الكتاب: تفسير الثعلبي
المؤلف: الثعلبي
الجزء: ٥
الوفاة: ٤٢٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور ، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠٢م
المطبعة: بيروت - لبنان - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

((سورة التوبة))
مدنية، وهي عشرة آلاف وأربعمائة وثمانون حرفا، وأربعة آلاف وثمان وتسعون كلمة، ومائة وثلاثون آية
هشام بن عامر عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنه ما نزل علي القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا خلا سورة براءة، وقل هو الله أحد، فإنهما أنزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة كل يقول: يا محمد استوص بنسبة الله خيرا).
يزيد الرقاشي عن ابن عباس. قال: قلت لعثمان بن عفان ح: ما حملكم على أن (عمدتم) إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟.
قال عثمان ح: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فلا انزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وينزل عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزلت، وكانت قصتها شبيهة بقصتها (فظننت أنها منها)، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم اكتب سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي، سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع السجزي بهراة يقول: سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي، سمعت عبد الجبار بن العلاء العطار يقول: سئل سفيان بن عيينة: لم لم يكن في صدر براءة: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين.
2 (* (برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا فى الارض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزى الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر
5

أن الله برىء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم * إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين * فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءاتوا الزكواة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) *) 2
" * (براءة) *) رفع بخبر ابتداء مضمر أي: هذه الآيات براءة، وقيل: رفع بخبر معرف الصفة على التقدير تقديره يعني " * (إلى الذين عاهدتم من المشركين) *) براءة بنقض العهد وفسخ العقد، وهي مصدر على فعالة كالشناءة والدناءة.
" * (من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) *) إلى الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المتولي على العقود وأصحابه كلهم بذلك راضون، فكأنهم عقدوا وعاهدوا " * (فسيحوا) *) رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم: سيحوا أي سيروا " * (في الأرض) *) مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من أحد من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر.
" * (أربعة أشهر) *) يقال: ساح في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسياحا " * (واعلموا أنكم غير معجزي الله) *) أي غير فائتين ولا سابقين " * (وأن الله مخزي الكافرين) *) أي مذلهم ومورثهم العار في الدنيا وفي الآخرة.
واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله منهم ورسوله إليكم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله من المشركين.
فقال محمد بن إسحاق وغيره من العلماء: هم صنفان من المشركين: أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة اشهر فأمهل تمام أربعة اشهر، والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه ثم (....) بحرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين، يقتل حيث ما أدرك، ويؤسر إلى أن يتوب وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وانتهاؤه إلى عشر من ربيع الآخر.
وأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوما، وقال الزهري: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال، وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر، فأتم له الأربعة الأشهر، ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر، فهذا الذي أمر أن يتم له عهده، وقال
6

فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، وقال مقاتل: نزلت في ثلاثة أحياء من العرب: خزاعة وبني مذحج وبني خزيمة كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهدهم بالحديبية سنتين فجعل الله عز وجل أجلهم أربعة أشهر، ولم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحدا من الناس.
وقال الحسن: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمره أن يدعو إلى التوحيد والطاعة، وفرض عليه الشرائع، وأمره بقتال من قاتله من المشركين، فقال: " * (قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم) *) وكان لا يقاتل إلا من قاتله، وكان كافا عن أهل العهد الذين كانوا يعاهدونه الثلاثة والأربعة الأشهر حتى ينظروا في أمرهم، فإما أن يسلموا وإما أن يؤذنوا بالحرب، ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم وأجلهم أربعة أشهر على أن يسلموا أو يؤذنوا بالحرب، ولم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر، لا من كان له عهد قبل البراءة، ولا من لم يكن له عهد، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحل دماء المشركين كلهم من أهل العهد وغيرهم بعد انقضاء الأجل.
قال عبد الرحمن بن زيد: نقض كل عهد كان أكثر من أربعة أشهر فرده إلى الأربعة، وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: نزلت في أهل مكة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، فدخلت خزاعة في عهد محمد صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان مع ذا عهود من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبائل من العرب خصائص، فعدت بنو بكر على خزاعة (فقتلوا رجلا) منها ورفدتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهودهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رب إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيه إلا تلدا
كنت لنا أبا وكنا ولدا
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا (عتدا)
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
أبيض مثل الشمس ينمو صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق في البحر تجري مزبدا
إن قريشا لموافوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو إحدا
وهم أذل وأقل عددا
هم (وجدونا) بالحطيم هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنصرف إن لم أنصركم) فخرج وتجهز إلى مكة، وفتح الله مكة
7

وهي سنة ثمان من الهجرة، ثم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف جعل المشركون ينقضون عهودهم، وأمره الله بإلقاء عهودهم إليهم ليأذنوا بالحرب، وذلك قوله تعالى " * (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) *) الآية.
فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فقال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة ولم (.........) أن حج حتى لا يكون ذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ح تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار دعا صلى الله عليه وسلم عليا فقال: (اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا).
فخرج علي ح على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة فأخذها منه فرجع أبا بكر ح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل بشأني شيء؟
قال: (لا ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك صاحبي على الحوض). قال: بلى يا رسول الله، وذلك أن العرب جرت عادتها في عقد عهودها ونقضها أن يتولى ذلك عن القبيلة رجل منهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا لئلا، يقولوا: هذا خلاف ما نعرفه في بعض العهود.
قال جابر: كنت مع علي ح حتى أتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فلما كنا (بالعرج ثوب) بصلاة الصبح، فلما استوى أبو بكر ليكبر سمع الرغاء فوقف وقال: هذه رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء، لقد بدا لرسول الله في الحج، فإذا عليها علي، فقال أبو بكر أمير أم مأمور؟
قال: بل ارسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرأها على الناس، فكان أبو بكر أميرا على الحج وعليا ليؤذن ببراءة، فقدما مكة، فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم وأقام للناس بالحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على مناسكهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب ح فأذن في الناس بالحج بالذي أمره به، وقرأ عليهم سورة براءة.
قال الشعبي: حدثني محمد بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي ح حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي، وكان إذا (ضحل) صوته ناديت قلت: بأي شيء كنتم تنادون؟ قال: بأربع لا يطف بالكعبة عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا تدخل الجنة
8

إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك، قالوا: فقال المشركون: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب، وطفقوا يقولون: اللهم أنا قد منعنا أن نبرك، فلما كان سنة عشر حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ونقل إلى المدينة، فمكث بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وليالي من شهر ربيع الأول حتى لحق بالله عز وجل.
" * (وأذان من الله) *) عطف على قوله براءة، ومعناه: إعلام، ومنه الأذان بالصلاة، يقال: أذنته فأذن أي أعلمته فعلم، وأصله من الأذن أي أوقعته في أذنه، وقال عطية العوفي (و...) (الأذان) * * (وأذان من الله) *) إلى قوله: " * (فإن خفتم عيلة) *) الآية، وذلك ثمان وعشرون آية.
" * (ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر) *) اختلفوا فيه فقال أبو جحيفة وعطاء وطاووس ومجاهد: يوم عرفة، وهي رواية عمرو عن ابن عباس، يدل عليه حديث أبي الصهباء البكري، قال: سألت علي بن أبي طالب عن يوم الحج الأكبر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يعلم الناس الحج وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة، فخطب الناس يوم عرفة فلما قضى خطبته التفت الي وقال: هلم يا علي فأد رسالة رسول الله، فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة، ثم صدرنا حتى أتينا منى، فرميت الجمرة ونحرت البدنة وحلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا كلهم خطبة أبي بكر ح يوم عرفة فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرأها عليهم، فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر ألا وهو يوم عرفة.
وروى شهاب بن عباد القصري عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب ح يقول: هذا يوم عرفة يوم الحج الأكبر فلا يصومنه أحد. قال: فحججت بعد أبي فأتيت المدينة فسألت عن أفضل أهلها فقالوا: سعيد بن المسيب، فأتيته فقلت: أخبرني عن صوم يوم عرفة فقال: أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف عن عمر وابن عمر، كان ينهى عن صومه ويقول هو يوم الحج الأكبر.
وقال معقل بن داود: سمعت ابن الزبير يقول يوم عرفة: هذا يوم الحج الأكبر فلا يصمه أحد، وقال غالب بن عبيد الله: سألت عطاء عن يوم الحج الأكبر، فقال: يوم عرفة فاقض منها قبل طلوع الفجر.
وقال قيس بن مخرمة: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة ثم قال: أما بعد وكان لا يخطب إلا قال أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر، وقال نافع بن جبير، وقيس بن عباد، وعبد الله
9

ابن شراد، والشعبي والنخعي والسدي، وابن زيد هو يوم النحر وهو إحدى الروايتين عن علي ح.
قال يحيى بن الجواد: خرج علي ح يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاءه رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن الحج الأكبر، فقال: هو يومك هذا فخل سبيلها.
وقال عياش العامري: سئل عبد الله بن أبي أوفى عن يوم الحج الأكبر فقال: سبحان الله هو يوم النحر يوم يهراق فيه الدماء ويحلق فيه الشعر ويحل فيه الحرام.
وروى الأعمش عن عبد الله بن سنان. قال خطبنا المغيرة بن شعبة على ناقة له يوم الأضحى فقال: هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر.
وروى شعبة بن أبي بشر، قال: اختصم علي بن عبد الله بن عباس ورجل من آل شيبة في يوم الحج الأكبر، فقال علي: هو يوم النحر، وقال الذي من آل شيبة: هو يوم عرفة فأرسلوا إلى سعيد بن جبير فسألوه فقال: هذا يوم النحر إلا ترى أنه من فاته يوم عرفة لم يفته الحج، وإذا فاته يوم النحر فقد فاته الحج، يدل عليه ما روى الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في نفر بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا يأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذن معنا علي كرم الله وجهه أهل منى يوم النحر ببراءة.
صالح عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن أبا بكر بعث في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس: لايحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فكان حميد يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر من أصل حديث أبي هريرة.
ابن عيينة عن ابن جريج عن مجاهد قال: يوم الحج الأكبر حين الحج أيام منى كلها ومجامع المشركين بعكاظ وذي المجارة ومخشة، ويوم نادى فيه علي بما نادى، وكان سفيان الثوري يقول: يوم الحج الأكبر أيامه كلها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث والزمان، لأن كل حرب من هذه الحروب كانت أياما كثيرة.
واختلفوا أيضا في السبب الذي لأجله قيل: هذا اليوم يوم الحج الأكبر. فقال الحسن: يسمى الحج الأكبر من أجل أنه اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين، وقال عبد الله بن الحرث ابن نوفل: يوم الحج الأكبر كان لحجة الوداع، اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين، ولم يجتمع قبله ولابعده.
10

وروى منصور وحماد عن مجاهد قال: يقال الحج الأكبر القرآن، والحج الأصغر أفراد الحج، وقال الزهري والشعبي وعطاء: الحج الأكبر: الحج، والحج الأصغر: العمرة، وقيل لها (.............) عملها (.............) من الحج.
قوله عز وجل: " * (أن الله) *) قرأ عيسى أن الله بالكسر على الابتداء لأن الأذان قول " * (بريء من المشركين ورسوله) *) قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره مضمر تقديره: ورسوله أيضا بريء، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب (ورسوله) بالنصب عطفا على اسم الله، ولم يقل بريئان لأنه يرجع إلى كل واحد منهما كقول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله
فأني وقيار بها لغريب
وروي عن الحسن ورسوله بالخفض على القسم، وبلغني أن اعربيا سمع رجلا يقرأ هذه القراءة. فقال: إن كان أمرا من رسوله فإني بريء منه أيضا، فأخذ الرجل (
بتلنته) وجره إلى عمر ابن الخطاب، فقص الأعرابي قصته وقوله أيضا، فعند ذلك أمر عمر بتعليم العربية.
" * (فإن تبتم) *) رجعتم من كفركم وأخلصتم بالتوحيد " * (فهو خير لكم وإن توليتم) *) أعرضتم عن الإيمان (إلى الإصرار) على الكفر " * (فاعلموا أ نكم غير معجزي الله وبشر) *) وأخبر " * (الذين كفروا بعذاب أليم) *) ثم قال: " * (إلا الذين عاهدتم) *).
وهو استثناء من قوله: براءة من الله ورسوله إلى الناس إلا من الذين عاهدتم " * (من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا) *) من عهدكم الذي عاهدتموهم عليه " * (ولم يظاهروا) *) يعاونوا " * (عليكم أحدا) *) من عدوكم بأنفسهم ولا بسلاح ولا بخيل ولا برجال ولا مال.
وقرأ عطاء بن يسار ثم لم ينقضوكم بالضاد المعجمة من نقض العهد، وقرأ العامة بالصاد.
قوله " * (فأتموا إليهم عهدهم) *) فأوفوا بعهدهم " * (إلى مدتهم) *) أجلهم الذي عاهدتموهم عليه " * (إن الله يحب المتقين) *) وهم بنو ضمرة وكنانة وكان بقي لهم من مدتهم تسعة أشهر فأمر بإتمامها لهم " * (فإذا انسلخ الأشهر) *) انتهى ومضى وقتها، يقال: منه سلخت أشهر كذا نسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجنا. قال الشاعر:
إذا ماسلخت الشهر أهللت مثله
كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي
وفيه قيل: شاة مسلوخة المنزوعة من جلدها، وحية سالخ إذا أخرجت من جلدها " * (الأشهر
11

الحرم) *) وهي أربعة، ثلاثة فرد، وواحد زوجي وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب.
وقال مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمر بن شعيب: هي شهور العهد، وقيل لها الحرم لأن الله حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم إلا سبيل الخير " * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *) في الحل والحرم، وجدتموهم فأسروهم " * (واحصروهم) *) وامنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام " * (واقعدوا لهم كل مرصد) *) أي على كل طريق ومرقب، يقال: رصدت فلانا أرصده رصدا إذا رقبته. قال عامر بن الطفيل.
ولقد علمت وما إخالك ناسيا
أن في المنية للفتى بالمرصد
" * (فإن تابوا) *) من الشرك " * (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) *) يقول: دعوهم في أمصارهم، ودعوهم يدخلوا مكة " * (إن الله غفور رحيم) *) (.........) في حكم هذه الآية.
قال الحسين بن الفضل: فنسخت هذه الآية كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء، وقال الضحاك والسدي وعطاء: قوله: (فاقتلوا المشركين) منسوخة بقوله: " * (فإما منا بعد وإما فداء) *) وقال قتادة: بل هي ناسخة لقوله: " * (فإما منا بعد وإما فداء) *).
والصحيح أن حكم هذه الآية ثابت، وأنها غير منسوخة إحداهما بصاحبتها لأن المن، والقتل، والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم من أول حاربهم وهو يوم بدر، ويدل عليه قوله تعالى: " * (وخذوهم) *) والأخذ هو الأسر، والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء، والدليل عليه أيضا قول عطاء قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأسير يقال له أبو أمامة وهو سيد اليمامة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (يا أبا أمامة أيها أحب إليك: أعتقك أو أفاديك أو أقتلك أو تسلم؟). فقال: أن تعتق تعتق عظيما، وأن تفاد تفاد عظيما، وإن تقتل تقتل عظيما، وأما أن أسلم فلا والله لا أسلم أبدا.
قال فأني أعتقتك. فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسوله.
وكانت مادة ميرة مكة من قبل اليمامة فقال لأهل مكة: والذي لا إله إلا هو لاتأتيكم ميرة أبدا، ولا حبة من قبل اليمامة حتى تؤمنوا بالله ورسوله فأضر إلى أهل مكة فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيهم له حزب يشكون ذلك إليه، فكتب إلى أبي أمامة: لا تقطع عنهم ميرة كانت من قبلك، ففعل ذلك أبو أمامة.
2 (* (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذالك بأنهم قوم لا
12

يعلمون * كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بئايات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم سآء ما كانوا يعملون * لا يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة وأولائك هم المعتدون * فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءااتوا الزكواة فإخوانكم في الدين ونفصل الايات لقوم يعلمون) *) 2
" * (وإن أحد من المشركين استجارك) *) معناه وإن استجارك أحد، لأن حروف الجر لاتلي غير الفعل يقول الشاعر:
عاود هراة وإن معمورها خربا، أي وإن غرب معمورها. وقال أخر:
أتجزع إن نفس أتاها حمامها
فهلا التي عن بين جنبيك تدفع
ومعنى الآية: وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقبلهم استجارك أي استعاذ بك واستأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله " * (فأجره) *) فأعذه وأمنه " * (حتى يسمع كلام الله) *) فتقيم عليه حجة الله، وتبين له دين الله عز وجل، فإن أسلم فقد نال عز الإسلام وخير الدنيا والآخرة وصار رجلا من المسلمين،
وإن أبى أن يسلم " * (ثم أبلغه مأمنه) *) دار قومه فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله " * (ذلك بأ نهم قوم لا يعلمون) *) دين الله وتوحيده.
قال الحسن: وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة وليست بمنسوخة. قال سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب ح، فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلامه أو يأتيه لحاجته، فقال علي لا لأن الله عز وجل يقول: " * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) *) الآية.
" * (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله) *) على (معنى) التعجب، ومعناه جحد أي لا يكون لهم عهد، كما تقول في الكلام: هل أنت إلا واحد منا، أي أنت، وكيف يستيقن مثلك؟ أي لايستيقن، ومنه:
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
ثم استثنى فقال: " * (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) *) واختلفوا فيه فقال ابن عياش: هم قريش، وقال قتادة وابن زيد: هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، قال
13

الله عز وجل " * (فما استقاموا لكم) *) على العهد " * (فاستقيموا لهم) *) قالوا: فلم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بأربعة أشهر يختارون من أمرهم أما أن يسلموا، واما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا، فأسلموا قبل الأربعة أشهر.
قال السدي وابن إسحاق والكلبي: هم من قبائل بكر بن خزيمة وهو مدلج وبنو ضمرة وبنو الدئل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش، وعقدهم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله وبين قريش، فلم يكن نقضها إلا قريش وبنو الدئل من بني بكر، فأمر بأتمام العهد لمن لم يكن نقض من بني بكر إلى مدته، وهذا القول أقرب إلى الصواب، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة، فكيف يأتي شيء قد مضى.
" * (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) *) وإنما هم الذين قال الله عز وجل إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا كما نقصكم قريش، ولم يظاهروا عليكم أحد كما ظاهرت (من) قريش بني بكر على خزاعة (سلفا) رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
" * (كيف وإن يظهروا عليكم) *) مردود على الآية الأولى تقديره: كيف يكون لهؤلاء عهود وهم إن يظهروا عليكم يظفروا فيقتلوكم) * * (لا يرقبوا) *) قال ابن عباس: لا يحفظوا، وقال الأخفش: كيف لايقتلونهم، وقال الضحاك: لا ينتظروا، وقال قطرب: لا يراعوا " * (فيكم إلا) *) قال ابن عباس والضحاك: قرابة، وقال يمان: رحما، دليله قول حسان:
لعمرك إن إلك من قريش
كإل السقب من رأل النعام
وقال قتادة: الإل: الحلف، دليله قول أوس بن حجر:
لولا بنو مالك والال من فيه
ومالك فهم اللألاء والشرف
وقال السدي وابن زيد: هو العهد، ولكنه لما اختلف اللفظان كرر وإن كان معناهما واحدا كقول الشاعر:
وألفى قولها كذبا ومينا
وهو إحدى الروايتين عن مجاهد يدل عليه قول الشاعر:
وجدناهم كاذبا إلهم
وذو الإل والعهد لا يكذب
وقيل: هو اليمين والميثاق، وقال أبو مجلز ومجاهد في ساير الروايات: الإل هو الله عز
14

وجل، وكان عبيد بن عميرة يقرأ جبرإل بالتشديد، يعني عبد الله، وفي الخبر أن ناسا قدموا على أبي بكر الصديق ح من قوم المسلمين فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرأوا، فقال أبو بكر: إن هذا الكلام لم يخرج من إل.
والدليل على هذا التأويل قراءة عكرمة: لايرقبون في مؤمن ايلا، بالياء يعني بالله عز وجل مثل جبرئيل وميكائيل " * (ولا ذمة) *) عهدا وجمعها ذمم، وقيل: تذمما ممن لا عهد له " * (يرضونكم بأفواههم) *) يعطونكم ويرونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم مثل قول المنافقين " * (وتأبى قلوبهم) *) الإيمان " * (وأكثرهم فاسقون) *) ناكثون ناقضون كافرون.
" * (اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا) *) وذلك أنهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين سول الله صلى الله عليه وسلم لما أطعمهم أبو سفيان بن حرب، وقال مجاهد: أطعم أبو سفيان حلفا وترك حلف محمد صلى الله عليه وسلم " * (فصدوا عن سبيله) *) فمنعوا الناس عن دينه وعن الدخول فيه، قال عطاء كان أبو سفيان يعطي الناقة والطعام ليصد الناس بذلك عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس: وذلك أن أهل الطائف أمدوهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعداوته.
" * (إنهم ساء) *) بئس " * (ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) *) يقول: لا تبقوا عليهم أيها المؤمنون كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم.
" * (وأولئك هم المعتدون) *) بنقض العهد " * (فإن تابوا) *) من الشرك " * (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم) *) يعني فهم إخوانكم " * (في الدين) *) لهم ما لكم وعليهم ما عليكم " * (ونفصل الآيات لقوم يعلمون) *) قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة.
وقال ابن زيد: افترض الصلاة والزكاة جميعا ولم يفرق بينهما، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر فكان ماأفقهه، وقال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك لا صلاة له.
(* (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشآء والله عليم حكيم * أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم
15

يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون * ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شهدين على أنفسهم بالكفر أولائك حبطت أعمالهم وفى النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله واليوم الاخر وأقام الصلواة وءاتى الزكواة ولم يخش إلا الله فعسى أولائك أن يكونوا من المهتدين) *) 2
" * (وإن نكثوا) *) نقضوا يقال منه: نكث فلان قوي حبله إذا نقضه " * (أيمانهم) *) عهودهم " * (من بعد عهدهم) *) عقدهم " * (وطعنوا في دينكم) *) ثلبوه وعابوه وذلك انهم قالوا: ليس دين محمد بشيء " * (فقاتلوا أئمة الكفر) *) قرأ أهل الكوفة أأمة الكفر بهمزتين على التحقيق لأن أصلها أممة مثل: مثال وأمثله وعماد وأعمدة، ثم أدغمت الميم التي هي عن أفعلة في الميم الثانية ونقلت حركتها إلى الهمزة الساكنة التي هي فاء الفعل فصار أئمة، فإنما كتبت الهمزة الثانية ياء لما فيها من الكسرة وهي لغة تميم، وقرأ الباقون: أيمة (بهمزة واحدة) من دون الثانية طلبا للخفة، أئمة الكفر: رؤس المشركين وقادتهم من أهل مكة.
قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤوساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد، وهم الذين هموا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: هم أهل فارس والروم، وقال حذيفة بن اليمان: ما قوتل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد " * (إنهم لا أيمان لهم) *) عهودهم، جمع يمين أي وفاء باليمين. قال قطرب: لا وفاء لهم بالعهد وأنشد:
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها
فليس لمخضوب البنان يمين
الحسين وعطاء وابن عامر: لا إيمان لهم بكسر الهمزة، ولها وجهان: أحدهما لاتصديق لهم، يدل عليه تأويل عطية العوفي قال: لا دين لهم ولا ذمة، فلا تؤمنوا بهم فاقتلوهم، حيث وجدتموهم فيكون مصدرا من الإيمان الذي هو ضد الإخافة قال الله عز وجل: * (وآمنهم من خوف) * * (لعلهم ينتهون) *) لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم، وقيل: عن الكفر.
ثم قال حاضا المسلمين على جهاد المشركين " * (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) *) نقضوا عهودهم " * (وهموا بإخراج الرسول) *) محمد صلى الله عليه وسلم من مكة " * (وهم بدؤوكم) *) بالقتال " * (أول مرة) *) يعني يوم بدر، وقال أكثر المفسرين: أراد بدؤوكم بقتال خزاعة حلفاء رسول الله " * (أتخشونهم) *) أتخافونهم فتتركون قتالهم " * (فالله أحق أن تخشوه) *) تخافوه في ترككم قتالهم " * (إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله) *) يقتلهم الله " * (بأيديكم ويخزهم) *) يذلهم بالأسر والقهر " * (وينصركم) *) ويظهركم " * (عليهم ويشف صدور) *) ويبرئ قلوب " * (قوم مؤمنين) *) بما كانوا ينالونه من الأذى
16

والمكروه منهم. قال مجاهد والسدي: أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (ويذهب غيظ قلوبهم) *) كربها ووجدها بمعونة قريش نكدا عليهم.
ثم قال مستأنفا " * (ويتوب الله على من يشاء) *) يهديه للاسلام كما فعل بأبي سفيان، وعكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو " * (والله عليم حكيم) *) وقرأ الأعرج وعيسى وابن أبي إسحاق: ويتوب على النصب على الصرف.
قوله " * (أم حسبتم) *) أظننتم، وإنما دخل الميم لأنه من الاستفهام المعترض بين الكلام فأدخلت فيه أم ليفرق بينه وبين الاستفهام والمبتدأ، واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية: قال الضحاك عن ابن عباس قال: يعني بها قوما من المنافقين كانوا يتوسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج معه للجهاد دفاعا وتعذيرا والنفاق في قلوبهم.
وقال سائر المفسرين: الخطاب للمؤمنين حين شق على بعضهم القتال وكرهوه فأنزل الله تعالى " * (أم حسبتم أن تتركوا) *) ولا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب، والمطيع من العاصي " * (ولما يعلم الله الذين) *) في تقدير الله، والألف صلة " * (جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) *) بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم، وقال قتادة وليجة: خيانة وقال الضحاك: خديعة، وقال ابن الأنباري: الوليجة قال: خيانة، والولجاء الدخلاء، وقال الليثي: خليطا وردأ.
وقال عطاء: أولياء، وقال الحسن: هي الكفر والنفاق، وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة، وأصله من الولوج ومنه سمي (الكناس) الذي يلج فيه الوحش تولجا. قال الشاعر:
من زامنها الكناس تولجا
فوليجة الرجل من يختصه بدخلة منها دون الناس يقال: هو وليجتي وهم وليجتي للواحد وللجميع. وأنشد أبان بن تغلب:
فبئس الوليجة للهاربين
والمعتدين وأهل الريب
" * (والله خبير بما تعملون) *) قراءة العامة بالتاء متعلق بالله بقوله: " * (أم حسبتم) *) وروى الحسن عن أبي عمرو بالياء ومثله روى عن يعقوب أيضا.
" * (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) *) قال ابن عباس: لما أسر أبي يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله عز وجل وقطيعة الرحم وأغلظ علي له القول، فقال العباس:
17

إنكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، قال له علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم، إنا لنعمر المسجد ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك: العاني، فأنزل الله تعالى رادا على العباس " * (ما كان للمشركين) *) يقول: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا، قرأت العامة بفتح الياء وضم الميم من عمر يعمر، وقرأ ابن السميقع يعمر بضم الياء وكسر الميم أي يعينوا على العمارة، أو يجعلوه عامرا، ويريد: إن المساجد إنما تعمر بعبادة الله وحده، فمن كان بالله كافرا فليس من شأنه أن يعمرها، وقال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام.
واختلف القراء في قوله: (مساجد الله) قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي رباح وحميد بن كثير وأبو عمرو: مسجد الله بغير ألف أرادوا المسجد الحرام، واختاره أبو حاتم لقوله تعالى: " * (فلا يقربوا المسجد الحرام) *)، وقرأ الباقون (مساجد) بالألف على الجمع، واختاره أبو عبيد لأنه أعم القراءتين.
قال الحسن: فإنما قال (مساجد الله) لأنه قبلة المساجد كلها وأمامها، وقال أبو حاتم أن عمران بن جدير قال لعكرمة: إنما يقرأ: مساجد الله وإنما هو مسجد واحد؟ فقال عكرمة: إن الصفا والمروة من شعائر الله، وقال الضحاك ومجاهد: حدث العرب بالواحد إلى الجمع والجمع إلى الواحد، ألا ترى الرجل على البرذون يقول ركبت البراذين؟ ويقال للرجل: إنه لكثير الدر والذمار، وتقول العرب: عليه أخلاق نعل واسمال ثوب. وأنشدني أبو الجراح العقيلي:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق
وشرذم يضحك مني التواق
يعني: خلق.
وقوله: " * (شاهدين على أنفسهم بالكفر) *) أراد وهم شاهدون، فلما طرحت (وهم) نصبت، وقال الحسن: يقولون: نحن كفار (نشهد) عليهم بكفرهم، وقال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هي أن النصراني يسأل: ما أنت فيقول: نصراني، واليهودي فيقول: يهودي والصابئي، فيقول: صابئي ويقال للمشرك: ما دينك؟ فيقول: مشرك.
وقال حمزة عن الضحاك عن ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم وإقرارهم بأنها مخلوقة، وذلك أن كبار قريش نصبوا أصنامهم خارجا من بيت الله الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف وعلينا ثياب قد عملنا فيها بالمعاصي، وكانوا يصفقون ويصفرون ويقولون: إن تغفر اللهم تغفره جما، وأي عبد لك لا ألما (...
18

سجدوا لأصنامهم فلم يزيدوا بذلك من الله إلا بعدا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية " * (أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون) *).
ثم قال: " * (إنما يعمر مساجد الله) *) قرأ العامة بالألف، وقرأ الجحدري: مسجد الله أراد المسجد الحرام " * (من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) *) (لأن عسى) من الله واجب " * (فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) *) روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله عز وجل يقول " * (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) *))
(4).
* (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الاخر وجاهد فى سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين * الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولائك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيهآ أبدا إن الله عنده أجر عظيم * ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءابآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولائك هم الظالمون) *) 2
" * (أجعلتم سقاية) *) (أي أهل سقاية).
عن معاوية بن سلام عن زيد ابن أبي سلام عن النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد سقي الحاج، قال الآخر: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت دخلت واستفتيت رسول الله فيما اختلفتم فيه فقال: فأنزل الله " * (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) *) إلى قوله " * (القوم الظالمين) *).
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قال: قال العباس بن عبد المطلب: لئن كنتم سبقتمونا بالهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى
هذه الآية، يعني: إن ذلك كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك. عطية العوفي قال: إن المشركين قالوا: إعمار بيت الله والقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله وعماره، فأنزل الله هذه الآية وأخبرهم أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على
19

السقاية لاتنفعهم عند الله مع الشرك، وأن الإيمان بالله والجهاد مع نبيه خير مما هم عليه.
الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرضي: نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة، وذلك أنهم أفتخروا فقال طلحة: إن البيت بيدي مفاتيحه ولو أشاء بت فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت في المسجد، وقال علي ح: لا أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن سيرين ومرة الهمداني عن ابن عباس أن عليا قال للعباس: ألا تهاجر وتلحق بالنبي؟ فقال: ألست في أفضل من الهجرة؟ ألست أسقي حاج بيت الله واعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية.
وعندما أمروا بالهجرة قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة أخو بني عبد الدار: وأنا صاحب الكعبة فلا نهاجر.
والسقاية مصدر كالرعاية والحماية، قال الضحاك: السقاية بضم السين وهي لغة.
وفي معنى الآية وجهان أحدهما أن يجعل الكلام مختصرا تقديره: أجعلتم سقاية وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله وجهاد من جاهد في سبيل الله، وهذا كما تقول: السخاء حاتم، والشعر زهير وقال الشاعر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
ولكنما الفتيان كل فتى ندي
والوجه الآخر أن يجعل العمارة والسقاية بمعنى العامر والساقي تقديره: أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كقوله هدى للمتقين، يدل عليه قراءة عبد الله بن الزبير وأبي وجزة السعدي: أجعلتم سقاء الحاج وعمار المسجد الحرام على جمع الساقي والعامر " * (لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) *) قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا. وقال الحسن: وكانت السقاية نبيذ زبيب.
" * (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله) *) من الذين افتخروا بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج " * (و أولئك هم الفائزون) *) الناجون من النار " * (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم) *) دائم " * (خالدين فيها أبدا إن
20

الله عنده أجر عظيم يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) *) قال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها منزلة في قصة العباس وعلي قبل الهجرة، قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما أمر الله عز وجل المؤمنين بالهجرة وكانت قبل فتح مكة، من آمن ولم يكتمل إيمانه إلا بمجانبة الآباء والأقرباء إن كانوا كفارا، فقال المسلمون: يا نبي الله إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا أباءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وخربت دارنا، فأنزل الله هذه الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبنه وأخيه وامرأته وقرابته: إنا قد أمرنا بالهجرة إلى المدينة فأخرجوا معنا إليها فمنهم من يعجبه ذلك ويسارع إليه، ومنهم من أبى على صاحبه (وتعلق به) فيقول الرجل لهم: والله لئن ضمني وإياكم دار الهجرة فلا أنفعكم بشيء أبدا ولا أعطيكم ولا أنفق عليكم، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده ويقولون: أنشدك الله أن تضيعنا فيرق (قلبه) فيجلس ويدع الهجرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام فنهى الله عز وجل عن ولايتهم فأنزل الله تعالى " * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) *) بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم أسراركم، ومن المقام بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام.
" * (إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم) *) فهم في صورة الإسلام وأهله و (في) المكث معهم على الهجرة والجهاد " * (فأولئك هم الظالمون) *) العاصون الواضعون (.....) في غير موضعها.
2 (* (قل إن كان ءاباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونهآ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين * لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذالك جزآء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذالك على من يشآء والله غفور رحيم) *) 2
ثم قال: " * (قل) *) يا محمد للمتخلفين عن الهجرة والجهاد " * (إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم) *) وقرأ أبو رجاء ويعقوب وعشيراتكم بالألف على الجمع
21

واختلف فيه عن عاصم " * (وأموال اقترفتموها) *) اكتسبتموها وقال قتادة: اكتسبتموها " * (وتجارة تخشون كسادها) *) وهو ضد النفاق وأصله البقاء. قال الشاعر:
كسدن من الفقر في قومهن
وقد زادهن مقامي كسودا
" * (ومساكن ترضونها) *) (تعجبكم) قال السدي: يعني القصور والمنازل " * (أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا) *) فانتظروا " * (حتى يأتي الله بأمره) *) قال عطاء: بقضائه، وقال مجاهد ومقاتل: يعني فتح مكة " * (والله لا يهدي) *) لا يرشد ولا يوفق " * (القوم الفاسقين) *) الخارجين من طاعته إلى معصيته.
" * (لقد نصركم الله) *) أيها المؤمنون " * (في مواطن كثيرة) *) أي مشاهدوها أماكن حرب تستوطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم " * (ويوم حنين) *) يعني وفي يوم حنين وهو واد بين مكة والطائف.
وقال عروة بن الزبير: هو واد إلى جنب ذي المجاز والحري، ولأنه اسم لمذكر فقد يترك إجزاؤه يراد به اسم البلدة التي هو بها، ومنه قول الشاعر:
نصروا نبيهم وشدوا أزره
بحنين يوم تواكل الابطال
وكانت قصة حنين على ما ذكره المفسرون بروايات كثيرة لفقتها ونسقتها لتكون أقرب إلى الأفهام وأحسن (.....) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان ثم خرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر الفا، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من الطائف.
قال قتادة، وقال مقاتل: كانوا أحد عشر ألفا وخمسمائة، وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا (.......) وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف، وعلى هوازن ملك بن عوف النضري، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي، فلما التقى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تغلب اليوم من قلة، ويقال: بل قال ذلك رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلامة (وسمع) رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل.
قال: فاقتتلوا قتالا شديدا. فانهزم المشركون وخلوا من الذراري، ثم نادوا: ياحماة السوء اذكروا الفضائح، فتراجعوا وانكشف المسلمون.
22

وقال قتادة: وذكر لنا أن الطلقاء (إنجفلوا) يومئذ بالناس وسأل رجل البراء بن عازب: أفررتم يوم حنين؟ فقال: كانت هوازن رماة وإنا لما حملنا عليهم وانكشفوا وأقبلنا على الغنائم، فاستقبلوا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الكلبي: كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس عنهم.
وقال الآخرون: لم يبق يومئذ مع النبي صلى الله عليه وسلم غير العباس بن عبد المطلب وعلي وأيمن بن أم أيمن، وقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفق رسول الله يركض بغلته نحو الكفار لا يألوا، وكانت بغلة شهباء أهداها له فروة الجدامي.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا العمري، حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا الحمامي، حدثنا شريك عن أبي إسحاق، قيل للبراء: كان النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ولى دبره يوم حنين قال: والذي لا إله إلا هو ماولى رسول الله دبره قط، لقد رأيناه وأبو سفيان بن الحرث آخذ بالركاب والعباس آخذ لجام الدابة، وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: ناد يا معشر المهاجرين ويا معشر الأنصار وكان العباس رجلا صويتا.
ويروى من شدة صوت العباس أنه أغير يوما على مكة فنادى: واصباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها.
فجعل ينادي: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، وعطف المسلمون حين سمعوا صوته عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك يا لبيك يا لبيك وجاؤوا عنقا واحدا فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصابة من الأنصار فقال: هل معكم غيركم؟ فقالوا: يا نبي الله لو عمدت إلى برك العماد من ذي يمن لكنا معك، ثم أقبل المشركون فالتقوا هم والمسلمون، وتنادى الأنصار: يا معشر الأنصار أم قصرت الدعوة على بني الحرث والخزرج، فتنادوا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس، فأخذ بيده كفا من (الحب) فرماهم وقال: شاهت الوجوه، ثم قال: انهزموا ورب الكعبة، انهزموا ورب الكعبة.
قال: فوالله ما زال أمرهم مدبرا وجدهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى.
قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي منا أحد يومئذ إلا وامتلأت عيناه من ذلك التراب، قال يزيد بن عامر وكان في المشركين يومئذ: فانصرفنا ما بقي منا أحد، وكأن أعيننا عميت فأنجز الله وعده وأنزل نصره وجنده فقهر المشركين ونصر المسلمين، وقال سعيد بن جبير: أمد الله (المسلمين) بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وقال الحسن: كانوا ثمانية آلاف من الملائكة.
23

قال عطاء: كانوا ستة عشر ألفا، وقال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقفوا لناحلب شاة، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقانا رجال بيض الوجوه، حسان الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانوا إياها، يعني الملائكة.
وفي الخبر أن رجلا من بني نضر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال عليهم ثياب بيض ما كنا نراكم فيها (...........)، وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الملائكة.
قال الزهري: وبلغني أن شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان، وعثمان بن طلحة، وكانا قد قتلا يوم أحد، فأطلع الله تعالى رسوله على ما في نفسي فالتفت إلي وضرب في صدري وقال: أعيذك بالله ياشيبة، فارتعدت فرائصي فنظرت إليه وهو أحب إلي من سمعي ومن بصري فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن الله أطلعك على ما في نفسي.
فلما هزم الله المشركين ولوا مدبرين وانطلقوا حتى أتوا (أوطاس) وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله إلى هناك رجلا من الأشعريين يقال له: أبو عامر وأمره على الناس، فسار إليهم فاقتتلوا بها، ثم إن الله تعالى هزمهم، وثبتوا قبال المشركين وهزم أميرهم مالك بن عوف النضري، فأتى الطائف فتحصن بها وأخذ أهله وماله فيمن أخذ، وقتل أمير المسلمين ابن عامر، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف من فوره ذلك فحاصرهم بقية ذلك الشهر، فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام لا يحل فيه القتال انصرف عنهم فأتى الجعرانة فأحرم فيه بعمرة، فقسم بها النبي المال وغنائم حنين وأوطاس وتألف أناسا، كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس فأعطاهم فجعل يعطي الرجل منهم الخمسين والمائة من الإبل، فقالت الأنصار: حن الرجل وآثر قومه يا للعجب إن أسيافنا تقطر من دمائهم وإن غنائمنا ترد عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة من أدم فجمعهم فقال لهم: يا معشر الأنصار ما هذا الذي بلغني عنكم.
فقالوا: هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون، فقال: ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم أذلاء فأعزكم الله بي، وكنتم وكنتم، فقال سعيد بن عبد الله: أتأذن لي أتكلم، فقال: تكلم.
24

قال: أما قولك: كنتم ضلالا فهداكم الله بي، فكنا كذلك، وأما قولك: كنتم أذلة فأعزكم الله فقد علمت العرب أنه ما كان حي من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منا. فقال عمر: يا سعيد أتدري من تكلم؟ قال: يا عمر أكلم رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لو سلكت الأنصار واديا لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، الأنصار كرشي وعيبتي فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم، ثم قال: يا معشر الأنصار أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاة وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم).
فقالت الأنصار: رضينا بالله ورسوله، والله ما قلنا ذلك الا ضنا بالله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم.
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قام خطيبا فقال: أما إن خطيب الأنصار قد قال: كنت طريدا فآويناك، وكنت خائفا فأمناك، وكنت مخذولا فنصرناك، وكنت وكنت، فإنه قد صدق، فبكت الأنصار، وقالت بل الله ورسوله أعظم علينا منا.
قال قتادة: وذكر لنا أن ظئر النبي صلى الله عليه وسلم التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين وسألته سبايا يوم حنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أملكهم إنما لي نصيبي منهم، ولكن ائتني غدا فسليني والناس عندي، فإني إذا أعطيتك نصيبي أعطاك الناس، فجاءت في الغد فبسط لها ثوبه فقعدت عليه ثم سألته ذلك فأعطاها نصيبه، فلما رأى الناس منه أعطوها أنصباءهم.
قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديا ينادي يوم أوطاس: ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، ولا غير الحبالى حتى يستبرئن بحيضة.
ثم (....) من هوازن أقبلوا مسلمين بعد ذلك فقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن عندي من ترون، وخير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم، فقالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فقام النبي منتصبا فقال: إن هؤلاء قد جاءوني مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فأما ما أصاب بنو هاشم رددناه إليهم، فمن كان بيده منهم شيء وطابت نفسه أن يرده عليهم فذلك، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه، ومن لم يرد ففديته خمسون من الإبل.
25

فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رد قالوا يا نبي الله رضينا وسلمنا، فقال النبي: لا أدري لعل منكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إليه فرفعت إلينا العرفاء أن قد رضوا وسلموا، وردوا جميعا غير رجل واحد وهو صفوان بن أمية لأنه وقع على امرأة أصابها فحبلت منه.
فأنزل الله " * (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) *) حتى قلتم: لن نغلب اليوم من قلة " * (فلم تغن عنكم) *) كثرتكم " * (شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) *) أي برحبها وسعتها وهما المصدر " * (ثم وليتم مدبرين) *) منهزمين " * (ثم أنزل الله) *) بعد الهزيمة " * (سكينته) *) يعني الأمنة والطمأنينة وهي فعيلة من السكون " * (على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها) *) يعني الملائكة " * (وعذب الذين كفروا) *) بالقتل والأسر وسلب الأموال " * (وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء) *) فيهديه إلى الإسلام ولايؤاخذه بما سلف " * (والله غفور) *) لعباده المؤمنين " * (رحيم) *) بهم.
(* (ياأيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هاذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شآء إن الله عليم حكيم * قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون * وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذالك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلاها واحدا لا إلاه إلا هو سبحانه عما يشركون * يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذيأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) *) قال الضحاك وأبو عبيدة: قذر، وقال ابن الأنباري: خبيث يقال: رجل نجس وامرأة نجس ورجلين وامرأتان نجس ورجال ونساء نجس بفتح النون والجيم أو نجس بضم الجيم ورجس في هذه الأحوال لايثنى ولا يجمع لأنه مصدر، وأما النجس بكسر النون وجزم الجيم فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس، فإذا أفرد قيل: نجس بفتح النون وكسر الجيم أو نجس بضم الجيم.
وقرأ ابن السميقع: إنما المشركون أنجاس، كقولك أخباث على الجمع، واختلفوا في
26

معنى النجس والسبب الذي من أجله سماهم بذلك، فروي عن ابن عباس: ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب، وهذا قول غير مرضي لمعنيين أحدهما أنه روي عنه من وجه غير حميد فلا يصح عنه، والآخر أن هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين؛ لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولا يستوي في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد، واحتج من قال أعيانهم نجسة بما روي أن عمر بن عبد العزيز كتب أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه بقول الله تعالى " * (إنما المشركون نجس) *).
وكما روي عن الحسن أنه قال: لا تصافحوا المشركين. فمن صافحهم فليتوضأ، وقال قتادة: سماهم نجسا لأنهم يجنبون ولا يغتسلون، ويحدثون ولا يتوضؤون، فمنعوا من دخول المسجد لأن الجنب لا ينبغي أن يدخل المسجد.
وقال الحسين بن الفضل: هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين فسموا نجسا على الذم، يدل عليها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى حذيفة فأخذ صلى الله عليه وسلم بيده، فقال حذيفة: يا رسول الله إني جنب، فقال: (إن المؤمن لا ينجس).
" * (فلا يقربوا المسجد الحرام) *) قال أهل المعاني: أراد بهذا منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام، قال عطاء الحرم كله قبلة ومسجد وتلا هذه الآية.
جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الحرم إلا أهل الجزية أو عبد لرجل من المسلمين، ونساؤهم حل لكم، وقرأ: بعد عامهم هذا يعني العام الذي حج فيه أبو بكر ح عنه بالناس، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة وهو سنة تسع في الهجرة " * (وإن خفتم عيلة) *) الآية.
قال المفسرون: وكان المشركون يجلبون إلى البيت الطعام ويتجرون ويتبايعون، فلما منعوا من دخول الحرم شق ذلك على المسلمين، والقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال لهم: من أين تأكلون وتعيشون وقد بقي المشركون وانقطعت عنهم العير.
فقال المؤمنون: يا رسول الله قد كنا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم فالآن تنقطع عنا الأسواق ويملك التجارة، ويذهب ما كنا نصيب منها من المرافق، فأنزل الله عز وجل " * (وإن خفتم عيلة) *).
وقال عمرو بن فايد: معناه وإذا خفتم؛ لأن القوم كانوا قد خافوا، وذلك هو قول القائل: إن كنت أبي فأكرمني يعني (إن خفت) عيلة فقرا وفاقة. يقال عال يعيل عيلة وعيولا. قال الشاعر:
27

فلا يدري الفقير متى غناه
ولا يدري الغني متى يعيل
وفي مصحف عبد الله: وإن خفتم عايلة أي (حصلة) يعول عليكم أي يشق " * (فسوف يغنيكم الله من فضله) *) وذلك أنه أنزل عليهم مطرا مدرارا فكثر خيرهم حين ذهب المشركون.
وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وطهوا الطعام إلى مكة على ظهور الإبل والدواب، وكفاهم الله عز وجل ما كانوا يتخوفون.
قال الكلبي: أخصبت (............)، وكفاهم الله ما أهمهم، وقال الضحاك وقتادة: قسم الله منها ما هو خير لهم وهو الجزية فأغناهم الله وذلك قوله: " * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) *) قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرب الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك.
وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخذ الجزية فأنزل الله) عز وجل: " * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) *).
" * (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) *) أراد الدين الحق فأضاف الاسم إلى الصفة. قال قتادة: الحق هو الله عز وجل، ودينه الإسلام، وقال أبو عبيدة معناه: طاعة أهل الإسلام، وكل من أطاع ملكا أو ذا سلطان فقد دان له دينا. قال زهير:
لئن حللت بجو في بني أسد
في دين عمرو وحالت بيننا فدك
أي في طاعة عمرو.
" * (من الذين أوتوا الكتاب) *) يعني اليهود والنصارى يؤخذ منهم الجزية وألا يقاتلوا، ويؤخذ الجزية أيضا من الصابئين والسامرة؛ لأن سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فيها، ويؤخذ الجزية أيضا من المجوس، وقد قيل: إنهم كانوا من أهل الكتاب فرفع كتابهم.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن يحيى و (.............) قالا: حدثنا عثمان بن صالح،
حدثنا ابن وهب، أخبرنا يوسف عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس
28

هجر، وأن عمر أخذها من مجوس السواد وأن عثمان بن عفان أخذها من بربر.
ابن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدثنا أبو عاصم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب ح: لا أدري كيف أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب).
قال أبو عاصم: مشيت ميلا وهرولت ميلا حتى سمعت من جعفر بن محمد، حدثنا، يعني هذا الحديث، وإنما منعنا من نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم (وإتيان) الفروج والأطعمة على الخطر، ولا يجوز الإقدام عليها بالشك.
قال الحسن: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذه الجزيرة على الإسلام لا يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد آخر على هذه الطعمة في شأن أهل الكتاب.
" * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا اليوم الآخر) *) ألا يتبعوا ماسواهما بدعة وضلالة، ولا يؤخذ الجزية من الأوثان " * (حتى يعطوا الجزية) *) وهو ما يعطي المعاهد على عهده من الجزية، وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى عليه، والجزية مثل القعدة والجلسة ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعا عنها.
وأما قدرها: فقال أنس: قسم النبي على كل محتلم دينارا، وقسم عمر بن الخطاب ح على الفقراء من أهل الذمة كل واحد منهم درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين درهما، ولم يجاوز به خمسين درهما، وليس شيء موقت ولكن على ما صولحوا عليه.
" * (عن يد) *) أي بالنقل من يده إلى يد من يدفعه إليه، كما يقال كلمته فما لفم.
وقال أبو عبيدة: يقال: أكل من (.............) من غير طيب نفس منه أعطاه عن يد، وقال القتيبي: يقال: أعطاه عن يد وعن ظهر يد إذا أعطاه مبتدئا غير مكلف.
وقال ابن عباس: هو أنها يعطونها بأيديهم، يمشون بها كارهين ولايجيئون بها ركبانا ولا
29

يرسلون " * (وهم صاغرون) *) أذلاء مقهورون، قال ابن عباس يتلتلون بها تلتلة وقال عكرمة: معنى الصغار هو أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم. قال الكلبي: إنه إذا (جاء يعطي) صفع في قفاه، وقيل: إعطاؤه إياها هو الصغار، وقيل: إنه لا يقبل فيها رسالة ولا وكالة، وقيل: إنه يجري عليهم أحكام الإسلام وهو الصغار.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر، حدثنا علي بن حرب، حدثنا السباط، حدثنا عبد العزيز بن (............) عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء إلى ابن عباس رجل فقال: الأرض من أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأودي خراجها؟ قال: لا، وجاء آخر فقال له ذلك قال: لا وتلا قوله: " * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) *) الآية إلى قوله: " * (وهم صاغرون) *)، أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينزعه فيجعله في عنقه؟
وقال كليب بن وائل: قلت لابن عمر: اشتريت أرضا، قال: الشراء حسن. قال: فإني أعطي من كل جريب أرض درهما وقفيز طعام؟ قال: ولا تجعل في عنقك صغارا.
وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر قال ما يسرني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها الصغار على نفسي.
" * (وقالت اليهود عزير ابن الله) *) الآية، روى سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس. قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مسلم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف قالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله. فأنزل الله في قولهم: " * (وقالت اليهود عزير بن الله) *)، وقرأ ابن محيصن وعاصم والكسائي: عزير بالتنوين، وهو قول أبي عبيد وأبي حاتم.
وقرأ الباقون بغير تنوين، فمن نون قال: لأنه اسم خفيف فوجهه أن ينصرف وإن كان أعجميا مثل نوح ولوط وهود، وقال أبو حاتم والمبرد: الاختيار التنوين لأنه ليس بمنسوب، والكلام ناقص وفي موضع الخبر وليس بنصب، وإنما جاز التنوين في النعت إذا كان الاسم يستغني عن الابن أو ينسب إلى اسم معروف أو لقب غلب عليه، مثل محمد بن عبد الله ويزيد ابن عبد الله، لأن النعت والمنعوت كالشئ الواحد فينون في الخبر ويحذف في الصفة، وربما أثبتوا التنوين في الصفة، ويقول الشاعر، أنشده الفراء:
والا تكن مال هناك فإنه
سيأتي ثنائي زيدا بن مهلهل
وأنشد الكسائي (............) مذهبه
30

وقال أبو عبيدة: هذا ليس بمنسوب إلى أبيه إنما هو كقولك: زيد ابن الأمير، وزيد بن عبد الله، فعزير يكون بعده خبر.
ومن ترك التنوين قال: لأنه اسم أعجمي ويشبه اسما مصغرا.
وقال الفراء: لما كانت النون من عزير ساكنة (وهي نون التنوين) والباء من الابن ساكنة والتقى ساكنان حذف الأول منهما استثقالا لتحريكه، كما قال: لتجدني بالأمير برا، وبالقناة مدعا مكرا، إذا غطيف السلمي فرا.
فحذف النون الساكن الذي استقبلها، وقال الزجاج: يجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره: عزير ابن الله معبودنا.
قال عبيدة بن عمير: إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا وهو الذي قال: إن الله فقير يستقرض.
عطية العوفي عن ابن عباس قال: " * (قالت اليهود عزير ابن الله) *) فإنما قالوا ذلك من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم ما شاء الله أن يعلموا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التابوت فيهم، فلما رأى الله عز وجل أنهم أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء وأذهبوا التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، فأرسل الله عز وجل عليهم مرضا فاستطالت بطونهم حتى جعل الرجل يمس كبده، حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم، وفيهم عزير فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم، وكان عزير قبل من علمائهم فدعا عزير (الله) وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها إلي فعلق يعلمهم فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا وهو يعلمهم، ثم إن التابوت ترك بعد ذلك، وبعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما أتي عزير هذا إلا إنه ابن الله.
وقال السدي وابن عباس في رواية عمار بن عمار: إنما قالت اليهود عزير ابن الله لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا كتب التوراة في الجبال وغيرها، فلحق عزير بالجبال والوحوش، وجعل يتعبد في الجبال، ولا يخالط ولا يخالط الناس ولاينزل إلا يوم عيد، وجعل يبكي ويقول: يا رب تركت بني إسرائيل بغير عالم
31

فجعل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه، فنزل مرة إلى العيد فلما رجع إذا هو بامرأة قد خلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يامطعماه ياكاسياه.
فقال لها عزير: يا هذه اتقي الله واصبري واحتسبي، أما علمت أن الموت سبيل الناس، وقال: ويحك من كان يطعمك ويكسوك قبل هذا الرجل يعني زوجها الذي كانت تندبه قالت: الله، قال: فإن الله حي لم يمت، قالت: ياعزير فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله، قالت: فلم تبكي عليهم، وقد علمت أن الموت حق وأن الله حي لا يموت، فلما عرف عزير أنه قد خصم ولى مدبرا.
فقالت له: يا عزير إني لست بامرأة ولكني الدنيا، أما إنه ينبع ماء في مصلاك عين، وتنبت شجرة فكل من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصل ركعتين فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذ منه، فلما أصبح نبعت من مصلاه عين، ونبتت شجرة ففعل ما أمرته به، فجاء شيخ فقال له: افتح، قال: ففتح فاه وألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرات، ثم قال له: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك، قال: فدخلها فجعل لا يرفع قدمه إلا زيد في علمه حتى انتهى إلى قومه، فرجع إليهم وهو من أعلم الناس بالتوراة. فقال: يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة.
قالوا: ياعزير ما كنت كاذبا، فربط على كل إصبع له قلما وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة على ظهر قلبه، فأحيا لهم التوراة، وأحيا لهم السنة، فلما رجع العلماء استخرجوا كتبهم التي دفنوها من توراة عزير فوجودها مثلها، فقالوا: ما أعطاه الله ذلك إلا لأنه ابنه.
وقال الكلبي: إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذ ذاك غلاما صغيرا فاستضعفوه، فلم يقبله ولم يدر أنه قرأ التوراة، فلما توفي مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة، فبعث الله عز وجل عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون آية لهم، فأتاهم عزير وقال: أنا عزير فكذبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم عزير فاتل علينا التوراة، فكتبها وقال: هذه التوراة.
ثم إن رجلا قال: إن أبي حدثني عن جدي أن التوراة جعلت (لنبي) ثم دفنت في كوم فانطلقوا معه حتى احتفرها وأخرجوا التوراة وعارضوا بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منه حرفا ولا آية فعجبوا وقالوا: ابن الله، ما جعل التوراة في قلب رجل واحد بعد ما ذهبت من قلوبنا إلا أنه ابنه، فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله.
32

وأما النصارى (فقيل): إنهم كانوا على (دين واحد) سنة بعدما رفع عيسى، يصلون القبلة ويصومون رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: يونس قتل جماعة من أصحاب عيسى ج، ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فكفرنا وجحدنا والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، إني احتال فأضلهم حتى يدخلوا النار، وكان لها فرس يقال له: العقاب يقاتل عليها فغرقت فرسه وأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب.
فقال له النصارى: من أنت؟ قال يونس: عدوكم (سمعت) من السماء: ليس لك توبة إلا أن تتنصر وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال (لهم) إن الله قبل توبتك، فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكنه ابن الله، وعلم ذلك رجلا يقال له: يعقوب.
ثم دعا رجلا يقال له: ملكا وقال له: إن الله لم يزل ولا يزال عيسى ح، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا، وقال لكل واحد منهم: أنت خليفتي، ولقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي فادع الناس للمذبحة، ثم دخل المذبحة فذبح نفسه، وقال: إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى، فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى (نحلته) فتبع كل واحد طائفة من الناس واقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث.
" * (ذلك) *) يعني قول النصارى: إن المسيح ابن الله " * (قولهم بأفواههم) *) يقولون بألسنتهم من غير علم.
قال أهل المعاني: إن الله عز وجل لا يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان ذلك القول زورا كقوله تعالى: يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وقوله: كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا " * (يضاهؤن) *) قال ابن عباس: يشبهون وعنه أيضا: يحكون، وقال
مجاهد: يواطئون.
وقال ذي نون: وفيه لفضان يضاهئون بالهمزة وهي قراءة عاصم، ويضاهون بغير همزة وهي قراءة العامة، يقال: ضاهيته وضاهأته بمعنى واحد " * (قول الذين كفروا من قبل) *) قال قتادة
33

والسدي: ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقال النصارى: المسيح ابن الله كما قال اليهود: عزير بن الله، وقال مجاهد: يضاهئون قول المشركين حين قالوا اللات والعزى ومناة بنات الله، وقال الحسن: شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة، وقال لمشركي العرب حين حكى عنهم، وقال الذين يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، ثم قال: كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم وقال القيتبي: يريد إن من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولوهم.
" * (قاتلهم الله) *) قال ابن عباس: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن قتل هو لعن، ومثله قال أبان بن تغلب:
قاتلها الله تلحاني وقد علمت
أني لنفسي إفسادي وإصلاحي
وقال ابن جريج: قاتلهم الله وهو بمعنى التعجب " * (أنى يؤفكون) *) أي يكذبون، ويصرفون عن الحق بعد قيام الدلالة عليه " * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم) *) قال الضحاك: علماءهم، وقرأ: رهبان، وأحبار العلماء: واحدهم حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها والكسر أجود، وكان يونس الجرمي يزعم أنه لم يسمع فيه إلا بكسر الحاء، ويحتج فيه بقول الناس: هذا محبر يريدون مداد عالم، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع وأهل الأصفاد في دينهم، يقال: راهب ورهبان مثل فارس وفرسان، وأصله من الرهبة وهي الخوف كأنهم يخافون الله " * (أربابا) *) سادة " * (من دون الله) *) يطيعونهم في معاصي الله.
مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته ثم انتصب وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية: " * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا) *) من دون الله حتى فرغ منها فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرمون حلال الله فتحرمونه، ويحلون ماحرم الله فتحلونه، قال: فقلت: بلى.
قال أبو الأحوص: عن عطاء بن أبي البختري في قول الله عز وجل: " * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا) *) قال: أما (لو أمروهم) أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية.
وقال الربيع: قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: إنهم
34

وجدوا في كتاب الله عز وجل ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء فما أمرونا بشيء ائتمرنا ومانهينا عنه فانتهينا، الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
وقال أهل المعاني: معناه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم كالأذناب حيث أطاعوهم في كل شيء، كقوله: قال انفخوا حتى إذا جعله نارا أي كالنار، وقال عبد الله المبارك:
وهل بدل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها.
" * (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه) *) نزه نفسه " * (عما يشركون) *) القراءة بالياء وقرأ ابن أبي إسحاق بالتاء " * (يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم) *) أي يبطلوا دين الله بألسنتهم، بتكذيبهم إياه وإعراضهم عنه.
وقال الكلبي: يعني يردون القرآن بألسنتهم تكذيبا له، وقال ابن عباس: يريد اليهود والنصارى أن يلزموا توحيد الرحمن بالمخلوقين الذين لا تليق بهم الربوبية، وقال الضحاك: يريدون أن يهلك محمد وأصحابه ولا يعبد الله بالاسلام.
" * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) *) أي يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله " * (ولو كره الكافرون) *) وإنما أدخلت إلا لأن في أبت طرفا من الجحد، ألا ترى أن قولك يثبت أن أفعل ولما فيه من الحذف تقديره: ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره، كما قال:
وهل لي أم غيرها أن تركتها
أبى الله إلا أن أكون لها ابنا
هو الذي يعني يأبى إلا إتمام دينه " * (هو الذي أرسل رسوله) *) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " * (بالهدى) *) قال ابن عباس: بالقرآن، وقيل: تبيان فرائضه على خلقه، ودين الحق وهو الإسلام.
" * (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) *) أي يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله ولو كره الكافرون " * (ليظهره) *) ليعليه وينصره ويظفره " * (على الدين كله) *) على سائر الملل كلها " * (ولو كره المشركون) *).
واختلف العلماء بمعنى هذه الآية، فقال ابن عباس: الهاء عائدة على الرسول صلى الله عليه وسلم يعني ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء، وقال الآخرون: الهاء راجعة إلى دين الحق.
قال أبو هريرة والضحاك: ذلك عند خروج عيسى ج إذا خرج اتبعه كل دين وتصير الملل كلها واحدة، فلا يبقى أهل دين إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية إلى
المسلمين
35

قال السدي: وذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدى الخراج.
وقال الكلبي: لا يبقى دين إلا ظهر عليه الإسلام وسيكون ذلك، ولم يكن بعد، ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك.
قال المقداد بن الأسود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام إما يعز عزيز وإما يذل ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله فيعزوا، وإما يذلهم فيدينون له).
عن الأسود أو سويد بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى).
قالت: قلت: يا رسول الله ما كنت أظن أن يكون ذلك بعد ما أنزل الله على رسوله. " * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) *). قال: يكون ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث ريحا فيقبض كل من كان في قلبه مثقال ذرة من خير، ثم يبقي من لا خير فيه ويرجع الناس إلى دين آبائهم.
وقال الحسين بن الفضل: معناه: ليظهره على الأديان كلها بالحجج الواضحة والبراهين اللامعة فيكون حجة هذا الدين أقوى، وقال بعضهم: قد فعل الله ذلك ونجزت هذه العدة لقوله سبحانه " * (اليوم أكملت لكم دينكم) *).
وقال بعضهم: هو أن يظهر الإسلام في كل موضع كان يجري على أهلها صغار في أي موضع كانوا، لا يؤخذ منهم جزية كما يؤخذ من أهل الذمة.
وقيل: معناه: ليظهره على الأديان كلها التي في جزيرة العرب فيظهره على دينهم ويغلبهم في ذلك المكان.
وقيل: هو جريان حكمته عليهم والله أعلم.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هاذا ما
36

كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون * إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والارض منهآ أربعة حرم ذالك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين * إنما النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان) *) يعني العلماء والقراء من أهل الكتاب " * (ليأكلون أموال الناس بالباطل) *) أي يأخذون الرشوة في أحكامهم ويحرفون كتاب الله ويكتبون بأيديهم كتبا يقولون: هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمنا قليلا من سفلتهم، وهي المآكل التي كانوا يصيبونها منهم على تكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم ولو آمنوا به لذهبت عنهم تلك المآكل " * (ويصدون) *) ويصرفون الناس ويمنعونهم " * (عن سبيل الله) *))
37

دين الله " * (والذين يكنزون الذهب والفضة) *) يعني ويأكلون أيضا بالباطل الذين يكنزون الذهب والفضة.
سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن المظفر بن محمد بن غالب الهمذاني يقول: سمعت إبراهيم بن محمد بن عرفة الإيجي بن نفطويه يقول: سمي ذهبا لأنه يذهب فلا يبقى، وسميت فضة لأنها تنفض أي تتفرق ولا تبقى، وحسبك الأسمان دلالة على فنائهما، والله أعلم فيها.
واختلف العلماء في معنى الكنز: فروى نافع عن ابن عمر قال: كل مال آتى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم يؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.
ومثله قال ابن عباس والضحاك والسدي، ويدل عليه ما روي عن ابن الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت شره وليس بكنز.
وقال سعيد بن المسيب: سأل عمر رجلا عن أرض باعها فقال: (أحسن موضع هذا المال؟ فقال: أين أضعه؟) قال: أحفر تحت فراش امرأتك. فقال: يا أمير المؤمنين أليس بكنز، قال: ما أدى زكاته فليس بكنز.
وقال علي بن أبي طالب ح: كل ما زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، أديت منه الزكاة أم لم تؤد، ومادونها نفقة.
وقال عن الوليد بن زيد: كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه فهو كنز.
منصور عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال لما نزلت هذه الآية " * (والذين يكنزون الذهب والفضة) *) قال النبي صلى الله عليه وسلم (تبا للذهب وتبا للفضة) يقولها ثلاثا: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المهاجرون: فأي المال نتخذ؟ فقال عمر: فإني أسال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال: فأدركته فقلت: يا رسول الله إن المهاجرين قالوا: أي المال نتخذ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه) (10).
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان أخبر طليحة بن عبدان، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن عبدل، حدثنا الأعمش عن (المعرور) بن سويد عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبال الكعبة فلما رآني قد أقبلت قال: هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة.
قال: فدخلني غم وما أقدر أن أتنفس قلت: هذا شيء حدث في، قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: المكثرون إلا من مال بالمال في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن فوقه وبين يديه وعن (..........) كل صفراء وبيضاء أولى عليها صاحبها فهو كنز (..........) من ترك خير الشيء فهي له يوم
القيامة.
وروى طلحة بن عبد الله بن كريز الخزاعي عن أبي الضيف عن أبي هريرة قال: من ترك عشرة آلاف درهم جعل صفائح يعذب بها صاحبها يوم القيامة قبل القضاء، وعن سلمان بن ثروان قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: إن أهل المائدة سألوا المائدة ثم نزلت فكفروا بها، وإن قوم صالح سألوا الناقة فلما أعطوها كفروا بها، وانكم قد نهيتم عن كنز الذهب والفضة فستكنزونها، فقال رجل نكنزها (وقد سمعنا) قوله؟ قال: نعم، ويقتل عليه بعضكم بعضا، وقال شعبة: كان فص سيف أبي هريرة من فضة فنهاه عنها أبو ذر، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صفراء وبيضاء كوي بها).
وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال: إن رجلا توفي من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم (كية) ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقالج: (كيتان).
وأولى الأقاويل بالصواب القول الأول لأن الوعيد وارد في منع الزكاة لا في جمع المال
38

الحلال. يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أدى زكاة ماله فقد أدى الحق الذي عليه، ومن زاد فهو خير له).
وقال صلى الله عليه وسلم (نعم المال الصالح للرجل الصالح).
وقال ابن عمر وسئل عن هذه الآية فقال: من كنزها ولم يؤد زكاتها فويل له. ثم قال: لا أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله عز وجل.
أما أصل الكنز في كلام العرب: كل شيء مجموع بعضه على بعض، على ظهر الأرض كان أو في بطنها. يدل على ذلك قول الشاعر:
لا دري إن أطعمت نازلهم
(قرف الحتي) وعندي التبر مكنوز
أراد: مجموع بعضه إلى بعض والحتي: مذر المقل، وكذلك يقول العرب للشيء المجتمع: مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض.
قرأ يحيى بن عمر يكنزون بضم النون، وقراءة العامة بالكسر، وهما لغتان مثل يعكفون ويعكفون، ويعرشون ويعرشون " * (ولا ينفقونها في سبيل الله) *) ولم يقل فينفقونهما، اختلف النحاة فيه، قال قطرب: أراد الزكاة أو الكنوز أو (.....) الذهب والفضة، وقال الفراء: استغنى بالخبر عن أحدهما في عائد الذكر عن الآخر لدلالة الكلام على أن الخبر على الآخر مثل الخبر عنه، وذلك موجود في كلام العرب وأخبارهم، قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
وقال ابن الأنباري: قصد الأغلب والأعم لأن الفضة أعم والذهب (أخص) مثل قوله " * (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة) *) رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم، وقوله: " * (رأوا تجارة أولهوا انفضوا إليها) *) رد الكناية إلى التجارة لأنها أعم وأفضل.
" * (فبشرهم) *) فأخبرهم وأنذرهم " * (بعذاب أليم يوم يحمى عليها) *) أي يدخل النار مرتديا
39

بعض الكنوز، ومنه يقال: حميت الحديدة في النار " * (فتكوى) *) فتحرق " * (بها جباههم) *) جباه كانزيها " * (وجنوبهم وظهورهم) *).
قال عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره مامن رجل يكوى، يكنز موضع دينار على دينار ودرهم على درهم، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على خديه.
وسئل أبو بكر الوراق: لم خص الجباه والجنوب والظهور بالكي؟ فقال: لأن الغني صاحب الكنز إذا رأى الفقير انقبض، فإذا ضمه وإياه مجلس ازور عنه وولى ظهره عليه، وقال محمد بن علي الترمذي: ذلك لأنه يبذخ ويستكبر بماله ويقع على كنزه بجنبيه ويتساند إليه.
وقال الأحنف بن قيس: قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب، خشن الجسد، خشن الوجه فقام عليهم، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثدييه، ويزلزل ويكوي الجباه والجنوب والظهور حتى تلتقي الحمة في أجوافهم.
قال: فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا، قال: فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئا.
" * (هذا) *) أي يقال لهم: هذا " * (ما كنزتم لأنفسكم) *) كقوله: " * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد أيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *) أي تجحدون حقوق الله في أموالكم وتمنعونها.
واختلف العلماء في حكم هذه الآية، وفيمن نزلت منهم، فروى ابن شهاب عن خالد بن زيد بن أسلم عن ابن عمر وسئل عن قوله تعالى " * (الذين يكنزون الذهب والفضة) *) فقال ابن عمر: إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله تطهير الأموال.
مجاهد عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا يبقي لولده مالا يبقي بعده، فقال عمر ح: أنا أفرج عنكم فانطلقوا، وانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه فقال: (إن الله عز وجل لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث في أموال
40

تبقى بعدكم) ثم قال: (الا أخبركم بخير مايكنز المرء، المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، فإذا غاب عنها حفظته) (14).
وقال بعض الصحابة: هي في أهل الكتاب خاصة، وقال السدي: هي في أهل القبلة، وقال الضحاك: هي عامة في أهل الكتاب وفي المسلمين، من كسب مالا حلالا فلم يعط حق الله منه كان كنزا وإن قل فكان على وجه الأرض، وما أعطي حق الله منه لم يكن كنزا وإن كان كثيرا ودفنه في الأرض.
عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا انا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية " * (والذين يكنزون) *) الآية، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينهم كلام في ذلك فكتب إلى عثمان ح يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر الناس علي حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريبا، فذلك الذي أنزلني هذه المنزل، ولو أمروا علي جيشا لسمعت وأطعت.
وقال بعضهم: نزلت في مانعي الزكاة خاصة، وهو أولى الأقاويل بالصحة، يدل عليه ما روى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا حمي عليه في نار جهنم، فجعل صفائح فيكوي بها جبينه وجنباه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين الف سنة، ثم يرسله أما إلى الجنة وأما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلجاء كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرسله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب أبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت (........) كلما مضى عليها أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين الف سنة ثم يرسله أما إلى الجنة وأما إلى النار). قال سهيل: فلا أدري أذكر البقر أو لا؟
وروى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه، يقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يلقمه سائر جسده)
41

" * (إن عدة الشهور) *) يعني عدد شهور السنة " * (عند الله ا ثنا عشر) *) قراءة العامة بفتح العين والشين، وقرأ أبو جعفر بجزم الشين، وقرأ طلحة بن سليمان بسكون الشين، شهرا نصب على التمييز.
وهي المحرم وصفر وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة.
وأما المحرم فسمي بذلك لتحريم القتال فيه، وسمي صفر لأن مكة تصفر من الناس فيه أي تخلو منهم، وقيل: وقع فيه وباء فاصفرت وجوههم، وقال أبو عبيدة: سمي صفر لأنه صفرت فيه وطابهم من اللبن، وشهرا الربيع سميا بذلك لجمود الماء فيهما، وسمي رجب لأنهم كانوا يرجبونه أي يعظمونه، رجبته ورجبته بالتخفيف والتشديد إذا عظمته، قال الكميت:
ولا غيرهم أبغي لنفسي جنة
ولا غيرهم ممن أجل وأرجب
وقيل: سمي بذلك لترك القتال فيه من قول العرب: رجل أرجب إذ كان أقطع لا يمكنه العمل، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن في الجنة نهرا يقال له رجب ماؤه أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب شرب منه، وقال عمر: سمي شعبان لتشعب القبائل فيه.
وروى زياد بن ميمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سمي شعبان لأنه يتشعب فيه خير كثير لرمضان).
وقد مضى القول في رمضان، وسمي شوال لشولان النوق اللقاح بأذنابها فيه.
قال أبو زيد البلخي: سمي بذلك لأن القبائل تشول فيه أي تبرح عن أماكنها، وسمي ذو القعدة لقعودهم عن القتال، وذو الحجة لقضاء حجهم فيه، والله أعلم.
قال بعض البلغاء: إذا رأت العرب السادات تركوا العادات وحرموا الغارات قالوا: محرم، وإذا ضعفت أركانهم ومرضت أبدانهم، وأصفرت ألوانهم قالوا: صفر، وإذا ظهرت الرياحين وزهرت البساتين قالوا: ربيعان، وإذا قل الثمار وجمد الماء قالوا: جماديان، فإذا هاجت البحار وحمت الأنهار وترجبت الأشجار قالوا: رجب، وإذا بانت الفضائل وتشعبت القبائل قالوا: شعبان، وإذا حمي الفضا، ونفي جمر الغضاء قالوا: رمضان، وإذا انكشف
42

السحاب، وكثرت الذباب وشالت الناقة إلا ذبحوها قالوا: شوال، وإذا قعد التجار عن الأسفار قالوا: ذو القعدة، وإذا قصدوا الحج من كل فج، وأظهروا النج والعج قالوا: ذو الحجة.
" * (في كتاب الله) *) يعني اللوح المحفوظ وقيل في قضائه الذي قضى " * (يوم خلق السماوات والأرض منها) *) من الشهور " * (أربعة حرم) *) كانت العرب تعظمها وتحرم القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة ومحرم، واحد فرد وثلاثة سرد.
" * (ذلك الدين القيم) *) الحساب المستقيم " * (فلا تظلموا فيهن أ نفسكم) *) أي في الأشهر الحرم بالعمل بمعصية الله عز وجل وترك طاعته، وقال ابن عباس: استحلال القتال والغارة فيهن، وقال محمد بن إسحاق عن يسار: لا تجعلوا حلالها حراما ولا حرامها حلالا كما فعل أهل الشرك، وقال قتادة: إن العمل الصالح والأجر أعظم في الأشهر الحرم، والذنب والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيم، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء كما يصطفي من خلقه صفايا.
" * (وقاتلوا المشركين كافة) *) جميعا عاما مؤتلفين غير مخلفين " * (كما يقاتلونكم كافة) *) نصب على الحال " * (واعلموا أن الله مع المتقين) *).
واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم فقال قوم: إنه منسوخ، وقال قتادة وعطاء الخرساني: كان القتال كثيرا في الأشهر الحرم ثم نسخ وأحل القتال فيه بقوله " * (وقاتلوا المشركين كافة) *) يقول: فيهن وفي غيرهن.
قال الزهري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله سبحانه من تحريم ذلك حتى نزلت براءة فأحل قتال المشركين، وقال أبو إسحاق: سألت سفيان الثوري عن القتال في الشهر الحرام فقال: هذا منسوخ، وقد مضى، ولا بأس بالقتال فيه وفي غيره، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف في شوال وبعض ذي القعدة فيدل على أنه منسوخ، وقال آخرون: إنه غير منسوخ، وقال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح مايحل للناس أن يغزوا في المحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت، وقال ابن حيان نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة.
" * (إنما النسيء) *) قرأ الحسن، وعلقمة وقتادة ومجاهد ونافع غير ورش وأبو عامر وعيسى والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: النسيء ممدود مهموز، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم، وهو مصدر كالخرير والسعير والحريق ونحوها، ويجوز أن يكون مفعولا مصروفا إلى
43

فعيل مثل الجريح والقتيل والغريق، تقديره: إنما الشهر المؤخر، وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة والأشهب وشبل: (إنما النسيء) ساكنة: السين مهموزة على المصدر لا غير، وقرأ أبو عمرو وورش النسي بالتشديد من غير همزة.
وروي ذلك عن ابن كثير على معنى النسي أي المتروك قال الله تعالى " * (نسوا الله فنسيهم) *) من النسيان، ويحتمل أن يكون أصله الهمز مخفف، واختلفوا في أصل الكلمة، فقال الأخفش: هو من التأخير ومنه النسيئة في البيع، ويقال: أنسأ الله أجله، ونسأ في أجله أي أخره، وقال قطرب: هو من الزيادة، وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسيء، وكذلك قيل للبن إذ كثر بالماء نسىء، ونسؤ، وللمرأة الحبلى نسؤت، لزيادة الواو فيها، وقد نسأت الناقة وأنسأتها إذا زجرتها ليزداد سيرها، وقال قتادة: عهد ناس من أهل الضلالة فزادوا صفرا في الأشهر الحرم، وكان يقوم قائمة في الموسم ويقول: ألا إن آلهتكم قد حرمت المحرم فيحرمونه ذلك العام، ثم يقوم في العام المقبل فيقول: ألا إن آلهتكم قد حرمت صفر فيحرمونه ذلك العام وكان يقال لهما: صفران.
وأما معنى النسيء وبدو أمره على ما ذكره العلماء بألفاظ مختلفة ومعنى متفق، فهو إن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل، وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، وقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لنجوعن، وإنما نصيب على ظهر دوابنا فربما احتاجوا مع ذلك إلى تحليل المحرم أو غيره من الأشهر الحرم لحرب تكون بينهم فيكرهون استحلاله ويستحلون المحرم.
وكانوا يمكثون بذلك زمانا يحرمون صفر، وهم يريدون به المحرم ويقولون: هو أحد الصفرين، وقد تأول بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا صفر، على هذا ثم يحتاجون أيضا إلى تأخير الصفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخيرالمحرم، فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك فكذلك يتدافع شهرا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى وضعه الذي وضعه الله عز وجل وذلك بعد عمر طويل.
وقال مجاهد: كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور التي وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل حجة الوداع فوافقت ذي الحجة، فذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: (ألا إن الزمان قد ابتدأ فدعيت يوم خلق السماوات والأرض إن السنة إثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاث
44

متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان).
أراد صلى الله عليه وسلم أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء.
واختلفوا في أول من نسأ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك: أول من نسأ بنو مالك بن كنانة وكان (يليه) أبو ثمامة عبادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم كل عام على حمار فيقول: أيها الناس إني أحدث ولا أخاف ولا مرد لما أقول. إنا قد حرمنا المحرم، وأخرنا صفر، ثم يجيء العام المقبل فيقول: إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم.
وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة، وكان يكون قبل الناس بالموسم، وإذا هم الناس بالصدر قام فخطب الناس فقال: لا مرد لما قضيت، أنا الذي لا أغاب ولا أخاب فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألهم أن ينسئهم شهرا يغيرون فيه، فيقول: إن القتال العام حرام، وإذا قال ذلك حلوا الأوتار وقرعوا الأسنة والأزجة، وإن قال: حلال عقدوا الأوتار وشددوا الأزجة وأغاروا على الناس.
(وقيل بعد) نعيم بن ثعلبة رجل يقال له: جنادة بن عوف وهو الذي أدركه رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من نسأ النسيء عمرو بن لحي بن بلتعة بن خندف، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو رجل من بني كنانة يقال له القملس في الجاهلية، وكان أهل الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم، يلقي الرجل قاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له فيقول قائلهم: اخرجوا بنا فيقال له: هذا المحرم، فيقول القملس: إني قد نسأته العام صفران، فإذا كان العام المقبل قضينا فجعلناهما محرمين، وقال (.............) وقال الكميت:
ألسنا الناسئين على معد
شهور الحل نجعلها حراما
فهو النسيء الذي قال الله تعالى: إنما النسيء زيادة " * (زيادة في الكفر يضل) *) قرأ أهل المدينة وعاصم وأبو عمرو يضل بفتح الياء وكسر الضاد، واختاره أبو حاتم لأنه ضم الضالون لقوله " * (به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما) *) وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو عبد الرحمن وقتادة ومجاهد وابن محيصن: يضل مكسورة الضاد، ولها وجهان: أحدهما أن يكون " * (الذين كفروا) *) في محل النصب أي يضل الله به الذين كفروا
45

والوجه الثاني أن يكون " * (الذين) *) في محل رفع على معنى يضل به الذين كفروا الناس المفسدين منهم، وقرأ أهل الكوفة: يضل بضم الياء وفتح الضاد وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيدة لقوله زين لهم سوء أعمالهم ويحلونه يعني النسيء عاما ويحرمونه عاما " * (ليواطؤوا) *) ليوافقوا، قال ابن عباس: ليشبهوا، قال المؤرخ: هو أنهم لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم لئلا تكون الحرم أكثر من أربعة أشهر مما حرم الله فيكون موافقا للعدد، فذلك المراد.
" * (فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) *))
.
* (ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الارض أرضيتم بالحيواة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا فى الاخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شىء قدير * إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم * انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون) *) 2
" * (يا أيها الذين آمنوا ما لكم) *) الآية فيها حث من الله سبحانه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوة تبوك، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس وجدب من البلاد وشدة من الحر (حين) فأحرقت النخل وطابت الثمار وعظم على الناس غزوة الروم، وأحبوا الظلال والمقام في المسكن والمال، فشق عليهم الخروج إلى القتال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما خرج في غزوة الا كنى عنها وورى بغيرها إلا غزوة تبوك لبعد شقتها وكثرة العدو ليتأهب الناس وأمرهم بالجهاد، وأخبرهم بالذي يريد، فلما علم الله تثاقل الناس، انزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا مالكم أي شيء أمركم " * (إذا قيل لكم) *) إذا قال لكم رسول الله " * (انفروا) *) اخرجوا " * (في سبيل الله) *) وأصل النفر مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج على ذلك، فقالت نفر فلان إلى ثغر كذا، ينفر نفرا ونفورا، ومنه نفور الدابة ونفارها " * (اثاقلتم) *) تباطأتم.
قال المبرد: أخلدتم " * (إلى الأرض) *) ومعناه: لزمتم أرضكم ومساكنكم، وأصله تثاقلتم فأدغمت التاء في الثاء وأخرجت لها الف يوصل إلى الكلام بها حين الابتداء بها، كقوله " * (حتى إذا اداركوا فيها) *) وقالوا: اطيرنا وأرجفت، العلاء والكسائي.
46

تولى الضجيج إذا ما اشتاقها خضرا
عذب المذاق إذا ما أتابع القبل
أي إذا تتابع.
" * (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) *) أي أرضيتم الدنيا ودعتها عوضا من نعيم الآخرة وثوابها " * (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) *) ثم أوعدهم على ترك الجهاد " * (إلا تنفروا) *) وقرأ عبيد بن عمير تنفروا بضم الفاء وهما لغتان " * (يعذبكم عذابا أليما) *) في الآخرة، وقيل: هو احتباس القطر عنهم، سئل نجدة بن نفيع عن ابن عباس عن هذه الآية فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر فكذلك كان عذابهم " * (ويستبدل قوما غيركم) *) خيرا منكم وأطوع، قال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس، وقال أبو صلاح: هم أهل اليمن " * (ولا تضروه شيئا) *) بترك النفير " * (والله على كل شيء قدير إلا تنصروه فقد نصره الله) *) هذا إعلام من الله أنه هو المتكفل بنصر رسوله وإظهار دينه أعانوه أو لم يعينوه، وأنه قد نصره حين كان أولياؤه قليلا وأعدائه كثيرا، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدة فقال عز من قائل: إلا تنفروا أيها المؤمنون إذا استنفركم، ولا تنصروه إذا استنصركم فالله يعينه يعوضه عنكم كما نصره " * (إذ أخرجه الذين كفروا) *).
وقيل: (معناه): إن لم تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا من مكة حين مكروا به وأرادوا (إخراجه) وهموا بقتله " * (ثاني اثنين) *) نصب على الحال، وهو أحد الاثنين، والاثنين رسول الله وأبو بكر الصديق " * (إذ هما في الغار) *) وهو نقب في جبل بمكة يقال له ثور " * (إذ يقول لصاحبه) *) أبي بكر ح " * (لا تحزن إن الله معنا) *) للعون والنصرة، ولم يكن حزن أبي بكر ح جبنا منه ولا سوء ظن وإنما كان اشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل عليه أنه قال: يا رسول الله إن قتلت فأنا رجل واحد، وإن قتلت هلكت الأمة.
همام عن ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدا نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما. قال مجاهد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ي الغار ثلاثا.
قال عروة: كان لأبي بكر منيحة من غنم فكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار.
وقال قتادة: كان عبد الرحمن بن أبي بكر يختلف إليهما، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج دعاهم وكانوا أربعة: النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط الليثي.
قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله زوجا من حمام حتى
47

باضا أسفل النقب، والعنكبوت حتى نسج بيتا، فلما جاء سراقة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام وبيت العنكبوت، قال لو دخلاه لتكسر البيض، وتفسخ بيت العنكبوت، فانصرف.
وقال النبي: (اللهم أعم أبصارهم) فعميت أبصارهم عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار.
روى السري بن يحيى عن محمد بن سيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر بن الخطاب فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر، قال: فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه حتى وصل رسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق.
فلما أتيا إلى الغار قال أبو بكر ح: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار، فدخل فاستبرأ حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الحجر، فقال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الحجر فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله فنزل، فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.
أبو عوانة عن فراس عن الشعبي قال: لقد عاتب الله أهل الأرض جميعا غير أبي بكر ح في هذه الآية، وقال أبو بكر:
قال النبي ولم يجزع يوقرني
ونحن في شدة من ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا
وقد توكل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره
كيد الشياطين كادته لكفار
والله مهلكهم طرا بما كسبوا
وجاعل المنتهى منها إلى النار
" * (فأنزل الله سكينته) *) سكونه وطمأنينته " * (عليه) *) أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس: على أبي بكر، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فكانت السكينة عليه قبل ذلك " * (وأيده) *) قرأ مجاهد: وأيده بالمد " * (بجنود لم تروها) *) وهم الملائكة " * (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) *) أي المقهورة المغلوبة " * (وكلمة الله) *) رفع على مبتدأ وقرأ يعقوب: وكلمة الله على النصب على العطف " * (هي العليا) *) العالية
48

قال ابن عباس: الكلمة السفلى: كلمة الشرك، والعليا: لا إله إلا الله " * (والله عزيز حكيم انفروا خفافا وثقالا) *) قال أبو الضحى: أول آية نزلت من براءة هذه الآية وقال مقاتل: قالوا: فينا الثقيل وذو الحاجة والضيعة، والشغل والمنتشر أمره، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وأبى أن يعذرهم.
واختلفوا في معنى الخفاف والثقال، فقال أنس والحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة وشمر بن عطية ومقاتل بن حيان: مشاغيل، وقال الحكم: مشاغيل وغير مشاغيل. الحسن: مشاغيل، وقال أبو صالح: خفافا من المال، أي فقراء وثقالا منه أي أغنياء، وقال ابن زيد: الثقيل الذي له الضيعة فهو ثقيل يكبره بأن يضع ضيعته من الخفيف الذي لا ضيعة له. قال: نشاط وغير نشاط، وقال عطية العوفي: ركبانا ومشاة، وقال مرة الهمذاني: أصحاء ومرضى، وقال يمان بن رباب: عزابا ومتأهلين.
وقيل: خفافا مسرعين غير خارجين ساعة اتباع النفير. قال: خف الرجل خفوفا إذا مشى مسرعا، وثقالا أي بعد التروية فيه والاستعداد له.
وقيل: خفافا من السلاح أي مقلين منه وثقالا مستكثرين منه، فالعرب تسمي الأعزل مخفا.
وقيل: خفافا من ماشيتكم وأبنائكم وثقالا متكثرين بهم " * (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) *) علي بن زيد عن أنس: إن أبا طلحة قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية " * (انفروا خفافا وثقالا) *) فقال: أي بني جهزوني جهزوني. فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر وعمر ذ حتى ماتا، فنحن نغزو عنك، فقال: جهزوني، فغزا البحر فمات في البحر فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها فلم يتغير.
وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزوة وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل، صاحب ضر فقال استنفر له الخفيف والثقيل، فإن لم يمكنني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.
(* (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولاكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون * عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين * لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الاخر أن
49

يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين * إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الاخر وارتابت قلوبهم فهم فى ريبهم يترددون * ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولاكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين * لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جآء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون * ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) *) 2
ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين " * (لو كان) *) اسمه مضمر أي لو كان ما يدعوهم إليه " * (عرضا قريبا) *) غنيمة حاضرة " * (وسفرا قاصدا) *) وموضعا قريبا.
قال المبرد: قاصدا أي ذا قصد نحو تأمر ولابن، وقيل: هو طريق مقصود فجعلت صفته على (فاعلة بمعنى مفعولة) كقوله " * (عيشة راضية) *) أي مرضية. " * (لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة) *) يعني المسافة وقال الكسائي: هي الغزاة التي يخرجون إليها، وقال قطرب: هي السفر البعيد سميت شقة لأنها تشق على الانسان، والقراءة بضم الشين وهي اللغة الغالبة، وقرأ عبيد ابن عمير بكسر الشين وهي لغة قيس.
" * (وسيحلفون بالله لو استطعنا) *) قرأ الأعمش بضم الواو لأن أصل الواو الضمة، وقرأ الحسن بفتح الواو لأن الفتح أخف الحركات، وقرأ الباقون بالكسر لأن الجزم يحرك بالكسر " * (لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم) *) بالحلف الكاذب " * (والله يعلم إنهم لكاذبون) *) في أيمانهم (واعتلالهم) * * (عفا الله عنك) *) قدم العفو على القتل.
قال قتادة وعمرو بن ميمون: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون.
وقال بعضهم: إن الله عز وجل وقره ورفع محله (فهو افتتاح) الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمخاطبه إن كان كريما عنده: عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك إلا زرتني، وقيل: معناه: أدام الله لك العفو.
" * (لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا) *) في أعذارهم " * (وتعلم الكاذبين) *) فيها " * (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر) *) إلى قوله تعالى " * (وارتابت قلوبهم) *) شكت ونافقت قلوبهم " * (فهم في ريبهم يترددون) *) متحيرين، ولو أرادوا الخروج إلى الغزو " * (لأعدوا) *) لهيأوا " * (له
50

عدة) *) وهي المتاع والكراع " * (ولكن كره الله) *) لم يرد الله " * (انبعاثهم) *) (خروجهم) * * (فثبطهم) *) فمنعهم وحبسهم " * (وقيل اقعدوا) *) في بيوتكم " * (مع القاعدين) *) يعني المرضى والزمنى، وقيل: النساء والصبيان.
" * (لو خرجوا فيكم) *) الآية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالجهاد لغزوة تبوك، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعسكره على ثنية الوداع، ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، فأنزل الله تعالى (يعزي) نبيه صلى الله عليه وسلم لو خرجوا فيكم يعني المنافقين " * (ما زادوكم إلا خبالا) *) فسادا، وقال الكلبي: شرا وقيل: غدرا ومكرا " * (ولأوضعوا خلالكم) *) يعني ولأوضعوا ركابهم بينكم، يقال: وضعت الناقة تضع وضعا ووضوعا إذا أسرعت السير، وأوضعها أيضاعا أي جد بها فأسرع، قال الراجز:
يا ليتني فيها جذع
أخب فيها وأضع
وقال: أقصر فإنك طالما
أوضعت في إعجالها
قال محمد بن إسحاق يعني: أسرع الفرار في أوساطكم وأصل الخلال من الخلل وهو الفرجة بين الشيئين وبين القوم في الصفوف وغيرها، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (تراصوا في الصفوف لايخللكم الشيطان كأولاد الحذف).
" * (يبغونكم الفتنة) *) أي يبغون لكم، يقول: يطلبون لكم ماتفتنون به، يقولون: لقد جمع (العدو) لكم فعل وفعل، يخبلونكم.
وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة يعني الغيب والسر، وقال الضحاك: يعني الكفر، يقال فيه: بغيته أبغيه بغاء إذا التمسته بمعنى بغيت له، ومثله عكمتك إن عكمت لك فيها، وإذا أرادوا أعنتك عليه قالوا: أبغيتك وأحلبتك وأعمكمتك.
" * (وفيكم سماعون لهم) *) قال مجاهد وابن زيد بينكم عيون لهم عليكم (يوصلون) مايسمعون منكم، وقال قتادة وابن يسار: وفيكم من يسمع كلامهم ويطبعهم " * (والله عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل) *) أي عملوا بها لصد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر بتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه " * (وقلبوا لك الأمور) *) أجالوا فيك وفي إبطال دينك الرأي بالتخذيل عنك وتشتت أصحابك
51

" * (حتى جاء الحق) *) أي النصر والظفر " * (وظهر أمر الله) *) دين الله " * (وهم كارهون ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) *) الآية.
نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك، قال له: يا أبا وهب، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم وصفاء،
قيل: وإنما أمر بذلك لأن الحبش غلبت على ناحية الروم فولدت لهم بنات قد أنجبت من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفر اللعس، فلما قال له ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جد: يا رسول الله لقد عرفت قومي أني رجل مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن فلا تفتني بهن وائذن لي في القعود وأعينك بمالي، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك، فأنزل الله (ومنهم) يعني ومن المنافقين (من يقول أئذن لي) في التخلف (ولا تفتني) ببنات الأصفر، قال قتادة: ولا تأتمني " * (ألا في الفتنة سقطوا) *) ألا في الإثم والشرك وقعوا بخيانتهم وخلافهم أمر الله ورسوله " * (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) *) مطيقة بهم وجامعتهم فيها، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني سلمة وكان منهم: من سيدكم؟ قالوا: جد بن قيس غير أنه نحيل جبان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وأي داء أدوى من البخل، بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور، فقال فيه حسان:
وقال رسول الله والقول لاحق
بمن قال منا من تعدون سيدا
فقلنا له جد بن قيس على الذي
نبخله فينا وإن كان أنكدا
فقال وأي الداء أدوى من الذي
رميتم به جدا وعالى بها يدا
وسود بشر بن البراء لجوده
وحق لبشر ذي الندى أن يسودا
إذا ما أتاه الوفد أنهب ماله
وقال خذوه إنه عائد غدا
(* (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون * قل لن يصيبنآ إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون * قل هل تربصون بنآ إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون * قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين * وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم
52

كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلواة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون * فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيواة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون * ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولاكنهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون * ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون * ولو أنهم رضوا مآ ءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنآ إلى الله راغبون) *) 2
" * (إن تصبك حسنة) *) نصر وغنيمة " * (تسؤهم) *) (يعني) بهم المنافقين " * (وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا) *) عذرنا وأخذنا الجزم في القعود وترك الغزو " * (من قبل) *) من قبل هذه المصيبة.
" * (قل) *) لهم يا محمد " * (لن يصيبنا) *) وفي مصحف عبد الله: قل هل يصيبنا، وبه قرأ طلحة ابن مصرف " * (إلا ما كتب الله لنا) *) في اللوح المحفوظ، ثم قضاه علينا " * (هو مولانا) *) ولينا وناصرنا وحافظنا، وقال الكلبي: هو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة " * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون قل هل تتربصون) *) تنتظرون " * (بنا) *) أيها المنافقون " * (إلا إحدى الحسنيين) *) أما النصر والفتح مع الأجر الكبير، وأما القتل والشهادة وفيه الفوز الكبير.
أخبرنا أبو القاسم الحبيبي قال: حدثنا جعفر بن محمد العدل، حدثنا أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم العبدي، حدثنا أبو بكر أمية بن بسطام، أخبرنا يزيد بن بزيع عن بكر بن القاسم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمن الله لمن خرج في سبيله ألا يخرج إيمانا بالله وتصديقا برسوله أن (يرزقه) الشهادة، أو يرده إلى أهله مغفورا له مع ما نال من أجر وغنيمة.
" * (ونحن نتربص بكم) *) إحدى الحسنيين " * (أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) *) فيهلكهم الله كما أهلك الأمم الخالية. قال ابن عباس: يعني الصواعق، قال ابن جريج يعني الموت (والعقوبة) بالقتل بأيدينا كما أصاب الأمم الخالية من قبلنا " * (فتربصوا) *) هلاكنا " * (إنا معكم متربصون) *) وقال الحسن: فتربصوا مواعيد الشيطان إنا معكم متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه، وكان الشيطان يمني لهم بموت النبي (صلى الله عليه وسلم).
" * (قل أنفقوا طوعا أو كرها) *) نزلت في منجد بن قيس حين أستاذن النبي صلى الله عليه وسلم في القعود عن الغزوة، وقال: هذا مالي اعينك به، وظاهر الآية أمر معناه خبر وجزاء تقديره: إن أنفقتم طوعا أو كرها فليس بمقبول منكم كقول الله عز وجل: " * (واستغفر لهم) *) الآية. قال الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملامة
لدينا ولا مقلية إن تفلت
53

" * (إنكم كنتم قوما فاسقين) *) منافقين " * (وما منعهم أن تقبل منهم) *) قرأ نافع وعاصم ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي: (أن يقبل) بالياء لنعتهم الفعل،
الباقون بالتاء " * (نفقاتهم) *) صدقاتهم " * (إلا أ نهم كفروا بالله وبرسوله) *) الأولى في موضع نصب، و (أن) الثانية في محل رفع تقديره: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم " * (ولا يأ تون الصلاة إلا وهم كسالى) *) مستاؤون لأنهم لا يرجون بأدائها ثوابا، ولا يخافون بتركها عقابا " * (ولا ينفقون إلا وهم كارهون) *) لأنهم يتخذونها مغرما ومنعها مغنما.
" * (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) *) لأن العبد إذا كان من الله تعالى في استدراج (..........) * * (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) *) قال مجاهد وقتادة والسدي: في الآية تقديم وتأخير تقديرها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وقال الحسن: إنما يريد الله أن يعذبهم في الحياة الدنيا بالزكاة والنفقة في سبيل الله، وقال ابن زيد: بالمصائب فيها، وقيل التعب في جمعه، والوجل في حفظه وحبه. " * (وتزهق أنفسهم) *) أي تخرج وتذهب أنفسهم على الكفر: يقال: زهقت الخيول أي خرجت عن الحلبة، وزهق السهم إذا خرج عن الهدف، وزهق الباطل أي اضمحل، قال المبرد: وفيه لغتان: زهق يزهق وزهيق يزهق.
" * (ويحلفون بالله إنهم لمنكم) *) على دينكم " * (وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون) *) يخافون " * (لو يجدون ملجأ) *) يعني حرزا وحصنا ومعقلا، وقال عطاء مهربا، وقال ابن كيسان: قوما يأمنون فيهم " * (أو مغارات) *) غيرانا في الجبال، وقال عطاء: سرادب، وقال الأخفش: كل ما غرت فيه فغبت فهو مغارة، وهي مفعلة من غار الرجل في الشيء يغور فيه إذا دخل، ومنه غار الماء وغارت العين إذا دخلت في الحدقة، ومنه غور تهامة، والغور: ما انخفض من الأرض، وقرأ عبد الرحمن بن عوف مغارات بضم الميم جعله مفعلا من أغار يغير إذا أسرع ومعناه موضع فرارا، قال الشاعر:
فعد طلابها وتعد عنها
بحرف قد تغير إذ تبوع
" * (أو مدخلا) *) موضع دخول، وهو مفتعل من تدخل يتدخل متدخل، وقال مجاهد: مدخلا: محرزا. قتادة: سردابا، وقال الكلبي وابن زيد: نفقا كنفق اليربوع، وقال الضحاك: مأوى يأوون إليه، وقال الحسن: وجها يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن كيسان: دخلا من مدخلا لا ينالهم منكم مايخافون (منه) وقرأ الحسن: أو مدخلا، مفتوحة الميم خفيفة
54

الدال من دخل يدخل، وقرأ مسلمة بن محارب مدخلا بضم الميم وتخفيف الدال من دخل يدخل، وقرأه أبي مندخلا، منفعل من اندخل. كما قال:
فلا يدي في حميت السكن تندخل
وقرأ الأعرج بتشديد الدال والخاء (............) جعله متفعلا ثم أدغم التاء في الدال كالمزمل والمدثر " * (لولوا إليه) *) لأدبروا إليه هربا منكم، وفي حرف أبي: لولوا وجوههم إليه، وقرأ الأعمش والعقيلي: لوالوا إليه بالألف من الموالاة أي تابعوا وسارعوا.
وروى معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده وكانت له صحبة لولوا إليه بتخفيف اللام لأنها من التولية يقال: ولي إليه بنفسه إذا انصرف ولولوا إليه من المولي " * (وهم يجمحون) *) يسرعون في الفرار (لا يردهم شيء). قال الشاعر أبان بن ثعلب:
سبوحا جموحا وإحضارها
كمعمعة السعف الموقد
وقيل: إن الجماح مشي بين مشيين وهو مثل (الصماح). قال مهلهل:
لقد جمحت جماحا في دمائهم
حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا
وقرأ الأعمش: وهم يجمزون أي يسرعون ويشدون " * (ومنهم) *) يعني من المنافقين " * (من يلمزك في الصدقات) *).
الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما قال ابن عباس كانت غنائم هوازن يوم حنين جاء ابن ذي الخريصر التميمي وهو حرقوص بن زهير أصل الخوارج فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل أن لم أعدل.
فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعه فأن له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر فلا يوجد فيه شيء، وقد سبق الفرث والدم، أشبههم برجل أسود في إحدى يديه، أو قال: أحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على فترة من الناس، وفي غير هذا الحديث: وإذا خرجوا
55

فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا اخرجوا فاقتلوهم. فنزل، " * (ومنهم من يلمزك في الصدقات) *) أي يعيبك في أمرها، ويطعن عليك فيها يقال: همزة لمزة. قال الشاعر:
إذا لقيتك عن شحط تكاشرني
وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة
وقال مجاهد: يهمزك: يطعنك، وقال عطاء: يغتابك، وقال الحسن والأعرج وأبو رجاء وسلام ويعقوب: يلمزك بضم الميم، وروى عوف بن كثير يلمزك بكسر الميم
خفيفة " * (فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) *) وقرأ (إياد بن لقيط): ساخطون. قال ابن زيد: هؤلاء المنافقون قالوا: والله لا يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثر بها إلا هواه.
" * (ولو أ نهم رضوا ما آتاهم الله) *) إلى قوله " * (راغبون) *) في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس، وقال ابن عباس: راغبون إليه فيما يعطينا من الثواب، ويصرف عنا من العقاب.
2 (* (إنما الصدقات للفقرآء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم * ومنهم الذين يؤذون النبى ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم * يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين * ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذالك الخزى العظيم * يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون * ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طآئفة منكم نعذب طآئفة بأنهم كانوا مجرمين * المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون * وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم * كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولائك حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة وأولائك هم الخاسرون) *) 2
56

ثم بين (لمن) الصدقات فقال عز من قال " * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) *) لا للمنافقين، واختلف العلماء في صفة الفقر والمسكين.
وقال ابن عباس والحسن وجابر بن زيد والزهري ومجاهد وابن زيد: الفقير: المتعفف عن المسألة، والمسكين: المحتاج السائل، وقال قتادة: الفقير: المؤمن المحتاج (الذي به زمانة) والمسكين: (الذي لا زمانة به)، وقال الضحاك وإبراهيم النخعي: الفقراء فقراء المهاجرين، والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين المحتاجين، وروى ابن سلمة عن ابن علية عن ابن سيرين عن عمر بن الخطاب ح قال: ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الفقير الأخلق الكسب قال ابن علية: الأخلق المحارف عندنا، وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين من أهل الكتاب.
وقال أبو بكر العبسي: رأى عمر بن الخطاب ذميما مكفوفا مطروحا على باب المدينة فقال له عمر: مالك؟ قال: استكروني في هذه الجزيرة حتى إذا كف بصري تركوني فليس لي أحد يعود علي بشيء، فقال: ما أنصفت إذا، فأمر له بقوته وما يصلحه، ثم قال: هذا من الذين قال الله تعالى: " * (إنما الصدقات للفقراء) *) وهم زمنى أهل الكتاب، وقال ابن عباس: المساكين: (الطوافون)، والفقراء، من المسلمين.
أخبرنا عبد الله بن حامد. أخبرنا محمد بن جعفر. حدثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب. حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس المسكين هذا الطواف الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه.
قال الفراء: الفقراء أهل الصفة لم يكن لهم عشائر ولا مال، كانوا يلتمسون الفضل ثم يأوون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساكين: الطوافون على الأبواب، وقال عبد الله بن الحسن: المسكين الذي يخشع ويستكين وإن لم يسأل، والفقير الذي يحتمل ويقبل الشيء سرا ولا يخشع وقال (ابن السكيت والقتيبي ويونس) الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي لا شيء له، واحتج بقول الشاعر:
57

إن الفقير الذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سبد
فجعل له حلوبة وجعلها وقفا لعياله أي قوتا لا فضل فيه، يدل عليه ما روي عن عبد الرحمن بن أبزي قال: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحج عليها ويغزو فنسبهم الله تعالى إلى أنهم فقراء وجعل لهم سهما في الزكاة.
وقال محمد بن مسلمة: الفقير الذي له مسكن يسكنه، والخادم إلى (......) لأن ذلك المسكين الذي لا ملك له. قالوا: وكل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا من غيره، قال الله تعالى: " * (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) *)، والمسكين المحتاج إلى كل شيء، ألا ترى كيف حض على إطعامه وجعل الكفارة من الأطعمة له، ولا فاقة أعظم من (......) في شدة الجوعة.
أما قوله: " * (أما السفينة فكانت لمساكين) *) وإن مسكنتهم هاهنا مساكين على جهة الرحمة والاستعفاف لا بملكهم السفينة كما قيل لمن امتحن بنكبة أو دفع إلى بلية: مسكين، وفي الحديث: (مساكين أهل النار) وقال الشاعر:
مساكين أهل الحب حتى قبورهم
(عليها) تراب الذل بين المقابر
" * (والعاملين عليها) *) يعني سقاتها وجباتها الذين يتولون قبضها من أهلها ووضعها في حقها ويعملون عليها يعطون ذلك بالسعاية، أغنياء كانوا أو فقراء.
واختفلوا في قدر ما يعطون، فقال الضحاك: يعطون: الثمن من الصدقة، وقال مجاهد: يأكل العمال من السهم الثامن، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: يعطون
على قدر عمالتهم، وهو قول الشافعي وأبي يعفور قالا: يعطون بقدر أجور أمثالهم، وإن كان أكثر من الثمن، يدل عليه قول عبد الرحمن بن زيد قال: لم يكن عمر ولا أولئك يعطون العامل الثمن إنما يفرضون له بقدر عمله، وقال مالك وأهل العراق: إنما ذلك إلى الامام واجتهاده، يعطيهم الامام على قدر ما يرى.
" * (والمؤلفة قلوبهم) *)، قال قتادة: هم ناس من الأعراب وغيرهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يألفهم
58

بالعطية كيما يؤمنوا، وقال معقل بن عبد الله: سألت الزهري عن المؤلفة قلوبهم، قال: من أسلم من يهودي أو نصراني، قلت: وإن كان غنيا؟ قال: وإن كان غنيا، وقال ابن عباس: هم قوم قد أسلموا، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيرا قالوا: هذا دين صالح، فإن كان غير ذلك عابوه وتركوه.!
وقال ابن كيسان: هم قوم من أهل الحرب كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالصدقات ليكفوا عن حربه، وقال الكلبي ويحيى بن أبي كثير وغيرهم: ذوو الشرف من الأحياء، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم في الإسلام يتألفهم وهم الذين قسم بينهم يوم حنين الإبل، وهم: من بني مخزوم الحرث ابن هشام، وعبد الرحمن بن يربوع، ومن بني أمية أبو سفيان بن حرب ومنهم من بني جمح صفوان بن أمية، ومن بني عامر بن لؤي سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ومن بني أسد بن عبد العزى حكيم بن خزام، ومن بني هاشم أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، ومن بني فزارة عيينة بن حصين، وحذيفة بن بدر، ومن بني تميم الأقرع بن حابس، ومن بني النضر مالك بن عوف بن مالك ومن بني سليم العباس بن مرادس، ومن بني ثقيف العلاء بن خارجة، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى، قال وفي رواية أخرى: مخرمة بن نوفل، وعمير بن وهيب وهشام بن عمرو.
وزاد الكلبي: أبا البعائل بن يعكل وجد بن قيس السهمي وعمرو بن مرداس وهشام بن عمرو. قال: أعطى كل واحد منهم خمسين ناقة، فقال العباس بن مرادس في ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
فأصبح نهبي ونهب العبيد
بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولاحابس
يفوقان مرداس في المجمع
وقد كنت في الحرب ذا (قوة)
فلم أعط شيئا ولم أمنع
الا أفائل أعطيتها
عديد قوائمه الأربع
وكانت نهابا تلافيتها
بكري على المهر في الأجرع
وايقاظي القوم أن يرقدوا
إذا هجع الناس لم أهجع
وما كنت دون امرئ منهما
ومن تضع اليوم لا يرفع
فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، وأعطى حكيم بن حزام سبعين ناقة فقال: يا رسول الله ما كنت أدري أن أحدا أحق بعطائك مني فزاده عشرة أبكار، ثم زاده عشرة أبكار حتى أتمها له مائة، فقال حكيم: يا رسول الله أعطيتك التي رغبت عنها خير أم هذه التي زادت؟ قال: لا، بل هذه
59

التي رغبت فيها. فقال: لا آخذ غيرها، فأخذ السبعين، فمات حكيم وهو أكثر قريش مالا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أعطي رجلا وأترك الآخر، والذي أترك أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أتألف هذا بالعطية، وأوكل المؤمن إلى إيمانه).
وقال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس الي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.
ثم اختلفوا في وجود المؤلفة اليوم وهل يعطون من الصدقة وغيرها أم لا؟، فقال الحسن: أما المؤلفة قلوبهم فليس اليوم، وقال الشعبي: إنه لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم، إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ولي أبو بكر انقطعت الرشى، وهذا تأويل أهل القرآن، يدل عليه حديث عمر بن الخطاب حين جاءه عيينة بن حصين، فقال " * (الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) *) إن الإسلام أجل من أن يرشى عليه، أي ليس اليوم مؤلفة.
وروى أبو عوانة عن مهاجر أبي الحسن، قال: أتيت أبا وائل وأبا بردة بالزكاة وهما على بيت المال فأخذاها، ثم جئت مرة أخرى فوجدت أبا وائل وحده فقال ردها فضعها في مواضعها، قلت: فما أصنع بنصيب المؤلفة قلوبهم؟ فقال رده على الآخرين.
وقال أبو جعفر محمد بن علي: (في الناس) اليوم المؤلفة قلوبهم ثابتة، وهو قول أبي ثور قال: لهم سهم يعطيهم الامام قدر ما يرى.
وقال الشافعي: المؤلفة قلوبهم ضربان: ضرب مشركون فلا يعطون، وضرب مسلمون (إذا أعطاهم الإمام كفوا شرهم عن المسلمين)، فأرى أن يعطيهم من سهم النبي وهو خمس الخمس ما يتألفون به سوى سهمهم مع المسلمين، يدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وأعز أهله، وأما سهمهم من الزكاة فأرى أن يصرف في تقوية الدين وفي سد خلة الإسلام ولايعطى مشرك تألف على الإسلام، ألا إن الله تعالى يغني دينه عن ذلك، والله أعلم.
" * (وفي الرقاب) *) مختصر أي في فك الرقاب من الرق، واختلفوا فيهم، فقال أكثر الفقهاء: هم المكاتبون، وهو قول الشافعي والليث بن سعد، ويروى أن مكاتبا قام إلى أبي موسى الأشعري وهو يخطب الناس يوم الجمعة فقال له: أيها الأمير حث الناس علي، فحث أبو موسى، فألقى الناس ملاءة وعمامة وخاتما حتى ألقوا عليه سوادا كثيرا، فلما رأى أبو موسى ما ألقى الناس، قال أبو موسى: أجمعوه فجمع، ثم أمر به فبيع فأعطى المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل في الرقاب ولم يرده على الناس، وقال إنما أعطى الناس في الرقاب.
وقال الحسن وابن عباس: يعتق منه الرقاب وهو
60

مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور، وقال سعيد بن جبير والنخعي، لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في ميقات رقبة مكاتب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
قال الزهري: سهم الرقاب نصفان: نصف لكل مكاتب ممن يدعي الإسلام، والنصف الثاني لمن يشتري به رقاب ممن صلى وصام وقدم إسلامه من ذكر وأنثى يعتقون لله.
" * (والغارمين) *) قتادة: هم قوم غرقتهم الديون في غير إملاق ولا تبذير ولا فساد.
وقال مجاهد: من احترق بيته وذهب السيل بماله، وأدان على عياله، وقال أبو جعفر الباقر: الغارمون صنفان: صنف استدانوا في مصلحتهم أو معروف أو غير معصية ثم عجزوا عن أداء ذلك في العرض والنقد فيعطون في غرمهم، وصنف استدانوا في جمالات وصلاح ذات بين ومعروف ولهم عروض إن بيعت أضر بهم فيعطى هؤلاء قدر عروضهم.
وذلك إذا كان دينهم في غير فسق ولا تبذير ولا معصية، وأما من ادان في معصية الله فلا أرى أن يعطى، وأصل الغرم الخسران والنقصان، ومنه الحديث في الرحمن له غنمه وعليه غرمه، ومن ذلك قيل للعذاب غرام، قال الله تعالى " * (إن عذابها كان غراما) *) وفلان مغرم بالنساء أي مهلك بهن، وما أشد غرامه وإغرامه بالنساء.
" * (وفي سبيل الله) *) فيهم الغزاة والمرابطون والمحتاجون.
فأما إذا كانوا أغنياء فاختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لايعطى الغازي إلا أن يكون منقطعا مفلسا، وقال مالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور: يعطى الغازي منها وإن كان غنيا، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها أو رجل اشتراها بماله، أو في سبيل الله أو ابن السبيل، أو رجل كان له جار تصدق عليه فأهداها له).
" * (وابن السبيل) *) المسافر المجتاز، سمي ابن السبيل للزومه إياه، كقول الشاعر:
أيا ابن الحرب رجعني وليدا
إلى أن شبت فاكتملت لداتي
قال مجاهد والزهري: لابن السبيل حق من الزكاة وإن كان غنيا إذا كان منتفعا به،
61

وقال مالك وفقهاء العراق: هو الحاج المنقطع، وقال الشافعي: ابن السبيل من (جيران) الصدقة الذين يريدون السفر في غير معصية فيعجزون من بلوغ سفرهم إلا بمعونة، وقال قتادة: هو الضيف.
" * (فريضة) *) واجبة " * (من الله) *) وهو نصب على القطع في قول الكسائي، وعلى المصدر في قول سيبويه أي: فرض الله هذه الأشياء فريضة، وقال إبراهيم بن أبي عبلة: رفع فريضة فجعلها خبرا كما تقول: إنما يزيد خارج " * (والله عليم حكيم) *).
واختلف العلماء في كيفية قسم الصدقات المذكورة في هذه الآية، (وهل) يجب لكل صنف من هؤلاء الأصناف الثمنية فيها حق، أو ذلك إلى رب المال ومن يتولى قسمها في أن له أن يعطي جميع ذلك من شاء من الأصناف الثمنية، فقال بعضهم: له قسمها ووضعها في أي الأصناف يشاء وإنما سمى الله تعالى الأصناف الثمنيه في الآية إعلاما منه إن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها لا إيجاد القسمة بينهم، وهو قول عمر بن الخطاب وحذيفة وابن عباس وابن (جبير) وعطاء وأبي العالية وميمون بن مهران وأبي حنيفة.
أخبرنا عبد الله بن حامد. أخبرنا أبو بكر الطبري. حدثنا علي بن حرب، أخبرنا ابن فضيل، حدثنا عطاء عن سعيد " * (إنما الصدقات للفقراء) *) الآية، أي هذه الأصناف وجدت أجزاك أن تعطيه صدقتك، ويقول أبو حنيفة: يجوز الاقتصار على رجل واحد من الفقراء، وقال مالك يخص بأمسهم حاجة.
كان الشافعي يجري الآية على ظاهرها ويقول: إذا تولى رب المال قسمتها فإن عليه وضعه في ثلاثة أصناف لأن سهم المؤلفة ساقط، وسهم العاملين يبطل بقسمته إياها،
فإذا تولى الإمام قسمتها فإن عليه أن يقسمها على سبعة أصناف، يجزيه أن يعطي من كل صنف منهم أقل من ثلاثة أنفس ولايصرف السهم ولا شيئا منه عن أهله أحد يستحقه، ولا يخرج من بلد وفيه أحد يرد حقه ممن لم يوجد من أهل السهام على من وجد منهم، وهذا قول عمر بن عبد العزيز، وعكرمة والزهري.
ثم رجع إلى ذكر المنافقين وقال: " * (ومنهم) *) يعني من المنافقين " * (الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) *) نزلت في حزام بن خالد، والجلاس بن سويد، وإياس بن قيس، ومخشي بن خويلد، وسماك بن يزيد، وعبيد بن هلال ورفاعة بن المقداد، وعبيدة بن مالك، ورفاعة بن زيد، كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون مالا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا ما يقولون فيقع بنا، فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول: فإنما محمد أذن سامعة فأنزل الله هذه الآية.
62

وقال محمد بن إسحاق عن يسار وغيرة نزلت في رجل من المنافقين يقال له: نهشل بن الحرث، وكان حاسر الرأس أحمر العينين أسفح الخدين مشوه الخلقة، وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نهشل بن الحرث)، وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل، فقال: إنما محمد أذن، من حدثه شيئا يقبل، نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له ويصدقنا عليه، فأنزل: " * (الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن) *) يسمع من كل واحد ويقبل ما يقال له ومثله أذنة على وزن فعلة ويستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع، وأصله: أذن يأذن أذنا إذا استمع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ما اذن الله لشيء كأذنه لنبي بمعنى القرآن، وقال عدي بن زيد:
أيها القلب تعلل بددن
إن همي في سماع وأذن
وقال الأعشى:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
وكان أستاذنا أبو القاسم الجبيبي يحكي عن أبي زكريا العنبري عن ابن العباس الأزهري عن أبي حاتم السجستاني أنه قال: هو أذن أي ذو أذن سامعة.
" * (قل أذن خير لكم) *) قراءة العامة بالإضافة أي أذن خير لا أذن شر، وقرأ الحسن والأشهب العقيلي: والأعمش والبرجمي: أذن خير لكم مرفوعا من المنافقين ومعناه: إن كان محمدا كما تزعمون بأن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم.
ثم كذبهم فقال " * (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) *) يعلمهم، وقيل: يقال أمنتك وأمنت لك بمعنى صدقتك كقوله: " * (الذين هم بآيات ربهم يؤمنون) *) أي (............) ربهم " * (ورحمة) *) قرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة: (ورحمة) عطفا على معنى أذن خير وأذن شر في قول عبد الله وأبي، وقرأ الباقون: (ورحمة) بالرفع أي: هو أذن خير، وهو رحمة، جعل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم مفتاح الرحمة ومصباح الظلمة وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
" * (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم يحلفون بالله لكم ليرضوكم) *) قال قتادة والسدي: (اجتمع نفر) من المنافقين منهم جلاس بن سويد وذريعة بن ثابت فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم
63

وقالوا: لئن كان ما يقول محمد حق لنحن شر من الحمير، وكان سمعهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس، فحقروه وقالوا هذه المقالة، فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقوله محمد حق وأنتم شر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا إن عامرا كذاب، وحلف عامر أنهم كذبة، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عامر يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب، وقد كان قال بعضهم في ذلك: يا معشر المنافقين والله إني شر خلق الله، لوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلفهم، ويطلبون ويحلفون، فأنزل الله " * (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه) *) وقد كان حقه يرضوهما وقد مضت هذه المسألة، قال الشاعر:
ما كان حبك والشقاء لتنتهي
حتى يجازونك في مغار محصد
أي الحبل.
" * (أ لم يعلموا) *) وقراءة العامة بالياء على الخبر، وقرأ السلمي بالتاء على الخطاب " * (أنه من يحادد الله ورسوله) *) إلى قوله " * (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) *)، قال مجاهد: كانوا يقولون القول بينهم ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشي سرنا فقال الله لنبيه متهددا " * (قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون) *) قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة الفاضحة والمثيرة والمبعثرة، أثارت مخازيهم ومثالبهم. قال الحسن: كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة، حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرته.
قال ابن كيسان نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا حلأها، ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماقدموا له، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، وعمار بن ياسر يقود برسول الله صلى الله عليه وسلم وحذيفة يسوق به.
فقال لحذيفة: اضرب بها وجوه رواحلهم، فضربها حتى نحاهم، فلما نزل قال لحذيفة: هل عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم فلان وفلان حتى عدهم كلهم، فقال حذيفة ألا تبعث إليهم فتقتلهم، قال: (أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، بل يكفيكم الله الدبيلة) قيل: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: (شهاب من جهنم يوضع على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه فكان كذلك)
64

" * (ولئن سأ لتهم ليقولن إنما كنا نخوض) *) الآية، قال ابن عمر وقتادة وزيد بن أسلم ومحمد ابن كعب: قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل (قرائنا) هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتحل وركب ناقة فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث بحديث الركب يقطع به عنا الطريق.
قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو ويقول: إنا كنا نخوض ونعلب. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون) *) فالتفت إليه وما يزيده عليه.
وقال قتادة: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا أيظن هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه على ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم احبسوا علي الركب، فدعاهم فقال لهم: قلتم كذا وكذا، فقالوا يا نبي الله أنما كنا نخوض ونلعب، وحلفوا على ذلك، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال مجاهد: قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب، فأنزل الله هذه الآية، وقال ابن كيسان: نزلت في وديعة بن ثابت وهو الذي قال هذه المقالة، وقال الضحاك: نزلت في عبد الله بن أبي ورهطه كانوا يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مالا ينبغي، فإذا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب قال الله عز وجل: * (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون) * * (لا تعتذروا قد كفرتم) *) بقولكم هذا " * (بعد إيمانكم) *) إقراركم " * (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) *) قراءة العامة بضم الياء والتاء على غير تسمية الفاعل، وقرأ عاصم: إن نعف بنون مفتوحة وفاء مضمومة، نعذب بالنون وكسر الذال طائفة بالنصب، والطائفة في هذه الآية رجل يقال له مخشي بن حمير الأشجعي، أنكر عليهم بعدما سمع ولم يمالئهم عليه وجعل يسير مجانبا لهم، فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها، تقشعر منها الجلود وتجل وتجب فيها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة فيمن قتل فما أحد من المسلمين الا وجدوه وعرف مصرعه غيره.
65

وقيل: معناه إن يتب على طائفة منكم فيعفو الله عنهم ليعذب طائفة بترك التوبة " * (بأ نهم كانوا مجرمين المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) *) أي شكل بعض وعلى دين بعض، يعني إنهم صنف واحد وعلى أمر واحد، ثم ذكر أمرهم فقال " * (يأمرون بالمنكر) *) بالكفر والمعصية " * (وينهون عن المعروف) *) عن الإيمان والطاعة " * (ويقبضون أيديهم) *) يمسكونها ويكفونها عن الصدقة والنفقة في الحق ولايبسطونها بالخير، وأصله: إن المعطي يمد يده ويبسطها بالخير، فقيل: لمن بخل ومنع قد قبض يده، ومنه قوله: " * (وقالت اليهود يد الله مغلولة) *) أي ممسكة عن النفقة.
" * (نسوا الله فنسيهم) *) تركوا طاعة الله فتركهم الله من توفيقه وهدايته في الدنيا ومن رحمته المنجية من عذابه وناره في العقبى " * (إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم) *) كافيتهم عذابا وجزاء على كفرهم " * (ولعنهم الله) *) طردهم وأبعدهم من رحمته ولهم عذاب مقيم " * (كالذين من قبلكم) *) يعني فعلتم كفعل الذين كانوا من قبلكم ولعنتم وعذبتم كما لعن الذين كانوا من قبلكم من كفار الأمم الخالية " * (كانوا أشد منكم قوة) *) بطشا ومنعة " * (وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا) *) وتمتعوا وانتفعوا " * (بخلاقهم) *) بنصيبهم من الدنيا ورضوا به عوضا من الآخرة.
قال أبو هريرة: الخلاق: الدين " * (فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم) *) في الباطل والكذب على الله وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين " * (كالذي خاضوا) *) أراد كالذين خاضوا وذلك أن (الذي) اسم ناقص مثل (ما) و (من) يعبر بها عن الواحد والجميع نظير قوله: " * (مثله كمثل الذي استوقد) *) ثم قال: " * (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات) *) قال الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
وأن شئت جعلت (الذي) إشارة إلى ضمير، وقوله: خضتم كالخوض الذي خاضوا فيه إلى قوله الخاسرون.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع، حتى لو أن أحد من ثم أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه، قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم " * (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة) *) الآية، قالوا: يا رسول الله كما صنعت
66

فارس والروم وأهل الكتاب، قال: (وهل الناس إلا هم).
قال ابن عباس في هذه الآية: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، وقال ابن مسعود: أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا.
وقال حذيفة: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذي كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: وكيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه.
2 (* (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة ويطيعون الله ورسوله أولائك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم * وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذالك هو الفوز العظيم) *) 2
" * (ألم يأتهم) *) يعني المنافقين والكافرين " * (نبأ) *) خبر " * (الذين من قبلهم) *) حين عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا كيف أهلكناهم وعذبناهم ثم ذكرهم. فقال " * (قوم نوح) *) بالمعنى بدلا من الذين أهلكوا بالطوفان " * (وعاد) *) أهلكوا بالريح " * (وثمود) *) أهلكوا بالرجفة " * (وقوم إبراهيم) *) بسلب النعمة وهلاك نمرود " * (وأصحاب مدين) *) يعني قوم شعيب بعذاب يوم الظلة " * (والمؤتفكات) *) المنقلبات التي جعلت عاليها سافلها، وهم قوم لوط " * (أتتهم رسلهم بالبينات) *) فكذبوهم وعصوهم كما فعلتم يا معشر الكفار فاحذروا بتعجيل النقمة " * (فما كان الله ليظلمهم) *) إلى قوله " * (بعضهم أولياء بعض) *) في الدين والملة والعون والنصرة والمحبة والرحمة. قال جرير بن عبد الله سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة)، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة)، " * (يأمرون بالمعروف) *) بالإيمان والخير " * (وينهون عن المنكر) *) مالا يعرف في شريعة ولا سنة.
قال أبو العالية كلما ذكر الله تعالى في كتابة من الأمر بالمعروف فهو رجوع من الشرك إلى
67

الإسلام، والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشيطان " * (ويقيمون الصلاة) *) المفروضة " * (ويطيعون الله ورسوله أولئك) *) إلى قوله " * (ومساكن طيبة) *) ومنازل طيبة.
قال الحسن: سألت أبا هريرة وعمران بن حصين عن قول الله " * (ومساكن طيبة في جنات عدن) *). قالا: على الخبير سقطت، سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (قصر في الجنة من لؤلؤ فيه سبعون دار من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا، على كل سرير سبعون فراشا، على كل فراش زوجة من الحور العين، وفي كل بيت مائدة وعلى كل مائدة سبعون لونا من الطعام، وفي كل بيت وصيفة، ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع).
" * (في جنات عدن) *) في بساتين ظلال وإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به، ومنه المعدن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة من النبيين والصديقين والشهداء، يقول الله: طوبى لمن دخلك).
وقال عبد الله بن مسعود: هي بطنان الجنة أي وسطها، وقال ابن عباس: سألت كعبا عن جنات عدن فقال: هي الكروم والأعناب بالسريانية، وقال عبد الله بن عمر: إن في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج والمروج، له خمسة آلاف باب، على كل باب (حبرة) لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
قال الحسن: جنات عدن، وما أدراك ما جنات عدن، قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل، ورفع به صوته. (في حديث آخر قصر) في الجنة يقال له: عدن، حوله البروج والمروج له خمسون ألف باب، وقال الضحاك: هي مدينة الجنة فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنان حولها.
وقال عطاء بن السايب: عدن نهر في الجنة جناته على حافتيه، وقال مقاتل والكلبي: أعلى درجة في الجنة وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها وهي مغطاة من يوم خلقها الله عز وجل حتى ينزلها أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله، وفيها قصور الدرة والياقوت والذهب، فتهب الريح الطيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأحلى، وقال عطاء الخراساني في قوله: " * (ومساكن طيبة في جنات عدن) *) قال: قصر من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام في جنات عدن، وهي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن.
" * (ورضوان من الله أكبر) *) رفع على الابتداء، أي رضا الله عنهم أكبر من ذلك كله
68

روى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم فيقولون: ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا مالم تعط أحدا من رضاك؟ فيقول: ألا أعلمكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا).
" * (ذلك هو الفوز العظيم) *))
.
* (ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير * يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما فى الدنيا والاخرة وما لهم فى الارض من ولي ولا نصير) *) 2
" * (يا أيها النبي جاهد الكفار) *) بالسيف والقتال " * (والمنافقين) *).
اختلفوا في صفة جهاد المنافقين، قال ابن مسعود: بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فاكفهر في وجهه. قال ابن عباس: باللسان وشدة الزجر بتغليظ الكلام، قال الحسن وقتادة: بإقامة الحدود عليهم، ثم قال " * (ومأواهم) *) في الآخرة " * (جهنم وبئس المصير) *) قال (ابن مسعود وابن عباس) وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو (والصلح) والصفح.
" * (يحلفون بالله ما قالوا) *) قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، إذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي: (يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم؟) فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا بشيء من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية إكذابا لهم.
69

وقال الكلبي: نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت (لأن) رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسماهم رجسا وعابهم، فقال الجلاس: والله إن كان محمد صادقا فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس، فقال: أجل والله إن محمدا لصادق مصدق وأنتم شر من الحمير.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله علي، ما قلت شيئا من ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر بعد العصر، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله، وإنه كذب علي عامر، ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع عامر بيديه إلى السماء فقال: اللهم أنزل على نبيك الصادق منا المصدق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ " * (فإن يتوبوا يك خيرا لهم) *) فقام الجلاس، فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة، صدق عامر بن قيس في ذلك، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ثم تاب فحسن توبته.
قال قتادة: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا: رجلا من جهينة، ورجلا من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، وظفر الغفاري على الجهيني، فنادى عبد الله بن أبي: أيها الأوس انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك.
ثم قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل صلى الله عليه وسلم إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، فأنزل الله عز وجل: يحلفون بالله ما قالوا " * (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) *).
قال مجاهد: هم المنافقون بنقل المؤمن الذي يقول لنحن شر من الحمير لكي لا يفشيه عليه.
قال السدي: قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا يباهي به (............) إليه.
وقال الكلبي: هم خمسة عشر رجلا منهم عبد الله بن أبي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق والجلاس بن سويد وعامر بن النعمان وأبو الأحوص، هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأخبر جبرائيل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: إنهم من قريش هموا في قتل النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه الله عز وجل.
جابر عن مجاهد عن ابن عباس ح في هذه الآية قال: هم رجل من قريش يقال له
70

الأسود بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (وما نقموا) *) منه، ما أنكروا منه ولا (ينقمون) * * (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) *) (ويقال: إن القتيل) مولى الجلاس قتل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى، وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من عيشهم، لا يركبون الخيل ولايحوزون الغنيمة، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم، وهذا مثل مشهور: اتق شر من أحسنت إليه.
ثم قال الله عز وجل " * (فإن يتوبوا) *) من نفاقهم وكفرهم " * (يكن خيرا لهم وإن يتولوا) *) يعرضوا عن الإيمان " * (يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا) *) بالقتل والخزي " * (والآخرة) *) بالنار " * (وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير) *))
.
* (ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلمآ ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون * ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) *) 2
" * (ومنهم من عاهد الله) *) الآية.
روى القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال: جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه) ثم أتاه بعد ذلك. فقال: يا رسول الله أدع الله أن يرزقني مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم * (* (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) *)، والذي نفسي بيده لو أردت أن تصير الجبال معي ذهبا وفضة لصارت) ثم أتاه بعد ذلك
فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم ارزق ثعلبة مالا).
قال: فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل واديا من أوديتها وهي تنمو كما تنمو الدود، وكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، ويصلي في غنمه ساير الصلوات، ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد إلا الجمعة، ثم كثرت ونمت فتباعد حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة، فكان إذا كان يوم الجمعة يمر على الناس يسألهم عن الأخبار، فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل ذات يوم فقال: ما فعل ثعلبة؟ قالوا يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما مايسعها واد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة) وأنزل الله تعالى آية الصدقة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجل من جهينة وكتب لهما إتيان الصدقة
71

وكيف يأخذان وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم (مرا بثعلبة بن حاطب ورجل من بني سليم فخذا صدقاتهما).
فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وقرءا له كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما زادها قالا: ما هذا عليك، قال: خذاه فإن نفسي بذلك طيبة، فمرا على الناس وأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال: أروني كتابكما فقرأه ثم قال: ما هذه إلا جزية، ما هذه الا أخت الجزية، إذهبا حتى أرى رأيي، قال: فأقبلا فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتكلما قال: (يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة) ثم دعا للسلمي بخير فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، فأنزل الله فيه " * (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن) *) إلى قوله " * (وبما كانوا يكذبون) *) وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع قوله فخرج حتى أتاه فقال: ويحك ياثعلبة قد أنزل الله عز وجل فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة.
فقال: (إن الله تعالى منعني أن أقبل منك صدقتك) فجعل يحثي على رأسه التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني) فلما نهى أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبض ولم يقبل منه شيئا ثم أتى أبا بكر (ح) حين استخلف فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعي من الأنصار فاقبل صدقتي، فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقبلها؟ فلم يقبل، وقبض أبو بكر فلم يقبلها، فلما ولي عمر (ح) أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، أنا لا أقبلها، فقبض عمر ولم يقبلها، ثم ولي عثمان فأتاه فسأله أن يقبل صدقته فقال: لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر، أنا لا أقبلها منك، فلم يقبلها منه وهلك في خلافة عثمان.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: أتى ثعلبة مجلسا من الأنصار فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله أتيت منه كل ذي حق حقه، وتصدقت منه، ووصلت القرابة، فمات ابن عم له فورثه مالا فلم يوف بما قال، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال مقاتل: مر ثعلبة على الأنصار وهو محتاج، فقال: لئن آتاني الله من فضله لأصدقن ولأكونن من الصالحين فآتاه الله من فضله وذلك أن مولى لعمر بن الخطاب قتل رجلا من المنافقين خطأ فدفع النبي صلى الله عليه وسلم ديته إلى ثعلبة، وكان قرابة المقتول فبخل ومنع حق الله فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
72

وقال الحسن ومجاهد: نزلت هذه الآية في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشيو وهما رجلان من بني عمرو بن عوف خرجا على ملأ قعود فقالا: والله لئن رزقنا الله لنصدقن، فلما رزقهما الله تعالى بخلا.
وقال الضحاك: نزلت في رجال من المنافقين (نبتل) بن الحرث وجد بن قيس وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير قالوا: لئن آتانا الله من فضله لنصدقن، فلما آتاهم الله من فضله وبسط لهم الدنيا بخلوا به ومنعوا الزكاة.
وقال الكلبي: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، كان له مال بالشام فجهد لذلك جهدا شديدا فحلف بالله: لئن آتانا الله من فضله من رزقه يعني المال الذي بالشام لأصدقن منه ولأصلن ولآتين حق الله منه، فآتاه الله ذلك المال فلم يفعل ما قال، فأنزل الله عز وجل " * (ومنهم) *) يعني من المنافقين " * (من عاهدوا الله لئن آتانا الله من فضله لنصدقن) *) ولنوفين حق الله منه " * (ولنكونن من الصالحين) *) أي نعمل ما يعمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم والنفقة في الخير " * (فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم) *) فأتبعهم، وقيل فجازاهم ببخلهم. قال النابغة:
فمن أطاعك فانفعه بطاعته
كما أطاعك وادلله على الرشد
" * (نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) *) حرمهم الله التوبة " * (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) *) قال معبد بن ثابت: إنما هو (شيء) ظاهر في أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع قول الله عز وجل " * (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) *)؟
عن مسروق عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خصم فجر).
الأشعث عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن. إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، إذا أؤتمن خان).
وقال عبد الله بن مسعود اعتبروا المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، أنزل الله تصديق ذلك في كتابه " * (ومنهم من عاهد الله) *) إلى قوله " * (كانوا يكذبون) *)، وهذا خبر صعب الظاهر. فمن لم يعلم تأويله عظم خطؤه وتفسيره.
أخبرني شيخي الحسن بن محمد بن الحسن بن جعفر، قال: أخبرني أبي عن جدي
73

الحسين بن جعفر، قال: حدثنا محمد بن يزيد السلمي، قال: حدثنا عمار بن قيراط عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال: كنت على قضاء سمرقند فقرأت يوما حديث المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (ثلاث من كن فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف).
فتوزع فيه فكري وانقسم قلبي وخفت على نفسي وعلى جميع الناس وقلت من ينجو من هذه الخصال؟ (فأخللت) بالقضاء وأتيت بخارى وسألت علماءها فلم أجد فرجا، فأتيت مرو فلم أجد فرجا، فأتيت نيشابور فلم أجد عند علمائها فرجا، فبلغني أن شهر بن حوشب بجرجان فأتيته وعرضت عليه قصتي وسألت عن الخبر، فقال لي: لم (أكن) أنا (حين) سمعت هذا الخبر كالحبة على المقلاة خوفا فأدرك سعيد بن جبير فإنه متولد بالري فاطلبه وسله لعلك تجد لي ولك، وسمعت أن عنده فرجا، فأتيت الري وطلبت سعيدا فأتيته وعرضت عليه القصة وسألته عن معنى الخبر.
فقال: أنا كذلك خائف على نفسي منذ بلغني هذا الخبر، وأنا خائف عليك وعلى نفسي من هذه الخصال: ولقد قاسيت وعانيت سفرا طويلا وبلايا فعليك بالحسن البصري فإني أرجو أنك تجد عنده لي ولك وللمسلمين فرجا، فأتيت البصرة وطلبت الحسن وقصصت عليه القصة بطولها، فقال رحم الله شهرا قد بلغها النصف من الخبر ولم يبلغهما النصف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال هذا الخبر شغل قلوب أصحابه (وهابوا) أن يسألوه، فأتوا فاطمة وذكروا لها شغل قلوبهم بالخبر، فأتت فاطمة خ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته شغل قلوب أصحابه، فأمر سلمان فنادى الصلاة جامعة، فلما اجتمعوا صعد المنبر فقال: (يا أيها الناس أما إني كنت قلت: ثلاث من كن فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف، ما عنيتكم بها، إنما عنيت بها المنافقين، إنما قولي: إذا حدث كذب فإن المنافقين أتوني وقالوا لي: والله إن إيماننا كإيمانك وتصديق قلوبنا كتصديق قلبك، فأنزل الله عز وجل: " * (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله) *) الآية، وأما قولي: إذا أؤتمن خان: فإن الأمانة الصلاة والدين كله أمانة، قال الله تعالى: " * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم فإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) *) وفيهم قال: " * (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) *) وأما قولي: إذا وعد أخلف، فإن ثعلبة بن حاطب أتاني فقال: إني فقير ولي غنيمات فادع الله أن يبارك فيهن، فدعوت الله فنمت وزادت حتى ضاقت الفجاج بها، فسألته الصدقات فأبى علي وبخل بها، فأنزل الله عز وجل " * (ومنهم من عاهد الله) *) إلى قوله " * (بما أخلفوا الله ما وعدوه) *))
74

فسر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكبروا وتصدقوا بمال عظيم.
وروى القاسم بن بشر عن أسامة عن محمد (المخرمي) قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: (من) إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)
فقال الحسن: يا أبا سعيد والله لئن كان لرجل علي دين فلقيني فتقاضاني وليس عندي فخفت أن يحبسني ويهلكني فوعدته أن أقضيه رأس الهلال فلم أفعل أمنافق أنا؟ هكذا جاء الحديث.
ثم حدث عن عبد الله بن عمرو أن أباه لما حضره الموت قال: زوجوا فلانا فإني وعدته أن أزوجه، لا ألقى الله بثلث النفاق، قال: قلت: يا أبا سعيد ويكون ثلث الرجل منافقا وثلثاه مؤمنا؟ قال: هكذا جاء الحديث.
قال محمد: فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح فأخبرته بالحديث الذي سمعته من الحسن وما الذي قلت له عن المنافق وما قال لي: فقال لي أعجزت أن تقول له: أخبرني عن إخوة يوسف ألم يعدوا أباهم فأخلفوه و حدثوه فكذبوه وائتمنهم فخانوه أفمنافقين كانوا ألم يكونوا أنبياء، أبوهم نبي وجدهم نبي؟
فقلت لعطاء: يا أبا محمد حدثني بأصل هذا الحديث، فقال: حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه، قال: فخرج أبو سفيان من مكة فأتى جبريل فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فأخرجوا إليه واكتموا) فكتب رجل من المنافقين إليه: إن محمدا يريد بعثكم فأنزل الله عز وجل " * (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) *) وأنزل في المنافقين " * (ومنهم من عاهد الله لئن أتانا) *) إلى قوله تعالى: " * (بما كانوا يكذبون) *). قال: إذا أتيت الحسن فاقرأه مني السلام فأخبره أصل هذا الحديث وبما قلت لك.
فقدمت على الحسن وقلت: يا أبا سعيد إن أخاك محمدا يقرئك السلام، فأخبرته بالحديث الذي حدث. فأخذ الحسن يدي فأحالها وقال: يا أهل العراق أعجزتم أن تكونوا مثل هذا، سمع منا حديثا فلم يقبله حتى استنبط أصله، صدق عطاء هكذا الحديث في المنافقين خاصة.
75

2 (* (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم * استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذالك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين * فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله وقالوا لا تنفروا فى الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون * فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزآء بما كانوا يكسبون * فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون * ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها فى الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون * وإذآ أنزلت سورة أن ءامنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين * رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * لاكن الرسول والذين ءامنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولائك لهم الخيرات وأولائك هم المفلحون * أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذالك الفوز العظيم * وجآء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم * ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) *) 2
" * (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) *) قال أهل التفسير: حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف فجئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله، فأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت).
فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى مات وعنده امرأتين يوم مات فبلغ ثمن مالهما مائة وستون ألف درهم لكل واحدة منهما ثمانون ألفا، وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وستين وسقا من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري واسمه الحباب بصاع من تمر وقال: يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير أحبلا حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لأهلي وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات، فلمزهم المنافقون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع أبي عقيل، ولكنه أحب أن يزكي نفسه ليعطي الصدقة فأنزل الله عز وجل: " * (الذين يلمزون) *) أي يعيبون ويغتابون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات.
76

وقال النضر بن شميل: هو الطيب نفسه في الصدقة يعني عبد الرحمن وعاصم.
" * (والذين لا يجدون إلا جهدهم) *) طاقتهم يعني أبا عقيل. قرأ عطاء والأعرج: جهدهم بفتح الجيم، وهما لغتان مثل الجهد والجهيد، والضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة أهل نجد.
وكان الشعبي يفرق بينهما فيقول الجهد: في العمل والجهد في القوة، وقال القتيبي في الجهد: الطاقة والجهد المشقة " * (فيسخرون منهم سخر الله منهم) *) أو جازاهم " * (ولهم عذاب أليم) *).
روى ابن علية عن الحريري عن أبي العليل قال: وقف على الحجر رجل فقال: حدثني أبي أو عمي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (من يصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة). قال: وعلي عمامة لي فنزعت منها لوثا أو لوثين لأتصدق بها ثم أدركني بما يدرك ابن آدم فعصبت بها رأسي، قال: فجاء رجل لا أرى بالبقيع رجلا أقصر قامة ولا أشد سواد ولا أدم منه يقود ناقة لم أر بالبقيع ناقة أحسن ولا أجمل منها. فقال: هي وما في بطنها صدقة يا رسول الله، فألقى إليه بخطامها قال: فلمزه رجل جالس فقال: والله لم يتصدق بها ولهي خير منه. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (بل هو خير منك ومنها)، يقول ذلك مليا فأنزل الله عز وجل هذه الآية ثم قال " * (استغفر لهم) *) يعني لهؤلاء المنافقين " * (أولا تستغفر لهم) *) لفظه (أمر ومعناه) جزاء تقديره: إن استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم " * (لن يغفر الله لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) *) والسبعون عند العرب غاية تستقصا بالسبعة، والأعضاء، والسبعة تتمة عدد الخلق، كالسماوات والأرض والبحار والأقاليم.
ورأيت في بعض التفاسير: إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء صلواتك على (قبر) حمزة لن يغفر الله لهم.
قال الضحاك: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله قد رخص لي فسأزيدن على السبعين لعل الله أن يغفر لهم).
77

فأنزل الله عز وجل: " * (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) *).
وذكر عروة بن الزبير أن هذه الآيات نزلت في عبد الله بن أبي حين قال لأصحابه: لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله، ثم قال: " * (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) *). فأنزل الله تعالى " * (استغفر لهم) *). فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأزيدن على السبعين) فأنزل الله: " * (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) *) فأبى الله أن يغفر لهم " * (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين فرح المخلفون) *) عن غزوة تبوك " * (بمقعدهم) *) بقعودهم " * (خلاف رسول الله) *) قال قطرب والمؤرخ: يعني مخالفة لرسول الله حين سار وأقاموا، وقال أبو عبيدة: يعني بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وأنشد الحرث بن خالد:
عقب الربيع خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصيرا
أي بعدهم، ويدل على هذا التأويل قراءة عمرو بن ميمون: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (وقالوا لا تنفروا في الحر) *) وكانت غزوة تبوك في شدة الحر
" * (قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون) *) يعلمون ذلك، هو في مصحف عبد الله " * (فليضحكوا قليلا) *) في الدنيا " * (وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون) *) قال أبو موسى الأشعري: إن أهل النار ليبكون الدموع في النار حتى لو أجريت السفن من دموعهم لجرت، ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع ولمثل ما هم فيه فليبكي.
وقال ابن عباس: إن أهل النفاق ليبكون في النار عمر الدنيا فلا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال أنس: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا كثيرا " * (فإن رجعك الله) *) رجعك الله من غزوة تبوك " * (إلى طائفة منهم) *) يعني من المخلفين فإنما قال طائفة منهم لأنه ليس كل من تخلف عن تبوك كان منافقا " * (فاستأذنوك) *) في أن يكونوا في غزاة أخرى * (فقل لهم) * * (لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) *) عقوبة لهم على تخلفهم " * (أنكم رضيتم بالقعود أول مرة) *) بمعنى تخلفوا عن غزوة تبوك " * (فاقعدوا مع الخالفين) *) قال ابن عباس: الرجال الذين تخلفوا بغير عذر.
الضحاك: النساء والصبيان والمرضى والزمنى، وقيل: مع الخالفين. قال الفراء: يقال: عبد خالف وتخالف إذ كان مخالفا، وقيل: (ضعفاء) الناس ويقال: خلاف أهله إذ كان ذويهم، وقيل مع أهل الفساد من قولهم: خلف الرجل على أهله يخلف خلوفا إذ فسد، ونبيذ خالف أي فاسد (من قولك): خلف اللبن خلوفا إذا حمض من طول وضعه في السقاء، وخلف فم الصائم إذا تغيرت ريحه، ومنه خلف سوء، وقرأ مالك بن دينار: مع المخالفين.
" * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) *) قال المفسرون بروايات مختلفة: بعث عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أهلكك يهود، فقال: يا رسول الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن بعثت إليك لتستغفر لي وسأله أن
78

يكفنه في قميصه ويصلي عليه، فلما مات عبد الله بن أبي انطلق ابنه إلى النبي (عليه السلام) ودعاه إلى جنازة أبيه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما اسمك؟ قال: الحباب بن عبد الله فقال صلى الله عليه وسلم (أنت عبد الله بن عبد الله، فإن الحباب هو الشيطان). ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام قال له عمر بن الخطاب (ح): يا رسول الله تصلي على عدو الله ابن أبي القائل يوم كذا وكذا، وجعل يعد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى إذا أكثر عليه قال: عني يا عمر إنما خيرني الله فاخترت، قيل لي " * (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) *) هو أعلم فإن زدت على السبعين غفر له؟؟ ثم شهده وكفنه في قميصه ونفث في جنازته ودلاه في قبره.
قال عمر (ح): فعجبت من جرأتي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا حتى نزلت " * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) *) * * (ولا تقم على قبره) *) أي لا تصلي على قبره بمحل لا تتول دفنه: من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره.
" * (إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) *) فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبض، وعير رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه).
قال الزجاج: فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستغفار بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر إلى حذيفة أثني عشر رجلا من المنافقين فقال ستة يكفيهم الله بألف مائة شهاب من نار تأخذ كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره، وستة يموتون موتا. فسأل عمر حذيفة عنهم فقال: ما أنا بمخبرك أحد منهم ما كان حيا. فقال عمر: يا حذيفة أمنهم أنا؟ قال: لا. قال: أفي أصحابي منهم أحد. فقال: رجل واحد. قال: قال: فكأنما دل عليهم عمر حتى نزعه من غير أن يخبره به.
" * (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها) *) الآية " * (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم) *) الغني منهم جد بن قيس ومعتب بن قشير وأمثالهما " * (وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) *) ورحالهم " * (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) *)
79

يعني النساء " * (وطبع على قلوبهم وهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات) *) يعني الحسنات.
وقال المبرد: يعني الجواري الفاضلات. قال الله تعالى: " * (فيهن خيرات حسان) *) واحدها الخيرة وهي الفاضلة من كل شيء. قال الشاعر:
ولقد طعنت مجامع الربلات
ربلات هند خير الملكات
" * (وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم) *) الآية " * (وجاء المعذرون) *) قرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن والضحاك وحميد ويعقوب ومجاهد وقتيبة: المعذرون خفيفة، ومنهم المجتهدون المبالغون في العذرة، وقال الضحاك: هم رهط عامر بن الطفيل تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تبوك خوفا على أنفسهم فقالوا: يا رسول الله إن نحن غزونا معك تغير أعراب طي على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: (قد أنبأني الله من أخباركم وسيغنيني الله عنكم).
قال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الميم لا تدغم في العين، وقرأ مسلمة: المعذرون بتشديد العين والذال ولا وجه لها لأن الميم لا يدغم في العين لبعد مخرجيهما، وقرأ الباقون: بتشديد الذال، وهم المقصرون.
يقال: أعذر في الأمر بالمعذرة وعذر إذا قصر.
وقال الفراء: أصله المعتذر فأدغمت التاء في الذال وقلبت حركة التاء إلى العين.
" * (وقعد الذين كذبوا الله) *) قراءة العامة بتخفيف الذال يعنون المنافقين، وقرأ أبي والحسن: كذبوا الله بالتشديد " * (سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم) *) ثم ذكر أهل العذر فقال " * (ليس على الضعفاء) *) قال ابن عباس: يعني الزمنى والمشايخ والعجزة " * (ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون) *) يعني الفقراء " * (حرج) *) إثم " * (إذا نصحوا الله ورسوله) *) في مغيبهم " * (ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) *))
.
* (ولا على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم قلت لا أجد مآ أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون * إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنيآء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون * يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون
80

إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون * سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزآء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين * الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود مآ أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم * ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دآئرة السوء والله سميع عليم * ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألاإنها قربة لهم سيدخلهم الله فى رحمته إن الله غفور رحيم * والسابقون الاولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا ذالك الفوز العظيم * وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم * وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم * خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم * ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم * وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) *) 2
قال قتادة نزلت في عايد بن عمرو وأصحابه، وقال الضحاك: في عبد الله بن زايد وهو ابن أم مكتوم وكان ضرير البصر فقال: يا نبي الله إني شيخ ضرير البصر خفيف الحال نحيف الجسم وليس لي فائدة هل لي رخصة في التخلف عن الجهاد؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية " * (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) *) نزلت في البكائين وكانوا سبعة: معقل بن يسار وصخر بن خنساء وهو الذي واقع امرأته في رمضان فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر وعبد الله بن كعب الأنصاري وعلبة بن زيد الأنصاري وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن معقل أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إن الله عز وجل قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزوا معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " * (لا أجد ما أحملكم عليه) *) فتولوا وهم يبكون فذلك قوله تعالى: " * (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) *) قال مجاهد: نزلت هذه الآية (في عبد الله وعبد الرحمن وعقيل والنعمان وسويد
81

وسنان) * * (إنما السبيل على الذين يستأذوك) *) الآية " * (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم) *) أن نصدقكم " * (قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله) *) فيما بعد أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه " * (ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) *) من المحسن والمسيء " * (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم) *) انصرفتم " * (إليهم) *) عندهم " * (لتعرضوا عنهم) *) (لتصفحوا عن جرمهم ولا) تردونهم ولا تؤنبونهم " * (فأعرضوا عنهم) *) ودعوهم وما اختاروا لأنفسهم من الشأن والمعصية " * (إنهم رجس) *) نجس، قال عطاء: أن عملهم نجس " * (ومأواهم) *) في الآخرة " * (جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) *) قال ابن عباس: نزلت في جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا قدموا المدينة لا تجالسوهم ولا تكلموهم).
وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي حلف النبي صلى الله عليه وسلم بالذي لا إله إلا هو أن لا يرضى عنهم بعدها، وليكون معه على عدوه وطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فأنزل الله عز وجل هذه الآية " * (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين الأعراب) *) يعني أهل البدو " * (أشد كفرا ونفاقا) *) من أهل الحضر " * (وأجدر) *) أحرى وأولى " * (ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم) *) قال قتادة: هم أقل علما بالسنن.
وروى الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو مع أصحابه وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند فقال الأعرابي: والله ما أدري إن حديثك ليعجبني وإن يدك لترعبني فقال: أي يد من يدي إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله " * (الأعراب أشد كفرا ونفاقا) *) الآية " * (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما) *) قال عطاء: لا يرجو على إعطائه ثوابا ولا يخاف على إمساكه لها إنما ينفق خوفا رياء " * (ويتربص بكم الدوائر) *) يعني صروف الزمان التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر. قال: أن متى ينقلب الزمان عليكم فيموت الرسول ويظهر المشركون " * (عليهم دائرة السوء) *) قرأ ابن كثير وابن محصن ومجاهد وأبو عمرو بضم السين ههنا وفي سورة الفتح، ومعناه الشر والضر والبلاء والمكروه، وقرأ الباقون على الفتح
بالمصدر واختاره أبو عبيد وأبو حاتم في هذه الآية " * (من الأعراب) *) أسد وغطفان وتميم واعراب حاضري المدينة ثم استثنى فقال " * (ومن
82

الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) *) مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة وقال الضحاك: يعني عبد الله ذا النجادين ورهطه.
وقال الكلبي أسلم وغفار بنو جهينة " * (ويتخذ ما ينفق قربات عند الله) *) جمع قرابة " * (وصلوات الرسول) *) يعني دعاءه واستغفاره " * (ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم، والسابقون الأولون من المهاجرين) *) الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم " * (والأنصار) *) الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وأيدوا أصحابه وقد كانوا آمنوا قبل أن يهاجروا إليهم بحولين " * (والذين اتبعوهم بإحسان) *) يعني الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة.
وقال عطاء: هم الذين يذكرون المهاجرين بالوفاء والترحم والدعاء ويذكرون مجاورتهم ويسألون الله أن يجمع بينهم.
وروي أن عمر بن الخطاب (ح) قرأ: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان برفع الواو وحذف الواو من الذين، قال له أبي بن كعب: إنما هو والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وإنه قد كررها مرارا ثلاثة، فقال له: إني والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان، وإنك يومئذ شيخ تسكن ببقيع الغرقد، قال: حفظتم ونسينا وتفرغتم وشغلنا وشهدتم وغبنا ثم قال عمر لأبي: أفيهم الأنصار؟ قال: نعم ولم يستأ من الخطاب ومن ثم قال عمر: قد كنت أظن إنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا فقال أبي: بلى، تصديق ذلك أول سورة الجمعة وأواسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال. قوله: " * (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) *) إلى آخره وقوله تعالى: " * (والذين جاءوا من بعدهم) *) إلى آخر الآية، وقوله: " * (والذين آمنوا من بعده وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) *)، وقرأ الحسن وسلام ويعقوب: " * (والأنصار) *) رفعا عطفا على السابقين ولم يجعلوهم منهم وجعلوا السبق للمهاجرين خاصة والمقاسة على الخبر نسقا على المهاجرين.
واختلف العلماء في السابقين الأولين من هم. فقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين جميعا.
وقال عطاء بن أبي رباح: هم الذين شهدوا بدرا.
وقال الشعبي: هم الذين شهدوا حجة الرضوان.
واختلفوا أيضا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة بنت خويلد مع اتفاقهم أنها أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدقته. فقال بعضهم: أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معه علي بن أبي طالب (ح) وهو قول ابن عباس وجابر وزيد بن أرقم ومحمد بن المنكدر وربيعة الرأي وأبي حازم المدني.
83

وقال الكلبي: أسلم علي وهو ابن تسع سنين، وقال مجاهد وابن إسحاق: أسلم وهو ابن عشر سنين.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: كان نعمة الله على علي ابن أبي طالب (ح) وما صنع الله له وأراد به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله للعباس وكانا من أيسر بني هاشم: (يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ من بنيه رجلا فنكفيهما عنه).
فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب (فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب): إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه فضمه إليه وأخذ العباس جعفرا يضمه إليه فلم يزل علي (ح) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي (ح).
فآمن به وصدقه ولم يزل جعفر مع العباس ذ حتى أسلم واستغنى عنه (48).
وروى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال: كنت أمرءا تاجرا فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقا وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخر الشاب ساجدا فسجدا معه فرفع فرفع الغلام والمرأة فقلت: يا عباس أمر عظيم فقال: أمر عظيم. فقلت: ويحك ما هذا؟ فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء.
قال عبد الله الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه: ليتني كنت رابعا. فيروي أن أبا طالب قال لعلي (ح): أي بني ما هذا الذي أنت عليه قال: آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء وصليت معه لله. فقال له: أما أن محمدا لا يدعو إلا إلى خير فالزمه.
84

وروى عبد الله بن موسى عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله قال: سمعت عليا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كذاب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنين.
وقال بعضهم: أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر (ح) وهو قول إبراهيم النخعي وجماعة يدل عليه ما روى أبو أمامة الباهلي عن عمرو بن عنبسة قال: أتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو نازل بعكاظ، قلت: يا رسول الله من تبعك في هذا الأمر؟ قال صلى الله عليه وسلم (اتبعني رجلان حر وعبد أبو بكر وبلال) فأسلمت عند ذلك، فلقد رأيتي إذ ذاك ربع الإسلام.
قال: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الله البدخشي يقول سمعت أبا هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول: سمعت غياث بن معاذ يقول: سمعت وكيع بن الجراح يقول: عن إسماعيل بن خالد عن الشفهي قال: قال رجل لابن عباس: من أول الناس إسلاما قال: أبو بكر (ح) أما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أزكاها وأعدلها
بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده
وأول الناس منهم صدق الرسلا
قال بعضهم: أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة، وهو قول الزهري وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس، وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي جمع بين الأخبار فيقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر الصديق (ح) أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله. قال: وكان أبو بكر رجلا مؤالفا لقومه محبا سهلا وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان منها من خير أو شر، وكان رجلا (ناجيا) ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يهابونه ويأتونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه فيما بلغني عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله، فجاء بهم إلى رسول الله (ح) حين استجابوا له فأسلموا وصلوا فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الاسلام من المهاجرين.
85

فأما سباق الأنصار فأهل بيعة العقبة الأولى فكانوا سبعة، والثانية كانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد الدار فعلمهم القرآن، فهو أول من جمع الصلاة بالمدينة وكانت الأنصار تحبه فأسلم معه سعد بن معاذ وعمرو بن الجموح وبنو عبد الأشهل كلهم وخلق من النساء والصبيان، وكان مصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ويوم أحد وكان وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حيث انهزم الناس، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفذت المشاقص في جوفه، فاستشهد يومئذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عند الله أحتسبه ما رأيت قط أشرف منه لقد رأيته بمكة وإن عليه بردين ما يدري ما قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب، وإن عن يمينه غلامين وعن يساره غلامين بيد كل واحد منهما (جفنة) من (طعام) يأكل ويطعم الناس، فآثره الله بالشهادة).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا (أهديت إليه طرفة حناها) لمصعب بن عمير فأنزل الله تعالى فيه: " * (وأما من خاف مقام ربه) *) الآية، وأخذ أخوه يوم بدر أسيرا فقال: أنا أبو غدير بن عمير أخو مصعب فلم يشدد من الوثاق مع الأسرى وقالوا: هذا الطريق فاذهب حيث شئت، فقال: إني أخاف أن تقتلني قريش فذهبوا به إلى (...) فيمد يده بالخبز والتمر وكان يمد يده إلى التمر ويدع الخبز، والخبز عند أهل المدينة أعز من التمر، والتمر عند أهل مكة أعز من الخبز فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير وقالوا له: أخوك عندنا وأخبروه بما فعلوا به. فقال: ما هو لي بأخ ولا كرامة، فشدوا وثاقه فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا فأرسلت أمه في طلبه ثم أقبل يوم أحد فلما رأى أخاه مصعب بن عمير. قال في نفسه: والله لا يقتلك غيري فما زال حتى قتله وفيه أنزل الله تعالى: " * (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى) *) ثم جمعهم في الثواب فقال " * (ج ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) *) وقرأ أهل مكة: من تحتها الأنهار (وكذا هو في مصاحفهم) * * (خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) *).
قال الحسن بن الفضل: والفرق بينهما أن قوله " * (تجري من تحتها الأنهار) *) معناه تجري من تحت الأشجار، وقوله: تجري من تحتها أي ينبع الماء من تحتها ثم تجري من تحت الأشجار.
وروي في هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: (أين السابقون؟) قال معاذ: قد مضى ناس فقال: السابقون المستهترون بذكر الله من أراد أن يرتع في رياض الجنة
86

فليكثر ذكر الله تعالى " * (وممن حولكم من الأعراب منافقون) *) نزلت في مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانت منازلهم حول المدينة " * (ومن أهل المدينة) *) فيه اختصار وإضمار تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، أي مرنوا وتربوا عليه يقال: تمرد فلان على ربه ومرد على معصيته أي مرن وثبت عليها واعتادها ومنه: تمريد ومارد وفي المثل: تمرد مارد وعز الإباق، وقال ابن إسحاق: لجوا فيه وأبوا غيره، وقال ابن زيد وابان بن تغلب: أقاموا عليه ولم يتوبوا كما تاب الآخرون، وأنشد الشاعر:
مرد القوم على حيهم
أهل بغي وضلال وأشر
" * (لا تعلمهم) *) أنت يا محمد " * (نحن نعملهم) *) قال قتادة في هذه الآية: ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري أخبرني أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك قال نبي الله نوح (عليه السلام): " * (وما علمي بما كانوا يعملون) *) وقال نبي الله شعيب (عليه السلام): " * (وما أنا عليكم بحفيظ) *) وقال الله لنبيه عليه السلام: " * (لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين) *) واختلفوا في هذين العذابين وروي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال: (أخرج يا فلان فإنك منافق. اخرج يا فلان فإنك منافق).
فأخرج من المسجد ناسا وفضحهم فهذا العذاب الأول، والثاني عذاب القبر.
وقال مجاهد: بالجوع وعذاب القبر، وعنه أيضا: بالجوع والقتل وعنه بالجوع مرتين، وعنه: بالخوف والقتل.
وقال قتادة: عذاب الدنيا وعذاب القبر، وفيه قصة الاثني عشر في حديث حذيفة.
وقال ابن زيد: المرة الأولى المصائب في الأموال والأولاد، والمرة الأخرى في جهنم.
وقال ابن عباس: إن المرة الأولى إقامة الحدود عليهم والثاني عذاب القبر.
قال الحسن: إحدى المرتين أخذ الزكاة من أموالهم والأخرى عذاب القبر، فيقول تفسيره في سورة النحل " * (ثم يردون إلى عذاب عظيم) *).
وقال ابن إسحاق: هو ما يدخل عليهم في الإسلام، ودخولهم من غير حسبة ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ثم العذاب العظيم في الآخرة والخلد فيه.
87

وفي بعض التفاسير: الأولى ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم والأخرى عذاب القبر.
وقيل: تفسيره في سورة النحل " * (زدناهم عذابا فوق العذاب) *).
وقال مقاتل بن حيان: الأول بالسيف يوم بدر والثاني عند الموت.
معمر عن الزهري عن الحسن قال: عذاب النبي وعذاب الله. يعني بعذاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: " * (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) *). قال عطاء: الأمراض في الدنيا والآخرة فإن من مرض من المؤمنين كفر الله سيئاته ومحض ذنوبه فأبدله لحما من لحمه ودما كثيرا من دمه وأعقبه ثوابا عظيما، ومن مرض من المنافقين زاده الله نفاقا وإثما وضعفا كما قال في هذه السورة: " * (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام) *) يريد أنهم يمرضون في كل عام مرة أو مرتين فيردون إلى عذاب عظيم شديد فظيع.
وقال الربيع: بلايا الدنيا وعذاب الآخرة ثم يردون إلى عذاب عظيم عذاب جهنم.
وقال إسماعيل بن زياد: أحد العذابين ضرب الملائكة والوجوه والأدبار، والثاني عند البعث يوكل بهم عتق من النار.
وقال الضحاك: مرة في القبر ومرة في النار، وقيل: المرة الأولى بإحراق مسجدهم مسجد ضرار والثانية بإحراقهم بنار جهنم، وقيل: مرة بإنفاق أموالهم ومرة بقتلهم بالسيف إن أظهروا ما في قلوبهم.
" * (وآخرون) *) يعني ومن أهل المدينة آخرون أو من الأعراب وليس براجع إلى المنافقين " * (اعترفوا) *) أقروا بك وبربهم " * (خلطوا عملا صالحا) *) وهو إقرارهم وتوبتهم " * (وآخر سيئا) *) أي بعمل سيء وضع الواو موضع الياء فكما يقال: استوى الماء والخبث أي بالخبث وخلطت الماء واللبن أي باللبن فالعمل السيء تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم الجهاد " * (عسى الله أن يتوب عليهم) *) وعسى ولعل من الله واجب وهما حرف ترج.
" * (إن الله غفور رحيم) *) نزلت هذه الآية في قوم كانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا عليه وتذمموا، وقالوا: نكون في الكن والظلال مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد والله لنوثقن أنفسنا بالقيود في أيدينا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا أو يعذبنا، وبقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بهم فرآهم فقال: من هؤلاء؟ قالوا: تخلفوا عنك فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم
88

وتعذرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين) فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا) فأنزل الله عز وجل: " * (خذ من أموالهم صدقة) *) الآية.
واختلفوا في أعداد هؤلاء الناس وأسمائهم فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كانوا عشرة رهط منهم أبو لبابة، وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم أبو (منية): منهم هلال وأبو لبابة وكردم ومرداس وأبو قيس، وقال قتادة والضحاك: كانوا سبعة منهم جد بن قيس وأبو لبابة وجدام وأوس، كلهم من الأنصار.
وقال عطية عن ابن عباس: كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة، وقال آخرون: نزلت في أبي لبابة واختلفوا في ذنبه. فقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين قال
لقريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى رقبته، وقد مضت القصة في سورة الأنفال. فندم وتاب فأقر بذنبه فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
قال الزهري: نزلت في تخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فربط نفسه بسارية فقال: والله لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي. فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه فأنزل الله تعالى " * (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) *) الآية فقيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة فقال: والله لا أحل نفسي منها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أبر دار قومي التي أصبت بها الذنب وأن انخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال: (يجزيك يا أبا لبابة الثلث).
قالوا جميعا: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلث أموالهم وترك الاثنين لأن الله عز وجل قال: " * (خذ من أموالهم) *) ولم يقل: أموالهم، فلذلك لم يأخذ كلها.
وقال الحسن وقتادة: هؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلفوا " * (تطهرهم بها) *) من ذنوبهم والقراءة بالرفع حالا لاجوابا، أي خذ من أموالهم صدقة مطهرة ومزكية كقول الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد خير نار عندها خير موقف
89

وقرأ مسلمة بن محارب: تطهرهم وتزكيهم بالجزم على الجواب، وقرأ الحسن: تطهرهم خفيفة من أطهر تطهير " * (وتزكيهم) *) أي تطهرهم، وقيل: تصلحهم، وقيل: ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين، وقيل: هي أموالهم.
" * (وصل عليهم) *) أي استغفر لهم وادع لهم، وقيل: هو قول الوالي إذا أخذ الصدقة: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت، والصلاة في اللغة الدعاء ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجبه فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل) أي فليدع، وقال الأعشى:
وقابلها الريح في دنها
وصلي على دنهاوارتسم
أي دعا لها بالسلامة والبركة.
وقال أيضا:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا
يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
" * (إن صلاتك) *) قرأ أهل الكوفة: صلاتك على الواحد هاهنا وفي سورة هود والمؤمنين بإضماره.
أبو عبيد قال: لأن الصلاة هي من الصلوات، وروى ذلك عن ابن عباس، ألا تسمع الله يقول: " * (أقيموا الصلاة) *) فهذه صلاة الأبد، والصلوات للجمع كقوله: صليت صلوات أربع وخمس صلوات، وقرأ الباقون كلها بالجمع واختاره أبو حاتم، قال: ومن زعم أن الصلوات من الصلاة لأن الجمع بالتاء قليل فقد غلط، لأن الله تعالى قال: " * (ما نفدت كلمات الله) *) * * (وصدقت بكلمات ربها) *) لم يرد القليل.
" * (سكن لهم) *) قال ابن عباس: رحمة لهم، وقال قتادة: وقار لهم، وقال الكلبي: طمأنينة لهم إن الله قد قبل منهم، وقال معاذ: تزكية لهم منك، أبو عبيدة: تثبيت
90

" * (والله سميع عليم) *) شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقاتهم قال: (اللهم صل عليهم)، فأتيته بصدقتي فقال: (اللهم صل على أبي أوفى) قال ابن عباس: ليس هذا صدقة الفرض، إنما هو كصدقة كفارة اليمين، وقال عكرمة: هو صدقة الفرض. فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يذنبوا متخلفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لايكلمون ولايجالسون فما لهم؟ فقال الله عز وجل: " * (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده) *) الآية ومعنى أخذ الصدقات. قبولها.
الشافعي عن سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب قوته ولا يقبل الله (عمله) ولا يصعد إلى السماء إلا طيب إلا كان إنما يضعها في يدي الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى أن (اللقمة) لتأتي يوم القيامة وإنها كمثل الجبل العظيم). ثم قرأ: " * (إن الله هو يقبل التوبة عن عباده) *)، وتصديق ذلك في كتاب الله المنزل " * (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) *) إلى قوله " * (بما كنتم تعملون) *).
وقال مجاهد: هذا وعيد لهم، وفي الخبر: لو أتى عبد الله في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان.
(* (وءاخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم * والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله
ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين * أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به فى نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) *) 2
" * (وآخرون مرجون لأمر الله) *) أي مؤخرون لأمر الله ليقضي فيهم ما هو قاض، وهم الثلاثة الذين خلفوا وربطوا بالسواري أنفسهم ولم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فرفق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم وأمر نساءهم باعتزالهم حتى شقهم القلق وتهتكهم الحزن وضاقت عليهم الأرض برحبها وكانوا من أهل (بدر، فجعل الناس) يقولون: هلكوا إذا لم ينزل لهم عذر، وجعل آخرون يقولون: عسى أن يغفر الله لهم،
91

فصاروا فرحين لأمر الله لا يدرون يعذبون أو يرحمون حتى تاب الله عليهم بعد خمسين ليلة ونزلت " * (وعلى الثلاثة الذي خلفوا) *).
قوله تعالى: " * (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا) *) الآية، قال المفسرون: إن بني عمر بن عوف اتخذوا مسجد قبا وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم فأتاهم فصلى فيهم فحسدهم إخوتهم بنو غنم ابن عوف، وقالوا: نبني مسجدا ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه كما صلى في مسجد إخوتنا وليصلي فيه أبو عامر النعمان الراهب إذا قدم من الشام وكان أبو عامر رجلا منهم وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الذي جئت به؟ قال: (جئت بالحنيفية دين إبراهيم)، قال أبو عامر: فأنا عليها قال النبي صلى الله عليه وسلم (فإنك لست عليها) قال: بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية)، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (آمين)، وسمي العامر الفاسق. فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم يستنصر وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه، وذلك قوله تعالى: " * (وارصادا لمن حارب الله ورسوله) *) فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا وكان الذين بنوه اثنا عشر رجلا: خذام بن خالد ومن داره أخرج المسجد، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو الأرعد، وعباد بن حنيف، وحارثة بن عامر، (وجارية وابناه) مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث. ولحاد بن عثمان، ووديعة ابن ثابت، وكان يصلي بهم مجمع بن يسار، فلما فرغوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يتجهز إلى تبوك، وقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه وتدعو بالبركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني على جناح السفر ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه).
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل (بذي أوان) بلد بينه وبين المدينة ساعة، فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن فأخبره الله عز وجل خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي قاتل حمزة وقال لهم: (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه) فخرجوا سريعا حتى اتوا سالم بن عوف واتوا رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لهم: انتظروا حتى آتي لكم بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجوا ينشدون
92

حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله وامر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والدنس والقمامة، ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا غريبا وفيه يقول كعب بن مالك:
معاذ الله من فعل الخبيث
كسعيك في العشيرة عبد عمرو
فاما قلت بأن لي شرف ونخل
فقدما بعت إيمانا بكفر
قال عكرمة: سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم ماذا أعنت في هذا المسجد فقال: أعنت في سارية فقال عمر: أبشر بها في عنقك في نار جهنم.
ويروى أن بني عمر بن عوف الذين بنوا مسجد قبا سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمهم في مسجدهم فقال: لا ولا نعمة عين أليس هو مسجد الضرار، فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين لا تعجل علي. فوالله لقد صليت فيه واني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولقد علمت ما صليت معهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا ثبوتا قد رغبوا وكانوا لا يعلمون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب منعوا شيئا إلا أنهم يتضرعون إلى الله ولم أعلم ما في أنفسهم.
فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قبا. فهذا قصة مسجد الضرار الذي أنزل الله عز وجل فيه " * (والذين اتخذوا مسجدا) *) قرأه العامة بالواو، وقول أهل المدينة والشام بغير الواو، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام.
قال عطاء: لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم ألا يتخذوا في مدينتهم مسجدين مجاورا أحدهما لصاحبه.
وروى ليث أن شقيقا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا بعد. قال: لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى مسجد ضرار.
" * (وكفرا) *) نفاقا " * (وتفريقا بين المؤمنين) *) يفرقون به جماعتهم لأنهم كانوا يصلون جمعا في مسجد قبا فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم دون مسجد
قبا وبعضهم في مسجد قبا فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا " * (وإرصادا) *) وانتظارا وإعدادا " * (لمن حارب الله ورسوله من قبل) *) وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام ويظهر على رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
93

قرأ الأعمش وإرصادا للذين حاربوا الله " * (وليحلفن إن أردنا) *) ما أردنا " * (إلا الحسنى) *) إلا الفعلة الحسنى وهي للمرضى المسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (والله يشهد انهم لكاذبون) *) في قولهم وحلفهم ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " * (لا تقم فيه أبدا. لمسجد) *) اللام فيه لام الابتداء والقسم تقديره والله لمسجد " * (أسس على التقوى) *) أي بني أصله وابتدئ بناؤه " * (من أول يوم) *) أي من أول يوم بني، وقيل معناه: منذ أول يوم وضع أساسه. قال المبرد: قيل في معنى البيت من حج وامن دهر. أي من هو حج وأمن دهر، وأنشأ زهير:
لمن الديار بقنة الحجر
أقوين من حج، ومن دهر
منذ حج ومنذ دهر. " * (أحق) *) أولى " * (أن تقوم فيه) *) مصليا، واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى ما هو؟ فقال قوم: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه منبره وقبره.
أخبرنا عبد الله بن حامد وأخبرنا العبدي. حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا الجماني، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عثمان بن عبد الله بن أبي رافع عن ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري قالوا: المسجد الذي أسس على التقوى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم). يدل عليه ما روى حميد الخراط عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الرحمن حدثه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه قال: فقلت: يا رسول الله اي المسجد الذي أسس على التقوى؟ فأخذ كفا من الحصى فضرب به الأرض. ثم قال: (هو مسجدكم هذا مسجد المدينة).
وروى أنس بن أبي يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال العوفي: هو مسجد قبا، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: هو هذا، يعني مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
قال ابن يزيد وابن زيد وعروة بن الزبير: هو مسجد قبا، وهي رواية علي بن أبي طلحة وعطية عن ابن عباس.
" * (فيه) *) ومن حضر " * (رجال يحبون أن يتطهروا) *) من الأحداث والنجاسات بالماء، قال الكلبي: هو غسل الأدبار بالماء، وقال عطاء: كانوا يستنجون بالماء لاينامون بالليل على الجنابة.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قبا لما نزلت هذه الآية: (إن الله عز وجل قد أثنى عليكم في الطهور فما هو؟) قالوا: إنا نستنجي بالماء.
94

" * (والله يحب المطهرين) *) اي المتطهرين فأدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما.
قال يزيد بن عجرة: أتت الحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة جارية سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أنت؟) قالت: أم ملدم انشف الدم، وآكل اللحم وأصفر الوجه وأرقق العظم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (فاقصدي الأنصار فإن لهم علينا حقوقا) فحم الأنصار.
فلما كان الغد قال: (ما للأنصار؟) قال: فحموا عن آخرهم. فقال: (قوموا بنا نعودهم) فعادهم وجعل يقول: (أبشروا فإنها كفارة وطهور).
قالوا: يا رسول الله ادعوا الله أن يديمها علينا (أعواما) حتى تكون كفارة لذنوبنا، فأنزل الله تعالى عليهم " * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) *) بالحمى عن معاصيهم " * (والله يحب المطهرين) *) من الذنوب.
" * (أفمن أسس بنيانه) *) اختلف القرآء به فقرأ نافع وأهل الشام: أسس بنيانه بضم الهمزة والنون على غير تسمية الفاعل، وذكر أبو حاتم عن زيد بن ثابت، وقرأ عمارة بن صايد: أسس بالمد وفتح السين والنون في وزن آمن، وكذلك الثانية وآسس وأسس واحد افعل وفعل يتقاربان في التعدية.
وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد السين الأولى على تسمية الفاعل واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
" * (على تقوى من الله) *) وقرأ عيسى بن عمر تقوى من الله منونا " * (ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا) *) أي شفير وقال أبو عبيد: الشفا الحد وتثنيته: الشفوان.
" * (جرف) *) قرأ عاصم وحمزة بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتثقيل وهما لغتان وهو السير إلي لم تطؤ. قال أبو عبيدة: هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية " * (هار) *) أي هائر وهو الساقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرمل والشيء الرخو. يقال هو من المقلوب يقلب ويؤخر ياؤها فيقال هار (ولات) كما يقال شاكي السلاح وشائك السلاح وعاق وعائق، قال الشاعر:
ولم يعقني عن هواها عاق.
وقيل: هو من هار يهار إذا انهدم مثل: خاف يخاف، وهذا مثل لضعف نياتهم وقلة بصيرتهم في علمهم " * (فانهار) *) فانتثر يقال: هار وانهار ويهور بمعنى واحد إذا سقط وانهدم ومنه قيل تهور الليل إذا ذهب أكثره، وفي مصحف أبي: فإنهارت به قواعده " * (في نار جهنم والله لا
95

