينة خاصة، فبين الله تعالى أنهم أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة.
المسألة الثانية: قوله: * (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * يعني: وأينما كنتم وموضع (كنتم) من الإعراب جزم بالشرط كأنه قيل: حيثما تكونوا، والفاء جواب.
أما قوله تعالى: * (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد بقوله: * (وإن الذين أوتوا الكتاب) * اليهود خاصة، والكتاب هو التوراة عن السدي، وقيل: بل المراد أحبار اليهود وعلماء النصارى وهو الصحيح لعموم اللفظ والكتاب المتقدم هو التوراة والإنجيل، ولا بد أن يكونوا عددا قليلا لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: * (أنه الحق) * راجع إلى مذكور سابق، وقد تقدم ذكر الرسول كما تقدم ذكر القبلة، فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها، ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة، وأنهم يعلمون أنه الحق، وهذا الاحتمال الأخير أقرب لأنه أليق بالكلام إذ المقصود بالآية ذلك دون غيره، ثم اختلفوا في أنهم كيف عرفوا ذلك؟ وذكروا فيه وجوها. أحدها: أن قوما من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وخبر القبلة وأنه يصلي إلى القبلتين. وثانيها: أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وثالثها: أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر عليه من المعجزات،
138

ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق فكان هذا التحويل حقا.
وأما قوله: * (وما الله بغافل عما يعملون) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن عمار وحمزة والكسائي: * (تعملون) * بالتاء على الخطاب للمسلمين، والباقون بالياء على أنه راجع إلى اليهود.
المسألة الثانية: إنا إن جعلناه خطابا للمسلمين فهو وعد لهم وبشارة أي لا يخفى على جدكم واجتهادهم في قبول الدين، فلا أخل بثوابكم، وإن جعلناه كلاما مع اليهود فهو وعيد وتهديد لهم، ويحتمل أيضا أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم وإن لم يعجلها لهم كقوله تعالى: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخر ليوم تشخص فيه الأبصار) * (إبراهيم: 42).
* (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك ومآ أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهوآءهم من بعد ما جآءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين) *
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن هذه القبلة حق، بين بعد ذلك صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في قوله: * (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب) * فقال الأصم: المراد علماؤهم الذين أخبر الله تعالى عنهم في الآية المتقدمة بقوله: * (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم) * (البقرة: 144) واحتج عليه بوجوه. أحدها: قوله: * (ولئن اتبعت أهواءهم) * فوصفهم بأنهم يتبعون الهوى، ومن اعتقد في الباطل أنه حق فإنه لا يكون متبعا لهوى النفس، بل يكون في ظنه أنه متبع للهدى فأما الذين يعلمون بقلوبهم، ثم ينكرون بألسنتهم، فهم المتبعون للهوى. وثانيها: أن ما قبل هذه الآية وهو قوله: * (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلموا أنه الحق) * لا يتناول عوامهم بل هو مختص بالعلماء، وما بعدها وهو قوله: * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) * (الأنعام: 20) مختص بالعلماء أيضا إذ لو كان عاما في الكل امتنع الكتمان لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكتمان، وإذا كان ما
139

قبلها وما بعدها خاصا فكذا هذه الآية المتوسطة. وثالثها: أن الله تعالى أخبر عنهم بأنهم مصرون على قولهم، ومستمرون على باطلهم، وأنهم لا يرجعون عن ذلك المذهب بسبب شيء من الدلائل والآيات، وهذا شأن المعاند اللجوج، لا شأن المعاند المتحير. ورابعها: أنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذبا لأن كثيرا من أهل الكتاب آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وتبع قبلته.
وقال آخرون: بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واحتجوا عليه بأن قوله: * (الذين أوتوا الكتاب) * صيغة عموم فيتناول الكل، ثم أجابوا عن الحجة الأولى أن صاحب الشبهة صاحب هوى في الحقيقة، لأنه ما تمم النظر والاستدلال فإنه لو أتى بتمام النظر والاستدلال لوصل إلى الحق، فحيث لم يصل إليه علمنا أنه ترك النظر التام بمجرد الهوى، وأجابوا عن الحجة الثانية بأنه ليس يمتنع أن يراد في الآية الأولى بعضهم، وفي الآية الثانية كلهم، وأجابوا عن الحجة الثالثة أن العلماء لما كانوا مصرين على الشبهات، والعوام كانوا مصرين على اتباع أولئك العلماء كان الإصرار حاصلا في الكل، وأجابوا عن الحجة الرابعة بأنه تعالى أخبر عنهم أنهم بكليتهم لا يؤمنون، وقولنا: كل اليهود لا يؤمنون مغاير لقولنا إن أحدا منهم لا يؤمن.
المسألة الثانية: احتج الكعبي بهذه الآية على جواز أن لا يكون في المقدور لطف لبعضهم، قال: لأنه لو حصل في المقدور لهؤلاء لطف، لكان في جملة الآيات ما لو أتاهم به لكانوا يؤمنون، فكان لا يصح هذا الخبر على وجه القطع.
المسألة الثالثة: احتج أبو مسلم بهذه الآية على أن علم الله تعالى في عباده وما يفعلونه ليس بحجة لهم فيما يرتكبون، فإنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به ويتركوا ضده الذي نهوا عنه، واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق وهو أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يتبعون قبلته، فلو اتبعوا قبلته لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا وعلمه جهلا وهو محال، ومستلزم المحال محال، فكان ذلك محالا وقد أمروا به فقد أمروا بالمحال وتمام القول فيه مذكور في قوله تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6).
المسألة الرابعة: إنما حكم الله تعالى عليهم بأنهم لا يرجعون عن أباطيلهم بسبب البرهان، وذلك لأن إعراضهم عن قبول هذا الدين ليس عن شبهة يزيلها بإيراد الحجة، بل هو محض المكابرة والعناد والحسد، وذلك لا يزول بإيراد الدلائل.
المسألة الخامسة: اختلفوا في قوله: * (ما تبعوا قبلتك) * قال الحسن والجبائي: أراد جميعهم، كأنه قال: لا يجتمعون على اتباع قبلتك، على نحو قوله: * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) * (الأنعام: 35) وقال
140

الأصم وغيره: بل المراد أن أحدا منهم لا يؤمن، قال القاضي: إن أريد بأهل الكتاب كلهم العلماء منهم والعوام فلا بد من تأويل الحسن، وإن أريد به العلماء نظرنا فإن كان في علمائهم المخاطبين بهذه الآية من قد آمن وجب أيضا ذلك التأويل، وإن لم يكن فيهم من قد آمن صح إجراؤه على ظاهره في رجوع النفي إلى كل واحد منهم، لأن ذلك أليق بالظاهر إذ لا فرق بين قوله: * (ما تبعوا قبلتك) * وبين قوله: ما تبع أحد منهم قبلتك.
المسألة السادسة: * (لئن) * بمعنى * (لو) * وأجيب بجواب لو وللعلماء فيه خلاف فقيل: إنهما لما تقاربا استعمل كل واحد منهما مكان الآخر، وأجيب بجوابه نظيره قوله تعالى: * (ولئن أرسلنا ريحا) * (الروم: 51) ثم قال: * (لظلوا) * على جواب: * (لو) * وقال: * (ولو أنهم آمنوا واتقوا) * (البقرة: 103) ثم قال: * (لمثوبة) * على جواب: * (لئن) * وذلك أن أصل * (لو) * للماضي * (ولئن) * للمستقبل هذا قول الأخفش وقال سيبويه: إن كل واحدة منهما على موضعها، وإنما الحق في الجواب هذا التداخل لدلالة اللام على معنى القسم، فجاء الجواب كجواب القسم.
المسألة السابعة: الآية: وزنها فعلة أصلها: أية، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفا لانفتاح ما قبلها، والآية الحجة والعلامة، وآية الرجل: شخصه، وخرج القوم بآيتهم جماعتهم، وسميت آية القرآن بذلك لأنها جماعة حروف. وقيل: لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها. وقيل: لأنها دالة على انقطاعها عن المخلوقين، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى.
المسألة الثامنة: روي أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: أئتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية والأقرب أن هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة.
أما قوله تعالى: * (وما أنت بتابع قبلتهم) * ففيه أقوال. الأول: أنه دفع لتجويز النسخ، وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة. والثاني: حسما لأطماع أهل الكتاب فإنهم قالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجوا أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم. الثالث: المقابلة يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك. الرابع: أراد أنه لا يجب عليك استصلاحهم باتباع قبلتهم، لأن ذلك معصية. الخامس: وما أنت بتابع قبلة جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن قبلة اليهود
مخالفة لقبلة النصارى، فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق، فألزم قبلتك ودع أقوالهم.
141

أما قوله: * (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) * قال القفال: هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال، أما على الحال فمن وجوه. الأول: أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها. الثاني: أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك مع أنهم فيما بينهم مختلفون. الثالث: أن هذا إبطال لقولهم إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث، وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله: * (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) * ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان فلم يثبت عندنا أن أحدا منهم يتبع قبلة الآخر فالخلف غير لازم، وإن حملناه على الكل قلنا إنه عام دخله التخصيص.
أما قوله: * (ولئن اتبعت أهواءهم) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: الهوى المقصور هو ما يميل إليه الطبع والهواء الممدود معروف.
المسألة الثانية: اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب، قال بعضهم: الرسول وقال بعضهم: الرسول وغيره. وقال آخرون: بل غيره، لأنه تعالى عرف أن الرسول لا يفعل ذلك فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب، وهذا القول الثالث خطأ لأن كل ما لو وقع من الرسول لقبح، والالجاء عنه مرتفع، فهو منهي عنه، وإن كان المعلوم منه أنه لا يفعله، ويدل عليه وجوه. أحدها: أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب أن لا ينهاه عنه، لكان ما علم أنه يفعله وجب أن لا يأمره به، وذلك يقتضي أن لا يكون النبي مأمورا بشيء ولا منهيا عن شيء وأنه بالاتفاق باطل. وثانيها: لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي صلى الله عليه وسلم عنه فلما كان ذلك الاحتراز مشروطا بذلك النهي والتحذير فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافيا للنهي والتحذير. وثالثها: أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذلك في العقل، فيكون الغرض منه التأكيد ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعد ما قررها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل فأي بعد في مثل هذا الغرض ههنا. ورابعا: قوله تعالى في حق الملائكة: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم) * (الأنبياء: 29) مع أنه تعالى أخبر عن عصمتهم في قوله: * (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * (النمل: 50) وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) وقد أجمعوا على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك وما مال إليه، وقال: * (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) * (المائدة: 67) وقال تعالى: * (ودوا لو تدهن فيدهنون) * (القلم: 9) وقال:
142

* (بلغ ما أنزل إليك من ربك وأن لم تفعل فما بلغت رسالته) * (المائدة: 67) وقوله: * (ولا تكونن من المشركين) * (الأنعام: 14) فثبت بما ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام منهي عن ذلك، وأن غيره أيضا منهي عنه لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواص الرسول عليه الصلاة والسلام بقي أن يقال: فلم خصه بالنهي دون غيره؟ فنقول فيه وجوه، أحدها: أن كل من كان نعم الله عليه أكثر، كان صدور الذنب منه أقبح، ولا شك أن نعم الله تعالى على الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر فكان حصول الذنب منه أقبح فكان أولى بالتخصيص. وثانيها: أن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير. وثالثها: أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده فإنه يكون منبها بذلك على عظم ذلك الفعل إن اختاروه وارتكبوه وفي عادة الناس أن يوجهوا أمرهم ونهيهم إلى من هو أعظم درجة تنبيها للغير أو توكيدا، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية.
القول الثاني: أن قوله: * (ولئن اتبعت أهواءهم) * ليس المراد منه أن اتبع أهواءهم في كل الأمور فلعله عليه الصلاة والسلام كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم، مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام، طمعا منه عليه الصلاة والسلام في استمالتهم، فنهاه الله تعالى عن ذلك القدر أيضا وآيسه منهم بالكلية على ما قال: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * (الإسراء: 74).
القول الثالث: إن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره، وهذا كما أنك إذا عاتبت إنسانا أساء عبده إلى عبدك فتقول له: لو فعلت مرة أخرى مثل هذا الفعل لعاقبتك عليه عقابا شديدا، فكان الغرض منه لا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحد من الأمة.
أما قوله تعالى: * (من بعد ما جاءك من العلم) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: أنه تعالى لم يرد بذلك أنه نفس العلم جاءك، بل المراد الدلائل والآيات والمعجزات، لأن ذلك من طرق العلم، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثر، واعلم أن الغرض من الاستعارة هو المبالغة والتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى عظم أمر النبوات والمعجزات بأن سماها باسم العلم، وذلك ينبهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم لأن قوله: * (من بعد ما جاءك من العلم) * يدل على ذلك.
أما قوله تعالى: * (إنك إذا لمن الظالمين) * فالمراد إنك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم وظلمهم لأنفسهم، والغرض منه التهديد والزجر والله أعلم.
143

* (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون * الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) *
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (الذين آتيناهم الكتاب) * وإن كان عاما بحسب اللفظ لكنه مختص بالعلماء منهم، والدليل عليه أنه تعالى وصفهم بأنهم يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم، والجمع العظيم الذي علموا شيئا استحال عليهم الاتفاق على كتمانه في العادة، ألا ترى أن واحدا لو دخل البلد وسأل عن الجامع لم يجز أن لا يلقاه أحد إلا بالكذب والكتمان، بل إنما يجوز ذلك على الجمع القليل، والله أعلم.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: * (يعرفونه) * إلى ماذا يرجع؟ ذكروا فيه وجوها. أحدها: أنه عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يعرفونه معرفة جلية، يميزون بينه وبين غيره كما يعرفون أبناءهم، لا تشتبه عليهم وأبناء غيرهم. عن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أعلم به مني بإبني، قال: ولم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي وأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبل عمر رأسه، وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام وعلى هذا القول أسئلة.
السؤال الأول: أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من أمر القبلة.
الجواب: أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن اتباع اليهود والنصارى بقوله: * (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين) * (البقرة: 145) أخبر المؤمنين بحاله عليه الصلاة والسلام في هذه الآية فقال: اعلموا يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمدا وما جاء به وصدقه ودعوته وقبلته لا يشكون فيه كما لا يشكون في أبنائهم.
السؤال الثاني: هذه الآية نظيرها قوله تعالى: * (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) * (الأعراف: 157) وقال: * (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) * (الصف: 6) إلا أنا نقول من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون
144

أبناءهم، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل إما أن يكون قد أتى مشتملا على التفصيل التام، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخلقة والنسب والقبيلة أو هذا الوصف ما أتى مع هذا النوع من التفصيل فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين من البلد المعين من القبلة المعينة على الصفة المعينة معلوما لأهل المشرق والمغرب لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك.
وأما القسم الثاني: فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنا نقول: هب أن التوراة اشتملت على أن رجلا من العرب سيكون نبيا إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهيا في التفصيل إلى حد اليقين، لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
والجواب: عن هذا الإشكال إنما يتوجه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه ونحن لا نقول به بل نقول أنه ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبيا صادقا فهذا برهان والبرهان يفيد اليقين، فلا جرم كان العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أقوى وأظهر من العلم بنبوة الأبناء وأبوة الآباء.
السؤال الثالث: فعلى هذا الوجه الذي قررتموه كان العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم علما برهانيا غير محتمل للغلط، أما العلم بأن هذا ابني فذلك ليس علما يقينيا بل ظن ومحتمل للغلط، فلم شبه اليقين بالظن؟
والجواب: ليس المراد أن العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم يشبه العلم بنبوة الأبناء، بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم فكما أن الأب يعرف شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره، فكذا ههنا وعند هذا يستقيم التشبيه لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة.
السؤال الرابع: لم خص الأبناء الذكور؟
الجواب: لأن الذكور أعرف وأشهر وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق.
القول الثاني: الضمير في قوله: * (يعرفونه) * راجع إلى أمر القبلة: أي علماء أهل الكتاب
145

يعرفون أمر القبلة التي نقلت إليها كما يعرفون أبناءهم وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.
واعلم أن القول الأول أولى من وجوه. أحدها: أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق، وأقرب المذكورات العلم في قوله: * (من بعد ما جاءك من العلم) * (البقرة: 145) والمراد من ذلك العلم: النبوة، فكأنه تعالى قال: إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة. وثانيها: أن الله تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل، وأخبر فيه أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورة في التوراة والإنجيل، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى. وثالثها: أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد عليه السلام، فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.
أما قوله تعالى: * (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) * فاعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه، ومنهم من بقي على كفره، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق، وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره، لا جرم قال الله تعالى: * (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) * فوصف البعض بذلك، ودل بقوله: * (ليكتمون الحق) * على سبيل الذم، على أن كتمان الحق في الدين محظور إذا أمكن إظهاره، واختلفوا في المكتوم فقيل: أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: أمر القبلة وقد استقصينا في هذه المسألة. أما قوله: * (الحق من ربك) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: يحتمل أن يكون (الحق) خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق، وقوله: * (من ربك) * يجوز أن يكون خبرا بغير خبر، وأن يكون حالا، ويجوز أيضا أن يكون مبتدأ خبره: * (من ربك) * وقرأ علي رضي الله عنه: (الحق من ربك) على الإبدال من الأول، أي يكتمون الحق من ربك.
المسألة الثانية: الألف واللام في قوله: * (الحق) * فيه وجهان: الأول: أن يكون للعهد، والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى الحق الذي في قوله: * (ليكتمون الحق) * أي هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك، وأن يكون للجنس على معنى: الحق من الله تعالى لا من غيره يعني إن الحق ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل.
أما قوله: * (فلا تكونن من الممترين) * ففيه مسألتان:
146

المسألة الأولى: * (فلا تكونن من الممترين) * في ماذا اختلفوا فيه على أقوال. أحدها: فلا تكونن من الممترين في أن الذين تقدم ذكرهم علموا صحة نبوتك، وأن بعضهم عاند وكتم، قاله الحسن. وثانيها: بل يرجع إلى أمر القبلة. وثالثها: إلى صحة نبوته وشرعه، وهذا هو الأقرب لأن أقرب المذكورات إليه قوله: * (الحق من ربك) * فإذا كان ظاهره يقتضي النبوة وما تشتمل عليه من قرآن ووحي وشريعة، فقوله: * (فلا تكونن من الممترين) * وجب أن يكون راجعا إليه.
المسألة الثانية: أنه تعالى وإن نهاه عن الامتراء فلا يدل ذلك على أنه كان شاكا فيه، وقد تقدم القول في بيان هذه المسألة والله أعلم.
* (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شىء قدير) *
اعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله: * (ولكل) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إنما قال: * (ولكل) * ولم يقل لكل قوم أو أمة لأنه معروف المعنى عندهم فلم يضر حذف المضاف إليه وهو كثير في كلامهم كقوله: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * (المائدة: 48).
المسألة الثانية: ذكروا فيه أربعة أوجه. أحدها: أنه يتناول جميع الفرق، أعني المسلمين واليهود والنصارى والمشركين، وهو قول الأصم، قال: لأن في المشركين من كان يعبد الأصنام ويتقرب بذلك إلى الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم في قوله: * (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * (يونس: 18). وثانيها: وهو قول أكثر علماء التابعين، أن المراد أهل الكتاب وهم: المسلمون واليهود والنصارى، والمشركون غير داخلين فيه. وثالثها: قال بعضهم: المراد لكل قوم من المسلمين وجهة أي جهة من الكعبة يصلي إليها: جنوبية أو شمالية، أو شرقية أو غربية، واحتجوا على هذا القول بوجهين. الأول: قوله تعالى: * (هو موليها) * يعني الله موليها وتولية الله لم تحصل إلا في الكعبة، لأن ما عداها تولية الشيطان. الثاني: أن الله تعالى عقبه بقوله: * (فاستبقوا الخيرات) * والظاهر أن المراد من هذه الخيرات ما لكل أحد من جهة، والجهات الموصوفة بالخيرية ليست إلا جهات الكعبة. ورابعها: قال آخرون: ولكل وجهة أي لكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة، فقبلة المقربين:
147

العرش، وقبلة الروحانيين: الكرسي، وقبلة الكروبيين: البيت المعمور، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس، وقبلتك الكعبة.
أما قوله تعالى: * (وجهة) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرىء: * (ولكل وجهة) * على الإضافة والمعنى: وكل وجهة هو موليها فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضارب.
المسألة الثانية: قال الفاء: وجهة، وجهة، ووجه بمعنى واحد، واختلفوا في المراد فقال الحسن: المراد المنهاج والشرع، وهو كقوله تعالى: * (لكل أمة جعلنا منسكا) * (الحج: 67)، * (لكل جعلنا منكم) * (المائدة: 48) * (شرعة ومنهاجا) * (المائدة: 48) والمراد منه أن للشرائع مصالح، فلا جرم اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الأشخاص، وكما اختلف بحسب اختلاف الأشخاص لم يبعد أيضا اختلافها بحسب اختلاف الزمان بالنسبة إلى شخص واحد، فلهذا صح القول بالنسخ والتغيير، وقال الباقون: المراد منه أمر القبلة، لأنه تقدم قوله تعالى: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * (البقرة: 144) فهذه الوجهة يجب أن تكون محمولة على ذلك. أما قوله: * (هو موليها) * ففيه وجهان. الأول: أنه عائد إلى الكل، أي ولكل أحد وجهة هو مولى وجهه إليها. الثاني: أنه عائد إلى اسم الله تعالى، أي الله تعالى يوليها إياه، وتقدير الكلام على الوجه الأول أن نقول: أن لكل منكم وجهة أي جهة من القبلة هو موليها، أي هو مستقبلها. ومتوجه إليها لصلاته التي هو متقرب بها إلى ربه، وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه، فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة، مع لزوم الأديان المختلفة: * (فاستبقوا الخيرات) * أي فالزموا معاشر المسلمين قبلتكم فإنكم على خيرات من ذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلشرفكم بقبلة إبراهيم وأما في الآخرة فللثواب العظيم الذي تأخذونه على انقيادكم لأوامره فإن إلى الله مرجعكم، وأينما تكونوا من جهات الأرض يأت بكم الله جميعا في صعيد القيامة، فيفصل بين المحق منكم والمبطل، حتى يتبين من المطيع منكم ومن العاصي، ومن المصيب منكم ومن المخطئ، إنه على ذلك قادر، ومن قال بهذا التأويل قال: المراد أن لكل من أهل الملل وجهة قد اختارها، إما بشريعة وإما بهوى، فلستم تؤخذون بفعل غيركم، فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم، وإما تقرير الكلام على الوجه الثاني أعني أن يكون الضمير في قوله: * (هو موليها) * عائدا إلى الله تعالى فههنا وجهان. الأول: أن الله عرفنا أن كل واحدة من هاتين القبلتين اللتين هما بيت المقدس والكعبة جهة يوليها الله تعالى عباده، إذا شاء يفعله على حسب ما يعلمه صلاحا فالجهتان من الله تعالى وهو الذي
148

ولى وجوه عباده إليهما، فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمر الله في الحالتين، فإن انقيادكم خيرات لكم، ولا تلتفتوا إلى مطاعن هؤلاء الذين يقولون: * (ما ولاهم عن قبلتهم) * (البقرة: 142) فإن الله يجمعكم وهؤلاء السفهاء جميعا في عرصة القيامة، فيفصل بينكم. الثاني: أنا إذا فسرنا قوله: * (ولكل وجهة) * بجهات الكعبة ونواحيها، كان المعنى: ولكل قوم منكم معاشر المسلمين وجهة، أي ناحية من الكعبة: * (فاستبقوا الخيرات) * بالتوجه إليها من جميع النواحي، فإنها وإن اختلفت بعد أن تؤدي إلى الكعبة فهي كجهة واحدة ولا يخفى على الله نياتهم فهو يحشرهم جميعا ويثيبهم على أعمالهم.
أما قوله تعالى: * (هو موليها) * أي هو موليها وجهه فاستغنى عن ذكر الوجه، قال الفراء: أي مستقبلها وقال أبو معاذ: موليها على معنى متوليها يقال: قد تولاها ورضيها وأتبعها، وفي قراءة عبد الله بن عامر النخعي: * (هو مولاها) * وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن علي الباقر وفي قراءة الباقين: * (موليها) * ولقراءة ابن عامر معنيان. أحدهما: أن ما وليته فقد ولاك، لأن معنى وليته أي جعلته بحيث تليه وإذا صار هذا بحيث يلي ذلك فذاك أيضا، يلي هذا، فإذن قد ولى كل واحد منهما الآخر وهو كقوله تعالى: * (فتلقى آدم من ربه كلمات) * (البقرة: 37) و * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) والظالمون، وهذا قول الفراء. والثاني: * (هو موليها) * أي وقد زينت له تلك الجهة وحببت إليه، أي صارت بحيث يحبها ويرضاها. أما قوله: * (فاستبقوا الخيرات) * فمعناه الأمر بالبدار إلى الطاعة في وقتها، واعلم أن أداء الصلاة في أول الوقت عند الشافعي رضي الله عنه أفضل، خلافا لأبي حنيفة، واحتج الشافعي بوجوه: أولها: أن الصلاة خير لقوله صلى الله عليه وسلم: " الصلاة خير موضوع " وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقديمه أفضل لقوله تعالى: * (فاستبقوا الخيرات) * وظاهر الأمر للوجوب، فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب. وثانيها: قوله: * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم) * (الحديد: 21) ومعناه إلى ما يوجب المغفرة والصلاة مما يوجب المغفرة فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة. وثالثها: قوله تعالى: * (والسابقون السابقون * أولئك المقربون) * (الواقعة: 10، 11) ولا شك أن المراد منه السابقون في الطاعات، ولا شك أن الصلاة من الطاعات، وقوله تعالى: * (أولئك المقربون) * يفيد الحصر، فمعناه أنه لا يقرب عند الله إلا السابقون وذلك يدل على أن كمال الفضل منوط بالمسابقة. ورابعها: قوله تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) * (آل عمران: 133) والمعنى: وسارعوا إلى ما يوجب المغفرة، ولا شك أن الصلاة كذلك، فكانت المسارعة بها مأمورة. وخامسها: أنه مدح الأنبياء المتقدمين بقوله تعالى: * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) * (الأنبياء: 90) ولا شك أن الصلاة من الخيرات، لقوله عليه السلام: " خير أعمالكم الصلاة ".
149

وسادسها: أنه تعالى ذم إبليس في ترك المسارعة فقال: * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * (الأعراف: 12) وهذا يدل على أن ترك المسارعة موجب للذم. وسابعها: قوله تعالى: * (حافظوا على الصلوات) * (البقرة: 238) والمحافظة لا تحصل إلا بالتعجيل، ليأمن الفوت بالنسيان وسائر الأشغال. وثامنها: قوله تعالى: حكاية عن موسى عليه السلام: * (وعجلت إليك رب لترضى) * (طه: 84) فثبت أن الاستعجال أولى. وتاسعها: قوله تعالى: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) * (الحديد: 10) فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة فكذا في هذه الصورة. وعاشرها: ما روى عمر وجرير بن عبد الله وأنس وأبو محذورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي آخره عفو الله " قال الصديق رضي الله عنه: رضوان الله أحب إلينا من عفوه. قال الشافعي رضي الله عنه: رضوان الله إنما يكون للمحسنين والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين فإن قيل هذا احتجاج في غير موضعه لأنه يقتضي أن يأثم بالتأخير، وأجمعنا على أنه لا يأثم فلم يبق إلا أن يكون معناه أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة، وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله، فكان التأخير موجبا للعفو والرضوان، والتقديم موجبا للرضوان دون العفو فكان التأخير أولى قلنا: هذا ضعيف من وجوه. الأول: أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل وذلك لم يقله أحد. الثاني: أنه عدم المسارعة الامتثال يشبه عدم الالتفات، وذلك يقتضي العقاب، إلا أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء. الثالث: أن تفسير أبي بكر الصديق رضي الله عنه يبطل هذا التأويل الذي ذكروه.
الحادي عشر: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤا ".
الثاني عشر: عن ابن مسعود أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة لميقاتها الأول.
الثالث عشر: روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الرجل ليصلي الصلاة وقد فاته من أول الوقت ما هو خير له من أهله وماله ".
الرابع عشر: قال عليه السلام: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " فمن كان أسبق في الطاعة كان هو الذي سن عمل الطاعة في ذلك الوقت، فوجب أن يكون ثوابه أكثر من ثواب المتأخر.
150

الخامس عشر: إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصحابة المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشديد بين أهل السنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاما أم عليا، وما ذاك إلا اتفاقهم على أن المسابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل وذلك يدل على قولنا.
السادس عشر: قوله عليه السلام في خطبة له: " وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا " ولا شك أن الصلاة من الأعمال الصالحة.
السابع عشر: أن تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها، فوجب أن يكون الحال في أداء الله تعالى كذلك، والجامع بينهما رعاية معنى التعظيم.
الثامن عشر: أن المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحرص على الطاعة، والولوع بها، والرغبة فيها وفي التأخير كسل عنها، فيكون الأول أولى.
التاسع عشر: أن الاحتياط في تعجيل الصلاة لأنه إذا أداها في أول الوقت تفرغت ذمته، فإذا أخر فربما عرض له شغل فمنعه عن أدائها فيبقى الواجب في ذمته، فالوجه الذي يحصل فيه الاحتياط لا شك أنه أولى.
العشرون: أجمعنا في صوم رمضان أن تعجيله أفضل من تأخيره وذلك لأن المريض يجوز له أن يفطر ويؤخر الصوم، ويجوز له أن يعجل ويصوم في الحال، ثم أجمعنا على أن التعجيل في الصوم أفضل على ما قال: * (وأن تصوموا خير لكم) * (البقرة: 184) فوجب أيضا أن يكون التعجيل في الصلاة أولى فإن قيل: تنتقض هذه الدلائل القياسية بالظهر في شدة الحر، أو بما إذا حصل له رجاء إدراك الجماعة أو وجود الماء قلنا: التأخير ثبت في هذه المواضع لأمور عارضة، وكلامنا
في مقتضى الأصل.
الحادي والعشرون: المسارعة إلى الامتثال أحسن في العرف من ترك المسارعة، فوجب أن يكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ".
الثاني والعشرون: صلاة كملت شرائطها فوجب أداؤها في أول الوقت، كالمغرب ففيه احتراز عن الظهر في شدة الحر، لأنه إنما يستحب التأخير إذا أراد أن يصليها في المسجد لأجل أن المشي إلى المسجد في شدة الحر كالمانع، أما إذا صلاها في داره فالتعجيل أفضل، وفيه احتراز عمن يدافع الأخبثين أو حضره الطعام وبه جوع لهذا المعنى أيضا، وكذلك المتيمم إذا كان على ثقة من وجود الماء، وكذلك إذا توقع حضور الجماعة فإن الكمال لم يحصل في هذه الصورة، فهذه هي الأدلة الدالة على أن المسارعة أفضل، ولنذكر كل واحد من الصلوات:
151

أما صلاة الفجر فقال محمد: المستحب أن يدخل فيها بالتغليس، ويخرج منها بالإسفار، فإن أراد الاقتصار على أحد الوقتين فالإسفار أفضل، وقال الشافعي رضي الله عنه: التغليس أفضل، وهو مذهب أبي بكر وعمر وبه قال مالك وأحمد، واحتج الشافعي رضي الله عنه بعد الدلائل السالفة بوجوه. أحدها: ما أخرج في الصحيحين برواية عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف والنساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس " قال محيي السنة في كتاب " شرح السنة ": متلفعات بمروطهن أي متجللات بأكسيتهن، والتلفع بالثوب الاشتمال، والمروط: الأردية الواسعة، واحدها مرط، والغلس: ظلمة آخر الليل، فإن قيل: كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرن الجماعات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالغلس كيلا يعرفن، وهكذا كان عمر رضي الله عنه يصلي بالغلس، ثم لما نهين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك قلنا: الأصل المرجوع إليه في إثبات جميع الأحكام عدم النسخ، ولولا هذا الأصل لما جاز الاستدلال بشيء من الدلائل الشرعية. وثالثها: ما أخرج في الصحيحين عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قال قلت: كم كان قدر ذلك، قال: قدر خمسين آية، وهذا يدل أيضا على التغليس. وثالثها: ما روي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلس بالصبح، ثم أسفر مرة، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضة الله تعالى. ورابعها: أنه تعالى مدح المستغفرين بالأسحار فقال: * (والمستغفرين بالأسحار) * (آل عمران: 17) ومدح التاركين للنوم فقال: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا) * (السجدة: 16) وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ترك النوم بأداء الفرائض أفضل لقوله عليه السلام حكاية عن الله: " لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم " وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون التغليس أفضل. وخامسها: أن النوم في ذلك الوقت أطيب، فيكون تركه أشق، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لقوله عليه السلام: " أفضل العبادات أحمزها " أي أشقها، واحتج أبو حنيفة بوجوه. أحدها: قوله عليه السلام: " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ". وثانيها: روى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر بالمزدلفة فغلس، ثم قال ابن مسعود: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوات إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر، فإنه صلاها يومئذ لغير ميقاتها. وثالثها: عن ابن مسعود قال: ما رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر. ورابعها: عن أبي بكر رضي الله عنه أنه صلى الفجر فقرأ آل عمران، فقالوا: كادت الشمس أن تطلع، فقال
152

