الكتاب: تفسير البغوي
المؤلف: البغوي
الجزء: ٢
الوفاة: ٥١٠
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: خالد عبد الرحمن العك
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: بيروت - دار المعرفة
الناشر: دار المعرفة
ردمك:
ملاحظات:

سورة المائدة مدنية كلها إلا قوله (اليوم أكملت لكم دينكم) الآية فإنها نزلت بعرفات وهي مائة وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم روي عن أبي ميسرة قال أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها قوله (أحلت لكم بهيمة الأنعام) وقوله (والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن) (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) وتمام الطهور في قوله (إذا قمتم إلى الصلاة) (والسارق والسارقة) (و لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) الآية (وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) وقوله (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) بسم الله الرحمن الرحيم سورة المائدة (1) قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) أي بالعهود قال الزجاج هي أوكد العهود يقال عاقدت فلانا وعقدت عليه أي ألزمته ذلك باستئناف وأصله من عقد الشيء بغيره ووصله به كما يعقد الحبل بالحبل إذا وصل واختلفوا في هذه العقود قال ابن جريج هذا خطاب لأهل الكتاب يعني يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وهو قوله (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس) وقال الآخرون هو عام قال قتادة أراد بها الحلف الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية قال ابن مسعود رضي الله عنه هي عهود الإيمان والقرآن وقيل هي
5

العقود التي يتعاقدها الناس بينهم (أحلت لكم بهيمة الأنعام) قال الحسن وقتادة هي الأنعام كلها وهي الإبل والبقر والغنم وأراد تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام وروى أبو ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بهيمة الأنعام هي الأجنة ومثله عن الشعبي قال هي الأجنة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت أو نحرت ذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله قال الشيخ رحمه الله تعالى قرأت على أبي عبد الله محمد بن الفضل الخرقي فقلت قرأ علي أبي سهل محمد بن عمر بن طرفة الشجري وأنت حاضر فقيل له حدثكم أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر ابن داسة أنا أبو داود السجستاني أنا مسدد أنا هشيم عن مخلد عن أبي الوداك عن أبي مسعود رضي الله عنهم قال قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله فقال كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه وروى أبو الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذكاة الجنين ذكاة أمه وشرط بعضهم الإشعار قال ابن عمر ذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا تم خلقه ونبت شعره ومثله عن سعيد بن المسيب وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتا بعد ذكاة الأم وقال الكلبي بهيمة الأنعام وحشها وهي الظباء وبقر الوحش وحمر الوحش سميت بهيمة لأنها أبهمت عن التمييز وقيل لأنها لا نطق لها (إلا ما يتلى عليكم) أي ما ذكر في قوله (حرمت عليكم الميتة) إلى قوله (وما ذبح على النصب) (غير محلي الصيد) وهو نصب على الحال أي لا محلي الصيد ومعنى الآية أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام فلذلك قوله تعالى (وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد) سورة المائدة (2) (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة البكري أتي المدينة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إلام تدعو الناس فقال له إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال حسن إلا أن
6

لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلى أسلم وآتى بهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان ثم خرج شريح من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق فاتبعوه فلم يدركوه فلما كان العام القابل خرج حاجا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلدوا الهدي فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الحطم قد خرج حاجا فخل بيننا وبينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه قلد الهدي فقالوا يا رسول الله هذا شئ كنا نفعله في الجاهلية فأبي النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) قال ابن عباس رضي الله عنهما و مجاهد هي مناسك الحج وكان المشركون يحجون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك وقال أبو عبيدة شعائر الله هي الهدايا المشعرة والإشعار من الشعار وهي العلامة وأشعارها أعلامها بما يعرف أنها هدي والإشعار ههنا أن يطعن في صحفة سنان البعير بحديدة حتى يسيل الدم فيكون ذلك علامة أنها هدي وهي سنة في الهدايا إذا كانت من الإبل لما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل أبو نعيم أنا أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها وأشعرها وأهداها فما حرم عليه شئ كان أحل له وقاس الشافعي البقر على الإبل في الإشعار وأما الغنم فلا تشعر بالجرح فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يشعر الهدي وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما لا تحلوا شعائر الله هي أن تصيد وأنت محرم بدليل قوله تعالى (وإذا حللتم فاصطادوا) وقال السدي أراد حرم الله وقيل المراد منه النهي عن القتل في الحرم وقال عطاء شعائر الله حرمات الله واجتناب سخطه واتباع الطاعة قوله (ولا الشهر الحرام) أي بالقتال فيه وقال ابن زيد هو النسيء وذلك أنهم كانوا يحلونه عاما ويحرمونه عاما (ولا الهدي) هو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة (ولا القلائد) أي الهدايا المقلدة يريد ذوات القلائد وقال عطاء أراد أصحاب القلائد وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم وإبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم فنهى الشرع عن استحلال شيء منها وقال مطرف بن الشخير هي القلائد نفسها وذلك أن المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكة ويتقلدونها فنهوا عن نزع شجرها قوله تعالى (ولا آمين البيت الحرام) أي قاصدين البيت الحرام يعني الكعبة فلا تتعرضوا لهم (يبتغون) يطلبون (فضلا من ربهم) يعني الرزق بالتجارة (ورضوانا) أي على زعمهم لأن الكافرين لا نصيب له في الرضوان وقال قتادة هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها وقيل ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة لأن المسلمين والمشركين كانوا يحجون وهذه الآية إلى ههنا منسوخة بقوله (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وبقوله (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)
7

سورة مائدة (3) فلا يجوز أن يحج مشرك ولا يأمن كافر بالهدي والقلائد قوله عز وجل (وإذا حللتم) أي من إحرامكم (فاصطادوا) أمر إباحة أباح للحلال أخذ الصيد كقوله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) (ولا يجرمنكم) قال ابن عباس رضي الله عنهما و قتادة لا يحملنكم يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني وقال الفراء لا يكسبنكم يقال جرم أي كسب فلان جريمة أهله أي كاسبهم وقيل لا يدعونكم (شنآن قوم) أي بغضهم وعداوتهم وهو مصدر شئت قرأ ابن ابن عامر و أبو بكر (شنآن قوم) بسكون النون الأولى وقرأ الآخرون بفتحها وهما لغتان والفتح أجود لأن المصادر أكثرها فعلان بفتح العين مثل الضربان والسيلان والنسلان ونحوها (أن صدوكم عن المسجد الحرام) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الألف على الاستئناف وقرأ الآخرون بفتح الألف أي لأن صدوكم ومعنى الآية ولا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء لأنهم صدوكم وقال محمد بن جرير لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية وكان الصد قد تقدم (أن تعتدوا) عليهم بالقتل وأخذ الأموال (وتعاونوا) أي ليعين بعضكم بعضا (على البر والتقوى) قيل البر متابعة الأمر والتقوى مجانبة النهى وقيل البر الإسلام والتقوى السنة (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) قيل الإثم الكفر والعدوان الظلم وقيل الإثم المعصية والعدوان البدعة أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي طاهر الدقاق ببغداد أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الزبير القريشي أنا الحسن علي بن عفان أنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نغير ابن مالك الحضرمي عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم قال البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس (واتقوا الله إن الله شديد العقاب) سورة المائدة (3) (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) أي ما ذكر على ذبحه غير أسم الله تعالى (والمنخنقة) وهي التي تخنق فتموت قال ابن عباس كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة
8

حتى إذا ماتت أكلوها (والموقوذة) هي المقتولة بالخشب قال قتادة كانوا يضربونها بالعصا فإذا ماتت أكلوها (والمتردية) هي التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت (والنطيحة) هي التي تنطحها أخرى فتموت وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث نحو عين كحيل وكف خضيب فإذا حذفت الاسم وأفردت الصفة أدخلوا الهاء فقالوا رأينا كحيلة وخضيبة وهنا أدخل الهاء لأنه يتقدمها الاسم فلو أسقط الهاء لم يدر أنها صفة مؤنث أم مذكر ومثله الذبيحة والنسيكة وأكيلة السبع (وما أكل السبع) يريد ما بقي مما أكل السبع وكان أهل الجاهلية يأكلونه (إلا ما ذكيتم) يعني إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء وأصل التذكية الإتمام يقال ذكيت النار إذا أتممت اشتعالها والمراد هنا إتمام فري الأوداج وانهار الدم قال النبي صلى الله عليه وسلم ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل غير السن والظفر وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع المري والحلقوم وكما له أن يقطع الودجين معهما ويجوز بكل محدد يقطع من حديد أو قصب أو زجاج أو حجر إلا السن والظفر فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما وإنما يحل ما ذكيته بعدما جرحه السبع وأكل شيئا منه إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته فأما ما صار بجرح السبع إلى حاله المذبوح فهو في حكم الميتة فلا يكون حلالا وأن ذبحته وكذلك المتردية والنطيحة إذا أدركتها قبل أن تصير إلى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالا ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه فسقط على الأرض ومات كان حلالا لأن الوقوع على الأرض من ضرورته فإن سقط على جبل أو شجر ثم تردى منه فمات فلا يحل وهو من المتردية إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء فيحل كيف ما وقع لأن الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح (وما ذبح على النصب) قيل النصب جمع واحده نصاب وقيل هو واحد وجمعه أنصاب مثل عنق وأعناق وهو الشيء المنصوب واختلفوا فيه فقال مجاهد و قتادة كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها وليست هي بأصنام إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة وقال الآخرون هي الأصنام المنصوبة ومعناه وما ذبح على اسم النصب قال ابن زيد وما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به هما واحد قال قطرب على بمعنى اللام أي وما ذبح لأجل النصب (وأن تستقسموا بالأزلام) أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام والأزلام هي القداح التي لا ريش لها ولا نصل واحدها زلم وزلم بفتح الزاي وضمها كانت ازلامهم سبعة قداح مستوية من شوحط يكون عند سادن الكعبة مكتوب على واحد نعم وعلى واحد لا وعلى واحد منكم وعلى واحد من غيركم وعلى واحد ملصق وعلى واحد العقل وواحد غفل ليس عليه شئ فكانوا إذا أرادوا أمرا من سفر أو نكاح أو ختان أو غيره أو تداوروا في نسب أو اختلفوا في تحمل عقل جاؤوا إلى هبل وكان أعظم أصنام قريش بمكة وجاؤا بمائة درهم أعطوها صاحب القداح حتى يجيل القداح ويقولون يا إلهنا إنا أردنا كذا وكذا فإن خرج نعم فعلوا وإن خرج لا لم يفعلوا ذلك حولا ثم عادوا إلى القداح ثانية فإذا أجالوا على نسب فإن خرج منكم كان وسيطا منهم
9

وإن خرج من غيركم كان حليفا وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ولا حلف وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله وإن خرج الغفل أجالوا ثانيا حتى يخرج المكتوب فنهى الله عز وجل عن ذلك وحرمه وقال (ذلكم فسق) قال سعيد بن جبير الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها وقال مجاهد هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها وقال الشعبي وغيره الأزلام للعرب والكعاب للعجم وقال سفيان بن وكيع هي الشطرنج وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال العيافة والطرق والطيرة من الجبت والمراد من الطرق الضرب بالحصى أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحق الثعلبي أنا ابن فنجوية أنا فضل الكندي أخبرنا الحسن ابن داود الخشاب أنا سويد بن سعيد أنا أبو المختار عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكهن أو استقسم أو تطير طيره ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارا وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم فلما قوي الإسلام أيسوا ويئس وأيس بمعنى واحد (فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) نزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضبا فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثني الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون أنا أبو
العميس أنا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا قال أية آية قال (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيدا لنا قال ابن عباس كان في ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ولم تجتمع أهل الملل في يوم قبله ولا بعده وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا عمر فقال أبكاني أنا كنا زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكن شيء إلا نقص قال صدقت وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها إحدى وثمانين يوما ومات يوم الاثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة وقيل توفى يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول وكانت هجرته في الثاني عشر من شهر ربيع الأول أما تفسير الآية قوله عز وجل (اليوم أكملت لكم دينكم) يعني يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم يعني الفرائض والسنن والحدود والجهاد والأحكام والحلال والحرام فلم ينزل بعد
10

هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض والسنن والحدود والأحكام هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ويروى عنه أن آية الربا نزلت بعدها وقال سعيد بن جبير وقتادة أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك وقيل أظهرت دينكم وأمنتكم من العدو وقوله عز وجل (وأتممت عليكم نعمتي) يعني وأنجزت وعدي في قوله (ولأتم نعمتي عليكم) فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين (ورضيت لكم الإسلام دينا) سمعت عبد الواحد قال سمعت عبد الواحد المليحى قال سمعت أبا محمد بن حاتم قال سمعت أبا بكر النيسابوري سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي سمعت عبد الملك بن مسلمة أنا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال جبريل قال الله تعالى هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه قوله عز وجل (فمن اضطر في مخصمة) أي جهد في مجاعة والمخمصة خلو البطن من الغذاء يقال رجل خميص البطن إذا كان طاويا خاويا (غير متجانف لإثم) أي مائل إلى إثم وهو أن يأكل فوق الشبع وقال قتادة غير متعرض لمعصية في مقصده (فإن الله غفور رحيم) وفيه إضمار أي فأكله فإن الله غفور رحيم أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي أنا أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن سراج الطحان أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيدة القاسم بن سلام أنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي قال رجل يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتي تحل لنا الميتة فقال ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تخنقوا بها بقلا فشأنكم بها سورة المائدة (4) (يسئلونك ماذا أحل لهم) الآية قال سعيد بن جبير نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير قالا يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فماذا يحل لنا منها فنزلت هذه الآية وقيل سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب قالوا يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فنزلت هذه الآية فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد بن منصور الزيادي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
11

النبي صلى الله عليه وسلم قال من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط والأول أصح في سبب نزول الآية (قل أحل لكم الطيبات) يعني الذبائح على اسم الله تعالى وقيل كل ما تستطيبه العرب وتستلذه من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة (وما علمتم من الجوارح) يعني وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح واختلفوا في هذه الجوارح فقال الضحاك والسدي هي الكلاب دون غيرها ولا يحل ما صاده غير الكلب إلا أن تدرك ذكاته وهذا غير معمول به بل عامة أهل العلم على أن المراد من الجوارح والكواسب من سباع البهائم كالفهد والنمر والكلب ومن سباع الطير كالبازي والعقاب والصقر ونحوها مما يقبل التعليم فيحل صيد جميعها سميت جارحة لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد أي كسبها يقال فلان جارحة أهله أي كاسبهم (مكلبين) والمكلب الذي يغري الكلاب على الصيد ويقال للذي يعلمها أيضا مكلب والكلاب صاحب الكلاب ويقال للصائد بها أيضا كلاب ونصب مكلبين على الحال أي في حال تكليبكم هذه الجوارح أي إغرائكم إياها على الصيد وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم والمراد جميع جوارح الصيد (تعلمونهن) تؤدبونهن آداب أخذ الصيد (مما علمكم الله) أي من العلم الذي علمكم الله قال السدي أي كما علمكم الله (من) بمعنى الكاف (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) أراد أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها فأخذت الصيد وقتلته كان حلالا والتعليم هو أن يوجد فيها ثلاثة أشياء إذا أشليت استشلت وإذا زجرت انزجرت وإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل وإذا وجد ذلك ذلك منه مرارا وأقلها ثلاث مرات كانت معلمة يحل قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا موسى بن إسماعيل بن إسماعيل أنا ثابت بن زيد عن عاصم عن الشعبي عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فأمسك وقتل فكل وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنك لا تدري أيها قتل وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل واختلفوا فيما إذا أخذت الصيد وأكلت منه شيئا فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه روى ذلك عن ابن عباس وهو قول عطاء وطاوس والشعبي وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وهو أصح قول الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم وأن أكل فلا فإنما أمسك على نفسه ورخص بعضهم في أكله روي ذلك عن ابن عمر وسلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وقال مالك لما روى عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرسلت كلبك
وذكرت اسم الله تعالى فكل وإن أكل منه وأما غير المعلم من الجوارح إذا أخذ صيدا أو المعلم إذا جرح بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل فلا يكون حلالا إلا أن يدركه صاحبه حيا فيذبحه فيكون حلالا أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن يزيد أنا حيوة أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس عن أبي ثعلبة الخشني قال قلت يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد
12

بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم فما يصح لي قال أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل (واتقوا الله إن الله سريع الحساب) ففيه بيان أن ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة شرط حالة ما يذبح وفي الصيد حالة ما يرسل الجارحة أو السهم أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن محمد الداودي أنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن علوية الجوهري قال أنا أبو العباس محمد بن أحمد بن الأثرم المقري بالبصرة أنا عمر بن عمر بن شيبة أنا أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس قال ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر قال رأيته واضعا قدمه على صفاحهما ويذبحهما بيده ويقول بسم الله والله أكبر قوله عز وجل سورة المائدة (5) (اليوم أحل لكم الطيبات) يعني الذبائح على اسم الله عز وجل (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) يريد ذبائح اليهود والنصاري ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم حلال لكم فأما من دخل في دينهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلا تحل ذبيحته ولو ذبح يهودي أو نصراني على اسم غير الله كالنصراني يذبح باسم المسيح فاختلفوا فيه قال عمر لا يحل وهو قول ربيعة وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل وهو قول الشعبي وعطاء والزهري ومكحول سئل الشعبي وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح قالا يحل فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون وقال الحسن إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكله فإذا غاب عنك فكل فقد أحل لك قوله عز وجل (وطعامكم حل لهم) فإن قيل كيف شرع لهم حل طعامنا وهم كفار ليسوا من أهل الشرع قال الزجاج معناه حلال لكم أن تطعموهم فيكون خطاب الحل مع المسلمين وقيل لأنه ذكر عقيبه حكم النساء ولم يذكر حل المسلمات لهم فكأنه قال حلال لكم أن تطعموهم حرام عليكم أن تزوجوهم قوله عز وجل (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) هذا راجع إلى الأول منقطع عن قوله (وطعامكم حل لهم) اختلفوا في معنى (المحصنات) فذهب أكثر العلماء إلى أن المراد منهن الحرائر وأجازوا نكاح كل حرة مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة وهو قول مجاهد وقال هؤلاء لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية
13

لقوله تعالى (فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) جوز نكاح الأمة بشرط أن تكون الأمة مؤمنة وجوز أكثرهم نكاح الأمة الكتابية الحربية وقال ابن عباس لا يجوز وقرأ (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) إلى قوله (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه ومن لم يعطها فلا يحل لنا نساؤه وذهب قوم إلى أن المراد من المحصنات في الآية العفائف من الفريقين حرائركن أو إماء وأجازوا نكاح الأمة الكتابية وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات وهو قول الحسن وقال الشعبي إحصان الكتابية أن تستعف من الزنا وتغتسل من الجنابة (إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين) غير معالنين بالزنا (ولا متخذي أخدان) أي غير مسرين تسرونهن بالزنا قال الزجاج حرم الله الجماع على جهة السفاح وعلى جهة اتخاذ الصديقة وأحله على جهة الإحصان وهو التزوج (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) قال مقاتل بن حيان يقول ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر أو يغنى عنهن شيئا وهى للناس عامة (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) قال ابن عباس و مجاهد في معنى قوله تعالى (ومن يكفر بالإيمان) أي بالله الذي يجب الإيمان به وقال الكلبي بالإيمان أي بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله وقال مقاتل بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن وقيل من يكفر بالإيمان أي يستحل الحرام ويحرم الحلال فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين قال ابن عباس خسر الثواب سورة المائدة (6) قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) أي إذا أردت القراءة وظاهر الآية يقتضي وجوب الوضوء عند كل مرة يريد القيام إلى الصلاة لكن علمنا ببيان السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد من الآية (إذا قمتم إلى الصلاة) وأنتم على غير طهر قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ \ ح \ وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن
14

محمد الحنفي أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري أنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حكيم أنا أبو الموجة محمد بن عمرو بن الموجة أنا عبدان أنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سلمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه وقال زيد بن أسلم معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم وقال بعضهم هو أمر على طريق الندب ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارته وأن كان على طهر روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات وروى عبد الله بن حنظلة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة وقال بعضهم هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما بدا له من الأفعال غير الصلاة أخبرنا أبو القاسم الحنفي أنا أبو الحارث الطاهري أنا الحسن بن محمد بن حكيم أنا أبو الموجة أنا صدقة أنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمع سعيد بن الحويرث سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فرجع من الغائط فأتي بطعام فقيل له ألا تتوضأ فقال لم أصل فأتوضأ قوله عز وجل (فاغسلوا وجوهكم) وحد الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا وما بين الأذنين عرضا يجب غسل جميعه في الوضوء ويجب أيضا إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والشارب والعذار أو العنفقة وإن كانت كثيفا وأما العارض واللحية فإن كانت كثيفة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوضوء بل يجب غسل ظاهرها وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما استرسل من
اللحية عن الذقن فيه قولان أحدهما لا يجب وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المسح عليه كذلك النازل عن حد الوجه لا يكون حكمه حكم الوجه في وجوب غسله والقول الثاني يجب إمرار الماء على ظاهره لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه والوجه ما يقع به المواجهة من هذا العضو ويقال في اللغة بقل وجه فلان وخرج وجهه إذا نبتت لحيته قوله تعالى (وأيديكم إلى المرافق) أي مع المرافق كما قال الله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) أي مع أموالكم وقال (من أنصاري إلى الله) أي مع الله وأكثر العلماء على أنه يجب غسل المرفقين وفى الرجل يجب غسل الكعبين وقال الشعبي ومحمد بن جرير لا يجب غسل المرفقين والكعبين في غسل اليد والرجل لأن حرف إلى للغاية والحد فلا يدخل في المحدود قلنا ليس هذا بحد ولكنه بمعنى مع كما ذكرنا وقيل الشئ إذا حد إلى جنسه يدخل فيه الغاية وإذا حد إلى غير جنسه لا يدخل كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) لم يدخل الليل فيه لأنه ليس من جنس النهار قوله تعالى (وامسحوا برءوسكم) اختلف العلماء في قدر الواجب من مسح الرأس فقال مالك يجب مسح جميع الرأس كما يجب مسح
15

جميع الوجه في التيمم وقال أبو حنيفة يجب مسح ربع الرأس وعند الشافعي رحمه الله يجب قدر ما يطلق عليه اسم المسح واحتج من أجاز مسح بعض الرأس بما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا يحيى بن حسان عن حماد بن زيد وابن عليه عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن عمرو بن وهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفيه فأجاز بعض أهل العلم المسح على العمامة بهذا الحديث وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق ولم يجوز أكثر أهل العلم المسح على العمامة بدلا من مسح الرأس وقال في حديث المغيرة أن فرض المسح سقط عنه بمسح الناصية وفيه دليل على أن مسح جميع الرأس غير واجب قوله عز وجل (وأرجلكم إلى الكعبين) قرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص (أرجلكم) بنصب اللام وقرأ الآخرون (وأرجلكم) بالخفض فمن قرأ (وأرجلكم) بالنصب فيكون عطفا على قوله (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) أي واغسلوا أرجلكم ومن قرأ بالخفض فقد ذهب قليل من أهل العلم إلى أنه يمسح على الرجلين وروى عن ابن عباس أنه قال الوضوء غسلتان ومسحتان ويروى ذلك عن عكرمة وقتادة وقال الشعبي نزل جبريل بالمسح وقال ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا وقال محمد بن جرير الطبري يتخير المتوضىء بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين وذهب جماعة أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين وقالوا خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم كما قال تبارك وتعالى (عذاب يوم أليم) فالأليم صفة العذاب ولكنه أخذ أعراب اليوم للمجاورة وكقولهم جحر ضب خرب فالخراب نعت الجحر وأخذ أعراب الضب للمجاورة والدليل على وجوب غسل الرجلين ما أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي الخطيب أنا أبو عبد الله الحافظ أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب أنا يحيى بن محمد بن يحيى أنا الحجبي ومسدد قال أخبرنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العلماء في سفر سافرناه فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة العصر ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله أنا معمر حدثني الزهري عن عطاء بن يزيد عن حمران مولى عثمان قال رأيت عثمان رضي الله عنه توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشئ غفر له ما تقدم من ذنبه وقال بعضهم أراد بقوله (وأرجلكم) المسح على الخفين كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه وليس المراد منه أنه لم يكن بينهما حائل ويقال قبل فلان رأس الأمير ويده وإن كان العمامة على رأسه ويده في كمه أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن
16

يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو نعيم زكريا عن عامر عن عروة بن المغيرة عن أبيه رضي الله عنهما قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في سفر فقال أمعك ما فقلت نعم فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى عني في سواد الليل ثم جاء فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه ويديه وعليه جبة من صوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة فغسل ذراعيه ثم مسح برأسه ثم أهويت لأنزع خفيه فقال دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما قوله تعالى (إلى الكعبين) فالكعبان هما العظمان الناتئان من جانبي القدمين وهما مجمع مفصل الساق والقدم فيجب غسلهما مع القدمين كما ذكرنا في المرفقين وفرائض الوضوء غسل الأعضاء الثلاثة كما ذكر الله تعالى ومسح الرأس واختلف أهل العلم في وجوب النية فذهب أكثرهم إلى وجوبها لأن الوضوء فيفتقر إلى النية كسائر العبادات وذهب بعضهم إلى أنها غير واجبة وهو قول الثوري واختلفوا في وجوب الترتيب وهو أن يغسل أعضاءه على الولاء كما ذكر الله تبارك وتعالى فذهب جماعة إلى وجوبه وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحق رحمهم الله ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه واحتج الشافعي بقول الله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا وقال نبدأ بما بدأ الله به وكذلك ههنا بدأ الله تعالى بذكر غسل الوجه فيجب علينا أن نبدأ فعلا بما بدأ الله تعالى بذكره وذهب جماعة إلى أن الترتيب سنة وقالوا الواوات المذكورة في الآية للجميع لا للترتيب كما قال الله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) الآية واتفقوا على أنه لا تجب مراعاة الترتيب في صرف الصدقات إلى أهل السهمان ومن أوجب الترتيب أجاب بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه راعى الترتيب بين أهل السهمان وفى الوضوء لم ينقل أنه توضأ إلا مرتبا كما ذكر الله تعالى وبيان الكتاب يؤخذ من السنة كما قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) لما قدم ذكر الركوع على السجود ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل إلا كذلك فكان مراعاة الترتيب فيه واجبة كذلك الترتيب هنا قوله عز وجل (وأن كنتم جنبا فاطهروا) أي اغتسلوا أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتسل من الجنابة بدأ
فغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ثم يفيض الماء على جلده كله قوله تعالى (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) فيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب (ما يريد الله ليجعل عليكم) بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم (من حرج) ضيق (ولكن يريد ليطهركم) من الأحداث والجنابات والذنوب (وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) قال محمد بن كعب القرظي إتمام النعمة تكفير الخطايا بالوضوء كما قال الله تعالى (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) فجعل تمام نعمته غفران ذنوبه أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران أن عثمان توضأ منوا اركعوا واسجدوا) لما قدم ذكر الركوع على السجود ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل إلا كذلك فكان مراعاة الترتيب فيه واجبة كذلك الترتيب هنا قوله عز وجل (وأن كنتم جنبا فاطهروا) أي اغتسلوا أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ثم يفيض الماء على جلده كله قوله تعالى (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) فيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب (ما يريد الله ليجعل عليكم) بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم (من حرج) ضيق (ولكن يريد ليطهركم) من الأحداث والجنابات والذنوب (وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) قال محمد بن كعب القرظي إتمام النعمة تكفير الخطايا بالوضوء كما قال الله تعالى (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) فجعل تمام نعمته غفران ذنوبه أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران أن عثمان توضأ
17

بالمقاعد ثلاثا ثلاثا ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من توضأ وضوئي هذا خرجت خطاياه من وجهه ويديه ورجليه \ ح \ أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران مولى عثمان أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جلس على المقاعد يوما فجاءه المؤذن فآذنه بصلاة العصر فدعا بماء فتوضأ ثم قال والله لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ثم قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرئ مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها \ ح \ قال مالك أراه يريد هذه الآية (أقم الصلاة لذكري) ورواه ابن شهاب وقال عروة الآية (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا يحيى بن بكير أنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال رقيت مع أبي هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد فتوضأ قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع أن يطيل منكم غرته فليفعل \ ح \ سورة المائدة (7) قوله تعالى (واذكروا نعمة الله عليكم) يعني النعم كلها (وميثاقه الذي واثقكم به) عهده الذي عاهدكم به أيها المؤمنون (إذ قلتم سمعنا وأطعنا) وذلك حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا وهو قول أكثر المفسرين وقال مجاهد ومقاتل يعني الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام (واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور) بما في القلوب من خير وشر سورة المائدة (8) قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) أي كونوا له قائمين بالعدلقوالين بالصدق أمرهم بالعدل والصدق في أعمالهم وأقوالهم (ولا يجرمنكم) ولا يحملنكم (شنآن قوم) بغض قوم (على أن لا تعدلوا) أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم ثم قال (اعدلوا) بعني في أوليائكم وأعدائكم (هو أقرب للتقوى) يعني إلى التقوى (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) سورة المائدة (9) (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) وهذا في موضع النصب لأن فعل الوعد واقع على المغفرة ورفعها على تقدير أي وقال لهم مغفرة وأجر عظيم
18

سورة المائدة (10) (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) سورة المائدة (11) (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم) بالدفع عنكم (إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم) بالقتل وقال قتادة نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تبارك وتعالى نبيه على ذلك وأنزل صلاة الخوف وقال الحسن كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصرا غطفان بنخل فقال رجل من المشركين هل لكم في أن أقتل محمدا قالوا وكيف تقتله قال أفتك به قالوا وددنا أنك قد فعلت ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم متقلد سيفه فقال يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرة إلى السيف ومرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال من يمنعك مني يا محمد قال الله فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشام السيف ومضى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال مجاهد وعكرمة والكلبي وابن يسار عن رجاله بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة وهي من مياه بني عامر واقتتلوا فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم عمرو بن أمية المري فلم يرعهم إلا الطير يحوم في السماء يسقط من بين خراطيمها علق الدم فقال أحد النفر قتل أصحابنا ثم تولى يشتد حتى لقي رجلا فاختلفا ضرببببتين فلما خالطته الضلاربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال الله أكبر الجنة ورب العالمين فرجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة فانتسبا لهمما إلى بني عامر فقتلاهما وقدمهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلببون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعممر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم حتى دخلوا على كعب بن الأشرف
وبني النضير يستعينهم في عقلهما وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات قالوا نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي سألته فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخلا بعضهم ببعض وقالوا إنكم لن تجدوا محمد أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه فقال عمر بن حجاش أنا فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده وجاء جبريل وأخبره فخرج النبي صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة ثم دعا عليا فقال لا تبرح مكانك فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل توجه إلى المدينة ففعل ذلك علي رضي الله عنه حتى تناهوا إليه تبعوه فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال (فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون)
19

سورة المائدة (12) (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) وذلك أن الله عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهى الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون فلما استقرت لبني إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحا من أرض الشام وهي الأرض المقدسة وكان لها ألف قرية في كل قرية ألف بستان وقال يا موسى إني كتبتها لكم دارا وقرارا فأخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصرك عليهم وخذ من قومك اثني عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به فاختار موسى النقباء وسار موسى ببني إسرائيل حتى قربوا من أريحاء وهي مدينة الجبارين فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ويعلمون علمها فلقيهم رجل من الجبارين يقول له عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاث وثلاثين ذراعا وثلث ذراع وكان يحتجر بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله ويروى ان الماء في زمن نوح عيه السلام طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدي موسى عليه السلام وذلك أنه جاء وقلع صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام وكان فرسخا في فرسخ وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فة قعت في عنقه فصرعته فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله وكانت مه أمه ااااااااأااننيت لا لاهعل الالبلتتيؤ أمه عنق إحدى بنات آدم وكان مجلسها جريبا من الأرض فلما لقي عوج النقباء وعلى رأسه حزمة حطب أخذ الاثني عشر وجعلهم في حجزته وانطلق بهم إلى امرأته وقال انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال ألا أطححنهم برجلي فقالت امرأته لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك وروى أنه جعلهم في كمه وأتى بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه فقال الملك ارجعوا فأخبروهم بما رأيتم وكان لا يحمل عنقودا من عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبها خمسة أنفس فرجع النقباء وجعلوا يتعرفون أحوالهم وقال بعضهم لبعض يا قوم إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدوا عن نبي الله ولكن اكتموا وأخبروا موسى وهارون فيريان رأيهما وأخذ بعضهم على بعضهم الميثاق بذلك ثم أنهم نكثوا العهد وجعل كل واحد منهم ينهى
20

سبطة عن قتالهم ويخبرهم بما رأى إلا رجلان فذلك قوله تعالى (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) (وقال الله إني معكم) ناصركم على عدوكم ثم ابتدأ الكلام فقال (لئن أقمتم الصلاة) يا معشر بني إسرائيل (وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم) نصرتموهم وقيل وقرتموهم وعظمتموهم (وأقرضتم الله قرضا حسنا) قيل هو إخراج الزكاة وقيل هو النفقة على الأهل (لأكفرن عنكم سيآتكم) لأمحون عنكم سيآتكم (ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد منكم فقد ضل سواء السبيل) أي أخطأ قصد السبيل يريد من تحتها الحق وسواء كل شيء وسطه سورة المائدة (13) (فبما نقضهم) أي فبنقضهم و (ما) صلة (ميثاقهم) قال قتادة نقضوة من وجوه لأنهم كذبوا الرسل الذين جاؤوا بعد موسى وقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيعوا فرائضه (لعناهم) قال عطاء أبعدناهم من رحمتنا قال الحسن ومقاتل عذبناهم بالمسخ (وجعلنا قلوبهم قاسية) قرأ حمزة والكسائي قسية بتشديد الياء من غير ألف وهما لغتان مثل الذاكية والذكية وقال ابن عباس رضي الله عنهما قاسية أي يابسة وقيل غليظة لا تلين وقيل معناه إن قلوبهم ليست بخالصة للإيمان بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق ومنه الدراهم القاسية وهي الردية المغشوشة (يحرفون الكلم عن مواضعه) قيل هو تبديلهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم وقيل تحريفهم بسوء التأويل (ونسوا حظا مما ذكروا به) أي وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته (ولا تزال) يا محمد (تطلع على خائنة منهم) أي على خيانة فاعله بمعنى المصدر كالكاذبة والاغية وقيل هو بمعنى الفاعل والهاء للمبالغة مثل رواية مثل رواية ونسابة وعلامة وحسابة وقيل على فرقة خائنة قال ابن عباس رضي الله عنهما على خائنة أي على معصية وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمه ونحوهما من خياناتهم التي ظهرت منهم (إلا قليلا منهم) لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم الذين أسلموا من أهل الكتاب (فاعف عنهم واصفح) أي أعرض عنهم ولا تتعرض له (إن الله يحب المحسنين) وهذا منسوخ بآية السيف سورة المائدة (14) قوله عز وجل (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم) قيل أراد بهم اليهود والنصارى فاكتفى
21

بذكر أحدهما والصحيح أن الآية في النصارى خاصة لأنه قد تقدم ذكرر اليهود وقال الحسن فيه دليل على أنهم نصارى بتسمميتهم لا بتسمية الله تعالى أخذنا ميثاقهم في التوحيد والنبوة (فنسوا حظا مما ذكروا به فأإرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) بالأهواء المختلفة والجدال في الدين قال مجاهد وقتادة يعني بين اليهود والنصارى وقال الربيع هم النصارى وحدهم صاروا فرقا منهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية وكل فرقة تكفر الأخرى (وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) في الآخرة سورة المائدة (15 قوله عز وجل (يا أهل الكتاب) يريد يا أهل الكتابين (قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) أي من التوراة والإنجيل مثل صفة مححمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك (ويعفو عن كثير) أي يعرض عن كثير مما أخفيتم فلا يتعرض له ولا يؤاخذكم به (قد جاءكم من الله نور) يعني محمد صلى الله عليه وسلم وقيل الإسلام (وكتاب مبين) أي بين وقيل مبين وهو القرآن سورة المائدة (16) (يهدي به الله من اتبع رضوانه) رضاه (سبل السلام) قيل السلام هو الله عز وجل وسبيله دينه الذي شرع لعباده وبعث به رسله وقيل السلام هو السلامة كاللذاذ واللذاذة بمعنى واحد والمراد به طرق السلامة (
ويخرجهم من الظلمات إلى النور) أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان (بإذنه) بتوفيقه وهدايته (ويهديهم إلى صراط مستقيم) وهو الإسلام سورة المائدة (17 قوله تبارك وتعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) وهم اليعقوبية من النصارى يقولون المسيح هو الله تعالى (قل فمن يملك من الله شيئا) أي من يقدر أن يدفع من أمر الله شيئا إذا قضاه (إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير)
22

سورة المائدة (18) (وقالت اليهود والنصاري نحن أبناء الله وأحباؤه) قيل أرادوا أن الله تعالى لنا كالأب في الححنو والعطف ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة وقال إبراهيم النخعي إن اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحبارى فبدلوا يا أبناء أبكاري فمن ذلك قالوا نحن أبناء الله وقيل معناه نحن أبناء الله يعني أبناء رسل الله قوله تعالى (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) يريد إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه فإن الأب لا يعذب ولده والحبيب لا يعذب حبيبه وأنتم مقرون أنه معذبكم وقيل فلم يعذبكم أي لم عذب من قبلكم بذنوبهم فمسخهم قردة وخنازير (بل أنتم بشر ممن خلق) كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان (يغفر لمن يشاء) فضلا (ويعذب من يشاء) عدلا (ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير) سورة المائدة (19) (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا) محمد صلى الله عليه وسلم (يبين لكم) أعلام الهدى وشرائع الدين (على فترة من الرسل) أي انقطاع من الرسل واختلفوا في مدة الفترة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم قال أبو عثمان النهدي ستمائة سنة وقال قتادة خمسمائة وستون سنة وقال معمر والكلبي خمسمائة وأربعون سنة وسميت فترة لأن الرسل كانت تترى بعد موسى عليه السلام من غير انقطاع إلى زمن عيسى عليه السلام ولم يكن بعد عيسى عليه السلام سوى رسولنا صلى الله عليه وسلم (أن تقولوا) كيلا تقولوا (ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير) سورة المائدة (20) قوله عز وجل (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء) أي منكم أنبياء (وجعلكم ملوكا) أي فيكم ملوكا قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني أصحاب خدم وحشم قال قتادة كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم وروى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم
23

خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا / ح / وقال أبو عبد الرحمن السلمي سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال ألسنا من فقراء المهاجرين فقال له عبد الله ألك امرأة تأوي إليها قال نعم قال ألك مسكن تسكنه قال نعم قال فأنت من الأغنياء قال فإن لي خادما قال فأنت من الملوك قال السدي وجعلكم ملوكا أحرارا تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم وقال الضحاك كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا وفيه نهر جار فهو ملك (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) يعني عالمي زمانكم قال مجاهد يعني المن والسلوى والحجر وتظليل الغمام سورة المائدة (21) قوله تعالى (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) اختلفوا في الأرض المقدسة قال مجاهد هي الطور وما حوله وقال الضحاك إيليا وبيت المقدس وقال عكرمة والسدي هي أريحاء وقال الكلبي هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن وقال قتادة هي الشام كلها قال كعب وجدت في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله في أرضه وبها أكثر عبادة قوله عز وجل (كتب الله لكم يعني كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم وقال ابن إسحاق وهب الله لكم وقيل جعلها لكم وقال السدي أمركم الله بدخولها وقال قتادة أمروا بها كما أمروا بالصلاة أي فرض عليكم (ولا ترتدوا على أدباركم) أعقابكم بخلاف أمر الله (فتنقلبوا خاسرين) قال الكلبي صعيد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له أنظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك سورة المائدة (22) (قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين) وذلك أن النقباء الذين خرجوا يتجسسون الأخبار لما رجعوا إلى موسى وأخبروه بما عاينوا قال لهم موسى اكتموا شأنهم ولا تخبروا به أحدا من أهل العسكر فيفشلوا فأخبر كل رجل منهم قريبة وابن عمه إلا رجلان وفيا بما قال لهما موسى أحدهما يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليهم السلام فتى موسى والآخر كالب بن يوفنا ختن موسى عليه السلام] صلى الله عليه وسلم على أخته مريم بنت عمران وكان من سبط يهود وهما النقباء فعلمت جماعة من بني إسرائيل ذلك ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا يا ليتنا في أرض مصر أو ليتنا نموت في البرية ولا يدخلنا الله أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم وجعل الرجل يقول لصاحبه تعال نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر
24

فذلك قوله تعالى إخبارا عنهم (قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلوت) أصل الجبار المتعظم الممتنع عن القهر يقال نخله جباره إذا كانت طويلة ممتنعة عن وصول الأيدي إليها وسمي أولئك القوم جبارين لامتناعهم بطولهم وقوة أجسادهم وكانوا من العمالقة وبقية قوم عاد فلما قال بنو إسرائيل ما قالوا وهموا بالانصراف إلى مصر خر موسى وهارون ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر الله تعالى عنهما في قوله سورة المائدة (23) (قال رجلان من الذين يخافون) أي يخافون الله تعالى قرأ سعيد بن جبير (يخافون) بضم الياء وقال الرجلان كانا من الجبارين فأسلما واتبعا موسى (أنعمم الله عليهما) بالتوفيق والعصمة قالا (ادخلوا عليهم الباب) يعني قرية الجبارين (فإذا دخلتموه فإنكم عالبون) لأن الله منجز وعده وإنا رأيناهم فكانت أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلا تخشوهم (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوهما سورة المائدة (24) (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو نعيم أنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال سمعت ابن مسعود يقول لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال لا نقول كما قال قوم موسى عليه السلام (اذهب أنت وربك فقاتلا) ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره ما قال فلما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من مخالفتهم أمر ربهم وهمهم بيوشع وكالب غضب موسى عليه السلام ودعا عليهم سورة المائدة (25) (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) قيل معناه لا يملك إلا نفسه وقيل معناه لا يطيعني إلا نفسي وأخي (فافرق) فافصل (بيننا) قيل
فاقض بيننا (وبين القوم الفاسقين) العاصين سورة المائدة (26) (قال) الله تعالى (فإنها محرمة عليهم) قيل ههنا تم الكلام معناه تلك البلد محرمة عليهم أبدا
25

لم يرد به تحريم تعبد وإنما أراد تحريم منع فأوحى الله تعالى إلى موسى لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي ى يوشع وكالب ولآتيهنهم في هذه البرية (أربعين سنة) مكان كل يوم من الأيام التي تجسسوا فيها سنة ولألقين جيفهم في هذه القفار واما بنوهم الذين لم يعلموا الشر فيدخلونها فذلك قوله تعالى (فإنها مححرمة عليهم أربعين سنة) (يتيهون) يتححيرون (في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) أي لا تحزن على مثل هؤلاء القوم فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ وهم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه وقيل إن موسى وهارون عليهما السلام لم يكونا فيهم والأصح أنهما كانا فيهم ولم يكن لهما عقوبة إنما كانت العقوبة لأولئك القوم ومات في التيه كل من دخلها ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع وكالب ولم يدخل أريحا أحد ممن قالوا إنا لن ندخلها أبدا فلما هلكوا وانقضت الربعون سنة ونشأت النواشىء من ذراريهم ساروا إلى حرب الجبارين واختلفوا فيمن تولى تلك الحرب وعلى يدي من كان الفتح فقال قوم وإنما فتح موسى أريحا وكان يوشع على مقدمته فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل فدخلها يوشع فقاتل الجبابرة ثم دخلها موسى عليه السلام فأقام فيها ما شاء الله تعالى ثم قبضه الله تعالى إليه ولا يعلم قبره أحد وهذا أصح الأقاويل لا تفاق العلماء أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام وقال الآخرون إنما قاتل الجبارين يوشع ولم يسر إليهم إلا بعد موت موسى عليه السلام وقالوا مات موسى وهارون جميعا في التيه (فصل في ذكر وفاة هارون) قال السدي أوحى الله عز وجل إلى موسى أني متوفي هارون فات به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون عليهما السلام نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم ير مثلها وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه فقال يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال فنم عليه فقال إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي قال له موسى لا ترهب إني أكفيك أمر رب هذا البيت فنم قال موسى نم أنت معي فإن جاء رب البيت غضب علي وعليك جمميعا فلما ناما ى أخذ هارون الموت فلما وجد مسه قال يا موسى خدعتني فلما قبض رفع البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير به إلى السماء فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا إن موسى قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له فقال موسى عليه السلام ويحكم كان أخي فكيف أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى ونزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون وبقي موسى فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته فآذوه فأمر الله الملائكة فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بمموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات فبرأه الله تعالى مما قالوا ثم إن الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم فجعله الله أصم وأبكم وقال عمر بن
26

ميمون مات هارون قبل موت موسى عليه السلام في التيه وكانا قد خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل فقالوا قتلته لحبنا إياه وكان محببا في بني إسرائيل فتضرع موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل فأوحى الله إليه ان انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه فانطلق بهم إلى قبره فناداه موسى فخرج من قبره ينفض رأسه فقال أنا قتلتك قال لا ولكني مت قال فعد إلى مضجعك وانصرفوا وأما وفاة موسى عليه السلام قال ابن إسحاق كان موسى عليه الصلاة والسلام قد كره الموت وأعظمه فأراد الله أن يحبب أليه الموت فنبأ يوشع بن نون فكان يغدو ويروح عليه قال فيقول له موسى عليه السلام يا نبي الله ما أحدث الله أليك فيقول له يوشع يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله أليك حتى تكون أنت الذي تبتدىء به وتذكره ولا يذكر له شيئا فلما رأى ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال أخبرنا أبو هريرة ة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ملك الموت إلى موسى بن عمران فقال له أجب ربك قال فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها قال فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال فرد الله إليه عينه وقال ارجع إلى عبدي فقل له الحياة تريد فغن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة قال ثم مه قال ثمم تموت قال فالآن من قريب رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر \ ح \ وقال وهب خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير شيئا قط أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة فقال لهم يا ملائكة الله لم تحفرون هذا القبر قال لعبد كريم على ربه فقال إن هذا العبد من الله له بمنزلة ما رأيت كاليوم مضجعا قط فقالت الملائكة يا صفي الله تحب إن يكون لك قال وددت قالوا فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك قال فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل تنفس فقبض الله تبارك وتعالى روحه ثم سوت عليه الملائكة وقيل أن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث الله يوشع نبيا فأخبرهم أن الله أمره بقتال الجبابرة فصدقوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحا ومعه تابوت الميثاق فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان السابع نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة ودخلوا فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعونها فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال اللهم أردد الشمس علي وقال للشمس إنك في طاعة الله سبحانه وتعالى وأنا في طاعته فسأل الشمس ان تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله تعالى قبل دخول السبت فردت عليه الشمس وزيدت في النهار ساعة حتى قتلتهم
27

أجمعين وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشام وصارت الشام كلها لبني إسرائيل وفرق عماله في نواحيها وجمع الغنائم فلم تزل النار فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال هلم عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر كان قد غله فجعله في القربان وجعل الرجل ممعه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ثم مات يوشع ودفن في جبل أفرائيم وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة وتدبيره أمر
بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام سبعا وعشرين سنة سورة المائدة (27) قوله تعالى (واتل عليهم نبأ بني آدم بالحق) وهما هابيل وقابيل ويقال له قابين (إذ قربا قربانا) وكا سبب قربانهما على ما ذكره أهل العلم أن حواء كانت تلد لآدم عليه السلام في كل بطن غلاما وجارية وكان جميع ما ولدته أربعين ولدا في عشرين بطنا أولهم قابيل وتوأمته أقليما وآخرهم عبد المغيث وتوأمته المغيث ثم بارك الله عز وجل في نسل آدم عليه السلام قال ابن عباس لم يمت آدم حتى بلغ ولده أربعين ألفا واختلفوا في مولد قابيل وتوأمته أقليما في بطن واحد ثم هابيل وتوأمته لبودا في بطن وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول أن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت فيها بقابيل وتوأمته أقليما فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا ولا طلقا حتى ولدتهما ولم تر معهما دما فلما هبط إلى الأرض تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوحم والوصب والطلق والدم وكان آدم إذا شب أولاده يزوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى فكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء إلا توأمته التي ولدت معه لأنه لم يكن يومئذ نساء غلا أخواتهم فلما ولد قابيل وتوأمته أقليما ثم هابيل وتوأمته لبودا وكان بينهما سنتان في قول الكلبيوأدركوا أمر الله تعالى آدم عليه السلام أن ينكح قابيل لبودا أخت هابيل وينكح أقليما أخت قابيل وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل وقال هي أختي أنا أحق بها ونحن من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض فقال له أبوه إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك وقال إن الله لم يأمره بهذا وإنما هو من رأيه فقال لهما آدم عليه السلام فقربا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء بيضاء فأكلتها وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلته الطير والسباع فخرجا ليقربا قربانا وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام من أردأ زرعه وأضمر في نفسه ما أبالي يقبل مني أو لا يتزوج أختي أبدا وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقرب به وأضمر في نفسه رضا الله عز وجل فوضعا قربانهما على الجبل ثم دعا آدم عليه
28

السلام فنزلت نار من السماء وأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل فذلك قوله عز وجل (فتقبل من أحدهما) يعني هابيل (ولم يتقبل من الآخر) يعني قابيل فنزلوا على الجبل وقد غضب قابيل لرد قربانه وكان يضممر الحسد في نفسه إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت فلما غاب آدم أتى قابيل هابيل وهو في غنمه (قال لأقتلنك) قال لأن الله تعالى قبل قربانك ورد قرباني وتنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدث الناس أنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي (قال) هابيل وما ذنبي (إنما يتقبل الله من المتقين) سورة المائدة (28) (6 لئن بسطت) أي مددت (إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) قال عبد الله بن عمر وأيم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه يده وهذا في الشرع جائز لمن أريد قتله أن ينقاد ويستسلم طلبا للأجر فعل عثمان رضي الله عنه قال مجاهد كتب الله في ذلك الوقت إذا أراد رجل قتل رجل أن يمتنع ويصبر سورة المائدة (29) (إني أريد أن تبوء) ترجع وقيل تحمل (بأثمي وأثمك) أي بإثم قتلي إلى إثممك أي إثم معاصيك التي عملت من قبل هذا قول أكثر المفسرين وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال معناه إلإني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعا وقيل معناه أن ترجع بإثم قتلي وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك أو إثم حسدك فإن قيل كيف قال إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك وإرادة القتل والمعصية لا تجوز قيل ذلك ليس بحقيقة إرادة ولكنه لما علم أنه يقتله لا محالة وطن نفسه على الاستسلام طلبا للثواب فكأنه صار مريدا لقتله مجازا وإن لم يكن مريدا حقيقة وقيل معناه إني إريد أن تبوء بعقاب قتلي فيكون إرادة صحيحة لأنها موافقة لحكم الله عز وجل فلا يكون هذا إرادة للقتل بل لموجب القتل من الإثم والعقاب (فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) سورة المائدة (30) قوله عز وجل (فطوعت له نفسه) أي طاوعته وشايعته وعاونته (قتل أخيه) في قتل أخيه وقال مجاهد فشجعته وقال قتادة فزينت له نفسه وقال يمان سهلت له ذلك أي جعلته سهلا تقديره صورت له نفسه أن قتل أخيه طوع له أي سهل عليه فقتله فلما قصد قابيل قتله لم يدر كيف يقتله قال ابن جريح فتمثل له إبليس وأخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلمه القتل فرضخ قابيل رأس هابيل بين حجرين قيل قتل وهو مستسلم وقيل
29

اغتاله وهو في النوم فشدخ رأسه فقتله وذلك قوله تعالى (فقتله فأصبح من الخاسرين) وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة واختلفوا في موضع قتله قال ابن عباس رضي الله عنهما على جبل ثور وقيل عند عقبة حراء فلما قتله تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم وقصدته السباع فحمله في جراب على ظهره أربعين يومما وقال ابن عباس سنة حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمى به فتأكله فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثمم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم ألقاه في الحفرة وواراه وقابيل ينظر إليه فذلك قوله تعالى سورة المائدة (31) (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه) فلما رأى قابيل ذلك (قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي) أي جيفته وقيل عورته لأنه قد سلب ثيابه (فأصبح ممن النادمين) على حمله على عاتقه لا على قتله وقيل على فراق أخيه وقيل ندم لقلة النفع بقتله فإنه أسخط والديه وما انتفع بقتله شيئا ولم يكن ندمه على القتل وركوب الذنب قال عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب لما قتل ابن آدم أخاه وجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء فناداه آدم اين أخوك هابيل قال ما أدري ما كنت عليه رقيبا فقال آدم إن دم أخيك ليناديني من الأرض فلم قتلت أخاك قال فأين دمه إن كنت قتلته فحرم الله عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعده أبدا وقال مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما لما قتل قابيل هابيل وآدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه وأمر الماء وأغبرت الأرض فقال آدم عليه السلام قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول وهو أول من قال الشعر (تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح) (تغير كل ذي طعم ولون وقل بشاشة الوجه المليح) وروزى عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال من قال إن آدم عليه السلام قال شعرا فقد كذب على الله ورسوله فإن محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم عليهم السلام في النهي عن الشعر سواء ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني فلما قال آدم مرتيته قال لشيث يا بني إنك وصي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية
والسريانية وهو أول من خط بالعربية وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعرا وزاد فيه أبيات منها
30

(ومالي لا أجود بسكب دمع وهابيل تضمنه الضريح) (أرى طول الحياة علي غما فهل أنا من حياتي مستريح) فلما مضى من عمر آدم عليه السلام مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيشا وأسمه عبد الله يعني أنه من خلف هابيل علمه الله سبحانه وتعالى ساعات الليل والنهار وعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه خمسين صحيفة فصار وصي آدم وولي عهده وأما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا تأمن من تراه فأخذ بيد أخته أقليما وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس فقال له إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النار فانصب أيضا أنت نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيتا للنار فهو أول من عبد النار وكان لا يمر به أحد من ولده إلا رمماه فأقبل ابن له أعمى ومعه ابن له فقال ابنه هذا أبوك قابيل مرمى الأعمى أباه فقتله فقال ابن الأعمى قتلت أباك فرفع يده ولطم ابنه فمات فقال الأعمى ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت أبني بلطمتي وقال مجاهد فعلقت إحدى رجلي قابيل إلى فخدها وساقها وعلقت منها فهو معلق إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس ما دارت عليه في الصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج قال واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله بالطوفان أيامم نوح عليه السلام وبقي نسل شيث أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص بن غياث ثنا أبي ثنا الأعمش حدثني عبد الله بن مرة عن ممسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدمم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل \ ح \ سورة المائدة (32) قوله عز وجل (من أجل ذلك) قرأ أبو جعفر من أجل ذلك بكسر النون موصلا وقراءة العامة بجزم النون وفتح الهمزة مقطوعا أي من جراء ذلك القاتل وجنايته يقال أجل يأجل أجلا إذا جنى مثل أخذ يأخذ أخذا (كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس) قتلها فيقاد منه (أو فساد في الأرض) يريد بغير نفس وبغير فساد في الأرض من كفر أو زنا أو قطع طريق أو نحو ذلك (فكأنما قتل الناس جميعا) اختلفوا في تأويله قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن شد عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا قال مجاهد من قتل نفسا محرمة يصلي النار بقتلها كما يصلي لو قتل الناس جميعا ومن أحياها من سلم
31

من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا قال قتادة أعظم الله أجرها وعظم وزرها معناه من استحل قتل مسلم بغير حقه فكأنما قتل الناس جميعا في الإثم لأنهم لا يسلمون منه (ومن أحياها) وتورع عن قتلها (فكأنما أحيا الناس جميعا) في الثواب لسلامتهم منه قال الحسن فكأنما قتل الناس جميعا يعني أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جمميعا ومن أحياها أي عفا عمن وجب عليه القصاص له فلم يقتله فكأنمما أحيا الناس جميعا قال سيممان بن علي قلت للحسن يا أب سعيد أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل قال إي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا (ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إنن كثيرا ممنهم بعدد ذلك في الأرض لمسرفون) سورة المائدة (33) (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا) الآية قال الضحاك نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنفضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض وقال الكلبي نزلت في قوم هي ل بن عويمر وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وداع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه وممن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آممن لا يهاج فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلامم بناس من أسلمم من قوم هلال بم عويممر ولم يكن هلال شاهدا فشدوا عليهم فقتلوهمم وأخذوا أمموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقضاء فيهم وقال سعيدد بن جبير نزلت في ناس من عرينة وعكل أتو النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا علي بن عبد الله ثنا الوليد بن ممسلم ثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي حدثني أبو قلابة الجرمي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قددم علي النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عكل فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصددقة فيشربوا ممن أبوالها وألبانها ففعلوا فصحوا فارتدووا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا ورواه أيوب عنن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمر بمسامير فكححلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فمما يسقون حتى مماتوا قال أبو قلابة قتلوا وسرقوا وحاربوا الله وورسوله وسعوا في الأرض فسادا واختلفوا في حكم هؤلاء العرنيين فقال بعضهممم هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز وقال بعضهم حكمه ثابت إلا السمل والمثلة وروى قتادة عن ابن سيرين أن ذلك كان قبل أن ينزل الححد وقال أبو الزناد فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود ونهاه عن المثلة فلم يعد وعن قتادة قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة
32

وينهى عن المثلة وقال سليممان التميمي عن أنس إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سلموا أعين الرعاة وقال الليث بن سعد نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليما منه إياه عقوبتهم وقال إنما جزاؤهم هذا لا المثلة ولذلك ما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا إلا نهى عن المثلة واختلفوا في المحاربين الذين يستحقون هذا الحد فقال قوم هم الذين يقطعون الطريق ويحملون السلاح على المسلمين والمكابرون في الأمصار وهو قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي رحمهم الله وقال قوم هم الممكابرون في الأمصار ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذا الحد وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعقوبة المحاربين ما ذكر الله سبحانه وتعالى (أن يقتلوا أو يصلبوا أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) فذهب قوم إلى أن الإمام بالخيار في أمر المحاربين بين القتل والقطع والصلب والنفي كما هو ظاهر الآية وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والنخعي ومجاهد وذهب الأكثرون إلى أن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على
التخيير لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمدد الخلال أننا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمدد عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف فإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض وهو قول قتادة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي رحمهم الله تعالى وإذا قتل قاطع الطريق يقتل حتما حتى لا يسقط بعفو ولي الدم وإذا أخذ من المال نصابا وهو ربع دينار تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى وإذا قتل وأخذ المال يقتل ويصلب واختلفوا في كيفيته فظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يقتل ثم يصلب وقيل يصلب حيا ثم يطعن حتى يموت مصلوبا وهو قول الليث بن سعد وقيل يصلب ثلاثة أيام حيا ثم ينزل فيقتل وإذا أخاف السبيل ينفي واختلفوا في النفي فذهب قوم إلى أن الإمام يطلبه ففي كل بلد يوجد ينفي وهو قول سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وقيل يطلبون لتقام عليهم الحدود وهو قول ابن عباس والليث بن سعد وبه قال الشافعي وقال أهل الكوفة النفي هو الحبس وهو نفي من الأرض وقال محمد بن جرير ينفي من بلده إلى غيره ويحبس في السجن في البلد الذي نفي إليه حتى تظهر توبته وقال مكحول إن عمر بن الخطاب أول من حبس في السجون وقال احبسه حتى أعلم منه التوبة ولا أنفيه إلى بلد فيؤذيهمم (ذلك) الذي ذكرت من الحد (لهم خزي) عذاب وهوان وفضيحة (في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) سورة المائدة (34 ((إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) فمن ذهب إلى أن الآية نزلت في الكفار قال معناه إلا الذين تابوا من شركهم وسلموا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم بشيء من الحددود ولا تبعه عليهم فيما أصابوا في الحال الكفر من دم أو مال ووأما المسلمون المحاربون فمن تاب منهم قبل
33

القدرة عليهم وهو قبل أن يظفر به الإمام تسقط عنه كل عقوبة وجبت حقا لله ولا يسقط ما كان من حقوق العباد فإن كان قد قتل في قطع الطريق يسقط عنه بالتوبة قبل القدرة عليه تحتم القتل ويبقى عليه القصاص لولي القتيل فإن شاء عفا عنه وإن شاء تاب واستوفى وإن كان قد أخذ المال يسقط عنه القطع وإن كان قد جمع بينهما يسقط عنه تحتم القتل والصلب ويجب ضمان المال وهو قول الشافعي رضي الله عنه وقال بعضهم إذا جاء تائبا قبل القدرة عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلا أن يوجد معه مال يعينه فيرده إلى صاحبه وروى عن علي رضي الله عنه في حارثة بن يزيد كان خرج محاربا فسفك الدماء وأخذ المال ثم جاء تائبا قبل أن يقدر عليه فلم يجعل علي رضي الله عنه تبعة أما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شيء منها وقيل كل عقوبة تجب حقا لله عز وجل من عقوبات قطع الطريق وقطع السرقة وحد الزنا والشرب تسقط بالتوبة بكل حال والأكثرون على أنها لا تسقط سورة المائدة (35) (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا) اطلبوا (إليه الوسيلة) أي القربة فعيلة من توسل إلى فلان بكذا أي تقرب إليه وجمعها وسائل (وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) سورة المائدة (36) (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم) أخبر أن الكافر لو ملك الدنيا كلها ومثلها معها ثم فدى بذلك نفسه من العذاب لم يقبل منه ذذلك الفداء (ولهم عذاب أليم) سورة المائدة (37) (يريدون أن يخرجوا ممن النار وما هم بخارجين منها) فيه وجهان أحدهما أنهم يقصدون ويطلبون المخرج منها كما قال الله تعالى (كلما أرادوا أنن يخرجوا منها) والثاني أنهم يتمنون ذلك بقلوبهم كما قال الله تعالى إخبارا عنهم (ربنا أخرجنا منها) (ولهم عذاب مقيم) سورة المائدة (38) (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) أراد به أيمانهما وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود وجملة الحكم أن من سرق نصابا من المال من حرز لا شبهة له فيه تقطع يده اليمنى من الكوع ولا يجب القطع بسرقة ما دون النصاب عند أهل العلم حكي عن ابن الزبير أنه كان يقطع في الشيء القليل وعامة العلماء على خلافة واختلفوا في القدر الذي يقطع فيه فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقطع في أقل من ربع
34

دينار فإن سرق ربع دينار أو متاعا قيمته ربع دينار يقطع وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضى الله تعالى عنهم وبه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والشافعي لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا ابن ابن عيينة عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضى الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القطع في ربع دينار فصاعدا / ح / أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم وروى عن عثمان أنه قطع سارقا في أترجة قومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار وهذا قول مالك رحمه الله تعالى أنه يقطع في ثلاثة دراهم وذهب قوم إلى أنه لا تقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم ويروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وقال قوم لا يقطع إلا في خمسة دراهم ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وبه قال ابن أبي ليلى أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص بن غياث أخبرني أبي أننا الأعمش قال سمعت أبا صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده / ح / وقال الأعمش كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل يرون أن منها ما يساوي ثلاثة دراهم ويحتج بهذا الحديث من يرى القطع في الشيء القليل وهو عند الأكثرين محمول على ما قاله الأعمش لحديث عائشة رضي الله عنها وإذا سرق شيئا من غير حرز كثمر في حائط لا حارس له أو حيوان في برية لا حافظ له أو متاع في بيت منقطع عن البيوت لا قطع عليه وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة حبل / ح / فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن وروي عن ابن جريج عن الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس على خائن أو منتهب ولا مختلس قطع / ح / وإذا سرق مالا له فيه شبهة كالعبد يسرق من مال سيده أو الولد يسرق من مال والده أو الوالد يسرق من مال ولده أو أحد الشريكين يسرق من مال المشترك شيئا لا قطع عليه وإذا سرق السارق أول مرة تقطع يده اليمنى من الكوع ثم إذا سرق ثانيا تقطع رجله اليسرى من مفصل القدم واختلفوا فيما إذا سرق ثالثا فذهب أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى وإذا سرق رابعا تقطع رجله اليمنى ثم إذا سرق بعدده شيئا يعزر ويحبس حتى تظهر توبته وهو المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله
عنه وهو قول قتادة وبه قال مالك والشافعي لما روى عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في السارق أنه سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم أن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله / ح / وذهب قوم إلى أنه إن سرق ثالثا بعدما قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى لا يقطع بل
35

يحبس وروى ذلك عن علي رضي الله عنه وقال إني لأستحي أن لا أدع له يدا يستنجي بها ولا رجلا يمشي بها وهو قول الشعبي والنخعي وبه قال الأوزاعي وأحمد وأصحاب الرأي قوله تعالى (جزاء بما كسبا) نصب على الحال والقطع ومثله (نكالا) أي عقوبة (من الله والله عزيز حكيم) سورة المائدة (39) (فمن تاب من بعد ظلمه) أي سرقته (وأصلح) العمل (فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) هذا فيما بينهم وبين الله تعالى فأما القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين قال مجاهد السارق لا توبة له فإذا قطعت حصلت التوبة والصحيح أن القطع للجزاء على الجناية كما قال (جزاء بما كسبا) ولا بد من التوبة بعده وتوبته الندم على ما مضى والعزم على تركه في المستقبل وإذا قطع السارق يجب عليه غرم مما سرق من المال عند أكثر أهل العلم وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي لا غرم عليه وبالاتفاق إن كان المسروق قائما عنده يسترده وتقطع يده لأن القطع حق الله تعالى والغرم حق العبد فلا يمنع أحدهم الآخر كاسترداد العين سورة المائدة (40) (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الجميع وقيل معناه ألم تعلم أيها الإنسان فيكون خطابا لكل واحد من الناس (يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء) قال السدي واالكلبي يعذب من يشاء من مات على كفره ويغفر لمن يشاء من تاب من كفره وقال ابن عباس رضي الله عنهما يعذب منن يشاء على الصغيرة ويغفر لمن يشاء على الكبيرة (والله على كل شيء قدير) سورة المائدة (41) قوله تعالى (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) أي في موالاة الكفار فإنهم لم يعجزوا الله (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) وهم المنافقون (ومن الذين
36

هادوا) يعني اليهود (سماعون) أي قوم سماعون (للكذب) أي قابلون للكذب كقول المصلي سمع الله لمن حمده أي قبل الله وقيل معناه سماعون لأجل الكذب أي يسمعون منك ليكذبوا عليك وذلك أنهم كانوا يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون ويقولون سمعنا منه كذا ولم يسمعوا ذلك منه (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) أي هم جواسيس يعني بني قريظة لقوم آخرين هم أهل خيبر وذلك أن رجلا وامرأة ممن أشرف أهل خيبر زنيا وكانا محصنين وكان حدهما الرجم في التوراة فكرهت االيهود رجمهما لشرفهما فقالوا إن هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب فأسلوإلى إخوانكم بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح له فليسألوه عن ذلك فبعثوا رهطا منهم مستخفين وقالوا لهم سلوا محمدا عن الزانيين إذا أحصنا ما حدهما فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا منه وأرسلوا معهم الزانيين فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة والنضير فقال لهم إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده وقد حدث فينا حدث فلان وفلانة قد فجرا وقد وقد أحصنا فنجب أن تسألوا لنا محمدا عن قضائه فقالت لهم قريظة والنضير إذا والله يأمركم بما تكرهون ثم انطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أخبرنا عن الزاني وزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك فقال هل ترضون بقضائي قالوا نعم فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل عليه السلام اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تعرفون شابا أمرد أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا قالوا نعم قال فأي رجل هو فيكم فقالوا هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام في التوراة قال صلى الله عليه وسلم أنت ابن صوريا قال نعم قال أنت أعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال أتجعلونه بيني وبينكم قالوا نعم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام وأخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي ظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن قال ابن صوريا نعم والذي ذكرتني به لولا خشية أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك ولكن كيف هي في كتابك يا محمد قال إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم فقال ابن صوريا والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله عز وجل في التوراة على موسى عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فماذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله قال كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنى رجل آخر في أسوة ممن الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه فقالوا والله لا يرجم حتى يرجم فلان لابن عم الملك فقلنا تعالوا نجتمع فلنصنع شيئا دون الرجم يكون على الوضيع والشريف فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسود وجههما ثم يحملان على حمارين ووجوههما من
37

قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم فقالت اليهود لابن صوريا ما أسرع ما أخبرته به وما كنا لما أثرنا عليك بأهل ولكنك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك فقال لهم إنه قد أنشدني بالتوراة ولولا خشية التوراة أن تهلكني لما أخبرته به فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده وقال اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه فأنزل الله عز وجل (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم فقالوا نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها لآية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله إرفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم قالوا أصدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فقال عبد الله بن عمر فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة وقيل سبب نزول هذه الآية القصاص وذلك أن بني النضير كان لهم فضل على
بني قريظة فقال بنو قريظة يا محمد إخواننا بنو النضير وأبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد وإذا قتلوا منا قتيلا لمم يقيدونا وأعطونا ديته سبعين وسقا ممن تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل مننا وبالرجل منهم الرجلين منا وبالعبد حرا منا وجراحتنا على التضعيف ممن جراحاتهم فاقض بيننا وبينهما فأنزل الله تعالى هذه الآية والأول أصح لأن الآية الرجم قوله (ومن الذين هادوا سماعون للكذب) قيل اللام بمعنى إلى وقيل هي لام كي أي يسمعون لكي يكذبوا عليك واللام في قوله (لقوم) أي لأجل قوم آخرين لم يأتوك وهم أهل خيبر (يحرفون الكلم) جمع كلمة (ممن بعد مواضعه) أي ممن بعد وضعه مواضعه وإنما ذكر الكناية ردا على لفظ الكلم (يقولون إن أوتيتمم هذا فخذوه) أي إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا (وأن لم تؤتوه فاحذروا ومن يردد الله فتنته) كفره وضلالته قال الضحاك هلاكه وقال قتادة عذابه (فلن تملك له من الله شيئا) فلن تقدر على دفع أمر الله فيه (أي للمنافقين واليهود فخزي المنافقين الفضيحة وهتك الستر بإظهار نفاقهم وخزي اليهود الجزية أو القتل أو السبي أو النفي ورؤيتهم ممن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيهم ما يكرهون (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) الخلود في النار سورة المائدة (42) (سماعون للكذب أكالون للسحت) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة والكسائي (للسحت)
38

بضم الحاء والآخرون بسكونها وهو الحرام وأصله الهلاك والشدة قال الله تعالى (فيسحتكم بعذاب) نزلت في حكم اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم قال الحسن كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه فيريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيسمع الكذب ويأكل الرشوة وعنه أيضا قال إنما ذلك في حكم إذا رشوته ليحق لك باطلا أو يبطل عنك حقك فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس فالسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن ومقاتل وقتادة والضحاك وقال ابن مسعود هو الرشوة في كل شيء قال ابن مسعود ممن يشفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما فأهدي له فقبل فهو سحت فقيل له يا أبا عبد الرحمن مما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم فقال الأخذ على الحكم كفر قال الله تعالى (ومن لمم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد أنا بن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعنة الله على الراشي والمرتشي / ح / والسحت كل كسب لا يحل قوله عز وجل (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا) خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك واختلفوا في حكم الآية اليوم هل للحاكم الخيار في الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكم إلينا فقال أكثر أهل العلم هو حكم ثابت في سورة المائدة حكم منسوخ وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا لم يحكموا وإن حكموا حكموا بحكم الإسلام وهو قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة وقال قوم يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم والآية منسوخة نسخها قوله تعالى (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) وهو قول مجاهد وعكرمة وروى ذلك عن ابن عباس وقال لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله تعالى (لا تحلوا شعائر الله) نسخها قوله تعالى (اقتلوا المشركين) وقوله (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم) نسخها قوله تعالى (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه لأنه لا يجوز لمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة قوله (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) أي بالعدل (إن الله يحب المقسطين) أي العادلين روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المقسطون عند الله على منابر من نور / ح / سورة المائدة (43) قوله تعالى (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة) هذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه اختصار أي
39

وكيف يجعلونك حكما بينهم فيرضون بحكمك وعندهم التوراة (فيها حكم الله) وهو الرجم (ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) أي بمصدقين لك سورة المائدة (44) قوله عز وجل (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا) أي اسلموا وانقادوا لأمر الله تعالى كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) وكما قال (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها) وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة منهم عيسى عليه السلام قال الله سبحانه وتعالى (لكل جعلنا منك شرعة ومنهاجا) وقال الحسن والسدي أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم ذكر بلفظ الجمع كما قال (إن إبراهيم كان أمة قانتا) وقوله تعالى (للذين هادوا) قيل فيه تقديم وتأخير تقديره فيها هدى ونور للذين هادوا ثم قال يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون وقيل هو على موضعه ومعناه يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا كما قال (وإن أسأتم فلها) أي فعليها وكما قال (أولئك لهم اللعنة) وقيل فيه حذف كأنه قال للذين هادوا وعلى الذين هادوا فحذف أحدهما اختصارا (والربانيون والأحبار) يعني العلماء واحدها حبر وحبر بفتح الحاء وكسرها والكسر أفصح وهو العالم المحكم في الشيء قال الكسائي وأبو عبيدة هو ممن الحبر الذي يكتب به وقال قطرب هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال بفتح الحاء وكسرها وفي الحديث يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره أي حسنه وهيأته ومنه التحبير وهو التحسين فسمى العالم حبرا لما عليه من جمال العلم وبهائه وقيل الربانيون ههنا من النصارى والأحبار من اليهود قوله عز وجل (بما استحفظوا من كتاب الله) أي استودعوا من كتاب الله (وكانوا عليه شهداء) أنه كذلك (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال قتادة والضحاك نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون ممن أساء من هذه الأمة روى عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين وقيل هي على الناس كلهم وقال ابن عباس
40

وطاوس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعله فهو به كافر وليس كممن كفر بالله واليوم الآخر قال عطاء هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وقال عكرمة معناه ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات فقال إنها تقع على جميع ما
أنزل الله لا على بعضه وكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك ثم لم يحكم ببعض ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات وقال العلماء هذا إذا رد نص حكم الله عيانا عمدا فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فلا سورة المائدة (45) قوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها) أي أوجبنا على بني إسرائيل في التوراة (أن النفس بالنفس) يعني ممن نفس القاتل بنفس المقتول وفاء يقتل به (والعين بالعين) تفقأ بها (والأنف بالأنف) يجدع به (والأذن بالأذن) تقطع بها قال ابن عباس أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة وهو أن النفس بالنفس واحدة بواحدة إلى آخرها فما بالهم يخالفون فيقتلون بالنفس النفسين ويفقأون بالعين العينبن وخفف نافع الأذن في جميع القرآن ونقلها الآخرون (والسن بالسن) تقلع بها وسائر الجوارح قياس عليها في القصاص (والجروح قصاص) فهذا تعميم بعد تخصيص لأنه ذكر العين والأنف والأذن والسن ثم قال (والجروح قصاص) أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد والرجل واللسان ونحوها وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم أو جرح لحم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته وقرأ الكسائي (والعين) وما بعدها بالرفع وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأبو عمرو (والجروح) بالرفع فقط وقرأ الآخرون كلها بالنصب كالنفس قوله تعالى (فمن تصدق به) أي بالقصاص (فهو كفارة له) قيل الهاء في له كناية عن المجروح وولي القتيل أي كفارة للمصدق وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص والحسن والشعبي وقتادة أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أنا عبد الله الحسين بن محمد الدينوري أنا عمر بن الخطاب أنا عبد الله بن الفضل أخبرنا أبو خيثمة أنا جرير عن مغيرة عن الشعبي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه / ح / وقال جماعة هي كناية عن الجارح والقاتل يعني إذا عفا المجنى عليه من الجاني فعفوه كفارة لذنب الجانب لا يؤاخذ به في الآخرة كما أن القصاص كفارة له
41

فأما أجر العافي فعلي الله عز وجل قال الله تعالى (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) روى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) سورة المائدة (46) (وقفينا على آثارهم) أي على آثار النبيين أسلموا (بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه) أي في الإنجيل (هدى ونور ومصدقا) يعني الإنجيل (لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين) سورة المائدة (47) (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) قرأ الأعمش وحمزة (وليحكم) بكسر اللام ونصب الميم أي لكي يحكم وقرأ الآخرون بسكون اللام وجزم الميم على الأمر قال مقاتل بن حيان أمر الله الربانيين والأحبار أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة وأمر القسيسين والرهبان أن يحكموا بما في الإنجيل فكفروا وقالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) الخارجون عن أمر الله عز وجل سورة المائدة (48) قوله سبحانه وتعالى (وأنزلنا إليك) يا محمد (الكتاب) القرآن (بالحق مصدقا لمما بين يديه ممن الكتاب) أي من الكتب المنزلة من قبل (ومهيمنا عليه) روى الوالي عن ابن عباس رضي الله عنهما أي شاهدا عليه وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والكسائي قال حسان إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب يريد شاهدا ومصدقا وقال عكرمة دالا وقال سعيد بن جبير وأبو عبيدة مؤتمنا عليه وقال الحسن أمينا وقيل أصله مؤيمن مفيعل ممن أمين كما قالوا مبيطر من البيطار فقلبت الهمزة هاء كما قالوا أرقت الماء وهرقته وإيهات وهيهات ونحوها ومعنى أمانة
42

القرآن ما قال ابن جريج القرآن أمين على ما قبله من الكتب فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدقوا وإلا فكذبوا وقال سعيد بن المسيب والضحاك قاضيا وقال الخليل رقيبا وحافظا والمعاني متقاربة ومعنى الكل أن الكل كتاب يشهد بصدق القرآن فهو كتاب الله تعالى وإلا فلا (فاحكم) يا محمد (بينهم) بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك (بما أنزل الله) تعالى بالقرآن (ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق أي لا تعرض عما جاءك من الحق ولا تتبع أهواءهم (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) قال ابن عباس والحسن ومجاهد أي سبيلا وسنة فالشرعة والمنهاج الطريق الواضح وكل ما شرعت فيه فهو شريعة وشرعة ومنه شرائع الإسلام لشروع أهلها فيها وأراد بهذا أن الشرائع مختلفة ولكل أهل ملة شريعة قال قتادة الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وأمه عيسى وأمه محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين فالتوراة شريعة والإنجيل شريعة والفرقان شريعة والدين واحد وهو التوحيد (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) أي ملة واحدة (ولكن ليبلوكم) ليختبركم (فيما آتاكم) من الكتب وبين لكم من الشرائع فيبين المطيع من العاصي والموافق من المخالف (فاستبقوا الخيرات) فبادروا إلى الأعمال الصالحة (إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) سورة المائدة (49) قوله عز وجل (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) إليك (ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) قال ابن عباس رضي الله عنهما قال كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من رؤساء اليهود بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار كككك أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك لم يخالفنا اليهود وإن بيننا وبين الناس خصومات فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك ويتبعنا غيرنا ولم يكن قصدهم الإيمان وإنما كان قصدهم التلبيس ودعوته إلى الميل في الحكم فأنزل الله عز وجل الآية (فإن تولوا) أي أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن (فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم) أي فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم (وإن كثيرا من الناس) يعني اليهود (لفاسقون) سورة المائدة (50) (أفحكم الجاهلية يبغون) قرأ ابن عامر تبغون بالتاء وقرأ الآخرون بالياء أي يطلبون (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)
43

سورة المائدة (51) (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) اختلفوا في نزول هذه الآية كان حكمها عاما لجميع المؤمنين فقال قوم نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي سلول وذلك أنهما اختصما فقال عبادة ان لي أولياء من اليهود كثير عددهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله والى رسوله من ولايتهم وولاية اليهود ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله لكني أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه قال إذا أقبل فأنزل الله تعالى هذه الآية قال السدي لما كانت وقعة أحد اشتدت على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدل عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا اني أخاف أن يدال علينا اليهود وقال رجل آخر أما أنا فألحق بفلان النصراني من أهل الشام
وأخذ منه أمانا فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهما وقال عكرمة نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا ماذا يصنع بنا إذا نزلنا فجعل أصبعه على حلقه أنه الذبح أي يقتلكم فنزلت هذه الآية (بعضهم أولياء بعض) في العون والنصرة ويدهم واحدة على المسلمين (ومن يتولهم منكم) فيوفقهم ويعينهم (فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) سورة المائدة (52) (فترى الذين في قلوبهم مرض) أي نفاق يعني عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين الذين يوالون اليهود (يسارعون فيهم) في معونتهم وموالاتهم (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) دولة يعني أن يدول الدهر دولته فنحتاج إلى نصرهم إيانا وقال ابن العباس رضي الله عنهما معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا وقيل نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه من جدب وقحط ولا يعطونا الميرة والقرض (فعسى الله أن يأتي بالفتح) قال قتادة ومقاتل بقضاء الفصل من نصر محمد صلى الله عليه وسلم على من خالفه وقال الكلبي والسدي فتح مكة وقال الضحاك فتح قرى اليهود مثل خيبر وفدك (أو أمر من عنده) قيل بأتمام أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقيل عذاب لهم وقيل إجلاء بني النضير (فيصبحوا) يعني هؤلاء المنافقون (على ما أسرهم في أنفسهم) من موالاة اليهود ودس الأخبار إليهم (نادمين)
44

سورة المائدة (53) (و) حينئذ (يقول الذين آمنوا) قرأ أهل الكوفة (ويقول) بالواو والرفع على الاستئناف وقرأ أهل البصرة بالواو ونصب اللام عطفا على (أن يأتي) أي وعسى أن يقول الذين آمنوا وقرأ الآخرون بحذف الواو ورفع اللام وكذلك هو في مصاحف أهل العالية استغناء عن حرف العطف لملابسة هذه الآية بما قبلها يعني يقول الذين آمنوا في وقت إظهار الله تعالى نفاق المنافقين (أهؤلاء الذين أقسموا بالله) حلفوا بالله (جهعد أيمانهم) أي حلفوا بأغلظ الأيمان (إنهم لمعكم) أي إنهم لمؤمنون يريد أن المؤمنين حينئذ يتعجبون من كذبهم وحلفهم بالباطل قال الله تعالى (حبطت أعمالهم) بطل كل خير عملوه (فأصبحوا خاسرين) خسروا الدنيا بافتضاحهم والآخرة بالعذاب وفوات الثواب سورة لمائدة (54) (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) قرأ أهل المدينة والشام (يرتدد) بدالين على إظهار التضعيف (عن دينه) فيرجع إلى الكفر قال الحسن علم الله تبارك وتعالى أن قوما يرجعون عن الاسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه سيأتي بقوم يحبهم الله ويحبونه واختلفوا في أولئك القوم من هم قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وقتادة هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس ومنع بعضهم الزكاة وهم أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم فكرة ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال عمر رضي الله عنه كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله الا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل \ ح \ فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال أنس بن مالك رضي الله عنه كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة وقالوا أهل القبلة فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدا من الخروج على أثره قال ابن مسعود كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه عليه في الانتهاء قال أبو بكر بن عياش سمعت أبا حصين يقول ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر رضي الله عنه لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة وقد كان قد ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث
45

فرق منهم بنومدلج ورئيسهم ذو الحمار عيهلة بن كعب العنسي ويلقب بالأسود وكان كاهنا مشعبذا فتنبأ باليمن واستولى على بلاده فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم وعلى النهوض إلى حزب الأسود فقتله فيروز الديلمي على فراشه قال ابن عمر رضي الله عنه فأتي الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك قيل ومن هو قال فيروز فبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود وقبض صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعدما خرج أسامة وكان ذلك أول فتح جاء أبو بكر رضي عنه والفرقة الثانية بنو حنيفة باليمامة ورئيسهم مسيلمة الكذاب وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر وزعم أنه أشرك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك وبعث إليه مع رجلين من أصحابه فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ثم أجاب من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يروثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديد وكان وحشي يقول قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الاسلام والفرقة الثانية بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة آخر من ارتد وادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأول من قوتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الردة فبعث أبو بكر خالد بن الوليد فهزمهم خالد بعد قتال شديد وأفلت طليحة فمر على وجهه هاربا نحو الشام ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير حتى كفى الله المسلمين أمرهم ونصر دينه علي يدي أبي بكر رضي الله عنه قالت عائشة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد العرب واشرأب النفاق ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها وقال قوم المراد بقوله (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) هم الأشعريون روي عن عياض بن غنم الأشعري قال لما نزلت هذه ألآية (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم قوم هذا وأشار إلى أبي موسى الأشعري وكانوا من اليمن أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا أبو عبد الله عمر الجوهري أنا أحمد بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي موسى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة الايمان يمان والحكمة يمانية \ ح \ وقال الكلبي هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف
من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية في أيام عمر رضي الله عنه قوله عز وجل (أذلة على المؤمنين) يعني أرقاء رحماء لقوله عز وجل (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) ولم يرد به الهوان بل أراد أن جانبهم لين على المؤمنين وقيل هو الذل من قولهم دابة ذلول يعني أنهم متواضعون قال الله تعالى (وعباد
46

سورة المائدة (55) الرحمن الذين يمشون في الأرض هونا) (أعزة على الكافرين) أي أشداء غلاظ على الكفار يعادونهم ويغالبونهم من قولهم عزة أي غلبه قال عطاء أذلة على المؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده أعزة على الكافرين كالسبع على فريسته نظيره قوله تعالى (أشداء على الكفار رحماء بينهم) (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) يعني لا يخافون في الله لومة الناس وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم وروينا عن عبادة بن الصامت قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) أي محبتهم لله ولين جانبهم للمسلمين وشدتهم على الكافرين من فضل الله عليهم (والله واسع عليم) سورة المائدة (55) (أنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول حين تبرأ عبادة من اليهود وقال أتولى الله ورسوله والذين آمنوا فنزل فيهم من قوله (يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) إلى قوله (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) يعني عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال جابر بن عبد الله جاء عبد الله بن سلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا واقسموا أن لا يجالسونا فنزلت هذه الآية فقرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء وعلى هذا التأويل أراد بقوله (وهم راكعون) صلاة التطوع بالليل والنهار وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقال السدي قوله (والذين أمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) أراد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمة وقال جوبير عن الضحاك في قوله (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) قال هم المؤمنون بعضهم أولياء بعض وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر أنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا نزلت في المؤمنين فقيل له إن أناسا يقولون إنها نزلت في علي رضي الله عنه فقال هو من المؤمنين سورة المائدة (56) (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا) يعني يتول القيام بطاعة الله ونصرة رسوله وألمؤمنين قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المهاجرين والأنصار (فإن حزب الله) يعني أنصار دين الله (هم الغالبون)
47

سورة المائدة (57 59) سورة المائدة (57) قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا) الأية قال ابن عباس كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهر الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادنهما فأنزل الله عز وجل هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا) بإظهار ذلك بألسنتهم قولا وهم مستبطنون الكفر (من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) يعني اليهود (والكفار) قرأ أهل البصرة والكسائي (الكفار) بخفض الراء يعني ومن الكفار وقرأ الآخرؤون بالنصب أي لا تتخذوا الكفار (أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) سورة المائدة (58) (وإذا ناديتم إلى الصلاة أتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) قال الكلبي كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى صلاة وقام المسلمون إليها قالت اليهود قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا على طريق الاستهزاء وضحكوا فأنزل الله عز وجل هذه الآية وقال السدي نزلت في رجل من النصارى بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول اشهد أن محمد رسول الله قال حرق الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار هو وأهله نيام فتطايرت منها شرارة فاحترق البيت واحترق هو وأهله وقال الآخرون إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا المسلمين فدخلوا على رسول الله وقالوا يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم فإن كنت تدعى النبوة فقد خالفت فيما أحدثت الأنبياء قبلك ولو كان فيه خير لكان أولى الناس به الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير فما أقبح من صوت وما أسمج من أمر فأنزل الله تعالى الآية (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) الآية سورة المائدة (59) قوله عز وجل (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا) الآية قرأ الكسائي (هل تنقمون) بإدغام اللام في التاء وكذلك يدغم لام هل في التاء والثاء والنون ووافقه حمزه في التاء والثاء وأبو عمرو في (هل ترى) في موضعين قال ابن العباس اتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود أبو ياسر بن اخطب ورافع بن أبي رافع وغيرهما فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال أومن بالله وما انزل الينا وما انزل إلى إبراهيم وإسماعيل \ ح \ إلى قوله (ونحن له مسلمون) فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوته وقالوا والله ما نعلم أهل دين أقل حظ في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم فأنزل الله هذه الآية (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا) أي تكرهون منا (الا ان امنا بالله وما أنزل الينا وما انزل من قبل وان أكثركم فاسقون) أي تكرهون منا الا ايماننا وفسقكم أي انما كرهتم أيماننا
48

سورة المائدة من (60 63) وأنتم تعلمون أنا على حق لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لحب الرياسة وحب الأقوال ثم قال سورة المائدة (60) (قل) يا محمد (هل أنبئكم) أخبركم (بشر من ذلك) الذي ذكرتم يعني قولهم لم نر أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم فذكر الجواب بلفظ الابتداء وإن لم يكون الابتداء شرا لقوله تعالى (أفأنبأكم بشر من ذلكم النار) (مثوبة) ثوابا وجزاء نصب على التفسير (عند الله من لعنه الله) أي هو من لعنه الله (وغضب عليه) يعني اليهود (وجعل منهم القردة والخنازير) فالقردة أصحاب السبت والخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام وروى عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ان الممسوخين كلاهم من أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير (وعبد الطاغوت) أي جعل منهم من عبد الطاغوت أي أطاع الشيطان فيما 0 سول له وتصديقها قراءة ابن مسعود ومن عبدوا الطاغوت وقرأ حمزة (وعبد) بضم الباء (الطاغوت) بجر التاء أراد العبد وهما لغتان عبد بجزم الباء وعبد بضم الباء مثل سبع وسبع وقيل جمع العباد وقرأ الحسن وعبد الطاغوت على الواحد (أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل) عن طريق الحق سورة المائدة (61) (وإذا جاءوكم قالوا) يعني هؤلاء المنافقين وقيل هم الذين قالوا (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره) دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا (آمنا) بك
وصدقناك فيما قلت وهم يسرون الكفر (وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) يعني دخلوا كافرين وخرجوا كافرين (والله أعلم بما كانوا يكتمون) سورة المائدة (62) (وترى كثيرا منهم) يعني من اليهود (يسارعون في الاثم والعدوان) قيل الإثم المعاصي والعدوان الظلم وقيل الاثم ما كتموا من التوراة والعدوان ما زادوا فيها (وأكلهم السحت) الرشا (لبئس ما كانوا يعملون) سورة المائدة (63) (لولا) هلا (ينهاهم الربانيون والأحبار) يعني العلمء قيل لاربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود (عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون)
49

سورة المائدة (64) سورة المائدة (64) (وقالت اليهود يد الله مغلولة) قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصهم ناحية فلما عصوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك قال فنحاص بن عازورا ء يد الله مغلولة أي محبوسة مقبوضة من الرزق نسبوه إلى البخل قيل إنما قال هذه المقالة فنحاص فلما لم ينهه الأخرون ورضوا بقوله أشركهم الله فيها وقال الحسن معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا ما يبر به قسمة قدر ما عبد آباؤنا العجل والأول أولى لقوله (ينفق كيف يشاء) (غلت أيديهم) أي أمسكت أديهم عن الخيرات وقال الزجاج أجابهم الله تعالى فقال أنا الجواد وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسكة وقيل هو من الغل في النار يوم القيامة لقوله تعالى (إذ الأغلال في أغناقهم والسلاسل) (ولعنوا) عذبوا (بما قالوا) فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير وضربت علهم الذلة والمسكنة في الدنيا وفي الآحرة بالنار (بل يداه مبسوطتان) ويد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه وقال جل ذكره (لما خلقت بيدي) وقال النبي صلى الله عليه وسلم كلتا يديه يمين والله أعلم بصفاته فعلى العباد فيها الايمان والتسليم وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات أمروها كما جاءت بلا كيف (ينفق) يرزق (كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) أي كلما أنزل آية كفروا بها فازدادوا طغيانا وكفرا وكفروا (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء) يعني بين اليهود والنصارى قاله الحسن ومجاهد قيل وبين طوائف اليهود جعلهم مختلفين في دينهم متباغضين (إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) يعني اليهود أفسدوا وخالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين وقيل كلما أجمعوا أمرهم ليفسدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم واقدوا نار المحاربة أطفأها الله فردهم وقهرهم ونصر نبيه ودينه هذا معنى قول الحسن وقال
50

سورة المائدة من (65 67) قتادة هذا العام في كل حرب طلبته اليهود فلا تلقى اليهود في البلد إلا وجدتهم أذله الناس (ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) سورة المائدة (65) (ولو أن أهل الكتاب آمنوا) بمحمد صلى الله عليه وسلم (واتقوا) الكفر (لكفرنا عن سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم) سورة المائدة (66) (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل) يعني أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما (وما أنزل إليهم من ربهم) يعن القرآن وقيل كتب أنبياء بني إسرائيل (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) قيل من فوقهم هو المطر ومن تحت أرجلهم نبات الأرض قال ابن عباس رضي الله عنهما لنزلت عليهم القطر وأخرجت لهم من نبات الأرض قال الفراء أراد به التوسعة في الرزق كما يقال فلان في الخير من قرنه إلى قدمه نظيره قوله تعالى (ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (منهم أمة مقتصدة) يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه مقتصدة أي عادلة غير غالبة ولا مقصرة جافية ومعنى الاقتصاد في اللغة الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير (وكثير منهم) كعب بن الأشرف وأصحابه (ساء ما يعملون) بئس ما يعملون بئس شيئا عملهم قال ابن عباس رضي الله عنهما عملوا بالقبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم سورة المائدة (67) قوله عز وجل (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) روي عن مسروق قال قالت عائشة رضي الله عنها من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل الله فقد كذب وهو يقول (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) الآية روى الحسن أن الله تعالى لما بعث رسوله ضاق ذرعا وعرف أن الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية روى الحسن أن الله تعالى لما بعث رسوله ضاق ذرعا وعرف أن من الناس من يكذبه فنزلت هذه الآية نزلت في عيب اليهود وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام فقالوا أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزؤون به فيقولون له تريد ان نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى حنانا فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت فنزلت هذه الآية وأمره أن يقول لهم (يا أهل الكتاب لستم على شيء) الآية وقيل بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص نزلت في قصة اليهود وقيل نزلت في
51

أمر زينب بنت جحش ونكاحها وقيل في الجهاد وذلك أن المنافقين كرهوه كما قال الله تعالى (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) كرهه بعض المؤمنين قال الله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) الآية فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة بعضهم فأنزل الله هذه الآية قوله تعالى (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) قرأ أهل المدينة والشام وأبو بكر ويعقوب (رسالته) على الجمع والباقون رسالته على التوحيد ومعنى الآية إن لم تبلغ الجمع وتركت بعضه فما بلغت شيئا أي جرمك في ترك تبليغ البعض كجرمك في ترك تبليغ الكل كقوله (نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا) أخبر أن كفرهم بالبعض محبط للإيعاب بالبعض وقيل بلغ ما أنزل إليك أي أظهر تبليغه كقوله (فاصدع بما تؤمر) وإن لم تفعل فإن لم تظهر تبليغه فما بلغت رسالته اممره بالتبليغ ما أنزل أليه مجاهرا محتبسا صابرا غير خائف فإن أخفيت منه شيئا لخوف يلحقك فما بلغت رسالته (والله يعصمك من الناس) يحفظك ويمنعك من الناس فإن قيل أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته وأوذى بضروب من الأذى قيل معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك وقيل نزلت هذه الأية بعد ما شج رأسه لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن وقيل والله يخصك بالعصمة من بين الناس لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم (إن الله لا يهدي القوم الكافرين) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي انا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا أبو شعيب عن الزهري أنا سنان بن أبي سنان الدولي وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله أخبره أنه غزا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه وأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا وإذا عنده أعرابي فقال إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظ وهو في يده صلتا فقال من يمنعك مني فقلت الله ثلاثا ولم يعاقبه وجلس وروى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأعرابي سل سيفه وقال من يمنعك مني يا محمد قال الله فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله تعالى هذه الآية أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل بن خليل أخبرنا علي بن مسهر أنا يحيى بن سعيد أنا عبد الله بن عامر بن ربيعة قال سمعت عائشة رضي الله عنها تقول كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر فلما قدم المدينة قال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة إذا سمعنا صوت سلاح فقال من هذا قال أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك ونام النبي صلى الله عليه وسلم وقال عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية (والله يعصمك من الناس) فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله سبحانه وتعالى
52

سورة المائدة (68 71) سورة الماءئدة (68) قوله عز وجل (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم) أي تقيموا أحكامهما وما يجب عليكم فيهما (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس) فلا تحزن (على القوم الكافرين) سورة المائدة (69) (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى) وكان حقه (والصائبين) وقد ذكرنا في سورة البقرة وجه ارتفاعه وقال سيبويه فيه تقديم وتأخير تقديره إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله إلى آخر الآية والصابئون كذلك قوله (إن الذين آمنوا) أي باللسان وقوله (من آمن بالله) أي بالقلب وقيل الذين آمنوا على حقيقة الإيمان (من آمن بالله) أي ثبت على الإيمان (واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة المائدة (70) قوله تعالى (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل) في التوحيد والنبوة (وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا) عيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما (وفريقا يقتلون) يحيى وزكريا سورة (71) (وحسبوا) ظنوا (أن لا تكون فتنة) أي عذاب وقتل وقيل ابتلاء واختباء أي ظنوا أن لا يبتلوا ولا يعذبهم الله قرأ أهل البصرة وحمزة والكسائي (تكون) برفع النون على معنى أنها لا تكون ونصبها الآخرون كما لو لم يكن قبله لا (فعموا) عن الحق فلم يبصروه (وصموا) عنه فلم يسمعوه يعني عموا وصموا بعد موسى صلوات الله وسلامه عليه (ثم تاب الله عليهم) ببعث عيسى عليه السلام (ثم عموا وصموا كثير منهم) بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم (والله بصير بما يعملون)
53

سورة المائدة (72 75) سورة المائدة (72) (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) وهم الملكانية واليعقوبية منهم (وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للضالمين من أنصار) سورة المائدة (73) (لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة) يعني المرقوسية وفيه إضمار معناه ثالث ثلاثة الآلهة لأنهم يقولون الإلهية مشتركة بين الله تعالى ومريم عيسى وكل واحد من هؤلاء إله فهم ثلاثة آلهة يبين هذا قوله عز وجل للمسيح (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) ومن قال إن الله ثالث ثلاثة ولم يرد به الإلهية لا يكفر فإن الله يقول (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه ما ظنك باثنين الله ثالثهما ثم قال ردا عليهم (وما من إله إلا اله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن) ليصيبن (الذين كفروا منهم عذاب أليم) خص الذين كفروا لعلمه أن بعضهم يؤمنون سورة المائدة (74) (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه) قال الفراء هذا أمر بلفظ الاستفهام كقوله تعالى (فهل أنتم منتهون) أي انتهوا والمعنى أن الله يأمركم بالتوبة والاستغفار من هذا الذنب العظيم (والله غفور رحيم) سورة المائدة (75) (مما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت) مضت (من قبله الرسل) أي ليس هو بإله بل هو كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آله (وأمة صديقه) أي كثيرة الصدق وقيل سميت صديقة لأنها صدقت بآيات الله كما قال غز وجل في وصفها (وصدقت بكلمات ربها) (كانا يأكلان الطعام) أي كانا يعيشان بالطعام والغذاء كسائر الآدميين فكيف يكون إلها من لايقيمه إلا أكل
54

سورة المائدة (76 79) الطعام وقيل هذا كنية عن الحدث وذلك أن من أكل وشرب لا بد له من البول والغائط ومن هذه صفته كيف يكون إلها ثم قال (أنظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) أي يصرفون عن الحق سورة المائدة (76) (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) سورة المائدة (77) (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) أي لا تتجاوز الحد والعلو والتقصير كل واحد منهما مذموم في الدين وقوله (غير الحق) أي في دينكم المخالف للحق وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم ثم غلوا فيه بالإصرار عليه (ولا تتبعوا أهواء قوم) والأهواء جمع هوى وهو ما تدعو إليه شهوة النفس (قد ضلوا من قبل) يعني رؤساء الضلالة من فريقي اليهود والنصارى والخطاب للذين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نهوا عن اتباع أسلافهم فيما إبتدعوه بأهوائهم (وضلوا كثيرا) يعني من اتبعهم على أهوائهم (وضلوا عن سواء السبيل) عن قصد الطريق أي بالإضلال فالضلال الأول من الضلالة والثاني بأضلال من اتبعهم سورة المائدة (78) (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود) يعني أهل أيلة لما اعتدوا في السبت وقال داوود عليه السلام اللهم العنهم واجعلهم أية فمسخوا قردة وخنازير (وعيسى ابن مريم) أي على لسان عيسى عليه السلام يعني كفار أصحاب المائدة لما لم يؤمنوا قال عيسى اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) سورة المائدة (79) (كانوا لا يتناهون عن ممنكر فعلوه) أي لا ينهى بعضهم بعضا (لبئس ما كانوا يفعلون) أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أبو الحسن محمد بن الحسين أنا أحمد بن محمد بن إسحاق أنا أبو يعلى الموصلي أنا وهب بن بقية أنا حالد يعني ابن عبد الله الواسطي عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطيئة
نهاه الناهي تعذيرا فإذا كان من الغد جالسه وآكله وشاربه كأن لم يره على الخطيئة بالأمس فلما رأى الله تبارك وتعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض
55

سورة المائدة من (80 82) وجعل منهم القردة والخنازير ولعنهم على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم \ ح \ سورة المائدة (80) قوله تعالى (ترى كثيرا منهم) قيل من اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه (يتولون الذين كفروا) مشركي مكة حين خرجوا إليهم يجيشون على النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن العباس ومجاهد المحسن منهم يعني من المنافقين يتولون اليهود (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم) بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة (أن سخط الله عليهم) غضب الله عليهم (وفي العذاب هم خالدون) سورة المائدة (81) (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي) محمد صلى الله عليه وسلم (وما أنزل إليه) يعني القرآن (ما اتخذوهم) يعني الكفار (أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون) أي خارجون عن أمر الله سبحانه وتعالى سورة المائدة (82) قوله عز وجل (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) يعني مشركي العرب (ولتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا إنا نصارى) لم يرد به جميع النصارى لأنهم في عداوتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم لا ولا كرامة لهم بل الآية فيمن أسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه وقيل نزلت في جميع اليهود وجميع النصارى لأن اليهود أقسى قلبا والنصارى ألين قلبا منهم وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود قال أهل التفسير إئتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن من افتتن وعصم الله منهم من شاء ومنع الله تعالى رسوله بعمه أبي طالب فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عند أحد فأخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا \ ح \ وأراد به النجاشي واسمه أصحمه وهو بالحبشة عطية وإنما النجاشي اسم الملك كقولهم قيصر وكسرى فخرج إليهم سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة وهم
56

عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير بن العوام وعبد الله بن المسعود وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبدالأسد وامرأته أم سلمة بنت أية أمية وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة وحاطب بن عمرو وسهل بن بيضاء رضي الله عنهم فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك وجعوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردوهم إليهم فعصمه الله وذكرت القصة في سورة آل عمران في قوله تعالى (إن أولى الناس بإبراهيم) إلى آخر الآية فلما انصرفا خائبين أقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره وذلك في سنة ستة للهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت قد هاجرا إليه مع زوجها فمات زوجها ويبعث إليه من عنده من المسلمين فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال لها أبره تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها فأعطتها أوضاحا سرورا بذلك فأذنت خالد بن سعيد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي رحمه الله فأنفذ إليها النجاشي أربعمائة دينار على يد أبرهه فلما جائتها بها أعطتها خمسين دينارا فردته وقالت أمرني الملك أن لاآخذ منك شيئا وقالت أنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت محمدا صلى الله عليه وسلم وآمنت به وحاجتي منك أن تقرئيه منك السلام قالت نعم قالت أبرهة وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عندها فلا ينكر قالت أم حبيبة فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم إليه النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي قفرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) يعني أبا سفيان مودة يعني بتزويج أم حبيبة ولما جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة قال ذلك الفحل لا يجدع أنفه وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه أزهى بن أصحمه بن أبجر في ستين رجلا من الحبشة وكتب إليه يا رسول الله أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسملت لله رب العالمين وقد بعثت إليك ابني أزهى وإن شئت آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول الله فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا في ثياب الصوف منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا حين سمعوا القرآن وقالوا آمنا وقالوا ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) يعني وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون وكانوا أصحاب الصوامع وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلا
57

سورة المائدة (83 87) اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وقال عطاء كانوا ثمانين رجلا أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب و اثنان وثلاثون من من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام وقال قتادة نتزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم صدقوه وآمنوا به فأثنى الله عز وجل بذلك عليهم (ذلك بأن منهم قسيسين) أي علماء قال قطرب القس والقسيسين العالم بلغة الروم (ورهبانا) الرهبان العباد أصحاب الصوامع واحدهم راهب مثل فارس وفرسان وراكب وركبان وقد يكون واحد وجمعه رهابين مثل قربان وقرابين (وأنهم لا يستكبرون) لا يتعظمون عن الايمان والاذعان للحق سورة المائدة (83) (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول) محمد صلى الله عليه وسلم (ترى أعينهم تفيض) تسيل (من الدمع مما
عرفوا من الحق) قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء يريد النجاشي ولأصحابه قرأ عليهم جعفر بالحبشة كهيعص فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة (يقولون ربنا أمنا فاكتبنا مع الشاهدين) يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى (لتكونوا شهداء على الناس) سورة المائدة (84) (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق) وذلك أن اليهود عيروهم وقالوا لهم لم أمنت فأجابوهم بهذا (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) أي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بيانه أن الأرض يرثها عبداي الصالحون سورة المائدة (85) (فأثابهم الله) أعطاهم الله (بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهر خالدين فيها) وإنما أنجح قولهم وعلق الثواب بالقول لاقترانه بالإخلاص بدليل قوله (وذلك جزاء المحسنين) يعني الموحدين المؤمنين وقوله (ترى عيونهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) يدل على أن الإخلاص والمعرفة بالقلب مع القول يكون إيمانا سورة المائدة (86) (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) سورة المائدة (87) قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات أحل الله لكم) الآية قال أهل التفسير ذكر النبي
58

سورة المائدة (88) صلى الله عليه وسلم الناس يوما ووصف القيامة فرق من الناس وبكوا فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسموح ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقودوا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية واسمها الخولاء وكانت عطارة أحق ما أبلغني عن زوجك وأصحابه فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا قالوا بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير فقال صلى الله عليه وسلم إني لم أؤمر بذلك ثم قال إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ثم جمع الناس وخطبهم فقال ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات النساء أما إني فلست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسكم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع فأنزل الله عز وجل هذه آية أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال انا عبد الله بن المبارك عن رشد بن سعد حدثني أبو نعيم عن سعد بن مسعود أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ائذن لنا في الاختصاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من خصي ولا من اختصى خصاء أمتي الصيام فقال يا رسول الله الله ائذن لنا في السياحة فقال إن السياحة أمتي الجهاد في سبيل الله فقال يا رسول الله ائذن لنا في الترهب فقال إن الترهب أمتي الجلوس في المساجد وانتظار الصلاة وروي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله إني أصبت من اللحم فانتشرت وأخذتني شهوة فحرمت اللحم فانزل الله تعالى 0 (يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) يعني اللذات التي تشتهيها النفوس مما أحل لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة (ولا تعتدوا) ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام وقيل جب المذاكير (إن الله لا يحب المعتدين) سورة المائدة (88) (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) قال عبد الله بن المبارك الحلال ما اخذته من وجهه والطيب ما
59

سورة المائدة (89) غذى وأنمى فأما الجوتمد كلاطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب أنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا أحمد بن إبراهيم الدورقي وسلمة بن شبيب ومحمود بن غيلان قالوا أخبرنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل سورة المائدة (89) (لا يأخذكم الله باللغو في أيممانكم) قال ابن العباس رضي الله عنهما لما نزلت (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) قالوا يا رسول الله كيف نصنع بإيماننا التي حلفنا عليها وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه فإنزل الله (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر (عقدتم) بالتحفيف وقرا ابن عامر (عاقتم) بالألف وقرأ الآخرون (عقدتم) بالتشديد أي وكتم والمراد من الآية قصدتم وتعمدتم (فكفارته) أي كفارة ما عقدتم الأيمان إذا حنثتم (إطعام عشرة مساكين) واختلفوا في قدره فذهب قوم إلى أنه يطعم كل مسكين مدا من الطعام بمد النبي صلى الله عليه وسلم وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد وكذلك في جميع الكفارات وهو قول زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم وسليمان بن اليسار وعطاء والحسن وقال أهل العراق لكل مسكين مدان وهو نصف صاع يروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إن أطعم من الحنطة فنصف صاع وأن أطعم ممن غيرها فصاع وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والحكم ولو غداهم وعشاهم لا يجوز وجوزه أبو حنيفة رضي الله عنه ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه لا يجوز الدراهم والدنانير ولا الخبز ولا الدقيق بل يجب إخراج الحب إليهم وجوز أبو حنيفة رضي الله عمه كا ذلك ولو صرف الكل إلى مسكين واحد لا يجوز وجوز أبو حنيفة أن يصرف طعام عشرة إلى مسكين واحد في عشرة أيام ولا يجوز أن يصرف إلا إلى مسلم حر محتاج فإن صرف إلى ذمي وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه صرفها إلى أهل الذمة واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز قوله تعالى (من أوسط ما تطعمون أهليكم) أي من خير قوت عيالكم وقال عبيدة السلماني الأوسط الخبز والخل والأعلى الخبز واللحم والأدني الخبز البحت والكل مجز قوله تعالى (أو كسوتهم) كل من لزمته كفاره اليمين فهو فيها مخير إن شاء أطعم عشرة من المساكين
وإن شاء كساهم وأن شاء أعتق
60