يهدي القوم الظالمين) *) قال قتادة: والله (ما تنامى) أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت بقعة فيها فرأى الدخان يخرج منه قال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار، وقال خلف بن ياسين الكوفي: حججت مع أبي في زمان بني أمية فرأيت في المدينة مسجد القبلتين يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم بقبا وفيه قبلة بيت المقدس، فلما كان زمان أبي جعفر قالوا: يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة فهدم البناء الذي بني على يدي عبد الصمد بن علي، ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة.
" * (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة) *) شكا ونفاقا " * (في قلوبهم) *) يحسبون أنهم كانوا ببنائه محسنين كما حبب العجل إلى قوم موسى. قال ابن عباس: شكا ونفاقا، وقال الكلبي: حببه وزينه لأنهم زعموا أنهم لا يتبعونه، وقال السدي وحبيب والمبرد: لأن الله هدم بنيانهم الذي بنوا حزازة في قلوبهم " * (إلا أن تقطع قلوبهم) *) تتقطع قلوبهم فيموتوا كقوله تعالى: " * (لقطعنا منهم الوتين) *) لأن الحياة تنقطع بانقطاع القلب.
وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم: إلى أن تقطع، خفيفة على الغاية، يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة، لا يزالون في شك منهم إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا.
واختلف القراء في قوله " * (تقطع) *). قال أبو جعفر وشيبة وابن عامر وحمزة والمفضل وحفص: تقطع بفتح التاء والطاء مشددا، يعني تقطع ثم حذفت إحدى التائين، وقرأ يحيى بن كثير ومجاهد ونافع وعاصم وأبو عمرو والكسائي " * (تقطع) *) بضم التاء وتشديد الطاء على غير تسمية الفاعل وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، وقرأ يعقوب " * (تقطع) *) بضم التاء خفيفة من القطع.
وروي عن ابن كثير (تقطع) بفتح التاء خفيفة " * (قلوبهم) *) نصبا أي تفعل أنت ذلك بهم، وقرأ ابن مسعود والأعمش ولو قطعت قلوبهم.
" * (والله عليم حكيم) *).
2 (* (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذالك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون
96

الراكعون الساجدون الامرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين * ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم * وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) *) 2
" * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) *) قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفسا. قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: (اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم)، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: (الجنة).
وقال الأعمش: الجنة وهي قراءة عمر بن الخطاب (ح) * * (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) *) قال إبراهيم النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل على معنى فيقتل بعضهم ويقتل الباقون، وقرأ الباقون: بتقديم الفاعل على المفعول " * (وعدا) *) نصب على المصدر " * (عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن) *) ثم هنأهم فقال عز من قائل: " * (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) *) قال قتادة: ثامنهم وأغلى ثمنهم، وقال الحسن: أسمعوابيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن، والله ما على وجه الأرض مؤمن إلا دخل في هذه البيعة.
قال: ومر أعرابي بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية قال: كلام من هذا؟ قال: كلام الله. قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو فاستشهد.
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي. قال: أنشدنا أبو الحسن العقيلي. أنشدنا بشر بن موسى الأسدي. أنشدني الأصمعي عن جعفر الصادق (ح).
أثامن بالنفس النفيسة ربها
فليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها تشترى الجنات إن أنا بعتها
بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا أذهبت نفسي بدنيا أصبتها
فقد ذهب الدنيا وقد ذهب الثمن
وكان الصادق يقول: أيا من ليست له قيمة أنه ليس لأبدانكم إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها.
97

وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي. أنشدنا القاضي أبو الربيع محمد بن علي. أنشدنا أبو علي الحسن بن عاصم الكوفي:
من يشتري قبة في العدن عالية
في ظل طوبى رفيعات مبانيها
دلالها المصطفى والله بايعها
فمن أراد وجبريل يناديها
ثم وصفهم فقال " * (التائبون) *) أي هم التائبون، وقرأ ابن مسعود التائبين العابدين بالنصب آخرها، قال المفسرون: تابوا من الشرك وبرأوا من النفاق " * (العابدون) *) المطيعون الذي أخلصوا فيه الشهادة.
وقال الحسن وقتادة: هم قوم اتخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم فعبدوا الله على أحايينهم كلها في السراء والضراء " * (الحامدون) *) الله على كل حال في كل نعمة " * (السائحون) *) الصائمون.
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (السائحون الصائمون) (61).
وروى شيبان بن عبد الرحمن عن الأشعث قال: سألت سعيد بن جبير عن السائحين فقال: هم الصائمون ألم تر أن الله عز وجل إذا ذكر الصائمين لم يذكر السائحين وإذا ذكر السائحين لم يذكر الصائمين.
قال سفيان بن عيينة: أما إن الصائم سائح لأنه تارك اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح.
وقال الشاعر في الصوم:
تراه يصلي ليله ونهاره
يظل كثير الذكر لله سائحا
وقال الحسن: السائحون الذين صاموا عن الحلال وأمسكوا عن الحرام وههنا والله أقوام رأيناهم يصومون عن الحلال ولا يمسكون عن الحرام فالله ساخط عليهم، وقال عطاء: السائحون الغزاة والمجاهدون، وعن عمرو بن نافع. قال: سمعت عكرمة وسئل عن قول الله تعالى: " * (السائحون) *) قال: هم طلبة العلم " * (الراكعون الساجدون) *) يعني المصلين " * (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) *) قال بسام بن عبد الله: المعروف السنة والمنكر البدعة.
" * (والحافظون لحدود الله) *) قال ابن عباس: القائمون على طاعة الله، وقال الحسن: أهل
98

الوفاء ببيعة الله " * (وبشر المؤمنين ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) *) الآية، واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية.
فروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي عم إنك أعظم الناس علي حقا وأحسنهم عندي (قولا) ولأنت أعظم علي حقا من والدي فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي يوم القيامة. قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله).
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء تكلم به: أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأستغفر لك يا عم الله) فنزلت " * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) *) الآية، ونزلت " * (إنك لا تهدي من أحببت) *) الآية.
قال الحسن بن الفضل: وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
وقال عمرو بن دينار: قال النبي صلى الله عليه وسلم استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي. فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب (قال حدثنا محمد بن عبد الوهاب أخبرنا جعفر بن عون) قال: بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه الذي قبض فيه، قالت قريش له: يا أبا طالب أرسل إلى ابن أخيك فيرسل إليك من هذه الجنة فيكون لك شفاء، فخرج الرسول حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر معه جالس فقال زيد: إن عمك يقول لك يا ابن أخي إني كبير وشيخ ضعيف فادعوا إلي من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها شيء يكون لي فيه شفاء
99

فقال أبو بكر: إن الله حرمها على الكافرين. قال: فرجع إليهم الرسول فقال: بلغت محمدا الذي أرسلتموني به فلم يحر إلي شيئا فقال أبو بكر: إن الله حرمها على الكافرين قال: فحملوا أنفسهم عليه حتى أرسل رسولا من عنده فوجد الرسول في مجلسه فقال له مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله حرمهما على الكافرين طعامها وشرابها)، ثم قام في أثره حتى دخل معه البيت فوجده مملوءا رجالا فقال: (خلوا بيني وبين عمي)، فقالوا: ما نحن بفاعلين وما أنت أحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فجلس إليه فقال: (يا عم جزيت عني خيرا كفلتني صغيرا وحفظتني كبيرا فجزيت عني خيرا. يا عماه أعني على نفسك بكلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة، قال: وما هي يا ابن أخي؟
قال: قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له). قال: إنك لي لناصح، والله لولا أن تعير بها بعدي يقال جزع عمك عند الموت لأقررت بها عينك، قال: فصاح القوم: يا أبا طالب أنت رأس الحنيفية ملة الأشياخ لا تحدث نساء قريش أني جزعت عند الموت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا أزال أستغفر لك ربي حتى يردني فاستغفر له بعد ما مات).
فقال المسلمون: ما منعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت هذه الآية.
والدليل على ما قيل أن أبا طالب مات كافرا ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال أخبرنا المزني. قال: حدثنا أحمد بن نجدة حدثنا سعد بن منصور حدثنا أبو الأحوص أخبرنا أبو إسحاق قال: قال علي (عليه السلام) لما مات أبو طالب: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن عمك....... قال: اذهب فادفنه ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني، فانطلقت فواريته ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلي أثر التراب فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها ما على الأرض من شيء.
وقال أبو هريرة وبريدة: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف عليه حتى حميت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت " * (ما كان
للنبي والذين آمنوا) *) الآية، فقام وبكى وبكى من حوله فقال: (إني استأذنت ربي أن أزورها فأذن لي واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت)، فلم نر باكيا أكثر من يومئذ
100

علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كانوا يستغفرون لأمواتهم المشركين فنزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار فنهاهم ولم ينتهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، وقال قتادة: قال رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم ألا نستغفر لهم؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (بلى، وأنا والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه)، فأنزل الله تعالى " * (ما كان للنبي) *) أي ما ينبغي للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين.
وقال أهل المعاني: ما كان في القرآن على وجهين أحدهما بمعنى النفي كقوله تعالى: " * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) *) * * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) *) والأخرى بمعنى النهي كقوله تعالى: " * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) *)، وقوله: " * (ما كان للنبي والذين آمنوا) *) نهي.
" * (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) *) بموتهم على الكفر، وتأول بعضهم الاستغفار في هذه الآية على الصلاة. قال عطاء بن أبي رباح: ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين كقوله: " * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا) *) الآية، ثم عذر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: " * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه) *) الآية.
قال علي بن أبي طالب (ح): أنزل الله قوله تعالى خبرا عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال: " * (سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) *). (قال علي:) سمعت فلانا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت له: أتستغفر لهما مشركان، قال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرويت ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله تعالى: " * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) *) إلى قوله " * (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) *) وقوله: " * (إلا عن موعدة وعدها إياه) *) يعني بعد موعده.
وقال بعضهم: الهاء في إياه عائدة إلى إبراهيم، وذلك إن أباه وعده أن يسلم فعند ذلك
101

قال إبراهيم: " * (سأستغفر لك ربي) *) وقال بعضهم: هي راجعة إلى إبراهيم وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه، وهو قوله: " * (سأستغفر لك ربي) *)، وقوله: " * (لأستغفرن لك) *) الآية، تدل عليه قراءة الحسن: وعدها أباه بالباء.
" * (فلما تبين له أنه عدو لله) *) (بموت أبيه) * * (تبرأ منه) *) وقيل: معناه: فلما تبين له في الآخرة أنه عدو لله، وذلك على ما روى في الأخبار أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم يقول يوم القيامة: رب والدي رب والدي، فإذا كانت الثالثة يريه الله فيقول له إبراهيم: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني ولست بتاركك اليوم لشيء فخذ (بحبري) فتعلق به حتى تريد الجواز على الصراط حتى إذا أراد أن يجاوزه به كانت من إبراهيم (عليه السلام) التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة ضبع، فتخلى عنه وتبرأ منه يومئذ وعلى هذا التأويل يكون معنى الكلام الاستقبال، تقديره: يتبين ويتبرأ " * (إن إبراهيم لأواه) *) اختلفوا في معناه، فروى شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأواه فقال: الخاشع المتضرع، وقال أنس: تكلمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر (ح) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعرض عنها فإنها أواهة) قيل: يا رسول الله وما الأواهة؟ قال: (الخاشعة).
وروى عبد الله بن رباح عن كعب في قول الله تعالى: " * (إن إبراهيم لأواه) *) فقال: كان إذا ذكر النار قال: أوه.
وقال عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير: الأواه الدعاء، وقال الضحاك: هو الجامع الدعاء.
وروى الأعمش عن الحكم عن يحيى بن الجرار قال: جاء أبو العبيدي رجل من سواد وكان ضريرا إلى ابن مسعود قال: يا عبد الرحمن من يسأل إذا لم يسألك، ما الأواه؟ فكأن ابن مسعود رق له فقال: الأواه الرحيم.
وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله، وقال أبو ميسرة: الأواه الرحيم يوم الحشر، عطية عن ابن عباس الأواه المؤمن بالحبشية. علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الأواه المؤمن التواب، مجاهد: الأواه المؤمن (الموقن، وروي عن......) عن ابن عباس وعلي ابن الحكم عن الضحاك، وقال عكرمة: هو المستيقن، بلغة الحبشة، ألا ترى أنك إذا قلت للحبشي الشيء فعرفه قال: أوه، ابن أبي نجيح: المؤتمن. الكلبي: الأواه: المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفرة الموحشة، وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله، وروى الحكم عن الحسن بن مسلم بن (ساق) أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه أواه، وقيل: هو الذي يكثر تلاوة القرآن
102

وقال ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن ميتا فقال: (يرحمك الله إن كنت لأواه)، يعني تلاوة القرآن.
وقيل: هو الذي يجهر صوته بالذكر والدعاء والقرآن ويكثر تلاوته، وكان إبراهيم (عليه السلام) يقول: آه من النار قبل أن لا تنفع آه.
وروى شعبة عن أبي يونس الباهلي عن قاضي كان يجمع الحديث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه، فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعه فإنه أواه). قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح.
وقال النخعي: الأواه: الفقيه، وقال الفراء: هو الذي يتأوه من الذنوب، وقال سعيد بن جبير: الأواه المعلم للخير، وقال عبد العزيز بن يحيى: هو المشفق، وكان أبو بكر (ح) يسمى الأواه لشفقته ورحمته، وقال عطاء: هو الراجع عن كلمة ما يكره الله، وقال أيضا: هو الخائف من النار، وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقا وفرقا
المتضرع يقينا ولزوما للطاعة. قال الزجاج: انتظم قول أبي عبيدة جميع ما قيل: في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوتا من تنفس الصعداء والفعل منه أوه وتأوه، وقال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليل
تأوه آهة الرجل الحزين
قال الراجز:
فأوه الراعي وضوضا كلبه
ولا يقال منه فعل يفعل
" * (حليم) *) عمن سبه وناله بالمكروه وقد قيل أنه (عليه السلام) استغفر لأبيه عند وعده إياه وشتمه، وقوله: " * (لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا) *) فقال له: " * (سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) *) وقال ابن عباس: الحليم السيد.
(* (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم * إن الله له ملك السماوات والارض يحى ويميت وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير * لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة من بعد ما
103

كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين * ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذالك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) *) 2
" * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم) *) يقول: وما كان الله (ليحكم) عليكم بالضلال بعد استغفاركم للمشركين قبل أن يتقدم إليكم بالنهي.
وقال مجاهد: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة، فافعلوا أو ذروا.
وقال مقاتل والكلبي: لما أنزل الله تعالى الفرائض فعمل بها الناس (ثم) نسخها من القرآن وقد غاب (ناس) وهم يعملون للأمر الأول من القبلة والخمر وأشباه ذلك، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى " * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم) *) يعني وما كان الله ليبطل عمل قوم عملوا بالمنسوخ " * (حتى يبين لهم) *) قال الضحاك: ما كان الله ليضل قوما حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون " * (إن الله بكل شيء عليم) *) ثم عظم نفسه فقال: " * (إن الله له ملك السماوات والأرض) *) يعني يحكم فيهما بما يشاء " * (يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير لقد تاب الله على النبي) *) قال ابن عباس: ومن تاب الله عليه لم يعذبه أبدا.
واختلفوا في معنى التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أهل التفسير: بإذنه للمنافقين في التخلف عنهم، وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام ما كان هو صنف توبتهم ذكر معهم كقوله " * (فإن لله خمسه وللرسول) *) ونحوه " * (والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) *) أي في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها. قال جابر: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء.
قال الحسن: كان الناس من المسلمين يخرجون على بعير يعقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه، كذلك كان زادهم التمر المسوس والشعير والأهالة المنتنة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من الماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا (في قيض شديد) ورسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقتهم ويقينهم
104

وقال ابن عباس: قيل لعمر بن الخطاب (ح) ما في شأن العسرة؟ فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلى قيض شديد) فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى قلنا أن رقابنا ستقطع، حتى أن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى أن الرجل سينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق (ح) لرسول الله: إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا، قال: (تحب ذلك)؟ قال: نعم، فرفع يديه ولم يرجع بها حتى أظلت السماء بسحاب ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
" * (من بعد ما كاد يزيغ) *) تميل " * (قلوب فريق منهم) *) لعظم البلاء، وقرأ العامة: تزاغ، بالتاء ودليله قراءة عبد الله قال: (زغيهم)، قراءة حمزة والأعمش والجحدري والعباس بن زيد الثقفي بالياء. قال الأعمش: قرأتها بالياء في نية التأخير وفيه ضمير فاعل " * (ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا) *) يعني تاب على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فلم يخرجوا، وقيل: خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وأرجى أمرهم وقد مضت السنة.
وقرأ عكرمة وحميد: خلفوا بفتح الخاء واللام والتخفيف أي (فدله بعقب) رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عن جعفر بن محمد الصادق (ح) انه قرأ: خالفوا، وقراءة الأعمش: وعلى الثلاثة المخلفين، وهم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كلهم من الأنصار وروى عبيد عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه عبد الله بن كعب وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره. قال: سمعت أن كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك غير بدر ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغيثين لعيرهم فالتقوا من غير موعد كما قال الله عز وجل، ولعمري أن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام، ثم لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد في غزوة غزاها إلى أن كانت غزوة تبوك وأذن الناس بالرحيل وذلك حين طاب الظلال وطابت الثمار، وكان قل ما أراد غزوة إلا (ورى غيرها) وكان يقول: الحرب خدعة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أن يتأهب الناس أهبتها وأنا أيسر ما كنت قد جهزت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي الجهاد وأنا في ذلك أصغو إلى الظلال وطيب الثمار فلم أزل كذلك حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم غاديا بالغداة وذلك يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس فأصبح
105

غاديا فقلت: أنطلق غدا إلى السوق أشتري جهازي ثم ألحق بهم فانطلقت إلى السوق من غد فعسر علي بعض شأني فرجعت فقلت: أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم، فعسر علي بعض شأني أيضا فلم أزل كذلك حتى التبس بي الذنب وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة فيحزنني أني لا أرى أحدا تخلف إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء وكان الناس كثيرا لا يجمعهم ديوان وكان جميع من تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعا وثمانين رجلا ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو بتبوك جالس: (ما فعل كعب بن مالك؟).
فقال رجال من قومي: يا نبي الله خلفه راحلته والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت والله يا نبي الله ما نعلم إلا خيرا، فبينما هم كذلك إذا هم برجل مبيضا يزول به السراب فقال النبي صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة وإذا به أبو خثيمة الأنصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر فلمزه المنافقون، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وقفل إلى المدينة (جعلت بما أخرج) من سخط النبي صلى الله عليه وسلم فأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي حتى إذا قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم (مضى يصلي) بالغداة راح عني الباطل وعرفت أن لا أنجو إلا بالصدق فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وصلى في المسجد ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يحلفون له ويعتذرون إليه فيستغفر لهم فقبل منهم علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى فدخلت المسجد فإذا هو جالس فلما رآني تبسم تبسم المغضب فجئت فجلست بين يديه فقال: (ألم تكن قد ابتعت ظهرك) قلت: بلى يا رسول الله قال: (فما خلفك)؟.
قلت: والله لو كنت بين يدي أجد من الناس غيرك جلست لخرجته من سخطته بعذر ولقد أوتيت جدلا، ولكن قد علمت يا نبي الله أني أن أخبرك اليوم بقول تجد علي فيه وهو حق فإني أرجو فيه عفو الله وإن حدثتك اليوم حديثا ترضى عني فيه وهو كذب أوشك أن يطلعك الله عليه والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذا مني حين تخلفت عنك.
فقال صلى الله عليه وسلم (أما هذا فقد صدقكم الحديث قم حتى يقضي الله فيك).
فقمت فإذا على أثري ناس من قومي فاتبعوني فقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنبا قبل هذا فهلا اعتذرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يرضى عنك فيه وكان استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك كافيك من ذنبك ولم تقف نفسك موقفا ما تدري ماذا يقضي لك به؟ فلم يزالوا يؤنبوني حتى صممت أن أرجع فأكذب نفسي فقلت: هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا: نعم، قالوا: هلال بن أمية الواقفي وأبو مرارة بن ربيعة العامري. فذكروا رجلين صالحين قد شهدوا بدرا لي فيهما أسوة فقلت: والله لا أرجع إليه في هذا أبدا، ولا أكذب نفسي قال: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا (أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه) قال: فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد وتنكر لنا الناس حتى) ما هم بالذين نعرف، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي الحيطان التي نعرف وتنكرت
106

لنا الأرض حتى ما هي الأرض التي نعرف، (وكنت أقوى أصحابي وكنت أخرج فأطوف بالأسواق وآتي المسجد فأدخل فآتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه بالسلام، فإذا قمت فأقبلت فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي بمؤخر عينيه وإذا نظرت إليه، واستكان أعرض عني فإستكانا صاحباي فجعلا يبكيان الليل لا يطلعان نفسيهما فلما طال علي ذلك المسلمين من جفوة حتى تسمرت بظلة حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدران فبينا أطوف في السوق إذا برجل نصراني نبطي من نبط أهل الشام جاء بطعام له يبيعه ويقول: من سيدل على كعب بن مالك. فطفق الناس يشيرون له إلي فأتاني فدفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك (ولست بدار مضيعة ولا هوان) فالحق بنا نواسيك، فقلت: هذا من البلاء والشرف فسجرت التنور فأحرقته فلما مضيت له بغضون ليلة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني فقال: (اعتزل امرأتك) فقلت: أطلقها. قال: (لا ولكن لا تقربها) وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال فقالت: يا نبي الله إن هلال بن أمية شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه قال: (نعم ولكن لا يقربك).
قالت: يا نبي الله والله ما به حركة لشيء ما زال مكبا يبكي الليل والنهار. قد كان من أمره ما كان. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ماذا يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. فلما مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا فصليت على ظهر بيت لما صلى الفجر وجلست وأنا في المنزلة التي قال الله عز وجل: " * (قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) *) وضاقت علينا أنفسنا إذ سمعت نداء من جبل سلع أن أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجدا وعلمت أن الله قد جاء بالفرج ثم جاء رجل يركض على فرس وكان الصوت أسرع من فرسه (فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي، فكسوتها إياه ببشارته واستعرت ثوبين فلبستهما) قال: وكانت توبتنا
نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ثلثي الليل فقالت أم سلمة عشيتئذ: يا نبي الله ألا تبشر كعب بن مالك. قال: إذا يحطمك الناس ويمنعونكم النوم بسائر الليل وكانت أم سلمة محسنة في شأني حزنى بأمري فاستطلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقام إلي طلحة ابن عبيد الله يهرول حتى صافحني وقال: (ليهنك توبة الله عليك)، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره وكان كعب لا ينساها لطلحة
107

قال كعب: فلما سلمت على رسول الله وقلت: يا نبي الله من عند الله أم من عندك؟ قال: (بل من عند الله) ثم تلا عليهم: " * (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين) *) إلى قوله " * (وكونوا مع الصادقين) *) وقلت: يا نبي الله إن من توبتي ألا أحدث الأصدقاء حتى أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال: (أمسك عليك بعض مالك فهو أخير لك)، قلت: فإني أمسك سهمي الذي من خيبر قال: فما أنعم الله علي نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقته أنا وصاحباي أن لا يكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا وأني لأرجو أن لا يكون الله عز وجل أبلا أحدا في الصدق (منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما ابتلاني والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا) وأني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي، هذا ما انتهى الينا من حديث الثلاثة الذين خلفوا.
" * (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) *) المفسرون: أي ضاقت عليهم الأرض برمتها " * (وضاقت عليهم أنفسهم) *) (ضاقت صدورهم بالهم والوحشة) * * (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) *) سمعت الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري وإبراهيم بن محمد بن زيد النيسابوري وعبد الله ختن والي بلد العراق يقول: سئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح قال: أن تضيق علينا بما رحبت ويضيق عليه نفسه كتوبة كعب وصاحبه " * (ثم تاب عليهم) *) إعادة تأكيد ليتوبوا فهذا بالتوبة منه.
سمعت أبا القاسم بن أبي بكر السدوسي، سمعت أبا سعيد أحمد بن محمد بن رميح الزيدي، سمعت الحسن بن علي الدامغاني يقول: قال أبو يزيد: غلطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله سبحانه ظننت أني أحبه فإذا هو أحبني قال الله تعالى: " * (يحبهم ويحبونه) *) فظننت أني أرضى عنه فإذا هو رضي عني قال الله تعالى: " * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) *) وظننت أني أذكره فإذا هو ذكرني قال الله تعالى: " * (ولذكر الله أكبر) *) وشئت أن أتوب فإذا هو تاب علي قال الله تعالى: " * (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) *) * * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *) قال نافع: يعني مع محمد وأصحابه. سعيد بن جبير: مع أبي بكر وعمر، ابن جريح وابن حبان: مع المهاجرين دليله قوله تعالى: " * (للفقراء المهاجرين) *) إلى قوله " * (أولئك هم الصادقون) *).
أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد الله. محمد بن عثمان بن الحسن. محمد بن الحسين
108

ابن صالح. علي بن جعفر بن موسى. جندل بن والق. محمد بن عمر المازني. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية " * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *) قال: مع علي بن أبي طالب وأصحابه.
وأخبرني عبد الله محمد بن عثمان. محمد بن الحسن. علي بن العباس المقانعي. جعفر ابن محمد ابن الحسين. أحمد بن صبيح الأسدي. مفضل بن صالح. عن جابر عن أبي جعفر في قوله تعالى " * (وكونوا مع الصادقين) *) قال: مع آل محمد (صلى الله عليه وسلم).
يمان بن رباب: أصدقوا كما صدق الثلاثة الذين خلفوا.
ابن عباس: مع الذين صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك. بإخلاص ونية.
قتادة: يعني الصدق في النية وقال: أو الصدق في الليل والنهار والسر والعلانية، وكان ابن مسعود يقول: " * (كونوا مع الصادقين) *) وكذا كان يقرأها، وابن عباس (ورضي عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم).
أخبرنا عبد الله بن حامد. عبد الله بن محمد بن الحسين. محمد بن يحيى، وهب بن جرير عن شعيب بن عمرو بن زيد عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئا ثم لا ينجز شيئا اقرأوا إن شئتم الآية " * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *) هل ترون في الكذب (رخصة) * * (ما كان لأهل المدينة) *) ظاهره خبر معناه نهي كقوله تعالى: " * (ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) *) * * (ومن حولهم من الأعراب) *) سكان البوادي مزينة وجهينة وأسجح وأسلم وغفار " * (أن يتخلفوا عن رسول الله) *) إذا غزا " * (ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) *) في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه.
قال الحسن: يعني لا يرغبون بأنفسهم أن تصيبهم من الشدائد مثل ما يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (ذلك بأنهم لا يصيبهم) *) في سفرهم " * (ظمأ) *) عطش، وقرأ عبد بن عمير ظمأ بالمد وهما لغتان مثل خطا وخطأ " * (ولا نصب) *) ولا تعب " * (ولا مخمصة) *) مجاعة " * (في سبيل الله ولا يطئون موطئا) *) أرضا " * (يغيظ الكفار) *) وطيهم إياها " * (ولا ينالون من عدو نيلا) *) ولا يصيبون من عدوهم شيئا قتلا أو أسرا أو غنيمة أو عزيمة يقال: نلت الشيء فهو منيل " * (إلا كتب لهم به عمل صالح) *) قال ابن عباس: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنة " * (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) *) فإن أصابهم ظمأ سقاهم الله من نهر الحيوان ولا يصيبهم ظمأ بعد، وإن أصابهم
109

نصب أعطاهم الله العسل من نهر الحيوان (ولا يصيبهم) فيهم النصب، ومن خرج في سبيل الله لم يضع قدما ولا يدا ولا جنبا ولا أنفا ولا ركبة ساجدا ولا راكعا ولا ماشيا ولا نائما في بقعة من بقاع الله إلا أذن الله له بالشهادة وبالشفاعة.
واختلفوا في حكم هذه الآية، فقال قتادة: وهذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه خلافه إذا لم يكن للمسلمين اليه ضرورة
وحاجة. قال: وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلف سرية يغزو في سبيل الله لكني لا أجد سعة فانطلق بهم معي ويشق علي أن أدعهم بعدي)..
وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وابن جابر وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: انها لأول هذه الأمة وآخرها.
وقال ابن زيد: هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء فقال: " * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) *) الآية " * (ولا ينفقون) *) في سبيل الله " * (نفقة صغيرة ولا كبيرة) *) ولو علاقة سوط " * (ولا يقطعون) *) ولا يتجاوزون " * (واديا) *) في مسيرهم مقبلين أو مدبرين " * (إلا كتب لهم) *) يعني آثارهم وخطاهم " * (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) *) لهم بالثواب ويدخلهم الجنة بغير حساب.
قال ابن عباس: أخبرنا أبو عمر الفراتي بقراءتي عليه أخبرنا أبو موسى أخبرنا مسدد عن هارون ابن عبد الله الجمال أخبرنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسين عن علي ابن أبي طالب وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ومن أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه وأنفق في وجه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم) ثم تلا هذه الآية " * (والله يضاعف لمن يشاء) *).
2 (* (وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون * ياأيها الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين * وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون * أولا يرون أنهم يفتنون فى
110

كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون * وإذا مآ أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون * لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبى الله لاإلاه إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) *) 2
" * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) *) الآية قال ابن عباس في رواية الكلبي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج غازيا لم يتخلف إلا المنافقون والمعذرون فلما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين ومن نفاقهم في غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غزوة بعدها يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن سرية أبدا.
فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرايا إلى الجهاد ونفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة فأنزل الله تعالى: " * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) *) يعني ليس لهم أن يخرجوا جميعا إلى العدو ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده.
" * (فلولا نفر) *) فهلا خرج " * (من كل فرقة) *) قبيلة " * (منهم طائفة) *) جماعة " * (ليتفقهوا في الدين) *) يعني الفرقة القاعدين فإذا رجعت السرايا وقد نزلت بعدهم قوله تعالى: " * (القاعدون) *). قالوا لهم إذا رجعوا: قد أنزل الله على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمنا فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم من بعدهم ويبعث سرايا أخر فذلك ليتفقهوا في الدين " * (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) *) وليعلمونهم الأمر " * (لعلهم يحذرون) *) ولا يعملون خلافه.
وقال الحسن: هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة ومعنى الآية: " * (ليتفقهوا في الدين) *) أي ليتبصروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد فيخبروهم بنصر الله النبي والمؤمنين، ويخبرونهم أنهم لا يدان لهم بقتال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، لعلهم يحذرون قتال النبي صلى الله عليه وسلم فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار.
قال الكلبي: ولها وجه آخر: ذكر أن أحياء من بني أسد بن خزيمة أصابتهم (سنة شديدة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر فقدموا) حتى نزلوا بالمدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مجاهد: في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا
111

وخصبا ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى. قال الناس لهم: ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرج وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: " * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) *) ويستمعوا ما أنزل إليهم " * (ولينذروا قومهم) *) الناس كلهم " * (إذا رجعوا إليهم) *) ويدعوهم إلى الله " * (لعلهم يحذرون) *) بأس الله ونقمته باتباعهم وطاعتهم، وقعدت طائفة تريد المغفرة.
وقال عكرمة: لما نزلت * (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما و) * * (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب) *) الآية قال المنافقون من أهل البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم ليفقهوهم، فأنزل الله تعالى في المعذر لأولئك هذه الآية.
وروى عن عبد الرزاق بن همام في قوله " * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) *) قال: هم أصحاب الحديث.
" * (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) *) أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب.
قال ابن عباس: مثل قريظة والنضير وخيبر وفدك ونحوها.
ابن عمر: أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، والشام كانت أقرب إلى المدينة من العراق.
وكان الحسن إذا سئل عن قتال الروم والديلم تلا هذه الآية.
" * (وليجدوا فيكم غلظة) *) شدة وحمية، وقال الضحاك: جفاء، وقال الحسن: صبرا على جهادهم " * (واعلموا أن الله مع المتقين) *) بالعون والنصر.
" * (وإذا ما أنزلت سورة فمنكم من يقول أيكم) *) قراءة العامة: برفع الياء لمكان الهاء وقرأ عبيد بن عمير: أيكم بفتح الياء وكل صواب " * (زادته هذه إيمانا) *) قال الله تعالى: " * (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) *) يقينا وإخلاصا وتصديقا.
وقال الربيع: خشية " * (وهم يستبشرون) *) يفرحون بنزول القرآن. عن الضحاك عن ابن عباس: (فإذا ما أنزلت سورة) يعني سورة محكمة فيها الحلال والحرام " * (فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا زادتهم إيمانا) *) وتصديقا بالفرائض مع إيمانهم بالرحمن " * (وهم
112

يستبشرون) *) بنزول الفرائض " * (وأما الذين في قلوبهم مرض) *) شك ونفاق " * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) *) كفرا إلى كفرهم وضلالا إلى ضلالهم وشكا إلى شكهم.
وقال مقاتل: إثما إلى أثمهم " * (وماتوا وهم كافرون) *) قال مجاهد في هذه الآية: الإيمان يزيد وينقص، وقال عمر بن الخطاب (ح): لو وزن إيمان أبو بكر (ح) بإيمان أهل الأرض لرجحهم، بلى إن الإيمان ليزيد وينقص، قالها ثلاث مرات.
وروى زيد الشامي عن ذر قال: كان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: تعالوا حتى نزداد إيمانا.
قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب كلما ازداد الإيمان عظما ازداد ملك الناس حتى يبيض القلب كله، وأن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب فكلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد فيسود القلب كله. فأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود.
وكتب الحسن إلى عمر بن الخطاب (ح): إن للإيمان تشاد شرائع وحدود وفرائض من استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.
وقال ابن المبارك عن الحسن: إلا قرابة بزيادة الإيمان أو أرد كتاب الله تعالى.
" * (أو لا يرون) *) قرأ العامة بالياء خبرا عن المنافقين المذكورين، وقرأ حمزة و يعقوب: أو لا ترون بالتاء على خطاب المؤمنين، وهي قراءة أبي بن كعب. قرأ الأعمش: أو لم تر، وقرأ طلحة: أو لا ترى وهي قراءة عبد الله بن عمر " * (أنهم يفتنون) *) يختبرون " * (في كل عام مرة أو مرتين) *) قال: يكذبون كذبة أو كذبتين يصلون فيه، وقال مجاهد: يفتنون بالقحط والغلاء، عطية: بالأمراض والأوجاع وهي روائد الموت.
قتادة: بالغزو والجهاد، وقيل: بالعدو، وقيل: يفتنون فيعرفون مرة وينكرون بأخرى. مرة الهمداني: يفتنون يكفرون. مقاتل بن حيان: يفضحون بإظهار نفاقهم. عكرمة: ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون كما أنهم ينقضون عهدهم في سنة مرة أو مرتين " * (ثم لا يتوبون) *) من نقضهم " * (ولا هم يذكرون) *) (بما صنع الله بهم) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انقضوا عهودهم بعث إليهم السرايا فيقتلونهم. الحسن: يفتنون بالجهاد في سبيل الله مع رسوله ويرون تصديق ما وعده الله من النصر والظفر على من عاداه الله ثم لا يتوبون لما يرون من صدق موعد الله، ولا يتعظون، الضحاك: يفتنون بالغلاء والبلاء ومنع القطر وذهاب الثمار ثم لا يرجعون عن نفاقهم ولا يتفكرون في عظمة الله، وفي قراءة عبد الله: وما يذكرون
113

" * (وإذا ما أنزلت سورة) *) فيها عيب المنافقين وتوبيخهم " * (نظر بعضهم إلى بعض) *) كلام مختصر تقديره نظر بعضهم في بعض وقالوا أو أشاروا " * (هل يراكم من أحد) *) إن قمتم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أحدا يراهم قاموا فانصرفوا " * (ثم انصرفوا) *) عن الإيمان بها، وقال الضحاك: هل يراكم من أحد يعني أطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل قال الله " * (صرف الله قلوبهم) *) عن الإيمان بالقرآن " * (بأنهم قوم لا يفقهون) *) قال ابن عباس: لا تقولوا إذا صليتم: انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، لكن قولوا قضينا الصلاة.
" * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) *) قراءة العامة بضم الفاء أي: من نسبكم تعرفون نسبه وحسبه وأي قبيلة من العرب من بني إسماعيل. قال ابن عباس: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريها وربيعها ويمانيها.
قال الصادق: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.
أخبرنا عبد الله بن حامد، حدثنا حامد بن محمد. علي بن عبد العزيز. محمد بن أبي هاشم حدثني المدني عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية وما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام) فإن الله تعالى جعله من أنفسهم، فلا تحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة.
قرأ ابن عباس وابن ثعلبة: عبد الله بن فسيط المكي وابن محيصن والزهري " * (من أنفسكم) *) بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم من قولك: شيء نفيس إذا كان مرغوبا فيه. قال يمان: من أعلاكم نسبا " * (عزيز) *) شديد " * (عليه ما عنتم) *) ماصلة أي عنتكم وهو دخول المشقة والمضرة عليكم. قال ابن عباس: ما ضللتم. قال الضحاك والكلبي: أثمتم، وقال العتيبي: ما عنتكم وضر بكم، وقال ابن الأنباري: ما هلكتم عليه " * (حريص عليكم) *) أي على إيمانكم وهداكم وصلاحكم، وقال قتادة: حريص على ضالهم أن يهديه الله، وقال الفراء: الحريص الشحيح أن تدخلوا النار.
" * (بالمؤمنين رؤوف) *) رفيق " * (رحيم) *) قيل: رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين رؤوف بعباده رحيم بأوليائه. رؤوف بمن يراه رحيم بمن لم يره.
قال عبد العزيز بن يحيى: نظم الآية: " * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص
114

بالمؤمنين رحيم عليه ما عنتم لا يهمه إلا شأنكم وهو القائم بالشفاعة فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته فإنه لا يرضيه إلا دخولكم الجنة) *) لقوله صلى الله عليه وسلم (من ترك مالا فلنؤتينه ومن ترك كلا ودينا فعلي وإلي).
" * (فإن تولوا) *) أعرضوا عن الإيمان وناصبوك " * (فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) *) قراءة العامة بخفض الميم على العرش، وقرأ ابن محيصن: العظيم بالرفع على نعت الرب، وقال الحسين بن الفضل: لم يجمع اللههلأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال: " * (بالمؤمنين رؤوف رحيم) *) وقال تعالى: " * (ان الله بالناس لرؤوف رحيم) *).
وقال يحيى بن جعدة: قال عمر بن الخطاب (ح): لا تثبت آية في المصحف حتى يشهد عليها رجلان فجاء رجل من الأنصار بالآيتين من آخر سورة التوبة " * (لقد جاءكم) *) فقال عمر: والله لا أسألك عليها بينة، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبتهما، وهي آخر آية نزلت من السماء في قول بعضهم، وآخر سورة كاملة نزلت سورة براءة.
أخبرنا أبو عبد الله بن حامد، عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن حجاج عن همام. عن قتادة قال: إن آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان خاتمة براءة " * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) *) إلى قوله " * (رب العرش العظيم) *).
أبي بن كعب: إن أحدث القرآن عهدا بالله تعالى " * (لقد جاءكم رسول) *) إلى آخر السورة.
115

((سورة يونس))
(عليه السلام)
مكية، وهي عشرة آلاف وثمانمائة وتسع وثمانون حرفا، وألفان وخمسمائة كلمة غير واحدة، ومائة وتسع آيات
حدثنا حامد بن أحمد وسعيد بن محمد، ومحمد بن القاسم. قالوا: أخبرنا محمد بن مطر. إبراهيم بن شريك. أحمد بن يونس. سلام بن سليم. هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر ومن الحسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به، وبعدد من غرق مع فرعون) صدق رسول الله " * (بسم الله الرحمن الرحيم) *))
.
* (الر تلك ءايات الكتاب الحكيم * أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هاذا لساحر مبين * إن ربكم الله الذي خلق السماوات والارض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذالكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون * إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *) 2
" * (الر) *) قرئ بالتفخيم والإمالة وبين اللفظين، وكلها لغات صحيحة فصيحة.
ابن عباس والضحاك: أنا الله أرى، وقيل: أنا الرب لا رب غيري. عكرمة والأعمش والشعبي. الر وحم ون حروف الرحمن مقطعة. فإذا وصلت كان الرحمن. قتادة: اسم من أسماء القرآن. أبو روق: فاتحة السورة، وقيل: عزائم الله، وقيل: هو قسم كأنه قال: والله إن " * (تلك آيات الكتاب) *).
قال مجاهد وقتادة: أراد به التوراة والإنجيل والكتب المقدسة، وتلك إشارة إلى غائب مؤنث.
وقال الآخرون: أراد به القرآن وهو أولى بالصواب لأنه لم يخص الكتب المقدمة قبل ذكره
116

ولأن الحكيم من بعث القرآن، دليله قوله: " * (الر كتاب أحكمت آياته) *) ونحوها فيكون على هذا التأويل تلك يعني هذه وقد مضى القول في هذه المسألة في أول سورة البقرة " * (الحكيم) *) المحكوم بالحلال والحرام والحدود والأحكام.
وقال مقاتل: المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف وهو فعيل بمعنى فاعل كقول الأعمش في قصيدته:
وعزيمة تأتي الملوك حكيمة
قد قلتها ليقال من ذا قالها
وقيل: هو الحاكم فعيل بمعنى فاعل بأنه قرأ: نزل فيهم الكتاب بالحق " * (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) *) وقيل: بمعنى المحكوم فيه فعيل بمعنى المفعول.
قال الحسن: حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه.
وقال عطاء: حكيم بما حكم فيه من الأرزاق والآجال بما شاء.
" * (أكان للناس عجبا) *) الآية، قال ابن عباس: لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت الكفار وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله تعالى: " * (أكان للناس) *) أهل مكة والألف للتوبيخ " * (عجبا) *) * * (أن أوحينا) *) أن في محل الرفع وأوحينا صلة له تقديره أكان للناس عجبا لإيحائنا " * (إلى رجل منهم) *) محمد، وفي حرف عبد الله: عجيب، بالرفع على اسم كان، وأن في محل نصب على خبره " * (أن أنذر الناس) *) أن على محل نصب بقصد
الخافض وكذلك الثانية.
" * (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) *).
قال ابن عباس: أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. قال الضحاك: ثواب صدق. مجاهد: الأعمال الصالحة، علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: سبقت لهم السعادة في الذكر الأول. سلف صدق، زيد بن أسلم: محمد صلى الله عليه وسلم شفيع لهم. يمان: إيمانهم، عطاء: مقام صدق لا زوال فيه ولا بؤس، نعيم مقيم وخلود وخلود لا موت فيه، الحسن: عمل صالح أسلفوه (فأثابهم) عليه، الأعمش: سابقة صدق. أبو حاتم: منزل صدق نظيره " * (وقل رب أدخلني مدخل صدق) *) عبد العزيز بن يحيى: قدم صدق. قوله عز وجل: " * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) *). الزجاج: منزلة رفيعة، وقيل: هو بعثهم وتقديم الله تعالى هذه الأمة في البعث يوم
117

القيامة، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، وقيل: عدة الله تعالى لهم، والقدم: القدم كالنقص والقبض وأضيف القدم إلى الصدق وهو (علة) كما قيل: مسجد الجامع، وحق اليقين.
قال ابن الأعرابي: القدم المتقدم في الشرف.
قال العجاج:
زل بنو العوام عن آل الحكم
وتركوا الملك لملك ذي قدم
أي متقدم.
قال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم. يقال: لفلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق، وقدم سوء، وهو مؤنث يقال: قدم حسنة وقدم صالحة. قال حسان بن ثابت:
لنا القدم العليا إليك وخلفنا
لأولنا في طاعة الله تابع
قال ذو الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس أنها
مع الحسب العادي طمت على البحر
وقال آخر:
قعدت بهم قدم الفجار وذكرت
أنسابهم من فضة من مالق
أي ما يقدم لهم من الفجار.
" * (قال الكافرون ان هذا لساحر مبين) *) قال المفسرون: القرآن، وقرأ أهل الكوفة: لساحر يعني محمد (صلى الله عليه وسلم).
" * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر) *) قال مجاهد: يقضيه وحده " * (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) *) أمره " * (ذلكم الله) *) الذي فعل هذه الأشياء " * (ربكم) *) لا رب لكم سواه " * (فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم) *) معادكم " * (جميعا) *) نصب على الحال " * (وعد الله حقا) *) صدقا لا خلف فيه، وهو نصب على المصدر، أي وعد الله وعدا حقا فجاء به حقا، وقيل: على القطع، وقرأ ابن أبي عبلة: وعد الله حق على الاستئناف، ثم قال: " * (إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده) *) أي يحميهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم، وقرأ العامة: إنه
118

(بكسر الألف على الاستئناف. وقرأ أبو جعفر: أنه، بالفتح على معنى: لأنه وبأنه، كقول الشاعر:
أحقا عباد الله أن لست زائرا
بثينة أو يلقى الثريا رقيبها
" * (ليجزي) *) ليثيب " * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) *) بالعدل ثم قال: مبتدئا " * (والذين كفروا لهم شراب) *) ماء حار قد انتهى حره " * (حميم) *) وهو بمعنى محموم فعيل بمعنى مفعول، وكل مسخن مغلي عند العرب فهو حميم. قال المرقش:
وكل يوم لها مقطرة
فيها كباء معد وحميم
" * (وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *))
.
* (هو الذى جعل الشمس ضيآء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذالك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون * إن فى اختلاف اليل والنهار وما خلق الله فى السماوات والارض لآيات لقوم يتقون * إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحيواة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون * أولائك مأواهم النار بما كانوا يكسبون * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الانهار في جنات النعيم * دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين * ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقآءنا فى طغيانهم يعمهون * وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه كذالك زين للمسرفين ما كانوا يعملون * ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجآءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذالك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف فى الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون) *) 2
" * (هو الذي جعل الشمس ضياء) *) بالنهار " * (والقمر نورا) *) بالليل. قال الكلبي: تضي وجوههما لأهل السماوات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع.
(قرأ الأكثرون: ضياء بهمزة واحدة) وروي عن ابن كثير: ضياء بهمزت الياء، ولا وجه لها
119

لأن ياءه كانت واوا مفتوحة، وهي عين الفعل أصله ضواء فسكنت وجعلت ياء كما جعلت في الصيام والقيام " * (وقدره منازل) *) أي قدر له بمعنى هيأ له وسوى له منازل لا يجاوزها ولا يقصر دونها.
وقيل: جعل قدر مما يتعدى لمفعولين ولم يقل قدرهما، وقد ذكر الشمس والقمر وفيه وجهان: أحدهما أن يكون الهاء للقمر خاصة بالأهلة يعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس، والآخر أن يكون قد اكتفى بذكر أحدهما من الآخر، كما قال: " * (الله ورسوله أحق أن يرضوه) *) وقد مضت هذه المسألة " * (لتعلموا عدد السنين) *) دخولها وانقضائها " * (والحساب) *) يعني وحساب الشهور والأيام والساعات " * (ما خلق الله ذلك) *) مثل ما في الفصل والخلق والتقدير، ولولا (وجود) الأعيان المذكور لقال: تلك " * (إلا بالحق) *) لم يخلقه باطلا بل إظهارا لصنعه ودلالة على قدرته وحكمته، ولتجزى كل نفس بما كسبت فهذا الحق " * (يفصل الآيات) *) يبينها " * (لقوم يعلمون) *).
قال ابن كثير وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: " * (يفصل) *) بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله قبله " * (ما خلق الله) *) وبعده " * (وما خلق الله) *) فيكون متبعا له، وقرأ ابن السميقع بضم الياء وفتح الصاد ورفع التاء من الآيات على مجهول الفعل، وقرأ الباقون بالنون على التعظيم.
" * (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون) *) يوقنون فيعلمون ويقرون.
قال ابن عباس: قال أهل مكة: آتينا بآية حتى نؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
" * (إن الذين لا يرجون لقاءنا) *) يعني لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا، والرجاء يكون بمعنى الهلع والخوف " * (ورضوا بالحياة الدنيا) *) فاختاروها دارا لهم " * (واطمأنوا بها) *) وسكنوا إليها.
قال قتادة في هذه الآية: إذا شئت رأيت صاحب دنيا لها يفرح ولها يحزن ولها يرضى ولها يسخط.
" * (والذين هم عن آياتنا) *) أدلتنا " * (غافلون) *) لا يعتبرون. قال ابن عباس " * (عن آياتنا) *) محمد والقرآن غافلون معرضون تاركون مكذبون " * (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) *) من الكفر والتكذيب " * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم) *) فيه إضمار واختصار أي يهديهم ربهم بإيمانهم إلى مكان " * (تجري من تحتهم الأنهار) *) قال أبو روق: يهديهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة، قال عطية: يهديهم ويثيبهم ويجزيهم، وقيل ينجيهم
120

مجاهد ومقاتل: يهديهم بالنور على الصراط إلى الجنة يجعل لهم نورا يمشون به. قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة (حسنة وبشارة حسنة) فيقول له. من أنت فوالله أني لأراك أمرء صدق؟ فيقول له: أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيقول: من أنت فوالله إني لأراك امرء سوء؟ فيقول: أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار.
وقيل: معنى الآية: بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه أي بتصديقهم هداهم تجري من تحتهم الأنهار لم يرد أنها تجري تحتهم وهم فوقها، لأن أنهار الجنة تجري من غير أخاديد. وإنما معناه أنها تجري من دونهم وبين أيديهم وتحت أمرهم كقوله تعالى: " * (قد جعل ربك تحتك سريا) *) ومعلوم أنه لم يجعل السري تحتها وهي عليه قاعدة وإنما أراد به بين يديها، وكقوله تعالى مخبرا عن فرعون: " * (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) *)، أو من دوني وتحت أمري " * (في جنات النعيم دعواهم) *) قولهم وكلامهم " * (فيها سبحانك اللهم) *).
قال طلحة بن عبد الله سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبحان الله، فقال: هو تنزيه الله من كل سوء، وسأل ابن الكوا عليا عن ذلك فقال: كلمة رضيها الله لنفسه.
قال المفسرون: (هذه نعمة علم بين له وعين الخدام في) الطعام فإذا اشتهوا شيئا من الطعام والشراب قالوا: سبحانك اللهم. فيأتوهم في الوقت بما يشتهون على مائدة، فإذا فرغوا من الطعام والشراب حمدوا الله على ما أعطاهم فذلك قوله تعالى: " * (وآخر دعواهم) *) قولهم " * (أن الحمد لله رب العالمين) *) وما يريد آخر كلام يتكلمون به ولكن أراد ما قبله.
قال الحسن: بلغني بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأ هذه الآية: (إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس). وذلك قوله تعالى: " * (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها) *) في الجنة " * (سلام) *) يحيي بعضهم بعضا بالسلام وتأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام.
قال ابن كيسان: يفتحون كلامهم بالتوحيد ويختمون بالتحميد.
121

وقرأ العامة: " * (أن الحمد لله) *) بالتخفيف والرفع، وقرأ بلال بن أبي بردة وابن محيصن أن مثقلا الحمد نصبا.
" * (ولو يعجل الله للناس الشر) *) فيه اختصار ومعناه: " * (ولو يعجل الله للناس) *) الآية ذهابهم في الشرك استعجالهم بالإجابة في الخير " * (لقضي إليهم أجلهم) *) أي لفرض من هلاكهم ولماتوا جميعا. قال مجاهد: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب: (اللهم أهلكه، اللهم لا تبارك له فيه والعنه) يتخذها الرجل على نفسه وولده وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له.
شهر بن حوشب.
قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول للملكين الموكلين: لا تكتبا على عبدي في حال ضجره شيئا.
وقرأ العامة: لقضي إليهم آجالهم برفع القاف واللام على خبر تسمية الفاعل، وقرأ عوف وعيسى وابن عامر ويعقوب: بفتح القاف واللام، وقرأ الأعمش: لقضينا، وكذلك هو في مصحف عبد الله، وقيل: أنها نزلت في النضر بن الحرث حين قال: " * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) *) الآية يدل عليه قوله تعالى: " * (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) *) لا يخافون البعث والحساب ولا يأملون الثواب " * (في طغيانهم يعمهون وإذا مس) *) أصاب " * (الإنسان الضر) *) الشدة والجهد " * (دعانا لجنبه) *) على جنبه مضطجعا " * (أو قاعدا أو قائما) *) فإنما يريد جميع حالاته لأن الإنسان لا يعدو أحد هذه الخلال " * (فلما كشفنا) *) رفعنا وفرجنا " * (عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) *) أي استمر على طريقته الأولى، قيل: أن يصيبه الضر ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء وترك الشكر والدعاء، قال الأخفش: كأن لم يدعنا وكأن لم يلبثوا وأمثالها، كأن الثقيلة والشديدة كأنه لم يدعنا " * (كذلك) *) أي كما زين لهذا الإنسان الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء كذلك " * (زين للمسرفين) *) الآية زين الجد في الكفر والمعصية " * (ما كانوا يعملون) *) من الكفر والمعصية والإسراف يكون في النفس، وفي قراءة: ضيع نفسه وجعلها عابد وثن وضيع ماله إذ جعله (سائبا بلا خير)، ومعنى الكلام أسرفوا في عبادتهم وأسرفوا في نفقاتهم.
" * (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم) *) يعني الأمم الماضية. قال ابن عباس: بين القرنين ثمان وعشرون سنة.
" * (لما ظلموا) *) أشركوا " * (وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك) *) أي كما أهلكناهم بكفرهم وتكذيبهم رسلهم " * (نجزي) *) نهلك " * (القوم المجرمين) *) المشركين تكذيبهم
122

محمد صلى الله عليه وسلم يخوف كفار مكة عذاب الأمم الخالية المكذبة " * (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم) *) أي من بعد القرون التي أهلكناهم " * (لننظر) *) لنرى " * (كيف تعملون) *) وهو أعلم بهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله استخلفكم فيها فانظر كيف تعملون).
قتادة: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب (ح) قال: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار والسر والعلانية.
وروى ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر: رأيت فيما يرى النائم كأن شيئا دلي من السماء فانتشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعيد فانتشط أبو بكر (ح) ثم ذرع الناس حول المنبر ففصل عمر بثلاثة أذرع إلى المنبر، فقال عمر: دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها، فلما استخلف عمر قال: قل يا عوف رؤياك، قال: هل لك في رؤياي من حاجة؟ أو لم تنهوني؟ فقال: ويحك إني كرهت أن تنعى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه. فقص عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس المنبر بهذه الثلاثة الأذرع. قال: أما إحداهن فأنه كائن خليفة وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم، وأما الثالثة فإنه شهيد، ثم قال: يقول الله تعالى: " * (ثم جعلناكم خلائف في الأرض) *) إلى قوله " * (لننظر كيف تعملون) *) فقد استخلفت يا ابن أم عمر فانظر كيف تعمل، وأما قوله: فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء الله، وأما قوله: إني شهيد فأنى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به، ثم قال: إن الله على ما يشاء لقدير.
(* (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان غير هاذآ أو بدله قل ما يكون لىأن أبدله من تلقآء نفسىإن أتبع إلا ما يوحىإلى إنىأخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم * قل لو شآء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون * فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون * ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم فى السماوات ولا فى الارض سبحانه وتعالى عما يشركون * وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون * ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين) *) 2
" * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا) *) قتادة: يعني مشركي مكة، مقاتل: هم خمسة نفر: عبد الله بن أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن عامر بن هاشم. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم " * (ائت بقرآن) *) ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وليس فيه عنهما أي " * (بدله) *) تكلم به من تلقاء نفسك.
123

وقال الكلبي: نزلت في المستهزئين، قالوا: يا محمد ائت بقرآن غيره (ليس فيه ما يغيظنا، أو بدله) فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة أو آية رحمة آية عذاب أو حرام حلالا أو حلال حراما " * (قل) *) لهم يا محمد " * (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) *) من قبل نفسي ومن عندي " * (إن أتبع) *) ما أطيع فيما آمركم وأنهاكم " * (إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم) *) أعلمكم " * (به) *) وقرأ الحسن: ولا أدراتكم به، وهي لغة بني عقيل يحولون الياء ألفا فيقولون: أعطأت بمعنى أعطيت، ولبأت بمعنى لبيت وجاراة وناصاة للجارية والناصية. فأنشد المفضل:
لقد أذنت أهل اليمامة طي
بحرب كناصاة الأغر المشهر
وقال زيد الخيل:
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقا
على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
أي ما بقي، وقال آخر:
زجرت فقلنا لا نريع لزاجر
إن الغوي إذا نها لم يعتب
أي نهى.
وروى البري عن ابن كثير ولادراكم بالقصر على الإيجاب يريد: ولا عملكم به من غير قراءتي عليكم. وقرأ ابن عباس: ولا أدراتكم من الإنذار، وهي قراءة الحسن " * (فقد لبثت فيكم عمرا) *) حينا وهو أربعون سنة " * (من قبله) *) من قبل نزول القرآن ولم آتكم بشيء " * (أفلا تعقلون) *) انه ليس من قبلي.
قال ابن عباس: نبيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعون سنة وأقام بمكة ثلاثة عشرة وبالمدينة عشرة وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة " * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *) فزعم أنه له شريكا أو صاحبة أو ولدا " * (أو كذب بآياته) *) محمد والقرآن " * (أنه لا يفلح المجرمون) *) لا يأمن ولا ينجو المشركون " * (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم) *) إن عصوه " * (ولا ينفعهم) *) أن أطاعوه يعني الأصنام " * (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون) *) تخبرون " * (الله) *) قرأه العامة: بالتشديد، وقرأ أبو الشمال العدوي: أتنبئون بالتخفيف وهما لغتان. نبأ ينبئ بنية، وأنبأني إنباء بمعنى فاعل جمعها
124

قوله تعالى: * (قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير) * * (بما لا يعلم) *) بما لا يعلم الله تعالى صحته وحقيقته ولا يكون " * (في السماوات ولا في الأرض) *) ومعنى الآية: أتخبرون الله أن له شريكا أو عنده شفيعا بغير إذنه ولا يعلم الله أن له شريكا في السماوات " * (ولا في الأرض) *) لأنه لا شريك له فلذلك لا يعلمه نظيره قوله عز وجل: " * (أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض) *).
ثم نزه نفسه فقال: " * (سبحانه وتعالى عما يشركون) *) قرأ يحيى بن ثابت والأعمش وأبو حمزة والكسائي وخلف: تشركون بالتاء هاهنا وفي سورة النحل والروم، وهو اختيار أبي عبيد للمخاطبة التي قبلها، وقرأ الباقون كلها بالياء، واختارها أبو حاتم، وقال: كذلك تعلمناها.
" * (وما كان الناس إلا أمة واحدة) *) على ملة واحدة الإسلام دين آدم (عليه السلام) إلى أن قتل أحد ابني آدم أخاه فاختلفوا. قاله مجاهد والسدي.
قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا على عهد نوح فبعث الله إليهم نوحا، وقيل: كانوا أمة واحدة مجتمعة على التوحيد يوم الميثاق. وقيل: أهل سفينة نوح، وقال أبو روق: كانوا أمة واحدة على ملة الإسلام زمن نوح (عليه السلام) بعد الغرق، وقال عطاء: كانوا على دين واحد الإسلام من لدن إبراهيم (عليه السلام) إلى أن غيره عمرو بن يحيى، عطاء: يدل على صحة هذه التأويلات قراءة عبد الله: " * (وما كان الناس إلا أمة واحدة على هدى فاختلفوا عنه) *)، وقال الكلبي: وما كان الناس إلا أمة واحدة كافرة على عهد إبراهيم فاختلفوا فتفرقوا، مؤمن وكافر.
" * (ولولا كلمة سبقت من ربك) *) بأن جعل للدنيا مدة لكل أمة أجلا لا تتعدى ذلك، قال أبو روق وقال الكلبي: هي أن الله أخر هذه الأمة ولا يهلكهم بالعذاب في الدنيا، وقيل: هي أنه لا يأخذ إلا بعد إقامة الحجة.
وقال الحسن، ولولا كلمة سبقت من ربك مضت في حكمه أنه لا يقضي فيهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة.
" * (لقضي بينهم) *) في الدنيا فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين في النار بكفرهم ولكنه سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة.
125

وقال أبو روق: لقضي بينهم، لأقام عليهم الساعة، وقيل: الفزع من هلاكهم، وقال عيسى ابن عمر: لقضى بينهم بالفتح لقوله: * (من ربك) * * (فيما فيه يختلفون) *) من الذين " * (ويقولون) *) يعني أهل مكة " * (لولا أنزل عليه) *) أي على محمد " * (آية من ربه فقل) *) لهم يا محمد ما سألتموني الغيب " * (إنما الغيب لله) *) ما يعلم أحدكم بفعل ذلك إلا هو، وقيل: الغيب، نزول الآية متى تنزل نزل " * (فانتظروا) *) نزول الآية " * (إني معكم من المنتظرين) *) لنزولها، وقيل: فانتظروا قضاء الله بيننا بإظهار الحق على الباطل. وقال الحسن: فانتظروا مواعيد الشيطان وكانوا مع إبليس على موعد فيما يعدهم ويمنيهم أني معكم من المنتظرين. فأنجز الله وعده ونصر عبده.
2 (* (وإذآ أذقنا الناس رحمة من بعد ضرآء مستهم إذا لهم مكر فىءاياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون * هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجآءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هاذه لنكونن من الشاكرين * فلمآ أنجاهم إذا هم يبغون فى الارض بغير الحق ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيواة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون * إنما مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السمآء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام حتى إذآ أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلهآ أنهم قادرون عليهآ أتاهآ أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس كذالك نفصل الآيات لقوم يتفكرون * والله يدعوإلى دار السلام ويهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *) 2
" * (وإذا أذقنا الناس) *) يعني الكفار " * (رحمة من بعد ضراء مستهم) *) أي راحة ورخاء بعد شدة وبلاء، وقيل: عنى به القطر بعد القحط " * (إذا لهم مكر في آياتنا) *) قال مجاهد: استهزاء وتكذيب. مقاتل بن حسان: لا يقولون هذا رزق الله فإنما يقولون: سقينا بنوء كذا وهو قوله: " * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) *) * * (قل الله أسرع مكرا) *) أعجل عقوبة وأشد أخذا وأقدر على الجزاء، وقال مقاتل صنيعا. " * (إن رسلنا) *) حفظتنا " * (يكتبون ما تمكرون) *) قرأ العامة بالتاء لقوله، وقراءة الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب: يمكرون بالياء لقوله: " * (إذا لهم) *) وهي رواية هارون عن أبي عمرو.
" * (هو الذي يسيركم في البر والبحر) *) يبحر بكم ويحملكم على التسيير، وقرأ أبو جعفر وابن عامر: ينشركم بالنون من النشر، وهو (البسط) في البر على الظهر وفي البحر على الفلك
126

" * (حتى إذا كنتم في الفلك) *) أي في السفن يكون واحد أو جمعا، وقرأ عيسى الفلك بضم اللام.
" * (وجرين بهم) *) يعني جرت السفن بالناس وهذا خطاب تكوين رجع من الخطاب إلى الخبر " * (بريح طيبة وفرحوا بها) *) أي الريح " * (جاءتها) *) يعني الفلك وهو جواب لقوله حتى إذا جاءتها " * (ريح عاصف) *) شديد يقال: عصفت الريح وأعصفت والريح، مذكر ومؤنث، وقيل: لم يقل: عاصفة لاختصاص الريح بالعصوف، وقيل: للنسب أي ذات عصوف " * (وجاءهم) *) يعني سكان السفينة " * (الموج) *) وهو حركة الماء وأخلاطه " * (من كل مكان وظنوا) *) وأيقنوا " * (أنهم أحيط بهم) *) إذا أحاط بهم الهلاك " * (دعوا الله) *) هنالك " * (مخلصين له الدين) *) للدعاء دون أوثانهم وكان مفزعهم إلى الله دونها.
روى (الثوري) عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيد في قوله تعالى: " * (مخلصين له الدين) *) قال: قالوا في دعائهم: أهيا شراهيا وتفسيره: يا حي يا قيوم " * (لئن أنجيتنا) *) خلصتنا يا ربنا " * (من هذه) *) الريح العاصف " * (لنكونن من الشاكرين) *) لك بالإيمان والطاعة " * (فلما أنجاهم إذا هم يبغون) *) يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله " * (في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم) *) الآن وباله راجع إليها وجزاؤه لاحق، وأتم الكلام هاهنا كقوله تعالى: " * (لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ) *) أي هذا بلاغ وقيل هو كلام متصل، والبغي ابتداء ومتاع خبره، وقوله على أنفسكم صلة المتاع ومعناه " * (إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) *) ولا يصلح لزاد المعاد لأنكم استوجبتم غضب الله.
وقرأ ابن إسحاق وحفص: متاعا بالنصب على الحال " * (ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون إنما مثل الحياة الدنيا) *) في فنائها وزوالها " * (كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس) *) من الحبوب والبقول والثمار " * (والأنعام) *) من الحشيش والمراعي.
" * (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) *) حسنها وبهجتها " * (وأزينت) *) هذا قراءة العامة، وتصديقها قراءة عبد الله بن مسعود: وتزينت، وقرأ أبو عثمان النهدي والضحاك: وأزانت على وزن اجازت قال عوف بن أبي جميلة: كان أشياخنا يقرأونها كذلك وازيانت نحو اسوادت، وقرأ أبو رجاء وأبو العالية والشعبي والحسن والأعرج: وأزينت على وزن أفعلت مقطوعة الألف (بالتخفيف)، قال قطرب: معناه: أتت بالزينة عليها، كقولهم: أحب فأذم واذكرت المرأة فأنثت " * (وظن أهلها أنهم قادرون عليها) *) أخبر عن الأرض ويعني للنبات إذ كان مفهوما وقيل: رده إلى الغلة وقيل: إلى الزينة " * (أتاها أمرنا) *) قضاؤنا بهلاكها " * (ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا) *) مقطوعة
127

مقلوعة وهي محصورة صرفت إلى حصيد " * (كأن لم تغن) *) تكن، وأصلة من غني المكان إذا أقام فيه وعمره، وقال مقاتل: تغم، وقرأها العامة: تغن بالتاء لتأنيث الأرض، وقرأها قتادة بالياء يذهب به إلى الزخرف " * (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون والله يدعوا إلى دار السلام) *) قال قتادة: السلام الله وداره الجنة، وقيل: السلام والسلامة واحد كاللذاذ واللذاذة والرضاع والرضاعة. قال الشاعر:
تحيى بالسلامة أم بكر
وهل لك بعد رهطك من سلام
فسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات. قال الله تعالى: " * (ادخلوها بسلام آمنين) *)، وقال ذو النون المصري: سميت بذلك لأن من دخلها سلم من القطيعة والفراق، وقيل: أراد به التحية يقال: سلم تسليما وسلاما كما يقال: كلم تكليما وكلاما فسميت الجنة دار السلام لأن أهلها يحيي بعضهم بعضا والملائكة يسلمون عليهم، وقال الحسن: السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم.
وقال أبو بكر الوراق: سميت بذلك لأن من دخلها سلم عليه المولى وذلك أن الله يعلم ما فيه أهل الجنة من ذكر الذنوب والهيبة لعلام الغيوب فيبدأهم بالسلام والتحية لهم تقريبا وإيناسا وترحيبا.
قال جابر بن عبد الله خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: (إني رأيت في المنام كأن جبرائيل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا فقال: اسمع سمعت اذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعوهم إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول، من أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها).
قال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه فإن أجبته من دنياك دخلتها وإن أجبته من قبرك منعتها ثم قال: " * (ويهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم) *) عم بالدعوة إظهارا لحجته وخص بالهداية استغناء عن خلقه، وقيل: الدعوة إلى الدار عامة لأنها الطريق إلى النعمة وهداية الصراط خاصة لأنها الطريق إلى المنعم.
128

2 (* (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * والذين كسبوا السيئات جزآء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من اليل مظلما أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركآؤكم فزيلنا بينهم وقال شركآؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون * قل من يرزقكم من السمآء والارض أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون * كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون * قل هل من شركآئكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون * قل هل من شركآئكم من يهدىإلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدىإلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدىإلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون * وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) *) 2
" * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) *) أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف بن يعقوب الفقيه في آخرين قالوا: حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار. الحسين بن عرفة العبدي حدثني سلم بن سالم البلخي عن نوح عن أبي عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) *) فقال: (الذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم).
وهو قول أبي بكر الصديق (ح) وحذيفة وأبي موسى وصهيب وعبادة بن الصامت وكعب ابن عجرة وعامر بن سعد وعبد الرحمن بن سابط والحسن وعكرمة وأبي الجوزاء والضحاك والسدي وعطاء ومقاتل، يدل عليه:
ما أخبرنا أبو إسحاق بن الفضل القهندري أخبرنا أبو علي الصفار. الحسن بن عرفة. يزيد ابن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا لم تروه، قال: فيقولون وما هو؟ ألم تبيض وجوهنا وتزحزحنا عن النار وتدخلنا الجنة. قال: فيكشف الحجاب تبارك وتعالى فينظرون إليه قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم منه.
129

قال ابن عباس: الذين أحسنوا الحسنى يعني الذين شهدوا أن لا إله إلا الله الجنة.
وروى عطية عنه هي أن واحدة من الحسنات واحدة والزيادة التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
وروى جويبر عن الليث عن عبد الرحمن بن سابط قال: الحسنى: النظرة، والزيادة: النظر. قال الله تعالى: " * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) *).
وروى الحكم عن علي بن أبي طالب (ح) قال: الزيادة غرفة من لؤلؤ واحدة لها أربعة ألف باب. مجاهد: الحسنى: حسنة مثل حسنة والزيادة مغفرة من الله ورضوان، ابن زيد: الحسنى: الجنة والزيادة ما أعطاهم في الدعاء لا يحاسبهم به يوم القيامة.
حكى منصور بن عمار عن يزيد بن شجرة قال: الزيادة: هي أن تمر السحابة بأهل الجنة فتمطرهم من كل النوادر، وتقول لهم: ما تريدون ان أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلا مطرتهم. " * (ولا يرهق) *) يغشى ويلحق " * (وجوههم قتر) *) غبار وهو جمع قترة. قال الشاعر:
متوج برداء الملك يتبعه
موج ترى فوقه الرايات والقترا
وقال ابن عباس وقتادة: سواد الوجوه، وقرأ الحسن: قتر بسكون التاء وهما لغتان كالقدر والقدر " * (ولا ذلة) *) هوان، وقال قتادة: كآبة وكسوف. قال ابن أبي ليلى: هذا بعد نظرهم إلى ربهم " * (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها) *) يجوز أن يكون الجزاء مرفوعا بإضمار أي: لهم جزاء، ويجوز أن يكون مرفوعا بالياء، فيجوز أن يكون ابتداء وخبره بمثلها أي: مثلها بزيادة الباء فيها كقولهم: بحسبك قول السوء.
" * (وترهقهم ذلة ما لهم من الله) *) من عذاب الله " * (من عاصم) *) أي من مانع، ومن صلة " * (كأنما أغشيت) *) ألبست " * (وجوههم قطعا) *) أكثر القراء على فتح الطاء وهو جمع قطعة ويكون (مظلما) على هذه القراءة نصبا على الحال والقطع دون النعت كأنه أراد قطع من الليل المظلم فلما حذف الألف واللام نصب. يجوز أن يكون مظلما صفة لقطع وسط الكلام كقول الشاعر:
لو أن مدحة حي منشر أحدا
وقرأ أبو جعفر والكسائي وابن كثير " * (قطعا) *) بإسكان الطاء وتكون " * (مظلما) *) على هذا نعت كقوله: بقطع من الليل، إعتبارا بقراءة أبي: كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم " * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا
130

مكانكم) *) اثبتوا وقفوا في موضعكم ولا تبرحوا " * (أنتم وشركاؤكم) *) يعني الأوثان " * (فزيلنا) *) ميزنا وفرقنا بين المشركين وشركائهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا بذلك حين (اتخذوا) كل معبود من دون الله من خلقه " * (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) *) يقولون بلى كنا نعبدكم فيقول الأصنام: " * (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم) *) أي ما كنا عن عبادتكم إيانا إلا غافلين، ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل. قال الله تعالى: " * (هنالك تبلوا) *) أي تخبر وقيل: تعلم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى وحمزة والكسائي (تبلوا) بالتاء، وهي قراءة ابن مسعود في معنى: وتقرأ.
" * (كل نفس ما أسلفت) *) صحيفتها، وقيل: معناه تتبع ما قدمت من خير وشر، وقال ابن زيد (تعاون) * * (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل) *) (بطل) * * (عنهم ما كانوا يفترون) *) (من الآلهة) * * (قل من يرزقكم من السماء) *) المطر " * (والأرض) *) النبات " * (أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله) *) الذي فعل هذه الأشياء " * (فقل أفلا تتقون) *) أفلا تخافون عقابه في شرككم " * (فذلكم الله) *) الذي يفعل هذه الأشياء " * (ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) *) فمن أين تصرفون عن عبادته وأنتم مقرون " * (كذلك) *) فسرها الكلبي هكذا في جميع القرآن " * (حقت) *) وجبت " * (كلمة ربك) *) حكمه وعلمه السابق.
وقرأ الأعرج: كلمات " * (على الذين فسقوا) *) كفروا " * (أنهم لا يؤمنون قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق) *) ينشئ من غير أصل ولا (مثال) * * (ثم يعيده) *) يحييه بهيئته بعد الموت (أي قل لهم يا محمد ذلك على وجهة التوبيخ والتقرير) فإن أجابوك وإلا " * (قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون) *) تصرفون عن قصد السبيل " * (قل هل من شركائكم) *) أوثانكم " * (من يهدي) *) يرشد " * (إلى الحق) *) فإذا قالوا: لا، فلابد لهم منه " * (قل الله يهدي للحق) *) أي إلى الحق " * (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي) *).
اختلف القراء فيه، فقرأ أهل المدينة: مجزومة الهاء مشددة الدال لأن أصله يهتدي فأدغمت التاء في الدال وتركت الهاء على (السكون) في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله: (تعدوا وتخصمون).
وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الهاء وتشديد الدال وقلبت الياء المدغمة إلى الهاء، فاختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ عاصم وورش بكسر الهاء وتشديد الدال فرارا من التقاء الساكنين. (لأن الجزم إذا اضطر إلى حركته) تحول إلى الكسر. قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر
131

وروى يحيى ابن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الهاء والياء وتشديد الدال (لاتباع) الكسر الكسر وقيل: هو على لغة من يقرأ نعبد ونستعين ولن تمسنا النار ونحوها، وقرأ أبو عمرو بين الفتح والجزم على مذهبه في الإخفاء، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: بجزم الهاء وتخفيف الدال على معنى يهتدي، يقال: هديته فهدى أي اهتدى فقال: خبرته فخبر ونقصته فنقص.
" * (إلا أن يهدى) *) في معنى الآية وجهان: فصرفها قوم إلى الرؤساء والمظلين. أراد لا يرشدون إلا أن يرشدوا وحملها الآخرون على الأصنام، قالوا: وجه الكلام والمعنى لا يمشي إلا أن يحمل وينتقل عن مكانه إلا أن ينقل كقول الشاعر:
للفتى عقل يعيش به
حيث تهدي ساقه قدمه
يريد حيث يحمل " * (فما لكم كيف تحكمون) *) تقضون لأنفسكم " * (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) *) منهم إنها آلهة وأنها تشفع لهم في الآخرة وأراد بالأكثر الكل " * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) *).
2 (* (وما كان هاذا القرءان أن يفترى من دون الله ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين * وإن كذبوك فقل لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا برىء مما تعملون * ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون * إن الله لا يظلم الناس شيئا ولاكن الناس أنفسهم يظلمون * ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله وما كانوا مهتدين * وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون * ولكل أمة رسول فإذا جآء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا إلا ما شآء الله لكل أمة أجل إذا جآء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون * قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآلئن وقد كنتم به تستعجلون * ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون * ويستنبئونك أحق هو قل إى وربىإنه لحق ومآ أنتم بمعجزين) *) 2
132

" * (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) *) قال الفراء: معناه وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله تعالى: " * (وما كان لنبي أن يغل) *) وقوله: " * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) *)، وقال الكسائي: أن في محل نصب الخبر ويفترى صلة له وتقديره: وما كان هذا القرآن مفترى، وقيل: أن بمعنى اللام أي وما كان القرآن ليفترى من دون الله " * (ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب) *) تمييز الحلال من الحرام والحق من الباطل " * (لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون) *) أي يقولون.
قال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه، اختلق محمد القرآن من قبل نفسه.
" * (قل فأتوا بسورة مثله) *) شبيه القرآن وقرأ ابن السميقع: بسورة مثله مضافة، فتحتمل أن تكون الهاء كناية عن القرآن وعن الرسول " * (وادعوا من استطعتم) *) ممن تعبدون " * (من دون الله) *) ليعينوكم على ذلك، وقال ابن كيسان: وادعوا من استطعتم على المخالفة ليعينوكم، وقال مجاهد: شهداءكم بمعنى ناسا يشهدون لكم " * (إن كنتم صادقين) *) إن محمدا افتراه.
ثم قال: " * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) *) يعني القرآن " * (ولما يأتهم تأويله) *) تفسيره.
وقال الضحاك: يعني عاقبته وما وعد الله في القرآن انه كائن من الوعيد والتأويل ما يؤول إليه الأمر.
وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن (من جهل شيئا عاداه؟) فقال: نعم في موضعين " * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) *)، وقوله: " * (وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم) *) * * (كذلك كذب الذين من قبلهم) *) من كفار الأمم الخالية " * (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) *) أي كما كذب هؤلاء المشركون بالقرآن كذلك كذب في هذا وبشر المشركون بالهلاك والعذاب " * (ومنهم من يؤمن به) *) أي ومن قومك من سيؤمن بالقرآن " * (ومنهم من لا يؤمن به) *) لعلم الله السابق فيهم " * (وربك أعلم بالمفسدين) *) الذين لا يؤمنون " * (وإن كذبوك) *) يا محمد " * (فقل لي عملي) *) الإيمان " * (ولكم عملكم) *) الشرك " * (أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) *).
قال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية الجهاد، ثم أخبر أن التوفيق للإيمان به لا بغيره، وأن أحدا لا يؤمن إلا بتوفيقه وهدايته، وذكر أن الكفار يستمعون القرآن وقول محمد صلى الله عليه وسلم فينظرون إليه ويرون أعلامه وأدلته على نبوته ولا ينفعهم ذلك ولا يهتدون لإرادة الله وعلمه فيهم فقال: " * (ومنهم من يستمعون إليك) *) بأسماعهم الظاهرة " * (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون
133

ومنهم من ينظر إليك) *) بأبصارهم الظاهرة " * (أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) *) وهذا تسلية من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول ما لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع، ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصرا يهتدي به فكذلك لا تقدر أن توفقهم للإيمان وقد حكمت عليهم أن لا يؤمنوا " * (أن الله لا يظلم الناس شيئا) *) لأنه في جميع أفعاله عادل.
" * (ولكن الناس أنفسهم يظلمون) *) بالكفر والمعصية وفعلهم ما ليس لهم أن يفعلوا (وألزمهم) ما ليس للفاعل أن يفعله.
" * (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا) *) قال الضحاك: كأن لم يلبثوا في الدنيا " * (إلا ساعة من النهار) *) قصرت الدنيا في أعينهم من هول ما استقبلوا، وقال ابن عباس: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار " * (يتعارفون بينهم) *) حين بعثوا من القبور يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة " * (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين وإما نرينك) *) يا محمد في حياتك " * (بعض الذي نعدهم) *) من العذاب " * (أو نتوفينك) *) قبل ذلك " * (فإلينا مرجعهم) *) في الآخرة " * (ثم الله شهيد على ما يفعلون) *) مجزيهم به.
قال المفسرون: فكان البعض الذي أراه قبلهم ببدر وسائر العذاب بعد موتهم " * (ولكل أمة) *) خلت " * (رسول فإذا جاء رسولهم) *) فكذبوه " * (قضي بينهم بالقسط) *) أي عذبوا في الدنيا واهلكوا بالحق والعدل.
وقال مجاهد ومقاتل: فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضى بينه وبينهم بالقسط " * (وهم لا يظلمون) *) لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقصون من حسناتهم ويزادوا على سيئاتهم " * (ويقولون) *) أي المشركون " * (متى هذا الوعد) *) الذي وعدتنا يا محمد من العذاب.
وقيل: قيام الساعة " * (إن كنتم) *) أنت يا محمد وأتباعك " * (صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا) *) لا أقدر لها على ضر ولا نفع " * (إلا ما شاء الله) *) أن أملكه " * (لكل أمة أجل) *) مدة (وأجل) * * (إذا جاء أجلهم) *) وقت (انتهاء) أعمارهم " * (فلا يستأخرون) *) يتأخرون ساعة " * (ولا يستقدمون قل) *) لهم " * (إن أتاكم عذابه) *) الله " * (بياتا) *) ليلا " * (أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) *) المشركون وقد وقعوا فيه " * (أثم) *) هنالك وحينئذ، وليس بحرف عطف " * (إذا ما وقع) *) نزل العذاب " * (آمنتم به) *) صدقتم بالعذاب في وقت نزوله.
وقيل: بأنه في وقت البأس " * (آلآن) *) فيه إضمار أي، وقيل: أنهم الآن يؤمنون " * (وقد كنتم به تستعجلون) *) وتكذبون " * (ثم قيل للذين ظلموا) *) أشركوا " * (ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون) *) اليوم " * (إلا بما كنتم تكسبون) *) في الدنيا.
2 (* (ولو أن لكل نفس ظلمت ما فى الارض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم
134

بالقسط وهم لا يظلمون * ألاإن لله ما فى السماوات والارض ألا إن وعد الله حق ولاكن أكثرهم لا يعلمون * هو يحى ويميت وإليه ترجعون * ياأيها الناس قد جآءتكم موعظة من ربكم وشفآء لما فى الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون * قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون * وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولاكن أكثرهم لا يشكرون * وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا فى السمآء ولا أصغر من ذالك ولاأكبر إلا فى كتاب مبين) *) 2
" * (ويستنبئونك) *) ويستخبرونك يا محمد " * (أحق هو) *) ما تعدنا من العذاب وقيام الساعة " * (قل إي) *) كلمة تحقيق " * (وربي إنه لحق) *) لا شك فيه " * (وما أنتم بمعجزين) *) فأتيقن " * (ولو أن لكل نفس ظلمت) *) أشركت " * (ما في الأرض لافتدت به) *) يوم القيامة " * (وأسروا) *) وأخفوا " * (الندامة) *) على كفرهم " * (لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط) *) وفرغ من عذابهم " * (وهم لا يظلمون ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق) *) إلى قوله " * (قد جاءتكم موعظة) *) تذكرة " * (من ربكم وشفاء) *) ودواء " * (لما في الصدور) *) إلى قوله تعالى: " * (قل بفضل الله وبرحمته) *).
قال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله.
وقال ابن عمر: فضل الله الإسلام وبرحمته تزيينه في القلب.
خالد بن معدان: فضل الله الإسلام وبرحمته السنة.
الكسائي: فضل الله النعم الظاهرة، ورحمته النعم الباطنة. بيانه: وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة.
أبو بكر الوراق: فضل الله النعماء وهو ما أعطى وجنى ورحمته الآلاء وهي ما صرف.
وروى ابن عيينة فضل الله التوفيق ورحمته العصمة.
سهل بن عبد الله: فضل الله الإسلام ورحمته السنة.
الحسين بن الفضل: فضل الله الإيمان ورحمته الجنة.
ذو النون المصري: فضل الله دخول الجنان ورحمته النجاة من النيران.
عمر بن عثمان الصدفي: فضل الله كشف الغطاء ورحمته الرؤية واللقاء.
وقال هلال بن يساف ومجاهد وقتادة: فضل الله الإيمان ورحمته القرآن " * (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) *) من الأموال قرأ العامة كلاهما بالياء على الخبر، وقرأهما أبو جعفر
135

بالتاء وذكر ذلك عن أبي بن كعب، وقرأ الحسين ويعقوب: فلتفرحوا بالتاء خطابا للمؤمنين يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه (لتأخذوا (مصافكم) ويجمعون) بالياء خبرا عن الكافرين " * (قل) *) يا محمد لكفار مكة " * (أرأيتم ما أنزل الله) *) خلق الله " * (لكم) *) عبر عن الخلق بالإنزال لأن ما في الأرض من خيراتها أنزل من السماء " * (من رزق) *) زرع أو ضرع " * (فجعلتم منه حراما وحلالا) *) وهو ما حرموا من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
قال الضحاك: هو قوله تعالى: " * (وجعلوا مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) *) الآية " * (قل آلله أذن لكم) *) في هذا التحريم والتحليل " * (أم) *) بل " * (على الله تفترون) *) وهو قولهم: الله أمرنا بها " * (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) *) أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم ولا يعاتبهم عليه " * (إن الله لذو فضل على الناس) *) من على الناس حين لا يعجل عليهم بالعذاب بافترائهم " * (ولكن أكثرهم لا يشكرون وما تكون في شأن) *) عمل من الأعمال، وجمعه: شؤون، قال الأخفش: يقول العرب ما شأنك شأنه، أي لما عملت على عمل " * (وما تتلوا منه) *) من الله " * (من القرآن) *) ثم خاطبه وأمته جميعا فقال: " * (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه) *) أي تأخذون وتدخلون فيه، والهاء عائدة على العمل، يقال: أفاض فلان في الحديث وفي القول إذا أبدع فيه.
قال الراعي:
وأفضن بعد كظومهن بجرة
من ذي الأبارق إذ رعين حقيلا
قال ابن عباس: تفيضون تفعلون، الحسن: تعملون، الأخفش: تكلمون، المؤرخ: تكثرون، ابن زيد: تخرصون. ابن كيسان: تنشرون. يقال: حديث مستفيض، وقيل: تسعون.
وقال الضحاك: الهاء عائدة إلى القرآن أي تستمعون في القرآن من الكذب. قيل: من شهد شهود الحق قطعا ذلك عن مشاهدة الأغيار أجمع " * (وما يعزب عن ربك) *) قال ابن عباس: فلا يغيب، أبو روق: يبعد، وقال ابن كيسان يذهب.
وقرأ يحيى والأعمش والكسائي: يعزب بكسر الزاء وقرأ الباقون: بالضم وهما لغتان (صحيحتان) * * (من مثقال) *) من صلة معناه وما يعزب عن ربك مثقال ذرة أو وزن ذرة (وهي النملة الحمراء الصغيرة)، يقول العرب: (خذ) هذا، فإنهما أثقل مثقالا وأخفها مثقالا أي وزنا " * (في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) *) قرأ الحسن وابن أبي يحيى وحمزة برفع
136

الراء فيهما عطفا على موضع المثقال فبرر دخول من، وقرأ الباقون بفتح الراء عطفا على الذرة ولا مثقال أصغر وأكبر " * (إلا في كتاب مبين) *) بمعنى اللوح المحفوظ.
(* (ألاإن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين ءامنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحيواة الدنيا وفى الاخرة لا تبديل لكلمات الله ذالك هو الفوز العظيم * ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم * ألاإن لله من فى السماوات ومن فى الارض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركآء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون * هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذالك لآيات لقوم يسمعون * قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما فى السماوات وما فى الارض إن عندكم من سلطان بهاذآ أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) *) 2
" * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *) ثم وصفهم فقال " * (الذين آمنوا وكانوا يتقون) *) قال ابن زيد: فلن يقبل الإيمان إلا بالتقوى، واختلفوا فيمن يستحق هذا الاسم.
فروى سعيد بن جبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أولياء الله تعالى فقال: (هم الذين يذكر الله لرؤيتهم).
وقال عمر (ح) في هذه الآية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بإيمانهم عند الله تعالى، قالوا: يا رسول الله خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام منهم ولا أموال يتعاطونها، والله ان وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ " * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) *).
قال علي بن أبي طالب (ح): أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر (عمش) العيون من العبر خمص البطون من الخواء يبس الشفاه من الذوي.
137