لو طلعت لم تجدنا غافلين، وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. وخامسها: أن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الإنتظار، وقال عليه السلام: " المنتظر للصلاة كمن هو في الصلاة " فمن أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولا ثم بها ثانيا ومن صلاها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار. وسادسها: أن التأخير يفضي إلى كثرة الجماعة فوجب أن يكون أولى تحصيلا لفضل الجماعة. وسابعها: أن التغليس يضيق على الناس، لأنه إذا كان الصلاة في وقت الغليس احتاج الإنسان إلى أن يتوضأ بالليل حتى يتفرغ للصلاة بعد طلوع الفجر، والحرج منفى شرعا. وثامنها: أنه تكره الصلاة بعد صلاة الفجر فإذا صلى وقت الإسفار فإنه يقل وقت الكراهة، وإذا صلى بالتغليس فإنه يكثر وقت الكراهة.
والجواب عن الأول: أن الفجر اسم للنور الذي ينفي به ظلام المشرق، فالفجر إنما يكون فجرا لو كانت الظلمة باقية في الهواء، فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجرا، وأما الإسفار فهو عبارة عن الظهور، يقال: أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت عنه، إذا ثبت هذا فنقول: ظهور الفجر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء، فإن الظلام كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد، فقوله: " أسفروا بالفجر " يجب أن يكون محمولا على التغليس، أي كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر أظهر وأبهر كان أكثر ثوابا، وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر، وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه أن الإسفار المذكور في الحديث محمول على تيقن طلوع الفجر وزوال الشك عنه، والذي يدل على ما قلنا أن أداء الصلاة في ذلك الوقت أشق، فوجب أن يكون أكثر ثوابا، وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير فهو عادة أهل الكسل، فكيف يمكن أن يقول الشارع: إن الكسل أفضل من الجد في الطاعة.
والجواب عن الثاني: وهو قول ابن مسعود: حافظوا على التنوير بالفجر، فجوابه هذا الذي قررناه لأن التنوير بالفجر إنما يحصل في أول الوقت، فأما عند امتلاء العالم من النور فإنه لا يسمى ذلك فجرا، وأما سائر الوجوه فهي معارضة ببعض ما قدمناه والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا) * فهو وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية، كأنه تعالى قال: استبقوا أيها المحققون والعارفون بالنبوة والشريعة الخيرات وتحملوا فيها المشاق لتصلوا يوم القيامة إلى مالكم عند الله من أنواع الكرامة والزلفى، ثم إنه سبحانه حقق بقوله: * (إن الله على كل شيء قدير) * وذلك لأن الإعادة في نفسها ممكنة وهو قادر على جميع الممكنات، فوجب أن يكون قادرا على الإعادة، وأما المسائل المستنبطة من هذه الآية، فقد ذكرناها
153

في قوله تعالى: * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير) * (البقرة: 20).
* (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما ا الله بغافل عما تعملون * ومن حيث خرجت فول وجهك شطر ا المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشونى ولاتم نعمتى عليكم ولعلكم تهتدون) *
اعلم أن أول ما في هذه الآية من البحث أن الله تعالى قال قبل هذه الآيات: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون) * (البقرة: 144) وذكر ههنا ثانيا قوله تعالى: * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون) * وذكر ثالثا قوله: * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة) * فهل في هذا التكرار فائدة أم لا؟ وللعلماء فيه أقوال. أحدها: أن الأحوال ثلاثة، أولها: أن يكون الإنسان في المسجد الحرام. وثانيها: أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد. وثالثها: أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض، فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى، والثانية على الثانية، والثالثة على الثالثة، لأنه قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للعبد، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله تعالى هذه الآيات.
والجواب الثاني: أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة أما
154

في المرة الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر هذه القبلة حق، لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل، وأما في المرة الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق، وشهادة الله بكونه حقا مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقا، وأما في المرة الثالثة فبين أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد، ونظيره قوله تعالى: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) *.
والجواب الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى: * (فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلبا لرضا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال: * (فلنولينك قبلة ترضاها) * فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله: * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك) * أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل، ثم أنه تعالى قال ثالثا: * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، ولا تولوا فيصير ذلك التولي سببا للطعن في دينكم، والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة، والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخا البتة.
والجواب الرابع: أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام والثاني مقرون بقوله تعالى: * (ولكل وجهة هو موليها) * (البقرة: 148) أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله: * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وأنه الحق من ربك) *. والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمر القبلة فكانت هذه عللا ثلاثا قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة نظيره أن يقال: ألزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها، ثم يقال: ألزم هذه القبلة فإنها الحق لا قبلة الهوى، وهو قوله: * (وإنه للحق من ربك) * ثم يقال: ألزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله
155

تعالى: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * (الرحمن: 12) وكذلك ما كرر في قوله تعالى: * (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) * (الشعراء: 174).
والجواب الخامس: أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة وإيضاح البينات.
أما قوله تعالى: * (وما الله بغافل عما تعملون) * (البقرة: 74) يعني ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق وهم يعرفونه ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم: * (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) * (البقرة: 142) وبأنه قد اشتاق إلى مولده ودين آبائه فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله وكشف عن وهنه وضعفه.
أما قوله: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا الكلام يوهم حجاجا وكلاما تقدم من قبل في باب القبلة عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجة تزول الآن باستقبال الكعبة، وفي كيفية تلك الحجة روايات. أحدها: أن اليهود قالوا: تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا. وثانيها: قالوا: ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه. وثالثها: أن العرب قالوا: إنه كان يقول: أنا على دين إبراهيم والآن ترك التوجه إلى الكعبة، ومن ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم عليه السلام فصارت هذه الوجوه وسائل لهم إلى الطعن في شرعه عليه الصلاة والسلام، إلا أن الله تعالى لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من المصلحة في الدين، لأن قولهم لا يؤثر في المصالح، وقد بينا من قبل تلك المصلحة، وهي تميز من اتبعه بمكة ممن أقام على تكذيبه، فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة، فلهذا قال الله تعالى: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة) * يعني تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أنه يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى، وهو قول بعض العرب: إن محمدا عليه الصلاة
والسلام عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية وكان التمسك بهذه الشبهة والاستمرار عليها سببا للبقاء على الجهل والكفر، وذلك ظلم على النفس على ما قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) فلا جرم قال الله تعالى: * (إلا الذين ظلموا منهم) *.
المسألة الثانية: قرأ نافع: * (ليلا) * يترك الهمزة وكل همزة مفتوحة قبلها كسرة فإنه يقلبها ياء والباقون بالهمزة وهو الأصل.
المسألة الثالثة: (لئلا) موضعه نصب، والعامل فيه (ولوا) أي ولوا لئلا، وقال الزجاج التقدير: عرفتكم ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة.
156

المسألة الرابعة: قيل: الناس هم أهل الكتاب عن قتادة والربيع وقيل: هو على العموم.
المسألة الخامسة: ههنا سؤال، وهو أن شبهة هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ليست بحجة، فكيف يجوز استثناؤها عن الحجة وقد اختلف الناس فيه على أقوال. الأول: أنه استثناء متصل ثم على هذا القول يمكن دفع السؤال من وجوه:
الوجه الأول: أن الحجة كما أنها قد تكون صحيحة، قد تكون أيضا باطلة، قال الله تعالى * (حجتهم داحضة عند ربهم) * (الشورى: 16) وقال تعالى: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) * (آل عمران: 61) والمحاجة هي أن يورد كل واحد منهم على صاحبه حجة وهذا يقتضي أن يكون الذي يورد المبطل يسمى بالحجة ولأن الحجة اشتقاقها من حجة إذا علا عليه فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجة، وقال بعضهم: إنها مأخوذة من محجة الطريق، فكل كلام يتخذه الإنسان مسلكا لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجة، وإذا ثبت أن الشبهة قد تسمى حجة كان الاستثناء متصلا.
الوجه الثاني: في تقرير أنه استثناء متصل: أن المراد بالناس أهل الكتاب فإنهم وجدوه في كتابهم أنه عليه الصلاة والسلام يحول القبلة فلما حولت، بطلت حجتهم إلا الذين ظلموا بسبب أنهم كتموا ما عرفوا عن أبي روق.
الوجه الثالث: أنهم لما أوردوا تلك الشبهة على اعتقاد أنها حجة سماها الله. (حجة) بناء على معتقدهم أو لعله تعالى سماها (حجة) تهكما بهم.
الوجه الرابع: أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) * فإنهم يحاجونكم بالباطل. القول الثاني: أنه استثناء منقطع، ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة، وهو كقوله تعالى: * (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) * (النساء: 157) وقال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
ومعناه: لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب ويقال ما له على حق إلا التعدي يعني لكنه يتعدى ويظلم، ونظيره أيضا قوله تعالى: * (إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم) * (النمل: 10، 11) وقال: * (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) * (هود: 43) وهذا النوع من الكلام عادة مشهورة للعرب.
القول الثالث: زعم أبو عبيدة أن (إلا) بمعنى الواو كأنه تعالى قال: لئلا يكون للناس عليكم حجة وللذين ظلموا وأنشد:
وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان
157

يعني: والفرقدان.
القول الرابع: قال قطرب: موضع * (الذين) * خفض لأنه بدل من الكاف والميم في عليكم كأنه قيل: لئلا يكون عليكم حجة إلا الذين ظلموا فإنه يكون حجة عليهم وهم الكفار، قال علي ابن عيسى: هذان الوجهان بعيدان.
أما قوله تعالى: * (فلا تخشوهم واخشوني) * فالمعنى لا تخشوا من تقدم ذكره ممن يتعنت ويجادل ويحاج، ولا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم واخشوني، يعني احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم، وهذه الآية يدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه: خشية عقاب الله، وأن يعلم أنه ليس في يد الخلق شيء البتة، وأن لا يكون مشتغل القلب بهم، ولا ملتفت الخاطر إليهم. أما قوله تعالى: * (ولأتم نعمتي عليكم) * فقد اختلفوا في متعلق اللام على وجوه. أحدها: أنه راجع إلى قوله تعالى: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة، ولأتم نعمتي عليكم) * فبين الله تعالى أنه حولهم إلى هذه الكعبة لهاتين الحكمتين. إحداهما: لانقطاع حجتهم عنه. والثانية: لتمام النعمة، وقد بين أبو مسلم بن بحر الأصفهاني ما في ذلك من النعمة، وهو أن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما كانوا يفعلون فلما حول صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس لحقهم ضعف قلب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التحول إلى الكعبة لما فيه من شرف البقعة فهذا موضع النعمة. وثانيها: أن متعلق اللام محذوف، معناه: ولإتمام النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك. وثالثها: أن يعطف على علة مقدرة، كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم، والقول الأول أقرب إلى الصواب فإن قيل: إنه تعالى أنزل عند قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) * (المائدة: 3) فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية: * (ولأتم نعمتي عليكم) * قلنا: تمام النعمة اللائقة في كل وقت هو الذي خصه به، وفي الحديث: " تمام النعمة دخول الجنة " وعن علي رضي الله عنه: تمام النعمة الموت على الإسلام.
واعلم أن الذي حكيناه عن أبي مسلم رحمه الله من التشكك في صلاة الرسول وصلاة أمته إلى بيت المقدس، فإن كان مراده أن ألفاظ القرآن لا تدل على ذلك فقد أصاب، لأن شيئا من ألفاظ القرآن لا دلالة فيه على ذلك البتة على ما بيناه، وإن أراد به إنكاره أصلا، فبعيد، لأن الأخبار
158

في ذلك قريبة من المتواتر، ولأبي مسلم رحمه الله أن يمنع التواتر، وعند ذلك يقول: لا يصح التعويل في القطع بوقوع النسخ في شرعنا على خبر الواحد والله أعلم.
* (كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) *
اعلم أنا قد بينا أن الله تعالى استدل على صحة دين محمد عليه الصلاة والسلام بوجوه، بعضها إلزامية، وهو أن هذا الدين دين إبراهيم فوجب قبوله، وهو المراد بقوله: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) * (البقرة: 130) وبعضها برهانية وقوله: * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) * (البقرة: 136) ثم إنه سبحانه وتعالى عقب هذا الاستدلال بحكاية شبهتين لهم. إحداهما: قوله: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) * (البقرة: 135). والثانية: استدلالهم بإنكار النسخ على القدح في هذه الشريعة، وهو قول: * (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) * (البقرة: 142) وأطنب الله تعالى في الجواب عن الشبهة وبالحق فعل ذلك، لأن أعظم الشبهة لليهود في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام النسخ، فلا جرم أطنب الله تعالى في الجواب عن هذه الشبهة، وختم ذلك الجواب بقوله: * (ولأتم نعمتي عليكم) * فصار هذا الكلام مع ما فيه من الجواب عن الشبهة تنبيها على عظيم نعم الله تعالى، ولا شك أن ذلك أشد استمالة لحصول العز والشرف في الدنيا، والتخلص في الذل والمهانة يكون مرغوبا فيه، وعند اجتماع الأمرين فقد بلغ النهاية في هذا الباب.
أما قوله: * (كما أرسلنا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا الكاف إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده، فإن قلنا: إنه متعلق بما قبله ففيه وجوه. الأول: أنه راجع إلى قوله: * (ولأتم نعمتي عليكم) * (البقرة: 150) أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف، وفي الآخرة بالفوز بالثواب، كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول. الثاني: أن إبراهيم عليه السلام قال: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويزكيهم) * (البقرة: 129) وقال أيضا:
159

* (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا) * (البقرة: 128) فكأنه تعالى قال: ولأتم نعمتي عليكم ببيان الشرائع، وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم، كما أرسلنا فيكم رسولا إجابة لدعوته عن ابن جرير. الثالث: قول أبي مسلم الأصفهاني، وهو أن التقدير: وكذلك جعلناكم أمة وسطا كما أرسلنا فيكم رسولا، أي كما أرسلنا فيكم رسولا من شأنه وصفته كذا وكذا، فكذلك جعلناكم أمة وسطا، وأما إن قلنا: أنه متعلق بما بعده، فالتقدير: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يعلمكم الدين والشرع، فاذكروني أذكركم وهو اختيار الأصم وتقريره إنكم كنتم على صورة لا تتلون كتابا، ولا تعلمون رسولا، ومحمد صلى الله عليه وسلم رجل منكم ليس بصاحب كتاب، ثم أتاكم بأعجب الآيات يتلوه عليكم بلسانكم وفيه ما في كتب الأنبياء، وفيه الخبر عن أحوالهم، وفيه التنبيه على دلائل التوحيد والمعاد وفيه التنبيه على الأخلاق الشريفة، والنهي عن أخلاق السفهاء، وفي ذلك أعظم البرهان على صدقه فقال: كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلا، فاذكروني بالشكر عليها، أذكركم برحمتي وثوابي، والذي يؤكده قوله تعالى: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) * (آل عمران: 164) فلما ذكرهم هذه النعمة والمنة، أمرهم في مقابلتها بالذكر والشكر فإن قيل: (كما) هل يجوز أن يكون جوابا؟ قلنا: جوزه الفراء وجعل لأذكروني جوابين. أحدهما: * (كما) *. والثاني: * (أذكركم) * ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته، ولما سلف من نعمته، قال القاضي: والوجه الأول أولى لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى.
المسألة الثانية: في وجه التشبيه قولان: إن قلنا لكاف متعلق بقوله ولأتم نعمتي كان المعنى أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأنه تعالى يفعل الأصلح، وإن قلنا إنه متعلق بقوله تعالى: * (اذكروني) * دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة.
المسألة الثالثة: * (ما) * في قوله: * (كما أرسلنا) * مصدرية كأنه قيل: كإرسالنا فيكم، ويحتمل أن تكون كافة.
أما قوله تعالى: * (فيكم) * فالمراد به العرب وكذلك قوله: * (منكم) * وفي إرساله فيهم ومنهم، نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه الشرف، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الإنقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب.
أما قوله تعالى: * (يتلو عليكم آياتنا) * فاعلم أنه من أعظم النعم لأنه معجزة باقية، ولأنه يتلى فيتأدى به العبادات، ولأنه يتلى فيستفاد منه جميع العلوم، ولأنه يتلى فيستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة، فكأنه يحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة.
160

أما قوله: * (ويزكيكم) * ففيه أقوال. أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام يعلمهم ما إذا تمسكوا به صاروا أزكياء عن الحسن. وثانيها: يزكيهم بالثناء والمدح، أي يعلم ما أنتم عليه من محاسن الأخلاق فيصفكم به، كما يقال: إن المزكي زكي الشاهد، أي وصفه بالزكاء. وثالثها: أن التزكية عبارة عن التنمية، كأنه قال يكثركم، كما قال: * (إذ كنتم قليلا فكثركم) * (الأعراف: 86) وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا، عن أبي مسلم، قال القاضي: وهذه الوجوه غير متنافية فلعله تعالى يفعل بالمطيع كل ذلك.
أما قوله تعالى: * (ويعلمكم الكتاب) * فليس بتكرار لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم، وأما (الحكمة) فهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه (الحكمة) هي سنة الرسول عليه السلام.
أما قوله: * (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) * فهذا تنبيه على أنه تعالى أرسله على حين فترة من الرسل وجهالة من الأمم، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم فبعث الله تعالى محمدا بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم وذلك من أعظم أنواع النعم.
* (فاذكرونى أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) *
اعلم أن الله تعالى كلفنا في هذه الآية بأمرين: الذكر، والشكر، أما الذكر فقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالجوارح، فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرؤا كتابه، وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع. أحدها: أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته، ويتفكروا في الجواب عن الشبهة القادحة في تلك الدلائل. وثانيها: أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده، فإذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد، وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم. وثالثها: أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس، فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له، أما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم، فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها، وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكرا بقوله: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * فصار الأمر بقوله: * (اذكروني) * متضمنا جميع الطاعات، فلهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال: اذكروني بطاعتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه، أما قوله: * (أذكركم) * فلا بد من حمله على ما يليق
161

بالموضع، والذي له تعلق بذلك الثواب والمدح، وإظهار الرضا والإكرام، وإيجاب المنزلة، وكل ذلك داخل تحت قوله: * (أذكركم) * ثم للناس في هذه الآية عبارات. الأولى: اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي. الثانية: اذكروني بالإجابة والإحسان وهو بمنزلة قوله: * (ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) وهو قول أبي مسلم قال: أمر الخلق بأن يذكروه راغبين راهبين، وراجين خائفين ويخلصوا الذكر له عن الشركاء، فإذا هم ذكروه بالإخلاص في عبادته وربوبيته ذكرهم بالإحسان والرحمة والنعمة في العاجلة والآجلة. الثالثة: اذكروني بالثناء والطاعة أذكركم بالثناء والنعمة. الرابعة: اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة. الخامسة: اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات. السادسة: اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء. السابعة: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي. الثامنة: اذكروني بمجاهدتي أذكركم بهدايتي. التاسعة: اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص. العاشرة: اذكروني بالربوبية في الفاتحة أذكركم بالرحمة والعبودية في الخاتمة.
* (يا أيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين) *
اعلم أنه تعالى لما أوجب بقوله: * (فاذكروني) * جميع العبادات، وبقوله: * (واشكروا لي) * ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما فقال: * (استعينوا بالصبر والصلاة) * وإنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات، أما الصبر فهو قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع، ومن حمل نفسه وقلبه على هذا التذليل سهل عليه فعل الطاعات وتحمل مشاق العبادات، وتجنب المحظورات ومن الناس من حمل الصبر على الصوم، ومنهم من حمله على الجهاد لأنه تعالى ذكر بعده: * (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله) * (البقرة: 154) وأيضا فلأنه تعالى أمر بالتثبت في الجهاد فقال: * (إذا لقيتم فئة فاثبتوا) * (الأنفال: 45) وبالتثبت في الصلاة أي في الدعاء فقال: * (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) * (آل عمران: 147). إلا أن القول الذي اخترناه أولى لعموم اللفظ وعدم تقييده، والاستعانة بالصلاة لأنها يجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له، ويجب أن يوفر همه وقلبه عليها وعلى ما يأتي فيها من قراءة فيتدبر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة فقد ذلل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من
162

العبادات ولذلك قال: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (العنكبوت: 45) ولذلك نرى أهل الخير عند النوائب متفقين على الفزع إلى الصلاة، وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
ثم قال: * (إن الله مع الصابرين) * يعني في النصر لهم كما قال: * (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) * (البقرة: 137) فكأنه تعالى ضمن لهم إذا هم استعانوا على طاعاته بالصبر والصلاة أن يزيدهم توفيقا وتسديدا وألطافا كما قال: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * (مريم: 76).
* (ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) *
اعلم أن هذه الآية نظيرة قوله في آل عمران: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) * ووجه تعلق الآية بما قبلها كأنه قيل: استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني، فإن احتجتم في تلك الإقامة إلى مجاهدة عدوي بأموالكم وأبدانكم ففعلتم ذلك فتلفت نفوسكم فلا تحسبوا أنكم ضيعتم أنفسكم بل اعلموا أن قتلاكم أحياء عندي وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت الآية في قتلى بدر وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، فمن المهاجرين: عبيدة بن الحرث ابن عبد المطلب، وعمر بن أبي وقاص، وذو الشمالين، وعمرو بن نفيلة، وعامر بن بكر، ومهجع بن عبد الله. ومن الأنصار: سعيد بن خيثمة، وقيس بن عبد المنذر، وزيد بن الحرث، وتميم بن الهمام، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة، ومعوذ بن عفراء، وعوف بن عفراء، وكانوا يقولون: مات فلان ومات فلان فنهى الله تعالى أن يقال فيهم أنهم ماتوا. وعن آخرين أن الكفار والمنافقين قالوا: إن الناس يقتلون أنفسهم طلبا لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية: * (أموات) * رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: لا تقولوا هم أموات.
المسألة الثالثة: في الآية أقوال:
القول الأول: أنهم في الوقت أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم وهذا قول أكثر المفسرين وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور، فإن قيل: نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور، فكيف يصح ما ذهبتم إليه؟ قلنا: أما عندنا فالبنية ليست شرطا في الحياة ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كل واحد
من تلك الذرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف، وأما عند المعتزلة فلا
163

يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بد منها في ماهية الحي ولا يعتبر بالأطراف، ويحتمل أيضا أن يحييهم إذا لم يشاهدوا.
القول الثاني: قال الأصم: يعني لا تسموهم بالموتى وقولوا لهم الشهداء الأحياء ويحتمل أن المشركين قالوا: هم أموات في الدين كما قال الله تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * (الأنعام: 122) فقال: ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون، ولكن قولوا: هم أحياء في الدين ولكن لا يشعرون، يعني المشركون لا يعلمون أن من قتل على دين محمد عليه الصلاة والسلام حي في الدين، وعلى هدى من ربه ونور كما روي في بعض الحكايات أن رجلا قال لرجل: ما مات رجل خلف مثلك، وحكى عن بقراط أنه كان يقول لتلامذته: موتوا بالإرادة تحيوا بالطبيعة أي بالروح.
القول الثالث: أن المشركين كانوا يقولون: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقتلون أنفسهم ويخسرون حياتهم فيخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء، وهؤلاء الذين قالوا ذلك، يحتمل أنهم كانوا دهرية ينكرون المعاد، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فلذلك قالوا هذا الكلام، فقال الله تعالى: ولا تقولوا كما قال المشركون إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدنيا، ولكن اعلموا أنهم أحياء، أي سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة وتفسير قوله: * (أحياء) * بأنهم سيحيون غير بعيد، قال الله تعالى: * (إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم) * (الإنفطار: 13، 14) وقال: * (أحاط بهم سرادقها) * (الكهف: 29) وقال: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) * (النساء: 145) وقال: * (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم) * (الحج: 56) على معنى أنهم سيصيرون كذلك وهذا القول اختيار الكعبي وأبي مسلم الأصفهاني واعلم أن أكثر العلماء على ترجيح القول الأول، والذي يدل عليه وجوه. أحدها: الآيات الدالة على عذاب القبر، كقوله تعالى: * (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) * (غافر: 11) والموتتان لا تحصل إلا عند حصول الحياة في القبر، وقال الله تعالى: * (أغرقوا فأدخلوا نارا) * (نوح: 25) والفاء للتعقيب، وقال: * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) * (غافر: 46) وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضا لأن العذاب حق الله تعالى على العبد والثواب حق للعبد على الله تعالى، فاسقاط العقاب أحسن من إسقاط الثواب فحيثما أسقط العقاب إلى يوم القيامة بل حققه في القبر، كان ذلك في الثواب أولى. وثانيها: أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله: * (ولكن لا تشعرون) * معنى لأن
164

الخطاب للمؤمنين وقد كانوا لا يعلمون أنهم سيحيون يوم القيامة، وأنهم ماتوا على هدى ونور، فعلم أن الأمر على ما قلنا من أن الله تعالى أحياهم في قبورهم. وثالثها: أن قوله: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم) * (آل عمران: 170) دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث. ورابعها: قوله عليه الصلاة والسلام: " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران " والأخبار في ثواب القبر وعذابه كالمتواترة، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر صلاته: " وأعوذ بك من عذاب القبر ". وخامسها: أنه لو كان المراد من قوله: أنهم أحياء أنهم سيحيون، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة، أجاب عنه أبو مسلم بأنه تعالى إنما خصهم بالذكر لأن درجتهم في الجنة أرفع ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى: * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) * (النساء: 69) فأرادهم بالذكر تعظيما.
واعلم أن هذا الجواب ضعيف وذلك لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله تعالى ما خصهم بالذكر. وسادسها: أن الناس يزورون قبور الشهداء ويعظمونها وذلك يدل من بعض الوجوه على ما ذكرناه، واحتج أبو مسلم على ترجيح قوله بأنه تعالى ذكر هذه الآية في آل عمران فقال: * (بل أحياء عند ربهم) * (آل عمران: 169) وهذه العندية ليست بالمكان، بل بالكون في الجنة، ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد القيامة. والجواب: لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة بل بإعلاء الدرجات وإيصال البشارات إليه وهو في القبر أو في موضع آخر، واعلم أن في الآية قولا آخر وهو: أن ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب، وهذا القول بناء على معرفة الروح، ولنشر إلى خلاصة حاصل قول هؤلاء فنقول: إنهم قالوا إن الإنسان لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل المحسوس، أما إنه لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل فلوجهين:
الوجه الأول: أن أجزاء هذا الهيكل أبدا في النمو والذبول والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولا شك أن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول عمره، والباقي غير ما هو غير باق، والمشار إليه عند كل أحد بقوله: * (أنا) * وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل.
الوجه الثاني: أني أكون عالما بأني أنا حال ما أكون غافلا عن جميع أجزائي وأبعاضي، والمعلوم غير ما هو غير معلوم، فالذي أشير إليه بقولي (أنا) مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض، وأما أن الإنسان غير محسوس فلأن المحسوس إنما هو
165

السطح واللون، ولا شك أن الإنسان ليس هو مجرد اللون والسطح، ثم اختلفوا عند ذلك في أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله (أنا) أي شيء هو؟ والأقوال فيه كثيرة إلا أن أشدها تلخيصا وتحصيلا وجهان. أحدهما: أن أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان النار في الفحم والدهن في السمسم وماء الورد في الورود والقائلون بهذا القول فريقان. أحدهما: الذين اعتقدوا تماثل الأجسام فقالوا: إن تلك الأجسام مماثلة لسائر الأجزاء التي منها يتألف هذا الهيكل إلا أن القادر المختار سبحانه يبقي بعض الأجزاء من أول العمر إلى آخره فتلك الأجزاء هي التي يشير إليها كل أحد بقوله (أنا) ثم أن تلك الأجزاء حية بحياة يخلقها الله تعالى فيها فإذا زالت الحياة ماتت وهذا قول أكثر المتكلفين. وثانيهما: الذين اعتقدوا اختلاف الأجسام وزعموا أن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخر العمر أجسام مخالفة بالماهية والحقيقة للأجسام التي يتألف منها هذا الهيكل وتلك الأجسام حية لذاتها مدركة لذاتها، فإذا خالطت هذا البدن وصارت سارية في هذا الهيكل، سريان النار في الفحم صار هذا الهيكل
مستطيرا بنور ذلك الروح متحركا بتحركه، ثم إن هذا الهيكل أبدا في الذوبان والتحلل والتبدل، إلا أن تلك الأجزاء باقية بحالها، وإنما لا يعرض لها التحلل لأنها مخالفة بالماهية لهذه الأجسام البالية، فإذا فسد هذا القالب انفصلت تلك الأجسام اللطيفة النورانية إلى عالم السماوات والقدس والطهار إن كانت من جملة السعداء، وإلى الجحيم وعالم الآفات إن كانت من جملة الأشقياء.
والقول الثاني: أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله: (أنا موجود) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز، وأنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم ولا يلزم من كونه كذلك أن يكون مثل الله تعالى لأن الاشتراك في السلوك لا يقتضي الاشتراك في الماهية، واحتجوا على ذلك بأن في المعلومات ما هو فرد حقا فوجب أن يكون العلم به فردا حقا، فوجب أن يكون الموصوف بذلك العلم فردا حقا، وكل جسم وكل حال في الجسم فليس بفرد حقا، فذلك الذي يصدق عليه منا أنه يعلم هذه المفردات، وجب أن لا يكون جسما ولا جسمانيا أما أن في المعلومات ما هو فرد حقا فلأنه لا شك في وجود شيء، فهذا الموجود إن كان فردا حقا فهو المطلوب، وإن كان مركبا فالمركب مركب على الفرد، فلا بد من الفرد على كل الأحوال، وأما أنه إذا كان في المعلومات ما هو فرد كان في المعلوم ما هو فرد لأن العلم المتعلق بذلك الفرد إن كان منقسما فكل واحد من أجزائه أو بعض أجزائه إما أن يكون علما بذلك المعلوم وهو محال، لأنه يلزم أن يكون الجزء مساويا للكل وهو محال، وإما أن لا يكون شيء من أجزائه علما بذلك المعلوم، فعند اجتماع تلك الأجزاء إما أن يحدث زائد هو العلم
166

بذلك المعلوم الفرد، فحينئذ يكون العلم بذلك المعلوم هو هذه الكيفية الحادثة لا تلك الأشياء التي فرضناها قبل ذلك ثم هذه الكيفية إن كانت منقسمة عاد الحديث فيه وإن لم تكن منقسمة فهو المطلوب، وأما إنه إذا كان في المعلوم علم لا يقبل القسمة كان الموصوف به أيضا كذلك، فلأن الموصوف به لو كان قبل القسمة، لكان كل واحد من تلك الأجزاء أو شيء منها إن كان موصوفا به بتمامه فحينئذ يكون العرض الواحد حالا في أشياء كثيرة وهو محال، أو يتوزع أجزاء الحال على أجزاء المحل، فيقسم الحال وقد فرضنا أنه غير منقسم أو لا يتصف شيء من أجزاء المحل إلا بتمام الحال ولا شيء من أجزاء ذلك الحال، فحينئذ يكون ذلك المحل خاليا عن ذلك الحال وقد فرضناه موصوفا به هذا خلف، وأما أن كل متحيز ينقسم فبالدلائل المذكورة في نفي الجوهر الفرد، قالوا: فثبت أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله: (أنا موجود) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ثم نقول: هذا الموجود لا بد أن يكون مدركا للجزئيات لأنه لا يمكنني أن أحكم على هذا الشخص المشار إليه بأنه إنسان وليس بفرس، والحاكم بشيء على شيء لا بد وأن يحضر المقضي عليهما فهذا الشيء مدرك لهذا الجزئي وللإنسان الكلي حتى يمكنه أن يحكم بهذا الكلي على هذا الجزئي والمدرك للكليات هو النفس والمدرك للجزئيات أيضا هو النفس، فكل من كان مدركا للجزئيات فإنه لا يمتنع أن يلتذ ويتألم، قالوا: إذا ثبت هذا فنقول: هذه الأرواح بعد المفارقة تتألم وتلتذ إلى أن يردها الله تعالى إلى الأبدان يوم القيامة، فهناك يحصل الإلتذاذ والتألم للأبدان، فهذا قول قال به عالم من الناس قالوا: وهب أنه لم يقم برهان قاهر على القول به ولكن لم يقم دليل على فساده، فإنه مما يؤيد الشرع وينصر ظاهر القرآن ويزيل الشكوك والشبهات عما ورد في كتاب الله من ثواب القبر وعذابه فوجب المصير إليه فهذا هو الإشارة المختصرة في توجيه هذا القول، والله هو العالم بحقائق الأمور.
قالوا: ومما يؤكد هذا القول هو أن ثواب القبر وعذابه إما أن يصل إلى هذه البنية أو إلى جزء من أجزائها، والأول مكابرة لأنا نجد هذه البنية متفرقة متمزقة فكيف يمكن القول بوصول الثواب والعقاب إليها؟ فلم يبق إلا أن يقال: إن الله تعالى يحيي بعض تلك الأجزاء الصغيرة ويوصل الثواب والعقاب إليها، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال: الإنسان هو الروح فإنه لا يعرض له التفرق والتمزق فلا جرم يصل إليه الألم واللذة ثم إنه سبحانه وتعالى يرد الروح إلى البدن يوم القيامة الكبرى، حتى تنضم الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحانية.
167

