الكتاب: تفسير الثعلبي
المؤلف: الثعلبي
الجزء: ٨
الوفاة: ٤٢٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور ، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠٢م
المطبعة: بيروت - لبنان - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

((سورة الأحزاب))
مدنية، وهي خمسة آلاف وسبعمائة وتسعون حرفا، وألف ومائتان وثمانون كلمة، وثلاث وسبعون آية.
أخبرني محمد بن القاسم بن أحمد بقراءتي عليه قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: أخبرني أبو عمرو الحميري وعمرو بن عبد الله البصري قالا: قال محمد بن عبد الوهاب العبدي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن سلام بن سليم، عن هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن (أبي أمامة) عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه: (من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (ياأيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما * واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا * وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا * ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل * ادعوهم لابآئهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا ءاباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولاكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما) *) 2
قوله عز وجل: " * (يا أيها النبي اتق الله) *) الآية نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور عمرو بن (أبي) سفيان السلمي، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر ابن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومنات وقل: إن لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربك، فشق على النبي صلى الله عليه قولهم، فقال عمر بن الخطاب: ائذن لنا يا رسول
5

الله في قتلهم، فقال النبي (عليه السلام): (إني قد أعطيتهم الأمان)، فقال عمر بن الخطاب: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي صلى الله عليه عمر أن يخرجهم من المدينة فأنزل الله عز وجل * (يا أيها النبي اتق الله) * * (ولا تطع الكافرين) *) من أهل مكة يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة " * (والمنافقين) *) عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق.
" * (إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا) *) بالياء. أبو عمرو، وغيره بالتاء.
" * (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) *) أخبرني ابن فنجويه، عن موسى بن علي (عن الحسن ابن علوية)، عن إسماعيل بن عيسى، عن المسيب، عن شيخ من أهل الشام قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وفد من ثقيف فطلبوا إليه أن (يمتعهم) باللات والعزى سنة وقالوا: لتعلم قريش منزلتنا منك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأنزل الله تعالى: " * (يا أيها النبي اتق الله) *) الآيات.
قوله: " * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) *) نزلت في أبي معمر جميل (بن معمر) بن حبيب بن عبد الله الفهري، وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان. وكان يقول: إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم يومئذ أبو معمر تلقاه أبو سفيان بن حرب، وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال: انهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك، فقال له أبو معمر: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده.
وقال الزهري ومقاتل: هذا مثل ضربه الله للمظاهر من امرأته، وللمتبني ولد غيره، يقول: فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمان، ولا يكون ولد أحد ابن رجلين.
قوله: " * (وما جعل أزواجكم اللائي) *) قرأ أبو جعفر وأبو عمر وورش " * (اللائى) *) بغير مد ولا همز، ممدودة مهموزة بلا ياء، نافع غير ورش وأيوب ويعقوب والأعرج، وأنشد
6

من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
ولكن ليقتلن البريء المغفلا
وقرأ أهل الكوفة والشام بالمد والهمز وأثبات الياء واختاره أبو عبيد للاشباع واختلف فيه، عن ابن كثير وكلها لغات معروفة " * (تظاهرون) *) بفتح التاء وتشديد الظاء شامي. بفتح التاء وتخفيف الظاء كوفي غير عاصم، واختاره أبو عبيد بضم التاء وتخفيف الظاء وكسر الهاء عاصم والحسن.
قال أبو عمرو: هذا منكر لأن المظاهرة من التعاون والآية نزلت في أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم أخي عبادة، وفي امرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك يقول الله تعالى: ما جعل نساءكم اللاتي تقولون: هن علينا كظهور أمهاتنا في الحرام كما تقولون، ولكنها منكم معصية وفيها كفارة وأزواجكم لكم حلال، وسنذكر القصة والحكم في سورة المجادلة إن شاء الله.
قوله: " * (وما جعل أدعياءكم) *) يعني من تبنيتموه " * (أبناءكم) *) نزلت في زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من بني عبد ود، كان عبدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب في الإسلام، فجعل الفقير أخا للغني ليعود عليه، فلما تزوج النبي صلى الله عليه زينب بنت جحش الأسدي وكانت تحت زيد بن حارثة، فقالت اليهود والمنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات وقال: " * (ذلكم
قولكم بأفواهكم) *) ولا حقيقة له، يعني قولهم: زيد ابن محمد " * (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم) *) الذين ولدوهم " * (هو أقسط) *) أعدل " * (عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم) *) أي فهم إخوانكم " * (في الدين ومواليكم) *) إن كانوا محرريكم وليسوا ببنيكم.
أنبأني عقيل بن محمد الجرجاني، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم، عن ابن علية عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: قال أبو بكر: قال الله تعالى: " * (ادعوهم لأبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) *) فأنا ممن لا يعرف أبوه، وأنا من إخوانكم في الدين. قال: قال أبي إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه " * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) *) قبل النهي، فنسبتموه إلى غير أبيه، وقال قتادة: يعني أن تدعوه لغير أبيه وهو يرى أنه كذلك " * (ولكن ما تعمدت قلوبكم) *) فنسبتموه إلى غير أبيه بعد النهي، وأنتم تعلمون أنه ليس بابنه. ومحل ما في قوله: " * (ما تعمدت قلوبكم) *) خفض ردا على (ما) التي في قوله: " * (فيما أخطأتم به) *) ومجازه: ولكن فيما تعمدت قلوبكم " * (وكان الله غفورا رحيما) *) قال النبيي صلى الله عليه وسلم (من ادعى إلى غير أبيه أو إلى غير أهل نعمته فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
7

وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن يحيى قال: أخبرني أبو صالح، حدثني الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار فتبناه، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه زيدا وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه حتى نزلت " * (ادعوهم لآبائهم) *) الآية.
(* (النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليآئكم معروفا كان ذلك فى الكتاب مسطورا * وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا * ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما) *) 2
قوله عز وجل: " * (النبي أولى) *) أحق " * (بالمؤمنين من أنفسهم) *) أن يحكم فيهم بما شاء فيجوز حكمه عليهم.
قال ابن عباس وعطا: يعني إذا دعاهم النبي (عليه السلام) إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي أولى بهم من طاعة أنفسهم، وقال مقاتل: يعني طاعة النبي (عليه السلام) أولى من طاعة بعضكم لبعض، وقال ابن زيد: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما أنت أولى بعبدك، فما قضى فيهم من أمر، جار، كما أن كل ما قضيت على عبدك جار. وقيل: إنه (عليه السلام) أولى بهم في امضاء الأحكام وإقامة الحدود عليهم لما فيه من مصلحة الخلق والبعد من الفساد. وقيل: إنه أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه، وقالت الحكماء: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، لان أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، والنبي يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، وقال أبو بكر الوراق: لأن النبي يدعوهم إلى العقل، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى، وقال بسام بن عبد الله العراقي: لأن أنفسهم تحترس من نار الدنيا، والنبي يحرسهم من نار العقبى.
وروى سفيان عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ " * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) *) وهو أب لهم.
وروى سفيان عن عمرو عن بجالة أو غيره قال: مر عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف " * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم) *) وهو أب لهم. فقال: يا غلام حكها. قال: هذا مصحف أبي، فذهب إليه فسأله، فقال: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق
8

في الأسواق. وقال عكرمة: أخبرت أنه كان في الحرف الأول: وهو أبوهم.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبي قال: أخبرني أبو عامر وشريح قالا: قال (فليح) بن سليمان، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، عن النبي صلى الله عليه، قال: (ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم " * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) *) فأيما مؤمن هلك وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فإني أنا مولاه).
" * (وأزواجه أمهاتهم) *) يعني كأمهاتهم في الحرمة، نظيره قوله تعالى: " * (وجنة عرضها السماوات والأرض) *) أي كالسماوات، وإنما أراد الله تعالى تعظيم حقهن وحرمتهن، وإنه لا يجوز نكاحهن لا في حياة النبي صلى الله عليه إن طلق ولا بعد وفاته، هن حرام على كل مؤمن كحرمة أمه، ودليل هذا التأويل أنه لا يحرم على الولد رؤية الأم، وقد حرم الله رؤيتهن على الأجنبيين، ولا يرثنهم ولا يرثونهن، فعلموا أنهن أمهات المؤمنين من جهة الحرمة، وتحريم نكاحهن عليهم.
روى سفيان، عن خراش، عن الشعبي، عن مسروق قال: قالت امرأة لعائشة: يا أماه، فقالت: أنا لست بأم لك إنما أنا أم رجالكم.
قوله: " * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) *) يعني في الميراث.
قال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وخلط المؤمنين بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملك والقرابات.
وقال الكلبي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس، وكان يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله، فمكثوا بذلك ما شاء الله حتى نزلت هذه الآية: " * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) *) * * (في كتاب الله من المؤمنين) *) الذين آخى رسول الله بينهم " * (والمهاجرين) *) فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة، وصارت للأدنى فالأدنى من القرابات، وقيل: أراد إثبات الميراث بالإيمان والهجرة.
ثم قال: " * (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) *) يعني: إلا أن توصوا لذوي قرابتكم من
9

المشركين فتجوز الوصية لهم، وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة، وهذا قول محمد بن الحنفية وقتادة وعطاء وعكرمة. وقال ابن زيد ومقاتل: يعني: إلا أن توصوا لاوليائكم من المهاجرين. وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة " * (كان ذلك) *) الذي ذكرت من أن أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض، وأن المشرك لا يرث المسلم " * (في الكتاب) *) في اللوح المحفوظ " * (مسطورا) *) مكتوبا. وقال القرظي: في التوراة.
قوله: " * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) *) على الوفاء بما حملوا، وأن يبشر بعضهم ببعض ويصدق بعضهم بعضا. " * (ومنك) *) يا محمد " * (ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم) *) وإنما خص هؤلاء الخمسة بالذكر في هذه الآية لأنهم أصحاب الشرائع والكتب وأولو العزم من الرسل وأئمة الأمم.
" * (وأخذنا منهم ميثقا غليظا) *) أخبرنا الحسين بن محمد، عن عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ، عن محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، عن هارون بن محمد بن بكار، عن أبيه عن سعيد يعني ابن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه قال: (كنت أول النبيين في الخلق، وآخرهم في البعث)، قال: وذلك قول الله تعالى: " * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم) *) فبدأ به صلى الله عليه قبلهم. " * (ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما) *))
.
* (ياأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جآءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طآئفة منهم ياأهل. يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبى يقولون إن بيوتنا عورة وما هى بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بهآ إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسئولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) *) 2
قوله: " * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم) *) الآية، وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه أيام الخندق " * (إذ جاءتكم جنود) *) يعني الأحزاب، قريش وغطفان
10

ويهود بني قريظة والنضير " * (فأرسلنا عليهم ريحا) *) يعني الصبا. قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي بنصر رسول الله صلى الله عليه، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل، فكانت الريح التي أرسلت عليهم هي الصبا.
قال رسول الله صلى الله عليه: نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور.
" * (وجنودا لم تروها) *) وهم الملائكة ولم تقاتل يومئذ " * (وكان الله بما تعملون بصيرا) *) قال المفسرون: بعث الله تعالى عليهم بالليل ريحا باردة، وبعث الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، فأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل حي يقول: يا بني فلان هلم إلي فإذا اجتمعوا عنده قال: النجا النجا أتيتم، لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال.
أنبأني محمد بن القاسم الفارسي قال: أخبرني أبو الحسن السليطي قال: أخبرني المؤمل ابن الحسن، عن الفضل بن محمد الأشعراني عن عمرو بن عون، عن خالد بن عبد الله، عن أبي سعد سعيد بن عبد الرحمن البقال، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه وأنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حميد الرازي، عن سلمة، حدثني محمد بن يسار، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرطي قالا: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وصحبتموه؟ قال: نعم يا بن أخي، قال: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا، ولخدمناه وفعلنا وفعلنا.
فقال حذيفة: يا بن أخي والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق في ليلة باردة، لم أجد قبلها ولا بعدها بردا أشد منه، فصلى رسول الله صلى الله عليه هونا من الليل ثم التفت إلينا فقال: (من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة).
فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هونا من الليل، ثم التفت إلينا فقال مثله، فسكت القوم وما قام منا رجل. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه هونا من الليل، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا حذيفة، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقلت: لبيك يا رسول الله، وقمت حتى أتيته وإن
11

جنبي لتضطربان، فمسح رأسي ووجهي ثم قال: ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم، ولا تحدثن شيئا حتى ترجع إلي.
ثم قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، فأخذت سهمي وشددت على أصلابي، ثم انطلقت أمشي نحوهم كأني أمشي في حمام، فذهبت فدخلت في القوم، وقد أرسل الله عليهم ريحا فقطعت أطنابهم وقلعت أبنيتهم وذهبت بخيولهم، ولم تدع شيئا إلا أهلكته، وأبو سفيان قاعد يصطلي،
فأخذت سهمي فوضعته في كبد قوسي، فذكرت قول النبي صلى الله عليه: لا تحدثن حدثا حتى ترجع، فرددت سهمي في كنانتي.
فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قام فقال: يا معشر قريش ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو؟ فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت؟ قال: سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان، فإذا هو رجل من هوازن.
فقال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم، وهزم الله الأحزاب فذلك قوله: " * (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) *) قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه كأني أمشي في حمام، فأخبرته الخبر فضحك عليه السلام حتى بدت أنيابه في سواد الليل قال: وذهب عني الدفء فأدناني النبي عليه السلام فأنامني عند رجليه وألقى علي طرف ثوبه، وألزق صدري ببطن قدمه.
قوله تعالى: " * (إذ جاءوكم من فوقكم) *) يعني من فوق الوادي من قبل المشرق، وعليهم مالك بن عوف النضيري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريضة " * (ومن أسفل منكم) *) يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، وهو أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق. وكان الذي جر غزوة الخندق، فيما قيل إجلاء رسول الله صلى الله عليه بني النضير عن ديارهم.
قال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير، عن عروة بن الزبير ومن لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، وعن الزهري، وعن عاصم بن قتادة وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعن محمد بن كعب القرظي، وعن غيرهم من علمائنا، دخل
12

حديث بعضهم في بعض، قالوا: كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وايل وهم الذين حزموا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، فديننا خير أم دينه؟
قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منهم، قال: فهم الذين أنزل الله فيهم: " * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يؤمنون بالجبت والطاغوت) *) إلى قوله: " * (وكفى بجهنم سعيرا) *) فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمعوا لذلك، واستعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك، وأجمعوا فيه، فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحرث بن عون بن أبي جارية المري في بني مرة، ومسعود بن جبلة بن نويرة بن طريف بن شحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن زيد بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وبما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسي، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه، وهو يومئذ حر. وقال: يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى أحكموه.
وقد ذكرنا حديث سلمان في صفة حفر الخندق في سورة آل عمران قالوا: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من دونه من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا (بذنب نقمى) إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالنساء والذراري فرفعوا في الآطام، وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضيري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاهده على ذلك، فلما سمع كعب بحيي بن أخطب غلق دونه حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فنادى حيي: يا كعب افتح
13

لي، فقال: ويحك يا حيي، إنك امرؤ ميشوم، إني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا.
قال: ويحك افتح لي أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله إن غلقت دوني إلا على حشيشتك أن آكل معك منها، فاحفظ الرجل ففتح له. فقال: يا كعب، ويحك جئتك بعز الدهر، وبحر طم، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دونه، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب مقمي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمد ومن معه.
فقال له كعب بن أسد: جئتني والله بذل الدهر، بمجهام قد اهراق ماؤه يرعد ويبرق وليس فيه شيء، فدعني ومحمدا وما أنا عليه، ولم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يقبله في الذروة والغارب حتى يسمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصتك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه الخبر وإلى المسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة بن دليم أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف.
فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا نعرفه ولا تفتوا أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم وقالوا: من رسول الله؟ وقالوا: لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه، وكان رجلا فيه حد فقال له سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه فسلموا عليه ثم قالوا: عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه.
فقال رسول الله صلى الله عليه: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين. وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال لهم معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط " * (ما
14

وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) *) حتى قال أوس بن قبطي أحد بني حارثة: يا رسول الله إن بيوتنا بعورة من العدو وذلك على ملأ من رجال قومه، فأذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى، فلما اشتد البلاء على الناس، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصين وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، تجرى بينهم وبينه الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه. فقالا: يا رسول الله أشيء أمرك الله به لابد لنا من العمل به أم أمر تحبه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا؟ قال: لا بل لكم والله ما أصنع ذلك، إلا إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم.
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قري أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: فأنت وذاك، فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم والمشركون يحاصروهم ولم يكن بينهم قتال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم، ومروا على بني كنانة.
فقال: بنو الحارث: يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان، ثم أقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيولهم فاقتحموا منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.
وخرج علي بن أبي طالب ح في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان نحوهم، وقد كان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليري مكانه، فلما وقف هو وخيله قال له علي: يا عمرو، إنك كنت تعاهد الله، لا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما. قال: أجل. قال: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى النزال. قال: ولم يا بن أخي؟ فإني والله ما أحب أن أقتلك
15

قال علي ح: ولكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره أو ضرب وجهه وأقبل على علي فتناولا وتجاولا وقتله علي ح.
وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، وكان قد اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة، فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه، فنزل إليه علي فقتله فغلب المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله صلى الله عليه أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلى الله عليه: لا حاجة لنا في جسده ولا ثمنه فشأنكم به، فخلى بينهم وبينه.
قالت عائشة أم المؤمنين: كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة، وكان من أحرز حصون المدينة، وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمر سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها وفي يده حربته وهو يقول:
لبث قليلا يشهد الهيجا حمل
لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت أمه: الحق يا بني فقد والله أخرت، قالت عائشة: فقلت لها: يا ام سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي، وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، قالت: فرمي سعد يومئذ فقطع منه الأكحل، وزعموا أنه لم ينقطع من أحد قطع إلا لم يزل يفيض دما حتى يموت، رماه حيان بن قيس بن الغرقة أحد بني عامر بن لؤي
، فلما أصابه قال: خذها فأنا ابن الغرقة فقال سعد: غرق الله وجهك في النار، ثم قال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي من أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، فكذبوه وأخرجوه، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية.
وروى محمد بن إسحاق بن يسار، عن يحيى بن عبادة بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبادة قال: كانت صفية بنت عبد المطلب في قارع حصن حسان بن ثابت قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان.
قالت صفية: فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت
16

ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله والمسلمون في (نحور) عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت. قالت: فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من ورائنا من اليهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وأصحابه فانزل إليه فاقتله.
فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت: فلما قال ذلك لي ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته فلما فرغت منه، رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.
قالوا: وأقام رسول الله صلى الله عليه وأصحابه في ما وصف الله عز وجل من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن (أنيف) بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن زيد بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلى الله عليه: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشا وغطفان ليسوا (كهيئتكم)، البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا عنه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره، وإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونصح. ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر رأيت أن حقا علي أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا علي. قالوا: نفعل.
قال: تعلمون أن معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه، أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم (فنعطيكم) فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم؟
فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا
17

إليهم منكم رجلا واحدا، ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا علي قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم، فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس، وكان مما صنع الله برسوله، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم: إن اليوم السبت، وهو يوم لا يعمل فيه شيئا، وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن (ضرستكم) الحرب واشتد عليكم القتال تسيروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمد.
فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة، إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال، فأخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك إنشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد، حتى انصرفوا راجعين والحمد لله رب العالمين.
قال الله تعالى: " * (وإذ زاغت) *) مالت " * (الأبصار) *) وشخصت " * (وبلغت القلوب الحناجر) *) فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع " * (وتظنون بالله الظنونا) *) فأما المنافقون فظنوا أن محمدا وأصحابه سيغلبون ويستأصلون، وأما المؤمنون فأيقنوا أن ما وعدهم الله حق (من) أنه سيظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
واختلف القراء في قوله: الظنونا والرسولا والسبيلا، فأثبت الألفات فيها وصلا ووقفا، أهل المدينة والشام وأيوب وعاصم برواية أبي بكر، وأبو عمر برواية ابن عباس. والكسائي برواية قتيبة، قالوا: إن ألفاتها ثابتة في مصحف عثمان وسائر مصاحف البلدان. وقرأها أبو عمرو في سائر الروايات وحمزة ويعقوب بغير (ألف) في الحالين على الأصل.
وقرأ الباقون بالألف في الوقف دون الوصل، واحتجوا بأن العرب تفعل ذلك في قوافي
18

أشعارهم ومصاريعها فتلحق بالألف في موضع الفتح عند الوقوف ولا تفعل ذلك في حشو الأبيات، فحسن إثبات الألف في هذه الحروف لأنها رؤوس الآي تمثيلا لها بالقوافي.
قوله عز وجل: " * (هنالك ابتلى المؤمنون) *) أي أختبروا ومحصوا ليعرف المؤمن من المنافق " * (وزلزلوا) *) وحركوا وخوفوا " * (زلزالا) *) تحريكا " * (شديدا) *) وقرأ عاصم الحجدري (زلزالا) بفتح الزاي وهما مصدران.
" * (وإذ يقول المنافقون) *) يعني معتب بن قشير وأصحابه " * (والذين في قلوبهم مرض) *) شك وضعف اعتقاد " * (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم) *) أي من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه، وقال مقاتل: هم من بني سالم " * (يا أهل يثرب) *) يعني المدينة. وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، ومدينة الرسول (عليه السلام) في ناحية منها. " * (لا مقام لكم) *) قراءة العامة بفتح الميم، أي لامكان لكم تقيمون فيه. وقرأ السلمي بضم الميم، أي لا إقامة لكم، وهي رواية حفص عن عاصم " * (فارجعوا) *) إلى منازلكم أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن عباس: قالت اليهود لعبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيدي أبي سفيان وأصحابه فارجعواإلى المدينة فرجعوا " * (ويستأذن فريق منهم النبي) *) في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة بن الحرث " * (يقولون إن بيوتنا عورة) *) أي هي خالية (ضائعة (وهي مما يلي العدو، وإنا نخشى عليها العدو والسراق. وقرأ ابن عباس وأبو رجاء العطاردي عورة، بكسر الواو يعني قصيرة الجدران فيها خلل وفرجة، والعرب تقول: دار فلان عورة، إذا لم تكن حصينة، وقد أعور الفارس إذا بدا فيه خلل الضرب، قال الشاعر:
متى تلقهم لا تلقى في البيت معورا
ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا
قال الله تعالى: " * (وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم) *) يقول لو دخل عليهم هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم المدينة " * (من أقطارها) *) جوانبها ونواحيها، واحدها قطر وفيه لغة أخرى قطر وأقطار.
" * (ثم سئلوا الفتنة) *) الشرك " * (لآاتوها) *) قراءة أهل الحجاز بقصر الألف، أي لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وكفروا، وقرأ الآخرون بالمد، أي لأعطوها. وقالوا: إذا كان سؤال كان إعطاء " * (وما تلبثوا بها) *) وما احتبسوا عن الفتنة " * (إلا يسيرا) *) ولأسرعوا الإجابة إليها طيبة بها أنفسهم، هذا قول أكثر المفسرين، وقال الحسن والفراء: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا " * (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل) *) أي من قبل غزوة الخندق
19

" * (لا يولون) *) عدوهم " * (الأدبار) *).
وقال يزيد بن دومان: هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها أبدا، فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم، وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن، فساق الله ذلك إليهم في ناحية المدينة.
وقال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وقالوا له: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي (عليه السلام): (اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة)
قالوا: قد فعلنا، فذلك عهدهم.
" * (وكان عهد الله مسئولا) *) قوله عز وجل: " * (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل) *) الذي كتب عليكم " * (وإذا لا تمتعون إلا قليلا) *) إلى آجالكم، والدنيا كلها قليل.
" * (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا) *) هزيمة " * (أو أراد بكم رحمة) *) نصرة " * (ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) *).
2 (* (قد يعلم الله المعوقين منكم والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جآء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولائك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذالك على الله يسيرا * يحسبون الاحزاب لم يذهبوا وإن يأت الاحزاب يودوا لو أنهم بادون فى الاعراب يسألون عن أنبآئكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا * لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا * ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هاذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شآء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما *
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف فى قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شىء قديرا) *) 2
20

" * (قد يعلم الله المعوقين) *) المثبطين " * (منكم) *) الناس عن رسول الله صلى الله عليه " * (والقائلين لإخوانهم هلم) *) تعالوا " * (إلينا) *) ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك.
" * (ولا يأتون البأس إلا قليلا) *) دفعا وتغديرا. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنه هالك.
قال مقاتل: نزلت في المنافقين، وذلك أن اليهود أرسلوا إلى المنافقين، فقالوا: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه فإنهم إن قدروا عليكم هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا، وإنا نشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا هلم إلينا، فأقبل عبد الله بن أبي وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا: لئن قدروا عليكم هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا، ما ترجون من محمد؟ فوالله ما يريدنا بخير وما عنده خير، ما هو إلا أن يقتلنا هاهنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا وأصحابنا، يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا.
وقال ابن زيد: هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه، وبين يديه شواء ورغيف ونبيذ، فقال له: أنت هاهنا في الشواء والنبيذ والرغيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف، فقال له (أخوه): هلم إلى هذا فقد (تبع) بك وبصاحبك، والذي تحلف به لا يستقيلها محمد أبدا، فقال: كذبت والذي تحلف به، وكان أخوه من أبيه وأمه، أما والله لأخبرن النبي صلى الله عليه أمرك، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجده قد نزل جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآية.
قوله: " * (أشحة عليكم) *) أي بخلاء بالخير والنفقة في سبيل الله وعند قسم الغنيمة، وهي نصب على الحال والقطع من قوله: " * (ولا يأتون البأس إلا قليلا) *) وصفهم الله بالجبن والبخل.
" * (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم) *) في رؤوسهم من الخوف والجبن " * (كالذي) *) أي كدوران عين الذي " * (يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم) *) عصوكم ورموكم " * (بألسنة حداد) *) ذربة جمع حديد، ويقال للخطيب الفصيح اللسان الذرب اللسان، مسلق ومصلق وسلاق وصلاق وأصل السلق الضرب.
وقال قتادة: يعني بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسم الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا فإنا قد شهدنا معكم القتال فلستم بأحق بالغنيمة منا، فأما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأ مقاسمة، وأما
21

عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق.
" * (أشحة على الخير) *) يعني الغنيمة " * (أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا) *).
قوله: " * (يحسبون) *) يعني هؤلاء المنافقين " * (الأحزاب) *) يعني قريشا وغطفان واليهود الذين تحزبوا على عداوة رسول الله صلى الله عليه ومخالفته أي اجتمعوا، والأحزاب الجماعات واحدهم حزب. " * (لم يذهبوا) *) ولم ينصرفوا عن قتالهم وقد انصرفوا منهم جماعة وفرقا. " * (وإن يأت الأحزاب) *) إن يرجعوا إليكم كرة ثانية.
" * (يودوا) *) من الخوف والجبن " * (لو أنهم بادون) *) خارجون إلى البادية " * (في الأعراب) *) أي معهم " * (يسألون) *) قراءة العامة بالتخفيف، وقرأ عاصم الحجدري ويعقوب في رواية رويس وزيد مشددة ممدودة بمعنى يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضا.
" * (عن أنبائكم) *) أخباركم وما آل إليه أمركم " * (ولو كانوا فيكم) *) يعني هؤلاء المنافقين " * (ما قاتلوا إلا قليلا) *) رياء من غير حسبة، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا.
قوله تعالى: " * (لقد كان لكم في رسول الله) *) محمد صلى الله عليه " * (أسوة) *) قدوة " * (حسنة) *) قرأ عاصم هاهنا وفي سورة الامتحان (أسوة) بضم الألف وقرأهما الآخرون بالكسر وهما لغتان مثل عدوة وعدوة ورشوة ورشوة وكسوة وكسوة. وكان يحيى بن ثابت يكسرها هنا ويضم الأخرى.
قال أبو عبيد: ولا نعرف بين ما فرق يحيى فرقا.
قال المفسرون: يعني " * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) *) سنة صالحة أن تنصروه وتؤازروه ولا تتخلفوا عنه ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه وعن مكان هواه، كما فعل هو إذ كسرت رباعيته، وجرح فوق حاجبة وقتل عمه حمزة، وأوذي بضروب الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم أيضا كذلك واستنوا بسنته.
" * (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) *) في الرخاء والبلاء. ثم ذكر المؤمنين وتصديقهم بوعود الله تعالى فقال: " * (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا) *) تسليما لأمر الله وتصديقا لوعده " * (هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله) *).
ووعد الله تعالى إياهم قوله: " * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) *) إلى قوله: " * (ألا إن نصر الله قريب) *).
" * (وما زادهم) *) ذلك " * (إلا إيمانا وتسليما) *).
22

قوله: " * (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) *) فوفوا به " * (فمنهم من قضى نحبه) *) يعني فرغ من نذره ووفى بعهده فصبر على الجهاد حتى استشهد، والنحب النذر، والنحب أيضا الموت. قال ذو الرمة:
عشية فر الحارثيون بعدما
قضى نحبه من ملتقى القوم هوبر
أي مات. قال مقاتل: قضى نحبه يعني أجله، فقتل على الوفاء، يعني حمزة وأصحابه. وقيل: قضى نحبه أي (أجهده) في الوفاء بعهده من قول العرب: نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع (إذا مد) فلم ينزل. قال جرير:
(بطخفة) جالدنا الملوك وخيلنا
عشية بسطام جرين على نحب
" * (ومنهم من ينتظر) *) الشهادة " * (وما بدلوا) *) قولهم وعهدهم ونذرهم " * (تبديلا) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا نهر بن أسد عن سليمان بن المغيرة عن أنس قال: وأخبرنا أحمد بن عبد الله المرني، عن محمد بن عبد الله بن سليمان، عن محمد بن العلاء عن عبد الله بن بكر السهمي، عن حميد عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر وبه سميت أنس عن قتال بدر فشق عليه لما قدم وقال: غبت عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه، والله لئن أشهدني الله عز وجل قتالا ليرين الله ما أصنع.
قال: فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أبرء إليك مما جاء به هؤلاء المشركون، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، ثم مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد.
قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس، فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وقد مثلوا به، وما عرفناه حتى عرفته أخته بثناياه، ونزلت هذه الآية " * (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) *).
قال: فكنا نقول: نزلت فيه هذه الآية وفي أصحابه. وأخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد ابن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد الترمذي، عن صالح بن محمد، عن سليمان بن
23

حرب، عن حزم، عن عروة عن عائشة في قوله: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر قالت: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلى الله عليه حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه: أوجب طلحة الجنة.
وبإسناده عن صالح عن مسلم بن خالد عن عبد الله بن أبي نجيح أن طلحة بن عبيد الله يوم أحد كان محتصنا للنبي (عليه السلام) في الخيل وقد بهر النبي صلى الله عليه قال: فجاء سهم عابر متوجها إلى النبي صلى الله عليه فاتقاه طلحة بيده فأصاب خنصره فقال: (حس) ثم قال: بسم الله، فقال النبي (عليه السلام): (لو أن بها بدأت لتخطفتك الملائكة حتى تدخلك الجنة).
وروى معاوية بن إسحاق، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: إني لفي بيتي ورسول الله صلى الله عليه وأصحابه في الفناء وبيني وبينهم الستر إذ أقبل طلحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة).
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد بن سليمان بن بابويه بن قهرويه قال: أخبرني أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن عبدالجبار الصوفي، عن محمد ابن عباد الواسطي، عن مكي بن إبراهيم، عن الصلت بن دينار، عن ابن نضر، عن جابر، عن أبي عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: (من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله).
" * (ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا) *) من قريش وغطفان " * (بغيظهم لم ينالوا خيرا) *) نصرا وظفرا " * (وكفى الله المؤمنين القتال) *) بالملائكة والريح " * (وكان الله قويا عزيزا) *).
قوله عز وجل: " * (وأنزل الذين ظاهروهم) *) يعني عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان وهم بنو قريظة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم، وانصرف (عليه السلام) والمسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة، ووضعوا السلاح، فلما كان الظهر أتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه (معتما) بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش، وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقة فقال: قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال
24

نعم، قال جبرائيل: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة (وأنا عامد إلى بني قريظة) فانهض إليهم، فإني قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا، فأذن إن من كان سامعا مطيعا لا يصلين العصر إلا في بني قريظة.
وقدم رسول الله صلى الله عليه علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس؛ فسار علي ابن أبي طالب حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة (على) رسول الله صلى الله عليه منهم، فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه بالطريق وقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث.
قال: لم؟ أظنك سمعت لي منهم أذى. قال: نعم يا رسول الله، قال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا.
ومر رسول الله صلى الله عليه على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال: هل مر بكم أحد؟ فقالوا: يا رسول الله لقد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك جبرائيل بعث إلى بني قريظة، يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها يراقا، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، فصلوا العصر بها بعد صلاة العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك في كتابه، ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وحاصرهم رسول الله خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وقال كعب بن أسد بما كان عاهده، فلما أيقنوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر اليهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاث، فخذوا أيها شئتم، فقالوا: وما هن؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه للذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا
25

مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء، فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين فلا خير في العيش بعدهم.
قال: فإن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت، وأنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة، قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ممن قد علمت، فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه بليلة واحدة من الدهر حازما. قال: ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال ونهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنه الذبح.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت، وعاهد الله لا يطأ بني قريظة، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، ثم إن الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة وقالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه من السحر يضحك فقلت: مم ضحكت يا رسول الله أضحك الله سنك؟
قال: تيب على أبي لبابة، فقالت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئت قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب الحجاب عليهن. فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال: فسار إليه الناس ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده. فلما مر عليه خارجا إلى الصبح أطلقه.
قال: ثم إن ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هزل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك وهم بنو عم القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي، فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري في تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا؟ قال: عمرو بن سعدي، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وقال: لا أغدر بمحمد أبدا، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمني
26

عثرات الكرام، ثم خلى سبيله، فخرج على وجهه، حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب فلا يدرى أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا، فذكر لرسول الله صلى الله عليه شأنه فقال: ذاك رجل نجاه الله بوفائه.
وبعض الناس يزعم أنه أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه، فأصبحت رمته ملقاة لا يدرى أين ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه تلك المقالة والله أعلم.
فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول الله صلى الله عليه قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه فسألهم إياه عبد الله بن أبي سلول فوهبهم له، فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم)؟ قالوا: بلى.
قال: (فذلك إلى سعد بن معاذ)). وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من المسلمين، يقال لها (رفيدة) في مسجده، وكانت
تداوي الجرحى، وتحبس نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. وكان رسول الله صلى الله عليه قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: (اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب).
فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه فاحتملوه على حمار، وقد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في موإليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذاك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: قد أتى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه إلى دار بني عبد الأشهل فنعي لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.
فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه قال: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه. فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلي من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم.
قال سعد: فإني أحكم فيهم، أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى النساء والذراري،
27

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خندقا ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم، فهم في تلك الخنادق يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدو الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر لهم يقول: كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة.
وقيل: قالوا لكعب بن أسد وهو يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب ما ترى أن يصنع بنا؟ فقال كعب: في كل موطن لا تعقلون ألا ترون أن الداعي لا ينزع وأن من يذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل. فلم يزل ذلك دأبهم حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وأتي بحيي بن أخطب عدو الله وعليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة (أنملة أنملة) لئلا يسلبها، مجموعه يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه فقال هبل بن حواس (الثعلبي):
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه
ولكنه من يخذل الله يخذل
يجاهد حتى أبلغ النفس عذرها
وقلقل يغبي العز كل مقلقل
وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت: لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة، قالت: والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا، ورسول الله صلى الله عليه يقتل رجالهم بالسوق؛ إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله. قالت: قلت: ويلك ما لك؟ قالت: أقتل. قلت: ولم؟ قالت: حدث أحدثته. قال: فانطلق بها فضربت عنقها، وكانت عائشة تقول: ما أنسى كذا عجبا منها طيب نفس، وكثرة ضحك، وقد عرفت أنها تقتل.
قال الواقدي: واسم تلك المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي، وكانت قد قتلت خلاد بن سويد، رمت عليه رحا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وضربت عنقها بخلاد بن سويد، وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس هناك.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطا القرظي وكان يكنى أبا عبد الرحمن كان قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بغاث أخذه فجر ناصيته، ثم خلى سبيله، وجاءه يوم قريظة، وهو شيخ كبير فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟
28

فقال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال: إني قد أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم، قال: ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه فقال: يا رسول الله قد كان للزبير عندي يد وله علي منة، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه، فقال رسول الله صلى الله عليه: (هو لك).
فأتاه فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك. فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أهله وولده؟ فقال: (هم لك). فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك. فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله فقال: يا رسول الله ماله. فقال: هو لك، فأتاه فقال: إن رسول الله قد أعطاني مالك فهو لك. فقال أي ثابت: ما فعل الذي كأن وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد قال: قتل. قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قال: قتل. قال: فما فعل مقدمنا إذا شددنا، وحامينا إذا كررنا أعزال ابن سموأل؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة، قال: ذهبوا قتلوا، قال: وإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فها أنا صابر لله حتى ألقى الأحبة، فقدمه ثابت فضرب عنقه، فلما بلغ قوله أبا بكر ألقى الأحبة، فقال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا، فقال ثابت بن قيس في ذلك:
وفت ذمتي إني كريم وإنني
صبور إذا ما القوم حادوا عن الصبر
وكان زبير أعظم الناس منة
علي فلما شد كوعاه بالأسر
أتيت رسول الله كي ما أفكه
وكان رسول الله بحرا لنا يجري
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه قد أمر بقتل من أسر منهم، فسألته سليمى بنت قيس أم المنذر أخت سليط بن قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وكانت قد صلت معه القبلتين وبايعته بيعة النساء رفاعة بن سموأل القرظي وكان رجلا قد بلغ، فلاذ بها وكان يعرفها قبل ذلك فقالت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي هب لي رفاعة بن سموأل، فإنه زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها (فاستحيته) قالوا: ثم إن رسول الله صلى الله عليه قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان للخيل وسهمان للرجال، وأخرج منها الخمس، وكان للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان وللفارس سهم، وللراجل ممن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل يوم بني قريظة ستة وثلاثون فرسا،
29

وكان أول فيء وقع فيه السهمان، وأخرج منه الخمس فعلى سنتها وما مضى من رسول الله فيها وقعت المقاسم ومضت السنة في المغازي، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلا وسلاحا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن حنافة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة فكانت عند رسول الله صلى الله عليه حتى توفي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه يحرص أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها، وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله صلى الله عليه ووجد في نفسه بذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك.
فلما انقضى شأن بني قريظة الفجر خرج سعد بن معاذ، وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال: اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي من أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضرب عليه في المسجد.
قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي، قالت: وكانوا كما قال الله عز وجل: " * (رحماء بينهم) *).
قال علقمة: (أي أمه) كيف كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنه كان إذا اشتد وجده فإنما هو آخذ بلحيته، قال محمد بن إسحاق: لم يقتل من المسلمين يوم الخندق إلا ستة نفر، وقتل من المشركين ثلاثة نفر، وقتل يوم قريظة من المسلمين خلاد بن سويد بن ثعلبة طرحت عليه رحى فشدخته فقط.
ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه من الخندق وقريظة قال: الآن نغزوهم يعني قريشا ولا يغزوننا، فكان كذلك حتى فتح الله على رسوله مكة، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس للهجرة فذلك قوله الله عز وجل: " * (وأنزل الذين ظهرهم من أهل الكتاب
30

من صياصيهم) *) أي حصونهم ومعاقلهم، واحدها صيصية، ومنه قيل لقرن البقر صيصية، ولشوكة الديك والحاكة صيصية، وقال الشاعر:
كوقع الصياصي في النسيج الممدد
" * (وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون) *) وهم الرجال " * (وتأسرون فريقا) *) وهم النساء والذراري " * (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها) *) بعد. قال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني خيبر. قتادة: كنا نحدث أنها مكة. قال الحسن: فارس والروم. عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. " * (وكان الله على كل شيء قديرا) *))
.
* (ياأيها النبى قل لازواجك إن كنتن تردن الحيواة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الاخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما * يانسآء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتهآ أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما * يانسآء النبى لستن كأحد من النسآء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى فى قلبه مرض وقلن قولا معروفا) *) 2
قوله: " * (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن) *) متعة الطلاق " * (وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة) *) فأطعتنهما " * (فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) *) قال المفسرون: كان أزواج النبي صلى الله عليه سألنه شيئا من عرض الدنيا وآذينه بزيادة النفقة والغيرة، فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى أن لا يقربهن شهرا، ولم يخرج إلى أصحابه صلوات، فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن شئتم لأعلمن لكم ما شأنه، فأتى النبي (عليه السلام) فجعل يتكلم ويرفع صوته حتى أذن له، قال: فجعلت أقول في نفسي: أي شيء أكلم به رسول الله صلى الله عليه لعله
ينبسط؟ فقلت: يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة، فصككتها صكة فقال: ذلك أجلسني عنكم.
فأتى عمر حفصة فقال: لا تسألي رسول الله شيئا ما كانت لك من حاجة فإلي، قال: ثم تتبع نساء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يكلمهن، فقال لعائشة: أيعزك أنك امرأة حسناء وأن زوجك يحبك لتنتهن أو لينزلن فيكن القرآن، قال: فقالت له أم سلمة: يا بن الخطاب أوما بقي لك إلا أن تدخل بين رسول الله وبين نسائه؟ من يسأل المرأة إلا زوجها؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآيات.
وكانت تحت رسول الله صلى الله عليه يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش عائشة بنت أبي
31

بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وصفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحرث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحرث المصطلقية، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه بعائشة، وكانت أحبهن إليه، فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وتابعنها على ذلك.
قال قتادة: فلما اخترن الله ورسوله، شكرهن الله على ذلك، وقصره عليهن وقال: (لا يحل لك النساء من بعد) الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن الحسين عن أحمد بن يوسف عن عبدالرزاق عن معمر، أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لما مضت تسع وعشرون ليلة دخل علي رسول الله صلى الله عليه فقلت: يا رسول الله، إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك قد دخلت علي من تسع وعشرين أعدهن، فقال: إن الشهر تسع وعشرون، ثم قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: ثم قرأ علي هذه الآية: " * (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا) *) حتى بلغ " * (أجرا عظيما) *).
قالت عائشة: قد علم والله إن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: في هذا أستامر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قال معمر: فحدثني أيوب أن عائشة قالت: لا تخبر أزواجك اني اخترتك، فقال النبي صلى الله عليه: إنما بعثني الله مبلغا ولم يبعثني متعنتا.
وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون عن (أحمد بن محمد بن الحسن) عن محمد بن يحيى عن عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري عن (أبي) سلمة أن عائشة قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: إني مخبرك خبرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، ثم قال: إن الله عز وجل قال: " * (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا) *) حتى بلغ " * (أجرا عظيما) *).
فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه مثل ما فعلت.
قوله: " * (يا نساء النبي من يأت منكن) *) قرأ الجحدري بالتاء. غيره بالياء. " * (بفاحشة مبينة) *) بمعصية ظاهرة " * (يضاعف لها العذاب) *) في الآخرة " * (ضعفين) *) وقرأ ابن عامر وابن كثير: " * (نضعف) *) بالنون وكسر العين مشددا من غير ألف (العذاب) نصبا
32

وقرأ أبو عمرو ويعقوب " * (يضعف) *) بالياء وفتح العين مشددا " * (العذاب) *) رفعا. قال أبو عمرو: إنما قرأت هذه وحدها بالتشديد لقوله: " * (ضعفين) *) وقرأ الباقون نضاعف بالألف ورفع الباء من " * (العذاب) *) وهما لغتان مثل باعد وبعد.
وقال أبو عمرو وأبو عبيدة: ضعفت الشيء إذا جعلته مثله، ومضاعفته جعلته أمثاله.
" * (وكان ذلك على الله يسيرا) *) قوله: " * (ومن يقنت) *) يطع.
قال قتادة: كل قنوت في القرآن فهو طاعة (وقراءة العامة " * (تقنت) *) بالتاء) وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف (تعمل) (نؤتها) بالياء. غيرهم بالتاء.
قال الفراء: إنما قال (يأت) (ويقنت) لان من أداة تقوم مقام الاسم يعبر به عن الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. قال الله تعالى: " * (ومنهم من ينظر إليك) *). وقال: " * (ومنهم من يستمعون إليك) *)، وقال: " * (ومن يقنت منكن لله) *). وقال الفرزدق في الاثنين:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني
تكن مثل من يا ذئب يصطحبان
" * (منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين) *) أي مثلي غيرهن من النساء. " * (وأعتدنا لها رزقا كريما) *) يعني الجنة.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه، عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن محمد بن عمران بن هارون، عن أحمد بن منيع، عن يزيد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت عن أبي رافع قال: كان عمر يقرأ في صلاة الغداة بسورة يوسف والأحزاب، فإذا بلغ: " * (يا نساء النبي) *) رفع بها صوته، فقيل له، فقال: أذكرهن العهد.
واختلف العلماء في حكم التخيير، فقال عمر وابن مسعود: إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها فلا شيء عليه، وإن اختارت نفسها (طلقت) وإلى هذا ذهب مالك.
وقال الشافعي: إن نوى الطلاق في التخيير كان طلاقا وإلا فلا. واحتج من لم يجعل التخيير بنفسه طلاقا، بقوله: " * (وأسرحكن سراحا جميلا) *)، وبقول عائشة: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم نعده طلاقا.
33

قوله: " * (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن) *) الله فأطعتنه. قال الفراء: لم يقل كواحدة، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر
والمؤنث. قال الله تعالى: " * (لا نفرق بين أحد من رسله) *) وقال: * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * * (فلا تخضعن) *) تلن " * (بالقول) *) للرجال " * (فيطمع الذي في قلبه مرض) *) أي فجور وضعف إيمان " * (وقلن قولا معروفا) *) صحيحا جميلا.
(* (وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلواة وءاتين الزكواة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *) 2
" * (وقرن في بيوتكن) *) قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم بفتح القاف. غيرهم بالكسر، فمن فتح القاف فمعناه واقررن، أي الزمن بيوتكن، من قولك قررت في المكان، أقر قرارا. وقررت أقر لغتان فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل ونقلت حركتها إلى القاف فانفتحت كقولهم في ظللت وظلت.
قال الله تعالى: * (فظلتم تفكهون) * * (ظلت عليه عاكفا) *) والأصل ظللت فحذفت إحدى اللامين، ودليل هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة واقررن بفتح الراء على الأصل في لغة من يقول: قررت أقر قرارا.
وقال أبو عبيدة: وكان أشياخنا من أهل العربية ينكرون هذه القراءة وهي جائزة عندنا مثل قوله: " * (فظلتم) *) ومن كسر القاف فهو أمر من الوقار كقولك من الوعد: عدن ومن الوصل صلن، أي كن أهل وقار أي هدوء وسكون وتؤدة من قولهم: وقر فلان يقر وقورا إذا سكن واطمأن.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري قال: أخبرني أبو بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش عن أبي الضحى قال: حدثني من سمع عائشة تقرأ " * (وقرن في بيوتكن) *) فتبكي حتى تبل خمارها.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن خالد، عن داود بن سليمان، عن عبد الله بن حميد، عن يزيد بن هارون، عن هشام، عن محمد قال: نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي (عليه السلام): مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعلن أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت.
34

قال: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. قوله: " * (ولا تبرجن) *) قال مجاهد وقتادة: التبرج التبختر التكبر والتغنج وقيل: هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال " * (تبرج الجاهلية الأولى) *) واختلفوا فيها. قال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمد (عليهما السلام). أبو العالية: هي زمن داود وسليمان وكانت المرأة تلبس قميصا من الدر غير مخيط الجانبين فيرى خلفها فيه.
الكلبي: الجاهلية التي هي الزمان الذي فيه ولد إبراهيم (عليه السلام)، وكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ثم تمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره، وتعرض نفسها على الرجال، وكان ذلك في زمان نمرود الجبار، والناس حينئذ كلهم كفار. الحكم: هي ما بين آدم ونوح ثمانمائة سنة، وكان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان. فكانت المرأة تريد الرجل على نفسها.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية فقال: إن الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس (عليهما السلام)، وكانت ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام، فآجر نفسه منه، فكان يخدمه، واتخذ إبليس شيئا مثل الذي يزمر فيه الرعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم، فانتابوه يستمعون إليه، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة، فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن، وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم، وهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم، فظهرت الفاحشة فيهن. فهو قول الله عز وجل: " * (ولا تبرجن تبرج الجهلية) *).
وقال قتادة: هي ما قبل الإسلام " * (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) *) الإثم الذي نهى الله النساء عنه. قاله مقاتل. وقال قتادة: يعني السوء. وقال ابن زيد: يعني الشيطان.
" * (أهل البيت) *) يعني يا أهل بيت محمد " * (ويطهركم تطهيرا) *) من نجاسات الجاهلية. وقال مجاهد (الرجس) الشك (ويطهركم تطهيرا) من الشرك.
واختلفوا في المعني بقوله سبحانه " * (أهل البيت) *) فقال قوم: عنى به أزواج النبي (عليه السلام) خاصة، وإنما ذكر الخطاب لأن رسول الله صلى الله عليه كان فيهم وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر.
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن جعفر، عن الحسن بن علي بن عفان قال: أخبرني أبو يحيى، عن صالح بن موسى عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزلت
35

هذه الآية: " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) *) الآية في نساء النبي صلى الله عليه. قال: وتلا عبد الله: " * (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) *).
وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، عن أحمد بن نجدة عن الحماني عن ابن المبارك عن الأصبغ بن علقمة. وأنبأني عقيل بن محمد قال: أخبرني المعافى ابن زكريا عن محمد بن جرير قال: أخبرني (ابن) حميد عن يحيى بن واضح عن الأصبغ بن علقمة، عن عكرمة في قول الله تعالى: " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) *) قال: ليس الذي تذهبون إليه، إنما هو في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
قال: وكان عكرمة ينادي بهذا في السوق. وإلى هذا ذهب مقاتل قال: يعني نساء النبي صلى الله عليه كلهن ليس معهن رجل.
أقوال المفسرين والعلماء باختصاصها بأصحاب الكساء
قال أبو بكر النقاش في تفسيره: أجمع أكثر أهل التفسير أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم (جواهر العقدين: 198 الباب الأول، وتفسير آية المودة: 112).
وقال سيدي محمد بن أحمد بنيس في شرح همزية البوصيري: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) أكثر المفسرين أنها نزلت في علي وفاطمة والحسنين رضي الله عنهم (لوامع أنوار الكوكب الدري: 2 86).
وقال العلامة سيدي محمد جسوس في شرح الشمائل: (... ثم جاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معهم، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله ثم قال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)) وفي ذلك إشارة إلى أنهم المراد بأهل البيت في الآية) (شرح الشمائل المحمدية: 1 107 ذيل باب ما جاء في لباس رسول الله).
وقال السمهودي: وقالت فرقة، منهم الكلبي: هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، للأحاديث المتقدمة (جواهر العقدين: 198 الباب الأول).
وقال الطحاوي في مشكل الآثار بعد ذكر أحاديث الكساء: فدل ما روينا في هذه الآثار مما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أم سلمة مما ذكرنا فيها، لم يرد أنها كانت
36

مما أريد به مما في الآية المتلوة في هذا الباب، وأن المراد بما فيها هم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين دون ما سواهم (مشكل الآثار: 1 230 ح 782 باب 106 ما روي عن النبي في الآية).
وقال بعد ذكر أحاديث تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم الآية على باب فاطمة: في هذا أيضا دليل على أن هذه فيهم (مشكل الآثار: 1 231 ح 785 باب 106 ما روي عن النبي في الآية).
وقال الفخر الرازي: وأنا أقول: آل محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل، ولا شك أن فاطمة وعليا والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر؛ فوجب أن يكونوا هم الآل.
أيضا اختلف الناس في الآل، فقيل: هم الأقارب، وقيل: هم امته، فإن حملناه على القرابة فهم الآل، وإن حملناه على الأمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل؛ فثبت أن على جميع التقديرات هم الآل، وأما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟
فمختلف فيه، وروى صاحب الكشاف أنه لما نزلت هذه الآية (المودة) قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟
فقال صلى الله عليه وسلم: (علي وفاطمة وابناهما)، فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ويدل عليه وجوه..) الخ (تفسير الفخر الرازي: 27 166 مورد آية المودة من سورة الشورى).
وقال في موضع آخر: واختلفت الأقوال في أهل البيت، والأولى أن يقال: هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي منهم؛ لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته بنت النبي وملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم (تفسير الفخر الرازي: 25 209).
وقال أبو بكر الحضرمي في رشفة الصادي: (والذي قال به الجماهير من العلماء، وقطع به أكابر الأئمة، وقامت به البراهين وتظافرت به الأدلة أن أهل البيت المرادين في الآية هم سيدنا علي وفاطمة وابناهما... وما كان تخصيصهم بذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا عن أمر إلهي ووحي سماوي... والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وبما أوردته منها يعلم قطعا أن المراد بأهل البيت في الآية هم علي وفاطمة وابناهما رضوان الله عليهم، ولا التفات إلى ما ذكره صاحب روح البيان من أن تخصيص الخمسة المذكورين عليهم السلام بكونهم أهل البيت من أقوال الشيعة، لأن ذلك محض تهور يقتضي بالعجب، وبما سبق من الأحاديث وما في كتب أهل السنة السنية يسفر الصبح لذي عينين إلى أن يقول وقد أجمعت الأمة على ذلك فلا حاجة
37

لإطالة الاستدلال له) (رشفة الصادي من بحر فضائل بني النبي الهادي: 13 14 16 ط. مصر و 23 و 40 ط. بيروت الباب الأول ذكر تفضيلهم بما أنزل الله في حقهم من الآيات).
وقال ابن حجر: " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *) (الأحزاب: 33) أكثر المفسرين على أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (الصواعق المحرقة: 143 ط. مصر، وط. بيروت: 220 الباب الحادي عشر، في الآيات الواردة فيهم، الآية الأولى).
وقال في موضع آخر بعد تصحيح الصلاة على الآل:.. فالمراد بأهل البيت فيها وفي كل ما جاء في فضلهم أو فضل الآل أو ذوي القربى جميع آله صلى الله عليه وسلم وهم مؤمنو بني هاشم والمطلب، وبه يعلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك كله (مراده الروايات التي حذفت الآل كما في الصحيحين، والروايات التي أثبتت الآل) فحفظ بعض الرواة مالم يحفظه الآخر، ثم عطف الأزواج والذرية على الآل في كثير من الروايات يقتضي أنهما ليسا من الآل، وهو واضح في الأزواج بناء على الأصح في الآل أنهم مؤمنو بني هاشم والمطلب، وأما الذرية فمن الآل على سائر الأقوال، فذكرهم بعد الآل للإشارة إلى عظيم شرفهم (الصواعق المحرقة: 146 ط. مصر و 224 225 ط. بيروت، باب 11، الآيات النازلة فيهم الآية الثانية).
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وأما قوله في الرواية الأخرى: (نساؤه من أهل البيت ولكن أهل بيته من حرم الصدقة).
قال: وفي الرواية الأخرى: (فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا).
فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال: (نساؤه لسن من أهل بيته)، فتتأول الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين يسكنونه ويعولهم... ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة (صحيح مسلم بشرح النووي: 15 175 ح 6175 كتاب الفضائل فضائل علي).
وقال السمهودي: وحكى النووي في شرح المهذب وجها آخر لأصحابنا: أنهم عترته الذين ينسبون إليه صلى الله عليه وسلم قال: وهم أولاد فاطمة ونسلهم أبدا، حكاه الأزهري وآخرون عنه. انتهى.
وحكاه بعضهم بزيادة أدخل الأزواج (جواهر العقدين: 211 الباب الأول، وبهامشه: شرح المهذب: 3 448).
وقال الإمام مجد الدين الفيروزآبادي: المسألة العاشرة: هل يدخل في مثل هذا الخطاب (الصلاة على النبي) النساء؟ ذهب جمهور الأصوليين أنهن لا يدخلن، ونص عليه
38

الشافعي، وانتقد عليه، وخطىء المنتقد (الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر: 32 الباب الأول).
وقال الملا علي القاري: الأصح أن فضل أبنائهم على ترتيب فضل آبائهم إلا أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنهم يفضلون على أولاد أبي بكر وعمر وعثمان؛ لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهم العترة الطاهرة والذرية الطيبة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (شرح كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة: 210 مسألة في تفضيل أولاد الصحابة).
وقال السمهودي بعد ذكر الأحاديث في إقامة النبي آله مقام نفسه وذكر آية المباهلة وأنها فيهم: وهؤلاء هم أهل الكساء، فهم المراد من الآيتين (المباهلة والتطهير) (جواهر العقدين: 204 الباب الأول).
وقال الحمزاوي: واستدل القائل على عدم العموم بما روي من طرق صحيحة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين..) وذكر أحاديث الكساء، إلى أن قال: ويحتمل أن التخصيص بالكساء لهؤلاء الأربع لأمر إلهي يدل له حديث أم سلمة، قالت: (فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي) (مشارق الأنوار للحمزاوي: 113 الفصل الخامس من الباب الثالث فضل أهل البيت).
وقال القسطلاني: ان الراجح أنهم من حرمت عليهم الصدقة، كما نص عليه الشافعي واختاره الجمهور ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة، وقيل المراد بآل محمد أزواجه وذريته.
ثم ذكر بعد ذلك كلام ابن عطية فقال: الجمهور على أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين وحجتهم (عنكم ويطهركم) بالميم (المواهب اللدنية: 2 517 529 الفصل الثاني من المقصد السابع).
وقال أبو منصور ابن عساكر الشافعي: بعد ذكر قول أم سلمة: (وأهل البيت رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين) هذا حديث صحيح... والآية نزلت خاصة في هؤلاء المذكورين (كتاب الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين: 106 ح 36 ذكر ما ورد في فضلهن جميعا).
وقال ابن بلبان (المتوفى 739 ه) في ترتيب صحيح ابن حبان: ذكر الخبر المصرح بأن هؤلاء الأربع الذين تقدم ذكرنا لهم هم أهل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم ذكر حديث نزول الآية فيهم عن واثلة (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: 9 61 ح 6937 كتاب المناقب، ويأتي الحديث بتمامه).
39

وقال ابن الصباغ من فصوله: أهل البيت على ما ذكر المفسرون في تفسير آية المباهلة، وعلى ما روي عن أم سلمة: هم النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين (مقدمة المؤلف: 22).
وقال الحاكم النيشابوري بعد حديث الكساء والصلاة على الآل وأنه فيهم: إنما خرجته ليعلم المستفيد أن أهل البيت والآل جميعا هم (المستدرك: 3 148 كتاب المعرفة ذكر مناقب أهل البيت (عليهم السلام)).
وقال الحافظ الكنجي: الصحيح أن أهل البيت علي وفاطمة والحسنان (كفاية الطالب: 54 الباب الأول).
وقال القندوزي في ينابيعه: أكثر المفسرين على أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين لتذكير ضمير عنكم ويطهركم (ينابيع المودة: 1 294 ط. إسلامبول 1301 ه و 352 ط. النجف، باب 59 الفصل الرابع).
وقال محب الدين الطبري: باب في بيان أن فاطمة والحسن والحسين هم أهل البيت المشار إليهم في قوله تعالى: " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *) وتجليله صلى الله عليه وسلم إياهم بكساء ودعائه لهم (ذخائر العقبى: 21).
وقال السخاوي في القول البديع في بيان صيغة الصلاة في التشهد: فالمرجع أنهم من حرمت عليهم الصدقة، وذكر أنه اختيار الجمهور ونص الشافعي، وأن مذهب أحمد أنهم أهل البيت، وقيل: المراد أزواجه وذريته... (عن هامش الصواعق المحرقة لعبد الوهاب عبد اللطيف: 146 ط. مصر 1385 ه).
وقال القاسمي: ولكن هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين هما روايتان عن أحمد: أحدهما أنهن لسن من أهل البيت، ويروى هذا عن زيد بن أرقم (تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل: 13 4854 مورد الآية ط. مصر عيسى الحلبي).
وقال الآلوسي: وأنت تعلم أن ظاهر ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: (إني تارك فيكم خليفتين وفي رواية ثقلين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض
وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض). يقتضي أن النساء المطهرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثقلين (تفسير روح المعاني: 12 24 مورد الآية).
وقال الشاعر الحسن بن علي بن جابر الهبل في ديوانه: آل النبي هم أتباع ملته من مؤمني رهطه الأدنون في النسبهذا مقال ابن إدريس الذي روت ال أعلام عنه فمل عن منهج الكذبوعندنا أنهم أبناء فاطمة وهو الصحيح بلا شك ولا ريب. (جناية الأكوع: 28) وقال
40

الحافظ البدخشاني: وآل العباء عبارة عن هؤلاء لأنه صح عن عائشة وأم سلمة وغيرهما بروايات كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل هؤلاء الأربعة بكساء كان عليه، ثم قال: " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *).
وقال توفيق أبو علم: فالرأي عندي أن أهل البيت هم أهل الكساء: علي وفاطمة والحسن والحسين ومن خرج من سلالة الزهراء وأبي الحسنين رضي الله عنهم أجمعين (أهل البيت: 92 ذيل الباب الأول، و: 8 المقدمة).
وقال في موضع الرد على عبد العزيز البخاري: أما قوله: إن آية التطهير المقصود منها الأزواج، فقد أوضحنا بما لا مزيد عليه أن المقصود من أهل البيت هم العترة الطاهرة لا الأزواج (أهل البيت: 35 الباب الأول).
وقال: وأما ما يتمسك به الفريق الأعم والأكبر من المفسرين فيتجلى فيما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت هذه الآية في خمسة في وفي علي وحسن وحسين وفاطمة) (أهل البيت: 13 الباب الأول).
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول في الرد على من قال أنها مختصة بالنساء: ويجاب عن هذا بأنه قد ورد بالدليل الصحيح أنها نزلت في علي وفاطمة والحسنين (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الأصول: 83 البحث الثامن من المقصد الثالث، وأهل البيت لتوفيق أبو علم: 36 الباب الأول).
وقال أحمد بن محمد الشامي: وقد أجمعت امهات كتب السنة وجميع كتب الشيعة على أن المراد بأهل البيت في آية التطهير النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين؛ لأنهم الذين فسر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلمالمراد بأهل البيت في الآية، وكل قول يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد أو قريب مضروب به عرض الحائط، وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلمأولى من تفسير غيره؛ إذ لا أحد أعرف منه بمراد ربه (جناية الأكوع: 125 الفصل السادس).
وقال الشيخ الشبلنجي: هذا ويشهد للقول بأنهم علي وفاطمة والحسن والحسين ما وقع منه صلى الله عليه وسلم حين أراد المباهلة، هو ووفد نجران كما ذكره المفسرون (نور الأبصار: 122 ط. الهند و 223 ط. قم، الباب الثاني مناقب الحسن والحسين).
وقال الشيخ السندي في كتابه (دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب): وهذا التحقيق في تفسير (أهل البيت) يعين المراد منهم في آية التطهير؛ مع نصوص كثيرة من الأحاديث الصحاح المنادية على أن المراد منهم الخمسة الطاهرة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين؛ ولنا وريقات في تحقيق ذلك مجلد في دفترنا يجب على طالب الحق الرجوع إليه (عنه
41

عبقات الأنوار: 1 350 ط. قم، و 911 ط. إصبهان قسم حديث الثقلين).
وقال الرفاعي: وقيل علي وفاطمة وابناهما، وهو المعتمد الذي عليه جمهور العلماء (المشرع الروي: 1 17).
وقال الدكتور عباس العقاد: واختلف المفسرون فيمن هم أهل البيت:
أما الفخر الرازي في تفسيره (6 783)، والزمخشري في كشافه، والقرطبي في تفسيره، وفتح القدير للشوكاني، والطبري في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور (5 169)، وابن حجر العسقلاني في الإصابة (4 407)، والحاكم في المستدرك، والذهبي في تلخيصه (3 146)، والإمام أحمد في الجزء الثالث صفحة: 259؛ فقد قالوا جميعا: إن أهل البيت هم علي والسيدة فاطمة الزهراء والحسن والحسين رضي الله عنهم. وأخذ بذكر الأدلة. (فاطمة الزهراء للعقاد: 70 ط. مصر دار المعارف الطبعة الثالثة.).
وقال آخرون: عنى به رسول الله صلى الله عليه عليا وفاطمة والحسن والحسين ج.
وأخبرني عقيل بن محمد الجرجاني عن المعافى بن زكريا البغدادي، عن محمد بن جرير، حدثني بن المثنى عن بكر بن يحيى بن ريان الغبري، عن مسدل، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نزلت هذه الآية في وفي علي وحسن وحسين وفاطمة " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *)).
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن أبي عبد الله بن نمير، عن عبد الملك يعني ابن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، حدثني من سمع أم سلمة تذكر أن النبيي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة وهو على منامة له على دكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة أصلي فأنزل الله تعالى هذه الآية: " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *).
قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت: فأدخلت
رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنك إلى خير، إنك إلى خير.
وأخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله الثقفي، عن عمر بن الخطاب، عن عبد الله بن الفضل، عن الحسن بن علي، عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، حدثني ابن عم لي
42

من بني الحرث بن تيم الله يقال له: (مجمع)، قال: دخلت مع أمي على عائشة، فسألتها أمي، فقالت: أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: إنه كان قدرا من الله سبحانه، فسألتها عن علي، فقالت: تسأليني عن أحب الناس كان إلى رسول الله صلى الله عليه، وزوج أحب الناس كان إلى رسول الله، لقد رأيت عليا وفاطمة وحسنا وحسينا جمع رسول الله صلى الله عليه بثوب عليهم ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
قالت: فقلت: يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال: تنحي فإنك إلى خير.
وأخبرني الحسين بن محمد عن أبي حبيش المقرئ قال: أخبرني أبو القاسم المقرئ قال: أخبرني أبو زرعة، حدثني عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة، أخبرني ابن أبي فديك حدثني ابن أبي مليكة عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر الطيار عن أبيه، قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرحمة هابطة من السماء قال: من يدعو؟ مرتين، فقالت زينب: أنا يا رسول الله، فقال: أدعي لي عليا وفاطمة والحسن والحسين. قال: فجعل حسنا عن يمناه وحسينا عن يسراه وعليا وفاطمة وجاهه ثم غشاهم كساء خيبريا. ثم قال: اللهم لكل نبي أهل، وهؤلاء أهلي، فأنزل الله عز وجل: " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) *) الآية.
فقالت زينب: يا رسول الله ألا أدخل معكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه: (مكانك فإنك إلى خير إن شاء الله).
وأخبرني الحسين بن محمد عن عمر بن الخطاب عن عبد الله بن الفضل قال: أخبرني أبو بكر بن أبي شيبة عن محمد بن مصعب عن الأوزاعي، عن عبد الله بن أبي عمار قال: دخلت على وائلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا عليا فشتموه فشتمته، فلما قاموا قال لي: أشتمت هذا الرجل؟ قلت: قد رأيت القوم قد شتموه فشتمته معهم.
فقال: ألا أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه؟ قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة أسألها عن علي فقالت: توجه إلى رسول الله صلى الله عليه فجلست فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي والحسن والحسين كل واحد منهما آخذ بيده حتى دخل، فأدنى عليا وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه أو قال كساءه، ثم تلا هذه الآية: " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *) ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق.
43

وقيل: هم بنو هاشم. أخبرني ابن فنجويه عن ابن حبيش المقرئ عن محمد بن عمران قال: حدثنا أبو كريب قال: أخبرني وكيع عن أبيه عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدكم الله في أهل بيتي مرتين، قلنا لزيد بن أرقم ومن أهل بيته؟ قال: الذين يحرمون الصدقة آل علي وآل عباس وآل عقيل وآل جعفر.
وأخبرني أبو عبد الله، قال: أخبرني أبو سعيد أحمد بن علي بن عمر بن حبيش الرازي عن أحمد بن عبد الرحمن الشبلي أبو عبد الرحمن قال: أخبرني أبو كريب عن معاوية بن هشام عن يونس بن أبي إسحاق عن نفيع أبي داود عن أبي الحمراء قال: أقمت بالمدينة تسعة أشهر كيوم واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه يجيء كل غداة فيقوم على باب علي وفاطمة فيقول الصلاة " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *).
وأخبرني أبو عبد الله، حدثني عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن محمد بن إبراهيم ابن زياد الرازي، عن الحرث بن عبد الله الخازن، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية ابن الربعي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قسم الله الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما، فذلك قوله عز وجل: " * (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) *) فأنا خير أصحاب اليمين).
ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله: " * (فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون) *) فأنا من السابقين (وأنا من خير السابقين) ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة فذلك قوله: " * (وجعلناكم شعوبا وقبائل) *) الآية، وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر.
ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله: " * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *))
.
* (واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من ءايات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا * إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما * وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله
44

ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا * وإذ تقول للذىأنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فىأزواج أدعيآئهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا * ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له سنة الله فى الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا) *) 2
" * (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايت الله) *) يعني القرآن " * (والحكمة) *) السنة، عن قتادة، وقال مقاتل: أحكام القرآن ومواعظه " * (إن الله كان لطيفا
خبيرا) *).
وقوله: " * (إن المسلمين والمسلمات) *) الآية. وذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه قلن: يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به، إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقال مقاتل: قالت أم سلمة بنت أبي أمية وأنيسة بنت كعب الأنصارية للنبي صلى الله عليه: ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه؟ نخشى أن لا يكون فيهن خير ولا لله فيهن حاجة، فنزلت هذه الآية.
روى عثمان بن حكم عن عبد الرحمن بن شيبة قال: سمعت أم سلمة زوج النبي (عليه السلام) تقول: قلت للنبي (عليه السلام): يا رسول الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟
قلت: فلم يرعني ذات يوم ظهرا إلا بدواة على المنبر وأنا أسرح رأسي فلفقت شعري ثم خرجت إلى حجرة من حجر بيتي فجعلت سمعي عند الجريدة، فإذا هو يقول على المنبر: يا أيها الناس إن الله عز وجل يقول في كتابه: " * (إن المسلمين والمسلمات) *)... إلى قوله: " * (وأجرا عظيما) *).
وقال مقاتل بن حيان: بلغني أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فدخلت على نساء رسول الله صلى الله عليه فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول الله صلى الله عليه فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار، قال رسول الله صلى الله عليه: ومم ذلك؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله عز وجل: " * (إن المسلمين والمسلمات) *) إلى آخر الآية.
أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبه عن الفراتي عن إبراهيم بن سعيد، عن عبيد الله عن شيبان، عن الأعمش، عن علي بن الأرقم، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي سعيد وأبي هريرة
45

قالا: قال رسول الله صلى الله عليه: من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا جميعا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد، عن صالح بن محمد عن سليمان بن عمرو، عن حنظلة التميمي، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس قال: جاء إسرافيل إلى النبي صلى الله عليه فقال: قل يا محمد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله عدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم، من قالها كتبت له ست خصال، كتب من الذاكرين الله كثيرا، وكان أفضل ممن ذكره الليل والنهار، وكان له غرس في الجنة، وتحاتت عنه ذنوبه كما تتحات ورق الشجر اليابسة، ونظر الله إليه، ومن نظر الله إليه لم يعذبه.
وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا. قال عطاء بن أبي رباح: من فوض أمره إلى الله فهو داخل في قوله: " * (إن المسلمين والمسلمات) *) ومن أقر بأن الله ربه، وأن محمدا رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه، فهو داخل في قوله: " * (والمؤمنين والمؤمنات) *) ومن أطاع الله في الفرض والرسول في السنة فهو داخل في قوله: " * (والقانتين والقانتات) *) ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله: " * (والصادقين والصادقات) *) ومن صلى فلم يعرف من عن يمينه ويساره فهو داخل في قوله: " * (والخاشعين والخاشعات) *) ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله: " * (والصابرين والصابرات) *) ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله: " * (والمتصدقين والمتصدقات) *) ومن صام في كل شهر أيام البيض، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله: " * (والصائمين والصائمات) *) ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله: " * (والحافظين فروجهم والحافظات) *) ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله: " * (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) *).
قوله عز وجل: " * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) *) الآية. نزلت في زينب بنت جحش بن رئاب ابن النعمان بن حبرة بن مرة بن غنم بن دودان الأسدية، وأخيها عبد الله بن جحش، وكانت زينب بنت آمنة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى زيدا في الجاهلية من عكاظ، وكان من سبي الجاهلية فأعتقه وتبناه، فكان زيد عربيا في الجاهلية مولى في الإسلام.
فلما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب رضيت، (ورأت) أنه يخطبها على نفسه فلما علمت أنه يخطبها على زيد أبت وأنكرت وقالت: أنا أتم نساء قريش وابنة عمتك، فلم أكن لأفعل يا رسول الله ولا أرضاه لنفسي، وكذلك قال أخوها عبد الله، وكانت زينب بيضاء جميلة، وكانت فيها حدة فأنزل الله عز وجل: " * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) *) يعني عبد الله بن جحش وزينب أخته
46

" * (إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون) *) قرأ أهل الكوفة وأيوب بالياء واختاره أبو عبيد قال: للحائل بين التأنيث والفعل، وكذلك روى هشام عن أهل الشام وقرأ الباقون بالتاء.
" * (لهم الخيرة) *) أي الاختيار وقراءة العامة (الخيرة) بكسر الخاء وفتح الياء، وقرأ ابن السميقع بسكون الياء وهما لغتان " * (من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) *) فلما نزلت هذه الآية قالت: قد رضيت يا رسول الله، وجعلت أمرها بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أخوها فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا، فدخل بها، وساق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دنانير وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وأزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في أم كثلوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أول من هاجر من النساء، فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قبلت،
فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه فزوجنا عبده فأنزل الله عز وجل: " * (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) *) الآية.
وذلك أن زينب مكثت عند زيد حينا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه أتى زيدا ذات يوم لحاجة، فأبصرها قائمة في درع وخمار فأعجبته، وكأنها وقعت في نفسه فقال: سبحان الله مقلب القلوب وانصرف.
فلما جاء زيد، ذكرت ذلك له ففطن زيد، كرهت إليه في الوقت، فألقي في نفس زيد كراهتها، فأراد فراقها، فأتى رسول الله صلى الله عليه فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي. قال: ما لك؟ أرابك منها شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنها تتعظم علي بشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي (عليه السلام): أمسك عليك زوجك واتق الله، ثم إن زيدا طلقها بعد ذلك، فلما انقضت عدتها، قال رسول الله صلى الله عليه لزيد: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك. أئت زينب فاخطبها علي.
قال زيد: فانطلقت، فإذا هي تخمر عجينها، فلما رأيتها، عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري، وقلت: يا زينب أبشري فإن رسول الله يخطبك، ففرحت بذلك وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها وأنزل القرآن " * (زوجنكها) *) فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار، فذلك قوله عز وجل: " * (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) *) بالإسلام " * (وأنعمت عليه) *) بالإعتاق وهو زيد بن حارثة " * (أمسك عليك زوجك) *) يعني زينب بنت جحش وكانت ابنة عمة النبي صلى الله عليه.
47

" * (واتق الله) *) فيها " * (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) *) أن لو فارقها تزوجتها.
قال ابن عباس: حبها. وقال قتادة: ود أنه لو طلقها. " * (وتخشى الناس) *) قال ابن عباس والحسن: تستحيهم، وقيل: وتخاف لائمة الناس أن يقولوا أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها. " * (والله أحق أن تخشاه) *) قال عمر وابن مسعود وعائشة: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه آية هي أشد عليه من هذه الآية.
وأخبرني الحسين بن محمد الثقفي عن الفضل بن الفضل الكندي قال: أخبرني أبو العباس الفضل بن عقيل النيسابوري، عن محمد بن سليمان قال: أخبرني أبو معاوية عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: لو كتم النبيي صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه لكتم هذه الآية " * (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) *).
وقد روي عن زين العابدين في هذه الآية ما أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه عن طلحة بن محمد وعبد الله بن أحمد بن يعقوب قالا: قال أبو بكر بن مجاهد عن بن أبي مهران، حدثني محمد بن يحيى أبي عمر العرني، عن سفيان بن عيينة قال: سمعناه من علي بن زيد بن جدعان يبديه ويعيده قال: سألني علي بن الحسين: ما يقول الحسن في قوله عز وجل: " * (وتخفي في نفسك ما الله مبديه والله أحق أن تخشاه) *)؟
فقلت يقول: لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إني أريد أن أطلق زينب، فأعجبه ذلك، قال: " * (أمسك عليك زوجك واتق الله) *) قال علي بن الحسين: ليس كذلك، كان الله عز وجل قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه فإن زيدا سيطلقها فلما جاء زيد قال: إني أريد أن أطلق زينب، فقال: أمسك عليك زوجك واتق الله. يقول: فلم قلت: أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك. وهذا التأويل مطابق للتلاوة وذلك أن الله عز وجل حكم واعلم ابداء ما أخفى، والله لا يخلف الميعاد، ثم لم نجده عز وجل أظهر من شأنه غير التزويج بقوله: " * (زوجنكها) *).
فلو كان أضمر رسول الله صلى الله عليه محبتها، أو أراد طلاقها، لكان لا يجوز على الله تعالى كتمانه مع وعده أن يظهره، فدل ذلك على أنه (عليه السلام) إنما عوتب على قوله: " * (أمسك عليك زوجك) *) مع علمه بأنها ستكون زوجته، وكتمانه ما أخبره الله سبحانه به حيث استحيى أن يقول لزيد: إن التي تحتك ستكون امرأتي والله أعلم.
وهذا قول حسن مرضي قوي، وإن كان القول الآخر لا يقدح في حال النبي صلى الله عليه، لان العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه لمأثم.
قوله: " * (فلما قضى زيد منها وطرا) *) أي حاجته من نكاحها " * (زوجناكها) *) فكانت زينب تفخر على نساء النبي (عليه السلام) فتقول: أنا أكرمكن وليا، وأكرمكن سفيرا، زوجكن أقاربكن وزوجني الله عز وجل
48

وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العباس الدغولي قال: أخبرني أبو أحمد محمد ابن عبد الوهاب ومحمد بن عبيد الله بن قهراذ جميعا، عن جعفر (بن محمد) بن عون، عن المعلى بن عرفان عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة، وقالت زينب: أنا التي نزل تزوجي من السماء، فقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعطل على الراحلة، فقالت زينب: وما قلت حين ركبتها؟ قالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل قالت: كلمة المؤمنين.
وأنبأني عقيل بن محمد أن المعافى بن زكريا أخبره عن محمد بن جرير، عن ابن حميد عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبي (عليه السلام): إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن: جدي وجدك واحد، وإني أنكحنيك الله في السماء، وإن السفير لجبرائيل.
قوله: " * (لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم) *) الذين تبنوه " * (إذا قضوا منهن وطرا) *) بالنكاح وطلقوهن أو ماتوا عنهن. قال الحسن: كانت العرب تظن أن حرمة المتبنى مشبكة كاشتباك الرحم، فميز الله تعالى بين المتبنى وبين الرحم فأراهم أن حلائل الأدعياء غير محرمة عليهم لذلك قال: " * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) *) فقيد " * (وكان أمر الله مفعولا) *) كائنا لا محالة، وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه.
قوله: " * (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله) *) أحل الله " * (له سنة الله في الذين خلوا من قبل) *) أي كسنة الله، نصب بنزع حرف الخافض، وقيل: فعل سنة الله، وقيل: على الإغراء، أي ابتغوا سنة الله في الأنبياء الماضين، أي لا يؤاخذهم بما أحل لهم.
وقال الكلبي ومقاتل: أراد داود (عليه السلام)، حين جمع الله بينه وبين المرأة التي هواها، فكذلك جمع بين محمد وزينب حين هواها، وقيل: الإشارة بالسنة إلى النكاح، وإنه من سنة الأنبياء وقيل: إلى كثرة الأزواج مثل قصة داود وسليمان (عليهما السلام).
" * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) *) ماضيا كائنا. وقال ابن عباس: وكان من قدره أن تلد تلك المرأة التي ابتلى بها داود ابنا مثل سليمان وتهلك من بعده.
(* (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا * ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولاكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شىء عليما * ياأيها الذين ءامنوا
49

اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذى يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما * تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما * ياأيها النبى إنآ أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا * وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا * ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا * ياأيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا * ياأيها النبى إنآ أحللنا لك أزواجك اللاتىءاتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتى هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم فىأزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما * ترجى من تشآء منهن وتؤوىإليك من تشآء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بمآ ءاتيتهن كلهن والله يعلم ما فى قلوبكم وكان الله عليما حليما * لا يحل لك النسآء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شىء رقيبا * ياأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذى النبى فيستحيى منكم والله لا يستحى من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسئلوهن من ورآء حجاب ذالكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذالكم كان عند الله عظيما * إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شىء عليما * لا جناح عليهن فىءابآئهن ولا أبنآئهن ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخواتهن ولا نسآئهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شىء شهيدا) *) 2
قوله تعالى: " * (الذين يبلغون رسالات الله) *) محل الذين خفض على النعت على الذين خلوا " * (ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) *) لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحل الله لهم وفرض عليهم " * (وكفى بالله حسيبا) *) حافظا لأعمال خلقه ومحاسبتهم عليها، ثم نزلت في قول الناس إن محمدا تزوج امرأة ابنه " * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) *) الذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها، يعني زيدا، وإنما كان أبا القاسم والطيب والمطهر وإبراهيم.
" * (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) *) أي آخرهم ختم الله به النبوة فلا نبي بعده، ولو كان لمحمد ابن لكان نبيا.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان، عن عبد الرحمن عن سفيان، عن
50

الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي.
واختلف القراء في قوله " * (خاتم النبيين) *) فقرأ الحسن وعاصم بفتح التاء على الاسم، أي آخر النبين. كقوله: خاتمه مسك، أي آخره. وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل، أي أنه خاتم النبيين بالنبوة.
" * (وكان الله بكل شيء عليما يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) *)
قال ابن عباس: لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإنه لم يجعل له حدا ينتهى إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، وأمرهم بذكره في الأحوال كلها فقال: " * (فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) *) وقال: " * (اذكروا الله ذكرا كثيرا) *) بالليل والنهار وفي البر والبحر والسفر والحضر والغنى والفقر والصحة والسقم والسر والجهر وعلى كل حال. وقال مجاهد: الذكر الكثير أن لا تنساه أبدا.
أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبه عن الفراتي، عن عمرو بن عثمان، عن أبي، عن أبي لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون " * (وسبحوه) *) وصلوا له " * (بكرة) *) يعني صلاة الصبح " * (وأصيلا) *) يعني صلاة العصر عن قتادة.
وقال ابن عباس: يعني صلاة العصر والعشاءين. وقال مجاهد: يعني قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، فعبر بالتسبيح عن أخواته، فهذه كلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث.
قوله: " * (هو الذي يصلي عليكم) *) بالرحمة. قال السدي: قالت بنو إسرائيل لموسى: أيصلي ربنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه أن قل لهم: إني أصلي، وإن صلاتي رحمتي، وقد وسعت رحمتي كل شيء.
وقيل: (يصلي) يشيع لكم الذكر الجميل في عباده. وقال الأخفش: يبارك عليكم " * (وملائكته) *) بالاستغفار والدعاء " * (ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما) *).
51

قال أنس بن مالك: لما نزلت " * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) *) الآية، قال أبو بكر: ما خصك الله بشرف إلا وقد أشركتنا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
" * (تحيتهم) *) أي تحية المؤمنين " * (يوم يلقونه) *) أي يرون الله عز وجل " * (سلام) *) أي يسلم عليهم ويسلمهم من جميع الآفات والبليات.
أخبرني ابن فنجويه، عن ابن حيان، عن ابن مروان عن أبي، عن إبراهيم بن عيسى، عن علي بن علي، حدثني أبو حمزة الثمالي في قوله عز وجل: " * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) *) قال: تسلم عليهم الملائكة يوم القيامة وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم. وقيل: هو عند الموت والكناية مردودة إلى ملك الموت كناية عن غير مذكور.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين، عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن إسحاق بن محمد بن الفضل الزيات، عن محمد بن سعيد بن غالب، عن حماد بن خالد الخياط، عن عبد الله بن وافد أبو رجاء، عن محمد بن مالك، عن البراء بن عازب في قوله عز وجل: " * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) *) قال: يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه.
وأخبرني الحسين بن محمد عن ابن حبيش المقرئ، حدثني عبد الملك بن أحمد بن إدريس القطان بالرقة، عن عمر بن مدرك القاص قال: أخبرني أبو الأخرص محمد بن حيان البغوي، عن حماد بن خالد الخياط، عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن أبي الأخوص، عن ابن مسعود قال: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام.
" * (وأعد لهم أجرا كريما) *) وهو الجنة.
قوله: " * (يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) *) يستضيء به أهل الدين. قال جابر بن عبد الله: لما نزلت " * (إنا فتحنا) *) الآيات، قال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله هذه العارفة، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى: " * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم) *) اصبر عليهم ولا تكافئهم. نسختها آية القتال " * (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) *).
قوله: " * (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) *) تجامعوهن " * (فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) *) تحصونها عليهن بالأقراء والأشهر " * (فمتعوهن) *) أي أعطوهن ما يستمتعن به. قال ابن عباس: هذا إذا لم يكن سمى لها صداقا، فإذا فرض لها صداقا فلها نصفه، وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله: " * (فنصف ما فرضتم) *) وقيل: هو أمر ندب
52