وقال ابن كيسان: (هم الذين) تولى الله هداهم بالبرهان الذي أتاهم وتولوا القيام بحقه والدعاء إليه. " * (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) *).
عن عبادة بن الصامت قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: " * (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) *). قال: (هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له).
وعن عطاء بن يسار عن أبي الدرداء أنه سئل عن هذه الآية " * (لهم البشرى) *) قال: لقد سألت عن (شيء) ما سمعت أحدا سأل عنه بعد أن سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما سألني عنها أحد قبلك منذ نزل الوحي، هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وفي الآخرة الجنة).
وعن يمان بن عبيد الراسبي قال: حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا نبوة بعدي إلا المبشرات).
قيل: يا رسول الله وما المبشرات؟. قال: (الرؤيا الصالحة).
محمد بن سيرين عن أبي هريرة (ح) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا قال: والرؤيا ثلاثة: فرؤيا بشرى من الله ورؤيا من الشيء يحدث الرجل به نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان، والرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. فإذا رأى أحدكم ما يكره فلا يقصه فليقم وليصل، قال: وأحب القيد في النوم وأكره الغل، القيد ثبات في الدين).
وقال عبادة بن الصامت: قلت: يا رسول الله الرجل يحبه القوم لعمله ولا يعمل مثل عمله.
قال صلى الله عليه وسلم (تلك عاجل بشرى المؤمن).
وقال الزهري وقتادة: هي البشارة التي يبشر بها المؤمن بالدنيا عند الموت، وقال الضحاك: هي أن المؤمن يعلم أين هو قبل أن يموت، وقال الحسن: هي ما بشرهم الله به في كتابه، جنته وكرم ثوابه لقوله تعالى: " * (وبشر الذين آمنوا) *) * * (وبشرالمؤمنين) *) * * (وأبشروا بالجنة) *).
138

وقال عطاء: لهم البشرى في الحياة الدنيا عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة والبشارة من الله وتأتي أعداء الله بالغلظة والفظاظة في الآخرة ساعة خروج نفس المؤمن تعرج بها إلى الله كما تزف العروس تبشر برضوان من الله، قال الله تعالى: " * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) *) الآية قال ابن كيسان: هي ما بشرهم الله في الدنيا بالكتاب والرسول بأنهم أولياء الله وتبشرهم في قبورهم وفي كتابهم الذي فيه أعمالهم بالجنة.
وسمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الجوزقي يقول: رأيت أبا أحمد الحافظ في المنام راكبا برذونا وعليه طيلسان وعمامة فسلمت عليه وسلم علي فقلت له: أيها الحاكم نحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، فعطف علي وقال لي: ونحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، قال الله تعالى: " * (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) *) الثناء الحسن، وأشار بيده " * (لا تبديل لكلمات الله) *) لا تغيير لقوله ولا خلف لوعده.
روى ابن علية عن أيوب عن نافع. قال: أطال الحجاج الخطبة فوضع ابن عمر رأسه في حجري. فقال الحجاج: إن ابن الزبير بدل كتاب الله، فقعد ابن عمر فقال: لا تستطيع أنت ذلك ولا ابن الزبير. " * (لا تبديل لكلمات الله) *). فقال الحجاج: لقد رأيت حلما وسكت (لقد أوتيت علما أن تفعل، قال أيوب: فلما أقبل عليه في خاصة نفسه سكت).
" * (ذلك هو الفوز العظيم ولا يحزنك قولهم) *) يعني قول المشركين، تم الكلام ها هنا.
ثم قال مبتدئا: " * (إن العزة) *) القدرة " * (لله جميعا) *) وهو المنتقم منهم. قال سعيد بن المسيب: أن العزة لله جميعا يعني أن الله يعز من يشاء كما قال في آية أخرى: " * (لله العزة ولرسوله وللمؤمنين) *)، وعزة الرسول والمؤمنين منا لله فهي كلها لله قال الله: * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) * * (هو السميع العليم ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء) *) هو ما الاستفهام يقول وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء يعني أنهم ليسوا على شيء، وقراءة السلمي: يدعون بالتاء أي ما تصنع شركاؤكم في الآخرة " * (إن يتبعون إلا الظن) *) يعني ظنوا أنها تشفع لهم يوم القيامة، ويقربهم إلى الله زلفى " * (وإن هم إلا يخرصون هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا) *) لتهدأوا وتقروا وتستريحوا " * (فيه والنهار مبصرا) *) مضيئا يبصر فيه كقولهم: ليل نائم وسر كاتم وماء دافق وعيشة راضية، وقال جرير
139

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى
ونمت وما ليل المطي بنائم
وقال قطرب: يقول العرب: أظلم الليل وأضاء النهار فأبصر، أي صار ذا ظلة وضياء وبصر.
" * (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) *) المواعظ فيعتبرون " * (قالوا) *) يعني المشركين " * (اتخذ الله ولدا) *) هو قولهم: الملائكة بنات الله " * (سبحانه هو الغني) *) عن خلقهما " * (إن عندكم من سلطان بهذا) *) (ما عندكم من حجة) وبرهان بهذا، إنما سميتموها جهلا بها سلطانا (ولا يمكن) التمسك بها " * (أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) *).
قال الكلبي: لا يؤمنون، وقيل: لا ينجون، وقيل: لا يفوزون، وقيل: لا يبقون في الدنيا ولكن " * (متاع قليل) *) يتمتعون به متاعا وينتفعون به إلى وقت انقضاء أجلهم، ومتاع رفع بإضمار أي لهم متاع، قاله الأخفش، وقال الكسائي: متاع في الدنيا.
" * (ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) *).
2 (* (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركآءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين * فكذبوه فنجيناه ومن معه فى الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين * ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا إن هاذا لسحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جآءكم أسحر هاذا ولا يفلح الساحرون * قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه ءاباءنا وتكون لكما الكبريآء فى الارض وما نحن لكما بمؤمنين * وقال فرعون ائتونى بكل ساحر عليم * فلما جآء السحرة قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون * فلمآ ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون * فمآ ءامن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الارض وإنه لمن المسرفين * وقال موسى ياقوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا
140

ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين * وأوحينآ إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلواة وبشر المؤمنين) *) 2
" * (واتل عليهم) *) اقرأ يا محمد على أهل مكة " * (نبأ) *) خبر " * (نوح إذ قال لقومه) *) ولد وأهل " * (يا قوم إن كان كبر) *) عظم وثقل وشق " * (عليكم مقامي) *) فلو شق مكثي بين أظهركم " * (وتذكيري) *) ووعظي إياكم " * (بآيات الله) *) بحججه وبيناته فعزمتم على قتلي أو طردي " * (فعلى الله توكلت) *) فبالله وثقت " * (فأجمعوا) *) قرأه العامة بقطع الألف وكسر الميم أي فأعدوا وأبرموا وأحكموا " * (أمركم) *) فاعزموا عليه. قال المؤرخ: أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه، وأنشد:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع
هل أغدون يوما وأمري مجمع
وقرأ الأعرج والجحدري موصولة مفتوحة الميم من الجمع اعتبارا بقوله فجمع كيده، وقال أبو معاذ: ويجوز أن يكون بمعنى وأجمعوا أي فأجمعوا واحد يقال: جمعت وأجمعت بمعنى واحد.
قال أبو ذؤيب: (عزم عليه كأنه جمع نفسه له، والأمر مجمع) * * (وشركائكم) *) فيه إضمار أي: وادعوا شركاءكم أي آلهتكم فاستعينوا، وكذلك في مصحف أبي؛ وادعوا شركاءكم، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب: وشركاؤكم رفعا على معنى: فأجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم، أي وليجمع معكم شركاؤكم، واختار أبو عبيد وأبو حاتم النصب لموافقة الكتاب وذلك أنه ليس فيه واو.
" * (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) *) أي خفيا مظلما ملتبسا مبهما من قولهم: غم الهلال على الناس إذا أشكل عليهم فلم يتبينوه، قال طرفة:
لعمرك ما أمري علي بغمة
نهاري وما ليلي علي بسرمد
وقيل: هو من الغم لأن الصدر يضيق فلا يتبين صاحبه لأمره مصدرا ينفرج عنه ما بقلبه، قالت الخنساء:
وذي كربة راخى ابن عمرو خناقه
وغمته عن وجهه فتجلت
" * (ثم اقضوا إلي) *) أي آمنوا إلى ما في أنفسكم أو افرغوا منه، يقال: قضى فلان إذا مات ومضى وقضى منه إذا فرغ منه.
141

وقال الضحاك: يعني انهضوا إلي، وحكى الفراء عن بعض القراء: أفضوا إلي بالفاء، أي توجهوا حتى تصلوا إلي، كما يقال أنصت (الخلائق) إلى فلان وأفضى إلى الوجه " * (ولا تنظرون) *) ولا تؤمرون، وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح (عليه السلام) أنه كان من نصر الله واثقا ومن كيد قومه وبوائقهم غير خائف علما منه بأنهم وآلهتهم لا تنفع ولا تضر شيئا إلا أن يشاء الله، وتعزية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتقوية لقلبه " * (فإن توليتم) *) أعرضتم عن قولي وأبيتم أن
تقبلوا نصحي " * (فما سألتكم) *) على الدعوة وتبليغ الرسالة من أجل جعل وعوض " * (إن أجري) *) ما جزائي وثوابي " * (إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فكذبوه) *) يعني نوحا " * (فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف) *) سكان الأرض خلفا عن الهالكين " * (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) *) يعني (أخزى) من الذين أنذرتهم الرسل ولم يؤمنوا " * (ثم بعثنا من بعده) *) أي من بعد نوح " * (رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات) *) بالآيات والأمر والنهي " * (فما كانوا ليؤمنوا) *) ليصدقوا " * (بما كذبوا) *) بما كذبت " * (به) *) وأنهم " * (من قبل كذلك نطبع) *) نختم " * (على قلوب المعتدين) *) المجاوزين الحلال إلى الحرام " * (ثم بعثنا من بعدهم) *) أي من بعد نوح " * (وهارون إلى فرعون وملئه) *) يعني أفراد قومه " * (بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم) *) يعني فرعون وقومه " * (الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا) *) تقدير الكلام: أتقولون للحق لما جاءكم سحرا سحر هذا الحذف السحر الأول، فدلالة الكلام عليه كقوله: " * (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم) *) المعنى: يغشاكم ليسوؤا وجوهكم.
وقال ذو الرمة:
فلما لبسن الليل أو حين نصبت
له من خذا آذانها وهو جانح
أي: أو حين أقبل " * (ولا يفلح الساحرون قالوا) *) يعني فرعون وقومه " * (أجئتنا لتلفتنا) *) لتلوينا وتصرفنا " * (عما وجدنا عليه آبائنا) *) من الدين " * (وتكون لكما الكبرياء) *) الملك والسلطان " * (في الأرض) *) أرض (مصر) * * (وما نحن لكما بمؤمنين وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر) *) أي الذي جئتم به السحر.
وقراءة مجاهد وأبو عمر وأبو جعفر: السحر بالمد على الاستفهام، ودليل قراءة العامة قراءة ابن مسعود: ما جئتم به السحر وقراءة أبي: ما أتيتم به سحر " * (إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون فما آمن لموسى) *) لم
142

يصدق موسى مهما آتاهم من الحجج " * (إلا ذرية من قومه) *) فقال قوم: هي راجعة إلى موسى وأراد بهم مؤمني بني إسرائيل.
قال ابن عباس: كانوا ستمائة ألف وذلك أن يعقوب (عليه السلام) دخل مصر في اثني وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف.
وقال مجاهد: أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى إلى بني إسرائيل لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء، وقال آخرون: الهاء راجعة إلى فرعون.
روى عطية عن ابن عباس: هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته.
وروي عن ابن عباس من وجه آخر: أنهم سبعون أهل بيت من القبط من آل فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله.
قال الفراء: وإنما سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل، كما يقال لأولاد أهل فارس الذين انتقلوا إلى اليمن الأبناء، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم والذرية العقب من الصغار والكبار " * (على خوف من فرعون وملائهم) *) يريد الكناية في قومه إلى فرعون، رد الكناية في قوله: وملائهم، إلى الذرية، ومن رد الكناية إلى موسى يكون: إلى ملأ فرعون.
قال الفراء: وإنما قال: " * (وملائهم) *) بالجمع وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى أصحابه.
(فيكون من باب حذف المضاف) وذكر وهب بن منبه، (أنه) إليه وإلى عصابته كما يقال: قدم الخليفة تريد والذين معه، ويجوز أن يكون أراد بفرعون آل فرعون (كقوله تعالى): " * (اسأل القرية) *) و * (يا أيها النبي إذا طلقتم) * * (أن يفتنهم) *) بصرفهم عن دينهم، ولم يقل: يفتنوهم؛ لأنه أخبر أن فرعون وقومه كانوا على (الضلال).
" * (وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين) *) (من المجاوزين الحد في العصيان والكفر) لأنه كان قد ادعى الربوبية " * (وقال موسى) *) لمؤمني قومه: * (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) * * (فقالوا على الله توكلنا) *).
ثم دعوا فقالوا: " * (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) *) قال أبو مجلز: (ربنا لا تظهر فرعون وقومه) علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانا. وقال عطية: لا تسلطهم علينا فيسيئون
143

ويقتلون. وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيدي قوم (ظالمين ولا تعذبنا) بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق لما عذبوا، ولا تسلطنا عليهم فيفتتنوا " * (ونجنا برحمتك من القوم الكافرين وأوحينا إلى موسى وأخيه) *) (أمرناهما) * * (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) *) يقال: تبوأ فلان لنفسه بيتا (والمبوأ المنزل ومنه بوأه الله منزلا) إذا اتخذه له.
" * (واجعلوا بيوتكم قبلة) *) قال أكثر المفسرين: كانت بنو إسرائيل لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم، وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت، ومنعهم من الصلاة، فأمروا أن يتخذوا مساجد لهم يصلون فيها خوفا من فرعون، وهذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وهي كذلك، ورواية عكرمة عن ابن عباس.
قال مجاهد وخلف: (قال موسى) لمن معه من قوم فرعون أن صلوا إلى الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة للكعبة فيصلون فيها سرا. ومعنى
البيوت هنا (يكون) المساجد.
وتقدير الآية: واجعلوا بيوتكم إلى القبلة. وهذا رواية ابن جريج عن ابن عباس، قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه. قال سعيد بن جبير: معناه: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا، والقبلة الوجهة.
" * (وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) *) يا محمد.
2 (* (وقال موسى ربنآ إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة وأموالا فى الحيواة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون * وجاوزنا ببني إسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لاإلاه إلا الذىءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين * ءالئن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية وإن كثيرا من الناس عن ءاياتنا لغافلون) *) 2
" * (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة) *) من متاع الدنيا وأثاثها. مقاتل: شارة حسنة، لقوله: " * (فخرج على قومه بزينته) *) * * (وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك) *). اختلفوا في هذه اللام فقال بعضهم هي لام (كي) ومعناه (أعطيتهم لكي يضلوا ويبطروا ويتكبروا) لتفتنهم بها فيضلوا ويضلوا إملاء منك، وهذا كقوله تعالى: " * (فأسقيناهم ماءا غدقا لنفتنهم فيه) *)
144

، وقيل: هي لام العاقبة ولام الصيرورة يعني أعطاهم ليضلوا (......) آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا، وقيل: هي لام أي آتيتهم لأجل ضلالهم عقوبة لهم كقوله: " * (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم) *) أي لأجل إعراضكم عنهم، ولم يحلفوا لتعرض عنهم.
" * (ربنا اطمس على أموالهم) *)، قال عطية ومجاهد: أعفها، فالطمس: المحو والتعفية، وقال أكثر المفسرين: امسخها وغيرها عن هيئتها، قال محمد بن كعب القرضي: جعل سكتهم حجارة، وقال قتادة: بلغنا أن زروعهم صارت حجارة، وقال ابن عباس: إن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافا. قال ابن زيد: صارت حجارة ذهبهم، ودراهمهم وعدسهم وكل شيء، وقال السدي: مسخ الله أموالهم حجارة، النخل والثمار والدقيق والأطعمة، وكانت احدى الآيات التسع.
" * (واشدد على قلوبهم) *) يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.
" * (فلا يؤمنوا) *) قيل: هو نصب جواب الدعاء بالفاء، وقيل: عطف على قوله: (ليضلوا).
قال الفراء: هو دعاء ومحله جزم كأنه: اللهم فلا يؤمنوا وقيل: معناه فلا آمنوا.
" * (قال قد أجيبت دعوتكما) *) (وقرأ علي والسملي: (دعواتكما) بالجمع وقرأ ابن السميقع: قد أجبت دعوتكما) خبرا عن الله تعالى.
كقول الأعشى:
فقلت لصاحبي لا تعجلانا
بنزع أصوله واجتز شيحا
" * (فاستقيما) *) على الرسالة والدعوة، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم عقاب الله.
قال ابن جريج: مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة.
" * (ولا تتبعان) *) نهي بالنون الثقيلة ومحله جزم ويقال في الواحد لا تتبعن، فيفتح النون لالتقاء الساكنين، وتكسر في التثنية لهذه العلة. وقرأ ابن عامر بتخفيف النون لأن نون التوكيد تثقل وتخفف.
" * (سبيل الذين لا يعلمون) *) يعني: ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلان قضائي؛ فإن قضائي ووعدي لا خلف لهما، ووعيدي نازل بفرعون وقومه.
" * (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) *) الآية، وذلك أن الله تعالى أمر موسى (عليه السلام) أن يخرج ببني إسرائيل من مصر و (تبعا) بنو إسرائيل من القبط (فأخرجهم) بعلة عرس لهم وسرى
145

بهم موسى وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا لا يعد فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة، (إلى البحر وقال لكما) القبط تلك الليلة، فتتبعوا بني إسرائيل حتى أصبحوا وهو قوله: " * (فأتبعوهم مشرقين) *) بعدما دفنوا أولادهم، فلما بلغ فرعون ركب (البحر) ومعه ألف ألف وستمائة ألف.
قال محمد بن كعب: كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشهبان، وكان (........) وكان هارون على مقدمة بني إسرائيل وموسى في الساقة، فلما انتهوا إلى البحر وقربت منهم مقدمة فرعون مائة ألف رجل، كل قد غطى أعلى رأسه ببيضة وبيده حربة، وفرعون خلفهم في الدميم، فقالت بنو إسرائيل لموسى: أين ما وعدتنا؟ هذا البحر أمامنا (إن عبرناه) غرقنا وفرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا، ولقد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.
فقال موسى: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون، وقال: كلا إن معي ربي سيهدين، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم ينفلق وقال: أنا أقدم منك وأشد خلقا، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن كنه وقل: انفلق أبا خالد بإذن الله عز وجل، ففعل ذلك فانفلق البحر وصار اثنا عشر
طريقا لكل سبط طريق. وكشف الله عن وجه الأرض فصارت يابسة وارتفع بين كل طريقين جبل.
وكانوا بني عم لا يرى بعضهم بعضا ولا يسمع بعضهم كلام بعض، فقال كل فريق: قد غرق أصحابنا فأوحى الله تعالى إلى الجبال من الماء تشبكي فتشبكت وصارت فيه شبه الخروق فجعل ينظر بعضهم إلى بعض.
فلما وصل فرعون بجنوده إلى البحر ورأوا البحر بتلك الهيئة قال فرعون: هابني البحر، وهابوا دخول البحر، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، فجاء جبرئيل على فرس وديق وخاض البحر وميكائيل يسوقهم، لا يشذ رجل منهم إلا ضمه إليهم.
فلما شم أدهم فرعون ريح فرس جبرئيل، وفرعون لا يراه انسل خلف فرس جبريل ولم يملك فرعون من أمره شيئا واقتضمت الخيول في الماء، فلما دخل آخرهم البحر وهم أولهم أن يخرج انطبق الماء عليهم، فلما أدرك فرعون الغرق: " * (قال آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل) *) فدس جبرئيل في فيه من حمأة البحر، وقال: " * (آلآن وقد عصيت قبل) *).
قال أبو بكر الوراق: قال الله لموسى وهارون: " * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) *) حين لم ينفعه تذكره وخشيته.
146

قال كعب: لما أمسك نيل مصر عن الجري قالت القبط لفرعون: (إن كنت ربنا فأجر لنا الماء)، فركب وأمر جنوده بالركوب وكان مناديه ينادي كل ساعة: ليقف فلان بجنوده قائدا قائدا فجعلوا يقفون على درجاتهم (وقفز) حتى بقي هو وخاصته، فأمرهم بالوقوف حتى بقي في حجابه وخدامه، فأمرهم بالوقوف وتقدم وحده بحيث لا يرونه (ونزل عن دابته) ولبس ثيابا أخر وسجد وتضرع إلى الله، فأجرى الله تعالى له الماء فأتاه جبرئيل وحده في هيئة مستفت وقال: ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سيد له غيره، فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه؟ (فكتب فرعون: جزاؤه أن يغرق في البحر).
فلما أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون ولا يموت أبدا، فأمر الله تعالى بالبحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصير كأنه ثور فتراءاه بنو إسرائيل، فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتا أبدا، فذلك قوله تعالى: " * (وجاوزنا) *) أي قطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جازوه، وقرأ الحسن (وجوزنا، وهما لغتان).
" * (فأتبعهم) *) فأدركهم، يقال: تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه، واتبعه بالتشديد إذا سار خلفه (واقتدى به) * (فرعون وجنوده) * * (بغيا وعدوا) *) ظلما واعتداء، يقال: عدا يعدو عدوا مثل: غزا يغزو غزوا، وقرأ الحسن (عدوا) بضم العين وتشديد الواو مثل: علا يعلو علوا. قال المفسرون: بغيا في القول وعدوا في الفعل.
" * (حتى إذا أدركه الغرق) *) أي أحاط به " * (قال آمنت أنه) *) قرأ حمزة والكسائي وخلف إنه بالكسر أي آمنت وقلت: إنه، وهي قراءة عبد الله. وقرأ الآخرون: أن بالفتح لوقوع آمنت عليها، وهي اختيار أبو عبيد وأبي حاتم.
" * (لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) *) قال جبرئيل " * (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) *).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال لي جبرئيل: ما أبغضت أحدا من عباد الله إلا أنا أبغضت عبدين أحدهما من الجن والآخر من الأنس، فأما من الجن فإبليس حين أبى بالسجود لآدم وأما من الإنس ففرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى، ولو رأيتني يا محمد وأنا أدس الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة).
147

" * (فاليوم ننجيك ببدنك) *) أي نجعلك على نجوة من الأرض وهي النجو: المكان المرتفع، قال أوس بن حجر:
فمن بعقوته كمن بنجوته
والمستكن كمن يمشي بقرواح
" * (ببدنك) *) بجسدك لا روح فيك. وقال مجاهد والكسائي: البدن هاهنا الدرع وكان دارعا. قال الأعشى:
وبيضاء كالنهى موضونة
لها قونس فوق جيب البدى
وقرأ عبد الله: فاليوم ننجيك ببدنك، أي نلقيك على ناحية البحر. وقيل: شعرك.
" * (لتكون لمن خلفك آية) *) عبرة وعظة. وقرأ علي بن أبي طالب (ح): لمن خلقك (بالقاف)، أي تكون آية لخالقك.
" * (وإن كثيرا من الناس) *) قال مقاتل: يعني أهل مكة، قال الحسن: هي عامة.
" * (عن آياتنا) *) عن الإيمان بآياتنا " * (لغافلون) *).
2 (* (ولقد بوأنا بنىإسراءيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جآءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جآءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين * إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جآءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الاليم) *) 2
" * (ولقد بوأنا) *) أنزلنا " * (بني إسرائيل) *) بعد هلاك فرعون " * (مبوأ) *) منزل " * (صدق) *) يعني خير، وقيل الأردن وفلسطين وهي: الأرض المقدسة التي بارك الله فيها لإبراهيم وذريته. الضحاك: هي مصر والشام.
" * (ورزقناهم من الطيبات) *) الحلالات.
" * (فما اختلفوا) *) يعني اليهود الذين كانوا على عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم " * (حتى جاءهم العلم) *) البيان بأن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول صدقا ودينه حق. وقيل: العلم بمعنى المعلوم لقولهم للمخلوق: خلق، وللمقدور: قدر، وهذا (....... فتم طرف الأمر، قال الله.....)، ومعنى الآية
148

فما اختلفوا في محمد حتى جاءهم المعلوم وهو كون محمد صلى الله عليه وسلم نبيا لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه.
" * (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) *) من الدين.
" * (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) *)، الآية، وقد أكثر العلماء في تفسير معنى الآية، قال مقاتل: قالت كفار مكة: إنما ألقى هذا الوحي على لسان محمد شيطان، فأنزل الله تعالى: " * (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) *) يعني القرآن.
" * (فسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك) *) يخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة رسولا نبيا.
وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من الشاكين به، كما ذهب العرب في خطابهم الرجل بالشيء ويريدون به غيره، كقوله تعالى: " * (يا أيها النبي اتق الله) *) كأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به المؤمنون، ويدل عليه قوله تعالى: " * (إن الله كان بما تعملون خبيرا) *) ولم يقل: تعمل.
قال المفسرون: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا بالله بلسانهم، ومنهم كافر مكذب لا يرى إلا أن ما جاء به باطل، أو شاك في الأمر لا يدري كيف هو يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فخاطب الله هذا الصنف من الناس فقال: " * (إن كنت) *) أيها الإنسان " * (في شك مما أنزلنا إليك) *) من الهدى على لسان محمد (صلى الله عليه وسلم).
" * (فسأل) *) الأكابر من علماء أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري وأشباههم فيشهدوا على صدقه، ولم يرد المعاندين منهم.
وقيل: إن بمعنى (ما)، وتقديره: فما كنت في شك مما أنزلنا إليك، فاسألوا يا معاشر الناس أنتم دون النبي. كما قال: " * (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) *) بمعنى وما كان مكرهم.
وقيل: إن الله علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشك ولكنه أراد أن يأخذ الرسول بقوله لا أشك ولا (أماري) إدامة للحجة على الشاكين من قومه كما يقول لعيسى: " * (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) *) وهو يعلم أنه لم يقل ذلك، بدليل قوله: " * (سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) *) إدامة للحجة على النصارى.
وقال الفراء: علم الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير شاك، فقال له: فإن كنت في شك، وهذا كما تقول لغلامك الذي لا تشك في ملكك إياه: إن كنت عبدي فأطعني، أو تقول لابنك: إن كنت ابني فبرني.
149

وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: الشاك في الشيء يضيق به صدرا، فيقال لضيق الصدر شاك، يقول: إن ضقت ذرعا بما تعاين من تعنتهم وأذاهم فاصبر، واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك يخبروك كيف صبر الأنبياء على أذى (قومهم) وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر والتمكين.
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن حبيب سمعت أبا بكر محمد بن محمد بن أحمد القطان في (ذلك:) كان جائزا على الرسول صلى الله عليه وسلم وسوسة الشيطان لأن المجاهدة في ردها يستحق عليها عظيم الثواب والله (............) وكان يضيق صدره من ذلك والله أعلم. وقال الحسين بن الفضل مع (حيث) الشرط لا يثبت الفعل.
والدليل عليه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: (والله لا أشك ولا أسأل).
ثم أفتى (وزودنا) بالكلام فقال: " * (لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله) *) القرآن.
" * (فتكون من الخاسرين) *) (الذين تحبط أعمالهم) * * (إن الذين حقت عليهم كلمت ربك) *) لعنته إياهم (لنفاقهم)، قال ابن عباس: ينزل بك السخط، وقال: إن الله خلق الخلق (فمنهم شقي ومنهم) سعيد، فمن كان سعيدا لا يكفر إلا ريثما يراجع الإيمان ومن كان شقيا لا يؤمن إلا ريثما يراجع الكفر، وإنما العمل (...) وقرأ أهل المدينة: (كلمات) جمعا.
" * (لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية) *) دلالة " * (حتى يروا العذاب الأليم) *) قال الأخفش: أنث فعل (كل) لأنها مضافة إلى مؤنث، ولفظة كل للمذكر والمؤنث سواء.
(* (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس لمآ ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ومتعناهم إلى حين * ولو شآء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين * وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون * قل انظروا ماذا فى السماوات والارض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون *
150

فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إنى معكم من المنتظرين * ثم ننجى رسلنا والذين ءامنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) *) 2
" * (فلولا) *) أي فهلا، وكذلك هي في حرف عبد الله وأبي، قال الشاعر:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم
(بني ضوطري) لولا الكمي المقنعا
أي فهلا.
وقرأ في الآية: (فلا تكن قرية) لأن في الاستفهام ضربا من الجحد.
" * (آمنت) *) عند معاينتها العذاب " * (فنفعها إيمانها) *) في وقت اليأس " * (إلا قوم يونس) *) فإنهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت لما علم من صدقهم. قال أهل النحو: قوم منصوب على الاستثناء المنقطع، وإن شئت قلت من جنسها لأن القوم مستثنى من القرية، ومنجون من الهالكين، وتقديره: لكن قوم يونس كقول النابغة:
وقفت فيها أصيلانا أسائلها
أعيت جوابا وما بالربع من أحد
ألا الأواري لأيا ما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
وفي يونس ست لغات، ضم النون، وقرأ (...) بضم الياء لكثرة من قرأ بها، وقرأ طلحة والأعمش والحميري وعيسى بكسر النون، وعن بعضهم بفتح النون، وروى أبو قرظة الأنصاري عن العرب همزة مع الضمة والكسرة والفتحة.
" * (لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) *) وهو وقت انقضاء آجالهم، قال بعضهم: إنما نفعهم إيمانهم في وقت اليأس لأن آجالهم بقي منها بقية فنجوا لما بقي من آجالهم، فأما إيمان من انقضى أجله فغير نافع عند حضور العذاب.
وقصة الآية على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير والسدي ووهب وغيرهم أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب يجيئهم إلى ثلاث، فأخبرهم بذلك فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذبا فانظروا، فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم، فلما كان في جوف الليل خرج ماشيا من بين ظهرانيهم فلما أصبحوا تغشاهم العذاب كما يغشي الثوب القصير إذا أدخل فيه صاحبه.
151

قال مقاتل: كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ميل. قال ابن عباس: قدر ثلثي ميل. قال وهب: غامت السماء غيما أسود هائلا يدخل دخانا شديدا، وهبط حتى غشى مدينتهم واسودت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيهم فلم يجدوه، فقذف الله في قلوبهم التوبة فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وأخلصوا النية، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، فحن بعضهم إلى بعض، وعلت أصواتهم واختلطت أصواتها بأصواتهم وحنينها بحنينهم، وعجوا وضجوا إلى الله تعالى وقالوا: آمنا بما جاء به يونس، فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم، وكشف عنهم العذاب بعدما أظلهم وتدلى إلى سمعهم، وذلك يوم عاشوراء.
قال ابن مسعود: بلغ من توبة أهل نينوى أن ترادوا المظالم بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي الحجر وقد وضع عليه أساس فيقلعه ويرده.
وروى صالح المري عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد، قال: لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا له: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال: قولوا: يا حي حين لا حي ويا حي (يا) محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت، فقالوها، فكشف عنهم العذاب ومتعوا إلى حين.
قالوا: وكان يونس (عليه السلام) وعدهم العذلب فخرج ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم ير شيئا، وكان من كذب ولم تكن له بينة قتل، فقال يونس لما كشف عنهم العذاب: كيف أرجع إلى قومي وقد كذبتهم؟ فانطلق عاتبا على ربه، مغاضبا لقومه فأتى البحر (فإذ سفينة قد شحنت) فركب السفينة (لوحده) بغير أجر، فلما دخلها وقفت السفينة، والسفن تسير يمينا وشمالا قالوا: ما لسفينتكم؟ قال يونس: إن فيها عبدا آبقا ولا تجري ما لم تلقوه، فقالوا: وأنت يا نبي العبد فلا نلقيك، فاقترعوا فوقعت القرعة عليه ثلاثا فوقع في الماء ووكل عليه حوت فابتلعه.
قال ابن مسعود: فابتلعه الحوت وجرى به حتى أتاه إلى قرار الأرض، وكان في بطنه أربعين ليلة فسمع تسبيح الحصى فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجاب الله له فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر (عريانا)، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين، فجعل يستظل بها، ووكل الله به سخلا يشرب من لبنها، فيبست الشجرة فبكى عليها، فأوحى الله إليه: تبكي على شجرة يبست، ولا تبكي على مائة ألف إنسان أهلكهم فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال: من أنت يا غلام؟
قال: من قوم يونس، قال: إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس، قال الغلام: إن كنت يونس فقد تعلم أنه لم يكن لي بينة، (فإن) قلت: فمن يشهد لي؟ قال يونس: يشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة، قال الغلام: أراهما؟ قال يونس: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالا:
152

نعم. فرجع الغلام إلى قومه، فقال للملك: إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام، وكان له أخوة وكان في منعة فأمر الملك بقتله، فقال: إن لي بينة فانسلوا معه إلى البقعة والشجرة، فقال الغلام: أنشدكما هل أشهدكما يونس؟ قالا: نعم، فرجع القوم مذعورين، وقالوا للملك: شهد له الشجرة والأرض، فأخذ الملك بيد الغلام
فأجلسه في مجلسه، وقال: أنت أحق بهذا المكان مني، قال ابن مسعود: فأقام لهم أميرا فيهم ذلك الغلام أربعين سنة.
" * (ولو شاء ربك) *) يا محمد " * (لآمن من في الأرض كلهم جميعا) *) قال الحسين بن الفضل: لأضطرهم إلى الإيمان. قال الأخفش: جاء بقوله: (جميعا) مع (كل) تأكيدا كقوله: * (لا تتخذوا إلهين اثنين) * * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) *) قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يؤمن جميع الناس ويبايعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله سعادة في الكتاب الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.
" * (وما كان لنفس) *) قال الحسن: وما ينبغي لنفس. وقال المبرد: معناه وما كنت لتؤمن إلا بإذن الله. قال ابن عباس: بأمر الله. وقال عطاء: بمشيئة الله، كقوله: " * (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) *). وقال الكوفي: ما سبق من قضائه. وقال (الداني): بعلمه وتوفيقه.
" * (ويجعل) *) أي ويجعل الله، وقرأ الحسن وعاصم بالنون " * (الرجس) *) العذاب والسخط. وقرأ الأعمش الرجز بالزاي " * (على الذين لا يعقلون) *) حجج الله في التوحيد والنبوة.
" * (قل) *) يا محمد لهؤلاء المشركين السائليك الآيات " * (انظروا ماذا في السماوات) *) من الشمس والقمر والنجوم " * (والأرض) *) من الجبال والبحار والأنهار والأشجار وغيرها من الآيات ثم قال: " * (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) *) في علم الله.
" * (فهل ينتظرون) *) يعني مشركي مكة " * (إلا مثل أيام الذين خلوا) *) مضوا " * (من قبلهم) *) من الذين مضوا. قال قتادة: يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود، والعرب تسمي العذاب والنعيم: أياما، كقوله تعالى: " * (وذكرهم بأيام الله) *) وكل ما مضى عليك من خير أو شر فهو أيام.
" * (قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا) *) معهم عند نزول العذاب، كذلك كما أنجيناهم.
" * (كذلك حقا) *) واجبا، " * (علينا) *) غير شك، " * (ننجي المؤمنين) *) بك يا محمد. وقرأ
153

يعقوب: ننجي رسلنا بالتخفيف، وقرأ الكسائي وحفص: ننجي المؤمنين بالتخفيف وشددهما الآخرون، وهما لغتان فصيحتان أنجى ينجي إنجاء ونجى ينجي تنجية بمعنى واحد.
2 (* (قل ياأيها الناس إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولاكن أعبد الله الذى يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين * وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين * ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين * وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشآء من عباده وهو الغفور الرحيم * قل ياأيها الناس قد جآءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنا عليكم بوكيل * واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) *) 2
" * (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني) *) الذي أدعوكم إليه.
" * (فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله) *) من الأوثان التي لا تعقل ولا تفعل ولا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع " * (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم) *) تقدير أن يسلم ويقبض أرواحهم.
" * (وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك) *) قال ابن عباس: عملك. وقيل: نفسك، أي استقم على الدين " * (حنيفا ولا تكونن من المشركين) *) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: (لم أعبد ربي بالرهبانية وأن خير الدين الحنيفية السهلة).
" * (ولا تدع) *) تعبد " * (من دون الله ما لا ينفعك) *) إن أطعته " * (ولا يضرك) *) إن عصيته " * (فإن فعلت) *) فعبدت غير الله " * (فإنك إذا من الظالمين) *) الضارين لأنفسهم، الواضعين العبادة في غير موضعها " * (وإن يمسسك الله بضر) *) يصبك الله ببلاء وشدة " * (فلا كاشف) *) دافع " * (له إلا هو وإن يردك بخير) *) رخاء ونعمة " * (فلا راد لفضله) *) فلا مانع لرزقه.
" * (يصيب به) *) واحد من الضر والخير " * (من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم) *) يعني القرآن فيه البيان.
" * (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) *) (أي له ثواب اهتدائه) * * (ومن ضل فإنما يضل عليها) *) فعلى نفسه جنا " * (وما أنا عليكم بوكيل) *) بكفيل وحفيظ يحفظ أعمالكم. قال ابن عباس: نسختها آية القتال
154

" * (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله) *) من نصرك وقهر أعدائك وإظهار دينه " * (وهو خير الحاكمين) *).
قال الحسن: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وقد تجمع خيرتهم فقال: (إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني) قال أنس: فلم نصبر. فأمرهم بالصبر كما أمره الله به.
وقال عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب: لما قدم معاوية المدينة تلقته الأنصار وتخلف أبو قتادة ودخل عليه بعد فقال: مالك لا تلقنا؟ قال: لم تكن عندنا دواب، قال: فأين النواضح؟ قال: ربطناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فاصبروا حتى تلقوني)، قالوا: إذا نصبر، ففي ذلك قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
ألا أبلغ معاوية بن حرب
أمير المؤمنين ثنا كلام
فإنا صابرون ومنظروكم
إلى يوم التغابن والخصام
155

((سورة هود))
(عليه السلام)
مكية، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثني أبو بكر محمد بن إسحاق، محمد بن علي بن محمد، محمد بن علي بن صالح عن ابن إسحاق عن أبي جحيفة قال: قيل: يا رسول الله قد أسرع إليك المشيب، قال: (شيبتني هود وأخواتها: الحاقة، والواقعة، وعم يتساءلون، وهل أتاك حديث الغاشية).
وعن زيد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقرأت عليه سورة هود فلما ختمتها قال: يا زيد قرأت، فأين البكاء؟.
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الر كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير * ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير * وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإنيأخاف عليكم عذاب يوم كبير * إلى الله مرجعكم وهو على كل شىء قدير * ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور * وما من دآبة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل فى كتاب مبين) *) 2
" * (الر كتاب) *) قيل " * (الر) *) مبتدأ وكتاب خبره، وقيل: كتاب رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره: هذا كتاب " * (أحكمت آياته) *) قال ابن عباس: أحكمت آياته: لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها " * (ثم فصلت) *) بينت بالأحكام والحلال والحرام، قال الحسن وأبو العالية: فصلت: فسرت " * (من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا) *) يحتمل أن يكون موضع أن رفعا على مضمر تقديره: وفي ذلك الكتاب أن لا تعبدوا، ويحتمل أن يكون محله نصبا بنزع الخافض تقديره: ثم فصلت أن لا تعبدوا " * (إلا الله) *) أو لئلا تعبدوا إلا الله.
" * (إنني لكم منه) *) من الله " * (نذير وبشير) *) وأن عطف على الأول " * (واستغفروا ربكم ثم توبوا
156

إليه) *) أي ارجعوا إلى الله بالطاعة والعبادة، وقال الفراء: ثم هاهنا بمعنى (الواو) أي وتوبوا إليه لأن الاستغفار من التوبة، والتوبة من الاستغفار " * (يمتعكم متاعا حسنا) *) أي يعيشكم عيشا في (منن) ودعة وأمن وسعة (رزق)، " * (إلى أجل مسمى) *) وهو الموت " * (ويؤت كل ذي فضل فضله) *) ويؤت كل ذي عمل مبلغ أجره وثوابه (سمى فضله) باسم الابتداء.
قال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر، واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم قال: هلك من غلبت آحاده عشراته.
وقال ابن عباس: من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أهل الأعراف، ثم يدخلون الجنة بعد، وقال أبو العالية: من زادت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنة، لأن الدرجات تكون بالأعمال. وقال مجاهد: إن ما يحتسب الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده ورجله، أو ما يتصدق به من حق ماله.
" * (فإن تولوا فأني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) *) وهو يوم القيامة.
" * (إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ألا إنهم يثنون صدورهم) *) قال ابن عباس: يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعدواة، نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام، حلو المنظر، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره. مجاهد: يثنون صدورهم شكا وامتراء، السدي: يعرضون بقلوبهم عنك من قولهم (..............).
عن عبد الله بن شداد: نزلت في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم نى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وتغشى ثوبه كي لا يراه النبي (صلى الله عليه وسلم). قتادة: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله ولا ذكره. ابن زيد: هذا حين يناجي بعضهم بعضا في أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
" * (ليستخفوا منه) *) أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: ليستخفوا من الله إن استطاعوا، وقال ابن عباس: يثنون صدورهم على وزن يحنون، جعل الفعل للصدور أي (يلقون).
" * (ألا حين يستغشون ثيابهم) *) يغطون رؤوسهم بثيابهم، وذلك أخفى ما يكون لابن آدم إذا حنى صدره وتغشى ثوبه وأضمر همه في نفسه.
" * (يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور وما من دابة) *) من بغلة وليس دابة وهي كل حيوان دب على وجه الأرض، وقال بعض العلماء: كل ما أكل فهو دابة
157

" * (إلا على الله رزقها) *) غذاؤها وقوتها وهو المتكفل بذلك فضلا لا وجوبا، وقال بعضهم: (على) بمعنى (من) أي من الله رزقها، ويدل عليه قول مجاهد،
قال: ما جاء من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا، ولكن ما كان من رزق فمن الله.
" * (ويعلم مستقرها) *) أي مأواها الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلا ونهارا، " * (ومستودعها) *) الموضع الذي تودع فيه أما بموتها أو دفنها، قال ابن عباس: مستقرها حيث تأوي، ومستودعها حيث تموت، مجاهد: مستقرها في الرحم ومستودعها في الصلب، عبد الله: مستقرها الرحم، ومستودعها المكان الذي تموت فيه، الربيع: مستقرها أيام حياتها، ومستودعها حيث تموت، ومن حيث تبعث.
وقيل: يعلم مستقرها في الجنة أو في النار، ومستودعها القبر، ويدل عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة والنار: " * (حسنت مستقرا ومقاما) *) و * (ساءت مستقرا ومقاما) * * (كل في كتاب مبين) *) كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها.
2 (* (وهو الذى خلق السماوات والارض فى ستة أيام وكان عرشه على المآء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هاذآ إلا سحر مبين * ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء مسته ليقولن ذهب السيئات عنيإنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولائك لهم مغفرة وأجر كبير * فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضآئق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جآء معه ملك إنمآ أنت نذير والله على كل شىء وكيل * أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنمآ أنزل بعلم الله وأن لا إلاه إلا هو فهل أنتم مسلمون * من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولائك الذين ليس لهم فى الاخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) *) 2
" * (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) *) قبل أن يخلق السماوات والأرض وذلك الماء على متن الريح. وقال كعب: خلق الله ياقوتة حمراء لا نظير لها (فنظر إليها بالهيبة) فصارت ماء، (يرتعد من مخافة الله تعالى) ثم خلق الريح فجعل الماء (على قشرة) ثم وضع العرش على الماء. وقال ضمرة: إن الله تعالى كان عرشه على الماء ثم
158

خلق السماوات والأرض بالحق، وخلق القلم وكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده قبل أن يخلق شيئا من الخلق.
" * (ليبلوكم) *) ليختبركم وهو أعلم " * (أيكم أحسن عملا) *) روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليبلوكم أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله).
قال ابن عباس: أيكم أعمل بطاعة الله. قال مقاتل: أيكم أتقى لله، الحسن: أيكم أزهد في الدنيا زاهدا وأقوى لها تركا.
" * (ولئن قلت) *) يا محمد " * (إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) *) يعنون القرآن، ومن قرأ: ساحر رده إلى محمد (صلى الله عليه وسلم).
" * (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) *) إلى أجل معدود ووقت محدود، وأصل الأمة الجماعة، وإنما قيل للحين: أمة، لأن فيه يكون الأمة، فكأنه قال: إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها، كقوله: " * (وادكر بعد أمة) *).
" * (ليقولن ما يحبسه) *) يقولون استعجالا للعذاب واستهزاء، يعنون أنه ليس بشيء. قال الله تعالى: " * (ألا يوم يأتيهم) *) العذاب " * (ليس مصروفا عنهم) *) خبر (ليس) عنهم. " * (وحاق بهم ما كانوا يستهزئون) *) أي رجع إليهم ونزل بهم وبال استهزائهم " * (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة) *) سعة ونعمة " * (ثم نزعناها) *) سلبناها " * (منه إنه ليؤوس) *) قنوط في الشدة " * (كفور) *) في النعمة.
" * (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته) *) بعد بلاء وشدة " * (ليقولن ذهب السيئات عني) *) زالت الشدائد عني " * (إنه لفرح فخور) *) أشر بطر، ثم استثنى فقال: " * (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) *) فإنهم إن نالتهم شدة وعسرة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا " * (لهم مغفرة) *) لذنوبهم " * (وأجر كبير) *) وهو الجنة، وإنما جاز الاستثناء مع اختلاف الحالين لأن الإنسان اسم الجنس كقوله: * (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا) * * (فلعلك) *) يا محمد " * (تارك بعض ما يوحى إليك) *) فلا تبلغه إياهم، وذلك أن مشركي مكة قالوا: آتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا.
" * (وضائق به صدرك أن يقولوا) *) لأن يقولوا " * (لولا أنزل عليه كنز) *) ينفقه " * (أو جاء معه ملك) *) يصدقه، قال عبد الله بن أمية المخزومي قال الله: يا أيها النذير " * (ليس عليك إلا البلاغ) *) والله على كل شيء وكيل " * (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور) *) مثله " * (مفتريات) *) بزعمكم " * (وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم) *) لفظه جمع والمراد به الرسول وحده كقوله: " * (يا أيها الرسل) *) ويعني الرسول
159

وقال مجاهد: عنى به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " * (فاعلموا أنما أنزل بعلم الله) *) يعني القرآن " * (وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون) *) لفظه استفهام ومعناه أمر.
" * (من كان يريد الحياة الدنيا) *) أي من كان يريد بعمله الحياة الدنيا " * (وزينتها نوف إليهم أعمالهم) *) نوفر لهم أجور أعمالهم في الدنيا " * (وهم فيها لا يبخسون) *) لا ينقصون. قتادة يقول: من كانت الدنيا همه وقصده وسروره وطلبته ونيته جازاه الله تعالى ثواب حسناته في الدنيا، ثم يمضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أحسن من محسن فقد وقع أجره على الله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة).
واختلفوا في المعني بهذه الآية فقال بعضهم: هي للكفار، وأما المؤمن فإنه يريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة على إرادته للدنيا، ويدل عليه قوله: " * (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها) *) في الدنيا " * (وباطل ما كانوا يعملون) *) قال مجاهد: هم أهل الربا.
وروى ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال: حدثني الوليد بن أبي الوليد بن عثمان أن عقبة بن مسلم حدثه أن شقي بن قابع الأصبحي حدثنا أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ قيل: أبو هريرة.
قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت: وأنشدك الله لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (عقلته وعلمته) فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في (هذا البيت) ثم غشي عليه ثم أفاق فقال: أحدثك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ي هذا البيت، ولم يكن أحد غيره وغيري، ثم شهق أبو هريرة شهقة شديدة ثم قال: (فأرى على وجهه ثم استغشى) طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة دعا العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية فأول من يدعو رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب.
قال: ماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، فيقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد
160

قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟
قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذلك.
ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذلك) ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: (يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة).
قال الوليد: وأخبرني غيره أن شقيا دخل على معاوية وأخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية: وقد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية (وضرب خديه) حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق معاوية لا يمسح وجهه وقال: صدق الله ورسوله " * (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) *) وقرأ إلى قوله: " * (باطل ما كانوا يعملون) *).
2 (* (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولائك يؤمنون به ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده فلا تك فى مرية منه إنه الحق من ربك ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون * ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولائك يعرضون على ربهم ويقول الاشهاد هاؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة هم كافرون * أولائك لم يكونوا معجزين فى الارض وما كان لهم من دون الله من أوليآء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون * أولائك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون * لا جرم أنهم فى الاخرة هم الاخسرون) *) 2
" * (أفمن كان على بينة) *) بيان وحجة " * (من ربه) *) وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (ويتلوه شاهد منه) *) يتبعه من يشهد له ويصدقه.
واختلفوا في هذا الشاهد فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد والضحاك وأبو صالح وأبو العالية وعكرمة: هو جبريل (عليه السلام)، وقال الحسن (ح): هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقال الحسن وقتادة: هو لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقال محمد بن الحنفية: قلت لأبي أنت التالي؟ قال: وما تعني بالتالي؟ قلت: قوله: " * (ويتلوه شاهد منه) *) قال: وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقال بعضهم: الشاهد صورة
161

النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخائله، لأن كل من كان له عقل ونظر إليه علم أنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وقال الحسين بن الفضل: هو القرآن في نظمه وإعجازه والمعاني الكثيرة منه في اللفظ القليل. وروى ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هو ملك يحفظه ويسدده. وقيل: هو علي بن أبي طالب.
أخبرني عبد الله الأنصاري عن القاضي أبو الحسين النصيري، أبو بكر السبيعي، علي بن محمد الدهان والحسن بن إبراهيم الجصاص، قال الحسين بن حكيم، الحسين بن الحسن عن حنان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: " * (أفمن كان على بينة من ربه) *) رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (ويتلوه شاهد منه) *) علي خاصة (ح).
وبه عن السبيعي عن علي بن إبراهيم بن محمد (العلوي)، عن الحسين بن الحكيم، عن إسماعيل بن صبيح، عن أبي الجارود، عن حبيب بن يسار، عن زاذان قال: سمعت عليا يقول: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو ثنيت لي وسادة فأجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما من رجل من قريش جرت عليه المواسي إلا وأنا أعرف به يساق إلى جنة أو يقاد إلى نار. فقام رجل فقال: ما آيتك يا أمير المؤمنين التي نزلت فيك؟ قال: " * (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) *) رسول الله صلى الله عليه وسلم على بينة من ربه
وأنا شاهد منه.
وبه عن (السبيعي)، وأحمد بن محمد بن سعيد الهمداني حدثني الحسن بن علي بن برقع وعمر بن حفص الفراء، حدثنا صباح القرامولي، عن محارب عن جابر بن عبد الله (الأنصاري)، قال علي (ح): ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان، فقال له رجل: فأنت أي شيء نزل فيك؟ قال علي (ح): أما تقرأ الآية التي في هود، " * (ويتلوه شاهد منه) *).
وفي الكلام محذوف تقديره: أفمن كان على بينة من ربه كمن هو في الضلالة (متردد)، ثم قال: " * (ومن قبله) *) يعني ومن قبل محمد والقرآن كان " * (كتاب موسى إماما ورحمة أولئك) *) أي
162

بني إسرائيل " * (يؤمنون به ومن يكفر به) *) أي بمحمد وقيل بالقرآن، وقيل بالتوراة " * (من الأحزاب فالنار موعده) *).
روى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستمع لي يهودي ولا نصراني، ولا يؤمن بي إلا كان من أهل النار).
قال أبو موسى فقلت في نفسي: إن النبي لا يقول مثل هذا القول إلا من الفرقان فوجدت الله يقول: * (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) * * (فلا تك في مرية) *) أي في شك " * (منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *) زعم أن لله ولدا أو شريكا أو كذب بآيات القرآن " * (أولئك) *) يعني الكاذبين، " * (يعرضون على ربهم) *) فيسألهم عن أعمالهم ويجزيهم بها.
" * (ويقول الأشهاد) *) يعني الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا، في قول مجاهد والأعمش، وقال الضحاك: يعني الأنبياء والرسل، وقال قتادة: يعني الخلائق.
وروى صفوان بن محرز المازني قال: بينا نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر إذ عرض له رجل فقال: يا بن عمر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم (يقول): (يدنو المؤمن من ربه حتى يضع كتفيه عليه فيقرره بذنوبه فيقول: هل (تعرف ما فعلت؟ يقول: (رب أعرف مرتين، حتى إذا بلغ ما شاء الله أن يبلغ فقال: وإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وقال (ثم يعطى صحيفة حسناته، أو كتابه بيمينه قال): وأما الكافر والمنافق فينادى بهم على رؤوس الأشهاد).
" * (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض) *) قال ابن عباس: سابقين.
مقاتل بن حيان: قانتين، قتادة: (هرابا) * * (وما كان لهم من دون الله من أولياء) *) أنصار تغني (عنهم) * * (يضاعف لهم العذاب) *) يعني يزيد في عذابهم.
" * (ما كانوا يستطيعون السمع) *) اختلف في تأويله: قال قتادة (....): " * (وما كانوا يبصرون) *) الهدى، وقوله: " * (إنهم عن السمع لمعزولون) *) قال ابن عباس: إن الله تعالى إنما حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا، وأما في الدنيا فإنه قال " * (ما كانوا يستطيعون السمع وما
163

كانوا يبصرون) *) فإنه قال: فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم، وقال بعضهم: إنما عنى بذلك الأصنام.
" * (أولئك) *) وآلهتهم " * (لم يكونوا معجزين في الأرض ويضاعف لهم العذاب يوم القيامة ما كانوا يستطيعون السمع) *) ولا يسمعونه " * (وما كانوا يبصرون) *) (......) فلا يعتبرون بها، فحذف الباء، كما يقول: لا يجزينك ما عملت وبما عملت.
" * (أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لاجرم) *) أي (.....)، قال الفراء: معناها لابد ولا محالة " * (أنهم في الآخرة هم الأخسرون) *) يعني من غيرهم، وإن كان الكل في الخسار.
2 (* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * مثل الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إنىأخاف عليكم عذاب يوم أليم * فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين * قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربىوءاتانى رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون * وياقوم لاأسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله ومآ أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم ملاقو ربهم ولاكني أراكم قوما تجهلون * وياقوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندى خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما فى أنفسهم إنىإذا لمن الظالمين * قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شآء ومآ أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحىإن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون * أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامى وأنا برىء مما تجرمون * وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم * حتى إذا جآء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن ومآ ءامن معه إلا قليل) *) 2
164

" * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم) *) قال عطية عن ابن عباس وقتادة: أنابوا وتضرعوا إليه، مجاهد: اطمأنوا إلى ذكره، مقاتل: أخلصوا،
الأخفش: تخشعوا له، وقيل: تواضعوا له.
" * (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين) *) المؤمن والكافر " * (كالأعمى والأصم والسميع والبصير هل يستويان مثلا) *) قال الفراء: وإنما لم يقل هل يستوون مثلا، لأن الأعمى والأصم في خبر كأنهما واحد، لأنهما من وصف الكافر، والسميع والبصير في خبر كأنهما واحد، لأنهما من وصف المؤمن.
" * (أفلا تذكرون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني) *) قرأ أهل مكة وأبو عمرو والكسائي: أني بفتح الألف ويعنون بأني، وقرأ الباقون بكسر الألف إني، قال: إني لأن في الإرسال معنى القول.
" * (لكم نذير مبين، أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) *) مؤلم، قال مقاتل: بعث نوح وأمره ربه ببناء، السفينة وهو ابن ستمائة سنة وكان عمره ألفا وخمسين عاما ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، قال الله تعالى " * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) *) أي فلبث فيهم داعيا " * (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك) *) يا نوح " * (إلا بشرا مثلنا) *) آدميا مثلنا " * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) *) سفلتنا " * (بادي الرأي) *) قال مجاهد وأبي المعين وحمزة أبو عمرو وبصير على معنى بادي الرأي من غير روية ولا فكرة يعني: آمنوا من غير روية.
" * (وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين قال) *) نوح " * (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة) *) هدى ومغفرة " * (من عنده فعميت عليكم) *) التبست واشتبهت وقرأ أهل الكوفة: فعميت بضم العين وتشديد الميم، أي اشتبهت ولبست ومعنى الكلام: عميت الأبصار عن الحق، وهذا كما يقال: دخل الخاتم في أصبعي، والخف في رجلي وإنما يدخل الأصبع في الخاتم والرجل في الخف " * (أنلزمكموها) *) يعني البينة والرحمة " * (وأنتم لها كارهون) *) لا تريدونها يعني لا يقبل ذلك.
" * (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا) *) أي على الوحي وتبليغ الرسالة كناية عن غير مذكور " * (إن أجري) *) ما ثوابي " * (إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا) *) الباء صلة " * (إنهم ملاقوا ربهم) *) بالمعاد " * (فيجزيهم بأعمالهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين
165

تزدري) *) تحتقر وتستصغر " * (أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا) *) يعني يؤخذ وانما " * (الله أعلم بما في أنفسهم) *) من النية والعزم والخير والشر " * (إني إذا لمن الظالمين) *) إن فعلت ذلك.
" * (قالوا يا نوح قد جادلتنا) *) ما ريتنا وخاصمتنا " * (فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا) *) يعني العذاب " * (إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي) *) نصيحتي " * (إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) *) يهلككم ويضلكم " * (هو ربكم) *) والأمر والحكم له " * (وإليه ترجعون) *) فيجازيكم بأعمالكم وهو رد على المعتزلة و (المرجئة).
" * (أم يقولون افتراه) *) قال ابن عباس: يعني نوحا، مقاتل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " * (قل إن افتريته فعلي إجرامي) *) إثمي ووبال أمري، لا تؤخذون بذنبي " * (وأنا بريء مما تجرمون) *) لا أواخذ بذنوبكم " * (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ولا تبتئس) *) ولا تحزن وهو منفعل من البؤس " * (بما كانوا يفعلون) *) فإني مهلكهم ومنقذك منهم فحينئذ دعا عليهم " * (وقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) *).
" * (واصنع الفلك) *) واعمل السفينة " * (بأعيننا) *) بمرأى منا، الضحاك: بمنظر منا، مقاتل: بعلمنا، ربيع: بمسمعنا " * (ووحينا) *) (على ما أوحينا إليك)، قال ابن عباس: وذلك إنه لم يعلم كيف يصنع الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها على جؤجؤ الطائر " * (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) *) ولا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا " * (إنهم مغرقون) *) بالطوفان، أمر أن لا يشفع لهم عنده، وقال: عنى امرأته وابنه.
" * (ويصنع الفلك) *) قيل: معناه وكان يصنع الفلك، وقيل: معناه وصنع الفلك " * (وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه) *) هزئوا به.
" * (قال إن تسخروا منا) *) الآن " * (فإنا نسخر منكم) *) إذا عاينتم عذاب الله " * (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه) *) يهينه " * (ويحل عليه عذاب مقيم) *) دائم، قال ابن عباس: اتخذ نوح (عليه السلام) السفينة في سنتين، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وطولها في السمك ثلاثين ذراعا، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو في البطن الأعلى (.....)، عما يحتاج إليه من الزاد.
روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما
166

يدعوهم إلى الله، فأوحى الله عز وجل لما كان آخر زمانه وغرس شجرة (فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها) ويقطع ما يبس منها، ثم جعل يعمل سفينة ويمرون عليه قومه فيسألونه فيقول: أعمل سفينة فيسخرون منه ويقولون: يعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ فيقول: فسوف تعلمون، فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك، خشيت أم صبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا، فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء خرجت حتى صعدت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم الله أحدا منهم لرحم أم الصبي).
وروى علي بن زيد بن صوحان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فيحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا كفن حام بن نوح، قال:
فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب، قال له عيسى: هكذا هلكت؟
قال: لا بل مت وأنا شاب ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت، قال: حدثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير، فلما كثرت فضلات الدواب أوحى الله تعالى إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل، فغمز فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث، فلما وقع الفار بحوض السفينة وحبالها فقرضها، وذلك أن الفار ولدت في السفينة فأوحى الله تعالى إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وهرة فأقبلا على الفار.
فقال له عيسى: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت، ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها فعلم أن البلاد قد غرقت قال: فطوقها بالحمرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في قصر بأمان فمن ثم تألف البيوت.
قال: فقالوا: يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلنا فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ فقال له: عد بإذن الله، قال: فعاد ترابا.
167

وروى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير أنه كان يحدث الأحاديث وكانوا يبطشون به، يعني قوم نوح فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى إذا تمادوا في المعصية وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاولوا عليه، وتطاول عليه وعليهم الشأن واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر البخل بعد البخل، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي قبله حتى إذا كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا، حتى شكا ذلك من أمرهم إلى الله عز وجل فقال: رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، حتى قال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إلى آخر القصة، فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي بعد اليوم إنهم مغرقون.
فأقبل نوح على (عمل) الفلك ولجأ عن قومه إلى جبل يقطع الخشب ويضرب بيديه (الحديد)، ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلا هو، وجعل قومه يمرون به وهو في ذلك من عمله فيسخرون منه ويقولون: يا نوح هل صرت نجارا بعد النبوة؟ وأعقم الله أرحام النساء فلبثوا سنين فلا يولد لهم ولد.
قال: ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يصنعه أزور وأن يطليه بالقار من أسفله وخارجه، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا، ومائة في عرضه وبطوله في السماء ثلاثين ذراعا، والذراع إلى المنكب، وجعلها ثلاثة طوابق سفلى ووسطى وعليا، فجعل فيه كوى، ففعل نوح كما أمره الله تعالى.
" * (حتى إذا جاء أمرنا) *) عذابنا " * (وفار التنور) *) يعني انبجس الماء من وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض، وذلك أنه إذا قيل: إذا رأيت الماء يسيح على وجه الأرض فاركب أنت ومن اتبعك، ومنها قول ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة، وقال علي بن أبي طالب (ح) في تفسير و " * (وفار التنور) *): أي طلع الفجر ونور الصبح، ومن ذلك عبارته نور الفجر تنويرا، قتادة: موضع في الأرض وأعلى مكان فيها. قال الحسن: أراد بالتنور الذي يخبز فيه وكان تنورا من حجارة وكان لحواء حتى صار إلى نوح، فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك، فنبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته، وهذا قول مهران. ورواه عطية عن ابن عباس، قال مجاهد: وكان ذلك في ناحية الكوفة، وروى السدي عن الشعبي أنه كان يحلف بالله ما يظهر التنور إلا من ناحية الكوفة، وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء منه علما لنوح ودليلا على هلاك قومه
168

وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم وإنما كان بالشام بموضع يقال له: عين وردة، وقال ابن عباس: فار التنور بالهند، والفور: الغليان.
" * (قلنا احمل فيها) *) أي في السفينة " * (من كل زوجين اثنين) *) قال المفسرون أراد بالزوجين: اثنين ذكرا وأنثى، وقال أهل المعاني: كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه، فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا، يقال له: زوجا نعال إذا كانت له نعلان وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود، قال الله تعالى " * (وإنه خلق الزوجين الذكر والأنثى) *)، وقال بعضهم: أراد بالزوجين الضربين والصنفين وكل ضرب يدعى زوج، قال الأعشى:
وكل زوج من الديباج يلبسه
أبو قدامة محبو بذاك معا
أراد كل ضرب ولون. وقال لبيد:
وذي (.....) كر المقاتل صولة
وذرته أزواج (........) يشرب
أي ألوان وأصناف، وقرأ حفص هاهنا وفي سورة المؤمنين " * (من كل) *) بالتنوين أي من كل صنف، وجعل اثنين على التأكيد.
" * (وأهلك) *) أي واحمل أهلك ومالك وعيالك " * (إلا من سبق عليه القول) *) بالهلاك يعني امرأته راحلة وابنه كنعان.
" * (ومن آمن) *) يعني واحمل من آمن بك، قال الله تعالى " * (وما آمن معه إلا قليل) *) واختلفوا في عددهم، فقال قتادة والحكم وابن جريج ومحمد بن كعب القرضي: لم يكن في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنيه، سام وحام ويافث أخوة كنعان وزوجاتهم (ورحلهم) فجميعهم ثمانية، فأصاب حام امرأته في السفينة فدعا الله نوح أن يغير نطفته فجاء بالسودان. وقال الأعمش: كانوا سبعة: نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين له. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم: نوح وبنوه حام وسام
ويافث وستة أناس ممن كان آمن معه وأزواجهم جميعا.
وقال مقاتل: (كانوا) اثنين وسبعين رجلا وامرأة وبنيه الثلاثة ونساءهم، فكان الجميع ثمانية وسبعين نفسا، نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساء.
قال ابن عباس: كان في سفينة نوح ثمانون إنسانا أحدهم جرهم.
169

قال مقاتل: وحمل نوح معه جسد آدم وجعله معترضا بين الرجال والنساء، وحمل نوح جميع الدواب من الغنم والوحوش والطير وفرق فيما بينها.
قال ابن عباس: أول ما حمل نوح في السفينة من الدواب الأوزة، وآخر ما حمل الحمار، فلما دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح يقول له: ادخل فينهض فلا يمشي، حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك، فقال له نوح: ما أدخلك علي يا عدو الله؟ فقال له: ألم تقل ادخل وان كان الشيطان معك، قال نوح: اخرج عني يا عدو الله، قال: ما لك بد من أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك.
وفي تفسير مالك بن إبراهيم الهروي الذي أخبرني بالأسناد إلى أبي القاسم والحسن بن محمد ببعضه قراءة وأجاز لي بالباقي في غير مرة، قال يحدثنا أبو العباس محمد بن الحسن الهروي، قال: حدثنا جابر بن عبد الله عنه أن الحية والعقرب أتيا نوحا فقالتا: احملنا، فقال نوح: إنكما سبب الضر والبلايا والأوجاع فلا أحملكما، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك بأن لا نضر أحدا ذكرك، فمن قرأ حين خاف مضرتهما: " * (سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين) *) ما ضرتاه.
(* (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم * وهى تجرى بهم فى موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان فى معزل يابنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوىإلى جبل يعصمنى من المآء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين * وقيل ياأرض ابلعى مآءك وياسمآء أقلعى وغيض المآء وقضى الامر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين * ونادى نوح ربه فقال رب إن ابنى من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنى ما ليس لك به علم إنىأعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إنىأعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنىأكن من الخاسرين * قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) *) 2
" * (وقال) *) نوح لهم: " * (اركبوا فيها بسم الله مجراها) *) قرأ أبو رجاء العطاردي: مجراها ومرساها بضم الميمين وكسر الراء والسين وهي قراءة عبد الله.
قال ابن عباس: مجريها حيث تجري ومرساها حيث ترسو، أي تحسر في الماء.
وقرأ محمد بن محيصن بفتح الميمين وهما مصدران، يعني أن الله تعالى بيده جريها
170

ورسوها أي ثبوتها، جرى يجري جريا ومجرى، ورسا يرسو رسوا ومرسى، مثل ذهب مذهبا وضرب مضربا. قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر
علي حرام لو يسرون مقتلي
أي: قتلي.
وقرأ الباقون بضم الميمين، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، ومعناه: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، كقوله تعالى " * (أنزلني منزلا مباركا وأدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) *) بمعنى الإنزال والإدخال والإخراج.
" * (إن ربي لغفور رحيم) *) قال الضحاك: كان نوح إذا أراد أن يرسو قال: بسم الله، فرست، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت.
" * (وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه) *) كنعان وكان عنيدا وقيل وكان كافرا.
" * (وكان في معزل) *) عنه لم يركب معه الفلك.
" * (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) *) فتهلك، قال له ابنه: " * (سآوي) *) سأصير وأرجع " * (إلى جبل يعصمني) *) يمنعني " * (من الماء) *) ومنه عصام القربة الذي (يربط) رأسها فيمنع الماء أن يسيل منها.
* (قال نوح) * * (لا عاصم اليوم من أمر الله) *) عذاب الله إلا من رحمناه، وأنقذناه منه، ومن في محل رفع، وقيل: في محل النصب ومعناه لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله، كقوله تعالى * (عيشة راضية و) * * (ماء دافق) *) قال الشاعر:
بطيء القيام رخيم الكلام
أمسى فؤادي به فاتنا
أي مفتونا.
" * (وحال بينهما الموج وكان) *) فصار " * (من المغرقين وقيل) *) بعدما تناهى أمر الطوفان " * (يا أرض ابلعي) *) أي اشربي " * (ماءك ويا سماء أقلعي) *) امسكي " * (وغيض الماء) *) فذهب ونقص ومصدره الغيض والغيوض.
" * (وقضي الأمر) *) أي وفرغ من العذاب " * (واستوت) *) يعني السفينة استقرت ورست وحلت " * (على الجودي) *) وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل
، قال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الماء فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا وتواضع الجودي وتطامن لأمر ربه فلم يغرق، فأرسيت السفينة عليه.
171

" * (وقيل بعدا) *) هلاكا " * (للقوم الظالمين) *) الكافرين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (في أول يوم من رجب وفي بعض الأخبار: لعشر مضت من رجب ركب نوح في السفينة فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر، ومرت بالبيت فطاف به سبعا وقد رفعه الله من الغرق، وأرسيت السفينة على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح وأمر جميع من معه من الوحوش والدواب فصاموا شكرا لله عز وجل).
" * (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي) *) وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي " * (وإن وعدك الحق) *) أي الصدق " * (وأنت أحكم الحاكمين) *) أي تحكم على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك.
" * (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) *) وقرأ أهل الكوفة (عمل) بكسر الميم وفتح اللام، غير بنصب الراء على الفعل ومعناه: إنه عمل الشرك والكفر، وقرأ الباقون عمل بفتح الميم وضم اللام وتنوين غير بالرفع ومعناه: إن سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح.
" * (فلا تسألني) *) يا نوح " * (ما ليس لك به علم) *) بما لا تعلم وقرأ ابن كثير بتشديد النون وفتحه، وقرأ أهل المدينة والشام بتشديد النون وكسره.
" * (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) *) واختلفوا في هذا الابن فقال بعضهم: إنه لم يكن ابن نوح، ثم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: كان ولد خبث من غيره، ولم يعلم بذلك نوح، فقال الله تعالى: إنه ليس من أهلك أي من ولدك، وهو قول مجاهد والحسن، وقال قتادة: سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان بابنه، وقرأ " * (فخانتاهما) *) فقال: إن الله حكى عنه إنه قال: إن ابني من أهلي، وقال: ونادى نوح ابنه وأنت تقول: لم يكن ابنه، وإن أهل الكتابين لا يختلفون في أنه كان ابنه. فقال الحسن: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، إنهم يكذبون.
وقال ابن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ابنه، وكان ولد على فراشه، وقال عبيد بن عمير، نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قضى أن الولد للفراش من أجل ابن نوح، وقال بعضهم: إنه كان ابن امرأته واستدلوا بقول نوح: إن ابني من أهلي ولم يقل: مني، وهو قول أبي جعفر الباقر.
وقال الآخرون: كان ابنه ومن فصيلته، ومعنى قوله: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، وقالوا: ما بغت امرأته ولا امرأة لوط وإنما كانت خيانتهما في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وهذه كانت تدل على الأضياف، وهو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران.
قال أبو معاوية البجلي: قال رجل لسعيد بن جبير: قال نوح إن ابني من أهلي، أكان ابن نوح؟ فسبح طويلا، وقال: لا إله إلا الله يحدث الله محمدا صلى الله عليه وسلم انه ابنه وتقول ليس ابنه، كان
172

ابنه ولكنه كان مخالفا في النية والعمل والدين، فمن ثم قال تعالى: انه ليس من أهلك، وهذا القول أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب.
فقال نوح (عليه السلام) عند ذلك " * (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين قيل يا نوح اهبط) *) انزل من السفينة إلى الأرض " * (بسلام) *) بأمن وسلامة " * (منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) *) وهم الذين كانوا معه في السفينة.
وقال أكثر المفسرين: معناه وعلى قرون تجيء من ذرية من معك من الذين آمنوا معك من ولدك، وهم المؤمنون وأهل السعادة من ذريته " * (وأمم سنمتعهم) *) في الدنيا " * (ثم يمسهم منا) *) في الآخرة " * (عذاب أليم) *) وهم الكافرون وأهل الشقاوة. وقال محمد بن كعب القرضي: داخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وكذلك داخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
قال الضحاك: زعم أناس إن من غرق من الولدان مع آبائهمن وإنما ليس كذلك وإنما الولدان بمنزلة الطير، وسائر من أغرق الله يعود لابنه ولكن حضرت آجالهم فماتوا لآجالهم والمذكورين من الرجال والنساء ممن كان الغرق عقوبة من الله لهم في الدنيا ثم مصيرهم إلى النار.
2 (* (تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل هاذا فاصبر إن العاقبة للمتقين * وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إن أنتم إلا مفترون * ياقوم لاأسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرنىأفلا تعقلون * وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السمآء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين * قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركى ءالهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء قال إنىأشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون * من دونه فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون * إنى توكلت على الله ربى وربكم ما من دآبة إلا هو ءاخذ بناصيتهآ إن ربى على صراط مستقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم مآ أرسلت به إليكم ويستخلف ربى قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربى على كل شىء حفيظ * ولما جآء أمرنا نجينا هودا والذين ءامنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ * وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا فى هاذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألاإن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) *) 2
" * (ذلك) *) الذي ذكرت " * (من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت) *) يا محمد " * (ولا قومك من قبل هذا) *) من قبل إخباري إياك " * (فاصبر) *) على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من أذى الكفار كما صبر نوح " * (إن العاقبة) *) آخر الأمر بالسعادة والظفر والمغفرة " * (للمتقين) *) كما كان لمؤمني قوم نوح وسائر الأمم.
173

" * (وإلى عاد) *) أي فأرسلنا إلى عاد " * (أخاهم هودا) *) في النسب لا في الدين " * (قال يا قوم اعبدوا الله) *) وحدوا الله وأكثروا العبادة في القرآن بمعنى
التوحيد " * (ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون) *) ما أنتم في إشراككم معه الأوثان إلا كاذبون.
" * (يا قوم لا أسألكم عليه) *) على تبليغ الرسالة ولا أبتغي جعلا " * (إن أجري إلا على الذي فطرني) *) والفطرة ابتداء الخلقة " * (أفلا تعقلون) *) وذلك أن الأمم قالت للرسل: ما تريدون إلا أن تأخذوا أموالنا فقالت الرسل لهم هذا.
" * (ويا قوم استغفروا ربكم) *) أي آمنوا به يغفر لكم، والاستغفار هنا بمعنى الإيمان " * (ثم توبوا إليه) *) من عبادتكم غيره وسالف ذنوبكم، وقال الفراء: معناه وتوبوا إليه لأن التوبة استغفار والاستغفار توبة.
" * (يرسل السماء عليكم مدرارا) *) متتابعا، وقال مقاتل بن حيان وخزيمة بن كيسان: غزيرا كثيرا.
" * (ويزدكم قوة إلى قوتكم) *) شدة مع شدتكم، وذلك أن الله حبس عنهم القطر في سنين وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد.
" * (ولا تتولوا) *) ولا تدبروا مشركين " * (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة) *) بيان وبرهان على ما تقول فنقر ونسلم لك " * (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) *) أي بقولك، والعرب تضع الباء موضع عن، وعن موضع الباء.
" * (وما نحن لك بمؤمنين) *) بمصدقين " * (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) *) يعني لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسب آلهتنا إلا أن بعض آلهتنا اعتراك وأصابك بسوء، بل جنون، وهذيان، هو الذي يحملك على ما تقول وتفعل، ولا نقول فيك إلا هذا ولا نحمل أمرك إلا على هذا، فقال لهم هود: " * (إني أشهد الله) *) على نفسي " * (واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه) *) يعني الأوثان " * (فكيدوني جميعا) *) فاحتالوا جميعا في ضري ومكري أنتم وأوثانكم " * (ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) *).
قال الضحاك: يحييها ويميتها، قال الفراء: مالكها والقادر عليها، قال القتيبي: يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، قال ابن جرير: إنما خص الناصية لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع فيقولون: ما ناصية فلان إلا بيد فلان أي إنه مطيع له يصرفه كيف شاء، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا اطلاقه والمن عليه جزوا (ناصيته) ليغتروا بذلك فخرا عليه، فخاطبهم بما يعرفون في كلامهم.
174

" * (إن ربي على صراط مستقيم) *) يقول: إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بمعصيته ولا يظلم أحدا غيا ولا يقبل إلا الإسلام، والقول فيه إضمار أني: إن ربي يدل أو يحث أو يحملكم على صراط مستقيم.
" * (فإن تولوا فقد أبلغتكم) *) أي قل يا محمد: فقد أبلغتكم " * (ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم) *) يوحدونه ويعبدونه " * (ولا تضرونه شيئا) *) بتوليكم وإعراضكم وإنما تضرون أنفسكم، وقيل: معناها لا تقدرون له على خير إن أراد أن يضلكم، وقرأ عبد الله: ولا يضره هلاككم إذا أهلككم ولا تنقصونه شيئا، لأنه سواء عنده كنتم أو لم تكونوا.
" * (إن ربي على كل شيء حفيظ) *) أي لكل شيء حافظ، على بمعنى اللام، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.
" * (ولما جاء أمرنا) *) عذابنا " * (نجينا هودا والذين آمنوا معه) *) وكانوا أربعة آلاف " * (برحمة) *) بنعمة " * (منا ونجيناهم من عذاب غليظ) *) وقيل: الريح، قيل: أراد بالعذاب الغليظ عذاب القيامة أي كما نجيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجيناهم في الآخرة من العذاب.
" * (وتلك عاد) *) رده إلى القبيلة " * (جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله) *) يعني هودا وحده لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سوى هود، ونظيره قوله تعالى " * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) *) يعني النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هاهنا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل.
" * (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) *) متكبر لا يقبل الحق ولا يذعن له، قال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند والمعاند: المعارض لك بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي يفجر دما فلا يرقى: عاند قال الراجز:
إني كبير لا أطيق العندا
" * (وأتبعوا) *) ألحقوا وأردفوا " * (في هذه الدنيا لعنة) *) يعني بعدا وعذابا وهلاكا " * (ويوم القيامة) *) أي وفي يوم القيامة أيضا كذلك لعنوا في الدنيا والآخرة " * (ألا إن عادا كفروا ربهم) *) أي بربهم، كما يقال: شكرته وشكرت له، وكفرته وكفرت به ونصحته ونصحت له، قيل بمعنى: كفروا نعمة ربهم.
" * (ألا بعدا لعاد قوم هود) *) البعد بعدان: أحدهما البعد ضد القرب، يقال: بعد يبعد بعدا، والآخر بمعنى الهلاك ويقال منه: بعد يبعد بعدا وبعدا.
175

2 (* (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب مجيب * قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هاذا أتنهانآ أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونآ إليه مريب * قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى منه رحمة فمن ينصرنى من الله إن عصيته فما تزيدوننى غير تخسير * وياقوم هاذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فىأرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب * فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام ذالك وعد غير مكذوب * فلما جآء أمرنا نجينا صالحا والذين ءامنوا معه برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز * وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيهآ ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) *) 2
" * (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم) *) ابتدأ خلقكم " * (من الأرض) *) وذلك أن آدم خلق من الأرض وهم منه " * (واستعمركم فيها) *) وجعلكم عمارها وسكانها، قال ابن عباس: أعاشكم فيها، الضحاك: أطال أعماركم، مجاهد: أعمركم من العمر أي جعلها داركم وسكنكم، قتادة: أسكنكم فيها.
" * (فاستغفروا ثم توبوا إليه إن ربي قريب) *) ممن رجاه " * (مجيب) *) لمن دعاه.
" * (قالوا) *) يعني قوم ثمود " * (يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) *) القول أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا، وقيل: كنا نرجو أن تعود إلى ديننا " * (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) *) من الآلهة.
" * (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) *) موقع في الريبة وموجب إليها، يقال: أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة، قال الهذلي:
كنت إذا أتيته من غيب
يشم عطفي ويبز ثوبي
كأنما أربته بريب
" * (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة) *) نبوة وحكمة " * (فمن ينصرني من الله) *) لا يمنعني من عذاب الله " * (إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير) *) قال ابن عباس: غير خسارة في خسارتكم، الفراء: تضليل، قال الحسين بن الفضيل: لم يكن صالح في خسارة حين قال، علمت علم العرب، فما تزيدونني غير تخسير، وإنما المعنى ما تزيدونني، كما يقولون: ما أسبق إياكم إلى الخسارة، وهو قول العرب: فسقته وفجرته إذا نسبته إلى الفسق والفجور، وكذلك خسرته: نسبته إلى الخسران.
176

" * (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية) *) نصب على الحال والقطع " * (فذروها) *) أي دعوها تأكل في أرض الله من العشب والنبات فليس عليكم رزقها ولا مؤنتها.
" * (ولا تمسوها بسوء) *) ولا تصيبوها بعقر ونحر " * (فيأخذكم) *) إن قتلتموها " * (عذاب قريب) *) من عقرها " * (فعقروها فقال) *) لهم صالح " * (تمتعوا) *) حتى يحين (عذابه) * * (في داركم) *) منازلكم " * (ثلاثة أيام) *) تمهلون " * (ذلك وعد غير مكذوب) *) غير كذب وقيل: غير مكذوب فيه.
" * (فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة) *) نعمة وعصمة " * (منا ومن خزي يومئذ) *) عذابه وهوانه.
" * (إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة) *) يعني صيحة جبريل " * (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) *) صرعى، هلكى " * (كأن لم يغنوا) *) يقيموا ويكونوا " * (فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) *).
2 (* (ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جآء بعجل حنيذ * فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قآئمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب * قالت ياويلتا ءألد وأنا عجوز وهاذا بعلى شيخا إن هاذا لشىء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) *) 2
" * (ولقد جاءت رسلنا) *) يعني الملائكة، واختلفوا في عددهم، فقال ابن عباس: كانوا ثلاثة: جبرئيل وميكائيل وإسرافيل. الضحاك: تسعة، السدي: أحد عشر، وكانوا على صورة الغلمان الوضاء وجوههم.
" * (إبراهيم) *) الخليل " * (بالبشرى) *) بالبشارة بإسحاق ويعقوب، وبإهلاك قوم لوط " * (قالوا) *) لإبراهيم " * (سلاما) *) سلموا عليه ونصب " * (سلاما) *) بإيقاع القول عليه، لأن السلام قول أي (مثل) قالوا وسلموا سلاما (قال) إبراهيم (سلام) أي عليكم سلام، وقيل: لكم سلام وقيل: رفع على الحكاية، (قيل: الحمد لله) (وقولوا حطة)، وقرأ حمزة والكسائي سلام بكسر السين من غير ألف ومثله في والذاريات، وكذلك هو في مصحف عبد الله ومعناه: نحن سلام صالح لكم غير حرب، وقيل: هو بمعنى السلم أيضا كما يقال: حل وحلال، وحرم وحرام. وأنشد الفراء:
مررنا فقلنا إيه سلم فسلمت
كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح
177

" * (فما لبث) *) فما أقام ومكث إبراهيم " * (أن) *) بمعنى حتى بإسقاط الخافض أي بأن " * (جاء بعجل حنيذ) *) قال ابن عباس: مشوي بالحجارة الحارة في خد من الأرض، قتادة ومجاهد: نضج بالحجارة وشوي، ابن عطية: شوي بعضه بحجارة، أبو عبيدة: كل ما أسخنته فقد حنذته فهو حنيذ ومحنوذ وأصل يحنذ أن إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق.
" * (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه) *) أي للعجل " * (نكرهم) *) أي: أنكرهم، ويقال: نكرت الشيء وأنكرته بمعنى واحد. قال الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فجمع المعنيين في وقت واحد.
" * (وأوجس منهم خيفة) *) أضمر وأحس منهم خوفا، وقال مقاتل: وقع في قلبه، الأخفش: خامر نفسه. الفراء: استشعر. الحسن: حدث نفسه، وأصل الوجوس الدخول، وكان الخوف دخل قلبه. قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجئ لخير وأنه يحدث نفسه بشر.
" * (قالوا لا تخف) *) يا إبراهيم فإنا ملائكة الله " * (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) *) قال الوالبي: لما عرف إبراهيم أنهم ملائكة خاف أنه وقومه المقصودون بالعذاب؛ لأن الملائكة كانت تنزل إذ ذاك بالعذاب، نظير ما في الحجر " * (ما تتنزل الملائكة إلا بالحق) *) أي بالعذاب، قالت الملائكة: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط لا إلى قومك.
" * (وامرأته) *) سارة بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغوا بن فالغ وهي ابنة عم إبراهيم " * (قائمة) *) من وراء الستر تسمع كلام الملائكة وكلام إبراهيم، وقيل: كانت قائمة (......) الرسل وإبراهيم جالس معهم فهو كلام أولي، وقرأ ابن مسعود: وامرأته قائمة وهو جالس " * (فضحكت) *).
واختلفوا في العلة الجالبة للضحك، فقال السدي: لما قرب إليهم الطعام فلم يأكلوا خاف إبراهيم فظنهم لصوصا، فقال لهم: ألا تأكلون؟ فقالوا: يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن، قال: فإن لهذا ثمنا، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله وتحمدون على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال: حق أن يتخذك خليلا، فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل
178

إليه نكرهم، فضحكت سارة وقالت: إنا قمنا لأضيافنا هؤلاء أنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا.
وقال قتادة: فضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال مقاتل والكلبي: فضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر وهو فيما بين خدمه وحشمه، وقال ابن عباس ووهب: ضحكت عجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها، وقالوا: هو من التقديم الذي معناه التأخير، وكان بمعنى: (......) وامرأته قائمة.
" * (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) *) فضحكت وقالت " * (يا ويلتي أألد وأنا عجوز) *) الآية، وقيل: ضحكت سرورا بالأمن عليهم لما قالوا: لا تخف. وقال مجاهد وعكرمة: فضحكت أي حاضت في الوقت، تقول العرب: ضحكت الأرنب إذا حاضت، وقال الشاعر:
وضحكت الأرانب فوق الصفا
كمثل دم الخوف يوم اللقا
" * (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) *) قال ابن عباس والشعبي: الوراء ولد الولد، واختلف القراء في قوله: يعقوب، فنصبه ابن عامر وعاصم وقيل: في موضع جر في الصفة أي من وراء إسحاق بيعقوب، فلما حذف الباء نصب، وقيل: بإضمار فعل له، ووهبنا له يعقوب. ورفعه الآخرون على خبر حذف الصفة، فلما بشرت بالولد والحفيد " * (صكت وجهها) *) أي ضر الله تعجبا " * (وقالت يا ويلتي) *) والأصل: يا ويلتاه " * (أألد وأنا عجوز) *) وكانت لتسعين سنة في قول ابن إسحاق، وتسع وتسعين سنة في قول مجاهد.
" * (وهذا بعلي) *) زوجي سمي بذلك لأنه قيم أمرها كما سمي مالك الشيء بعله، والنخل الذي استغنى بالأمطار عن ماء الأنهار يسمى بعلا " * (شيخا) *) وكان إبراهيم ابن مائة سنة في قول مجاهد، وعشرين ومائة سنة في قول ابن إسحاق.
" * (إن هذا لشيء عجيب) *) فقالت الملائكة " * (أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) *) يعني هنا إبراهيم " * (إنه حميد مجيد) *) قال السدي: قالت سارة لإبراهيم (عليه السلام): ما آية قولك؟ قال: فأخذ بيده عودا يابسا فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر فقال إبراهيم: هو لله إذا ذبيحا.
(* (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجآءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب * يإبراهيم أعرض عن هاذآ إنه قد جآء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود * ولما جآءت رسلنا
179

لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هاذا يوم عصيب * وجآءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم هاؤلاء بناتى هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون فى ضيفى أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا فى بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لى بكم قوة أو آوىإلى ركن شديد * قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من اليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب * فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هى من الظالمين ببعيد) *) 2
" * (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) *) الخوف " * (وجاءته البشرى) *) بإسحاق ويعقوب " * (يجادلنا) *) في (.......) لأن إبراهيم لا يجادل ربه إنما يسأله ويطلب إليه.
وقال عامة أهل التفسير معناه يجادل رسلنا وذلك أنهم لما قالوا: إنا مهلكوا أهل هذه القرية، قال لهم: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا لا، فقال إبراهيم: وأربعون؟
قالوا: لا، قال: أو ثلاثون؟ قالوا: لا، قال: حتى بلغ عشرة، قالوا: لا، فقال: خمسة قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونه؟ قالوا: لا، فقال إبراهيم عند ذلك: إن فيها لوطا، فقالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين.
قال ابن جريج: وكان في قرى لوط أربعة آلاف ألف، قال قتادة: في هذه الآية لا يرى مؤمن إلا لوط المؤمن، فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم: " * (يا إبراهيم
أعرض عن هذا) *) أي دع عنك الجدال، وأعرض عن هذا المقال " * (إنه قد جاء أمر ربك) *) عذاب ربك " * (وإنهم آتيهم) *) نازل بهم، يعني قوم لوط " * (عذاب غير مردود) *) غير مدفوع ولا ممنوع.
" * (ولما جاءت رسلنا) *) يعني الملائكة " * (لوطا سئ بهم) *) حزن لمجيئهم، يقال: سؤته فسيء مثل شغلته فانشغل، وسررته فانسر " * (وضاق بهم ذرعا) *) قلبا " * (وقال هذا يوم عصيب) *) شديد، ومنه عصبصب، كالعصب به الشر والبلاء أي شد ومنه عصابة الرأس، قال عدي بن زيد:
وكنت لزاز خصمك لم أعرد
وقد سلكوك في يوم عصيب
وقال آخر:
وانك إلا ترض بكر بن وائل
يكن لك يوم بالعراق عصيب
180