قوله تعالى
* (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين) *
اعلم أن القفال رحمه الله قال: هذا متعلق بقوله: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 45) أي استعينوا بالصبر والصلاة فإنا نبلوكم بالخوف وبكذا وفيه مسائل:
المسألة الأولى: فإن قيل إنه تعالى قال: * (واشكروا لي ولا تكفرون) * (البقرة: 152) والشكر يوجب المزيد على ما قال: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * فكيف أردفه بقوله: * (ولنبلونكم بشيء من الخوف) *. والجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى أخبر أن إكمال الشرائع إتمام النعمة، فكان ذلك موجبا للشكر، ثم أخبر أن القيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المحن، فلا جرم أمر فيها بالصبر. الثاني: أنه تعالى أنعم أولا فأمر بالشكر، ثم ابتلى وأمر بالصبر، لينال الرجل درجة الشاكرين والصابرين معا، فيكمل إيمانه على ما قال عليه الصلاة والسلام: " الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر ".
المسألة الثانية؛ روي عن عطاء والربيع بن أنس أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة.
المسألة الثالثة: أما أن الإبتلاء كيف يصح على الله تبارك وتعالى فقد تقدم في تفسير قوله تعالى: * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه) * (البقرة: 124) وأما الحكمة في تقديم تعريف هذا الإبتلاء ففيها وجوه. أحدها: ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت، فيكون ذلك أبعد لهم عن الجزع، وأسهل عليهم بعد الورود. وثانيها: أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن، اشتد خوفهم، فيصير ذلك الخوف تعجيلا للابتلاء، فيستحقون به مزيد الثواب. وثالثها: أن الكفار إذا شاهدوا محمدا وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع، يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته، فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمل في دلائله، ومن المعلوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره، ثم رأوه مع ذلك مصرا على ذلك المذهب كان ذلك
أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة
168

عليه في ذلك المذهب. ورابعها: أنه تعالى أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه فكان ذلك إخبارا عن الغيب فكان معجزا. وخامسها: أن من المنافقين من أظهر متابعة الرسول طمعا منه في المال وسعة الرزق فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق عن الموافق لأن المنافق إذا سمع ذلك نفر منه وترك دينه فكان في هذا الإختبار هذه الفائدة. وسادسها: أن إخلاص الإنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله تعالى أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه، فكانت الحكمة في هذا الإبتلاء ذلك.
المسألة الرابعة: إنما قال بشيء على الوحدان، ولم يقل بأشياء على الجمع لوجهين. الأول: لئلا يوهم بأشياء من كل واحد، فيدل على ضروب الخوف والتقدير بشيء من كذا وشئ من كذا. الثاني: معناه بشيء قليل من هذه الأشياء.
المسألة الخامسة: اعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب، فينقسم إلى موجود في الحال وإلى ما كان موجودا في الماضي وإلى ما سيوجد في المستقبل، فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمى ذكرا وتذكرا وإن كان موجودا في الحال: يسمى ذوقا ووجدا وإنما سمي وجدا لأنها حالة تجدها من نفسك وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك، سمى انتظارا وتوقعا، فإن كان المنتظر مكروها حصل منه ألم في القلب يسمى خوفا وإشفاقا، وإن كان محبوبا سمى ذلك ارتياحا، والإرتياح رجاء، فالخوف هو تألم القلب لانتظار ما هو مكروه عنده، والرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده، وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت: قال القفال رحمه الله: أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدين، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم، وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان، قال الله تعالى: * (هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) * (الأحزاب: 11) وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لقلة أموالهم، حتى أنه عليه السلام كان يشد الحجر على بطنه، وروى أبو الهيثم بن التيهان أنه عليه السلام لما خرج التقى مع أبي بكر قال: ما أخرجك؟ قال: الجوع. قال: أخرجني ما أخرجك: وأما النقص في الأموال والأنفس فقد يحصل ذلك عند محاربة العدو بأن ينفق الإنسان ماله في الاستعداد للجهاد وقد يقتل، فهناك يحصل النقص في المال والنفس وقال الله تعالى: * (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) * (التوبة: 41) وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد قال الله تعالى: * (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله) * (التوبة: 120) وقد يكون النقص في النفس بموت بعض الإخوان والأقارب على ما هو التأويل في قوله: دولا تقتلوا أنفسكم) *
169

وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجدب وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بجهاد الأعداء، وقد يكون ذلك بالإنفاق على من كان يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوفود، هذا آخر كلام القفال رحمه الله، قال الشافعي رضي الله عنه: الخوف: خوف الله، والجوع: صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال: الزكوات والصدقات، ومن الأنفس: الأمراض، ومن الثمرات: موت الأولاد ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء بين جملة الصابرين على هذه الأمور بقوله تعالى: * (وبشر الصابرين) * (البقرة: 155) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الصبر واجب على هذه الأمور إذا كان من قبله تعالى لأنه يعلم أن كل ذلك عدل وحكمة، فأما من لم يكن محققا في الإيمان كان كمن قال فيه: * (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة) *. فأما ما يكون من جانب الظلمة فلا يجب الصبر عليه مثاله: أن المراهق يلزمه أن يصبر على ما يفعله به أبوه من التأديب، ولو فعله به غيره، لكان له أن يمانع بل يحارب، وكذا في العبد مع مولاه فما يدبر تعالى عباده عليه ليس ذلك إلا حكمة وصوابا بخلاف ما يفعل العباد من الظلم.
المسألة الثانية: الخطاب في * (وبشر) * لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه البشارة.
المسألة الثالثة: قال الشيخ الغزالي رحمه الله: اعلم أن الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة، أما في البهائم فلنقصانها، وأما في الملائكة فلكمالها، بيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات، وليس لشهواتها عقل يعارضها، حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا، وأما الملائكة فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية والابتهاج بدرجة القرب منها ولم يسلط عليهم شهوة صارفة عنها، حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر، وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصا مثل البهيمة، ولم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم يظهر فيه شهوة اللعب، ثم شهوة النكاح، وليس له قوة الصبر البتة، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر، قام القتال بينهما لتضاد مطالبهما أما البالغ فإن فيه شهوة تدعوه إلى طلب اللذات العاجلة، والإعراض عن الدار الآخرة، وعقلا يدعوه إلى الإعراض عنها، وطلب اللذات الروحانية الباقية، فإذا عرف العقل أن الاشتغال بطلب هذه اللذات العاجلة، عن الوصول إلى تلك اللذات الباقية، صارت داعية العقل صادة ومانعة لداعية الشهوة من العمل، فيسمى ذلك الصد والمنع صبرا، ثم اعلم أن الصبر ضربان. أحدهما: بدني، كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليه، وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة أو بالاحتمال
170

كالصبر على الضرب الشديد والألم العظيم. والثاني: هو الصبر النفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الشهوة ومشتهيات الطبع، ثم هذا الضرب إن كان صبرا عن شهوة البطن والفرج سمي عفة، وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي عليه الصبر، فإن كان في مصيبة اقتصر عليه باسم الصبر ويضاده حالة تسمى الجزع والهلع، وهو إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب وغيرها وإن كان في حال الغنى يسمى ضبط النفس ويضاده حالة تسمى: البطر. وإن كان في حرب ومقاتلة يسمى: شجاعة، ويضاده الجبن، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى: حلما، ويضاده النزق، وإن كان في نائبة
من نوائب الزمان مضجرة سمي: سعة الصدر، ويضاده الضجر والندم وضيق الصدر وإن كان في إخفاء كلام يسمى: كتمان النفس ويسمى صاحبه: كتوما، وإن كان عن فضول العيش سمي زهدا، ويضاده الحرص وإن كان على قدر يسير من المال سمي بالقناعة ويضاده الشره وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمي الكل صبرا فقال: * (الصابرين في البأساء) * أي المصيبة. * (والضراء) * أي الفقر: * (وحين البأس) * أي المحاربة: * (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) * (البقرة: 177) قال القفال رحمه الله ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك لأن ذلك غير ممكن، إنما الصبر هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع، فإذا كظم الحزن وكف النفس عن إبراز آثاره كان صاحبه صابرا، وإن ظهر دمع عين أو تغير لون، قال عليه السلام: " الصبر عند الصدمة الأولى " وهو كذلك، لأن من ظهر منه في الابتداء ما لا يعد معه من الصابرين ثم صبر، فذلك يسمى سلوا وهو مما لا بد منه قال الحسن: لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فضيلة الصبر قد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف وذكر الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعا وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال: * (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) * (السجدة: 24) وقال: * (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) * (الأعراف: 137) وقال: * (وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * (النحل: 96) وقال: * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) * (القصص: 54) وقال: * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * (الزمر: 10) فما من طاعة إلا وأجرها مقدرا إلا الصبر، ولأجل كون الصوم من الصبر قال تعالى: * (الصوم لي) * فإضافة إلى نفسه، ووعد الصابرين بأنه معهم فقال: * (واصبروا إن الله مع الصابرين) * (الأنفال: 46) وعلق النصرة على الصبر فقال: * (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة) * (آل عمران: 125) وجمع للصابرين أمورا لم يجمعها لغيرهم فقال: * (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) * (البقرة: 157).
171

وأما الأخبار فقال عليه الصلاة والسلام: " الصبر نصف الإيمان " وتقريره أن الإيمان لا يتم إلا بعد ترك ما لا ينبغي من الأقوال والأعمال والعقائد، وبحصول ما ينبغي، فالاستمرار على ترك ما لا ينبغي هو الصبر وهو النصف الآخر، فعلى مقتضى هذا الكلام يجب أن يكون الإيمان كله صبرا إلا أن ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي قد يكون مطابقا للشهوة، فلا يحتاج فيه إلى الصبر، وقد يكون مخالفا للشهوة فيحتاج فيه إلى الصبر، فلا جرم جعل الصبر نصف الإيمان، وقال عليه السلام: " من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار " وقال عليه السلام: " الإيمان هو الصبر " وهذا شبه قوله عليه السلام: " الحج عرفة ".
المسألة الخامسة: في بيان أن الصبر أفضل أم الشكر؟ قال الشيخ الغزالي رحمه الله: دلالة الأخبار على فضيلة الصبر أشد قال عليه السلام: " من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر " وقال: " يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين، ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له: أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر؟ فيقول: نعم يا رب فيقول الله تعالى: لقد أنعمت عليك فشكرت، وابتليتك فصبرت، لأضعفن لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين " وأما قوله عليه السلام: " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر " فهو دليل على فضل الصبر، لأن هذا إنما يذكر في معرض المبالغة، وهي لا تحصل إلا إذا كان المشبه به أعظم درجة من المشبه كقوله عليه السلام: " شارب الخمر كعابد الوثن " وأيضا روي أن سليمان عليه السلام يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفا لمكان ملكه، وآخر الصحابة دخولا الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه، وفي الخير أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد وأول من يدخله أهل البلاء وأمامهم أيوب عليه السلام.
المسألة السادسة: دلت هذه الآية على أمور. أحدها: أن هذه المحن لا يجب أن تكون عقوبات لأنه تعالى وعد بها المؤمنين من الرسول وأصحابه. وثانيها: أن هذه المحن إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين. وثالثها: أن كل هذه المحن من الله تعالى خلاف قول الثنوية الذين ينسبون الأمراض وغيرها إلى شيء آخر، وخلاف قول المنجمين الذين ينسبونها إلى سعادة الكواكب ونحوستها.
ورابعها: أنها تدل على أن الغذاء لا يفيد الشبع، وشرب الماء لا يفيد الري، بل كل ذلك يحصل بما أجرى الله العادة به عند هذه الأسباب، لأن قوله: * (ولنبلونكم) * صريح في إضافة هذه الأمور إلى الله تعالى وقول من قال: إنه تعالى لما خلق أسبابها صح منه هذا القول
172

ضعيف لأنه مجاز والعدول إلى المجاز لا يمكن إلا بعد تعذر الحقيقة.
قوله تعالى
* (الذين إذآ أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنآ إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) *
اعلم أنه تعالى لما قال: * (وبشر الصابرين) * (البقرة: 155) بين في هذه الآية أن الإنسان كيف يكون صابرا، وأن تلك البشارة كيف هي؟ ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذه المصائب قد تكون من فعل الله تعالى وقد تكون من فعل العبد، أما الخوف الذي يكون من الله فمثل الخوف من الغرق والحرق والصاعقة وغيرها، والذي من فعل العبد، فهو أن العرب كانوا مجتمعين على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الجوع فلأجل الفقر، وقد يكون الفقر من الله بأن يتلف أموالهم، وقد يكون من العبد بأن يغلبوا عليه فيتلفوه، ونقص الأموال من الله تعالى إنما يكون بالجوائح التي تصيب الأموال والثمرات، ومن العدو إنما يكون لأن القوم لاشتغالهم لا يتفرغون لعمارة الأراضي، ونقص الأنفس من الله بالإماتة ومن العباد بالقتل. المسألة الثانية: قال القاضي: إنه تعالى لم يضف هذه المصيبة إلى نفسه بل عمم وقال: * (الذين إذا أصابتهم مصيبة) * فالظاهر أنه يدخل تحتها كل مضرة ينالها من قبل الله تعالى، وينالها من قبل العباد، لأن في الوجهين جميعا عليه تكليفا،
وإن عدل عنه إلى خلافه كان تاركا للتمسك بأدائه فالذي يناله من قبله تعالى يجب أن يعتقد فيه أنه حكمة وصواب وعدل وخير وصلاح وأن الواجب عليه الرضا به وترك الجزع وكل ذلك داخل تحت قوله: * (إنا لله) * لأن في إقرارهم بالعبودية تفويض الأمور إليه والرضا بقضائه فيما يبتليهم به، لأنه لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى: * (والله يقضي بالحق والدين يدعون من دونه لا يقضون بشيء) * (غافر: 20) أما إذا نزلت به المصيبة من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله تعالى في الانتصاف منه وأن يكظم غيظه وغضبه فلا يتعدى إلى ما لا يحل له من شفعاء غيظه، ويدخل أيضا تحت قوله: * (إنا لله) * لأنه الذي ألزمه سلوك هذه الطريقة حتى لا يجاوز أمره كأنه يقول في الأول، إنا الله يدبر فينا كيف يشاء، وفي الثاني يقول: إنا لله ينتصف لنا كيف يشاء.
173

المسألة الثالثة: أمال الكسائي في بعض الروايات من * (إنا) * ولام * (لله) * والباقون بالتفخيم وإنما جازت الإمالة في هذه الألف للكسرة مع كثرة الاستعمال، حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة، قال الفراء والكسائي: لا يجوز إمالة * (إنا) * مع غير اسم الله تعالى، وإنما وجب ذلك لأن الأصل في الحروف وما جرى مجراها امتناع الإمالة وكذلك لا يجوز إمالة * (حتى) * و * (لكن) *.
أما قوله: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو بكر الوراق * (إنا لله) * إقرار منا له بالملك: * (وإنا إليه راجعون) * إقرار على أنفسنا بالهلاك، واعلم أن الرجوع إليه ليس عبارة عن الإنتقال إلى مكان أو جهة، فإن ذلك على الله محال، بل المراد أنه يصير إلى حيث لا يملك الحكم فيه سواه، وذلك هو الدار الآخرة، لأن عند ذلك لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا، وما داموا في الدنيا قد يملك غير الله نفعهم وضرهم بحسب الظاهر، فجعل الله تعالى هذا رجوعا إليه تعالى، كما يقال: إن الملك والدولة يرجع إليه لا بمعنى الانتقال بل بمعنى القدرة وترك المنازعة.
المسألة الثانية: هذا يدل على أن ذلك إقرار بالبعث والنشور، والاعتراف بأنه سبحانه سيجازي الصابرين على قدر استحقاقهم، ولا يضيع عنده أجر المحسنين.
المسألة الثالثة: قوله: * (إنا لله) * يدل على كونه راضيا بكل ما نزل به في الحال من أنواع البلاء وقوله: * (وإنا إليه راجعون) * يدل على كونه في الحال راضيا بكل ما سينزل به بعد ذلك، من إثابته على ما كان منه، ومن تفويض الأمر إليه على ما نزل به، ومن الإنتصاف ممن ظلمه، فيكون مذللا نفسه، راضيا بما وعده الله به من الأجر في الآخرة.
المسألة الرابعة: الأخبار في هذا الباب كثيرة. أحدها: عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من استرجع عند المصيبة: جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه ". وثانيها: روي أنه طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " فقيل أمصيبة هي؟ قال: نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة. وثالثها: قالت أم سلمة: حدثني أبو سلمة أنه عليه الصلاة والسلام قال: " ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به من قوله: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) * اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وعوضني خيرا منها إلا آجره الله عليها وعوضه خيرا منها " قالت: فلما توفى أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت هذا القول: فعوضني الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام. ورابعها: قال ابن عباس: أخبر الله أن المؤمن إذا سلم لأمر الله تعالى ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال: الصلاة من الله، والرحمة
174

وتحقيق سبيل الهدى. وخامسها: عن عمر رضي الله عنه قال: نعم العدلان وهما: * (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) * ونعمت العلاوة وهي قوله: * (وأولئك هم المهتدون) * وقال ابن مسعود: لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى: ليته لم يكن.
أما قوله: * (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) * فاعلم أن الصلاة من الله هي: الثناء والمدح والتعظيم، وأما رحمته فهي: النعم التي أنزلها به عاجلا ثم آجلا.
وأما قوله: * (وأولئك هم المهتدون) * ففيه وجوه. أحدها: أنهم المهتدون لهذه الطريقة الموصلة بصاحبها إلى كل خير. وثانيها: المهتدون إلى الجنة، الفائزون بالثواب. وثالثها: المهتدون لسائر ما لزمهم، والأقرب فيه ما يصير داخلا في الوعد حتى يكون عطفه على ما ذكره من الصلوات والرحمة صحيحا، ولا يكون كذلك إلا والمراد به أنهم الفائزون بالثواب والجنة، والطريق إليها لأن كل ذلك داخل في الاهتداء، وإن كان لا يمتنع أن يراد بذلك أنهم المتأدبون بآدابه المتمسكون بما ألزم وأمر، قال أبو بكر الرازي: اشتملت الآية على حكمين: فرض ونفل، أما الفرض فهو التسليم لأمر الله تعالى، والرضا بقضائه، والصبر على أداء فرائضه، لا يصرف عنها مصائب الدنيا وأما النفل فإظهارا لقوله: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) * فإن في إظهاره فوائد جزيلة منها أن غيره يقتدى به إذا سمعه، ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله والثبات عليه وعلى طاعته، وحكي عن داود الطائي قال: الزهد في الدنيا أن لا يحب البقاء فيها، وأفضل الأعمال الرضا عن الله ولا ينبغي للمسلم أن يحزن لأنه يعلم أن لكل مصيبة ثوابا.
ولنختم تفسير هذه الآية ببيان الرضا بالقضاء فنقول: العبد إنما يصبر راضيا بقضاء الله تعالى بطريقين: إما بطريق التصرف، أو بطريق الجذب، أما طريق التصرف فمن وجوه. أحدها: أنه متى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إلى شيء جعل ذلك الشيء منشأ للآفات فحينئذ ينصرف وجه القلب عن عالم الحدوث إلى جانب القدس فإن آدم عليه السلام لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة، فبقي آدم مع ذكر الله، ولما استأنس يعقوب بيوسف عليهما السلام أوقع الفراق بينهما حتى بقي يعقوب مع ذكر الحق، ولما طمع محمد عليه السلام من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس عليه حتى قال: " ما أوذي نبي مثل ما أوذيت ". وثانيها: أن لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة فحينئذ يرجع العبد إلى الله تعالى. وثالثها: أن العبد متى توقع من جانب شيئا أعطاه الله تعالى بلا واسطة خيرا من متوقعه فيستحي العبد فيرجع إلى باب رحمة الله.
175

وأما طريق الجذب فهو كما قال عليه السلام: " جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين ". ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوبا لأن الحق غالب لا مغلوب، وصفة الرب الربوبية، وصفة العبد العبودية، والربوبية غالبة على العبودية لا بالضد، وصفة الحق حقيقة، وصفة العبد مجاز، والحقيقة غالبة على المجاز لا بالضد، والغالب يقلب المغلوب من صفة إلى صفة تليق به، والعبد إذا دخل على السلطان المهيب نسي نفسه وصار بكل قلبه وفكره وحسه مقبلا عليه ومشتغلا به وغافلا عن غيره، فكيف بمن لحظ نصره حضرة السلطان الذي كان من عداه حقير بالنسبة إليه، فيصير العبد هنالك كالفاني عن نفسه وعن حظوظ نفسه فيصير هنالك راضيا بأقضية الحق سبحانه وتعالى وأحكامه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة.
* (إن الصفا والمروة من شعآئر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) *
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجوه. أحدها: أن الله تعالى بين أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ليتم إنعامه على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته بإحياء شرائع إبراهيم ودينه على ما قال: * (ولأتم نعمتي عليكم) * وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصة بناء الكعبة وسعى هاجر بين الجبلين فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية. وثانيها: أنه تعالى لما قال: * (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع) * (البقرة: 155) إلى قوله: * (وبشر الصابرين) * قال: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) * وإنما جعلهما كذلك لأنهما من آثار هاجر وإسماعيل مما جرى عليهما من البلوى واستدلوا بذلك على أن من صبر على البلوى لا بد وأن يصل إلى أعظم الدرجات وأعلى المقامات. وثالثها: أن أقسام تكليف الله تعالى ثلاثة. أحدها: ما يحكم العقل بحسنه في أول الأمر فذكر هذا القسم أولا وهو قوله: * (اذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) * (البقرة: 152) فإن كان عاقل يعلم أن ذكر المنعم بالمدح والثناء والمواظبة على شكره أمر مستحسن في العقول. وثانيها: ما يحكم العقل بقبحه في أول الأمر إلا أنه بسبب ورود الشرع به يسلم حسنه، وذلك مثل إنزال الآلام والفقر
176

والمحن فإن ذلك كالمستقبح في العقول لأن الله تعالى لا ينتفع به ويتألم العبد منه فكان ذلك كالمستقبح إلا أن الشرع لما ورد به بين الحكمة فيه، وهي الإبتلاء والامتحان على ما قال: * (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع) * (البقرة: 155) فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصوابا. وثالثها: الأمر الذي لا يهتدي لا إلى حسنه ولا إلى قبحه، بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة وهو مثل أفعال الحج من السعي بين الصفا والمروة، فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأولين ليكون قد نبه على جميع أقسام تكاليفه وذاكرا لكلها على سبيل الاستيفاء والاستقصاء والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن الصفا والمروة علمان للجبلين المخصوصين إلا أن الناس تكلموا في أصل اشتقاقهما قال القفال رحمه الله: قيل إن الصفا واحد ويجمع على صفي وأصفاء كما يقال عصا وعصي، ورحا وأرحاء قال الزاجر:
كأن متنيه من النفي * مواقع الطير من الصفي
وقد يكون بمعنى جمع واحدته صفاة قال جرير:
إنا إذا قرع العدو صفاتنا * لاقوا لنا حجرا أصم صلودا
وفي كتاب الخليل: الصفا الحجر الضخم الصلب الأملس، وإذا نعتوا الصخرة قالوا: صفاة صفواء، وإذا ذكروا قالوا: صفا صفوان. فجعل الصفا والصفاة كأنهما في معنى واحد وقال المبرد الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب متصل به، واشتقاقه من صفا يصفوا إذا خلص وأما المروة فقال الخليل: من الحجارة ما كان أبيض أملس صلبا شديد الصلابة، وقاله غير: هو الحجارة الصغيرة يجمع في القليل مروات وفي الكثير مرو قال أبو ذؤيب:
حتى كأني للحوادث مروة * بصفا المشاعر كل يوم يقرع
وأما * (شعائر الله) * فهي أعلام طاعته، وكل شيء جعل علما من أعلام طاعة الله فهو من شعائر الله، قال الله تعالى: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) * (الحج: 36) أي علامة للقربة، وقال: * (ذلك ومن يعظم شعائر الله) * (الحج: 32) وشعائر الحج: معالم نسكه ومنه المشعر الحرام، ومنه إشعار السنام: وهو أن يعلم بالمدية فيكون ذلك علما على إحرام صاحبها، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله، ومنه الشعائر في الحرب، وهو العلامة التي يتبين بها إحدى الفئتين من الأخرى والشعائر جمع شعيرة، وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ومنه قولك: شعرت بكذا، أي علمت.
المسألة الثالثة: الشعائر إما أن نحملها على العبادات أو على النسك، أو نحملها على مواضع
177

العبادات والنسك، فإن قلنا بالأول حصل في الكلام حذف، لأن نفس الجبلين لا يصح وصفهما بأنهما دين ونسك، فالمراد به أن الطواف بينهما والسعي من دين الله تعالى، وإن قلنا بالثاني استقام ظاهر الكلام، لأن هذين الجبلين يمكن أن يكونا موضعين للعبادات والمناسك وكيف كان فالسعي بين هذين الجبلين من شعائر الله ومن أعلام دينه، وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وهو من المناسك الذي حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: * (وأرنا مناسكنا) * (البقرة: 128) واعلم أن السعي ليس عبادة تامة في نفسه بل إنما يصير عبادة إذا صار بعضا من أبعاض الحج، فلهذا السر بين الله تعالى الموضع الذي فيه يصير السعي عبادة فقال: * (فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) *.
المسألة الرابعة: الحكمة في شرع هذا السعي الحكاية المشهورة وهي أن هاجر أم إسماعيل حين ضاق بها الأمر في عطشها وعطش ابنها إسماعيل عليه السلام أغاثها الله
تعالى بالماء الذي أنبعه لها ولابنها من زمزم حتى يعلم الخلق أنه سبحانه وإن كان لا يخلي أولياءه في دار الدنيا من أنواع المحن إلا أن فرجه قريب فمن دعاه فإنه غياث المستغيثين، فانظر إلى حال هاجر وإسماعيل كيف أغاثهما وأجاب دعاءهما، ثم جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلفين إلى يوم القيامة، وآثارهما قدوة للخلائق أجمعين ليعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين، وكل ذلك تحقيق لما أخبر به قبل ذلك من أنه يبتلي عباده بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلا أن من صبر على ذلك نال السعادة في الدارين وفاز بالمقصد الأقصى في المنزلين.
المسألة الخامسة: ذكر القفال في لفظ الحج أقوالا. الأول: الحج في اللغة كثرة الاختلاف إلى شيء والتردد إليه، فمن زار البيت للحج فإنه يأتيه أولا ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر. الثاني: قال قطرب: الحج الحلق يقال: احجج شجتك، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشجة ليدخل المحجاج في الشجة، فيكون المعنى: حج فلان أي حلق، قال القفال وهذا محتمل لقوله تعالى: * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين) * (الفتح: 27) أي حجاجا وعمارا، فعبر عن ذلك بالحلق فلا يبعد أن يكون الحج مسمى بهذا الاسم لمعنى الحلق. الثالث: قال قوم الحج القصد، يقال: رجل محجوج، ومكان محجوج إذا كان مقصودا، ومن ذلك محجة الطريق، فكان البيت لما كان مقصودا بهذا النوع من العبادة سمي ذلك الفعل حجا، قال القفال: والقول الأول أشبه بالصواب
178

لأن قولهم رجل محجوج إنما هو فيمن يختلف إليه مرة بعد أخرى، وكذلك محجة الطريق هو الذي كثر السير إليه.
وأما العمرة فقال أهل اللغة: الاعتمار هو القصد والزيارة، قال الأعشى:
وجاشت النفس لما جاء جمعهم * وراكب جاء من تثليث معتمر
وقال قطرب: العمرة في كلام عبد القيس: المسجد، والبيعة، والكنيسة، قال القفال: ولا شبهة في العمرة إذا أضيفت إلى البيت أن تكون بمعنى الزيارة، لأن المعتمر يطوف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم ينصرف كالزائر، وأما الجناح فهو من قولهم: جنح إلى كذا أي مال إليه، قال الله تعالى: * (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) * (الأنفال: 61) وجنحت السفينة إذا لزمت الماء فلم تمض، وجنح الرجل في الشيء يعلمه بيده إذا مال إليه بصدره وقيل للأضلاع: جوانح لاعوجاجها، وجناح الطائر من هذا، لأنه يميل في أحد شقيه ولا يطير على مستوى خلقته فثبت أن أصله من الميل، ثم من الناس من قال إنه بقي في عرف القرآن كذلك أيضا فمعنى: لا جناح عليه أينما ذكر في القرآن: لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء، ومنهم من قال: بل هو مختص بالميل إلى الباطل وإلى ما يأثم به.
وقوله: * (أن يطوف بهما) * أي يتطوف فأدغمت التاء في الطاء كما قال: * (يا أيها المدثر) * (المدثر: 1)، * (يا أيها المزمل) * (المزمل: 1) أي المتدثر والمتزمل، ويقال: طاف وأطاف بمعنى واحد.
المسألة السادسة: ظاهر قوله تعالى: * (لا جناح عليه) * أنه لا إثم عليه، والذي يصدق عليه أنه لا إثم في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الآخر بقيد زائد، فإذن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب، أو ليس بواجب، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه البتة على خصوصية من الرجوع إلى دليل آخر، إذا عرفت هذا فنقول: مذهب الشافعي رحمه الله أن هذا السعي ركن، ولا يقوم الدم مقامه، وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه ليس بركن، ويقوم الدم مقامه، وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء، أن من تركه فلا شيء عليه، حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه. أحدها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا "، فإن قيل: هذا الحديث متروك الظاهر، لأنه يقتضي وجوب السعي وهو العدو، ذلك غير واجب
179

قلنا: لا نسلم أن السعي عبارة عن العدو بدليل قوله: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * (الجمعة: 9) والعدو فيه غير واجب، وقال الله تعالى: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * (النجم: 39) وليس المراد منه العدو، بل الجد والاجتهاد في القصد والنية، سلمنا أنه يدل على العدو، ولكن العدو مشتمل على صفة ترك العمل به في حق هذه الصفة، فيبقى أصل المشي واجبا. وثانيها: ما ثبت أنه عليه السلام سعى لما دنا من الصفا في حجته، وقال: " إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدؤا بما بدأ الله به " فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، وإذا ثبت أنه عليه السلام سعى وجب أن يجب علينا السعي للقرآن والخبر، أما القرآن: فقوله تعالى: * (واتبعوه) * وقوله: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * (آل عمران: 31) وقوله: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الأحزاب: 21) وأما الخبر فقوله عليه السلام: " خذوا عني مناسككم " والأمر للوجوب. وثالثها: أنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم، أو يؤتى به في إحرام كامل فكان جنسها ركنا كطواف الزيارة، ولا يلزم طواف الصدر لأن الكلام للجنس لوجوبه مرة، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجهين. أحدهما: هذه الآية وهي قوله: * (لا جناح عليه أن يطوف بهما) * وهذا لا يقال في الواجبات. ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: * (ومن تطوع خيرا) * فبين أنه تطوع وليس بواجب. وثانيهما: قوله: " الحج عرفة " ومن أدرك عرفة فقد تم حجه، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه، ترك العمل به في بعض الأشياء، فيبقى معمولا به في السعي والجواب عن الأول من وجوه. الأول: ما بينا أن قوله: * (فلا جناح عليه) * ليس فيه إلا أنه لا إثم على فاعله، وهذا القدر المشترك بين الواجب وغيره، فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب والذي يحقق ذلك قوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) * (النساء: 101) والقصر عند أبي حنيفة واجب، مع أنه قال فيه: * (فلا جناح عليه) * فكذا ههنا. الثاني: أنه رفع الجناح عن الطواف بهما لا عن الطواف بينهما، وعندنا الأول غير واجب، وإنما الثاني هو الواجب. الثالث: قال ابن عباس: كان على الصفا صنم وعلى المروة صنم وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله
تعالى هذه الآية، إذا عرفت هذا فنقول انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطواف لا إلى نفس الطواف كما لو كان في الثوب نجاسة يسيرة عندكم، أو دم البراغيث عندنا، فقيل: لا جناح عليك أن تصلي فيه، فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا إلى نفس الصلاة. الرابع: روي عن عروة أنه قال لعائشة: إني أرى أن لا حرج علي في أن لا أطوف بهما، فقالت: بئس
180

