الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ١٥
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

* (سأصرف عن ءاياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله: * (سأريكم دار الفاسقين) * (الأعراف: 145) ذكر في هذه الآية ما يعاملهم به فقال: * (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض) * واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وذلك ظاهر، وقالت المعتزلة: لا يمكن حمل الآية على ما ذكرتموه ويدل عليه وجوه:
الوجه الأول: قال الجبائي لا يجوز أن يكون المراد منه أنه تعالى يصرفهم عن الإيمان بآياته لأن قوله: * (سأصرف) * يتناول المستقبل وقد بين تعالى أنهم كفروا فكذبوا من قبل هذا الصرف، لأنه تعالى وصفهم بكونهم متكبرين في الأرض بغير الحق وبأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا، فثبت أن الآية دالة على أن الكفر قد حصل لهم في الزمان الماضي، فهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر بالله.
الوجه الثاني: أن قوله: * (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض) * مذكور على وجه العقوبة على التكبر والكفر، فلو كان المراد من هذا الصرف هو كفرهم، لكان معناه أنه تعالى
2

خلق فيهم الكفر عقوبة لهم على إقدامهم على الكفر، ومعلوم أن العقوبة على الكفر بمثل ذلك الفعل المعاقب عليه لا يجوز، فثبت أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر.
الوجه الثالث: أنه لو صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه فكيف يمكن أن يقول مع ذلك * (فما لهم لا يؤمنون) * (الانشقاق: 20)، * (فما لهم عن التذكرة معرضين) * (المدثر: 49) *، * (وما منع الناس أن يؤمنوا) * (الإسراء: 94، الكهف: 55) فثبت أن حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن فوجب حملها على وجوه أخرى.
فالوجه الأول: قال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني: إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه، ومعنى صرفهم إهلاكهم فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ولا على منع المؤمنين من الإيمان به، وهو شبيه بقوله: * (بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 67) فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة.
والوجه الثاني: في التأويل ما ذكره الجبائي فقال: سأصرف هؤلاء المتكبرين على نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدين للأنبياء والمؤمنين، وإنما يصرفهم عن ذلك بواسطة إنزال الذل والإذلال بهم، وذلك يجري مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله.
والوجه الثالث: أن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان. فإذا كفروا فقد صيروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بتلك الآيات، فحينئذ يصرفهم الله عنها.
والوجه الرابع: أن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها، فإذا علم الله ذلك منه، صح من الله تعالى أن يصرفه عنه.
والوجه الخامس: نقل عن الحسن أنه قال: إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه، فالمراد من قوله: * (سأصرف عن آياتي) * هؤلاء. فهذا جملة ما قيل في هذا الباب، وظهر أن هذه الآية ليس فيها دلالة قوية على صحة ما يقول به في مسألة خلق الأعمال. والله أعلم.
المسألة الثانية: معنى يتكبرون: أنهم يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم وهذه الصفة أعني التكبر لا تكون إلا لله تعالى، لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد فلا جرم يستحق كونه متكبرا، وقال بعضهم: التكبر: إظهار كبر النفس على غيرها. وصفة التكبر صفة ذم في جميع العباد، وصفة مدح في الله جل جلاله، لأنه يستحق إظهار ذلك على من سواه لأن ذلك في حقه حق. وفي حق غيره باطل.
3

واعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية قوله: * (بغير الحق) * لأن إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحق، فإن للمحق أن يتكبر على المبطل، وفي الكلام المشهور التكبر على المتكبر صدقة.
أما قوله تعالى: * (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) * ففيه مباحث:
البحث الأول: قرأ حمزة والكسائي: * (الرشد) * بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وسكون الشين. وفرق أبو عمرو بينهما فقال: * (الرشد) * بضم الراء الصلاح لقوله تعالى: * (فإن آنستم منهم رشدا) * (النساء: 6) أي صلاحا، و * (الرشد) * بفتحهما الاستقامة في الدين. قال تعالى: * (مما علمت رشدا) * (الكهف: 66) وقال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد، مثل الحزن والحزن، والسقم والقسم، وقيل: * (الرشد) * بالضم الاسم، وبالفتحتين المصدر.
البحث الثاني: * (سبيل الرشد) * عبارة عن سبيل الهدى والدين الحق والصواب في العلم والعمل و * (سبيل الغي) * ما يكون مضادا لذلك، ثم بين تعالى أن هذا الصرف إنما كان لأمرين: أحدهما: كونهم مكذبين بآيات الله. والثاني: كونهم غافلين عنها، والمراد أنهم واظبوا على الإعراض عنها حتى صاروا بمنزلة الغافل عنها. والله أعلم.
قوله تعالى (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون).
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما لأجله صرف المتكبرين عن آياته بقوله (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا
وكانوا عنها غافلين) بين حال أولئك المكذبين، فقد كان يجوز أن يظن أنهم يختلفون في باب العقاب
لان فيهم من يعمل بعض أعمال البر، فبين تعالى حال جميعهم سواء كان متكبرا أو متواضعا أو كان
قليل الاحسان، أو كان كثير الاحسان، فقال (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة) يعنى بذلك
جحدهم للميعاد وجراءتهم على المعاصي، فبين تعالى أن أعمالهم محبطة، والكلام في حقيقة الاحباط
قد تقدم في سورة البقرة على الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى (هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) وفيه حذف والتقدير: هل يجزون إلا بما
كانوا يعملون؟ أو على ما كانوا يعملون. احتج أصحابنا بهذه الآية على فساد قول أبى هاشم في أن
تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد أن لا يفعل الواجب، وإن لم يصدر منه فعل عند ذلك الواجب
قالوا: هذه الآية تدل على أنه لاجزاء إلا على العمل، وليس ترك الواجب يعمل، فوجب أن لا يجازى
4

* (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا تخذوه وكانوا ظالمين) *.
عليه، فثبت أن الجزاء انما حصل على فعل ضده. وأجاب أبو هاشم، بأني لا أسمى ذلك العقاب
جزاء. فسقط الاستدلال.
وأجاب أصحابنا عن هذا الجواب: بأن الجزاء إنما سمى جزاء لأنه يجزى ويكفى في المنع من
النهى، وفى الحث على المأمور به فان ترتب العقاب على مجرد ترك الواجب كان ذلك العقاب كافيا
في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء فثبت أنه لا سبيل إلى الامتناع من تسميته جزاء... والله أعلم.
قوله تعالى (واتخذ قوم موسى من بعده من حليم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم
ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين
اعلم أن المراد من هذه الآية قصة اتخاذ السامري العجل، وفيها مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: * (حليهم) * بكسر الحاء واللام وتشديد الياء للاتباع كدلي. والباقون: * (حليهم) * بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمع حلي كثدي وثدي، وقرأ بعضهم: * (من حليهم) * على التوحيد، والحلي اسم ما يتحسن به من الذهب والفضة.
المسألة الثانية: قيل: إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فاستعاروا حلي القبط لذلك اليوم، فلما أغرق الله القبط بقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل، فجمع السامري تلك الحلي وكان رجلا مطاعا فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلاها يعبدونه، فصاغ السامري عجلا. ثم اختلف الناس، فقال قوم كان قد أخذ كفا من تراب حافر فرس جبريل عليه السلام فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحما ودما وظهر منه الخوار مرة واحدة. فقال السامري: هذا إلهكم وإله موسى! وقال أكثر المفسرين من المعتزلة: إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوفا ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص، وكان قد وضع ذلك التمثال على مهب الرياح، فكانت الريح تدخل في جوف الأنابيب ويظهر منه صوف مخصوص يشبه خوار العجل، وقال آخرون: إنه جعل ذلك التمثال أجوب، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار. قال صاحب هذا القول والناس قد يفعلون الآن في هذه التصاوير التي يجرون فيها الماء على سبيل الفوارات ما يشبه ذلك، فبهذا الطريق وغيره أظهر الصوت من ذلك التمثال، ثم ألقى إلى الناس
5

أن هذا العجل إلههم وإله موسى. بقي في لفظ الآية سؤالات:
السؤال الأول: لم قيل: * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا) * والمتخذ هو السامري وحده؟.
والجواب: فيه وجهان: الأول: أن الله نسب الفعل إليهم، لأن رجلا منهم باشره كما يقال: بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد. والثاني: أنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم اجتمعوا عليه.
السؤال الثاني: لم قال: * (من حليهم) * ولم يكن الحلي لهم، وإنما حصل في أيديهم على سبيل العارية؟.
والجواب: أنه تعالى لما أهلك قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم، وصارت ملكا لهم كسائر أملاكهم بدليل قوله تعالى: * (كم تركوا من جنات وعيون) * (الدخان: 25)، * (وكنوز ومقام كريم) * (الشعراء: 58)، * (ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين) * (الدخان: 27، 28).
السؤال الثالث: هؤلاء الذين عبدوا العجل هم كل قوم موسى أو بعضهم؟.
والجواب: أن قوله تعالى: * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا) * يفيد العموم. قال الحسن: كلهم عبدوا العجل غير هارون. واحتج عليه بوجهين: الأول: عموم هذه الآية، والثاني: قول موسى عليه السلام في هذه القصة * (رب اغفر لي ولأخي) * قال خص نفسه وأخاه بالدعاء، وذلك يدل على من كان مغايرا لهما ما كان أهلا للدعاء ولو بقوا على الإيمان لما كان الأمر كذلك، وقال آخرون: بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه فإن ذلك الكفر إنما وقع في قوم
مخصوصين، والدليل عليه قوله تعالى: * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * (الأعراف: 181).
السؤال الرابع: هل انقلب ذلك التمثال لحما ودما على ما قاله بعضهم أو بقي ذهبا كما كان قبل ذلك؟.
والجواب: الذاهبون إلى الاحتمال الأول احتجوا على صحة قولهم بوجهين: الأول: قوله تعالى: * (عجلا جسدا له خوار) * والجسد اسم للجسم الذي يكون من اللحم والدم، ومنهم من نازع في ذلك وقال بل الجسد اسم لكل جسم كثيف، سواء كان من اللحم والدم أو لم يكن كذلك.
والحجة الثانية: أنه تعالى أثبت له خوارا، وذلك إنما يتأتى في الحيوان. وأجيب عنه: بأن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لم يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه، وقرأ علي رضي الله عنه: (جؤار) بالجيم والهمزة، من جأر إذا صاح فهذا ما قيل في هذا الباب.
6

واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا المذهب والمقالة احتج على فساد كون ذلك العجل إلها بقوله: * (ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين) * وتقرير هذا الدليل أن هذا العجل لا يمكنه أن يكلمهم ولا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب والرشد، وكل من كان كذلك كان إما جمادا وإما حيوانا عاجزا، وعلى التقديرين فإنه لا يصلح للإلهية، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن من لا يكون متكلما ولا هاديا إلى السبيل لم يكن إلها لأن الإله هو الذي له الأمر والنهي، وذلك لا يحصل إلا إذا كان متكلما، فمن لا يكون متكلما لم يصح منه الأمر والنهي، والعجل عاجز عن الأمر والنهي فلم يكن إلها. وقالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن شرط كونه إلها أن يكون هاديا إلى الصدق والصواب، فمن كان مضلا عنه وجب أن لا يكون إلها.
فإن قيل: فهذا يوجب أنه لو صح أن يتكلم ويهدي، يجوز أن يتخذ إلها، وإلا فإن كان إثبات ذلك كنفيه في أنه لا يجوز أن يتخذ إلها فلا فائدة فيما ذكرتم.
والجواب من وجهين: الأول: لا يبعد أن يكون ذلك شرطا لحصول الإلهية، فيلزم من عدمه عدم الإلهية وإن كان لا يلزم من حصوله حصول الإلهية. الثاني: أن كل من قدر على أن يكلمهم وعلى أن يهديهم إلى الخير والشر فهو إله، والخلق لا يقدرون على الهداية، إنما يقدرون على وصف الهداية، فأما على وضع الدلائل ونصبها فلا قادر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.
واعلم أنه ختم الآية بقوله: * (وكانوا ظالمين) * أي كانوا ظالمين لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى واشتغلوا بعبادة العجل. والله أعلم.
* (ولما سقط فى أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين) *.
اعلم أنهم اتفقوا على أن المراد من قوله: * (سقط في أيديهم) * أنه اشتد ندمهم على عبادة العجل واختلفوا في الوجه الذي لأجله حسنت هذه الاستعارة.
فالوجه الأول: قال الزجاج: معناه سقط الندم في أيديهم، أي في قلوبهم كما يقال حصل في يديه مكروه، وإن كان من المحال حصول المكروه الواقع في اليد، إلا أنهم أطلقوا على المكروه الواقع في القلب والنفس كونه واقعا في اليد، فكذا ههنا.
7

والوجه الثاني: قال صاحب " الكشاف ": إنما يقال لمن ندم سقط في يده لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده غما، فيصير ندمه مسقوطا فيها، لأن فاه قد وقع فيها.
والوجه الثالث: أن السقوط عبارة عن نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ولهذا قالوا سقط المطر، ويقال: سقط من يدك شيء وأسقطت المرأة، فمن أقدم على عمل فهو إنما يقدم عليه لاعتقاده أن ذلك العمل خير وصواب، وأن ذلك العمل يورثه شرفا ورفعة، فإذا بان له أن ذلك العمل كان باطلا فاسدا فكأنه قد انحط من الأعلى إلى الأسفل وسقط من فوق إلى تحت، فلهذا السبب يقال للرجل إذا أخطأ: كان ذلك منه سقطة، شبهوا ذلك بالسقطة على الأرض، فثبت أن إطلاق لفظ السقوط على الحالة الحاصلة عند الندم جائز مستحسن، بقي أن يقال: فما الفائدة في ذكر اليد؟ فنقول: اليد هي الآلة التي بها يقدر الإنسان على الأخذ والضبط والحفظ، فالنادم كأنه يتدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم ويشتغل بتلافيها، فكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث إن بعد حصول ذلك الندم اشتغل بالتدارك والتلافي.
والوجه الرابع: حكى الواحدي عن بعضهم: أن هذا مأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج. يقال: منه سقطت الأرض كما يقال: من الثلج ثلجت الأرض وثلجنا أي أصابها الثلج، ومعنى سقط في يده أي وقع في يده السقيط، والسقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى، فمن وقع في يده السقيط لم يحصل منه على شيء قط فصار هذا مثلا لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من سعيه على طائل، وكانت الندامة آخر أمره.
والوجه الخامس: قال بعض العلماء: النادم إنما يقال له سقط في يده، لأنه يتحير في أمره ويعجز عن أعماله والآلة الأصلية في الأعمال في أكثر الأمر هي اليد. والعاجز في حكم الساقط فلما قرن السقوط بالأيدي علم أن السقوط في اليد إنما حصل بسبب العجز التام ويقال في العرف لمن لا يهتدي لما يصنع، ضلت يده ورجله.
والوجه السادس: إن من عادة النادم أن يطأطئ رأسه ويضعه على يده معتمدا عليه وتارة يضعها تحت ذقنه، وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه فكانت اليد مسقوط فيها لتمكن السقوط فيها ويكون قوله سقط في أيديهم بمعنى سقط على أيديهم، كقوله: * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) * (71) أي عليها، والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (ورأوا أنهم قد ضلوا) * أي قد تبينوا ضلالهم تبيينا كأنهم أبصروه بعيونهم قال القاضي: يجب أن يكون المؤخر مقدما لأن الندم والتحير إنما يقطعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال:
8

ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة، ويمكن أن يقال إنه لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير، وذلك لأن الإنسان إذا صار شاكا في أن العمل الذي أقدم عليه هل هو صواب أو خطأ؟ فقد يندم عليه من حيث إن الإقدام على ما لا يعلم كونه صوابا أو خطأ فاسدا أو باطلا غير جائز، فعند ظهور هذه الحالة يحصل الندم، ثم بعد ذلك يتكامل العلم ويظهر أنه كان خطأ وفاسدا وباطلا فثبت أن على هذا التقدير لا حاجة إلى التزام التقديم والتأخير. ثم بين تعالى أنهم عند ظهور هذا الندم
وحصول العلم بأن الذي عملوه كان باطلا أظهروا الانقطاع إلى الله تعالى ف * (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين) * وهذا كلام من اعترف بعظيم ما أقدم عليه وندم على ما صدر منه ورغب إلى ربه في إقالة عثرته، ثم صدقوا على أنفسهم كونهم من الخاسرين إن لم يغفر الله لهم، وهذا الندم والاستغفار إنما حصل بعد رجوع موسى عليه السلام إليهم، وقرئ: (لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا) بالتاء * (وربنا) * بالنصب على النداء، وهذا كلام التائبين كما قال آدم وحواء عليهما السلام: * (وإن لم تغفر لنا وترحمنا) *.
* (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتمونى من بعدى أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفونى وكادوا يقتلوننى فلا تشمت بى الأعدآء ولا تجعلنى مع القوم الظالمين * قال رب اغفر لى ولأخى وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: * (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) * لا يمنع من أن يكون قد
9

عرف خبرهم من قبل في عبادة العجل،
ولا يوجب ذلك لجواز أن يكون عند الرجوع ومشاهدة أحوالهم صار كذلك، فلهذا السبب اختلفوا فيه فقال قوم: إنه عند هجومه عليهم عرف ذلك. وقال أبو مسلم: بل كان عارفا بذلك من قبل، وهذا أقرب، ويدل عليه وجوه: الأول: أن قوله تعالى: * (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) * يدل على أنه حال ما كان راجعا كان غضبان أسفا، وهو إنما كان راجعا إلى قومه قبل وصوله إليهم، فدل هذا على أنه عليه السلام قبل وصوله إليهم كان عالما بهذه الحالة. الثاني: أنه تعالى ذكر في سورة طه أنه أخبره بوقوع تلك الواقعة في الميقات.
المسألة الثانية: في الأسف قولان: الأول: أن الأسف الشديد الغضب، وهو قول أبي الدرداء وعطاء، عن ابن عباس واختيار الزجاج. واحتجوا بقوله: * (فلما آسفونا انتقمنا منهم) * (الزخرف: 55) أي أغضبونا. والثاني: وهو أيضا قول ابن عباس والحسن والسدي، إن الآسف هو الحزين. وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن أبا بكر رجل أسيف أي حزين. قال الواحدي: والقولان متقاربان، لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب، فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت، وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت. فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزنا والأخرى غضبا، فعلى هذا كان موسى غضبان على قومه لأجل عبادتهم العجل، أسفا حزينا، لأن الله تعالى فتنهم. وقد كان تعالى قال له: * (إنا قد فتنا قومك من بعدك) * (طه: 85).
أما بقوله: * (بئسما خلفتموني من بعدي) * فمعناه بئسما قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي وهذا الخطاب إنما يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه أو لوجوه بني إسرائيل، وهم: هارون عليه السلام والمؤمنون معه، ويدل عليه قوله: * (اخلفني في قومي) * (الأعراف: 142) وعلى التقدير الأول يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، وعلى هذا التقدير الثاني، يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: أين ما يقتضيه " بئس " من الفاعل، والمخصوص بالذم.
والجواب: الفاعل مضمر يفسره قوله: * (ما خلفتموني) * والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم.
السؤال الثاني: أي معنى لقوله: * (من بعدي) * بعد قوله: * (خلفتموني) *.
والجواب: معناه من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله تعالى، ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من بعد ما كانت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأمنعهم من عبادة البقر حين قالوا: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) * ومن حق الخلفاء أن يسيروا سيرة المستخلفين.
وأما قوله: * (أعجلتم أمر ربكم) * فمعنى العجلة التقدم بالشيء قبل وقته، ولذلك صارت مذمومة
10

والسرعة غير مذمومة، لأن معناها عمل الشيء في أول أوقاته. هكذا قاله الواحدي. ولقائل أن يقول: لو كانت العجلة مذمومة، فلم قال موسى عليه السلام: * (وعجلت إليك رب لترضى) * (طه: 84) قال ابن عباس المعنى: * (أعجلتم أمر ربكم) * يعني ميعاد ربكم فلم تصبروا له؟ وقال الحسن: وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين، وذلك لأنهم قدروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة، فقد مات. وقال عطاء: يريد أعجلتم سخط ربكم؟ وقال الكلبي: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم، ولما ذكر تعالى أن موسى رجع غضبان ذكر بعده ما كان ذلك الغضب موجبا له، وهو أمران: الأول: أنه قال: * (وألقى الأرواح) * يريد التي فيها التوراة، ولما كانت تلك الألواح أعظم معاجزه، ثم أنه ألقاها دل ذلك على شدة الغضب، لأن المرء لا يقدم على مثل هذا العمل إلا عند حصول الغضب المدهش. روي أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد. وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي الهدى والرحمة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يرحم الله أخي موسى ليس الخبر كالمعاينة لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره به حق وأنه على ذلك متمسك بما في يده ".
ولقائل أن يقول: ليس في القرآن إلا أنه ألقى الألواح فأما أنه ألقاها بحيث تكسرت، فهذا ليس في القرآن وأنه لجراءة عظيمة على كتاب الله، ومثله لا يليق بالأنبياء عليهم السلام.
والأمر الثاني: من الأمور المتولدة عن ذلك الغضب.
قوله تعالى: * (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه) * وفي هذا الموضع سؤال لمن يقدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام ذكرناه في سورة طه مع الجواب
الصحيح، وبالجملة فالطاعنون في عصمة الأنبياء يقولون إنه أخذ برأس أخيه يجره إليه على سبيل الإهانة والاستخفاف، والمثبتون لعصمة الأنبياء قالوا إنه جر رأس أخيه إلى نفسه ليساره ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة.
فإن قيل: فلماذا قال * (ابن أم إن القوم استضعفوني) *.
قلنا: الجواب عنه أن هارون عليه السلام خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى عليه السلام غضبان عليه كما أنه غضبان على عبدة العجل، فقال له * (ابن أم إن القوم استضعفوني) * وما أطاعوني في ترك عبادة العجل، وقد نهيتهم ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم بهم عن هذا العمل، فلا تفعل بي ما تشمت أعدائي به فهم أعداؤك فإن القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله بي على الإهانة لا على الإكرام.
وأما قوله تعالى * (ابن أم) * فاعلم أنه قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم * (ابن أم) *
11

بكسر الميم، وفي طه مثله على تقدير أمي فحذف ياء الإضافة لأن مبنى النداء على الحذف وبقي الكسر على الميم ليدل على الإضافة، كقوله: * (يا عباد) * والباقون بفتح الميم في السورتين، وفيه قولان: أحدهما: أنهما جعلا اسما واحدا وبنى لكثرة أصحاب هذين الحرفين فصار بمنزلة اسم واحد نحو حضرموت وخمسة عشر. وثانيهما: أنه على حذف الألف المبدلة من ياء الإضافة، وأصله يا ابن أما كما قال الشاعر:
وقوله: * (إن القوم استضعفوني) * أي لم يلتفتوا إلى كلامي وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء يعني أصحاب العجل ولا تجعلني مع القوم الظالمين، الذين عبدوا العجل أي لا تجعلني شريكا لهم في عقوبتك لهم على فعلهم، فعند هذا قال موسى عليه السلام: * (رب اغفر لي) * أي فيما أقدمت عليه من هذا الغضب والحدة * (ولأخي) * في تركه التشديد العظيم على عبدة العجل * (وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) *.
واعلم أن تمام هذه السؤالات والجوابات في هذه القصة مذكور في سورة طه. والله أعلم.
* (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة فى الحيوة الدنيا وكذلك نجزى المفترين * والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وءامنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) *.
اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح حال من عبد العجل.
واعلم أن المفعول الثاني من مفعولي - الاتخاذ - محذوف، والتقدير: اتخذوا العجل إلها ومعبودا ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى: * (فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى) * (طه: 88) وللمفسرين في هذه الآية طريقان: الأول: أن المراد بالذين اتخذوا العجل هم الذين باشروا عبادة العجل، وهم الذين قال فيهم: * (سينالهم غضب من ربهم) * وعلى هذا التقدير ففيه سؤال، وهو أن أولئك الأقوام تاب الله عليهم بسبب أنهم قتلوا أنفسهم في معرض التوبة عن ذلك الذنب، وإذا تاب الله
12

عليهم فكيف يمكن أن يقال في حقهم أنه * (سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا) *.
والجواب عنه: أن ذلك الغضب إنما حصل في الدنيا لا في الآخرة، وتفسير ذلك الغضب هو أن الله تعالى أمرهم بقتل أنفسهم، والمراد بقوله: * (وذلة في الحياة الدنيا) * هو أنهم قد ضلوا فذلوا.
فإن قالوا: السين في قوله: * (سينالهم) * للاستقبال، فكيف يحمل هذا على حكم الدنيا؟
قلنا: هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل، فأخبره في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، فكان هذا الكلام سابقا على وقوعهم في القتل وفي الذلة، فصح هذا التأويل من هذا الاعتبار.
والطريق الثاني: أن المراد بالذين اتخذوا العجل أبناؤهم الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا التقدير: ففي الآية وجهان:
الوجه الأول: أن العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما تفعل ذلك في المناقب. يقولون للأبناء: فعلتم كذا وكذا، وإنما فعل ذلك من مضى من آبائهم، فكذا ههنا وصف اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ العجل، وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك، ثم حكم عليهم بأنه * (سينالهم غضب من ربهم) * في الآخرة * (وذلة في الحياة الدنيا) * كما قال تعالى في صفتهم: * (ضربت عليهم الذلة والمسكنة) * (لبقرة: 61).
والوجه الثاني: أن يكون التقدير * (إن الذين اتخذوا العجل) * أي الذين باشروا ذلك * (سينالهم غضب) * أي سينال أولادهم، ثم حذف المضاف بدلالة الكلام عليه.
أما قوله تعالى: * (وكذلك نجزي المفترين) * فالمعنى أن كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا، قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ هذه الآية، وذلك لأن المبتدع مفتر في دين الله.
أما قوله تعالى: * (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا) * فهذا يفيد أن من عمل السيئات فلا بد وأن يتوب عنها أولا، وذلك بأن يتركها أولا ويرجع عنها، ثم يؤمن بعد ذلك. وثانيا: يؤمن بالله تعالى، ويصدق بأنه لا إله غيره * (إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * وهذه الآية تدل على أن السيئات بأسرها مشتركة في أن التوبة منها توجب الغفران، لأن قوله: * (والذين عملوا السيئات) * يتناول الكل. والتقدير: أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب فإن الله يغفرها له، وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين، والله أعلم.
13

* (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفى نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين لنا ما كان منه مع الغضب بين في هذه الآية ما كان منه عند سكوت الغضب.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (سكت عن موسى الغضب) * أقوال:
القول الأول: أن هذا الكلام خرج على قانون الاستعارة كأن الغضب كان يقويه على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا وكذا، وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك، فلما زال الغضب، صار كأنه سكت.
والقول الثاني: وهو قول عكرمة، أن المعنى: سكت موسى عن الغضب وقلب كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأسي، والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة.
القول الثالث: المراد بالسكوت السكون والزوال، وعلى هذا جاز * (سكت عن موسى الغضب) * ولا يجوز صمت لأن * (سكت) * بمعنى سكن، وأما صمت فمعناه سد فاه عن الكلام، وذلك لا يجوز في الغضب.
المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أنه عليه السلام لما عرف أن أخاه هارون لم يقع منه تقصير وظهر له صحة عذره، فعند ذلك سكن غضبه. وهو الوقت الذي قال فيه: * (رب اغفر لي ولأخي) * (الأعراف: 151) وكما دعا لأخيه منبها بذلك على زوال غضبه، لأن ذلك أول ما تقدم من أمارات غضبه على ما فعله من الأمرين، فجعل ضد ذينك الفعلين كالعلامة لسكون غضبه.
المسألة الثالثة: قوله: * (أخذ الألواح) * المراد منه الألواح المذكورة في قوله تعالى: * (وألقى الألواح) * (الأعراف: 15) وظاهر هذا يدل على أن شيئا منها لم ينكسر ولم يبطل، وأن الذي قيل من أن ستة أسباع التوراة رفعت إلى السماء ليس الأمر كذلك وقوله: * (وفي نسختها) * النسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا كتبت كتابا عن كتاب حرفا بعد حرف. قلت: نسخت ذلك الكتاب، كأنك نقلت ما في الأصل
14

إلى الكتاب الثاني. قال ابن عباس: لما ألقى موسى عليه السلام الألواح تكسرت فصام أربعين يوما، فأعاد الله تعالى الألواح وفيها عين ما في الأولى، فعلى هذا قوله: * (وفي نسختها) * أي وفيما نسخ منها. وأما إن قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها، ولا شك أنها كانت مكتوبة من اللوح المحفوظ فهي أيضا تكون نسخا على هذا التقدير وقوله: * (هدى ورحمة) * أي * (هدى) * من الضلالة * (ورحمة) * من العذاب * (للذين هم لربهم يرهبون) * يريد الخائفين من ربهم.
فإن قيل: التقدير للذين يرهبون ربهم فما الفائدة في اللام في قوله: * (لربهم) *.
قلنا فيه وجوه: الأول: أن تأخير الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفا فدخلت اللام للتقوية، ونظيره قوله: * (للرؤيا تعبرون) * (يوسف: 43) الثاني: أنها لام الأجل والمعنى: للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة. الثالث: أنه قد يزاد حرف الجر في المفعول، وإن كان الفعل متعديا كقولك قرأت في السورة وقرأت السورة، وألقى يده وألقى بيده، وفي القرآن * (ألم يعلم بأن الله يرى) * (العلق: 14) وفي موضع آخر * (ويعلمون أن الله) * فعلى هذا قوله * (لربهم) * اللام صلة وتأكيد كقوله: * (ردف لكم) * وقد ذكرنا مثل هذا في قوله: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * (آل عمران: 73).
* (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهآء منآ إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشآء وتهدى من تشآء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) *.
في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: الاختيار: افتعال من لفظ الخير يقال: اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره، وأصل اختار: اختير، فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفا نحو قال وباع، ولهذا السبب استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما، مختار، والأصل مختير ومختير فقلبت الياء فيهما ألفا فاستويا في 1
15

اللفظ. وتحقيق الكلام فيه أن نقول: إن الأعضاء السليمة بحسب سلامتها الأصلية صالحة للفعل والترك، وصالحة للفعل ولضده، وما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع أن يصير مصدرا لأحد الجانبين دون الثاني، وإلا لزم رجحان الممكن من غير مرجح، وهو محال، فإذا حكم الإنسان بأن له في الفعل نفعا زائدا وصلاحا راجحا، فقد حكم بأن ذلك الجانب خير له من ضده. فعند حصول هذا الاعتقاد في القلب يصير الفعل راجحا على الترك، فلولا الحكم بكون ذلك الطرف خيرا من الطرف الآخر امتنع أن يصير فاعلا، فلما كان صدور الفعل عن الحيوان موقوفا على حكمه بكون ذلك الفعل خيرا من تركه، لا جرم سمى الفعل الحيواني فعلا اختياريا. والله أعلم.
فإن قيل: إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يرمي نفسه من شاهق جبل مع أنه يعلم أن ذلك ليس من الخيرات بل من الشرور.
فنقول: إن الإنسان لا يقدم على قتل نفسه إلا إذا اعتقد أنه بسبب ذلك القتل يتخلص عن ضرر أعظم من ذلك القتل، والضرر الأسهل بالنسبة إلى الضرر الأعظم يكون خيرا لا شرا. وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل. والله أعلم.
المسألة الثانية: قال جماعة النحويين: معناه واختار موسى من قومه سبعين. فحذفت كلمة " من " ووصل الفعل فنسب، يقال: اخترت من الرجال زيدا واخترت الرجال زيدا، وأنشدوا قول الفرزدق: ومنا الذي اختار الرجال سماحة * وجودا إذا هب الرياح الزعازع
قال أبو علي والأصل في هذا الباب أن من الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد، ثم يتسع فيحذف حرف الجر فيتعدى الفعل إلى المفعول الثاني، من ذلك قولك اخترت من الرجال زيدا ثم يتسع فيقال اخترت الرجال زيدا وقولك أستغفر الله من ذنبي وأستغفر الله ذنبي قال الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست أحصيه
ويقال أمرت زيدا بالخير وأمرت زيدا الخير قال الشاعر: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به. والله أعلم.
وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير: واختار موسى قومه لميقاتنا وأراد بقومه المعتبرين منهم إطلاقا لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم وقوله: * (سبعين رجلا) * عطف بيان وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى ما ذكروه من التكلفات.
المسألة الثالثة: ذكروا أن موسى عليه السلام اختار من قومه اثني عشر سبطا من كل سبط ستة، فصاروا اثنين وسبعين، فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا، فقال إن لمن قعد منكم مثل أجر
16

من خرج، فقعد كالب ويوشع. وروى أنه لم يجد إلا ستين شيخا، فأوحى الله إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا فأمرهم أن يصوموا ويتطهروا، ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى الميقات.
المسألة الرابعة: هذا الاختيار هل هو للخروج إلى الميقات الذي كلم الله تعالى موسى فيه وسأل موسى من الله الرؤية أو هو للخروج إلى موضع آخر؟ فيه أقوال للمفسرين:
القول الأول: إنه لميقات الكلام والرؤية قالوا: إنه عليه السلام خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام، حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى عليه السلام. ودخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، فدنوا، حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجدا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل. ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية وقالوا * (يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة) * (البقرة: 55) وهي المراد من الرجفة المذكورة في هذه الآية، فقال موسى عليه السلام: * (رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) * فالمراد منه قولهم: * (أرنا الله جهرة) *.
والقول الثاني: أن المراد من هذا الميقات ميقات مغاير لميقات الكلام وطلب الرؤية، وعلى هذا القول فقد اختلفوا فيه على وجوه: أحدها: أن هؤلاء السبعين وإن كانوا ما عبدوا العجل إلا أنهم ما فارقوا عبدة العجل عند اشتغالهم بعبادة العجل. وثانيها: أنهم ما بالغوا في النهي عن عبادة العجل. وثالثها: أنهم لما خرجوا إلى الميقات ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا، ولا تعطيه أحدا بعدها، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك الكلام فأخذتهم الرجفة. واحتج القائلون بهذا القول على صحة مذهبهم بأمور: الأول: أنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة، وظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة التي لا ينكر أنه يمكن أن يكون هذا عودا إلى تتمة الكلام في القصة الأولى إلا أن الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الواحدة في وضع واحد. ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها، فأما ما ذكر بعض القصة، ثم الانتقال منها إلى قصة أخرى، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصة الأولى، فإنه يوجب نوعا من الخبط والاضطراب، والأولى صون كلام الله تعالى عنه. الثاني: أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم يظهر هناك منكر، إلا أنهم * (قالوا أرنا الله جهرة) * فلو كانت الرجفة المذكورة في هذه الآية إنما حصلت بسبب ذلك القول لوجب أن يقال: أتهلكنا بما يقوله السفهاء منا؟ فلما لم يقل موسى كذلك بل قال: * (أتهلكنا بما
17