وقال الراجز:
يوم عصيب يعصب الأبطالا
عصب القوي السلم الطوالا
وذلك أن لوطا (عليه السلام) لم يكن يعلم أنهم رسل الله في تلك الحال، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيان الفواحش فخاف عليهم، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه
قال قتادة والسدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام نحو قرية لوط فأتوا لوطا وهو في أرض يعمل فيها، وقد قال الله تعالى لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطا أربع شهادات، واستضافوه فانطلق معهم، فلما خشي عليهم، قال لهم: ما بلغكم، أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا يقول، ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله، ولم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، وقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط.
" * (وجاءه قومه يهرعون إليه) *) قال ابن عباس وقتادة والسدي: يسرعون، ومجاهد: يهرولون، الضحاك: يسعون، ابن عيينة: كأنهم يدفعون، شمر بن عطية: مشي بين الهرولة والجمزى، الحسن: مشي بين مشيتين، قال أهل اللغة: يقال: أهرع الرجل من برد وغضب أو أهرع إذا أرعد فهو مهرع إذا كان معجلا مسرعا، قال مهلهل:
فجاءوا يهرعون وهم أسارى
يقودهم على رغم الأنوف
وقال الراجز:
بمعجلات نحوه مهارع
" * (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) *) أي من قبل مجيء الرسل إلى لوط كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، فقال لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان: " * (يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) *) واختلفوا في معنى قوله، قال محمد بن الفضل: يعني على شريعة الإسلام. وقال تميم: فلعل ذلك إلا إذا كان تزويجه بناته من الكفرة جائزا كما زوج النبي صلى الله عليه وسلم بنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وكانا كافرين، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: أراد بقوله بناتي: النساء، وكل نبي أبو أمته. وقرأ بعض القراء " * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) *) وهو أب لهم، وقال بعضهم: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما بنتيه، زعوراء وريثا.
181

وقوله: (هن أطهر لكم) قراءة العامة برفع الراء، وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو: (أطهر) بالنصب على الحال، فإن قيل: فأي طهارة في نكاح الرجال حتى قال لبناته هن أطهر لكم؟ قيل: ليس هذا زيادة النسل، إنما يقال ليس ألف (أطهر) للتفضيل وهذا سائغ جائز في كلام العرب كقول الناس: الله أكبر، فهل يكابر الله أحد حتى يكون هو أكبر منه؟ ويدل عليه ما روي عن أبي سفيان حين قال يوم أحد: أعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: (قل الله أعلى وأجل)، وهبل لم يكن قط عاليا.
" * (واتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي) *) أي لا تهينوني فيهم بركوبهم، وهم لا يركبون، وعجزي من دفعهم عنهم. وقيل: أراد ولا تشهروني بهم. تقول العرب: خزي خزيا إذا افتضح، وخزي يخزي خزاية بمعنى الاستحياء، قال ذو الرمة:
خزاية أدركته بعد جولته
من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب
" * (أليس فيكم رجل رشيد) *) صالح، قال ابن عباس: معناه رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
" * (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) *) أي ليس لنا أزواجا (نلتصقهن) بالتزويج " * (وإنك لتعلم ما نريد) *) من إتيان الأضياف، فقال لهم لوط عند ذلك " * (ولو أن لي بكم قوة) *) أي منعة وشيعة تنصرني " * (أو آوي إلى ركن شديد) *) أي ألجأ وأنضوي إلى عشيرة مانعة، وجواب " * (لو) *) مضمر (تقديره: لرددت أهل الفساد)، وقالوا: ما بعث الله بعده نبيا إلا في ثروة من قومه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال: (رحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد).
قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسور الجدار، فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب والنصب بسببهم، قالوا: يا لوط إن ركنك لشديد وإنهم آتيهم عذاب غير مردود " * (إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) *) فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب ودخلوا، فاستأذن جبريل (عليه السلام) ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وله جناحان (وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا أجلى الجبين، ورأسه (حبك حبك) مثل المرجان وهو اللؤلؤ كأنه ثلج، وقدماه إلى الخضرة فقال: يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، امض يا
182

لوط من الباب، ودعني وإياهم، فتنحى لوط عن الباب فخرج عليهم فنشر جناحه فضرب به) وجوههم فطمس أعينهم فعموا وانصرفوا على أعقابهم فلم يعرفوا طريقا ولم يهتدوا إلى بيوتهم.
فانصرفوا وهم يقولون: النجا النجا فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقد سحرونا، وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى نصبح، يتوعدونه، فقال لهم لوط: متى موعد هلاكهم؟ فقالوا: الصبح قال: أريد أسرع من ذلك أن تهلكونهم الآن، فقالوا: أليس الصبح بقريب
قالوا له: فأسر بأهلك، قرأ أهل الحجاز بوصل الألف من سرى يسري ويدل عليه قوله تعالى: " * (والليل إذا يسري) *) وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يسري اعتبارا بقوله " * (سبحان الذي أسرى بعبده) *) وهما بمعنى واحد.
" * (فأسر بأهلك بقطع من الليل) *) قال ابن عباس: بطائفة من الليل، الضحاك: ببقية، قتادة: بعد مضي صدره، الأخفش: بعد جنح، وقيل: بعد هدوء، وبعضها قريب من بعض.
" * (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) *) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: أمراتك برفع التاء على الاستثناء من الالتفات أي ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وإن لوطا خرج بها، ونهى من معه ممن أسرى بهم أن يلتفت سوى زوجته، فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها.
وقرأ الباقون بنصب المرأة على الاستثناء من الأهل، أي فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ولا يلتفت منكم أحد، فإنه مصيبها ما أصابهم من العذاب غير مخطيها ولا يخطيهم.
" * (إن موعدهم الصبح) *) أي إن موعد هلاكهم هو الصبح، فقال لوط: أريد أسرع من ذلك، فقالوا: " * (أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا) *) عذابنا " * (جعلنا عاليها سافلها) *) وذلك أن جبريل (عليه السلام) أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات سدوم وعامورا ودادوما وصبوا، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم جعل عاليها سافلها.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى سماك بأسماء ففسرها لي، قال الله في وصفك " * (ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين) *) فأخبرني عن قوتك، قال: يا محمد رفعت قرى قوم لوط من تخوم الأرض على جناحي في الهواء حتى سمعت ملائكة سماء الدنيا أصواتهم وأصوات الديكة ثم قلبتها ظهرا لبطن، قال: فأخبرني عن قوله " * (مطاع) *) قال: إن رضوان خازن الجنان، ومالكا خازن النيران متى كلفتهما فتح أبواب الجنة والنار فتحاهما لي، قال: فأخبرني عن قوله " * (أمين) *) قال: إن الله عز وجل أنزل من السماء مائة وأربعة كتب على أنبيائه لم يأتمن عليها غيري).
183

" * (وأمطرنا عليها) *) أي على شذاذها وسافليها، وقال أبو عبيدة: مطر في الرحمة، وأمطر في العذاب " * (حجارة من سجيل) *) قال مجاهد: أولها حجر وآخرها طين، وقال ابن عباس ووهب وسعيد بن جبير (سنك): و (كل) حجارة وطين، قتادة وعكرمة: السجيل: الطين دليله قوله تعالى " * (لنرسل عليهم حجارة من طين) *) قال الحسن: كان أصل الحجارة طينا فشددت.
وروى عكرمة أيضا أنه قال: هو حجر معلق في الهواء بين الأرض والسماء منه أنزل الحجارة، وقيل: هو جبال في السماء وهي التي أشار الله إليها فقال: " * (ونزل من السماء من جبال فيها من برد) *) وقال أهل المعاني: السجيل والسجين واحد، وهو الشديد من الحجر والضرب. قال ابن مقبل:
ورجلة يضربون البيض عن عرض
ضربا تواصت به الأبطال سجينا
والعرب تعاقب بين اللام والنون، قالوا: لأنها كلها ذلقة من مخرج واحد ونظيره في الكلام هلت العين وهنت إذا أصيبت وبكت، وقيل: هو فعيل من قول العرب أسجلته إذا أرسلته فكأنها مرسلة عليهم، وقيل: من سجلت لهم سجلا إذا أعطيتهم كأنهم أعطوا ذلك البلاء والعذاب، قال الفضل بن عباس:
من يساجلني يساجل ماجدا
يملأ الدلو إلى عقد الكرب
" * (منضود) *) قال ابن عباس: متتابع، قتادة: بعضها فوق بعض، الربيع: قد نضد بعضه على بعض، عكرمة: مصفوف، أبو بكر الهذلي: معد وهي من عدة
(الله) التي أعدت للظلمة.
" * (مسومة) *) من نعت الحجارة، وهي نصب على الحال ومعناها معلمة قتادة وعكرمة: مطوقة بها نضح من حمرة، ابن جريج: كانت لا تشاكل حجارة الأرض، الحسن والسدي: مختومة، وقيل: مشهورة، ربيع: مكتوب على كل حجر اسم من رمي به.
" * (وما هي) *) يعني تلك الحجارة " * (من الظالمين) *) من مشركي مكة " * (ببعيد) *) قال مجاهد: يرهب بها قريشا، قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة والله ما أجار الله منها ظالما بعد، وقال أنس بن مالك: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل (عليه السلام) عن قوله تعالى " * (وما هي من الظالمين ببعيد) *) قال: يعني بها ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلا هو يعرف أي حجر سقط عليه.
184

2 (* (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إنىأراكم بخير وإنىأخاف عليكم عذاب يوم محيط * وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تعثوا فى الارض مفسدين * بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ * قالوا ياشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل فىأموالنا ما نشؤا إنك لانت الحليم الرشيد * قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقنى منه رزقا حسنا ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقىإلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب * وياقوم لا يجرمنكم شقاقىأن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود * قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ومآ أنت علينا بعزيز * قال ياقوم أرهطىأعز عليكم من الله واتخذتموه ورآءكم ظهريا إن ربى بما تعملون محيط * وياقوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إنى معكم رقيب * ولما جآء أمرنا نجينا شعيبا والذين ءامنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيهآ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود * ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون ومآ أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا فى هاذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود * ذالك من أنبآء القرى نقصه عليك منها قآئم وحصيد * وما ظلمناهم ولاكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم ءالهتهم التى يدعون من دون الله من شىء لما جآء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب * وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد * إن فى ذالك لآية لمن خاف عذاب الاخرة ذالك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لاجل معدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد * فأما الذين شقوا ففى النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شآء ربك إن ربك فعال لما يريد * وأما الذين سعدوا ففى الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شآء ربك عطآء غير مجذوذ * فلا تك فى مرية مما يعبد هاؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد ءاباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) *) 2
" * (وإلى مدين) *) يعني وأرسلنا إلى قوم مدين بن إبراهيم، " * (أخاهم شعيبا) *) بن شرون بن أيوب بن مدين بن إبراهيم.
" * (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان) *) وكانوا يطففون
185

" * (إني أراكم بخير) *) قال ابن عباس (ح): موسرين في نعمة، الحسن: الغنى ورخص السعر، قتادة: المال وزينة الدنيا، الضحاك: رغد العيش وكثرة المال، مجاهد: خصب وسعة، وغيرهم في غلاء السعر وزوال النعمة وحلول النقمة إن لم يتوبوا " * (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) *) محيط بكم فلا يفلت منكم أحد.
" * (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان) *) اكتالوا بالقسط " * (ولا تبخسوا) *) ولا تنقصوا " * (الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) *) قال ابن عباس: ما أبقى الله لكم من الحلال، وإيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف، قال مجاهد: الطاعة، سفيان: رزق الله، قتادة: حظكم من ربكم، ابن زيد: الهلاك في العذاب والبقية: الرحمة، الفراء: مراقبة الله " * (وما أنا عليكم بحفيظ) *) وإنما قال هذا لأن شعيبا لم يؤمر بالقتال.
" * (قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) *) من الأوثان، قال ابن عباس: كان شعيب كثير الصلاة لذلك قالوا هذا، قال الأعمش: يعني قراءتك " * (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) *) يعني أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وقرأ بعضهم: تفعل وتشاء بالتاء يعني: تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء فيكون راجعا إلى الأمر لا إلى الترك.
قال أهل التفسير: كان هذا نهيا لهم عنه وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم. فلذلك قالوا: وأن نفعل ما نشاء " * (إنك لأنت الحليم الرشيد) *) قال ابن عباس: السفية الغاوي. قال القاضي: والعرب تصف الشيء بضده، للتطير والفأل كما قيل للديغ: سليم، وللفأرة: مفازة.
وقيل: هو على الاستهزاء، كقولهم للحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض: أبو الجون، ومنه قول خزنة النار لأبي جهل: " * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) *). وقيل: معناه الحليم الرشيد بزعمك وعندكن ومثله في صفة أبي جهل، وقال ابن كيسان: هو على الصحة أي أنك يا شعيب لنا حليم رشيد، فليس يجمل بك شق عصا قومك ولا مخالفة دينهم، كقول قوم صالح له: * (يا صالح قد كنت فينا مرجوا) * * (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة) *) حجة وبصيرة وبيان وبرهان " * (من ربي ورزقني منه رزقا حسنا) *) حلالا طيبا من غير بخس ولا تطفيف، وقيل: علما ومعرفة " * (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) *) ما أريد أن أنهاكم عن أمر وأرتكبه " * (إن أريد) *) ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه " * (إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) *) أي أرجع فيما ينزل بي من النوائب، وقيل: إليه أرجع في الآخرة.
186

" * (ويا قوم لا يجرمنكم) *) لا يحملنكم " * (شقاقي) *) خلافي وفراقي " * (أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح) *) من العذاب " * (وما قوم لوط منكم ببعيد) *) وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط، وقيل: ما دار قوم لوط منكم ببعيد " * (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود) *) محب المؤمنين، وقيل: مودود للمؤمنين ومحبوبهم.
" * (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا) *) وذلك أنه كان ضريرا، قال سفيان: كان ضعيف البصر، وكان يقال له خطيب الأنبياء " * (ولولا رهطك) *) عشيرتك وكان في عزة ومنعة من قومه " * (لرجمناك) *) لقتلناك " * (وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا) *) قيل: الهاء راجعة إلى الله وقيل: إلى أمر الله وما جاء به شعيب، أي نبذتموه وراء ظهوركم وتركتموه، يقال: جعلت أمري بظهر إذا قصر في أمره وأخل بحقه.
" * (إن ربي بما تعملون محيط ويا قوم اعملوا على مكانتكم) *) أي تؤدتكم ومكانكم، يقال: فلان يعمل على مكانته ومكنته إذا عمل على تؤده تمكن. ويقال: مكن يمكن مكنا مكانا ومكانة، " * (إني عامل فسوف تعلمون) *) أينا الجاني على نفسه، والأخطى في فعله، وذلك قوله " * (من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب) *) قيل:
" * (من) *) في محل النصب أي فسوف تعلمون من هو كاذب، وقيل: ويخزي من هو كاذب، وقيل: محله رفع تقديره: ومن هو كاذب فيعلم كذبه ويذوق وبال أمره " * (فارتقبوا) *) وانتظروا العذاب " * (إني معكم رقيب) *) منتظر.
" * (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة) *) صيحة من السماء أخذتهم وأهلكتهم، ويقال: إن جبريل صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم.
" * (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) *) ميتين ساقطين هلكى صرعى " * (كأن لم يغنوا) *) يكونوا " * (فيها ألا بعدا) *) هلاكا وغضبا " * (لمدين كما بعدت) *) هلكت " * (ثمود ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين) *) حجة بينة " * (إلى فرعون وملائه واتبعوا أمر فرعون) *) وخالفوا أمر موسى " * (وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه) *) أي يتقدمهم ويقودهم إلى النار يوم القيامة " * (فأوردهم النار وبئس الورد المورود) *) وبئس المدخل المدخول فيه.
" * (واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) *) العون المعان، وذلك أنه ترادفت عليهم اللعنات، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة.
" * (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد) *) خراب، ابن عباس: قائم ينظرون إليه، وحصيد قد خرب وهلك أهله، مقاتل: قائم يعني له أثر، وحصيد لا أثر له، مجاهد:
187

قائم: خاوية على عروشها وحصيد: مستأصل يعني محصودا كالزرع إذا حصد، قال قتادة: القائم منها لم يذهب أصلا، ومنها حصيد قد ذهب أصلا، القرضي: منها قائم بجدرانهاوحيطانها، وحصيد: ساقط، محمد بن إسحاق: منها قائم يعني (.....) وأمثالها من القرى التي لم تهلك، وحصيد يعني التي قد أهلكت.
" * (وما ظلمناهم) *) بالعذاب والأهلاك " * (ولكن ظلموا أنفسهم) *) بالكفر والمعصية يظلمون " * (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله لما جاء أمر) *) عذاب " * (ربك وما زادوهم غير تتبيب) *) غير تخسير.
" * (وكذلك) *) وهكذا أخذ ربك " * (إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) *) نظير قوله: * (إن بطش ربك لشديد) * * (إن في ذلك) *) لعبرة وعظة " * (لمن خاف عذاب الآخرة ذلك) *) يعني يوم القيامة " * (يوم مجموع له الناس) *) قال عبد الله بن مسعود لأصحابه: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد تسمعون الداعي (......) * * (وذلك يوم مشهود) *) يشهده أهل السماء وأهل الأرض.
" * (وما نؤخره) *) يعني وما نؤخر ذلك اليوم ولا نقيم عليكم القيامة " * (إلا لأجل معدود) *) أي مؤقت لا يتقدم ولا يتأخر " * (يوم يأتي) *) وقرئ بإثبات الياء وحذفه، وهما لغتان وحذف الياء له طريقان كالكسرة عن الياء والضمة من الواو، كقول الشاعر:
كفاك كف ما تليق ودرهما
جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
" * (لا تكلم) *) أي: لا تتكلم " * (نفس إلا بإذنه) *) نظير " * (تنزل الملائكة) *) أي: تتنزل.
قال لبيد:
والعين ساكبة على أطلائها
عوذا تأجل بالفضاء بهامها
(أي تتأجل).
" * (فمنهم شقي وسعيد) *) قال ابن عباس: فمنهم شقي كتبت عليه السعادة، وروى عبد الله ابن دينار عن ابن عمر عن عمر، قال: لما نزلت هذه الآية سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله
188

فعلى ما عملنا، على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ فقال صلى الله عليه وسلم (على شيء قد فرغ منه يا عمر، وجرت به الأقلام ولكن كل ميسر لما
خلق له).
وروي عنه (عليه السلام): (الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه).
" * (فأما الذين شقوا ففي النار خالدين فيها لهم فيها زفير وشهيق) *) قال ابن عباس: الزفير: الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف، الضحاك ومقاتل: الزفير: أول نهيق الحمار، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا ردده في الجوف. أبو العالية: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر " * (خالدين) *) لابثين ومقيمين " * (فيها ما دامت السماوات والأرض) *) يسمى هنا " * (ما) *) الوقت.
قال ابن عباس: ما دامت السماوات والأرض من ابتدائها إلى وقت فنائها، قال الضحاك: ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما، وكل ما علاك فأظلك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض.
قال الحسين: أراد ما دامت الآخرة كدوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بقائها، قال أهل المعاني: العرب (...) في معنى التأبيد والخلود، يقولون: هو باق ما (...) وأطت الإبل، وأينع الثمر، وأورق الشجر، ومجن الليل وسال سيل، وطرق طارق، وذر شارقن ونطق ناطق، وما اختلف الليل والنهار، وما اختلف الذرة والجمرة، وما دام عسيب، وما لألأت العفراء ونابها، وما دامت السماوات والأرض، فخاطبهم الله تعالى بما تعارفوا بينهم.
ثم استثنى فقال: " * (إلا ما شاء ربك) *) اختلف العلماء في هذين الاستثناءين، من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة، فقال بعضهم هو في أهل التوحيد الذين يخرجهم الله من النار.
قال ابن عباس: وما شاء ربك أن يخرج أهل التوحيد منها، وقال في قوله في وصف السعداء: ألا ما شاء ربك أن يخلدهم في الجنة، وقال قتادة: في هذه الآية الله أعلم بها، وذكر لنا أن ما أقوله سيصيبهم سفع من النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم الله منها، وعلى هذا القول يكون استثناء من غير جنسه لأن الأشقياء في الحقيقة هم الكافرون، والسعداء في الحقيقة هم المؤمنون
189

وقال أبو مجلز: هو جزاؤه إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم، ولا يدخلهم النار، وفي وصف السعداء إلا ما شاء ربك بقاءهم في الجنة. قال ابن مسعود: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها إلا ما شاء ربك. وهو أن يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ثم يجدد خلقهم.
قال: وليأتين على جهنم زمان تغلق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا، وقال الشعبي: جهنم أسرع الدارين عمرا وأسرعهما خرابا، وقال ابن زيد: في هذه الآية أخبرنا بالذي أنشأ لأهل الجنة فقال: هذا غير مجذوذ، ولم يخبرنا بالذي أنشأ لأهل النار، وقال ابن كيسان: إلا ما شاء ربك من الفريقين من تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار، وقيل: ما شاء ربك من احتباس الفريقين في البرزخ ما بين الموت والبعث.
الزجاج: في هذه الآية أربعة أقوال: قولان منها لأهل اللغة، وقولان لأهل المعاني، فأما أحد قولي أهل اللغة فإنهم قالوا: " * (إلا) *) ههنا بمعنى سوى كما يقال في الكلام: ما كان معنا رجل إلا زيد، ولي عليك ألف درهم إلا الألفان التي لي عليك، فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود، والقول الثاني: إنه استثنى من الاخراج وهو لا يريد أن يخرجهم منها، كما يقول في الكلام: أردت أن أفعل كذا إلا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل، والمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنه أعلمهم أنهم خالدون فيها، قال الزجاج: فهذان مذهبا أهل اللغة.
وأما قولا أهل المعاني، فإنهم قالوا: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك من مقدار مواقفهم على رأس قبورهم وللمحاسبة إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم، وقال الفراء: معناه: وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة، و " * (إلا) *) بمعنى الواو سائغ جائز في اللغة، قال الله تعالى " * (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) *) ومعناه، ولا الذين ظلموا، وأنشدني أبو ثروان:
من كان أشرك في تفرق فالج
فلبونه جربت معا وأغدت
إلا كناشرة الذي ضيعتم
كالغصن في غلوائه المثبت
معناه، لكن هنا كناشرة، وهي كاسم قبيلة، وقال: معناه كما شاء ربك كقوله " * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) *) معناه كما قد سلف.
" * (وأما الذين سعدوا) *) قرأ أهل الكوفة: (سعدوا) بضم السين أي رزقوا السعادة، وسعد وأسعد بمعنى واحد، وقرأ الباقون بفتح السين قياسا على الذين شقوا، واختاره أبو عبيد وأبو
190

حاتم " * (ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) *). الضحاك: إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة، أبو سنان: إلا ما شاء ربك من الزيادة على قدر مدة دوام السماء والأرض، وذلك هو الخلود فيها، قال الله " * (عطاء غير مجذوذ) *) غير مقطوع.
وكيع بن الجراح: كفرت الجهمية بأربع آيات من كتاب الله، قال الله تعالى في وصف نعيم الجنة " * (مقطوعة ولا ممنوعة) *) وقالت الجهمية: يقطع فيمنع عنهم، وقال الله " * (أكلها دائم وظلها) *) وقالوا: لا يدوم، وقال الله " * (وما عندكم ينفد وما عند الله باق) *) وقالوا: لا يبقى، وقال الله " * (عطاء غير مجذوذ) *) وقالوا: يجذ ويقطع.
" * (ولا تك) *) يا محمد " * (في مرية) *) في شك " * (مما يعبد هؤلاء) *) فهم ضلال.
" * (ما يعبدون إلا كما يعبد) *) فيه إضمار أي: (كعبادة) * * (آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم) *) حظهم من الجزاء " * (غير منقوص) *).
2 (* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب * وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير * فاستقم كمآ أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أوليآء ثم لا تنصرون * وأقم الصلواة طرفى النهار وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذالك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) *) 2
" * (ولقد آتينا) *) أعطينا " * (موسى الكتاب فاختلف فيه) *) ممن صدف عنه وكذب به، كما فعل قومك بالقرآن يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم " * (ولولا كلمة سبقت من ربك) *) في تأخير العذاب " * (لقضي بينهم) *) أفرغ من عقابهم وإهلاكهم، يعني المختلفين المخالفين.
" * (وأنهم لفي شك منه مريب) *) موقع في الريب والتهمة، يقال: أراب الرجل، أي جاء بريبة، وألام إذا أتى بما يلام عليه، قال الشاعر:
تعد معاذرا لا عذر فيها
ومن يخذل أخاه فقد ألاما
" * (وأن كلا لما) *) اختلف فيه القراء، فقرأ ابن عامر وأبو جعفر وحمزة " * (وأن) *) بتخفيف النون " * (ولما) *) بتشديد الميم على معنى فأن كلا لما " * (ليوفينهم) *)، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة، كقول الشاعر:
كان من أخرها لقادم
مخرم نجد فارع المحارم
191

أراد إلى القادم، فحذف اللام عند اللام وتكون " * (ما) *) بمعنى من تقديره لممن يوفينهم، كقول الشاعر:
وأني لما أصدر الأمر وجهه
إذا هو أعيا بالسبيل مصادره
وقيل: أراد وأن كلا لما بالتنوين والتشديد، قرأها الزهري بالتنوين أي وإن كلا شديدا وحقا ليوفينهم " * (ربك أعمالهم) *) من قوله تعالى: كلا لما، أي شديدا فحذفوا التنوين وأخرجوه على هذا فعلى، كما فعلوا في قوله: ثم أرسلنا رسلنا تترى، وقرأ نافع وابن كثير بتخفيف النون والميم على معنى إن الثقيلة مخفف، وأنشد أبو زيد:
ووجه مشرق النحر كأن ثدييه حقان
أراد كان فخفف ونصب به، و " * (ما) *) صلة تقديره وإن كلا ليوفينهم. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب وحفص وأيوب وخلف بتشديد النون وتخفيف الميم على معنى وأن كلا ليوفينهم، جعلوا " * (ما) *) صلة. وقيل: أرادوا وأن كلا لممن كقوله " * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) *) أي من. وقرأ أبو بكر بن عياش بتخفيف النون وتشديد الميم أراد أن الثقيلة فخففها.
وقيل: " * (أن) *) بمعنى " * (ما) *) الجحد و " * (لما) *) بمعنى " * (إلا) *) تقديره وما كلا إلا ليوفينهم، ولكنه نصب كلا بإيقاع التوفية عليه أي ليوفين كلا وهو أبعد القراءات فيها من الصواب، " * (إنه بما تعملون خبير) *).
" * (فاستقم) *) يا محمد على أمر ربك والعمل به والدعاء إليه " * (كما أمرت) *) أن لا تشرك بي شيئا وتوكل علي مما ينوبك، قال السدي: الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.
" * (ومن تاب معك) *) فليستقيموا، يعني المؤمنين " * (ولا تطغوا) *) ولا تجاوزوا أمري، وقال ابن زيد: ولا تعصوا الله ولا تخالفوه، وقيل: ولا تتخيروا.
" * (إنه بما تعملون بصير) *) لا يخفى عليه من أعمالكم شيء، قال ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب، فقال: (شيبتني سورة هود وأخواتها).
" * (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) *) قال ابن عباس: ولا تميلوا على غيهم ولا تدهنوا لهم
192

قال، أبو العالية: لا ترضوا على أعمالهم. قتادة: لا تلحقوا بالمشركين. السدي وابن زيد، ولا تداهنوا الظلمة، ابن كيسان: لا تسكنوا إلى الذين ظلموا.
" * (فتمسكم) *) تصيبهم النار " * (وما لكم من دون الله من أولياء) *) أي أعوان يمنعون " * (ثم لا تنصرون وأقم الصلاة طرفي النهار) *) يعني الغداة والعشي، قال ابن عباس: يعني صلاة العصر والمغرب. مجاهد: صلاة الفجر وصلاة العشاء، القرظي: هي الفجر والظهر والعصر، الضحاك: صلاة الفجر والعصر، (وقيل: الطرفان) صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف.
" * (وزلفا من الليل) *) يعني صلاة العتمة، وقال الحسن: هما المغرب والعشاء، قال الأخفش: يعني ساعات الليالي واحدتها زلفة، وأصل الزلفة المنزلة والقربة، ومنه المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة، قال العجاج:
طي الليالي زلفا فزلفا
سماوة الهلال حتى أحقوقفا
وفيه أربع لغات زلفا: بفتح الفاء وضم اللام وهي قراءة العامة، وقرأ أبو جعفر بضم الزاي واللام، وقرأ ابن محيصن بضم الزاي وجزم اللام، وقرأ مجاهد زلفى، مثل قربى.
" * (إن الحسنات يذهبن السيئات) *) يعني: إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات، هذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: هي قول العبد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
نزلت هذه الآية في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري وكان يبيع التمر فأتته امرأة تبتاع تمرا فقال: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه، فهل لك فيه، فقالت: نعم، فذهب بها إلى بيته فضمها إليه وقبلها، فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل راود امرأة عن نفسها ولم يبق شيئا مما يفعل الرجال بالنساء إلا ركبه غير أنه لم يجامعها، فقال عمر بن الخطاب: لقد ستر الله عليك لو سترت على نفسك، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، وقال: أنظر فيه أمر ربي، وحضرت صلاة العصر، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر، فلما فرغ أتاه جبريل بهذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أين أبو اليسر؟) فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، قال: (أشهدت معنا هذه الصلاة؟) قال: نعم، قال: (اذهب فإنها كفارة لما عملت) فقال عمر: يا رسول الله أهذا له خاصة أم لنا عامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم (بل للناس عامة).
" * (ذلك) *) الذي ذكرناه، وقيل: هو إشارة إلى القرآن " * (ذكرى) *) عظة " * (للذاكرين واصبر) *) يا
193

محمد على ما تلقى من الأذى، وقيل: على الأذى، وقيل: على الصلاة، نظير قوله * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) * * (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) *) من أعمالهم، وقال فيه ابن عباس: يعني المصلين.
2 (* (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد فى الارض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا مآ أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون * ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذالك خلقهم وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين * وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجآءك فى هاذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين * وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والارض وإليه يرجع الامر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) *) 2
" * (فلولا كان) *) فهلا كان " * (من القرون) *) التي أهلكناهم " * (من قبلكم أولو بقية) *) أصحاب دين وعقل " * (ينهون عن الفساد في الأرض) *) ومعناه: فلم يكن، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد " * (إلا قليلا) *) استثناء منقطع " * (ممن أنجينا منهم) *) وهم أتباع الأنبياء وأهل الحق.
" * (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) *) قال ابن عباس: ما أنظروا فيه، وروي عنه: أبطروا. الضحاك: اعتلوا، مقاتل بن سليمان: أعطوا، ابن حيان: خولوا، مجاهد: تجبروا في الملك وعتوا عن أمر الله، الفراء: ما سودوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا على الآخرة " * (وكانوا مجرمين) *) كافرين " * (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم) *) (بظلم منه لهم) * * (وأهلها مصلحون) *) في أعمالهم غير مسيئين، لكنه يهلكها بكفرهم وإتيانهم السيئات، وقيل: معناه لم يكن ليهلكهم بشركهم وأهلها مصلحون فيما بينهم لا يتظالمون، ويتعاطون الحق بينهم وإن كانوا مشركين، وإنما يهلكهم إذا ظلموا.
" * (ولو شاء ربك لجعل الناس) *) كلهم " * (أمة) *) جماعة " * (واحدة) *) على ملة واحدة " * (ولا يزالون مختلفين) *) على أديان شتى من يهودي ونصراني ومجوسي ونحو ذلك " * (إلا من رحم ربك) *) ويعني بهم المؤمنون وأهل الحق.
" * (ولذلك خلقهم) *) قال الحسن ومقاتل بن حيان ويمان وعطاء: وللاختلاف خلقهم، قال الأشهب: سألت مالكا عن هذه الآية فقال: خلقهم ليكون فريق في الجنة، وفريق في السعير، وقيل: اللام بمعنى على، أي وعلى ذلك خلقهم، كقول الرجل للرجل: أكرمتك على برك بي ولبرك بي، ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة: وللرحمة خلقهم ولم يقل: ولتلك، والرحمة مؤنثة لأنها مصدر وقد مضت هذه المسألة، وهذا باب سائغ في اللغة (وهو أن يذكر) لفظان
194

متضادان ثم يشار إليهما بلفظ التوحيد فمن ذلك قوله تعالى " * (لا فارض ولا بكر) *) ثم قال: " * (عوان بين ذلك) *)، وقوله " * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) *) وقوله: " * (قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا) *) فكذلك معنى الآية، ولذلك أي وللاختلاف والرحمة خلقهم أحسن خلق، هؤلاء لجنته، وهؤلاء لناره.
" * (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) *) قال ابن عباس: نسدد، الضحاك: نقوي، ابن جريج: نصبر حتى لا تجزع، أهل المعاني: ما نثبت به قلبك.
" * (وجاءك في هذه الحق) *) قال الحسن وقتادة: في هذه الدنيا، وقال غيرهما: في هذه السورة، " * (وموعظة وذكرى للمؤمنين وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا) *) ما يحل بنا من رحمة الله " * (إنا منتظرون) *) ما يحل بكم من النقمة.
" * (ولله غيب السماوات والأرض) *) قال ابن عباس: خزائن الله، الضحاك: جميع ما غاب عن العباد، وقال الباقون: غيب نزول العذاب من السماء " * (وإلينا يرجع الأمر كله) *) في المعاد حتى لا يكون للخلق أمر، وقرأ نافع وحفص بضم الياء أي يرجع " * (فاعبده) *) وحده " * (وتوكل عليه) *) توثق به
" * (وما ربك بغافل عما تعملون) *) قال كعب: خاتمة التوراة خاتمة هود والله أعلم. يعملون قراءة العامة بالياء، وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء.
195

((سورة يوسف))
عليه السلام
مكية، وهي سبعة آلاف وستة وسبعون حرفا، وألفوسبعمائة وستة وسبعون كلمة، ومائة وإحدى عشرة آية
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقرئ غير مرة، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد ابن إبراهيم الجرجاني، وأبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصفهاني قالا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، قال: حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي، قال: حدثنا سلام بن سليم المدائني، قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (علموا أرقاءكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الر تلك ءايات الكتاب المبين * إنآ أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هاذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين) *) 2
" * (الر تلك آيات الكتاب المبين) *) يعني البين حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وهداه وبركته، قال معاذ بن جبل: بين فيه الحروف التي سقطت من ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف.
" * (إنا أنزلناه) *) يعني الكتاب " * (قرآنا عربيا) *) بلغتكم يا معشر العرب " * (لعلكم تعقلون) *) لكي تعلموا معانيه وتقيموا ما فيه " * (نحن نقص عليك) *) أي نقرأ، وأصل القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى " * (وقالت لأخته قصيه) *) فالقاص يتتبع الآثار ويخبر بها.
" * (أحسن القصص) *) يعني قصة يوسف " * (بما أوحينا إليك) *) و " * (ما) *) المصدر أي بإيحائنا إليك هذا القرآن " * (وإن كنت من قبله) *) من قبل وحينا " * (لمن الغافلين) *) قال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا، وكأنهم ملوا فقالوا: لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى " * (نحن نقص عليك أحسن القصص) *) الآية، فقالوا: يا رسول الله لو ذكرتنا وحدثتنا فأنزل الله تعالى " * (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم) *) الآية، فقال الله تعالى على هذه الآية: أحسن القصص.
واختلف الحكماء فيها لم سميت أحسن القصص من بين الأقاصيص؟ فقيل: سماها أحسن
196

القصص لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة، وقيل: سماها أحسن لامتداد الأوقات فيما بين مبتداها إلى منتهاها، قال ابن عباس: كان بين رؤيا يوسف ومصير أبيه وأخوته إليه أربعون سنة، وعليه أكثر المفسرين، وقال الحسن البصري: كان بينهما ثمانون سنة.
وقيل: سماها أحسن القصص لحسن مجاورة يوسف إخوته، وصبره على أذاهم، وإغضائه عند الالتقاء بهم عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم وقيل: لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والأنس والجن والأنعام والطير، وسير الملوك والمماليك، والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء، وحيلهن ومكرهن، وفيها أيضا ذكر التوحيد والعفة والسير وتعبير الرؤيا والسياسة وتدبير المعاش، وجعلت أحسن القصص لما فيها من المعاني الجزيلة والفوائد الجليلة التي تصلح للدين والدنيا، وقيل: لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب. وقيل: أحسن القصص هاهنا بمعنى أعجب.
" * (إذ قال يوسف) *) قراءة العامة يوسف بضم السين، وقرأ طلحة بن مصرف بكسر السين، واختلفوا فيه فقال أكثرهم: هو اسم عبري فلذلك لا يجري، وقال بعضهم: هو اسم عربي.
سمعت أبا القاسم الحبيبي، قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا الحسن الأقطع، وكان حكيما، وسئل عن يوسف، فقال: الأسف: الحزن، والأسيف: العبد واجتمعا في يوسف فلذلك سمي يوسف.
" * (لأبيه) *) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام). روى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام)).
" * (يا أبت) *) قرأ أبو جعفر وابن عامر بفتح التاء في جميع القرآن على تقدير يا أبتاه، وقرأ الباقون بالكسر، لأنه أصله يا أبه على هاء الوقف والجر.
" * (إني رأيت أحد عشر كوكبا) *) نصب الكوكب على التمييز، " * (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) *) ولم يقل: رأيتها لي ساجدة، والهاء والميم والياء والنون من كنايات ما يعقل؛ لأن السجود فعل ما يعقل فعبر عنها بكنايتها كقوله " * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) *) الآية.
روى السدي عن عبد الرحمن بن (ساريا)، عن جابر، قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود يقال له بستان، فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها، فسكت؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (هل أنت مؤمن إن أخبرت بأسمائها؟) قال: نعم،
197

فقال: (حرثان والطارق والذيال وذو النقاب وقابس ووثاب وعمودان والمصبح والفليق والضروح وذو الفرغ، رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء فسجدن له) فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها.
قال ابن عباس: الشمس والقمر أبواه والكواكب إخوته الأحد عشر. وقال قتادة: الشمس أبوه والقمر خالته، وذلك أن أمه راحيل كانت قد ماتت، قال وهب: وكان
يوسف رأى وهو ابن سبع سنين، أن احدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة ثبتت عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه، فقال له: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن اثني عشرة سنة أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدن له فقصها على أبيه فقال له: " * (لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) *) فيبغوا لك الغوايل ويحتالوا في إهلاكك، لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدونك " * (إن الشيطان للإنسان عدو مبين) *).
واختلف النحاة في وجه دخول اللام في قوله لك، فقال بعضهم: معناه فيكيدوك واللام صلة، كقوله " * (لربهم يرهبون) *) وقال آخرون: هو مثل قولهم: نصحتك ونصحت لك، وشكرتك وشكرت لك، وحمدتك وحمدت لك، وقصدتك وقصدت لك.
" * (وكذلك يجتبيك ربك) *) كقوله: (يصطفيك ويختارك) ليوسف " * (ويعلمك من تأويل الأحاديث) *) تعبير الرؤيا وسمي تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رأى في منامه " * (ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم) *) بالخلة وإنجائه من النار قال عكرمة: بأن نجاه من الذبح وفداه بذبح عظيم. وقال الباقون: بإخراج يعقوب، والأسباط من صلبه.
" * (إن ربك عليم حكيم) *) ولهذا قيل: العرق نزاع والأصل لا يخطئ، فلما بلغت هذه الرؤيا إخوة يوسف حسدوه، قال ابن زيد: كانوا أنبياء، وقالوا: ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه، فبغوه بالعداوة.
(* (إذ قال يوسف لابيه ياأبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين * قال يابنى لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين * وكذالك
198

يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلىءال يعقوب كمآ أتمهآ على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم * لقد كان فى يوسف وإخوته ءايات للسآئلين * إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قآئل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه فى غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين * قالوا ياأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون * قال إنى ليحزننىأن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنآ إذا لخاسرون * فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينآ إليه لتنبئنهم بأمرهم هاذا وهم لا يشعرون * وجآءوا أباهم عشآء يبكون * قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ومآ أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجآءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) *) 2
يقول الله تعالى: " * (لقد كان في يوسف) *) أي في خبره وخبر إخوته " * (وإخوته) *) وأسماؤهم روبيل وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهودا، وزيالون، وأمنجر، وأمهم ليا بنت إيان وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريتين له اسم إحداهما زاد والأخرى ملده، أربعة نفر، دان ونفتالي وجاد وآشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا.
" * (آيات) *) قرأ أهل مكة آية على الواحد، أي عظة وعبرة، وقيل: عجب، يقال: فلان آية في الحسن والعلم أي عجب، وقرأ الباقون: آيات على الجمع " * (للسائلين) *) وذلك أن اليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة فعجبوا منه وقالوا: من أين لك هذا يا محمد؟ قال: (علمنيه ربي) وقيل: معناه للسائلين ولمن لم يسأل، كقوله: * (سواء للسائلين) * * (إذ قالوا ليوسف) *) اللام فيه جواب القسم تقديره: تالله ليوسف وأخوه بنيامين " * (أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة) *) أي جماعة والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى الخمسة عشر، وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط " * (إن أبانا لفي ضلال مبين) *) خطأ بين في إيثاره يوسف وأخاه علينا.
" * (اقتلوا يوسف) *) اختلفوا في تأويل هذا القول، فقال وهب: قاله شمعون، كعب: دان، مقاتل: روبيل " * (أو اطرحوه أرضا) *) أي في أرض " * (يخل لكم) *) يخلص ويصفو لكم.
" * (وجه أبيكم) *) عن شغله بيوسف فإنه قد شغله عنا وصرف وجهه إليه عنا " * (وتكونوا من
199

بعده) *) من بعد قتل يوسف " * (قوما صالحين) *) تائبين، وقال مقاتل: يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم.
" * (قال قائل منهم) *) وهو روبيل، وقال السدي: هو يهودا، وهو أعظمهم وكان ابن خالة يوسف، وكان أحسنهم فيدايا نهاهم عن قتله وقال لهم: " * (لا تقتلوا يوسف) *) فإن قتله عظيم.
" * (وألقوه في غيابة الجب) *) أي في قعر الجب وظلمته حيث يغيب خبره، قتادة: في أسفله، والغيابة: كل شيء غيب شيئا، وأصلها من الغيبوبة، وقرأ أهل المدينة: غيابات الجب، على الجمع، والباقون: غيابة، على الواحد، والجب: البئر غير المطوية، قتادة: هو بئر بيت المقدس، وقال وهب: هو بأرض الأردن، كعب: بين مدين ومصر، مقاتل: على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب.
" * (يلتقطه) *) بعض السيارة يأخذه، قراءة العامة بالياء لأنه البعض وقرأ الحسن: تلتقطه بالتاء لأجل السيارة، والعرب تفعل ذلك في كل خبر كان عن مضاف إلى مؤنث يكون الخبر عن بعضه خبرا عن جميعه، كقول الشاعر:
أرى مر السنين أخذن مني
كما أخذ السرار من الهلال
ولم يقل أخذت وقال الآخر:
إذا مات منهم سيد قام سيد
فدانت له أهل القرى والكنائس
" * (بعض السيارة) *) بعض ماري الطريق من المسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى فينستر خبره " * (إن كنتم فاعلين) *) ما أقول لكم.
قيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب؟ ولهذا قيل: الأب جلاب، والأخ سلاب، فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضرب من الاحتيال، فقالوا ليعقوب " * (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا) *) قرأ أبو جعفر بالنون، وقرأ الباقون بإشمام النون للضمة، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأن أصله تأمننا بنونين فأدغمت أحدهما في الأخرى.
" * (وإنا له لناصحون) *) نحوطه ونحفظه حتى نرده إليك، مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير وذلك أن أخوة يوسف قالوا لأبيهم " * (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون) *) قال أبوهم: " * (إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) *) فحينئذ قالوا " * (مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا) *) إلى الصحراء " * (يرتع ويلعب) *).
200

وقرأ أبو عمرو بالنون فيهما وكذلك ابن عامر قال، هارون: فقلت لأبي عمرو: كيف تقرأ نرتع ونلعب وهم أنبياء؟ قال: لم يكونوا يومئذ أنبياء، وقرأ أهل الكوفة كلاهما بالياء أي ننعم ونأكل وننشط ونلهو، يقال: رتع فلان في ماله إذا أنعم وأنفقه في شهواته. قال القطامي:
أكفرا بعد رد الموت عني
وبعد عطائك المائة الرتاعا
وقال ابن زيد: معناه يرعى غنمه، وينظر ويعقل فيعرف ما يعرف الرجل.
وقرأ يعقوب " * (نرتع) *) بالنون " * (ويلعب) *) بالياء ردا للعب إلى يوسف والرتوع إلى إخوته، وقرأ أهل الحجاز نرتع بكسر العين من الارتعاء، أي نتحارس ويحفظ بعضنا بعضا * (وإنا له لحافظون) * * (قال) *) لهم يعقوب " * (إني ليحزنني أن تذهبوا به) *) أي ذهابكم " * (وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) *) لا تشعرون، وذلك أن يعقوب رأى في منامه أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره، ومن ثم قال هذا فلقنهم العلة وكانوا لا يدرون فقالوا: " * (لئن أكله الذئب ونحن عصبة) *) عشرة رجال " * (إنا إذا لخاسرون) *) ضعفة عجزة مغبونون.
" * (فلما ذهبوا به) *) في الكلام إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلما ذهبوا به " * (وأجمعوا) *) وعزموا على " * (أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه) *) هذه الواو مقحمة زائدة تقديره أوحينا، كقوله تعالى " * (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه) *) أي ناديناه وقال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل
أراد انتحى.
" * (لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) *) يعني أوحينا إلى يوسف، (سوف تتحقق) رؤياك، ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا وما فعلوه بك، وهم لا يشعرون بوحي الله إليه وإعلامه إياه ذلك، وهذا معنى قول مجاهد، وقيل: معناه وهم لا يشعرون أنك يوسف.
قال ابن عباس: لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن وقال: أنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، يدنيه دونكم، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب ثم جئتم أباكم فقلتم: إن
201

الذئب أكله وبعتموه بثمن بخس، فذلك قوله " * (لتنبنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) *).
قال السدي: أرسل يعقوب يوسف معهم فأخرجوه وبه عليهم من الكرامة، فلما برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يجد منهم رحمة، فضربوه حتى كادوا يقتلونه فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه يا يعقوب، لو تعلم ما يصنع بابنك هؤلاء الأبناء.
فلما كادوا ليقتلوه قال يهودا: أليس سألنا أبانا موثقا ألا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فجعلوا يدلونه في البئر، فتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال: يا إخوتاه، ردوا علي القميص أتوارى به في الجب، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، قال: إني لم أر شيئا.
فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيه فقام عليها، فلما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه فقام يهودا فمنعهم وقال: قد أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه، وكان يهودا يأتيه بالطعام.
ويقال: إن الله تعالى أمر صخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر فوقف يوسف عليها وهو عريان، وكان إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار جرد من ثيابه وقذف في النار عريانا فأتاه جبريل (عليه السلام) بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه وكان ذلك (القميص) عند إبراهيم، فلما مات ورثه إسحاق، فلما مات إسحاق ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلقه في عنقه، فكان لا يفارقه، فلما ألقي في البئر عريانا جاء جبرئيل وكان عليه ذلك
التعويذ فأخرج القميص منه وألبسه إياه، قال ابن عباس: ثم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف.
" * (وجاؤا أباهم عشاء يبكون) *) ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار وترويج ما مكروا، وقد قيل: لا تطلب الحاجة بالليل وإن الحياء في العينين، ولا يعتذر من ذنب في النهار فيتلجلج في الاعتذار فلا يقدر على إتمامه، وقيل: أخروا المجيء إلى وقت العشاء الآخرة ليدلسوا على أبيهم
قال السدي: فلما سمع أصواتهم فزع وقال: ما لكم يا بنى؟ وهل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما أصابكم؟ وأين يوسف؟
202

" * (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق) *) أي نترامى، دليله قول عبد الله: ننتضل، السدي وابن حيان: نشتد " * (وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن) *) مصدق " * (لنا ولو كنا صادقين) *) لسوء ظنك بنا وتهمتك لنا، وهذا قميصه ملطخ بالدم فذلك قوله " * (وجاؤا على قميصه بدم كذب) *) أي بدم كذب، وقيل: بدم ذي كذب لأنه لم يكن دم يوسف وإنما كان دم شاة، وهذا كما يقال: الليلة الهلال، وقيل: معناه بدم مكذوب فيه، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال: ماله عقل ولا معقول.
وقرأت عائشة: بدم كدب بالدال غير المعجمة، أي طري، فبكى يعقوب عند ذلك، وقال لبنيه: أروني قميصه فأروه، فقال: يالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يخرق عليه قميصه، فحينئذ " * (قال بل سولت لكم أنفسكم) *) رتبت " * (لكم أمرا فصبر) *) أي فمني أو فعلي صبر، وقيل: فصبري صبر " * (جميل) *) وقرأ الأشهب والعقيلي: فصبرا على المصدر أي فلأصبرن صبرا جميلا، وهو الصبر الذي لا جزع ولا شكوى فيه.
وقيل: معناه لا أعاشركم على كآبة الوجه وحبوس الحنين، بل أكون في المعاشرة معكم جميلا كما كنت.
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن حبيب بن ثابت أن يعقوب النبي (عليه السلام) كان قد سقط حاجباه على عينيه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له: ما هذا؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
" * (والله المستعان على ما تصفون) *) من الكذب، قالوا: وكان يوسف حين ألقي في الجب ابن ثماني عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة، وقيل: كان ابن عشر، ومكث فيه ثلاثة أيام.
2 (* (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هاذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين * وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا وكذالك مكنا ليوسف فى الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث والله غالب على أمره ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذالك نجزى المحسنين) *) 2
" * (وجاءت سيارة) *) أي رفقة مارة من قبل مدين يريدون مصر، فأخطأوا الطريق فانطلقوا يمشون على غير الطريق حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدا من العمران، إنما هو للرعاة والمجتازة، وكان ماؤه مالحا فعذب حين ألقي فيه يوسف، فلما نزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر ليطلب لهم الماء فذلك قوله " * (فأرسلوا واردهم) *) الوارد: الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء، فوصل إلى البئر " * (فأدلى) *) فيها
203

" * (دلوه) *) أي أرسلها يقال: أدليت الدلو في الماء إذا أرسلتها فيها، ودلوتها دلوا إذا أخرجتها منها، فتعلق يوسف (عليه السلام) بالحبل، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (أعطي يوسف شطر الحسن والنصف الآخر لسائر الناس)، قال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساقين والساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، وكان إذا ابتسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع النور، ينبهر بين ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم (عليه السلام) يوم خلقه الله وصوره ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة وكانت قد أعطيت سدس الحسن.
فلما رآه مالك بن ذعر " * (قال يا بشرى هذا غلام) *) واختلفت القراء في قوله: يا بشري، فقرأ أهل الكوفة بسكون الياء، وقالوا: نادى مالك في رجلا من أصحابه، اسمه بشري، فقال: يا بشر، كما يقول: يا زيد، وهذا في محل رفع على النداء المفرد، وهذا قول السدي.
وقرأ الباقون: يا بشراي بالألف وفتح الياء على الإضافة وقالوا: بشر المستقي أصحابه بأنه أصاب عبدا.
" * (وأسروه) *) وأخفوه " * (بضاعة) *) نصب على الحال، قال مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين معه وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الماء إلى مصر خيفة أن يطلبوا منهم فيه الشركة إن علموا بثمنه، عطية عن ابن عباس: يعني بذلك إخوة يوسف، أسروا شأن يوسف أن يكون أخاهم وقالوا: هو عبد لنا أبق منا.
قال الله تعالى " * (والله عليم بما تعملون) *) فأتى يهودا يوسف بالطعام فلم يجده في البئر فأخبر أخوته بذلك فطلبوه، فإذا هم مالك وأصحابه نزول، فأتوهم فإذا هم بيوسف فقالوا: هذا عبد أبق منا، وقال وهب: كان يهودا (مستندا) من بعيد ينظر ما يطرأ على يوسف، فلما أخرجوه رآه فأخبر الآخرين، فأتوا مالكا وقالوا: هذا عبدنا، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، فقال مالك: أنا اشتريه منكم، فباعوه منه فذلك قوله تعالى " * (وشروه) *) أي باعوه، قال ابن مفرغ الحميري:
وشريت بردا ليتني
من بعد برد كنت هامه
أي بعت بردا وهو غلامه.
" * (بثمن بخس) *) ناقص وهو مصدر وضع موضع الاسم، قال قتادة: ظلم، الضحاك ومقاتل
204

والسدي: حرام، لأن ثمن الحر حرام، عكرمة والشعبي: قليل، ابن حيان: زيف " * (دراهم) *) بدل من الثمن " * (معدودة) *) وذكر العدد عبارة عن القلة، أي باعوه بدراهم معدودة قليلة غير موزونة، ناقصة غير وافية، وقال قوم: إنما قال معدودة لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقل من أربعين درهما، إنما كان يعدونها عدا، فإذا بلغ أوقية وزنوه، لأن أقل أوزانهم وأصغرها يومئذ كان أوقية، والأوقية أربعون درهما.
واختلف العلماء في مبلغ عدد الدراهم التي باعوه بها، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن قتادة والسدي: عشرون درهما، فاقتسموها درهمين درهمين، مجاهد: اثنان وعشرون درهما، عكرمة: أربعون درهما.
" * (وكانوا) *) يعني أخوة يوسف " * (فيه) *) في يوسف " * (من الزاهدين) *) لم يعلموا كرامته على الله ولا منزلته عنده.
ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق، فذهبوا حتى قدموا به مصر، فاشتراه قطفير، قاله ابن عباس، وقيل: اطفير بن روجيت وهو العزيز وكان على خزائن مصر.
وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها الريان بن الوليد بن ثروان بن ارامة بن فاون بن عمرو ابن عملاق بن لاود بن سام بن نوح، وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه ثم مات ويوسف بعد حي، فملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن اليبلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوي بن سام بن نوح وكان كافرا فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل.
قال ابن عباس: لما دخلوا مصر تلقى قطفير مالك بن ذعر فابتاع يوسف منه بعشرين دينارا وزوج نعل وثوبين أبيضين، وقال ابن منبه: قدمت السيارة بيوسف مصر (فعرضوه) للبيع فترافع الناس في ثمنه وتزايد حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا فابتاعه قطفير بن مالك بهذا الثمن فذلك قوله تعالى " * (وقال الذي اشتراه من مصر) *).
فإن قيل: كيف أثبت الشرى في قوله وشروه واشتراه ولم ينعقد عليه؟ والجواب: إن الشراء هو المماثلة فلما ماثله بمال من عنده جاز أن يقال: اشتراه، على التوسع، كقوله تعالى: " * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) *) الآية، فلما مر قطفير وأتى به منزله قال لامرأته واسمها راحيل بنت رعابيل، قاله محمد بن إسحاق بن يسار.
قال الثعلبي: وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن منبه، قال: حدثنا أبو حامد المستملي، حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: اسم امرأة العزيز التي ضمت يوسف زليخا بنت موسى
205

" * (أكرمي مثواه) *) منزله ومقامه، قتادة وابن جريج: منزلته " * (عسى أن ينفعنا) *) فيكفينا إذا بلغ وفهم الأمور وبعض ما نحن (نستقبله) من أمورنا.
" * (أو نتخذه ولدا) *) أي نتبناه، قال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء، وكانت امرأته راحيلحسناء ناعمة طاعمة في ملك ودنيا.
قال الثعلبي: أخبرنا أبو بكر الجوزقي، أخبرنا أبو العباس الدغولي، حدثنا علي بن الحسن الهلالي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن أبي عبيد عن عبد الله قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال: أكرمي مثواه، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها: يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر.
" * (وكذلك) *) أي وكما أنقذ يوسف من أيدي إخوته وقد هموا بقتله فأخرجناه من الجب بعد أن ألقي فيه، فصيرناه إلى الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر " * (مكنا له في الأرض) *) يعني أرض مصر، فجعلناه على خزائنها، قال أهل الكتاب: لما تمت ليوسف (عليه السلام) ثلاثون سنة، استوزره فرعون.
" * (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) *) أي ولكي نعلمه من عبارة الرؤيا، مكنا له في الأرض " * (والله غالب على أمره) *) اختلفوا في هذه الكناية، فقال قوم: هي راجعة إلى الله عز وجل، وتقدير الكلام: لا يغلب الله شيء، بل هو الغالب على أمره يفعل ما يشاء، ويعلم ما يريد، وقال آخرون: راجعة إلى يوسف، ومعنى الآية: والله مستول على أمر يوسف يسوسه ويحوطه ويدبر أمره، ولا يكله إلى غيره.
" * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *) ما الله صانع بيوسف، و (ما) إليه يوسف من أمره صائر، وهم الذين زهدوا فيه وباعوه بثمن بخس وفعلوا به ما فعلوا.
قالت الحكماء في هذه: والله غالب على أمره حيث أمر يعقوب يوسف (عليهما السلام) أن لا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حين قص، ثم أراد يعقوب أن لا يكيدوا فغلب أمره حتى كادوا، ثم أراد أخوة يوسف قتله فغلب أمره حتى لم يقتلوه، ثم أرادوا أن يلقوه في الجب ليلتقطه بعض السيارة فيندرس اسمه، فغلب أمره حتى لم يندرس اسمه وصار مذكورا مشهورا.
ثم باعوه ليكون مملوكا فغلب أمره حتى صار ملكا والعبيد بين يديه، ثم أرادوا أن يخلوا لهم وجه أبيهم، فغلب أمره حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، ثم تدبروا أن يكونوا من بعده قوما
206

صالحين تائبين، فغلب أمره حتى نسوا الذنب وأصروا حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد أربعين سنة، وقالوا: وإن كنا خاطئين، وقالوا لأبيهم: إنا كنا خاطئين.
ثم أرادوا أن يغروا باسم القميص والدم والبكاء، فغلب أمره حتى لم يخدع، وقال: " * (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) *) ثم احتالوا أن تذهب محبته من قبل أبيه، فغلب أمره حتى ازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم تدبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي، فغلب أمره حتى نسي الساقي في ذكره، ولبث في السجن بضع سنين، ثم احتالت امرأة العزيز أن (تترك) المراودة عن نفسها حتى قالت " * (ما جزاء من أراد بأهلك سوء) *) الآية، فغلب أمره حتى شهد الشاهد من أهلها.
" * (ولما بلغ أشده) *) أي منتهى شبابه وشدة قوته، قال مجاهد: ثلاثا وثلاثين سنة، الضحاك: عشرين سنة، وروى ابن عباس أنه ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وقيل: إلى أربعين، وقيل: إلى ستين، والأشد: جمع شد، مثل قد، أقد، وشر وأشر، وضر وأضر، قال حميد:
وقد أتى لو تعبت العواذل
بعد الأشل أربع كوامل
قال الشاعر:
هل غير أن كثر الأشل وأهلكت
حرب الملوك أكاثر الأموال
" * (آتيناه حكما وعلما) *) قال مجاهد: العقل والفهم والعلم قبل النبوة، وقال أهل المعاني: يعني إصابة في القول، وعلما بتأويل الرؤيا وموارد الأمور ومصادرها.
" * (وكذلك نجزي المحسنين) *) قال ابن عباس: المؤمنين، وعنه أيضا: المهتدين، وقال (الصدوق) عن الضحاك: يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف، وقال محمد بن كعب: هذا وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن، فإن المراد به محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: كما فعلت بيوسف بعدما لقي من إخوته ما لقي وقاسى من البلاء ما قاسى فمكنته في الأرض، ووطأت له في البلاد، وآتيته الحكم والعلم فكذلك أفعل بك، أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض، وأزيدك الحكم والعلم؛ لأن ذلك جزائي لأهل الإحسان في أمري ونهيي.
(* (وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربىأحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون * ولقد همت به وهم بها لولاأن رأى برهان ربه كذالك
207

لنصرف عنه السوء والفحشآء إنه من عبادنا المخلصين * واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزآء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهد من أهلهآ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هاذا واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين) *) 2
" * (وراودته التي هو في بيتها) *) يعني امرأة العزيز، وطلبت منه أن يواقعها " * (وغلقت الأبواب) *) وكانت سبعة.
" * (وقالت هيت لك) *)، اختلف القراء فيه، فقرأ ابن عباس والسلمي وأبو وائل وقتادة: هئت لك بكسر الهاء وضم التاء مهموزا، بمعنى تهيأت لك، وأنكرها أبو عمرو، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: سمعت أبا عمرو وسئل عن قراءة من قرأ: هئت لك بكسر الهاء وهمز الياء فقال أبو عمرو: باطل، جعلها من تهيأت، اذهب واستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن، هل تعرف أحدا يقول هذا؟
وقال الكسائي أيضا: لم يحك هئت عن العرب، وقال عكرمة: هئت لك: أي زينت لك وحسنت وهي قراءة غير مرضية، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وعبد الله بن أبي إسحاق: هيت لك بفتح الهاء وكسر التاء، وقرأ يحيى بن وثاب: هيت بكسر الهاء وضم التاء، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء وضم التاء، وأنشد طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا
ما قال داع من العشيرة هيت
هم يجيبون إذا هم سراعا
كالأبابيل لا يغادر بيت
وقرأ أهل المدينة والشام بكسر الهاء وفتح التاء، وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء، وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم واللغة المعروفة عند العرب، الشعبي عن عبد الله بن مسعود: أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم هيت لك.
وروى الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قرأ هيت لك، فقيل له: هيت لك، فقال ابن مسعود: إنما نقرأها كما تعلمناها وسمعناها جميعا هلم وأقبل وادن، قال الشاعر (يخاطب) أمير المؤمنين علي (ح):
أبلغ أمير المؤمنين أهل العراق إذا أتيتا
أن العراق وأهله سلم (إليك) فهيت هيتا
208

قال السدي: هي بالقبطية هلم لك، وقال الحسين: هيت لك كلمة بالسريانية أي عليك، قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول هي لغة لأهل حوران وقعت إلى الحجاز معناها تعال، قال أبو عبيد: سألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم، وكذا قال عكرمة، وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها وهي كلمة حث وإقبال على الشيء، وأصلهما من (الدعوة) والصياح تقول العرب: هيت فلان بفلان إذا دعاه وصاح به، قال الشاعر:
قد رابني أن الكري أسكتا
لو كان معنيا بها لهيتا
أي صاح به، والكري المكاري.
وقال أستاذنا أبو االقاسم بن حبيب: رأيت في بعض التفاسير هيت لك يقول: هل لك رغبة في حسني وجمالي، وذكر أبو عبيدة أن العرب لاتثني هيت ولا تجمع ولا تؤنث، وإنها بصورة واحدة في كل حال وإنما تتميز بما بعدها وبما قبلها.
قال يوسف (عليه السلام) عند ذلك: " * (معاذ الله) *) أعتصم وأستجير بالله مما دعوتني إليه وهو مصدر تقديره: عياذا بالله.
" * (إنه ربي) *) يعني إن زوجك قطفير سيدي، " * (أحسن مثواي) *) أي منزلتي، وعلى هذا أكثر المفسرين، قال بعضهم: إنها مردودة إلى الله " * (أحسن مثواي) *) أي آواني ومن بلاء الحب عافاني.
" * (إنه لا يفلح الظالمون) *) يعني إن فعلت، وأتمنني هذا فخنته في أهله بعدما أكرمني وأتمنني وأحسن مثواي فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون، وقيل الزناة.
" * (ولقد همت به وهم بها) *) يعني الهم بالشيء: حديث المرء نفسه به، ولما يفعل ذلك. يقول الشاعر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني
تركت على عثمان تبكي حلائله
فأما ما كان من هم يوسف (عليه السلام) بالمرأة وهمتها به، فإن أهل العلم (اختلفوا) في ذلك، فروى سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس سئل: ما بلغ من هم يوسف قال: حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع.
وروى ابن جريح عن ابن أبي عطية، قال: سألت ابن عباس (ح): ما بلغ من هم يوسف، قال: استلقت له على قفاها وقعد بين رجليها لينزع ثيابه.
209

سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله، مجاهد: حل السراويل حتى بلغ الثفن، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته.
الضحاك: جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بيده إلى جيد يوسف، وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما.
قال السدي وابن إسحاق: لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه إلى نفسها فقالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك قال: هو أول ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن عينك قال: هي أول ما تسيل إلى الأرض من جسدي، قالت: ما أحسن وجهك قال: هو للتراب يأكله، فلم تزل تطيعه مرة وتخيفه أخرى وتدعوه إلى اللذة، وهو شاب مستقبل بجد من شبق الشباب ما يجد الرجل، وهي حسناء جميلة حتى لان لها مما يرى من كلفها به ولما يتخوف منها حتى خليا في بعض البيوت وهم بها، فهذه أقاويل المفسرين من السلف الصالحين.
وقالت جماعة من المتأخرين: لا يليق هذا بالأنبياء (:) فأولوا الآية بضروب من التأويل، وقال بعضهم: وهم بالفرار منها، وهذا لا يصح لأن الفرار مذكور وليس له في الآية ذكر، وقيل: هم بضربها ودفعها، وقيل: هم بمخاصمتها ومرافعتها إلى زوجها، وقيل: وهم بها هو كناية عن غير مذكور، وقيل: تم الكلام عند قوله: ولقد همت به ثم ابتدأ الخبر عن يوسف وقال: وهم بها.
" * (لولا أن رأى برهان ربه) *): على التقديم والتأخير تقديرها: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ولكنه رأى البرهان فلم يهم كقوله: " * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان) *)
وهذا فاسد عند أهل اللغة لأن العرب لا تقدم جواب (لولا) قبلها، لا يقول: لقد قمت لولا زيد، وهو يريد، لولا زيد لقمت، جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: همت بيوسف أن يفترشها وهم بها يوسف يعني تمناها أن تكون له زوجة.
وهذه التأويلات التي حكيناها كلها غير قوية ولا مرضية لمخالفتها أقوال القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم التأويل، وهم قد أخذوا عن الذين شهدوا التنزيل.
وكما روي في الخبر الصحيح أن يوسف لما دخل على الملك وأقرت المرأة، وقال يوسف: " * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) *) قال له جبرئيل عليه السلام: ولا حين هممت بها يا يوسف؟ فقال يوسف عند ذلك " * (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) *).
210

وأما أهل الحقائق فإنهم قالوا في وجه هذه الآية: إن الهم همان: هم مقيم (ثابت) وهو إذا كان مع عزيمة وعقد ونية ورضى مثل هم امرأة العزيز فالعهد مأخوذ.
وهم عارض وارد وهو الخطرة والفكرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزيمة مثل هم يوسف (عليه السلام)، والعهد غير مأخوذ ما لم يتكلم به أو يفعله، يدل عليه ما روي عن ابن (المبارك) قال: قلت لسفيان: أيؤخذ العهد بالهمة؟ قال: إذا كان عزما أخذ بها.
وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: (إذا هم عبدي بالحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، وإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم عبدي بالسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها عليه سيئة واحدة، فإن تركها من أجلي كتبتها له حسنة).
والقول بإثبات مثل هذه: الزلات والصغائر على الأنبياء (عليهم السلام) غير محظور لضرب من الحكمة:
أحدها: ليكونوا من الله تعالى على وجل إذا ذكروها فيجدون في طاعته إشفاقا منها ولا يتكلون على سعة رحمة الله.
والثاني: ليعرفهم موقع نعمته وامتنانه عليهم بصرفه عنهم.
والثالث: ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله وترك اليأس من عفوه وفضله.
وقد روى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من أحد إلا يلقى الله عز وجل قد هم بخطيئة أو عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها).
وعن مصعب بن عبد الله قال: حدثني مصعب بن عثمان قال: كان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجها، فدخلت عليه امرأة تستفتيه: (فتأمنته) بنفسه فامتنع عليها وذكرها، فقالت له: إن لم تفعل لأشهرن بك ولأصيحن بك، قال: فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف النبي (عليه السلام)، فقال له: أنت يوسف؟ قال: أنا يوسف النبي هممت وأنت سليمان الذي لم تهم.
وأما البرهان الذي رآه يوسف (عليه السلام) فإن العلماء اختلفوا فيه، فأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى عن أبي العباس الأصم عن الحسن بن علي، عن الحسين بن عطية عن إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد عن ابن عباس " * (لولا أن رأى برهان ربه) *) قال: مثل له يعقوب فضرب يده في صدره، فخرجت شهوته من أنامله
211

وقال الحسن وسعيد بن جبير وحميد بن عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة وابن سيرين وأبو صالح وشمر بن عطية والضحاك: انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضا على إصبعه.
وقال ابن جبير: فكل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر ولدا إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا من أجل نقص من شهوته حين رأى صورة أبيه فاستحياه.
قتادة: رأى صورة يعقوب فقال: يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء؟
ابن أبي مليكه: عن ابن عباس قال: نودي: يا يوسف أتزني فتكون كالطير وقع ريشه فذهب يطير فلا ريش له؟
السدي: نودي يا يوسف تواقعها؟ إنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطلق، ومثلك إن واقعتها مثل (الطير) إذا مات وقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه، فلا يستطع أن يدفع عنه نفسه.
أبو مردود عن محمد بن كعب القرضي: قال: رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين هم فرأى كتابا في حائط البيت " * (لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) *).
أبو معشر عنه: لولا ما رأى بالقرآن من تعظيم الزنا وتحريمه، وزاد القرضي: بالقرآن وصحف إبراهيم (عليه السلام).
ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى " * (ولقد همت به وهم بها) *) قال: حل سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته وإذا بكف قد مدت فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها: " * (إن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) *).
قال: فقام هاربا وقامت، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته فإذا بكف قد مدت فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها " * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *)، فقام هاربا وقامت فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته، قال الله تعالى لجبريل (عليه السلام): يا جبرئيل أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فرأى جبريل عاضا على أصبعه أو كفه وهو يقول: يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء؟ فذلك قوله تعالى: " * (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) *))
.
212

قتادة عن عطية عن وهب بن منبه، إنه قال: لما هم يوسف وامرأة العزيز بما هما خرجت كف بلا جسد بينهما مكتوب عليها بالعبرانية " * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) *) ثم انصرفت الكف وقاما مقامهما، ثم رجعت الكف بينهما مكتوب عليها بالعبرانية " * (إن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) *)، ثم انصرفت الكف وقاما مقامهما، فعادت الكف بالعبرانية مكتوب عليها: " * (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) *) فانصرفت الكف وقاما مقامهما، فعادت الكف رابعة مكتوب عليها بالعبرانية: " * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) *) فولى يوسف هاربا.
وروى عطية عن ابن عباس، أن البرهان الذي رآه يوسف أنه أري تمثال الملك، وروى عمر بن إسحاق عن بعض أهل العلم أنه قطفير سيده حين دنا من الباب في ذلك الحين، إنه لما هرب منها واتبعته ألفاه لدى الباب.
روى علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر الصادق ج قال: حدثني أبي عن أبيه علي ابن الحسين، في قوله تعالى: " * (لولا أن رأى برهان ربه) *) قال: قامت امرأة العزيز إلى الصنم فأظلت دونه بثوب فقال لها يوسف: ما هذا؟ فقالت: أستحيي من الصنم أن يرانا، فقال يوسف: أتستحيين ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ولا يشهد ولا أستحيي ممن خلق الأشياء وعلمها؟
وقال جعفر بن محمد: البرهان النبوة التي: أودع الله صدره هي التي حالت بينه وبين ما يسخط الله.
وقيل: هو ما آتاه الله من العلم والحكمة، وقال أهل الإشارة: إن المؤمن له برهان من ربه في سره من معرفته فرأى ذلك البرهان وهو زاجره.
فالبرهان الآية والحجة، وجواب (لولا) محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربه لزنا، وحقق الهمة الغريزية بهمة الكسب، لقوله تعالى: " * (ولولا فضل الله عليكم
ورحمته) *) * (وأن الله تواب حكيم) * * (وأن الله رؤوف رحيم) *) مجازه لهلكتم، وقال امرؤ القيس:
فلو أنها نفس تموت سوية
ولكنها نفس تساقط أنفسنا
أراد (بسقطت) فنيت ولهان علي، ونحوها.
قال الله تعالى: " * (كذلك لنصرف عنه السوء) *) الإثم " * (والفحشاء) *) الزنا.
" * (إنه من عبادنا المخلصين) *) قرأ أهل مكة والبصرة بكسر اللام أي المخلصين التوحيد
213

والعبادة لله، وقرأ الآخرون بفتح اللام أي المختارين للنبوة، دليلها قوله " * (إنا أخلصناهم بخالصة) *).
وروى الزهري عن حمزة بن عبيد الله بن عمران بن عمر قال: قال: لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم الألم الذي توفي فيه، قال صلى الله عليه وسلم (يصلي بالناس أبو بكر)، قالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، وإنه لا يملك نفسه حين يقرأ القرآن، فمره عمر يصلي بالناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يصلي بالناس أبو بكر) فراجعته، فقال (ليصل بالناس أبو بكر فإنكن صويحبات يوسف)، قالت عائشة: والله ما حملني في ذلك الأمر عليهم أن يكون أول رجل قام مقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن شيبة قال: حدثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال: حدثنا بعض أصحابنا قال: قال جعفر بن سليمان: سمعت امرأة في بعض الطرق وهي تتكلم ببعض الرفث فقلت لها (....) إنكن صويحبات يوسف، فقالت له المرأة: واعجبا نحن دعوناه إلى اللذة، وأنتم أردتم قتله، فمن أصحابه نحن أو أنتم، وقتل النفس أعظم مما أردناه؟
" * (واستبقا الباب) *) وذلك أن يوسف لما رأى البرهان قام مبادرا إلى باب البيت، هاربا مما أرادته منه، واتبعته المرأة فذلك قوله تعالى.
" * (واستبقا الباب) *): يعني بادر يوسف وراحيل إلى الباب، أما يوسف ففرارا من ركوب الفاحشة، وأما المرأة فطلبها ليوسف لتقضي حاجتها أي راودته عليها، فأدركته فتعلقت بقميصه من خلفه فجذبته إليها مانعة له من الخروج.
" * (وقدت) *) أي خرقت وشقت " * (قميصه من دبر) *): من خلف لا من قدام، لأن يوسف كان الهارب والمرأة الطالبة، فلما خرجا " * (وألفيا سيدها لدى الباب) *)، أي وجدا زوجها قطفير عند الباب جالسا مع ابن عم لراحيل، فلما رأته هابته فقالت: سابقة بالقول لزوجها: " * (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا) *) يعني الزنا، " * (إلا أن يسجن) *) يحبس، " * (أو عذاب أليم) *) يعني الضرب بالسياط، قاله ابن عباس:
" * (قال) *) يوسف: بل " * (هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها) *)، اختلفوا في هذا الشاهد، قال سعيد بن جبير وهلال بن يسار والضحاك: كان صبيا في المهد أنطقه الله بقدرته
214

وحدثنا العوفي عن ابن عباس وشهر بن حوشب عن أبي هريرة، ويدل عليه ما روى عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب بن جريج، وعيسى ابن مريم (عليه السلام).
وقيل: كان ذلك الصبي ابن خال المرأة، وقال الحسن: غلامه، قتادة والضحاك ومجاهد برواية (...): ما كان بصبي ولكنه كان رجلا حكيما ذا لحية، له رأي ومقال وآية، وهو رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس، قال: وكان من خاصة الملك. وقال السدي: هو ابن عم راحيل، وكان جالسا مع زوجها على الباب فحكم وأخبر الله تعالى عنه: " * (إن كان قميصه) *) الآية.
قال عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إن الشاهد قميصه المقدود من دبر، ومعنى شهد شاهد حكم حاكم من أهلها، قال مجاهد: قال الشاهد: تبيان هذا الأمر في القميص.
" * (إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين وإن كان قميصه قد من قبل) *) أي قدام " * (فصدقت وهو من الكاذبين) *) وخفف ابن أبي إسحاق القبل والدبر وثقلهما الآخرون وهما لغتان.
فجيء بالقميص فإذا هو قد من دبر، فلما رأى قطفير قميصه قد من دبر عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف " * (فقال) *) لها " * (إنه) *) أي إن هذا الصنيع " * (من كيدكن إن كيدكن عظيم) *)، وقيل: إن هذا من قول الشاهد.
ثم أقبل قطفير على يوسف فقال: " * (يوسف) *) يعني يا يوسف، لفظ مفرد " * (أعرض عن هذا) *) الحديث فلا تذكره لأحد، وقيل: معناه لا تكترث له فقد كان عفوك لبراءتك، ثم قال لامرأته: " * (واستغفري لذنبك) *) وقيل: هو من الشاهد ليوسف والراحيل، وأراد بقوله: واستغفري لذنبك، يقول: سلي زوجك ألا يعاقبك على ذنبك ويصفح عنك، وهذا معنى قول ابن عباس.
" * (إنك كنت من الخاطئين) *) من المذنبين حين راودت شابا عن نفسه وخنت زوجك، فلما استعصم كذبت عليه، يقال خطأ يخطأ خطأ، وخطأ، وخطا وخطاء، إذا أذنب والاسم منه الخطيئة، قال الله تعالى: " * (إنه كان خطأ كبيرا) *) وقال أمية:
عبادك يخطأون وأنت رب
بكفيك المنايا والحتوم
أي يذنبون؛ فإذا أرادوا التعمد قيل: خطأ خطأ هنا لأن الفعل بالألف قال الله تعالى: " * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطا) *)، وإنما قال " * (من الخاطئين) *) ولم يقل: الخاطئات
215

لأنه لم يقصد بذلك قصد الخبر عن النساء، وإنما قصد به الخبر عمن يفعل ذلك، وتقديره: من القوم الخاطئين. ومثله قوله: " * (وكانت من القانتين) *)، بيانه قوله: إنها كانت من قوم كافرين.
(* (وقال نسوة فى المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها فى ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وءاتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هاذا بشرا إن هاذآ إلا ملك كريم * قالت فذالكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل مآ ءامره ليسجنن وليكونا من الصاغرين * قال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم * ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) *) 2
" * (وقال نسوة في المدينة) *) يقول: شاع أمر يوسف والمرأة في مدينة مصر وتحدثت النساء بذلك، وقلن يعني امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب، قاله مقاتل " * (امرأة العزيز) *) وهو في كلام العرب الملك، قال أبو داود:
درة غاص عليها تاجر
جليت عند عزيز يوم طل
أي ملك.
" * (تراود فتاها) *) عدها الكنعاني عن نفسه.
" * (قد شغفها حبا) *) أي أحبها حتى دخل حبه شغاف قلبها، وهو حجابه وغلافه. قال السدي: الشغاف جلدة رقيقة على القلب يقال لها: لسان القلب، تقول: دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب، قال النابغة الذبياني:
وقد حال هم دون ذلك داخل
دخول الشغاف تبتغيه الأصابع
وقال ابن عباس: علقها حبا، الحسن: بطنها حبا، قتادة: استبطنها حبها إياه، أبو رجاء: صدقها حبا، الكلبي: حجب حبه قلبها حتى لا يعقل سواه.
وقرأ أبو رجاء العطاردي والشعبي والأعرج، شعفها بالعين غير معجمة واختلفوا في معناها فقال الفراء: ذهب بها كل مذهب، وأصله من شعف الجبال وهي رؤوسها، والنخعي والضحاك: فتنها، وذهب بها، وأصله من شعف الدابة حين تتمرغ بذعر، قال امرؤ القيس
216

أتقتلني وقد شعفت فؤادها
كما شعف المهنوءة الرجل الطالي
ومراده: ذهب قلب امرأته كما ذهب الطالي بالإبل بالقطران يتلو بها، والإبل تخاف من ذلك ثم تستروح إليه، وقال الأخفش: من حبها، وقال محمد بن جرير: عمها الحب.
" * (إنا لنراها في ضلال مبين) *): خطا بين، " * (فلما سمعت) *) راحيل، " * (بمكرهن) *) بقولهن وحديثهن، قال قتادة والسدي وقال ابن إسحاق: وإنما قلن ذلك مكرا بها ليرين يهمن يوسف وكان قد وصف لهن حسنه وجماله " * (أرسلت إليهن) *) قال وهب: اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة فيهن هؤلاء اللائي عيرنها، " * (وأعتدت) *) وأعدت وهو أفعلت العتاد وهو العدة، قال الله تعالى: " * (إنا أعتدنا للظالمين نارا) *).
" * (لهن متكأ) *) مجلسا للطعام وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، يقال: ألقى له متكأ أي ما يتكأ عليه، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة. وقال سعيد بن جبير والحسن وقتادة وأبي إسحاق وابن زيد: طعاما، قال القتبي: والأصل فيه أن من دعوته إلى مطعم عندك أعددت له وسادة أو متكأ، فسمي الطعام متكأ على الاستعارة، يقال: اتكأنا عند فلان أي أكلنا، قال عدي بن زيد:
فظللنا بنعمة واتكأنا
وشربنا الحلال من قلله
وروي عن الحسن أنه قال: متكاء بالتشديد والمد وهي غير فصيحة، وعن الحسن: فما أظن بصحيحة، وقرأ مجاهد متكأ خفيفة غير مهموزة، وروي ذلك عن ابن عباس.
واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس: هو الأترج، عكرمة: هو الطعام، وأبو روق عن الضحاك: الزماورد، علي بن الحكم وعبيد بن حكيم، عنه: كل شيء يحز بالسكين فهو عند العرب المتكأ، والمتك والبتك: القطع والعرب تعاقب بين الباء والميم تقول سمد رأسه وسبده، وأغبطت عليه وأغمطته (لازب) ولازم قال الله تعالى: " * (فليبتكن آذان الأنعام) *).
" * (وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت) *) ليوسف " * (أخرج عليهن) *) وذلك أنها قد كانت أجلسته في مجلس غير المجلس الذي هن فيه جلوس، فخرج عليهن يوسف (عليه السلام)، قال عكرمة: وكان فضل يوسف على الناس في الحسن والجمال كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء.
217

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مررت ليلة أسري بي إلى السماء فرأيت يوسف، فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: هذا يوسف) قالوا: وكيف رأيته يا رسول الله، قال: (كالقمر ليلة البدر).
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هبط جبرئيل فقال: يا محمد إن الله تعالى يقول: كسوت حسن يوسف من نور الكرسي، وكسوت نور حسن وجهك من نور عرشي).
وروى الوليد بن مسلم عن إسحاق عن عبد الله بن أبي فروة قال: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس والماء على الجدران.
" * (فلما رأينه أكبرنه) *) أي أعظمنه وأجللنه، قال أبو العالية: هالهن أمره وبهتن، وروى عبد الصمد بن علي عن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده ابن عباس في قوله تعالى: " * (فلما رأينه أكبرنه) *) قال حضن من الفرح، ثم قال:
نأتي النساء على أطهارهن ولا
نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
وعلى هذا التأويل يكون أكبرنه بمعنى أكبرن له أي حضن لأجله من جماله، ووجدن ما تجد النساء في مثل تلك الحال وهذا كقول عنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظله
حتى أنال به كريم المطعم
أي وأظل عليه.
قال الأصمعي: أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البيت، فقال:
ما من شاعر جاهلي أحببت أن أراه
دون (.............) البيت
" * (وقطعن أيديهن) *)، يعني وحززن أيديهن بالسكاكين التي معهن وكن يحسبن أنهن يقطعن الأترج، عن قتادة: قطعن أيديهن حتى ألقينها، وقال مجاهد: فما أحسسن إلا بالدم ومنهن لم يجدن من ألم إلا يرى الدم لشغل قلوبهن بيوسف، قال وهب: وبلغني أن تسعا من الأربعين متن في ذلك المجلس وجدا بيوسف
218

" * (وقلن حاش لله) *) أي معاذ الله، قال أبو عبيدة: لهذه الكلمة معنيان: التنزيه والاستثناء، واختلف القراء فيها فقرأت العامة: حاش لله، (...) حذفوا الألف لكثرة دورها على الألسن كما حذفت العرب الألف من قولهم: لأب لغيرك ولأب لشانئك، وهم يعنون لا أب، واختار أبو عبيدة هذه القراءة وقال: اتباعا للكتاب وهو الذي عليه الجمهور الأعظم، مع إني قرأتها في الإمام مصحف عثمان (عليه السلام): حاش لله والأخرى مثلها. وقرأ أبو عمرو: حاشي لله بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن مسعود حاشى الله، كقول الشاعر:
حاشا أبي ثوبان إن به
ضنا عن الملحاة والشتم
" * (ما هذا بشرا) *) نصب بنزع حرف الصفة وعلى خبر ما الجحد كما تقول: ما زيد قائما، وقرأ الأعمش: ما هذا بشر بالرفع وهي لغة أهل نجد، وأنشد الفراء:
ويزعم حسل أنه فرع قومه
وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل
وأنشد آخر:
لشتان ما أنوي وينوي بنو أبي
جميعا فما هذان مستويان
تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى
وكل فتى والموت يلتقيان
وروى الفراء عن دعامة بن رجاء التيمي عن أبي الحويرث الحنفي أنه قرأ: ما هذا بشري، قال الفراء: يعني بمشتري، " * (إن هذا) *) ما هذا " * (إلا ملك كريم) *) من الملائكة.
قال الثعلبي: سمعت ابن فورك يقول: إنما قلن له ملك كريم لأنه خالف ميوله وأعرض عن الدنيا وزينتها وشهوتها حين عرضن عليه، وذلك خلاف طبائع البشر.
قالت: راحيل للنسوة: " * (فذلكن الذي لمتنني فيه) *) أي في حبه وشغفي فيه، ثم أقرت لهن فقالت: " * (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) *) أي امتنع و استعصى، فقلن له أطع مولاتك، فقالت راحيل: " * (ولئن لم يفعل ما آمره) *) ولئن لم يطاوعني فيما دعوته إليه، " * (ليسجنن) *) أحبسنه، " * (وليكونن من الصاغرين) *) أي الأذلاء ونون التوكيد تثقل وتخفف والوقف على قوله: " * (لسجنن) *) بالنون لكنها مشددة. وعلى قوله: وليكونا بالألف لأنها مخففة وهي تشبه نون الإعراب في
219

الأسماء كقولك: رأيت رجلا، فإذا وقفت قلت: رجلا ومثله قوله تعالى: " * (لنسفعن بالناصية) *)، ونحوه الوقف عليها بالألف كقول الأعشى:
وصل على حين العشيات والضحى
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
أي أراد فاعبدن، فلما وقف عليه كان الوقف بالألف.
واختار يوسف حين عاودته المرأة في المراودة وتوعدته، السجن على المعصية، " * (قال رب) *): يا رب، منادى مضاف، " * (السجن) *) المحبس، قراءة العامة بكسر السين على الاسم وقرأ يعقوب برفع السين على المصدرية يعني الحبس، " * (أحب إلي مما يدعونني إليه) *)، ثم علم أنه لا يستعصم إلا بعصمة الله فقال: " * (وإلا تصرف عني كيدهن أصب) *) أمل " * (إليهن) *) وأبايعهن، فقال صبا فلان إلى كذا، وصبا يصبو، صبوا وصبوة، إذا مال واشتاق إليه، قال يزيد بن ضبة:
إلى هند صبا قلبي
وهند مثلها يصبي
" * (وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع) *) لدعائه وشكايته، " * (العليم) *) بمكرهن.
" * (ثم بدا لهم) *) أي العزيز وأصحابه، في الرأي " * (من بعد ما رأوا الآيات) *) الدالة على براءة يوسف، وهي قد القميص من دبر وخمش في الوجه وتقطيع النسوة أيديهن " * (ليسجننه) *) قال الفراء: هذه اللام في اليمين وفي كل مضارع القول كقوله تعالى: " * (ولقد علموا لمن اشتراه) *) * * (وظنوا ما لهم من محيص) *) دخلتهما (اللام وما) لأنهما في معنى القول واليمين.
" * (حتى حين) *) يعني إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم.
قال عكرمة: تسع سنين، الكلبي: خمس سنين، و (حتى) بمعنى (إلى) كقوله تعالى: " * (حتى مطلع الفجر) *)، وقال السدي: وذلك أن المرأة قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس، يعتذر إليهم ويخبرهم أني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وأما أن تحبسوه كما حبستني، فحبسه بعد علمه ببراءته، وذكر أن الله تعالى جعل ذلك الحبس تطهيرا ليوسف من همته بالمرأة وتكفيرا لزلته.
قال ابن عباس: عثر يوسف ثلاث عثرات: حين هم بها فسجن، وحين قال: " * (اذكرني
220

عند ربك فلبث في السجن بضع سنين فأنساه الشيطان ذكر ربه) *)، وحين قال لهم: " * (إنكم لسارقون فقالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) *).
2 (* (ودخل معه السجن فتيان قال أحدهمآ إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين * قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذالكما مما علمنى ربىإنى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالاخرة هم كافرون * واتبعت ملة آبآءي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنآ أن نشرك بالله من شىء ذالك من فضل الله علينا وعلى الناس ولاكن أكثر الناس لا يشكرون * ياصاحبى السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذالك الدين القيم ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ياصاحبى السجن أمآ أحدكما فيسقى ربه خمرا وأما الاخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الامر الذى فيه تستفتيان * وقال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرنى عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث فى السجن بضع سنين * وقال الملك إنىأرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ياأيها الملأ أفتونى فى رؤياى إن كنتم للرؤيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين * وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون * يوسف أيها الصديق أفتنا فى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلىأرجع إلى الناس لعلهم يعلمون * قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه فى سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتى من بعد ذالك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتى من بعد ذالك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون * وقال الملك ائتونى به فلما جآءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتى قطعن أيديهن إن ربى بكيدهن عليم * قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الئن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين * ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين * ومآ أبرىء نفسىإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم) *) 2
" * (ودخل معه السجن فتيان) *) وهما غلامان كانا للملك الأكبر الوليد بن الريان، أحدهما خبازه صاحب طعامه واسمه مجلث، واالآخر ساقيه صاحب شرابه واسمه بنو غضب عليهما الملك فحبسهما، وذلك أنه بلغه أن خبازه يريد أن يسمه وأن ساقيه مالا على ذلك، وكان السبب أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فدسوا إلى هذين، وضمنوا لهما مالا ليسما طعام الملك وشرابه فأجاباهم إلى ذلك، ثم إن الساقي نكل عنه وقبل الخباز الرشوة فسم الطعام
221