ما قلت لو كان كذلك لقال: أن لا يطوف بهما، ثم حكى ما تقدم من الصنمين، وتفسير عائشة راجح على تفسير التابعين، فإن قالوا: قرأ ابن مسعود: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) واللفظ أيضا محتمل له كقوله: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * (النساء: 176) أي أن لا تضلوا، وكقوله تعالى: * (أن تقولوا يوم القيامة) * (الأعراف: 172) معناه: أن لا تقولوا، قلنا: القراءة الشاذة لا يمكن اعتبارها في القرآن لأن تصحيحها يقدح في كون القرآن متواترا. الخامس: كما أن قوله: * (فلا جناح عليه) * لا يطلق على الواجب، فكذلك لا يطلق على المندوب، ولا شك في أن السعي مندوب، فقد صارت الآية متروكة العمل بظاهرها. وأما التمسك بقوله: * (فمن تطوع خيرا) * فضعيف، لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور أولا، بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئا آخر قال الله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) * (البقرة: 184) ثم قال: * (فمن تطوع خيرا فهو خير له) * (البقرة: 184) فأوجب عليهم الطعام، ثم ندبهم إلى التطوع بالخير فكان المعنى: فمن تطوع وزاد على طعام مسكين كان خيرا، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوع مصروفا إلى شيء آخر وهو من وجهين. أحدهما: أنه يزيد في الطواف فيطوف أكثر من الطواف الواجب مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر. الثاني: أن يتطوع بعد حج الفرض وعمرته بالحج والعمرة مرة أخرى حتى طاف بالصفا والمروة تطوعا وأما الحديث الذي تمسكوا به فنقول: ذلك الحديث عام وحديثنا خاص والخاص مقدم على العام والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (ومن تطوع خيرا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قراءة حمزة وعاصم والكسائي (يطوع) بالياء وجزم العين، وتقديره: يتطوع، إلا أن التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما، وهذا أحسن لأن المعنى على الاستقبال والشرط والجزاء الأحسن فيهما الاستقبال، وإن كان يجوز أن يقال من أتاني أكرمته فيوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء، إلا أن اللفظ إذا كان يوافق المعنى كان أحسن، وأما الباقون من القراء فقرؤا (تطوع) على وزن تفعل ماضيا وهذه القراءة تحتمل أمرين. أحدهما: أن يكون موضع (تطوع) جزما. الثاني: أن لا يجعل (من) للجزاء، ولكن يكون بمنزلة (الذي) ويكون مبتدأ والفاء مع ما بعدها في موضع رفع لكونها خبر المبتدأ الموصول والمعنى فيه معنى مبتدأ الخبر، إلا أن هذه الفاء إذا دخلت في خبر الموصول أو النكرة الموصوفة، أفادت أن الثاني إنما وجب لوجوب الأول كقوله: * (وما بكم من نعمة فمن الله) * (النحل: 53) فما مبتدأ موصول، والفاء مع ما بعدها خبر له، ونظيره قوله: * (والذين ينفقون أموالهم) * (النساء: 38) إلى قوله: * (فلهم أجرهم) * (البقرة: 274) وقوله: * (إن الذين فتنوا المؤمنين) * (البروج: 10) إلى قوله: * (فلهم
181

عذاب جهنم) * وقوله: * (ومن عاد فينتقم الله منه) * وقوله: * (ومن كفر فأمتعه قليلا) * وقوله: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * وقوله: * (ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * ونذكر هذه المسألة إن شاء الله عند قوله: * (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية) * (البقرة: 274).
المسألة الثانية؛ قال أبو مسلم: (تطوع) تفعل من الطاعة وسواء قول القائل: طاع وتطوع، كما يقال: حال وتحول وقال وتقول وطاف وتطوف وتفعل بمعنى فعل كثيرا، والطوع هو الانقياد، والطوع ما ترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك.
المسألة الثالثة: الذين قالوا: السعي واجب، فسروا هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب ومنهم من فسره بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة وقال الحسن: المراد منه جميع الطاعات وهذا أولى لأنه أوفق لعموم اللفظ.
أما قوله تعالى: * (فإن الله شاكر عليم) * فاعلم أن الشاكر في اللغة هو المظهر للأنعام عليه، وذلك في حق الله تعالى محال، فالشاكر في حقه تعالى مجاز، ومعناه المجازي على الطاعة: وإنما سمي المجازاة على الطاعة شكرا لوجوه. الأول: أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مبالغة في الإحسان إليهم، كما قال تعالى: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * (البقرة: 245) وهو تعالى لا يستقرض من عوض، ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل: من ذا الذي يعمل عمل المقرض بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم. الثاني: أن الشكر لما كان مقابلا للأنعام أو الجزاء عليه سمي كل ما كان جزاء شكرا على سبيل التشبيه. الثالث: كأنه يقول: أنا وإن كنت غنيا عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل وبالجملة فالمقصود بيان أن طاعة العبد مقبولة عند الله تعالى وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات.
وأما قوله: * (عليم) * فالمعنى أنه يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه لأنه تعالى عالم بقدره وعالم بما يزيد عليه من التفضل، وهو أليق بالكلام ليكون لقوله تعالى: * (عليم) * تعلق بشاكر ويحتمل أنه يريد أنه عليم بما يأتي العبد فيقوم بحقه من العبادة والإخلاص وما يفعله لا على هذا الحد، وذلك ترغيب في أداء ما يجب على شروطه، وتحذير من خلاف ذلك.
* (إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك
182

يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) *
وفيه مسائل
المسألة الأولى: في قوله: * (إن الذين يكتمون) * قولان. أحدهما: أنه كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئا من الدين. والثاني: أنه ليس يجري على ظاهره في
العموم ثم من هؤلاء من زعم أنه في اليهود خاصة قال ابن عباس: إن جماعة من الأنصار سألوا نفرا من اليهود عما في التوراة من صفات النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الأحكام، فكتموا، فنزلت الآية وقيل: نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والربيع والسدي والأصم. والأول أقرب إلى الصواب لوجوه. أحدها: أن اللفظ عام والعارض الموجود، وهو نزوله عند سبب معين لا يقتضي الخصوص على ما ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وثانيها: أنه ثبت أيضا في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان الوصف مناسبا للحكم، ولا شك أن كتمان الدين يناسبه استحقاق اللعن من الله تعالى، وإذا كان هذا الوصف علة لهذا الحكم وجب عموم هذا الحكم عند عموم الوصف. وثالثها: أن جماعة من الصحابة حملوا هذا اللفظ على العموم، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من زعم أن محمدا عليه الصلاة والسلام كتم شيئا من الوحي فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول: * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) * فحملت الآية على العموم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثا بعد أن قال الناس: أكثر أبو هريرة. وتلا: * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) * واحتج من خص الآية بأهل الكتاب، أن الكتمان لا يصح إلا منهم في شرع نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فأما القرآن فإنه متواتر، فلا يصح كتمانه، قلنا: القرآن قبل صيرورته متواترا يصح كتمانه، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه عند الواحد صح كتمانه وكذا القول فيما يحتاج المكلف إليه من الدلائل العقلية.
المسألة الثانية: قال القاضي: الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه، وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتمانا، فلما كان ما أنزله الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين، وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان، كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان، إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها، وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر، لأن الكتمان مما يشق على النفس.
183

المسألة الثالثة: هذه الآية تدل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، ونظيره هذه الآية قوله تعالى: * (وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * (آل عمران: 187) وقريب منهما قوله تعالى: * (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا) * (البقرة: 174) فهذه الآية كلها موجبة لإظهار علوم الدين تنبيها للناس وزاجرة عن كتمانها، ونظيرها في بيان العلم وإن لم يكن فيها ذكر الوعيد لكاتمه قوله تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * (التوبة: 122) وروى حجاج عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كتم علما يعلمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار ".
أما قوله تعالى: * (ما أنزلنا من البينات) * فالمراد كل ما أنزله على الأنبياء كتابا وحيا دون أدلة العقول، وقوله تعالى: * (والهدى) * يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية، لأنا بينا في تفسير قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) أن الهدى عبارة عن الدلائل فيعم الكل فإن قيل: فقد قال: * (والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) * فعاد إلى الوجه الأول قلنا: الأول هو التنزيل والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد.
واعلم أن الكتاب لما دل على أن خبر الواحد والإجماع والقياس حجة فكل ما يدل عليه أحد هذه الأمور فقد دل عليه الكتاب فكان كتمانه داخلا تحت الآية فثبت أنه تعالى توعد على كتمان الدلائل السمعية والعقلية وجمع بين الأمرين في الوعيد، فهذه الآية تدل على أن من أمكنه بيان أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجا إليها ثم تركها أو كتم شيئا من أحكام الشرع مع شدة الحاجة إليه فقد لحقه الوعيد العظيم.
المسألة الرابعة: هذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين وهذا لأنه إذا أظهر البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه فلم يبق مكتوما، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقيين إظهاره مرة أخرى.
المسألة الخامسة: من الناس من يحتج بهذه الآيات في قبول خبر الواحد فقال: دلت هذه الآيات على أن إظهار هذه الأحكام واجب، ولو لم يجب العمل بها لم يكن إظهارها واجبا وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية: * (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) * (البقرة: 160) فحكم بوقوع البيان بخبرهم فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهيا عن الكتمان ومأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر؟
184

قلنا: هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ على الوضع والاقتراء فلا يكون خبرهم موجبا للعلم.
المسألة السادسة: احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم لأن الآية لما دلت على وجوب ذلك التعليم كان أخذ الأجرة عليه أخذا للأجرة على أداء الواجب وأنه غير جائز ويدل عليه أيضا قوله تعالى: * (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا) * (البقرة: 174) وظاهر ذلك بمنع أخذ الأجرة على الإظهار وعلى الكتمان جميعا لأن قوله: * (ويشترون به ثمنا قليلا) * (البقرة: 174) مانع أخذ البدل عليه من جميع الوجوه.
أما قوله تعالى: * (من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) * قبل في التوراة والإنجيل من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الأحكام، وقيل: أراد بالمنزل الأول ما في كتب المتقدمين، والثاني: ما في القرآن.
أما قوله تعالى: * (أولئك يلعنهم الله) * فاللعنة في أصل اللغة هي الإبعاد وفي عرف الشرع الإبعاد من الثواب.
أما قوله تعالى: * (ويلعنهم اللاعنون) * فيجب أن يحمل على من للعنة تأثير، وقد اتفقوا على أن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك فهم داخلون تحت هذا العموم لا محالة، ويؤكده قوله تعالى: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) * (البقرة: 161) والناس ذكروا وجوها أخر.
أحدها: أن اللاعنين هم دواب الأرض وهوامها، فإنها تقول: منعنا القطر بمعاصي بني آدم عن مجاهد وعكرمة وإنما قال: * (اللاعنون) * ولم يقل اللاعنات لأنه تعالى وصفها بصفة من يعقل فجمعها جمع من يعقل كقوله: * (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) *. (يوسف: 4) و * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) * (النمل: 18) و * (قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا) * (فصلت: 21)، * (وكل في فلك يسبحون) * (الأنبياء: 33). وثانيها: كل شيء سوى الثقلين الجن والإنس، فإن قيل: كيف يصح اللعن من البهائم والجمادات؟ قلنا: على وجهين: الأول: على سبيل المبالغة، وهو أنها لو كانت عاقلة لكانت تلعنهم. الثاني: أنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه. وثالثها: أن أهل النار يلعنونهم أيضا حيث كتموهم الدين، فهو على العموم. ورابعها: قال ابن مسعود: إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق، فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه وتعالى. وخامسها: عن ابن عباس: إن لهم لعنتين: لعنة الله. ولعنة الخلائق. قال: وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل: ما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن ربك؟ فيقول: ما أدري
185

فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن، فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه، ويقول له الملك: لا دريت ولا تليت، كذلك كنت في الدنيا. وسادسها: قال أبو مسلم: (اللاعنون) هم الذين آمنوا به، ومعنى اللعن منهم: مباعدة الملعون ومشاقته ومخالفته مع السخط عليه والبراءة منه. قال القاضي: دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر لأنه تعالى أوجب فيه اللعن، ويدل على أن أحدا من الأنبياء لم يكتم ما حمل من الرسالة وإلا كان داخلا في الآية.
* (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) *
اعلم أنه تعالى لما بين عظيم الوعيد في الذين يكتمون ما أنزل الله كان يجوز أن يتوهم أن الوعيد يلحقهم على كل حال، فبين تعالى أنهم إذا تابوا تغير حكمهم، ودخلوا في أهل الوعيد، وقد ذكرنا أن التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح لا لغرض سواه، لأن من ترك رد الوديعة ثم ندم عليه لأن الناس ذموه، أو لأن الحاكم رد شهادته لم يكن تائبا، وكذلك لو عزم على رد كل وديعة، والقيام بكل واجب، لكي تقبل شهادته، أو يمدح بالثناء عليه لم يكن تائبا، وهذا معنى الإخلاص في التوبة ثم بين تعالى أنه لا بد له بعد التوبة من إصلاح ما أفسده مثلا لو أفسد على غيره دينه بإيراد شبهة عليه يلزمه إزالة تلك الشبهة، ثم بين ثالثا أنه بعد ذلك يجب عليه فعل ضد الكتمان، وهو البيان وهو المراد بقوله: * (وبينوا) * فدلت هذه الآية على أن التوبة لا تحصل إلا بترك كل ما لا ينبغي وبفعل كل ما ينبغي، قالت المعتزلة: الآية تدل على أن التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض لا تصح، لأن قوله: * (وأصلحوا) * عام في الكل.
والجواب عنه: أن اللفظ المطلق يكفي في صدقه حصول فرد واحد من أفراده. قال أصحابنا: تدل الآية على أن قبول التوبة غير واجب عقلا، لأنه تعالى ذكر ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه ولو كان كذلك واجبا لما حسن هذا المدح ومعنى: * (أتوب عليهم) * أقبل توبتهم وقبول التوبة يتضمن إزالة عقاب ما تاب منها
فإن قيل: هلا قلتم أن معنى * (فأولئك أتوب عليهم) * هو قبول التوبة بمعنى المجازاة والثواب كما تقولون في قبول الطاعة
186

قلنا: الطاعة إنما أفاد قبولها استحقاق الثواب، لأنه لا يستحق بها سواه وهو الغرض بفعلها وليس كذلك التوبة لأنها موضوعة لاسقاط العقاب، وهو الغرض بفعلها، وإن كان لا بد من أن يستحق بها الثواب إذا لم يكن مخطئا، ومعنى قوله: * (وأنا التواب) * القابل لتوبة كل ذي توبة فهو مبالغة في هذا الباب، ومعنى الرحيم عقيب ذلك: التنبيه على أنه لرحمته بالمكلفين من عباده، يقبل توبتهم بعد التفريط العظيم منهم.
* (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) *
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أن ظاهر قوله تعالى: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) * عام في حق كل من كان كذلك فلا وجه لتخصيصه ببعض من كان كذلك، وقال أبو مسلم: يجب حمله على الذين تقدم ذكرهم، وهم الذين يكتمون الآيات، واحتج عليه بأنه تعالى لما ذكر حال الذين يكتمون، ثم ذكر حال التائبين منهم، ذكر أيضا حال من يموت منهم من غير توبة، وأيضا أنه تعالى لما ذكر أن أولئك الكاتمين ملعونون حال الحياة، بين في هذه الآية أنهم ملعونون أيضا بعد الممات. والجواب عنه: أن هذا إنما يصح متى كان الذين يموتون من غير توبة لا يكونون داخلين تحت الآية الأولى، فأما إذا دخلوا تحت الأولى: استغنى عن ذكرهم فيجب حمل الكلام على أمر مستأنف.
المسألة الثانية؛ لما ذكر في الكلام أنه إذا مات على كفره صار الوعيد لازما من غير شرط ولما كان المعلق على الشرط عدما عند عدم الشرط؛ علمنا أن الكافر إذا تاب قبل الموت لم يكن حاله كذلك.
المسألة الثالثة: إن قيل: كيف يلعنه الناس أجمعون، وأهل دينه لا يلعنونه؟ قلنا الجواب عنه من وجوه. أحدها: أن أهل دينه يلعنونه في الآخرة، لقوله تعالى: * (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) * (العنكبوت: 25). وثانيها: قال قتادة والربيع: أراد بالناس أجمعين
187

المؤمنين، كأنه لم يعتد بغيرهم وحكم بأن المؤمنين هم الناس لا غير. وثالثها: أن كل أحد يلعن الجاهل والظالم لأن قبح ذلك مقرر في العقول، فإذا كان هو في نفسه جاهلا أو ظالما وإن كان لا يعلم هو من نفسه كونه كذلك، كانت لعنته على الجاهل والظالم تتناول نفسه عن السدي. ورابعها: أن يحمل وقوع اللعن على استحقاق اللعن، وحينئذ يعم ذلك.
المسألة الرابعة: قال أبو بكر الرازي في الآية دلالة على أن على المسلمين لعن من مات كافرا، وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنا لعنه والبراءة منه، لأن قوله: * (والناس أجمعين) * قد اقتضى أمرنا بلعنه بعد موته وهذا يدل على أن الكافر لو جن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطا للعنه والبراءة منه، وكذلك
السبيل فيما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح، فإن موت من كان كذلك أو جنونه، لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث الحال به. المسألة الخامسة: القائلون بالموافاة احتجوا بهذه الآية فقالوا: علق تعالى وجوب لعنته بأن يموت على كفره فلو استحق ذلك قبل الموت لم يصح ذلك، فعلمنا أن الكفر إنما يفيد استحقاق اللعن لو مات صاحبه عليه وكذا الإيمان إنما يفيد استحقاق المدح إذا مات صاحبه عليه. الجواب: الحكم المرتب على الذين ماتوا على الكفر مجموع أمور منها اللعن لو مات، ومنها الخلود في النار، وعندنا أن هذا المجموع وهو اللعن وحده، لم قلتم: أنه لا يحصل إلا فيه.
المسألة السادسة: القائلون بأن الكفر من الأسماء الشرعية، وما بقي على الوضع الأصلي وهم المعتزلة احتجوا بقوله تعالى: * (وماتوا وهم كفار) * والله تعالى وصفهم حال موتهم بأنهم كفار ومعلوم أن الكفر بمعنى الستر والتغطية، لا يبقى فيهم حال الموت، لأن التغطية لا تحصل إلا في حق الحي الفاهم.
المسألة السابعة؛ الآية تدل على جواز التخصيص مع التوكيد، لأنه تعالى قال: * (والناس أجمعين) * مع أنه مخصوص على مذهب من قال: المراد بالناس بعضهم.
وأما قوله تعالى: * (خالدين فيها) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الخلود اللزوم الطويل، ومنه يقال: أخلد إلى كذا أي لزمه وركن إليه.
المسألة الثانية: العامل في (خالدين) الظرف من قوله (عليهم) لأن فيه معنى الاستقرار للعنة فهو حال من الهاء والميم في عليهم كقولك: عليهم المال صاغرين.
المسألة الثالثة: * (خالدين فيها) * أي في اللعنة، وقيل في النار إلا أنها أضمرت تفخيما لشأنها وتهويلا كما في قوله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) والأول أولى لوجوه. الأول: أن الضمير
188

إذا وجد له مذكور متقدم فرده إليه أولى من رده إلى ما لم يذكر. الثاني: أن حمل هذا الضمير على اللعنة أكثر فائدة من حمله على النار، لأن اللعنة هو الإبعاد من الثواب بفعل العقاب في الآخرة وإيجاده في الدنيا فكان اللعن يدخل فيه النار وزيادة فكان حمل اللفظ عليه أولى. الثالث: أن قوله: * (خالدين فيها) * إخبار عن الحال، وفي حمل الضمير على اللعن يكون ذلك حاصلا في الحال، وفي حمله على النار لا يكون حاصلا في الحال، بل لا بد من التأويل؛ فكان ذلك أولى، واعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بأمور ثلاثة. أحدها: الخلود وهو المكث الطويل عندنا، والمكث الدائم عند المعتزلة، على ما تقدم القول فيه في تفسير قوله تعالى: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * (البقرة: 81). وثانيها: عدم التخفيف، ومعناه أن الذي ينالهم من عذاب الله فهو متشابه في الأوقات كلها، لا يصير بعض الأوقات أقل من بعض، فإن قيل: هذا التشابه ممتنع لوجوه. الأول: أنه إذا تصور حال غيره في شدة كالعقاب، كان ذلك كالتخفيف منه. الثاني: أنه تعالى يوفر عليهم ما فات وقته من العذاب ثم تنقطع تلك الزيادة فيكون ذلك تخفيفا الثالث: أنهم حيثما يخاطبون بقوله: * (اخسئوا فيها ولا تكلمون) * لا شك أنه يزداد غمهم في ذلك الوقت. (أجابوا عنه) بأن التفاوت في هذه الأمور القليلة، فالمستغرق بالعذاب الشديد لا ينتبه لهذا القدر القليل من التفاوت، قالوا: ولما دلت الآية على أن هذا العقاب متشابه، وجب أن يكون دائما لأنهم لو جوزوا انقطاع ذلك مما يخفف عنهم إذا تصوروه، وبيان ذلك أن الواقع في محنة عظيمة في الدنيا إذا بشر بالخلاص بعد أيام فإنه يفرح ويسر ويسهل عليه موقع محنته وكلما كانت محنته أعظم، كان ما يلحقه من الروح والتخفيف بتصور الانقطاع أكثر.
الصفة الثالثة: من صفات ذلك العقاب: قوله: * (ولا هم ينظرون) * والإنظار هو التأجيل والتأخير قال تعالى: * (فنظرة إلى ميسرة) * (البقرة: 280) والمعنى: إن عذابهم لا يؤجل، بل يكون حاضرا متصلا بعذاب مثله فكأنه تعالى أعلمنا أن حكم دار العذاب والثواب بخلاف حكم الدنيا فإنهم يمهلون فيها إلى آجال قدرها الله تعالى، وفي الآخرة لا مهلة البتة فإذا استمهلوا لا يمهلون، وإذا استغاثوا لا يغاثون وإذا استعتبوا لا يعتبون، وقيل لهم؛ * (اخسئوا فيها ولا تكلمون) * (المؤمنون: 108) نعوذ بالله من ذلك والحاصل أن هذه الصفات الثلاثة التي ذكرها الله تعالى للعقاب في هذه الآية دلت على يأس الكافر من الانقطاع والتخفيف والتأخير.
189

قوله عز وجل
* (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) *
اعلم أن الكلام في تفسير لفظ الإله قد تقدم في تفسير: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * أما الواحد ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو علي: قولهم واحد اسم جرى على وجهين في كلامهم. أحدهما: أن يكون اسما والآخر أن يكون وصفا، فالإسم الذي ليس بصفة قولهم: واحد المستعمل في العدد نحو: واحد اثنان ثلاثة، فهذا اسم ليس بوصف كما أن سائر أسماء العدد كذلك، وأما كونه صفة فنحو قولك مررت برجل واحد وهذا شيء واحد فإذا أجرى هذا الاسم على الحق سبحانه وتعالى جاز أن يكون الذي هو الوصف كالعالم والقادر، وجاز أن يكون الذي هو الاسم كقولنا شيء ويقوي الأول قوله: * (وإلهكم إله واحد) * وأقول: تحقيق هذا الكلام في العقل أن الأشياء التي يصدق عليها إنها واحد مشتركة في مفهوم الوحدانية، ومختلفة في خصوصيات ماهياتها، أعني كونها جوهرا، أو عرضا، أو جسما، أو مجردا، ويصح أيضا فعل كل واحد منهما، أعني ماهيته، وكونه واحدا مع الذهول عن الآخر، فإذن كون الجوهر جوهرا مثلا غير، وكونه واحدا غير، والمركب منهما غير، فلفظ الواحد تارة يفيد مجرد معنى أنه واحد، وهذا هو الاسم، وتارة يفيد معنى أنه واحد حين ما يحصل نعتا لشيء آخر، وهذا معنى كونه نعتا.
المسألة الثانية: الواحدية هل هي صفة زائدة على الذات أم لا؟ اختلفوا فيها فقال قوم: إنها صفة زائدة على الذات، واحتجوا عليه بأنا إذا قلنا؛ هذا الجوهر واحد، فالمفهوم من كونه جوهرا، غير المفهوم من كونه واحدا، بدليل أن الجوهر يشاركه العرض في كونه واحدا، ولا يشاركه في كونه جوهرا، ولأنه يصح أن يعقل كونه جوهرا حال الذهول عن كونه واحدا والمعلوم مغايرا لغير المعلوم، ولأنه لو كان كونه واحدا نفس كونه جوهرا، لكان قولنا الجوهر واحد جاريا مجرى قولنا: الجوهر
جوهر، ولأن مقابل الجوهر هو العرض، ومقابل الواحد هو الكثير، فثبت أن المفهوم من كونه واحدا، إما أن يكون سلبيا أو ثبوتيا لا جائز أن يكون سلبيا لأنه لو كان سلبيا لكان سلبا للكثرة والكثرة إما أن تكون سلبية أو ثبوتية، فإن كانت الكثرة سلبية، والوحدة سلب الكثرة، كانت الوحدة سلبا للسلب وسلب السلب ثبوت، فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب وإن كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات فلو
190

كانت الوحدة سلبية مع الكثرة كان مجموع المعدومات أمرا موجودا وهو محال، فثبت أن الوحدة صفة زائدة ثبوتية، ثم هذه الصفة الزائدة إما أن يقال إنه لا تحقق لها إلا في الذهن أولها تحقق خارج الذهن والأول باطل وإلا لم يكن الذهني مطابقا لما في الخارج، فيلزم أن لا يكون الشيء الواحد في نفسه واحدا وهو محال لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحدا في نفسه قبل أن وجد ذهنيا وفرضيا واعتباريا، فثبت أن كون الشيء واحدا صفة ثبوتية زائدة على ذاته قائمة بتلك الذات، واحتج من أبى كون الوحدة صفة ثبوتية بأن قال: لو كانت الوحدة صفة زائدة على الذات، كانت الوحدات متساوية في ماهية كونها واحدة ومتباينة بتعيناتها، فيلزم أن يكون للوحدة وحدة أخرى، وينجر ذلك إلى ما لا نهاية له وهو محال.
المسألة الثالثة: الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم من جهة ما قيل له إنه واحد، فالإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث هو إنسان إلى إنسانين بل قد ينقسم إلى الأبعاض والأجزاء من الموجودات لا ينفك عن الوحدة حتى العدد فإن العشرة الواحدة من حيث إنها عشرة واحدة قد عرضت الوحدة لها فإن قلت: عشرتان فالعشرتان مرة واحدة قد عرضت الوحدة لها من هذه الجهة، فلا شيء من الموجودات ينفك عن الوحدة ولأجل هذا اشتبه على بعضهم الوحدة بالموجود فظن أن كل موجود لما صدق عليه أنه واحد كان وجوده نفس وحدته والحق أنه ليس كذلك، لأن الوجود ينقسم إلى الواحد والكثير والمنقسم إلى شيء مغاير لما به الانقسام.
المسألة الرابعة: الحق سبحانه وتعالى * (واحد) * باعتبارين. أحدهما: أنه ليست ذاته مركبة من اجتماع أمور كثيرة. والثاني: أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب الوجود وفي كونه مبدأ لوجود جميع الممكنات، فالجوهر الفرد عند من يثبته واحد بالتفسير الأول، وليس واحد بالتفسير الثاني. والبرهان على ثبوت الوحدة بالتفسير الأول أنه لو كان مركبا لافتقر تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته واجب لغيره فهو مركب مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فما لا يكون كذلك استحال أن يكون مركبا، فإذن حقيقته سبحانه حقيقة أحدية فردية لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، لا كثرة مقدارية، كما تكون للأجسام، ولا كثرة معنوية كما تكون للنوع المتركب من الفصل والجنس أو الشخص المتركب من الماهية والتشخص إلا أنه قد صعب ذلك على أقوام وذلك لأنه سبحانه عالم قادر حي مريد، فالمفهوم من هذه الصفات إما هو نفس
191

المفهوم من ذاته أو ليس كذلك والأول باطل لوجوه. أحدها: أنه يمكننا أن نتعقل ذاته مع الذهول عن كل واحد من هذه الصفات، وإن لم يمكن ذلك فلا شك أنه يمكننا تعقل كل واحد من هذه الصفات مع الذهول عن أن نتعقل ذاته المخصوصة بل هذا هو الواجب عند من يقول: إن ذاته المخصوصة غير معلومة، وصفاته معلومة والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم، فإذن هذه الصفات أمور زائدة على الذات. وثانيها: أن هذه الصفات لو كانت هي نفس الذات لكان قولنا في الذات: إنها عالمة أو ليست عالمة جاريا مجرى قولنا الذات ذات أو لا ذات، ولا استحال أن يكون ذلك في البحث يحتمل أن يقام البرهان على نفيه وإثباته فإن من قال: الذات ذات علم كل أحد بالضرورة صدقه ومن قال: الذات ليست بذات علم كل أحد بالضرورة كذبه، ولما كان قولنا: الذات عالمة أو ليست عالمة ليس بمثابة قولنا لذات ذات الذات ليست بذات علمنا أن هذه الصفات أمور زائدة على الذات. وثالثها: أنه لو كان المرجع بهذه الصفات إلى ذاته فقط وذاته ليست إلا شيئا واحدا لكان المرجع بهذه الصفات إلى شيء واحد، فكان ينبغي أن تكون إقامة الدلالة على كونه قادرا تغني عن إقامة الدلالة على كونه عالما، وعلى كونه حيا، فلما لم يكن كذلك بل افتقرنا في كل صفة إلى دليل خاص، علمنا أنه ليس المرجع بها إلى الذات، إذا ثبت أن هذه الصفات أمور زائدة على الذات، فنقول: هذه الصفات إما أن تكون سلبية أو ثبوتية، لا جائز أن تكون سلبية، لأن السلب نفي محض، والنفي المحض لا تخصص فيه، ولأنا جعلنا كونه عالما قادرا عبارة عن نفي الجهل والعجز، فالجهل والعجز إما أن يكون المرجع بهما إلى العدم وأنه ليس بعالم ولا قادر، أو يكون المرجع إلى أمر ثبوتي: وهو أن الجهل عبارة عن اعتقاد غير مطابق، والعجز عبارة عن إخلال حال القدرة، فإن كان الأول كان العلم والقدرة عبارة عن سلب السلب، فيكون ثبوتيا، وإن كان الثاني لم يلزم من انتفاء الجهل والعجز بهذا المعنى تحقق العلم والقدرة، فإن الجماد قد انتفى عنه الجهل والعجز بهذا المعنى مع أنه غير موصوف بالعلم والقدرة، فثبت أن صفات الله تعالى أمور زائدة على ذاته قائمة بذاته، والإله عبارة عن مجموع الذات والصفات، فقد عاد القول إلى أن حقيقة الإله تعالى مركبة من أمور كثيرة، فكيف القول فيه؟
وإشكال آخر: وهو أنا قد دللنا على أن الوحدة صفة زائدة على الذات قائمة بالذات، فإذا كانت حقيقة الحق واحدة، فهناك أمور ثلاثة: تلك الحقيقة، وتلك الواحدية وموصوفية تلك الحقيقة بتلك الواحدية، فذلك ثالث ثلاثة، فأين التوحيد؟
192

وإشكال ثالث: وهو أن تلك الحقيقة هل هي موجودة وواجبة الوجود أم لا؟ فإن كانت موجودة فهي بوجودها تشارك سائر الموجودات وبماهياتها تمتاز عن سائر الموجودات، فهناك كثرة حاصلة بسبب الوجود والماهية، وإن لم تكن موجودة فهذا إشارة إلى العدم وكذا القول في الوجوب، فإنها إن كانت واجبة الوجود لذاتها، فوجوب وجودها يستحيل أن يكون عين الذات لأن الوجوب صفة لانتساب الموضوع إلى المحمول بالموصوفية والانتساب مغاير بين الشيئين مغاير لكل واحد منهما من حيث هو فلأن تكون صفة ذلك الإنتساب مغايرة لهما أولى، وأيضا فالذات قائمة بنفسها ويستحيل أن يكون مسمى الواجب أمرا قائما بالنفس ولأنا نصف الذات بالوجوب ووصف الشيء بنفسه محال، فثبت أنه لو وجب موجود واجب الوجود لكان وجوب وجوده زائدا على ذاته، فهناك أمران تلك الذات مع ذلك الوجوب ومع الموصوفية بذلك الوجوب فقد عاد التثليث.
وإشكال رابع: وهو أن هذه الحقيقة البسيطة هل يمكن الإخبار عنها وهل يمكن التعبير عنها أم لا. والأول محال لأن الإخبار إنما يكون بشيء عن شيء، فالمخبر عنه غير المخبر به فهما أمران لا واحد، وإن لم يكن التعبير عنه فهو معلوم البتة لا بالنفي ولا بالإثبات فهو مغفول عنه، فهذا جملة ما في هذا المقام من السؤال:
والجواب عن الأول: أنه سبحانه ذات موصوفة بهذه الصفات ولا شك أن المجموع مفتقر في تحققه إلى تحقق أجزائه إلا أن الذات قائمة بنفسها واجبة لذاتها، ثم إنها بعد وجوبها بعدية بالرتبة مستلزمة لتلك النعوت والصفات فهذا مما لا امتناع فيه عند العقل.
وأما الإشكال الثاني: وهو أن الوحدة صفة زائدة على الذات فإذا نظرت إليها من حيث أنها واحدة فهناك أمور ثلاثة لا أمر واحد، فالجواب أن الذي ذكرته حق ولكن فرق بين النظر إليه من حيث أنه هو وبين النظر إليه من حيث أنه محكوم عليه بأنه واحد، فإذا نظرت إليه من حيث أنه هو مع ترك الالتفات إلى أنه واحد فهناك تتحقق الوحدة وههنا حالة عجيبة فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة، فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة فاعتبر هذه الحالة بذهنك اللطيف لعلك تصل إلى سره وهذا أيضا هو الجواب عن إشكال الوجود وإشكال الوجوب.
أما الإشكال الرابع: وهو أنه هل يمكن التعبير عنه؟ فالحق أنه لا يمكن التعبير عنه لأنك متى عبرت عنه فقد أخبرت عنه بأمر آخر، والمخبر عنه مغاير للمخبر به لا محالة، فليس هناك توحيد، ولو أخبرت عنه بأنه لا يمكن الإخبار عنه، فهناك ذات مع سلب خاص، فلا يكون هناك توحيد فأما إذا نظرت إليه من حيث أنه هو من غير أن تخبر عنه لا بالنفي ولا بالإثبات، فهناك
193