رقبة فإن اختار الكسوة فاختلفوا في قدرها فذهب قوم إلى أنه يكسو مسكين ثوبا واحدا مما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو عمامة أو كساء أو نحوها وهو ابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء وطاوس وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى وقال مالك يجب لكل إنسان ما تجوز فيه صلاته فيكسو الرجال ثوبا واحدا والنساء ثوبين درعا وخمارا وقال سعيد بن المسيب لكل مسكين ثوبان قوله عز وجل (أو تحرير رقبة) وإذا اختار العتق يجب إعتاق رقبة مؤمنة وكذلك جميع الكفارات مثل كفارة القتل والظهار والجماع في نهار رمضان يجب فيها اعتاق رقبة مؤمنة وأجاز أبو حنيفة رضي الله عنه والثوري رضي الله عنه إعتاق الرقبة الكافرة في جميعها إلا في كفارة القتل لأن الله تعالى قيد الرقبة فيها بالإيمان قلنا المطلق يحمل على المقيد كما أن الله تعالى قيد الشهادة بالعدالة في موضع فقال (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وأطلق في موضع فقال (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) ثم العدالة شرط في جميعها حملا للمطلق على المقيد كذلك هذا ولا يجوز إعتاق المرتد بالاتفاق عن الكفارة ويشترط أن يكون سليم الرق ححتى لو أعتق عن كفارته مكابتبا أو أما ولد أو عبد اشتر بشرط العتق أو اشتر قريبه الذي يعتق عليه بنيت الكفارة يعتق ولكن لا يجوز عن الكفارة وجوز أصحاب رأي عتق المكاتب إذا لم يكن أدى شيئا من النجوم وعتق القريب عن الكفارة ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضررا بينا حتى لا يجوز مقطوع أححدى اليدين أو أحدى الرجلين ولا الأعمى ولا الزمن ولا المجنون المتبق ويجوز الأعور والأصم ومقطوع الأذنين والأنف لأن هذه العيوب لا تضر بالعمل ضررا بينا وعند أبي حنيفة رضي الله عنه كل عيب يفوت جنسا من المنفعة يمتنع الجواز حتى جوز مقطوع إحدى اليدين ولم يجوز مقطوع الأذنين قوله عز وجل (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) إذا عجز الذي لزمته كفاره اليمين عن الطعام والكسوة وتحرير الرقبة يجب عليه صوم ثلاثة أيام والعجز أن لا يفضل من ماله عن قوته وقوت عياله وحاجته ما يطعم أو يكسو أو يعتق فإنه يصوم ثلاثة أيام وقال بعضهم إذا ملك ما يمكنه الإطعام وإن لم يفضل عن كفايته فليس له الصيام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير واختلفوا في وجوب التتابع في هذا الصوم فذهب جماعة إلى أنه لا يجب فيه التتابع بل إن شاء تابع وإن شاء فرق والتتابع أفضل وهو أحد قولي الشافعي وذهب قوم إلى أنه يجب فيه التتابع قياسا على كفارة القتل والظهار وهو قول الثوري وأبي حنيفة ويدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه صيام ثلاثة أيام متتابعات (ذلك) أي ذلك الذي ذكرت (كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث واختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث فذهب قوم إلى جوازه لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير وهو قول عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنها وبه قال الحسن وابن سيرين وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي إلا أن الشافعي يقول إن كفر بالصوم قبل الحنث لأنه
61

سورة المائدة 90 91 يجوز لأنه بدني إنما يجوز بالإطعام أو الكسوة أو العتق كما يجوز تقديم الزكاة على الحول ولا يجوز تعجيل صوم رمضان قبل وقته وذهب قوم إلى أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه قوله عز وجل (واحفظوا أيمانكم) قيل أراد به ترك الحلف أي لا تحلفوا وقيل هو الأصح أراد به إذا حلفتم فلا تحنثوا فالمراد منه حفظ اليمين الحنث هذا إذا لم يكن يمينه على ترك مندوب أو فعل مكروه فإن حلف على فعل مكروه أو ترك مندوب فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفر لما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حجاج بن منهال أنا جرير بن حازم عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسال الإمارة فإنك إن أويتها عن مسألة وكلت إليها وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) سورة المائدة (90) قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) أي القمار (والأنصاب) يعني الأوثان سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبوها واحدها نصب بفتح النون وسكون الصاد ونصب بضم النون مخففا ومثقلا (والأزلام) يعني الاقداح التي يستسقمون بها واحدها زلم وزلم (رجس) خبيث مستقذر (ومن عمل الشيطان) من تزينه (فاجتنبوه) رد الكناية إلى الرجس (لعلكم تفلحون) سورة المائدة (91) (أنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) أما العدواة في الخمر فإن الشاربين إذا سكروا عربدوا و تشاجروا كما فعل الأنصاري الذي شج سعد بن أبي وقاص بلحى الجمل وأما العداوة في الميسر قال قتادة كان الرجل يقامر على الأهل والمال ثم يبقى حزينا مسلوب الأهل والمال مغتاظا على خرقائه (ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر والقمار الهاه ذلك عن ذكر الله وشوش عليه صلاته كما فعل باضياف عبد الرحمن بن عوف وتقدم رجل ليصلي بهم صلاة المغرب بعدما شربوا فقرا (قل يا أيها الكافرون) أعبد بحذف لا (فهل أنتم منتهون) اي انتهوا لفظة استفهام ومعناه امر كقوله تعالى (فهل أنتم شكرون)
62

سورة المائدة (92 94) سورة المائدة (92) (وأطيعوا الله وسوله واحذروا) المحارم والمناهي (فإن توليتهم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) وفي وعيد شارب الخمر أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الفوراني أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ثنا أبو الحسن محمد بن محمود المحمودي أنا أبو العباس الماسرجسي بنيسابور أخبرنا إسحق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا صالح بن قدامة حدثنا أخي عبد الملك بن قدامه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام وإن حتما على الله أن لا يشربه عبد في الدنيا إلا سقاه الله تعالى يوم القيامة من طينه الخبال هل تدرون ما طينه الخبال قال عرق أهل النار وأخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة وأخبرنا أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أحمد بن أبي أخبرنا أبو العباس الأصم انا محمد بن إسحاق الصنعاني حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من أهل مصر عن مصر عن عبد الله بن عمر أنه قال أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها سورة المائدة
(93) ا (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح في ما طمعوا) الأية سبب نزول هذه الأية ان الصحابة رضوان الله عليهم قالوا لما نزل تحريم الخمر يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون من مال الميسر فأنزل الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) وشربوا من الخمر وأكلوا من مال الميسر (إذا ما اتقوا) الشرك (وآمنوا) وصدقوا (وعملوا الصالحات ثم اتقوا) الخمر والميسر بعد تحريمهما (وآمنوا ثم اتقوا) ما حرم الله عليهم اكله وشربوا (وأحسنوا والله يحب المحسنين) معنى الأول إذ ما اتقوا الشرك وآمنوا وصدقوا ثم اتقوا أي داوموا على ذلك التقوى وآمنوا وازدادوا إيمانا ثم اتقوا المعاصي كلها وأحسنوا وقيل أي اتقوا بالإحسان وكل محسن متق والله يحب المحسنين سورة المائدة (94) قوله عز وجل (يا أيها الذين آممنوا ليبلونكمم الله بشيء من الصيد) الأية نزلت عام الحديبية وكانوا
63

سورة المائدة (95) محرمين ابتلاهم الله بالصيد وكانت الوحوش تغشى رحالهم من كثرتها فهموا بأخذها فنزلت (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله) ليختبركم الله وفائدة البلوى إظهار المطيع من العاصي وإلا فلا حاجة له إلى البلوى بشيء من الصيد وإنما بعض فقال (بشيء) لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصة (تناله أيديكم) يعني الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد (ورماحكم) يعني الكبارمن الصيد (ليعلم الله) ليرى الله لأنه قد علمه (من يخافه بالغيب) أي يخاف الله ولم يره كقوله تعالى (الذين يخشون ربهم بالغيب) أي يخافه فلا يصطاد في حال الاحرام (فمن اعتدى بعد ذلك) أي صاد بعد تحريمه (فله عذاب أليم) روي عن ابن العباس رضي الله عنهما أنه قال يوجع ظهره وبطنه جلدا ويسلب ثيابه سورة المائدة (95) قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) أي محرمون بالحج والعمرة وهو جمع حرام يقال رجل حرام وامرأة حرام وقد يكون من دخول الحرم يقال أحرم الرجل إذا عقد الإحرام وأحرم إذا دخل الحرم نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شد على حمار وحش وهو محرم فقتله قوله تعالى (ومن قتله منكم متعمدا) اختلفوا في هذا العمد فقال قوم هو العمد لقتل الصيد مع نسيان الإحرام أما لإذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة هذا قول مجاهد والحسن وقال الآخرون هو أن يعمد المحرم قتل الصيد ذاكرا لإحرامه فعليه الكفارة واختلفوا فيما لو قتله خطأ فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد أو الخطأ سواء في لزوم الكفارة وقال الزهري على المتعمد بالكتاب وعلى المخطيء بالسنة وقال سعيد بن جبير لا تجب كفارة الصيد بقتل الخطأ بل يختص بالعمد قوله عز وجل (فجزاء مثل) قرأ أهل الكوفة ويعقوب (فجزرا) منون (مثل رفع على البدل من الجزاء وقرأ الآخرون بالإضافة (فجزاء مثل) (ما قتل من النعم) معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها من حيث الخلقة لا من خيث القيمة (يحكم به ذوا عدل منكم) أي يحكم بالجزاء رجلان عدلان وينبغي أن يكونا فقيهين ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به وممن ذهب إلى ايجاب المثل من النعم عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن عباس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم حكموا في بلدان مختلفة وأزمان شتى بالمثل من النعم فحكم اكمهم في
64

النعامة ببدنه وهي لا تساوي بدنه وف حمار الوحش ببقرة وهي لا تساوي بقرة وفي الضبع بكبش وهي لا تساوي كبشا فدل أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبها من حيث الخلقة وتجب في الحمام شاة وهو كل ما عب وهدر من الطير كالفاحته والقمري والدبسي وروى عن عمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قضوا في حمام مكة بشاة أخبرنا أبو الحسن السرحسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق وقي اليربوع بجفرة قوله تعالى (هديا بالغ الكعبة) أي يهدي تلك الكفارة إلى الكعبة فيذبحها بمكة ويتصدق بلحمها على مساكين الحرم (أو كفارة طعام مساكين الحرم (أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما قال الفراء رحمه الله العدل بالكسر المثل من جنسه والعدل بالفتح المثل من غير جنسه وأراد به انه في جزاء الصيد مخير بين ان يذبح المثل من النعم فيتصدق بلحمه على المساكين الحرم وبين أن يقوم لامثل دراهم والدراهم طعاما فيتصدق بالطعام على المساكين الحرم أو يصوم عن كل مد من الطعام يوما ولبه ان يصوم حيث شاء لأنه لا ينفع فيه للمساكين وقال مالك إن لم يخرج المثل يقوم الصيد ثم يجعل القيمة طعاما فيتصدق به أو يصوم وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب المثل من النعم بل يقوم الصيد فإن شاء صرف تلك لا قيمة إلى شيء من النعم وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من شعير يوما وقال الشعبي والنحعي جزاء الصيد على الترتيب والآية حجة لمن ذهب إلى التخيير قوله تعالى (ليذوق وبال أمره) أي جزاء معصيته (عفا الله عما سلف) يعني قبل التحريم ونزول الآية قال السدي عفا الله عما سلف في الجاهلية (ومن عاد فينتقم الله منه) في الآخرة (والله عزيز ذو انتقام) وإذا تكرر من المحرم قتل الصيد فيتعدد عليه الجزاء عند عامة أهل العلم قال ابن عباس رضي الله عنهما إذا قتل المحرم صيدا متعمدا يسأل هل قتلت قبله شيئا من الصيد فإن قال نعم لم يحكم عليه وقيل له اذهب ينتقم الله منك وإن قال لم أقتل قبله شيئا من الصيد فإن قال نعم لم يحكم عليه ولكن يملأه ظهره وصدره ضربا وجيعا وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وج وهو واد بالطائف واختلفوا في المحرم هل يجوز له أكل لحم الصيد فذهب قوم إلى أنه لا يحل له بحال ويروي ذلك عن عباس ابن عباس وهو قول طاوي وبه قال سفيان الثوري واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتيبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم وذهب الأكثرون إلى أنه يجوز للمحرم أكله إذا لم بصطد بنفسه ولا اصطيد لأجله أو بإشارته وهو قول عمر وعثمان وأبي هريرة وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحق وأصحاب الرأي وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الصعب بن جثامة لأنه ظن أنه صيد من أجله والدليل على
65

سورة المائدة (96) جوازه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي عن نافع مولى أبي قتادة عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحابه محرمين وهو غير محرم فرأى حمارا حمارا وحشيا فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن ينالوه سوطه فأبوا فسألهم رمحه فأبوا فأخذه ثم سد على الحمار فقتله فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك فقال إنما هي طعمه أطعمكموها الله تعالى أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أخبرنا لاربيع أنا الشافعي انا إبراهيم بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحم الصيد لكم في الإحرام حلال ما لم تصيدوه أو يصادلكم قال أبو عيسى المطلب لا نعرف له سماعا من جابر بن عمرو بن عبد الله رضي الله عنه وإذا أتلف المحرم شيئا من الصيد لا مثيل له من النعم مثل بيض أو طائر دون الحمام ففيه قوم للمحرم وقالوا هو من صيد البحر روي ذلك عن كعب الأحبار والأكثرون على أنها لا تحل فإن أصابها فعليه صدقه قال عمر في الجراد تمرة وروي عنه وعن ابن عباس قبضة من طعام سورة المائدة (96) قوله عز وجل (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) والمراد بالبحر جميع المياه قال عمر رضي الله عنه صيد ما اصطيد وطعامه ما رمي به وعن عباس ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة طعامه ما قذفه الماء إلى السحل ميتا وقال قوم هو المالح منه وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة وسعيد بن المسيب وقتادة والنخعي وقال مجاهد صيده طرية وطعامه مالحه متاعا لكم أي منفعة لكم وللسيارة يعني المارة وجملة حيوانات الماء على قسمين سمك وغيره اما السمك فميتته حلال مع اختلاف أنواعها قال النبي صلى الله عليه وسلم أحلت لنا ميتتان السمك والجراد فلا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب وعند أبي حنيفة لا يحل الا ان يموت بسبب من وقوع على حجر أو انحسار الماء منه ونحو ذلك اما غير السمك فقسمان قسم يعيش في البر كالضغدع والسرطان فلا يحل أكله وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح فاختلف القول فيه فذهب قوم إلى انه لا يحل شيء منها الا السمك وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وذهب قوم إلى أن ميت الماء كله حلال لأن كلها
66

سمك وإن اختلفت صورتها كالجريث يقال له حية الماء وهو على شكل الحية وأكله مباح بالاتفاق وهو قول عمر وأبي بكر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة وبه قال شريح والحسن وعطاء وهو قول مالك وظاهر مذهب الشافعي وذهب قوم إلى أن ما له نظير بالبر يؤكل فميتته من حيوانات البحر حلال مثل بقر الماء ونحوه وما لا يؤكل نظيره في البر لا يحل ميتته من حيوانات البحر مثل كلب الماء والخنزير والحمار ونحوها وقال الأوزاعي كل شيء عيشه في الماء فهو حلال قيل فالتمساح قال نعم وقال الشعبي لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمنهم وقال سفيان الثوري أرجو أن يكون بالسرطان بأسا وظاهر الآية حجة لمن أباح جميع حيوانات البحر وكذلك الحديث أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن صفوان بن سلمان عن سعيد بن سلمة من آل بني الأزرق أن المغيرة بن أبي برده وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب في البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا افتوظأ بماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا يحى عن ابن جريح أخبرني عمر أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول غزوت جيش الخيط وأمر أبو عبيده عظما من شديدا فألقى البحر حوتا لم نر مثله يقال له العنبر فأكلنا منه نصف شهر فأخذ أبو عبيده عظما من عظامه فمر الراكب تحته وأخبرني أبو الوبير أنه سمع جابرا يقول قال أبو عبيده كلوا فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال كلوا رزقا أخرجه الله إليكم أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بشيء من فأكلوه قوله تعالى (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون) صيد البحر حلال للمحرم كما هو حلال لغير المحرم أما صيد البر فحرام على المحرم في الحرم والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله أما ما يحل أكله فلا يحرم بسبب الإحرام ويحرم أخذه وقتله ولا جزاء على من قتله إلا المتولد بين ما يؤكل لحمه وما يؤكل كالمتولد بين الذئب والظبي لا يحل أكله ويجب بقتله الجزاء على المحرم لأن فيه جزاء من الصيد أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زهير بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفارة والكلب العقور وروي عن أبي سعيد الخري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يقتل المحرم السبع العادي وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خمس قتلهن حلال في الحرم الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور وقال سفيان بن عيينة الكلب العقور كل سبع ومثله
67

سورة المائدة (97 98) عن مالك رحمه الله وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في قتل ما لا يؤكل لحمه كالفهد والنمر والخنزير ونحوها إلا الأعيان المذكورة في الخبر وقاسوا عليها الذئب فلم يوجبوا فيه الكفارة وقاس الشافعي رحمه الله عليها جميع ما لا يؤكل لحمه لأن الحديث يشتمل على أعيان بعضها سباع ضارية وبعضها هوام قاتله وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا هي هي من جملة الهوام وإنما هي حيوان مستخبث اللحم وتحريم الأكل يجمع الكل فاعتبره ورتب الحكم عليه سورة المائدة (97) قوله عز وجل (جعل الله الكعبة البيت الحرام) قال مجاهد سميت كعبة لتربيعها والعرب تسمي كل بيت مربع كعبه قال مقاتل سميت كعبة لإنفرادها من البناء وقيل سمت كعبة لإرنفاعها من الأرض وأصلها من الخروج والإرتفاع وسمي الكعب عكبا لنتوئه وخروجه من جانبي القدم ومن قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثديها تكعبت وسمي البيت الحرام لأن الله تعالى حرمه وعظم حرمته قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض (قياماص للناس) قرأ ابن عامر (قيما) بلا ألف والآخرون قياما بالألف أي قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم أما الدين لأن به يقوم الحج والمناسك وأما الدنيا فيما يجبي إليه من الثمرات
وكانوا يأمنون فيه من النهار والغارة فلا يتعرض لهم أحد في الحرام قال الله تعالى (أولم إنا جعلنا حرما أمنا ويتخطف الناس من حولهم) (والشهر الحرام) أراد به الأشهر الحرم وهي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب أراد أنه جعل الأشهر الحرم قياما للناس يؤمنون فيها القتال (والهدي والقلائد) أراد أنهم كانوا يؤمنون بتقليد الهدي فذلك القوام فيه (ذلك لتعلموا ان الله ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) فإن قيل أي اتصال لهذا الكلام بما قبله وقيل أراد أن الله عز وجل جعل الكعبة قياما للناس لأنه الله تعالى يعلم صلاح العباد كما يعلم ما في السماوات وما في الأرض وقال الزجاج قد سبق في هذه السورة الإخبار عن الغيوب والكشف عن الأسرار مثل قوله (سمعون للكذب سمعون لقوم آخرين) ومثل إخباره بتحريفهم الكتب ونحو ذلك فقوله (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض) راجع إليه سورة المائدة (98) وقوله عز وجل (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم)
68

سورة المائدة (99 101) سورة المائدة (99) (ما على الرسول الا البلاغ) التبليغ (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) سورة المائدة (100) (قل لا يستوى الخبيث والطيب) أي الحلال والحرام (ولو أعجبك) سرك (كثرة الخبث) نزلت في شريح بن ضبعة البكري وحجاج بن بكر بن وائل (فاتقوا الله) ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين وقد مضت القصة في أول السورة (يا أولي الألباب لعلكم تفلحون) سورة المائدة (101) (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم) الآية أخبرنا عبد الواحد المليحبي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حفص بن عمر أنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسئلة فغضب فصعد المنبر فقال لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم فجعلت أنظر يمينا وشمالا فإذا كان رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي فإذا رجل كان إذا لاح الرجال يدعى لغير أبيه فقال يا رسول الله من أبي قال حذافة ثم أنشأ عمر فقال رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا نعوذ بالله من الفتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إن صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط وكان قتادة يذمر عند هذا الحديث هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) قال يونس عن ابن شهاب أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة ما سمعت بابن قط أعق منك آمنت أن تكون أمك قد فارقت بعض ما تفارقت نساء أهل الجاهلية فتفضحها عغلى أعين الناس قال عبد الله بن حذافة والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته وروي عن عمر قال يا رسول الله إن حديثوا عهد بجاهلية فاعفوا عنا يعفوا الله سبحانه وتعالى عنك فسكن غضبه أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا الفضل ابن سهل أخبرنا أبو النضر أنا أبو خيثمة أنا أبو جويرية عن ابن عباس قال كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل من أبى ويقول الرجل ضلت ناقته أين ناقتي فأنزل الله به هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبدي لكم تسوأكم) حتى فرغ من الآية كلها وروي عن علي رضي الله عنه قال لما نزلت (ولله على الناس حج البيت) قال رجل يا رسول الله أفي كل عام فاعرض
69

سورة المائدة (102 103) عنه فعاد مرتين أو ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم عل أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه فأنزل الله سبحانه وتعالى (يا أيها الذين أمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدى لكم تسوؤكم) أي أن تظهر لكم تسوؤكم أي إن أمرتم بالعمل بها فإن من سئل عن الحج لم يؤمن أن يؤمر به في كل عام فيسوءه ومن سأل عن نسبه لم يؤمن من أن يلحقه بغيره فيفتضح وقال مجاهد نزلت حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبه والوصيلة والحام إلا تراه ذكره بعد ذلك (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدى لكم) معناه صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من فرض أو نهى أو حكم وليس في ظاهره شرح ما بكم إليه حاجة ومست جاحتكم إليه فإذا سألتم عنها حين إذن تبدى لكم (عفى الله عنها والله غفور رحيم) سورة المائدة 102 (قد سألها قوم من قبلكم) كما سألت ثمود صالحا الناقة وسأل قوم عيسى المائدة (ثم أصبحوا بها كافرين) فأهلكوا قال أبو ثعلبة الخشني إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنكحوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها سورة المائدة 103 (ما جعل الله من بحيرة) أي ما أنزل الله ولا أمر به (ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) قال ابن عباس في بيان هذه الأوضاع البحيرة هي الناقة التي كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها أي شفوها وتركوا الحمل عليها ولم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ ثم نظروا إلا خامس ولدها فإن كان ذكر نحروه وأكله الرجال والنساء وإن كان أنثى تحروا أذنها أي شقوها وتركوها وحرم على النساء لبنها ومنافعها وكانت منافعها خاصة بالرجال فإذا ماتت حلت للرجال والنساء وقيل كانت الناقة إذا تابعت إتنتي عشرة سنة إناثا سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلم من أنثى شق أذنها ثم خلي سبيلها مع أمه في الإبل فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها فهي البحيرة بنت السائبة وقال أبو عبيده السائبة البعبير الذي يسيب وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض أو غاب لهو قريب نذر فقال إن شفاني الله سبحانه وتعالى أو شفي مريضي أو عاد غائبي فناقتي هذه سائبة ثم يسيبها فلا تحبس عن رعي ولا ماء ولا يركبها أحد فكانت بمنزلة البحير وقال علقمة هي العبد يسيب على أن لا ولاء عليه ولا عقل ولا
70

سورة المائدة (104) ميراث وقال صلى الله عليه وسلم أنما الولاء لمن أعتق والسائبة فاعلة بمعنى المفعولة وهي المسيبة كقوله تعالى (ماء دافق) أي مدفوق (وعيشت راضية) وأما الوصيلة فمن الغنم كانت الشاة إذا ولدت سبعت أبدن فإذا كان السابع ذكرا ذبحوه فأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى استحييوا الذكر من أجل الأنثى وقالوا واصلت أخاها فلم يذبحوه وكان لبن الأنثى حرام على النساء فإن مات منهما شيء أكله النساء والرجال جميعا وأما الحام فهو الفحل إذا ركب ولد ولده ويقال إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من كلأ ولا ماء فإذا مات اكله الرجال والنساء أخبرنا
عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان أن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال البحيرة التي يمنع درها للطواغيط فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لألهتهم لا يحمل عليها شيء قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه بالنار وكان أول من سيب السوائب روى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكتم بن جونه الخزاعي يا أكتم رأيت عمرو بن لحية بن قمعة بن خندقه يجر قصبه بالنار فما رأيت رجل أشبه برجل منك به ولا به منك وذلك أن أول من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه فقال أكتم أيضرني شبهه يا رسول الله فقال لا إنك مؤمن وهو كافر (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) في قولهم الله أمرنا بها (وأكثرهم لا يعقلون سورة المائدة (104) (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول) في تحليل الحرث والأنعام وبيان الشرائع والأحكام (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) من الذين قال الله تعالى (أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون)
71

سورة المائدة 105 سورة المائدة 105 (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من أضل إذا اهتديتم) وتضعونها في غير موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم الله تعالى بعقابه \ ح \ وفي رواية لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله سبحانه وتعالى عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب ثم ليدعون الله عز وجل خياركم فلا يستجاب لكم \ ح \ قال أبو عبيده خاف الصديق أن يتأول الناس الآية غير متأولها فيدعوهم إلا ترك الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأعلمهم لأنه ليست كذلك وإن الذي أذن الإمساك عن تغيره من المنكر هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم يتدينون به وقد صولحوا عليه فأما الفسوق والعصيان والذنب من أهل الإسلام فلا يدخل فيه وقال مجاهد وسعيد بن جبير الآية في اليهود والنصارى يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب فخذوا منهم الجزية واتركوهم وعن ابن عباس قال في هذه الآية مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم ثم قال إن القرآن نزل منه أي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزل ومنه أي وقع تأويلهن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم منه أي وقع تأويلهن بعد رسول الله ومنه أي تأويلهن في آخر الزمان ومنه اي يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا أبو جعفر أحمد بن محمد العنبري أخبرنا أبو عيسى بن نضر انا عبد الله بن المبارك انا عتبة بن أبي حكيم حدثني عمرو بن جارية اللخمي أنا أبو أمية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية قال أية اية قلت قول الله عز وجل (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) فقال أما والله لقد سالت عنها خبيرا سالت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة واعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرا لا بد لك فعليك نفسك ودع أمر العوام فأن وراءكم أيام الصبر فمن صبر فيهن قبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثله \ ح \ قال ابن مبارك وزادني غيره قالوا يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر
72

سورة المائدة (106) خمسين منكم \ ح \ وقيل نزلت في أهل الأهواء قال أبو جعفر الرازي دخل على صفوان بن محرز شاب من أهل الأهواء فذكر شيئا من أمره فقال صفوان ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) قوله عز وجل (إلى الله مرجعكم جميعا) الضال والمهتدي (فينبئكم بما كنتم تعملون) سورة المائدة 106 (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) سبب نزول هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري وعدي بن زيد قد خرجا من المدينة للتجارة إلى أرض الشام وهما نصرانيان ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه جميع ما معه من المتاع وألقاه في جوالقه ولم يخبر صاحبيه بذلك فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهم أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ومات بديل ففتشا متاعه وأخذا منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة فغيباه ثم قضيا حاجتهما فانصرفا إلى المدينة فدفعا المتاع إلى أهل البيت ففتشوا وأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاءوا تميما وعديا فقالوا هل باع صاحبنا شيئا من متاعه قالا لا قالوا فهل اتجر تجارة قالا لا قالوا هل طال مرضه فأنفق على نفسه قالا لا فقالوا إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا قد فقدنا منها إناء من فضة مموها بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة قالا ما ندري إنما أوصى لنا بشيء فأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصر على الإنكار وحلفا فأنزل الله عز وجل هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان) أي ليشهد اثنان لفضه خبر ومعناه أمر وقيل أن معناه أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت اثنان واختلفوا في هذين الاثنين فقال قوم هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي وقال الآخرون هما الوصيان لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان) ولا يلزم الشاهد يمين وجعل الوصي اثنين تأكيد فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور كقولك شهدت وصية فلان بمعنى حضرت قال الله تعالى (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) يريد الحضور (ذوا عدل) أي أمانة وعقل (منكم) أي أهل دينكم يا معشر المؤمنين (أو آخران من غيركم) أي من غير دينكم وملتكم في قول أكثر
73

المفسرين قاله ابن عباس وأبو موسى الأشعري وهو قول سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وعبيدة ثم اختلف هؤلاء في حكم الآية فقال النخعي وجماعة هي منسوخة وكانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ثم نسخت وذهب قوم إلى أنها ثابته وقالوا إذا لم نجد مسلمين فنشهد كافرين قال شريح من كان بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد كافرين على أي دين كانا من دين أهل الكتاب أو عبدة الأوثان فشهادتهم جائزة ولا يجوز شهادة كافر على مسلم إلا على
وصية في سفر وعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة بتركته وأتيا الأشعري فأخبراه بتركته ووصيته فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأحلفهما وأمضى شهادتهما وقال آخرون قوله (ذوا عدل منكم) أي من حي الموصي أو آخرين من غير حيكم وعشيرتكم وهو قول الحسن والزهري وعكرمة وقالوا لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام (إن أنتم ضربتم) سرتم وسافرتم (في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما فاتهمتهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أن (تحبسونهما) أي تستوقفونها (من بعد الصلاة) أي بعد الصلاة و (من) صلة يريد بعد صلاة العصر هذا قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير وقتادة وعامة المفسرين لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويجتنبون فيه الحلف الكاذب وقال الحسن أراد من بعد صلاة العصر وقال السدي من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنهما لا يباليان بصلاة العصر (فيقسمان) يحلفان (بالله إن ارتبتم) أي شككتم ووقعت لكم الريبة في قول الشاهدين وصدقهما أي في قول اللذين ليسا من أهل ملتكم فإن كانا مسلمين فلا يمين عليهما (لا نشتري به ثمنا) أي لا نحلف بالله كاذبين على عوض نأخذه أو مال نذهب به أو حق نجحده (ولو كان ذا قربى) ولو كان المشهود له ذا قرابه منا (ولا نكتم شهادة الله) أضاف الشهادة إلى الله لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها وقرأ يعقوب (شهادة) بتنوين (الله) ممدود وجعل الاستفهام عوضا عن حرف القسم ويروى عن أبي يعقوب (شهادة) منونة (الله) بقطع الألف وكسر الهاء من غير استفهام على ابتداء اليمين أي والله (إنا إذا لمن الآثمين) أي إن كتمناها كنا من الآثمين فلما نزلت هذه الآية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما ثم ظهر الإناء واختلفوا في كيفية ظهوره فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه وجد بمكة فقالوا إنا اشتريناه من تميم وعدي وقال الآخرون لما طالت المدة أظهروه فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك فقالا إنا كنا قد اشتريناه منه فقالوا لهما ألم تزعما ان صاحبنا لم يبع شيئا من متاعة قالا لم يكن عندنا بينة فكرهنا ان نقر لكم به فكتمناه لذلك فرفعهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله عز وجل
74

سورة المائدة (107 108) سورة المائدة (107) (فإن عثر) أي اطلع على خيانتهما وأصل العثور الوقوع على الشيء (على أنهما) يعني الوصيين (استحقا) استوجبا (إثما) بخيانتهما و بايمانهما الكاذبة (فآخران) من أولياء الميت (يقومان مقامهما) يعني مقام الوصيين (من الذين استحق) بضم التاء على المجهول هذا قراءة العامة يعني الذين استحق (عليهم) أي فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت استحق الحالفان بسببهم الإثم و (على) بمعنى في كما قال الله على ملك سليمان وقرأ حفص (استحق) بفتح التاء والحاء وهي قراءة علي والحسن أي حق ووجب عليهم الإثم يقال حق واستحق بمعنى واحد (الأوليان) نعت للأخران أي فآخران الأوليان وإنما جاز ذلك و (الأوليان) معرفة والآخران نكرة لأنه لما وصف الآخران فقال (من الذين) صار كالمعرفة في المعنى و (الأوليان) تثنية الأولى والأولى هو أقرب وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم ويعقوب (الأولين) بالجمع فيكون بدلا من الذين والمراد منهم أيضا أولياء الميت ومعنى الآية إذا ظهرت خيانة الحالفين يقوم اثنان آخران من أقارب الميت (فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما) يعني يميننا أحق من يمينهما نظيره قوله تعالى في اللعان (فشهادة أحدهم اربع شهادات بالله) والمراد بها الايمان فهو كقول القائل اشهد بالله اي اقسم بالله (وما اعتدينا) في ايماننا وقولنا ان شهادتنا أحق من شهادتهما (انا إذا لمن الظالمين) فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر فدفع الاناء اليهما والى أولياء الميت وكان تميم الداري بعدما اسلم يقول صدق الله ورسوله انا اخذت الاناء فأتوب إلى الله واستغفره وانما انتقل اليمين إلى أولياء لان الوصيين ادعيا انهما ابتاعاه والوصي إذا اخذ شيئا من مال الميت وقال إنه أوصى لي به حلف الوارث إذا انكر ذلك وكذلك لو ادعى رجل سلعة في يد رجل فاعترف ثم ادعى انه اشتراها من المدعي حلف المدعي انه لم يبيعها منه ويروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن تميم الداري قال كنا بعنا الاناء بألف درهم فقسمتهما انا وعدي فلما أسلمت تاثمت فاتيت موالي الميت فأخبرهم ان عند صاحبي مثلها فاتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف عمرو والمطلب فنزعت الخمسمائة من عدي ورددت انا الخمسمائة فذلك قوله تعالى سورة المائدة (108) (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها) ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين أجدر وأحرى ان يأتي
75

سورة المائدة من (109 110) الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم أي أقرب إلى الإتيان بالشهادة على ما كانت (أو يخاوفوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) أي أقرب إلى أن يخافوا رد اليمن بعد يمينهم على المدعين فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرموا فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم (واتقوا الله) أن تحلفوا أيمانا كاذبة وتخونوا الأمنة (واسمعوا) الموعظة (والله لا يهدي القوم الفاسقين) سورة المائدة 109 قوله عز وجل (يوم يجمع الله الرسل) وهو يوم القيامة (فيقول) لهم (ماذا أجبتم) أي ما الذي أجابتكم أمتكم وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي (قالوا) اي فيقولون (لا علم لنا) قال ابن عباس معناه لا علم لنا غلا العلم لاذي أنت أعلم به منا وقيل لا علم لنا بوجه الحكمة عن سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا وقال ابن جريج لا علم لنا بعاقبة أمرهم وبما أحدثوا من بعد دليله أنه قال (إنك أنت علام الغيوب) أي أنت الذي تعلم ما غاب ونحن لا نعلم الا ما نشاهد أخبرنا عبد الواحد المليحي انا أحمد بن عبد الله النعيمي انا محمد بن يوسف انا محمد بن إسماعيل أنا مسلم بن إبراهيم أنا وهيب أنا عبد العزيز عن انس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى اا عرفتم اختلجوا دوني فأقول أصحابي فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي ان القيامة اهوالا وزلازل تزول فبها القلوب عن مواضعهافينزعون من هول ذلك اليوم ويذهلون عن الجواب ثم بعدما ثابت إليهم عقولهم ويشعدون على أممهم سورة المائدة (110) قال الحسن ذكر النعمة شكرها وأراد بقوله (نعمتي) اي نعمي لفظه واحد معناه جمع كقوله تعالى وان تعدوا نعمة الله لا تحثوها) (وعلى والدتك) مريم ثم ذكر النعم فقال (إذ أيدتك) قويتك (بروح القدس) يعني جبريل عليه السلام (تكلم الناس) يعني وتكلم الناس (في العهد)
76

سورة المائدة (111 112) صبيا (وكهلا) نبيا قال ابن عباس أرسله وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله إليه (إذ علمتك الكتاب) يعني الخط (والحكمة) يعني العلم والفهم (والتوراة والإنجيل وإذ تخلق) تجعل وتصور (من الطين كهيئة الطير) كصورة الطير ([إذني فتنفخ فيها فتكون طيرا) حيا يطير (بإذني وتبريء) وتصحح (ألكمة والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى) من قبورهم أحياء (بإذني وإذ كففت) منعت وصرفت (بين إسرائيل) يعني اليهود (عنك) حين هموا بقتلك (إذ جئتهم بالبينات) يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات وهي التي ذكرنا وسميت بالبينات لأنها مما يعجز عنها سائر الخلق الذين ليسوا بمرسلين (فقال الذين كفروا منهم إن هذا) ما هذا (إلا سحر مبين) يعني ما جاءعم به من البينات قرأ حمزة والكسائي (ساحر مبين) ها هنا وفي سورة هود والصف فيكون راجعا إلى عيسى عليه السلام وفي هود يكون راجعا إلى محمد صلى الله عليه وسلم سورة المائدة 111 (وإذ أوحيت إلى الحواريين) الهمتهم وقذفت في قلوبهم وقال أبو عبيدة يعني أمرت و (إلى) صلة والحواريون خواص أصحاب عيسى عليه السلام (أن آمنوا بي وبرسولي) عيسى (قالوا) حين وافقتهم (آمنا وأشهد بأننا مسلمون) سورة المائدة (112) (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك) قرأ الكسائي (هل تستطيع) بالتاء (ربك) ينصب الباء وهو قراءة علي وعائشة وابن عباس ومجاهد أي هل تستطيع أن تدعو وتسأل ربك وقرأ الآخرين (يستطيع) بالياء و (وربك) برفع الباء ولم يكونوا شاكين بقدرة الله عز وجل ولكن معناه هل ينزل ربك أم لا كما يقال الرجل لصاحبه هل تستطيع ان تنهض معي وهو يعلم أنه عز وجل ولكن معناه هل ينزل ربك أم لا وقيل يستطيع بمعنى يطيع يقال أطاع واستطاع بمعنى واحد كقوله أجاب على الظاهر فقالوا غلظ القوم وقالوه قبل استحكام المعرفة وكانوا بشرا فقال لهم عيسى عليه السلام عند الغلط استعظاما لقولهم اتقوا الله ان كنتم مؤمنين اي لا تشكوا في قدرته (ان ينزل علينا مائدة من السماء) المائدة الخوان الذي عليه الطعام وهي فاعله من مادة يميده إذا أعطاه واطعمه كفوله ماره يميره وامتار افتعل منه والمائده هي الطعمة للآكلين وسمي الطعام أيضا مائدة لي الجواز لأنه يؤكل على المائدة وقال أهل الكوفة سميت مائدة لنها تميد بالآكلين اي تميل
77

سورة المائدة (113 115 وقال أهل البصرة فاعله بمعنى المفعولة يعني ميد بالآكلين إليها كقوله تعالى (عيشة راضية) أي مرضية (قال) عيسى عليه السلام مجيبا لهم (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) فلا تشكوا في قدرته وقيل انقوا الله أن تسالوه شيئا لم يسأله المم قبلكم فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد ايمان سورة المائدة (113) (6 قالوا نريد) أي إنما سألنا لأنا نريد (أن اكل منها أكل) تبرك لا أكل حاجة فنستيقن قدرته (وتطمئن) وتسكن (قلزبنا ونعلم أن قد صدقتنا) بأنك رسول الله أي نزداد إيمانا ويقينا وقيل إن عيسى عليه السلام امرهم أن يصوموا ثلاثين يوما فإذا فطروا لا يسألون الله شيئا الا أعطانا (ونكون عليها من الشاهدين) لله بالوحدانية والقدرة ولك بالنبوة والرسالة وقيل ونكون من الشاهدين لك عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم سورة المائدة 114 (قال عيسى ابن مريم) عند ذلك (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء) وقيل إنه اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطاطا رأسه وغض بصره وبكى ثم قال اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء (تكون لنا عيدا للنا وى خرنا) أي عائدة من الله علينا حجة برهانا والعيد يوم السرور سمي به للعود من الترح إلى الفرح وهو اسم لما اعتدته ويعود إليك وسمي يوم الفطر والأضحى عيدا لأنهما يعودان في كل سنة قال السدي معناه نتخذ لااليوم الذي أنزلت فيه عيدا لألنا وآخرنا أي نعظمه نحن ومن بعدنا وقال سفيان نصلي فيه قوله (لألنا) أي لأهل زماننا وآخرنا أي لمن يجيء بعدنا وقال ابن عباس كما أكل منها أو لهم (وآية منك) دلالة وحجة (وارزقنا وأنت خير الرازقين) سورة المائدة 115 (قال الله) تعالى مجيبا لعيسى عليه السلام (إني سمنزلها عليكم) يعني المائدة وقرأ أهل المدنة وابن عامر وعلصم (منزلها) بالتشديد لأنها نزلت مرات والتفعيل يدل على التكريز مرة بعد أخرى وقرأ الآخرون بالتخفيف لقوله أنزل علينا (فمن يكفر بعد العالمين) يعني عالمي زمانه فجحدوا وكفروا بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير قال عبد الله بن عمر إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون
78

من كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أملا فقال مجاهد والحسن لم تنزل فإن الله عز وجل لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضعم فاستعفوا وقالوا لا نريدها فلم تنزل وقوله (إني منزلها عليكم) يعني إن سألتم والصحيح الذي عليه الأكثرون أنها نزلت لقوله تعالى (إني منزلها عليكم) ولا خلف في خبره لتواتر الخبار فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين واختلفوا في صفتها فروى خلاس بن عمرو عن عمار ابن ياسر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنهانزلت خبزا ولحما وقيل لهم إنها مقيمة لكم ما لكم تخونوا وتخبؤا فما مضى يومها حتى خانوا وخبؤا فمسخوا قردة وخنازير وقال ابن عباس رضي الله عنهما إن عيسى عليه السلام قال لهم صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا ما شئتم يعطيكموه فصاموا فلما غرغوا قالوا يا عيسى إنا لو عملنا لأحدهما فقضينا عمله لا أطعمنا وسألوا الله المائدة فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها علها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعهتها بين أيدهم فاكل منها آخر الناس كما أكل أولهم قال كعب الأحبار نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل الطعام الا اللحم وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم قال قال قتادة كان عليها ثمر من الجنة وقال عطية العوفي نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء وقال الكلبي كان عليها خبز ورز وبقل وقال وهب بن منبه انزل الله اقرضة شعير وحيتانا وكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجيء آخرون فيأكلون حتى اكلوا جميعهم وفضل وعن الكلبي ومقاتل انزل الله خبزا وسما وخمسة أرغفة فاكلوا ما شاء الله تعالى والناي الف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهد قالوا ويحكم انما سحر أعينكم فمن أراد الله به الخير ثبته على بصيرته ومن أراد فتنة رجع إلى كفره ومسخوا خنازير ليس فيهم صبي ولا امرأة فمكثوا بذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا وكذلك ممسوخ وقال فتادة كانت تنزل علهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل وقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي لما سال الحوارين المائدة لبس عيسى عليه السلام صوفا وبكى وقال اللهم انزل علينا مائدة من السماء الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهت تهوي خافضة حتى سقطت بين أيديكم فبكى عيسى وفال اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا من قبل ولم يجدوا ريحا أطيب من
ريحه فقال عيسى عليه السلام ليقيم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله تعالى فقال شمعون الصفار راس الحوريين أنت اولي بذلك منا فقام عيسى عليه السلام فتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيرا ثم كشف المنديل عنها وقال بسم الله خير الرازقين فإذا هو سمكة مشوية ليس عليها فلوسها ولا شوك عليها تسيل من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسو أرغفة على واحد زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون يا روح الله امن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة فقال ليس شيء مما ترون من طعام الآخرة ولكنه شيء افتعله
79

سورة المائدة (116) الله تعالى بالقدرة الغالبة كلوا مما سالتم يمدكم ويزيدكم من فضله فقالوا يا روح الله كن أول من يأكل منها فقال عيس عليه السلام معاذ الله ان يأكل منها من سألتها فخافوا اني يأكلوا منها فدعا لها عيسى أهل الفاقة والمرضى وأهل البرص والجذام والمقعدين والمبتين فقال كلوامن رزق الله ولكم المهنا ولغيركم البلاء فأكلوا وصدر عنها الف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض وزمن ومبتلى كلهم شبعان وإذ السمكة بحالها حين نزلت ثم طارت المائدة صعدا وهم ينظرون الها حتى توارت بالحجاب فلم يأكل منها زمن ولا مرض ولا مبتلى الا عوفي ولا فقير الا استغنى وندم من لم يأكل منها فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى فإذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقرا والصغار والكبار والرجال والنساء ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا وهم ينظروناليها في ظلها حتى توارت عنهم وكانت تنزل غبا تنزل يزما كناقة ثمود فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام اجعل مائدتي ورزقي لفقراء دون الأغنياء فعظم على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها وقالوا تاورن المائدة حقا تنزل من السماء فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام (ان تعذيتم فإنهم عبادك وان تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فمسخ منها ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا باتوا من ليلتمه على فرشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات ويأكلون القذرة في الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السلام وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشرون برؤسهم ويبكون ولا يدقرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أبام ثم هلكوا سورة المائدة (116) قوله عز وجل (وإذا قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخدوني وأمي الهين من دون الله) واختلفوا في أن هذا القول متى يكون فقال السدى قال الله تعالى هذا القول لعيسى عليه السلام حين رفعه إلى السماء لأن حرف (إذ) يكون للماضي وقال سائر المفسدين انما يقول الله تعالى هذا القول لعيسى عليه السلام حين رفعه إلى السماء بدليل فوله من قبل (يوم يجمع الله الرسل) وقال من بعد هذا (يوم ينفع الصادقين صدقهم) وأراد بهما يوم القيامة وقد تجيء إذ بمعنى إذا كقوله عز وجل (ولوترى إذ فزعوا) أي إذا غزعوا يوم القيامة والقيامة وان لم تكن بعد ولكنها كالكائنة لأنها آتية لا محالة قوله (أأنت قلت لناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله) فان قيل فما وجه السؤال عنه لتوبيخ قومه وتعظيم أمر
80

سورة المائدة 117 118 هذه المقالة كما يقول القائل لآخر أفعلت كذا وكذا فيما يعلم أنه لم يفعله علاما واستعظاما لا استخبارا واستفهاما وأيضا أراد الله عز وجل ان يقر عيسى عليه السلام عن نفسه بالعبودية فيسمع قومه منه ويظهر كذبهم عليه أنه امرهم بذلك قال أبو روق وإذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب أرعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة على جسده عين من دم ثم يقول مجيبا لله عز وجل (قال سبحانك) تنزيها وتعظيما لك (ما يكون لي ان أكون ما ليس لي بحق ان كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك) قال ابن عباس تعلم ما في غيبي ولا اعلم ما يكون منك في الآخرة وقال الزجاج النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته يقول تعلم جميع ما اعلم من حقيقة أمري ولا اعلم حقيقة امرك (انك أنت علام الغيوب) ما كان وما يكون سورة المائدة 117 (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم) وحده ولا تشركوا به شيئا (وكنت عليهم شهيدا ما دمت) وقمت (فيهم فلما توفيتني) قبضتني ورفعتني إليك (كنت أنت الرقيب عليهم) والحفيظ عليهم تحفظ اعمالهم (وأنت على كل شيء شهيد) سورة المائدة 118 قوله تعالى (أن تعذبهم فإنهم عبادك وأن تغفر لهم فأنك أنت العزيز الحكيم) فإن قيل كيف طلب المغفرة لهم وهم كفار وكيف قال وان تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم وهذا لا يليق بسؤال المغفرة قيل اما الأول فمعناه ان تعذبهم بإقامتهم على كفرهم وان تغفر من كفر منهم وان تغفر لهم فإنك على تسليم الامر وتفويضه إلى مراده واما الؤال الثاني فكان ابن مسعود رضي الله عنه يقرا وان تغفر لهم فإنك أنت الغفور لهم فإنك أنت الغفور الرحيم وكذلك هو في مصحفه واما على القراءة المعروفة قيل فيه تقديم وتأخير تقديره ان تغفر لهم فإنهم عبادك وان تعذبهم فإنك أنت الحكيم وقيل معناه ان تعذبهم فإنهم عبادك وان تغفر لهم فإنك أنت العزيز في الملك الحكيم في القضاء لا من عزك شيء ولا يخرج من حكمك ويدخل في حكمته ومغفرته وسعة رحمته ومغفرته للكفار ولكنه أخبر انه لا
81

سورة المائدة 119 120 يغفر وهولا يخلف خبره أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر انا عبد الغافر بن محمد الفارس ثنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني يونس بن عبد الأعلى الصيرفي حدثنا ابن وهب أخبرني عمر بن الحارث ان بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم (رب انهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني) الآية وقول عيسى عليه السلام ان تعذبهم فإنهم عبداك وان تغفرلهم فإنك أنت العزيز الحكيم فرفع يديه وقال اللهم أمتي وبكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد وربك اعلم فسله ما يبكيه فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد فقل انا سنرضينك في أمتك ولا نسوءك سورة المائدة 199 (قال الله هذا يومم ينفع الصادقين صدقهم) قرأ نافع (يوم) بنصب الميم يعني تكون هذه الأشياء في يومخ فحذف في فانتصب وقرا الآخرون على أنه خبر (هذا) اي ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة ولو كذبوا ختم الله على أفواههم ونطقت به جوارحهم فافتضحوا وقيل أرادوا بالصادقين النبيين وقال الكلبي ينفع المؤمنين ايمانهم قال إبليس وهو قوله (وقال الشيطان لما قضي الامر) الآية فصدق عدو الله يومئذ وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه صدقه واما عيسى عليه السلام فكان صادقا في الدنيا والآخرة فنفعه صدقع وقال بعضهم هذا يوم من أيام الدنيا لأن الدار الأخرة دار جزاء لا دار عمل ثم بين ثوابهم فقال (لهم حنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ابدا رضي الله
عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) ثم عظم نفسه سورة المائدة (120) فقال (لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير)
82

مكية وهي مائة وخمس وستون آية نزلت بمكة جملة ليلا معها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخر ساجدا \ ح \ وروى مرفوعا من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليلة ونهاره وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت سورة الأنعام بمكة إلا قوله (وما قدروا الله حق قدره) إلى آخر ثلاث آيات وقوله تعالى (قل تعالوا) إلى قوله (لعلكم تتقون) فهذه الست آيات مدنيات بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنعام (1 ((الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض)) (قال كعب الأحبار هذه الآية أول آية في التوراة وآخر آية في التوراة قوله (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) الآية وقال ابن عباس رضي الله عنهماافتتح الله الخلق بالحمد فقال (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وختمه بالحمد فقال (وقضي بينهم بالحق) أي بين الخلائق وقيل الحمد لله رب العالمين قوله الحمد لله حمد الله نفسه تعليما لعباده أي احمدوا الله الذي خلق السماوات والأرض خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد وفيهما العبر والمنافع للعباد (وجعل الظلمات والنور) والجعل بمعنى الخلق وقال الواقدي كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان إلا في هذه الآية فإنه يريد بهما الليل والنهار وقال الحسن وجعل الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان وقيل أراد بالظلمات الجهل والنور العلم وقال قتادة يعني الجنة والنار وقيل معناه خلق الله السماوات والأرض وقد جعل الظلمات والنور لأنه خلق السماوات والنور قبل السماوات والأرض قال قتادة خلق الله السماوات قبل الأرض وخلق الظلمة قبل النور والجنة قبل النار وروى عن عبد الله بن عمرو ابن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمه ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي ثم الذين كفروا
83

بعد هذا البيان بربهم يعدلون أي يشركون وأصله خلق مساوة الشئ ومنه العدل أي يعدلون بالله غير الله تعالى يقال عدلت هذا بهذا إذا ساويته وبه قال النضر بن شميل الباء بمعنى عن أي عن ربهم يعدلون أي يميلون وينحرفون من العدل قال الله تعالى (عينا يشرب بها عباد الله) أي منها وقيل تحب قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون معنى لطيف وهو مثل قول القائل أنعمت عليكم بكذا وتفضلت عليكم بكذا ثم تكفرون بنعمتي سورة الأنعام (2)) قوله عز وجل (هو الذي خلقكم من طين)) يعني آدم عليه السلام خاطبهم به إذ كانوا من ولده قال السدي بعث الله تعالى جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني فرجع جبريل ولم يأخذ وقال يا رب إنها عاذت بك فبعث ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله فقال وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر كذا اختلف أخلاقهم فقال الله تعالى لملك الموت رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم أخرج أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خلق الله آدم عليه السلام من تراب وجعله طينا ثم تركه حتى كان حما مسنونا ثم خلقه وصوره وتركه حتى كان صلصالا كالفخار ثم نفخ فيه روحه قوله عز وجل (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) قال الحسن وقتادة والضحاك الأجل الأول من الولادة إلى الموت والأجل الثاني من الموت إلى البعث وهو البرزخ وروى ذلك عن ابن عباس وقال لكل أحمد أجلان أجل من الولادة إلى الموت وأجل من النوت إلى البعث فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث وقال مجاهد وسعيد بن جبير الأجل الأول أجل الدنيا والأجل الثاني أجل الآخرة وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما (ثم قضى أجلا) يعني النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع عند اليقظة (وأجل مسمى عنده) هو أجل الموت وقيل هما واحد معناه ثم قضى أجلا يعني جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها وأجل مسمى عنده يعني وهو أجل مسمى عنده لا يعلمه غيره (ثم أنتم تمترون) تشكون في البعث سورة الأنعام (3) قوله عز وجل (وهو الله في السماوات وفى الأرض) يعني وهو إله السماوات والأرض كقوله (وهو الذي في السماء إله وفى الأرض إله) وقيل هو المعبود في السماوات وقال محمد بن جرير معناه وهو في السماوات يعلم سركم وجهركم في الأرض وقال الزجاج فيه تقديم وتأخير
84

وتقدير وهو الله (يعلم سركم وجهركم) في السماوات والأرض (ويعلم ما تكسبون) تعلمون من الخير والشر سورة الأنعام (4) (وما تأتيهم) يعني أهل مكة (من آية من آيات ربهم) مثل انشقاق القمر وغيره وقال عطاء يريد من آيات القرآن (إلا كانوا عنها معرضين) لها تاركين بها مكذبين سورة الأنعام (5) (فقد كذبوا بالحق) بالقرآن وقيل بمحمد صلى الله عليه وسلم (لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون) أي أخبار استهزائهم وجزاؤه أي سيعلمون عاقبة استهزائهم إذا عذبوا سورة الأنعام (6) قوله عز وجل (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) يعني الأمم الماضية والقرن الجماعة من الناس وجمعه قرون وقيل القرن مدة من الزمان يقال ثمانون سنة ستون سنة وقيل أربعون سنة وقيل ثلاثون سنة ويقال مائة سنة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشر المازني إنك تعيش قرنا فعاش مائة سنة فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) أي أعطيناهم ما لم نعطكم وقال ابن عباس أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعاد وثمود يقال مكنته ومكنت له (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) يعني المطر مفعال من الدر قال ابن عباس مدرارا أي متتابعا في أوقات الحاجات وقوله (ما لم نمكن لكم) من خطاب التلوين رجع من الخبر من قوله (ألم يروا) إلى خطاب كقوله (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) وقال أهل البصرة أخبر عنهم بقوله (ألم يروا) وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم خاطبهم معهم والعرب تقول قلت لعبد الله ما أكرمه وقلت لعبد الله ما أكرمك (وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا) خلقنا وابتدأنا (من بعدهم قرنا آخرين) سورة الأنعام (7) قوله عز وجل (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس) الآية قال الكلبي ومقاتل نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من
85

عند الله ومعه أربعه من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله فأنزل الله عز وجل (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس) مكتوبا من عنده (فلمسوه بأيديهم) أي
عاينوه ومسوه بأيديهم وذكر اللمس ولم يذكر المعاينة لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم من المعاينة فإن السحر يجرى على المرئى ولا يجري على الملموس (لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) معناه أنه لا ينفع معهم شئ لما سبق فيهم من علمي سورة الأنعام (8)) (وقالوا لولا أنزل عليه) على محمد صلى الله عليه وسلم (ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر) أي لوجب العذاب وفرغ من الأمر وهذا سنة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية فأنزلت ثم لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب (ثم لا ينظرون) أي لا يؤجلون ولا يمهلون وقال قتادة لو أنزلنا ملكا ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب ولم يؤخروا طرفه عين وقال مجاهد لقضى الأمر أي لقامت القيامة وقال الضحاك لو أتاهم ملك في صورته لماتوا سورة الأنعام (9) (ولو جعلناه ملكا) يعني لو أرسلنا إليهم ملكا (لجعلناه رجلا) يعني في صورة رجل آدمي لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحي الكلبي وجاء الملكان إلى داود في صورة رجلين قوله عز وجل (وللبسنا عليهم ما يلبسون) أي خلطنا عليهم ما يخلطون وشبهنا عليهم في يدرون أملك هو آدمي وقيل معناه شبهوا على ضعفائهم فشبه عليهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وحرفوا الكلم عن مواضعه فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم وقرأ الزهري (للبسنا) بالتشديد على التكرير والتأكيد سورة الأنعام (10) (ولقد استهزىء برسل من قبلك) كما استهزىء بك يا محمد فعزى نبيه صلى الله عليه وسلم (فحاق) قال الربيع بن أنس فنزل وقال عطاء حل وقال الضحاك أحاط (بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون) اي جزاء استهزاهم من العذاب والنقمة سورة الأنعام (11) (قل) يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين (سيروا في الأرض) معتبرين يحتمل هذا السير بالعقول والفكر ويحتمل السير بالأقدام (ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) أي جزاء أمرهم وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك يحذر كفار مكة عذاب الأمم الخالية
86

سورة الأنعام (12) قوله عز وجل (قل لمن ما في السماوات والأرض) فإن أجابوك وإلا ف (قل) أنت (لله) أمره بالجواب عقيب السؤال ليكون أبلغ في التأكيد وآكد في الحجة (كتب) أي قضى (على نفسه الرحمة) هذا استعطاف منه تعالى للمؤمنين عنه إلى الإقبال عليه وإخبار بأنه رحيم بالعباد لا يعجل بالعقوبة ويقبل الإنابة والتوبة أخبرنا أبو علي حسان بن سعد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمى أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضي الله الخلق كتب كتابا فهو عند الله فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إن رحمتي سبقت غضبي أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكركاني أنا أبو طاهر الزيادي أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحمن المروزي أخبرنا عبد الله بن المبارك أنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عبادة يوم القيامة أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا بن أبي مريم ثنا أبو غسان حدثني زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم أترون هذه طارحة ولدها في النار فقلنا لا وهى تقدر على أن تطرحه فقال الله أرحم بعباده من هذه بولدها قوله عز وجل (ليجمعنكم) اللام فيه لام القسم والنون نون التأكيد مجازة والله ليجمعنكم (إلى يوم القيامة) أي في يوم القيامة وقيل معناه ليجمعنكم في قبوركم إلى يوم القيامة (لا ريب فيه الذين خسروا) غينوا (أنفسهم فهم لا يؤمنون) سورة الأنعام (13) (وله ما سكن في الليل والنهار) أي استقر قيل أراد ما سكن وما تحرك كقوله (سرابيل تقيكم الحر) أي الحر والبرد وقيل إنما خص السكون بالذكر لأن النعمة فيه أكثر وقال محمد بن جرير كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار والمراد منه جميع ما في
87

الأرض وقيل معناه وله ما يمر عليه الليل والنهار (وهو السميع) لأصواتهم (العليم) باسرارهم سورة الأنعام (14) قوله تعالى (قل أغير الله اتخذ وليا) وهذا حين دعى إلى دين آبائه فقال تعالى قل يا محمد أغير الله أتخذ وليا ربا ومعبودا وناصرا ومعينا (فاطر السماوات والأرض) أي خالقهما ومبدعهما ومبتديهما (وهو يطعم ولا يطعم) أي وهو يرزق ولا يرزق كما قال (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) يعني من هذه الأمة والإسلام بمعنى الاستسلام لأمر الله وقيل أسلم أخلص (ولا تكونن) يعني وقيل لي ولا تكونن (من المشركين) سورة الأنعام (15) (قل إني أخاف إن عصيت ربي) فعبدت غيره (عذاب يوم عظيم) يعني عذاب يوم القيامة سورة الأنعام (16) (من يصرف عنه) يعني من يصرف العذاب عنه قرأ حمزة وزالكسائى وأبو بكر عن عاصم ويعقوب (يصرف) بفتح الياء وكسر الراء أي من يصرف الله عنه العذاب فقد رحمه وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الراء (يومئذ) يعني يوم القيامة (فقد رحمه وذلك الفوز المبين) أي النجاة البينة سورة الأنعام (17) قوله عز وجل (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف) لا رافع (له إلا هو وإن يمسسك بخير) عافية ونعمة (فهو على كل شيء قدير) من الخير والضر أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الله السلمي أنا أبو العباس الأصم أنا أحمد بن شيبان الرملي أنا عبد الله بن ميمور القداح أنا شهاب بن خراش عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي مليا ثم التفت إلي فقال يا غلام فقلت لبيك يا رسول الله قال إحفظ الله يحفظك إحفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وقد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله تعالى لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بما ذلم يكتب الله تعالى عليك ما قدروا عليه فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسرا
88

سورة الأنعام (18) (وهو القاهر فوق عباده) القاهر الغالب وفى القهر زيادة معنى على القدرة وهو منع غيره عن بلوغ المراد وقيل هو المنفرد بالتدبير يجبر الخلق
على مادة فوق عباده هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به الله عز وجل (وهو الحكيم) في أمره (الخبير) بأعمال عباده سورة الأنعام (19) قوله عز وجل (قل أي شيء أكبر شهادة) الآية قال الكلبي أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أرنا من يشهد أنك رسول الله فإنا لا نرى أحدا يصدقك ولقد سألنا عند اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس عندهم ذكر فأنزل الله تعالى (قل أي شيء أكبر شهادة) فإن أجابوك وإلا (قل الله شهيد بيني وبينكم) على ما أقول ويشهد لي بالحق وعليكم بالباطل (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به) لأخوفكم به يا أهل مكة (ومن بلغ) ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم من الأمم إلى يوم القيامة حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن الحنفي أنا محمد بن بشر بن محمد المزني أنا أبو بكر محمد بن الحسين بن بشر النقاش أنا أبو شعيب الحراني أنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك البلابلي أنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن أبي كبشة السلوى عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ معقدة من النار أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان بن عيينة عن عبد الله الملك ابن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم أبدا إخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم \ ح \ قال مقاتل ومن بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له وقال محمد بن كعب القرظي من بلغه القرآن فكأنما رأى محمد صلى الله عليه وسلم وسمع منه (أئنكم لتشدهون أن مع الله آله أخرى) ولم يقل أخر لأن الجمع يلحقه التأنيث كقوله عز وجل (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) وقال (فما بال القرون الأولى) (قل) يا محمد إن شهدتم أنتم (لا أشهد) أنا أن معه إلها (قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون) سورة الأنعام (20) قوله تعالى (الذين آتيناهم الكتاب) يعني التوراة والإنجيل (يعرفونه) يعني محمد صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته (كما يعرفون أبناءهم) من بين الصبيان (الذين خسروا) عبنوا (أنفسهم
89

فهم لا يؤمنون) وذلك أن الله جعل لكل آدمي منزلا في الجنة ومنزلا في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار وذلك الخسران سورة الأنعام (21) قوله تعالى (ومن أظلم) أكفر (ممن افترى) أختلف (على الله كذبا فاشرك به غيره (أو كذب بآياته) يعني القرآن (إنه لا يفلح الظالمون) الكافرون سورة الأنعام (22) ويوم نحشرهم جعيعا) أي العابدون والمعبودين يعني يوم القيامة قرأ يعقوب (يحشرهم) هنا وفى سبأ بالياء ووافق حفص في سبأ وقرأ الآخرون بالنون (ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) أنها تشفع لكم عند ربكم سورة الأنعام (23) (ثم لم تكن فتنتهم) قرأ حمزة الكسائي ويعقوب (يكن) بالياء لأن الفتنة بمعنى الافتتان فجاز تذكيره وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الفتنة وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم (فتنتهم) بالرفع جعلوه أسم كان وقرأ الآخرون بالنصب فجعلوه الاسم قوله أن قالوا وفتنتهم الخبر ومعنى فتنتهم أي قولهم وجوابهم وقال ابن عباس وقتادة معذرتهم والفتنة التجربة فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل له فتنة وقال الزجاج في قوله (ثم لم تكن فتنتهم) ممعنى لطيف وذلك مثل الرجل يفتن بمحبوب ثم يصيبه فيه محنة فيتبرأ من محبوبه فيقال لم تكن فتنتهم إلا هذا كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ولما رأوا العذاب تبرأوا منها يقول عز وجل (ثم لم تكن فتنتهم) ومحبتهم للأصنام (إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) قرأ حمزة والكسائي (ربنا) بالنصب على نداء المضاف وقرأ الآخرون بالخفض على نعت والله وقيل إنهم إذا رأوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى وتجاوزه عن أهل التوحيد قالوا لبعضهم البعض تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين فيختم على أفواههم وتشهد جوارحهم بالكفر سورة الأنعام (24) فقال عز وجل (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) باعتذارهم بالباطل وتبربهم عن الشرك (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي زال وذهب عنهم ما كانوا يفترون من الأصنام وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها فبطل كله في ذلك اليوم سورة الأنعام (25) قوله عز وجل (ومنهم من يستمع إليك) الآية قال الكلبي اجتمع أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام الوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتيه وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر
90

يستمعون القرآن فقالوا للنضر يا أبا قتيبة ما يقول محمد قال ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها فقال أبو سفيان إني أرى بعض ما يقول حقا فقال أبو جهل كلا لا تقر بشيء من هذا وفي رواية الموت أهون علينا من هذا فأنزل الله عز وجل (ومنهم من يستمع إليك) وإلى كلامك (وجعلنا على قلوبهم أكنة) أغطية جمع كنان كالأعنة جمع عنان (أن يفقهوه) أن يعلموه قيل معناه أن لا يفقهوه وقيل كراهة أن يفقهوه (وفي أذانهم وقرا) صمما وثقلا وهذا دليل على أن الله تعالى يقلب القلوب فيشرح بعضها للهدى ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن (وإن يروا كل آية) من المعجزات والدلالات (لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) يعني أحاديثهم وأقاصيصهم والأساطير جمع أسطورة وأساطرة وقيل الأساطير هي الترهات والأباطيل وأصلها من سطرت أي كتبت سورة الأنعام (26) (وهم ينهون عنه) أي ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم (وينأون عنه) أي يتباعدون عنه بأنفسهم نزلت في كفار مكة قاله محمد بن الحنفية والسدي والضحاك وقال قتادة ينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عنه وقال ابن عباس ومقاتل نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن أذي النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به أي يبعد حتى روي أنه اجتمع إليه رؤس المشركين وقالوا خذ شابا من أصبحا وجها وادفع إلينا محمدا فقال أبو طالب ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإيمان فقال لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك ولكن أذب عنك ما حييت وقال فيه أبيات شعر (والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا) (فاصدع بأمرك ما عليك غضاغة وأبشر بذاك وقر منك عيونا) (ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا) (وعرضت دينا قد علمت بأنه من خير أديان البرية دينا) (لولا الملامة أو حذار مسب لوجدتني سمحا بذاك مبينا) (ويهلكون) أي ما يهلكون (إلا أنفسهم أي لا يرجع وبال فعلهم إلا إليهم وأوزار الذين يصدونهم عليهم (وما يشعرون)
91

سورة الأنعام (27) قوله عز وجل (ولو ترى إذ وقفوا على النار) يعني في النار كقوله تعالى (على ملك سليمان) أي في ملك سليمان وقيل عرضوا على النار وجواب (لو) محذوف معناه لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا (فقالوا يا ليتنا نرد) يعني إلى الدنيا (ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) قراءة العامة كلها بالرفع على معنى يا ليتنا نرد نحن ولا نكذب ونكون من المؤمنين وقرأ حمزة وحفص ويعقوب (ولا) بنصب الباء والنون على جواب التمني أي ليت ردنا وقع وأن لا نكذب ونكون والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصب بالفاء وقرأ ابن عامر (نكذب) بالرفع و (تكون) بالنصب لأنهم تمنوا أن يكونوا من المؤمنين وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا سورة الأنعام (28) (بل بدالهم) أي ليس الأمر على ما قالوا إنهم لو ردوا لآمنوا بل بدالهم ظهر لهم (ما كانوا يخفون) يسرون (من قبل) في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم وقيل ما كانوا يخفون وهو قولهم (والله ربنا ما كنا مشركين) فأخفوا شركهم وكتموا حتى شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا إلا أن تجعل الآية في النافقين وقال المبرد بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون وقال النضر بن شميل بل بدا عنهم ثم قال (ولو ردوا) إلى الدنيا (لعادوا لما) يعني إلى ما (نهوا عنه) من الكفر (وإنهم لكاذبون) في قولهم لو ردوا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين سورة الأنعام (29) (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) وهذا إخبار عن إنكارهم البعث وقال عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم هذا من قولهم لو ردوا لقالوا قوله تعالى سورة الأنعام (30) (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) أي على حكمة وقضاءه ومسئلته وقيل عرضوا على ربهم (قال) لهم وقيل تقول لهم الخزنة بأمر الله (أليس هذا بالحق) يعني أليس هذا البعث والعذاب بالحق (قالوا بلى وربنا) إنه حق قال ابن عباس هذا في موقف وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين في موقف آخر وفي القيامة مواقف ففي موقف يقرون وفي موقف ينكرون (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)
92

سورة الأنعام (31) (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) أي خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى الله والبعث بعد الموت (حتى إذا جاءتهم الساعة) أي القيامة (بعتة) أي فجأة (قالوا يا حسرتنا) ندامتنا ذكر على وجه النداء للمبالغة قال سيبويه كأنه يقول أيتها الحسرة هذا أو انك (على ما فرطنا) أي قصرنا (فيها) أي في الطاعة وقيل تركنا في الدنيا من عمل الآخرة وقال محمد بن جرير افلهاء راجعة إلى الصفقة وذلك أنه لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعها الآخرة بالدنيا قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها أي في الصفقة فترك ذكر الصفقة اكتفاء بذكر بقوله (قد خسر) لأن الخسران إنما يكون في صفقة بيع والحسرة شدة الندم حتى يحسر الندم النادم كما يحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد (وهم يحملون أوزارهم) أثقالهم وآثامهم (على ظهورهم) قال السدي وغيره أن المؤمن إذ أخرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا فيقول هل عرفتني فيقول لا فيقول أنا عملك الصالح فاركبني فقد طالما ركبتك في الدنيا فذلك قوله عز وجل (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) أي ركبانا وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا فيقول هل عرفتني فيقول أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فهذا معنى قوله (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) (ألا ساء ما يزرون) يحملون قال ابن عباس أي بئس الحمل حملوا سورة الأنعام (32) (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) باطل وغرور لابقاء (وللدار الآخرة) قرأ ابن عامر (ولدار الآخرة) مضافا أضاف الدار إلى الآخرة ويضاف الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين كقوله) وحب الحصيد) وقولهم ربيع الأول ومسجد الجامع سميت الدنيا لدنوها وقيل لدناءتها وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب (أفلا تعقلون) بالتاء ها هنا وفي العراف وسورة يوسف ويس ووافق أبو بكر في سورة يوسف ووافق حفص إلا في سورة يس وقرأ الآخرون بالياء فيهن سورة الأنعام (33) قوله عز وجل (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) قال السدي التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد بن عبد الله أصادق هو أم كاذب
93

فإنه ليس ها هنا أحد يسمع كلامك غيري قال أبو جهل والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسلئر قريش فأنزل الله عز وجل هذه الآية وقال ناجيه بن كعب قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم لا نتهمك ولا نكذبك ولكن نكذب الذي جئت به فأنزل الله تعالى (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) بأنك كاذب (فإنهم لا يكذبونك) قرأ نافعوالكسائي بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتشديد من التكذيب والتكذيب هم أن تنسبه إلى الكذب وتقول له كذبت والكذاب هو أن تجده كاذبا تقول العرب أجدبت الأرض وأخصبتها إذا وجدتها جدبة ومخصبة (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) يقول إنهم لا يكذبوك في السر لأنهم عرفوا صدقك فيما مضى وإنما يكذبوك وحيي ويجحدون آياتي كما قال (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) سورة الأنعام (34) (ولقد كذبت رسل من قبلك) كذبهم قومهم كما كذبتك قريش (فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا) بتعذيب من كذبهم (ولا مبدل لكلمات الله) لا ناقض لما حكم به وقد حكم في كتابه بنصر أنبيائه عليهم السلام فقال (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين لهم أنهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) وقال (إنا لننصر رسلنا) وقال (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) وقال الحسن بن الفضل لا خلف لعدته (ولقد جاءك من نبإ المرسلين) و (من) صلة كما تقول أصابنا من مطر سورة الأنعام (35) (وإن كان كبر عليك إعراضهم) أي عظم عليك وشق أن أعرضوا عن الإيمان بك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص وكانوا إذ سألوا آية أحب يريهم الله تعالى ذلك طمعا في إيمانهم فقال الله عز وجل (فإن استطعت أن تبتغي نفقا) تطلب وتتخد نفقا سربا (وفي الأرض) ومنه نافقا اليربوع وهو أحد جحرية فتذهب فيه (أو سلما) أي درجا ومصعدا (في السماء) فتصعد فيه (فتأتيهم بآية) فافعل (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) فآمنوا كلهم (فلا تكونن من الجاهلين) أي بهذا الحرف وهو قوله (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) وأن من يكفر لسلبق علم الله فيه
94

سورة الأنعام (36) (إنما يستجيب الذين يسمعون) يعني المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمعه (والموتى) يعني الكفار (يبعثهم الله ثم إليه يرججعون) فيخزيهم بأعمالهم سورة الأنعام (37) قوله عز وجل (وقالوا يعني رؤساء قريش (لولا) هلا (نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون) ما عليهم في إنزالها سورة الأنعام (38) قوله عز وجل (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) قيد الطيران
بالجناح تأكيدا كما يقال نظرت بعيني وأخذت بيدي (إلا أمم أمثالكم) قال مجاهد أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يريد أن كل جنس من الحيوان أمه فالطير أمه والهوام أمه والذباب أمه والسباع أمه تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم يقال الأنس والناس أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا المبارك هو ابن فضالة عن الحسن عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم \ ح \ وقيل أمم أمثالكم يفقه بعضهم عن بعض وقيل أمم أمثالكم في الخلق والموت والبعث وقال عطاء أمم أمثالكم في التوحيد والمعرفة قال ابن قتيبة أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك (ما فرطنا في الكتاب) أي في اللح المحفوظ (ممن شيء ثم إلى ربهمم يحشرون) قال ابن عباس والضحاك حشرنا موتها وقال أبو هريرة يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيقتص للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا فحينئذ يتمنى الكافر ويقول يا ليتني كنت ترابا أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أخبرنا عبد الله ابن عمر الجوهري أنا أحمد ابن علي الكشمهيني أنا علي ابن حجر أنا إسماعيل ابن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من القرناء \ ح \
95

سورة الأنعام (399 قوله عز وجل (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم) لا يسمعون الخير ولا يتكلمون به (في الظلمات) في ضلالات الكفر (ممن يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) هو الإسلام سورة الأنعام (40) قوله تعالى (قل أرأيتكم) هل رأيتم والكاف فيه للتأكيد وقال الفراء رحمه الله العرب تقول أرأيتك وهم يريدون أخبرنا كا يقول أرأيتك عن فعلت كذا ماذا تفعل أي أخبرني وقرأ أهل المدينة (أرأيتكم وأرأيتم وأرأيت) بتليين الهمزة الثانية والكسائي يحذفها قال ابن عباس قل يا محمد لهؤلاء المشركين أرأيتكم (إن أتاكم عذاب الله) قبل الموت (أو أتتكم الساعة) يعني يوم القيامة (أغير الله تدعون) في صرف العذاب عنكم (إن كنتم صادقين) وأراد الكفار يدعون الله في أحوال الاضطرار كما أخبر الله عنهم (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) سورة الأنعام (41) ثم قال (بل إياه تدعون) أي تدعون الله ولا تدعون غيره (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) قيد الإجابة بالمشيئة والأمور كلها بمشيئته (وتنسون) وتتركون (ما تشركون) سورة الأنعام (42) (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء) بالشدة والجوع (والضراء) المرض والزمانة (لعلهم يتضرعون) أي يتوبون ويخضعون والتضرع السؤال بالتذليل سورة الأنعام (43) (فلولا) فهلا (إذ جاءهم بأسنا) عذابنا (تضرعوا) آمنوا فيكشف عنهمم أخبر الله عز وجل أنه قد أرسل إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أنهم أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا فذلك قوله (ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعمملون) من الكفر والمعاصي
96

سورة الأنعام (44) (فلما نسوا ما ذكروا به) تركوا ما وعظوا وأمروا به (فتحنا عليهمم أبواب كل شيء) قرأ أبو جعفر (فتحنا) بالتشديد في كل القرآن وقرأ ابن عامر كذلك إذا كان عقبيه جمعا والباقون بالتخفيف وهذا فتح استدراج ومكر أي بدلنا ممكان البلاء والشدة الرخاء والصحة (حتى إذا فرحوا بمما أوتوا) وهذا فرح بطر مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا (أخذناهم بغته) فجأة آمن ما كانوا وأعجب ما كانت الدنيا إليهم (فإذا هم مبلسون) آيسون من كل خير وقال أبو عبيدة المبلس النادم الحزين وأصل الإبلاس الإطراق من الحزن والندم روى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصية فإنما ذلك استدراج \ ح \ ثم تلا (فلما نسوا ما ذكروا به) الآية سورة الأنعام (45) (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) أي آخرهم الذين بدبرهم يقال دبر فلان القوم يدبرهم دبرا ودبورا إذا كان آخرهم ومعناه أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم يبق منهم باقية (والحمد لله رب العالمين) حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم لأنه نعمة على رسله فذكر الحمد لله تعليما لهم ولمن آمن بهم أن يحمدوا الله على كفايته شر الظالمين وليحمد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهمم إذا أهلك المكذبين سورة الأنعام (46) قوله تعالى (قل أرأيتمم) أيها المشركون (إن أخذ الله سمعكم) حتى لا تسمعوا شيئا أصلا (وأبصاركم) حتى لا تبصروا شيئا أصلا (وختم على قلوبكم) حتى لا تفقهوا شيئا ولا تعرفوا مم تعرفون من أمور الدنيا شيئا (من إله غير الله يأتيكم به) ولم يقل بها مع أنه ذكر أشياء قيل معناه يأتيكم بما أخذ منكم وقيل الكناية ترجع إلى السمع الذي ذكر أولا ولا يندرج غيره تحته كقوله تعالى (والله ورسوله أحق أن يرضوه) فالهاء راجعة إلى الله ورضى رسوله يندرج في رضا الله تعالى (انظر كيف نصرف الآيات) أي نبين لهم العلامات الذالة على التوحيد والنبوة (ثم هم يصدفون) يعرضون عنها مكذبين
97

سورة الأنعام (47) (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة) فجأة (أو جهرة) ممعاينة ترونه عند نزوله قال ابن عباس والحسن ليلا ونهارا (هل يهلك إلا القوم الظالمون) المشركون سورة الأنعام (48) قوله عز وجل (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن لآمن وأصلح) العمل (فلا خوف عليهم) حين يخاف أهل النار (ولا هم يحزنون) إذا حزنوا سورة الأنعام (49) (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم) يصيبهم (العذاب بما كانوا يفسقون) يكفرون سورة الأنعام (509 (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) نزل حين اقترحوا الآيات فأمره أن يقول لهم (لا أقول لكم عندي خزائن الله) أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون (ولا أعلم الغيب) فأخبركم بما غاب مما مضى ومما سيكون (ولا أقول لكم إني ملك) قال ذلك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي ويشاهد ما لا يشاهده الآدمي يريد ما لا يشاهده الآدمي يريد لا أقول لكم شيئا من ذلك فتنكرون قولي وتجحدون أمري (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) أي ما آتيكم به فمن وحي الله تعالى وذلك غير مستحيل في العقل مع قيام الدليل والحجج البالغة (قل هل يستوى الأعمى والبصير) قال قتادة الكافر والمؤمن وقال مجاهد الضال والمهتدي وقيل الجاهل والعالم (أفلا تتفكرون) أي أنهما لا يستويان سورة الأنعام (51) قوله عز وجل (وأنذر به) خوف به أي بالقرآن (الذين يخافون أن يحشروا) يجمعوا ويبعثوا (إلى ربهم) وقيل يخافون أي يعلمون لأن خوفهم إنما كان من علمهم (ليس لهم من دونه) من دون الله (ولي) قريب ينفعهم (ولا شفيع) يشفع لهم (لعلهم يتقون) فينتهون عما نهوا عنه وإنما نفي الشفاعة لغيره مع أن الأنبياء الأولياء يشفعون لأنهم لا يشفعون إلا بأذنه
98

سورة الأنعام (52) (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي) قرأ ابن عامر (بالغداة) بضم الغين وسكون الدال وواو بعدها هاهنا وفي سورة الكهف وقرأ الآخرون بفتح العين والدال وألف بعدها قال سلمان وخباب بن الرث فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع بن حابس التيمي وعيينة بن حصن الفزاري وذووهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فقالوا يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكان عليهم جباب صوف لها رائحة لم يكن عليهم غيرها لجالسناك وأخذنا عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم ما أنا بطارد المؤمنين \ ح \ قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا فإن وفود العرب تاتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد ممعهم إن شئت قال نعم قالوا أكتب لنا عليك بذلك كتابا قال فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب قالوا ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بقوله (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) إلى قوله (بالشاكرين) فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا فأتينا وهو يقول (سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قال وتلركنا فأنزل الله عز وجل (واصبر نفسك ممع الذين يدعون ربهمم بالغداة والعشي يريدون وجهه) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد وندنوا منه حتى كانت ركبنا تمس ركبته فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم وقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات \ ح \ وقال الكلبي قالوا له اجعل لنا يوما ولهم يوما فقال لا أفعل فقالوا فاجعل المجلس واحدا فاقبل علينا وول ظهرك عليهم فأنزل الله تعالى هذه الآية (ولا تطرد الذين) قال مجاهد قالت قريش لولا بلال وابن أم عبد لبايعنا محمد فأنزل الله هذه الآية (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) يعني صلاة الصبح وصلاة العصر ويروى عنه أن المراد منه الصلوات الخمس وذلك أن أناسا من الفقراء كانوا مع النبي عليه السلام فقال ناس من الأشراف إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا فنزلت هذه الآية وقال مجاهد صليت الصبح مع سعيد بن الكسيب فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص فقال سعيد ما أسرع الناس إلى هذا المجلس قال مجاهد فقلت يتأولون قوله (يدعون ربهم بالغداة والعشي) قال أفي هذا هو إنمما ذلك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن وقال إبراهيم النخعي يعني يذكرون ربهم وقيل المراد منه حقيقة الدعاء (يريدون وجهه) أي يريدون الله بطاعتهم قال ابن عباس رضي الله عنهما يطلبون ثواب الله فقال (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء)
99

أي لا تكلف أممرهمم ولا يتكلفون أممرك وقيل ليس رزقهم عليك فتملهم (فتطردهم) رزقك عليهم قوله (فتطردهم) جواب لقوله (ما عليك من حسابهم من شيء) وقوله (فتكون من الظالمين) جواب لقوله (ولا تطرد) أحدهما جواب النفي والآخر جواب النهي سورة الأنعام (53) (وكذلك فتنا) أي ابتلينا (بعضهم ببعض) أراد ابتلى الغني بالفقير والشريف بالوضيع وذلك أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد سبقه بالإيمان امتنع من الإسلام بسببه فكان فتنة له فذلك قوله (ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) فقال الله تعالى (أليس الله بأعلم بالشاكرين) فهو جواب لقوله (أهؤلاء ممن الله عليهم من بيننا) فهو استفهام بمعنى التقرير أي الله أعلم بمن شكر الإسلام إذ هداه الله عز وجل أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس عبد الله بن محمد هارون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام ثنا أبو الحسن بن أحمد بن سيار القرشي أنا مسدد أنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد عن العلاء بن بشير المزني عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارىء يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ فسلم رسول الله وقال مما كنتم تصنعون قلنا يا رسول الله كان قارىء يقرأ علينا فكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم \ ح \ قال ثم جلس وسطنا ليدل نفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتخلفوا وبرزت وجوههم له قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحدا غيري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشروا بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة سورة الأتعام (54) (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) قال عكرمة نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بأهم بالسلام وقال عطاء نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين (كتب ربكم على نفسه الرحمة) أي قضى على نفسه الرحمة (أنه من عمل منكم سوءا بجهالة قال مجاهد لا يعلم حلالا من حرام فمن جهالته ركب الذنب وقيل جاهل بما يورثه ذلك الذنب وقيل جهالته من حيث إنه آثر المعصية
100

سورة الأنعام (55 57) على الطاعة العاجل القليل على الأجل الكثير (ثم تاب من بعده) رجع عن ذنبه (وأصلح) عمله قيل أخلص ثوبته (فإنه غفور رحيم) قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب (أنه من عمل فإنه غفور رحيم) بفتح الألف فيهما بدلا من الرحمة أي كتب على نفسه أنه من عمل منكم ثم جعل الثانية بدلا عن الأولى كقوله تعالى (أيعدكم أنكن إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) وفتح أهل المدينة الأولى منهما وكسر الثانية على الاستئناف وكسرهما الآخرون على الأستئناف سورة الأنعام (55) (وكذلك نفصل الآيات) أي وهكذا وقيل معناه وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا واعلامنا على المشؤكين كذلك نفصل الآيات أي نميز ونبين لك حجتنا في كل حق ينكروه أهل الباطل (ولتستبين سبيل المجرمين) أي طريق المجرمين وقرأ أهل المدينة (ولتستبين) بالتاء (سبيل المجرمين) نصب على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم أي ولنعرف يا ممحمد سبيل المجرمين يقال استبنت الشيء وتبينته إذا عرفته وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر (وليستبين) بالياء (سبيل) بالرفع وقرأ الآخرون (ولتستبين) بالتاء (سبيل) بالرفع أي ليظهر وليتضح سبيل يذكر ويؤنث فدليل التذكير قوله تعالى (وأن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) دليل الثأنيت قوله تعالى (لم تصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا) سورة الأنعام (56) قوله عز وجل (قل أني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم)
في عبادة الأوثان وطرد الفقراء (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) يعني أني فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير طريق الهدى سورة الأنعام (57) (قل أني على بينة) أي على بيان وبصيرة وبرهان (من ربي وكذبتم به) أي ما جئت به (ما عندي ما تستعجلون به) قيل أراد به أستعجالهم بالعذاب كانوا يقولون (أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينما حجارة) الآية وقيل أراد به القيامة قال الله (يستعجل الذين بها لا يؤمنون بها) (أن الحكم إلا لله يقص الحق) وقرأ الآخرون (يقضي) بسكون القاف والضاد مكسورة من قضيت أي يحكم بالحق بدليل أنه قال (وهو خير الفاصلين) والفصل يكون في القضاء وأنما حذف الياء لاستتقال الألف واللام كقوله تعالى (صال الجحيم) ونحوها ولم يقل بالحق لأن الحق صفة المصدر كأنه قال يقضي القضاء الحق
101

سورة الأنعام (58 60) سورة الأنعام (85) (قل لو أنا عندي) وبيدي (ما تستعجلون به) من العذاب (لقضي الأمر بيني وبينكم أي فرغ من العذاب وأهلكتم أي لعجلته حتى أتخلص منك (والله أعلم بالظالمين) سورة الأنعام (59) قوله تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) مفاتح الغيب خزائنه جمع مفتح واختلفوا في مفاتح الغيب أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أححمد بن علي الكشمهيني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول قال رسول الله مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا الله تعالى ولا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل ولا يعلم متى يأتي المطر أحد الا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله \ ح \ وقال الضحاك وممقاتل مفاتح الغيب خزائن الأرض وعلم نزول العذاب وقال عطاء ما غاب عنكم من الثواب والعقاب وقيل انقضاء الآجال وقيل أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم وقيل هي ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون وما يكون كيف يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون وقال ابن مسعود أوتى نبيكم علم كل شيء إلا علم مفاتيح الغيب (ويعلم ما في البر والبحر) قال مجاهد البر المفاوز والقفار والبحر القرى والأمصار لا يحدث فيهما شيء إلا يعلمه وقيل هو البر والبحر المعروف (ومما تسقط من ورقة إلا يعلمها) يريد ساقطة وثابتة يعني يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه وقيل يعلم كم انقلبت ظهر البطن إلى أن سقطت على الأرض (ولا حبة في ظلمات الأرض) قيل هو الحب المعروف في بطون الأرض وقيل هو تحت الصخرة التي في أسف الأرضين (ولا رطب ولا يابس) قال ابن عباس رضي الله عنهما الرطب الماء واليابس البادية وقال عطاء يريد ما ينبت وما لا ينبت وقيل ولا حي ولا موات وقيل هو عبارة عن كل شيء (إلا في كتاب مبين) يعني أن الكل مكتوب في اللوح المحفوظ سورة الأنعام (60) قوله تعالى (وهو الذي يتوفاكم بالليل) أي يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل (ويعلم ما جرحتم) كسبتم (بالنهار ثم يبعثكم فيه) أي يوقظكم في النهار (ليقضى أجل مسمى)
102

سورة الأنعام (61 63) يعني أجل الحياة إلى الممات يريد استيفاء العمر على التمام (ثم إليه مرجعكم) في الآخرة (ثم ينبئكم) يخبركم (بما كنتم تعملون) سورة الأنعام (61) (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة) يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم وهو جمع حافظ نظيره (وإن عليكم لححافظين كراما كاتبين) (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته) قرأ حمزة (توفاه) و (استهواه) بالياء وأمالهما (رسلنا) يعني أعوان ملك الموت يقبضونه فيدفعونه إلى ملك الموت فيقبض روحه كما قال (قل يتوفاكم ملك الموت) وقيل الأعووان يتوفونه بأممر ملك الموت فكأن ملك الموت توفاه لأنهم يصدرون عن أمره وقيل أراد بالرسل ملك الموت وحده فذكر الواحد بلفظ الجمع وجاء في الأخبار أن الله تعالى جعل الدنيا بين مممملك المموت كالمائدة الصغيرة فيقبض من ههنا ومن ههنا فإذا أكثرت الأرواحح يدعو الأرواح فتجيب له (وهو لا يفرطون) لا يقصرون سورة الأنعام (62) (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) يعني الملائكة وقيل يعني العباد يردون بالموت إلى الله مولاهم الحق فإن قيل الآية في المؤمنين والكفار جميعا وقد قال في آية أخرى (وأن الكافرين لا مولى لهم) فكيف وجه الجمع فقيل المولى في تلك الآية بمعنى الناصر ولا ناصر للكفار والمولى ههنا بمعنى المالك الذي يتولى أمورهم والله عز وجل مالك الكل ومتولي الأمور وقيل أراد هنا المؤمنين خاصة يردون إلى مولاهم والكفار فيه تبع (ألا له الحكم) أي القضاء دون خلقه (وهو أسرع الحاسبين) أي إذا حاسب فحسابه سريع لأنه لا يحتاج إلى فكرة ورؤية وعقديد سورة الأنعام (63) قوله تعالى (قل من ينجيكم) قرأ يعقوب بالتخفيف وقرأ العامة بالتشديد (من ظامات القبر والبحر) أي من شدائدهما وأهوالهما كانوا إذا سافروا في البر والبحر فضلوا الطريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين له الدين فينجيهم فذلك قوله تعالى (تدعونه تضرعا وخفية) أي علانية وسرا قرأ أبو بكر عن عاصم (وخفية) بكسر الخاء هنا وفي الأعراف وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان (لئن أنجيتنا) أي يقولون لئن أنجيتنا وقرأ أهل الكوفة لئن أنجانا الله (من هذه) يعني من هذه الظلمات (لنكونن من الشاكرين) والشكر هو معرفة النعمة مع القيام بحقها
103

سورة الأنعام (64) (قل الله ينجيكم منها) قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر (ينجيكم) بالتشديد مثل قوله تعالى (قل من ينجيكم) وقرأ الآخرون هذا بالتخفيف (ومن كل كرب والكرب غاية الغم الذي يأخذ النفس (ثم أنتم تشركون) يريد أنهم يقرون أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي ينجيهم ثم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها لا تضر ولا تنفع سورة الأنعام (65) قوله عز وجل (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) قال الحسن وقتادة نزلت الآية في أهل الإيمان وقال قوم نزلت في المشركين قوله (عذابا من فوقكم) يعني الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بعاد وثمود وقوم لوط وقوم نوح (أو من تحت أرجلكم) يعني الرجفة والخسف كما فعل بقوم شعيب وقارون وعن ابن عباس ومجاهد (عذابا من فوقكم) السلاطين الظلمة ومن تحت أرجلكم العبيد السوء وقال الضحاك من فوقكم من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم أي من أسفل منكم (أو يلبسكم شيعا) أي يخلطكم فرقا ويبث فيكم الأهواء المختلفة (ويذيق بعضكم بأس بعض) يعني السيوف المختلفة يقتل بعضكم بعضا أخبرنا عبد الواحد أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر قال لما نزلت هذه الآية (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك الكريم \ ح \ قال أو من تحت أرجلكم \ ح \ قال أعوذ
بوجهك \ ح \ قال (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أهون أو هذا أيسر \ ح \ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا أبو جعفر محمد بن علي دحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي عرفة أنا يعلى بن عبيد الطنافسي أنا عثمان بن حكيم عن عامر بن سعيد بن وقاص عن أبيه قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين وصلينا معه فناجى ربه طويلا ثم قال سألت ربي ثلاثا سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها \ ح \ أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا السيد أبو الحسن محمد الحسين بن داود العلوي أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن دلوية الدقاق ثنا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن عبيد الله بن عمر جاءهم ثم قال أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد فسأل الله ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة سأله أن لا يسلط على أمته عدوا من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك
104

وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض فمنعه ذلك قوله تعالى (انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) سورة الأنعام (66) (وكذب به قومك) أي بالقرآن وقيل بالعذاب (وهو الحق قل لست عليكم بوكيل) برقيب وقيل بمسلط ألزمكم الإسلام شئتم أو أبيتم إنما أنا رسول سورة الأنعام (67) (لكل نبإ) خبر من أخبار القرون (مستقر) حقيقة ومنتهى ينتهي إليه فيتبين صدقه من كذبه وحقه من باطله إما في الدنيا وإما في الآخرة (وسوف تعلمون) وقال مقاتل لكل خبر يخبره الله وقت وقته ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير وقال الكلبي لكل قول وفعل حقيقة إما في الدنيا وإما في الآخرة وسوف تعلمون ما كان في الدنيا فستعرفونه وما كان في الآخرة فسوف يبدولكم سورة الأنعام (68) قوله عز وجل (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) يعني في القرآن بالاستهزاء (فأعرض عنهم) فاتركهم ولا تجالسهم (حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك) قرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد السين وقرأ الآخرون بسكون النون وتخفيف السين (الشيطان) نهينا (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) يعني إذا جلست معهم ناسيا فقهم من عندهم بعدما تذكرت سورة الأنعام (69) (6 وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء) روي عن ابن عباس أنه قال لما نزلت هذه الآية (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) قال المسلمون كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا وفي رواية قال المسلمون فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم فأنزل الله عز وجل (وما على الذين يتقون) الخوض (من حسابهم) أي من إثم الخائضين (من شيء ولكن ذكرى) أي ذكروهم وعظوهم بالقرآن والذكر والذكرى واحد يريد ذكرهم وهم ذكرى فيكون في محل النصب (لعلهم يتقون) الخوض إذا وعظتموهم فرخص في مجالستهم على الوعظ لعلهم يمنعهم من ذلك الخوض قيل لعلهم يستحيون
105

سورة الأنعام (70) قوله عز وجل (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) يعني الكفار الذين إذا سمعوا بآيات الله استهزؤا بها وتلاعبوا عند ذكرها وقيل إن الله جعل لكل قوم عيدا فاتخذ كل قوم دينهم أي عيدهم لعبا ولهوا وعيد المسلمين الصلاة وتكبيراتها وفعل الخير مثل الجمعة والفطر والنحر (وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به) أي وعظ بالقرآن (أن تبسل) أي لأن لا تبسل أي لا تسلم (نفس) للهلاك (بما كسبت) قال مجاهد وعكرمة والسدي قال ابن عباس تهلك وقال قتادة أن تحبس وقال الضحاك تحرق وقال ابن زيد تؤخذ ومعناه ذكرهم لأن يؤمنوا كيلا تهلك نفس بما كسبت وقال الأخفش تبسل تجازى وقيل تفضح وقال الفراء ترتهن وأصل الابسال التحريم والبسل الحرام ثم جعل نعتا لكل شدة تتقى وتترك (ليس لها) لتلك النفس (من دون الله ولي) قريب (ولا شفيع) يشفع في الآخرة (وإن تعدل كل عدل) أي تفد كل فداء (لا يؤخذ منها) هنا (أولئك الذين أبسلوا) أسلموا للهلاك (بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) سورة الأنعام (71) (قل أتدعوا من دون الله ما لا ينفع) إن عبدناه (ولا يضرنا) إن تركناه يعني الأصنام ليس إليها نفع ولا ضر (ونرد على أعقابنا) إلى الشرك مرتدين (بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين) أي يكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين أي أضلته (في الأرض حيران) قال ابن عباس كالذي استغوته الغيلان في المهامة فأضلوه فهو حائر بائر والحيران النتردد في الأمر لا يهتدي إلى مخرج منه (له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا) هذا مثل ضربه الله تعالى لمن يدعو إلى الآلهة ولمن يدعو إلى الله تعالى كمثل رلجل في رفقة ضل به الغول عن الطريق أصحابه من أهل الرفقة هلم إلى الطريق ويدعوه الغول فيبقى حيران لا يدري أين يذهب فإن أجاب الغول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة وإن أجاب من يدعوه إلى الطريق اهتدى (قال إن هدى الله هو الهدى) يزجر عن عبادة
106

الأصنام كأنه يقول لا تفعل ذلك فإن الهدى هدى الله لا يهدي غيره (وأمرنا لنسلم) أي أن نسلم (لرب العالمين) والعرب تقول أمرتك لتفعل وأن لا تفعل وبأن تفع 8 ل سورة الأنعام (72) (وأن أقيموا الصلاة واتقوا) أي وأمرنا بإقامة الصلاة والتقوى (وهو الذي إليه تحشرون) أي تجمعون في الموقف للحساب سورة الأنعام (73) (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق) قيل الباء بمعنى اللام إظهار للحق لأنه جعل صنعه دليلا على وحدانيته (ويوم يقول كن فيكون) قيل هو راجع إلى السماوات والأرض والخلق بمعنى القضاء والتقدير أي كل شيء قضاه وقدره قال له كن فيكون وقيل يرجع إلى القيامة يدل على سرعة أمر البعث والساعة كأنه قال ويوم يقول للخلق موتوا فيقومون (قوله الحق) أي الصدق الواقع لا محالة يريد أن ما وعده حق كائن (وله الملك يوم ينفخ في الصور) يعني ملك الملوك يومئذ زائل كقوله (مالك يوم الدين) وكما قال (والأمر يومئذ لله) والأمر لله في كل وقت ولكن لا أمر في ذلك اليوم لأحد مع أمر الله والصور قرن ينفخ فيه قال مجاهد كهيئة البوق وقيل هو بلغه أهل اليمن وقال أبو عبيدة الصور هو الصور وهو جمع الصورة وهو قول الحسن والأول أصح والدليل عليه ما أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر المحاربي أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا أبو عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن سليمان التميمي عن أسلم عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما الصور قال قرن ينفخ فيه أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله الصفار أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرقي أنا أبو حذيفة أنا سفيان عن الأعمش عن عطية بن سعد العوفي عن أبي
سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه واصغي سمعه وحتى جبهته ينتظر متى يؤمر \ ح \ فقالوا يا رسول الله وما تأمر قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل \ ح \ وقال أبو العلاء عن عطية متى يؤمر بالنفخ فينفخ قوله تعالى (عالم الغيب والشهادة) يعني يعلم ما غاب عن العباد وما يشاهدونه لا يغيب عن علمه شيء) وهو الحكيم الخبير)
107

سورة الأنعام (74) قوله عز وجل (وإذ قال إبراهيم لبيه آزر) قرأ يعقوب (آزر) بالرفع يعني (آزر) والقراءة المعروفة بالنصب وهو اسم أعجمي لا ينصرف فينصب في موضع الخفض قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارخ أيضا مثل إسرائيل ويعقوب وكان من كوثى قرية من سواد الكوفة وقال مقاتل بن حيان وغيره آزر لقب لأبي إبراهيم واسمه تارخ وقال سليمان التيمي هو سب وعيب ومعناه في كلامهم المعوج وقيل معناه الشيخ الهرم بالفارسية وقال سعيد بن المسيب ومجاهد آزر اسم صنم فعلى هذا يكون في محل النصب تقديره أتتخذ آزر إلها قوله (أصناما آلهة) دون الله (إني أراك وقومك في ضلال مبين) أي في خطأ بين سورة الأنعام (75) (وكذلك نري إبراهيم) أي كما أريناه البصيرة في دينه والحق في خلاف قوممه كذلك نريه (ملكوت السماوات والأرض) والملكوت الملك زيدت فيه التاء للمبالغة كاجبروت والرحموت والرهبوت قال ابن عباس يعني خلق السماوات والأرض وقال مجاهد وسعيد بن جبير يعني آيات السماوات والأرض وذلك أنه أقيم على صخر وكشف له عن ملكوت السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين ونظر إلى مكانه في الجنة فذلك قوله تعالى (وآتيناه أجره في الدنيا) يعني أريناه مكانه في الجنة وروي عن سليمان رضي الله عنه ورفعه بعضهم عن علي رضي الله عنه لما أري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أبصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له الرب عز وجل يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدعون على عبادي فإنما إنا من عبدي على ثلاث خصال إما أن يتوب إلي فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني وإما أن يبعث إلي شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته وفي رواية وإما أن يتولى فإن جهنم من ورائه وقال قتادة ملكوت السماوات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار (وليكون من الموقنين) عطف على المعنى ومعناه نريه ملكوت السماوات والأرض ليستدل به وليكون من الموقنين سورة الأنعام (76) (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) ى لآية قال أهل التفسير ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان ومنجمون فقالوا له إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل اللأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه ويقال إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام فقال السدي رأى نمرود في منامه كأن كوكبا
108

طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعا شديدا فدعا السحرة والكهنة فسألهم عن ذلك فقالوا هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة فيكون هلاكك وهلاك ملكك وأهل بيتك على يديه قالوا فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشرة رجلا فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون النساء في الحيض فإذا طهرت حال بينها وبينما فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم عليه السلام وقال محمد بن إسحاق بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقرية فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم عليه السلام فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية حديثة السن لم يعرف الحبل في بطنها وقال السدي خرج نمرود بالرجال إلى معسكر ونحاهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأتمن عليها أحدا من قومه إلا آزر فبعث إليه ودعاه وقال له إن لي حاجة أريد أن أوصيك بها ولا أبعثك إلا لثقتي بك فأقسمت عليك أن لا تدنوا من أهلك فقال آزر أنا أشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجته ثم قال لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم عليه السلام لو يتمالك حتى واقعها فحملت بإبراهيم عليه السلام وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة فأمر نمرود بقتل الغلمان فلما دنت ولادة أم إبراهيم عليه السلام وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء فرجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت وأن الولد في مموضع كذا وكذا فانطلق أبوه فاخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع وكانت أمه تختلف إليه فترضعه وقال محمد بن إسحاق لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم عليه السلام وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه لتنظر ما فعل فتجده حيا يمص إبهامه وقال أبو روق قالت أم إبراهيم ذات يوم لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من أصبع ماء ومن أصبع لبنا ومن أصبح عسلا ومن أصبع تمراومن أصبع سمنا وقال محمد بن إسحاق كان قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل فقالت قد ولدت غلاما فمات فصدقها فسكت عنها وكان اليوم على إبراهيم في النشوء كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرا حتى قال لأمه أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السماوات والأرض وقال إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي الذي مالي إله غيره ثم نظر إلى السماء فرأى كوكبا فقال هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال لا أحب الآفلين ثم أتبعه ببصره حتى غاب ثم طلعت الشمس هكذا إلى آخره ثم رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه وبرىء من دين قومه إلا أنه لم يناديهم بذلك فأخبره أنه ابنه وأخبرته أم إبراهيم أنه أبنه وأخبرته بما كانت صنعت في شأنه فسر آزر بذلك وفرح فرحا شديدا وقيل إنه كان في السرب سبع سنين وقيل ثلاثة عشرة سنة وقيل سبعة عشرة سنة قالوا فلما شب
109

إبراهيم عليه السلام وهو في السرب قال لأمه من ربي قالت أنا قال فمن ربك قالت أبوك قال فمن رب أبي قالت نمرود قال فمن ربه قالت له اسكت فسكت ثم رججعت إلى زوججها فقالت أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الرض فإنه ابنك ثم أخبرته بما قال فأتاه أبوه آزر فقال له إبراهيم عليه السلام يا أبتاه من ربي قال أمك قال ومن رب أمي قال أنا قال ومن ربك قال نمرود قال إنه قال لأبويه أخرجاني فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم فسأل أباه ما هذه فقال إبل وخيل وغنم ما لهذه بد من أن يكون لها رب وخالق ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ويقال الزهرة فكان تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر طلوع
القمر فيها فرأى الكوكب قبل القمر فذلك قوله عز وجل (فلما جن عليه الليل) أي دخل الليل يقال جن الليل وجنه الليل وأجن عليه الليل يجن جنونا وكسر الألف ويكسرهما ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر فإن اتصل بكاف أو هاء فتحهما ابن عامر وإن لقيهما ساكن كسر الراء وفتح الهمزة وحمزة وأبو بكر وفتحهما الآخرون (قال هذا ربي) واختلفوا في قوله ذلك فأجراه بعضهم على الظاهر وقالوا كان إبراهيم مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه الله وآتاه رشده فلم يضره ذلك في حال الاستدلال وأيضا كان ذلك في حال طفوليته قبل قيام الحجة عليه فلم يكن كفرا وأنكر الآخرون هذا القول وقالوا لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات الإ وهو لله موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله وطهره وآتاه رشده من قبل وأخبره عنه وقال (إذ جاء ربه بقلب سليم) وقال (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) أفتراه أراه الملكوت ليوقن فلما أيقن رأى كوكبا قال هذا ربي معتقدا فهذا ما لا يكون أبدا ثم قال فيه أربعة أوجه من التأويل أحدها أن إبراهيم أراد أن يستدرج القوم بهذا القول ويعرفهمم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويرون أن الأمور كلها إليها فأراهم أنه معظم ما عظموه وملتمس الهدى من حيث ما التمسوه فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم ليثبت خطأ ما يدعون ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون الصنم فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدوا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدو فشاوروه في أمره فقال الرأي أن ندعوا هذا الصنم حتى يكشف عنا ما قد أظلنا فاجتمعوا حوله يتضرعون فلما تبين له أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله فدعوه فصرف عنهمم ما كانوا يحذرون فأسلموا والوجه الثاني من التأويل أنه قاله على وجه الاستفهام تقديره أهذا ربي كقوله تعالى (أفإن مت فهم الخالدون) أي أفهم الخالدون وذكره على وجه التوبيخ منكرا لفعلهم يعني أمثل هذا يكون ربا أي ليس هذا ربي والوجه الاحتجاج عليهم يقول هذا ربي يزعمكم فلما غاب قال لو كان إلها لما غاب كما قال (ذق إنك أنت العزيز الكريم) أي عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى أنه قال (وانظر إلى إلهل الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه) يريد إلهك بزعمك والوجه الرابع فيه إضمار وتقديره يقولون هذا
110

ربي كقوله تعالى (وإذ رفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا) أي يقولون ربنا تقبل منا (فلما أفل قال لا أحب الآفلين) وما لا يدوم سورة الأنعام (77) (فلما رأى القمو بازغا) طالعا (قال هذا ربي هذا أكبر) أي أكبر من الكواكب والقمر ولم يقل هذه مع الشمس مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع أو ورده إلى المعنى وهو الضياء والنور لأنه رآه أضوأ من النجوم والقمر (فلما أفلت) غربت (قال يا قوم إني بريء مم تشركون) سورة الأنعام (79) (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) سورة الأنعام (80) (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان) ولما رجع إبراهيم عليه السلام إلى أبيه وصار من الشباب بحالة سقط عنه طمع الذباحين وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها فيذهب إبراهيم عليه السلام وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب فيه رؤسها وقال اشربي استهزاء بقومه وبما هم فيه من الضلالة حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته فحاجه أي خاصمه وجادله قومه في دينه (أتحاجوني في الله) قرأ أهل المدينة وابن عامر بتخفبف النون وقرأ الآخرون بتشديدها إذغاما لاحدى النونين في الأخرى ومن خفف حذف إحدى النونين تخفيفا يقال اتجادلونني في توحيد الله وقد هداني للتوحيد والحق (ولا أخاف ما تشركون به) وذلك أنهمم قالوا له احذر الأصنام فإنا نخاف ان تمسك بسوء من خبل أو جنون لعيبك إياها فقال لهم ولا أخاف ما تشركون به (إلا أن يشاء ربي شيئا) وليس هذا
111

باستثناء من الأول بل هو استثناء ممنقطع معناه لكن إن يشأ ربي شيئا أي سواء فيكون ما شاء (وسع ربي كل شيء علما) أي أحاط علمه بكل شيء (أفلا تتذكرون) سورة الأنعام (81) (وكيف أخاف ما أشركتم) يعني الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع (ولا تخافون أنكمم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا) حجة وبرهانا وهو القاهر القادر على كل شيء (فأي الفريقين أحق) أولى (بالأمن) أنا وأهل ديني أم أنتم (إن كنتم تعلمون) فقال الله تعالى قاضيا بينهما سورة الأنعام (82) (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) لم يخلطوا أيمانهم بشرك (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) أخبرنا عبد الواحد بن المليححي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عيسى بن يونس أنا الأعمش أنا إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال لما نزلت (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على المسلمين فقالوا يا رسول الله فأينا لا يظلم نفسه فقال ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه وهو يعظه (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) سورة الأنعام (83) قوله عز وجل (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) حتى خصمهم وغلبهم بالحجة قال مجاهد هي قوله (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن) (نرفع درجات من نشاء) بالعلم قرا أهل الكوفة ويعقوب (درجات) بالتنوين ههنا وفي سورة يوسف أي نرفع درجات من نشاء بالعلم والفهم والفضيلة والعقل كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهتدى وحاج في التوحيد (إن ربك حكيم عليم) سورة الأنعام (84) (ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا) ووفقنا وأرشدنا (ونوحا هدينا من قبل) أي مممن قبل إبراهيم (ومن ذريته) أي من ذرية نوح عليه السلامم ولم يرد من ذرية إبراهيم لأنه ذكر في جملنهم يونس ولوطا ولم يكونا من ذرية إبراهيم (داود) هو داود بن أيشا (وسليمان) يعني ابنه
112

(وأيوب) وهو أيوب بن أموص بن رازح بن روم ابن عيص بن إسحاق بن إبراهيم (ويوسف) هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام (وموسى) وهو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث ابن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (وهارون) هو أخو موسى أكبر منه بسنة (وكذلك) أي كما جزينا إبراهيم على توحيده بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء كذلك (نجزي المحسنين) على إحسانهم وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم سورة الأنعام (85) (وزكريا) هو زكريا بن اذن (ويحيى) وهو ابنه (وعيسى) وهو ابن مريم بنت عمران (وإلياس) واختلفوا فيه قال ابن مسعود هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل والصحيح أنه غير لأن الله تعالى ذكره في ولد نوح وهو إليلس بن بشير بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران سورة الأنعام (86) (كل من الصالحين وإسماعيل) وهو ولد إبراهيم (واليسع) وهو ابن أخطوب بن العججوز وقرأ حممزة والكسائي (واليسع) بتشديد اللام وسكون الياء هنا وفي ص (ويونس) وهو يونس بن متى (ولوطا)
وهو لوط بن هاران بن أخي إبراهيم (وكلا فضلنا على العالمين) أي عالمي زمانهم سورة الأنعام (87) (ومن آبائهم) من فيه للتغبيض للأن آباء بعضهم كانوا مشركين (وذرياتهم) أي ومن ذرياتهم وأراد ذرية بعضهم لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد في ذرية بعضهم ممن كان كافرا (وأخوانهم واجتبيناهم) اخترناهمم واصطفيناهم (وهديناهم) أرشدناهم (إلى صراط مستقيم) سورة الأنعام (88) (ذلك هدى الله) دين الله (هدي به) يرشد به (من يشاء من عباده ولو أشركوا) أي هؤلاء الذين سميناهم (لحبط) لبطل وذهب (عنهم ما كانوا يعملون) سورة الأنعام (89) (أولئك الذين آتيناهم الكتاب) أي الكتب المنزلة عليهم (والحكم) يعني العلم والفقه
113

(والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء) يعني أهل مكة (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) يعني الأنصار وأهل المدينة قاله ابن عباس ومجاهد وقال قتادة فإن يكفر بها هؤلاء الكفار فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين يعني الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله ههنا وقال أبو رجاء العطاردي معناه فإن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء وهم الملائكة قوما ليسوا بكافرين سورة الأنعام (90) (أولئك الذين هدى الله) أي هداهم الله (فبهداهم) فبسنتهم وسيرتهم (اقتده) الهاء فيها هاء الوقف وحذف حمزة والكسائي ويعقوب الهاء في الوصل والباقون بإثباتها وصلا ووقفا وقرأ ابن عامر (اقتده) باشباع الهاء كسرا (قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو) ما هو (إلا ذكرى) أي تذكرة وموعظة (للعالممين) سورة الأنعام (91) (وما قدروا الله حق قدره) أي ما عظموه حق عظمته وقيل مما وصفوه حق وصفه (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) قال سعيد بن جبير جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين \ ح \ وكان حبرا سمينا فغضب فقال والله مما أنزل التوراة على بشر من شيء وقال السدي نزلت في فنخاص بن عازوراء وهو قائل هذه المقالة وفي القصة أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه وقالوا أليس أن الله أنزل التوراة على مموسى فلم قلت ما أنزل الله على بشر من شيء قال فقال مالك بن الصيف أغضبني محمد فقلت ذلك فقالوا له وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق فنزعوه من الحبرية وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف وقال ابن عباس رضي الله عنهما قالت اليهود يا محمد أنزل الله عليك كتابا قال نعم قالوا والله ما أنزل الله من السماء كتابا فأنزل الله (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) قال الله تعالى (قل) لهم (من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس) يعني التوراة (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) أي تكتبون عنه دفاتر وكتبا مقطعة تبدونها أي تبدون ما تحبون وتخفون كثيرا من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (يجعلونه) (ويبدونها)
114

(ويخفونها) بالياء جميعا لقوله تعالى (ومما قدرو الله) وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) وقوله (وعلمتم ما لم تعلموا) الأكثرون على أنها خطاب لليهود يقول علمتم على لسان ممحمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا (أنتم ولا آباؤكم) قال الحسن جعل لهمم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به وقال مجاهد هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعممة فيما علمهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم (قل الله) هذا راجع إلى قوله (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) فإن أجابوك وإلا فقل أنت الله أي قل أنزله الله (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) سورة الأنعام (92) (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) أي القرآن كتاب مبارك أنزلناه (مصدق الذي بين يديه ولتنذر) يا محمد قرأ أبو بكر عن عاصم (ولينذر) بالياء أي ولينذر الكتاب (أم القرى) يعني مكة سميت أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل النسل وأراد أهل أم القرى (ومن حولها) أي أهل الأرض كلها شرقا وغربا (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به) بالكتاب (وهم على صلاتهم) يعني الصلواات الخمس (يحافظون) يداومون يعني المؤمنين سورة الأنعام (93) قوله عز وجل (وممن أظلم مممن افترى) اختلق (على الله كذبا) فزعم أن الله تعالى بعثه نبيا (أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) قال قتادة نزلت في مسيلمة الكذاب وكان يسجع ويتكهن فادعى النبوة وزعم أن الله أوحى إليه وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما أتشهدان أن مسيلمة نبي قالا نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم إذا أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا علي وأوهماني فأوحي إلي أن أنفخهما فنفختهما فذهب فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة \ ح \
115

أراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي وبصاحب اليمامة مسيلمة الكذاب (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) قيل نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان إذ أملى عليه سميعا بصيرا كتب عليما حكيما وإذا قال عليكما حكيما كتب غفورا رحيما فلما نزلت (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) أملاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم أكتبها فهكذا نزلت فشك عبد الله وقال لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إلي كما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع عبد الله إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وقال ابن عباس قوله (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) يريد المستهزئين وهو جواب لقولهم (لو نشا لقلنا مثل هذا) قوله عز وجل (ولو ترى) يا محمد (إذ الظالمون في غمرات الموت) سكراته وهي جمع غمرة كل شيء معظمة وأوصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ثمم وضعت في موضع الشدائد والمكاره (والملائكة باسطوا أيديهم) بالعذاب والضرب يضربون وجوههم وأدبارهم وقيل بقبض الأرواح (أخرجوا) أي يقولون أخرجوا (أنفسكم) أي أرواحكم كرها لأن نفس المؤمن تنشط للقاء ربه والجواب محذوف يعني لو تراهم في هذه الحال لرأيت عجبا (اليوم تجزون عذاب الهون) أي الهوان (بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتمم عن آياته تستكبرون) تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه سورة الأنعام (94) (ولقد جئتمونا فرادى) هذا خبر من الله أنه يقول للكفار يوم القيامة ولقد جئتمونا فرادى ووحدانا لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم وفرادى جمع فردان مثل سكران وسكارى وكسلان وكسالى وقرأ الأعرج فردى بغير
ألف مثل سكرى (كما خلقناكم أول مرة) عراة حفا غرلا (وتركتم) وخلفتم (ما خولناكم) أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم (وراء ظهوركم) في الدنيا (ومما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء) وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده (لقد تقطع بينكم) قرأ أهل المدينة والكسائي وحفص عن عاصم بنصب النون على معنى لقد تقطع ما بينكم من الوصل أو تقطع الأمر بينكم برفع النون أي لقد تقطع وصلكم وذلك مثل قوله (وتقطعت بهم الأسباب) أي الوصلات والبين من الأضداد يكون وصلا ويكون هجرا (وضل عنكم ما كنتم تزعمون)
116

سورة الأنعام (95) قوله عز وجل (إن الله فالق الحب والنوى) الفلق الشق قال الحسن وقتادة والسدي معناه يشق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة فيخرجها منها والحب جمع الحبة وهى اسم لجميع البذور والحبوب من البر والشعير والذرة وكل ما لم يكن له نوى وقال الزجاج يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منهما ورقا أخضر وقال مجاهد يعني الشقين اللذين فيهما أي يشق عن النبات ويخرجه منه ويشق النوى عن النخل ويخرجها منه والنوى جمع النواة وهى كل ما لم يكن له حب كالتمر والمشمش والخوخ ونحوها وقال الضحاك فالق الححب والنوى يعني خالق الحب والنوى (يخرج الحي من الميت ومخرج المبيت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون) تصرفون عن الحق سورة الأنعام (96) (فالق الإصباح) شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وكاشفه وقال الضحاك خالق النهار والإصباح مصدر كالإقبال والإدبار وهو الإضاءة وأراد به الصبح وهو أول ما يبدو من النهار يريد ومبدي الصبح وموضحه (وجعل الليل سكنا) يسكن فيه خلقه وقرأ أهل الكوفة (وجعل) على الماضي (الليل) نصب اتباعا للمصحف وقرأ إبراهيم النخعي (فلق الإصباح) (وجعل الليل سكنا (والشمس والقمر حسبانا) أي جعل الشمس والقمر بحساب معلوم لا يجاوز انه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما والحسبان مصدر كالحساب وقيل جمع حساب (ذلك تقدير العزيز العليم) سورة الأنعام (97) قوله عز وجل (وهو الذي جعل لكم النجوم) أي خلقها لكم (لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) والله تعالى خلق النجوم لفوائد أحدها هذا وهو أن راكب السفينة والسائر في القفار يهتدي بها في الليالي إلى مقاصده والثاني أنها زينة للسماء كمما قال (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) ومنها رمي الشيطان كما قال (وجعلناها رجوما للشياطين) (قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) سورة الأنعام (98) (وهو الذي أنشأكم) خلقكم وابتدأكم (من نفس واحدة) يعني آدم عليه السلام (فمستقر ومستودع) قرأ ابن كثير وأهل البصرة (فمستقر) بكسر القاف يعني
117

فمنكم مستقر ومنكم مستودع وقرأ الآخرون بفتح القاف أي فلكم مستقر ومستودع واختلفوا في المستقر والمستودع قال عبد الله بن مسعود فمستقر في ا لرحم إلى أن يولد ومستودع في القبر إلى إن يبعث وقال سعيد بن جبير وعطاء فمستقر في أرحام الأمهات ومستودع في أصلاب الآباء وهو رواية عكرمة عن ابن عباس قال سعيد بن جبير قال لي ابن عباس هل تزوجت قلت لا قال اما أنه ما كان مستودعا في ظهرك فسيخرجه الله عز وجل وروي عن أبي أنه قال مستقر في أصلاب الآباء ومستودع في أرحام الأمهات وقيل مستقر في الرحم ومستودع فوق الأرض قال الله تعالى (ونقر في الأرحام ما نشاء) وقال مجاهد مستقر على ظهر الأرض في الدنيا ومستودع عند الله في الآخرة ويدل عليه قوله تعالى (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) وقال الحسن المستقر في القبر والمستودع في الدنيا وكان يقول يا أبن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وقيل المستودع القبر والمستقر الجنة والنار لقوله عز وجل في صفة أهل الجنة والنار (حسنت مستقرا ومقاما) وفي صفة أهل النار (ساءت مستقرا ومقاما) (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) سورة الأنعام (99) (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به) أي بالماء (نبات كل شيء فأخرجنا منه) من الماء وقيل من النبات (خضرا) يعني اخضر ممثل العور والأعور يعني مما كان رطبا أخضر مما ينبت من القمح والشعير ونحوهما) ي (نخرج منه حبا متراكبا) أي متراكبا بعضه على بعض مثل سنابل البر والشعير والأرز وسائر الحبوب (ومن النخل من طلعها) والطلع أول ما يخرج من ثمر النخل (قنوان) جمع قنو وهو العذق مثل صنو وصنوان ولا نظير لهما في الكلام (دانية) أي قريبة المتناول ينالها القائم والقاعد وقال مجاهد متدلية وقال الضحاك قصار ملتزمة بالأرض وفيه اختصار معناه ومن النخل ما قنوانها دانية ومنها ما هي بعيدة فاكتفي بذكر القريبة عن البعيدة لسبقه إلى الأفهام كقوله تعالى (سرابي تقيكم الحر) يعني الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما (وجنات من أعناب) أي وأخرجنا منه جنات وقرأ الأعمش عن عاصم (وجنات) بالرفع نسقا على قوله (قنوان) وعامة القراء على خلافة (والزيتون والرمان) يعني وشجر الزيتون وشجر الرمان (مشتبها وغير متشابه) قال قتادة معناه مشتبها ورقها مختلفا ثمرها لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان وقيل مشتبه في المنظر مختلف في الطعم (انظروا إلى ثمره)
118

قرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم هذا وما بعد وفي يس على جمع الثمار وقرأ الآخرون بفتحهما على جمع الثمرة مثل بقرة وبقر (إذا أثمر وينعه) ونضجه وإدراكه 0 (إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) سورة الأنعام (100) قوله عز وجل (وجعلوا لله شركاء الجن) يعني الكافرين جعلوا لله شركاء الجن (وخلقهم) يعني وهو خلق الججن قال الكلبي نزلت في الزنادقة أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق فقالوا الله خالق النور والناس والدواب والأنعام وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب وهذا كقوله (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) وإبليس من الجن (وخرقوا) بتشديد الراء على التكثير وقرأ الآخرون بالتخفيف أي اختلفوا (له بنين وبنات بغير علم) وذلك مثل قول اليهود عزيز ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله وقول كفار مكة الملائكة بنات الله ثم نزه نفسه فقال (سبحانه وتعالى عما يصفون) سورة الأنعام (101) (بديع السماوات والأرض) أي مبدعهما لا على مثال سبق (أني يكون له ولد) أي كيف يكون له ولد (ولمم تكن له صاحبا) زوجة (وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) سورة الأنعام (102) (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه) فأطيعوه (وهو على كل شيء وكيل) بالحفظ له والتدبير (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) يتمسك أهل الاعتزال بظاهر هذه الآية في نفي رؤية الله عز وجل عيانا ومذهب أهل السنة إثبات رؤية الله عز وجل عيانا قال الله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) قال (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) قال مالك رضي الله عنه لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله الكفار بالحجاب وقرأ النبي
صلى الله عليه وسلم (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) وفسره بالنظر إلى وجه الله عز وجل أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا عاصم بن يوسف اليربوعي أنا أبو شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن حازم عن جرير بن عبد الله قال قال النبي صلى الله عليه وسلم أنكم سترون ربكم عيانا / ح /
119

سورة الأنعام (103) وأما قوله (لا تدركه الأبصار) علم أن الإدراك هو الوقوف لأن الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به والرؤية المعاينة وقد تكون الرؤية بلا إدراك قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون) قال كلا وقال (لا تخاف دركا ولا تخشى) فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية فالله عز وجل يجوز أن يرى من غير إدراك وإحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به قال الله تعالى (ولا يحيطون به علما) فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم قال سعيد بن المسيب لا تحيط به الأبصار وقال عطاء كلت أبصار المخلوقبن عن الإحاطة به وقال ابن عباس ومقاتل لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة قوله (وهو يدرك الأبصار) أي لا يخفى على الله شيء ولا يفوته (وهو اللطيف الخبير) قال ابن عباس رضي الله عنهما اللطيف بأوليائه الخبير بهم وقال الزهري معنى (اللطيف) الرفيق بعباده وقيل اللطيف الموصل الشيء باللين والرفق وقيل اللطيف الذي ينسى العباد ذنوبهم لئلا يخجلوا وأصل اللطف دقه النظر في الأشياء سورة الأنعام (104) قوله عز وجل (قد جاءكم بصائر من ربكم) يعني الحجج البينة التي تبصرون بها الهدى من الضلالة والحق من الباطل (فمن أبصر) أي فمن عرفها وآمن بها (فلنفسه) عمله ونفعه له (ومن عمي فعليها) أي من عمى عنها فلم يعرفها ولم يصدقها فعليها أي بنفسه ضر ووبال العمى عليه (وما أنا عليكم بحفيظ) برقيب أحصى عليكم أعمالكم إنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أفعالكم سورة الأنعام (105) (وكذلك نصرف الآيات) نفصلها ونبينها في كل وجه (وليقولوا) قيل معناه لئلا يقولوا (درست) وقيل اللام لام العاقبة أي عاقبة أمرهم أن يقولوا درست أي قرأت على غيرك وقيل قرأت كتب أهل الكتاب كقوله تعالى (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) ومعلوم أنهم لم يلتقطوه لذلك ولكن أراد ان عاقبة أمرهم أن كان عدوا لهم قال ابن عباس وليقولوا يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن درست أي تعلمت من يسار وجبر كانا عبدين ممن سبي الروم ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله من قولهم درست الكتاب درسا ودراسة وقال الفراء رحمه الله يقولون تعلمت من اليهود وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (دارست) بالألف بفتح السين وسكون التاء أي هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة قد درست وانمحت من قولهم درس الأثر يدرس دروسا (ولنبينه
120

لقوم يعلمون) أي القرآن وقيل نصرف الآيات لقوم يعلمون قال ابن عباس يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد وقيل يعني أن تصريف الآيات ليشفى بها قوم ويسعد بها قوم آخرون فمن قال درست فهو شقي ومن تبين له الحق فهو سعيد سورة الأنعام (106) (اتبع ما أوحي إليك من ربك) يعني القرآن اعمل به (لا إله هو وأعرض عن المشركين) فلا تجادلهم سورة الأنعام (107) (ولو شاء الله ما أشركوا) أي ولو شاء لجعلهم مؤمنين (وما جعلناك عليهم حفيظا) رقيبا قال عطاء وما جعلناك عليهم حفيظا تمنعهم مني أي لم تبعث لتحفظ المشركين من العذاب إنما بعثت مبلغا (وما أنت عليهم بوكيل سورة الأنعام (108) (ولا تسبوا الذين يدعون ممن دون الله) الآية ابن عباس لما نزلت (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) قال المشركون يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم وقال قتادة كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهاهم الله عز وجل عن ذلك لئلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة وقال السدى لما حضر ت أبا طالب الوفاة قالت قريش انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنه ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن أبي البختري إلى أبي طالب فقالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وأنا محمدا قد آدانا وآلهتنا فنحب أن تدعوه وتنهاه عن ذلك وعن ذكر آلهتنا ولندعنه وإلهه فدعه فقال يا محمد هؤلاء قومك يقولون نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك وقد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرأيتم أن أعطيتكم هذا هل أنتم معطى كلمة أن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم / ح / فقال أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قال فما هي قال قولوا لا إله إلا الله / ح / فأبوا أو تفرقوا فقال أبو طالب قل غيرها يا أبن أخي فقال يا عم أنا يالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي فقالوا له لتكفن عن سبك آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك فانزل الله عز وجل (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) يعني الأوثان (فيسبوا الله عدوا) أي
121

اعتداء وظلما (بغير علم) قرأ يعقوب (عدوا) بضم العين والدال وتشديد الواو فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه (لا تسبوا ربكم) فأمسك المسلمون عن سبب آلهتهم وظاهر الآية وإن كان نهيا عن سب الأصنام فحقيقته النهي عن سب الله تعالى لأنه سبب لذلك و (كذلك زينا لكل أمة عملهم) أي كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان كذلك زينا لكل أمة عملهم من الخير والشر والطاعة والمعصية (ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم) ويجازيهم بما كانوا يعملون سورة الأنعام (109) قوله عز وجل (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) الآية قال محمد بن كعب القرظي والكلبي قالت قريش يا محمد إنك تخبرنا أن موسى عليه السلام كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه الماء اثنتا عشرة عينا وتخبرنا أن عيسى عليه السلام كان يحي الموتى فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي شيء تحبون قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا بعض موتانا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل وأرنا الملائكة يشهدون لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقوني قالوا نعم والله لئن فعلت لنتبعك أجمعون وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الله أن يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبريل عليه السلام فقال له ما شئت إن شئت أصبح ذهبا ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يتوب تائبهم فأنزل الله عز وجل (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) أي حلفوا بالله
جهد أيمانهم أي بجهد أيمانهم يعني أؤكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها قال الكلبي وجاهد إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه (لئن جاءتهم آية) كما جاءت من قبلهم من الأمم (ليؤمنن بها قل) يا محمد (إنما الآيات عند الله) والله قادر على إنزالها (وما يشعركم) وما يدريكم واختلفوا في المخاطبين بقوله (وما يشعركم) فقال بعضهم الخطاب للمشركين الذين أقسموا وقال بعضهم الخطاب للمؤمنين وقوله تعالى (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر عن عاصم (إنها) بكسر الألف على الابتداء وقالوا ثم الكلام عند قوله (وما يشعركم) ثم من جعل الخطاب للمشركين قال معناه وما يشعركم أيها المشركون أنها لو جاءت آمنتم ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه وما يشعركم أيها المؤمنون أنها لو جاءت أمنوا لأن المسلمين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوا الله حتى يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم بقوله (وما يشعركم) ثم ابتدأ فقال جل ذكره (أنها جاءت لا يؤمنون) وهذا في قوم مخصوصين حكم الله
122

سورة الأنعام 110 111 عليهم بأنهم لا يؤمنون وقرأ الآخرون أنها بفتح الألف وجعلوا الخطاب للمؤمنين واختلفوا في قوله (لا يؤمنون) فقال الكسائي (لا) ومعنى الآية وما يشعركم أيها المؤمنون إذا جاءت أن المشركين يؤمنون كقوله (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) أي يرجعون وقيل أنها بمعنى لعل وكذلك هو في قراءة أبي تقول العرب اذهب إلى السوق أنك تشتري شيئا أي لعلك وقال عدي بن زيد أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد أي لعل منيتي وقيل فيه حذف وتقديره وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو لا يؤمنون وقرأ ابن عامر وحمزة (لا تؤمنون) بالتاء على الخطاب للكفار واعتبروا بقراءة أبي إذا جاءتكم لا تؤمنون وقرأ الآخرون بالياء على الخبر دليلها قراءة الأعممش أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون سورة الأنعام (110) (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) قال ابن عباس يعني ونحول بينهم وبين الإيمان فلو جئناهم بالآيات التي سألوا ما آمنوا بها كما لم يؤمنوا به أول مرة أي كما لم يؤمنوا بما قبلها مرة أي كما لم يؤمنوا بما قبلها من الآيات من انشقاق القمر وغيره وقيل كما لم يؤمنوا به أول مرة يعني معجزات موسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل) وفي الآية محذوف تقديره فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس المرة الأولى دار الدنيا يعني لوردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهمم وأبصارهم عن الإيمان كما لم يؤمنوا في الدنيا قبل مماتهم كما قال (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) قال عطاء نخذلهم وندعهم في ضلالتهم يتمادون سورة الأنعام (111) (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) فرأوهم عيانا (وكلمهم الموتى) بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا (وحشرنا) وجمعنا (عليهم كل شيء قبلا) قرأ أهل المدينة وابن عامر (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء أي معاينة وقرأ الآخرون بضم القاف والباء قيل هو جميع قبيل وهو الكفيل مثل رغيف ورغف وقضيب وقضب أي ضمناء وكفلاء وقيل هو جمع قبيل وهو القبيلة أي فوجا وقيل هو بمعنى المقابلة والمواجهة من قولهم أتيتك قبلا لا دبرا إذا أتاه من قبل وجه (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) ذلك (ولكن أكثرهم يجهلون)
123

سورة الأنعام 112 113 (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا) أي أعداء فيه تعزية للنبي يعني كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك أعداء ثم فسرهم فقال (شياطين الإنس والجن) قال عكرمة والضحاك والسدي والكلبي معناه شياطين الإنس التي مع الإنس وشياطين الجن التي مع الجن وليس للإنس شياطين وذلك أن إبليس جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الإنس وفريقا منهم إلى الجن وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأوليائه وهم يلتقون في كل حين فيقول شيطان الإنس لشيطان الجن أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله ويقول شياطين الجن لشياطين الإنس كذلك فذلك وحي بعضهم إلى بعض قال قتادة ومجاهد والحسن إن من الإنس شياطين كما أن من الجن شياطين والشيكان العاتي المتمرد من كل شئ قالوا إن الشيطان إذا أعياه المؤمن وعجز من إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه يدل عليه ما روي عن أبي ذر قال قال رسول الله عليه وسلم هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس فقلت يا رسول الله وهل للإنس من شياطين قال نعم هم شر من شياطين الجن وقال مالك بن دينار إن شياطين الإنس أشد على من شياطين الجن وذلك أني تعوذت بالله ذهب عني شياطين الجن وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا قوله تعالى (يوحي بعضهم إلى بعض) أي يلقي (زخرف القول) وهو قول مموه مزين مزخرف بالباطل لا معنى تحته (غرورا) يعني لهؤلاء الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم ويغرونهم غرورا والغرور القول الباطل ولو شاء ربك ما يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم ويغرونهم غرورا والغرور القول الباطل (ولو شاء ربك ما فعلوه) أي ما ألقوه من الوسوسة في القلوب (فذرهم وما يفترون) سورة الأنعام (113) (ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) أي تميل إليه والصغو الميل يقال صغو فلان معك أي ميله والفعل منه صغى يصغى صغا وصغى يصغى ويصغو صغو أو الهاء راجعه إلى زخرف القول (وليرضوه وليقترفوا) ليكتسبوا (ما هم مقترفون) يقال اقترف فلان مالا إذا اكتسبه وقال تعالى (ومن يقترف حسنة) وقال الزجاج أي ليعملوا من الذنوب ما هم عاملون
124

سورة الأنعام (114) قوله عز وجل (أفغير الله) فيه اضمار أي قل لهم يا محمد أفغير الله (أبتغي) أطلب (حكما) قاضيا بيني وبينكم وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أجعل بيننا وبينك حكما فأجابهم به (وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) مبين فيه أمره ونهيه يعني القرآن وقيل مفصلا أي خمسا خمسا وعشرا وعشرا كما قال (لنثبت به فؤادك) (والذين آتيانهم الكتاب) يعني علماء اليهود والنصارى الذين آتيناهم التوراة والإنجيل وقيل هم مؤمنوا أهل الكتاب وقال عطاء هم رؤس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمراد من الكتاب هو القرآن (يعلمون أنه منزل) يعني القرآن قرأ ابن عامر وحفص (منزل) بالتشديد من التنزيل لأنه أنزل نجوما متفرقة وقرأ الآخرون بالتخفيف من الإنزال لقوله تعالى (وهو الذي أنزل إليكم الكتاب) (من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين) من الشاكين أنهم يعلمون ذلك سورة الأنعام (115) قوله عز وجل (وتمت كلمة ربك) قرأ أهل الكوفة ويعقوب (كلمة) على التوحيد وقرأ الآخرون (كلمات) بالجمع وأراد بالكلمات أمره ونهيه ووعده ووعيده (صدقا وعدلا) أي صدقا في الوعد والوعيد وعدلا في الأمر والنهي قال قتادة ومقاتل صادقا فيما وعد وعدلا فيما حكم (لا مبدل لكلماته) قال ابن عباس
لا راد لقضائه ولا مغير لحكمه ولا خلف لوعده (وهو السميع العليم) قيل أراد بالكلمات القرآن لا مبدل له يريد لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون سورة الأنعام (116) (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) عن دين الله وذلك أن أكثر أهل الأرض كانوا على الضلالة وقيل أراد أنهم جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أكل الميتة وقالوا أتأكلون ما تقتلون ولا تأكلون ما قتله الله عز وجل فقال وإن تطع أكثر من في الأرض أي وإن تطعهم في أكل الميتة يضلوك عن سبيل الله (إن يتبعون إلا الظن) يريد أن دينهم الذي هم عليه ظن وهوى لم يأخذوه عن بصيرة (وإن هم إلا يخرصون) يكذبون سورة الأنعام (117) (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله) قيل موضع من نصب بنزع حرف الصفة أي بمن يضل وقال الزجاج موضعه رفع بالابتداء ولفظها الاستفهام والمعنى إن ربك هو أعلم أي
125

سورة الأنعام (118 120) الناس من يضل عن سبيله (وهو أعلم بالمهتدين) أخبر أنه أعلم بالفريقين الضالين والمهتدين فيجازى كلا بما يستحقون سورة الأنعام (118) قوله تعالى (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) أي كلوا مما ذبح على اسم الله إن (كنتم بآياته مؤمنين) وذلك أنهم كانوا يحرمون أصنافا من النعم ويحلون الأموات فقيل لهم أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله سورة الأنعام (119) ثم قال (ومالكم) يعني أي شئ لكم (ألا تأكلوا) وما يمنعكم من أن تأكلوا (مما ذكر اسم الله عليه) من الذبائح (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) قرأ أهل المدينة ويعقوب وحفص (فصل) و (حرم) بالفتح فيهما أي فصل الله ما حرمه عليكم لقوله (اسم الله) وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو عمرو بضم الفاء والحاء وكسر الصاد والراء على غير تسمية الفاعل لقوله (ذكر) وقرأ حمزة الكسائي وأبو بكر (فصل) بالفتح (حرم) بالضم وأراد بتفصيل المحرمات ما ذكرت في قوله تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم) (إلا ما اضطررتم إليه) من هذه الأشياء فإنه حلال لكم عند الاضطرار (وإن كثيرا ليضلون) قرأ أهل الكوفة بضم الياء وكذلك قوله (ليضلوا) في سورة يونس لقوله تعالى (يضلوك عن سبيل الله) وقيل أراد به عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين الذين اتخذوا البحائر والسوائب وقرأ الآخرون بالفتح لقوله (من يضل) (بأهوائهم بغير علم) حين امتنعوا من أكل ما ذكر اسم الله عليه ودعوا إلى أكل الميتة (إن ربك هو أعلم بالمعدين) الذين يجاوزون الحلال إلى الحرام سورة الأنعام (120) (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) يعني الذنوب كلها لأنها لا تخلو من هذين الوجهين قال قتادة علانيته وسره وقال مجاهد ظاهره ما يعمله الإنسان بالجوارح من الذنوب وباطنه ما ينويه ويقصده بقلبه كالمصر على الذنب القاصد له قال الكلبي ظاهره الزنا وباطنه المخالفة وأكثر المفسرين على أن ظاهر الإثم الإعلان بالزنا وهم أصحاب الروايات وباطنه الاستسرار به وذلك أن العرب كانوا يحبون الزنا وكان الشريف منهم يتشرف فيسره وغير الشريف لا يبالي به فيظهره فحرمها الله عز وجل وقال سعيد بن جبير ظاهر الإثم نكاح المحارم وباطنه الزنا وقال ابن زيد إن ظاهر الإثم التجرد من الثياب
126

والتعري في الطواف والباطن الزنا وروى حيان عن الكلبي ظاهر الإثم طواف الرجال بالبيت نهارا عراة وباطنه طواف النساء بالليل عراة (إن الذين يكسبون الإثم سيجزون) في الآخرة (بما كانوا يقترفون) يكتسبون في الدنيا سورة الأنعام (121 122) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله عز وجل (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) قال ابن عباس رضي الله عنهما الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها وقال عطاء الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها فذهب قوم إلى تحريمها سواء ترك التسمية عامدا وناسيا وهو قول ابن سيرين والشعبي واحتجوا بظاهر هذه الآية وذهب قوم إلى تحليلها يروي ذلك عن ابن عباس وهو قول مالك والشافعي وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين وذهب قوم إلى أنه ترك التسمية عامدا لا يحل وإن تركها ناسيا يحل حكى الخرقي من أصحاب أحمد أن هذا مذهبه وهو قول الثوري وأصحاب الرأي من أباحها قال المراد من الآية الميتات وما ذبح على اسم غير الله بدليل أنه قال (وأنه لفسق) والفسق في ذكر اسم غير الله كما قال في آخر السورة (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم) إلى قوله (أو فسقا أهل لغير الله به) واحتج من أباحها بما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا أبو خالد الأحمر قال سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة رضي الله قالت إن قوما قالوا يا رسول الله إن هنا أقواما حديثا عهدهم بشرك يأتون بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا قال اذكروا أنتم اسم الله وكلوا ولو كانت التسمية شرطا للإباحة لكان الشك في وجودها مانعا من أكلها كالشك في أصل الذبح قوله (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) أراد أن الشياطين ليوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم وذلك أن المشركين قالوا يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها فقال الله قتلها قالوا افتزعم أن ما قتلت أنت أصحابك حلال وما قتله الكلب والصقر والفهد حلال وما قتله الله حرام فأنزل الله هذه الآية (وإن أطعتموهم) في أكل الميتة (إنكم لمشركون) قال الزجاج وفيه دليل على أن من أحل شيئا مما حرم الله أو حرم ما أحل الله فهو مشرك قوله (أو من كان ميتا فأحييناه) قرأ نافع (ميتا) و (لحم أخيه ميتا) و (الأرض الميتة أحييناها)
127

بالتشديد فيهن وقرأ الآخرون بالتخفيف (فأحييناه) أي كان ضالا فهديناه كان ميتا بالكفر فأحييناه بالإيمان (وجعلنا له نورا) يستضيء به (ويمشي به في الناس) على قصد السبيل قيل النور هو الإسلام لقوله تعالى (يخرجهم من الظلمات إلى النور) وقال قتادة هو كتاب الله بينة من الله مع المؤمن بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي (كمن مثله في الظلمات) المثل صلة أي كمن هو في الظلمات (ليس بخارج منها) يعني من ظلمة الكفر قيل نزلت هذه الآية في رجلين بأعيانهما ثم اختلفوا فيهما قال ابن عباس جعلنا له نورا يريد حمزة بن عبد المطلب كمن مثله في الظلمات يريد أبا جهل بن هشام وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فأقبل غضبان حتى رمى أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا فقال حمزة ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشد أن محمدا عبده ورسوله فأنزل الله هذه الآية وقال الضحاك نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل وقال عكرمة والكلبي نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) من الكفر والمعصية قال
ابن عباس يريد زين لهم الشيطان عبادة الأصنام سورة الأنعام (123 124) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله عز وجل (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) أي كما أن فساق مكة أكابرها كذلك جعلنا فساق كل قرية أكابرها أي عظماءها جمع أكبر مثل أفضل وأفاضل وأسود وأساود وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية اتباع الرسل ضعفاءهم كما قال في قصة نوح عليه السلام (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) وجعل فساقهم أكابرهم (ليمكروا فيها) وذلك أنه أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يقولون لكل من يقدم إياك وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب (وما يمكرون إلا بأنفسهم) لأن وبال مكرهم يعود عليه (وما يشعرون) أنه كذلك قوله تعالى (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله) يعني مثل ما أوتي رسل الله من النبوة وذلك أن الوليد بن المغيرة قال لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال مقاتل نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إنا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن به ولا
128

نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فأنزل الله عز وجل (وإذا جاءتهم آية) حجة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم قالوا يعني أبا جهل (لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ثم قال الله تعالى (الله أعلم حيث يجعل رسالته) قرأ ابن كثير وحفص رسالته على التوحيد وقرأ الآخرون رسالاته بالجمع يعني الله أعلم بمن هو أحق بالرسالة (سيصيب الذين أجرموا صغار) ذلك وهوان (عند الله) أي من عند الله (وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) قيل صغار في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة قوله عز وجل (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) أي يفتح قلبه وبنوره حتى يقبل الإسلام ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر قال نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسخ قيل فهل لذلك أمارة قال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت قوله تعالى (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا) قرأ ابن كثير (ضيقا) خفيف ههنا وفي الفرقان والباقون بالتشديد وهما لغتان مثل هين وهين ولين ولين (حرجا) قرأ أهل المدينة وأبو بكر بكسر الراء والباقون بفتحها وهما لغتان أيضا مثل الدنف والدنف المصدر كالطلب ومعناه ذا حرج وبالكسر الاسم وهو أشد الضيق يعني يجعل قلبه ضيقا حتى لا يدخله الإيمان وقال الكلبي ليس للخير فيه منفذ قال ابن عباس إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإذا ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية فسأل أعرابيا من كنانة ما الحرجة فيكم قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء فقال عمر رضي الله عنه كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير (كأنما يصعد في السماء) وقرأ ابن كثير (ويصعد) بالتخفيف وسكون الصاد والعين أي يتصعد يعني يشق عليه الإيمان كما يشق عليه صعود السماء وأصل الصعود المشقة ومنه قوله تعالى (سأرهقه صعودا) أي عقبة شاقة (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) قال ابن عباس الرجس هو الشيطان أي يسلط عليه وقال الكلبي هو المأتم وقال
129

مجاهد الرجس ما لا خير فيه وقال عطاء الرجس العذاب مثل الرجس وقيل هو النجس روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الرجس والنجس وقال الزجاج الرجس اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة سورة الأنعام (126 128) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله عز وجل (وهذا صراط ربك مستقيما) أي هذا الذي بينا وقيل هذا الذي أنت عليه يا محمد طريق ربك ودينه الذي ارتضاه لنفسه مستقيما لا عوج فيه وهو الاسلام (قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) (لهم دار السلام عند ربهم) يعني الجنة قال أكثر المفسرين السلام هو الله وداره الجنة وقيل السلام هو السلامة أي لهم دار السلامة من الآفات وهي الجنة وسميت دار السلام لأن كل من دخلها سلم من البلايا والرزايا وقيل سميت بذلك لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلام فقال في الابتداء (ادخلوها بسلام آمنين) (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) وقال (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) وقال (تحيتهم فيها سلام) (سلام قولا من رب رحيم) (وهو وليهم بما كانوا يعملون) قال الحسين بن الفضل يتولاهم في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء قوله عز وجل (ويوم يحشرهم) قرأ حفص (يحشرهم) بالياء (جميعا) يعني الجن والإنس يجمعهم في موقف القيامة فيقول (يا معشر الجن) والمراد بالجن الشياطين (قد استكثررتم من الإنس) أي استكبرتم من الإنس بالإضلال والإغواء أي أضللتم كثيرا (وقال أولياؤهم من الإنس) يعني أولياء الشياطين الذي أطاعوهم من الإنس (ربنا استمتع بعضنا ببعض) قال الكلبي استمتاع الإنس بالجن هو أن الرجل إذا كان سافر ونزل بأرض قفر وخاف على نفسه من الجن قال أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فيبيت في جوارهم وأما استمتاع الجن بالإنس هو أنهم قالوا قد سدنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في قومهم وعظما في
130

أنفسهم وهذا كقوله تعالى (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) وقيل استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها حتى يسهل فعلها عليهم واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي قال محمد بن كعب هو طاعة بعضهم بعضا وموافقة بعضهم لبعض (وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) يعني القيامة والبعث (قال) الله تعالى (النار مثواكم) مقامكم (خالدين فيها إلا ما شاء الله) اختلفوا في هذا الاستثناء كما اختلفوا في قوله (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض غلا ما شاء ربك) قيل أراد إلا قدر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم يعني خالدون في النار إلا هذا المقدار وقيل الاستثناء يرجع إلى العذاب وهو قوله (النار مثواكم) أي خالدين في النار سوى ما شاء الله من أنواع العذاب وقال ابن عباس الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله أنهم يسلمون فيخرجون من النار و (ما) بمعنى (من) على هذا التأويل (أن ربك حكيم عليهم) قيل حكيم بمن استثنى عليهم بما في قلوبهم من البر والتقوى (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) قيل أي كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض نولي بعض الظالمين بعضا أي نسلط بعض الظالمين على بعض فنأخذ من الظالم بالظالم كما جاء (من أعان ظالما سلطه الله عليه) وقال قتادة نجعل بعضهم أولياء بعض فالمؤمن ولي المؤمن أين كان والكافر ولي الكافر حيث كان وروى معمر عن قتادة نتبع بعضهم بعضا في النار من الموالاة وقيل معناه نولي ظلمة الإنس ظلمة الجن ونولي ظلمة الجن
ظلمة الإنس أي نكل بعضهم إلى بعض كقوله تعالى (نوله ما تولى) وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها هو أن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم قوله عز وجل (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) واختلفوا في أن الجن هل أرسل إليهم منهم رسول فسئل الضحاك عنه فقال بلى ألم تسمع الله يقول (ألم يأتكم رسل منكم) يعني بذلك رسلا من الإنس ورسلا من الجن قال الكلبي كانت الرسل من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الجن والإنس جميعا ومحمد الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث إلى الجن والإنس كافة قال مجاهد الرسل من الإنس والنذر من الجن ثم قرأ (ولوا إبلي قومهم منذرين) وهم قوم يسمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما
131

سمعوا وليس للجن رسل فعلى هذا قوله رسل منكم ينصرف إلى أحد الصنفين وهم الإنس كما قال (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإنما يخرج من الملح دون العذب وقال (وجعل القمر فيهن نورا) وإنما هو في سماء واحدة (يقصون عليكم) أي يقرؤن عليكم (آياتي) كتبي (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) وهو يوم القيامة (قالوا شهدنا على أنفسنا) أنهم قد بلغوا قال مقاتل وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله عز وجل (وغرتهم الحياة الدنيا) حتى لم يؤمنوا (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) سورة الأنعام (131 134) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم) أي ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وعذاب من كذبهم لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم أي لم يكن يهلكهم بظلم أي بشرك من أشرك (وأهلها غافلون) لم ينذروا حتى يبعث إليهم رسلا وينذرونهم وقال الكلبي لم يهلكهم بذنوبهم من قبل أن يأتيهم الرسل وقيل معناه لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل فيكون قد ظلمهم وذلك أن الله تعالى أجرى السنة أن لا يأخذ أحدا إلا بعد وجود الذنب وإنما يكون مذنبا إذا أمر فلم يأتمر أو نهي فلم ينته وذلك يكون بعد إنذار الرسل (ولكل درجات مما عملوا) يعني في الثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا فمنهم من هو أشد عذابا ومنهم من هو أجزل ثوابا (وما ربك فغافل عما يعملون) قرأ ابن عامر تعملون بالتاء والباقون بالياء (وربك الغني) عن خلقه (ذو الرحمة) قال ابن عباس بأوليائه وأهل طاعته وقال الكلبي بخلقه ذو التجاوز (أن يشأ يذهبكم) يهلككم وعيد لأهل مكة (ويستخلف) ويخلف وينشئ (من بعدكم ما يشاء) خلقا غيركم أمثل وأطوع (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) أي من نسل آبائهم الماضين قرنا بعد قرن (إن ما توعدون) أي ما توعدون من مجيء الساعة والحشر (لآيات) كائن (وما أنتم بمعجزين) أي بفائتين يعني يدرككم الموت حيث ما كنتم (قل) يا محمد (يا قوم اعملوا على مكانتكم) قرأ أبو بكر عن عاصم (مكاناتكم) بالجمع حيث
132

كان أي على تمكنكم قال عطاء على حالاتكم التي أنتم عليها قال الزجاج اعملوا على ما أنتم عليه يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة على مكانتك يا فلان أي أثبت على ما أنت عليه وهذا أمر وعيد عن المبالغة يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم اعملوا على ما أنتم عاملون (إني عامل) ما أمرني به ربي عز وجل (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) أي الجنة قرأ حمزة والكسائي يكون بالياء هنا وفي القصص وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث العاقبة (أنه لا يفلح الظالمون) قال ابن عباس معناه لا يسعد من كفر بي وأشرك قال الضحاك لا يفوز سورة الأنعام (135 137) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله عز وجل (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) الآية كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيبا وللأوثان نصيبا فما جعلوه لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين وما جعلوه للأصنام وخدمها فإن سقط شيء مما جعلوه لله تعالى في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن الله غني عن هذا وإن سقط شيء من نصيب الأصنام فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان وقالوا إنها محتاجة وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوا للأصنام جبروه بما جعلوه لله فذلك قوله تعالى (وجعلوا لله مما ذرأ من) خلق (الحرث والأنعام نصيبا) وفيه اختصار مجازه وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا (فقالوا هذا لله بزعمهم) قرأ الكسائي (بزعمهم) بضم الزاي والباقون بفتحها وهما لغتان وهو القول من غير حقيقة (وهذا لشركائنا) يعني الأوثان (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) ومعناه ما قلنا أنهم كانوا يتمون ما جعلوا للأوثان مما جعلوه لله ولا يتمون ما جعلوه لله مما جعلوه للأوثان وقال قتادة كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جزءوا لله وأكلوا منه فوفروا ما جزؤ لشركائهم ولم يأكلوا منه (ساء ما يحكمون) أي بئس ما يقضون (وكذلك زين لكثير من المشركين) أي كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين لكثير من المشركين (قتل أولادهم شركاؤهم) قال مجاهد شركاؤهم أي شياطينهم زينوا أو حسنوا لهم وأد البنات خيفة الغيلة سميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله وأضيف الشركاء إليهم
133

لأنهم اتخذوها وقال الكلبي شركاؤهم سدنة آلهتهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل الأولاد وكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله وقرأ ابن عامر (زين) بضم الزاي وكسر الياء (قتل) رفع (أولادهم) نصب (شركائهم) بالخفض على التقديم كأنه قال زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم فصل بين الفعل وفاعله بالمفعول به وهو الأولاد كما قال الشاعر فزججته متمكنا زج القلوص أبي مزاده أي زج أبي مزاده القلوص فأضيف الفعل وهو القتل إلى الشركاء وإن لم يتولوا ذلك لأنهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه فكأنهم فعلوه قوله عز وجل (ليردوهم) ليهلكوهم (وليلبسوا عليهم) ليخلطوا عليهم (دينهم) قال ابن عباس ليدخلوا عليهم الشك في دينهم وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشيطان (ولو شاء الله ما فعلوه) أي لو شاء الله لعصمهم حتى ما فعلوا من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد (فذرهم) يا محمد (وما يفترون) يختلقون من الكذب فإن الله تعالى لهم بالمرصاد سورة الأنعام (138 139) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (وقالوا) يعني المشركين (هذه أنعام وحرث حجر) أي حرام يعني ما جعلوا لله ولآلهتهم من الحرث والأنعام على ما مضى ذكره وقال مجاهد يعني بالأنعام البحيرة والسائبة الوصيلة والحام (لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم) يعنون الرجال دون النساء (وأنعام حرمت ظهورها) يعني الحوامي كانوا لا يركبونها (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) أي يذبحونها باسم الأصنام لا باسم الله وقال أبو وائل معناه لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل الخير لأنه لما جرت العادة بذكر اسم الله
على فعل الخير عبر بذكر الله تعالى عن فعل الخير (افتراء عليه) يعني أنهم يفعلون ذلك ويزعمون أن الله أمرهم به افتراء (سيجزيهم بما كانوا يفترون) (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) أي نسائنا قال ابن عباس وقتادة والشعبي أراد أجنة البحائر والسوائب فما ولد منها حيا فهو خالص للرجال دون النساء وما ولد ميتا أكله الرجال والنساء جميعا وأدخل الهاء في (الخالصة) للتأكيد كالخالصة والعامة كقولهم نسابة وعلامة وقال الفراء رحمه الله أدخلت الهاء لتأنيثها وقال الكسائي خالص وخالصة واحد مثل
134

وعظ وموعظة (وإن لم يكن ميتة) قرأ ابن عامر وأبو جعفر (تكن) بالتاء (ميتة) رفع ذكر الفعل بعلامة التأنيث لأن الميتة في اللفظ مؤنثة وقرأ أبو بكر عن عاصم (تكن) بالتاء (ميتة) رفع لأن المراد بالميتة الميت أي وإن يقع ما في البطون ميتا وقرأ الآخرون (وإن يكن) بالياء (ميتة) نصب رده إلى (ما) أي وإن يكن ما في البطون ميتة يدل عليه أنه قال (فهم فيه شركاء) ولم يقل فيها وأراد أن الرجال والنساء فيه شركاء (سيجزيهم وصفهم) أي بوصفهم أو على وصفهم الكذب على الله (إنه حكيم عليهم) سورة الأنعام (140 141) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (قد خسر الذين قتلوا أولادهم) قرأ ابن عامر وابن كثير (قتلوا) بتشديد التاء على التكثير وقرأ الآخرون بالتخفيف (سفها) جهلا (بغير علم) نزلت في ربيعة ومضر وبعض من العرب من غيرهم كانوا يدفنون البنات أحياء مخافة السبي والفقر وكان بنو كنانة لا يفعلون ذلك (وحرموا ما رزقهم الله) يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام (افتراء على الله) حيث قالوا إن الله أمرهم بها (قد ضلوا وما كانوا مهتدين) قوله تعالى (وهو الذي أنشأ جنات) بساتين (معروشات وغير معروشات) أي مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات وقال ابن عباس معروشات ما انبسط على وجه الأرض فانتشر مما يعرش مثل الكرم والقرع والبطيخ وغيرها وغير معروشات ما قام على ساق ونسق مثل النخل والزرع وسائر الأشجار وقال الضحاك كلاهما من الكرم خاصة منها ما عرش ومنها ما لم يعرش (والنخل والزرع) أي وأنشأ النخل والزرع (مختلفا أكله) ثمره وطعمه منها الحلو والحامض والجيد والرديء (والزيتون والرمان متشابها) في النظر (وغير متشابه) في المطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف (كلوا من ثمره إذ أثمر) (وآتوا حقه يوم حصاده) قرأ أهل البصرة وابن عامر وعاصم (حصاده) بفتح الحاء وقرأ الآخرون بكسرها ومعناهما واحد كالصرام والصرام والجذار والجذار واختلفوا في هذا الحق فقال ابن عباس وطاوس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب إنها الزكاة المفروضة من العشر ونصف العشر وقال علي بن الحسين وعطاء ومجاهد وحماد
135

والحكم حق في المال سوى الزكاة أمر بإتيانه لأن الآية مكية وفرضت الزكاة بالمدينة قال إبراهيم هو الضغث وقال الربيع لقاط السنبل وقال مجاهد كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه من مر وقال يزيد بن الأصم كان أهل المدينة إذا أصرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد فيجيء المسكين يضربه بعصاه فيسقط منه فيأخذه وقال سعيد بن جبير كان هذا حقا بإتيانه في ابتداء الإسلام منسوخا بإيجاب العشر قال مقسم عن ابن عباس نسخت الزكاة كل نفقة في القرآن (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) وقيل أراد بالإسراف إعطاء الكل قال ابن عباس في رواية الكلبي عمد ثابت بن قيس بن شماس فصرم خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية قال السدي لا تسرفوا أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء قال الزجاج على هذا إذا أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف لأنه جاء في الخبر بمن تعول ابدأ وقال سعيد بن المسيب معناه لا تمنعوا الصدقة فتأويل هذه الآية على هذا لا تتجاوز الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدفة وقال مقاتل لا تشركوا الإصنام في الحرث والأنعام وقال الزهري لا تنفقوا في المعصية وقال مجاهد لإسراف ما قصرت به عن حق الله عز وجل وقال لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فانفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا وقال إياس بن معاوية ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف وروى ابن وهب عن أبي زيد قال الخطاب للسلاطين يقول لا تأخذوا فوق حقكم سورة الأنعام (142 143) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله عز وجل (ومن الأنعام) أي وأنشأ من الأنعام (حمولة) وهي كل ما يحمل عليها من الإبل (وفرشا) وهي الصغار من الإبل التي لا تحمل (كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان) لا تسلكوا طريقة آثاره في تحريم الحرث والأنعام (أنه لكم عدو مبين) ثم بين الحمولة والفرش فقال (ثمانية أزواج) نصبها على البدل من الحمولة والفرش أي وأنشأ من الأنعام ثمانية أزواج أصناف (من الضأن اثنين) أي الذكر والأنثى فالذكر زوج والأنثى زوج والعرب تسمي الواحد زوجا إذا كان لا ينفك عن الآخر والضأن النعاج وهي ذوات الصوف من الغنم والواحد ضأن
136

والأنثى ضائنة والجمع ضوائن (ومن المعز اثنين) قرأ ابن كثير وابن عامر وأهل البصرة (من المعز) بفتح العين والباقون بسكونها والمعز والمعزى جمع لا واحد له من لفظه وهي ذوات الشعر من الغنم وجمع الماعز معزى وجميع الماعز مواعز (قل) يا محمد (ءآلذكرين حرم) الله عليكم يعني ذكر الضان والمعز (أم الأنثيين) يعني أنثى الضان والمعز (أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) منها فإنها لا تشتمل إلا على ذكر وأنثى (نبئوني) أخبروني (بعلم) قال الزجاج فسروا ما حرمتم بعلم (إن كنتم صادقين) إن الله تعالى حرم هذا سورة الأنعام (144 145) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرام أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) وذلك أنهم كانوا يقولون هذه أنعام وحرث حجر وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرمة على أزواجنا وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كانوا يحرمون بعضها على الرجال والنساء وبعضها على النساء دون الرجال فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وكان خطيبهم مالك بن عوف أبو الأحوض الجشمي قالوا يا محمد بلغنا أنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم قد حرمتم أصنافا من الغنم على غير أصل إنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين جاء هذا التحريم من قبل الذكر أم من قبل الإنثى فسكت مالك بن عوف وتحير فلم يتكلم فلو قال جاء هذا التحريم بسبب الذكور وجب أن يحرم جميع الذكور وإن كان بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث وإن كان باشتمال الرحم عليه فينبغي أن يحرم الكل لأن الرحم لا يشتمل إلا على ذكر أو أنثى فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس والسابع أو البعض دون البعض فمن أين ويروى أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لمالك يا ما لك لا تتكلم قال له مالك بل تكلم واسمع منك (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم) قيل أراد عمرو بن لحي ومن جاء بعده على طريقته (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) ثم بين أن التحريم والتحليل يكون بالوحي والتنزيل فقال (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) أي شيئا محرما وروي أنهم قالوا فما المحرم إذا فنزل
137

(قل) يا محمد (لا أجد فيما أوحي إلي محرما) (على طاعم يطعمه) آكل يأكله (إلا أن يكون ميتة) قرأ بن عامر وأبو جعفر (تكون) بالياء (ميتة) رفع أي إلا أن تقع ميتة وقرأ ابن كثير وحمزة (تكون) بالياء (ميتة) نصب على تقدير اسم مؤنث أي إلا أن تكون النفس أي الجثة ميتة وقرأ الباقون بالياء (ميتة) نصب يعني إلا أن يكون المطعوم ميتة (أو دما مسفوحا) أي مهراقا سائلا قال ابن عباس يريد ما خرج من الحيوان وهن أحياء وما يخرج من الأوداج عند الذبح ولا يدخل في الكبد والطحال لأنهما جامدان وقد جاء الشرع بإباحتهما ولا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل قال عمران بن جرير سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم وعن القدر يرى فيها حمرة الدم فقال لا بأس به إنما نهى عن الدم المسفوح وقال إبراهيم لا بأس بالدم في عرق أو مخ إلا المسفوح الذي يعمد ذلك وقال عكرمة لولا هذه الآية لاتبع المسلمون من العروق ما يتبع اليهود (أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به) وهو ما ذبح على غير اسم الله تعالى فذهب بعض أهل العلم إلى أن التحريم مقصور على هذه الأشياء ويورى ذلك عن عائشة وابن عباس قالوا ويدخل في الميتة المنخنقة والموقوذة وما ذكر في أول سورة المائدة وأكثر العلماء على أن التحريم لا يختص بهذه الأشياء بل المحرم بنص الكتاب ما ذكر هنا ذلك معنى قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحي غلي محرما) وقد حرمت السنة أشياء يجب القول بها منها ما أخبرنا غسماعيل بن عبد القاهر ثنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج قال ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري أخبرنا أبي أنا شعبة عن الحكم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير أخبرنا أبو الحسن السرخسي ثنا زاهر بن أحمد ثنا أبو إسحق الهاشمي ثنا أبو مصعب عن مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أكل كل ذي ناب من السباع حرام والأصل عند الشافعي أن ما لم يرد فيه نص تحريم أو تحليل فإن كان مما أمر الشرع بقتله كما قال خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم أو نهي عن قتله كما روي عن قتله كما روي أنه نهى عن قطع النخلة وقتل النملة فهو حرام وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادات العرب فما يأكله الأغلب منهم حلال وما لا يأكله الأغلب منهم فهو حرام لأن الله تعالى خاطبهم بقوله (قل أحل لكم الطيبات) فثبت أن ما استطابوه فهو حلال (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) أباح الله أكل هذه المحرمات عند الاضطرار في غير العدوان سورة الأنعام (146) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله عز وجل (وعلى الذين هادوا حرمنا) يعني اليهود (كل ذي ظفر) وهو ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير مثل البعير والنعامة والإوز والبط قال القتيبي هو كل ذي مخلب من الطير وكل
138

ذي حافر من الدواب وحكاه عن بعض المفسرين سمى الحافر ظفرا على الاستعارة (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) يعني شحوم الجوف وهي الثروب وشحم الكليتين (إلا ما حملت ظهورهما) أي إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما (أو الحوايا) وهي المباعر واحدتها حاوية وحوية أي ما حملته الحوايا من الشحم (أو ما اختلط بعظم) يعني شحم الإلية هذا كله داخل في الاستثناء والتحريم مختص بالثراب وشحم الكلية أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا قتيبة أنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة أن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستضئ بها الناس فقال لا هو حرام ثم قال رسول الله عند ذلك قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم شحومهما جملوه باعوه فأكلوا ثمنه (ذلك جزيناهم) أي ذلك التحريم عقوبة لهم (ببغيهم) أي بظلمهم من قتلهم النبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الرباء واستحلال أموال الناس بالباطل (وإنا لصادقون) في الإخبار عما حرمنا عليهم وعن بغيهم سورة الأنعام (147 148) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (فإن كذبوكم فقل ربكم ذو رحمة واسعة) بتأخير العذاب عنكم (ولا يرد باسه) عذابه (عن القوم المجرمين) إذا جاء وقته (سيقول الذين أشركوا) لما لزمتهم الحجة وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله قالوا (لو يشاء الله ما أشركنا) نحن (ولا آباؤنا) من قبل (ولا حرمنا من شيء) من البحائر والسوائب وغيرهما أرادوا أن يجعلوا قوله (لو شاء الله ما أشركنا) حجة لهم على إقامتهم على الشرك وقالوا إن الله تعالى قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن عليه لا نفعله فلولا أنه رضي بما نحن عليه وأراده منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك فقال الله تعالى تكذيبا لهم (كذلك كذب الذين من قبلهم) من كفار الأمم الخالية (حتى ذاقوا بأسنا) عذابنا ويستدل أهل القدر بهذه الآية يقولون إنهم لما قالوا لو شاء الله ما أشركنا كذبهم الله ورد عليهم فقال (كذلك كذب الذين من قبلهم) من كفار الأمم الخالية (حتى ذاقوا بأسنا) عذابنا ويستدل أهل القدر بهذه الآية يقولون إنهم لما قالوا لو شاء الله ما أشركنا كذبهم الله ورد عليهم فقال (كذلك كذب الذين من قبلهم) من كفار الأمم الخالية (حتى ذاقوا بأسنا) عذابنا ويستدل أهل القدر بهذه الآية يقولون إنهم لما قالوا لو شاء الله ما أشركنا كذبهم الله ورد عليهم فقال (كذلك كذب الذين من قبلهم) قلنا التكذيب ليس في قولهم (لو شاء الله ما أشركنا) بل ذلك القول صدق ولكن في قولهم إن الله تعالى أمرنا بها ورضي بما نحن عليه كما أخبر عنهم في سورة الأعراف (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) فالرد عليهم في هذا كما قال تعالى (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) والدليل على أن التكذيب ورد فيما قلنا لا في قولهم (لو شاء الله ما أشركنا) قوله
139

(كذلك كذب الذين من قبلهم) بالتشديد ولو كان ذلك خبرا من الله عز وجل عن كذبهم في قولهم (لو شاء الله ما أشركنا) لقال كذلك كذب الذين من قبلهم بالتخفيف فكان نسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب وقال الحسن بن الفضل لو ذكروا هذه المقالة تعظيما وإجلالا لله عز وجل ومعرفة منهم به لما عابهم بذلك لأن الله تعالى قال (ولو شاء
الله ما أشركوا) وقال (وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) والمؤمنون يقولون ذلك ولكنهم قالوه تكذيبا وتخرصا وجدلا من غير معرفة بالله وبما يقولون نظيره قوله عز وجل (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) قال الله تعالى (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) وقيل في معنى الآية إنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة إلا أنهم كانوا يعدونه عذرا لأنفسهم ويجعلونه حجة لأنفسهم في ترك الإيمان ورد عليهم في هذا لأن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته فإنه مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد وعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد (قل هل عندكم من علم) أي كتاب وحجة من الله (فتخرجوه لنا) حتى يظهر ما تدعون على الله تعالى من الشرك وتحريم ما حرمتموه (إن تتبعون) ما تتبعون فيما أنتم عليه (إلا الظن) من غير علم ويقين (وإن أنتم إلا تخرصون) تكذبون سورة الأنعام (149 151) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (قل فلله الحجة البالغة) التامة على خلقه بالكتاب والرسول والبيان (فلو شاء لهداكم أجمعين) فهذا يدل على أنه إيمان الكافر ولو شاء لهداه (قل هلم) يقال للواحد والاثنين والجمع (شهداءكم الذين يشهدون) أي إئتوا بشهدائكم الذين يشهدون (أن الله حرم هذا) هذا راجع إلى ما تقدم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم ودعواهم أن الله أمرهم به (فإن شهدوا) وهم كاذبون (فلا تشهد) أنت (معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون) أي يشركون قوله عز وجل (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا) وذلك ن المشركين سألوا وقالوا أي شيء الذي حرم الله تعالى فقال عز وجل (قل تعالوا أتل) أقرأ ما حرم ربكم عليكم حقا
140

ويقينا لا ظنا وكذبا كما تزعمون فإن قيل ما معنى قوله (حرم ربكم عليكم ألا لا تشركوا به شيئا) والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك قيل موضع (أن) رفع معناه هو أن لا تشركوا وقيل محله نصب واختلفوا في وجه انتصابه قيل معناه حرم عليكم أن تشركوا و (لا) صلة كقوله تعالى (ما منعك أن لا تسجد) أي منعك أن تسجد وقيل تم الكلام عند قوله (حرم ربكم) ثم قال عليكم أن لا تشركوا به شيئا على وجه الإغراء قال الزجاج يجوز أن يكون هذا محمولا على المعنى أي أتل عليكم تحريم الشرك وجائز أن يكون على معنى أوصيكم ألا تشركوا (وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) فقر (نحن نرزقكم وإياهم) أي لا تئدوا بناتكم خشية العيلة فإني رازقكم وإياهم (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ما ظهر يعني العلانية وما بطن يعني السر وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسا في السر فحرم الله تعالى الزنا في العلانية والسر وقال الضحاك ما ظهر الخمر وما بطن الزنا (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) حرم الله تعالى قتل المؤمن والمعاهد إلا بالحق إلا بما أبيح قتله من ردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ثنا حاجب بن أحمد الطويس ثني محمد بن حماد ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله غلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة (ذلكم) الذي ذكرت (وصاكم به) أمركم به (لعلكم تعقلون) سورة الأنعام (152) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) يعني بما فيه صلاحه وتثميره وقال مجاهد هو التجارة فيه وقال الضحاك هو أن يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئا (حتى يبلغ أشده) قال الشعبي ومالك الأشد الحلم حتى يكتب له الحسنات وتكت عليه السيئات قال أبو العالية حتى يعقل وتجتمع قوته وقال الكلبي الأشد ما بين الثمانية شعر سنة إلى ثلاثين سنة وقيل إلى أربعين سنة وقيل إلى ستين سنة وقال الضحاك عشرون سنة وقال السدي ثلاثون سنة وقال مجاهد الأشد ثلاث وثلاثون سنة والأشد جمع شد مثل قد وأقد وهو استحكام قوة شبابه وسنه ومنه شد النهار وهو ارتفاعه وقيل بلوغ الأشد أن يؤنس رشده بعد البلوغ وتقدير الآية ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده فادفعوا إليه ماله إن كان رشيدا (وأوفوا الكيل
141

والميزان بالقسط) بالعدل (لا نكلف نفسا إلا وسعها) أي طاقتها في إيفاء الكيل والميزان لم يكلف المعطى أكثر مما وجب عليه ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه حتى لا تضيق نفسه عنه بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه (وإذ قلتم فاعدلوا) فاصدقوا في الحكم والشهادة (ولو كان ذا قربى) ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قرابة (وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) تتعظون قرأ حمزة والكسائي وحفص تذكرون خفيفة الذال كل القرآن والآخرون بتشديدها قال ابن عباس هذه الآيايت محكمات في جميع الكتب لم ينسخهن شيء وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار سورة الأنعام (153 154) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (وأن هذا) أي هذا الذي أوصاكم به في هاتين الآيتين (صراطي) طريقي وديني (مستقيما) مستويا قويما (فاتبعوه) قرأ حمزة الكسائي وإن بكسر الألف على الاستئناف وقرأ الآخرون بفتح الألف قال الفراء والمعنى وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما وقرأ ابن عامر ويعقوب بسكون النون (ولا تتبعوا السبل) أي الطرق المختلفة التي عدا هذا الطريق مثل اليهودية والنصرانية وسائر الملل وقيل الأهواء والبدع (فتفرق) فتميل (بكم) وتشتت (عن سبيله) عن طريقه ودينه الذي ارتضى وبه أوصى (ذلكم) الذي ذكرنا (وصاكم به لعلكم تتقون) أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الراني المعروف بأبي بكر بن الهيثم أخبر الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي ثنا أبو بكر محمد بن يحيى بن خالد ثنا أبو يعقوب إسحق بن إبراهيم الحنظلي ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ (وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) الآية قوله عز وجل (ثم آتينا موسى الكتاب) فإن قيل لم قال (ثم آتينا) وحرف (ثم) للتعقيب وإيتاء موسى الكتاب كان قبل مجيء القرآن قيل معناه ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب فأدخل (ثم) لتأخير الخبر لا لتأخير النزول (تماما على الذي أحسن) اختلفوا فيه قيل تماما على المحسنين من قومه فيكون (الذي) بمعنى من أي على من أحسن من قومه وكان منهم محسن ومسيء يدل عليه قراءة ابن مسعود (على الذين أحسنوا) وقال أبو عبيدة معناه على كل من أحسن أي أتممنا فضيلة موسى بالكتاب على المحسنين يعني أظهرنا فضله عليها والمحسنون هم الأنبياء
142

سورة الأنعام (155 157) والمؤمنون وقيل الذي أحسن هو موسى والذي بمعنى ما أي على ما أحسن موسى تقديره آتيناه الكتاب يعني التوراة إتماما عليه للنعمة لإحسانه في الطاعة والعبادة وتبليغ الرسالة وأداء الأمر وقيل الإحسان بمعنى العلم وأحسن بمعنى علم ومعناه تماما على الذي أحسن موسى من العلم والحكمة أي آتيناه الكتاب زيادة على ذلك وقيل معناه تماما مني على إحساني إلى موسى وتفصيلا بيانا لكل شئ يحتاج إليه من شرائع الدين وهدى ورحمة هذا في صفة التوراة ولعلهم بلقاء ربهم يؤمنون قال ابن عباس كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب وهذا يعني القرآن كتاب أنزلناه إليك مبارك فاتبعوه فاعملوا بما فيه واتقوا وأ يعوا لعلكم ترحمون أو تقولوا يعني لئلا تقولوا كقوله تعالى يبين الله لكم أ تضلوا أي لئلا تضلا وقيل معناه أنزلناه كراهة أ تضلوا أ تقولوا قال الكسائي معناه اتقوا أ تقولوا يا أهل مكة إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا يعني اليهود والنصارى وإن كنا وقد كنا عن دراستهم قراءتهم لغافلين لا نعلم ما هي معناه أ زلنا عليكم القرآن لئلا تقولوا إن الكتاب أنزل على من قبلنا بلسانهم ولغتهم فلم نعرف ما فيه وغفلنا عن دراسته فتجعلوه عذرا لأنفسكم أو تقولوا لو أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم وقد كان جماعة من الكفار قالوا ذلك لو أنزل علينا ما أ زل على اليهود والنصارى لكنا خيرا منهم قال الله تعالى فقد جاءكم بينة من ربكم حجة واضحة بلغة تعرفونها وهدى بيان ورحمة ونعمة لم أتبعه فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف أعرض عنها سنجزي الذين يصدقون عن آياتنا سوء العذاب أي شدة العذاب بما كانوا يصدفون يعرضون
143

سورة الأنعام (158) قوله تعالى هل ينظرون أي هل ينتظرون بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآ إللا أ تأتيهم الملائكة لتقبض أرواحهم وقيل بالعذاب قرأ حمزة والكسائي يأتيهم بالياء هنا وفي النحل والباقون بالتاء أو يأتي ربك بلا كيف لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة أو يأتي بعض آيات ربك يعني طلوع الشمس من مغربها عليه أكثر المفسرين ورواه أبو سعيد الخدري مرفوعا يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أي لا ينفع الإيمان عند ظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان أو كسبت في إيمانها خيرا يريد لا يقبل إيمان كافر ولا توبة فاسق قل انتظروا يا أهل مكة إنا منتظرون بكم العذاب أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ثنا أحمد بن يوسف السلمي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآءها الناس آمنوا أجمعين وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن حماد ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبيدة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أ الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها أخبرنا عبد الواحد المليحي ثنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الزياتي أنا حميد بن زنجويه أنا النضر بن شميل أنا هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور السمعاني أنا أبو جعفر الزياتي أنا حميد بن زنجويه أنا أحمد بن عبد الله أنا حماد بن زيد أ ا عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال أتيت صفوان بن عسال المرادي فذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل جعل بالمغرب بابا مسيرة عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله وذلك قول الله تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل وروي أبو حازم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث
144

سورة الأنعام (159) إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أ كسبت في إيمانها خيرا الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها قوله عز وجل إن الذين فرقوا دينهم قرأ حمزة والكسائي فارقوا بالألف هنا وفي سورة الروم أي خرجوا من دينهم وتركوه وقرأ الآخرون فرقوا مشددا أي جعلوا دين الله وهو واحد دين إبراهيم عليه السلام الحنيفية أديانا مختلفة فتهود قوم وتنمصر قوم يدل عليه قوله عز وجل وكانوا شيعا أي صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي وقيل هم أصحاب البدع والشبهات من هذه الأمة وروي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يا عائشة إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع والشبهات من هذه الأمة حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد زياد الحنفي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الأنصاري أنا أبو عبيد الله محمد بن عقيل الأزهري البلخي أنا الزبادي أنا أحمد بن منصور أنا الضحاك بن مخلد أنا ثور بن يزيد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمر السلمي عن العرباض بن سارية قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب وقال قائل يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإن من يعيش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإ كل بدعة ضلالة وروي عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بني إسرائيل تفرقت على اثنين وسبعين ملة وتفرق أ / تي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلأا واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي قال عب \ الله بن مسعود فإ أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها ورواه جابر مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله عز وجل لست منهم في شئ قبل لست من قتالهم في شئ نسختها آية القتال وهذا على قول من يقول المراد منه اليهود والنصارى ومن قال أراد بالآية أهل الأهواء قال المراد من قوله لست منهم في شيء أي أنت منهم بريء وهم منك براء تقول العرب إن فعلت كذا فلست مني ولست منك أي كل واحد منا بري من صاحبه (إنما أمرهم إلى الله) يعني في الجزاء والمكافآت ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون إذا ردوا للقيامة
145

سورة الأنعام (160 163) قوله تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أي له عشر حسنات أمثالها وقرأ يعقوبب عشر منون أ / ثالها بالرفع ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان ثنا محمد بن يوسف القطان
ثنا محمد بن يوسف السلمي ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله عز وجل وأخبرنا إسماعيل ابن عبد القاهر الجرجاني ثنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع ثنا الأعمش عن المعرور بن سويج عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم يقول الله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة بمثلها أ غفر ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة قال ابن عمر الآية في غير الصدقات من الحسنات فأ / ا الصدقات تضاعف سبعمائة ضعف قوله تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما قرأ أهل الكوفة والشام قيما بكسر القاف وفتح الياء خفيفة وقرأ الآخرون بفتح القاف وكسر الياء مشددا ومعناهما وأحد وهو القويم المستقيم وانتصابه على معنى هداني دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي قيل أراد بالنسك الذبيحة في الحج والعمرة وقال مقاتل نسكي حجي وقيل ديني ومحياي ومماتي أي حياتي ووفاتي لله رب العالمين أي هو يحييني ويميتني وقيل محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان لله رب العالمين وقيل طاعتي في حياتي لله وجزائي بعد مماتي من الله رب العالمين قرأ أهل المدينة محياي بسكون الياء ومماتي بفتحها وقراءة العامة محياي بفتح الياء لئلا يجتمع ساكنان قوله تعالى لا شريك له وبذلك أ / رت وأ أ أ ل المسلمين قال فتادة وأنا أول المسلمين من هذه الأمة
146

سورة الأنعام (164 165) قل أغير الله أبغي ربا قال ابن عباس رضي الله عنهما سيدا وإلها وهو رب كطل شئ وذلك أ الكفار كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ارجع إلى ديننا قال ابن عباس كان الوليد بن المغيرة يقول اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم فقال الله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها لا تجئ كل نفس إلا ما كان من إثمه على الجاني ولا تزر وازرة وزر أخرى أي لا تحمل حمل أخرى أي لا يؤاخذ حد بذنب غيره ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الأرض يعني أهل القرون الماضية وأورثكم الأرض يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بعدهم فجعلكم خلائف منهم فيها يخلفونهم فيها وتعمرونها بعدهم والخلائف جمع خليفة كالوصائف جمع وصيفة وكل من جاء بعد مضى فهو خليفة لأ يخلفه ورفع بعضكم فوق بعض درجات أي خالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والمعاش والقوة والفضل ليبلوكم فيما آتاكم ليختبركم فيما رزقكم يعني يبتلي الغني وا لفقير واتلشريف والوضيع والحر والعبد ليظهركم منكم ما يكون عليه من الثواب والعقاب أن ربك سريع ا لعقاب لأ ما هو آت فهو سريع قريب قيل هو الهلاك في الدنيا وإ لغفور رحيم قال عطاء سريع العقاب لأعدائه غفور لأوليائه رحيم بهم سور الأعراف مكية كلها إلا خمس آيات أ لها واسألهم عن القرية التي كانت بسم الله الرحمن الرحيم
147

سورة الأعراف (2 9) كتاب أي هذا كتاب أنزل إليك وهو القرآن فلا يكن في صدرك حرج منه قال مجاهد شك فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة وقال أبو العالية خرج أي ضيق معناه لا يضيق ما أرسلت به لتننذر به أي كتاب أ زل إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين أي على الكتاب اتبعوا أي وقل لهم اتبعوا ما أ زل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أ لياء أي لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله تعالى قليلا ما تذكرون تتعظون وقرأ ابن عامر يتذكرون بالياء والتاء وكم من قرية أهلكناها بالعذاب وكم للتكثير ورب للتقليل فجاءها بأسنا عذابنا بياتا ليلا أو نهارا وهم قائلون أ نائمون ظهيرة والقيلولة استراحة نصف النهار وإ لم يكن معها نوم ومعنى الآية أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين إما ليلا أو نهارا قال الزجاج وأو لتصريف العذاب أي مرة ليلا ومرة نهارا وقيل معناه من أهل القرى من أهلكناهم ليلا ومنهم من أهلكناهم فجاءها بأسنا فكيف يكون مجئ البأس بعد الهلاك قيل معنى أهلكنا حكمنا بهلاكها فجاءها بأسنا وقيل فجاءها بأسنا هو بيان قوله أهلكناها مثلقول القائل أعطيتني فأحسنت إلي لا فرق بينه وبين قوله أحسنت إلي فأعطيتني فيكون أحدهما بدلا من الآخر فما كان دعواهم أي قولهم ودعاؤهم وتضرعهم والدعوى تكون بمعنى الادعاء بمعنى الدعاء قال سيبويه تقول العرب ا للهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أي في دعائهم إذ جاءهم بأسنا عذابنا إلا أ قالوا إنا كنا ظالمين معناه لم يقدروا على رد العذاب وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية حتى لا ينفع الاعتراف فلنسألن الذين أرسل إليهم يعني الأمم عن إجابتهم الرسل وهذا سؤال لا سؤال استعلام يعني نسألهم عما فيما بلغتهم الرسل ولنسألن المرسلين عن الإبلاغ
148

سورة الأعراف (7 9) فلنقصن عليهم بعلم أي نخبرهم عن علم قال ابن عباس رضي الله عنهما ينطق عليهم كتاب أ مالهم كقوله تعالى هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق وما كنا غائبين عن الرسل فيما بلغوا وعن الأمم فيما أجابوا قوله تعالى والوزن يومئذ الحق يعني يوم السؤال قال مجاهد معناه والقضاء يومئذ العدل وقال الأكثرون أراد به وزن الأ مال بالميزان وذاك أن الله تعالى ينصب ميزانا له لسان وكفتان كل كفة بقدر ما بين المشرق والمغرب واختلفوا في كيفية الوزن فقال بعضهم توزن صحائف الأعمال وروينا أرجلا ينشر عليه تسعة وتسعون فيخرج له بطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأشهد أ محمدا عبده ورسوله فتوضع السجلات في كفه والبطاقة في كفه فطاشت السجلات وثقلت البطاقة وقيل توزن الأشخاص وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة وقيل توزن الأ مال روي ذلك عن ابن عباس فيؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان والحكمة في وزن الأعمال امتحان الله عباده بالإيمان في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى فمن ثقلت موازينه قال مجاهد حسناته فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون وقال أبو بكر رضي الله عنه حين حضره الموت في وصيته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أ يكون ثقيلا وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم حق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أ يكون خفيفا فإن قيل فقد قيل من ثقلت موازينه ذكر بلفظ الجمع والميزان واحد قيل يجوز أ يكون لفظه جمعا ومعناه واحد
كقوله يا أيها الرسل وقيل لكل عبد ميزان وقيل الأصل ميزان واحد عظيم ولكل عظيم ولكل عبد فيه ميزان معاق به وقيل جمعه لأ الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يتم الوزن إلا باجتماعها
149

سورة الأعراف (10 12) قوله تعالى ولقد مكناكم في الأرض أي مكناكم والمراد من التمكين التمليك والقدرة وجعلنا لكم فيها معايش أي أسبابا تعيشون بها أيام حياتكم من التجارات والمكاسب والمآكل والمشارب والمعايش جمع المعيشة قليلا ما تشكرون فيما صنعت إليكم قوله عز وجل ولقد خلقناكم ثم صورناكم قال ابن عباس خلقناكم أي أصولكم واباءكم ثم صورناكم في أرحام أمهاتكم وقال قتادة والضحاك والسدي أما خلقناكم فآدم وأما صورناكم فذريته وقال مجاهد في خلقناكم آدم ثم صورناكم في ظهر آدم بلفظ الجمع لأنه أبو البشر ففي خلقه خلق من يخرج من صلبه وقيل خلقناكم في أصلاب الرجال وصورناكم في أرحام النساء وقال يمان خلق الإنسان في الرحم ثم صوره فشق سمعه وبصره وأصابعه وقيل الكل آدم خلقه وصوره وثم بمعنى الواو ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فإن قيل الأمر بسجود الملائكة كان قيل خلق بني آدم فما وجه قوله ثم قلنا وثم للترتيب وللتراخي قيل على قول من يصرف الخلق والتصوير إلى آدم وحده يستقيم الكلام إ / ا على قول من يصرفه إلأى الذرية فعنه أجوبة أحدها ثم بمعنى الواو أي وقلنا للملائكة فلا تكون للترتيب والتعقيب وقيل أراد ثم أخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد خلقناكم يعني آدم ثم قلنا للملائكة اسجدوا ثم صورناكم قوله تعالى فسجدوا يعني الملائكة إلا إبليس لم يكن من الساجدين لآدم قال الله تعالى يا إبليس ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك أي ولم منعك أ تسجدوا لا زائدة كقوله تعالى وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون قال إبليس مجيبا له أنا خير منه لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين والنار خير وأنور من الطين قال ابن عباس أ ل من قاس إبليس فأخطأ القياس فمن قاس الدين بشئ من رأيه قرنه الله مع إبليس قال ابن سيرين ما عبدت الشمس إلا بالقياس قال محمد بن جرير ظن الخبيث أ النار خير من الطين ولم يعلم أ الفضل لمن جعل الله له الفضل وقد فضل الطين على النار وقالت الحكماء للطين فضل على النار من وجده منها أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الدراعي لآدم بعد السعادة التي سبق له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثه الاجتباء والتوبة والهداية ومن جوهر النار الخفة والطيش والجرأ والارتفاع
150

سورة الأعراف (13 17) وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والاصرار فأورثه اللعنة والشقاوة ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها ولأ التراب سبب الحياة لأ حياة الأشجار والنبات به والنار سبب الهلاك. قوله تعالى قال فاهبط منها أي من الجنة وقيل من السماء وا لأرض وكان له ملك الأرض فأخرجه منه إلى جزائر البحر وعرشه في البحر الأخضر فلا يدخل الأرض إلا خائفا على هيئة السارق مثل شيخ عليه اطمار يروع فيها حتى يخرج منها قوله تعالى فما يكون لك أن تتكبر بمخالفة الأمر فيها أي في الجنة ولا ينبغي أ يسكن الجنة ولا السماء متكبر مخالف لأ / ر الله فأخرج إنك من الصاغرين من الأذلاء والصغار الذل والمهانة قال إبليس عند ذ 1 لك انظرني أخرني فلا تمتني إلأى يوم يبعثون من قبورهم وهو النفخة الآخر عند قيام الساعة أراد الخبيث أ لا يذوق الموت قال الله تعالى إنك من المنظرين المؤخرين وبين مدة النظر والمهلة في موضع آخر فقال إلى يوم الوقت المعلوم وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم فال فبما أغويتني اختلفوا في ما قيل هو استفهام يعني فبأي شئ أغويتني ثم ابتدأ فقال لأقعدن لهم وقيل هو ما الجزاء أي لأجل أنك أإويتني أقعدن لهم وقيل هو ما المصدر موضع القسم تقديره فباغوائك إياي لأقعدن لهم كقوله بما غفر ربي يعني بغفران ربي والمعنى بقدرتك علي ونفاذ سلطانك وقال ابن الأنباري أي فيما أوقعت في قلبي من الغي الذي كان سبب هبوطي من السماء أإويتني أي أضللتني عن الهدى وقيل أ لكتني وقيل خيبتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم أي لأجلسن لبني آدم على طريقك القويم وهو الإسلام ثم لأتينهم من بين أيديهم قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس من بين أيديهم أي من قبل الآخرة فاشككهم فيها ومن خلفهم أرغبهم في دنياهم وعنم أيمانهم أشبه عليهم أمر
151

دينهم (وعن شمائلهم) أشهي لهم المعاصي وروى عطية عن ابن عباس (من بين أيديهم) من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم (ومن خلفهم) من قبل الآخرة فأقول لا بعث ولا جنة ولا نار (وعن أيمانهم) من قبل حسناتهم (وعن شمائلهم) من قبل سيئاتهم وقال الحكم من بين أيديهم من قبل الدنيا يزينها لهم ومن خلفهم من قبل الآخرة يثبطهم عنها وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم ياتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله وقال مجاهد من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم من حيث لا يبصرون وقال ابن جريج معنى قوله حيث لا يبصرون أي لا يخطئون وحيث لا يبصرون أي لا يعلمون أنهم يخطئون (ولا تجد أكثرهم شاكرين) مؤمنين فإن قيل كيف علم الخبيث ذلك قيل قاله ظنا فأصاب قال الله تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) سورة الأعراف (18 20) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (قال) الله تعالى لإبليس (اخرج منها مذؤما مدحورا) أي معيبا والذام أشد العيب يقال ذامه يذامه ذاما فهو مذؤم وذامه يذيمه ذاما فهو مذيم مثل سار يسير سيرا والمدحور المبعد المطرود يقال دحره يدحره دحرا إذا أبعده وطرده قال ابن عباس مذؤما أي ممقوتا قال قتادة مذؤما مدحورا أي لعينا شقيا وقال الكلبي مذؤما مدحورا مقصيا من الجنة ومن كل خير (لمن تبعك منهم) من بني آدم (لأملأن جهنم) اللام لام القسم (منكم أجمعين) أي منك ومن ذريتك ومن كفار ذرية آدم أجمعين (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) (فوسوس لهما الشيطان) أي إليهما والوسوسة حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما) أي ليظهر لهما ما غطي وستر عنهما من عوراتهما قيل اللام فيه لام العاقبة أن إبليس لم يوسوس لهذا ولكن كان عاقبة أمرهم ذلك وهو ظهور عورتهما كقوله تعالى
152

(فالتقطته آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) ثم بين الوسوسة فقال (وقال) إبليس لآدم وحواء (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين) يعني إلا كراهية أن تكونا من الملائكة يعلمان الخير والشر (أو تكونا من الخالدين) من الباقين الذين لا يموتون كما قال في موضع آخر (هل أدلك على شجرة الخلد) سورة الأعراف (21 22) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) أي وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد وقال قتادة حلف
لهما بالله حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله فقال إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتباعاني أرشدكما وإبليس أول من حلف بالله كاذبا فلما حلف ظن آدم أن أحدا لا يحلف بالله إلا صادقا فاغتر به (فدلاهما بغرور) أي خدعهما يقال ما زال إبليس يدل فلانا بالغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف باطل من القول وقيل حكهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية ولا يكون التدلي إلا من علو إلى أسفل والتدلية إرسال الدلو في البئر يقال تدلى بنفسه ودعا غيره قال الأزهري أصله من تدلية العطشان البئر ليروي من الماء ولا يجد الماء فيكون تدلي بالغرور عن إظهار النصح مع إبطان الغش (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما) قال الكلبي فلما أكلا منها وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة والعقوبة إن بدت ظهرت لهما سوآتهما عوراتهما وتهافت لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه وكان لا يريان ذلك قال وهب كان لباسهما من النور وقال قتادة كان ظفرا ألبسهما الله من الظفر لباسا فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوءاتهما فاستحيا (وطفقا) أقبلا وجعلا (يخصفان) يرقعان ويلزقان ويصلان (عليهما من ورق الجنة) وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب قال الزجاج يجعلان ورقة على ورقة ليستروا سوآتهما وروي عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آدم رجلا طوالا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته وكان لا يراها فانطلق هاربا في الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره فقال لها أرسليني قال لست بمرسلتك فناداه ربه يا آدم أتفر مني قال لا يا رب ولكن استحييتك (وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة)
153

يعني عن الأكل منها (وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) أي بين العداوة قال محمد بن قيس ناداه ربه يا آدم أكلت منها وقد نهيتك قال رب أطعمتني حواء قال لحواء لم أطعمتيه قالت أمرتني الحية قال للحية لم أمرتيها قالت أمرني إبليس فقال الله أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين كل شهر وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على بطنك ووجهك وسيشدخ رأسك من لقيك وأما أنت يا إبليس فملعون مدحور سورة الأعراف (23 26) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) ضررناها بالمعصية (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الهالكين (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (قال فيها تحيون) يعني في الأرض تعيشون (وفيها تموتون ومنها تخرجون) أي من الأرض تخرجون من قبوركم للبعث قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (تخرجون) بفتح التاء ههنا وفي الزخرف وافق يعقوب ههنا وزاد حمزة والكسائي (وكذلك تخرجون) في أول الروم والباقون بضم التاء وفتح الراء فيهن (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم) أي خلقنا لكم (لباسا) وقيل إنما قال (أنزلنا) لأن اللباس يكون من نبات الأرض والنبات يكون بما ينزل من السماء فمعنى قوله أنزلنا (أي أنزلنا أسبابه وقيل كل بركات الأرض منسوبة إلى السماء كما قال تعالى (وأنزلنا الحديد) وإنما يستخرج الحديد من الأرض وسبب نزول هذه الآية أنهم كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة يقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها فكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء بالليل عراة قال قتادة كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول (اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أجله) فأمر الله سبحانه بالستر فقال (قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم) يستر عوراتكم واحدتها سوأة سميت بها لأنه يسوء صاحبها انكشافها فلا تطوفوا عراة (وريشا) يعني مالا في قول ابن عباس
154

ومجاهد والضحاك والسدي يقال تريش الرجل إذا تمول وقيل الريش الجمال أي ما تتجملون به من الثياب وقيل هو اللباس (ولباس التقوى ذلك خير) قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي (ولباس) بنصب السين عطفا على قوله (لباسا) وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره (خير) وجعلوا (ذلك) صلة في الكلام ولذلك قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب (ولباس التقوى خير) واختلفوا في (لباس التقوى) قال قتادة والسدي التقوى هو الإيمان وقال الحسن هو الحياء لأنه يبعث على لاتقوى وقال عطاء عن ابن عباس هو العمل الصالح وعن عثمان بن عفان أنه هو السمت الحسن وقال عروة بن الزبير لباس التقوى خشية الله وقال الكلبي هو الففاف والمعنى لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق له من اللباس للتجمل وقال ابن الأنباري لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخبارا أن ستر العورة خير من التعري في الطواف وقا زيد بن علي لباس التقوى الآلات التي يتقى بها في الحرب كالدرع والمغفر والساعد والساق وقيل لباس التقوى هو الصوف والثياب الخشنة التي يلبسها أهل الورع (ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون) سورة الأعراف (27 28) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان) لا يضلنكم الشيطان (كما أخرج أبويكم) أي فتن أبويكم آدم وحواء فأخرجهما (من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما) أي ليرى كل واحد سوأة الآخر (إنه يراكم) يعني أن الشيطان يراكم يا بني آدم (هو وقبيله) جنوده قال ابن عباس هو وولده وقال قتادة قبيلة الجن والشياطين (من حيث لا ترونهم) قال مالك بن دينار إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصم الله (إنا جعلنا الشياطين أولياء) قرناء وأعوانا (للذين لا يؤمنون) قال الزجاج سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم كما قال (إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) (وإذا فعلوا فاحشة) قال ابن عباس ومجاهد هي طوافهم بالبيت عراة قال عطاء الشرك والفاحشة اسم لكل فعل قبيح بلغ النهاية في القبح (قالوا وجدنا عليهم آباءنا) وفيه اضمار معناه وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا وإذا قيل ومن أين أخذ آباؤكم قالوا (والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون)
155

سورة الأعراف (29 30) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (قل أمر ربي بالقسط) قال ابن عباس بلا إله إلا الله وقال الضحاك بالتوحيد وقال مجاهد والسدي بالعدل (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) قال مجاهد والسدي يعني توجهوا حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقال الضحاك إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي وقيل معناه اجعلوا سجودكم لله خالصا (وادعوه) واعبدوه (مخلصين له الدين) الطاعة والعبادة (كما بدأكم تعودون) قال ابن عباس إن الله بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا قال جابر يبعثون على ما ماتوا عليه أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي حدثنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنبأنا محمد بن عبد الله الصفار حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البزي حدثنا
أبو حذيفة حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث ل عبد على ما مات عليه المؤمن على إيمانه والكافر على كفره قال أبو العالية عادوا على عمله فيهم قال سعيد بن جبير كما كتب عليكم تكونون قال محمد بن كعب من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إليها وإن عمل أهل السعادة كما أن إبليس كان يعمل بأعمال أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة ومن ابتداء خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاة وكما أن السحرة كانت تعمل بعمل أهل الشقاوة ومن ابتداء خلقه على السعادة أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد حدثنا أبو غسان عن أبي حازم قال سمعت سهل بن سعيد يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن العبد يعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم وقال الحسن ومجاهد كما بدأكم وخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا كذلك تعودون أحياء يوم القيامة كما بدأنا أول خلق نعيده قال قتادة بدأهم من التراب إلى التراب يعودون فنظيره قوله تعالى (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) قوله عز وجل (فريقا هدى) أي هداهم الله (وفريقا حق) وجب (عليهم الضلالة) أي الإرادة السابقة (إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) فيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند سواء
156

سورة الأعراف (31 33) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله تعالى (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) قال أهل التفسير كانت بنو عامر يطوفون بالبيت عراة فأنزل الله عز وجل (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) يعني الثياب قال مجاهد ما يواري عورتك ولو عباءة قال الكلبي الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد لطواف وصلاة (وكلوا واشربوا) قال الكلبي كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجمهم فقال المسلمون نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله فأنزل الله عز وجل وكلوا يعني اللحم والدسم واشربوا (ولا تسرفوا) بتحريم ما أحل الله لكم من اللحم والدسم (إنه لا يحب المسرفين) الذين يفعلون ذلك قال ابن عباس كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأت خصلتان سرف ومخيلة قال علي بن الحسين بن واقد وقد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال (كلوا واشربوا) قوله عز وجل (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) يعني لبس الثياب في الطواف (والطيبات من الرزق) يعني اللحم والدسم في أيام الحج وعن ابن عباس وقتادة والطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) فيه حذف تقديره هي للذين آمنوا وللمشركين في الحياة والدنيا فإن أهل الشرك يشاركون المؤمنين في طيبات الدنيا وهي في الآخرة خالصة للمؤمنين لاحظ للمشركين فيها وقيل هي خالصة يوم القيامة من التنغيص والغم للمؤمنين فإنها لهم في الدنيا مع التنغيص والغم قرأ نافع (خالصة) رفع أي قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا خالصة يوم القيامة وقرأ الآخرون بالنصب على القطع (كذلك نفصل الآيات لقوم يعملون) (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) يعني الطواف عراة (ما ظهر) طواف الرجال بالنهار (وما بطن) طواف النساء بالليل وقيل هو الزنا سرا وعلانية أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدحة من الله فلذلك مدح نفسه قوله عز وجل (والإثم)
157

يعني الذنب والمعصية وقال الضحاك الذنب الذي لا حد فيه قال الحسن الإثم الخمر قال الشاعر (شربت الإثم حتى ضل عقلي كذلك الإثم يذهب بالعقول) (والبغي) الظلم والكبر (بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) حجة وبرهانا (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) في تحريم الحرث والأنعام في قول مقاتل وقال غيره هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين سورة الأعراف (34 37) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (ولكل أمة أجل) مدة وأكل وشرب وقال ابن عباس وعطاء والحسن يعني وقتا لنزول العذاب بهم (فإذا جاء أجلهم) وانقطع أكلهم (لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) أي لا يتقدمون وذلك حين سألوا العذاب فأنزل الله هذه الآية قوله تعالى (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم) أي إن يأتكم قيل أراد جميع الرسل وقال مقاتل أراد بقوله (يا بني آدم) مشركي العرب وبالرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وحده (يقصون عليكم آياتي) قال ابن عباس فرائضي وأحكامي (فمن اتقى وأصلح) أي اتقى الشرك وأصلح عمله وقيل أخلص ما بينه وبين ربه (فلا خوف عليهم) إذا خاف الناس (ولا هم يحزنون) أي إذا حزنوا (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها) تكبروا عن الإيمان بها ذكر الاستكبار لأن كل مكذب وكافر متكبر قال الله تعالى (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) قوله تعالى (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) جعل له شريكا (أو كذب بآياته) القرآن (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) نصيبهم أي حظهم مما كتب لهم في اللوح المحفوظ واختلفوا فيه قال الحسن والسدي ما كتب لهم من العذاب وقضى عليهم من سواد الوجوه وزرقة
158

العيون قال عطية عن ابن عباس كتب لمن يفتري على الله أن وجهه مسود قال الله تعالى (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) وقال سعيد بن جبير ومجاهد ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة وقال ابن عباس وقتادة والضحاك يعني أعمالهم التي عملوها وكتب عليهم من خير وشر يجري عليها وقال محمد بن كعب القرظي ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال فإذا فنيت (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم) يقبضون أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه (قالوا) يعني يقول الرسل للكفار (أينما كنتم تدعون) تعبدون (من دون الله) سؤال تبكيت وتقريع (قالوا ضلوا عنا) بطلوا وذهبوا عنا (وشهدوا على أنفسهم) اعترفوا عند معاينة الموت (أنهم كانوا كافرين) سورة الأعراف (38 39) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (قال ادخلوا في أمم) يعني يقول الله لهم يوم القيامة ادخلوا في أمم أي مع جماعات (قد خلت) مضت (من قبلكم من الجن والإنس في النار) يعني كفار الأمم الخالية) كما دخلت أمة لعنت أختها) يريد أختها في الدين لا في النسب فتلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى وكل فرقة تلعن أختها ويلعن الأتباع القادة ولم يقل أخاها لأنه عني الأمة والجماعة (حتى إذا اداركوا فيها) أي تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار (جميعا
قالت أخراهم) قال مقاتل يعني أخراهم دخولا النار وهم الاتباع (لأولاهم) أي لأولاهم دخولا وهم القادة لأن القادة يدخلون النار أولا وقال ابن عباس يعني آخر كل أمة لأولاها وقال السدي أهل الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين (ربنا هؤلاء) الذين (أضلونا) عن الهدى يعني القادة (فآتهم عذابا ضعفا من النار) أي ضعف عليهم العذاب (قال) الله تعالى (لكل ضعف) يعني للقادة والأتباع ضعف من العذاب ولكن لا تعلمون ما لكل فريق منكم من العذاب وقرأ أبو بكر (لا يعلمون) بالياء أي لا يعلم الاتباع ما للقادة ولا القادة ما للاتباع (وقالت أولاهم) يعني القادة (لأخراهم) يعني القادة (لأخراهم) للأتباع (فما كان لكم علينا من فضل) لأنكم كفرتم كما كفرنا فنحن وأنتم في الكفر سواء وفي العذاب سواء (فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)
159

سورة الأعراف (40 43) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبوا عنها لا تفتح) بالتاء خفف أبو عمرو وبالياء خفف حمزة والكسائي والباقون بالتاء والتشديد (لهم أبواب السماء) لأدعيتهم ولا لأعمالهم وقال ابن عباس لأرواحهم لأنها خبيثة لا يصعد بها بل يهوى بها إلى سجين إنما تفتح أبواب السماء لأرواح المؤمنين وأدعيتهم وأعمالهم (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة والخياط والمخيط واحد وهو الإبرة والمراد منه أنهم لا يدخلون الجنة أبدا لأن الشيء إذا علق بما يستحيل كونه دل ذلك على تأكيد المنع كما يقال لا افعل ذلك حتى يشيب الغراب أو يبيض القار يريد لا أفعله أبدا (وكذلك نجزي المجرمين) (لهم من جهنم مهاد) أي فراش (ومن فوقهم غواش) أي لحف وهي جمع غاشية يعني ما غشاهم وغطاهم يريد إحاطة النار بهم من كل جانب كما قال الله (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) (وكذلك نجزي الظالمين) (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها) أي طاقتها وما لا تحرج فيه ولا تضيق عليه (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) (ونزعنا) أخرجنا (ما في صدورهم من غل) من غش وعداوة كانت بينهم في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم (تجري من تحتهم الأنهار) روى الحسن عن علي رضي الله عنه قال فينا والله أهل بدر نزلت (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) وقال علي رضي الله عنه أيضا إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال لهم الله عز وجل (ونزعنا ما في صدورهم من غل) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الصلت بن محمد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد
160

الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا وقال السدي في هذه الآية إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبدا أي إلى هذا يعني طريق الجنة وقال سفيان الثوري معناه هدانا لعمل هذا ثوابه (وما كنا) قرأ ابن عامر (ما كنا) بلا واو (لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق) هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) قيل هذا النداء إذا رأوا الجنة من بعيد نودوا أن تلكم الجنة وقيل هذا النداء يكون في الجنة أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الخطيب أنبأنا أبو طاهر محمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمد أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال حدثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان عن أبي إسحق عن الأغر عن أبي سعيد وعن أبي هريرة قالا ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا فذلك قوله (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) هذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج عن إسحاق بن إبراهيم وعبد الرحمن بن حميد عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري بهذا الاسناد مرفوعا وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد إلا وله منزلة في الجنة ومنزلة في النار فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر ومنزله من الجنة سورة الأعراف (44) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله تعالى (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن وجدنا ما وعدنا ربنا) من الثواب (حقا) أي صدقا (فهل وجدتم ما وعد ربكم) من العذاب (حقا قالوا نعم) قرأ الكسائي بكسر العين حيث كان والباقون بفتحها وهما لغتان (فأذن مؤذن بينهم) أي نادى مناد أسمع الفريقين (أن لعنة الله على الظالمين) قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم (أن) خفيف (لعنة) رفع وقرأ الآخرون بالتشديد (لعنة الله) نصب على الظالمين أي الكافرين
161

سورة الأعراف (45 46) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (الذين يصدون) أي يصرفون الناس (عن سبيل الله) طاعة الله (ويبغونها عوجا) أي يطلبونها زيغا وميلا أي يبطلون سبيل الله جائرين قال ابن عباس يصلون لغير الله يعظون ما لم يعظمه الله والعوج بكسر العين في الدين والأمر والأرض وكل ما لم يكن قائما وبالفتح في كل ما كان قائما كالحائط والرمح ونحوهما (وهم بالآخرة كافرون) (وبينهما حجاب) يعني بين الجنة والنار وقيل بين أهل النار حجاب وهو السور الذي ذكر الله في قوله (فضرب بينهم بسور له باب) قال تعالى (وعلى الأعراف رجال) هي ذلك السور الذي بين الجنة والنار وهي جمع عرف وهو اسم للمكان المرتفع ومنه عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من جسده وقال السدي سمي ذلك السور أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس واختلفوا في الرجال الذين أخبر الله عنهم أنهم على الأعراف فقال حذيفة وابن عباس هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته وهم آخر من يدخل الجنة أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ثنا محمد بن يعقوب الكسائي ثنا عبد الله بن محمود ثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي قال قال سعيد بن جبير يحدث عن ابن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ قوله (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن
خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) ثم قال إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح قال من استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ويعطي كل يومئذ نورا فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا ربنا أتمم لنا نورنا فأما أصحاب الأعراف فإن النور من بين أيديهم فهنالك يقول الله (لم يدخلوها وهم يطمعون) وكان الطمع للنور الذي بين أيديهم ثم أدخلوا الجنة وكانوا آخر أهل الجنة دخولا وقال شرحبيل بن سعد أصحاب الأعراف قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم ورواه مقاتل في تفسيره مرفوعا هم رجال غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا فأعتقوا من النار بقتلهم في سبيل الله وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم فهم آخر من يدخل الجنة وروي عن مجاهد أنهم أقوام رضي عنهم
162

أحد الأبوين دون الآخر يحبسون على الأعراف إلى أن يقضي الله بين الخلق ثم يدخلون الجنة وقال عبد العزيز بن يحيى الكتاني هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم وقيل هم أطفال المشركين وقال الحسن هم أهل الفضل من المؤمنين علوا على الأعراف فيطلعون على أهل الجنة وأهل النار جميعا ويطالعون أحوال الفريقين قوله تعالى (يعرفون كلا بسيماهم) أي يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم وأهل النار بسواد وجوههم (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم) أي إذا رأوا أهل الجنة قالوا سلام عليكم (لم يدخلوها) يعني أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة (وهم يطمعون) في دخولها قال أبو العالية ما جعل الله ذلك الطمع فيهم غلا كرامة يريدهم بهم قال الحسن الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون سورة الأعراف (47 49) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار) تعوذوا بالله (قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) يعني الكافرين في النار (ونادى أصحاب الأعراف رجالا) كانوا عظماء في الدنيا عن أهل النار (يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم) في الدنيا من المال والولد (وما كنتم تستكبرون) عن الإيمان قال الكلبي ينادون وهم على السور يا وليد بن المغيرة ويا أبا جهل بن هشام ويا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزؤن بهم مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار (أهؤلاء) يعني هؤلاء الضعفاء (الذين أقسمتم) حلفتم (لا ينالهم الله برحمة) أي حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة ثم يقال لأهل الأعراف (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) وفيه قول آخر أن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النار ما قالوا قال لهم أهل النار إن دخل أولئك الجنة فأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ويقسمون أنهم يدخلون النار فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط لأهل النار أهؤلاء يعني أصحاب الأعراف الذين أقسمتم يا أهل النار أنه لا ينالهم الله برحمة ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون فيدخلون الجنة قوله تعالى (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا) أي صبوا (علينا من الماء أو مما رزقكم الله) أي أوسعوا علينا مما رزقكم الله من طعام الجنة قال عطاء عن ابن عباس لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج وقالوا يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن
163

لنا حتى نراهم ونكلمهم فينظروا إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وأخبروهم بقراباتهم أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله (قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) يعني الماء والطعام (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا) وهو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة وأخواتها والمكاء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية وقيل دينهم أي عيدهم (وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم) نتركهم في النار (كما نسوا لقاء يومهم هذا) أي كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا (وما كانوا بآياتنا يجحدون) (ولقد جئناهم بكتاب) يعني القرآن (فصلناه) بيناه (على علم) منا لما يصلحهم (هدى ورحمة) أي جعلنا القرآن هاديا وذا رحمة (لقوم يؤمنون) (هل ينظرون) أي هل ينتظرون (إلا تأويله) قال مجاهد جزاءه وقال السدي عاقبته ومعناه هل ينتظرون إلا ما يؤل إليه أمرهم من العذاب ومصيرهم إلى النار (يوم يأتي تأويله) أي جزاؤه وما يؤل إليهم أمرهم (يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق) اعترفوا به حين لا ينعهم الاعتراف (فهل لنا) اليوم (من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد) إلى الدنيا (فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم) أهلكوها بالعذاب (وضل) وبطل (عنهم ما كانوا يفترون) قوله تعالى (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) أراد به في مقدار ستة أيام لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن يومئذ يوم ولا شمس ولا سماء وقيل ستة أيام كأيام الآخرة وكل يوم كألف سنة وقيل كأيام الدنيا قال سعيد بن جبير كان الله عز وجل قادرا على خلق السماوات والأرض في لمحة ولحظة فخلقهن في ستة أيام تعليما لخلقه التثبت والتأني في الأمور وقد جاء في الحديث التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان (ثم استوى على العرش) قال
164

الكلبي ومقاتل استقر وقال أبو عبيدة صعد وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء فأما أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله (الرحمن على العرش استوى) كيف استوى فأطرق رأسه مليا وعلاه الرحضاء ثم قال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهات أمروها كما جاءت بلا كيف والعرش في اللغة هو السرير وقيل هو ما علا فأظل ومنه عرش الكروم وقيل العرش الملك (يغشي الليل النهار) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب (يغشى) بالتشديد ها هنا وفي سورة الرعد والباقون بالتخفيف أي يأتي الليل على النهار فيغطيه وفيه حذف أي ويغشي النهار الليل ولم يذكره لدلالة الكلام عليه وذكر في آخر أخرى فقال (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) (يطلبه حثيثا) أي سريعا وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهم الآخر ويخلفه فكأنه يطلبه (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) قرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر والباقون بالنصب وكذلك في سورة النحل عطفا على قوله (خلق السماوات والأرض) أي خلق هذه الأشياء مسخرات أي مذللات (بأمره
ألا له الخلق والأمر) له الخلق لأنه خلقهم وله الأمر يأمر في خلقه بما يشاء قال سفيان بن عيينة فرق الله بين الخلق والمر فمن جمع بينهما فقد كفر (تبارك الله) أي تعالى الله وتعظم وقيل ارتفع والمبارك المرتفع وقيل تبارك تفاعل من البركة وهي النماء والزيادة أي البركة تكتسب وتنال بذكره وعن ابن عباس قال جاء بكل بركة وقال الحسن تجيء البركة من عنده وقيل تبارك تقدس والقدس الطهارة وقيل تبارك الله أي باسمه يتبرك في كل شيء وقال المحققون معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال واصل البركة الثبوت ويقال تبارك الله
165

ولا يقال متبارك ولا مبارك لأنه لم يرد به التوقيف (رب العالمين) سورة الأعراف (55 56) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (ادعوا ربكم تضرعا) تذللا واستكانة (وخفية) أي سرا قال الحسن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ذلك أن الله سبحانه يقول (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) وإن الله ذكر عبدا صالحا ورضي فعله فقال (إذ نادى ربه نداء خفيا) إنه لا يحب المعتدين) قيل المعتدين في الدعاء وقال أبو مجلز هم الذين يسألون منازل الأنباء عليهم السلام أخبرنا عمر بن عبد العزيز الفاشاني أنبأنا القاسم بن جعفر الهاشمي أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي ثنا أبو داود السجستاني حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد يعني ابن سلمة أنبأنا سعيد الجرير عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء وقيل أراد به الاعتداء بالجهر قال ابن جريج من الاعتداء والصياح روينا عن أبي موسى قال لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر اشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وقال عطية هم الذين يدعون على المؤمنون فيما لا يحل فيقولون اللهم اخزهم اللهم العنهم. (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) أي لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي وقال عطية لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم فعلى هذا معنى قوله (بعد إصلاحها) أي بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب (وادعوه خوفا وطمعا) أي خوفا منه ومن عذابه وطمعا فيما عنده من مغفرته وثوابه وقال ابن جريج خوف العدل وطمع الفضل (إن رحمة الله قريب من المحسنين) ولم يقل قريبة قال سعيد بن جبير الرحمة ههنا للثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) ولم يقل منها لأنه أراد الميراث والمال وقال الخليل بن أحمد القريب والبعيد يستوي فيهما المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال أبو عمرو بن العلاء القريب في اللغة يكون
166

بمعنى القرب وبمعنى المسافة تقول العرب هذه امرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة وقريب منك إذا كانت بمعنى المسافة سورة الأعراف (57 58) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله تعالى (وهو الذي يرسل الرياح بشرا) قرأ عاصم بالباء وضمها وسكون الشين ها هنا وفي الفرقان وسورة النمل يعني أنها تبشر بالمطر بدليل قوله تعالى (الرياح مبشرات) وقرأ حمزة والكسائي (نشرا) بالنون وفتحها وهي الريح الطيبة اللينة قال الله تعالى (والناشرات نشرا) وقرأ ابن عامر بضم النون وسكون الشين وقرأ الآخرون بضم النون والشين جمع نشور مثل صبور وصبر ورسول ورسل أي متفرقة وهي الرياح التي تهب من كل ناحية (بين يدي رحمته) أي قدام المطر أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنبأنا أبو العباس الأصم أنبأنا الربيع أنبأنا الشافعي أنبأنا الثقة عن الزهري عن ثابت بن قيس عن أبي هريرة قال أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت فقال عمر رضي الله عنه لمن حوله ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئا فبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت في مؤخر الناس فقلت يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سالت عن الريح وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الريح تأتي من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها وسلوا الله من خيرها وتعوذوا به من شرها ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بإسناده (حتى إذا أقلت) حملت الرياح (سحابا ثقالا) بالمطر (سقناه) ورد الكناية إلى السحاب (لبلد ميت) أي إلى بلد ميت محتاج إلى الماء وقيل معناه لإحياء بلد ميت لا نبات فيه (فأنزلنا به) أي بالسحاب وقيل بذلك البلد (الماء) يعني من المطر (فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى) استدل بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى (لعلكم تذكرون) قال أبو هريرة وابن عباس إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله عليهم مطرا كمني الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم التوم فينامون في قبورهم ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رؤسهم وأعينهم فعند ذلك يقولون (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) قوله تعالى (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) هذا مثل ضربه الله للمؤمنين والكافرين فمثل
167

المؤمن مثل البلد الطيب يصيبه المطر فيخرج نباته بإذن ربه (والذي خبث) يريد الأرض السبخة التي (لا يخرج) نباتها (إلا نكدا) قرأ أبو جعفر بفتح الكاف وقرأ الآخرون بكسرها أي عسرا قليلا بعناء ومشقة فالأول مثل المؤمن الذي إذا سمع القرآن وعاه وعقله وانتفع به والثاني مثل الكافر الذي يسمع القرآن فلا يؤثر فيه كالبلد الخبيث الذي لا يتبين أثر المطر فيه (كذلك نصرف الآيات) نبينها (لقوم يشكرون) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب والكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به سورة الأعراف (59 62) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله تعالى (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه) وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس وهو أول نبي بعثه الله بعد إدريس وكان نجارا بعثه الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة وقال ابن عباس ابن أربعين سنة
وقيل بعث وهو ابن مائتين وخمسين سنة وقال مقاتل ابن مائة سنة وقال ابن عباس سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه واختلفوا في سبب نوحه فقال بعضهم لدعوته على قومه بالهلاك وقيل لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان وقيل لأنه مر بكلب مجذوم فقال اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه أعبتني أم عبت الكلب (فقال) لقومه (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) قرأ أبو جعفر والكسائي (من إله غيره) بكسر الراء حيث كان على نعت الآله وافق حمزة في سورة فاطر (هل من خالق غير الله) وقرأ الآخرون برفع الراء على التقديم تقديره ما لكم غيره من إله (إني أخاف عليكم) إن لم تؤمنوا (عذاب يوم عظيم) (قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال) خطأ وزوال عن الحق (مبين) بين (قال) نوح (يا قوم ليس بي ضلالة) ولم يقل ليست لأن معنى الضلالة الضلال أو على تقديم الفعل (ولكني رسول من رب العالمين) (أبلغكم) قرأ أبو عمرو (أبلغكم) بالتخفيف حيث كان من الإبلاغ لقوله (لقد
168

أبلغتكم) (رسالات ربي) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وقرأ الآخرون بالتشديد من التبليغ لقوله تعالى (بلغ ما أنزل إليك) رسالات ربي (وأنصح لكم) يقال نصحته ونصحت له والنصح أن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه (وأعلم من الله ما لا تعلمون) أن عذابه لا يرد عن القوم المجرمين سورة الأعراف (63 67) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (أوعجبتم) ألف استفهام دخلت على واو العطف (أن جاءكم ذكر من ربكم) قال ابن عباس رضي الله عنهما موعظة وقيل بيان وقيل رسالة (على رجل منكم لينذركم) عذاب الله إن لم تؤمنوا (ولتتقوا) أي لكي تتقوا الله (ولعلكم ترحمون) لكي ترحموا (فكذبوه) يعني كذبوا نوحا (فأنجيناه) من الطوفان (والذين معه في الفلك) في السفينة (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين) أي كفارا قال ابن عباس عميت قلوبهم عن معرفة الله قال الزجاج عموا عن الحق والإيمان يقال رجل عم عن الحق وأعمى في البصر وقيل العمى والأعمى كالخضر والأخضر قال مقاتل عموا عن نزول العذاب وهو الغرق قوله تعالى (وإلى عاد أخاهم هودا) أي وأرسلنا إلى عاد وهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام وهي عاد الأولى أخاهم في النسب لا في الدين وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوص وقال ابن إسحاق هو ابن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) أفلا تخافون (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك) يا هود (في سفاهة) في حمق وجهالة قال ابن عباس رضي الله عنهما تدعو إلى دين لا تعرفه (وإنا لنظنك من الكاذبين) إنك رسول الله إلينا (قال) هو (يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين)
169