فلما حضر وقته وأحضر الطعام، قال الساقي: أيها الملك لا تأكل فإن الطعام مسموم، فقال الخباز: لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم، فقال الملك للساقي: اشرب فشربه فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك، فأبى، فجرب ذلك الطعام على دابة من الدواب فأكلته فهلكت، فأمر الملك بحبسهما.
وكان يوسف لما دخل السجن قال لأهله: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيان لصاحبه: هلم فلنجرب هذا العبد العبراني، فتقربا له وسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا، قال عبد الله بن مسعود: ما رأى صاحبا يوسف شيئا، إنما كانا تحالفا أن يجربا علمه.
روى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أرى عينيه في المنام ما لم تريا كلف أن يعقد بين شعرتين يوم القيامة، ومن استمع لحديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الانك).
وقال قوم: كانا رأيا على صحة وحقيقة، قال مجاهد: لما رأى الفتيان يوسف قالا له: والله لقد أحببناك حين رأيناك فقال لهما يوسف: أنشدكما الله أن لا تحباني؛ فإنه ما أحبني أحد قط إلا دخل علي من حبه بلاء.
لقد أحبتني عمتي فدخل علي في حبها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل علي بحبه بلاء ثم أحبتني زوجة الملك هذا، فدخل علي بحبها إياي بلاء، فلا تحباني بارك الله فيكما، قال: فأبيا إلا حبه وألفته حيث كان، وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله، وقد كانا رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف فقال له الساقي: أيها العالم إني رأيت كأني غرست حبة من عنب عليها ثلاث عناقيد من عنب فحبستها، وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه.
وقال الخباز: إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة فإذا سباع الطير تنهش منه، فذلك قوله تعالى: " * (قال أحدهما) *) يعني بنو " * (إني أراني) *) أي رأيتني، " * (أعصر خمرا) *) يعني عنبا بلغة عمان، ويدل عليه عليه قراءة ابن مسعود أعصر عنبا.
قال الأصمعي: أخبرني المعتمر أنه لقي أعرابيا معه عنب، فقال: ما معك؟ قال: خمر، ومنه يقال للخل العنبي خل خمرة، وهذا على قرب الجوار، قال القتيبي: وقد تكون هي الخمر بعينها كما يقال: عصرت زيتا وإنما عصر زيتونا.
وقال الآخر: وهو مجلث: " * (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله) *) أخبرنا تفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا.
222

" * (إنا نراك من المحسنين) *) أي العالمين الذين أحسنوا، قال الفراء وقال ابن إسحاق: إنا نراك من المحسنين إلينا إن فعلت ذلك وفسرت رؤيانا، كما يقال: افعل كذا وأنت محسن.
وروى سلمة بن نبط عن الضحاك بن مزاحم في قوله: " * (إنا نراك من المحسنين) *) ما كان إحسانه؟ قال كان إذا مرض رجل في السجن قام إليه، وإذا ضاق وسع له، وإن احتاج جمع له، وسأل له.
قتادة: بلغنا أن إحسانه كان يداوي مريضهم، ويعزي حزينهم، ويجتهد لربه.
وقيل: لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول: أبشروا واصبروا تؤجروا، وإن لهذا لأجرا وثوابا، فقالوا له: يا فتى بارك الله فيك، ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك لقد بورك لنا في جوارك بالحبس، إنا كنا في غير هذا منذ حبسنا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والطهارة، فمن أنت يا فتى؟
قال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله، فقال له عامل السجن: يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك، ولكن ما أحسن جوارك وأحسن أخبارك فكن في أي بيوت السجن شئت.
فكره يوسف (عليه السلام) أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره، قال لهما: " * (لا يأتيكما طعام ترزقانه) *) في نومكما " * (إلا نبأتكما بتأويله) *) في اليقظة.
هذا قول أكثر المفسرين، وقال بعضهم: أراد به في اليقظة فقال: " * (لا يأتيكما طعام ترزقانه) *) تطعمانه وتأكلانه " * (إلا نبأتكما بتأويله) *) بتفسيرة قال: إنه أي طعام أكلتم ومتى أكلتم وكم أكلتم، فقالا له: هذا من فعل العرافين والكهنة، فقال لهما (عليه السلام): ما أنا بكاهن وإنما " * (ذلكما) *) العلم " * (مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون) *) كررهم على التأكيد. وقيل: هم الأول جماد كقوله تعالى: " * (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) *) فصارت الأولى الملغاة والثانية ابتداء، وكافرون خبره.
" * (واتبعت ملة آبائي) *) فتح ياءه قوم وسكنها آخرون، (فما وفي) أمثالها فالجزم على الأصل والفتح على موافقة الألف استقلته لأنها أخت الفتحة وقرأها الأعمش آباي إبراهيم دعاي إلا فرارا مقصورا غير مهموز وفتح ياءهما مثل (...).
" * (إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا) *) ما ينبغي " * (أن نشرك بالله من شيء) *) من صلة، تقديره: أن نشرك بالله شيئا.
223

" * (ذلك) *) التوحيد والعلم " * (من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) *) فأراهما يوسف فطنته وعلمه ثم دعاهما إلى الإسلام، فأقبل عليهما وعلى أهل السجن وكان بين أيديهم أصناما يعبودنها فقال إلزاما للحجة " * (يا صاحبي السجن) *) جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه كقوله تعالى لسكان الجنة " * (أصحاب الجنة) *) ولسكان النار: * (أصحاب النار) * * (أأرباب متفرقون) *) آلهة شتى لا تنفع ولا تضر " * (خير أم الله الواحد) *) الذي لا ثاني له " * (القهار) *) قد قهر كل شيء، نظيرها، قوله: " * (الله خير أما يشركون) *) ثم بين الحجر والأصنام وضعفها فقال: " * (ما تعبدون من دونه) *) أي
ممن دون الله، وإنما قال ما تعبدون وقد ابتدأ الكلام بخطاب الاثنين لأنه قصد به جميع من هو على مثل حالهما من الشرك، " * (إلا أسماء سميتموها) *) وذلك تسميتهم أوثانهم آلهة وأربابا من غير أن تكون تلك التسمية حقيقة، " * (أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) *) حجة وبرهان " * (إن الحكم) *) القضاء والأمر والنهي، " * (إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) *) نظيره * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * * (ذلك) *) الذي دعوتكم إليه من التوحيد وترك الشرك، " * (الدين القيم) *) المستقيم، " * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *).
ثم فسر رؤياهما فقال: " * (يا صاحبي السجن أما أحدكما) *) وهو الساقي، " * (فيسقي ربه) *) سيده يعني الملك " * (خمرا) *) وأما العناقيد الثلاثة التي رآها فإنها ثلاثة أيام، يبقى في السجن ثم يخرجه الملك ويكون على ما كان عليه، " * (وأما الآخر فيصلب) *) وأما السلال الثلاث التي رآها فإنها ثلاثة أيام، يبقى في السجن ثم يخرجه الملك (في) اليوم الرابع فيصلبه، فتأكل الطير من رأسه.
قال ابن مسعود: لما سمعا قول يوسف قالا: ما رأينا شيئا إنما كنا نلعب، فقال يوسف (عليه السلام): " * (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) *) أي فرغ من الأمر الذي عنه تسألان، ووجب حكم الله عليكما بالذي أخبرتكما به.
معلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين العقيلي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت، وإن الرؤيا جزء من ستة و أربعين جزء من النبوة، فأحسبه قال: لا تقصه إلا على ذي رأي).
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن إسماعيل بن محمد عن الحسن بن علي بن عفان عن ابن نمير
224

عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرؤيا لأول عابرة).
" * (وقال) *) يوسف عند ذلك، " * (للذي ظن) *) علم، " * (أنه ناج منهما) *) وهو الساقي، هذا قول أكثر المفسرين، وفسره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين، وقال: إنما عبارة الرؤيا بالظن ويخلق الله ما يشاء، والقول الأول أولى وأشبه بحال الأنبياء، " * (اذكرني عند ربك) *) سيدك يعني الملك، وقيل له: إن في السجن غلاما محبوسا ظلما " * (فأنساه الشيطان ذكر ربه) *) يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه عز وجل حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بالمخلوق، وتلك غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان، ونسي لهذا ربه عز وجل الذي لو به استغاث لأسرع خلاصه ولكنه (غفل) وطال من أجلها حبسه.
وقال محمد بن إسحاق: الهاء راجعة في قوله " * (أنساه الشيطان) *) إلى الساقي فنقول: أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك وعلى هذا القول يكون معنى الآية: فأنساه الشيطان ذكره لربه كقوله: خوف " * (يخوف أولياءه) *) أي يخوفكم بأوليائه.
" * (فلبث) *) مكث، " * (في السجن بضع سنين) *) اختلف العلماء في معنى بضع فقال أبو عبيدة: هو ما بين الثلاثة إلى الخسمة، ومجاهد: ما بين الثلاث إلى التسع، الأصمعي: ما بين الثلاث إلى التسع، وابن عباس: ما دون العشرة، وزعم الفراء أن البضع لا يذكر إلا مع العشرة والعشرين إلى التسعين، وهو نيف ما بين الثلاثة إلى التسعة، وقال: كذلك رأيت العرب تعمل ولا يقولون: بضع ومائة ولا بضع وألف، وإذا كانت للذكران قيل: بضعة، وأكثر المفسرين على أن البضع في هذه الآية سبع سنين، قال وهب: أصاب أيوب (عليه السلام) البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، وعذب بخت نصر فحول في السباع سبع سنين.
روى يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله يوسف، لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث)، يعني قوله: " * (اذكرني عند ربك) *) قال: ثم بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر نزعنا إلى الناس، وقال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: اذكرني عند ربك، قيل له: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك، فبكى يوسف (عليه السلام) وقال: يا رب إنني رابني كثرة الطوى فقلت كلمة، فويل لأخوتي.
وحكي أن جبرئيل دخل على يوسف (عليهما السلام)، فلما رآه يوسف عرفه وقال: يا أخا
225

المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين؟، ثم قال له جبرئيل: يا طاهر الطاهرين، يقرأ عليك السلام رب العالمين ويقول: مالك؟ أما استحييت مني إذ استغثت بالآدميين؟، فوعزتي لألبثنك في السجن بضع سنين، قال يوسف: وهو في ذلك علي راض؟ قال: نعم، قال إذا لا أبالي.
وقال كعب: قال جبرئيل ليوسف: إن الله تعالى يقول: من خلقك؟ قال: الله، قال: فمن حببك إلى أبيك؟ قال: الله، قال فمن أنيسك في البئر إذ دخلته عريان؟ قال: الله، قال: فمن نجاك من كرب البئر؟ قال: الله، قال: فمن علمك تأويل الرؤيا؟ قال: الله، قال فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟
فلما انقضت سبع سنين، قال الكلبي وهذه السبعة سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك ولما دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هائلة وذلك أنه رأى، " * (إني أرى سبع بقرات سمان) *) خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف أي مهازيل فابتلعت العجاف السمان، أكلنهن حتى أتين عليهن فلم ير منهن شيئا، وأرى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأفركت والتفت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فجمع السحرة والكهنة والحازة والقافة وقصها عليهم وقال: " * (يا أيها الملأ) *) أي الأشراف " * (أفتوني في رؤياي) *) فا عبروها، " * (إن كنتم للرؤيا تعبرون) *) تفسرون، والرؤيا: الحلم وجمعها رؤى.
" * (قالوا أضغاث أحلام) *) أي أحلام مختلطة مشتبهة، أهاويل بأباطيل، واحدها ضغث، وأصله الحزمة من الزرع والحشيش، قال الله تعالى " * (وخذ بيدك ضغثا) *) قال ابن مقبل:
خود كأن فراشها وضعت
أضغاث ريحان غداه شمال
وقال آخر:
بحمى ذمار حين قل مانعه
طاو كضغث الخلا في البطن مكتمن
والأحلام جمع الحلم وهو الرؤيا والفعل منه حلمت وأحلم، بفتح العين في الماضي، وحلمتها في الغابرة لها وحلما فعاد فحذف يا من حالم.
* (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) * * (وقال الذي نجا) *) من القتل، منهما: من الفتيين وهو الساقي، " * (وادكر) *): أي وتذكر حاجة يوسف قوله: " * (واذكرني عند ربك) *)، " * (بعد أمة) *): بعد حين، قراء ابن عباس وعكرمة والضحاك (بعد أمة) أي بعد نسيان ويقال أمة، يأمه، أمها، إذا نسي، ورجل (ما هو) أي ذاهب العقل.
وأنشد أبو عبيدة
226

أمهت وكنت لا أنسى حديثا
كذاك الدهر يودي بالعقول
وقرأ مجاهد: أمه، بسكون الميم وفتح الألف وهاء لخالصة، وهو مثل الأمة أيضا وهما لغتان ومعناهما النسيان، " * (أنا أنبئكم بتأويله) *): أخبركم بتفسيره وما ترون " * (فأرسلون) *): فأطلقوني، وأذنوا لي أمضي وأتكم بتأويله وفي الآية أختصار تقديرها فأرسلون، فأتي السجن، قال ابن عباس لم يكن السجن في المدينة " * (فقال يوسف) *) يعني يا يوسف، " * (أيها الصديق) *): فيما عبرت لنا من الرؤيا والصديق الكثير الصديق ولذلك سمي أبو بكر صديقا، وفعيل للمبالغة والكثرة مثل الفسيق والضليل والشريب والخمير ونحوها.
" * (أفتنا في سبع بقرات سمان) *): الآية فإن الملك رأى هذه الرؤيا.
" * (لعلي أرجع إلى الناس) *) أهل مصر، " * (لعلهم يعلمون) *)، تأويلها، وقيل: لعلهم يعلمون فضلك وعلمك، فقال لهم يوسف معلما ومعبرا: أما البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات السنون المهولة المجدبة، وذلك قوله تعالى: " * (تزرعون سبع سنين دأبا) *) أي كعادتكم، وقال: بعضهم أراد بجد و واجتهاد وقرأ بعضهم دأبا بفتح الهمزة وهما لغتان، يقال دبت في الأمر أدأب دأبا ودأبا إذا اجتهد، قال الفراء: وكذلك كل حرف فتح أوله وسكن ثانية فتثقيله جائز إذ كان ثانيه همزة أو عينا أوحاء أو خاء أو هاء.
" * (فما حصدتم فذروه في سنبله) *) في (بذره) * * (إلا قليلا مما تأكلون) *) وإنما أشار عليهم بذلك بذلك ليبقى ولا يفسد، " * (ثم يأتي بعد ذلك سبع شداد) *) يعني سبع سنين جدد بالقحط " * (يأكلن ما قدمتم لهن) *) يعني يؤكل، فيهن ما أعددتم لهن من الطعام في السنين الخصبة، وهذا كقول القائل:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردى لك لازم
والنهار لا يسهو والليل لا ينام، وإنما يسهى في النهار وينام في الليل. " * (إلا قليلا مما تحصنون) *) أي: تخزنون وخزنون وتدخرون.
" * (ثم يأتي بعد ذلك عام) *) وهذا خبر من يوسف (عليه السلام) عما لم يكن في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله عز وجل، كما قال قتادة: زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها، فقال: " * (ثم يأتي بعد ذلك عام فيه يغاث الناس) *) أي يمطرون بالغيث وهو المطر، وقيل: يغاثون، من قول العرب استغثت بفلان وأغاثني، " * (وفيه يعصرون) *) قرأ أهل الكوفة إلا
227

عاصما تعصرون، بالتاء لأن الكلام كله بالخطاب، وقرأ الباقون بالياء ردا إلى الناس، قال أكثر المفسرين يعصرون العنب خمرا، والزيتون زيتا، والسمسم دهنا، وإنما أراد بعض الأعناب والثمار والحبوب كثرة النعم والخير، وروى الفرج بن فضالة عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تعصرون تحلبون، وقال أبو عبيدة: ينجون من الجدب والكرب، والعصر: المنجى والملجأ، وقال أبو زبيد الطائي:
صاديا يستغيث غير مغاث
ولقد كان عصرة المنجود
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، أبو علي بن حبش المقرئ، أبو القاسم بن الفضل المقرئ، حدثني أبو زرعة، حدثني حفص بن عمر، حدثني أبو جميلة عن عيسى بن عبيد قال: سمعت عيسى بن الأعرج يقرأها فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، برفع الياء قال: قلت: ما يعصرون؟ قال: المطر أي تمطرون وقرأ " * (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا) *))
.
* (وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين * قال اجعلنى على خزآئن الارض إنى حفيظ عليم * وكذالك مكنا ليوسف فى الارض يتبوأ منها حيث يشآء نصيب برحمتنا من نشآء ولا نضيع أجر المحسنين * ولاجر الاخرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون) *) 2
" * (وقال الملك ائتوني به) *) الآية، وذلك أن بنو لما رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه به يوسف من تأويل رؤياه كالنهار، وعرف الملك أن الذي قال كائن، قال: ائتوني بالذي عبر رؤياي هذه، " * (فلما جاءه الرسول) *) يوسف، وقال له: أخبر الملك أبى أن يخرج مع الرسول حتى يظهر عذره وبراءته ويعرف صحة أمره من قبل النسوة " * (فقال) *) للرسول " * (ارجع إلى ربك) *) أي سيدك يعني الملك " * (فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) *) والمرأة التي سجنت بسوء فعلها وروى عبد الحميد بن صباح البرجمي ومحمد بن حبيب الشموني عن أبي بكر بن عباس عن عاصم قرأ النسوة بضم النون.
" * (إن ربي بكيدهن عليم) *) إن الله تعالى بصنيعهن عالم، وقيل: معناه: إن سيدي قطفير العزيز عالم ببراءتي مما ترميني به المرأة.
قال ابن عباس: فأخرج يوسف يومئذ قبل أن يسلم الملك لشأنه، فمازالت في نفس العزيز منه شيء يقول: هذا الذي راود امرأتي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى
228

اشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حتى أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك، ولو كنت مكانه ولبث في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة ولبادرتهم الباب، وما ابتغيت الغفران كان حليما ذا أناة).
" * (قال ما خطبكن) *): الآية، في الكلام متروك قد استغني عنه (يدل) الكلام عليه، وهو: فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالة، فدعا الملك النسوة اللاتي قطعن أيديهن وامرأة العزيز فقال لهن: ما خطبكن: ما شأنكن وأمركن " * (إذ راودتن يوسف عن نفسه) *)، فأحبنه " * (فقلن حاش لله) *) معاذ الله، " * (ما علمنا عليه من سوء قالت امرأه العزيز الآن حصحص الحق) *) أي ظهر وتبين والأصل فيه: حص وقيل: حصص، كما قيل: كبكبوا في كبوا، وكفكف في كف، وردد في رد، وأصل الحص استئصال الشيء، يقال حص شعره إذا استأصله جزا، وقال أبو قيس ابن الأصلت:
قد حصت البيضة رأسي فما
أطعم نوما غير تهجاع
وتعني بالآن حصحص الحق: ذهب الباطل والكذب وانقطع وتين الحق فظهر وبهر " * (أنا راودته عن نفسه) *) فتنته عن نفسه، " * (وإنه لمن الصادقين) *) في قوله: " * (هي راودتني) *).
فلما سمع " * (ذلك) *) يوسف، قال: ليعلم ذلك الذي (مضى) من ردي رسول الملك في شأن النسوة " * (ليعلم) *) العزيز.
" * (أني لم أخنه) *) في زوجته " * (بالغيب) *) في حال غيبتي عنه " * (وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) *) واتصل قول يوسف: " * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) *) بقول المرأة: " * (أنا راودته عن نفسه) *) من غير تبيين، وفرق بينهما لمعرفة السامعين معناه، كاتصال قول الله تعالى: " * (وكذلك يفعلون) *) بقول بلقيس: " * (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) *) وكذلك قول فرعون لأصحابه: " * (فماذا تأمرون) *) وهو متصل بقول الملأ: " * (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) *).
روى أبو عبيدة عن الفراء أنه قال هذا من أغمض ما يأتي في الكلام أنه حكى عن رجل شيئا ثم يقول في شيء آخر من قول رجل آخر لم يجر له ذكر.
وحدثنا الحسين بن محمد بن الجهمين، عبد الله بن يوسف بن أحمد بن علي قال: حدثنا علي بن الحسين بن مجلز، قال الحسن بن علي البغدادي، خلف بن تيم عن عطاء بن مسلم عن
229

الخفاف عن جعفر بن نوفان عن ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر أن علي بن أبي طالب أتى عثمان وهو محصور فأرسل إليه بالسلام وقال إني قد جئت لأنصرك فأرسل إليه بالسلام وقال: جزاك الله خيرا، لا حاجة في قتال القوم، فأخذ علي عمامته عن رأسه، فنزعها فألقاها في الدار ثم ولى وهو يقول " * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) *).
قال أهل التفسير: لما قال يوسف هذه المقالة قال له جبرئيل: ولا حين هممت بها؟ فقال عند ذلك يوسف " * (وما أبرئ نفسي) *) من الخطأ والزلل فاركبها، " * (إن النفس لأمارة بالسوء) *) بالمعصية " * (إلا ما رحم ربي) *) يعني إلا من رحمه ربي فعصم، و " * (ما) *) بمعنى من كقوله تعالى " * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) *) أي من طاب، وقوله إلا استثناء منقطع عما قبله كقوله تعالى: " * (ولا هم ينقذون إلا رحمة منا) *) يعني إلا أن يرحموا، فإن إذا كانت في معنى المصدر تضارع ما.
" * (إن ربي غفور رحيم) *)، فلما تبين للملك (حق) يوسف وعرف أمانته وعلمه، قال: " * (ائتوني به أستخلصه لنفسي) *) أجعله خالصا لي دون غيره، فلما جاء الرسول يوسف قال له: أجب الملك، الآن، فخرج يوسف ودعا لأهل السجن بدعوة تعرف إلى اليوم وذلك أنه قال: اللهم اعطف عليهم بقلوب الأخيار وأنعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلدة، فلما خرج من السجن كتب على باب السجن: (هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وحرقة الأصدقاء وشماتة الأعداء)، ثم اغتسل يوسف (عليه السلام) وتنظف من قذر السجن، ولبس ثيابا جددا حسانا، وقصد الملك.
قال وهب: فلما وقف بباب الملك قال (عليه السلام): حسبي ربي من دنياي، وحسبي ربي من خلقه، عز جاره، وجل ثناؤه ولا إله غيره.
ثم دخل الدار، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك عزك من خيره، وأعوذ بك من شره وشر غيره، فلما نظر إليه الملك سلم عليه يوسف بالعربية، فقال له: الملك، ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية، فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي.
قال وهب: وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، فكلما كلم يوسف بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأجابه الملك، فأعجب الملك ما رأى منه، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما رأى الملك حداثة سنة، قال لمن عنده: إن هذا علم تأويل رؤياي ولم يعلمه السحرة والكهنة
230

ثم أجلسه على سريره، وقال له: إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها، فقال له يوسف: نعم، أيها الملك، رأيت سبع بقرات سمان شهب غر حسان، كشف لك عنهن النيل وطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهن لبنا، فبينا أنت تنظر إليهن وتتعجب من حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسا، فخرج من حمأته ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلصات البطون، ليس لهن ضروع ولا أخلاف، ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهن افتراس السبع، فأكلن لحومهن ومزقن جلودهن وحطمن عظامهن وتشمشن مخهن.
فبينا أنت تنظر وتتعجب وإذا بسبع سنابل خضر وسبع أخر سود في منبت واحد عروقهن في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك: أنى هذا؟ هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد، وأصولهن في الماء إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار فاحرقتهن وصرن سودا متغيرات.
فهذا آخر ما رأيت من الدنيا ثم انتبهت من نومك مذعورا، فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجبا بأعجب مما سمعته منك، فما ترى في رؤياي أيها الصديق؟ فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، وتزرع الزرع الكثير في هذه السنين المخصبة وتبني (الأهواء) والخزائن، فتجعل الطعام فيها بقصبه وسنبله ليكون قصبه وسنبله علفا للدواب، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، وتأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه و (يبيعه) ويكفي الشغل فيه؟ فقال: يوسف " * (اجعلني على خزائن الأرض) *) مجاز الآية: على خزائن أرضك وهي جمع الخزانة فدخلت الألف واللام خلفا من الإضافة، كقول النابغة: والأحلام غير كواذب.
" * (إني حفيظ عليم) *): كاتب حاسب، قتادة: حفيظ لما وليت، علهم بأمره، ابن إسحاق: حفيظ لما استودعتني، عليم بما وليتني، شيبة الضبي: حفيظ لما استودعتني وعليم بسني المجاعة، الأعشى: حافظ للحساب عليم بالألسن أعلم لغة من سألني، الكلبي: حفيظ التقدير في هذه السنين الجدبة، عليم بوقت الجوع متى يقع، وقيل: حفيظ لما وصل إلي عليم بحسابة المال، فقال له الملك: ومن أحق به منك؟ فولاه ذلك، وقال له: " * (إنك اليوم لدينا مكين أمين) *) ذو مكانة ومنزلة، أمين على الخزائن، روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله أخي يوسف لو لم يقل: اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة فأقام عنده في بيته سنة مع الملك
231

روى سفيان عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: قال الملك ليوسف: إني أريد أن تخالطني في كل شيء غير أني آنف أن تأكل معي، فقال يوسف (عليه السلام): أنا أحق أن آنف، أنا ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، فكان يأكل بعدئذ معه.
روى حمزة الريان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، قال: لما رأى العزيز رأي يوسف وظرفه دعاه وكان يتغدى ويتعشى معه دون غلمانه، فلما كان بينه وبين المرأة ما كان، قالت له مرة: فليتغد مع الغلمان، فقال: اذهب فتغد مع الغلمان فقال له يوسف في وجهه استنكفت أن تأكل معي، أنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
روى مقاتل عن يحيى بن أبي كثير أن عمر بن الخطاب عرض على أبي هريرة الإمارة فقال: لا أفعل ولا أريدها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من طلب الإمارة لم يعدل) فقال عمر: لقد طلب الإمارة من هو خير منك، يوسف (عليه السلام)، قال: اجعلني على خزائن الأرض.
روى بن إسحاق عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه وردأه سيفه، ووضع له سريرا من ذهب، مكللا بالدر والياقوت، وضرب عليه حلة من إستبرق، وكان طول السرير ثلاثين ذراعا وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وتسعون مرفقة، ثم أمره أن يخرج فخرج متوجا، لونه كالثلج ووجهه كالقمر، يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه، فانطلق حتى جلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه.
قال ابن إسحاق: قال ابن زيد: وكان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلم سلطانه كله إليه، وجعل أمره وقضاءه نافذا، ثم أن قطفير هلك في تلك الليالي فزوج الملك يوسف راحيل امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين: أفرائيم بن يوسف ومنشأ بن يوسف.
واستوسق ليوسف ملك مصر وأقام فيهم العدل فأحبه الرجال والنساء فذلك قوله تعالى: " * (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) *) يعني أرض مصر: أي مكناه " * (يتبوأ منها) *) أين نزل " * (حيث يشاء) *): ويصنع فيها ما يشاء، والبواء المنزل يقال: بوأته فتبوأ، وقرأ أهل مكة: حيث نشاء بالنون ردا على قوله مكنا وبعده، " * (نصيب برحمتنا من نشاء) *) أي بنعمتنا.
232

" * (ولانضيع أجر المحسنين) *) قال ابن عباس ووهب: يعني الصابرين كصبره في البئر، وصبره في السجن وصبره في الرق، وصبره عما دعته اليه المرأة، قال مجاهد وغيره: فلم يزل يدعو ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس فهذا في الدنيا " * (ولأجر الآخرة) *) (نعيم) الآخرة " * (خير للذين آمنوا وكانوا
يتقون) *) قال البحتري:
أما في رسول الله يوسف أسوة
لمثلك محبوسا (....)
أقام جميل الصبر في الحبس برهة
فآل به الصبر الجميل إلى الملك
وكتب بعضهم إلى صديق له:
وراء مضيق الخوف متسع الأمن
وأول مفروح به آخر الحزن
فلا تيأسن فالله ملك يوسفا
خزائنه بعد الخلاص من السجن
(* (وجآء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنىأوفى الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى ولا تقربون * قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون * وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم لعلهم يعرفونهآ إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون * فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا ياأبانا منع منا الكيل فأرسل معنآ أخانا نكتل وإنا له لحافظون * قال هل آمنكم عليه إلا كمآ أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين * ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا ياأبانا ما نبغى هاذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذالك كيل يسير * قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتننى به إلا أن يحاط بكم فلمآ ءاتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل * وقال يابنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ومآ أغنى عنكم من الله من شىء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون * ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شىء إلا حاجة فى نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ولما دخلوا على يوسف آوىإليه أخاه قال إنىأنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون * فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون * قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون) *) 2
قالوا
233

فلما أطمأن بيوسف ملكه دخلت السنون المخصبة، ودخلت السنون المجدبة أصاب الناس الجوع وجاءت تلك السنون (.......) وكان ابتداء القحط، بينا الملك ذات ليلة أصابه الجوع نصف الليل، وهتف الملك: يا يوسف الجوع الجوع فقال: هذا أول القحط، فلما دخلت السنة الأولى من سني الجدب هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف، فباعهم أول سنة بالنقود حتى لم يبق في مصر دينار ولا درهم إلا قبضه، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء، وباعهم بالسنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم بالسنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق عبد ولا أمة في يد أحد منهم، ثم باعهم السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها، وباعهم السنة السادسة بأولادهم حتى استرقهم، وباعهم السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له، حتى قال الناس: تالله ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم من هذا، ثم قال يوسف لفرعون كيف رأيت صنيع ربي فيما خولني، فما ترى لي؟ قال الملك: الرأي رأيك، وإنما نحن لك تبع، قال: فإني أشهد وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أموالهم وأملاكهم.
وروي أن يوسف (عليه السلام) كان لا يشبع من طعام في تلك الأيام، فقيل له: تجوع وبيدك خزائن الأرض، فقال: أخاف أن شبعت أن أنسى الجائع، وأمر يوسف أيضا طباخي الملك أن جعلوا الغداة نصف النهار، وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين، ويحسن إلى المحتاجين، ففعل الطهاة ذلك، ومن ثم جعلت الملوك غداءهم نصف النهار.
قالوا: وقصد الناس مصر من كل حدب يمتارون، فجعل يوسف لا يمكن أحدا منهم وإن كان عظيما بأكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس وتوسعا عليهم، وتزاحم الناس عليه، قالوا: وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام من القحط والشدة ما أصاب سائر البلاد، ونزل بيعقوب ما نزل بالناس فأرسل بنيه إلى مصر للميرة، فأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه فذلك قوله تعالى: " * (وجاء إخوة يوسف) *) وكانوا عشرة، وكان منزلهم بالقربات من أرض فلسطين ثغور الشام، وكانوا أهل بادية وإبل وشاة " * (فدخلوا عليه فعرفهم) *) يوسف وأنكروه لما أراد الله أن يبلغ يوسف فيما أراد.
قال ابن عباس: وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا مصر أربعين سنة فلذلك أنكروه وقيل: إنه كان متزيا بزي فرعون مصر، عليه ثيات حرير، جالس على سريره، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج، فلذلك لم يعرفوه، وكان بينه وبينهم ستر ولذلك لم يعرفوه.
234

قال بعض الحكماء: المعصية تورث الكبرة، قال الله تعالى: " * (فعرفهم وهم له منكرون) *) فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية، قال لهم: أخبروني من أنتم؟ وما أمركم؟ فإني أنظر شأنكم، قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار، قال: لعلكم عيون تنظرون عورة بلادي، قالوا: والله ما نحن جواسيس وإنما نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق يقال له: يعقوب، نبي من أنبياء الله، قال: وكم أنتم؟.
قالوا: كنا اثني عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها، وكان أحبنا إلى أبينا، فقال: فكم أنتم ها هنا، قالوا: عشره، قال: فأين الآخر؟ قالوا: عند أبينا لأنه أخ الذي هلك من أمه، وأبونا يتسلى به، قال: فمن يعلم أن الذي تقولون حق؟ قالوا: أيها الملك إنا ببلاد لا يعرفنا أحد، قال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، فأنا أرضى بذلك.
قالوا: إن أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه وإنا لفاعلون، قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف وأبرهم به فخلفوه عنده، فذلك قوله تعالى: " * (ولما جهزهم بجهازهم) *) يعني حمل لكل رجل منهم بعيرا بعدتهم، " * (قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم) *) يعني بنيامين، " * (ألا ترون أني أوف الكيل) *) أي لا أبخس الناس شيئا وأتم لهم كيلهم فأزيد لكم حمل بعير في خراجكم، وأكرم مثواكم، وأحسن إليكم، " * (وأنا خير المنزلين) *) المضيفين.
" * (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي) *) ليس لكم عندي طعام أكيله لكم " * (ولا تقربون) *) ولا تقربوا بلادي بعد ذلك، وهو جزم يدل على النهي.
" * (قالوا سنراود عنه أباه) *) نطلبه ونسأله أن يرسله معنا، قال ابن عباس: سنخدعه حتى نخرجه معنا، " * (وإنا لفاعلون) *) ما أمرت به.
" * (وقال يوسف لفتيانه) *) أي لغلمانه الذين يعملون بالطعام، قرأ الحسن وحميد ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، لفتيانه بالألف والنون وهو اختيار أبي عبيدة، وقال: هي في مصحف عبد الله كذلك، وقرأ الباقون لفتيته بالتاء من غير ألف وهما لغتان مثل الصبيان والصبية.
" * (اجعلوا بضاعتهم) *) أي طعامهم، قال قتادة: أوراقهم، الضحاك عن ابن عباس قال: كانت النعل والأدم، " * (في رحالهم) *) في أوعيتهم وهي جمع رحل، والجمع القليل منه الرحيل، قال ابن الأنباري: يقال للوعاء: رحل وللمسكن رحل.
" * (لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا) *) انصرفوا، " * (إلى أهلهم لعلهم يرجعون) *) إلي واختلف العلماء في السبب الذي فعل يوسف من أجله، فقال الكلبي: تخوف يوسف أن لا يكون عند أبيه من الورق فلا يرجعون مرة أخرى، وقيل: خشي أن يضر أخذه ذلك منهم بأبيه؛ إذ كانت السنة سنة
235

جدب وقحط، فأحب أن يرجع إليه، وإنما أراد أن يتسع به أبوه، وقيل: رأى لو أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه فرده عليهم من حيث لا يعلمون تكرما وتفضلا.
وقيل: فعل لأنه علم أن ديانتهم وأمانتهم تحملهم على رد البضاعة ولا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها، وقيل: أبدا لهم كرمه في رد البضاعة وتقديم الضمان في البر والإحسان ليكون أدعى لهم إلى العود إليه طمعا في بره.
" * (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا) *) قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة، لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته، قال لهم يعقوب: إذا أتيتم ملك بمصر فاقرؤوه مني السلام وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك بما أوليتنا، ثم قال: أين شمعون؟ قالوا: إنه عند ملك مصر وأخبروه بالقصة، فقال: ولم أخبرتموه؟ قالوا: إنه أخذنا وقال: إنكم جواسيس عندما كلمناه بلسان العبرانيين، وقصوا عليه القصة.
" * (وقالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا) *) بنيامين " * (نكتل) *) قرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي يكتل بالياء يعني يكتل لنفسه هو كما كنا نكتل نحن، وقرأ الآخرون بالنون بمعنى نكتل نحن، واختاره أبو عبيد " * (وإنا له لحافظون قال) *) يعقوب، " * (هل آمنكم عليه إلا كما آمنتكم على أخيه) *) يوسف " * (من قبل فالله خير حافظا) *) قرأ ابن محصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي: حافظا بالألف على التمييز والتفسير، كما يقال: هو خير رجلا، ومجاز الآية خيركم حافظا فحذف الكاف والميم، ويدل عليه أنها مكتوبة في مصحف عبد الله: والله خير الحافظين.
وقرأ الآخرون حفظا بغير الألف على المصدر بمعنى خيركم حفظا واختلف فيه عن عاصم * (وهو أرحم الراحمين) * * (ولما فتحوا متاعهم) *) الذي حملوه من مصر " * (وجدوا بضاعتهم) *) ثمن الطعام " * (ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي) *) أي ماذا نبغي؟ وأي شيء نطلب وراء هذا؟ أوفى لنا الكيل ورد علينا الثمن، أرادوا بذلك أن يطيبوا نفس أبيهم، و " * (ما) *) استفهام في موضع نصب ويكون معناه جحدا كأنهم قالوا: لسنا نريد منك دراهم.
" * (هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا) *) ونشتري لهم الطعام فنحمله إليهم، يقال مار أهله يمير ميرا فهو ماير، إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلده في مثله أمتار يمتار امتيارا، قال الشاعر:
بعثتك مائرا فمكثت حولا
متى يأتي غياثك من تغيث
وقال آخر:
236

أتى قرية كانت كثيرا طعامها
كعفر التراب كل شيء يميرها
" * (ونحفظ أخانا) *) بنيامين " * (ونزداد) *) على أحمالنا " * (كيل بعير) *) لنا من أجله " * (ذلك كيل يسير) *): لا مؤونة فيه ولا مشقة، وقال مجاهد: كيل بعير يعني: حمل حمار، قال: وهي لغة يقال للحمار بعير، " * (قال) *) لهم يعقوب: " * (لن أرسله معكم حتى تؤتون) *) تعطوني " * (موثقا من الله) *) يعني تحلفوا لي بحق محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين أن لا تغدروا بأخيكم " * (لتأتنني به) *) وإنما دخلت فيه اللام لأن معنى الكلام اليمين " * (إلا أن يحاط
بكم) *) إلا أن تهلكوا جميعا، قاله مجاهد، وقال قتادة: إلا أن يغلبوا حتى لا يطيقوا ذلك.
" * (فلما آتوه موثقهم) *) أعطوه عهودهم، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: حلفوا له بحق محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته من ربه " * (قال) *) يعقوب " * (الله على ما نقول وكيل) *) أي شاهد وحافظ بالوفاء، وقال القتيبي: كفيل، وقال كعب: لما قال يعقوب: فالله خير حافظا، قال الله جل ذكره: وعزتي لأردن عليك كليهما بعدما توكلت علي، وقال لهم يعقوب لما أرادوا الخروج (هذا)، " * (وقال يا بني لا تدخلوا) *) مصر " * (من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) *) وذلك أنه خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة وصور حسان وقامات ممتدة، وكانوا ولد رجل واحد، وأمرهم أن يفترقوا في دخولها ثم، قال: " * (وما أغني عنكم من الله من شيء) *) علم (عليه السلام) أن المقدور كائن، وأن الحذر لا ينفع من القدر، وما أغني عنكم من الله من شيء " * (إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) *) وإلى الله فليفوض أمورهم المفوضون.
" * (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم) *) وكان لمصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها كلها، " * (ما كان يغني عنهم من الله من شيء) *) صدق الله تعالى يعقوب فيما قال " * (إلا حاجة) *) حزازة وهمة في نفس يعقوب " * (قضاها) *) أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم " * (وإنه) *) يعقوب " * (لذو علم لما) *): أي مما " * (علمناه) *) يعني لتعليمنا إياه، قاله قتادة، وروى سفيان عن (ابن) أبي عروة قال: إنه العامل بما علم، قال سفيان: من لا يعمل لا يكون عالما، وقيل: إنه لذو حظ لما علمناه.
" * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *) ما يعلم يعقوب، أي لا يعرفون مرتبته في العلم.
" * (ولما دخلوا على يوسف) *) قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، قد جئناك به فقال لهم: أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي، ثم أنزلهم فأكرم منزلهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحيدا، فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال لهم يوسف (عليه السلام): لقد بقي هذا أخوكم وحيدا، فأجلسه على مائدته فجعل يؤاكله
237

فلما كان الليل أمر لهم بمثل أي فرش، فقال: لينم كل أخوين منكم على مثال، فلما بقي بنيامين وحده، قال يوسف (عليه السلام): هذا ينام معي على فراشي فبات معه فجعل يوسف يضمه إليه ويشم خده حتى أصبح فجعل روبيل يقول: ما رأينا مثل هذا، فلما أصبح قال لهم: إني أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان فسأضمه إلي فيكون منزله معي، ثم أنزلهم (معه)، وأجرى عليهم الطعام والشراب وأنزل أخاه لأمه معه فذلك، قوله تعالى: " * (آوى إليه أخاه) *) فلما خلا به قال له: ما اسمك؟ قال: بنيامين.
قال ابن من يا بنيامين؟ قال: ابن المثكل، وذلك أنه لما ولد هلكت أمه، قال: وما اسمها؟ قال: راحيل بنت لاوي بن ناحور، قال: فهل لك بنون؟ قال: نعم، عشر بنين وقد اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي من أمي هلك، قال: لقد اضطرك إلى ذاك حزن شديد، قال: فما سميتهم؟ قال: بالعا وأحيرا وأثكل وأحيا وكنر ونعمان وادر وأرس وحيتم وميثم، قال فما هذه؟ قال: إما بالعا فإن أخي قد ابتلعته الأرض، وأما أخيرا فإنه بكر أبي لأمي، وأما أثكل فإنه كان أخي لأبي وأمي وسني، وأما كثير فإنه خير حبيب كان، وأما نعمان فإنه ناعم بين أبويه وأما أدر فإنه كان بمنزلة الورد في الحسن، قال: وأما أرس فإنه كان بمنزلة الرأس من الجسد، وأما حيتم فأعلمني أنه حي، وأما ميثم فلو رأيته قرت عيني.
فقال يوسف: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال بنيامين: ومن يجد أخا مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف (عليه السلام) وقام إليه وعانقه و " * (قال) *) له: " * (إني أنا أخوك) *) يوسف " * (فلا تبتئس) *) فلا تحزن " * (بما كانوا يعملون) *) لشيء فعلوه بنا فيما مضى؛ فإن الله قد أحسن إلينا ولا تعلمهم شيئا مما علمت.
وقال عبد الصمد بن معقل: سمعت وهب بن منبه وسئل عن قول يوسف لأخيه: " * (إني أنا أخوك) *)، فقيل له كيف آخاه حين أخذ بالصواع وقد كان أخبره أنه أخوه، وأنتم تزعمون أنه لم يزل متنكرا لهم يكابرهم حتى رجعوا؟
فقال: إنه لم يعترف له بالنسبة ولكنه قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، ومثله قال الشعبي، قال: لم يقل له: أنا يوسف، ولكن أراد أن يطيب نفسه.
ومجاز الآية أي: أنا أخوك بدل أخيك المفقود فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلا تشتك ولا تحزن لشيء سلف من أخوتك إليك في نفسك وفي أخيك من أمك، وما كانوا يفعلون قبل اليوم بك، ثم أوفى يوسف لإخوته الكيل وحمل لهم بعيرا، وحمل لبنيامين بعيرا باسمه كما حمل لهم، ثم أمر بسقاية الملك فجعل في رحل بنيامين، قال السدي: جعل السقاية في رحل أخيه، والأخ لا يشعر.
238

قال كعب: لما قال له: إني أنا أخوك قال بنيامين: فأنا لا أفارقك، قال يوسف (عليه السلام): قد علمت (عنهم) والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمه، فلا يمكنني هذا إلا أن أشهرك بأمر وأنسبك إلى ما لا يجمل بك، قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك.
قال: فإني أدس صاعي هذا في رحلك ثم أنادي عليك بالسرقة لجهازي ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك، قال: فافعل، فذلك قوله تعالى: " * (فلما جهزهم بجهازهم) *) أي لما قضى لهم حاجتهم، " * (جعل السقاية) *): وهي المشربة التي كان يشرب بها الملك، قال ابن زيد: وكان كأسا من ذهب فيما يذكرون، وقال ابن إسحاق: هو شيء من فضة، عكرمة: مشربة من فضة مرصعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيلا لئلا يكال بغيرها وكان يشرب بها، سعيد بن جبير: هو (المقياس) الذي يلتقي طرفاه وكان يشرب بها الأعاجم وكان للعباس منها واحدة في الجاهلية، والسقاية والصواع واحد، " * (في رحل أخيه) *) في متاع بنيامين، ثم ارتحلوا وأمهلهم
يوسف حتى انطلقوا ومضوا ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا.
" * (ثم أذن مؤذن) *) نادى مناد، " * (أيتها العير) *) هي القافلة التي فيها الأحمال، قال الفراء: لا يقال عير إلا لأصحاب الإبل، وقال مجاهد كانت العير حميرا.
" * (إنكم لسارقون) *) قفوا، فوقفوا، فلما انتهى إليهم الرسول قال لهم: ألم نكرم ضيافتكم ونحسن منزلكم ونوفكم كيلكم ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قال: سقاية الملك، فقال: إنه لا يتهم عليها غيركم، فذلك قوله تعالى: " * (قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون) *) عطفوا على المؤذن وأصحابه: ماذا تفقدون؟ ما الذي ضل منكم؟ فالفقدان ضد الوجود، والمفقد: الطلب.
(* (قالوا نفقد صواع الملك ولمن جآء به حمل بعير وأنا به زعيم * قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد فى الارض وما كنا سارقين * قالوا فما جزآؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزؤه من وجد فى رحله فهو جزاؤه كذالك نجزى الظالمين * فبدأ بأوعيتهم قبل وعآء أخيه ثم استخرجها من وعآء أخيه كذالك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك إلا أن يشآء الله نرفع درجات من نشآء وفوق كل ذى علم عليم * قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون * قالوا ياأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنآ إذا لظالمون * فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم فى يوسف فلن أبرح الارض حتى يأذن لىأبىأو يحكم الله لى وهو خير الحاكمين * ارجعوا إلى أبيكم فقولوا ياأبانا إن
239

ابنك سرق وما شهدنآ إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين * واسئل القرية التى كنا فيها والعير التىأقبلنا فيها وإنا لصادقون * قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم) *) 2
" * (قالوا نفقد صواع الملك) *) واختلف القراء في قراءة ذلك، فروى قثم عن داود بن أبي هند عن مولى بني هاشم عن أبي هريرة أنه قرأ صاع الملك، وقرأ أبو رجاء صوع، وقرأ يحيى بن معمر صوغ بالغين، (فإنه) وجهنا إلى مصر، صاغ يصوغ صوغا، وجمع الصواع صيعا، وجمع صاع أصواع.
" * (ولمن جاء به حمل بعير) *) من الطعام " * (وأنا به زعيم) *) كفيل يقوله المؤذن، وأصل الزعيم: القائم بأمر القوم، ويقال للرئيس زعيم، يقال: زعم، زعامة وزعاما، قالت ليلى الأخيلية:
حتى إذا رفع اللواء رأيته
تحت اللواء على الخميس زعيما
و " * (قالوا) *) يعني اخوة يوسف، " * (تالله) *) أي والله، أصلها الواو قلبت تاء كما فعل القراء في التقوى والتكلان والتراب والتخمة، وأصلها الواو، والواو في هذه الحروف كلها حرف من الأسماء، وليست كذلك في تالله لأنها إنما هي واو القسم وإنما جعلت بالكثرة ما جرى على ألسن العرب، وهم زعموا أن الواو من نفس الحرف فقلبوها تاء، ووضعت في هذه الكلمة الواحدة دون غيرها من أسماء الله تعالى.
" * (لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) *) فإن قيل: من أين علموا ذلك؟ الجواب عنه: قال الكلبي قال: إن فتى يوسف وهو المؤذن قال لهم: إن الملك ائتمنني بالصاع وأخاف عقوبة الملك، فلي اليوم عنده مقولة حسنة، فإن لم أجده تخوفت أن تسقط منزلتي وأفتضح في مصر، قالوا: لقد علمتم ما جئنا لنفس في الأرض إنا منذ قطعنا هذا الطريق لم ننزل عند أحد ولا أفسدنا شيئا وسلوا عنا من مررنا به، هل ضررنا أحدا؟ أو هل أفسدنا شيئا؟ وإنا قد رددنا الدراهم كما وجدنا في رحلنا، فلو كنا سارقين ما رددناها.
قال فتى يوسف: إنه صواع الملك الأكبر الذي يكتال فيه، وقال بعضهم: إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا معروفين أنهم لا يتناولون ما ليس لهم، وقيل: إنهم كانوا حين دخلوا مصر كموا أفواه دوابهم لكي لا تتناول من حروث الناس.
فإن قيل: كيف استجاز يوسف تسميتهم سارقين
240

قيل: فيه جوابان: أحدهما أنه أضمر في نفسه أنهم سرقوه من أبيه، والآخر أنه من قول المنادي لا من أمر يوسف والله أعلم.
" * (قالوا) *) يعني المنادي وأصحابه، " * (فما جزاؤه) *) ثوابه قال الأخفش: إن شئت رددت الكناية إلى السارقين، وإن شئت رددتها إلى السرق " * (إن كنتم كاذبين) *) في قولكم: (ما كنا سارقين).
قالوا: " * (جزاؤه من وجد في رحله) *) أن يسلم سرقته إلى المسروق منه، ويسترق سنة، وكان ذلك سنة آل يعقوب في حكم السارق " * (كذلك نجزي الظالمين) *) الفاعلين ما ليس لهم فعله من أخذ مال غيره سرقا، وأما وجه الكلام فقال الفراء من في معنى جزاؤه، ومن معناها الرفع بالهاء التي جاءت وجواب الجزاء الفاء في قوله " * (فهو جزاؤه) *) ويكون قوله: " * (جزاؤه) *) الثانية مرتفع بالمعنى المجمل في الجزاء وجوابه، ومثله في الكلام أن يقول: ماذا لي عندك؟ فيقول: لك عندي أن بشرتني فلك ألف درهم كأنه قال: لك عندي هذا، وإن شئت الجزاء مرفوعا بمن خاصة وصلتها كأنك قلت: جزاؤه الموجود في رحله، كأنك قلت: ثوابه أن يسترق (في المستأنف) أيضا فقال: فهو جزاؤه، وتلخيص هذه الأقاويل: جزاؤه جزاء الموجود في رحله، أو جزاؤه الموجود في رحله. تم الكلام.
وقال مبتدئا فهو جزاؤه فقال الرسول عند ذلك: إنه لابد من تفتيش أمتعتكم ولستم سارقين حتى أفتشها فانصرف بهم إلى يوسف، " * (فبدأ بأوعيتهم) *) لإزالة التهمة "
* (قبل وعاء أخيه) *) وكان فتش أمتعتهم واحدا واحدا، قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به، حتى إذا لم يبق إلا الغلام، قال: ما أظن هذا أخذ شيئا، فقال أخوته: والله لا نتحرك حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب من نفسك وأنفسنا، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه فذلك قوله تعالى: " * (واستخرجها من وعاء أخيه) *) وإنما أتت الكناية في قوله استخرجها والصواع مذكر، وقد قال الله تعالى: " * (ومن جاء به حمل بعير) *) لأن رده إلى السقاية كقوله: " * (الذين يرثون الفردوس) *)، ثم قال: " * (هم فيها خالدون) *) ردها إلى الجنة وقوله: " * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) *)، ثم قال: " * (فارزقوهم منه) *)، أي من الميراث.
وقيل: رد الكناية إلى السرقة.
وقيل: إنما أنثها لأن الصواع يذكر ويؤنث فمن أنثه قال: ثلاث أصوع مثل أدود ومن ذكره قال: ثلاثة أصواع مثل ثلاثة أثواب
241

" * (كذلك كدنا ليوسف) *) يعني كما فعلوا في الابتداء بيوسف فعلنا بهم لأن الله تعالى حكى عن يعقوب أنه قال ليوسف " * (فيكيدوا لك كيدا) *) فالكيد جزاء الكيد، قال ابن عباس: كذلك كدنا أي صنعنا، ربيع: ألهمنا، ابن الأنباري: أردنا.
ومعنى الآية: كذلك صنعنا ليوسف حتى ضم أخاه إلى نفسه وفصل بينه وبين إخوته بعلة كادها الله له فاعتل بها يوسف، " * (ما كان ليأخذ أخاه) *) إليه ويضمه إلى نفسه " * (في دين الملك) *) في حكمه وقضائه، قاله قتادة.
وقال ابن عباس: في سلطان الملك، وأصل الدين: الطاعة، وكان حكم الملك في السارق أن يسترق ويغرم ضعف ما سرق للمسروق منه، وقال الضحاك: كان الملك إذا أتي بسارق كشف عن فرجتيه وسمل عينيه، إلا أن يشاء الله، يعني أن يوسف لم يكن ليتمكن من أخذ أخيه بنيامين من أخوته وحبسه عنده في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك وهو ما أجراه على ألسنة إخوته أن جزاء السارق الاسترقاق فأقروا به وأبدوا من تسليم الأخ إليه، وكان ذلك مراد يوسف (عليه السلام).
" * (نرفع درجات من نشاء) *) بالحكم كما رفعنا يوسف على إخوته.
" * (وفوق كل ذي علم عليم) *) قال ابن عباس: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم، قال قتادة والحسن: والله ما من عالم على ظهر الأرض إلا فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله الذي علمه ومنه بدأ وإليه يعود، وفي قراءة عبد الله: وفوق كل عالم عليم.
وعن محمد بن كعب القرضي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قضى بقضية فقال رجل من ناحية المسجد: يا أمير المؤمنين ليس القضاء كما قضيت، قال فكيف هو؟ قال: كذا وكذا قال: صدقت وأخطأت، وفوق كل ذي علم عليم.
قالوا: فلما أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم من الحياء وأقبلوا على بنيامين وقالوا: يا بنيامين أي شيء الذي صنعت، فضحتنا وسودت وجوهنا، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت الصواع؟.
فقال بنيامين: بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه بالبرية، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم.
ثم قالوا ليوسف: " * (إن يسرق فقد سرق أخ له) *): من أبيه وأمه، من قبل، واختلف العلماء في السرقة التي وصفوا بها يوسف، فقال سعيد بن جبير وقتادة: سرق يوسف صنما لجده أبي أمه
242

فكسره وألقاه في الطريق، الكلبي: بعثته أمه حين أرادت أن ترتحل من حران مع يعقوب إلى فلسطين والأردن، أمرته أن يذهب فأخذ جونة فيها أوثان لأبنها (أي) ذهب فيأتيها بها لكي إذا فقدها أبوها أسلم، فانطلق فأخذها وجاء بها إلى أمه، فهذه سرقته التي يعنون.
وعن ابن جريح: كانت أم يوسف أمرتة أن يسرق صنما لخاله يعبده وكانت مسلمة، وروى أبو كريب عن أبي إدريس قال سمعت أبي قال: كان أولاد يعقوب على طعام ونظر يوسف إلى عرق فخبأه فعيروه بذلك، وأخبر عبد الله بن السدي، عن أبيه عن مجاهد أن يوسف جاءه سائل إلى البيت فسرق (جبة) من البيت فناولها السائل فعيروها بها، وقال سفيان بن عيينة: سرق يوسف دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلا.
كعب: كان يوسف في المنزل وحده فأتاه سائل وكان في المنزل عتاق وهي الأنثى من الجدي، فدفعها إلى السائل من غير أمر أبيه. وهب: كان يخبئ الطعام من المائدة للفقراء.
هشام عن سعد بن زيد بن أسلم في هذه الآية قال: كان يوسف (عليه السلام) مع أمه عند خال له، قال: فدخل وهو صبي يلعب وأخذ تمثالا صغيرا من الذهب، فذلك تعيير اخوانه إياه. وروى ابن إسحاق عن مجاهد عن جويبر عن الضحاك قال: كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته بنت إسحاق وكانت أكبر أولاد إسحاق، وكانت لها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثوها بالكبر من أختانها ممن وليها كان له سلما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء، وكانت راحيل أم يوسف قد ماتت فحضنته عمته وأحبته حبا شديدا، وكانت لا تصبر عنه.
فلما ترعرع وبلغ سنوات وقعت محبة يعقوب عليه فأتاها يعقوب فقال: يا أختاه سلمي إلي يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، فقالت: لا، فقال: والله ما أنا بتاركه.
قالت: فدعه عندي أياما أنظر إليه لعل ذلك يسليني عنه، ففعل، فلما خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحق فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وهو صغير ثم
قالت: لقد فقدت منطقة إسحق فانظروا من أخذها فالتمسوها فلم توجد فقالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم فوجودها مع يوسف، فقالت: والله إنه لسلم لي أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال: إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، فهذا الذي قال أخوة يوسف: إن سرق فقد سرق أخ له من قبل، وهذا هو المثل السائر الذي يقال عذره شر من جرمه.
" * (فأسرها) *) فأضمرها، " * (يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) *) وإنما أنث الكناية لأنه عنى بها الكلمة والمقالة وهي قراءة.
" * (قال أنتم شر مكانا) *) أي شر منزلا عند الله ممن رميتموه بالسرقة في صنيعكم بيوسف " * (والله أعلم بما تصفون) *) تقولون، قتادة: تكذبون.
243

وقالت الرواة: لما دخلوا على يوسف واستخرج الصواع من رحل بنيامين دعا يوسف بالصواع فنقر فيه ثم أدناه من أذنه ثم قال: إن صواعي هذا ليخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلا وانكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه، فلما سمعها بنيامين قام فسجد ليوسف ثم قال: أيها الملك سل صواعك هذا عن أخي أين هو فنقره ثم قال: هو؟ حي وسوف تراه قال: فاصنع في ما شئت فإنه إن علم بي فسوف يستنقذني، قال: فدخل يوسف فبكى، ثم توضأ وخرج فقال بنيامين: أيها الملك إني أرى أن تضرب صواعك هذا فيخبرك بالحق من الذي سرقه فجعله في رحلي؟ فنقره فقال: إن صواعي هذا عصاني وهو يقول: كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت؟
قال: وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا فغضب روبيل، وقال: والله أيها الملك لتتركنا أو لأصيحن صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلا ألقت ما في بطنها وقامت كل شعرة في جسد روبيل فجرجت من (......) فمسه فذهب غضبه، فقال روبيل من هذا؟ إن في هذا البلد لبذرا من بذر يعقوب.
فقال يوسف: ومن يعقوب؟ فغضب روبيل وقال: يا أيها الملك لا يذكر يعقوب فإنه سري الله ابن ذبيح الله ابن خليل الرحمن، قال يوسف (إشهد) إذا أنت كنت صادقا، احتبس يوسف أخاه وصار بحكم اخوته أولى به منهم، فرأوا أنه لابد لهم إلى تخليصه منه سألوه تخليته ببدل منهم يعطونه إياه، " * (فقالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا) *): متعلقا بحبه يعنون يعقوب، " * (فخذ أحدنا مكانه) *): بدلا منه " * (إنا نراك من المحسنين) *) في أفعالك قيل: إلينا، وقال ابن إسحاق: يعنون إن فعلت ذلك كنت من المحسنين.
" * (قال) *) يوسف " * (معاذ الله) *) أعوذ بالله وهو نصب على المصدر، وكذلك تفعل العرب في كل مصدر وضع موضع الفعل، تقول: حمدا لله وشكرا لله، بمعنى أحمد الله وأشكره " * (أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) *) ولم يقل من سرق تحرزا من الكذب، " * (إنا إذا لظالمون) *) إن أخذنا بريئا بسقيم.
" * (فلما استيئسوا منه) *) يعني أيسوا من يوسف من أن يجيبهم إلى ما سألوه " * (خلصوا نجيا) *) أي خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم، والنجي لقوم يتناجون وقد يصلح للواحد أيضا، قال الله في الواحد: " * (وقربناه نجيا) *)، وقال في الجمع " * (خلصوا نجيا) *) وإنما جاز للواحد والجمع لأنه مصدر أبدل نعتا كالعدل والزور والفطر ونحوها، وهو من قول القائل نجوت فلانا أنجوه نجيا، ومثله النجوى يكون اسما ومصدرا، قال الله تعالى: " * (وإذ هم
244

نجوى) *) أي يتناجون وقال: " * (ما يكون من نجوى ثلاثة) *) وقال في المصدر " * (إنما النجوى من الشيطان) *) وقال الشاعر:
بني بدا خب نجوى الرجال
(وك) عند سرك خب النجي
والنجوى والنجي في هذا البيت بمعنى المناجاة، وجمع النجي أنجية، قال لبيد:
وشهدت أنجية الأفاقة عاليا
كعبي وأرداف الملوك شهود
وقال آخر:
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
واضطربت أعناقهم كالأرشية
هناك أوصيني ولا توصي بيه.
" * (قال كبيرهم) *) يعني في العقل والعلم لا في السن وهو شمعون، وكان رئيسهم، قاله مجاهد، وقال قتادة والسدي والضحاك وكعب: هو روبيل وكان أسنهم وهو ابن خالة يوسف، وهو الذي نهى إخوته عن قتله، وهب والكلبي: يهودا، وكان أعقلهم، محمد بن إسحاق: لاوي.
" * (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله) *) عهدا من الله " * (ومن قبل ما فرطتم في يوسف) *) اختلفوا في محل ما فقال بعضهم: هو نصب إيقاع العلم عليه يعني: ألم تعلموا من قبل فعليكم بهذه تفريطكم في يوسف؟ وقيل: هو في محل الرفع على الابتداء، وتمام الكلام عند قوله: من الله يعني: ومن قبلي هذا تفريطكم في يوسف، فيكون ما مرفوعا يخبر (....) الصفة وهو قوله: ومن قبل، وقيل: ما صلة، ويعني ومن هذا فرطتم في يوسف أي قصرتم وضيعتم، وقيل: رفع على الغاية.
" * (فلن أبرح الأرض) *) التي أنا بها وهي أرض مصر " * (حتى يأذن لي أبي) *) بالخروج منها " * (أو يحكم الله لي) *) بالخروج منها وترك أخي بنيامين بها أو معه، وإلا فإني غير خارج منها، وقال أبو صالح: أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب من حبس أخي بنيامين.
" * (وهو خير الحاكمين) *) أفضل وأعدل من يفصل بين الناس.
245

" * (ارجعوا إلى أبيكم) *) يقوله الآخر في المحتبس بمصر لإخوته " * (فقولوا يا أبانا إن ابنك) *) بنيامين " * (سرق) *) الصواع، وقرأ ابن عباس والضحاك: سرق بضم السين وكسر الراء وتشديده على وجه ما لم يسم فاعله، يعني أنه نسب إلى السرقة مثل: خونته وفجرته (....) أي نسبته إلى هذه الخلال.
" * (وما شهدنا إلا بما علمنا) *) يعني ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما علمنا وليست هذه شهادة منا إنما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم، وقال ابن إسحاق: معناه: وما قلنا: إنه سرق إلا بما علمنا، قال: وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يسترق السارق بسرقته.
" * (وما كنا للغيب حافظين) *) قال مجاهد وقتادة: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق ويصير أمرنا إلى هذا، فلو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا، وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه منه سبيل، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس يعنون: أنه سرق ليلا وهم نيام والغيب هو الليل بلغة حمير، وقال ابن عباس: لم نعلم ما كان يعمل في ليله ونهاره ومجيئه وذهابه، عكرمة " * (وما كنا للغيب حافظين) *) لعلها دست بالليل في رحله.
وقيل معناه: قد أخذت السرقه من رحله ونحن ننظر إليه، ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرقوه ولم يسرق، وهذا معنى قول أبي إسحاق، وقال ابن كيسان: لم نعلم أنك تنصاب كما أصبت بيوسف، ولو علمنا ذلك لم (نأخذ) فتاك ولم نذهب به.
" * (وسئل القرية التي كنا فيها) *) يعني أهل القرية وهي مصر، ابن عباس: قرية من قرى مصر.
" * (والعير التي أقبلنا فيها) *) يعني القافلة التي كنا فيها وكان معهم قوم من كنعان من جيران يعقوب (عليه السلام)، قال ابن إسحاق: قد عرف الأخ المحتبس بمصر أن إخوته أهل تهمة عند أبيهم لما صنعوا في أمره فأمرهم أن يقولوا هذا الاسم، " * (وإنا لصادقون قال بل سولت) *) في الآية اختصار معناها، فرجعوا إلى أبيهم وقالوا له ذلك، فقال: بل سولت أي زينت " * (لكم أنفسكم أمرا) *) أردتموه " * (فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) *) يوسف وبنيامين وأخيهما المقيم بمصر " * (إنه هو العليم) *) بحزني ووجدي على فقدهم " * (الحكيم) *) في تدبير خلقه.
(* (وتولى عنهم وقال ياأسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم * قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنمآ أشكو بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون * يابنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايئسوا من روح الله إنه لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون * فلما دخلوا عليه قالوا ياأيها
246

العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينآ إن الله يجزى المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون * قالوا أءنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهاذا أخى قد من الله علينآ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين * قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين * اذهبوا بقميصى هاذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وأتونى بأهلكم أجمعين) *) 2
" * (وتولى عنهم) *) وذلك أن يعقوب لما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه وبلغ جهده وجدد حزنه على يوسف، فأعرض عنهم " * (وقال يا أسفى) *) يا حزني " * (على يوسف) *) وقال مجاهد: يا جزعاه، والأسف: شدة الحزن والندم.
" * (وابيضت عيناه من الحزن) *) مقاتل: لم يبصر بهما ست سنين " * (فهو كظيم) *) أي مكظوم مملوء من الحزن، ممسك عليه لا يبثه، ومنه كظم الغيظ، عطاء الخراساني: كظيم: حزين، مجاهد: مكبود، الضحاك: كميد، قتادة: تردد حزنه في جوفه، ولم يتكلم بسوء، ولم يتكلم إلا خيرا، ابن زيد: بلغ به الجزع حتى كان لا يكلمهم، ابن عباس: مهموم، مقاتل: مكروب، وكلها متقاربة.
سعيد بن جبير: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم يعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمة محمد، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه لم يسترجع: إنما قال يا أسفى على يوسف؟).
وأخبرني ابن فنجويه (قال: حدثنا أبو بكر بن مالك) القطيعي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، (قال: حدثني) أبي، عن هشام (بن القاسم) عن الحسن، قال: كانت بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانين عاما لا تجف عينا يعقوب، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
" * (قالوا) *) يعني ولد يعقوب " * (تالله تفتؤ تذكر يوسف) *) أي لا تزال تذكر يوسف، لا تفتر من حبه، يقال: ما فتئت أقول ذلك، وما فتأت أو أفتؤ، فتأ وفتوا، قال أوس بن حجر:
فما فتئت حي كأن غبارها
سرادق يوم ذي رياج ترفع
وقال آخر:
247

فما فتئت خيل تثوب وتدعي
ويلحق منها لاحق وتقطع
أي فما زالت.
وحذف (لا) قوله فتئ كقول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي: لا أبرح.
وقال خداش بن زهير:
وأبرح ما أدام الله قومي
بحمد الله منتطقا مجيدا
أي لا أبرح ومثله كثير.
" * (حتى تكون حرضا) *) اختلف ألفاظ المفسرين فيه، فقال ابن عباس: دنفا، العوفي: يعني الهد في المرض، مجاهد: هو ما دون الموت، يعني قريبا من الموت، قتادة: هرما، الضحاك: باليا مدبرا، ابن إسحاق: فاسدا لا عمل لك، ابن زيد: الحرض: الذي قد رد إلى أرذل العمر حتى لا يعقل، الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم، مقاتل: مدنفا، الكسائي: الحرض: الفاسد الذي لا خير فيه، الأخفش: يعني ذاهبا، المخرج: ذائبا من الهم، الفراء عن بعضهم: ضعيفا لا حراك بك، الحسن: كالشن المدقوق المكسور، علام تعبا مضنى، ابن الأنباري: هالكا فاسدا، القتيبي: ساقطا، وكلها متقاربة.
ومعنى الآية: حتى يكون دنف الجسم مخبول العقل، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، ومنه قول العرجي:
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني
حتى بليت وحتى شفني السقم
يقال: منه رجل حرض وامرأة حرض ورجلان وامرأتان حرض، ورجال ونساء حرض يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكر والمؤنث، لأنه مصدر وضع موضع الاسم، ومن العرب من يقول للذكر حارض وللأنثى حارضة، فإذا وصف بهذا اللفظ ثنى وجمع وانث، ويقال: حرض، يحرض، حرضا وحراضة فهو حرض، ويقال: رجل محرض وأنشد في ذلك:
طلبته الخيل يوما كاملا
ولو آلفته لأضحى محرضا
248

وقال امرؤ القيس:
أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا
كإحراض بكر في الديار مريض
" * (أو تكون من الهالكين) *) أي الميتين، وقال يعقوب عند ذلك لما رأى غلظتهم وسوء لفظهم، " * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) *) لا إليكم، قال المفسرون دخل على يعقوب جار له فقال: يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ قال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من مصاب يوسف، فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفر لي، قال: فإني قد غفرتها لك وكان بعد ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله.
وقال حبيب بن أبي ثابت: بلغني أن يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على عينيه، وكان يرفعهما بخرقة، فقال له رجل: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان.
فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني، فقال: خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
وعن عبد الله بن قميط، قال: سمعت أبي يقول: بلغنا أن رجلا قال ليعقوب (عليه السلام): ما الذي أذهب بصرك؟ قال: حزني على يوسف، قال: فما الذي قوس ظهرك؟ قال: حزني على أخيه، فأوحى الله عز وجل إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ وعزتي وجلالي لو كانا ميتين لأخرجتهما لك حتى تنظر إليهما، وإنما وجدت عليكم أنكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين فلم تطعموه شيئا، وأن أحب خلقي إلي الأنبياء ثم المساكين، فاصنع طعاما وادع إليه المساكين، فصنع طعاما، ثم قال: من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب.
وروى أبو عمران عن أبي الخلد ووهب بن منبه، قالا: أوحى الله تعالى إلى يعقوب: تدري لم عاقبتك وغيبت عنك يوسف وبنيامين؟ قال: لا إلهي، قال: لأ نك شويت عتاقا وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه، ويقال: إن سبب ابتلاء يعقوب بفقد يوسف، أنه كانت له بقرة ولها عجول فذبح عجولها بين يديها، وإنما كانت تخور فلم يرحمها، فأخذه الله به وابتلاه بفقد يوسف أعز ولده.
وقال وهب بن منبه والسدي وغيرهما: أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن، فقال: هل تعرفني أيها الصديق؟ قال: أرى صورة طاهرة وريحا طيبة، قال: فإني رسول رب العالمين، وأنا الروح الأمين، قال: فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيبين، ورأس المقربين، وأمين رب العالمين؟ قال: ألم تعلم يا يوسف أن الله يطهر البيوت لهؤلاء الطيبين، وأن الأرض
249

التي تدخلونها هي أطهر الأرضين، وأن الله قد طهر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين؟
قال: كيف لي بابن الصديقين وتعدني من المخلصين، وقد أدخلت مدخل المذنبين، وسميت باسم المفسدين؟ قال: لأنه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربك فلذك سماك الله في الصديقين، وعدك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين، قال: هل لك علم بيعقوب أيها الروح الأمين؟ قال: نعم وهب الله له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم، قال: فما قدر حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فماذا له من الأجر يا جبرئيل؟ قال: أجر مائة شهيد، قال: أفتراني لاقيه؟ قال: نعم، فطابت نفس يوسف، قال: ما أبالي ما ألفيته أن رأيته.
وأما قوله بثي فالبث: أشد الحزن سمي بذلك لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثه أي يظهره، يقال: بث، يبث فهو باث وأبث (يأبثه أبثا) يبث فهو مبث إذا أظهره قال ذو الرمة:
وقفت على ربع لمية ناقتي
فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره وملاعبه
وقال الحسن: بثي أي حاجتي، وقال محمد بن القاسم الأنباري: البث: التفرق، وقال محمد بن إسحاق: معناه: إنما أشكو حزني الذي أنا فيه إلى الله، وهو من بث الحديث.
" * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) *) قال ابن عباس: يقول أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له، وقال آخرون: وأعلم أن يوسف حي.
قال السدي: لما أخبره ولده بسيرة الملك وقوله أحست نفس يعقوب فطمع وقال: لعله يوسف، ويروى أنه رأى الملك في المنام فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا والله، وهو حي.
ويقال: أرسل الله إليه ذئبا فسلم عليه وكلمه، فقال له يعقوب: أكلت ابني وقرة عيني وثمرة فؤادي؟ قال: قد والله علمت يا يعقوب أن لحوم الأنبياء وأولاد الأنبياء علينا حرام، فلذلك قال لبنيه: " * (يا بني اذهبوا فتحسسو من يوسف وأخيه) *) ولا تيأسوا من روح الله سيروا واطلبوا الخبر، من يوسف وأخيه: وهو تفعلوا من الحس يعني تتبعوا، قال ابن عباس: إلتمسوا، " * (ولا تيأسوا) *)، أي لا تقنطوا، من روح الله: من فرج الله، قال ابن زيد وقتادة، والضحاك: من رحمة الله، " * (فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) *).
يقال: سئل ابن عباس عن الفرق بين التجسس والتحسس فقال: لا يبعد أحدهما عن
250

الآخر إلا أن التحسس في الخير والتجسس في الشر، الحسن وقتادة: ذكر لنا أن نبي الله يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلا أتى حسن ظنه بالله من ورائه، وما ساء ظنه بالله ساعة قط من ليل أو نهار، الحسن عن الأحنف بن قيس عن ابن عباس بن عبدالمطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال داود: (إلهي) أسمع الناس يقولون إله إبراهيم وإسحق ويعقوب فاجعلني رابعا: فقال: لست هناك، إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلا اختارني، وإن إسحاق جاد لي بنفسه، وإن يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف).
" * (قالوا يا أيها العزيز) *) في الآية متروك يستدل بسياق الكلام عليه تقديره: فجاؤوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف، فقالوا له: يا أيها العزيز، يا أيها الملك بلغة حمير، " * (مسنا وأهلنا الضر) *) الشدة والجوع " * (وجئنا ببضاعة مزجاة) *) قليلة، رديئة ناقصة، كاسدة. لا تنفق في شيء من الطعام إلا (يتوجبن) من البائع فيها، وأصل الإزجاء السوق والدفع، قال الله تعالى: " * (ألم تر أن الله يزجي سحابا) *) قال النابغة الذبياني:
وهبت الريح من تلقاء ذي أزل
تزجي مع الليل من صرادها صرما
وقال حاتم الطائي:
ليبك على ملحان ضيف مدفع
وأرملة تزجي مع الليل أرملا
وإنما قيل للبضاعة: مزجاة لأنها غير نافقة وإنما يجوز تجويزا على دفع من أخذها. وأمالها حمزة والكسائي وفخمها الباقون.
واختلف المفسرون في هذه البضاعة ما هي؟ عكرمة عن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفا لا تنفق إلا بوضيعه بإذن عنه، يعني لا تنفق في الطعام؛ لأنه لا يؤخذ في ثمن الطعام إلا الجيد، ابن أبي مليكة: حبل خلق الغرارة والحبل ورثة المتاع، عبد الله بن الحرث: متاع الأعراب، الصوف والسمن، الكلبي ومقاتل وابن حيان: الصنوبر وحبة خضراء، سعيد بن جبير: دراهم (قليلة)، ابن إسحاق: قليلة لا تبلغ ما كان يشترى به إلا أن تتجاوز لنا فيها أحسن كانت أو أوطأ، جويبر عن الضحاك: النعال والأدم، وروي عنه أنها سويق المقل.
251

" * (فأوف لنا الكيل) *) أي أعطنا بها ما كنت تعطينا من قبل بالثمن الجيد الوافي " * (وتصدق علينا) *) وتفضل علينا بما بين الثمنين الجيد والرديء. ولا تنقصنا من السعر، هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن جريج والضحاك: تصدق علينا برد أخينا إلينا.
" * (إن الله يجزي المتصدقين) *) قال الضحاك: لم يقولوا: إن الله يجزيك أن تصدقت علينا لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن، قال عبد الجبار بن العلاء: سئل سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبينا صلى الله عليه وسلم قال سفيان: ألم تسمع قوله: " * (وأوف لنا الكيل وتصدق علينا) *) أراد سفيان أن الصدقة كانت لهم حلالا وأنها إنما حرمت على نبينا صلى الله عليه وسلم وروي أن الحسن البصري سمع رجلا يقول: اللهم تصدق علي، فقال: يا هذا إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب، قل: اللهم أعطني أو تفضل علي.
" * (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) *) اختلفوا في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول، فقال ابن إسحاق: ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام غلبته نفسه وأدركته الرقة فانفض دمعه باكيا ثم باح لهم بالذي كان يكتم فقال: " * (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) *).
وقال الكلبي: إنما قال ذلك حين حكى لإخوانه: أن مالك بن أذعر قال: إني وجدت غلاما في بئر حاله كيت وكيت وابتعته من قوم بألف درهم فقال: أيها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه، فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولى يهوذا وهو يقول: كان يعقوب يحزن لفقد واحد منا حتى كف بصره فكيف به إذا لو قتل بنوه كلهم، ثم قالوا: إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا وإنه في مكان كذا وكذا، فذاك حين رحمهم وبكى وقال لهم ذلك القول.
وقال بعضهم: إنما قال ذلك حين قرأ كتاب أبيه إليه وذلك أن يعقوب لما قيل له: إن ابنك سرق، كتب إليه: من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله، بن إبراهيم خليل الله أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء، فأما جدي فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه، ليقتل، ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا: قد أكله الذئب وذهب (..........) ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمة وكنت أتسلى به، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق، وإنك حبسته بذلك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته إلي وإلا دعوت عليك دعوة تنزل بالسابع من ولدك، فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره فقال لهم ذلك.
252

وقال بعضهم: إنما قال ذلك حين سأل أخاه بنيامين: هل لك ولد؟ قال: نعم، ثلاثة بنين، قال: فما سميتهم؟ قال: سميت الأكبر يوسف قال: ولم؟ قال: محبة لك، لأذكرك به، قال: فما سميت الثاني؟ قال: ذئبا، قال: ولم سميته بالذئب وهو سبع عاقر؟ قال: لأذكرك به، قال: فما سميت الثالث؟ قال: دماء، قال: ولم؟ قال لأذكرك به، فلما سمع يوسف المقالة خنقته العبرة، ولم يتمالك، فقال لإخوته: لما دخلوا عليه: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ فرقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إذ أنتم جاهلون، بما يؤول إليه أمر يوسف.
وقيل: يكون المذنب جاهل وقت ذنبه.
قال ابن عباس: إذا أنتم صبيان، الحسن: شبان وهذا غير بعيد من الصواب لأن مظنة الجهل الشباب.
فإن سئل عن معنى قول يوسف " * (ما فعلتم بيوسف وأخيه) *) وقيل ما كان عنهم إلى أخيه وهم لم يسعوا في حبسه، فالجواب أنهم لما أطلقوا ألسنتهم على أخيهم بسبب الصاع (حبس) وقالوا: ما رأينا منكم يا بني راحيل كما ذكرناه، فعاتبهم يوسف على ذلك. وقيل: إنهما لما كانا من أم واحدة وكانوا يؤذونه بعد فقد يوسف فعاتبهم على ذلك.
" * (قالوا أئنك لاانت يوسف) *): قرأ ابن محصن وابن كثير: إنك على الخبر، وقرأ الآخرون على الاستفهام، ودليلهم قراءة أبي بن كعب أو أنت يوسف، قال ابن إسحاق: لما قال يوسف لأخوته " * (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) *) الآية، كشف عنهم الغطاء ورفع الحجاب فعرفوه، فقالوا: إنك لأنت يوسف، جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: قال يوسف: هل علمتم ما فعلتم بيوسف؟ ثم تبسم، وكان إذا تبسم كأن ثناياه اللؤلؤ المنظوم، فلما أبصروا ثناياه شبهوه بيوسف، فقالوا له استفهاما: إنك لأنت يوسف؟، ابن سمعان عن عطاء عن ابن عباس قال: إن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها، وكان لإسحاق مثلها، وكان لسارة مثلها شبه الشامة البيضاء، فلما قال لهم: (هل) علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ورفع التاج عنه، فعرفوه فقالوا: إنك لأنت يوسف.
" * (قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا) *) بأن جمع بيننا بعدما فرقتم " * (إنه من يتق الله) *) بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، ويصبر عما حرم الله عليه، قال ابن عباس: يتق الزنا ويصبر على العزوبة، مجاهد: يتق معصية الله ويصبر على السجن " * (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) *)، ف " * (قالوا) *) مقرين معتذرين: " * (تالله لقد آثرك الله علينا) *) اختارك الله علينا بالعلم والحكم والعقل والفضل والحسن والملك " * (وإن كنا لخاطئين) *) وإن كنا في صنيعنا بك
253

لمخطئين، مذنبين، يقال: خطئ، يخطأ، خطأ وخطأ وأخطأ إذا أذنب، قال أمية بن الأكسر:
وإن مهاجرين تكنفاه
لعمر الله قد خطئا وخابا
وقيل لابن عباس: كيف قالوا: إنا كنا خاطئين وقد تعمدوا لذلك؟ فقال: أخطأوا الحق وإن تعمدوا، وكل من أتى ذنبا كذلك يخطئ المنهاج الذي عليه من الحق حتى يقع في الشبهة والمعصية ف " * (قال) *) يوسف وكان حليما موفقا: " * (لا تثريب عليكم اليوم) *) لا تعيير ولا تأنيب عليكم، ولا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم، وأصل التثريب: الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها) أي لا يعيرها، ثم دعا لهم يوسف
وقال: " * (يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) *).
عطاء عن ابن عباس قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بعضادتي الباب يوم فتح مكة وقد لاذ الناس بالبيت، وقال: (الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ثم قال: (ما تظنون؟) قالوا: نظن خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، قال: (وأنا أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم).
قال السدي وغيره: فلما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل؟ قالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه وقال لهم: " * (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) *) يعود مبصرا، لأنه كان دعاء. قال الضحاك: كان ذلك القميص من نسج الجنة، روى السدي عن أبيه عن مجاهد عن هذه الآية قال: كان يوسف أعلم بالله عز وجل من أن يعلم أن قميصه يرد على يعقوب بصره، ولكن ذلك قميص إبراهيم الذي ألبسه الله عز وجل في النار من حرير الجنة، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب وكان يعقوب، أدرج القميص وجعله في قصبة وعلقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، ثم أمره جبرئيل (عليه السلام) أن أرسل بقميصك فإن فيه ريح الجنة لا يقع على مبتل ولا سقيم إلا صح وعوفي.
" * (وأتوني بأهلكم أجمعين) *))
.
* (ولما فصلت العير قال أبوهم إنى لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم * فلمآ أن جآء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إنى صلى الله عليه وسلم
254

1764 أعلم من الله ما لا تعلمون * قالوا ياأبانا استغفر لنا ذنوبنآ إنا كنا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربىإنه هو الغفور الرحيم * فلما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شآء الله ءامنين * ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هاذا تأويل رؤياىمن قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بىإذ أخرجنى من السجن وجآء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتىإن ربى لطيف لما يشآء إنه هو العليم الحكيم * رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الاحاديث فاطر السماوات والارض أنت ولى فى الدنيا والاخرة توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين) *) 2
" * (ولما فصلت العير) *) يعني خرجت من عريش مصر متوجهة إلى كنعان.
" * (قال أبوهم) *) لولد ولده " * (إني لااجد ريح يوسف) *) روي أن الريح استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب (عليه السلام) بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير، فأذن لها فأتته بها، ابن السدي عن أبيه عن مجاهد، قال: أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيام وذلك أنه هبت فصفقت القميص فاحتملت الريح ريح القميص إلى يعقوب فوجد ريح الجنة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنة إلا أن تأتي من ذلك القميص فمن ثم قال: إني لأجد ريح يوسف، وهو منه على مسيرة ثماني ليال.
وروى شعيبة عن أبي سنان قال: سمعت عبد الله بن أبي الهذيل قال: سمعت ابن عباس يقول: وجد يعقوب ريح يوسف روى أبو سنان عن أبي هذيل قال: سمعت ابن عباس يقول: وجد يعقوب ريح يوسف وهو منه على مسيرة ثماني ليال، وروى شعيبة عن أبي سنان قال: سمعت عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس في هذه الآية قال: وجد ريحه من مسيرة ما بين البصرة والكوفة. وقال الحسن: ذكر لنا أنه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخا.
" * (لولا أن تفندون) *): سفيان عن حصيف، عن مجاهد " * (لولا أن تفندون) *)، قال: تسفهون الرأي، عن ابن عباس: تجهلون، ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد: لولا أن تقولوا ذهب عقلك، سعيد بن جبير والسدي والضحاك: تكذبون، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والحسن وقتادة: تهرمون، ومثله روى إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد، ربيع: تحمقون، جويبر عن الضحاك: تهرمون، فتقولون: شيخ كبير قد خرف وذهب عقله، ابن يسار: تضعفون، أبو عمرو بن العلاء: تقبحون، الكسائي: تعجزون، الأخفش: تلومون، أبو عبيدة: تضللون، وأصل الفند: الفساد، قال النابغة:
إلا سليمان إذ قال المليك له
قم في البرية فاحددها عن الفند
255

أي امنعها من الفساد، ولذلك يقال: اللوم تفنيد، قال الشاعر:
يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي
فليس ما فات من أمر بمردود
وقال جرير بن عطية:
يا عاذلي دعا الملام وأقصرا
طال الهوى وأطلتما التفنيدا
وقال آخر:
أهلكتني باللوم والتفنيد
والفند: الخطأ في الكلام والرأي ويقال:
أفند فلانا الدهر إذا أفسده، ومنه قول ابن مقبل:
دع الدهر يفعل ما أراد فإنه
إذا كلف الافناد بالناس أفندا
" * (قالوا) *) يعني أولاد أولاده " * (تالله إنك لفي ضلالك) *) خطأك " * (القديم) *) من حبك يوسف لا تنساه، " * (فلما أن جاء البشير) *) المبشر برسالة يوسف، قال ابن عباس: البريد يهوذا بن يعقوب، ابن مسعود: جاء البشير من بين يدي العير قال السدي: قال يهوذا: أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب وأخبرته أن يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنه حي وأفرحه كما أحزنته، قال ابن عباس: حمله يهوذا دونهم، وخرج حاسرا حافيا وجعل يعدو حتى أتى أباه، وكان معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها، وكانت المسافة ثمانين فرسخا، وروى الضحاك عن ابن عباس، قال: البشير مالك بن ذعر من أهل مدين.
" * (ألقاه) *) يعني ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب، " * (فارتد بصيرا) *): فعاد بصيرا بعد ما كان عمي.
عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عبد الله السلمي: قال سمعت يحيى بن مسلم عمن ذكره قال: كان يعقوب أكرم أهل الأرض على ملك الموت، وإن ملك الموت استأذن ربه في أن يأتي يعقوب فأذن له فجاءه فقال يعقوب: يا ملك الموت أسألك بالذي خلقك، هل أخذت نفس يوسف فيمن قبضت من النفوس؟ قال: لا، قال ملك الموت: يا يعقوب ألا أعلمك دعاء؟ قال: بلى، قال: قل: يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ولا يحصيه غيرك، قال: فدعا به يعقوب في تلك الليلة فلم يطلع الفجر حتى طرح القميص على وجهه فارتد بصيرا، قال الضحاك: رجع إليه
256

بصره بعد العمى والقوة بعد الضعف والشباب بعد الهرم والسرور بعد الحزن.
" * (قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون) *) من حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا " * (قالوا) *) بعد ذلك " * (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) *) مذنبين.
" * (قال) *) يعقوب (عليه السلام): " * (سوف أستغفر لكم ربي) *) في صلاة الليل، قال أكثر المفسرين: أخره من الليل إلى السحر، وذلك أن الدعاء بالأسحار لا يحجب عن الله، فلما انتهى يعقوب إلى الموعد تقدم إلى الصلاة بالسحر، فلما فرغ منها رفع يده إلى الله تعالى: اللهم اغفر لي حزني على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لولدي ما أتوا على يوسف، فأوحى الله إليه: إني قد غفرت لك ولهم أجمعين.
قال محارب بن دثار: كان عم لي يأتي المسجد، قال: فمررت بدار عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: اللهم إنك دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت فهذا سحر فاغفر لي. فسألته عن ذلك فقال: إن يعقوب أخر استغفار بنيه إلى السحر بقوله: سوف أستغفر لكم ربي.
عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (سوف أستغفر لكم ربي، يقول: حتى يأتي يوم الجمعة).
قال وهب: كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة، وقال طاووس: أخر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ذلك ليلة عاشوراء.
عن أبي سلمة عن عطاء الخراساني قال: طلب الحوائج إلى الشاب أسهل منها في الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، وقول يعقوب (عليه السلام): سوف أستغفر لكم ربي.
أبو الحسن الملاني الشعبي: قال: سوف أستغفر لكم ربي، قال: أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفر لكم ربي " * (إنه هو الغفور الرحيم) *) روي أن يعقوب (عليه السلام) قال للبشير لما أخبره بحياة يوسف، قال: كيف تركت يوسف؟ قال: إنه ملك مصر، فقال يعقوب: ما أصنع بالملك؟ على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. فقال يعقوب: الآن تمت النعمة.
وقال الثوري: لما التقى يعقوب ويوسف (عليهما السلام) عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف: يا أبة بكيت علي حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى بني، ولكن خشيت أن تسلب دينك، فيحال بيني وبينك.
257

قالوا: قد كان يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده أجمعين، متهيأ يعقوب للخروج إلى مصر، فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند، وركب أهل مصر معهما، يتلقون يعقوب، ويعقوب يمشي ويقود ركابه يهوذا، فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال ليهوذا: هذا فرعون مصر؟ قال: لا، هذا ابنك.
فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل، فابتدأه يعقوب بالسلام وقال: السلام عليك أيها الذاهب بالأحزان، فذلك قوله عز وجل: " * (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) *).
فإن قيل: كيف قال لهم يوسف: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين بعدما دخلوها، وقد أخبر الله أنهم لما دخلوا على يوسف وضم إليه أبويه قال لهم هذا القول حين تلقاهم قبل دخولهم مصر كما ذكرنا.
وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير، وهذا الاستثناء من قول يعقوب حين قال: سوف أستغفر لكم ربي ومعنى الكلام: " * (سوف أستغفر لكم ربي) *) إن شاء الله " * (إنه هو الغفور الرحيم) *).
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال: ادخلوا مصر آمنين " * (ورفع أبويه على العرش) *) وهذا معنى قول أبي جرير، وقال بعضهم: إنما وقع الاستثناء على الأمن لا على الدخول كقوله تعالى: " * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) *) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول المقابر: (وإنا إن شاء
الله بكم لاحقون).
فالاستثناء وقع على اللحوق بهم لا على الموت، وقيل: (إن) هاهنا بمعنى (إذ) كقوله تعالى: " * (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) *)، وقوله: " * (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) *)، وقوله " * (إن أردن تحصنا) *).
وقال ابن عباس: إنما قال: آمنين لأنهم فيما خلا كانوا يخافون ملوك مصر ولا يدخلون مصر لأنهم لا جواز لهم، وأما قوله تعالى " * (آوى) *) فقال ابن إسحاق: أباه وأمه وقال الآخرون
258