فعل السفهاء منا) * علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بسبب إقدامهم على عبادة العجل لا بسبب إقدامهم على طلب الرؤية. الثالث: أن الله تعالى ذكر في ميقات الكلام والرؤية أنه خر موسى صعقا وأنه جعل الجبل دكا، وأما الميقات المذكور في هذه الآية، فإن الله تعالى ذكر أن القوم أخذتهم الرجفة، ولم يذكر أن موسى عليه السلام أخذته الرجفة، وكيف يقال أخذته الرجفة، وهو الذي قال لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي؟ واختصاص كل واحد من هذين الميقاتين بهذه الأحكام يفيد ظن أن أحدهما غير الآخر. واحتج القائلون بأن هذا الميقات هو ميقات الكلام وطلب الرؤية بأن قالوا إنه تعالى قال في الآية الأولى: * (ولما جاء موسى لميقاتنا) * (الأعراف: 143) فدلت هذه الآية على أن لفظ الميقات مخصوص بذلك الميقات، فلما قال في هذه الآية: * (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا) * وجب أن يكون المراد بهذا الميقات هو عين ذلك الميقات.
وجوابه: أن هذا الدليل ضعيف، ولا شك أن الوجوه المذكورة في تقوية القول الأول أقوى. والله أعلم.
والوجه الثالث: في تفسير هذا الميقات ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن موسى وهارون عليهما السلام انطلقا إلى سفح جبل، فنام هارون فتوفاه الله تعالى، فلما رجع موسى عليه السلام قالوا إنه هو الذي قتل هارون، فاختار موسى قومه سبعين رجلا وذهبوا إلى هارون فأحياه الله تعالى وقال ما قتلني أحد، فأخذتهم الرجفة هنالك، فهذا جملة ما قيل في هذا الباب. والله أعلم.
المسألة الخامسة: اختلفوا في تلك الرجفة فقيل: إنها رجفة أوجبت الموت. قال السدي: قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم ولم يبق معي منهم واحد؟ فماذا أقول لبني إسرائيل وكيف يأمنوني على أحد منهم بعد ذلك؟ فأحياهم الله تعالى. فمعنى قوله: * (لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي) * أن موسى عليه السلام خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم ولم يصدقوا أنهم ماتوا، فقال لربه: لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني.
والقول الثاني: أن تلك الرجفة ما كانت موتا، ولكن القوم لما رأوا تلك الحالة المهيبة أخذتهم الرعدة ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم، وتنقصم ظهورهم، وخاف موسى عليه السلام الموت، فعند ذلك بكى ودعا فكشف الله عنهم تلك الرجفة.
أما قوله: * (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) * فقال أهل العلم: إنه لا يجوز أن يظن موسى عليه السلام أن الله تعالى يهلك قوما بذنوب غيرهم، فيجب تأويل الآية، وفيه
بحثان: الأول: أنه
18

استفهام بمعنى الجحد، وأراد أنك لا تفعل ذلك. كما تقول: أتهين من يخدمك؟ أي لا تفعل ذلك. الثاني: قال المبرد: هو استفهام استعطاف، أي لا تهلكنا.
وأما قوله: * (إن هي إلا فتنتك) * فقال الواحدي رحمه الله: الكناية في قوله: * (هي) * عائدة إلى الفتنة كما تقول: إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند. والمعنى: أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أضللت بها قوما فافتتنوا، وعصمت قوما عنها فثبتوا على الحق، ثم أكد بيان أن الكل من الله تعالى، فقال: * (تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) * ثم قال الواحدي: وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر. قالت المعتزلة: لا تعلق للجبرية بهذه الآية لأنه تعالى لم يقل؛ تضل بها من تشاء من عبادك عن الدين، ولأنه تعالى قال: * (تضل بها) * أي بالرجفة، ومعلوم أن الرجفة لا يضل الله بها، فوجب حمل هذه الآية على التأويل. فأما قوله: * (إن هي إلا فتنتك) * فالمعنى: امتحانك وشدة تعبدك، لأنه لما أظهر الرجفة كلفهم بالصبر عليها.
وأما قوله: * (تضل بها من تشاء) * ففيه وجوه: الأول: تهدي بهذا الامتحان إلى الجنة والثواب بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ويبقى على الإيمان، وتعاقب من تشاء بشرط أن لا يؤمن، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه. والثاني: أن يكون المراد بالإضلال الإهلاك، والتقدير: تهلك من تشاء بهذه الرجفة وتصرفها عمن تشاء. والثالث: أنه لما كان هذا الامتحان كالسبب في هداية من اهتدى، وضلال من ضل، جاز أن يضافا إليه. واعلم أن هذه التأويلات متسعة، والدلائل العقلية دالة على أنه يجب أن يكون المراد ما ذكرناه، وتقريرها من وجوه: الأول: أن القدرة الصالحة للإيمان والكفر لا يترجح تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطرف الآخر، إلا لأجل داعية مرجحة، وخالق تلك الداعية هو الله تعالى، وعند حصول تلك الداعية يجب الفعل وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت أن الهداية من الله تعالى وأن الإضلال من الله تعالى. الثاني: أن أحدا من العقلاء لا يريد إلا الإيمان والحق والصدق، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كل واحد مؤمنا محقا، وحيث لم يكن الأمر كذلك ثبت أن الكل من الله تعالى. الثالث: أنه لو كان حصول الهداية والمعرفة بفعل العبد فما لم يتميز عنده الاعتقاد الحق عن الاعتقاد الباطل، امتنع أن يخص أحد الاعتقادين بالتحصيل والتكوين، لكن علمه بأن هذا الاعتقاد هو الحق وأن الآخر هو الباطل، يقتضي كونه عالما بذلك المعتقد أولا كما هو عليه، فيلزم أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد مشروطة بكون ذلك الاعتقاد الحق حاصلا، وذلك يقتضي كون الشيء مشروطا بنفسه وأنه محال، فثبت أنه يمتنع أن
19

يكون حصول الهداية والعلم بتخليق العبد، وأما الكلام في إبطال تلك التأويلات فقد سبق ذكره في هذا الكتاب غير مرة. والله أعلم.
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال بعد ذلك: * (أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) * واعلم أن قوله: * (أنت ولينا) * يفيد الحصر، ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت، وهذا من تمام ما سبق ذكره من قوله: * (تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) * وقوله: * (فاغفر لنا وارحمنا) * المراد منه أن إقدامه على قوله: * (إن هي إلا فتنتك) * جراءة عظيمة، فطلب من الله غفرانها والتجاوز عنها وقوله: * (وأنت خير الغافرين) * معناه أن كل من سواك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلبا للثناء الجميل أو للثواب الجزيل، أو دفعا للربقة الخسيسة عن القلب، وبالجملة فذلك الغفران يكون لطلب نفع أو لدفع ضرر، أما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض وغرض، بل لمحض الفضل والكرم، فوجب القطع بكونه * (خير الغافرين) * والله أعلم.
* (واكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة وفي الاخرة إنا هدنآ إليك قال عذابى أصيب به من أشآء ورحمتى وسعت كل شىء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكوة والذين هم بآياتنا يؤمنون) *.
اعلم أن هذا من بقية دعاء موسى صلى الله عليه وسلم عند مشاهدة الرجفة. فقوله: * (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) * معناه أنه قرر أولا أنه الأولى له إلا الله تعالى وهو قوله: * (أنت ولينا) * ثم إن المتوقع من الولي والناصر أمران: أحدهما: دفع الضرر. والثاني: تحصيل النفع، ودفع الضرر مقدم على تحصيل النفع، فلهذا السبب بدأ بطلب دفع الضرر، وهو قوله: * (فاغفر لنا وارحمنا) * ثم أتبعه بطلب تحصيل النفع وهو قوله: * (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) * وقوله: * (واكتب) * أي وجب لنا والكتابة تذكر بمعنى الإيجاب وسؤاله الحسنة في الدنيا والآخرة كسؤال المؤمنين من هذه الأمة حيث أخبر الله تعالى عنهم في قوله: * (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) *.
20

واعلم أن كونه تعالى وليا للعبد يناسب أن يطلب العبد منه دفع المضار وتحصيل المنافع ليظهر آثار كرمه وفضله وإلهيته، وأيضا اشتغال العبد بالتوبة والخضوع والخشوع يناسب طلب هذه الأشياء، فذكر السبب الأول أولا، وهو كونه تعالى وليا له وفرع عليه طلب هذه الأشياء، ثم ذكر بعده السبب الثاني، وهو اشتغال العبد بالتوبة والخضوع فقال: * (إنا هدنا إليك) * قال المفسرون: * (هدنا) * أي تبنا ورجعنا إليك، قال الليث: " الهود " التوبة، وإنما ذكر هذا السبب أيضا لأن السبب الذي يقتضي حسن طلب هذه الأشياء ليس إلا مجموع هذين الأمرين كونه إلها وربا ووليا، وكوننا عبيدا له تائبين خاضعين خاشعين، فالأول: عهد عزة الربوبية. والثاني: عهد ذلة العبودية، فإذا حصلا واجتمعا فلا سبب أقوى منهما. ولما حكى الله تعالى دعاء موسى عليه السلام ذكر بعده ما كان جوابا لموسى عليه السلام، فقال تعالى قال: * (عذابي أصيب به من أشاء) * معناه إني أعذب من أشاء وليس لأحد علي اعتراض لأن الكل ملكي، ومن تصرف في خالص ملكه فليس لأحد أن يعترض عليه، وقرأ الحسن * (من أساء) * من الإساءة، واختار الشافعي هذه القراءة وقوله: * (ورحمتي وسعت كل شيء) * فيه أقوال كثيرة. قيل المراد من قوله: * (ورحمتي وسعت كل شيء) * هو أن رحمته في الدنيا عمت الكل، وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وإليه الإشارة بقوله: * (فسأكتبها للذين يتقون) * وقيل: الوجود خير من العدم، وعلى هذا التقدير فلا موجود إلا وقد وصل إليه رحمته وأقل المراتب وجوده، وقيل الخير مطلوب بالذات، والشر مطلوب بالعرض وما بالذات راجح غالب، وما بالعرض مرجوح مغلوب، وقال المعتزلة: الرحمة عبارة عن إرادة الخير، ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة واللذة والخير لأنه إن
كان منتفعا أو متمكنا من الانتفاع فهو برحمة الله من جهات كثيرة وإن حصل هناك ألم فله الأعواض الكثيرة، وهي من نعمة الله تعالى ورحمته فلهذا السبب قال: * (ورحمتي وسعت كل شيء) * وقال أصحابنا قوله: * (ورحمتي وسعت كل شيء) * من العام الذي أريد به الخاص، كقوله: * (وأوتيت من كل شيء) *.
أما قوله: * (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) *.
فاعلم أن جميع تكاليف الله محصورة في نوعين: الأول: التروك، وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها، والاحتراز عنها والاتقاء منها، وهذا النوع إليه الإشارة بقوله: * (للذين يتقون) * والثاني: الأفعال وتلك التكاليف إما أن تكون متوجهة على مال الإنسان أو على نفسه.
أما القسم الأول: فهو الزكاة وإليه الإشارة بقوله: * (ويؤتون الزكاة) *.
21

وأما القسم الثاني: فيدخل فيه ما يجب على الإنسان علما وعملا أما العلم فالمعرفة، وأما العمل فالإقرار باللسان والعمل بالأركان ويدخل فيها الصلاة وإلى هذا المجموع الإشارة بقوله: * (والذين هم بآياتنا يؤمنون) * ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة: * (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) * (البقرة: 2، 3).
* (الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التى كانت عليهم فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن من صفة من تكتب له الرحمة في الدنيا والآخرة التقوى وإيتاء الزكاة والإيمان بالآيات، ضم إلى ذلك أن يكون من صفته اتباع * (النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) * واختلفوا في ذلك فقال بعضهم: المراد بذلك أن يتبعوه باعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته في التوراة، إذ لا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل أن يبعث إلى الخلق، وقال في قوله: * (والإنجيل) * أن المراد سيجدونه مكتوبا في الإنجيل، لأن من المحال أن يجدوه فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل، وقال بعضهم: بل المراد من لحق من بني إسرائيل أيام الرسول فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوا الرسول النبي الأمي. والقول الثاني أقرب، لأن اتباعه قبل أن بعث ووجد لا يمكن. فكأنه تعالى بين بهذه الآية أن هذه الرحمة لا يفوز بها من بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى، ومن هذه صفته في أيام الرسول إذا كان مع ذلك متبعا للنبي الأمي في شرائعه.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى وصف محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بصفات تسع.
22

الصفة الأولى: كونه رسولا، وقد اختص هذا اللفظ بحسب العرف بمن أرسله الله إلى الخلق لتبليغ التكاليف.
الصفة الثانية: كونه نبيا، وهو يدل على كونه رفيع القدر عند الله تعالى.
الصفة الثالثة: كونه أميا. قال الزجاج: معنى * (الأمي) * الذي هو على صفة أمة العرب. قال عليه الصلاة والسلام: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، فلهذا السبب وصفه بكونه أميا. قال أهل التحقيق وكونه أميا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد وأن يزيد فيها وأن ينقص عنها بالقليل والكثير، ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير. فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى) * (الأعلى: 6) والثاني: أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهما في أنه ربما طالع كتب الأولين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة، كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله: * (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) * (العنكبوت: 48) الثالث: أن تعلم الخط شيء سهل فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعى، فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم، ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر، ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفهما، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريا مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجار مجرى المعجزات.
الصفة الرابعة: قوله تعالى: * (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) * وهذا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب في التوراة والإنجيل، لأن ذلك لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله، لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم النفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر الناس عن قبول قوله: فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك النعت كان مذكورا في التوراة والإنجيل وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته.
23

الصفة الخامسة: قوله: * (يأمرهم بالمعروف) * قال الزجاج: يجوز أن يكون قوله: * (يأمرهم بالمعروف) * استئنافا، ويجوز أن يكون المعنى * (يجدونه مكتوبا عندهم) * أنه * (يأمرهم بالمعروف) * وأقول مجامع الأمر بالمعروف محصورة في قوله عليه الصلاة والسلام: " التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله " وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن الوجود لذاته. أما الواجب لذاته فهو الله جل جلاله، ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته وإظهار الخضوع والخشوع على باب عزته والاعتراف بكونه موصوفا بصفات الكمال مبرأ عن النقائص والآفات منزها عن الأضداد والأنداد، وأما الممكن لذاته فإن لم يكن حيوانا، فلا سبيل إلى إيصال الخير إليه لأن الانتفاع مشروط بالحياة، ومع هذا فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله تعالى، ومن حيث إن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلا قاهرا وبرهانا باهرا على توحيده وتنزيهه فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام. ومن حيث إن الله تعالى في كل ذرة من ذرات
المخلوقات أسرارا عجيبة وحكما خفية فيجب النظر إليها بعين الاحترام، وأما إن كان ذلك المخلوق من جنس الحيوان فإنه يجب إظهار الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه، ويدخل فيه بر الوالدين وصلة الأرحام وبث المعروف فثبت أن قوله عليه الصلاة والسلام: " التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله " كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف.
الصفة السادسة: قوله: * (وينهاهم عن المنكر) * والمراد منه أضداد الأمور المذكورة وهي عبادة الأوثان، والقول في صفات الله بغير علم، والكفر بما أنزل الله على النبيين، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين.
الصفة السابعة: قوله تعالى: * (ويحل لهم الطيبات) * من الناس من قال: المراد بالطيبات الأشياء التي حكم الله بحلها وهذا بعيد لوجهين: الأول: أن على هذا التقدير تصير الآية ويحل لهم المحللات وهذا محض التكرير. الثاني: أن على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة، لأنا لا ندري أن الأشياء التي أحلها الله ما هي وكم هي؟ بل الواجب أن يكون المراد من الطيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع وذلك لأن تناولها يفيد اللذة، والأصل في المنافع الحل فكانت هذه الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا لدليل منفصل.
الصفة الثامنة: قوله تعالى: * (ويحرم عليهم الخبائث) * قال عطاء عن ابن عباس، يريد الميتة والدم وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله: * (ذلكم فسق) * وأقول: كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس كان تناوله سببا للألم، والأصل في المضار الحرمة، فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه
24

الحرمة إلا لدليل منفصل. وعلى هذا الأصل: فرع الشافعي رحمه الله تحريم بيع الكلب، لأنه روى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصحيحين أنه قال: " الكلب خبيث، وخبيث ثمنه " وإذا ثبت أن ثمنه خبيث وجب أن يكون حراما لقوله تعالى: * (ويحرم عليهم الخبائث) * وأيضا الخمر محرمة لأنها رجس بدليل قوله: * (إنما الخمر والميسر) * (المائدة: 90) إلى قوله: * (رجس) * والرجس خبيث بدليل إطباق أهل اللغة عليه، والخبيث حرام لقوله تعالى: * (ويحرم عليهم الخبائث) *.
الصفة التاسعة: قوله تعالى: * (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وحده * (آصارهم) * على الجمع، والباقون * (إصرهم) * على الواحد. قال أبو علي الفارسي: الإصر مصدر يقع على الكثرة مع إفراد لفظه يدل على ذلك إضافته، وهو مفرد إلى الكثرة، كما قال: * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) * (البقرة: 20) ومن جمع، أراد ضروبا من العهود مختلفة، والمصادر قد تجمع إذا اختلفت ضروبها كما في قوله: * (وتظنون بالله الظنونا) * (الأحزاب: 10).
المسألة الثانية: الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه من الحراك لثقله، والمراد منه: أن شريعة موسى عليه السلام كانت شديدة. وقوله: * (والأغلال التي كانت عليهم) * المراد منه: الشدائد التي كانت في عباداتهم كقطع أثر البول، وقتل النفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتتبع العروف من اللحم وجعلها الله أغلالا، لأن التحريم يمنع من الفعل، كما أن الغل يمنع عن الفعل، وقيل: كانت بنو إسرائيل إذا قامت إلى الصلاة لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعا لله تعالى، فعلى هذا القول الأغلال غير مستعارة.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة، لأن كل ما كان ضررا كان إصرا وغلا، وظاهر هذا النص يقتضي عدم المشروعية، وهذا نظير لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا ضرر ولا ضرار " في الإسلام، ولقوله عليه الصلاة والسلام: " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة " وهو أصل كبير في الشريعة.
واعلم أنه لما وصف محمدا عليه الصلاة والسلام بهذه الصفات التسع. قال بعده: * (فالذين آمنوا به) * قال ابن عباس: يعني من اليهود * (وعزروه) * يعني وقروه. قال صاحب " الكشاف ": أصل التعزير المنع ومنه التعزير وهو الضرب، دون الحد، لأنه منع من معاودة القبيح.
ثم قال تعالى: * (ونصروه) * أي على عدوه * (واتبعوا النور الذي أنزل معه) * وهو القرآن. وقيل الهدى والبيان والرسالة. وقيل الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور.
فإن قيل: كيف يمكن حمل النور ههنا على القرآن؟ والقرآن ما أنزل مع محمد، وإنما أنزل مع جبريل.
25

قلنا: معناه إنه أنزل مع نبوته لأن نبوته ظهرت مع ظهور القرآن.
ثم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات * (قال أولئك هم المفلحون) * أي هم الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة.
* (قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا الذى له ملك السماوات والارض لا إله إلا هو يحى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (فسأكتبها للذين يتقون) * ثم بين تعالى أن من شرط حصول الرحمة لأولئك المتقين، كونهم متبعين للرسول النبي الأمي، حقق في هذه الآية رسالته إلى الخلق بالكلية. فقال: * (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) * وفي هذه الكلمة مسألتان:
المسألة الأولى: هذه الآية تدل على أن محمدا عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى جميع الخلق. وقال طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية وهم أتباع عيسى الأصفهاني: أن محمدا رسول صادق مبعوث إلى العرب. وغير مبعوث إلى بني إسرائيل. ودليلنا على إبطال قولهم؛ هذه الآية. لأن قوله: * (يا أيها الناس) * خطاب يتناول كل الناس.
ثم قال: * (إني رسول الله إليكم جميعا) * وهذا يقتضي كونه مبعوثا إلى جميع الناس، وأيضا فما يعلم بالتواتر من دينه، أنه كان يدعى أنه مبعوث إلى كل العالمين. فأما أن يقال: إنه كان رسولا حقا أو ما كان كذلك، فإن كان رسولا حقا، امتنع الكذب عليه. ووجب الجزم بكونه صادقا في كل ما يدعيه، فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعي كونه مبعوثا إلى جميع الخلق، وجب كونه صادقا في هذا القول، وذلك يبطل قول من يقول: إنه كان مبعوثا إلى العرب فقط، لا إلى بني إسرائيل.
وأما قول القائل: إنه ما كان رسولا حقا، فهذا يقتضي القدح في كونه رسولا إلى العرب وإلى غيرهم، فثبت أن القول بأنه رسول إلى بعض الخلق دون بعض كلام باطل متناقض.
26

إذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) * من الناس من قال إنه عام دخله التخصيص ومنهم من أنكر ذلك، أما الأولون فقالوا: إنه دخله التخصيص من وجهين: الأول: أنه رسول إلى الناس إذا كانوا من جملة المكلفين فأما إذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولا إليهم، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قال: " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق " والثاني: أنه رسول الله إلى كل من وصل إليه خبر وجوده وخبر معجزاته وشرائعه، حتى يمكنه عند ذلك متابعته، أما لو قدرنا حصول قوم في طرف من أطراف العالم لم يبلغهم خبر وجوده ولا خبر معجزاته، فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته ومن الناس من أنكر القول بدخول التخصيص في الآية من هذين الوجهين:
أما الأول: فتقريره أن قوله: * (يا أيها الناس) * خطاب وهذا الخطاب لا يتناول إلا المكلفين وإذا كان كذلك فالناس الذين دخلوا تحت قوله: * (يا أيها الناس) * ليسوا إلا المكلفين من الناس، وعلى هذا التقدير فلم يلزم أن يقال: إن قوله: * (يا أيها الناس) * عام دخله التخصيص.
وأما الثاني: فلأنه يبعد جدا أن يقال: حصل في طرف من أطراف الأرض قوم لم يبلغهم خبر ظهور محمد عليه الصلاة والسلام، وخبر معجزاته وشرائعه، وإذا كان ذلك كالمستبعد لم يكن بنا حاجة إلى التزام هذا التخصيص.
المسألة الثانية: هذه الآية وإن دلت على أن محمدا عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء عليهم السلام ما كان مبعوثا إلى كل الخلق، بل يجب الرجوع في أنه هل كان في غيره من الأنبياء من كان مبعوثا إلى كل الخلق أم لا؟ إلى سائر الدلائل. فنقول: تمسك جمع من العلماء في أن أحدا غيره ما كان مبعوثا إلى كل الخلق لقوله عليه الصلاة والسلام: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، أرسلت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت على عدوي بالرعب يرعب مني مسيرة شهر، وأطعمت الغنيمة دون من قبلي. وقيل لي سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمتي ".
ولقائل أن يقول: هذا الخبر لا يتناول دلالته على إثبات هذا المطلوب، لأنه لا يبعد أن يكون المراد مجموع هذه الخمسة من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحصل لأحد سواه ولم يلزم من كون هذا المجموع من خواصه كون واحد من آحاد هذا المجموع من خواصه، وأيضا قيل إن آدم عليه السلام كان مبعوثا إلى جميع أولاده، وعلى هذا التقدير فقد كان مبعوثا إلى جميع الناس، وأن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة، كان مبعوثا إلى الذين كانوا معه، مع أن جميع
27

الناس في ذلك الزمان ما كان إلا ذلك القوم.
أما قوله تعالى: * (الذي له ملك السماوات والأرض) * فاعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بأن يقول للناس كلهم إني رسول الله إليكم أردفه بذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى.
واعلم أن هذه الدعوى لا تتم ولا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول أربعة. الأصل الأول: إثبات أن للعالم إلها حيا عالما قادرا. والذي يدل عليه ما ذكره في قوله تعالى: * (الذي له ملك السماوات والأرض) * وذلك لأن أجسام السماوات والأرض، تدل على افتقارها إلى الصانع الحي العالم القادر، من جهات كثيرة مذكورة في القرآن العظيم، وشرحها وتقريرها مذكور في هذا التفسير، وإنما افتقرنا في حسن التكليف وبعثة الرسل إلى إثبات هذا الأصل، لأن بتقدير أن لا يحصل للعالم مؤثر يؤثر في وجوده، أو إن حصل له مؤثر، لكن كان ذلك المؤثر موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار لم يكن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام ممكنا.
والأصل الثاني: إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند، وإليه الإشارة بقوله: * (لا إله إلا هو) * وإنما افتقرنا في حسن التكليف وجواز بعثة الرسل إلى تقرير هذا الأصل، لأن بتقدير أن يكون للعالم إلهان، وأرسل أحد الإلهين نبيا إلى الخلق فلعل هذا الإنسان الذي يدعوه الرسول إلى عبادة هذا الإله ما كان مخلوقا له، بل كان مخلوقا للإله الثاني، وعلى هذا التقدير فإنه يجب على هذا الإنسان عبادة هذا الإله وطاعته، فكان بعثة الرسول إليه، وإيجاب الطاعة عليه ظلما وباطلا. أما إذا ثبت أن الإله واحد، فحينئذ يكون جميع الخلق عبيدا له، ويكون تكليفه في الكل نافذا وانقياد الكل لأوامره ونواهيه لازما، فثبت أن ما لم يثبت كون الإله تعالى واحدا لم يكن إرسال الرسل وإنزال الكتب المشتملة على التكليف جائزا.
والأصل الثالث: إثبات أنه تعالى قادر على الحشر والنشر والبعث والقيامة، لأن بتقدير أن لا يثبت ذلك، كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثا ولغوا، وإلى تقدير هذا الأصل الإشارة بقوله: * (يحي ويميت) * لأنه لما أحيا أولا، ثبت كونه قادرا على الإحياء ثانيا، فيكون قادرا على الإعادة والحشر والنشر، وعلى هذا التقدير يكون الإحياء الأول إنعاما عظيما، فلا يبعد منه تعالى أن يطالبه بالعبودية، ليكون قيامه بتلك الطاعة قائما مقام الشكر عن الإحياء الأول، وأيضا لما دل الإحياء الأول على قدرته على الإحياء الثاني، فحينئذ يكون قادرا على إيصال الجزاء إليه.
واعلم أنه لما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة. ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف، لأن على هذا التقدير الخلق كلهم عبيده ولا
مولى لهم سواه،
28

وأيضا إنه منعم على الكل بأعظم النعم، وأيضا إنه قادر على إيصال الجزاء إليهم بعد موتهم، وكل واحد من هذه الأسباب الثلاثة سبب تام، في أنه يحسن منه تكليف الخلق، أما بحسب السبب الأول، فإنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته، وأما بحسب السبب الثاني فلأنه يحسن من المنعم مطالبة المنعم عليه بالشكر والطاعة، وأما بحسب السبب الثالث فلأنه يحسن من القادر على إيصال الجزاء التام إلى المكلف أن يكلفه بنوع من أنواع الطاعة، فظهر أنه لما ثبتت الأصول الثلاثة بالدلائل التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فإنه يلزم الجزم بأنه يحسن من الله إرسال الرسل، ويجوز منه تعالى أن يخصهم بأنواع التكاليف، فثبت أن الآيات المذكورة دالة على أن للعالم إلها حيا عالما قادرا، وعلى أن هذا الإله واحد، وعلى أنه يحسن منه إرسال الرسل وإنزال الكتب.
واعلم أنه تعالى لما أثبت هذه الأصول المذكورة بهذه الدلائل المذكورة في هذه الآية ذكر بعده قوله: * (فآمنوا بالله ورسوله) * وهذا الترتيب في غاية الحسن، وذلك لأنه لما بين أولا أن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام أمر جائز ممكن، أردفه بذكر أن محمدا رسول حق من عند الله لأن من حاول إثبات مطلوب وجب عليه أن يبين جوازه أولا، ثم حصوله ثانيا، ثم إنه بدأ بقوله: * (فآمنوا بالله) * لأنا بينا أن الإيمان بالله أصل، والإيمان بالنبوة والرسالة فرع عليه، والأصل يجب تقديمه. فلهذا السبب بدأ بقوله: * (فآمنوا بالله) * ثم أتبعه بقوله: * (ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته) *.
واعلم أن هذا إشارة إلى ذكر المعجزات الدالة على كونه نبيا حقا، وتقريره: أن معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت على نوعين:
النوع الأول: المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة، وأجلها وأشرفها أنه كان رجلا أميا لم يتعلم من أستاذ، ولم يطالع كتابا، ولم يتفق له مجالسة أحد من العلماء، لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء، وما غاب رسول الله عن مكة غيبة طويلة يمكن أن يقال إن في مدة تلك الغيبة تعلم العلوم الكثيرة، ثم إنه مع ذلك فتح الله عليه باب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن المشتمل على علوم الأولين والآخرين، فكان ظهور هذه العلوم العظيمة عليه، مع أنه كان رجلا أميا لم يلق أستاذا ولم يطالع كتابا من أعظم المعجزات، وإليه الإشارة بقوله: * (النبي الأمي) *.
والنوع الثاني: من معجزاته الأمور التي ظهرت من مخارج ذاته مثل انشقاق القمر، ونبوع الماء من بين أصابعه. وهي تسمى بكلمات الله تعالى، ألا ترى أن عيسى عليه السلام، لما كان حدوثه أمرا غريبا مخالفا للمعتاد، لا جرم سماه الله تعالى كلمة. فكذلك المعجزات لما كانت أمورا غريبة خارقة للعادة لم يبعد تسميتها بكلمات الله تعالى، وهذا النوع هو المراد بقوله: * (يؤمن بالله وكلماته) *
29

أي يؤمن بالله وبجميع المعجزات التي أظهرها الله عليه، فبهذا الطريق أقام الدليل على كونه نبيا صادقا من عند الله.
واعلم أنه لما ثبت بالدلائل القاهرة التي قررناها بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وجب أن يذكر عقيبه الطريق الذي به يمكن معرفة شرعه على التفصيل، وما ذاك إلا بالرجوع إلى أقواله وأفعاله وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (واتبعوه) *.
واعلم أن المتابعة تتناول المتابعة في القول وفي الفعل. أما المتابعة في القول فهو أن يمتثل المكلف كل ما يقوله في طرق الأمر والنهي والترغيب والترهيب. وأما المتابعة في الفعل فهي عبارة عن الإتيان بمثل ما أتى المتبوع به سواء كان في طرف الفعل أو في طرف الترك، فثبت أن لفظ * (واتبعوه) * يتناول القسمين. وثبت أن ظاهر الأمر للوجوب فكان قوله تعالى: * (واتبعوه) * دليلا على أنه يجب الانقياد له في كل أمر ونهي، ويجب الاقتداء به في كل ما فعله إلا ما خصه الدليل، وهو الأشياء التي ثبت بالدليل المنفصل أنها من خواص الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: الشيء الذي أتي به الرسول يحتمل أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان واجبا عليه، ويحتمل أيضا أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوبا، فبتقدير أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوبا، فلو أتينا به على سبيل أنه واجب علينا، كان ذلك تركا لمتابعته، ونقضا لمبايعته. والآية تدل على وجوب متابعته، فثبت أن إقدام الرسول على ذلك الفعل لا يدل على وجوبه علينا.
قلنا: المتابعة في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع، بدليل أن من أتى بفعل ثم إن غيره وافقه في ذلك الفعل، قيل: إنه تابعه عليه. ولو لم يأت به. قيل: إنه خالفه فيه. فلما كان الإتيان بمثل فعل المتبوع متابعة، ودلت الآية على وجوب المتابعة لزم أن يجب على الأمة مثل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم. بقي ههنا أنا لا نعرف أنه عليه السلام أتى بذلك على قصد الوجوب أو على قصد الندب. فنقول: حال الدواعي والعزائم غير معلوم، وحال الإتيان بالفعل الظاهر والعمل المحسوس معلوم، فوجب أن لا يلتفت إلى البحث عن حال العزائم والدواعي، لكونها أمورا مخفية عنا، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظاهر. لكونها من الأمور التي يمكن رعايتها، فزالت هذه الشبهة، وتقريره: أن هذه الآية دالة على أن الأصل في كل فعل فعله الرسول أن يجب علينا لإتيان بمثله إلا إذا خصه الدليل.
إذا عرفت هذا فنقول: إنا إذا أردنا أن نحكم بوجوب عمل من الأعمال.
قلنا: إن هذا العمل فعله أفضل من تركه، وإذا كان الأمر كذلك: فحينئذ نعمل أن الرسول
30

قد أتى به في الجملة، لأن العلم الضروري حاصل بأن الرسول لا يجوز أن يواظب طول عمره على ترك الأفضل، فعلمنا أنه عليه السلام قد أتى بهذا الطريق الأفضل. وأما أنه هل أتى بالطرف الأحسن فهو مشكوك، والمشكوك لا يعارض المعلوم، فثبت أنه عليه السلام أتى بالجانب الأفضل. ومتى ثبت ذلك وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى في هذه الآية: * (واتبعوه) * فهذا أصل شريف، وقانون كلي في معرفة الأحكام، دال على النصوص لقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * (النجم: 3، 4) فوجب علينا مثله لقوله تعالى: * (واتبعوه) *.
وأما قوله: * (لعلكم تهتدون) * ففيه بحثان: أحدهما: أن كلمة " لعل " للترجي، وذلك لا يليق بالله، فلا بد من تأويله. والثاني: أن ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من كل المكلفين الهداية والإيمان على قول المعتزلة، والكلام في تقرير هذين المقامين قد سبق في هذا الكتاب مرارا كثيرة، فلا فائدة في الإعادة.
* (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) *.
واعلم أنه تعالى لما وصف الرسول، وذكر أنه يجب على الخلق متابعته، ذكر أن من قوم موسى عليه السلام من اتبع الحق وهدى إليه، وبين أنهم جماعة، لأن لفظ الأمة ينبئ عن الكثرة، واختلفوا في أن هذه الأمة متى حصلت، وفي أي زمان كانت؟ فقيل هم اليهود الذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام، وأسلموا مثل عبد الله بن سلام، وابن صوريا والاعتراض عليه بأنهم كانوا قليلين في العدد، ولفظ الأمة يقتضي الكثرة، يمكن الجواب عنه بأنه لما كانوا مختلفين في الدين، جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة) * (النحل: 120) وقيل: إنهم قوم مشوا على الدين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف والتبديل في زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع، ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه، ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك، وقال السدي وجماعة من المفسرين: إن بني إسرائيل لما كفروا وقتلوا الأنبياء، بقي سبط في جملة الاثني عشر فما صنعوا وسألوا الله أن ينقذهم منهم، ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين ثم هؤلاء اختلفوا، منهم من قال: إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن ومنهم من قال إنهم الآن على دين محمد صلى الله عليه وسلم يستقبلون الكعبة، وتركوا السبت وتمسكوا بالجمعة، لا يتظالمون ولا يتحاسدون ولا يصل إليهم منا أحد ولا
31

إلينا منهم أحد. وقال بعض المحققين: هذا القول ضعيف لأنه إما أن يقال: وصل إليهم خبر محمد صلى الله عليه وسلم، أو ما وصل إليهم هذا الخبر.
فإن قلنا: وصل خبره إليهم، ثم إنهم أصروا على اليهودية فهم كفار، فكيف يجوز وصفهم بكونهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون؟ وإن قلنا بأنهم لم يصل إليهم خبر محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا بعيد، لأنه لما وصل خبرهم إلينا، مع أن الدواعي لا تتوفر على نقل أخبارهم، فكيف يعقل أن لا يصل إليهم خبر محمد عليه الصلاة والسلام مع أن الدنيا قد امتلأت من خبره وذكره؟
فإن قالوا: أليس إن يأجوج ومأجوج قد وصل خبرهم إلينا ولم يصل خبرنا إليهم؟
قلنا: هذا ممنوع، فمن أين عرف أنه لم يصل خبرنا إليهم، فهذا جملة ما قيل في هذا الباب.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (يهدون بالحق) * أي يدعون الناس إلى الهداية بالحق * (وبه يعدلون) * قال الزجاج: العدل الحكم بالحق. يقال: هو يقضي بالحق ويعدل؛ وهو حكم عادل، ومن ذلك قوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) * (النساء: 129) وقوله: * (وإذا قلتم فاعدلوا) * (الأنعام: 152).
* (وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطا أمما وأوحينآ إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
اعلم أن المقصود من هذه الآية، شرح نوعين من أحوال بني إسرائيل: أحدهما: أنه تعالى جعلهم اثني عشر سبطا، وقد تقدم هذا في سورة البقرة، أو المراد أنه تعالى فرق بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة، لأنهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب، فميزهم وفعل بهم ذلك لئلا يتحاسدوا فيقع فيهم الهرج والمرج. وقوله: * (وقطعناهم) * أي صيرناهم قطعا أي فرقا وميزنا بعضهم من بعض وقرئ * (وقطعناهم) * بالتخفيف وههنا سؤالان:
32