فالمتعة مستحبة ونصف المهر واجب " * (وسرحوهن) *) وخلوا سبيلهن " * (سراحا جميلا) *) بالمعروف، وفي الآية دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع خص أو عم خلافا لأهل الكوفة.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه، عن ابن شنبه، عن عبد الله بن أحمد بن منصور الكسائي، عن عبد السلام بن عاصم الرازي، قال: أخبرني أبو زهير، عن الأحلج، عن حبيب بن أبي ثابت قال: كنت قاعدا عند علي بن الحسين، فجاءه رجل فقال: إني قلت: يوم أتزوج فلانة بنت فلان فهي طالق. قال: اذهب فتزوجها، فإن الله عز وجل بدأ بالنكاح قبل الطلاق، وقال: " * (يا أيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن) *) ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن ولم يره شيئا. والدليل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: أخبرني أبو بكر محمد بن إبراهيم المنذر النيسابوري بمكة، عن الربيع بن سليمان، عن أيوب بن سويد، عن ابن أبي ذيب عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا طلاق قبل نكاح).
قوله: " * (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن) *) مهورهن " * (وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك) *) مثل صفية وجويرية ومارية " * (وبنات عمك وبنات عماتك) *) من نساء عبد المطلب " * (وبنات خالك وبنات خالاتك) *) من نساء بني زهرة " * (اللاتي هاجرن معك) *) فمن لم تهاجر منهن فليس له نكاحها. وقرأ ابن مسعود: " * (واللاتي هاجرن) *)، بواو.
أنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير قال: أخبرني أبو كريب، عن عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح، عن أم هاني قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله عز وجل: " * (إنا أحللنا لك أزواجك) *)... إلى قوله: " * (التي هاجرن معك) *) قالت: فلم أحل له لأني لم أهاجر، معه كنت من الطلقاء.
" * (وامرأة مؤمنة) *) أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة " * (إن وهبت نفسها للنبي) *) بغير مهر. وقرأ العامة إن بكسر الألف على الجزاء والاستقبال، وقرأ الحسن بفتح الألف على المضي والوجوب، " * (إن أراد النبى أن يستنكحها) *) فله ذلك " * (خالصة) *) خاصة لك، " * (من دون المؤمنين) *) فليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير شهود ولا ولي ولا مهر إلا النبي (عليه السلام)، وهذا من خصائصه في النكاح، كالتخيير والعدد في النساء، وما روي انه أعتق صفية وجعل
عتقها صداقها ولو تزوجها بلفظ الهبة لم ينعقد النكاح، هذا قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء ومالك والشافعي وربيعة وأبي عبيد وأكثر الفقهاء.
وقال النخعي وأهل الكوفة: إذا وهبت نفسها منه وقبلها بشهود ومهر فإن النكاح ينعقد
53

والمهر يلزم به، فأجازوا النكاح بلفظ الهبة. وقالوا: كان اختصاص النبي (عليه السلام) في ترك المهر. والدليل على ما ذهب الشافعي إليه: إن الله تعالى سمى النكاح باسمين التزويج والنكاح، فلا ينعقد بغيرهما.
واختلف العلماء في التي وهبت نفسها لرسول الله، وهل كانت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه كذلك؟ فقال ابن عباس ومجاهد: لم يكن عند النبي صلى الله عليه امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده (عليه السلام) امرأة إلا بعقد النكاح أو ملك اليمين، وإنما قال الله تعالى " * (إن وهبت) *) على طريق الشرط والجزاء.
وقال الآخرون: بل كانت عنده موهوبة، واختلفوا فيها. فقال قتادة: هي ميمونة بنت الحرث. قال الشعبي: زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار. قال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: أم شريك بنت جابر من بني أسد. قال عروة بن الزبير: خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم.
" * (قد علمنا ما فرضنا عليهم) *) يعني أوجبنا على المؤمنين " * (في أزواجهم) *) قال مجاهد: يعني أربعا لا يتجاوزونها.
قتادة: هو أن لا نكاح إلا بولي وشاهدين " * (وما ملكت أيمانهم) *) يعني الولائد والإماء " * (لكيلا يكون عليك حرج) *) في نكاحهن " * (وكان الله غفورا رحيما) *).
قوله: " * (ترجي من تشاء منهن) *) أي تؤخر " * (وتؤوي) *) وتضم " * (إليك من تشاء) *) واختلف المفسرون في معنى الآية، فقال أبو رزين وابن زيد: نزلت هذه الآية حين غارت بعض أمهات المؤمنين على النبيي صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة النفقة، فهجرهن رسول الله صلى الله عليه شهرا حتى نزلت آية التخيير، وأمره الله عز وجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة، وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين ولا ينكحن أبدا، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء ويرجي منهن من يشاء فيرضين به، قسم لهن أو لم يقسم، أو قسم لبعضهن ولم يقسم لبعضهن، أو فضل بعضهن على بعض في النفقة والقسمة والعشرة أو ساوى بينهن، ويكون الأمر في ذلك كله إليه، يفعل ما يشاء، وهذا من خصائصه (عليه السلام). فرضين بذلك كله واخترنه على هذا الشرط، وكان رسول الله صلى الله عليه مع ما جعل الله له من ذلك ساوى بينهن في القسم إلا امرأة منهن أراد طلاقها فرضيت بترك القسمة لها وجعل يومها لعائشة وهي سودة بنت زمعة.
وروى منصور عن أبي رزين قال: لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقن فقلن: يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، فكان ممن أرجي منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة، فكان يقسم لهن ما شاء كما شاء، وكانت ممن
54

آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رحمة الله عليهن، كان يقسم بينهن سواء لا يفضل بعضهن على بعض، فأرجأ خمسا وآوى أربعا.
وقال مجاهد: يعني تعزل من تشاء منهن بغير طلاق، وترد إليك من تشاء منهن بعد عزلك إياها بلا تجديد مهر وعقد.
وقال ابن عباس: تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء.
وقال الحسن: تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء امتك. قال: وكان النبي (عليه السلام) إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يتركها.
وقيل: وتقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك، فتؤويها إليك، وتترك من تشاء فلا تقبلها.
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تعير النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وقالت: أما تستحي امرأة أن تهب أو تعرض نفسها على رجل بغير صداق، فنزلت هذه الآية، قالت عائشة: فقلت لرسول الله إن ربك ليسارع لك في هواك.
" * (ومن ابتغيت) *) أي طلبت وأردت إصابته " * (ممن عزلت) *) فأصبتها وجامعتها بعد العزل " * (فلا جناح عليك) *) فأباح الله تعالى له بذلك ترك القسم لهن حتى إنه ليؤخر من شاء منهن في وقت نوبتها، فلا يطأها ويطأ من شاء منهن في غير نوبتها، فله أن يرد إلى فراشه من عزلها، فلا حرج عليه فيما فعل تفضيلا له على سائر الرجال وتخفيفا عنه. وقال ابن عباس: يقول: إن من فات من نسائك اللاتي عندك أجرا وخليت سبيلها، فقد أحللت لك، فلا يصلح لك أن تزداد على عدد نسائك اللاتي عندك.
" * (ذلك) *) الذي ذكرت " * (أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن) *) أطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله وبأمره، وأن الرخصة جاءت من قبله " * (ويرضين بما آتيتهن) *) من التفضيل والايثار والتسوية " * (كلهن والله يعلم ما في قلوبكم) *) من أمر النساء والميل إلى بعضهن " * (وكان الله عليما حليما) *).
قوله تعالى: " * (لا يحل لك) *) بالتاء أهل البصرة، وغيرهم بالياء " * (النساء من بعد) *) أي من بعد هؤلاء النساء التسع اللاتي خيرتهن فاخترنك لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، قصره عليهن، وهذا قول ابن عباس وقتادة. وقال عكرمة والضحاك: لا يحل لك من النساء إلا اللاتي أحللناها لك وهو قوله: " * (إنا أحللنا لك أزواجك...) *) ثم قال: " * (لا يحل لك النساء من بعد) *) التي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها.
55

روى داود بن أبي هند عن محمد بن أبي موسى عن زياد رجل من الأنصار قال: قلت لأبي بن كعب: أرأيت لو مات نساء النبي صلى الله عليه أكان يحل له أن يتزوج؟
فقال: وما يمنعه من ذلك وما يحرم ذلك عليه؟ قلت: قوله: " * (لا يحل لك النساء من بعد) *) فقال: إنما أحل الله له ضربا من النساء فقال: " * (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك...) *) ثم قال: " * (لا يحل لك النساء من بعد) *).
وقال أبو صالح: أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية ويتزوج بعد من نساء قومه من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: معناه لا يحل لك النساء من غير المسلمات فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك، ولا ينبغي أن يكن من أمهات المؤمنين.
وقال أبو رزين: " * (لا يحل لك النساء من بعد) *) يعني الإماء بالنكاح. " * (ولا أن تبدل بهن من أزواج) *) قال مجاهد وأبو رزين: يعني ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى والمشركين " * (ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك) *) من السبايا والإماء الكوافر.
وقال الضحاك: يعني ولا تبدل بأزواجك اللاتي هن في حبالك أزواجا غيرهن، بأن تطلقهن وتنكح غيرهن، فحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاق النساء اللواتي كن عنده، إذ جعلهن أمهات المؤمنين، وحرمهن على غيره حين اخترنه، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع منه، بل أحل له ذلك إن شاء. يدل عليه ما أخبرناه عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن الحسين، عن محمد بن يحيى قال: أخبرني أبو عاصم عن جريح عن عطاء عن عائشة قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء.
وقال ابن زيد: كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم يعطي هذا امرأته هذا ويأخذ امرأة ذاك فقال الله: " * (ولا أن تبدل بهن من أزواج) *) يعني تبادل بأزواجك غيرك أزواجه، بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته إلا ما ملكت يمينك لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت فأما الحرائر فلا.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الاصفهاني، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، عن أحمد بن نجدة، عن الحماني، عن عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأبادلك بامرأتي، تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله عز وجل: " * (ولا أن تبدل بهن من أزواج...) *) قال: فدخل عيينة بن حصين على النبي صلى الله عليه وعنده عائشة فدخل بغير إذن، فقال له النبي صلى الله عليه: (يا عيينة فأين الاستئذان؟) قال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثم قال: من
56

هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هذه عائشة أم المؤمنين). قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق، قال رسول الله صلى الله عليه: (إن الله عز وجل قد حرم ذلك)، فلما خرج، قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: (هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه).
قال ابن عباس في قوله: " * (ولو أعجبك حسنهن) *) يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، وفيه دليل على جواز النظر إلى من يريد أن يتزوج بها، وقد جاءت الأخبار بإجازة ذلك.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن جعفر المطيري، عن عبد الرحمن بن محمد بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان عن عاصم الأحول، عن بكير بن عبد الله المزني أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج بامرأة، فقال النبي (عليه السلام): (فانظر إليها فإنه أجدر أن يودم بينكما).
وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن جعفر، عن علي بن حرب قال: أخبرني أبو معاوية، عن الحجاج بن أرطأة، عن سهل بن محمد بن أبي خيثمة، عن عمه سليمان بن أبي خيثمة قال: رأيت محمد بن سلمة يطارد نبيتة بنت الضحاك على إجار من أياجير المدينة قلت: أتفعل هذا؟ قال: نعم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: (إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها).
وأخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى، عن الحميدي عن سفيان، عن يزيد ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه: (أنظر إليها فإن في أعين نساء الأنصار شيئا). قال الحميدي: يعني الصغر. " * (وكان الله على كل شيء رقيبا) *) حفيظا.
قوله تعالى: " * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي...) *) قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب. قال أنس بن مالك: أنا أعلم الناس بآية الحجاب، ولقد سألني عنها أبي بن كعب لما بنى رسول الله صلى الله عليه بزينب بنت جحش أولم عليها بتمر وسويق وذبح شاة، وبعثت إليه أمي أم سليم بحيس في تور من حجارة، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أدعو أصحابه إلى الطعام، فدعوتهم فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون، ثم يجيء القوم فيأكلون ويخرجون
57

فقلت: يا نبي الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم فرفعوا وخرج القوم، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت معه لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صلى الله عليه منطلقا نحو حجرة عائشة فقال: (السلام عليكم أهل البيت)، فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟
ثم رجع فأتى حجر نسائه فسلم عليهن، فدعون له ربه، ورجع إلى بيت زينب، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون في البيت، وكان النبي (عليه السلام) شديد الحياء، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولى عن بيته خرجوا، فرجع رسول الله (عليه السلام) إلى بيته وضرب بيني وبينه سترا، ونزلت هذه الآية.
وقال قتادة ومقاتل: كان هذا في بيت أم سلمة، دخلت عليه جماعة في بيتها فأكلوا، ثم أطالوا الحديث، فتأذى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحيى منهم أن يأمرهم بالخروج، والله لا يستحيي من الحق، فأنزل الله عز وجل: " * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) *) إلا أن تدعوا " * (إلى طعام)
*) فيؤذن لكم فتأكلوه " * (غير ناظرين) *) منظرين " * (إناه) *) إدراكه ووقت نضجه، وفيه لغتان أنى وإنى بكسر الألف وفتحها، مثل ألى وإلى ومعا ومعا، والجمع إناء، مثل آلاء وامعاء، والفعل منه أنى يأنى إنى بكسر الألف مقصور، وآناء بفتح الألف ممدود. قال الحطيئة:
وأنيت العشا إلى سهيل
أو الشعرى فطال بي الأنا
وقال الشيباني:
تمخضت المنون له بيوم
أنى ولكل حاملة تمام
وفيه لغة أخرى: آن يأين أينا. قال ابن عباس: نزلت في ناس من المؤمنين كان يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم، فنزلت هذه الآية. و " * (غير) *) نصب على الحال " * (ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم) *) أكلتم الطعام " * (فانتشروا) *) فتفرقوا واخرجوا من منزله " * (ولا مستأنسين لحديث) *) طالبين الأنس بحديث، ومحله خفض مردود على قوله: " * (غير ناظرين) *) ولا غير " * (مستأنسين لحديث) *) * * (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق) *) أي لا يترك تأديبكم وحملكم على الحق ولا يمنعه ذلك منه.
حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظا قال: أخبرني أبو موسى عمران بن
58

موسى بن الحصين قال: أخبرني أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: أخبرني أبو عمرو عثمان بن خرزاد الأنطاكي، عن عمرو بن مرزوق، عن جويرية بن أسماء قال: قرئ بين يدي إسماعيل ابن أبي حكيم هذه الآية فقال: هذا (أدب) أدب الله به الثقلاء.
وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن محمد يقول: سمعت الغلابي يقول: سمعت ابن عائشة يقول: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم وقال: " * (فإذا طعمتم فانتشروا) *).
قوله: " * (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) *) أخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن سنان الفزار، عن سهيل بن حاتم، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن أنس بن مالك قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وكان يمر على نسائه، فأتى امرأة عرس بها حديثا فإذا عندهم قوم، فانطلق النبي صلى الله عليه أيضا فاحتبس فقضى حاجته، ثم جاء وقد ذهبوا، فدخل وأرخى بينه وبيني سترا قال: فحدثت أبا طلحة فقال: إن كان كما تقول لينزلن شيء في هذا، فنزلت آية الحجاب.
وأنبأني عبد الله بن حامد الوزان أن الحسين بن يعقوب حدثه عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن حميد عن أنس قال: قال عمر: يا رسول الله، تدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب. فنزلت آية الحجاب.
وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد الشرقي، عن محمد بن يحيى عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي، عن صالح بن شهاب، عن عروة بن الزبير: أن عائشة قالت: كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه: احجب نساءك، فلم يفعل، وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلا إلى ليل قبل المناصع وهو صعيد أقبح، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس فقال: قد عرفتك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب.
وأخبرنا عبد الله بن حامد إجازة، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن علي بن عفان قال: أخبرني أبو أسامة، عن مخالد بن سعيد، عن عامر قال: مر عمر على نساء النبي صلى الله عليه وهو مع النساء في المسجد فقال لهن: احتجبن، فإن لكن على النساء فضلا، كما ان لزوجكن على الرجال الفضل، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى أنزل الله آية الحجاب.
وروى عطاء بن أبي السائب عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: أمر عمر بن الخطاب نساء
59

النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب: يا بن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله تعالى: * (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) * * (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) *).
وقيل في سبب نزول الحجاب ما أخبرنا أحمد بن محمد أن المعافى حدثه عن محمد بن جرير قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم، عن هشام، عن ليث، عن مجاهد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم، فكره النبي ذلك، فنزلت آية الحجاب.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي المزكى قال: أخبرني أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسين الماسرخسي، عن شيبان بن فروخ الابلي، عن جرير بن حازم، عن ثابت البنائي، عن أنس بن مالك قال: كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه بغير إذن، فجئت يوما لأدخل فقال: مكانك يا بني، قد حدث بعدك أن لا يدخل علينا إلا بإذن.
قوله: " * (وما كان لكم) *) يعني وما ينبغي وما يصلح لكم " * (أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) *) نزلت
في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لئن قبض رسول الله صلى الله عليه لأنكحن عائشة بنت أبي بكر.
أنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير، عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن داود عن عامر أن النبي صلى الله عليه مات وقد ملك قتيلة بنت الأشعث بن قيس ولم يجامعها، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشق على أبي بكر مشقة شديدة، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه، إنها لم يخيرها رسول الله صلى الله عليه ولم يحجبها، وقد برأها منه بالردة التي ارتدت مع قومها قال: فاطمأن أبو بكر وسكن.
وروى معمر عن الزهري: أن العالية بنت طيبان التي طلقها النبي صلى الله عليه تزوجت رجلا وولدت له، وذلك قبل أن يحرم على الناس أزواج النبي (عليه السلام).
" * (إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما) *) قوله تعالى: " * (لا جناح عليهن في آبائهن...) *).
قال ابن عباس: لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى: * (لا جناح عليهن في آبائهن) * * (ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن) *) في ترك الاحتجاب من هؤلاء وأن يروهن. وقال مجاهد: لا جناح عليهن في وضع جلابيبهن عندهم.
" * (واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا) *))
.
60

2 (* (إن الله وملائكته يصلون على النبى ياأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما * إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والاخرة وأعد لهم عذابا مهينا * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا * ياأيها النبى قل لازواجك وبناتك ونسآء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذالك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما * لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا * يسئلك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا * إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا * خالدين فيهآ أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا * يوم تقلب وجوههم فى النار يقولون ياليتنآ أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا * ربنآ ءاتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا) *) 2
" * (إن الله وملائكته) *) قراءة العامة بنصب التاء وقرأ ابن عباس: " * (وملائكته) *) بالرفع عطفا على محل قوله: الله قبل دخول إن، نظيره قوله: " * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى) *) وقد مضت هذه المثلة. " * (يصلون على النبي) *) أي يثنون ويترحمون عليه ويدعون له. وقال ابن عباس: يتبركون. " * (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه) *) ترحموا عليه وادعو له " * (وسلموا تسليما) *) وحيوه بتحية الإسلام.
أخبرنا عبد الله بن حامد، عن المطري، عن علي بن حرب، عن ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل العدل، عن إسماعيل بن محمد الصفار، عن الحسين بن عروة، عن هشيم بن بشير، عن يزيد بن أبي زياد، وحدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثني كعب بن عجرة قال: لما نزلت " * (إن الله وملائكته يصلون على النبي...) *) قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: (قل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد).
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن مكي بن عبدان، عن عمار بن رجاء عن ابن عامر، عن عبد الله بن جعفر، عن يزيد بن مهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله هذا السلام قد علمنا، فكيف الصلاة عليك
61

قال: (قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم).
وأخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه، عن مكي بن عبدان عن محمد بن يحيى قال: فيما قرأت على ابن نافع، وحدثني مطرف، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن عمرو بن حرم، عن أبيه، عن عمرو بن سليمان الزرقي، أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد).
وبإسناده عن مالك عن نعيم، عن عبد الله بن المجمر، عن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري، عن أبي مسعود الأنصاري أنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه ونحن جلوس في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن (سعد): أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال: (قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم).
وأخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن، عن داود ابن سليمان، عن عبد بن حميد قال: أخبرني أبو نعيم عن المسعودي، عن عون، عن أبي فاختة، عن الأسود قال: قال عبد الله: إذا صليتم على النبي صلى الله عليه فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه، قالوا: فعلمنا، قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة،
اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد.
أخبرنا عبد الخالق بن علي قال: أخبرني أبو بكر بن جنب عن يحيى بن أبي طالب عن يزيد بن هارون قال: أخبرني أبو معاوية، عن الحكم بن عبد الله بن الخطاب، عن أم الحسن،
62

عن أبيها قالوا: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: " * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) *) فقال النبي (عليه السلام): هذا من العلم المكنون، ولو أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به، إن الله تعالى وكل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلي علي إلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك، وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلي علي إلا قال ذانك الملكان، لا غفر الله لك، وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين.
قوله تعالى: " * (إن الذين يؤذون الله) *) يعني بمعصيتهم إياه ومخالفتهم أمره. وقال عكرمة: هم أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق مثل خلق الله عز وجل، وفي بعض الأخبار يقول الله جل جلاله: ومن أظلم ممن أراد أن يخلق مثل خلقي فليخلق حبة أو ذرة، وقال (عليه السلام): لعن الله المصورين. وقال ابن عباس: هم اليهود والنصارى والمشركون، فأما اليهود فقالوا: يد الله مغلولة وقالوا: إن الله فقير. وقالت النصارى: المسيح ابن الله وثالث ثلاثة. وقال المشركون: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه.
قال قتادة: في هذه الآية ما زال أناس من جهلة بني آدم حتى تعاطوا أذى ربهم، وقيل: معنى " * (يؤذون الله) *) يلحدون في أسمائه وصفاته، وقال أهل المعاني: يؤذون أولياء الله مثل قوله: " * (وسئل القرية) *) وقول رسول الله صلى الله عليه حين قفل من تبوك فبدا له أحد: هذا جبل يحبنا ونحبه، فحذف الأهل، فأراد الله تعالى المبالغة في النهي عن أذى أوليائه فجعل أذاهم أذاه.
" * (ورسوله) *) قال ابن عباس: حين شج في وجهه وكسرت رباعيته وقيل له: شاعر وساحر ومعلم مجنون. وروى العوفي عنه: أنها نزلت في الذين طعنوا على النبي (عليه السلام) في نكاحه صفية بنت حيي بن أخطب، وقيل: بترك سنته ومخالفة شريعته.
" * (لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) *) من غير أن عملوا ما أوجب الله أذاهم " * (فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) *).
قال الحسن وقتادة: إياكم وأذى المؤمن فإنه حبيب ربه، أحب الله فأحبه، وغضب لربه فغضب الله له، وإن الله يحوطه ويؤذي من آذاه. وقال مجاهد: يعني يقفونهم ويرمونهم بغير ما عملوا. وقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب ح، وذلك أن ناسا من المنافقين كانوا يؤذونه ويسمعونه. وقيل: في شأن عائشة. وقال الضحاك والسدي والكلبي: نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا تبرزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيرون
63

المرأة فيدنون منها، فيغمزونها، فإن سكتت اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء، ولم يكن يومئذ تعرف الحرة من الأمة و لأن زيهن كان واحدا، إنما يخرجن في درع واحد وخمار الحرة والأمة، فشكون ذلك إلى أزواجهن فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه. فأنزل الله تعالى: " * (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات...) *) ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء، فقال تعالى: " * (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) *) أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنعن بها، ويغطين وجوههن ورؤوسهن ليعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن ولا يؤذين.
قوله: " * (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا) *) لما سلف منهن من ترك السنن " * (رحيما) *) بهن إذ سترهن وصانهن. قال ابن عباس وعبيدة: أمر الله النساء المؤمنات أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. قال أنس: مرت جارية بعمر بن الخطاب متقنعة فعلاها بالدرة وقال: يا لكاع أتشبهين بالحرائر؟ ألقي القناع.
قوله عز وجل: " * (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض) *) فجور، يعني الزناة " * (والمرجفون في المدينة) *) بالكذب والباطل، وذلك أن ناسا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه يوقعون في الناس أنهم قتلوا وهزموا، وكانوا يقولون: قد أتاكم العدو ونحوها.
وقال الكلبي: كانوا يحبون أن يفشوا الأخبار، وأن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا " * (لنغرينك بهم) *) لنولعنك ونحرشنك بهم، ونسلطنك عليهم. " * (ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا) *) أي لا يساكنونك في المدينة إلا قليلا حتى يخرجوا منها " * (ملعونين) *) مطرودين، نصب على الحال، وقيل: على الذم " * (أينما ثقفوا) *) أصيبوا ووجدوا " * (أخذوا وقتلوا تقتيلا) *). قال قتادة: ذكر لنا أن المنافقين أرادوا أن يظهروا لما في قلوبهم من النفاق، فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه.
وأنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني عن عبد الله بن جعفر النساوي، عن محمد بن أيوب عن عبد الله بن يونس، عن عمرو بن شهر، عن أبان، عن أنس قال: كان بين رجل وبين أبي بكر شيء، فنال الرجل من أبي بكر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غمر الدم وجهه، فقال: (ويحكم، ذروا أصحابي وأصهاري، احفظوني فيهم لأن عليهم حافظا من الله عز وجل، ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله منه، ومن تخلى الله منه يوشك أن يأخذه).
" * (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) *).
" * (سنة الله) *) أي كسنة الله " * (في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا إن الله لعن
64

الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا) *).
قوله: " * (يوم تقلب وجوههم في النار) *) ظهرا لبطن حين يسحبون عليها. وقراءة العامة بضم التاء وفتح اللام على المجهول. وروي عن أبي جعفر بفتح التاء واللام على معنى يتقلب. وقرأ عيسى بن عمر (نقلب) بضم النون وكسر اللام. " * (وجوههم) *) نصبا.
" * (يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول) *) في الدنيا " * (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا) *) قادتنا ورؤسانا في الشرك والضلالة. وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حاتم (ساداتنا) جمع بالألف وكسر التاء على جمع الجمع " * (فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب) *) أي مثلي عذابنا " * (والعنهم لعنا كبيرا) *) قرأ يحيى بن وثاب وعاصم " * (كبيرا) *) بالباء وهي قراءة أصحاب عبد الله. وقرأ الباقون بالثاء، وهي اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، ثم قالا: إنا اخترنا الثاء لقوله: " * (ويلعنهم اللاعنون) *) وقوله: " * (أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) *) فهذا يشهد للكثرة.
وأخبرني أبو الحسين عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال: سمعت أبا الحسن عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان البغدادي من حفظه إملاء يقول: سمعت محمد بن الحسن ابن قتيبة العسقلاني بعسقلان ورملة أيضا يقول: سمعت محمد بن أبي السري يقول: رأيت في المنام كأني في مسجد عسقلان وكان رجلا يناظرني وهو يقول: " * (والعنهم لعنا كبيرا) *) وأنا أقول كثيرا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم وكان في وسط المسجد منارة لها باب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقصدها فقلت: هذا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله، استغفر لي، فأمسك عني فجئت عن يمينه فقلت: يا رسول الله، استغفر لي فأعرض عني، فقمت في صدره فقلت: يا رسول الله حدثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله: أنك ما سئلت شيئا قط فقلت: لا، فتبسم، ثم قال: (اللهم اغفر له)، فقلت: يا رسول الله، إني وهذا نتكلم في قوله: " * (والعنهم لعنا كبيرا) *) وهو يقول: " * (كبيرا) *) وأنا أقول: (كثيرا)، قال: فدخل المنارة وهو يقول: كثيرا إلى أن غاب صوته عني.، يعني بالثاء.
(* (ياأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها * ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما * إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما) *
65

قوله: " * (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله) *) فطهره الله سبحانه " * (مما قالوا وكان عند الله وجيها) *) كريما مقبولا ذا جاه، واختلفوا فيما آذوا به موسى.
فأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرني أبو حامد بن الشرفي، عن محمد ويحيى بن عبد الرحمن بن بشير وأحمد بن يوسف قالوا: أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو بكر المطيري قال: أخبرني أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب، عن عبد الرزاق، عن معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه قال: (كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى (عليه السلام) يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل وحده فوضع ثوبه على الحجر ففر الحجر بثوبه فجمح في أثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر من بعدما نظروا إليه، فأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضربا).
قال أبو هريرة: إن بالحجر ندبا ستة أو سبعة أثر ضرب موسى (عليه السلام).
وروى الحسن وابن سيرين عن أبي هريرة في هذه الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه: (إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يكاد يري من جلده شيئا يستحيي منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة، فأراد الله أن يبرءه مما قالوا: وإن موسى خلا يوما وحده، فوضع ثوبه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ من غسله أقبل على ثوبه ليأخذه بعد الحجر بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، وجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فنظروا إلى أحسن الناس خلقا وأعدلهم صورة، وإن الحجر قام فأخذ ثوبه فلبسه، فطفق بالحجر ضربا، وقال الملأ: قاتل الله أفاكي بني إسرائيل فكانت براءته التي برأه الله منها).
وقال قوم: كان إيذاؤهم إياه ادعاءهم عليه قتل أخيه هارون.
أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أن المعافى بن زكريا القاضي أخبره عن محمد بن جرير بن يزيد الطبري، حدثني علي بن مسلم الطوسي، عن عباد عن سفيان بن حصين، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب في قول الله تعالى: " * (كالذين آذوا موسى...) *) قال: صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون، فقال بنو إسرائيل: أنت قتلته، وكان أشد حبا لنا منك وألين لنا منك، فآذوه بذلك، فأمر الله الملائكة فحملته حتى مروا به على
66

بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات، فبرأه الله من ذلك، فانطلقوا به فدفنوه، فلم يطلع على قبره أحد من خلق الله إلا الرخم فجعله الله أصم أبكم.
وقال أبو العالية: هو أن قارون استأجر مومسة لتقذف موسى (عليه السلام) بنفسها على رأس الملأ، فعصمها الله منه وبرأ موسى من ذلك وأهلك هارون. وقد مضت هذه القصة.
" * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا) *) أي حقا قصدا. ابن عباس: صوابا. قتادة ومقاتل: عدلا. المؤرخ: مستقيما. عكرمة: هو قول: لا إله إلا
الله. ابن حيان: يعني قولوا في شأن زينب وزيد سديدا ولا تنسبوا رسول الله صلى الله عليه إلى ما لا يحمل. " * (يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) *).
قوله: " * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال) *) قيل: كان العرض على أعيان هذه الأشياء، فأفهمهن الله خطابه وأنطقهن. وقيل: عرضها على من فيها من الملائكة. وقيل: عرضها على أهلها كلها دون أعيانها، وهذا كقوله: " * (وسئل القرية) *) (أي أهلها).
" * (فأبين أن يحملنها) *) مخافة وخشية لا معصية ومخالفة، وكان العرض تخييرا لا إلزاما " * (وحملها الأنسان) *) واختلفوا في الأمانة، فقال أكثر المفسرين: هي الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده، عرضها على السماوات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها وقالوا: لا، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا.
فقال الله تعالى لآدم: إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فتحملها آدم صلوات الله عليه وقال: بين أذني وعاتقي، فقال الله تعالى: أما إذا تحملت فسأعينك فاجعل لبصرك حجابا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لايحل لك فأرخ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلقا، فإذا خشيت فاغلق، واجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرمت عليك.
قالوا: فما لبث آدم إلا مقدارا ما بين الظهر والعصر حتى أخرج من الجنه. وقال مجاهد: الأمانة الفرائض وحدود الدين. وأبو العالية: هي ما أمروا به ونهوا عنه. وقال زيد بن أسلم وغيره: هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من شرائع الدين.
أنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن خالد العسقلاني عن عبد الله بن عبد المجيد الحنفي قال: أخبرنا أبو العوام القطان عن قتادة
67

وأبان بن أبي عباس عن خليد العصري عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه: خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وأعطى الزكاة من ماله عن طيب نفس وكان يقول: (وأيم) الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن وأدى الأمانة.
قالوا: يا أبا الدرداء، وما أداء الأمانة؟ قال: الغسل من الجنابة. قال: الله عز وجل لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيره.
وبه عن ابن جرير عن ابن بشار، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن أبي بن كعب قال: من الأمانة أن المرأة أئتمنت على فرجها.
وقال عبد الله بن عمر بن العاص: أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه، وقال: هذه أمانة استودعتكها. فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال بعضهم: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهد، فحق على كل مؤمن ألا يغش مؤمنا، ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، وقال السدي بإسناده: هي ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده، وخيانته إياه في قتل أخيه وذكر القصة إلى أن قال: قال الله عز وجل لآدم: يا آدم هل تعلم أن لي في الأرض بيتا؟ قال: اللهم لا.
قال: فإن لي بيتا بمكة فأته. فقال آدم للسماء: (احفظي ولدي بالأمانة)، فأبت، وقال للأرض فأبت، وقال للجبال فأبت، وقال لقابيل فقال: نعم تذهب وترجع تجد أهلك كما يسرك. فانطلق آدم (عليه السلام)، فرجع وقد قتل قابيل هابيل، فذلك قوله عز وجل: " * (إنا عرضنا الأمانة) *) يعني قابيل حين حمل أمانة آدم ثم لم يحفظ له أهله.
وقال الآخرون: " * (وحملها الإنسان) *) يعني آدم. ثم اختلفت عباراتهم في معنى (الظلوم) و (الجهول)؛ فقال ابن عباس والضحاك: " * (ظلوما) *) لنفسه " * (جهولا) *) غرا بأمر الله وما احتمل من الأمانة. قتادة: " * (ظلوما) *) للأمانة " * (جهولا) *) عن حقها. الكلبي: " * (ظلوما) *) حين عصى ربه، " * (جهولا) *) لا يدري ما العقاب في تركه الأمانة. الحسين بن الفضل: " * (إنه كان ظلوما جهولا) *) عند الملائكة لا عند الله.
" * (ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما) *).
68

((سورة سبأ))
أخبرنا ابن المقرئ عن ابن مطيرة عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس عن سلام بن سليم عن هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلا كان يوم القيامة له رفيقا ومصافحا).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الحمد لله الذى له ما فى السماوات وما فى الارض وله الحمد فى الاخرة وهو الحكيم الخبير * يعلم ما يلج فى الارض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور * وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الارض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين * ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولائك لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين أولائك لهم عذاب من رجز أليم * ويرى الذين أوتوا العلم الذىأنزل إليك من ربك هو الحق ويهدىإلى صراط العزيز الحميد * وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم
لفى خلق جديد * أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالاخرة فى العذاب والضلال البعيد * أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء والارض إن نشأ نخسف بهم الارض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء إن فى ذلك لاية لكل عبد منيب) *) 2
قوله: " * (الحمد لله) *) وهو الوصف بالجميل على جهة التعظيم " * (الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة) *) كما هو له في الدنيا؛ لأن النعم كلها في الدارين منه، " * (وهو الحكيم الخبير) *).
قوله: " * (يعلم ما يلج في الأرض) *) يدخل ويغيب فيها من الماء والمواد والحيوانات، " * (وما
69

يخرج منها) *) من النبات، " * (وما ينزل من السماء) *) من الأمطار، " * (وما يعرج) *) يصعد " * (فيها) *): من الملائكة وأعمال العباد، " * (وهو الرحيم الغفور) *).
" * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم) *) الساعة، ثم عاد جل جلاله إلى تمجيده والثناء على نفسه، فقال عز من قائل: " * (عالم الغيب) *)، اختلف القراء فيها، فقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي: (علام الغيب) بخفض الميم على وزن فعال، وهي قراءة عبد الله وأصحابه. قال الفراء: وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله (علام).
وقرأ أهل مكة والبصرة وعاصم بجر الميم على مثال فاعل ردا على قوله، وهي اختيار أبي عبيد فيه، وفي أمثاله يؤثر النعوت على الابتداء.
وقرأ الآخرون (عالم) رفعا بالاستئناف؛ إذ حال بينهما كلام.
" * (لا يعزب) *) يغيب ويبتعد " * (عنه مثقال ذرة) *): وزن نملة، وهذا مثل؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه ما هو دون الذرة. " * (في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا) *) عملوا في إبطال أدلتنا والتكذيب بكتابنا " * (معاجزين) *): مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا.
قال ابن زيد: جاهدين، وقرأ: * (لا تسمعوا لهذا القرآن) * * (أولئك لهم عذاب من رجز أليم) *)، قرأ ابن كثير ويعقوب وعاصم برواية حفص والمفضل " * (أليم) *) بالرفع على نعت ال (عذاب). غيرهم بالخفض على نعت ال (رجز). قال قتادة: الرجز أسوأ العذاب، ومثله في الجاثية " * (ويرى) *) يعني: وليرى " * (الذين أوتوا العلم) *) يعني: مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال قتادة: هم أصحاب محمد (عليه السلام).
" * (الذي أنزل إليك من ربك) *) يعني: القرآن " * (هو الحق ويهدي) *) يعني: القرآن " * (إلى صراط العزيز الحميد) *) وهو الإسلام.
" * (وقال الذين كفروا) *) منكرين للبعث متعجبين منه: " * (هل ندلكم على رجل ينبئكم) *): يخبركم، يعنون: محمدا (عليه السلام) * * (إذا مزقتم) *): قطعتم وفرقتم " * (كل ممزق) *) وصرتم رفاتا " * (إنكم) *) بالكسر على الابتداء والحكاية، مجازة يقول لكم: " * (إنكم لفي خلق جديد) *).
" * (أفترى) *) ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل لذلك نصب " * (على الله كذبا أم به جنة) *): جنون؟ قال الله تعالى: " * (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد
70

أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض) *) فيعلموا أنهم حيث كانوا، فإن أرضي وسمائي محيطة بهم، لا يخرجون من أقطارها، وأنا لقادر عليهم ولا يعجزونني؟
" * (إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء) *) قطعة. قراءة العامة بالنون في الثلث، وقرأ الأعمش والكسائي كلها بالياء وهو اختيار أبي عبيد قال: لذكر الله عز وجل قبله.
" * (إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) *) تائب مقبل على ربه راجع إليه بقلبه.
(* (ولقد ءاتينا داوود منا فضلا ياجبال أوبى معه والطير وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر فى السرد واعملوا صالحا إنى بما تعملون بصير) *) 2
قوله تعالى: " * (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال) *) مجازه وقلنا: يا جبال " * (أوبي معه) *): سبحي معه إذا سبح. قال أبو ميسرة: هو بلسان الحبشة، وقال بعضهم: هو التفعيل من الإياب، أي ارجعي معه بالتسبيح. فهذا معنى قول قتادة وأبي عبيد، وقال وهب بن منبه: نوحي معه. " * (والطير) *) تساعدك على ذلك، قال: وكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس من ذلك اليوم.
ويقال: إن داود كان إذا سبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح. ثم إنه قال ليلة من الليالي في نفسه: (لأعبدن الله تعالى عبادة لم يعبده أحد بمثلها)، فصعد الجبل، فلما كان في جوف الليل وهو على الجبل دخلته وحشة، فأوحى الله سبحانه إلى الجبال أن آنسي داود قال: فاصطكت الجبال بالتسبيح والتهليل، فقال داود في نفسه: (كيف يسمع صوتي مع هذه الأصوات؟) فهبط عليه ملك فأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر، فركله برجله فانفرج له البحر، فانتهى به إلى الأرض فركلها برجله فانفرجت له الأرض، حتى انتهى به إلى الحوت فركلها برجله فتنحت عن صخرة فركل الصخرة برجله فانفلقت فمزجت منها دودة تنشز، فقال له الملك: إن ربك يسمع نشيز هذه الدودة في هذا الموضع.
وقال القتيبي: أصله من التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلا.
قال ابن مقبل:
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما
دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح
كأنه أراد ادأبي النهار كله بالتسبيح معه، وقيل: سيري معه كيف يشاء: " * (والطير) *) قراءة العامة بالنصب، وله وجهان
71

أحدهما بالفعل، مجازه: وسخرنا له الطير، مثل قولك: (أطعمته طعاما وماء) تريد: وسقيته ماء، والوجه الآخر النداء كقولك: يا عمرو والصلت أقبلا، نصبت الصلت؛ لأنه إنما يدعى بيائها فإذا فقدتها كان كالمعدول عن جهته، فنصب، وقيل: مع الطير، فتكون الطير مأمورة معه بالتأويب.
وروي عن يعقوب بالرفع؛ ردا على " * (الجبال) *) أي أوبي معه أنت والطير، كقول الشاعر:
ألا يا عمرو والضحاك سيرا
فقد جاوزتما خمر الطريق
يجوز نصب الضحاك ورفعه.
قوله: " * (وألنا له الحديد) *) فذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد، وكان سبب ذلك على ما روي في الأخبار أن داود (عليه السلام) لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكرا، فإذا رأى رجلا لا يعرفه، تقدم إليه يسأله عن داود، فيقول له: (ما تقول في داود واليكم هذا؛ أي رجل هو؟) فيثنون عليه ويقولون: خيرا فينا هو.
فبينا هو في ذلك يوما من الأيام إذ قيض الله ملكا في صورة آدمي، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله، فقال له الملك: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داود ذلك وقال: (ما هي يا عبد الله؟) قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال: فتنبه لذلك، وسأل الله تعالى أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله، فألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع، وعلمه صنعة الدروع، وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها.
فيقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله منها ويتصدق منها على الفقراء والمساكين، ويقال أيضا: إنما ألان الحديد في يده لما أعطي من القوة.
" * (أن اعمل سابغات) *) دروعا كوامل واسعات " * (وقدر في السرد) *)، أي لا تجعل المسامير دقاقا فتغلق ولا غلاظا فتكسر الحلق. فكان يفعل ذلك: وهو أول من اتخذ الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح، والسرد: صنعة الدرع، ومنه قيل لصانعها: السراد والزراد والدرع المسرودة، قال أبو ذويب:
وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
وأصله الوصل والنظم، ومنه قيل للخرز: سرد وللأشفى مسرد وسراد. قال الشماخ:
كما تابعت سرد العنان الخوارز
72

وسرد الكلام.
" * (واعملوا) *) يعني داود وآله " * (صالحا إني بما تعملون بصير) *).
2 (* (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشآء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا ءال داوود شكرا وقليل من عبادى الشكور * فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الارض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين) *) 2
قوله: (ولسليمان الريح قراءة العامة بنصب الحاء، أي وسخرنا لسليمان الريح، وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم بالرفع على جر حرف الصفة. " * (غدوها شهر ورواحها) *) من انتصاف النهار إلى الليل مسير " * (شهر) *)، فجعل (ما) تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين، وقال وهب: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتابة (كتبها) بعض صحابة سليمان (عليه السلام)، إما من الجن وإما من الإنس بحر نزلناه وما بنيناه، مبنيا وجدناه غدوناه من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فبائتون بالشام.
قال الحسن: لما شغلت نبي الله سليمان بن داود الخيل حتى فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل، فأبدله الله تعالى مكانها خيرا وأسرع له، تجري بأمره كيف يشاء " * (غدوها شهر ورواحها شهر) *) وكان يغدو من إيليا فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل.
وقال ابن زيد: كان له (عليه السلام) مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه من الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر، فلا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الجيوش.
ويروى أن سليمان (عليه السلام) سار من أرض العراق غاديا فقال بمدينة مرو، وصلى العصر بمدينة بلخ تحمله وجنوده الريح ويظلهم الطير، ثم سار من مدينة بلخ متخللا بلاد الترك، ثم جازهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثله. ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض القندهار،
وخرج منها إلى مكران وكرمان ثم جازها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياما وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى الشام، وكان مستقره
73

بمدينة تدمر، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر، وفي ذلك يقول النابغة:
ألا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر، أنشأها بعض أصحاب سليمان بن داود (عليهما السلام):
ونحن ولا حول سوى حول ربنا
نروح إلى الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا
مسيرة شهر والغدو لآخر
أناس شروا لله طوعا نفوسهم
بنصر ابن داود النبي المطهر
لهم في معالي الدين فضل ورفعة
وإن نسبوا يوما فمن خير معشر
متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت
مبادرة عن شهرها لم تقصر
تظلهم طير صفوف عليهم
متى رفرفت من فوقهم لم تنفر
قوله: " * (وأسلنا له عين القطر) *): وأذبنا له عين النحاس أسيلت له ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان.
" * (ومن يزغ) *): يمل ويعدل " * (عن أمرنا) *) الذي أمرناه به من طاعة سليمان " * (نذقه من عذاب السعير) *) في الآخرة. عن أكثر المفسرين، وقال بعضهم: في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته.
" * (يعملون له ما يشاء من محاريب) *): مساجد ومساكن وقصور، والمحراب: مقدم كل مسجد، ومجلس وبيت. قال عدي:
كدمى العاج في المحاريب أو كال
بيض في الروض زهره (مستنير)
وكان مما عملوا له من ذلك بيت المقدس، وقصته وصفته على ما ذكره أهل البصر بالسير أن الله تعالى بارك في نسل إبراهيم (عليه السلام) حتى جعلهم في الكثرة غاية لا يحصون، فلما كان زمن داود (عليه السلام) لبث فيهم ثلاثين سنة بأرض فلسطين، وهم كل يوم يزدادون كثرة، فأعجب داود بكثرتهم فأمر بعدهم، فكانوا يعدون زمانا من الدهر حتى أيسوا وعجزوا أن يحيط علمهم بعدد بني إسرائيل، فأوحى الله إلى داود: (إني قد وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح
74

ولده فصدقني وائتمر أمري أن أبارك له في ذريته، حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء وحتى لا يحصيهم العادون، وإني قد أقسمت أن أبتليهم ببلية يقل منها عددهم ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم) وخيره بين أن يعذبهم بالجوع والقحط ثلاث سنين، وبين أن يسلط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر، وبين أن يرسل عليهم الطاعون ثلاثة أيام.
فجمع داود بني إسرائيل وأخبرهم بما أوحى الله إليه وخيره فيه، فقالوا: أنت أعلم بما هو أيسر لنا وأنت نبينا فانظر لنا، غير أن الجوع لا صبر لنا (عليه) وتسليط العدو أمر فاضح، فإن كان لابد فالموت. فأمرهم داود عليه السلام أن يتجهزوا للموت، فاغتسلوا وتحنطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين، وأمرهم أن يضجوا إلى الله تعالى ويتضرعوا إليه لعله يرحمهم، وذلك في صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد. قال: وارتفع داود (عليه السلام) فوق الصخرة فخر ساجدا يبتهل إلى الله تعالى فأرسل الله فيهم الطاعون. فأهلك منهم في يوم وليلة ما لم يتفرغوا من دفنهم إلا بعد مدة شهرين. فلما أصبحوا من اليوم الثاني سجد داود وسجدوا معه إلى طلوع الشمس فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف الله عنهم الطاعون.
قالوا: فلما أن شفع الله تعالى داود في بني إسرائيل في ذلك المكان جمع داود بني إسرائيل بعد ثلاثة فقال لهم: (إن الله سبحانه قد من عليكم ورحمكم فجددوا له شكرا). فقالوا: كيف تأمرنا. قال: (آمركم أن تتخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجدا لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذاكر).
فلما أرادوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم في ثبوتهم فقال لبني إسرائيل: إن لي فيه موضعا أنا محتاج إليه ولا يحل لكم أن تحجبوني عنه.
فقالوا له: يا هذا ما أحد في بني إسرائيل إلا وله في هذا الصعيد حق مثل حقك، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه. فقال: أنا لا أعرف حقي وأنتم لا تعرفون. فقالوا له: إما إن ترضى وتطيب نفسا، وإلا أخذناه كرها. فقال لهم: أوتجدون ذلك في حكم الله وفي حكم داود؟
قال: فرفعوا خبره إلى داود فقال: (أرضوه). فقالوا: بكم نأخذه يا نبي الله؟ قال: (خذوه بمائة شاة). فقال الرجل: زد. فقال داود: (بمائة بقر). قال: زد. قال: (مائة إبل). قال: زدني فإن ما تشتريه لله تعالى. فقال داود: (أما إذا قلت هذا، فاحتكم أعطكه) فقال: تشتري مني بحائط مثله زيتونا ونخلا وعنبا. قال: (نعم). فقال: تشتريه لله فلا تبخل. قال: (سل ما شئت أعطكه، وإن شئت أؤاجرك نفسي) قال: وتفعل ذلك يا نبي الله؟ قال: (نعم إذا شئت). قال: أنت أكرم على الله من ذلك، ولكنك تبني حوله جدارا مشرفا ثم تملؤه ذهبا، وإن شئت ورقا. قال داود: (هو هين).
75

فالتفت الرجل إلى بني إسرائيل وقال: هذا هو التائب المخلص. ثم قال لداود: يا نبي الله لئن يغفر الله لي ذنبا واحدا أحب إلي من كل شيء وهبته لي، ولكني كنت أجربكم.
فأخذوا في بناء بيت المقدس، وكان داود (عليه السلام) ينقل لهم الحجارة على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة. فأوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام): (إن هذا بيت مقدس وإنك رجل سفاك للدماء فلست ببانيه إذا لم أقضي ذلك على يدك، ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان، أسلمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده، وذلك صيته وذكره لك باقيا).
فصلوا فيه زمانا، وداود يومئذ ابن سبع وعشرين ومئة سنة، فلما صار من أبناء أربعين ومئة سنة توفاه الله واستخلف سليمان. فأحب بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له. فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضا، وأنزل كل ربض منها سبطا من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطا.
فلما فرع من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد، فوجه الشياطين فرقا، فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر، فأتي من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله تعالى، ثم أحضر الصناعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء فكانوا يعالجونها، فتصوت صوتا شديدا لصلابتها، فكره سليمان تلك الأصوات. فدعا الجن وقال لهم: (هل عندكم حيلة في نحت هذه الجواهر من غير تصويت؟).
فقالوا: يا رسول الله، ليس في الجن أكثر تجارب، ولا أكثر علما من صخر العفريت، فأرسل إليه من يأتيك به. فطبع سليمان خاتمه طابعا وكان يطبع للشياطين بالنحاس، ولسائر الجن بالحديد وكان إذا طبع أحدهما بخاتمه لمع ذلك كالبرق الخاطف، فكان لا يراه أحد: جني ولا شيطان إلا انقاد له بإذن الله عزت قدرته.
فأرسل الطابع مع عشرة من الجن فأتوه وهو في بعض جزائر البحور، فأروه الطابع، فلما نظر إليه كاد يصعق خوفا، فأقبل مسرعا مع الرسل حتى دخل على سليمان (عليه السلام). فسأل سليمان رسله عما أحدث العفريت في طريقه. فقالوا: يا رسول الله إنه كان يضحك بعض الأحايين من الناس. فقال له سليمان (عليه السلام): (ما رضيت بتمردك علي في ترك المجيء إلي طائعا حتى صرت تسخر بالناس؟).
76

فقال: يا نبي الله إني لم أسخر منهم غير أن ضحكي كان تعجبا مما كنت أسمع وأرى في طريقي. فقال سليمان: (وما ذاك؟).
قال: اعلم أني مررت برجل على شط نهر ومعه بغلة يريد سقيها ومعه جرة يريد أن يستقي فيها، فسقى البغلة وملأ الجرة، ثم أراد أن يقضي حاجته فشد البغلة بإذن الجرة فنفرت البغلة وجرت الجرة فكسرتها، فضحكت من حمق الرجل حيث توهم أن الجرة تحبس البغلة.
ومررت برجل وهو جالس عند إسكاف يستعمله في إصلاح خف له، فسمعته يشترط معه أن يصلحه بحيث يبقى معه أربع سنين ونسي نزول الموت به قبله، فضحكت من غفلته وجهله.
ومررت بعجوز تتكهن وتخبر الناس بما لا يعلمون من أمر السماء، وقد كنت عهدت رجلا دفن في موضع فراشها ذهبا كثيرا في الدهور الخالية، فرأيتها تموت جوعا وتحت فراشها ذهب كثير لا تعلم بمكانه، ثم تخبر الناس عن أمر السماء فضحكت منها.
ومررت برجل في بعض المدن، وقد كان به داء فيما قيل فأكل البصل فبرأ من دائه، فصار يتطبب للناس، فكان لا يأتيه أحد يسأله عن علة إلا أمره بأكل البصل وإنه لأضر شيء، حتى إن ضره ليصل إلى الدماغ، فضحكت منه.
ومررت ببعض الأسواق فرأيت الثوم وهو أفضل الأدوية كلها يكال كيلا، ورأيت الفلفل وهو أحد السموم القاتلة يوزن وزنا فضحكت من ذلك.
ومررت بناس قد جلسوا يبتهلون إلى الله تعالى ويسألونه المغفرة والرحمة، فمل منهم قوم وقاموا، وجاء آخرون وجلسوا فرأيت الرحمة قد نزلت عليهم، فأخطأت الذين كانوا من أهل المجلس، وغشيت الذين جاؤوا فجلسوا، فضحكت؛ تعجبا للقضاء والقدر.
قالوا: فقال سليمان له: هل عرفت في كثرة تجاربك وجولاتك في البر والبحر شيئا تنحت به هذه الجواهر فتلين فيسهل نحتها وثقبها فلا تصوت؟ فقال: نعم يا نبي الله، أعرف حجرا أبيض كاللبن يقال له السامور غير أني لا أعرف معدنه الذي هو فيه، وليس في الطير شيء هو أحيل ولا أهدى من العقاب. فمر بعقاب أن تجعل فراخه في صندوق حجر معه ليلة، ثم تسرح ذلك العقاب وتترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بذلك الحجر فيضرب به ظهر الصندوق حتى ينقبه به ليصل إلى فراخه.
قال: فأمر سليمان بعقاب مع فراخه فجعله في صندوق من حجر يوما وليلة، ثم سرح العقاب دون الفراخ، فمر العقاب وجاء بذلك الحجر بعد يوم وليلة، وثقب به
الصندوق حتى
77

وصل إلى فراخه. فوجه سليمان مع العقاب نفرا من الجن حتى أتوه به منه قدر ما علم أن فيه كفاية، واستعمل ذلك في أدوات الصناعين، فسهل عليهم نحتها من غير تصويت وهو الحجر الذي يستعمل في نقش الخواتيم وثقب الجواهر إلى اليوم، وهو حجر عزيز ثمين.
قال: فبنى سليمان (عليه السلام) المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمده بأساطين المها الصافي، وسقفه بألواح الجواهر الثمنية وفصص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ بيت في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.
فلما فرغ منه جمع إليه أخيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله وأن كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا.
وقالوا: من أعاجيب ما اتخذ سليمان عليه السلام ببيت المقدس أن بنى بيتا وطين حائطه بالخضرة وصقله، فكان إذا دخله الورع البر استبان خياله في ذلك الحائط أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود. فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة.
ونصب في زاوية من زوايا المسجد عصا أبنوس، فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم يضره مسها، ومن مسها من غيرهم احترقت يده.
وروى الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنين وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه الله الثالثة: سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك).
قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان (عليه السلام) حتى غزا نبوخذ نصر فخرب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمله معه إلى دار مملكته من أرض العراق.
قال سعيد بن المسيب: لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلقت أبوابه، فعالجها سليمان فلم تنفتح، حتى قال في دعائه: (بصلوات أبي داود إلا فتحت الأبواب).
ففتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قراء بني إسرائيل: خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا والله يعبد فيها.
78

" * (وتماثيل) *) أي صور، كانوا يعملون التماثيل من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام في المساجد تماثيل الملائكة والنبيين الصالحين؛ لكي إذا رآهم الناس مصورين عبدوا عبادتهم. " * (وجفان) *) أي قصاع، واحدها جفنة " * (كالجواب) *) كالحياض التي يجبى فيها الماء، أي يجمع، واحدها جابية.
قال الأعشى ميمون بن قيس:
تروح على آل مخلق جفنة
كجابية الشيخ العراقي تفهق
أخبرنا أبو بكر الحمشاوي قال: أخبرني أبو بكر القطيعي إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا سهل السراج قال: سمعت الحسن يقول: (وجفان كالجواب) مثل حياض الإبل، ويقال: إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه.
" * (وقدور راسيات) *): ثابتات لا يحولن ولا يحركن من أماكنهن لعظمتهن، ولا ينزلن ولا يعطلن وكانت باليمن، ومنه قيل للجبال: رواسي " * (اعملوا) *) أي وقلنا: اعملوا " * (آل داود شكرا) *) مجازه: اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكرا له على نعمه، و " * (شكرا) *) في محل المصدر. " * (وقليل من عبادي الشكور) *) أرسل حمزة (الياء) وفتحها الباقون. قال القرظي: الشكر: تقوى الله والعمل بطاعته.
وحدثونا عن محمد بن يعقوب قال: حدثنا الحصر بن أبان قال: حدثنا سيار قال: حدثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت ثابتا يقول: كان داود نبي الله (عليه السلام) قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن بأي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي، فعمهم الله تعالى في هذه الآية * (اعملوا آل داود شكرا) * * (فلما قضينا عليه الموت) *) قال المفسرون: كان سليمان (عليه السلام) يتحرز في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل فيه طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدو ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة فيسألها: (ما اسمك؟) فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فيقول لها: (لأي شيء أنت؟) فتقول: لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع. فإن كانت نبتت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتب.
فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: (ما اسمك؟). قالت: الخروبة. قال: (ولأي شيء نبت؟) قالت: لخراب هذا المسجد. فقال سليمان: (ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي، وخراب بيت المقدس). فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال: (اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب)
79

وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء وإنهم يعلمون ما في غد ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات.
قال ابن زيد: قال سليمان لملك الموت: (إذا أمرت بي فاعلمني). قال: فأتاه فقال: (يا سليمان قد أمرت بك، وقد بقيت لك سويعة).
فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلي واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكىء على عصاه.
وفي رواية أخرى: أن سليمان (عليه السلام) قال ذات يوم لأصحابه: (قد آتاني الله من الملك ما ترون، وما مر علي يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر، وقد
أحببت أن يكون لي يوم واحد يصفو لي إلى الليل، ولا أغتم فيه ولكن ذلك اليوم غدا).
فلما كان من الغد دخل قصرا له وأمر بإغلاق أبوابه، ومنع الناس من الدخول عليه، ورفع الأخبار إليه لئلا يسمع ذلك اليوم شيئا يسوؤه، ثم أخذ عصاه بيده، وصعد فوق قصره واتكأ على عصاه ينظر في ممالكه، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض قد خرج عليه من جانب من جوانب قصره، فقال: (السلام عليك يا سليمان). فقال: (وعليك السلام، كيف دخلت هذا القصر، وقد منعت من دخوله؟ أما منعك البواب والحجاب؟ أما هبتني حيث دخلت قصري بغير إذني؟) فقال: (أنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا يدفعني بواب ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرشا وما كنت لأدخل هذا القصر بغير إذن) قال سليمان: (فمن أذن لك في دخوله؟) قال: (ربه).
فارتعد سليمان وعلم أنه ملك الموت، فقال له: (أنت ملك الموت؟) قال: (نعم)، قال: (فبم جئت؟).
قال: (جئت لأقبض روحك). قال: (يا ملك الموت هذا يوم أردت أن يصفو لي ولا أسمع فيه ما يغمني). قال: (يا سليمان، إنك أردت يوما يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغتم فيه، ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا فارض بقضاء ربك فإنه لا مرد له).
قال: (فامض لما أمرت به).
فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه. قالوا: وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلاه أينما كان، فكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه، وكان الشيطان الذي يريد أن يخرج يقول: ألست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق فنظر إلى سليمان وقد سقط ميتا، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته وهي العصا بلسان الحبشة قد أكلتها الأرضة،
80

ولم يعلموا مذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوما وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات من سنة، وكانت الجن تعمل بين يديه ينظرون إليه ويحسبون أنه حي ولا ينظرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك.
وهي في قراءة ابن مسعود: فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا، فأيقن الناس أن الجن كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له. ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الطين والماء. فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون فوق الخشب فهو مما يأتيها به الشياطين تشكرا لها، فذلك قوله تعالى: " * (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض) *) وهي الأرضة، ويقال لها: القادح أيضا وهي دويبة تأكل العيدان.
" * (تأكل منسأته) *) أي عصاه، فأصلها من نسأت الغنم إذا زجرتها وسقتها، وقال طرفة:
أمون كألواح الأران نسأتها
على لاحب كأنه ظهر برجد
أي سقتها، وهمزها أكثر القراء، وترك همزها أبو عمرو وأهل المدينة، وهما لغتان، وقال الشاعر في الهمز:
ضربنا بمنسأة وجهه
فصار بذاك مهينا ذليلا
وقال الآخرون في ترك الهمز:
إذا دببت على المنساة من هرم
فقد تباعد عنك اللهو والغزل
قوله: " * (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) *)، و " * (أن) *) في محل الرفع؛ لأن معنى الكلام: فلما خر تبين وانكشف أن لو كان الجن أي ظهر أمرهم، وفي قراءة ابن مسعود أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، وقيل: " * (أن) *) في موضع نصب أي علمت وأيقنت الجن أن لو كانوا يعلمون.
وقال أهل التاريخ: كان عمر سليمان (عليه السلام) ثلاثا وخمسين سنة وكان مدة ملكه أربعين سنة، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه والله أعلم.
81

2 (* (لقد كان لسبإ فى مسكنهم ءاية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجناتهم جنتين ذواتى أكل خمط وأثل وشىء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجزىإلا الكفور * وجعلنا بينهم وبين القرى التى باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالى وأياما ءامنين * فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن فى ذلك لايات لكل صبار شكور * ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالاخرة ممن هو منها فى شك وربك على كل شىء حفيظ * قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له
حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير * قل من يرزقكم من السماوات والارض قل الله وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين * قل لا تسئلون عمآ أجرمنا ولا نسئل عما تعملون * قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم * قل أرونى الذين ألحقتم به شركآء كلا بل هو الله العزيز الحكيم) *) 2
قوله تعالى: " * (لقد كان لسبأ) *)، روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي قال: قال رجل: يا رسول الله، أخبرني عن سبأ ما كان؛ رجلا أو امرأة، أو أرضا أو جبلا أو واديا؟ فقال صلى الله عليه وسلم (ليست بأرض ولا امرأة ولكنه كان رجلا من العرب ولد له عشرة من الولد، فتيامن منهم ستة وتشاءم أربعة؛ فأما الذين تيامنوا، فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير).
فقال رجل: وما أنمار؟ قال: (الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان).
والإجراء وترك الإجراء فيه سائغ، وقد قرىء بهما جميعا فالإجراء على أنه اسم رجل معروف، وترك الإجراء على أنه اسم قبيلة نحو (هذه تميم).
واختاره أبو عبيد لقوله:
" * (في مساكنهم) *)، واختلف القراء فيه، فقرأ حمزة والنخعي: (مسكنهم) بفتح الكاف على الواحد، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي وخلف بكسر الكاف على الواحد. الباقون: " * (مساكنهم) *) جمع.
" * (آية) *) دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا، ثم فسرها فقال: " * (جنتان) *) أي هي جنتان: بستانان
82

" * (عن يمين) *) من أتاهما " * (وشمال) *) وعن شماله " * (كلوا) *): وقيل لهم: كلوا " * (من رزق ربكم واشكروا له) *) على ما أنعم عليكم، وإلى ها هنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال: " * (بلدة) *) أي هذه بلدة أو بلدتكم بلدة " * (طيبة) *) ليست بسبخة. قال ابن زيد: لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة قط ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، وإن كان الركب ليأتون وفي ثيابهم القمل والدواب فما هو إلا أن ينظروا لي بيوتهم فتموت الدواب، وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفواكه ولم يتناول منها شيئا بيده فذلك قوله سبحانه: " * (بلدة طيبة) *) الهواء، " * (ورب غفور) *) الخطأ كثير العطاء.
قوله تعالى: " * (فأعرضوا) *)، قال وهب: بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله، وذكروهم نعمه عليهم، وأنذروهم عقابه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة. فقولوا لربكم الذي تزعمون فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع، فذلك قوله عز وجل: " * (فأعرضوا) *).
" * (فأرسلنا عليهم سيل العرم) *)، والعرم: السد والمسناة التي تحبس الماء واحدتها عرمة، وأصلها من العرامة وهي الشدة والقوة.
وقال ابن عباس ووهب وغيرهما: كان هذا السد يسقي جنتيهم، وكان فيما ذكر بنته بلقيس وذلك أنها لما ملكت جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها فنزلته، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت، فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك. فقالت: إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول. قالوا: فإنا نطيعك فإنا لم نجد فينا خيرا بعدك. فجاءت فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة، فجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهارهم، فلما جاء المطر اجتمع إليه ماء الشجر وأودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة وأمرت بالبعر فألقي فيها، فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار وترسل البعر في الماء حتى خرجت جميعا معا فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان.
وبقوا على ذلك بعدها، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني، ثم من الباب الأسفل ولا ينفد الماء، حتى يؤوب الماء من السنة المقبلة.
فلما طغوا وكفروا، سلط الله عليهم جرذا يسمى الخلد فنقب من أسفله، فغرق الماء جناتهم وخرب أرضهم.
وقال وهب: وكانوا فيما يزعمون يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم ذلك فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة، فلما جاء زمان وما أراد الله بهم من التفريق
83

أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى وهنته للسيل وهم لا يعلمون ذلك. فلما جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قلع السد وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل، وفرقوا ومزقوا حتى صاروا مثلا عند العرب (فقالوا): تفرقوا أيادي سبأ، وأيدي سبأ، فذلك قوله تعالى: " * (فأرسلنا عليهم سيل العرم) *).
وقيل: العرم هو المطر الشديد من العرامة وهي التمرد والعصيان.
" * (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط) *) قراءة العامة بالتنوين، وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالإضافة، وهما متقاربتان كقول العرب: في بستان فلان أعناب كرم وأعناب كرم، فتضيف أحيانا الأعناب إلى الكرم؛ لأنه منه، وتنون أحيانا الأعناب، ثم يترجم بالكرم عنها؛ إذ كانت الأعناب ثمر الكرم.
والأكل: الثمر، والخمط: الأراك في قول أكثر المفسرين، وقيل: كل شجرة ذات شوك، وقيل: شجرة الغضا، وقيل: هو كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله، " * (وأثل) *) وهو الطرفاء، عن ابن عباس، وقيل: هو شجر شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه، وقال الحسن: الإثل الخشب. قتادة: ضرب من الخشب، وقيل: هو السمر. أبو عبيدة: هو النضار. " * (وشئ من سدر قليل) *)، قال قتادة: بينما شجر القوم من خير الشجر إذ صيره الله من شر الشجر
بأعمالهم. قال الكلبي: فكانوا يستظلون بالشجر ويأكلون البربر وثمر السدر وأبوا أن يجيبوا الرسل " * (ذلك) *) الذي جعلنا بهم، " * (جزيناهم بما كفروا) *) أي بكفرهم، ومحل ذلك نصب بوقوع المجازاة عليه، تقديره جزيناهم ذلك بما كفروا: " * (وهل نجازي إلا الكفور) *) قرأ أهل الكوفة بالنون وكسر الزاي ونصب الراء، واختاره أبو عبيدة قال: (لقوله): " * (جزيناهم) *)، ولم يقل: جوزوا، وقرأ الآخرون بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع الراء، ومعنى الآية: وهل يجازى مثل هذا الجزاء إلا الكفور، وقال مجاهد: يجازي أي يعاقب.
" * (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها) *) وهي الشام " * (قرى ظاهرة) *) أي متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها. قال الحسن: كان أحدهم يغدوا فيقيل في قرية ويروح فيأوي إلى أخرى، وكانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار، وكان ما بين اليمن والشام كذلك.
وقال ابن عباس: قرئ ظاهرة يعني: قرئ عربية بين المدينة والشام. سعيد بن جبير: هي القرى التي ما بين مأرب والشام. مجاهد: هي السروات، وهب بن منبه: هي قرى صنعاء.
84

" * (وقدرنا فيها السير) *) أي جعلنا السير بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، لا ينزلون إلا في قرية، ولا يغدون إلا في قرية، وقلنا لهم: " * (سيروا فيها ليالي وأياما) *) وقت شئتم " * (آمنين) *): لا تخافون عدوا ولا جوعا ولا عطشا، ولا تحتاجون إلى زاد ولا ماء، فبطروا وطغوا ولم يصبروا على العافية وقالوا: لو كان جني جناننا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه.
" * (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) *): فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد. فجعل الله لهم الإجابة، واختلف القراء في هذه الآية؛ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ربنا بعد)، على وجه الدعاء والسؤال من (التبعيد)، وهي رواية هشام عن قراء الشام، وقرأ ابن الحنفية ويعقوب: " * (ربنا) *) برفع الباء " * (باعد) *) بفتح الباء والعين والدال على الخبر، وهي اختيار أبي حاتم، استبعدوا أسفارهم بطرا منهم وأشرا، وقرأ الباقون: " * (ربنا) *) بفتح الباء، " * (باعد) *) بالألف وكسر العين وجزم الدال على الدعاء، ففعل الله ذلك بهم، فقال: " * (وظلموا أنفسهم) *) بالكفر والبطر والطغيان، " * (فجعلناهم أحاديث) *): عظة وعبرة يتمثل بهم، " * (ومزقناهم كل ممزق) *)، قال الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان.
وقال ابن إسحاق: يزعمون أن عمران بن عامر وهو عم القوم كان كاهنا فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم، فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون، فمن كان منكم ذا هم بعيد وحمل شديد ومزاد جديد فليلحق بكاسن أو كرود، قال: فكان وادعة بن عمرو.
ومن كان منكم يريد عيشا هانئا وحرما آمنا فليلحق بالأردن فكانت خزاعة، ومن كان منكم يريد الراسيات في الرجل والمطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فكان الأوس والخزرج، ومن كان منكم يريد خمرا وخميرا وذهبا وحريرا وملكا وتأميرا، فليلحق بكوثى وبصرى، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام، ومن كان منهم بالعراق.
" * (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) *) قال مطرف: هو المؤمن الذي إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر.
قوله: " * (ولقد صدق عليهم) *)، قرأ أهل الكوفة: بتشديد الدال وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد، أي ظن فيهم ظنا حيث قال: " * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) *)، وقال: " * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) *)، فصدق ظنه وحققه لفعله ذلك بهم واتباعهم إياه، وقرأ الآخرون: " * (صدق) *) بالتخفيف أي صدق عليهم في ظنه بهم.
85

" * (عليهم) *) أي على أهل سبأ، وقال مجاهد: على الناس كلهم إلا من أطاع الله " * (فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان) *) إلا تسليطنا إياه عليهم " * (لنعلم) *): لنرى ونميز، ونعلمه موجودا ظاهرا كائنا موجبا للثواب والعقاب، كما علمناه قبل مفقودا معدوما بعد ابتلاء منا لخلقنا.
قال الحسن: والله ما ضربهم بسيف ولا عصا ولا سوط إلا أماني وغرورا دعاهم إليها.
" * (من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك) *) الآية.
" * (قل) *) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين أنت بين ظهرانيهم: " * (ادعوا الذين زعمتم) *) أنهم آلهة " * (من دون الله) *)، ثم وصفها فقال: " * (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض) *) من خير وشر وضر ونفع، فكيف يكون إلها من كان كذلك؟ " * (وما لهم فيهما) *) أي في السماوات والأرض " * (من شرك) *) شركة " * (وما له) *) أي لله " * (منهم من ظهير) *): عون.
" * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) *) تكذيبا منه لهم حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي: (أذن) بضم الألف، واختلف فيها عن عاصم، وقرأ غيرهم: بالفتح.
" * (حتى إذا فزع) *) قرأ ابن عامر ويعقوب بفتح الفاء والزاي، (وقرأ) غيرهما: بضم الفاء وكسر الزاي، أي كشف الفزع، وأخرج " * (عن قلوبهم) *)، وأخبرني ابن فنجويه قال: أخبرني أبو علي بن حبيس المقرئ قال: حدثنا أبو عبيد القاضي قال: أخبرني الحسين بن محمد الصباغ عن عبد الوهاب عن موسى الأسواري عن الحسن أنه كان يقرؤها حتى (إذا فرع عن قلوبهم) بالراء والعين يعني: فرعت قلوبهم من الخوف.
واختلفوا في هذه الكناية والموصوفين بهذه الصفة؛ من هم؟ وما السبب الذي من أجله فزع عن قلوبهم؟
فقال قوم: هم الملائكة، ثم اختلفوا في سبب ذلك، فقال بعضهم: إنما يفزع عن قلوبهم غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله سبحانه.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن علي بن عفان قال: حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال: إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيصعقون عند ذلك ويخرون سجدا، فإذا علموا أنه وحي فزع عن قلوبهم. قال: فيرد إليهم، فينادي أهل السماوات بعضهم بعضا: " * (ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير) *) فرفعه بعضهم.
86

وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي سعيد البزاز قال: حدثنا علي بن أشكاب قال: أخبرني أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل (عليه السلام)، فإذا جاءهم جبرائيل عليه السلام فزع عن قلوبهم فيقولون: يا جبرائيل ماذا قال ربك؟ قال: يقول: الحق، فينادون: الحق الحق).
والشاهد لهذا الحديث والمفسر له ما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الفقيه قال: أخبرني أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب قال: أخبرنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله عز وجل الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: للذي قال: الحق وهو العلي الكبير).
وأنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير الطبري عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي زكريا عن رجاء بن حبوة عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله (: (فإذا سمع بذلك أهل السماوات، صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراده، ثم يمر جبرائيل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق وهو العلي الكبير. قال: فيقولون كلهم مثلما ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمر الله).
وبه عن ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب عن هشام عن عروة قال: قال الحرث ابن هشام لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال: (يأتيني في صلصلة كصلصلة الجرس فيفصم عني حين يفصم وقد وعيته، ويأتيني أحيانا في مثل صورة الرجل فيكلمني به كلاما وهو أهون علي).
وقال بعضهم: إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة.
وقال الكلبي: كان بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) فترة زمان طويلة لا يجري فيها
87

الرسل خمسمائة وخمسين عاما، فلما بعث الله محمدا (عليه السلام) كلم الله جبرائيل بالرسالة إلى محمد، فلما سمعت الملائكة الصوت ظنوا أنها الساعة قد قامت فصعقوا مما سمعوا. فلما انحدر جبرائيل جعل يمر بأهل كل سماء فيكشط عنهم فيرفعون رؤوسهم، فيقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فلم يدروا ما كان ولكنهم قالوا: قال الحق وهو العلي الكبير؛ وذلك أن محمدا عند أهل السماوات من أشراط الساعة، فلما بعثه الله تعالى فزع أهل السماوات لا يشكون إلا أنها الساعة.
وقال الضحاك: إن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، إذا أرسلهم الرب فانحدروا سمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجدا ويصعقون، حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا تنبيه من الله سبحانه وإخبار أن الملائكة مع هذه الصفة لا يمكنهم أن يشفعوا لأحد إلا أن يؤذن لهم، فإذا أذن الله لهم وسمعوا وحيه كان هذا حالهم. فكيف تشفع الأصنام؟
وقال آخرون: بل الموصوفون بذلك المشركون.
قال الحسن وابن زيد يعني: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم، قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا: الحق، فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في آخر السورة: " * (ولوترى إذا فزعوا فلا فوت) *).
" * (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) *) هذا على جهة الإنصاف في الحجاج كما يقول القائل: أحدنا كاذب وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه كاذب.
والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، إن أحد الفريقين لمهتد والآخر ضال. فالنبي ومن معه على الهدى ومن خالفه في ضلال، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب.
وقيل هذا على جهة الاستهزاء بهم وهو غير شاك في دينه، وهذا كقول الشاعر وهو أبو الأسود:
يقول الأرذلون بنو قشير:
طوال الدهر لا تنسى عليا
بنو عم النبي وأقربوه
أحب الناس كلهم إليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه
وليس بمخطئ إن كان غيا
88

فقاله من غير شك، وقد أيقن أن حبهم رشد.
وقال بعضهم: " * (أو) *) بمعنى الواو، يعني: إنا لعلى هدى وإنكم إياكم لفي ضلال مبين، كقول جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا
عدلت بهم طهية والخشابا
يعني ثعلبة ورياحا.
" * (قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا) *) يوم القيامة " * (ثم يفتح بيننا) *): يقضي بيننا " * (بالحق وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركاء) *) يعني الأصنام هل خلقوا من الأرض شيئا أم لهم شرك في السماوات: وتفسيرها في سورة (الملائكة) و (الأحقاف).
ثم قال تعالى " * (كلا بل هو الله العزيز الحكيم) *)، وهو القاهر القوي الذي يمنع من يشاء ولا يمنعه مانع، فهو العزيز المنتقم ممن كفر به وخالفه، الحكيم في تدبيره لخلقه، فأنى يكون له شريك في ملكه؟
(* (ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لكم ميعاد يوم لا تستئخرون عنه ساعة ولا تستقدمون * وقال الذين كفروا لن نؤمن بهاذا القرءان ولا بالذى بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جآءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر اليل والنهار إذ تأمروننآ أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الاغلال فىأعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون * ومآ أرسلنا فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا بمآ أرسلتم به كافرون * وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين * قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من ءامن وعمل صالحا فأولائك لهم جزآء الضعف بما عملوا وهم فى الغرفات ءامنون * والذين يسعون فىءاياتنا معاجزين أولائك فى العذاب محضرون * قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له ومآ أنفقتم من شىء فهو يخلفه وهو خير الرازقين * ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهاؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون * فاليوم لا يملك بعضكم
89

لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التى كنتم بها تكذبون * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قالوا ما هاذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد ءابآؤكم وقالوا ما هاذآ إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جآءهم إن هاذآ إلا سحر مبين * ومآ ءاتيناهم من كتب يدرسونها ومآ أرسلنا إليهم قبلك من نذير * وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار مآ ءاتيناهم فكذبوا رسلى فكيف كان نكير * قل إنمآ أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد * قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله وهو على كل شىء شهيد * قل إن ربى يقذف بالحق علام الغيوب) *) 2
قوله عز وجل: " * (وما أرسلناك إلا كافة) *) عامة " * (للناس) *) كلهم؛ العرب والعجم وسائر الأمم. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا ابن فضيل قال: حدثنا (يزيد بن أبي زياد عن مجاهد ومقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمسا ولا أقول فخرا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأحل لي المغنم ولم يحل لأحد كان قبلي، ونصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي يوم القيامة، وهي إن شاء الله نائلة من لم يشرك بالله شيئا).
وقيل: معناه كاف للناس. يكفهم عما هم عليه من الكفر، ويدعوهم إلى الإسلام، والهاء فيه للمبالغة.
" * (بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه) *) من الكتب، ثم أخبر حالهم في مآلهم، فقال: " * (ولوترى إذ الظالمون) *): الكافرون " * (موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول) *) يتلاومون ويحاور بعضهم بعضا " * (يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار) *) أي مكركم بنا. فهما كما يقال: عزم الأمر وفلان نهاره صائم وليله قائم.
قال الشاعر:
ونمت وما ليل المطي بنائم
وقيل: مكر الليل والنهار بهم طول السلامة فيهما كقوله: " * (وطال عليهم الأمد) *)
90

، ونحوه. " * (إذ تأمروننا أن نكفر بالله، نجعل له أندادا وأسروا) *): أظهروا " * (الندامة) *)، وهو من الأضداد؛ يكون بمعنى الإخفاء، والإبداء " * (لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال) *): الجوامع من النار " * (في أعناق الذين كفروا) *): الأتباع والمتبوعين، " * (هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) *) في الدنيا؟
" * (وما أرسلنا في قرية من نذير) *): رسول " * (إلا قال مترفوها) *): رؤساؤها وأغنياؤها " * (إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا)
*) منكم، ولو لم يكن راضيا بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد.
" * (وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) *)، وليس يدل ذلك على العواقب والمنقلب، " * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *) أنها كذلك.
" * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن) *): لكن من آمن " * (وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) *) من الثواب بالواحد عشرة، و " * (من) *) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون محله نصبا بوقوع " * (تقرب) *) عليه، والآخر: رفع تقديره: وما هو إلا من آمن. " * (وهم في الغرفات) *) الدرجات " * (آمنون) *).
وقراءة العامة: " * (جزاء الضعف) *) بالإضافة، وقرأ يعقوب: (جزاء) منصوبا منونا. الضعف رفع مجازه: فأولئك لهم الضعف جزاء على التقديم والتأخير، وقراءة العامة: الغرفات بالجمع، واختاره أبو عبيد قال: لقوله: " * (لنبوئنهم من الجنة غرفا) *)، وقرأ الأعمش وحمزة: (في الغرفة) على الواحدة.
" * (والذين يسعون) *): يعملون " * (في آياتنا) *) بإبطال حججنا وكتابنا، " * (ومعاجزين) *) معاونين معاندين يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم ويعجزوننا، " * (أولئك في العذاب محضرون) *) * * (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) *). قال سعيد بن جبير: ما كان من غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه، وقال الكلبي: ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير والبر من نفقة فهو يخلفه إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة. أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدثنا أبي قال: حدثنا علي بن داود القنطري قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن عمرو بن الحرث عن أبي يونس مولى أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل قال لي: أنفق أنفق عليك).
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابن شاذان عن جعونة بن محمد قال: حدثنا صالح
91

ابن محمد عن سليمان بن عمرو عن ابن حزم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي مناد كل ليلة: لدوا للموت وينادي مناد: ابنوا للخراب، وينادي مناد: اللهم هب للمنفق خلفا، وينادي مناد: اللهم هب للممسك تلفا، وينادي مناد: ليت الناس لم يخلقوا، وينادي مناد: ليتهم إذ خلقوا فكروا فيما له خلقوا).
وأخبرني الحسين بن محمد الحافظ قال: حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا المسيب، قال: حدثنا محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال عمر لصهيب: إنك رجل لا تمسك شيئا، قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: " * (ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) *).
" * (وهو خير الرازقين) *)، وأخبرني أبو سفيان الثقفي قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا الحسن بن داود الخشاب قال: حدثنا سويد بن سعيد قال: حدثنا عبد الحميد بن الحسن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله فهو له صدقة وما وقى به عرضه فهو صدقة، وما أنفق المؤمن من نفقة فإن خلفها على الله ضامن إلا ما كان نفقة في بنيان أو معصية).
قال عبد الحميد: فقلت لمحمد: ما معنى (ما يقي به الرجل عرضه)؟ قال: يعطي الشاعر أو ذا اللسان المتقى.
وقال مجاهد: إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية " * (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) *) فإن الرزق مقسوم، فلعل رزقه قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه، ومعنى الآية (ما كان من خلف فهو منه)، وربما أنفق الإنسان ماله أجمع في الخير ثم لم يزل عائلا حتى يموت، ولكن ما كان من خلف فهو منه، ودليل تأويل مجاهد ما أخبرني أبو سفيان الحسين بن محمد بن عبد الله قال: حدثنا محمد بن الحسين بن بشير قال: أخبرني أبو بكر بن أبي الخصيب قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا عمرو بن الحصين قال: حدثنا ابن علانة وهو محمد عن الأوزاعي عن ابن أبي موسى عن أبي أمامة قال: إنكم تؤولون هذه الآية على غير تأويلها " * (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) *).
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وإلا فصمتا: (إياكم والسرف في المال والنفقة، وعليكم بالاقتصاد، فما افتقر قوم قط اقتصدوا).
92

وقال (عليه السلام): (ما عال من اقتصد).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن هاشم البغوي قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا عاصم بن خالد قال: أخبرني أبو بكر قال: حدثنا حمزة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فقه الرجل رفقه في معيشته).
" * (وهو خير الرازقين) *) وإنما جاز الجمع؛ لأنه يقال: رزق السلطان الجند، وفلان يرزق عياله، كأنه قال: وهو خير المعطين.
" * (ويوم يحشرهم جميعا) *) يعني هؤلاء الكفار " * (ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) *) في الدنيا؟ فتتبرأ منهم الملائكة فتقول: " * (سبحانك) *): تنزيها لك. " * (أنت ولينا) *): ربنا " * (من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) *) أي يطيعون إبليس وذريته وأعوانه في معصيتك. " * (أكثرهم بهم مؤمنون) *): مصدقون.
قال قتادة: هو استفهام تقديره كقوله لعيسى: " * (أأنت قلت للناس اتخذوني...) *).
" * (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا) *): شفاعة ولا عذابا، " * (ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) *) في الدنيا فقد وردتموها.
" * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا) *) يعني محمدا (عليه السلام) * * (إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى) *) يعنون القرآن " * (وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين وما آتيناهم) *) هؤلاء المشركين " * (من كتب يدرسونها) *) يقرؤونها " * (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير وكذب الذين من قبلهم) *) من الأمم رسلنا وتنزيلنا " * (وما بلغوا) *) يعني هؤلاء المشركين " * (معشار ما آتيناهم) *) يعني مكذبي الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر " * (فكذبوا رسلي فكيف كان نكير) *): إنكاري وتغيري عليهم، يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية.
قوله تعالى: " * (قل إنما أعظكم) *) آمركم وأوصيكم " * (بواحدة) *) بخصلة واحدة وهي " * (أن تقوموا لله) *) لأجل الله و " * (أن) *) في محل الخفض على البيان من " * (واحدة) *) والترجمة عنها " * (مثنى) *) يعني اثنين اثنين متناظرين، " * (وفرادى) *) واحدا واحدا متفكرين " * (ثم تتفكروا) *) جميعا، والفكر: طلب المعنى بالقلب، فتعلموا، " * (ما بصاحبكم) *) محمد " * (من جنة) *) جنون كما تقولون، و " * (ما) *) جحد ونفي. " * (إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد قل ما سألتكم) *) على تبليغ
93