سورة الأعراف (68 72) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) ناصح أدعوكم إلى التوبة أمين على الرسالة قال الكلبي كنت فيكم قبل اليوم أميتا (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم) يعني نفسه (لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء) يعني في الأرض (من بعد قوم نوح) أي من بعد إهلاكهم (وزادكم في الخلق بسطة) أي طولا وقوة قال الكلبي والسدي كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستون ذراعا وقال أبو حمزة الثماني سبعون ذراعا وعن ابن عباس رضي الله عنهما ثمانون ذراعا وقال مقاتل كان طول كل رجل اثني عشر ذراعا وقال وهب كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل يفرخ فيها الضياع وكذلك مناخرهم (فاذكروا آلاء الله) نعم الله واحدها إلى وإلى مثل مثل معي وأعماء وقفا واقفاء ونظيرها (آناء الليل) واحدها أني واني (لعلكم تفلحون) (قالوا أجئنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا) من الأصنام (فأتنا بما تعدنا) من العذاب (إن كنت من الصادقين) (قال) هو (قد وقع) وجب ونزل (عليكم من ربكم رجس) أي عذاب والسين مبدلة من الزاي (وغضب) أي سخط (أتجادلونني في أسماء سميتموها) وضعتموها (أنتم وآباؤكم) قال أهل التفسير كانت لهم أصنام يعبدونها سموها أسماء مختلفة (ما نزل الله بها من سلطان) حجة وبرهان (فانتظروا) نزل العذاب (إني معكم من المنتظرين) (فأنجيناه) يعني هودا عند نزول العذاب (والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا) أي استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم (وما كانوا مؤمنين)
170

(قصة عاد) ما ذكر محمد بن إسحاق وغيره أنهم كانوا ينزلون اليمن وكانت مساكنهم بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضرموت وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عز وجل وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها لهم صنم يقال له صداء وصنم يقال له صمود وصنم يقال له الهباء فبعث الله إليهم هودا نبيا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فأمرهم أن يوحدوا الله ويكفوا عن ظلم الناس لم يأمرهم بغير ذلك فكذبوه وقالوا من أشد منا قوة وبنو المصانع وبطشوا بطشة الجبارين فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء فطلبوا الفرج كانت طلبتهم إلى الله عز وجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم فيجتمع بمكة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم وكلهم معظم لمكة وأهل مكة يومئذ العماليق سموا عماليق لأن أباهم عمليق بن لاذ بن سام بن نوح وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري رجل نم عاد فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا جهزوا وافدا منكم إلى مكة فليستسقوا لكم فبعثوا قيل بن عنز ونعيم بن هزال من هزيل وعقيل بن صندين بن عاد الكبر ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغرين صندين بن عاد الأكبر فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلا فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان لمعاوية بن بكر وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي والله ما أدري كيف أصنع بهم استحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه فيظنون أنه ضيق مني بمقامهم عندي وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا فشكا ذلك من أمرهم إلى فينتيه الجرادتين فقالتا قل شعرا نغنهم به لا يدرون من قاله لعل ذلك أن يحركهم فقال معاوية بن بكر (ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يسقينا غماما فيسقي ارض عاد أن عادا قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير فقد أمست نساؤهم أيامى وإن الوحش تأتيهم جهارا فلا تخشى لعادي سهاما وأنتم ههنا فيما اشتهيتم نهاركمو وليلكمو تماما فقبح وفدكم من
وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما) فلما غنتهم الجرادتان هذا قال بعضهم لبعض يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فأدخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد بن عفير وكان قد آمن بهود
171

سرا إنكم والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم فأظهر إسلامه عند ذلك وقال شعرا (عصت عاد رسولهم فأمسوا عطاشا ما تبلهم السماء لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباء فبصرنا الرسول سبيل رشد فابصرنا الهدى وجلى العماء وإن إله هود هو إلهي على الله التوكل والرجاء) فقالوا لمعاوية بن بكر احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعو الله وبها وفد عاد يدعون فقال اللهم أعطني سؤلي وحدى ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل بن عنز رأس وفد عاد فقال وفد عاد اللهم أعط قيلا ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله وكان قد تخلف عن وفد عاد حين دعوا لقمان بن عاد وكان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم فقال اللهم إني جئتك وحدى في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل الله طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر وقال قيل بن عنز حين دعا يا إلهنا إن كان هود صادقنا فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السحاب يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذه السحائب ما شئت فقال قيل اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه منادت اخترت رمادا رمددا لا يبقي من آل عاد أحدا وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما راوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول الله تعالى: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها أي كل شيء مرت به وكان أول من بصر ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد فلما تبينت ما فيها صحت ثم صعقت فلما أفاقت قالوا لها ماذا رأيت قالت رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فلم تدع من آل عاد أحدا إلا هلك واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس وأنها لتمر من عاد بالظعن فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليها فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقة في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر فقالوا له فأين فارقت هودا وأصحابه فقال فارقتهم بساحل البحر فكأنهم شكوا فيما حدثهم به فقالت هزيلة بنت بكر صدق ورب مكة وذكروا أن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد وقيل بن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم قد أعطيتم مناكم فاختاروا لأنفسكم إلا أنه لا سبيل إلى الخلود ولا بد من الموت فقال مرثد اللهم أعطني صدقا وبرا فأعطي ذلك وقال لقمان أعطني يا رب عمرا فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنسر فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته فيأخذ الذكر منها لقوته حتى إذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على
172

السابع وكان كل نسر يعيش ثمانون سنة وكان آخرها لبدا فلما مات لبد مات لقمان معه وأما قبل فإنه قال أختار أن يصيبني ما أصاب قومي فقيل له إن الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم فأصابه الذي أصاب عادا من البلاء والعذاب فهلك قال السدي بعث الله على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض فلما رأواها تبادروا البيوت فدخلوها وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فأهلكتهم فيها ثم أخرجتهم من البيوت فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سوداء فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه وروي أن الله عز وجل أمر الريح فأهالت عليهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها وفي الحديث إنها خرجت على قدر خرق الخاتم وروي عن علي أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر وقال عبد الرحمن بن سابط بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك حتى أتى على السابع وكان كل نسر يعيش ثمانون سنة وكان آخرها لبدا فلما مات لبد مات لقمان معه وأما قيل فإنه قال أختار أن يصيبني ما أصاب قومي فقيل له إن الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم فأصابه الذي أصاب عادا من البلاء والعذاب فهلك قال السدي بعث الله على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض فلما رأواها تبادروا البيوت فدخلوها وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فأهلكتهم فيها ثم أخرجتهم من البيوت فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سوداء فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه وروي أن الله عز وجل أمر الريح فأهالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين تحت الرمل ثم أمر الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط غلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها وفي الحديث إنها خرجت على قدر خرق الخاتم وروي عن علي أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر وقال عبد الرحمن بن سابط بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك البقة ويروي أن النبي من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله فيها حتى يموتوا سورة الأعراف (73) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله تعالى (وإلى ثمود أخاهم صالحا) وهو ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح وأراد ههنا
173

القبيلة قال أبو عمرو بن العلاء سميت ثمود لقلة مائها والثمد الماء القليل وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القمر أخاهم صالحا أي أرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب لا في الدين صالحا وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن خادر بن ثمود (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم) على صدق (هذه ناقة الله) أضافها إليه على التفضيل والتخصيص كما يقال بيت الله (لكم آية) نصب على الحال (فذروها تأكل) العشب (في أرض الله ولا تمسوها بسوء) لا تصيبوها بعقر (فيأخذكم عذاب أليم) سورة الأعراف (74 77) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم) أسكنكم وأنزلكم (في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا) كانوا ينقبون في الجبال البيت ففي الصيف يسكنون بيوت الطين وفي الشتاء بيوت الجبل وقيل كانوا ينحتون البيوت في الجبل لأن بيوت الطين ما كانت تبقى مدة أعمارهم لطول أعمارهم فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) والعثو أشد الفساد (قال
الملأ) قرأ ابن عامر (وقال الملأ) بالواو (الذين استكبروا من قومه) يعني الأشراف والقادة الذين تعظموا عن الإيمان بصالح (للذين استضعفوا) يعني الأتباع (لمن آمن منهم) يعني قال الكفار للمؤمنين (أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه) إليكم (قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون) (قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) جاحدون (فعقروا الناقة) قال الأزهري العقر هو قطع عرقوب البعير ثم جعل النحر عقرا لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره (وعتوا عن أمر ربهم) والعتو الغلو في الباطل يقال عتا يعتو عتوا إذا استكبروا
174

والمعنى عصوا الله وتركوا أمره في الناقة وكذبوا نبيهم (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا) أي من العذاب (إن كنت من المرسلين) سورة الأعراف (78 79) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (فأخذتهم الرجفة) وهي زلزلة الأرض وحركتها وأهلكوا بالصيحة والرجفة (فأصبحوا في دارهم) قيل أراد الديار وقيل أراد في أرضهم وبلدتهم ولذلك وحد الدار (جاثمين) خامدين ميتين قيل سقطوا على وجوههم موتى عن آخرهم (فتولى) أعرض صالح (عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) فإن قيل كيف خاطبهم بقوله لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم بعدما أهلكوا الرجفة قيل كما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الكفار من قتلى بدر حين ألقاهم في القليب فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا فقال عمر يا رسول الله ما تكلم من أجسادنا لا أرواح لها فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون وقيل خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم وقيل في الآية تقديم وتأخير تقديرها فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي فاخذتهم الرجفة وكان قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق ووهب وغيرهما أن عاد لما هلكت وتقضي أمرها عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض فدخلوا فيها وكثروا وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل منهم حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله فيهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا فبعثه الله إليهم غلاما شابا فدعاهم إلى الله حتى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا إلى ما يقول فقال لهم أي آية تريدون قالوا أتخرج معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح نعم فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعوا به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة مفي ناحية من الحجر يقال لها الكاثبة نافقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء والمخترجة ما شاكل البخت من الإبل فإن فعلت صدقناك
175

وآمنا بك فاخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمن بي قالوا نعم فصلى صالح ركعتين ودعا به فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها عظما إلا الله وهم ينظرون ثم نتجت سبقا مثلها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه فنهاهم ذؤاب بن عمر بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمغر وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود فلما خرجت الناقة قال لهم صالح هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء فكانت ترد الماء غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ماء فيها فلا تدع قطرة ثم ترفع رأسها فتتفحج حتى تفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا من لبن فيشربون ويدخرون حتى يملؤ أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر أن تصدر من حيث ترد يضيق عنها إذا كان يومهم فيشربون ما شاءوا من الماء ويدخرون ما شاءوا ليوم الناقة فهل له من ذلك في سعة ودعة وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي أغنامهم وبقرهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه وذلك أن المواشي تنفر منها إذا رأتها وتشتو ببطن الوادي إذا كان الشتاء فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز تكنى بأم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزا مسنة وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم وامرأة أخرى يقال لها صدوف بنت المحيا وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرت بهما من مواشيهما فتحيلتا في عقر الناقة فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالا فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون أنه كان لزانية ولك يمكن لسالف ولكنه ولد على فراش سالف فقالت أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان قدار عزيزا منيعا في قومه أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهب حدثنا هشام عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا انبعث أشقاها) انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه مثل أبي زمعة رجعنا إلى القصة قالوا فانطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهرج فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فانطلق قدار وصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به في
176

عضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس فأسفرت لقدار ثم زمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ثم طعن في لبتها فنحرها وخرج أهل البلد واقتسموا لحمها وطبخوه فلما رأى سبقها ذلك انطلق حتى أتى جبلا منيعا يقال له صنو وقيل اسمه قارة وأتى صالح فقيل له أدرك الناقة فقد عقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه يعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا فقال صالح انظروا هل تذكرون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن
يرفع الله عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله إلى الجبل فتطاول في السماء حتى لا تناله الطير وجاء صالح فلما رآ الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم رغا ثلاثا وانفجرت الصخرة لدخلها فقال صالح لكل رغوة أجل يوم فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب وقال ابن إسحاق اتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهرج وأخوه هؤاب بن مهرج فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه جره برجله فأنزله فألقوا لحمه مع لحم أدمه وقال لهم صالح انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته قالوا وهم يهزؤن به ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك وكانوا يسمون الأيام فيهم الأحد أول والاثنين أهون والثاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنسا والجمعة العروبة والسبت شبار وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح حين قالوا ذلك تصبحون غداة يوم مؤنس ووجوهكم مصفرة ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقورا الناقة هلم فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قبلنا وإن كان كاذبا قد كنا ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما ابطؤا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم والله لا تقتلونه أبدا فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث ساعات فإن كان صادقا لم تزيدوا أربكم عليكم إلا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنهم ليلتهم فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوف صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم فعند ذلك أيقنوا العذاب وعرفوا أن صالحا قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه وخرج صالح هاربا منهم حتى جاء إلى بطن من ثمود يقال لهم بني غنم فنزل على سيدهم رجل يقال له نفيل ويكنى بأبي هدب وهو مشرك فغيبه عنهم ولم يقدروا عليه فغدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لنهديهم عليك أفندلهم قال نعم فدلهم عليه وأتوا أبا هدب فكلموه في ذلك فقال نعم عندي صالح وليس لكم عليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الجل فلما أصبحوا اليوم التالي إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدماء فصاحوا وبكوا فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا
177

وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار فصاحوا بأجمعهم ألا قد حضركم العذاب فلما أن كانت ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن اسلم معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا وألقوا أنفسهم بالأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصت كل شيء له صوت في الأرض فقطعت قلوبهم في صدورهم فلام يبق منهم صغير ولا كبير غلا هلك كما قال الله تعالى (فأصبحوا في دارهم جاثمين) إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سالف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح فأطلق الله رجليها بعدما عاينت العذاب فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتى أتت قزح وهو واد القرى من حد ما بين الحجاز والشام فأخبرتهم بما عاينته من العذاب وما أصاب ثمود ثم استقت من الماء فسقيت فلما شربت ماتت وذكر السدي في عقر الناقة وأوحى الله إلى صالح عليه السلام أن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك فقالوا ما كنا نفعل فقال صالح إنه يولد في شهركم هذا غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا لا يولد لنا ولد في هذا الشهر غلا قتلناه قال فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه وكان لم يولد له قبل ذلك وكان ابنه أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا وكان إذا مر بالتسعة قالوا لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أولادهم فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله قالوا نخرج فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كانالليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه ثم انصرفنا إلى رحلنا فقلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقوننا يظنون أنا قد خرجنا إلى سفر وكان صالح لا ينام معهم في القرية وكان يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار فسقط عليهم الغار فقتلهم فانطلق رجال ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ فرجعوا يصيحون في القرية أي عباد الله ما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة وقال ابن إسحاق كان تقاسم التسعة على تبييت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكر قال السدي وغيرهم فلما ولد ابن العاشر يعني قد أرشب في اليوم شاب غيره في الجمعة وشب في شهر شباب غيره في السنة فلما كبر جلس مع أناس يصيبون من الشراب فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نصنع نحن باللبن لو كان نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم قالوا نعم فعقرها أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا محمد بن مسكين ثنا يحيى بن حسان بن حيان أبو زكريا ثنا سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئر بها ولا يسقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين
178

ويهريقوا ذلك الماء وقال نافع عن ابن عمر فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من آبارها وأن يعلقوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة وروي عن الزبير عن جابر قال لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه لا يدخل أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين غلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم قال أما بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الناقة فبعث الله الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج وتشرب ماءهم يوم ورودها وأراهم مرتقى الفصيل من الجهل فعتوا عن أمر ربهم وعقروها فأهلك الله من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها غلا رجلا واحدا يقال له أبو رغال وهو أو ثقيف كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ودفن معه غصن من ذهب وأراهم قبر أبي رغال فنزل القوم فابتدروا بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح
أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت فلما دخلوها مات صالح فسمى حضرموت ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضوراء قال قوم من أهل العلم في صالح وهو ابن ثمان وخمسين سنة سورة الأعراف (80 81) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي قوله تعالى (ولوطا) أي وأرسلنا لوطا وقيل معناه واذكر لوطا وهو لوط بن هاران بن تارخ بن أخي إبراهيم (إذ قال لقومه) وهم أهل سدوم وذلك أن لوطا شخص من أرض بابل سافر مع عمه إبراهيم عليه السلام مؤمنا مهاجرا معه إلى الشام فنزل إبراهيم فلسطين وأنزل لوطا الأردن فأرسله الله عز وجل إلى أهل سدون فقال لهم (أتأتون الفاحشة) يعني إتيان الذكر (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) قال عمرو بن دينار مانزا ذكر على ذكر في الدنيا إلا كان من قوم لوط (إنكم) قرأ أهل المدينة وحفص (إنكم) بكسر الألف على الخبر وقرأ الآخرون على الاستئناف (لتأتون الرجال) في أدبارهم (شهوة من دون النساء) فسر تلك الفاحشة يعني أدبار الرجال أشهى إليكم من فروج النساء (بل أنتم قوم مسرفون) مجاوزون الحلال إلى الحرام قال محمد بن إسحاق كانت لهم ثمار وقى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس لينالوا من ثمارهم فآذوهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ فقال عن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم فأبوا فلما ألح عليهم قصدوهم فأصابوهم غلمانا صباحا فأخذوهم وقهروهم على أنفسهم وأخبثوا بهم فاستحكم ذلك فيهم قال الحسن كانوا لا ينكحون إلا الغرباء وقال الكلبي إن أول من عمل عمل قوم لوط
179

إبليس لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس في صورة شاب ثم دعا إلى دبره فنكح في دبره فأمر الله تعالى السماء أن تحصبهم والأرض أن تخسف بهم سورة الأعراف (83 85) تفسير البغوي ج 2 / محيي الدين البغوي (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا) قال بعضهم لبعض (أخرجوهم) يعني لوطا وأهل دينه (من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) يتنزهون عن أدبار الرجال (فأنجيناه) يعني لوطا (وأهله) المؤمنين وقيل أهله ابنتاه (إلا امرأته كانت من الغابرين) يعني الباقين في العذاب وقيل معناه كانت من الباقين المعمرين قد أتى عليها دهر طويل فهلكت مع من هلك من قوم لوط وإنما قال (من الغابرين) لأنه أراد ممن بقي من الرجال فلما ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قال من الغابرين (وأمطرنا عليهم مطرا) يعني حجارة من سجيل قال وهب الكبريت والنار (فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) قال أبو عبيدة يقال في العذاب أمطر وفي الرحمة مطر قوله تعالى (وإلى مدين أخاهم شعيبا) أي وأرسلنا إلى ولد مدين وهو مدين إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام وهم أصحاب الأيكة أخاهم شعيبا في النسب لا في الدين قال عطاء هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم وقال ابن إسحاق هو شعيب بن ميكائيل بن يزجر بن مدين بن إبراهيم وأم ميكائيل بنت لوط وقيل هو شعيب بن يثرون بن مدين بن إبراهيم وكان شعيب أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم) فإن قيل ما معنى قوله تعالى (قد جاءتكم بينة من ربكم) ولم يكن لهم آية مذكورة قيل قد كانت لهم هذه الآية إلا أنها لم تذكر وليست كل الآيات مذكورة في القرآن وقيل أراد بالبينة مجيء شعيب (فأوفوا الكيل) أتموا الكيل (والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم) لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياها (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) أي ببعث الرسل والأمر بالعدل وكل نبي بعث إلى قوم فهو صلاحهم (ذلكم) الذي ذكرت لكم وأمرتكم به (خير لكم إن كنتم مؤمنين) مصدقين بما أقول
180

سورة الأعراف (86 89) (ولا تقعدوا بكل صراط) أي على كل طريق (توعدون) تهددون (وتصدون عن سبيل الله) دين الله (من آمن به وتبغونها عوجا) زيغا وقيل تطلبون الإعوجاج في الدين والعدول عن القصد وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطريق فيقولون لمن يريد الإيمان لشعيب إن شعيب كذاب فلا يفتنك عن دينك ويتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوفونهم وقال السدي كانوا عشارين (واذكروا إذ كنتم قيلا فكثركم) فكثر عددهم (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) أي آخر أمر قوم لوط (وإن طان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا) أي إن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مكذبين ومصدقين (فاصبروا حتى يحكم الله بيننا) بتعذيب المكذبين وإنجاء المصدقين (وهو خير الحاكمين) (قال الماء الذين استكبروا من قومه) يعني الرؤساء الذين تعظموا عن الإيمان به (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) لترجعن إلى ديننا الذي نحن عليه (قال) شعيب (أولو كنا كارهين) يعني أولو كنا أي إن كنا كارهين لذلك فتجبروننا عليه (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها) بعد إذ أنقذنا الله منها (إلا أن يشاء الله ربنا) يقول إلا أن يكون قد سبق لنا في علم الله ومشيئته أنا نعود فيها فحينئذ يمضي قضاء الله فينا وينفذ حكمه علينا فإن قيل ما معنى قوله (أو لتعودن في ملتنا) (وما يكون لنا أن نعود فيها) ولم يكن شعيب قط على ملتهم حتى يصح قولهم ترجع إلى ملتنا قيل معناه أو لتدخلن في ملتنا فقال وما كان لنا أن ندخل فيها وقيل معناه إن صرنا في ملتكم ومعنى عاد صار وقيل أراد به قوم شعيب لأنهم كانوا كفارا فآمنوا فأجاب شعيب عنهم قوله (وسع ربنا كل
181

سورة الأعراف (90 92) شيء علما) أحاط علمه بكل شيء (على الله توكلنا) فيما توعدوننا فيه ثم عاد شعيب بعد ما أيس من فلاحهم فقال (ربنا افتح بيننا وبين قومنا) أي اقض بيننا (بالحق) والفتاح القاضي (وأنت خير الفاتحين) أي الحاكمين (قال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا) تركتم دينكم (إنكم إذا لخاسرون) مغبونون قال عطاء جاهدون قال الضحاك عجزة (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) قال الكلبي الزلزلة وقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره فتح الله عليهم بابا من جهنم فأرسل عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب ليبردوا فيها فإذا دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر فخرجوا هربا إلى البرية فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم فنادى بعضهم بعضا وهي الظلة فوجدوا لها بردا ونسيما حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلى وصاروا رمادا وروي أن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أ] أم ثم سلط عليهم الحر قال يزيد الجريري سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم ذلك قوله (عذاب يوم الظلة) قال قتادة بعث الله شعيبا إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين أما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأما أصحاب مدين فأخذتهم الصيحة صاح بهم جبريل عليه السلام
فهلكوا جميعا قال أبو عبد الله البجلي كان أبو جاد وهوز وحطى وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكن ملكهم في زمن شعيب عليه السلام يوم الظلة كلمن فلما هلك قامت ابنته تبكيه (كلمن ق هد ركني هلكه وسط المحلة) (سيد القوم أتاه هلك نارا تحت ظله) (جعلت نارا عليه دارهم كالمضمحلة) وقوله تعالى (الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا بها) أي لم يقيموا لوم ينزلوا فيها من قولهم عنيت بالمكان إذا قمت به والمغاني المنازل واحدها مغنى وقيل كأن لم يتنعموا فيها (الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرون) لا المؤمنين كما زعموا
182

سورة الأعراف (93 97) (فتولى عنهم) أعرض عنهم شعيب شاخصا من بين أظهرهم حين أتاهم العذاب (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى) أحزن (على قوم كافرين) والأسى الحزن والأسى الصبر قوله (وما أرسلنا في قرية من نبي) فيه إضمار يعني فكذبوه (إلا أخذنا) عاقبنا (أهلها) حين لم يؤمنوا (بالبأساء والضراء) قال ابن مسعود البأساء الفقر والضراء المرض وهذا معنى قول من قال البأساء ي المال والضراء ف النفس وقيل البأساء البؤس وضيق العيش والضراء والضر سوء الحال وقيل البأساء في الحزن والضراء في الجدب (لعلهم يضرعون) لكي يتضرعوا فيتوبوا (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) يعني النعمة والسعة والخصب والصحة (حتى عفوا) أي كثروا وازدادوا أو كثرت أموالهم يقال عفا الشعر إذا كثر قال مجاهد كثرت أموالهم وأولادهم (وقالوا) من غرتهم وغفلتهم بعد ما صاروا إلى الرخاء (قد مس آباءنا الضراء والسراء) أي هكذا كانت عادة الدهر قديما لنا ولآبائنا ولم يكن ما مسنا من الضراء عقوبة من الله فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم فإنهم لم يتركوا دينهم لما أصابهم من الضراء قال الله تعالى عز وجل (فأخذناهم بغتة) فجأة آمن ما كانوا (وهم لا يشعرون) بنزول العذاب (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) يعني المطر من السماء والنبات من الأرض وأصل البركة المواظبة على الشيء أي تابعنا عليهم المطر والنبات ورفعنا عنهم القحط والجدب (ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) من الأعمال الخبيثة (أفأمن أهل القرى) الذين كفروا وكذبوا يعني مكة وما حولها (أن يأتيهم بأسنا) عذابنا (بياتا) ليلا (وهم نائمون)
183

(أو أمن) قرأ أهل الحجاز والشام (أو أمن) بسكون الواو والباقون بفتحها (أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى) أي نهارا والضحى صدر النهار ووقت انبساط الشمس (وهم يلعبون) ساهون لاهون (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) ومكر الله استدراجه إياهم بما أنعم عليهم في دنياهم وقال عطية يعني أخذه وعذابه (أولم يهد) قرأ قتادة ويعقوب (نهد) بالنون على التعظيم والباقون بالياء على التفريد يعني أ لم يتبين (للذين يرثون الأرض من بعد) هلاك (أهلها) الذين كانوا فيها (أن لو نشاء أصبناهم) أي أخذناهم وعاقبناهم (بذنوبهم) كما عاقبنا من قبلهم (ونطبع) نختم (على قلوبهم فهم لا يسمعون) الإيمان ولا يقبلون الموعظة قال الزجاج قوله (ونطبع) منقطع عما قبله لأن قوله (أصبناهم) ماض و (نطبع) مستقبل (تلك القرى) أي هذه القرى التي ذكرت لك أمرها وأمر أهلها يعني قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب (نقص عليك من أنبائها) أخبارها لما فيها من الاعتبار (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات) بالآيات والمعجزات والعجائب (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) أي فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذبوا من قبل رؤيتهم تلك العجائب نظيره قوله عز وجل (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرون) قال ابن عبسا والسدي يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم لؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم فأقروا باللسان وأضمروا التكذيب وقال مجاهد معناه فما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم لقوله عز وجل (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) قال يمان بن رباب هذا على معنى أن كل نبي أنذر قومه بالعذاب فكذبوه يقول ما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الخالية بل كذبوا بما كذب أوائلهم نظيره قوله عز وجل (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول
184

سورة الأعراف (102 107) إلا قالوا ساحر أو مجنون (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) أي كما طبع الله على قلوب الأمم الخالية وأهلكهم كذلك يطبع الله على قلوب الكفار الذين كتب أن لا يؤمنوا من قومك (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) أي وفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) أي ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين ناقضين للعهد قوله تعالى (ثم بعثنا من بعدهم) أي من بعد نوح وهود وصالح وشعيب (موسى بآياتنا) بأدلتنا (إلى فرعون وملئه فظلموا بها) فجحدوا بها والظلم وضع الشيء في غير موضعه وظلمهم وضع الكفر موضع الإيمان (فنظر كيف كان عاقبة المفسدين) كيف فعلنا بهم (وقال موسى) لما دخل على فرعون (يا فرعن إني رسول من رب العالمين) إليك فقال فرعون كذبت فقال موسى (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق) أي أنا خليق بأن لا أقول على الله إلا الحق فتكون (على) بمعنى الباء كما يقال رميت بالقوس ورميت عن القوس وجئت على حال حسنة وبحال حسنة يدل عليه قراءة أبي والأعمش (حقيق بأن لا أقول) وقال أ [و عبيدة معناه حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق وقرأ نافع (علي) بتشديد الياء أي حق واجب علي أذن لا أقول على الله إلا الحق (قد جئتكم ببينة من ربكم) يعني العصا (فأرسل معي بني إسرائيل) أي أطلق عنهم وخلهم يرجعون إلى الأرض المقدسة وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة من ضرب اللبن ونقل التراب ونحوهما فقال فرعون مجيبا لموسى (قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين) (فألقى) موسى (عصاه) من يده (فإذا هي ثعبان مبين) والثعبان الذكر العظيم من الحيات فإن قيل أليس قد قال في موضع آخر (كأنها جان) والجان الحية الصغيرة قيل إنها كانت كالجان في الحركة والخفة وهي في جثتها حية عظيمة قال ابن عباس والسدي إنه لما ألقى العصا صارت حية
185

سورة الأعراف (108 112) عظيمة صفراء شعراء فاغرة فاهاما بين لحييها ثمانون ذراعا ارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت له على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه وروي أنها أخذت قبة فرعون بين نابيها فوثب فرعون من سريره هاربا وأحدث قيل أخذه البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرة وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا ومات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا ودخل فرعن البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي
أرسلك خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت ثم قال فرعون هل معك آية أخرى قال نعم (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) فأدخل يده في جبه ثم نزعها منه وقيل أخرجها من تحت إبطه فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور الشمس وكان موسى آدم اللون ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت (يريد أن يخرجكم) يا معشر القبط (من أرضكم) مصر (فماذا تأمرون) أي تشيرون إليه هذا يقوله فرعون وإن لم يذكره وقيل من قول الملأ لفرعون وخاصته (قالوا) يعني الملأ (أرجه) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وابن عامر بالهمزة وضم الهاء وقرأ الآخرون بلا همزة ثم نافع رواية ورش والكسائي يشبعان الهاء كسرا ويسكنها عاصم وحمزة ويختلسها أبو جعفر وقالون قال عطاء معناه أخره وقيل احبسه (وأخاه) معناه أشاروا عليه بتأخير أمره وترك التعرض إليه بالقتل (وأرسل في المدائن حاشرين) يعني الشرط في المدائن وهي مدائن الصعيد من نواحي مصر قالوا أرسل إلى هذا المدائن رجالا يحشرون إليك من فيها من السحرة وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد فإن غلبهم موسى صدقناه وإن غلبوا علمنا أنه ساحر فذلك قوله (يأتوك بكل ساحر عليم) قرأ حمزة والكسائي (سحار) ههنا في سورة يونس ولم يختلفوا في الشعراء أنه سحار قيل الساحر الذي يتعلم السحر ولا يعلم والساحر الذي يعلم ويعمل وقيل الساحر من يكون سحره في وقت دون وقت والسحار من يديم السحر قال ابن عبسا وابن إسحاق والسدي قال فرعون لما رأى من سلطان في العصا ما رأى إنا لا نغالب إلا بمن هو أعلم
186

سورة الأعراف (113 117) منه فاتخذ غلمانا من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الغوصاء يعلمونهم السحر فعلموهم سحرا كثيرا ووعد فرعون موسى موعدا فبعث إلى السحرة فجاؤوا ومعلمهم معهم فقال هل ماذا صنعت قال قد علمتهم سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمر من السماء فإنه لا كاقة لهم به ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك في سلطانه ساحرا إلا أتى به واختلفوا في عددهم فقال مقاتل كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط وهما رؤساء القوم وسبعون من بني إسرائيل قال الكلبي كان الذين يعملونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى وكانوا سبعين غير رئيسهم وقال كعبت كانوا اثني عشر ألفا وقال السدي كاوا بضعة وثلاثين ألفا وقال عكرمة كانوا سبعين ألفا وقال محمد بن المنكدر كانوا ثمانين ألفا قال مقاتل كان رئيس السحرة شمعون وقا لان جريج كان رئيس السحرة يوحنا (وجاء السحرة فرعون) واجتمعوا (قالوا) لفرعون (إن لنا لأجرا) أي جعلا ومالا (إن كنا نحن الغالبين) قرأ أهل الحجاز وحفص (أن لنا) على الخبر وقرأ الباقون بالاستفهام ولم يختلفوا في الشعراء أنه مستفهم (قال) فرعون (نعم وإنكم لمن المقربين) في المنزلة الرفيعة عندي مع الأجر قال يعني أول من يدخل وآخر من يخرج (قالوا) يعني السحرة (يا موسى إما إن تلقي) عصاك (وإما أن نكون نحن الملقين) لعصينا وحبالنا (قال) موسى بل (ألقوا) أنتم (فلما ألقوا سحروا أعين الناس) أي صرفوا أعينهم ع إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه التخييل وهذا هو السحر (واسترهبوهم) أي أرهبوهم وأفزعوهم (وجاؤا بسحر عظيم) وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وشبا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا وفي القصة أن الأرض كانت ميلا في ميل صارت حيات وأفاعي في أعين الناس (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك) فألقاها فصارت حية عظيمة حتى سدت الأفق قال ابن زيد كان اجتماعهم بالإسكندرية ويقال بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا (فإذا
187

سورة الأعراف (118 125) هي تلقف) قرأ حفص (تلقف) ساكنة اللام خفيفة حيث كان وقرأ الآخرون بفتح اللام وتشديد القاف أي تبتلع (ما يأفكون) يكذبون من التخابيل وقيل يزورون على الناس وكانت تلتقم حبالهم وعصيهم واحدا واحا حتى ابتعلت الكل وقصدت القوم الذين حضروا فوقع الزحام عليهم فهلك منهم في الزحام خمسة وعشرون ألفا ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت (فوقع الحق) قال الحسن ومجاهد ظهر الحق (وبطل ما كانوا يعملون) من السحر وذلك أن السحرة قالوا لو كان ما يصنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصيانا فلما فقدت علموا أن ذلك من أمر الله (فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) ذليلين مقهورين (وألقي السحرة ساجدين) لله قال مقاتل ألقاهم الله وقيل ألهمهم الله أن يسجدوا فسجدوا قال الأخفش من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا (قالوا آمنا برب العالمين) فقال فرعون إياي تعنون فقالوا (رب موسى وهارون) قال مقاتل قال موسى لكبير السحرة تؤمن بي إن غلبتك فقال لآتين بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأومنن بك وفرعون ينظر (قال) لهم (فرعون) حين آمنوا (آمنتم به) قرأ حفص (آمنتم) على الخبر ههنا وفي طه والشعراء وقرأ الآخرون بالاستفهام أأمنتم به (قيل أن آذن لكم) أصدقتم موسى من غير أمري إياكم (إن هذا لمكر مكرتموه) أي صنع صنعتموه أنتم وموسى (في المدينة) في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على صر (لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون) ما أفعل بكم (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) وهو أن يقطع من كل شق طرفا قال الكلبي لأقطن أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى (ثم لأصلبنكم أجمعين) على شاطئ نهر مصر (قالوا) يعني السحرة لفرعون (إنا إلى ربنا منقلبون) راجعون في الآخرة
188

سورة الأعراف (126 128) (وما تنقم منا) أي ما تكره منا وقال الضحاك وغيره وما تطعن علينا وقال عطاء مالنا عندك من ذنب تعذبنا عليه (إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) ثم فزعوا إلى الله عز وجل فقالوا (ربنا أفرغ) أصيب (علينا صبرا وتوفنا مسلمين) ذكر الكلبي أن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم وذكر غيره أنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى (لا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) (وقال الملأ من قوم فرعون) له (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) وأرادوا بالإفساد في الأرض دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته (ويذرك) أي وليذرك (وآلهتك) فلا يعبدك ولا يعبدها قال ابن عباس كان لفرعون بقرة يبعدها وكان إذا رأى بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها فلذلك أخرج السامري لهم عجلا وقال الحسن كان قد علق على عنقه صليبا يعبده وقال السدي كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناما وأمرهم بعبادتها وقال لقومه هذه آلهتكم أراد بها أنه ربها وربكم فذلك قوله (أنا ربكم الأعلى) وقرأ ابن مسعود وابن عباس والشعبي والضحاك (ويذرك وإلهتك) بكسر الألف أي عبادتك فلا يعبدك لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد وقيل أراد بالآلهة الشمس وكانوا يعبدونها قال الشاعر (تروحنا من اللعباء قصرا وأعجلنا الالاهة أن تؤبا) (قال) فرعون (سنقتل أبناءهم) قرأ أهل الحجاز (سنقتل) بالتخفيف من القتل وقرأ الآخرون بالتشديد من التقتيل على الكثير (ونستحيي نساءهم) نتركهن أحياء (وإنا فوقهم قاهرون) غالبون قال ابن عباس كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل له أنه يولد مولود يذهب بملكك فلم يزل يقتلهم حتى أتاهم موسى بالرسالة
وكان من أمره ما كان فقال فرعون أعيدوا عليهم القتل فأعادوا عليهم القتل فشكت ذلك بنو إسرائيل (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله) يعني أرض مصر (يورثها) يعطيها (من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) النصر والظفر وقيل السعادة والشهادة وقيل الجنة
189

سورة الأعراف (129 131) (قالوا أوذينا) قال ابن عباس لما آمنت السحرة ابتع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل فقالوا يعني قوم موسى إنا أوذينا (من قبل أن تأتينا) بالرسالة بقتل الأبناء (ومن بعد ما جئتنا) بإعادة القتل علينا وقيل فالمراد منه أن فرعون كان يستسخرهم قبل مجيء موسى إلى نصف النهار فلما جاء موسى استسخرهم جميع النهار بلا أجر وذكر الكلبي أنهم كانوا يضربون له اللبن بطين فرعون فلما جاء موسى أجبرهم أن يضربوه بطين من عندهم (قال) موسى (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) فرعون (ويستخلفكم في الأرض) أي يسكنكم أرض مصر من بعدهم (فينظر كيف تعملون) فحقق الله بإغراق فرعون استخلافهم في ديارهم وأموالهم فعبدوا العجل قوله تعالى (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) أي بالجدب والقحط تقول العرب مستهم السنة أي جدب السنة وشدة السنة وقيل أراد بالسنين القحط سنة بعد سنة (ونقص من الثمرات) والغلات بالآفات والعاهات وقال قتادة أما السنين فلأهل البوادي وأما نقص الثمرات فلأهل الأمصار (لعلهم يذكرون) أي يتعظون وذلك لأن الشدة ترفق القولب وترغبها فيما عند الله عز وجل (فإذا جاءتهم الحسنة) يعني الخصب والسعة والعافية (قالوا لنا هذه) أي نحن ألها ومستحقوها على العادة التي جرت لنا في سعة أرزاقنا ولم يروها تفضلا من الله عز وجل فيشكروا عليها (وإن تصبهم سيئة) جدب وبلاء ورأوا ما يكرهون (يطيروا) يتشاءموا (بموسى ومن معه) وقالوا ما أصابنا بلاء حتى رأيناهم فهذا من شؤم موسى وقومه وقال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر وكان ملك فرعون أربعمائة سنة وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروها ولو كان له في تلك المدة جوع أو حمى ليلة أو وجع ساعة لما أدعى الربوبية قط قال الله تعالى (ألا إنما طائرهم عند الله) نصيبهم من الخصب والجدب والخير والشر كله من الله وقال ابن عباس طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم وفي رواية عنه شؤمهم عند الله ومن قبل الله أي إنما جاءهم الشؤم بكفرهم بالله وقيل معناه الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن الذي أصابهم من الله
190

سورة الأعراف (132 133) (وقالوا) يعني القبط لموسى (مهما) متى (ما) كلمة تستعمل للشرط والجزاء (تأتنا به من آية) علامة (لتسحرنا بها) لتنقلنا عما نحن عليه من الدين (فما نحن لك بمؤمنين) بمصدقين (فأرسلنا عليهم الطوفان) قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق دخل كلام بعضهم في بعض لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوبا أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر فتابع الله عليهم الآيات وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات فلما عالج منهم بالآيات الأربع العصا واليد والسنين ونقص الثمار فأبوا أن يؤمنوا فدعا عليهم فقال يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وطغى وعتا وإن قو مه قد نقضوا عهدك رب فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فبعث الله عليهم الطوفان وهو الماء أرسل الله عليهم الماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق ولم يتخل بيوت بين إسرائيل قطرة من الماء وركد الماء على أرضهم لا يقدرون أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا ودام ذلك عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت وقال مجاهد وعطاء الطوفان الموت وقال وهب الطوفان الطاعون بلغة اليمن وقال أبو قلابة الطوفان الجدري وهم أول من عذبوا به فبقي في الأرض وقال مقاتل الطوفان الماء طغى فوق حروثهم وروى ابن ظبيان عن ابن عباس قال الطوفان أمر من الله طاف بهم ثم قرأ (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون) قال نحاة الكوفة الطوفان مصدر لا يجمع كالرجحان والنقصان وقال أهل البصرة هو جمع واحدها طوفانة فقال لموسى أدع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان فأنبت الله لهم في تلك السنة شيء لم ينتبه لهم قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر وخصبت بلادهم فقالوا ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصبا فلم يؤمنوا وأقاموا شهرا في عافية فبعث اله عليهم الجراد فأكل كل عامة زروعهم وثمارهم وأوراق الشجر حتى كانت تأكل الأبواب وسقوف البيوت والخشب والثياب والأمتعة ومسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم وابتلى الجراد بالجوع فكان لا يشبع ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك فعجوا وضجوا وقالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك وأعطوه عهد الله وميثاقه فدعا موسى عليه السلام فكشف الله عنهم الجراد بعدما أقام عليه سبعة أيام من السبت إلى السبت وفي الخبر مكتوب على صدر كل جراده جند الله الأعظم ويقال إن موسى برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت وكانت قد بقيت من زروعهم وغلاتهم بقية فقالوا قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا فلم يفوا بما
191

عاهدوا وعادوا إلى أعمالهم السوء فأقاموا شهرا في عافية ثم بعث الله عليهم القمل واختلفوا في القمل فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال القمل السوس الذي يخرج من الحنطة وقال مجاهد والسدي وقتادة والكلبي القمل الدبى والجراد الطيارة التي لها أجنحة والدبى الصغار التي لا أجنحة لها وقال الجراد وقال أبو عبيدة وهو الحمنان وهو ضرب من القراد وقال عطاء الخرساني هو القمل وبه قرأ أبو أحسن (القمل) بفتح القاف وسكون الميم قالوا أمر الله موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى عين شمس فمشى موسى إلى ذلك الكثيب وكان أهيل فضربه بعصاه فانهال عليهم القمل فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم وبناتهم فأكمله ولحس الأرض كلها وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضده وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلئ قملا قال سعيد بن المسيب القمل السوس الذي يخرج من الحبوب وكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلا يرد منها ثلاثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل وأخذ أشعارهم وأبشارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري عليهم ومنعهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا إلى موسى أنا تنوب فادع لنا ربك يكشف عنا البلاء فدعا موسى عليه السلام الله فرفع القمل عنهم بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم وقالوا كنا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم يجعل الرمل دواب وقالوا وعزة فرعون لا نتبعه أبدا ولا نصدقه فأقاموا شهرا في عافية فدعا موسى عليه السلام بعدما أقاموا شهرا في عافية فأرسل الله عليهم الضفادع فامتلأت منها بيوتهم وأفنيتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحد إناء ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى ذقنه ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع إلى فيه وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم
طعامهم وتطفئ نيرانهم وكان أحدهم يضطجع فتركبه الضفادع فتكون عليه ركاما حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر ويفتح فاه لأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه ولا يعجن عجينا الإ تشدخت فيه ولا يفتح قدرا إلا امتلأت ضفادع فلقوا منها أذى شديدا وروي عكرمة عن ابن عباس قال كانت الضفادع برية فما أرسلها الله على أل فرعون وأطاعت فجعلتن تقذف نفسها في القدور وهي تفلي وفي التنانير وثي تفور فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى وقالوا هذه المرة نتوب إلى الله تعالى ولا نعود فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعدما أقام سبعا من السبت إلى السبت فأقاموا شهرا في عافية ثم نقضوا العهود وعادوا إلى كفرهم فدعا عليهم موسى فأرسل الله عليهم الدم فسال النيل عليهم دما وصارت مياههم دما وما يستقون من الآبار والأنهار إلا وجدوه دما عبيطا أحمر فشكوا ذلك إلى فرعون وقالوا ليس لنا شراب فقال إنه سحركم فقال القوم من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا دما عبيطا وكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على الإناء الواحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما ويقومان إلى الجرة فيها الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطي دم حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول اسقني من مائك فتصب لها من قربتها فيعود في الإناء دما حتى كانت تقول اجعليه في فيك ثم مجيه في فيه
192

سورة الأعراف (134 136) فتأخذ في فيها ماء فإذا مجته في فيها صار دما وإن فرعون اعتراه العطش حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها يصير ماؤها في فيه ملحا أجاجا فمكثوا في ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم قال زيد ين أسلم الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف فأتوا موسى وقالوا يا موسى ادع ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن من بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه عز وجل فكشف عنهم فلم يؤمنوا فذلك قوله عز وجل فأرسلنا عليهم الطوفان (والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات) يتبع بعضها بعضا أن كل عذاب كان يمتد أسبوعا وبين كل عذابين شهرا (فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين) (ولما وقع عليهم الرجز) أي نزل بهم العذاب وهو ما ذكر الله عز وجل من الطوفان وغيره وقال سعيد ين جبير الرجز الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس حتى مات منهم سبعون ألفا في يوم أحد فأمسوا وهو لا يتدافنون (قالوا) لموسي (يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عنك) أي أوصاك وقال عطاء يما نبأك وقيل بما عهد عندك من إجابة دعوتك (لئن كشفت عنا الرجز) وهو الطاعون (لنؤمنن لم ولنرسلن معك بني إسرائيل) أخرنا أبو الحسن السرخسي ثنا زاهر نب أحمد ثيا أبو إسحق الهاشمي ثنا أبو مصعب عن مالك عن محمد بن المنكدر عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه انه سمعه يسأل أسامة بن زيد أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون فقال أسامة بن زيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قوله عز وجل (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه) يعني إلى الغرق في اليم (إذا هم ينكثون) ينقضون العهد (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم) يعني البحر (بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) أي عن النقمة قبل حلولها وقيل معناه عن آياتنا معرضين
193

سورة الأعراف (137 140) وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) يقهرون ويستذلون بذبح الأبناء واستخدام النساء والاستعباد وهم بنو إسرائيل (مشارق الأرض ومغاربها) يعني مصر والشام (الني باركنا فهيا) بالماء والأشجار والثمار والخصب والسعة (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل) يعني وتمت كلمة الله وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين في الأرض وذلك قوله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) الآية (بما صبروا) على دينهم وعلى عذاب فرعون (ودمرنا) أهلكنا (ما كان يصنع فرعون وقومه) في أرض مصر من العمارات (وما كانوا يعرشون) قال مجاهد يبنون من البيوت والقصور وقال الحسن يعرشون من الأشجار والثمار والأعناب وقرأ أبو بكر وابن عامر (يعرشون) بضم الراء ها هنا وفي النحل وقرأ الآخرون بكسرها قوله تعالى (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) قال الكلبي عبر بهم موسى البحر يوم عاشوراء بعد مثلك فرعون وقومه فصامه شكرا لله عز وجل (فأتوا) فمروا (على قوم يعكفون) يقيمون قرأ حموة والكسائي (يعكفون) بكسر الكاف وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان (على أصنام) أوثان (لهم) يعبدونها من دون الله قال وذلك أول شأن العجل قال قتادة كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولا بالرقة فقالت بنو إسرائيل لما رأوا ذلك (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها) أي مثالا نعبده (كما لهم آلهة) ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة وكان ذلك لشدة جهلهم (قال) موسى (إنكم قوم تجهلون) عظمة الله (إن هؤلاء متبر) مهلك (ما هم فيه) والتتبير الإهلاك (وباطل) ومضمحل وزائل (ما كانوا يعملون) (قال) يعني موسى (أغير الله أبغيكم) أي أبغي لكم وأطلب (إلها وهو فضلكم على العالمين) أي على عالمي زمانكم أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري أنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري أنا إسحق بن إبراهيم الدبري أنا عبد
194

سورة الأعراف (141 143) الرزاق أنا معمر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واعد الليثي قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما كان للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة لتركب سنن من قبلكم) قوله عز وجل (وإذ أنجيناكم) قرأ ابن عامر (وإذ أنجاكم) وكذلك هو في مصاحف أهل الشام (من أل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم) فرأ نافع يقتلون خفيفة التاء من القتل وقرأ الآخرون بالتشديد على التكثير من التقتيل (ويستحيون نساءكم وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم) (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) ذ القعدة (وأتممناها بعشر) من ذي الحجة (فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى) عند انطلاقه إلى الجبل للمناجاة (لأخيه هارون اخلفني) كن خليفتي (في قومي وأصلح) أي أصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وقال ابن عباس يريد الرفق بهم ولإحسان إليهم (ولا تتبع سبيل المفسدين) أي لا تطع من عصى الله ولا توافقه على أمره وذلك أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن الله إذا أهلك
عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما فعل الله ذلك بهم سأل موسى ربه الكتاب فأمره الله عز وجل أن يصوم ثلاثين يوما فملا تمت ثلاثون أنكر خلوف فيه فتسوك بعود خرنوب وقال أبو العلية أكل من لحاء شجرة فقالت ه الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله أن يصوم عشرة أيام من ذي الحجة وقال أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك وكانت فتنتهم في العشر التي زادها قوله عز وجل (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) أي للوقت الذي ضربنا له أن نكلمه فيه قال أهل التفسير إن موسى تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه فملا أتى طور سيناء وفي القصة إن الله عز وجل
195

أنزل ظلمة على أربعة فراسخ وطرد عنه الشيطان وطرد هوام الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء فرأى الملائكة قياما في الهواء ورأى العرض بارزا وكلمة الله وناجاه حتى أسمعه وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلمه ربه وأدناه حتى صرير القلم فاستحلى موسى عليه السلام كلام ربه واشتاق إلى رؤيته (قال رب أرني أنظر إليك) قال الزجاج فيه اختصار تقديره أرني فنسك أنظر إليك قال ابن عباس أعطني النظر إليك فإن قيل كيف سأل الرؤية وقد لعم أن الله تعالى لا يرى في الدنيا قال الحسن هاج به الشوق فسأل الرؤية وقيل سأل الرؤية طنا منع أنه يجوز أن يرى في الدنيا (قال) الله تعالى (لن تراني) وليس لبشر أن يطيق النظر إلي في الدنيا من نظر إلى في الدنيا مات فقال إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن انظر إليك ثم أموت أحب إلى من أن أعيش ولا أراك فقال الله عز وجل (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل) وهو أعظم جبل بمدين يقال له زبير قال السدي لما كلم الله موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى فوسوس إليه وقال إن من كلمك شيطان فند ذلك سأل موسى الرؤية فقال الله عز وجل (لن تراني) وتعلقت نفاة الرؤية بظاهر هذه الآية وقالوا قال الله (لن تراني) ولن تكون للتأييد ولا حجة لهم فيها ومعنى الآية لن تراني في الدنيا أو في الحال لأنه كان يسأل الرؤية في الحال وان لا تكون للتأبيد كقوله تعالى (لن يتمنوه أبدا) إخبارا عن اليهود ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرة كما قال اله تعالى (ونادوا يا مالك ليعض علنيا ربك) و (يا ليتها كانت القاضية) والدليل عليه أنه لم ينسبه إلى الجهل بسؤال الرؤية ولم يقل إني لا أرى حتى تكون لهم حجة بل علق الرؤية على استقرارا الجبل واستقرار الجبل عند التجلي غير مستحيل إذا جعل الله تعالى له تلك القوة والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالا قال اله تعالى (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) قال وهب وابن إسحق لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الدواب والصواعق والظلمة والرعد والبرق وأحاط بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب وأمر الله ملائكة السماء أن يعترضوا على موسى فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه أمثال الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف بان عمران مما رأى وسمع واقشعرت كل شعرة في رأسه وجسده ثم قال لقد ندمت على مسئلتي فهل ينجيني من مكاني الذي فيه شيء فقال له خير الملائكة ورأسهم يا موسى اصبر لم سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا أمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كجلب الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى واشتد فزعه وأيس من الحياة فقال له خير الملائكة يا بان عمران مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران فهبطوا لعيه لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم علية بالتقديس والتسبيح لا يقاربهم شيء من أصوات الذين
196

مروا به من قبلهم فاصطكت ركبتاه وارتعد قلبه واشتد بكاؤه فقال له خير الملائكة ورأسهم يا ابن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفا واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له خير الملائكة ورأسهم يا بان عمران مكانك حتى ترى بعض ما تصبر عليه ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه في يد كل ملك منهم مثل النخلة الطويلة نار أشد ضوءا من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم يقولون بشدة أصواتهم سبوح قدوس رب الملائكة والروح برب العزة أبدا لا يموت وفي رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا وهو يبكي ويقول رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن مكثت مت فقال له كبير الملائكة ورأسهم قد أوشكت بيا بان عمران أن يشتد خرفك ويخلع قلبك فاصبر للذي سألت ثم أمر الله أن يحمل عرضه ملائكة السماء السابعة فملا بدا نور العرش انفرج الحبل من عظمة الرب جدل جلاله ورفعت ملائكة السماوات أصواتهم جميعا يقولون سبحان الملك القدوس رب العزة أبدا لا يموت بشدة أصواتهم فارتج الجبل واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقا على وجهه ليس معه روحه فأرسل الله برحمته الروح فيغشاه وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى وجعله كهيئة القبة لئلا يحترق موسى فأقامه الروح مثل اللامة فقال موسى يسبح الله ويقول آمنت بك ربي وصدقت أنه لا يراك أحد فيحبيا من نظر إلى ملائكتك أنخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكة أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ولا يعد لم شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك ما أجلك رب العالمين فذلك قوله تعالى (فما تجلى ربه للجبل جعله دكا) قال ابن عباس ظهر نور به للجبل جبل زبير وقال الضحاك أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور وقال عبد الله بن سم كعب الأحبار ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط حتى صار دكا وقال السدي ما تجلى إلا قدر الخنصر يدل عليه ما روى ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال (هكذا) ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل وحكى عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى اظهر من سبعين ألف حجاب نورا قدر الدرهم فجعل الجبل دكا أي مستويا بالأرض قرأ حمزة والكسائي (دكاء) ممدودا عير منون ها هنا وفي سورة الكهف وافق عاصم في الكهف وقرأ الآخرون (دكا مقصورا منونا فمن قصر فمعناه جعله مدقوقا والدك والدق واحد وقيل معناه دكه الله دكا فتقه كما قال (إذا دكت الأرض دكا) ومن قرأ بالمد أي جعله مستويا أرضا دكاء وقيل معناه جعله مثل دكاء وهي الناقة التي لا سنام لها قال ابن عباس جعله ترابا وقال سفيان ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه وقال عطية العوفي
صار رملا هائلا وقال الكلبي جعله دكا أي كسرا جبالا صغارا ووقع في تعض التفاسير 2 ارت لعظمته ستة أجبل وقعت بالمدينة أحد وودقان ورضوى
197

سورة الأعراف (144) ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء قوله عز وجل (وخر موسى صعقا) قال ابن عباس والحسن مغشيا عليه وقال قتادة ميتا وقال الكلبي خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر قال الواقدي لما خر موسى صعقا قالت ملائكة السماوات ما لانب عمران وسؤال الرؤية وفي بعض الكتب أن ملائكة السماوات أتوا موسى وهو مغشي عليه فجعلوا يركلونه بأرجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة (فلما أفاق) موسى من صعقته وثاب إليه عقله عرف أنه قد سأل امرا عظيما لا ينبغي له (قال سبحانك تبت إليك) عن سؤال الرؤية (وأنا أول المؤمنين) بأنك لا ترى في الدنيا وقال مجاهد والسدي وأنا أول من آمن بك من بني إسرائيل (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس) أي اخترتك قرأ ابن كثير وأبو عمرو (إني) بفتح الياء وكذلك (أخي أشدد) (برسالاتي) قرأ أهل الحجاز برسالتي على التوحيد والآخرون بالجمع (وبكلامي فخذ ما آتيتك) أعطيتك (وكن من الشاكرين) لله على نعمه فإن قيل فما معنى قوله (اصطفيتك على الناس برسالاتي) وقد أعطى غيره الرسالة قيل لما لم تكن الرسالة على العموم في حق الناس كافة اصطفيتك على الناس وإن شاركه فيه غيره كما يقول الرجل خصتك بمشورتي وإن شاور غيه إذا لم تكن المشورة على العمم يكون مستقيما وفي القصة أن موسى كان بعدما كلمه ربه لا يستطيع أحد أ ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات وقالت له امرأته أنا لم أرك منذ كلمك ربك فكشف لها وجهه فأخذها مثل شاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرجت لله ساجدة وقالت ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة قال ذلك لك إن لم تتزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها أخبرنا أ [و سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي المزكي أنا أبو العباس محمد بن أحمد بن إسحاق السراج حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا رشد بن أسعد بن عبد الرحمن المغافري عن أبه عن كعب الأحبار أن موسى نظر عند سعيد في التوراة فقال إني أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وبالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال رب اجعلهم أمتي قال هي أمة محمد يا موسى فقال ربي إني أجد أمة هم الحمادون لله على كل حال رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد فقال رب إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد فقال يا رب إني أجد
198

سورة الأعراف (145) أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله فإذا هبط واديا حمد الله الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غر محجلون من آثار الوضوء فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال رب إني أجد أمة إذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة مثلها وإن عملها كتبت بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت له سيئة مثلها فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد فقال رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب من الذين اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد أحدا منهم إلا مرحوما فاجعلهم أمتي قال هي أمة أحمد قال رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة يصفون في صلاتهم صفوف الملائكة أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل لا يدخل النار أحد منهم أبدا إلا من يرى الحساب مثل ما يرى له الحجر من وراء البحر فاجعلهم أمتي قال هي أمة أحمد فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدا وأمته قال يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) إلى قوله (سأريكم دار الفاسقين ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) قال فرضي موسى كل الرضا قوله تعالى (وكتبنا له) يعني لموسى (في الألواح) قال ابن عباس يريد ألواح التوراة وفيء الحديث كانت من سدر الجنة طول اللوح اثنا عشر ذراعا وجاء في أحاديث خلق الله آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده وقال الحسن كانت الألواح من الخشب قال الكلبي كانت من زبر جدة خصراء وقال سعيد بن جبير كانت من ياقوت أحمر وقال البيع بن أنس كانت الألواح من برد وقال ابن جريج كانت من زمرد أمر الله جبريل حتى جاء بها من عدن وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور قال وهب أمر الله بقطع الألواح من صخرة صماء لينها الله له فقطعها بيده ثم شققها بيده وسمع مسوى صرير القلم بالكلمات العشرة وكان ذلك في أول يوم من ذي القعدة وكانت الألواح عشرة أذرع على طول موسى وقال مقاتل ووهب (وكتبنا له في الأواح) كنقش الخاتم وقال الربيع بن أنس نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأه إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى وقال الحسن هذه الآية في التوراة ألف آية يعني (وكتبنا له في الألواح) (من كل شيء) مما أمروا به ونهوا عنه (موعظة) نهيا عن الجهل وحقيقة
199

سورة الأعراف (146) الموعظة التذكير والتحذير مما يخاف عاقتبه (وتفصيلا لكل شيء) أي تبيينا لكل شيء من الأمر والنهي والحلال والحرام والحدود والأحكام (فخذها بقوة) أي بجد واجتهاد وقيل بقوة القلب وصحة العزيمة لأنه إذا اخذه بضعف النية أداه إلى الفتور (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما يحلوا حلالها ويحرموا حرامها ويتدبروا أمثالها ويعملوا بمحكمها ويقفوا عند متشابهها وكان موسى عليه السلام أشد عبادة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به قال قطرب بأحسنها أي بحسنها وكلها حسن وقيل أحسنها الفرائض والنوافل وهي ما يستحق عليها الثواب وما دونها المباح لأنه لا يستحق عليه الثواب وقيل بأحسنها بأحسن الأمرين في كل شيء كالعفو أحسن من القصاص والصبر أحسن من الانتصار (سأريكم دار الفاسقين) قال مجاهد مصيرها في الآخرة قال الحسن وعطاء يعني جهنم يحذركم أن تكونوا مثلهم وقال قتادة وغيره سأدخلكم الشأم فأريكمن منازل القرون الماضية الذين خالفوا أمر الله لتعتبروا بها قال عطية العوفي أراد دار فرعون وقومه وهي مصر يدل عليه قراءة قسمة بن زهير (سأورثكم دار الفاسقين) وقال السدي دار الفاسقين مصارع الكفار وقال الكلبي ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا قوله تعالى (سأصرف عن آياتي الذي يتكبرون في الأرض بغير الحق) قال ابن عبسا يريد الذين يتجبرون على عبادي ويحاربون أوليائي حتى لا
يؤمنوا بي يعني سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها عوقبوا بحرمان الهداية لعنادهم للحق كقوله (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) قال سفيان بن عيينة ساء منعهم فهم القرآن قال ابن دريج يعني عن خلق السماوات والأرض وا فيهما أي سأصرفهم أن يتفكروا فيها ويفكروا فيها ويعتبروا بها وقيل حكم الآية لأهل مصر خاصة وأراد وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها الله تعالى موسى والأكثرون على أن الآية عامة (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا) يعني هؤلاء المتكبرين (سبيل الرشد) قرأ حمزة والكسائي (الرشد) بفتح الراء والشين والآخرون بضم الراء وسكون الشين وهما لغتان كالسقم والسقم والبخل والبخل والحزن والحزن وكان أبو عمر يفرق بينهما فيقول الرشد بالضم الصلاح في الأمر وبالفتح الاستقامة في الدين ومعنى الآية وإن يروا طريق الهدى والسداد (لا يتخذوه) لأنفسهم (سبيلا) (وإن يروا سبيل الغي) أي طريق الضلال (يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) عن التفكر فيها والاتعاظ بها غافلين ساهين
200

سورة الأعراف (147 150) (وال 1 ين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة) أي لقاء الدار الآخرة التي هي موعد الثواب والعقاب (حبطت أعمالهم) بطلت وصارت كألم تكن (هل يجزون) في العقبى (إلا ما كانوا) أي إلا جزاء ما كانوا (يعملون) في الدنيا قوله تعالى (واتخذ قوم موسى من بعده) أي من بعد انطلاقه إلى الجبل (من حليهم) التي استعارها من قوم فرعون قرأ حمزة والكسائي (من حليهم) بكسر الحاء وسكون اللام خفيف اتخذ السامري منها (عجلا) وألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل فتحول عجلا (جسدا) حيا ولحما ودما (له خوار) وهو صوت البقر وهذا قول ابن عباس والحسن وقتادة وجمعة أهل التفسير وقيل كان جسدا مجسدا من ذهب لا روح فهي كان يسمع منه صوت وقيل كان يسمع صوت حفيف الريح يدخل ف جوفه ويخرج والأول أصح وقيل إنه ما خار إلا مرة واحدة وقيل إنه كان يخور كثيرا فكلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤسهم وقال وهب كان يسمع منه الخوار وهو لا يتحرك وقال السدي كان يخور ويمشي (ألم يروا) يعني الذين عبدوا العجل (أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا) قال الله عز وجل (اتخذوه وكانوا ظالمين) أي اتخذوه إلها وكانوا كافرين (ولما سقط في أيديهم) أي ندموا على عبادة العجل تقول العرب لكل نادم على أمر قد سقط في يديه (ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا) يتب علينا ربنا (ويغفر لنا) يتجاوز عنا (لنكونن من الخاسرين) قرأ حمزة والكسائي (ترحمنا وتغفر لنا) بالتاء فيهما (ربنا) بنصب الباء وكان هذا الندم والاستغفار منهم بعد رجوع موسى إليهم قوله تعالى (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) قال أبو الدرداء الأسف شديد الغضب وقال ابن عباس والسدي أسفا أي حزينا والأسف أشد الحزن (قال بئسما خلفتموني من بعدي) أي بئس ما عملتهم بعد ذهابي يقال خلفه بخير
201

سورة الأعراف (151 153) أو بشر إذا أولاه في أهله بعد شخوصه عنهم خيرا أو شرا (أعجلهم) أسبقتم (أمر ربكم) قال الحسن وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ليلة وقال الكلبي أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم (وألقى الألواح) التي فيها التوراة وكان حاملا لها وألقاها على الأرض من شدة الغضب قالت الرواة كانت التوراة سبعة أسباع فلما ألقى الألواح تسكرت فرفعت ستة أسباعها وبقي سبع فرفع ما كان من أخبار الغيب أو بقي ما فيه الموعظة والأحكام والحلال والحرام (وأخذ برأس أخيه (بذوائبه ولحيته (يجره إليه) وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان لين الغضب (قال) هارون عند ذلك (ابن أم) قرأ أهل الكوفة والشام ها هنا وفي طه بكسر الميم يريد يا ابن أمي فحذف ياء الإضافة وأبقيت الكسرة لتدل على الإضافة كقوله (يا عباد) وقرأ أهل الحجاز والبصرة وحفص بفتح الميم على معنى يا ابن أماه وقيل جعله اسما واحدا وبناه على الفتح كقولهم حضرموت وخمسة عشر ونحوهما وإنما قال ابن أم وكان هارون أخاه لأبيه وأمه ليرققه ويستعطفه وقيل كان أخاه لأمه دون أبيه (إن القوم استضعفوني) يعني عبدة العجل (وكادوا يقتلونني) هموا وقاربوا أن يقتلوني (فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني) في مؤاخذتك علي (مع القوم الظالمين) يعني عبدة العجل (قال) موسى لما تبين له عذر أخيه (رب اغفر لي) ما صنعت إلى أخي (ولأخي) إن كان منه تقصير في الإنكار على عبدة العجل (وأدخلنا) جميعا (في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) قوله تعالى (إن الذين اتخذوا العجل) أي اتخذوه إلها (سينالهم غضب من ربهم) في الآخرة (وذلة في الحياة الدنيا) قال أبو العالية هو ما أمروا به من قتل أنفسهم وقال عطية العوفي (إن الذين اتخذوا العجل) أراد اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عيرهم بصنيع آبائهم فنسبه إليهم (سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا) أراد ما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء وقال ابن عباس رضي الله عنهما هو الجزية (وكذلك نجزي المفترين) الكاذبين قال أبو قلابة هو والله جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله قال سفيان بن عيينة هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة قوله عز وجل (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم)
202

سورة الأعراف (154 155) قوله تبارك وتعالى (ولما سكت) أي سكن (عن موسى الغضب أخذ الألواح) التي كان ألقاها وقد ذهبت ستة أسباعها (وفي نسختها) اختلفوا فيه قيل أراد بها الألواح لأنها نسخت من اللوح المحفوظ وقيل إن موسى لما ألقى الألواح تكسرت فنسخ منها نسخة أخرى فهو المراد من قوله (وفي نسختها) وقيل أراد وفيما نسخ منها وقال عطاء فيما بقي منها وقال ابن عباس وعمرو ابن دينار لما ألقى موسى الألواح فكسرت صام أربعين يوما فردت عليه في لوحين كان فيه (هدى ورحمة) أي هدى من الضلالة ورحمة من العذاب (للذين هم لربهم يرهبون) أي للخائفين من ربهم واللام في (لربهم) زيادة للتوكيد كقوله (ردف لكم) وقال الكسائي إن تقدمت قبل الفعل حسنت كقوله (للرؤيا تعبرون) قال قطرب أراد من رهبم يرهبون قيل أراد راهبون وقيل أراد راهبون لربهم قوله تعالى (واختار موسى قومه) أي من قومه فانتصب لنزع حرف الصفة (سبعين رجلا لميقاتنا) وفيه دليل على أن كلهم لم يعبدوا العجل قال السدي أمر الله تعال موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائي يعتذرون إليه من عبادة لعجل فاختار موسى من قومه سبعين رجلا (فلما) أتوا ذلك المكان قاولا لن يؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا قال ابن إسحاق اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوا ويسألوا التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم فهذا يدل على أن كلهم عبدوا العجل قال قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب (أخذتهم الرجفة) لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل ولم يأمروهم بالمعروف لم ينهوهم عن المنكر وقال ابن عباس إن السبعين الذين قاولا (لن نؤمن لك حتى
نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة) كانوا قبل السبعين رجلا فاختارهم وبرز بهم ليدعوا ربهم فكان فيما دعوا أن قالوا اللهم اعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة قال وهب لم تكن الرجفة صوتا ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرعدة من دعائهم فأخذتهم الرجفة قال وهب لم تكن الرجفة صوتا ولكن القوم لما رأوا تلك الهبة أخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا حتى كادت أن تبين منهم مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتد عليه فقهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكى وناشد ربه فكشف الله عنهم تلك الرجفة فاطمأنوا وسمعوا كلم ربهم فذلك قوله عز وجل (قال) يعني موسى (رب ل شئت أهلكتهم من قبل) يعني عن عبادة العجل (وإياي) بقتل القبطي (أتهلكنا بما فعل
203

سورة الأعراف (156 157) السفهاء منا) يعني عبدة العجل وظن موسى أنهم عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل وقال هذه على طرق السؤال يسأل أتهلكنا بفعل السفهاء وقال المبرد (أهلكنا بما فعل السفهاء منا) استفهام استعطاف أي لا تهلكنا وقد علم موسى عليه السالم أن الله تعالى أعدل من أن يأخذ بجريرة الجاني غيره قوله تعالى (إن هي إلا فتنتك) أي التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا اختبارك وابتلاءك أضللت بها قوما فاقتفوا وهديت قوما فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك فذلك هو معن قوله (تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا) ناصرنا وحافظنا (فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) (واكتب لنا) أوجب لنا (في هذه الدنيا حسنة) النعمة والعافية (وفي الآخرة) أي وفي الآخرة (حسنة) أي المغفرة والجنة (إنا هدنا إليك) أي تبنا إليك (قال) الله تعالى (عذابي أصيب به من أشاء) من خلقي (ورحمتي وسعت) أي عمت (كل شيء) قال الحسن وقتادة وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة قال عطية العوفي وسعت كل شيء ولكن لا تجب إلا للذين يتقون وذلك أن الكافرين يرزقون ويدفع عنهم بالمؤمنين لسعة رحمة الله للمؤمنين فيعيشون فيها فإذا صار إلى الأخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وابن جريج لما نزلت (ورحمتي وسعت كل شيء) قال إبليس أنا من ذلك الشيء فقال الله سبحانه وتعالى (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) فتمناها اليهود والنصارى وقالوا نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن فجعلها الله لهذه الأمة فقال (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) الآية قال نوف البكالي الحميري لما اختار موسى سبعين رجلا قال الله تعاى ل لموسى أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أردكتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو
204

حمام أو قبل واجعل السكينة في قلوبكم تقرؤن التوراة عن ظهر قلوبكم يقرأها الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير فقال ذلك موسى لقومه فقالوا لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا ولا نستطيع أ نقرأ التوراة عن ظهور قلوبنا ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا فقال الله تعالى (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة) إلى قوله (أولئك هم المفلحون) فجعلها الله لهذه الأمة فقال موسى عليه السلام يا رب اجعلني منهم فقال إنك لن تدركهم فقال موسى عليه السلام يا رب أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل الله تعالى (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) فرضى موسى قوله تعالى (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) وهو محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عبسا رضي الله عنهما هو نبيكم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب وهومنسوب إلى الأم إي هو على ما ولدته أمه وقيل هو منسوب إلى أمته أصله أمتي وسقطت التاء في النسبة كما سقطت في المكي والمدني وقيل هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة (الذي يجدونه) أي يجدون صفته ونعته ونبوته (مكتوبا عنهم في التوراة والإنجيل) أخبرنا عبد الواحد المليحي أن أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن سنان حدثنا فليح حدثنا هلال عن عطء بن يسار قال لقيت عبد الله ابن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ لا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ويصفح ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن ابن سلام أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هراون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي أنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام أنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي حدثنا عبد الله بن عثمان عن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن عبد الله بن ضمرة عن كعب قال إني أجد في التوراة مكتوبا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح أمته الحمادون يحمدون الله في كل منزلة ويكبرونه على كل نجد يأتزرون على أنصافهم ويوضؤن أطرافهم صفهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء مناديهم ينادي في جو السماء لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل مولده بمكة ومهاجره بطابة وملكه بالشام قوله تعالى (يأمرهم بالمعروف) أي بالايمان (وينهاهم عن المنكر) يعني عن الشرك قيل المعروف الشريعة والسنة والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة وقال عطاء يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام وينهاهم عن المنكر عن عبادة الأوثان وقطع الأرحام (ويحل لهم
205

سورة الأعراف (158 159) الطيبات) يعني ما كانوا يحرمونه في الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام (ويحرم عليهم الخبائث) يعني الميتة والدم ولحم الخنزير والزنا وغيرها من المحرمات (ويضع عنهم إصرهم) قرأ ابن عباس (آصارهم) بالجمع والإصر كل ما يثقل على الإنسان من قول أو فعل قال ابن عباس والحسن والضحاك والسدي ومجاهد يعني العهد الثقيل كان أخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة وقال قتادة يعني التشديد الذي كان عليهم في الدين (والأغلال) يعني الأثقال (التي كانت عليهم) وذلك مثل قتل النفس في التوراة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة عن الثوب بالمقراض وتعيين القصاص في القتل وتحريم أخذ الدية وترك العمل في السبت وأن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس وغير ذلك من الشدائد شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق (فالذين آمنوا به) أي بمحمد صلى الله
عليه وسلم (وعزروه) وقروه (ونصروه) على الأعداء (واتبعوا النور الذي أنزل معه) يعني القرآن (أولئك هم المفلحون) قوله تعالى (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته) أي آياته وهي القرآن وقال مجاهد والسدي يعني عيسى ابن مريم ويقرأ (كلمته ألقاها إلى مريم) (واتبعوه لعلكم تهتدون) قوله عز وجل (ومن قوم موسى) يعني من بني إسرائيل (أمة) أي جماعة (يهدون بالحق) أي يرشدون ويدعون إلى الحق وقيل معناه يهتدون ويستقيمون عليه (وبه يعدلون) أي بالحق يحكمون وبالعدل يقومون قال الكلبي والضحاك والربيع هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر مجرى الرمل يسمى نهر الأردن ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويسقون بالنهار ويزرعون لا يصل إليهم منا أحد وهم على دين الحق وذكر أن جبرائيل عليه السلام ذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إليهم فكلمهم فقال لهم جبريل هل تعرفون من تكلمون قالوا لا فقال لهم هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به فقالوا يا رسول الله إن موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه مني السلام فرد النبي صلى الله عليه وسلم على موسى وعليهم ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة وأمرهم بالصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وقيل هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والأول أصح
206

سورة الأعراف (160 162) قوله عز وجل (وقطعناهم) أي فرقناهم يعني بني إسرائيل (اثني عشرة أسباطا أمما) قال الفراء إنما قال (اثنتي عشرة) والسبط مذكر لأنه قال (أمما) فرجع التأنيث إلى الأمم وقال الزجاج المعنى وقطعناهم اثنتا عشرة فرقة أمما وإنما قال (أسباطا أمما) بالجمع وما فوق العشرة لا يفسر بالجمع فلا يقال أتاني اثنا عشر رجالا لأن الأسباط في الحقيقة نعت المفسر المحذوف وهو الفرقة أي وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أمما وقيل فيه تقديم وتأخير تقديرها وقطعناهم أسباطا أمما اثنتي عشرة والأسباط القبائل واحدها بسط قوله تعالى (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه) في التيه (أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست) انفجرت وقال أبو عمرو بن العلاء عرقت وهو الانبجاس ثم انفجرت (منه اثنتا عشرة عينا) لكل سبط عين (قد علم كل أناس) كل سبط (مشربهم) وكل سبط بنو أب واحد قوله تعالى (وظللنا عليهم الغمام) في التيه تقيهم حر الشمس (وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم) قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب (نغفر) بالتاء وضمها وفتح الفاء وقرأ الآخرون بالنون وفتحها وكسر الفاء (خطيئاتكم) قرأ ابن عامر (خطيئتكم) على التوحيد ورفع التاء وقرأ أبو عمرو و (خطاياكم) وقرأ أهل المدينة ويعقوب (خطيئاتكم) بالجمع ورفع التاء وقرأ الآخرون بالجمع وكسر التاء بالجمع (سنزيد المحسنين) (فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا) عذابا (من السماء بما كانوا يظلمون)
207

سورة الأعراف (163 164) قوله تعالى (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) أي سل يا محمد هؤلاء اليهود الذي هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي بقربه قال ابن عباس هي قرية يقال لها إيلة بين مدين والطور على شاطئ البحر وقال الزهري هي طبرية الشام (إذ يعدون في السبت) أي ظاهرة علة الماء كثيرة جمع شارع وقال الضحاك متتابعة وفي القصة أنها كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش السمان البيض (ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) قرأ الحسن (يوم لا يسبتون) بضم الياء أي لا يدخلون في السبت والقراءة المعروفة بنصب الياء ومعناه لا يعظمون السبت (كذلك نبولهم) نختبرهم (بما كانوا يفسقون) فوسوس إليهم الشيطان وقال إن الله لم ينهكم عن الاصطياد إنما نهاكم عن الأكل فاصطادوا أو قيل وسوس إليهم أنكم إنما نهيتم عن الأخذ فاتخذوا حيضا على شاطئ البحر تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ثم تأخذونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زمانا ثم تجرؤا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلا قد أحل لنا فأخذوا وأكلوا أو باعوا فصار أهل القرية أثلاثا وكانوا نحوا من سعين ألفا ثلث نهوا وثلث لم ينهوا وسكتوا وقالوا لم تعظون قوما الله مهلكم وثلث هم أصحاب الخطيئة فلما لم ينتهوا قال الناهون لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتقدين باب ولعنهم داود فأصبح الناهون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا إن لهم لشانا لعل الخمر غلبتهم فتسوروا والجدار واسترقوا عليهم فإذا هم كلهم صاروا قردة وخنازير فعرقت القردة أنسابها من الإنس ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة فجعلت القردة تأتي أنسابها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فيقول ألم ننهكم فتقول برأسها نعم فما نجا إلا الذين نهوا أو هلك سائرهم قوله تعالى (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم) اختلفوا في الذين قالوا هذا قيل كانوا من الفرقة الهالكة وذلك أنهم لما قيل انتهوا عن هذا العمل السيء قبل أن ينزل بكم العذاب فإنا نعلم أن الله منزل بكم بأسه إن لم تنتهوا أجابوا وقالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم (أو) علمتهم أنه (معذبهم عذابا شديدا قالوا) أي قال الناهون (معذرة) أي موعظتنا معذرة (إلى ربكم) قرأ حفص (معذرة) بالنصب أي نفعل ذلك معذرة إلى ربكم والأصح أنها من قول الفرقة الساكنة قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم قالوا معذرة إلى ربكم ومعناه أن الأمر بالمعروف واجب علينا فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى الله (ولعلهم يتقون) أي يتقون الله ويتركون المعصية ولو كان الخطاب مع
208

سورة الأعراف (165 168) المعتدين لكان يقول ولعلكم تتقون (فلما نسوا ما ذكروا به) أي تركوا ما وعظوا به (أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا) يعني الفرقة العاصية (بعذاب بئيس) أي شديد وجيع من البأس وهو الشدة واختلف القراءة فيه قراءة أهل المدينة وابن عامر (بئيس) بكسر الباء على وزن فعل إلا أن ابن عامر يهمزه وأبو جعفر ونافع لا يهمزان وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل وقرأ الآخرون على وزن فعيل مثل بعير وصغير (بما كانوا يفسقون) قال ابن عباس رضي الله عنهما نسمع الله يقول (أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس) فلا أدري ما فعل بالفرقة الساكنة قال عكرمة قلت هل جعلني فداك إلا نراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه وقالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قولي فرضي وأمر لي ببر دين فكسانيهما وقال نجت الفرقة الساكنة وقال يمان بن رباب نجت الطائفتان الذين قاولا لنم تعظون قوما والذين قاولا معذرة إلى ربكم
وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن وقال ابن زيد الناهية وهلكت الفرقتان وهذه أشد آية في ترك النهي عن المنكر قوله تعالى (فلما عتوا عما نهوا عنه) قال ابن عباس أبوا أن يرجعوا عن المعصية (قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) مبعدين فمكثوا ثلاثة أيام ينظر بعضهم إلى بعض وينظر إليهم الناس ثم هلكوا (وإذ تأذن ربك) أي آذن وأعلم ربك يقال تأذن وآذن توعد وأوعد وقال ابن عباس تأذن ربك قال بك وقال مجاهد أمر ربك وقال عطاء حكم ربك (ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة) أي على اليهود (من يسومهم سوء العذاب) بعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) (وقطعناهم) فرقناهم (في الأرض أمما) فرقنا فرقهم الله فتشتت أمرهم فلم تجتمع لهم كلمة (منهم الصالحون) قال ابن عباس ومجاهد يريد الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به (ومنهم دون ذلك) يعني الذين بقوا على الكفر وقال الكلبي منهم الصالحون هم الذين وراء نهر أوداف من
209

سورة الأعراف (169) وراء الصين ومنهم دون ذلك يعني من ههنا من اليهود (وبلوناهم بالحسنات) بالخصب والعافية (والسيئات) الجدب والشدة (لعلهم يرجعون) لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا (فخلف من بعدهم) أي جاء من هؤلاء الذين وصفناهم (خلف) والخلف القرن الذي يجيء بعد قرن قال أبو حاتم الخلف بسكون اللام الأولاد الواحد والجمع فيه سواء والخلف بفتح اللام البدل سواء كان ولدا أو غريبا وقال ابن الأعرابي الخلف بالفتح الصالح وبالجزم الطالح وقال النضر بن شميل الخلف بتحريك اللام وإسكانها في القرن السوء واحد وأما في القرن الصالح فبتحريك اللام لا غير وقال محمد بن جرير أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد يحرك في الذم ويسكن في المدح (ورثوا الكتاب) أي انتقل إليهم الكتات من آبائهم وهو التوراة (يأخذون عرض هذا الأدنى) العرض متاع الدنيا والعرض بسكون الراء ما كان من الأموال سوى الدراهم والدنانير وأراد بالأدنى العالم وهو هذه الدار الفانية فهو تذكير الدنيا وهؤلاء اليهود ورثوا التوراة فقرؤوها وضيعوا العمل بما فيها وخالفوا حكمها يرتشون في حكم الله وتبديل كلماته (ويقولون سيغفر لنا) ذنوبا يتمنون على الله الأباطيل أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنبأنا طاهر محمد بن أحمد بن الحرث أنبأنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمود أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنبأنا عبد الله بن المبارك عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني عن ضمرة بن جندب عن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز مهن اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب يقول إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما ويتمنون على الله المغفرة وأين وجدوا من الغد مثله أخذوه وقال السدي كانت بنو إسرائيل لا يستقضون إلا ارتشى في الحكم فيقال له مالك ترتشي فيقول سيغفر لي فيطعن عليه الآخر فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي أيضا يقول وإن يأت الآخرين عرض مثله يأخذوه (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) أي أخذ عليهم العهد في الإصرار (ودرسوا ما فيه) قرأوا ما فيه فهم ذاكرون لذلك ولو عقلوه لعملوا للدار الآخرة ودرس الكتاب قراءته وتدبره مرة بعد أخرى (والدار الآخرة للذين يتقون أفلا تعقلون)
210

سورة الأعراف (170 172) (والذين يمسكون بالكتاب) قرأ أبو بكر عن عاصم (يمسكون) بالتخفيف وقراءة العامة بالتشديد لأنه يقال مسكت بالشيء ولا يقال أمسكت بالشيء إنما يقال أمسكته وقرأ أبي بن كعب (والذين تمسكوا بالكتاب) على الماضي وهو جيد لقوله تعالى (وأقاموا الصلاة) إذ قل ما يعطف ماض على مستقبل إلا في المعنى وأراد الذين يعملون بما في الكتاب قال مجاهد هم المؤمنون من أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة وأقل عطاء هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم (وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين) قوله تعالى (وإذ نتقنا الجبل فوقهم) أي قلعنا وقال المؤرج قطعناه وقال الفراء علقنا وقيل رفعنا (كأنه ظلة) قال عطاء سقيفة والظلة كل ما أظلك (وظنوا) علموا (أنه واقع بهم خذوا) أي وقلنا لهم خذوا (ما آتيناكم بقوة) بجد واجتهاد (واذكروا ما فيه) واعلموا به (لعلكم تتقون) وذلك حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة فرفع الله على رؤسهم جبلا قال السحن فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجدا على حاجة الأيسر ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من أن يسقط عليه ولذلك لا تجد يهوديا إلا ويكون سجوده على حاجبه الأيسر قوله تعالى (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) الآية أخبرنا أبو الحسن محمد بن السرخي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أ [ي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) الآية قال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم سمح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل ففيم العمل يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت خؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل ففيم العمل يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل نمن أعمال أهل النار فيدخله به النار وقال أبو عيسى هذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم
211

يسمع من عمر وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلا قال مقاتل وغيره من أهل التفسير إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال يا آدم هذه ذريتك ثم قال لهم ألست بربكم هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال ثم أعادهم جميعا في صلبه فأهل القبور ومحبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) وقال بعض أهل التفسير إن أهل السعادة أقروا طوعا وقالوا بلى وأهل الشقاوة قاوله تقية وكرها وذلك معنى قوله (وله أسلم من في
السماوات والأرض طوعا وكرها) واختلفوا في موضع الميثاق قال ابن عباس رضي الله عنهما ببطن نعمان واد إلا جنب عرفة وروي عنه أيضا أنه بدهناء من أرض الهند وهو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام عليه وقال الكلبي بين مكة والطائف وأقل السدي أخرج الله آدم علي السلام من الجنة فلم يهبط من السماء ثم مسح ظهره فأخرج ذريته وروي أن الله أخرجهم جميعا وصورهم وجعل لهم عقولا يعلمون بها وألسنا ينطقون بها ثم كلمهم قبلا يعني عيانا وقال ألست بربكم وقال الزجاج وجائزان يكون الله تعالى جعل لأمثال الذر فهما تعقل به كما قال تعالى (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) وروي أن الله تعالى قال لهم جميعا اعملوا أنه لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئا فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي وإني مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتبا فتكلموا جميعا وقالوا هدنا أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك فأخذ بذلك مواثيقهم ثم كتب آجالهم وأرزقاهم ومصائبهم فنظر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال رب لولا سويت بينهمه قال إني أحب أن أشكر فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعهضم على بعض أعادهم إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى بولد كل ذريتهم قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر (ذرياتهم) بالجمع وكسر التاء وقرأ الآخرون (ذريتهم) على التوحيد ونصب التاء فإن قيل ما معنى قوله (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم) وإنما أخرجهم من ظهر آدم قيل إن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما قوله تعالى (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) أي أشهد بعضهم على بعض قوله (شهدنا أن تقولوا) قرأ أبو عمرو (ان يقولوا) ويقولوا بالياء فيهما وقرأ الآخرون بالتاء فيهما واختلفوا في قوله (شهدنا) قال السدي هو خبر من الهل عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم وقال بعضهم هو خبر عن قول بني آدم أشهد الله بعضهم على بعض فقالوا بلى شهدناه وقال الكلبي ذلك من قول الملائكة وفيه حذف تقديره لما قالت الذرية بلى قال الله للملائكة الذرية قال الله للملائكة اشهدوا قالوا شهدنا قوله (ان يقولوا) يعني وأشهدهم على أنفسهم
212

سورة الأعراف (173 175) يقولوا أي لئلا يقولوا أو كراهية أن يقولوا ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام أخاطبكم ألست بربكم لئلا تقولوا (يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) أي عن هذا الميثاق والإقرار فإن قيل كيف يلزم الحجة واحد لا يذكر الميثاق قيل قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة قوله تعالى (أو تقلوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) يقول إنما أخذ الميثاق عليكم لئلا تقولوا أيها المشركون إنما أشرك آباؤنا من قبل ونقضوا العهد وكنا ذرية من بعدهم أي كنا أتباعا لهم فاقتدينا بهم فتجعلوا هذا عذرا لأنفسكم وتقولوا (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) أفتعذبنا بجناية آبائنا المبطلين فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق على التوحيد (وكذلك نفصل الآيات) أي نبين الآيات ليتدبروا العباد (ولعلهم يرجعون) من الكفر إلى التونحيد قوله تعالى (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) الآية اختلفوا فيه قال ابن عبسا هو بلعم بن باعوراء وقال مجاهد بلعام بن باعور وقال عطية عن ابن عباس كان من بني إسرائيل وروي عن علي بن أبي طلحة رضي الله عنه أنه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين وقال مقاتل هو من مدينة بلقا وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم أن موسى لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بعلم إلى بلعم وكان عنده اسم الله الأعظم فقالوا إن موسى رجل شدسد ومعه جند كثير وأنه جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنت رجل مجاب الدعوة فأخرج فادع الله أن يردهم عنا فقال ويلكم نبي الله ومعه المالئكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي فراجعوه وألحوا عليه فقال حتى أؤامر ربي وكان لا يدعوه حتى ينظر ما يؤمر به في المنام فآمر في الدعاء عليهم فقيل له في المنام لا تدع عليهم فقال لقومه إني قد آمرت ربي وإني قد نهيت فأهدوا إليه هدية فقبلها ثم راجعوه فقال حتى أؤامر ربي فآمر فلم يوح إليه شيء فقال قد آمرت فلم يوح إلى شيء فقالوا لو كره ربك أن تدع عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له حسان فلما سار عليه غير كثير ربضت به
213

فنزل عنها فضربها حتى إذا أدلفها قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت ففعل بها مثل ذلك فقامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت حتى إذا أذلقها أذن الله لها بالكلام فكلمته حجة عليه فقالت ويحك يا بلعم أين تذهب ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا أتذهب بي إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم فلم ينزع فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت على جبل حسان جعل يدعو عليهم ولا يدعو بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلا بني إسرائيل فقال له قومه يا بلعم أتدري ماذا تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا فقال هذا ما لا أملكه هذا شيء قد غلب الله عليه فاندلع لسانه فوقع على صدره فقال هلم قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال جملوا النساء وزينهن وأعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنا رجل واحد منهم كفيتموهم ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستي بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن سلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى فقال إني أظنك ستقول هذه حرام عليك قال أجل هي حرام عليك لا تقربها قال فوالله لا أطيعك في هذا ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت وكان فنحاس بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش وكان غائبا حين صنع زمري بن سلوم ما صنع فجاء والطاعون يجوس بني إسرائيل فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر العيزار وجعل يقول اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ورفع الطاعون فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا في ساعة من النهار فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من
كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى لحيته والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنه كان بكر العيزار وفي بلعم أنزل الله تعالى (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) الآية وقال مقاتل إن ملك البلقاء قال لبلعام ادع الله على موسى فقال إنه من أهل ديني لا أدعو عليه فنحت خشبة ليصلبه فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها فقالت تضربني إني مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع فأخبر الملك فقال موسى يا رب بأني ذنب وقعنا في التيه فقال بدعاء بلعام قال فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت منه صورة كحمامة بيضاء فذلك قوله (فانسلخ منها) وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وليث بن سعد نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصته أنه كان قد
214

سورة الأعراف (176) قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فلما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل قتلهم محمد فقال لو أكن نبيا ما قتل أقراءه فلما مات أمية أتت أخته فازعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها رسول الهل صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها فقالت بينما هو راقد أتاه آتيان فكشفا سقف البيت فنزلا فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه أوعى قال أزكى قال أبي قالت فسألته عن ذلك فقال خير أريد بي فصرف عني فغشي عليه فملا أفاق قال شعرا (كل عيش وإن تطاول دهرا صائر مرة إلى أن يزولا) (ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في قلال الجبال أرعى الوعولا) (إن يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير يوما ثقيلا) ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدين من شعر أخيك فأنشدته بعض قصائده فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن شعره وكفر قلبه فأنزل الله عز وجل (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) الآية وفي رواية عن ابن عبسا أنها نزلت في البسوس رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي له ثلاث دعوات مستجابات وكان له امرأة له منها ولد فقالت اجعل لي منها دعوة فقال لك مها واحدة فما تريدين قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها فجلعت أجمل النساء في بني إسرائيل فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الزوج ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان فجاء بنوها وقالوا ليس لنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة نباحة والناس يعيروننا بها ادع الهل أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت فيها الدعوات كلها والقولان الأولان أظهر وقال الحسن وابن كيسان نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم وقال قتادة هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن عرض عليه الهدى فأبى أ يقبله فذلك قوله (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) قال ابن عباس والسدي اسم الله الأعظم قال ابن زيد كان لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه وقال ابن عباس في رواية أخرى أوتي كتابا من كتب الله فانسلخ أي خرج منها كما تنسلخ أس خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها (فأتبعه الشيطان) أي لحقه وأدركه (فكان من الغاوين) (ولو شئنا لرفعناه بها) أي رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات وقال ابن عباس رضي الله عنهما
215

سورة الأعراف (177 178) لرفعناه بعلمه بها وقال مجاهد وعطاء لرفعناه عنه الكفر وعصمناه بالأيات (ولكنه أخلد إلى الأرض) أي سكن إلى الدنيا ومال إليها قال الزجاج خلد وأخلد واحد وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام يقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به والأرض ههنا عبارة عن الدنيا لأن ما فيها من القفار والرباع كلها أرض وسائر متاعها مستخرج من الأرض (واتبع هواه) إنقاد لما دعاه إليه الهوى قال ابن زيد كان هواه مع القوم قال عطاء أراد الدنيا وأطاع شيطانه وهذه أشد آية على العلماء وذلك أن الله أخبر أنه آتاه أياته من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة والعلم والحكمة فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة عليه والانسلاخ عنها ومن الذي يسلم من هاتين الخلتين إلا من عصم الله أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله ن أب توبة أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن زكريا بن أ [ي زائدة عن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن زرارة عن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذئبان جائعان أرسلا إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) يقال لهث الكلب يلهث لهثا إذا أدلع لسانه قال مجاهد هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به والمعنى إن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر وإن تركته لم يهتد فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثا وإن ترك وربض كان لاهثا قال كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وفي حال الراحة وفي حال العطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث نظيره قوله تعالى (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتمهم أم أنتم صامتون) ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله فقال (ذلك مثل القولم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) وقيل هذا مثل لكفار مكة وذلك أنهم يتمنون هاديا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله فلما جاءهم نبي لا يشكون في صدقه كذبوه فلم يهتدوا تركوا أودعوا (ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا) أي بئس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا وتقديره ساء مثلا مثل القوم فحذف مثل وأقيم القوم مقامه فرفع (وأنفسهم كانوا يظلمون) (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون)
216

سورة الأعراف (180) (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) أخبر الله تعلى أنه خلق كثيرا من الجن والإنس للنار وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ومن خلقه الله لجهنم فلا حيلة له في الخلاص منها أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي أنا أحمد بن محمد بن أبي حمزة البلخي حدثنا موسى بن محمد بن الحكم الشطوي حدثنا حفص بن غياث عن طلحة بن ييحى عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت أدرك النبي صلى الله عليه وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار فقالت عائشة طوبى له عصفور من عاصفير الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريك إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وقيل اللام في قوله (لجهنم) لام العقابة أي ذرأناهم وعاقبة امرهم جهنم كقوله تعالى (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) ثم وصفهم فقال (لهم قلوب لا يفقهون بها) أي يعلمون بها الخير والهدى (ولهم أعين لا يبصرون بها) طريق الحق
وسبيل الرشاد (ولهم آذان لا يسمعون بها) مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون بها ثم ضرب هلم مثلا في الجهل والاقصار على الأكل والشرب فقال (أولئك كالأنعام بل هم أضل) أي كالأنعام في أن همتهم في الأكل والشرب والتمتع بالشهوات بل هم أضل لأن الأنعام تميز بين المضار والمنافع فلا تقدم على المضار هؤلاء يقدمون على النار معاندة مع العلم بالهلاك (أولئك هم الغافلون) قوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعون بها) قال مقاتل وذلك أن الرجل دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال بعض مشركي مكة إن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل الله عز وجل (ولله الأسماء الحسنى فادعون بها) والحسنى تأنيث الأحسن كالكبرى والصغرى فادعون بها أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد بن منصرو المرادي حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) قرأ حمزة يلحدون بفتح الياء والحاء حيث كان وافقه الكسائي في النحل والباقون بضم الياء وكسر الحاء ومعنى الالحاد هو بفتح الياء والحاء حيث كان وافقه الكسائي في النحل والباقون بضم الياء وكسر الحاء ومعنى الالحاد هو الميل عن القصد يقال ألحد يلحد إلحادا ولحد يلحد لحودا إذا مال قال يعقوب بن السكيت الإلحاد هو العدول عن الحق وإدخال ما ليس منه فيه يقال ألحد في الدين ولحد وبه قرأ حمزة
217

سورة الأعراف (218) (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) هم المشركون عدلوا بأسماء الله الحسنى عما هي عليه فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا فاشتقوا اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان هذا قول ابن عباس ومجاهد وقيل هو تسميتهم الأصنام آلهة وروي عن ابن عباس يلحدون في أسمائة أي يكذبون وقال أهل المعاني الإلحاد في أسماء الله تسميته بما لم يستم به ولم ينطق به كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجملته أن أسماء الله تعالى على التوقيف فإنه يسمى جاد ولا يسمى سخيا وإن كانة في معنى الجواد ويسمى رحيما ولا يسمى رفيقا ويسمى عالما ولا يسمى عاقلا وقال تعالى (يخادعون الله وهو خادعهم) وقال عز من قائل (ومكروا ومكر الله) لا يقال في الدعاء يا مخادع يا مكار بل يدعى بأسمائه التي ورد بها التوقيف على وجه التعظيم فيقال يا الله يا رحمن يا رحيم يا عزيز يا كريم ونحو ذلك (سيجزون ما كانوا يعملون) في الآخرة قوله تعالى (وممن خلقنا أمة) أي عصابة (يهدون بالحق وبه يعدلون) قال عطاء عن ابن عباس يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان وقال قتادة بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال هذه لكمن وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحميدي حدثني عمير بن هانئ أنه سمع معاوية رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وقال الكلبي هم من جميع الخلق (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) قال عطاء سنمكر بهم من حيث لا يعلمون وقيل نأتيهم من مأمنهم كما قال (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) قال الكلبي نزينلهم أعمالهم فنهلكهم وقال الضحاك كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة قال سفيان الثوري نسبغ عليهم النعمة وننسيهم الشكر قال أهل المعاني الاستدراج أن يتدرج إلى الشيء في خفية قليلا فلا يباغت ولا يجاهر ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي ومنه درج الكتاب إذا طواه شيئا بعد شيء (وأملي لهم) أي أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي (إن كيدي متين) أي إن أخذي قوي شديد قال ابن عباس إن مكري شديد قيل نزلت في المستهزئين فقتلهم الله في ليلة واحدة
218

قوله تعالى (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) قال قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قرشا فخذا فخذا يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله وقائعه فقال قائلهم إن صاحبكم هذا المجنون بات يصوت إلى الصباح فأنزل الله تعالى (أولم يتفكروا ما بصاحبهم) محمد صلى الله عليه وسلم (من جنة) جنون (إن هو) ما هو (إلا نذير مبين) ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله) فيهما (من شيء) أي وينظروا إلى ما خلق الله فيهما من شيء ليستدلوا بها على وحدانيته (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) أي لعل أن يكون قد أتقرب أجلهم فيموتوا قبل أن يؤمنوا وصيروا إلى العذاب (فبأي حديث بعده يؤمنون) أي بعد القرآن يؤمنون يقول بأي كتاب غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون وليس بعده نبي ولا كتاب ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) قرأ أهل البصرة وعاصم بالياء ورفع الراء وقرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم الراء لأن ذكر الله قد مر قبله وجزم الراء مردود على (يضلل) وقرأ الآخرون بالنون ورفع الراء على أنه كلام مستأنف (في طغيانهم يعمهون) يترددون متحيرين قوله تعالى (يسئلونك عن الساعة أيان مرساها) قال قتادة قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة فأنزل الله تعالى (يسئلونك عن الساعة) يعني يوم القيامة (أيان مرساها) قال ابن عباس رضي الله عنهما منتهاها وقال قتادة قيامها وأصله الثبات أي مثبتها (قل) يا محمد (إنما علمها عند ربي) استأثر بعملها ولا يعلمها إلا هو (لا يجليها) لا يكشفها ولا يظهرها وأقل مجاهد لا يأتي بها (لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض) يعني ثقل علمها وخفي أمرها على أهل السماوات والأرض وكل خفي ثقيل قال الحسن يقول إذا
219

جاء ثقلت وعظمت على أهل السماوات الأرض (لا تأتيكم إلا بغتة) فجأة على غفلة أخبرنا عبد الواحد المليحي حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته لا يطعمه ولتقو من الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها (يسألونك كأنك حفي عنها) أي عالم بها من قولهم أحفيت في المسألة أي بالغت في سؤال عنها حتى علمتها (قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أن علمها عند الله حتى سألا محمدا صلى الله عليه وسلم عنها (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) قال ابن عباس
رضي اله عنهما إن أهل مكة قالوا يا أحمد إلا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه وتربح عند الغلاء وبالأرض التي يريد أن تجذب فترتحل منها إلى ما قد أخصبت فأنزل الله تعالى (قل لا أملك لنفسي نفعا) أي لا أقدر لنفسي نفعا أي اجتلاب نفع بأن أربح ولا ضرا أي دفع ضر بأن ارتحل من أرض يريد أن تجدب إلا ما شاء الله أن أملكه (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) أي لو كنت أعلم الخصب والجدب لاستكثرت من المال أي لسنة لقطح وما مسني السوء أي الضر والفقر والجوع وقال ابن جريج قل لا أملك لنفسي نفعا وال ضرا يعني الهدى والضلالة ولم كنت أعلم الغيب أي متى أموت لاستكثرت من الخير يعني من العمل الصلاح وما مسني السوء قال ابن زيد اجتنبت ما يكون من الشر واتقيته وقيل معناه ولو كنت اعلم الغيب أي متى الساعة لأخبرتكم حتى تؤمنوا وما مسني السوء بتكذيبكم وقيل ما مسني السوء ابتداء يريد ما مسني الجنون لأنهم كانا ينبونه إلى الجنون (إن أنا إلا نذير) لمن لا يصدق بما جئت به (وبشير) بالجنة (لقوم يؤمنون) يصدقن قوله تعالى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) يعني من آدم (وجعل) وخلق (منها زوجها) يعني حاء (ليسكن إليها) ليأنس بها ويأوي إليها (فلما تغشاها) أي واقعها وجامعها (حملت حملا خفيفا) وهو أول ما تحمل المرأة من النطفة يكون خفيفا عليها (فمرت به) أي استمرت به وقامت وقعدت به ولم يثقلها (فلما أثقلت) أي كبر الولد في بطنها
220

وصارت ذات ثقل بحملها ودنت ولادتها (دعوا الله ربهما) يعني آدم وحواء (لئن آتيتنا) يا ربنا (صالحا) أي بشرا سويا مثلنا (لنكونن من الشاكرين) قال المفسرون فلما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها ما الذي في بطنك قالت ما أدري إني أخاف أن يكون بهمية أوكلبا أو خنزيرا وما يدريك من أين يخرج من دبرك فيقتلك أومن فيك وينشق بطنك فخافت حواء من ذلك وذكرت ذلك لآدم عليه السالم فلم يزالا في هم من ذلك ثم عاد إليها فقال إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقا سويا مثلك ويسهل عليك خروجه أسميته عبد الحارث وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث فذكرت ذلك لآدم فقال لعله صاحبنا الذي قد علمت فعاودها إبليس فلم يزل بهما حتى غرهما فلما ولدت سمياه عبد الحارث قال الكلبي قال إبليس لها إن دعوت الله فولدت إنسانا أتسمينه بي قالت نعم فلما ولدت قال سميه بي قالت وما اسمك قال الحارث ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث وروي عن ابن عباس رضي اله عنهما قال كانت حاء تلد لآدم فيسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحنم فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس وقال إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث فولدت فسمياه عبد الحارث فعاش وجاء في الحديث خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض وقال ابنزيد ولد لآدم ولد فسماه عبد الله فأتاهما إبليس فقال ما سميتما ابنكما قال عبد الله وكان قد ولد لهما قبل ذلك ولد فسمياه عبد الله فمات فقال إبليس أتظنان أن الله تارك عبده عندكما والله ليذهبن به كما ذهب بالآخرين ولكن أدلكم على اسم يبقى لكما ما بقتما فسمياه عبد شمس والأول أصح فذلك قوله (فلما آتاهما صالحا) بشرا سويا (جعلا له شركاء فيما أتاهما) قرأ أهل المدينة وأبو بكر شركا بكسر الشين والتنوين أي شركة قال أبو عبيدة أي حظا ونصيبا وقرأ الآخرون (شركاء) بضم الشين ممدودا على جمع شريك يعني إبليس أخبر عن الواحد بلفظ الجمع أي جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث ولمن يكن هذا إشراكا في العبادة ولا أن الحارث ربهما فإن آدم كان نبيا معصوما من الشرك ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمة وقد يطلق اسم العبد على من يراد به أنه معبنود هذا كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف على وجه الخضوع لا على وجه أن الضيف ربه ويقول للغير أنا عبدك وقال يوسف لعزيز مصر إنه ربي ولم يرد به أنه معبوده كذلك هذا وقوله (فتعالى الله عما يشركون) قيل هذا ابتداء كلام وأراد به إشراك أهل مكة ولئن أراد به ما سبق فمستقيم من حيث أنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به إشراك أهل الاسم وفي الآية قول آخر وهو أنه راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم وهو قول الحسن وعكرمة ومعناه جعل أولادهما شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تعييرهم بفعل الآباء إلى الأبناء فقال ثم اتخذتم العجل وإذ قتلتم نفسا خاطب به اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان
221

سورة الأعراف (191 194) ذلك الفعل من آبائهم وقيل هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا وقال ابن كيسان هم الكفار سموا أولادهم عبد العزى وعبد اللات وعبد مناة وقال عكرمة خاطب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم أي خلق كل واحد من أبيه وجعل منها زوجها أيجعلمن جنسها زوجها وهذا قول الحسن لولا قول السلف مثل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة من المفسرين أنه في آدم وحواء قوله تعالى (أيشركون ما لا يخلق شيئا) يعني إبليس والأصنام (ولا أنفسهم ينصرون) قال الحسن لا يدفعون عن أنفسهم مكروه من أراد بهم بكسر أو نحوه ثم خاطب المؤمنين فقال (وإن تدعوهم إلى الهدى) وإن تدعوا المشركين إلى الإسلام (لا يتبعوكم) قرأ نافع بالتخفيف وكذلك (يتبعهم الغاوون) في الشعراء وقرأ الآخرون بالتشديد فيهما وهما لغتان يقال تبعه تبعا واتبعه اتباعا (سواء عليكم أدعوتموهم) إلى الدين (أم أنتم صامتون) عن دعائهم لا يؤمنون كما قال (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) وقيل وإن تدعهم إلى الهدى يعني الأصنام لا يتبعوكم لأنها غير عاقلة (إن الذين تدعون من دون الله) يعني الأصنام (عباد أمثالكم) يريد أنها مملوكة أمثالكم وقيل أمثالكم في التسخير أي أنهم مسخرون مذللون لما أريد منهم قال مقاتل قوله عباد أمثالكم أراد به الملائكة والخطاب مع قوم كانوا يعبدون الملائكة والأول أصح (فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين) أنها آلهة قال ابن عباس فاعبدوهم هل يثيبونكم أو يجاوزونكم إن كنتم صادقين أن لكم عندها منفعة ثم بين عجزهم فقال
222

سورة الأعراف (195 199) (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها) قرأ أبو جعفر بضم الهاء هنا وفي القصص والدهان وقرأ الآخرون بكسر الطاء (أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها) أراد أن قدرة المخلوقين تكون بهذه الجوارح والآلات وليست للأصنام هذه الآلات فأنتم مفضلون عليها بالأرجل الماشية والأيدي الباطشة والأعين الباصرة والآذان السامعة فكيف تعبدون من أنتم أفضل وأقدر منهم (قل ادعوا شركاءكم) يا معشر المشركين (ثم كيدون) أنتم وهم (فلا تنظرون) أي لا تمهلوني واعجلوا في كيدي قوله (إن ولي الله الذي نزل الكتاب) يعني القرآن أي أنه يتولاني وينصرني كما أيدني بإنزال الكتاب (وهو يتولى الصالحين) قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الذين لا يعدلون بالله شيئا فالله يتولاهم بنصره فلا يضرهم عداوة من عاداهم (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا
أنفسهم ينصرون) (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا) يعني الأصنام (وتراهم) يا محمد (ينظرون إليك) يعني الأصنام (وهم لا يبصرون) وليس المارد من النظر حقيقة النظر إنما المارد منه المقابلة تقول العرب داري تنظر إلى دارك أي تقابلها وقيل وتراهم ينظرون إليك أي كأنهم ينظرون إليك كقوله تعالى (وترى الناس سكارى) أي كأنهم سكارى هذا قول المفسرين وقال الحسن (وإن تدعوهم إلى الهدى) يعني المشركين لا يسمعوا ولا يعقلوا ذلك بقلوبهم وتراهم ينظرون إليك بأعينهم وهم لا يبصرون بقلوبهم قوله تعالى (خذ العفو) قال عبد الله بن الزبير أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وقال مجاهد خذ العفو يعني العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس وذلك مثل قبول الاعتذار والعفو المساهلة وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل ما هذا قال لا أدري حتى أسأله ثم رجع فقال إن ربك يأمرك أن تصل
223

سورة الأعراف (200 201) من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وقال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي والضحاك والكلبي يعني خذ ما عفا لك من الأموال وهو الفضل من العيال وذلك معنى قوله (يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) ثم نسخت هذه بالصدقات المفروضات قوله تعالى (وأمر بالعرف) أي بالمعروف وهو كل ما يعرفه الشرع وقال عطاء وأمر بالعرف بلا إله إلا الله (وأعرض عن الجاهلين) أبي جهل وأصحابه نسختها آية السيف وقيل إذا تسفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه وذلك مثل قوله (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) وذلك سلام المتاركة قال جعفر الصادق أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجرجاني ثنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ثنا هيثم بن كليب ثنا أبو عيسى الترمذي ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله الجدلي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح) ثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ثنا أبو سعيد عبد الملك ابن أبي عثمان الواعظ ثنا عمار ابن محمد البغدادي ثنا أحمد ابن محمد عن سعيد الحافظ ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عمر بن إبراهيم يعني الكوفي ثنا يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وإتمام محاسن الأفعال قوله تعالى (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) أي يصيبنك ويعتريك ويعرض لك من الشيطان نزغ نخسه والنزغ من الشيطان الوسوسة وقال الزجاج النزغ أدنى حركة تكون من الآدمي ومن الشيطان أدنى وسوسة وقال عبد الرحمن بن زيد لما نزلت هذه الآية (خذ العفو) قال النبي صلى الله عليه وسلم (كيف يا رب والغضب) فنزل (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) أي استجر بالله (إنه سميع عليم) (إن الذين اتقوا) يعني المؤمنين (إذا مسهم طائف من الشيطان) قرأ ابن كثير وأهل البصرة والكسائي (طيف) وقرأ الآخرون (طائف) بالمد والهمز وهما لغتان كالميت والمائت ومعناهما الشيء يلم بك وفرق قوم بينهما فقال أبو عمرو الطائف ما يطوف حول الشيء
224