السؤال الأول: مميز ما عدا العشرة مفرد، فما وجه مجيئه مجموعا، وهلا قيل: اثني عشر سبطا؟
والجواب: المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكل قبيلة أسباط، فوضع أسباطا موضع قبيلة.
السؤال الثاني: قال: * (اثنتي عشرة أسباطا) * مع أن السبط مذكر لا مؤنث.
الجواب قال الفراء: إنما قال ذلك، لأنه تعالى ذكر بعده * (أمما) * فذهب التأنيث إلى الأمم.
ثم قال: ولو قال: اثني عشر لأجل أن السبط مذكر كان جائزا. وقال الزجاج: المعنى * (وقطعناهم اثنتي عشرة) * فرقة * (أسباطا) * فقوله: * (أسباطا) * نعت لموصوف محذوف، وهو الفرقة. وقال أبو علي الفارسي: ليس قوله: * (أسباطا) * تمييزا، ولكنه بدل من قوله: * (اثنتي عشرة) *.
وأما قوله: * (أمما) * قال صاحب " الكشاف ": هو بدل من * (اثنتي عشرة) * بمعنى: وقطعناهم أمما لأن كل سبط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد، وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى ولا تكاد تأتلف. وقرئ * (اثنتي عشرة) * بكسر الشين.
النوع الثاني: من شرح أحوال بني إسرائيل قوله تعالى: * (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر) * وهذه القصة أيضا قد تقدم ذكرها في سورة البقرة. قال الحسن: ما كان إلا حجرا اعترضه وإلا عصا أخذها.
واعلم أنهم كانوا ربما احتاجوا في التيه إلى ماء يشربونه، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه الحجر. وكانوا يريدونه مع أنفسهم فيأخذوا منه قدر الحاجة، وقوله: * (فانبجست) * قال الواحدي: فانبجس الماء وانبجاسه انفجاره. يقال: بجس الماء يبجس وانبجس وتبجس إذا تفجر، هذا قول أهل اللغة، ثم قال: والانبجاس والانفجار سواء، وعلى هذا التقدير فلا تناقض بين الانبجاس المذكور ههنا وبين الانفجار المذكور في سورة البقرة، وقال آخرون: الانبجاس خروج الماء بقلة، والانفجار خروجه بكثرة، وطريق الجمع: أن الماء ابتدأ بالخروج قليلا، ثم صار كثيرا، وهذا الفرق مروي عن أبي عمرو بن العلاء، ولما ذكر تعالى أنه كيف كان يسقيهم، ذكر ثانيا أنه ظلل الغمام عليهم، وثالثا: أنه أنزل عليهم المن والسلوى، ولا شك أن مجموع هذه الأحوال نعمة عظيمة من الله تعالى، لأنه تعالى سهل
عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه ودفع عنهم مضار الشمس.
ثم قال: * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) * والمراد أقصر أنفسهم على ذلك المطعوم وترك غيره.
33

ثم قال تعالى: * (وما ظلمونا) * وفيه حذف، وذلك لأن هذا الكلام إنما يحسن ذكره لو أنهم تعدوا ما أمرهم الله به، وذلك إما بأن تقول إنهم ادخروا مع أن الله منعهم منه، أو أقدموا على الأكل في وقت منعهم الله عنه، أو لأنهم سألوا غير ذلك مع أن الله منعهم منه، ومعلوم أن المكلف إذا ارتكب المحظور فهو ظالم لنفسه، فلذلك وصفهم الله تعالى به ونبه بقوله: * (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * وذلك أن المكلف إذا أقدم على المعصية فهو ما أضر إلا نفسه حيث سعى في صيرورة نفسه مستحقة للعقاب العظيم.
* (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السمآء بما كانوا يظلمون) *.
اعلم أن هذه لقصة أيضا مذكورة مع الشرح والبيان في سورة البقرة.
بقي أن يقال: إن ألفاظ هذه الآية تخالف ألفاظ الآية التي في سورة البقرة من وجوه: الأول: في سورة البقرة * (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) * (البقرة: 58) وههنا قال: * (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية) * والثاني: أنه قال في سورة البقرة * (فكلوا) * بالفاء وههنا * (وكلوا) * بالواو. والثالث: أنه قال في سورة البقرة * (رغدا) * وهذه الكلمة غير مذكورة في هذه السورة. والرابع: أنه قال في سورة البقرة: * (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) * وقال ههنا على التقديم والتأخير. والخامس: أنه قال في البقرة * (نغفر لكم خطاياكم) * وقال ههنا: * (نغفر لكم خطيئاتكم) * والسادس: أنه قال في سورة البقرة: * (وسنزيد المحسنين) * وههنا حذف حرف الواو. والسابع: أنه قال في سورة البقرة: * (فأنزلنا على الذين ظلموا) * وقال ههنا: * (فأرسلنا عليهم) * والثامن: أنه قال في سورة البقرة: * (بما كانوا يفسقون) * وقال ههنا: * (بما
34

كانوا يظلمون) واعلم أن هذه الألفاظ متقاربة ولا منافاة بينها البتة، ويمكن ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة.
أما الأول: وهو أنه قال في سورة البقرة: * (ادخلوا هذه القرية) * وقال ههنا: * (اسكنوا) * فالفرق أنه لا بد من دخول القرية أولا، ثم سكونها ثانيا.
وأما الثاني: فهو أنه تعالى قال في البقرة: * (ادخلوا هذه القرية فكلوا) * بالفاء. وقال ههنا: * (اسكنوا هذه القرية وكلوا) * بالواو والفرق أن الدخول حالة مخصوصة، كما يوجد بعضها ينعدم. فإنه إنما يكون داخلا في أول دخوله، وأما ما بعد ذلك فيكون سكونا لا دخولا.
إذا ثبت هذا فنقول: الدخول حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار. فلا جرم يحسن ذكر فاء التعقيب بعده، فلهذا قال: * (ادخلوا هذه القرية) * وأما السكون فحالة مستمرة باقية. فيكون الأكل حاصلا معه لا عقيبه فظهر الفرق.
وأما الثالث: وهو أنه ذكر في سورة البقرة * (رغدا) * وما ذكره هنا فالفرق الأكل عقيب دخول القرية يكون ألذ، لأن الحاجة إلى ذلك الأكل كانت أكمل وأتم، ولما كان ذلك الأكل ألذ لا جرم ذكر فيه قوله: * (رغدا) * وأما الأكل حال سكون القرية، فالظاهر أنه لا يكون في محل الحاجة الشديدة ما لم تكن اللذة فيه متكاملة، فلا جرم ترك قوله: * (رغدا) * فيه.
وأما الرابع: وهو قوله في سورة البقرة: * (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) * وفي سورة الأعراف على العكس منه، فالمراد التنبيه على أنه يحسن تقديم كل واحد من هذين الذكرين على الآخر، إلا أنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى، وإظهار الخضوع والخشوع لم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير.
وأما الخامس: وهو أنه قال في سورة البقرة: * (خطاياكم) * وقال ههنا: * (خطيئاتكم) * فهو إشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة، فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرع.
وأما السادس: وهو أنه تعالى قال في سورة البقرة: * (وسنزيد) * بالواو وههنا حذف الواو فالفائدة في حذف الواو أنه استئناف، والتقدير: كان قائلا قال: وماذا حصل بعد الغفران؟ فقيل له * (سنزيد المحسنين) *.
وأما السابع: وهو الفرق بين قوله: * (أنزلنا) * وبين قوله: * (أرسلنا) * فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة، والإرسال يشعر بها، فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل، ثم جعله كثيرا، وهو نظير ما ذكرناه في الفرق بين قوله: * (فانبجست) * وبين قوله: * (فانفجرت) *.
35

وأما الثامن: وهو الفرق بين قوله: * (يظلمون) * وبين قوله: * (يفسقون) * فذلك لأنهم موصوفون بكونهم ظالمين، لأجل أنهم ظلموا أنفسهم، وبكونهم فاسقين، لأجل أنهم خرجوا عن طاعة الله تعالى، فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين، فهذا ما خطر بالبال في ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة، وتمام العلم بها عند الله تعالى.
* (واسئلهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذ يعدون فى السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون) *.
اعلم أن هذه القصة أيضا مذكورة في سورة البقرة. وفيها مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (واسألهم) * المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم، لأن هذه القصة قد صارت معلومة للرسول من قبل الله تعالى، وإنما المقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء: الأول: أن المقصود من ذكر هذا السؤال تقرير أنهم كانوا قد أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة تنبيها لهم على أن إصرارهم
على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبمعجزاته ليس شيئا حدث في هذا الزمان، بل هذا الكفر والإصرار كان حاصلا في أسلافهم من الزمان القديم.
والفائدة الثانية: أن الإنسان قد يقول لغيره هل هذا الأمر كذا وكذا؟ ليعرف بذلك أنه محيط بتلك الواقعة، وغير ذاهل عن دقائقها، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم رجلا أميا لم يتعلم علما، ولم يطالع كتابا، ثم أنه يذكر هذه القصص على وجهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان، كان ذلك جاريا مجرى المعجز. المسألة الثانية: الأكثرون على أن تلك القرية أيلة. وقيل: مدين. وقيل طبرية، والعرب تسمى المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج يعني رجلين من أهل المدن، وقوله: * (كانت حاضرة البحر) * يعني قريبة من البحر وبقربه وعلى شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى: * (ذلك لمن يكن أهله حاضري المسجد الحرام) * (البقرة: 196) وقوله: * (إذ يعدون
36

في السبت) * يعني يجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم يوم السبت وقد نهوا عنه، وقرئ * (يعدون) * بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين و * (يعدون) * من الأعداد وكانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة و * (السبت) * مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها فقوله: * (إذ يعدون في السبت) * معناه يعدون في تعظيم هذا اليوم، وكذلك قوله: * (يوم سبتهم) * معناه: يوم تعظيمهم أمر السبت، ويدل عليه قوله: * (ويوم لا يسبتون) * ويؤكده أيضا قراءة عمر بن عبد العزيز * (يوم أسباتهم) * وقرئ * (لا يسبتون) * بضم الباء، وقرأ علي رضي الله عنه * (لا يسبتون) * بضم الياء من أسبتوا، وعن الحسن * (لا يسبتون) * على البناء للمفعول، وقوله: * (إذ تأتيهم حيتانهم) * نصب بقوله: * (يعدون) * والمعنى: سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان، وقوله: * (يوم سبتهم شرعا) * أي ظاهرة على الماء وشرع جمع شارع وشارعة وكل شيء دان من شيء فهو شارع، ودار شارعة أي دنت من الطريق، ونجوم شارعة أي دنت من المغيب. وعلى هذا فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها، قال ابن عباس ومجاهد: إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به، يوم الجمعة، فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد فيه وأمروا بتعظيمه، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل. وذلك بلاء ابتلاهم الله به، فذلك معنى قوله: * (ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) * وقوله: * (كذلك نبلوهم) * أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم، وذلك يدل على أن من أطاع الله تعالى خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح لا في الدين ولا في الدنيا وذلك لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت ربما يحملهم على المعصية والكفر، فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح، لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم صونا لهم عن ذل الكفر والمعصية. فلما فعل ذلك ولم يبال بكفرهم ومعصيتهم علمنا أن رعاية الصلاح والأصلح غير واجبة على الله تعالى.
* (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا
37

معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) *.
اعلم أن قوله: * (وإذ قالت) * معطوف على قوله: * (إذ يعدون) * وحكمه حكمه في الأعراب وقوله: * (أمة منهم) * أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظة أولئك الصيادين حتى أيسوا من قبولهم لأقوام آخرين ما كانوا يقلعون عن وعظهم. وقوله: * (لم تعظون قوما الله مهلكهم) * أي مخترمهم ومطهر الأرض منهم * (أو معذبهم عذابا شديدا) * لتماديهم في الشر، وإنما قالوا ذلك لعلمهم أن الوعظ لا ينفعهم وقوله: * (قالوا معذرة إلى ربكم) * فيه بحثان:
البحث الأول: قرأ حفص عن عاصم * (معذرة) * بالنصب والباقون بالرفع، أما من نصب * (معذرة) * فقال الزجاج معناه: نعتذر معذرة، وأما من رفع فالتقدير: هذه معذرة أو قولنا معذرة وهي خبر لهذا المحذوف.
البحث الثاني: المعذرة مصدر كالعذر، وقال أبو زيد: عذرته أعذره عذرا ومعذرة، ومعنى عذره في اللغة أي قام بعذره، وقيل: عذره، يقال: من يعذرني أي يقوم بعذري، وعذرت فلانا فيما صنع أي قمت بعذره، فعلى هذا معنى قوله: * (معذرة إلى ربكم) * أي قيام منا بعذر أنفسنا إلى الله تعالى، فإنا إذا طولنا بإقامة النهي عن المنكر. قلنا: قد فعلنا فنكون بذلك معذورين، وقال الأزهري: المعذرة اسم على مفعلة من عذر يعذر وأقيم مقام الاعتذار. كأنهم قالوا: موعظتنا اعتذار إلى ربنا. فأقيم الاسم مقام الاعتذار، ويقال: اعتذر فلان اعتذارا وعذرا ومعذرة من ذنبه فعذرته، وقوله: * (ولعلهم يتقون) * أي وجائز عندنا أن ينتفعوا بهذا الوعظ فيتقوا الله ويتركوا هذا الذنب.
إذا عرفت هذا فنقول: في هذه الآية قولان:
القول الأول: أن أهل القرية منهم من صاد السمك وأقدم على ذلك الذنب ومنهم من لم يفعل ذلك، وهذا القسم الثاني صاروا قسمين: منهم من وعظ الفرقة المذنبة، وزجرهم عن ذلك الفعل، ومنهم من سكت عن ذلك الوعظ، وأنكروا على الواعظين وقالوا لهم: لم تعظوهم، مع العلم بأن
38

الله مهلكهم أو معذبهم؟ يعني: أنهم قد بلغوا في الإصرار على هذا الذنب إلى حد لا يكادون يمنعون عنه، فصار هذا الوعظ عديم الفائدة عديم الأثر، فوجب تركه.
والقول الثاني: أن أهل القرية كانوا فرقتين: فرقة أقدمت على الذنب، وفرقة أحجموا عنه ووعظوا الأولين، فلما اشتغلت هذه الفرقة بوعظ الفرقة المذنبة المتعدية المقدمة على القبيح، فعند ذلك قالت الفرقة المذنبة للفرقة الواعظة * (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم) * بزعمكم؟ قال الواحدي: والقول الأول أصح، لأنهم لو كانوا فرقتين وكان قوله: * (معذرة إلى ربكم) * خطابا من الفرقة الناهية للفرقة المعتدية لقالوا: * (ولعلكم تتقون) *.
أما قوله: * (فلما نسوا ما ذكروا به) * يعني: أنهم لما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه، أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الظالمين المقدمين على فعل المعصية.
واعلم أن لفظ الآية يدل على أن الفرقة المتعدية هلكت، والفرقة الناهية عن المنكر نجت. أما الذين قالوا: * (لم تعظون) * فقد اختلف المفسرون في أنهم من أي الفريقين كانوا؟ فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه توقف فيه. ونقل عنه أيضا: هلكت الفرقتان ونجت الناهية، وكان ابن عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: إن هؤلاء الذين سكتوا عن النهي عن المنكر هلكوا، ونحن نرى أشياء ننكرها، ثم نسكت ولا نقول شيئا. قال الحسن: الفرقة الساكتة ناجية، فعلى هذا نجت فرقتان وهلكت الثالثة. واحتجوا عليه بأنهم لما قالوا: * (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم) * دل ذلك على أنهم كانوا منكرين عليهم أشد الإنكار، وأنهم إنما تركوا وعظهم لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلتفتون إلى ذلك الوعظ ولا ينتفعون به.
فإن قيل: إن ترك الوعظ معصية، والنهي عنه أيضا معصية، فوجب دخول هؤلاء التاركين للوعظ الناهين عنه تحت قوله: * (وأخذنا الذين ظلموا) *.
قلنا: هذا غير لازم، لأن النهي عن المنكر إنما يجب على الكفاية. فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، ثم ذكر أنه تعالى أخذهم بعذاب بئيس، والظاهر أن هذا العذاب غير المسخ المتأخر ذكره. وقوله: * (بعذاب بئيس) * أي شديد وفي هذه اللفظة قراآت: أحدها: * (بئيس) * بوزن فعيل. قال أبو علي: وفيه وجهان: الأول: أن يكون فعيلا من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد. والآخر: ما قاله أبو زيد، وهو أنه من البؤس وهو الفقر يقال بئس الرجل يبأس بؤسا وبأسا وبئيسا إذا افتقر فهو بائس، أي فقير. فقوله: * (بعذاب بئيس) * أي ذي بؤس. والقراءة الثانية * (بئس) * بوزن حذر. والثالثة: * (بيس) * على قلب الهمزة ياء، كالذيب في ذئب، والرابعة: * (بيئس) * على فيعل. والخامسة: * (بيس) * كوزن
39

ريس على قلب همزة بئيس ياء وإدغام الياء فيها. والسادسة: * (بيس) * على تخفيف بيس كهين في هين، وهذه القراءات نقلها صاحب " الكشاف ". ثم بين تعالى أنهم مع نزول هذا العذاب بهم تمردوا.
* (فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) *.
وفيه مباحث:
البحث الأول: العتو عبارة عن الإباء والعصيان، وإذا عتوا عما نهوا عنه فقد أطاعوا، لأنهم أبوا عما نهوا عنه، ومعلوم أنه ليس المراد ذلك فلا بد من إضمار، والتقدير: فلما عتوا عن ترك ما نهوا عنه، ثم حذف المضاف، وإذا أبوا ترك المنهي كان ذلك ارتكابا للمنهي.
البحث الثاني: من الناس من قال: إن قوله: * (قلنا لهم كونوا قردة) * ليس من المقال، بل المراد منه: أنه تعالى فعل ذلك. قال: وفيه دلالة على أن قوله: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) هو بمعنى الفعل لا الكلام. وقال الزجاج: أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سمع فيكون أبلغ.
واعلم أن حمل هذا الكلام على هذا بعيد، لأن المأمور بالفعل يجب أن يكون قادرا عليه، والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة.
البحث الثالث: قال ابن عباس: أصبح القوم وهم قردة صاغرون، فمكثوا كذلك ثلاثا فرآهم الناس ثم هلكوا. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن شباب القوم صاروا قردة، والشيوخ خنازير، وهذا القول على خلاف الظاهر. واختلفوا في أن الذين مسخوا هل بقوا قردة؟ وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا، وانقطع نسلهم، ولا دلالة في الآية عليه، والكلام في المسخ وما فيه من المباحثات قد سبق بالاستقصاء في سورة البقرة. والله أعلم.
* (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) *.
40

اعلم أنه تعالى لما شرح ههنا بعض مصالح أعمال اليهود وقبائح أفعالهم ذكر في هذه الآية أنه تعالى حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة، قال سيبويه: أذن أعلم. وأذن نادى وصاح للإعلام ومنه قوله تعالى: * (فأذن مؤذن بينهم) * (الأعراف: 44) وقوله: * (تأذن) * بمعنى أذن أي أعلم. ولفظة تفعل، ههنا ليس معناه أنه أظهر شيئا ليس فيه، بل معناه فعل فقوله: * (تأذن) * بمعنى أذن كما في قوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * (يونس: 18) معناه علا وارتفع لا بمعنى أنه أظهر من نفسه العلو، وإن لم يحصل ذلك فيه وأما قوله * (ليبعثن عليهم) * ففيه بحثان:
البحث الأول: أن اللام في قوله: * (ليبعثن) * جواب القسم لأن قوله: * (وإذ تأذن) * جار مجرى القسم في كونه جازما بذلك الخبر.
البحث الثاني: الضمير في قوله: * (عليهم) * يقتضي أن يكون راجعا إلى قوله: * (فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) * (الأعراف: 166) لكنه قد علم أن الذين مسخوا لم يستمر عليهم التكليف. ثم اختلفوا فقال بعضهم: المراد نسلهم والذين بقوا منهم. وقال آخرون: بل المراد سائر اليهود فإن أهل القرية كانوا بين صالح وبين متعد فمسخ المتعدي وألحق الذل بالبقية، وقال الأكثرون: هذه الآية في اليهود الذين أدركهم الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شريعته، وهذا أقرب. لأن المقصود من هذه الآية تخويف اليهود الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم وزجرهم عن البقاء على اليهودية، لأنهم إذا علموا بقاء الذل عليهم إلى يوم القيامة انزجروا.
البحث الثالث: لا شبهة في أن المراد اليهود الذين ثبتوا على الكفر واليهودية، فأما الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فخارجون عن هذا الحكم.
أما قوله: * (إلى يوم القيامة) * فهذا تنصيص على أن ذلك العذاب ممدود إلى يوم القيامة وذلك يقتضي أن ذلك العذاب إنما يحصل في الدنيا، وعند ذلك اختلفوا فيه فقال بعضهم: هو أخذ الجزية. وقيل: الاستخفاف والإهانة والإذلال لقوله تعالى: * (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا) * وقيل: القتل والقتال. وقيل: الإخراج
والإبعاد من الوطن، وهذا القائل جعل هذه الآية في أهل خيبر وبني قريظة والنضير، وهذه الآية نزلت في اليهود على أنه لا دولة ولا عز، وأن الذل يلزمهم، والصغار لا يفارقهم. ولما أخبر الله تعالى في زمان محمد عن هذه الواقعة. ثم شاهدنا بأن الأمر كذلك كان هذا أخبارا صدقا عن الغيب، فكان معجزا، والخبر المروي في أن أتباع الرجال هم اليهود إن صح، فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهودا ثم دانوا بإلهيته، فذكروا بالاسم الأول ولولا ذلك لكان في وقت اتباعهم الدجال قد خرجوا عن الذلة والقهر، وذلك خلاف هذه الآية. واحتج بعض العلماء
41

على لزوم الذل والصغار لليهود بقوله تعالى: * (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله) * (آل عمران: 112) إلا أن دلالتها ليست قوية لأن الاستثناء المذكور في هذه الآية يمنع من القطع على لزوم الذل لهم في كل الأحوال. أما الآية التي نحن في تفسيرها لم يحصل فيها تقييد ولا استثناء، فكانت دلالتها على هذا المعنى قوية جدا. واختلفوا في أن الذين يلحقون هذا الذل بهؤلاء اليهود من هم، فقال بعضهم: الرسول وأمته وقيل يحتمل دخول الولاة الظلمة منهم، وإن لم يؤمروا بالقيام بذلك إذا أذلوهم. وهذا القائل حمل قوله: * (ليبعثن) * على نحو قوله: * (إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) * (مريم: 83) فإذا جاز أن يكون المراد بالإرسال التخلية، وترك المنع، فكذلك البعثة، وهذا القائل. قال: المراد بختنصر وغيره إلى هذا اليوم، ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله: * (إن ربك لسريع العقاب) * والمراد التحذير من عقابه في الآخرة مع الذلة في الدنيا * (وإنه لغفور رحيم) * لمن تاب من الكفر واليهودية، ودخل في الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
* (وقطعناهم في الارض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) *.
واعلم أن قوله: * (وقطعناهم) * أحد ما يدل على أن الذي تقدم من قوله: * (ليبعثن عليهم) * (الأعراف: 167) المراد جملة اليهود، ومعنى * (قطعناهم) * أي فرقناهم تفريقا شديدا. فلذلك قال بعده: * (في الأرض أمما) * وظاهر ذلك أنه لا أرض مسكونة إلا ومنهم فيها أمة، وهذا هو الغالب من حال اليهود، ومعنى قطعناهم، فإنه قلما يوجد بلد إلا وفيه طائفة منهم.
ثم قال: * (منهم الصالحون) * قيل المراد القوم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام لأنه كان فيهم أمة يهدون بالحق. وقال ابن عباس ومجاهد: يريد الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وقوله: * (ومنهم دون ذلك) * أي ومنهم قوم دون ذلك، والمراد من أقام على اليهودية.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون قوله: * (ومنهم دون ذلك) * من يكون صالحا إلا أن صلاحه كان دون صلاح الأولين لأن ذلك إلى الظاهر أقرب.
قلنا: أن قوله بعد ذلك: * (لعلهم يرجعون) * يدل على أن المراد بذلك من ثبت على اليهودية وخرج من الصلاح.
42

أما قوله: * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) * أي عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسنات، وهي النعم والخصب والعافية، والسيئات هي الجدب والشدائد، قال أهل المعاني: وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة، أما النعم فلأجل الترغيب، وأما النقم فلأجل الترهيب. وقوله: * (يرجعون) * يريد كي يتوبوا.
* (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الادنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون * والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلوة إنا لا نضيع أجر المصلحين) *.
اعلم أن قوله: * (فخلف من بعدهم خلف) * ظاهره أن الأول ممدوح. والثاني مذموم، وإذا كان كذلك، فيجب أن يكون المراد: فخلف من بعد الصالحين منهم الذين تقدم ذكرهم خلف. قال الزجاج: الخلف ما أخلف عليك مما أخذ منك، فلهذا السبب يقال للقرن الذي يجيء في إثر قرن خلف، ويقال فيه أيضا خلف، وقال أحمد بن يحيى: الناس كلهم يقولون خلف صدق وخلف سوء، وخلف للسوء لا غير. وحاصل الكلام: أن من أهل العربية من قال الخلف والخلف قد يذكر في الصالح وفي الردئ، ومنهم من يقول الخلف مخصوص بالذم قال لبيد. وبقيت في خلف كجلد الأجرب.
ومنهم من يقول: الخلف المستعمل في الذم مأخوذ من الخلف، وهو الفساد، يقال للردئ من القول خلف، ومنه المثل المشهور سكت ألفا ونطق خلفا، وخلف الشيء يخلف خلوفا وخلفا إذا فسد
43

وكذلك الفم إذا تغيرت رائحته. وقوله: * (يأخذون عرض هذا الأدنى) * قال أبو عبيدة جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء، يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وأما العرض بسكون الراء فما خالف العين، أعني الدراهم والدنانير وجمعه عروض، فكان كل عرض عرضا وليس كل عرض عرضا، والمراد بقوله: * (عرض هذا الأدنى) * أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها، وفي قوله: * (هذا الأدنى) * تخسيس وتحقير، و * (الأدنى) * إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها. والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلام. ثم حكى تعالى عنهم أنهم يستحقرون ذلك الذنب ويقولون سيغفر لنا.
ثم قال: * (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) * والمراد الأخبار عن إصرارهم على الذنوب. وقال الحسن هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يستمتعون منها. ثم بين تعالى قبح فعلهم فقال: * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب) * أي التوراة * (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) * قيل المراد منعهم عن تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة، وقيل: المراد أنهم قالوا سيغفر لنا هذا الذنب مع الإصرار، وذلك قول باطل.
فإن قيل: فهذا القول يدل على أن حكم التوراة هو أن صاحب الكبيرة لا يغفر له.
قلنا: أنهم كانوا يقطعون بأن هذه الكبيرة مغفورة، ونحن لا نقطع بالغفران بل نرجو الغفران، ونقول: إن بتقدير أن يعذب الله عليها فذلك العذاب منقطع غير دائم.
ثم قال تعالى: * (ودرسوا ما فيه) * أي فهم ذاكرون لما أخذ عليهم لأنهم قد قرؤه ودرسوه.
ثم قال: * (والدار الآخرة خير للذين يتقون) * من تلك الرشوة الخبيثة المحقرة * (أفلا يعقلون) *.
أما قوله تعالى: * (والذين يمسكون بالكتاب) * يقال مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وامتسكت به، وقرأ أبو بكر عن عاصم * (يمسكون) * مخففة والباقون بالتشديد. أما حجة عاصم فقوله تعالى: * (فإمساك بمعروف) * (البقرة: 229) وقوله: * (أمسك عليك زوجك) * (الأحزاب: 37) وقوله: * (فكلوا مما أمسكن عليكم) * (المائدة: 4) قال الواحدي: والتشديد أقوى، لأن التشديد للكثرة وههنا أريد به الكثرة، ولأنه يقال: أمسكته، وقلما يقال أمسكت به.
إذا عرفت هذا فنقول: في قوله: * (والذين يمسكون بالكتاب) * قولان:
القول الأول: أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره * (إنا لا نضيع أجر المصلحين) * والمعنى: إنا لا نضيع أجرهم وهو كقوله: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) * (الكهف: 30) وهذا الوجه حسن لأنه لما ذكر وعيد من ترك التمسك بالكتاب أردفه بوعد من تمسك به.
والقول الثاني: أن يكون مجرورا عطفا على قوله: * (الذين يتقون) * ويكون قوله: * (إنا لا نضيع) *
44

زيادة مذكورة لتأكيد ما قبله.
فإن قيل: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردت بالذكر؟
قلنا: إظهارا لعلو مرتبة الصلاة، وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان.
* (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) *.
قال أبو عبيدة: أصل النتق قلع الشيء من موضعه، والرمي به. يقال: نتق ما في الجراب إذا رمى به وصبه. وامرأة ناتق ومنتاق إذا كثر ولدها لأنها ترمي بأولادها رميا فمعنى * (نتقنا الجبل) * أي قلعناه من أصله وجعلناه فوقهم وقوله: * (كأنه ظلة) * قال ابن عباس: كأنه سقيفة والظلة كل ما أظلك من سقف بيت أو سحابة أو جناح حائط، والجمع ظلل وظلال، وهذه القصة مذكورة في سورة البقرة * (وظنوا أنه واقع بهم) * (الأعراف: 171) قال المفسرون: علموا وأيقنوا. وقال أهل المعاني: قوي في نفوسهم أنه واقع بهم إن خالفوه، وهذا هو الأظهر في معنى الظن، ومضى الكلام فيه عند قوله * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) * (البقرة: 46) روى أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها، فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخا في فرسخ، وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خر كل واحد منهم ساجدا على حاجبه الأيسر، وهو ينظر بعينه اليمنى خوفا من سقوطه، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى، ويقولون هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة.
ثم قال تعالى: * (خذوا ما آتيناكم بقوة) * أي وقلنا خذوا ما آتيناكم أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من الكتاب بقوة وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه * (واذكروا ما فيه) * من الأوامر والنواهي، أي واذكروا ما فيه من الثواب والعقاب، ويجوز أن يراد: خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة، إن كنتم تطيقونه كقوله: * (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا) * (الرحمان: 33) واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة لعلكم تتقون ما أنتم عليه.
45

* (وإذ أخذ ربك من بنى ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنمآ أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) *.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما شرح قصة موسى عليه السلام مع توابعها على أقصى الوجوه ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين، وفي تفسير هذه الآية قولان: الأول: وهو مذهب المفسرين وأهل الأثر ما روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: " إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون " فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة " وقال مقاتل: " إن الله مسح صفحة ظهر آدم سوداء كهيئة الذر فقال يا آدم هؤلاء ذريتك.
46

ثم قال لهم: * (ألست بربكم قالوا بلى) * فقال للبيض هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين، وقال للسود هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة ثم أعادهم جميعا في صلب آدم، فأهل القبول محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال، وأرحام النساء. وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول * (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) * (الأعراف: 102) وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعكرة، والكلبي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه أبصر آدم في ذريته قوما لهم نور. فقال يا رب من هم؟ فقال الأنبياء، ورأي واحدا هو أشدهم نورا فقال من هو؟ قال داود، قال فكم عمره قال سبعون سنة قال آدم: هو قليل قد وهبته من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة، فلما تم عمر آدم تسعمائة وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فقال بقي من أجلي أربعون سنة، فقال: ألست قد وهبته من ابنك داود؟ فقال ما كنت لأجعل لأحد من أجلي شيئا، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها. أما المعتزلة: فقد أطبقوا على أنه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الوجه. واحتجوا على فساد هذا القول بوجوه.
الحجة الأولى: لهم قالوا: قوله: * (من بني آدم من ظهورهم) * لا شك أن قوله: * (من ظهورهم) * يدل من قوله: * (بني آدم) * فيكون المعنى: وإذ أخذ
ربك من ظهور بني آدم. وعلى هذا التقدير: فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئا.
الحجة الثانية: أنه لو كان المرا أنه تعالى أخرج من ظهر آدم شيئا من الذرية لما قال: * (من ظهورهم) * بل كان يجب أن يقول: من ظهره، لأن آدم ليس له إلا ظهر واحد، وكذلك قوله: * (ذريتهم) * لو كان آدم لقال ذريته.
الحجة الثالثة: أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا: * (إنما أشرك آباؤنا من قبل) * وهذا الكلام يليق بأولاد آدم، لأنه عليه السلام ما كان مشركا.
الحجة الرابعة: أن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل، فلو أخذ الله الميثاق من أولئك الذر لكانوا عقلاء، ولو كانوا عقلاء وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة مهيبة فإنه لا يجوز مع كونه عاقلا أن ينساها نسيانا كليا لا يتذكر منها شيئا لا بالقليل ولا بالكثير، وبهذا الدليل يبطل القول بالتناسخ. فإنا نقول لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر، وحيث لم نتذكر ذلك كان القول
47

بالتناسخ باطلا. فإذا كان اعتمادنا في إبطال التناسخ ليس إلا على هذا الدليل وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة، وجب القول بمقتضاه، فلو جاز أن يقال إنا في وقت الميثاق أعطينا العهد والميثاق مع أنا في هذا الوقت لا نتذكر شيئا منه، فلم لا يجوز أيضا أن يقال إنا كنا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئا من تلك الأحوال. وبالجملة فلا فرق بين هذا القول وبين مذهب أهل التناسخ فإن لم يبعد التزام هذا القول لم يبعد أيضا التزام مذهب التناسخ.
الحجة الخامسة: أن جميع الخلق الذين خلقهم الله من أولاد آدم عدد عظيم وكثرة كثيرة، فالمجموع الحاصل من تلك الذرات يبلغ مبلغا عظيما في الحجمية والمقدار وصلب آدم على صغره يبعد أن يتسع لذلك المجموع.
الحجة السادسة: أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرة من ذرات الهباء أن يكون عاقلا فاهما مصنفا للتصانيف الكثيرة في العلوم الدقيقة. وفتح هذا الباب يفضي إلى التزام الجهالات. وإذا ثبت أن البنية شرط لحصول الحياة، فكل واحد من تلك الذرات لا يمكن أن يكون عالما فاهما عاقلا؛ إلا إذا حصلت له قدرة من البنية واللحمية والدمية، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى آخر قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا، فكيف يمكن أن يقال إنهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم عليه السلام؟
الحجة السابعة: قالوا هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت، أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا. والأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقين للثواب والعقاب والمدح والذم ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا لأنهم لما لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير ذلك حجة عليهم في التمسك بالإيمان؟
الحجة الثامنة: قال الكعبي: إن حال أولئك الذرية لا يكون أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال، ولما لم يكن توجيه التكليف على الطفل، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذوات؟
وأجاب الزجاج عنه فقال: لما لم يبعد أن يؤتى الله النمل العقل كما قال: * (قالت نملة يا أيها النمل) * (النمل: 18) وأن يعطي الجبل الفهم حتى يسبح كما قال: * (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن) * (الأنبياء: 79) وكما أعطى الله العقل للبعير حتى سجد للرسول، وللنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا ههنا.
الحجة التاسعة: أن أولئك الذر في ذلك الوقت إما أن يكونوا كاملي العقول والقدر أو ما كانوا
48