الرسالة والنصيحة " * (من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله) *) أي ما ثوابي إلا على الله " * (وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف) *): يرمي ويأتي " * (بالحق) *) ينزله من السماء إلى خير الأنبياء، " * (علام الغيوب) *) رفع بخبر " * (إن) *))
.
* (قل جآء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد * قل إن ضللت فإنمآ أضل على نفسى وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربى إنه سميع قريب * ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب * وقالوا ءامنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد * وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد * وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا فى شك مريب) *) 2
" * (قل جاء الحق) *) القرآن والإسلام، وقال الباقر: يعني السيف. " * (وما يبدئ الباطل وما يعيد) *) يعني ذهب الباطل وزهق فلم تبق له بقية يبدي بها ولا يعيد، وهذا كقوله: " * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) *).
وقال الحسن: و " * (مايبدئ) *) الباطل، وهو كل معبود من دون الله لأهله خيرا في الدنيا و " * (مايعيد) *) في الآخرة.
وقال قتادة: الباطل إبليس، أي ما يخلق إبليس أحدا ولا يبعثه، وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن إبراهيم بن علي عن محمد بن عمران بن هارون عن سفيان بن وكيع عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم كة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود معه ويقول: * (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) * * (جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) *).
" * (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي) *) وآخذ بجنايتي " * (وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب) *).
" * (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت) *) يعني من عذاب الدنيا، فلا نجاة " * (وأخذوا من مكان قريب) *) يعني عذاب الدنيا، وقال الضحاك وزيد بن أسلم: هو يوم بدر. الكلبي: من تحت أقدامهم.
وأخبرنا محمد بن نعيم عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن الحسن بن عطية عن يعقوب الأصفهاني عن ابن أبزي: " * (ولوترى إذ فزعوا فلا فوت) *) قال: خسف بالبيداء.
أخبرني عقيل بن محمد أن المعافى بن زكريا البغدادي أخبرهم قال: أخبرنا محمد بن
94

جرير قال: حدثني عصام بن رواد بن الجراح قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سفيان بن سعيد قال: حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فتنة تكون بين أهل الشرق والمغرب: (فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق، فيبعث جيشين: جيشا إلى المشرق، وجيشا إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف، ويبقرون بها أكثر من مئة امرأة، ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام، فتخرج راية هدى من الكوفة، فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم ولا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها. ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله سبحانه جبرائيل (عليه السلام) فيقول: يا جبرائيل اذهب فأبدهم. فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ: " * (ولوترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب) *) فلا ينفلت منهم إلا رجلان: أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة)..
فلذلك جاء القول: (وعند جهينة الخبر اليقين).
وقال قتادة: ذلك حين يخرجون من قبورهم، وقال ابن معقل: إذا عاينوا عذاب الله يوم القيامة وأخذوا من مكان قريب؛ لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه.
" * (وقالوا) *) حين عاينوا العذاب في الدنيا والآخرة وقت البأس " * (آمنا به وأنى) *): من أين " * (لهم التناوش) *) تناول التوبة ونيل ما يتمنون؟
قال ابن عباس: يسألون الراد وليس يحين الرد، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (التناؤش): بالهمز والمد، وهو الإبطاء والبعد. يقال: تناشيت
الشيء أي أخذته من بعيد، والنيش الشيء البطيء.
قال الشاعر:
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني
وقد حدثت بعد الأمور أمور
وقال آخر:
وجئت نئيشا بعدها فاتك الخبر
95

وقرأ الباقون: بغير همز، من التناول. يقال: نشته نوشا إذا تناولته.
قال الراجز:
فهي تنوش الحوض نوشا من علا
نوشا به تقطع أجواز الفلا
وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضا وتدانوا، واختار أبو عبيد: ترك الهمز؛ لأن معناه: التناول، وإذا همز كان معناه البعد. فكيف يقول: أنى لهم البعد " * (من مكان بعيد) *): من الآخرة؟ فكيف يتناولون التوبة، وإنما يقبل التوبة في الدنيا وقد ذهبت الدنيا فصارت بعيدة من الآخرة؟
" * (وقد كفروا به من قبل) *)، أي من قبل نزول العذاب " * (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد) *)، يعني يرمون محمدا صلى الله عليه وسلم بالظنون لا باليقين، وهو قولهم: إنه ساحر، بل شاعر، بل كاهن، هذا قول مجاهد، وقال قتادة: يعني يرجمون بالظن، يقولون: لا بعث ولا جنة ولا نار.
" * (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) *)، يعني التوبة والإيمان والرجوع إلى الدنيا " * (كما فعل بأشياعهم) *) أي أهل دينهم وموافقهم من الأمم الماضية حين لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت البأس " * (إنهم كانوا في شك مريب) *).
96

((سورة فاطر))
أخبرني محمد بن القاسم الفارسي قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن مطير النيسابوري قال: حدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال: حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدثنا سلام بن سليم المدائني قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاث أبواب من الجنة أن ادخل من أي الأبواب شئت).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الحمد لله فاطر السماوات والارض جاعل الملائكة رسلا أولىأجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد فى الخلق ما يشآء إن الله على كل شىء قدير * ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم * ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السمآء والارض لا إلاه إلا هو فأنى تؤفكون * وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الامور * ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيواة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور * إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير * الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير * أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا فإن الله يضل من يشآء ويهدى من يشآء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) *) 2
قوله عز وجل: " * (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء) *) يعني في أجنحة الملائكة.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدثنا ابن شاذان قال: حدثنا جعونة بن محمد قال: حدثنا صالح بن محمد قال: حدثنا مسلم بن اياس عن عبد الله بن المبارك عن ليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبرائيل (عليه السلام): أن يتراءى له في صورته، فقال له جبرائيل (عليه السلام). (إنك لن تطيق ذلك). قال: (إني أحب أن تفعل)
97

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة، فأتاه جبرائيل (عليه السلام) في صورته، فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه، فلما أفاق وجبرائيل (عليه السلام) مسنده واضعا إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبحان الله ما كنت أرى أن شيئا من الخلق هكذا). فقال جبرائيل عليه السلام: (فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام؟ إن له لاثني عشر جناحا؛ جناح منها بالمشرق وجناح بالمغرب، وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله عز وجل حتى يعود هذا الوصع والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته).
وأخبرني أبو الحسن الساماني قال: أخبرني أبو حامد البلالي عن العباس بن محمد الدوري قال: أخبرني أبو عاصم النبيل عن صالح التاجي عن ابن جريج عن ابن شهاب في قول الله عز وجل: " * (يزيد في الخلق ما يشاء) *) قال: حسن الصورة.
وأخبرني الحسين بن محمد عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن عبد الله بن محمد بن سنان عن سلمة بن حبان عن صالح التاجي عن الهيثم القارئ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك؟ جزاك الله خيرا، وقيل: الخط الحسن.
أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شيبة عن ابن زنجويه عن سلمة عن يحيى بن أحمد الفزار ويحيى ابن أكثم قالا: أخبرنا أبو اليمان عن عاصم بن مهاجر الكلاعي عن أبيه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخط الحسن يزيد الحق وضحا.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثني الحسن بن علي بن يزيد الوشاء عن علي بن سهل الرملي قال: أخبرني الوليد بن مسلم عن خليد بن دعلج عن قتادة في قول الله عز وجل: " * (يزيد في الخلق ما يشاء) *) قال: الملاحة في العينين.
" * (إن الله على كل شيء قدير) *) من الزيادة والنقصان.
" * (ما يفتح الله للناس من رحمة) *) نعمة، " * (فلا ممسك لها) *): لا يستطيع أحد حبسها " * (وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز) *) فيما أمسك " * (الحكيم) *) فيما أرسل.
" * (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله) *). قرأ سفيان بن سلمة وأبو جعفر وحمزة والأعمش والكسائي: " * (غير) *) بالخفض وهو اختيار أبي عبيد. الياقوت: بالرفع.
وهذه الآية حجة على القدرية؛ لأنه نفى خالقا غيره وهم يثبتون معه خالقين كثيرين.
" * (يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وإن يكذبوك فقد كذبت رسل
98

من قبلك) *) فعزى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، " * (وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) *)، قراءة العامة بفتح الغين، وهو الشيطان، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حبيش قال: حدثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أحمد بن يزيد المقري عن محمد بن المصفى عن أبي حياة، قرأ: " * (ولا يغرنكم بالله الغرور) *) برفع الغين، وهي قراءة ابن السماك العدوي يدل عليه وماحدثنا.
قال: أخبرناعبد الله بن حامد محمد بن خالد قال: أخبرنا داود بن سليمان قال: أخبرنا عبد بن حميد عن يحيى بن عبد الحميد عن ابن المبارك عن عبد الله بن عقبة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير: " * (فلا يغرنكم بالله الغرور) *) قال: أن يعمل المعصية ويتمنى العفو.
" * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) *): فعادوه ولا تطيعوه " * (إنما يدعو حزبه) *): أشياعه وأولياءه " * (ليكونوا من أصحاب السعير) *) ليسوقهم إلى النار، فهذه عداوته ثم بين حال موافقيه ومخالفيه فقال عز من قائل: " * (الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير) *).
قوله: " * (فمن زين له) *) أي شبة وموه وحسن له " * (سوء) *): قبح عمله وفعله " * (فرآه حسنا) *) زين ذلك الشيطان بالوسواس ونفسه تميله إلى الشبهة وترك النظر في الحجة المؤدية إلى الحق، والله سبحانه وتعالى يخلقه ذلك في قلبه، وجوابه محذوف مجازه: أفمن زين له سوء عمله كمن لم يزين له سوء عمله ورأى الحق حقا والباطل باطلا؟ نظيره قوله: " * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) *)، وقوله " * (أمن هو قانت) *) ونحوها.
وقيل: معناه: أفمن زين له سوء عمله فأضله الله كمن هداه؟ دليله قوله: " * (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء) *).
وقيل: معناه تحت قوله: " * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) *)، فيكون معناه: أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليه حسرة، أي تتحسف عليه؟ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، والحسرة: شدة الحزن على ما فات من الأمر.
وقراءة العامة: (تذهب نفسك): بفتح الباء والهاء وضم السين، وقرأ أبو جعفر بضم التاء وكسر الهاء وفتح السين، ومعنى الآية: لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إذ لم يؤمنوا، نظيره " * (لعلك باخع نفسك) *).
99

" * (إن الله عليم بما يصنعون) *))
.
* (والله الذىأرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الارض بعد موتها كذلك النشور * من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولائك هو يبور * والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب إن ذلك على الله يسير * وما يستوى البحران هاذا عذب فرات سآئغ شرابه وهاذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) *) 2
" * (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور) *) من القبور.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن خالد عن داود بن سليمان عن عبد بن حميد عن المؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال: قلت يا رسول الله: كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال صلى الله عليه وسلم (هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا؟) قلت: نعم.
قال: (فكذلك يحيي الله الموتى، وتلك آيته في خلقه).
قوله عز وجل " * (من كان يريد العزة) *)، يعني علم العزة لمن هي، " * (فلله العزة جميعا) *)، وذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزز كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: " * (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) *)، وقال سبحانه: " * (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) *)، كلا، ورد الله عليهم: من آراد أن يعلم لمن العزة الحقيقية فآية العزة لله، ومن أراد أن يكون في الدراين عزيزا فليطع الله فإن العزة لله جميعا.
100

" * (إليه) *) أي إلى الله، ومعناه: إلى محل القبول وإلى حيث لا يملك فيه الحكم إلا الله عز وجل، وهو كما يقال: ارتفع أمرهم إلى القاضي. " * (يصعد الكلم الطيب) *) يعني: (لا إله إلا الله) وكل ذكر مرضي لله تعالى، وقرأ أبو عبد الرحمن: (الكلام الطيب)، وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن أحمد الهمداني قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد المسكين البصري عن أحمد بن محمد المكي عن علي بن عاصم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: " * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) *) قال: (هو قول الرجل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، إذا قالها العبد عرج بها ملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن عز وجل، فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه).
واختلف العلماء في حكم هذه الكناية ومعنى الآية، فقال أكثر المفسرين: الهاء في قوله: " * (يرفعه) *) راجعة إلى " * (الكلم الطيب) *)، يعني أن العمل الصالح يرفع الكلم فلا يقبل القول إلا بالعمل، وهذا اختيار نحاة البصرة، وقال الحسن وقتادة: " * (الكلم الطيب) *): ذكر الله " * (والعمل الصالح) *) أداء فرائضه. فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه زاد كلامه على عمله، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. فمن قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله، ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل ذلك؛ فإن الله يقول: " * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) *).
ودليل هذا التأويل قوله (عليه السلام): (لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية (ولا يقبل قولا ونية إلا بإصابة السنة)).
وجاء في الخبر: (الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب).
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
لا ترض من رجل حلاوة قوله
حتى يزين ما يقول فعال
فإذا وزنت فعاله بمقاله
فتوازنا فإخاء ذاك جمال
قال ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر، وفيه قيل:
لا يكون المقال إلا بفعل
إنما القول زينة في الفعال
101

كل قول يكون لا فعل فيه
مثل ماء يصب في غربال
وأنشدني أبو القاسم الحبيشي لنفسه:
لا يكون المقال إلا بفعل
وكل قول بلا فعال هباء
إن قولا بلا فعال جميل
ونكاحا بلا ولي سواء
وقال بعض أهل المعاني على هذا القول: معنى " * (يرفعه) *)، أي يجعله رفيعا ذا وزن وقيمة، كما يقال: طود رفيع ومرتفع، وقيل: العمل الصالح هو الخالص، يعني أن الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأعمال، دليله قوله: " * (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) *) أي خالصا ثم قال: " * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) *)، فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء، وقال قوم: هذه الكناية راجعة إلى العمل، يعني أن الكلم الطيب يرفع العمل؛ فلا يرفع ولا يقبل عمل إلا أن يكون صادرا عن التوحيد وعائد الذكر يرفع وينصب، وهذا التأويل اختيار نحاة الكوفة وقال آخرون: الهاء كناية عن العمل، والرفع من صفة الله سبحانه، أي يرفعه الله.
" * (والذين يمكرون السيئات) *) أي يعملون، قال مقاتل: يعني الشرك، وقال أبو العالية: يعني الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، وقال الكلبي: " * (الذين يمكرون) *) يعني يعملون السيئات في الدنيا، وقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب: هم أصحاب الرياء. " * (لهم عذاب شديد ومكر أولئك
هو يبور) *) أي يكسد ويفسد ويضل ويضمحل في الآخرة.
" * (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير) *) قراءة العامة: (ينقص) بضم الياء، وقرأ الحسن وابن سيرين وعيسى (ينقص) بفتح الياء وضم القاف، وقرأ الأعرج: " * (من عمره) *) بالتخفيف.
قال سعيد بن جبير: مكتوب في أول الكتاب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره.
" * (وما يستوي البحران هذا عذب فرات) *): طيب " * (سائغ) *): جائز هني شرابه.
وقرأ عيسى: (سيغ) مثل: ميت وسيد. " * (وهذا ملح أجاج) *) شديد الملوحة، عن: ابن عباس، وقال الضحاك: هو المر مزاجه كأنه يحرق من شدة المرارة والملوحة. " * (ومن كل تأكلون لحما طريا) *): طعاما شهيا، يعني: السمك من العذب والملح، " * (وتستخرجون منه) *))
102

: من الملح دون العذب " * (حلية تلبسونها) *) يعني اللؤلؤ، وقيل: فيه عيون عذبة، ومما بينهما يخرج اللؤلؤ. " * (وترى الفلك فيه مواخر) *): جواري، وقال مقاتل: هو أن يرى سفينتين إحداهما مقبلة والأخرى مدبرة، وهذه تستقبل تلك وتلك تستدبر هذه، يجريان بريح واحدة، " * (لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *) الله على نعمه.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا ابن شاذان قال: حدثنا جيفويه بن محمد قال: حدثنا صالح بن محد عن القاسم بن عبد الله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلم الله البحرين فقيل للبحر الذي بالشام: يا بحر إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء، وإني حامل فيك عبادا يسبحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبرونني فما أنت صانع بهم؟ قال: أغرقهم. قال الله عز وجل: فإني أحملهم على ظهرك وأجعل بأسك في نواحيك (وحاملهم على يدي).
وقال للبحر الذي باليمن: إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء وإني حامل فيك عبادا لي يسبحونني ويحمدونني ويهللوني ويكبرونني فما أنت صانع بهم؟ قال: أسبحك وأحمدك وأهللك وأكبرك معهم، وأحملهم على (ظهري) بطني. قال الله سبحانه: فإني أفضلك على البحر الآخر بالحلية والطري).
قوله: " * (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) *) وهي القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة، عن أكثر المفسرين. وقال ابن عباس: هو شق النواة، وقال السدي: هو ما ينقطع به القمع.
" * (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم) *): يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها، " * (ولا ينبئك مثل خبير) *) يعني نفسه تعالى.
2 (* (ياأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغنى الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز * ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلواة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير * وما يستوى الاعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوى الاحيآء ولا الاموات إن الله يسمع من يشآء ومآ أنت بمسمع من فى القبور * إن أنت إلا نذير * إنآ أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير
103

وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جآءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير * ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير * ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدوآب والانعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور * إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلواة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور * والذي أوحينآ إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير * ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وقالوا الحمد لله الذىأذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذىأحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) *) 2
" * (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ولا تزروا وازرة وزر أخرى) *)، سئل الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه وتعالى: " * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) *) فقال: " * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *) طوعا " * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) *) كرها.
" * (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه) *) يعني وإن تدع نفس مثقلة بذنوب غيرها إلى حملها، أي حمل ما عليها من الذنوب " * (لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى) *): ولو كان المدعو ذا قربى له: ابنه أو أمه أو أباه أو أخاه.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عن أحمد بن محمد بن رزمة القزويني عن محمد بن عبد ابن عامر السمرقندي قال: حدثنا إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: قوله سبحانه: " * (لا يحمل منه شيء لو كان ذا قربى) *) قال: يعني الوالدة تلقي ولدها يوم القيامة فتقول: يا بني ألم تكن بطني لك وعاء؟ ألم يكن لك ثديي سقاء؟ فيقول: بلى يا أماه. فتقول: يا بني قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني ذنبا واحدا. فيقول: يا أماه إليك عني، فإني اليوم عنك مشغول.
" * (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) *) أي يخافونه ولم يروه، " * (وأقاموا الصلاة ومن تزكى) *) صلح عمل خيرا وصالحا " * (فإنما يتزكى لنفسه وإلى
الله المصير) *).
" * (وما يستوي الأعمى والبصير) *) يعني: الجاهل والعالم، " * (ولا الظلمات ولا النور) *))
104

يعني: الكفر والإيمان، " * (ولا الظل ولا الحرور) *) يعني: الجنة والنار، والحرور: الريح الحارة بالليل، والسموم بالنهار، وقال بعضهم: الحرور: بالنهار مع الشمس، " * (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) *) يعني: المؤمنين والكفار. " * (إن الله يسمع من يشاء) *)، حتى يتعظ ويجيب " * (وما أنت بمسع من في القبور) *) يعني: الكفار شبههم بالأموات، وقرأ أشهب العقيلي: (بمسمع من في القبور) بلا تنوين على الإضافة.
" * (إن أنت إلا نذير إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات والزبر وبالكتاب المنير) *) كرر وهما واحد لاختلاف اللفظين.
" * (ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير) *).
" * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها) *) قدم النعت على الاسم فلذلك نصب. " * (ومن الجبال جدد) *): طرق، واحدها جدة نحو مدة و (مدد)، وأما جمع الجديد فجدد (بضم الدال) مثل: سرير وسرر " * (بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) *)، قال الفراء: فيه تقديم وتأخير، مجازه: سود غرابيب، وهي جمع غربيب، هو الشديد السواد يشبهها بلون الغراب قال الشاعر يصف كرما:
ومن تعاجيب خلق الله غاطية
البعض منها ملاحي وغربيب
" * (ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه) *) قال: المؤرخ: إنما " * (ألوانه) *) لأجل " * (من) *)، وسمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عياش يقول: إنما قال: " * (ألوانه) *)؛ لأجل أنها مردودة إلى (ما) في الإضمار، مجازه: ومن الناس والدواب والأنعام ما هو مختلف ألوانه.
" * (كذلك) *) تمام الكلام هاهنا، أي ومن هذه الأشياء مختلف ألوانه باختلاف الثمرات، ثم ابتدأ فقال سبحانه وتعالى: " * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) *) روى عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأ (إنما يخشى الله) رفعا و (العلماء) نصبا، وهو اختيار أبي حنيفة على معنى يعلم الله، وقيل: يختار، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة.
وقيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق ح أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه عن إسحاق بن صدقة قال: حدثنا عبد الله بن هاشم عن سيف بن عمر قال: حدثنا عباس بن
105

عوسجة عن عطاء الخراساني رفع الحديث قال: ظهر من أبي بكر خوف حتى عرف فيه فكلمه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأنزل الله سبحانه تعالى: " * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) *) في أبي بكر ح وفي الحديث: (أعلمهم بالله أشدهم له خشية).
وقال مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الربيعي قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أيوب المحرمي قال: حدثنا صالح بن مالك الأزدي قال: حدثنا عبيد الله بن سعد عن صالح بن مسلم الليثي قال: أتى رجل الشعبي فقال: أفتني أيها العالم؟ فقال: العالم من خشي الله عز وجل.
" * (إن الله عزيز غفور إن الذين يتلون كتاب الله) *) الآية قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: هذه آية القراء، " * (وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: حدثنا ابن شاذان قال: حدثنا جيعويه قال: حدثنا صالح بن محمد عن عبد الله بن عبد الله عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي أنه قال: قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لي لا أحب الموت؟ قال: (ألك مال؟). قال: نعم. قال: (فقدمه). قال: لا أستطيع. قال: (فإن قلب المرء مع ماله إن قدمه أحب أن يلحق به، وإن أخره أحب أن يتأخر معه).
" * (يرجون تجارة لن تبور) *)، قال الفراء: قوله " * (يرجون) *) جواب لقوله: " * (إن الذين يتلون) *).
" * (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ثم) *) مردود إلى ما قبله من كتب الله في قوله: " * (لما بين يديه) *)، أي قبله من الكتب السالفة، أي أنزلنا تلك الكتب، " * (ثم أورثنا) *) هذا " * (الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) *)، ويجوز أن تكون " * (ثم) *) بمعنى الواو أي (وأورثنا) كقوله: " * (ثم كان من الذين آمنوا) *) أي وكان ومعنى و " * (أورثنا) *): أعطينا؛ لأن الميراث عطاء، قاله مجاهد، وقال بعض أهل المعاني: " * (أورثنا) *) أي أخرنا، ومنه الميراث؛ لأنه تأخر عن الميت ومعناه: أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له، و قال عنترة:
وأورثت سيفي عن حصين بن معقل
إلى جده إني لثأري طالب
أي أخرت، وفي هذا كرامة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال لهم: " * (أورثنا) *) وقال: لسائر الأمم " * (ورثوا الكتاب) *) الآية يعني القرآن.
106

" * (الذين اصطفينا من عبادنا) *) وهم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). ثم قسمهم ثلاث طبقات ورتبهم على ثلاث درجات فقال الله تعالى: " * (فمنهم ظالم لنفسه) *) قيد اللفظ وعلق الظلم بالنفس؛ فلذلك ساغ أن يكون من أهل الاصطفاء مع ظلمه.
فإن قيل: ما وجه الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق وإنما يقدم الأفضل؟
فالجواب عنه أن نقول: إنما أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنان والثواب، كما قدم الصوامع والبيع والصلوات في سورة الحج على المساجد التي هي أفضل بقاع الأرض، فتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله تعالى.
ومنهم من قال: إنما جعل ذلك؛ لأن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى على الأفضل. كقوله تعالى: " * (إن ربك لشديد العقاب وإنه لغفور رحيم) *)، وقال: " * (يولج الليل في النهار) *)، وقال: " * (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) *) وقال: " * (خلق الموت والحياة) *).
وقيل: قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته وأخر السابق لئلا يعجب بعمله.
وقال جعفر الصادق (عليه السلام): (بدأ بالظالم إخبارا أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية ثم ثنى بالمقتصدين؛ لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله وكلهم في الجنة بحرمه كلمة الإخلاص).
وقال بعضهم: قدم الظالم؛ لأنه لم يكن له شيء يتكل عليه إلا رحمة الله فاعتمد على الله واتكل على رحمته واتكل المقتصد على حسن ظنه بربه واتكل السابق على حسناته وطاعته.
وقال محمد بن علي الترمذي: جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء؛ لأن الاصطفاء أوجب الإرث لا الإرث أوجب الاصطفاء؛ لذلك قيل: صحح النسبة ثم اطمع في الميراث.
وقال أبو بكر الوراق: إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس؛ لأن أحوال العبد ثلاث: معصية، وغفلة، ثم توبة وقربة. فإذا عصى دخل في حيز الظالمين، وإذا تاب دخل في
107

جملة المقتصدين وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة اتصل بالله ودخل في عداد السابقين.
واختلف المفسرون والمتأولون في معنى الظالم والمقتصد والسابق فأكثروا، وأنا ذاكر نصوص ما قالوا وبالله التوفيق:
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الله الحافظ، قال: حدثنا برهان ابن علي الصوفي والفضل بن الفضل الكندي قالا: أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب قال: حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي ثابت أن رجلا دخل المسجد فقال: اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي ويسر لي جليسا صالحا. قال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا لأنا أسعد بذلك منك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية " * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) *)، فقال: (أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة، فهم (الذين) قالوا: " * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور...) *) إلى قوله: " * (لغوب) *).
قال الكندي والأعمش عن رجل عن أبي ثابت: وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي عن إسحاق بن عيسى حدثني أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة عن موسى بن عتبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: " * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) *)، فأما الذين سبقوا بالخيرات فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين تلقاهم الله برحمته فهم الذين يقولون: " * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن...) *) إلى قوله: " * (لغوب) *)
وأخبرني الحسين قال: حدثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن سمعان الذرار قال: حدثنا يوسف بن يعقوب بن الحسن المقرئ بواسط قال: حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله المزني قال: حدثنا فرج بن فضالة عن أزهر بن عبد الله الحرازي قال: حدثني من سمع عثمان بن عفان تلا هذه الآية: " * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) *) الآية، فقال: سابقنا: أهل جهادنا، ومقتصرنا: أهل حضرنا، وظالمنا: أهل بدونا
108

وأخبرني الحسين قال: حدثنا عمر بن الخطاب قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثنا إسماعيل بن يزيد قال: حدثنا داود عن الصلت بن دينار قال: حدثنا عقبة بن صهبان قال: دخلت على عائشة فسألتها عن قول الله عز وجل: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه) *..) *) فقالت لي: يا بني كلهم في الجنة؛ أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا.
وقال مجاهد والحسن وقتادة: " * (فمنهم ظالم لنفسه) *) قالوا: هم أصحاب المشأمة، " * (ومنهم مقتصد) *) هم أصحاب الميمنة " * (ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) *) هم السابقون المقربون من الناس كلهم.
قال قتادة: فهذا في الدنيا على ثلاث منازل وعند الموت قال الله تعالى: " * (وأما إن كان من أصحاب اليمين) *) إلى قوله: " * (وتصلية جحيم) *)، وفي
الآخرة أيضا، قال عز وجل: " * (وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة) *) إلى قوله: " * (المقربون) *).
وقال ابن عباس: السابق: المؤمن المخلص، والمقتصد: المرائي، والظالم: الكافر بنعمة الله غير الجاحد لها؛ لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال: " * (جنات عدن يدخلونها) *)، وسمعت أبا محمد شيبة بن محمد بن أحمد الشعبي يقول: سمعت أبا بكر بن عبد يقول: قالت عائشة: السابق: الذي أسلم قبل الهجرة، والمقتصد: الذي أسلم بعد الهجرة، والظالم: نحن.
وقال بكر بن سهل الدمياطي: الظالم لنفسه: الذي مات على كبيرة ولم يتب منها، والمقتصد: الذي لم يصب كبيرة، والسابق بالخيرات: الذي لم يعص الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وعن الحسن أيضا قال: السابق: من رجحت حسناته، والمقتصد: من استوى حسناته وسيئاته، والظالم: الذي ترجح سيئاته على حسناته.
سهل بن عبد الله: السابق: العالم، والمقتصد: المتعلم، والظالم: الجاهل، وعنه أيضا: السابق: الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد: الذي اشتغل بمعادة عن معاشه، والظالم: الذي اشتغل بمعاشه عن معاده.
وقيل: الظالم: طالب الدنيا، والمقتصد: طالب العقبى، والسابق، طالب المولى.
وقيل: الظالم: المسلم، والمقتصد: المؤمن، والسابق: المحسن.
109

وقيل: الظالم: المرائي في جميع أعماله، والمقتصد: من تكون أعماله بعضها رياء وبعضها إخلاصا، والسابق: المخلص في أفعاله كلها، وقيل: الظالم: من أخذ الدنيا حلالا كان أو حراما، والمقتصد: من يجتهد في طلب الحلال، والسابق: الذي ترك الدنيا جملة وأعرض عنها.
أبو عثمان الحبري: الظالم: من وجد الله بلسانه ولم يوافق فعله قوله، والمقتصد: من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه، والسابق: من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص في عمله، وقيل: السابقون: هم المهاجرون الأولون، والمقتصدون: عامة الصحابة، والظالمون: التابعون.
وسمعت محمد بن الحسين السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز بمصر يقول: قال ابن عطا: الظالم: الذي تحبه من أجل الدنيا، والمقتصد: الذي تحبه من أجل العقبى، والسابق: الذي أسقط مراده بمراد الحق، فلا يرى لنفسه طلبا ولا مرادا لغلبة سلطان الحق عليه، وقيل: الظالم: من كان ظاهره خيرا من باطنه، والمقتصد: الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق: الذي باطنه خير من ظاهره.
وقيل: الظالم: الذي يعبد الله خوفا من النار، والمقتصد: الذي يعبده طمعا في الجنة، والسابق: الذي يعبده لا لسبب، وقيل: الظالم: الزاهد، والمقتصد: العارف، والسابق: المحب، وقيل: الظالم: الذي يجزع عند البلاء، والمقتصد: الذي يصبر عند البلاء، والسابق: الذي يتلذذ بالبلاء، وقيل: الظالم: الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد: الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق: الذي يعبده على الهيبة ورؤية المنة، وقيل: الظالم: الذي أعطي فمنع، والمقتصد: الذي أعطي فبذل، والسابق: الذي منع فشكر، وقيل: الظالم: غافل، والمقتصد: طالب، والسابق واجد، وقيل: الظالم: من استغنى بماله، والمقتصد: من استغنى بدينه، والسابق: من استغنى بربه، وقيل: الظالم التالي للقرآن، والمقتصد: القارئ له والعالم به، والسابق: القارئ لكتاب الله العالم بكتاب الله العامل به، وقيل: السابق: الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن، والمقتصد: الذي يدخل المسجد وقد أذن، والظالم: الذي يدخل المسجد وقد أقيم، وقيل: الظالم: الذي يحب نفسه، والمقتصد: الذي يحب ربه، والسابق: الذي يحبه ربه، وقيل: الظالم: مريد، والمقتصد: مراد، والسابق: مطلوب، وقيل: الظالم: مدعو، والمقتصد مأذون له، والسابق: مقرب، وقيل: الظالم: عيوف، والمقتصد: ألوف، والسابق: حليف.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الظالم: ينتصف ولا ينصف، والمقتصد: ينصف وينتصف، والسابق ينصف ولا ينتصف.
110

ذو النون المصري: الظالم: الذي لا يذكر الله بلسانه، والمقتصد: الذي يذكره بقلبه، والسابق: الذي لا ينسى ربه.
أحمد بن عاصم الأنطاكي: الظالم: صاحب الأقوال، والمقتصد: صاحب الأفعال، والسابق: صاحب الأحوال.
ثم جمعهم الله سبحانه وتعالى في دخول الجنة فقال سبحانه وتعالى: " * (جنات عدن يدخلونها) *). أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زرعة قال: حدثنا يوسف بن عاصم الرازي قال: حدثنا أبو أيوب سليمان بن داود المنقري المعروف بالشاذكوي عن حصين ابن نمير أبو محصن عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن أبيه عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم " * (فمنهم ظالم لنفسه) *) الآية قال: (كلهم في الجنة).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا علي بن محمد بن علي بن الحسين الفأفاء القاضي قال: حدثنا بكر بن محمد المروزي قال: حدثنا أبو قلابة قال: حدثنا عمرو بن الحصين عن الفضل بن عميرة عن ميمون الكردي عن أبي عثمان الهندي قال: سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: " * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) *) الآية فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له). قال أبو قلابة: فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه.
" * (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) *) أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدثنا محمد بن الحسن بن بشير قال: حدثنا أبو الحرث أحمد بن سعيد بن أم سعيد قال: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال: حدثنا أسيد بن موسى عن ابن ثومان عن عطاء ابن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله سبحانه به في الآخرة أفضل من حلية
أهل الدنيا جميعا).
" * (وقالوا) *) أي يقولون إذا دخلوا الجنة " * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) *) أخبرني الحسين بن محمد العدل قال: حدثنا محمد بن المظفر قال: حدثنا علي بن إسماعيل بن حماد البغدادي قال: حدثنا عمرو بن علي الفلاس قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال حدثني أبي عن
111

عمرو بن مالك عن ابن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قول الله عز وجل: " * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) *) قال: حزن النار.
وأخبرني الحسين بن محمد عن محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي داود الحراني قال: حدثنا جرير عن أشعث بن قيس عن شمر بن عطية في قول الله عز وجل: " * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) *) قال حزن الخبز.
عكرمة: حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات، وقيل: حزن الموت، وقيل: حزن الجنة والنار لا يدرى إلى أيهما يصير. الثمالي: حزن الدنيا. الضحاك: حزن إبليس ووسوسته. ذو النون: حزن القطيعة.
الكلبي: يعني الحزن الذي يحزننا في الدنيا من يوم القيامة، وقيل: حزن العذاب والحساب، وقيل: حزن أهوال الدنيا وأوجالها، وقال القاسم: حزن زوال النعم وتقليب القلب وخوف العاقبة.
وسمعت السلمي يقول: سمعت النصرآبادي يقول: ما كان حزنهم إلا تدبير أحوالهم وسياسة أنفسهم، فلما نجوا منها حمدوا " * (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور) *)، أخبرني أبو عبد الله الدينوري قال: أخبرني أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس على أهل (لا إله إلا الله) وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في منشرهم، وكأني بأهل (لا إله إلا الله) يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون: " * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور) *).
" * (الذي أحلنا دار المقامة) *) أي الإمامة " * (من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) *) أي كلال وإعياء وفتور، وقراءة العامة بضم اللام، وقرأ السلمي بنصب اللام وهو مصدر أيضا كالولوع، وقال الفراء: كأنه جعله ما يلغب مثل لغوب.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن مهدي قال: أبو عبد الله محمد بن زكريا بن محمدويه الرجل الصالح عن عبد الله بن عبد الوهاب الخوارزمي قال: حدثنا عاصم بن عبد الله قال: حدثني إسماعيل عن ليث بن أبي سليم عن الضحاك بن مزاحم في قول الله سبحانه: " * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) *) قال
112

إذا دخل أهل الجنة استقبلهم الولدان والخدم كأنهم اللؤلؤ المكنون. قال: فيبعث الله ملكا من الملائكة معه هدية من رب العالمين وكسوة من كسوة الجنة فيلبسه. قال: فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك: كما أنت فيقف ومعه عشرة خواتيم من خواتيم الجنة هدية من رب العالمين فيضعها في أصابعه. مكتوب في أول خاتم منها: " * (طبتم فادخلوها خالدين) *)، وفي الثاني مكتوب: " * (ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود) *)، وفي الثالث مكتوب: (رفعت عنكم الأحزان والهموم)، وفي الرابع مكتوب: (زوجناكم الحور العين)، وفي الخامس مكتوب: (ادخلوها بسلام آمنين)، وفي السادس مكتوب: " * (إني جزيتهم اليوم بما صبروا) *)، وفي السابع مكتوب: (إنهم هم الفائزون)، وفي الثامن: (صرتم آمنين لا تخافون)، وفي التاسع مكتوب: (رافقتم النبيين والصديقين والشهداء)، وفي العاشر مكتوب: (سكنتم في جوار من لا يؤذي الجيران). ثم تقول الملائكة: (ادخلوها بسلام آمنين).
فلما دخلوا بيوتا ترفع " * (قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن..) *) إلى قوله: " * (لغوب) *))
.
* (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور * وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير * إن الله عالم غيب السماوات والارض إنه عليم بذات الصدور * هو الذى جعلكم خلائف فى الارض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا * قل أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك فى السماوات أم ءاتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا * إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا ولئن زالتآ إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم فلما جآءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا فى الارض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة آلاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا * أولم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شىء فى السماوات ولا فى الارض إنه كان عليما قديرا * ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) *
113

" * (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا) *) أي لا يقبضون فيستريحون.
وذكر عن الحسن: فيموتون، و " * (لا) *) يكون حينئذ جوابا للنفي، والمعنى: لا يقضى عليهم ولا يموتون. كقوله: * (لا يؤذن لهم فيعتذرون) * * (ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور) *) قراءة العامة بنصب النون واللام وقرأ أبو عمرو بضم الياء واللام وفتح الزاي على غير تسمية الفاعل.
" * (وهم يصطرخون) *): يدعون ويستغيثون ويصيحون فيها، وهو افتعال من الصراخ، ويقال للمغيث: صارخ وللمستغيث: صارخ. " * (ربنا أخرجنا) *) من النار " * (نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) *) في الدنيا، فيقول الله عز وجل: " * (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) *). اختلفوا في هذه المدة، فقال قتادة والكلبي: ثماني عشرة سنة، وقال الحسن: أربعون سنة، وقال ابن عباس: ستون سنة.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه وأحمد بن جعفر بن حمدان قالا: حدثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة حدثنا ابن أبي فديك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حصين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين؟ وهو الذي قال الله عز وجل فيه: " * (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) *)).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أبو بكر بن حرجة قال: حدثنا محمد بن أيوب قال: حدثنا الحجبي عن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يحدث عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من عمره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر).
وأخبرني ابن فنجويه عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن إبراهيم بن سهلويه عن الحسين بن عرفة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (معترك منايا أمتي ما بين الستين إلى السبعين)
114

" * (وجاءكم النذير) *) أي الرسول، وقال زيد بن علي: القرآن، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسين بن الفضل: يعني الشيب، وفيه قيل:
رأيت الشيب من نذر المنايا
لصاحبها وحسبك من نذير
فحد الشيب أهبة ذي وقار
فلا خلف يكون مع القتير
وقال آخر:
وقائلة تبيض والغواني
نوافر عن معاينة القتير
فقلت لها المشيب نذير عمري
ولست مسودا وجه النذير
" * (فذوقوا) *) أي العذاب " * (فما للظالمين من نصير إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا) *) غضبا " * (ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض) *) أي في الأرض " * (أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا) *) يأمرهم بذلك " * (فهم على بينة منه) *).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعمش وحمزة " * (بينة) *) على الواحد، وقرأ غيرهم (بينات) بالجمع، وهو اختيار أبي عبيد قال: لموافقة الخط. فإني قد رأيتها في بعض المصاحف بالألف والتاء. " * (بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا) *)، روى مغيرة عن إبراهيم قال: جاء من أصحاب عبد الله بن مسعود إلى كعب ليتعلم من علمه، فلما رجع قال عبد الله: هات الذي أصبت من كعب. قال: سمعت كعبا يقول: إن السماء تدور في قطبة مثل قطبة الرحا في عمود على منكب ملك. فقال عبد الله: وددت أنك انفلت من رحلتك براحلتك ورحلها، كذب كعب ما ترك يهوديته بعد، إن الله عز وجل يقول: " * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا) *) الآية، إن السماوات لاتدور، ولو كانت تدور لكانت قد زالت.
" * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) *) وذلك أن قريشا لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى دينا منهم، وهذا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كذبوه فأنزل الله عز وجل: " * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم) *)، يعني اليهود والنصارى، " * (فلما جاءهم نذير) *): محمد صلى الله عليه وسلم " * (ما زادهم إلا نفورا) *) بعدا ونفارا
115

" * (استكبارا في الأرض) *) ونصب " * (استكبارا) *) على البدل من النفور، قاله الأخفش، وقيل: على المصدر، وقيل: نزع الخافض. " * (ومكر السيئ) *) يعني العمل القبيح، وقال الكلبي: هو إجماعهم على الشرك وقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) * * (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) *)، أي لا يحل ولا ينزل، ويحيط ويلحق فقتلوا يوم بدر، وقراءة العامة: " * (السيئ) *) بإشباع الإعراب فيها، وجزم الأعمش وحمزة (ومكر السي) تخفيفا وكراهة لالتقاء الحركات ولم يعملا ذلك في الأخرى، والقراءة المرضية ما عليه العامة.
وفي الحديث أن كعبا قال لابن عباس: قرأت في التوراة: من حفر حفرة وقع فيها. فقال ابن عباس: أنا أوجد لك ذلك في القرآن، ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى: " * (
ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) *).
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا محمد بن الحسن البلخي قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمكر ولا تعن ماكرا؛ فإن: الله سبحانه وتعالى يقول: " * (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) *)، ولا تبغ ولا تعن باغيا، بقول الله سبحانه وتعالى: " * (إنما بغيكم على أنفسكم) *) ولا تنكث ولا تعن ناكثا فإن الله سبحانه يقول: " * (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه) *))
" * (فهل ينظرون إلا سنة الأولين) *) يعني العذاب إذا كفروا * (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) * * (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا) *) من الجرائم " * (ما ترك على ظهرها) *)، يعني الأرض كناية عن غير مذكور " * (من دابة) *).
قال الأخفش والحسين بن الفضل: أراد بالدابة: الناس دون غيرهم، وأجراها الآخرون على العموم. أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه (عن) الفربابي قال: حدثني أبو مسعود أحمد بن الفرات قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أصاب الله عز وجل قوما بعذاب أصاب به من بين ظهرانيهم ثم يبعثون على أعمالهم يوم القيامة).
116

وقال قتادة في هذه الآية: قد فعل الله ذلك في زمن نوح فأهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلا ما حمل في سفينة نوح، وقال ابن مسعود: كاد الجعل يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ هذه الآية، وقال أنس: إن الضب ليموت هزلا في جحره بذنب ابن آدم، وقال يحيى ابن أبي كثير: أمر رجل بمعروف ونهى عن منكر، فقال له رجل: عليك نفسك فإن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت والذي نفسي بيده، إن الحباري لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم.
وقال أبو حمزة الثمالي في هذه الآية: يحبس المطر فيهلك كل شيء.
" * (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) *))
.
117

((سورة يس))
مكية، وهي ثلاثة آلاف حرف وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة وثلاث وثمانون آية
في فضلها:
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد الناقد قال: أخبرني أبو العباس محمد بن إسحاق السراج قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن الحسين بن صالح عن هارون أبي محمد عن مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل شيء قلب وإن قلب القرآن (ياس) ومن قرأ (ياس) كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات).
وأخبرني محمد بن الحسين بن محمد قال: حدثنا محمد بن محمد بن يعقوب قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن مسلم الملطي بمصر قال: حدثنا إسماعيل بن محمود النيسابوري قال: حدثنا أحمد بن عمران الرازي عن محمد بن عمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن في القرآن لسورة تشفع لقرائها ويغفر لمستمعها، ألا وهي سورة يس).
وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم الطبراني بها قال: حدثنا العباس بن محمد بن قوهيار قال: حدثنا الفضل بن حماد وأخبرنا أحمد بن أبي الفراتي قال: أخبرنا أبو نصر السرخسي قال: حدثنا محمد بن أيوب قالا: حدثنا إسماعيل بن أبي أوس عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن مرقاع عن هلال بن الصلت أن أبا بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يس تدعى المعمة). قيل: يا رسول الله وما المعمة؟ قال: (تعم صاحبها: خير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة، وتدعى الدافعة والقاضية) قيل: يا رسول الله وكيف ذلك؟
قال: (تدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة، ومن قرأها عدلت له عشرون حجة، ومن سمعها كان له ألف دينار في سبيل الله، ومن كتبها وشربها أدخلت (جوفه) ألف دواء وألف
118

يقين وألف زلفى وألف رحمة، ونزع عنه كل داء وغل).
وأخبرنا أبو الحسن بن أبي إسحاق المزكي قال: حدثنا أبو الأحرز محمد بن عمر بن جميل قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم وهو أبو بسطام البغدادي قال: حدثنا إسماعيل ابن إبراهيم قال: حدثنا يوسف بن عطية عن هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ (ياس) يريد بها الله عز وجل غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة، وأيما مريض قرئت عنده سورة (باس) نزل عليه بعدد كل حرف عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا فيصلون ويستغفرون له ويشهدون قبضه وغسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه، وأيما مريض قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان خازن الجنان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيموت وهو ريان ويبعث وهو ريان ويحاسب وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان).
وحدثنا أبو الفضل علي بن محمد بن أحمد بن علي الشارعي الخوارزمي إملاء قال: حدثنا أبو سهل بن زياد القطان قال: حدثنا ابن مكرم قال: حدثنا مصعب بن المقدم قال: حدثنا أبو المقدام هشام عن الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة (ياس) في ليلة أصبح مغفورا له).
وأخبرني الحسين بن محمد الثقفي قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا حمزة بن الحسين بن عمر البغدادي قال: حدثنا محمد بن أحمد الرياحي قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أيوب بن مدرك عن أبي عبيدة عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل المقابر فقرأ سورة (ياس) خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا علي بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي قال: حدثنا عبد الرحمن المحاربي قال: حدثنا عامر بن يساف اليمامي عن يحيى بن كثير قال: بلغنا أنه من قرأ (ياس) حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي، ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتى يصبح، وقد حدثني من جربها.
بسم الله الرحمن الرحيم
119

2 (* (يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم * تنزيل العزيز الرحيم * لتنذر قوما مآ أنذر ءابآؤهم فهم غافلون * لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون * إنا جعلنا فىأعناقهم أغلالا فهى إلى الاذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون * وسوآء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمان بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم * إنا نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا وءاثارهم وكل شىء أحصيناه فىإمام مبين) *) 2
" * (يس) *) اختلف القراء فيه، فقرأ حمزة والكسائي وخلف في أكثر الروايات " * (يس) *) بكسر الياء بين اللفظين قراءة أهل المدينة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
الباقون: بفتح الياء، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وحمزة وأيوب وأبو حاتم وعاصم في أكثر الروايات، (يسين)، بإظهار النون والسكون.
واختلف فيه عن نافع وابن كثير، فقرأ عيسى بن عمر: (ياس) بالنصب، شبهه ب (أين) و (كيف)، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر النون، شبهه بأمس ورقاش وحذام وقرأ هارون الأعور: بضم النون، شبهه بمنذ وحيث وقط. الآخرون: بإخفاء النون.
واختلف المفسرون في تأويله، فقيل: قسم، وقال ابن عباس: يعني يا إنسان بلغة طيىء عطا: بالسريانية، وقال أبو العالية: يا رجل، وقال سعيد بن جبير: يا محمد، دليله قوله: " * (إنك لمن المرسلين) *).
وقال السيد الحميري:
يا نفس لا تمحضي بالنصح جامدة
على المودة إلا آل ياسينا
وقال أبو بكر الوراق: يا سيد البشر.
فإن قيل: لم عد " * (يس) *) آية ولم يعد " * (طس) *) آية؟
فالجواب أن " * (طس) *) أشبه قابيل من جهة الزنة والحروف الصحاح و " * (يس) *) أوله حرف علة وليس مثل ذلك في الأسماء المفردة، فأشبه الجملة والكلام التام وشاكل ما بعده من رؤوس الآي.
" * (والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين) *) وهو جواب لقول الكفار: لست مرسلا.
120

" * (على صراط مستقيم تنزيل) *) قرأ ابن عامر وأهل الكوفة بنصب اللام على المصدر كأنه قال: نزل تنزيلا، وقيل: على الخروج من الوصف، وقرأ الآخرون بالرفع أي هو تنزيل " * (العزيز) *): الشديد المنع على الكافرين " * (الرحيم) *): ب (عباده) وأهل طاعته.
" * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) *) في الفترة، وقيل: بما أنذر آباؤهم " * (فهم غافلون) *) عن الإيمان والرشد.
" * (لقد حق القول) *) وجب العذاب " * (على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا) *)، نزلت في أبي جهل وأصحابه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن برأسه. فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده. فلما عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بني مخزوم: أنا أقتله بهذا الحجر.
فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه وقالوا له: ما صنعت؟ فقال: ما رأيته، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني، فأنزل الله عز وجل: " * (إنا جعلنا) *).
" * (في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) *): مغلولون، وأصل الإقماح غض البصر ورفع الرأس، يقال: بعير مقمح إذا رفع رأسه وغض بصره، وبعير قامح إذا أروى من الماء فأقمح. قال الشاعر يذكر سفينة كان فيها:
ونحن على جوانبها قعود
نغض الطرف كالإبل القماح
وقال أبو عبيدة: هذا على طريق المثل، ولم يكن هناك غل، إنما أراد: منعناهم عن الإيمان وعما أرادوا بموانع، فجعل الأغلال مثلا لذلك، وفي الخبر أن أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية، فلما أسلم أتته المرأة واسمها أم مالك فراودته عن نفسه، فأبى وأنشد يقول:
فليس كعهد الدار يا أم مالك
ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل
سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
أراد منعنا: بموانع الإسلام عن تعاطي الزنا والفسق، وقال عكرمة: " * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) *) يعني ظلمات وضلالات كانوا فيها.
121

" * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم) *): فأعميناهم، العامة بالغين.
أخبرني الحسن بن محمد الثقفي قال: حدثنا البغوي ببغداد قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي شنبه البغدادي قال: حدثنا أبو القاسم عثمان بن صالح الحناط قال: حدثنا عثمان بن عمر عن شعبة عن علي بن نديمة قال: سمعت عكرمة يقول: " * (فأعشيناهم) *) بالعين غير معجمة وروى ذلك عن ابن عباس.
" * (فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *) أخبرنا ابن فنجويه الدينوري عن عبد الله بن محمد بن شنبه قال: حدثنا عمير بن مرداس قال: حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا الحسين بن الوليد قال: حدثنا حنان بن زهير العدوي عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه عن الفربابي قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن عمرو الليثي أن الزهري حدثه قال: دعا عمر بن عبد العزيز غيلان القدري فقال: يا غيلان بلغني أنك تكلم في القدر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنهم يكذبون علي. قال: يا غيلان اقرأ أول سورة (يس) فقرأ: " * (يس والقرآن الحكيم) *) إلى قوله: " * (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *). فقال غيلان: يا أمير المؤمنين والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم، أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول في القدر. فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كان صادقا فتب عليه، وإن كان كاذبا فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين.
قال: فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه عن الفربابي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ قال: حدثنا أبي عن بعض أصحابه قال: حدث محمد بن عمير بهذا الحديث ابن عون، فقال ابن عون: أنا رأيته مصلوبا على باب دمشق.
" * (إنما تنذر من اتبع الذكر) *) يعني إنما ينفع إنذارك لأنه كان ينذر الكل " * (من اتبع الذكر) *): القرآن فعمل به " * (وخشي الرحمن بالغيب فبشره) *): أخبره " * (بمغفرة وأجر كريم إنا نحن نحيي الموتى) *) عند البعث " * (ونكتب ما قدموا) *) من الأعمال " * (وآثارهم) *) ما استن به بعدهم، نظيره قوله: " * (ينبأ الإنسان يؤمئذ بما قدم وأخر) *)، وقوله: " * (علمت نفس ما قدمت وأخرت) *).
وقال المغيرة بن شعبة والضحاك: نزلت في بني عذرة، وكانت منازلهم بعيدة عن المسجد فشق عليهم حضور الصلوات، فأنزل الله عز وجل: " * (ونكتب ما قدموا وآثارهم) *) يعني خطاهم إلى المسجد.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا جعفر بن محمد الفربابي قال: حدثنا
122

حنان بن موسى قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد الحريري عن أبي نضرة عن جابر عن عبد الله قال: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حول المسجد خالية فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتانا في ديارنا فقال: (يا بني سلمة، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد؟) فقالوا: يا رسول الله، بعد علينا المسجد، والبقاع حول المسجد خالية. فقال: (يا بني سلمة، دياركم فإنما تكتب آثاركم). قال: فما وددنا بحضرة المسجد لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الذي قال..
أخبرنا أبو علي الروزباري قال: حدثنا أبو بكر محمد بن مهرويه الرازي قال: حدثنا أبو حاتم الرازي قال: حدثنا قرة بن حبيب قال: حدثنا عتبة بن عبد الله عن ثابت عن أنس في قوله سبحانه: " * (ونكتب ما قدموا وآثارهم) *) قال: الخطى يوم الجمعة.
" * (وكل شيء أحصيناه) *) علمناه وعددناه وبيناه " * (في إمام مبين) *) وهو اللوح المحفوظ.
(* (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جآءها المرسلون * إذ أرسلنآ إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنآ إليكم مرسلون * قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا ومآ أنزل الرحمان من شىء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون * وما علينآ إلا البلاغ المبين * قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أءن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون * وجآء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون * وما لى لا أعبد الذى فطرنى وإليه ترجعون * أءتخذ من دونه ءالهة إن يردن الرحمان بضر لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إنىإذا لفى ضلال مبين * إنىءامنت بربكم فاسمعون * قيل ادخل الجنة قال ياليت قومى يعلمون * بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين * ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون * ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون * ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون * وإن كل لما جميع لدينا محضرون * وءاية لهم الارض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذى خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون * وءاية لهم اليل نسلخ منه
النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون * وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون * وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين) *
123

" * (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية) *) وهي أنطاطية " * (إذ جاءها المرسلون) *) يعني رسل عيسى: قالت العلماء بأخبار الأنبياء: بعث عيسى (عليه السلام) رسولين من الحواريين إلى أنطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات وهو حبيب صاحب (ياس)، فسلما عليه، فقال الشيخ: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن. فقال: أمعكما آية؟ قالا: نعم، نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله. فقال الشيخ: إن لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين. قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله.
فأتى بهما إلى منزله، فمسحها ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحا، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على يديهما كثيرا من المرضى، وكان لهم ملك يقال له سلاحين، وقال: وهب اسمه ابطيحيس، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، قالوا: فانتهى الخبر إليه فدعاهما، فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى. قال: وما آيتكما؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص، ونشفي المرضى بإذن الله. قال: وفيم جئتما؟ قالا: جئناك ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر. فقال الملك: أو لنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك. قال: قوما حتى أنظر في أمركما. فتتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق.
وقال وهب بن منبه: بعث عيسى (عليه السلام) هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها فطالت مدة مقامهما، فخرج الملك ذات يوم: فكبرا وذكرا الله، فغضب الملك وأمر بهما فأخذا وحبسا وجلد كل واحد منهما مئة جلدة. قالوا: فلما كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما لينصرهما.
فدخل شمعون البلدة متنكرا وجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفع خبره إلى الملك فدعاه فرضى عشرته، وآنس به وأكرمه. ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟ فقال الملك: حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإذا رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما.
فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى ها هنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك. فقال لهما شمعون: فصفاه وأوجزا. فقالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال شمعون: وما آيتكما؟ قالا له: ما تتمناه. فأمر الملك حتى جاؤوا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة. فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين فبصر بهما، فتعجب الملك، فقال شمعون للملك: أرأيت (لو) سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا فيكون لك الشرف ولإلهك.
124

فقال له الملك: ليس عندي سر إن إلهنا الذي نعبده لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويصلي كثيرا ويتضرع، حتى ظنوا أنه على ملتهم.
وقال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما. قالا: إلهنا قادر على كل شيء. فقال الملك: إن ها هنا ميتا مات منذ سبعة أيام ابنا لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا.
فجاؤوا بالميت وقد تغير وأروح، فجعلا يدعوان ربهما علانية، وجعل شمعون يدعو ربه سرا. فقام الميت وقال: إني قد مت منذ سبعة أيام، ووجدت مشركا فأدخلت في تسعة أودية من النار، وأنا أحذركم ما أنتم فيه، فآمنوا بالله.
ثم قال: فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة. قال الملك: ومن الثلاثة؟ قال: شمعون وهذان، وأشار إلى صاحبيه. فتعجب الملك، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه، فآمن قوم وكان الملك فيمن آمن، وكفر آخرون.
وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب: بل كفر الملك، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل، فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم ويذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين فذلك قوله سبحانه: " * (إذ أرسلنا إليهم اثنين) *).
واختلفوا في اسميهما، فقال ابن عباس: تاروص وماروص، وقال وهب: يحيى ويونس، ومقاتل: تومان ومانوص.
" * (فكذبوهما فعززنا بثالث) *) أي فقوينا برسول ثالث. قرأ طلحة بن مصرف وعاصم عن حفص: " * (فعززنا) *) مخففا، أي فغلبناهم، من عزيز برسول ثالث وهو شمعون.
وقال مقاتل: شمعان، وقال كعب: الرسولان صادق وصدوق والثالث شلوم وإنما أضاف الإرسال إليه لأن عيسى (عليه السلام) إنما بعثهم بأمره عز وجل، وكانوا في جملة الرسل، فقالوا جميعا لأهل أنطاكية: " * (إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمان من شيء إن أنتم إلا تكذبون) *): ما أنتم إلا كاذبون. " * (قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا) *) تشاءمنا.
" * (بكر) *)، قال مقاتل: حبس عنهم المطر فقالوا: هذا بشؤمكم " * (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) *)، قال قتادة: بالحجارة، وقال آخرون: لنقتلنكم، " * (وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم) *): شؤمكم " * (معكم) *) بكفركم، وقال ابن عباس والضحاك: حظكم من الخير والشر. قال قتادة: أعمالكم، وقرأ
الحسن والأعرج: طيركم
125

" * (أئن ذكرتم) *) وعظتم، وقرأ أبو جعفر بالتخفيف، يعني من حيث ذكرتم، وجوابه محذوف مجازه: أئن ذكرتم قلتم هذا القول، " * (بل أنتم قوم مسرفون) *): مشركون مجاوزون الحد.
قوله: " * (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) *) وهو حبيب بن مري، وقال ابن عباس ومقاتل: حبيب بن إسرائيل النجار، وقال وهب: وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين: فيطعم نصفا عياله ويتصدق بنصفه، فلما بلغه أن قومه قصدوا قتل الرسل جاءهم فقال: " * (يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) *)، قال قتادة: لما انتهى حبيب إلى الرسل قال لهم: تسألون على هذا من أجر؟ قالوا: لا. فقال ذلك. قال: وكان حبيب في غار يعبد ربه، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وما هو عليه من التوحيد وعبادة الله، فقيل له: وأنت مخالف لديننا وتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم؟ فقال: " * (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردني الرحمان بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني) *) إن فعلت ذلك " * (إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون) *) فلما قال لهم ذلك وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه ولم يكن أحد يدفع عنه.
قال عبد الله بن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قضيبه من دبره، وقال السدي: كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي حتى قطعوه وقتلوه، وقال الحسن: خرقوا خرقا في حلقة فعلقوه من سوق المدينة، وقبره في سور أنطاكية فأوجب الله له الجنة، فذلك قوله: " * (قيل ادخل الجنة) *).
فلما أفضى إلى جنة الله وكرامته، " * (قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) *). أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله بن علي بن حمشاد المزكى بقراءتي عليه في شعبان سنة أربعمئة فأقر به قال: أخبرنا أبو ظهير عبد الله بن فارس بن محمد بن علي ابن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب في شهر ربيع الأول سنة ست وأربعن وثلاثمئة قال: حدثنا إبراهيم بن الفضل بن مالك قال: حدثنا عن أخيه عيسى عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب آل يس، ومؤمن آل فرعون، فهم الصديقون وعلي أفضلهم).
قالوا: فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل لهم النقمة، فأمر جبرئيل (عليه السلام) فصاح
126

بهم صيحة ماتوا عن آخرهم، فذلك قوله عز وجل: " * (وما أنزلنا على قومه من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة) *)، وفي مصحف عبد الله: (إن كانت إلا زقية واحدة)، وهي الصحيحة أيضا وأصلها من الزقا، وقرأ أبو جعفر: " * (صيحة) *) بالرفع، جعل الكون بمعنى الوقوع " * (فإذا هم خامدون) *) ميتون.
" * (يا حسرة على العباد) *) قال عكرمة: يعني على أنفسهم، وفيه قولان:
أحدهما: أن الله يقول: " * (يا حسرة على العباد) *) وكآبة عليهم حين لم يؤمنوا.
والآخر: أنه من قول الهالكين. قال أبو العالية: لما عاينوا العذاب قالوا: " * (يا حسرة على العباد) *) يعني الرسل الثلاثة حين لم يؤمنوا، بهم فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم، وقرأ عكرمة: " * (يا حسرة على العباد) *) بجزم الهاء " * (ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون) *) وكان خبر الرسل الثلاثة في أيام ملوك الطوائف.
" * (ألم يروا) *) يعني أهل مكة " * (كم أهلكنا قبلهم من القرون) *)؟ والقرن: أهل كل عصر؛ سموا بذلك لاقترابهم في الوجود " * (أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما) *) بالتشديد، ابن عامر والأعمش وعاصم وحمزة. الباقون: بالتخفيف. فمن شدد جعل " * (إن) *) بمعنى الجحد، و " * (لما) *) بمعنى (إلا)، تقديره: وما كل إلا جميع، كقولهم: سألتك لما فعلت، أي إلا فعلت، ومن خفف جعل " * (إن) *) للتحقيق وحققه، وما صلة، مجازه: وكل " * (جميع لدينا محضرون وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) *) بالمطر، " * (وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات) *): بساتين " * (من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره) *)، قرأ الأعمش: بضم الثاء وجزم الميم (ثمره)، وقرأ (خلف) ويحيى وحمزة والكسائي بضم الثاء والميم، وقرأ الآخرون بفتحهما " * (وما عملته أيديهم) *) قرأ العامة بالهاء، وقرأ عيسى بن عمر وأهل الكوفة: (عملت) بلا هاء، ويجوز في " * (ما) *) ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: الجحد، بمعنى ولم تعمله أيديهم، أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها، وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل.
والوجه الثاني معنى المصدر، أي ومن عمل أيديهم.
والوجه الثالث معنى الذي، (أي وما عملت أيديهم) من الحرث والزرع والغرس، وهو معنى قول ابن عباس. " * (أفلا يشكرون) *) نعمه؟
" * (سبحان الذي خلق الأزواج) *): الأشكال والأصناف " * (كلها مما تنبت الأرض ومن
127

أنفسهم ومما لا يعلمون وآية لهم الليل نسلخ) *): ننزع ونخرج " * (منه النهار) *)، وقال الكلبي: نذهب به " * (فإذا هم مظلمون) *): داخلون في الظلام.
" * (والشمس تجري لمستقر لها) *) يعني إلى مستقر لها. قال ابن عباس: لا تبلغ مستقرها حتى ترجع إلى منازلها، وقال قتادة: إلى وقت واحد لها لا تعدوه، وقيل: إلى انتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا، وقيل: إلى أبعد منازلها في الغروب.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عمر بن الخطاب وأحمد بن جعفر قالا: حدثنا إبراهيم ابن سهل قال: حدثنا محمد بن بكار العيسي قال: حدثنا إسماعيل بن علية قال: حدثنا يونس بن عبيد عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " * (والشمس تجري لمستقر لها) *) قال: (مستقرها تحت العرش).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حبيش قال: حدثني أبو الطيب أحمد بن عبد الله بن يحيى الدارمي قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد السمرقندي بدمياط قال: حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا مروان بن معاوية عن محمد بن أبي حسان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ: (والشمس تجري لامستقر لها)، وهي قراءة ابن مسعود أيضا، أي لا قرار لها، فهي جارية أبدا.
" * (ذلك تقدير العزيز العليم والقمر) *) بالرفع، نافع وابن كثير وأبو عمرو وأيوب ويعقوب غير ورش، واختاره أبو حاتم قال: لأنك شغلت الفعل عنه فرفعته للابتداء، وقرأ الباقون بالنصب، واختاره أبو عبيد، قال: للفعل المتقدم قبله والمتأخر بعده، فأما المتقدم فقوله: " * (نسلخ منه النهار) *) وأما المتأخر فقوله: " * (قدرناه) *)، أي قدرنا له المنازل.
" * (منازل) *)، أي قدرنا له المنازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها، وأسماؤها: الشرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة والزبرة، والصرفة، والعوا، والسماك، والغفر، والزبانى، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت.
فإذا صار إلى آخر منازله " * (عاد كالعرجون القديم) *)، وهو العذق الذي فيه الشماريخ، فإذا أقدم وعتق يبس وتقوس واصفر فشبه القمر في دقته وصفرته به، ويقال لها أيضا الأهان.
" * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) *) بل هما يسيران دائبين ولكل حد لا يعدوه ولا
128

يقصر دونه، فإذا جاء سلطان هذا ذهب ذلك وإذا جاء سلطان ذلك ذهب هذا، فذلك قوله: " * (ولا الليل سابق النهار) *). فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد صاحبه قامت القيامة وذلك قوله سبحانه: " * (وجمع الشمس والقمر) *).
" * (وكل في فلك يسبحون) *): يجرون.
" * (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) *) الموقر المملوء، وهي سفينة نوح؛ الآباء في السفينة، والأبناء في الأصلاب، والحمل: منع الشيء أن يذهب إلى جهة السفل.
" * (وخلقنا لهم من مثله) *) أي مثل سفينة نوح " * (ما يركبون) *) وهي السفن كلها.
أخبرنا عبيد بن محمد بن محمد بن مهدي قال: حدثنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا أحمد بن حازم قال: حدثنا عبد الله بن موسى عن سفيان عن السدي عن أبي مالك في قوله: " * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) *) قال: السفن الصغار، وقال ابن عباس: الإبل سفن البر.
" * (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون) *): ينجون من الغرق " * (إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين) *) يعني انقضاء آجالهم.
(* (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون * وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين * وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين ءامنوا أنطعم من لو يشآء الله أطعمه إن أنتم إلا فى ضلال مبين * ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون * فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون * ونفخ فى الصور فإذا هم من الاجداث إلى ربهم ينسلون * قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون * فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون * إن أصحاب الجنة اليوم فى شغل فاكهون * هم وأزواجهم فى ظلال على الارآئك متكئون * لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون * سلام قولا من رب رحيم * وامتازوا اليوم أيها المجرمون) *) 2
" * (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم) *) أي ما بين أيديكم من الآخرة فاعملوا لها " * (وما خلفكم) *) من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. قاله ابن عباس، وقال مجاهد: " * (ما بين أيديكم) *): ما يأتي من الذنوب، " * (وما خلفكم) *): ما مضى من الذنوب.
الحسن. " * (ما بين أيديكم) *) يعني وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم " * (وما خلفكم) *) من أمر الساعة
129

مقاتل: " * (ما بين أيديكم) *) عذاب الأمم الخالية، " * (وما خلفكم) *): عذاب الآخرة.
" * (لعلكم ترحمون) *)، والجواب محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا، أعرضوا، دليله ما بعده: " * (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم) *): الرزق " * (من لو يشاء الله أطعمه) *) يتوهمون أن الله تعالى لما كان قادرا على إطعامه وليس يشاء إطعامه، فنحن أحق بذلك. نزلت في مشركي مكة حين قال لهم فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله، وذلك قوله: " * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) *) فحرموهم، وقالوا: لو شاء الله أطعمكم فلا نعطيكم شيئا حتى ترجعوا إلى ديننا.
" * (إن أنتم إلا في ضلال مبين) *) في اتباعكم محمدا ومخالفكتم ديننا. عن مقاتل بن حيان، وقال غيره: هو من قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
" * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) *) أنا نبعث؟ فقال الله تعالى: " * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) *) وهي نفخة إسرافيل " * (تأخذهم وهم
يخصمون) *) أي يختصمون ويخاصم بعضهم بعضا.
واختلفت القراء فيه؛ فقرأ ابن كثير وورش وأبو عبيد وأبو حاتم بفتح الخاء وتشديد الصاد ومثله روى هشام عن أهل الشام: لما أدغموا نقلوا حركة التاء إلى الخاء.
وقرأ أبو جعفر وأيوب ونافع غير ورش ساكنة الخاء مخففة الصاد، وقرأ أبو عمرو: بالإخفاء، وقرأ حمزة: ساكنة الخاء مخففة الصاد، أي يغلب بعضهم بعضا بالخصام، وهي قراءة أبي بن كعب، وقرأ الباقون: بكسر الخاء وتشديد الصاد.
" * (فلا يستطيعون توصية) *): فلا يقدرون على أن يوصي بعضهم بعضا، " * (ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور) *) وهي النفخة الأخيرة: نفخة البعث، وبين النفختين أربعون سنة، " * (فإذا هم من الأجداث) *) أي القبور، واحدها جدث " * (إلى ربهم ينسلون) *) يخرجون، ومنه قيل للولد: نسلا؛ لأنه يخرج من بطن أمه، والنسلان والعسلان: الإسراع في السير.
" * (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) *) أي منامنا قال أبي بن كعب وابن عباس وقتادة: إنما يقولون هذا؛ لأن الله رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين فيرقدون، وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار ماعذبوا في القبور في جنبها كالنوم، فقالوا: " * (من بعثنا من مرقدنا) *)؟ ثم قال: " * (هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون) *): أقروا حين لم ينفعهم
130

الإقرار، وقال مجاهد: يقول الكفار: " * (من بعثنا من مرقدنا) *)؟ ويقول المؤمنون: " * (هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون) *).
" * (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) *)، محل " * (ما) *) نصب من وجهين:
أحدهما: مفعول ما لم يسم فاعله.
والثاني: بنزع حرف (الخفض)، أي ب (ما).
" * (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل) *)، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشيبة بجزم الغين، واختاره أبو حاتم، وقرأ الآخرون: بضم الغين، واختاره أبو عبيد، وهما لغتان مثل السحت والسحت ونحوهما.
واختلف المفسرون في معنى الشغل. فأخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أبو الأزهر قال: حدثنا أسباط بن محمد عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى: " * (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) *) قال: افتضاض الأبكار.
وأخبرني فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا أحمد بن الوليد الشطوي قال: حدثنا محمد بن موسى قال: حدثنا معلى بن عبد الرحمن قال: حدثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكارا).
وقال الكلبي والثمالي والمسيب: يعني في شغل عن أهل النار وعما هم فيه، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم، وقال وكيع بن الجراح: يعني في السماع، سئل يحيى بن معاذ: أي الأصوات أحسن؟ قال: مزامير أنس في مقاصير قدس بألحان تجميل في رياض تمجيد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال ابن كيسان: يعني في زيارة بعضهم بعضا، وقيل: في ضيافة الله وقيل: في شغلهم بعشرة أشياء: ملك لا عزل معه، وشباب لا هرم معه، وصحة لا سقم معها، وعز لا ذل معه، وراحة لا شدة معها، ونعمة لا محنة معها، وبقاء لا فناء معه، وحياة لا موت معها، ورضا لا سخط معه، وأنس لا وحشة معه.
وقيل: شغلهم في الجنة بسبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء: فأما ثواب الرجل فقوله:
131

" * (ادخلوها بسلام آمنين) *)، وثواب اليد قوله: " * (يتنازعون فيها كأسا) *)، وثواب الفرج قوله: " * (وحور عين) *)، وثواب البطن قوله: " * (كلوا واشربوا هنيئا) *) الآية، وثواب اللسان قوله: " * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) *) وثواب الأذن قوله: " * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) *)، وثواب العين قوله: " * (وتلذ الأعين) *).
قال طاووس: لو علم أهل الجنة عمن شغلوا ما هنأهم ما اشتغلوا به، وسئل بعض الحكماء عن قوله (عليه السلام): (أكثر أهل الجنة البله) قال: لأنهم في شغل بالنعيم عن المنعم، ثم قال: من رضي بالجنة عن الله فهو أبله.
" * (فاكهون) *) قرأ العامة: بالألف، وقرأ أبو جعفر (فكهون وفكهين) بغير ألف حيث كانا، وهما لغتان: كالحاذر والحذر والفاره والفره، وقال الكسائي: الفاكه والفاكهة مثل شاحم ولاحم ولابن وتامر، واختلف العلماء في معناهما، فقال ابن عباس: فرحون. مجاهد والضحاك: معجبون. السدي: ناعمون.
" * (هم وأزواجهم) *): حلائلهم " * (في ظلال) *) قرأ العامة بالألف وكسر الظاء على جمع (ظل)، وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير وحمزة والكسائي وخلف: (ظلل) على جمع (ظلة).
" * (على الأرائك) *) يعني السرر في الحجال، واحدتها أريكة، مثل سفينة وسفن وسفائن وقيل: هي الفرش، " * (متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون) *) قال ابن عباس: يسألون. قال مقاتل: يتمنون ويريدون، وقيل: معناه. من ادعى منهم شيئا فهو له بحكم الله عز وجل؛ لأنهم لا يدعون إلا ما يحسن.
" * (سلام) *) قرأ العامة بالرفع، أي لهم سلام، وقرأ النخعي: بالنصب على القطع والمصدر.
أخبرني الحسن بن محمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال: حدثنا محمد بن عبد الملك أبي الشوارب قال: حدثنا أبو عاصم عبد الله بن عبد الله العباداني قال: حدثنا الفضل بن عيسى الرقاشي، وأخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن قال: حدثني أبو بكر أحمد بن
محمد بن موسى الملحمي الأصفهاني قال: حدثنا الحسن بن أبي علي الزعفراني قال: حدثنا ابن أبي الشوارب قال
132

حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله عز وجل " * (سلام قولا من رب رحيم) *) فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم).
" * (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) *) قال ابن عباس: تفرقوا. أبو العالية: تميزوا. السدي: كونوا على حدة. قتادة: اعدلوا عن كل خير. الضحاك: إن لكل كافر في النار بيتا، يدخل ذلك البيت ويردم به بالنار فيكون فيه أبد الآبدين فلا يرى ولا يرى.
2 (* (ألم أعهد إليكم يابنىءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدونى هاذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون * هاذه جهنم التى كنتم توعدون * اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون * اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون * ولو نشآء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون * ولو نشآء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون * ومن نعمره ننكسه فى الخلق أفلا يعقلون * وما علمناه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين * لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين * أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون * ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون * واتخذوا من دون الله ءالهة لعلهم ينصرون * لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند م حضرون * فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون * أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم م بين * وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم * قل يحييها الذىأنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذى جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون * أوليس الذى خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون) *) 2
" * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن ألا تعبدوا الشيطان) *) أي لا تطيعوه في معصية الله. " * (إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم) *) أي أغوى بالدعاء إلى المعصية " * (جبلا كثيرا) *) قرأ علي ح (جبلا) بالباء مخففا، وقرأ أهل المدينة وعاصم وأيوب
133

وأبو عبيد وأبو حاتم بكسر الجيم والباء، وتشديد اللام، وقرأ يعقوب بضم الجيم والباء، وتشديد اللام، وبه قرأ الحسن وعبيد بن عمير وعيسى بن عمر والأشهب، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو بضم الجيم وجزم الباء مخففا، وقرأ الباقون: بضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وكلها لغات.
معناه: الخلق والأمة، وإنما اختار أبو عبيد وأبو حاتم ضم الجيم والباء والتشديد؛ لقوله تعالى * (والجبلة الأولين) * * (أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون) *) تحذرون، " * (اصلوها) *): ادخلوها " * (اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم) *) فلا يتكلمون. قال قتادة: جرى بينهم خصومات وكلام فكان هذا آخرها.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قا: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا أبو عامر حامد بن سعدان قال: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا عبد الله بن وهب قال: حدثني عمرو بن الحرث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله، فجحد وخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون. فيقول: كذبوا. فيقال: أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا. فيقال: احلفوا، فيحلفون. ثم يصمتهم الله عز وجل ويشهد عليهم ألسنتهم ثم يدخلهم النار).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا الفربابي قال: حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا إسماعيل بن عياش قال: حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا القطيعي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبي قال: حدثنا يزيد قال: أخبرنا الحريري أبو مسعود عن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام وإن أول ما يتكلم من الآدميين فخذه وكفه).
" * (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ولو نشاء لطمسنا على أعينهم
134

فاستبقوا الصراط) *): فتبادروا إلى الطريق، " * (فأنى يبصرون) *) وقد طمسنا أعينهم؟ قال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة: يعني ولو نشاء لتركناهم عميا يترددون، فكيف يبصرون الطريق حينئذ؟
" * (ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم) *)، أي أقعدناهم في منازلهم قردة وخنازير، والمسخ تحويل الصورة، " * (فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) *) إلى ما كانوا عليه، وقيل: لا يستطيعون الذهاب ولا الرجوع.
" * (ومن نعمره ننكسه) *)، قرأ الأعمش وعاصم وحمزة بالتشديد. غيرهم بفتح النون وضم الكاف مخففا. أي يرده إلى أرذل العمر شبه حال الصبي الذي هو أول الخلق، وقيل: يصيره بعد القوة إلى الضعف، وبعد الزيادة إلى النقصان، وبعد الحدة والطراوة إلى البلى والخلوقة، فكأنه نكس حاله.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حبيش المقرئ قال: حدثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا مهران بن أبي عمر عن سفيان: " * (ومن نعمره ننكسه في الخلق) *) قال: إذا بلغ ثمانين سنة تغير جسمه. " * (أفلا يعقلون وما علمناه الشعر وما ينبغي له) *) لأنه يورث الشبهة.
أخبرني ابن فنجوية قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا حامد بن شعيب عن شريح بن يونس قال: حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي عيينة عن أبيه عن الحكم
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بقول العباس بن مرداس: (أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة). قالوا: يا رسول الله إنما قال: بين عيينة والأقرع. فأعادها وقال: (بين الأقرع وعيينة). فقام إليه أبو بكرح فقبل رأسه وقال: " * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) *).
وأخبرنا الحسين بن محمد الحديثي قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا يوسف بن عبد الله بن هامان قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: (كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا).
فقال أبو بكر: يا نبي الله، إنما قال الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال أبو بكر أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل: " * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) *))
.
135

أخبرني الحسين قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق المسيبي قال: حدثنا حامد بن شعيب قال: حدثنا شريح بن يونس قال: حدثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة: " * (وما علمناه الشعر) *) قال: بلغني أن عائشة سئلت هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: كان الشعر أبغض الحديث إليه، قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول: (من لم تزود بالأخبار)، فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إني لست بشاعر، وما ينبغي لي).
" * (إن هو) *) يعني القرآن " * (إلا ذكر وقرآن مبين لينذر) *) بالتاء (وهي قراءة) أهل المدينة والشام والبصرة إلا أبا عمرو، والباقون بالياء؛ قال: التاء للنبي صلى الله عليه وسلم والياء للقرآن. " * (من كان حيا) *) أي عاقلا مؤمنا في علم الله؛ لأن الكافر والجاهل ميت الفؤاد، " * (ويحق القول على الكافرين أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا) *) يعني عملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة، " * (أنعاما فهم لها مالكون) *): ضابطون وقاهرون.
" * (وذللناها لهم) *): سخرناها " * (فمنها ركوبهم) *) قرأ العامة بفتح الراء أي مركوبهم، كما يقال: ناقة حلوب، أي محلوب، وقرأ الأعمش والحسن: بضم الراء على المصدر.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حمدان قال: حدثنا ابن هامان قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال: في مصحف عائشة: (ركوبتهم)، والركوب والركوبة واحد مثل: الحمول والحمولة. " * (ومنها يأكلون) *) لحمانها.
" * (ولهم فيها منافع) *) من أصوافها ولحومها وغير ذلك من المنافع. " * (ومشارب) *) يعني ألبانها " * (أفلا يشكرون واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون) *) أي لتمنعهم من عذاب الله، ولا يكون ذلك قط.
" * (لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون) *) في النار؛ لأنهم مع أوثانهم في النار فلا يدفع بعضهم عن بعض النار.
" * (فلا يحزنك قولهم) *) يعني تكذيبهم وأذاهم وجفاهم. تم الكلام ها هنا ثم استأنف فقال
136

" * (إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم) *) جدل بالباطل " * (مبين) *).
واختلفوا في هذا الإنسان من هو؟ فقال ابن عباس: هو عبد الله بن أبي، وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي، وقال الحسن: هو أمية بن خلف، وقال قتادة: أبي بن خلف الجمحي؛ وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل قد بلي فقال: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعدما قد رم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، ويبعثك ويدخلك النار) فأنزل الله هذه الآية: " * (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه) *) بدء أمره، " * (قال من يحيي العظام وهي رميم) *) بالية، وإنما لم يقل رميمة؛ لأنه معدول من فاعله وكل ما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن إعرابه كقوله: " * (وما كانت أمك بغيا) *) أسقط الهاء؛ لأنها مصروفة عن باغية.
" * (قل يحييها الذي أنشأها) *): خلقها " * (أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) *)، وإنما لم يقل الخضر، والشجر جمع الشجرة لأنه رده إلى اللفظ.
قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما مرخ، والأخرى العفار. فمن أراد منهم النار قطع منها غصنين مثل السواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار أنثى فتخرج منهما النار بإذن الله عز وجل.
يقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، وقال الحكماء: كل شجر فيه نار إلا العناب. " * (فإذا أنتم منه توقدون) *) النار فذلك زادهم.
" * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر) *) قرأ العامة بالألف، وقرأ يعقوب (بقدر) على الفعل " * (على أن يخلق مثلهم) *)، ثم قال: " * (بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا) *) أي وجود شيء، " * (أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون) *).
137

((سورة الصافات))
مكية، وهي ثلاثة آلاف وثمانمئة وستة وعشرون حرفا، وثمانمئة وستون كلمة، ومئة واثنتان وثمانون آية
أخبرنا كامل بن أحمد المفيد قال: أخبرنا محمد بن جعفر الوراق قال: حدثنا إبراهيم بن الفضل قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا سلام بن سليم قال: حدثنا هارون بن كثير الآملي عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ " * (والصافات) *) أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان، وتباعد عنه مردة الشياطين وبرئ من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنا بالمرسلين).
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلاهكم لواحد * رب السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق * إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملإ الاعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب * فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ إنا خلقناهم من طين لازب * بل عجبت ويسخرون * وإذا ذكروا لا يذكرون * وإذا رأوا ءاية يستسخرون * وقالوا إن هاذآ إلا سحر مبين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * أو ءابآؤنا الاولون * قل نعم وأنتم داخرون * فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم ينظرون * وقالوا ياويلنا هاذا يوم الدين * هاذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون * احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) *) 2
" * (والصافات صفا) *) قال ابن عباس ومسروق والحسن وقتادة: يعني صفوف الملائكة في السماوات كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة، وقيل: هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها بما يريد، وقيل: هي الطير، دليله قوله: " * (والطير صافات) *) وقوله: " * (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات) *).
138

والصف: ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة والحرب.
" * (فالزاجرات زجرا) *) يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه، وقال قتادة: هي زواجر القرآن.
" * (فالتاليات ذكرا) *) يعني جبرائيل والملائكة تتلو كتب الله، عن مجاهد والسدي، وقيل: هي جماعة قراء القرآن، وهي كلها جمع الجمع، فالصافة جمع الصاف، والصافات جمع الصافة وكذلك أختاها، وقيل: هو قسم بالله تعالى على تقدير: ورب الصافات.
" * (إن إلهكم لواحد) *) موضع القسم قال مقاتل: لأن كفار مكة قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا؟ فأقسم الله تعالى بهؤلاء: " * (إن الاهكم لواحد) *)، وقرأ الأعمش وأبو عمرو وحمزة كلهم بالإدغام، والباقون بالبيان.
" * (رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق) *) أي مطالع الشمس؛ وذلك أن الله تعالى خلق للشمس ثلاثمئة وستين كوة في المشرق، وثلاثمائة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة تطلع كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها فهي المشارق والمغارب.
حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي إملاء قال: حدثنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي إملاء قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عمر بن منيع صدوق ثقة قال: حدثنا ابن عليه عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة قال: قال ابن عباس: إن الشمس تطلع كل سنة في ثلاثمائة وستين كوة تطلع كل يوم في كوة ولا ترجع إلى تلك الكوة إلا ذلك اليوم من العام القابل، ولا تطلع إلا وهي كارهة، فتقول: رب لا تطلعني على عبادك؛ فإني أراهم يعصونك ويعملون بمعاصيك أراهم. قال: أولم تسمعوا إلى ما قال أمية بن أبي الصلت: حتى تجر وتجلد؟
قلت: يا مولاي وتجلد الشمس؟ قال: عضضت بهن أبيك، إنما اضطره الروي إلى الجلد.
وقيل: وكل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق، وكل موضع غربت عليه فهو مغرب، كأنه أراد رب جميع ما شرقت عليه الشمس.
" * (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) *) قرأ عاصم برواية أبي بكر (بزينة) منونة (الكواكب) نصبا، يعني بتزييننا الكواكب، وقيل: أعني الكواكب، وقرأ حمزة وعاصم في سائر الروايات (بزينة منونة. " * (الكواكب) *) خفضا على البدل، أي بزينة الكواكب
139