أبوه وخالته لعيا، وكانت راحيل أم يوسف قد ماتت في نفاسها وتزوج يعقوب بعدها أختها لعيا فسمى الخالة أما كما سمى العم أبا في قوله: " * (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق) *) وروى إسحاق عن بشر عن سعيد عن الحسن، قال: نشر الله راحيل أم يوسف من قبرها حتى سجدت تحقيقا للرؤيا.
" * (ورفع أبويه على العرش) *) على السرير، يعني أجلسهما عليه قال ابن إسحاق يعني رفع اسمهما " * (وخروا له سجدا) *) يعني يعقوب وخالته وإخوته، وكانت تحية الناس يومئذ السجود، ولم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض، لأن ذلك لا يجوز إلا لله تعالى وإنما هو الانحناء والتواضع على طريق التحية والتعظيم والتسليم إلا على جهة العبادة والصلاة، وهذا قول الأعشى بن ثعلبة:
فلما أتانا بعيد الكرى
سجدنا له ورفعنا العمارا
وقال آخر:
فضول أزمتها لأمها أسجدت
سجود النصارى لأربابها
وقيل: السجود في اللغة الخضوع كقول النابغة:
بجمع تضل البلق في حجراته
ترى ألاكم فيه سجدا للحوافر
أي متطامنة ذليلة.
قال (ثعلبة): خروا يعني مروا، ولم يرد الوقوع والسقوط على الأرض، نظيره قوله تعالى: " * (لم يخروا عليها صما وعميانا) *) إنما أراد لم يمروا كذلك، مجاهد: بمعنى المرور، وروي عن ابن عباس أن معناه خروا لله سجدا فقوله: له كناية عن الله تعالى " * (وقال) *) يوسف عند ذلك واقشعر جلده: " * (هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا) *)، وهو قوله " * (إني رأيت أحد عشر كوكبا) *).
واختلفوا في مدة غيبة يوسف عن يعقوب، فقال الكلبي: مائتان وعشرون سنة، سلمان الفارسي: أربعون سنة، عبد الله بن شداد: سبعون سنة وقيل: سبع وسبعون سنة، وقال الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقائه
259

بيعقوب ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن عشرين ومائه سنة، وفي التوراة: مائة وست وعشر سنين. في قول ابن إسحاق بن يسار: ثمانين وسبعة أعوام، وقال ابن أبي إسحاق: ثماني عشرة سنة، وولد ليوسف من امرأة العزيز: افراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوب، وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة.
" * (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن) *) ولم يقل من الجب استعمالا للكرم لئلا يذكر إخوته صنيعهم، وقيل: لأن نعمة الله عليه في النجاة من السجن أكبر من نعمته عليه في إنقاذه من الجب، وذلك أن وقوعه في البئر كان لحسد إخوته، ووقوعه في السجن مكافأة من الله لزلة كانت منه.
" * (وجاء بكم من البدو) *) وذلك أن يعقوب وبنوه كانوا أهل بادية ومواشي، والبدو مصدر قولك: بدا، يبدو، بدوا، إذا صار بالبادية، " * (من بعد أن نزغ) *) أفسد " * (الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف) *) ذو لطف وصنع " * (لما يشاء) *) عالم بدقائق الأمور وحقائقها، " * (إنه هو العليم الحكيم) *).
روى عبد الصمد عن أبيه عن وهب: قال: دخلوا يعني يعقوب وولده مصر وهم اثنان وسبعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاطنهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى والزمنى، وكانت الذرية ألف ألف ومائتا ألف سوى المقاتلة.
قال أهل التاريخ: أقام يعقوب بمصر بعد موافاته بأهله أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثم مات بمصر، ولما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك ومضى به حتى دفنه بالشام، ثم انصرف إلى مصر.
قال سعيد بن جبير: نقل في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ووافق ذلك يوم مات عيصوا فدفنا في قبر واحد، فمن ثم تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس من فعل ذلك منهم، وولد يعقوب وعيص في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعة وأربعين سنة.
قالوا: فلما جمع الله ليوسف شمله وأقر له عينه وأتم له رؤياه، وكان موسعا له في ملك الدنيا ونعيمها علم أن ذلك لا يدوم له وأن لابد له من فراقه فأراد نعيما هو (أدوم) منه، فاشتاقت نفسه إلى الجنة فتمنى الموت ودعا ربه، ولم يتمن نبي قبله ولا بعده الموت فقال: " * (رب قد آتيتني من الملك) *) يعني ملك مصر " * (وعلمتني من تأويل الاحاديث) *) يعني تعبير الرؤيا " * (فاطر السموات والارض) *) أي خالقها وبارئها.
" * (أنت ولي) *) معيني " * (في الدنيا والاخرة) *) تتولى أمري " * (توفني) *) اقبضني إليك " * (مسلما وألحقني بالصالحين) *) بآبائي النبيين
260

قيل: فتوفاه الله طيبا طاهرا بمصر، ودفن في النيل في صندوق رخام، وذلك أنه لما مات تشاح الناس عليه كل يحب أن يدفن في محلتهم لما يرجون من بركته، فاجتمعوا على ذلك حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث مفرق الماء بمصر فيمر الماء عليه ثم يصل الماء إلى جميع مصر، فيكونوا كلهم فيه شرعا واحدا ففعلوا.
وروى صالح المري، عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك، قال: إن الله عز وجل لما جمع ليعقوب شمله خلا ولده نجيا، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف؟ قالوا: بلى، قال: فإن أعفوا عنكم ولكن كيف لكم بربكم؟، فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد.
قالوا: يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله، حتى حركوه، والأنبياء (عليهم السلام) أرحم البرية، فقال: ما لكم يا بني؟ قالوا: ألست قد علمت ما كان منا إليك، وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قالا: بلى، وقالوا: أفلستما قد عفوتما، قالا: بلى، قالوا: فإن عفوكما لا يغني عنا إن كان الله لم يعف عنا، قال: فما تريدون يا بني؟ قالوا: نريد أن تدعو الله فإذا جاء الوحي من عند الله بأنه قد عفا عنا صنعنا قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا، وإلا فلا قرة عين لنا في الدنيا أبدا، فقام الشيخ واستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين، فدعا يعقوب وأمن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة.
قال صالح المري: يخيفهم، حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبرئيل على يعقوب فقال: إن الله تبارك وتعالى بعثني إليك أبشرك، فإنه قد أجاب دعوتك في ولدك، وإنه قد عفا عما صنعوا، فإنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة، وذلك الذي ذكرت وقصصت عليك.
2 (* (ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون * ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين * وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين * وكأين من ءاية فى السماوات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون * قل هاذه سبيلىأدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله ومآ أنا من المشركين * ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحىإليهم من أهل القرى أفلم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الاخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون * حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جآءهم نصرنا فنجى من نشآء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين * لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *) 2
261

" * (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) *) والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم " * (وما كنت لديهم) *) وما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب " * (إذ أجمعوا أمرهم) *) أي تعاهدوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب، " * (وهم يمكرون) *) بيوسف، " * (وما أكثر الناس ولو حرصت) *) على إيمانهم " * (بمؤمنين وما تسألهم عليه) *) أي على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله " * (من أجر) *): جعل و جزاء " * (إن هو) *) يعني القرآن والوحي " * (إلا ذكر) *): عظة وتذكير " * (للعالمين وكأين من آية) *) وكم قول فيه عظة وعبرة ودلالة " * (في السموات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون) *) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
الحرث بن قدامة عن عكرمة أنه قرأ: والأرض يمرون عليها رفعا، عن محمد بن عمر قال: سمعت عمرو بن وائل يقرأ: " * (وكأين من آية في السماوات) *) قطعا، " * (والأرض يمرون عليها) *) رفعا، أبو حمزة الثمالي عن السدي: أنه قرأ والأرض يمرون عليها نصبا، وقرأ: يمرون على الأرض، وعن ابن مجاهد قال: حدثنا إسحاق الحربي أبو حذيفة، حدثنا سفيان قال: وقرأ عبد الله: " * (وكأين من آية في السماوات والأض يمشون عليها) *).
" * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) *) عكرمة في قول الله تعالى: " * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) *) قال: من إيمانهم إذا سئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، وإذا سئلوا من نزل القطر؟ قالوا: الله، ثم هم يشركون، وروى جابر عن عكرمة وعامر، في قوله تعالى: " * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) *) قالا: يؤمنون بالله أنه ربهم وهو خالقهم ويشركون من دونه، وهذا قول أكثر المفسرين.
وروى بن جبير عن الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، وكان فيها يخزونك من تلبي: فأجب يا الله لولا أن بكرا دونك بني غطفان وهم يلونك، ينزل الناس ويخزونك، ما زال منا غنجا يأتونك، وكانت تلبية حرمهم: خرجنا عبادك الناس طرف وهم تلادك، وهم قديما عمروا بلادك، وقد تعادوا فيك من يعادك، وكانت تلبية قريش: (اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك)، وكانت تلبية حمدان و غسان وقضاعة وجذام وتلقين وبهرا: نحن عبادك اليماني إنا نحج ثاني (على الطريق الناجي نحن نعادي) جئنا إليك حادي. فأنزل الله " * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) *) يعني في التلبية.
وقال: لما سمع المشركون ما قبل هذه الآية من الآيات قالوا: فإنا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء ولكنا نزعم أن له شريكا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
262

عطاء: هذا في الدعاء وذلك أن الكفار أشركوا بربهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء، بيانه قوله تعالى: " * (وظنوا أنهم أحيط بهم دعواالله مخلصين له الدين) *) وقوله تعالى: " * (وإذا غشيهم موج كالظل دعوا الله مخلصين له الدين) *) وقوله: " * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه) *) وقوله: " * (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) *).
وقال بعض أهل المعاني: معناه وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قبل إيمانهم، نظيره قوله تعالى: " * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا) *) يعني كانوا هم أشد منهم بطشا. وقال وهب: هذه في وقعة الدخان وذلك أن أهل مكة لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، وذلك إيمانهم وشكرهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب بيانه قوله: " * (إنكم عائدون) *) والعود لا يكون، إلا بعد ابتداء والله أعلم " * (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله) *) قال ابن عباس: مجللة، مجاهد: عذاب يغشاهم، نظيره قوله: " * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) *): قتادة: وقيعة، الضحاك: يعني الصواعق والقوارع " * (أو تأتيهم الساعة) *) القيامة " * (بغتة) *) فجأة، " * (وهم لا يشعرون) *) بقيامها، ابن عباس: تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم.
" * (قل) *) لهم يا محمد " * (هذه) *) الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها " * (سبيلي) *) سنتي ومنهاجي، قاله ابن زيد، وقال الربيع: دعوتي، الضحاك: دعائي، مقاتل: ديني، نظيره قوله تعالى: " * (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) *) أي دينه، " * (أدعو إلى الله على بصيرة) *) على يقين، يقال: فلان مستبصر في كذا أي مستيقن " * (أنا ومن اتبعني) *) آمن بي وصدقني فهو أيضا يدعو إلى الله، هذا قول الكلبي، وابن زيد قال: أحق والله على من اتبعه أن يدعو إلي بما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله.
وقيل: معناه أنا ومن اتبعني على بصيرة، يقول: كما أني على بصيرة، فكذلك من آمن بي واتبعني فهو على بصيرة أيضا، قال ابن عباس: يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرحمن. " * (وسبحان الله) *) أي وقل:
263

سبحان الله تنزيها له عما أشركوا " * (وما أنا من المشركين وما أرسلنا من قبلك) *): يا محمد " * (إلا رجالا) *) لا ملائكة، " * (نوحي إليهم من أهل القرى) *) يعني من أهل الأمصار دون أهل البوادي لأن أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم.
" * (أفلم يسيروا) *) يعني هؤلاء المشركين المنكرين لنبوتك " * (في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) *) أخبر بأمر الأمم المكذبة من قبلهم، فيعتبروا " * (ولدار الاخرة خير للذين اتقوا) *) يقول جل ثناؤه: هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن ننجيهم عند نزول العذاب، وما في دار الآخرة لهم خير، فترك ما ذكرنا، آنفا لدلالة الكلام عليه، وأضيف الدار إلى الآخرة ولا خلاف لتعظيمها كقوله تعالى: " * (إن هذا لهو حق اليقين) *) وقولهم: عام الأول، وبارحة الأولى ويوم الخميس وربيع الآخر: وقال الشاعر:
ولو أقوت عليك ديارعبس
عرفت الذل عرفان اليقين
يعني عرفانا.
" * (أفلا يعقلون) *) يؤمنون " * (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) *) اختلف القراء في قوله: " * (كذبوا) *) فقرأها قوم بالتخفيف وهي قراءة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي عبد الرحمن السلمي وعكرمة والضحاك وعلقمة ومسروق والنخعي وأبي جعفر المدني ومحمد بن كعب والأعمش وعيسى بن عمر الهمداني وأبي إسحاق السبيعي وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة وعلي بن الحسين وابنه محمد بن علي وابنه جعفر بن محمد، وعبد الله بن مسلم وابن يسار، واختارها الكسائي وأبي عبيدة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ " * (وظنوا أنهم قد كذبوا) *) مخففة وهي قراءة عائشة و (هرقل) الأعرج ونافع والزهري وعطاء بن أبي رياح وعبد الله بن كثير وعبد الله بن الحارث وأبي رجاء والحسن.
وقتادة وأبي عمرو وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون ويعقوب، ورويت أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قرأ بالتخفيف، فمعناه: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم في وجود العذاب.
وروى الخبر عن شعيب بن الحجاج عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري: قال صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا منهم: سعيد بن جبير وأرسلت إلى الضحاك بن مزاحم فأبى أن
264

يجيئني فأتيته فلم أدعه حتى جاء، قال: فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال: يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف فإني إذا أتيت عليه تمنيت إني لا أقرأ هذه السورة: " * (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) *) قال: نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوهم.
قال: فقال الضحاك: ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكأ، لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا.
وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنت الرسل أنهم قد كذبوا فيما وجدوا من النصرة. وهذه رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانوا دعوا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنهم أخلفوا ثم قوله تعالى: " * (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) *) الآية، ومن قرأ بالتشديد فمعناها، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم وظنت الرسل أي استيقنت أن أممهم قد كذبوهم جاءهم نصرنا، وعلى هذا التأويل يكون الظن بمعنى العلم واليقين كقول الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي متلبب
سراتهم في الفارسي المسرد
أي أيقنوا.
وهذا معنى قول قتادة، وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم أن يصدقونهم، وظنت الرسل أن من قد آمن بهم وصدقوهم قد كذبوهم فارتدوا عن دينهم لاستبطائهم النصر " * (جائهم نصرنا) *) وهذا معنى قول عائشة.
وقرأ مجاهد " * (كذبوا) *) بفتح الكاف والذال مخففة ولها تأويلان: أحدهما: حتى إذا استيأس الرسل أن يعذب قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا، والثاني: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنت الرسل أن قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم، ويكون معنى الظن اليقين على هذا التأويل، والله أعلم.
" * (فنجي من نشاء) *) عند نزول العذاب وهم المطيعون والمؤمنون " * (ولا يرد بأسنا) *) عذابنا " * (عن القوم المجرمين) *) يعني المشركين، واختلف القراء في قوله فنجي فقرأها عامة القراء فننجي بنونين على معنى فنحن نفعل بهم ذلك، فأدغم الكسائي أحد النونين في الأخرى فقرأ: فنجي بنون واحدة وتشديد الجيم، وقرأ عاصم بضم النون وتشديد الجيم وفتح الياء على مذهب ما لم
265

يسم فاعله، واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة وقرأ ابن محيصن فنجا من نشاء بفتح النون والتخفيف على أنه فعل ماض ويكون محله على قراءة عاصم وابن محيصن رفعا، وعلى قراءة الباقين نصبا.
" * (لقد كان في قصصهم) *) أي في خبر يوسف وأخوته " * (عبرة) *) عظة " * (لاولي الالباب ما كان) *) يعني القرآن " * (حديثا يفترى) *) يختلق " * (ولكن تصديق) *) يعني ولكن كان تصديق " * (الذي بين يديه) *) أي ما قبله من الكتب " * (وتفصيل كل شيء) *) مما يحتاج إليه العباد " * (وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *).
266

((سورة الرعد))
مدنية
قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنها مكية إلا آيتين، قوله: " * (ولا يزال الذين كفروا يصيبهم بما صنعوا) *)، وقوله " * (ومن عنده علم الكتاب) *).
وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وست أحرف وثمان و (..........) وخمسون كلمة وثلاث وأربعون آية.
سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة، وكان يوم القيامة من الموفين بعهد الله عز وجل).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (المر تلك آيات الكتاب والذىأنزل إليك من ربك الحق ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون * الله الذى رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى يدبر الامر يفصل الآيات لعلكم بلقآء ربكم توقنون * وهو الذى مد الارض وجعل فيها رواسى وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى اليل النهار إن فى ذالك لآيات لقوم يتفكرون * وفى الارض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بمآء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الاكل إن فى ذالك لآيات لقوم يعقلون) *) 2
" * (ألمر) *) قال ابن عباس: معناه: أنا الله أعلم وأرى " * (تلك آيات الكتاب) *) يعني تلك الأخبار التي قصصناها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة " * (والذي أنزل) *) يعني وهذا القرآن الذي أنزل " * (إليك من ربك) *) هو " * (الحق) *) فاعتصم به واعمل بما فيه، فيكون محل الذي رفعا على الابتداء و (الحق) خبره، وهذا كله معنى قول مجاهد وقتادة، ويجوز أن يكون محل
267

(الذي) خفضا يعني تلك آيات الكتاب وآيات الذي أنزل إليك ثم ابتداء الحق يعني ذلك الحق كقوله: " * (وهم يعلمون الحق) *) يعني ذلك الحق.
وقال ابن عباس: أراد بالكتاب القرآن فيكون معنى الآية على هذا القول: هذه آيات الكتاب يعني القرآن، ثم قال: وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق، قال الفراء: وإن شئت جعلت (الذي) خفضا على أنه نعت الكتاب وإن كانت فيه الواو كما تقول في الكلام: أتانا هذا الحديث عن أبي حفص والفاروق وأنت تريد ابن الخطاب، قال الشاعر:
أنا الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
" * (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) *) قال مقاتل: نزلت هذه الآية في مشركي مكة حين قالوا: إن محمدا يقول القرآن من تلقاء نفسه، ثم بين دلائل ربوبيته وشواهد قدرته فقال عز من قائل: " * (الله الذي رفع السموات) *) وهذه الآية من جملة مائة وثمانين آية أجوبة لسؤال المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرب الذي تعبده ما فعله وصنيعه؟ وقوله: " * (بغير عمد ترونها) *) يعني السواري والدعائم واحدها عمود وهو العمد والبناء، يقال: عمود وعمد مثل أديم وأدم، وعمدان، وكذا مثل رسول ورسل، ويجوز أن يكون العمد جمع عماد، ومثل إهاب وأهب، قال النابغة:
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
واختلفوا في معنى الآية فنفى قوم العمد أصلا، وقال: رفع السماوات بغير عمد وهو الأقرب الأصوب، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: يعني ليس من دونها دعامة تدعهما، ولا فوقها علاقة تمسكها، وروى حماد بن سملة عن إياس بن معاوية قال: السماء مقببة على الأرض مثل القبر، وقال آخرون: معناه: الله الذي رفع السماوات بعمد ولكن لا ترونها، فأثبتوا العمد ونفوا الرؤية، وقال الفراء من تأول ذلك فعلى مذهب تقديم العرب الجملة من آخر الكلمة إلى أولها كقول الشاعر:
إذا أعجبتك الدهر حال من أمرى
فدعه وأوكل حاله واللياليا
تهين على ما كان عن صالح بهفان كان فيما لا يرى الناس آليا
معناه: وإن كان فيما يرى الناس لا يألو. وقال الآخر:
268

ولا أراها تزال ظالمة
تحدث لي نكبة وتنكرها
معناه: آراها لا تزال ظالمة فقدم الجحد.
" * (ثم استوى على العرش) *) علا عليه وقد مضى تفسيره، " * (وسخر الشمس والقمر) *) أي ذللها لمنافع خلقه ومصالح عباده " * (كل يجري لاجل مسمى) *) أي كل واحد منهما يجري إلى وقت قدر له، وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس ويخسف القمر وتنكدر النجوم، وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهين إليها لا يجاوزانها.
" * (يدبر الامر) *) قال مجاهد: يقضيه وحده " * (يفصل الآيات) *) ينتهيان، " * (لعلكم بلقاء ربكم توقنون) *) لكي توقنوا بوعدكم وتصدقوه " * (وهو الذي مد الارض) *) بسطها، " * (وجعل فيها رواسى) *) جبالا، واحدتها راسية وهي الثابتة، يقال: إنما رسيت السفينة، وأرسيت الوتد في الأرض إذا أثبتها، قال الشاعر:
حبذا ألقاه سائرين وهامد
وأشعث أرست الوليدة بالفهر
قال ابن عباس: كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض، " * (وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين) *) صنفين وضربين " * (اثنين) *): قال أبو عبيدة يكون الزوج واحدا واثنين، وهو هاهنا واحد، قال القتيبي: أراد من كل الثمرات لونين حلوا وحامضا " * (يغشي الليل النهار إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) *) يستدلون ويعتبرون " * (وفي الارض قطع متجاورات) *) أبعاض متقاربات متدانيات يقرب بعضها من بعض بالجوار ويختلف بالتفاضل، ومنها عذبة ومنها طيبة ومنها طيبة منبت؛ لأنها بجنته ومنها سبخة لا تنبت.
" * (وجنات من أعناب وزرع ونخل صنوان وغير صنوان) *) رفعها ابن كثير وأبو عمرو عطفا على الجنات، وكسرها الآخرون عطفا على الأعناب. والصنوان جمع صنو، وهي النخلات يجمعهن أصل واحد فيكون الأصل واحد، ويتشعب به الرؤس فيصير نخلا، كذا قال المفسرون، قالوا: صنوان مجتمع وغير صنوان متفرق.
قال أهل اللغة: نظيرها في كلام العرب، صنوان واحد، واحدها صنو والصنو المثل وفيه قيل: شم الرجل صنوانه ولا فرق فيهما بين التثنية والجمع إلا بالإعراب؛ وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة وفي الجمع منونة تجري جريان الإعراب.
خالفوا كلهم على خفض الصاد من صنوان إلا أبا عبد الرحمن السلمي فإنه ضم صاده
269

" * (يسقى بماء واحد) *). قرأ عاصم وحميد وابن الحسن وابن عامر: بالياء على معنى يسقى ذلك كله بماء واحد.
وقرأ الباقون: بالتاء لقوله جنات.
واختاره أبو عبيد قال: وقال أبو عمرو: مما يصدق التأنيث قوله بعضه على بعض ولم يقل بعضه. " * (ونفضل) *). قرأ الأعمش وحمزة والكسائي: بالياء ردا على قوله يدبر ويفضل ويغني.
وقرأها الباقون: بالنون بمعنى ونحن نفضل بعضها على بعض في الأكل.
قال الفارسي: والدفل والحلو والحامض.
قال مجاهد: كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد.
عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي كرم الله وجهه: (الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة) ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " * (وفي الأرض قطع متجاورات) *) حتى بلغ " * (يسقى بماء واحد) *).
قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم، كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فبسطها وبطحها فصارت الأرض قطعا متجاورة، فينزل عليها الماء من
السماء فيخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها ويخرج قاتها ويحيي موتاها ويخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد. فلو كان الماء مجا قيل: إنما هذه من قبل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب فتخنع وتخشع، وتقسوا قلوب فتلهو وتقسو وتجفو.
وقال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده إلا في زيادة ونقصان.
قال الله عز وجل " * (وننزل من القرآن ما شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) *) * * (إن في ذلك) *) الذي ذكرت " * (لآيات لقوم يعقلون) *))
.
* (وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفى خلق جديد أولائك الذين كفروا بربهم وأولئك الاغلال فىأعناقهم وأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب * ويقول الذين كفروا لولاأنزل عليه آية من ربه إنمآ أنت منذر ولكل قوم هاد * الله
270

يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شىء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال * سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار) *) 2
" * (وإن تعجب) *) يا محمد من تكذيب هؤلاء المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهة يعبدونها من دون الله، وهم قراؤ تعبدون من الله وأمره وما ضرب الله من الأمثال " * (فعجب قولهم) *) فتعجب أيضا من قيلهم " * (إذا كنا ترابا) *) بعد الموت " * (إنا لفي خلق جديد) *) فيعاد خلقنا جديدا كما كنا قبل الوجود.
قال الله: " * (أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم) *) يوم القيامة " * (وأولئك أصحاب النار) *) جهنم " * (ويستعجلونك) *) يعني مشركي مكة " * (بالسيئة) *) بالبلاء والعقوبة " * (قبل الحسنة) *) الرخاء والعافية، وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن جاءهم العذاب فاستهزأ منهم بذلك.
وقالوا: " * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) *) الآية " * (وقد خلت من قبلهم المثلات) *) وقد مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها، العقوبات المنكلات واحدتها: مثلة بفتح الميم وضم التاء مثل صدقة وصدقات.
وتميم: بضم التاء والميم جميعا، وواحدتها على لغتهم مثلة بضم الميم وجزم الثاء مثل عرفة وعرفات والفعل منه مثلت به أمثل مثلا بفتح الميم وسكون الثاء.
" * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب) *).
أحمد بن منبه عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: ولما نزلت هذه الآية " * (وإن ربك لذو مغفرة للناس) *) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد).
" * (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه) *) يعني على محمد صلى الله عليه وسلم " * (آية) *) علامة وحجة على نبوته، قال الله: " * (إنما أنت منذر) *) مخوف " * (ولكل قوم هاد) *) داع يدعوهم إلى الله عز وجل إمام يأتمون به.
وقال الكلبي: داع يدعوهم إلى الضلالة أو إلى الحق.
271

أبو العالية: قائد، أبو صالح قتادة مجاهد: نبي يدعوهم إلى الله.
سعيد بن جبير: يعني بالهادي الله عز وجل.
وهي رواية العوفي، عن ابن عباس قال: المنذر محمد، والهادي الله.
عكرمة وأبو الضحى: الهادي محمد (صلى الله عليه وسلم).
وروى السدي عن عبد الله بن علي قوله تعالى: " * (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) *) قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (المنذر أنا، الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه).
وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: (أنا المنذر) وأومأ بيده إلى منكب علي (ح) فقال: (فأنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون من بعدي).
ودليل هذا التأويل:
ما روي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن زيد عن ربيع عن حذيفة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن وليتموها أبا بكر فزاهد في الدنيا راغب في الآخرة وفي جسمه ضعف، وإن ولتموها عمر فقوي أمين لا تأخذه في الله لومة لائم، وإن وليتموها عليا فهاد مهدي يقيلمكم على طريق مستقيم).
ردا على منكري البعث القائلين أإذا كنا ترابا أءنا لفي خلق جديد فقال سبحانه: " * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام) *) يعني تنقص.
قال المفسرون: غيض الأرحام الحيض على الحمل، فإذا حاضت الحامل كان نقصانا في غذاء الولد وزيادة في مدة الحمل، فإنها بكل يوم حاضت على حملها يوم تزداد في طهرها حتى يستكمل ستة أشهر ظاهرا. فإن رأت الدم خمسة أيام ومضت التسعة أشهر وخمسة أيام، وهو قوله: " * (وما تزداد) *).
روى ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: ما تغيض الأرحام خروج الدم حتى تحض، يعني حين المولد، وما تزداد استمساك الدم إذا لم تهرق المرأة تم الولد وعظم، وفي هذه الآية دليل على أن الحامل تحيض وإليه ذهب الشافعي.
وقال الحسن: غيضها ما تنقص من التسعة الأشهر وزيادتها ما تزداد على التسعة الأشهر
272

الربيع بن أنس: ما يغيض الأرحام يعني السقط وما تزداد يعني توءمين إلى أربعة.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: ما تغيض الأرحام يعني به السقط.
وروى عبيد بن سليمان عن الضحاك قال: الغيض النقصان من الأجل، والزيادة ما يزداد على الأجل، وذلك أن النساء لا يلدن لعدة واحدة ولا لأجل معلوم وقد يولد الولد لستة أشهر فيعيش ويولد لسنتين ويعيش.
قال: وسمعت الضحاك يقول: ولدت لسنتين قد نبتت ثناياي، وروى هيثم عن حصين قال: مكث الضحاك في بطن أمه سنتين.
وروى ابن جريح عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحو ظل المغزل، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وجماعة من الفقهاء.
وقال الشافعي وجماعة من الفقهاء: أكثر الحمل أربع سنين، يدل عليه ما أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ، أحمد بن إبراهيم بن الحسين بن محمد قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الفرج الأحمري سمعت عباس بن نصر البغدادي سمعت صفوان ابن عيسى يقول: مكث محمد بن عجلان في بطن أمه ثلاث سنين فشق بطن أمه وأخرج وقد نبتت أسنانه.
وروى ابن عائشة عن حماد بن سلمة قال: إنما سمي هرم بن حيان هرما؛ لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين.
" * (وكل شيء عنده بمقدار) *) بحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، والمقدار مفعال من القدر " * (عالم الغيب والشهادة الكبير) *) الذي كل شيء دونه " * (المتعال) *) المستعلي على كل شيء بقدرته " * (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل) *) في ظلمته " * (وسارب) *) ظاهر " * (بالنهار) *) ضوءه لا يخفى عليه من ذلك.
وقال أبو عبيدة: سارب بالنهار أي سالك في سربه أي مذهب ووجهة، يقال: سارب سربه بفتح السين أي طريقه.
قال قيس بن الحطيم:
إني سربت وكنت غير سروب
وتقرب الأحلام غير قريب
الشعبي: سارب بالنهار منصرف في حوائجه يقال: سرب يسرب.
قال الشاعر:
273

أرى كل قوم قاربوا قيد فحلهم
ونحن خلعنا قيده فهو سارب
أي ذاهب.
قال ابن عباس: في هذه الآية هو صاحب ريبة مستخف بالليل، فإذا خرج بالنهار رأى الناس أنه بريء من الإثم.
وقال بعضهم: مستخف بالليل أي ظاهر، من قولهم: خفيت الشيء إذا أظهرته، وسارب بالنهار أي متوار داخل في سرب.
2 (* (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذآ أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال * هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال * ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشآء وهم يجادلون فى الله وهو شديد المحال * له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشىء إلا كباسط كفيه إلى المآء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعآء الكافرين إلا فى ضلال) *) 2
" * (له) *) أي لله تعالى " * (معقبات) *) ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل، والتعقيب العود بعد المبدأ، قال الله ولم يعقب وإنما ذكرها هنا بلفظ جمع التأنيث؛ لأن وأحدهما معقب وجمعه معقبة، ثم جمع المعقبة معقبات فهي جمع الجمع. كما قيل أما قال قد حالات بكم وقوله: " * (من بين يديه) *) يعني من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار ومن خلفه من وراء ظهره.
قال ابن عباس: ملائكة يحفظونه من أمر الله من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء القدر خلوا عنه.
حماد بن سلمة عن عبد الله بن جعفر عن كنانه العمري قالوا: دخل عثمان بن عفان (ح) على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أسألك عن العبد كم معه من ملك؟ قال: (ملك على يمينك يكتب حسناتك، وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: أأكتب؟ قال: لا، لعله يستغفر الله أو يتوب فإذا قال ثلاثا قال: نعم اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عز وجل وأقل استحياء منا يقول الله " * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) *) وملكان من بين يديك
274

ومن خلفك يقول الله " * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) *) وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وآله، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك، وملكان على عينيك هؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار؛ لأن ملائكة الليل أي ليسوا من ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع بني آدم بالنهار وولده بالليل).
قتادة وابن جريح: هذه ملائكة الله عز وجل يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، وذكر لنا أنهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح.
همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون).
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال: ذكر (أن) ملكا من ملوك الدنيا له حرس من دونه حرس فإذا جاء أمر الله لم ينفعوا شيئا.
عكرمة: هؤلاء ملائكة من بين أيديهم ومن خلفهم لحفظهم.
شعبة عن شرفي عن عكرمة قال: الجلاوزة.
الضحاك: هو السلطان المحترس من الله وهم أهل الشرك، وقوله " * (يحفظونه من أمر الله) *) اختلفوا فيه فقال قوم: يعني: بأمر الله، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، وهذا قول مجاهد وقتادة ورواية الوالبي عن ابن عباس، وقال الآخرون: يحفظونه من أمر الله ما لم يجئ القدر.
لبيد عن مجاهد: ما من عبد إلا به ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس الهوام فما منهم شيء بأمره يريده إلا قال فذاك لا يأتي بإذن الله عز وجل فيه فيصيبه.
وقال كعب الأحبار: لولا وكل الله بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا يحيطكم الجن.
275

وروى عمار بن أبي حفصة عن أبي مجلز قال: جاء رجل من مراد إلى علي (ح) وهو يصلي، فقال: احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك. فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة، وقال أهل المعاني: إن أوامر الله عز وجل على وجهين أحدهما قضى حلوله ووقوعه بصاحبه، فذلك ما لا يدفعه أحد ولا يغيره بشر ولا حتى الجن ولم يقض حلوله ووقوعه، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظة كقصة يونس (عليه السلام)، وقال ابن جريج: معناه يكنصون من الله أمر الله يعني يحفظون عليه الحسنات والسيئات، وقال بعض المفسرين أن هذه الآية أن الهاء في قوله: " * (له) *) راجعة إلى رسول الله (عليه السلام).
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: " * (له معقبات) *) يعني محمد (عليه السلام) من الرحمن حراس من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، يعني من شر الجن والإنس ومن شر طارق الليل والنهار، وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وزيد بن ربيعة وكانت قصتهما على ما روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أقبل علينا. زيد بن ربيعة هو وعامر بن الطفيل يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور، وكان من أجمل الناس.
وقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل وهو مشرك.
فقال: دعه فإن يرد الله به خيرا بهذه، فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين، قال: تجعل لي الأمر بعدك. قال: ليس ذلك إلي إنما ذاك إلى الله يجعله حيث يشاء.
قال: فاجعلني على الوبر وأنت على المدر، قال الرجل: فماذا يجعل لي؟ قال: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها.
قال: أوليس ذلك لي اليوم؟ قال: لا. قال: قم معي أكلمك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يوصي إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من ورائه بالسيف فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدار أربد بن ربيعة خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله عنه فلم يقدر على قتله وعامر يومئ إليه فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما منع بسيفه.
فقال: اللهم أكفنيهمابما شئت، فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صاح صائف وولى عامر هاربا.
وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا.
276

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة) يعني الأوس والخزرج، فنزل عامر ببيت امرأة سلولية فأنشأ يقول:
بخير أبيت اللعن إن شئت ودنا
فإن شئت حربا بأس ومصدق
وإن شئت فنسيا ما يكفي أمرهم
يكبون كبش العارفين متألق
فلما أصبح ضم إليه سلاحه وقد تغير لونه، وهو يقول:
واللات لئن أصحر محمد إلي وصاحبه عني ملك الموت لأنفذنهما برمحي، فلما رأى الله تعالى ذلك منه أرسل ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التارب، وخرجت على ركبته غدة في الوقت كغدة البعير فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير وموت في السلولية ثم مات على ظهر فرسه.
لعمري وما عمري علي بهين
لقد شان حمر الوجه طعنة مسهر
قد علم المزنوق أني أكر
على جمعهم كر المنيح المشهر
وأزود من وقع السنان زجرته
وأخبرته أني امرؤ غير مقصر
وأخبرته أن الفرار خزاية
على المرء ما لم يبل عذرا فيعذر.
لقد علمت عليا هوازن أنني
أنا الفارس الحامي حقيقة جعفر
فجعل يركض في الصحراء ويقول: أبرز يا ملك الموت، ثم أنشأ يقول:
لأقرب المزنوق ولتجد ما أرى لنفر
من يوم شره غير حامد.
إلا قرباه إن غاية حرمناه إذا
قرب المزنوق بين الصفايد هو من عامر قدن
إذا ما دعوتهم أجابوا
ولبى منهم كل ماجد
وكان بعضهم يعير بعضا النزول على سلولية ولذلك ركب فرسه ليموت خارجا من بيتها ما أحس بالموت، ثم دعا بفرسه يركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره.
فأجاب الله تعالى دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم وقتل عامرا بالطاعون وأربد بالصاعقة، فرثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد بجملة من المراثي فمنها هذه:
وانالك فاذهب والحق
بأسرتك الكرام الغيب
277

ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب،
يتآكلون مغالة وملاذة
ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
فنعد في هذا وقل في غيره
واذكر شمائل من أخ لك معجب
إن الرزيئة لا رزيئة بعدها
مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب
من معشر بنت لهم آباؤهم
والعز لا يأتي بغير تطلب
يا أربد الخير الكريم جدوده
أفردتني أمشري بقرن أعضب
ومنها قوله:
ما أن تعزي المنون من أحد
لا والد مشنق ولا ولد
أخشى على أربد الحتوف
أرهب نوأ السماك والأسد
فعين هلا بكيت أربد إذ
قمنا وقام النساء في كبد
فجعني البرق والصواعق
بالفارس يوم الكريهة النجد
فأنزل الله تعالى في هذه القصة " * (سواء منكم من أسر القول) *) الآية " * (له معقبات) *) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم " * (له معقبات) *) يحفظونه " * (من بين يديه ومن خلفه ويحفظونه من أمر الله) *) يعني تلك المعقبات من أمر الله وهي مقدم ومؤخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه تلك المعقبات من أمر الله وقال الذين (آمنوا:) * * (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) *).
وقرأ " * (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) *) حتى بلغ " * (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) *)، " * (إن الله لا يغير ما بقوم) *) من العافية والنعمة " * (حتى يغيروا ما بأنفسهم) *) من الحال لا (.........) فيعصون ربهم ويظلمون بعضهم بعضا.
" * (وإذا أراد الله بقوم سوءا) *) عذابا وهلاكا " * (فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) *) علمها المخاوف بالله وقيل: وال ولي أمرهم ما يدفع العذاب عنهم " * (هو الذي يريكم البرق خوفا) *) يخاف أذاه ومشقته " * (وطمعا) *) للمقيم يرجو بركته وشفعته أن يمطر " * (وينشىء) *) بينهم " * (السحاب
278

الثقال) *) يعني قال إن شاء الله السحابة فيشاء أي أبدأها فبدلت وأسحاب جمع واحدتها سحابة " * (ويسبح الرعد بحمده) *) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أقبلت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم نسألك خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك قال: فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قالوا: " * (الله على ما نقول وكيل) *).
قال صلى الله عليه وسلم (هاتوا)، قالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: (ملك من الملائكة الموكلة بالسحاب معه مخاريف من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله).
قالوا: فما هذا الذي نسمع؟ قال: (زجر السحاب إذا زجر حتى ينتهي إلى حيث أمر).
قالوا: صدقت.
قال عطية: الرعد ملك، وهذا تسبيحه، والبرق سوطه الذي يزجر به السحاب فقال: لذلك الملك رعد وقد ذكرنا معنى الرعد والبرق بما أغنى عن إعادته.
وقال أبو هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا سمع صوت الرعد) قال سبحانه من يسبح الرعد بحمده.
عكرمة عن ابن عباس: إنه كان إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له.
وقال ابن عباس: من سمع صوت الرعد فقال سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة في خيفته وهو على كل شيء قدير، فإن أصابته صاعقه فعلى ذنبه.
وروى مالك بن أنس عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويقول: إن هذا الوعيد لأهل الأرض شديد.
وروى حجاج بن أرطأة عن أبي مطر عن سالم يحدث عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بغدابك وعافنا قبل ذلك).
" * (والملائكة من خيفته) *) يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله وخشيته، وقيل أراد هو أن الملائكة أعوان الرعد، جعل لله تعالى له أعوانا فهم جميعا خائفون، خاضعون طائعون به يرسل الصواعقعن الضحاك عن ابن عباس قال: الرعد ملك يسوق السحاب، وإن بحور الماء لفي
279

نقرة إبهامه وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث ويؤمر وإنه يسبح الله فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر " * (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) *) أصاب أربد بن ربيعة.
قال أبو جعفر الباقر: الصواعق تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب ذاكرا.
" * (وهم يجادلون في الله) *) وقد أصابت أربد وعامر، وقيل نزلت هذه الآية في بعض كفار العرب.
حديث إسحاق الحنظلي عن ريحان بن سعيد الشامي عن عماد بن منصور عن عباس بن الناجي قالت: سألت الحسن عن قوله: " * (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) *) الآية.
فقال كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام، فقال لهم: أخبروني عن رب محمد هذا الذي يدعوني إليه وما هو، ومم هو أمن فضة أم حديد أم نحاس، فاستعظم القوم مقالته وانصرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا رجلا آخر أكفر منه، ولا أعتى على الله منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ارجعوا إليه)، فرجعوا إليه فجعل يزيدهم على مثل مقالته الأولى وقال: أجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا إليه، فقالوا: يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى إلا قوله: أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه، فقال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجعوا
إليه، فرجعوا إليه فبينا هم عنده ينازعونه ويدعونه ويعظمون عليه، وهو يقول: هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت ثم برقت فرمت بصاعقة فأحرقت الكافر وهم جلوس فجاؤوا يسعون ليخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم: احترق صاحبكم.
قالوا: من أين علمتم؟ قال: أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم " * (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) *) فقال الحسن: ما شديد المحال؟
قال: شديد الحمل.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: شديد الأخذ.
مجاهد: شديد القوة. أبو عبيدة: شديد العقوبة، والمحال والمماحلة المماكرة والمغالبة.
280

وأنشد أبو عبيدة للأعشى:
فرع نبع يهتز في غصن المج
د غزير الندي شديد المحال
وقال الآخر:
ولبس بين أقوام كل
أعد له الشغازب والمحالا
" * (له) *) لله عز وجل " * (دعوة الحق) *) الصدق وأضيفت الدعوة إلى الحق لاختلاف الإسمين وقد مضت هذه المسألة.
قال علي (ح): دعوة الحق التوحيد.
ابن عباس (ح): شهادة أن لا إله إلا الله.
" * (والذين يدعون من دونه) *) يعني المشركين الذين يعبدون الأصنام من دون الله " * (لا يستجيبون لهم بشيء) *) يريدونه منهم من نفع أو دفع " * (إلا كباسط كفيه إلى الماء) *) إلا كما ينفع باسط كفيه إلى الماء من العطش يبسطه إياهما إليه يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا.
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هذا مثل لمشرك عبد مع الله غيره، فمثله كمثل الرجل العطشان الذي نظر إلى خياله في الماء من بعيد فتصور أن يتناوله فلا يقدر عليه، عطية عنه يقول: مثل الأوثان التي يعبدون من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كربه الموت وكفاه في الماء وقد وضعهم الا يبلغان تناوله.
الضحاك عنه يقول: كما أن العطشان إذا يبسط كفيه إلى الماء لا ينفعه ما لم يحفظهما ويروي بهما الماء ولا يبلغ الماء فاه ما دام باسط كفيه إلى الماء ليقبض على الماء؛ لأن القابض على الماء لا شيء في يده.
قال ضاني بن الحرث المزني:
فإني وأياكم وشوقا إليكم
كقابض ماء لم تسقه أنامله
وقال الشاعر:
وأصبحت مما كان بيني وبينها
من الود مثل القابض الماء باليد
" * (وما دعاء الكافرين) *) أصنامهم " * (إلا في ضلال) *) يضل عنهم إذا أحتاجوا إليه
281

جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: ما دعاء الكافرين ربهم إلا في ضلال؛ لأن أصواتهم تحجب عن الله تعالى.
" * (7 8 9:؛؟ ء آ أ ؤ: 17
ولله يسجد من فى السماوات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والاصال * قل من رب السماوات والارض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أوليآء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوى الاعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار * أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغآء حلية أو متاع زبد مثله كذالك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الارض كذالك يضرب الله الامثال * للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما فى الارض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولائك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد * أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون مآ أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلواة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولائك لهم عقبى الدار * جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار * والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الارض أولائك لهم اللعنة
ولهم سوء الدار * الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر وفرحوا بالحيواة الدنيا وما الحيواة الدنيا فى الاخرة إلا متاع * ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه ءاية من ربه قل إن الله يضل من يشآء ويهدىإليه من أناب * الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب * الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب) *) 2
" * (ولله يسجد من في السماوات والأرض) *) يعني الملائكة والمؤمنين " * (طوعا وكرها) *) يعني المنافقين والكافرين الذين أكرهوا على السجود بالسبعة.) *
وروى ابن المبارك عن سفيان قال: كان ربيع بن هشيم إذا قرأ هذه الآية قال: بل طوعا يا رباه.
" * (وضلالهم بالغدو والآصال) *) يعني ضلال الساجدين طوعا أو كرها يسجد لله حين يقي ضلل أحدهم عن يمينه أو شماله.
قال ابن عباس: نظيرها في النحل
282

قال الكلبي: إذا سجد بالغدو أو العشي سجد معه ظله.
وقال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره، والأصال جمع أصل، والأصل جمع الأصيل وهو العشاء من العصر إلى غروب الشمس. " * (قل من رب السماوات والأرض) *) أي خالقهما ومدبرهما فسيقولون الله ولابد لهم من ذلك فإذا أجابوك " * (قل) *) أنت أيضا " * (الله) *) ثم قيل لهم إلزاما للحجة " * (قل أفاتخذتم من دونه أولياء) *) يعني الأصنام يعبدونها من دون الله وهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ثم نصرف لهم الأفعال " * (قل هل يستوي الأعمى والبصير) *) وكذلك لا يستوي الضال والمؤمن المهتدي.
وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: " * (أم هل تستوي الظلمات والنور) *) بالياء. الباقون: بالتاء واختاره أبو عبيد قال: لأنه يحصل من اسم المؤنت ومن الفعل مقابل والظلمات والنور مثل الكفر والإيمان " * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) *) فأصبحوا لا يدرون أمن خلق الله هو أو من خلق آلهتهم " * (قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار) *) (.........) للحق والباطل مثلين. فقال عزمن قائل " * (أنزل) *) هو " * (من السماء) *) يعني المطر " * (ماء فسالت أودية بقدرها) *) الكبير بقدره والصغير بقدره " * (فاحتمل السيل) *) الذي حدث على ذلك الماء " * (زبدا رابيا) *) حال تعريفها يود الماء فالماء الباقي الصافي النافع هو الحق.
والذاهب الزائل الباطل الذي يتعلق بالأشجار وجوانب الأودية والأنهار وهو الباطل ويقال: إن هذا سيل القرآن ينزل من السماء فيحتمل منه القلوب حظها على قدر اليقين والشك والعقل والجهل فهذا مثل الحق والباطل.
والمثل الآخر قوله: " * (ومما يوقدون عليه في النار) *).
قرأ حميد أبو محجن أبو وهب وحمزة والكسائي يوقدون بالياء،) * واختاره أبو عبيد؛ لقوله تعالى: " * (ينفع الناس) *) ولا مخاطبة هاهنا " * (ابتغاء حلية) *) أي زينة يتخذونها " * (أو متاع) *) وهو ما ينتفع به وكل ما تمتعت به فهو متاع.
قال المشعث:
تمتع يا مشعث أن شيئا
سبقت به الممات هو المتاع
أراد به جواهر الأرض من الذهب والفضة.
والحديد والصفر والنحاس والرصاص، ومنه يستخلص الأشياء مما ينتفع به من الحلي
283

والأواني وغيرهما.
" * (زبد مثله) *) يقول: له زبد إذا أنث مثل زبد السيل، والباقي الصافي من هذه الجواهر فيذهب خبثه والزبد الذي لا يبقى ولا ينتفع به مثل الباطل.
قال الله تعالى: " * (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد) *) الذي علا السيل. " * (فيذهب جفاء) *) سريعا متفرقا.
قال أبو عمرو: هو من قول العرب: أجفأت القدر النذر وجنات وذلك إذا غلت فأنصب زبدها أو سكنت لم يبق منه شيء.
وقال القبتي: الجفاء ما رمى به الوادي إلى جنانه. فقال: جفأته إذا صرعه.
وقال ابن الأنباري: جفاء يعني باليا متفرقا.
يقال: جفأت الريح بالغيم إذا فرقته وذهبت به.
قال بعضهم: يعني تباعد الأرض. يقال جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف.
قال الفراء: إنما أراد بقوله جفاء الجفاء لأنه مصدر، قولك جفأ الوادي غثاه جفاء فخرج مخرج الاسم وهو مصدر.
وكذلك يفعل العرب في مصدر كل ما كان من فعل شيء اجتمع بعضه إلى بعض كالقماش والرقاق والحطام والغنام يخرجه على مذهب الاسم، كما فعلت ذلك في قولهم أعطيته عطاء بمعنى الاعطاء، ولو أريد من القماش المصدر على الصحة لقيل قمشته قمشا.
" * (وأما ما ينفع الناس) *) من العوالق " * (فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) *) تم الكلام على هذا. ثم قال: " * (للذين استجابوا لربهم) *)
أطاعوه " * (الحسنى) *) بالجنة " * (والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به) *) يوم القيامة، قال الله " * (أولئك لهم سوء الحساب) *) مجازيا بالعقوبة، قال إبراهيم النخعي والزبد. أتدري ما سوء الحساب؟ قلت: لا. قال هو أن يحاسب الرجل على معصية فعلها ويكفر عنه خطيئته،) * " * (ومأواهم) *) في الآخرة " * (جهنم وبئس المهاد) *) الفراش والمصير " * (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق) *) (.........) فهو كافيه " * (كمن هو أعمى) *) عنه لا يعلمه ولا تعمل " * (إنما يتذكر أولو الألباب) *) الخطاب للأصحاب وذوي العقول " * (الذين يوفون بعهد الله) *) في أمرهم يعني فرضه عليهم فلاهم يخالفونه إلى ما هم فيه، " * (ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن
284

يوصل) *) قيل أراد الإيمان بجميع الكتب والرسل ولا يعترفون بها.
وقال أكثر المفسرين: يعني الرحم ويقطعونها.
الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: اشتكى أبو الدرداء فعاده عبد الرحمن بن عوف. فقال: خيرهم أو صلهم ما علمت يا محمد. فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تبارك وتعالى: أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشقتت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته).
عن شيبة قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن موهب وأبوه عثمان بن عبد الله، أنهما سمعا موسى بن طلحة يحدث عن أبي أيوب الأنصاري: أن رجلا قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال القوم: ماله وماله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرب ماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ذرها) قال: كأنه كان على راحلته.
عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن كعب قال: والذي فلق البحر لبني إسرائيل إن في التوراة لمكتوبا يا بن آدم اتق ربك وأبر والديك وصل رحمك أمد لك في عمرك وأيسر لك يسرك، وأصرف عنك عسرك.
وعن أبي إسحاق عن مغراء العبدي عن عبد الله بن عمرو قال: من اتقى ربه ووصل رحمه نسئ له في عمره وثرا ماله وأحبه أهله.
صالح عن جرير عن برد عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اعمل الخير (ليس شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة) الرحم وليس شيء أعجل عقابا من البغي وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع).
" * (والذين صبروا) *) على طاعة الله وتصبروا عن معصية الله.
قاله ابن زيد، وقال ابن عباس: وصبروا على أمر الله.
قال عطاء: على الرزايا والمصائب والحوادث والنوائب.
أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم.
285

" * (ابتغاء وجه الله) *) طالب يعتصم بالله ويستغفر ربه أن يعصيه ويخالفه في أمره " * (وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) *) يعني الزكاة " * (ويدرؤون) *) ويدفعون " * (بالحسنة السيئة) *) يقال:) * درأ الله عني بشرك.
قال ابن زيد: يعني لا يكافؤون الشر بالشر ولكن يدفعونه بالخير.
وقال القتيبي: معناه إذا سفه عليهم حلموا فالسفه السيئة والحلم الحسنة.
قتادة: ردوا عليهم معروفا نظيره " * (إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *).
قال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا أخلصوا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا.
ابن كيسان: إذا أذنبوا أيسوا وإذا حرفوا أثابوا ليدفعوا بالتوبة عن أنفسهم فغفر الذنب.
فهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه قال: يدفعون بالصالح من العمل الشر من العمل، ويؤيد هذا الخبر المأثور: إن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله أوصني. قال: (إذا عملت سيئة فاعمل لجنبها حسنة تمحها، السر بالسر والعلانية بالعلانية).
قال عبد الله بن المبارك: هذه ثماني خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة.
أبو بكر الوراق: هذه ثمانية جسور فمن أراد القربة من الله عبرها.
" * (أولئك لهم عقبى الدار) *) ثم بين فقال: " * (جنات عدن يدخلونها) *).
قرأه العامة: بفتح الياء وضم الخاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: بضم الياء وفتح الخاء.
قال عبد الله بن عمير: وإن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج فيه خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
" * (ومن صلح) *) لهن " * (من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) *) أهلهم وولدهم أيضا يدخلونها " * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) *) فيه آمنا تقديره ويقولون سلام عليكم " * (بما صبرتم فنعم عقبى الدار) *).
قال مقاتل: يدخلون في مقدار يوم وليلة من أيام الدنيا ثلاث كرات معهم الهدايا والتحف يقولون: " * (سلام عليكم بما صبرتم) *).
صالح عن يزيد عن أنس بن مالك: أنه تلا هذه الآية جنات عدن إلى قوله: " * (فنعم عقبى
286

الدار) *). ثم قال: إنه جنة من در وفضة طولها في الهواء ستون ميلا ليس فيها صدع ولا وصل منه كل زاوية منها أهل فقال: لها أربعة آلاف مصراع من ذهب يقوم على كل باب سبعون ألف من الملائكة مع كل ملك منهم هدية من الرحمن ليس في مثلها، لا يعلون (....) ليس بينهم وبينه حجاب.
وروى ابن المبارك عن عقبة بن الوليد قال:) * حدثنا أرطأة بن المنذر قال: سمعت رجلا من ملجف بالجند يقال له أبو الحجاج يقول: حدثني خالي أبي أمامة فقال: إن المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين سور فيقبل الملك، يستأذن فيقول الذي يليه: ملك يستأذن، ويقول الذي يليه: ملك يستأذن كذلك حتى يبلغ المؤمن فيقول: ائذنوا فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا فيقول الذي يليه للذي يليه كذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل فيسلم ثم ينصرف.
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (الفقراء والمهاجرون الذين تسد بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء).
قال: فيأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب " * (سلام عليكم بما صبرتم) *).
وروى سهيل بن أبي صالح عن محمد بن إبراهيم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعمى عقبى الدار.
أبو بكر وعمر وعثمان عليهم السلام كانوا يفعلون كذلك.
" * (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) *) يعني النار.
وقال سعد بن أبي وقاص: هم الحرورية.
" * (الله يبسط الرزق لمن يشاء) *) يوسع عليه " * (ويقدر) *) ويقتر ويضيق " * (وفرحوا بالحياة الدنيا) *) يعني فرطوا وجهلوا ما عند الله ويطمعون " * (وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) *) قليل ذاهب قاله مجاهد، وقال عبد الرحمن بن سابط: كزاد الراعي يزود، أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو الشيء يشرب عليه اللبن.
287

الكلبي: كمثل السكرجة والقصعة أو القدح والقدر ونحوها ينتفع بها ثم يذهب " * (ويقول الذين كفروا) *) من أهل مكة " * (لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب) *) ويرشد الأمة إلى طاعته من رجع إليه بقلبه ثم وصفهم فقال " * (الذين آمنوا) *) في محل النصب والأمن قبله من " * (وتطمئن) *) وتسكن فستأنس " * (قلوبهم بذكر الله) *))
.))
"
مقاتل: بالقرآن " * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) *).
قال ابن عباس: هذا في الحلف ويقولها إذا حلف الرجل المسلم بالله على شيء يم سكن قلوب المؤمنين إليه.
وقال مجاهد: هم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
" * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *) ابتداء " * (طوبى لهم) *) خبره، وقيل:
معناه لهم طوبى فطوبى خبر الابتداء الأول.
واختلف العلماء في تفسير (طوبى).
الوالبي عن ابن عباس: طوبى لهم: فرح وقرة عين لهم، عكرمة: نعم مالهم، الضحاك: غبطة لهم.
قتادة: حسنى لهم معمر عنه: هذه كلمة عربية، يقول الرجل للرجل طوبى لكم أي أصبت خيرا.
إبراهيم: خير وكرامة لهم.
شميط بن عجلان: طوبى يعني دوام الخير. الفراء: أصله من الطيب وإنما جاءت الواو لضم ما قبلها وإتيان بقول العرب: طوباك، طوابى لك.
سعيد بن جبير عن ابن عباس: طوبى اسم الجنة بالحبشية.
سعيد بن مسجوح: اسم الجنة بالهندية ربيع البستان بلغة الهند.
وروى ابن سعيد الهندي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: يا رسول الله ما طوبى؟ قال: (شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة يخرج من أكمامها).
وروى معاوية بن مرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (طوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة)
288

وقال أبو هريرة: طوبى شجرة من الجنة (غرسها) الله لها (ثمر) تقتفي لعبدي عياشا صنعه له من الحلي بسرجها ولحمها وعن الإبل بأن تحتها قماشا من الكسوة.
وقال مغيث بن سمي: طوبى شجرة من الجنة، لو أن رجلا ركب قلوصا جذعا ثم دار بها لم يبلغ المكان الذي ارتحل منه حتى يموت هرما وما في أهل منزل إلا فيه غصن من أغصان تلك الشجرة متدل يصلهم الماء بالدلاء وإذا أرادوا أن يأكلوا من الثمرة تدلى إليهم فأكلوا منه ما شاؤوا ويجئ عليها الطير أمثال البخت، يعني الطير ويأكلون منه قديدا وشواء ثم تطير.
قال عندر بن عمير: هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم وفي كل دار وغرفة غصن منها لم يخلق الله لونا ولا زهرة إلا وفيها منها إلا السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل مقابل كل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح الله بأنواع التسبيح.
وقال أبو سلام:) * حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبيد السلمي يقول: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله في الجنة فاكهة؟ قال: (فيها شجرة تدعى طوبى هي تطابق الفردوس).
قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: (ليس تشبه شيئا من شجر أرضك ولكن أتيت الشام) (148)، فقال: أتيت الشام يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإنها تشبه شجرة تدعى الجوز ينبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها. فقال: ما أعظم أصلها.
قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرما.
قال وهب بن منبه: إن في الجنة شجرة. قال: الطوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام ولا يقطعها زهوها رياط وورقها برود وقضبانها عنبر وبطحاؤها ياقوت وترابها كافور وحملها مسك يخرج من أصلها أنها الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة فبينما هم في مجلسهم إذا أتتهم الملائكة من ربهم يقودون لجامها مزمومة بسلاسل من ذهب وجوهها كالمصابيح حسنا ووبرها كخز المرعزي من لينة، عليها رحال ألواحها من ياقوت ودفوفها من ذهب وثيابها من سندس وإستبرق فيفتحونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه.
قال: فيركبونها فهي أسرع من الطائر وأوطأ من الفراش نجبا من غير مهنة يسير الرجل إلى
289

جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه لا تصيب أذن راحلة منها إذن صاحبتها حتى إن الشجرة لتنتحي عن طرقهم فهم لا يفرقون بين الرجل وبين أخيه، قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه فإذا رأوه، قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام وأنت الجلال والإكرام، ويقول تبارك وتعالى عند ذلك: أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي مرحبا بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري، قال: فيقولون ربنا لم نعبدك حق عبادتك ولم نقدرك حق قدرك فأذن لنا في السجود قدامك، قال: فيقول الله عز وجل: إنها ليست بدار نصب وعبادة ولكنها دار ملك ونعيم وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة فسلوني ما شئتم فإن لكل رجل منكم أمنيته، فيسألونه حتى إن أقصرهم أمنية يقول: رب يتنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها فأتني مثل كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت. فيقول الله عز وجل: لقد قصرت بك أمنيتك ولقد سألت دون منزلتك هذا لك مني وسألحقك بمن أتى، لأنه ليس في عطائي تكدير ولا تصدير.
قال: ثم يقول: أعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر لهم على بال، فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أما نبيهم التي في أنفسهم فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منهم سرير من ياقوتة واحدة على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة.) * في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة في كل قبة منها جاريتان من الحور العين وعلى كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما ولا ريح طيب إلا وقد عبق بهما ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة يرى مخهما من فوق سقفهما، كالسلك الأبيض من ياقوتة حمراء.
يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل ويرى هو لهما مثل ذلك ثم يدخل إليهما فيطيبانه ويقبلانه ويعانقانه ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك، ثم يأمر الله الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: فطوبى لهم شجرة أصلها في دار علي في الجنة، وفي دار كل مؤمن منها غصن يقال له طوبى.
" * (وحسن مآب) *) حسن المرجع.
وروى داود بن عبد الجبار عن جابر عن أبي جعفر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله طوبى لهم وحسن مآب.
290

فقال: (شجرة أصلها في داري وفرعها في الجنة). ثم سئل عنها مرة أخرى. فقال: (شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة).
فقيل له: يا رسول الله نسألك عنها مرة فقلت: (شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة) فقال: ذلك في داري ودار علي أيضا واحدة في مكان واحد).
2 (* (كذلك أرسلناك فىأمة قد خلت من قبلهآ أمم لتتلو عليهم الذىأوحينآ إليك وهم يكفرون بالرحمان قل هو ربى لاإلاه إلا هو عليه توكلت وإليه متاب * ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى بل لله الامر جميعا أفلم يايئس الذين ءامنوا أن لو يشآء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتى وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد * ولقد استهزىء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب * أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركآء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم فى الارض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد * لهم عذاب فى الحيواة الدنيا ولعذاب الاخرة أشق وما لهم من الله من واق) *) 2
" * (كذلك) *) المكان " * (أرسلناك) *) يا محمد " * (في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك) *) ليقرأ عليهم القرآن " * (وهم يكفرون بالرحمن) *).
قال قتادة ومقاتل وابن جريح: نزلت في صلح الحديبية حتى أرادوا كتاب الصلح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي (ح): (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم).
فقال سهيل بن عمرو والمشركون معه: ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، اكتب باسمك اللهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. فقال المشركون وقريش: لئن كتب رسول الله بم قاتلناك وصددناك قال فأمسك ولكن اكتب هذا ما صالح محمد ابن عبد الله.
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعنا نقاتلهم. قال: لا ولكن اكتبوا كما تريدون، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
291

وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (اسجدوا للرحمن) فقالوا: وما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال: قل لهم يا محمد: إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته " * (هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) *) ومضى " * (ولو أن قرآنا) *) الآية نزلت في نفر من مشركي مكة فيهم أبو جهل ابن هشام وعبد الله بن أبي أمية المخزومي جلسوا خلف الكعبة فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال له عبد الله بن أبي أمية: إن تشرك نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تفتح. فإنها ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال يسبح لربه، أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليه أمورنا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا.
فقد كان سليمان سخرت له الريح، فكما حملت لنا فلست بأهون على ربك من سليمان في داود.
وأحيي لنا جدك أيضا ومن شئت من موتانا لنسأله أحق ما يقول أم باطل؟ فإن عيسى قد كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله تعالى " * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) *) وأذهبت عن وجه الأرض " * (أو قطعت به الأرض) *) أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا.
" * (أو كلم به الموتى) *) واختلفوا في جواب لو، فقال قوم: هذا من النزول المحذوف الجواب أقتضى بمعرفة سامعه مراده وتقدير الآية لكان هذا القرآن.
كقول أمرىء القيس:
فلو أنها نفس تموت بتوبة
ولكنها نفس بقطع النفسا
يعني لهان علي، وهي آخر بيت في القصيدة.
وقال آخر:
فأقسم لو شيء أتانا رسوله
سواك ولكن لم نجد لك مرفعا
فأراد أرددناه، وهذا معنى قول قتادة. لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم.
وقال آخرون: جواب لو يقدم وتقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن " * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) *) الآية كأنه قال ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن وبما آمنوا.
ثم قال: " * (بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا) *))
.
292

قال المفسرون: أفلم يعلم.
وقال الكلبي: هي بلغة النخع حي من العرب.
وقال القاسم معن: هي لغة هوازن.
وقال سحيم بن وثيل الرياحي:
أقول لهم بالشعب إذ يسرونني
ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
أراد ألم يعلموا، وقوله: هاد يسرونني أي يقتسمونني من الميسر كما يقتسم الجزور.
ويروى: لمسرونني من الأسر.
وقال الآخر:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه
وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
ودليل هذا التأويل قراءة ابن عباس: أفلم يتبين، وقيل لابن عباس: المكتوب (أفلم ييئس) قال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس.
وأما الفراء: فكان ينكر ذلك ويزعم أنه لم يسمع أحد من العرب يقول: يئست وهو يقول هو في المعنى وإن لم يكن مسموعا يئست بمعنى علمت متوجه إلى ذلك، وذلك أن الله تعالى قد أوحى إلى المؤمنين أنه لو شاء الله لهدى الناس جميعا.
فقال ألم ييئسوا علما يقول يؤسهم العلم فكان العلم فيه مضمرا كما يقول في الأعلام يئست منك أن لا يفلح علما كأنه قول علمته علما.
قال الشاعر:
حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا
غضفا دواجن قافلا اعصامها
بمعنى إذا يئسوا من كل شيء مما يمكن إلا الذي ظهر لهم أرسلوا فهو في معنى: حتى إذا علموا أن ليس وجه إلا الذي رأوا وانتهى علمهم فكان ما سواه يأسا.
293

" * (أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا) *) من كفرهم وأعمالهم الخبيثة " * (قارعة) *) داهية ومصيبة وشديدة تقرعهم من أنواع البلاء والعذاب أحيانا بالجدب وأحيانا بالسلب وأحيانا بالقتل وأحيانا بالأسر.
وقال ابن عباس: أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثهم إليها " * (أو تحل) *) أي تنزل أنت يا محمد بنفسك " * (قريبا من دارهم) *).
وقال قتادة: هي تاء التأنيث يعني وتحل القارعة قريبا من دارهم " * (حتى يأتي وعد الله) *) الفتح والنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه، وقيل يعني القيامة " * (إن الله لا يخلف الميعاد ولقد استهزىء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا) *) أصلهم واطلب لهم ومنه الملاوة والملوان ويقال طبت حينا، " * (ثم أخذتهم) *) عاقبتهم " * (فكيف كان عقاب أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) *) أي حافظها ورازقها وعالم بها ومجاز بها ما عملت، وجوابه محذوف تقديره: كمن هو هالك بائدلا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئا ولا يدفع عن نفسه، نظيره قوله تعالى: " * (أم من هو قانت آناء الليل) *) يعني كمن ليس بقانت " * (وجعلوا لله شركاء قل سموهم) *) بينوا أسماءهم ثم قال: " * (أم تنبؤونه) *) يعني يخبرون الله " * (بما لا يعلم في الأرض) *) فإنه لم يعلم لنفسه شريكا ولا في الأرض إلها غيره " * (أم بظاهر) *) يعني بظاهر من القول مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له ولا باطل صالح ولا حاصل وكان أستاذنا أبو الاقسم الحبيبي يقول: معنى الآية عندي: قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر من القول يعلمه؟ فإن قالوا بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا: بظاهر يعلمه قل لهم سموهم، وبينوا من هم، فإن الله لا يعلم لنفسه شريكا، ثم قال: " * (بل زين للذين كفروا مكرهم) *) كيدهم.
قال مجاهد: قولهم يعني شركهم وكذبهم على الله.
" * (وصدوا عن السبيل) *) وصرفوا عن الدين والطريق المستقيم.
قرأ أهل الكوفة: بضم الصاد واختاره أبو عبيد بأنه قراءة أهل السنة: وفيه إثبات القدر.
وقرأ الباقون: بالفتح، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله " * (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) *) وقوله " * (وصدوكم عن المسجد الحرام) *) وقوله " * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) *) * * (ومن يضلل الله) *) يعني إياه " * (فما له من هاد) *) موفق " * (لهم عذاب في الحياة الدنيا) *))
294

بالقتل والأسر " * (ولعذاب الآخرة أشق) *) أشد " * (وما لهم من الله من واق) *) مانع يمنعهم من العذاب.
2 (* (مثل الجنة التى وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار أكلها دآئم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار * والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بمآ أنزل إليك ومن الاحزاب من ينكر بعضه قل إنمآ أمرت أن أعبد الله ولاأشرك به إليه أدعو وإليه مآب * وكذالك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جآءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا واق * ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتى بئاية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب * يمحو الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب * وإن ما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) *) 2
" * (مثل الجنة التي وعد المتقون) *) في دخولها اختلفوا في الرافع للمثل.
فقال الفراء: هو ابتداء وخبر على قوله " * (تجري من تحتها الأنهار) *) وقيل معنى المثل الصفة كقوله " * (ولله المثل الأعلى) *) أي الصفة العليا وقوله " * (ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل) *) ومجاز الآية صفة الجنة التي وعد المتقون أن الأنهار تجري من تحتها وكذا وكذا.
وقيل مثل وجه مجازها الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار، والعرب تفعل هذا كثيرا بالمثل والمثل كقوله " * (ليس كمثله شيء) *) أي ليس هو كشيء.
وقيل معناه: " * (للذين استجابوا لربهم الحسنى) *). قيل الجنة (بدل) منها.
قال مقاتل: معناه شبه الجنة التي وعد المتقون في الخير والنعمة والخلود والبقاء كشبه النار (في العذاب و) الشدة والكرب.
" * (أكلها دائم) *) لا ينقطع ولا يفنى " * (وظلها) *) ظليل لا يزال وهذا رد على الجهمية، حيث قالوا: إن نعيم الجنة يفنى " * (تلك عقبى) *) يعني ما فيه " * (الذين اتقوا) *) الجنة " * (وعقبى الكافرين النار والذين آتيناهم الكتاب) *) يعني القرآن وهم أصحاب محمد " * (يفرحون بما أنزل إليك) *) من القرآن " *
(ومن الأحزاب) *) يعني الكفار الذين كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اليهود والنصارى
295

* (من ينكر بعضه) *) وذلك أنهم آمنوا بسورة يوسف وقالوا إنها واطأت كتابنا وهذا قول مجاهد وقتادة.
وقال باقي العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في بدء ما أنزل فلما أسلم عبد الله. ابن سلام وأصحابه: ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن؛ لأن ذكر الرحمن في التوراة كثير فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ي ذلك قوله الله تعالى " * (قل ادعوا الله إذ دعوا الرحمن) *) الآية.
فقالت قريش حين نزلت هذه الآية: ما بال محمد كان يدعو إلى إله واحد فهو اليوم يدعو إلى إلهين: الله والرحمن، ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله " * (وهم بذكر الرحمن هم كافرون) *) وهم يكفرون بالرحمن وفرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن فأنزل الله " * (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك) *) الله من ذكر الرحمن " * (ومن الأحزاب) *) يعني مشركي قريش من يذكر بعضه. قال الله " * (قل) *) يا محمد " * (إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) *) مرجعي " * (وكذلك أنزلناه حكما عربيا) *) وكما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد وأنكره الأحزاب، كذلك أيضا أنزلنا الحكم والدين حكما عربيا، وإنما وصفه بذلك لأنه أنزل على محمد وهو عربي، فنسب الدين إليه إذ كان منزلا عليه فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا، وقال قوم معنى الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغناهم كذلك أنزلنا عليك القرآن حكما عربيا ثم توعده على اتباع هوى الأحزاب فقال " * (ولئن اتبعت أهواءهم) *) قيل بما شاء الله، وقيل في أهل القبلة لأنه " * (ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق ولقد أرسلنا رسلا من قبلك) *) فجعلناهم بشرا مثلك " * (وجعلنا لهم) *) نكحوهن وأولاد ينسلوهم ولم يجعلهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحوهن، فنجعل الرسول إلى قومك ملائكة ولكن أرسلنا إلى قومك بشرا مثلهم كما أرسلنا إلى من قبلهم من الأمم بشرا مثلهم " * (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) *) وهذا جواب عبد الله بن أبي أمية ثم قال: " * (لكل أجل كتاب) *) لكل أمر أمضاه الله كان قد كتبه لجميع عبيده، الضحاك: معناه لكل كتاب نزل من السماء أجل ووقت ينزل فيه وهذا من المقلوب " * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) *).
قرأ حميد وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: ويثبت بالتخفيف.
وقرأ الآخرون: بالتثقيل واختاره أبو عبيد لكثرة من قرأها ولقوله تعالى " * (يثبت الله الذين آمنوا) *).
واختلف المفسرون في معنى الآية، فروى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يمحو الله ما يشاء إلا الشقاوة والسعادة والموت)
296

وعن ابن عباس قال: يمحو الله ما يشاء إلا أشياء: الخلق والخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة.
عكرمة عنه هما كتابان سوى أم الكتاب يمحو الله فهما ما يشاء ويثبت " * (وعنده أم الكتاب) *) الذي لا يغير منه شيء.
أبو صالح والضحاك: يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه ثواب وعقاب.
وروى عفان عن همام عن الكلبي: يمحو الله ما يشاء ويثبت. قال: يمحو من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه. قلت من حدثك؟
قال أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم فقدم الكلبي بعد فسئل عن هذه الآية فقال: حتى إذا كان يوم الخميس يطرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب. مثل قولك أكلت، شربت، دخلت، خرجت ونحوها من الكلام وهو صادق، ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب.
وقال بعضهم: يمحو الله ما يشاء ويثبت كل ما يشاء (من) غير استثناء كما حكى الكلبي عن راذان عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وسلم).
روى أبو عثمان النهدي: أن عمر بن الخطاب (ح) كان يطوف بالبيت السبت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فإن كنت كتبت علي الذنب والشقوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
ابن مسعود: إنه كان يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء وأثبتني في السعداء فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
وروى حماد بن أبي حمزة عن إبراهيم: أن كعبا قال لعمر (ح): يا أمير المؤمنين لولا اية في كتاب الله لأنبئنك بما هو كائن إلى يوم القيامة.
قال: وما هو؟ قال: قول الله تعالى " * (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) *).
297

وروى عطية عن ابن عباس: في هذه الآية قال: هو الرجل يعمل للزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل الذي عمل بطاعة الله وقد كان يقول: خير أمتي يموت وهو في طاعة الله، فهو الذي يثبت.
قال علي بن أبي طالب (ح): يمحو الله ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها كقوله " * (كم أهلكنا قبلهم من القرون) *) وقوله " * (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) *).
سعيد بن جبير وقتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء وما ينسخه.
الحسن: لكل أجل كتاب يعني آجال بني آدم في كتاب يمحو الله ما يشاء من جاء أجله فيذهب به ويثبت من لم يجئ أجله إلى أجله.
مجاهد وابن قيس: حين ما أنزل " * (ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) *) ما نراك يا محمد تملك من شيء ولقد فرع من أمره. فأنزلت هذه الآية تخويفا ووعدا لهم أي إن يشاء أحدثها من أمر. قاله بأشياء و يحدث في كل رمضان في ليلة القدر فيمحوا ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وينسئهم له.
محمد بن كعب القرظي: إذا ولد الإنسان. أثبت أجله ورزقه وإذا مات محى أجله ورزقه.
وروى سعيد بن جبير: يمحو الله ما يشاء من ذنوب عباده فيغفرها ويثبت ما يشاء بتركها فلا يغفرها.
عكرمة: يمحو الله ما يشاء يعني بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات فإنه " * (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) *).
وروى عن الحسن أيضا: يمحو الله ما يشاء يعني الآباء ويثبت يعني الأبناء.
السدي: يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت يعني الشمس.
بيانه قوله: " * (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) *))
.
298

ربيع: هذا في الأرواح في حال النوم يقبضها عند النوم فمن أراد موته محا وأمسكه ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه.
بيانه قوله " * (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) *).
وقيل: يمحو الله ما يشاء الدنيا ويثبت الآخرة.
وروى محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه آخر غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء).
ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة جنانها رمان من ياقوت ولله في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو منها ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
قال قيس بن عباد: العاشر من رجب هو يوم يمحو الله فيه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب يعني اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدل.
قال قتادة والضحاك: حلية الكتاب وأصله فيه ما يمحو ويثبت.
فسأل ابن عباس كذا عن أم الكتاب.
قال: يعلم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه: كن كتابا فكان كتابا " * (وان ما نرينك بعض الذي نعدهم) *) من العذاب " * (أو نتوفينك) *) قبل أن نريك ذلك " * (فإنما عليك البلاغ) *) الذي عليك (أن تبلغهم) * * (وعلينا الحساب) *) والجزاء.
(* (أولم يروا أنا نأتى الارض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب * وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار * ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) *) 2
" * (أو لم يروا) *) يعني أهل مكة الذين يسألون محمدا الإيمان " * (إنا نأتي الأرض) *) نقصدها
299

" * (ننقصها من أطرافها) *) يفتحها لمحمد صلى الله عليه وسلم أرضا بعد أرض حوالي أرضهم فلا يخافون أن نفتح أرضهم كما فتحنا له غيرها، وبنحو ذلك قال أهل التأويل. روى صالح بن عمرو عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال: ظهور المسلمين على المشركين.
وروى وكيع عن سلمة بن سبط عن الضحاك قال: ما تغلب عليه محمد صلى الله عليه وسلم من أرض العدو.
جبير عن الضحاك قال: أو لم ير أهل مكة إنا نفتح لمحمد ما حوله من القرى.
وروى إسحاق بن إبراهيم السلمي عن مقاتل بن سليمان قال: الأرض مكة وننقصها من أطرافها غلبة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عليها وانتقاصهم وازدياد المسلمين. فكيف لا يعتبرون وقال قوم: معناه أو لم يروا إلى الأرض ننقصها أفلا تخافون إن جعل بهم وبأرضهم مثل ذلك فيهلكهم ويخرب أرضهم.
ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: خراب الأرض وقبض أهلها.
يزيد الخوي عن عكرمة قال: يعني قبض الناس.
وقال: لو نقصت الأرض لصارت مثل هذه وعقد بيده سويتين.
عثمان بن السناج عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله " * (ننقصها من أطرافها) *) قال: موت أهل الأرض.
طلحة بن أبي طلحة القناد عن الشعبي: قبض الأنفس والثمرات.
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نقصان أهلها وتركها.
عثمان بن عطاء عن أبيه: قال ذهاب علمائها وفقهائها.
قال الثعلبي: أخبرنا أبو علي بن أحمد الفقيه السرخسي قال: حدثنا أبو لبيد بن محمد بن إدريس البسطامي حدثنا سعد بن سعيد حدثنا أبي حدثنا أبو حفص عن محمد بن عبد الله عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خذوا العلم قبل أن يذهب).
قلنا: وكيف يذهب العلم والقرآن بين أظهرنا قد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نقرأه ونقرئه أولادنا فأنصت ثم قال هل ظلت اليهود والنصارى الا والتوراة بين أظهرهم ذهاب العلم ذهاب العلماء.
300

وحدثنا الأستاذ أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظا في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة في آخرين.
قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبو ضمرة وأنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
وحدثنا أبو القاسم أخبرنا محمد بن أحمد بن سعيد حدثنا العباس بن حمزة حدثنا (.........) السدي حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن عبد الله بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجنيد عن أبي الدرداء أنه قال: يا أهل حمص مالي أرى أن علماؤكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون، فأراكم قد أقبلتم على ما يكفل لكم، وضيعتم ما وكلتم به اعلموا قبل أن يرفع العلم فإن رفع العلم ذهاب العلماء.
وأخبرنا أبو القاسم حدثنا عبد الله بن المأمون بهرات حدثنا أبي حدثنا خطام بن الكاد بن الجراح عن أبيه عن جويبر عن الضحاك قال: قال علي (ح): إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد.
حدثنا أبو القاسم حدثنا أبي حدثنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد الرازي الزعفراني حدثنا عمر بن مدرك البلخي، أبو حفص حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا هشام بن حيان عن الحسين قال: قال عبد الله بن مسعود: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.
ومنه عن الرازي حدثنا عمرو بن تميم الطبري. أخبرنا محمد بن الصلت. حدثنا عباد بن العوام عن هلال عن حيان قال: قلت لسعيد بن جبير ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك علمائهم، ونظير هذه الآية في سورة الأنبياء عليهم السلام.
" * (والله يحكم لا معقب لحكمه) *) لا راد لحكمه، والمعقب في كلام العرب الذي يكر على الشيء ويتبعه.
قال لبيد
301

حتى تهجر في الرواح وهاجه
طلب المعقب حقه المظلوم
" * (وهو سريع الحساب وقد مكر الذين من قبلهم) *) يعني من قبل مشركي مكة " * (فلله المكر جميعا) *) يعني له أسباب المكر وبيده الخير والشر وإليه النفع والضر فلا يضر مكر أحد أحدا إلا من أراد الله ضره، وقيل: معناه له جزاء إليكم.
" * (يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار) *) سيعلم: قرأ ابن كثير وأبو عمر: الكافر على الواحد، والباقون على الجمع.
" * (لمن عقبى الدار) *) عاقبة الدار الآخرة ممن يدخلون النار ويدخل المؤمنون الجنة " * (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) *) إني رسوله إليكم، " * (ومن عنده علم الكتاب) *) أيضا يشهدون على ذلك. هم مؤمنو أهل الكتاب.
وقرأ الحسين وسعيد بن جبير: " * (ومن عنده) *) بكسر الميم والدال. علم الكتاب مبني على الفعل المجهول.
وروى أبو عوانة عن أبي الخير قال: قلت لسعيد بن جبير " * (ومن عنده علم الكتاب) *) أهو عبد الله بن سلام؟ قال: كيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية.
وكان سعيد يقرأها " * (ومن عنده علم الكتاب) *)، ودليل هذه القراءة قوله " * (وعلمناه من لدنا علما) *) وقوله " * (الرحمن علم القرآن) *).
وأخبرنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن بابويه أخبرنا أبو رجاء محمد بن حامد بن محمد المقرئ بمكة حدثنا محمد بن حدثنا عبد الله بن عمر حدثنا سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها ومن عنده علم الكتاب.
وبه عن السمري حدثنا أبو توبه عن الكسائي عن سليمان عن الزهري عن نافع عن ابن عمر قال: قال: وذكر الله أشد فذكر إنه حيث جاء إلى الدار ليسلم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ " * (ومن عنده علم الكتاب) *) بكسر الميم وسمعه في الركعة الثانية يقرأ " * (بل هو آيات بينات في صدور الذين) *) الآية.
أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد الفاسي حدثنا القاضي الحسين بن محمد بن عثمان
302

النصيبي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين السميعي بحلب حدثني الحسين بن إبراهيم بن الحسين الجصاص. أخبرنا الحسين بن الحكم حدثنا سعيد بن عثمان عن أبي مريم وحدثني بن عبد الله ابن عطاء قال: كنت جالسا مع أبي جعفر في المسجد فرأيت ابن عبد الله بن سلام جالسا في ناحية فقلت لأبي جعفر: زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام. فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب (ح).
وفيه عن السبيعي: حدثنا عبد الله بن محمد بن منصور بن الجنيد الرازي عن محمد بن الحسين بن الكتاب.
أحمد بن مفضل حدثنا مندل بن علي عن إسماعيل بن سلمان عن أبي عمر زاذان عن ابن الحنفية " * (ومن عنده علم الكتاب) *) قال: هو علي بن أبي طالب.
303

((سورة إبراهيم))
(عليه السلام)
كلها مكية غير آيتين وهما قوله " * (ألم تر إلى الذين بدلوا) *). إلى قوله: " * (فإن مصيركم إلى النار) *) نزلتا في قتلى بدر وأسرائهم، (مكية) وهي ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا وثمانمائة وإحدى وثلاثون كلمة في اثنتين وخمسون آية.
أخبرنا أبو الحسين بن علي بن محممد بن الحسن المقري غير مرة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، أحمد بن يونس اليربوعي عن سلام بن سليم المدائني، عن عمرو بن كثير عن يزيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة إبراهيم والحجر أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذى له ما فى السماوات وما فى الارض وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحيواة الدنيا على الاخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولائك فى ضلال بعيد * ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدى من يشآء وهو العزيز الحكيم * ولقد أرسلنا موسى بئاياتنآ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن فى ذالك لآيات لكل صبار شكور * وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذالكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ تأذن ربكم
304

لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد * وقال موسىإن تكفروا أنتم ومن فى الارض جميعا فإن الله لغنى حميد) *) 2
" * (ألر) *) ابتدأ " * (كتاب) *) خبره وإن قلت هذا كتاب " * (أنزلناه إليك) *) يا محمد يعني القرآن " * (لتخرج الناس) *) لتدعوهم (إليه) * * (من الظلمات) *) الضلالة والجهالة " * (إلى النور) *) العلم والإيمان " * (بإذن ربهم) *) بتوفيق ربهم إياهم ولطفه بهم " * (إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) *).
قرأ أهل المدينة والشام: الله، برفع الهاء على الاستئناف وخبره: (الذي) وقرأ الآخرون: بالخفض نعتا للعزيز الحميد.
وقال أبو عمر: بالخفض على التقديم والتأخير، مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. كقول القائل مررت بالظريف عبد الله
لو كنت ذانبل وذا شريب
ماخفت شدات الخبيث الذيب
وكان يعقوب بن إسحاق الحضرمي إذا وقف على الحميد رفع قوله " * (الله) *) وإذا وصل خفض على النعت " * (وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون) *) يختارون الحياة الدنيا " * (ويصدون عن سبيل الله) *) ويضربون ويميلون الناس عن دين الله " * (ويبغونها عوجا) *) ويطلبونها زيغا وقيلا، والعوج بكسر العين في الدين والأمر والأرض كلا لم يكن قائما.
والعوج بفتح العين في كل ما كان قائما كالحائط والرمح ونحوهما " * (أولئك في ضلال بعيد وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) *) بلغتهم ليفهموا لبنية، بيانه قوله " * (ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) *) بالدعوة " * (وذكرهم بأيام الله) *).
قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة: بنعم الله.
قال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة وما كان في أيام الله الخالية من النقمة والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه؛ لأنها كانت معلومة عندهم.
" * (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) *))
.
305

قال أهل المعاني: أراد لكل مؤمن؛ لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين وأفعالهم إلى قوله تعالى " * (ويذبحون أبناءكم) *).
قال الفراء: العلة الجالبة لهذه الواو إن الله تعالى أخبرهم إن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير الذبح والتذبيح وإن طرح الواو في قوله ويذبحون ويقتلون فإنه أراد تفسير صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم " * (ويستحيون نساءكم) *) يتركونهن حبالى لأنفسهن ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم) أي دعوا شبانهم أحياء " * (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ تأذن ربكم) *) أي أعلم ودليله قراءة عبد الله بن مسعود وإذ قال ربكم به وأذن ويأذن بمعنى واحد مثل أوعد وتوعد.
" * (لئن شكرتم) *) نعمتي وآمنتم وأطعتم " * (لأزيدنكم) *) في النعمة قال ابن عيينة: الشكر بقاء النعمة ومن الزيادة ومرضاة المؤمن، وقيل الشكر قيد للموجود وقيد للمفقود.
" * (ولئن كفرتم) *) نعمتي فصددتموها ولم تشكروها.
" * (إن عذابي لشديد) *) إلى قوله " * (فإن الله لغني) *) عن خلقه " * (حميد) *) محمود في أفعاله لأنه فيها سيفصل أو يعدل.
(* (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جآءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم فىأفواههم وقالوا إنا كفرنا بمآ أرسلتم به وإنا لفى شك مما تدعوننآ إليه مريب * قالت رسلهم أفى الله شك فاطر السماوات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلىأجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا
تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءابآؤنا فأتونا بسلطان مبين * قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون * وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون * وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن فى ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الارض من بعدهم ذالك لمن خاف مقامى وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد * من ورآئه جهنم ويسقى من مآء صديد * يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورآئه عذاب غليظ) *
306

" * (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) *) يعني من كان بعد قوم نوح وعاد وثمود.
وكان ابن مسعود يقرأها: " * (وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) *) ثم يقول كذب النسابون " * (جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم) *).
قال ابن مسعود: يعني عضوا على أيديهم غيظا.
قال ابن زيد وقرأ: " * (عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) *).
ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا فرجعوا بأيديهم إلى أفواههم.
مجاهد وقتادة: كذبوا الرسل وردوا ما حلوا به.
الأخفش وأبو عبيدة: أي تركوا ما أمروا به وكفوا عنه ولم يمضوه ولم يؤمنوا.
تقول العرب للرجل إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وسكت: قد رد يده في فيه.
قال القيسي: إنا لم نسمع واحدا من العرب يقول رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى إنهم عضوا على الأيدي حيفا وغيظا.
كقول الشاعر:
تردون في فيه غش الحسود
يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أنامله العشر
وقال الهذلي:
قد أفنى أنامله أزمة
فأضحى يعض على الوظيفا
الوظيف يعني الذراع والساق، واختار النحاس هذا القول؛ لقوله تعالى " * (وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) *).
وأنشد
لو أن سلمى أبصرت تخددي
ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي
عضت من الوجد بأطراف اليد
307