كذلك، فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن أحوالهم في هذه الحياة الدنيا، فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التسلسل وهو محال. وأما الثاني: وهو أن يقال إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول ولا كاملي القدر، فحينئذ يمتنع توجيه الخطاب والتكليف عليهم.
الحجة العاشرة: قوله تعالى: * (فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق) * (الطارق: 5، 6) ولو كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين، لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدافق ولا معنى للإنسان إلا ذلك الشيء فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقا من الماء الدافق وذلك رد لنص القرآن.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى هذه الحياة.
قلنا: هذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقا على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقا على سبيل الإعادة. وأجمع المسلمون على أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ فدل هذا على أن ما ذكرتموه باطل.
الحجة الحادية عشرة: هي أن تلك الذرات إما أن يقال هي عين هؤلاء الناس أو غيرهم والقول الثاني باطل بالإجماع، بقي القول الأول. فنقول: إما أن يقال إنهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك والأول باطل ببديهة العقل. والثاني: يقتضي أن يقال الإنسان حصل له الحياة أربع مرات: أولها وقت الميثاق، وثانيها في الدنيا، وثالثها في القبر، ورابعها في القيامة. وأنه حصل له الموت ثلاث مرات. موت بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول، وموت في الدنيا، وموت في القبر، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى: * (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) * (غافر: 11).
الحجة الثانية عشرة: قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنين: 12) فلو كان القول بهذا الذر صحيحا لكان ذلك الذر هو الإنسان لأنه هو
المكلف المخاطب المثاب المعاقب، وذلك باطل. لأن ذلك الذر غير مخلوق من النطفة، والعلقة، والمضغة، ونص الكتاب دليل على أن الإنسان مخلوق من النطفة والعلقة، وهو قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * وقوله: * (قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه) * (عبس: 17، 18) فهذه جملة الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف.
49

والقول الثاني: في تفسير هذه الآية قول أصحاب النظر وأرباب المعقولات: أنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات، وجعلها علقة، ثم مضغة، ثم جعلهم بشرا سويا، وخلقا كاملا ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقه، وغرائب صنعه. فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم يكن هناك قول باللسان، ولذلك نظائر منها قوله تعالى: * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11) ومنها قوله تعالى: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) وقول العرب: قال الجدار للوتد لم تشقني * قال سل من يدقني
فإن الذي ورايي * ما خلاني ورايي
وقال الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني
فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام، فوجب حمل الكلام عليه، فهذا هو الكلام في تقرير هذين القولين، وهذا القول الثاني لا طعن فيه البتة، وبتقدير أن يصح هذا القول لم يكن ذلك منافيا لصحة القول الأول: إنما الكلام في أن القول الأول هل يصح أم لا؟
فإن قال قائل: فما المختار عندكم فيه؟
قلنا: ههنا مقامان: أحدهما: أنه هل يصح القول بأخذ الميثاق عن الذر؟ والثاني: أن بتقدير أن يصح القول به، فهل يمكن جعله تفسير الألفاظ هذه الآية؟
أما المقام الأول: فالمنكرون له قد تمسكوا بالدلائل العقلية التي ذكرناها وقررناها، ويمكن الجواب عن كل واحد منها بوجه مقنع.
أما الوجه الأول: من الوجوه العقلية المذكورة، وهو أنه لو صح القول بأخذ هذا الميثاق لوجب أن نتذكره الآن.
قلنا: خالق العلم بحصول الأحوال الماضية هو الله تعالى لأن هذه العلوم عقلية ضرورية. والعلوم الضرورية خالقها هو الله تعالى، وإذا كان كذلك صح منه تعالى أن يخلقها.
فإن قالوا: فإذا جوزتم هذا، فجوزوا أن يقال: إن قبل هذا البدن كنا في أبدان أخرى على سبيل التناسخ وإن كنا لا نتذكر الآن أحوال تلك الأبدان!
قلنا: الفرق بين الأمرين ظاهر وذلك لأنا إذا كنا في أبدان أخرى، وبقينا فيها سنين ودهورا، امتنع في مجرى العادة نسيانها، أما أخذ هذا الميثاق إنما حصل في أسرع زمان، وأقل وقت فلم
50

يبعد حصول النسيان فيه، والفرق الظاهر حاكم بصحة هذا الفرق، لأن الإنسان إذا بقي على العمل الواحد سنين كثيرة يمتنع أن ينساه، أما إذا مارس العمل الواحد لحظة واحدة فقد ينساه، فقد ظهر الفرق.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يقال: مجموع تلك الذرات يمتنع حصولها بأسرها في ظهر آدم عليه السلام. قلنا: عندنا البنية ليست شرطا لحصول الحياة، والجوهر الفرد الذي لا يتجزأ، قابل للحياة والعقل، فإذا جعلنا كل واحد من تلك الذرات جوهرا فردا، فلم قلتم إن ظهر آدم عليه السلام لا يتسع لمجموعها؟ إلا أن هذا الجواب لا يتم إلا إذا قلنا: الإنسان جوهر فرد. وجزء لا يتجزأ في البدن. على ما هو مذهب بعض القدماء، وأما إذا قلنا: الإنسان هو النفس الناطقة، وإنه جوهر غير متحيز، ولا حال في المتحيز فالسؤال زائل.
وأما الوجه الثالث: وهو قوله فائدة أخذ الميثاق هي أن تكون حجة في ذلك الوقت أو في الحياة الدنيا؟
فجوابنا أن نقول: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، وأيضا أليس أن من المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال، وإنطاق الجوارح قالوا: لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء لطف؟ فكذا ههنا لا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق لطف. وقيل أيضا إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة وبقية الوجوه ضعيفة والكلام عليها سهل هين.
وأما المقام الثاني: وهو أن بتقدير أن يصح القول بأخذ الميثاق من الذر. فهل يمكن جعله تفسيرا لألفاظ هذه الآية؟ فنقول الوجوه الثلاثة المذكورة أولا دافعة لذلك لأن قوله: * (أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) * فقد بينا أن المراد منه، وإذا أخذ ربك من ظهور بني آدم، وأيضا لو كانت هذه الذرية مأخوذة من ظهر آدم لقال من ظهره ذريته ولم يقل من ظهورهم ذريتهم. أجاب الناصرون لذلك القول: بأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فسر هذه الآية بهذا الوجه والطعن في تفسير رسول الله غير ممكن. فنقول: ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذر من ظهور بني آدم فيحمل ذلك على أنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد منه فلان وذلك الفلان فلان آخر، فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض، وأما أنه تعالى يخرج كل تلك الذرية من صلب آدم، فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته وليس في الآية أيضا ما يدل على بطلانه، إلا أن الخبر قد دل عليه، فثبت إخراج الذرية من ظهور
51

بني آدم بالقرآن، وثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر، وعلى هذا التقدير: فلا منافاة بين الأمرين ولا مدافعة، فوجب المصير إليهما معا. صونا للآية. والخبر عن الطعن بقدر الإمكان، فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا المقام.
المسألة الثانية: قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر و * (ذرياتهم) * بالألف على الجمع والباقون * (ذريتهم) * على الواحد. قال الواحدي: الذرية تقع على الواحد والجمع. فمن أفرد فإنه قد استغنى عن جمعه وبوقوعه على الجمع فصار كالبشر فإنه يقع على الواحد كقوله: * (ما هذا بشرا) * وعلى الجمع كقوله: * (أبشر يهدوننا) * (التغابن: 6) وقوله: * (إن أنتم إلا بشر مثلنا) * وكما لم يجمع بشر بتصحيح ولا تكسير كذلك لا يجمع الذرية ومن جمع قال: إن الذرية وإن كان واحدا فلا إشكال في جواز الجمع فيه، وإن كان جميعا فجمعه أيضا حسن، لأنك قد رأيت الجموع المكسرة قد جمعت. نحو الطرقات والجدرات، وهو اختيار يونس أما قوله تعالى: * (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) * فنقول: أما على قول من أثبت الميثاق الأول فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها، وأما على قول من أنكره قال: إنها محمولة على التمثيل، والمعنى: أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم، فصار ذلك جاريا مجرى ما إذا أشهدهم على أنفسنا وإقرارنا بوحدانيته، أما قوله: * (شهدنا) * ففيه قولان:
القول الأول: أنه من كلام الملائكة، وذلك لأنهم لما قالوا * (بلى) * قال الله للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله: * (قالوا بلى) * لأن كلام الذرية قد انقطع ههنا وقوله: * (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) * تقريره: أن الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرار، لئلا يقولوا ما أقررنا، فأسقط كلمة " لا " كما قال: * (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) * (النحل: 15) يريد لئلا تميد بكم، هذا قول الكوفيين، وعند البصريين تقريره: شهدنا كراهة أن يقولوا.
والقول الثاني: أن قوله: * (شهدنا) * من بقية كلام الذرية، وعلى هذا التقرير، فقوله: * (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) * متعلق بقوله: * (وأشهدهم على أنفسهم) * والتقدير: وأشهدهم على أنفسهم، بكذا وكذا، لئلا يقولوا يوم القيامة * (إنا كنا عن هذا غافلين) * أو كراهية أن يقولوا ذلك وعلى هذا التقدير، فلا يجوز الوقف عند قوله: * (شهدنا) * لأن قوله: * (أن يقولوا) * متعلق بما قبله وهو قوله: * (وأشهدهم) * فلم يجز قطعه منه. واختلف القراء في قوله: * (أن يقولوا) * أو تقولوا: فقرأ أبو عمرو بالياء جميعا، لأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة وهو قوله: * (من بني آدم من ظهورهم - وأشهدهم على أنفسهم) لئلا يقولوا وقرأ الباقون بالتاء، لأنه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله: * (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) * وكلا الوجهين حسن، لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى.
52

أما قوله: * (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل) * قال المفسرون: المعنى أن المقصود من هذا الإشهاد أن لا يقول الكفار إنما أشركنا، لأن آباءنا أشركوا، فقلدناهم في ذلك الشرك، وهو المراد من قوله: * (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) * والحاصل: أنه تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع عليهم التمسك بهذا القدر. وأما الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل. قالوا: معنى الآية إنا نصبنا هذه الدلائل، وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة * (إنا كنا عن هذا غافلين) * فما نبهنا عليه منبه أو كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه، والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء.
ثم قال: * (وكذلك نفصل الآيات) * والمعنى: أن مثل ما فصلنا وبينا في هذه الآية، بينا سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل، وهو المراد من قوله: * (ولعلهم يرجعون) * وقيل: أي ما أخذ عليهم من الميثاق في التوحيد، وفي الآية قول ثالث؛ وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان، والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها، وهذا العلم ليس يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب، وهذا البحث إنما ينكشف تمام الانكشاف بأبحاث عقلية غامضة، لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب. والله أعلم.
* (واتل عليهم نبأ الذى ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله: نزلت هذه الآية في
53

ابن باعوراء، وذلك لأن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه، وغزا أهله وكانوا كفارا، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه، وكان مجاب الدعوة، وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه، فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه، فقال موسى: يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه. فقال: بدعاء بلعم. فقال: كما سمعت دعاءه علي، فاسمع دعائي عليه، ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان، فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة. فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته. ويقال أيضا: إنه كان نبيا من أنبياء الله، فلما دعا عليه موسى انتزع الله منه الإيمان وصار كافرا. وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وأبو روق: نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت، وكان قد قرأ الكتب، وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو، فلما أرسل الله محمدا عليه الصلاة والسلام حسده، ثم مات كافرا، ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " آمن شعره وكفر قلبه " يريد أن شعره كشعر المؤمنين، وذلك أنه يوحد الله في شعره، ويذكر دلائل توحيده من خلق السماوات والأرض، وأحوال الآخرة، والجنة والنار. وقيل: نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق كان يترهب في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد ضرار، وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم، فمات هناك طريدا وحيدا، وهو قول سعيد بن المسيب. وقيل: نزلت في
منافقي أهل الكتاب، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، عن الحسن والأصم وقيل: هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه، وهو قول قتادة، وعكرمة، وأبي مسلم.
فإن قال قائل: فهل يصح أن يقال: إن المذكور في هذه الآية كان نبيا، ثم صار كافرا؟ قلنا: هذا بعيد، لأنه تعالى قال: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124) وذلك يدل على أنه تعالى لا يشرف عبدا من عبيده بالرسالة، إلا إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد الشرف، والدرجات العالية، والمناقب العظيمة، فمن كان هذا حاله، فكيف يليق به الكفر؟
أما قوله تعالى: * (آتيناه آياتنا فانسلخ منها) * ففيه قولان:
القول الأول: (آتيناه آياتنا) يعني: علمناه حجج التوحيد، وفهمناه أدلته، حتى صار عالما بها * (فانسلخ منها) * أي خرج من محبة الله إلى معصيته، ومن رحمة الله إلى سخطه، ومعنى انسلخ: خرج منها. يقال لكل من فارق شيئا بالكلية انسلخ منه.
والقول الثاني: ما ذكره أبو مسلم رحمه الله، فقال قوله: * (آتيناه آياتنا) * أي بيناها فلم يقبل
54

وعرى منها، وسواء قولك: انسلخ، وعرى، وتباعد، وهذا يقع على كل كافر لم يؤمن بالأدلة، وأقام على الكفر، ونظيره قوله تعالى: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها) * (النساء: 47) وقال في حق فرعون: * (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) * (طه: 56) وجائز أن يكون هذا الموصوف فرعون، فإنه تعالى أرسل إليه موسى وهارون، فأعرض وأبى، وكان عاديا ضالا متبعا للشيطان.
واعلم أن حاصل الفرق بين القولين: هو أن هذا الرجل في القول الأول، كان عالما بدين الله وتوحيده، ثم خرج منه، وعلى القول الثاني لما آتاه الله الدلائل والبينات امتنع من قبولها، والقول الأول أولى، لأن قوله انسلخ منها يدل على أنه كان فيها ثم خرج منها، وأيضا فقد ثبت بالأخبار أن هذه الآية إنما نزلت في إنسان كان عالما بدين الله تعالى، ثم خرج منه إلى الكفر والضلال.
أما قوله: * (فأتبعه الشيطان) * ففيه وجوه: الأول: أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم، أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعا له. والثاني: قال عبد الله بن مسلم * (فأتبعه الشيطان) * أي أدركه. يقال: أتبعت القوم. أي لحقتهم. قال أبو عبيدة: ويقال: أتبعت القوم، مثال: أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم. ويقال: ما زلت أتبعهم حتى أتبعتهم. أي حتى أدركتهم. وقوله * (فكان من الغاوين) * أي أطاع الشيطان فكان من الظالمين. قال أهل المعاني: المقصود منه بيان أن من أوتي الهدى، فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى، ومال إلى الدنيا، حتى تلاعب به الشيطان كان منتهاه إلى البوار والردى، وخاب في الآخرة والأولى، فذكر الله قصته ليحذر الناس عن مثل حالته. وقوله: * (ولو شئنا لرفعناه بها) * قال أصحابنا معناه: ولو شئنا رفعناه للعمل بها، فكان يرفع بواسطة تلك الأعمال الصالحة منزلته، ولفظة * (لو) * تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فهذا يدل على أنه تعالى قد لا يريد الإيمان، وقد يريد الكفر. وقال المعتزلة: لفظ الآية يحتمل وجوها أخرى سوى هذا الوجه. فالأول: قال الجبائي معناه: ولو شئنا لرفعناه بأعماله، بأن نكرمه، ونزيل التكليف عنه، قبل ذلك الكفر حتى نسلم له الرفعة، لكنا رفعناه بزيادة التكليف بمنزلة زائدة، فأبى أن يستمر على الإيمان. الثاني: لو شئنا لرفعناه، بأن نحول بينه وبين الكفر، قهرا وجبرا، إلا أن ذلك ينافي التكليف. فلا جرم تركناه مع اختياره.
والجواب عن الأول: أن حمل الرفعة على الإماتة بعيد، وعن الثاني: أنه تعالى إذا منعه منه قهرا، لم يكن ذلك موجبا للثواب والرفعة.
ثم قال تعالى: * (ولكنه أخلد إلى الأرض) * قال أصحاب العربية: أصل الإخلاد اللزوم على
55

الدوام، وكأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض، ومنه يقال: أخلد فلان بالمكان، إذا لزم الإقامة به. قال مالك بن سويد:
بأبناء حي من قبائل مالك * وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قال ابن عباس: * (ولكنه أخلد إلى الأرض) * يريد مال إلى الدنيا، وقال مقاتل: بالدنيا، وقال الزجاج: سكن إلى الدنيا. قال الواحدي: فهؤلاء فسروا الأرض في هذه الآية بالدنيا، وذلك لأن الدنيا هي الأرض، لأن ما فيها من العقار والضياع وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان مستخرج من الأرض، وإنما يقوى ويكمل بها، فالدنيا كلها هي الأرض، فصح أن يعبر عن الدنيا بالأرض، ونقول: لو جاء الكلام على ظاهره لقيل لو شئنا لرفعناه، ولكنا لم نشأ، إلا أن قوله: * (ولكنه أخلد إلى الأرض) * لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه قوله: * (واتبع هواه) * معناه: أنه أعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات واتبع الهوى، فلا جرم وقع في هاوية الردى، وهذه الآية من أشد الآيات على أصحاب العلم، وذلك لأنه تعالى بعد أن خص هذا الرجل بآياته وبيناته، وعلمه الاسم الأعظم، وخصه بالدعوات المستجابة، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب، وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله في حقه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى، كان بعده عن الله أعظم، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: " من ازداد علما، ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا " أو لفظ هذا معناه.
ثم قال تعالى: * (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) * قال الليث: اللهث هو أن الكلب إذا ناله الإعياء عند شدة العدو وعند شدة الحر، فإنه يدلع لسانه من العطش.
واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وأخس الحيوانات هو الكلب، وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث، فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا، وأخلد إلى الأرض، كان مشبها بأخس الحيوانات، وهو الكلب اللاهث، وفي تقرير هذا التمثيل وجوه: الأول: أن كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو
عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في حال الإعياء، وفي حال الراحة، وفي حال العطش، وفي حال الري، فكان ذلك عادة منه وطبيعة، وهو مواظب عليه كعادته الأصلية، وطبيعته الخسيسة، لا لأجل حاجة وضرورة، فكذلك من آتاه الله العلم والدين أغناه عن التعرض لأوساخ أموال الناس، ثم إنه يميل إلى طلب الدنيا، ويلقى نفسه فيها، كانت حاله كحال ذلك اللاهث، حيث واظب على العمل الخسيس، والفعل القبيح، لمجرد نفسه الخبيثة. وطبيعته الخسيسة، لا لأجل الحاجة والضرورة. والثاني: أن الرجل العالم إذا توسل
56

بعلمه إلى طلب الدنيا، فذاك إنما يكون لأجل أنه يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها، ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات، وتقرير تلك العبارات يدلع لسانه، ويخرجه لأجل ما تمكن في قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا، فكانت حالته شبيهة بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبدا من غير حاجة ولا ضرورة، بل بمجرد الطبيعة الخسيسة والثالث: أن الكلب اللاهث لا يزال لهثة البتة، فكذلك الإنسان الحريص لا يزال حرصه البتة.
أما قوله تعالى: * (إن تحمل عليه يلهث) * فالمعنى أن هذا الكلب إن شد عليه وهيج لهث وإن ترك أيضا لهث، لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له، فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسارة عادة أصلية وطبيعية ذاتية له.
فإن قيل: ما محل قوله: * (إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) *.
قلنا: النصب على الحال، كأنه قيل كمثل الكلب ذليلا لاهثا في الأحوال كلها.
ثم قال تعالى: * (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) * فعم بهذا التمثيل جميع المكذبين بآيات الله قال ابن عباس: يريد أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله، ثم جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته فكذبوه، فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل هذا الكلب الذي بقي على اللهث في كل الأحوال.
ثم قال: * (فاقصص القصص) * يريد قصص الذين كفروا وكذبوا أنبياءهم * (لعلهم يتفكرون) * يريد يتعظون.
* (سآء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما قال بعد تمثيلهم بالكلب * (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) * وزجر بذلك عن الكفر والتكذيب أكده في باب الزجر بقوله تعالى: * (ساء مثلا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الليث: ساء يسوء فعل لازم ومتعد يقال: ساءت الشيء يسوء فهو سئ إذا قبح وساءه يسوءه مساءة. قال النحويون: تقديره ساء مثلا، مثل القوم انتصب مثلا على التمييز لأنك إذا قلت ساء جاز أن تذكر شيئا آخر سوى مثلا، فلما ذكرت نوعا، فقد ميزته من سائر
57

الأنواع وقولك القوم ارتفاعه من وجهين: أحدهما: أن يكون مبتدأ ويكون قولك ساء مثلا خبره والثاني: أنك لما قلت ساء مثلا. قيل لك: من هو؟ قلت القوم، فيكون رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقرأ الجحدري: ساء مثل القوم.
البحث الثاني: ظاهر قوله: * (ساء مثلا) * يقتضي كون ذلك المثل موصوفا بالسوء، وذلك غير جائز، لأن هذا المثل ذكره الله تعالى، فكيف يكون موصوفا بالسوء، وأيضا فهو يفيد الزجر عن الكفر والدعوة إلى الإيمان، فكيف يكون موصوفا بالسوء، فوجب أن يكون الموصوف بالسوء ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها، حتى صاروا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلب اللاهث.
أما قوله تعالى: * (وأنفسهم كانوا يظلمون) * فإما أن يكون معطوفا على قوله: * (كذبوا) * فيدخل حينئذ في حيز الصلة بمعنى الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم، وإما أن يكون كلاما منقطعا عن الصلة بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، وإما تقديم المفعول، فهو للاختصاص كأنه قيل وخصوا أنفسهم بالظلم وما تعدى أثر ذلك الظلم عنهم إلى غيرهم.
* (من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون) *.
في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما وصف الضالين بالوصف المذكور وعرف حالهم بالمثل المذكور بين في هذه الآية أن الهداية من الله، وأن الضلال من الله تعالى، وعند هذه اضطربت المعتزلة، وذكروا في التأويل وجوها كثيرة: الأول: وهو الذي ذكره الجبائي وارتضاه القاضي أن المراد من يهده الله إلى الجنة والثواب في الآخرة، فهو المهتدي في الدنيا، السالك طريقة الرشد فيما كلف، فبين الله تعالى أنه لا يهدي إلى الثواب في الآخرة إلا من هذا وصفه، ومن يضلله عن طريق الجنة * (فأولئك هم الخاسرون) * والثاني: قال بعضهم إن في الآية حذفا، والتقدير: من يهده الله فقبل وتمسك بهداه فهو المهتدي، ومن يضلل بأن لم يقبل فهو الخاسر. الثالث: أن يكون المراد من يهده الله بمعنى أن من وصفه الله بكونه مهتديا فهو المهتدي، لأن ذلك كالمدح ومدح الله لا يحصل إلا في حق من كان موصوفا بذلك الوصف الممدوح، ومن يضلل أي ومن وصفه الله بكونه ضالا * (فأولئك هم الخاسرون) * والرابع: أن يكون المراد من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى
58

فهو المهتدي ومن يضلل عن ذلك لما تقدم منه من سوء اختياره، فأخرج لهذا السبب بتلك الألطاف من أن يؤثر فيه فهو من الخاسرين.
واعلم أنا بينا أن الدلائل العقلية القاطعة، قد دلت على أن الهداية والإضلال لا يكونان إلا من الله من وجوه: الأول: أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصول الداعي ليس إلا من الله فالفعل ليس إلا من الله. الثاني: أن خلاف معلوم الله ممتنع الوقوع، فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضد. الثالث: أن كل أحد
يقصد حصول الإيمان والمعرفة، فإذا حصل الكفر عقيبه علمنا أنه ليس منه بل من غيره، ثم نقول:
أما التأويل الأول: فضعيف لأنه حمل قوله: * (من يهد الله) * على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله: * (فهو المهتدي) * على الاهتداء إلى الحق في الدنيا، وذلك يوجب ركاكة في النظم، بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد، حتى يكون الكلام حسن النظم.
وأما الثاني: فإنه التزام لإضمار زائد، وهو خلاف اللفظ، ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتا والإثبات نفيا، ويخرج كلام الله عز وجل من أن يكون حجة، فإن لكل أحد أن يضمر في الآية ما يشاء، وحينئذ يخرج الكل عن الإفادة.
وأما الثالث: فضعيف لأن قول القائل فلان هدى فلانا لا يفيد في اللغة البتة أنه وصفه بكونه مهتديا، وقياس هذا على قوله فلان ضلل فلانا وكفره، قياس في اللغة وأنه في نهاية الفساد والرابع: أيضا باطل لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف، فقد فعله عند المعتزلة في حق جميع الكفار، فحمل الآية على هذا التأويل بعيد. والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (فهو المهتدي) * (الأعراف: 178) يجوز إثبات الياء فيه على الأصل، ويجوز حذفها طلبا للتخفيف كما قيل في بيت الكتاب:
فطرت بمنصلي في يعملات * دوامي الأيد يخبطن السريحا
ومن أبياته أيضا: كخوف ريش حمامة نجدية * مسحت بماء البين عطف الأثمد
قال أبو الفتح الموصلي يريد كخواف محذوف الياء.
وأما قوله: * (ومن يضلل) * يريد ومن يضلله الله ويخذله * (فأولئك هم الخاسرون) * أي خسروا الدنيا والآخرة.
59

* (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بهآ أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) *.
هذه الآية هي الحجة الثانية في هذا الموضع على صحة مذهبنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات وتقريره من وجوه: الأول: أنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم، ولا مزيد على بيان الله. الثاني: أنه تعالى لما أخبر عنهم بأنهم من أهل النار، فلو لم يكونوا من أهل النار انقلب علم الله جهلا وخبره الصدق كذبا وكل ذلك محال والمفضي إلى المحال محال، فعدم دخولهم في النار محال، ومن علم كون الشيء محالا امتنع أن يريده، فثبت أنه تعالى يمتنع أن يريد أن لا يدخلهم في النار، بل يجب أن يريد أن يدخلهم في النار، وذلك هو الذي دل عليه لفظ الآية. الثالث: أن القار على الكفر إن لم يقدر على الإيمان، فالذي خلق فيه القدرة على الكفر، فقد أراد أن يدخله في النار، وإن كان قادرا على الكفر وعلى الإيمان معا امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح، وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل، وإن حصل من قبله تعالى، فلما كان هو الخالق للداعية الموجبة للظفر، فقد خلقه للنار قطعا. الرابع: أنه تعالى لو خلقه للجنة وأعانه على اكتساب تحصيل ما يوجب دخول الجنة، ثم قدرنا أن العبد سعى في تحصيل الكفر الموجب للدخول في النار، فحينئذ حصل مراد العبد، ولم يحصل مراد الله تعالى، فيلزم كون العبد أقدر وأقوى من الله تعالى، وذلك لا يقوله عاقل والخامس: أن العاقل لا يريد الكفر والجهل الموجب لاستحقاق النار، وإنما يريد الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الثواب والدخول في الجنة، فلما حصل الكفر والجهل على خلاف قصد العبد وضد جهده واجتهاده، وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد، بل يجب أن يكون حصوله من قبل الله تعالى.
60

فإن قالوا: العبد إنما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفاسد الباطل، لأنه اشتبه الأمر عليه وظن أنه هو الاعتقاد الحق الصحيح. فنقول: فعلى هذا التقدير: إنما وقع في هذا الجهل لأجل ذلك الجهل المتقدم، فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السابق لجهل آخر لزم التسلسل وهو محال، وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر، فقد توجه الإلزام وتأكد الدليل والبرهان، فثبت أن هذه البراهين العقلية ناطقة بصحة ما دل عليه صريح قوله سبحانه وتعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * قالت المعتزلة: لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم، لأن كثيرا من الآيات دالة على أنه أراد من الكل الطاعة. والعبادة والخير والصلاح. قال تعالى: * (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله) * (الفتح: 8، 9) وقال: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * (النساء: 64) وقال: * (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا) * (الفرقان: 50) وقال: * (هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور) * (الحديد: 9) وقال: * (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) * (الحديد: 25) وقال: * (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) * (إبراهيم: 10) وقال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) وأمثال هذه الآيات كثيرة، ونحن نعلم بالضرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن، فعلمنا أنه لا يمكن حمل قوله تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * على ظاهره.
الوجه الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: * (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها) * وهو تعالى إنما ذكر ذلك في معرض الذم لهم، ولو كانوا مخلوقين للنار، ولما كانوا قادرين على الإيمان البتة وعلى هذا التقدير فيقبح ذمهم على ترك الإيمان.
الوجه الثالث: وهو أنه تعالى لو خلقهم للنار لما كان له على أحد من الكفار نعمة أصلا، لأن منافع الدنيا بالقياس إلى العذاب الدائم، كالقطرة في البحر، وكان كمن دفع إلى إنسان حلوا مسموما فإنه لا يكون منعما عليه، فكذا ههنا. ولما كان القرآن مملوء من كثرة نعمة الله على كل الخلق، علمنا أن الأمر ليس كما ذكرتم.
الوجه الرابع: أن المدح والذم، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه.
الوجه الخامس: لو أنه تعالى خلقهم للنار، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النار، لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم.
الوجه السادس: أن قوله: * (ولقد ذرأنا لجهنم) * متروك الظاهر، لأن جهنم اسم لذلك الموضع
61

المعين، ولا يجوز أن يكون الموضع المعين مرادا منه، فثبت أنه لا بد وأن يقال: إن ما أراد الله تعالى بخلقهم منهم محذوف، فكأنه قال: ولقد ذرأنا لكي يكفروا فيدخلوا جهنم، فصارت الآية على قولهم متروكة الظاهر، فيجب بناؤها على قوله: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * لأن ظاهرها يصح دون حذف.
الوجه السابع: أنه إذا كان المراد أنه إذا ذرأهم لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم، عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللام للعاقبة، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنه لا استحقاق للنار، ونحن قد قلناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار، فكان قولنا أولى، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها، فوجب المصير فيه إلى التأويل، وتقريره: أنه لما كانت عاقبة كثير من الجن والأنس، هي الدخول في نار جهنم، جائز ذكر هذه اللام بمعنى العاقبة، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشعر: أما القرآن فقوله تعالى: * (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست) * (الأنعام: 105) ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك، لكنهم لما قالوا ذلك، حسن ورود هذا اللفظ، وأيضا قال تعالى: * (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك) * (يونس: 88) وأيضا قال تعالى: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) وهم ما التقطوه لهذا الغرض إلا أنه لما كانت عاقبة أمرهم ذلك، حسن هذا اللفظ، وأما الشعر فأبيات قال:
وللموت تغدوا الوالدات سخالها * كما لخراب الدهر تبنى المساكن
وقال: أموالنا لذوي الميراث نجمعها * ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال: له ملك ينادي كل يوم * لدوا للموت وابنو للخراب
وقال: وأم سماك فلا تجزعي * فللموت ما تلد الوالدة
هذا منتهى كلام القوم في الجواب.
واعلم أن المصير في التأويل إنما يحسن إذا ثبت بالدليل امتناع العقل حمل هذا اللفظ على ظاهره، وأما لما ثبت بالدليل أنه لا حق إلا ما دل عليه ظاهر اللفظ، كان المصير إلى التأويل في مثل هذا المقام عبثا. وأما الآيات التي تمسكوا بها في إثبات مذهب المعتزلة، فهي: معارضة بالبحار الزاخرة المملوءة من الآيات الدالة على مذهب أهل السنة، ومن جملتها ما قبل هذه الآية وهو قوله: * (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون) * (الأعراف: 178) وهو صريح مذهبنا، وما بعد هذه الآية وهو قوله: * (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم إن كيدي متين) * (الأعراف: 182، 183) ولما كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس، إلا ما يقوي قولنا ويشيد مذهبنا، كان كلام
62

المعتزلة في وجوب تأويل هذه الآية ضعيفا جدا.
أما قوله تعالى: * (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها) * ففيه مسألتان: المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في خلق الأعمال فقالوا: لا شك أن أولئك الكفار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا، ولا شك أنه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيات، وآذان يسمعون بها الكلمات، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية تقييدها بما يرجع إلى الدين، وهو أنهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلى مصالح الدين، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين.
وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت أنه تعالى كلفهم بتحصيل الدين مع أن قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصد عنه مع الأمر به، وذلك هو المطلوب قالت المعتزلة لو كانوا كذلك، لقبح من الله تكليفهم، لأن تكليف من لا قدرة له على العمل قبيح غير لائق بالحكيم. فوجب حمل الآية على أن المراد منه أنهم بكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الالتفات إليها صاروا مشبهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة.
والجواب: أن الإنسان إذا تأكدت نفرته عن شيء، صارت تلك النفرة المتأكدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدال على صحة الشيء، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله، وهذه حالة وجدانية ضرورية يجدها كل عاقل من نفسه. ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور - حبك الشيء يعمي ويصم -.
إذا ثبت هذا فنقول: إن أقواما من الكفار بلغوا في عداوة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي بغضه وفي شدة النفرة عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأقوى منه، والعلم الضروري حاصل بأن حصول البغض والحب في القلب ليس باختيار الإنسان، بل هو حاصل في القلب شاء الإنسان أم كره.
إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أن حصول هذه النفرة والعداوة في القلب ليس باختيار العبد، وثبت أنه متى حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب، فإن الإنسان لا يمكنه مع تلك النفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم، وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوما لا محيص عنه. ونقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خطبة في تقرير هذا المعنى وهو في غاية الحسن. روى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب " مناقب الشافعي " رضي الله تعالى عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه
63

خطب الناس فقال وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع، وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص، وإن أهلكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن سعد بالرضا شقي بالسخط، وإن ناله الخوف شغله الحزن وإن أصابته المصيبة قتله الجزع، وإن وجد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد وأقول: هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف
، وهو كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر، لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها، وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر، وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب " الأحياء " فصلا في تقرير مذهب الجبر.
ثم قال فإن قيل: إني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت، وإن شئت الترك تركت، فيكون فعلي حاصلا بي لا بغيري ثم قال: وهب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئا شئته، وإن شئت أن لا تشاء لم تشأه، ما أظنك أن تقول ذلك، وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له: بل شئت أو لم تشأ فإنك تشاء ذلك الشيء، وإذا شئته فشئت أو لم تشأ فعلته، فلا مشيئتك به ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك فالإنسان مضطر في صورة مختار.
المسألة الثانية: احتج العلماء بقوله تعالى: * (لهم قلوب لا يفقهون بها) * على أن محل العلم هو القلب، لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم، وهذا إنما يصح لو كان محل الفهم والفقه هو القلب والله أعلم.
أما قوله: * (أولئك كالأنعام بل هم أضل) * فتقريره أن الإنسان وسائر الحيوانات متشاركة في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة، ومتشاركة أيضا في منافع الحواس الخمس الباطنة والظاهرة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر، وإنما حصل الامتياز بين الإنسان وبين سائر الحيوانات في القوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته، والخير لأجل العمل به: فلما أعرض الكفار عن اعتبار أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام.
ثم قال: * (بل هم أضل) * لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل هذه الفضائل، والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخص حالا ممن لم يكتسبها مع العجز عنها. فلهذا السبب قال تعالى: * (بل هم أضل) * وقال حكيم الشعراء:
64

الروح عند إله العرش مبدؤه * وتربة الأرض أصل الجسم والبدن
قد ألف الملك الحنان بينهما * ليصلحا لقبول الأمر والمحن
فالروح في غربة والجسم في وطن * فاعرف ذمام الغريب النازح الوطن
وقيل في تفسير قوله: * (بل هم أضل) * وجوه أخرى فقيل: لأن الأنعام مطيعة لله تعالى والكافر غير مطيع، وقال مقاتل: هم أخطأ طريقا من الأنعام، لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه. وقال الزجاج: * (بل هم أضل) * لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيل منافعها وتحترز عن مضارها، وهؤلاء الكفار وأهل العناد أكثرهم يعلمون أنهم معاندون ومع ذلك فيصرون عليه، ويلقون أنفسهم في النار وفي العذاب، وقيل إنها تفر أبدا إلى أربابها، ومن يقوم بمصالحها، والكافر يهرب عن ربه وإلهه الذي أنعم عليه بنعم لا حد لها. وقيل: لأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد، فأما إذا كان معها مرشد قلما تضل، وهؤلاء الكفاء قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال ثم إنه تعالى ختم الآية فقال: * (أولئك هم الغافلون) * قال عطاء: عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب.
* (ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون فى أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) *.
اعلم أنه تعالى لما وصف المخلوقين لجهنم بقوله: * (أولئك هم الغافلون) * أمر بعده بذكر الله تعالى فقال: * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) * وهذا كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله. والمخلص عن عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى وأصحاب الذوق والمشاهدة يجدون من أرواحهم أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله، وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في باب الحرص وزمهرير الحرمان، ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب، ومن ظلمة إلى ظلمة، فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله ومعرفة الله تخلص عن نيران الآفات وعن حسرات الخسارات، واستشعر بمعرفة رب الأرض والسماوات وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (ولله الأسماء الحسنى) * مذكور في سور أربعة: أولها: هذه
65