وقرأ الباقون " * (بزينة الكواكب) *) مضافة. قال ابن عباس: يعني بضوء الكواكب.
" * (وحفظا) *) أي وحفظناها حفظا، أو وجعلناها أيضا حفظا، وذلك شائع في اللغة " * (من كل شيطان مارد) *): خبيث خال عن الخير.
" * (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) *) كأنه قال: فلا يسمعون. قرأ أهل الكوفة " * (يسمعون) *) بالتشديد، أي يتسمعون، قال مجاهد: كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون، وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الآخرون بالتخفيف، وهو اختيار أبي حاتم، " * (إلى الملأ الأعلى) *) يعني الكتبة من الملائكة في السماء " * (ويقذفون) *)، ويرمون " * (من كل جانب) *) من آفاق السماء.
" * (دحورا) *) يبعدونهم عن مجالس الملائكة، والدحر والدحور: الطرد والإبعاد، " * (ولهم عذاب واصب) *): دائم، نظيره قوله سبحانه: " * (وله الدين واصبا) *)، وقال ابن عباس: شديد. الكلبي: موجع، وقيل: خالص.
" * (إلا من خطف الخطفة) *): مسارق فسمع الكلمة، " * (فأتبعه شهاب ثاقب) *): تبعه ولحقه كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتل أو يحرق أو يحيل، وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه؛ طمعا في السلامة ونيل المراد كراكب البحر.
" * (فاستفتهم) *) فسلهم، يعني: أهل مكة " * (أهم أشد خلقا أم من خلقنا) *) يعني: من الأمم الخالية، وقد أهلكناهم بذنوبهم، وقيل: يعني السماوات والأرض
وما بينهما.
نزلت في أبي الأسد بن كلدة، وقيل: أبي بن أسد، وسمي بالأسدين؛ لشدة بطشه وقوته، نظيرها: " * (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) *) وقوله سبحانه * (أأنتم أشد خلقا أم السماء) * * (إنا خلقناهم من طين لازب) *) أي جيد حر يلصق ويعلق، باليد ومعناه اللازم تبدل الميم كأنه يلزم اليد، وقال السدي: خالص. قال مجاهد والضحاك: (الرمل).
" * (بل عجبت) *) قرأ حمزة والكسائي وخلف (عجبت) بضم التاء وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس على معنى أنهم قد حلوا محل من تعجب منهم، وقال الحسين بن الفضل: العجب من الله، إنكار الشيء وتعظيمه وهو لغة العرب، وقد جاء في الخبر: عجب ربكم من إلكم وقنوطكم والخبر الآخر: إن الله ليعجب من الشاب إذا لم يكن له صبوة ونحوها، وسمعت أبا
140

القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي البغدادي يقول: سئل جنيد عن هذه الآية فقال: إن الله لا يعجب من شيء، ولكن الله وافق رسوله لما عجب رسوله، فقال: " * (فإن تعجب فعجب قولهم) *). أي هو لما يقوله.
وقرأ الآخرون بفتح التاء على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وهي قراءة شريح القاضي. قال: إنما يعجب من لا يعلم، والله عنده علم كل شيء، ومعناه، بل عجبت من تكذيبهم إياك. " * (ويسخرون) *) وهم يسخرون من تعجبك.
" * (وإذا ذكروا لا يذكرون) *) وإذا وعظوا لا يتعظون.
" * (وإذا رأوا آية) *) يعني انشقاق القمر " * (يستسخرون) *) يسخرون وقيل: يستدعي بعضهم بعضا إلى أن يسخر.
" * (وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون أو آباؤنا) *) يعني: وآباؤنا " * (أو) *) بمعنى الواو " * (الأولون قل نعم وأنتم داخرون) *): صاغرون. " * (فإنما هي) *) يعني: النفخة والقيامة " * (زجرة) *): صيحة " * (واحدة فإذا هم ينظرون) *) أحياء. " * (وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) *) أخبرني الحسن بن محمد المدني قال: حدثنا محمد بن علي الحسن الصوفي قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا عمي أبو بكر قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك، عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب ح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) *) قال: (ضرباءهم)، وقال ابن عباس: أشباههم. ضحاك ومقاتل: قرناءهم من الشياطين، كل كافر معه شيطانه في سلسلة. قتادة والكلبي: كل من عمل مثل عملهم، فأهل الخمر مع أهل الخمر، وأهل الزنا مع أهل الزنا، وقال الحسن: وأزواجهم المشركات.
" * (وما كانوا يعبدون من دون الله) *) في الدنيا " * (فاهدوهم) *): فادعوهم، قاله الضحاك، وقال ابن عباس: دلوهم، وقال ابن كيسان: فدلوهم، والعرب تسمي السائق هاديا، ومنه قيل: الرقية هادية السائق، قال امرؤ القيس:
كأن دماء الهاديات بنحره
عصارة حنا بشيب مرجل
" * (إلى صراط الجحيم) *): طريق النار.
141

2 (* (وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون * وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون * قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين * قالوا بل لم تكونوا مؤمنين * وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين * فحق علينا قول ربنآ إنا لذآئقون * فأغويناكم إنا كنا غاوين * فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون * إنا كذلك نفعل بالمجرمين * إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إلاه إلا الله يستكبرون * ويقولون أءنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون * بل جآء بالحق وصدق المرسلين * إنكم لذآئقو العذاب الاليم * وما تجزون إلا ما كنتم تعملون * إلا عباد الله المخلصين * أولائك لهم رزق معلوم * فواكه وهم مكرمون * فى جنات النعيم * على سرر متقابلين * يطاف عليهم بكأس من معين * بيضآء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون * وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنهن بيض مكنون * فأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون * قال قآئل منهم إنى كان لى قرين * يقول أءنك لمن المصدقين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرءاه فى سوآء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين * إن هاذا لهو الفوز العظيم * لمثل هاذا فليعمل العاملون) *) 2
" * (وقفوهم) *) واحبسوهم، يقال: وقفته وقفا فوقف وقوفا. " * (إنهم مسؤولون) *) قال ابن عباس: عن لا إله إلا الله. ضحاك: عن خطاياهم. القرظي: عن جميع أقوالهم وأفعالهم. أخبرني الحسين بن محمد الدينوري قال: حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدثنا محمد بن أيوب قال: أخبرنا محمد بن عقبة قال: حدثنا أبو حصين بن نمير الهمداني قال: حدثنا حسين بن قيس الرحبي وزعم أنه شيخ صدوق قال: حدثنا عطاء عن أبي عمر عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين كسبه، وفيما أنفقه، وما عمل فيما علم).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن الحسن بن صقلاب قال: حدثنا محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بطرسوس قال: حدثنا أحمد بن خليد قال: حدثنا يوسف بن
يونس الأخطف الأقطس قال: حدثنا سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كان يوم القيامة دعا الله سبحانه بعبد من عبيده فيوقفه بين يديه فيسائله عن جاهه كما يسائله عن ماله).
142

" * (مالكم لا تناصرون) *) أي لا تنتقمون ولا ينصر بعضهم بعضا، يقوله خزنة النار للكفار، وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر: نحن جميع منتصر.
قال الله سبحانه وتعالى: " * (بل هم اليوم مستسلمون) *) قال ابن عباس: خاضعون. الحسن: منقادون. الأخفش: ملقون بأيديهم، وقال أهل المعاني: مسترسلون لما لا يستطيعون له دفعا ولا منه امتناعا كحال الطالب السلامة في نزل المنازعة.
" * (وأقبل بعضهم على بعض) *) يعني: الرؤساء والأتباع " * (يتساءلون) *): يتخاصمون.
" * (قالوا) *) يعني: الأتباع للرؤساء: " * (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) *) أي من قبل اليمين فتضلوننا عنه، قاله الضحاك، وقال مجاهد: عن الصراط الحق: وقال أهل المعاني: أي من جهة النصيحة والبركة والعمل الذي يتيمن به، والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين، وقال بعضهم: أي عن القوة والقدرة كقول الشماح.
إذا ماراية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة وغرابة اسم ملك اليمن.
" * (قالوا) *) يعني: الرؤساء " * (بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا) *) وعليكم " * (قول ربنا) *) يعنون قوله سبحانه: " * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) *).
" * (إنا) *) جميعا " * (لذائقون) *) العذاب.
" * (فأغويناكم) *): فأضللناكم لأنا كنا " * (غاوين) *) ضالين، قال الله سبحانه: " * (فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) *) يعني النبي صلى الله عليه وآله. قال الله سبحانه ردا عليهم: " * (بل جاء بالحق وصدق المرسلين إنكم لذائقو العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم) *) يعني: بكرة وعشية، كقوله: * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * * (فواكه) *): جمع الفاكهة، وهي كل طعام يؤكل للتلذذ لا للقوت الذي يحفظ الصحة، يقال: فلان يتفكه بهذا الطعام، " * (وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس) *): إناء فيه شراب، ولا يكون كأسا حتى يكون فيه شراب، وإلا فهو إناء
143

قال الأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر " * (من معين) *): خمر جارية في أنهار طاهرة العيون، ويجوز أن يكون فعيلا من (المعن) وهو الإسراع والشدة من (أمعن في الأمر) إذا اشتد دخوله فيه. يعني: خمرا شديدة الجري سريعته.
" * (بيضاء) *) أي صافية في نهاية اللطافة " * (ولذة) *): لذيذة " * (للشاربين لا فيها غول) *) أي إثم عن الكلبي، نظيره " * (لا لغو فيها ولا تأثيم) *). قتادة: وجع البطن. الحسن: صداع. مجاهد: داء. ابن كيسان: مغص. الشعبي: لا تغتال عقولهم فتذهب بها، وقال أهل المعاني: الغول: فساد يلحق في خفاء، يقال: اغتاله اغتيالا إذا فسد عليه أمره في خفية، ومنه الغول والغيلة وهو القتل خفية.
" * (ولا هم عنها ينزفون) *) قرأ حمزة والكسائي وخلف: بكسر الزاي هاهنا وفي سورة الواقعة، وافقهم عاصم في الواقعة. الباقون: بفتح الزاي فيهما. فمن فتح الزاي، فمعناه: لا تغلبهم على عقولهم ولا يسكرون، يقال: نزف الرجل فهو منزوف ونزيف، إذا سكر وزال عقله، قال الشاعر:
فلثمت فاها آخذا بقرونها
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
أي السكران، ومن كسر الزاي فمعناه: لا ينفد شرابهم. يقال: أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره.
قال الحطيئة:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم
لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
" * (وعندهم قاصرات الطرف) *): حابسات الأعين، غاضات الجفون، قصرن أعينهن عن غير أزواجهن، فلا ينظرن إلا إلى أزواجهن " * (عين) *) نجل العيون حسانها، واحدتها: عيناء، يقال: رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين.
" * (كأنهن بيض) *): جمع البيضة " * (مكنون) *) مستور مصون. قال الحسن وابن زيد شبههن ببيض النعامة تكنها بالريش من الريح والغبار، وقيل: شبههن ببطن البيض قبل أن يقشر، وهو معنى قول ابن عباس، وإنما ذكر المكنون والبيض جمع؛ لأنه رده إلى اللفظ.
" * (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) *) في الجنة. " * (قال قائل منهم إني كان لي قرين) *) في
144

الدنيا. قال مجاهد: كان شيطانا، وقال آخرون: كان من الإنس. قال مقاتل: كانا أخوين، وقال الباقون: كانا شريكين: أحدهما فطروس وهو الكافر، والآخر يهوذا وهو المؤمن، وهما اللذان قص الله حديثهما في سورة الكهف.
" * (يقول أإنك لمن المصدقين) *) بالبعث؟ " * (أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون) *): مجزيون ومحاسبون ومملوكون " * (قال) *) الله سبحانه لأهل الجنة: " * (هل أنتم مطلعون) *) إلى النار؟ أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حبيش قال: حدثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدثنا أحمد ابن يزيد المقرئ عن جلاد عن الحكم بن طاهر، عن السدي، عن أبي ملك عن ابن عباس أنه قرأ " * (هل مطلعون فاطلع) *) بخفضهما وبكسر اللام، قال: رافعون فرفع، قال ابن عباس: وذلك أن في الجنة كوى فينظر أهلها منها إلى النار وأهلها.
" * (فاطلع) *) هذا المؤمن " * (فرآه في سواء الجحيم) *) فرأى قرينه في وسط النار.
" * (قال تالله إن كدت لتردين) *) ما أردت إلا أن تهلكوا وأصله من التردي. " * (ولولا نعمة ربي) *): عصمته ورحمته " * (لكنت من المحضرين) *) معك في النار.
" * (أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين) *)، فتقول لهم الملائكة: لا، وقيل: إنما يقولونه على جهة الحديث بنعمة الله سبحانه عليهم في أنهم لا يموتون ولا يعذبون، وقيل: يقوله المؤمن على جهة التوبيخ لقرينه بما كان ينكره.
" * (إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون
أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج فىأصل الجحيم * طلعها كأنه رءوس الشياطين * فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم * إنهم ألفوا ءابآءهم ضآلين * فهم علىءاثارهم يهرعون * ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين * ولقد أرسلنا فيهم منذرين * فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * إلا عباد الله المخلصين * ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين * وتركنا عليه فى الاخرين) *) 2
" * (أذلك خير نزلا) *): رزقا " * (أم شجرة الزقوم) *)، والزقوم ثمرة شجرة كريهة الطعم جدا، من قولهم: يزقم هذا الطعام، إذا تناوله على كره ومشقة شديدة.
" * (إنا جعلناها فتنة للظالمين) *): للكافرين، وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة
145

والنار تحرق الشجر؟ وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش: إن محمدا يخوفنا بالزقوم وإن الزقوم بلسان بربر وأفريقية الزبد والتمر، فأدخلهم أبو جهل بيته وقال: يا جارية زقمينا. فأتتهم بالزبد والتمر، فقال: تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد، فقال الله سبحانه: " * (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) *): قعر النار. قال الحسن: أصلها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
" * (طلعها) *) ثمرها، سمي طلعها لطلوعه " * (كأنه رؤوس الشياطين) *) قال بعضهم:) * هم الشياطين بأعيانهم، شبهه بها لقبحه؛ لأن الناس إذا وصفوا شيئا بعاهة القبح قالوا: كأنه شياطين، وإن كانت الشياطين لا ترى؛ لأن قبح صورتها متصور في النفس، وهذا معنى قول ابن عباس والقرظي، وقال بعضهم: أراد بالشياطين الحيات، والعرب تسمي الحية القبيحة الخفيفة الجسم شيطانا، قال الشاعر:
تلاعب مثنى حضرمي كأنه
تعمج شيطان بذي خروع قفر
وقال الراجز:
عنجرد تحلف حين أحلف
كمثل شيطان الحماط أعرف
والأعرف: الذي له عرق، وقيل: هي شجرة قبيحة خشنة مرة منتنة، تنبت في البادية تسميها العرب رؤوس الشياطين.
" * (فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون) *)، والملء: حشو الوعاء بما لا يحتمل زيادة عليه، " * (ثم إن لهم عليها لشوبا) *): خلطا ومزاجا، وقال مقاتل: شرابا " * (من حميم) *): ماء حار شديد الحرارة، " * (ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم) *) ثم بمعنى قبل، مجازه: وقبل ذلك مرجعهم لإلى الجحيم، كقول الشاعر:
إن من ساد ثم ساد أبوه
ثم قد ساد قبل ذلك جده
أي قبل ذلك ساد أبوه، ويجوز أن تكون بمعنى الواو.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أبو علي المقري قال: حدثني علي بن الحسن بن سعد الهمداني قال: حدثنا عباس بن يزيد بن أبي حبيب قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا سفيان عن ميسرة عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله أنه قرأ (ثم إن مقتلهم لإلى الجحيم).
" * (إنهم ألفوا) *): وجدوا " * (آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون) *) يسرعون.
" * (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين) *): مرسلين " * (فانظر كيف كان
146

عاقبة المنذرين إلا عباد الله المخلصين ولقد نادانا نوح) *)، نظيره: " * (ونوحا إذ نادى من قبل) *)، وهو قوله: " * (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) *).
" * (فلنعم المجيبون) *) على التعظيم، " * (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) *)، وهو الغرق، " * (وجعلنا ذريته هم الباقين) *)، أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي قال: حدثنا بندار قال: حدثنا محمد بن خالد بن غيمة قال:) * حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " * (وجعلنا ذريته هم الباقين) *) قال: (سام وحام ويافث).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا محمد بن عمران بن هارون قال: حدثنا أبو عبد الله المخزومي قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: كان ولد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس وروم، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وما هنالك.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا مخلد بن جعفر الباقرحى قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما خرج نوح عليه السلام من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم، فذلك قوله: " * (وجعلنا ذريته هم الباقين) *).
" * (وتركنا عليه في الآخرين) *)، أي لقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم.
2 (* (سلام على نوح فى العالمين * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * ثم أغرقنا الاخرين * وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جآء ربه بقلب سليم * إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون * أءفكا ءالهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين * فنظر نظرة فى النجوم * فقال إنى سقيم * فتولوا عنه مدبرين * فراغ إلىءالهتهم فقال ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا باليمين * فأقبلوا إليه يزفون * قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون * قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم * فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين) *) 2
" * (سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين
147

ثم أغرقنا الآخرين وإن من شيعته) *): أهل دينه وسنته " * (لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم) *): مخلص من الشرك والشك، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا الفربابي قال: حدثنا محمد بن العلا قال: حدثنا عصام بن علي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: يا بني لا تكونوا لعانين أو لم يروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قط فقال الله سبحانه: " * (إذ جاء ربه بقلب سليم) *)؟
" * (إذ قال لأبيه وقومه ماذا) *): ما الذي " * (تعبدون أإفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين) *) إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ " * (فنظر نظرة في النجوم) *)، قال ابن عباس: كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم حيث كانوا؛ لئلا ينكروا عليه؛ وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع، وكانوا يدخلون على أصنامهم ويقربون لهم القرابين ويصنعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم زعموا التبرك عليه، فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه. قال مقاتل: وكانت الأصنام اثنين وسبعين صنما من خشب وحديد ورصاص وشبه وفضة وذهب، وكان كبيرهن من ذهب في عينيه ياقوتتان، وقالوا لإبراهيم (عليه السلام): لا تخرج غدا معنا إلى عيدنا. فنظر إلى النجوم، " * (فقال إني سقيم) *)، قال ابن عباس: مطعون، وقال الحسن: مريض، وقال الضحاك: سأسقم؛ لقوله سبحانه " * (إنك ميت وإنهم ميتون) *).
وقيل: سقيم بما في عنقي من الموت، وقيل: سقيم بما أرى من أحوالكم القبيحة، وقيل: سقيم بعلة عرضت له، وإنه إنما نظر في النجوم مستدلا بها على وقت حمى كانت تأتيه، والصحيح أنه لم يكن سقيما؛ لما روي عن النبي (عليه السلام) أنه قال: (لقد كذب إبراهيم ثلاث كذبات، ما منها واحدة إلا وهو بماحل وناصل بها عن دينه: قوله: " * (إني سقيم) *)، وقوله: " * (بل فعله كبيرهم) *) وقوله لسارة: هذه أختي).
" * (فتولوا عنه مدبرين) *) إلى عيدهم، فدخل إبراهيم إلى الأصنام فكسرها ووضع الفأس على عاتق الصنم الكبير، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على أصنامهم قبل أن يرجعوا إلى منازلهم، فدخلوا عليها فإذا هي مكسورة، فذلك قوله سبحانه: " * (فراغ) *): فمال " * (إلى آلهتهم فقال) *) إظهارا لضعفهم وعجزهم: " * (ألا تأكلون مالكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين) *)؛ لأنها أقوى على العمل من الشمال، وهذا قول الربيع بن أنس قال: يعني يده اليمنى، وقيل: بالقسم الذي سبق منه، وذلك قوله: " * (وتالله لأكيدن أصنامكم) *) وقال الفراء: بالقوة
148

" * (فأقبلوا إليه) *): إلى إبراهيم " * (يزفون) *)، أي يسرعون عن الحسن. مجاهد: يزفون زفيف النعام وهو حال بين المشي والطيران. الضحاك: يسعون، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة " * (يزفون) *) بضم الياء، وهما لغتان: فقال لهم إبراهيم على وجه الحجاج: " * (أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) *)؟ وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وتعالى حيث قال: " * (وما تعملون) *) على (أنها) مكتسبة للعباد حيث أثبت لهم عملا، فأبطل مذهب القدرية والجبرية بهذه الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله خالق كل صانع وصنعته).
" * (قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم) *): معطم النار. قال مقاتل: بنوا له حائطا من الحجر طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملؤوه من الحطب وأوقدوا فيه النار.
" * (فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين) *): المقهورين.
(* (وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين * رب هب لى من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعى قال يابنى إنىأرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدنىإن شآء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن ياإبراهيم * قد صدقت الرؤيآ إنا كذلك نجزى المحسنين * إن هاذا لهو البلاء المبين) *) 2
" * (وقال) *) إبراهيم: " * (إني ذاهب إلى ربي) *)، أي إلى مرضاة ربي، وهو المكان الذي أمر بالذهاب إليه. نظيره قوله: " * (وقال إني مهاجر إلى ربي) *)، وقيل: ذاهب إلى ربي بنفسي وعملي " * (سيهدين رب هب لي من الصالحين) *) مختصر. أي رب هب لي ولدا صالحا من الصالحين.
" * (فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي) *) ذلك الغلام، " * (قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) *) الآية، واختلف السلف من علماء المسلمين في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه بعد إجماع (أهل الخاص) على أنه كان إسحاق، فقال قوم: الذبيح إسحاق، وإليه ذهب من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والعباس بن عبد المطلب، ومن الباقين وأتباعهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي بزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزبيري والسدي.
وهي رواية عكرمة وابن جبير عن ابن عباس. أخبرني الحسن بن محمد بن عبد الله قال
149

حدثنا طلحة بن محمد، وعبيد الله بن أحمد قالا: حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدثنا أحمد ابن حرب قال: حدثنا سنيد بن داود قال: حدثني حجاج عن ليث بن سعد عن صفوان بن عمرو عن عمر بن الخطاب ح قال: هو إسحاق.
وأخبرني الحسن قال: حدثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب قال: حدثنا رضوان بن أحمد الصيدلاني قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال: حدثنا أبو معاوية عن حجاج عن القاسم بن نافع عن أبي الطفيل، عن علي قال: (الذي أراد إبراهيم (عليه السلام) ذبحه إسحاق).
وروى شبعة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال: افتخر رجل عند ابن مسعود فقال: أنا فلان ابن فلان ابن الأشياح الكرام. فقال عبد الله: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله (عليه السلام).
وأخبرنا الحسين محمد قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا يوسف بن عبد الله قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا المبارك عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب قال: الذي فداه الله بذبح عظيم إسحاق.
وأخبرنا الحسين قال: حدثنا ابن حبيش قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن بكار قال: حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي عن داود ابن أبي هند عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الذي أراد إبراهيم ذبحه إسحاق (عليهما السلام).
وأخبرنا الحسن قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدثنا يوسف بن عبد الله قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الذي أراد إبراهيم ذبحه هو إسحاق.
وأخبرني الحسن قال: حدثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدثنا عباس الدوري قال: حدثنا أبو سلمة يعني المنقري قال: حدثنا محمد بن ثابت العبدي عن موسى مولى أبي بكر الصديق عن سعيد بن جبير قال: (لما) أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام سار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى، فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه فسار به مسيرة شهر في روحة واحدة، طويت له الأودية والجبال.
وروى سفيان عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال موسى: (يا رب
150

يقولون: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبم قالوا ذلك؟) قال: (إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلا اختارني عليه، وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زاد بي حسن ظن).
وروى حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال: قال يوسف: للملك: (ترغب أن تأكل معي أو تنكف وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله (عليهم السلام)؟).
وقال الآخرون: هو إسماعيل، وإلى هذا القول ذهب عبد الله بن عمر وأبو الطفيل عامر ابن واثلة وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي وهي رواية عطاء بن أبي رباح وأبي حمرة نصر بن عمران الضبعي ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال: المفدى إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود.
وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا القولين، ولو كان فيهما صحيح بالإجماع لم يعزه إلى غيره، وأما الرواية التي رويت عنه صلى الله عليه أن الذبيح إسحاق ما أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد (قالا): حدثنا ابن مجاهد قال: حدثنا موسى بن إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن أبي شنبه قال: أخبرنا الأشيب قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذي أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن علي بن لؤلؤ قال: أخبرنا الهيثم بن خلف قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا حجاج عن ابن جريح قال: أخبرت عن صفوان بن سليم وزيد بن أسلم عن النبي (عليه السلام) أنه قال: (إن إسحاق الذي أراد إبراهيم أن يذبحه).
وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة (فأقرأنيه) قال: أخبرنا جدي قال: حدثنا علي بن حجر قال: حدثنا عمر بن حفص عن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه: (يشفع إسحاق بعدي فيقول: يا رب صدقت نبيك وجدت بنفسي
151

للذبح فلا تدخل النار من لم يشرك بك شيئا). قال: (فيقول تبارك وتعالى: وعزتي لا أدخل النار من لا يشرك بي شيئا).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا محمد بن أحمد بن نصرويه قال: حدثنا أبو حفص عمر بن محمد بن عيسى الجوهري قال: حدثنا عيسى بن مساور الجوهري قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت منها دعوتي؛ إن الله سبحانه لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل: يا إسحاق سل تعط. فقال: أما والذي نفسي بيده لأتعجلنها قبل نزغة الشيطان، اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له وأدخله الجنة).
وأما ما روي عنه صلى الله عليه أن الذبيح إسماعيل فروى عمر بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان عن أبيه قال: حدثني عبد الله بن سعيد عن الصنايجي قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق، فقال: على الخبير سقطتم، كنت عند النبي صلى الله عليه فجاء رجل فقال: يا رسول الله عد علي مما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين فضحك رسول الله صلى الله عليه، فقيل له: يا أمير المؤمنين وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله عز وجل لئن سهل الله عز وجل له أمرها ليذبحن أحد ولده، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا: افد ابنك بمئة من الإبل ففداه بمئة من الإبل والثاني إسماعيل (عليه السلام).
فهذا ما ورد من الأخبار في هذا الباب، فأما حجة القائلين بأنه إسحاق من القرآن فهو أن الله سبحانه أخبر عن خليله إبراهيم (عليه السلام) حين فارق قومه مهاجرا إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط وقال: " * (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) *) إنه دعا فقال: " * (رب هب لي من الصالحين) *) وذلك أنه قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن تصير له أم إسماعيل. ثم اتبع ذلك الخبر عن إجابته ودعوته وتبشيره أتاه بغلام حليم ثم عن رؤيا إبراهيم أن يذبح ذلك الغلام الذي بشر به حين بلغ معه السعي وليس في (كتاب الله بشير لإبراهيم بولد ذكر) إلا بإسحاق.
واحتج من قال: إنه إسماعيل من القرآن بما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول: إن الذي أمر الله سبحانه إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك
152

في كتاب الله سبحانه، وذلك أن الله عز وجل يقول حين فرغ من قصة المذبوح: " * (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) *).
وقال عز من قائل: " * (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) *) يقول: بابن وبابن ابن، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله سبحانه وتعالى الموعود. فلما لم يذكر الله تعالى إسحاق إلا بعد انقضاء قصة الذبح، ثم بشره بولد إسحاق علمنا أن الذبيح إسماعيل.
قال القرظي: فذكرت ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، إذ كنت معه بالشام، فقال لي عمر: إن هذا الشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت. ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام، وكان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء اليهود، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك وأنا عنده فقال: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل. ثم قال: والله يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك ولكنهم ليحسدونكم معشر العرب على أن يكون أن أباكم الذي كان من أمر الله سبحانه وتعالى فيه والفضل الذي ذكره الله سبحانه منه لصبره على ما أمر به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق؛ لأن إسحاق أبوهم.
واحتجوا أيضا بأن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج، قال الشعبي: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة، وكان القرنان ميراثا لولد إساعيل عن أبيهم، فلم يزاحمهم على ذلك ولد إسحاق وهم الروم، وكانوا أكبر وأعز وأمنع من العرب: وهذا أدل دليل على أن الذبيح إسماعيل.
وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال لي: يا أصمع أين ذهب عنك عقلك؟
ومتى كان إسحاق عليه السلام بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه إبراهيم (عليهما السلام)، كما قال الله سبحانه " * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) *)، والمنحر بمكة لا شك فيه.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن المنذر الضرير يقول: سمعت أبا محمد الزنجاني المؤدب يقول: سئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد:
إن الذبيح هديت إسماعيل
نطق الكتاب بذاك والتنزيل
153

شرف به خص الإله نبينا
وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أمته فلا تنكر له
شرفا به قد خصه التفضيل
وأما قصة الذبح فقال السدي بإسناده: لما فارق إبراهيم الخليل (عليه السلام) قومه مهاجرا إلى الشام هاربا بدينه، كما قال الله سبحانه وتعالى: " * (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين) *) دعا الله سبحانه وتعالى أن يهب له ابنا صالحا من سارة فقال: " * (رب هب لي من الصالحين) *). فلما نزل به أضيافه من الملائكة المرسلين إلى المؤتفكة وبشروه بغلام حليم، قال إبراهيم لما بشر به: فهو إذن لله ذبيح. فلما ولد الغلام وبلغ معه السعي، قيل: أوف بنذرك الذي نذرت. فكان هذا هو السبب في أمر الله تعالى رسوله إبراهيم بذبح ابنه، فقال إبراهيم عند ذلك لإسحاق: (انطلق نقرب قربانا لله تعالى)، وأخذ سكينا وحبلا ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام: يا أبت أين قربانك؟ فقال " * (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذاترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) *).
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيصلي بمكة، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام. حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته، أري في المنام أن يذبحه، فلما أمر بذلك قال لابنه: (يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب). فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب (ثبير)، أخبره بما أمر، كما ذكر الله تعالى، قالوا: فقال له ابنه الذي أراد أن يذبحه: (يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب، وأكفف عني ثيابك حتى لا ينضح عليها من دمي شيء، فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واشحذ شفريك، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي، فإن الموت شديد، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني). فقال له إبراهيم (عليه السلام): (نعم العون أنت يا بني على أمر الله).
ففعل إبراهيم ما أوصاه به ابنه، ثم أقبل عليه يقبله، وقد ربطه وهو يبكي والابن يبكي حتى استنقع الدموع تحت خده، ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تنحر السكين. قال السدي: ضرب الله صفحة من النحاس على حلقه. قالوا: فقال الابن عند ذلك: (يا أبت كبني لوجهي على جبيني، فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني، وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع). ففعل ذلك إبراهيم، ووضع السكين على قفاه فانقلب السكين، ونودي: (يا إبراهيم مه، قد صدقت الرؤيا، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها دونه)، فنظر إبراهيم فإذا هو بجبرائيل ومعه كبش أقرن أملح فكبر جبرائيل فكبر الكبش فكبر إبراهيم فكبر ابنه وأخذ إبراهيم الكبش وأتى به المنحر من منى فذبحه
154

قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، لقد كان أول الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة.
قال السدي: فلما أخذ إبراهيم (عليه السلام) الكبش خلى عن ابنه، وأكب عليه وهو يقبله ويقول: (يا بني وهبت لي)، ثم رجع إلى سارة فأخبرها الخبر، فجزعت سارة وقالت: يا إبراهيم، أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني؟.
وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله قالوا: لما أري إبراهيم (عليه السلام) ذبح ابنه قال الشيطان: والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم، لا أفتن منهم أحدا أبدا. فتمثل لهم الشيطان رجلا وأتى أم الغلام فقال لها: هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب به يحطبنا من هذا الشعب. قال: لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه. قالت: كلا هو أرحم به وأشد حبا له من ذلك. قال: إنه يزعم أن الله أمره بذلك. قالت: فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه، وسلمنا لأمر الله عز وجل.
فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه فقال له: يا غلام هل تدري أين يذهب أبوك؟ قال: (يحطب أهلنا من هذا الشعب). قال: والله ما يريد إلا أن يذبحك. قال: (ولم).
قال: زعم أن ربه أمره بذلك، قال: (فليفعل ما أمره به ربه، فسمعا وطاعة).
فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم، فقال له: أين تريد أيها الشيخ؟ قال: (أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه). فقال: والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك، فأمرك بذبح بنيك هذا. فعرفه إبراهيم فقال: (إليك عني يا عدو الله، فوالله لأمضين لأمر الله).
وروى أبو الطفيل عن ابن عباس أن إبراهيم لما أمر بذبح ابنه، عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى بأمر الله عز وجل في ذلك.
وقال أمية بن أبي الصلت:
ولإبراهيم الموفي بالنذر
احتسابا وحامل الأحدال
بكره لم يكن ليصبر عنه
لو يراه في معشر أقتال
يا بني إني نذرتك لل
ه شحيطا فاصبر فدى لك حالي
155

واشدد الصفد لا أحيد عن السك
ين حيد الأسير ذي الأغلال
وله مدية تخايل في اللح
م هذام حنية كالهلال
بينما يخلع السرابيل عنه
فكه ربه بكبش حلال
قال خذه ذا وأرسل ابنك إني
للذي قد فعلتما غير قال
ربما تجزع النفوس من الأم
ر له فرجة كحل العقال
فهذه قصة الذبح كما قال الله سبحانه: " * (فلما بلغ معه السعي) *) قال ابن عباس: يعني المشي مع أبيه إلى الحيل. قال الحسن ومقاتل بن حيان: يعني العقل الذي يقوم به الحجة، وقال الضحاك: يعني الحركة، وقال ابن زيد: (هو السعي في) العبادة.
" * (يا بني إني أرى في المنام) *): رأيت في المنام " * (أني أذبحك) *) لنذر علي فيك أمرت بذلك، وذلك أن إبراهيم (عليه السلام) رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا. فلما أصبح روى في نفسه أي فكر من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحكم أو من الشيطان؟ فمن ثم سمي يوم التروية. فلما أمسى رأى في المنام ثانيا ما رآه من ذبح الولد، فلما أصبح عرف أن ذلك الحكم من الله، فمن ثم سمي يوم عرفة.
وقال: مقاتل: رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات، وقال عطاء ومقاتل: أمر إبراهيم أن يذبح ابنه ببيت المقدس فلما تيقن ذلك أخبر ابنه فقال لابنه " * (فانظر ماذا ترى) *)؟ قرأ العامة بفتح التاء، وقرأ حمزة والكسائي (تري) بضم التاء وكسر الراء أي ماذا تشير؟ وإنما جاز أن يؤامر ابنه في المضي لأمر الله؛ لأنه أحب أن يعلم صبره على أمر الله وعزمه على طاعته فقال له ابنه: " * (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء من الله من الصابرين) *).
" * (فلما أسلما) *) أي انقادا وخضعا لأمر الله سبحانه وتعالى ورضيابه، وقرأ ابن مسعود (فلما سلما) أي فوضا، وقرأ ابن عباس (استسلما). قال قتادة: أسلم هذا ابنه وهذا نفسه " * (وتله للجبين) *) أي صرعه وأضجعه وكبه على وجهه للذبح " * (وناديناه) *)، قال أهل المعاني: (الواو) مقحمة صلة، مجازه: ناديناه، كقوله: " * (وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا) *) يعني: أوحينا، وقوله: " * (وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد) *) وقال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
156

وقال الشاعر:
حتى إذا قملت بطونكم
ورأيتم أبناءكم شبوا
وقلبتم ظهر المجن لنا
إن اللئيم العاجز الخب
أراد: قلبتم.
" * (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين) *): الاختبار المظهر فيما يوجب النعمة أو النقمة، ولذلك قيل للنعم: بلاء وللمحنة بلاء؛ لأنها سميت باسم سببها المؤدى به إليها، كما قيل لأسباب الموت: هذا الموت بعينه.
(* (وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين * ولقد مننا على موسى وهارون * ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم * ونصرناهم فكانوا هم الغالبون * وءاتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم * وتركنا عليهما فى الاخرين * سلام على موسى وهارون * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين) *) 2
" * (وفديناه بذبح عظيم) *)، والذبح: المهيأ لأن يذبح، والذبح بالفتح المصدر، وقد اختلفوا في هذا الذبح وسبب تسميته عظيما؛ فأخبرنا أبو الحسن الفهندري قال: حدثنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري قال: حدثنا أبو عامر العقدي عن سفيان ابن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قربه ابن آدم، وقال سعيد بن جبير: حق له أن يكون عظيما وقد رعى في الجنة أربعين خريفا، وقال مجاهد: سماه عظيما لأنه متقبل، وقال الحسين بن الفضيل: لأنه كان من عند الله، وقال أبو بكر الوراق: لأنه لم يكن عن نسل وإنما كان بالتكوين، وقيل: لأنه فداء عبد عظيم، وقال
أهل المعاني: قيل له: عظيم؛ لأنه يصغر مقدار غيره من الكباش بالإضافة إليه، وأكثر المفسرين على أنه كان كبشا من الغنم أعين أقرن أملح، وروى عمر بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول: ما فدى إسماعيل إلا تيس من الأروى، وأهبط عليه من (السماء)، وهي رواية أبي صالح عن ابن عباس قال: وكان وعلا.
" * (وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) *)، أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا طلحة وعبيد
157

الله قالا: حدثنا ابن مجاهد قال: حدثني أحمد بن حرب قال: حدثنا سبيك قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن داود عن عكرمة عن ابن عباس. " * (وبشرناه بإسحاق) *): بشرى نبوة بشر به مرتين حين ولد وحين نبئ، " * (وباركنا عليه) *) أي على إبراهيم في الأولاد، " * (وعلى إسحاق) *) حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صلبه.
" * (ومن ذريتهما محسن) *): مؤمن " * (وظالم لنفسه مبين) *): كافر ظاهر الكفر.
" * (ولقد مننا) *): أنعمنا " * (على موسى وهارون) *) بالنبوة.
" * (ونجيناهما وقومهما) *): بني إسرائيل " * (من الكرب العظيم) *)، يعني الغرق، حيث أغرقنا فرعون وقومه " * (ونصرناهم) *) يعني موسى وهارون وقومهما " * (فكانوا هم الغالبين) *) على القبط، " * (وآتيناهما الكتاب المستبين) *): المستنير " * (وهديناهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين) *))
.
* (وإن إلياس لمن المرسلين * إذ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب ءابآئكم الاولين * فكذبوه فإنهم لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على إل ياسين * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وإن لوطا لمن المرسلين * إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين * ثم دمرنا الاخرين * وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل أفلا تعقلون) *) 2
" * (وإن إلياس لمن المرسلين) *)، أخبرنا أبو محمد بن أبي القاسم بن المؤهل قال: حدثنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا بكار بن قتيبة قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا قيس بن أبي إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن ابن مسعود قال: إلياس هو إدريس، وإسرائيل هو يعقوب، وإلى هذا ذهب عكرمة، وقال: هو في مصحف عبد الله: " * (وإن إدريس لمن المرسلين) *) وتفرد عبد الله وعكرمة بهذا القول.
وقال الآخرون: هو نبي من أنبياء بني إسرائيل. قال ابن عباس: وهو ابن عم اليسع، وقال ابن إسحاق: هو إلياس بن ياسين بن العيزار بن هارون بن عمران، وقال أيضا محمد بن إسحاق ابن ياسر والعلماء من أصحاب الأخبار: لما قبض الله سبحانه حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وظهر فيهم الفساد والشرك، ونسوا عهد الله، ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث الله إليهم إلياس (عليه السلام): نبيا وإنما دانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام يبعثون إليهم تجديد ما نسوا من التوراة، وبنو إسرائيل يؤمئذ متفرقون في أرض الشام وفيهم ملوك كثيرة وكان سبب ذلك أن يوشع بن نون لما فتح أرض الشام بعد موسى
158

وملكها بوأها بني إسرائيل وقسمها بينهم، فأحل سبطا منهم بعلبك ونواحيها، وهم سبط إلياس الذي كان منهم إلياس فبعثه الله إليهم نبيا، وعليهم يؤمئذ ملك يقال له: (أجب) قد ضل أضل قومه، وأجبرهم على عبادة الأصنام، وكان يعبد هو وقومه صنما يقال له: بعل، وكان طوله عشرين ذراعا، وكانت له أربعة وجوه. قال: فجعل إلياس يدعوهم إلى الله سبحانه، وهم في كل ذلك لا يسمعون منه شيئا إلا ما كان من أمر الملك الذي كان ببعلبك، فإنه آمن به وصدقة وكان إلياس يقوم أمره ويسدده ويرشده وكان لأجب الملك هذا امرأة يقال لها أزبيل، وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها، فكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتركب كما يركب، وتجلس في مجلس القضاء فتقضي بين الناس، وكانت قتالة للأنبياء.
قال: وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتمها إيمانه، وكان كاتبها قد خلص من يدها ثلاثمئة نبي كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قبلهم ممن يكثر عددهم، وكانت في نفسها غير محصنة، ولم يكن على وجه الأرض أفحش منها، وهي مع ذلك قد تزوجت سبعة ملوك من بني إسرائيل وقتلتهم كلهم بالاغتيال، وكانت معمرة حتى يقال: إنها ولدت سبعين ولدا.
قال: وكان لأجب هذا جار من بني إسرائيل، رجل صالح يقال له (مزدكي) وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ويزينها، وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته، وكانا يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها، وكان أجب الملك مع ذلك يحسن جوار صاحبها مزدكي ويحسن إليه، وامرأته أزبيل تحسده على ذلك لأجل تلك الجنينة، وتحتال في أن تغصبها إياه لما تسمع الناس يكثرون ذكر الجنينة ويتعجبون من حسنها، ويقولون: ما أحرى أن تكون هذه الجنينة لأهل هذا القصر ويتعجبون من الملك وامرأته كيف لم يغصباها صاحبها. فلم تزل امرأة الملك تحتال على العبد الصالح مزدكي في أن تقتله وتأخذ جنينته والملك ينهاها عن ذلك فلا تجد عليه سبيلا.
ثم إنه اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد، وطالت غيبته، فاغتنمت امرأته أزبيل ذلك للحيلة
159

على مزدكي، وهو غافل عما تريد به، مقبل على عبادة ربه وإصلاح معيشته، فجمعت أزبيل جمعا من الناس وأمرتهم أن يشهدوا على مزدكي أنه سب زوجها أجب فأجابوها إلى ملتمسها من الشهادة عليه.
وكان من حكمهم في ذلك الزمان على من سب الملك القتل إذا قامت عليه البينة بذلك فأحضرت مزدكي، وقالت له: بلغني أنك شتمت الملك وعبته. فأنكر مزدكي ذلك، فقالت المرأة: إن عليك شهودا، وأحضرت الشهود فشهدوا بحضرة الناس عليه بالزور، فأمرت بقتل مزدكي فقتل وأخذت جنينته غصبا فغضب الله عليهم بقتل العبد الصالح.
فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر، فقال لها: ما أصبت ولا وفقت ولا أرانا نفلح بعده أبدا، وإنا كنا عن جنينته لأغنياء، قد كنا نتنزه فيها، وقد جاورنا وتحرم بنا مذ زمان طويل، فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى، لوجوب حقه علينا، فختمت أمره بأسوأ الجوار، وما حملك على اجترائك عليه إلا سفهك وسوء رأيك وقلة تفكرك في العواقب. فقالت: إنما غضبت لك وحكمت بحكمك. فقال لها: أوما يسعه حلمك ويحدوك عظيم خطرك على العفو عن رجل واحد فتحفظين له جواره؟ قالت: قد كان ما كان.
فبعث الله تعالى إلياس (عليه السلام) إلى أجب الملك وقومه وأمره أن يخبرهم أن الله سبحانه قد غضب لوليه حين قتلوه بين أظهرهم ظلما، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنعهما ولم يردا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما يعني أجب وامرأته في جوف الجنينة أشر ما يكونان بسفك دميهما ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرى عظامهما من لحومهما ولا يمتعان بها إلا قليلا.
قال: فجاء إلياس وأخبره بما أوحى الله تعالى إليه في أمره وأمر امرأته والجنينة، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له: يا إلياس والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا، والله ما أرى فلانا وفلانا، سمى ملوكا منهم قد عبدوا الأوثان إلا على مثل ما نحن عليه يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين ما ينقص من دنياهم ولا من أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لكم علينا (ولا) عليهم من فضل.
قال: وهم الملك بتعذيب إلياس وقتله، فلما سمع إلياس ذلك وأحس بالشر، رفضه وخرج عنه، فلحق بشواهق الجبال، وعاد الملك إلى عبادة بعل. فارتقى إلياس أصعب جبل وأشمخه، فدخل مغارة فيه، فيقال: إنه قد بقي فيه سبع سنين شريدا طريدا خائفا يأوي إلى
160

الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر، وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون، يتوقعون أخباره ويجتهدون في أخذه، والله سبحانه وتعالى يستره ويدفع عنه. فلما تم له سبع سنين أذن الله تعالى في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم، فأمرض الله سبحانه ابنا لأجب وكان أحب ولده إليه، وأعزهم عليه، وأشبههم به فأدنف حتى يئس منه، فدعا صنمه بعلا وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه، حتى جعلوا له أربعمئة سادن فوكلوهم به وجعلوهم أمناءه، فكان الشيطان يدخل في جوف الصنم فيتكلم بأنواع الكلام، وأربعمئة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان، ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيكتبونها للناس فيعملون بها، ويسمونهم الأنبياء.
فلما اشتد مرض ابن الملك طلب إليهم الملك أن يتشفعوه إلى بعل ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء والعافية فدعوه فلم يجبهم، ومنع الله بقدرته الشيطان عن صنمهم فلم يمكنه الولوج في جوفه ولا الكلام، وهم مجتهدون في التضرع إليه وهو لا يزداد إلا خمودا. فلما طال عليهم ذلك قالوا لأجب: إن في ناحية الشام آلهة أخرى، وهي في العظم مثل إلهك، فابعث إليها الأنبياء ليشفعوا لك إليها، فلعلها أن تشفع لك إلى إلهك بعل، فإنه غضبان عليك، ولولا غضبه عليك لكان قد أجابك وشفى لك ابنك.
قال أجب: ومن أجل ماذا غضب علي، وأنا أطيعه وأطلب رضاه منذ كنت، لم أسخطه ساعة قط؟ قالوا: من أجل أنك لم تقتل إلياس، وفرطت فيه حتى نجا سليما، وهو كافر بإلهك، يعبد غيره، فذلك الذي أغضبه عليك. قال أجب: وكيف لي أن أقتل إلياس يومي هذا، وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابني؟ فليس لإلياس مطلب، ولا يعرف له موضع فيقصد، فلو عوفي ابني تفرغت لطلبه، ولم يكن لي هم ولا شغل غيره حتى آخذه فاقتله، فأريح إلهي منه وأرضيه.
قال: ثم إنه بعث أنبياءه الأربعمئة ليشفعوا إلى الآلهة. التي بالشام، ويسألوها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفي ابنه. فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه إلياس، أوحى الله سبحانه إلى إلياس أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويستوقفهم ويكلمهم، وقال له: (لا تخف فإني سأصرف عنك شرهم، وألقي الرعب في قلوبهم) فنزل إلياس من الجبل، فلما لقيهم استوقفهم، فلما وقفوا، قال لهم: (إن الله سبحانه أرسلني إليكم وإلى من وراءكم، فاسمعوا أيها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم، فارجعوا إليه وقولوا له: إن الله يقول لك: ألست تعلم يا أجب
161

أني أنا الله لا إله إلا أنا إله بني إسرائيل الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم، أفجهلك وقلة علمك حملك على أن تشرك بي، وتطلب الشفاء لابنك من غيري ممن لا يملكون لأنفسهم شيئا إلا ما شئت؟ إني حلفت باسمي لأغيظنك في ابنك ولأميتنه في فوره هذا حتى تعلم أن أحدا لا يملك له شيئا دوني).
فلما قال لهم هذا رجعوا، وقد ملئوا منه رعبا، فلما صاروا إلى الملك قالوا له ذلك وأخبروه بأن إلياس انحط عليهم وهو رجل نحيف طويل، قد قشف وقحل وتمعط شعره وتقشر جلده، عليه جبة من شعر وعباءة قد خللها على صدره بخلال، فاستوقفنا، فلما صار معنا قذفت له في قلوبنا الهيبة والرعب، وانقطعت ألسنتنا، ونحن في هذا العدد الكبير وهو واحد، فلم نقدر على أن نكلمه ونراجعه ونملأ أعيننا منه، حتى رجعنا إليك، وقصوا عليه كلام إلياس، فقال أجب: لا ينتفع بالحياة ما كان إلياس حيا، ما الذي منعكم أن تبطشوا به حين لقيتموه وتوثقوه وتأتوني به، وأنتم تعلمون أنه طلبي وعدوي؟ فقالوا: قد أخبرناك ما الذي منعنا منه ومن كلامه والبطش به. قال أجب: ما يطاق إذن إلياس إلا بالمكر والخديعة.
فقيض له خمسين رجلا من قومه من ذوي القوة والبأس، وعهد إليهم عهده وأمرهم بالاحتيال عليه والاعتناء به، وأن يطمعوه في أنهم قد آمنوا به هم ومن وراءهم ليستنيم إليهم ويغتر بهم فيمكنهم من نفسه، فيأتوا به ملكهم. فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذي فيه إلياس (عليه السلام)، ثم تفرقوا فيه وهم ينادونه بأعلى أصواتهم، ويقولون: يا نبي الله ابرز لنا وأشرف بنفسك فإنا قد آمنا بك وصدقناك، وملكنا أجب وجميع قومنا، وأنت آمن على نفسك، وجميع بني إسرائيل يقرؤون عليك السلام
ويقولون: قد بلغتنا رسالة ربك وعرفنا ما قلت وآمنا بك، وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلم إلينا، فأنت نبينا ورسول ربنا، فأقم بين أظهرنا واحكم فينا، فإنا ننقاد لما أمرتنا وننتهي عما نهيتنا، وليس يسعك أن تتخلف عنا مع إيماننا وطاعتنا، فتداركنا وارجع إلينا، وكل هذا كان منهم مماكرة وخديعة.
فلما سمع إلياس مقالتهم وقعت بقلبه، وطمع في إيمانهم وخاف الله، وأشفق من سخطه إن هو لم يظهر ولم يجبهم بعد الذي سمع منهم، فلما أجمع على أن يبرز لهم، رجع إلى نفسه فقال: (لو أني دعوت الله سبحانه وتعالى وسألته أن يعلمني ما في أنفسهم ويطلعني على حقيقة أمرهم)، وذلك أن الله سبحانه وفقه وألهمه التوقف والدعاء والتحرز، فقال: (اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فائذن لي في البروز إليهم، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم).
162

فما استتم قوله حتى حصبوا بالنار من فوقهم أجمعين.
قال: وبلغ أجب وقومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء، واحتال ثانيا في أمر إلياس، وقيض فئة أخرى مثل عدد أولئك، أقوى منهم وأمكن من الحيلة والرأي فأقبلوا حتى توغلوا (في) تلك الجبال. متفرقين، وجعلوا ينادون: يا نبي الله إنا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته، إنا لسنا كالذين أتوك قبلنا، إن أولئك فرقة نافقوا وخالفوا، فصاروا إليك ليكيدوا بك من غير رأينا ولا علمنا، وذلك أنهم حسدونا وحسدوك وخرجوا إليك سرا، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤونتهم، والآن فقد كفاك ربك أمرهم وأهلكهم بسوء نياتهم وانتقم دونك منهم. فلما سمع إلياس مقالتهم دعا الله بدعوته الأولى، فأمطر عليهم النار فاحترقوا عن آخرهم.
وفي كل ذلك ابن الملك في البلاء الشديد من وجعه كما وعده الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه إلياس، لا يقضى عليه فيموت ولا يخفف عنه من عذابه، فلما سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا ازداد غضبا إلى غضب، وأراد أن يخرج في طلب إلياس بنفسه إلا أنه شغله عن ذلك مرض ابنه، فلم يمكنه، فوجه نحو إلياس الكاتب المؤمن الذي هو كاتب امرأته، رجاء أن يأنس به إلياس، فينزل معه وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءا، وإنما أظهر له ذلك لما اطلع عليه من إيمانه، وأن الملك مع اطلاعه على إيمانه كان مغضيا عنه فيه؛ لما هو عليه من الأمانة والكفاءة والحكمة وسداد الرأي والبصر بالأمور فلما وجهه نحوه أرسل معه فئة من أصحابه، وأوعز إليهمدون الكاتب أن يوثقوا إلياس ويأتوه به إن أراد التخلف عنهم، وإن جاء مع الكاتب واثقا به آنسا لمكانته لم يوحشوه ولم يروعوه. ثم أظهر للكاتب الإنابة، وقال له: إنه قد آن لي أن أتوب واتعظ، وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا، والبلاء الذي فيه ابني، وقد عرفت أن ذلك بدعوة إلياس، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته، فانطلق لنا إليه وأخبره أنا قد تبنا وأنبنا، وإنه لا يصلحنا في توبتنا، وما نريد من رضا ربنا وخلع أصنامنا إلا أن يكون إلياس بين أظهرنا، يأمرنا وينهانا، ويخبرنا بما يرضي ربنا.
قال: وأمر قومه فاعتزلوا الأصنام وقال له: أخبر إلياس أنا قد خلعنا آلهتنا التي كنا نعبد
163

وأرجأنا أمرها حتى ينزل إلياس إلينا فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها، وكان ذلك مكرا من الملك. فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه إلياس، ثم ناداه، فعرف إلياس صوته، فتاقت نفسه إليه وأنس به، وكان مشتاقا إلى لقائه.
قال: وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى إلياس أن انزل إلى أخيك الصالح، فالقه وجدد العهد به. فنزل إليه وسلم عليه وصافحه وقال له: ما الخبر؟ فقال المؤمن: إنه بعثني إليك هذا الجبار الطاغية وقومه، ثم قص عليه ما قالوا، ثم قال له: إني لخائف إن رجعت إليه ولست معي أن يقتلني، فمرني بما شئت أفعله وأنتهي إليه، وإن شئت انقطعت إليك فكنت معك وتركته، وإن شئت جاهدته معك، وإن شئت ترسلني إليه بما تحب فأبلغه رسالتك، وإن شئت دعوت ربك فجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا.
قال: فأوحى الله سبحانه إلى إلياس أن كل شيء جاءك منهم مكر وكذب ليظفروا بك، وإن أجب إن أخبرته رسله أنك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك إليه اتهمه وعرف أنه قد داهن في أمرك فلم يأمن أن يقتله فانطلق معه، فإن انطلاقك معه عذره وبراءته عند أجب، وإني سأشغل عنكما أجب، فأضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له هم غيره ثم أميته على شر حال، فإذا مات هو فارجع عنه ولا تقم.
قال: فانطلق معهم حتى قدموا على أجب فلما قدموا عليه شدد الله الوجع على ابنه وأخذ الموت يكظمه فشغل الله بذلك أجب وأصحابه عن إلياس، ورجع إلياس سالما إلى مكانه. فلما مات ابن أجب، وفرغوا من أمره وقل جزعه، انتبه لإلياس وسأل عنه الكاتب الذي جاء به، فقال: ليس لي به علم وذلك أنه شغلني عنه موت ابنك والجزع عليه ولم أكن أحسبك إلا وقد استوثقت منه. فأضرب عنه أجب وتركه لما كان فيه من الجزع على ابنه.
فلما طال الأمر على إلياس مل المكث في الجبال والمقام بها واشتاق إلى العمران والناس، نزل من الجبل وانطلق حتى نزل بامرأة من بني إسرائيل، وهي أم يونس بن متى ذي النون، فاستخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود يرضع، وكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها ولا تدخر عنه كرامة تقدر عليها.
قال: ثم إن إلياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال دوحها فأحب اللحوق بالجبال، فخرج وعاد إلى مكانه، فجزعت أم يونس لفراقه (وأوحشها) فقده ثم لم تلبث إلا
164

يسيرا حتى مات ابنها حين فطمته، فعظمت مصيبتها فيه، فخرجت في طلب إلياس فلم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ووجدته فقالت له: إني قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتي واشتد لفقده بلائي وليس لي ولد غيره فارحمني وادع ربك جل جلاله ليحيي لي ابني ويجبر مصيبتي، وإني قد تركته مسجى لم أدفنه، وقد أخفيت مكانه. فقال لها إلياس: (ليس هذا مما أمرت به، وإنما أنا عبد مأمور أعمل بما يأمرني ربي، ولم يأمرني بهذا) فجزعت المرأة وتضرعت، فأعطف الله سبحانه قلب إلياس لها، فقال لها: (ومتى مات ابنك؟) قالت: منذ سبعة أيام.
فانطلق إلياس معها وسار سبعة أخرى حتى انتهى إلى منزلها فوجد ابنها يونس بن متي ميتا منذ أربعة عشر يوما، فتوضأ وصلى ودعا فأحيا الله يونس بن متي بدعوة إلياس. فلما عاش وجلس، وثب إلياس وانصرف وتركه وعاد إلى موضع ما كان فيه. فلما طال عصيان قومه ضاق بذلك إلياس ذرعا وأجهده البلاء، قال: فأوحى الله سبحانه إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود: (يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه؟ ألست أميني على وحيي، وحجتي في أرضي، وصفوتي من خلقي؟ فسلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم) قال: (تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني، وأبغضتهم فيك وأبغضوني). فأوحى الله سبحانه إليه: (يا إلياس، ما هذا باليوم الذي أعري منك الأرض وأهلها، وإنما قوامها وصلاحها بك وأشباهك وإن كنتم قليلا، ولكن تسألني فأعطيك).
قال إلياس: (فإن لم تمتني يا إلهي فأعطني ثاري من بني إسرائيل). قال الله سبحانه: (وأي شيء تريد أن أعطيك يا إلياس؟)
قال: (تمكنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشأ عليهم سحابة إلا بدعوتي، ولا يمطر عليهم سبع سنين قطرة إلا بشفاعتي، فإنهم لا يذلهم إلا ذلك). قال الله سبحانه وتعالى: (يا إلياس، أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين). قال: (فست سنين). قال: (أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين).
قال: (فخمس سنين). قال: (أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين، ولكني أعطيك ثأرك ثلاث سنين، أجعل خزائن المطر بيدك، ولا تنشأ عليهم سحابة إلا بدعوتك، ولا ينزل عليهم قطرة إلا بشفاعتك). قال إلياس: (فيأي شيء أعيش؟)
قال: (أسخر لك جنسا من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط).
قال إلياس: (قد رضيت).
قال: فأمسك الله عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر، وجهد
165

الناس جهدا شديدا، وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان، وقد عرفه بذلك قومه، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في البيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فطلبوه ولقي منهم أهل ذلك المنزل شيئا.
قال ابن عباس: أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط، فمر إلياس بعجوز، فقال لها: هل عندك طعام؟ فقالت: نعم، شيء من دقيق وزيت قليل. قال: فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسه حتى ملأ جرابها دقيقا وملأ خوابيها زيتا، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عندها قالوا: من أين لك هذا؟ قالت: مر بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته، فعرفوه وقالوا: ذلك إلياس، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم.
ثم إنه آوى ليلة إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع بن أخطوب وكان به ضر، فآوته وأخفت أمره، فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به، واتبع اليسع إلياس فآمن به وصدقه ولزمه، وكان يذهب به حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسن وكبر، وكان اليسع غلاما شابا.
ثم إن الله سبحانه أوحى إلى إلياس: (إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر يحبس المطر من بني إسرائيل). فيزعمون والله أعلم أن إلياس قال: (يا رب دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به، وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك). قيل له: (نعم).
فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم: (إنكم قد هلكتم جوعا وجهدا، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر لخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فأخرجوا بأصنامكم (تلك) فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء).
قالوا: أنصفت.
فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تستجب لهم ولم يفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، ثم قالوا لإلياس (عليه السلام): يا إلياس إنا قد هلكنا فادع الله لنا. فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج عنهم مما هم فيه، وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر، وهم ينظرون،
166

فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق، ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر وأغاثهم وحييت بلادهم. فلما كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد، ولم ينزغوا عن كفرهم، ولم يقلعوا عن ضلالتهم، وأقاموا على حيث ما كانوا عليه، فلما رأى إلياس ذلك دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا وكذا، فأخرج فيه إلى موضع كذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه.
فخرج إلياس ومعه اليسع بن أحطوب، حتى إذا كان بالموضع الذي أمر، أقبل فرس من نار حتى وقف بين يديه، فوثب عليه إلياس، فانطلق به الفرس، فناداه اليسع: يا إلياس، ما تأمرني؟ فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى، وكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، فكان ذلك آخر العهد به، ورفع الله سبحانه إلياس من بين أظهرهم، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش، فكان إنسيا ملكيا، أرضيا سماويا، وسلط الله تعالى على أجب الملك وقومه عدوا لهم، فقصدهم من حيث لم يشعروا بهم حتى رهقهم، فقتل أجب ملكهم وأزبيل امرأته في بستان مزدكي، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما.
ونبأ الله سبحانه بفضله اليسع، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل وأوحى إليه وأيده بمثل ما أيد به عبده إلياس، فآمنت به بنو إسرائيل، فكانوا يعظمونه وينتهون إلى أمره، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا الحسن بن عبد العزيز الجدوي عن ضمرة عن السدي بن يحيى
عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: إلياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان ببيت المقدس، ويوافيان الموسم في كل عام.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن ماجة قال: حدثنا الحسن بن أيوب قال: حدثنا عبد الله بن أبي زياد قال: حدثنا يسار قال: حدثنا بشر بن منصور قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد البصري قال: قال حدثني العلاء البجلي عن زيد مولى عون الطفاوي عن رجل من أهل عسقلان كان يمشي بالأردن عند نصف النهار، فرأى رجلا فقال: يا عبد الله من أنت؟ قال: فجعل لا يكلمني، قلت: يا عبد الله من أنت؟ قال: (أنا إلياس) قال: فوقعت علي رعدة، فقلت: ادع الله يرفع عني ما أجد حتى أفهم حديثك وأعقل عنك. قال: فدعا لي بثماني دعوات: (يابر يا رحيم يا حنان يامنان يا حي يا قيوم)، ودعوتين بالسريانية لم أفهمهما.
قال: ورفع الله عني ما كنت أجد، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين يدي، قال: فقلت له: يوحى إليك اليوم؟ قال: (منذ بعث الله سبحانه محمدا رسولا فإنه ليس يوحي إلي) قال: قلت له: كم الأنبياء اليوم أحياء؟ قال: (أربعة، اثنان في الأرض، واثنان في السماء، في
167

السماء عيسى وإدريس، وفي الأرض إلياس والخضر). قلت: كم الأبدال؟ قال: (ستون رجلا، خمسون منهم من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات، ورجل بالمصيصية ورجلان بعسقلان وسبعة في سائر البلدان، كلما أذهب الله بواحد، جاء الله بآخر، بهم يدفع عن الناس وبهم يمطرون). قلت: فالخضر أين يكون؟ قال: (في جزائر البحر). قلت: فهل تلقاه؟ قال: (نعم). قلت: أين؟ قال: (بالموسم) قلت: فما يكون من حديثكما؟ قال: (يأخذ من شعري وآخذ من شعره).
قال: وذاك حين كان بين مروان بن الحكم وبين أهل الشام القتال، فقلت: فما تقول في مروان بن الحكم؟ قال: (ما تصنع به؟ رجل جبار عات على الله سبحانه، القاتل والمقتول والشاهد في النار). قال: قلت: فإني قد شهدت فلم أطعن برمح ولم أرم بسهم ولم أضرب بسيف، وأنا أستغفر الله عز وجل من ذلك المقام أن أعود إلى مثله أبدا.
قال: (أحسنت، هكذا فكن).
قال: فأني وإياه قاعدان، إذ وضع بين يديه رغيفان أشد بياضا من الثلج، أكلت أنا وهو رغيفا وبعض آخر ثم رفع فما رأيت أحدا وضعه ولا أحدا رفعه. قال: وله ناقة ترعى في وادي الأردن، فرفع رأسه إليها فما دعاها حتى جاءت فبركت بين يديه فركبها، قلت: أريد أن أصحبك. قال: (إنك لا تقدر على صحبتي). قلت: إني خلو، مالي زوجة ولا عيال. قال: (تزوج وإياك والنساء الأربع: إياك والناشز والمختلعة والملاعنة والمبارية، وتزوج ما بدا لك من النساء). قال: قلت: إني أحب لقاءك. قال: (إذا رأيتني فقد لقيتني)، ثم قال: (إني أريد أن أعتكف في بيت المقدس في شهر الله المبارك رمضان).
قال: ثم حالت بيني وبينه شجرة، فوالله ما أدري كيف ذهب، فذلك قوله عز وجل: " * (وإن الياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون) *) أتعبدون " * (بعلا) *)؟ وهو اسم صنم لهم كانوا يعبدونها، ولذلك سميت مدينتهم بعلبك، وقال مجاهد وعكرمة والسدي: البعل الرب بلغة أهل اليمن، وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال ابن عباس: وسألت أعرابيا يقول: لآخر: من بعل هذه الناقة؟ يعني صاحبها. قال الفراء: هي بلغة هذيل.
" * (وتذرون أحسن الخالقين) *)، فلا تعبدونه: " * (الله ربكم ورب آبائكم الأولين) *)، قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب بنصب الهاء والبائين على البدل، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ورواية حفص عن عاصم، وقرأ الآخرون برفعها على الاستئناف.
" * (فكذبوه فإنهم محضرون) *) في العذاب والنار " * (إلا عباد الله المخلصين) *) من قومه فإنهم
168

(ناجون من النار) * * (وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين) *) قرأ ابن محيص وشيبة " * (سلام على إلياسين) *) موصولا.
وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب (آل ياسين) بالمد. الباقون: " * (إل ياسين) *) بالقطع والقصر، فمن قرأ آل ياسين بالمد، فإنه أراد آل محمد عن بعضهم، وقيل: أراد إلياس، وهو أليق بسياق الآية، ومن قرأ إل ياسين فقد قيل: إنها لغة في إلياس مثل إسماعيل وإسماعين وميكائيل وميكائين، وقال الفراء: وهو جمع، أراد إلياس وأتباعه من المؤمنين كقولهم: الأشعرون والمكيون وقال الكسائي: العرب تثني وتجمع الواحد كقول الشاعر:
قدني من نصر الخبيبين قدي
وإنما هو أبو خبيب عبد الله بن الزبير.
وقال الآخر:
جزاني الزهدمان جزاء سوء
وإنما هو زهدم، وفي حرف عبد الله (وإن إدريس لمن المرسلين، وسلام على ادراسين).
" * (إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم) *)، أي على آثارهم ومنازلهم، " * (مصبحين) *): وقت الصباح، " * (وبالليل) *) أيضا تمرون، وها هنا تم الكلام، ثم قال " * (أفلا تعقلون) *)، فتعتبروا؟
(* (وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون * فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا أنه كان من المسبحين * للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون * فنبذناه بالعرآء وهو سقيم * وأنبتنا عليه شجرة من يقطين * وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فئامنوا فمتعناهم إلى حين * فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * مالكم كيف تحكمون * أفلا تذكرون *
أم لكم سلطان مبين * فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين * وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون * سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين * فإنكم وما تعبدون * مآ أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم * وما منآ إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصآفون * وإنا لنحن المسبحون * وإن كانوا ليقولون * لو أن عندنا ذكرا من الاولين * لكنا عباد الله المخلصين * فكفروا به فسوف يعلمون * ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون * فتول عنهم حتى
169

حين * وأبصرهم فسوف يبصرون * أفبعذابنا يستعجلون * فإذا نزل بساحتهم فسآء صباح المنذرين * وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون * سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين) *) 2
" * (وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق) *). هرب " * (إلى الفلك المشحون) *)، قال ابن عباس ووهب: كان يونس (عليه السلام) قد وعد قومه العذاب فلما تأخر العذاب عنهم خرج كالمنشور منهم، فقصد البحر وركب السفينة، فاحتبست السفينة، فقال الملاحون: ها هنا عبد أبق من سيده، وهذا رسم السفينة إذا كان فيه آبق لا تجري. فاقترعوا، فوقعت القرعة على يونس، فقالوا: ألا نلقيه في الماء؟ واقترعوا ثانيا وثالثا فوقعت القرعة على يونس، فقال: (أنا الآبق) وزج نفسه في الماء، فذلك قوله سبحانه: " * (فساهم) *): فقارع، والمساهمة: إلقاء السهام على جهة القرعة. " * (فكان من المدحضين) *) المقروعين المخلوعين المغلوبين.
" * (فالتقمه) *): فابتلعه والتقمة " * (الحوت) *) وأوحى الله سبحانه إليه أني جعلت بطنك سجنا ولم أجعله لك طعاما، " * (وهو مليم) *) مذنب، قد أتى بما يلام عليه.
" * (فلولا أنه كان من المسبحين) *) المنزهين الذاكرين لله سبحانه قبل ذلك في حال الرخاء، وقال ابن عباس: من المصلين، وقال مقاتل: من المصلحين المطيعين قبل المعصية، وقال وهب: من العابدين، وقال سعيد بن جبير: يعني قوله " * (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) *) وقال الحسن: ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحا، " * (للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) *) لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.
" * (فنبذناه) *): طرحناه " * (بالعراء) *) قال الكلبي: يعني وجه الأرض. مقاتل بن حيان: يعني ظهر الأرض. مقاتل بن سليمان بالبراري من الأرض. الأخفش بالفناء الفراء بالأرض الواسعة. السدي: بالساحل، وأصل العراء الأرض الخالية عن الشجر والنبات، ومنه قيل للمتجرد: عريان. قال الشاعر:
(ترك الهام... بالعراء
صار للخير حاصر العبقا)
" * (وهو سقيم) *) عليل كالفرخ الممغط، واختلفوا في المدة التي لبث يونس (عليه السلام) في بطن الحوت، فقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام. عطاء: سبعة أيام، ضحاك: عشرين يوما. السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوما.
170

" * (وأنبتنا عليه) *) أي له، وقيل: عنده، كقوله: " * (لهم علي ذنب) *) أي عندي " * (شجرة من يقطين) *) قال ابن مسعود: يعني القرع. ابن عباس والحسن ومقاتل هو كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض، ولا يبقى على الشتاء وليس له ساق نحو القثاء والبطيخ والقرع والحنظل. سعيد ابن جبير: هو كل شيء ينبت ثم يموت من عامه، وقيل: هو يفعيل من (قطن بالمكان) إذا أقام به إقامة زائل لا إقامة ثابت، وقال مقاتل بن حيان: وكان يستظل بالشجرة، وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها، " * (وأرسلناه) *) يجوز أن يكون من حبسه في بطن الحوت، تقدير الآية وقد أرسلناه، ويجوز أن يكون بعده، ويجوز أن يكون إلى قوم آخرين. " * (إلى مائة ألف أو يزيدون) *) قال ابن عباس: معناه ويزيدون، قال الشاعر:
فلما اشتد أمر الحرب فينا
تأملنا رياحا أو رزاما
أي ورزاما، وقال مقاتل: بل يزيدون.
واختلفوا في مبلغ الزيادة على مائة ألف؛ فقال ابن عباس ومقاتل: عشرون ألف. الحسن والربيع: بضع وثلاثون ألفا، ابن حيان: سبعون ألفا، " * (فآمنوا) *) عند معاينة العذاب، " * (فمتعناهم إلى حين) *) انقضاء آجالهم.
" * (فاستفتهم) *): فسل يا محمد أهل مكة " * (ألربك البنات ولهم البنون) *)؛ وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله، " * (أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون) *): حاضرون خلقنا إياهم، نظيره قوله: * (أشهدوا خلقهم) * * (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى) *). قرأ العامة بقطع الألف؛ لأنه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوحة على حالها مثل * (استكبرت و) * * (استغفرت) *) و " * (أذهبتم) *) ونحوها.
وقرأ أبو جعفر ونافع في بعض الروايات (الكاذبون اصطفى) موصولة على الخبر والحكاية عن قول المشركين، مجازه: " * (ليقولون ولد الله) *) ويقولون * (اصطفي) * * (البنات على البنين) *) ثم رجع إلى الخطاب: " * (مالكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين) *): برهان بين على أن الله ولدا " * (فائتوا بكتابكم إن كنتم صادقين وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) *): فجعلوا
171

الملائكة بنات الله، فسمي الملائكة جنا لاختبائهم عن الأبصار، هذا قول مجاهد وقتادة، وقال ابن عباس: قالوا لحي: من الملائكة يقال لهم: الجن ومنهم إبليس بنات الله
.
قال الكلبي: قالوا (لعنهم الله): بل تزوج من الجن فخرج منها الملائكة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه.
" * (ولقد علمت الجنة أنهم) *) يعني قائلي هذا القول " * (لمحضرون) *) في النار.
" * (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) *)؛ فإنهم من النار ناجون. " * (فإنكم وما تعبدون) *) يعني الأصنام " * (ما أنتم عليه) *) أي مع ذلك " * (بفاتنين) *): بمضلين " * (إلا من هو صال الجحيم) *) أي إلا من هو في علم الله وإرادته سيدخل النار.
أخبرني ابن فنجويه قال حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا الفربابي قال: حدثنا أبو بكر بن شنبه قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن عمر بن ذر قال: قدمنا على عمر بن عبد العزيز فذكر عنده القدر، فقال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله ألا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلما من كتاب الله، وجهله من جهله وعرفه من عرفه، ثم قرأ " * (إنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم) *)، وقد فصلت هذه الآية بين الناس.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا الفربابي قال: حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال: حدثنا أنس بن عياض قال: حدثني أبو سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر قال: قال لي عمر بن عبد العزيز (من فيه إلى أذني): ما تقول في الذين يقولون لا قدر؟ قال: أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. قال عمر بن عبد العزيز: ذلك الرأي فيهم والله لو لم يكن إلا هذه الآية الواحدة لكفى بها: * (فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم) * * (ما منا إلا له) *) يعني إلا من له " * (مقام معلوم) *): مكان مخصوص في العبادة. قال ابن عباس: ما في السماوات موضع شبر إلا وعليه ملك مصل أو مسبح، وقال أبو بكر: الوراق: " * (إلا له مقام معلوم) *) يعبد الله عليه، كالخوف والرجا، والمحبة والرضا، وقال السدي: يعني في القربى والمشاهدة.
" * (وإنا لنحن الصافون) *) في الصلاة، " * (وإنا لنحن المسبحون وإن كانوا) *) وقد كادوا يعني أهل مكة " * (ليقولون) *) لام التأكيد: " * (لو أن عندنا ذكرا من الأولين) *): كتابا مثل كتبهم، " * (لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به) *) فيه اختصار تقديره: فلما أتاهم ذلك الكتاب كفروا به. نظيره قوله: " * (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) *).
172

" * (فسوف يعلمون) *)، وهذا وعيد لهم.
" * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) *)، وهي قوله: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * * (إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين) *) قال ابن عباس: يعني الموت، وقال مجاهد: يعني يوم بدر، وقيل: إلى يوم القيامة، وقال مقاتل بن حيان: نسختها آية القتال.
" * (وأبصرهم) *): أنظر إليهم إذا عدوا، وقيل: أبصر حالهم بقليل، وقيل: انتظرهم " * (فسوف يبصرون) *) ما أنكروا: " * (أفبعذابنا يستعجلون) *) وذلك أن رسول الله (عليه السلام) لما أوعدهم العذاب، قالوا: متى هذا الوعد؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
" * (فإذا نزل) *) العذاب " * (بساحتهم) *): بناحيتهم وفنائهم " * (فساء) *): فبئس " * (صباح المنذرين) *): الكافرين. أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله الزاهد قال: أخبرنا أبو العباس السراح قال: حدثنا محمد بن رافع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس في قوله: " * (فساء صباح المنذرين) *) قال: لما أتى النبي صلى الله عليه خيبر فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومعهم مساحيهم، فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا، فرجعوا إلى حصنهم، فقال النبي عليه السلام: (الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
" * (وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون) *) تأكيد للأولى.
" * (سبحان ربك) *) إلى آخر السورة أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عمر بن الخطاب قال: حدثنا أبو مسلم: حدثنا محمد بن إسماعيل بن محمد بن أسد بن عبد الله الأصفهاني قال: حدثنا أسيد بن عاصم قال: حدثنا أبو سفيان بن صالح بن مهران قال: حدثنا نعمان قال: حدثنا أبو العوام عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه: (إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين؛ فإنما أنا رسول من المرسلين).
قال أبو العوام: كان قتادة يذكر هذا الحديث إذا تلا هذه الآية: " * (سبحان ربك) *) إلى آخر السورة.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا المسيب قال: حدثنا مطرف عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد
173

الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه يقول قبل أن يسلم: " * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) *).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال: حدثنا وكيع عن ثابت بن أبي صفية عن الأصبغ بن نباتة عن عليح قال: (من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه " * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) *)).
(أخبرنا ابن فنجويه، أخبرنا الحسن المخلدي المقرئ عن أبي الحسن علي بن أحمد عن أبي (عثمان) البصري عن أبي خليفة (الجمحي عن) عبد المؤمن عن إبراهيم بن إسحاق (عن عبد الصمد) عن صالح بن مسافر قال: قرأت على عاصم بن أبي النجود سورة والصافات فلما أتيت على آخرها سكت، فقال: لم؟ إقرأ.
فقلت: قد ختمت، قال إني فعلت كما فعلت على أبي عبد الرحمن السلمي، فقال أبو عبد الرحمن: كذلك قال لي علي وقال لي: قل: آذنتكم بأذانة المرسلين و " * (لتسئلن عن النبأ العظيم) *))
.
174

((سورة ص))
وهي ثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا، وسبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وثمانية وثمانون آية.
من كتاب ثواب الأعمال: أخبرنا إبراهيم قال: حدثنا سلام في إسناده قال: ومن قرأ سورة ص كان له من الأجر مثل جبل سخره الله لداود عشرة حسنات، وعصم من أن يصر على ذنب صغير أو كبير.
حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن قال: حدثنا أبو الربيع قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثني العطاف بن خلد عن عبد الرحمن بن حرملة عن برد مولى سعيد بن المسيب: إن ابن المسيب كان لا يدع أن يقرأ كل ليلة ص.
قال العطاف: فلقيت عمران بن محمد بن سعيد بن المسيب فسألته عن ذلك.
قال: بلغني أنه ما من عبد يقرأها كل ليلة إلا اهتز له العرش.
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (صوالقرءان ذى الذكر * بل الذين كفروا فى عزة وشقاق * كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص * وعجبوا أن جآءهم م نذر منهم وقال الكافرون هاذا ساحر كذاب * أجعل الالهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء عجاب * وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا علىءالهتكم إن هاذا لشىء يراد * ما سمعنا بهاذا فى الملة الاخرة إن هاذا إلا اختلاق) *) 2
" * (ص) *) قرأ العامة بالجزم، واختلفوا في معناه.
فقال الكلبي: عن أبي صالح، سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن " * (ص) *) فقالا: لا ندري.
وقال عكرمة: سأل نافع الأزرق عبد الله بن عباس عن " * (ص) *) فقال: كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن، إذ لا ليل ولا نهار
175

سعيد بن جبير: " * (ص) *) بحر يحيي الله به الموتى بين (النفختين).
الضحاك: صدق الله. مجاهد: فاتحة السورة. قتادة: اسم من أسماء القرآن. السدي: قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به، وهو اسم من أسماء الله عز وجل. وهي رواية الوالبي عن ابن عباس.
محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله، صمد، وصانع المصنوعات، وصادق الوعد.
وقيل: هو اسم السورة، وقيل: هو إشارة إلى صدود الكفار من القرآن.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: صاد بخفض الدال، من المصاداة، أي عارض القرآن بعملك وقابله به، واعمل بأوامره، وانته عن نواهيه.
وقرأ عيسى بن عمر صاد بفتح الدال، ومثله قاف ونون، لاجتماع الساكنين، حركها إلى أخف الحركات.
وقيل: على الإغراء.
وقيل في " * (ص) *): إن معناه صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به.
" * (والقرآن ذي الذكر) *) قال ابن عباس ومقاتل: ذي البيان.
الضحاك: ذي الشرف، دليله قوله عز وجل: " * (وإنه لذكر لك ولقومك) *).
وقيل: ذي ذكر الله عز وجل.
واختلفوا في جواب القسم، فقال قتادة: موضع القسم قوله: " * (بل الذين كفروا) *) كما قال سبحانه: " * (ق والقرآن المجيد بل عجبوا) *). وقال الأخفش جوابه قوله: " * (إن كل إلا كذب الرسل) *) كقوله عز وجل: " * (تالله إن كنا...) *) وقوله: " * (والسماء والطارق إن كل نفس) *). وقيل: قوله: " * (إن هذا لرزقنا ماله من نفاد) *).
وقال الكسائي: قوله: " * (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) *).
وقيل: مقدم ومؤخر تقديره " * (بل الذين كفروا في عزة وشقاق والقرآن ذي الذكر) *).
وقال الفراء: " * (ص) *) معناها وجب وحق، فهي جواب لقوله " * (والقرآن) *) كما تقول: (نزل) والله.
وقال القتيبي من قال جواب القسم " * (بل الذين كفروا) *) قال: (بل) إنما تجيء لتدارك كلام ونفي آخر، ومجاز الآية أن الله أقسم ب " * (ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق) *) ويعني حمية جاهلية وتكبر.
176

" * (وشقاق) *) يعني خلاف وفراق.
" * (كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا) *) بالأيمان والاستغاثة عند نزول العقوبة وحلول النقمة بهم.
" * (ولات حين مناص) *) وليس بوقت فرار ولا بر.
وقال وهب: " * (ولات) *) بلغة السريانية إذا أراد السرياني أن يقول وليس يقول: ولات.
وقال أئمة أهل اللغة: " * (ولات حين) *) مفتوحتان كأنهما كلمة واحدة، وإنما هي (لا) زيدت فيها التاء كقولهم: رب وربت، وثم وثمت.
قال أبو زيد الطائي:
طلبوا صلحنا ولات أوان
فأجبنا أن ليس حين بقاء
(وقال) آخر:
تذكرت حب ليلى لات حينا
وأمسى الشيب فقطع القرينا
وقال قوم: إن التاء زيدت في حين كقول أبي وجزة السعدي:
العاطفون حين ما من عاطف
والمطعمون زمان ما من مطعم
وتقول العرب: تلان بمعنى الآن، ومنه حديث ابن عمر سأله رجل عن عثمان ح فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تلان إلى أصحابك يريد الآن.
وقال الشاعر:
تولى قبل يوم بين حمانا
وصلينا كما زعمت تلانا
فمن قال: إن التاء مع (لا) قالوا: قف عليه لأن بالتاء (...).
وروى قتيبة عن الكسائي أنه كان يقف: ولاه، بالهاء، ومثله روي عن أهل مكة، ومن قال: إن التاء مع حين. قالوا: قف عليه ولا، ثم يبتدئ بحين مناص. وهو اختيار أبي عبيد قال: لأني تعمدت النظر إليه في الأمام مصحف عثمان بن عفان ح عنه فوجدت التاء متصلة مع حين قد ثبتت: (تحين)
177

وقال الفراء: النوص بالنون التأخر، والبوص بالباء التقدم. وجمعهما امرؤ القيس في بيت فقال:
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص
فتقصر عنها خطوة وتبوص
فمناص مفعل من ناص مثل مقام.
قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض: مناص، أي اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص، فأنزل الله سبحانه * (ولات حين مناص) * * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا) *).
وذلك أن عمر بن الخطاب ح أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش، وهم الصناديد والأشراف، وكانوا خمسة وعشرين رجلا، الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم سنا، وأبو جميل ابن هشام، وأبي وأمية ابنا خلف، وعمر بن وهب بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعبد الله بن أمية والعاص بن وائل، والحرث بن قيس، وعدي بن قيس، والنضر بن الحرث، وأبو البحتري بن هشام، وقرط بن عمرو، وعامر بن خالد، ومحرمة بن نوفل، وزمعة بن الأسود، ومطعم بن عدي، والأخنس بن سريق، وحويطب ابن عبد العزى، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والوليد بن عتبة، وهشام بن عمر بن ربيعة، وسهيل بن عمرو، فقال لهم الوليد بن المغيرة: امشوا إلى أبي طالب. فأتوا أبا طالب فقالوا له: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، وإنا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: يا بن أخ هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وماذا يسألوني؟) فقال: يقولون ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وآلهك.
فقال النبي (عليه السلام): (أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟) فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قولوا لا إله إلا الله). فنفروا من ذلك وقاموا وقالوا: " * (أجعل الآلهة إلها واحدا) *) كيف يسع الخلق كلهم إله واحد
178

" * (إن هذا لشيء عجاب) *) أي عجيب.
قال مقاتل: بلغة أزدشنوه.
قال أهل اللغة: العجيب والعجاب واحد كقولك كريم وكرام وكبير ووكبار وطويل وطوال وعريض وعراض وسكين حديد وحداد.
أنشد الفراء:
كحلقة من أبي رماح
تسمعها لاهة الكبار
وقال آخر:
نحن أجدنا دونها الضرابا
إنا وجدنا ماءها طيابا
يريد طيبا.
وقال عباس بن مرداس: تعدوا به سلمية سراعه. أي سريعة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعيسى بن عمر: عجاب بالتشديد. وهو المفرط في العجب.
فأنشد الفراء:
آثرت إدلاجي على ليل جرة
هضيم الحشا حسانة المتجرد
وأنشد أبو حاتم:
جاءوا بصيد عجب من العجب
أزيرق العينين طوال الذنب
" * (وانطلق الملأ منهم أن امشوا) *) يعني إلى أبي طالب فأشكوا إليه ابن أخيه " * (واصبروا) *) واثبتوا " * (على آلهتكم) *) نظيرها في الفرقان * (لولا أن صبرنا عليها) * * (إن هذا لشيء يراد) *) أي لأمر يراد بنا " * (ما سمعنا بهذا) *) الذي يقول محمد " * (في الملة الآخرة) *).
قال ابن عباس والقرظي والكلبي ومقاتل: يعنون النصرانية، لأن النصارى تجعل مع الله إلها.
179