تحقق الوصول إلى مبادئ عالم التوحيد، ثم الالتفات المذكور لا يمكن التعبير عنه إلا بقوله (هو) فلذلك عظم وقع هذه الكلمة عند الخائضين في بحار التوحيد، وسنذكر شمة من حقائقها في تفسير هذه الآية بعون الله تعالى، أما الوحدة بالمعنى الثاني، وهي أنه ليس في الوجود شيء يشاركه في وجوب الوجود، فكأن هذه الوحدة هي الوحدة الخاصة بذات الحق سبحانه وتعالى، وبراهين ذلك مذكورة في تفسير قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) أم الوحدة بالتفسير الأول، فليست من خواص ذات الحق سبحانه وتعالى لأنه لا شك في وجود موجودات وهذه الموجودات إما مفردات أو مركبات، فالمركب لا بد فيه من المفردات فثبت أنه لا بد من إثبات المفردات في عالم الممكنات، فالواحدية بالمعنى الأول ليست من الأمور التي توحد الحق سبحانه بها، أما الواحدية بالمعنى الثاني فالحق سبحانه وتعالى متوحد بها ومتفرد بها، ولا يشاركه في ذلك النعت شيء سواه، فهذه تلخيص الكلام في هذا المقام بحسب ما يليق بعقل البشر وفكره القاصر، مع الاعتراف بأنه سبحانه منزه عن تصرفات الأفكار والأوهام، وعلائق العقول والأفهام.
المسألة الخامسة؛ قال الجبائي: يوصف الله تعالى بأنه واحد من وجوه أربعة: لأنه ليس بذي أبعاض، ولا بذي أجزاء، ولأنه منفرد بالقدم، ولأنه منفرد بالإلهية، ولأنه منفرد بصفات ذاته نحو كونه عالما بنفسه، وقادرا بنفسه، وأبو هاشم يقتصر على ثلاثة أوجه: فجعل تفرده بالقدم، وبصفات الذات وجها واحدا، قال القاضي: وفي هذه الآية المراد تفرده بالإلهية فقط، لأنه أضاف التوحيد إلى ذلك، ولذلك عقبه بقوله * (لا إله إلا هو) * وقال أصحابنا: إنه سبحانه وتعالى واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، أما أنه واحد في ذاته فلأن تلك الذات المخصوصة التي هي المشار إليها بقولنا هو الحق سبحانه وتعالى إما أن تكون حاصلة في شخص آخر سواه، أو لا تكون، فإن كان الأول كان امتياز ذاته المعينة عن المعنى الآخر، لا بد وأن يكون بقيد زائد، فيكون هو في نفسه مركبا بما به الاشتراك وما به الإمتياز، فيكون ممكنا معلولا مفتقرا وذلك محال، وإن لم يكن فقد ثبت أنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له، وأما أنه واحد في صفاته فلأن موصوفيته سبحانه بصفات متميزة عن موصوفية غيره بصفات من وجوه. أحدها: أن كل ما عداه فان، لأن حصول صفاته له لا تكون من نفسه بل من غيره وهو سبحانه يستحق حصول صفاته لنفسه لا لغيره. وثانيها: أن صفات غيره مختصة بزمان دون زمان لأنها حادثة، وصفات الحق ليست كذلك. وثالثها: أن صفات الحق غير متناهية بحسب
194

المتعلقات، فإن علمه متعلق بجميع المعلومات وقدرته متعلقة بجميع المقدورات، بل له في كل واحد من المعلومات الغير المتناهية معلومات غير متناهية لأنه يعلم في ذلك الجوهر الفرد أنه كيف كان ويكون حاله بحسب كل واحد من الأحياز المتناهية وبحسب كل واحد من الصفات المتناهية فهو سبحانه واحد في صفاته من هذه الجهة. ورابعها: أنه سبحانه ليست موصوفية ذاته بتلك الصفات بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذاته محلا لها، ولا أيضا بحسب كون ذاته مستكملة بها لأنا بينا أن الذات كالمبدأ لتلك الصفات فلو كانت الذات مستكملة بالصفات لكان المبدأ ناقصا لذاته مستكملا بالممكن لذاته وهو محال، بل ذاته مستكملة لذاته ومن لوازم ذلك الإستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال معه إلا أن التقسيم يعود في نفس الإستكمال فينتهي إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به. خامسها: أنه لا خبر عند العقول من كنه صفاته كما لا خبر عندها من كنه ذاته، وذلك لأنا لا نعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي لأجله ظهر الإحكام والإتقان في عالم المخلوقات، فالمعلوم من علمه أنه أمر ما لا ندري أنه ما هو ولكن نعلم منه أنه يلزمه هذا الأثر المحسوس، وكذا القول في كونه قادرا وحيا، فسبحان من ردع بنور عزته أنوار العقول والأفهام، وأما إنه سبحانه وتعالى واحد في أفعاله فالأمر ظاهر لأن الموجود إما واجب وإما ممكن، فالواجب هو هو، والممكن ما عداه وكل ما كان ممكنا فإنه يجوز أن لا يوجد ما لم يتصل بالواجب ولا يختلف هذا الحكم باختلاف أقسام الممكنات سواء كان ملكا أو ملكا أو كان فعلا للعباد أو كان غير ذلك فثبت أن كل ما عداه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته واستيلائه، وعند هذا تدرك شمة من روائح أسرار قضائه وقدره، ويلوح لك شيء من حقائق قوله: * (إنا كل شيء خلقناه بقدر) * (القمر: 49) وتعرف أن الموجود ليس البتة إلا ما هو هو، وما هو له وإذا وقعت سفينة الفكرة في هذه اللجة، فلو سارت إلى الأبد لم تقف، لأن السير إنما يكون من شيء إلى شيء، فالشئ الأول متروك، والشيء الثاني مطلوب وهما متغايران، فأنت بعد خارج عن عالم الفردانية والوحدانية، فأما إذا وصلت إلى برزخ عالم الحدوث والقدم، فهناك تنقطع
الحركات، وتضمحل العلامات والأمارات، ولم يبق في العقول والألباب إلا مجرد أنه هو، فيا هو ويا من لا هو إلا هو أحسن إلى عبدك الضعيف، فإن عبدك بفنائك ومسكينك ببابك.
المسألة السادسة: إن قيل: ما معنى إضافته بقوله: * (وإلهكم) * وهل تصح هذه الإضافة في كل الخلق أو لا تصح إلا في المكلف؟ قلنا: لما كان الإله هو يستحق أن
195

يكون معبودا والذي يليق به أن يكون معبودا بهذا الوصف، إنما يتحقق بالنسبة إلى من يتصور منه عبادة الله تعالى، فإن هذه الإضافة صحيحة بالنسبة إلى كل المكلفين، وإلى جميع من تصح صيرورته مكلفا تقديرا.
المسألة السابعة: قوله: * (وإلهكم) * يدل على أن معنى الإله ما يصح أن تدخله الإضافة فلو كان معنى الإله القادر لصار المعنى وقادركم قادر واحد ومعلوم أنه ركيك فدل على أن الإله هو المعبود. المسألة الثامنة: قوله: * (وإلهكم إله واحد) * معناه أنه واحد في الإلهية، لأن ورود لفظ الواحد بعد لفظ الإله يدل على أن تلك الوحدة معتبرة في الإلهية لا في غيرها، فهو بمنزلة وصف الرجل بأنه سيد واحد، وبأنه عالم واحد، ولما قال: * (وإلهكم إله واحد) * أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فلا جرم أزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق، فقال: * (لا إله إلا هو) * وذلك لأن قولنا: لا رجل يقتضي نفي هذه الماهية، ومتى انتفت هذه الماهية انتفى جميع أفرادها، إذ لو حصل فرد من أفراد تلك الماهية فمتى حصل ذلك الفرد، فقد حصلت الماهية، وذلك يناقض ما دل اللفظ عليه من انتفاء الماهية: فثبت أن قولنا: لا رجل يقتضي النفي العام الشامل، فإذا قيل بعد: إلا زيدا، أفاد التوحيد التام المحقق وفي هذه الكلمة أبحاث. أحدها: أن جماعة من النحويين قالوا: الكلام فيه حذف وإضمار والتقدير: لا إله لنا، أو لا إله في الوجود إلا الله، واعلم أن هذا الكلام غير مطابق للتوحيد الحق وذلك لأنك لو قلت: التقدير أنه لا إله لنا إلا الله، لكان هذا توحيدا لإلهنا لا توحيد للإله المطلق، فحينئذ لا يبقى بين قوله: * (وإلهكم إله واحد) * وبين قوله: * (لا إله إلا هو) * فرق، فيكون ذلك تكرارا محضا، وأنه غير جائز، وأما لو قلنا: التقدير لا إله في الوجود، فذلك الإشكال زائل، إلا أنه يعود الإشكال من وجه آخر، وذلك لأنك إذا قلت: لا إله في الوجود لا إله إلا هو؛ كان هذا نفيا لوجود الإله الثاني، أما لو لم يضمر هذا الإضمار كان قولك: لا إله إلا الله نفيا لماهية الإله الثاني، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى، فإن قيل: نفي الماهية كيف يعقل؟ فإنك إذا قلت السواد ليس بسواد، كان ذلك حكما بأن السواد ليس بسواد، وهو غير معقول، أما إذا قلت: السواد ليس بموجود، فهذا معقول منتظم مستقيم.
قلنا: بنفي الماهية أمر لا بد منه، فإنك إذا قلت: السواد ليس بموجود، فقد نفيت
196

الوجود، والوجود من حيث هو وجود ماهية، فإذا نفيته فقد نفيت
هذه الماهية المسماة بالوجود، فإذا عقل نفي هذه الماهية من حيث هي هي، فلم لا يعقل نفي تلك الماهية أيضا، فإذا عقل ذلك صح اجراء قولنا: لا إله إلا الله على ظاهره، من غير حاجة إلى الإضمار، فإن قلت: إنا إذا قلنا السواد ليس بموجود، فما نفيت الماهية وما نفيت الوجود، ولكن نفيت موصوفية الماهية بالوجود، قلت: فموصوفية الماهية بالوجود، هل هي أمر منفصل عن الماهية وعن الوجود أم لا، فإن كانت منفصلة عنهما كان نفيها نفيا لتلك الماهية، فالماهية من حيث هي هي أمكن نفيها، وحينئذ يعود التقريب المذكور، وإن لم تكن تلك الموصوفية أمرا منفصلا عنها استحال توجيه النفي إليها إلا بتوجيه النفي، إما إلى الماهية وإما إلى الوجود، وحينئذ يعود التقريب المذكور فثبت أن قولنا، لا إله إلا هو حق وصدق من غير حاجة إلى الإضمار البتة.
البحث الثاني: فيما يتعلق بهذه الكلمة أن تصور النفي متأخر عن تصور الإثبات، فإنك ما لم تتصور الوجود أولا، استحال أن تتصور العدم، فأنت لا تتصور من العدم إلا ارتفاع الوجود. فتصور الوجود غني عن تصور العدم، وتصور العدم مسبوق بتصور الوجود، فإن كان الأمر كذلك فما السبب في قلب هذه القضية في هذه الكلمة حتى قدمنا النفي وأخرنا الإثبات.
والجواب: أن الأمر في العقل على ما ذكرت، إلا أن تقديم النفي على الإثبات كان لغرض إثبات التوحيد ونفي الشركاء والأنداد.
البحث الثالث: في كلمة * (هو) * أعلم أن المباحث اللفظية المتعلقة بهو قد تقدمت في * (بسم الله الرحمن الرحيم) * أما الأسرار المعنوية فنقول، اعلم أن الألفاظ على نوعين: مظهرة ومضمرة: أما المظهرة فهي الألفاظ الدالة على الماهيات المخصوصة من حيث هي هي، كالسواد، والبياض، والحجر، والإنسان، وأما المضمرات فهي الألفاظ الدالة على شيء ما، هو المتكلم، والمخاطب، والغائب، من غير دلالة على ماهية ذلك المعين، وهي ثلاثة: أنا، وأنت، وهو، وأعرفها أنا، ثم أنت، ثم هو، والدليل على صحة هذا الترتيب أن تصوري لنفسي من حيث أني أنا مما لا يتطرق إليه الاشتباه، فإنه من المستحيل أن أصير مشتبها بغيري، أو يشتبه بي غيري، بخلاف أنت، فإنك قد تشتبه بغيرك، وغيرك يشتبه بك في عقلي وظني، وأيضا فأنت أعرف من هو، فالحاصل أن أشد المضمرات عرفانا * (أنا) * وأشدها بعدا عن العرفان. (هو) وأما (أنت) فكالمتوسط بينهما، والتأمل التام يكشف عن صدق هذه القضية، ومما يدل على أن أعرف الضمائر قولا قولي (أنا) أن
197

المتكلم حصل له عند الإنفراد لفظ يستوي فيه المذكر والمؤنث من غير فصل، لأن الفصل إنما يحتاج إليه عند الخوف من الإلتباس، وههنا لا يمكن الإلتباس، فلا حاجة إلى الفصل، وأما عند التثنية والجمع فاللفظ واحد، أما في المتصل فكقولك: شربنا، وأما المنفصل فقولك: نحن، وإنما كان كذلك للأمن من اللبس، وأما المخاطب فإنه فصل بين لفظ مؤنثه ومذكره، ويثني ويجمع، لأنه قد يكون بحضرة المتكلم مؤنث ومذكر وهو مقبل عليهما، فيخاطب أحدهما فلا يعرف حتى يبينه بعلامة: وتثنية
المخاطب وجمعه إنما حسن لهذه العلة، وأما إن الحاضر أعرف من الغائب فهذا أمر كالضروري، إذا عرفت هذا فنقول: ظهر أن عرفان كل شيء بذاته أتم من عرفانه بغيره سواء كان حاضرا أو غائبا؛ فالعرفان التام بالله ليس إلا الله: لأنه هو الذي يقول لنفسه (أنا) ولفظ (أنا) أعرف الأقسام الثلاثة، فلما لم يكن لأحد أن يسير إلى تلك الحقيقة بالضمير الذي هو أعرف الضمائر وهو قول (أنا) إلا له سبحانه علمنا أن العرفان التام به سبحانه وتعالى ليس الإله.
بقي أن هناك قوما يجوزون الاتحاد: الأرواح البشرية إذا استنارت بأنوار معرفة تلك الحقيقة اتحد العاقل بالمعقول وعند الاتحاد يصح لذلك العارف أن يقول: أنا الله إلا أن القول بالاتحاد غير معقول، لأن حال الاتحاد إن فنيا أو أحدهما، فذاك ليس باتحاد، وإن بقيا فهما اثنان لا واحد، ولما انسد هذا الطريق الذي هو أكمل الطرق في الإشارة بقي الطريقان الآخران، وهو (أنت) و (هو) أما (أنت) فهو للحاضرين في مقامات المكاشفات والمشاهدات لمن فني عن جميع الحظوظ البشرية على ما أخبر الله تعالى عن يونس عليه السلام أنه بعد أن فنى عن ظلمات عالم الحدوث وعن آثار الحدوث وصل إلى مقام الشهود فقال: * (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت) * (الأنبياء: 87) وهذا ينبهك على أنه لا سبيل إلى الوصول إلى مقام المشاهدة والمخاطبة إلا بالغيبة عن كل ما سواه وقال محمد صلى الله عليه وسلم: " لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وأما (هو) فللغائبين، ثم ههنا بحث وهو: أن (هو) في حقه أشرف الأسماء، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن الاسم إما كلي أو جزئي، وأعني بكلي أن يكون مفهومه بحيث لا يمنع تصوره من وقوع الشركة، وأعني بالجزئي أن يكون نفس تصوره مانعا من الشركة، وهو اللفظ الدال عليه من حيث إنه ذلك المعين، فإن كان الأول فالمشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه، لأنه لما كان المفهوم من ذلك الاسم أمرا لا يمنع الشركة وذاته المعينة سبحانه وتعالى مانعة من الشركة وجب القطع بأن المشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه، فإذن جميع الأسماء المشتقة: كالرحمن، والرحيم، والحكيم، والعليم، والقادر، لا يتناول ذاته المخصوصة ولا يدل عليها بوجه البتة، وإن كان الثاني فهو المسمى باسم العلم
198

والعلم قائم مقام الإشارة فلا فرق بين قولك: يا زيد وبين قولك: يا أنت ويا هو. وإذا كان العلم قائما مقام الإشارة فالعلم فرع واسم الإشارة أصل والأصل أشرف من الفرع، فقولنا: يا أنت، يا هو أشرف من سائر الأسماء بالكلية إلا أن الفرق أن (أنت) لفظ يتناول الحاضر و (هو) يتناول الغائب وفيه سر آخر وهو أن (هو) إنما يصح التعبير عنه إذا حصل في العقل صورة ذلك الشيء وقولك (هو) يتناول تلك الصورة وهي حاضرة، فقد عاد القول إلى أن (هو) أيضا لا يتناول إلا الحاضر. وثانيها: أنا قد دللنا على أن حقيقة الحق منزهة عن جميع أنحاء التراكيب، والفرد المطلق لا يمكن نعته، لأن النعت يقتضي المغايرة بين الموصوف والصفة وعند حصول الغيرية لا تبقى الفردانية، وأيضا لا يمكن الإخبار عنه لأن الإخبار يقتضي مخبرا عنه ومخبرا به وذلك ينافي الفردانية، فثبت أن جميع الأسماء المشتقة قاصرة عن الوصول إلى كنه حقيقة الحق وأما لفظ (هو) فإنه يصل إلى كنه تلك الحقيقة المفردة المبرأة عن جميع جهات الكثرة فهذه اللفظة لوصولها إلى كنة الحقيقة وجب أن تكون أشرف من سائر الألفاظ التي يمتنع وصولها إلى كنه تلك الحقيقة. وثالثها: أن الألفاظ المشتقة دالة على حصول صفة للذات ثم ماهيات صفة الحق أيضا غير معلومة إلا بآثارها الظاهرة في عالم الحدوث، فلا يعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي باعتباره صح منه الإحكام والإتقان، ومن قدرته إلا أنها الأمر الذي باعتباره صح منه صدور الفعل والترك، فإذن هذه الصفات لا يمكننا تعقلها إلا عند الالتفات إلى الأحوال المختلفة في عالم الحدوث، فالألفاظ المشتقة لا تشير إلى الحق سبحانه وحده، بل تشير إليه وإلى عالم الحدوث معا والناظر إلى شيئين لا يكون مستكملا في كل واحد منهما بل يكون ناقصا قاصرا، فإذن جميع الأسماء المشتقة لا تفيد كمال الاستغراق في مقام معرفة الحق بل كلها تصير حجابا بين العبد وبين الاستغراق في معرفة الرب، وأما (هو) فإنه لفظ يدل عليه من حيث هو هو لا من حيث عرضت له إضافة أو نسبة بالقياس إلى عالم الحدوث، فكان لفظ (هو) يوصلك إلى الحق ويقطعك عما سواه، وما عداه من الأسماء فإنه لا يقطعك عما سواه، فكان لفظ (هو) أشرف. ورابعها: أن البراهين السالفة قد دلت على أن منبع الجلال والعزة هو الذات، وأن ذاته ما كملت بالصفات بل ذاته لكمالها استلزمت صفات الكمال، ولفظ (هو) يوصلك إلى ينبوع الرحمة والعزة والعلو وهو الذات وسائر الألفاظ لا توقفك إلا في مقامات النعوت والصفات، فكان لفظ (هو) أشرف، فهذا ما خطر بالبال في الكشف عن أسرار لفظ (هو) وإليه الرغبة سبحانه في أن ينور بدرة من لمعات أنوارها صدورنا وأسرارنا، ويروح بها عقولنا وأرواحنا حتى نتخلص من ضيق
199

عالم الحدوث إلى فسحة معارج القدم، ونرقى من حضيض ظلمة البشرية إلى سماوات الأنوار وما ذلك عليه بعزيز.
المسألة التاسعة: قال النحويون في قوله تعالى: * (لا إله إلا هو) * ارتفع (هو) لأنه بدل من موضع (لا) مع الاسم ولنتكلم في قوله: ما جاءني رجل إلا زيد فقوله: إلا زيد مرفوع على البدلية لأن البدلية هي الإعراض عن الأول والأخذ بالثاني فكأنك قلت: ما جاءني إلا زيد وهذا معقول لأنه يفيد نفي المجيء عن الكل إلا عن زيد، أما قوله: جاءني إلا زيدا فههنا البدلية غير ممكنة لأنه يصير في التقدير: جاءني خلق إلا زيدا، وذلك يقتضي أنه جاء كل أحد إلا زيدا وذلك محال فظهر الفرق والله أعلم.
أما (الرحمن الرحيم) فقد تقدم القول في تفسيرهما وبينا أن الرحمة في حقه سبحانه هي النعمة وفاعلها هو الراحم فإذا أردنا إفادة الكثرة قلنا (رحيم) وإذا أردنا المبالغة التامة التي ليست إلا له سبحانه قلنا * (الرحمن) *.
واعلم أنه سبحانه إنما خص هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين لأن ذكر الإلهية الفردانية يفيد القهر والعلو فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحا للقلوب عن هيبة الإلهية، وعزة الفردانية وإشعارا بأن رحمته سبقت غضبه وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان.
* (إن في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس ومآ أنزل الله من السمآء من مآء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السمآء والأرض لآيات لقوم يعقلون) *
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكم بالفردانية والوحدانية ذكر ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن
200

أن يستدل بها على وجوده سبحانه أولا وعلى توحيده وبراءته على الأضداد والأنداد ثانيا، وقبل الخوض في شرح تلكم الدلائل لا بد من بيان مسائل:
المسألة الأولى: وهي أن الناس اختلفوا في أن الخلق هل هو المخلوق أو غيره؟ فقال عالم من الناس: الخلق هو المخلوق. واحتجوا عليه بالآية والمعقول، أما الآية فهي هذه الآية، وذلك لأنه تعالى قال: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار) * إلى قول: * (لآيات لقوم يعقلون) * ومعلوم أن الآيات ليست إلا في المخلوق، وأما المعقول فقد احتجوا عليه بأمور. أحدها: أن الخلق عبارة عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، فهذا الإخراج لو كان أمرا مغايرا للقدرة والأثر فهو إما أن يكون قديما أو حديثا، فإن كان قديما فقد حصل في الأزل مسمى الإخراج من العدم إلى الوجود والإخراج من العدم إلى الوجود مسبوق بالعدم والأزل هو نفي المسبوقية فلو حصل الإخراج في الأزل لزم اجتماع النقيضين وهو محال، وإن كان محدثا فلا بد له أيضا من مخرج يخرجه من العدم إلى الوجود فلا بد له من إخراج آخر والكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل. وثانيها: أنه تعالى في الأزل لم يكن مخرجا للأشياء من عدمها إلى وجودها، ثم في الأزل هل أحدث أمرا أو لم يحدث؟ فإن أحدث أمرا فذلك الأمر الحادث هو المخلوق، وإن لم يحدث أمرا فالله تعالى قط لم يخلق شيئا. وثالثها: أن المؤثرية نسبة بين ذات المؤثر وذات الأثر والنسبة بين الأمرين يستحيل تقريرها بدون المنتسب فهذه المؤثرية إن كانت حادثة لزم التسلسل وإن كانت قديمة كانت من لوازم ذات الله تعالى، وحصول الأثر إما في الحال أو في الاستقبال من لوازم هذا الصفة القديمة العظيمة ولازم اللازم لازم فيلزم أن يكون الأثر من لوازم ذات الله تعالى فلا يكون الله تعالى قادرا مختارا بل ملجأ مضطرا إلى ذلك التأثير فيكون علة موجبة وذلك كفر.
واحتج القائلون بأن الخلق غير المخلوق بوجوه. أولها: أن قالوا: لا نزاع في أن الله تعالى موصوف بأنه خالق قبل أن يخلق الأشياء، والخالق هو الموصوف بالخلق، فلو كان الخلق هو المخلوق لزم كونه تعالى موصوفا بالمخلوقات التي منها الشياطين والأبالسة والقاذورات، وذلك لا يقوله عاقل. وثانيها: أنا إذا رأينا حادثا حدث بعد أن لم يكن قلنا: لم وجد هذا الشيء بعد أن لم يكن فإذا قيل لنا إن الله تعالى خلقه وأوجده قبلنا ذلك وقلنا: إن حق وصواب، ولو قيل إنه إنما وجد بنفسه لقلنا إنه خطأ وكفر ومتناقض، فلما صح تعليل حدوثه بعد ما لم يكن بأن
201

الله تعالى خلقه ولم يصح تعليل حدوثه بحدوثه بنفسه، علمنا أن خلق الله تعالى إياه مغاير لوجوده في نفسه، فالخلق غير المخلوق. وثالثها: أنا نعرف أفعال العباد ونعرف الله تعالى وقدرته مع أنا لا نعرف أن المؤثر في أفعال العباد أهو قدرة الله أم هو قدرة العبد والمعلوم غير ما هو معلوم فمؤثرية قدرة القادر في وقوع المقدور مغايرة لنفس تلك القدرة ولنفس ذلك المقدور، ثم إن هذه المغايرة يستحيل أن تكون سلبية لأنه نقيض المؤثرية التي هي عدمية، فهذه المؤثرية صفة ثبوتية زائدة على ذات المؤثر وذات الأثر وهو المطلوب. ورابعها: أن النحاة قالوا: إذ قلنا خلق الله العالم فالعالم ليس هو المصدر بل هو المفعول به، وذلك يدل على أن خلق العالم غير العالم. وخامسها: أنه يصح أن يقال: خلق السواد وخلق البياض وخلق الجوهر وخلق العرض فمفهوم الخلق أمر واحد في الكل مغاير لهذه الماهيات المختلفة بدليل أنه يصح تقسيم الخالقية إلى خالقية الجوهر وخالقية العرض ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، فثبت أن الخلق غير المخلوق فهذا جملة ما في هذه المسألة.
المسألة الثانية: قال أبو مسلم رحمه الله: أصل الخلق في كلام العرب التقدير وصار ذلك اسما لأفعال الله تعالى لما كان جميعها صوابا قال تعالى: * (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) * (الفرقان: 2) ويقول الناس في كل أمر محكم هو معمول على تقدير.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أنه لا بد من الاستدلال على وجود الصانع بالدلائل العقلية وأن التقليد ليس طريقا البتة إلى تحصيل هذا الغرض.
المسألة الرابعة: ذكر ابن جرير في سبب نزول هذه الآية: عن عطاء أنه عليه السلام عند قدومه المدينة نزل عليه: * (وإلهكم إله واحد) * (البقرة: 163) فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى: * (إن في خلق السماوات والأرض) * وعن سعيد بن مسروق أقل: سألت قريش اليهود فقالوا حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات فحدثوهم بالعصا وباليد البيضاء وسألوا النصارى عن ذلك فحدثوهم بإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى فقالت قريش عند ذلك للنبي عليه السلام ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فنزداد يقينا وقوة على عدونا، فسأل ربه ذلك فأوحى الله تعالى إليه أن يعطيهم ولكن إن كذبوا بعد ذلك عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال عليه السلام: " ذرني وقومي أدعوهم يوما فيوما " فأنزل الله تعالى هذه الآية مبينا لهم أنهم إن كانوا يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبا ليزدادوا يقينا فخلق السماوات والأرض وسائر ما ذكر أعظم.
واعلم أن الكلام في هذه الأنواع الثمانية من الدلائل على أقسام:
202

فالقسم الأول: في تفصيل القول في كل واحد منها، فالنوع الأول من الدلائل: الاستدلال بأحوال السماوات وقد ذكرنا طرفا من ذلك في تفسير قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) * (البقرة: 22) ولنذكر ههنا نمطا آخر من الكلام: روي أن عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري، فقال بعض الفقهاء يوما: ما الذي تقرؤنه فقال: أفسر آية من القرآن، وهي قوله تعالى: * (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها) * (ق: 6) فأنا أفسر كيفية بنيانها، ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلا في بحار مخلوقات الله تعالى كان أكثر علما بجلال الله تعالى وعظمته فنقول: الكلام في أحوال السماوات على الوجه المختصر الذي يليق بهذا الموضع مرتب في فصول:
الفصل الأول في ترتيب الأفلاك
قالوا: أقر بها إلينا كرة القمر، وفوقها كرة عطارد، ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس، ثم كرة المريخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زحل، ثم كرة الثوابت، ثم الفلك
الأعظم.
واعلم أن في هذا الموضوع أبحاثا:
البحث الأول: ذكروا في طريق معرفة هذا الترتيب ثلاثة أوجه. الأول: السير، وذلك أن الكوكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يبصران ككوكب واحد،. ويتميز السائر عن المستور بلونه الغالب، كصفرة عطارد، وبياض الزهرة وحمرة المريخ، ودرية المشتري، وكمودة زحل، ثم إن القدماء وجدوا القمر يكسف الكواكب الستة، وكثيرا من الثوابت في طريقه في ممر البروج، وكوكب عطارد يكسف الزهرة، والزهرة تكسف المريخ وعلى هذا الترتيب فهذا الطريق يدل على كون القمر تحت الشمس لانكسافها به، لكن لا يدل على كون الشمس فوق سائر الكواكب أو تحتها، لأن الشمس لا تنكسف بشيء منها لاضمحلال أضوائها في ضوء الشمس، فسقط هذا الطريق بالنسبة إلى الشمس. الثاني: اختلاف المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة، وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل، وأما في حق الشمس فقليل جدا، فوجب أن تكون الشمس متوسطة بين القسمين، وهذا الطريق بين جدا لمن اعتبر اختلاف منظر الكواكب، وشاهده على الوجه الذي حكيناه، فأما من لم يمارسه، فإنه
203

يكون مقلدا فيه، لا سيما وأن أبا الريحان وهو أستاذ هذه الصناعة ذكر في تلخيصه لفصول الفرغاني أن اختلاف المنظر لا يحس به إلا في القمر. الثالث: قال بطليموس: إن زحل والمشتري والمريخ تبعد عن الشمس في جميع الأبعاد، وأما عطارد والزهرة فإنهما لا يبعدان عن الشمس بعد التسديس فضلا عن سائر الأبعاد، فوجب كون الشمس متوسطة بين القسمين، وهذا الدليل ضعيف، فإنه منقوض بالقمر، فإنه يبعد عن الشمس كل الأبعاد، مع أنه تحت الكل.
البحث الثاني: في أعداد الأفلاك، قالوا إنها تسعة فقط، والحق أن الرصد لما دل على هذه التسعة أثبتناها، فأما ما عداها، فلما لم يدل الرصد عليه، لا جرم ما جزمنا بثبوتها ولا بانتفائها، وذكر ابن سينا في الشفاء: أنه لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة، أو كرات منطبق بعضها على بعض، وأقول: هذا الإحتمال واقع، لأن الذي يمكن أن يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال: إن حركاتها متساوية، وإذا كان كذلك وجب كونها مركوزة في كرة واحدة، والمقدمتان ضعيفتان. أما المقدمة الأولى: فلأن حركاتها وإن كانت في حواسنا متشابهة، لكنها في الحقيقة لعلها ليست كذلك، لأنا لو قدرنا أن الواحد منها يتم الدور في ستة وثلاثين ألف سنة، والآخر يتم هذا الدور في مثل هذا الزمان لكن ينقصان عاشرة، إذا وزعنا تلك العاشرة على أيام ستة وثلاثين ألف سنة، لا شك أن حصة كل يوم، بل كل سنة، بل كل ألف سنة مما لا يصير محسوسا، وإذا كان كذلك سقط القطع بتشابه حركات الثوابت.
وأما المقدمة الثانية: وهي أنها لما تشابهت في حركاتها وجب كونها مركوزة في كرة واحدة وهي أيضا ليست يقينية، فإن الأشياء المختلفة لا يستبعد اشتراكها في لازم واحد، بل أقول هذا الاحتمال الذي ذكره ابن سينا في كرة الثوابت قائم في جميع الكرات، لأن الطريق إلى وحدة كل كرة ليس إلا ما ذكرناه وزيفناه، فإذن لا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فلعلها كرات كثيرة مختلفة في مقادير حركاتها بمقدار قليل جدا لا تفي بضبط ذلك التفاوت أعمارنا، وكذلك القول في جميع الممثلات والحوامل.
ومن الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت، وتحت الفلك الأعظم، واحتجوا من وجوه. الأول: أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار، وكل من كان رصده أقدم كان وجدان الميل الأعظم أعظم، فإن بطليموس وجده. (كج نا) ثم وجد في زمان المأمون (كج له)
204