السورة. وثانيها: في آخر سورة بني إسرائيل في قوله: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى) * (الإسراء: 11) وثالثها: في أول طه وهو قوله: * (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) * (طه: 8) ورابعها: في آخر الحشر وهو قوله: * (هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى) * (الحشر: 24).
إذا عرفت هذا فنقول: * (الأسماء) * ألفاظ دالة على المعاني فهي إنما تحسن بحسن معانيها ومفهوماتها، ولا معنى للحسن في حق الله تعالى إلا ذكر صفات الكمال ونعوت الجلال، وهي محصورة في نوعين: عدم افتقاره إلى غيره، وثبوت افتقار غيره إليه.
واعلم أن لنا في تفسير أسماء الله كتابا كبيرا كثير الدقائق شريف الحقائق سميناه " بلوامع البينات في تفسير الأسماء والصفات "، من أراد الاستقصاء فيه فليرجع إليه، ونحن نذكر ههنا لمعا ونكتا منها. فنقول: إن أسماء الله يمكن تقسيمها من وجوه كثيرة.
الوجه الأول: أن نقول: الاسم إما أن يكون اسما للذات، أو لجزء من أجزاء الذات، أو لصفة خارجة عن الذات قائمة بها. أما اسم الذات فهو المسمى بالاسم الأعظم، وفي كشف الغطاء عما فيه من المباحثات أسرار. وأما اسم جزء الذات فهو في حق الله تعالى محال، لأن هذا إنما يفعل في الذات المركبة من الأجزاء، وكل ما كان كذلك فهو ممكن، فواجب الوجود يمتنع أن يكون له جزء.
وأما اسم الصفة فنقول: الصفة إما أن تكون حقيقية أو إضافية أو سلبية، أو ما يتركب عن هذه الثلاثة، وهي أربعة، لأنه إما أن يكون صفة حقيقية مع إضافة أو مع
سلب أو صفة سلبية مع إضافة أو مجموع صفة حقيقية وإضافة وسلبية. أما الصفة الحقيقية العارية عن الإضافة فكقولنا موجود عند من يقول: الوجود صفة، أو قولنا واحد، عند من يقول: الوحدة صفة ثانية، وكقولنا حي، فإن الحياة صفة حقيقية عارية عن النسب والإضافات، وأما الصفة الإضافية المحضة فكقولنا: مذكور ومعلوم، وأما الصفة السلبية، فكقولنا: القدوس السلام. وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة، فكقولنا: عالم وقادر، فإن العلم صفة حقيقية، وله تعلق بالمعلوم والقادر، فإن القدرة صفة حقيقية، ولها تعلق بالمقدور، وأما الصفة الحقيقية مع السلبية. فكقولنا: قديم أزلي، لأنه عبارة عن موجود لا أول له. وأما الصفة الإضافية مع السلبية، فكقولنا: أول. فإنه هو الذي سبق غيره وما سبقه غيره، وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة والسلب، فكقولنا: حكيم، فإنه هو الذي يعلم حقائق الأشياء، ولا يفعل ما لا يجوز فعله فصفة العلم صفة حقيقية، وكون هذه الصفة متعلقة بالمعلومات، نسب وإضافات، وكونه غير فاعل لما لا ينبغي سلب.
إذا عرفت هذا فنقول: السلوب، غير متناهية، والإضافات أيضا غير متناهية، فكونه خالقا
66

للمخلوقات صفة إضافية، وكونه محييا ومميتا إضافات مخصوصة، وكونه رازقا أيضا إضافة أخرى مخصوصة. فيحصل بسبب هذين النوعين من الاعتبارات أسماء لا نهاية لها لله تعالى، لأن مقدوراته غير متناهية، ولما كان لا سبيل إلى معرفة كنه ذاته، وإنما السبيل إلى معرفته بمعرفة أفعاله فكل من كان وقوفه على أسرار حكمته في مخلوقاته أكثر، كان علمه بأسماء الله أكثر. ولما كان هذا بحرا لا ساحل له ولا نهاية له، فكذلك لا نهاية لمعرفة أسماء الله الحسنى.
النوع الثاني: في تقسيم أسماء الله ما قاله المتكلمون: وهو أن صفات الله تعالى ثلاثة أنواع: ما يجب، ويجوز، ويستحيل على الله تعالى. ولله تعالى بحسب كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أسماء مخصوصة.
والنوع الثالث: في تقسيم أسماء الله أن صفات الله تعالى إما أن تكون ذاتية، أو معنوية، أو كانت من صفات الأفعال.
والنوع الرابع: في تقسيم أسماء الله تعالى إما أن يجوز إطلاقها على غير الله تعالى، أو لا يجوز. أما القسم الأول: فهو كقولنا: الكريم الرحيم العزيز اللطيف الكبير الخالق، فإن هذه الألفاظ يجوز إطلاقها على العباد، وإن كان معناها في حق الله تعالى مغايرا لمعناها في حق العباد. وأما القسم الثاني فهو كقولنا: الله الرحمن. أما القسم الأول: فإنها إذا قيدت بقيود مخصوصة صارت بحيث لا يمكن إطلاقها إلا في حق الله تعالى كقولنا: يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، ويا خالق السماوات والأرضين.
النوع الخامس: في تقسيم أسماء الله أن يقال: من أسماء الله ما يمكن ذكره وحده، كقولنا: يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم، ومنها ما لا يكون كذلك، كقولنا: مميت وضار، فإنه لا يجوز إفراده بالذكر، بل يجب أن يقال: يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع.
النوع السادس: في تقسيم أسماء الله تعالى أن يقال: أول ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثا للأشياء مرجحا لوجودها على عدمها، وذلك لأنا إنما نعلم وجوده سبحانه بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه، فإذا دل الدليل على أن هذا العالم المحسوس ممكن الوجود والعدم لذاته، قضى العقل بافتقاره إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه، وذلك المرجح ليس إلا الله سبحانه، فثبت أن أول ما يعلم منه تعالى هو كونه مرجحا ومؤثرا، ثم نقول ذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة والأول باطل، وإلا لدام العالم بدوامه، وذلك باطل، فبقي أنه إنما رجح على سبيل الصحة وكونه مرجحا على سبيل الصحة، ليس إلا كونه تعالى قادرا، فثبت أن المعلوم منه بعد العلم بكونه مرجحا، هو كونه
67

قادرا. ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالما، ثم إنا إذا علمنا كونه تعالى قادرا عالما، وعلمنا أن العالم القادر يمتنع أن يكون إلا حيا، علمنا من كونه قادرا عالما، كونه حيا. فظهر بهذا أنه ليس العلم بصفاته تعالى وبأسمائه واقعا في درجة واحدة، بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (ولله الأسماء الحسنى) * يفيد الحصر، ومعناه أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله تعالى، والبرهان العقلي قد يدل على صحة هذا المعنى، وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته، وإما ممكن لذاته، والواجب لذاته ليس إلا الواحد وهو الله سبحانه، وأما ما سوى ذلك الواحد، فهو ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته، فهو محتاج في ماهيته وفي وجوده وفي جميع صفاته الحقيقية والإضافية والسلبية إلى تكوين الواجب لذاته، ولولاه لبقي على العدم المحض والسلب الصرف، فالله سبحانه كامل لذاته، وكمال كل ما سواه فهو حاصل بجوده وإحسانه، فكل كمال وجلال وشرف، فهو له سبحانه بذاته ولذاته وفي ذاته، ولغيره على سبيل العارية، والذي لغيره من ذاته، فهو الفقر والحاجة والنقصان والعدم، فثبت بهذا البرهان البين أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله، والصفات الحسنى ليست إلا لله، وأن كل ما سواه، فهو غرق في بحر الفناء والنقصان.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أن أسماء الله ليست إلا لله، والصفات الحسنى ليست إلا لله، فيجب كونها موصوفة بالحسن والكمال فهذا يفيد أن كل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله سبحانه، وعند هذا نقل عن جهم بن صفوان أنه قال: لا أطلق على ذات الله تعالى اسم الشيء. قال: لأن اسم الشيء يقع على أخس الأشياء وأكثرها حقارة وأبعدها عن درجات الشرف، وإذا كان كذلك وجب القطع بأنه لا يفيد في المسمى شرفا ورتبة وجلالة.
وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت بمقتضى هذه الآية أن أسماء الله يجب أن تكون دالة على الشرف والكمال، وثبت أن اسم الشيء ليس كذلك فامتنع تسمية الله بكونه شيئا. قال ومعاذ الله أن يكون هذا نزاعا في كونه في نفسه حقيقة وذاتا وموجودا، إنما النزاع وقع في محض اللفظ، وهو أنه هل يصح تسميته بهذا اللفظ أم لا؟ فأما قولنا إنه منشئ الأشياء، فهو اسم يفيد المدح والجلال والشرف، فكان إطلاق هذا الاسم على الله حقا، ثم أكد هذه الحجة بأنواع أخر من الدلائل. فالأول: قوله تعلى: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) معناه ليس مثل مثله شيء، ولا شك أن عين الشيء مثل لمثل
68

نفسه. فلما ثبت بالعقل أن كل شيء فهو مثل مثل نفسه، ودل الدليل القرآني على أن مثل مثل الله ليس بشيء، كان هذا تصريحا بأنه تعالى غير مسمى باسم الشيء، وليس لقائل أن يقول " الكاف " في قوله: * (ليس كمثله) * حرف زائد لا فائدة فيه، لأن حمل كلام الله على اللغو والعبث وعدم الفائدة بعيد.
الحجة الثانية: قوله تعالى: * (خالق كل شيء) * (الأنعام: 102 الرعد: 16 غافر: 62) ولو كان تعالى داخلا تحت اسم الشيء لزم كونه تعالى خالقا لنفسه وهو محال. لا يقال هذا عام دخله التخصيص، لأنا نقول هذا كلام لا بد من البحث عنه فنقول: ثبت بحسب العرف المشهور أنهم يقيمون الأكثر مقام الكل، ويقيمون الشاذ النادر مقام العدم.
إذا ثبت هذا فنقول: إنه إذا حصل الأكثر الأغلب وكان الغالب الشاذ الخارج نادرا، ألحقوا ذلك الأكثر بالكل، وألحقوا ذلك النادر بالمعدوم، وأطلقوا لفظ الكل عليه، وجعلوا ذلك الشاذ النادر من باب تخصيص العموم.
وإذا عرفت هذا فنقول: إن بتقدير أن يصدق على الله تعالى اسم الشيء كان أعظم الأشياء هو الله تعالى، وإدخال التخصيص في مثل هذا المسمى يكون من باب الكذب، فوجب أن يعتقد أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء حتى لا يلزمنا هذا المحذور.
الحجة الثالثة: هذا الاسم ما ورد في كتاب الله ولا سنة رسوله، وما رأينا أحدا من السلف قال في دعائه يا شيء، فوجب الامتناع منه، والدليل على أنه غير وارد في كتاب الله أن الآية التي يتوهم اشتمالها على هذا الاسم قوله تعالى: * (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم) * (الأنعام: 19) وقد بينا في سورة الأنعام أن هذه الآية لا تدل على المقصود، فسقط الكلام فيه.
فإن قال قائل: فقولنا: موجود ومذكور وذات ومعلوم، ألفاظ لا تدل على الشرف والجلال فوجب أن تقولوا إنه لا يجوز إطلاقها على الله تعالى. فنقول: الحق في هذا الباب التفصيل، وهو أنا نقول: ما المراد من قولك: إنه تعالى شيء، وذات، وحقيقة؟ إن عنيت أنه تعالى في نفسه ذات وحقيقة وثابت وموجود وشئ، فهو كذلك من غير شك ولا شبهة، وإن عنيت به أنه هل يجوز أن ينادى بهذه الألفاظ أم لا؟ فنقول لا يجوز. لأنا رأينا السلف يقولون: يا الله يا رحمن يا رحيم إلى سائر الأسماء الشريفة، وما رأينا ولا سمعنا أن أحدا يقول: يا ذات يا حقيقة يا مفهوم ويا معلوم، فكان الامتناع عن مثل هذه الألفاظ في معرض النداء والدعاء واجبا لله تعالى. والله أعلم.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) * يدل على أنه تعالى حصلت له
69

أسماء حسنة، وأنه يجب على الإنسان أن يدعو الله بها، وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية. ومما يؤكد هذا أنه يجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال: يا سخي، ولا أن يقال يا عاقل يا طبيب يا فقيه. وذلك يدل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية.
المسألة الخامسة: دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لأنها تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء لفظ الجمع، وهي تفيد الثلاثة فما فوقها، فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد، فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضا قوله: * (ولله الأسماء الحسنى) * يقتضي إضافة الأسماء إلى الله، وإضافة الشيء إلى نفسه محال. وأيضا فلو قيل: ولله الذوات لكان باطلا. ولما قال: * (ولله الأسماء) * كان حقا وذلك يدل على أن الاسم غير المسمى. المسألة السادسة: قوله: * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) * يدل على أن الإنسان لا يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى، وهذه الدعوة لا تتأتى إلا إذا عرف معاني تلك الأسماء، وعرف بالدليل أن له إلها وربا خالقا موصوفا بتلك الصفات الشريفة المقدسة، فإذا عرف بالدليل ذلك فحينئذ يحسن أن يدعو ربه بتلك الأسماء والصفات، ثم إن لتلك الدعوة شرائط كثيرة مذكورة بالاستقصاء في كتاب " المنهاج " لأبي عبد الله الحليمي، وأحسن ما فيه أن يكون مستحضرا لأمرين: أحدهما: عزة الربوبية. والثانية: ذلة العبودية. فهناك يحسن ذلك الدعاء ويعظم موقع ذلك الذكر. فأما إذا لم يكن كذلك كان قليل الفائدة، وأنا أذكر لهذا المعنى مثالا، وهو أن من أراد أن يقول في تحريمة صلاته الله أكبر، فإنه يجب أن يستحضر في النية جميع ما أمكنه من معرفة آثار حكمة الله تعالى في تخليق نفسه وبدنه وقواه العقلية والحسية أو الحركية، ثم يتعدى من نفسه إلى استحضار آثار حكمة الله في تخليق جميع الناس، وجميع الحيوانات، وجميع أصناف النبات والمعادن، والآثار العلوية من الرعد والبرق والصواعق التي توجد في كل أطراف العالم، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الأرضين والجبال والبحار والمفاوز، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق طبقات العناصر السفلية والعلوية، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق أطباق السماوات على سعتها وعظمها، وفي تخليق أجرام النيرات من الثوابت والسيارات، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الكرسي وسدرة المنتهى، ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق العرش العظيم المحيط بكل هذه الموجودات، ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق الملائكة من حملة العرش والكرسي وجنود عالم الروحانيات، فلا يزال يستحضر من هذه الدرجات والمراتب أقصى ما يصل إليه فهمه وعقله وذكره وخاطره وخياله، ثم عند استحضار جميع هذه الروحانيات
70

والجسمانيات على تفاوت درجاتها وتباين منازلها ومراتبها، ويقول الله أكبر، ويشير بقوله - الله - إلى الموجود الذي خلق هذه الأشياء وأخرجها من العدم إلى الوجود، ورتبها بما لها من الصفات والنعوت، وبقوله - أكبر - أي أنه لا يشبه لكبريائه وجبروته وعزه وعلوه وصمديته هذه الأشياء بل هو أكبر من أن يقال: إنه أكبر من هذه الأشياء. فإذا عرفت هذا المثال الواحد فقس الذكر الحاصل مع العرفان والشعور، وعند هذا ينفتح على عقلك نسمة من الأسرار المودعة تحت قوله: * (والله الأسماء الحسنى فادعوه بها) *.
أما قوله تعالى: * (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة * (يلحدون) * ووافقه عاصم والكسائي في النحل. قال الفراء: * (يلحدون) * و * (يلحدون) * لغتان: يقال: لحدت لحدا وألحدت، قال أهل اللغة: معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد. قال ابن السكيت: الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه. يقال: قد ألحد في الدين ولحد، وقال أبو عمرو من أهل اللغة: الإلحاد: العدل عن الاستقامة والانحراف عنها. ومنه اللحد الذي يحفر في جانب القبر. قال الواحدي رحمه الله: والأجود قراءة العامة لقوله تعالى: * (ومن يرد فيه بإلحاد) * (الحج: 25) والإلحاد أكثر في كلامهم لقولهم: ملحد، ولا تكاد تسمع العرب يقولون لأحد.
المسألة الثانية: قال المحققون: الإلحاد في أسماء الله يقع على ثلاثة أوجه: الأول: إطلاق أسماء الله المقدسة الطاهرة على غير الله، مثل أن الكفار كانوا يسمون الأوثان بآلهة، ومن ذلك أنهم سموا أصناما لهم باللات والعزى والمناة، واشتقاق اللات من الإله، والعزى من العزيز، واشتقاق مناة من المنان. وكان مسيلمة الكذاب لقب نفسه بالرحمن. والثاني: أن يسموا الله بما لا يجوز تسميته به، مثل تسمية من سماه - أبا - للمسيح. وقول جمهور النصارى: أب، وابن، وروح القدس، ومثل أن الكرامية يطلقون لفظ الجسم على الله سبحانه ويسمونه به، ومثل أن المعتزلة قد يقولون في أثناء كلامهم، لو فعل تعالى كذا وكذا لكان سفيها مستحقا للذم، وهذه الألفاظ مشعرة بسوء الأدب. قال أصحابنا: وليس كل ما صح معناه جاز إطلاقه باللفظ في حق الله، فإنه ثبت بالدليل أنه سبحانه هو الخالق لجميع الأجسام، ثم لا يجوز أن يقال: يا خالق الديدان والقرود والقردان، بل الواجب تنزيه الله عن مثل هذه الأذكار، وأن يقال: يا خالق الأرض والسماوات يا مقيل العثرات يا راحم العبرات إلى غيرها من الأذكار الجميلة الشريفة. والثالث: أن يذكر العبد ربه بلفظ لا يعرف معناه ولا يتصور مسماه، فإنه ربما كان مسماه أمرا غير لائق بجلال
71

الله، فهذه الأقسام الثلاثة هي الإلحاد في الأسماء.
فإن قال قائل: هل يلزم من ورود الأول في إطلاق لفظه على الله تعالى أن يطلق عليه سائر الألفاظ المشتقة منه على الإطلاق؟
قلنا: الحق عندي أن ذلك غير لازم لا في حق الله تعالى، ولا في حق الملائكة والأنبياء وتقريره: أن لفظ " علم " ورد في حق الله تعالى في آيات منها قوله: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * (البقرة: 31) * (علمك ما لم تكن تعلم) * (النساء: 113) * (علمناه من لدنا علما) * (الكهف: 65) * (الرحمن علم القرآن) * (الرحمن: 1، 2) ثم لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى يا معلم، وأيضا ورد قوله: * (يحبهم ويحبونه) * (المائدة: 54) ثم لا يجوز عندي أن يقال يا محب. وأما في حق الأنبياء، فقد ورد في حق آدم عليه السلام: * (وعصى آدم ربه فغوى) * (طه: 121) ثم لا يجوز أن يقال إن آدم كان عاصيا غاويا، وورد في حق موسى عليه السلام * (يا أبت استأجره) * (القصص: 26) ثم لا يجوز أن يقال إنه عليه السلام كان أجيرا، والضابط أن هذه الألفاظ الموهمة يجب الاقتصار فيها على الوارد، فأما التوسع بإطلاق الألفاظ المشتقة منها فهي عندي ممنوعة غير جائزة.
ثم قال تعالى: * (سيجزون ما كانوا يعملون) * فهو تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله. قالت المعتزلة: الآية قد دلت على إثبات العمل للعبد، وعلى أن الجزاء مفرع على عمله وفعله.
* (وممن خلقنآ أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * فأخبر أن كثيرا من الثقلين مخلوقون للنار أتبعه بقوله: * (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * ليبين أيضا أن كثيرا منهم مخلوقان للجنة. واعلم أنه تعالى ذكر في قصة موسى قوله: * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * فلما أعاد الله تعالى هذا الكلام ههنا حمله أكثر المفسرين على أن المراد منه قوم محمد صلى الله عليه وسلم، روى قتادة وابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها هذه الأمة وروى أيضا أنه عليه الصلاة والسلام قال: " هذه فيهم وقد أعطى الله قوم موسى مثلها " وعن الربيع بن أنس أنه قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال: " إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم " وقال ابن عباس يريد أمة محمد عليه الصلاة والسلام المهاجرين والأنصار. قال الجبائي: هذه الآية تدل على أنه لا يخلو زمان البتة عمن يقوم بالحق ويعمل به ويهدي إليه وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل، لأنه لا يخلو إما أن يكون المراد زمان وجود محمد صلى الله عليه وسلم،
72

وهو الزمان الذي نزلت فيه هذه الآية. أو المراد أنه قد حصل زمان من الأزمنة حصل فيه قوم بالصفة المذكورة، أو المراد ما ذكرنا أنه لا يخلو زمان من الأزمنة عن قوم موصوفين بهذه الصفة والأول باطل. لأنه قد كان ظاهرا لكل الناس أن محمدا وأصحابه على الحق، فحمل الآية على هذا المعنى يخرجه عن الفائدة، والثاني باطل أيضا، لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه قد حصل زمان ما في الأزمنة الماضية حصل فيه جميع من المحقين، فلم يبق إلا القسم الثالث. وهو أدل على أنه ما خلا زمان عن قوم من المحقين وأن إجماعهم حجة، وعلى هذا التقدير فهذا يدل على أن إجماع سائر الأمم حجة.
* (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم إن كيدى متين) *.
قوله تعالى: * (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدي متين) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الأمة الهادية العادلة، أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى، وما عليهم من الوعيد، فقال: * (والذين كذبوا بآياتنا) * وهذا يتناول جميع المكذبين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: المراد أهل مكة، وهو بعيد، لأن صفة العموم يتناول الكل، إلا ما دل الدليل على خروجه منه.
وأما قوله: * (سنستدرجهم) * فالاستدراج الاستفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال، درجة بعد درجة، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب طواه شيئا بعد شيء ودرج القوم، مات بعضهم عقيب بعضهم، ويحتمل أن يكون هذا اللفظ مأخوذ من الدرج وهو لف الشيء وطيه جزأ فجزأ.
إذا عرفت هذا فالمعنى سنقربهم إلى ما يهلكهم، ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، وذلك لأنهم كلما أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم بابا من أبواب النعمة والخير في الدنيا، فيزدادون بطرا وانهماكا في الفساد وتماديا في الغي، ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم، ثم يأخذهم الله دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكون، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى: " اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا فإني سمعتك تقول * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) *.
73

ثم قال تعالى: * (وأملي لهم إن كيدي متين) * الإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة ونقيضه الإعجال والملي زمان طويل من الدهر ومنه قوله: * (واهجرني مليا) * (مريم: 46) أي طويلا. ويقال ملوة وملوة وملاوة من الدهر أي زمان طويل، فمعنى * (وأملي لهم) * أي أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة على المعصية ليقلعوا عنها بالتوبة والإنابة. وقوله: * (إن كيدي متين) * قال ابن عباس: يريد إن مكري شديد، والمتين من كل شيء هو القوي يقال متن متانة.
واعلم أن أصحابنا احتجوا في مسألة القضاء والقدر بهذه الألفاظ الثلاثة، وهي الاستدراج والإملاء والكيد المتين، وكلها تدل على أنه تعالى أراد بالعبد ما يسوقه إلى الكفر والبعد عن الله تعالى، وذلك ضد ما يقوله المعتزلة.
أجاب أبو علي الجبائي، بأن المراد من الاستدراج، أنه تعالى استدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلون، استدراجا لهم إلى ذلك حتى يقعوا فيه بغتة، وقد يجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل والاستئصال، ويجوز أن يكون عذاب الآخرة. قال وقد قال بعض المجبرة المراد: سنستدرجهم إلى الكفر من حيث لا يعلمون. قال: وذلك فاسد، لأن الله تعالى أخبر بتقدم كفرهم، فالذي يستدرجهم إليه فعل مستقبل، لأن السين في قوله: * (سنستدرجهم) * يفيد الاستقبال، ولا يجب أن يكون المراد: أن يستدرجهم إلى كفر آخر لجواز أن يميتهم قبل أن يوقعهم في كفر آخر، فالمراد إذن: ما قلناه، ولأنه تعالى لا يعاقب الكافر بأن يخلق فيه كفرا آخر، والكفر هو فعله، وإنما يعاقبه بفعل نفسه.
وأما قوله: * (وأملى لهم) * فمعناه: أني أبقيهم في الدنيا مع إصرارهم على الكفر، ولا أعاجلهم بالعقوبة لأنهم لا يفوتونني ولا يعجزونني، وهذا معنى قوله: * (إن كيدي متين) * لأن كيده هو عذابه، وسماه كيدا لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون.
والجواب عنه من وجهين: الأول: أن قوله: * (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم) * معناه: ما ذكرنا أنهم كلما زادوا تماديا في الذنب والكفر، زادهم الله نعمة وخيرا في الدنيا، فيصير فوزهم بلذات الدنيا سببا لتماديهم في الإعراض عن ذكر الله وبعدا عن الرجوع إلى طاعة الله، هذه حالة نشاهدها في بعض الناس، وإذا كان هذا أمرا محسوسا مشاهدا فكيف يمكن إنكاره. الثاني: هب أن المراد منه الاستدراج إلى العقاب، إلا أن هذا أيضا يبطل القول بأنه تعالى ما أراد بعبده إلا الخير والصلاح، لأنه تعالى لما علم أن هذا الاستدراج، وهذا الإمهال مما قد يزيد به عتوا وكفرا وفسادا واستحقاق العقاب الشديد، فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجبا لتلك
74

الزيادات من العقوبة بل لكان يجب في حكمته ورعايته للمصالح أن لا يخلقه ابتداء صونا له عن هذا العقاب، أو أن يخلقه لكنه يميته قبل أن يصير في حد التكليف، أو أن لا يخلقه إلا في الجنة، صونا له عن الوقوع في آفات الدنيا وفي عقاب الآخرة، فلما خلقه في الدنيا وألقاه في ورطة التكليف. وأطال عمره ومكنه من المعاصي مع علمه بأن ذلك لا يفيد إلا مزيد الكفر والفسق واستحقاق العقاب، علمنا أنه ما خلقه إلا للعذاب وإلا للنار، كما شرحه في الآية المتقدمة، وهي قوله: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * (الأعراف: 179) وأنا شديد التعجب من هؤلاء المعتزلة، فإنهم يرون القرآن كالبحر الذي لا ساحل له مملوء من هذه الآيات والدلائل العقلية القاهرة القاطعة مطابقة لها، ثم إنهم يكتفون في تأويلات هذه الآيات بهذه الوجوه الضعيفة والكلمات الواهية، إلا أن علمي بأن ما أراده الله كائن يزيل هذا التعجب. والله أعلم.
* (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين) *.
واعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد المعرضين عن آياته، الغافلين عن التأمل في دلائله وبيناته، عاد إلى الجواب عن شبهاتهم. فقال: * (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) * والتفكر طلب المعنى بالقلب وذلك لأن فكرة القلب هو المسمى بالنظر، والتعقل في الشيء والتأمل فيه والتدبر له، وكما أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة من الانكشاف والجلاء، ولها مقدمة وهي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي: طلبا لتحصيل تلك الرؤية بالبصر، فكذلك الرؤية بالبصيرة، وهي المسماة بالعلم واليقين، حالة مخصوصة في الانكشاف والجلاء، ولها مقدمة وهي تقليب حدقة العقل إلى الجوانب، طلبا لذلك الانكشاف والتجلي، وذلك هو المسمى بنظر العقل وفكرته، فقوله تعالى: * (أولم يتفكروا) * أمر بالفكر والتأمل والتدبر والتروي لطلب معرفة الأشياء كما هي عرفانا حقيقيا تاما، وفي اللفظ محذوف. والتقدير: أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة، والجنة حالة من الجنون، كالجلسة والركبة ودخول " من " في قوله: * (من جنة) * يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون.
واعلم أن بعض الجهال من أهل مكة كانوا ينسبونه إلى الجنون لوجهين: الأول: أن فعله عليه السلام كان مخالفا لفعلهم، وذلك لأنه عليه السلام كان معرضا عن الدنيا مقبلا على الآخرة، مشتغلا بالدعوة إلى الله، فكان العمل مخالفا لطريقتهم، فاعتقدوا فيه أنه مجنون. قال الحسن وقتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلا على الصفا يدعو فخذا فخذا من قريش. فقال يا بني فلان يا بني فلان،
75

وكان يحذرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، واظب على الصياح طول هذه الليلة، فأنزل الله تعالى هذه الآية وحثهم على التفكر في أمر الرسول عليه السلام، ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال. الثاني: أنه عليه السلام كان يغشاه حالة عجيبة عند نزول الوحي فيتغير وجهه ويصفر لونه،
وتعرض له حالة شبيهة بالغشي، فالجهال كانوا يقولون إنه جنون فالله تعالى بين في هذه الآية أنه ليس به نوع من أنواع الجنون، وذلك لأنه عليه السلام كان يدعوهم إلى الله، ويقيم الدلائل القاطعة والبينات الباهرة، بألفاظ فصيحة بلغت في الفصاحة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضتها، وكان حسن الخلق، طيب العشرة، مرضي الطريقة نقي السيرة، مواظبا على أعمال حسنة صار بسببها قدوة للعقلاء العالمين، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون، وإذا ثبت هذا ظهر أن اجتهاده على الدعوة إلى الدين إنما كان لأنه نذير مبين، أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين، وترغيب المؤمنين، ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعا على تقرير دلائل التوحيد، لا جرم ذكر عقيبه ما يدل على التوحيد.
* (أو لم ينظروا فى ملكوت السماوات والارض وما خلق الله من شىء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون) *.
فقال: * (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض) * واعلم أن دلائل ملكوت السماوات والأرض على وجود الصانع الحكيم القديم كثيرة، وقد فصلناها في هذا الكتاب مرارا وأطوارا فلا فائدة في الإعادة. ثم قال: * (وما خلق الله من شيء) * والمقصود التنبيه على أن الدلائل على التوحيد غير مقصورة على السماوات والأرض. بل كل ذرة من ذرات عالم الأجسام والأرواح فهي برهان باهر، ودليل قاهر على التوحيد، ولنقرر هذا المعنى بمثال. فنقول: إن الضوء إذا وقع على كوة البيت ظهر الذرات والهباآت، فلنفرض الكلام في ذرة واحدة من تلك الذرات فنقول: إنها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية، وذلك لأنها مختصة بحيز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له، وكل حيز من تلك الأحياز الغير المتناهية، فرضنا وقوع تلك الذرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيز المعين من الممكنات والجائزات، والممكن لا بد له من مخصص ومرجح وذلك المخصص إن كان جسما عاد السؤال فيه، وإن لم يكن جسما فهو الله سبحانه، وأيضا فتلك
76

الذرة لا تخلو عن الحركة والسكون، وكل ما كان كذلك فهو محدث، وكل محدث فإن حدوثه لا بد وأن يكون مختصا بوقت معين مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده، فاختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه، لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص قديم فإن كان ذلك المخصص جسما عاد السؤال فيه، وإن لم يكن جسما فهو الله سبحانه وتعالى، وأيضا أن تلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجمية. ومخالفة لها في اللون والشكل والطبع والطعم وسائر الصفات. واختصاصها بكل تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام، لا بد وأن يكون من الجائزات، والجائز لا بد له من مرجح، وذلك المرجح إن كان جسما عاد البحث الأول فيه، وإن لم يكن جسما فهو الله سبحانه، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصانع من جهات غير متناهية، واعتبارات غير متناهية، وكذا القول في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني، مفرداته ومركباته وسفلياته وعلوياته وعند هذا يظهر لك صدق ما قال الشاعر: وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
وإذا عرفت هذا فحينئذ ظهرت الفائدة لك من قوله تعالى: * (وما خلق الله من شيء) * ولما نبه الله تعالى على هذه الأسرار العجيبة والدقائق اللطيفة، أردفه بما يوجب الترغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكر فقال: * (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) * (الأعراف: 185) ولفظة * (أن) * في قوله: * (وأن عسى) * هي المخففة من الثقيلة تقديره: وأنه عسى، والضمير ضمير الشأن، والمعنى: لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار، وإذا كان هذا الاحتمال قائما وجب على العاقل المسارعة إلى هذه الفكرة، والمبادرة إلى هذه الرؤية، سعيا في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم، ولما ذكر تعالى هذه البيانات الجلية والدلائل العقلية قال: * (فبأي حديث بعده يؤمنون) * (الأعراف: 185) وذلك لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه التنبيهات الظاهرة والبينات الباهرة، فكيف يرضى منهم الإيمان بغيره. واعلم أن هذه الآية دالة على مطالب كثيرة.
المطلب الأول: أن التقليد غير جائز ولا بد من النظر والاستدلال، والدليل على أن الأمر كذلك قوله: * (أولم يتفكروا) *.
والمطلب الثاني: أن أمر النبوة متفرع على التوحيد، والدليل عليه أنه لما قال: * (إن هو إلا نذير مبين) * أتبعه بذكر ما يدل على التوحيد، ولولا أن الأمر كذلك، لما كان إلى هذا الكلام حاجة.
والمطلب الثالث: تمسك الجبائي والقاضي بقوله تعالى: * (فبأي حديث بعده يؤمنون) * على
77

أن القرآن ليس قديما قالوا: لأن الحديث ضد القديم، وأيضا فلفظ الحديث يفيد من جهة العادة حدوثه عن قرب، ولذلك يقال: إن هذا الشيء حديث، وليس بعتيق فيجعلون الحديث ضد العتيق الذي طال زمان وجوده، ويقال: في الكلام إنه حديث، لأنه يحدث حالا بعد حال على الأسماع.
وجوابنا عنه: أنه محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حدوثها. المطلب الرابع: أن النظر في ملكوت السماوات والأرض لا يكون إلا بعد معرفة أقسامها وتفصيل الكلام في شرح أقسامها، أن يقال كل ما سوى الله تعالى، فهو إما أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز أو لا متحيزا، ولا حالا في المتحيز، أما المتحيز فإما أن يكون بسيطا، وإما أن يكون مركبا، أما البسائط فهي إما علوية وإما سفلية، أما العلوية فهي الأفلاك والكواكب، ويندرج فيما ذكرناه العرش والكرسي، ويدخل فيه أيضا الجنة والنار، والبيت المعمور، والسقف المرفوع واستقص في تفصيل هذه الأقسام، وأما السفلية فهي: طبقات العناصر الأربعة، ويدخل فيها البحار والجبال والمفاوز، وأما المركبات فهي أربعة الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان، واستقص في تفصيل أنواع هذه الأجناس الأربعة، وأما الحال في المتحيز وهي الأعراض، فيقرب أجناسها من أربعين جنسا، ويدخل تحت كل جنس أنواع كثيرة، ثم إذا تأمل العاقل في عجائب أحكامها ولوازمها وآثارها ومؤثراتها فكأنه خاض في بحر لا ساحل له.
وأما القسم الثالث: وهو أن الموجود لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز، فهو قسمان، لأنه إما أن يكون متعلقا بأجسام بالتدبير والتحريك، وهو المسمى بالأرواح،
وإما أن لا يكون كذلك، وهي الجواهر القدسية المبرأة عن علائق الأجسام. أما القسم الأول فأعلاها وأشرفها الأرواح الثمانية المقدسة الحاملة للعرش، كما قال تعالى: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17) ويتلوها الأرواح المقدسة المشارة إليها بقوله سبحانه: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم) * ويتلوها سكان الكرسي، وإليهم الإشارة بقوله: * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض) * (البقرة: 255) ويتلوها الأرواح المقدسة في طبقات السماوات السبع. وإليهم الإشارة بقوله: * (والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا) * (الصافات: 1 - 3) ومن صفاتهم، أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
واعلم أن هذا الذي ذكرناه وفصلناه من ملك الله وملكوته كالقطرة في البحر فلعل الله سبحانه
78