قال الكلبي: يعني من الأمم ردوا بأيديهم إلى أفواههم أي في أفواه أنفسهم؛ إشارة إلى الرسل إن اسكتوا.
مقاتل: فردوا أيديهم على أفواه الرسل حين يسكتونهم بذلك " * (وقالوا) *) يعني الأمم للرسل، " * (إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب) *) موجب الريبة موقع للتهمة " * (قالت رسلهم) *) إلى قوله تعالى " * (من ذنوبكم) *) من تعجله " * (ويؤخركم إلى أجل مسمى) *) يعني الموت فلا يعاجلكم بالعذاب والعقاب " * (قالوا) *) الرسل " * (إن أنتم إلا بشر مثلنا) *) في الصورة والهيئة ولستم بملائكة وإنما يريدون بقولكم " * (إن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين) *) أي بينة على صحة دعواكم، والسلطان في القرآن على وجهين وجه ملائكة ووجه بينة كقوله * (وما كان لي عليكم من سلطان) * * (وما كان له عليهم من سلطان) *) فصحة قوله " * (إن عندكم من سلطان) *) بهذا وقوله: " * (فأتونا بسلطان مبين) *).
" * (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) *) بالنبوة والحكمة إلى قوله " * (وقد هدانا سبلنا) *) بين لنا الرشد وبصرنا طريق النجاة، " * (ولنصبرن) *) اللام للقسم مجازه لنصبرن " * (على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال الذين كفروا) *) إلى قوله تعالى " * (في ملتنا) *) يعنون الآن ترجعوا وحتى ترجعوا إلى ديننا " * (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم) *) أي من بعد هلاكهم " * (ذلك لمن خاف مقامي) *) أي مقامه وقيامه بين يدي، فأضاف قيام العبد إلى نفسه، كما يقول يذهب على ضربك أي ضربي إياك، وسوف رويتكك أي برويتي إياك. قال الله " * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) *) أي رزقي إليكم فإن شئت قلت ذلك لمن يخاف قيامي عليه ومراقبتي له، مثاله قوله " * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) *).
وقال الأخفش: ذلك لمن خاف مقامي أي عذابي.
" * (وخاف وعيد واستفتحوا) *) واستنصروا الله عليها.
قال ابن عباس ومقاتل: يعني الأمم، وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل
308

صادقين فعذبنا، نظيره قوله تعالى " * (ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) *) وقالوا " * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) *) الآية.
وقال مجاهد وقتادة: يعني الرسل وذلك أنهم لما تبينوا من إيمان قومهم استنصروا عدوهم ودعوا على قومهم بالعذاب.
بيانه قوله تعالى في قصة نوح ولوط وموسى " * (وخاب كل جبار عنيد) *).
مجاهد: معاند للحق ويجانبه.
وقال إبراهيم: الناكب عن الحق.
ابن عباس: المعرض.
وقتادة: العنيد الذي لا يقول لا إله إلا الله.
مقاتل: المستكبر.
ابن كيسان: الشامخ بالحق.
ابن زيد: المخالف للحق.
والعرب تقول: شر الإبل العنيد الذي يخرج من الطريق خيره، المريد العاصي، ويقال عند العرب إذا لم يرقا دمه.
وقال أهل المعاني: المعاند والعنيد هو المعارض لك بالخلاف وأصله من العند وهو الناحية.
قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلوني وسطا
إني كبير لا أطيق العندا
" * (من ورائه جهنم) *) يعني أمامه وقدامه كما يقال: إن الموت من ورائك. قال الله " * (وكان ورائهم ملك) *).
قال الشاعر
309

أتوعدني وراء بني رياح
كذبت لتقصرن يداك دوني
أي قدامهم.
أبو عبيدة: من الأضداد.
وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الآخر من ورائك أي سوف يأيتك
وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه.
وقال الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
وقال بعضهم إنما يجوز هذا في الأوقات؛ لأن الوقت يمر عليك فيصير إن أخرته خلفك.
مقاتل: من ورائه جهنم يعني بعده.
وكان أستاذنا أبو القاسم الحبيبي يقول: الأصل في هذا أن كل ما ورائي عندك شيء من خلفك وقدام فهو (....)، " * (ويسقى من ماء) *) ثم بين ذلك لنا فقال صديد وهو القيح والدم.
قتادة: هو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه.
محمد بن كعب والربيع بن أنس: هو غسالة أهل النار وذلك مايسيل من ابن الزنا يسقى الكافر " * (يتجرعه) *) يتحساه ويشربه ويجرع لا بمرة واحدة لمرارته وحرارته " * (ولا يكاد يسيغه) *) لا يكاد أستقبله مجازه ولا يستسيغه كقوله " * (لم يكد يراها) *) أي لم يرها.
قال ابن عباس: لم يحبوه، وقيل لا يحبونه.
وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية يعطى إليه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه فقطع أمعاءه وحتى يخرج من دبره. يقول الله " * (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم) *) وقال " * (يشوي الوجوه بئس الشراب) *) * * (ويأتيه الموت من كل مكان) *) من أعضائه فيجد ألم الموت وسقمه
310

وقال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعرة في جسده.
الضحاك: حتى من إبهام رجله.
الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا.
" * (وما هو بميت) *) ولا يخرج نفسه فيستريح.
وقال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا يرجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة، نظيره قوله " * (لا يموت فيها ولا يحيى) *) * * (ومن ورائه عذاب غليظ) *) شديد.
(* (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شىء ذالك هو الضلال البعيد * ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذالك على الله بعزيز * وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شىء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص * وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخى إنى كفرت بمآ أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم * وأدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام * ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السمآء * تؤتىأكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار * يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت فى الحيواة الدنيا وفى الاخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشآء) *) 2
" * (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم) *) اختلفت النحاة في رفع مثل، قال الفراء: أضاف المثل إلى الكافرين والمثل للأعمال؛ لأن العرب تقدم الأسماء؛ لأنها أعرف ثم تأتي بالخبر الذي يخبر عنه مع صاحبه، ومجاز الآية " * (مثل الذين كفروا بربهم كرماد) *)، قوله: " * (الذي أحسن كل شيء خلقه) *) أي أحسن خلق كل شيء وقوله " * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله
311

وجوههم مسودة) *) معناه يوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة سيئة، في الآية إضمار معناها ولا يمن عليك مثل الذين كفروا بربهم، ثم ابتدأ وأخذ يفسره فقال: أعمالهم " * (كرماد) *) وإن شئت جعلت المثل صفة فقلت الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد " * (اشتدت به الريح في يوم عاصف) *) وصف اليوم بالعصوف وهو من صفة الريح؛ لأن الريح تكون فيه كما يقال يوم بارد وحار؛ لأن البرد والحر يكونان فيه، وليل نائم ونهار صائم. قال الله " * (والنهار مبصرا) *) ويدل عليه الليل والنهار.
قال الشاعر:
يومين غيمين ويوما شمسا
وقال الفراء: إن شئت قلت: في يوم في عصوف وإن شئت قلت: في يوم عاصف الريح، تحذف الريح؛ لأنها قد ذكرت قبل ذلك.
كقول الشاعر:
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف
أراد كاسف الشمس.
وقيل هو من نعت الريح غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل (حجر ضب خرب) ونحوه، وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكافر يعني هم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا؛ لأنهم أشركوا فيها كما أن الرماد الذي فرقه الريح لا ينتفع به. فذلك قوله " * (لا يقدرون) *) يعني الكفار " * (مما كسبوا) *) في الدنيا " * (على شيء) *) في الآخرة " * (ذلك هو الضلال البعيد ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض) *).
قرأ أهل الكوفة إلا عامر: خالق السماوات والأرض على التعظيم.
وقرأ الآخرون: خلق السماوات على الفصل
" * (بالحق) *) قال المفسرون: لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمر عظيم.
" * (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) *) يبدلكم أحسن وأفضل وأطوع منكم، " * (وما ذلك على الله بعزيز) *) منيع متعذر " * (وبرزوا لله جميعا) *) خرجوا من قبورهم وظهروا لله جميعا،
312

الاستقبال " * (فقال الضعفاء) *) يعني الأتباع " * (للذين استكبروا) *) يعني المتبوعين من القادة " * (إنا كنا لكم تبعا) *) جمع تابع مثل حارس وحرس، وقيل: راصد ورصد ونافر ونفر، ويجوز أن يكون تبع مصدرا سمي به أي كنا ذوي تبع.
" * (فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء) *) أي هل أنتم ودافعون عذاب الله عنا، قال المتبوعين " * (قالوا لو هدانا الله) *) إلى قوله " * (من محيص) *) مهرب ولا منجى، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر وبمعنى الاسم.
يقال حاص فلان عن كذا أي فر وزاغ عنه يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا.
قال مقاتل: إنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع. يقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فحينئذ يقولون " * (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الشيطان) *) يعني إبليس " * (لما قضي الأمر) *) فرغ من الأمر فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
قال مقاتل: يوضع له منبر من نار فيرقاه ويجتمع الكفار عليه بالأئمة " * (إن الله وعدكم وعد الحق) *) يوفى لكم " * (ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان) *) ولاية ومملكة وحجة وبصيرة " * (إلا أن دعوتكم) *) هذا من الاستثناء المنقطع مجازه لمن يدعونكم " * (فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) *) بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان وغير برهان " * (ما أنا بمصرخكم) *) بمعينكم " * (وما أنتم بمصرخي) *) بمغني وبمغيثي.
قرأه العامة: بمصرخي بفتح الياء.
وقرأ الأعمش وحمزة: بكسر الياء، والأصل فيه بمصرخيين فذهبت النون لأجل الإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، فمن نصب فلأجل التضعيف ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر؛ لأن الياء أخت الكسرة " * (إني كفرت بما أشركتمون به من قبل) *) أي لا يمكن أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني به من طاعتكم إياي واستهزأت من ذلك " * (إن الظالمين) *) الكافرين الواضعين للعباد الطاعة في غير موضعها " * (لهم عذاب أليم) *).
روى عتبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال: يقول عيسى (عليه السلام): ذلكم النبي الأمي فيأتونني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي.
ثم يقول الكفار: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير
313

إبليس هو الذي أضلنا فيأتون فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنافإنك أضللتنا قال: فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم فيقول عند ذلك " * (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتم فأخلفتكم) *).
" * (وأدخل الذين آمنوا) *) إلى قوله " * (فيها سلام) *) يسلم الله ويسلم الملائكة عليهم " * (ألم تر) *) يا محمد يعني فإن الله يعلم بإعلامي إياك " * (كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة) *) يعني ما بين الله شبهها " * (كلمة طيبة) *) شهادة أن لا إله إلا الله " * (كشجرة طيبة) *) وهي النخلة يدل عليه حديث عتيب الحجاب قال: كان أبو العالية أميني فأتاني يوما في منزلي بعدما صليت الفجر فانطلقت معه إلى أنس بن مالك فدخلت عليه فجيء بطبق عليه رطب.
فقال أنس: كل يا أبا العالية فإن هذه من الشجرة التي قال الله في كتابه " * (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة) *) كشجرة طيبة. ثم قال أنس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع بسر، فقرأ هذه الآية، ومعنى الآية: كشجرة طيبة الثمرة، فترك ذكر الثمرة استغناء بدلالة الطعام عليه.
وقال أبو ظبيان عن ابن عباس: هذه شجرة في الجنة أصلها ثابت في الأرض وفرعها عال في السماء كذلك أصل هذه الكلمة راجع في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق والإخلاص.
وإذا تكلم بالشهادة تذهب في السماء فلا يكتب حتى ينتهي إلى الله تعالى. قال الله " * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) *).
وروى مقاتل بن حيان عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن لله عمودا من نور أسفله تحت الأرض السابعة ورأسه تحت العرش، فإذا قال العبد أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله اهتز ذلك العمود، فيقول الله عز وجل: اسكن، فيقول: كيف أسكن؟ ولم تغفر لقائلها فيقول الرب: قد غفرت له فيسكن عند ذلك).
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أكثروا من هز ذلك العمود).
" * (تؤتي أكلها) *) تعطي ثمرها " * (كل حين) *) اختلفوا في الحين.
فقال مجاهد وعكرمة وابن زيد: كل سنة.
قال عكرمة: أرسلت إلى عمر بن عبد العزيز إني نذرت أن أقطع يد رجل من هكذا سنة وحينا، ما عندك فيه. قال ابن عباس: فقلت له: لا تقطع يده واحبسه سنة
314

إن ابن عباس يقول: الحين حينان حين يعرف ويبدل وحين لا يعرف. فأما الحين الذي لا يعرف " * (ولتعلمن نبأه بعد حين) *) وأما الذي يعرف " * (تؤتي أكلها كل حين) *) فهو ما بين العام إلى العام المقبل.
فقال: أصبت يا مولى ابن عباس وأحسنت.
وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: كل ستة أشهر ما بين عرامها إلى حملها.
وروى طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن رجل حلف ألا يكلم أخاه حينا فقال: الحين سبعة أشهر، وقرأ هذه الآية.
فقال سعيد بن المسيب: الحين شهران؛ لأن النخلة لا يكون فيها أكلها إلا شهرين.
وقال الربيع بن أنس: كل حين كل غدوة وعشية، كذلك يصعد عمل المؤمن عن أول النهار وآخره، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس.
قال الضحاك: كل ساعة ليلا ونهارا، شتاء وصيفا يؤكل في جميع الأوقات. كذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها.
وقرأ أبو الحكم في تمثيل الله الإيمان بالشجرة فهي أن الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء عودراسخ وأصل قائم وفرع عال. كذلك الإيمان لا يتم ولا يقوم إلا بثلاثة
أشياء تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان.
يدل عليه ما روى جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالإيمان).
لحميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا إن مثل هذا الدين مثل شجرة ثابتة، الإيمان أصلها، والزكاة فرعها، والصيام عروقها، والداعي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن محارم الله خضرتها، فكمالا يكمل هذه الشجرة إلا بثمر طيبة، لا يكمل الإيمان إلا بالكف عن محارم الله).
والحكمة في تشبهها إياه باللحنطة من بين سائر الأشجار أنها لما كانت أشبه الأشجار بالانسان شبهت به وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت بالغصون عن جوانبها و النخلة إذا
315

قطع رأسها يبست وذهب أصلها؛ ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوانات في الإلقاح؛ لأنها لا تحمل حتى يلقح.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (خير المال سكة مأبورة ومهدة مأمورة).
ومنه حديث ابن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه: (إن شجرة من الشجر لا يطرح ورقها وهي مثل المؤمن فأخبرني ما هي؟) قال: فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم فاستحييت وسكت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هي النخلة) فذكرت ذلك لأبي فقال: يا بني لو كنت قلتها لكانت أحب إلي من فضلة؛ لأنها من شجرة آدم.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أكرموا عمتكم) فقيل ومن عمتنا يا رسول الله؟ قال: (النخلة) وذلك أن الله تعالى لما خلق آدم فصلت من طينه فصلة فخلق منها النخلة قال الله: " * (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يذكرون) *)، " * (ومثل كلمة خبيثة) *) وهي الشرك " * (كشجرة خبيثة) *) هي الحنظلة.
قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله ولم يخلق هذه الشجرة على وجه الأرض.
" * (اجتثت) *) اقتلعت. قال ابن عباس، والسدي: استرخت.
الضحاك: استوصلت. المؤرخ: أخذت حيث ما هي يقينا " * (من فوق الأرض ما لها من قرار) *) كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح " * (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) *) يحقق الله إيمانهم وأعمالهم بالقول والتثبيت، وهو شهادة أن لا إله إلا الله " * (في الحياة الدنيا وفي الآخرة) *) يعني في القبر، وقيل: في الحياة في القبر عند الله تعالى وفي الآخرة إذا بعث.
مقاتل: ذلك أن المؤمن إذا مات بعث الله إليه ملكا يقال له: رومان فيدخل قبره فيقول له: إنه يأتيك الآن ملكان أسودان فيسألانك من ربك ومن نبيك وقادتك فأجبهما بما كنت عليه في حياتك، ثم يخرج فيدخل الملكان وهما منكر ونكير أسودان أزرقان فظان غليظان أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالريح العاصف معهما مهزبة، فيقعدان ويسألانه لا يشعران بدخول رومان فيقول ربي الله ونبيي محمد وديني الإسلام، فيقولان له عند الله سعيد ثم يقولان: اللهم فأرضه كما أرضاك، ويفتح له في قبره باب من الجنة يأتيه منها التحف، فإذا انصرفا عنه قال له: نم
316

نومة العروس، فهذا هو التثبيت " * (ويضل الله الظالمين) *) يعني يلعنهم وذلك أن الكافر إذا دخل عليه الملكان قالا له: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ قال: لا أدري. قالا له: لا دريت ولا هديت عشت عصيا ومت شقيا، ثم يقولان له نم نومة المنهوس ويفتح من قبره باب من جهنم ويضربانه ضربة بتلك المرزبة فيشهق شهقة يسمعها كل حيوان إلا الثقلان ويعلنه كل من يسمع صوته فذلك قوله " * (ويلعنهم اللاعنون) *).
روى البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال: (فيعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره، ويقولان من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد، وينتهرانه ويقولان الثانية من ربك وما دينك ومن نبيك؟ وهو آخر أسئلة الملكان فيثبته الله فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فينادي مناد في السماء أن ثبت عبدي) فنزل قوله تعالى " * (يثبت الله الذين آمنوا) *) الآية.
وقال ابن عباس في هذه الآية: إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة فإذا مات مشوا مع جنازته وصلوا عليه مع الناس، فإذا دفن جلس في قبره فيقال له من ربك؟ فيقول ربي الله. فيقال له من رسولك؟ فيقول محمد. فيقال له ما شهادتك؟ فيقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فيوسع له في قبره حد بصره، وذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: (يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن ويتفرق عنه أحباؤه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فيقول له: صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له: هذا منزلك كان لو كفرت بربك، فأما إذا آمنت به فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له فيقال له اسكن ثم يفتح له في قبره، وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا كان منزلك لو آمنت بربك، فأما إذا كفرت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين).
قال بعض أصحابه: يا رسول الله ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل جزعا لذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يثبت الله الذين آمنوا) الآية
317

وقال أبو هريرة: إن الميت يسمع خفق نعالهم حتى يولون عنه مدبرين وإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصيام عن يساره وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف فيصلي الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فيقول للصلاة: أقبلي فتدخل فيؤتى من يمينه فيقول الزكاة اقبلي فتدخل، فيؤتى عن يساره فيقول الصيام قبلي يدخل صوتي من عند رجليه فيقول فعل الخيرات اقبلي فتدخل، فيقال له: اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد دخل الغروب، فيقال له: أخبرنا عما نسألك. فيقول: دعوني حتى أصلي فيقال إنك ستفعل، فأخبرنا عما نسألك عنه فيقول وعم تسألونني؟ فيقال أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ما نقول فيه وماذا شهد عليه، فيقول أمحمد؟ فيقال: نعم، فيقول: أشهد إنه لرسول الله قد جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح إليه في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: أنظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا، ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك لو عصيته، فيزداد غبطة وسرورا، ثم يجعل نسمه في النسيم الطيب، وهي طير (خضر) تعلق بشجر الجنة ويعاد جسده إلى ما بدئ منه من التراب، وذلك قوله " * (يثبت الله الذين آمنوا) *) إلى قوله " * (وفي الآخرة) *).
وعن أبي نافع قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بغدير وأنا أمشي خلفه فقال صلى الله عليه وسلم (لا هديت لا هديت ثلاثا).
قال أبو نافع قلت: يا رسول الله مالي؟ قال: ليس إياك أريد، وإنما أريد صاحب هذا القبر، يسأل عني فيزعم أنه لا يعرفني فإذا هو قبر قد رش عليه الماء حين دفن صاحبه.
وأخبرنا أبو القاسم السلمي عن أبي الطيب محمد بن علي الخياط يقول: سمعت سهيل بن جابر العتكي يقول: رأيت يزيد بن عثمان بعد موته في المنام، فقلت له ما فعل الله بك فقال: إنه أتاني في قبري ملكان فظان غليظان فقالا من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت لهما ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة فذهبا وقالا أكتبت عن جريز بن عثمان؟ قلت: نعم. قالا: إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله.
2 (* (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار * وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار * قل لعبادى الذين ءامنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا
318

خلال * الله الذى خلق السماوات والارض وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين وسخر لكم اليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) *) 2
" * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا) *) يعني غيروا نعمة الله عليهم في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا به وكذبوه فيصيروا نعمة الله عليهم كفرا " * (وأحلوا) *) وأنزلوا " * (قومهم) *) ممن تابعهم على كفرهم " * (دار البوار) *) الهلاك ثم (ترجم) عن دار البوار ما هي. فقال: " * (جهنم يصلونها) *) يدخلونها " * (وبئس القرار) *) المستقر.
عامر بن واثلة سمعت علي بن أبي طالب ح يقول في قوله " * (ألم تر إلى الذين بدلوا) *) الآية قال: هم كفار قريش الذين نحروا يوم بدر.
قال عمر بن الخطاب (ح): هما الأفجران من قريش بني أمية، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين، وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر.
ابن عباس: هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه.
" * (وجعلوا لله أندادا ليضلوا) *) قرأ الكوفيون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس عن سبيله، وقرأ الباقون بفتح الياء على اللزوم " * (قل تمتعوا) *) عيشوا متاع الدنيا.
" * (فإن مصيركم إلى النار) *) وهذا وعيد.
قوله: " * (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) *). قال الفراء: جزم: يقيموا بتأويل الجزاء ومعناه الأمر.
" * (وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) *) إلى قوله " * (ولا خلال) *) مخالة فيقال خلت فلانا فأنا أخاله مخالة وخلال وخلة.
319

قال امرؤ القيس:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى
وخلت بمقلي الخلال ولا قالي
" * (الله الذي خلق السماوات) *) إلى قوله " * (الشمس والقمر دائبين) *).
قال ابن عباس: دوؤبهما في طاعة الله.
" * (وسخر لكم الليل والنهار) *) متعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان والزيادة " * (وآتاكم من كل ما سألتموه) *) يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئا فحذف الشيء الثاني اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض كقوله " * (وأوتيت من كل شيء) *) يعني وأوتيت من كل شيء في زمانها شيئا وقيل هو التكثير نحو قولك: فلان يعلم كل شيء وأتاه كل الناس، وأنت تعني بعضهم نظيره قوله " * (فتحنا عليهم أبواب كل شيء) *).
وقال بعض المفسرين: معناه وآتاه من كل ما سألتموه وما لم تسألوه، وهذه قراءة العامة بالإضافة (.........).
وقرأ الحسن والضحاك وسلام: من كل، بالتنوين على النفي يعني من كل مالم تسألوه فيكون ما يجد.
قال الضحاك: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها، صدق الله لكم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطرنا ببال.
" * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) *) لا تطيقوا ذكرها ولا القيام بشكرها لا بالجنان ولا باللسان ولا بالبيان " * (إن الإنسان لظلوم) *) لشاكر غير من أنعم عليه واضع الشكر في غير موضعه " * (كفار) *) جحود لنعم الله، وقيل ظلمه لنفسه بمعصيته كفار لربه في نعمته، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع.
(* (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا البلد آمنا واجنبنى وبنى أن نعبد الاصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم * ربنآ إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلواة فاجعل أفئدة من الناس تهوىإليهم
320

وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون * ربنآ إنك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شىء فى الارض ولا فى السمآء * الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعآء * رب اجعلنى مقيم الصلواة ومن ذريتى ربنا وتقبل دعآء * ربنا اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) *) 2
" * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا) *) يعني الحرم مأمونا فيه " * (واجنبني وبني) *).
" * (أن نعبد الأصنام) *) ويقال جنبته أجنبه جنبا وأجنبته إجنابا بمعنى وأجنبك وجنبته تجنيبا.
قال الشاعر: وهو أمية بن الأشكر الليثي:
وتنفض مهده شفقا عليه
وتجنبه قلا يصعي الصعابا
والأصنام جمع صنم وهو التمثال المصور
قال الشاعر:
وهنانة كالزون يجلي ضمه
تضحك عن أشنب عذب ملثمه
وقال إبراهيم التيمي في قصصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم (عليه السلام) حين يقول: " * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب انهن أضللن كثيرا من الناس) *) يعني ضل بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حتى عبدوهن وهذا من المغلوب. نظيره قوله " * (الشيطان يخوف أولياءه) *) أي يخوفكم بأوليائه.
" * (فمن تبعني فإنه مني) *) على ديني وملتي " * (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) *).
قال السدي: معناه ومن عصاني فتاب.
مقاتل بن حيان: ومن عصاني فيما دون الشرك.
روى عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قول إبراهيم (عليه السلام) * * (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) *).
وقول عيسى (عليه السلام) * * (إن تعذبهم فإنهم عبادك) *) الآية، فرفع يداه ثم قال: اللهم أمتي اللهم أمتي وبكى، فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسأله ما بك، فأتى جبرئيل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا يسؤك.
321

" * (ربنا إني أسكنت من ذريتي) *) إنما أدخل: (من) للتبعيض ومجاز الآية أسكنت من ذريتي ولدا " * (بواد غير ذي زرع) *) وهو مكة " * (عند بيتك المحرم) *).
قتادة: المحرم من المسجد محرم الله فيه، والاستخفاف بحقه، فإن قيل ما وجه قول إبراهيم عند بيتك وإنما بنى إبراهيم البيت بعد ذلك بمدة، وقيل معناه عند بيتك المحرم الذي كان قبل أن يرفعه من الأرض حتى رفعته في أيام الطوفان.
وقيل عند بيتك المحرم الذي قد مضى في علملك أنه يحدث في هذا البلد.
وكانت قصة الآية على ما ذكره سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن أول من سعى بالصفا والمروة هاجر أم إسماعيل، وإن أول ما أحدثت جر الذيول لهي وذلك أنها لما فرت من ساره فأرخت من ذيلها ليعفى أثرها فجاء بها إبراهيم ومعها ابنها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت فوضعهما ثم رجع فأثبتته فقالت: إلى من تكلنا، فجعل لا يرد عليها شيئا، فقالت: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا، فرجعت ومضى (إبراهيم) حتى إذا كان على ثنية كداء أقبل على الوادي. فقال: " * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) *) الآية.
قال: ومع الإنسانة شنة فيها ماء فنفذ الماء فعطشت فانقطع لبنها فعطش الصبي، فنظرت إلى الجبال أدنى من الأرض فصعدت الصفا فتسمعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا فلم تسمع شيئا فانحدرت فلمانزلت على الوادي سعت وما تريد السعي كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد بذلك السعي، فنظرت أي الجبال أدنى من الأرض فصعدت المروة فتسمعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا، فسمعت صوتا، فقالت: كالإنسان الذي يكذب سمعه: صه حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتك فأغثني فقد هلكت وهلك من معي، فإذا هو الملك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عينا فعجلت الإنسانة فجعلت تفرغ في شنتها، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم يرحم الله أم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا، وقال لها الملك: لا تخافي الضمأ على أهل هذا البلد فإنما هي عين لشرب ضيفان الله وقال: إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله بيتا هذا موضعه.
قال: ومرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأوا الطير على الجبل وقال: إن هذا الطير لعائف على ماء فأشرفوا فإذا هم بالإنسانة فأتوا هاجر وقالوا إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك فأذنت لهم فنزلوا معها وكانوا هناك حتى شب إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، وذكر الحديث في صفة مقام إبراهيم وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.
322

" * (ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي) *) تفزع وقيل تشتاق " * (إليهم) *) وهذا دعاء منه (عليه السلام) لهم بأن يرزقهم حج بيته الحرام.
قال سعيد بن جبير: ويقال أفئدة الناس تهوى إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال أفئدة من الناس منهم المسلمون.
وقال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند ولكنه أفئدة من الناس " * (وارزقهم من الثمرات) *) ما رزقت سكان القرى ذوات المياه " * (لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) *) من جميع أمورنا.
وقال ابن عباس ومقاتل من الوجد إسماعيل وأمه حيث أسكنها بواد غير ذي زرع " * (وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء) *).
قال بعضهم: هذه صلة فولد إبراهيم (عليه السلام).
وقال الآخرون: قال الله عز وجل وما يخفى على الله وهو قول الله عز وجل " * (الحمد لله الذي وهب لي) *) أعطاني " * (على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء) *).
قرأ ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.
وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد اثنتي عشرة ومائة سنة.
" * (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) *) أيضا واجعلهم مقيمي الصلاة " * (ربنا وتقبل دعاء) *).
قال المفسرون: أي عبادتي. نظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم (الدعاء مخ العبادة) ثم قرأ " * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي) *) فسمى الدعاء عبادة.
" * (ربنا اغفر لي ولوالدي) *) إن آمنا وتابا، وقد أخبر الله عن عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة.
" * (وللمؤمنين) *) كلهم.
قال ابن عباس: من أمة محمد " * (يوم يقوم الحساب) *) أي يبدو ويظهر. قال أهل المعاني: أراد يوم يقوم الناس للحساب فاكتفى بذكر الحساب عن ذكر الناس إذ كان مفهوما.
323

2 (* (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعى رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هوآء * وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال * وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال * فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام * يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار * وترى المجرمين يومئذ مقرنين فى الاصفاد * سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار * ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب * هاذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إلاه واحد وليذكر أولوا الألباب) *) 2
" * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) *). قال ميمون بن مهران: فهذا وعيد للظالم وتعزية المظلوم " * (إنما يؤخرهم) *) يمهلهم ويؤخر عذابهم.
وقرأه العامة: بالتاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله " * (ولا تحسبن الله) *)، وقرأ الحسن والسلمي: بالنون.
" * (ليوم تشخص فيه الأبصار) *) أي لاتغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم قاله الفراء.
" * (مهطعين) *) قال قتادة: مسرعين. سعيد بن جبير عنه: منطلقين.
عابد بن الأوزاعي وسعيد بن جبير: الإهطاع سيلان كعدو الذئب.
مجاهد: مديمي النظر.
الضحاك: شدة النظر من غير أن يطرف، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، الكلبي: ناظرين. مقاتل: مقبلين إلى النار.
ابن زيد: المهطع الذي لا يرفع رأسه، وأصل الإهطاع في كلام العرب البدار والإسراع، يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع.
قال الشاعر:
وبمهطع سرح كأن زمامه
في رأس جذع من أراك مشذب
وقال آخر
324

بمستهطع رسل كأن جديله
بقدوم رعن من صوام ممنع
وقال آخر:
تعبدني نمر بن سعد، وقد أرى
ونمر بن سعد لي معيع ومهطع
" * (مقنعي رؤوسهم) *) رافعيها.
قال القتيبي: المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه، ومنه الإقناع في الصلاة.
قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وأصل الإقناع في كلام العرب رفع الرأس.
قال الشماخ
يباكرن العضاه بمقنعات
نواجذهن كالجداالوقيع
يعني برؤوس مرفوعات إليها ليتناولها.
قال الراجز:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا
كأنما أبصر شيئا أطمعا
" * (لا يرتد إليهم طرفهم) *) لا يرجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة " * (وأفئدتهم هواء) *) قال ابن عباس: خالية من كل خير.
مجاهد ومرة بن شرحبيل وابن زيد: منخرقة خربة ليس فيها خير ولا عقل، كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء: إنما هو هواء. هذه رواية العوفي عن ابن عباس.
سعيد بن جبير: تمور في أجوافهم ليس لها مكان يستقر فيه.
قتادة: انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أمكنتها.
الأخفش: جوفاء لا عقول لها.
والعرب تسمي كل أجوف نخبا وهواء، ومنه أهواء وهو الخط الذي بين الأرض والسماء.
قال زهير يصف ناقة
325

كان الرجل منها فوق صعل
من الظلمان جؤجؤه هواء
وقال حبان
ألا أبلغ أبا سفيان عنى
فأنت مجوف نخب هواء
" * (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب) *) وهو يوم القيامة " * (فيقول) *) عطف على يوم يأتيهم وليس بجواب فلذلك وقع " * (الذين ظلموا) *) أشركوا " * (ربنا أخرنا) *) أمهلنا " * (إلى أجل قريب) *) وهو الدنيا يعني أرجعنا إليها " * (نجب دعوتك ونتبع الرسل) *) فيجابون " * (أو لم تكونوا أقسمتم) *) حلفتم " * (من قبل) *) في دار الدنيا " * (ما لكم من زوال) *) فيها أي لا يبعثون، وهو قوله " * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يقبل من يموت) *)، " * (وسكنتم) *) في الدنيا " * (في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) *) بالكفر والمعصية قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم " * (وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم) *) أي جزاء مكرهم " * (وإن كان مكرهم) *).
قرأه العامة: بالنون.
وقرأ عمر وعلي وأبن مسعود: وأبي: وإن كاد مكرهم ما يزال.
" * (لتزول منه الجبال) *). قرأه العامة: بكسر اللام الأول وفتح الثانية.
وقرأ ابن جريج والكسائي: بفتح الميم الأولى وضم الثانية بمعنى قراءة العامة الزجاج في قوله " * (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) *)، أي ما كان مكرهم لتزول.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الإسلام وثبوته كثبوت الجبال الراسخة؛ لأن الله وعده إظهار دينه على الأديان كلها، وقيل معناه: كان مكرهم.
قال الحسن: إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن يزول منه الجبال، وقال خمس مواضع في القرآن (إن) بمعنى (ما) قوله " * (وإن كان مكرهم) *)، وقوله:
" * (لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) *) وقوله: * (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) * * (فيما إن مكناكم فيه) *) وقوله " * (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) *) ومن فتح اللام الأولى فعلى استعظام مكرهم
326

قال ابن جرير: الاختيار القراءة الأولى؛ لأنها لو كانت قالت لم يكن ثابتة وكان مكرهم ما ذكره علي بن أبي طالب (ح) وغيره قالوا: نمرود الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه قال: إن كان ما يقوله إبراهيم حقا فلا انتهي حتى أعلم ما في السماء، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور وعلفها اللحم ورباها حتى شبت واستعلجت ثم قعد في تابوت وجعل معه رجلا آخر، وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل وربط التابوت بأرجل النسور وعلق اللحم فوق التابوت على عصا ثم خلى النسور فطرن وصعدن طمعا في اللحم حتى بعدن في الهواء.
قال نمرود لصاحبه افتح الباب الأول وانظر في السماء هل ترى منه شيئا ففتح ونظر، فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال: افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل ذلك فقال أرى الأرض مثل اللجة البيضاء، والجبال مثل الدخان، وطارت النسور وارتفعت حتى حالت بينها وبين التابوت فقال لصاحبه افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي: أيها الطاغية أين تريد.
قال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرمى عليهم فعاد إليه السهم متلطخا بدم. فقال: كفيت نفسك إله السماء
واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ.
قال عكرمة: سمكة فدت نفسها لله من بحر في الهواء معلق.
وقال بعضهم: من طائر من الطيور أصابه السهم.
قالوا: ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم ففعل ذلك فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال حفيف التابوت في النسور ففزعت وظنت أن قد حدث بها حدث في السماء أو أن القيامة قد قامت فذلك قوله * (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) * * (فلا يحسبن الله مخلف وعده رسله) *) بالنصر لاؤليائه وهلاك أعدائه وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: ولا يحسبن الله مخلف رسله وعده؛ لأن الخلف يقع بالوعد.
يقول الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
وسائر باد إلى الشمس أجمع
وقال القتيبي: هو من المقدم الذي يوضحه التأخير والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وهو قولك يخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده؛ لأنه الخلف يقع بالوعد كما يقع بالرسل.
327

" * (إن الله عزيز ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) *) وروى عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال: البدل عرض كالفضة نبضا نقية لم يسل فيها دم ولم يعمل عليها خطيئه.
وقال علي (ح) في هذه الآية: الأرض من فضة والسماء من ذهب.
وروى سهل بن سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد).
فقال سعيد بن جبير ونجد ومحمد بن كعب القرظي: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.
روى خيثمة عن ابن مسعود قال: تبدل الأرض نارا يصير الأرض كلها يوم القيامة نارا والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها وتلجم الناس العرق ولم يبلغوا الحساب بعد.
قال كعب: يصير السماوات جنانا ويصير مكان البحر نارا وتبدل الأرض غيرها.
ابن عباس: الأرض هي تلك الأرض وإنما تبدل كلها وجبالها وأنهارها.
ثم أنشد:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم
ولا بالدار الدار التي كنت أعرف
وتصديق قول ابن عباس، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدهامد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا وأمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذاهم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى من كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها).
وقيل: تبدل الأرض غير الأرض بأرض (بيضاء كالفظة).
الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: " * (يبدل الأرض غير الأرض) *) أين يكون الناس يومئذ قال: (على الصراط).
وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي أسماء عن ثوبان قال: سأل نفر من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟
328

قال: (هم في الظلمة دون الحشر).
وروى حيكم بن ثوبان الكلابي عن أبي أيوب الأنصاري قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بر من اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله عز وجل في كتابه: " * (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) *) فأين الخلق عند ذلك؟ فقال: أضياف الله فلم يعجزهم ما لديه.
" * (وبرزوا) *) ظهروا وخرجوا من قبورهم " * (لله الواحد القهار) *) الغلاب الذي يفعل ما يشاء وقهر العباد بالموت " * (وترى المجرمين) *) المشركين " * (يومئذ مقرنين) *) مشدودين بعضهم ببعض، وقيل مقرنين بالشياطين. بيانه قوله " * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون) *) وهم الشياطين، فقال ابن زيد: مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم في الأصفاد بالقيود والأغلال، واحدها صفد والصفاد أيضا القيد وجمعه صفد يقال: صفدته صفدا وأصفادا التكثر، قلت: صفدته تصفيدا.
قال عمرو بن كلثوم:
فأتوا بالنهاب وبالسبايا
وأبناء الملوك مصفدينا
" * (سرابيلهم) *) قمصهم واحدها سربال والفعل منه تسربلت وسربلت غيري " * (من قطران) *) وهو الذي تهنأ به الإبل ويقال له الخضخاض.
قال الحسن وقرأ عيسى بن عمر: " * (قطران) *) بفتح القاف وتسكين الطاء، وفيه لغة ثالثة قطران بكسر القاف وجزم الطاء، ومنه قول أبي النجم:
جون كأن العرق المنتوحا
لبسه القطران والمسوحا
وقرأ عكرمة: برواية زيد: قطران على كلمتين منونتين " * (قطران) *) والقطر النحاس الصفر المذاب. قال الله " * (آتوني أفرغ عليه قطرا) *) والآن الذي انتهى خبره قال الله تعالى " * (يطوفون بينها وبين حميم آن) *) * * (وتغشى وجوههم النار) *) إلى قوله " * (هذا) *) أي هذا القرآن " * (بلاغ) *) تبليغ وعظة " * (للناس ولينذروا به وليعلموا) *) حجج الله التي أقامها فيه " * (إنما هو إله واحد) *) لا شريك له " * (وليذكر أولو الألباب) *).
329

((سورة الحجر))
مكية، وهي ألفان وسبعمائة وستون حرفا، وستمائة وأربع وخمسون كلمة وتسع وتسعون آية
روى حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد).
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الر تلك ءايات الكتاب وقرءان مبين * ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين * ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون * ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم * ما تسبق من أمة أجلها وما يستئخرون * وقالوا ياأيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين * ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين * إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون * ولقد أرسلنا من قبلك فى شيع الاولين * وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين * لا يؤمنون به وقد خلت سنة الاولين * ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) *) 2
" * (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) *) يعني وآيات قرآن. " * (ربما يود) *).
قرأ عاصم وأهل المدينة: بتخفيف الباء.
وقرأ الباقون: بتشديده، وهما لغتان.
قال أبو حاتم وأهل الحجاز: يخففون ربما.
وقيس وبكر وتميم: يثقلونها وإنما أدخل ما على رب ليتكلم بالفعل بعدها.
" * (يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) *))
.
330

روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة. قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم شيئا؟ وقد صرتم معنا في النار. قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فغضب الله لهم بفضل رحمته فأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار يخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
وروى مجاهد عن ابن عباس قال: ما يزال الله يدخل الجنة ويرحم ويشفع حتى يقول لمن كان من المسلمين: ادخلوا الجنة فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " * (ذرهم) *) يا محمد يعني الذين كفروا " * (يأكلوا) *) في الدنيا " * (ويتمتعوا) *) من لذاتها " * (ويلههم) *) ويشغلهم " * (الأمل) *) عن الأخذ بحظهم من
الإيمان والطاعة " * (فسوف يعلمون) *) بما وردوا القيامة ونالوا وبال ما صنعوا فنسختها آية القتال " * (وما أهلكنا من قرية) *) أي من أهل قرية " * (إلا ولها كتاب معلوم) *) أجل مؤقت قد كتبناها لهم لا يعذبهم ولا يهلكهم حتى يلقوه " * (ما تسبق من أمة) *) من ملة " * (أجلها وما يستأخرون) *) ونظيرها * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * * (وقالوا) *) يعني مشركي مكة " * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) *) يعني القرآن وهو محمد صلى الله عليه وسلم " * (إنك لمجنون لوما) *) هلا " * (تأتينا بالملائكة) *) شاهدين لك على صدق ما تقول " * (إن كنت من الصادقين) *).
قال الكسائي: لولا ولوما سواء في الخبر والاستفهام.
ومنه قول ابن مقبل:
لوماالحياء ولوما الدين عبتكما
ببعض مافيكما إذ عبتما عودي
يريد لولا الحياء
" * (ما ننزل الملائكة) *).
قرأ أهل الكوفة: ننزل الملائكة بضم النون ورفع اللام، الملائكة نصبا، واختاره أبو عبيد.
وقرأ الباقون: بفتح التاء ورفع اللام في الملائكة رفعها، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقوله " * (تنزل الملائكة والروح) *).
" * (إلا بالحق) *) بالعذاب ولو نزلت " * (وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر) *) القرآن " * (وإنا له لحافظون) *) من الباطل ومن الشياطين وغيرهم أن يزيدوا فيه وينقصوا منه ويبدلوا حرفا، نظيره قوله: " * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه) *) الآية.
331

وقيل بأن الهاء في قوله له راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء نظيره * (والله يعصمك من الناس) * * (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين) *) في الآية إضمار، مجازها ولقد أرسلنا من قبلك في شيع أمم من الأولين.
قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن: فرق الأولين وواحدتها شيعة وهي الفرقة والطائفة من الناس " * (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) *) كما فعلوا بك يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم " * (كذلك نسلكه) *) يعني كما أسلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء بالرسل في قلوب شيع الأولين كذلك نسلكه أي نجعله وندخله في قلوب مشركي قومك " * (لا يؤمنون به) *) يعني حتى لا يؤمنوا بمحمد، وفي هذه الآية رد على المعتزلة، فقال سلكه يسلكه سلكا وسلوكا وأسلكه إسلاكا.
قال عدي بن زيد:
وكنت لزاز خصمك لم أعرد
وقد سلكوك في قوم عصيب
" * (وقد خلت سنة الأولين) *) وقائع الله لا من خلا من هكذا في الأمم نخوف أهل مكة.
" * (ولو فتحنا عليهم) *) يعني ولو فتحنا على هؤلاء القائلين لوما تأتينا بالملائكة " * (بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون) *) فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم عيانا، لقالوا: إنما سكرت أبصارنا، هذا قول ابن عباس وأكثر العلماء.
قال الحسن: هذا العروج راجع إلى بني آدم يعني فظل هؤلاء الكافرون فيه يعرجون أي يصعدون ومنه المعراج " * (لقالوا إنما سكرت) *) سدت " * (أبصارنا) *) قاله ابن عباس، وقال الحسن: سحرت.
قتادة: أخذت.
الكلبي: أغشيت وعميت.
وكان أبو عمرو وأبو عبيدة يقولان: هو من سكر الشراب ومعناه قد عش أبصارنا السكر، المؤرخ: دير بنا.
وقرأ مجاهد وابن كثير: سكرت بالتخفيف أي حبست ومنعت بالنظر كما سكر النهر ليحبس الماء " * (بل نحن قوم مسحورون) *) سحرنا محمد.
332

2 (* (ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين * والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شىء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين * وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) *) 2
" * (ولقد جعلنا في السماء بروجا) *) أي قصورا ومنازل وهي كواكب وبروج الشمس والقمر والكواكب السيارة وأسماؤها الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت.
" * (وزيناها) *) يعني السماء " * (للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع) *) لكن من استرق السمع، " * (فأتبعه شهاب) *) نار " * (مبين) *) بين.
قال ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجا يسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو فيرمي بالشهاب فيصيب جبهته أو جبينه أو حيث شاء الله منه فيلتهب فيأتي أصحابه وهو ملتهب فيقول: إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليه تسعا فيحدثون بها أهل الأرض الكلمة حق والتسع باطل فإذا رأوا شيئا مما
قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوا به من كذبهم.
وقال ابن عباس أيضا: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات فكانوا يدخلونها فيأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة بأن ولد عيسى، ومنعوا عن ثلاث سماوات فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم نعوا من السماوات أجمع فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، فلما منعوا بتلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال لقد حدث في الأرض حدث.
قال: فبعثهم فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن فقالوا: هذا والله حديث وإنهم ليرمون فإذا نور النجم عنكم فقد أدركه لا يخطئ أبدا ولكن لا يقتله بحرق وجهة جنبه ويده، وبعضهم من يخبله فيصبر حولا، يضل الناس في البوادي.
قال يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق: إن أول من فزع للرمي بالنجوم حين رما بها هذا الحي من ثقيف، وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأمكرها رأيا فقالوا له: ألم تر ما حدث في السماء في القذف بهذه النجوم؟ قال: بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء؟ لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طي الدنيا
333

وهلاك الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوم غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا الأمر أراد الله به هذا في الخلق.
وروى عمارة بن زيد عن عبد الله بن العلا عن أبي الشعشاع عن أبيه عن أبي لهب بن مالك قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكرت عنده الكهانة فقلت: بأبي أنت وأمي نحن أول من تطوع لحراسة السماء وزجر الشياطين ومنع الجن من استراق السمع عند قذفها بالنجوم، وإنا لما رأينا ذلك اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه ثلاثمائة وستون سنة هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها فأنا قد فزعنا وخفنا سوء عاقبتها، فقال لنا: اعدوا علي في السحر، ائتوني بسحر أخبركم الخبر إما بخير أو ضرر، قال: فانصرفوا عنه يومنا فلما كان في وقت السحر أتينا فإذا هو قائم على قدميه شاخص بعينيه إلى السماء فناديناه يا خطر فأومأ إلينا أن امسكوا فأمسكنا فانقض من السماء نجم عظيم وصرخ الكاهن بأعلى صوته: أصابه أصابه خامره عاقبه عاجله عذابه أحرقه شهابه، زايله جوابه، يا ويله ما حاله، تغيرت أحواله.
ثم أمسك وطفق يقول يا معشر بني قحطان:
أخبركم بالحق والبيان
أقمت بالكعبة والأركان
والبلد المؤتمن السدان
قد منع السمع عتاة الجان
بثاقب بكف ذي سلطان
من اجل مبعوث عظيم الشان
يبعث بالتنزيل والفرقان
وبالهدى وفاضل القرآن
تبطل به عبادة الأوثان
قال: فقلت: ويحلك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما فماذا ترى لقومك؟
فقال:
أرى لقومي ما أرى لنفسي
أن يتبعوا خير بني الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس
يبعث في مكة دار الحمس
بمحكم التنزيل غير اللبس
قال: فقلنا له: من هو وما اسمه وما مدته؟ قال: الحياة والعيش إنه لمن قريش ما في حكمه من طيش ولا في خلقه هيش، تكون في جيش وأي جيش من آل قحطان وآل أيش،
334

والأيش الأخلاط من كل قوم، فقلنا له من أي البطون هو فقال: بطن إسماعيل ولد إبراهيم، فقلنا له بين لنا من أي قريش هو؟ قال:
والبيت ذي الدعائم
والسدير والحمائم
إنه لمن نسل هاشم
من معشر أكارم يبعث بالملاحم
وقتل كل ظالم
ثم قال: الله أكبر الله أكبر جاء الحق وأظهره وانقطع عن الإنس الخبر هذا هو البيان أخبرني به رأس الجان، ثم قال هذا وسكت وأغمي عليه فما أفاق إلا بعد ثلاثة أيام فلما أفاق قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم مات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبحان الله سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة وإنه ليحشر يوم القيامة أمة وحده).
" * (والأرض مددناها) *) بسطناها على رحبة الماء " * (وألقينا فيها رواسي) *) جبالا ثوابت " * (وأنبتنا فيها) *) أي في الأرض " * (من كل شيء موزون) *) مقدر معلوم وقيل: بغى به في الجبال وهو جواهر من الفضة والذهب والحديد والنحاس وغيرها حتى الزرنيخ والكحل كل ذلك يوزن وزنا.
قال ابن زيد هي الأشياء: التي توزن.
" * (وجعلنا لكم فيها معايش) *) جمع معيشة " * (ومن لستم) *) يعني ولمن لستم " * (له برازقين) *) هي الدواب و الأنعام.
عن شعبة قال: قرأ علينا منصور: " * (ومن لستم له برازقين) *) قال الوحش.
قال أبو حسن: (من) في محل الخفض عطفا على الكاف والميم في قوله " * (لكم) *).
وقد يفعل العرب هذا كقول الشاعر:
هلا سألت بذي الجماجم عنهم
وأبي نعيم ذي اللوا المخرق
فعطف بالظاهر على المكنى و (من) في هذه الآية بمعنى: ما، كقوله " * (فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على أربع) *) * * (وإن من شيء) *) وما من شيء من أرزاق الخلق " * (إلا عندنا خزائنه وما ننزله) *) من السماء " * (إلا بقدر معلوم) *) لكل أرض حد مقدر
335

قال ابن مسعود: وما من أرض أمطر من أرض، وما عام أمطر من عام ولكن الله يقسمه ويقدره في الأرض كيف يشاء عاما هاهنا وعاما هاهنا ثم قرأ هذه الآية.
وروى إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عيينة في هذه الآية: ما من عام بأكثر مطرا من عام ولكن يمطر قوم ويحرم آخرون وربما كان في البحار والقفار قال: وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كل قطرة حيث يقع وما ينبت.
جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: (في العرش مثال كل شيء خلقه الله في البر والبحر. وهو تأويل قوله تعالى: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه).
2 (* (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين * وإنا لنحن نحى ونميت ونحن الوارثون * ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستئخرين * وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم * ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجآن خلقناه من قبل من نار السموم) *) 2
" * (وأرسلنا الرياح) *) قرأ العامة بالجمع لأنها موصوفة وهو قوله: " * (لواقح) *)، وقرأ بعض أهل الكوفة: الريح على الواحد وهو في معنى الجمع أيضا وإن كان لفظها لفظ الواحد، لأنه يقال: جاءت الريح من كل جانب، وهو مثل قوله: أرض سباسب وثوب أخلاق، وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتسع، وقول العلماء في وجه وصف الرياح: باللقح، وإنما هي ملقحة لأنها تلقح السحاب والشجر.
فقال قوم: معناها حوامل؛ لأنها تحمل الماء والخير والنفع لاقحة كما يقال: ناقة لاقحة إذا حملت الولد، ويشهد على هذا قوله: " * (الريح العقيم) *) فجعلها عقيما إذا لم تلقح ولم يكن فيها ماء ولا خير، فمن هذا التأويل قول ابن مسعود في هذه الآية قال: يرسل الله الريح فتحمل الماء فيمري السحاب فتدر كما تدر اللقحة ثم يمطر.
قال الطرماح:
لأفنان الرياح للاقح قال منها وحائل
وقال الفراء: أراد ذات لقح. كقول العرب: رجل نابل ورامح وتامر.
قال أبو عبيدة: أراد ملاقح جمع ملقحة كما في الحديث (أعوذ بالله من كل لامة) أي ملمة
336

قال النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
أي منصب.
قال زيد بن عمر: يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قما، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر، ثم تلا: " * (وأرسلنا الرياح لواقح) *).
وقال أبو بكر بن عياش: لا يقطر قطرة من السحاب إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيه: فالصبا تهيجه، والدبور تلقحه، والجنوب تدره، والشمال تفرقه.
ويروي أبو المهزم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الريح الجنوب من الجنة وهي الرياح اللواقح التي ذكر الله في كتابه وفيها منافع
للناس).
" * (فأ نزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه) *) أي جعلنا المطر لكم سقيا، ولو أراد أنزلناه ليشربه لقال: فسقيناكموه، وذلك أن العرب تقول: سقيت الرجل ماء ولبنا وغيرهما ليشربه، إذا كان لسقيه، فإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته قالوا: أسقيته وأسقيت أرضه وماشيته، وكذلك إذا استسقت له، قالوا: أسقيته واستسقيته، كما قال ذو الرمة:
وقفت على رسم لمية ناقتي
فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره وملاعبه
قال المؤرخ: ما تنال الأيدي والدلاء فهو السقي ومالا تنال الأيدي والدلاء فهو الإسقاء.
" * (وما أ نتم له بخازنين) *) يعني المطر. قال سفيان: بما نعين.
" * (وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون) *) بأن نميت جميع الخلق فلا يبقى من سوانا، نظيره قوله: * (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون) * * (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) *).
ابن عباس: أراد بالمستقدمين: الأموات، والمستأخرين: الأحياء.
337

عكرمة: المستقدمين: من خلق، والمستأخرين: من لم يخلق، قد علم من خلق إلى اليوم وقد علم من هو خالقه بعد اليوم.
قتادة: المستقدمون: من مضى، والمستأخرون: من بقي في أصلاب الرجال.
الشعبي: من إستقدم في أول الخلق، ومن إستأخر في آخر الخلق.
مجاهد: المستقدمون: القرون الأولى، والمستأخرون: أمة محمد (صلى الله عليه وسلم).
الحسن: المستقدمون بالطاعة والخير، والمستأخرون المبطئون عن الطاعة والخير.
وقيل: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة، والمستأخرين فيها بسبب النساء.
وروى أبو الجوزاء وابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كانت النساء يخرجن إلى الجماعات فيقوم الرجال صفوفا (خلف) النبي صلى الله عليه وسلم والنساء صفوفا خلف صفوف الرجال، وربما كان في الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى الصف الأخير من صفوف الرجال، وربما كان في النساء من في قلبها ريبة فتتقدم إلى أول صف النساء لتقرب من الرجال، وكانت امرأة من أحسن الناس لا والله ما رأيت مثلها قط، تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان بعض الناس ويتقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع وسجد نظر إليها من تحت يديه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها).
وقال الربيع بن أنس: حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصف الأول في الصلاة فأزدحم الناس عليه، وكانت بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد. فقالوا: نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد، فأنزل الله تعالى هذه الآية وفيهم نزلت: " * (انا نحن نحيي الموتى ونكتب ماقدموا وآثارهم) *).
الأوزاعي: " * (ولقد علمنا المستقدمين منكم) *) يعني المصلين في أول الأوقات، " * (ولقد علمنا المستأخرين) *) يعني المؤخرين صلاتهم إلى آخر الأوقات.
مقاتل بن حيان: يعني المستقدمين والمستأخرين في صف القتال. ابن عيينة: يعني من يسلم ومن لا يسلم
338

" * (وإن ربك يحشرهم) *). قال ابن عباس: وكلهم ميت ثم يحشرهم ربهم جميعا الأول والآخر " * (إنه حكيم عليم ولقد خلقنا الإنسان) *) يعني آدم (عليه السلام)، قال إنسانا لأنه عهد إليه فنسي. وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة وقالوا: وزنه انسيان على وزن إفعلان فأسقط الياء منه لكثرة جريانه على الألسن، فإذا صغر ردت الياء إليه فيقول أنيسان على الأصل لأنه لايكثر صغرا كما لا يكبر مكبرا.
وقال آخرون: إنما سمي إنسانا لظهوره وإدراك البصر إياه وإليه ذهب نحاة البصرة وقالوا: هو على وزن فعلان فزيدت الياء في التصغير كما زيدت في تصغير رجل فقالوا: رويجل وليلة فقالوا: لويلة.
" * (من صلصال) *) وهو الطين اليابس إذا نقرته سمعت له صلصلة أي صوتا من يبسه، قيل: أن تمسه النار فإذا أصابته النار فهو فخار، هذا قول أكثر المفسرين.
وروى أبو صالح عن ابن عباس: هو الطين الحر الطيب الذي إذا نضب عنه الماء تشقق وإذا حرك تقعقع.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هو الطين المنتن، واختاره الكسائي وقال هو من قول العرب: صل اللحم وأصل إذا أنتن.
" * (من حمأ) *) جمع حمأة " * (مسنون) *).
قال ابن عباس: هو التراب المبتل المنتن، يجعل صلصالا كالفخار ومثله، قال مجاهد وقتادة: المنتن المتغير.
قال الفراء: هو المتغير وأصله من قول العرب: سننت الحجر على الحجر أي أحككته وما يخرج من بين الحجرين يقال له السنن والسنانة ومنه المسن.
أبو عبيدة: هو المصبوب، وهو من قول العرب: سننت الماء على الوجه وغيره إذا صببته.
(سيبويه): المسنون: المصور، مأخوذ من سنة الوجه وهي صورته.
قال ذو الرمة:
(تريك) سنة وجه غير مقرفة
ملساء ليس بها خال ولا ندب.
" * (والجان خلقناه من قبل) *).
قال ابن عباس: هو أب الجن.
339

قتادة ومقاتل: هو إبليس، خلق قبل آدم.
" * (من نار السموم) *).
قال ابن عباس: السموم: الحارة التي تقتل.
الكلبي عن أبي صالح عنه: هي نار لادخان لها والصواعق تكون منها، وهي نار بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله له أمرا خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت، فالهدة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب.
أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار.
روى سعيد عن أبي إسحاق قال: دخلت على عمرو بن الأصم أعوده فقال: ألا أحدثك حديثا سمعته من عبد الله (قال: بلى، قال:) سمعت عبد الله يقول: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان وتلا: " * (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) *).
2 (* (وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال ياإبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين * قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بمآ أغويتنى لأزينن لهم فى الارض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط على مستقيم * إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين * وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم * إن المتقين فى جنات وعيون * ادخلوها بسلام ءامنين * ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين * لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين * نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم * وأن عذابى هو العذاب الاليم) *) 2
" * (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق) *) سأخلق " * (بشرا من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته) *) عدلت صورته وأتممت خلقه " * (ونفخت فيه من روحي) *) فصار بشرا حيا " * (فقعوا له ساجدين) *) سجود تحية وتكرمة لا سجود صلاة وعبادة " * (فسجد الملائكة) *) المأمورون بالسجود " * (كلهم أجمعون) *) على التأكيد " * (إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين) *))
.
340

روى عكرمة عن ابن عباس قال: لما خلق الله الملائكة قال: إني خالق بشرا من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، قالوا: لا نفعل. فأرسل عليهم نارا فأحرقهم. ثم خلق ملائكة فقال: إني خالق بشرا من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، فأبوا، فأرسل الله عليهم نارا فأحرقهم. ثم خلق ملائكة فقال: إني خالق بشرا من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، قالوا: سمعنا وأطعنا إلا إبليس كان من الكافرين.
" * (قال يا إبليس ما لك أ لا تكون مع الساجدين) *) محل (أن) النصب بفقد الخافض.
" * (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون قال فاخرج منها) *) أي من الجنة ومن السماوات " * (فإنك رجيم) *) ملعون طويلا " * (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأ نظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) *) وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم " * (قال رب بما أغويتني) *) أي بأغوائك أياي وهو الإضلال والإبعاد " * (لازينن لهم في الأرض) *) معاصيك ولأحببنها إليهم " * (ولاغوينهم) *) لأضلنهم " * (أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) *).
قرأ أهل الكوفة والمدينة والشام: بفتح اللام. وإختاره أبو عبيد، يعني إلا من أخلصته بتوفيقك فهديته واصطفيته.
وقرأ أهل مكة والبصرة: بكسر اللام، وإختاره أبو حاتم، يعني من أخلص لك بالتوحيد والطاعة. وأراد بالمخلصين في القرائتين جميعا: المؤمنين.
" * (قال) *) الله لإبليس " * (هذا صراط) *) طريق " * (علي مستقيم) *).
قال الحسن: هذا صراط إلي مستقيم.
وقال مجاهد: الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لايعرج على شيء.
وقال الأخفش: يعني على الدلالة صراط مستقيم.
وقال الكسائي: هذا على الوعيد فإنه تهديد كقولك للرجل خاصمته وتهدده: طريقك علي، كما قال الله: " * (ان ربك لبالمرصاد) *) فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلا بأعمالهم.
وقال ابن سيرين وقتادة وقيس بن عبادة وحميد ويعقوب: هذا صراط علي برفع الياء على نعت الصراط أي رفيع، كقوله: " * (ورفعناه مكانا عليا) *))
.
341

" * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) *) قوة.
قال أهل المعاني: يعني على قلوبهم.
وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية، فقال: معناه ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عبدي، وهؤلاء يثبت الله الذين رأى فيهم إحسانهم.
" * (إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب) *) أطباق " * (لكل باب منهم) *) يعني من أتباع إبليس " * (جزء مقسوم) *) حظ معلوم.
وقال علي بن أبي طالب (ح): تدرون كيف أبواب النار؟ قلنا: نعم كنحو هذه الباب. فقال: لا ولكنها هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى وإن الله تعالى وضع الجنان على الأرض، ووضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقهما الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية.
وأبو سنان عن الضحاك في قول الله: " * (لكل باب منهم جزء مقسوم) *) قال: للنار سبعة أبواب هي سبعة أدراك بعضها على بعض.
فأولها: أهل التوحيد يعذبون على قدر أعمالهم وأعمارهم في الدنيا ثم يخرجون.
والثاني: فيه اليهود.
والثالثة: فيه النصارى.
والرابع: فيه الصابئون.
والخامسة: فيه المجوس.
والسادس: فيه مشركوا العرب.
والسابع: فيه المنافقون.
فذلك قوله: " * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) *) الآية.
أبو رياح عن أنس بن مالك عن بلال قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد المدينة وحده، فمرت به أعرابية فاشتهت أن تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فدخلت وصلت ولم يعلم بها رسول الله، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ هذه الآية: " * (وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) *) فخرت الأعرابية مغشية عليها فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبتها فانصرف وقال: (يا بلال علي بماء) فجاء فصب على وجهها حتى أفاقت وجلست، فقال
342

لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا هذه ما حالك؟) فقالت: رأيتك تصلي وحدك فاشتهيت أن أصلي خلفك ركعتين، فهذا شيء من كتاب الله أو تقول من تلقاء نفسك؟
قال بلال: فما أحسبه إلا قال: (يا أعرابية بل هو في كتاب الله المنزل).
فقالت: كل عضو من أعضائي يعذب على باب منها.
فقال: (يا أعرابية لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب على كل باب على قدر أعمالهم).
فقالت: والله إني لامرأة مسكينة مالي مال ومالي إلا سبعة أعبد أشهدك يا رسول الله أن كل عبد منهم على كل باب من أبواب جهنم حر لوجه الله. فأتاه جبرئيل فقال: يا رسول الله بشر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها، وفتح لها أبواب الجنة كلها.
" * (إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها) *) قرأه العامة بوصل الألف وضم الخاء على الأمر، مجازه: يقال لهم ادخوها.
وقرأ الحسن: أدخلوها بضم الهمزة وكسر الخاء على الفعل المجهول، وحينئذ لا يحتاج إلى الضمير.
" * (بسلام) *) بسلامة " * (آمنين) *) من الموت والعذاب والآفات " * (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا) *) نصب على الحال، وإن شئت قلت: جعلناهم إخوانا " * (على سرر) *) جمع سرير مثل جديد جدد " * (متقابلين) *) يقابل بعضهم بعضا لا ينظر أحد منهم في قفا صاحبه " * (لا يمسهم) *) لا يصيبهم " * (فيها نصب) *) تعب " * (وما هم منها بمخرجين نبئ) أخبر عبادي أني أنا الغفور الرحيم) *).
قال ابن عباس: يعني لمن تاب منهم.
" * (وأن عذابي هو العذاب الأليم) *) لمن لم يتب منهم.
روى ابن المبارك عن مصعب بن ثابت عن عاصم بن عبيد الله عن ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ن الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك، فقال: (لا أراكم تضحكون)، ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع ألينا القهقرى فقال: (إني لما خرجت جاء جبرئيل فقال: يا محمد لم تقنط عبادي " * (نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) *))
343

وقال قتادة: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن محارم الله، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه).
2 (* (ونبئهم عن ضيف إبراهيم * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم * قال أبشرتمونى على أن مسنى الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضآلون * قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين * إلا ءال لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته قدرنآ إنها لمن الغابرين * فلما جآء ءال لوط المرسلون * قال إنكم قوم منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون * وآتيناك بالحق وإنا لصادقون * فأسر بأهلك بقطع من اليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون * وقضينآ إليه ذلك الامر أن دابر هاؤلآء مقطوع مصبحين * وجآء أهل المدينة يستبشرون * قال إن هاؤلآء ضيفى فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون * قالوا أولم ننهك عن العالمين * قال هاؤلآء بناتى إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون * فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن فى ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم * إن فى ذلك لآية للمؤمنين * وإن كان أصحاب الايكة لظالمين * فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين * ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين * وءاتيناهم ءاياتنا فكانوا عنها معرضين * وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين * فأخذتهم الصيحة مصبحين * فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * وما خلقنا السماوات والارض وما بينهمآ إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل * إن ربك هو الخلاق العليم) *) 2
" * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) *) يعني الملائكة الذين أرسلهم الله ليبشروا إبراهيم بالولد ويهلكوا قوم لوط " * (إذ دخلوا عليه) *) جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمؤنث والمذكر " * (فقالوا سلاما قال) *) إبراهيم " * (إنا منكم وجلون) *) (خائفون) * * (قالوا لا توجل) *) لا تخف " * (إنا نبشرك بغلام عليم) *) يعني إسحاق، فعجب إبراهيم من كبره وكبر امرأته " * (قال أبشرتمو ني على أن مسني الكبر) *) أي على الكبر " * (فبم تبشرون) *) فأي شيء تبشرون.
واختلف القراء في هذا القول، فقرأ أهل المدينة والشام بكسر النون والتشديد على معنى تبشرونني، فأدغمت نون الجمع في نون الإضافة.
وقرأ بعضهم: بالتخفيف على الخفض.
وقرأ الباقون: في النون من غير إضافة.
344

" * (قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين) *).
قرأه العامة: بالألف.
وقرأ يحيى بن وثاب: القانطين.
" * (قال ومن يقنط) *).
قرأ الأعمش وأبو عمرو والكسائي بكسر النون، وقرأ الباقون: بفتحه (وقال الزجاج): قنط يقنط، وقنط يقنط إذا يئس من رحمة الله.
" * (من رحمة ربه إلا الضالون قال) *) لهم إبراهيم " * (فما خطبكم) *) شأنكم وأمركم * (أيها المرسلون) * * (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) *) مشركين " * (إلا آل لوط) *) أتباعه وأهل دينه " * (إنا لمنجوهم أجمعين) *).
قرأ أهل الحجاز وعاصم وأبو عمرو: (لمنجوهم) بالتشديد، وإختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وخففه الآخرون.
" * (إلا امرأته) *) سوى امرأة لوط " * (قدرنا) *) قضينا " * (إنها لمن الغابرين) *) الباقين في العذاب، وخفف ابن كثير قدرنا.
قال أبو عبيد: استثنى آل لوط من القوم المجرمين، ثم استثنى امرأته من آل لوط فرجعت امرأته في التأويل إلى القوم المجرمين، لأنه استثناء مردود على استثناء، وهذا كما تقول في الكلام: لي عليك عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما، فلك عليه سبعة دراهم؛ لأنك لما قلت: إلا أربعة، كان لك عليه ستة، فلما قلت: إلا درهما كان هذا استثناء من الأربعة فعاد إلى الستة فصار سابعا.
" * (فلما جاء آل لوط المرسلون قال) *) لوط لهم " * (إنكم قوم منكرون) *) يعني لا أعرفكم " * (قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون) *) يعني يشكون إنه ينزل بهم وهو العذاب " * (وأتيناك بالحق) *) وجئناك باليقين، وقيل: بالعذاب " * (وإنا لصادقون) *) في قولنا " * (فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم) *) أي كن ورائهم وسر خلفهم " * (ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون) *).
قال ابن عباس: يعني الشام. وقال خليل: يعني مصدر.
" * (وقضينا إليه ذلك الأمر) *) يعني وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر، وأخبرناه " * (أن دابر هؤلاء) *).
يدل عليه قراءة عبد الله: وقلنا له إن دابر هؤلاء، يعني أصلهم، " * (مقطوع) *) مستأصل " * (مصبحين) *) في وقت الصبح إذ دخلوا فيه " * (وجاء أهل
المدينة) *) يعني سدوم " * (يستبشرون) *)
345

بأضياف لوط طمعا منهم في ركوب الفاحشة " * (قال) *) لوط لقومه " * (إن هؤلاء ضيفي) *) وحق على الرجل بإكرام ضيفه " * (فلا تفضحون) *) فيهم " * (واتقوا الله ولا تخزون) *) فلا تهينون ولا تخجلون، يجوز أن يكون من الخزي، ويحتمل أن يكون الخزاية " * (قالوا أو لم ننهك عن العالمين) *) أولم ننهك أن تضيف أحدا من العالمين.
" * (قال هؤلاء بناتي) *) أزوجهن إياكم إن أسلمتم فأتوا النساء الحلال ودعوا ما حرم الله عليكم من إتيان الرجال " * (إن كنتم فاعلين) *) ما أمركم به.
قال قتادة: أراد أن يقي أضيافه ببناته، وقيل: رأى أنهم سادة إليهم يؤول أمرهم فأراد أن يزوجهم بناته ليمنعوا قومهم من التعرض لأضيافه، وقيل: أراد بنات أمته لأن النبي (أب) لامته، قال الله " * (لعمرك) *) يا محمد يعني وحياتك.
وفيه لغتان: وعمر وعمر.
يقول العرب: عمرك وعمرك.
" * (إنهم لفي سكرتهم) *) ضلالتهم وحيرتهم " * (يعمهون) *) يترددون.
قاله مجاهد، وقال قتادة: يلعبون.
ابن عباس: يتمادون.
أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: فالخلق لله عز وجل ولا برأ ولا ذرأ نفسا أكرم عليه من محمد، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلا حياته قال: * (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) * * (فأخذتهم الصيحة مشرقين) *) حيت أشرقت الشمس، أي أضاءت، وهو نصب على الحال " * (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين) *) قال ابن عباس والضحاك: للناظرين.
مجاهد: للمتفرسين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) ثم قرأ هذه الآية.
وقال الشاعر:
توسمته لما رأيت مهابة
عليه وقلت المرء من آل هاشم
وقال آخر
346

أو كلما وردت عكاظ قبيلة
بعثوا إلي عريفهم يتوسم
وقال قتادة: للمعتبرين.
" * (وإنها) *) يعني قرى قوم لوط " * (لبسبيل مقيم) *) بطريق واضح.
قاله قتادة، ومجاهد، والفراء، والضحاك: بطريق معلم ليس بخفي ولا زائغ.
" * (إن في ذلك لاية للمؤمنين وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين) *) وقد كان أصحاب الغيضة لكافرين، وهم قوم شعيب كانوا أصحاب غياض ورياض وشجر متناوش متكاوش ملتف وكانوا يأكلون في الصيف الفاكهة الرطبة وفي الشتاء اليابسة وكان عامة شجرهم الدوم وهو المقل " * (فانتقمنا منهم) *) بالعذاب، وذلك أن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام لايمنعهم منه شيء، فبعث الله عليهم سحابة فالتجأوا إلى ظلها يلتمسون روحها فبعث الله عليهم منها نارا فأحرقتهم فذلك قوله: * (فأخذهم عذاب يوم الظلة) * * (وإنهما) *) يعني مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب الأيكة " * (لبإمام مبين) *) طريق مستبين، وسمي الطريق إماما لأنه يؤتم به.
" * (ولقد كذب أصحاب الحجر) *) أي الوادي، وهو مدينة ثمود وقوم صالح وهي فيما بين المدينة والشام " * (المرسلين) *) أراد صالحا وحده.
عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله قالا: مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذرا بأن يصيبكم مثل ما أصابهم) ثم قال: (هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلا رجلا في حرم الله منعه حرم الله من عذاب الله) قيل: من هو يا رسول الله؟ قال: (أبو رغال) ثم زجر صلى الله عليه وسلم فأسرع حتى خلفها.
" * (وآ تيناهم آياتنا) *) يعني الناقة وولدها و (السير) * * (فكانوا عنها معرضين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين) *) من الخراب ووقوع الجبل عليهم " * (فأخذتهم الصيحة) *) يعني صيحة العذاب والهلاك " * (مصبحين) *) في وقت الصبح وهو نصب على الحال " * (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) *) من الشرك والأعمال الخبيثة. " * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لاتية) *) وإن القيامة لجائية " * (فاصفح الصفح الجميل) *) فأعرض عنهم واعف عفوا حسنا، نسختها آية القتال.
" * (إن ربك هو الخلاق العليم) *))
.
347

2 (* (ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم * لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين * وقل إنىأنا النذير المبين * كمآ أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرءان عضين * فوربك لنسئلنهم أجمعين * عما كانوا يعملون * فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزءين * الذين يجعلون مع الله إلاها ءاخر فسوف يعملون * ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) *) 2
" * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) *) اختلفوا فيه.
روى عبد الوهاب عن ابن مسعود عن أبي نصر عن رجل من عبد القيس يقال له جابر أو جويبر عن ابن مسعود أن عمر قال: السبع المثاني هي فاتحة الكتاب.
روى إسماعيل السدي عن عبد خير عن علي (ح) * * (ولقد آتيانك سبعا من المثاني) *) قال: فاتحة الكتاب.
عن ابن سيرين أن ابن مسعود قال في السبع المثاني: فاتحة الكتاب، والقرآن العظيم سائر القرآن.
وعن عبد الرحمن عن أحمد الطابقي قال: أتيت أبا هريرة وهو في المسجد فقرأت عليه فاتحة القرآن.
فقال أبو هريرة: هذه السبع المثاني.
شعبة عن قتادة في قوله: " * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) *)، قال: هي فاتحة الكتاب.
وسمعت الكلبي يقول: هي أم الكتاب.
ابن جريج عن عطاء في قوله تعالى " * (سبعا من المثاني) *) قال: هي أم القرآن والآية السابعة " * (بسم الله الرحمن الرحيم) *).
وهذا قول الحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير وإبراهيم وابن أبي مليكة وعبد الله بن عبيد ابن عمرو ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وصالح الحنفي قاضي مرو.
ويدل عليه ما روى أبو سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحمد لله رب العالمين سبع آيات إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم وهي السبع المثاني وهي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب)
348

وروى ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم).
وروى حفص بن عاصم عن أبي سعيد المعلى عن أبي بن كعب قال: كنت أصلي فناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أجبه، فلما صليت أتيته، فقال: (ما منعك أن تجيبني)؟ قلت: كنت أصلي، قال: (أولم يقل الله: " * (يا أيها الذين آمنوا أستجيبوا لله وللرسول) *)) الآية.
ثم قال: (لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن نخرج من المسجد) فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن.
قال: (نعم، الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت).
وعن أبي هريرة قال: قرأ أبي بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أم القرآن. فقال: (والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت).
عن ابن جريج قال: أخبرني أبي أن سعيد بن جبير أخبره فقال له: " * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) *)، قال: هي أم القرآن، قال: هي، وقرأ علي سعيد بن جبير بسم الله الرحمن الرحيم حتى ختمها، ثم قال: بسم الله الرحمن الآية السابعة.
قال سعيد بن جبير: لأبي: وقرأ علي ابن عباس كما قرأتها عليك، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة:
قال ابن عباس: قد ادخرها الله لكم فما أخرجها لأحد قبلكم.
فقلت: هذه إختيار الصحاح إن السبع المثاني هي فاتحة الكتاب، وأن الله تعالى امتن على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة كما امتن عليه بجميع القرآن، وقيل: نزلت هذه السورة في (خيبر).
وفي هذا دليل على إن الصلاة لا تجوز إلا بها ويؤيد ما قلنا ما روى الزهري عن محمد بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فاتحة الكتاب عوض من كل القرآن، والقرآن كله ليس منه عوض).
واختلف العلماء في حديث آيات هذه السورة مثاني، فقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع: لأنها تثنى في كل صلاة وفي كل ركعة.
349

وقال بعضهم: سميت مثاني لأنها مقسومة بين الله وبين العبد قسمين اثنين، بيانه والذي يدل عليه ما روى أبو السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج غير تمام).
قال أبو السائب لأبي هريرة: إني أحيانا أكون وراء الامام.
قال: فغمز أبو هريرة ذراعي، وقال: يافارسي إقرأها في نفسك إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرؤا، يقول: العبد: الحمد لله رب العالمين، فيقول الله: حمدني عبدي، ويقول العبد: الرحمن الرحيم، فيقول الله: أثنى علي عبدي، فيقول العبد: مالك يوم الدين، فيقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذه الآية بيني وبين عبدي، يقول العبد: اهدنا الصراط إلى آخره، يقول الله: فهذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
ويقال: سميت (مثاني) لأنها منقسمة إلى قسمين: نصفها ثناء ونصفها دعاء، ونصفها حق الربوبية ونصفها حق العبودية، وقيل: لأن ملائكة السماوات يصلون الصلوات بها، كما أن أهل الأرض يصلون بها. وقيل: لأن حروفها وكلماتها مثناة، ومثل الرحمن الرحيم، إياك واياك، الصراط الصراط، عليهم عليهم، غير غير، في قراءة عمر.
وقال الحسين بن الفضل وغيره: لأنها تقرأ مرتين كل مرة معها سبعون ألف ملك، مره بمكة من أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة، والسبب هو أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود بني قريضة والنضير في يوم واحد وفيها أنواع من البز وأوعية (وأفاوية) الطيب والجواهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله فأنزل الله تعالى هذه السورة.
وقال: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل، ودليل هذه التأويل قوله في عقبها: " * (ولا تمدن عينيك) *) الآية.
وقيل: لأنها متصدرة بالحمد، والحمد كل كلمة تكلم بها آدم حين عطس وهي آخر كلام أهل الجنة من ذريته، قال الله: " * (وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين) *).
350

وقيل: لأن الله استثناها وادخرها لهذه الأمة فما أعطاها غيرهم، كما روينا في خبر سعيد ابن جبير عن ابن عباس.
وقال أبو زيد اللخمي: لأنها تثني أهل الدعارة والشرارة عن الفسق والبطالة من قول العرب ثنيت عنائي، قال الله: " * (ألا إنهم يثنون صدورهم) *).
وقيل: لأن أولها ثناء على الله عز وجل.
وقال قوم: إن السبع المثاني هو السبع الطوال، وهي: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة معا.
وقال بعضهم: يونس، وعليه أكثر المفسرين.
روى سفيان عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: " * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) *)، قال: السبع الطوال.
سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: " * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) *) قال: هو السبع الطوال.
وهو قول عمر، ورواية أبي بشر وجعفر بن المغيرة ومسلم البطين عن سعيد بن جبير، ورواية ليث وابن أبي نجيح عن مجاهد، ورواية عبيد بن سليمان عن الضحاك. يدل عليه ما روى أبو أسماء الرحبي عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المبين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصل).
وروى الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم السبع المثاني الطوال، وأعطي موسى ستا فلما ألقى الألواح رفعت اثنان وبقي أربع.
روى عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ السبع الأول فهو حبر).
قال ابن عباس: وإنما سميت السبع الطوال مثاني؛ لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر تثبت فيه.
طاوس وأبو مالك: القرآن كله مثاني، وهي رواية العوفي عن ابن عباس قال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: " * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني) *) وسمي القرآن مثاني لأن القصص ثبتت فيه.
351

وعلى هذا القول المراد بالسبع سبعة أسباع القرآن. ويكون فيه إضمار تقديره: وهي للقرآن العظيم.
فاحتج بقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
مجازة: الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة في المزدحم.
وروى عتاب بن بشر عن حنيف عن زياد بن أبي مريم في قوله: " * (سبعا من المثاني) *) قال: أعطيتك سبعة أجزاء وهي سبع معان في القرآن: مر، وانه، وبشر، وأنذر، واضرب الأمثال وأعدد النعم، وآتيتك نبأ القرآن.
" * (لا تمدن عينيك) *) يا محمد " * (إلى ما متعنا به أزواجا) *) أصنافا " * (منهم) *) من الكفار متمنيا إياها. نهى رسوله عن الرغبة في الدنيا.
وقال أنس: مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم إبل أيام الربيع وقد حبست في أبعارها وأبوالها. فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عينه بكمه وقال: (بهذا أمرني ربي) ثم تلا هذه الآية.
" * (واخفض جناحك) *) لين جانبك " * (للمؤمنين) *) وارفق بهم.
والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه قوله: " * (واضمم يدك إلى جناحك) *) أي جنبك وناحيتك.
" * (وقل إني أ نا النذير المبين كما أ نزلنا) *)، قال الفراء: مجازه: أنذركم عذابا " * (على المقتسمين) *). فاختلفوا فيهم.
فروى الأعمش عن أبي ظبيان قال: سمعت ابن عباس يقول في قوله: (كما أنزلنا على المقتسمين، قال: هم اليهود والنصارى.
" * (الذين جعلوا القرآن عضين) *) جزأوه فجعلوه أعضاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
وقال عكرمة: سموا مقتسمين لأنهم كانوا يستهزؤن فيقول بعضهم: هذه السورة لي. وقال بعضهم: هذه لي، فيقول أحدهم: لي سورة البقرة، ويقول الآخر: لي سورة آل عمران.
وقال مجاهد: هم اليهود والنصارى، قسموا كتابهم ففرقوه وبددوه.
وقال مقاتل: كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا عقاب
352

مكة وطرقها وقعدوا على أبوابها وأبقابها وإذا جاء الحجاج، قال فريق منهم: لا تغتروا بخارج منا يدعي النبوة فإنه مجنون.
وقالت طائفة أخرى: على طريق آخر أنه كاهن.
وقالت طائفة: عراف. وقالت طائفة شاعر، والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكما، فإذا سئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صدق لوليك المقتسمين.
وقال مقاتل بن حيان: هم قوم اقتسموا القرآن، فقال بعضهم: سحر، وقال بعضهم: سمر، وقال بعضهم: كذب. وقال بعضهم: شعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين.
وقال بعضهم: هم الذين تقاسموا صالح وأرادوا تبييته.
وقرأ قول الله: " * (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا بالله) *) الآية.
" * (الذين جعلوا القرآن عضين) *) يعني عضوا كتاب الله ونبيه وأمره ونهيه أي كذبوا.
وقوله: " * (عضين) *)، قال بعضهم: هو جمع عضو وهو مأخوذ من قولهم عضيت يعضيه إذا فرقته.
وقال رؤبة:
وليس دين الله بالمعضى
يعني: بالمفرق.
وقال آخر:
وعضى بني عوف، فأما عدوهم
فأرضي وأما العز منهم فغيرا
يعني بقوله عضني بني عوف: سباهم وقطعهم بلسانه.
وقال آخرون: بل هو جمع عضة، يقال: عضه وعضين. مثل يره ويرين، وكرة وكرين، وقلة وقلين، وعزة وعزين، وأصله عضهه ذهبت هاؤها الأصلية كما نقصوا الهاء من الشفة وأصلها شفهه ومن الشاة وأصلها شاهه يدلك على ذلك التصغير تقول: شفيهة وغويهة، ومعنى العضة: الكذب والبهتان، وفي الحديث: (لايعضه بعضكم بعضا)
353

" * (فوربك لنسأ لنهم أجمعين) *) يوم القيامة " * (عما كانوا يعملون) *) في الدنيا.
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: (عن لا إله إلا الله).
قال عبد الله: والذي لا إله غيره مامنكم من أحد إلا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة، (كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر) فيقول: يا بن آدم ماذا غرك مني، يا بن آدم ما عملت فيما علمت، يا بن آدم ماذا أجبت المرسلين.
واعترضت الملحدة بأبصار كليلة وأفهام عليلة على هذه الآية على قوله: " * (فيومئذ لا يسأل عن ذ نبه إنس ولا جان) *) وحكموا عليهما بالتناقض.
والجواب عنه: ما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: " * (لنسأ لنهم أجمعين عما كانوا يعملون) *) وقوله: " * (فيومئذ لا يسأل عن ذ نبه إنس ولا جان) *). قال: لانسألهم هل عملتم كذا وكذا، لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لهم: لم عملتم كذا وكذا؟
واعتمد قطرب هذا القول، وقال: السؤال على ضربين: سؤال استعلام واستخبار، وسؤال توبيخ وتقرير. فقوله: " * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه) *) يعني استعلاما واستخبارا، لأنه كان عالما بهم قبل أن يخلقهم. وقوله: " * (لنسألنهم أجمعين) *) يعني تقريعا وتقريرا ليريهم القدرة في تعذيبنا إياهم.
وقال عكرمة: سألت مولاي عبد الله بن عباس عن الآيتين، فقال: إن يوم القيامة يوم طويل وفيه مواقف، يسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها. ونظيره قوله: " * (هذا يوم لا ينطقون) *) وقال في آية أخرى: " * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) *).
وقال بعضهم: " * (فيومئذ لا يسأل) *) إذا كان المذنب مكرها مضطرا، و " * (لنسألنهم) *) إذا كانوا مختارين، وقيل: لا يسأل إذا كان الذنب في حال الصبى
أو الجنون أو النوم، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاث) وقولهم: لنسألنهم، إذا كان عملهم خارجا من هذه الأحوال، وقيل: لا يسأل إذا كان الذنب في حال الكفر
354

وقوله: " * (لنسألنهم) *) يعني المؤمنين، بيانه قوله: " * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *) وقوله صلى الله عليه وسلم (إن الاسلام يجب ما قبله).
" * (فاصدع) *).
قال ابن عباس: أظهر. الوالبي عنه: فاقض.
عطية عنه: افعل. الضحاك: اعلم، الأخفش: أفرق، المؤرج: افصل، سيبويه: اقض.
" * (بما تؤمر) *) يعني بأمرنا (ما) المصدر.
وأصل الصدع: الفصل والفرق.
قال ذؤيب يصف الحمار والأتن:
وكأنهن ربابة وكأنه
يسر يفيض على القداح ويصدع
(وقيل): أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإضهار الدعوة.
روى موسى عن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت " * (فأصدع بما تؤمر) *) فخرج هو وأصحابه.
وقال مجاهد: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة.
" * (وأعرض عن المشركين) *) لا تبال بهم " * (إنا كفيناك المستهزئين) *).
يقول الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم فاصدع بأمر الله ولا تخف شيئا سوى الله فإن الله كافيك من عاداك وآذاك كما كفاك المستهزئين وهم من قريش ورؤسائهم خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، و عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان رأسهم، والعاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعيد بن سهم، والأسود بن المطلب بن الحرث بن (أسد) بن عبد العزى أبو زمعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه فقال: (اللهم أعم بصره وأثكله بولده) والأسود بن عبد يغوث بن وهب ابن عبد مناف بن زهرة، والحرث بن قيس بن الطلاطلة فإنه عيطل.
فأتى جبرئيل محمدا صلى الله عليه وسلم والمستهزئون يطوفون بالبيت، فقام جبرئيل وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه فمر به الوليد بن المغيرة، فقال جبرئيل: يا محمد كيف تجد هذا، قال: بئس عبد الله
355

قال: (قد كفيت) وأومأ إلى ساقه ويده، فمر برجل من خزاعة (نبال) يريش نبلا له وعليه برد يمان وهو يجر إزاره فتعلقت شظية من نبل بإزاره فمنعه الكبر أن يطمئن ونبذ عمامته وجعلت تضرب ساقه فخدشته فمرض منه ومات.
وقال الكلبي: تعلق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه فمات.
ومر به العاص بن وائل، فقال جبرئيل: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال: (بئس عبد الله)، فأشار جبرئيل لأخمص رجله وقال: (قد كفيت) وقد خرج على راحلته ومعه اثنان يمنعانه فنزل شعبا من تلك الشعاب فوطيء على شرقة فدخلت منها شوكة في أخمص رجله، فقال: الوقت لدغت. فطلبوا ولم يجدوا شيئا فأنتفخت رجله حتى صارت مثل عنق بعير فمات مكانه.
ومر به الأسود بن عبد المطلب، فقال جبرئيل: كيف تجد هذا يا محمد؟
قال: (عبد سوء) فأشار إلى عينه، وقال: (قد كفيت) فعمى (194).
قال ابن عباس: رماه جبرئيل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى هلك.
وفي رواية الكلبي: أتاه جبرئيل وهو قاعد في ظل شجرة ومعه غلام له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك وإستغاث بغلامه، فقال غلامه: لا أرى أحدا يصنع بك شيئا غير نفسك حتى مات وهو يقول: قتلني رب محمد.
ومر به الأسود بن عبد يغوث فقال جبرئيل: كيف تجد هذا؟ فقال: (بئس عبد الله، على أنه خالي)، فقال: قد كفيت، وأشار إلى بطنه فشق بطنه فمات حينها.
وفي رواية الكلبي: أنه خرج من أهله فأصابه السموم فاسود حتى عاد حبشيا فأتى أهله فلم يعرفوه فأغلقوا دونه الباب وهو يقول: قتلني رب محمد.
ومر به الحرث بن قيس، فقال جبرئيل (عليه السلام): يا محمد كيف تجد هذا؟ قال: (عبد سوء) فأومأ إلى رأسه وقال: قد كفيت، فأمتخط قيحا فقتله.
وقال ابن عباس: إنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب عليه من الماء حتى اتقد بطنه فمات، فذلك قوله تعالى: " * (إنا كفيناك المستهزئين) *) يعنى بك وبالقرآن
356

" * (الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون) *) وعيدهم " * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك) *).
قال ابن عباس: فصل يا محمد لربك.
" * (وكن من الساجدين) *) المتواضعين.
وقال الضحاك: " * (فسبح بحمد ربك) *) قل سبحان الله وبحمده " * (وكن من الساجدين) *) أي المصلين.
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة.
" * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) *) يعني الموت، ومجازه: الموفق به.
روى يونس بن زيد عن ابن شهاب: أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره عن أم العلاء امرأة من الأنصار قد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة قالت: فصار لنا عثمان ابن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي مات فيه، فلما توفي وغسل وكفن في ثوبه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا عثمان بن مظعون رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما يدريك أن الله أكرمه) قالت: فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما هو فقد جاءه اليقين ووالله إني لأرجو له الخير).
قالوا: فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
357