سورة الأعراف (202 204) والطيف اللمة والسوسة وقيل الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان والطيف اللمم والمس (تذكروا) عرفوا قال سعيد بن جبير هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى فيكظم للغيظ وقال مجاهد الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه (فإذا هم مبصرون) أي يبرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتفكر قال السدي إذا زلوا تابوا وقال مقاتل إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر فنزغ عن مخالفة الله قوله (وإخوانهم يمدونهم) يعني إخوان الشياطين من المشركين يمدونهم أي يمدهم الشيطان قال الكلبي لكل كافر أخ من الشياطين (في الغي) أي يطلبون لهم الإغواء حتى يستمروا عليه وقيل يزيدونهم في الضلالة وقرأ أهل المدين (يمدونهم) بضم الياء وكسر الميم من الإمداد والآخرون بفتح الياء وضم الميم وهما لغتان بمعنى واحد (ثم لا يقصرون) أي لا يكفون قال ابن عبسا رضي الله عنهما لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنهم فعلى هذا قوله (ثم لا يقصرون) من فعل المشركين والشياطين جميعا قال الضحاك ومقاتل يعني المشركين لا يقصرون عن الضلالة ولا يبصرونها بخلاف ما قال في المؤمنين (تذكروا فإذا هم مبصرون) (وإذا لم تأتهم بآية) يعني إذا لم تأت المشركين بآية (قالوا لولا اجتبيتها) هلا افتعلتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك تقول العرب اجتبيت الكلام إذا اختلقته قال الكلبي كان أهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الآيات تعنتا فإذا تأخرت قالوا لولا اجتبيتها أي هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك (قل) لهم يا محمد (إنما اتبع ما يوحى إلي من ربي) ثم قال (هذا) يعني القرآن (بصائر) حجج وبيان وبرهان (من ربكم) واحدتها بصيرة وأصلها ظهور الشيء واستحكامه حتى يبصره الإنسان فيهتدي به يقول هذا دلائل تقودكم إلى الحق (وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) قوله عز وجل (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فذهب جماعة إلى أنها في القراءة في الصلاة روي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت والاستماع إلى قراءة القرآن وقال قوم نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف
225

سورة الأعراف (205) الإمام روى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وقال الكلبي كانوا يرفعون أصواتهم في الصالة حين يسمعون ذكر الجنة والنار وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سمع ناسا يقرون مع الإمام فلما انصرف قال أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله وهذا قول الحسن والزهري والنخعي أن الآية في القراءة في الصلاة وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد إن الآية في الخطبة أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة وقال سعيد بن جبير هذا في الإنصات يوم الأضحى والفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام وقال عمر بن عبد العزيز الإنصات لقول كل واعظ والأول أولاهما وهو أنها في القراءة في الصلاة لأن الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة واتفقوا على أنه مأمور بالإنصات حالة ما يخطب الإمام أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخكيب ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العبسا الأصم ثنا الربيع ثنا الشافعي ثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت واختلف أهل العلم في القراءة خلف الإمام في الصلاة فذهب جماعة إلى إيحابها سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسر روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عبسا ومعاذ وهو قول الأوزاعي والشافعي وذهب قوم إلى أنه يقرأ فيما
أسر الإمام فيه بالقراءة ولا يقرأ إذا جهر روي ذلك عن ابن عمرو وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء أسر الإمام أو جهر يروى ذلك عن جابر وبه قال الثوري وأصحاب الرأي ويتمسك من لا يرى القراءة خلف الإمام بظاهر هذه الآية ومن أوجبها قال الآية في غير الفاتحة وإذا قرأ الفاتحة يتبع سكتات الإمام ولا ينازع الإمام في القراءة والدليل عليه ما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل المضبي ثنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ثنا أبو العباس المحبوبي ثنا أبو عيسى الترمذي ثنا هناد ثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال إني أراكم تقرؤن وراء إمامكم قال قال قلنا يا رسول الله إي والله قال لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها قوله تعالى (واذكر ربك في نفسك) قال ابن عباس يعني بالذكر القراءة في الصلاة يريد يقرأ سرا في نفسه (تضرعا وخيفة) خوفا أي تتضرع إلي وتخاف مني هذا في صلاة السر وقوله (ودون الجهر من القول) أراد في صلاة الجهر لا تجهر جهرا شديدا بل في خفض وسكون تسمع من خلفك وقال مجاهد وابن جريج أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع إليه في الدعاء والاستكانة
226

(إن الذين عند ربك) يعني الملائكة المقربين بالفضل والكرامة (لا يستكبرون) لا يتكبرون (عن عبادته ويسبحونه) وينزهونه ويذكرونه فيقولون سبحان الله (وله يسجدون) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنبأنا أحمد بن الحسن الحيري أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي ثنا عبد الرحيم بن منيب ثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول يا ويله أمرهذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ثنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ثنا أبو جعفر محمد بن سمعان ثنا أبو جعفر بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ثنا حميد بن زنجويه ثنا محمد بن يوسف ثنا الأوزاعي عن الوليد بن هشام عن معدان قال سألت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت حدثني حديثا ينفعني الله به قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة 7 سورة الأنفال مدنية وهي خمس وسبعون آية قيل إلا سبع آيات من قوله وإذ يمكر بك الذين كفروا إلى آخر سبع آيات فإنها نزلت بمكة والأصح انها نزلت بالمدينة وإن كانت الواقعة بمكة سورة الأنفال (1) 1 (يسألونك عن الأنفال) الآية قال أهل التفسير سبب نزول هذه الآية هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر من أتى مكان كذا فله من النفل كذا ومن قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا فلما التقوا تسارع إليه الشبان وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات فلما فتح الله على المسلمين
227

جاؤوا يطلبون ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال الأشياخ كنا درأ لكم ولو انهزمتم لانحرفتم إلينا فلا تذهبوا بالغنائم دوننا وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال يا رسول الله إنك وعدت أن من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا وإنا قد قتلنا منهم سبعين وأسرنا منهم سبعين فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال والله يا رسول الله ما منعنا أن نطلب ما يطلب هؤلاء إلا زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو ولكن كرهنا أن تعرى مصافك فيعطف عليك خيل من المشركين فيصيبوك فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعيد يا رسول الله إن الناس كثير والغنيمة دون ذلك فإن تعط هؤلاء الذي ذكرت لا يبقى لأصحابك كثير شيء فنزلت يسألونك عن الأنفال وقال ابن إسحاق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في العسكر فجمع فاختلف المسلمون فيه فقال من جمعه هو لنا قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل كل امرئ ما أصاب وقال الذين يقاتلون العدو لولا نحن ما أصبتموه وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأينا أن نقتل العدو وأن نأخذ المتاع ولكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو وقمنا دونه فما أنتم بأحق به منا وروى مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال قال فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه اخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا عن بواء يقول على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وصلاح ذات البين وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أمية وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكثيفة فأعجبني فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال هذا لي ولا لك اذهب فاطرحه في القبض فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله منقتل أخي وأخذ سلاحي وقلت عسى أن يعطي هذا السبف من لم يبل ببلائي فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عز وجل (يسألونك عن الأنفال) الآية فخفت أن يكون قد نزل في شيء فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي الآن فاذهب فخذه فهو لك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت المغانم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول قوله (يسألونك من الأنفال) أي عن حكم الأنفال وعلمها وهو سؤال استخبار لا سؤال طلب وقيل هو سؤال طلب قاله الضحاك وعكرمة وقوله (عن الأنفال) أي من الأنفال عن بمعنى من وقيل عن صلة أي يسألونك الأنفال وهكذا قراءة ابن مسعود بحذف عن والأنفال الغنائم واحدها نفل وأصله الزيادة يقال نفلتك وأنفلتك أي زدتك سميت الغنائم أنفالا لنها زيادة من الله لهذه الأمة على الخصوص وأكثر المفسرين على أن الآية في غنائم بدر وقال عطاء هي ما شذ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو أمة ومتاع فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما شاء (قل الأنفال لله والرسول) يقسمانها كما شاءا واختلفوا فيه فقال مجاهد وعكرمة والسدي هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل (واعلموا أنما غنمتم من شيء
228

فأن لله خمسه وللرسول) الآية كانت الغنائم يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم فنسخها الله عز وجل بالخمس وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هي ثابتة غير منسوخة ومعنى الآية قل الأنفال لله مع الدنيا والآخرة وللرسول يضعها حيث امره الله تعالى أي الحكم فيها لله ولرسوله وقد بين الله مصارفها في قوله عز وجل (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) الآية (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) أي اتقوا الله بطاعته وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة والمخالفة وتسليم أمر الغنيمة إلى الله
والرسول صلى الله عليه وسلم (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) سورة الأنفال (2 4) 2 (إنما المؤمنون) يقول ليس المؤمن الذي يخالف الله ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) خافت وفرقت قلوبهم وقيل إذا خوفوا بالله خوفا من عقابه (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) تصديقا ويقينا وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة إن للإيمان زيادة ونقصانا قيل فما زيادته قال إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقاصنه وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان (وعلى ربهم يتوكلون) أي يفوضون إليه أمورهم ويثقون به ولا يرجون غيره ولا يخافون سواه 3 (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) 4 (أولئك هم المؤمنون حقا) يعني يقينا قال ابن عباس برؤوا من الكفر قال مقاتل حقا لا شك في إيمانهم وقيه دليل على أنه ليس لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمنا حقا لأن الله تعالى إنما وصف بذلك قوما مخصوصين على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه وقال ابن أبي نجيح سأل رجل الحسن فقال أمؤمن أنت فقال إن كنت تسألني عن قوله (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) الآية فلا أدري امنهم أنا أم لا وقال علقمة كنا في سفر فلقينا قوما فقلنا من القوم قالوا نحن المؤمنون حقا فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد الله ابن مسعود فأخبرناه بما قالوا قال فما رددتم عليهم قلنا لم نرد عليهم شيئا قال أفلا قلتم أمن أهل الجنة أنتم إن المؤمنين أهل الجنة وقال سفيان الثوري من زعم أنه مؤمن حقا عند الله ثم لم يشهد أنه في الجنة فقدآمن بنصف الآية دون النصف (لهم درجات عند ربهم) قال عطاء يعني درجات
229

سورة الأنفال (5 7) الجنة يرتقونها بأعمالهم وقال الربيع ابن أنس سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين خريفا (ومغفرة) اذنوبهم (ورزق كريم) حسن يعني ما أعد لهم في الجنة 5 قوله تعالى (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله (كما أخرجك ربك) قال المبرد تقديره الأنفال لله وللرسول وإن كرهوا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا وقيل تقديره امض لأمر الله في الأنفال وإن كرهوا كما أمضيت لأمر الله في الخروج من البيت لطلب العير وهم كارهون وقال عكرمة معناه فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكمفإن ذلك خير لكم كما أن إخراج محمد صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق خير لكم وإن كرهه فريق منكم وقال مجاهد معناه كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق منهم كذلك يكرهون القتال ويجادلون فيه وقيل هو راجع إلى قوله (لهم درجات عند ربهم) تقديره وعد الدرجات لهم حق ينجزه الله عز وجل كما أخرجك ربك من بيتك بالحق فأنجز الوعد بالنصر والظفر وقيل الكاف بمعنى على تقديره إمض على الذي أخرجك ربك وقال أبو عبيدة هي بمعنى القسم مجازا والذي أخرجك لأن (ما) في موضع الذي وجوابه (يجادلونك) وعليه يقع القسم تقديره يجادلونك والله الذي أخرجك ربك من بيتك بالحق وقيل الكاف بمعنى إذ تقديره واذكر إذ أخرجك ربك وقيل المراد بهذا الإخراج هو إخراجه من مكة إلى المدينة والأكثرون على أن المراد منه إخراجه من المدينة إلى بدر أي كما امرك ربك بالخروج من بيتك إلى المدينة بالحق قيل بالوحي لطلب المشركين (وإن فريقا من المؤمنين) منهم (لكارهون) 6 (يجادلونك في الحق) أي في القتال (بعد ما تبين) وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك وقالوا لم تعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم وإنما خرجنا للعير فذلك جدالهم بعدما تبين لهم أنك لا تضع إلا ما أمرك وتبين صدقك في الوعد (كأنما يساقون إلى الموت) لشدة كراهيتهم القتال (وهم ينظرون) فيه تقديم وتأخير تقديره وإن فريقا من المؤمنين لكارهون كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون يجادلونك في الحق بعدما تبين قال ابن زيد هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام لكراهيتهم إياه وهم ينظرون 7 قوله تعالى (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) قال ابن عباس وابن الزبير ومحمد بن إسحاق
230

والسدي أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش في أربعين راكبا من كفار قريش فيهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهري وفيها تجارة كثيرة وهي اللطيمة حتى إذا كانوا قريبا من بدر فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فندب أصحابه إليه وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدد وقال هذه عير قريش فيها أموالكم فأخرجوا إليها لعل الله تعالى أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا فلما سمع أبو سقيان بمسير النبي وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم في أصحابه فخرج ضمضم سريعا إلى مكة وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا افزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم علي ما أحدثك قال لها وما رأيت قالت رأيت راكبا اقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها بأعلى صوته إلا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها فلقة فقال العباس والله إن هذه لرؤيا رأيت فاكتميها ولا تذكريها لأحد ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وكان له صديقا فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش قال العباس فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة فلما رآني أبو جهل قال يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا قال فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال لي أبو جهل يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه البينة فيكم قلت وما ذاك قال الرؤيا التي رأت عاتكة قلت وما رأت قال يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك ما قالت حقا فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شئ نكتب عليكم كتابا إنكم أكذب أهل بيت في العرب فقال العباس والله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا ثم تفرقنا فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ثم لم تكن عندك غيرة لشيء مما سمعت قال قلت والله قد فعلت ما كان مني إليه من كبير وأيم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفينكه قال فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أن قد فاتني منه أمر
أحب ان أدركه منه قال فدخلت المسجد فرأيته فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فادفع به وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذا خرج نحو باب المسجد يشتد قال قلت في نفسي ما له لعنه الله أكل هذا فرقا مني أن أشاتمه قال فإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا
231

على بعيره جدع أنف بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ولا أرى أن تدركوها الغوث الغوث قال فشغلني عنه وشغله عني ما جاء به من الأمر فتجهز الناس سراعا فلم يتخلف من أشراف قريش أحد إلا أن أبا لهب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة بن الحارث فقالوا نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني بكر وقال أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه في ليال مضت من شهر رمضان حتى إذا بلغ واديا يقال له ذا قرد فأتاه الخبر عن مسيرة قريش ليمنعوا عن عيرهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء أخذ عينا للقوم فأخبره بهم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا عينا له من جهينة حليفا للأنصار يدعى عبد الله بن أريقط فأتاه بخبر القوم وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل وقال إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا وكانت العير أحب إليهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال فأحسن ثم قام عمر فقال فأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك فوالله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لوسرت بنا إلى برك الغماد يعني مدينة الحبشة لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل قال فإنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئتنا به هو الحق أعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق في اللقاء ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك قال سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم قال ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان قال ويضع يده على الأرض ها هنا وههنا قال فما ماط أحد عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك قوله تعالى (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) أي الفريقين إحداهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير (وتودون) أي تريدون (أن غير ذات الشوكة تكون لكم) يعني العير التي ليس فيها قتال والشوكة الشدة والقوة ويقال السلاح
232

الأنفال (8 9) (ويريد الله أن يحق الحق) أي يظهره ويعليه (بكلماته) بأمره إياكم بالقتال وقيل بعداته التي سبقت من إظهاره الدين وإعزازه (ويقطع دابر الكافرين) أي يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد يعني كفار العرب 8 (ليحق الحق) ليثبت الإسلام (ويبطل الباطل) أي يفني الكفر (ولو كره المجرمون) المشركون وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة ليلة من شهر رمضان 9 قوله تعالى (إذ تستغيثون ربكم) تستجيرون به من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر روي عن ابن عباس قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا دخل العريش هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه واستقبل القبلة ومد يده فجعل يهتف بربه عز وجل اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه عز وجل مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك منا شدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل (إذ تستغيثون ربكم) (فاستجاب لكم أني ممدكم) مرسل إليكم مددا وردءا لكم (بألف من الملائكة مردفين) قرأ أهل المدينة ويعقوب (مردفين) بفتح الدال أي أردف الله المسلمين وجاء بهم مددا وقرأ الآخرون بكسر الدال أي متتابعين بعضهم في إثر بعض يقال أردفته وردفته بمعنى تبعته يروى أنه نزل جبريل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال على خيل بلق عليهم ثياب بيض وعلى رؤسهم عمائم بيض قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ناشد ربه عز وجل وقال أبو بكر إن الله منجز لك ما وعدك فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا إبراهيم بن موسى ثنا عبد الوهاب ثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض ويوم حنين عمائم خضر ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا وروي عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قد شهد بدرا أنه قال بعدما ذهب بصره لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة
233

سورة الأنفال (10 12) 10 قوله تعالى (وما جعله الله) يعني الإمداد بالملائكة (إلا بشرى) أي بشارة (ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز
حكيم) 11 (إذ يغشيكم النعاس) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (يغشاكم) بفتح الياء (النعاس) رفع على أن الفعل له لقوله تعالى في سورة آل عمران (أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم) قرأ أهل المدينة (يغشيكم) بضم الياء وكسر الشين مخففا (النعاس) نصب لقوله تعالى (كأنما أغشيت وجوههم) وقرأ الآخرون بضم الياء وكسر الشين مشددا (النعاس) نصب على أن الفعل لله عز وجل لقوله تعالى (فغشاها ما غشى) والنعاس النوم الخفيف (أمنة) أمنا (منه) مصدر أمنت أمنا وأمنة وأمانا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة من الشيطان (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب وسبقهم المشركون إلى ماء بدر وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين وأصابهم الظمأ ووسوس إليهم الشيطان وقال تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي الله وأنكم على الحق وأنكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين ومجنبين فكيف ترجون أن تظهروا عليهم فأرسل الله عز وجل عليهم مطرا سال منه الوادي فشرب المؤمنون واغتسلوا وتوضأوا وسقوا الركاب وملؤا الأسقية وأطفأ الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام وزالت عنهم وسوسة الشيطان وطابت أنفسهم فذلك قوله تعالى (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) من الأحداث والجنابة (ويذهب عنكم رجز الشيطان) وسوسته (وليربط على قلوبكم) باليقين والصبر (ويثبت به الأقدام) حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض وقيل يثبت به الأقدام بالصبر وقوة القلب 12 * (إذ يوحي ربك إلى الملائكة) * الذين امد بهم المؤمنين (أني معكم) بالعون والنصرة (فثبتوا الذين آمنوا) أي قووا قلوبهم قيل ذلك التثبيت حضورهم معهم القتال ومعونتهم أي ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين وقال مقاتل أي بشروهم بالنصر وكان الملك يمشي أمام الصف
234

في صورة الرجل ويقول أبشروا فإن الله ناصركم (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) قال عطاء يريد الخوف من أوليائي (فاضربوا فوق الأعناق) قيل هذا خطاب مع المؤمنين وقيل هذا خطاب مع الملائكة وهو متصل بقوله (فثبتوا الذين آمنوا) وقوله (فوق الأعناق) قال عكرمة يعني الرؤس لأنها فوق الأعناق وقال الضحاك معناه فاضربوا الأعناق وفوق صلة كما قال تعالى (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) وقيل معناه فاضربوا على الأعناق فوق بمعنى على (واضربوا منهم كل بنان) قال عطية يعني كل مفصل وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك يعني الأطراف والبنان جمع بنان ة وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين قال ابن الأنباري ما كانت الملائكة تعلم كيف يقتل الآدميون فعلمهم الله عز وجل أخبرنا إسماعيل بن عبد القادر الجرجاني أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا زهير بن حرب ثنا عمرو بن يونس الحنفي ثنا عكرمة بن عمار ثنا أبو زميل هو سماك الحنفي ثنا عبد الله بن عباس قال بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذا سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث رسول صلى الله عليه وسلم فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين وروي عن أبي داود المازني وكان شهد بدرا قال إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف وقال عكرمة قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب ر ضي الله عنه وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل القداح وأنحتها في حجرة زمزم فوالله إني لجالس أنحت القداح وعندي أم الفضل جالسة إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حت ى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم فقال أبو لهب إلي يا ابن أخي فعندك الخبر فجلس إليه والناس قيام عليه قال يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس قال لا شيء والله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض لا والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت تلك والله الملائكة قال فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة فساورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة وقالت
235

سورة الأنفال (13 16) تستضعفه إن غاب عنه سيده فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتله وروى مقسم عن ابن عباس قال كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة وكان أبو اليسر رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر كيف أسرت العباس قال يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده هيئته كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أعانك عليه ملك كريم 13 (ذلك بأنهم شاقوا الله) خالفوا الله (ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب) 14 (ذلكم) أي هذا العذاب والضرب الذي عجلته لكم أيها الكفار ببدر (فذوقوه) عاجلا (وأن للكافرين) أي واعلموا وأيقنوا أن للكافرين أجلا في المعاد (عذاب النار) روى عكرمة عن ابن عباس قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس بن وهو أسير في وثاقه لا يصلح لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمه قال لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك 15 قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا) أي مجتمعين متزاحفين بعضكم إلى بعض والتزاحف التداني في القتال والزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم قوم عدل ورضا قال الليث الزحف جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة فهم الزحف والجمع الزحوف (فلا تولوهم الأدبار) يقول فلا تولوهم ظهوركم أي لا تنهزموا فإن المنهزم يولي دبره 16 (ومن يولهم يومئذ دبره) ظهره (إلا متحرفا لقتال) أي متعطفا يرى من نفسه ا لانهزام وقصده طلب الغرة وهو
يريد الكرة (أو متحيزا إلى فئة) أي منضما صائرا إلى جماعة من المؤمنين يريد العود إلى القتال ومعنى الآية النهي عن الإنهزام من الكفار والتولي عنهم إلا على نية التحرف للقتال والانضمام إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ويعود إلى القتال فمن ولى ظهره لا على هذه النية لحقه الوعيد كما قال تعالى (فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) اختلف العلماء في هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري هذا في أهل بدر خاصة ما كان يجوز لهم الانهزام
236

سورة الأنفال (17) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم ولم يكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض فيكون الفار متحيزا إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة وهو قول الحسن وقتادة والضحاك قال يزيد بن أبي حبيب أوجب الله النار لمن فر يوم بدر فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال (إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم) ثم كان يوم حنين بعده فقال (ثم وليتم مدبرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء) وقال عبد الله كنا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة فانهزمنا فقلنا يا رسول الله نحن الفرارون قال بل أنتم الكرارون إنا فئة المسلمين وقال محمد بن سيرين لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال لو انحاز إلي كنت له فئة فإنا فئة كل مسلم وقال بعضهم حكم الآية عام في حق كل من ولى منهزما جاء في الحديث من الكبائر الفرار من الزحف وقال عطاء بن أبي رباح هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل (الآن خفف الله عنكم) فليس لقوم أن يفروا من مثلهم فنسخت تلك إلا في هذه العدة وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا ويولوا ظهورهم إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة وإن كانوا أقل من ذلك جاز لهم أن يولوا ظهورهم وينحازوا عنهم قال ابن عباس من فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر 17 قوله تعالى (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) قال مجاهد سبب نزول هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن القتال كان الرجل يقول أنا قتلت فلانا ويقول الآخر مثله فنزلت الآية ومعناه فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكن الله قتلهم بنصرته إياكم وتقويته لكم وقيل ولكن الله قتلهم بإمداد الملائكة (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) قال أهل التفسير والمغازي ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرا ووردت عليهم روايا قريش وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج وأبو يسار غلام لبني العا بن سعيد فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما أين قريش قالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى والكثيب العقنقل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما كم القوم قالا كثير قال ما عدتهم قالا لا ندري قال كم ينحرون كل يوم قالا يوما عشرة ويوما تسعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم ما بين التسع مائة إلى الألف ثم قال لهما فمن فيهم من أشراف قريش قالا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري ابن هشام وحكيم بن حزام والحارث بن عامر وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها فلما أقبلت قريش ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي
237

سورة الأنفال (18 19) جاؤوا منه إلى الوادي قال لهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام وقال له خذ قبضة من تراب فارمهم بها فلما التقى الجمعان تناول كفا من حصى عليه تراب فرمى به في وجوه القوم وقال شاهت الوجوه فلم يبق منهم مشرك إلا دخل في عينيه وفمه ومنخريه منها شيء فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وقال قتادة بن زيد ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وبحصاة في ميسرة القوم وبحصاة بين أظهرهم وقال شاهت الوجوه فانهزموا فذلك قوله تعالى (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفا من الحصا إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء وقيل معناه وما بلغت إذ رميت ولكن الله بلغ وقيل وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم حتى انهزموا (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) أي ولينعم على المؤمنين منه نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة (إن الله سميع) لدعائكم (عليم) بنياتكم 18 (ذلكم) الذي ذكرت من القتل والرمي والبلاء الحسن (وأن الله) قيل فيه إضمار أي واعلموا أن الله (موهن) مضعف (كيد الكافرين) قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة (موهن) بالتشديد والتنوين (كيد) نصب وقرأ الآخرون بالتخفيف والتنوين إلا حفصا فإنه يضيفه ولا ينون ويخفض (كيد) 19 قوله تعالى (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) وذلك أن أبا جهل لعنه الله قال يوم بدر لما التقى الناس اللهم أينا أفخر يعني نفسه ومحمدا صلى الله عليه وسلم قاطعا للرحم وأتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة فكان هو المستفتح على نفسه أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال قال عبد الرحمن بن عوف إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه يا عم أرني أبا جهل فقلت يا ابن أخي وما تصنع به فقال عاهدت الله عز وجل إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه فقال لي الآخر سرا من صاحبه مثله فما سرني أني بين رجلين بمكانهما فأشرت لهما إليه فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه وهما ابنا عفراء أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا محمد بن المثنى بن أبي عدي عن سليمان التيمي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
238

بدر من ينظر لنا ما صنع أبو جهل قال فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى تردى قال فأخذ بلحيته فقال أنت أبو جهل فقال وهل فوق رجل قتله قومه أو قتلتموه قال محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر قال قال معاذ بن عمرو بن الجموح لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه أمر بأبي جهل بن هشام أن يلتمس في القتلى وقال اللهم لا يعجزنك قال فلما سمعتها جعلته من شأني فعمدت نحوه فضربته ضربة طيرت قدمه بنصف ساقه قال وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي فلما آذتني جعلت عليها قدمي ثم تمطيت بها حتى طرحتها ثم مر بأبي جهل وهو عفير معاذ بن عفراء فضربه حتى اثبته فتركه وبه رمق فمر عبد الله بن مسعود قال عبد الله بن مسعود وجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه ثم
قلت هل أخزاك الله يا عدو الله قال وبماذا أخزاني أعمد من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدائرة قلت لله ولرسوله وروي عن ابن مسعود أنه قال قال لي أبو جهل لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقا صعبا ثم احتززت رأسه ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هذا رأس أبي جهل فقال آلله الذي لا إله غيره قلت نعم والذي لا إله غيره ثم ألقيته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله عز وجل وقال السدي والكلبي كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ففيه نزلت (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر وقال عكرمة قال المشركون والله لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فأنزل الله عز وجل (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) أي إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء وقال أبي بن كعب هذا خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى للمسلمين إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح أي إن تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن الطوسي ثنا عبد الرحيم بن منيب ثنا الفضل بن موسى ثنا إسماعيل بن خالد عن قيس عن خباب رضي الله عنه قال شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا ألا تدعو الله فقعد وهو محمر وجهه وقال كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع فوق رأسه فيشق باثنين فما يرده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون قوله (وإن تنتهوا) يقول للكفار إن تنتهوا عن الكفر بالله وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم (فهو خير لكم وإن تعودوا) لحربه وقتاله (نعد) بمثل الواقعة التي وقعت بكم يوم بدر وقيل وإن تعودوا إلى الدعاء والاستفتاح نعد للفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم (ولن تغني عنكم فئتكم) جماعتكم (شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) قرأ أهل المدينة وابن المدينة وابن عامر وحفص (وأن الله) بفتح الهمزة أي ولأن الله مع المؤمنين كذلك (لن تغني عنكم فئتكم شيئا) وقيل هو عطف على
239

سورة الأنفال (20 24) قوله (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين) وقرأ الآخرون (وإن الله) بكسر الألف على الابتداء 20 (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه) أي لا تعرضوا عنه (وأنتم تسمعون) القرآن ومواعظه 21 (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) أي يقولون بألسنتهم سمعنا بآذاننا وهم لا يسمعون أي لا يتعظون ولا ينتفعون بسماعهم فكأنهم لم يسمعوا 22 قوله تعالى (إن شر الدواب) أي شر من دب على وجه الأرض من خلق الله (عند الله الصم البكم) عن الحق فلا يسمعونه ولا يقولونه (الذين لا يعقلون أمر الله عز وجل سماهم (دواب) لقلة انتفاعهم بعقولهم كما قال تعالى (أولئك كالأنعام بل هم أضل) قال ابن عباس هم نفر من بني عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء لم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة 23 (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) سماع التفهم والقبول (ولو اسمعهم) بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك (لتولوا عنه وهم معرضون) لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره وقيل إنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أحيي لنا قيصا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك فقال الله عز وجل (ولو أسمعهم) كلام قصي (لتولوا وهم معرضون) 24 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) يقول أجيبوهما بالطاعة (إذا دعاكم) صلى الله عليه وسلم (لما يحييكم) أي إلى ما يحييكم قال السدي وهو الإيمان لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان وقال قتادة هو القرآن فيه الحياة وبه النجاة والعصمة في الدارين وقال مجاهد هو الحق وقال ابن إسحاق هو الجهاد أعزكم الله به بعد الذل وقال القتيبي بل الشهادة قال الله تعالى في الشهداء (بل أحياء عند ربهم يرزقون) وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي بن كعب رضي الله عنه وهو يصلي فدعاه فعجل أبي في صلاته ثم جاء فقال رسول الله ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك
240

سورة الأنفال (25) قال كنت في الصلاة قال أليس يقول الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فقال لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبت وإن كنت مصليا قوله تعالى (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) قال سعيد بن جبير وعطاء يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان وقال الضحاك يحول بين الكافر والطاعة ويحول بين المؤمن والمعصية وقال مجاهد يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يعمل و قال السدي يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه وقيل هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم واختلجت صدورهم فقيل لهم قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الله الخوف أمنا والجبن جرأة وشجاعة (وأنه إليه تحشرون) فيجزيكم بأعمالكم أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أحمد بن الحسن الحيري أنا حاطب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن حماد ثنا معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قالوا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء 25 (واتقوا فتنة) اختبارا وبلاء (لا تصيبن) قوله (لا تصيبن) ليس بجزاء محض ولو كان جزاء لم تدخل فيه النون لكنه نفي وفيه طرف من الجزاء كقوله تعالى (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) وتقديره واتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم فهو كقول القائل إنزل عن الدابة لا تطرحك ولا تطرحنك فهذا جواب الأمر بلفظ النفي معناه إن تنزل لا تطرحك قال المفسرون نزلت هذه الآ ية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه اتقوا فتنة الظالم وغير الظالم قال الحسن نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير رضي الله عنهم قال الزبير لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها يعني ما كان يوم الجمل وقال السدي ومقاتل والضحاك وقتادة هذا في قوم مخصوصين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم الفتنة يوم الجمل وقال ابن عباس أمر الله عز وجل المؤمنين أن لا يقروا المنكربين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر الحارثي أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن سيف بن سليمان قال سمعت عدي بن عدي الكندي يقول حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله
العامة والخاصة وقال ابن زيد أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا
241

سورة الأنفال (26 27) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد محمد بن إسماعيل ثنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به قوله (لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) يعني العذاب (واعلموا أن الله شديد العقاب) 26 قوله تعالى واذكروا 26 قوله تعالى (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض) يقول اذكروا يا معاشر المهاجرين إذ أنتم قليل في العدد مستضعفون في أرض مكة في ابتداء الإسلام (تخافون أن يتخطفكم الناس) يذهب بكم الناس يعني كفار العرب وقال عكرمة كفار مكة وقال وهب فارس والروم (فآواكم) إلى المدينة (وأيدكم بنصره) أي قواكم يوم بدر بالأنصار وقال الكلبي قواكم يوم بدر بالملائكة (ورزقكم من الطيبات) يعني الغنائم التي أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم (لعلكم تشكرون) 27 (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول) قال السدي كانوا يسمعون الشيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفشونه حتى يبلغ المشركين وقال الزهري والكلبي نزلت الآية في أبي لبابة هارون بن عبد المنذر الأنصاري من بني عوف وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم لأن ما له وولده وعياله كانت عندهم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاهم فقالوا له يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده على حلقه أنه الذبح فلا تفعلوا قال أبو لبابة والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال والله لا أبرح ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره قال أما لو جاءني لا ستغفرت له فأما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله عليه فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل يا أبا لبابة قد تيب عليك فقال لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني بيده فجاءه فحله بيده ثم قال أبو لبابة يا رسول الله إن
242

سورة الأنفال (28 30) من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله فقال النبي صلى الله عليه وسلم يجزيك الثلث فتصدق به فنزلت فيه (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) أي ولا تخونوا أماناتكم (وأنتم تعلمون) أنها أمانة وقيل وأنتم تعلمون أن ما فعلتم من الإشارة إلى الحلق خيانة قال السدي إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم وقال ابن عباس لا تخونوا الله بترك فرائضه والرسول بترك سنته وتخونوا أماناتكم قال ابن عباس هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله والأعمال التي ائتمن العباد عليها قال قتادة اعلموا أن دين الله أمانة فأدوا إلى الله عز وجل ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده ومن كانت عليه أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها 28 (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) قيل هذا أيضا في أبي لبابة وذلك أن أمواله وأولاده كانوا في بني قريظة فقال ما قال خوفا عليهم وقيل هذا في جميع الناس أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي إملاء وأبو بكر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي قالا حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأسفرايني أنا محمد بن محمد بن زمويه حدثنا يحيى بن محمد بن غالب حدثنا بن يحيى حدثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فقبله وقال أما إنهم مبخلة مجبنة وإنهم لمن ريحان الله عز وجل (وأن الله عنده اجر عظيم) لمن نصح الله ورسوله وأدى أمانته 29 قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله) بطاعته وترك معصيته (يجعل لكم فرقانا) قال مجاهد مخرجا في الدنيا والآخرة وقال مقاتل بن حيان مخرجا في الدين من الشبهات وقال عكرمة نجاة أي يفرق بينكم وبين ما تخافون وقال الضحاك بيانا وقال ابن إسحاق فصلا بين الحق والباطل يظهر الله به حقكم ويطفىء باطل من خالفكم والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان (ويكفر عنكم سيئاتكم) يمح عنكم ما سلف من ذنوبكم (ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) 30 قوله تعالى (وإذ يمكر بك الذين كفروا) هذه الآية معطوفة على قوله (واذكروا إذ أنتم قليل) واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا وإذ قالوا اللهم لأن هذه السورة مدنية وهذا المكر والقول إنما كانا بمكة ولكن الله ذكرهم بالمدينة كقوله تعالى (إلا تنصروه فقد نصره الله) وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير أن قريشا فرقوا لما أسلمت الأنصار أن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت رؤسهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو
243

جهل بن هشام وأبو سفيان وطعيمة بن عدي وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحارث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأمية بن خلف فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ فلما رأوه قالوا من أنت قال شيخ من نجد سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا قالوا أدخل فدخل فقال أبو البحتري أما أنا فأرى أن تأخذوا محمدا وتحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء قال فصرخ عدوا الله النجدي وقال بئس الرأي رأيتم والله لئن حبستموه في بيت فخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فيوشك أن يثبوا عليكم ويقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم قالوا صدق الشيخ النجدي فقال هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير تخرجوه من أظهركم فلا يضركم ما صنع ولا أين وقع إذا غاب عنكم واسترحتم منه فقال إبليس لعنه الله ما هذا لكم برأي تعتمدون عليه تعمدون إلى رجل قد أفسد أحلامكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ألم تروا إلى حلاوة منطقه وحلاوة لسانه وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه والله لئن فعلتم ذلك ليذهبن وليستميل قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم فيخرجكم من بلادكم قالوا صدق الشيخ النجدي فقال أبو جهل والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شابا نسيبا وسيطا فتيا ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يضربوه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها
وبأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدي قريش ديته فقال إبليس صدق هذا الفتى وهو أجودكم رأيا القول ما قال لا أرى رأيا غيره فتفرقوا على قول أبي جهل وهم مجمعون له فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه فأذن الله له عند ذلك بالخروج إلى المدينة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام في مضجعه وقال له اتشح ببردتي هذه فإنه لن يخلص إليك منهم أمر تكرهه ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه فجعل ينثر التراب على رؤسهم وهو يقرأ (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) إلى قوله (فهم لا يبصرون) ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر وخلف عليا بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده وكانت الودائع تودع عنده صلى الله عليه وسلم لصدقه وأمانته وبات المشركون يحرسون عليا في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليا رضي الله عنه فقالوا أين صاحبك قال لا أدري فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثا قدم المدينة فذلك قوله تعالى (وإذ يمكر بك الذين كفروا) (ليثبتوك) ليحبسوك ويسجنوك ويوثقوك (أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله) قال الضحاك يصنعون ويصنع الله والمكر التدبير وهو من الله التدبير بالحق وقيل يجازيهم جزاء المكر (والله خير الماكرين)
244

سورة الأنفال (31 33) 31 (وإذ تتلى عليهم آياتنا قالوا) يعني النضر بن الحارث (قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا) وذلك أنه كان يختلف تاجر إلى فارس والحيرة فيسمع أخبار رستم واسفنديار وأحاديث العجم ويمر باليهود والنصارى فيراهم يركعون ويسجدون ويقرؤن التوراة والإنجيل فجاء إلى مكة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويقرأ القرآن فقال النضر قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا (إن هذا إلا أساطير الأولين) أخبار الأمم الماضية وأسماؤهم وما سطر الأولون في كتبهم والأساطير جمع أسطورة وهي المكتوبة من قولهم سطرت أي كتبت 32 قوله تعالى (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) الآية نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدار قال ابن عباس لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية قال النضر لو شئت لقلت مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين أي ما هذا إلا ما سطره الأولون في كتبهم فقال له عثمان بن مظعون رضي الله عنه اتق الله فإن محمدا يقول الحق فأنا أقول الحق قال عثمان فإن محمدا يقول لا إله إلا الله قال وأنا أقول لا إله إلا الله ولكن هذه بنات الله يعني الأصنام ثم قال اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك (والحق) نصب بخبر كان وهو عماد وأصله (فامطر علينا حجارة من السماء كما أمطرتها على قوم لوط (أو ائتنا بعذاب أليم) أي ببعض ما عذبت به الأمم وفيه نزل (سأل سائل بعذاب واقع) وقال عطاء لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر قال سعيد بن جبير قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثة صبرا من قريش طعيمة بن عدي وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وروى أنس رضي الله عنه أن الذي قاله أبو جهل لعنه الله أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي حدثنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا محمد بن النضر ثنا عبيد الله بن معاذ ثنا أبي ثنا شعبة عن عبد الحميد صاحب الزيادي سمع أنس بن مالك قال قال أبو جهل اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله 33 قوله تعالى (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) اختلفوا في معنى الآية فقال محمد بن إسحاق هذا حكاية عن المشركين أنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأولى وذلك أنهم كانوا يقولون إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفره ولا يعذب أمة ونبيها فيها فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكر جهالتهم وغرتهم
245

سورة الأنفال (34) واستفتاحهم على أنفسهم (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية وقالوا وما كان الله ليعذبهم وأ نت فيهم (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) ثم قال ردا عليهم (وما لهم ألا يعذبهم الله) وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون وهم يصدون عن المسجد الحرام وقال الآخرون هذا كلام مستأنف يقول الله عز وجل إخبارا عن نفسه (وما كان الله ليعذبهم) واختلفوا في تأويلها فقال الضحاك وجماعة تأويلها وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم قالوا أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة خرج من بين أظهرهم وبقيت بها بقية من المسلمين يستغفرون فأنزل الله تعالى (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) فخرج أولئك من بينهم فعذبوا وأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم الله قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يعذب الله قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا ويلحق بحيث أمر فقال (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله تعالى (وما لهم ألا يعذبهم الله) فعذبهم الله يوم بدر وقال أبو موسى الأشعري كان فيكم أمانان وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فاما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى والاستغفار كائن فيكم إلى يوم القيامة وقال بعضهم هذا الا ستغفار كائن فيكم إلى يوم القيامة وقال بعضهم هذا الاستغفار راجع إلى المشركين وذلك أنهم كانوا يقولون بعد الطواف غفرانك غفرانك وقال يزيد بن رومان قالت قريش إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم فقال الله عز وجل (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) وقال قتادة والسدي وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون أي لو استغفروا ولكنهم لم يكونوا يستغفرون ولو أنهم أقروا بالذنب واستغفروا لكانوا مؤمنين وقيل هذا دعاء إلى الإسلام الاستغفار بهذه الكلمة كالرجل يقول لغيره لا أعاقبك وأنت تطيعني أي أطعني حتى لا أعاقبك وقال مجاهد و عكرمة وهم يستغفرون أي يسلمون يقول لو أسلموا لما عذبوا وروى الوالبي عن ابن عباس وفيهم من سبق له من الله أن يسلم ويؤمن ويستغفر وذلك مثل أبي سفيان وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وغيرهم وروى عبد الوهاب عن مجاهد وهم يستغفرون أي وفي أصلابهم من يستغفر 34 قوله تعالى (وما لهم ألا يعذبهم الله) أي وما يمنعهم من أن يعذبوا يريد بعد خروجك من بينهم (وهم يصدون عن المسجد الحرام) أي يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت وقيل أراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال وأراد بقوله وما لهم أن لا يعذبهم الله أي بالسيف وقيل أراد
246

سورة الأنفال (35 36) بالأول عذاب الدنيا وبهذه الآية عذاب الآخرة وقال الحسن الآية الأولى وهي قوله (وما كان الله ليعذبهم) منسوخة بقوله تعالى (وما لهم ألا
يعذبهم الله) (وما كانوا أولياءه) قال الحسن كان المشركون يقولون نحن أولياء المسجد الحرام فرد الله عليهم بقوله (وما كان أولياءه) أي أولياء البيت (إن أولياؤه) أي ليس أولياء البيت (إلا المتقون) يعني المؤمنين الذين يتقون الشرك (ولكن أكثرهم لا يعلمون) 35 قوله تعالى (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) قال ابن عباس والحسن المكاء الصفير وهي في اللغة اسم طائر أبيض يكون بالحجاز له صفير كأنه قال الأصوت مكاء والتصدية التصفيق قال ابن عباس كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون قال مجاهد كل نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزؤون به ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون فذلك المكاء والتصدية التصفيق ومنه الصدى والمكاء جعل الأصابع في الشدق والتصدية الصفر ومنه الصدأ الذي يسمعه المصوت في الجبل قال جعفر بن ربيعة سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله عز وجل (إلا مكاء وتصدية) فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرا قال مقاتل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى في المسجد قام رجلا ن عن يمينه فيصفران ورجلان عن شماله فيصفقان ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وهم من بني عبد الدار قال سعيد بن جبير التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد وعن الدين والصلاة وهي على هذا التأويل التصددة بدالين فقلبت إحدى الدالين ياء كما يقال تظنيت من الظن وتقضى البازي إذا البازي كسر أي تقضض البازي قال ابن الأنباري إنما سماه صلاة لأنهم أمروا بالصلاة في المسجد الحرام فجعلوا ذلك صلاتهم (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) 36 قوله تعالى (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) أي ليصرفوا عن دين الله قال الكلبي ومقاتل نزلت في المطيعين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ابن عبد شمس ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري ابن هشام والنضر بن الحارث وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب وكلهم من قريش وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر وقال الحكم بن عيينة نزلت في أبي سفيان أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية قال الله تعالى (فسينفقونها ثم تكون عليهم
247

سورة الأنفال (37 40) حسرة) يريد ما أنفقوا في الدنيا يصير حسرة عليهم في الآخرة (ثم يغلبون) ولا يظفرون (والذين كفروا) منهم (إلى جهنم يحشرون) خص الكفار لأن منهم من أسلم 37 (ليميز الله الخبيث) في سبيل الشيطان (من الطيب) يعني الكافر من المؤمن فينزل المؤمن الجنان والكافر النيران وقال الكلبي العمل الخبيث من العمل الصالح الطيب فيثبت على الأعمال الصالحة الجنة وعلى الأعمال الخبيث النار وقيل يعني الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان من الإنفاق الطيب في سبيل الله (ويجعل الخبيث بعضه على بعض) أي فوق بعض (فيركمه جميعا) أي يجمعه ومنه السحاب المركوم وهو المجتمع الكثيف فيجعله في جهنم (أولئك هم الخاسرون) رده إلى قوله (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم 00 أولئك هم الخاسرون) ألذين خسرت تجارتهم لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الآخرة 38 (قل للذين كفروا أن ينتهوا) عن الشرك (يغفر لهم ما قد سلف) أي ما مضى من ذنوبهم قبل الإسلام (وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) في نصر الله أنبيائه وأ لأيائه وإ / لا: أعدائه قال يحيى بن معاذ الرازي توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب 39 (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي شرك قال الر بيع حتى لا يفتن مؤمن عن دينه (ويكون الدين كله لله) أي ويكون الدين خالا لله لا شرك فيه (فإن انتهوا) عن الكفر (فإن الله بما يعملون بصير) قرأ يعقوب (تعملون) بالتاء وقرأ الآخرون بالياء 40 (وإن تولوا) عن الإيمان وعادوا إلى قتال أهله (فاعلموا أن الله مو لاكم) ناصركم ومعينكم (نعم المولى ونعم النصير) أي الناصر
248

سورة الأنفال (41) 41 قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) الغنيمة والفيء اسمان لما يصيبه المسلمون من أموال الكفار فذهب جماعة إلى أنهما واحد وذهب قوم أنهما يختلفان فالغنيمة ما أ صابه المسلمون منهم عنوة بقتال والفيء ما كان عن صلح بغير قتال فذكر الله عز وجل في هذه الآية حكم الغنيمة فقال (فأن لله خمسه وللرسول) فذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن قوله (الله) افتتاح كلام على سبيل التبرك وإضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه وليس المراد منه أن سهما من الغنيمة لله منفردا فإن الدنيا والآخرة كلها لله عز وجل وهو قول الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم والشعبي قالوا سهم الله وسهم الرسول واحد والغنيمة تقسم خمسة أخماس أربعة أخماسها لمن قاتل عليها والخمس لخمسة أصناف كما ذكر الله عز وجل (وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) قال بعضهم يقسم الخمس على ستة أسهم وهو قول أبي العالية سهم لله فيصرف إلى الكعبة والأول أصح أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم سهم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام وهو قول الشافعي رحمه الله وروى الأعمش عن إبراهيم قال كان أبو بكر وعمر ر ضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلا ح و قال قتادة هو للخليفة بعده وقال بعضهم سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس والخمس لأربعة أصناف قوله (ولذي القربى) أراد أن سهما من الخمس لذوي القربى وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيهم فقال قوم جميع قريش وقال قوم هم الذين لا تحل لهم الصدقة وقال مجاهد وعلي بن الحسين هم بنو هاشم وقال الشافعي هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء وإن كانوا إخوة والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز احمد الخلال ثنا أبو العباس الأصم أنبأنا الربيع أنبأنا الشافعي أنبأنا الثقة عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن جبير بن مطعم عن أبيه قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب ولم يعط منه أحدا من بني عبد شمس ولا بني نوفل شيئا وأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا مطرف بن مازن عن معمر بن راشد عن ابن شهاب أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا يا رسول الله هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم
249

واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد هكذا وشبك بين أصابعه واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت وهو قول مالك والشافعي وذهب أ صحاب الرأي إلى أنه غير ثابت وقالوا سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان
في الخمس وخمس الغنيمة لثلاثة أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل وقال بعضهم يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء والكتاب والسنة يدلان على ثبوته والخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه ولا يفضل فقير على غني لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله فألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة غير أنه يعطي القريب والبعيد وقال يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين والأنثى سهما واحدا قوله (واليتامى) وهو جمع اليتيم واليتيم الذي له يهم في الخمس هو الصغير المسلم الذي لا أب له إذا كان فقيرا (والمساكين) هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين و (ابن السبيل) هو المسافر البعيييد عن ماله فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة للفارس منهم ثلاثة أسهم وللراجل سهم واحد لما أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن أنا عبد الله بن يوسف أنا سعيد بن الأعرابي ثنا سعد بن نصر ثنا أبو معاوية عن عبيد الله عن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أ سهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه وهذا قول أكثر أهل العلماء وإليه ذهب الثوري والأوزاعي ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة رضي الله عنه للفارس سهمان وللراجل سهم واحد ويرخص للعبيد والنسوان و الصبيان إذا حضروا القتال ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول وعند أبي حنيفة يتخير الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم وبين أن يجعله وفقا على المصالح وظاهر الآية لا يفرق بين العقار والمنقو ومن قتل مشركا في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة لما روي عن أبي قتادة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين من قتل قتيلا له عليه بينه فله سلبه والسلب كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح وفرسه الذي هو راكبه ويجوز للإمام أن ينقل بعض الجيش من الغنيمة لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب يخصه به من بين سائر الجيش ويجعله أسوة الجماعة في سار الغنيمة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش وروي عن حبيب بن سلمة الفهري قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البداة والثلث في الرجعة واختلفوا في أن النفل من أن يعطى فقال قوم من خمس الخمس منهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس
250

والخمس مردود فيكم وقال قوم هو من الأربعة الأخماس بعد إفراز الخمس كسهام الغزاة و هو قول أحمد وإ سحاق وذهب بعضهم إلى أن النفل من رأ س الغنيمة قبل الخمس كالسلب للقاتل وأما الفيء وهو ما أصابه المسلمون من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب بأن صالحهم على مال يؤدونه ومال الجزية وما يؤخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة أو يموت واحد منهم في دار الإ سلام ولا وارث له فهذا كله فيء ومال الفيء كان خالصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته قال عمر رضي الله عنه أن الله قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا افيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ثم قرأ (ما أفاء الله على رسوله منهم) إلى قوله (قدير) وكانت هذه خالصة لرسول صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله عز وجل واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم هو للأئمة بعده وللشافعي فيه قولان أحدهما للمقاتلة الذين أثبتت أساميهم في ديوان الجهاد لأنهم القائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم في إرهاب العدو والقول الثاني أنه لمصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منهم كفايتهم ثم بالأهم فالأهم من المصالح واختلف أهل العلم في تخميس الفيء فذهب الشافعي إلى أنه يخمس فخمسه لأهل الغنيمة على خمسة أسهم وأربعة أخماسه للمقاتلة والمصالح وذهب الأكثرون إلى أن الفيء لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ولجميع المسلمين فيه حق أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار أنا محمد بن زكريا العذافري أنا إسحاق الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه سمع عمر بن الخطاب يقول ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم وأخبرنا أبو سعيد الطاهر أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار أنبأنا محمد بن زكريا العذافري أنبأنا أبو إسحق الدبري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن الحدثنان قال قرأ عمر بن الخطاب (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) حتى بلغ (عليم حكيم) فقال هذه لهؤلاء ثم قرأ (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه) حتى بلغ (وابن السبيل) ثم قال هذه لهؤلاء ثم قرأ (ما أفاء الله على رسول من أهل القرى) حتى بلغ (للفقراء والذين جاؤوا من بعدهم) ثم قال هذه استوعبت المسلمين عامة فلئن عشت فليأتين الراعي وهو بسر و حمير فنصيبه منها لم يعرق فيها جبينه قوله تعالى (إن كنتم آمنتم بالله) قيل أراد (اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول) يأمر فيه بما يريد فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله (وما أنزلنا على عبدنا) أي إن كنتم آ منتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا يعني قوله (يسألونك عن الأنفال) (يوم الفرقان) يعني يوم بدر فرق الله بين الحق والباطل وهو (يوم التقى الجمعان) حزب الله وحزب الشيطان وكان يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان (والله على كل شيء قدير) على نصركم مع قلتكم وكثرتهم
251

سورة الأنفال (42 44) 42 (إ أنتم) أي إذ أنتم نزول يا معشر المسلمين (بالعدوة الدنيا) أي بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة والدنيا تأنيث الأ نتى (وهم) يعني عدوكم من المشركين (بالعدوة القصوى) بشفير الوادي الأقصى من المدينة والقصوى تأنيث الأقصى قرأ ابن كثير وأهل البصرة (بالعدوة) بكسر العين فيهما والباقون بضمهما وهما لغتان كالكسوة والكسوة والرشوة والرشوة (والركب) يعني العير يريد أبا سفيان وأصحابه (أسفل منكم) أي في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) وذلك أن المسلمين خرجوا ليأخذوا العر وخرج الكفار ليمنعوها فالتقوا على غير ميعاد فقال تعالى (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد (لقتلكم وكثرة عدوكم (ولكن) الله جمعكم على غير ميعاد (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه (ليهلك من هلك عن بينة) أي ليموت من يموت على بينة رآها وعبرة عانها وحجة قامت عليه (ويحي من حي عن بينة) ويعيش من يعيش على بينة لوعده (وما كنا معذبين حتى
نبعث رسولا) وقال محمد بن إسحاق معناه ليكر من كفر بعد حجة قامت عليه ويؤمن من آمن على مثل ذلك فالهلاك هو الكفر والحياة هي الإيمان وقال قتادة ليضل عن بينة ويهدي من اهتدى على بينة قرأ أهل الحجاز وأبو بكر ويعقوب (حيي) ببائين مثل (خشي) وقرأ الآخرون بياء واحدة مشددة لأنه مكتوب بياء واحدة (وإن الله لسميع) لدعائكم (عليم) بنياتكم 43 قوله تعالى (إذ يريكهم الله) يريك يا محمد المشركين (في منامك) أي نومك وقال الحسن في منامك أي في عينك لأن العين موضع النوم (قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم) لجبنتم (و لتنازعتم) أي اختلفتم (في الأمر) أي في الاحجام والإقدام (ولكن الله سلم) أي سلمكم من المخالفة والفشل (إنه عليم بذات الصدور) قال ابن عباس علم ما في صدوركم من الحب لله عز وجل 44 (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) قال مقاتل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في
252

سورة الأنفال (45 46) المنام أن العد و قليل قبل لقاء العدو وأخبر أصحابه بما ر أي فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين المؤمنين قال ابن مسعود رضي الله عنه لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لر جل إلى جنبي أتراهم سبعين قال أراهم مائة فأسرنا رجلا فقلنا كم كنتم قال ألفا (ويقللكم) يا معش ر المؤمنين (في أعينهم) قال السدي قال ناس من المشركين إن العير قد انصرفت فارجعوا فقال أبو جهل الآن إذا برز لكم محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم إنما محمد وأصحابه أكلة جزور فلا تقتلوهم وأربطوهم بالحبال يقوله من القدرة التي في نفسه قال الكلبي استقل بعضهم بعضا ليجترؤا على القتال فقلل المشركين في أعين المؤمنين لكي لا يجننبوا وقلل المؤمنين في أعين المشركين لكي لا يهربوا (ليقضي الله أمرا) من إعلاء الإسلام وإعزاز أهله وإ ذلال الشرك وأهله (كان مفعولا) كائنا (و إلى الله ترجع الأمور) 45 قوله تعالى (] أ أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة) أي جماعة كافرة (فاثبتوا) لقتالهم (واذكروا الله كثيرا) أي ادعوا الله بالنصر والظفر بهم (لعلكم تفلحون) أي كونوا على رجاء الفلاح 46 (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا) لا تختلفوا (فتفشلوا) أي تجبنوا أو تضعفوا (وتذهب ريحكم) قال مجاهد نصرتكم وقال السدي جراءتكم وجدكم وقال مقاتل بن حيان حدتكم وكان النضر بن شميل قوتكم وقال الأخفش دولتكم والريح ها هنا كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد تقول العرب هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد قال قتادة وابن زيد هو ريح النصر لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله عز وجل تضرب وجوه العدو ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور وعن النعمان بن مقرن قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر قوله عز وجل (واصبروا إن الله مع الصابرين) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عبد الله بن محمد ثنا معاوية بن عمرو ثنا إسحاق عن موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له قال كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال يا أيها الناس لا تتمنوا
253

سورة الأنفال (47 48) لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم 47 قوله تعالى (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا) فخرا وأشرا (ورئاء الناس) قال الزجاج البطر الطغيان في النعمة وترك شكرها والرياء إظهار الجميل ليرى وإبطال القبيح (ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغي وفخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تجادلك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني قالوا لما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش أنكم إنما خرجتم لتمنعوا غيركم فقد نجاها الله فارجعوا فقال أبو جهل والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم اعر ب يجتمع لهم بها سوق كل عام فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم وأمرهم بإلآ النية والحسبة في نصر دينه ومؤازرة نبيه صلى الله عليه وسلم 48 قوله تعالى (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) وكان تزيينه أن قريشا لما اجتمعت للسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب فكاد ذلك أن يثنيهم فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته فتبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم (وقال) لهم (لا غالب لكم اليوم من أناس وإني جار لكم) أ] مجير لكم من كنانة (فلما تراءت الفئتان) أي التقى الجمعان رأى إبليس أثر الملائكة نزلوا من السماء وعلم أنه لا طاقة له بهم (نكص على عقبيه) قال الضحاك ولى مدبرا وقال النضر بن شميل رجع القهقرى على قفاه هاربا قال الكلبي لم التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة أخذ بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث أفرارا من غير قتال فجعل يمسكه فدفع في صدره انطلق وانهزم الناس فلما قدم مكة قالوا هزم الناس
254

سورة الأنفال (50) سراقة فبلغ ذبك سراقة فقال بلغني أنكم تقولون إني هز مت الناس فوالله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم فقالوا أما أتيتنا في يوم كذا فحلف لهم فلما أس لموا علموا أن ذلك كان الشيطان قال الحسن في قوله (وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) قال رأى إبليس جبريل متعجرا ببرد يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب بعد وقال قتادة كان إبليس يقول إني أرى ما لا ترون وصدق وقال (إني أخاف الله) وكذب والله ما به من مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة به ولا منعة فأوردهم وأسلمهم وذلك عادة عدو الله في من أطاعه إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم وقال عطاء إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك وقال الكلبي خاف أن يأخذه جبريل عليه السلام ويعرف حاله فلا يطيعوه وقيل معناه إني أخاف الله أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمره (والله شديد العقاب) وقيل معناه إني أخاف الله عليكم والله شديد العقاب قيل انقطع الكلام عند قوله أخاف اله ثم يقول الله والله شديد العقاب أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن إبراهيم بن أبي عليه عن طلحة بن عبد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة وما ذاك إلا لم يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما
كان من يوم بدر فقيل وما رأى يوم بدر قال أما إنه قد رأى جبريل عليه السلام وهو ينزع الملائكة هذا حديث مرسل 49 قوله تعالى (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) شك ونفاق (غر هؤلاء دينهم) يعني غر المؤمنين دينهم هؤلاء قوم كانوا مستضعفين بمكة وقد أسلموا أو حبسهم أقرباؤهم من الهجرة فلما خرجت قر يش إلى بدر أخرجوهم كرها فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا غر هؤلاء ء دينهم فقتلوا جميعا منهم قيس بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والمخزوميان والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب وعلي بن أمية بن خلف الجمحي والعاص بن منبه بن الحجاج قال الله تعالى (ومن يتوكل على الله) أي ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به (فإن الله عزيز) قوي يفعل بأعدائه ما يشاء (حكيم) لا يسوي بين وليه وعدوه 50 (ولو ترى) يا محمد (إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون) أي يفيضون أرواحهم اختلفوا فيه قيل هذا عند الموت تضرب الملائكة وجوه الكفار بسياط النار وقيل أراد الذين قتلوا من
255

سورة الأنفال (51 54) المشركين ببدر كانت الملائكة يضربون (وجوههم وأدبارهم) ألا سعيد بن جبير ومجاهد يريد استاههم ولكن الله حي يكني قال ابن عباس كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضر بت الملائكة وجوههم بالسيوف وإذا ولو أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم وقال ابن جريج يريد ما أقبل منهم وما أدبر أي يضربون أجسادهم كلها والمراد بالتوفي القتل (وذوقوا عذاب الحريق) منهم وما أدبر أي يضربون أجسادهم كلها والمراد بالتوفي القتل (وذوقوا عذاب الحريق) أي وتقول لهم الملائكة ذوقوا عذاب الحريق وقيل كان مع الملائكة مقامع من حديد يضربون بها الكفار فتلتهب النار في جراحاتهم فذلك قوله تعالى (وذوقوا عذاب الحريق) وقال الحسن هذا يوم القيامة تقول لهم خزنة جهنم ذوقوا عذاب الحريق وقال ابن عباس رضي الله عنهما يقولون لهم ذلك بعد الموت 51 (ذلك) ذلك الضرب الذي وقع بكم (بما قدمت أيديكم) أي بما كسبت أيديكم (وأن الله ليس بظلام للعبيد) 52 (كدأب آل فرعون) كفعل آل فرعون وصنيعهم وعادتهم معناه أن عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون قال ابن عباس هو أن آل فرعون أيقنوا أن موسى نبي من الله فكذبوه كذلك هؤلاء جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالصدق فكذبوه فأنزل الله بهم عقوبة كما أنزل بآل فرعون (والذين من قبلهم) أي (كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب) 53 (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) أراد ان الله تعالى لا يغير ما أنعم على قوم حتى يغيروا هم ما بهم بالكفران وترك الشكر فإذا فعلوا ذلك غير الله ما بهم فسلبهم النعمة وقال السدي نعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم أنعم الله به على قريش وأهل مكة فكذبوه وكفروا به فنقله الله إلى الأنصار (وأن الله سميع عليم) (54 كدأب آل فرعون) كصنيع آل فرعون (والذين من قبلهم) من كفار الأمم (كذبوا بآ يأت ربهم فأهلكناهم بذنوبهم) أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالمسخ وبعضهم
256

سورة الأنفال (55 58) بالريح وبعضهم بالغرق فكذلك أهلكنا كفار بدر بالسيف لما كذبوا بآيات ربهم (وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين) يعني الأولين والآخرين 55 (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون) قال الكلبي ومقاتل يعني يهود بني قريظة منهم كعب بن الأشرف وأ صحابه 56 (ألذين عاهدت منهم) يعني عاهدتهم عاهدت معهم وقيل أدخل (من) لأن معناه أخذت منهم العهد (ثم ينقضون عهدهم في كل مرة) وهم بنو قر يظة نقضوا العهد إلي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا المشركين بالسلاح على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأ صحابه ثم قالوا نسينا وأخطأنا فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالؤا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فوافقهم على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم (وهم لا يتقون) لا يخاون الله تعالى في نقض العهد 57 (فإما تثقفنهم) تجدنهم (في الحرب) قال مقاتل إن أدركتهم بالحرب وأسرتهم (فشرد بهم من خلفهم) قال ابن عباس فنكل بهم من ورائهم وقال سعيد بن جبير أنذر بهم من خلفهم وأصل التشريد التفريق والتبديد معناه فرق بهم جمع كل ناقض أي افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وجاؤا لحربك فعلا من القتل والتنكيل يفرق منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن (لعلهم يذكرون)] تذكرون ويتعظون ويعتبرون فلا ينقضون العهد 58 (وإما تخافن) أي تعلمن يا محمد (من قوم) معاهدين (خيانة) نقض عهد بما يظهر لكم من آثار الغدر كما ظهر من قريظة والنضير (فانبذ إليهم) فاطرح إليهم عهدهم (على سواء) يقول أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم (إن الله لا يحب الخائنين) أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أنا أبو سهل محمد بن عمر بن طرفة السجري أنا أبو سليم الخطابي أنا أبو بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق بن داسة التمار ثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ثنا حفص بن عمر النمر ثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم بن عامر عن رجل من حمير قال كان معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على
257

سورة الأنفال (59 60) فرس وهو يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا فإذا هو عمرو بن عنبسة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم عهدهم على سواء فرجع معاوية رضي الله عنه قوله 59 (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا) قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة وحفص (يحسبن) بالياء وقرأ الآخرون بالتاء (سبقوا) أي فأتوا نزلت في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين فمن قرأ بالياء يقول (لا يحسبن الذين كفروا) أنفسهم سابقين فائتين في عذابنا ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب قرأ ابن عامر (أنهم لا يعجزون) بفتح الألف أي لأنهم لا يعجزون ولا يفوتونني وقرأ الآخرون بكسر الألف على الابتداء 60 قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة (من قوة) أي من الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح أخبرنا إ سماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغفار بن محمد أنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم بن الحجاج ثنا هارون بن معروف ثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن شفي أنه سمع عقبة بن عامر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر وأعدوا بهم ما استطعتم من قوة إ لا أن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألآ إن القوة الرمي وبهذا الإسناد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله عز وجل فلا يعجز أحدكم أن يلهوا باسهمه أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو نعيم
ثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ثنا حميد بن زنجويه ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح السلمي قال حاصرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الطائف فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة قال فبلغت يومئذ ستة عشر سهما وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسن علي بن محمد بن بشران أنا إسماعيل بن حمد الصفار ثنا أحمد بن منصور الرمادي ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلا م عن عبد الله بن
258

زيد بن الأزرق عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة صانعه والممد به والرامي به في سبيل الله وروي عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله وارموا واركبوا وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا كل شيء يلهو به الرجل باطل وإلآ رميه بقومه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنه من الحق ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنه نعمة تركها أو قال كفرها قوله (ومن رباط الخيل) يعني ربطها واقتناؤها للغزو وقال عكرمة القوة الحصون ومن رباط الخيل الإناث وروي عن خالد أنه كان لا يركب في القتال إلا ألإناث لقلة صهيلها وعن أبي محيريز قال كان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند الشنات والغارات أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو نعيم ثنا زكريا عن عامر ثنا عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا علي بن حفص ثنا ابن المبارك ثنا طلحة بن أبي سعيد قال سمعت سعيدا المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة وأخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنبأنا أبو إسحق الهاشمي أنبأنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخيل ثلاثة هي لرجل أجر وهي لرجل ستر وهي لرجل وزر فاما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كان له حسنات ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين كانت آ ثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات فهي لذلك الرجل أجر وأما التي هي له ستر فرحل ربطها تغنيا وتعففا ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر وأما التي هي له وزر فرجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الاسلام فهي على ذلك وزر وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (ترهبون به) تخوفون (به عدو الله وعدوكم وآخرين) أي وترهبون آخرين (من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) قال مجاهد ومقاتل وقتادة هم بنو قريظة وقال السدي هم أهل فارس وقال الحسن وابن زيد هم المنافقون لا تعلمونهم لأنهم معكم يقولون لا إله إلا الله وقيل هم كفار الجن (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم) يوفى لكم أجره (وأنتم لا تظلمون) لا ينقص أجوركم
259

سورة الأنفال (61 65) 61 قوله تعالى (وإن جنحوا للسلم) أي مالوا إلى الصلح (فاجنح لها) أي مل إليها وصالحهم روي عن قتادة والحسن أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (وتوكل على الله) ثم بالله (إنه هو السميع العليم) 62 (وإن يريدوا أن يخدعوك) يغدروا ويمكروا بك قال مجاهد يعني بني قر يظة (فإن حسبك الله) كافيك الله (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) أي بالأنصار 63 (وألف بين قلوبهم) أي بين الأوس والخزرج كانت بينهم إحن وتارات في الجاهلية فصيرهم الله إخوانا بعد أن كانوا أعداء (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله الف بينهم إنه عزيز حكيم) 64 قوله تعالى (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) قال سعيد بن جبير أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر بن الخطاب فتم به الأر بعون فنزلت هذه الآية واختلفوا في محل (من) فقال أكثر المفسرين محله خفض عطفا على الكاف في قوله (حسبك الله) وحسب من اتعك وقال بعضهم هو رفع عطفا على اسم الله معناه حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين 65 قوله تعالى (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) أي حثهم على القتال (إن يكن منكم عشرون) رجلا (صابرون) محتسبون (يغلبوا مائتين) من عدوهم يقهروهم (وإن يكن منكم مائة) صابرة محتسبة (يغلبوا ألفا من الذين كفروا) ذلك (بأنهم قوم لا يفقهون) أي إن المشركون يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب ولا يثبتون إذا صدقتموهم القتال خشية أن يقتلوا وهذا خبر بمعنى الأمر وكان هذا يوم بدر فرض الله على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين فثقلت أعلى المؤمنين فخفف الله عنهم فنزل
260

سورة الأنفال (66 67) 66 (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) أي ضعفا في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف وقرأ أبو جعر (ضعفاء) بفتح العين والمد على الجمع وقرأ الآخرون بسكون العين (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) من الكفار (وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) فرد من العشرة إلى الاثنين فإن كان المسلمون على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا وقال سفيان قال ابن شبرمة وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا قرأ أهل الكوفة (وإن يكن منكم مائة) بالياء فيهما وافق أهل البصرة في الأول والباقون بالتاء فيهما وقرأ عاصم و حمزة (ضعفاء) بفتح الضاد ههنا وفي سورة الروم والباقون بضمها 67 وقوله تعالى (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) قر أ أبو جعفر وأهل البصرة (تكون) بالتاء والباقون بالياء وقرأ أبو جعفر (أسارى) والآخرون (أسرى) وروى الأعمش عن عمر بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لما كان يوم بد ر وجئ بالأسرى فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما تقولون في هؤلاء فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم واستأذن بهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار وقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فدعهم نضرب أعناقهم مكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ومكني من فلان نسيب لعمر فاضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرم عليهم نارا فقال له العباس قطعت رحمك فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ثم دخل قال ناس يأخذ بقول أبي بكر وقال ناس يأخذ بقول عمر وقال ناس يأخذ بقو ل ابن رواحة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) وإن مثلك يا عمر مثل نوح قال (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) ومثلك يا عبد الله بن رواحة مثل موسى قال ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم الآية ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق قال عبد الله ابن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سهيل بن
261

سورة الأنفال (68 69) بيضاء قال ابن عباس قال عمر بن الخطاب فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى (/ أ كان لنبي أن يكون له أ سرى حتى يثخن في الأرض) إلى قوله (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) فأحل الله الغنيمة لهم بقوله أسرى جمع أسير مثل قتلى وقتيل قوله (حتى يثخن في الأرض) أي يبالغ قتال المشركين وأسرهم (تريدون) أيها المؤمنون (عرض الدنيا) بأخذكم الفداء (والله يريد الآخرة) يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ونصركم دين الله عز وجل (والله عزيز حكيم) وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية والأوقية أربعون درهما قال ابن عباس رضي الله عنهما كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم وأنزل الله في الأسارى (فإما منا بعد وإما فداء) فجعل الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر ألأسارى بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا أعتقوهم وإن شاؤااستعبدوهم وإن شاؤوا فادوهم 68 قوله تعالى (لولا كتاب من الله سبق) قال ابن عباس كانت الغنائم حراما على الأنبياء والأمم فكانوا إذا أصابوا شيئا من الغنائم جعلوه للقربان فكانت تتنزل نار من السماء فتأكله فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم وأخذوا الفداء فأنزل الله عز وجل (لولا كتاب من الله سبق) يعني لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنه يحل لكم الغنائم وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحدا ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريح لولا كتاب من الله سبق أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون الآية وأنه لا يأخذ قوما فعلوا أشياء بجهالة (لمسكم) لنا لكم وأصابكم (فيما أخذتم) من الفداء قبل أن تؤمروا به (عذاب عظيم) قال ابن إسحاق لم يكن من المؤمنين أحد ممن أ حضر إلا حب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى وسعد بن معاذ قال يا رسول الله كان الاثخان في القتل إلي من استيفاء الرجال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو نزل عذاب من السماء ما نجا منهم غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ 69 فقال الله تعالى (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم) ر وي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزل (فكلوا مما غنمتم) الآية
262

(سورة الأنفال (70 71) وروينا عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر الزيادي أنا محمد بن الحسين القطان ثنا أحمد ابن يوسف السلمي ثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن هشام ثنا أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا 70 قوله تعالى (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) قرأ أبو عمرو وأبو جعفر (من الأسارى) بالألف والباقون بلا ألف نزلت في العباس بن عبد المطلب وكان أسر يوم بدر وكان أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر نوبته وكان قد خرج بعشرين أوقية من الذهب ليطعم بها الناس فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا وبقيت العشرون أوقية معي فأخذت منه في الحرب فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتسب العشرين أوقية من فدائه فأبى وقال أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك وكلف فداء بني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فقال العباس يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله ولعبيد الله وللفضل وقثم يعني الأربعة فقال له العباس وما يدريك قال أخبرني به ربي عز وجل قال العباس أشهد أنك صادق وقال لا إله إلا الله وإنك عبده ورسوله ولم يطلع عليه أحد إلا الله عز وجل فذلك قوله تعالى (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) الذين أخذت منهم الفداء (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) أي إيمانا (يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) من الفداء (ويغفر لكم) ذنوبكم (والله غفور رحيم) قال العباس رضي الله عنه فأبدلني الله عنهما عشرين عبدا كلهم تاجر يضرب بمال كثير وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان عشرين أوقية وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال مكة أنا أنتظر المغفرة من ربي عز وجل 71 قوله (وإن يريدوا خيانتك) يعني الأسارى (فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ببدر (والله عليكم حكيم) قال ابن جريج أراد بالخيانة الكفر أي إن كفروا بك فقد كفروا بالله من قبل فأمكن منهم المؤمنين ببدر حتى قتلوهم وأسروهم وهذا تهديد لهم إن عادوا إلى قتال المؤمنين ومعاداتهم
263

سورة الأنفال (72 74) 72 قوله تعالى (إن الذين آمنوا وهاجروا) أي هجروا قومهم وديارهم يعني المهاجرين من مكة (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله
والذين امنووا) رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه أي أسكنوهم منازلهم (ونصروا) أي نصروهم على أعدائهم وهم الأنصار رضي الله عنهم (أولئك بعضهم أولياء بعض) دون أقربائهم من الكفار قيل في العون والنصرة وقال ابن عباس في الميراث وكانوا يتوارثون بالهجرة فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة انقطعت الهجرة وتوارثوا بالأرحام حيث ما كانوا وصار ذلك منسوخا بقوله عز وجل (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء) يعني في الميراث (حتى يهاجروا) قرأ حمزة (ولايتهم) بكسر الواو والباقون بالفتح وهما واحد كالدلالة والدلالة (وإن استنصروكم في الدين) أي استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا (فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) عهد فلا تنصروهم عليهم (والله بما تعلمون بصير) 73 (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) في العون والنصرة وقال ابن عباس في الميراث أي يرث المشركون بعضهم من بعض (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض) قال ابن عباس ألا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به وقال ابن جريج ألا تعاونوا وتناصروا وقال ابن إسحاق جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض ثم قال (إلا تفعلوه) وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) فالفتنة في الأرض قوة الكفر والفساد الكبير ضعف الإسلام 74 (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا) لا مرية ولا ريب في إيمانهم قيل حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في الدين (لهم مغفرة ورزق
264

كريم) الجنة فإن قيل أي معنى في تكرار هذه الآية قيل المهاجرون كانوا على طبقات فكان بعضهم أهل الهجرة الأولى وهم الذين هاجروا قبل الحديبية وبعضهم أهل الهجرة الثانية وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكة وكان بعضهم ذا هجرتين هجرة الحبشة والهجرة إلى المدينة فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى ومن الثانية الهجرة الثانية 75 قوله (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) أي معكم يريد أنتم منهم وهو منكم (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) وهذا نسخ التوارث بالهجرة ورد الميراث إلى ذوي الأرحام قوله (في كتاب الله) أي في حكم الله عز وجل وقيل أراد بكتاب الله القرآن يعني القسمة التي بينها في سورة النساء (إن الله بكل شيء عليم سورة التوبة قال مقاتل هذه السورة مدنية كلها إلا آيتين من آخر السورة قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس سورة التوبة قال هي الفاضحة ما زالت تتنزل فيهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها قال قلت سورة الأنفال قال تلك سورة بدر قال قلت سورة الحشر قال قل سورة بني النضير أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحق أحمد بن محمد إبراهيم الثعلبي أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسين الجرجاني أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ أنبأنا أحمد بن علي بن المثنى ثنا عبيد الله القواريري ثنا يزيد بن زريع ثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابي حدثني يزيد الفارسي حدثني ابن عباس رضي الله عنهما قال قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال فقال عثمان إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فإذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا بالمدنية وكانت براءة من آخر ما نزل وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال
265

سورة التوبة (1 2) 1 قوله تعالى (براءة من الله ورسوله) أي هذه براءة من الله وهي مصدر كالنشأة والدناءة قال المفسرون لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم وذلك قوله عز وجل (وإما تخافن من قوم خيانة) الآية قال الزجاج براءة أي قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء لهم بها إذا نكثوا (إلى الذين عاهدتم من المشركين) الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم لأنه وأصحابه راضون بذلك فكأنهم عاقدوا وعاهدوا 2 (فسيحوا في الأرض) رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم سيحوا أي سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين (أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله) أي غير فائتين ولا سابقين (وأن الله مخزي الكافرين) أي مذلهم بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة واختلف العلماء في هذا التأجيل وفي هؤلاء الذي برئ الله ورسوله إليهم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جماعة هذا تأجيل من الله تعالى للمشركين فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر فقال جماعة هذا تأجيل من الله تعالى للمشركين فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر ومن كانت مدته أكثر من أربعة أشهر حطه إلى أربعة أشهر ومن كانت مدة عهده بغير أجل محدود حده بأربعة أشهر ثم هو حرب بعد ذلك لله ورسوله فيقتل حيث يدرك ويؤثر إلا أن يتوب وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوما وقال الزهري الأشهر الأربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال والأول هو الأصوب وعليه الأكثرون وقال الكلبي إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان له عهد دون أربعة أشهر فأتم له أربعة أشهر فأما من كان له عهدا أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله تعالى (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) قال الحسن أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله من المشركين والبراءة منهم وأجلهم أربعة أشهر فلم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البرء ولا من لم يكن له عهد فكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر وأحل دماء جميعهم من أهل العهد وغيرهم بعد انقضاء الأجل وقيل نزلت هذه قبل تبوك قال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما نزلت في أهل مكة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها وأعانتهم قريش
266

بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (لا هم إني ناشد
محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا) (فانصر هداك الله نصرا أبدا وادع عباد الله يأتو مددا) (أبيض مثل الشمس يسموا صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا) (هم بيتونا بالهجير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا) (كنت لنا أبا وكنا ولدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا) (فيهم رسول الله قد تجردا في فليق كالبحر يجري مزبدا) (إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا) (وزعموا أن لست تنجي أحدا وهم أذل وأقل عددا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نصرت إن لم أنصركم وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة فلما كان سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج ثم قال إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة فبعث أبا بكر السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه أربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم ثم بعث بعده عليا كرم الله وجهه على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة أن قد برئت ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم من كل مشرك لا يطوف بالبيت عريان فرجع أبو بكر فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء قال لا ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض قال بلى يا رسول الله فسار أبو بكر رضي الله عنه أميرا على الحج وعلي رضي الله عنه ليؤذن ببراءة فلما كان قبل يوم التوبة بيوم خطب أبو بكر الناس وحدثهم عن مناسكهم وأقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فأذن في الناس بالذي أمر به وقرأ عليهم سورة براءة وقال زيد بن تبيع سألنا عليا بأي شيء بعثت في تلك الحجة قال بعثت بأربع لا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ومن لم يكن له مدة فأجله أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع فإن قال قائل كيف بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه ثم عزله وبعث عليا رضي الله عنه قلنا ذكر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعزل أبا بكر رضي الله عنه وكان أميرا وإنما بعث عليا رضي الله عنه لينادي بهذه الآيات وكان السبب فيه أن العرب تعارفوا فيما بينهم في عقد العهود ونقضها أن لا يتولى ذلك إلا سيدهم أو رجل من رهطه فبعث عليا رضي الله عنه إزاحة للعلة لئلا يقولوا هذا خلاف ما نعرفه فينا في نقض العهد والدليل على أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو
267

سورة التوبة (2 3) الأمير ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ثنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا إسحاق ثنا يعقوب بن إبراهيم ثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان قال حميد بن عبد الرحمن ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا على أهل منى يوم النحر ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان 3 (وأذان) عطف على قوله (براءة) أي إعلام ومنه الأذان بالصلاة يقال أذنته فأذن أي أعلمته وأصله من الأذن أي أوقعته في أذنه (من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر) اختلفوا في يوم الحج الأكبر روى عكرمة عن ابن عباس أنه يوم عرفة وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن الزبير وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد ابن المسيب وقال جماعة هو يوم النحر روي عن يحيى بن الجزار قال خرج علي رضي الله عنه يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاءه رجل وأخذ بلجام دابته وسأله عن يوم الحج الأكبر فقال يومك هذا حل سبيلها ويروى ذلك عن عبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي وروى ابن جريج عن مجاهد يوم الحج الأكبر حين الحج أيام منى كلها وكان سفيان الثوري يقول يوم الحج الأكبر أيام منى كلها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث يراد به الحين والزمان لأن هذه الحروب دامت أياما كثيرة وقال عبد الله بن الحارث بن نوفل يوم الحج الأكبر الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن سيرين لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين ولم يجتمع قبله ولا بعده واختلفوا في الحج الأكبر فقال مجاهد الحج الأكبر القران والحج الأصغر إفراد الحج وقال الزهري والشعبي وعطاء الحج الأكبر الحج والحج الأصغر العمرة قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها قوله تعالى (أن الله بريء من المشركين ورسوله) أي ورسوله أيضا بريء من المشركين وقرأ يعقوب بنصب اللام أي إن الله ورسوله بريء (فإن تبتم) رجعتم من كفركم وأخلصتم التوحيد (فهو خير لكم وإن توليتم) أعرضتم عن الإيمان (فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم)
268

سورة التوبة (4 5) 4 (إلا الذين عاهدتم من المشركين) هذا استثناء من قوله (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) إلا من عهد الذين عاهدتم من المشركين وهم بنو ضمرة حي من كنانة أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدتهم وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا العهد وهذا معنى قوله تعالى (ثم لم ينقصوكم شيئا) من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه (ولم يظاهروا) لم يعاونوا (عليكم أحدا) من عدوكم وقرأ عطاء بن يسار (لم ينقصوكم) بالضاد المعجمة من نقض العهد (فأتموا إليهم عهدهم) فأوفوا لهم بعهدهم (إلى مدتهم) إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه (إن الله يحب المتقين) 5 قوله تعالى (فإذا انسلخ) انقضى ومضى (الأشهر الحرم) قيل هي الأشهر الأربعة رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقال مجاهد وابن إسحاق هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوما وقيل لها حرم لأن الله تعالى حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم فإن قيل هذا القدر بعض الأشهر الحرم والله تعالى يقول (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) قيل لما كان هذا القدر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع ومعناه مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم قوله (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) في الحل والحرم (وخذوهم) وأسروهم (واحصروهم) أي احبسوهم قال ابن عباس رضي الله عنه يريد إن تحصنوا فاحروهم أي امنعوهم من الخروج وقيل امنعوهم من الخروج وقيل امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام (واقعدوا لهم كل مرصد) أي على كل طريق والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته يريد كونوا لهم رصدا لتأخذوهم من أي وجه توجهوا وقيل اقعدوا لهم بطريق مكة حتى لا يدخلوها (فإن تابوا) من الشرك (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) يقول دعوهم فليتصرفوا في أمصارهم ويدخلوا
مكة (إن الله غفور) لمن تاب (رحيم) به وقال الحسين بن الفضل هذه الآية نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء
269

سورة التوبة (6 8) 6 قوله تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك) أي استجارك أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم أي استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله (فأجره) فأعذه وآمنه (حتى يسمع كلام الله) فيما له وعليه من الثواب والعقاب (ثم أبلغه مأمنه) أي إن لم يسلم أبلغه مأمنه أي الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) أي لا يعلمون دين الله وتوحيده فهم محتاجون إلى سماع كلام الله قال الحسن هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة 7 قوله تعالى (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله) هذا على وجه التعجب ومعناه حجة أي لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله وهم يغدرون وينقضون العهد ثم استثنى فقال جلا وعلا (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) قال ابن عباس هم قريش وقال قتادة هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم إما أن يسلموا وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا فأسلموا قبل الأربعة الأشهر قال السدي والكلبي وابن إسحاق هم قبائل من بكر بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية فلم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم بنو ضمرة وهذا القول أقرب إلى الصواب لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة فكيف يقول لشيء قد مضى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) وإنما هم الذين قال عز وجل (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا) كما نقصكم قريش ولم يظاهروا عليكم أحدا كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب المتقين) 8 قوله تعالى (كيف وإن يظهروا عليكم) هذا مردود على الآية الأولى تقديره كيف يكون لهم عهد عند الله وإن يظهروا عليكم (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) قال الأخفش كيف لا تقتلونهم وهم إن يظهروا عليكم أي يظفروا بكم لا يرقبوا لا يحفظوا وقال الضحاك لا
270

سورة التوبة (10 11) ينتظروا وقال قطرب لا يراعوا فيكم إلا قال ابن عباس والضحاك قرابة وقال يمان رحما وقال قتادة الإل الحلف وقال السدي هو العهد وكذلك الذمة إلا أنه كرر لاختلاف اللفظين وقال أبو مجلز ومجاهد الإل هو الله عز وجل وقال عبيد بن عمير يقرأ جبير إل بالتشديد يعني عبد الله وفي الخبر أن ناسا قدموا على أبي بكر من قوم مسيلمة الكذاب فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرأوا فقال أبو بكر رضي الله عنه إن هذا الكلام لم يخرج من إل أي من الله عز وجل والدليل على هذا التأويل قراءة عكرمة (لا يرقبون في مؤمن إيلا) بالياء يعني الله عز وجل مثل جبرائيل وميكائيل ولا ذمة أي عهدا (يرضونكم بأفواههم) أي يطيعونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم (وتأبى قلوبهم) الإيمان (وأكثرهم فاسقون) فإن قيل هذا في المشركين وكلهم فاسقون فكيف قال (وأكثرهم فاسقون) قيل أراد بالفسق نقض العهد ههنا وكان في المشركين من وفى بعهده وأكثرهم نقضوا فلهذا قال (وأكثرهم فاسقون) 9 (اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا) وذلك أنهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكلة أطعمهم إياها أبو سفيان قال مجاهد أطعم أبو سفيان حلفاءه (فصدوا عن سبيله) فمنعوا الناس من الدخول في دين الله وقال ابن عباس رضي الله عنه إن أهل الطائف أمدوهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنهم ساء) بئس (ما كانوا يعملون) 10 (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) يقول لا تبقوا عليهم أيها المؤمنون كما لا يبقون عليكم لو ظهروا (وأولئك هم المعتدون) بنقض العهد 11 (فإن تابوا) من الشرك (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم) فهم إخوانكم (في الدين) لهم ما لكم وعليهم ما عليكم (ونفصل الآيات) ونبين الآيات (لقوم يعلمون) قال ابن عباس حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة قال ابن مسعود أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري ثنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسهعود أن أبا هريرة رضي الله عنه قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه
271

سورة التوبة (12 13) لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر رضي الله عنه فوالله ما هو إلا رأيت أن الله شرح صدر أبي يكر للقتال فعرفت أنه الحق أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عمرو بن عباس ثنا ابن مهدي ثنا منصور بن سعد عن ميمون بن سياه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله 12 قوله تعالى (وإن نكثوا أيمانهم) نقضوا عهودهم (من بعد عهدهم) عقدهم يعني مشركي قريش (وطعنوا) قدحوا (في دينكم) وعابوه فهذا دليل على أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام ظاهرا لا يبقى له عهد (فقاتلوا أئمة الكفر) قرأ أهل الكوفة والشام (أئمة) بهمزتين حيث كان وقرأ الباقون بتليين الهمزة الثانية وأئمة الكفر رؤس المشركين وقادتهم من أهل مكة قال ابن عباس نزلت في أبي سفيان بن حرب وأبي جهل بن هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وسائر رؤساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد وهم الذين هموا بإخراج الرسول وقال مجاهد هم أهل فارس والروم وقال حذيفة بن اليمان ما قوتل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد (إنهم لا إيمان لهم) بكسر الألف أي لا تصديق لهم ولا دين لهم وقيل هو من الأمان أي لا تؤمنوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم (لعلهم ينتهون) أي لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم وقيل عن الكفر حض المسلمين على القتال 13 فقال جل ذكره (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) نقضوا عهدهم وهم الذين نقضوا عهد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة (وهموا بإخراج الرسول) من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة (وهم بدأوكم) بالقتال (أول مرة) يعني يوم بدر وذلك أنهم قالوا حين سلم العير لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه وقال جماعة من المفسرين أراد أنهم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتخشونهم) أتخافونهم فتتركون قتالهم (فالله أحق أن تخشوه)
في ترك قتالهم (إن كنتم مؤمنين)
272

سورة التوبة (14 17) 14 (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) يقتلهم الله بأيديكم (ويخزهم) ويذلهم بالأسر والقهر (وينصركم عليهم ويشف صدور قوم) ويبرئ داء قلوب قوم (مؤمنين) مما كانوا ينالونه من الأذى منهم وقال مجاهد والسدي أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكأ وافيهم فشفي الله صدورهم من بني بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين 15 (ويذهب غيظ قلوبهم) كربها ووجدها بمعونة قريش بني بكر عليهم ثم قال مستأنفا (ويتوب الله على من يشاء) فيهديه إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو (والله عليم حكيم) روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة ارفعوا السيف إلا خزاعة من بني بكر إلى العصر 16 قوله تعالى (أم حسبتم) أظننتم (أن تتركوا) قيل هذا خطاب للمنافقين وقيل للمؤمنين الذين شق عليهم القتال فقال أم حسبتم أن تتركوا فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب (ولما يعلم الله) ولم ير الله (الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم وقال قتادة وليجة خيانة وقال الضحاك خديعة وقال عطاء أولياء وقال أبو عبيدة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره دون الناس يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع (والله خبير بما تعملون) 17 قوله تعالى (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم واغلظ علي رضي الله عنه القول فقال العباس ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا فقال له علي رضي الله عنه ألكم محاسن فقال نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج فأنزل الله عز وجل ردا على العباس (ما كان للمشركين أن يعمروا الله) أي ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد
273

سورة التوبة (18) الله أوجب على المسلمين منعهم من ذلك لأن المساجد إنما تعمر لعبادة الله وحده فمن كان كافرا بالله فليس من شأنه أن يعمرها فذهب جماعة إلى أن المراد منه العمارة المعروفة من بناء المسجد ومرمته عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا يمتثل وحمل بعضهم العمارة ههنا على دخول المسجد والقعود فيه قال الحسن ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام قرأ ابن كثير وأهل البصرة (مسجد الله) على التوحيد وأراد به المسجد الحرام لقوله تعالى (وعمارة المسجد الحرام) ولقوله تعالى (فلا يقربوا المسجد الحرام) وقرأ الآخرون (مساجد الله) بالجمع والمراد منه أيضا المسجد الحرام قال الحسن إنما قال مساجد لأنه قبلة المساجد كلها قال الفراء ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول أخذت في ركوب البراذين ويقال فلان كثير الدرهم والدينار يريد الدراهم والدنانير قوله تعالى (شاهدين على أنفسهم بالكفر) أرادوهم شاهدون فلما طرحت (وهم) نصبت قال الحسن لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر وقال الضحاك عن ابن عباس شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام وذلك أن كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة كلما طافوا شوطا سجدوا لأصنامهم ولم يزداد بذلك من الله تعالى إلا بعدا وقال السدي شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل من أنت فيقول أنا نصراني واليهودي يقول أنا يهودي ويقال للمشرك ما دينك فيقول مشرك قال الله تعالى (أولئك حبطت أعمالهم) لأنها لغير الله عز وجل (وفي النار هم خالدون) 18 قال تعالى (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) ولم يخف في الدين غير الله ولم يترك أمر الله لخشية غيره (فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) (وعسى) من الله واجب أي فأولئك هم المهتدون والمهتدون هم المتمسكون بطاعة الله عز وجل والتي تؤدي إلى الجنة أخبرنا أبو عمر ومحمد بن عبد الرحمن النسوي ثنا أحمد بن الحسين الحيري ثنا محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن الفرج الحجازي ثنا بقية ثنا أبو الحجاج المهدي عن عمرو بن الحارث عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله قال (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل ثنا علي بن عبد الله ثنا يزيد بن هارون ثنا محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزله من الجنة كلما
274

سورة التوبة (19) غدا أو راح أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ثنا حميد بن زنجويه ثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر حدثني أبي عن محمود بن لبيد أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه فقال عثمان سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا كهيئته في الجنة أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو طاهر الزيادي أنا محمد بن الحسن القطان ثنا علي بن محمد الدار بجردي ثنا أبو عاصم بهذا الإسناد وقال بنى الله له بيتا في الجنة 19 قوله (أجعلتم سقاية الحاج) أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ثنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ثنا عبد الله بن حامد بن محمد الوزان ثنا أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله المنادي ثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ثنا أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي ثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام عن أبي سلام ثنا النعمان بن بشير قال كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج وقال الآخر ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام وقال الآخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتما فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله عز وجل (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) إلى قوله (والله لا يهدي القوم الظالمين) وقال ابن عباس رضي الله عنهما قال العباس حين أسر يوم بدر لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فأنزل الله تعالى هذه الآية وأخبرنا أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا تنفعهم مع الشرك بالله والإيمان بالله والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم
خير مما هم عليه وقال الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي نزلت في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة افتخروا فقال طلحة أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه وقال العباس أنا صاحب السقاية والقائم عليها وقال علي ما أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله عز وجل هذه الآية (أجعلتم سقاية الحاج) و (سقاية) مصدر كالرعاية والحماية قوله (وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) فيه اختصار تقديره أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله وجهاد من جاهد في سبيل الله وقيل السقاية والعمارة بمعنى الساقي العامر وتقديره أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كمن آمن
275

سورة التوبة (21 23) بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله وهذا كقوله تعالى (والعاقبة للتقوى) أي للمتقين يدل عليه قراءة عبد الله بن الزبير وأبي بن كعب (أجعلتم سقاية الحاج وعمرة المسجد الحرام) على جمع الساقي والعامر (كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل حدثني إسحاق بن إبراهيم ثنا أبو أسامة ثنا يحبى بن مهلب عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستقى فقال العباس يا فضل اذهب إلى أمط فات رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها فقال اسقني فقال يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه قال اسقني فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال اعملوا فإنكم على عمل صالح ثم قال لولا الحبل عبى هذه وأشار إلى عاتقه أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم ابن محمد بن سفيان عن مسلم ابن الحجاج حدثني محمد بن منهال الضرير ثنا يزيد بن زريع ثنا حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني قال كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أمن بخل فقال ابن عباس الحمد الله ما بنا حاجة ولا بخل قدرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة بن زيد فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة وقال أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم 20 قوله تعالى (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة) فضيلة (عند الله) من الذين افتخروا بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام (وأولئك هم الفائزون) الناجون من النار 21 يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم) 22 (خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم) 23 (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) قال مجاهد هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن
276

سورة التوبة (24 25) عباس قال لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة فمنعهم من تعلق به وأهله وولده يقولن ننشدك بالله أن لا تضيعنا فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة فأنزل اله عز وجل هذه الآية وقال مقاتل نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى الله عن ولايتهم فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم اسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة والجهاد (إن استحبوا) اختاروا (الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم) فيطلعهم على عورة المسلمين ويؤثر المقام معهم على الهجرة والجهاد (فأولئك هم الظالمون) وكان في ذلك الوقت لا يقبل الإيمان إلا من مهاجر فهذا معنى قوله (فأولئك هم الظالمون 24 ثم قال تعالى (قل) يا محمد لهؤلاء المتخلفين عن الهدجرة (إن كان آباؤكم) وذلك لما نزلت الآية الأولى قال الذين أسلموا ولم يهاجروا إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعت أرحامنا فنزل (قل إن كان آباؤكم) (وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم) قرأ أبو بكر عن عاصم (عشيراتكم) بالألف على الجمع والآخرون بلا ألف على التوحيد لأن العشيرة واقعة على الجمع ويقوي هذه القراءة أن أبا الحسن الأخفش قال لا تكاد العرب تجمع العشيرة على العشيرات إنما نجمعها على العشائر (وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها) أي تستطيبونها يعني القصور والمنازل (أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا) فانتظروا (حتى يأتي الله بأمره) قال عطاء بقضائه وقا مجاهد ومقاتل بفتح مكة وهذا أمر تهديد (والله لا يهدي) لا يوفق ولا يرشد (القوم الفاسقين) الخارجون عن الطاعة 25 قوله تعالى (لقد نصركم الله في مواطن) أي مشاهد (كثيرة ويوم حنين) وحنين واد بين مكة والطائف وقال عكرمة إلى جنب ذي المجاز وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان ثم خرج إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر ألفا عشرة آلاف من المهاجرين وألفان من الطلقاء قال عطاء كانوا ستة عشر ألفا وقال الكلبي كانوا عشرة
277

آلاف وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط والمشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف وعلى هوازن مالك بن عوف النصري وعلى ثقيف كنانة بن عبد يا ليل الثقفي فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن وقش لن نغلب اليوم عن قلة فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ووكلوا إلى كلمة الرجل وفي رواية فلم يرض الله قوله ووكلهم إلى أنفسهم فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري ثم نادوا يا حماة السواد اذكروا الفضائح فترجعوا وانكشف المسلمون قال قتادة وذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو خشيمة عن أبي غسحاق قال قال رجل للبراء بن عازب يا أبا مارة فررتم يوم حنين قال لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم وهم حسر ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم جمع هوازن وبني نصر فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به فنزل واستنصر وقال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ثم صفهم ورواه محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي غسحاق وزاد قال فما روي من الناس يومئذ أشد منه ورواه زكريا عن أبي إسحاق وزاد قال البراء كنا إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به ويعني النبي صلى الله عليه وسلم وروى شعبة عن أبي
إسحاق قال قال البراء إن هوازن كانوا قوما رماة وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا فأقبل المسلمون على الغنائم واستقبلونا بالسهام فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر قال الكلبي كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس وقال آخرون لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غير العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث وأيمن بنأم أيمن فقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج قال حدثنا أبو طاهر أحمد بن عمرو بن سرج ثنا أبو وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب قال حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال قال عباس شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عباس ناد أصحاب السمرة فقال عباس وكان رجلا صيتا فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة قال فوالله لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا يا لبيك يا لبيك قال فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال هذا حين حمى الوطيس ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهم وجوه الكفار ثم قال انهزموا ورب محمد فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال فوالله ما
278

هو إلا رماهم بحصياته فما زلت أرى أحدهم كليلا وأمرهم مدبرا وقال سلمة بن الأكوع غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا قال فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل به وجوههم فقال شاهت الوجوه فما خلى الله منهم إنسانا إلا ملأ عينه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله عز وجل فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين قال سعيد بن جبير أمد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وفي الخبر أن رجلا من بني نضر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال أين الخيل البلق والرجال الذين عليهم ثياب بيض ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة وما كنا قلنا إلا بأيديهم فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال تلك الملائكة قال الزهري وبلغني أن شيبة بن عثمان بن طلحة قال استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة وكانا قد قتلا يوم أحد فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي فالتفت إلى وضرب في صدري وقال أعيذك بالله يا شيبة فارتعدت فرائضي فنظرت إليه وهو أحب إلي من سمعي وبصري فقلت أشهد أنك رسول الله وإن الله قد أطلعك على ما في نفسي فلما هزم الله المشركين وولوا مدبرين انطلقوا حتى أتوا أوطاس وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله رجلا من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمره على جيش المسلمين إلى أوطاس فسار إليهم فاقتتلوا وقيل دريد بن الصمة وهزم الله المشركين وسبى المسلمون عيالهم وهرب أميرهم مالك بن عوف النضري فأتى الطائف فتحصن بها وأخذ ماله وأهله فيمن أخذ وقتل أمير المسلمين أبو عامر قال الزهري أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر فلما دخل ذو القعدة وهوشهر حرام انصرف عنهم فأتى الجعرانة فأحرم منها بعمرة وقسم فيها غنائم حنين وأوطاس وتألف أناسا منهم أبو سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس فأعطاهم أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو اليمان ثنا شعيب ثنا الزهري أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن أناسا من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا وسيوفنا نقطر من دمائهم قال أنس فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم أحدا غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما كان حديث بلغني عنكم فقال له فقهاؤهم أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به قالوا بلى يا رسول الله قد رضينا فقال لهم إنكم سترون بعدي اثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض وقال يونس عن ابن شهاب فإني أعطي رجالا حديثي عهد بالكفر أتألفهم وقال فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض قالوا سنصبر أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
279

المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا وهيبى ثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله يزيد بن عاصم قال لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذ لم يصيبوا ما أصابه الناس فخطبهم فقال يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وكنتم عالة فأغناكم الله بي كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن قال ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن قال لو شئتم قلتم كذا وكذا وكان من الأمر كذا وكذا لأشياء عددها كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن قال أما ترضون أن يذهب الناس بالشاه والغنم والبعير وتذهبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم الأنصار شعار والناس دثار إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن أبي عمرو والمكي ثنا سفيان عن عمرو بن مسروق عن أبيه عن عبادة بن رفاعة عن رافع بن خديج قال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل
وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس (فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع) (تجعل نهى ونهى العب يد بين عينية والأقرع) 5 وما كنت دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لا يرفع) قال فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وفي الحديث أن ناسا من هوازن أقبلوا مسلمين بعد ذلك فقالوا يا رسول الله أنت خير الناس وابر الناس وقد أخذت آبناءنا ونساءنا وأموالنا أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي انا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا سعيد بن عفير حدثني اليث حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال قالوا فإنا نختار سبينا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإثني على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاءوا تائبين وإني قد رايت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحدب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل ومن أحب أن يكون على حظ حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل فقال الناس قد طيبنا ذلك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا ندري من اذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا فأنزل الله تعالى في قصة حنين (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) (شيئا) يعني إن الظفر لا يكون
280

سورة التوبة (26 28) بالكثرة (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) أي يرحبها وسعتها (ثم وليتم مدبرين) منهزمين 26 (ثم أنزل الله) بعد الهزيمة (سكينته) يعني الأمنة والطمأنينة وهي فعلية من السكون (على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها) يعني الملائكة قيل لا للقتال ولكن لتجبين الكفار وتشجيع المسلمين لأنه يروى أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر (وعذب الذين كفروا) بالقتل والأسر وسبي العيال وسلب الأموال (وذلك جزاء الكافرين) 27 (ثم يتوب الله من بعد على من يشاء) فيهديه إلى الإسلام (والله غفور رحيم) 28 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) الآية قال الضحاك وأبو عبيدة نجس قذر وقيل خبيث وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى والتثنية والجمع فأما النجس بكسر النون وسكون الجيم فلا يقال على الانفراد إنما يقال رجس نجس فإذا أفرد قيل نجس بفتح النون وكسر الجيم وأراد به نجاسة الحكم لا نجاسة العين سموا نجسا على الذم وقال قتادة سماهم نجسا لأنهم يجنبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضؤون قوله تعالى (فلا يقربوا المسجد الحرام) أراد منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام وأراد به الحرم وهذا كما قال الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) وأراد به الحرم لأنه أسرى به من بيت أم هانىء قال الشيخ الإمام الأجل وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام أحدها الحرم فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا لظاهر هذه الآية وإذا جاء رسول من بلاد الكفار إلى الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم وجوز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم والقسم الثاني من بلاد الإسلام الحجاز فيجوز للكافر دخولها بالإذن ولكن لا يقيم فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لئن عشت إن شاء الله تعالى لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب فلم يتفرغ لذلك أبو بكر رضي الله عنه وأجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته وأجل لمن يقدم منهم
281

سورة التوبة (29) تاجرا ثلاثا وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام والقسم الثالث سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة أو أمان ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم قوله (بعد عامهم هذا) يعني العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه بالناس ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة وهو سنة تسع من الهجرة قوله (وإن خفتم عيلة) وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يأتون مكة بالطعام ويتجرون فلما منعوا من دخول الحرم خافوا الفقر وضيق العيش وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى (وإن خفتم عيلة) فقرا وفاقة يقال عال يعيل علية إذا افتقر (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم) قال عكرمة فأغناهم الله عز وجل بأن أنزل عليهم المطر مدرارا فكثر خيرهم وقال مقاتل أسلم أهل جدة وصنعاء وجريش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون وقال الضحاك وقتادة عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها 29 قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) قال مجاهد نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك وقال الكلبي نزلت في قريظة والنضير من اليهود فصالحهم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين قال الله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) فإن قيل أهل الكتاب مؤمنون بالله واليوم الآخر قيل لا يؤمنون كإيمان المؤمنين فإنهم إذا قالوا عزيز ابن الله والمسيح ابن الله لا يكون ذلك إيمانا بالله (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) أي لا يدينون الدين الحق أضاف الاسم إلى الصفة وقال قتادة الحق هو الله أي لا يدينون دين الله ودينه الإسلام وقال أبو عبيدة معناه ولا يطيعون الله تعالى طاعة أهل الحق (من الذين أوتوا الكتاب) يعني اليهود والنصارى (حتى يعطوا الجزية) وهي الخراج المضروب على رقابهم (عن يد) عن قهر وذل قال أبو عبيدة يقال لكل من اعطى شيئا كرها من غير طيب نفس أعطاه عن يد وقال ابن عباس يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم وقيل عن يد أي نقد لا نسيئة وقيل عن إقرار بإنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم (وهم صاغرون) أذلاء مقهورون قال عكرمة يعطون الجزية عن قيام والقابض جالس وعن ابن عباس قال تؤخذ منه ويوطأ عنقه وقال الكلبي إذا أعطى صفع في قفاه وقيل يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه وقيل يلبب ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف وقيل إعطاؤه إياها هو الصغار وقال الشافعي رحمه الله الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم واتفقت الأمة على غياها هو الصغار وقال الشافعي رحمه الله الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم واتفقت الأمة على جواز اخذ الجزية من أهل الكتابين وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربا واختلفوا في الكتابي
282

العربي وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم فذهب الشافعي إلى أن الجزية على الأديان لا على الأنساب فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ولا تؤخذ من أهل الأوثان بحال واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من أكيد ردومة وهو رجل من العرب يقال إنه من غسان وأخذ من أهل ذمة اليمن وعامتهم عرب وذهب مالك والأوزاعي إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتد وقال أبو حنيفة رضي الله عنه تؤخذ من أهل الكتاب على العموم وتؤخذ من مشركي العجم ولا تؤخذ من مشركي العرب وقال أبو يوسف لا تؤخذ من العربي كتابيا كان أو مشركا وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا وأما المجوس فاتفقت الصحابة رضي الله عنهم على أخذ الجزية منهم أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع بجالة بن عبيدة يقول لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب وفي امتناع عمر رضي الله عنه عن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تؤخذ من كل مشرك وإنما تؤخذ من أهل الكتاب واختلفوا في أن المجوس هل هم من أهل الكتاب أم لا فروي عن علي رضي الله عنه قال كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا يوما وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم واتفقوا على تحريم ذبائح المجوس ومناكحتهم بخلاف أهل الكتابين أما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين نظر إن دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل يقرون بالجزية وتحل مناكحتهم وذبائحهم وإن دخلوا في دينهم بعد النسخ بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لا يقرون بالجزية لا تحل مناكحتهم وذبائحهم ومن شككنا في أمرهم أنهم دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله يقرون بالجزية تغليبا لحقن الدم ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم تغليبا للتحريم فمنهم نصارى العرب من تنوخ وبهراء وبني تغلب أقرهم عمر رضي الله عنه على الجزية وقال لا تحل لنا ذبائحهم وأما قدر الجزية فأقله دينار لا يجوز أن ينقص منه ويقبل الدينار من الفقير والغني والوسط لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ثنا أبو عيسى الترمذي ثنا محمود بن غيلان ثنا عبد الرزاق أنا معمر أنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وعدله مغافر فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم أي بالغ دينارا ولم يفصل بين الغنى والفقير والوسط وفيه دليل على أنها لا تجب على الصبيان وكذلك لا تجب على النسوان إنما تؤخذ من الأحرار العاقلين البالغين من الرجال وذهب قوم إلى أنه على كل موسر أربعة دنانير وعلى كل متوسط ديناران وعلى كل فقير دينار وهو قول أصحاب الرأي
283

سورة التوبة (30) 30 قوله تعالى (وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيز ابن الله فأنزل الله عز وجل (وقالت اليهود عزيز ابن الله) قرأ عاصم والكسائي ويعقوب (عزيز) بالتنوين والأخرون بغير تنوين فمن لم ينون قال لأنه اسم أعجمي ويشبه اسما مصغرا ومن نون قال لأنه اسم خفيف فوجهه أن يصرف وإن كان أعجميا مثل نوح وهود ولوط واختار أبو عبيدة التنوين وقال لأن هذا ليس بمنسوب إلى أبيه إنما هو كقولك زيد ابن الأمير وزيد ابن امحينا فعزيز مبتدأ وما بعده خبر له وقال عبيد بن عمير إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء وهو الذي قال إن الله فقير ونحن أغنياء وروى عطية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إنما قالت اليهود عزير ابن الله من أجل أن عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فرفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه التوراة فأذن في قومه وقال يا قوم إن الله تعالى قد أتاني التوراة وردها إلى فعلق بها الناس يعلمهم فمكثوا ما شاء الله تعالى ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله فقالوا ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله وقال الكلبي إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقر التوراة بعث الله عزيزا ليجدلهم التوراة وتكون لهم آية بعد مائة سنة يقال أتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه فمثلت التوراة في صدره فلما أتاهم قال انا عزير فكذبوه وقالوا إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة فكتبها لهم ثم إن رجلا قال إن أبي حدثني عن جدي أن التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منها حرفا فقالوا إن الله لم يقذف التوراة في قلب رجل إلا أنه ابنه فعند ذلك قالت اليهود عزير ابن الله وأما النصارى فقالوا المسيح ابن الله وكان السبب فيه أنهم كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى عليه السلام يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ثم قال لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا به والنار مصيرنا فإني أحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار وكان له فرس يقال له العقاب يقاتل عليه فعرقب فرسه
284