له ألف ألف عالم وراء هذا العالم، وله في كل واحد منها عرش أعظم من هذا العرش، وكرسي أعلى من هذا الكرسي، وسموات أوسع من هذه السماوات، وكيف يمكن إحاطة عقل البشر بكمال ملك الله وملكوته، بعد أن سمع قوله: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * (المدثر: 31) فإذا استحضر الإنسان هذه الأقسام في عقله وأراد الخوض في معرفة أسرار حكمته وإلهيته فهم قولهم: * (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) * (البقرة: 32) ونعم ما قال أبو العلاء المعري:
يا أيها الناس كم لله من فلك * تجري النجوم به والشمس والقمر
هنا على الله ماضينا وغابرنا * فما لنا في نواحي غيره خطر
* (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم فى طغيانهم يعمهون) *.
اعلم أنه تعالى عاد في هذه الآية مرة أخرى إلى نعت أحوال الضالين المكذبين فقال: * (من يضلل الله فلا هادي له) * واعلم أن استدلال أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله مثل ما سبق في الآية السالفة، وتأويلات المعتزلة، وجوابنا عنها مثل ما تقدم فلا فائدة في الإعادة، وقوله: * (ويذرهم في طغيانهم) * رفع بالاستئناف وهو مقطوع عما قبله، وقرأ أبو عمرو " ويذرهم " بالياء ورفع الراء لتقدم اسم الله سبحانه، وقرأ حمزة والكسائي بالياء والحزم، ووجه ذلك فيما يقول سيبويه: إنه عطف على موضع الفاء وما بعدها من قوله: * (فلا هادي له) * لأن موضع الفاء وما بعدها جزم لجواب الشرط، فحمل " ويذرهم " على موضع الذي هو جزم.
* (يسالونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو ثقلت فى السماوات والارض لا تأتيكم إلا بغتة يسالونك كأنك حفى عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *.
اعلم أن في نظم الآية وجهين: الأول: أنه تعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة والقضاء والقدر
79

أتبعه بالكلام في المعاد، لما بينا أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلا هذه الأربعة. الثاني: أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة * (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) * (الأعراف: 185) باعثا بذلك عن المثابرة إلى التوبة والإصلاح قال بعده: * (يسألونك عن الساعة) * ليتحقق في القلوب أن وقت الساعة مكتوم عن الخلق، فيصير ذلك حاملا للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الواجبات، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن ذلك السائل من هو؟ قال ابن عباس: إن قوما من اليهود قالوا يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية، وقال الحسن وقتادة: إن قريشا قالوا: يا محمد بيننا وبينك قرابة، فاذكر لنا متى الساعة؟
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة، أو لأن حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة فسمي بالساعة لهذا السبب أو لأنها على طولها كساعة واحدة عند الخلق.
المسألة الثالثة: أيان معناه الاستفهام عن الوقت الذي يجيء، وهو سؤال عن الزمان وحاصل الكلام أن أيان بمعنى متى، وفي اشتقاقه قولان: المشهور أنه مأخوذ من الأين وأنكره ابن جني وقال: * (أيان) * سؤال عن الزمان، وأين سؤال عن المكان، فكيف يكون أحدهما مأخوذا من الآخر. والثاني: وهو الذي اختاره ابن جني أن اشتقاقه من أي فعلان منه، لأن معناه أي وقت ولفظة أي، فعل من أويت إليه، لأن البعض آو إلى مكان الكل متساندا إليه هكذا. قال ابن جني: وقرأ السلمي إيان بكسر الهمز.
المسألة الرابعة: مرساها " المرسي " ههنا مصدر بمعنى الإرساء لقوله تعالى: * (بسم الله مجراها ومرساها) * (هود: 41) أي إجراؤها وإرساؤها، والإرساء الإثبات يقال رسى يرسوا؛ إذا ثبت. قال تعالى: * (والجبال أرساها) * (النازعات: 32) فكان الرسو ليس اسما لمطلق الثبات، بل هو اسم لثبات الشيء إذا كان ثقيلا ومنه إرساء الجبل، وإرساء السفينة، ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة، بدليل قوله: * (ثقلت في السماوات والأرض) * (الأعراف: 187) لا جرم سمى الله تعالى وقوعها وثبوتها بالإرساء.
ثم قال تعالى: * (قل إنما علمها عند ربي) * أي لا يعلم الوقت الذي فيه يحصل قيام القيامة إلا الله سبحانه ونظيره قوله سبحانه: * (إن الله عنده علم الساعة) * (لقمان: 34) وقوله: * (أن الساعة آتية لا ريب فيها) * (الحج: 7) وقوله: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) * (طه: 15) ولما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: متى الساعة فقال عليه السلام: " ليس المسؤول عنها بأعلم من السائل " قال المحققون: والسبب في إخفاء الساعة عن العباد؟ أنهم إذا لم يعلموا
متى تكون، كانوا على حذر منها، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة،
80

وأزجر عن المعصية، ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال: * (لا يجليها لوقتها) * التجلية إظهار الشيء والتجلي ظهوره، والمعنى: لا يظهرها في وقتها المعين * (إلا هو) * أي لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإعلام والإخبار إلا هو.
ثم قال تعالى: * (ثقلت في السماوات والأرض) * والمراد وصف الساعة بالثقل ونظيره قوله تعالى: * (ويذرون وراءهم يوما ثقيلا) * (الإنسان: 27) وأيضا وصف الله تعالى زلزلة الساعة بالعظم فقال: * (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) * (الحج: 1) ووصف عذابها بالشدة فقال: * (وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) * (الحج: 2).
إذا عرفت هذا فنقول: للمفسرين في تفسير قوله: * (ثقلت في السماوات والأرض) * وجوه: قال الحسن: ثقل مجيئها على السماوات والأرض، لأجل أن عند مجيئها شققت السماوات وتكورت الشمس والقمر وانتثرت النجوم وثقلت على الأرض لأجل أن في ذلك اليوم تبدل الأرض غير الأرض، وتبطل الجبال والبحار، وقال أبو بكر الأصم: إن هذا اليوم ثقيل جدا على أهل السماء والأرض، لأن فيه فناءهم وهلاكهم وذلك ثقيل على القلوب. وقال قوم: إن هذا اليوم عظيم الثقل على القلوب بسبب أن الخلق يعلمون أنهم يصيرون بعدها إلى البعث والحساب والسؤال والخوف من الله في مثل هذا اليوم شديد. وقال السدي: * (ثقلت) * أي خفيت في السماوات والأرض ولم يعلم أحد من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها. وقال قوم: * (ثقلت في السماوات والأرض) * أي ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين على أهل السماوات والأرض، وكما يقال في المحمول الذي يتعذر حمله أنه قد ثقل على حامله، فكذلك يقال في العلم الذي استأثر الله تعالى به أنه يثقل عليهم.
ثم قال: * (لا تأتيكم إلا بغتة) * وهذا أيضا تأكيد لما تقدم وتقرير لكونها بحيث لا تجيء إلا بغتة فجأة على حين غفلة من الخلق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الساعة تفجأ الناس، فالرجل يصلح موضعه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقوم بسلعته في سوقه. والرجل يخفض ميزانه ويرفعه " وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك ".
ثم قال تعالى: * (يسألونك كأنك حفي عنها) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الحفي وجوه: الأول: الحفي البار اللطيف قال ابن الأعرابي: يقال حفى بي حفاوة وتحفى بي تحفيا، والحفي الكلام واللقاء الحسن، ومنه قوله تعالى: * (إنه كان بي حفيا) * أي بارا لطيفا يجيب دعائي إذا دعوته، فعلى هذا التقدير يسألونك كأنك بار بهم لطيف العشرة معهم
81

وعلى هذا قول الحسن وقتادة والسدي، ويؤيد هذا القول ما روي في تفسيره إن قريشا قالت لمحمد عليه السلام: إن بيننا وبينك قرابة، فاذكر لنا متى الساعة. فقال تعالى: * (يسألونك كأنك حفي عنها) * أي كأنك صديق لهم بار بمعنى أنك لا تكون حفيا بهم ما داموا على كفرهم.
والقول الثاني: * (حفي عنها) * أي كثير السؤال عنها شديد الطلب لمعرفتها، وعلى هذا القول * (حفي) * فعيل من الإحفاء وهو الإلحاح والإلحاف في السؤال، ومن أكثر السؤال والبحث عن الشيء علمه، قال أبو عبيدة هو من قولهم تحفى في المسألة، أي استقصى. فقوله: * (كأنك حفي عنها) * أي كأنك أكثرت السؤال عنها وبالغت في طلب علمها. قال صاحب " الكشاف ": هذا الترتيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب، وإحفاء البقل استئصاله، وأحفى في المسألة إذا ألحف، وحفى بفلان وتحفى به بالغ في البر به، وعلى هذا التقدير: فالقولان الأولان متقاربان.
المسألة الثانية: في قوله: * (عنها) * وجهان: الأول: أن يكون فيه تقديم وتأخير والتقدير: يسألونك عنها كأنك حفي بها ثم حذف قوله: " بها " لطول الكلام ولأنه معلوم لا يحصل الالتباس بسبب حذفه. والثاني: أن يكون التقدير: يسألونك كأنك حفي بهم لأن لفظ الحفي يجوز أن يعدى تارة بالباء وأخرى بكلمة عن ويؤكد هذا الوجه بقراءة ابن مسعود * (كأنك حفي بها) *.
المسألة الثالثة: قوله: * (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) * سؤال عن وقت قيام الساعة وقوله ثانيا: * (يسألونك كأنك حفي عنها) * سؤال عن كنه ثقل الساعة وشدتها ومهابتها، فلم يلزم التكرار:
أجاب عن الأول بقوله: * (إنما علمها عند ربي) *.
وأجاب عن الثاني بقوله: * (إنما علمها عند الله) * والفرق بين الصورتين أن السؤال الأول كان واقعا عن وقت قيام الساعة. والسؤال الثاني كان واقعا عن مقدار شدتها ومهابتها، وأعظم أسماء الله مهابة وعظمة هو قوله عند السؤال عن مقدار شدة القيامة الاسم الدال على غاية المهابة، وهو قولنا الله ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * وفيه وجوه: أحدها: ولكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقته المعين عن الخلق.
82

* (قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شآء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه: الأول: أن قوله: * (لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا) * أي أنا لا أدعي علم الغيب إن أنا إلا نذير وبشير، ونظيره قوله تعالى في سورة يونس: * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل) * (يونس: 48، 49) الثاني: روي أن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا يخبرك ربك بالرخص والغلاء حتى نشتري فنربح، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة. فأنزل الله تعالى
هذه الآية: الثالث: قال بعضهم: لما رجع عليه الصلاة والسلام من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطريق ففرت الدواب منها، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة بالمدينة وكان فيه غيظ للمنافقين. وقال انظروا أي ناقتي، فقال عبد الله بن أبي مع قومه ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته. فقال عليه السلاة والسلام: " إن ناسا من المنافقين. قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة " فوجدها على ما قال، فأنزل الله تعالى: * (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا خيرا إلا ما شاء الله) *.
المسألة الثانية: اعلم أن القوم لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب وطالبوه بإعطاء الأموال الكثيرة والدولة العظيمة ذكر أن قدرته قاصرة وعلمه قليل، وبين أن كل من كان عبدا كان كذلك والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليسا إلا لله تعالى، فالعبد كيف يحصل له هذه القدرة، وهذا العلم؟ واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله تعالى: * (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) * والإيمان نفع والكفر ضر، فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى، وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بمشيئة الله سبحانه، وتقريره ما ذكرناه مرارا أن القدرة على
83

الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان، فخالق تلك القدرة يكون مريدا للكفر، وإن كانت صالحة للإيمان، فخالق تلك القدرة يكون مريدا للكفر، وإن كانت صالحة للإيمان امتنع صدور الكفر عنها بدلا عن الإيمان إلا عند حدوث داعية جازمة، فخالق تلك الداعية الجازمة يكون مريدا للكفر، فثبت أن على جميع التقادير: لا يملك العبد لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله.
أجاب القاضي عنه بوجوه: الأول: أن ظاهر قوله: * (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) * وإن كان عاما بحسب اللفظ إلا أنا ذكرنا أن سبب نزوله هو أن الكفار قالوا: يا محمد ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو، حتى نشتري الرخيص فنربح عليه عند الغلاء، فيحمل اللفظ العام على سبب نزوله، والمراد بالنفع: تملك الأموال وغيرها، والمراد بالضر وقت القحط، والأمراض وغيرها. الثاني: المراد لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فيما يتصل بعلم الغيب، والدليل على أن المراد ذلك قوله: * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) * الثالث: المراد: لا أملك لنفسي من الضر والنفع إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه، والمقصود من هذا الكلام بيان أنه لا يقدر على شيء إلا إذا أقدره الله عليه.
واعلم أن هذه الوجوه بأسرها عدول عن ظاهر اللفظ، وكيف يجوز المصير إليه مع أنا أقمنا البرهان القاطع العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل عليه ظاهر لفظ هذه الآية، والله أعلم.
المسألة الثالثة: احتج الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم علمه بالغيب بقوله: * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) * واختلفوا في المراد من هذا الخير. فقيل المراد منه: جلب منافع الدنيا وخيراتها، ودفع آفاتها ومضراتها، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب والجدب والأرباح والأكساب. وقيل: المراد منه ما يتصل بأمر الدين، يعني: لو كنت أعلم الغيب كنت أعلم أن الدعوى إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في ذاك، فكيف اشتغل بدعوة هذا دون ذاك. وقيل: المراد منه: ما يتصل بالجواب عن السؤالات، والتقدير: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير.
والجواب: عن هذه المسائل التي سألوه عنها مثل السؤال عن وقت قيام الساعة وغيره.
أما قوله: * (وما مسني السوء) * ففيه قولان:
القول الأول: قال الواحدي رحمه الله: تم الكلام عند قوله: * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) * ثم قال: * (وما مسني السوء) * أي ليس بي جنون، وذلك لأنهم نسبوه إلى الجنون كما ذكرنا في قوله:
84

* (ما بصاحبهم من جنة) * وهذا القول عندي بعيد جدا ويوجب تفكك نظم الآية.
والقول الثاني: إنه تمام الكلام الأول، والتقدير: ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير، ولاحترزت عن الشر حتى صرت بحيث لا يمسني سوء. ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر أن علم الغيب غير حاصل عندي، ولما بين بما سبق أنه لا يقدر إلا على ما أقدر الله عليه، ولا يعلم إلا ما أعطاه الله العلم به قال: * (إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) * والنذير مبالغة في الإنذار بالعقاب على فعل المعاصي وترك الواجبات، والبشير مبالغة في البشارة بالثواب على فعل الواجبات وترك المعاصي وقوله: * (لقوم يؤمنون) * فيه قولان: أحدهما: أنه نذير وبشير للمؤمنين والكافرين إلا أنه ذكر إحدى الطائفتين وترك ذكر الثانية لأن ذكر إحداهما، يفيد ذكر الأخرى كقوله: * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 81) والثاني: أنه عليه الصلاة والسلام وإن كان نذيرا وبشيرا للكل إلا أن المنتفع بتلك النذارة والبشارة هم المؤمنون. فلهذا السبب خصهم الله بالذكر، وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2).
* (هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلمآ أثقلت دعوا الله ربهما لئن ءاتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين * فلمآ ءاتاهما صالحا جعلا له شركآء فيمآ ءاتاهما فتعالى الله عما يشركون) *.
اعلم أنه تعالى رجع في هذه الآية إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المروي عن ابن عباس * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) * وهي نفس آدم * (وخلق منها زوجها) * أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى * (فلما تغشاها) * آدم * (حملت حملا خفيفا فلما أثقلت) * أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل وقال: ما هذا يا حواء
85

إني أخاف أن يكون كلبا أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج؟ أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك؟ فخافت حواء، وذكرت ذلك لآدم عليه السلام، فلم يزالا في هم من ذلك،
ثم أتاها وقال: إن سألت الله أن يجعله صالحا سويا مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فذلك قوله: * (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) * أي لما آتاهما الله ولدا سويا صالحا جعلا له شريكا أي جعل آدم وحواء له شريكا، والمراد به الحرث هذا تمام القصة.
واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى قال: * (فتعالى الله عما يشركون) * وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة. الثاني: أنه تعالى قال بعده: * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) * (الأعراف: 191) وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر. الثالث: لو كان المراد إبليس لقال: أيشركون من لا يخلق شيئا، ولم يقل ما لا يخلق شيئا، لأن العاقل إنما يذكر بصيغة " من " لا بصيغة " ما " الرابع: أن آدم عليه السلام كان أشد الناس معرفة بإبليس، وكان عالما بجميع الأسماء كما قال تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحرث فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث؟ وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى أنه لم يجد سوى هذا الاسم؟ الخامس: أن الواحد منا لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح، فجاءه إنسان ودعاه إلى أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار. فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * (البقرة: 31) وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس، كيف لم يتنبه لهذا القدر وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها السادس: أن بتقدير أن آدم عليه السلام، سماه بعبد الحرث، فلا يخلو إما أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له، أو جعله صفة له، بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحرث ومخلوق من قبله. فإن كان الأول لم يكن هذا شركا بالله لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة، فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك، وإن كان الثاني كان هذا قولا بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكا في الخلق والإيجاد والتكوين وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم، وذلك لا يقوله عاقل. فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه.
إذا عرفت هذا فنقول: في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد. التأويل الأول: ما ذكره القفال فقال: إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل
86

وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك، وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل، دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك. فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويا، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام.
ثم قال تعالى: * (فتعالى الله عما يشركون) * أي تنزه الله عن ذلك الشرك، وهذا جواب في غاية الصحة والسداد.
التأويل الثاني: بأن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصي، والمراد من قوله: * (هو الذي خلقكم من نفس) * قصي * (وجعل من) * جنس * (- ها زوجها) * عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وعبد اللات، وجعل الضمير في * (يشركون) * لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك.
التأويل الثالث: أن نسلم أن هذه الآية وردت في شرح قصة آدم عليه السلام وعلى هذا التقدير ففي دفع هذا الإشكال وجوه: الأول: أن المشركين كانوا يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها، فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام، وحكى عنهما أنهما قالا: * (لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) * أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولدا سويا صالحا لاشتغلوا بشكر تلك النعمة، ثم قال: * (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء) * فقوله: * (جعلا له شركاء) * ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد، والتقرير: فلما آتاهما صالحا أجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال: * (فتعالى الله عما يشركون) * أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام، ثم يقال لذلك المنعم: أن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك، فيقول ذلك المنعم: فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا، ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة والبغي؟ على التبعيد فكذا ههنا.
الوجه الثاني: في الجواب أن نقول: أن هذه القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء
87

ولا إشكال في شيء من ألفاظها إلا قوله: * (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) * فنقول: التقدير، فلما آتاهما ولدا صالحا سويا جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذا فيما آتاهما، أي فيما آتي أولادهما ونظيره قوله: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) أي واسأل أهل القرية.
فإن قيل: فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله: * (جعلا له شركاء) *.
قلنا: لأن ولده قسمان ذكر وأنثى فقوله: * (جعلا) * المراد منه الذكر والأنثى مرة عبر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين، ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع، وهو قوله تعالى: * (فتعالى الله عما يشركون) *.
الوجه الثالث: في الجواب سلمنا أن الضمير في قوله: * (جعلا له شركاء فيما آتاهما) * عائد إلى آدم وحواء عليهما السلام، إلا أنه قيل: إنه تعالى لما آتاهما الولد
الصالح عزما على أن يجعلاه وقفا على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق. ثم بدا لهم في ذلك، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته. وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فلهذا قال تعالى: * (فتعالى الله عما يشركون) * والمراد من هذه الآية ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال حاكيا عن الله سبحانه: " أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه " وعلى هذا التقدير: فالإشكال زائل.
الوجه الرابع: في التأويل أن نقول: سلمنا صحة تلك القصة المذكورة، إلا أنا نقول: إنهم سموا بعبد الحرث لأجل أنهم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفة والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المسمى بالحرث، وقد يسمى المنعم عليه عبدا للمنعم. يقال في المثل: أنا عبد من تعلمت منه حرفا، ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان: كتابة عبد وده فلان. قال الشاعر: وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا * ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا
فآدم وحواء عليهما السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تنبيها على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه، وهذا لا يقدح في كونه عبد الله من جهة أنه مملوكه ومخلوقه، إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتبا في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد، فهذا جملة ما نقوله في تأويل هذه الآية.
المسألة الثانية: في تفسير ألفاظ الآية وفيها مباحث:
البحث الأول: قوله: * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) * المشهور أنها نفس آدم وقوله:
88

* (خلق منها زوجها) * المراد حواء. قالوا ومعنى كونها مخلوقة من نفس آدم، أنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاع آدم. قالوا: والحكمة فيه أن الجنس إلى الجنس أميل، والجنسية علة الضم، وأقول هذا الكلام مشكل لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخلق آدم ابتداء فما الذي حملنا على أن نقول أنه تعالى خلق حواء من جزء أجزاء آدم؟ ولم لا نقول: إنه تعالى خلق حواء أيضا ابتداء؟ وأيضا الذي يقدر على خلق إنسان من عظم واحد فلم لا يقدر على خلقه ابتداء، وأيضا الذي يقال: إن عدد أضلاع الجانب الأيسر أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن فيه مؤاخذة تنبي عن خلاف الحس والتشريح. بقي أن يقال: إذا لم نقل بذلك، فما المراد من كلمة * (من) * في قوله: * (وجعل منها زوجها) * فنقول: قد ذكرنا أن الإشارة إلى الشيء تارة تكون بحسب شخصه، وأخرى بحسب نوعه قال عليه الصلاة والسلام: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " وليس المراد ذلك الفرد المعين بل المراد ذلك النوع. وقال عليه الصلاة والسلام: " في يوم عاشوراء هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون " والمراد خلق من النوع الإنساني زوجة آدم، والمقصود التنبيه على أنه تعالى جعل زوج آدم إنسانا مثله قوله: * (فلما تغشاها) * أي جامعها، والغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشاها وتغشاها إذا علاها، وذلك لأنه إذا علاها فقد صار كالغاشية لها، ومثله يجللها، وهو يشبه التغطي واللبس. قال تعالى: * (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) * وقوله: * (حملت حملا خفيفا) * قالوا يريد النطفة والمني والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الشجر، والحمل بكسر الحاء ما حمل على ظهر أو على الدابة. وقوله: * (فمرت به) * أي استمرت بالماء والحمل على سبيل الخفة، والمراد أنها كانت تقوم وتقعد وتمشي من غير ثقل. قال صاحب " الكشاف ": وقرأ يحيى بن يعمر * (فمرت به) * بالتخفيف وقرأ غيره * (فمارت به) * من المرية. كقوله: * (أفتمارونه) * وفي قراءة أخرى * (أفتمرونه) * معناه وقع في نفسها ظن الحمل وارتابت فيه * (فلما أثقلت) * أي صارت إلى حال الثقل ودنت ولادتها * (دعوا الله ربهما) * يعني آدم وحواء * (لئن آتيتنا صالحا) * أي ولدا سويا مثلنا * (لنكونن من الشاكرين) * لآلائك ونعمائك * (فلما آتاهما) * الله * (صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) * والكلام في تفسيره قد مر بالاستقصاء قرأ ابن كثير وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية حفص * (عنه شركاء) * بصيغة الجمع وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر * (عنه شركا) * بكسر الشين وتنوين الكاف ومعناه جعلا له نظراء ذوي شرك وهم الشركاء، أو يقال معناه أحدثا لله إشراكا في الولد ومن قرأ * (شركاء) * فحجته قوله: * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا) * وأراد بالشركاء في هذه الآية إبليس لأن من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين، هذا إذا حملنا هذه الآية على القصة المشهورة، أما إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل والله أعلم.
89

* (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون * إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين) *.
اعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه ليس المراد بقوله: * (فتعالى الله عما يشركون) * ما ذكره من قصة إبليس إذ لو كان المراد ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكلية، وكان ذلك غاية الفساد في النظم والترتيب، بل المراد ما ذكرناه في سائر الأجوبة من أن المقصود من الآية السابقة الرد على عبدة الأوثان. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المقصود من هذه الآية إقامة الحجة على أن الأوثان لا تصلح للإلهية فقوله: * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) * معناه أيعبدون ما لا يقدر على أن يخلق شيئا؟ وهم يخلقون. أي وهم مخلوقون يعني الأصنام.
فإن قيل: كيف وحد * (يخلق) * ثم جمع فقال: * (وهم يخلقون) * وأيضا فكيف ذكر الواو والنون في جمع غير الناس؟
والجواب عن الأول: أن لفظ * (ما) * تقع على الواحد والاثنين والجمع، فهذه من صيغ الوحدان يحسب ظاهر لفظها. ومحتملة للجمع فالله تعالى اعتبر الجهتين فوحد قوله: * (يخلق) * رعاية لحكم ظاهر اللفظ وجمع قوله: * (وهم يخلقون) * رعابة لجانب المعنى.
والجواب عن الثاني: وهو أن الجمع بالواو والنون في غير من يعقل كيف يجوز؟ فنقول: لما اعتقد عابدوها أنها تعقل وتميز فورد هذا اللفظ بناء على ما يعتقدونه ويتصورونه، ونظيره قوله تعالى: * (وكل في فلك يسبحون) * (الأنبياء: 33) وقوله: * (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) * (يوسف: 4) وقوله: * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) * (النمل: 18).
90

المسألة الثانية: قوله: * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) * احتج أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير موجد ولا خالق لأفعاله، قالوا: لأنه تعالى طعن في إلهية الأجسام بسبب أنها لا تخلق شيئا وهذا الطعن إنما يتم لو قلنا إن بتقدير أنها كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلهيتها، وهذا يقتضي أن كل من كان خالقا كان إلها، فلو كان العبد خالقا لأفعال نفسه كان إلها ولما كان ذلك باطلا، علمنا أن العبد غير خالق لأفعال نفسه.
أما قوله تعالى: * (ولا يستطيعون لهم نصرا) * يريد أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تنتصر ممن عصاها. والنصر: المعونة على العدو والمعنى أن المعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضرر وهذه الأصنام ليست كذلك. فكيف يليق بالعاقل عبادتها؟
ثم قال: * (ولا أنفسهم ينصرون) * أي ولا يدفعون عن أنفسهم مكروها فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه.
ثم قال: * (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم) * واعلم أنه تعالى لما أثبت بالآية المتقدمة أنه لا قدرة لهذه الأصنام على أمر من الأمور، بين بهذه الآية أنه لا علم لها بشيء من الأشياء، والمعنى أن هذا المعبود الذي يعبده المشركون معلوم من حاله أنه كما لا ينفع ولا يضر، فكذا لا يصح فيه إذا دعى إلى الخير الأتباع. ولا يفصل حال من يخاطبه ممن يسكت عنه، ثم قوى هذا الكلام بقوله: * (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) * وهذا مثل قوله: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) * (البقرة: 6) وذكرنا ما فيه من المباحث في تلك الآية إلا أن الفرق في تلك الآية عطف الفعل على الفعل، وههنا عطف الاسم على الفعل، لأن قوله: * (أدعوتموهم) * جملة فعلية: وقوله: * (أم أنتم صامتون) * جملة إسمية.
واعلم أنه ثبت أن عطف الجملة الإسمية على الفعلية لا يجوز إلا لفائدة وحكمة، وتلك الفائدة هي أن صيغة الفعل مشعرة بالتجدد والحدوث حالا بعد حال، وصيغة الاسم مشعرة بالدوام والثبات والاستمرار.
إذا عرفت هذا فنقول: إن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم وفي معضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام، وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين، فقيل لهم لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم وسكوتكم، فهذا هو الفائدة في هذه اللفظة، ثم أكد الله بيان أنها لا تصلح للإلهية، فقال: * (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) * وفيه سؤال: وهو أنه كيف يحسن وصفها بأنها عباد مع أنها جمادات؟ وجوابه من وجوه: الأول: أن المشركين لما
91

ادعوا أنها تضر وتنفع، وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة، فلا جرم وردت هذه الألفاظ على وفق معتقداتهم، ولذلك قال: * (فادعوهم فليستجيبوا لكم) * ولم يقل فادعوهم فليستجبن لكم وقال: * (إن الذين) * ولم يقل التي.
والجواب الثاني: أن هذا اللغو أورد في معرض الاستهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم، فلم جعلتم أنفسكم عبيدا وجعلتموها آلهة وأربابا؟ ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالكم. فقال: * (ألهم أرجل يمشون بها) * (الأعراف: 195) ثم أكد هذا البيان بقوله: * (فادعوهم فليستجيبوا لكم) * ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام في قوله: * (فليستجيبوا) * لام الأمر على معنى التعجيز والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للمعبودية، ونظيره قول إبراهيم عليه السلام لأبيه: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * (مريم: 42) وقوله: * (إن كنتم صادقين) * أي في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة، ولما ثبت بهذه الدلائل الثلاثة اليقينية أنها لا تصلح للمعبودية، وجب على العاقل أن لا يلتفت إليها، وأن لا يشتغل إلا بعباده الإله القادر العالم الحي الحكيم الضار النافع.
* (ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم ءاذان يسمعون بها قل ادعوا شركآءكم ثم كيدون فلا تنظرون) *.
اعلم أن هذا نوع آخر من الدليل في بيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة هذه الأصنام. وتقريره أنه تعالى ذكر في هذه الآية أعضاء أربعة، وهي الأرجل والأيدي والأعين والآذان، ولا شك أن هذه الأعضاء إذا حصل في كل واحدة منها ما يليق بها من القوى المحركة والمدركة تكون أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى، فالرجل القادرة على المشي واليد القادرة على البطش أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة، والعين الباصرة والأذن السامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة الباصرة والسامعة، وعن قوة الحياة، وإذا ثبت هذا ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام، بل لا نسبة لفضيلة الإنسان إلى
92

فضل هذه الأصنام البتة، وإذا كان كذلك فكيف يليق بالأفضل الأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الذي لا يحس منه فائدة البتة، لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة. هذا هو الوجه في تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، وقد تعلق بعض أغمار المشبهة وجها لهم بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى. فقالوا: إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلا على عدم إلهيتها، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى لكان عدمها دليلا على عدم الإلهية وذلك باطل، فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى. والجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن المقصود من هذه الآية: بيان أن الإنسان أفضل وأكمل حالا من الصنم، لأن الإنسان له رجل ماشية، ويد باطشة، وعين باصرة، وأذن سامعة، والصنم رجله غير ماشية، ويده غير باطشة، وعينه غير مبصرة، وأذنه غير سامعة، وإذا كان كذلك كان الإنسان أفضل وأكمل حالا من الصنم، واشتغال الأفضل الأكمل بعبادة الأخس الأدون جهل، فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام، لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال.
الوجه الثاني: في الجواب أن المقصود من ذكر هذا الكلام: تقرير الحجة التي ذكرها قبل هذه الآية وهي قوله: * (ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون) * (الأعراف: 192) يعني كيف تحسن عبادة من لا يقدر على النفع والضرر، ثم قرر تعالى ذلك بأن هذه الأصنام لم يحصل لها أرجل ماشية، وأيد باطشة، وأعين باصرة، وآذان سامعة، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن قادرة على الإنفاع والإضرار، فامتنع كونها آلهة. أما إله العالم تعالى وتقدس فهو وإن كان متعاليا عن هذه الجوارح والأعضاء إلا أنه موصوف بكمال القدرة على النفع والضرر وهو موصوف بكمال السمع والبصر فظهر الفرق بين البابين.
أما قوله تعالى: * (قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون) * قال الحسن: إنهم كانوا يخوفون الرسول عليه السلام بآلهتهم، فقال تعالى: * (قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون) * ليظهر لكم أنه لا قدرة لها على إيصال المضار إلي بوجه من الوجوه، وأثبت نافع وأبو عمرو الياء في * (كيدوني) * والباقون حذفوها ومثله في قوله: * (فلا تنظرون) * قال الواحدي، والقول فيه أن الفواصل تشبه القوافي، وقد حذفوا هذه الياءات إذا كانت في القوافي كقوله: يلمس الإحلاس في منزله * بيديه كاليهودي الممل
والذين أثبتوها فلأن الأصل هو الإثبات، ومعنى قوله: * (فلا تنظرون) * أي لا تمهلوني واعجلوا في كيدي أنتم وشركائكم.
93

* (إن وليى الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين * والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) *.
اعلم أنه لما بين في الآيات المتقدمة أن هذه الأصنام لا قدرة لها على النفع والضر بين بهذه الآية أن الواجب على كل عاقل عبادة الله تعالى، لأنه هو الذي يتولى تحصيل منافع الدين ومنافع الدنيا أما تحصيل منافع الدين، فبسبب إنزال الكتاب، وأما تحصيل منافع الدنيا، فهو المراد بقوله: * (وهو يتولى الصالحين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: قرأ القراء وليي بثلاث ياءات، الأولى ياء فعيل وهي ساكنة، والثانية لام الفعل وهي كسورة، قد أدغمت الأولى فيها فصار ياء مشددة، والثالثة ياء الإضافة، وروي عن أبي عمرو: ولي الله بياء مشددة، ووجه ذلك أنه حذف الياء التي هي لام فعيل، كما حذف اللام من قولهم فاماليت به فاله، ثم أدغمت ياء فعيل في ياء الإضافة، فقيل ولي الله وهذه الفتحة فتحة ياء الإضافة، وأما الباقون فأجازوا اجتماع ثلاث ياءات، والله أعلم.
المسألة الثانية: أن وليي الله أي الذي يتولى حفظي ونصرتي هو الله الذي أنزل الكتاب المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة في الدين ويتولى الصالحين ينصرهم، فلا تضرهم عداوة من عاداهم، وفي ذلك يأمن المشركين من أن يضره كيدهم. وسمعت أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئا، فقيل له فيه فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه الله ومن كان الله له وليا فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين فقد قال تعالى: * (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) * (القصص: 17) ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته.
أما قوله: * (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) * ففيه قولان:
القول الأول: أن المراد منه وصف الأصنام بهذه الصفات.
94

فإن قالوا: فهذه الأشياء قد صارت مذكورة في الآيات المتقدمة فما الفائدة في تكريرها؟ فنقول: قال الواحدي: إنما أعيد هذا المعنى لأن الأول مذكور على جهة التقريع وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة، وبين من لا تجوز، كأنه قيل: الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكن صالحة للإلهية.
والقول الثاني: أن هذه الأحوال المذكورة صفات لهؤلاء المشركين الذين يدعون غير الله، يعني أن الكفار كانوا يخوفون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال تعالى: إنهم لا يقدرون على شيء. بل إنهم قد بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أعظم أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا بعقولهم ذلك البتة.
فإن قيل: لم يتقدم ذكر المشركين، وإنما تقدم ذكر الأصنام فكيف يصح ما ذكر؟
قلنا: قد تقدم ذكرهم في قوله تعالى: * (قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون) * (الأعراف: 195) أما قوله تعالى: * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * فإن حملنا هذه الصفات على الأصنام. قلنا: المراد من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجهها وجوه القوم من قولهم: جبلان متناظران أي متقابلان، فإن حملناها على المشركين فالمعنى: أنهم وإن كانوا ينظرون إلى الناس إلا أنهم لشدة إعراضهم عن الحق لم ينتفعوا بذلك النظر والرؤية، فصاروا كأنهم عمي، وهذه الآية تدل على أن النظر غير الرؤية، لأنه تعالى أثبت النظر ونفي الرؤية، وذلك يدل على التغاير، وأجيب عن هذا الاستدلال فقيل: معناه تحسبهم أنهم ينظرون إليك مع أنهم في الحقيقة لا ينظرون، أي تظن أنهم ينظرونك مع أنهم لا يبصرونك، والرؤية بمعنى الحسبان واردة قال تعالى: * (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) * (الحج: 2).
* (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الله هو الذي يتولاه، وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار، بين في هذه الآية ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس فقال: * (خذ العفو وأمر بالعرف) * قال أهل اللغة: العفو الفضل وما أتي من غير كلفة.
إذا عرفت هذا فنقول: الحقوق التي تستوفى من الناس وتؤخذ منهم، إما أن يجوز إدخال المساهلة والمسامحة فيها، وإما أن لا يجوز.
95