ثم وجد بعد المأمون وقد تناقص بدقيقة، وذلك يقتضي أن من شأن القطبين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى، وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل، وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل، ويكون كرة الثوابت يدور أيضا قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضا، وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعا فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج، وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب. وثانيها: أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطرابا شديدا في مقدار مسير الشمس على ما هو مشروح في المطولات، حتى أن بطليموس حكى عن أبرخس أنه كان شاكا في أن هذا السير يكون في أزمنة متساوية أو مختلفة.
ثم إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين. أحدهما: قول من يجعل أوج الشمس متحركا فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطتي الاعتدالين لاختلاف بعدهما من الأوج، فيختلف زمان سير الشمس من أجله. وثانيهما: قول أهل الهند والصين وبابل، وأكثر قدماء علماء الروم ومصر والشام: أن السبب فيه انتقال فلك البروج، وارتفاع قطبيه وانحطاطه، وحكى أبرخس أنه كان يعتقد هذا الرأي، وذكر باربا الإسكنداني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك أيضا، وأن قطب فلك البروج يتقدم عن موضعه ويتأخر ثمان درجات، وقالوا: إن ابتداء الحركة من (كب) درجة من الحوت إلى أول الحمل. وثالثها: أن بطليموس رصد الثوابت فوجدها تقطع في كل مائة سنة درجة واحدة والمتأخرون رصدوها فوجدوها تقطع في كل مائة سنة درجة ونصفا، وهذا تفاوت عظيم يبعد حمله على التفاوت في الآلات التي تتخذها المهرة في الصناعة على سبيل الاستقصاء، فلا بد من حمله على ازدياد الميل ونقصانه، وذلك يوجب القول بثبوت الفلك الذي ذكرناه.
البحث الثالث: احتجوا على أن الكواكب الثابتة مركوزة في فلك فوق أفلاك هذه الكواكب السبعة، فقالوا: شاهدنا لهذه الأفلاك السبعة حركات أسرع من حركات هذه الثوابت، وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة الفلك، وهذا يقتضي كون هذه الثوابت مركوزة في كرة سوى هذه السبعة، ولا يجوز أن تكون مركوزة في الفلك الأعظم لأنه سريع الحركة، يدور في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب، ثم قالوا: إنها مركوزة في كرة فوق كرات هذه السبعة، لأن هذه الكواكب السبعة قد تكسف تلك الثوابت، والكاسف تحت المكسوف، فكرات هذه السبعة وجب أن تكون دون كرات الثوابت.
205

وهذا الطريق أيضا ضعيف من وجوه. أحدها: أنا لا نسلم أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة فلكية، وهم إنما بنوا على امتناع الخرق على الأفلاك، ونحن قد بينا ضعف دلائلهم على ذلك. وثانيها: سلمنا أنه لا بد لهذه الثوابت من كرات أخرى إلا أن مذهبكم أن كل كرة من هذه الكرات السبعة تنقسم إلى أقسام كثيرة، ومجموعها هو الفلك الممثل وأن هذه الممثلة بطيئة الحركة على وفق حركة كرة الثوابت، فلم لا يجوز أن يقال: هذه الثوابت مركوزة في هذه الممثلات البطيئة الحركة، فأما السيارات فإنها مركوزة في الحوامل التي هي أفلاك خارجة المركز، وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات كرة الثوابت. وثالثها: هب أنه لا بد من كرة أخرى فلم لا يجوز أن يكون هناك كرتان إحداهما فوق كرة زحل، والأخرى دون كرة القمر، وذلك لأن هذه السيارات لا تمر إلا بالثوابت الواقعة في ممر تلك السيارات، فأما الثوابت المقاربة للقطبين فإن السيارات لا تمر بشيء منها ولا تكسفها، فالثوابت التي تنكسف بهذه السيارات هب أنا حكمنا بكونها مركوزة في كرة فوق كرة زحل، أما التي لا تنكسف بهذه السيارات فكيف نعلم أنها ليست دون السيارات فثبت أن الذي قالوه غير برهاني بل احتمالي.
البحث الرابع: زعموا أن الفلك الأعظم حركته أسرع الحركات فإنه يتحرك في اليوم والليلة قريبا من دورة تامة، وأنه يتحرك من المشرق إلى المغرب.
وأما الفلك الثامن الذي تحته فإنه في نهاية البطء حتى إنه يتحرك في كل مائة سنة درجة عند بطليموس، وعند المتأخرين في كل ستة وستين سنة درجة، وأنه يتحرك من المغرب إلى المشرق على عكس الحركة الأولى، واحتجوا عليه بأنا لما رصدنا هذه الثوابت وجدنا لها حركة على خلاف الحركة اليومية.
واعلم أن هذا أيضا ضعيف، فلم لا يجوز أن يقال: إن الفلك الأعظم يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة تامة، والفلك الثامن أيضا يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة إلا بمقدار نحو عشر ثانية فلا جرم نرى حركة الكواكب في الحس مختلفة عن الحركة الأولى بذلك القدر القليل في خلاف جهة الحركة الأولى، فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكوكب الثابت يرجع بحركة بطيئة إلى خلاف جهة الحركة اليومية، فهذا الاحتمال واقع، وهم ما أقاموا الدلالة على إبطاله، ثم الذي يدل على أنه هو الحق وجهان. الأول: وهو برهاني، أن حركة الفلك الثامن لو كانت إلا خلاف حركة الفلك الأعظم لكان حينما يتحرك بحركة الفلك الأعظم إلى جهة إما أن يتحرك بحركة نفسه إلى خلاف تلك
206

الجهة أو لا يتحرك في ذلك الوقت بمقتضى حركة نفسه، فإن كان الأول لزم كون الشيء الواحد دفعة واحدة متحركا إلى جهتين، والحركة إلى جهتين تقتضي الحصول في الجهتين دفعة وذلك محال، وإن كان القسم الثاني لزم انقطاع الحركات الفلكية، وهم لا يرضون بذلك. الثاني: أن نهاية الحركة حاصلة للفلك الأعظم، ونهاية السكون حاصلة للأرض، والأقرب إلى العقول أن يقال: كل ما كان أقرب من الفلك الأعظم كان أسرع حركة، وكل ما كان أبعد كان أبطأ حركة، ففلك الثوابت أقرب الأفلاك إليه، فلا جرم لا تفاوت بين الحركتين إلا بقدر قليل، وهو الذي يحصل من اجتماع مقادير التفاوت في كل مائة سنة درجة واحدة، ويليه فلك زحل فإنه أبطأ من فلك الثوابت فلا جرم كان تخلفه عن الفلك الأعظم أكثر حتى إن مقادير التفاوت إذا اجتمعت بلغت في كل ثلاثين سنة إلى تمام الدور، وعلى هذا القول كل ما كان أبعد عن الفلك الأعظم كان أبطأ حركة، فكان تفاوته أكثر حتى يبلغ إلى فلك القمر الذي هو أبطأ الأفلاك حركة، فهو في كل يوم يتخلف عن الفلك الأعظم ثلاث عشرة درجة، فلا جرم يتمم دوره في كل شهر، ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى الأرض التي هي أبعد الأشياء عن الفلك، فلا جرم كانت في نهاية السكون، فثبت أن كلامهم في هذه الأصول مختل ضعيف والعقل لا سبيل له إلى الوصول إليها.
الفصل الثاني
في معرفة الأفلاك
القوم وضعوا لأنفسهم مقدمتين ظنيتين. أحداهما: أن حركات الأجرام السماوية متساوية متصلة، وأنها لا تبطئ مرة وتسرع أخرى، وليس لها رجوع عن متوجهاتها. والثانية: أن الكواكب لا تتحرك بذاتها بل بتحرك الفلك، ثم إنهم بنوا على هاتين المقدمتين مقدمة أخرى فقالوا: الفلك الذي يحمل الكواكب إما أن يكون مركزه مركز الأرض أو لا يكون، فإن كان مركزه مركز الأرض، فإما أن يكون الكوكب مركوزا في ثخنه أو مركوزا في جرم مركوز في ثخن ذلك الفلك، فإن كان الأول استحال أن يختلف قرب الكوكب وبعده من الأرض، وأن يختلف قطعه للقسى من ذلك الفلك والأعراض الإختلاف في حركة الفلك، أو حركة الكوكب، وقد فرضنا أنهما لا يوجدان البتة، فبقي القسمان الآخران. أحدهما: أن يكون الكوكب
207

مركوزا في جرم كري مستدير الحركة، مغروز في ثخن الفلك المحيط بالأرض، وذلك الجرم نسميه بالفلك المستدير، فحينئذ يعرض بسبب حركته اختلاف حال الكوكب بالنسبة إلى الأرض تارة بالقرب والبعد وتارة بالرجوع والاستقامة، وتارة بالصغر والكبر في المنظر وإما أن يكون الفلك المحيط بالأرض ليس مركزه موافقا لمركز الأرض، فهو الفلك الخارج المركز، ويلزم أن يكون الحامل في أحد نصفي فلك البروج من ذلك الفلك أعظم من النصف، وفي نصفه الآخر أقل من النصف، فلا جرم يحصل بسببه: القرب والبعد من الأرض، وأن يقطع أحد نصفي فلك البروج في زمان أكثر من قطعه النصف الآخر، فظهر أن اختلاف أحوال الكواكب في صغرها وكبرها، وسرعتها وبطئها، وقربها وبعدها، من الأرض لا يمكن حصوله إلا بأحد هذين الشيئين، أعني التدوير، والفلك الخارج المركز.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى التفصيل قولهم في الأفلاك، فقالوا: هذه الأفلاك التسعة، منها ما هو كرة واحدة، وهو الفلك الأعظم، وفلك الثوابت، ومنها ما ينقسم إلى كرتين، وهو فلك الشمس، وذلك أنه ينفصل منه فلك آخر مركزه غير مركز العالم، بحيث يتماس سطحاهما المحدبان على نقطة تسمى الأوج، وهو البعد الأبعد من الفلك المنفصل، ويتماس سطحاهما المقعران على نقطة تسمى الحضيض، وهو البعد الأقرب منه، وهما في الحقيقة فلك واحد، منفصل عنه فلك آخر، إلا أنه يقال: فلكان، توسعا، ويسمى المنفصل عنه: الفلك الممثل، والمنفصل الخارج المركز فلك الأوج، وجرم الشمس مغرق فيه بحيث يماس سطحه سطحيه، ومنها ما ينقسم إلى
ثلاث أكر، وهي أفلاك الكواكب العلوية والزهرة، فإن لكل واحد منهما فلكين مثل فلك الشمس، وفلكا آخر موقعه من خارج المركز مثل موقع جرم الشمس من فلكه ويسمى: فلك التدوير والكوكب مغرق فيه بحيث يماس سطحه ويسمى الخارج المركز: الفلك الحامل، ومنها ما ينقسم إلى أربع أكر وهو فلك عطارد والقمر، أما عطارد فإن له فلكين مثل فلكي الشمس وينفصل من الثاني فلك آخر انفصال الخارج المركز عن الممثل بحيث يقع مركزه خارجا عن المركزين وبعده عن مركز الخارج المركز مثل نصف بعد ما بين مركزي الخارج المركز والممثل ويسمى المنفصل عنه الفلك المدير والمنفصل الفلك الحامل، ومنه فلك التدوير وعطارد فيه كما سبق في الكرات الأربعة، وأما القمر فإن فلكه ينقسم إلى كرتين متوازيتين والعظمى تسمى الفلك المثل والصغرى الفلك المائل وينقسم المائل إلى ثلاث أكر كما في الكواكب الأربعة، وكل فلك ينفصل عنه فلك آخر على الصورة التي عرفتها في فلك الشمس، فإنه يبقى من المنفصل عنه كرتان مختلفتا الثخن يسميان
208

متممين لذلك الفلك المنفصل وكل واحد من هذه الأفلاك يتحرك على مركزه حركة دائمة متصلة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا والناس إنما وصلوا إلى معرفة هذه الكرات بناء على المقدمة التي قررناها ولا شك أنها لو صحت لصح القول بهذه الأشياء إنما الشأن فيها. الفصل الثالث في مقادير الحركات قال الجمهور: إن جميع الأفلاك تتحرك من المغرب إلى المشرق سوى الفلك الأعظم، والمدير لعطارد والفلك الممثل والمائل والمدير للقمر فالحركة الشرقية تسمى: الحركة إلى التوالي والغربية إلى خلاف التوالي، والفلك الأعظم يتحرك حركة سريعة في كل يوم بليلته دورة واحدة على قطبين يسميان قطبي العالم ويحرك جميع الأفلاك والكواكب، وبهذه الحركة يقع للكواكب الطلوع والغروب وتسمى الحركة الأولى، وفلك الثوابت يتحرك حركة بطيئة في كل ست وستين سنة عند المتأخرين درجة واحدة على قطبين يسميان قطبي فلك البروج، وهما يدوران حول قطبي العالم بالحركة الأولى وتتحرك على وفق هذه الحركة جميع الأفلاك المتحركة، وبهذه الحركة تنتقل الأوجات عن موضعها من فلك البروج وتسمى الحركة الثانية وحركة الأوج وهي حركة الثوابت والثوابت إنما سميت ثوابت لأسباب. أحدها: كونها بطيئة لأنها بإزاء السيارة تشبه الساكنة. وثانيها: السيارة تتحرك إليها وهي لا تتحرك إلى السيارة فكأن الثوابت ثابتة لانتظارها. وثالثها: عروضها ثابتة على مقدار واحد لا يتغير. ورابعها: أبعاد ما بينها ثابتة على حال واحد لا تتغير الصورة المتوهمة عليها من الصور الثماني والأربعين. وخامسها: الأزمنة عند أكثر عوام الأمم منوطة بطلوعها وأفولها بحيث لا يتفاوت إلا في القرون والأحقاب.
وأما الأفلاك الخارجة المركز فإنها تتحرك في كل يوم هكذا: زحل (بأ) المشتري (دنط) المريخ بدلالة الشمس (لاكر) الزهرة (نط ج) عطارد (نط ح) والقمر (يج يج مو) وتسمى حركة المركز، وحركة الوسط، وهي حركات مراكز أفلاك التداوير ومركز الشمس والأفلاك التداوير تتحرك بهذا المقدار زحل (نرح) المشتري (ند ط) المريخ (كرمب) الزهرة (لونط) عطارد (ج وكد) القمر (يج ج ند) وتسمى: الحركة الخاصة، وحركة الاختلاف وهي
209

حركات مراكز الكواكب.
واعلم أن بسبب هذه الحركات المختلفة يعرض لهذه الكواكب أحوال مختلفة. أحدها: أنه يحصل للقمر مثلا أبعاد مختلفة غير مضبوطة بالنسبة إلى هذا العالم والأنواع المضبوطة منها أربعة. الأول: أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز ويقال له البعد الأقرب، وهو الثلاث وثلاثون مرة مثل نصف قطر الأرض بالتقريب. الثاني: أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأقرب للأبعد وهو ثلاث وأربعون مرة مثل نصف قطر الأرض. الثالث: أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد للأقرب وهو أربعة وخمسون مرة مثل نصف قطر الأرض. الرابع: أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد وهو أربعة وستون مرة مثل نصف قطر الأرض، ثم إن ما بين هذه النقط الأربعة الأحوال مختلفة على ما أتى على شرحها أبو الريحان. وثانيها: أن جميع الكواكب مرتبطة بالشمس ارتباطا ما، فأما العلوية فإن بعد مراكزها عن ذرى أفلاك تداويرها أبدا تكون بمقدار بعد مركز الشمس عن مراكز تداويرها وحينئذ تكون محترقة ومتى كانت في الحضيض كانت في مقابلتها وحينئذ تكون مقابلة للشمس وذلك يقارن الشمس في منتصف الاستقامة ويقابلها في منتصف الرجوع وقيل: إن نصف قطر فلك تدوير المريخ أعظم من نصف قطر فلك ممثل الشمس فيلزم أنه إذا كان مقارنا للشمس يكون بعد مركزه عن مركز الشمس أعظم منه إذا كان مقابلا لها، وأما السلفيات فإن مراكز أفلاك تدويرها أبدا يكون مقارنا للشمس فيلزم أن تقارن الشمس الذروة والحضيض في منتصفي الاستقامة، والرجوع غاية بعد كل واحد منهما عن الشمس بمقدار نصف قطر فلك تدويرهما، وهو للزهرة (مه) ولعطارد (كه) بالتقريب وأما القمر فإن مركز الشمس أبدا يكون متوسطا بين بعده الأبعد وبين مركز تدويره ولذلك يقال لبعد مركز تدويره عن البعد الأبعد البعد المضاعف لأنه ضعف بعد مركز تدويره من الشمس فلزم أنه متى كان مركز تدويره في البعد الأبعد، فإما أن يكون مقابلا للشمس أو مقارنا لها، ومتى كان في البعد الأقرب تكون الشمس في تربيعه فلذلك يكون اجتماعه واستقباله في البعد الأبعد وتربيعه مع الشمس في الأقرب.
210

الفصل الرابع
في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال على وجود الصانع
وهي من وجوه. أحدها: النظر إلى مقادير هذه الأفلاك، فإنها مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية، اختص كل واحد منها بمقدار خاص، مع أنه لا يمتنع في العقل وقوعها على أزيد من ذلك المقدار أو أنقص منه بذرة، فلما قضى صريح العقل بأن المقادير بأسرها على السوية، قضى بافتقارها في مقاديرها إلى مخصص مدبر. وثانيها: النظر إلى أحيازها، فإن كل فلك مماس بمحدبه فلكا آخر فوقه وبمقعره فلكا آخر تحته، ثم ذلك الفلك إما أن يكون متشابه الأجزاء أو ينتهي بالآخرة إلى جسم متشابه
الأجزاء، وذلك الجسم المتشابه الأجزاء لا بد وأن تكون طبيعة كل واحد من طرفيه مساوية لطبيعة طرفه الآخر، فكما صح على محدبة أن يلقى جسما وجب أن يصح على مقعره أن يلقى ذلك الجسم، ومتى كان كذلك صح أن العالي يمكن وقوعه سافلا، والسافل يمكن وقوعه عاليا، ومتى كان كذلك كان اختصاص كل واحد منها بحيزه المعين أمرا جائزا يقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى. وثالثها: أن كل كوكب حصل في مقعره اختص به أحد جوانب ذلك الفلك دون سائر الجوانب، ثم إن ذلك الموضع المنتفي من ذلك الفلك مساو لسائر جوانبه، لأن الفلك عنده جسم متشابه الأجزاء، فاختصاص ذلك المقعر بذلك الكوكب دون سائر الجوانب يكون أمرا ممكنا جائزا فيقضي العقل بافتقاره إلى المخصص. ورابعها: أن كل كرة فإنها تدور على قطبين معينين، وإذا كان الفلك متشابه الأجزاء كان جميع النقط المفترضة عليه متساوية، وجميع الدوائر المفترضة عليه أيضا متساوية، فاختصاص نقطتين معينتين بالقطبية دون سائر النقط مع استوائها في الطبيعة يكون أمرا جائرا، فيقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى، وهكذا القول في تعين كل دائرة معينة من دوائرها بأن تكون منطقة. وخامسها: أن الأجرام الفلكية مع تشابهها في الطبيعة الفلكية كل واحد منها مختص بنوع معين من الحركة في البطء والسرعة، فانظر إلى الفلك الأعظم مع نهاية اتساعه وعظمه ثم إنه يدور دورة تامة في اليوم والليلة، والفلك الثامن الذي هو أصغر منه لا يدور الدورة التامة إلا في ستة وثلاثين سنة على ما هو قول الجمهور، ثم إن الفلك السابع الذي تحته يدور في ثلاثين سنة، فاختصاص الأعظم بمزيد السرعة، والأصغر بمزيد البطء مع أنه على خلاف حكم العقل فإنه كان ينبغي أن يكون الأوسع أبطأ حركة لعظم مداره، والأصغر أسرع استدارة لصغر مداره ليس إلا لمخصص، والعقل يقضي بأن كل واحد منها إنما اختص بما هو عليه بتقدير
211

العزيز العليم. وسادسها: أن الفلك الممثل إذا انفصل عنه الفلك الخارج المركز بقي متممان: أحدهما: من الخارج، والآخر: من الداخل، وأنه جرم متشابه الطبيعة، ثم اختص أحد جوانبهما بغاية الثخن، والآخر بغاية الرقة بالنسبة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون نسبة ذلك الثخن والرقة إلى طبيعته على السوية، فاختصاص أحد جانبيه بالرقة والآخر بالثخن، لا بد وأن يكون بتخصيص المخصص المختار. وسابعها: أنها مختلف في جهات الحركات، فبعضها من المشرق إلى المغرب، وبعضها من المغرب إلى المشرق، وبعضها شمالية، وبعضها جنوبية، مع أن جميع الجهات بالنسبة إليها على السوية، فلا بد من الإفتقار إلى المدبر. وثامنها: أنا نراها الآن متحركة ومحال أن يقال إنها كانت أزلا متحركة، أو ما كانت متحركة، ثم ابتدأت بالحركة، ومحال أن يقال: إنها كانت أزلا متحركة لأن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، لأن الحركة انتقال من حالة إلى حالة والأزل ينافي المسبوقية بالغير، فالجمع بين الحركة والأزلية محال، وإن قلنا إنها ما كانت متحركة أزلا سواء قلنا إنها كانت قبل تلك الحركة موجودة أو كانت ساكنة، أو قلنا: إنها كانت قبل تلك الحركة معدومة أصلا، فالإبتداء بالحركة بعد عدم الحركة يقتضي الإفتقار إلى مدبر قديم سبحانه وتعالى ليحركها بعد أن كانت معدومة، أو بعد أن كانت ساكنة، وهذا المأخذ أحسن المآخذ وأقواها. وتاسعها: أن يقال: إن حركاتها إما أن تكون من لوازم جسمانيتها المعينة، لكنا نرى جسمانياتها المعينة منفكة عن كل واحد من أجزاء تلك الحركة، فإذن كل واحد من أجزاء حركته ليس من لوازمه، فافتقرت الأفلاك في حركاتها إلى محرك من خارج، وذلك هو محرك المتحركات، ومدبر الثوابت والسيارات، وهو الحق سبحانه وتعالى. وعاشرها: أن هذا الترتيب العجيب في تركيب هذه الأفلاك وائتلاف حركاتها أترى أنها مبنية على حكمة، أم هي واقعة بالجزاف والعبث؟ أما القسم الثاني: فباطل وبعيد عن العقل، فإن جوز في بناء رفيع، وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر، ثم تولد منهما لبنات، ثم تركبها قصر مشيد وبناء عال، فإنه يقضي عليه بالجنون، ونحن نعلم أن تركيب هذه الأفلاك وما فيها من الكوكب، وما لها من الحركات ليس أقل من ذلك البناء، فثبت أنه لا بد فيها من رعاية حكمة، ثم لا يخلو إما أن يقال: إنها أحياء ناطقة فهي تتحرك بأنفسها أو يقال: إنه يحركها مدبر قاهر، والأول باطل لأن حركتها إما أن تكون لطلب استكمالها أو لا لهذا الغرض، فإن كانت طالبة بحركتها لتحصيل كمال فهي ناقصة في ذواتها، طالبة للاستكمال أو لا لهذا الغرض، والناقص بذاته لا بد له من مكمل، فهي مفتقرة محتاجة، وإن لم تكن طالبة بحركتها للاستكمال، فهي عابثة في أفعالها، فيعود الأمر إلى أنه يبعد في
212

العقول أن يكون مدار هذه الأجرام المستعظمة، والحركات الدائمة، على العبث والسفه، فلم يبق في العقول قسم هو الأليق بالذهاب إليه إلا أن مدبرا قاهرا غالبا على الدهر والزمان يحركها لأسرار مخفية، ولحكم لطيفة هو المستأثر بها، والمطلع عليها، وليس عندنا إلا الإيمان بها على الإجمال على ما قال: * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا) * (آل عمران: 191).
والحادي عشر: أنا نراها مختلفة في الألوان، مثل صفرة عطارد، وبياض الزهرة وضوء الشمس وحمرة المريخ ودرية المشتري، وكمودة زحل واختلاف كل واحد من الكواكب الثابتة بعظم خاص ولون خاص وتركيب خاص، ونراها أيضا مختلفة بالسعادة والنحوسة، ونرى أعلى الكواكب السيارة أنحسها ونرى ما دونها أسعدها، ونرى سلطان الكواكب سعيدا في بعض الاتصالات تحسسا في بعض ونراها مختلفة في الوجوه والخدود واللثات والذكورة والأنوثة وكون بعضها نهاريا وليليا وسائرا وراجعا ومستقيما وصاعدا وهابطا مع اشتراكها بأسرها في الشفافية والصفاء والنقاء في الجوهر فيقضي العقل بأن اختصاص كل واحد منها بما اختص به لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص.
والثاني عشر: وهو أن هذه الكواكب وكان لها تأثير في هذا العالم فهي إما أن تكون متدافعة أو متعاونة، أو لا متدافعة ولا متعاونة، فإن كانت متدافعة فإما أن يكون بعضها أقوى من بعض أو تكون متساوية في القوة وإن كان بعضها أقوى من بعض كان القوي غالبا أبدا والضعيف مغلوبا أبدا، فوجب أن تستمر أحوال العالم على طبيعة ذلك الكوكب لكنه ليس الأمر كذلك وإن كانت متساوية في القوة وهي متدافعة وجب تعذر الفعل عليها بأسرها فتكون الأفعال الظاهرة في العالم صادرة عن غيرها فلا يكون مدبر العالم هو هذه الكواكب، بل غيرها وإن كانت متعاونة لزم بقاء العالم على حالة واحدة من غير تغير أصلا وإن كانت تارة متعاونة وتارة متدافعة كان انتقالها من
المحبة إلى البغضة وبالعكس تغيرا لها في صفاتها فتكون هي مفتقرة في تلك التغيرات إلى الصانع المستولي عليها بالقهر والتسخير.
والثالث عشر: أنها أجسام وكل جسم مركب وكل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل جسم هو مفتقر إلى غيره ممكن وكل ممكن مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فله مؤثر وكل ماله مؤثر فافتقاره إلى مؤثره إما أن يكون حال بقائه، أو حال حدوثه أو حال عدمه، والأول باطل لأنه يقتضي إيجاد الموجود وهو محال، فبقي
213

القسمان الآخران وهما يقتضيان الحدوث الدال على وجود الصانع.
والرابع عشر: أن الأجسام متساوية في الجسمية لأنه يصح تقسيم الجسم إلى الفلكي والعنصري والكثيف واللطيف، والحار والبارد، والرطب واليابس، ومورد التقسيم مشترك بين كل الأجسام. فالجسمية قدر مشترك بين هذه الصفات، والأمور المتساوية في الماهية يجب أن تكون متساوية في قالبية الصفات، فإذن كل ما صح على جسم صح على غيره، فإذن اختصاص كل جسم بما اختص به من المقدار، والوضع، والشكل، والطبع، والصفة، لا بد وأن يكون من الجائزات، وذلك يقضي بالافتقار إلى الصانع القديم جل جلاله، وتقدست أسماؤه ولا إله غيره، فهذا هو الإشارة إلى معاقد الدلائل المستنبطة من أجسام السماوات والأرض، على إثبات الصانع: * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله) * (لقمان: 27).
النوع الثاني: من الدلائل أحوال الأرض وفيه فصلان: الفصل الأول في بيان أحوال الأرض اعلم أن لاختلاف أحوال الأرض أسبابا:
السبب الأول: اختلاف أحوالها بسبب حركة الفلك، وهي أقسام:
القسم الأول: المواضع العديمة العرض، وهي التي على خط الاستواء بموافقتها قطبي العالم، تقاطع معدل النهار على زوايا قائمة، وتقطع جميع المدارات اليومية بنصفين، وتكون حركة الفلك دولابية، ولم يختلف هناك ليل كوكب مع نهاره، ولم يتصور كوكب أبدي الظهور، ولا أبدي الخفاء، بل يكون لكل نقطة سوى القطبين: طلوع وغروب، ويمر فلك البروج بسمت الرأس في الدورة مرتين، وذلك عند بلوغ قطبية دائرة الأفق، وتمر الشمس بسمت الرأس مرتين في السنة، وذلك عند بلوغها نقطتي الإعتدالين.
القسم الثاني: المواضع التي لها عرض، فإن قطب الشمال يرتفع فيها من الأفق، وقطب الجنوب ينحط عنه ويقطع الأفق معدل النهار فقط على نصفين، فأما سائر المدارات فيقطعها بقسمين مختلفين، الظاهر منهما في الشمالية أعظم من الخافي وفي الجنوبية بخلاف ذلك، ولهذا يكون النهار في الشمالية أطول من الليل، وفي الجنوبية بالخلاف، وتصير الحركة ههنا حمائلية
214

ولم يتفق ليل كوكب مع نهاره، إلا ما كان في معدل النهار، وتصير الكواكب التي بالقرب من قطب الشمال أبدية الظهور، والتي بالقرب من قطب الجنوب أبدية الخفاء، وتمر الشمس بسمت الرأس في نقطتين بعدهما عن معدل النهار إلى الشمال مثل عرض الموضع.
القسم الثالث: وهو الموضع الذي يصير ارتفاع القطب فيه مثل الميل الأعظم، وههنا يبطل طلوع قطبي فلك البروج وغروبهما إلا أنهما يماسان الأفق، وحينئذ يمر فلك البروج بسمت الرأس، ولم تمر الشمس بسمت الرأس إلا في الإنقلاب الصيفي.
القسم الرابع: وهو أن يزداد العرض على ذلك، وههنا يبطل مرور فلك البروج والشمس بسمت الرأس، ويصير القطب الشمالي من فلك البروج أبدي الظهور، والآخر أبدي الخفاء.
القسم الخامس: أن يصير العرض مثل تمام الميل، وههنا ينعدم غروب المنقلب الصيفي وطلوع الشتوي لكنهما يماسان الأفق، وعند بلوغ الاعتدال الربيعي أفق المشرق، والخريفي أفق المغرب يكون المنقلب الصيفي في جهة الشمال والشتوي في جهة الجنوب وحينئذ ينطبق فلك البروج على الأفق، ثم يطلع من أول الجدي، إلى أول السرطان دفعة، ويغرب مقابله كذلك ثم تأخذ البروج الطالعة في الغروب، والغاربة في الطلوع، إلى أن تعود الحالة المتقدمة، وينعدم الليل هناك في الإنقلاب الصيفي، والنهار في الشتوي.
القسم السادس: أن يزداد العرض على ذلك، فحينئذ يصير قوس من فلك البروج أبدي الظهور مما يلي المنقلب الصيفي، بحيث يكون المنقلب في وسطها، ومدة قطع الشمس إياها يكون نهارا، ويصير مثلها مما يلي المنقلب الشتوي أبدي الخفاء، ومدة قطع الشمس إياها يكون ليلا، ويعرض هناك لبعض البروج نكوس، فإذا وافى الجدي نصف النهار من ناحية الجنوب، كان أول السرطان عليه من ناحية الشمال، ونقطة الإعتدال الربيعي على أفق المشرق، فإذن قد طلع السرطان قبل الجوزاء، والجوزاء قبل الثور، والثور قبل الحمل، ثم إذا تحرك الفلك يطلع بالضرورة آخر الحوت وأوله تحت الأرض، وكل جزء يطلع فإنه يغيب نظيره، فالبروج التي تطلع منكوسة يغيب نظيرها كذلك.
القسم السابع: أن يصير ارتفاع القطب تسعين درجة، فيكون هناك معدل النهار منطبقا على الأفق، وتصير الحركة رحوية، ويبطل الطلوع والغروب أصلا، ويكون النصف الشمالي في فلك البروج أبدي الظهور، والنصف الجنوبي أبدي الخفاء، ويصير نصف السنة ليلا ونصفها نهارا.
السبب الثاني: لاختلاف أحوال الأرض اختلاف أحوالها بسبب العمارة: اعلم أن خط الاستواء يقطع الأرض نصفين: شمالي وجنوبي، فإذا فرضت دائرة أخرى عظيمة مقاطعة لها على
215