سورة التوبة (31) وأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب فقال له النصارى من أنت بولص عدوكم فنوديت من السماء ليست لك توبة إلا أن تتنصر وقد تبت فأدخلوه الكنيسة ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال نوديت أن الله قبل توبتك فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال لم يكن عيسى بإنس ولا بجسم ولكنه ابن الله وعلم ذلك رجلا يقال له يعقوب ثم دعا رجلا يقال له ملكا فقال له إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا وقال لكل واحد منهم أنت خالصتي وقد
رأيت عيسى في المنام فرضي عني وقال لكل واحد منهم إني غدا أذبح نفسي فادع الناس إلى تحلك ثم دخل المذبح نفسه وقال إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى تحلته فتبع كل واحد طائفة من الناس فاختلفوا واقتتلوا فقال الله عز وجل (وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم) يقولون بألسنتهم من غير علم قال أهل المعاني لم يذكر الله تعالى قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورا (يضاهؤن) قرأ عاصم بكسر الهاء مهموزا والآخرون بضم الهاء مهموزا وهما لغتان يقال ضاهيته وضاهأته ومعناهما واحد قال ابن عباس رضي الله عنه يشابهون والمضاهاة المشابهة وقال مجاهد يوطئون وقال الحسن يوافقون (قول الذين كفروا من قبل) قال قتادة والسدي ضاهت النصارى قول اليهود من قبل الذين كانوا يقولون اللات والعزى ومناة بنات الله وقال الحسن شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة كما قال في مشركي العرب (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) وقال القتيبي يريد أن من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولوهم (قاتلهم الله) قال ابن عباس لعنهم الله وقال ابن جريج أي قتلهم الله وقيل ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى العجب (أنى يؤفكون) أي يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه 31 (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم) أي علماءهم وقراءهم والأحبار العلماء وأحدها حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع وأحدها راهب كصاحب وصحبان (أربابا) فإن قيل إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان قلنا معناه أنهم أطاعوهم في معصية الله واستحلوا ما أحلوا وحرموا ما حرموا فاتخذوهم كالأرباب روي عن عدي ابن حاتم رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك فطرحته
285

سورة التوبة (32 33) فلما انتهيت إليه وهو يقرأ (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) حتى فرغ منها قلت إنا لسنا نعبدهم فقال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه قال قلت بلى قال فتلك عبادتهم قال عبد الله بن المبارك (وهل بدل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها) (والمسيح ابن مريم) أي اتخذوه إلها (وما أمروا إلا ليعبدوا إليها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) 32 (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) أي يبطلوا دين الله بألسنتهم وتكذيبهم إياه وقال الكلبي النور القرآن أي يريدون أن يردوا القرآن بألسنتهم تكذيبا (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) أي يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم (ولو كره الكافرون) 33 (هو الذي أرسل رسوله) يعني الذي يأبى إلا إتمام دينه هو الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم (بالهدى) قيل بالقرآن وقيل ببيان الفرائض (ودين الحق) وهو الإسلام (ليظهره) ليعليه وينصره (على الدين كله) على سائر الأديان كلها (ولو كره المشركون) واختلفوا في معنى هذه الآية فقال ابن عباس الهاء عائدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء وقال الآخرون الهاء راجعة إلى دين الحق وظهوره على الأديان هو أن لا يدان الله تعالى إلا به وقال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى بن مريم لا يبقى أهل دين إلا دخل في الإسلام وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه السلام قال ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام وروى المقداد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام إما بعز عزيز أو ذلم ذليل إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون له قلت فيكون الدين كله لله أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب ثنا أبو جعفر محمد سليمان بن منصور ثنا أبو مسلم بن إبراهيم بن عبد الله البلخي ثنا أبو عاصم النبيل
286

سورة التوبة (34) ثنا عبد الحميد هو ابن جعفر عن الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنه قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى قالت قلت يا رسول الله ما كنت أظن أن يكون ذلك بعدما أنزل الله تعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) ثم قال يكون ذلك ما شاء الله ثم يبعث الله تعالى ريحا طيبة فتقبض من كان في قلبه مثقال ذرة من خير ثم يبقى من لا خير فيه فيرجع الناس إلى دين آبائهم قال الحسين بن الفضل معنى الآية ليظهره على الدين كله بالحجج الواضحة وقيل ليظهره على الأديان التي حول النبي صلى الله عليه وسلم فيغلبهم قال الشافعي رحمه الله فقد أظهر الله رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل وقال وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ودين الأميين فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعا وكرها وقتل أهل الكتاب وسبي حتى دان بعضهم بالإسلام وأعطى بعضهم الجزية صاغرين وجرى عليهم حكمه فهذا ظهوره على الدين كله والله أعلم 34 قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان) يعني العلماء والقراء من أهل الكتاب (ليأكلون أموال الناس بالباطل) يريد ليأخذون الرشا في أحكامهم ويحرفون كتاب الله ويكتبون بأيديهم كتبا يقولون هذه من عند الله ويأخذون بها ثمنا قليلا من سفلتهم وهي المأكل التي يصيبونها منهم على تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم يخافون لو صدقوه لذهبت عنهم تلك المآكل (ويصدون) ويصرفون الناس (عن سبيل الله) دين الله عز وجل (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) قال ابن عمر رضي الله عنهما كل مال تؤدى زكاته فليس يكنز وإن كان مدفونا وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن لم يكن مدفونا ومثله عن ابن عباس أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغفار بن محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم ابن محمد بن سفيان ثنا مسلم ابن الحجاج حدثني سويد ابن سعيد ثنا حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن أبا صالح بن زكوان أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره كلما ردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل يا رسول الله فالإبل قال ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه
287

بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولادها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل يا
رسول الله فالبقر والغنم قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول انا مالك أنا كنزك ثم تلا (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله) الآية وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد وما دونها نفقة وقيل ما فضل عن الحاحة فهو كنز أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد انا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع ثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة قال فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم قال هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقول من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة وروي عن أبي أمامة قال مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم كية ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم كيتان والقول الأول أصح أن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال الحلال قال النبي صلى الله عليه وسلم نعم المال الصالح للرجل الصالح وروي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا يدع لولده شيئا فذكر عمر ذلك لرسول الله فقال إن الله عز وجل لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم وسئل عمر رضي الله عنه عن هذه الآية فقال كان ذلك قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال وقال ابن عمر ما أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله قوله عز وجل (ولا ينفقونها في سبيل الله) قيل لم قال (ولا ينفقونها) ولم يقل ولا ينفقونهما وقد ذكر الذهب والفضة جميعا قيل أراد الكنوز وأعيان الذهب والفضة وقيل رد الكناية إلى الفضة لأنها أعم كما قال تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة) رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم كقوله تعالى (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) رد الكناية إلى التجارة لأنها أعم (فبشرهم بعذاب أليم) أي أنذرهم
288

سورة التوبية (35 36) 35 (يوم يحمى عليها في نار جهنم) أي تدخل النار فيوقد عليها أي على الكنوز (فتكوى بها) فتحرق بها (جباههم) أي جباه كانزيها (وجنوبهم وظهورهم) روي عن ابن مسعود قال إنه لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدة وسئل أبو بكر الوراق لم خص الجباه والجنوب والظهور بالكي قال لأن الغني صاحب الكنز إذا رأى الفقير قبض جبهته وروى ما بين عينيه وولاه ظهره وأعرض عنه كشحه قوله تعالى (هذا ما كنزتم) أي يقال لهم هذا ما كنزتم (لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) أي تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم وقال بعض الصحابة هذه الآية في أهل الكتاب وقال الأكثرون هي عامة في أهل الكتاب والمسلمين وبه قال أبو ذر رضي الله عنه 36 قوله تعالى (إن عدة الشهور) عدد الشهور (عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله) وهي المحرم وصفر وربيع الأول وربيع الثاني وجمادى الأول وجمادي الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة وقوله (في كتاب الله) أي في حكم الله وقيل في اللوح المحفوظ قرأ أبو جعفر اثنا عشر وتسعة عشر وإحدى عشر بسكون العين وقرأ العامة بفتحها (يوم خلق السماوات والأرض) والمراد منه الشهور الهلالية وهي الشهور التي يعتد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وبالشهور الشمسية تكون السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم والهلالية تنقص عن ثلاث مائة وستين يوما بنقضان الأهلة والغالب أنها تكون ثلاثمائة يوما وأربعة وخمسين يوما (منها أربعة حرم) من الشهور أربعة حرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم واحد فرد وثلاثة سرد (ذلك الدين القيم) أي الحساب المستقيم (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) قيل قوله (فيهن) ينصرف إلى جميع شهور السنة أي فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعصية وترك الطاعة وقيل (فيهن) أي في الأشهر الحرم قال قتادة العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن وإن كان الظلم على كل حال عظيما وقال ابن عباس فلا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن قال محمد بن إسحاق بن يسار لا تجعلوا حلالها حراما ولا حرامها حلالا كفعل أهل الشرك وهو النسيء (وقاتلوا المشركين كافة) جميعا
289

سورة التوبة (37) عامة (كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم فقال قوم كان كبيرا ثم نسخ بقوله (وقاتلوا المشركين كافة) كأنه يقول فيهن وفي غيرهم وهو قول قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة وقال الآخرون إنه غير منسوخ قال ابن جريج حلف بالله عطاء بن أبي رياح ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت 37 قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر) قيل هو مصدر كالسعير والحريق وقيل هو مفعول كالجريح والقتيل وهو من التأخير ومنه النسيئة في البيع يقال أنسا الله في أجله أي أخر وهو ممدود مهموز عند أكثر القراء وقرأ ورش عن نافع من طريق البخاري بتشديد الياء من غير همز فقد قيل أصله الهمزة فخفف وقيل هو من النسيان على معنى المنسي أي المتروك ومعنى النسيء هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر وذلك أن العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة اشهر على التوالي وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم فنسؤا أي أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمون صفر ويستحلون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر اخروه إلى ربيع هكذا شهرا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه وذلك بعد دهر طويل فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته وبين ذلك كما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله
النعيمي أنا محمد بن يوسف الفريري ثنا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا محمد بن سلام ثنا عبد الوهاب ثنا أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وقال أي شهر هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس ذو الحجة قلنا بلى قال أي بلد هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس البلد الحرام قلنا بلى قال فأي يوم هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس يوم النحر قال بلى قال فإن دماءكم وأموالكم قال محمد أحسبه قال أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألونكم عن أعمالكم ألا فلا
290

ترجعوا بعد ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض ما سمعه ألا هل بلغت ألا هل بلغت قالوا وكان قد استمر النسيء بهم فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهر آخر قال مجاهد كانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في شهر ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذلك في الشهور فوافقت أبي بكر رضي الله عنه قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل حجة الوداع فوافقة حجة شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة فوقف بعرفة اليوم التاسع وخطب اليوم العاشر بمنى وأعلمهم أن اشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر الحرم يوم خلق الله السماوات والأرض وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا يتبدل في مستأنف الأيام واختلفوا في أول من نسأ النسيء فقال ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد أول من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة وكانوا ثلاثة أبو تمام جنادة بن عوف بن أمية الكناني وقال الكلبي أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان يقوم أميرا على الناس بالموسم فإذا هم الناس بالصدر قام فخطب الناس فقال لا مرد لما قضيت أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون لبيك ثم يسألونه أن ينساهم شهرا يغيرون فيه فيقول فإن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال حلال عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأغاروا وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له جنادة بن عوف وهو الذي ادركه النبي صلى الله عليه وسلم وقال عبد الرحمن بن زيد بن اسلم هو رجل بني كنانة يقال له القلمس قال شاعرهم وفينا ناسىء الشهر القلمس وكانوا لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما إن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب ثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق ابا بني كعب وهو يجر قصبه في النار فهذا الذي ذكرنا هو النسيء الذي ذكره الله تعالى فقال (إنما النسيء زيادة في الكفر) يريد زيادة كفر على كفرهم (يضل به الذين كفروا) قرأ حمزة الكسائي وحفص (يضل) بضم الياء وفتح الضاد كقوله تعالى (زين لهم سوء أعمالهم) وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاد وهي قراءة الحسن ومجاهد على معنى (يضل) به الذين كفروا الناس وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الضاد لأنهم هم الضالون لقوله (يحلونه) يعني النسيء (عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا) أي ليوافقوا والمواطأة الوافقة (عدة ما حرم الله) يريد أنهم لم يحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام لئلا يكون الحرم أكثر من أربعة اشهر كما حرم الله فيكون الموافقة في العدد (فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم) قال ابن عباس يريد زين لهم الشيطان (والله لا يهدي القوم الكافرين)
291

سورة التوبة (38 40) 38 قوله (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) الآية نزلت في الحث على غزوة تبوك وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم وكان ذلك في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر حين طابت الثمار والظلال ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز هائلة وعدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ولم يورها بغير ليتأهبوا أهبة عدوهم فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم) أي قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم (انفروا) أخرجوا في سبيل الله (اثاقلتم إلى الأرض) أي لزمتم أرضكم ومساكنكم أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) أي يخفض الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) ثم أوعدهم على ترك الجهاد 39 فقال تعالى (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) في الآخرة وقيل هو احتباس المطر عنهم في الدنيا وسأل نجدة بن نفيع ابن عباس عن هذه الآية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عليه فأمسك عنهم المطر فكان ذلك عذابهم (ويستبدل قوما غيركم) خيرا منكم وأطوع قال سعيد بن جبير هم أبناء فارس وقيل هم أهل اليمن (ولا تضروه شيئا) بترككم النفير (والله على كل شيء قدير) 40 قوله تعالى (إلا تنصروه فقد نصره الله) هذا إعلام من الله عز وجل أنه المتكفل بنصر رسوله وإعزاز دينه أعانوه أو لم يعينوه وأنه قد نصره عند قلة الأولياء وطكثرة الأعداء فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد (إذ أخرجه الذين كفروا) من مكة حين مكروا به وأرادوا تبيينه وهموا بقتله (ثاني اثنين) أي هو أحد الاثنين والاثنان أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه (إذ هما في الغار) وهو ثقب في جبل ثور بمكة (إذ
292

يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) قال الشعبي عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي أنبأنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان أنبأنا خيثمة بن سليمان ثنا عبد الله بن أحمد الدورقي ثنا سعيد بن سليمان بن علي بن هاشم عن كثير النواء عن جميع بن عمير قال أتيت ابن عمر رضي الله عنه فسمعته يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض قال الحسين بن الفضل من قال إن أبا بكر بم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا لا كافرا
وقوله عز وجل (لا تحزن إن الله معنا) لم يكن حزن أبي بكر جبنا منه وإنما كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إن أقتل فأنا رجل واحد وإن قتلت هلكت الأمة وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يا أبا بكر قال اذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى أستبرىء الغار فدخل فاستبراه ثم قال غنزل يا رسول الله فنزل فقال عمر والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من عمرو من آل عمر أخبرنا أبو المظفر التميمي أنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي النصر انا خيثمة بن سليمان ثنا أبو قلابة الرقاشي ثنا حيان بن هلال ثنا همام بن يحيى ثنا ثابت البناني ثا أنس بن مالك ان أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثهم قال نظرت إلى اقدام المشركين فوق رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير ان عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لم اعقل أبواي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر فقال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن مثلك يا أيا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار ارجع واعبد ربك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقريء الضيف ويعين على نوائب الحق فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون غليه وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فافزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة
293

فقدم عليهم فقالوا إنا كنا أجربنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجد بفناء داره فأعلن الصلاة والقرءة فيه وإنا خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة رضي الله عنها فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين إني رايت دار هجرتكم ذات نخل بين لابيتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر وهل ترجو بذلك بأبي أنت قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط أربعة اشهر قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة رضي الله عنها فينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر اخرج من عندك فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر الصحبة بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم قال أبو بكر فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتين هاتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن قالت عائشة رضي الله عنها فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فامناه فدفعا غليه راحلتيهما وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم على طريق السواحل قال ابن شهاب وأخبرني عبد الرحمن ابن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن
294

جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهما لمن قتله أو اسره فينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج اقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إني قد رايت آنفا اسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه فقلت له إنهم ليسوا بهم ولكنك رايت فلانا وفلانا وانطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجة الأرض وخفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر رضي الله عنه يكثر الالتفات فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين
فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة تربد بها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم خبر ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسآلاني شيئا إلا أن قالا أخف عنا فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بياض وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتارهم فلما أوو إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على آطم من أطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فليث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمن في حجر أسعد بن زرارة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته هذا إن شاء الله المنزل ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذخ مسجدا فقالا بل نبهه لك يا رسول الله ثم بناه مسجدا وطفق رسول الله ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن (هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبرر بنا وأطهر)
295

سورة التوبة (41) ويقول اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي قال ابن شهاب ولم يبلغنا في الأحاديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه البيات قال لزهري لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله تعالى زوجا من حمام حتى باضتا في أسفل النقب والعنكبوت حتى نسجت بيتا وفي القصة أنبت يمامة على فم الغار وقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم أعم أبصارهم عنا فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت قوله عز وجل (فأنزل الله سكينته عليه) قيل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس على أبي بكر رضي الله عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل (وأيده بجنود لم تروها) وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته وقيل ألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا وقال مجاهد والكلبي أعانه بالملائكة يوم بدر أخبر انه صرف عنه كيد الأعداء في الغار ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) وكلمتهم الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة (وكلمة الله هي العليا) إلى يوم القيامة قال ابن عباس هي قول لا إله إلا الله وقيل كلمة الذين كفروا ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه وكلمة الله وعد الله أنه ناصره وقرأ يعقوب (وكلمة الله) بنصب التاء على أنها معطوفة على المفعول الأول لجعل وهو (كلكمة الذين كفروا) والتقدير وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وجعل كلمة الله هي العليا فكلمة الله معطوفة على المفعول الأول والعليا معطوفة على المفعول الثاني وقرأ الباقون (كلمة الله) بالرفع على الاستئناف كأنه تم الكلام عند قوله (وجعلوا كلمة الذين كفروا السفلى) ثم ابتدأ فقال (وكلمة الله هي العليا) على الابتداء والخبر فكلمة الله مبتدأ والعليا خبره (والله عزيز حكيم) 41 قوله تعالى (انفروا خفافا وثقالا) قال الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة شبانا وشيوخا وعن ابن عباس نشاطا وغير نشاط وقال عطية العوفي ركبانا ومشاة وقال أبو صالح خفافا من المال أي فقراء وثقالا أي أغنياء وقال ابن زيد الثقيل الذي له الضيعة فهو ثقيل يكره أن يبدع ضيعته والخفيف الذي لا ضيعة له ويروى عن ابن عباس قال خفافا أهل الميسرة من المال وثقالا أهل العسرة وقيل خفافا من السلاح أي مقلين منه وثقالا أي مستكثرين منه وقال الحكم بن عتيبة مشاغيل وغير مشاغيل وقال مرة الهمذاني أصحاء ومرضى وقال يمان بن رباب عزابا ومتأهلين وقيل خفافا من حاشيتكم وأتباعكم وثقالا مستكثرين بهم وقيل خفافا مسرعين خارجين ساعة سماع النفير وثقالا بعد التروي فيه الاستعداد له (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) قال الزهري خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى
296

سورة التوبة 42 45) عينيه فقيل له إنك على صاحب ضر فقال استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس نسخت هذه الآية بقوله (وما كان المؤمنون) قال السدي لما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس فنسخها الله تعالى وأنزل (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) الآية ثم نزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك 42 (لو كان عرضا قريبا) واسم كان مضمر أي لو كان ما ندعوهم إليه عرضا قريبا أي غنيمة قريبة المتناول (وسفرا قاصدا) أي قريبا هينا (لاتبعوك) لخرجوا معك (ولكن بعدت عليهم الشقة) أي المسافة والشقة السفر البعيد لأنه يشق على الإنسان وقيل الشقة الغاية التي يقصدونها (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم) يعني باليمين الكاذبة (والله يعلم إنهم لكاذبون) في أيمانهم لأنهم كانوا مستطيعين 43 (عفا الله عنك) قال عمرو بن ميمون اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما إذنه للمنافقين وأخذه الفدية من أسارى بدر فعاتبه الله كما تسمعون قال سفيان بن عيينة انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل أن يعيره بالذنب وقيل إن الله عز وجل وقره ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني وقيل معناه أدام الله لك العفو (لم أذنت لهم) أي في التخلف عنك (حتى يتبين لك الذين صدقوا) في أعذارهم (وتعلم الكاذبين) فيها أي تعلم من لا عذر له قال ابن عباس رضي الله عنه لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ 44 (لا يستأذنك الذين
يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم) أي لا يستأذنك في التخلف (والله عليم بالمتقين) 45 (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم) أي شكت ونافقت (فهم في ريبهم يترددون) يتحيرون
297

سورة التوبة 46 48) 46 (ولو أرادوا الخروج) إلى الغزو (لأعدوا له) أي ليهيؤوا له (عدة) أهبة وقوة من السلاح والكراع (ولكن كره الله انبعاثهم) خروجهم (فثبطهم) منعهم وحبسهم عن الخروج (وقيل اقعدوا) في بيوتكم (مع القاعدين) يعني مع المرضى والزمنى وقيل مع النسوان والصبيان قوله عز وجل (وقيل) أي قال بعضهم لبعض اقعدوا وقيل أوحى إلى قلوبهم والهموا أسباب الخذلان 47 (لو خرجوا فيكم) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجهاد لغزوة تبوك فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي على جدة أسفل من ثنية الوداع ولم يكن بأقل العسكرين فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عند عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب فأنزل الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم (لو خرجوا) يعني المنافقون (فيكم) أي معكم (ما زادوكم إلا خبالا) أي فسادا وشرا ومعنى الفساد إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر (ولأوضعوا) أسرعوا (خلالكم) في وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة ونقل الحديث من البعض إلى البعض وقيل (لأوضعوا خلالكم) أي أسرعوا فيما يخل بكم (يبغونكم الفتنة) أي يطلبون لكم ما تفتنون به يقولون لقد جمع لكم كذا وكذا وإنكم مهزومون وسيظهر عليكم عدوكم ونحو ذلك وقال لكلبي يبغونكم الفتنة يعني العنت والشر وقال الضحاك الفتنة الشرك ويقال بغيته الشر والخير أبغيه بغيا إذا التمسته له يعني بغيت له (وفيكم سماعون لهم) قال مجاهد معناه وفيكم مخبرون لهم يؤدون إليهم ما يسمعون منكم وهم الجواسيس وقال قتادة معناه وفيكم مطيعون لهم أي يستمعون كلامهم ويطيعونهم (والله عليم بالظالمين) 48 (لقد ابتغوا الفتنة من قبل) أي طلبوا صد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر وتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه (وقلبوا لك الأمور) وأجالوا فيك في إبطال دينك الرأي بالتخذيل عنك وتشتيت أمرك (حتى جاء الحق) النصر والظفر (وظهر أمر الله) دين الله (وهم كارهون)
298

سورة التوبة (49 52) 49 قوله تعالى (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك قال يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر يعني الروم تتخذ منهم سراري ووصفاء فقال جد يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بالنساء وإني أخشى إن رايت بنات بني الأصفر أن لا اصبر عنهن ائذن لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينك بما لي قال ابن عباس اعتل جد بن قيس ولم تكن له علة إلا النفاق فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال أذنت لك فأنزل الله عز وجل (ومنهم) يعني من المنافقين (من يقول ائذن لي) في التخلف (ولا تفتني) ببنات الأصفر قال قتادة ولا تؤثمني (ألا في الفتنة سقطوا) أي في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمر الله ورسوله (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) مطيفة عليهم وجامعة لهم فيها 50 (إن تصبك حسنة) نصرة وغنيمة (تسؤهم) تحزنهم يعني المنافقين (وإن تصبك مصيبة) قتل وهزيمة (يقولوا قد أخذنا أمرنا) حذرنا أي أخذنا بالحزم في القعود عن الغزو (من قبل) أي من قبل هذه المصيبة (ويتولوا) ويدبر (وهم فرحون) مسرورون بما نالك من المصيبة 51 (قل) لهم يا محمد (لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) أي علينا في اللوح المحفوظ (هو مولانا) ناصرنا وحافظنا وقال الكلبي هو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) 52 (قل هل تربصون بنا) تنتظرون بنا أيها المنافقون (إلا إحدى الحسنيين) إما النصر والغنيمة أو الشهادة والمغفرة وروينا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال
299

سورة التوبة (53 55) من أجر أو غنيمة (ونحن نتربص بكم) إحدى السوأتين إما (أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) فيهلككم كما أهلك الأمم الخالية (أو بأيدينا) أو بأيدي المؤمنين إن أظهرتم ما في قلوبكم (فتربصوا إنا معكم متربصون) قال الحسن فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه 53 (قل أنفقوا طوعا أو كرها) أمر بمعنى الشرط والجزاء أي إن أنفقتم طوعا أو كرها نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود قال أعينكم بمالي يقول إن أنفقتم طوعا أو كرها (لن يتقبل منكم إنكم) أي لأنكم (كنتم قوما فاسقين) 54 (وما منعهم أن تقبل منهم) قرأ حمزة والكسائي (يقبل) بالياء لتقدم الفعل وقرأ الباقون بالتاء لأن الفعل مسند إلى جمع مؤنث وهو النفقات فأنث الفعل ليعلم أن الفاعل مؤنث (نفقاتهم) صدقاتهم (إلا أنهم كفرو بالله وبرسوله) أي المانع من قبول نفقاتهم كفرهم (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) متثاقلون لأنهم لا يرجون على أدائها ثوابا ولا يخافون على تركها عقابا فإن قيل كيف ذم الكسل في الصلاة ولا صلاة لهم أصلا قيل الذم واقع على الكفر الذي يبعث على الكسل فإن الكفر مكسل والإيمان منشط (ولا ينفقون غلا وهم كارهون) لأنهم يعدونها مغرما ومنعها مغنما 55 (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) والإعجاب هو السرور بما يتعجب منه يقول لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد لن العبد إذا كان من الله في استدراج كثر الله ماله وولده (إنما يريد اللهى ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) فإن قيل أي تعذيب في المال والولد وهم يتنعمون بها في الحياة الدنيا قيل قال مجاهد وقتادة في الآية تقديم وتأخير تقديره فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة وقيل التعذيب بالمصائب الواقعة في المال والولد وقال
300

سورة التوبة (56 58) الحسن يعذبهم بها في الدنيا بأخذ الزكاة منها والنفقة في سبيل الله وقيل يعذبهم بالتعب في جمعه والوجل في حفظه والكره في إنفاقه والحسرة على تخليفه عند من لا يحمده ثم يقدم على ملك يعذره (وتزهق أنفسهم) أي تخرج (وهم كافرون) أي يموتون على الكفر 56 (ويحلفون بالله إنهم لمنكم) أي على دينكم (وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون) يخافون أن يظهروا ما هم عليه 57 (لو يجدون ملجأ) حرزا أو حصنا أو معقلا وقال عطاء مهربا وقيل قوما يأمنون فيهم (أو مغارات) غيرانا في الجبال جمع مغارة وهو الموضع الذي تغور فيه أي تستتر وقال عطاء سراديب (أو مدخلا) موضع دخول فيه وهو من ادخل يدخل وأصله مدتخل مفتعل من دخل يدخل قال مجاهد محرزا وقال قتادة سربا وقال الكلبي نفقا في الأرض كنفق اليربوع وقال الحسن وجها يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ
يعقوب (مدخلا) بفتح الميم وتخفيف الدال وهو أيضا موضع الدخول (لولوا إليه) لأدبروا إليه هربا منك (وهم يجمحون) يسرعون في إباء ونفور لا يرد وجوههم شيء ومعنى الآية انهم لو يجدون مخلصا منكم ومهربا لفارقوكم 58 قوله تعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات) الآية نزلت في ذي الخويصرة التميمي واسمه حرقوص بن زهير أصل الخوارج أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن ابا سعيد الخدري رضي الله عنه قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما فيأ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال يا رسول إعدل فقال ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه فقال له دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء قد ثبق الفرث والدم آنيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل يدي المرأة أو مثل البضعة تدردر
301

سورة التوبة (59 60) يخرجون على حين فرقة من الناس قال أبو سعيد وأشهد إني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعته وقال الكلبي قال رجل من المنافقين يقال له أبو الجوط لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تقسم بالسوية فأنزل الله تعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات) أي يعيبك في أمرها وتفريقها ويطعن عليك فيها يقال لمزهو همزه أي عابه يعني أن المنافقين كانوا يقولون إن محمدا لا يعطي إلا من أحب وقرأ يعقوب (يلمزك) وكذلك يلمزون في الحجرات (ولا تلمزوا) كل ذلك بضم الميم فيهن وقرأ الباقون بكسر الميم فيهن وهما لغتان يلمز ويلمز مثل يحسر ويعكف ويعكف وقال مجاهد يلمزك أي يزورك يعني يختبرك (فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) قيل إن أعطوا كثيرا فرحوا وإن أعطوا قليلا سخطوا 59 (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله) أي قنعوا بما قسم لهم الله ورسوله (وقالوا حسبنا الله) كافينا الله (سيؤتينا الله من فضله ورسوله) ما نحتاج إليه (إنا إلى الله راغبون) في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس وجواب لو محذوف أي لكان خيرا لهم وأعود عليهم 60 قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) الآية بين الله تعالى في هذه الآية أهل الصدقات وجعلها الثمانية أصناف وروي عن زياد بن الحارث الصدائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل وقال أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيه هو فجزاها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك قوله (للفقراء والمساكين) فأحد أصناف الصدقة الفقراء والثاني المساكين واختلف العلماء في صفة الفقير والمسكين فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة والزهري الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل وقال ابن عمر ليس الفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ولكن من انقى نفسه وثيابه لا يقدر على شيء يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف فذلك الفقير وقال قتادة الفقير
302

المحتاج الزمن والمسكين الصحيح المحتاج وروي عن عكرمة أنه قال الفقراء من المسلمين والمساكين من أهل الكتاب وقال الشافعي الفقير من لا مال ولا حرفة تقع منه موقعا زمنا كان أو غير زمن والمسكين من كال له مال أو حرفة ولا يغنيه سائلا كان أو غير سائل فالمسكين عنده أحسن حالا من الفقير لأن الله تعالى قال (أما السفينة فكانت لمساكين) أثبت لهم ملكا مع اسم المسكينة وعند أصحاب الرأي الفقير أحسن حالا من المسكين وقال القتبي الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي لا شيء له وقيل الفقير من له المسكن والخادم والمسكين من لا ملك له وقالوا كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا عن غيره قال الله تعالى (أنتم الفقراء إلى الله) والمسكين المحتاج إلى كل شيء ألا ترى كيف حض على إطعامه وجعل طعام الكفارة له ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة وقال إبراهيم النخعي الفقراء هم المهاجرون والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين وفي الجملة الفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة وضعف الحال فالفقير المحتاج الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت أخبرنا عبد الوهاب بن محمد والخطيب ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العباس الأصم ثنا الربيع أنبأنا الشافعي أنبأنا سفيان بن عيينة عن هشام يعني ابن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله فسألاه عن الصدقة فصع فيهما وصوب فقال إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب واختلفوا في حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة فقال الأكثرون حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة وهو قول مالك والشافعي وقال أصحاب الرأي حده أن يملك مائتي درهم وقال قوم من ملك خمسين درهما لا تحل له الصدقة لما روينا عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل يا رسول الله وما يغنيه قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب وهو قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وقالوا لا يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما وقيل أربعون درهما لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا قوله تعالى (والعاملين عليها) وهم السعاة الذين يتولون قبض الصدقات من أهلها ووضعها في حقها فيعطون من مال الصدقة فقراء كانوا أو أغنياء فيعطون مثل أجر عملهم وقال الضحاك ومجاهد لهم الثمن من الصدقة (والمؤلفة قلوبهم) فالصنف الرابع من المستحقين للصدقة هم المؤلفة قلوبهم وهم قسمان قسم مسلمون وقسم كفار فأما المسلمون فقسمان قسم دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم تألفا كما أعطى عيينة بن بدور والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس
303

السلمي وأسلموا ونيتهم قوية في الإسلام وهم شرفاء قومهم مثل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فكان يعطيهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم في الإسلام فهؤلاء يجوز للإمام أن يعطيهم من خمس خمس الغنيمة والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الصدقات والقسم الثاني من
مؤلفة المسلمين أن يكون قوم من المسلمين بلإزاء قوم كفار من موضع متناء لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بمؤنة كثيرة وهم لا يجاهدون إما الضعف نيتهم أو لضعف حالهم فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل من سهم المؤلفة ومنهم قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة يأخذون منهم الزكاة يحملونها إلى الإمام فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات وقيل من سهم سبيل الله روي أن عدي بن حاتم جاء إلى أبي بكر الصديق بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا وأما الكفار من المؤلفة فهو من يخشى سره منهم أو يرجى إسلامه فيريد الإمام أن يعطي هذا حذرا من شره أو يعطي ذلك ترغيبا به في الإسلام فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما أعطى صفوان بن أمية لما كان يرى من ميله إلى الإسلام أما اليوم فقد أعز الله الإسلام فله الحمد وأغناه أن يتألف عليه رجالا فلا يعطى مشرك تألفا بحال وقد قال بهذا كثير من أهل العلم أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط روي ذلك عن عكرمة وهو قول الشعبي وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه وقال قوم سهمهم ثابت يروى ذلك عن الحسن وهو قول الزهري وأبي جعفر محمد بن علي وأبي ثور وقال أحمد يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك قوله تعالى (وفي الرقاب) والصنف الخامس هم الرقاب وهم المكاتبون لهم سهم من الصدقة هذا قول أكثر الفقهاء وبه قال سعيد بن جبير والنخعي والزهري والليث بن سعدو الشافعي وقال جماعة يشتري بسهم الرقاب عبيدا فيعتقون وهذا قول الحسن وبه قال مالك وأحمد وإسحاق قوله تعالى (والغارمين) والصنف السادس هم الغارمون وهم قسمان أدانوا لأنفسهم في غير معصية فإنهم يعطون من الصدقة إذا لم يكن لهم من المال ما يفي بديونهم فإن كان عندهم وفاء فلا يعطون وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذاب البين فإنهم يعطون من مال الصدقة ما يقضون به ديونهم وإن كانوا أغنياء أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنبأنا زاهر بن أحمد أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يساء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني أو لعامل عليها ورواه معمر عن زيد عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا بمعناه أما من كان دينه في معصية الله وفساد فلا يدفع شيء إليه وقوله تعالى (وفي سبيل الله) أراد بها الغزاة فلهم سهم من الصدقة يعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو وما يستعينون به على أمر الغزو من النفقة والكسوة والسلاح والحمولة وإن كانوا أغنياء ولا يعطى شيء منه في الحج عند أكثر أهل العلم وقال قوم يجوز أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وأحمد وإسحاق قوله تعالى (وابن السبيل)
304

والصنف الثامن هم أبناء السبيل فكل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به المسافة يعطى من الصدقة بقدر ما يقطع به تلك المسافة سواء كان له في البلد المنتقل إليه مال أو لم يكن وقال قتادة السبيل هو الضعيف وقال فقهاء العراق ابن السبيل الحاج المنقطع قوله تعالى (فريضة) أي واجبة (من الله) وهو نصب على القطع وقيل على المصدر أي فرض الله هذه الأشياء فريضة (والله عليم حكيم) اختلف أهل العلم والفقهاء في كيفية قسم الصدقات وفي جواز صرفها إلى بعض الأصناف فذهب جماعة إلى أنه لا يجوز صرف كلها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف وهو قول عكرمة وبه قال الشافعي قال يجب أن يقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الأصناف الستة الذين سهماتهم ثابتة قسمة على السواء لأن سهم المؤلفة ساقط وسهم العامل إذا قسمه بنفسه ثم حصة كل صنف منهم لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منهم ثلاثة أو أكثر فلو فاوت بين أولئك الثلاث يجوز فإن لم يوجد من بعض الأصناف إلا واحد صرف حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج عن حد الاستحقاق فإن انتهت حاجته وفضل شيء رده إلى الباقين وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف أو إلى شخص واحد منهم يجوز وإنما سمى الله تعالى هذه الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف إلا إيجابا لقسمها بينهم جميعا وهو قول عمرو ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وبه قال أحمد قال يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى وقال إبراهيم إن كان المال كثيرا يحتمل الأجزاء قسمة على الأصناف وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد وقال مالك يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخلة والحاجة فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدمهم وإن رآها في عام في صنف آخر حولها إليهم وكل من دفع إليه شيء من الصدقة لا يزيد على قدر الاستحقاق فلا يزيد الفقير على قدر غناه فإذا حصل أدني اسن الغنى لا يعطى بعده فإن كان محترفا لكنه لا يجد آلة حرفته فيعطى قدر ما يحصل به آلة حرفته ولا يزاد على العامل على أجر عمله والمكاتب على قدر ما يعتق به والغارم على قدر دينه والغازي على قدر نفقته للذهاب والرجوع والمقام في مغزاه وما يحتاج إليه من الفرس والسلاح وابن السبيل على قدر إتيانه مقصده أو ماله واختلفوا في نقل الصطقة عن بلد المال إلى موضع آخر مع وجود المستحقين فيه فكرهه أكثر أهل العلم لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ثنا أبو عيسى الترمذي ثنا أبو كريب ثنا وكيع ثنا زكريا إسحاق المكي ثنا يحيى بن عبد الله بن الصيفي عن أبي سعيد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب فهذا يدل على أن صدقة أغنياء كل قوم ترد على فقراء ذلك القوم
305

سورة التوبة (61 62) واتفقوا على أنه إذا نقل من بلد إلى بلد آخر وادعى سقط الفرض عن ذمته إلا ما حكي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان 61 (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس ابن سويد منهم بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن أي أذن سامعة يقال فلان أذن سامعة وأذنة على وزن فعلة إذا كان يسمع كل ما قيل له ويقبله وأصله من أذن يأذن أذنا إذا استمع وقيل هو أذن ذو
أذن وأذن سامعة وقال محمد بن إسحاق بن يسار نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحارث وكان رجلا ازنم ثائر شعر الرأس أحمر العينين أسقع الخدين مشوه الخلقة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له لا تفعل فقال إنما محمد أذن فمن حدثه شيئا صدقه فنقول ما شئنا ثم تأتيه ونحلف بالله فيصدقنا فأنزل الله تعالى هذه الآية قوله تعالى (قل أذن خير لكم) قرأ العامة بالإضافة أي مستمع خير وصلاح لكم لا مستمع شر وفساد وقرأ الأعشى والبرجمي عن أبي بكر (أذن خير لكم) مرفوعين منونين يعني أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم ثم كذبهم فقال (يؤمن بالله) أي لا بل يؤمن بالله (ويؤمن للمؤمنين) أي يصدق المؤمنين ويقبل منهم لا من المنافقين يقال أمنته وأمنت له بمعنى صدقته (ورحمة) قرأ حمزة (ورحمة) بالخفض على معنى أذن خير لكم وأذن رحمة وقرأ الآخرون (ورحمة) بالرفع أي هو أذن خير وهو رحمة (للذين آمنوا منكم) لأنه كان سبب إيمان المؤمنين (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) 62 (يحلفون بالله لكم ليرضوكم) قال قتادة والسدي اجتمع ناس من المنافقين فيهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس فحقروه وقالوا هذه المقالة فغضب الغلام وقال والله إن يقول محمد حق وأنتم شر من الحمير ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفوا أن عامرا كذاب وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عامر يدعو ويقول اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال مقاتل والكلبي نزلت في رهط من المنافقين
306

سورة التوبة (63 64) تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون إليه ويحلفون فأنزل الله تعالى هذه الآية (يحلفون بالله ليرضوكم) (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) 63 (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله) يخالف الله ورسوله أن يكونوا في جانب واحد من الله ورسوله (فإن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم) أي الفضيحة العظيمة 64 (يحذر المنافقون) أي يخشى المنافقون (أن تنزل عليهم) أي تنزل على المؤمنين (سورة تنبئهم بما في قلوبهم) أي بما في قلوب المنافقين من الحسد والعداوة للمؤمنين كانوا يقولون فيما بينهم ويسرون ويخافون الفضيحة بنزول القرآن في شأنهم قال قتادة هذه السورة تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة أثارت مخازيهم ومثالبهم قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة للمؤمنين لئلا يعير بعضهم بعضا لأن أولادهم كانوا مؤمنين (قل استهزؤا إن الله مخرج) مظهر (ما تحذرون) قال ابن كيسان نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا هلاعا ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدروا وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم وعمار بن ياسر يقود برسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته وحذيفة يسوق به فقال لحذيفة اضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحاها فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحذيفة من عرفت من القوم قال لم أعرف منهم أحدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم فلان وفلان حتى عدهم كلهم فقال حذيفة ألا تبعث إليهم فتقتلهم فقال أكره أن تقول العرب لما ظفر محمد وأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله بالدبيلة أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن عيسى ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن قتادة عن أبي نصرة عن قيس بن عبادة قال قلنا لعمار أرأيتكم قتالكم أرأيا رأيتموه فإن الرأي يخطئ ويصيب أو عهدا عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن في أمتي قال شعبة وأحسبه قال حدثني حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في أمتي اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم
307

سورة التوبة (65 67) 65 قوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) الآية وسبب نزول هذه الآية على ما قال الكلبي ومقاتل وقتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول والثالث يضحك قيل كانوا يقولون إن محمدا يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم ما أبعده من ذلك وقيل كانوا يقولون إن محمدا يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن وإنما هو قوله وكلامه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال احبسوا على الركب فدعاهم وقال لهم قلتم كذا وكذا فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب أي كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لقطع الطريق بالحديق واللعب قال عمر فلقد رأيت عبد الله بن أبي يشتد قدام رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ما يلتفت إليه ولا يزيده عليه قوله (قل) أي قل يا محمد للمنافقين (أبا لله وآياته) كتابه (ورسوله كنتم تستهزؤون) 66 (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) فإن قيل كيف قال أكفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين قيل معناه أظهرتم الكفر بعدما أظهرتم الإيمان (إن نعف عن طائفة منكم) أي نتب على طائفة منكم وأراد بالطائفة واحدا (نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين) بالاستهزاء وقرأ عاصم (نعف) بالنون وفتحها وضم الفاء (نعذب) بالنون وكسر الدال (طائفة) رفع على غير تسمية الفاعل وقال محمد بن إسحاق الذي عفي عنه رجل واحد وهو مخشي بن حمير الأشجعي يقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض وكان يمشي مجانبا لهم وينكر بعض ما يسمع فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ عني بها تقشعر الجلود منها وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فما أحد من المسلمين إلا عرف مصرعه غيره 67 قوله تعالى (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) أي هم على دين واحد وقيل أمرهم واحد بالاجتماع على النفاق (يأمرون بالمنكر) بالشرك والمعصية (وينهون عن المعروف)
308

سورة التوبة (68 69) أي عن الإيمان والطاعة (ويقبضون أيديهم) أي يمسكونها عن الصدقة والإنفاق في سبيل الله ولا يبسطونها بخير (نسوا الله فنسيهم) تركوا
طاعة الله فتركهم من توفيقه وهدايته في الدنيا ومن رحمته في الآخرة وتركهم في عذابه (إن المنافقين هم الفاسقون) (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم) كافيهم جزاء على كفرهم (ولعنهم الله) أبعدهم الله من رحمته (ولهم عذاب مقيم) دائم 69 (كالذين من قبلكم) أي فعلتم كفعل الذين من قبلكم بالعدول من أمر الله فلعنتم كما لعنوا (كانوا أشد منكم قوة) بطشا ومنعة (وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم) فتمتعوا أو انتفعوا بخلاقهم بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا به عوضا عن الآخرة (فاستمتعتم بخلاقكم) أيها الكفار والمنافقون (كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم) وسلكتم سبيلهم (وخضتم) في الباطل والكذب على الله تعالى وتكذيب رسله بالاستهزاء بالمؤمنين (كالذين خاضوا) أي كما خاضوا وقيل كالذي يعني كالذين خاضوا وذلك أن الذي اسم ناقص مثل (ما ومن) يعبر به عن الواحد والجمع نظيره قوله تعالى (كمثل الذي استوقد نارا) ثم قال (ذهب الله بنورهم) (أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون) أي كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا محمد بن عبد العزيز ثنا أبو عمر الصنعاني من اليمن عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهو والنصاري قال فمن وفي رواية أبي هريرة فهل الناس إلا هم وقال ابن مسعود رضي الله عنه أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا
309

سورة التوبة (70 72) 70 قوله تعالى (ألم يأتهم) يعني المنافقين (نبأ) خبر (الذين من قبلهم) حين عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا كيف عذبناهم وأهلكناهم ثم ذكرهم فقال (قوم نوح) أهلكوا بالطوفان (وعاد) أهلكوا بالريح (وثمود) بالرجفة (وقم إبراهيم) بسلب النعمة وهلاك نمرود (وأصحاب مدين) يعني قوم شعيب أهلكوا بعذاب الظلة (والمؤتفكات) المنقلبات التي جعلنا عاليها سافلها وهم قوم لوط وقراهم (أتتهم رسلهم بالبينات) فكذبوهم وعصوهم كما فعلتم يا معشر الكفار فاحذروا تعجيل النقمة (فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) 71 قوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) في الدين واجتماع الكلمة والعون والنصرة (يأمرون بالمعروف) بالإيمان والطاعة والخير (وينهون عن المنكر) عن الشرك والمعصية وما لا يعرف في الشرع (ويقيمون الصلاة) المفروضة (ويؤتون الزكاة) ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) 72 (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة) منازل طيبة (في جنات عدن) أي بساتين خلد وإقامة يقال عدن بالنكان إذا أقام به قال ابن مسعود هي بطنان الجنة أي وسطها قال عبد الله بن عمرو بن العاص إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد وقال الحسن قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل وقال عطاء بن السائب عدن نهر في الجنة جناته على حافتيه وقال مقاتل والكلبي عدن أعلى درجة في الجنة وفيها عن التنسيم والجنان حولها محدقة بها وهي مغطاة من حين خلقها الله تعالى حتى ينزلها أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر الأبيض (ورضوان من الله أكبر) أي رضا الله عنهم أكبر من ذلك
310

سورة التوبة (73 74) النعيم الذي هم فيه (ذلك هو الفوز العظيم) روينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل لأهل الجنة يا أهل الجنة هل رضيتم فيقولون ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك فيقول أفلا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون ربنا واي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا 73 قوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار) بالسيف والقتل (والمنافقين) واختلفوا في صفة جهاد المنافقين قال ابن مسعود بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وقال لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر وقال ابن عباس باللسان وترك الرفق وقال الضحاك بتغليظ الكلام وقال الحسن وقتادة بإقامة الحدود عليهم (واغلظ عليهم ومأواهم) في الآخرة (جهنم وبئس المصير) قال عطاء نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح 74 قوله تعالى (يحلفون بالله ما قالوا) قال ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة فقال إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علام تشتمني أنت وأصحابك فانطلق الرجل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا فأنزل الله عز وجل هذه الآية وقال الكلبي نزلت في الجلاس بن سويد وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين وسماهم رجسا وعابهم فقال جلاس لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس فقال أجل إن محمدا لصادق وأنتم شر من الحمير فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس فقال الجلاس كذب علي يا رسول الله وأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفنا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو هو ما قاله ولقد كذب علي عامر ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه ثم رفع يديه إلى السماء وقال اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون آمين فنزل جبريل عليه السلام من السماء قبل أن يتفرقوا بهذه الآية حتى بلغ (فإن يتوبوا يك خيرا لهم) فقام الجلاس فقال يا رسول الله أسمع الله عز وجل قد عرض علي التوبة صدق عامر بن قيس فيما قاله لقد قلته وأنا استغفر الله وأتوب إليه فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه
311

سورة التوبة (75) وحسنت توبته (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) أي أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان والإسلام وقيل هي سب النبي صلى الله عليه وسلم وقيل كلمة الكفر قول الجلاس لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير وقيل كلمة الكفر قولهم (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) وستأتي القصة في موضعها في سورة المنافقين (وهموا بما لم ينالوا) قال مجاهد هم المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم لنحن شر من الحمير لكي لا يفشيه وقيل هم اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة في طريق تبوك ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء جبريل عليه السلام وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواجلهم فأرسل
حذيفة لذلك وقال السدي قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا فلم يصلوا إليه (وما نقموا) وما كرهوا وما أنكروا منهم (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) وذلك أن مولى الجلاس قتل فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألف درهم فاستغنى وقال الكلبي كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم (فإن يتوبوا) من نفاقهم وكفرهم (يك خيرا لهم وإن يتولوا) يعرضوان عن الإيمان (يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا) بالحزي (والآخرة) أي وفي الآخرة بالنار (وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير) 75 قوله تعالى (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن) الآية أخبرنا أبو سعيد الشريحي ثنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أبو عبد الله بن حامد الأصفهاني ثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي ثنا محمد بن نصر حدثني أبو الأزهر أحمد بن الأزهر ثنا مروان بن محمد بن شعيب ثنا معان بن رفاعة عن علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم أتاه بعد ذلك فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما لك في رسول الله أسوة حسنة والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت ثم أتاه بد ذلك فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فوالذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله ارزق ثعلبة مالا قال فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها وهي تنمو كادود فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر ويصلي في غنمه سائر الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد بها عن المدينة فصار
312

سورة التوبة 76 لا يشهد إلا الجمعة ثم كثرت فنمت فتباعد أيضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار فذكره صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال ما فعل ثعلبة قالوا يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما يسعها واد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة فأنزل الله آية الصدقات فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة كيف يأخذان وقال لهما مرا على ثعلبة بن حاطب ورجلا من بني سليم فخذا صدقاتهما فخرجا إلى ثعلبة حتى أتياه فسألاه الصدقة وأقرأه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا الصدقة ثم عودا إلي فانطلقا وسمع بها السلمي خيار أسنان إبله فعز لها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأياها قالوا ما هذه عليك قال خذاه فإن نفسي بذلك طيبة فمرا على الناس فأخذا الصدقة ثم رجعا إلى ثعلبة فقال أروني كتابكما فقرأه ثم قال ما هذه إلا أخت الجزية اذهبا حتى أرى رأيي قال فأقبلا فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه قال يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ثم دعا للمسلمين بخير فأخبراه بالذي صنع ثعلبة فأنزل الله تعالى فيه (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) الآية إلى قوله (وبما كانوا يكذبون) وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبه فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال ويحك يا ثعلبة لقد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة فقال إن الله عز وجل منعني أن أقبل منك صدقتك فجعل يحثوا التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض صدقته رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتى أبا بكر فقال اقبل صدقتي فقال أبو بكر لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا لا أقبلها فقبض أبو بكر ولم يقبلها فلما ولي عمر أتاه فقال اقبل صدقتي فقال لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر فأنا لا أقبلها منك فلم يقبلها فلما ولي عثمان اتاه فلم يقبلها منه وهلك ثعلبة في خلافة عثمان وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة أتى ثعلبا مجلسا من الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه وتصدقت منه فوصلت الرحم وأحسنت إلى القرابة فمات ابن عم له فورث منه مالا فلم يف بما قال فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال الحسن ومجاهد نزلت في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وهما من بني عمرو بن عوف خرجا على ملأ قعود وقالا والله لئن رزقنا الله مالا لنصدقن فلما رزقهما الله عز وجل بخلا به فقوله عز وجل (ومنهم) يعني المنافقين (من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن) ولنؤدين حق الله منه (ولنطونن من الصالحين) نعمل بعمل أهل الصلاح فيه من صلة الرحم والنفقة في الخير
313

سورة التوبة (77 79) (فأعقبهم) فأخلفهم (نفاقا في قلوبهم) أي صير عاقبة أمرهم النفاق يقال أعقب فلانا ندامة إذا صير عاقبة أمره ذلك وقيل عاقبهم بنفاق قلوبهم يقال عاقبته وأعقبته بمعنى واحد (إلى يوم يلقونه) يريد حرمهم التوبة إلى يوم القيامة (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيقسوني ثنا عبد الله بن عمر الجوهري ثنا أحمد بن علي بن علي الكشمهيني ثنا علي بن حجر ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا أبو سهيل نافع بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا إئتمن خان 78 (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم) يعني ما أضمروا في قلوبهم وما تناجوا به بينهم (وأن الله علام الغيوب) 79 (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) الآية قال أهل التفسير حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله في ماله حتى أنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة
314

سورة التوبة (80 82) وستين ألف درهم وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري واسمه الحبحاب بصاع من تمر وقال يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لأهلي وأتيتك بالآخر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقة فلمزهم المنافقون وقالوا ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وإن كان الله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل ولكنه أراد أن يذكر فيمن أعطى الصدقة فأنزل الله عز وجل (الذين يلمزون) أي يعيبون (المطوعين من المؤمنين في الصدقات) يعني عبد الرحمن بن عوف وعاصما (والذين لا يجدون إلا جهدهم) أي طاقتهم يعني أبا عقيل والجهد
الطاقة بالضم لغة قريش وأهل الحجاز وقرأ الأعرج بالفتح قال القتيبي الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة (فيسخرون منهم) يستهزؤون منهم (سخر الله منهم) أي جازاهم الله على السخرية (ولهم عذاب أليم) 80 (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) لفظ أمر معناه الخبر تقديره استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) وذكر السبعين في العدد للمبالغة في اليأس على طمع المغفرة قال الضحاك لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد رخص لي فسأزيدن على السبعين لعل الله أن يغفر لهم فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم (سواء استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) 81 (فرح المخلفون) عن غزوة تبوك والمخلف المتروك (بمقعدهم) أي بقعودهم (خلاف رسول الله) قال أبو عبيدة أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار وأقاموا (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر) وكانت غزوة تبوك في شدة الحر (قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون) يعلمون وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود 82 (فليضحكوا قليلا) في الدنيا (وليبكوا كثيرا) في الآخرة تقديره فليضحكوا قليلا وسيبكون كثيرا (جزاء بما كانوا يكسبون) أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنبأنا السيد أبو
315

سورة التوبة (83) الحسين محمد بن الحسين العلوي قال أنا عبد الله بن محمد الحسين الشرقي ثنا عبد الله بن هشم ثنا يحيى بن سعيد ثنا شعبة عن موسى بن أنس رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ثنا أبو طاهر محمد بن أحمد الحارث ثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ثنا عبد الله بن محمود ثنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الله الخلال ثند عبد الله بن المبارك عن عمران بن زيد الثعلبي ثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا أيها الناس أبكوا فإن لم تستطيعوا أن تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول ثم تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت 83 قوله تعالى (فإن رجعك الله) ردك يا محمد من غزوة تبوك (إلى طائفة منهم) يعني من المخلفين إنما قال طائفة منهم لأنه ليس كل من تخلف من غزوة تبوك كان منافقا (فاستأذنوك للخروج) معك في غزوة أخرى (فقل) لهم (لن تخرجوا معي أبدا) في سفر (ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة) في غزاة أخرى (فاقعدوا مع الخالفين) أي مع النساء والصبيان وقيل مع الزمنى والمرضى وقال ابن عباس مع الذين تخلفوا بغير عذر وقيل مع الخالفين قال القراء يقال صاحب خالف إذا كان مخالفا (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) قال أهل التفسير بعث عبد الله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أهلكك حب اليهود فقال يا رسول الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني إنما بعثت إليك لتستغفر لي وسأله أن يكفنه في قميصه ويصلي عليه أخبرنا عبد الواحد المليحي ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ثنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يحيى بن بكير حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أنه قال لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبي ابن سلول وقد قال يوم كذا وكذا وكذا وكذا عدد عليه
316

سورة التوبة (84 85) قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أخر عني يا عمر فلما أكثرت عليه قال إني خيرت فاخترت لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يلبس إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) إلى قوله (وهم فاسقون) قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا علي بن عبد الله ثنا سفيان قال عمرو سمعت جابر بن عبد الله قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدما أدخل في حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه ونفث من ريقه وألبسه قميصه فالله أعلم وكان كسا عباسا قميصا قال سفيان قال أبو هريرة وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال ابن عبد الله يا رسول الله ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك وروي عن جابر قال لما كان يوم بدر أتى بالأسارى وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه عبد الله قال ابن عيينة كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال صلى الله عليه وسلم وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله شيئا والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه وروى أنه أسلم به ألف من قومه لما رأوه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم 84 قوله (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم قام فلان إذا كفاه أمره (إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) فما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبص 85 قوله تعالى (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون)
317

سورة التوبة (86 90) 86 (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم) ذوو الغنى والسعة منهم في القعود والتخلف (وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) في رحالهم 87 (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) يعني النساء وقيل مع أدنياء الناس وسفلتهم يقال فلان خالفة قومه إذا كان دونهم (وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) 88 (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات) يعني الحسنات وقيل الجواري الحسان في الجنة قال الله تعالى (فيهن خيرات حسان) جمع خيرة وحكى عن ابن عباس أن الخير لا يعلم معناه إلا الله كما قال جل ذكره (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) (وأولئك هم المفلحون) 89 قوله تعالى (وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم) الآية قرأ يعقوب ومجاهد (المعذرون) بالتخفيف وهم المبالغون في العذر يقال في المثل لقد أعذر
من أنذر أي بالغ في العذر من قدم النذارة وقرأ الآخرون (المعذرون) بالتشديد أي المقصرون يقال عذر أي قصر وقال الفراء المعذرون المعتذرون أدغمت التاء في الذال ونقلت حركة التاء إلى العين وقال الضحاك المعذرون هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا رسول صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم فقالوا يا نبي الله إن نحن غزونا معك تغير أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله عنكم وقال ابن عباس هم الذين تخلفوا بعذر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله) يعني المنافقين قال أبو عمر بن العلاء كلا الفريقين كان مسيئا قوم
318

سورة التوبة (91 93) تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله (وجاء المعذرون) وقوم تخلفوا عن غير تكلف عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى وهم المنافقون فأوعدهم الله بقوله (سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم) ثم ذكر أهل العذر 91 فقال جل ذكره (ليسعلى الضعفاء) قال ابن عباس يعني الزمنى والمشايخ والعجزة وقيل هم الصبيان وقيل النسوان (ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون) يعني الفقراء (حرج) مأثم وقيل ضيق في القعود عن الغزو (إذا نصحوا لله ورسوله) في مغيبهم وأخلصوا الإيمان والعمل لله وبايعوا الرسول (ما على المحسنين من سبيل) أي من طريق بالعقوبة (والله غفور رحيم) قال قتادة نزلت في زيد بن عمر وأصحابه وقال الضحاك نزلت في عبد الله بن أم مكتوم وكان ضرير البصر 92 قوله تعالى (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) معناه أنه لا سبيل على الأولين ولا على هؤلاء الذين أتوك وهم سبعة نفر سموا البكائين معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الأنصاري وعبلة بن زيد الأنصاري وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل المزني أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إن الله قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا واختلفوا في قوله (لتحملهم) قال ابن عباس سألوه أن يحملهم على الدواب وقيل سألوه أن يحملهم على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة ليغزوا معه فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم كما اخبر الله عنه في قوله تعالى (قلت لا أجد ما أحملكم هليه تولوا) وهم يبكون فذلك قوله تعالى (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون) 93 (إنما السبيل) بالعقوبة (على الذين يستأذنونك) في التخلف (وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) مع النساء والصبيان (وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون)
319

سورة التوبة (94 98) 94 (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم) يروى أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفرا فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاؤوا يعتذرون بالباطل قال الله تعالى (قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم) لن نصدقكم (قد نيأنا الله من أخباركم) فيما سلف (وسيرى الله عملكم ورسوله) في المستأنف أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه (ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) 95 (سيحلفون بالله إذا انقلبتم إليهم) إذا انصرفتم إليهم من غزوكم (لتعرضوا عنهم) لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم (فأعرضوا عنهم) فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق (إنهم رجس) نجس أي إن عملهم قبيح (ومأواهم) في الآخرة (جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) قال ابن عباس نزلت في جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة لا تجالسوهم ولا تكلموهم وقال مقاتل نزلت في عبد الله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فأنزل الله عز وجل هذه الآية 96 (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) 97 (الأعراب) أي أهل البدو (أشد كفرا ونفاقا) من أهل الحضر (وأجدر) أي أخلق وأحرى (ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السنن (والله عليم) بما في قلوب خلقه (حكيم) فيما فرض من فرائضه 98 (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما) قال عطاء لا يرجون على إعطائه ثوابا ولا يخافون على إمساكه عقابا إنما ينفق خوفا ورياء والمغرم التزام ما لا يلزم (ويتربص)
320

سورة التوبة (99 100) وينتظر (بكم الدوائر) يعني صروف الزمان التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر وقال يمان بن رباب يعني ينقلب الزمان عليكم فيموت الرسول ويظهر المشركون (عليهم دائرة السوء) عليهم يدور البلاء والحزن ولا يرون في محمد ودينه إلا ما يكرهون وما يسوءهم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (دائرة السوء) ههنا وفي سورة الفتح بضم السين معناه الضر والبلاء والمكروه وقرأ الآخرون بفتح السين على المصدر وقيل بالفتح الردة والفساد وبالضم الضر والمكروه (والله سميع عليم) نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم ثم استثنى فقال 99 (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) قال مجاهد هم بنو مقرن من مزينة وقال الكلبي أسلم وغفار وجهينة أخبرنا أبو سعيد أحمد بن عبد الله الظاهري أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري أنبأنا إسحاق بن إبراهيم الديري أنبأنا عبد الرزاق ثنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وغفار وشئ من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان (ويتخذ ما ينفق قربات عند الله) القربات جمع القربة أي يطلب القربة إلى الله تعالى (وصلوات الرسول) أي دعاءه واستغفاره قال عطاء يرغبون في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إنها قربة لهم) قرأ نافع برواية ورش قربة بضم الراء والباقون بسكونها (سيدخلهم الله في رحمته) في جنته (إن الله غفور رحيم) 100 (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) رفع عطفا على قوله (والسابقون) واختلفوا في السابقين قال سعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين وجماعة هم الذين صلوا إلى القبلتين وقال عطاء بن أبي رباح هم أهل بدر وقال الشعبي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان وكانت بيعة الرضوان بالحديبية واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة مع اتفاقهم على أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم أول من آمن وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو قول جابر وبه قال مجاهد وابن إسحاق أسلم وهو ابن عشر سنين وقال بعضهم أول من أسلم زيد بن حارثة وهو قول الزهري وعروة بن الزبير وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه
321

سورة التوبة (101) الأقوال فيقول أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ومن العبيد زيد بن حارثة قال ابن إسحاق فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله وكان رجلا محببا سهلا وكان انسب قريش وأعلمها بما كان فيها وكان
تاجرا ذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفوته لغير واحد من الأمر لعلمه وحسن مجالسته فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه فأسلم على يديه فيما بلغني عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله فجاء بهم إلى رسول صلى الله عليه وسلم حين أسلموا وصلوا فكان هؤلاء الثمانية نفر الذين سبقوا إلى الإسلام ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام أما السابقون من الأنصار فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا ستة في العقبة الأولى وسبعين في الثاني والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير يعلمهم القرآن فأسلم معه خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان قوله عز وجل (والسابقون الأولون من المهاجرين) الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم (والأنصار) أي ومن الأنصار وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه (والذين اتبعوهم بإحسان) قيل بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين وقيل هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة أو النصرة إلى يوم القيامة وقال عطاء هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء وقال أبو صخر حميد بن زيادة أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم فقلت من أين تقول هذا فقال اقرأ قول الله تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) إلى أن قال (رضي الله عنهم ورضوا عنه) وقال (والذين اتبعوهم بإحسان) شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة قال أبو صخر فكأني لم أقرأ هذه الآية قط وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ثم جمعهم الله عز وجل في الثواب فقال (رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) قرأ ابن كثير (من تحتها الأنهار) وكذلك هو في مصاحف أهل مكة (خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) 101 قوله تعالى (وممن حولكم من الأعراب منافقون) وهم من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار كانت
322

سورة التوبة (102) منازلهم حول المدينة يقول من هؤلاء الأعراب منافقون (ومن أهل المدينة) أي ومن أهل المدينة من الأوس والخزرج قوم منافقون (مردوا على النفاق) أي مرنوا على النفاق يقال تمرد فلان على ربه أي عتا لجوا فيه وأبوا غيره وقال ابن زيد أقاموا عليه ولم يتوبوا) لا تعلمهم) أنت يا محمد (نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين) اختلفوا في هذين العذابين قال الكلبي والسدي قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال أخرج يا فلان فإنك منافق أخرج ناسا من المسجد وفضحهم فهذا هو العذاب الأول والثاني عذاب القبر وقال مجاهد الأول القتل والسبي والثاني عذاب القبر وعنه رواية أخرى عذبوا بالجوع مرتين وقال قتادة الدبيلة في الدنيا وعذاب القبر وقال ابن زيد الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا والأخرى عذاب الآخرة وعن ابن عباس الأولى إقامة الحدود عليهم والأخرى عذاب القبر وقال ابن إسحاق هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسبة عذاب القبر وقيل أحدهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم والآخر عذاب القبر وقيل الأولى إحراق مسجد الضرار والأخرى إحراقهم بنار جهنم (ثم يردون إلى عذاب عظيم) أي عذاب جهنم يخلدون فيه 102 قوله تعالى (وآخرون) أي ومن أهل المدينة أو من الأعراب آخرون ولا يرجع هذا إلى المنافقين (اعترفوا) أقروا (بذنوبهم خلطوا عملا صالحا) وهو إقرارهم بذنوبهم وتوبتهم (وآخر سيئا) أي بعمل آخر سئ وضع الواو موضع الباء كما يقال خلطت الماء واللبن أي باللبن والعمل السيء هم تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل الصالح هو ندامتهم وربطهم أنفسهم بالسواري وقيل غزواتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم (عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) نزلت هذه الآية في قوم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة تبوك ثم ندموا على ذلك وقالوا يكونون في الظلال مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء فلما قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قالوا والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بهم فرآهم فقال من هؤلاء فقالوا هؤلاء الذين تخلفوا عند فعاهدوا الله ز وجل أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت تطلقهم وترضى عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم لأنهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فأنزل الله هذه الآية فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فأنزل الله تعالى (خذ من أموالهم صدقة) واختلفوا في عدد هؤلاء
323

سورة التوبة (103) التائبين فروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال كانوا عشرة منهم أبو لبابة وروى عطية عنه أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم كانوا ثمانية وقال الضحاك وقتادة كانوا سبعة وقالوا جميعا أحدهم أبو لبابة وقال قوم نزلت في أبي لبابة خاصة واختلفوا في ذنبه قال مجاهد نزلت في أبي لبابة حين قال لقريظة إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه وقال الزهري نزلت في تخلفه عن غزوة تبوك فربط نفسه بسارية وقال والله لا أحل نفسي ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل له قد تيب عليك فقال والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده ثم قال أبو لبابة يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله قال يجزيك يا أبا لبابة الثلث قالوا جميعا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم وترك الثلثين لأن الله تعالى قال (خذ من أموالهم) ولم يقل خذ أموالهم قال الحسن وقتادة هؤلاء سوى الثلاثة الذين خلفوا 103 قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) بها من ذنوبهم (وتزكيهم بها) أي ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين وقيل تنمي أموالهم (وصل عليهم) أي ادع لهم واستغفر لهم وقيل هو قول الساعي للمصدق إذا أخذ الصدقة منه أجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت والصلاة في اللغة الدعاء (إن صلاتك) قرأ حمزة والكسائي (صلاتك) على التوحيد ونصب التاء ههنا وفي سورة هود (أصلاتك) وفي سورة المؤمنين) على صلاتهم) كلهن على التوحيد وافقهما حفص ههنا
وفي سورة هود وقرأ الآخرون بالجمع فيهن وكسر التاء ها هنا وفي سورة المؤمنين ولا خلاف في التي في الأنعام (وهم على صلاتهم يحافظون) والتي في المعارج (وهم على صلاتهم دائمون) إنهما جميعا على التوحيد (سكن لهم) أي إن دعاءك رحمة لهم قاله ابن عباس وقيل طمأنينة لهم وسكون لهم أن الله عز وجل قد قبل منهم وقال أبو عبيدة تثبيت لقلوبهم (والله سميع عليم) واختلفوا في وجوب الدعاء على الإمام عند أخذ الصدقة قال بعضهم يجب وقال بعضهم يستحب وقال بعضهم يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع وقيل يجب على الإمام ويتسحب للفقير أن يدعو للمعطي أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا آدم بن أبي إياس ثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال سمعت عبد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشجرة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قومه
324

سورة التوبة (104 106) بصدقة قال اللهم صل عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال اللهم صل على آل أبي أوفى وقال ابن كيسان ليس هذا في صدقة الفرض إنما هو لصدقة كفارة اليمين وقال عكرمة هي صدقة الفرض فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكالمون ولا يجالسون فما لهم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى المدينة نهى المؤمنين عن مكالمة المنافقين ومجالستهم 104 (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) أي يقبلها (وأن الله هو التواب الرحيم) أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أنبأنا الربيع بن سليمان أنبأنا الشافعي أنبأنا سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب إلا كأنما يضعها في يد الرحمن عز وجل فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى أن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها لمثل الجبل العظيم ثم قرأ (إن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) 105 قوله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) قال مجاهد هذا وعيد لهم قيل رؤية للنبي صلى الله عليه وسلم بإعلام الله تعالى إياه ورؤية المؤمنين بإيقاع المحبة في قلوبهم لأهل الصلاح والبغضة لأهل الفساد 106 قوله تعالى (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم واللهعليم حكيم) قرأ أهل المدينة والكوفة غير أبي بكر (مرجون) بغير همز والآخرون بالهمز والإرجاء التأخير مرجون مؤخرون لأمر الله لحكم الله عز وجل فيهم وهم الثلاثة الذين تأتي قصتهم من بعد كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع لم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم حتى شقهم القلق وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وكانوا من أهل بدر فجعل أناس يقولون هلكوا وآخرون يقولون
325

سورة التوبة (107) عسى الله أن يغفر لهم فصاروا مرجئين لأمر الله لا يدرون ايعذبهم أم يرحمهم حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة 107 قوله تعالى (والذين اتخذوا) قرأ أهل المدينة والشام (الذين) بلا واو وكذلك هو في مصاحفهم وقرأ الآخرون بالواو (مسجدا ضرارا) نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق وديعة بن ثابت وخذام بن خالد ومن داره اخرج هذا المسجد وثعلبة بن حاطب وحارثة بن عمرو وأبناه مجمع وزيد ومتعب بن قشير وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف وأبو حبيبة بن الأزعر ونبتل بن الحارث وبحاد بن عثمان ورجل يقال له بحذج بنوا هذا المسجد ضرارا يعني مضارة للمؤمنين (وكفرا) بالله ورسوله (وتفريقا بين المؤمنين) لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة وكان يصلي بهم مجمع بن حارثة فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا وتصلي بنا فيه وتدعوا لنا بالبركة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) أي انتظار وإعداد لمن حارب الله ورسوله يقال أرصدت له إذا عددت له وهو أبو عامر الراهب وكان أبو عامر هذا رجلا منهم وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان قد ترهب في الجاهلية تنصر ولبس المسموح فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر ما هذا الذي جئت به قال جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال أبو عامر فإنا عليها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إنك لست عليها قال بلى لكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمين وسماه أبا عامر الفاسق فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام فأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه من المدينة فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء فذلك قوله تعالى (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) وهو أبو عامر الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام قوله (من قبل) يرجع إلى أبي عامر يعني حارب الله ورسوله من قبل أي من قبل بناء مسجد الضرار (وليحلفن إن أردنا) ما أردنا ببنائه (إلا الحسنى) إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز
326

سورة التوبة (108) عن السير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم وحلفهم روي أنه لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذي أوان موضع قريب من المدينة أتوه فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة وأقل هلم انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا سريعا حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل وأشعل فيه نارا ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه
الجيف والنتن والقمامة ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا فريدا غريبا وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمهم في مسجدهم فقال لا ولا نعمت عين أليس بإمام مسجد الضرار فقال له مجمع يا أمير المؤمنين لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه ولو علمت ما صليت معهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرؤن القرآن فصليت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى ولم أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء وقال عطاء لما فتح الله على عمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم أن لا يبنوا في مدينتهم مسجدين يضار أحدهما صاحبه قوله تعالى لا تقم فيه أبدا قال ابن عباس لا تصل فيه منع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في مسجد الضرار لمسجد أسس على التقوى اللام لام الابتداء وقيل لام القسم تقديره والله لمسجد أسس أي بني أصله على التقوى من أول يوم أي من أول يوم بني ووضع أساسه أحق أن تقوم فيه مصليا واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى فقال ابن عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري هو مسجد المدينة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والدليل عليه ما أخبرنا إسماعيل ابن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن حاتم ثنا يحيى بن سعيد عن حميد الخراط قال سمعت أبا سلمة عبد الرحمن قال مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال فقلت له كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى فقال قال أبي دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى قال فأخذ كفا من الحصباء فضرب به الأرض ثم قال هو مسجدكم هذا مسجد المدينة قال فقلت أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره
327

سورة التوبة (109) وأخبرنا أبو الحسن الشيرازي أنبأنا زاهر بن أحمد أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي أنبأنا أبو مصعب عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء وهو رواية عطية عن ابن عباس وهو قول عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا موسى بن إسماعيل ثنا عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا وكان عبد الله بن عمر يفعله وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه ركعتين قوله تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا من الأحداث والجنابات والنجاسات وقال عطاء كانوا يستنجون بالماء ولا ينامون بالليل على الجنابة أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز الفاشاني أنبأنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني أنا محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هاشم عن يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية والله يحب المطهرين أي المتطهرين أفمن أسس بنيانه قرأ نافع وابن عامر أسس بضم الهمزة وكسر السين بنيانه برفع النون فيها جميعا على غير تسمية الفاعل وقرأ الآخرون أسس فتح الهمزة والسين بنيانه بنصب النون على تسمية الفاعل على تقوى من الله ورضوان خير أي على طلب التقوى ورضا الله تعالى خير أم من أسس بنيانه على شفا أي على شفير جرف قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر جرف ساكنة الراء وقرأ الباقون بضم الراء وهما لغتان وهي البئر التي لم تطو قال أبو عبيدة هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية فينجرف بالماء فيبقى واهيا هار أي هائر وهو الساقط يقال هار يهور فهو هائر ثم يقلب فيقال هار مثل شاك وشائك وعاق وعائق وقيل هو من يهار إذا انهدم ومعناه الساقط الذي يتداعى بعضه في إثر بعض كما ينهار الرمل والشيء الرخو فانهار به أي سقط بالباني في نار جهنم يريد بناء هذا المسجد الضرار كالبناء على شفير جهنم فيهور بأهلها فيها قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد صيرهم النفاق إلى النار والله لا يهدي القوم الظالمين قال قتادة والله ما تناهى أن وقع في النار وذكر لنا أنه حفرت بقعة فيه فرؤي الدخان يخرج منها وقال جابر بن عبد الله رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار
328

سورة التوبة (110 111) لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة أي شكا ونفاقا في قلوبهم يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين كما حبب العجل إلى قوم موسى قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقال الكلبي حسرة وندامة لأنهم ندموا على بنائه وقال السدي لا يزال هدم بنيانهم ريبة وحزازة وغيظا في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم أي تتصدع قلوبهم فيموتوا وقرأ ابن عامر وأبو جعفر وحفص وحمزة تقطع بفتح التاء أي تتقطع فحذفت إحدى التاءين تخفيفا وقرأ الآخرون تقطع بضم التاء من التقطيع وقرأ يعقوب وحده إلى أن بتخفيف اللام على الغاية وقرأ الباقون إلا أن بتشديد اللام على الاستثناء ويدل على قراءة يعقوب تفسر الضحاك وقتادة لا يزالون في شك منه وندامة إلى أن يموتوا فحينئذ يستيقنوا والله عليم حكيم قوله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم قال محمد بن كعب القرظي لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفسا قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال اشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال الجنة قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وقرأ الأعمش بالجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون قرأ حمزة والكسائي فيقتلون بضم الياء وفتح التاء ويقتلون بفتح الياء وضم التاء على تقديم فعل المفعول على فعل الفاعل يعني يقتل بعضهم ويقتل الباقون وقرأ الباقون فيقتلون بفتح الياء وضم التاء ويقتلون بضم الياء وفتح التاء على تقديم فعل الفاعل على ما فعل المفعول والوجه أنهم يقتولن الكفار أولا ثم يستشهدون هذا الوجه أظهر والقراءة به أكثر وعدا عليه حقا أي ثواب الجنة لهم وعد وحق في التوراة والإنجيل والقرآن يعني أن الله عز وجل وعدهم هذا الوعد وبينه في هذه الكتب وفيه دليل على أن أهل الملل كلهم أمروا بالجهاد على ثواب الجنة ثم هنأهم فقال ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا فافرحوا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم قال عمر رضي الله عنه إن الله عز وجل بايعك وجعل الصفقتين لك وقال قتادة ثامنهم الله عز وجل فأغلى لهم وقال الحسن اسعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن وعنه أنه قال إن الله أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها ثم وصفهم فقال
329

سورة التوبة (112 113) التائبون قال الفراء استؤنفت بالرفع لتمام الآية وانقطاع الكلام وقال الزجاج التائبون رفع للابتداء وخبره مضمر المعنى التائبون إلى آخر الآية لهم الجنة أيضا أي من لم يجاهد غير معاند ولا قاصد لترك الجهاد لأن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد فمن كانت هذه صفته فله الجنة أيضا وهذا أحسن فكأنه وعد الجنة لجميع المؤمنين كما قال وكلا وعد الله الحسنى فمن جعله تابعا للأول فلهم الوعد بالجنة أيضا وإن كان الوعد بالجنة للمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات قوله التائبون أي الذين تابوا من الشرك وبرؤوا من النفاق العابدون المطيعون الذين أخلصوا العبادة لله عز وجل الحامدون الذين يحمدون الله على كل حال في السراء والضراء وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء السائحون قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما هم الصائمون وقال سفيان بن عيينة إنما سمي الصائم سائحا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح وقال عطاء السائحون الغزاة المجاهدون في سبيل روي عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه ائذن لي في السياحة فقال إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله وقال عكرمة السائحون هم طلبة العلم الراكعون الساجدون يعني المصلين الآمرون بالمعروف بالإيمان والناهون عن المنكر عن الشرك وقيل المعروف السنة والمنكر البدعة والحافظون لحدود الله القائمون بأوامر الله وقال الحسن أهل الوفاء ببيعة الله وبشر المؤمنين ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين اختلفوا في سبب نزول هذه الآية قال قوم سبب نزولها ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان لتلك
330

التوبة (114) المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وأنزل في أبي طالب إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد أنبأنا محمد بن عيسى ثنا إبراهيم بن محمد بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج حدثني محمد بن حاتم بن ميمون ثنا يحيى بن سعيد ثنا يزيد بن كيسان حدثني أبو حازم الأشجعي عن أبي هريرة قال قال رسول الله لعمه أبي طالب قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة فقال لولا أن تعيرني قريش فيقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله عز وجل إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عبد الله بن يوسف حدثني الليث عن يزيد بن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه وقال أبو هريرة وبريدة لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمه آمنه فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ثنا عبد الغافر بن محمد ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا محمد بن عبيد عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي عز وجل في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت قال قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله تعالى هذه الآية ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أنزل الله عز وجل خبرا عن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه سلام عليك سأستغفر لك ربي سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت له تستغفر لهما وهما مشركان فقال أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عز وجل قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم إلى قوله إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك قوله تعالى وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه قال بعضهم الهاء في إياه عائدة إلى إبراهيم عليه السلام والوعد كان من أبيه وذلك أن أباه كان وعده أن يسلم فقال له إبراهيم
331

سورة التوبة (115) سأستغفر لك ربي يعني إذا أسلمت وقال بعضهم الهاء راجعة إلى الأب وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه وهو قوله سأستغفر لك ربي يدل عليه قراءة الحسن وعدها أباه بالباء الموحدة والدليل على أن الوعد من إبراهيم وكان الاستغفار في حال شرك الأب قوله تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم إلى أن قال إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك فصرح أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار وإنما استغفر له وهو مشرك لمكان الوعد رجاء أن يسلم فلما تبين له أنه عدو لله لموته على الكفر تبرأ منه وقيل فلما تبين له في الآخرة أنه عدو لله تبرأ منه أي يتبرأ منه وذلك ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا إسماعيل بن عبد الله حدثني أخي عبد الحميد عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول له أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم عليه السلام يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي فيقول الله إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال لإبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذبيح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار وفي رواية يتبرأ منه يومئذ قوله تعالى إن إبراهيم لأواه حليم اختلفوا في معنى الأواه جاء في الحديث إن الأواه الخاشع المتضرع وقال عبد الله بن مسعود الأواه الدعاء وعن ابن عباس قال هو المؤمن التواب وقال الحسن وقتادة الأواه الرحيم بعباد الله وقال مجاهد الأواه الموقن وقال عكرمة هو المستيقن بلغة الحبشة وقال كعب الأحبار هو الذي يكثر التأوه وكان إبراهيم عليه السلام يكثر أن يقول أوه من النار قبل أن لا ينفع أوه وقيل هو الذي يتأوه من الذنوب وقال عقبة بن عامر الأواه الكثير الذكر لله تعالى وعن سعيد بن جبير قال الأواه المسبح وروي عنه الأواه المعلم للخير وقال النخعي هو الفقيه وقال عطاء هو الراجع عن كل ما يكره الله
وقال أيضا هو الخائف من النار وقال أبو عبيدة هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع يقينا يريد أن يكون تضرعه على يقين الإجابة ولزوم الطاعة قال الزجاج قد انتظم في قول أبي عبيدة أكثر ما قيل في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء والفعل منه أوه وتأوه والحليم الصفوح عمن سبه أو ناله بالمكروه كما قال لأبيه عند وعيده وقوله لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا سلام عليك سأستغفر لك ربي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال الحليم السيد قوله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم معناه ما كان الله ليحكم عليكم بالضلالة بترك الأوامر باستغفاركم للمشركين حتى يبين لهم ما يتقون يريد حتى يتقدم إليكم بالنهي فإذا تبين ولم تأخذوا به فعند ذلك تستحقون الضلال قال مجاهد بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين
332

سورة التوبة (116 117) خاصة وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة فافعلوا أو ذروا وقال الضحاك ما كان الله ليعذب قوما حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون وقال مقاتل والكلبي هذا في المنسوخ وذلك أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا ولم تكن الخمر حراما ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة ولا علم لهم بذلك ثم قدموا بعد ذلك المدينة فوجدوا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت فقالوا يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن ضلال فأنزل الله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم يعني ما كان الله ليبطل عمل قوم قد علموا بالمنسوخ حتى يبين لهم الناسخ إن الله بكل شيء عليم ثم عظم نفسه فقال إن الله له ملك السماوات والأرض يحكم بما يشاء يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير قوله عز وجل لقد تاب الله على النبي الآية تاب الله أي تجاوز وصفح ومعنى توبته على النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه وقيل افتتح الكلام به لأنه كان سبب توبتهم فذكره معهم كقوله تعالى فأن لله خمسه وللرسول ونحوه والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة أي في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش يسمى جيش العسرة والعسرة الشدة وكانت عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء قال الحسن كان العشرة منهم يخرجون على بعير واحد يعتقبونه يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهما أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم ولا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم وقال عمر ابن الخطاب خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا سنتقطع وحتى إن كان الرجل ليذهب فيلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله قال أتحب ذلك قال نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أقلت السماء فأظلت ثم سكبت فملؤا ما معهم من القرب ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر من بعدما كاد يزيغ قرأ حمزة وحفص يزيغ بالياء لقوله
333

كاد ولم يقل كادت وقرأ الآخرون بالتاء والزيغ الميل أي من بعد ما كادت تميل قلوب فريق منهم أي قلوب بعضهم ولم يرد الميل عن الدين بل أراد الميل إلى التخلف والانصراف للشدة التي عليهم قال الكلبي هم ناس بالتخلف ثم لحقوه ثم تاب عليهم فإن قيل كيف أعاد ذكر التوبة وقد قال في أول الآية لقد تاب الله على النبي قيل ذكر التوبة في أول الآية قبل ذكر الذنب وهو محض الفضل من الله عز وجل فلما ذكر الذنب أعاد ذكر التوبة والمراد منه قبولها إنه بهم رؤوف رحيم قال ابن عباس من تاب الله عليه لم يعذبه أبدا قوله عز وجل وعلى الثلاثة الذين خلفوا أي خلفوا من غزوة تبوك وقيل خلفوا أي أرجئ أمرهم عن توبة أبي لبابة وأصحابه وهؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كلهم من الأنصار أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن غزوة تبوك قال كعب لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت عن غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد الديوان قال كعب فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصغر فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا وأقول في نفسي أنا قادر عليه إذا أردت فلم يزل يتمادى بي الأمر حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ثم غدوت ثم رجعت لو أقض شيئا وأقول في نفسي أنا قادر عليه إذا أردت فلم يزل يتمادى بي الأمر حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفيه فقال
معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا إلا خيرا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو على ذلك رأى رجلا
334

مبيضا يزول به السراب فأقل رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون قال كعب بن مالك فلما بلغني أنه توجه قافلا من تبوك حضرني همي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك فقلت بلى يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه ثقلا إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى قط ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع وأكذب نفسي ثم قلت لهم هل لقي هذا معي أحد قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة حسنة فمضيت حين ذكروهما لي قال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلى فسلمت عليه فوالله ما رد علي السالم فقلت له يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار قال فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له نحوي حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فقرأته فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة
335

فالحق بنا نواسك فقلت لما قرأته وهذا أيضا من البلاء فتيممت به التنور فسجرته حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل فقال لا بل اعتزلها ولا تقربها وارسل إلى صاحبي بمثل ذلك فقلت لامرأتي إلحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال كعب فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربك قالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من امره ما كان إلى يومه هذا قال كعب فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله فينا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت لله ساجدا وعرفت أنه قد جاء فرج وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلى فرس وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنؤنني بالتوبة ويقولون لي ليهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قال قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال لا بل من عند الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال فقلت يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني ووالله ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت وأنزل الله على رسوله لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله وكونوا مع الصادقين وروى إسحاق بن راشد عن الزهري بهذا الإسناد عن كعب قال
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر وما من شيء أهم إلي من أن أموت ولا يصلي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني
336

التوبة (118 120) أحد منهم ولا يصلي علي وأنزل الله توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة وكانت أم سلمة محسنة في شأني معينة في أمري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم سلمة تيب على كعب قالت أفلا أرسل إليه فأبشره قال إذا يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليلة حتى إذا صلى صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا قوله تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت اتسعت وضاقت عليهم أنفسهم غما وهما وظنوا أي تيقنوا أن لا ملجأ من الله لا مفزع من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا أي ليستقيموا على التوبة فإن توبتهم قد سبقت إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال نافع مع محمد وأصحابه وقال سعيد بن جبير مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقال ابن جريج مع المهاجرين لقوله تعالى للفقراء المهاجرين إلى قوله أولئك هم الصادقون وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاص نية وقيل مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة وكان ابن مسعود يقرأ وكونوا مع الصادقين وقال ابن مسعود إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجز له إقرؤا إن شئتم هذه الآية قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ظاهره خبر ومعناه نهي كقوله تعالى وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ومن حولهم من الأعراب سكان البوادي مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار أن يتخلفوا عن رسول الله إذا غزا ولا يرغبوا أي ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه قال الحسن لا يرغبوا بأنفسهم
337

التوبة (121) عن أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب ذلك بأنهم لا يصيبهم في سفرهم ظمأ عطش ولا نصب تعب ولا مخمصة مجاعة في سبيل الله ولا يطئون موطئا أرضا يغيظ الكفار وطؤهم إياه ولا ينالون من عدو نيلا أي لا يصيبون من عدوهم قتلا أو أسرا أو غنيمة أو هزيمة إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا علي بن عبد الله حدثنا الوليد ين مسلم حدثنا يزيد بن أبي مريم حدثنا عبابة بن رفاعة قال أدركني أبو عبس وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار واختلفوا في حكم هذه الآية قال قتادة هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر فأما غيره من الأئمة والولاة فيجوز لمن شاء من المسلمين أن يتخلف عنه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة وقال الوليد بن مسلم سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها وقال ابن زيد هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله تعالى وأباح التخلف لمن يشاء فقال وما كان المؤمنون لينفروا كافة قوله تعالى ولا ينفقون نفقة أي في سبيل الله صغيرة ولا كبيرة ولو علاقة سوط ولا يقطعون واديا لا يجاوزون واديا في مسيرهم مقبلين أو مدبرين إلا كتب لهم يعني آثارهم وخطاهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون روي عن خريم بن فاتك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أنا جرير عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني عن أبي مسعود الأنصاري قال جاءنا رجل بناقة مخطومة فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا الحسين حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة حدثني بشر بن سعيد حدثني زيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف عازيا في سبيل الله في أهله بخير فقد غزا)
338

سورة التوبة (122) قوله عز وجل وما كان المؤمنون لينفروا كافة قال ابن عباس في رواية الكلبي لما أنزل اله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا فكان المسلمون ينفرون جميعا إلى الغزو ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم وحده فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهذا نفي بمعنى النهي قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة أي فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة ويبقى مع رسول الله جماعة ليتفقهوا في الدين يعني الفرقة القاعدين يتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام فإذا رجعت السرايا أخبروهم بما أنزل بعدهم فتمكث السرايا يتعلمون ما نزل بعدهم وتبعث سرايا أخر فذلك قوله ولينذروا قومهم وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به إذا إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون أن يجهلوا فلا يعملون بخلافه وقال الحسن هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة ومعناه هلا نفر فرقة ليتفقهوا أي ليتبصروا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد فيخبروهم بنصر الله رسوله والمؤمنين لعلهم يحذرون أن يعادوا النبي صلى الله عليه وسلم فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار وقال الكلبي لها وجه آخر وهو أن أحياء من بني أسد وخزيمة أصابتهم سنة شديدة فأقبلوا بالذراري حتى نزلوا المدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فنزل قوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة أي لم يكن لهم أن ينفروا كافة ولكن من كل قبيلة طائفة ليتفقهوا في الدين وقال مجاهد نزلت في ناس خرجوا في البوادي ابتغاء الخير من أهلها فأصابوا منهم معروفا ودعوا من وجدوا من أناس إلى الهدى فقال الناس لهم ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية أي هلا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين وليستمعوا ما أنزل بعدهم ولينذروا قومهم يعني الناس كلهم إذا رجعوا إليهم ويدعوهم إلى الله لعلهم يحذرون بأس الله ونقمته وقعدت طائفة يبتغون الخير أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو و الحسن الطيسفوني حدثنا عبد الله بن عمر الجوهري حدثنا أحمد بن علي الكشميني حدثنا علي بن حجر حدثنا إسماعيل بن جعفر حدثنا عبد الله بن أبي سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس
رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال حدثنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا والفقه هو معرفة أحكام الدين وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ففرض العين مثل
339

سورة التوبة (123 125) علم الطهارة والصلاة والصوم فعلى كل مكلف معرفته قال النبي صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واحد يجب عليه معرفتها ومعرفة علما مثل علم الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه وأما فرض الكفاية فهو أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث روى أبو امامة قال قال رسول الله فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله فقيه واحد أشد على الشيطان من الف عابد قال الشافعي طلب العلم أفضل من صلاة النافلة قوله عز وجل يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار الآية أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب قال ابن عباس رضي الله عنهما مثل بني قريظة والنضير وخيبر ونحوها وقيل أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام وكان الشام أقرب إلى المدينة من العراق وليجدوا فيكم غلظة شدة وحمية قال الحسن صبرا على جهادهم واعلموا أن الله مع المتقين بالعون والنصرة قوله تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم ن يقول أيكم زادته هذه إيمانا يقينا كان المنافقون يقولون هذا استهزاء قال الله تعالى فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا يقينا وتصديقا وهم يستبشرون يفرحون بنزول القرآن وأما الذين في قلوبهم مرض شك ونفاق فزادتهم رجسا إلى رجسهم أي كفرهم فعند نزول كل سورة ينكرونها يزداد كفرهم بها قال مجاهد هذه الآية إشارة إلى الإيمان يزيد وينقص وكان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول تعالوا حتى نزداد إيمانا وقال علي بن أبي طالب إن الإيمان يبدو لمعة بيضاء في القلب فكلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله وإن النفاق يبدو لمعة سوداء في القلب فكلما ازداد النفاق ازداد السواد حتى يسود القلب كله وأيم
340

سورة التوبة (126 128) الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود وماتوا وهم كافرون قوله أو لا يرون قرأ حمزة ويعقوب ترون بالتاء على خطاب النبي والمؤمنين وقرأ الآخرون بالياء خبر عن المنافقين المذكورين أنهم يفتنون يبتلون في كل عام مرة أو مرتين بالأمراض والشدائد وقال مجاهد بالقحط والشدة وقال قتادة بالغزو والجهاد وقال مقاتل بن حيان يفضحون بظهار نفاقهم وقال عكرمة ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون وقال يمان ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين ثم لا يتوبون من نقض العهد ولا يرجعون إلى الله من النفاق ولا هم يذكرون أي لا يتعظون بما يرون من تصديق وعد الله بالنصر والظفر للمسلمين وإذا ما أنزلت سورة فيها عيب المنافقين وتوبيخهم نظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب يقول بعضهم لبعض إشارة هل يراكم من أحد أي أحد من المؤمنين إن قمتم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أن أحدا يراهم أقاموا وثبتوا ثم انصرفوا عن الإيمان بها وقيل انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها صرف الله قلوبهم عن الإيمان قال أبو إسحاق الزجاج أضلهم الله مجازاة على فعلهم ذلك بأنهم قوم لا يفقهون عن الله دينه قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تقولوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم ولكن قولوا قد قضينا الصلاة قوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم تعرفون نسبه وحسبه قال السدي من العرب من بني إسماعيل قال ابن عباس ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم وله فيهم نسب وقال جعفر بن محمد الصادق لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية من زمان آدم عليه السلام أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أحمد بن محمد بن إبراهيم أنا الثعلبي أنا عبد الله بن حامد حدثنا حامد بن محمد أنا إبراهيم الشريحي أنا أحمد بن محمد بن إبراهيم أنا الثعلبي أنا عبد الله بن حامد حدثنا حامد بن محمد أنا علي بن عبد العزيز حدثنا محمد بن أبي نعيم حدثنا هشيم حدثني المدني يعني أبا معشر عن أبي الحويرث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام وقرأ ابن عباس والزهري وابن محيصن من أنفسكم بفتح الفاء
341

سورة التوبة (129) أي من أشرفكم وأفضلكم عزيز عليه شديد عليه ما عنتم قيل ما صلة أي عنتكم وهو دخول المشقة والمضرة عليكم وقال القتيبي ما أعنتكم وضركم وقال ابن عباس رضي الله عنهما ما ضللتم وقال الضحاك والكلبي ما أتممتم حريص عليكم أي على إيمانكم وصلاحكم وقال قتادة حريص عليكم أي على ضالكم أن يهديه الله بالمؤمنين رؤوف رحيم قيل رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين فإن تولوا إن أعرضوا عن الإيمان وناصبوك فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم روي عن أبي بن كعب قال آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتانلقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر السورة وقال هما أحدث الآيات بالله عهدا سورة يونس سورة يونس عليه الصلاة والسلام مكية إلا ثلاث آيات من قوله فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك إلى آخرها بسم الله الرحمن الرحيم سورة يونس (1) الر والمر قرأ أهل الحجاز والشام وحفص بفتح الراء وقرأ الآخرون بالإمالة قال ابن عباس والضحاك الر أنا الله أرى والمر أنا الله أعلم وأرى وقال سعيد بن جبير الر وحم ون حروف اسم الرحمن وقد سبق الكلام في حروف التهجي تلك آيات الكتاب الحكيم أي هذه وأراد بالكتاب الحكيم القرآن وقيل أراد بها الآيات التي أنزلها من قبل ذلك ولذلك قال تلك وتلك إشارة إلى غائب مؤنث والحكيم المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام فعيل بمعنى مفعل بدليل قوله كتاب أحكمت آياته وقيل هو بمعنى الحاكم فعيل بمعنى فاعل دليله قوله عز وجل وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس وقيل هو بمعنى المحكوم فعيل بمعنى المفعول قال الحسن حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وبالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه
342

سورة يونس (2 4) قوله تعالى أكان للناس عجبا العجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة وسبب نزول الآية أن الله عز وجل لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا قال المشركون الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فقال تعالى أكان للناس يعني أهل مكة الألف فيه للتوبيخ عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم يعني
محمدا صلى الله عليه وسلم أن أنذر الناس أي أعلمهم مع التخويف وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم واختلفوا فيه قال ابن عباس أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم قال الضحاك ثواب صدق وقال الحسن عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال هو السعادة في الذكر الأول وقال زيد بن أسلم هو شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال عطاء مقام صدق لا زوال ولا بؤس فيه وقيل منزلة رفيعة وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقولهم مسجد الجامع وحب الحصيد وقال أبو عبيدة كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم يقال لفلان قدم في الإسلام وله عندي قدم صدق وقدم سوء وهو يؤنث فيقال قدم صالحة قال الكافرون إن هذا لساحر مبين قرأ نافع وأهل البصرة والشام لسحر بغير ألف يعنون القرآن وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة لساحر بالألف يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم قوله عز وجل إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر يقضيه وحده ما من شفيع إلا من بعد إذنه معناه أن الشفعاء لا يشفعون إلا بإذنه وهذا رد على النضر بن الحارث فإنه كان يقول إذا كان يوم القيامة تشفعني اللات والعزى قوله تعالى ذلكم الله ربكم يعني الذي فعل هذه الأشياء ربكم لا رب لكم سواه فاعبدوه أفلا تذكرون تتعظون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا صدقا لا خلف فيه نصب على المصدر أي وعدكم وعدا حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده أي يحييهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم قراءة العامة إنه
343

سورة يونس (5 7) بكسر الألف على الاستئناف وقرأ أبو جعفر أنه بالفتح على معنى بأنه أو لأنه ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط بالعدل والذين كفروا لهم شراب من حميم ماء حار انتهى حره وعذاب أليم بما كانوا يكفرون هو الذي جعل الشمس ضياء بالنهار والقمر نورا بالليل وقيل جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور وقدره منازل أي قدر له يعني هيأ له لا يجاوزها ولا يقصر دونها ولم يقل قدرهما قيل تقدير المنازل ينصرف إليهما غير أنه اكتفى بذكر أحدهما كما قال والله ورسوله أحق أن يرضوه وقيل هو ينصرف إلى القمر خاصة لأن القمر يعرف به انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلا واسماؤها الشرطين والبطين والثرياء والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنسر والطوف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك والغفر والزاباني والإكليل والقلب والشولة والنعايم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلغ وسعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الدلو المقدم وفرغ الدلو المؤخر وبطن الحوت وهذه المنازل مقسومة على البروج وهي اثنا عشر برجا الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت فلكل برج منزلان وثلث منزل فينزل القمر كل ليلة منزلا منها ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين وإن كان تسعا وعشرين فليلة واحدة فيكون تلك المنازل ويكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوما وثلث يوم فيكون انقضاء السنة مع انقضائها قوله تعالى لتعلموا عدد السنين أي] قدر المنازل لتعلموا عدد السنين دخولها وانقضاءها والحساب يعني حساب الشهور والأيام والساعات ما خلق الله ذلك رده إلى الخلق والتقدير ولو رده إلى الأعيان المذكورة لقال تلك إلا بالحق أي لم يخلقه باطلا بل اظهارا لصنعة ودلالة على قدرته يفصل الآيات لقوم يعلمون قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب يفصل بالياء لقوله ما خلق وقرأ الباقون نفصل بالنون على التعظيم إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون يؤمنون إن الذين لا يرجون لقاءنا أي لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا والرجاء يكون بمعنى الخوف
344

سورة يونس (8 11) والطمع ورضوا بالحياة الدنيا فاختاروها وعملوا لها واطمأنوا بها سكنوا إليها والذين هم عن آياتنا غافلون أي عن أدلتنا غافلون لا يعتبرون وقال ابن عباس رضي الله عنهما عن آياتنا عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن غافلون معرضون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون من الكفر والتكذيب قوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم فيه إضمار أي يرشدهم ربهم بإيمانهم إلى جنة تجري من تحتهم الأنهار قال مجاهد يهديهم على الصراط إلى الجنة يجعل لهم نورا يمشون به وقيل يهديهم معناه يثيبهم ويجزيهم وقيل معناه بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه أي بتصديقهم هداهم تجري من تحتهم الأنهار أي بين أيديهم كقوله عز وجل قد جعل ربك تحتك سريا لم يرد به أنه تحتها وهي قاعدة عليه بل أراد بين يديها وقيل تجري من تحتهم أي بأمرهم في جنات النعيم دعواهم أي قولهم وكلامهم وقيل دعاؤهم فيها سبحانك اللهم وهي كلمة تنزيه تنزه الله من كل سوء وروينا أن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس قال أهل التفسير هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا أرادوا الطعام قالوا سبحانك اللهم فأتوهم في الوقت بما يشتهون على الموائد كل مائدة ميل في ميل على كل مائدة سبعون ألف صحفة وفي كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضا فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله فذلك قوله تعالى وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين قوله تعالى وتحيتهم فيها سلام أي يحي بعضهم بعضا بالسلام وقيل تحية الملائكة لهم بالسلام وقيل تأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين يريد يفتتحون كلامهم بالتسبيح ويختمونه بالتحميد قوله عز وجل ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير قال ابن عباس هذا في قول الرجل عند الغضب لأهله وولده لعنكم الله ولا بارك فيكم قال قتادة هو دعاء الرجل على نفسه وأهله وماله بما يكره أن يستجاب معناه لو يعجل الله الناس إجابة دعائهم في الشر والكروه استعجالهم بالخير أي
345

سورة يونس (12 14) كما يحبون استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم قرأ ابن عامر ويعقوب لقضى بفتح القاف والضاد أجلهم نصب أي لأهلك من دعى عليه وأماته وقال الآخرون لقضي بضم القاف وكسر الضاد أجلهم رفع أي لفرغ من هلاكهم وماتوا جميعا وقيل إنها نزلت في النضر بن الحارث حين قال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء يدل عليه قوله عز وجل فنذر الذين لا يرجون لقاءنا لا يخافون البعث والحساب في ظغيانهم يعمهون أخبرنا أحمد بن عبد الله الصلاحي أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار أنبأنا أحمد بن منصور الزيادي حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر فيصدر مني ما يصدر من البشر فأي المؤمنين آذنته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة قوله تعالى وإذا مس الإنسان الضر الجهد والشدة دعانا لجنبه أي على جنبه مضطجعا أو قاعدا أو قائما يريد في جميع حالاته لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات فلما كشفنا دفعنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه أي استمر على
طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء كأنه لم يدعنا إلى ضر مسه أي لم يطلب منا كشف ضر مسه كذلك زين للمسرفين المجاوزين الحد في الكفر والمعصية ما كانوا يعلمون من العصيان قال ابن جريج كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون من الدعاء عند البلاء وترك الشكر عند الرخاء وقيل معناه كما زين لكم أعمالكم كذلك زين للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم قوله عز وجل ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك أي كما أهلكناهم بكفرهم نجزي نعاقب ونهلك القوم المجرمين الكافرين بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم يخوف كفار مكة بعذاب الأمم الخالية المكذبة ثم جعلناكم خلائف أي خلفاء في الأرض من بعدهم أي من بعد القرون التي أهلكناهم لننظر كيف تعملون وهو أعلم بهم وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
346

سورة يونس (15 17) قال ألا إن هذه الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون قوله عز وجل وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال قتادة يعني مشركي مكة وقال مقاتل هم خمسة نفر عبد الله ابن أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص وعمرو بن عبيد الله بن أبي قيس العامري والعاص بن عامر بن هشام قال الذين لا يردون لقاءنا ثم السابق ذكرهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت تريد أن نؤمن بك إئت بقرآن غير هذا ليس قيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وليس فيه عيبها وإن لم ينزلها الله فل أنت من عند نفسك أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة أو مكان حراما حلالا أو مكان حلالا حراما قل لهم يا محمد ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي من قبل نفسي إن أتبع إلا ما يوحي إلي أي ما أتبع إلا ما يوحي إلي فيما آمركم به وأنهاكم عنه إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم يعني لو شاء الله ما أنزل القرآن علي ولا أدراكم به أي ولا أعلمكم الله قرأ البزي عن ابن كثير ولأدراكم به بالقصر به على الإنجاب يريد ولا علمكم به من غير قراءتي عليكم وقرأ ابن عباس ولا أنذرتكم به من الإنذار فقد لبثت فيكم عمرا حينا وهو أربعون سنة من قبله من قبل نزول القرآن ولم آتكم بشيء أفلا تعقلون أنه ليس من قبلي ولبث النبي صلى الله عليه وسلم قيهم قبل الوحي أربعين سنة ثم أوحى الله إليه فأقام بمكة بعد الوحي ثلاثة عشرة سنة ثم هادر فأقام بالمدينة عشر سنين وتوفي وهو ابن ستين سنة والأول أشهر وأظهر قوله تعالى فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا فزعم أن له شريكا أو ولدا أو كذب بآياته بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وإنه لا يفلح المجرمون لا ينجو المشركون
347

سورة يونس (18 21) ويعبدون من دون الله مالا يضرهم إن عصوه وتركوا عبادته ولا ينفعهم إن عبدوه يعني الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله أتخبرون الله بما لا يعلم الله صحته ومعنى الآية أتخبرون الله أن له شريكا وعنده شفيعا بغير إذنه ولا يعلم الله لنفسه شريكا في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون قرأ حمزة والكسائي تشركون بالتاءها هنا وفي سورة النحل موضعين وفي سورة الروم وقرأ الآخرون كلها بالياء قوله تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة أي على الإسلام وقد ذكرنا الاختلاف فيه في سورة البقرة فاختلفوا وتفرقوا إلى مؤمن وكافر ولولا كلمة سبقت من ربك بأن جعل لكل أمة أجلا وقال الكلبي هي إمهال هذه الأمة وأنه لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا لقضي بينهم بنزول العذاب وتعجيل العقوبة للمكذبين وكان ذلك فصلا بينهم فيما فيه يختلفون وقال الحسن ولولا كلمة سبقت من ربك مضت في حكمه أنه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضي بينهم في فأدخل المؤمن الجنة والكافر النار ولكنه سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة ويقولون يعني أهل مكة لولا أنزل عليه أي على محمد صلى الله عليه وسلم آية من ربه على ما نقترحه فقل إنما الغيب لله يعني قل إنما سألتموني الغيب وإنما الغيب لله لا يعلم أحد لم لم يفعل ذلك ولا يعلمه إلا هو وقيل الغيب نزول الآية لا يعلم متى ينزل أحد غيره فانتظروا نزولها إني معكم من المنظرين وقيل فانتظروا قضاء الله بيننا بالحق بإظهار المحق على المبطل قوله عز وجل وإذا أذقنا الناس يعني الكفار رحمة من بعد ضراء أي راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء وقيل القطر بعد القحط مستهم أي أصابتهم إذا لهم مكر في
348

سورة يونس (22 23) آياتنا قال مجاهد تكذيب واستهزاء وقال مقاتل بن حيان لا يقولون هذا من رزق لله إنما يقولون سعينا بنوء كذا وهو قوله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قل الله اسرع مكرا أعدل عقوبة وأشد أخذا وأقدر على الجزاء يريد عذابه في إهلاككم أسرع إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق إن رسلنا حفظتنا يكتبون ما تمكرون قرأ روح عن يعقوب يمكرون بالياء قوله تعال هو الذي يسيركم يجريكم ويحملكم وقرأ أبو جعفر وابن عامر ينشركم بالنون والشين من النشر وهو البسيط والبث في البر على ظهور الدواب و في البحر على الفلك حتى إذا كنتم في الفلك أي في السفن تكون واحدا وجمعا وجرين بهم يعني جرت السفن بالناس رجع من الخطاب إلى الغيبة بريح طيبة لينة وفرحوا بها أي بالريح جاءتها ريح أي جاءت الفلك ريح عاصف شديدة الهبوب ولم يقل ريح عاصفة لاختصاص الريح بالعصوف وقيل الريح يذكر ويؤنث وجاءهم يعني ركبان السفينة الموج وهو حركة الماء واختلاطه من كل مكان وظنوا أيقنوا أنهم أحيط بهم دنوا من الهلكة أي أحاط بهم الهلاك دعوا الله مخلصين له الدين أي أخلصوا في الدعاء لله ولم يدعوا أحدا سوى الله وقالوا لئن أنجيتنا يا رينا من هذه الريح العاصف لنكونن من الشاكرين لك بالإيمان والطاعة فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله عز وجل في الأرض بعير الحق أي بالقتال يا أيها الناس إنما بعيكم على أنفسكم لأن وباله راجع عليها ثم ابتدأ فقال متاع الحياة الدنيا أي هذا متاع الحياة الدنيا خبر ابتداء مضمر كقوله لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ أي هذا بلاغ وقيل هو كلام متصل والبغي ابتداء ومتاع خبره ومعناه إنما بعيكم متاع الحياة الدنيا لا يصلح زادا لمعاد لأنكم تستوجبون به غضب الله وقرأ حفص
349

سورة يونس (24 25) متاع بالنصب أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعلمون) قوله عز وجل إنما مثل الحياة الدنيا في فنائها وزوالها كماء أنزلناه من السماء فاختلط به أي بالمطر نبات الأرض قال بان عباس نبت بالماء من كل لون مما يأكل الناس من الحبوب والثمار من الحشيش حتى إذا أخذت الأرض زخرفها حسنها وبهجتها وظهر الزهر أخضر وازينت أي تزينت وكذلك هي في قراءة ابن مسعود تزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها على جذاذها وقطافها وحصادها رد
الكناية إلى الأرض والمراد النبات إذ كان مفهوما وقيل ردها إلى الغلة وقيل إلى الزينة أتاها أمرنا قضاؤنا بإهلاكها ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا أي محصورة مقطوعة كأن لم تغن بالأمس كأن لم تكن بالأمس وأصله من غني بالمكان إذا أقام به وقال قتادة معناه إن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون قوله تعالى والله يدعو إلى دار السلام قال قتادة السلام هو الله وداره الجنة وقيل السلام بمعنى السلامة سميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات وقيل المراد بالسلام التحية سميت الجنة دار السلام لأن أهلها يحي بعضهم بعضا بالسلام والملائكة تسلم عليهم قال الله تعالى والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم وروينا عن جابر قال جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا قال بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يدل الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولها له يفقهها قال بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا الدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فالصراط المستقيم هو الإسلام عم بالدعوة لإظهار الحجة وخص بالهداية استغناء عن الخلق
350