أما القسم الأول: فهو المراد بقوله: * (خذ العفو) * ويدخل فيه ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية؛ ويدخل فيه أيضا التخلق مع الناس بالخلق الطيب، وترك الغلظة والفظاظة كما قال تعالى: * (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) * (آل عمران: 159) ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق
بالرفق واللطف، كما قال تعالى: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * (النحل: 125).
وأما القسم الثاني: وهو الذي لا يجوز دخول المساهلة والمسامحة فيه، فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف، والعروف، والعارفة، والمعروف هو كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به، وأن وجوده خير من عدمه، وذلك لأن في هذا القسم لو اقتصر على الأخذ بالعفو ولم يأمر بالعرف ولم يكشف عن حقيقة الحال، لكان ذلك سعيا في تغيير الدين وإبطال الحق وأنه لا يجوز، ثم إنه إذا أمر بالعرف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه، فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا السبب قال تعالى في آخر الآية: * (وأعرض عن الجاهلين) * وقال في آية أخرى: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72) وقال: * (والذين هم عن اللغو معرضون) * (المؤمنون: 3) وقال في صفة أهل الجنة: * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما) * (الواقعة: 25) وإذا أحاط عقلك بهذا التقسيم، علمت أن هذه الآية مشتملة على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان مع الغير. قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام: " يا جبريل ما هذا؟ قال يا محمد إن ربك يقول هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك " قال أهل العلم: تفسير جبريل مطابق للفظ الآية لأنك لو وصلت من قطعك، فقد عفوت عنه، وإذا آتيت من حرمك فقد آتيت بالمعروف، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين، وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، وللمفسرين في تفسير هذه الآية طريق آخر فقالوا: * (خذ العفو وأمر بالعرف) * أي ما عفا لك من أموالهم، أي ما أتوك به عفوا فخذه، ولا تسأل عما وراء ذلك. قالوا: كان هذا قبل فريضة الصدقة فلما نزلت آية وجوب الزكاة صارت هذه الآية منسوخة إلا قوله: * (وأمر بالعرف) * أي بإظهار الدين الحق، وتقرير دلائله * (وأعرض عن الجاهلين) * أي المشركين قالوا: وهذا منسوخ بآية السيف فعلى هذه الطريقة جميع الآية منسوخة إلا قوله: * (وأمر بالعرف) *.
واعلم أن تخصيص قوله: * (خذ العفو) * بما ذكره تقييد للمطلق من غير دليل، وأيضا فهذا الكلام إذا حملناه على أداء الزكاة لم يكن إيجاب الزكاة بالمقادير المخصوصة منافيا لذلك، لأن آخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم أموال الناس ولا يشدد الأمر على المزكى فلم يكن إيجاب الزكاة سببا لصيرورة هذه الآية منسوخة.
96

وأما قوله: * (وأعرض عن الجاهلين) * فالمقصود منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على سوء أخلاقهم، وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة ولا أفعالهم الخسيسة بأمثالها، وليس فيه دلالة على امتناعه من القتال، لأنه لا يمتنع أن يؤمر عليه السلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنه ليس من المتناقض أن يقال الشارع لا يقابل سفاهتهم بمثلها؟ ولكن قاتلهم وإذا كان الجمع بين الأمرين ممكنا فحينئذ لا حاجة إلى التزام النسخ، إلا أن الظاهرية من المفسرين مشغوفون بتكثير الناسخ والمنسوخ من غير ضرورة ولا حاجة.
* (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو زيد: لما نزل قوله تعالى: * (وأعرض عن الجاهلين) * (الأعراف: 199) قال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يا رب والغضب؟ فنزل قوله: * (وإما ينزغنك) *.
المسألة الثانية: اعلم أن نزغ الشيطان، عبارة عن وساوسه ونخسه في القلب بما يسول للإنسان من المعاصي، عن أبي زيد نزغت بين القوم إذا أفسدت ما بينهم، وقيل النزغ الازعاج، وأكثر ما يكون عند الغضب، وأصله الازعاج بالحركة إلى الشر، وتقرير الكلام أنه تعالى لما أمره بالعرف فعند ذلك ربما يهيج سفيه ويظهر السفاهة فعند ذلك أمره تعالى بالسكوت عن مقابلته فقال: * (وأعرض عن الجاهلين) * ولما كان من المعلوم أن عند إقدام السفيه على السفاهة يهيج الغضب والغيظ ولا يبقى الإنسان على حالة السلامة وعند تلك الحالة يجد الشيطان مجالا في حمل ذلك الإنسان على ما لا ينبغي، لا جرم بين تعالى ما يجري مجرى العلاج لهذا الغرض فقال: * (فاستعذ بالله) * والكلام في تفسير الاستعاذة قد سبق في أول الكتاب على الاستقصاء.
المسألة الثالثة: احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية وقالوا: لولا أنه يجوز من الرسول الإقدام على المعصية أو الذنب، وإلا لم يقل له * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) * والجواب عنه من وجوه: الأول: أن حاصل هذا الكلام أنه تعالى قال له: إن حصل في قلبك من الشيطان نزغ، كما أنه تعالى قال: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) ولم يدل ذلك على أنه أشرك. وقال: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) ولم يدل ذلك على أنه حصل فيهما آلهة. الثاني: هب أنا سلمنا أن الشيطان يوسوس للرسول عليه السلام، إلا أن هذا لا يقدح في عصمته، إنما القادح
97

في عصمته لو قبل الرسول وسوسته، والآية لا تدل على ذلك. عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من إنسان إلا ومعه شيطان " قالوا: وأنت يا رسول الله قال: وأنا ولكنه أسلم بعون الله، فلقد أتاني فأخذت بحلقه، ولولا دعوة سليمان لأصبح في المسجد طريحا، وهذا كالدلالة على أن الشيطان يوسوس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * (الحج: 52) الثالث: هب أنا سلمنا أن الشيطان يوسوس. وأنه عليه الصلاة والسلام يقبل أثر وسوسته، إلا أنا نخص هذه الحالة بترك الأفضل والأولى. قال عليه الصلاة والسلام: " وإنه ليغان على قلبي وإني لا أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ".
المسألة الرابعة: الاستعاذة بالله عند هذه الحالة أن يتذكر المرء عظيم نعم الله عليه وشديد عقابه فيدعوه كل واحد من هذين الأمرين إلى الإعراض عن مقتضى الطبع والإقبال على أمر الشرع.
المسألة الخامسة: هذا الخطاب وإن خص الله به الرسول إلا أنه تأديب عام لجميع المكلفين لأن الاستعاذة بالله على السبيل الذي ذكرناه لطف مانع من تأثير وساوس
الشيطان، ولذلك قال تعالى: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) * (النحل: 97، 98) إذا ثبت بالنص أن لهذه الاستعاذة أثرا في دفع نزع الشيطان، وجبت المواظبة عليه في أكثر الأحوال.
المسألة السادسة: قوله: * (إنه سميع عليم) * يدل على أن الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالى قال: أذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك، وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر.
* (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون) *.
في الآية مسائل:
98

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ينزغه الشيطان وبين أن علاج هذه الحالة الاستعاذة بالله، ثم بين في هذه الآية أن حال المتقين يزيد على حال الرسول في هذا الباب، لأن الرسول لا يحصل له من الشيطان إلا النزغ الذي هو كالابتداء في الوسوسة، وجوز في المتقين ما يزيد عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطان، وهذا المس يكون لا محالة أبلغ من النزغ.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي * (طيف) * بغير ألف، والباقون * (طائف) * بالألف. قال الواحدي رحمه الله: اختلفوا في الطيف فقيل إنه مصد، وقال أبو زيد يقال: طاف يطوف طوفا وطوافا إذا أقبل وأدبر. وأطاف يطيف إطافة إذا جعل يستدير بالقوم ويأتيهم من نواحيهم، وطاف الخيال يطيف طيفا إذا ألم في المنام. قال ابن الأنباري: وجائز أن يكون طيف أصله طيف. إلا أنهم استثقلوا التشديد، فحذفوا إحدى الياءين وأبقوا ياء ساكنة، فعلى القول الأول هو مصدر، وعلى ما قاله ابن الأنباري هو من باب هين وهين وميت وميت، ويشهد لصحة قول ابن الأنباري قراءة سعيد بن جبير * (إذا مسهم طيف) * بالتشديد. هذا هو الأصل في الطيف، ثم سمى الجنون والغضب والوسوسة طيفا، لأنه لمة من لمة الشيطان تشبه لمة الخيال. قال الأزهري: الطيف في كلام العرب الجنون، ثم قيل للغضب طيف، لأن الغضبان يشبه المجنون. وأما الطائف فيجوز أن يكون بمعنى الطيف، مثل العافية والعاقبة ونحو ذلك مما جاء المصدر فيه على فاعل وفاعلة. قال الفراء في هذه الآية: الطائف والطيف سواء، وهو ما كان كالخيال الذي يلم بالإنسان، ومنهم من قال: الطيف كالخطرة والطائف كالخاطر.
المسألة الثالثة: اعلم أن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملا من الأعمال، ثم اعتقد في نفسه كونه قادرا، واعتقد في المغضوب عليه كونه عاجزا عن الدفع، فعند حصول هذه الاعتقادات الثلاثة إذا كان واقعا في ظلمات عالم الأجسام فيغتروا بظواهر الأمور، فأما إذا انكشف له نور من عالم الغيب زالت هذه الاعتقادات الثلاثة من جهات كثيرة. أما الاعتقاد الأول: وهو استقباح ذلك الفعل من المغضوب عليه، فإذا انكشف له أنه إنما أقدم على ذلك العمل، لأنه تعالى خلق فيه داعية جازمة راسخة، ومتى خلق الله فيه تلك الداعية امتنع منه أن لا يقدم على ذلك العمل، فإذا تجلى هذا المعنى زال الغضب، وأيضا فقد يخطر ببال الإنسان أن الله تعالى علم منه هذه الحالة، ومتى كان كذلك فلا سبيل له إلى تركها، فعند ذلك يفر غضبه، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: " من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب "
99

وأما الاعتقاد الثاني والثالث: وهو اعتقاده في نفسه كونه قادرا، وكون المغضوب عليه عاجزا، فهذان الاعتقادان أيضا فاسدان من وجوه: أحدها: أنه يعتقد أنه كم أساء في العمل، والله كان قادرا عليه، وهو كان أسيرا في قبضة قدرة الله تعالى، ثم إنه تجاوز عنه. وثانيها: أن المغضوب عليه كما أنه عاجز في يد الغضبان، فكذلك الغضبان عاجز بالنسبة إلى قدرة الله. وثالثها: أن يتذكر الغضبان ما أمره الله به من ترك إمضاء الغضب والرجوع إلى ترك الإيذاء والإيحاش. ورابعها: أن يتذكر أنه إذا أمضى الغضب وانتقم كان شريكا للسباع المؤذية والحياة القاتلة، وإن ترك الانتقام واختار العفو كان شريكا لأكابر الأنبياء والأولياء. وخامسها: أن يتذكر أنه ربما انقلب ذلك الضعيف قويا قادرا عليه، فحينئذ ينتقم منه على أسوأ الوجوه، أما إذا عفا كان ذلك إحسانا منه إليه، وبالجملة فالمراد من قوله تعالى: * (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) * ما ذكرناه من الاعتقادات الثلاثة، والمراد من قوله: * (تذكروا) * ما ذكرناه من الوجوه التي تفيد ضعف تلك الاعتقادات وقوله: * (فإذا هم مبصرون) * معناه أنه إذا حضرت هذه التذكرات في عقولهم، ففي الحال يزول مس طائف الشيطان، ويحصل الاستبصار والانكشاف والتجلي ويحصل الخلاص من وسوسة الشيطان.
المسألة الرابعة: قوله: * (فإذا هم مبصرون) * معنى * (إذا) * ههنا للمفاجأة، كقولك خرجت فإذا زيد وإذا في قوله: * (إذا مسهم) * يستدعي جزاء، كقولك آتيك إذا احمر البسر.
أما قوله تعالى: * (وإخوانهم يمدونهم في الغي) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن الكناية في قوله: * (وإخوانهم) * إلى ماذا تعود على قولين.
القول الأول: وهو الأظهر أن المعنى: وإخوان الشياطين يمدون الشياطين في الغي، وذلك لأن شياطين الأنس إخوان لشياطين الجن، فشياطين الإنس يغوون الناس، فيكون ذلك إمدادا منهم لشياطين الجن على الإغواء والإضلال.
والقول الثاني: أن إخوان الشياطين هم الناس الذين ليسوا بمتقين، فإن الشياطين يكونون مددا لهم فيه، والقولان مبنيان على أن لكل كافر أخا من الشياطين.
المسألة الثانية: تفسير الإمداد تقوية تلك الوسوسة والإقامة عليها وشغل النفس عن الوقوف على قبائحها ومعايبها.
المسألة الثالثة: قرأ نافع * (يمدونهم) * (بضم الياء وكسر الميم من الإمداد، والباقون * (يمدونهم) * بفتح الياء وضم الميم، وهما لغتان مد يمد وأمد يمد، وقيل مد
معناه جذب، وأمد معناه من الإمداد.
100

قال الواحدي، عامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت، كقوله: * (إنما نمدهم به من مال وبنين) * (المؤمنون: 55) * (وأمددناهم بفاكهة) * (الطور: 22) وقوله: * (أتمدونن بمال) * (النمل: 36) وما كان بخلافه فإنه يجيء على مددت قال: * (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * (البقرة: 15) قراءة العامة وهي فتح الياء ومن ضم الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (الإنشقاق: 24) وقوله: * (ثم لا يقصرون) * (الأعراف: 202) قال الليث: الإقصار الكف عن الشيء قال أبو زيد: أقصر فلان عن الشر يقصر إقصارا إذا كف عنه وانتهى قال ابن عباس: ثم لا يقصرون عن الضلال والإضلال، أما الغاوي ففي الضلال وأما المغوي ففي الإضلال.
* (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنمآ أتبع ما يوحى إلى من ربى هذا بصآئر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *.
اعلم أنه تعالى: لما بين في الآية الأولى أن شياطين الجن والأنس لا يقصرون في الإغواء والإضلال بين في هذه الآية نوعا من أنواع الإغواء والإضلال وهو أنهم كانوا يطلبون آيات معينة ومعجزات مخصوصة على سبيل التعنت كقوله: * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90) ثم أعاد: أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأتيهم، فعند ذلك قالوا: * (لولا اجتبيتها) * قال الفراء: تقول العرب اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك، والمعنى لولا تقولتها وافتعلتها وجئت بها من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون: * (إن هذا إلا إفك مفتري) * (سبأ: 43) أو يقال هلا اقترحتها على إلهك ومعبودك إن كنت صادقا في أن الله يقبل دعاءك ويجيب التماسك وعند هذا أمر رسوله أن يذكر الجواب الشافي، وهو قوله: * (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) * ومعناه ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور، وإنما أنتظر الوحي فكل شيء أكرمني به قلته، وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح، ثم بين أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدح في الغرض، لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة، فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة، فكان طلب الزيادة من باب التعنت، فذكر في وصف القرآن ألفاظا ثلاثة: أولها: قوله: * (هذا بصائر من ربكم) * أصل البصيرة الأبصار، ولما كان القرآن سببا لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، أطلق عليه لفظ البصيرة، تسمية للسبب باسم المسبب. وثانيها: قوله: * (وهدى) * والفرق بين هذه المرتبة وما قبلها أن الناس في معارف
101

التوحيد والنبوة والمعاد قسمان: أحدهما: الذين بلغوا في هذه المعارف إلى حيث صاروا كالمشاهدين لها وهم أصحاب عين اليقين. والثاني: الذين ما بلغوا إلى ذلك الحد إلا أنهم وصلوا إلى درجات المستدلين: وهم أصحاب علم اليقين، فالقرآن في حق الأولين وهم السابقون بصائر، وفي حق القسم الثاني وهم المقتصدون هدى، وفي حق عامة المؤمنين رحمة، ولما كانت الفرق الثلاث من المؤمنين لا جرم قال: * (لقوم يؤمنون) *.
* (وإذا قرىء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) *.
اعلم أنه تعالى لما عظم شأن القرآن بقوله: * (هذا بصائر من ربكم) * (الأعراف: 203) أردفه بقوله: * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الإنصات السكوت والاستماع، يقال: نصت، وأنصت، وانتصت، بمعنى واحد.
المسألة الثانية: لا شك أن قوله: * (فاستمعوا له وأنصتوا) * أمره، وظاهر الأمر للوجوب، فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبا، وللناس فيه أقوال.
القول الأول: وهو قول الحسن وقول أهل الظاهر أنا نجري هذه الآية على عمومها ففي أي موضع قرأ الإنسان القرآن وجب على كل أحد استماعه والسكوت، فعلى هذا القول يجب الإنصات لعابري الطريق، ومعلمي الصبيان.
والقول الثاني: أنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة. قال أبو هريرة رضي الله عنه: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت هذه الآية، وأمروا بالإنصات، وقال قتادة: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم، كم صليتم وكم بقي؟ وكانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والقول الثالث: أن الآية نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام. قال ابن عباس قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم، فخلطوا عليه، فنزلت هذه الآية وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والقول الرابع: أنها نزلت في السكوت عند الخطبة، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وهذا القول منقول عن الشافعي رحمه الله، وكثير من الناس قد استبعد هذا القول، وقال اللفظ
102

عام وكيف يجوز قصره على هذه الصورة الواحدة. وأقول هذا القول في غاية البعد لأن لفظة إذا تفيد الارتباط، ولا تفيد التكرار، والدليل عليه أن الرجل إذا قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار مرة واحدة طلقت طلقة واحدة، فإذا دخلت الدار ثانيا لم تطلق بالاتفاق لأن كلمة * (إذا) * لا تفيد التكرار.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * لا يفيد إلا وجوب الإنصات مرة واحدة، فلما أوجبنا الاستماع عند قراءة القرآن في الخطبة، فقد وفينا بموجب اللفظ ولم يبق في اللفظ دلالة على ما وراء هذه الصورة، سلمنا أن اللفظ يفيد العموم إلا أنا نقول بموجب الآية، وذلك لأن عند الشافعي رحمه الله: يسكت الإمام، وحينئذ يقرأ المأموم الفاتحة في حال سكتة الإمام كما قال أبو سلمة للإمام سكتتان، فاغتنم القراءة في أيهما شئت، وهذا السؤال أورده الواحدي في " البسيط ".
ولقائل أن يقول: سكوت الإمام إما أن نقول: إنه من الواجبات أوليس من الواجبات والأول باطل بالإجماع والثاني يقتضي أن يجوز له أن لا يسكت. فبتقدير: أن لا يسكت يلزم أن تحصل قراءة المأموم مع قراءة الإمام، وذلك يفضي إلى ترك الاستماع، وإلى ترك السكوت عند قراءة الإمام، وذلك على خلاف النص، وأيضا فهذا السكوت ليس له حد محدود ومقدار مخصوص والسكتة للمأمومين مختلفة بالثقل والخفة، فربما لا يتمكن المأموم من إتمام قراءة الفاتحة في مقدار سكوت الإمام، وحينئذ يلزم المحذور المذكور، وأيضا فالإمام إنما يبقى ساكتا ليتمكن المأموم من إتمام القراءة، وحينئذ ينقلب الإمام مأموما، والمأموم إماما، لأن الإمام في هذا السكوت يصير كالتابع للمأموم، وذلك غير جائز، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الواحدي غير جائز، وذكر الواحدي سؤالا ثانيا على التمسك بالآية. فقال: إن الإنصات هو ترك الجهر والعرب تسمي تارك الجهر منصتا، وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يسمع أحدا.
ولقائل أن يقول: إنه تعالى أمره أولا بالاستماع واشتغاله بالقراءة يمنعه من الاستماع، لأن السماع غير، والاستماع غير، فالاستماع عبارة عن كونه بحيث يحيط بذلك الكلام المسموع على الوجه الكامل، قال تعالى لموسى عليه السلام: * (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) * طه: 13) والمراد ما ذكرناه، وإذا ثبت هذا وظهر أن الاشتغال بالقراءة مما يمنع من الاستماع علمنا أن الأمر بالاستماع يفيد النهي عن القراءة.
السؤال الثالث: وهو المعتمد أن نقول: الفقهاء أجمعوا على أنه يجوز تخصيص عموم القرآن
103

بخبر الواحد فهب أن عموم قوله تعالى: * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * يوجب سكوت المأموم عند قراءة الإمام، إلا أن قوله عليه الصلاة والسلام: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وقوله: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " أخص من ذلك العموم، وثبت أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لازم فوجب المصير إلى تخصيص عموم هذه الآية بهذا الخبر، وهذا السؤال حسن. والسؤال الرابع: أن نقول: مذهب مالك وهو القول القديم للشافعي أنه لا يجوز للمأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلوات الجهرية، عملا بمقتضى هذا النص، ويجب عليه القراءة في الصلوات السرية، لأن هذه الآية لا دلالة فيها على هذه الحالة، وهذا أيضا سؤال حسن، وفي الآية قول خامس وهو أن قوله تعالى: * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * خطاب مع الكفار في ابتداء التبليغ وليس خطابا مع المسلمين، وهذا قول حسن مناسب وتقريره أن الله تعالى حكى قبل هذه الآية أن أقواما من الكفار يطلبون آيات مخصوصة ومعجزات مخصوصة، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يأتيهم بها قالوا لولا اجتبيتها، فأمر الله رسوله أن يقول جوابا عن كلامهم إنه ليس لي أن أقترح على ربي، وليس لي إلا أن أنتظر الوحي، ثم بين تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها في صحة النبوة، لأن القرآن معجزة تامة كافية في إثبات النبوة وعبر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله: * (هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) * (الأعراف: 203) فلو قلنا إن قوله تعالى: * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * المراد منه قراءة المأموم خلف الإمام لم يحصل بين هذه الآية وبين ما قبلها تعلق بوجه من الوجوه، وانقطع النظم، وحصل فساد الترتيب، وذلك لا يليق بكلام الله تعالى، فوجب أن يكون المراد منه شيئا آخر سوى هذا الوجه وتقريره أنه لما ادعى كون القرآن بصائر وهدى ورحمة، من حيث إنه معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، وكونه كذلك لا يظهر إلا بشرط مخصوص، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ القرآن على أولئك الكفار استمعوا له وأنصتوا حتى يقفوا على فصاحته، ويحيطوا بما فيه من العلوم الكثيرة، فحينئذ يظهر لهم كونه معجزا دالا على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فيستعينوا بهذا القرآن على طلب سائر المعجزات، ويظهر لهم صدق قوله في صفة القرآن: إنه بصائر وهدى ورحمة فثبت أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه استقام النظم وحصل الترتيب الحسن المفيد، ولو حملنا الآية على منع المأموم من القراءة خلف الإمام فسد النظم واختل الترتيب، فثبت أن حمله على ما ذكرناه أولى، وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله: * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له) * خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في معرض الاحتجاج
104

بكونه معجزا على صدق نبوته، وعند هذا يسقط استدلال الخصوم بهذه الآية من كل الوجوه، ومما يقوى أن حمل الآية على ما ذكرناه أولى، وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم قالوا: * (لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون) * (فصلت: 26) فلما حكى عنهم ذلك ناسب أن يأمرهم بالاستماع والسكوت، حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن من الوجوه الكثيرة البالغة إلى حد الإعجاز.
والوجه الثاني: أنه تعالى قال قبل هذه الآية: * (هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) * فحكم تعالى بكون هذا القرآن رحمة للمؤمنين على سبيل القطع والجزم.
ثم قال: * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) * ولو كان المخاطبون بقوله: * (فاستمعوا له وأنصتوا) * هم المؤمنون لما قال: * (لعلكم ترحمون) * لأنه جزم تعالى قبل هذه الآية بكون القرآن رحمة للمؤمنين قطعا فكيف يقول بعده من غير فصل لعل استماع القرآن يكون رحمة للمؤمنين؟ أما إذا قلنا: إن المخاطبين بقوله: * (فاستمعوا له وأنصتوا) * هم الكافرون، صح حينئذ قوله: * (لعلكم ترحمون) * لأن المعنى؛ فاستمعوا له وأنصتوا فلعلكم تطلعون على ما فيه من دلائل الإعجاز، فتؤمنوا بالرسول فتصيروا مرحومين، فثبت أنا لو حملناه على ما قلناه حسن قوله: * (لعلكم ترحمون) * ولو قلنا إن الخطاب خطاب مع المؤمنين لم يحسن ذكر لفظ " لعل " فيه. فثبت أن حمل الآية على التأويل الذي ذكرناه أولى، وحينئذ يسقط استدلال الخصم به من كل الوجوه، لأنا بينا بالدليل أن هذا الخطاب ما يتناول المؤمنين، وإنما تناول الكفار في أول زمان تبليغ الوحي والدعوة.
* (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغافلين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * (الأعراف: 204) اعلم أن قارئا يقرأ القرآن بصوت عال حتى يمكنهم استماع القرآن، ومعلوم أن ذلك القارئ ليس إلا الرسول عليه السلام، فكانت هذه الآية جارية مجرى أمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ القرآن على القوم بصوت عال رفيع، وإنما أمره بذلك ليحصل المقصود من تبليغ الوحي والرسالة، ثم إنه
105

تعالى أردف ذلك الأمر، بأن أمره في هذه الآية بأن يذكر ربه في نفسه، والفائدة فيه: أن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع الذكر بهذه الصفة، لأنه بهذا الشرط أقرب إلى الإخلاص والتضرع.
المسألة الثانية: أنه تعالى أمر رسوله بالذكر مقيدا بقيود.
القيد الأول: * (واذكر ربك في نفسك) * والمراد بذكر الله في نفسه كونه عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضرا لصفات الكمال والعز والعلو والجلال والعظمة، وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة. ألا ترى أن الفقهاء أجمعوا على أن الرجل إذا قال: بعت واشتريت مع أنه لا يعرف معاني هذه الألفاظ ولا يفهم منها شيئا، فإنه لا ينعقد البيع والشراء، فكذا ههنا ويتفرع على ما ذكرنا أحكام: الحكم الأول
سمعت أن بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحدا من المريدين بالخلوة والذكر، أمره بالخلوة والتصفية أربعين يوما، ثم عند استكمال هذه المدة وحصول التصفية التامة، يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين، ويقول لذلك المريد اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء، فكل اسم وجدت قلبه عند سماعه قوي تأثره وعظم شوقه، فاعرف أن الله إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه، وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب. الحكم الثاني
قال المتكلمون: هذه الآية تدل على إثبات كلام النفس لأنه تعالى لما أمر رسوله بأن يذكر ربه في نفسه وجب الاعتراف بحصول الذكر النفساني ولا معنى لكلام النفس إلا ذلك.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يكون المراد من الذكر النفساني العلم والمعرفة؟
قلنا: هذا باطل لأن الإنسان لا قدرة له على تحصيل العلم بالشيء ابتداء لأنه إما أن يطلبه حال حصوله أو حال عدم حصوله. والأول باطل لأنه يقتضي تحصيل الحاصل وهو محال. والثاني باطل لأن ما لا يكون متصورا، كان الذهن غافلا عنه والغافل عن الشيء يمتنع كونه طالبا له فثبت أنه لا قدرة للإنسان على تحصيل التصورات، فامتنع ورود الأمر به، والآية دالة على ورود الأمر بالذكر النفساني، فوجب أن يكون الذكر النفساني معنى مغايرا للمعرفة والعلم والتصور، وذلك هو المطلوب.
106

الحكم الثالث
أنه تعالى قال: * (واذكر ربك في نفسك) * ولم يقل: واذكر إلهك ولا سائر الأسماء، وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه ربا، وأضاف نفسه إليه، وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان، والمقصود منه، أن يصير العبد فرحا مبتهجا عند سماع هذا الاسم، لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل، وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام نعم الله عليه، وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامها، كما قال تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34) فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء، فإذا سمع بعد ذلك قوله: * (تضرعا وخيفة) * عظم الخوف، وحينئذ تحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف، وعنده يكمل الإيمان على ما قال عليه السلام: " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا " إلا أن هنا دقيقة، وهي أن سماع لفظ الرب يوجب الرجاء وسماع لفظ التضرع والخيفة يوجب الخوف، فلما وقع الابتداء بما يوجب الرجاء، علمنا أن جانب الرجاء أقوى.
القيد الثاني: من القيود المعتبرة في الذكر حصول التضرع، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (تضرعا) * وهذا القيد معتبر، ويدل عليه القرآن، والمعقول. أما القرآن فقوله في سورة الأنعام * (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية) * (الأنعام: 63) وأما المعقول: فلأن كمال حال الإنسان إنما يحصل بانكشاف أمرين: أحدهما: عزة الربوبية، وهذا المقصود، إنما يتم بقوله: * (واذكر ربك في نفسك) * الثاني: بمشاهدة ذلة العبودية وذلك إنما يكمل بقوله: * (تضرعا) * فالانتقال من الذكر إلى التضرع يشبه النزول من المعراج، والانتقال من التضرع إلى الذكر يشبه الصعود، وبهما يتم معراج الأرواح القدسية وههنا بحث وهو أن معرفة الله من لوازمها التضرع، والخوف، والذكر القلبي يمتنع انفكاكه عن التضرع والخوف، فما الفائدة في اعتبار هذا التضرع والخوف؟ وأجيب عنه بأن المعرفة لا يلزمها التضرع والخوف على الإطلاق، لأنه ربما استحكم في عقل الإنسان أنه تعالى لا يعاقب أحدا لأن ذلك العقاب إيذاء للغير، ولا فائدة للحق فيه. وإذا كان كذلك لا يعذب فإذا اعتقد هذا، لم يكمل التضرع والخوف. فلهذا السبب نص الله تعالى على أنه لا بد منه وأجيب عنه بأن الخوف على قسمين: الأول: خوف العقاب، وهو مقام المبتدين. والثاني: خوف الجلال وهو مقام المحققين، وهذا الخوف ممتنع الزوال وكل من كان أعرف بجلال الله كان هذا الخوف في قلبه أكمل، وأجيب عن هذا الجواب بأن لأصحاب المكاشفات مقامين: مكاشفة الجمال، ومكاشفة
107

الجلال، فإذا كشفوا بالجمال عاشوا، وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا، ولا بد في مقام الذكر من رعاية الجانبين.
القيد الثالث: قوله: * (وخيفة) * وفي قراءة أخرى * (وخفية) * وقال الزجاج: أصلها " خوفة " فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، أقول هذا الخوف يقع على وجوه: أحدها: خوف التقصير في الأعمال. وثانيها: خوف الخاتمة. والمحققون خوفهم من السابقة، لأنه إنما يظهر في الخاتمة ما سبق الحكم به في الفاتحة، ولذلك كان عليه السلام يقول: " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ". وثالثها: خوف أني كيف أقابل نعمة الله التي لا حصر لها ولا حد بطاعاتي الناقصة وأذكاري القاصرة؟ وكان الشيخ أبو بكر الواسطي يقول: الشكر شرك، فسألوني عن هذه الكلمة فقلت: لعل المراد والله أعلم أن من حاول مقابلة وجوه إحسان الله بشكره فقد أشرك.
لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد يقول: منك النعمة ومني الشكر، ولا شك أن هذا شرك، فأما إذا أتى بالشكر مع خوف التقصير ومع الاعتراف بالذل والخضوع، فهناك يشم فيه رائحة العبودية.
وأما القراءة الثانية: وهو قوله: * (وخفية) * فالإخفاء في حق المبتدين يراد لصون الطاعات عن شوائب الرياء والسمعة، وفي حق المنتهين المقربين منشؤه الغيرة، وذلك لأن المحبة إذا استكملت أوجبت الغيرة، فإذا كمل هذا التوغل وحصل الفناء، وقع الذكر في حين الإخفاء بناء على قوله عليه السلام: " من عرف الله كل لسانه ".
القيد الرابع: قوله: * (ودون الجهر من القول) * والمراد منه أن يقع ذلك الذكر بحيث يكون متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى: * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) * (الإسراء: 110) وقال عن زكريا عليه السلام: * (إذ نادى ربه نداء خفيا) * (مريم: 3) قال ابن عباس: وتفسير قوله: * (ودون الجهر من القول) * المعنى أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه، فإن المراد حصول الذكر اللساني، والذكر اللساني إذا كان بحيث يسمع نفسه، فإنه يتأثر الخيال من ذلك الذكر، وتأثر الخيال يوجب قوة في الذكر القلبي الروحاني، ولا يزال يتقوى كل واحد من هذه الأركان الثلاثة، وتنعكس أنوار هذه الأذكار من بعضها إلى بعض، وتصير هذه الانعكاسات سببا لمزيد القوة والجلاء والانكشاف والترقي من حضيض ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام.
والقيد الخامس: قوله: * (بالغدو والآصال) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: في لفظ " الغدو " قولان:
القول الأول: أنه مصدر يقال غدوت أغدو غدوا غدوا، ومنه قوله تعالى: * (غدوها شهر) * (سبأ: 12)
108

أي غدوها للسير، ثم سمى وقت الغدو غدوا، كما يقال: دنا الصباح أي وقته، ودنا المساء أي وقته.
القول الثاني: أن يكون الغدو جمع غدوة، قال الليث: الغدو جمع مثل الغدوات وواحد الغدوات غدوة، وأما * (الآصال) * فقال الفراء: واحدها أصل وواحد الأصل الأصيل. قال يقال جئناهم مؤصلين أي عند الآصال، ويقال الأصيل مأخوذ من الأصل واليوم بليلته، إنما يبتدأ بالشروع من أول الليل وآخر نهار كل يوم متصل بأول ليل اليوم الثاني، فسمى آخر النهار أصيلا، لكونه ملاصقا لما هو الأصل لليوم الثاني.
المسألة الثانية: خص الغدو والآصال بهذا الذكر، والحكمة فيه أن عند الغدوة انقلب الإنسان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة، والعالم انقلب من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية. وأما عند الآصال فالأمر بالضد لأن الإنسان ينقلب فيه من الحياة إلى الموت، والعالم ينقلب فيه من النور الخالص إلى الظلمة الخالصة، وفي هذين الوقتين يحصل هذان النوعان من التغيير العجيب القوي القاهر ولا يقدر على مثل هذا التغيير إلا الإله الموصوف بالحكمة الباهرة والقدرة الغير المتناهية، فلهذه الحكمة العجيبة خص الله تعالى هذين الوقتين بالأمر بالذكر. ومن الناس من قال: ذكر هذين الوقتين والمراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان. عن ابن عباس أنه قال في قوله: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * (الأعراف: 191) لو حصل لابن آدم حالة رابعة سوى هذه الأحوال لأمر الله بالذكر عندها والمراد منه أنه تعالى أمر بالذكر على الدوام.
والقيد السادس: قوله تعالى: * (ولا تكن من الغافلين) * والمعنى أن قوله: * (بالغدو والآصال) * دل على أنه يجب أن يكون الذكر حاصلا في كل الأوقات وقوله: * (ولا تكن من الغافلين) * يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائما، وأن لا يغفل الإنسان لحظة واحدة عن استحضار جلال الله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية والقوة الإنسانية، وتحقيق القول، أن بين الروح وبين البدن علاقة عجيبة، لأن كل أثر حصل في جوهر الروح نزل منه أثر إلى البدن، وكل حالة حصلت في البدن صعدت منها نتائج إلى الروح، ألا ترى أن الإنسان إذا تخيل الشيء الحامض ضرس سنه، وإذا تخيل حالة مكروهة وغضب سخن بدنه، فهذه آثار تنزل من الروح إلى البدن، وأيضا إذا واظب الإنسان على عمل من الأعمال وكرر مرات وكرات حصلت ملكة قوية راسخة في جوهر النفس فهذه آثار صعدت من البدن إلى النفس.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا حضر الذكر اللساني بحيث يسمع نفسه، حصل أثر من ذلك الذكر
109