وقال مجاهد وقتادة: يعنون ملة قريش، ملة زماننا هذا.
" * (إن هذا إلا اختلاق أأنزل عليه الذكر) *) القرآن " * (من بيننا) *) قال الله عز وجل: " * (بل هم في شك من ذكري) *) أي وحيي.
(* (أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب * أم عندهم خزآئن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم م لك السماوات والارض وما بينهما فليرتقوا فى الاسباب * جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب * كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب لئيكة أولائك الاحزاب * إن كل إلا كذب الر سل فحق عقاب * وما ينظر هاؤلآء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق * وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب * اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الايد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب * وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب) *) 2
" * (بل لما) *) أي لم " * (يذوقوا عذاب) *) ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول " * (أم عندهم خزائن رحمة) *) نعمة " * (ربك) *) يعني مفاتيح النبوة، نظيرها في الزخرف " * (أهم يقسمون رحمة ربك) *) أي نبوة ربك " * (العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب) *) أي فليصعدوا في الجبال إلى السماوات، فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون ويشاؤن، وهذا أمر توبيخ وتعجيز.
وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: أراد بالأسباب: أبواب السماء وطرقها.
" * (جند) *) أي هم جند " * (ما هنالك) *) أي هنالك و (ما) صلة " * (مهزوم) *) مغلوب، ممنوع عن الصعود إلى السماء " * (من الأحزاب) *) أي من جملة الأجناد.
وقال أكثر المفسرين: يعني أن هؤلاء الملأ الذين يقولون هذا القول، جند مهزوم مقهور وأنت عليهم مظفر منصور.
قال قتادة: وعده الله عز وجل بمكة أنه سيهزمهم، فجاء تأويلها يوم بدر من الأحزاب، أي كالقرون الماضية الذين قهروا وأهلكوا، ثم قال معزا لنبيه صلى الله عليه وسلم " * (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد) *) قال ابن عباس: ذو البناء المحكم.
180

وقال القتيبي: والعرب تقول: هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد. يريدون أنه دائم شديد، وأصل هذا أن البيت من بيوتهم بأوتاده.
قال الأسود بن يعفر: في ظل ملك ثابت الأوتاد.
وقال الضحاك: ذو القوة والبطش.
وقال الحلبي ومقاتل: كان يعذب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد كل رجل منه إلى سارية وكل يد منه إلى سارية، فيتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت.
وقال مقاتل بن حيان: كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يشده بالأوتاد.
وقال السدي: كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات.
وقال قتادة وعطاء: كانت له أوتاد وأرسال وملاعب يلعب عليها بين يديه.
" * (وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل) *) ما كل منهم " * (إلا كذب الرسل فحق عقاب) *) فوجب عليهم ونزل بهم عذابي " * (وما ينظر) *) ينتظر " * (هؤلاء) *) يعني كفار مكة " * (إلا صيحة واحدة) *) وهي نفخة القيامة.
وقد روي هذا التفسير مرفوعا إلى النبي (عليه السلام).
" * (ما لها من فواق) *).
قال ابن عباس وقتادة: من رجوع. الوالبي: يزداد. مجاهد: نظرة. الضحاك: مستوية.
وفيه لغتان: (فواق) بضم الفاء وهي لغة تميم، وقراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف. و (فواق) بالفتح وهي لغة قريش، وقراءة سائر القراء واختيار أبي عبيد.
قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، كما يقال حمام المكوك وحمامه، وقصاص الشعر وقصاصه.
وفرق الآخرون بينهما.
قال أبو عبيدة والمؤرخ: بالفتح بمعنى الراحة والإفاقة كالجواب من الإجابة، ذهبا به إلى إفاقة المريض من علته، و (الفواق) بالضم ما بين الحلبتين، وهو أن يحلب الناقة ثم تترك ساعة حتى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق.
فاستعير في موضع الانتظار مدة يسيرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من رابط فواق ناقة في سبيل الله حرم الله جسده على النار).
181

" * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) *).
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني كتابنا.
وعنه أيضا: القط الصحيفة التي أحصت كل شيء.
قال أبو العالية والكلبي: لما نزلت في الحاقة " * (فأما من أوتي كتابه بيمينه) *)، " * (وأما من أوتي كتابه بشماله) *).
قالوا على جهة الاستهزاء: (عجل لنا قطنا) يعنون كتابنا عجله لنا في الدنيا.
قيل: يوم الحساب.
وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: يعني عقوبتنا وماكتب لنا من العذاب.
قال عطاء: قاله النظر بن الحرث، وهو قوله: " * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم) *) وهو الذي قال الله سبحانه " * (سأل سائل بعذاب واقع) *)
قال عطاء: لقد نزلت فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عز وجل.
وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول.
قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ، ومنه قيل للصك قط.
وقال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب بالجوائة.
قال الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته
بغبطته يعطي القطوط ويأفق
يعني كتب الجوائز أي بفضل وبعلو، يقال فرس أفق وناقة أفقه إذا كانا كريمين، وفضلا على غيرهما.
وقال مجاهد: قطنا حسابنا، ويقال لكتاب الحساب: قط، وأصل الكلمة من الكتابة.
فقال الله سبحانه لنبيه (عليه السلام): " * (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد) *) ذا القوة في العبادة " * (إنه أواب) *) مطيع
182

عن ابن عباس: رجاع إلى التوبة.
عن الضحاك، سعيد بن جبير: هو المسبح بلغة الحبش.
أخبرني الحسين بن محمد الدينوري قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا أبو العباس عبد الله بن جعفر بن أحمد بن (فارس) ببغداد قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن القاسم قال: حدثنا عمرو بن حصين قال: حدثنا الحسين بن عمرو عن أبي بكر الهذلي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الزرقة يمن وكان داود النبي (عليه السلام) أزرق).
" * (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن) *) بتسبيحه.
قال ابن عباس: وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر.
" * (بالعشي والإشراق) *).
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا الحسين بن يحيويه قال: حدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم قال: حدثنا الحجاج بن نصير قال: حدثنا أبو بكر الهذلي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: كنت أمر بهذه الآية لا أدري مالعشي والإشراق، حتى حدثتني أم هاني بنت أبي طالب أن رسول الله (عليه السلام) دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى الضحى وقال: (يا أم هاني هذه صلاة الإشراق).
روى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: لم يزل في نفسي (من) صلاة الضحى شيء حتى طلبتها في القرآن فوجدتها في هذه الآية " * (يسبحن بالعشي والإشراق) *).
قال عكرمة: وكان ابن عباس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلى بعدها.
وروي أن كعب الأحبار قال لابن عباس ذ: إني لأجد في كتاب الله صلاة بعد طلوع الشمس.
فقال ابن عباس: أنا أوجدك ذلك في كتاب الله في قصة داود " * (يسبحن بالعشي والإشراق) *) وليس الإشراق طلوع الشمس، إنما هو صفاؤها وضوؤها.
" * (والطير) *) أي وسخرنا له الطير " * (محشورة) *) مجموعة " * (كل له) *) أي لداود " * (أواب) *) مطيع " * (وشددنا ملكه) *) أي قويناه
183

وقرأ الحسن: وشددنا بتشديد الدال.
قال ابن عباس: كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل، فذلك قوله " * (وشددنا ملكه) *) بالحرس.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا داود بن أبي الفرات عن علي بن أحمد عن عكرمة عن ابن عباس: أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم، فاجتمعا عند داود النبي فقال المستعدي: ان هذا غصبني بقرتي.
فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده، وسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة. فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما.
فقاما من عنده، فأوحى الله سبحانه إلى داود (عليه السلام) في منامه: أن يقتل الرجل الذي استعدي عليه.
فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت.
فأوحى الله سبحانه إليه مرة أخرى أن يقتله. فلم يفعل، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه الثالثة: أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل فقال له: إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك.
فقال له الرجل: تقتلني بغير بينة ولاثبت
فقال له داود: نعم، والله لأنفذن أمر الله فيك.
فلما عرف الرجل أنه قاتله قال: لا تعجل حتى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته، فلذلك أخذت.
فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبته في بني إسرائيل عند ذلك لداود، واشتد به ملكه فهو قوله سبحانه: " * (وشددنا ملكه) *).
" * (وآتيناه الحكمة) *) يعني النبوة والإصابة في الأمور. وقال أبو العالية: العلم الذي لاترده العقول.
" * (وفصل الخطاب) *) قال ابن عباس: بيان الكلام.
وقال الحسن والكلبي وابن مسعود ومقاتل وأبو عبد الرحمن السلمي: يعني علم الحكم والبصر بالقضاء، كأن لا يتتعتع في القضاء بين الناس، وهي إحدى الروايات عن ابن عباس.
وقال علي بن أبي طالب: هو البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
184

وأخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن محمد بن عمر الجوري قال: أخبرنا أبو بكر بالويه بن محمد بن بالويه المربتاني بها، قال: حدثنا محمد بن حفص الحوني قال: حدثنا نصر بن علي الخميصمي قال: أخبرنا أبو أحمد قال: أخبرنا شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن كعب في قوله " * (وفصل الخطاب) *) قال: الشهود والإيمان.
أنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا وهب بن جرير قال: أخبرنا (شعبة) عن الحكم عن شريح في قوله " * (وفصل الخطاب) *) قال: الشهود والإيمان. وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال: حدثنا أحمد بن محمد أبي شيبة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم البغوي قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن زكريا يعني ابن أبي زائدة عن (السبيعي) قال: سمعت زيادا يقول: " * (فصل الخطاب) *) الذي أعطي داود، أما بعد وهو أول من قالها.
" * (وهل آتياك نبؤا الخصم) *) الآية. اختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب امتحان الله سبحانه نبيه داود بما امتحنه به من الخطيئة.
فقال قوم: كان سبب ذلك أنه تمنى يوما من الأيام على ربه عز وجل منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) وسأله أن يمتحنه نحو الذي كان امتحنهم، ويعطيه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم.
وروى السدي والكلبي ومقاتل: عن أشياخهم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام: يوما يقضي فيه بين الناس، ويوما يخلوا فيه لعبادة ربه، ويوما يخلوا فيه لنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي.
فأوحى الله عز وجل إليه: أنهم إبتلوا ببلاء مالم تبتل بشيء من ذلك فصبروا عليها. إبتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه، وإبتلى إسحاق بالذبح وبذهاب بصره، وإبتلى يعقوب بالحزن على يوسف. وأنك لم تبتل بشيء من ذلك.
فقال داود: رب فإبتلني بمثل ما إبتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم.
فأوحى الله سبحانه إليه: أنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا واحترس.
فلما كان ذلك اليوم الذي وعده الله تعالى، دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن، فوقعت بين رجليه، فمد يده ليأخذها ويدفعها إلى ابن صغير له، فلما أهوى إليها
185

طارت غير بعيد، من غير أن توئيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة، فنظر داود أين تقع، فبعث إليها من يصيدها، فأبصر امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل، هذا قول الكلبي.
وقال السدي: رآها تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا، فتعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة وأبصرت ظله، فنفضت شعرها فغطى بدنها، فزاده ذلك إعجابا بها فسأل عنها. فقيل: هي تشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا، وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود.
فكتب داود إلى ابن أخته أيوب صاحب بعث البلقاء: أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وقدمه قبل التابوت وكان من قدم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله سبحانه على يديه أو يستشهد، فبعثه وقدمه ففتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا. فبعثه ففتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا أشد منه بأسا. فبعثه فقتل في المرة الثالثة، فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود فهي أم سليمان.
وقال آخرون: سبب امتحانه أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يوم بغير مقارفة.
وهو ما أخبرنا شعيب بن محمد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا سعيد عن مطر عن الحسن قال: إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما للعبادة، ويوما للقضاء بين بني إسرائيل، ويوما لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ويبكهم ويبكونه.
قال: فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟
فأضمر داود في نفسه أنه سيطبق ذلك، فلمأا كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر أن لا يدخل عليه أحد، وأكب على قراءة التوراة، فبينما هو يقرأ إذ حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، فطارت فوقعت غير بعيد من غير أن توئيسه من نفسها، فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها، فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك بها إعجابا، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن أسر إلى مكان كذا وكذا مكانا، إذا سار إليه قتل ولم يرجع ففعل فأصيب، فخطبها داود فتزوجها.
186

وقال بعضهم: في سبب ذلك ما أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد قال: حدثنا مخلد ابن جعفر الباقرجي قال: حدثنا الحسين بن علوية قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن قال: قال داود لبني إسرائيل حين ملك: والله لأعدلن بينكم، فلم يستثن فابتلي به.
وقال أبو بكر محمد بن عمر الوراق: كان سبب ذلك أن داود (عليه السلام) كان كثير العبادة فأعجب بعلمه فقال: هل في الأرض أحد يعمل عملي؟
فأتاه جبرئيل فقال: ان الله عز وجل يقول: أعجبت بعبادتك والعجب يأكل العبادة، فإن أعجبت ثانيا وكلتك إلى نفسك.
قال: يا رب كلني إلى نفسي سنة.
قال إنها لكثيرة.
قال: فساعة.
قال: شأنك بها.
فوكل الأحراس ولبس الصوف ودخل المحراب ووضع الزبور بين يديه، فبينا هو في نسكه وعبادته إذ وقع الطائر بين يديه وكان من أمر المرأة ما كان.
قالوا: فلما دخل داود بامرأة أوريا لم تلبث إلا يسيرا حتى بعث الله سبحانه ملكين في صورة أنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسورا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلي إلا وهو بهما بين يديه جالسين، فذلك قوله: " * (وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا) *) وإنما جعلوا جمع الفعل، لأن الخصم اسم يصلح للواحد والجميع والاثنين والمذكر والمؤنث.
قال لبيد:
وخصم يعدون الدخول كأنهم
قروم غيارى كل أزهر مصعب
وقال آخر:
وخصم عضاب ينفضون لحاهم
كنفض البراذين العراب المخاليا
187

وإنما جمع وهما اثنان، لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء فالإثنان فما فوقهما جماعة، كقوله عز وجل " * (قد صغت قلوبكما) *))
.
* (إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سوآء الصراط * إن هذآ أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذالك وإن له عندنا لزلفى وحسن مئاب * ياداوود إنا جعلناك خليفة فى الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب * وما خلقنا السمآء والارض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار * أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الارض أم نجعل المتقين كالفجار) *) 2
" * (إذ دخلوا على داوود) *) قال الفراء: قد كرر إذ مرتين، ويكون معناهما كالواحد، كقولك: ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت، فالدخول هو الاجتراء، ويجوز أن يجعل أحديهما على مذهب لما.
" * (ففزع منهم) *) حين هما عليه محرابه بغير إذنه.
" * (قالوا لا تخف) *) يا داود " * (خصمان) *) أي نحن خصمان " * (بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط) *) ولا تجز، عن ابن عباس والضحاك.
وقال السدي: لاتسرف. المؤرخ: لاتفرط.
وقرأ أبو رجاء العطاردي: ولا تشطط بفتح التاء وضم الطاء الأولى، والشطط والأشطاط مجاوزة الحد، وأصل الكلمة من حدهم شطت الدار، وأشطت إذا بعدت.
" * (واهدنا إلى سواء الصراط) *) أي وسط الطريق، فإن قيل: كيف قال: إن هذا أخي فأوجب الأخوة بين الملائكة ولامناسبة بينهم، لأنهم لاينسلون.
في الجواب: أن معنى الآية: نحن لخصمين كما يقال وجهه: القمر حسنا، أي كالقمر.
قال أحد الخصمين " * (إن هذا أخي) *) على التمثيل لا على التحقيق، على معنى كونهما على طريقة واحدة وجنس واحد، كقوله سبحانه: " * (إنما المؤمنون أخوة) *) وقد قيل: إن المتسورين كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم، وإن أحدهما كان ملكا والآخر لم يكن ملكا، فنبها داود على ما فعل
188

" * (له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة) *) وهذا من أحسن التعريض، حتى كنى بالنعاج عن النساء.
والعرب تفعل ذلك كثيرا توري عن النساء بالظباء والشاة والبقر وهو كثير وأبين في أشعارهم.
قال الحسن بن الفضل: هذا تعريض التنبيه والتفهيم، لأنه لم يكن هناك نعاج ولابغي، وإنما هو كقول الناس ضرب زيد عمرا، وظلم عمرو زيدا، واشترى بكر دارا وما كان هناك ضرب ولاظلم ولا شراء.
" * (فقال أكفلنيها) *). قال ابن عباس: أعطنيها.
ابن جبير عنه: تحول لي عنها.
مجاهد: أنزل لي عنها.
أبو العالية: ضمها إلي حتى أكفلها.
ابن كيسان: اجعلها كفلي، أي نصيبي.
" * (وعزني) *) وغلبني " * (في الخطاب) *).
قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني.
وقرأ عبيد بن عمير: وعازني في الخطاب بالألف من المعاز وهي المغالبة.
فقال داود: " * (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) *) فإن قيل: كيف جاز لداود أن يحكم وهو لم يسمع كلام الخصم الآخر؟
قيل: معنى الآية أن أحدهما لما ادعى على الآخر عرف له صاحبه، فعند اعترافه فصل القضية بقوله: (لقد ظلمك) فحذف الاعتراف، لأن ظاهر الآية دال عليه، كقول العرب: أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال.
وقال الشاعر:
تقول ابنتي لما رأتني شاحبا
كأنك سعيد يحميك الطعام طبيب
تتابع أحداث تخر من إخوتي
فشيبن رأسي والخطوب تشيب
" * (وإن كثيرا من الخلطاء) *) الشركاء " * (ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *) فليسوا كذلك " * (وقليل ما هم) *) ودليل ما ذكرنا من التأويل.
189

ما قاله السدي، بإسناده: إن أحدهما لما قال: " * (إن هذا أخي) *) الآية فقال داود للآخر: ما تقول؟ فقال إن لي تسعا وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، وأنا أريد ان آخذها منه فأكمل نعاجي مائة. قال: وهو كاره.
قال: إذا لاندعك وذلك، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يعني طرف الأنف وأصله الجبهة.
فقال: يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته.
قال: فنظر داود فلم ير أحدا، فعرف ما قد وقع فيه، فذلك قوله سبحانه: " * (و ظن) *) وأيقن " * (داوود أنما فتناه) *) ابتليناه.
قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنة داود النظر.
قلت: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة، ولكنه أعاد النظر إليها فصارت عليه.
فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود.
وقد روى عن الحرث الأعور عن علي بن أبي طالب ح أنه قال: من حدث بحديث داود على ما روته القصاص معتقدا صحته جلدته حدين لعظيم ما ارتكب وجليل ما احتقب من الوزر والإثم، برمي من قد رفع الله سبحانه وتعالى محله، وأبانه رحمة للعالمين وحجة للمهتدين.
فقال القائلون بتنزيه المرسلين في هذه القصة: إن ذنب داود لما كان أنه تمنى أن تكون له امرأة أوريا حلالا له وحدث نفسه بذنب، واتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه ولم يتوجع له، كما جزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله سبحانه على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله سبحانه وتعالى.
وقال بعضهم: كان ذنب داود أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطن نفسه عليها، فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا غما شديدا، فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم تزل هذه الواحدة لخاطبها الأول، وقد كانت عنده تسع وتسعون امرأة.
ومما يصدق ما ذكرنا (ما) قيل عن المفسرين المتقدمين، ما أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه: أن المعافي بن زكريا القاضي ببغداد أحمد بن زكريا أخبره عن محمد بن جرير قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرني ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر
190

عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك سمعه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن داود النبي حين نظر إلى المرأة وأهم، قطع على بني إسرائيل، وأوصى صاحب البعث فقال: إذا حضرالعدو فقرب فلانا بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت وكان التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش، فقتل زوج المرأة ونزل الملكان يقصان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه وأكلت الأرضة من جبينه، وهو يقول في سجوده: رب زل داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب، رب إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلوف من بعده.
فجاءه جبرئيل (عليه السلام) من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود إن الله غفر لك الهم الذي هممت به.
فقال داود: عرفت أن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به، وقد عرفت أن الله عدل لايميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: رب دمي الذي عند داود؟
فقال جبرئيل: ما سألت ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلن.
قال: نعم.
فعرج جبرئيل وسجد داود فمكث ما شاء الله ثم نزل، فقال: قد سألت الله تعالى يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال: قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب (لي) دمك الذي عند داود. فيقول: هو لك يا رب. فيقول: فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الباقرجي قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشير قال: أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: وأخبرنا سعيد بن بشير وعصمة بن حداس القطعي، عن قتادة عن الحسن وابن سمعان، عمن يخبره عن كعب الأحبار قال: وأخبرني أبو الياس عن وهب بن منبه قالوا جميعا: إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه، فتحولا في صورتهما فعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه. وعلم داود إنه عني به، فخر ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة، ثم يعود ساجدا ثم لا يرفع رأسه إلا لحاجة لابد منها، ثم يعود ويسجد تمام أربعين يوما، لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت (الزرع) حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة، وكان يقول في سجوده:
سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء، سبحان خالق النور، سبحان الحائل
191

بين القلوب، سبحان خالق النور، إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس، فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي، سبحان خالق النور، إلهي تبكي الثكلى على ولدها إذا فقدته وداود يبكي على خطيئته، سبحان خالق النور، إلهي لم اتعظ بما وعظت به غيري، سبحان خالق النور، إلهي أنت خلقتني، وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر، سبحان خالق النور، إلهي يغسل الثوب فيذهب درنه ووسخه والخطيئة لازمة بي لا تذهب عني، سبحان خالق النور، إلهي أمرتني أن أكون لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الرحيم فنسيت عهدك، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء فيقال: هذا داود الخاطىء، سبحان خالق النور، إلهي بأي عينين أنظر بهما إليك يوم القيامة، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي، إلهي بأي قدم أقوم بها أمامك يوم تزول أقدام الخاطئين، سبحان خالق النور، إلهي ويل للخاطئين يوم القيامة من سوء الحساب، سبحان خالق النور، إلهي مضت النجوم وكنت أعرفها بأسمائها، فتركتني والخطيئة لازمة بي، سبحان خالق النور، إلهي من أين تطلب المغفرة إلا من عند سيده، سبحان خالق النور، إلهي مطرت السماء ولم تمطر حولي، سبحان خالق النور، إلهي أعشبت الأرض ولم تعشب حولي بخطيئتي، سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق حر شمسك فكيف أطيق حر نارك، سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم، سبحان خالق النور، إلهي كيف يستتر الخاطئون بخطاياهم دونك وأنت شاهدهم حيث كانوا، سبحان خالق النور، إلهي قرح الجبين وجمدت العينان من مخافة الحريق على جسدي، سبحان خالق النور، إلهي الطير تسبح لك بأصوات ضعاف تخافك وأنا العبد الخاطىء الذي لم ارع وصيتك، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب، سبحان خالق النور، إلهي أنت المغيث وأنا المستغيث فمن يدعوا المستغيث إلا المغيث، سبحان خالق النور، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري، سبحان خالق النور.
اللهم إني أسألك إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، أن تعطيني سؤلي فإن إليك رغبتي، سبحان خالق النور، اللهم برحمتك اغفر لي ذنوبي ولاتباعدني من رحمتك لهواني، سبحان خالق النور، اللهم إني أعوذ بك من دعوة لا تستجاب وصلاة لا تتقبل وذنب لا يغفر وعذر لا يقبل، سبحان خالق النور، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني، سبحان خالق النور، فررت إليك بذنوبي وأعترف بخطيئتي، فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين، سبحان خالق النور، إلهي قرح الجبين وجمدت الدموع وتناثر الدود من ركبتي وخطئيتي الزم بي من جلدي، سبحان خالق النور.
قال: فأتاه نداء: يا داود أجائع أنت فتطعم، أظمآن أنت فتسقى، أمظلوم أنت فتنصر؟
ولم يجبه في ذكر خطيئته بشيء، فصاح صيحة هاج ما حوله ثم نادى: يا رب الذنب الذنب الذي أصبته.
192

ونودي: يا داود ارفع رأسك فقد غفرت لك.
فلم يرفع رأسه حتى جاء جبرئيل (عليه السلام) فرفعه.
قال وهب: إن داود (عليه السلام) أتاه نداء: أني قد غفرت لك.
قال: يا رب كيف وأنت لاتظلم أحدا.
قال: إذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداك فتحلل منه.
قال: فانطلق حتى أتى قبره وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره ثم نادى: يا أوريا.
فقال: لبيك من هذا الذي قطع علي لذتي وايقظني؟
قال: أنا داود.
قال: ما جاء بك يا نبي الله؟
قال: أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك
قال: وما كان منك إلي؟
قال: عرضتك للقتل.
قال: عرضتني للجنة وأنت في حل.
فأوحى الله تعالى إليه: يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالتعنت والتغرير، ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته.
قال: فرجع إليه فناداه فأجابه.
فقال: من هذا الذي قطع علي لذتي؟
قال: أنا داود.
قال: يا نبي الله أليس قد عفوت عنك؟
قال: نعم، ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وتزوجتها.
قال: فسكت فلم يجبه، ودعاه فلم يجبه، وعاوده فلم يجبه، فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى: الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ برقبته فيدفع إلى
المظلوم، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقربه الزبانية مع الظالمين إلى النار، سبحان خالق النور.
قال: فأتاه نداء من السماء: يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك.
193

قال: يا رب كيف لي أن تعفو عني وصاحبي لم يعف عني.
قال: يا داود أعطيه يوم القيامة مالم تر عيناه ولم تسمع أذناه فأقول له: رضى عبدي؟
فيقول: يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي.
فأقول له: هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي.
قال: يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي.
فذلك قوله سبحانه: " * (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك) *) يعني ذلك الذنب " * (وإن له) *) بعد المغفرة " * (عندنا) *) يوم القيامة " * (لزلفى وحسن مآب) *) يعني حسن مرجع.
194

وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا مخلد بن جعفر قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرنا أبو الياس ومقاتل وأبو عبد الرحمن الجندي عن وهب بن منبه قال: إن داود لما تاب الله عز وجل عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لاترقأ له دمعة ليلا ونهارا، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة، فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام: فكان يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسيح في الفيافي وفي الجبال والساحل، ويوم يخلوا في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك، فإذا كان يوم سياحته، يخرج في الفيا في فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي وتبكي معه الشجر والرمال والطير والوحوش حتى تسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحجارة والجبال والدواب والطير حتى تسيل أودية من بكائهم، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر والسباع وطير الماء، فإذا أمسى رجع.
فإذا كان يوم نوحه على نفسه، نادى مناديه: أن اليوم يوم نوح داود على نفسه، فليحضر من يساعده.
قال: فيدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط له ثلاث فرش من مسوح، حشوها ليف فيجلس عليها وتجيء الرهبان أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب، ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه، ويرفع الرهبان معه أصواتهم، فلا يزال يبكي حتى يغرق الفراش من دموعه، ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله، فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ثم يمسح بها وجهه ويقول: يا رب اغفر ما ترى، فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن ماجة قال: حدثنا الحسن بن أيوب قال: حدثنا عبد الله بن أبي زياد قال: حدثنا سيار عن جعفر قال: سمعت ثابتا يقول: ما شرب داود شرابا بعد المغفرة إلا وهو ممزوج بدموع عينيه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن مالك قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا عثمان بن أبي العاتكة: أنه كان من دعاء داود:
سبحانك إلهي إذا ذكرت خطيئتي، ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إلي روحي، إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا إلي خطيئتي، فكلهم عليك يدلني.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدثنا محمد ابن موسى الحلواني قال: حدثنا مهنى بن يحيى الرملي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خد الدموع في وجه داود (عليه السلام) خديد الماء في الأرض).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ظفران بن الحسن بن جعفر بن هاشم قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن موسى بن سليمان قال: حدثنا أبو حفص عمر بن محمد النسائي قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله عن ابن بشر بن محمد بن أبان قال: حدثنا الحسن بن عبد الله القرشي قال: لما أصاب داود (عليه السلام) الخطيئة فزع إلى العباد، فأتى راهبا في قلة جبل فناداه بصوت عال فلم يجبه، فلما أكثر عليه الصوت قال الراهب: من هذا الذي يناديني؟
قال: أنا داود نبي الله.
قال: صاحب القصور الحصينة والخيل المسومة والنساء والشهوات، لئن نلت الجنة بهذا لأنت أنت.
فقال داود: فمن أنت؟
قال: أنا راهب راغب مترقب.
قال: فمن أنيسك وجليسك؟
قال: اصعد تره إن كنت تريد ذلك.
قال: فتخلل داود الجبل حتى صار إلى القلة فإذا هو بميت مسجى.
195

فقال له: هذا جليسك وهذا أنيسك؟
قال: نعم.
قال: من هذا؟
قال: تلك قصته مكتوب في لوح من نحاس عند رأسه.
قال: فقرأ الكتاب فإذا فيه: أنا فلان ابن فلان ملك الأملاك، عشت ألف عام وبنيت ألف مدينة وهزمت ألف عسكر وألف امرأة أحصنت وافتضضت ألف عذراء، فبينا أنا في ملكي أتاني ملك الموت وأخرجني مما أنا فيه، فهذا التراب فراشي والدود جيراني.
قال: فخر داود مغشيا عليه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن محمد بن علي الهمداني قال: حدثنا عثمان بن نصر البغدادي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان قال: حدثنا الأشجعي عن الثوري عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان الناس يعودون داود يظنون أن به مرضا، ومابه مرض ومابه إلا الحياء والخوف من الله سبحانه).
وقال وهب: لما تاب الله تعالى على داود كان يبدأ إذا دعا (يستغفر) للخاطئين قبل نفسه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الباقرجي قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: كان داود ساجدا من بعد الخطيئة لايجالس إلا الخاطئين ثم يقول: تعالوا إلى داود الخاطىء.
ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه، وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعته، فلا يزال يبكي حتى يبتل بدموع عينيه، وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول هذا أكل الخاطئين.
قال: وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم النصف من الدهر، فلما كان من خطيئته ما كان، صام الدهر كله وقام الليل كله.
وأخبرنا عن إسحاق قال: حدثنا مقاتل وأبو الياس قالا: حدثنا وهب بن منبه: أن داود لما تاب الله عليه قال: يا رب غفرت لي؟
قال: نعم.
196

قال: فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخطائين إلى يوم القيامة.
قال: فوسم الله عز وجل خطيئته في يده اليمنى، فما رفع فيها طعاما ولاشرابا إلا بكى إذا رآها، وما كان خطيبا في الناس إلا بسط راحته فاستقبل الناس، ليروا وسم خطيئته.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي قال: ما رفع داود رأسه بعد الخطيئة إلى السماء حتى مات.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدثنا محمد بن خالد قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا أبو أسامة عن محمد بن سليمان قال: حدثنا ثابت قال: كان داود إذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله لا يسدها إلا الأسر وإذا ذكر رحمته تراجعت.
قال: وروى المسعودي عن يونس بن حباب وعلقمة بن مرثد قالا: لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة، ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم (عليه السلام) أكثر حيث أخرجه الله تعالى من الجنة وأهبط إلى الأرض.
ويروى أن داود كان إذا قرأ الزبور بعد الخطيئة لا يقف له الماء ولاتصغي إليه البهائم والوحوش والطيور كما كان قبلها، ونقصت نعمته فقال: إلهي ما هذا؟
فأوحى الله سبحانه: يا داود إن الخطيئة هي التي غيرت صوتك وحالك.
فقال: إلهي أوليس قد غفرتها لي؟
فقال: نعم قد غفرتها لك، ولكن ارتفعت الحالة التي كانت بيني وبينك من الود والقربة، فلن تدركها أبدا فذلك قوله: " * (فاستغفر ربه وخر راكعا وأ ناب) *).
قال الحسين بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قوله سبحانه: " * (فخر راكعا) *) هل يقال للراكع خر؟
قلت: لا.
قال: فما معنى الآية؟
قلت: معناها فخر بعد أن كان راكعا، أي سجد.
أخبرني الحسن بن محمد بن الحسين قال: حدثنا هارون بن محمد بن هارون العطار قال: حدثنا محمد بن عبد العزي قال: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي سعيد الخدري قال: رأيتني أكتب سورة ص
197

والقرآن ذي الذكر، فلما أتيت على هذه الآية " * (وظن داود انما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) *)، رأيت فيما يرى النائم كأن القلم خر ساجدا، فأتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (تقول كما قال وتسجد كما سجد) فتلاها فسجدوا وأمرنا أن نسجد فيها.
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا صمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا أبو حفص بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا عمر بن علي الصيرفي قال: حدثنا اليمان بن نصر الكعبي قال: حدثنا عبد الله أبو سعد المدني قال: حدثني محمد بن المنكدر عن محمد بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثني أبو سعيد الخدري قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني رأيت الليلة في منامي كأني تحت شجرة، والشجرة تقرأ ص، فلما بلغت السجدة سجدت، فسمعتها تقول في سجودها:
اللهم أكتب لي بها أجرا، وحط عني بها وزرا، وارزقني بها شكرا، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفسجدت أنت يا أبا سعيد؟).
قلت: لا يا رسول الله.
قال: (أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ السجدة فسجد ثم قال مثل ما قالت الشجرة.
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسن قال: حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس قال: حدثنا الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريح: حدثنا حسن قال: حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد قال: حدثني ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت الليلة فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة، فرأيت كأني قرأت السجدة فسجدت فرأيت الشجرة كأنها سجدت، فسمعتها وهي ساجدة تقول:
اللهم اكتب لي عندك بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود.
قال ابن عباس: فرأيت النبيي صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة ثم سجد فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل من كلام الشجرة، قال الله سبحانه وتعالى فغفرنا له ذلك " * (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) *).
198

روى أبو معشر عن محمد بن كعب ومحمد بن قيس أنهما قالا في قوله عز وجل: " * (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) *).
روى أبو معشر عن محمد بن كعب قال: إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود.
" * (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) *) تركوا الأيمان بيوم الحساب " * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليد بروا) *) ليتدبروا " * (آياته) *).
2 (* (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الالباب * ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد * فقال إنىأحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب * ردوها على فطفق مسحا بالسوق والاعناق * ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب * قال رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدىإنك أنت الوهاب * فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخآء حيث أصاب * والشياطين كل بنآء وغواص * وءاخرين مقرنين فى الاصفاد * هاذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مئاب * واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب * اركض برجلك هاذا مغتسل بارد وشراب * ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولى الالباب) *) 2
هذه قراءة العامة. وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى والترجمني: (ليدبروا) بياء واحدة مفتوحة مخففة على الحذف.
قال الحسن: تدبر آياته، اتباعه.
" * (وليتذكر أولوا الألباب ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي) *).
قال الكلبي: غزا سليمان (عليه السلام) أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس.
وقال مقاتل: ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس وكان أبوه أصابها من العمالقة.
وقال عوف عن الحسن: بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة.
قالوا: فصلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه، فعرضت عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غابت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك بفتنته له، واغتم لذلك فقال: ردوها علي
199

فردوها عليه فعرقبت وعقرت بالسيف ونحرها لله سبحانه، وبقى منها مائة فرس، فما في أيدي الناس اليوم من الخيل فهو من نسل تلك المائة.
قال الحسن: فلما عقر الخيل، أبدله الله سبحانه مكانها خيرا منها وأسرع (من) الريح التي تجري بأمره كيف يشاء، وكان يغدوا من إيليا فيقيل بقرير الأرض بإصطخر ويروح من قرير (بكابل).
وقال ابن عباس: سألت علي بن أبي طالب عن هذه الآية فقال: ما بلغك في هذا يا ابن عباس؟
فقلت له: سمعت كعب الأحبار يقول: إن سليمان اشتغل ذات يوم بعرض الأفراس والنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب.
فقال لما فاتته الصلاة: " * (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي) *) يعني الأفراس وكانت أربعة وعشرون، وبقول: أربعة عشر، فردوها عليه فأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما، لأنه ظلم الخيل بقتلها.
فقال علي بن أبي طالبح: كذب كعب الأحبار، لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس ذات يوم، لأنه أراد جهاد عدو حتى توارت الشمس بالحجاب، فقال بأمر الله للملائكة الموطنين بالشمس: ردوها علي. يعني الشمس، فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها.
فإن أنبياء الله لا يظلمون ولايأمرون بالظلم ولايرضون بالظلم، لأنهم معصومون مطهرون، فذلك قوله سبحانه: " * (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات) *) وهي الخيل القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل.
قال عمر بن كلثوم: تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا.
وقال القتيبي: الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل وغيرها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبؤا مقعده من النار) أي وقوفا " * (الجياد) *) الخيار السراع واحدها جواد " * (فقال إني أحببت حب الخير) *) يعني الخيل، والعرب تعاقب بين الراء واللام فيقول: انهملت العين وانهمرت، وختلت الرجل وخترته أي خدعته.
200

وقال مقاتل: " * (حب الخير) *) يعني المال وهي الخيل التي عرضت عليه " * (عن ذكر ربي) *) يعني الصلاة، نظيرها " * (لا تلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله) *)، " * (حتى توارت) *) يعني الشمس، كناية عن غير مذكور.
كقول لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر
يعني الشمس " * (بالحجاب) *) وهو جبل دون قاف بمسيرة سنة، تغرب الشمس من ورائها.
" * (ردوها) *) كروها " * (علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق) *) أي فأقبل يمسح سوقها وأعناقها بالسيف، وينحرها تقربا بها إلى الله سبحانه وطلبا لرضاه، حيث اشتغل بها عن طاعته، وكان ذلك قربانا منه ومباحا له، كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام.
وقال قوم: معناه حبسها في سبيل الله، وكوى سوقها وأعناقها بكي الصدقة.
ويقال للكية على الساق: علاظ، وللكية على العنق: دهاو.
وقال الزهري وابن كيسان: كان يمسح سوقها وأعناقها، ويكشف الغبار عنها حبا لها. وهي رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
" * (ولقد فتنا سليمان) *) هذه قصة محنة نبي الله سليمان وسبب زوال ملكه مدة، واختلفوا في سبب ذلك.
فروى محمد بن إسحاق عن بعض العلماء قال: قال وهب بن منبه: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون، بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر، وكان الله قد أتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه (إذا ركب على) الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها واستقام فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها: جرادة، لم ير مثلها حسنا وجمالا، واصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه، وكانت على منزلتها عنده، لا يذهب حزنها ولايرقأ دمعها، فشق ذلك على سليمان فقال لها: ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لايرقأ؟
قالت: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك.
201

فقال سليمان: فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه، وسلطانا أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله.
قالت: إن ذلك لكذلك، ولكنني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيا، لرجوت أن يذهب ذلك حزني، وأن يسلى عني بعض ما أجد في نفسي.
فأمر سليمان الشياطين فقال: مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لاتنكر منه شيئا.
فمثلوا لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه، إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه فأزرته وقمصته وعممته، وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدوا عليه في ولائدها حتى تسجد له ويسجدن معها كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا وبلغ ذلك آصف بن برخيا، وكان صديقا وكان لا يرد عن باب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته، حاضرا كان (سليمان) أو غائبا، فأتاه فقال: يا نبي الله كبرت سني، ودق عظمي، ونفد عمري، وقد حان مني الذهاب، وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت، أذكر فيه من مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم.
فقال: إفعل.
فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبا، فذكر من مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضله الله به، حتى انتهى إلى سليمان فقال: ما كان أحلمك
في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما يكره في صغرك، ثم انصرف.
فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتى ملأه غضبا، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه فقال: يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله، وأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني علي بخير في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر عمري؟
قال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة.
فقال: في داري؟
فقال: في دارك.
قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد علمت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك.
ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب
202

الطهرة فأتى بها وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار ولم تمسها امرأة رأت الدم فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، وأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائبا إلى الله عز وجل حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله سبحانه وتضرعا إليه، يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره ويقول فيما يقول:
رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرك وأن يقروا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرك.
فلم يزل كذلك يومه ذلك حتى أمسى، ثم يرجع إلى داره، وكانت أم ولد له يقال لها: الأمينة، كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابه امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر، وكان لايلبس خاتمة إلا وهو طاهر، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه يوما من تلك الأيام عندها كما كان يضعه ثم دخل مذهبه، فأتاها الشيطان صاحب البحر وكان اسمه: صخر، على صورة سليمان لا ينكر منه شيئا.
فقال: يا أمينة خاتمي.
فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والانس، وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غيرت حاله وهيبته عند كل من رأى فقال: يا أمينة خاتمي.
فقالت: ومن أنت؟
قال: أنا سليمان بن داود.
فقالت: كذبت لست بسليمان وقد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سريره في ملكه.
فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول: أنا سليمان بن داود. فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان بن داود.
فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا امسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها، فمكث بذلك أربعين صباحا، عدة ما كان عبد ذلك الوثن في داره، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين اليوم.
فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت؟
قالوا: نعم.
قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن: هل أنكرن منه في خاصة أمره، ما أنكرناه في عامة أمر الناس وعلانيته؟
203

فدخل على نسائه فقال: ويحكن هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرناه؟
فقلن: أشده مايدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين.
ثم خرج إلى بني إسرائيل فقال: ما في الخاصة أعظم مما في العامة. فلما قضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه، ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة وأخذها بعض الصيادين، وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك حتى إذا كان العشي أعطاه سمكته وأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، وخرج سليمان بسمكتيه فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها، فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه فجعله في يده، ووقع ساجدا وعكفت عليه الطير والجن وأقبل عليه الناس، وعرف الذي كان دخل عليه لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين فقال: ائتوني بصخر. فطلبته له الشياطين حتى أخذ له فأتى به فجاءت له صخرة، فأدخله فيها ثم شد عليه أخرى ثم أوثقها بالرصاص والحديد، ثم أمر به فقذف في البحر.
فهذا حديث وهب بن منبه.
قال السدي في سبب ذلك: كان لسليمان (عليه السلام) مائة امرأة، وكانت امرأة منهن يقال لها: جرادة، وهي أبر نسائه وآمنهن عنده، فكان إذا أحدث أو أتى حاجة، نزع خاتمه ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها، فجاءته يوما من الأيام فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك.
فقال: نعم. ولم يفعل، فابتلي بقوله وأعطاها خاتمه ودخل المخرج فخرج الشيطان في صورته، فقال لها: هات الخاتم.
فأعطته، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعده فسألها أن تعطيه خاتمه.
فقالت: ألم تأخذه قبل؟
قال: لا. وخرج من مكانه تائها، ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما.
قال: فأنكر الناس حكمه، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلمائهم، فجاؤوا حتى دخلوا على نسائه، فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه، فبكى النساء عند ذلك قال: فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرأوها، فلما قرأوا
204

التوراة طار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعته حوت.
قال: فأقبل سليمان في حاله التي كان فيها، حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه، فاستطعمه من صيدهم، وقال: إني أنا سليمان.
فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه.
قال: فجعل يغسل دمه وهو على شاطىء البحر، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه، وقالوا: بئس ما صنعت حين ضربته.
فقال: إنه زعم أنه سليمان. فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم، فلم يشغله ما كان به من الضرب، حتى قام إلى شط البحر فشق بطونهما وجعل يغسلهما، فوجد خاتمه في بطن أحديهما فأخذه فلبسه، فرد الله عليه ملكه وبهاءه، وجاءت الطير حتى حامت عليه، فعرف القوم أنه سليمان، فقاموا يعتذرون مما صنعوا.
فقال: ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم هذا أمر كان لابد منه.
ثم جاء حتى أتي ملكه وأمر حتى أتى بالشيطان الذي أخذ خاتمه، وجعله في صندوق من حديد ثم أطبق عليه، وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمره فألقي في البحر، وهو كذلك حي حتى الساعة.
وفي بعض الروايات: أن سليمان لما افتتن، سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه، فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط من يده، فلما رآه سليمان لا يثبت في يده أيقن بالفتنة، وأن آصف قال لسليمان: إنك مفتون بذنبك والخاتم لايتماسك في يدك أربعة عشر يوما.
ففر إلى الله تائبا من ذنبك، وأنا أقوم مقامك وأسير في عالمك وأهل بيوتك بسيرتك، إلى أن يتوب الله عليك ويردك إلى ملكك.
ففر سليمان هاربا إلى ربه، وأخذ أصف الخاتم فوضعه في يده فثبت، وأن الجسد الذي قال الله تعالى: " * (وألقينا على كرسيه جسدا) *) كان هو أصف كاتبا لسليمان، وكان عنده علم من الكتاب، فأقام أصف في ملك سليمان وعالمه يسير بسيرته ويعمل بعمله أربعة عشر يوما، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله سبحانه ورد الله عليه ملكه، فقام أصف من مجلسه وجلس سليمان على كرسيه، وأعاد الخاتم في يده فثبت فيها.
وأخبرنا شعيب بن محمد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن الأزهر قال
205

حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب: أن سليمان بن داود احتجب عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى الله عز وجل إليه: أن يا سليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي، ولم تنصف مظلوما من ظالم. وذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما رويناه.
وقال في آخره: قال علي: فذكرت ذلك للحسن فقال: ما كان الله عز وجل يسلطه على نسائه.
وقال بعض المفسرين: كان سبب فتنة سليمان أنه أمر أن لا يتزوج امرأة (إلا) من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غيرهم فعوقب على ذلك.
وقيل: ان سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون أعجب بها، فعرض عليها الإسلام فأبت وامتنعت فخوفها سليمان.
فقالت: إن أكرهتني على الإسلام قتلت نفسي.
فخاف سليمان أن تقتل نفسها، فتزوج بها وهي مشركة، وكانت تعبد صنما لها من ياقوت أربعين يوما في خفية من سليمان إلى أن أسلمت، فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما.
وقال الشعبي في سبب ذلك: ولد لسليمان ابن، فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسحرة، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نحيله.
فعلم سليمان بذلك فأمر السحاب حتى حملته الريح وغدا ابنه في السحاب خوفا من معرة الشيطان، فعاقبه الله لخوفه من الشيطان، ومات الولد فألقى ميتا على كرسيه، فهو الجسد الذي قال الله سبحانه: " * (وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) *).
وقيل: هو ان سليمان قال يوما: لأطوفن الليلة على نسائي كلهن، حتى يولد لي من كل واحدة منهن ابن فيجاهد في سبيل الله. ولم يستثن، فجامعهن كلهن في ليلة واحدة، فما خرج له منهن إلا شق مولود، فجاءت به القابلة والقته على كرسي سليمان.
فذلك قوله عز وجل: " * (وألقينا على كرسيه جسدا) *) وهو ما أخبرنا عبد الله بن حامد عن آخرين قالوا: حدثنا ابن الشرقي، قال: حدثنا محمد بن عقيل وأحمد بن حفص قالا: حدثنا حفص قال: حدثني إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة، قال: أخبرني أبو الزناد عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة
206

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل إن شاء الله. فلم يقل: إن شاء الله. فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله
فرسانا أجمعون) فذلك قوله عز وجل: " * (ولقد فتنا سليمان) *).
قال مقاتل: فتن سليمان بعد ملك عشرين سنة، وملك بعد الفتنة عشرين سنة.
" * (وألقينا على كرسيه جسدا) *) أي شيطانا، عن أكثر المفسرين.
واختلفوا في اسمه، فقال مقاتل وقتادة: اسمه صخر بن عمر بن عمرو بن شرحبيل وهو الذي دل سليمان على الألماس حين أمر ببناء بين المقدس وقيل له: لايسمعن فيه صوت حديد، فأخذوا الألماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والجواهر ولاتصوت، وكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء والحمام لم يدخل بخاتمه، فدخل الحمام وذكر القصة في أخذ الشيطان الخاتم.
قال: وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال: أما والله لأجربنه، فقال: يا نبي الله وهو لا يرى أنه نبي الله أرأيت أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس، أترى عليه بأسا؟ قال: لا. فرخص له في ذلك، وذكر الحديث.
وروى أبو إسحاق عن عمارة بن عبد عن عليح قال: بينما سليمان جالس على شاطىء البحر وهو يلعب بخاتمه، إذ سقط في البحر وكان ملكه في خاتمه.
وروى حماد بن سلمة عن عمر بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلا الله محمد رسول الله).
رجع إلى حديث علي قال: فانطلق سليمان وخلف شيطانا في أهله وأتى عجوزا فآوى إليها فقالت له العجوز: أن شئت ان تنطلق فاطلب فأكفيك عمل البيت وإن شئت أن تكفيني البيت وانطلق والتمس.
قال: فانطلق يلتمس، فأتى قوم يصيدون السمك فجلس إليهم فنبذوا إليه سمكات، فانطلق بهن حتى أتى العجوزة، فأخذت تصلحه فشقت بطن سمكة، فإذا فيها الخاتم فأخذته وقالت لسليمان: ما هذا؟
فأخذه سليمان فلبسه، فأقبلت الشياطين والجن والإنس والطير والوحوش، وهرب الشيطان
207

الذي خلف في أهله، فأتى جزيرة في البحر فبعث إليه الشياطين فقالوا: لا نقدر عليه، ولكنه يرد علينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوما، لا نقدر عليه حتى يسكر.
قال: فنزح ماءها وجعل فيها خمرا. قال: فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر فقال: والله إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا.
ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا.
قال: ثم شربها حتى غلبته على عقله، ثم أروه الخاتم فقال: سمع وطاعة.
قال: فأتى به سليمان فأوثقه ثم بعث به إلى جبل، فذكروا أنه جبل الدخان الذي يرون من نفسه، والماء الذي يخرج من الجبل هو بوله.
وقال السدي: اسم ذلك الشيطان اسمذي وقيل خبفيق.
وقال مجاهد: اسمه آصف.
أخبرنا أبو صالح بن أبي الحسن البيهقي الفقيه قال: أخبرنا أبو حاتم التميمي قال: حدثنا أبو الأزهر العبدي قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " * (وألقينا على كرسيه جسدا) *) قال: شيطانا يقال له: آصف. قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟
قال: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه نبذه آصف في البحر، فساح سليمان فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله سبحانه نساء سليمان فلم يقربهن، وأنكر الناس أمر سليمان، وكان سليمان يستطعم فيقول: اتعرفونني؟ أنا سليمان فيكذبونه حتى أعطته امرأة يوما حوتا فبط بطنه، فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر. وقيل: إن الجسد هو آصف ابن برخيا الصديق، وقد مضت القصة.
وقيل: هو الولد الميت الذي غدا في السحاب.
وقيل: هو الولد الناقص الخلق.
وقيل: معنى قوله: " * (وألقينا على كرسيه جسدا) *) أن سليمان ضرب بعلة أشرف منها على الموت، حتى صار جسدا في المثل بلا روح، وقد وصف المريض المضني بهذه الصفة، فيقال كالجسد الملقى ولم يبق منه إلا جسده وتقدير الآية " * (وألقينا على كرسيه جسدا) *))
.
208

وأما صفة كرسي سليمان
فروي ان سليمان لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء، وأمر بأن يعمل بديعا مهولا، بحيث إن لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيب.
قال: فعمل له كرسي من أنياب الفيل، وفصصوه بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد وأنواع الجواهر، وحففوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، على رأس نخلتين منها طاووسان من ذهب وعلى رأس الآخرين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض، وقد جعلوا من جنبتي الكرسي أسدين من الذهب، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر، وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي.
قال: وكان سليمان إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها ويبسط الأسدان أيديهما فيضربان الأرض بأذنابهما، وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان، ثم يستدير الكرسي بما فيه ويدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلات برؤسها إلى سليمان ينضحن عليه من أجوافها المسك والعنبر ثم تناولت حمامة من ذهب قائمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسي التوراة، فيفتحها سليمان ويقرأها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء، ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة وهي ألف كرسي عن يمينه، ويجيء عظماء الجن ويجلسون على كراسي من الفضة عن يساره وهي ألف كرسي حافين جميعا، به ثم تحف بهم الطير تظلهم، ويتقدم إليه الناس للقضاء، فإذا دعى بالبينات وتقدمت الشهود لإقامة الشهادات، دار الكرسي بما فيه من جميع ما حوله دوران الرحى المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض باذنابهما وينشر النسران والطاووسان أجنحتهما، فيفزع منه الشهود ويدخلهم من ذلك رعب شديد، فلا يشهدون إلا بالحق.
" * (قال رب اغفر لي) *) ذنبي " * (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد) *).
وقال ابن كيسان: أي لا يكون لأحد.
" * (من بعدي إنك أنت الوهاب) *) المعطي.
قال عطاء بن أبي رباح: يريد هب لي ملكا لا أسلبه في باقي عمري كما سلبته في ماضي عمري
209

وقال مقاتل بن حيان: كان سليمان ملكا ولكنه أراد بقوله " * (لا ينبغي لأحد من بعدي) *) تسخير الرياح والطير، يدل عليه ما بعده.
وقيل: إنما سأل ذلك ليكون آية لنبوته ودلالا على رسالته ومعجزا لمن سواه.
وقيل: إنما سأل ذلك ليكون علما له على المغفرة وقبول التوبة، حيث أجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه ورد إليه ملكه وزاد فيه.
وقال عمر بن عثمان الصدفي: أراد به ملك النفس وقهر الهوى.
يؤيده ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال:
أخبرنا عبد الله بن يزيد قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد الأفريقي قال: حدثنا سلمان بن عامر الشيباني قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم سليمان وما أعطاه الله من ملكه؟ فإنه لم يرفع طرفه إلى السماء تخشعا لله عز وجل حتى قبضه الله عز وجل).
وأخبرنا شعيب بن محمد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أبو الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا هشام عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد عرض لي الشيطان في مصلاي الليلة كأنه هركم هذا، فأخذته فأردت أن أحبسه حتى أصبح، فذكرت دعوة أخي سليمان " * (رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) *) فتركته).
ومنه عن روح عن شعبة عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن عفريتا من الجن جعل يتقلب علي البارحة ليقطع علي صلاتي وأن الله عز وجل أمكنني منه (فرعته) فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى يصبح فتنظرون إليه كلكم، فتذكرت قول سليمان: " * (رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) *) فرده الله عز وجل خاسئا).
" * (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء) *) لينة رطبة " * (حيث أصاب) *) حيث أراد وشاء، بلغة حمير.
تقول العرب: أصاب الصواب وأخطأ الجواب، أي أراد الصواب.
قال الشاعر
210

أصاب الكلام فلم يستطع
فأخطأ الجواب لدى المفصل
" * (والشياطين) *) أي وسخرنا له الشياطين " * (كل بناء وغواص) *) يستخرجون له اللألىء من البحر، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر " * (وآخرين مقرنين في الأصفاد) *) يعني مشدودين في القيود واحدها صفد " * (هذا عطاؤنا فامنن) *) فأعط، من قوله سبحانه: " * (ولا تمنن تستكثر) *).
وتقول العرب: من علي برغيف، أي أعطانيه.
قال الحسن: إن الله عز وجل لم يعط أحدا عطية إلا جعل فيها حسابا، إلا سليمان فإن الله سبحانه أعطاه عطاء هنيئا فقال: " * (هذا عطاؤنا فامنن) *).
" * (أو أمسك بغير حساب) *) قال: إن أعطى أجر وان لم يعط لم يكن عليه تبعة.
قال مقاتل: هو في أمر الشياطين، خذ من شئت منهم في وثاقك لاتبعة عليك فيما تتعاطاه.
" * (وإن له عندنا لزلفى) *) قربة " * (وحسن مآب) *) مصير.
" * (واذكر عبدنا أيوب) *).
قال مقاتل: كنيته أبو عبد الله.
" * (إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب) *) بتعب ومشقة وبلاء وضر.
قال مقاتل: بنصب في الجسد وعذاب في المال.
وفيه أربع لغات: (نصب) بضمتين وهي قراءة أبي جعفر، و (نصب) بفتح النون والصاد وهي قراءة يعقوب و (نصب) بفتح النون وجزم الصاد وهي رواية هبيرة عن حفص عن عاصم، و (نصب) بضم النون وجزم الصاد وهي قراءة الباقين.
واختلفوا في سبب ابتلاء أيوب:
فقال وهب: استعان رجل أيوب على ظلم يدرأه عنه، فلم يعنه فابتلي.
وروى حيان عن الكلبي: أن أيوب كان يغزوا ملكا من الملوك كافرا، وكانت مواشي أيوب في ناحية ذلك الملك، فداهنه ولم يغزه فابتلي.
وقال غيرهما: كان أيوب كثير المال فأعجب بماله فابتلى.
" * (اركض برجلك) *) الأرض، أي ادفع وحرك " * (هذا مغتسل) *))
.
211

ثم نبعث له عين أخرى باردة فقال: هذا " * (بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولي الأ لباب وخذ بيدك ضغثا) *) أي حزمة من الحشيش " * (فاضرب به) *) امرأتك " * (ولا تحنث) *) في يمينك " * (إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب واذكر عبادنا) *).
2 (* (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب * واذكر عبادنآ إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الايدى والابصار * إنآ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار * واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار * هاذا ذكر وإن للمتقين لحسن مئاب * جنات عدن مفتحة لهم الابواب * متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب * وعندهم قاصرات الطرف أتراب * هاذا ما توعدون ليوم الحساب * إن هاذا لرزقنا ما له من نفاد * هاذا وإن للطاغين لشر مئاب * جهنم يصلونها فبئس المهاد * هاذا فليذوقوه حميم وغساق * وءاخر من شكله أزواج * هاذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالو النار * قالوا) *) 2
قرأه العامة: بالألف.
وقرأ ابن كثير: (عبدنا) على الواحد، وهي قراءة ابن عباس.
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى ابن بلال قال: حدثنا يحيى بن الربيع المكي قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمر بن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ: " * (واذكر عبدنا إ براهيم) *) ويقول: إنما (ذكر) إبراهيم ثم ولده بعده " * (وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي) *) ذوي القوة في العبادة " * (والأ بصار) *) التبصر في العلم والدين " * (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) *).
قرأ أهل المدينة مضافا وهي رواية هشام عن الشام.
وقرأ الآخرون: بالتنوين على البدل " * (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار هذا) *) الذي ذكرت " * (ذكر وإن للمتقين لحسن مآب جنات عدن مفتحة لهم الأ بواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب وعندهم قاصرات الطرف أتراب) *) لذات مستويات على ملاذ امرأة واحدة بنات ثلاث وثلاثين سنة، واحدها ترب " * (هذا ما توعدون) *) بالتاء.
ابن كثير وأبو عمر والباقون: بالياء.
" * (ليوم الحساب) *) أي في يوم الحساب.
قال الأعشى:
212

المهينين مالهم لزمان السوء
حتى إذا أفاق أفاقوا
أي في زمان السوء " * (إن هذا لرزقنا ما له من نفاد) *) هلاك وفناء " * (هذا وإن للطاغين) *) الكافرين " * (لشر مآب جهنم يصلونها) *) يدخلونها " * (فبئس المهاد هذا) *) أي هذا العذاب " * (فليذوقوه حميم وغساق) *).
قال الفراء: رفعت الحميم والغساق ب (هذا) مقدما ومؤخرا، والمعنى هذا حميم وغساق فليذوقوه، وإن شئت جعلته مستأنفا وجعلت الكلام فيه مكتفيا كاملا قلت: هذا فليذوقوه ثم قلت منه حميم وغساق.
كقول الشاعر:
حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس
وغودر البقل ملوي ومحصود
واختلف القراء في قوله: (وغساق)، فشددها يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف وحفص وهي قراءة أصحاب عبد الله، وخففها الآخرون.
قال الفراء: من شدد جعله اسما على فعال نحو الخباز والطباخ. ومن خفف (جعله) اسما على فعال نحو العذاب.
واختلف المفسرون فيه:
فقال ابن عباس: هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار.
وقال مجاهد ومقاتل: هو (الثلج) البارد الذي قد انتهى برده، أي يريد هو المبين بلغة الطحارية وقد بلغه النزل.
محمد بن كعب: هو عصارة أهل النار.
قتادة والأخفش: هو مايغسق من قروح الكفرة والزناة بين لحومهم وجلودهم، أي تسيل.
قال الشاعر:
إذا ماتذكرت الحياة وطيبها
وإلي جرى دمع من العين غاسق
" * (وآخر) *) قرأ أهل البصرة ومجاهد: (وأخر) بضم الألف على جمع أخرى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنه نعته بالجمع فقال: أرواح مثل الكبرى والكبر.
وقرأ غيرهم: على الواحد واخر.
213

" * (من شكله) *) مثله " * (أزواج) *) أصناف من العذاب والكناية في شكله راجعة إلى العذاب في قوله هذا.
وأما قوله " * (هذا فوج مقتحم معكم) *) قال ابن عباس: هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة " * (هذا) *) يعني الاتباع " * (فوجا) *) جماعة " * (مقتحم معكم) *) النار، أي داخلوها كما دخلتم.
فقالت السادة: " * (لا مرحبا بهم) *) يعني بالأتباع " * (إنهم صالوا النار) *) كما صليناها، فقال الاتباع للسادة: " * (بل أ نتم لا مرحبا بكم أ نتم قدمتموه لنا) *) أي شرعتم وسننتم الكفر لنا " * (فبئس القرار) *) أي قرارنا وقراركم، والمرحب والرحب السعة، ومنه رحبة المسجد.
قال أبو عبيدة: يقول العرب للرجل: لامرحبا بك، أي لا رحبت عليك الأرض، أي اتسعت.
وقال القتيبي: معنى قولهم: مرحبا وأهلا وسهلا، أي أتيت رحبا وسعة، وأتيت سهلا لاحزنا، وأتيت أهلا لاغرباء، فأنس ولا تستوحش، وهي في مذهب الدعاء كما تقول: لقيت خيرا، فلذلك نصب.
قال النابغة:
لا مرحبا بغد ولا أهلا به
إن كان تفريق الأحبة في غد
2 (* (قالوا ربنا من قدم لنا هاذا فزده عذابا ضعفا فى النار * وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار * إن ذلك لحق تخاصم أهل النار * قل إنمآ أنا منذر وما من إلاه إلا الله الواحد القهار * رب السماوات والارض وما بينهما العزيز الغفار * قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ما كان لى من علم بالملإ الاعلى إذ يختصمون * إن يوحى إلى إلا أنمآ أنا نذير مبين) *) 2
" * (قالوا ربنا من قدم لنا هذا) *) أي شرعه وسنه " * (فزده عذابا ضعفا في النار) *) على عذابنا.
وقال ابن مسعود: يعني حيات وأفاعي.
" * (وقالوا) *) يعني صناديد قريش وهم في النار " * (ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار) *) في دار الدنيا، يعني فقراء المؤمنين " * (أتخذناهم سخريا) *))
.
214

قرأ أهل العراق إلا عاصما وأيوب: بوصل الألف، واختاره أبو عبيد قال: من جهتين:
أحديهما: أن الاستفهام متقدم في قوله: (مالنا لا نرى رجالا).
والأخرى: أن المشركين لم يكونوا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدنيا سخريا، فكيف يستفهمون عما قد عملوه. ويكون على هذه القراءة بمعنى بل.
وقرأ الباقون: بفتح الألف وقطعها على الاستفهام وجعلوا (أم) جوابا لها مجازا: اتخذناهم سخريا في الدنيا وليسوا كذلك، فلم يدخلوا معنا النار.
" * (أم زاغت عنهم الأ بصار) *) فلا نراهم وهم في النار، ولكن احتجبوا عن أبصارنا.
وقال الفراء: هو من الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ، فهو يجوز باستفهام ويطرحه.
وقال ابن كيسان: يعني أم كانوا خيرا منا ولا نعلم نحن بذلك، فكانت أبصارنا تزيغ منهم في الدنيا فلا نعدهم شيئا.
أخبرنا أبو بكر الحمشادي قال: أخبرنا أبو بكر القطيعي قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله ابن مسلم قال: حدثنا عصمة بن سليمان الجرار عن يزيد عن ليث عن مجاهد " * (وقالوا مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار) *).
قال: صهيب وسلمان وعمار لانراهم في النار " * (اتخذناهم سخريا) *) في الدنيا " * (أم زاغت عنهم الأ بصار) *) في النار " * (إن ذلك) *) الذي ذكرت " * (لحق) *) ثم بين فقال: " * (تخاصم) *) أي هو تخاصم " * (أهل النار) *) ومجاز الآية: أن تخاصم أهل النار في النار لحق " * (قل) *) يا محمد لمشركي مكة " * (إنما أ نا منذر) *) مخوف " * (وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار قل هو نبأ عظيم) *) يعني القرآن.
عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وروى معمر عنه يوم القيامة، نظيرها " * (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) *).
" * (أ نتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملا الأعلى إذ يختصمون) *) في شأن آدم وهو قولهم حين قال الله سبحانه لهم: " * (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) *) الآية هذا قول أكثر المفسرين.
وروى ابن عباس عن النبي (عليه السلام) قال: (قال ربي: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يعني الملائكة؟
215

فقلت: لا.
قال: اختصموا في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات: فإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة: وأما الدرجات: فإفشاء السلام، واطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام).
" * (إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين) *).
قال الفراء: ان شئت جعلت (أنما) في موضع رفع، كأنك قلت: ما يوحى إلي إلا الانذار، وإن شئت جعلت المعنى ما يوحى إلي إلا لأني نذير مبين.
وقرأ أبو جعفر (إنما) بكسر الألف، لأن الوحي قول.
(* (إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتىإلى يوم الدين * قال رب فأنظرنىإلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين * قل مآ أسئلكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين) *) 2
" * (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إ بليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إ بليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) *) وفي تحقيق الله سبحانه وتعالى التنشئة في اليد، دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة، إنما هما وصفان من صفات ذاته.
قال مجاهد: اليد هاهنا بمعنى التأكيد، والصلة مجاز لما خلقت، كقوله سبحانه: " * (ويبقى وجه ربك) *) أي ربك، وهذا تأويل غير قوي، لأنه لو كان بمعنى الصلة فكان لإبليس أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني. وكذلك في القدرة والنعمة، لا تكون لآدم في الخلق مزية على إبليس وقد مضت هذه المسألة عند قوله: " * (مما عملت أيدينا) *).
216

قال: العرب تسمي الاثنين جميعا لقوله سبحانه " * (هذان خصمان اختصموا) *)، وقوله " * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) *) قال: هما رجلان وقال: * (فقد صغت قلوبكما) * * (أستكبرت) *) ألف الاستفهام تدخل على ألف الخبر " * (أم كنت من العالين) *) المتكبرين على السجود كقوله سبحانه: " * (إن فرعون علا في الأرض) *). " * (قال) *) إبليس " * (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها) *) أي من الجنة.
وقيل: من السماوات.
وقال الحسن وأبو العالية: أي من الخلقة التي أنت فيها.
قال الحسين بن الفضل: وهذا تأويل صحيح، لأن إبليس تجبر وافتخر بالخلقة، فغير الله تعالى خلقه فاسود بعدما كان أبيضا وقبح بعدما كان حسنا وأظلم بعد أن كان نورانيا.
" * (فإنك رجيم) *) مطرود معذب " * (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) *) وهو النفخة الأولى " * (قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول) *).
قرأ مجاهد والأعمش وعاصم وحمزة وخلف: برفع الأول ونصب الثانية على معنى فأنا الحق أو فمني الحق، وأقول الحق.
وقال الباقون: بنصبهما.
واختلف النحاة في وجهيهما، قيل: نصب الأول على الإغراء والثاني بايقاع القول عليه.
وقيل: هو الأول قسم، والثاني مفعول مجاز قال: فبالحق وهو الله عز وجل أقسم بنفسه والحق أقول.
وقيل: إنه أتبع قسما بعد قسم.
وقال الفراء وأبو عبيد: معناهما حققا لم يدخل الألف واللام، كما يقال: الحمد لله وأحمد الله، هما بمعنى واحد.
وقرأ طلحة بن مصرف: فالحق والحق بالكسر فهما على القسم.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عبدش يقول: هو مردود إلى ما قبله
217

ومجازه: فبعزتك وبالحق والحق قال الله سبحانه: " * (لأملان جهنم منك) *) أي من نفسك وذريتك " * (وممن تبعك منهم أجمعين قل ما أسألكم عليه) *) أي على تبليغ الوحي، كناية عن غير مذكور " * (من أجر) *) قال الحسين بن الفضل: هذه الآية ناسخة لقوله " * (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) *).
" * (وما أ نا من المتكلفين) *) المتقولين القرآن من تلقاء نفسي.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق البستي قال:
حدثنا أحمد بن عمير بن يوسف قال: حدثنا محمد بن عوف قال: حدثنا محمد بن المصفى قال: حدثنا حنوة بن سريج بن يزيد قال: حدثنا أرطاة بن المنذر عن ضمرة بن حبيب عن سلمة بن مقبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى مالا ينال، ويقول فيما لا يعلم).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثني السني قال: حدثني عبد الله بن محمد بن جعفر قال: حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي قال: حدثنا شعيب بن إبراهيم قال: حدثنا سيف بن عمر الضبي عن وائل بن داود عن يزيد البهي عن الزبير بن العوام قال: نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم أغفر للذين يدعون أموات أمتي ولا يتكلفون إلا أني بريء من التكلف وصالحوا أمتي).
وأخبرني الحسين قال: حدثنا ابن شيبة قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدثنا إبراهيم بن عمرو بن بكر السكسكي ببيت المقدس قال: حدثنا أبي قال: حدثنا إبراهيم بن (........) علية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب ح أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من أتاه الله عز وجل علما فليتق الله وليعلمه الناس ولا يكتمه، فإنه من كتم علما يعلمه كان كمن كتم ما أنزل الله تعالى على نبيه وأمره أن يعلمه الناس، ومن لم يعلم فليسكت وإياه أن يقول مالا يعلم فيهلك ويصير من المتكلفين ويمرق من الدين، وأن الله عز وجل قال: " * (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) *) من أفتى بغير السنة فعليه الإثم.
وأخبرني الحسن قال: حدثنا السني قال: أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا محمد بن خبير
218

العبدي قال: أخبرنا سفيان الثوري عن الأعمش عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم شيئا فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم وأن الله عز وجل قال لنبيه: * (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) * * (إن هو) *) ما هو يعني القرآن " * (إلا ذكر) *) عظة " * (للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين) *).
قال قتادة: يعني بعد الموت.
وابن عباس: يعني يوم القيامة.
219

((سورة الزمر))
مكية، إلا قوله سبحانه: " * (قل يا عبادي الذين أسرفوا) *) الآية. وهي أربعة آلافوتسعمائة وثمانية أحرف، وألف ومائة واثنتان وسبعون كلمة، وخمس وسبعون آية
أخبرنا ابن المقرئ قال: أخبرنا ابن مطر قال: حدثنا ابن شريك قال: حدثنا ابن يونس قال: حدثنا أبو سليمان قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه، وأعطاه ثواب الخائفين).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حمدان قال: حدثنا ابن ماهان قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا حماد بن يزيد عن مروان أبي لبابة مولى عبد الرحمن بن زياد عن عائشة خ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كل ليلة ببني إسرائيل والزمر.
بسم الله الرحمن الرحيم
(* (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إنآ أنزلنآ إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفىإن الله يحكم بينهم فى ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار * لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء سبحانه هو الله الواحد القهار * خلق السماوات والارض بالحق يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار * خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق فى ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لاإلاه إلا هو فأنى تصرفون * إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور * وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله
220

نعمة منه نسى ما كان يدعوإليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار * أمن هو قانت ءانآء اليل ساجدا وقآئما يحذر الاخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الالباب) *) 2
" * (تنزيل الكتاب) *).
قال الفراء: معناه هذا تنزيل الكتاب، وإن شئت رفعته لمن، مجازه: من الله تنزيل الكتاب، وإن شئت جعلته ابتداء وخبره مما بعده.
" * (من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين) *) أي الطاعة " * (الدين الخالص) *) قال قتادة: شهادة ان لا إله إلا الله.
قال أهل المعاني: لا يستحق الدين الخالص إلا الله.
" * (والذين اتخذوا من دونه أولياء) *) يعني الأصنام " * (ما نعبدهم) *) مجازه قالوا ما نعدهم.
" * (إلا ليقربونا إلى الله زلفى) *).
قال قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خلقكم وخلق السماوات والأرض ونزل من السماء ماء؟
قالوا: الله.
فيقال لهم: فما يعني عبادتكم الأوثان؟
قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى وتشفع لنا عند الله.
قال الكلبي: وجوابه في الأحقاف " * (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة) *) الآية.
" * (إن الله يحكم بينهم) *) يوم القيامة " * (في ما هم فيه يختلفون) *) من أمر الدين " * (إن الله لا يهدي) *) لدينه وحجته " * (من هو كاذب كفار لو أراد الله أن يتخذ ولدا) *) كما زعموا " * (لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) *).
قال قتادة: يعني يغشي هذا هذا ويغشي هذا هذا، نظيره قوله: " * (يغشي الليل النهار) *).
وقال المؤرخ: يدخل هذا على هذا وهذا على هذا، نظيره قوله: " * (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) *))
.
221

قال مجاهد: يدور.
وقال الحسن وابن حيان والكلبي: ينقص من الليل فيزيد في النهار وينقص من النهار فيزيد في الليل، فما نقص من الليل دخل في النهار ومانقص من النهار دخل في الليل، ومنتهى النقصان تسع ساعات ومنتهى الزيادة خمسة عشر ساعة، وأصل التكوير اللف والجمع، ومنه كور العمامة.
" * (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل) *) وأنشأ " * (وجعل لكم) *) وقال بعض أهل المعاني: جعلنا لكم نزلا ورزقا.
" * (من الأنعام ثمانية أزواج) *) أصناف وأفراد، تفسيرها في سورة الأنعام " * (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) *) نطفة ثم علقة ثم مضغة، كما قال: " * (والله خلقكم أطوارا) *).
وقال ابن زيد: معناه يخلقكم في بطون أمهاتكم من بعد الخلق الأول الذي خلقكم في ظهر آدم.
" * (في ظلمات ثلاث) *) يعني البطن والرحم والمشيمة " * (ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون) *) عن عبادته إلى عبادة غيره " * (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر) *).
فإن قيل: كيف؟
قال: ولا يرضى لعباده الكفر وقد كفروا.
قلنا: معناه لا يرضى لعباده أن يكفروا به، وهذا كما يقول: لست أحب الإساءة وإن أحببت أن يسيء فلان فلانا فيعاقب.
وقال ابن عباس والسدي: معناه ولا يرضى لعباده المخلصين المؤمنين الكفر، وهم الذين قال: " * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) *) فيكون عاما في اللفظ خاصا في المعنى كقوله: " * (عينا يشرب بها عباد الله) *) وإنما يريد به بعض العباد دون البعض.
" * (وإن تشكروا) *) تؤمنوا ربكم وتطيعوه " * (يرضه لكم) *) ويثيبكم عليه " * (ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه) *) مخلصا راجعا إليه مستغيثا به " * (ثم إذا خوله) *) أعطاه، ومنه قيل
222

للمال والعطاء: خول، والعبيد خول.
قال أبو النجم:
أعطي فلم يبخل ولم يبخل
كوم الذرى من خول المخول
" * (نعمة منه نسي) *) ترك " * (ما كان يدعو إليه من قبل) *) في حال النصر " * (وجعل لله أندادا) *) يعني الأوثان.
وقال السدي: يعني أندادا من الرجال، يطيعونهم في معاصي الله.
(* (قل ياعباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب * قل إنىأمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لان أكون أول المسلمين * قل إنىأخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم * قل الله أعبد مخلصا له دينى * فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذالك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون * والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولائك الذين هداهم الله وأولائك هم أولو الالباب * أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار) *) 2
" * (ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار أمن هو قانت) *).
قرأ نافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة: (أمن) بتخفيف الميم.
وقرأ الآخرون بتشديده، فمن شدده فله وجهان، أحدهما: تكون الميم في أم صلة ويكون معنى الكلام الاستفهام، وجوابه محذوف مجازه: أمن هو قانت كمن هو غير قانت، كقوله: " * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) *) كمن لم يشرح الله صدره، أو تقول: أمن هو قانت كمن جعل لله أندادا.
والوجه الثاني: أن يكون بمعنى العطف على الاستفهام مجازه: فهذا خير أم من هو قانت، فحذف لدلالة الكلام عليه ونحوها كثير.
ومن خفف فله وجهان.
أحدهما: أن يكون الألف في (أمن) بمعنى حرف النداء، تقديره: يامن هو قانت، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بياء فتقول: يا زيد أقبل، وأزيد أقبل
223

قال أوس بن حجر:
أبني لبيني لستم بيد
ألا يد ليست لها عضد
يعني يا بني ليتني.
وقال آخر:
أضمر بن ضمرة ماذا ذكرت
من صرمة أخذت بالمغار
فيكون معنى الآية: قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار، ويا من هو قانت آناء الليل إنك من أهل الجنة، كما تقول: فلان لا يصلي ولايصوم، فيا من تصلي وتصوم أبشر، فحذف لدلالة الكلام عليه.
والوجه الثاني: أن يكون الألف في (أمن) ألف استفهام، ومعنى الكلام: أهذا كالذي جعل لله أندادا، فاكتفى بما سبق إذ كان معنى الكلام مفهوما.
كقول الشاعر:
فاقسم لو شيء أتانا رسوله سواك
ولكن لم نجد لك مدفعا
أراد لدفعناه.
وقال ابن عمر: القنوت قراءة القرآن وطول القيام.
وقال ابن عباس: الطاعة.
" * (آ ناء الليل) *) ساعاته " * (ساجدا وقائما يحذر الآخرة) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا محمد بن خالد، أخبرنا داود بن سليمان، أخبرنا عبد بن حميد، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرأ: (أمن هو قانت اناء الليل ساجدا وقائما يحذر عذاب الآخرة).
" * (ويرجو رحمة ربه) *).
قال مقاتل: نزلت في عمار بن ياسر وأبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله المخزومي.
" * (قل هل يستوي الذين يعلمون) *) يعني عمار " * (والذين لا يعلمون) *) يعني أبا حذيفة " * (إنما يتذكر أولوا الألباب) *).
224

أخبرنا الحسين بن محمد بن العدل حدثنا هارون بن محمد بن هارون العطار حدثنا حازم ابن يحيى الحلواني حدثنا محمد بن يحيى بن الطفيل حدثنا هشام بن يوسف حدثني محمد بن إبراهيم اليماني قال: سمعت وهب بن منبه يقول: سمعت ابن عباس يقول: من أحب أن يهون الله تعالى الموقف عليه يوم القيامة، فليره الله في سواد الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
" * (قل يا عباد الذين آمنوا ا تقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الد نيا حسنة) *) يعني الجنة، عن مقاتل.
وقال السدي: يعني العافية والصحة.
" * (وأرض الله واسعة) *) فهاجروا فيها واعتزلوا الأوثان، قاله مجاهد.
وقال مقاتل: يعني أرض الجنة.
" * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) *).
قال قتادة: لا والله ما هنالك مكيال ولا ميزان.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه الدينوري بقراءتي عليه، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني حدثنا إبراهيم بن محمد بن الضحاك حدثنا نصر بن مرزوق حدثنا أسيد بن موسى حدثنا بكر بن حبيش عن ضرار بن عمرو عن زيد الرقاشي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم (تنصب الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصلاة فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصيام فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الحج فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب، قال الله تعالى: " * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) *) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل).
قال حدثنا أبو علي بن جش المقرئ قال: حدثنا أبو سهل (عن إسماعيل بن سيف) عن جعفر بن سليمان الضبعي عن سعد بن الطريف عن الأصبغ بن نباتة قال: دخلت مع علي بن أبي طالب إلي الحسن بن علي ذ نعوده فقال له علي: كيف أصبحت يا بن رسول الله؟
قال: أصبحت بنعمة الله بارئا.
قال: كذلك إن شاء الله.
225

ثم قال الحسن: أسندوني. فأسنده علي إلى صدره ثم قال: سمعت جدي رسول الله يقول: (يا بني أد الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، يصب عليهم الأجر صبا ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " * (إنما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب) *)).
حدثنا الحرث بن أبي اسامة حدثنا داود بن المخبر حدثنا عباد بن كثير عن أبي الزناد عن (.........) (عن أبي ذر عن النبي أنه) قال: (من سره أن يلحق بذوي الألباب والعقول فليصبر على الأذى والمكاره فذلك انه (.........) الجزع ومن جزع صيره جزعه إلى النار، وما نال الفوز في القيامة إلا الصابرون إن الله تعالى يقول: " * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) *) وقال الله تعالى: " * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) *)).
" * (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لان أكون أول المسلمين) *) من هذه الأمة " * (قل إني أخاف إن عصيت ربي) *) فعبدت غيره " * (عذاب يوم عظيم) *) وهذا حين دعى إلى دين آبائه، قاله أكثر المفسرين.
وقال أبو حمزة الثمالي والسبب هذه الآية منسوخة، إنما هذا قبل أن غفر ذنب رسول الله (عليه السلام).
" * (قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه) *).
أمر توبيخ وتهديد كقوله " * (اعملوا ما شئتم) *). وقيل: نسختها آية القتال " * (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم) *) وأزواجهم وخدمهم في الجنة " * (يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين) *).
226

قال ابن عباس: إن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلا في الجنة وأهلا، فمن عمل بطاعة الله تعالى كان له ذلك المنزل والأهل، ومن عمل بمعصية الله (أخذه) الله تعالى إلى النار، وكان المنزل ميراثا لمن عمل بطاعة الله إلى ما كان له قبل ذلك وهو قوله تعالى: * (أولئك هم الوارثون) * * (لهم من فوقهم ظلل) *) أطباق وسرادق " * (من النار) *) ودخانها " * (ومن تحتهم ظلل) *) مهاد وفراش من نار، وإنما سمي الأسفل ظلا، لأنها ظلل لمن تحتهم، نظيره قوله تعالى: " * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) *) وقوله: " * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) *) وقوله: " * (أحاط بهم سرادقها) *) وقوله: " * (وظل من يحموم) *) وقوله سبحانه وتعالى: * (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) * * (ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون والذين اجتنبوا الطاغوت) *) الأوثان " * (أن يعبدوها وأنابوا) *) رجعوا له " * (إلى الله) *) إلى عبادة الله " * (لهم البشرى) *) في الدنيا بالجنة وفي العقبى " * (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) *) أرشده وأهداه إلى الحق.
أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق أخبرنا إبراهيم بن محمد حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرنا يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن عبد الله بن زحر عن سعيد بن مسعود قال: قال أبو الدرداء: لولا ثلاث ما أحببت أن أعيش يوما واحدا: الظما بالهواجر، والسجود في جوف الليل، ومجالسه أقوام ينتقون من خير الكلام كما ينتقي طيب التمر.
قال قتادة: أحسنه طاعة الله.
وقال السدي: أحسنه ما يرجون به فيعملون به.
" * (أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) *).
عن ابن زيد في قوله: " * (والذين اجتنبوا الطاغوت) *) الآيتين: حدثني أبي: أن هاتين الآيتين
227

نزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، وهم زيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي.
" * (أفمن حق عليه كلمة العذاب) *) (يريد أبا لهب وولده) * * (أفأنت تنقذ من في النار) *) أي: هو يكون من أهل النار، كرر الاستفهام كما كرر: أنكم " * (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون) *).
ومثله كثير.
(* (لاكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الانهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد * ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينابيع فى الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن فى ذلك لذكرى لاولى الالباب * أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولائك فى ضلال مبين * الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشآء ومن يضلل الله فما له من هاد * أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظلمين ذوقوا ما كنتم تكسبون * كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * فأذاقهم الله الخزى فى الحيواة الدنيا ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون * ولقد ضربنا للناس فى هاذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون * قرءانا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون) *) 2
" * (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف) *) (غرف مبنية، قال ابن عباس: من زبرجد وياقوت).
حدثنا عبد الله بن محمد بن شنبه حدثنا (.........) حدثني طلحة حدثنا (حماد عن أبي هارون عن مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد) الخدري عن رسول الله (عليه السلام) قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، فقالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا
228

المرسلين). " * (تجري من تحتها الأنهار وعد الله) *) نصب على المصدر: " * (ألم تر أن الله أنزل من السماء) *) أي من السحاب " * (ماء فسلكه) *) فأدخله " * (ينابيع) *) عيونا " * (في الأرض) *) قال: (الشعبي والضحاك: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل إنما ينزل) من السماء إلى الصخرة ثم يقسم منها العيون والركايا " * (ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج) *) ييبس " * (فتراه) *) بعد خضرته " * (مصفرا ثم يجعله حطاما) *) أي فتاتا منكسرا متفتتا " * (إن في ذلك لذكرى لاولي الألباب أفمن شرح الله) *) فتح الله " * (صدره للإسلام) *) للإيمان " * (فهو على نور) *) على دلالة " * (من ربه) *) قال قتادة: النور كتاب الله منه تأخذ وإليه ننتهي ومجاز الآية " * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) *) أي أفمن شرح الله صدره للاسلام كمن أقسى قلبه.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن يزيد حدثنا الموصلي ببغداد حدثنا أبو فروة واسمه يزيد بن محمد حدثني أبي عن أبيه حدثنا زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحرث عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (عليه السلام): (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه).
قلنا: يا رسول الله كيف انشراح صدره؟
قال: (إذا دخل النور لقلبه انشرح وانفتح).
قلنا: يا رسول الله فما علامة ذلك؟
قال: (الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت).
وقال الثمالي: بلغنا أنها نزلت في عمار بن ياسر وقال مقاتل: " * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) *) يعني النبيي صلى الله عليه وسلم
" * (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) *) أبو جهل وذويه من الكفار " * (أولئك في ضلال مبين) *).
أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسين الحافظ أخبرنا أبو أحمد القاسم بن محمد بن أحمد
229