سورة يونس (26 28) قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة أي للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنة وزيادة وهي النظر إلى وجه الله الكريم هذا قول جماعة من الصحابة منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وحذيفة وأبو موسى وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم وهو قول الحسن وعكرمة وعطاء ومقاتل والضحاك والسدي أخبرنا أبو سعيد أحمد بن العباس الحميدي أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ أنبأنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم إملاء حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصنعاني حدثنا الأ ود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت يعني البناني عن عبد الرحمن بن أ [ي ليلى عن صهيب رضي الله عنه قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال إذا جخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى ناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه قالوا ما هذا الموعد ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه الله عز وجل قال فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إليه وروي عن ابن عباس أن الحسنى هي أن الحسنة بمثلها والزيادة هي التضعيف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وقال مجاهد الحسنى حسنة مثل حسنة والزيادة هي التضعيف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وقال مجاهد الحسنى حسنة مثل حسنة والزيادة المغفرة والرضوان ولا يرهق لا يغشى وجوههم قتر غبار جمع قترة قال ابن عباس وقتادة سواد الوجه ولا ذلة هوان قال قتادة كآبة قال ابن أبي ليلى هذا بعد نظرهم إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها أي لهم مثلها كما قال ومن جاء بالسيئة فلا يجرزى إلا مثلها وترهقهم ذلة مالهم من الله من عاصم ومن صلة أي مالهم من الله عاصم كأنما أغشيت ألبست وجوههم قطعا جمع قطعة من الليل مظلما ننصبه على الحال دون النعت ولذلك لم يقل مظلمة تقديره قطعا من الليل في حال ظلمته أو قطعا من الليل المظلم وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب قطعا ساكنة الطاء أي بعضا كقوله بقطع من الليل أولئك أصحاب النار هم فهيا خالدون قوله تعالى ويو نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أي الزموا مكانكم أنتم
351

سورة يونس (29 32) وشركاؤكم يعني الأوثان معناه ثم نقول للذين أشركوا الزموا أنتم وشركاؤكم مكانكم ولا تبرحوا فزيلنا ميزنا وفرقنا بينهم أي بين المشركين وشركائهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا وذلك حين يتبرأ كل معبود من دون الله ممن عبده وقال شركاؤهم يعني الأصنام ما كنتم إيانا تعبدون بطلبتنا فيقولون بلى كنا نعبدكم فتقول الأصنام فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين أي ما كنا عن عبادتكم إيانا إلا غافلين ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل قال الله تعالى هنالك تبلوا أي تختبر وقيل معناه تعلم وتقف عليه وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب تتلو بتائين أي تقرأ كل نفس صحيفتها وقيل معناه تتبع كل نفس ما أسلفت ما قدمت من خير أو شر وقيل معناه تعاين وردوا إلى الله إلى حكمه فيتفرد فيهم بالحكم مولاهم الحق الذي يتولى ويملك أمرهم فإن قيل أليس قد قال وأن الكافرين لا مولى لهم قيل المولى هناك هو الناصر وههنا بمعنى المالك وضل عنهم زال عنهم وبطل ما كانوا يفترون في الدنيا من التكذيب قوله تعالى قل من يرزقكم من السماء والأرض أي من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات أم من يملك السمع والأبصار أي من إعطائكم السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج أمليت من الحي يخرج الحي من النطفة والنطفة من الحي ومن يدبر الأمر أي يقضي الأمر فسيقولون الله هو الذي يفعل هذه الأشياء فقل أفلا تتقون أفلا تخافون عقابه في شرككم وقيل أفلا تتقون الشرك مع هذا الإقرار فذلكم الله ربكم الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون أي فأين تصرفون عن عبادته وأنتم مقرون به
352

سورة يونس (33 35) كذلك قال الكلبي هكذا حقت وجبت كلمة ربك حكمه السابق على الذين فسقوا كفرا أنهم لا يؤمنون قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر كلمات ربك بالجمع ههنا موضعين وفي المؤمن والآخرون على التوحيد قوله قل هل من شركائكم أوثانكم من يبدؤا الخلق ينشئ الخلق من غير أصل ولا مثلا ثم يعيده ثم يحييه من الموت كهيئته فإن أجابوك وإلا ف قل أنت الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون أي تصرفون عن قصف السيل قل هل من شركائكم من يهدي يرشد إلى الحق فإذا قالوا لا ولا بد لهم من ذلك قل الله يهدي للحق أي إلى الحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى قرأ حمزة والكسائي ساكنة الهاء خفيفة الدال وقرأ الآخرون بتشديد الدال ثم قرأ أبو جعفر وقالون بسكون الهاء وأبو عمرو يروم الهاء بين الفتح والسكون وقرأ حفص بفتح الياء وكسر الياء وأ [و بكر بكسهرما والباقون بفتحهما ومعناه يهدي في جميعها فمن خالف الدال قال يقال هديته فهدي أي اهتدى ومن شدد الدال أدغم التاء في الدال ثم أبو عمرو يروم على مذهبه في إيثار التخفيف ومن سكن الهاء تركها على حالتها كما فعل في تعدوا ويخصمون ومن فتح الهاء نقل فتحة الهاء المدغمة إلى الهاء ومن كسر الهاء فلالتقاء الساكنين وقال الجزم يحرك إلى الكسر ومن كسر الياء مع الهاء أتبع الكسر إلى الكسرة قوله تعالى إلا أن يهدى معنى الآية الله البذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع أم الصنم الذي لا يهتدي إلا أن يهدى فإن قيل كيف
قال إلا أن يهدى والصنم لا يتصور أن يهتدي ولا أن يهدى قيل معنى الهداية في حق الأصنام الانتقال أي أنها لا تنتقل من مكان إلى مكان إلا أن تحمل وتنقل بين به عجز الأصنام وجواب آخر وهو أن ذكر الهداية على وجه المجاز وذلك أن المشركين لما اتخذوا الأصنام آلهة وأنزلوها منزلة من يسمع ويعقل عبر عنها بما يعبر عمن يعلم ويعقل ووصفت بصفة من يعقل فما لكم كيف تحكمون كيف تقضون حين زعمتم أن الله شريكا
353

سورة يونس (37 40) قوله تعالى (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) منهم يقولون إن الأصنام آلهة وإنها تشفع لهم في الآخرة ظنا منهم لم يرد به كتاب ولا رسول وأراد بالأكثر جميع من يقول ذلك (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) أي لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئا وقيل يقوم مقام العلم (إن الله عليم بما يفعلون) 37 قوله تعالى (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) قال الفراء معناه وما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله كقوله تعالى (وما كان لنبي أن يغل) وقيل (أن) بمعنى اللام أي وما كان هذا القرآن ليفترى من دون الله قوله (ولكن تصديق الذي بين يديه) أي بين يدي القرآن من التوراة والإنجيل وقيل تصديق الذي بين يدي القرآن من القيامة والبعث (وتفصيل الكتاب) تبيين ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والأحكام (لا ريب فيه من رب العالمين) 38 (أم يقولون) قال أبو عبيدة (أم) بمعنى الواو أي ويقولون (افتراه) اختلق محمد القرآن من قبل نفسه (قل فأتوا بسورة مثله) شبه القرآن (وادعوا من استطعتم) ممن تعبدون (من دون الله) ليعينوكم على ذلك (إن كنتم صادقين) أن محمدا افتراه ثم قال 39 (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) يعني القرآن كذبوا به ولم يحيطوا بعلمه (ولما يأتهم تأويله) أي عاقبة ما وعد الله في القرآن أنه يؤول إليه أمرهم من العقوبة يريد أنهم لم يعلموا ما يؤول إليه عاقبة أمرهم (كذلك كذب الذين من قبلهم) أي كما كذب هؤلاء الكفار بالقرآن كذلك كذب الذين من قبلهم من كفار الأمم الخالية (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) آخر أمر المشركين بالهلاك 40 (ومنهم من يؤمن به) أي من قومك من يؤمن القرآن (ومنهم من لا يؤمن به) لعلم الله السابق فيهم (وربك أعلم بالمفسدين) الذين لا يؤمنون
354

سورة يونس (41 45) وإن كذبوك يا محمد فقل لي علي وجزاؤه ولكم عملكم وجزاؤه أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون هذا كقوله تعالى لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لكم دينكم ولي دين قال الكلبي ومقاتل هذه الآية منسوخة بآية الجهاد ثم أخبر أن التوفيق للإيمان به لا بغيره فقال ومنهم من يستمعون إليك بأسماعهم الظاهرة فلا ينفعهم أفأنت تسمع الصم يريد صمم القلب ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك بأبصارهم الظاهرة أفأنت تهدي العمي يريد عمى القلب ولو كانوا لا يبصرون وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول إنك لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع ولا أن تهدي من سلبته البصر ولا أن توفق للإيمان من حكمت عليه أن لا يؤمن إن الله لا يظلم الناس شئيا لأنه في جميع أفعاله متفضل عادل ولكن الناس أنفسهم يظلمون بالكفر والمعصية قرأ حمزة والكسائي ولكن الناس بتخفيف نون لكن ورفع الناس وقرأ الباقون ولكن الناس بتشديد نون لكن ونصب الناس قوله تعالى ويوم يحشرهم قرأ حفص بالياء والآخرون بالنون كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار قال الضحاك كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار وأقل ابن عبسا كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار يتعارفون بينهم يعرف بعضهم بعضا حين بعثوا من القبور كمعرفتهم في الدنيا ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة وفي بعض الآثار أن الإنسان يعرف يوم القيامة من بجنبه ولا يكلمه هيبة وخشية قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين والمراد من الخسران خسران النفس ولا شيء أعظم منه
355

سورة يونس (46 50) قوله تعالى وإما نرينك بعض الذي نعدهم يا محمد في حياتك من العذاب أو نتوفينك قبل تعذيبهم فإلينا مرجعهم في الآخرة ثم الله شهيد على ما يفعلون فيجزيهم به ثم بمعنى الواو تقديره والله شهيد قال مجاهد فكان البعض الذي أراه قتلهم ببدر وسائر أنواع العذاب بعد موتهم قوله عز وجل وللك مة خلت رسول فإذا جاء رسولهم وكذبوه قضي بينهم بالقسط أي عذبوا ف الدنيا وأهلكوا بالعذاب يعني قبل مجيء الرسول لا ثواب ولا عقاب وقال مجاهد ومقاتل فإذا جاء رسولهم الذي أرسل إليهم يوم القيامة قضي بينه وبينهم بالقسط وهم لا يظلمون لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ويقولون أي المشركون متى هذا الوعد الذي تعدنا يا محمد من العذاب وقل قيام الساعة إن كنتم صادقين أنت يا محمد وأتباعك قل لا أملك لنفس لا أقدر لها على شيء ضرا ولا نفعا أي دفع ضر ولا جلب نفع إلا ما شاء الله أن أملكه لك لأمة أجل مدة مضروبة إذا جاء أجلهم وقت فناء أعمارهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون أي لا يتأخرون ولا يتقدمون قوله تعالى قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا ليلا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون أي ماذا يستعجل من الله المشركون وقيل ماذا يستعجل من العذاب المجرمون وقد وقعوا فيه وحقيقة المعنى أنهم كانوا يستعجلون العذاب فيقولون اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فيقول الله تعالى ما يستعجل يعني ليس يعلم المجرمون ماذا يستعجلون ويطلبون كالرجل يقول لغيره وقد فعل قبيحا ماذا جنيت على نفسك
356

سورة يونس (51 56) أثم إذا ما وقع قيل معناه أهنالك وحينئذ وليس بحرف عطف إذا ما وقع نزل العذاب آمنتم به أي بالله في وقت اليأس وقيل امنتم به أي صدقتم بالعذاب وقت نزوله الآن فيه إضمار أي قال لكم آلآن بؤمنون حين وقع العذاب وقد كنتم به تستعجلون تكذيبا واستهزاء قرأ ورش عن نافع الآن بحذف الهمزة التي بعد اللام الساكنة وإلقاء حركتها على اللام ويمد الهمزة الأولى على وزن عالان وكذلك الحرف الآخر وروى زمعة بن صالح الان على مثل علان بغير مد ولا همزة بعد الألم وقرأ الباقون الان بهمزة ممدودة في الأول وإثبات همزة بعد اللام وكذلك قالون وإسماعيل عن نافع ثم قيل للذين ظلموا أشركوا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون في الدنيا ويستنبؤنك أي يستخبرونك يا محمد أحق هو أي ما تعدنا من العذاب وقيام الساعة قل إي وربي أي نعم وربي إنه لحق لا شك فيه وما أنتم بمعجزين أي بفائتين من العذاب لأن من عجز عن شيء فقد فاته ولو أن لكل نفس ظلمت أي أشركت ما في الأرض لافتدت به يوم القيامة والافتداء ههنا بذل ما ينجو به من العذاب وأسروا الندامة قال أبو عبيدة معناه أظهروا الندامة لأنه ليس ذلك اليوم يوم تصبر وتصنع وقيل معناه أخفوا أي أخفي الرؤساء الندامة من الضعفاء خوفا من ملامتهم وتعبيرهم لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط فرغ من عذابهم وهم لا يظلمون إلا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحي
ويميت وإليه ترجعون
357

سورة يونس (57 60) قوله تعالى يا أيها الناس قد جائتكم موعظة تذكرة من ربكم وشفاء لما في الصدور أي دواء لما في الصدور من داء الجهل وقيل لما في الصدور أي شفاء لعمى القلوب والصدر موضع القلب وهو أعز موضع في الانسان لجوار القلب وهدى من الضلالة ورحمة للمؤمنين والرحمة هي النعمة على المحتاج فإنه لو اهدى ملك إلى ملك شيئا لا يقال قد رحمه وإن كان ذلك نعمة فإنه لم يضعها في محتاج قوله تعالى قد بفضل الله وبرحمته قال مجاهد وقتادة فضل الله الإيمان ورحمته القرآن وقال أ [و سعيد الخدري فضل الله القرآن ورحمته أن جعلنا من أهله وقال ابن عمر فضل اله الإسلام رحمته تزيينه في القلب وقال خالد بن معدان فضل الله الإسلام ورحمته السنن وقيل فضل الله الإيمان ورحمته الجنة فبذلك فليفرحوا أي ليفرح المؤمنون أن جعلهم الله من أهله هو خير مما يجمعون أي مما يجمعه الكفار من الأموال وقيل كلاهم خير عن الكفار وقيل عن المؤمنين وقرأ أبو جعفر وابن عامر فليفرحوا بالياء وتجمعون بالتاء وقرأ يعقوب كلاهما بالتاء ووجه هذه القراءة أن المراد فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما يجمعونه من الأموال مختلف عنه خطابا للمؤمنين قل يا محمد لكفار مكة أرأيتم ما أنزل الله لمم من رزق عبر عن الخلق بالإنزال لأن ما في الأرض من خير فما أنزل الله من رزق من زرع وضرع فجعلتم منه حراما وحلالا هو ما حرموا من الحرث ومن الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة الحامي قال الضحاك هو قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا قل الله أذن لكم في هذا التحريم والتحليل أم بل على الله تفترون وهو قولهم والها أمرنا بها وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به ولا يعاقبهم عليه إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون
358

سورة يونس (61 63) قوله عز وجل وما تكون يا محمد في شأن عمل من الأعمال وجمعه شؤون وما تتلوا منه من الله من قرآن نازل وقيل منه أي من الشأن من قرآن نزل فيه ثم خاطبه وأمته فقال ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه أي تدخلون وتخوضون فيه الهاء عائدة إلى العمل والإفاضة الدخول في العمل وقال بان الأنباري تندفعون فيه وقيل يعزب بكسر الزي وكذلك في سورة سبأ وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان من مثقال ذرة أي مثقال ذرة من صلة والذرة هي النملة الحمراء الصغيرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك أي من الذرة ولا أكبر قرأ حمزة ويعقوب برفع الراء فيهما عطفا على موضع المثقال قبل دخول من وقرأ الآخرون بنصيبها أراد للكسر عطفا على الذرة في الكسر إلا في كتاب مبين وهو اللوح المحفوظ قوله تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اختلفوا فيمن يستحق هذا الاسم قال بعضهم هم الذين ذكرهم الله فقال الذين آمنوا وكانوا يتقون وقال قوم هم المتحابون في الله أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أبي حسين عن شهربن حوشب عن أبي مالك الأشعري قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون ولا شهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة قال وفي ناحية القوم أعرابي فجثا على ركبتيه ورمى بيديه ثم قال حدثنا يا رسول الله عنهم من هم قال فرأيت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم البشر فقال هم عباد من عباد الله من بلدان شتى لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ولا دنيا يتبادلون بها يتحابون بروح اله يجعل الله وجوههم نورا ويجعل لهم مناب رمن لؤلؤ قدام الرحمن يفزع الناس ولا يفزعون ويخاف الناس ولا يخافون ورواه عبد الله بنم المبارك عن عبد الحميد بن بهرام قال حدثنا شهر بن حوشب حدثني عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله فقال الذين إذا
359

سورة يونس (64 65) رؤوا ذكر الله ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى إن أوليائي من عبادي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة اختلفوا في هذه البشرى روى عن عبادة بن الصامت قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا قال هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبو السمان حدثنا شعيب عن الزهري حدثني سعيد ين المسيب أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة وقيل البشرى في الدنيا هي الثناء الحسن وفي الآخرة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرزاق بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي حدثنا علي بن الجعد أنا شعبة عن أبي عمران الجوفي قال سمعت عبد الله بن الصامت قال قال أبو ذر يا رسول الله الرجل يعمل لنفسه ويحبه الناس قال تلك عاجل بشرى المؤمن وأخرج مسلم بن الحجاج هذا الحديث عن يحيى بن يحيى عن حماد بن زيد عن أبي عمران وقال ويحمده الناس عليه وقال الزهري وقتادة هي نزول الملائكة بالبشرة من الله تعال عند الموت قال الله تعالى تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون وقال عطاء عن ابن عباس البشري في الدنيا عند الموت تأتيهم الملائكة بالبشارة وفي الآخرة عند خروج أنفس المؤمن من يعرج بها إلى الله ويبشر برضوان الله وقال الحسن هي ما بشر الله المؤمنين في كتابه من جنته وكريم ثوابه كقوله وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبشر المؤمنين وأبشروا بالجنة وقيل بشرهم في اجنيا بالكتاب والرسول أنهم أولياء الله ويبشرهم في القبور وفي كتب أعمالهم بالجنة لا تبديل لكلمات الله لا تغير لقوله ولا خلف لوعده ذلك هو الفوز العظيم ولا يحزنك قولهم يعني قول المشركين قرأ نافع ولا يحزنك بضم الياء وكسر الزاي وقرأ الآخرون يحزنك بفتح الياء وضم الزاي وهما لغتان يقال حزنه الشئ يحزنه وأحزنه بم الكلام ههنا ثم ابتدأ فقال إن العزة لله يعني الغلبة والقدرة لله جميعا هو ناصرك وناصر دينك والمنتقم منهم قال سعيد بن المسيب إن العزة لله جميعا يعني أن الله يعز من يشاء كما قال في
360

سورة يونس (66 70) آية أخرى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وعزة الرسول والمؤمنين بالله فهي كلها لله هو السميع العليم ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء هو إما استفهام معناه وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء وقيل وما يتبعون حقيقة لأنهم يعبدونها على ظن أنهم شركاء فيشفعون لنا وليس على ما يظنون إن يتبعون إلا الطن يظنون أنها تعبهم إلى الله وإن هم إلا يخرصون يكذبون هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار
مبصرا مضيئا يبصر فيه كقولهم ليل نائم وعيشة راضية قال قطرب تقول العرب أظلم الليل وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ظلمة وضياء وبصر إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون سمع الاعتبار أنهما لا يقدر عليه إلا عالم قادر قالوا يعني المشركين اتخذ الله ولدا وهو قولهم الملائكة بنات الله سبحانه هو الغني عن خلقه له ما في السماوات وما في الأرض عبيدا وملكا إن عندكم ما عندكم من سلطان حجة وبرهان من صلة تقديره ما عندكم سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلموا قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون لا ينجون وقيل لا يبقون في الدنيا ولكن متاع قليل يتمتعون به وبلاغ ينتفعون بع إلى انقضاء آجالهم ومتاع رفع بإضمار أي هو متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كنوا يكفرون
361

سورة يونس (71 73) قوله تعالى واتل عليهم نبأ نوح أي اقرأ يا محمد على أهل مكة خبر نوح إذ قال لقومه وهم ولد قابيل يا قوم إن كان كبر عليكم عظم وثقل عليكم مقامي طول عمري ومكثي فيكم وتذكري ووعظي إياكم بآيات الله بحججه وبيناته فعزمتم على قتلي وطردي فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم أي احكموا أمركم واعزموا عليه وشركاءكم أي وادعوا شركاءكم أي آلهتكم فاستعينوا بها لتجتمع معكم وقال الزجاج معناه فأجمعوا أمركم مع شركائكم فما ترك مع انتصب وقرأ يعقوب وشركاؤكم رفع أي فأجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم وقرأ رؤيس عن يعقوب فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم والوجه من جمع يجمع والمراد فاجمعوا ذوي أمركم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقام هو المعنى اجمعوا رؤساءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة أي خفيا مبهما من قولهم عم الهلال على الناس أي أشكل عليهم وخفي ثم اقضوا إلي أي أمضوا ما في أنفسكم وافرغوا منه يقال قضى فلان إذا مات ومضى وقضى دينه إذا فرغ منه وقيل معناه توجهوا إلي بالقتل والمكروه وقيل فاقضوا ما أنتم قاضون وهذا مثل قول السحرة لفرعون فاقض ما أنت قاض أي اعمل ما أنت عامل ولا تنظرون ولا تؤخرون وهذا على طريق التعجيز أخبر الله عن نوح أنه كان واثقا بنصر الله تعال غير خائف من كيد قومه علما منه بأنهم وآلهتهم ليس إليهم نفع ولا ضر إلا أن يشاء الله فإن تولينم أعرضتم عن قولي وقبول نصحي فما سألتكم على تبليغ الرسالة والدعوة من أجر من جعل وعوض إن أجرى ما أجرى وثوابي إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين أي من المؤمنين وقيل من المستسلمين لأمر الله فكذبوه يعني نوحا فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف أي جعلنها الذين معه في الفلك سكان الأرض خلفاء عن الهالكين وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين أي آخر أمر الذين أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا
362

سورة يونس (74 80) ثم بعثنا من بعده رسلا أي بعد نوح رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات بالدلالات الواضحات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل أي بما كذب به قوم نوح من قبل كذلك نطبع أي نختم على قلوب المعتدين ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه يعني أشراف قومه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم يعني جاء فرعون وقومه الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا تقدير الكلام أتقولون للحق لما جاءكم سحر أسحر هذا فحذف السحر الأول اكتفاء بدلالة الكلام عليه ولا يفلح الساحرون قالوا يعني فرعون وقومه لموسى أجئتنا لتلفتنا لتصرفنا وقال قتادة لتلوينا عما وجدنا عليه آباءنا وتنكون لكما الكبرياء الملك والسلطان وفي الأرض أرض مصر وقرأ أبو بكر ويكون بالياء وما نحن لكما بمؤمنين بمصدقين وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون
363

سورة يونس (81 83) فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر قرأ أبو عمرو وأبو جعفر السحر بقطع الألف والمد على الاستفهام وما في هذه القراءة للاستفهام وليست بموصولة وهي مبتدأة وجئتم به خبرها والمعنى أي شيء جئتم به وقوله السر بدل عنها وقرأ الباقون ما جئتم به السحر بوصل الألف من غير مد وما في هذه القراءة موصولة بمعنى الذي وجئتم به صلتها وهي مع الصلة في موضع الرفع بالابتداء وقوله السر خبره أي الذي جئتم به السحر وتقوي هذه القراءة قراءة ابن مسعود ما جئتم به سحر بغير الألف واللام إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق اله الحق بكلماته بآياته ولو كره المجرمون فما آمن لموسى لم يصدق موسى مع ما آتاهم به من الآيات إلا ذرية من قومه اختلفوا في الهاء التي في قومه قيل هي راجعة إلى موسى وأراد بهم مؤمني بني إسرائيل الذين كانوا بمصر وخرجوا معه قال مجاهد كانوا أولاد الدين أرسل إليهم موصى من بني إسرائيل هلك الآباء وبقي الأبناء وقال الآخرون الهاء راجعة إلى فلعون وروي عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا أمنهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله وقيل هم قوم نجوا من قتل فرعون وذلك أن فرعون لما أمر بقتل أبناء بني إسرائيل كانت المرأة من بني إسرائيل إذا ولدت ابنا وهبته لقبطية خوفا من القتل فنشئوا عند القبط واسلموا في اليوم الذي غلبت السحرة قال الفراء سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل كما يقال لأولاد أهل فارس الذين سقطوا إلى اليمن الأبناء لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم على خوف من فرعون وملئهم قيل أراد بفرعون آل فرعون أي على خوف من آل فرعون وملئهم كما قال واسئل القرية أي أهل القرية وقيل إنما قال وملئهم وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر يفهم منه هو وأصحابه كما يقال قدم الخليفة يراد هو ومن معه وقيل أراد ملأ الذرية فإن ملأهم كانوا من قوم فرعون أن يفتنهم أي يصرفهم عن دينهم ولم يقل يفتنوهم لأنه أخبر عن فرعون وكان قومه على مثل ما كان عليه فرعن وإن فرعون لعال لمتكبر في الأ ر ض وإنه لمن المسرفين المجاوزين الحد لأنه كانعبدا فادعى الربوبية
364

سورة يونس (84 88) وقال موسى لمؤمني قومه يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا اعتمدنا ثم دعوا فقالوا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين أي لا تظهرهم علينا ولا تهلكنا بأيديهم فيظنوا أنا لم نكن على الحق فيزدادوا طغيانا وقال مجاهد لا تعذبنا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على الحق لما عذبوا ويظنوا أنهم خير منا فيفتتنوا ونجنا برحمتك من القوم الكافرين قوله تعالى وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا يقال بوأ فلان لنفسه بيتا ومضجعا إذا اتخذه وبوأته أنا إذا اتخذته له واجعلوا بيوتكم قبلة قال أكثر المسرين كانت بنو إسرائيل لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم وكانت ظاهر فلما أرسل
موسى أمر فرعون بتخريبها ومنعهم من الصلاة فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفا من فرعون هذا قول إبراهيم وعكرمة عن ابن عباس وأقل مجاهد خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة فأمروا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرا معناه واجعلوا وجوه بيوتكم إلى القبلة وروى ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين يا محمد قوله تعالى وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة من متاع الدنيا وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك اختلفوا في هذه اللام قيل هي لام كي معناه آتيتهم كي تفتنهم فيضلوا ويضلوا عن سبيلك كقوله لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه وقيل لام العاقبة يعني ليضلوا فيكون عاقبة أمرهم الضلال كقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا قوله ربنا اطمس على أموالهم قال مجاهد أهلكها والطمس المحو وقال قتادة صارت أموالهم
365

سورة يونس (89 90) وحروثهم وزروعهم وجواهرهم كلها حجارة وقال محمد بن كعب جعل ثورهم حجارة وكان الرجل مع أهله في فراشه فصارا حجرين والمرأة قائمة تخبز فصارت حجرا قال ابن عباس رضي الله عنه بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا ودعا عمر ابن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة والجوزة مشقوقة وإنها لحجر قال السدي مسخ الله أموالهم حجارة والنخيل والثمار والدقيق والأطمة فكانت إحدى الآيات التسع واشدد على قلوبهم أي أقسمها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان فلا يؤمنوا قيل هو نصب بجواب الدعاء بالفاء وقيل هو عطف على قوله ليضلوا أي ليضلوا فلا يؤمنوا وقال الفراء هو دعاء محله جزم فكأنه قال الهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وهو الغرق أقل السدي معناه أمتهم على الكفر قال اله تعالى لموسى وهارون قد أجيبت دعوتكما إنما نسب إليهما والدعاء كان من موسى لأنه روي أ موسى كان يدعو وهارون يؤمن والتأمين دعاء وفي بعض القصص كان بين دعاء موسى وإجابته أربعون سنة فاستقيما على الرسالة والدعوة وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذاب ولا تتبعان نهي بالنون الثقيلة ومحله جزم يقال في الواحد لا تتبعن بفتح النون لالتقاء الساكنين وبكسر النون في التثنية لهذه العلة وقرأ ابن عامر بتخفيف النون وقد اختلف الروايات عنه فيه فبعضهم روى عنه تتبعان بتخفيف التاء الثانية وفتح الباء وتشديد النون وبعضهم روى عنه تتبعان بتشديد التاء الثانية وكسر الباء وتخفيف النون وبعضهم روى عنه كقراء الجماعة والوجه في تخفيف النون إن نون التأكيد تثقل وتخفف سبيل الذين لا يعلمون يعني ولا تسلكا سبيل الذين يجهلون حقيقة وعدي فإن وعدي لا خلف فيه ووعيدي نازل بفرعون وقومه وجاوزنا ببني إسارئيل البحر عبرنا بهم فأتبعهم لحقهم وأدركهم فرعون وجنوده يقال أتبعه وتبعه إذا أدركه ولحقه واتبعه بالتشديد إذا سار خلفه واقتدى به وقيل هما واحد بغيا وعدوا أي ظلما واعتداء وقيل بغيا في القول وعدوا في الفعل وكان البحر قد انفلق لموسى وقومه فلما وصل فرعون بجنوده إلى البحر هابوا دخوله فتقدمهم جبريل على فرس وديق وخاض البحر فاقتحمت الخيول خلفه فلما دخل آخرهم وهم أولهم أ يخرج انطبق عليهم الماء وقوله تعالى حتى إذا أدركه الغرق أي عمره الماء وقرب هلاكه قال آمنت أنه قرأ حمزة والكسائي إنه
366

سورة يونس (91 93) بكسر الألف أي آمنت وقلت إنه وقرأ الآخرون أنه بالفتح على وقوع آمنت عليها وإضمار حرف الجر أي آمنت بأنه فحذف الباء وأوصل الفعل بنفسه فهو في موضع النصب لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين فدس جبريل في فيه من حمأة البحر وقال آلان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أغرق الله فرعون قال آمنت أنه لا إله إلا الذين آمنت به بنو إسرائيل فقال جبريل عليه السلام يا محمد فلو رأيتني وأنا آخ من حال البحر فأدسه فيه فيه مخافة أن تدركه الرحمة فلما أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل ما مات فرعون فأمر الله البحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور فرآه بنو إسرائيل فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتا أبدا فذلك قوله فاليوم ننجيك أي نلقيك على نجوة من الأرض وهي المكان المرتفع وقرأ يعقوب ننجيك بالتخفيف ببدنك بجسدك لا روح فيه وقيل ببدنك بدرعك وكان له درع مشهور مرصع بالجواهر فرأوه في درعه فصدقوا موسى لتكون لمن خلفك آية عبرة وعظة وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ولقد بوأنا بني إسرائيل أنزلنا بني إسرائيل بعد هلاك فرعون مبوأ صدق منل صدق يعني مصر وقيل الأردن وفلسطين وهي الأ ض المقدسة التي كتب الله ميراثا لإبراهيم وذريته قال الضحاك هي مصر والشام ورزقناهم من الطيبات الحالالات فما اختلفوا يعني اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قفي تصديقه وأنه نبي حتى جاءهم العلم يعني القرآن والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق وقيل حتى جاءهم معلومهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه فالعلم بمعنى المعلوم كما يقال لمخلوق خلق قال الله تعالى هذا خلق الله ويقال هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون من الدين
367

سورة يونس (94 98) قوله تعالى فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك يعني القرآن فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك فيخبرونك أنك مكتوب عندهم في التوراة قيل هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره على عادة العرب فإنهم يخاطبون الرجل ويريدون به غيره كقوله تعالى يا أيها النبي اتق الله خاطب للنبي صلى الله عليه وسلم المراد به المؤمنون بدليل أنه قال إن الله كان بما تعملون خبيرا ولم يقل بما تعمل وقال يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وقيل كان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين مصدق ومكذب وشاك فهذا الخطاب مع أهل الشك معناه إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان رسولنا محمد فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك قال ابن عباس ومجاهد والضحاك يعني من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه فسيشهدون على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ويخبرونك بنبوته قال افراء علم الله سبحانه وتعالى أن رسوله غير شاك لكنه ذكره على عادة العرب يقول الواحد منهم لعبد إن كنت عبدي فأطعني ويقول لولده افعل كذا وكذا إن كنت ابني ولا يكون بذلك على وجه الشك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين من الشاكين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين وهذا كله خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره قوله تعاى لي إن الذين حقت عليهم وجبت علهيم كلمة ربك قيل لعنته وقال قتادة سخطه وقيل الكلمة هي
قوله هؤلاء في النار ولا أبالي لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية دلالة حتى يروا العذاب الأليم قال الأخفش أنت فعل كل لأانه مضاف إلى المؤنث وهي قوله آية ولفظ كل للمذكر والمؤنت سواء قوله تعالى فلولا كانت فهلا كانت قرية ومعناه فلم تكن قرية لأن في الاستفهام ضربا من الجحد أي أهل قرية آمنت عند معاينة العذاب فنفعها إيمانها في حال اليأس
368

إلا قوم يونس فإنهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت وقوم نصب على الاستثناء المنقطع تقديره ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين وهو وقت انقضاء آجالهم واختلفوا في أنهم هل رأوا العذاب عيانا أم لا فقال بعضهم رأوا دليل العذاب والأكثرون على أنهم رأوا العذاب عيانا بدليل قوله كشفنا عنهم عذاب الخزي والكشف يكون بعد الوقوع أو إذا قرب وقصة الآية على ما ذكر عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإيمان نجرب عليه كذبا فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم فلما كان في جوف تلك الليلة خرج يونس من بين أظهرهم فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤسهم قدر ميل وقال وهب غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشى مدينتهم واسودت سطوحهم فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا يونس نبيهم فلم يجدوه وقذف الله في قلوبهم التوبة فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وأخلصوا النية وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات واختلطت أصواتها بأصواتهم وعجوا وتضرعوا إلى الله عز وجل وقاولا آمنا بما جاء به يونس فرحمهم ربهم فاستجاب دعاءهم وكشف عنهم العذاب بعد ما أضلهم وذلك ويوم عاشوراء وكان يونس قد خرج فأقام ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم ير شيئا وكان من كذب ولم يكن له بينة قتل فقال يونس كيف أرجع إلى قومي وقد كذبتهم فانطلق عاتبا على ربه مغاضبا لقومه فأتى البحر فإذا قوم يركبون سفينة فعرفوه فحملوه بغير أجر فلما دخلها وتوسطت بهم ولججت ووقفت السفينة لا ترجع ولا تتقدم قال أهل السفينة إن لسفينتنا لشأنا قال يونس قدج عرفت شأنها ركبها رجل ذو خطيئة عظيمة قالوا ومن هو قال أنا اقذفوني في البحر قالوا ما كنا لنطرحك من بيننا حتى نعذر في شأنك واستهموا فاقترعوا ثلاث مرات فأحض سهمه والحوت عند رجل السفينة فاغرا فاهينتظر أمر به فيه فقال يونس إنكم والله لتهلكن جميعا ولتطرحنني فيه فقذفوه فيه وانطلقوا وأخذه الحوت وروي أن الله تعالى أوحى إلى حوت عظيم حتى قصد السفينة فلما رآه أهل السفينة مثل الجبل العظيم وقد فغر فاه ينظر إلى من في السفينة كأنه يطلب شيئا خافوا منه ولما رآه يونس زج نفسه في الماء وعن ابن عباس أنه خرج مغاضبا لقومه فأتى بحر الورم فإذا سفينة مشحونة فركبها فلما لججت السفينة تكفأت حتى كادوا أن يغرقا فقال الملاحون ههنا رجل عاص أو عبد آبق وهكذا رسم السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري ومن رسمنا أ نقترع في مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر ولأن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة لما فيها فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة في كلها على يونس فقال يونس أنا الرجل العاصي والعبد الآبق فألقى نفسه في الماء فابتلعه حوت ثم جاء حوت آخر أكبر منه وابتلع هذا الحوت وأوحى الله إلى الحوت لا تؤذي منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعاما لك
369

سورة يونس (99 101) وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال نودي إنا لم نجعل يونس لك قوتا إنما جعلنا بطنك له حرزا ومسجدا وروي أنه قام قبل القرعة فقال أنا العبد العاصي والآبق قالوا من أنت قال أنا يونس بن متى فعرفوه فقالوا لا نلقيك يا رسول الله ولكن نسهم فخرجت القرعة عليه فألقى نفسه في الماء قال ابن مسعود رضي الله عنه ابتلعه الحوت فأهوى به إلى قرار الأرض السابعة وكان في بطنه أربعين ليلة فسمع تسبيح الحصى فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأجاب الله له فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر وهو كالفرخ الممعط فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وهو الدباء فجعل يستظل تحتها ووكل به وعلة يشرب من لبنها فيبست الشجرة فبكى عليها فأوحى الله إليه تبكي على شجرة يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون وأرت أن أهلكهم فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى فقال من أنت يا غلام قال من قوم يونس قال إذا رجعت إليهم فأخبرهم إني لقيت يونس فقال الغلام قد تعلم أنه إن لم تكن لي بينة قتلت قال يونس عليه السالم تشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة فقال له الغلام فمرهما فقال يونس إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له قالتا نعم فرجع الغلام فقال للملك إني لقيت يونس فأمر الملك بقتله فقال إن لي بينة فأرسلوا معه فأتى البقعة والشجرة فقال أنشدكما هل أشهدكما يونس قالتا نعم فرجع القوم مذعورين وقالوا للملك شهد له الشجرة والأرض فأخذ الملك بيد الغلام وأجلسه في مجلسه وقال أنت أحق بهذا المكان مني فأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة قوله تعالى ولو شاء ربك يا محمد لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه كان حريصا على أن يؤمن جميع الناس فأخبره الله دل ذكره أنه لا يؤمن إلا من سبق له السعادة ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة وما كان لنفس وما ينبغي لنفس وقيل ما كنت نفس أن تؤمن إلا بإذن الله قال ابن عباس بأمر الله وقال عطاء بمشيئة الله وقيل بعلم الله ويجعل الرجس قرأ أبو بكر ونجعل بالنون والباقون بالياء أي ويجعل الله الرجس أي العذاب وهو الرجز على الذين لا يعقلون عن الله أمره ونهيه قل انظروا أي قل للمشركين الذين يسألونك الآيات انظروا ماذا في السماوات والأرض من الآيات والدلائل والعبر ففي السماوات الشمس والقمر والنجوم وغيرها وفي الأرض
370

سورة يونس (102 106) الجبال والبحار والأنهار والأشجار وغيرها وما تغني الآيات والنذر الرسل عن قوم يؤمنون وهذا في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون فهل ينتظرون يعني مشركي مكة إلا مثل أيام الذين خلوا مضو من قبلهم من مكذبي الأمم قال قتادة يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود والعرب تسمى العذاب أياما والنعم أياما كقوله وذكرهم بأيام الله وكل ما مضى عليك من خير وشر فهو أيام قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا قرأ يعقوب ننجي خفيف مختلف عنه والذين آمنوا معهم عند نزول العذاب معناه نجينا مستقبل بمعنى الماضي كذلك كما نجيناهم حقا واجبا علينا ننج المؤمنين قرأ الكسائي وحفص ويعقوب ننجي بالتخفيف والآخرون بالتشديد ونجاو أنجي بمعنى واحد قوله تعالى قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه فإن قيل كيف قال إن كنتم في شك وهم كانوا يعتقدون بطلان ما جاء به قيل كان فهيم شاكون فهم المارد بالآية أو أنهم لما رأو الأيات اضطربوا وشكوا في أمرهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم قوله عز وجل فلا أعبد الذين تعبدون من دون
الله من الأوثان ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم يميتك ويقبض أرواحكم ومرت أن أكون من المؤمنين قوله وأن أقم وجهك للدين حنيفا قال ابن عباس عملك وقيل استقم على الدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ولا تدع ولا تعبد من دون الله ما لا ينفعك إن أطعته ولا يضرك إن عصيته فإن فعلت فعبدت غير الله فإنك إذا من الظالمين الضارين لأنفسهم الواضعين العبادة في غير موضعها
371

سورة يونس (107 109) وإن يمسسك الله بضر أي يصبك بشدة وبلاء فلا كاشف له فلا دافع له إلا هو ون يردك بخير رخاء ونعمة وسعة فلا راد لفضله فلا مانع لرزقه يصيب به بكل واحد من الضر والخير من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم يعني القرآن والإسلام فمن اهتدى فإما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها أي على نفسه وباله عليه وما أنا عليكم بوكيل بكفيل أحفظ أعمالكم قال ابن عباس نسختها آية القتال وابتع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله بنصرك وقهر عدوك وإظهار دينه وهو خير الحاكمين فحكم بقتال المشركين وبالجزية على أهل الكتاب يعطونها عن يد وهم صاغرون سورة هود مكية إلا قوله وأقم الصلاة طرفي النهار وهي مائة وثلاث وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم سورة يونس (1) الر كتاب أي هذا كتاب أحكمت آياته قال ابن عباس لم ينسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع به ثم فلت بينت بالأحكام والحلال والحرام وقال الحسن أحكمت بالأمر والنهي ثم فصلت بالوعد والوعيد قال قتادة أحكمت أحكمها الله فليس فهيا اختلاف ولا تناقض وقال مجاهد فصلت أي فسرت وقيل فصلت أي أنزلت شيئا فشيئا من لدن حكيم خبير
372

سورة هود (2 5) ألا تعبدوا إلا الله أي في ذلك الكتاب أن لا تبعدوا إلا الله ويكن محل أن رفعا وقيل محله خفض تقديره بأ لا تعبوا إلا الله إنني لكم منه أي من الله نذير للعاصين وبشير للمطيعين وأن عطف على الأول استغفروا ربكم ثم توبوا إليه أي ارجعوا إليه بالطاعة قال الفراء ثم هنا بمعنى الواو أي وتوبوا إليه لأن الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار وقيل أن استغفروا إليه في المستأنف يمتعكم متاعا حسنا يعيشكم عيشا حسنا في خفض ودعة وأمن وسعة قال بعضهم العي الحسن هو الرضى بالميسور والصبر على المقدور إلى أجل مسمى إلى حين الموت ويؤت كل ذي فضل فضلة أي ويؤت كل ذي عمل صلاح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة وقال أبو العالية من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الآخرة في الجنة لأن الدرجات تكون بالاعمال وقال ابن عباس من زادت حسناتة على سيآته دخل الجنة ومن زادت سيآته على حسناته دخل النار ومن استوت حسناته وسياته كان من الأعراف ثم يدخل الجنة بعد وقيل يؤت كل ذي فضل فضله يعني من عمل له عز وجل وفقه الله فيما يستقبل على طاعته وإن تولوا أعرضوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير وهو يوم القيامة إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير قوله تعالى ألا إنهم يثنون صدورهم قال ابن عباس نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر يلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره قوله يثنون صدورهم أي يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة وقال عبد الله بن شداد نلت هذه الآية في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وحنى ظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم وقال قتادة كانوا يحنون صدورهم كي لا يسمعوا كتاب الله تعالى ولا ذكره وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم الله ما في قلبك وقال السدي يثنون أي يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنيت عناني وقيل يعطفون ومنه ثنى الثوب وقرأ ابن
373

سورة هود (6 7) عباس يثنوني على وزن يحلو لي جعل الفعل للصدور ومعناه المبالغة في الثنى ليستخفوا منه أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد ليستخفوا من الله إن استطاعوا ألا حين يستغشون ثيابهم يغطون رؤسهم بثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور قال الأزهري معنى الأيى من ألها إلى آخرها إن الذين أضمروا عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا حالهم أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا الحسن بن محمد بن صباح ثنا حجاج قال قال ابن جريج أخبرني محمد بن عباد بن جعفر أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ ألا إنهم يثنون صدورهم فقال سألته عنها فقال كان أناس يستحينون أ يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم قوله تعالى وما من دابة في الأرض أي ليس دابة من صلة والدابة كل حيوان يدب على وجه الأرض وقوله * (إلا على الله رزقها) * أي هو المتكفل بذلك فضلا وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق وقيل على بمعنى من أي من الله رزقها وقال مجاهد ما جاءها من رزق فمن الله عز وجل وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا ويعلم مستقرها ومستودعها قال ابن مقسم ويروى ذلك عن ابن عباس مستقرها المكان الذي تأوي اليه وتستقر فيه ليلا ونهارا ومستودعها الموضع الذي تدفن فيه إذا ماتت وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه المستقر أرحام الأمهات والمتودع المكان الذي تموت فيه وأقل عطاء المستقر أرحام الأمهات والمستودع أصلاب الآباء ورواه سعيد بن جبير وعلي بن طلحة وعكرمة عن ابن عباس وقيل المستقر الجنة أو النار المستودع القبر لقوله تعالى في صفة الجنة والنار حسنت مستقرا ومقاما كل في كتاب مبين أي كل مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن خلقها قوله تعالى وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء قبل أ خلق السماء والأرض وكان ذلك الماء على متن الريح قال كعب خلق الله عز وجل ياقوتة خضراء ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء وقال ضمرة إن الله تعال كان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وخلق القلم فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده ألف عام قبل أ يخلق شيئا من خلقه
374

سورة هود (8 12) ليبلوكم ليختبركم وهو أعلم أيكم أحسن عملا عمل بطاعة الله وأورع عن محارم الله تعالى ولئن قلت يا محمد إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفلوا إن هذا إلا سحر مبين يعنون القرآن وقرأ حمزة والكسائي ساحر يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة إلى أجل محدود وأصل الأمة الجماعة فكأنه قال أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة إلى أجل محدود وأصل الأمة الجماعة فكأنه قال إلى انقراض أمة ومجئ أمه أخرى ليقولن ما يحبسه أي أي شيء يحبسه يقولونه استعجالا للعذاب واستهزاء يعنون أنه ليس بشيء قال الله تعالى ألا يوم يأتيهم يعني العذاب ليس مصروفا عنهم لا يكون مصروفا عنهم وحاق
بهم نزل بهم ما كانوا به يستهزؤن أي وبال استهزائهم قوله تعالى ولئن أذقنا الإنسان منا رحمنة نعمة وسعة ثم نزعناها منه أي سلبناه منه إنه ليؤس قنوط في الشدة كفور النعمة ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته بعد بلاء أصابه ليقولن ذهب السيئات عني زالت الشدائد عني إنه لفرح فخور أشر بطر والفرح لذة في القلب بنيل المشتهي والفخر هو التطاول على الناس بتعديد المناقب وذلك منهي عنه إلا الذين صبروا قال الفراء هذا استثناء منقطع معناه لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات فإنهم إن نالتهم شدة صبرا وإن نالو نعمة شكروا أولئك لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير وهو الجنة فلعلك يا محمد تراك بعض ما يوحى إليك فلا تبلغه إياهم وذلك أن كفار مكة لما قالوا ائت بقرآن غير هذا ليس فيه سب آلهتنا هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع آلهتهم ظاهرا فأنزل الله تعالى
375

سورة هود (13 15) فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك يعني سب الآلهة وضائق به صدرك أي فعلك يضيق صدرك أن يقولوا أي لأن يقولوا لولا أنزل عليه كنز ينفقه أو جاء معه ملك يصدقه قاله عبد الله بن أمية المخزومي قال الله تعالى إنما أنت نذير ليس عليك إلا البلاغ والله على كل شيء وكيل حافظ أم يقولون افتراه بل يقولون اختلفه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات فإن قيل قد قال في سورة يونس فأتوا بسورة مثله وقد عجزوا عنه فكيف قال فأتوا بعشر سور فهو كرجل يقول لآخر أعطني جرهما فيعجز فيقول أعطني جرهما فيعجز فيقول أعطني عشرة دراهم الجواب قد قيل سورة هود نزلت أولا وأنكر المبرد هاذ وقال ل نزلت سورة يونس أولا قال معنى قوله فس سورة يونس فأتوا بسورة مثله أي مثله في الخبر عن الغيب الأحكام والوعد والوعيد فعجزوا فقال هلم في سورة هود إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الأخبار والأحكام والوعد والوعيد فأتوا بعشر سورة مثله من غير خبر ولا وعد ولا عيد وإنما هي مجرد البلاغة وادعوا من استطعتم واستعينوا بمن استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم يا أصحاب محمد وقيل لفظه جمع والمارد به الرسول صلى الله عليه وسلم وحده فاعلموا قيل هذا خطاب مع المؤمنين وقيل مع المشركين أنما أنزل بعلم الله يعني القرآن وقيل أنزله وفيه علمه وأن لا إله إلا هو أي فاعلموا أن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون لفظه استفهام ومعناه أمر أي أسلموا قوله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا أي من كان يريد بعلمه الحياة الدنيا وزينتها نزلت في كل من عمل عملا يريد به غير الله عز وجل نوف إليهم أعملهم نفيها أي نوف لهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعة الرزق دفع المكاره وما أشبهها وهم فيها لا يبخسون أي في الدنيا لا ينقص حظهم
376

[سورة هود آية 16 17] (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا الن ار و ح ب ط ما صن ع وا فيها) أي: في الدنيا (وباطل) ما حق (ما كانوا ي ع م لون) اختلفوا في المعنى في هذه الآية فقال المجاهد: أهل الرياء. وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال: الرياء. وقيل: هذا في الكفار وأما المؤمن فيريد الدنيا والآخرة وإرادته الآخرة غالبة فيجازي بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وروينا عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل لأي يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزي به في الآخرة وأم ا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى به خيرا. قوله تعالى: (أفمن كان على بينة) بيان (من رب ه) قيل في الآية حذف ومعناه: أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها أو من كان على بينة من ربه كمن هو في الضلالة والجهالة والمراد بالذي هو على بينة من ربه النبي صلى الله عليه وسلم (ويتلوه شاهد منه) أي: يتبعه من يشهد له بصدقة. واختلفوا في هذا الشاهد فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد عكرمة والضحاك وأكثر أهل التفسير: إنه جبريل عليه وسلم. وقال الحسن وقتادة: هو لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن جريح عن مجاهد قال: هو ملك يحفظه ويسدده. وقال الحسين بن الفضل: هو القرآن ونظم وإعجازه. وقيل: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال علي: ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه آية من القرآن فقال له رجل: وأنت أي شيء نزل فيك قال: (ويتلوه شاهد منه). وقيل: شاهد منه هو الإنجيل. (وم ن قبل ه) أي: ومن قلب مجيء محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: من قبل نزول القرآن. (كتاب موسى) أي: كان كتاب موسى (وإماما ورحمة) لمن اتبعها يعني التوراة وهي مصدقة للقرآن شاهدة للنبي صلى الله عليه وسلم (أولئك ي ؤمن ون به) يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب (وم ن يكفر به) أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: بالقرآن (م ن الأحزاب) من الكفار من أهل الملل كلها (فالنار موع د ه) أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أبا أبو طاهر الزيادي أنا محمد بن الحسين
377

القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أن عبد الرزاق أن معمر عن همام بن منبه ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. قوله تعالى: (فلاتك في مرية منه) أي: في شك منه (إن ه الحق م ن ر ب ك ولكن أكثر الناس ر يؤمن ون). سورة هود آية (18 20) (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) فزعم أن له ولدا أو شريكأ أي: لا أحد أظلم منه (أولئك) يعني: الكاذبين والمكذبين (ي عرض ون على رب هم) فيسألهم عن أعمالهم (ويقول الأشهاد) يعني: الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم قال مجاهد. وعن ابن عباس رضي الله عنهما. إنهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وهو قول الضحاك. وقال قتادة الخلائق كلهم. وروينا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يدني المؤمن فيضع عليه ك ن ف ه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول: نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: سترتها عليك في الدنيا وأن أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤس الخلائق (هؤلاء الذين ك ذ ب وا على رب هم ألا ل عنة الله على الظالمين). (الذين يصد ون ع ن سبيل الله) يمنعون عن دين الله (ويبغونها ع و جا وهم بالآخرة هم كافرون). (أولئك يصد ون ع ن سبيل الله) قال ابن عباس: سابقين. قال قتادة: هاربين. وقال مقاتل: فائتين. (في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء) يعني أنصارا وأعوانا يحفظونهم من عذابنا (ي ضاعف لهم العذاب) أي: يزاد في عذابهم. قيل: يضاعف العذاب عليهم لإضلالهم الغير واقتداء الاتباع بهم. قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: (ي ضع ف) مشددة العين بغير ألف. وقرأ الباقون: (يضاعف) بالألف مخففة العين. (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا ي
بص ر ون) الهدى. قال قتادة: ص م عن سماع الحق فلا يسمعونه وما كانوا يبصرون الهدى. قال ابن عباس رضي اله عنهما: أخبر الله عز وجل أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة أما في الدنيا قال: ما كانوا يستطيعون السمع وهو طاعته وفي الآخرة قال: فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم.
378

سورة هود آية (21 26) (أولئك الذين خسروا أنفسهم) غبنوا أنفسهم (وضل عنهم ما كانوا يفترون) يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام. (لا ج ر م) أي: حقا. وقيل: بلى. وقال الفراء: لا محالة (أنهم في الآخرة هم الأخسرون) يعني: من غيرهم وإن كان الكل في الخسار. (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخ ب ت وا) قال ابن عباس: خافوا. وقال قتادة: أنا بوا. وقال مجاهد: اطمأنوا. وقيل: خشعوا. وقوله: (إلى رب هم) أي: لربهم. (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) (مثل الفريقين) المؤمن والكافر (كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا) قال الفراء: لم يقل هل يستوون لأن الأعمى والأصم في حيز كأنهم واحد لأنهما من وصف الكافر والبصير والسميع في حيز كأنهما واحد لأنهما من وصف المؤمن (أفلا تذكرون) أي: تتعظون. قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب (إني) بفتح الهمزة أي: بأني وقرأ الباقون بكسرها أي: فقال إني لأن في الإرسال معنى القول: إني لكم نذير مبين. (أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) أي: مؤلم. قال ابن عباس: بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة وكان عمره ألفا وخمسين سنة. وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة. وقيل: ب عث وهو ابن خمسين سنة. وقيل: ب عث وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة. قال الله تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) أي: فلبث فيهم داعيا.
379

سورة هود (آية 27 30) (فقال الملأ الذين كفروا من قومه): والملأ هم الأشراف والرؤساء. (وما ن ر أك) يا نوح (إلا بشرا) آدميا (م ث لنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذ ل ن ا) س فل تنا والرذل: الدون من كل شيء والجمع: أرذل ثم يجمع أراذل مثل كلب وأكلب وأكالب وقال في سورة الشعراء (واتبعك الأرذلون) يعني: السفلة. وقال عكرمة: الحاكة والأساكفة (بادي الرأي) قرأ أبو عمرو (بادئ) بالهمز أي: أول الرأي يريدون أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير روية وتفكر ولو تفكروا ولم يتبعوك. وقرأ الآخرون بغير همز أي ظاهر الرأي من قولهم: بدأ الشيء إذا ظهر معناه اتبعوك ظاهرا من غير أن يتدبروا ويتفكروا باطنا. قال مجاهد: رأي العين (وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين). (قال) نوح (يا قوم أرأيت م إن ك ن ت على بينة) بيان (م ن ر ب ي وآتاني رحمة) أي: هدى ومعرفة (من عنده فع م ي ت عليك م) أي: خفيت والتبست عليكم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: (فع م يت) عليكم بضم العين وتشديد الميم أي: شبهت ولبست عليكم. (أن ل ز م ك م و أي: أنلزمكم البينة والرحمة (وأنتم لها كارهون) لا تريدونها. قال قتادة: لو قدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يلزموا قوم هم لألزموا ولكن لم يقدروا. قوله: (ويا قوم لا أسأل ك م عليه مالا) أي: على الوحي وتبليغ الرسالة كناية عن غير مذكور (إن أجري) وما ثوابي (إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا) هذا دليل على أنهم طلبوا منه طرد المؤمنين (إنهم م لاق وا ربهم) أي: صائرونإلى ربهم في المعاد فيجزي من طردهم (ولكني أراكم قوما تجهلون). (ويا قوم من ينصرني من الله) من يمنعني من عذاب الله (إن طردتهم أفلا تذكرون) تتعظون
380

سورة هود (آية 31 36) (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) فآتي منها ما تطلبون (ولا أعلم الغيب) فأخبركم بما تريدون. وقيل: إنهم لما قالوا لنوح إن الذين آمنوا بك إنما اتبعوك في ظاهر ما ترى منهم قال نوح مجيبا لهم: لا أقول لكم عندي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمر الناس ولا أعلم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم (ولا أقول إني ملك) هذا جواب قولهم: (وما نراك إلا بشرا مثلنا). (ولا أقول للذين تزدري أعينكم) أي: تحتقرهم وتستصغركم أعينكم يعني: المؤمنين وذلك أنهم قالوا: هم أراذلنا (لن يؤتيهم الله خيرا) أي: توفيقا وإيمانا وأجرا (الله أعلم بما أنفسهم) من الخير والشر مني (إني إذا لمن الظالمين) لو قلت هذا. (قالوا يا نوح قد جادلتنا) خاصمتنا (فأكثرت جدالنا فأتنا بما ت ع د ن ا) من العذاب (إن كنت من الصادقين). (قال إنما يأتيكم به الله إن شاء الله) يعني: بالعذاب (وما أنتم بمعجزين) بفائتين. (ولا ينفعكم نصحي) أي نصيحتي (إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن ي غو ي كم) يضلكم (هو ربكم) له الحم والأمر (وإليه ترجعون) فيجزيكم بأعمالهم. (أم يقولون افتراه) قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني نوحا عليه السلام. وقال مقاتل: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم. (قل إن افتريته فعلي إجرامي) أي: إثمي ووبال جرمي. والإجرام: كسب الذنب (وأنا بريء مما تجرمون) لا أؤاخذ بذنوبكم. (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آم ن) روى الضحاك عن ابن عباس: أن قوم نوح عليه السلام كانوا يضربون نوحا حتى يسقط فيلقونه في لبد ويلقونه في قعر بيت يظنون أنه قد
381

مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله عز وجل. روى أن شيخا منهم جاء يتوكأ على عصى ومعه ابنه فقال يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال له: يا أبت أمكني من العصى فأخذ العصى من أبيه فضرب نوحا حتى شجه شجة منكرة فأوحى الله عز وجل: (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) (فلا تبتئس) فلا تحزن (بما كانوا يفعلون) فإني مهلكهم ولا منقذ منهم فحينئذ دعا نوح عليهم: (فقال يا رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا). وحكى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي أنه بلغه: أنهم كانوا يبطشون به فيخنقوه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى إذا تمادوا في المعصية واشتد عليه منهم البلاء وانتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي قبله حتى إن كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا فشكا الله تعالى فقال: (رب رب ني دعوت قومي ليلا ونهارا) إلى أن قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دي ارا) فأوحى الله تعالى إليه: سورة هود (آية 37 38) (واصنع الفلك بأعيننا) قال ابن عباس: بمرأى منا. وقال مقاتل: بعلمنا. وقيل: يحفظنا. (وو حين ا) أي: بأمرنا. (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون
) بالطوفان قيل معناه لا تخاطبني في إمهال الكفار فإني حكمت بإغراقهم وقيل: لا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك الواعلة فإنهما هالكان مع القوم. وفي القصة أن جبريل أتى نوحا عليه السلام فقال: إن ربك عز وجل يأمرك أن تصنع الفلك فقال: كيف أصنع ولست بنجار فال: إن ربك يقول اصنع فإنك بعيني فأخذ القدوم وجعل يصنع ولا يخطئ وقيل: أوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. قوله تعالى: (ويصنع الف لك) فلما أمره الله تعالى أن يصنع الفلك أقبل نوح عليه السلام على عمل الفلك ولها عن قومه وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره وجعل قومه يمرون به وهو في عمله ويسخرون منه ويقولون: يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة وأعقم الله أرحام نسائهم فلا يولد لهم ولد. وزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يصنعه من أزور وأن يطيله بالقار من داخله وخارجه وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطوله في السماء ثلاثين ذراعا والذراع إلى المنكب وأن يجعله ثلاثة أطباق سفلى ووسطى وعليا ويجعل فيه كوى ففعل نوح كما أمره الله عز وجل. وقال ابن عباس: اتخذ نوح السفينة في سنتين وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراع وطولها في السماء ثلاثون ذراعا وكانت من خشب
382

الساج وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل والوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد. وقال قتادة: كان بابها في عرضها. وروى عن الحسن: كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ست مائة ذراع. والمغروف هو الأول أن طولها ثلاثمائة ذراع. وعن زيد بن أسلم قال: مكث عليه السلام مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ومائة سنة يعمل الفلك. وقيل: غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة. وعن كعب الأحبار أن نوحا عمل السفينة في ثلاثين سنة وروى أنها كانت ثلاث طبقات الطبقة السفلى للدواب والوحوش للطبقة السفلى فيها الإنس والطبقة العليا فيها الطير فلما كثرت أرواث الدواب شطا ذلك إلى الله عز وجل فأوحى الله إلى نوح أن ا غم ز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث فأكلاه فلما وقع الفاربجوف السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها أوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفار فأكلاه. قوله تعالى: (وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه) وذلك أنهم كانوا يقولون: إن هذا الذي يزعم أنه نبي قد صار نجارا. وروي أنهم كانوا يقولون له: يا نوح ماذا تصنع فيقول أصنع بيتا يمشي على الماء فيضحكون منه (قال إن تسخروا م ن ا فإن ا نسخر منكم) إذا عاينتم عذاب الله (كما تسخرون) فإن قيل: كيف تجوز السخرية من النبي قيل: هذا على ازدواج الكلام يعني إن تستجهلوني فإني استجهلكم إذا نزل العذاب بكم. وقيل: معناه إن تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم. سورة هود (آية 39 40) (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه) يهينه (ويحل عليه) يجب عليه (عذاب مقيم) دائم. (حتى إذا جاء أمر نا) عذابنا (وفار الت ن و ر) اختلفوا في التنور قال عكرمة والزهري: هو وجه الأرض وذلك أنه قيل لنوح: إذا رأيت الماء فار على وجه الأرض فاركب السفينة. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: فار التنور أي: طلع الفجر ونور الصبح. وقال الحسن ومجاهد والشعبي: أنه التنور الذي يخبز فيه وهو قول أكثر المفسرين. ورواية عطية عن ابن عباس قال الحسن: كان تنورا من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصار إلى نوح عليه وسلم فقيل لنوح: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب السفينة أنت وأصحاب ك. واختلفوا في موضعه قال مجاهد والشعبي: كان في ناحية الكوفة.
383

وكان الشعبي يحلف: ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة. وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة. وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كنده وكان فوران الماء منه علما لنوح عليه السلام. وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم وكان بالشام بموضع يقال له عين وردة. وروي عن ابن عباس: أ نه كان بالهند. والفوران: الغليان. قوله تعالى: (فلنا احمل فيها) أي: في السفينة (من كل زوجين اثنين) الزوجان: كل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر يقال لكل واحد منهما زوج يقال: زوج خف وزوج نعل والمراد بالزوجين هنا: الذكر والأنثى. قرأ حفص ههنا وفي سورة المؤمنين: (م ن ك ل) بالتنوين أي: من كل صنف زوجين اثنين ذكره تأكيدا وفي القصة: أن نوحا عليه الصلاة والسلام قال: يا رب كيف أحمل من كل زوجين اثنين فحشر الله إليه الوحوش والسباع والهوام والطير فجعل يضرب بيده في كل جنس فسقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى فيحملها في السفينة (وأه ل ك) أي: واحمل أه لك أي: ولدك وعيالك (إلا من سبق عليه القول) بالهلاك يعني امرأته واعلة وابنه كنعان (ومن آمن) يعني: واحمل من آمن بك كما قال الله تعالى: (وما آمن معه إلا قليل) واختلفوا في عددهم قال قتادة وابن جريح ومحمد بن كعب القرظي: لم يكن في السفينة إلا ثمانية نوح وامرأته وثلاثة بنين له سام وحام ويافث ونساؤهم. وقال الأعمش: كانوا سبعة نوح وثلاثة بنين له وثلاث كنائن له. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم نوح وبنوه سام وحام ويافث وستة أناس ممن كان آمن به أزواجهم جميعا. وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين نفرا رجلا وامرأة وبنيه الثلاثة ونسائهم فجميعهم ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان سفينة نوح ثمانون رجلا أحدهم جرهم. قال مقاتل: حمل نوح معه جسد آدم فجعله معترضا بين الرجال والنساء وقصد نوحا جميع الدواب والطيور ليحملها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول ما حمل نوح الدرة وآخر ما حمل الحمار فلما دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح يقول ويحك ادخل فنهض فلم تستطع حتى قال نوح: ويحك اد خل وإن كان الشيطان معك كلمت زلت على لسانه فلما قالها نوح خلى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان معه فقال له نوح: ما أدخلك علي يا عدو الله قال: ألم تقل ادخل وإن كان الشطيان معك قال: اخرج عني يا عدو الله فقال: مالك بد من أن تحملني معك فكان فيها يزعمون في ظهر الفلك. وروي عن بعضهم: أن الحية والعقرب أتيا نوحا فقالتا: احملنا فقال: إنكما سبب الضر والبلاء فلا أحملكما فقالتا له: احملنا ونحن نضمن لك أن نضر أحدا ذكرك فمن قرأ حين خاف مضرتهما سلام على نوح في العالمين ما ضرتاه. قال الحسن: لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض فأما ما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض والذباب فلم يحمل منها شيء.
384

سورة هود (آية 41 43) (وقال اركبوا فيها) أي: وقال لهم نوح اركبوا فيها أي في السفينة (بسم الله م ج رتها وم ر س اه ا) قرأ حمزة والكسائي وحفص: (مجرتها) بفتح الميم (وم رساها) بضمها وقرأ محمد بن محيصن (مج ريها وم رساها) بفتح الميمين من جرت ورست أي: بسم الله جريها ورسوها وهما مصدران. وقال الآخرون: (م جراها وم رساها) بضم الميمين من أجريت وأرسيت أي: بسم الله اجراؤ ها وإرساؤها وهما أيضا مصدران كقوله (أنزلني م نزلا ومباركا. وأدخلني م دخل صدق وأخرجني م خرج صدق) والمراد منها الإنزال والإدخال والإخراج (إن ربي لغفور رحيم) قال الضحاك: قال نوح إذا أراد أن تجري السفينة قال: بسم الله جرت وإذا أراد أن يرسو قال: بسم الله رست. (وهي تجرى بهم في موج كالجبال) والموج ما ارتفع من الماء إذا اشتدت عليه الريح شبه ه بالجبال في عظمه وارتفاعه على الماء. (ونادى نوح ابنه) كنعان وقال عبيد بن عمير: سام وكان كافرا (وكان في معزل) عنه لم يركب السفينة (يا بني اركب معنا) قرأ نافع وابن عامر وحمزة البزي عن ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ويعقوب: (اركب) بإظهار الباء والآخرون يدغمونها في الميم. (ولا تكن مع الكافرين) فتهلك. (قال) له ابنه (سآوي) سأصير وألتجئ (إلى جبل يعصمني من الماء) يمنعني من الغرق (قال) له نوح (لا عاصم اليوم من أمر الله) أي: من عذاب الله (إلا من رحم) قيل: (من) في محل ارفع أي لا مانع من عذاب الله إلا الله الراحم. وقيل: (من) في محل النصب معناه لا معصوم إلا من رحمة الله كقوله: (في عيشة راضية) أي: مرضية (وحال بينهما الموج فكان) فصار (من المغرقين) ويروي: أن الماء علا على رؤوس الجبال قدر أربعين ذراعا. وقيل: خمسة عشر ذراعا ويروي أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعت الصبي بيديها حتى ذهبت بها الماء فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي.
385

سورة هود (آية 44 46) (وقيل) يعني بعدما تناهى أمر الطوفان. (يا أرض ابلعي) اشربي (ماء ك ويا سماء اقلعي) امسكي (غي ض الماء) نقص وضب يقال: غاض الماء يغيض غيضا إذا نقص وغاض الله أي أنقصه (وقضي الأمر) فرغ من الأمر وهو هلاك القوم (واستوت) يعني السفينة استقرت (على الج ودي) وه جبل بالجزيرة بقرب الموصل (وقيل بعدا) هلاكا (للقوم الظالمين) وروي أن نوحا عليه السلام بعث الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع فبعث حمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين فعلم نوح الماء قد نضب فقيل إنه دعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت وطوق الحمامة الخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت وروي: أن نوحا ركب السفينة لعشر مضت من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرت بالبيت فطافت به سبعا وقد رفعه الله من الغرق وبقي موضعه وهبطوا به يوم عاشوراء فصام نوح وأمر جميع من معه بالصوم شطرا لله عز وجل. وقيل: ما نجا من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق كان الماء إلى حجزته وكان سبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقله فحمله عوج عليه من الشام فنجاه الله تعالى من الغرق لذلك. قوله تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي) أو قد وعدتني أن تنجيني وأهلي (وإن وع د ك الحق) لا خلف فيه (وأنت أحكم الحاكمين) حكمت على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك. (قال) الله عز وجل (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) قرأ الكسائي ويعقوب: (عم ل) بكسر الميم وفتح اللام (غير) بنصب الراء على الفعل أي: عمل الشرك والتكذيب. وقرأ الآخرون بفتح الميم ورفع اللام تنويه (غير) برفع الراء معناه: أن سؤالك إي اي أن أنجيه عمل غير صالح (فلا تسأل ن) يا نوح (ما ليس لك به ع ل م) قرأ أهل الحجاز والشام (فلا تسألني) بفتح اللام وتشديد النون ويكسرون النون غير ابن كثير فإنه يفتحها. وقرأ الآخرون بجزم اللام وكسر النون خفيفة ويثبت أبو جعفر وأبو عمرو وورش الياء في الوصل دون الوقف وأثبتها يعقوب في الحالين (إني أعظ ك أن تكون من الجاهلين) واختلفوا في هذا الابن قال مجاهد والحسن: كان ولد حدث من غير نوح ولم يعلم بذلك نوح ولذلك قال: (ما ليس لك به علم) وقرأ الحسن (فخانتاهما)
386

وقال أبو جعفر الباقر: كان ابن امرأته وكان يعلمه نوح ولذلك قال (من أهلي) ولم يقل مني. وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرون: إنه كان ابن نوح عليه السلام من صلبه. وقال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط. وقوله: (إنه ليس من أهلك) أي: من أهل الدين. وقوله: (فخانتهما) أي: في الدين والعمل لا في الفراش. وقوله: (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) يعني: تدعو بهلاك الكفار ثم تسأل نجاة كافر. سورة هود (آية 47 50) (قال) نوح (ربي إني أعوذ بك أن أسأل ك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين). (قيل يا نوح اهبط) إنزل من السفينة (بسلام منا) أي بأمن وسلامة منا (وبركات عليك) البركة هي ثبوت الخير منه بروك البعير. وقيل: البركة ههنا هي أن الله تعالى جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة (وعلى أمم ممن معك) أي: على ذرية أمم ممن كان معك في السفينة يعني على قرون تجيء بعدك من ذرية من معك في السفينة يعني: من ولدك وهم المؤمنون قال محمد بن كعب القرظي: دخل فيه كل مؤمن إلى يوم القيامة. (وأمم س ن م ت ع ه م) هذا ابتداء أي: أمم سنمتعهم في الدنيا (ثم يمس ه م م نا عذاب أليم) وهم أهل الكافرون وأهل الشقاوة. (تلك من أنباء الغيب) من أخبار الغيب (نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) من قبل نزول القرآن (فاص ب ر) على القيام بأمر الله وتبليغ الرسالة وما تبقى من أذى الكفار كما صبر نوح (إن العاقبة) آخر الأمر بالسعادة والنصرة (للمتقين) لأهل التقوى. قوله تعالى: (وإلى عاد) أي: وأرسلنا إلى عاد (أخاهم هودا) في النسب لا في الدين (قال يا قوم اعبدوا الله) وحدوا الله (ما لكم من إله غير ه إن أنتم إلا م فترون) ما أنتم في إشراككم إلا كاذبون.
387

سورة هود (آية 51 56) (يا قوم لا أسئل كم عليه) أي: على تبليغ الرسالة (أجرا) جع لا (إن أجري) ما ثوابي (إلا على الذين فطرني) خلقني (أفلا تعقلون). (ويا قوم استغفروا ربكم) أي: آمنوا به ما لاستغفار ههنا بمعنى الإيمان (ثم توبوا إليه) من عبادة غيره ومن سالف ذنوبكم (يرسل السماء م د ر ارا) أي: يرسل المطر عليكم متتابعا مرة بعد أخرى في أوقات الحاجة (ويزيد قوة إلى قوتكم) أي: شدة مع شدتكم. وذلك أن الله عز وجل حبس عنهم المطر ثلاث سنين وأعقم أرحام نسائهم فلم يلدن فقال لهم هود عليه السلام: إن آمنتم أرسل الله عليكم المطر فتزدادون مالا ويعيد أرحام الأمهات إلى ما كانت فيلدن فتزدادون قوة بالأموال والأولاد. وقيل
: تزدادون قوة في الدين إلى قوة في البدن (ولا تتولوا م جرمين) أي: لا تدبروا مشركين. (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة) أي: ببرهان وحجة واضحة على ما تقول (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) أي: بقولك (وما نحن لك بمؤمنين) بمصدقين. (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) يعني: ليست تتعاطى ما نتعاطاه من مخالفتنا وسب آلهتنا إلا أن بعض آلهتنا إعتراك أي: أصابك بسوء بخبل وجنون وذلك أنك سببت آلهتنا فانتقموا منك بالتخبيل لا نحمل أمرك إلا على هذا (قال) لهم هود (إني أ شهد الله) على نفسي (واشهدوا) يا قوم (إني بريء مما ت شركون). (من د ون ه) يعني: الأوثان (فكيدوني جميعا) فاحتالوا في مكركم وضري أنتم وأوثانكم (ثم لا ت ن ظ ر ون) لا تؤخرون ولا تمهلون. (إني توكلت) أي: اعتمدت (على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناص يت ها) قال الضحاك
388

محييها وميتها. قال الفراء: مالكها والقادر عليها. وقال بعض العلماء: آخذ بناصيتها لا تتوجه إلا حيث يلهمها وقال القتيبي: يقهرها لأن من أخذت فقد قهرته. وقيل: لإنما خص الناصية بالذكر لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا يالذلة فتقول: ناصية فلان بيد فلان وكانوا إذا أسروا إنسانا وأرادوا إطلاقه والم ن عليه جزوا ناصيته ليتعدوا بذلك فخرا عليه فخاطبهم الله بما يعرفون. (إن ربي على صراط مستقيم) يعني: إن ربي وإن كان قادرا عليهم فإنه لا يظلمهم ولا يعمل إلا بالإحسان والعدل فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإحسانه والمسيء بعصيانه. وقيل: معناه إن دين ربي صراط مستقيم. وقيل: فيه إضمار أي: إن ربي يحثكم ويحملكم على صراط مستقيم. (فإن تولوا) أي: تتولوا يعني: تعرضوا عما دعوتكم إليه (فقد أبلغتم ما أ رسلت به إليكم ويستخلف ربي قزما غيركم) أي: إن أعرضتم يهلككم الله عز وجل ويستبدل قوما غيركم أطوع منكم يوحدونه ويعبدونه (ولا تض ر ون ه شيئا) بتوليكم وإعراضكم إنما تضرون أنفسكم. وقيل: لا تنقصونه شيئا إذا أهلككم لأن وجودكم وعدمكم عنده سواء (إن ربي كل شيء حفيظ) أي: لكل شيء حافظ يحفظني من أن تنالوني بسوء. قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا) عذابنا (نجينا هودا والذين آمنوا معه) وكانوا أربعة آلاف. (برحمة) بنعمة (من ا ونجيناهم من عذاب غليظ) وهو الريح التي أهلك بها عادا وقيل: العذاب الغليظ: عذاب يوم القيامة أي: كما نجيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجيناهم في الآخرة. (وت ل ك عاد) رده إلى القبيلة (جحدوا بآيات ربهم وعصو ا ر س ل ه) يعني: هودا وحده ذكره بلفظ الجمع لأن من كذ ب رسولا واحدا كان كمن كذب جميع الرسل (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) أي: واتبع السفلة والسقاط أهل التكبر والعناد. والجبار: المتكبر والعنيد: الذي لا يقبل الحق يقال: ع ن د الرجل يعند عنودا إذا أبى أن يقبل الشيء وإن عرفه. وقال أبو عبيدة: العنيد والعاند والعنود والمعاند المعارض لك بالخلاف.
389

سورة هود (آية 60 63) (واتبعوا في هذه الدنيا لعنة) أي: أردفوا لعنة تلحقهم وتنصرف معهم واللعنة: هي الأبعاد والطرد عن الرحمة (ويوم القيامة) أي: وفي يوم القيامة أيضا لعنوا كما لعنوا في الدنيا والآخرة (ألا إن عادا كفروا ربهم) أي: بربهم يقال: كفرته وكفرت به كما يقال: شكرته وشركت له ونصحته ونصحت له. (ألا ب عدا لعاد قوم هود) قيل: بعدا من رحمة الله. وقيل: هلاكا والبعد له معنيان: أحدهما ضد القرب يقال: منه بعد يبعد بعدا والآخر بمعنى الهلاك يقال منه بعد يبعد بعدا والآخر بمعنى الهلاك يقال: منه بعد يبعد بعدا وبعدا. قوله تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحا) أي: وأرسلناإلى ثمود أخاهم ثالحا في النسب لا في الدين (قال يا قوم اعبدوا الله) وحدوا الله عز وجل (ما لكم من إله غير ه هو أنشأكم) ابتدأ خلقكم (من الأرض) وذلك أنهم من آدم وآدم خلق من الأرض (واستعمركم فيها) أي: جعلكم ع م ار ها وسكانها. وقال الضحاك: أطال عمركم فيها حتى كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة وكذلك قوم عاد. وقال مجاهد: أعمركم من العمري أي: جعلها لكم ما عشتم. وقال قتادة: أسكنكم فيها (فاستغفروا ثم توبوا إليه من ربي قريب) من المؤمنين (مجيب) لدعائهم. (قالوا) يعني ثمود (يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) القول أي: كنا نرجو أن تكون سيدا فينا. وقيل: كنا نرجو أن تعود إلى ديننا وذلك أنهم كانوا يرجون رجوعه إلى دين عشيرته فلما أظهر دعاءهم إلى الله عز وجل وترك الأصنام زعموا أن رجاءهم انقطع عنه فقالوا (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) من الآلهة (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) موقع للريبة والتهمة يقال: أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب له الربية. (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة) نبوة وحكمة (فمن ينصرني من
390

الله) أي: من يمنعني من عذاب الله (إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير) قال ابن عباس: معناه ما تزيدونني غير بصارة في خسارتكم. قال الحسين بن الفضيل: لم يكن صالح عليه السلام في خسارة حتى قال فما تزيدونني غير تخسير وإنما المعنى ما تزيدونني بما تقولون من الفحش إلا نسبتي إياكم إلى الخسارة والتفسيق والتفجير في اللغة هو: النسبة إلى الفستق والفجور وكذلك التخسير هو: النسبة إلى الخسران. سورة هود (آية 64 67) (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية) نصب على الحال والقطع وذلك أن قوما طلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من هذه الصخرة وأشاروا إلى صخرة فدعا صالح عليه السلام فخرجت منها ناقة وولدت في الحال ولدا مثلها وقد بيناه في سورة الأعراف. فهذا معنى قوله: (هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله) من العشب والنبات فليست عليكم مؤنتها (ولا تمسوها بسوء) ولا تصيبها بعقر (فيأخذكم) إن قتلتموها (عذاب قريب). (فعقروها فقال) لهم صالح (تمتعوا) عيشوا (في داركم) أي: في دياركم (ثلاثة أيام) ثم تهلكون (ذلك وعد غير مكذوب) أي: غير كذب. روي أنه قال لهم: يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام فتصبحون اليوم الأول وجوهكم مصفرة وفي اليوم الثاني محمرة وفي اليوم الثالث مسودة فكان كما قال وأتاهم العذاب اليوم الرابع. قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا) بنعمة منا (ومن خزي يومئذ) أي: من عذابه وهو أنه قرأ أبو جعفر ونافع الكسائي (خزي يومئذ وعذاب يومئذ) بفتح الميم وقرأ الباقون بالكسر. (إن ربك هو القوي العزيز). (وأخذ الذين ظلموا) كفروا (الصيحة) وذلك أن جبريل عليه السلام صاح عليهم صاح عليهم صيحة واحدة فهلكوا جميعا. وقيل: أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم. وإنما قال: (أخذ) والصيحة مؤنثة لأن الصيحة بمعنى الصياح. (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) صرعى هلكى.
391

سورة هود (آية 68 71) (كأن لم يغنوا فيها) يقيموا ويكونوا (ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) قرأ حمزة وحفص ويعقوب: (ثمود) غير منون وكذلك في سورة الفرقان والعنكبوت والنجم وافق أبو بكر في النجم وقرأ الباقون بالتنوين وقرأ الكسائي: (لثمود) بخفض الدال والتنوين والباقون بنصب الدال فمن جره فلأنه اسم
مذكر ومن لم يجره جعله اسما للقبيلة. قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا وإبراهيم بالبشرى) أراد بالرسل الملائكة عليهم السلام. واختلفوا في عددهم فقال ابن عباس وعطاء: كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقال الضحاك: كانوا تسعة وقال مقاتل: كانوا إثنى عشر ملكا. وقال محمد بن كعب: كان جبريل ومعه سبعة. وقال السدي: كانوا أحد عشر م ل كا على صورة الغلمان الوضاء وجوههم بالبشرى والبشارة بإسحاق ويعقوب. وقيل: بإهلاك قوم لوط. (قالوا سلاما) أي: سلموا سلاما (قال) إبراهيم (سلام) أي: عليكم سلام: وقيل: هو رفع على الحكاية كقوله تعالى: (وقولوا حطة) وقرأ حمزة والكسائي (سلم) ههنا وفي سورة الذاريات بكسر السين بلا ألف. فيل: هو بمعنى السلام. كما يقال: حل وحلال وحرم وحرام. وقيل: هو بمعنى الصلح أي: نحن سلم أي صلح لكم غير حرب. (فما لبث أن جاء بعجل حينئذ) والحنيذ والمحنوذو هو المشوي على الحجارة في خذ من الأرض وكان سمينا يسيل دسما كما قال في موضع آخر: (فجاء بعجل سمين): قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر. (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه) أي: إلى العجل (نكرهم) أنكرهم (وأوجس) أضمر (منهم خيفة) خوفا. قال مقاتل: وقع في قلبه وأوصل الوجوس: الدخول كان الخوفدخل قلبه. وقال قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يأت بخير وإنما جاء بشر. (قالوا لا تخف) يا إبراهيم (إن ا) ملائكة الله (أ رس ل ن ا إلى قوم لوط). (وامرأة ه) سارة بنت هاران بن أحور وهي ابنة هم إبراهيم. (قائمة) من وراء الستر تسمع كلامهم. وقيل: كانت قائمة تخدم الرسل وإبراهيم جالس معهم. (ف ض ح ك ت) قال مجاهد وعكرمة: ضحكت أي: حاضت في الوقت تقول العرب: ضحكت الأرنب أي: حاضت والأكثرون على أن المراد منه الضحك والمعروف. واختلفوا في سبب ضحكها فقيل: ضحكت لزوال الخوف عنها وعن
392

إبراهيم حين قالوا لا تخف. وقال السدي: لما قر ب إبراهيم الطعام فلم يأكلوا خاف إبراهيم وظنهم لصوصا فقال لهم: ألا تأكلون قالوا: إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن فقال إبراهيم: فإن له ثمنا قالوا وما ثمنه قال تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل عليهم الصلاة السلام وقال: حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه ضحكت سارة وقالت: يا عجبا لأضيافنا إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا. وقال قتادة: ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم. وقال مقاتل والكلبي: ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة في بيته وه فيما بين خدمه وحشمه. وقال: ضحكت سرورا بالبشارة. وقال ابن عباس ووهب: ضحكت تعجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها. وعلى هذا القول تكون الآية على التقدم والتقدير وتقديره: وامرأته قائمة فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت وقال: يا ويلتي أألد وأن عجوز قوله تعالى: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق) أي: من بعد إسحاق (يعقوب) أراد به والدا لولد فبشرت أنها تعيش حتى ترى ولد ولدها قرأ ابن عامر وحمزة وحفص يعقوب بنصب الباء أي: من وراء إسحاق يعقوب. وقيل: بإضمار فعل أي: ووهبنا له يعقوب. وقرأ الباقون بالرفع على حذف حرف الصفة. وقيل: ومن بعد إسحاق يحدث يعقوب فلما بشرت بالولد ضحكت فصكت وجهها أي: ضربت وجهها تعجبا. (قالت يا ويلتا) نداء ندبة وهي كلمة يقولها الإنسان عند رؤية ما يتعجب منه أي: يا عجبا. والأصل يا ويلتاه. (أألد وأنا عجوز) وكانت ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد: تسعا وتسعين سنة. (وهذا ب ع ل ي) أي: زوجي سمي بذلك لأنه قيم أمرها (شيخا) نصب على الحال وكان سن إبراهيم مائة وعشرين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد: متئة سنة. وكان بين البشارة والولادة سنة (إن هذا لشيء عجيب). (قالوا) يعني الملائكة (أتعجبين من أمر الله) معناه لا تعجبي من أمر الله فإن الله عز وجل إذا أراد شيئا كان. (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) أي: بيت إبراهيم عليه السلام قيل: هذا على معنى الدعاء معنى الخير والرحمة والنعمة. والبركات جمع البركة وهي ثبوت الخير. وفيه دليل على أن الأزواج من أهل البيت. (إنه حميد مجيد) فالحميد: المحمود في أفعاله والمجيد: الكريم وأصل المجد الرفعة.
393

سورة هود (آية 74 79) (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) الخوف (وجاءته البشرى) بإسحاق ويعقوب (يجادلنا في قوم لوط) فيه إضمار أي: أخذ وظل يجادلنا. قيل: معناه يكلمنا لأن إبراهيم عليه السلام لا يجادل ربه عز وجل إنما يسأله ويطلب إليه. وقال عامة أهل التفسير: معناه يجادل رسلنا وكانت مجادلته أنه قال للملائكة أرأيتم لو كان في مدائن لوط خمسون من المؤمنين أتهلكونهم قالوا: لا قال: أو أربعون قالوا: لا قال: أو ثلاثون قالوا: لا حتى بلغ خمسة قالوا: لا قال: أرأيتم إن كان فيه رجل واحد مسلم أتهلكونها قالوا: لا قال لهم إبراهيم عند ذلك: إن فيها لوطا قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجيه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين فذلك قوله إخبارا عن إبراهيم عليه السلام: (يجادلنا في قوم لوط). (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) قال ابن جريح: وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم. (يا إبراهيم أرض عن هذا) أي: أعرض عن هذا المقال ودع عنك الجدال (إنه قد جاء أمر ربك) أي: عذاب ربك وحكم ربك (وإنهم آتيهم) نازل بهم (عذاب غير مردود) أي: غير مصروف عنهم. قوله تعالى: (ولم جاءت رسلنا) يعني: هؤلاء الملائكة (لوطا) على صورة غلمان مرد حسان الوجوه (س يء بهم) أي: حزن لوط بمجيئهم سؤته فسيء كما يقال: سررته فسر. (وضاق بهم ذرعا) أي: قلبا يقال: ضاق ذرع فلان بكذا إذا وقع بمكروه لا يطيق الخروج منه وذلك أن لوطا عليه السلام لما نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم أشفق عليهم كم قومه أن يقصدوهم بالفاحشة وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم. (وقال هذا يوم عصيب) أي: شديد كأنه عصب به الشر والبلاء أي: شد. قال قتادة والسدي: خرجت الملائكة من عند ربهم عليه السلام نحو قرية قوم لوط فأتوا لوطا نصف النهار وهو في أرض له يهمل فيها. وقيل: إنه كان يحتطب. وقد قال الله تعالى للملائكة: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطا أربع شهادات فاستضافوه فانطلق بهم فلما مشي بهم ساعة قال لهم: ما بلغكم أمر أهل هذه القرية قالوا: وما أمرهم قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا يقول ذلك أربع مرات فدخلوا معه منزله. وروي: أنه حمل الحطب وتبعته الملائكة فمر
394

على جماعة من قومه فغمزوا فيما بينهم فقال لوط: إن قومي شر خلق الله ثم مر على قوم آخرين فغمزوا فقال مثله ثم مر بقوم فقال مثله ثم مر بقوم فقال مثله فكان كلما
قال لوط هذا القول قال جبريل للملائكة: اشهدوا حتى أتى منزله. وروي: أن الملائكة جاؤوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره ولم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيت الوط فخرجت امرأتها فأخبرت قومها وقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط. سورة هود (آية 78 80) (وجاءه قومه يهرعون إليه) قال ابن عباس وقتادة: يسرعون وقال مجاهد: يهرولون وقال الحسن: مشى بين مشيتين. قال شمر بن عطية: بين الهرولة والجمز (ومن قبل) أي: من قبل مجيئهم إلى لوط (كانوا يعملون السيئات) كانوا يأتون الرجال في أدبارهم. (قال) لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان (يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) يعني: بالتزويج وفي أضيافه ببناته وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزا كما زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وكانا كافرين. وقال الحسين بن الفضل: عرض بناه عليهم بشرط الإسلام. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: قوله (بناتي هن أطهر لكم) أراد نساءهم وأضاف إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمته وفي قراءة أبي بن كعب: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) وهو أب لهم وقيل: ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على التحقيق فلم يرضوا هذا القول. (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي) أي: خافوا الله ولا تخزون في ضيفي أي: لا تسوؤني ولا تفحصوني في أضيافي. (أليس منكم رجل رشيد) صالح سديد وقال عكرمة: رجل يقول ل إله إلا الله. وقال ابن إسحاق: رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. (قالوا لقد علمت) يا لوط (ما لنا في بناتك من حق) أي: لسن أزواجا لنا فنستحقهن بالنكاح وقيل: معناه مال ن ا فيهن من حاجة وشهوة. (وإنك لتعلم ما نريد) من إتيان الرجال. (قال) لهم لوط عند ذلك: (لو أن لي بكم قوة) أراد قوة البدن والقوة بالأتباع (أو آوي إلى ركن شديد) أي: انضم إلى عشيرة مانعة. وجواب (لو) مضمر أي لقتلناكم وحملنا بينكم وبينهم قال أبو هريرة: ما بعث الله بعده نبيا إلا في منعة من عشيرته. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل أنبأنا أبو اليمان أنبأ شعيب بن أبي حمزة أنبأنا أبو الزناد عن الأعرج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن
395

شديد قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب وهم يعالجون تسو ر الجدار فلما رأت الملائكة ما يلقى لوط بسببهم. (قالوا يا لوط) إن ر كنك لشديد (إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخل فاستأذن جبريل ربه عز وجل في عقوبتهم فأذن له فقال في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا أجلى الجبين ورأسه حبك مثل المرجان كأنه الثلج بياضا وقدماه إلى الخضر فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعمى أبصارهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم فانصرفوا وهم يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض سحرونا وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى تصبح فسترى ن أتلقى منا غدا يوعدونه فقال الملائكة: لا تخف إني أرسلنا لإهلاكهم فقال لوط للملائكة: متى موعد إهلاكهم فقالوا: الصبح. فقال: أريد أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن فقالوا: (أليس الصبح بقريب) ثم قالوا: (فأسر) يا لوط (بأهل ك) قرأ أهل الحجاز (فاس ر وأن اس ر) بوصل الألف حيث وقع في القرآن من سرى يسري وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يسري ومعناهما واحد وهو المسير بالليل. (بقطع من الليل) قال ابن عباس: بطائفة من الليل. وقال الضحاك: ببقية. وقال قتادة: بعد مضي أوله. وقيل: إنه السحر الأول. (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (مرأت ك) برفع التاء على الاستثناء من الالتفات أي: لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت فتهلك وكان لوط قد أخرجها معه ونهى من معه ممن أسرى بهم أن يلتفت سوى زوجته فإنها لما سمعت هذا العذاب التفت وقالت: يا قوماه فأدركها حجر فقتلها. وقرأ الآخرون بنصب التاء على الاستثناء من الإسراء أي: فأسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسربها وخلفها مع قومها فإن هواها إليهم وتصديقه قراءة ابن مسعود (فأس ر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ولا يلتفت منكم أحد). (إن ه م صيب ها ما أصابهم) من العذاب (إن موعدهم الص ب ح) أي: موعد هلاكهم وقت الصبح فقال لوط: أريد أسرع من ذلك فقالوا: (أليس الص ب ح بقريب). قوله: (فلما جاء أمر نا) عذابنا (جعلنا عاليه ا سافلها) وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤاتفكات وهي خمس مدائن وفيها أربعمائة ألف. وقيل: أربعة آلاف ألف فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب فلم ي كفأ لهم إناء ولم ينتبه نائم ثم
396

قلبها فجعل عاليها سافلها. (وأمطرنا عليه) أي على شذاذها ومسافريها. وقيل: بعدما قلبها أمطر عليها (حجارة من سجيل) قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن الجبير [سنك كل] قارسي معرب. وقال قتادة وعكرمة: السجيل الطين دليله قوله عز وجل: (لنرسل عليهم حجارة من طين) قال مجاهد: أولهما حجر وآخرها طين. وقال الحسين: كان أصل الحجارة طينا فشددت. وقال الضجاك: يعني الآجر. وقيل: السجيل اسم السماء الدنيا. وقيل: هو جبال في السماء قال الله تعال: (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) قوله تعالى: (منضود) قال ابن عباس رضي الله عنهما متتابع يتبع بعضهما بعضا مفعول من النضد وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض. سورة هود (آية 83 85) (مسومة) من نعت الحجارة وهي نصب على الحال ومعناها معلمة: قال ابن جريح: عليها سيما لا تشاكل كل حجارة الأرض. وقال قتادة وعكرمة: عليها خطوط حمر على هيئة الجزع. وقال الحسن والسدي: كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم. وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رمى به. (عند ربك وما هي) يعني: تلك الحجارة (من الظالمين) أي: من مشركي مكة (ببعيد) وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة والله ما أجار منها ظالما بعد. وفي بعض الآثار: ما من ظالم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. وروي: أن الحجر اتبع شذاذهم ومسافريهم أين كانوا في بلاد ودخل رجل منهم الحرم فكان الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج فأصابه فأهلكه. قوله عز وجل: (وإلى مدين) أي: وأرسلنا إلى ولدي مدين (أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان) أي: لا تبخسوا وهم كانوا يطففون مع شركهم (إني أراكم بخير) قال ابن عباس: موسرين في نعمة. وقال مجاهد: في خصب وسعة فحذرهم زوال النعمة وغلاء السعر وحلول النقمة إن لم يتوبوا. (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) يحيط بكم فيهلككم. (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان) أتموهما (بالقسط) بالعدل. وقيل: بتقويم لسان الميزان (ولا تبخسوا) لا تنقصوا (الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
397

سورة هود (آية 86 89) (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير مما تأخذونه بالطفيف. وقال مجاهد: بقيت الله أي طاعة الله خير لكم إن كنتم مؤمنين إن ما عندكم من رزق الله عطاؤه. (وما أنا عليكم بحفيظ) بوكيل. وقيل: إنما قال ذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم. (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) من الأوثان. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان شعيب عليه السلام كثير الصلاة. لذلك قالوا هذا. وقال الأعمش: يعني أقراءتك. (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) أو نفعل في أموالنا ما نشاء من الزيادة والنقصان. وقيل: كان شعيب عليه السلام قد نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم زعم أن محرم عليهم فقالوا أو نفعل في أموالنا ما نشاء من قطعها. (إنك لأنت الحليم الرشيد) قال ابن عباس رضي الله عنهما أرادوا السفيه الغاوي والعرب تصف الشيء بضده فتقول: للديغ سليم وللفلاة مفازة. وقيل: قالوا على وجه استهزاء وقيل معنى الحليم الرشيد بزعمك. وقيل: هو على صحة أي أنك يا شعيب فبنا حليم رشيد لا يحمل بك شق عصا قومك ومخالفة دينهم وهذا كما قال قوم صالح عليه السلام: (قد كنت فينا مرجوا قبل هذا). (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة) بصيرة وبيان (من ربي ورزقني منه رزقا حسنا) حلالا. وقيل: كثيرا وكان شعيب عليه السلام كثير المال. وقيل: الرزق الحسن: العلم والمعرفة. (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) أي: ما أريد أن أنهاكم عن شيء ثم أرتكبه. (إن أريد) ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه (إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله) والتوفيق: تسهيل سبيل الخير والطاعة. (عليه توكلت) اعتمدت (وإليه أنيب) أرجع فيما ينزل بي من النوائب. وقيل: في المعاد. (ويا قوم لا يجر منكم) لا يحملنكم (شقاقي) خلافي (أن ي صيبكم) أي: على فعل ما أنهاكم معه (مثل ما أصاب قوم نوح) من الغرق (أو قوم هود) من الريح (أو قوم صالح) من الصيحة (وما قوم لوط منكم ببعيد) وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط. وقيل معناه وما دار قوم لوط منكم ببعيد وذلك أنهم كانوا جيران قوم لوط.
398

سورة هود (90 93) أنهالكم عنه مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق أو قوم هود منالريح أ قوم صالح من الصيحة وما قوم لوط منكم ببعيد وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط وقيل معناه وما دار قوم لوط منكم ببعيد وذلك أنهم كانوا جيران قوم لوط واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود والودود له معنيان أحدهما أنه محب للمؤمنين وقيل هو بمعنى الودود أي محبوب للمؤمنين وجاء في الخبر إن شعيبا عليه السلام كان خطيب الأنبياء عليه السلام قالوا يا شعيب ما نفقه ما نفهم كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا وذلك أنه كان ضرير البصر فأرادوا ضعف البصر ولولا رهطك عشيرتك وكان في منعة من قومه لرجمناك لقتلناك والرحم أقبح القتل وما أنت علينا عندنا بعزيز ويا قوم أرهطي أعز عليكم من الله أمكان رهطي أهيب عندكم من الله أي إن تركتم قتلي لمكان رهطي فالأولى أن تحفظوني في الله واتخذتموه وراءكم ظهريا أي نبذتم أمر الله وراء ظهوركم وتركتموه إن ربي بما تعملون محيط ويا قوم اعملوا على مكانتكم أي على تؤدتكم وتمكنكم يقال فلان يعمل على مكانته إذا عمل على تؤدة وتمكن إني عامل على تمكني سوف تعلمون أينا الجاني على نفسه والمخطئ في فعله فذلك قوله من يأتيه عذاب يخزيه يذله ومن هو كاذب قيل من في محل النصب أي فسوف تعلمون الكاذب وقيل محله رفع تقديره ومن هو كاذب يعلم كذبه ويذوق وبال أمره وارتقبوا وانتظروا العذاب إني معكم رقيب منتظر
399

سورة هود (95 101) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة قيل إن جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة فخرجت أرواجهم وقيل أتتهم صيحة من السماء فأهلكتهم فأصبحوا في ديارهم جاثمين ميتين كأن لم يغنوا أي كأن لم يقيموا ولم يكونوا فيها ألا بعدا هلاكا لمدين كما بعدت هلكت ثمود قوله عز وجل ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين حجة بينة إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد بسديد يقدم قومه يتقدمهم يوم القيامة فأوردهم فأدخلهم النار وبئس الورد المورود أي بئس المدخل والمدخول فيه وأتبعوا في هذه أي في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود أي العون المعان وقيل العطاء المعطى وذلك أنهم ترادفت عليهم اللعنتان لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم عامر وحصيد خراب وقيل منها قائم بقيت الحيطان وسقطت السقوف وحصيد أي انمحي أثره وقال مقاتل قائم يرى له أثر وحصيد لا يرى له أثر وحصيد بمعنى محصود وما ظلمناهم بالعذاب والهلاك ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أم ربك عذاب ربك وما زادوهم غير تتبيب أي غير تخسير وقيل تدمير
400

سورة هود (102 106) وكذلك وهكذا أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا صدقة بن الفضل أنبأنا أبو معاوية أنبأنا يزيد بن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال ثم قرأ وكذلك أخذ القرى وهي ظالمة الآية قوله عز وجل إن في ذلك لآية لعبرة لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس يعني يوم القيامة وذلك يوم مشهود أي يشهده أهل السماء والأرض وما يؤخره أي وما نؤخر ذلك اليوم فلا نقيم عليكم القيامة وقرأ يعقوب وما يؤخره بالياء إلا لأجل معدود معلوم عند الله يوم يأت بإثبات الياء وحذفها لا تكلم أي لا تتكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد أي فمنهم من سبقت له الشقاوة ومنهم من سبقت له السعادة أخبرنا أبو سعيد بن عبد الله بن أحمد الطاهري أنبأنا جدي أبو سهل بن عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز أنبأنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري أنبأنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدبري أنبأنا عبد الرواق أنا معمر عن منصور عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله قال خرجنا على جنازة فبينا نحن بالبقيع إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده محضرة فجاء فجلس ثم نكث بها الأرض ساعة ثم قال ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة والنار إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة قال فقال رجل أفلا نتطل على كتابنا يا رسول الله وندع العمل قال لا ولكن اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل الشقاء فسييسرون لعمل أهل الشقاء وأما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة قال ثم تلا فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى قوله فأما الذين سقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق قال ابن عباس رضي الله عنهما الزفير
401

سورة هود (107 108) الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف وقال الضحاك ومقاتل الزفير أول نهيق الحمار والشهيق آخره إذا ردده في جوفه وقال أبو العالية الزفير في الحلق والشهيق في الصدر خالدين فيها لا بثين مقيمين فيها ما دامت السماوات والأرض قال الضحاك ما دامت سماوات الحنة والنار وأرضها وكلما علاك وأظلك فهو سماء وكلما استقرت عليه قدمك فهو أرض وقال أهل المعاني هذا عبارة عن التأييد على عادة العرب يقولون لا آتيك ما دامت السماوات والأرض ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار يعنون أبدا قوله إلا ما شاء ربك اختلفوا في هذين الاستثنائين فقال بعضهم الاستثناء في أهل الشقاء يرجع إلى قوم من المؤمنين يدخلهم الله النار سعداء استثناهم الله من جملة الأشقياء وهذا كما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا حفص بم عمر ثنا هشام عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليبصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلها الله الجنة بفضل رحمته فيقال لهم الجهنميون وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي قال أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أما مسدد أخبرنا يحيء عن الحسن بن ذكوان أنبأنا أو رجاء حدثني عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين وأما الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدة لبثهم في النار قبل دخول الجنة وقيل إلى ما شاء ربك من الفريقين من تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ ما بين الموت والبعث قبل مصيرهم إلى الجنة أ النار يعني هم خالدون في الجنة أو النار لا هذا المقدار وقيل معنى إلا ما شاء ربك سوى ما شاء ربك معناه فالدين فيها ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء الله من الزيادة على قدر بقاء السماوات والأرض وذلك هو الخلود فيها كما تقول لفلان علي ألف إلا الألفين أي سوى الألفين اللتين تقدمتا وقيل إلا بمعنى الواو أي وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة كقوله لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا أي ولا الذين ظلموا وقيل معناه ولو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء لأنه حكم له بالخلود وقال الفراء هذا استثناء استثناه الله ولا يفعله كقولك والله لا ضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه إن ربك فعلا لما يريد وأما الذين سعدوا قرأ حمزة والكسائي وحفص سعدوا يضم السين وكسر العين أي رزقوا
402

سورة هود (109 111) السعادة وسعدوا أسعد بمعنى واحد وقرأ الآخرون بفتح السين قياسا على شقوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك قال الضحاك إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة قال قتادة الله أعلم بثنياه عطاء غيلا مجذوذ أي غير مقطوع قال ابن زيد أخرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنة فقال عطاء غير مجذوذ لم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار عن ابن مسعود رضي الله عنه قال ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله ومعناه عند أهل السنة إن ثبت أن لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان وأما مواضع الكفار فممتلئة أبدا فلا تك في مرية في شك مما يعبد هؤلاء أنهم ضلال ما يعبدون إلا كما يعبد فيه إضمار أي كما كان يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم حظهم من الجزاء غير منقوص ولقد آتينا موسى الكتاب التوراة فاختلف فيه فمن مصدق به ومكذب كما فعل قومك بالقرآن يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عنهم لقضي بينهم أي لعذبوا في الحال وفرغ من عذابهم وإهلاكهك وإنهم لفي شك منه مريب موقع في الريبة والتهمة وإن كلا قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر وإن كلا ساكنة النون على تخفيف إن الثقيلة والباقون بتشديدها لما مشدد هنا وفي يس والطارق ابن عامر وعاصم وحمزة وافق أبو جعفر ههنا وفي الطارق وفي الزخرف بالتشديد عاصم وحمزة والباقون بالتخفيف فمن شدد قال الأصل فيه وإن كلا لمن ما فوصلت من الجارة بما فانقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن فبقيت لما بالتشديد وما ههنا بمعنى من هو اسم لجماعة من الناس كما قال تعالى فانكحوا ما طاب لكم أي من طاب لكم والمعنى وإن كلا لمن حجماعة ليوفينهم ومن قرأ بالتخفيف قال ما صلة زيدت بين اللامين ليفصل بينهما كراهة اجتماعهما والمعنى وإن كلا ليوفينهم وقيل ما بمعنى من تقدير لمن ليوفينهم واللم في لما لام
403

سورة هود (112 114) التأكيد التي تدخل على خبر إن وفي ليوفينهم لام القسم والقسم مضمر تقديره والله ليوفينهم ربك أعمالهم أي جزاء أعمالهم إنه بما يعملون خبير قوله عز وجل فاستقم كما أمرت أي استقم على دين ربك والعمل به والدعاء إليه كما أمرت ومن تاب معك أي من آمن معك فليستقيموا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الاستقامة أ تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي أنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان أنا والدي إملاء ثنا أبو بكر محمد بن إسحاق ثنا محمد بن العلاء بن كريب ثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال قل آمنت بالله ثم أستقم (ولا تطغوا) لا تجاوزا أمري ولا تعصوني وقيل معناه ولا تغلوا فتزيدوا على ما أمرت ونهيت إنه بما تعملون بصير لا يخفى عليه من أعمالكم شئ قال ابن عباس رضي الله عنهما ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية ولذلك قال شيبتني هود وأخواتها أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عبد السلام بن مظهر ثنا عمرو بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من ا لدلجة قوله عز وجل ولا تركنوا إلة ال 1 ين ظلموا قال ابن عباس رضي الله عنهما ولا تميلوا والركون هو المحبة والميل بالقلب وقال أبو العالية لا ترضوا بأعمالهم قال السدي لا تداهنوا الظلمة ون عكرمة لا تطيعونهم وقيل لا تسكنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم فتصيبكم النار وما لكم من دون الله من أولياء أي أعوان يمنعونكم من عذابه ثم لا تنصرون قوله عز وجل وأقم الصلاة طرفي النهار أي الغداة والعشي قال مجاهد طرفا النهار صلاة الصبح والظهر والعصر وزلفا من الليل صلاة المغرب والعشاء وقال مقاتل صلاة الفجر
404

سورة هود (115) والظهر طرف وصلاة العصر وا لمغرب طرف وزلفا من الليل يعني صلاة العشاء وقال الحسن طرفا النهار والصبح والعصر وزلفا من الليل المغرب والعشاء وقال ابن عباس رضي الله عنهما طرفا النهار الغداة والعشي يعني صلاة الصبح والمغرب قوله وزلفا من الليل أي ساعته واحدتها زلفة وقرأ أبو جعفر
زلفا بضم اللام إن الحسنات يذهبن السيئات يعني إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات وروي أنها نزلت في أبي اليسر وهو كعب بن عمرو الأنصاري قال اتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت لها إن في البيت تمرا أطيب منه فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها ثم ندمت فأتيت أبا بكر رضي الله عنه فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فأتيت عمر رضي الله عنه فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر فأتيت رسول الله فذكرت ذلك فقال أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل الآية فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهذا خاصة أم للناس عامة قال بل للناس عامة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل أنبأ ا قتيبة بن سعيد ثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا منالليل إن الحسنات يذهبن السيئات قال الرجل يا رسول الله ألي هذا لجميع أمتي كلهم وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى الجلودي أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج حدثني أبو طاهر وهارون بن سعيد الأيلي قالا حدثنا ابن وهب عن أبي صخر أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدثه عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر وأخبرنا عبد الواحد المليحي أنا محمد الحسين بن أحمد المخلدي أنبأنا أبو العباس محمد بن إسحاق أنبأنا قتيبة أنبأنا الليث وبكر بن مضر عن أبن الهادي عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أرأيتم لو أن نهرا باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا هل يبقى من درنه شئ قالوا لا يبقى من دونه شئ قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا قوله عز وجل ذلك أي ذلك الذي ذكرنا وقيل هو إشارة إلى القرآ ذكرى عظة للذاكرين أي لمن ذكره واصبر يا محمد على ما تلقى من الأذى وقيل على الصلاة نظيرة وأمر أهلك بالصلاة واصطبر
405

سورة هود (116 119) عليها فإن لله لا يضيع أجر المحسنين في أعمالهم وقال ابن عباس رضي الله عنهما يعني المصلين قوله عز وجل فلولا فهلا كان من القرون التي أهلكناهم من قبلكم الآية للتوبيخ أ لو بقية أي أولو تمييز وقيل أ لو طاعة وقيل أ لو خير يقال فلان ذو بقية إذا كان فيه خير معناه فهلا كان من القرون من قبلكم من فيه خير ينهى عن الفساد في الأرض وقيل معناه أولو بقية من خير يقال فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة ينهون عن الفساد في الأرض أي يقومون بالنهي عن الفساد ومعناه حجدا أي لم يكن فيهم أولو بقية إلا قليلا هذا استثناء منقطع معناه لكن قليلا ممن أنجينا منهم وهم أتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد في الأرض واتبع الذين ظلموا ما أترفوا نعموا فيه والمترف المنعم وقال مقاتل بن حيان خولا وقال الفراء عودوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا أي واتبع الذين ظلموا ما عودوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا على الآخرة وكانوا مجرمين كافرين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم أي لا يهلكهم بشركهم وأهلها مصلحون فيما بينهم يتعاطون الأنصاف ولا يظلم بعضهم بعضا وإنما يهلكهم إذا تظالموا وقيل لا يهلكهم بظلم منه وهم مصلحون في أعمالهم ولمن يهلكهم بكفرهم روكوبهم السيئات قوله عز وجل ولو شاء ربك لجعل الناس كلهم أمة واحدة على دين واحد ولا يزالون مختلفين على أديان شتى من بين يه دي ونصراني ومجوسي ومشترك إلا منرحم ربك معناه لكن من رحم ربك فهداهم إلى الحق فهم لا يختلفون ولذلك خلقهم قال الحسن وعطاء وللاختلاف خلقهم وقال أشهب سألت مالكا عن هذه الآية فقال خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير وقال أبو عبيدة الذي أختاره فقول من قال خلق فريقا لرحمته وفريقا لعذابه وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وللرحمة خلقهم يعني الذين رحمهم وقال الفراء خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف ومحصول الآية أن أهل
406