زوايا قائمة، انقسمت كرة الأرض بهما أرباعا، والذي وجد معمورا من الأرض أحد الربعين الشماليين مع ما فيه من الجبال والبحار والمفاوز، ويقال والله أعلم أن ثلاثة
الأرباع ماء، فالموضع الذي طوله تسعون درجة على خط الاستواء، يسمى: قبة الأرض، ويحكى عن الهند أن هناك قلعة شامخة في جزيرة هي مستقر الشياطين، فتسمى لأجلها: قبة، ثم وجد طول العمارة قريبا من نصف الدور، وهو كالمجمع عليه، واتفقوا على أن جعلوا ابتداءها من المغرب، إلا أنهم اختلفوا في التعيين، فبعضهم يأخذه من ساحل البحر المحيط وهو بحر أوقيانوس، وبعضهم يأخذه من جزائر وغلة فيه تسمى: جزائر الخالدات، زعم الأوائل أنها كانت عامرة في قديم الدهر، وبعدها عن الساحل عشرة أجزاء، فيلزم من هذا وقوع الاختلاف في الإنتهاء أيضا، ولم يوجد عرض العمارة إلا إلى بعد ست وستين درجة من خط الاستواء، إلا أن بطليموس زعم أن وراء خط الاستواء عمارة إلى بعد ست عشرة درجة، فيكون عرض العمارة قريبا من اثنتين وثمانين درجة، ثم قسموا هذا القدر المعمور سبع قطع مستطيلة على موازاة خط الاستواء، وهي التي تسمى: الأقاليم وابتداؤه من خط الاستواء، وبعضهم يأخذ أول الأقاليم من عند قريب من ثلاث عشرة درجة من خط الاستواء، وآخر الأقليم السابع إلى بعد خمسين درجة ولا يعد ما وراءها من الأقاليم، لقلة ما وجدوا فيه من العمارة.
السبب الثالث: لاختلاف أحوال الأرض، كون بعضها بريا وبحريا، وسهليا وجبليا، وصخريا ورمليا وفي غور وعلى نجد ويتركب بعض هذه الأقسام ببعض فتختلف أحوالها اختلافا شديدا، وما يتعلق بهذا النوع فقد استقصيناه في تفسير قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) * (البقرة: 22) ومما يتعلق بأحوال الأرض أنها كرة وقد عرفت أن امتداد الأرض فيما بين المشرق والمغرب يسمى طولا وامتدادها بين الشمال والجنوب يسمى عرضا فنقول: طول الأرض إما أن يكون مستقيما أو مقعرا أو محدبا والأول باطل وإلا لصار جميع وجه الأرض مضيئا دفعة واحدة عند طلوع الشمس ولصار جميعه مظلما دفعة واحدة عند غيبتها، لكن ليس الأمر كذلك لأنا لما اعتبرنا من القمر خسوفا واحدا بعينه، واعتبرنا معه حالا مضبوطا من أحواله الأربعة التي هي أول الكسوف وتمامه، وأول انجلائه وتمامه لم يوجد ذلك في البلاد المختلفة الطول في وقت واحد ووجد الماضي من الليل في البلد الشرقي منها أكثر مما في البلد الغربي والثاني أيضا باطل وإلا لوجد الماضي من الليل في البلد الغربي أكثر منه في البلد الشرقي لأن الأول يحصل في غرب المقعر أولا ثم في شرقه ثانيا ولما بطل القسمان ثبت أن طول الأرض محدب، ثم هذا المحدب إما أن يكون كريا أو عدسيا، والثاني باطل لأنا نجد التفاوت بين
216

أزمنة الخسوف الواحد بحسب التفاوت في أجزاء الدائرة حتى أن الخسوف الذي يتفق في أقصى عمارة المشرق في أول الليل، يوجد في أقصى عمارة المغرب في أول النهار فثبت أنها كرة في الطول، فأما عرض الأرض فإما أن يكون مسطحا أو مقعرا أو محدبا، والأول: باطل وإلا لكان السالك من الجنوب على سمت القطب لا يزداد ارتفاع القطب عليه، ولا يظهر له من الكواكب الأبدية الظهور ما لم يكن كذلك، لكنا بينا أن أحوالها مختلفة بحسب اختلاف عروضها، والثاني: أيضا باطل وإلا لصارت الأبدية الظهور خفية عنه على دوام توغله في ذلك المقعر، ولا ننقص ارتفاع القطب والتوالي كاذبة على ما قطعنا في بيان المراتب السبعة الحاصلة بحسب اختلاف عروض البلدان وهذه الحجة على حسن تقريرها إقناعية.
الحجة الثانية: ظل الأرض مستدير فوجب كون الأرض مستديرة.
بيان الأول: أن انخساف القمر نفس ظل الأرض، لأنه لا معنى لانخسافه إلا زوال النور عن جوهره عند توسط الأرض بينه وبين الشمس ثم نقول: وانخساف القمر مستدير لأنا نحس بالمقدار المنخسف منه مستديرا، وإذا ثبت ذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة لأن امتداد الظل يكون على شكل الفصل المشترك بين القطعة المستضيئة بإشراق الشمس عليها، وبين القطعة المظلمة منها فإذا كان الظل مستديرا وجب أن يكون ذلك الفصل المشترك الذي شكل كل الظل مثل شكله مستديرا فثبت أن الأرض مستديرة ثم إن هذا الكلام غير مختص بجانب واحد من جوانب الأرض لأن المناظر الموجبة للكسوف تتفق في جميع أجزاء فلك البروج مع أن شكل الخسوف أبدا على الاستدارة فإذن الأرض مستديرة الشكل من كل الجوانب.
الحجة الثالثة: أن الأرض طالبة للبعد من الفلك ومتى كان حال جميع أجزائها كذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة، لأن امتداد الظل كرة، واحتج من قدح في كرية الأرض بأمرين، أحدهما: أن الأرض لو كانت كرة لكان مركزها متطبقا على مركز العالم، ولو كان كذلك لكان الماء محيطا بها من كل الجوانب، لأن طبيعة الماء تقتضي طلب المركز فيلزم كون الماء محيطا بكل الأرض. الثاني: ما نشاهد في الأرض من التلال والجبال العظيمة والأغوار المقعرة جدا.
أجابوا عن الأول بأن العناية الإلهية اقتضت إخراج جانب من الأرض عن الماء بمنزلة جزيرة في البحر لتكون مستقرا للحيوانات، وأيضا لا يبعد سيلان الماء من بعض جوانب الأرض إلى المواضع الغائرة منها وحينئذ يخرج بعض جوانب الأرض من الماء.
وعن الثاني أن هذه التضاريس لا تخرج الأرض عن كونها كرة، قالوا: لو اتخذنا كرة من
217

خشب قطرها ذراع مثلا، ثم أثبتنا فيها أشياء بمنزلة جاروسات أو شعيرات، وقورنا فيها كأمثالها فإنها لا تخرجها عن الكرية ونسبة الجبال والغيران إلى الأرض دون نسبة تلك الثابتات إلى الكرة الصغيرة.
الفصل الثاني
في بيان الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع
اعلم أن الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع أسهل من الاستدلال بأحوال السماوات على ذلك وذلك لأن الخصم يدعى أن اتصاف السماوات بمقاديرها وأحيازها وأوضاعها أمر واجب لذاته، ممتنع التغير فيستغني عن المؤثر، فيحتاج في إبطال ذلك إلى إقامة الدلالة على تماثل الأجسام الأرضية فإنا نشاهد تغيرها في جميع صفاتها أعني حصولها في أحيازها وألوانها وطعومها وطباعها ونشاهد أن كل واحد من أجزاء الجبال والصخور الصم يمكن كسرها وإزالتها عن مواضعها وجعل العالي سافلا
والسافل عاليا وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن اختصاص كل واحد من أجزاء الأرض بما هو عليه من المكان والحيز والمماسة والقرب من بعض الأجسام والبعد من بعضها يمكن التغير والتبدل وإذا ثبت أن اتصاف تلك الأجرام بصفاتها أمر جائز وجب افتقارها في ذلك الاختصاص إلى مدبر قديم عليم سبحانه وتعالى عن قول الظالمين، وإذا عرفت مأخذ الكلام سهل عليك التفريع.
النوع الثالث: من الدلائل اختلاف الليل والنهار وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكروا للاختلاف تفسيرين. أحدها: أنه افتعال من قولهم: خلفه يخلفه إذا ذهب الأول وجاء الثاني، فاختلاف الليل والنهار تعاقبهما في الذهاب والمجيء، ومنه يقال: فلان يختلف إلى فلان إذا كان يذهب إليه ويجيء من عنده فذهابه يخلف مجيئه ومجيئه يخلف ذهابه وكل شيء يجيء بعد شيء آخر فهو خلفه، وبهذا فسر قوله تعالى: * (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) * (الفرقان: 62). والثاني: أراد اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر والنور والظلمة والزيادة والنقصان قال الكسائي: يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان.
وعندي فيه وجه ثالث، وهو أن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر في الأزمنة، فهما يختلفان بالأمكنة، فإن عند من يقول: الأرض كرة فكل ساعة عينتها فتلك لساعة في موضع من الأرض صبح، وفي موضع آخر ظهر، وفي موضع ثالث عصر، وفي رابع مغرب، وفي خامس
218

عشاء وهلم جرا هذا إذا اعتبرنا البلاد المخالفة في الأطوال، أما البلاد المختلفة بالعرض، فكل بلد تكون عرضه الشمالي أكثر كانت أيامه الصيفية أطول ولياليه الصيفية أقصر وأيامه الشتوية بالضد من ذلك فهذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلدان وعرضها أمر مختلف عجيب، ولقد ذكر الله تعالى أمر الليل والنهار في كتابه في عدة مواضع فقال في بيان كونه مالك الملك: * (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) * (الحديد: 6) وقال في القصص: * (قل أرأيتم إن جعل الله علكيم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) * (القصص: 71 - 73) وفي الروم: * (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) * (الروم: 23) وفي لقمان: * (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى) * (لقمان: 29) وفي الملائكة: * (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم) * (فاطر: 13) وفي يس: * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) * (يس: 37) وفي الزمر: * (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى) * (غافر: 5) وفي حم غافر: * (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) * (غافر: 62) وفي عم: * (وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا) * (النبأ: 10 - 11) والآيات من هذا الجنس كثيرة وتحقيق الكلام أن يقال: إن اختلاف أحوال الليل والنهار يدل على الصانع من وجوه. الأول: أن اختلاف أحوال الليل والنهار مرتبط بحركات الشمس، وهي من الآيات العظام. الثاني: ما يحصل بسبب طول الأيام تارة، وطول الليالي أخرى من اختلاف الفصول، وهو الربيع والصيف والخريف والشتاء، وهو من الآيات العظام. الثالث: أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة في الأيام وطلب النوم والراحة في الليالي من الآيات العظام. الرابع: أن كون الليل والنهار متعاونين على تحصيل مصالح الخلق مع ما بينهما من التضاد والتنافي من الآيات العظام، فإن مقتضى التضاد بين الشيئين أن يتفاسدا لا أن يتعاونا على تحصيل المصالح. الخامس: أن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولا عند النفخة الأولى في الصور ويقظتهم عند طلوع الشمس شبيهة بعود الحياة إليهم عند النفخة الثانية، وهذا أيضا من الآيات العظام المنبهة على الآيات العظام. السادس: أن انشقاق ظلمة الليل بظهور الصبح المستطيل فيه من الآيات العظام كأنه جدول ماء صاف يسيل في بحر كدر بحيث لا يتكدر الصافي بالكدر ولا الكدر بالصافي، وهو المراد بقوله تعالى: * (فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا) * (الأنعام: 96). السابع: أن
219

تقدير الليل والنهار بالمقدار المعتدل الموافق للمصالح من الآيات العظام كما بينا أن في الموضع الذي يكون القطب على سمت الرأس تكون السنة ستة أشهر فيها نهارا وستة أشهر ليلا وهناك لا يتم النضج ولا يصلح المسكن لحيوان ولا يتهيأ فيه شيء من أسباب المعيشة. الثامن: أن ظهور الضوء في الهواء لو قلنا إنه حصل بقدرة الله تعالى ابتداء عند طلوع الشمس، من حيث إنه تعالى أجرى عادته بخلق ضوء في الهواء عند طلوع الشمس فلا كلام وإن قلنا الشمس توجب حصول الضوء في الجرم المقابل له كان اختصاص الشمس بهذه الخاصية دون سائر الأجسام مع كون الأجسام بأسرها متماثلة، يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: المحرك لأجرام السماوات ملك عظيم الجثة والقوة، وحينئذ لا يكون اختلاف الليل والنهار دليلا على أنه الصانع قلنا: أما على قولنا فلما دل الدليل على أن قدرة العبد غير صالحة للإيجاد، فقد زال السؤال، وأما على قول المعتزلة فقد نفى أبو هاشم هذا الاحتمال بالسمع.
النوع الرابع من الدلائل: قوله تعالى: * (والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) * (البقرة: 164) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: الفلك أصله من الدوران وكل مستدير فلك، وفلك السماء اسم
لأطواق سبعة تجري فيها النجوم، وفلكت الجارية إذا استدار ثديها وفلكة المغزل من هذا والسفينة سميت فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دوران قال: والفلك واحد وجمع فإذا أراد بها الواحد ذكر، وإذا أريد به الجمع أنث ومثاله قولهم: ناقة هجان ونوق هجان ودرع دلاص ودروع دلاص قال سيبويه: الفلك إذا أريد به الواحد فضمة الفاء فيه بمنزلة ضمة باء برد وخاء خرج، وإذا أريد به الجمع فضمة الفاء فيه بمنزلة الحاء من حمر والصاد من صفر فالضمتان وإن اتفقتا في اللفظ فهما مختلفتان في المعنى.
المسألة الثانية: قال الليث سمي البحر بحرا لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه ويقال استبحر فلان في العلم إذا اتسع فيه والراعي وتبحر فلان في المال وقال غيره سمي
البحر بحرا لأنه شق في الأرض والبحر الشق ومنه البحيرة.
المسألة الثالثة: ذكر الجبائي وغيره من العلماء بمواضع البحور أن البحور المعروفة خمسة أحدها: بحر الهند، وهو الذي يقال له أيضا بحر الصين. والثاني: بحر المغرب. والثالث: بحر الشام والروم ومصر. والرابع: بحر نيطش. والخامس: بحر جرجان.
220

فأما بحر الهند فإنه يمتد طوله من المغرب إلى المشرق، من أقصى أرض الحبشة إلى أقصى أرض الهند والصين، يكون مقدار ذلك ثمانمائة ألف ميل، وعرضه ألفي وسبعمائة ميل ويجاوز خط الاستواء ألفا وسبعمائة ميل، وخلجان هذا البحر. الأول؛ خليج عند أرض الحبشة، ويمتد إلى ناحية البربر، ويسمى الخليج البربري، طول مقدار خمسمائة ميل وعرضه مائة ميل. والثاني: خليج بحر أيلة وهو بحر القلزم، طوله ألف وأربعمائة ميل، وعرضه سبعمائة ميل، ومنتهاه إلى البحر الذي يسمى البحر الأخضر، وعلى طرفه القلزم، فلذلك سمي به، وعلى شرقيه أرض اليمن وعدن، وعلى غربيه أرض الحبشة. الثالث: خليج بحر أرض فارس، ويسمى: الخليج الفارسي، وهو بحر البصرة وفارس، الذي على شرقيه تيز ومكران، وعلى غربيه عمان طوله ألف وأربعمائة ميل، وعرضه خمسماية ميل، وبين هذين الخليجين أعني خليج أيلة وخليج فارس أرض الحجاز واليمن وسائر بلاد العرب، فيما بين مسافة ألف وخمسائة ميل. الرابع: يخرج منه خليج آخر إلى أقصى بلاد الهند ويسمى الخليج الأخضر طوله ألف وخمسمائة ميل قالوا: وفي جزيرة بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة: ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها جزيرة ضخمة في أقصى البحر مقابل أرض الهند في ناحية المشرق عند بلاد الصين وهي: سرنديب، يحيط بها ثلاثة آلاف ميل فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ومنها يخرج الياقوت الأحمر، وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة، فيها مدائن عامرة وقرى كثيرة ومن جزائر هذا البحر جزيرة كله، التي يجلب منها الرصاص القلعي، وجزيرة سريرة التي يجلب منها الكافور.
وأما بحر المغرب: فهو الذي يسمى بالمحيط وتسميه اليونانيون: أوقيانوس، ويتصل به بحر الهند ولا يعرف طرفه إلا في ناحية المغرب والشمال، عند محاذاة أرض الروس والصقالبة فيأخذ من أقصى المنتهى في الجنوب، محاذيا لأرض السودان، مارا على حدود السوس الأقصى وطنجة، وتاهرت، ثم الأندلس، والجلالقة والصقالبة ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق وهذا البحر لا تجري فيه السفن وإنما تسلك بالقرب من سواحله وفيه ست جزائر مقابل أرض الحبشة تسمى: جزائر الخالدات، ويخرج من هذا البحر خليج عظيم في شمال الصقالبة، ويمتد هذا الخليج إلى أرض بلغار المسلمين، طوله من المشرق إلى المغرب ثلثمائة ميل وعرضه مائة ميل.
وأما بحر الروم وأفريقية ومصر والشام: فطوله مقدار خمسة آلاف ميل، وعرضه ستمائة ميل، ويخرج منه خليج إلى ناحية الشمال قريب من الرومية، طوله خمسمائة ميل، وعرضه
221

ستمائة، ويخرج منه خليج آخر إلى أرض سرين، طوله مائتا ميل، وفي هذا البحر مائة واثنتان وستون جزيرة عامرة، منها خمسون جزيرة عظام.
وأما بحر نيطش فإنه يمتد من اللاذقية إلى خلف قسطنطينية، في أرض الروس والصقالبة طوله ألف وثلثمائة ميل، وعرضه ثلثمائة ميل.
وأما بحر جرجان فطوله من المغرب إلى المشرق ثلثمائة ميل، وعرضه ستمائة ميل، وفيه جزيرتان كانتا عامرتين فيمن مضى من الزمان ويعرف هذا البحر ببحر آبسكون، لأنها على فرضته ثم يمتد إلى طبرستان، والديلم، والنهروان، وباب الأبواب، وناحية أران، وليس يتصل ببحر آخر، فهذه هي البحور العظام، وأما غيرها فبحيرات وبطائح، كبحيرة خوارزم، وبحيرة طبرية.
وحكي عن أرسطاطاليس: أن بحر أوقيانوس محيط بالأرض بمنزلة المنطقة لها، فهذا هو الكلام المختصر في أمر البحور.
المسألة الرابعة: في كيفية الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع تعالى وتقدس، وهي من وجوه. أحدها: أن السفن وإن كانت من تركيب الناس إلا أنه تعالى هو الذي خلق الآلات التي بها يمكن تركيب هذه السفن، فلولا خلقه لها لما أمكن ذلك. وثانيها: لولا الرياح المعينة على تحريكها لما تكامل النفع بها. وثالثها: لولا هذه الرياح وعدم عصفها لما بقيت ولما سلمت. ورابعها: لولا تقوية قلوب من يركب هذه السفن لما تم الغرض فصيرها الله تعالى من هذه الوجوه مصلحة للعباد، وطريقا لمنافعهم وتجاراتهم. وخامسها: أنه خص كل طرف من أطراف العالم بشيء معين، وأحوج الكل إلى الكل فصار ذلك داعيا يدعوهم إلى اقتحامهم هذه الأخطار في هذه الأسفار ولولا أنه تعالى خص كل طرف بشيء وأحوج الكل إليه لما ارتكبوا هذه السفن، فالحامل ينتفع به لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه. وسادسها: تسخير الله البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان البحر إذا هاج، وعظم الهول فيه إذا أرسل الله الرياح فاضطربت أمواجه وتقلبت مياهه. وسابعها: أن الأودية العظام، مثل: جيحون، وسيحون، تنصب أبدا إلى بحيرة خوارزم على صغرها، ثم إن بحيرة خوارزم لا تزداد البتة ولا تمتد، فالحق سبحانه وتعالى هو العالم بكيفية حال هذه المياه العظيمة التي تنصب فيها. وثامنها: ما في البحار من الحيوانات العظيمة ثم إن الله تعالى يخلص السفن عنها، ويوصلها إلى سواحل السلامة. وتاسعها: ما في البحار من هذا الأمر العجيب، وهو قوله تعالى: * (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) * (الرحمن: 19 - 20) وقال: * (هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) * (فاطر: 12) ثم إنه تعالى بقدرته يحفظ البعض عن الإختلاط بالبعض،
222

وكل ذلك مما يرشد العقول والألباب إلى افتقارها إلى مدبر يدبرها ومقدر يحفظها.
المسألة الخامسة: دل قوله على صفة الفلك: * (بما ينفع الناس) * على إباحة ركوبها، وعلى إباحة الاكتساب والتجارة وعلى الانتفاع باللذات.
النوع الخامس: قوله تعالى: * (وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) * (البقرة: 164).
واعلم أن دلالته على الصانع من وجوه. أحدها: أن تلك الأجسام، وما قام بها من صفات الرقة، والرطوبة، والعذوبة، ولا يقدر أحد على خلقها إلا الله تعالى، قال سبحانه: * (قل أرأيتم أن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) * (الملك: 30). وثانيها: أنه تعالى جعله سببا لحياة الإنسان، ولأكثر منافعه قال تعالى: * (أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) * (الواقعة: 68، 69) وقال: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) * (الأنبياء: 30). وثالثها: أنه تعالى كما جعله سببا لحياة الإنسان، جعله سببا لرزقه قال تعالى: * (وفي السماء رزقكم وما توعدون) * (الذاريات: 22). ورابعها: أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة، التي تسيل منها الأودية العظام تبقى معلقة في جو السماء وذلك من الآيات العظام. وخامسها: أن نزولها عند التضرع واحتياج الخلق إليه مقدرا بمقدار النفع من الآيات العظام، قال تعالى حكاية عن نوح: * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا) * (نوح: 10، 11). وسادسها: ما قال: * (فسقناه إلى بلد ميت) * (فاطر: 9) وقال: * (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) * (الحج: 5) فإن قيل: أفتقولون: إن الماء ينزل من السماء على الحقيقة أو من السحاب أو تجوزون ما قاله بعضهم من أن الشمس تؤثر في الأرض فيخرج منها أبخرة متصاعدة فإذا وصلت إلى الجو البارد بردت فثقلت فنزلت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز، فاتصلت فتولدت من اتصال بعض تلك الذرات بالبعض قطرات هي قطرات المطر.
قلنا: بل نقول إنه ينزل من السماء كما ذكره الله تعالى وهو الصادق في خبره، وإذا كان قادرا على إمساك الماء في السحاب، فأي بعد في أن يمسكه في السماء، فأما قول من يقول: إنه من بحار الأرض فهذا ممكن في نفسه، لكن القطع به لا يمكن إلا بعد القول بنفي الفاعل المختار، وقدم العالم، وذلك كفر، لأنا متى جوزنا الفاعل المختار القادر على خلق الجسم، فكيف يمكننا مع إمكان هذا القسم أن نقطع بما قالوه.
أما قوله: * (فأحيا به الأرض بعد موتها) * (الجاثية: 5) فاعلم أن هذه الحياة من جهات. أحدها: ظهور النبات الذي هو الكلأ والعشب وما شاكلهما، مما لولاه لما عاشت دواب الأرض. وثانيها:
223

أنه لولاه لما حصلت الأقوات للعباد. وثالثها: أنه تعالى ينبت كل شيء بقدر الحاجة، لأنه تعالى ضمن أرزاق الحيوانات، بقوله: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * (هود: 6). ورابعها: أنه يوجد فيه من الألوان والطعوم والروائح وما يصلح للملابس، لأن ذلك كله مما لا يقدر عليه إلا الله. وخامسها: يحصل للأرض بسبب النبات حسن ونضرة ورواء ورونق فذلك هو الحياة.
واعلم أن وصفه تعالى ذلك بالإحياء بعد الموت مجاز، لأن الحياة لا تصح إلى على من يدرك ويصح أن يعلم، وكذلك الموت، إلا أن الجسم إذا صار حيا حصل فيه أنواع من الحسن والنضرة والبهاء، والنشور والنماء، فأطلق لفظ الحياة على حصول هذه الأشياء، وهذا من فصيح الكلام الذي على اختصاره يجمع المعاني الكثيرة.
واعلم أن إحياء الأرض بعد موتها يدل على الصانع من وجوه. أحدها: نفس الزرع، لأن ذلك ليس في مقدور أحد على الحد الذي يخرج عليه. وثانيها: اختلاف ألوانها على وجه لا يكاد يحد ويحصى. وثالثها: اختلاف طعوم ما يظهر على الزرع والشجر. ورابعها: استمرار العادات بظهور ذلك في أوقاتها المخصوصة.
النوع السادس من الآيات: قوله تعالى: * (وبث فيها من كل دابة) * (البقرة: 164) ونظيره جميع الآيات الدالة على خلقة الإنسان، وسائر الحيوانات، كقوله: * (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) * (النساء: 1).
واعلم أن حدوث الحيوانات قد يكون بالتوليد، وقد يكون بالتوالد، وعلى التقديرين فلا بد فيهما من الصانع الحكيم فلنبين ذلك في الناس ثم في سائر الحيوانات.
أما الإنسان فالذي يدل على افتقاره في حدوثه إلى الصانع وجوه. أحدها: يروي أن واحدا قال عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أتعجب من أمر الشطرنج، فإن رقعته ذراع في ذراع، ولو لعب الإنسان ألف ألف مرة، فإنه لا يتفق مرتان على وجه واحد فقال عمر بن الخطاب ههنا ما هو أعجب منه، وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر، ثم إن موضع الأعضاء التي فيها كالحاجبين والعينين والأنف والفم، لا يتغير البتة ثم إنك لا ترى شخصين في الشرق والغرب يشتبهان، فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها. وثانيها: أن الإنسان متولد من النطفة، فالمؤثر في تصوير النطفة وتشكيلها قوة موجودة في النطفة أو غير موجودة فيها فإن كانت القوة المصورة فيها، فتلك القوة إما أن يكون لها شعور وإدراك وعلم وحكمة حتى تمكنت من هذا التصوير العجيب، وأما أن لا تكون تلك القوة كذلك، بل يكون تأثيرها بمجرد الطبع والعلية، والأول ظاهر الفساد لأن الإنسان حال استكماله
224

أكثر علما وقدرة، ثم إنه حال كماله لو أراد أن يغير شعرة عن كيفيتها لا يقدر على ذلك، فحال ما كان في نهاية الضعف كيف يقدر على ذلك، وأما إن كانت تلك القوة مؤثرة بالطبع، فهذا المعنى إما أن يكون جسما متشابه الأجزاء في نفسه، أو يكون مختلف الأجزاء، فإن كان متشابه الأجزاء فالقوة الطبيعية إذا عملت في المادة البسيطة، لا بد وأن يصدر منه فعل متشابه، وهذا هو الكرة فكان ينبغي أن يكون الإنسان على صورة كرة، وتكون جميع الأجزاء المفترضة في تلك الكرة متشابهة في الطبع، وهذا هو الذي يستدلون به على أن البسائط لا بد وأن تكون كرات، فثبت أنه لا بد للنطفة في انقلابها لحما ودما وإنسانا من مدبر ومقدر لأعضائها وقواها وتراكيبها، وما ذاك إلا الصانع سبحانه وتعالى. وثالثها: الاستدلال بأحوال تشريح أبدان الحيوانات والعجائب الواقعة في تركيبها وتأليفها، وإيراد ذلك في هذا الموضع كالمتعذر لكثرتها، واستقصاء الناس في شرحها في الكتب المعمولة في هذا الفن. ورابعها: ما روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم، ومن عجائب الأمر في هذا التركيب أن أهل الطبائع قالوا: أعلى العناصر يجب أن يكون هو النار، لأنها حارة يابسة، وأدون منها في اللطافة الهواء، ثم الماء والأرض لا بد وأن تكون تحت الكل لثقلها وكثافتها ويبسها، ثم إنهم قلبوا هذه القضية في تركيب بدن الإنسان، لأن أعلى الأعضاء منه عظم
القحف والعظم بارد يابس على طبيعة الأرض، وتحته الدماغ وهو بارد رطب على طبع الماء، وتحته النفس وهو حار رطب على طبع الهواء، وتحت الكل: القلب، وهو حار يابس على طبع النار، فسبحان من بيده قلب الطبائع يرتبها كيف يشاء، ويركبها كيف أراد.
ومما ذكرنا في هذا الباب أن كل صانع يأتي بنقش لطيف فإنه يصونه عن التراب كي لا يكدره وعن الماء كي لا يمحوه، وعن الهواء كي لا يزيل طراوته ولطافته، وعن النار كيلا تحرقه، ثم إنه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء، فقال: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) * (آل عمران: 59) وقال: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) * (الأنبياء: 30) وقال في الهواء: * (فنفخنا فيه من روحنا) * (التحريم: 12) وقال أيضا: * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها) * (المائدة: 110) وقال: * (ونفخت فيه من روحي) * (الحجر: 29) وقال في النار: * (وخلق الجان من مارج من نار) * (الرحمن: 15) وهذا يدل على أن صنعه بخلاف صنع كل أحد. وخامسها: انظر إلى الطفل بعد انفصاله من الأم، فإنك لو وضعت على فمه وأنفه ثوبا يقطع نفسه لمات في الحال، ثم إنه بقي في الرحم الضيق مدة مديدة، مع تعذر النفس هناك ولم يمت، ثم إنه بعد الإنفصال يكون من أضعف الأشياء وأبعدها عن الفهم، بحيث لا يميز بين الماء والنار، وبين
225

المؤذي والملذ، وبين الأم وبين غيرها، ثم إن الإنسان وإن كان في أول أمره من أبعد الأشياء عن الفهم، فإنه بعد استكماله أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك، ليعلم أن ذلك من عطية القادر الحكيم، فإنه لو كان الأمر بالطبع لكان كل من كان أذكى في أول الخلقة، كان أكثر فهما وقت الإستكمال، فلما لم يكن الأمر كذلك، بل كان على الضد منه، علمنا أن كل ذلك من عطية الله الخالق الحكيم. وسادسها: اختلاف الألسنة واختلاف طبائعهم، واختلاف أمزجتهم من أقوى الدلائل ونرى الحيوانات البرية والجبلية، شديدة المشابهة بعضها بالبعض، ونرى الناس مختلفين جدا في الصورة، ولولا ذلك لاختلت المعيشة، ولاشتبه كل أحد بأحد، فما كان يتميز البعض عن البعض، وفيه فساد المعيشة، واستقصاء الكلام في هذا النوع لا مطمع فيه لأنه بحر لا ساحل له.
النوع السابع من الدلائل: تصريف الرياح، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: وجه الاستدلال بها أنها مخلوقة على وجه يقبل التصريف، وهو الرقة واللطافة، ثم إنه سبحانه يصرفها على وجه يقع به النفع العظيم في الإنسان والحيوان والنبات، وذلك من وجوه. أحدها: أنها مادة النفس الذي لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات، وقيل فيه إن كل ما كانت الحاجة إليه أشد، كان وجدانه أسهل، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كل شيء، وبعد الهواء الماء فإن الحاجة إلى الماء أيضا شديدة دون الحاجة إلى الهواء فلا جرم سهل أيضا وجدان الماء ولكن وجدان الهواء أسهل. لأن الماء لا بد فيه من تكلف الاغتراف بخلاف الهواء، فإن الآلات المهيأة لجذبه حاضرة أبدا، ثم بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة ولكن دون الحاجة إلى الماء، فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء، وبعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين، والأدوية النادرة قليلة، فلا جرم عزت هذه الأشياء، وبعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من اليواقيت والزبرجد نادرة جدا، فلا جرم كانت في نهاية العزة، فثبت أن كل ما كان الاحتياج إليه أشد، كان وجدانه أسهل وكل ما كان الاحتياج إليه أقل كان وجدانه أصعب وما ذاك إلا رحمة منه على العباد ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أعظم الحاجات فنرجوا أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كل شيء وعبر الشاعر عن هذا المعنى فقال:
سبحان من خص القليل بعزه * والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي * نفس لمحتاج إلى أنفاسه
226

وثانيها: لولا تحرك الرياح لما جرت الفلك وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله فلو أراد كل من في العالم يقلب الريح من الشمال إلى الجنوب، أو إذا كان الهواء ساكنا أن يحركه لتعذر.
المسألة الثانية؛ قال الواحدي: (وتصريف الرياح) أراد وتصريفه الرياح فأضاف المصدر إلى المفعول وهو كثير.
المسألة الثالثة: الرياح جمع الريح قال أبو علي الريح اسم على فعل والعين منه واو انقلبت في الواحد للكسرة ياء فإنه في الجمع القليل أرواح وذلك لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال ألا ترى أن سكون الراء لا يوجب الاعلال، كالواو في قوم وقول، وفي الجمع الكثير رياح انقلبت الواو ياء للكسرة التي قبلها نحو ديمة وديم وحيلة وحيل قال ابن الأنباري: إنما سميت الريح ريحا لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم فهي مأخوذة من الروح والدليل على أن أصلها الواو قولهم في الجمع أرواح.
المسألة الرابعة: قالوا: الرياح أربع، الشمال والجنوب والصبا والدبور، فالشمال من نقطة الشمال، والجنوب من نقطة الجنوب، والصبا مشرقية، والدبور مغربية وتسمى الصبا قبولا لأنها استقبلت الدبور وما بين كل واحد من هذه المهاب فهي نكباء.
المسألة الخامسة؛ اختلف القراء في الرياح فقرأ أبو عمرو، وعاصم وابن عامر (الرياح) على الجمع في عشرة مواضع البقرة، والأعراف، والحجر، والكهف، والفرقان والنمل والروم في موضعين، والجاثية وفاطر، وقرأ نافع في اثني عشر موضعا هذه العشرة وفي إبراهيم: * (كرماد اشتدت به الرياح) * (إبراهيم: 18) وفي حم عسق: * (إن يشأ يسكن الرياح) * (الشورى: 33) وقرأ ابن كثير: (الرياح) في خمسة مواضع البقرة والحجر والكهف والروم في موضعين وقرأ الكسائي في ثلاثة مواضع: في الحجر والفرقان والروم الأول منها.
واعلم أن كل واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية، وأما من وحد فإنه يريد به الجنس، كقولهم: أهلك الناس الدينار والدرهم، وإذا أريد بالريح
الجنس كانت قراءة من وحد كقراءة من جمع، فأما ما روي في الحديث من أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا هبت الريح قال: " اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا " فإنه يدل على أن مواضع الرحمة بالجمع أولى، قال تعالى: * (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) * (الروم: 46) وإنما يبشر بالرحمة، وقال في موضع الإفراد: * (في عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) * (الذاريات: 41) وقد يختص اللفظ في القرآن بشيء فيكون أمارة له، فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله تعالى: * (وما يدريك لعل الساعة قريب) * (الشورى: 17) وما كان من لفظ أدراك فإنه مفسر
227