ابن عبد ربه السراج الصوفي أخبرنا (......) يونس بن يعقوب البزاز حدثنا الحسين بن الفضل بن السمح البصري ببغداد حدثنا جندل حدثنا أبو مالك الواسطي الحسيني حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي عن داود بن أبي هند عن أبي نصرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: اطلبوا الحوائج من السمحاء فاني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي).
أخبرنا الحسين بن محمد حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن محمد عن وهب حدثنا يوسف بن الصباح العطار حدثنا إبراهيم بن سليمان بن الحجاج حدثنا عمي محمد بن الحجاج حدثنا يوسف بن ميسرة بن جبير عن أبي إدريس الحولاني عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ويحب كل قلب خاشع حليم رحيم يعلم الناس الخير ويدعوا إلى طاعة الله ويبغض كل قلب قاس ينام الليل كله فلا يذكر الله تعالى ولا يدري يرد عليه روحه أم لا).
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا ابن نصروية حدثنا ابن وهب حدثنا إبراهيم بن بسطام حدثنا سعيد بن عامر حدثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: ما ضرب
عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلبه وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة.
" * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها) *). قال ابن مسعود: وابن عباس: قال الصحابة: يا رسول الله لو حدثتنا، فنزلت " * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها) *) يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا ليس فيه تناقض ولا اختلاف فيه.
وقال قتادة: تشبه الآية الآية والكلمة الكلمة والحرف الحرف.
" * (مثاني) *) القرآن. قال المفسرون: يسمى القرآن مثاني لأنه تثنى فيه الأخبار والأحكام والحدود وثنى للتلاوة فلا يمل " * (تقشعر) *) وتستنفر " * (جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) *).
يعني إلى العمل بكتاب الله والتصديق به وقيل إلى بمعنى اللام.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه حدثنا أحمد بن داود حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا خلف بن سلمة عنه حدثنا هشيم عن حصين عن عبد الله بن
230

عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟
قالت: كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم.
فقلت لها: إن ناسا اليوم إذا قريء عليهم القرآن؟
قالت: كما نعتهم: خر أحدهم مغشيا عليه.
فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وبه عن سلمة حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: أن ابن عمر مر برجل من أهل العراق ساقط فقال: ما بال هذا؟
قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله تعالى سقط.
فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط.
وقال ابن عمر: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن الحسين بن (ديزيل) حدثنا أبو نعيم حدثنا عمران أو حمران بن عبد العزيز قال: ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرىء عليهم القرآن فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن رمى بنفسه فهو صادق.
حدثنا الحسن بن محمد حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا صلت ابن مسعود الجحدري حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا أبو عمران الجوني قال: وعظ موسى (عليه السلام) قومه فشق رجل منهم قميصه فقيل لموسى قل لصاحب القميص لا يشق قميصه أيشرح لي عن قلبه.
أخبرنا الحسين بن محمد حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي حدثنا أحمد بن محمد بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن سعيد بن عمر حدثنا سعدان بن نصر أبو علي حدثنا (نشابة (عن أبي غسان المدني محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم قال: قرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم فرقوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة).
أخبرنا الحسين بن محمد حدثنا محمد بن عبد الله بن برزة وموسى بن محمد بن علي بن
231

عبد الله قالا: حدثنا محمد بن يحيى بن سليمان المروزي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني أخبرنا الحسين بن محمد وحدثنا موسى بن محمد بن علي حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أم كلثوم بنت العباس عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتت عن الشجر اليابسة ورقها).
أخبرنا الحسين بن محمد حدثنا أحمد بن جعفر حدثنا حمدان حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري حدثنا محمد بن معونة حدثنا الليث بن سعد حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أم كلثوم بنت العباس عن أبيها قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى حرمه الله تعالى على النار).
" * (ذلك) *) يعني أحسن الحديث " * (هدى الله يهدي به من يشاء و من يضلل الله فما له من هاد) *) وفيه رد على القدرية " * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة) *) أي شدته يوم القيامة.
قال مجاهد: يجر على وجهه في النار.
وقال عطاء: يرمى به في النار منكوسا، فأول شيء تمسه النار وجهه.
وقال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة ضخمة مثل الجبل العظيم من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه، فحرها ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها من وجهه من أجل الأغلال التي في يده وعنقه، ومجاز الآية " * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة) *)
كمن هو آمن من العذاب وهو كقوله " * (أفمن يلقى في النار خير) *) الآية.
قال المسيب: نزلت هذه الآية في أبي جهل.
" * (وقيل) *) أي: ويقول الخزنة " * (للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون) *) أي: وباله " * (كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي) *) العذاب والذل الذي يستحيا منه " * (في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا) *) نصب على الحال " * (غير ذي عوج) *).
قال مجاهد: يعني غير ذي لبس.
232

قال عثمان بن عفان: غير متضاد.
ابن عباس: غير مختلف.
السدي: غير مخلوق.
بكر بن عبد الله المزني غير ذي لحن.
" * (لعلهم يتقون) *) الكفر والتكذيب به.
(* (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركآء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون * فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جآءه أليس فى جهنم مثوى للكافرين * والذى جآء بالصدق وصدق به أولائك هم المتقون * لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك جزآء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذى عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذى كانوا يعملون * أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذى انتقام * ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون * قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون) *) 2
" * (ضرب الله مثلا رجلا) *).
قال الكسائي: نصب رجلا، لأنه ترجمة للمثل وتفسير له، وإن شئت نصبته بنزع الخافض، مجازه ضرب الله مثلا لرجل أو في رجل.
" * (فيه شركاء متشاكسون) *) مختلفون متنازعون متشاحون فيه وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه فيه يقال رجل شكس وشرس وضرس وضبس، إذا كان سئ الخلق مخالفا للناس.
وقال المؤرخ: متشاكسون متماكسون يقال شاكسني فلان أي ماكسني.
" * (ورجلا سلما) *).
قرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب سالما بالألف، واختاره أبو عبيد، قال: إنما اخترنا سالما لصحة التفسير فيه، وذلك أن السالم الخالص وهو ضد المشترك، وأما السلم فهو ضد المحارب، ولاموضع للحرب هاهنا.
وقرأ سعيد بن جبير: سلما بكسر السين وسكون اللام.
233

وقرأ الآخرون: سلما بفتح السين واللام من غير ألف، واختاره أبو حاتم وقال: هو الذي لاتنازع فيه.
" * (لرجل هل يستويان مثلا) *) وهذا مثلا ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتى، والمؤمن لا يعبد إلا الله الواحد، ثم قال عز من قائل " * (الحمد لله) *) الشكر الكامل لله سبحانه دون كل معبود سواه " * (بل أكثرهم لا يعلمون إنك) *) يا محمد " * (ميت) *) عن قليل " * (وإنهم ميتون) *).
وقرأ ابن محيصن وابن أبي علية: إنك مايت وإنهم مايتون، بالألف فيهما.
قال الحسن والكسائي والفراء: (الميت)، بالتشديد، من لم يمت سيموت، و (الميت)، بالتخفيف الذي فارقه الروح، لذلك لم يخفف هاهنا.
قال قتادة: نعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، ونعيت إليكم أنفسكم.
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا ابن ماجة حدثنا الحسين بن أيوب حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت قال: نعي رجل إلى صلت بن أشيم أخا له فوافقه يأكل فقال: ادن فكل فقد نعى إلي أخي منذ حين.
قال: (وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر قال: إن الله تعالى نعاه إلى فقال) الله تعالى: " * (إنك ميت وإنهم ميتون) *).
" * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) *) المحق والمبطل والظالم والمظلوم.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا ابن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا ابن نمير حدثنا محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الله بن أنس عن الزبير بن العوام قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) *).
قال الزبير: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟
قال: (نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه).
قال الزبير: والله إن الأمر لشديد.
أخبرنا الحسين بن محمد حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن الحسين بن (ديزيل) حدثنا آدم بن أبي أياس حدثنا ابن أبي ذنب حدثنا سعيد المقرئ عن أبي
234

هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كانت عنده مظلمة لأخيه من ماله أو عرضه فليتحللها اليوم منه قبل أن يؤخذ حين لا يكون درهم ولا دينار إن كان له عمل صالح أخذ بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه).
أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي حدثنا الفضل بن الفضل الكندي حدثنا أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن محمد بن النعمان حدثنا محمد بن بكر بن أبي بكر البرجمي حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تدرون من مفلس أمتي؟).
قلنا: نعم من لا مال له.
قال: (لا، مفلس أمتي من يجاء به يوم القيامة قد ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا، فيؤخذ من حسناته فيوضع على حسنات الآخر، وإن فضل عليه فضل أخذ من سيئات الآخر فطرحت عليه ثم يؤخذ فيلقى في النار).
وقال أبو العالية: هم أهل القبلة.
أخبرنا الحسين بن فنجويه حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن الحسن بن علوية حدثنا عبيد بن جناد العلوي الحلبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن القاسم ابن عوف البكري قال: سمعت ابن عمر يقول: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتابين " * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) *) قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد فما هذه الخصومة وكتابنا واحد؟ حتى رأيت بعضنا يضرب وجه بعض بالسيف، فعرفت أنه فينا نزلت.
وروى خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال: كنا نقول: ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا.
أخبرنا الحسين بن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد: زعم ابن عون عن إبراهيم قال: لما نزلت " * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) *) قالوا: كيف نختصم ونحن اخوان؟ فلما قتل عثمان قالوا: هذه خصومتنا.
" * (فمن أظلم ممن كذب على الله) *) فزعم أن له ولدا و شريكا " * (وكذب بالصدق) *) بالقرآن
235

" * (إذ جاءه أليس في جهنم مثوى) *) منزل ومقام " * (للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به) *).
قال السدي: (والذي جاء بالصدق) يعني جبرائيل جاء بالقرآن (وصدق به) محمد تلقاه بالقبول.
وقال ابن عباس: (والذي جاء بالصدق) يعني رسول الله جاء بلا إله إلا الله (وصدق به) هو أيضا رسول الله بلغه إلى الخلق.
وقال علي بن أبي طالب وأبو العالية والكلبي: (والذي جاء بالصدق) يعني رسول الله (وصدق به) أبو بكر.
وقال قتادة ومقاتل: (والذي جاء بالصدق) رسول الله (وصدق به) هم المؤمنون وإستدلا بقوله: " * (أولئك هم المتقون) *).
وقال عطاء: (والذي جاء الصدق) الأنبياء (عليهم السلام) (وصدق به) الاتباع وحينئذ يكون (الذي) بمعنى (الذين) على طريق الجنس كقوله: " * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) *) ثم قال: " * (ذهب الله بنورهم) *) وقوله: " * (إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا) *).
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا ابن فنجويه حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر وعبيد الله بن أحمد بن يعقوب قالا: حدثنا أبو بكر عن مجاهد حدثنا عبدان بن محمد المروزي حدثنا عمار بن الحسن حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع: أنه كان يقرأ " * (والذين جاءوا) *) يعني الأنبياء (عليهم السلام) * * (وصدقوا به) *) الاتباع.
وقال الحسن: هو المؤمن صدق به في الدنيا وجاء به يوم القيامة.
يدل عليه ما أخبرنا ابن فنجويه حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ أخبرنا يعني الظهراني أخبرنا يحيى بن الفضل الخرقي حدثنا وهيب بن عمرو أخبرنا هارون النحوي عن محمد بن حجارة عن أبي صالح الكوفي وهو أبو صالح السمان أنه قرأ " * (والذي جاء بالصدق وصدق به) *) مخففة، قال: هو المؤمن جاء به صادقا فصدق به.
وقال مجاهد: هم أهل القرآن يجيؤون به يوم القيامة يقولون هذا الذي أعطيتمونا فعملنا بما فيه.
" * (أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون أليس الله بكاف عبده) *).
236

قرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: عباده بالجمع.
وقرأ الباقون: عبده يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم
" * (ويخوفونك بالذين من دونه) *) وذلك أنهم خوفوا النبيي صلى الله عليه وسلم معرة الأوثان وقالوا: إنك تعيب آلهتنا وتذكرها بسوء، فوالله لتكف عن ذكرها أو
لنخلينك أو يصيبك بسوء " * (ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي ا نتقام ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر) *) شدة وبلاء " * (هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة) *) نعمة ورخاء " * (هل هن ممسكات رحمته) *).
قرأ شيبة وأبو عمرو ويعقوب: بالتنوين فيهما، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم.
وقرأ الباقون: بالإضافة.
قال مقاتل: فسألهم النبي (عليه السلام) فسكتوا فأنزل الله سبحانه " * (قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون) *) إذا جاءكم بأس الله تعالى من المحق منا ومن المبطل.
" * () *) 2
" * (من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم * إنآ أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنت عليهم بوكيل * الله يتوفى الانفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها فيمسك التى قضى عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى إن فى ذلك لايات لقوم يتفكرون * أم اتخذوا من دون الله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والارض ثم إليه ترجعون * وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون * قل اللهم فاطر السماوات والارض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فى ما كانوا فيه يختلفون * ولو أن للذين ظلموا ما فى الارض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون * وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنمآ أوتيته على علم بل هى فتنة ولاكن أكثرهم لا يعلمون * قد قالها الذين من قبلهم فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هاؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين * أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن فى ذلك لايات لقوم يؤمنون) *) بحفيظ ورقيب،) * وقيل: موكل عليهم في حملهم على الإيمان.
237

" * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) *) فيقبضها عند فناء أجلها وانقضاء مدتها " * (والتي لم تمت في منامها) *) كما يتوفى التي ماتت، فجعل النوم موتا " * (فيمسك التي قضى عليها الموت) *) عنده.
قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: قضي بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء " * (الموت) *) رفع على مذهب مالم يسم فاعله.
وقرأ الباقون بفتحها، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لقوله (الله يتوفى الأنفس حين موتها) فهو يقضي عليها.
قال المفسرون: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتعارف ما شاء الله تعالى منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها، أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها.
" * (إلى أجل مسمى) *) وقت انقضاء مدة حياتها " * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني أخبرنا محمد بن جعفر المطري حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضل حدثنا عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: " * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) *) قال: يقبض أنفس الأموات والأحياء، فيمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء إلى أجل مسمى لا يغلط.
وقال ابن عباس: في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه.
أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي حدثنا الفضل بن الفضل الكندي حدثنا إبراهيم بن سعد بن معدان حدثنا ابن كاسب حدثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فليضطجع على شقه الأيمن وليقل: بأسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
" * (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا) *) من الشفاعة " * (ولا يعقلون) *) يعني وإن كانوا لا يملكون شيئا من الشفاعة ولا يعقلون إنكم تعبدونهم أفتعبدونهم " * (قل لله الشفاعة جميعا) *) فمن يشفع فبأذنه يشفع " * (له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون وإذا ذ كر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) *))
.))
"
238

قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: انقبض.
قتادة: كفرت واستكبرت.
الضحاك: نفرت.
الكسائي: انتفضت.
المؤرخ: أنكرت، وأصل الاشمئزاز النفور والأزورار.
قال عمرو بن كلثوم:
إذا عض الثقاف بها اشمأزت
وولتهم عشوزنة زبونا
" * (وإذا ذكر الذين من دونه) *) يعني الأوثان، وذلك حين ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءته سورة النجم: تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى " * (إذا هم يستبشرون) *) يفرحون " * (قل اللهم فاطر السماوات والأرض) *) أي يا فاطر السماوات والأرض " * (عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) *).
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان حدثنا عبيد الله بن ثابت حدثنا أبو سعيد الكندي حدثنا ابن فضيل حدثنا سالم بن أبي حفصة عن منذر الثوري قال: كنت عند الربيع بن خيثم فدخل عليه رجل ممن شهد قتل الحسين ممن كان يقاتله فقال ابن خيثم يا معلقها. يعني الرؤس، ثم أدخل يده في حنكه تحت لسانه فقال: والله لقد قتلتم صفوة لو أدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أفواههم وأجلسهم في حجره، ثم قرأ " * (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) *).
" * (ولو أن للذين ظلموا) *) أشركوا " * (ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة) *).
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه حدثنا ابن وهب حدثني محمد بن الوليد القرشي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن ابن عمران الحوني قال: سمعت أنس بن مالك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا لو أن لك ماعلى الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي).
" * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) *) في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة.))
"
239

قال السدي: ظنوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات.
قال سفيان: وقرأ هذه الآية: ويل لأهل الريا ويل لأهل الريا.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه حدثنا الفرياني حدثني محمد ابن عبد الله بن عماد حدثني عقبة بن سالم عن عكرمة بن عمار قال: جزع محمد بن المنكدر عند الموت فقيل له: تجزع.
فقال: أخشى آية من كتاب الله تعالى " * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) *) فأنا اخشى ان يبدو لي من الله مالم أحتسب.
" * (وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه) *) أعطيناه " * (نعمة منا قال إنما أوتيته على علم) *) من الله بأني له أهل.
قال قتادة: على خير عندي.
" * (بل هي) *) يعني النعمة " * (فتنة) *).
وقال الحسين بن الفضل: بل كلمته التي قالها فتنة.
" * (ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم) *) يعني: قارون إذ قال إنما أوتيته على علم عندي.
" * (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء) *) يعني كفار هذه الأمة " * (سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون) *).
2 (* (قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت فى جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هدانى لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لى كرة فأكون من المحسنين * بلى قد جآءتك ءاياتى فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين * ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس فى جهنم مثوى للمتكبرين * وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون * الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل * له مقاليد السماوات والارض والذين كفروا بئايات الله أولائك هم الخاسرون * قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) *) 2
240

" * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) *) الآية.
اختلف المفسرون في المعنيين بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها قوما من المشركين.
قال ابن عباس: نزلت في أهل مكة قالوا يزعم محمد انه من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله الها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أنبأني عبد الله بن حامد بن محمد الأصفهاني أخبرني إبراهيم بن محمد بن عبد الله البغدادي حدثنا أبو الحسن أحمد بن حمدان الجبلي حدثنا أبو إسماعيل حدثنا إسحاق بن سعيد أبو سلمة الدمشقي حدثنا أنس بن سفيان عن غالب بن عبد الله عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه: يامحمد كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنه من قتل أو شرك أو زنى يلق أثاما ويضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا، وأنا قد فعلت ذلك كله، فهل تجد لي رخصة؟ فأنزل الله تعالى " * (إلا من تاب وآمن وعمل صالحا) *) الآية.
قال وحشي: هذا شرط شديد فلعلي لا أقدر على هذا، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله تعالى " * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) *). 6
فقال وحشي: أراني بعد في شبهة فلا أدري يغفر لي أم لا، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله تعالى " * (قل يا عباد الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) *).
فقال وحشي: نعم هذه، فجاء فأسلم.
فقال المسلمون: هذه له خاصة أم للمسلمين عامة؟
قال: (بل للمسلمين عامة).
وقال قتادة: ذكر لنا أن ناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لن يتاب عليهم، فدعاهم الله بهذه الآية.
وقال ابن عمر: نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين، كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول: لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به، فنزلت على هؤلاء الآيات فكان
241

عمر بن الخطاب كاتبا فكتبها بيده، ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا أبو بكر بن خرجة حدثنا محمد بن عبد الله بن سلمان الحضرمي حدثنا محمد بن العلاء حدثنا يونس بن بكير حدثنا ابن إسحاق حدثنا نافع عن ابن عمر عن عمر ح أنه قال: لما اجتمعنا إلى الهجرة أبعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل وقلنا: الميعاد بيننا المناصف ميقات بني غفار، فمن حبس منكم لم يأبها فقد حبس فليمض صاحبه، فأصبحت عندها أنا وعياش وحبس عنا هشام وفتن فافتتن، فقدمنا المدينة فكنا نقول: هل يقبل الله من هؤلاء توبة قوم عرفوا الله ورسوله ثم رجعوا عن ذلك لما أصابهم من الدنيا؟ فأنزل الله تعالى " * (قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) *) إلى قوله " * (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) *).
قال عمر: فكتبتها بيدي كتابا ثم بعثت بها إلى هشام.
قال هشام: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت اللهم فهمنيها، فعرفت أنها أنزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل هشام شهيدا بأجنادين في ولاية أبي بكر ح.
وقال بعضهم: نزلت في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار، فأعلمهم الله تعالى أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء.
وروى مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب رسول الله نرى أو نقول: أنه ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت هذه الآية " * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) *) فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقيل لنا: الكبائر والفواحش.
قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا: قد هلك، فنزلت هذه الآية، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئا رجونا له. وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر، والآية عامة للناس أجمعين " * (لا تقنطوا) *).
قرأ أبو عمرو والأعمش ويحيى بن وثاب وعيسى والكسائي ويعقوب (لا تقنطوا) بكسر النون.
وقرأ أشهب العقيلي: بضمه.
وقرأ الآخرون: بفتحه.
روى الأعمش عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود قال: دخل عبد الله بن مسعود المسجد فإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال، فجاء حتى قام على رأسه وقال: يا مذكر لم
242

تقنط الناس ثم قرأ " * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) *) الآية.
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا أبو حبش المقرئ حدثنا ابن فنجويه حدثنا سلمة حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم: أن رجلا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة فيشدد على نفسه ويقنط الناس من رحمة الله ثم مات فقال: أي رب ما لي عندك؟
قال: النار.
قال: أي رب وأين عبادتي واجتهادي؟
فيقول: إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدنيا، فأنا اليوم أقنطك من رحمتي.
" * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا حامد بن محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن صالح الأشج حدثنا داود بن إبراهيم حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت بن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي).
وفي مصحف عبد الله: (إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء).
" * (إنه هو الغفور الرحيم) *).
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا محمد بن المظفر حدثنا عمرو بن علي حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال: ما علمت أحدا من أهل العلم ولا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقول لذنب: إن الله لا يغفر هذا.
أخبرنا عقيل بن محمد بن أحمد: أن المعافا بن زكريا أخبرهم عن محمد بن جرير حدثنا زكريا بن يحيى وهداد بن أبي زائدة حدثنا حجاج حدثنا ابن لهيعة عن أبي قنبل قال: سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول: حدثني أبو عبد الرحمن الجيلاني أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت رسول الله (عليه السلام): (يقول ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية " * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) *)).
فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟
فسكت النبي (عليه السلام) ثم قال: (ألا ومن أشرك ألا ومن أشرك ألا ومن أشرك).
243

وبإسناده عن محمد بن جرير حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا يونس عن ابن سيرين قال: قال عليح: ما في القرآن آية أوسع من " * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) *) الآية.
وبه عن ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن منصور عن الشعبي عن شتير بن شكل قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أكثر آية فرجا في القرآن " * (يا عبادي الذين أسرفوا) *) الآية.
أخبرنا الحسين بن محمد الحديثي حدثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي حدثنا علي بن محمد بن ماهان حدثنا سلمة بن شبيب قال: قريء على عبد الرزاق وأنا أسمع عن معمر عن الزهري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبيي صلى الله عليه وسلم هو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما يبكيك يا عمر؟).
قال: يا رسول الله إن بالباب شابا قد أخرق فؤادي وهو يبكي.
فقال له رسول الله: (أدخله علي).
فدخل وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما شأنك يا شاب؟).
قال: يا رسول الله أبكاني ذنوب كثيرة وخفت من جبار غضبان علي.
قال: (أشركت بالله يا شاب؟).
قال: لا.
قال: (أقتلت نفسا بغير حقها؟).
قال: لا.
قال: (فإن الله يغفر لك ذنبك ولو مثل السماوات السبع والأرضين السبع والجبال الرواسي).
قال: يا رسول الله ذنب من ذنوبي أعظم من السماوات السبع ومن الأرضين السبع.
قال: (ذنبك أعظم أم العرش؟) قال: ذنبي.
قال: (ذنبك أعظم أم الكرسي؟).
قال: ذنبي.
قال: (ذنبك أعظم أم إلهك؟).
قال: بل الله أجل وأعظم.
244

فقال: (إن ربنا لعظيم ولا يغفر الذنب العظيم إلا الإله العظيم).
قال: (أخبرني عن ذنبك).
قال: إني مستحيي من وجهك يا رسول الله.
قال: (أخبرني ما ذنبك؟).
قال: إني كنت رجلا نباشا أنبش القبور منذ سبع سنين، حتى ماتت جارية من بنات الأنصار فنبشت قبرها فأخرجتها من كفنها، ومضيت غير بعيد إذ غلبني الشيطان على نفسي، فرجعت فجامعتها ومضيت غير بعيد إذ قامت الجارية فقالت: الويل لك يا شاب من ديان يوم الدين يوم يضع كرسيه للقضاء، يأخذ للمظلوم من الظالم تركتني عريانة في عسكر الموتى ووقفتني جنبا بين يدي الله تعالى.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضرب في قفاه ويقول: (يا فاسق أخرج ما أقربك من النار).
قال: فخرج الشاب تائبا إلى الله تعالى حتى أتى عليه ما شاء الله ثم قال: يا إله محمد وآدم وحواء إن كنت غفرت لي فاعلم محمدا وأصحابه وإلا فأرسل نارا من السماء فأحرقني بها ونجني من عذاب الآخرة.
قال: فجاء جبرئيل وله جناحان جناح بالمشرق وجناح بالمغرب قال: السلام يقرؤك السلام. قال: (هو السلام وإليه يعود السلام).
قال: يقول: أنت خلقت خلقي؟.
قال: (لا، بل هو الذي خلقني).
قال: يقول: أنت ترزقهم؟
قال: (لا، بل هو يرزقني).
قال: أنت تتوب عليهم؟
قال: (لا، بل هو الذي يتوب علي).
قال: فتب على عبدي.
قال: فدعا النبيي صلى الله عليه وسلم الشاب فتاب عليه وقال: (إن الله هو التواب الرحيم).
" * (وأنيبوا إلى ربكم) *) أي واقبلوا وارجعوا إليه بالطاعة. " * (وأسلموا له) *) واخضعوا له " * (من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) *))
.
245

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الحافظ حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني حدثنا أبو يعلى الموصلي حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا كثير بن زيد عن الحرث بن أبي يزيد قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله تعالى الإنابة).
" * (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) *) والقرآن كله حسن وانما معنى الآية ما قال الحسن: التزموا طاعته واجتنبوا معصيته، فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه: ذكر القبيح لنجتنبه، وذكر الأدون لئلا نرغب فيه، وذكر الحسن لنؤثره.
وكذلك قال السدي: الأحسن ما أمر الله به في الكتاب.
وقال ابن زيد: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) يعني المحكمات وكلوا علم المتشابهات إلى عالمها.
" * (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس) *) يعني لأن لا تقول كقوله: * (أن تميد بكم) * * (وأن تصوموا) *) ونحوهما.
" * (يا حسرتا) *) ياندامتا وحزني، والتحسر الإغتمام على ما فات، سمي بذلك لانحساره عن صاحبه بما يمنع عليه استدراكه وتلا في الأمر فيه، والألف في قوله: (يا حسرتا) هي بالكناية للمتكلم وإنما أريد يا حسرتي على الإضافة، ولكن العرب تحول الياء التي هي كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفا فتقول: يا ويلتا وياندامتا، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء، وربما لحقوا بها الهاء.
أنشد الفراء:
يا مرحباه بحمار ناجية
إذا أتى قربته للسانية
وربما الحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة.
وكذلك قرأ أبو جعفر: يا حسرتاي.
" * (على ما فرطت) *) قصرت " * (في جنب الله) *) قال الحسن: في طاعة الله. سعيد بن جبير: في حق الله في أمر الله. قاله مجاهد.
قال أهل المعاني: هذا كما يقال هذا صغير في جنب ذلك الماضي، أي في أمره
246

وقيل: في سبيل الله ودينه. والعرب تسمي السبب والطريق إلى الشيء جنبا تقول: تجرعت في جنبك غصصا وبلاءا، أي بسببك ولأجلك.
قال الشاعر:
أفي جنب بكر قطعتني ملامة
لعمري لقد كانت ملامتها ثنى
وقال في الجانب الذي يؤدي إلى رضى الله تعالى وثوابه، والعرب تسمي الجانب جنبا.
قال الشاعر:
الناس جنب والأمير جنب
يعني الناس من جانب والأمير من جانب.
" * (وإن كنت لمن الساخرين) *) المستهزئين بدين الله تعالى وكتابه ورسوله والمؤمنين.
قال قتادة: في هذه الآية لم يكفه ان ضيع طاعة الله تعالى، حتى جعل يسخر بأهل طاعة الله.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه حدثنا هارون بن محمد حدثنا محمد بن عبد العزيز حدثنا سلمة حدثنا أبو الورد الوزان عن إسماعيل عن أبي صالح: (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) قال: كان رجل عالم في بني إسرائيل ترك علمه وأخذ في الفسق، أتاه إبليس فقال له: لك عمر طويل فتمتع من الدنيا ثم تب.
فأخذ في الفسق، وكان عنده مال فأنفق ماله في الفجور، فأتاه مالك الموت في ألذ ما كان.
فقال: من أنت؟
فقال: أنا ملك الموت جئت لأقبض روحك.
فقال: يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمري في طاعة الشيطان وأسخطت ربي.
فندم حين لم تنفعه الندامة، قال: فأنزل الله سبحانه وتعالى خبره في القرآن.
" * (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة) *) رجعة إلى الدنيا " * (فأكون من المحسنين) *) وفي نصب قوله: (فأكون) وجهان
247

أحدهما: على جواب لو.
والثاني: على الرد على موضع الكرة، وتوجيه الكرة في المعنى لو أن لي أن أكر.
كقول الشاعر: أنشده الفراء:
فمالك منها غير ذكرى وحسرة
وتسأل عن ركبانها أين يمموا
فنصب تسأل عطفا على موضع الذكرى، لأن معنى الكلام: فمالك منها إلا أن يذكر، ومنه قول الله تعالى: " * (أو يرسل رسولا) *) عطف يرسل على موضع الوحي في قوله تعالى: " * (إلا وحيا) *).
" * (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) *).
قرأ العامة: بفتح الكاف والتاء.
وقرأت عائشة: بكسرها أجمع، ردتها إلى النفس.
وروى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثنا ابن فنجويه حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا عبد الله بن الفضل أخبرنا سعيد بن نصير قال: سمعت إسحاق بن سلمة الرازي قال: سمعت أبا جعفر الرازي يذكر عن الربيع بن أنس أنبأني عبد الله بن حامد أخبرتنا سعيدة بنت حفص بن المهتدي ببخارى قالت: حدثنا صالح بن محمد البغدادي حدثنا عبد الله بن يونس بن بكر حدثنا أبي حدثنا عيسى بن عبد الله بن ماهان أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله (عليه السلام) يقول: (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) على مخاطبة النفس.
قال المروزي: وهي رواية السريحي عن الكسائي.
" * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله) *) فزعم أن له ولدا وشريكا " * (وجوههم مسودة) *).
قال الأخفش: ترى غير عاملة في قوله: (وجوههم مسودة) إنما ابتداء وخبر.
" * (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم) *).
قرأ أهل الكوفة: بالألف على الجمع.
248

وقرأ الباقون: بغير ألف على الواحد، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم والأخفش، لأن المفازة هاهنا الفوز، ومعنى الآية: بنجاتهم من العذاب بأعمالهم الحسنة.
" * (لا يمسهم السوء) *) لا يصيبهم المكروه " * (ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض) *) أي مفاتيح خزائن السماوات والأرض، واحدها مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح، ومقليد مثل منديل ومناديل وفيه لغة أخرى أقاليد.
واحدها أقليد، وقيل: هي فارسية معربة إكليل.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري بقرائتي عليه حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه حدثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي حدثنا عمر بن أحمد بن شنبه حدثنا إسماعيل بن سعيد الخدري حدثنا أغلب بن تميم عن مخلد أبي الهذيل عن عبد الرحمن أخيه قال ابن عيينة: عن عبد الله بن عمر عن عثمان بن عفان ح انه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير هذه الآية (مقاليد السماوات والأرض).
فقال: (يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده واستغفر الله لا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، يا عثمان من قالها إذا أصبح أو أمسى عشر مرات أعطاه الله تعالى ست خصال: أما أولها: فيحرس من إبليس وجنده، والثانية: يحضره إثنا عشر ملكا، والثالثة: يعطى قنطاران من الجنة، والرابعة: يرفع له درجة، والخامسة: يزوجه الله تعالى زوجة من الحور العين، والسادسة: يكون له من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل، وله أيضا من الأجر كمن حج أو اعتمر فقبلت حجته وعمرته، فإن مات من ليلته مات شهيدا).
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن العدل بقرائتي عليه حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن زكريا الجرجاني الفقيه حدثنا أحمد بن جعفر بن نصر الرازي حدثنا محمد بن يزيد النوفلي حدثنا حماد بن محمد المرزوي حدثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي ح قال: سألت النبيي صلى الله عليه وسلم عن تفسير المقاليد.
فقال: (يا علي سألت عظيما، المقاليد هو أن تقول عشرا إذا أصبحت وعشرا إذا أمسيت: لا إله إلا الله والله أكبر سبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، من قالها عشرا إذا أصبح وعشرا إذا امسى أعطاه الله تعالى خصالا ستا؛ أولهن:
249

يحرسه من إبليس وجنده فلا يكون لهم عليهم سلطان، والثانية: يعطى قنطارا في الجنة أثقل في ميزانه من جبل أحد، والثالثة: يرفع الله له درجة لا ينالها إلا الأبرار، والرابعة: يزوجه الله من الحور العين، والخامسة: يشهده إثنا عشر ألف ملك يكتبونها في رق منشور يشهدون له بها يوم القيامة، والسادسة: كمن قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وكان كمن حج واعتمر فقبل الله حجة وعمرته، وإن مات من يومه أو ليلته أو شهره طبع بطابع الشهداء، فهذا تفسير المقاليد).
" * (والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) *) وذلك حين دعا إلى دين آبائه. واختلف القراء في قوله: " * (تأمروني) *) فقرأ أهل المدينة: بنون واحدة مخففة على الحذف والتحقيق.
وقرأ أهل الشام: بنونين على الأصل.
وقرأ الآخرون: بنون واحدة مشددة على الإدغام.
2 (* (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين * وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون * ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن فى الارض إلا من شآء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون * وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون * وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هاذا قالوا بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين * وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) *) 2
" * (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك) *) الذي عملته قبل الشرك.
وقال أهل الإشارة: معناه لئن طالعت غيري في السر ليحبطن عملك
250

" * (ولتكونن من الخاسرين) *) ثم دله على التوحيد فقال عز من قائل: " * (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) *) لله تعالى على نعمة الايمان " * (وما قدروا الله حق قدره) *) حين أشركوا به غيره، ثم خبر عن عظمته فقال " * (والأرض جميعا قبضته) *) أي ملكه " * (يوم القيامة) *) بلا مانع ولا منازع ولا مدع، وهي اليوم أيضا ملكه، ونظيره قوله تعالى: " * (ملك يوم الدين) *) و " * (ولمن الملك اليوم) *).
قال الأخفش: هذا كما يقال خراسان في قبض فلان، ليس أنها في كفه وإنما معناه ملكه.
" * (والسماوات مطويات بيمينه) *) للطي معان منها: الإدراج كطي القرطاس والثوب بيانه يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب، ومنه الإخفاء كما تقول: طويت فلانا عن الأعين، وأطو هذا الحديث عني أي استره.
ومنه: الإعراض يقال: طويت عن فلان أو أعرضت عنه.
ومنه: الافناء، تقول العرب: طويت فلانا بسيفي، أي أفنيته.
وقراءة العامة: مطويات بالرفع. وقرأ عيسى بن عمر: بالكسر ومحلها النصب على الحال والقطع، وإنما يذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار.
وقيل: هو معنى القوة، كقول الشاعر:
تلقاها عرابة باليمين
وقيل: اليمين بمعنى القسم، لأنه حلف أنه يطويها ويفنيها. وهو اختيار علي بن مهدي الطبري قال: معناه مضنيات بقسمه.
حكى لي أستاذنا أبو القاسم بن حبيب عنه ثم نزه نفسه، وقال تعالى: " * (سبحانه وتعالى عما يشركون) *) ثم أتى ذاكر بعض ما ورد من الآثار في تفسير هذه الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد بقرائتي عليه حدثنا محمد بن جعفر المطري حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضيل حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم ان الله يمسك السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول هكذا بيده.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: (وما قدروا الله حق قدره)
251

وأنبأني عبد الله بن حامد أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا العباس بن الفضل الاسقاطي حدثنا أحمد بن يونس حدثنا فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبيد الله قال: جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أو يا أبا القاسم ان الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، يهززهن فيقول: أنا الملك أنا الملك.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقا له، ثم قرأ " * (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) *).
أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف القصري بها أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا محمد بن صالح الواسطي عن سليمان بن محمد عن عمر بن نافع عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على هذا المنبر يعني منبر رسول الله (عليه السلام) وهو يحكي عن ربه تبارك وتعالى فقال: (إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته ثم قال هكذا وشد قبضته ثم بسطها ثم يقول: أنا الله، أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم يك شيئا، أنا الذي أعدتها، أين الملوك أين الجبابرة).
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا عبد الله بن الفضل حدثنا هدية ابن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: (فيمجد الله نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز، أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون).
قال: فرجف المنبر حتى قلنا ليتحركن به، وقيل: ليخرن به.
أخبرنا الحسين بن محمد حدثنا عمر عن عبد الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن عمر بن حمزة عن سالم بن عبد الله حدثني عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون)
252

أخبرنا عبد الله بن حامد إجازة أخبرنا محمد بن الحسين حدثنا محمد بن جعونة أخبرنا أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن أبي مريم الغساني عن سعيد بن ثوبان الكلاعي عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه حبر من أحبار اليهود فقال: إني سائلك عن أشياء فخبرني بها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (اسأل ذلك).
فقال الحبر: أرأيت قول الله تعالى في كتابه: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) فأين الخلق عند ذلك؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (هم أضياف الله تعالى فلن يعجزهم ما لديه).
فقال الحبر: فقوله سبحانه وتعالى: " * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) *) فأين الخلق عند ذلك؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (هم فيها كالرقيم في الكتاب).
وقال ابن عباس: في هذه الآية كل ذلك يمينه، وليس في يده الأخرى شيء، وإنما يستعين بشماله المشغولة يمينه، وما السماوات والأرضون السبع في يدي الله تعالى إلا كخردلة في يد أحدكم.
أنبأني عقيل بن أحمد: أن المعافا بن زكريا أخبره عن محمد بن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة حدثني ابن إسحاق عن محمد عن سعيد قال: اتى رهط من اليهود النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربه فجاءه جبرئيل (عليه السلام) فسكنه وقال: اخفض عليك جناحك وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه، قال يقول الله: " * (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) *).
فلما تلاها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: صف لنا ربك كيف خلقه وكيف عضده وكيف ذراعه؟
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول ثم ساورهم فجاءه جبرئيل فقال: مثل مقالته، وأتاه بجواب ما سألوه " * (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) *) الآية.
وقال مجاهد: وكلتا يدي الرحمن يمين
253

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الأصبهاني أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق أخبرنا بشير بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرنا عمرو بن أوس الثقفي: أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من منابر النور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
وقال الحسين بن الفضل والأخفش معنى الآية " * (والأرض جميعا... والسماوات مطويات) *) أي مضبوطات مربوطات بيمينه، أي بقدرته وهي كلها في ملكه وقبضته، نحو قوله تعالى: " * (وما ملكت أيمانكم) *) أي وما كانت لكم قدرة، وليس الملك لليمين دون سائر الجسد والله أعلم.
" * (ونفخ في الصور) *).
أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد المخلدي إملاء وقراءة أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم حدثنا أحمد بن محمد بن أبي رجاء المصيصي حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن سليمان التيمي عن أسلم العجلي عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور.
فقال: (قرن ينفخ فيه).
" * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض) *) أي ماتوا وهي النفخة الثانية " * (إلا من شاء الله) *) اختلفوا في الذين استثناهم الله تعالى.
أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن محمد الروذبادي حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد ابن عبد الرحيم الشروطي حدثنا عبدان بن عبد الله بن أحمد حدثنا محمد بن مصفي حدثنا بقية عن محمد عن عمرو بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبرئيل عن هذه الآية " * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) *): (من أولئك الذين لم يشاء الله أن يصعقهم؟).
فقال: هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش.
أخبرنا الحسين بن فنجويه بقرائتي عليه حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ قال: قرأ علي
254

أبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي وأنا أسمع حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبرئيل (عليهما السلام) عن هذه الآية " * (ونفخ
255

في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) *): (من الذين لم يشاء الله تعالى أن يصعقهم؟).
قال: هم الشهداء متقلدون حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت أزمتها الدر برحائل السندس والإستبرق نمارها ألين من الحرير، مد خطاها مد أبصار الرجال يسيرون في الجنة يقولون عند طول البرهة: انطلقوا إلى ربنا لننظر كيف يقضي بين خلقه، فيضحك إليهم إلهي عز وجل، فإذا ضحك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه.
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الحسن بن يحيويه حدثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي سفيان قالا:
حدثنا محمد بن يوسف الفربابي حدثنا سليمان بن حيان عن محمد بن إسحاق عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: تلا رسول الله (عليه السلام) * * (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) *) قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين استثنى الله تعالى؟
قال: (هو جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت قال: فيقول يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل. فيقول: يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: سبحانك ربي وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل وملك الموت. فيقول: يا ملك الموت خذ نفس ميكائيل. فيأخذ نفس ميكائيل فيقع كالطود العظيم. فيقول: يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: سبحانك ربي تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وملك الموت.
فيقول: مت يا ملك الموت فيموت. فيقول: يا جبرئيل من بقي؟ فيقول: تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبرئيل الميت الفاني قال: فيقول: يا جبرئيل لابد من موتك، فيقع ساجدا يخفق بجناحيه فيقول: سبحانك ربي تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على الضرب من الضراب).
أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد بن جعفر حدثنا حاجب بن أحمد بن يرحم حدثنا محمد بن حماد حدثنا محمد بن الفضيل عن سليمان التيمي عن أبي نصرة عن جابر في قوله تعالى: " * (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) *) قال: موسى ممن استثنى الله تعالى، وذلك بأنه قد صعق مرة.
يدل عليه ما أخبرنا عقيل بن أحمد: أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمد بن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا محمد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال يهودي بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، قال: فرفع رجل من الأنصار يده فصك بها وجهه فقال: تقول هذا وفينا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم * (* (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) *) فاكون أنا أول من يرفع رأسه، فإذا موسى أخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى).
وقال كعب الأحبار: هم إثنا عشر، حملت العرش وجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
الضحاك: هم رضوان والحور ومالك والزبانية.
قتادة: الله أعلم بثنياه.
الحسن: (إلا من شاء الله) يعني الله وحده. وقيل: عقارب النار وحياتها، " * (ثم نفخ فيه) *) أي في الصور " * (أخرى) *) مرة أخرى " * (فإذا هم قيام) *) من قبورهم " * (ينظرون) *) يعني ينظرون إلى البعث.
وقيل: ينتظرون أمر الله تعالى فيهم.
قالت العلماء: ووجه النفخ في الصور أنه علامة جعلها الله تعالى ليتصور بها العاقل وأخذ الأمر، ثم تجديد الخلق.
" * (وأشرقت) *) وأضاءت " * (الأرض) *).
وقرأ عبيد بن عمير: (وأشرقت) على لفظ ما لم يسم فاعله كأنها جعلت مضيئة.
" * (بنور ربها) *) قال أكثر المفسرين: بضوء ربها، وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه فما يتضارون في نوره إلا كما يتضارون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه.
وقال الضحاك: بحكم ربها
256

وقال السدي: بعدل ربها. ويقال: إن الله تعالى خلق في القيامة نورا يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به، ويقال: ان الله يتجلى للملائكة فتشرق الأرض بنوره، وأراد بالأرض عرصات القيامة.
" * (ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء) *).
قال ابن عباس: يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة.
وقال السدي: الذين استشهدوا في طاعة الله.
وقيل: هم الحفظة، يدل عليه قوله تعالى: " * (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) *).
" * (وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وسيق الذين كفروا) *) سوقا عنيفا يسحبون على وجوههم " * (إلى جهنم زمرا) *) أفواجا بعضها على أثر بعض، كل أمة على حدة.
وقال أبو عبيد والأخفش: يعني جماعات في تفرقة، واحدتها زمرة.
" * (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها) *) السبعة وكانت قبل ذلك مغلقة.
واختلف القراء في قوله: (فتحت) و (فتحت) فخففها أهل الكوفة، وشددهما الآخرون على التكثير.
" * (وقال لهم خزنتها) *) توبيخا وتقريعا لهم " * (ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت) *) وجبت " * (كلمة العذاب) *) وهي قوله تعالى: " * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) *).
" * (على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين) *) وحشر الذين " * (اتقوا ربهم) *) فأطاعوه ولم يشركوا به " * (إلى الجنة زمرا) *) ركبانا " * (حتى إذا جاؤوها وفتحت) *) الواو فيه واو الحال ومجازه وقد فتحت أبوابها، فأدخل الواو هاهنا لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم، وحذفها من الآية الأولى لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم، ويقال: زيدت الواو هاهنا، لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب الجحيم سبعة، فزيدت الواو هاهنا فرقا بينهما.
حكى شيخنا عبد الله بن حامد عن أبي بكر بن عبدش أنها تسمى واو ثمانية.
قال: وذلك أن من عادة قريش أنهم يعدون العدد من الواحد إلى الثمانية، فإذا بلغوا
257

الثمانية زادوا فيها واوا فيقولون: خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، يدل عليه قول الله تعالى: " * (سخرها علهيم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) *) وقال سبحانه: " * (التائبون العابدون) *)، فلما بلغ الثامن من الأوصاف قال " * (والناهون عن المنكر) *)، وقال سبحانه وتعالى: " * (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) *)، وقال تعالى: " * (ثيبات وأبكارا) *).
وقيل: زيادة الواو في صفة الجنة علامة لزيادة رحمة الله على غضبه وعقوبته.
" * (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) *) قال قتادة فإذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص بعضهم من بعض، حتى إذا هدؤا واطمئنوا قال لهم رضوان وأصحابه: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين.
أخبرنا أبو صالح شعيب بن محمد البيهقي أخبرنا أبو حاتم مكي بن عبدان التميمي حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر السليطي حدثنا روح بن عبادة القيسي حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن عليح: أنه سئل عن هذه الآية " * (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) *) الآية.
فقال: سيقودهم إلى أبواب الجنة حتى إذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة تخرج من تحت ساقها عينان، فعمدوا إلى إحديهما فتطهروا فيها فجرت عليهم بنضرة النعيم، فلن تغير أجسادهم بعدها أبدا ولن تشعث أشعارهم بعدها أبدا كأنما دهنوا بالدهان، ثم عمدوا إلى الأخرى فشربوا منها فأذهبت ما في بطونهم من أذى أو قذى، وتلقتهم
الملائكة على أبواب الجنة: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، ويلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم إذا جاء من الغيبة يقولون: ابشر قد أعد الله لك كذا وكذا وأعد لك كذا وكذا، وينطلق غلام من غلمانه يسعى إلى أزواجه من الحور العين فيقول: هذا فلان باسمه في الدنيا قد قدم.
فيقلن: أنت رأيته؟
فيقول: نعم.
فيستخفهن الفرح حتى يخرجن إلى أسكفة الباب ويجيء ويدخل، فإذا سرر موضونة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه، فإذا هو قد
258

أسس على جندل اللؤلؤ بين أخضر وأحمر وأبيض وأصفر من كل لون، ثم يتكيء على أريكة من أرائكه، ثم يرفع طرفه إلى سقفه، فلولا أن الله تعالى قدر له لألم أن يذهب بصره، أنه مثل البرق فيقول: " * (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كانا لنهتدي لولا أن هدانا الله) *) قال: " * (فيناديهم الملائكة أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) *).
واختلف أهل العربية في جواب قوله تعالى: " * (حتى إذا جاؤوها) *).
فقال بعضهم: جوابه: (فتحت) والواو فيه (مثبتة) مجازها حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها كقوله تعالى: " * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء) *) أي ضياء.
وقيل: جوابه: قوله تعالى: " * (وقال لهم خزنتها) *) والواو فيه ملغاة تقديره: حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها.
كقول الشاعر:
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن
إلا توهم حالم بخيال
أراد فإذا ذلك لم يكن.
وقال بعضهم: جوابه مضمر ومعنى الكلام: حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، فدخلوها.
" * (وقالوا الحمد لله) *) قال أبو عبيدة: جوابه محذوف مكفوف عن خبره، والعرب تفعل هذا لدلالة الكلام عليه.
قال الأخطل في آخر قصيدة له:
خلا أن حيا من قريش تفضلوا
على الناس أو ان الأكارم نهشلا
وقال عبد مناف بن ربيع في آخر قصيدة:
حتى إذا أسلكوهم في قتائده
شلاء كما تطرد الجمالة الشردا
259

" * (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض) *) يعني أرض الجنة، وهو قوله تعالى: " * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحين) *).
" * (نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) *) ثواب المطيعين " * (وترى الملائكة حافين) *) محدقين محيطين " * (من حول العرش) *) ودخول (من) للتوكيد " * (يسبحون بحمد ربهم) *) متلذذين بذلك لامتعبدين به، لأن التكليف يزول في ذلك اليوم " * (وقضي بينهم بالحق) *) أي بين أهل الجنة والنار بالحق " * (وقيل الحمد لله رب العالمين) *).
أخبرنا أبو صالح شعيب بن محمد البيهقي الفقيه أخبرنا مكي بن عبدان أخبرنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر حدثنا روح بن عبادة حدثنا سعيد عن قتادة في هذه الآية قال: فتح أول الخلق بالحمد وقال " * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) *) وختم بالحمد فقال: " * (وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) *).
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك حدثنا أبو طلحة أحمد بن محمد بن عبد الكريم الفزاري حدثنا نصر بن علي حدثنا عبد الرحمن بن عثمان عن عبادة بن ميسرة عن محمد بن المنكدر عن ابن عمر أن النبيي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر آخر سورة الزمر فتحرك المنبر مرتين.
260

((سورة المؤمن))
قال الثمالي: إنما سميت بذلك من أجل حزقيل مؤمن آل فرعونمكية، وهي خمس وثمانون آية، وألف ومائة وتسعوتسعون كلمة، وأربعة ألف وتسع مائة وستون حرفا
في فضل الحواميم:
أخبرنا الأستاذ أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن الجنازي قراءة عليه حدثنا أبو الشيخ الأصبهاني حدثنا محمد بن أبي عصام حدثنا إبراهيم بن سليمان الحراني حدثنا عثمان المزني حدثنا عبد القدوس بن حبيب عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحواميم ديباج القرآن).
أخبرنا أبو محمد ابن الرومي أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس قال: لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم.
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يعقوب القصري بها أخبرنا أبو علي الصفار ببغداد حدثنا سعدان بن نصر وأخبرنا أبو الحسين الخبازي أخبرنا الشدائي وهو أبو بكر أحمد بن نصر حدثنا ابن المنادي عن سعدان بن نصر: أن المعتمر بن سليمان الرقي حدثهم عن الخليل بن مرة مرسلا قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع: جهنم، والحطمة، ولظى، والسعير، وسقر، والهاوية، والجحيم، فتجيء كل حاء ميم منهن يوم القيامة على باب من هذه الأبواب فيقول: لا يدخل الباب من كان يؤمن بي ويقرأني).
أخبرنا علي بن محمد بن الحسن حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن بذرة حدثنا أبو علي أحمد ابن بشر المرثدي حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني حدثنا جعفر بن عون عن مسعر عن سعيد بن إبراهيم قال: كن الحواميم يسمون العرائس.
261

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل شيء ثمرة، وأن ثمرة القرآن ذوات حسم هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم).
وقال ابن مسعود: إذا وقعت في أل حم وقعت في روضات أتأنق فيهن.
وقال صلى الله عليه وسلم (مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب).
وقال ابن سيرين: رأى رجل في المنام سبع جوار حسان في مكان واحد لم ير أحسن منهن فقال لهن: لمن أنتن؟
قلن: لمن قرأ أل حم.
فأما فضائل هذه السورة خاصة.
فأخبرنا أبو عبد الله حدثنا ظفران حدثنا أبو محمد بن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد ابن الصباح وأخبرنا أبو الحسين الخبازي حدثنا ظفران حدثنا ابن أبي داود حدثنا محمد بن عاصم وأخبرنا الخبازي حدثنا ابن حبش المقرئ حدثني أبو العباس محمد بن موسى الدقاق حدثنا عبد الله بن روح المدائني حدثنا نشابة بن سوار حدثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد وعن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم ال: (من قرأ حم المؤمن لم تبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلوا عليه واستغفرو له).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إلاه إلا هو إليه المصير * ما يجادل فىءايات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم فى البلاد * كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب * وكذالك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار * الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم ومن صلح من ءابآئهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم * وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم * إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون
262

قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل * ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير) *) 2
" * (حم) *) أنبأنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ حدثنا أبو القاسم ابن الفضل حدثنا علي بن الحسن حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا يحيى بن حسان حدثنا رشد عن الحسن بن ثوبان عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حم اسم من أسماء الله تعالى وهي مفاتيح خزائن ربك تعالى).
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان أخبرنا مكي بن عبدان حدثنا عبد الله بن هاشم حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي حدثنا شعبة قال: سألت السدي عن حم؟
فقال: قال ابن عباس: هو اسم الله الأعظم.
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: (الر) و (حم) و (ن) حروف الرحمن مقطوعة.
الوالبي عنه: قسم أقسم الله تعالى به، وهو اسم من أسماء الله تعالى.
وقال قتادة: حم اسم من أسماء القرآن.
مجاهد: فواتح السور.
القرظي: أقسم الله تعالى بحلمه وملكه أن لا يعذب أحدا عاد إليه يقول لا إله إلا الله مخلصا من قلبه.
الشعبي: شعار السورة.
وقال عطاء بن أبي مسلم الخراساني: الحاء افتتاح أسماء الله تعالى: حليم، وحميد، وحي، وحنان، وحكيم، والميم افتتاح أسمائه: ملك، ومجيد، ومنان. يدل عليه ما روى عن أنس بن مالك أنه قال: سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم ا حم، فإنا لا نعرفها في لغتنا؟
فقال: (بدء أسماء وفواتح سور).
وقال الضحاك والكسائي: معناه قضى ما هو كائن، كأنه أراد الإشارة إلى حم بضم الحاء وتشديد الميم.
" * (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) *) واختلف القراء في قوله: (حم) فكسر الحاء حيث كان، عيسى وحمزة والكسائي وخلف، ومثله روى يحيى وحماد عن أبي بكر عن عاصم
263

وقرأ أبو جعفر وأبو عبيد وأبو حاتم وابن ذكوان بين الفتح والكسر.
ومثله روى بكر بن سهل الدمياطي وإسماعيل النخاس عن ورش عن نافع.
وقرأ الباقون: بالفتح.
" * (غافر الذنب) *) قال ابن عباس: لمن قال: لا إله إلا الله.
" * (وقابل التوب) *) ممن قال: لا إله إلا الله " * (شديد العقاب) *) لمن لا يقول: لا إله إلا الله " * (ذي الطول) *) ذي الغنى عمن لا يقول: لا إله إلا الله.
وقال الضحاك: ذي المنن.
قتادة: ذي النعم.
السدي: ذي السعة.
الحسن: ذي الفضل.
ابن زيد: ذي القدرة، وأصل الطول: الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه، يقال: اللهم طل علينا، أي أنعم علينا وتفضل، ومنه قيل للمنفع: طائل، ويقال في الكلام: ماخليت من فلان بطائل وما حظيت منه بنائل، أي لم أجد منه منفعة.
حدثنا الحسن بن محمد بن فنجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا يوسف بن عبد الله ابن ماهان حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت قال: كنت إلى جانب سرادق مصعب بن الزبير في مكان لا يمر فيه الدواب، وقد استفتحت " * (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) *) إذ مر رجل على دابة فلما قلت: (غافر الذنب). قال: قل: ياغافر الذنب اغفر لي ذنبي.
قلت: (وقابل التوب).
قال: قل: يا قابل التوب اقبل توبتي. قلت: (شديد العقاب).
قال: قل: يا شديد العقاب اعف عني عقابي.
قلت: (ذي الطول).
قال: قل ياذي الطول طل علي بخير.
قال: ثم التفت يمينا وشمالا فلم أر شيئا.
وقال أهل الإشارة: (غافر الذنب) فضلا (وقابل التوب) وعدا (شديد العقاب) عدلا.
" * (لا إله إلا هو إليه المصير) *) فردا. و (التوب) يجوز أن يكون مصدرا، ويحتمل أن يكون جمع التوبة، مثل دومة ودوم وعومة وعوم.
264

أخبرنا عبد الله بن حامد قرأه عليه حدثنا محمد بن خالد بن الحسن أخبرنا داود بن سليمان حدثنا عبد بن حميد حدثنا كثير بن هشام أخبرنا جعفر بن مرقان حدثنا يزيد بن الأصم: أن رجلا كان ذا بأس، وكان يوفد إلى عمر بن الخطاب ح لبأسه، وكان من أهل الشام، وأن عمر فقده فسأل عنه فقيل له: يتابع في هذا الشراب فدعا عمر كاتبه فقال: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو " * (بسم الله الرحمان الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير) *). وختم على الكتاب ثم دفعه إلى رسوله وقال: لا تدفعن الكتاب إليه حتى تجده صحوان.
ثم أمر من عنده فدعوا له أن يقبل الله تعالى عليه بقلبه، وأن يتوب عليه، فلما أتت الصحيفة الرجل جعل يقرأها ويقول قد وعدني الله تعالى أن يغفر لي وحذرني عقابه، فلم يزل يرددها على نفسه حتى بكى ثم نزع، فأحسن النزع وحسنت توبته وحاله، فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم زل زلة فسددوه ووفقوه وادعوا الله تعالى له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه.
" * (ما يجادل) *) مايخاصم ويمادي " * (في آيات الله) *) بالإنكار لها " * (إلا الذين كفروا) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا خالد بن الوليد حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن " * (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) *) و " * (إن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) *).
أخبرنا عبد الله بن حامد حدثنا محمد بن خالد حدثنا داود بن سليمان أخبرنا عبد بن حميد حدثنا الحسين بن علي الجعفي عن زائد عن ليث عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن جدالا في القرآن كفر).
" * (فلا يغررك تقلبهم) *) تصرفهم " * (في البلاد) *) للتجارات وبقائهم فيها مع كفرهم، فإن الله تعالى يمهلهم ولايهملهم، نظيره: " * (لا يغرنك تقلب الذين
كفروا في البلاد متاع قليل) *)، ثم قال: " * (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب) *) والكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالمخالفة والعداوة " * (من بعدهم) *)، أي من بعد قوم نوح " * (وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه) *) ويقتلوه.
265

قال الفراء: كان حقه أن يقول برسولها وكذلك هي في قراءة عبد الله، ولكنه أراد بالأمة الرجال فكذلك قال: (برسولهم).
" * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا) *) ليبطلوا ويزيلوا " * (به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار الذين يحملون العرش ومن حوله) *) من الملائكة.
قال ابن عباس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمس مائة عام. وقال: مسيرة أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفا من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفا من أهل السماء التي تليها، والتي تليها أشد خوفا من التي تليها.
قال مجاهد: بين الملائكة وبين العرش سبعون حجابا من نور.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا مخلد بن جعفر حدثنا الحسن بن علوية حدثنا إسماعيل ابن عيسى حدثنا إسحاق أخبرني مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما خلق الله حملة العرش قال لهم: احملوا عرشي. فلم يطيقوا، فخلق مع كل ملك منهم من أعوانهم مثل جنود من في السماوات من الملائكة ومن في الأرض من الخلق، فقال: احملوا عرشي. فلم يطيقوا، فخلق مع كل واحد منهم جنود سبع سماوات وسبع أرضين وما في الأرض من عدد الحصى والثرى فقال: احملوا عرشي. فلم يطيقوا، فقال: قولوا لاحول ولا قوة إلا بالله.
فقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله استقلينا عرش ربنا.
قال: فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى فلم تستقر، فكتب على قدم كل ملك اسم من أسمائه تعالى، فاستقرت أقدامهم.
وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تتفكروا في عظمته ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة، فإن خلقا من الملائكة يقال له: إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سماوات وأنه ليتضأل من عظمة الله تعالى حتى يصير كأنه الوضيع).
وروى موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة عرشه ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبع مائة عام).
266

وفي الخبر: أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة عرشه، تفضيلا لهم على سائر الملائكة، فهذه صفة حملة العرش.
وأما صفة العرش:
فروى لقمان بن عامر عن أبيه قال: ان الله تعالى خلق العرش من جوهرة خضراء، للعرش ألف ألف رأس زاجون ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلا وهو يسبح بتحميده لايسبحه الآخر، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربع مائة عام، واحتجب الله تعالى بينه وبين الملائكة الذين هم حول العرش بسبعين حجابا من نار، وسبعين حجابا من ظلمة، وسبعين حجابا من نور، وسبعين حجابا من در أبيض، وسبعين حجابا من ياقوت أحمر، وسبعين حجابا من زبرجد أخضر، وسبعين حجابا من ثلج، وسبعين حجابا من ماء، وسبعين حجابا من برد ومالا يعلمه إلا الله تعالى.
قال: ولكل واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه: وجه ثور، ووجه أسد، ووجه نسر، ووجه إنسان، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة: أما جناحان فعلى وجه من أن ينظر إلى العرش فيصعق، وأما جناحان فيتبوأ فيقوى بهما، ليس لهم كلام إلا التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد.
وقال يزيد الرقاشي: ان لله تعالى ملائكة حول العرش يسمون المخلصين، تجري أعينهم مثل الأنهار إلى يوم القيامة يميدون كأنما ينفضهم من خشية الله، فيقول لهم الرب جل جلاله: يا ملائكتي مخافة تخيفكم؟
فيقولون: ياربنا لو أن أهل الأرض أطلعوا من عزتك وعظمتك على ما اطلعنا عليه، ما أساغوا طعاما ولا شرابا ولا انبسطوا في فرشهم، ولخرجوا إلى الصحارى يخورون كما يخور البقر.
" * (يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) *) وهذا تفسير لقوله " * (ويستغفرون لمن في الأرض) *) * * (ربنا) *) أي ويقولون: ربنا " * (وسعت كل شيء رحمة وعلما) *) نصبا على التفسير، وقيل: نصبا على النقل، أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء " * (فاغفر للذين تابوا وا تبعوا سبيلك) *) دينك " * (وقهم عذاب الجحيم) *).
روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يقولون الملائكة خير من ابن
267

الكوا، يستغفرون لمن في الأرض وابن الكوا يشهد عليهم بالكفر، وابن الكوا رجل من الخوارج قال: وكانوا لا يحبون الاستغفار على أحد من أهل هذه القبلة.
وقال: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله للعباد الشيطان.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول: سمعت محمد بن علي بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول لأصحابه إذ قرأ هذه الآية:
افهموا فما في العالم خيرا أرجى منه.
" * (ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن) *) في محل نصب عطفا على الهاء والميم " * (صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم) *).
قال سعيد بن جبير: يدخل الرجل الجنة فيقول: أين أبي أين أمي أين ولدي أين زوجي؟
فيقال: لم يعملوا مثل عملك.
فيقول: كنت أعمل لي ولهم.
فيقال: ادخلوهم الجنة.
" * (وقهم السيئات) *) أنواع العذاب " * (ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم إن الذين كفروا ينادون) *) يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عاينوا العذاب فيقال لهم: " * (لمقت الله) *) إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون " * (أكبر من مقتكم) *) اليوم " * (أنفسكم) *) عند حلول العذاب بكم " * (إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا ا ثنتين) *).
قال ابن عباس وقتادة والضحاك: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله تعالى في الدنيا ثم أماتهم الموتة التي لابد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان، وهذا مثل قوله تعالى: " * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) *) الآية.
وقال السدي: أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم، فسئلوا ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحيوا في الآخرة.
" * (فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) *) فنصلح أعمالنا، نظيرها قوله: * (هل إلى مرد من سبيل) * * (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم) *) في الكلام متروك استغنى بدلالة الظاهر عليه، مجازه: فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك وهو العذاب والخلود في النار، بأنه إذا دعي الله
268

وحده في الدنيا كفرتم به وأنكرتم أن لا تكون الإلهية له خالصة، وقلتم أجعل الإلهة إلها واحدا " * (وإن يشرك به) *) غيره.
" * (تؤمنوا) *) تصدقوا ذلك المشرك. وسمعت بعض العلماء يقول: وإن يشرك به بعد الرد إلى الدنيا لو كان تؤمنوا تصدقوا المشرك ذكره بلفظ الاستفهام. نظيره قوله تعالى: " * (ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه) *) * * (فالحكم لله العلي الكبير) *).
2 (* (هو الذى يريكم ءاياته وينزل لكم من السمآء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب * فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون * رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشآء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شىء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب * وأنذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خآئنة الاعين وما تخفى الصدور * والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشىء إن الله هو السميع البصير * أولم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا فى الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق * ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوى شديد العقاب * ولقد أرسلنا موسى بئاياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقشرون فقالوا ساحر كذاب * فلما جآءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبنآء الذين ءامنوا معه واستحيوا نسآءهم وما كيد الكافرين إلا فى ضلال * وقال فرعون ذرونىأقتل موسى وليدع ربه إنىأخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الارض الفساد * وقال موسى إنى عذت بربى وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب * وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جآءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب) *) 2
" * (هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا) *) بأدرار الغيث " * (وما يتذكر إلا من ينيب فادعوا الله مخلصين له الدين) *) العبادة والطاعة " * (ولو كره الكافرون رفيع) *) أي هو رفيع " * (الدرجات) *) يعني رافع طبقات الثواب للأنبياء والمؤمنين في الجنة.
قال ابن عباس: رافع السماوات وهو فوق كل شيء وليس فوقه شيء.
269

" * (ذو العرش) *) خالقه ومالكه " * (يلقي الروح) *) ينزل الوحي، سماه وحيا، لأنه يحيي به القلوب كما يحيي بالأرواح الأبدان " * (من أمره) *) من قوله وقيل بأمره " * (على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق) *).
قراءة العامة: بالياء أي ينذر الله تعالى.
وقرأ الحسن: بالتاء، يعني لتنذر أنت يامحمد يوم التلاق.
أخبرنا أبو الحسين بن الفضل الفقيه حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا محمد بن عبيد الله حدثنا أبو أسامة حدثنا المبرك بن فضالة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس في قوله تعالى: " * (لينذر يوم التلاق) *) قال: يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض.
وقال قتادة ومقاتل: يلتقي فيه الخلق والخالق.
ابن زيد: يتلاقى العباد.
ميمون بن مهران: يلتقي الظالم والمظلوم والخصوم. وقيل: يلتقي العابدون والمعبودون. وقيل: يلتقي فيه المرء مع عمله " * (يوم هم بارزون) *) خارجون من قبورهم، ظاهرون لايسترهم شيء " * (لا يخفى على الله منهم) *) من أعمالهم وأحوالهم " * (شيء) *) ومحل (هم) رفع على الابتداء و (بارزون) خبره " *
(لمن الملك اليوم) *) وذلك عند فناء الخلق، وقد ذكرنا الأخبار فيه.
قال الحسن: هو السائل وهو المجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه فيقول: " * (لله الواحد القهار) *) الذي قهر الخلق بالموت.
أخبرنا شعيب أخبرنا مكي حدثنا أبو الأزهر حدثنا روح حدثنا حماد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: يجمع الله الخلق يوم القيامة بصعيد واحد، بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله تعالى فيها قط، فأول ما تتكلم به أن ينادي مناد * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) *) فأول مايبدؤن به من الخصومات الدماء " * (وأنذرهم يوم الآزفة) *) أي بيوم القيامة، سميت بذلك لأنها قريبة، إذ كل ما هو آت قريب.
قال النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
270

أي: قرب، ونظيرها هذه الآية قوله تعالى: " * (أزفت الآزفة) *) أي قربت القيامة.
" * (إذ القلوب لدى الحناجر) *) من الخوف قد زالت وشخصت من صدورهم، فتعلقت بحلوقهم فلا هي تعود إلى أماكنها ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا فليسوا سواء نظيره قوله: * (وأفئدتهم هواء) * * (كاظمين) *) مكروبين ممتلئين خوفا وحزنا، والكاظم الممسك للشيء على ما فيه، ومنه كظم قربته إذا شد رأسها، فهم قد أطبقوا أفواههم على ما في قلوبهم من شدة الخوف، والكظم تردد الغيظ والخوف والحزن في القلب حين يضيق به.
يقول العرب للبئر الضيقة وللسقاية المملؤة: ماء كظامة وكاظمة، ومنه الحديث: كيف بكم (إذا) بعجت مكة كظائم.
قال الشاعر:
يخرجن من كاظمة العصن الغرب
يحملن عباس بن عبد المطلب
ونصب كاظمين على الحال والقطع.
" * (ما للظالمين من حميم) *) قريب وصديق، ومنه قيل للأقرباء والخاصة حامة " * (ولا شفيع يطاع) *) فيشفع فيهم " * (يعلم خائنة الأعين) *).
وقال المؤرخ: فيه تقديم وتأخير مجازه أي الأعين الخائنة قال ابن عباس: هو الرجل يكون جالسا مع القوم، فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها.
وقال مجاهد: هي نظر الأعين إلى ما نهى الله تعالى عنه.
قتادة: هي همزة بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى ولا يرضاه.
" * (وما تخفي الصدور والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه) *) يعني الأوثان " * (لا يقضون بشيء) *) لأنها لاتعلم شيء ولا تقدر على شي.
وقرأ أهل المدينة وأيوب: تدعون بالتاء، ومثله روى هشام عن أهل الشام والباقون: بالياء.
" * (إن الله هو السميع البصير أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة) *).
271

قرأه العامة: بالهاء.
وقرأ ابن عامر: منكم بالكاف. وكذلك هو في مصاحفهم.
" * (وآ ثارا في الأرض) *) فلم ينفعهم ذلك حين أخذهم الله " * (بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق) *) يعني من عذاب الله من واق ينفعهم ويدفع عنهم " * (ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا) *) يعني فرعون وقومه " * (اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه) *).
قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان أمسك عن قتل الولدان، فلما بعث إليه موسى أعاد القتل عليهم.
" * (واستحيوا نساءهم) *) ليصدوهم بقتل الأبناء واستحياء النساء عن متابعة موسى ومظاهرته " * (وما كيد الكافرين) *) وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم " * (إلا في ضلال وقال فرعون) *) لملائه " * (ذروني أقتل موسى وليدع ربه) *) الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا " * (إني أخاف أن يبدل) *) يغير " * (دينكم) *) الذي أنتم عليه بسحر " * (أو أن) *).
قرأ أبو عمر وأهل المدينة وأهل الشام وأهل مكة: وأن بغير ألف، وكذلك هي في مصاحف أهل الحرمين والشام.
وقرأ الكوفيون وبعض البصريين: (أو أن) بالألف، وكذلك هي في مصاحف أهل العراق.
وقال أبو عبيد: وبها يقرأ للزيادة التي فيها، ولأن (أو) ربما كانت في تأويل الواو، ولا تكون الواو في معنى أو.
" * (يظهر في الأرض الفساد) *).
قرأ أهل المدينة والبصرة: (يظهر) بضم الياء وكسر الهاء، و (الفساد) بنصب الدال على التعدية.
ومثله روى حفص عن عاصم وهي اختيار أبي عبيد قال لقومه: يبدل دينكم، فكذلك يظهر ليكون الفعلان على نسق واحد.
وقرأ الآخرون: بفتح الياء والهاء ورفع الدال على اللزوم، وهي اختيار أبي حاتم. والفساد انتقاص الأمر، وأراد فرعون به تبديل الدين وعبادة غيره.
" * (وقال موسى) *) لما توعده فرعون بالقتل: " * (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) *) اختلفوا في هذا المؤمن.
272

فقال بعضهم: كان من آل فرعون، غير أنه كان آمن بموسى، وكان يكتم إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه.
قال السدي ومقاتل: كان ابن عم فرعون وهو الذي أخبر الله تعالى عنه فقال: " * (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) *).
وقال آخرون: كان إسرائيليا، ومجاز الآية: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون. واختلفوا أيضا في اسمه.
فقال ابن عباس وأكثر العلماء: اسمه حزبيل.
وهب بن منبه: اسمه حزيقال.
ابن إسحاق: خبرل.
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن خالد أخبرنا داود بن سليمان أخبرنا عبد الواحد أخبرنا أحمد بن يونس حدثنا خديج بن معاوية عن أبي إسحاق قال: كان اسم الرجل الذي آمن من آل فرعون (حبيب).
" * (أتقتلون رجلا أن) *) أي لأن " * (يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) *) من العذاب.
وقال بعض أهل المعاني: أراد يصبكم كل الذي يعدكم.
والعرب تذكر البعض وتريد الكل، كقول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أي كل النفوس.
" * (إن الله لا يهدي من هو مسرف) *) مشرك.
وقال السدي: قتال.
" * (كذاب) *) على الله.
أخبرنا الإمام أبو منصور محمد بن عبد الله الجمشاذي حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا العباس بن محمد الثوري حدثنا خالد بن مخلد القطواني حدثنا سليمان بن بلال حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عمرو بن العاص قال: ما تؤول من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء كان أشد من أن طاف
273

بالبيت فلقوه حين فرغ فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟
فقال: (أنا ذاك).
فقام أبو بكرحفالتزمه من ورائه وقال: " * (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) *) إلى آخر الآية رافع صوته بذلك، وعيناه تسفحان حتى أرسلوه.
(* (ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين فى الارض فمن ينصرنا من بأس الله إن جآءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد * وقال الذىءامن ياقوم إنىأخاف عليكم مثل يوم الاحزاب * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد * وياقوم إنىأخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد * ولقد جآءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم فى شك مما جآءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون فىءايات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين ءامنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار * وقال فرعون ياهامان ابن لى صرحا لعلىأبلغ الاسباب) *) 2
" * (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين) *) غالبين مستعلين على بني إسرائيل " * (في الأرض) *) أرض مصر " * (فمن ينصرنا من بأس الله) *) عذاب الله " * (إن جاءنا قال فرعون ما أريكم) *) من الرأي والنصيحة " * (إلا ما أرى) *) لنفسي.
وقال الضحاك: ما أعلمكم إلا ما أعلم نظيره " * (بما أريك الله) *). " * (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم) *) مثل ما أصابهم من العذاب " * (وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد) *).
قرأه العامة: بتخفيف الدال، بمعنى يوم ينادي المناد بالشقاوة والسعادة، إلا أن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، إلا أن فلان بن فلان شقى شقاوة لايسعد بعدها أبدا، وينادي الناس بعضهم بعضا، وينادي أصحاب الأعراف، وأهل الجنة أهل النار، وأهل النار أهل الجنة، وينادي حين يذبح الموت: يا أهل الجنة خلود فلا
موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، وينادي كل قوم بأعمالهم. وقرأ الحسن: (التنادي) بتخفيف الدال واثبات الياء على الأصل
274

وقرأ ابن عباس والضحاك: بتشديد الدال، على معنى يوم التنافر، وذلك إذا ندوا في الأرض كما تند الإبل إذا شردت على أربابها.
قال الضحاك: وذلك إذا سمعوا زفير النار ندوا هرابا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: " * (يوم التناد) *) وقوله تعالى: " * (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا) *) * (والملك على أرجائها) * * (يوم تولون مدبرين) *) أي منصرفين عن موقف الحساب إلى النار.
وقال مجاهد: يعني فارين غير معجزين.
" * (ما لكم من الله من عاصم) *) ناصر يمنعكم من عذابه " * (ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف) *) بن يعقوب (عليه السلام) * * (من قبل بالبينات) *) أي من قبل موسى بالبينات.
قال وهب: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمر إلى زمن موسى. وقال الباقون: هو غيره.
" * (فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف) *) مشرك " * (مرتاب) *) شاك " * (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا) *) أي كبر ذلك الجدال مقتا كقوله: " * (كبر مقتا عند الله أن تقولوا) *) و " * (كبرت كلمة) *) * * (عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله) *) يختم الله بالكفر " * (على كل قلب متكبر جبار) *).
وقرأ أبو عمرو وابن عامر: (قلب) منونا.
وقرأ الآخرون: بالإضافة.
(واختاره أبو حاتم وأبو عبيد)، وفي قراءة ابن مسعود: (على قلب كل متكبر جبار).
" * (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا) *) قصرا. والصرح البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، وأصله من التصريح وهو الإظهار
275

" * (لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات) *) أي طرقها وأبوابها " * (فأطلع) *).
قرأه العامة: برفع العين نسقا على قوله: (أبلغ).
وقرأ حميد الأعرج: بنصب العين.
ومثله روى حفص عن عاصم على جواب (لعلي) بالفاء.
وأنشد الفراء عن بعض العرب:
على صروف الدهر أو دولاتها يدلننا
اللمة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها
بنصب الحاء على جواب حرف التمني.
" * (إلى إله موسى وإني لأظنه) *) يعني موسى " * (كاذبا) *) فيما يقول: إن له ربا غيري أرسله الينا " * (وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب) *) خسار وضلال. نظيره: " * (تبت يدا أبي لهب) *).
2 (* (أسباب السماوات فأطلع إلى إلاه موسى وإنى لاظنه كاذبا وكذالك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا فى تباب * وقال الذىءامن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد * ياقوم إنما هاذه الحيواة الدنيا متاع وإن الاخرة هى دار القرار * من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب * وياقوم ما لىأدعوكم إلى النجواة وتدعونني ألى النار * تدعوننى لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار * لا جرم أنما تدعونني أليه ليس له دعوة فى الدنيا ولا فى الاخرة وأن مردنآ إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار * فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمرىإلى الله إن الله بصير بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بئال فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب * وإذ يتحآجون فى النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد * وقال الذين فى النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب * قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال * إنا لننصر رسلنا والذين
276

ءامنوا فى الحيواة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار * ولقد ءاتينا موسى الهدى وأورثنا بنىإسراءيل الكتاب * هدى وذكرى لاولى الالباب * فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والابكار * إن الذين يجادلون فىءايات الله بغير سلطان أتاهم إن فى صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير * لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس ولاكن أكثر الناس لا يعلمون) *) 2
" * (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد) *) طريق الصواب " * (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع) *) متعة وبلاغ، تنتفعون بها مدة ثم تزول عنكم " * (وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم
ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله واشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة) *) ينتفع بها.
وقال السدي: يعني لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة، فكان معنى الكلام: ليست له استجابة دعوة.
وقال قتادة: ليست له دعوة مستجابة. وقيل: ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة إلا عبدوها، لأن الأوثان لم تأمر بعبادتها في الدنيا، ولم تدع الربوبية وفي الآخرة تتبرأ من عابديها " * (وأن مرد نا) *) مرجعنا " * (إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار) *).
قال ابن عباس وقتادة: يعني المشركين.
وقال مجاهد: هم السفاكون الدماء بغير حقها.
وقال عكرمة: الجبارين المتكبرين.
" * (فستذكرون ما أقول لكم) *) إذا عاينتم العذاب حين لا ينفعكم الذكر " * (وأفوض أمري إلى الله) *) وذلك انهم توعدوه لمخالفة دينهم " * (إن الله بصير بالعباد) *) عالم بأمورهم من المحق منهم ومن المبطل " * (فوقاه الله سيئات ما مكروا) *).
قال قتادة: نجا مع موسى وكان قبطيا.
" * (وحاق) *) نزل " * (بآل فرعون سوء العذاب) *) في الدنيا الغرق وفي الآخرة النار وذلك قوله: " * (النار) *) وهي رفع على البدل من السوء " * (يعرضون عليها غدوا وعشيا) *) وأصل العرض اظهار الشيء.
277

قال قتادة: يعرضون عليها صباحا ومساءا، يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخا ونقمة وصغارا لهم.
وقال السدي وهذيل بن شرحبيل: هو أنهم لما هلكوا جعلت أرواحهم في أجواف طير سود، فهي تعرض على النار كل يوم مرتين تغدوا وتروح إلى النار حتى تقوم الساعة.
أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الجرجاني: أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمد بن جرير حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير حدثنا حماد بن محمد الفزاري قال: سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال: يرحمك الله رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا فوجا فوجا، لا يعلم عددها إلا الله تعالى، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا.
قال: وفطنتم لذلك؟
قال: نعم.
قال: إن تلك الطيور في حواصلها أزواج آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سودا، فنبت عليها أرياش من الليل بيض وتناثر السود، ثم تغدوا فيعرضون على النار غدوا وعشيا ثم ترجع إلى وكورها، فذلك دأبهم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: " * (ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) *).
قال: وكانوا يقولون: إنهم ستمائة ألف مقاتل.
قال عكرمة ومحمد بن كعب: هذه الآية تدل على عذاب القبر، لأن الله تعالى ميز عذاب الآخرة فقال: " * (ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) *) ادخلوا.
قرأ أهل المدينة والكوفة إلا أبا بكر ويعقوب: بقطع الألف وكسر الخاء من الادخال.
وقرأ الباقون: بوصل الألف وضم الخاء من الدخول.
" * (وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا) *) في الدنيا " * (فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار) *) والتبع يكون واحدا وجمعا.
وقال نحويوا البصرة: وواحده تابع.
وقال أهل الكوفة: هو جمع لا واحد له، لأنه كالمصدر وجمعه أتباع.
" * (قال الذين استكبروا إنا كل فيها) *))
.
278

وقرأ ابن السميقع: (إنا كلا فيها) بالنصب، جعلها نعتا وتأكيدا ل (إنا).
" * (إن الله قد حكم بين العباد وقال الذين في النار) *) إذا اشتد.
الشعبي قال: كنية الدجال أبو يوسف.
(* (وما يستوى الاعمى والبصير والذين ءامنوا وعملوا الصالحات ولا المسىء قليلا ما تتذكرون * إن الساعة لاتية لا ريب فيها ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون * وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين * الله الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولاكن
أكثر الناس لا يشكرون * ذلكم الله ربكم خالق كل شىء لا إلاه إلا هو فأنى تؤفكون * كذلك يؤفك الذين كانوا بئايات الله يجحدون * الله الذى جعل لكم الارض قرارا والسمآء بنآء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين * هو الحى لا إلاه إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين * قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جآءنى البينات من ربى وأمرت أن أسلم لرب العالمين * هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون * هو الذى يحى ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ألم تر إلى الذين يجادلون فىءايات الله أنى يصرفون * الذين كذبوا بالكتاب وبمآ أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون * إذ الاغلال فىأعناقهم والسلاسل يسحبون * فى الحميم ثم فى النار يسجرون * ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين) *) 2
" * (وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ قليلا ما تتذكرون) *) بالتاء أهل الكوفة وغيرهم: بالياء.
واختاره أبو عبيد قال: لأن أول الآيات وآخرها خبر عن قوم.
" * (إن الساعة لآتية) *) لجائية " * (لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) *) بها " * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) *) أي وحدوني وأعبدوني دون غيري أجبكم وآجركم واثيبكم واغفر لكم، هذا قول أكثر المفسرين. يدل عليه سياق الآية
279

وقال بعضهم: هو الذكر والدعاء والسؤال.
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا محمد بن الحسن حدثنا أبو بكر بن أبي الخصيب حدثني عثمان ابن خرداد حدثنا قطر بن بشير حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع).
" * (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) *) توحيدي وطاعتي، عن أكثر المفسرين.
وقال السدي: عن دعائي.
أخبرنا عقيل بن محمد أبو المعافا بن زكريا أخبرنا محمد بن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن منصور والأعمش عن ذر عن سبع الحضرمي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الدعاء هو العبادة ثم تلا هذه الآية: " * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادي) *)) عن دعائي.
وباسناده عن ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشام بن القاسم عن الأشجع قال: قيل لسفيان: ادع الله. قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء " * (سيدخلون) *).
قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأبو حاتم: بضم الياء وفتح الخاء.
واختلف فيه.
عن أبي عمرو وعاصم غيرهم ضده.
" * (جهنم داخرين) *) صاغرين " * (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنا تؤفكون كذلك) *) كما أفكتم عن الحق مع قيام الدلائل، كذلك " * (يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم) *).
قرأه العامة: بضم الصاد. وقرأ أبو رزين العقيلي: وأحسن صوركم بكسر الصاد، وهي لغة.
" * (ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين) *) وذلك حين دعي إلى الكفر (فأمر أن يقول هذا)
280

" * (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا) *) أي أطفالا، نظيره: " * (أو الطفل الذي لم يظهروا على عورات النساء) *). " * (ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل) *) أن يصير شيخا " * (ولتبلغوا) *) جميعا " * (أجلا مسمى) *) وقتا محدودا لا تجاوزونه ولا تسبقونه " * (ولعلكم تعقلون) *) ذلك فتعرفوا أن لا إله غيره فعل ذلك " * (هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون) *).
قال ابن زيد: هم المشركون.
وقال أكثر المفسرين: نزلت في القدرية.
أخبرني عقيل بن محمد إجازة أخبرنا المعافا بن زكريا أخبرنا محمد بن جرير أخبرنا محمد ابن بشار ومحمد بن المثنى حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن داود بن أبي هند عن محمد بن سيرين قال: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية فأنا لا أدري فيمن نزلت. " * (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون) *) إلى قوله " * (بل لن نكن ندعوا من قبل شيئا) *) إلى آخر الآية.
وبه عن ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أبي الخير الزيادي عن أبي قبيل عن عقبة بن عامر الجهني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللين).
فقال عقبة: يا رسول الله وما أهل الكتاب؟
قال: (قوم يتعلمون كتاب الله يجادلون الذين آمنوا).
فقال: وما أهل اللين؟ فقال: (قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات).
قال أبو قتيل: لا أحسب المكذبين بالقدر إلا الذين يجادلون الذين آمنوا، وأما أهل اللين فلا أحسبهم إلا أهل العمود ليس عليهم إمام جماعة ولا يعرفون شهر رمضان.
قال محمد بن جرير: أهل العمود الحي العظيم.
" * (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم) *).
281

أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا ابن حبش المقرئ حدثنا ابن فنجويه حدثنا سلمة حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن التيمي عن أبيه قال: لو أن غلا من أغلال جهنم وضع على جبل لو هصه حتى يبلغ الماء الأسود.
" * (والسلاسل) *).
قرأه العامة: بالرفع، عطفا على الأغلال.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ حدثنا أبو القاسم بن الفضل حدثنا أبو زرعة حدثنا نصر بن علي حدثني أبي عن هارون عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس أنه قرأ: " * (والسلاسل يسحبون في الحميم) *) بنصب اللام والياء. يقول: إذا كانوا يسحبونها كان أشد عليهم.
أخبرنا الحسين بن محمد الحديثي حدثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي حدثنا عبد الله ابن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثني جدي حدثني منصور بن عمار حدثنا بشر بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منبه رفعه قال: ينشئ الله تعالى لأهل النار سحابة سوداء مظلمة فيقال يا أهل النار ما تشتهون؟
فيسألون بارد الشراب. فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم وسلاسلا تزيد في سلاسلهم وجمرا يلتهب النار عليهم.
" * (ثم في النار يسجرون) *) أي توقد بهم النار.
قال مجاهد: يصيرون وقودا للنار.
" * (ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله) *) يعني الأصنام " * (قالوا ضلوا عنا) *) فلا نراهم " * (بل لم نكن ندعو من قبل شيئا) *) أنكروا. وقيل: جهلوا.
وقال بعضهم: فيه إضمار، أي لم نكن ندعو من قبل شيئا ببصر وبسمع وبضر وبنفع.
وقال الحسين بن الفضل: يعني لم نكن نصنع من قبل شيئا، أي ضاعت عبادتنا لها فلم نكن نصنع شيئا.
قال الله سبحانه وتعالى " * (كذلك يضل الله الكافرين) *))
.
* (ذلكم بما كنتم تفرحون فى الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون * ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون * ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتى بئاية إلا بإذن الله فإذا جآء أمر الله قضى بالحق وخسر
282

هنالك المبطلون * الله الذى جعل لكم الانعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة فى صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون * ويريكم ءاياته فأى ءايات الله تنكرون * أفلم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا فى الارض فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فلما جآءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون) *) 2
" * (ذلكم بما كنتم تفرحون) *) تبطرون وتأمرون " * (في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) *) تفخرون وتختالون وتنشطون " * (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم) *) من العذاب في حياتك " * (أو نتوفينك) *) قبل أن يحل بهم ذلك " * (فإلينا يرجعون ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك) *) خبرهم في القرآن " * (ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون الله الذي) *) تحق له العبادة هو الذي " * (جعل) *) خلق " * (لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع) *) في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها " * (ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم) *) تحمل أثقالكم في أسفاركم من بلد إلى بلد " * (وعليها وعلى الفلك تحملون) *) نظيره * (وحملناهم في البر والبحر) * * (ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآ ثارا في الأرض) *) يعني مصانعهم وقصورهم " * (فما أغنى عنهم) *) أي لم ينفعهم " * (ما كانوا يكسبون) *) وقيل: هو بمعنى الاستفهام، ومجازه: أي شيء أغنى عنهم كسبهم.
" * (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا) *) يعني الأمم " * (بما عندهم من العلم) *).
قال مجاهد: قولهم نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث، وقيل: أشروا بما عندهم من العلم، بما كان عندهم أنه علم وهو جهل.
وقال الضحاك: رضوا بالشرك الذي كانوا عليه.
وقال بعضهم: هو الفرح راجع إلى الرسل يعني فرح الرسل بما عندهم من العلم بنجاتهم وهلاك أعدائهم
283

" * (وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) *) أي تبرأنا مما كنا نعدل بالله " * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) *) عذابنا " * (سنة الله التي) *) في نصبها ثلاثة أوجه أحدها: بنزع الخافض أي كسنة الله.
والثاني: على المصدر، لأن العرب تقول سن يسن سنا وسنة.
والثالث: على التحذير والإغراء، أي احذروا سنة الله كقوله: (ناقة الله وسنة الله).
" * (قد خلت في عباده) *) وهي أنهم إذا عاينوا عذاب الله لم ينفعهم أيمانهم " * (وخسر هنالك الكافرون) *) بذهاب الدارين.
284

((سورة فصلت))
سورة حم السجدة: مكية، وهي أربع وخمسون آية، وسبعمائة وست وتسعون كلمة، وثلاث آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (حم * تنزيل من الرحمان الرحيم * كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا فىأكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون * قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكواة وهم بالاخرة هم كافرون * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون * قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الارض فى يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها فىأربعة أيام سوآء للسآئلين * ثم استوى إلى السمآء وهى دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين) *) 2
" * (حم تنزيل من الرحمان الرحيم كتاب فصلت) *) بينت " * (آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) *) ولو كان غير عربي لما علموه.
وفي نصب القرآن وجوه:
أحدها: إنه شغل الفعل علامات حتى صارت بمنزلة الفاعل، فنصب القرآن وقوع البيان عليه.
الثاني: على المدح.
والثالث: على إعادة الفعل، أي فصلنا قرآنا.
والرابع: على إضمار فعل، أي ذكرنا قرآنا.
والخامس: على الحال.
والسادس: على القطع.
285

" * (بشيرا ونذيرا) *) نعتان للقرآن " * (فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) *) أي لا يسمعونه ولا يصغون إليه " * (وقالوا) *) يعني مشركي مكة " * (قلوبنا في أكنة) *) أغطية " * (مما تدعونا إليه) *) فلا نفقه ما يقول، قال مجاهد: كالجعبة للنبل " * (وفي آذاننا وقر) *) فلا نسمع ما يقول، وإنما قالوا ذلك ليؤيسئوه من قبولهم لدينه وهو على التمثيل. " * (ومن بيننا وبينك حجاب) *) خلاف في الدين، فجعل خلافهم ذلك ساترا وحاجزا لا يجتمعون ولا يوافقون من أجله ولا يرى بعضهم بعضا. " * (فاعمل) *) بما يقتضيه دينك. " * (إننا عاملون) *) بما يقتضيه ديننا. قال مقاتل: فأعبد أنت إلهك، وإنا عابدون آلهتنا.
" * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) *) قال الحسن: علمه الله التواضع " * (فاستقيموا إليه) *) وجهوا وجوهكم إليه بالطاعة والإخلاص " * (واستغفروه) *) من ذنوبكم التي سلفت. " * (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) *) قال ابن عباس: لا يشهدون لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس، وقال الحسن وقتادة: لا يقرون بالزكاة ولا يؤمنون بها، ولا يرون إيتاءها واجبا، وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة.
وكان يقال: الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك، وقد كان أهل الردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: أما الصلاة فنصلي، وأما الزكاة فوالله لا تغصب أموالنا.
وقال أبو بكر (ح): والله لا أفرق بين شيء جمع الله تعالى بينه والله لو منعوني عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه.
وقال مجاهد والربيع: يعني لا يزكون أعمالهم، وقال الفراء: هو أن قريشا كانت تطعم الحاج، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم " * (وهم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) *) قال ابن عباس: غير مقطوع. مقاتل: غير منقوص، ومنه المنون لأنه ينقص منه الإنسان أي قوته. مجاهد: غير محسوب، وقيل: غير ممنون به. قال السدي: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعلمون فيه.
" * (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) *) الأحد والأثنين. " * (وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها) *) أي في الأرض بما خلق فيها من المنافع، قال السدي: أنبت شجرها. " * (وقدر فيها أقواتها) *) قال الحسن والسدي: يعني أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، وقال مجاهد وقتادة: وخلق فيها بحارها، وأنهارها، وأشجارها، ودوابها في يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، روى ابن نجيح عن مجاهد، قال: هو المطر
286

قال عكرمة والضحاك: يعنيو قدر في كل بلدة منها، ما لم يجعله في الأخرى، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد، فالسابري من سابور، والطيالسة من الري، والحبر واليمانية من اليمن، وهي رواية حصين، عن مجاهد.
وروى حيان، عن الكلبي، قال: الخبز لأهل قطر، والتمر لأهل قطر، والذرة لأهل قطر، والسمك لأهل قطر، وكذلك أخواتها.
" * (في أربعة أيام) *) يعني إن هذا مع الأول أربعة أيام، كما يقول: تزوجت أمس امرأة واليوم اثنتين وأحدهما التي تزوجتها أمس، ويقال: أتيت واسط في خمسة والبصرة في عشرة، فالخمسة من جملة العشرة. فرد الله سبحانه الآخر على الأول، وأجمله في الذكر.
" * (سواء) *) رفعه أبو جعفر على الابتداء، أي هي سواء، وخفضه الحسن ويعقوب على نعت قوله: في أربعة أيام، ونصبه الباقون على المصدر، أي استوت إستواء، وقيل: على الحال والقطع، ومعنى الآية: سواء. " * (للسائلين) *) عن ذلك، قال قتادة والسدي: من سأله عنه، فهكذا الأمر، وقيل: للسائلين الله حوائجهم.
قال ابن زيد: قدر ذلك على قدر مسائلهم، لأنه لا يكون من مسائلهم شيء إلا قد علمه قبل أن يكون.
قال أهل المعاني: معناه سواء للسائلين وغير السائلين، يعني إنه بين أمر خلق الأرض وما فيها لمن سأل ومن لم يسأل، ويعطي من سأل ومن لم يسأل.
" * (ثم استوى إلى السماء) *) أي عمد إلى خلق السماء وقصد، تسويتها، والاستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: ثم استوى إلى السماء. " * (وهي دخان) *) بخار الماء. " * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها) *) أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع، وإخرجاها، وإظهراها بمصالح خلقي. قال ابن عباس: قال الله تعالى للسموات: إطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شقي أنهارك واخرجي ثمارك.
" * (قالتا أتينا طائعين) *) ولم يقل طائعتين، لأنه ذهب به إلى السماوات والأرض ومن فيهن، مجازه: أتينا بمن فينا طائعين، فلما وصفهما بالقول أخرجهما في الجمع مجرى ما يعقل، وبلغنا أن بعض الأنبياء، قال: يارب لو إن السماوات والأرض حين قلت لهما ائتيا طوعا أو كرها عصيناك، ما كنت صانعا بهما؟ قال: كنت أأمر دابة من دوابي فتبتلعهما. قال: وأين تلك الدابة؟. قال: في مرج من مروجي. قال: وأين ذلك المرج؟ قال: في علم من علمي.
وقرأ ابن عباس: أئتيا وآتينا بالمد، أي أعطينا الطاعة من أنفسكما. قالتا: أعطينا.
(* (فقضاهن سبع سماوات فى يومين وأوحى فى كل سمآء أمرها وزينا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك
287

تقدير العزيز العليم * فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود * إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شآء ربنا لانزل ملائكة فإنا بمآ أرسلتم به كافرون * فأما عاد فاستكبروا فى الارض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بئاياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فىأيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ولعذاب الاخرة أخزى وهم لا ينصرون * وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون * ونجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون * ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) *) 2
" * (فقضاهن سبع سماوات في يومين) *) أي أتمهن وفرغ من خلقهن " * (وأوحى في كل سماء أمرها) *) قال قتادة والسدي: يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها، وخلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد، وما لا يعلم، وقيل: معناه وأوحى إلى أهل كل سماء من الأمر والنهي ما أراد.
" * (وزينا السماء الدنيا بمصابيح) *) كواكب. " * (وحفظا) *) لها من الشياطين الذين يسترقون السمع، ونصب حفظها على المعنى، كأنه قال: جعلها زينة وحفظا، وقيل: معناه وحفظا زيناها على توهم سقوط الواو أي وزينا السماء الدنيا بمصابيح حفظا لها، وقيل: معناه وحفظها حفظا.
" * (ذلك تقدير العزيز العليم فإن أعرضوا) *) يعني هؤلاء المشركين، " * (فقل أنذرتكم) *) خوفتكم. " * (صاعقة) *) وقيعة وعقوبة " * (مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم) *) يعني عادا وثمودا " * (الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم) *) يعني قبلهم وبعدهم.
وأراد بقوله: " * (من بين أيديهم) *) الرسل الذين أرسلوا إلى آباءهم من قبلهم ومن خلفهم، يعني من بعد الرسل الذين أرسلوا إلى آباءهم، وهو الرسول الذي أرسل إليهم، هود وصالح (عليهما السلام)، والكناية في قوله: " * (من بين أيديهم) *) راجعة إلى عاد وثمود، وفي قوله تعالى: " * (ومن خلفهم) *)، راجعة إلى الرسل.
" * (ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة) *) بدل هؤلاء الرسل ملائكة. " * (فإنا بما أرسلتم به كافرون) *).
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد بن محمد الأصبهاني، قرأه عليه في شوال سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، حدثنا أحمد بن نجدة بن العريان، حدثنا الجماني حدثنا ابن فضيل، عن الأجلح من الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله، قال
288

قال الملأ من قريش وأبو جهل: قد التبس علينا أمر محمد، فلو إلتمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر، فأتاه فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيع: والله لقد سمعت بالشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علي إن كان ذلك. فأتاه، فلما خرج إليه، قال: يامحمد، أنت خير أم هاشم؟، أنت خير أم عبد المطلب؟، أنت خير أم عبد الله؟، فبم تشتم آلهتنا، ونضلك إيانا، فإن تتمنى الرئاسة عقدنا لك ألويتنا، فكنت رئيسنا ما بقيت، وإن كانت بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني أنت وعقبك من بعدك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، فلما فرغ، قرأ رسول الله (عليه السلام): " * (بسم الله الرحمان الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا) *)... إلى قوله: " * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) *) فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فاحتبس عنهم عتبة، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد (صبأ) إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فانطلقوا إليه.
فأتاه أبو جهل فقال: والله يا عتبة، ما حبسك عنا إلا إنك صبوت إلى محمد، وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد. فغضب عتبة وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا، وقال: والله لقد علمتم إني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر. " * (بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمان الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا) *)... إلى قوله: " * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) *) فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم إن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
" * (فأما عاد) *) يعني قوم هود. " * (فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة) *) وذلك إنهم كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم. " * (أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا) *) أي باردة شديدة الصوت والهبوب وأصله من الصرير، فضوعف كما يقال: نهنهت وكفكفت، وقد قيل: إن النهر الذي يسمى صرصرا إنما سمي بذلك لصوت الماء الجاري فيه.
" * (في أيام نحسات) *) متتابعات شديدات نكدات مشؤومات عليهم ليس فيها من الخير شيء، وقرأ أبو جعفر وابن عامر وأهل الكوفة " * (نحسات) *) بكسر الحاء، غيرهم بجزمه.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا مخلد بن جعفر، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا إسحاق بن بشر، حدثنا مقاتل عن الضحاك في قوله تعالى: " * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا) *)، قال: أمسك الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين ودامت الرياح عليهم من
289

غير مطر، وبه عن مقاتل، عن إبراهيم التيمي وعن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال: إذا أراد الله بقوم خيرا، أرسل عليهم المطر وحبس عنهم كثرة الرياح، وإذا أراد الله بقوم شرا حبس عنهم المطر وأرسل عليهم كثرة الرياح.
" * (لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى) *) لهم وأشد إذلالا وإهانه. " * (وهم لا ينصرون وأما ثمود) *) قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب، " * (ثمود) *) بالرفع والتنوين، وكانا يجران ثمودا في القرآن كله إلا قوله: " * (وآتينا ثمود الناقة) *)، فإنهما كانا لا يجرانه هاهنا من أجل إنه مكتوب في المصحف هاهنا بغير ألف، وقرأ ابن أبي إسحاق " * (وأما ثمود) *) منصوبا غير منون، وقرأ الباقون مرفوعا غير منون.
" * (فهديناهم) *) دعوناهم وبينا لهم. " * (فاستحبوا العمى على الهدى) *) فاختاروا الكفر على الإيمان. " * (فأخذتهم صاعقة) *) مهلكة. " * (العذاب الهون) *) أي الهوان، ومجازه: ذي هون. " * (بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ويوم يحشر) *) يبعث ويجمع، وقرأ نافع ويعقوب " * (نحشر) *) بنون مفتوحة وضم الشين. " * (أعداء الله) *) نصبا. " * (إلى النار فهم يوزعون) *) يساقون ويدفعون إلى النار، وقال قتادة والسدي: يحبس أولهم على آخرهم. " * (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم) *) أي بشراتهم. " * (بما كانوا يعملون) *) وقال السدي وعبيد الله ابن أبي جعفر: أراد بالجلود الفروج.
وأنشد بعض الأدباء لعامر بن جوين:
المرء يسعى للسلامة والسلامة حسبه
أوسالم من قد تثنى جلده وأبيض رأسه
وقال: جلده كناية عن فرجه.
(* (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولاكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون * وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين * فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين * وقيضنا لهم قرنآء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول فىأمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين * وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون * فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذى كانوا يعملون * ذلك جزآء أعدآء الله النار لهم فيها دار الخلد
290

جزآء بما كانوا بئاياتنا يجحدون * وقال الذين كفروا ربنآ أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين * إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون * نحن أوليآؤكم فى الحيواة الدنيا وفى الاخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم) *) 2
" * (وقالوا) *) يعني الكفار الذين يحشرون إلى النار. " * (لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) *) حدثنا عقيل بن محمد: إن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمد بن جرير، حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، أخبرنا علي بن قادم الفزاري، أخبرنا شريك، عن عبيد المكيت، عن الشعبي، عن أنس، قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى بدت نواجذه، ثم قال: (ألا تسألوني مم ضحكت).
قالوا: مم ضحكت يا رسول الله؟
قال: (عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، قال: يقول يا رب أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: فإن لك ذاك. قال: فإني لا أقبل علي شاهدا، إلا من نفسي. قال: أو ليس كفى بي شهيدا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل).
قال: (فيقول لهن بعدا لكن وسحقا عنكن كنت أجادل).
قال الله تعالى: " * (وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون) *) أي تستخفون في قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: تتقون. قتادة: تظنون. " * (أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) *) أخبرنا الحسين بن محمد ابن فنجويه، حدثنا هارون بن محمد بن هارون وعبد الله بن عبد الرحمن الوراق، قالا: حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن كثير وأبو حذيفة، قالا: حدثنا سفيان عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود، قال: إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ جاء ثلاثة نفر، ثقفي وختناه قريشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقههم، فحدثوا الحديث بينهم، فقال أحدهم: أترى يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر: إذا رفعنا يسمع، وإذا خفضنا لم يسمع، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا رفعنا فإنه يسمع إذا خفضنا. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فأنزل الله تعالى " * (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) *)... إلى قوله: فأصبحتم من الخاسرين والثقفي عبد ياليل وختناه القريشيان ربيعة وصفوان بن أمية. " * (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) *) أهلككم. " * (فأصبحتم من الخاسرين) *) قال قتادة: الظن هاهنا بمعنى العلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يموتن أحدكم، إلا وهو يحسن الظن بالله، وإن قوما أساءوا
291

الظن بربهم فأهلكهم) فذلك قوله: " * (وذلك ظنكم الذي ظننتم) *)... الآية.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه الدينوري، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، حدثنا عبد الله بن العباس الطيالسي، حدثنا أحمد بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزياد عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني).
وقال قتادة: من استطاع منكم أن يموت وهو حسن الظن بربه فليفعل، فإن الظن اثنان: ظن ينجي، وظن يردي، وقال محمد بن حازم الباهلي:
الحسن الظن مستريح
يهتم من ظنه قبيح
من روح الله عنه
هبت من كل وجه ريح
لم يخب المرء عن منح
سخاء وإنما يهلك الشحيح
" * (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا) *) يسترضوا ويطلبوا العتبى. " * (فما هم من المعتبين) *) المرضيين، والمعتب الذي قبل عتابة وأجيب إلى ما يسأل، وقرأ عبيد بن عمير " * (وإن تستعتبوا) *) على لفظ المجهول " * (فما هم من المعتبين) *) بكسر التاء، يعني إن سألوا أن يعملوا ما يرضون به ربهم " * (فما هم من المعتبين) *) أي ما هم بقادرين على إرضاء ربهم لأنهم فارقوا دار العمل.
" * (وقيضنا) *) سلطنا وبعثنا ووكلنا. " * (لهم قرناء) *) نظراء من الشياطين. " * (فزينوا لهم ما بين أيديهم) *) من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة. " * (وما خلفهم) *) من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث.
" * (وحق عليهم القول في أمم) *) مع أمم. " * (قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين وقال الذين كفروا) *) من مشركي قريش. " * (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) *) قال ابن عباس: يعني والغطوا فيه، كان بعضهم يوصي إلى بعض، إذا رأيتم محمدا يقرأ، فعارضوه بالزجر والابتعاد.
مجاهد " * (والغوا فيه) *) بالمكاء والصفير وتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ.
قال الضحاك: إكثروا الكلام فيختلط عليه القول.
السدي: صيحوا في وجهه.
292

مقاتل: إرفعوا أصواتكم بالأشعار والكلام في وجوههم حتى تلبسوا عليهم قولهم، فيسكتوا.
أبو العالية: قعوا فيه وعيبوه.
وقرأ عيسى بن عمرو " * (الغوا فيه) *) بضم الغين. قال الأخفش: فتح الغين، كان من لغا يلغا مثل طغا يطغا، ومن ضم الغين كان من لغا يلغوا مثل دعا يدعوا.
" * (لعلكم تغلبون) *) محمدا على قراءته.
" * (فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ) *) أقبح. " * (الذي كانوا يعملون) *) في الدنيا. " * (ذلك) *) الذي ذكرت. " * (جزاء أعداء الله) *) ثم بين ذلك الجزاء ما هو، فقال: " * (النار) *) أي هو النار. " * (لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون) *) فقد ذكر إنها في قراءة ابن عباس ذلك جزاء أعداء الله النار دار الخلد، ترجم بالدار عن النار، وهو مجاز الآية.
" * (وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن) *) وهو إبليس الأبالسة. " * (والإنس) *) وهو ابن آدم الذي قتل أخاه. " * (نجعلهما تحت أقدامنا) *) في النار. " * (ليكونا من الأسفلين) *) في الدرك الأسفل لأنهما سنا المعصية.
" * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) *) أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي بقراءتي عليه، حدثنا الفضل الكندي، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الزيدي العسكري، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو قتيبة سلمة بن قتيبة، حدثنا سهل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) *) قال: من مات عليها، فهو ممن استقام.
أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي بقراءتي عليه، حدثنا عبيد بن محمد بن شنبه، حدثنا جعفر ابن الفربابي، حدثنا محمد بن الحسن البلخي، أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن عمران، عن أبي بكر الصديق ح، " * (ثم استقاموا) *) قال: لم يشركوا بالله شيئا. أخبرنا ابن فنجويه الثقفي، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا يونس، عن الزهري إن عمر بن الخطاب ح، قال وهو يخطب الناس على المنبر: " * (الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) *) فقال: استقاموا على طريقة الله بطاعته، ثم لم يروغوا روغان الثعالب، وقال عثمان بن عفان ح: يعني أخلصوا العمل لله، وقال علي بن أبي طالب ح: أدوا الفرائض. ابن عباس استقاموا على أداء فرائضه.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، حدثنا
293

محمد بن موسى الحلواني، حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور، حدثنا مسكين أبو فاطمة عن شهر بن حوشب، قال: قال الحسن: وتلا هذه الآية " * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) *) فقال: استقاموا على أمر الله تعالى، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته. مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله، حتى لحقوا به. قتادة وابن زيد: استقاموا على عبادة الله وطاعته، ابن سيرين: لم يعوجوا، سفيان الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. مقاتل بن حيان: استقاموا على المعرفة ولم يرتدوا. مقاتل بن سليمان: استقاموا على إن الله ربهم. ربيع: أعرضوا عما سوى الله تعالى. فضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. بعضهم: استقاموا إسرارا كما استقاموا إقرار، وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا. روى ثابت عن أنس إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: (أمتي ورب الكعبة).
أخبرنا الحسن بن محمد الثقفي، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي وأحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم السني، قالا: حدثنا أبو خليفة الفضل بن حيان الجمحي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز، عن سفيان بن عبد الله الثقفي. قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به، فقال: (قل ربي الله ثم استقم) قال: قلت: ما أخوف ما تخاف علي؟
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه، وقال: (هذا).
وروي إن وفدا أقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن، ثم بكى، فقالوا: أمن خوف الذي بعثك تبكي؟ قال: (نعم، إني قد بعثت على طريق مثل حد السيف، إن استقمت نجوت، وإن زغت عنه هلكت).
وقال قتادة: كان الحسن إذا تلا هذه الآية، قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
" * (تتنزل عليهم الملائكة) *) عند الموت " * (ألا تخافوا ولا تحزنوا) *) قال قتادة: إذا قاموا من قبورهم. قال وكيع بن الجراح البسري: تكون في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وفي البعث، ألا يخافوا ولا يحزنوا. قال أبو العالية: لا تخافوا على صنيعكم ولا تحزنوا على مخلفكم. مجاهد: لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم في دنياكم من أهل وولد ونشيء، فإنا نخلفكم في ذلك كله. السدي: لا تخافوا ما أمامكم، ولا تحزنوا على ما بعدكم. عطاء بن رباح: لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم، فإني أغفرها لكم.
وقال أهل اللسان في هذه الآية: " * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) *) بالوفاء على ترك
294

الجفاء " * (تتنزل عليهم الملائكة) *) بالرضا أن لا تخافوا من العناء ولا تحزنوا على الفناء، وأبشروا بالبقاء مع الذين كنتم توعدون من اللقاء، لا تخافوا فلا خوف على أهل الإستقامة، ولا تحزنوا فإن لكم أنواع الكرامة، وأبشروا بالجنة التي هي دار السلامة. لا تخافوا فعلى دين الله استقمتم، ولا تحزنوا فبحبل الله اعتصمتم، وأبشروا بالجنة وإن ارتبتم وأحزنتم، لا تحزنوا فطالما رهبتم، ولا تحزنوا فقد نلتم ما طلبتم، وأبشروا بالجنة التي فيها رغبتم، لا تخافوا فأنتم أهل الإيمان، ولا تحزنوا فأنتم أهل الغفران، وإبشروا بالجنة التي هي دار الرضوان، لا تخافوا فأنتم أهل الشهادة، ولا تحزنوا فأنتم أهل السعادة، وإبشروا بالجنة التي هي دار الزيادة، لا تخافوا فأنتم أهل النوال، ولا تحزنوا فأنتم أهل الوصال، وأبشروا بالجنة التي هي دار الجلال، لا تخافوا فقد أمنتم الثبور ولا تحزنوا فقد آن لكم الحبور وإبشروا بالجنة التي هي دار السرور، لا تخافوا فسعيكم مشكور ولا تحزنوا فذنبكم مغفور، وإبشروا بالجنة التي هي دار النون، لا تخافوا فطالما كنتم من الخائفين، ولا تحزنوا فقد
كنتم من العارفين، وإبشروا بالجنة التي عجز عنها وصف الواصفين، لا تخافوا فلا خوف على أهل الإيمان، ولا تحزنوا فلستم من أهل الحرمان، وإبشروا بالجنة التي هي دار الإيمان، لا تخافوا فلستم من أهل الجحيم، ولا تحزنوا فقد وصلتم إلى الرب الرحيم، وإبشروا بالجنة التي هي دار النعيم، لا تخافوا فقد زالت عنكم المخافة، ولا تحزنوا فقد سلمتم من كل آفة، وإبشروا بالجنة التي هي دار الضيافة، لا تحزنوا العزل عن الولاية، ولا تحزنوا على ما قدمتم من الخيانة، وأبشروا بالجنة التي هي دار الهداية، لا تخافوا حلول العذاب، ولا تحزنوا من هول الحساب وأبشروا بالجنة التي دار الثواب. لا تخافوا فأنتم سالمون من العقاب، ولا تحزنوا فأنتم واصلون إلى الثواب، وأبشروا بالجنة فإنها نعم المآب. لا تخافوا فأنتم أهل الوفاء ولا تحزنوا على ما كسبتم من الجفاء وإبشروا بالجنة فإنها دار الصفاء لا تخافوا فقد سلمتم من العطب، ولا تحزنوا فقد نجوتم من النصب، وإبشروا بالجنة فإنها دار الطرب.
" * (نحن أولياؤكم) *) تقول لهم الملائكة الذين تتنزل عليهم بالبشارة: نحن أولياؤكم وأنصاركم وأحباءكم، " * (في الحياة الدنيا وفي الآخرة) *) قال السدي: نحن أولياؤكم يعني نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا ابن خالد، أخبرنا داود بن عمرو الضبي أخبرنا إبراهيم ابن الأشعث عن الفضيل بن عياض عن منصور عن مجاهد " * (نحن أولياؤكم) *) في الحياة الدنيا وفي الآخرة. قال: قرناؤهم الذين كانوا معهم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، قالوا: لن نفارقكم حتى ندخلكم الجنة.
" * (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون) *) تريدون وتسألون وتتمنون، وأصل الكلمة إن ما تدعون إنه لكم، فهو لكم بحكم ربكم
295

" * (نزلا) *) أي جعل ذلك رزقا. " * (من غفور رحيم) *).
2 (* (ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين * ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم * ومن ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن إن كنتم إياه تعبدون * فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون * ومن ءاياته أنك ترى الارض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذىأحياها لمحى الموتى إنه على كل شىء قدير * إن الذين يلحدون فىءاياتنا لا يخفون علينآ أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتىءامنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير * إن الذين كفروا بالذكر لما جآءهم وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد * ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم * ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاياته ءاعجمى وعربى قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء والذين لا يؤمنون فىءاذانهم وقر وهو عليهم عمى أولائك ينادون من مكان بعيد * ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب * من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها وما ربك بظلام للعبيد * إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركآئى قالوا ءاذناك ما منا من شهيد * وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص * لا يسئم الانسان من دعآء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط * ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرآء مسته ليقولن هاذا لى ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربىإن لى عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ * وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض * قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو فى شقاق بعيد * سنريهم ءاياتنا فى الافاق وفىأنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد * ألا إنهم فى مرية من لقآء ربهم ألا إنه بكل شىء محيط) *) 2
" * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) *) إلى طاعة الله. " * (وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) *) قال ابن سيرين والسدي وابن زيد: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مقاتل: هو جميع الأئمة والدعاة إلى الله تعالى، وقال عكرمة: هو المؤذن. قال أبو أمامة الباهلي: " * (وعمل صالحا) *) يعني صلى ركعتين بين الآذان والإقامة
296

أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا حاجب بن أحمد بن يرحم بن سفيان، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا وكيع، حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصاني عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة خ قالت: إني لأرى هذه الآية نزلت " * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) *).. الآية في المؤذنين.
وروى جرير بن عبد الحميد عن فضيل بن رفيدة، قال: كنت مؤذنا في زمن أصحاب عبد الله، فقال لي عاصم بن هبيرة: إذا أذنت وفرغت من آذانك، فقل: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، وأنا من المسلمين، ثم أقرأ هذه الآية: " * (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) *) قال الفراء: " * (ولا) *) هاهنا صلة معناه ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، وأنشده:
ما كان يرضي رسول الله فعلهما
والطيبان أبو بكر وعمر
أي أبو بكر وعمر ذ.
" * (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) *) قريب صديق، قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار له وليا، بعد أن كان عدوا. نظيره قوله تعالى: " * (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) *)، قال ابن عباس: أمر الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم.
" * (وما يلقاها) *) يعني هذه الخصلة والفعلة. " * (إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) *) في الخير والثواب، وقيل: ذو حظ. " * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع) *) لإستعاذتك وأقوالك. " * (العليم) *) بأفعالك وأحوالك.
" * (ومن آياته اليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدواالله الذي خلقهن) *) إنما قال خلقهن بالتأنيث لإنه أجرى على طريق جمع التكسير، ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث؛ لأنه فيما لا يعقل. " * (إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا) *) عن السجود. " * (فالذين عند ربك) *) يعني الملائكة. " * (يسبحون له باليل والنهار وهم لا يسئمون) *). لقوله تعالى: " * (لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه، وله يسجدون) *).
" * (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة) *) يابسة دارسة لا نبات فيها. " * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير إن الذين يلحدون في آياتنا) *) أي يميلون عن الحق في أدلتنا.
297

قال ابن عباس: هو تبديل الكلام ووضعه في غير موضعه، وقال مجاهد: " * (يلحدون في آياتنا) *) بالمكاء والتصدية واللغو واللغط. قتادة: يعني يكذبون في آياتنا. السدي: يعاندون ويشاققون. ابن زيد: يشركون ويكذبون. قال مقاتل: نزلت في أبي جهل لعنه الله.
" * (لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار) *) أبو جهل. " * (خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة) *) عثمان بن عفان وقيل: عمار بن ياسر " * (اعملوا ما شئتم) *) أمر وعيد وتهديد " * (إنه بما تعملون بصير) *) عالم فيجاز بكم به.
" * (إن الذين كفروا بالذكر) *) بالقرآن. " * (لما جاءهم) *) حين جاءهم. " * (وإنه لكتاب عزيز) *) كريم على الله عن ابن عباس، وقال مقاتل: منيع من الشيطان والباطل. السدي: غير مخلوق. " * (لا يأتيه الباطل) *) قال قتادة والسدي: يعني الشيطان. " * (من بين يديه ولا من خلفه) *). فلا يستطيع أن يغير أو يزيد أو ينقص، وقال سعيد بن جبير: يعني لا يأتيه النكير من بين يديه ولا من خلفه، وقيل: لا يأتيه ما يبطله أو يكذبه من الكتب المتقدمة، بل هو موافق لها مصدق ولا يجي بعده كتاب يبطله وينسخه، بل هو موافق لها مصدق. عن الكلبي. " * (تنزيل من حكيم حميد ما يقال لك) *) من الأذى. " * (إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) *) يعزي نبيهصلى الله عليه وسلم " * (إن ربك لذو مغفرة) *) لمن تاب. " * (وذو عقاب أليم) *) لمن أصر.
" * (ولو جعلناه قرآنا أعجميا) *) بغير لغة العرب. " * (لقالوا لولا فصلت) *) بينت. " * (آياته) *) بلغتنا حتى نفقهها، فإنا قوم عرب، ما لنا وللأعجمية. " * (أأعجمي وعربي) *) يعني أكتاب أعجمي ونبي عربي. قال مقاتل: وذلك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسار غلام ابن الحضرمي وكان يهوديا أعجميا ويكنى (أبا فكيهة)، فقال المشركون: إنما يعلمه يسار، فأخذه سيده عامر بن الحضرمي، وضربه، وقال: إنك تعلم محمدا. فقال يسار: هو يعلمني. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقرأ الحسن: أعجمي بهمزة واحدة على الخبر، وكذلك رواه هشام عن أهل الشام.
ووجهه ما روى جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير، قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا حتى تكون بعض آياته أعجميا وبعضها عربيا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل في القرآن بكل لسان، فمنه السجيل، وهي فارسية عربت سنك وكل، والقراءة الصحيحة قراءة العامة بالاستفهام على التأويل الأول.
" * (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى) *) أخبرنا محمد بن نعيم، أخبرنا الحسين بن الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا القاسم بن سلام، حدثنا حجاج بن أيوب، عن شعبة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سلمان بن قتيبة، عن ابن عباس ومعاوية وعمرو ابن العاص، إنهم كانوا يقرأون هذه الحروف بكسر الميم
298

" * (وهو عليهم عمى) *)، وقرأه الباقين بفتح الميم على المصدر، وإختاره أبو عبيد، قال: لقوله: " * (هدى وشفاء) *) فكذلك " * (عمى) *) مصدر مثلها، ولو إنها هاد وشاف لكان الكسر في عمى أجود ليكون نعتا مثلهما.
" * (أولئك ينادون من مكان بعيد) *) قال بعض أهل المعاني: قوله: " * (أولئك ينادون من مكان بعيد) *) خبر لقوله: " * (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) *)، وحديث عن محمد بن جرير، قال: حدثني شيخ من أهل العلم، قال: سمعت عيسى بن عمر سأل عمرو بن عبيد " * (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) *)، أين خبره؟ فقال عمرو: معناه في التفسير " * (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به وإنه لكتاب عزيز) *) فقال عيسى بن عمر: أجدت يا أبا عثمان.
وقوله تعالى: " * (ينادون من مكان بعيد) *) مثل لقلت إستماعهم وانتفاعهم بما يوعظون به، كأنهم ينادون إلى الإيمان وبالقرآن من حيث لا يسمعون لبعد المسافة.
" * (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه) *) فمؤمن به وكافر، ومصدق ومكذب. كما أختلف قومك في كتابك. " * (ولولا كلمة سبقت من ربك) *) في تأخير العذاب. " * (لقضي بينهم) *) من عذابهم وعجل إهلاكهم.
" * (وإنهم لفي شك منه مريب من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد إليه يرد علم الساعة) *) فإنه لا يعلمه غيره، وذلك إن المشركين، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لئن كنت نبيا، فأخبرنا عن الساعة متى قيامها؟، ولئن كنت لا تعلم ذلك فإنك لست بنبي. فانزل الله تعالى هذه الآية.
" * (وما تخرج من ثمرات) *) من صلة ثمرات، بالجمع أهل المدينة والشام، غيرهم ثمرة على واحدة. " * (من أكمامها) *) أوعيتها، واحدتها كمة، وهي كل ظرف لمال أو وغيره، وكذلك سمي قشرة الكفري، أي الذي ينشق عن الثمرة كمه. قال ابن عباس: يعني الكفري قبل أن ينشق، فإذا أنشقت فليست بأكمام. " * (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) *) يقول إليه يرد علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنتاج.
" * (ويوم يناديهم) *) يعني ينادي الله تعالى المشركين. " * (أين شركاءي) *) الذين تزعمون في الدنيا إنها آلهة. " * (قالوا) *) يعني المشركين، وقيل: الأصنام، يحتمل أن يكون القول راجعا إلى العابدين وإلى المعبودين أيضا " * (آذناك) *) أعلمناك وقيل: أسمعناك. " * (ما منا من شهيد) *) شاهد إن لك شريك لما عاينوا القيامة تبرؤا من الأصنام، وتبرأ الأصنام منهم " * (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل) *) في الدنيا.
" * (وظنوا) *) أيقنوا. " * (ما لهم من محيص) *) مهرب، و " * (ما) *) هاهنا حرف وليس باسم، فلذلك لم يعمل فيه الظن، وجعل الفعل ملقى
299

" * (لا يسأم) *) يمل. " * (الإنسان) *) يعني الكافر. " * (من دعاء الخير) *) أي من دعائه بالخير ومسألته ربه، ودليل هذا التأويل، قراءة عبد الله " * (لا يسأم الإنسان) *) من دعائه بالخير، أي بالصحة والمال. " * (وإن مسه الشر فيؤس) *) من روح الله. " * (قنوط) *) من رحمته. " * (ولئن أذقناه رحمة) *) عافية ونعمة. " * (منا من بعد ضراء مسته) *) شدة وبلاء أصابته. " * (ليقولن هذا لي) *) أي بعملي، وأنا محقوق بهذا.
" * (وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) *) أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان، حدثنا عبد الله بن ثابت، حدثنا أبو سعيد الكندي، حدثنا أحمد بن بشر، عن أبي شرمة، عن الحسن بن محمد بن علي أبي طالب، قال: الكافر في أمنيتين، أما في الدنيا، فيقول: لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى، وأما في الآخرة، فيقول يا ليتني كنت ترابا.
" * (فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ) *) شديد.
" * (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) *) كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض كلاهما في الكثرة، يقال: أطال فلان الكلام والدعاء، وأعرض إذا أكثر.
" * (قل أرأيتم إن كان) *) القرآن. " * (من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق) *) قال ابن عباس: يعني منازل الأمم الخالية. " * (وفي أنفسهم) *) بالبلاء والأمراض، وقال المنهال والسدي: في الآفاق يعني ما يفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم من الآفاق، وفي أنفسهم: مكة، وقال قتادة: في الآفاق يعني وقائع الله تعالى في الأمم، وفي أنفسهم، يوم بدر. عطاء وابن زيد: في الآفاق يعني أقطار الأرض والسماء من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والأنهار والبحار والأمطار، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، وسبيل الغائط والبول، حتى إن الرجل ليأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج ما يأكل ويشرب من مكانين.
" * (حتى يتبين لهم الحق) *) يعني إن ما نريهم ونفعل من ذلك هو الحق، وقيل: إنه يعني الإسلام، وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: القرآن " * (أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط) *))
.
300

((سورة الشورى))
سورة " * (حم عسق) *) مكية، وهي ثلاث وخمسون آية، وثمانمائة وست وستون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا
أخبرنا سعيد بن محمد بن محمد المقري، أخبرنا محمد بن جعفر بن محمد الحبري، حدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي، حدثنا سلام بن سليم المدائني، حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة الباهلي عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة " * (حم. عسق) *) كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (حم * عسق * كذلك يوحىإليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم * له ما فى السماوات وما فى الارض وهو العلى العظيم * تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الارض ألا إن الله هو الغفور الرحيم * والذين اتخذوا من دونه أوليآء الله حفيظ عليهم ومآ أنت عليهم بوكيل * وكذلك أوحينآ إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق فى الجنة وفريق فى السعير) *) 2
" * (حم عسق) *) سمعت أبا إسحاق يقول: سمعت أبا عثمان بن أبي بكر المقري الزعفراني، يقول: سمعت شيخي يقول: سمعت أبا بكر المؤمن يقول: سألت الحسين بن الفضل لم قطع " * (حم عسق) *) ولم تقطع * (كهيعص) * * (والمر) *) و " * (المص) *)؟.
قال: لكونها من سور أوائلها " * (حم) *)، فجرت مجرى نظائرها، قبلها وبعدها، وكان " * (حم) *) مبتدأ، و " * (عسق) *) خبره، ولأنها آيتان، وعدت أخواتها التي كتبت موصولة آية واحدة.
وقيل: لأن أهل التأويل لم يختلفوا في " * (كهيعص) *) وأخواتها، إنها حروف التهجي لا غيره، واختلفوا في " * (حم) *)، فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلوها فعلا، وقالوا، معناه " * (حم) *)، أي قضي ما هو كائن إلى يوم القيامة
301

فأما تفسيرها أخبرنا عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه: إن أبا الفرج المعافى بن زكريا القاضي، أخبرهم عن محمد بن جرير، حدثني أحمد، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، عن أرطأة بن المنذر، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال له وعنده حذيفة بن اليمان: أخبرني عن تفسير قول الله تعالى: " * (حم عسق) *) قال: فأطرق ثم أعرض عنه، ثم كرر مقالته، فلم يجيبه بشيء، وكرر مقالته، ثم كرر الثالثة، فلم يجيبه شيئا، فقال له حذيفة: أنا
أنبئك بها، قد عرفت لم كرهها، نزلت في رجل من أهل بيته، يقال له: عبد الاله أو عبد الله، ينزل على نهر من أنهار المشرق، يبني عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا، فإذا أذن الله تعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم، بعث الله تعالى على إحداهما نارا ليلا، فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كلها لم تكن مكانها، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجمع فيها كل جبار عنيد منهم، ثم يخسف الله تعالى بها وبهم جميعا، فذلك قوله تعالى: " * (حم عسق) *). يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء " * (حم عسق) *) عدلا منه، سين سيكون فتنة، قاف واقع بهما بهاتين المدينتين.
ونظير هذا التفسير ما أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن، حدثنا عبد الله بن مخلد، حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي، حدثنا عمار بن سيف الضبي أبو عبد الرحمن، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي عن جرير بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة تجتمع فيها جبابرة أهل الأرض، تجبى إليها الخزائن، يخسف بها، وقال مرة: يخسف بأهلها، فلهي أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة.
وذكر عن ابن عباس إنه كان يقرأ (حم سق) بغير عين، ويقال: إن السين فيها كل فرقة كائنة، وإن القاف كل جماعة كائنة، ويقول: إن عليا إنما كان يعلم الفتن بهما، وكذلك هو في مصحف عبد الله (حم سق).
وقال عكرمة: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: " * (حم عسق) *).
فقال: (ح) حلمه، (م) مجده، (عين) علمه، (سين) سناه، (ق) قدرته، أقسم الله تعالى بها.
وفي رواية أبي الجوزاء إن ابن عباس، قال لنافع: (عين) فيها عذاب، (سين) فيها مسخ، (ق) فيها قذف. يدل عليه ما روي في حديث مرفوع إن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجهه، فقيل له: ما هذه الكآبة يا رسول الله؟ قال: أخبرت ببلاء ينزل في أمتي. من خسف ومسخ وقذف، ونار تحشرهم وريح تقذفهم في اليم، وآيات متتابعات متصلة بنزول عيسى (عليه السلام)، وخروج الدجال.
302

وقال شهر بن حوشب وعطاء بن أبي رباح: (ح) حرب يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز في قريش، ثم تقضى إلى العرب، ثم تقضى إلى العجم، ثم تمتد إلى خروج الدجال.
وقال عطاء: (ح) حرب في أهل مكة يجحف بهم حتى يأكلون الجيف وعظام الموتى، (م) ملك يتحول من قوم إلى قوم (ع) عدو لقريش قصدهم، (س) سئ يكون فيهم، (ق) قدرة الله النافذة في خلقه.
وقال بكر بن عبد الله المزني: (ح) حرب تكون بين قريش والموالي، فتكون الغلبة لقريش على الموالي، (م) ملك بني أمية، (ع) علو ولد العباس، (سين) سناء المهدي (ق) قوة عيسى (عليه السلام) حين ينزل، فيقتل النصارى ويخرب البيع.
وقال محمد بن كعب: أقسم الله بحلمه ومجده وعلوه وسناءه وقدرته، أن لا يعذب من عاد إليه بلا إله إلا الله مخلصا له من قلبه، وقال جعفر بن محمد وسعيد بن جبير: (ح) من رحمن، (م) من مجيد، (عين) من عالم، (سين) من قدوس، (ق) من قاهر.
السدي: هو من الهجاء المقطع، (عين) من العزيز، (سين) من السلام، (ق) من القادر.
وقيل: هذا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم (فالحاء) حوضه المورود، و (الميم) ملكة الممدود، و (العين) عزه الموجود، و (السين) سناؤه المشهود، و (القاف) قيامه في المقام المحمود، وقربه في الكرامة إلى المعبود.
وقال ابن عباس: ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحيت " * (حم عسق) *) إليه، فلذلك، قال: " * (كذلك يوحي إليك) *) قرأ ابن كثير بفتح الحاء ومثله روى عباس، عن ابن عمرو ورفع الاسم بالبيان، كأنه قال: يوحي إليك.
قيل: من الذي يوحي؟ قال: الله، وهي كقراءة من قرأ " * (يسبح له فيها) *) بفتح الباء، الباقون بكسره.
" * (وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم) *) وقال مقاتل: نزل حكمها على الأنبياء (عليهما السلام) * * (له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن) *) أي من عظمة الله وجلاله فوقهن.
قال ابن عباس: تكاد السماوات كل واحدة منها تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين، " * (أتخذ الله ولدا) *): نظيره قوله: " * (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال
303

هدا إن دعوا للرحمان ولدا) *). " * (والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض) *) من المؤمنين بيانها ويستغفرون للذين آمنوا " * (ألا إن الله هو الغفور الرحيم) *).
قال الحكماء: وعظم في الابتداء، ثم بشر وألطف في الانتهاء.
" * (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم) *) يحفظ أعمالهم ويحصي عليهم أفعالهم ليجازيهم بها " * (وما أنت عليهم بوكيل) *) إن عليك إلا البلاغ. " * (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى) *) مكة، يعني أهلها. " * (ومن حولها وتنذر يوم الجمع) *) أي بيوم الجمع. " * (لا ريب فيه فريق) *) أي منهم فريق " * (في الجنة) *) فضلا وهم المؤمنون. " * (وفريق في السعير) *) عدلا وهم الكافرون.
أخبرنا الإمام أبو منصور الجمشاذي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو عثمان سعيد ابن عثمان بن حبيب السوحي، حدثنا بشر بن مطر، حدثني سعيد بن عثمان، عن أبي راهويه جدير بن كريب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفضل عبد الله على أبيه أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، حدثني أبي، حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا ليث، حدثني أبو قبيل حي بن هانئ المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، قابضا على كفيه ومعه كتابان، فقال: (أتدرون ما هذان الكتابان)؟، قلنا: لا يا رسول الله.
فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزايد فيهم، ولا ناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة)، ثم قال للذي في يساره: (هذا كتاب من رب العالمين، بأسماء أهل النار وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم، قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزايد فيهم ولا ناقص منهم، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة). فقال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل؟، إذ قال: (اعملوا وسددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وأن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل، أي عمل).
ثم قال: " * (فريق في الجنة وفريق في السعير) *) عدل من الله تعالى.
" * (
ولو شآء الله لجعلهم أمة واحدة ولاكن يدخل من يشآء فى رحمته والظالمون ما لهم من ولى ولا نصير
304

أم اتخذوا من دونه أوليآء فالله هو الولى وهو يحى الموتى وهو على كل شىء قدير * وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربى عليه توكلت وإليه أنيب * فاطر السماوات والارض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الانعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير * له مقليد السماوات والارض يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه بكل شىء عليم * شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبىإليه من يشآء ويهدىإليه من ينيب * وما تفرقوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفى شك منه مريب * فلذلك فادع واستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم وقل ءامنت بمآ أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير * والذين يحآجون فى الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد * الله الذىأنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب * يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون فى الساعة لفى ضلال بعيد * الله لطيف بعباده يرزق من يشآء وهو القوى العزيز * من كان يريد حرث الاخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الاخرة من نصيب * أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم * ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى روضات الجنات لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير) *) 2
" * (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) *) على ملة واحدة.) * " * (ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون) *) الكافرون. " * (ما لهم من ولي ولا نصير أم أتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي) *) لا سواه. " * (وهو يحي الموتى) *) مجازه: لأنه يحيي الموتى. " * (وهو على كل شيء) *) في الدين. " * (قدير وما اختلفتم فيه من شيء) *) في الدين. " * (فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا) *) حلائل وإنما قال " * (من أنفسكم) *) لأنه خلق حواء من ضلع آدم " * (ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم) *) يخلقكم ويعيشكم " * (فيه) *) أي في الرحم، وقيل: في البطن، وقيل: في الروح، وقيل: في هذا الوجه من الخليقة.
قال مجاهد: نسلا بعد نسل، ومن الأنعام، وقيل: " * (في) *) بمعنى الباء، أي يذرؤكم فيه، قال ابن كيسان: يكثركم.
" * (ليس كمثله شيء) *) المثل صلة ومجازه: ليس كهو شيء، فأدخل المثل توكيدا للكلام،
305

كقوله: " * (فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به) *) وفي حرف ابن مسعود، " * (فإن آمنوا بما أمنتم به) *) وقال أوس بن حجر:
وقتلى كمثل جذوع النخيل
يغشاهم مطر منهمر
أي كجذوع، وقال (آخر) سعد بن زيد:
إذا أبصرت فضلهم
كمثلهم في الناس من أحد
وقال آخر:
ليس كمثل الفتى زهير
خلق يوازيه في الفضائل
وقيل: (الكاف) صلة مجازه: ليس مثله، كقول الراجز:
وصاليات ككما (يؤفين)
فأدخل على الكاف كافا تأكيدا للتشبيه، وقال آخر:
(تنفي الغياديق على الطريق
قلص عن كبيضة في نيق (
فأدخل الكاف مع عن.
" * (وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) *) وهو أول أنبياء الشريعة.
" * (والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) *) فاختلفوا في وجه الآية،) * فقال قتادة: تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقال الحكم: تحريم الأخوات والأمهات والبنات، وقال مجاهد: لم يبعث الله تعالى نبيا إلا أوصاه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والاقرار لله بالطاعة. فذلك دينه الذي شرع لهم، وهي رواية الوالي عن ابن عباس، وقيل: الدين التوحيد، وقيل: هو قوله: " * (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) *) بعث الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة. " * (كبر على المشركين ما تدعوهم) *) من التوحيد ورفض الأوثان. ثم قال عز من قائل: " * (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) *) فيستخلصه لدينه.
" * (وما تفرقوا) *) يعني أهل الأديان المختلفة، وقال ابن عباس: يعني أهل الكتاب. دليله
306

ونظيره في سورة المنفكين * (إلا من بعد ما جاءتهم البينة) * * (إلا من بعد ما جاءهم العلم) *) من قبل بعث محمد وصفته. " * (بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك) *) تأخير العذاب. " * (إلى أجل مسمى) *) وهو يوم القيامة. " * (لقضي بينهم) *) بالعذاب. " * (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم) *) يعني من بعد الأمم الخالية، وقال مجاهد: معناه من قبلهم أي من قبل مشركي مكة وهم اليهود والنصارى. " * (لفي شك منه مريب فلذلك) *) أي فإلى ذلك الذين أوتوا الكتاب. " * (فادع) *) كقوله: " * (بأن ربك أوحى لها) *) أي إليها " * (واستقم كما أمرت) *) أثبت على الدين الذي به أمرت " * (ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم) *) أي أن أعدل أو كي أعدل، كقوله: " * (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) *).
قال ابن عباس: لأسوي بينكم في الدين، وأؤمن بكل كتاب وكل رسول، وقال غيره: لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء. قال قتادة: أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يعدل، فعدل حتى مات، والعدل ميزان الله تعالى في الأرض،) * وذكر لنا إن داود (عليه السلام)، قال: ثلاث من كن فيه فهو الفائز: القصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب، والحسنة في السر والعلانية، وثلاث من كن فيه أهانته: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وأربع من أعطيهن، فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: لسان ذاكر، وقلب شاكر، وبدن صابر، وزوجة مؤمنة.
" * (الله ربنا ورربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة) *) لا خصومة. " * (بيننا وبينكم) *) نسختها آية القتال. " * (الله يجمع بيننا) *) لفصل القضاء. " * (وإليه المصير والذين يحاجون) *) يخاصمون. " * (في الله) *) في دين الله نبيه. " * (من بعد ما استجيب له) *) أي من بعد ما استجاب له الناس، فاسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته، وقيام حجته. " * (حجتهم داحضة) *) باطلة زائلة. " * (عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) *) قال مجاهد: نزلت في اليهود والنصارى. قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم وأولى بالحق.
" * (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) *) أي العدل عن ابن عباس وأكثر المفسرين. مجاهد: هو الذي يوزن به، ومعنى إنزال الميزان: إلهامه الخلق للعمل به، وأمره بالعدل والإنصاف، كقوله: " * (قد أنزلنا عليكم لباسا) *).
وقال علقمة: الميزان محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بالكتاب. " * (وما يدريك لعل الساعة قريب) *)
307

ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي، ومجازها الوقت، وقال الكسائي: إيتائها قريب.
" * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) *) ظنا منهم إنها غير جائية. " * (والذين آمنوا مشفقون منها) *) خائفون منها. " * (ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد الله لطيف بعباده) *) قال ابن عباس: حفي بهم. عكرمة: بار بهم. السدي: رقيق. مقاتل: لطيف بالبر والفاجر منهم، حيث لم يقتلهم جوعا بمعاصيهم. القرظي:) * لطيف بهم في العرض والمحاسبة.
قال الخوافي: غدا عند مولى الخلق، للخلق موقف يسألهم فيه الجليل، فيلطف بهم الصادق في الرزق من وجهين: أحدهما: إنه جعل رزقك من الطيبات، والثاني: إنه لم يدفعه إليك بمرة واحدة، وقيل: الرضا بالتضعيف. الحسين بن الفضل: في القرآن وتيسيره.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عاد البغدادي يقول: سئل جنيد عن اللطيف، فقال: هو الذي لطف بأوليائه حتى عرفوه، فعبدوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه.
وقال محمد بن علي الكتاني: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا أيس من الخلق، توكل عليه ورجع إليه فحينئذ يقبله ويقبل عليه، وفي هذا المعنى أنشدنا أبو إسحاق الثعلبي، قال: أنشدني أبو القاسم الحبيبي. قال أنشدني أبي، قال: أنشدني أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي:
أمر بافناء القبور كأنني
أخو فطنة والثوب فيه نحيف
ومن شق فاه الله قدر رزقه
وربي بمن يلجأ إليه لطيف
وقيل: اللطيف الذي ينشر من عباده المناقب، ويستر عليه المثالب، وقيل: هو الذي يقبل القليل، ويبذل الجزيل، وقيل: هو الذي يجبر الكسير، وييسر العسير، وقيل: هو الذي لا ييأس أحد في الدنيا من رزقه، ولا ييأس مؤمن في العفو من رحمته.
وقيل: هو الذي لا يخاف إلا عدله، ولا يرجى إلا فضله، وقيل: هو الذي يبذل لعبده النعمة، فوق الهمة ويكلفه الطاعة دون الطاقة، وقيل: هو الذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه، وقيل: هو الذي لا يرد سائله ولا يؤيس آمله، وقيل: هو الذي يعفو عمن يهفو، وقيل: هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه، وقيل: هو الذي يعين على الخدمة، ثم يكثر المدحة، وقيل: هو الذي أوقد في أسرار عارفيه من المشاهدة سراجا، وجعل الصراط المستقيم لها منهاجا، وأنزل عليهم من سحائب بره ماءا ثجاجا.
308

" * (يرزق من يشاء) *) كما يشاء من شاء موسعا، ومن شاء مقترا، ومن شاء قليلا ومن شاء كثيرا، ومن شاء حلالا، ومن شاء حراما، ومن شاء في خفض ودعه، ومن شاء في كد وعناء، ومن شاء في بلده ومن شاء في الغربة، ومن شاء بحساب ومن شاء بغير حساب.
" * (وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة) *) يعني يريد بعمله الآخرة. " * (نزد له في حرثه) *) بالتضعيف بالواحدة عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة.) * " * (ومن كان يريد حرث الدنيا) *) يعني يريد بعمله الدنيا " * (نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) *).
قال قتادة: يقول: من عمل لآخرته نزد له في حرثه، ومن آثر دنياه على آخرته، لم يجعل الله له نصيبا في الآخرة إلا النار، ولم يصب من الدنيا إلا رزق قد فرغ منه وقسم له.
أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، حدثنا الحسين بن إدريس، حدثنا سويد بن نصير، أخبرنا عبد بن المبارك عن أبي سنان الشيباني، إن عمر بن الخطاب ح، قال: الأعمال على أربعة وجوه: عامل صالح في سببيل هدى يريد به دنيا، فليس له في الآخرة شيء، ذلك بأن تعالى، قال: " * (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها..) *) الآية، وعامل الرياء ليس له ثواب في الدنيا والآخرة إلا الويل، وعامل صالح في سبيل هدى يبتغي به وجه الله والدار الآخرة، فله الجنة في الآخرة، معها (نعاته) في الدنيا، وعامل خطأ وذنوب ثوابه عقوبة الله، إلا أن يعفوا فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
" * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل) *) يوم القيامة، حيث قال: * (بل الساعة موعدهم) * * (لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين) *) المشركين يوم القيامة " * (مشفقين) *) وجلين. " * (مما كسبوا وهو واقع بهم) *) أي نازل بهم لا محالة. " * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير) *))
.
* (ذلك الذى يبشر الله عباده الذين ءامنوا وعملوا الصالحات قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور) *) 2
" * (ذلك الذي) *) ذكرت من نعيم الجنات. " * (يبشر الله) *) به. " * (عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *) فإنهم أهله.
309

" * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) *) قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق، وليس في يديه سعة لذلك، قالت الأنصار: إن هذا الرجل قد هداكم الله به، وهو ابن أختكم، منوبة به. فقالوا له: يا رسول الله إنك ابن أختنا، وقد هدانا الله على يديك، وتنوبك نوائب وحقوق، ولست لك عندها سعة، فرأينا أن نجمع لك من أموالنا، فنأتيك به، فتستعين به على ما ينوبك وها هو ذا، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: اجتمع المشركون في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يحثهم على مودته، ومودة أقربائه، وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية والتنزيل؛ لأن هذه السورة مكية، واختلف العلماء في معنى الآية.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه بقراءتي عليه، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، حدثنا أبو بكر الأزدي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا قزعة بن سويد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا أسألكم على ما أتيتكم من البينات والهدى أجرا إلا أن تودوا الله تعالى، وتقربوا إليه بطاعته).
وإلى هذا ذهب الحسن البصري، فقال: هو القربى إلى الله تعالى، يقول إلا التقرب إلى الله تعالى والتودد إليه بالطاعة والعمل الصالح، وروى طاووس والشعبي والوالبي والعوفي عن ابن عباس، قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله وبينهم قرابة، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه، أنزل الله تعالى، " * (قل لا
أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) *) يعني أن تحفظوني وتودوني وتصلوا رحمي، فقال رسول الله: (إذا أبيتم أن تبايعوني، فاحفظوا قرابتي فيكم ولا تؤذوني، فإنكم قومي وأحق من أطاعني وأجابني).
وإليه ذهب أبو مالك وعكرمة ومجاهد والسدي والضحاك وابن زيد وقتادة، وقال بعضهم: معناه إلا أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم، وهو قول سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب.
ثم اختلفوا في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أمر الله تعالى بمودتهم. أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه الثقفي العدل، حدثنا برهان بن علي الصوفي، حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي، حدثنا حرب بن الحسن الطحان، حدثنا حسين الأشقر، عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت " * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) *) قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟
قال: (علي وفاطمة وأبناءهما)، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو منصور
310

الجمشاذي، قال: حدثني أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر بن مالك، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عبيد الله بن عائشة، حدثنا إسماعيل بن عمرو، عن عمر بن موسى، عن زيد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب ح، قال: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي). فقال: (أما ترضى أن تكون رابع أربعة، أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمالنا، وذريتنا خلف أزواجنا وشيعتنا من ورائنا).
حدثنا أبو منصور الجمشاذي، حدثنا أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد، حدثنا أبو العباس محمد بن همام، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن رزين، حدثنا حسان بن حسان، حدثنا حماد بن سلمة ابن أخت حميد الطويل، عن علي بن زيد بن جدعان، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال لفاطمة: (أئتيني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم، فالقى عليهم كساء فدكيا، ثم رفع يديه عليهم، فقال: اللهم هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد، فإنك حميد مجيد). قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فاجتذبه وقال: (إنك على خير)..
وروى أبو حازم عن أبي هريرة، قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: (أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم).
أخبرنا عقيل بن محمد، أخبرنا المعافا بن زكريا بن المبتلي، حدثنا محمد بن جرير، حدثني محمد بن عمارة، حدثنا إسماعيل بن أبان، حدثنا الصياح بن يحيى المزني، عن السدي، عن أبي الديلم، قال: لما جيء بعلي بن الحسين أسيرا فأقيم على درج دمشق، وقام رجل من أهل الشام، فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة، فقال علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟
قال: نعم. قال: قرأت أل حم؟ قال: قرأت القرآن، ولم أقرأ أل حم. قال: ما قرأت " * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) *). قال: وإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم).
أخبرنا الحسين بن العلوي الوصي، حدثنا أحمد بن علي بن مهدي، حدثني أبي، حدثنا علي بن موسى الرضا، حدثني أبي موسى بن جعفر، حدثنا أبي جعفر بن محمد الصادق، قال: كان نقش خاتم أبي محمد بن علي: ظني بالله حسن وبالنبي المؤتمن وبالوصي ذي المنن والحسين والحسن. أنشدنا محمد بن القاسم الماوردي، أنشدني محمد بن عبد الرحمن
311

الزعفراني، أنشدني أحمد بن إبراهيم الجرجاني، قال: أنشدني منصور الفقيه لنفسه:
إن كان حبي خمسة
زكت بهم فرائضي
وبغض من عاداهم
رفضا فإني رافضي
وقيل: هم ولد عبد المطلب. يدل عليه ما حدثنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي، حدثنا أبو الحسن المحمودي، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمران الأرسابندي حدثنا هدية بن عبد الوهاب، حدثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن زياد اليمامي، عن إسحاق بن أبي عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة، أنا وحمزة وجعفر وعلي والحسن والحسين والمهدي).
علي بن موسى الرضا: حدثني أبي موسى بن جعفر، حدثني أبي جعفر بن محمد، حدثني أبي محمد بن علي، حدثني أبي علي بن الحسين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها، فأنا أجازيه غدا إذا لقيني في يوم القيامة).
وقيل: الذين تحرم عليهم الصدقة ويقسم فيهم الخمس وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب الذين لم يقترفوا في جاهلية ولا إسلام. يدل عليه قوله تعالى: " * (واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) *)، وقوله: " * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى) *)، وقوله: " * (وآت ذي القربى حقه) *).
أخبرنا عقيل بن محمد إجازة، أخبرنا أبو الفرج البغدادي، حدثنا محمد بن جدير، حدثنا أبو كرير، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا عبد السلم حدثني يزيد بن أبي زياد
عن مقسم عن ابن عباس، قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا فكأنهم مخزوك، فقال ابن عباس أو العباس: شل عبد السلم لنا الفضل عليكم. (فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم. فقال: (يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟). قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟). قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (أفلا تجيبوني؟). قالوا: ما نقول يا رسول
312

الله؟. فقال: (ألا تقولون، ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذبوك فصدقناك، أو لم يخذلوك فنصرناك؟).
قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله تعالى ولرسوله. قال: فنزلت " * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) *).
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا محمد بن عبد الله بن حمزة، حدثنا عبيد بن شريك البزاز، حدثنا سلمان بن عبد الرحمن بن بنت شرحبيل، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا يحيى بن بشير الأسدي، عن صالح بن حيان الفزاري عبد الله بن شداد بن الهاد عن العباس ابن عبد المطلب إنه، قال: يا رسول الله ما بال قريش يلقى بعضهم بعضا بوجوه تكاد أن تسايل من الود، ويلقوننا بوجوه قاطبة، تعني باسرة عابسة، فقال رسول الله (عليه السلام): (أو يفعلون ذلك؟). قال: نعم، والذي بعثك بالحق. فقال: (أما والذي بعثني بالحق، لا يؤمنوا حتى يحبوكم لي).
وقال قوم: هذه الآية منسوخة فإنما نزلت بمكة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمرهم فيها بمودة رسول الله وصلة رحمه. فلما هاجر إلى المدينة وآواه الأنصار وعزروه ونصروه أحب الله تعالى أن يلحقه بإخوانه من الأنبياء (عليهم السلام) حيث قالوا: " * (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) *)، فأنزل الله تعالى عليه " * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله) *)، فهي منسوخة بهذه الآية وبقوله: " * (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) *)، وقوله: " * (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين) *)، وقوله: " * (أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير) *)، وقوله: " * (أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون) *) وإلى هذا ذهب الضحاك بن مزاحم والحسين بن الفضل.
وهذا قول غير قوي ولا مرضي، لأن ما حكينا من أقاويل أهل التأويل في هذه الآية لا يجوز أن يكون واحد منها منسوخا، وكفى فتحا بقول من زعم إن التقرب إلى الله تعالى بطاعته ومودة نبيه وأهل بيته منسوخ
313

والدليل على صحة مذهبنا فيه، ما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الأصبهاني، أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين البلخي، حدثنا يعقوب بن يوسف بن إسحاق، حدثنا محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا يعلي بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من مات على حب آل محمد مات شهيد، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكرا ونكيرا، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله تعالى زوار قبره ملائكة الرحمن، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان من الجنة. ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة).
" * (ومن يقترف حسنة) *) يكتسب طاعة. " * (نزد له فيها حسنا) *) بالضعف. " * (إن الله غفور شكور) *). أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا ابن حنش المقري، حدثنا أبو القاسم بن الفضل، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا إسماعيل بن موسى، حدثنا الحكم بن طهر، عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله: " * (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) *)، قال: المودة لآل محمد صلى الله عليه وسلم
2 (* (أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور * وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد * ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الارض ولاكن ينزل بقدر ما يشآء إنه بعباده خبير بصير * وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولى الحميد) *) 2
" * (أم يقولون) *) يعني كفار مكة. " * (أفترى على الله كذبا. فأن يشإ الله يختم على قلبك) *). قال مجاهد: يعني يربط عليه بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم، وقال قتادة: يعني يطبع على قلبك فينسيك للقرآن، فأخبرهم إنه لو افترى على الله لفعل به ما أخبرهم في الآية.
ثم ابتدأ، فقال عز من قائل: " * (ويمح الله الباطل) *). قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير
314

مجازه: الله يمحو الباطل. فحذفت منه الواو في المصحف، وهو في وضع رفع كما حذفت من قوله: * (ويدع الإنسان) * * (سندع الزبانية) *) على اللفظ.
* (ويحق الحق بكلماته) * * (إنه عليم بذات الصدور) *) قال ابن عباس: لما نزلت " * (لا أسألكم عليه أجرا...) *) وقع في قلوب قوم منها شيء، وقالوا: ما يريد إلا أن يحثنا على أقاربه من بعده. ثم خرجوا، فنزل جبريل (عليه السلام) فأخبره إنهم اتهموه وأنزل هذه الآية، فقال القوم: يا رسول الله فإنا نشهد إنك صادق، فنزل " * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) *) واختلفت عبارات العلماء في حقيقة التوبة وشرائطها.
أخبرنا الإمام أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب بقراءته علي. في شهور سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، حدثنا محمد بن سليمان بن منصور، حدثنا محمد مسكان بن جبلة بساوة. أخبرنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبي داود عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال: دخل إعرابي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إني استغفرك وأتوب إليك، سريعا وكبر، فلما فرغ من صلاته قال له علي: يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة، قال: يا أمير المؤمنين وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معاني: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس
في الطاعة كما أذبتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن، يقول: سمعت إبراهيم بن يزيد، يقول: سمعت حسن بن محمد الترمذي يقول: قيل لأبي بكر محمد بن عمر الوراق: متى يكون الرجل تائبا؟ فقال: إذا رجع إلى الله فراقبه واستحياه وخاف نقمته فيما عصاه، وألتجاء إلى رحمته فرجاه، وذكر حلمه في ستره فأبكاه، وندم على مكروه أتاه، وشكر ربه على ما أتاه، وفهم عن الله وعظه فوعاه، وحفظ عهده فيما أوصاه.
وسمعت الحسن بن محمد بن حبيب، يقول: سمعت أبا منصور محمد بن محمد بن سمعان المذكر، يقول: سمعت أبا بكر بن الشاه الصوفي الفارسي، يقول: سئل الحرب بن أسد المحاسبي: من التائب؟ فقال: من رأى نفسه من الذنوب معصوما، وللخيرات موفقا، ورأى الفرح من قلبه غائبا والحزن فيه باقيا، وأحبه أهل الخير، وهابه أهل الشر، ورأى القليل من الدنيا كثيرا، ورأى الكثير من عمل الآخرة قليلا، ورأى قلبه فارغا من كل ما ضمن له، مشتغلا
315

بكل ما أمر به.
وقال السري بن المغلس السقطي: التوبة صدق العزيمة على ترك الذنوب، والإنابة بالقلب إلى علام الغيوب، والندامة على ما فرط من العيوب، والاستقصاء في المحاسبة مع النفس بالاستكانة والخضوع.
وقال عمرو بن عثمان: ملاك التوبة إصلاح القوت.
وسمعت أبا القاسم بن أبي بكر بن عبد الله البابي، يقول: سمعت أبا يعلي حمزة بن وهب الطبري، يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني، يقول: سمعت يحيى بن معاذ، وسئل: من التائب؟ فقال: من كسر شبابه على رأسه وكسر الدنيا على رأس الشيطان، ولزم الفطام حتى أتاه الحمام.
وقال سهل بن عبد الله: التوبة، الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة، وسئل ابن الحسن البوشيخي: عن التوبة؟ فقال: إذا ذكرت الذنب فلا تجد حلاوته في قلبك.
وقال الراعي: التوبة ترك المعاصي نية وفعلا، والإقبال على الطاعة نية وفعلا، وسمعت أبا القاسم الحبيبي، يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عماد البغدادي، يقول: سئل جنيد: من التائب؟
فقال: من تاب عما دون الله.
وقال شاه الكرماني: إترك الدنيا وقد تبت وخالف هواك وقد وصلت، ويعفو عن السيئات إذا تابوا فيمحوها.
أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسن بن جعفر، حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن سواد، حدثنا عطيه بن لفته، حدثنا أبي، حدثنا الزبيري، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد، ومن العقيم الوالد، ومن الظمآن الوارد. فمن تاب إلى الله تعالى توبة نصوحا أنسى الله حافظيه وبقاع الأرض خطاياه وذنوبه). أو قال: (ذنوبه وخطاياه).
" * (ويعلم ما تفعلون) *). قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف بالتاء، وهي قراءة عبد الله وأصحابه، ورواية حفص عن عاصم غيرهم بالياء، وهي اختيار أبي عبيد، قال: لأنه لمن خبرني عن قوم. قال قبله: عن عباده، وقال بعده: ويزيدهم من فضله
316

" * (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *) أي يطيع الذين آمنوا ربهم في قول بعضهم. جعل الفعل للذين آمنوا، وقال الآخرون: " * (ويستجيب الله الذين آمنوا) *) جعلوا الإجابة فعل الله تعالى، وهو الأصوب والأعجب إلي لأنه وقع بين فعلين لله تعالى: الأول قوله: " * (يقبل) *) والثاني " * (ويزيدهم من فضله) *)، ومعنى الآية: ويجيب الله المؤمنين إذا دعوه، وقيل: معناه نجيب دعاء المؤمنين بعضهم لبعض.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا مكي بن عبدان، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا أبو معاوية بن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن سلمة بن سبره، قال: خطبنا معاذ بالشام، فقال: أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة والله إني لأرجو أن يدخل الجنة من تسبون من فارس والروم وذلك بأن أحدهم إذا عمل لأحدكم العمل، قال: أحسنت يرحمك الله أحسنت بارك الله فيك ويقول الله سبحانه وتعالى: * (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * * (ويزيدهم من فضله. والكافرون لهم عذاب شديد) *).
أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي، حدثني أبو أحمد عبد الله بن أحمد الزعفراني الهمذاني، حدثنا محمد بن الحسين بن قتيبة بعسقلان، حدثنا محمد بن أيوب بن سويد، حدثني أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن أبي صالح عن ابن عباس في قول الله تعالى: " * (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *)، قال: تشفعهم في إخوانهم. " * (ويزيدهم من فضله) *). قال: في إخوان إخوانهم.
" * (ولو بسط الله الرزق لعباده) *). الآية نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الدنيا والغنى. قال خباب بن لادن: فينا نزلت هذه الآية وذلك إنا نظرنا إلى بني قريظة والنضير وبني القينقاع، فتمنيناها فأنزل الله تعالى " * (ولو بسط الله) *) أي وسع الرزق لعباده.
" * (لبغوا في الأرض) *) أي لطغوا وعصوا. قال ابن عباس: بغيهم ظلما، منزلة بعد منزلة ودابة بعد دابة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس.
أخبرنا الحسين بن محمد بن إبراهيم التبستاني الإصبهاني، حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن العباس العصمي الهروي، أخبرني محمد بن علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن صالح الكرابيسي، يقول: سمعت قصير بن يحيى يقول: قال: شقيق بن إبراهيم في قول الله تعالى: " * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا) *)، قال: لو رزق
الله العباد من غير كسب وتفرغوا عن المعاش والكسب لطغوا في الأرض وبغوا وسعوا في الأرض فسادا، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش رحمة منه وامتنانا.
" * (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) *) أرزاقهم " * (بقدر ما يشاء) *) لكفايتهم. قال مقاتل: " * (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) *) فجعل واحدا فقيرا وآخرا غنيا
317

" * (إنه بعباده خبير بصير) *). قال قتادة: في هذه الآية كان يقال: خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك، وذكر لنا إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف على أمتي، زهرة الدنيا وكثرتها).
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا أبو جعفر محمد بن الغفار الزرقاني، حدثنا محمد بن يحيى الأزدي، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد الدمشقي، حدثنا صدقة بن عبد الله، حدثنا عبد الكريم الجزري، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل (عليه السلام)، عن ربه عز وجل قال: (من أهان لي وليا، فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وإني لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرد، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره إساءته، ولا بد له منه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا، إن سألني أعطيته وإن دعاني استجبت له وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة، ولو أعطيته إياه دخله العجب فأفسده، وإن من عبادي المؤمنين، لمن لا يصلحه إلا السقم ولو صححته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك. إني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم إني عليم خبير).
قال صدقة: وسمعت أبان بن أبي عياش يحدث بهذا الحديث، عن أنس بن مالك ثم يقول: اللهم إني من عبادك المؤمنين الذين لا يصلحهم إلا الغنى فلا تفقرني.
" * (وهو الذي ينزل الغيث) *) يعني المطر، سمي بذلك لأنه يغيث الناس أي يجيرهم ويصلح حالهم.
قال الأصمعي: مررت ببعض قبائل العرب وقد مطروا، فسألت عجوز منهم، كم أتاكم المطر؟ فقالت: غثنا ما شئنا.
" * (من بعد ما قنطوا وينشر رحمته) *) ويبسط مطره نظيره قوله: " * (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يديه رحمته) *).
أخبرنا شعيب بن محمد، أخبرنا أبو الأزهر، حدثنا روح، حدثنا سعيد، عن قتادة قال:
318

ذكر لنا أن رجلا أتى عمر بن الخطابح، فقال: يا أمير المؤمنين قحط المطر وقنط الناس. قال: مطرتم، ثم قال: " * (وهو الذي ينزل الغيث من بعدما قنطوا وينشر رحمته) *).
" * (وهو الولي الحميد) *).
2 (* (ومن ءاياته خلق السماوات والارض وما بث فيهما من دآبة وهو على جمعهم إذا يشآء قدير * ومآ أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير * ومآ أنتم بمعجزين فى الارض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير * ومن ءاياته الجوار فى البحر كالاعلام * إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن فى ذلك لايات لكل صبار شكور * أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون فىءاياتنا ما لهم من محيص * فمآ أوتيتم من شىء فمتاع الحيواة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون) *) 2
" * (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة. وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) *) من الإجرام والآثام. " * (ويعفو عن كثير) *) منها فلا يؤاخذكم بها.
وقرأ أهل المدينة والشام (بما) بغير (فاء)، وكذلك هي في مصاحفهم، وقرأ الباقون " * (فبما) *)، بالفاء، وكذلك في مصاحفهم وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
أخبرنا الحسين بن محمد المقري، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب، حدثنا رضوان بن أحمد، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا أبو معاوية الضرير عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية " * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) *) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر).
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا بشر بن موسى الأسدي، حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا مروان بن معاوية، حدثني الأزهر بن راشد الكاهلي، عن الخضر بن القواس العجلي، عن أبي سخيلة، قال: قال علي بن أبي طالب ح: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) *)، قال: (وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم في الدنيا من بلاء أو
319

مرض أو عقوبة فالله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه).
قال: بإسناده عن خلف بن الوليد، عن المبرك بن فضالة، عن الحسن، قال: دخلنا على عمران بن الحصين في مرضه الشديد الذي أصابه، فقال رجل منا: إني لا بد أن أسألك عما أرى من الوجع بك، فقال عمران: يا أخي لا تفعل فوالله أن أحبه إلي أحبه إلى الله تعالى. قال الله تعالى: " * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) *). هذا بما كسبت يداي وعفو ربي تعالى فيما بقي.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا موسى بن محمد بن علي، حدثنا جعفر بن محمد الفرماني، حدثنا أبو خثيمه مصعب بن سعيد، حدثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن مرة الهمذاني، قال: رأيت على ظهر كف شريح قرحة، قلت: يا أبا أمامة ما هذا؟ قال: " * (بما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) *).
أخبرنا الحسين بن فنجويه الدينوري، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني إبراهيم بن الحسن الباهلي المقري، حدثنا حماد بن زيد
أبو إسماعيل عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، قال: لما ركبه الدين اغتم لذلك، فقال: إني لأعرف هذا العلم، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا موسى بن محمد، حدثنا أبو بشر أحمد بن بشر الطيالسي، حدثني بعض أصحابنا، عن أحمد بن الحواري، قال: قيل لأبي سلمان الدارابي: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ قال: لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم، قال الله تعالى: " * (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) *).
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا محمد بن عبد الله بن (برزة (، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا ليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن سنان، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله تعالى بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عليه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة).
وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بها، أو درجة لم يكن الله ليبلغه إلا بها
320

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن رجاء، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن ابن أبي داود، عن الضحاك، قال: ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ " * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) *)، ثم قال: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن. وقال الحسن في هذه الآية: هذا في الحدود.
" * (وما أنتم بمعجزين في الأرض) *) هربا. " * (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ومن آياته الجوار) *) يعني السفن، واحدتها جارية وهي السائرة في البحر، قال الله تعالى: " * (حملناكم في الجارية) *).
" * (في البحر كالأعلام) *) أي الجبال، مجاهد: القصور، واحدها علم.
وقال الخليل بن أحمد: كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم.
قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا:
وإن صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
" * (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد) *) ثوابت وقوفا " * (على ظهره) *) أي على ظهر الماء. " * (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن) *) يهلكهن. " * (بما كسبوا) *) أي بما كسب أصحابها وركبانها من الذنوب. " * (ويعف عن كثير) *) فلا يعاقب عليها ويعلم.
قرأ أهل المدينة والشام بالرفع على الاستئناف كقوله في سورة براءة: " * (ويتوب الله على من يشاء) *)، وقرأها الآخرون نصبا على الصرف كقوله تعالى: " * (ويعلم الصابرين) *) صرف من حال الجزم إلى النصب استحقاقا وكراهة لعوال الجزم، كقول النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك
ربيع الناس والشهر الحرام
ونمسك بعده بذناب عيش
أجب الظهر له سنام
وقال آخر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
321

" * (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص) *) محيد عن عقاب الله تعالى. " * (فما أوتيتم من شيء) *) من رياش الدنيا وقماشها. " * (فمتاع الحياة الدنيا) *) وليس من زاد المعاد. " * (وما عند الله) *) من الثواب. " * (خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم) *).
قرأ يحيى بن رثاب وحمزة والكسائي وخلف هاهنا وفي سورة النجم (كبير) على التوحيد وفسروه الشرك عن ابن عباس، وقرأ الباقون " * (كبائر) *) بالجمع في السورتين، وقد بينا اختلاف العلماء في معنى " * (الكبائر) *) والفواحش. قال السدي: يعني الزنا، وقال مقاتل: موجبات الخلود.
" * (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) *) يتجاوزون ويتحملون.
2 (* (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلواة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذآ أصابهم البغى هم ينتصرون * وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولائك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون فى الارض بغير الحق أولائك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور * ومن يضلل الله فما له من ولى من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل * وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفى وقال الذين ءامنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين فى عذاب مقيم * وما كان لهم من أوليآء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل * استجيبوا لربكم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير * فإن أعرضوا فمآ أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنآ إذآ أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان
كفور * لله ملك السماوات والارض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير) *) 2
" * (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) *)، وقيل هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق ح. حين لامه الناس على إنفاق ماله كله، وحين شتم فحلم.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا إسحاق بن صدقة، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا سيف بن عمر، عن عطية، عن أيوب، عن علي ح قال: اجتمع لأبي بكر ذ مال مرة فتصدق به كله في سبيل الخير، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون، فأنزل الله تعالى: " * (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا) *)... إلى قوله: " * (ومما رزقناهم ينفقون) *))
322

خص به أبا بكر وعم به من اتبعه.
" * (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) *) ينتقمون من ظالميهم من غير أن يعتدوا.
وقال مقاتل: هذا في المجروح ينتصر من الجارح فيقتص منه. قال إبراهيم: في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفو له.
" * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *) سمي الجزاء باسم الابتداء وإن لم يكن سيئة لتشابههما في الصورة. قال ابن نجيح: هو أن يجاب قائل الكلمة القبيحة بمثلها، فإذا قال: أخزاه الله. يقول له: أخزاه الله، وقال السدي: إذا شتمك بشتمة فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا ابن حنش المقري، حدثنا أبو القاسم بن الفضل، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، قال سفيان بن عيينة: قلت لسفيان الثوري: ما قوله تعالى: " * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *) أن يشتمك رجل فتشتمه؟، أو أن يفعل بك فتفعل به؟ فلم أجد عنده شيئا فسألت هشام بن حجير عن هذه الآية، فقال: الجارح إذا جرح تقتص منه وليس هو أن يسبك فتسبه.
وقال سفيان: وكان ابن شبرمة يقول: أليس بمكة مثل هشام بن حجير فمن عفا فلم ينتقم. قال ابن عباس: فمن ترك القصاص وأصلح، وقال مقاتل: وكان العفو من الأعمال الصالحة فأجره على الله.
قال ابن فنجويه العدل، حدثنا محمد بن الحسن بن بشر، أخبرنا أبو العباس محمد بن جعفر بن ملاس الدمشقي، حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم بن بشر القريشي، حدثنا زهير بن عباد المدائني، حدثنا سفيان بن عينية عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كان يوم القيامة، نادى مناد من كان له على الله أجر، فليقم، قال: فيقوم عنق كثير. قال: فقال: ما أجركم على الله، فيقولون: نحن الذين عفونا عمن ظلمنا، وذلك قوله تعالى: " * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) *) فيقال لهم: ادخلوا الجنة بإذن الله).
" * (إنه) *) إن الله " * (لا يحب الظالمين) *). قال ابن عباس: الذين يبدأون بالظلم. لقوله تعالى: " * (ولمن انتصر بعد ظلمه. فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) *).
مبتدئين به. " * (ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر) *). فلم يكاف. " * (إن ذلك لمن عزم الأمور) *) وحزمها. " * (ومن يظلل الله فما له من ولي من بعده) *) يهديه أو يمنعه من عذاب الله.
323