سورة هود (120 123) الباطل مختلفون وأهل الحق متفقون فخلق الله أهل الحق للاتفاق وأهل الباطل للاختلاف وتمت كلمة ربك وتم حكم ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك معناه وكا الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل أي من أخبارهم وأخبار أممهم نقصها عليك لنثبت به فؤادك لنزيدك يقينا ونقوي قلبك وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصبر لأذى قومه وجاءك في هذه الحق قال الحسن وقتادة في هذه الدنيا وقال غيرهما في هذه السورة وهذا قول الأكثرين خص هذه السورة تشريفا وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور وموعظة أي وجاءتك موعظة وذكر للمؤمنين وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم أمر تهديد ووعيد إنا عاملون وانتظروا ما يحل بنا من رحمة الله إنا منتظرون ما يحل بكم من نقمة الله ولله غيب السماوات والأرض أي ما غاب عن العباد فيهما وإليه يرجع الأمر كله في المعاد قرأ نافع وحفص يرجع بضم الياء وفتح الجيم أي يرد وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الجيم أي يعود الأمر كله حتى لا يكون للخلق أمر فاعبده وتوكل عليه وثق به وما ربك بغافل عنا تعملون قرأ أهل المدينة والشام وحفص ويعقوب تعملون بالتاء ههنا وفي آخر سورة النمل وقرأ الآخرون بالياء فيهما قال كعب خاتمة التوراة خاتمة سورة هود أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب حدثنا أبو عيسى الترمذي ثنا أبو كريب محمد بن العلاء ثنا معاوية بن هشام عن شيبان عن أبي إسحاق عن عكرنة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله قد شبت فقال صلى الله عليه وسلم شيبني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ويروى شيبتني هود وأخواتها من المفصل
407

سورة يوسف (1 3) آلر تلك آيات الكتاب المبين أي البين حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه قال قتادة مبين والله بركته وهداه ورشده فهذا من بان أي ظهر وقال الزجاج مبين الحق من الباطل والحلال من الحرام فهذا م نأبان بمعنى أظهر إنا أنزلناه يعني الكتاب قرآنا عربيا لعلكم تعقلون أي أنزلناه بلغتكم لكي تعلموا معانيه وتفهموا ما فيه نحن نقص عليك أي تقرأ أحسن القصص والقاص هو الذي يتبع الآثار ويأتي بالخبر على وجهه معناة نبين لك أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان وقيل
المراد منه قصة يوسف عليه السلام خاصة سماها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدنيا والدنيا من سير الملوك والمماليك والعلماء ومكر النساء والصبر على أذى الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد الالتقاء وغير ذلك من الفوائد قال خالد بن معدان سورة يوسف وسورة مريم عليهم السلام ينفكه بهما أهل الجنة في الجنة وقال بن عطاء لا يسمع سورة يوسف عليه السلام محزون الا استراح إليها قوله عز وجل بما أوحينا إليك ما المصدر أي بإيحائنا إليك هذا القرآن وإن كنت وقد كنت من قبله أي من قبل وحينا لمن الغافلين لمن الساهبين عن هذه القصة لا تعلمها قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم
408

سورة يوسف (4 5) فتلاه عليهم زمانا فقالوا يا رسول الله لو حدثنا فأنزل الله عز وجل الله نزل أحسن الحديث فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله عز وجل نحن نقص عليك أحسن القصص فقالوا يا رسول الله لو ذكرتنا فأنزل الله عز وجل ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله قوله عز وجل إذ قال ليوسف لأبيه أي اذكر إذ قال يوسف لأبيه ويوسف اسم عبري ولذلك لا يجري عليه الصرف وقيل هو عربي سئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف فقال الأسف في اللغة الحزن والأسيف العبد واجتمع في يوسف عليه السلام فسمي به أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل قال قال عبد الله بن محمد ثنا عبد الصمد عن عبد ا لرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم يا أبت قرأ أبو جعفر وابن عمر يا أبت بفتح التاء في جميع القرآن على تقدير يا أبتاه والوجه أن أصله يا أبتاه بالألف وهي بدل عن ياء الإضافة فحذفت الألف كما تحذف التاء فبقيت الفتحة تدل على الألف كما تبقى الكسرة تدل على الياء عند حذف الياء وقرأ الآخرون يا أبت بكسر التاء في كل القرآن والوجه أن أصله يا أبتي فحذفت الياء تخفيفا واكتفاء بالكسرة لأن باب النداء حذف يدل على ذلك قوله يا عباد فاتقون وقرأ الآخرون يا أبت بكسر التاء لأن أصله يا أبت والجزم يحرك إلى الكسر إني رأيت أحد عشر كوكبا أي نجما من نجوم السماء ونصب الكواكب على التفسير والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ولم يقل رأيتها إلي ساجدات والهاء والميم والياء والنون من كنايات من يعقل لأنه لما أخبر عنها بفعل من عبر عنها بكناية من بعقل كقوله تعالى يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم وكان النجوم في التأويل أخواته كانوا أحد عشر رجلا يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم والشمس أبوه والقمر أمه قال قتادة وقال السدي القمر خالته لأن أمه راحيل كانت قد ماتت قال ابن جريح القمر أبوه والشمس أمه لأن الشمس مؤنثة والقمر مذكر وكان يوسف عليه السلام ابن اثنتي عشرة سنة حين رأى هذه الرؤيا وقيل رآها ليلة الجمعة ليلة القدر فلما قصها على أبيه قال يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك وذلك أن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي فعلم يعقوب أن اخوته إذا سمعوها حسدوا فامره بالكتمان فيكيدوا لك كيدا فيحتالوا في إهلاكك لأ هم لا يعلمون تأويلها فيحسدونك واللم في قوله لك صلة كقوله تعالى لربهم يرهبون وقيل هو
409

سورة يوسف (6 7) مثل قولهم نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك إن الشيطان للإنسان عدو مبين أي زين لهم الشيطان ويحملهم على الكيد لعداوته القديمة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد أنبأنا شعبة عن عبد ربه بن سعيد قال سمعت أبا سلمة قال كنت أرى الرؤيا فتهمني حتى سمعت أبي قتادة يقول كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الرؤيا الصالحة من الله تعالى والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يجب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثا ولا يحدث به أحدا فإنها لن تضر وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا عبد الرحمن بن شريح أنبأنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد أنبأنا عبد الرحمن بن شريح أنبأنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد شعبة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن أبي رزين العقيلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة جزء من أربعين أو ستة وأربعين جزءا من النبوة وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها فإذا حدث بها وقعت وأحسبه قال لا تحدث بها إلا حبيبا أو لبيبا قوله عز وجل وكذلك يجتبيك ربك يصطفيك بقول بعقوب ليوسف عليهما السلام أي كما رفع منزلتك بهذه الرؤيا فكذلك يصفيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث يريد تعبير الرؤيا سمي تأويلا لأنه يؤل أمره إلى ما رأى في منامه والتأويل ما يؤل إليه عاقبة الامر ويتم نعمته عليك يعني بالنبوة وعلى آل يعقوب أي على أولاده فإن أولاده كلهم كانوا أنبياء كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم واسحق فجعلهما نبيين إن ربك عليم حكيم وقيل المراد من إتمام النعمة على إبراهيم الخلة وقيل إنجاؤه من الذبح وقيل بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه قال ابن عباس رضي الله عنهما كان بين رؤيا يوسف هذه وبين تحقيقها بمصير أبويه واخوته إليه أربعون سنة وهو قول أكثر أهل التفسير وقال الحسن البصري كان بينهما ثمانون سنة فلما بلغت هذه الرؤيا غخوة يوسف حسدوه وقالوا ما رضي أن تسجد له اخوته حتى يسجد له أبواه فبغوه وحسدوه يقول الله تعالى لقد كان في يوسف واخوته أي في خبره وخبر اخوته وأسماؤهم روبيل وقيل روبين بالنون وهو أكبرهم شمعون ولاوي ويهوذا وزبالون وقيل زبلون وآشر وأمهم ليل بنت لابان وهي ابنة
410

سورة يوسف (8 9) خال يعقوب عليه السلام ولد له من سريتين له اسم إحداهما زلفة والأخرى يلهمه أربعة أولاد دان ونفتالي وقيل نفتولي وجادو أشير ثم توفيت ليل فتزوج يعقوب عليه السلام أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين وقيل وابن يامين فكان بنو يعقوب عليه السلام اثنى عشر رجلا آيات قرأ ابن كثير آية على التوحيد أي عظة وعبرة وقيل عجب وقرأ الآخرون آيات على على الجمع للسائلين وذلك أ اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف عليه السلام وقيل سألوه عن سبب انتقال ولد يعقوب من كنعان إلى مصر فذكر لهم قصة يوسف جميعها فوجدوها موافقة لما في التوراة فتعجبوا منها فهذا معنى قوله آيات للسائلين أي دلالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل آيات للسائلين ولمن يسأل كقوله سواء للسائلين وقيل معناه عبرة للمعتبرين فإنها تشتمل على حسد اخوة يوسف وما آل إليه أمرهم في الحسد وتشتمل على رؤياه وما حقق الله مها وتشتمل على صبر يوسف عليه السلام عن قضاء الشهوة وعلى الرق وعلى اللبث في السجن وما آل إليه أمره من الملك وتشتمل على حزن يعقوب وصبره على فراق يوسف وما آل إليه أمره من الوصول إلى المراد وغير ذلك من الآيات إذ قال ليوسف اللام فيه جواب القسم تقدير والله
ليوسف واخوة بنيامين أحب إلى أبينا منا كان يوسف واخوة بنيامين من أم واحدة وكان يعقوب عليه السلام شديد الحب ليوسف عليه السلام وكان اخوته يرون منه الميل إليه ما لا يرونه مع أنفسهم فقالوا هذه المقالة ونحن عصبة أي جماعة وكانوا عشرة قال الفراء العصبة هي العشرة فما زاد وقيل العصبة ما بين الواحد إلى العشرة وقيل ما بين الثلاثة إلى العشرة وقال مجاهد ما بين العشرة إلى خمسة عشر وقيل ما بين العشرة إلى الأربعين وقيل جماعة يتعصب بعضها لبعض لا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط إن أبانا لفي ضال مبين أي خطأ بين أمر إيثاره يوسف وأخاه علينا وليس المراد من الضلال الضلال عن الدين ولو أرادوه لكفروا به بل المراد منه الخطأ في تدبير أمر الدنيا يقولون نحن أنفع في أمر الدنيا وإصلاح أمر معاشه ورعي مواشيه من يوسف فنحن أولى بالمحبة نمه فهو مخطئ في صرف محبته إليه اقتلوا يوسف اختلفوا في قائل هذا القول فقال وهب قاله شمعون وقال كعب قاله دان وقال مقاتل روبيل مبين اقتلوا بضم التنوين قرأها ابن كثير ونافع والكسائي وقرأ الباقون مبين اقتلوا بكسر التنوين أ اطرحوه أرضا أي إلى أرض تبعد عن أبيه وقيل في أرض تأكله
411

سورة يوسف (10 11) السباع يخل لكم يخلص لكم ويصف لكم وجه أبيكم عن شغله بيوسف وتكونوا من بعده من بعد قتل يوسف قوما صالحين تائبين أي تبوبوا بعدما فعلتم هذا يعف الله عنكم وقال مقاتل صالحين يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم قال قال منهم لا تقتلوا يوسف وهو يهوذا وقال قتادة روبيل وكان ابن خالة يوسف وكان أكبرهم سنا وأحسنهم رأيا فيه والأول أصح أ ه يهوذا نهاهم عن قتله وقال القتل كبيرة عظيمة وألقوه في غيابت الجب قرأ أبو علي جعفر غيابات الجب الجمع في الحرفين وقرأ الباقون غيابت الجب على الواحد أي في أسفل الجب وظلمته والغيابة كل موضع ستر عنك الشئ وغيبه والجب البئر غير المطوية لأنه جب أي قطع ولم يطو يلتقطه يأخذه والالتقاط أخذ الشئ من حيث لا يحتبسه الإنسان بعض السيارة أي بعض المسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى فتستريحوا منه إن كنتم فاعلين أي إن عزمتم على فعلكم وهم كانوا يومئذ بالغين ولم يكونوا أنبياء بعد وقيل لم يكونوا بالغين وليس بصحيح بدليل أنهم قالوا وتكونوا من بعده قوما صالحين وقالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا والصغير لا ذنب له وقال محمد بن إسحاق اشتمل فعلهم على جرائم من قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له والغدر بالأمانة وترك العهد والكذب مع أبيهم وعفا الله عنهم ذلك كله حتى لا ييأس أحد من رحمة الله وقال بعض أهل العلم إنهم عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة لهم ولو فعلوا لهلكوا أجمعون وكل ذلك كان قبل أن أنبأهم الله تعالى وسئل أبو عمرو بن العلاء كيف قالوا نلعب وهم أنبياء قال كان ذلك قبل أن أنبأهم الله تعالى فلما أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضروب من الحيل قالوا ليعقوب يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف قرأ أبو جعفر تأمنا بلا شمة وهو رواية عن نافع وقرأ الباقون تأمنا باشمام الضمة في النون الأولى المدغمة وهو إشارة إلى الضمة من غير إمحاض ليعلم أن أصله لا تأمننا بنونين على تفعلنا فأدغمت النون الأولى في الثانية بدؤا بالإنكار عليه في ترك إرساله معهم كأ هم قالوا إنك لا ترسله معنا أتخافنا عليه وإنا له لناصحون قال مقاتل في الكلام تقديم وتأخير وذلك أ هم قالوا لأبيهم أرسله معنا فقال أبوهم إني ليحزنني أن تذهبوا به فحينئذ قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون النصح ههنا هو القيام بالمصلحة وقيل البر والعطف إنا عاطفون عليه قائمون بمصلحته نحفظه حتى نرده إليك
412

سورة يوسف (12 15) أرسله معنا غدا إلى الصحراء يرتع ويلعب قرأ أبو عمرو وابن عامر بالنون فيهما وجزم العين في نرتع وقرأ يعقوب ترتع بالنون ويلعب بالياء وقرأ أهل الكوفة بالياء فيهما وجزم العين في يرتع يعني يوسف وقرأ الآخرون نرتع بالنون ويلعب بالياء والرتع هو الاتساع في الملاذي قال رتع فلان في ماله إذا أنفقه في شهواته يريد ونتنعم ونأكل ونشرب ونلهو وننشط وقرأ أهل الحجاز يرتع بكسر العين وهو يفتعل من الرعي ثم ابن كثير قرأ بالنون فيهما أي تنحارس ويحفظ بعضنا بعضا وقرأ أبو جعفر ونافع بالياء إخبارا عن يوسف أي يرعى الماشية كما نرعى نحن وإنا له لحافظون وقال لهم يعقوب إني ليحزنني أن تذهبوا به أي يحزنني ذهابكم به والحزن ههنا ألم القلب بفراق المحبوب وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون وذلك أن يعقوب كار رأى في المنام أن ذئبا شد على يوسف فكان يخاف من ذلك فمن ثم قال أخاف أن يأكله الذئب قرأ ابن كثير وإسماعيل وقالون عن نافع وعاصم وابن عامر الذئب بالهمزة وكذلك أبو عمرو إذا لم يدرج وحمزة إذا لم يقف وقرأ الكسائي وورس عن نافع وأبو عمرو وفي الدرج وحمز في الوقف الذيب بترك الهمزة في الهمز أنه هو الأصل لأنه من قولهم تذابت الريح إذا جاءت من كل وجه ويجمع الذئب أذؤبا وذئابا بالهمز والوجه في ترك الهمز أن الهمزة خففت فقلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة عشرة إنا إذا لخاسرون عجزه ضعفاء فلما ذهبوا به وأجمعوا أي عزموا أن يجعلوه يلقوه في غيابة الجب وأوحينا إليه هذه الواو زائدة تقديره أوحينا إليه كقوله تعالى فلما أسلما وتله للجبين وماديناه أي ناديناه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون أي أوحينا إلى يوسف عليه السلام لتصدقن رؤياك ولتخبرن اخوتك بصنبعهم هذا وهم لا يشعرون بوحي الله وإعلامه إياه ذلك قاله مجاهد وقيل معناه وهم لا يشعرون يوم تخبرهم أنك يوسف وذلك حين دخلوا عليه فعرفهم وهم منكرون وذكر وهب وغيره أنهم أخذوا يوم يوسف عليه السلام بغاية الإكرام وجعلوا يحملونه فلما برزوا إلى البرية ألقوه وجعلوا يضربونه فإذا ضربه
413

سورة يوسف (16 18) واحد منهم استغاث بالآخر فضربه الآخر فجعل لا يرى منهم رحيما فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء فلما كادوا أن يقتلوه قال لهم يهوذا أليس قد أعطيتموني موثقا أ لا تقتلوه فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فيه وكان ابن اثنتي عشرة سنة وقيل ثمانية عشرة سنة فجاؤوا به إلى بئر على غير الطريق واسعة الأسفل ضيقة الرأس قال مقاتل على ثلاثا \ ة فراسخ من منزل يعقوب عليه السلام قال كعب بين مدين ومصر وقال وهب بأرض الأردن وقال قتادة هي بئر بيت المقدس فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال يا اخوتاه ردوا علي القميص أتوارى به في الجب فقالوا أدع الشمس والقمر والكواكب تواريك قال إني لم أر شيئا فألقوه فيها وقيل جعلوه في دلو وأرسلوه فيها حتى بلغ نصفها القوة إرادة أن يموت فكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها وقيل إنهم لما ألقوه فيها جعل يبكي فنادوه فظن أن رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا والأكثرون على أن الله تعالى أوحى إليه بهذا وبعث جبريل عليه السلام يؤنسه ويبشره
بالخروج ويخبره أنه ينبئهم بما فعلوه ويجازيهم عليه وهم لا يشعرون وقال ابن عباس رضي الله عنهما ثم إنهم ذبحوا أسخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف عليه السلام وجاؤا أباهم عشاء يبكون قال أهل المعاني جاؤوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب وروي أن يعقوب عليه السلام سمع صياحهم وعويلهم فخرج وقال ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شئ قالوا لا قال فما أصابكم وأين يوسف قالوا يا أبانا إنا ذهبنا تستبق أي نترامى وننتضل وقال السدي نشتد على أقدامنا وتركنا يوسف عند متاعنا أي عند ثيابنا وأقمشتنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا بمصدق لنا ولو منا وإن كنا صادقين فإ قيل كيف قالوا ليغقوب أ ت لا تصدق الصادق قيل معناه إ ك تتهمنا في هذا الأمر لأنك خفتنا عليه في الابتداء واتهمتنا في حقه وقيل معناه لا تصدقنا لأ ه لا دليل على صدقنا وإ كنا صادقين عند الله وجاؤا على قميصه بدم كذب أي بدم كذب لأ ه لم يكن دم يوسف وقيل بدم مكذوب فيه
414

سورة يوسف (19) فوضع المصدر موضع الاسم وفي القصة إنهم لطخوا القميص بالدم ولم يشقوه فقال يعقوب عليه السلام كيف أكله الذئب ولم يشق قميصه فاتهمهم قال بل سولت زينت لكن أنفسكم أمرا فصبر جميل معناه فأمري صبر جميل أ فعلي صبر جميل وقيل فصبر جميل أختاره والصبر الجميل الذي لا شكوى فيه ولا جزع والله المستعان على ما تصفون أي أستعين بالله على الصبر على ماتكذبون وفي القصة أنهم جاؤوا بذئب وقالوا هذا الذي أكله فقال له يعقوب يا ذئب أنت أ: لت ولدي وثمرة فؤادي فأنطقه الله عز وجل فقال تالله ما رأيت وجه ابنك قط قال كيف وقعت بأرض كنعان قال جئت لصلة قرابة فصادني هؤلاء فمكث يوسف في البشر ثلاثة أيام وجاءت سيارة وهم القوم المسافرون سموا بسيارة لأنهم يسيرون في الأرض كانت رفقة منمدين تريد مصر فأخطأوا الطريق فنزلوا قريبا من الجب وكان الجب في قفر بعيد من العمران والمارة وكان ماؤه صالحا فعذب حين ألقي يوسف عليه السلام فيه فلما نزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك ابن ذعر لطلب الماء فذلك قوله عز وجل فأرسلوا واردهم والوارد الذييتقدم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء فأدلى دلوه أي أرسلها في البئر يقال أدليت الدلو إذا أرسلتها في البشر ودلوتها إذا أخرجتها فتعلق يوسف بالحبل فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون قال النبي صلى الله عليه وسلم أعطي يوسف شطر الحسن ويقال إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة وكانت قد أعطيت سدس الحسن وقال ابن إسحاق ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن فلما رآه مالك بن ذعر قال يا بشرى قرأ الأكثرون هكذا بالألف وفتح الياء والوجه أن بشراي مضافة إلى ياء المتكلم وهومنادى مضاف فموضعه نصب وقرأ الكوفيون يا بشرى بغير ياء الإضافة على فعل وأمال الراء حمزة والكسائي وفتحها عاصم والوجه في إفرادها عن ياء المتكلم هو أن بشرى نكرة ههنا فناداها كما تنادي النكرات نحو قولك يا راجلا ويا راكبا إذا جعلت النداء شائعا فيكون موضعه نصبا مع التنوين إلا أن فعلى لا سبيل إليها للتنوين ويجوز أن تكون بشرى منادى تعرف بالقضد نحو يا رجل يريد نادى المستقي رجلا من أصحابه اسمه بشرى فتكون بشرى في موضع رفع وقيل بشر المستقي أصحابه يقول أبشروا هذا غلام وروى ابن مجاهد عن أبيه أن جدرات البئر كانت تبكي على يوسف حين أخرج منها وأسروه أي أخفوه بضاعة قال مجاهد أسره مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين معهم وقالوا هذا بضاعة استبضعها بعض أهل الماء إلى مصر خيفة أن يطلبوا نهم فيه المشاركة وقيل أراد أن اخوة يوسف أسروا شأن يوسف وقالوا هذا عبد لنا أبق منا قال الله تعالى والله عليم بما يعملون فأتى يهوذا يوسف بالطعام فلم يجده في البئر فأخبر بذلك اخوته فطلبوه فإذا هم بمالك وأصحابه نزول فأتوهم فإذا هم
415

سورة يوسف (20 21) بيوسف فقالوا هذا عبد آبق منا ويقال إنهم هددوا يوسف حتى لم يعرف حاله وقال مثل قولهم ثم باعوه فذلك قوله عز وجل وشروه أي باعوه بثمن بخس قال الضحاك ومقاتل والسدي حرام لأن ثمن الحر حرام وسمي الحرام بخسا لأ ه مبخوس البركة وعن ابن عباس وابن مسعود بخس أي زيوف وقال عكرمة والشعبي بثمن قليل دراهم بدل من الثمن معدودة ذكر العدو عبارة عن قلتها وقيل إنما قال معدودة لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان أقل من أربعين درهما إنما كان يعدونها عدا فإذا بلغت أوقية وزنوها واختلفوا في عدد تلك الدراهم فقال ابن عباس وابن مسعود وقتادة عشرون درهما فاقتسموها درهمين درهمين قال مجاهد اثنان وعشرون درهما وقال عكرمة أربعون درهما وكانوا عني اخوة يوسف فيه أي في يوسف من الزاهدين لأنهم لم يعلموا منزلنه عند الله وقيل كانوا في الثمن من الزاهدين لأ هم لم يكن قصدهم تحصيل الثمن إنما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه بيوسف فتبعهم اخوته يقولون استوثقوا منه لا يأبق قال فذهبوا به حتى قدموا مصر وعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير قاله ابن عباس وقال اطفير صاحب أمر الملك وكان على خزائن مصر يسمى العزيز وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها الريان بن الوليد بن شروان من العملاقة وقيل إن هذا لاملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه ثم مات ويوسف حي قال ابن عباس رضي الله عنهما لما دخلوا مصر تلقى قطفير مالك بن ذعر فابتاع منه يوسف بعشرين دينارا وزوج نعل وثوبين أبيضين وقال وهب بن منبه قدمت السيارة بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه ذهبا ووزنه فضة ووزنه مسكا وحريرا وكان وزنه أربعمائة رطل وهو ابن ثلاث عشرة سنة فابتاعه قطفير من مالك بن ذعر بهذا الثمن فذلك قوله تعالى وقال الذي اشتراه منمصر لامرأته واسمها راعيل وقيل زليخا أكرمي مثواه أي منزله ومقامه والمثوى موضع الإقامة وقيل أكرميه في المطعم والملبس والمقام وقال قتادة وابن جريج منزلته عسى أن ينفعنا أي نبيعه بالربح إن أردنا البيع أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا أو نتخذه ولدا أي نتبناه قال ابن مسعود رضي الله عنه أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف حيث قال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا وابنة شعيب عليه السلام حيث قالت لأبيها
416

سورة يوسف (22 23) في موسى عليه السلام يا أبت استأجره وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما حيث استخلفه وكذلك مكنا ليوسف في الأرض أي في أرض مصر أي كما أنقذنا يوسف من القتل وأخرجناه من الجب كذلك مكنا له في الأرض فجعلناه على خزائنها ولنعلمه من تأويل الأحاديث أي مكنا له في الأرض لكي نعلمه من تأويل الأحاديث وهي عبارة عن الرؤيا والله غالب على أمره قيل الهاء في أمره كناية ن الله تعالى يقول إن الله غالب على أمره يفعل ما يشاء لا يغلبه شئ ولا يرد عليه حكم راد وقيل هي راجعة إلى يوسف عليه السلام معناه إن الله مستول على أمر يوسف بالتدبير والحياطة لا يكله إلى أحد حتى يبلغه منتهى علمه فيه لكن أكثر الناس لا يعلمون
ما الله به صانع ولما بلغ أشده منتهى سبابه وشدته وقوته ومعرفته قال مجاهد هم ثلاثا وثلاثين سنة وقال السدي ثلاثين سنة وقال الضحاك عشرين سنة وقال الكلبي الأشد ما بين ثمانية عشرة سنة إلى ثلاثين سنة وسئل مالك رحمه الله عن الأشد قال هو الحلم آتيناه حكما وعلما فالحكم النبوة واعلم الفقه فيالدين وقيل حكما يعني إصابة في القول وعلما بتأويل الرؤيا وقيل الفرق بين الحكيم والعالم أن العالم هو الذي يعلم الأشياء والحكيم الذي يعمل بما يوجبه العلم وكذلك نجزي المحسنين قال ابن عباس رضي الله عنهما المؤمنين وعنه أيضا المهتدين وقال الضحاك الصابرين على النوائب كما صبر يوسف عليه السلام وراودته التي هو في بيتها عن نفسه يعني امرأة العزيز والمراودة طلب الفعل والمراد ههنا أنها دعته إلى نفسها ليواقعها وغلقت الأبواب أي أطبقتها وكانت سبعة وقالت هيت لك أي هلم وأقبل قرأ أهل الكوفة والبصرة هيت لك بفتح الهاء والتاء جميعا وقرأ أهل المدينة والشام هيت بكسر الهاء وفتح التاء وقرأ ابن كثير هيت بفتح الهاء وضم التاء والوجه أن في هذه الكلمة ثلاث لغات هيت وهيت وهيت والكل بمعنى هلم وقرأ السلمي وقتادة هيت لك بكسر الهاء وضم التاء نهموزا على مثال جئت يعني تهيأت لك وأنكره أبو عمرو الكسائي وقالا لم يحك هذا عن العرب والأول هو المعروف عند العرب قال ابن مسعود رضي الله عنه أقرأ أني النبي صلى الله عليه وسلم هيت لك قال أبو عبيدة كان الكسائي يقول هي لغة لأهل حوران وقعت إلى الحجاز معناها تعال وقال عكرمة هي أيضا بالحورانية هلم وقال مجاهد وغيره هي لغة عربية وهي كلمة حث وإقبال على الشئ قال أبو عبيدة إن العرب لا تثني هيت ولا تجمع وتؤنث وإنها صورة
417

سورة يوسف (24) واحدة في كل حال قال يوسف لها عند ذلك معاذ الله أي أعوذ بالله وأعتصمبالله مما دعوتني إليه إنه ربي يريد أن زوجك قطفير سيدي أحسن مثواي أي أكرم منزلي هذا قول أكثر المفسرين وقيل الهاء راجعة إلى الله تعالى يريد أن الله تعالى ربي أحسن مثواي أي آواني ومن بلاء الجب عافاني إنه لا يفلح الظالمون يعني إن فعلتهذا فخنته في أهله بعد ما أكرم مثواي فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون وقيل لا يفلح الظالمون أي لا يسعد الزناة ولقد همت به وهم بها والهم هو المقاربة من الفعل من غير دخول فيه فهمها عزمها على المعصية والزنا وأما همه فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال حل الهميان وجلس منهما مجلس الخائن وعن مجاهد قال حل سراويله وجعل يعالج ثيابه وهذا قول أكثر المتقدمين مثل سعيد ابن جبير والحسن وقال الضحاك جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بإحدى يديه إلى جيد يوسف وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما قال أبو عبيد القاسم بن سلام قد أنكر قوم هذا القول وقالوا هذا لا يليق بحال الأنبياء والقول ما قال متقدموا هذه الأمة وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء من غير علم وقال السدي وابن اسحق لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عليه السلام عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه إلى نفسها فقالت يا يوسف ما أحسن شعرك قال هو أول ما ينتثر من جسدي قالت ما أحسن عينيك قال هي أول ما تسيل على وجهي في قبري قالت ما أحسن وجهك قال للتراب يأكله وقيل إنها قالت إن فراش الحرير مبسوط فقم فاقض حاجتي قال إذا يذهب نصيبي من الجنة قلم تزل تطعمه وتدعوه إلى اللذة وهو شاب يجد من سبق الشباب ما يجده الرجل وهي امرأة حسناء جميلة حتى لأن لها مما يرى من كلفها به وهم بها ثم إن الله تعالى تدارك عبده ونبيه بالبرهان الذي ذكره وزعم بعض المتأخرين أن هذا لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام وقال تم الكلام عند قوله ولقد همت به ثم ابتدأ الخبر عن يوسف عليه السلام فقال وهم بها لولا أن رأى وهم بها لولا أن رأى برهان ربه على التقديم والتأخير وأي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ولكنه رأى البرهان فلم يهم وأنكره النحاة وقالوا إن العرب لا تؤخر لولا عن الفعل فلا تقول لقد قمت لولا زيد وهو يريد لولا زيد لقمت وقيل همت بيوسف أن يفترشها وهم بها يوسف أي تمنى أن تكون له زوجة وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين أخذ عنهم
418

الدين والعلم وقال بعضهم إن القدر الذي فعله يوسف عليه السلام كان من الصغائر تجوز على الأنبياء عليهم السلام وروي أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك حين خرج منالسجن وأقرت المرأة قال يوسف ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل ولا حين هممت بها يا يوسف فقال يوسف عند ذلك وما أبرئ نفسي الآية وقال الحسن البصري إن الله تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء عليهم السلام في القرآن ليعيرهم ولكن ذكرها ليبين موضع النعمة عليهم ولئلا ييأس أحد من رحمته وقيل إ ه ابتلاهم بالذنوب ليتفرد بالطهارة والعزة ويلقاه جميع الخلق يوم القيامة على انكسار المعصية وقيل ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة وترك الإياس من المغفرة والعفو وقال بعض أهل الحقائق الهم همان هم ثابت إذا كان معه عزم وعقد ورضى مثل هم امرأة العزيز والعبد مأخوذ به وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنبأنا أبو طاهر
419

محمد بن محمد محمش الزيادي ثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ثنا أحمد بن يوسف السلمي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عم همام بن منبه قال حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عز وجل إذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن اليعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها سيئة قوله عز وجل لولا أم رأى برهان ربه اختلفوا في ذلك البرهان قال قتادة وأكثر المفسرين إنه رأء صورة يعقوب وهو يقول له يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء وقال الحسن وسعيد بن جبير اهد وعكرمة والضحاك انفرج له سقف البيت فرأى بعقوب عليه السلام عاضا على إصبعه وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله وقال السدي نودي يا يوسف تواقعها إنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوف السماء لا يطاق ومثلك إن تواقعها مثله إذا مات ووقع الأرض لا يستطيع أن يدفع نفسه ومثلك مالم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق ومثلك إن واقعتها مثل الثور يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفعه عن نفسه عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله وهم بها قال حل سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته فإذا بكف قد بدت بينهما بلا معصم ولا عضد مكتوب عليها وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون فقام هاربا وقامت فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فظهرت تلك الكف مكتوبا عليها ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا
فقام هاربا وقامت فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فظهر ورأى تلك الكف مكتوبا عليها واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله فقام هاربا وقامت فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فقال الله عز وجل لجبريل عليه السلام أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل عليه السلام عاضا على إصبعه يقول يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء وروي أنه مسحه بجناحيه فخرجت شهوته من أنامله وقال محمد بن كعب القرظي رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين هم بها فرأى كتابا في حائط البيت لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا وروى عطية عن ابن عباس في البرهان أنه رأى مثال الملك وقال جعفر بم محمد الصادق رضي الله عنهما البرهان النبوة التي أودعها الله في صدره حالت بينه وبين ما يسخط الله عز وجل وعن علي بن الحسين قال كان في البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب فقال لها يوسف لم فعلت هذا فقالت استحييت منه أن يراني على المعصية
420

سورة يوسف (25 26) فقال يوسف أتستحين مما لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه فأنا أحق أن أستحي من ربي وهرب قوله عز وجل لولا أن رأى برهان ربه جواب لولا محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربه لواقع المعصية كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء فالسوء الإثم وقيل السوء القبيح والفحشاء الونا إنه من عبادنا المخلصين قرأ أهل المدينة والكوفة المخلصين بفتح اللام حيث كان إذا لم يكن بعده ذكر الدين زاد الكوفيون مخلصا في سورة مريم عليها السلام ففتحوا ومعنى المخلصين المختارين للنبوة دليله إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وقرأ الآخرون بكسر اللام أي المخلصين لله الطاعة والعبادة واستبقا الباب وذلك أن يوسف لما رأى البرهان قام مبادرا إلى باب البيت هاربا وتبعته المرأة لتمسك الباب حتى لا يخرج يوسف فسبق يوسف وأدركته المرأة فتعلقت بقميصه خلفه فجذبته إليها حتى لا يخرج وقدت قميصه أي فسقته من دبر أي من خلف فلما خرجا لقيا العزيز وهو قوله (وألفيا سيدها لدى الباب) وجدا زوج المرأة قطفير عند الباب جالسا مع ابن عم لراعيل فلما رأته هابته وقالت سابقة بالقول لزوجها ما جزاء من أراد بأهلك سوأ يعني الزنا ثم خافت عليه أن يقتله فقالت إلا أن يسجن أي يحبس أ عذاب أليم أي ضرب بالسياط فلما سمع يوسف مقالتها قال هي راودتني عن نفسي يعني طلبت مني الفاحشة فأبيت وفررت منها وقيل ما كان يريد يوسف أن يذكرها فلما قالت المرأة ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ذكره فقالت هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد وحكم حاكم من أهلها اختلفوا في ذلك الشاهد فقال سعيد بن جبير والضحاك كان صبيا في المهد أنطقه الله عز وجل وهو رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تكلم في المهد أربعة وهم صغار ابن ماشطة ابنة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم عليه السلام وقيل كان ذلك الصبي ابن خال المرأة وقال
421

سورة يوسف (27 30) الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد لم يكن صبيا ولكنه كان رجلا حكيما ذا رأي قال السدي هو ابن عم راعيل فحكم فقال إن كان قميصه قد من قبل أي من قدام فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قطفير قميصه قد من دبر عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف عليه السلام قال لها إنه أي إن هذا الصنيع من كيدكن إن كيدكن عظيم وقيل إن هذا من قول الشاهد ثم أقبل قطفير على يوسف فقال فقال يوسف أي يا يوسف أعرض عن هذا أي عن هذا الحديث فلا تذكره لأحد حتى لا يشيع وقيل معناه لا تكترث به فقد بان عذرك وبراءتك ثم قال لامرأته واستغفري لذنبك أي توبي إلى الله إنك كنت من الخاطئين من المذنبين وقيل إن هذا من قول الشاهد ليوسف ولراعيل وأراد بقوله واستغفري لذنبك أي سلي زوجك أن لا يعاقبك ويصفح عنك إنك كنت من الخاطئين من المذنبين حتى راودت شابا عن نفسه وخنت زوجك فلما استعصم كذبت عليه وإنما قال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات لأنه لم يقصد به الخبر عن النساء بل قصد به الخبر عمن يفعل ذلك تقديره من القوم الخاطئين كقوله تعالى وكانت من القانتين بيانه قوله تعالى إنها كانت من قوم كافرين قوله عو وجل وقال نسوة في المدينة الآية يقول شاع أمر يوسف والمرأ في المدينة مدينة مصر وقيل مدينة عين الشمس وتحدثت النساء بذلك وقلن وهن خمس نسوة امرأة حاجب الملك وامرأة صاحب الدواب وامرأة الخباز وامرأة الساقي وامرأ صاحب السجن قاله مقاتل وقيل هن نسوة من أشراف مصر امرأة العزيز تراود فتاها أي عبدها الكنعاني عن نفسه أي تطلب من عبدها الفاحشة قد أشغفها حبا أي علقها حبا قال الكلبي حجب حبه قلبها حتى لا تعقل سواه وقيل أحبته حتى دخلها حب شغاف قلبها أي داخل قلبها قال السدي الشغاف جلدة رقيقة على القلب يقول دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب وقرأ الشعبي والأعرج شغفها بالعين
422

سورة يوسف (31) غير المعجمة معناه ذهب الحب بها كل مذهب ومنه شغف الجبال وهو رؤوسها إنا لنراها في ضلال مبين أي خطأ ظاهر وقيل أنها تركت ما يكون على أمثالها من العفاف والستر فلما سمعت راعيل بمكرهن بقولهن وحديثهن قاله قتادة والسدي وقال ابن إسحاق إنما قلن ذلك مكرا بها لتريهن يوسف وكان وصف لهن حسنه وجماله وقيل إنها أفشت إليهن ذلك فلذلك سماه مكرا أرسلت إليهن قال وهب اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأ منهن هؤلاء اللاتي عيرنها وأعتدت أي أعدت لهن متكئا أي ما يتكأ عليه وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد متكأ أي طعاما سماه متكأ لأن أهل الطعام إذا جلسوا يتكئون على الوسائد فسمى الطعام متكأ على الاستعارة يقال اتكأنا عند فلان أي طعمنا ويقال المتكأ ما اتكأت عليه للشارب أو الحديث أو الطعام ويقرأ في الشواذ متكأ بسكون التاء اختلفوا في معناه فقال ابن عباس هو الأترج وقد روى عن مجاهد مثله وقيل هو الأترج بالحبشة وقال الضحاك هو الربا ورد وقال عكرمة هو كل شئ يقطع بالسكين وقال أبو زيد الأنصاري كل ما يجز بالسكين فهو عند العرب متك والمتك والبتك بالميم والباء القطع فزينت المأدبة بألوان الفواكهة والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة وآتت أعطت كل واحدة منهن سكينا فكن يا: لن اللحم حزا بالسكين وقالت ليوسف اخرج عليهن وذلك أنها كانت أجلسته في مكان آخر فخرج عليهن يوسف قال عكرمة كان فضل يوسف على سائر الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم وروي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليل أسري بي إلى السماء يوسف كالقمر ليلة البدر قال إسحق بن أبي فروة كان يوسف إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران فلما رأينه أكبرنه أعظمنه قال أبو العالية ها لهن أمره وبهتن وقيل أكبرنه أي حضن لأجله من جماله ولا يصح وقطعن أي حززن بالسكاكين التي معهن أيديهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج ولم يجدن الألم لشغل قلوبهن بيوسف قال مجاهد فما
أحسسن إلا بالدم وقال قتادة إنهن أبن أيديهن حتى ألقينها والأصح كان قطعا بلا إبانة وقال وهب ماتت جماعة منهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا أي معاذ الله أن يكون هذا بشرا حاشا
423

سورة يوسف (32 35) الله بإثبات الألف في الحرفين قرأهما أبو عمرو في الوصل على الأصل وقرأ الآخرون بحذف الألف في الحرفين لكثرة دورها على ا لألسن واتباع الكذب وقوله ما هذا بشرا نصب بنزع حرف الصفة أي ببشر إن هذا أي ما هذا إلا ملك من الملائكة كريم على الله قالت يعني راعيل فذلكن الذي لمتني فيه أي في حبه ثم صرحت بما فعلت فقالت ولقد راودته عن نفسه فاستعصم أي امتنع وإنما صرحت به لأنها علمت أن لا ملامة عليها منهن وقد أصابهن ما أصابها من رؤيته فقلن له أطع مولاتك فقالت راعيل ولئن لم يفعل ما آمره ولئن لم يطاوعني فما دعوته إليه ليسجنن أي ليعاقبن بالحبس وليكونا من الصاغرين من الأذلاء ونون التوكيد تثقل وتخفف والوقف على قوله ليسجنن بالنون لأنها مشددة وعلى قوله وليكونا بالألف لأنها مخففة وهي شبهة نون الإعراب في الأسماء كقوله رأيت رجلا وإذا وقفت رأيت رجلا بالألف ومثله لنسعفا بالناصية فاختار يوسف عليه السلام السجن على المعصية حين توعدته المرأة قال رب أي يا رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه قيل كان الدعاء منها خاصة ولكنه أضاف إليهن خروجا من التصريح إلى التعريض وقيل إنهن جميعا دعونه إلى أنفسهن قرأ يعقوب وحده بفتح السين وقرأ الآخرون بكسرها واتفقوا على كسر السين في قوله دخل معه السجن وقيل لو لم يقل السجن أحب إلي لم يبتل بالسجن والأولى بالمرء أن يسأل الله العافية قوله تعالى وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأتابعهن يقال صبا فلان إلى كذا يصبوا صبوا وصبوا إذا مال واشتاق إليه وأكن من الجاهلين فيه دليل على أن المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكبه عن جهالة فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم السميع لدعائه العليم بمكرهن ثم بدا لهم يعني للعزيز وأصحابه في الرأي وذلك أ هم أرادوا أن يقتصروا من أمر يوسف على الأمر
424

سورة يوسف (36) بالاعراض ثم بدا له مأن يحبسوه من بعدما رأوا الآيات الدالة على براءة يوسف من قد القميص وكلام الطفل وقطع النساء أيديهن وذهاب عقولهن ليسجننه حتى حين إلى مدة يرون فيه رأيهم وقال عطاء إلى أن تنقطع مقالة الناس قال عكرمة سبع سنين وقال الكلبي خمس سنين قال السدي وذلك أن المرأة قالت لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يخبرهم أني راودته عن نفسه فإما أن تأذن لي أن أخرج فأعتذر إلى الناس وإما أن تحبسه فحبسه وذكر أن الله تعالى جعل ذلك الحبس تطهيرا ليوسف عليه السلام من همه بالمرأة قال ابن عباس عثر يوسف ثلاث عثرات حين هم بها فسجن وحين قال اذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين وحين قال للاخوة إنكم لسارقون فقالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل قوله تعالى ودخل معه السجن فتيان وهما غلامان للريان بن الوليد بن شروان العمليق ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه وصاحب طعامه والآخر ساقيه وصاحب شرابه غضب الملك عليهما فحبسهما وكان السبب فيه أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فضمنوا لهذين مالا ليسما الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم ثم إن الساقي نكل عنه وقبل الخباز الرشوة فسم الطعام فلما أحضر الطعام والسراب قال الساقي لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم وقال للخباز كل من طعام فأبى فجرب ذلك الطعام على دابة فأكلته فهلكت فأمر الملك بحبسهما وكان يوسف حين دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتيين لصاحبه هلم فلنجرب هذا العبراني فتراء يا له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا قال ابن مسعود ما رأيا شيئا وإنما تحالما ليجربا يوسف وقال قوم بل كانا رأيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكرا أنهما غلامان للملك وقد حبسهما وقد رأيا رؤيا قد غمتهما فقال يوسف قصا علي ما رأيتموما فقصا عليه قال أحدهما وهو صاحب الشراب إني أراني أعصر خمرا أي عنبا سمي العنب خمرا باسم ما يؤل إليه كما يقال فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن للآجر وقيل الخمر العنب بلغة عمان وذلك أنه قال إني رأيت كأني في بستان فإذا أنا بأصل حبلة عليها ثلاث عتاقيد من عنب فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه وقال الآخر وهو الخباز إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير ينهش وينهبن منه نبئنا بتأويله أخبرنا بتفسيره وتعبيره وما يؤل إليه أمر هذه الرؤيا إنا نراك من المحسنين أي العالمين بعبارة الرؤيا والاحسان بمعنى العلم وروي أن الضحاك
425

سورة يوسف (37 38) بن مزاحم سئل عن قوله إنا نراك من المحسنين ما كان إحسانه قال كان إذا مرض إنسان في السجن عادة وقام عليه وإذا ضاق عليه المجلس وسع له وإذا احتاج إلى شئ جمع له شيئا وكان مع هذا يجتهد في العبادة ويقوم الليل كله للصلاة وقيل إنه لما دخل السجن وجد فيه قوما قد اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسليهم وجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا فيقولون بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى قال أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم فقال له عامل السجن يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ولكن سأحسن جوارك فتمكن في أي بيوت السجن حيث شئت وروي أ الفتيين لما رأيا يوسف قالا له لقد أحببناك حين رأيناك فقال لهما يوسف أنشدكما بالله أن لا تحباني فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل علي من حبه بلاء لقد أحبتني عمتي فدخل علي البلاء لقد أحبني أبي فألقيت في الجب وأحبتني امرأة العزيز فحبست فلما قصا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره في إظهار المعجزة والدعاء إلى التوحيد قال لا يأتيكما طعام ترزقانه قيل أراد به في النوم يقول لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه في نومكما إلا نبأتكمت بتأويله في اليقظة وقيل أراد به في اليقظة لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه تطعمانه وتأكلانه إلا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الذي يصل فيه إليكما قبل أ يأتيكما قبل أ يصل إليكما وأي طعام أكلتم وكم أكلتم ومتى أكلتم فهذا مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فقالا هذا من فعل العرافين والكهنة فمن أين لك هذا العلم فقال ما أنا بكاهن وإنما ذلكما العلم مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون وتكرار هم على التأكيد واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب أظهر أنه من أولاد الأنبياء ما كان لنا ما ينبغي لنا أ نشرك بالله من شئ معناه أ الله قد عصمنا من الشرك ذلك التوحيد والعلم
426

سورة يوسف (39 42) من فضل الله علينا وعلى الناس ما بين لهم من الهدى ولكن أكثر الناس لا يشكرون ثم دعاهما إلى الإسلام فقال يا صاحبي السجن جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه كما يقال لسكان الجنة أصحاب ولسكان النار أصحاب النار أأرباب متفرقون أي آلهة شتى هذا من ذهب وهذا من فضة وهذا من حديد وهذا أعلى وهذا أوسط وهذا أدنى متباينون لا تضر ولا تنفع خير أم الله الواحد القهار الذي لا ثاني له القهار الغالب على الكل ثم بين عجز الأصنام فقال فقال ما تعبدون من دونه أي من دون الله وإنما ذكر بلفظ الجمع وقد ابتدأ الخطاب للاثنين لأنه أراد جميع أهل السجن وكل من هو على مثل حالهما من أهل الشرك إلا أسماء سميتموها آلهة وأربابا خالية عن المعنى لا حقيقة لتلك الأسماء أنتم وآباؤكم ما أنزل الله من سلطان حجة وبرهان إن الحكم ما القضاء والأمر والنهي إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم أي المستقيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ثم فسر رؤياهما فقال فقال يا صاحبي السجن أما أحدكما وهو صاحب الشراب فيسقي ربه يعني الملك خمرا والعناقيد الثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يدعوه الملك بعد الثلاثة أيام ويرد إلى منزلته التي كان عليها وأما الآخر يعني صاحب الطعام فيدعوه الملك بعد ثلاثة أيام والسلال الثلاث الثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يخرجه فيأمر به فيصلب فتأكل الطير من رأسه قال ابن مسعود لما سمعا قول يوسف قالا ما رأينا شيئا إنما منا نلعب قال يوسف قضي الأمر الذي فيه تستفيان أي فرغ من الأمر الذي عنه تسألان ووجب حكم الله عليكما الذي أخبرتكما به رأيتما أو لم تريا وقال يعني يوسف عند ذلك للذي ظن علم أ ه ناج منهما وهو الساقي اذكرني عند ربك يعني سيد الملك وقل له إن في السجن غلاما محبوسا ظلما طال حبسه
427

سورة يوسف (43) فأنساه الشيطان ذكر ربه قيل أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك تقديره فأنساه الشيطان ذكره لربه وقال ابن عباس وعليه الأكثرون أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه حين ابتغى الفرج من غيره واستعان بمخلوق وتلك غفلة عرضت ليوسف من الشيطان فلبث فمكث في السجن بضع سنين واختلفوا في معنى البضع فقال مجاهد ما بين الثلاث إلى السبع وقال قتادة ما بين الثلاث إلى التسع وقال ابن عباس ما دون العشرة وأكثر المفسرين على أن البضع في هذه الآية سبع سنين وكان قد لبت قبله خمس سنين فجملته اثنتا عشرة سنة وقال وهب أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين وعذب بختنصر فحول في السباع سبع سنين قال مالك بن دينار لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قيل له يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال يا رب أنسي قلبي كثرة البلوى فقلت كلمة ولن أعود وقال الحسن دخل جبريل على يوسف في السجن فلما رآه يوسف عرفه فقال له يا أخي المنذرين مالي أراك بين الخاطئين فقال له جبريل يا طاهر الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين ويقول لك أما استحييت مني أن استشفعت بالآدميين فوعزتي وجلالي لألبثنك في السجن بضع سنين فقال يوسف وهو في ذلك عني راض قال نعم قال إذا لا أبالي وقال كعب قال جبريل ليوسف إ الله تعالى يقول من خلقك قال عز وجل قال فمن حببك إلى أبيك قال الله قال فمن نجاك من كرب البئر قال الله قال فمن علمك تأويل الرؤيا قال الله قال فمن صرف عنك السوء والفحشاء قال الله قال فكيف استشفعت بآدمي مثلك فلما انقضت سبع سنين قال الكلبي وهذا السبع سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك ودنا فرج يوسف رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هالته وذلك أنه رأى سبع بقرات سمان خرجت من البحر ثم خرج عقبهن سبع بقرات عجاف في غاية الهزال فابتلعت العجاف السمان فدخلن في بطونهن ولم يرى منهن شيئا ولم يتبين على العجاف منها شئ ثم رأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعا أخرى يابسات قد استحصدت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ولم بيق من خضرتها شئ فجمع السحرة والكهنة والحادة والمعبرين وقص عليهم رؤياه فذلك قوله تعالى وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأ ر يابسات فقال لهم يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون
428

سورة يوسف (44 48) قالوا أضغاث أحلام أخلاط أحلام مشتبهة أهاويل واحدها ضغث وأصله الحزمة من أنواع الحشيش والأحلام جمع الحلم وهو الرؤيا والفعل منه حلمت أحلم بفتح اللام في الماضي وضمها في الغابر حلما وحلما مثقلا ومخففا وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا من القتل منهما من الفتيين وهو الساقي وادكر أي تذكر قول يوسف اذكروني عند ربك بعد أمة أي بعد حين وهو سبع سنين أنا أنبئكم بتأويله وذلك أن الغلام جثا بين يدي الملك وقال إن في السجن رجلا يعبر الرؤيا فأرسلون وفيه اختصار تقديره فأرسلني أبها الملك إليه فأرسله فأتى السجن قال ابن عباس ولم يكن السجن في المدينة فقال يوسف يعني يا يوسف أنه الصديق والصديق الكثير الصدق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات فإن الملك رأى هذه الرؤيا لعلي أرجع إلى الناس أهل مصر لعلهم يعملون تأويل الرؤيا وقيل لعلهم يعلمون منزلتك في العلم فقال لهم يوسف معبرا ومعلما أما البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخاصيب والبقرات العجاف والسنبلات فالسنون المجدبة فذلك قوله تعالى إخبارا عن يوسف قال تزرعون سبع سنين دأبا هذا خبر بمعنى الأمر يعني ازرعوا سبع سنين على عادتكم في الزراعة والدأب العادة وقيل بجد واجتهاد وقرأ عاصم برواية حفص دأبا بفتح الهمزة وهما لغتان يقال دأبت في الأمر أدأب دأبا ودأبا إذا اجتهد فيه فما حصدتم فذروه في سنبله أمرهم يترك الحنطة في السنبلة لتكون أبقى على الزمان ولا تفسد إلا قليلا مما اكلون أي تدرسون قليلا للأكل أمرهم بحفظ الأكثر والأكل بقدر الحاجة ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على الناس يأكلن أي يفنين ويهلكن ما قدمتم لهن أي يؤكلهن فيهن ما أعددتم لهن من الطعام أضاف الأكل إلى السنين على طريق التوسع إلا قليلا مما تحصنون تحرزون وتدخرون للبذر
429

سورة يوسف (49 52) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس أي يمطرون من الغيث وهو المطر وقيل ينقذون من قول العرب استغثت فلانا فأغاثني وفيه يعصرون قرأ حمزة والكسائي تعصرون بالتاء لأن الكلام كله على الخطاب وقرأ الآخرون بالياء ردا إلى الناس ومعناه يعصرون العنب خمرا والزيتون زيتا والسمسم دهنا وأراد به كثرة النعيم والخير وقال أبو عبيدة يعصرون أي ينجون من الكروب والجدب والعصر والعصرة النجا والملجا وقال الملك ائتوني به وذلك أن الساقي لما رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه به يوسف من تأويل رؤياه وعرف الملك أن الذي قاله كائن قال ائتوني به فلما جاءه الرسول وقال له أجب الملك أبى أن يخرج مع الرسول حتى تظهر
براءته ثم قال للرسول ارجع إلى ربك يعني سيدك الملك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهم ولم يصرح ب 1 كر امرأة العزيز أدبا واحتواما قال النبي صلى الله عليه وسلم لو لبثت في السجن طول ما بث يوسف لأجبت الداعي إن ربي بكيدهن عليم أي إن الله بصنيعهن عالم وإنما أراد يوسف بذكرهن بعد طول المدة حتى لا ينظر إليه الملك بعين التهمة والخيانة ويصير إليه بعد زوال الشك عن أمره فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته فدعا الملك النسوة وامرأة العزيز قال لهن ما خطبكن ما شأنكن وأمركن إذ راودتن يوسف عن نفسه خاطبهن والمراد امرأة العزيز وقيل إن امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أمرته بطاعتها فلذلك خاطبهن جميعا قلن حاش لله معاذ لله ما علمنا عليه من سوء خيانة قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق ظهر وتبين وقيل إن النسوة أقبلن على امرأة العزيز فقررنها فأقرت وقيل خافت أن يشهدن عليها فأقرت وقالت أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين في قوله هي راودتني عن نفسي فلما سمع ذلك يوسف قال ذلك أي ذلك الذي فعلت من ردي رسول الملك إليه ليعلم العزيز إني لم أخنه
430

سورة يوسف (53 54) في زوجته بالغيب أي في حال غيبته وأن الله لا يهدي كيد الخائنين بقوله ذلك ليعلم من كلام يوسف اتصل يقول امرأة العزيز أنا راودته عن نفسه من غير تميز لمعرفة السامعين وقيل فيه تقديم وتأخير تقدم معناه ارجع إلى ربك فسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إ ربي بكيدهن عليم ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قيل لما قال يوسف هذه المقالة قال له جبريل ولا حين ههمت بها فقال يوسف عند ذلك وما أبرئ نفسي قال السدي إنما قالت امرأة العزيز ولا حين حللت سراويلك يا يوسف فقال يوسف وما أبرئ نفسي من الخطأ والزلل فأزكيها إن النفس لأمارة بالسوء بالمعصية إلا ما رحم ربي أي إلا م نرحم ربي فعصمه وما بمعنى من كقوله تعالى فانكحوا ما كأب لكم أي من طاب لكم وهم الملائكة عصمهم الله عز وجل فلم يركب فيهم الشهوة وقيل إلا ما رحم ربي إسارة إلى حالة العصمة عند رؤية البرهان إن ربي غفور رحيم فلما تبين للملك عذر يوسف عليه السلام وعرف أمانته وعلمه اشتاق لرؤيته وكلامه وذلك معنى قوله تعالى إخبارا عنه وقال الملك إئتوني به أستخلصه لنفسي أي أجعله خالصا لنفسي فلما كلمه فيه اختصار تقديره فجاء الرسول يوسف فقال له أجب الملك الآن روي أنه قام ودعا لأهل السجن فقال اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أ لم الناس بالأخبار في كل بلد فلما خرج من الشجن كتب على بابه هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثيابا حسنا وقصد الملك قال وهب فلما وقف بباب الملك قال حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره ثم دخل الدار فلما دخل على الملك قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره فلما نظر إليه الملك سلم عليه يوسف بالعربية فقال له الملك ما هذا اللسان قال لسان عمي إسماعيل ثم دعا له بالعبرانية فقال له ما هذا اللسان قال هذا لسان آبائي ولم يعرف الملك اللسانين قال وهب وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلما تكلم بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان وزاد عليه بلسان العربية وا لعبرانية فأعجب الملك ما رأى منه مع حداثة سنه وكان يوسف يومئذ ابن ثمانين سنة فأجلسه و قال إنك اليوم لدينا
431

سورة يوسف (55) مكين المكانة في الجاه أمين أي صادق وروي أن الملك قال له إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها فقال له يوسف نعم أيها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب غر حسان كشف لك عنهن النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلاقهن لبنا فبينما أنت تنظر إليهن ويعجبك حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسه فخرج من حمأته سبع بقرات عجاف شعث غبر متقلصات البطون ليس لهن ضروع ولا أخلاف ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع فافترسن السمان افتراس السبع فأكلن لحومهن ومزقن جلودهن وحطمن عظامهن وتمششن مخهن فبينما أنت تنظر وتتعجب إذا سبع سنابل خضر وسبع أخر سود في منبت واحد عروقهن في الثرى والماء فبنما أنت تقول في نفسك أي شئ هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد وأصولهن في الماء أذهبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار فأحرقتن فصرن سودا فهذا ما رأيت فانتبهت من نومك مذعورا فقال الملك والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجيبة بأعجب مما سمعت منك فما ترى في رؤياي أيها الصديق فقال يوسف عليه السلام أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة وتجعل الطعام في الخزائن بقصبه وسنبله ليكون القصب والسنبل علفا للدواب وا لحب طعاما للناس وتأمر الناي فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر من حولها ويأتيك الخلق من النواحي للميرة فتبيع منهم الطعام وتأخذ ثمنه فيجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد فقال الملك ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفيني الشغل فيه ف قال يوسف اجعلني على خزائن الأرض الخزائن جمع خزانة وأراد خزائن الطعام والأموال والأرض أرض مصر أي خزائن أرضك على خراج مصر ودخله إني حفيظ عليم أي حفيظ للخزائن عليم بوجوه مصالحها وقيل حفيظ عليم أي كاتب حاسب وقيل حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني وقيل حفيظ للحساب عليم بالألسن أعلم لغة من يأتيني وقال الكلبي حفيظ بتقديره في السنين المجدبة عليم بوقت الجوع حين يقع فقال له الملك ومن أحق به منك فولاه ذلك وقال له إنك اليوم لدينا مكين ذو مكانة ونزلة أمين على الخزائن أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني أبو عبد الله الحسبن بن محمد الفنجوي ثنا مخلد بن جعفر البقرجي ثنا الحسن بن عوية ثنا إسماعيل بن عيسى ثنا إسحاق بن بشر عن جوبير عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخره لذلك سنة فأقام في بيته سنة مع الملك وبإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما انصرمت السنة من اليوم الذي سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه وقلده بسيفه ووضع له سريرا
432

سورة يوسف (56 57) من ذهب مكلل بالدر والياقوت وضرب عليه حلة من إستبرق وطول السرير ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع عليه ثلاثون فراشا وستون مفرمة ثم أمر أن يخرج فخرج متوجا كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه فانطلق حتى جلس على السرير ودانت له الملوك ودخل الملك بيته وفوض إليه أمر مصر وعزل قطفير عما كان عليه وحعل يوسف مكانه قال ابن إسحاق وقال ابن زيد وكان لملك مصر خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله إليه وجعل أمره
وقضاءه نافذا قالوا ثم إن قطفير هلك في تلك الليالي فزوج الملك ليوسف راعيل امرأة قطفير فلما دخل عليها قال أليس هذا خيرا مما كنت تريدين مني فقالت أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأ حسناء ناعمة كما ترى في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت كما جعلك الله في حسنك وجمالك وهيئتك فغلبتني نفسي وقويت على شهوتي ولم أتمالك عقلي في محبتي فيك فقرب منها يوسف فوجدها عذراء فأصابها فولدت له ولدين أفراثيم بن يوسف وميشا بن يوسف واستوثق ليوسف ملك مصر فأقام فيهم العدل وأحبه الرجال والنساء فذلك قوله تعالى وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يعني أرض مصر ملكناه يتبوأ أي ينزل أي منها حيث يشاء أي ينزل أي منها حيث يشاء ويصنع فيها ما يشاء قرأ ابن كثير وحده نشاء بالنون ردا على قوله مكنا وقرأ الآخرون بالياء ردا على قوله يتبوأ نصيب برحتنا أي بنعمتنا من نشاء لا نضيع أجر المحسنين قال ابن عباس ووهب يعني الصابرين قال مجاهد وغيره فلم يزل يوسف عليه السلام يدعو الملك إلى السم ويتلطف به حتى أسلم الملك وكثير من الناس فهذا في أمر الدنيا ولأجر الآخرة ثواب الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون فلما اطمأن يوسف في ملكه دبر في جمع الطعام بأحسن التدبير وبنى الحصون والبيوت الكثيرة وجمع فيها الطعام السنين المجدبة وأنفق بالمعروف حتى خلت السنون والمخصبة ودخلت السنون المجدبة بهول لم يعهد الناس بمثله وروي أنه كان قد دبر في طعام الملك وحاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار فلما دخلت سنة القحط كان أول من أخذه الجوع هو الملك في نصف الليل فنادى يا يوسف الجوع فقال يوسف هذا أوان القحط ففي السنة الأولى من سنين الجدب هلك كل شئ أعدوه في السنين المخصبة فجعل أهل مصر
433

سورة يوسف (58) يبتاعون من يوسف الطعام فباعهم في أول سنة بالنقود حتى لم بيق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شئ وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق في يد أحد عبد ولا أمة وباعهم في السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها وباعهم في السنة السادسة بأولادهم حتى استرقهم وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى استرقهم ولم بيق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له فقال الناس ما رأينا يوما كاليوم ملكا أجل ولا أعظم من هذا ثم قال يوسف للملك كيف رأيت صنع ربي فيما خولني فما ترى في ذلك فقال له الملك الرأي رأيك والأمر إليك ونحن لك تبع قال فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم وروي أن يوسف كان لا يشبع من طعام في تلك الأيام فقيل له أتجوع وبيدك خزائن الأرض فقال أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع وأمر يوسف عليه السلام طباخي الملك أن يجعلوا غداءه نصف النهار وأراد بذلك بأن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار قال وقصد الناس مصر من كل النواحي يمتارون الطعام فجعل يوسف لا يمكن أحدا منهم وإن كان عضيما أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس وتزاحم الناس عليه فأصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب الناس في سائر البلاد من القحط والشدة ونزل بالناس فأرسل بنيه إلى مصر للميرة وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه فذلك قوله تعالى وجاء اخوة يوسف وكانوا عشرة وكان منزلهم بالقرب من أرض فلسطين بغور الشام وكانوا أهل بادية وإبل وشاة فدعاهم يعقوب عليه السلام وقال يا بني بلغني أن بمصر ملكت صالحا يبيع الطعام فتجهزوا له فاذهبوا لتشتروا منه الطعام فأرسلهم فقدموا مصر فدخلوا عليه على يوسف فعرفهم يوسف عليه السلام قال ابن عباس ومجاهد وعرفهم بأول ما نظر إليهم وقال الحسن لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه وهم لم منكرون أي لم يعرفوه قال ابن عباس وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة فلذلك أنكروه وقال عطاء إنما لم يعرفوه لأنه كان على سرير الملك وعلى رأسه تاج الملك وقيل لأنه كان بزئ ملوك مصر عليه ثياب من حرير وفي عنقه طوق من ذهب فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية قال لهم أخبروني من أنتم وما أمركم فإني أنكرت شأنكم قالوا نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال لعلكم جئتم تنظرون عورة بلادي لا والله ما نحن بجواسيس إنما نحن اخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق يقال له يعقوب نبي من أنبياء الله فقال وكم أنتم قالوا منا اثني عشر فذهب أخ لنا معنا إلى البرية فهلك فيها وكان أحبنا إلى أبينا قال فكم أنتم ههنا قالوا عشرة قال وأين الآخر قالوا عند
434

سورة يوسف (59 62) أبينا لأنه أخو الذي هلك من أمه فأبونا يتسلى به فقال: فمن يعلم أن الذي تقولون حق وصدق قالوا أيها الملك إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد من أهلها فقال لهم يوسف: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم ان كنتم صادقين وأنا أرضى بذلك قالوا: فإ أبانا يحزن على فراقه وسنراود عنه أباه قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم الذي من أبيكم فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحستهم رأبا في يوسف فخلفوه عنده. فذلك قوله عز وجل: ولما جهزهم بجهازهم أي: حمل لكل واحد بعيرا بعدتهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم يعني ينيامين ألا ترون أوفي الكيل. أي: أتمه ولا أبخس الناس شيئا فأزيدكم حمل بعير لأجل أخيكم وأكرم منزلتكم وأحسن إليكم وأنا خير المنزلين قال مجاهد: أي خير المضيفين. وكان أحسن ضيافتهم. فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي أي: ليس لكم عندي أكيله ولا تقربون أي: لا تقربوا داري وبلادي بعد ذلك وهو جزم على النهي. قالوا سنراود عنه أباه أي: نطلبه سأله أن يرسله معنا وإنا لفاعلون ما أمرتنا به. وقال لفتيانه قرأ حمزة والكسائي وحفص: لفتيانه بالألف والنون وقرأ الباقون: لفتيته بالتاء من غير ألف يريد لغلمانه وهما لغتان مثل الصبيان والصبية اجعلوا بضاعتهم ثمن طعامهم وكانت بدراهم. وقال الضحاك عن ابن عباس: كانت النعال والأدم. وقيل: كانت ثمانية جرب من سويق المقل. والأ ل أصح في رحالهم أوعيتهم وهي جمع رحل لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا انصرفوا إلى أ هلهم لعلهم يرجعون واختلفوا في السبب الذي فعله يوسف من أجله قال: أراد أن يريهم كرمه في رد البضاعة وتقديم الضمان في البر والإحسان ليكون أدعى لهم إلى العود لعلهم يعرفونها أي كرامتهم علينا. وقيل: رأى لؤما أخذ الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه فرده عليهم من حيث لا يعلمون تكرما. وقال الكلبي: تخوف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى. وقيل: فعل ذلك لأنه علم أ ديانتهم تحملهم على رد البضاعة نفيا للغلط ولا يستحلون إمساكها.
435

سورة يوسف (63 65) فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمتنا كرامة لو كان رجلا من أولاد يعقوب ما أكرمنا كرامته فقال لهم
يعقوب: إذا أتيتم ملك مصر فاقرؤه مني السلام وقوله له: إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك بما أوليتنا ثم قال: أين شمعون قالوا: ارتهنه ملك مصر وأخبروه بالقصة فقال لهم: ولم أخبرتموه قالوا: إنه أخذنا وقال أنتم جواسيس حيث كلمناه بلسان العبرانية وقصوا عليه القصة وقالوا يا أبانا منع منا الكيل قال الحسن: معناه أعطى باسم كل واحد منا حمل ويمنع منا الكيل لبنيامين والمراد بالكيل الطعام لأنه كان يكال فأرسل معنا أخانا بنيامين نكتل قرأ حمزة والكسائي: يكتل بالياء يعني: يكيل لنفسه كما نحن نكتال وقرأ الآخرون: نكتل بالنون يعني: نكتل وهو الطعام. وقيل: نكتل له وإنا له لحافظون. قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه يوسف من قبل أي: كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم فالله خير حافظا قرأ حمزة والكسائي وحفص: حافظا بالألف على التفسير كما يقال هو خير رجلا وقرأ الآخرون: حفظا بغير ألف على المصدر يعني: خيركم حفظا يقول: حفظه خير من حفظكم. وهو أرحم الراحمين. ولما فتحوا متاعهم الذي حملوه من مصر وجدوا بضاعتهم ثم الطعام ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي أي: ماذا نبغي وأي شئ نطلب وذلك أنهم ذكروا ليعقوب عليه السلام إحسان الملك إليهم وحثوه على إرسال بنيامين معهم فلما فتحوا المتاع ووجدوا البضاعة قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا أي شئ نطلب بالكلام فهذا هو العيان من الإحسان والإكرام أوفى لنا الكيل ورد علينا الثمن أرادوا تطيب نفس أبيهم ونميز أهلنا أي: نشتري لهم الطعام فنحمله إليهم. يقال: مار أهله يمير ميرا إذا حمل إليهم الطعام من بلد آخر ومثله أمتار يمتار امتيارا. ونحفظ أخانا بنيامين أي: مما تخاف عليه. ونزداد على أحمالنا كيل بعير أي حمل بعير يكال لنما من أجله لأنه كان يعطي باسم كل رجل حمل بعير ذلك كيل يسير أي ما حملناه قليل لا يفينا وأهلنا. وقيل: معناه نزداد كيل بعير ذلك كيل يسير لا مؤنة فيه ولا مشقة. وقال مجاهد: البعير ها
436

سورة يوسف (66 68) هنا الحمار كيل بعير أي: حمل حمار وهي لغة يقال للحمار: بعير. وهم كانوا أصحاب حمر وا لأول. أ صح أنه البعير المعروف قال لهم يعقوب لن أرسله معكم حتى تؤتون تعطون موثقا أي ميثاقا وعهدا من الله والعهد الموثق: المؤكد باشهاد الله على نفسه لتأتنني به وأدخل اللام فيه لأن معنى الكلام اليمين إلا أن يحاط بكم قال مجاهد إلا أن تهلكوا جميعا. وقال قتادة: إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك. وفي القصة: أ الأخوة ضاق الأمر عليهم وجهدوا أشد الجهد فلم يجد يعقوب بدا من إرسال ينيامين معهم. فلما أتوه موثقهم أعطوه عهودهم قال يعني: يعقوب الله على ما نقول وكيل شاهد. وقيل: حافظ. قال كعب: لما قال يعقوب فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين قال الله عز وجل: وعزتي لأردن عليك كليهما بعدما توكلت علي. وقال لهم لما أرادوا الخروج من عنده يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وذلك أنهم خاف عليهم العين لأنهم كانوا أعطوا جمالا وقوة وامتدادا قامة وكانوا ولد رجل واحد فأمرهم أن يتفرقوا في دخولهم لئلا يصابوا بالعين فإن العين حق وجاء في الأثر: إن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر وعن إبراهيم النخعي أنه قال ذلك لأنه كان يرجو أن يروا يوسف في التفرق والأول أصح ثم قال وما أغني عنكم من الله من شئ معناه إن كان الله قضى فيكم قضاء فيصيبكم مجتمعين كنتم أو متفرقين فإن المقدور كائن والحذر لا ينفع عن القدر إن الحكم ما الحكم إلا لله هذا تفويض يعقوب أموره إلى الله عبيه توكلت اعتمدت وعليه قليتوكل المتوكلون. ولما دخلا من حيث أمرهم أبوهم أي من الأبواب المتفرقة وقيل كانت المدينة مدينة الفرماء
437

سورة يوسف (69) ولها أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها ما كان يغني يدفع عنهم من الله من شئ صدق الله تعالى يعقوب فيما قال إلا حاجة مرادا في نفس يعقوب قضاها أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم وجرى الأمر عليه وإنه يعني يعقوب عليه السلام لذو علم يعني كان يعمل ما يعمل عن علم لا عن جهل لما علمناه أي لتعلمينا إياه وقيل إ ه لعامل بما علم قال سفيان من لا يعمل بما علم لا يكون عالما وقيل إنه لذو حفظ لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ما يعلم يعقوب لأنهم لن يسلكوا طريق لإصابة العلم وقال ابن عباس لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياؤه ولما دخلوا على يوسف قالوا هذا أخونا الذي أمرتنا به قد جئناك به فقال أحسنتم وأصيتم وستجدون جزاء ذلك عندي ثم أنزلهم فأكرم منزلتهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فيبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف لقد بقي أحدكم هذا وحيدا فأجلسه معه على مائدته فجعل يواكله فلما كان الليل أمر لهم بمثل وقال لينم كل أخوين منكم على مثال فبقي بنيامين وحده فقال يوسف هذا ينام معي على فراشي فنام معه فجعل يوسف يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح وجعل روبين يقول ما رأينا مثل هذا فلما أصبح قال لهم إنر أ ى هذل الرجل ليس معه ثان فسأضمه إلي فيكون منزله معي ثم أنزلهم منزلا وأجرى عليهم الطعام وأنزل أخاه لأمه فذلك قوله تعالى آوى إليه أخاه أي ضم إليه أخاه فلما خلا به قال ما اسمك قال ينيامين قال وما بنيامين قال ابن المنكل وذلك أنه لما ولد هلكت أمه قال وما اسم أمك قال راحيل قال راحيل بنت من قال راحيل بنت لاوى قال فهل لك من ولد قال نعم عشرة بنين قال فهل لك من أخ لأمك قال كان لي أخ فهلك قال يوسف أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك فقال بنيامين ومن يجد أخا مثلك أيها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عند ذلك وقام إليه وعانقه وقال قال إني أنب أخوك فلا تبتئس أي لا تحزن بما كانوا يعمل بشئ فعلوه بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا ولا تعلمهم شيئا مما أعلمتك ثم أوفى يوسف لأخوته الكيل وحمل لهم بعيرا بعيرا ولبنيامين يعيرا باسمه ثم أمر بسقاية الملك فجعلت في رحل بنيامين قال السدي جعلت السقاية في رحل أخيه والأخ لا يشعر وقال كعب لما قال له يوسف إني أنا أخوك قال ينيامين أنا لا أفارقك فقال يوسف قد علمت اغتمام والدي بي وإذا حبستك ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يحمل قال لا أبالي فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك قال فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بالسرقة ليهيأ لي ردك بعد تسريحك وقال فافعل كما تريد.
438

سورة يوسف (70 74) فذلك قوله تعالى فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه وهي المشربة التي كان الملك يشرب منها قال ابن عباس كانت من زبرجد وقال ابن إسحاق كانت ة من فضة وقيل من ذهب وقال عكرمة كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر جعلها يوسف مكيالا لئلا يكال بغيرها وكان يشرب منها والسقاية والصواع واحد جعلت في وعاء طعام ينيامسن ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا وذهبوا منزلا وقيل حتى خرجوا من العمارة ثم بعث من خلفهم من استوقفهم
وحبسهم ثم أذن مؤذن نادى مناد أيتها العير وهي القافلة التي فيها الأحمال قال مجاهد كانت العير حميرا وقال الفراء كانوا أصحاب إبل إنكم لسارقون قفوا قال قالوه من غير أمر يوسف وقيل قالوه بأمره وكان هفوة منه وقيل قالوه على تأويل أنهم شرقوا يوسف من أبيه فلما انتهى إليهم الرسول قال لهم ألم نكرم ضيافتكم ونحسن منزلتكم ونوفي كيلكم ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم قالوا بلى قالوا وما ذاك قالوا سقاية الملك فقدناها ولأنتهم عليها غيركم فذلك قوله عز وجل قالوا وأقبلوا عليهم عطفوا على المؤذن وأصحابه ماذا تفقدون ما الذي ضل عنكم والفقدان ضد الوجدان قالوا نفقد صواع الملك لمن جاء به حمل بعير من الطعام وأنا به زعيم كفيل يقوله المؤذن قاتلوا يعني إخوة يوسف تالله أي والله وخصت هذه الكلمة بأن أبدلت الواو فيها بالتاء في اليمين دون سائر أسماء الله تعالى لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض لنسرق في أرض مصر فإن قيل كيف قالوا لقد علمتم ومن أيا علموا ذلك قيل قالوا قد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض فإنا منذ قطعنا هذا الطريق لم نرزأ أحدا شيئا فسألوا عما من مررنا به هل ضررنا أحدا وقيل لأنهم ردوا البضاعة التي جعلت في رحالهم قالوا فلو كنا سارقين ما رددناها وقيل قالوا ذلك لأنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم وكانوا إذا دخلوا مصر كمموا أفواه دوابهم كيلا تتناول شيئا من حروث الناس وما كنا سارقين قالوا يعني المنادي وأصحابه فما جزاؤه يعني ما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم وما كنا سارقين
439

سورة يوسف (75 76) قالوا يعني اخوة يوسف جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه أي فالسارق جزاؤه أن يسلم السارق بسرقته إلى المسروق منه فيسترقه سنة وكان ذلك سنة آل يعقوب في حكم السارق وكان حكم ملك مصر أن يضرب ا لسارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق فأراد يوسف أن يحبس أخاه عنده فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه وعنده على حكمهم كذلك نجزي الظالمين الفاعلين ما ليس لهم فعله من سرقة مال الغير فقال الرسول عند ذلك لا بد من تفتيش أمتعتكم فأخذ في تفتيشها وروي أنه ردهم إلى يوسف فأمر بتفتيش أعيتهم بين يديه قببدأ بأوعيتهم لإزالة التهمة قبل وعاء أخيه فكان يفتش أوعيتهم واحدا واحدا قال قتادة ذكر لنا أ كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلى استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا رجل بنيامين قال ما أظن هذا أخذه فقال إخوته والله لا نترك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك ولأنفسنا فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه فذلك قوله تعالى ثم استخرجها من وعاء أخيه وإنما أنث الكناية في قوله استخرجها والصواع مذكر بدليل قوله ولمن جاء به حمل بعير لأنه رد الكناية ههنا إلى السقاية وقيل الصواع يذكر ويؤنث فلما أخرج الصواع من رحل بن يامين نكس إخوته رؤوسهم من الحياة وأقبلوا على ينيامين وقالوا ما الذي صنعت فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ما يزال لنا منكم البلاء متى أخذت هذا الصواع فقال بنيامين بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية والله قد وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم فأخذوا ينيامين رقيقا وقيل إن ذلك الرحل أخذ برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق كذلك كدنا ليوسف والكيد ههنا جزاء الكيد يعني كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم وقد قال يعقوب عليه السلام ليوسف فيكيدوا لك كيدا فكدنا ليوسف في أمرهم والكيد من الخلق ا لحيلة ومن الله ا لتدبير بالحق وقيل كذبا ألهمنا وقيل دبرنا وقيل أردنا ومعناه صنعنا ليوسف حتى ضم أخاه إلى نفسه وحال بينه وبين اخوته ما كان ليأخذ أخاه فيضمه إلى نفسه في دين الملك أي في حكمه قال قتادة وقال ابن عباس في سلطانه إلا أن يشاء الله يعني إن يوسف لم يكن يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك وهو ما أجري على ألسنة الاخوة أن جزاء السارق الاسترقاق فحصل مراد يوسف بمشيئة الله تعالى نرفع درجات من نشاء بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على اخوته وقرأ يعقوب يرفع
440

سورة يوسف (77 78) ويشاء بالياء فيهما وإضافة درجات إلى من في هذه السورة والوجه أن الفعل فيهما مسند إلى الله تعالى وقد تقدم ذكره في قوله تعالى إلا أن يشاء الله أي يرفع الله درجات من يشاء وقرأ الباقون بالنون فيهما إلا أن الكوفيين قرؤا درجات بالتنوين ومن سواهم بالإضافة أي نرفع به نحن والواقع أيضا هو الله تعالى وفوق كل ذي علم عليم قال ابن عباس فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فإن الله تعالى فوق كل عالم. قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل يريدون أخا له من أمه يعنون به يوسف واختلفوا في السرقة التي وصفوا بها يوسف فقال سعيد بن جبير قتادة كان لجده ابن أ / ه صنم يعبده فأخذه سرا أو كسره وألقاه في الطريق لئلا يعبد وقال مجاهد لإ يوسف جاءه سائل يوما فأخذ بيضة من البيت فناولها السائل وقال سفيان بن عيينة أخذ دجا جة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلا وقال وهب كان يخبأ الطعام من المائدة للفقراء وذكر محمد بن إسحاق أ يوسف كان عند عمته ابنة اسحق بعد موت أ / ه راحيل فحضنته عمته وأحبته حبا شديدا فلما ترعرع وقعت محبة يعقوب عليه فأتاها وقال يا أختاه سلمي إلي يوسف فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة قالت لا والله فقال والله ما أنا بتاركه فقالت دعه عندي أياما أنظر إليه لعل ذلك يسليني عنه ففعل ذلك فعمدت إلى منطقة لإسحاق كانوا يتوارثونها بالكبر فكانت عندها لأنها كانت أكبر ولد اسحق فحزمت المنطقة على يوسف تحت ثيابه وهو صغير ثم قالت لقد فقدت منطقة اسحق اكشفوا أهل البيت فكشفوا فوجدوها مع يوسف فقالت غخوة يوسف إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها أضمرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم وإنما أتت الكناية لأنه عين بها الكلمة وهي قوله قال أنتم شر مكانا ذكرها سرا في نفسه ولم يصرح بها يريد أنتم شر مكانا أي منزلة عند الله ممن رميتموه بالسرقة في صنيعكم بيوسف لأ ه لم يكن من يوسف سرقة حقيقية وخيانتكم حقيقة والله أعلم بما تصفون تقولون قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا في القصة أ هم غضبوا غضبا شديدا لهذه الحالة وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شئ وإذا صاح ألقت كل امرأة حامل سمعت صوته ولدها وكان مع هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب سكن غضبه وقيل كان هذا صفة شمعون من ولد يعقوب وروي أ قال لاخوته كم عدد الأسواق بمصر فقالوا عشرة فقال اكفوني
441

سورة يوسف (79 80) أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فدخلوا على يوسف فقال روبيل لتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها وقامت كل شعرة في جسد روبيل فخرجت من ثيابه فقال يوسف لابن له صغير قم إلى جنب روبيل فمسه وروي خذ بيده فأتني به
فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه فقال روبيل إن هاهنا لبذرا من بذر يعقوب فقال يوسف من يعقوب وروي أ ه غضب ثانيا فقام إليه يوسف فركضه برجله وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض وقال أنتم يا معشر العبرانيين تظنون أن لا أحد أشد منكم فلما صار أمرهم إلى هذا وراء ا أ لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا وقالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا يحبه فخذ أحدنا مكانه بدلا منه إنا نراك من المحسنين في أفعالك وقيل من المحسنين إلينا في توفية الكيل وحسن الضيافة ورد البضاعة وقيل يعنون إن فعلت ذلك كنت من المحسنين قال يوسف معاذ الله أعوذ بالله أ نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ولم يقل إلا من سرق تحرزا من الكذب إنا إذا لظالمون إ أخذنا بريئا بمجرم فلما استيأسوا منه أي أيسوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوه وقال أبو عبيدة استيأسوا استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم خلصوا نجيا أي خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم والنجي يصلح للجماعة كما قال ههنا ويصلح للواحد كقوله وقربناه نجيا وإ ما جاز للواحد والجمع لأ ه مصدر جعل نعتا كالعدل والزور ومثله النجوى يكون اسما ومصدرا قال الله تعالى وإذا هم نجوى أي متناجون وقال ما يكون من نجوى ثلاثة وقال في المصدر إنما النجوى من الشيطان قال كبيرهم يعني في العقل والعلم لا في السن قال ابن عباس والكلبي هو يهوذا وهو أعقلهم وقال مجاهد هو شمعون وكانت له الرئاسة على اخوته وقال قتادة والسدي والضحاك هو روبيل وكان أكبرهم في السن وهو الذي نهى الإخوة عن قتل يوسف ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا عهدا من الله ومن قبل ما فرطتم قصرتم في يوسف واختلفوا في محل ما قيل هو نصب بإيقاع العلم عليه يعني ألم تعلموا من قبل تفريطكم في يوسف وقيل وهو في محل الرفع على الابتداء وتم الكلام عند قوله من الله ثم قال ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف وقيل ما صلة أي ومن قبل هذا فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض التي أنا بها وهي مصر حتى يأذن لي أبي بالخروج منها يدعوني أو
442

سورة يوسف (81 82) يحكم الله لي يرد أخي إلي أو بخروجي وترك أخي وقيل أو يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم وأسترد أخي وهو خير الحاكمين أعدل من فضل بين الناس ارجعوا إلى أبيكم يقول الأخ المحتبس بمصر لاخوته ارجعو إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك بنيامين سرق وقرأ ابن عباس والضحاك بضم السين وكسر الراء وتشديدها يعني نسب إلى السرقة كما يقال خونته أي نسبته إلى الخيانة وما شهدنا إلا بما علمنا يعني ما قلنا هذا إلا بما علمنا فإنا رأينا إخراج الصواع من متاعه وقيل معناه وما شهدنا إلا بما علمنا أي ما كانت منا شهادة في عمرنا إلا بما علمنا وليست هذه الشهادة منا إنما هو خبر عن صنيع ابنك زعمهم وقيل قال لهم يعقوب عليه السلام ما يدري هذا الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته إلا بقولكم فقالوا ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا وكان الحكم ذلك عند يعقوب وبنيه وما كنا للغيب حافظين قال مجاهد وقتادة ما كنا نعلم أن ابنك سيسرق ويصير أمرنا إلى هذا وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه منه سبيل وعن ابن عباس ما كنا لليله ونهاره وذهابه حافظين وقال عكرمة وما كنا للغيب حافظين فلعلها دست يالليل في رحله واسأل القرية التي كنا فيها أي أهل القرية وهي مصر قال ابن عباس هي قرية من قرى مصر كانوا ارتحلوا منها إلى مصر والعير التي أقبلنا فيها أي القافلة التي كنا فيها وكان صحبهم قوم من كنعان من جيران يعقوب قال ابن إسحاق عرف الأخ المحتبس بمصر أن اخوته أهل تهمة عند أبيهم لما كانوا صنعوا في أمر يوسف فأمرهم أن يقولوا هذه المقالة لأبيهم وإنا لصادقون فإن قيل كيف استجاز يوسف أن يعمل مثل هذا بأبيه ولم يخبره بمكانه وحبس أخاه مع علمه بشدة وجد أبيه عليه وقيل معنى العقوق قطيعة الرحم وقلة الشفقة قيل قد أكثر الناس فيه والصحيح أنه عمل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى أمره به ليزيد في بلاء يعقوب فيضاعف له الأجر وبلحقه في الدرجة بآبائه الماضين وقيل إنه لم يظهر نفسه لاخوته لأنه لم يأمن أن يدبروا في أمره تدبيرا فيكتموه عن أبيه والأول أصح قال بل سرلت لكم زينت أنفسكم أمرا وفيه اختصار معناه فرجعوا إلى أبيهم وذكروا لأبيهم ما قال كبيرهم فقال كبيرهم فقال يعقوب بل سولت لكم أنفسكم أمرا أي حمل أخيكم إلى مصر لطلب نفع عاجل فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا يعني يوسف وبنيامين وأخاهم المقيم
443

سورة يوسف (84 86) بمصر إنهم هو العليم بحزني ووجدي على فقدهم الحكيم في تدبير خلقه قوله تعالى وتولى عنهم وذلك أ يعقوب عليه السلام لما بلغه خبر بنيامين تناهى حزنه وبلغ جهده وهيج حزنه على يوسف فأعرض عنهم وقال يا أسفا يا حزنا على يوسف والأسف أشد الحزن وابيضت عيناه من الحزن يعني عمي بصره قال مقاتل لم يبصر بهما ست سنين فهو كظيم أي مكظوم مملوء من الحزن عليه لا يبثه وقال قتادة تردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا قال الحسن كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانون عاما لا تجف عينا يعقوب وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب قالوا يعني أولاد يعقوب تالله تفتؤ تذكر يوسف أي لا تزال تذكر يوسف لا تفتر من حبه يقال ما فتى يفعل كذا أي ما زال يفعل ولا محذوفة من قوله تفتؤ يقال ما فتئ يفعل كذا أي ما زال كقول امرئ القيس فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي أي لا أبرح حتى تك حرضا قال ابن عباس دفنا وقال مجاهد الحرض ما دون الموت يعني قريبا من الموت وقال ابن إسحاق فاسدا لا عقل لك والحرض الذي فسد جسمه وعقله وقيل ذائبا من العهم ومعنى الآية حتى تكون دنف الجسم مخبول العقل وأصل الحرض الفساد في الجسم والعقل من الحزن والهرم أ العشق أ الهم يقال رجل حرض وامرأة حرض ورجلان وامرأتان حرض ورجال ونساء كذلك يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث لأنه مصدر وضع موضع الاسم أ تكون من الهالكين أي من المتين قال يغقوب عليه السلام عند ذلك لما رأى غلظتهم إنما أشكو بثي وحزني إلى الله والبث أشد الحزن سمي بذلك لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يثبته أي يظهره قال الحسن بثي أي حاجتي وروي أنه دخل على يعقوب جار له وقال يا يغقوب ما الذي غير حالك مالي أراك قد تهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك قال هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فقال قد غفرتها لك فكان بعد ذلك إذا سئل قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وروي أنه قيل له يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك فقال أذهب بصري بكائي على يوسف وقوس ظهري على أخيه فأوحى الله
444

إليه أتشكوني فوعزتي وجلالي لا أكشف ما بك حتى تدعوني فعند ذلك قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فأوحى الله إليه وعزتي وجلالي لو كانا ميتين لأخرجتهما لك وإنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه منها شيء وإن أحب خلقي إلي الأنبياء ثم المساكين فاصنع طعاما وادع المساكين فصنع طعاما ثم قال من
كان صائما فليفطر الليلة عن آل يعقوب وروي أنه كان بعد ذلك إذا تغدى أمر من ينادي من أراد الغداء فليأت يعقوب وإذا أفطر أمر من ينادي من أراد أن يفطر فليأت يعقوب فكان يتغدى ويتعشى مع المساكين وعن وهب بن منبه قال لما أوحى الله تعالى إلى يعقوب أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة قال لا لأنك قد شويت عناقا وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه وروي أن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور وقال وهب والسدي وغيرهما أتى جبريل إلى يوسف في السجن فقال هل تعرفني أيها الصديق قال أرى صورة طاهرة وريحا طيبة قال إني رسول رب العالمين وأنا الروح الأمين قال فما أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين وأمين رب العالمين قال ألم تعلم يا يوسف أن ال تعالى يطهر البيوت بطهر النبيين وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأراضين وأن ال تعالى قد طهر بك السجن وما حوله يا طاهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين قال كيف لي باسم الصديقين وتعدني من المخلصين الطاهرين وقد أدخلت مدخل المذنبين وسميت باسم الفاسقين قال جبريل لأنه لم يفتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربك لذلك سماك الله في الصديقين وعدك من المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين قال يوسف هل لك علم بيعقوب أيها الروح الأمين قال نعم وهبه الله الصبر الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم قال فكم قدر حزنه قال حزن سبعين ثكلى قال فما زاد له من الأجر يا جبريل قال أجر مائة شهيد قال أفتراني لاقيه قال نعم فطابت نفسه وقال ما أبالي بما لقيت إن رأيته قوله تعالى (وأعلم من الله ما لا تعلمون) يعني أعلم من حياة يوسف ما لا تعلمون روي أن ملك الموت زار يعقوب فقال له أيها الملك الطيب ريحه الحسن صورته هل قبضت روح ولدي في الأرواح قال لا فسكن يعقوب وطمع في رؤيته وقال وأعلم أن رؤيا يوسف صادقة وإني وأنتم سنسجد له وقال السدي لما أخبره ولده بسيرة الملك أحست نفس يعقوب وطمع وقال لعله يوسف فقال يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف أخيه وروي عن عبد ال ابن زيد بن أبي فروة أن يعقوب عليه السلام كتب كتابا إلى يوسف عليه السلام حين حبس بنيامين من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر أما بعد فإنا أهل بيت وكل بنا البلاء أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأما أبي فشدت يده ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم فقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من البكاء عليه ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به وإنك حبسته وزعمت أنه سرق وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته إلي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك فلما قرأ يوسف
445

سورة يوسف من الآية 87 وحتى الآية 89 الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره فأظهر نفسه على ما نذكره إن شاء الله تعالى 87 (يا بني اذهبوا فتحسسوا) تخبروا واطلبوا الخير (من يوسف وأخيه) والتحسس بالحاء والجيم لا يبعد أحدهما من الآخر إلا أن التحسس بالحاء في الخير وبالجيم في الشر والتحسس هو طلب الشيء بالحاسة قال ابن عباس معناه التمسوا (ولا تيأسوا) ولا تقنطوا (من روح الله) أي من الرحمة وقيل من فرج الله (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) 88 (فلما دخلوا عليه) وفيه إضمار تقديره فخرجوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا عليه (قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر) أي الشدة والجوع (وجئنا ببضاعة مزجاة) أي قليلة رديئة كاسدة لا تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع فيها وأصل الإزجاء السوق والدفع وقيل للبضاعة مزجاة لأنها غير نافقة وإنما تجوز على دفع من أخذها واختلفوا فيها فقال ابن عباس كانت دراهم رديئة زيوفا وقيل كانت خلق الغرائر والحبال وقيل كانت من متاع الأعراف من الصوف والأقط وقال الكلبي ومقاتل كانت الحبة الخضراء وقيل كانت سويق المقل وقيل كانت الأدم والنعال (فأوف لنا الكيل) أي أعطنا ما كنت تعطينا قبل بالثمن الجيد الوافي (وتصدق علينا) أي تفضل علينا بما بين الثمنين الجيد والرديء ولا تنقصنا هذا قول أكثر المفسرين وقال ابن جريج والضحاك وتصدق علينا برد أخينا إلينا (إن الله يجزي) يثيب (المتصدقين) وقال الضحاك لم يقول إن الله يجزيك لأنهم يعلموا أنه مؤمن وسئل سفيان بن عيينة هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبينا عليه الصلاة والسلام فقال سفيان ألم تسمع قوله تعالى (وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين) يريد أن الصدقة كانت حلالا لهم وروي أن الحسن سمع رجلا يقول اللهم تصدق علي فقال إن الله لا يتصدق وإنما يتصدق من يبغي الثواب قل اللهم أعطني أو تفضل علي 89 (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) اختلفوا في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول قال ابن إسحاق ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته الرقة فارفض دفعه فباح بالذي كان يكتمه وقال الكلبي إنما قال ذلك حين حكى لإخوته أن مالك بن ذعر قال إني وجدت غلاما في بئر من
446

سورة يوسف من الآية 90 وحتى الآية 92 حاله كيت وكيت فابتعته بكذا درهما فقالوا أيها الملك نحن بعنا ذلك الغلام فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتالهم فذهبوا بهم ليقتلوهم فولى يهوذا وهو يقول كان يعقوب يحزن ويبكي لفقد واحد منا حتى كف بصره فكيف إذ أتاه قتل بنيه كلهم ثم قالوا له إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا فإنه بمكان كذا وكذا فذلك حين رحمهم وبكى وقال ذلك القول وقيل قاله حين قرأ كتاب أبيه الذي كتب إليه فلم يتمالك البكاء فقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ فرقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إذ أنتم جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف وقيل مذنبون وعاصون وقال الحسن إذ أنتم شبان ومعكم جهل الشباب فإن قيل كيف قال ما فعلتم بيوسف وأخيه وما كان منهم إلى أخيه شيء وهم لم يسعوا في حبسه قيل قد قالوا له فيا لصاع ما رأينا منكم يا بني راحيل خيرا وقيل لما كانا من أم واحدة كانوا يؤذونه من بعد فقد يوسف 90 (قالوا أئنك لأنت يوسف) قرأ ابن كثير وأبو جعفر (إنك) على الخبر وقرأ الآخرون على الاستفهام قال ابن إسحاق كان يوسف يتكلم من وراء ستر فلما قال يوسف هل علمتم ما فعلتم كشف عنهم الغطاء ورفع الحجاب فعرفوه وقال الضحاك عن أبي عباس لما قال هذا القول تبسم فرأوا ثناياه كاللؤلؤ المنظوم فشبهوه بيوسف فقالوا استفهاما أئنك لأنت يوسف وقال عطاء عن ابن عباس إن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج على رأسه وكان له في قرنه علامة وكان ليعقوب مثلها ولإسحاق مثلها ولسارة مثلها شبه الشامة فعرفوه فقالوا أئنك لأنت يوسف وقيل قالوه على التوهم حتى (قال أنا يوسف وهذا أخي) بنيامين (قد من الله علينا) أنعم الله علينا بأن جمع بيننا (إنه من يتق) بأداء الفرائض واجتناب المعاصي (ويصبر) عما حرم الله عز وجل عليه قال ابن عباس يتقي الزنا ويصبر عن العزوبية وقال مجاهد يتقي المعصية ويصبر
على السجن (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) 91 (قالوا) معتذرين (تالله لقد آثرك الله علينا) أي اختارك الله وفضلك علينا (وإن كنا لخاطئين) أي وما صنيعنا بك لا مخطئين مذنبين يقال خطىء خطأ إذا تعمد وأخطأ إذا كان غير متعمد 92 (قال) يوسف وكان حليما (لا تثريب عليكم اليوم) لا تعيير عليكم اليوم ولا أذكر لكم ذنبكم بعد
447

سورة يوسف من الآية 93 وحتى الآية 95 اليوم (يغفر الله لكم وهو أحسن الراحمين) فلما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه فقال ما فعل أبي بعدي قالوا ذهبت عيناه من البكاء فأعطاهم قميصه ثم قال 93 (اذهبوا بقميصي هذا فألوه على وجه أبي يأت بصيرا) أي يعد مبصرا وقيل بصيرا لأنه كان ذلك القميص من نسج الجنة وعن مجاهد قال أمره جبريل أن يرسل إليه قميصه وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه السلام وذلك أنه جرد من ثيابه وألقي في النار عريانا فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فكان ذلك القميص عند إبراهيم عليه السلام فلما مات ورثه إسحاق فلما مات ورثه يعقوب فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في قصبة وسد رأسها وعلقها في عنقه لما كان يخاف عليه من العين وكان لا يفارقه فلما ألقي في البئر عريانا جاءه جبريل عليه السلام وعلى يوسف ذلك التعويذ فأخرج القميص منه وألبسه إياه ففي هذا الوقت جاء جبريل عليه السلام إلى يوسف عليه السلام وقال له أرسل إلى أبيك ذلك القميص فإن فيه ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلي إلا عوفي فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته وقال ألقوه على وجه أبي يأت بصيرا (وأتوني بأهلكم أجمعين) 94 (ولما فصلت العير) أي خرجت من عريش مصر متوجهة إلى كنعان (قال أبوهم) أي قال يعقوب لولد ولده (إني لأجد ريح يوسف) روي أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير قال مجاهد أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيام وحكي عن ابن عباس من مسيرة ثمان ليال وقال الحسن كان بينهما ثمانون فرسخا وقيل هبت ريح الصبا فصفقت القميص فاحتملت ريح القميص إلى يعقوب فوجد ريح الجنة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فلذلك قال إني لأجد ريح يوسف قبل البشير (لولا أن تفندون) تسفهوني وعن ابن عباس تجهلوني وقال الضحاك تهزموني فتقولون شيخ كبير قد خرف وذهب عقله وقيل تضعفوني وقال أبو عبيدة تضللوني وأصل الفند الفساد 95 (قالوا) يعني أولاد أولاده (تالله إنك لفي ضلالك القديم) لفي خطئك السابق من ذكر ليوسف لا تنساه والضلال هو الذهاب عن الطريق الصواب فإن عندهم أن يوسف قد مات ويرون يعقوب قد لهج بذكره
448

سورة يوسف من الآية 97 وحتى الآية 98 96 (فلما أن جاء البشير) وهو المبشر عن يوسف قال ابن مسعود جاء البشير بين يدي العير قال ابن عباس هو يهوذا قال أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب فأنا أذهب إليه اليوم بالقميص فأخبره أن ولده حي فأفرحه كما أحزنته قال ابن عباس حمله يهوذا وخرج حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتى أباه وكانت المسافة ثمانين فرسخا وقيل البشير مالك بن ذعر (ألقاه على وجهه) يعني ألقي البشير قميص يوسف على وجه يعقوب (فارتد بصيرا) فعاد بصيرا بعدما كان أعمى وعادت إليه قوته بعد الضعف وشبابه بعد الهرم وسروره بعد الحزن (قال) يعني يعقوب عليه السلام (ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون) من حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا وروي أنه قال للبشير كيف تركت يوسف قال إنه ملك مصر فقال يعقوب ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة 97 (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إن كنا خاطئين) مذنبين 98 (قال سوف أستغفر لكم ربي) قال أكثر المفسرين أخر الدعاء إلى السحر وهو الوقت الذي يقول الله تعالى هل داع فأستجيب له فلما انتهى يعقوب إلى الموعد قام إلى الصلاة بالسحر فلما فرغ منها رفع يديه إلى الله عز وجل وقال اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف فأوحى الله تعالى إليه إني قد غفرت لك ولهم أجمعين وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما سوف أستغفر لكم ربي يعني ليلة الجمعة قال وهب كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة وقال طاوس أخر الدعاء إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء وعن الشعبي قال سوف أستغفر لكم ربي قال أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفر لكم ربي (إنه هو الغفور الرحيم) روي أن يوسف كان قد بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة جهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب وأهله وأولاده فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر فخرجوا وهم اثنان وسبعون من بين رجل وامرأة وقال مسروق كانوا ثلاثة وتسعين فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجنود وركب أهل مصر معهما يتلقون يعقوب وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا فنظرإلى الخيل والناس فقال يا يهوذا هذا فرعون مصر قال لا هذا ابنك فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام فقال جبريل لا حتى يبدأ
449

سورة يوسف من الآية 99 وحتى الآية 100 يعقوب بالسلام فقال يعقوب السلام عليك يا مذهب الأحزان وروي أنهما نزلا وتعاقنا وقال الثوري لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا فقال يوسف يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا قال بلى يا بني ولكن فارقتك وأنت صغير فخشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك 99 فذلك قوله (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه) أي ضم إليه (أبويه) قال أكثر المفسرين هو أبوه وخالته ليا وكانت أمه راحيل قد ماتت في نفاس بنيامين وقيل هو أبوه وأمه وكانت حية وفي بعض التفاسير أن الله عز وجل أحيا أمه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر (وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) فإن قيل فقد قال فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه فكيف قال ادخلوا مصر بعدما اخبر أنهم دخلوها وما وجه هذا الاستثناء وقد حصل الدخول قيل إن يوسف إنما قال لهم هذا القول حين تلقاهم قبل دخولهم مصر وفي الآية تقديم وتأخير والاستثناء يرجع إلى الأمن من الجواز لأنهم كانوا لا يدخلون مصر قبله إلا بجواز من ملوكهم يقول آمنين من الجواز إن شاء الله كما قال (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) وقيل (إن) هاهنا بمعنى إذ يريد إذ شاء الله كقوله تعالى (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) أي إذ كنتم مؤمنين 100 (ورفع أبويه على العرش) أي على السرير أجلسهما والرفع هو النقل إلى العلو (وخروا له سجدا) يعني يعقوب وخالته وإخوته وكانت تحية الناس يومئذ بالسجود ولم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض وإنما هو الانحناء والتواضع وقيل وضعوا الجباه على الأرض وكان ذلك على طريق التحية والتعظيم لا على طريق العبادة وكان ذلك جائزا في الأمم السالفة فنسخ في هذه الشريعة وروي عن ابن عباس أنه قال معناه خروا لله عز وجل سجدا بين يدي يوسف
والأول أصح (وقال) يوسف عند ذلك (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا) هو قوله (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) (وقد أحسن بي) أي أنعم علي (إذ أخرجني من السجن)
450

سورة يوسف الآية 101 ولم يقل من الجب مع كونه أشد بلاء من السجن استعمالا للكرم لكيلا يخجل إخوته بعدما قال لهم (لا تثريب عليكم اليوم) ولأنه نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم لأنه بعد الخروج من الجب صار إلى العبودية والرق وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك ولأن وقوعه في البئر كان لحسد إخوته وفي السجن كان مكافأة من الله تعالى لزلة كانت منه (وجاء بكم من البدو) والبدو بسيط من الأرض يسكنه أهل المواشي بماشيتهم وكانوا أهل بادية ومواشي يقال بدا يبدو إذا صار إلى البادية (من بعد أن نزغ) أفسد (الشيطان بيني وبين إخوتي) بالحسد والبغض (إن ربي لطيف) أي ذو لطف (لما يشاء) وقيل معناه لمن يشاء وحقيقة اللطيف الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق (إنه هو العليم الحكيم) قال أهل التاريخ أقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش ثم مات بمصر فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق ففعل يوسف ذلك ومضى به حتى دفنه بالشام ثم انصرف إلى مصر وقال سعيد بن جبير نقل يعقوب عليه السلام في تابوت من ساجد إلى بيت المقدس فوافق ذلك موت العيص فدفنا في قبر واحد وكانا ولدا في بطن واحد وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة فلما جمع الله تعالى ليوسف شمله على أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله تعالى حسن العاقبة فقال 101 (رب قد آتيتني من الملك) يعني ملك مصر والملك اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير (وعلمتني من تأويل الأحاديث) يعني تبير الرؤيا (فاطر) أي يا فاطر (السماوات والأرض) أي خالقهما (أنت وليي) أي معيني ومتولي أمري (في الدنيا والآخرة توفني مسلما) يقول اقبضني إليك مسلما (وألحقني بالصالحين) يريد آبائي النبيين قال قتادة لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف وفي القصة لما جمع الله شمله وأوصل إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربه عز وجل فقال هذه المقالة قال الحسن عاش بعد هذا سنين كثيرة وقال غيره لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي واختلفوا في مدة غيبة يوسف عن أبيه فقال الكلبي اثنتان وعشرون سنة وقيل أربعون وقال الحسن ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين سنة ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة وفي التوراة مات وهو ابن مائة وعشر سنين وولد ليوسف من امرأة العزير ثلاثة أفراد أفراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوب المبتلى عليه السلام وقيل عاش يوسف بعد أبيه ستين سنة وقيل أكثر واختلفت الأقاويل فيه وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة فدفنوه في النيل في صندوق من رخام وذلك أنه لما مات تشاح الناس فيه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا بالقتال
451

سورة يوسف من الآية 102 وحتى الآية 106 فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث يتفرق الماء بمصر ليجري الماء عليه وتصل بركته إلى جميعهم وقال عكرمة دفن في الجانب الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر فدفنوه في وسطه وقدروا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان جميعا إلى أن أخرجه موسى فدفنه بقرب آبائه بالشام 102 (ذلك) الذي ذكرت (من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم) أي ما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب (إذ أجمعوا أمرهم) أي عزموا على إلقاء يوسف في الجب (وهم يمكرون) بيوسف 103 (وما أكثر الناس) يا محمد (ولو حرصت بمؤمنين) على إيمانهم وروي أن اليهود وقريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فلما أخبرهم على موافقة التوراة لم يسلموا فحزن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فقيل لهم إنهم لا يؤمنون وإن حرصت على إيمانهم 104 (وما تسألهم عليه) أي على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله تعالى (من أجر) جعل وجزاء (إن هو) ما هو يعني القرآن (إلا ذكر) عظة وتذكير (للعالمين) 105 (وكأين) وكم (من آية) عبرة ودلالة (في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها 106 (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) فكان من إيمانهم إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض قالوا الله وإذا قيل لهم من ينزل القطر قالوا الله ثم مع ذلك يعبدون الأصنام ويشركون وعن ابن عباس أنه قال إنها نزلت في تلبية المشركين من العرب كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك وقال عطاء هذا في الدعاء وذلك أن الكفار نسوا ربهم في الرخاء فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء كما قال الله تعالى (وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين) الآية (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) وغير ذلك من الآيات
452

سورة يوسف من الآية 107 وحتى الآية 109 107 (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله) أي عقوبة مجللة قال مجاهد عذاب يغشاهم نظيره قوله تعالى (يو يغشاهم العذاب من فوقهم) الآية قال قتادة وقيعة وقال الضحاك يعني الصواعق والقوارع (أو تأتيهم الساعة بغتة) فجأة (وهم لا يشعرون) بقيامها قال ابن عباس تهيج بالناس وهم في أسواقهم 108 (قل) يا محمد (هذه) الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها (سبيلي) سنتي ومنهاجي وقال مقاتل ديني نظيره قوله (ادع إلى سبيل ربك) أي إلى دينه (ادعوا إلى الله على بصيرة) على يقين والبصيرة هي المعرفة التي يميز بها الحق والباطل (أنا ومن اتبعني) أي ومن آمن بي وصدقني أيضا يدعو إلى الله هذا قول الكلبي وابن زيد قال حق على من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذكرون بالقرآن وقيل تم الكلام عند قوله (ادعوا إلى الله) ثم استأنف (على بصيرة أنا ومن اتبعني) يقول إني على بصيرة من ربي وكل من اتبعني قال ابن عباس يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم قوله تعالى (وسبحان الله) أي وقل سبحان الله تنزيها له عما أشركوا به (وما أنا من المشركين) 109 (وما أرسلنا من قبلك) يا محمد (إلا رجالا) ملائكة (نوحي إليهم) قرأ أبو جعفر وحفص (نوحي) بالنون وكسر الحاء وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء (ومن أهل القرى) يعني من أهل الأمصار دون أهل البوادي لأن أهل الأمصار أعقل من أهل البوادي لغلظهم وجفائهم (أفلم يسيروا في الأرض) يعني هؤلاء المشركين المكذبين (فينظروا كيف كان عاقبة) آخر أمر (الذين من قبلهم) يعني الأمم
المكذبة فيعتبروا (ولدار الآخرة خير للذين اتقوا) يقول (خير للذين اتقوا) يقول جل ذكره هذا فعلنا بأهل طاعتنا أن ننجيهم عند نزول العذاب وما في الدار
453

سورة يوسف من الآية 110 وحتى الآية 111 الآخرة خير لهم فترك ما ذكرنا اكتفاء بدلالة الكلام عليه قوله (ولدار الآخرة) قيل معناه ولدار الحال الآخرة خير وقيل هو إضافة الشيء إلى نفسه كقوله (إن هذا لهو حق اليقين) وكقولهم يوم الخميس وربيع الآخر (أفلا تعقلون) فتؤمنون
454

(حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) اختلف القراء في قوله (كذبوا) فقرأ أهل الكوفة وأبو جعفر (كذبوا) بالتخفيف وكانت عائشة تنكر هذا القراءة وقرأ الآخرون بالتشديد فمن شدده قال معناه حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنوا أي أيقنوا يعني الرسل أن الأمم قد كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعد إيمانهم والظن بمعنى اليقين وهذا معنى قول قتادة وقال بعضهم معناه حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قولهم أن يصدقوهم وظنوا أن من آمن بهم من قومهم قد كذبوهم وارتدوا عن دينهم لشدة المحنة والبلاء عليهم استبطاء النصر ومن قرأ بالتخفيف قال معناه حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنوا أي ظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم في وعيد العقاب وروي عن ابن عباس أن معناه ضعف قلوبهم يعني وظنت الرسل أنهم قد كذبوا فيما وعدوا من النصر وكانوا بشرا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنهم قد أخلفوا ثم تلا (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله جاءهم) أي جاء الرسل نصرنا (فنجي من نشاء) قرأ العامة بنونين أي نحن ننجي من نشاء وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب بنون واحدة مضمومة فيكون محل (من) رفعا على هذه القراءة وعلى القراءة الأولى يكون نصبا فنجي من نشاء عند نزول العذاب وهم المؤمنون المطيعون (ولا يرد بأسنا) عذابنا (عن القوم المجرمين) أي المشركين 111 (لقد كان في قصصهم) أي في خبريوسف وإخوته (عبرة) عظة (لأولي الألباب ما كان) يعني القرآن (حديثا يفترى) أي يختلق (ولكن تصديق الذي) أي ولكن كان تصديق الذي (بين يديه) من التوراة والإنجيل (وتفصيل كل شيء) مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام والأمر والنهي (وهدى ورحمة) بيانا ونعمة (لقوم يؤمنون)
455