لمبهم غير معين كقوله: * (وما أدراك ما القارعة * وما أدراك ماهية) * (القارعة: 3، 10).
النوع الثامن من الدلائل: قوله تعالى: * (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) * (البقرة: 164) سمي السحاب سحابا لانسحابه في الهواء، ومعنى التسخير التذليل، وإنما سماه مسخرا لوجوه. أحدها: أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف الطبع، فلا بد من قاسر قاهر يقهره على ذلك فلذلك سماه بالمسخر. الثاني: أن هذا السحاب لو دام لعظم ضرره من حيث أنه يستر ضوء الشمس، ويكثر الأمطار والابتلال، ولو انقطع لعظم ضرره لأنه يقتضي القحط وعدم العشب والزراعة، فكان تقديره بالمقدار المعلوم هو المصلحة فهو كالمسخر لله سبحانه يأتي به في وقت الحاجة ويرده عند زوال الحاجة. الثالث: أن السحاب لا يقف في موضع معين بل يسوقه الله تعالى بواسطة تحريك الرياح إلى حيث أراد وشاء فذلك هو التسخير فهذا هو الإشارة إلى وجوه الاستدلال بهذه الدلائل.
وأما قوله تعالى: * (لآيات لقوم يعقلون) * (الروم: 24) ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (لآيات) * لفظ جمع فيحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى الكل، أي مجموع هذه الأشياء آيات ويحتمل أن يكون راجعا إلى كل واحد مما تقدم ذكره، فكأنه تعالى بين أن في كل واحد مما ذكرنا آيات وأدلة وتقرير ذلك من وجوه. أحدها: أنا بينا أن كل واحد من هذه الأمور الثمانية يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى من وجوه كثيرة. وثانيها: أن كل واحد من هذه الآيات يدل على مدلولات كثيرة فهي من حيث إنها لم تكن موجودة ثم وجدت دلت على وجود المؤثر وعلى كونه قادرا، لأنه لو كان المؤثر موجبا لدام الأثر بدوامه، فما كان يحصل التغير ومن حيث أنها وقعت على وجه الإحكام والاتقان دلت على علم الصانع، ومن حيث أن حدوثها اختص بوقت دون وقت دلت على إرادة الصانع، ومن حيث أنها وقعت على وجه الإتساق والانتظام من غير ظهور الفساد فيها دلت على وحدانية الصانع، على ما قال تعالى * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22). وثالثها: أنها كما تدل على وجود الصانع وصفاته فكذلك تدل على وجوب طاعته وشكره علينا عند من يقول بوجوب شكر المنعم عقلا لأن كثرة النعم توجب الخلوص في الشكر. ورابعها: أن كل واحد من هذه الدلائل الثمانية أجسام عظيمة فهي مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ فذلك الجزء الذي يتقاصر الحس والوهم والخيال عن إدراكه قد حصل فيه جميع هذه الدلائل، فإن ذلك الجزء من حيث إنه حادث، فكان حدوثه لا محالة مختصا بوقت معين ولا بد وأن يكون مختصا بصفة معينة مع أنه يجوز في العقل وقوعه على
228

خلاف هذه الأمور، وذلك يدل على الافتقار إلى الصانع الموصوف بالصفات المذكورة، وإذا كان كل واحد من أجزاء هذه الأجسام ومن صفاتها شاهدا على وجود الصانع، لا جرم قال: إنها آيات وحاصل القول أن الموجود إما قديم وإما محدث، أما القديم فهو الله سبحانه وتعالى، وأما المحدث فكل ما عداه، وإذا كان في كل محدث دلالة على وجود الصانع كان كل ما عداه شاهدا على وجوده مقرا بوحدانيته معترفا بلسان الحال بإلهيته، وهذا هو المراد من قوله: * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) * (الإسراء: 44).
أما قوله تعالى: * (لقوم يعقلون) * فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه، والاستدلال به على ما يلزمهم من توحيد ربهم وعدله وحكمه ليقوموا بشكره، وما يلزم عبادته وطاعته.
واعلم أن النعم على قسمين نعم دنيوية ونعم دينية، وهذه الأمور الثمانية التي عدها الله تعالى نعم دنيوية في الظاهر، فإذا تفكر العاقل فيها واستدل بها على معرفة الصانع صارت نعما دينية لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن فلذلك قال: * (لآيات لقوم يعقلون) * قال القاضي عبد الجبار: الآية تدل على أمور. أحدها: أنه لو كان الحق يدرك بالتقليد واتباع الآباء والجري على الألف والعادة لما صح ذلك. وثانيها: لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صح وصف هذه الأمور بأنها آيات لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات. وثالثها: أن سائر الأجسام والأعراض وإن كانت تدل على الصانع فهو تعالى خص هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعما على المكلفين على أوفر حظ ونصيب ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثير في الخواطر.
* (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا
229

وأن الله شديد العذاب) *
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر التوحيد بالدلائل القاهرة القاطعة أردف ذلك بتقبيح ما يضاد التوحيد لأن تقبيح ضد الشيء مما يؤكد حسن الشيء ولذلك قال الشاعر: وبضدها تتبين الأشياء، وقالوا أيضا النعمة مجهولة، فإذا فقدت عرفت، والناس لا يعرفون قدر الصحة، فإذا مرضوا ثم عادت الصحة إليهم عرفوا قدرها، وكذا القول في جميع النعم، فلهذا السبب أردف الله تعالى الآية الدالة على التوحيد بهذه الآية، وهنا مسائل:
المسألة الأولى: أما الند فهو المثل المنازع، وقد بينا تحقيقه في قوله تعالى في أول هذه السورة: * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) * (البقرة: 22) واختلفوا في المراد بالأنداد على أقوال. أحدها: أنها هي الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا من عندها النفع والضر، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها
النذور، وقربوا لها القرابين، وهو قول أكثر المفسرين، وعلى هذا الأصنام أنداد بعضها لبعض، أي أمثال ليس إنها أندادا لله، أو المعنى: إنها أنداد لله تعالى بحسب ظنونهم الفاسدة. وثانيها: إنهم السادة الذين كانوا يطيعونهم فيحلون لمكان طاعتهم ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، عن السدي، والقائلون بهذا القول رجحوا هذا القول على الأول من وجوه. الأول: أن قوله: * (يحبونهم كحب الله) * الهاء والميم فيه ضمير العقلاء. الثاني: أنه يبعد أنهم كانوا يحبون الأصنام كمحبتهم الله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع. الثالث: أن الله تعالى ذكره بعد هذه الآية: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) * (البقرة: 166) وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أنداد وأمثالا لله تعالى، يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم، ما يلتزمه المؤمنون من الإنقياد لله تعالى.
القول الثالث: في تفسير الأنداد قول الصوفية والعارفين، وهو أن كل شيء شغلت قلبك به سوى الله تعالى، فقد جعلته في قلبك ندا لله تعالى وهو المراد من قوله: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * (الفرقان: 43).
أما قوله تعالى: * (يحبونهم كحب الله) * فاعلم أنه ليس المراد محبة ذاتهم فلا بد من محذوف، والمراد يحبون عادتهم أو التقرب إليهم والانقياد لهم، أو جميع ذلك، وقوله: * (كحب الله) * فيه ثلاثة أقوال: قيل فيه كحبهم لله، وقيل فيه: كالحب اللازم عليهم لله، وقيل فيه: كحب المؤمنين لله، وإنما اختلفوا هذا الإختلاف من حيث إنهم اختلفوا في أنهم هل كانوا يعرفون الله أم لا؟ فمن قال: كانوا يعرفون مع اتخاذهم الأنداد تأول على أن المراد كحبهم لله ومن قال إنهم ما كانوا عارفين بربهم حمل الآية على أحد الوجهين الباقيين إما كالحب اللازم لهم أو كحب المؤمنين لله والقول الأول أقرب لأن قوله: * (يحبونهم
230

كحب الله) * راجع إلى الناس الذين تقدم ذكرهم، وظاهر قوله: * (كحب الله) * يقتضي حبا لله ثابتا فيهم، فكأنه تعالى بين في الآية السالفة أن الإله واحد، ونبه على دلائله، ثم حكى قول من يشرك معه، وذلك يقتضي كونهم مقرين بالله تعالى.
فإن قيل: العاقل يستحيل أن يكون حبه للأوثان كحبه لله، وذلك لأنه بضرورة والعقل يعلم أن هذه الأوثان أحجار لا تنفع، ولا تضر، ولا تسمع، ولا تبصر ولا تعقل، وكانوا مقرين بأن لهذا العالم صانعا مدبرا حكيما ولهذا قال تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * (الزمر: 38) ومع هذا الاعتقاد كيف يعقل أن يكون حبهم لتلك الأوثان كحبهم لله تعالى، وأيضا فإن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3) وإذا كان كذلك، كان المقصود الأصلي طلب مرضات الله تعالى، فكيف يعقل الاستواء في الحب مع هذا القول، قلنا قوله: * (يحبونهم كحب الله) * أي في الطاعة لها، والتعظيم لها، فالإستواء على هذا القول في المحبة لا ينافي ما ذكرتموه.
أما قوله تعالى: * (والذين آمنوا أشد حبا لله) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في البحث عن ماهية محبة العبد لله تعالى، اعلم أنه لا نزاع بين الأمة في إطلاق هذه اللفظة، وهي أن العبد قد يحب الله تعالى، والقرآن ناطق به، كما في هذه الآية، وكما في قوله: * (يحبهم ويحبونه) * (المائدة: 54) وكذا الأخبار، روي أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت عليه السلام وقد جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلا يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله؟ فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض، وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله متى الساعة؟ فقال ما أعددت لها؟ فقال ما أعددت كثير صلاة ولا صيام، إلا أني أحب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب ". فقال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك، وروي أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر، وقد نحلت أبدانهم، وتغيرت ألوانهم، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم إلى ما أرى؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال حق على الله أن يؤمن الخائف، ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشد نحولا وتغيرا، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم إلى هذا المقام؟ قالوا؛ الشوق إلى الجنة، فقال: حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا وتغيرا، كأن وجوههم المرايا من النور، فقال: كيف بلغتم إلى هذه الدرجة، قالوا: بحب الله فقال عليه الصلاة والسلام: " أنتم المقربون إلى الله يوم القيامة "، وعند السدي قال: تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها، فيقال: يا أمة موسى، ويا أمة عيسى، ويا أمة محمد، غير المحبين منهم، فإنهم ينادون: يا أولياء الله، وفي بعض الكتب: " عبدي أنا وحقك
231

لك محب فبحقي عليك كن لي محبا ". واعلم أن الأمة وإن اتفقوا في إطلاق هذه اللفظة، لكنهم اختلفوا في معناها، فقال جمهور المتكلمين: إن المحبة نوع من أنواع الإرادة، والإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته، فإذا قلنا: نحب الله، فمعناه نحب طاعة الله وخدمته، أو نحب ثوابه وإحسانه، وأما العارفون فقد قالوا: العبد قد يحب الله تعالى لذاته، وأما حب خدمته أو حب ثوابه فدرجة نازلة، واحتجوا بأن قالوا إنا وجدنا أن اللذة محبوبة لذاتها، والكمال أيضا محبوب لذاته، أما اللذة فإنه إذا قيل لنا: لم تكتسبون؟ قلنا: لنجد المال، فإن قيل: ولم تطلبون المال؟ قلنا: لنجد به المأكول والمشروب، فإن قالوا: لم تطلبون المأكول والمشروب؟ قلنا: لتحصل اللذة ويندفع الألم، فإن قيل لنا: ولما تطلبون اللذة وتكرهون الألم؟ قلنا: هذا غير معلل، فإنه لو كان كل شيء إنما كان مطلوبا لأجل شيء آخر، لزم إما التسلسل، وإما الدور، وهما محالان، فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون مطلوبا لذاته، وإذا ثبت ذلك فنحن نعلم أن اللذة مطلوبة الحصول لذاتها، والألم مطلوب الدفع لذاته، لا لسبب آخر، وأما الكمال فلأنا نحب الأنبياء والأولياء لمجرد كونهم موصوفين بصفات الكمال، وإذا سمعنا حكاية بعض الشجعان مثل رستم، واستفنديار، واطلعنا على كيفية شجاعتهم مالت قلوبنا إليهم، حتى أنه قد يبلغ ذلك الميل إلى إنفاق المال العظيم في تقرير تعظيمه، وقد ينتهي ذلك إلى المخاطرة بالروح، وكون اللذة محبوبة لذاتها لا ينافي كون الكمال محبوبا لذاته، إذا ثبت هذا فنقول: الذين حملوا محبة الله تعالى على محبة طاعته، أو على محبة ثوابه، فهؤلاء هم الذين عرفوا أن اللذة محبوبة لذاتها، ولم يعرفوا أن الكمال محبوب لذاته، أما العارفون الذين قالوا: إنه تعالى محبوب في ذاته ولذاته، فهم الذين
انكشف لهم أن الكمال محبوب لذاته، وذلك لأن أكمل الكاملين هو الحق سبحانه وتعالى، فإنه لوجوب وجوده: غنى عن كل ما عداه، وكمال كل شيء فهو مستفاد منه وأنه سبحانه وتعالى أكمل الكاملين في العلم والقدرة فإذا كنا نحب الرجل العالم لكماله في علمه والرجل الشجاع لكماله في شجاعته والرجل الزاهد لبراءته عما لا ينبغي من الأفعال، فكيف لا نحب الله وجميع العلوم بالنسبة إلى علمه كالعدم، وجميع القدر بالنسبة إلى قدرته كالعدم وجميع ما للخلق من البراءة عن النقائص بالنسبة إلى ما للحق من ذلك كالعدم، فلزم القطع بأن المحبوب الحق هو الله تعالى، وأنه محبوب في ذاته ولذاته، سواء أحبه غيره أو ما أحبه غيره، واعلم أنك لما وقفت على النكتة في هذا الباب، فنقول: العبد لا سبيل له إلى الاطلاع على الله سبحانه ابتداء، بل ما لم ينظر في مملوكاته لا يمكنه الوصول إلى
232

ذلك المقام، فلا جرم كل من كان اطلاعه على دقائق حكمة الله وقدرته في المخلوقات أتم، كان علمه بكماله أتم، فكان له حبه أتم، ولما كان لا نهاية لمراتب وقوف العبد على دقائق حكمة الله تعالى، فلا جرم لا نهاية لمراتب محبة العباد لجلال حضرة الله تعالى، ثم تحدث هناك حالة أخرى، وهي أن العبد إذا كثرت مطالعته لدقائق حكمة الله تعالى، كثر ترقيه في مقام محبة الله، فإذا كثر ذلك صار ذلك سببا لاستيلاء حب الله تعالى على قلب العبد، وغوصه فيه على مثال القطرات النازلة من الماء على الصخرة الصماء فإنها مع لطافتها تثقب الحجارة الصلدة فإذا غاصت محبة الله في القلب تكيف
القلب بكيفيتها، واشتد ألفه بها وكلما كان ذلك الألف أشد كان النفرة عما سواه أشد لأن الالتفات إلى ما عداه يشغله عن الالتفات إليه والمانع عن حضور المحبوب مكروه فلا تزال تتعاقب محبة الله، ونفرته عما سواه على القلب، ويشتد كل واحد منهما بالآخر، إلى أن يصير القلب نفورا عما سوى الله تعالى، والنفرة توجب الإعراض عما سوى الله، والإعراض يوجب الفناء عما سوى الله تعالى فيصير ذلك القلب مستنيرا بأنوار القدس، مستضيئا بأضواء عالم العصمة فانيا عن الحظوظ المتعلقة بعالم الحدوث وهذا المقام أعلى الدرجات، وليس له في هذا العالم مثال إلا العشق الشديد على أي شيء كان فإنك ترى من التجار المشغوفين بتحصيل المال من نسي جوعه وطعامه وشرابه عند استغراقه في حفظ المال فإذا عقل ذلك في ذلك المقام الخسيس فكيف يستبعد ذلك عند مطالعة جلال الحضرة الصمدية.
المسألة الثانية: في معنى الشوق إلى الله تعالى، اعلم أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه، ولم يدرك من وجه فأما الذي لم يدرك أصلا، فلا يشتاق إليه، فإن لم ير شخصا ولم يسمع وصفه، لم يتصور أن يشتاق إليه ولو أدرك كماله لا يشتاق إليه، ثم إن الشوق إلى المعشوق من وجهين. أحدهما: أنه إذا رآه ثم غاب عنه اشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية. والثاني: أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره، ولا سائر محاسنه، فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط، والوجهان جميعا متصوران في حق الله تعالى، بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين، فإن الذي اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كان في غاية الوضوح، مشوب بشوائب الخيالات، فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن المحاكاة والتمثيلات، وهي مدركات للمعارف الروحانية، ولا يحصل تمام التجلي إلا في الآخرة، وهذا يقتضي حصول الشوق لا محالة في الدنيا فهذا أحد نوعي الشوق فبما اتضح اتضاحا. والثاني: أن الأمور الإلهية لا نهاية لها، وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها، وتبقى أمور لا نهاية
233

لها غامضة، فإذا علم العارف أن ما غاب عن عقله أكثر مما حضر فإنه لا يزال يكون مشتاقا إلى معرفتها، والشوق بالتفسير الأول ينتهي في دار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة، ولا يتصور أن يكون في الدنيا، وأما الشوق بالتفسير الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية، إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة جلال الله وصفاته، وحكمته في أفعاله، وهي غير متناهية، والإطلاع على غير المتناهي على سبيل التفصيل محال، وقد عرفت حقيقة الشوق إلى الله تعالى، واعلم أن ذلك الشوق لذيذ لأن العبد إذا كان في الترقي حصل بسبب تعاقب الوجدان، والحرمان، والوصول، والصد آلاما مخلوطة بلذات، واللذات محفوفة بالحرمان والفقدان، كانت أقوى، فيشبه أن يكون هذا النوع من اللذات مما لا يحصل إلا للبشر، فإن الملائكة كمالاتهم حاضرة بالفعل، والبهائم لا تستعد لها أما البشر فهم المترددون بين جهتي السفالة والعلو.
المسألة الثالثة: في بيان أن الذين آمنوا هم أشد حبا لله، أما المتكلمون فقالوا: إن حبهم لله يكون من وجهين. أحدهما: أنه ما يصدر منهم من التعظيم، والمدح، والثناء والعبادة خالصة عن الشرك وعما لا ينبغي من الاعتقاد ومحبة غيرهم ليست كذلك. والثاني: أن حبهم لله اقترن به الرجاء والثواب والرغبة في عظيم منزلته والخوف من العقاب والأخذ في طريق التخلص منه، ومن يعبد الله ويعظمه على هذا الحد تكون محبته لله أشد، وأما العارفون فقالوا: المؤمنون هم الذين عرفوا الله بقدر الطاقة البشرية، وقد دللنا على أن الحب من لوازم العرفان فكلما كان عرفانهم أتم وجب أن تكون محبتهم أشد، فإن قيل: كيف يمكن أن يقال محبة المؤمنين لله تعالى أشد مع أنا نرى الهنود يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أحد من المسلمين ولا يأتون بها إلا لله تعالى ثم يقتلون أنفسهم حبا لله.
والجواب من وجوه. أحدها: أن الذين آمنوا لا يتضرعون إلا إلى الله بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند الحاجة، وعند زوال الحاجة، يرجعون إلى الأنداد، قال تعالى: * (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) * (العنكبوت: 6) إلى آخره والمؤمن لا يعرض عن الله في الضراء والسراء والشدة والرخاء، والكافر قد يعرض عن ربه، فكان حب المؤمن أقوى. وثانيها: أن من أحب غيره رضي بقضائه، فلا يتصرف في ملكه، فأولئك الجهال قتلوا أنفسهم بغير إذنه، أما المؤمنون فقد يقتلون أنفسهم بإذنه، وذلك في الجهاد. وثالثها: أن الإنسان إذا ابتلي بالعذاب الشديد لا يمكنه الاشتغال بمعرفة الرب، فالذي فعلوه باطل. ورابعها: قال ابن عباس: إن المشركين كانوا يعبدون
234

صنما، فإذا رأوا شيئا أحسن منه تركوا ذلك وأقبلوا على عبادة الأحسن. وخامسها: أن المؤمنين يوحدون ربهم، والكفار يعبدون مع الصنم أصناما فتنقص محبة الواحد، أما الإله الواحد فتنضم محبة الجميع إليه.
أما قوله تعالى: * (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قراءة هذه الآية أبحاثا:
البحث الأول: قرأ نافع وابن عمر: (ولو ترى) بالتاء المنقوطة من فوق خطابا للنبي عليه السلام، كأنه قال: لو ترى يا محمد الذين ظلموا، والباقون بالياء المنقوطة من تحت على الإخبار عمن جرى ذكرهم كأنه قال: ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد، ثم قال بعضهم: هذه القراءة أولى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار، ويعاينون من العذاب يوم القيامة، أما المتوعدون في هذه الآية فهم الذين لم يعلموا ذلك، فوجب إسناد الفعل إليهم.
البحث الثاني: اختلفوا في (يرون) فقرأ ابن عامر: (يرون) بضم الياء على التعدية وحجته قوله تعالى: * (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) * والباقون (يرون) بالفتح على إضافة الرؤية إليهم.
البحث الثاني: اختلفوا في (أن) فقرأ بعض القراء (إن) بكسر الألف على الاستئناف وأما القراء السبع فعلى فتح الألف فيها.
البحث الرابع: لما عرفت أن * (يرى الذين ظلموا) * قرىء تارة بالتاء المنقوطة من فوق وأخرى بالياء المنقوطة من تحت، وقوله: * (أن القوة) * قرىء تارة بفتح الهمزة من (أن) وأخرى بكسرها حصل ههنا أربع احتمالات.
الاحتمال الأول: أن يقرأ * (ولو يرى) * بالياء المنقوطة من تحت مع فتح الهمزة من (أن) والوجه فيه أنهم أعملوا يرون في القوة والتقدير: ولو يرون أن القوة لله: ومعناه، ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وقوته لما اتخذوا من دونه أندادا فعلى هذا جواب (لو) محذوف وهو كثير في التنزيل كقوله: * (ولو ترى إذا وقفوا على النار) * (الأنعام: 27)، * (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) * (الأنعام: 93)، * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) * (الرعد: 31) ويقولون: لو رأيت فلانا والسياط تأخذ منه، قالوا: وهذا الحذف أفخم وأعظم لأن على هذا التقدير يذهب خاطر المخاطب إلى كل ضرب من الوعيد
235

فيكون الخوف على هذا التقدير مما إذا كان عين له ذلك الوعيد.
الاحتمال الثاني: أن يقرأ بالياء المنقوطة من تحت مع كسر الهمزة من (إن) والتقدير ولو يرى الذين ظلموا عجزهم حال مشاهدتهم عذاب الله لقالوا: إن القوة لله.
الاحتمال الثالث: أن تقرأ بالتاء المنقوطة من فوق، مع فتح الهمزة من (أن) وهي قراءة نافع وابن عامر قال الفراء: الوجه فيه تكرير الرؤية والتقدير فيه ولو ترى الذين ظلموا إذا يرون العذاب ترى أن القوة لله جميعا.
الاحتمال الرابع: أن يقرأ بالتاء المنقوطة من فوق، مع كسر الهمزة، وتقديره: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقلت أن القوة لله جميعا، وهذا أيضا تأويل ظاهر جيد.
المسألة الثانية: إن قيل: كيف جاء قوله: * (ولو يرى الذين ظلموا) * وهو مستقبل مع قوله: * (إذ يرون العذاب) * و (إذ) للماضي؟ قلنا: إنما جاء على لفظ المضي لأن وقوع الساعة قريب. قال تعالى: * (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) * (النحل: 77) وقال: * (لعل الساعة قريب) * (الشورى: 17) وكل ما كان قريب الوقوع فإنه يجري مجرى ما وقع وحصل وعلى هذا التأويل قال تعالى: * (ونادى أصحاب الجنة) * (الأعراف: 44) وقول المقيم: قد قامت الصلاة يقول ذلك قبل إيقاعه التحريم للصلاة لقرب ذلك وقد جاء كثير في التنزيل من هذا الباب قال تعالى: * (ولو ترى إذ وقفوا) * (الأنعام: 27)، * (ولو ترى إذ الظالمون) * (سبأ: 31)، * (ولو ترى إذ فزعوا) * (سبأ: 51)، * (ولو ترى إذ يتوفى) * (الأنفال: 50).
* (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) *
اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتخذ من دون الله أندادا بقوله: * (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب) * (البقرة: 165) على طريق التهديد زاد في هذا الوعيد بقوله تعالى: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين
236

اتبعوا) * فبين أن الذين أفنوا عمرهم على عبادتهم واعتقدوا أنهم أوكد أسباب نجاتهم فإنهم يتبرأون منهم عند احتياجهم إليهم ونظيره قوله تعالى: * (يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) * (العنكبوت: 25) وقال أيضا: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * (الزخرف: 67) وقال: * (كلما دخلت أمة لعنت أختها) * (الأعراف: 38) وحكى عن إبليس أنه قال: * (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (إذ تبرأ) * قولان، الأول: أنه بدل من: * (إذ يرون العذاب) * (البقرة: 165). الثاني: أن عامل الإعراب في (إذ) معنى شديد كأنه قال: هو شديد العذاب إذ تبرأ يعني في وقت التبرؤ.
المسألة الثانية: معنى الآية أن المتبوعين يتبرؤن من الأتباع ذلك اليوم فبين تعالى ما لأجله يتبرؤن منهم وهو عجزهم عن تخليصهم من العذاب الذي رأوه لأن قوله: * (وتقطعت بهم الأسباب) * يدخل في معناه أنهم لم يجدوا إلى تخليص أنفسهم وأتباعهم سببا، والآيس من كل وجه يرجو به الخلاص مما نزل به وبأوليائه من البلاء يوصف بأنه تقطعت به الأسباب واختلفوا في المراد بهؤلاء المتبوعين على وجوه. أحدها: أنهم السادة والرؤساء من مشركي الإنس، عن قتادة والربيع وعطاء. وثانيها: أنهم شياطين الجن الذين صاروا متبوعين للكفار بالوسوسة عن السدي. وثالثها: أنهم شياطين الجن والإنس. ورابعها: الأوثان الذين كانوا يسمونها بالآلهة والأقرب هو الأول لأن الأقرب في الذين اتبعوا أنهم الذين يصح منهم الأمر والنهي حتى يمكن أن يتبعوا وذلك لا يليق بالأصنام، ويجب أيضا حملهم على السادة من الناس لأنهم الذين
يصح وصفهم من عظمهم بأنهم يحبونهم كحب الله دون الشياطين ويؤكده قوله تعالى: * (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) * (الأحزاب: 67)، وقرأ مجاهد الأول على البناء للفاعل، والثاني على البناء للمفعول أي تبرأ الاتباع من الرؤساء.
المسألة الثانية: ذكروا في تفسير التبرؤ وجوها. أحدها: أن يقع منهم ذلك بالقول. وثانيها: أن يكون نزول العذاب بهم، وعجزهم عن دفعهم عن أنفسهم فكيف عن غيرهم فتبرؤا. وثالثها: أنه ظهر فيهم الندم على ما كان منهم من الكفر بالله والإعراض عن أنبيائه ورسله فسمي ذلك الندم تبرؤا والأقرب هو الأول، لأنه هو الحقيقة في اللفظ.
أما قوله تعالى: * (ورأوا العذاب) * الواو للحال، أي يتبرؤون في حال رؤيتهم العذاب وهذا أولى من سائر الأقوال، لأن في تلك الحالة يزداد الهول والخوف.
أما قوله تعالى: * (وتقطعت بهم الأسباب) * ففيه مسائل:
237

المسألة الأولى: أنه عطف على (تبرأ) وذكروا في تفسير الأسباب سبعة أقوال. الأول: أنها المواصلات التي كانوا يتواصلان عليها، عن مجاهد وقتادة والربيع. الثاني: الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها عن ابن عباس وابن جريج. الثالث: الأعمال التي كانوا يلزمونها عن ابن زيد والسدي. والرابع: العهود والحلف التي كانت بينهم يتوادون عليها، عن ابن عباس. الخامس: ما كانوا يتواصلون به من الكفر وكان بها انقطاعهم عن الأصم. السادس: المنازل التي كانت لهم في الدنيا عن الضحاك والربيع بن أنس. السابع: أسباب النجاة تقطعت عنهم والأظهر دخول الكل فيه، لأن ذلك كالنفي فيعم الكل فكأنه قال: وزال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به وأنهم لا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة وسبب ونسب وخلف وعقد وعهد، وذلك نهاية ما يكون من اليأس فحصل فيه التوكيد العظيم في الزجر.
المسألة الثانية: الباء في قوله تعالى: * (بهم الأسباب) * بمعنى (عن) كقوله تعالى: * (فاسأل به خبيرا) * أي عنه قال علقمة بن عبدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني * بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء.
المسألة الثالثة: أصل السبب في اللغة الحبل قالوا: ولا يدعى الحبل سببا حتى ينزل ويصعد به، ومنه قوله تعالى: * (فليمدد بسبب إلى السماء) * (الحج: 15) ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها سبب. يقال: ما بيني وبينك سبب أي رحم ومودة، وقيل للطريق: سبب لأنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريده، قال تعالى: * (فأتبع سببا) * (الكهف: 85) أي طريقا، وأسباب السماوات: أبوابها لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها، قال تعالى مخبرا عن فرعون: * (لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات) * (غافر: 36، 37) قال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا تناله * ولو رام أسباب السماء بسلم
والمودة بين القوم تسمى سببا لأنهم بها يتواصلون.
أما قوله تعالى: * (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا) * فذلك تمن منهم لأن يتمكنوا من الرجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف فيكون الاختيار إليهم حتى يتبرؤن منهم في الدنيا كما تبرؤا منهم يوم القيامة، ومفهوم الكلام أنهم تمنوا لهم في الدنيا ما يقارب العذاب فيتبرؤن منهم ولا يخلصونهم ولا ينصرونهم كما فعلوا بهم يوم القيامة وتقديره: فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم وقد دهمهم مثل هذا الخطب كما تبرؤا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرأ منهم
238

مع سلامة فليس فيه فائدة.
أما قوله: * (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (كذلك يريهم) * وجهان. الأول: كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات وذلك لانقطاع الرجاء من كل أحد. الثاني: كما أراهم العذاب يريهم الله أعمالهم حسرات، لأنهم أيقنوا بالهلاك.
المسألة الثانية: في المراد بالأعمال أقوال. الأول: الطاعات يتحسرون لم ضيعوها عن السدي. الثاني: المعاصي وأعمالهم الخبيثة عن الربيع وابن زيد يتحسرون لم عملوها. الثالث: ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر عن الأصم. الرابع: أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم، والظاهر أن المراد الأعمال التي اتبعوا فيها السادة، وهو كفرهم ومعاصيهم، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم، وأيقنوا بالجزاء عليها، وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات، وفي هذا الوجه الإضافة حقيقية لأنهم عملوها، وفي الثاني مجاز بمعنى لزمهم فلم يقوموا به.
المسألة الثالثة: حسرات ثالث مفاعيل: رأى.
المسألة الرابعة: قال الزجاج: الحسرة شدة الندامة حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب، وهو الذي لا منفعة فيه، يقال: حسر فلان يحسر حسرة وحسرا إذا اشتد ندمه على أمر فاته، وأصل الحسر الكشف، يقال: حسر عن ذراعيه أي كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة، والحسور: الإعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر، قال تعالى: * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) * (الأنبياء: 19) والمحسرة المكنسة لأنها تكشف عن الأرض، والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش.
أما قوله تعالى: * (وما هم بخارجين من النار) * فقد احتج به الأصحاب على أن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة يخرجون من النار فقالوا: إن قوله * (وما هم) * تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصا بهم، وهذه الآية تكشف عن المراد بقوله: * (وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها
يوم الدين * وما هم عنها بغائبين) * (الانفطار: 14 - 16) وثبت أن
أن المراد بالفجار هنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه.
239