" * (وترى الظالمين) *) الكافرين. " * (لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد) *) رجوع إلى الدنيا. " * (من سبيل وتراهم يعرضون عليها) *) أي على النار " * (خاشعين) *) خاضعين متواضعين " * (من الذل ينظرون من طرف خفي) *) ذليل قد خفي من الذل. قاله ابن عباس، وقال مجاهد وقتادة والسدي والقرظي: سارقو النظر.
واختلف العلماء باللغة في وجه هذه الآية، فقال يونس: من بمعنى الياء، مجازه: بطرف خفي، أي ضعيف من الذل والخوف، وقال الأخفش: الطرف العين، أي ينظرون من عين ضعيفة، وقيل: إنما قال: " * (من طرف خفي) *) لأنه لا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها، وقيل معناه: ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا، والنظر بالقلب خفي.
" * (وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) *) دائم. " * (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله. ومن يضلل الله فما له من سبيل) *) طريق للوصول إلى الحق في الدنيا والجنة في العقبى، قد إنسدت عليه طرق الخير. " * (استجيبوا لربكم) *) بالإيمان والطاعة. " * (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله. ما لكم من ملجإ) *) معقل. " * (يومئذ وما لكم من نكير) *) منكم يغير ما بكم.
" * (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا. إن عليك إلا البلاغ. وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور لله ملك السماوات والأرض. يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا) *) فلا يكون له ولد ذكر.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي، حدثنا محمد بن الحسين الفرج، حدثنا أحمد بن الخليل القومي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حكيم بن حزام أبو سمير، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر، وذلك إن الله تعالى يقول: " * (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) *). ألا ترى إنه بدأ بالإناث قبل الذكور).
" * (ويهب لمن يشاء الذكور) *) فلا يكون له أنثى. " * (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) *) يجمع بينهما فيولد له الذكور والإناث. تقول العرب: زوجت وزوجت
الصغار بالكبار. أي قرنت بعضها ببعض.
أخبرنا بن فنجويه، حدثنا طلحة وعبيد، قالا: حدثنا ابن مجاهد، حدثنا الحسين بن علي ابن العباس، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبيد الله، عن إسماعيل بن سلمان، عن أبي عمر
324

عن ابن الحنفية في قوله تعالى: " * (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) *). قال: التوائم.
" * (ويجعل من يشاء عقيما) *) فلا يلد ولا يولد له.
أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا إسحاق بن بشر، في قول الله تعالى: " * (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما) *) قال: نزلت في الأنبياء (عليهم السلام) ثم عمت، " * (يهب لمن يشاء إناثا) *) يعني لوطا (عليه السلام) لم يولد له ذكر إنما ولد له ابنتان. " * (ويهب لمن يشاء الذكور) *) ويعنى إبراهيم (عليه السلام) لم يولد له أنثى " * (أو يزوجهم ذكرانا وأناثا) *) يعني النبي صلى الله عليه وسلم ولد له بنون وبنات " * (ويجعل من يشاء عقيما) *) يعني يحيى وعيسى (عليهم السلام).
" * (إنه عليم قدير) *).
أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد بن محمد المخلدي إملاء، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك ابن محمد بن عدي، حدثنا عمار بن رجاء وعلي بن سهل بن المغيرة، قالا: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا ابن وهب، حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا أبو حمزة السكري المروزي، عن إبراهيم الصائغ عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة (خ). قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أولادكم هبة (الله) لكم " * (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) *) (فهم) وأموالهم لكم إذا إحتجتم إليها).
قال علي بن الحسن: سألني يحيى بن معين عن هذا الحديث.
(* (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشآء إنه على حكيم * وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا وإنك لتهدىإلى صراط مستقيم * صراط الله الذى له ما فى السماوات وما فى الارض ألا إلى الله تصير الامور) *) 2
" * (وما كان لبشر أن يكلمه الله) *) الآية وذلك إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فإنا لا نؤمن لك حتى تفعل ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم (لم
325

ينظر موسى إلى الله) فأنزل الله تعالى: * (وما كان لبشر أن يكلمه الله) * * (إلا وحيا) *) يوحي إليه كيف يشاء إما بالإلهام أو في المنام. " * (أو من وراء حجاب) *) بحيث يسمع كلامه ولا يراه كما كلم موسى (عليه السلام) * * (أو يرسل رسولا) *). إليه من ملائكة، إما جبريل وإما غيره. " * (فيوحي بإذنه ما يشاء) *).
قرأ شيبة ونافع وهشام (أو يرسل) برفع اللام على الابتداء (فيوحي) بإسكان الياء، وقرأ الباقون بنصب اللام والياء عطفا بهما على محل الوحي لأن معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي أو يرسل.
" * (إنه علي حكيم وكذلك) *) أي وما أوحينا إلى سائر رسلنا كذلك. " * (أوحينا إليك روحا من أمرنا) *). قال الحسن: رحمة. ابن عباس: نبوة. السدي: وحيا. الكلبي: كتابا. ربيع: جبريل. ملك بن دينار: يعني القرآن، وكان يقول: يا أصحاب القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم فإن القرآن ربيع القلوب كما الغيث ربيع الأرض.
" * (ما كنت تدري) *) قبل الوحي. " * (ما الكتاب ولا الإيمان) *) يعني شرائع الإيمان ومعالمه.
وقال أبو العالية: يعني الدعوة إلى الإيمان، وقال الحسين بن الفضل: يعني أهل الإيمان من يؤمن ومن لا يؤمن، وقال محمد بن إسحاق بن جرير: الإيمان في هذا الموضع الصلاة. دليله قوله تعالى: " * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) *).
" * (ولكن جعلناه نورا) *) وحد الكتابة وهما اثنان: الإيمان والقرآن؛ لأن الفعل في كثرة أسمائه بمنزلة الفعل، ألا ترى إنك تقول إقبالك وإدبارك يعجبني فيوحدوه وهما اثنان.
وقال ابن عباس: (ولكن جعلناه) يعني الإيمان، وقال السدي: يعني القرآن.
" * (نهدي به من نشاء من عبادنا. وإنك لتهدي) *) لترشد وتدعوا. " * (إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. ألا إلى الله تصير الأمور) *) أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، حدثنا أحمد بن محمد بن شاذان، حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا صالح بن محمد، قال: سمعت أبا معشر يحدث، عن سهل بن أبي الجعداء وغيره. قال: احترق مصحف فلم يبق إلا قوله سبحانه وتعالى: " * (ألا إلى الله تصير الأمور) *) وغرق مصحف فإمتحى كل شيء فيه إلا قوله: " * (ألا إلى الله تصير الأمور) *))
.
326

((سورة الزخرف))
مكية، وهي تسع وثمانون آية، وثمانمائة وثلاثوثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف
أخبرنا ابن المقري، أخبرنا ابن مطر، حدثنا ابن شريك، حدثنا ابن يونس، حدثنا سلام بن سليم، حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي أمامة الباهلي، عن أبي بن كعب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون إدخلوا الجنة بغير حساب). قوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه فىأم الكتاب لدينا لعلى حكيم * أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين * وكم أرسلنا من نبي فى الاولين * وما يأتيهم من نبى إلا كانوا به يستهزءون * فأهلكنآ أشد منهم بطشا ومضى مثل الاولين * ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم * الذى جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون * والذى نزل من السمآء مآء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون * والذى خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذى سخر لنا هاذا وما كنا له مقرنين * وإنآ إلى ربنا لمنقلبون) *) 2
" * (حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا) *). أي أنزلناه وسميناه وبيناه ووصفناه. كقوله تعالى: " * (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة) *)، وقوله: " * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا) *)، وقوله: " * (جعلوا القرآن عضين) *)، وقوله تعالى: " * (أجعلتم سقاية
327

الحاج) *). كلها بمعنى الوصف والتسمية ويستحيل أن يكون بمعنى الخلق. " * (لعلكم تعقلون وإنه) *) يعني هذا الكتاب. " * (في أم الكتاب) *) يعني اللوح المحفوظ الذي عند الله تعالى منه ينسخ، وقال قتادة: أصل الكتاب وجملته.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا مكي بن عيدان، حدثنا عبد الله بن هاشم بن حيان، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا هشام الدستوائي، حدثني القاسم بن أبي يزه، حدثني عروة بن عامر القريشي، قال: سمعت ابن عباس يقول: إن أول ما خلق الله تعالى القلم وأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق والكتاب عنده ثم قرأ * (وإنه في أم الكتاب) * * (لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحا) *). اختلفوا في معناه. فقال قوم: أفنضرب عنكم العذاب ونمسك ونعرض عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم، وهذا قول مجاهد والسدي، ورواية الوالبي عن ابن عباس. قال: أفحسبتم إنه يصفح عنكم ولما تعقلوا ما أمرتم به، وقال آخرون: معناه أفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنكم لا تؤمنون به فلا ننزله ولا نكرره عليكم، وهذا قول قتادة وابن زيد.
وقال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة. أو ما شاء الله من ذلك.
وقال الكلبي: أفنترككم سدى لا نأمركم ولا ننهاكم. الكسائي: أفنطوي عنكم الذكر طيا، فلا تدعون ولا توعظون.
وهذا من فصيحات القرآن، والعرب تقول لمن أمسك عن الشيء وأعرض عنه: ضرب عنه صفحا، والأصل في ذلك إنك إذا أعرضت عنه وليته صفحة عنقك، قال كثير:
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة
فمن مل منها ذلك الوصل ملت
أي معرضة بوجهها، وضربت عن كذا وأضربت، إذا تركته وأمسكت عنه.
" * (أن كنتم) *) قرأ أهل المدينة والكوفة إلا عاصما أن تكتب الألف على معنى إذ. كقوله: " * (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) *)، وقوله: " * (إن أردن تحصنا) *).
وقرأ الآخرون بالفتح على معنى لأن كنتم أرادوا على معنى المضي كما يقول في الكلام: أسبك إن حرمتني، يريد إذا حرمتني. قال أبو عبيدة: والنصب أحب إلي؛ لأن الله تعالى عاتبهم على ما كان منهم وعلمه قبل ذلك من فعلهم.
328

" * (قوما مسرفين) *) مشركين متجاوزين أمر الله. " * (وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم) *). أي وما كان يأتيهم. " * (من نبي إلا كانوا به يستهزءون) *) كاستهزاء قومك بك. يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم " * (فأهلكنا أشد منهم بطشا) *) قوة. " * (ومضى مثل الأولين) *) صفتهم وسنتهم وعقوبتهم.
" * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر) *) أي بمقدار حاجتكم إليه. " * (فأنشرنا) *) فأحيينا. " * (به بلدة ميتا. كذلك) *) أي كما أحيينا هذه البلدة الميتة بالمطر كذلك. " * (تخرجون) *) من قبوركم أحياء.
" * (والذي خلق الأزواج) *) الأصناف. " * (كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستوا على ظهوره) *) ذكر الكناية لأنه ردها إلى ما، وقال الفراء:
أضاف الظهور إلى الواحد لأنه ذلك الواحد في معنى الجمع كالجند والجيش والرهط والخيل ونحوها من أسماء الجيش.
" * (ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) *) أي مطبقين ضابطين قاهرين وهو من القرآن، كأنه أراد وما كنا مقاومين له في القوة. " * (وإنا إلى ربنا لمنقلبون) *) لمنصرفون في المعاد.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شنبه، حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن علي بن ربيعة، عن علي ح، عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه كان إذا وضع رجله في الركاب، قال: (بسم الله) فإذا استوى على الدابة. قال: (الحمد لله على كل حال " * (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون) *))، وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا.
وقال قتادة: في هذه الآية يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك والأنعام تقولون: * (وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) * * (وجعلوا) *) يعني هؤلاء المشركين " * (له من عباده جزءا) *) أي نصيبا وبعضا.
وقال مقاتل وقتادة: عدلا وذلك قولهم للملائكة هم بنات الله تعالى.
" * (إن الإنسان لكفور مبين) *).
2 (* (وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أومن
329

ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون * وقالوا لو شآء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون * أم ءاتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون * بل قالوا إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا علىءاثارهم مهتدون * وكذلك مآ أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا علىءاثارهم مقتدون * قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءابآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين * وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إننى برآء مما تعبدون * إلا الذى فطرنى فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية فى عقبه لعلهم يرجعون * بل متعت هاؤلاء وءابآءهم حتى جآءهم الحق ورسول مبين * ولما جآءهم الحق قالوا هاذا سحر وإنا به كافرون * وقالوا لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون * ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون * وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحيواة الدنيا والاخرة عند ربك للمتقين) *) 2
" * (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم) *) أخلصكم وخصصكم. " * (بالبنين) *) نظيره قوله تعالى: * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا) * * (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمنا مثلا) *) يعني البنات. دليلها في النحل " * (ظل وجهه مسودا وهو كظيم) *) من الحزن والغيظ.
" * (أومن ينشؤا) *) قرأها أهل الكوفة بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على غير تسمية الفاعل. أي يربي غيرهم " * (ينشؤا) *) بفتح الياء وجزم النون وتخفيف الشين، أي ينبت ويكبر. " * (في الحلية) *) في الزينة، يعني النساء. قال مجاهد: رخص للنساء في الحرير والذهب، وقرأ هذه الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني، حدثنا يحيى بن جعفر بن أبي طالب، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي، حل لأناثهم)
330

" * (وهو في الخصام غير مبين) *) للحجة من ضعفهن وسفههن. قال قتادة في هذه الآية: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت الحجة عليها، وفي مصحف عبد الله (وهو في الكلام غير مبين).
وقال بعض المفسرين: عني بهذه الآية أوثانهم التي كانوا يعبدونها ويجلونها ويزينونها وهي لا تتكلم ولا تنبس. قال ابن زيد: هذه تماثيلهم التي يضربونها من فضة وذهب، وينشؤنها في الحلية يتعبدونها. في محل من ثلاثة وجوه: الرفع على الابتداء، والنصب على الإضمار، مجازه: أو من ينشاء يجعلونه ربا أو بنات الله، والخفض ردا على قوله: " * (مما يخلق) *) وقوله: " * (بما صرت) *)..
" * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمنا إناثا) *) قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة " * (عباد الرحمان) *) بالألف والياء، وأختاره أبو عبيد قال: لأن الإسناد فيها أعلى ولأن الله تعالى إنما كذبهم في قوله: " * (بنات الله) *) فأخبر إنهم عبيده وليسوا بناته، وهي قراءة ابن عباس.
أخبرنا محمد بن نعيم، أخبرنا الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا القاسم بن سلام، حدثنا هيثم عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، إنه قرأها " * (عباد الرحمان) *).
قال سعيد: فقلت لابن عباس: إن في مصحفي عبد الرحمن. فقال: إمسحها وإكتبها " * (عباد الرحمان) *)، وتصديق هذه القراءة، قوله " * (بل عباد مكرمون) *)، وقرأ الآخرون عند الرحمن بالنون وإختاره أبو حاتم، قال: لأن هذا مدح، وإذا قلت: " * (عباد الرحمان) *) وتصديقها قوله تعالى: * (إن الذين عند ربك) * * (أشهدوا) *) أحضروا " * (خلقهم) *) حتى يعرفوا إنهم إناث، وقرأ أهل المدينة " * (أشهدوا) *) على غير تسمية الفاعل أي أحضروا. " * (خلقهم) *) حين خلقوا. " * (ستكتب شهادتهم) *) على الملائكة إنهم بنات الله " * (ويسئلون) *) عنها.
" * (وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم) *) يعني الملائكة في قول قتادة ومقاتل والكلبي، وقال مجاهد: يعني الأوثان، وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضا منا بعبادتها. قال الله تعالى: " * (ما لهم بذلك من علم) *) فيما يقولون " * (إن هم إلا يخرصون) *) يكذبون.
" * (أم آتيناهم كتابا من قبله) *) أي من قبل هذا القرآن. " * (فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة) *) دين. " * (وإنا على آثارهم مهتدون) *) وقراءة العامة (أمة) بضم الألف، وهي
331

الدين والملة، وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد امة بكسر الألف واختلفوا في معناها، فقيل: هي الطريقة والمقصد من قولهم أممت، وقيل: هي النعمة. قال عدي بن زيد: ثم بعد الفلاح والملك والأمة وأريهم هناك القبور، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد.
" * (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) *) مستنون متبعون.
" * (قال) *) قراءة العامة على الأمر، وقرأ ابن عامر على الخبر ومثله روى حفص بن عاصم. " * (أولو جئتكم) *) بالألف أبو جعفر. الباقون جئتكم على الواحد. " * (بأهدى) *) بدين أصوب. " * (مما وجدتم عليه آباءكم. قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم. فانظر كيف كان عاقبة المكذبين وإذ قال إبراهيم ملأبيه وقومه إنني براء) *) أي بريء، ولا يثنى البراء ولا يجمع ولا يؤنث لأنه مصدر وضع موضع النعت، وفي قراءة عبد الله (بريء) بالياء. " * (مما تعبدون إلا الذى فطرني) *) خلقني، ومجاز الآية: إنني براء من كل معبود إلا الذي فطرني.
" * (فإنه سيهدين) *) إلى دينه. " * (وجعلها) *) يعني هذه الكلمة والمقالة " * (كلمة باقية في عقبه) *) قال مجاهد وقتادة: يعني لا إله إلا الله، وقال القرظي: يعني وجعل وصية إبراهيم التي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته وهي التي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة: " * (ووصى بها إبراهيم بنيه) *)، وقال ابن زيد: يعني قوله: " * (أسلمت لرب العالمين) *) وقرأ " * (هو سماكم المسلمين) *).
" * (لعلهم يرجعون) *) من كفرهم إلى الطاعة ويتوبون " * (بل متعت هؤلاء وآباءهم) *) في الدنيا فلم أهلكهم ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم. " * (حتى جاءهم الحق) *) القرآن، وقال الضحاك: الإسلام. " * (ورسول مبين) *) يبين لهم الأعلام والأحكام وهو محمد صلى الله عليه وسلم
" * (ولما جاءهم الحق) *) القرآن " * (قالوا هذا سحر وإنا به كافرون وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) *). يعني من إحدى القريتين ولم يختلفوا في القريتين إنهما مكة والطائف، واختلفوا في الرجلين من هما. قال ابن عباس: الوليد بن المغيرة من مكة وكان يسمى ريحانة قريش، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من الطائف.
وقال مجاهد: عتبة بن الربيع من مكة وابن عبدياليل الثقفي من الطائف. قتادة: هما الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، وقال السدي: الوليد بن المغيرة وكنانة بن عبد عمرو بن عمير.
332

قال الله سبحانه وتعالى: " * (أهم يقسمون رحمت ربك) *) نبوته وكرامته فيجعلونها لمن شاءوا. " * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) *) فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا ملكا وهذا مملوكا، وقرأ ابن عباس وابن يحيى (معايشهم) * * (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) *) أي ليسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ويستخدمونهم ليكون بعضهم لبعض سبب المعاش في الدنيا، هذا بماله وهذا باعماله؛ هذا قول السدي وابن زيد، وقال قتادة والضحاك: يعني ليملك بعضهم بعضا فهذا عبد هذا، وقيل: يسخر بعضهم من بعض، وقيل: يتسخر بعضهم بعضا.
" * (ورحمت ربك) *) يعني الجنة " * (خير مما يجمعون) *) في الدنيا من الأموال " * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) *) مجتمعين على الكفر فيصيروا كلهم كفارا. هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن زيد: يعني: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة في طلب الدنيا وإختيارها على العقبى.
" * (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) *) وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد ويحيى بن وثاب " * (سقفا) *) بفتح السين على الواحد ومعناه الجمع إعتبارا بقوله: " * (فخر عليهم السقف من فوقهم) *)، وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع. يقال سقف وسقف مثل رهن ورهن. قال أبو عبيد: ولا ثالث لهما، وقيل: هو جمع سقيف، وقيل: هو جمع سقوف وجمع الجمع. " * (ومعارج) *) أي مصاعد ومراقي ودرجا وسلاليم، وقرأ أبو رجاء العطاردي (ومعاريج) وهما لغتان وأحدهما معراج مثل مفاتح ومفاتيح.
" * (عليها يظهرون) *) يعلون ويرتقون ويصعدون بها، ظهرت على السطح إذا علوته. قال النابغة الجعدي:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
أي مصعدا.
" * (ولبيوتهم أبوابا) *) من فضة " * (وسررا) *) من فضة " * (عليها يتكئون وزخرفا) *) أي ولجعلنا لهم مع ذلك " * (وزخرفا) *) وهو الذهب نظير بيت مزخرف، ويجوز أن يكون معناه من فضة وزخرف فلما نزع الخافض نصب.
" * (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) *) شدده عاصم وحمزة على معنى " * (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) *)، وخففه الآخرون على معنى. " * (ذلك متاع الحياة الدنيا) *) فتكون (لغة) الواصلة " * (والآخرة عند ربك للمتقين) *) للمؤمنين
333

أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا أحمد بن شاذان، أخبرنا جيغويه بن محمد، حدثنا صالح بن محمد، حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبان، عن سليمان بن القيس العامري، عن كعب. قال: إني لأجد في بعض الكتب: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس الكافر بأكاليل فلا يصدع ولا ينبض منه عرق يوجع.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا الفربابي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزيدي، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن مسلم بن أبي المجرد، عن عمر بن الخطاب ح إنه كان يقول: لو أن رجلا هرب من رزقه لإتبعه حتى يدركه، كما إن الموت يدرك من هرب منه له أجل هو بالغه، أو أثر هو واطئة ورزق هو آكله وحرف هو قائله فاتقوا الله وإجملوا في الطلب، فلا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله تعالى، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولن يدرك ما عنده بمعصيته. فأتقوا الله وإجملوا في الطلب.
2 (* (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جآءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين * ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم فى العذاب مشتركون * أفأنت تسمع الصم أو تهدى العمى ومن كان فى ضلال مبين * فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذى وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون * فاستمسك بالذىأوحى إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون * واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون * ولقد أرسلنا موسى بئاياتنآ إلى فرعون وملايه فقال إنى رسول رب العالمين * فلما جآءهم بئاياتنآ إذا هم منها يضحكون * وما نريهم من ءاية إلا هى أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا ياأيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون * فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) *) 2
" * (ومن يعش) *) يعرض " * (عن ذكر الرحمان) *) فلم يخف عقابه ولم يرج ثوابه.
وقال الضحاك: يمض قدما. القرظي: يول ظهره على ذكر الرحمن وهو القرآن. أبو عبيدة والأخفش: أي تظلم عينه، الخليل بن أحمد: أصل العشو النظر ببصر ضعيف، وأنشد في معناه:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد خير نار عندها خير موقد
وروى نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس إنه قرأ " * (ومن يعش) *) بفتح الشين ومعناه: (من يعم). يقال منه: عشي يعشي عشيا إذا عمي، ورجل أعشى وامرأة عشواء، ومنه قول الأعشى
334

رأت رجلا غائب الوافدين
مختلف الخلق أعشى ضريرا
" * (نقيض له شيطانا) *) أي نظمه إليه ونسلطه عليه " * (فهو له قرين) *) فلا يفارقه. " * (وإنهم) *) يعني الشياطين " * (ليصدونهم) *) يعني الكافرين. " * (عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا) *) قرأ أهل العراق وابن محيص على الواحد يعنون الكافر، واختاره أبو عبيد وقرأ الآخرون " * (جاءنا) *) على التشبيه يعنون الكافر وقرينه.
" * (قال) *) الكافر للشيطان. " * (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) *) أي المشرق والمغرب، فقلب اسم أحدهما على الآخر، كما قال الشاعر:
أخذنا بآفاق السماء عليكم
لنا قمراها والنجوم الطوالع
يعني الشمس والقمر، ويقال للغداة والعشي: العصرات، قال حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران يوم وليلة
إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وقال آخر:
وبصرة الأزد منا والعراق لنا
والموصلان ومنا المصر والحرم
أراد الموصل والجزيرة، ويقال للكوفة والبصرة: البصرتان، ولأبي بكر وعمر (ذ): العمران، وللسبطين: الحسنان، وقال بعضهم: أراد بالمشرقين، مشرق الصيف ومشرق الشتاء. كقوله تعالى: * (رب المشرقين ورب المغربين) * * (فبئس القرين) *) قال أبو سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشيطان فلا يفارقه حتى يصير إلى النار.
" * (ولن ينفعكم اليوم) *) في الآخرة " * (إذ ظلمتم) *) أشركتم في الدنيا " * (أنكم في العذاب مشتركون) *) يعني لن ينفعكم إشراككم في العذاب لأن لكل واحد نصيبه الأوفر منه فلا يخفف عنكم العذاب لأجل قرنائكم.
وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم لأنكم أنتم وقرناؤكم مشتركون اليوم في العذاب كما كنتم مشتركين في الكفر.
" * (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين) *) يعني الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب فلا يؤمنون.
335

" * (فإما نذهبن بك) *) فنميتك قبل أن نعذبهم. " * (فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي عدناهم) *) فنعذبهم في حياتك.
" * (فإنا عليهم مقتدرون) *) قال أكثر المفسرين: أراد به المشركين من أهل مكة فإنتقم منهم يوم بدر، وقال الحسن وقتادة: عني به أهل الإسلام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان بعد نبي الرحمة نقمة شديدة فأكرم الله نبيه وذهب به، ولم يره في أمته إلا الذي تقر عينه، وأبقى النقمة بعده، وليس من نبي إلا أرى في أمته العقوبة، وذكر لنا إن النبي صلى الله عليه وسلم أري ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله تعالى.
" * (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه) *) يعني القرآن. " * (لذكر لك) *) لشرف لك " * (ولقومك) *) من قريش، نظيره قوله: " * (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم) *) أي شرفكم. " * (وسوف تسئلون) *) عن حقه وأداء شكره.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، حدثنا أبو علي بن حبش المقري، حدثنا أبو بكر ابن محمد بن أحمد بن إبراهيم الجوهري، حدثنا عمي، حدثنا سيف بن عمر الكوفي، عن وائل أبي بكر، عن الزهيري، عن عبد الله وعطيه بن الحسن، عن أبي أيوب، عن علي، عن الضحاك، عن ابن عباس. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكة، ويعدهم الظهور، فإذا قالوا لمن الملك بعدك، أمسك، فلم يخبرهم بشيء، لأنه لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزل " * (وإنه ذكر لك ولقومك) *). فكان بعد ذلك إذا سئل، فقال: لقريش، فلا يجيبونه، وقبلته الأنصار على ذلك.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، حدثنا نصر بن منصور بن جعفر النهاوندي، حدثنا أحمد بن يحيى بن الجاورد، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال هذا الامر في قريش ما بقي من الناس اثنان).
أخبرنا عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد الناهد، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، حدثنا الحسن بن ناصح ومحمد بن يحيى، قالا: حدثنا نعيم بن عماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن محمد بن حسن بن مطعم، عن معاوية، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كب على وجهه ما أقاموا الدين)
336

أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد، أخبرنا أبو العباس السراج، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم، حدثنا هوذه بن خليفة، حدثنا عوف، عن زياد بن محراق، عن أبي كنانة، عن أبي موسى، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم على باب البيت وفيه نفر من قريش، فأخذ بعضادي الباب، ثم قال: (هل في البيت إلا قريشي؟) قالوا: لا يا رسول الله. إلا ابن إخت لنا، قال: (ابن إخت القوم منهم) ثم قال: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما داموا إذا حكموا فعدلوا، واسترحموا فرحموا، وعاهدوا فوفوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا).
أخبرنا عبيد الله الزاهد، حدثنا أبي العباس السراج، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم، حدثني موسى بن داود وخالد بن خداش، قالا: حدثنا بكير بن عبد العزيز، عن يسار بن سلامة، عن أبي بردة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الأمراء من قريش، لي عليهم حق ولهم عليكم حق ما فعلوا ثلاثا: ما حكموا فعدلوا، وإسترحموا فرحموا، وعاهدوا فوفوا).
زاد خالد: (فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، قال: سمعت أبي يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: في قول الله تعالى: " * (وإنه لذكر لك ولقومك) *) قال: قول الرجل: حدثني أبي، عن جدي.
" * (واسأل) *) يا محمد. " * (من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمان آلهة يعبدون) *).
اختلف العلماء في هؤلاء المسؤولين. فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وعطاء بن أبي رياح والحسن والمقاتلان: هم المؤمنون أهل الكتابين، وقالوا: هي في قراءة عبد الله وأبي (وأسئل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا)، وقال ابن جبير وابن زيد: هم الأنبياء الذين جمعوا له ليلة أسري به ببيت المقدس.
أخبرنا ابن فنجويه حدثنا موسى بن محمد، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا المسيب، قال: قال: أبو جعفر الدمشقي: سمعت الزهري يقول: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم صلى خلفه تلك الليلة كل نبي كان أرسل فقيل للنبي (عليه السلام): " * (واسأل من أرسلنا من قبلك) *).
أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري، حدثنا أبو الفتح محمد بن الحسين بن محمد بن
337

الحسين الأزدي الموصلي، حدثنا عبد الله بن محمد بن غزوان البغدادي. حدثنا علي بن جابر، حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله ومحمد بن إسماعيل، قالا: حدثنا محمد بن فضل، عن محمد ابن سوقة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم (أتاني ملك فقال: يا محمد " * (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) *) على ما بعثوا، قال: قلت: على ما بعثوا، قال: على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب).
" * (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم يضحكون) *) وبها يستهزؤن ويكذبون.
" * (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) *) قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها. " * (وأخذناهم بالعذاب) *) بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. " * (لعلهم يرجعون وقالوا) *) لما عاينوا العذاب. " * (يا أيها الساحر) *) يا أيها العالم الكامل الحاذق، وإنما قالوا هذا توقيرا وتعظيما منهم، لأن السحر كان عندهم علما عظيما وصفة ممدوحه، وقيل: معناه يا أيها الذي غلبنا بسحره، كقول العرب: خاصمته فخصمته، ونحوها.
ويحتمل إنهم أرادوا به الساحر على الحقيقة عيبا منهم إياه، فلم يناقشهم موسى (عليه السلام) في مخاطبتهم إياه بذلك رجاء أن يؤمنوا.
" * (ادع لنا ربك بما عهد عندك) *) أي بما أخبرتنا عن عهده إليك إنا إن آمنا كشف عنا، فاسأله يكشف عنا. " * (إننا لمهتدون) *) مؤمنون.
" * (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) *) ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم ويتمارون في غيهم.
(* (ونادى فرعون فى قومه قال ياقوم أليس لى ملك مصر وهاذه الانهار تجرى من تحتىأفلا تبصرون * أم أنآ خير من هاذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جآء معه الملائكة مقترنين * فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للاخرين * ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا ءأالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسراءيل * ولو نشآء لجعلنا منكم ملائكة فى الارض يخلفون * وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هاذا صراط مستقيم * ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين * ولما جآء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين
338

لكم بعض الذى تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون * إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم * فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم * هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون * الاخلاء) *) 2
" * (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار) *) يعني أنهار النيل ومعظمها أربعة: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس. " * (تجري من تحتي) *) بين يدي وجناتي وبساتيني، وقال ابن عباس: حولي. عطاء: في قبضتي وملكي. الحسن: بأمري.
" * (أفلا تبصرون أم أنا خير) *) بل أنا بخير. (أم) بمعنى بل، وليس بحرف على قول أكثر المفسرين، وقال الفراء: وقوم من أهل المعاني الوقوف على قوله (أم)، وعنده تمام الكلام.
وفي الآية إضمار ومجازها: أفلا تبصرون أم لا تبصرون أم ابتداء، فقال: أنا خير " * (من هذا الذي هو مهين) *) ضعيف حقير يعني موسى (عليه السلام). " * (ولا يكاد يبين) *) يفصح بكلامه وحجته، لعيه ولعقدته والرنة التي في لسانه.
" * (فلولا ألقي عليه) *) إن كان صادقا " * (أسورة من ذهب) *) قرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم وحفص " * (أسورة) *) على جمع السوار، وقرأ أبي: أساور، وقرأ ابن مسعود: أساوير، وقرأ العامة: أساورة بالألف على جمع الأسورة وهو جمع الجمع.
وقال أبو عمرو بن العلاء: واحد الأساورة والأساور والأساوير أساور، وهي لغة في السوار. قال مجاهد: كانوا إذا استودوا رجلا سوروه بسوار، وطوقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته وعلامة لرياسته. فقال فرعون: هلا ألقى رب موسى أسورة من ذهب.
" * (أو جاء معه الملائكة مقترنين) *) متابعين يقارن بعضهم بعضا يمشون معه شاهدين له.
قال الله تعالى: " * (فاستخف قومه) *) القبط وجدهم جهالا. " * (فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) *).
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا ابن مالك، حدثنا ابن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: قال الضحاك بن عبد الرحيم بن أبي حوشب: سمعت بلال بن سعد يقول: قال أبو الدرداء: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح ذباب ما سقي فرعون منها شرابا.
339

" * (فلما آسفونا) *) أغضبونا، وقال الحسين بن الفضل: خالفونا " * (انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا) *) قرأ علي وابن مسعود بضم السين وفتح اللام، وقال المؤرخ والنضر بن شميل: هي جمع سلفة، مثل طرقة وطرق، وغرفة وغرف، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بضم السين واللام، قال الفراء: هو جمع سليف، وحكي عن القاسم بن معين إنه سمع العرب تقول: مضى سليف من الناس، وقال أبو حاتم: سلف وسلف واحد، مثل خشب وخشب، وثمر وثمر وقرأ الباقون فتح السين واللام على جمع السالف مثل حارس وحرس، وراصد ورصد، وهم جميعا: الماضون المتقدمون من الأمم.
" * (ومثلا) *) عبرة. " * (للآخرين) *) لمن يجيء بعدهم، قال المفسرون: سلفا لكفار هذه الأمة إلى النار.
" * (ولما ضرب ابن مريم مثلا) *) في خلقه من غير أب. فشبه بآدم من غير أب ولا أم. " * (إذا قومك منه يصدون) *) ويقولون ما يريد محمد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلها كما عبدت النصارى عيسى. قاله قتادة.
وقال ابن عباس: أراد به مناظرة عبد الله بن الزبعري مع النبي صلى الله عليه وسلم وشأن عيسى (عليه السلام)، وقد ذكرناها في الأنبياء (عليهم السلام) وأختلف القراء في قوله: " * (يصدون) *) فقرأ أهل المدينة والشام وجماعة من الكوفيين بضم الصاد، وهي قراءة علي والنخعي ومعناه يعرضون، ونظيره قوله: " * (رأيت المنافقون يصدون عنك صدودا) *).
وقرأ الباقون بكسر الصاد، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم واختلفوا في معناه، فقال الكسائي: هما لغتان مثل يعرشون ويعرشون، ويعكفون ويعكفون، ودرت الشاة تدر وتدر، وشذ عليه يشذ ويشد، ونم الحديث ينمه وينمه، وقال ابن عباس: معناه يضجون. سعيد بن المسيب: يصيحون ضحاك: يعجون. قتادة: يجزعون ويضحكون، وقال القرظي: يضجرون.
وقال الفراء: حدثني أبو بكر بن عياش أن عاصما قرأ يصدون من قراءة أبي عبد الرحمن، وقرأ يصدون، وفي حديث آخر إن ابن عباس لقي أخي عبيد بن عمير، فقال: إن عمك لعربي، فماله يلحن في قوله سبحانه وتعالى: * (إذا قومك منه يصدون) * * (وقالوا ءألهتنا خير أم هو) *) يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم فنعبد
إلهه ونطيعه ونترك آلهتنا، هذا قول قتادة، وقال السدي وابن زيد: أم هو يعنون عيسى (عليه السلام)، قالوا: يزعم محمد إن كل ما عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عزير وعيسى والملائكة في النار.
قال الله تعالى: " * (ما ضربوه) *) يعني هذا المثل. " * (لك إلا جدلا) *) خصومة بالباطل. " * (بل
340

هم قوم خصمون) *) أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علي الجمشاذي الفقيه، بقراءتي عليه، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل. حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن نمير الكوفي، حدثنا حجاج بن دينار الواسطي، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا هارون بن محمد بن هارون، حدثنا السري، حدثنا أبو النضر، حدثنا عنبسة بن عبد الواحد القريشي، عن الحجاج بن دينار، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أتوا الجدل، ثم قرأ: * (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) * * (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) *) يعني آية أو عبرة وعظه لبني إسرائيل. " * (ولو نشاء لجعلنا منكم) *) لأهلكناكم وجعلنا بدلا منكم. " * (ملائكة في الأرض يخلفون) *) يعني يكونون خلفا منكم فيعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعونني.
" * (وإنه) *) يعني عيسى (عليه السلام). " * (لعلم للساعة) *) بنزوله يعلم قيام الساعة ويستدل على ذهاب الدنيا وإقبال الآخرة.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد، قالا: حدثنا أبو بشر بن مجاهد، حدثنا فضل بن الحسن، حدثنا عبيد الله بن معاد، حدثنا أبي، عن عمران بن جرير، قال: سمعت أبا نضرة يقرأ " * (وإنه لعلم للساعة) *)، قال: هو عيسى، وبإسناده عن ابن مجاهد، حدثني عبد الله بن (عمر) بن سعد، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا خالد بن الحرث، حدثنا أبو مكي، عن عكرمة " * (وإنه لعلم للساعة) *)، قال: ذلك عيسى (عليه السلام).
وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة و مالك بن دينار والضحاك " * (وإنه لعلم للساعة) *) بفتح السين واللام، أي إمارة وعلامة، وفي الحديث: ينزل عيسى بن مريم على ثنية بالأرض المقدسة، يقال لها: أفيق، بين ممصرتين وشعر رأسه د هين وبيده حربة يقتل بها الدجال. فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر، والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام، فيتقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى. إلا من آمن به.
وقال قوم: الهاء في قوله: " * (وإنه) *) كناية عن القرآن، ومعنى الآية وإن القرآن لعلم للساعة يعلمكم قيامها ويخبركم بأحوالها وأهوالها، وإليه ذهب الحسن.
" * (فلا تمترون بها) *) فلا تشكن بها أي فيها. " * (واتبعون. هذا صراط مستقيم ولا
341

يصدنكم) *) ولا يصرفنكم " * (الشيطان) *) عن دين الله. " * (إنه لكم عدو مبين ولما جاء عيسى) *) بني إسرائيل. " * (بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة) *) بالنبوة. " * (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) *) من أحكام التوراة.
" * (فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه. هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب) *) اليهود والنصارى. " * (من بينهم فويل للذين ظلموا) *) كفروا واشركوا كما في سورة مريم. " * (من عذاب يوم أليم هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون الأخلاء) *) على المعصية في الدنيا. " * (يومئذ) *) يوم القيامة. " * (بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) *). المتحابين في الله على طاعة الله.
أخبرنا عقيل بن محمد إن أبا الهرج البغدادي القاضي أخبرهم، عن محمد بن جرير، حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أبي إسحاق، إن عليا ح قال في هذه الآية: خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين، فقال: يا رب إن فلان كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير، وينهاني عن الشر، ويخبرني إني ملاقيك. يا رب فلا تضله بعدي واهده، كما هديتني، وإكرمه كما أكرمتني.
وإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما، فيقول: ليثني أحدكما على صاحبه. فيقول: يا رب انه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، فيقول: نعم الأخ، ونعم الخليل، ونعم الصاحب.
قال: ويموت أحد الكافرين، فيقول: إن فلان كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر، وينهاني عن الخير ويخبرني إني غير ملاقيك.
فيقول: بئس الأخ، وبئس الخليل، وبئس الصاحب.
2 (* (ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون * الذين ءامنوا بئاياتنا وكانوا مسلمين * ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون * يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وأنتم فيها خالدون * وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون * لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون * إن المجرمين فى عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون * وما ظلمناهم ولاكن كانوا هم الظالمين * ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون * لقد جئناكم بالحق ولاكن أكثركم للحق كارهون * أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون * أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) *) 2
" * (يا عباد) *) أي فيقال لهم يا عبادي. " * (لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) *) أخبرنا عقيل بن محمد، أخبرنا المعافا بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير. أخبرنا ابن عبد الأعلى،
342

حدثنا المعتمر، عن أبيه، قال: سمعت إن الناس حتى يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادي مناد: " * (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) *) فيرجوها الناس كلهم. قال: فيتبعها. " * (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) *) فينكس أهل الأديان رؤسهم غير المسلمين.
" * (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) *) تسرون وتنعمون. " * (يطاف عليهم بصحاف) *) بقصاع واحدتها صفحة.
" * (من ذهب وأكواب) *) أباريق مستديرة الرؤوس ليست لها آذان ولا خراطم، واحدها كوب. قال الأعشى:
صريفية طيب طعمها
لها زبد بين كوب ودن
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، حدثني أبي، حدثنا حسن بن موسى، حدثنا السكوني عبد الحميد بن عبد العزيز، حدثنا الأشعث الضرير، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن له سبع درجات هو على السادسة وفوق السابعة، وإن له لثلاثمائة خادم، ويغدي ويراح عليه كل يوم ثلاثمائة صحيفة)، ولا أعلمه إلا قال: (من ذهب في كل صحيفة لون ليس في الأخرى، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء، في كل إناء لون ليس في الأخرى، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنه ليقول يا رب لو أذنتني لأطعمت أهل الجنة، وسقيتهم لا ينقص مما عندي شيء إن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة، سوى زوجته في الدنيا، وإن الواحدة منهن ليأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض).
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، حدثنا ابن حبش المقري، حدثنا ابن رنجويه، حدثنا سلمة، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن إسماعيل بن أبي سعيد، إن عكرمة أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة، رجل لا يدخل الجنة بعده أحد، يفتح له بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس منها موضع شبر، إلا معمور يغدى عليه ويراح سبعين ألف صحيفة من ذهب، ليس منها صحيفة إلا وفيها لون ليس في الأخرى مثله).
(شهوته في آخرها كشهوته في أولها، لو نزل به جميع أهل الدنيا لوسع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا)
343

" * (وفيها) *) في الجنة. " * (ما تشتهيه الأنفس) *) قرأ أهل المدينة والشام وحفص عن عاصم " * (تشتهيه) *) بالهاء وكذلك هي في مصاحفهم.
" * (وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون) *) أخبرنا عقيل بن محمد، أخبرنا المعافا بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير، حدثنا ابن يسار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن سابط، إن رجلا قال: يا رسول الله إني أحب الخيل، فهل في الجنة خيل؟. فقال: (إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء تطير بك في أي الجنة شئت، إلا ركبت).
فقال: إعرابي يا رسول الله إني أحب الإبل، فهل في الجنة إبل؟. فقال: (ياإعرابي إن يدخلك الله الجنة إن شاء الله. كان لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عيناك).
وبه عن ابن جرير، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأياد، عن محمد ابن سعد الأنصاري، عن أبي ظبية السلمي، قال: إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة، فتقول: ما أمطركم؟. فما يدعو داع من القوم بشيء إلا مطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أترابا.
وبه عن ابن جرير، حدثنا موسى بن عبد الرحمن، حدثنا زيد بن الحبان بن الريان، أخبرنا معاوية بن صالح، حدثني سليمان بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة يقول: إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير، فيقع منفلقا نضيجا في كفه، فيأكل منه حتى تنتهي نفسه، ثم يطير، ويشتهي الشراب فيقع الإبريق في يده فيشرب منه ما يريد ثم يرجع إلى مكانه.
" * (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) *). أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، حدثنا محمد بن إبراهيم ابن زياد الطيالسي الرازي، حدثنا محمد بن حسان الأزرق، حدثنا ريحان بن سعيد، حدثنا عباد ابن منصور، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ينزع رجل من أهل الجنة من ثمرها إلا أعيد في مكانها مثلاها).
" * (إن المجرمين) *) المشركين. " * (في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) *) ليمتنا ربك فنستريح، فيجيبهم مالك بعد ألف سنة: " * (قال إنكم ماكثون) *) مقيمون في العذاب.
344

أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدثنا ابن حبش المقري، حدثنا ابن الفضل، حدثنا جعفر ابن محمد الدنقاي الضبي، حدثنا عاصم بن يوسف اليربوعي، حدثنا قطبة بن عبد العزيز السعدي، عن الأعمش، عن سمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم، فيقولون ادعوا خزنة جهنم، فيقولون ألم تك تأتكم رسلكم بالبينات؟ قالوا: بلى، قالوا: فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، قال: فيقولون ادعوا مالكا، فيدعون: يا مالك ليقض علينا ربك، فيجيبهم إنكم ماكثون).
قال: فقال الأعمش: أنبئت إن بين دعائهم وبين إجابته إياهم الف عام.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا هارون بن محمد بن هارون، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا القاسم بن يونس الهلالي، حدثنا قطبة بن عبد العزيز يعني السعدي، عن الأعمش، عن سمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك). باللام.
" * (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون أم أبرموا) *) أحكموا. " * (أمرا) *) في المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم " * (فإنا مبرمون) *) محكمون.
" * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم. بلى) *) نسمع ونعقل " * (ورسلنا لديهم يكتبون) *) يعني الحفظة.
(* (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين * سبحان رب السماوات والارض رب العرش عما يصفون * فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون * وهو الذى فى السمآء إلاه وفى الارض إلاه وهو الحكيم العليم * وتبارك الذى له ملك السماوات والارض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون * ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون * ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون * وقيله يارب إن هاؤلاء قوم لا يؤمنون * فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) *
345

" * (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين) *) يعني " * (إن كان للرحمان ولد) *) في قولكم وبزعمكم، فأنا أول الموحدين المؤمنين بالله في تكذيبكم والجاحدين لما قلتم من إن له ولدا. قاله مجاهد.
وقال ابن عباس: يعني ما كان للرحمن ولد وأنا أول الشاهدين له بذلك والعابدين له، جعل بمعنى النفي والجحد، يعني ما كان وما ينبغي له ولد. ثم ابتداء " * (فأنا أول العابدين) *)، وقال السدي: معناه، قل: " * (إن كان للرحمن ولد فأنا) *) أول من عبده بأن له ولد، ولكن لا ولد له، وقال قوم من أهل المعاني: معناه، قل " * (إن كان للرحمان ولد. فأنا أول) *) الآنفين من عبادته.
ويحتمل أن يكون معناه ما كان للرحمن ولد. ثم قال: فأنا أول العابدين الآنفين من هذا القول المنكرين إن له ولدا. يقال عبد إذا أنف وغضب عبدا. قال الشاعر:
ألا هويت أم الوليد وأصحبت
لما أبصرت في الرأس مني تعبد
وقال آخر:
متى ما يشاء ذو الود يصرم خليله
ويعبد عليه لا محالة ظالما
أخبرنا عقيل بن محمد إجازة، أخبرنا أبو الفرج، أخبرنا محمد بن جرير، حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، حدثنا ابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، عن ابن قشط، عن نعجة بن بدر الجهني إن امرأة منهم دخلت على زوجها وهو رجل منهم أيضا فولدت في ستة أشهر فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان ح وأمر بها ترجم، فدخل عليه علي بن أبي طالب ح فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه: " * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) *) وقال: (وفصاله في عامين) قال: فوالله ما عبد عثمان ح أن بعث إليها ترد. قال عبد الله بن وهب: ما استنكف ولا أنف
" * (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون) *) يكذبون. " * (فذرهم يخوضوا) *) في باطلهم. " * (ويلعبوا) *) في دنياهم. " * (حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) *) يعني يعبد في السماء ويعبد في الأرض. " * (وهو الحكيم) *) في تدبير خلقه. " * (العليم) *) بصلاحهم.
346

" * (وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق) *).
اختلف العلماء في معنى هذه الآية. فقال قوم: " * (من) *) في محل النصب وأراد ب " * (الذين يدعون) *) عيسى وعزير والملائكة، ومعنى الآية: ولا يملك عيسى وعزير والملائكة " * (الشفاعة إلا لمن شهد بالحق) *) فآمن على علم وبصيرة، وقال آخرون: " * (من) *) في وضع رفع والذين يدعون الأوثان والمعبودين من دون الله. يقول: ولا يملك المعبودون من دون الله " * (الشفاعة إلا لمن شهد بالحق) *) وهم عيسى وعزير والملائكة يشهدون بالحق.
" * (وهم يعلمون) *) حقيقة ما شهدوا. " * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) *) عن عبادته. " * (وقيله) *) يعني قول محمد صلى الله عليه وسلم شاكيا إلى ربه. " * (يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) *).
واختلف القراء في قوله: " * (قيله) *)، فقرأ عاصم وحمزة " * (وقيله) *) بكسر اللام على معنى " * (وعنده علم الساعة) *) وعلم قيله، وقرأ الأعرج بالرفع، أي وعنده قيله، وقرأ الباقون بالنصب وله وجهان: أحدهما: إنا لا نسمع سرهم ونجواهم ونسمع قيله والثاني: وقال: " * (قيله) *).
" * (فاصفح عنهم وقل سلام) *) نسختها آية القتال، ثم هددهم.
" * (فسوف يعلمون) *) بالتاء أهل المدينة والشام وحفص، واختاره أيوب وأبو عبيد، الباقون بالياء.
347

((سورة الدخان))
مكية، وهي تسع وخمسون آية، وثلاثمائة وست وأربعون كلمة، وألف وأربعمائة وواحد وثمانون حرفا
أخبرنا محمد بن القاسم، حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا زيد بن حباب، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا أبو عيسى بن علي الختلي، حدثنا أبو هاشم الرفاعي، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عمر بن عبد الله بن أبي السري عن يحيى بن أبي كثير،
عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك).
أخبرنا محمد بن القاسم، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي، حدثنا السراج، حدثنا أبو يحيى، حدثنا كثير بن هشام، عن هشام بن المقدام، عن الحسن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ حم التي يذكر فيها الدخان في ليلة الجمعة، أصبح مغفورا له).
أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها، حدثنا أبو علي الرقاء، أخبرنا أبو منصور سليمان بن محمد بن الفضل، حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا فضال بن كثير حي، قال: أتيت أبا أمامة، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (حم * والكتاب المبين * إنآ أنزلناه فى ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمرا من عندنآ إنا كنا مرسلين * رحمة من ربك إنه هو السميع العليم * رب
348

السماوات والارض وما بينهمآ إن كنتم موقنين * لا إلاه إلا هو يحى ويميت ربكم ورب ءابآئكم الاولين * بل هم فى شك يلعبون * فارتقب يوم تأتى السمآء بدخان مبين * يغشى الناس هاذا عذاب أليم * ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون * أنى لهم الذكرى وقد جآءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون * إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عآئدون * يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) *) 2
" * (حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة. إنا كنا منذرين) *) قال قتادة وابن زيد: هي ليلة القدر، أنزل الله تعالى القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم في الليالي والأيام، وقال الآخرون: هي ليلة النصف من شعبان.
أخبرنا الحسين بن محمد فنجويه، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم، حدثنا إبراهيم المستملي الهستجاني، حدثنا أبو حصين بن يحيى بن سليمان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا أبو بكر بن أبي سبره، عن إبراهيم بن محمد، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (ح) قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كان ليلة النصف من شعبان، قوموا ليلتها وصوموا يومها، فإن الله تعالى ينزل لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفرله، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا، ألا كذا، ألا كذا، حتى يطلع الفجر، " * (إنا كنا منذرين) *)).
" * (فيها يفرق) *) يفصل. " * (كل أمر حكيم) *) محكم. قال الحسن ومجاهد وقتادة: يبرم في ليلة القدر من شهر رمضان كل أجل وعمل وخلق ورزق، وما يكون في تلك السنة، وقال أبو عبد الرحمن السلمي: يدبر أمر السنة في ليلة القدر، وقال هلال بن نساف: كان يقال: انتظروا القضاء في شهر رمضان.
وقال عكرمة: في ليلة النصف من شعبان، يبرم فيه أمر السنة، وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج، فلا يزاد فيهم أحد، ولا ينقص منهم أحد.
يدل عليه ما أخبرنا عقيل بن محمد، أخبرنا أبو الفرج القاضي، أخبرنا محمد بن جبير، حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس، حدثني أبي، حدثنا الليث، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان. حتى أن الرجل لينكح ويولد له، وقد خرج أسمه في الموتى).
" * (أمرا) *) أي أنزلنا أمرا. " * (من عندنا) *) من لدنا، وقال الفراء: نصب على معنى نفرق كل
349

أمر فرق وأمرا. " * (إنا كنا مرسلين) *) محمد صلى الله عليه وسلم إلى عبادنا. " * (رحمة من ربك) *) وقيل: أنزلناه رحمة، وقيل: أرسلناه رحمة، وقيل: الرحمة.
" * (إنه هو السميع العليم رب السماوات والأرض وما بينهما) *) كسر أهل الكوفة (بائه) ردا على قوله من ربك، ورفعه الآخرون ردا على قوله " * (هو السميع العليم) *) وإن شئت على الابتداء.
" * (إن كنتم موقنين) *) إن الله " * (رب السماوات والأرض وما بينهما) *) فأيقنوا إن محمدا رسوله، وإن القرآن تنزيله. " * (لا إله إلا هو يحيى ويميت. ربكم ورب آباءكم الأولين بل هم في شك يلعبون فارتقب) *) فانتظر. " * (يوم تأتي السماء بدخان مبين) *).
اختلفوا في هذا الدخان، ما هو، ومتى هو، فروى الأعمش ومسلم بن صبيح، عن مسروق، قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا، وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن قاصا عند أبواب كنده، يقص ويقول في قوله تعالى: " * (يوم تأتي السماء بدخان مبين) *) إنه دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذ بأنفاس الكفار والمنافقين وأسماعهم وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام، فقام عبد الله وجلس، وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس اتقوا الله، من علم شيئا فليقل ما يعلم، ومن لا يعلم، فليقل الله أعلم، فأن الله تعالى، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " * (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) *) وسأحدثكم عن ذلك: أن قريشا لما أبطأت عن الإسلام، واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: (اللهم سبع سنين كسني يوسف). فأصابهم من الجهد والجوع ما أكلوا الجيف والعظام والميتة والجلود، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان من ظلمة أبصارهم من شدة الجوع، فأتاه أبو سفيان بن حرب، فقال: يا محمد إنك حيث تأمر بالطاعة وصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فإنهم لك مطيعون.
فقال الله تعالى: فقالوا:
" * (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) *) فدعا فكشف عنهم، فقال الله تعالى: " * (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) *) إلى كفركم. " * (يوم نبطش
البطشة الكبرى إنا منتقمون) *) فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر، فهذه خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم.
وقال الآخرون: بل هو دخان يجيء قبل قيام الساعة، فيدخل في أسماع الكفار والمنافقين، حتى تكون كالرأس الحنيذ، ويعتري المؤمن منهم كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه وليس فيه خصاص
350

قالوا: ولم يأت بعد، وهو آت وهذا قول ابن عباس وابن عمير والحسن وزيد بن علي، يدل عليه ما أنبأني عقيل بن محمد، أخبرنا المعافا بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير، حدثنا عصام بن داود الجراح، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن سعيد، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي ابن حراش، قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا).
قال حذيفة: يا رسول الله ما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: " * (يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم) *) يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة. أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، وأما الكافر كمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره.
وبه عن ابن جرير، حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عليه، عن ابن جريح، عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: غدوت على ابن عباس ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت.
" * (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى) *) من أين لهم للتذكير والإتعاظ بعد نزول البلاء وحلول العذاب. " * (وقد جاءهم رسول مبين) *) محمد صلى الله عليه وسلم " * (ثم تولوا عنه وقالوا معلم) *) يعلمه بشر. " * (مجنون إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون) *) إلى كفركم، وقال قتادة: عائدون في عذاب الله.
" * (يوم نبطش البطشة الكبرى) *) وهو يوم بدر. " * (إنا منتقمون) *) هذا قول أكثر العلماء، وقال الحسن: هو يوم القيامة.
وروي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال ابن مسعود: " * (الكبرى) *) يوم بدر و " * (إنا) *) أقول هي يوم القيامة.
(* (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجآءهم رسول كريم * أن أدوا إلى عباد الله إنى لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إنىءاتيكم بسلطان مبين * وإنى عذت بربى وربكم أن ترجمون * وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون * فدعا ربه أن هاؤلاء قوم مجرمون * فأسر بعبادى ليلا إنكم متبعون * واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون * كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما ءاخرين * فما بكت عليهم السمآء والارض وما كانوا
351

منظرين * ولقد نجينا بنىإسراءيل من العذاب المهين * من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين * ولقد اخترناهم على علم على العالمين * وءاتيناهم من الايات ما فيه بلؤ ا مبين * إن هاؤلاء ليقولون * إن هى إلا موتتنا الاولى وما نحن بمنشرين * فأتوا بئابآئنا إن كنتم صادقين * أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) *) 2
" * (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم) *) على الله وهو موسى بن عمران (عليه السلام)، وقيل: شريف وبسيط في قومه. " * (أن أدوا) *) أن ادفعوا. " * (إلي عباد الله) *) يعني بني إسرائيل فلا يعذبهم. " * (إني لكم رسول أمين) *) على الوحي.
" * (وأن لا تعلوا) *) تطغوا وتبغوا. " * (على الله) *) فتعصوه وتخالفوا أمره. " * (إني آتيكم بسلطان مبين) *) برهان مبين فتوعدوه بالقتل. فقال: " * (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) *) يقتلون، وقال قتادة: ترجمون بالحجارة. ابن عباس: يشتمون ويقولون هو ساحر. " * (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) *) فخلوا سبيلي غير مرجوم باللسان ولا باليد.
" * (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون) *) مشركون، فقال سبحانه: " * (فأسر بعبادي) *) بني إسرائيل. " * (ليلا إنكم متبعون) *) يتبعكم فرعون وقومه.
" * (واترك البحر رهوا) *) إذا قطعته أنت وأصحابك رهوا ساكنا على حالته وهيئته التي كان عليها حين دخلته. " * (إنهم جند مغرقون) *).
واختلفت عبارات المفسرين عن معنى الرهو فروى الوالبي عن ابن عباس رهوا، قال: سمتا. العوفي عنه: هو أن يترك كما كان. كعب: طريقا. ربيع: سهلا. ضحاك: دمثا. عكرمة: يابسا جزرا، وقيل جذاذا. قتادة: طريقا يابسا، وأصل الرهو في كلام العرب السكون. قال الشاعر:
كإنما أهل حجر ينظرون متى
يرونني خارجا طيرا يناديد
طيرا رأت بازيا نضح الدماء به
وأمه خرجت رهوا إلى عيد
يعني عليها سكون.
" * (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام) *) مجلس " * (كريم) *) شريف وإنما سماه كريما لأنه مجلس الملوك، قاله مجاهد وسعيد بن جبير، وقالا: هي المنابر، وقال قتادة: الكريم الحسن
352

" * (ونعمة كانوا فيها فاكهين) *) ناعمين فاكهين أشرين بطرين معجبين. " * (كذلك وأورثناها قوما آخرين) *) بني إسرائيل. نظيره قوله: " * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) *) الآية.
" * (فما بكت عليهم السماء والأرض) *) وذلك إن المؤمن إذا مات بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا، وقال عطاء: في هذه الآية بكاءها حمرة أطرافها، وقال السدي: لما قتل الحسين بن علي (ذ) بكت عليه السماء، وبكاؤها حمرتها.
حدثنا خالد بن خداش، عن حماد بن زيد، عن هشام، عن محمد بن سيرين. قال: أخبرونا إن الحمرة التي مع الشفق لم تكن، حتى قتل الحسين ح.
أخبرنا ابن بكر الخوارزمي، حدثنا أبو العياض الدعولي، حدثنا أبي بكر بن أبي خثيمة، وبه عن أبي خثيمة، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا سليم القاضي، قال: مطرنا دما أيام قتل الحسين.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا أبو علي المقري، حدثنا أبو بكر الموصلي، حدثنا أحمد بن إسحاق البصري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة الرمدني، أخبرني يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: (ما من عبد إلا له في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية: " * (فما بكت عليهم السماء والأرض) *))، وذلك إنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم، ولم يصعد إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي.
أخبرنا عقيل بن محمد: إن المعافا بن زكريا أخبره، عن محمد بن جرير، حدثنا يحيى بن طلحة، حدثنا عيسى بن يونس، عن صفوان بن عمر، عن شريح بن عبيد الحضرمي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، ألا لا غربة على مؤمن، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه، إلا بكت عليه السماء والأرض). ثم قرأ رسول الله (عليه السلام): " * (فما بكت عليهم السماء والأرض) *)، ثم قال: (إنهما لا تبكيان على الكافر).
" * (وما كانوا منظرين ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين) *) قتل الأبناء واستحياء
353

النساء. " * (من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ولقد اخترناهم) *) يعني مؤمني بني إسرائيل.
" * (على علم) *) منا لهم. " * (على العالمين) *) يعني عالمي زمانهم " * (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) *) قال قتادة: نعمة بينة حين فلق لهم البحر وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى.
وقال ابن زيد: ابتلاهم بالرخاء والشدة، وقرأ: * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) * * (إن هؤلاء) *) يعني مشركي مكة. " * (ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين) *) بمبعوثين بعد موتنا. " * (فأتوا بآباءنا) *) الذين ماتوا. " * (إن كنتم صادقين) *) إنا نبعث أحياء بعد الموت.
" * (أهم خير أم قوم تبع) *) قال قتادة: هو تبع الحميري، وكان سار بالجيوش حتى حير الحيرة، وبنى سمرقند، وكان إذا كتب، كتب باسم الذي يملك برا وبحرا وضحا وريحا.
وذكر لنا إن كعبا يقول: ذم الله قومه ولم يذمه، وكانت عائشة (خ) تقول: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا، وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن محمد القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو زرعة عمرو بن جابر، عن سهل بن سعد، قال: سمعت النبي (عليه السلام) يقول: (لا تسبوا تبعا، فإنه قد كان أسلم).
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا محمد بن علي سالم الهمذاني، حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن أبي ذيب، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أدري تبع نبيا كان أم غير نبي).
" * (والذين من قبلهم) *) من الأمم الخالية الكافرة.
" * (أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) *).
2 (* (وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهمآ إلا بالحق ولاكن أكثرهم لا
354

يعلمون * إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين * يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون * إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم * إن شجرة الزقوم * طعام الاثيم * كالمهل يغلى فى البطون * كغلى الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سوآء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هاذا ما كنتم به تمترون * إن المتقين فى مقام أمين * فى جنات وعيون * يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين * كذلك وزوجناهم بحور عين * يدعون فيها بكل فاكهة ءامنين * لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى ووقاهم عذاب الجحيم * فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم * فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون * فارتقب إنهم مرتقبون) *) 2
" * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا) *) لا يدفع ابن عم عن ابن عمه ولا صديق عن صديقه.
" * (ولا هم ينصرون إلا من رحم الله) *) اختلف النحاة في محل " * (من) *) فقال بعضهم: محله رفع بدلا من الاسم المضمر في ينصرون، وإن شئت جعلته ابتداء وأضمرت خبره، يريد " * (إلا من رحم الله) *) فنغني عنه ونشفع له، وإن شئت جعلته نصبا على الاستثناء والانقطاع، عن أول الكلام يريد اللهم * (إلا من رحم الله) * * (إنه هو العزيز الرحيم إن شجرت الزقوم طعام الأثيم) *) الفاجر وهو أبو جهل بن هشام.
أنبأني عقيل بن حمد، أخبرنا المعافا بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير، حدثني أبو السائب، حدثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، قال: كان أبو الدرداء يقرئ رجلا " * (إن شجرت الزقوم طعام الأثيم) *) فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فلما أكثر عليه أبو الدرداء فرآه لا يفهم. قال: قل إن
شجرت الزقوم طعام الفاجر.
" * (كالمهل يغلي) *) بالياء ابن كثير وحفص، ورويس جعل الفعل غيرهم بالتاء لتأنيث الشجرة.
" * (في البطون كغلي الحميم خذوه) *) يعني الأثيم. " * (فاعتلوه) *) فأدخلوه وادفعوه وسوقوه إلى النار. يقال: عتله يعتله عتلا إذا ساقه بالعنف والدفع والجذب. قال الفرزدق:
ليس الكرام بناحليك أباهم
حتى ترد إلى عطية تعتل
أي ساق دفعا وسحبا، وفيه لغتان: كسر التاء، وهي قراءة أبي جعفر وأبي مرو وأهل الكوفة، وضمها وهي قراءة الباقي
355

" * (إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم) *) وهو الماء الذي قال الله تعالى: " * (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) *) ثم يقال له: " * (ذق) *) هذا العذاب. " * (إنك أنت العزيز) *) في قومك. " * (الكريم) *) بزعمك، وذلك إن أبا جهل. قال: ما بين حبليها رجل أعز ولا أكرم مني. فيقول له الخزنة هذا على طريق الاستخفاف والتحقيق.
وقراءة العامة إنك بكسر الألف على الابتداء، وقرأ الكسائي بالنصب على معنى لأنك.
" * (إن هذا ما كنتم به تمترون) *) تشكون ولا تؤمنون به فقد لقيتموه فذوقوه. " * (إن المتقين في مقام أمين) *) قرأ أهل المدينة والشام بضم (الميم) من المقام على المصدر أي في إقامة، وقرأ غيرهم بالفتح أي في مكان كريم.
" * (في جنات وعيون يلبسون من سندس) *) وهو ما رق من الديباج. " * (وإستبرق) *) وهو ما غلظ منه معرب. " * (متقابلين كذلك) *) وكما أكرمناهم بالجنان والعيون واللباس كذلك أكرمناهم بأن. " * (وزوجناهم بحور) *) وهي النساء النقيات البياض، قال مجاهد: يحار فيهن الطرف من بياضهن وصفاء لونهن، بادية سوقهن من وراء ثيابهن، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون.
ودليل هذا التأويل إنها في حرف ابن مسعود (بعيس عين) وهي البيض ومنه قيل للإبل البيض عيس، وواحده بعير أعيس، وناقة عيساء، وقيل: الحور الشديدات بياض الأعين، الشديدات سوادها، واحدها أحور، والعين جمع العيناء، وهي العظيمة العينين.
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الطبري الحاجي، حدثنا أبو علي الحسن ابن إسماعيل بن خلف الخياط، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين بن الفرج، حدثنا محمد بن عبيد بن عبد الملك، حدثنا محمد بن يعلي أبو علي الكوفي، حدثنا عمر بن صبيح، عن مقاتل بن حيان، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز).
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا محمد بن عمر بن إسحاق، عن حبش، حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، حدثنا أيوب بن علي يعني الصباحي حدثنا زياد بن سيار مولى لي عن عزة بنت أبي قرصافة، عن أبيها قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين).
" * (يدعون فيها بكل فاكهة) *) اشتهوها. " * (آمنين) *) من نفادها وعدمها في بعض الأزمنة ومن
356

غائلتها ومضرتها، وقال قتادة: " * (آمنين) *) من الموت والأوصاب والشيطان.
" * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) *) يعني سوى " * (الموتة الأولى) *) وبعدها وضع " * (إلا) *) موضع بعد كقوله: " * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) *). يعني بعدما قد فعل آباؤكم وسواه، وهذا كما يقول في الكلام: ما ذقت اليوم طعاما سوى ما أكلته أمس.
" * (ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيمة فإنما يسرناه) *) سهلناه، كناية عن غير مذكور.
" * (بلسانك لعلهم يتذكرون فارتقب) *) فانتظر الفتح والنصر من ربك. " * (إنهم مرتقبون) *) بزعمهم قهرك.
357

((سورة الجاثية))
مكية، وهي سبع وثلاثون آية، وأربعمائة وثمانوثمانون كلمة، وألفان ومائة وواحد وتسعون حرفا
أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه، أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر العدل، حدثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا سلام بن سليم، حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته عند الحساب).
بسم الله الرحمن الرحيم
" * (
حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات
2 (* (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إن فى السماوات والارض لايات للمؤمنين * وفى خلقكم وما يبث من دآبة ءايات لقوم يوقنون * واختلاف اليل والنهار ومآ أنزل الله من السمآء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح ءايات لقوم يعقلون * تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق فبأى حديث بعد الله وءاياته
يؤمنون * ويل لكل أفاك أثيم * يسمع ءايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم * وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزوا أولائك لهم عذاب مهين * من ورآئهم جهنم ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء ولهم عذاب عظيم * هاذا هدى والذين كفروا بئايات ربهم لهم عذاب من رجز أليم * الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما فى السماوات وما فى الارض جميعا منه إن فى ذلك لايات لقوم يتفكرون * قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون * من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون * ولقد ءاتينا بنىإسراءيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين * وءاتيناهم بينات من الامر فما اختلفوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أوليآء بعض والله ولى المتقين * هاذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون * أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سوآء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون) *). (سقط: الآية)
358

(سقط: الآية)
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بكسر التاء من آيات وكذلك التي بعدها ردا على قوله: " * (لآيات) *) وقرأ الباقون برفعها على خبر حرف الصفة.
" * (لقوم يوقنون واختلاف اليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق) *) يعني الغيث سماه رزقا لأنه سبب أرزاق العباد وأقواتهم " * (فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق. فبأي حديث بعد الله) *). أي بعد حديث الله وكلامه. " * (وآياته) *) وحججه ودليله. " * (يؤمنون) *) قرأ أهل الكوفة بالتاء، وأختلف فيه عن عاصم ويعقوب عنهم بالياء.
" * (ويل لكل أفاك) *) كذاب. " * (أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها. فبشره بعذاب أليم وإذا علم) *) يعني قوله " * (من آياتنا شيئا اتخذها هزوا. أولئك لهم عذاب مهين) *) نزلت في أبي جهل وأصحابه. " * (من ورائهم) *) أمامهم. " * (جهنم) *) نظيره في سورة إبراهيم (عليه السلام). " * (ولا يغني عنهم ما كسبوا) *) من الأموال. " * (شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء) *) يعني الأوثان.
" * (ولهم عذاب عظيم هذا) *) القرآن. " * (هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم) *) من عذاب موجع.
" * (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) *) فلا تجعلوا لله أندادا.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدثنا طلحة وعبد الله، قالا: حدثنا ابن مجاهد، حدثني ابن أبي مهران، حدثني أحمد بن يزيد، حدثنا شبابة، عن أبي سمبلة، عن عبد العزيز بن علي القريشي، حدثنا محمد بن عبد الله بن أيوب الثقفي، عن عثمان بن بشير، قال: سمعت ابن عباس يقرأ: " * (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) *) مفتوحة (الميم)، مرفوعة (النون)، وبه رواية، عن ابن عمر، قال: سمعت مسلمة يقرأ: " * (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) *) مفتوحة (الميم) مرفوعة (النون) وهي مشددة، (والهاء) مضمومة.
" * (إن في ذلككلآيات لقوم يتفكرون قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) *) أي لا يخافون وقائع الله ولا يبالون نقمه، قال ابن عباس ومقاتل: نزلت في عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم وذلك أن رجلا من بني غفار كان يشتمه فهم عمر أن يبطش به، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره بالعفو.
أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الله، حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، حدثنا محمد بن زياد الشكري، عن ميمون ابن مهران، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية " * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) *))
359

. قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج رب محمد.
قال: فلما سمع بذلك عمر بن الخطاب اشتمل على سيفه وخرج في طلبه. فجاء جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال: إن ربك يقول: " * (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) *)، وأعلم إن عمر بن الخطاب قد اشتمل على سيفه وخرج في طلب اليهودي). فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه، فلما جاءه، قال: (يا عمر خرج سيفك؟). قال: صدقت يا رسول الله، أشهد أنك أرسلت بالحق، قال: (فإن ربك يقول: " * (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) *)).
قال: لا جرم والذي بعثك بالحق لا يرى الغضب في وجهي.
قال القرظي والسدي: نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين، قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى هذه الآية ثم نسختها آية القتال.
" * (ليجزي قوما) *) بفتح الياءين وكسر الزاء، وقرأ أبو جعفر بضم الياء الأولى وجزم الثانية، قال أبو عمرو: وهو لحن ظاهر، وقال الكسائي: وهذه ليجري الجزاء قوما، وقرأ الباقون بفتح اليائين على وجه الخبر عن الله تعالى، واختاره أبو عبيده وأبو حاتم لذكر الله تعالى قبل ذلك.
" * (بما كانوا يكسبون من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها. ثم إلى ربكم ترجعون ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات) *) الحلالات، يعني المن والسلوى. " * (وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر) *) يعني أحكام التوراة.
" * (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم. إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة) *) سنة وطريقة. " * (من الأمر) *) من الدين.
" * (فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) *) يعني مراد الكافرين الجاهلين، وذلك حين دعي إلى دين آبائه.
" * (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) *) إن اتبعت أهواءهم. " * (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين هذا) *) يعني هذا القرآن. " * (بصائر) *) معالم. " * (للناس) *) في الحدود والأحكام يبصرون بها.
" * (وهدى ورحمة لقوم يوقنون أم حسب الذين اجترحوا) *) إكتسبوا. " * (السيئات) *) يعني الكفر والمعاصي.
" * (أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء) *) قرأ أهل الكوفة نصبا واختاره أبو عبيدة، وقال: معناه نجعلهم سواء، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء والخبر، واختاره أبو حاتم، وقرأ الأعمش " * (ومماتهم) *) بنصب التاء على الظرف، أي في.
" * (محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) *) بئس ما يقضون، قال المفسرون: معناه المؤمن في
360

الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر. نزلت هذه الآية في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين: لئن كان ما تقولون حقا لنفضلن عليكم في الآخرة، كما فضلنا عليكم في الدنيا.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا جعفر بن محمد الفرماني، حدثنا محمد بن الحسين البلخي، حدثنا عبد الله بن المبرك، أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحي، عن مسروق، قال: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة، حتى أصبح أو كاد أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله، ويركع، ويسجد، ويبكي " * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم) *)... الآية.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، حدثني أبو هشام زياد بن أيوب، حدثنا علي بن يزيد، حدثنا عبد الرحمن بن عجلان، عن بشير بن أبي طعمة، قال: بت عند الربيع بن خيثم ذات ليلة، فقام يصلي فمر بهذه الآية " * (أم حسب الذين) *) فمكث ليله حتى أصبح ما يجوز هذه الآية إلى غيرها، ببكاء شديد، وقال إبراهيم بن الأشعث: كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض، يردد من أول الليلة إلى آخرها هذه الآية ونظائرها " * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) *) ثم يقول: يا فضيل ليت شعري من أي الفريقين أنت.
(* (وخلق الله السماوات والارض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون * أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون * وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنآ إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بئابآئنآ إن كنتم صادقين * قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ولله ملك السماوات والارض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون * وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هاذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون * فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم فى رحمته ذلك هو الفوز المبين * وأما الذين كفروا أفلم تكن ءاياتى تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين * وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندرى ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين * وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هاذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين * ذلكم بأنكم اتخذتم ءايات الله هزوا وغرتكم الحيواة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون * فلله الحمد رب السماوات ورب الارض رب العالمين * وله الكبريآء فى السماوات والارض وهو العزيز الحكيم) *) 2
" * (وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) *).
361

قال ابن عباس والحسين وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه، إنه لا يؤمن بالله ولا يخافه ولا يحرم ما حرم الله ولا يحل ما أحل الله، إنما دينه ما هويت نفسه يعمل به ولا يحجزه عن ذلك تقوى.
وقال آخرون: معناه أفرأيت من اتخذ معبوده هواه، فيعبد ما يهوى.
قال سعيد بن جبير: كانت قريش تعبد العزي وهو حجر أبيض حينا من الدهر، وكانت العرب تعبد الحجارة والذهب والفضة، فإذا وجدوا شيئا أحسن من الأول رموه أو كسروه أو ألقوه في بئر، وعبدوا الآخر، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس التميمي أحد المستهترين، وذلك إنه كان يعبد ما تهواه نفسه.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا طلحة وعبيد الله، قالا: حدثنا ابن مجاهد، حدثني ابن أبي مهران، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، قال: قال سفيان بن عيينة: إنما عبدوا الحجارة لإن البيت حجارة.
وقال الحسين بن الفضل: في هذه الآية تقديم وتأخير مجازها: أفرأيت من أتخذ هواه إلهه.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا محمد بن عمران بن هارون، حدثنا أبو عبيد الله المخزومي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن شبرمه، عن الشعبي، قال: إنما سمي الهوى لإنه يهوي بصاحبه في النار.
وبه عن سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: ما ذكر الله عز وجل هوى في القرآن إلا ذمه.
فروى أبو أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه، قال: (ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من هوى).
وقال صلى الله عليه وسلم (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه).
وروى ضمرة بن حبيب، عن شداد بن أوس إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله).
وقال مضر القاضي: لنحت الجبال بالأظافير حتى تتقطع الأوصال، أهون من مخالفة الهوى إذا تمكن في النفوس.
وسئل ابن المقفع عن الهوى، فقال: هوان سرقت نونه، فنظمه الشاعر:
نون الهوان من الهوى مسروقة
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقال آخر:
362

إن الهوى لهو الهوان بعينه
فإذا هويت فقد كسبت هوانا
وإذا هويت فقد تعبدك الهوى
فإخضع لحبك كائنا من كانا
أنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا أبو حاتم محمد بن حيان المسني، قال: ولم ار أكمل منه. قال: وأنشدنا محمد بن علي الحلاري لعبد الله المبرك:
ومن البلاء للبلاء علامة
أن لا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها
والحر يشبع تارة ويجوع
وأنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي، أنشدنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي، أنشدنا أبو المثنى معاذ بن المثنى العنبري، عن أبيه لأبي العتاهية:
فإعص هوى النفس ولا ترضها
إنك إن أسخطتها زانكا
حتى متى تطلب مرضاتها
وإنها تطلب عدوانكا
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا أبو عبيد الطوسي:
والنفس إن أعطيتها مناها
فاغرة نحو هواها فاها
وسمعت أبا القاسم يقول: سمعت أبا نصر بن منصور بن عبد الله الأصبهاني بهراة يقول: سمعت أبا الحسن عمرو بن واصل البحتري يقول: سئل سهل بن عبد الله التستري عن الهوى؛ فقال للسائل: هواك يأمرك فإن خالفته فرط بك، وقال: إذا عرض لك أمران شككت خيرها فإنظر أبعدهما من هواك فإنه.
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال المشاشي بمرو وأنشدني أبو بكر الزيدي:
إذا طالبتك النفس يوما بشهوة
وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما
هواك عدو والخلاف صديق
قوله سبحانه وتعالى:
" * (وأضله الله على علم) *) منه بعاقبة أمره. " * (وختم) *) طبع. " * (على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) *) قرأ حمزة والكسائي وخلف " * (غشاوة) *) بفتح (الغين) من غير (ألف) والباقون " * (غشاوة) *) (بالألف) وكسر (الغين).
" * (فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقالوا) *) يعني المشركين. " * (ما هي إلا حياتنا
363

الدنيا نموت ونحيا) *) يموت الآباء ويحيا الأبناء. " * (وما يهلكنا إلا الدهر) *) وما يفنينا إلا الزمان وطول العمر وفي حرف عبد الله وما يهلكنا الدهر يمر.
" * (وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) *) أخبرنا الحسين بن فنجويه بقراءتي حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي الدينوري، حدثنا أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب القاضي، حدثنا أحمد بن المقدام العجلي، حدثنا سفيان بن عيينة بن أبي عمران، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الليل والنهار هو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا) فقال الله تعالى في كتابه: " * (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) *) فيسبون الدهر.
فقال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار).
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون بقراءتي عليه في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فاقربه، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن، حدثنا محمد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر وأحمد بن يوسف، قالوا: حدثنا عبد الرزاق بن همام، أخبرنا معمر بن راشد، عن همام بن منبه بن كامل بن سيج، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، عن محمد صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما).
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة، حدثنا عبد الملك بن أحمد البغدادي، حدثنا محمود بن خداش، حدثنا سفيان بن محمد الثوري، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (عليه السلام): (لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر).
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في تفسير هذا الحديث: إن هذا مما لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه وذلك أن من شأن العرب أن يذموا الدهر عند المصائب والنوائب (.......) إجتاحهم الدهر وتخوفتهم الأيام وأتى عليهم الزمان وما أشبه ذلك حتى ذكروها في أشعارهم، (ونسبوا الأحداث إليه).
قال عمرو بن قميئة:
364

رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى
فكيف بمن يرمي وليس برام
فلو أنها نبل إذا لاتقيتها
ولكنني أرمي بغير سهام
على الراحتين مرة وعلى العصا
أنوء ثلاثا بعدهن من قيامي
وروي إن الشعببي دخل على عبد الملك بن مروان وقد ضعف. فسأله عن حاله، فأنشده هذه الأبيات:
فاستأثر الدهر الغداة بهم
والدهر يرميني ولا أرمي
يا دهر قد أكثرت فجعتنا
بسراتنا ووقرت في العظم
وتركتنا لحم على وضم
لو كنت تستبقي من اللحم
وسلبتنا ما لست تعقبنا
يا دهر ما أنصفت في الحكم
وأنشدنا أبو القاسم السدوسي، أنشدنا عبد السميع بن محمد الهاشمي، أخبرنا أبو الحسن العبسي لابن لنكك في هذا المعنى:
قل لدهر عن المكارم عطل
يا قبيح الفعال جهم المحيا
كم كريم حططته من بقاع
ولئيم ألحقته بالثريا
قال أبو عبيده: وناظرت بعض الملاحدة. فقال: إلا تراه يقول: فإن الله هو الدهر. فقلت له: وهل كان أحد يسب الله في أياد الدهر، بل كانوا يقولون كما قال الأعشى:
استأثر الله بالوفاء وبالعدل
وولى الملامة الرجلا
قال: فتأويل قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله هو الدهر)، إن الله جل ذكره هو الذي يأتي بالدهر والشدائد والمصائب فإذا سببت الدهر وقع السب على الله تعالى لأنه فاعل هذه الأشياء وقاضيها ومدبرها.
وقال الحسين بن الفضل: مجازه: فإن الله هو مدهر الدهور.
وروي عن علي ح في خطبة له: مدهر الدهور، ومن عنده الميسور، ومن لدنه المعسور.
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن النيسابوري، حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن الكارزي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن القاسم الجمحي، حدثنا عسر بن أحمد، قال: بلغني إن سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيرا ما يذكر الدهر، فزجره أبوه عبد الله بن عمر، وقال له: يا بني إياك وذكر الدهر، وأنشد:
فما الدهر بالجاني لشيء لحينه
ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا
365

ولكن متى ما يبعث الله باعثا
على معشر يجعل مياسيرهم عسرا وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا الشيخ أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني، أنشدنا معاذ بن نجدة بن العريان:
دار الزمان على الأمور فإنه
(إن لحدا أزراك) بالآلام
وذو الزمان على الملام فإنما
يحكي الزمان مجاري الأقلام
يشكى الزمان ويستزاد وإنما
بيد المليك ساند الأحكام
وأنشدنا الأستاذ أبو القاسم، أنشدني أبي، أنشدني أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي:
يا عاتب الدهر إذا نابه
لا تلم الدهر على عذره
ألدهر مأمور له آمر
وينتهي الدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جمة
تزداد أضعافا على كفره
ومؤمن ليس له درهم
يزدادا ايمانا على فقره
" * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة) *) يعني ليوم القيامة. " * (لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون وترى كل أمة جاثية) *) مجتمعة مستوفرة على ركبها من هول ذلك اليوم، وأصل الجثوة الجماعة من كل شيء.
قال طرفة يصف قبرين:
ترى جثوتين من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح مصمد
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا موسى بن محمد الحلواني، حدثنا يعقوب بن إسحاق العلوي. حدثنا عبد الله بن يحيى الثقفي، حدثنا أبو عران، عن عاصم الأحول، عن ابن عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي، قال: في القيامة ساعة هي عشر سنين يكون الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إبراهيم (عليه السلام) لينادي (لا أسألك اليوم إلأنفسي).
" * (كل أمة تدعى إلى كتابها) *) الذي فيه أعمالها. " * (اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) *) فيه ديوان الحفظة وقيل اللوح المحفوظ.
أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عمر بن نوح البجلي، حدثنا أبو خليفة، حدثنا عثمان بن عبد
366

الله الشامي، حدثنا عقبة بن الوليد، عن أرطأة بن المنذر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أول شيء خلق الله القلم من نور مسيره خمسمائة عام، واللوح من نور مسيره خمسمائة عام، فقال للقلم: إجر فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، بردها وحرها، ورطبها ويابسها، ثم قرأ هذه الآية " * (هذا كتابنا ينطق بالحق) *)).
" * (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) *) قال: وهل يكون النسخ إلا من كتاب قد فرغ منه، ومعنى نستنسخ يأمر بالنسخ، وقال الضحاك: نثبث. السدي نكتب.
الحسن: نحفظ.
" * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته) *) جنته " * (ذلك هو الفوز المبين) *) الظفر الطاهر. " * (وأما الذين كفروا) *) فيقال لهم: " * (أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها) *) قرأه العامة بالرفع على الابتداء وخبره فيما بعده ودليلهم قوله: " * (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) *).
قرأ أبو رجاء وحمزة " * (والساعة) *) نصبا عطفا بها على الوعد لا ريب فيها.
" * (قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) *) إنها كائنة. " * (وبدا لهم سيئات ما عملوا) *) أي جزاؤها. " * (وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون وقيل اليوم ننساكم) *) نترككم في النار.
" * (كما نسيتم لقاء يومكم هذا) *) كما تركتم الإيمان بيومكم هذا. " * (ومأواكم النار وما لكم من ناصرين. ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون) *). قرأه العامة بضم الياء، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصم بفتحة.
" * (منها ولا هم يستعتبون) *) يسترضون. " * (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين) *) قرأه العامة بكسر (الباء) في ثلاثتها، وقرأ ابن محيصن رفعا على معنى هو رب.
" * (وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) *).
367