اللساني في الخيال، ثم يصعد من ذلك الأثر الخيالي مزيد أنوار وجلايا إلى جوهر الروح، ثم تنعكس من تلك الإشراقات الروحانية آثار زائدة إلى اللسان ومنه إلى الخيال، ثم مرة أخرى إلى العقل، ولا يزال تنعكس هذه الأنوار من هذه المرايا بعضها إلى بعض، ويتقوى بعضها بعض ويستكمل بعضها ببعض، ولما كان لا نهاية لتزايد أنوار المراتب، لا جرم لا نهاية لسفر العارفين في هذه المقامات العالية القدسية وذلك بحر لا ساحل له، ومطلوب لا نهاية له.
واعلم أن قوله تعالى: * (واذكر ربك في نفسك) * وإن كان ظاهره خطابا مع النبي عليه السلام، إلا أنه عام في حق كل المكلفين ولكل أحد درجة مخصوصة ومرتبة معينة بحسب استعداد جوهر نفسه الناطقة كما قال في صفة الملائكة: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164).
* (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لما رغب الله رسوله في الذكر وفي المواظبة عليه ذكر عقيبه ما يقوي دواعيه في ذلك فقال: * (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته) * والمعنى: أن الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم وعصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والغضب، وحوادث الحقد والحسد، لما كانوا مواظبين على العبودية والسجود والخضوع والخشوع، فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعدا للذات البشرية والبواعث الإنسانية أولى بالمواظبة على الطاعة، ولهذا السبب قال عيسى عليه السلام: * (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) * (مرين: 31) وقال لمحمد عليه السلام: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * (الحجر:
99).
المسألة الثانية: المشبهة تمسكوا بقوله: * (إن الذين عند ربك) * وقالوا لفظ * (عند) * مشعر بالمكان والجهة.
وجوابه أنا ذكرنا البراهين الكثيرة العقلية والنقلية في هذه السورة عند تفسير قوله: * (ثم استوى على العرش) * (الأعراف: 54 يونس: 3) على أنه يمتنع كونه تعالى حاصلا في المكان والجهة.
وإذا ثبت هذا فنقول: وجب المصير إلى التأويل في هذه الآية وبيانه من وجوه:
110

الوجه الأول: أنه تعالى قال: * (وهو معكم) * ولا شك أن هذه المعية بالفضل والرحمة لا بالجهة فكذا ههنا، وأيضا جاء في الأخبار الربانية أنه تعالى قال: " أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي " ولا خلاف أن هذه العندية ليست لأجل المكان والجهة، فكذا ههنا.
والوجه الثاني: إن المراد القرب بالشرف. يقال: للوزير قربة عظيمة من الأمير، وليس المراد منه القرب بالجهة، لأن البواب والفراش يكون أقرب إلى الملك في الجهة والحيز والمكان من الوزير، فعلمنا أن القرب المعتبر هو القرب بالشرف لا القرب بالجهة.
والوجه الثالث: أن هذا تشريف للملائكة بإضافتهم إلى الله من حيث إنه أسكنهم في المكان الذي كرمه وشرفه وجعله منزل الأنوار ومصعد الأرواح والطاعات والكرامات.
والوجه الرابع: إنما قال تعالى في صفة الملائكة: * (الذين عند ربك) * لأنهم رسل الله إلى الخلق كما يقال: إن عند الخليفة جيشا عظيما، وإن كانوا متفرقين في البلد، فكذا ههنا. والله أعلم.
المسألة الثانية: تمسك أبو بكر الأصم رحمه الله بهذه الآية في إثبات أن الملائكة أفضل من البشر، لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال: * (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته) * والمعنى فأنت أولى وأحق بالعبادة، وهذا الكلام إنما يصح لو كانت الملائكة أفضل منه.
المسألة الرابعة: ذكر من طاعاتهم أولا كونهم يسبحون، وقد عرفت أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى من كل سوء، وذلك يرجع إلى المعارف والعلوم، ثم لما ذكر التسبيح أردفه بذكر السجود، وذلك يرجع إلى أعمال الجوارح، وهذا الترتيب يدل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب، ويتفرع عليها أعمال الجوارح. وأيضا قوله: * (وله يسجدون) * يفيد الحصر ومعناه: أنهم لا يسجدون لغير الله.
فإن قيل: فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * (الحجر: 30 ص: 73) والمراد أنهم سجدوا لآدم؟
والجواب: قال الشيخ الغزالي: الذين سجدوا لآدم ملائكة الأرض. فأما عظماء ملائكة السماوات فلا. وقيل أيضا: إن قوله: * (وله يسجدون) * يفيدون أنهم ما سجدوا لغير الله، فهذا يفيد العموم. وقوله: فسجدوا لآدم خاص، والخاص مقدم على العام.
111

واعلم أن الآيات الدالة على كون الملائكة مستغرقين في العبودية كثيرة، كقوله تعالى حكاية عنهم: * (وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون) * (الصافات: 165، 166) وقوله: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم) * (الزمر: 75) والله أعلم.
112

سورة الأنفال
مدنية إلا من آية: 30 إلى غاية 36 فمكية وآياتها 75 نزلت بعد البقرة
* (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله ولرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) *.
اعلم أن قوله: * (ويسألونك عن الأنفال) * يقتضي البحث عن خمسة أشياء، السائل والمسؤول وحقيقة النفل، وكون ذلك السؤال عن أي الأحكام كان، وإن المفسرين بأي شيء فسروا الأنفال.
أما البحث الأول: فهو أن السائلين من كانوا؟ فنقول إن قوله: * (يسألونك عن الأنفال) * إخبار عمن لم يسبق ذكرهم وحسن ذلك ههنا، لأن حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوما معينا فانصرف هذا اللفظ إليهم، ولا شك أنهم كانوا أقواما لهم تعلق بالغنائم والأنفال وهم أقوام من الصحابة.
1
113

وأما البحث الثاني: وهو أن المسؤول من كان؟ فلا شك أنه هو النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما البحث الثالث: وهو أن الأنفال ما هي فنقول: قال الزهري: النفل والنافلة ما كان زيادة على الأصل، وسميت الغنائم أنفالا، لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم، وصلاة التطوع نافلة لأنها زيادة على الفرض الذي هو الأصل. وقال تعالى: * (ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة) * (الأنبياء: 72) أي زيادة على ما سأل. وأما البحث الرابع: وهو أن السؤال عن أي أحكام الأنفال كان؟ فنقول: فيه وجهان: الأول: لفظ السؤال، وإن كان مبهما إلا أن تعيين الجواب يدل على أن السؤال كان واقعا عن ذلك المعين، ونظيره قوله تعالى: * (ويسألونك عن المحيض) * (البقرة: 222) * (ويسألونك عن اليتامى) * (البقرة: 220) فعلم منه أنه سؤال عن حكم من أحكام المحيض واليتامى، وذلك الحكم غير معين، إلا أن الجواب كان معينا لأنه تعالى قال في المحيض: * (قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) * (البقرة: 222) فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان سؤالا عن مخالطة النساء في المحيض. وقال في اليتامى: * (قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم) * (البقرة: 220) فدل هذا الجواب المعين على أن ذلك السؤال المعين كان واقعا عن التصرف في مالهم ومخالطتهم في المواكلة. وأيضا
قال تعالى: * (ويسألونك عن الروح) * (الإسراء: 85) وليس فيه ما يدل على أن ذلك السؤال عن أي الأحكام إلا أنه تعالى قال في الجواب: * (قل الروح من أمر ربي) * فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان عن كون الروح محدثا أو قديما، فكذا ههنا لما قال في جواب السؤال عن الأنفال: * (قل الأنفال لله والرسول) * دل هذا على أنهم سألوه عن الأنفال كيف مصرفها ومن المستحق لها.
والقول الثاني: أن قوله: * (يسألونك عن الأنفال) * أي من الأنفال، والمراد من هذا السؤال: الاستعطاء على ما روي في الخبر، أنهم كانوا يقولون يا رسول الله أعطني كذا أعطني كذا، ولا يبعد إقامة عن مقام من هذا قول عكرمة. وقرأ عبد الله * (يسألونك الأنفال) *.
والبحث الخامس: وهو شرح أقوال المفسرين في المراد بالأنفال. فنقول: إن الأنفال التي سألوا عنها يقتضي أن يكون قد وقع بينهم التنازع والتنافس فيها، ويدل عليه وجوه: الأول: أن قوله: * (قل الأنفال لله والرسول) * يدل على أن المقصود من ذكر منع القوم عن المخاصمة والمنازعة. وثانيها: قوله: * (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) * يدل على أنهم إنما سألوا عن ذلك بعد أن وقعت الخصومة بينهم. وثالثها: أن قوله: * (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) * يدل على ذلك.
إذا عرفت هذا فنقول: يحتمل أن يكون المراد من هذه الأنفال الغنائم، وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهرا؛ ويحتمل أن يكون المراد غيرها.
114

أما الأول: ففيه وجوه: أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم قسم ما غنموه يوم بدر على من حضر وعلى أقوام لم يحضروا أيضا، وهم ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار، فأما المهاجرون فأحدهم عثمان فإنه عليه السلام تركه على ابنته لأنها كانت مريضة، وطلحة وسعيد بن زيد. فإنه عليه السلام كان قد بعثهما للتجسس عن خبر العير وخرجا في طريق الشام، وأما الخمسة من الأنصار، فأحدهم أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، خلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة، وعاصم خلفه على العالية، والحرث بن حاطب: رده من الروحاء إلى عمرو بن عوف لشيء بلغه عنه، والحرث بن الصمة أصابته علة بالروحاء، وخوات بن جبير، فهؤلاء لم يحضروا، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في تلك الغنائم بسهم، فوقه من غيرهم فيه منازعة. فنزلت هذه الآية بسببها، وثانيها: روى أن يوم بدر الشبان قتلوا وأسروا والأشياخ وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصاف، فقال الشبان: الغنائم لنا لأنا قتلنا وهزمنا، وقال الأشياخ: كنا ردأ لكم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا، فوقعت المخاصمة بهذا السبب. فنزلت الآية. وثالثها: قال الزجاج: الأنفال الغنائم. وإنما سألوا عنها لأنها كانت حراما على من كان قبلهم، وهذا الوجه ضعيف لأن على هذا التقدير يكون المقصود من هذا السؤال طلب حكم الله تعالى فقط، وقد بينا بالدليل أن هذا السؤال كان مسبوقا بالمنازعة والمخاصمة.
وأما الاحتمال الثاني: وهو أن يكون المراد من الأنفال شيئا سوى الغنائم، فعلى هذا التقدير في تفسير الأنفال أيضا وجوه: أحدها: قال ابن عباس في بعض الروايات: المراد من الأنفال ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال، من دابة أو عبد أو متاع، فهو إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء، وثانيها: الأنفال الخمس الذي يجعله الله لأهل الخمس، وهو قول مجاهد، قال: فالقوم إنما سألوا عن الخمس. فنزلت الآية، وثالثها: أن الأنفال هي السلب وهو الذي يدفع إلى الغازي زائدا على سهمه من الغنم، ترغيبا له في القتال، كما إذا قال الإمام: " من قتل قتيلا فله سلبه " أو قال لسرية ما أصبتم فهو لكم، أو يقول فلكم نصفه أو ثلثه أو ربعه، ولا يخمس النفل، وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعد بن العاصي وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت إن الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف. فقال: " ليس هذا لي ولا لك أطرحه في الموضع الذي وضعت فيه الغنائم " فطرحته وبي ما يعلمه الله من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال فقال: يا سعد " إنك سألتني السيف وليس لي وإنه قد
115

صار لي فخذه " قال القاضي: وكل هذه الوجوه تحتمله الآية، وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض. وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين قضى به، وإلا فالكل محتمل، وكما أن كل واحد منها جائز، فكذلك إرادة الجميع جائزة فإنه لا تناقض بينها، والأقرب أن يكون المراد بذلك ماله عليه السلام أن ينفل غيره من جملة الغنيمة قبل حصولها وبعد حصولها، لأنه يسوغ له تحريضا على الجهاد وتقوية للنفوس كنحو ما كان ينفل واحدا في ابتداء المحاربة. ليبالغ في الحرب. أو عند الرجعة. أو يعطيه سلب القاتل، أو يرضخ لبعض الحاضرين، وينفله من الخمس الذي كان عليه السلام يختص به. وعلى هذا التقدير فيكون قوله: * (قل الأنفال لله والرسول) * المراد الأمر الزائد على ما كان مستحقا للمجاهدين.
أما قوله تعالى: * (قل الأنفال لله والرسول) * ففيه بحثان:
البحث الأول: المراد منه أن حكمها مختص بالله والرسول يأمره الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته، وليس الأمر في قسمتها مفوضا إلى رأي أحد.
البحث الثاني: قال مجاهد وعكرمة والسدي: إنها منسوخة بقوله فإن لله خمسه وللرسول، وذلك لأن قوله: * (قل الأنفال لله والرسول) * يقتضي أن تكون الغنائم كلها للرسول، فنسخها الله بآيات الخمس وهو قول ابن عباس في بعض الروايات، وأجيب عنه من وجوه: الأول: أن قوله: * (قل الأنفال لله والرسول) * معناه أن الحكم فيها لله وللرسول. وهذا المعنى باق فلا يمكن أن يصير منسوخا، ثم إنه تعالى حكم بأن يكون أربعة أخماسها ملكا للغانمين. الثاني: أن آية الخمس. تدل على كون الغنيمة ملكا للغانمين، والأنفال ههنا مفسرة لا بالغنائم، بل بالسلب. وإنما ينفله الرسول عليه السلام لبعض الناس لمصلحة من المصالح.
ثم قال تعالى: * (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) * وفيه بحثان:
البحث الأول: معناه فاتقوا عقاب الله ولا تقدموا على معصية الله، واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأحوال. وارضوا بما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
البحث الثاني: في قوله: * (وأصلحوا ذات بينكم) * أي وأصلحوا ذات بينكم من الأقوال، ولما كانت الأقوال واقعة في البين، قيل لها ذات البين، كما أن الأسرار لما كانت مضمرة في الصدور قيل لها ذات الصدور.
ثم قال: * (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) * والمعنى أنه تعالى نهاهم عن مخالفة حكم الرسول بقوله: * (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) * ثم أكد ذلك بأن أمرهم بطاعة الرسول بقوله: * (وأطيعوا
116

الله ورسوله) * ثم بالغ في هذا التأكيد فقال: * (إن كنتم مؤمنين) * والمراد أن الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه ورغبتم فيه لا يتم حصوله إلا بالتزام هذه الطاعة، فاحذروا الخروج عنها، واحتج من قال: ترك الطاعة يوجب زوال الإيمان بهذه الآية، وتقريره أن المعلق بكلمة إن على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء، وههنا الإيمان معلق على الطاعة بكلمة * (إن) * فيلزم عدم الإيمان عند عدم الطاعة وتمام هذه المسألة مذكور في قوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * (النساء: 31) والله أعلم.
* (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) * واقتضى ذلك كون الإيمان مستلزما للطاعة، شرح ذلك في هذه الآية مزيد شرح وتفصيل، وبين أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول هذه الطاعات فقال: * (إنما المؤمنون) * الآية. واعلم أن هذه الآية تدل على أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول أمور خمسة: الأول: قوله: * (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) * قال الواحدي يقال: وجل يوجل وجلا، فهو وجل، وأوجل إذا خاف. قال الشاعر:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل * على أينا تعدو المنية أول
والمراد أن المؤمن إنما يكون مؤمنا إذا كان خائفا من الله، ونظيره قوله تعالى: * (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) * (الزمر: 23) وقوله: * (الذين هم من خشية ربهم مشفقون) * (المؤمنون: 57) وقوله: * (الذين هم في صلاتهم خاشعون) * (المؤمنون: 2) وقال أصحاب الحقائق: الخوف على قسمين: خوف العقاب، وخوف العظمة والجلال. أما خوف العقاب فهو للعصاة. وأما خوف الجلال والعظمة فهو لا يزول عن قلب أحد من المخلوقين، سواء كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا، وذلك لأنه تعالى غني لذاته عن كل الموجودات
117

وما سواه من الموجودات فمحتاجون إليه، والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني يهابه ويخافه، وليست تلك الهيبة من العقاب، بل مجرد علمه بكونه غنيا عنه، وكونه محتاجا إليه يوجب تلك المهابة، وذلك الخوف.
إذا عرفت هذا فنقول: إن كان المراد من الوجل القسم الأول، فذلك لا يحصل من مجرد ذكر الله، وإنما يحصل من ذكر عقاب الله. وهذا هو اللائق بهذا الموضع، لأن المقصود من هذه الآية إلزام أصحاب بدر طاعة الله وطاعة الرسول في قسمة الأنفال، وأما إن كان المراد من الوجل القسم الثاني، فذلك لازم من مجرد ذكر الله، ولا حاجة في الآية إلى الإضمار.
فإن قيل: إنه تعالى قال ههنا * (وجلت قلوبهم) * وقال في آية أخرى: * (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) * (الرعد: 28) فكيف الجمع بينهما؟ وأيضا قال في آية أخرى: * (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) * (الزمر: 23) قلنا: الاطمئنان إنما يكون عن ثلج اليقين، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل إنما يكون من خوف العقوبة، ولا منافاة بين هاتين الحالتين، بل نقول: هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة، وهي قوله تعالى: * (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) * (الزمر: 23) والمعنى: تقشعر الجلود من خوف عذاب الله، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله.
الصفة الثانية: قوله تعالى: * (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) * وهو كقوله: * (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) * (التوبة: 124) ثم فيه مسائل:
المسألة الأولى: زيادة الإيمان الذي هو التصديق على وجهين:
الوجه الأول: وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي رحمه الله: أن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان أزيد إيمانا، لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: " لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح " يريد أن معرفته بالله أقوى.
ولقائل أن يقول: المراد من هذه الزيادة: إما قوة الدليل أو كثرة الدلائل. أما قوة الدليل فباطل، وذلك لأن كل دليل فهو مركب لا محالة من مقدمات، وتلك المقدمات إما أن يكون مجزوما بها جزما مانعا من النقيض أو لا يكون فإن كان الجزم المانع من النقيض حاصلا في كل المقدمات، امتنع كون بعض الدلائل أقوى من بعض على هذا التفسير، لأن الجزم المانع من النقيض لا يقبل التفاوت، وأما إن كان الجزم المانع من النقيض غير حاصل إما في الكل أو في البعض فذلك لا يكون دليلا، بل أمارة، والنتيجة الحاصلة منها لا تكون علما بل ظنا، فثبت بما ذكرنا أن حصول التفاوت في
118

الدلائل بسبب القوة محال، وأما حصول التفاوت بسبب كثرة الدلائل فالأمر كذلك، لأن الجزم الحاصل بسبب الدليل الواحد، إن كان مانعا من النقيض فيمتنع أن يصير أقوى عند اجتماع الدلائل الكثيرة، وإن كان غير مانع من النقيض لم يكن دليلا، بل كان أمارة ولم تكن النتيجة معلومة بل مظنونة، فثبت أن هذا التأويل ضعيف.
واعلم أنه يمكن أن يقال: المراد من هذه الزيادة الدوام وعدم الدوام، وذلك لأن بعض المستدلين لا يكون مستحضرا للدليل والمدلول إلا لحظة واحدة، ومنهم من يكون
مداوما لتلك الحالة وبين هذين الطرفين أوساط مختلفة، ومراتب متفاوتة، وهو المراد من الزيادة.
والوجه الثاني: من زيادة التصديق أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله، ولما كانت التكاليف متوالية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم متعاقبة، فعند حدوث كل تكليف كانوا يزيدون تصديقا وإقرارا، ومن المعلوم أن من صدق إنسانا في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد. وقوله: * (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) * معناه: أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق، وفي الآية وجه ثالث: وهو أن كمال قدرة الله وحكمته، إنما تعرف بواسطة آثار حكمة الله في مخلوقاته، وهذا بحر لا ساحل له، وكلما وقف عقل الإنسان على آثار حكمة الله في تخليق شيء آخر، انتقل منه إلى طلب حكمة في تخليق شيء آخر، فقد انتقل من مرتبة إلى مرتبة أخرى أعلى منها وأشرف وأكمل، ولما كانت هذه المراتب لا نهاية لها، لا جرم لا نهاية لمراتب التجلي والكشف والمعرفة.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان أم لا؟ أما الذين قالوا: الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، فقد احتجوا بهذه الآية من وجهين: الأول: أن قوله: * (زادتهم إيمانا) * يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة، ولو كان الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار لما قبل الزيادة. والثاني: أنه تعالى لما ذكر هذه الأمور الخمسة. قال: في الموصوفين بها * (أولئك هم المؤمنون حقا) * وذلك يدل على أن كل تلك الخصال داخل في مسمى الإيمان. وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " واحتجوا بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة. قالوا: لأن الآية صريحة في أن الإيمان يقبل الزيادة، والمعرفة والإقرار لا يقبلان التفاوت، فوجب أن يكون الإيمان عبارة عن مجموع الإقرار والاعتقاد والعمل، حتى أن بسبب دخول التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان،
119

وهذا الاستدلال ضعيف، لما بينا أن التفاوت بالدوام وعدم الدوام حاصل في الاعتقاد والإقرار، وهذا القدر يكفي في حصول التفاوت في الإيمان، والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: * (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) * ظاهره مشعر بأن تلك الآيات هي المؤثرة في حصول الزيادة في الإيمان، وليس الأمر كذلك، لأن نفس تلك الآيات لا توجب الزيادة، بل إن كان ولا بد فالموجب هو سماع تلك الآيات أو معرفة تلك الآيات توجب زيادة في المعرفة والتصديق والله أعلم.
الصفة الثالثة: للمؤمنين قوله تعالى: * (وعلى ربهم يتوكلون) * واعلم أن صفة المؤمنين أن يكونوا واثقين بالصدق في وعده ووعيده، وأن يقولوا صدق الله ورسوله، وأن لا يكون قولهم كقول المنافقين * (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) * (الأحزاب: 12) ثم نقول: هذا الكلام يفيد الحصر، ومعناه: أنهم لا يتوكلون إلا على ربهم، وهذه الحالة مرتبة عالية ودرجة شريفة، وهي: أن الإنسان بحيث يصير لا يبقي له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله.
واعلم أن هذه الصفات الثلاثة مرتبة على أحسن جهات الترتيب، فإن المرتبة الأولى هي: الوجل من عقاب الله.
والمرتبة الثانية: هي الانقياد لمقامات التكاليف لله.
والمرتبة الثالثة: هي الانقطاع بالكلية عما سوى الله، والاعتماد بالكلية على فضل الله، بل الغنى بالكلية عما سوى الله تعالى.
والصفة الرابعة والخامسة: قوله: * (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) * واعلم أن المراتب الثلاثة المتقدمة أحوال معتبرة في القلوب والبواطن، ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر ورأس الطاعات المعتبرة في الظاهر، ورئيسها بذل النفس في الصلاة، وبذل المال في مرضاة الله، ويدخل فيه الزكوات والصدقات والصلاة، والإنفاق في الجهاد، والإنفاق على المساجد والقناطر، قالت المعتزلة: إنه تعالى مدح من ينفق ما رزقه الله، وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز الإنفاق من الحرام، وذلك يدل على أن الحرام لا يكون رزقا، وقد سبق ذكر هذا الكلام مرارا.
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذه الصفات الخمس: أثبت للموصوفين بها أمورا ثلاثة: الأول: قوله: * (أولئك هم المؤمنون حقا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (حقا) * بماذا يتصل. فيه قولان: أحدهما: بقوله: * (هم المؤمنون) * أي هم المؤمنون بالحقيقة. والثاني: أنه تم الكلام عند قوله: * (أولئك هم المؤمنون) * ثم ابتدأ وقال: * (حقا لهم درجات) *.
120

المسألة الثانية: ذكروا في انتصاب * (حقا) * وجوها: الأول: قال الفراء: التقدير: أخبركم بذلك حقا، أي أخبارا حقا، ونظيره قوله: * (أولئك هم الكافرون حقا) * (النساء: 151) والثاني: قال سيبويه: إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام، والتقدير: وإن الذي فعلوه كان حقا صدقا. الثالث: قال الزجاج. التقدير: أولئك هم المؤمنون أحق ذلك حقا.
المسألة الثالثة: اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن أن يقول أنا مؤمن، واختلفوا في أنه هل يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن حقا أم لا؟ فقال أصحاب الشافعي: الأولى أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، ولا يقول أنا مؤمن حقا. وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: الأولى أن يقول أنا مؤمن حقا، ولا يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أما الذين قالوا إنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فلهم فيه مقامان:
المقام الأول: أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان. المقام الثاني: أن لا يكون الأمر كذلك. أما المقام الأول، فتقريره: أن الإيمان عند الشافعي رضي الله عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل. ولا شك أن كون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية، فالإنسان وإن كان جازما بحصول الاعتقاد والإقرار، إلا أنه لما كان شاكا في حصول العمل كان هذا القدر يوجب كونه شاكا في حصول الإيمان، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله، فلما كان الإيمان اسما للاعتقاد والقول، وكان العمل خارجا عن مسمى الإيمان، لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في
الإيمان. فثبت أن من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في الإيمان، ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الإيمان، وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط. وأما المقام الثاني: وهو أن نقول: إن قوله: أنا مؤمن إن شاء الله ليس لأجل الشك، فيه وجوه: الأول: أن كون الرجل مؤمنا أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله، فإذا قال أنا مؤمن، فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح. فوجب أن يقول: إن شاء الله ليصير هذا سببا لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب. روي أن أبا حنيفة رحمه الله، قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك. قال اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * (الشعراء: 82) فقال أبو حنيفة رحمه الله: هلا اقتديت به في قوله: * (أولم تؤمن قال بلى) * (البقرة: 260) وأقول: كان لقتادة أن يجيب، ويقول: إنه بعد أن قال: * (بلى) * قال: * (ولكن ليطمئن قلبي) * فطلب مزيد الطمأنينة، وهذا يدل على أنه لا بد من قول إن شاء الله. الثاني:
121

أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون مؤمنا إلا إذا كان موصوفا بالصفات الخمسة، وهي الخوف من الله، والإخلاص في دين الله، والتوكل على الله، والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله تعالى. وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر، وهو قوله: * (إنما المؤمنون الذين) * هم كذا وكذا. وذكر في آخر الآية قوله: * (أولئك هم المؤمنون حقا) * وهذا أيضا يفيد الحصر، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى، ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس، لا جرم كان الأولى أن يقول: إن شاء الله. روى أن الحسن سأله رجل وقال: أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله: * (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) * فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟ الثالث: أن القرآن العظيم دل على أن كل من كان مؤمنا، كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمنا يوجب القطع بكونه من أهل الجنة، وذلك لا سبيل إليه، فكذا هذا. ونقل عن الثوري أنه قال: من زعم أنه مؤمن بالله حقا، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة، فقد آمن بنصف الآية. والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة، فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن. الرابع: أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمنا في الحقيقة عندما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر، فأما عند زوال هذا المعنى، فهو إنما يكون مؤمنا بحسب حكم الله، أما في نفس الأمر فلا.
إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائدا إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبدا دائما من غير حصول ذهول وغفلة عنه، وهذا المعنى محتمل. الخامس: أن أصحاب الموافاة يقولون: شرط كونه مؤمنا في الحال حصول الموافاة على الإيمان، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت، ويكون مجهولا، والموقوف على المجهول مجهول. فلهذا السبب حسن أن يقال: أنا مؤمن إن شاء الله. السادس: أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة، فإن الرجل وإن كان مؤمنا في الحال، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة؛ كان وجوده كعدمه، ولم تحصل فائدة أصلا، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى. السابع: أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع، ألا ترى أنه تعالى قال: * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * (الفتح: 27) وهو تعالى منزه عن الشك والريب. فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليما منه لعباده، هذا المعنى، فكذا
122

ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان. الثامن: أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو قوله تعالى: * (أولئك هم المؤمنون حقا) * وهم المؤمنون في علم الله وفي حكمه، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين، وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك. فالمؤمن يقول: إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني. أما القائلون: أنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه: الأول: أن المتحرك يجوز أن يقول: أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله، وكذا القول في القائم والقاعد، فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمنا، ولا يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركا في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركا حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل، لا يقدح في كونه مؤمنا في الحال. الثاني: أنه تعالى قال: * (أولئك هم المؤمنون حقا) * فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقا فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه بالحصول وذلك لا يجوز. والجواب عن الأول: أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمنا، وبين وصفه بكونه متحركا، حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع، وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقا، وذلك الشرط مشكوك فيه، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط. فهذا يقوي عين مذهبنا. والله أعلم. الحكم الثاني
من الأحكام التي أثبتها الله تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قوله تعالى: * (لهم درجات عند ربهم) * والمعنى: لهم مراتب بعضها أعلى من بعض.
واعلم أن الصفات المذكورة قسمان: الثلاثة الأول: هي الصفات القلبية والأحوال الروحانية، وهي الخوف والإخلاص والتوكل. والاثنتان الأخيرتان هما الأعمال الظاهرة والأخلاق. ولا شك أن لهذه الأعمال والأخلاق تأثيرات في تصفية القلب، وفي تنويره بالمعارف الإلهية. ولا شك أن المؤثر كلما كان أقوى كانت الآثار أقوى وبالضد، فلما كانت هذه الأخلاق والأعمال لها درجات ومراتب. كانت المعارف أيضا لها درجات ومراتب، وذلك هو المراد من قوله: * (لهم درجات عند ربهم) * والثواب الحاصل في الجنة أيضا مقدر بمقدار هذه الأحوال. فثبت أن مراتب السعادات
123

الروحانية قبل الموت وبعد الموت، ومراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة، فلهذا المعنى قال: * (لهم درجات عند ربهم) *.
فإن قيل: أليس أن المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل وحرمانه عنها، فإنه يتألم قلبه، ويتنغص عيشه. وذلك مخل بكون الثواب رزقا كريما؟
والجواب: أن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به تمنعه من حصول الحقد والحسد، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم. الحكم الثالث
والرابع
أن قوله: * (ومغفرة ورزق كريم) * المراد من المغفرة أن يتجاوز الله عن سيئاتهم ومن الرزق الكريم نعيم الجنة. قال المتكلمون: أما كونه رزقا كريما فهو إشارة إلى كون تلك المنافع خالصة دائمة مقرونة بالإكرام والتعظيم، ومجموع ذلك هو حد الثواب. وقال العارفون: المراد من المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله، ومن الرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفة الله ومحبته. قال الواحدي: قال أهل اللغة: الكريم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه، والله تعالى موصوف بأنه كريم والقرآن موصوف بأنه كريم. قال تعالى: * (إني ألقي إلي كتاب كريم) * (النمل: 29) وقال: * (من كل زوج كريم) * (الشعراء: 7 لقمان: 10) وقال: * (وندخلكم مدخلا كريما) * (النساء: 31) وقال: * (وقل لهما قولا كريما) * (الإسراء: 23) فالرزق الكريم هو الشريف الفاضل الحسن. وقال هشام بن عروة: يعني ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش، وأقول يجب ههنا أن نبين أن اللذات الروحانية أكمل من اللذات الجسمانية، وقد ذكرنا هذا المعنى في هذا الكتاب في مواضع كثيرة وعند هذا يظهر أن الرزق الكريم هو اللذات الروحانية وهي معرفة الله ومحبته والاستغراق في عبوديته.
فإن قال قائل: ظاهر الآية يدل على أن الموصوف بالأمور الخمسة محكوم عليه بالنجاة من العقاب وبالفوز بالثواب، وذلك يقتضي أن لا تكليف على العبد فيما سوى هذه الخمسة وذلك باطل بإجماع المسلمين، لأنه لا بد من الصوم والحج وأداء سائر الواجبات.
قلنا: إنه تعالى بدأ بقوله: * (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) * وجميع التكاليف داخل تحت هذين الكلامين، إلا أنه تعالى خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر على التعيين، ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة على التعيين، تنبيها على أن أشرف الأحوال الباطنة، التوكل وأشرف الأعمال الظاهرة، الصلاة والزكاة.
124

* (كمآ أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: * (كما أخرجك ربك) * يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج وذكروا فيه وجوها: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى كثرة المشركين يوم بدر وقلة المسلمين قال: " من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا " ليرغبهم في القتال، فلما انهزم المشركون قال سعد بن عبادة: يا رسول الله إن جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم، ولم يتأخروا عن القتال جبنا ولا بخلا ببذل مهجهم ولكنهم أشفقوا عليك من أن تغتال فمتى أعطيت هؤلاء ما سميته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء فأنزل الله تعالى: * (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) * يصنع فيها ما يشاء، فأمسك المسلمون عن الطلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهية وأيضا حين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة على ما سنشرح حالة تلك الكراهية، فلما قال تعالى: * (قل الأنفال لله والرسول) * كان التقدير أنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة هنا. الثاني: أن يكون التقدير ثبت الحكم بأن الأنفال لله، وإن كرهوه كما ثبت حكم الله بإخراجك إلى القتال وإن كرهوه. الثالث: لما قال: * (أولئك هم المؤمنون حقا) * كان التقدير: أن الحكم بكونهم مؤمنين حق، كما أن حكم الله بإخراجك من بيتك للقتال حق. الرابع: قال الكسائي: " الكاف " متعلق بما بعده، وهو قوله: * (يجادلونك في الحق) * والتقدير * (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) * على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه. والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (من بيتك) * يريد بيته بالمدينة أو المدينة نفسها، لأنها موضع هجرته
125

وسكناه بالحق، أي إخراجا متلبسا بالحكمة والصواب * (وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) * في محل الحال، أي أخرجك في حال كراهيتهم. روي أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها أموال كثيرة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان، وعمرو بن العاص، وأقوام آخرون، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير، وقلة القوم، فلما أزمعوا وخرجوا، بلغ أهل مكة خبر خروجهم، فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول! إن أخذ محمد عيركم لن تفلحوا أبدا، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا، فقالت لأخيها: إني رأيت عجبا رأيت كأن ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل، ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدث بها العباس. فقال أبو جهل: ما ترضى رجالهم بالنبوة حتى ادعى نساؤهم النبوة! فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير، وفي المثل السائر - لا في العير ولا في النفير - فقيل له: العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع إلى مكة بالناس. فقال: لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور، وتغني القينات والمعازف ببدر فتتسامع جميع العرب بخروجنا، وإن محمدا لم يصب العير فمضى إلى بدر بالقوم. وبدر كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة، فنزل جبريل وقال: يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما النفير من قريش، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: " ما تقولون إن القوم خرجوا من مكة على كل صعب وذلول. فالعير أحب إليكم أم النفير؟ قالوا بل العير أحب إلينا من لقاء العدو. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال امض إلى ما أمرك الله به فإنا معك حيثما أردت. فوالله لو سرت إلى عدن لما تخلف عنك رجل من الأنصار. ثم قال المقداد بن عمرو: يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله به، فإنا معك حيثما أردت، لا
نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: * (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) * (المائدة: 24) ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت منا عين تطرف. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " سيروا على بركة الله والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم "، ولما فرغ رسول الله من بدر، قال بعضهم: عليك بالعير. فناداه العباس وهو في وثاقه، لا يصلح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم؟ قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك.
126

إذا عرفت هذه القصة فنقول: كانت كراهية القتال حاصلة لبعضهم لا لكلهم، بدليل قوله تعالى: * (وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) * والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى النفير لإيثارهم العير. وقوله: * (بعد ما تبين) * المراد منه: إعلام رسول الله بأنهم ينصرون. وجدالهم قولهم: ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا؟ لنستعد ونتأهب للقتال، وذلك لأنهم كانوا يكرهون القتال، ثم إنه تعالى شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم بحال من يجر إلى القتل ويساق إلى الموت، وهو شاهد لأسبابه ناظر إلى موجباته، وبالجملة فقوله: * (وهم ينظرون) * كناية عن الجزم والقطع. ومنه قوله عليه السلام: " من نفى ابنه وهو ينطر إليه " أي يعلم أنه ابنه. وقوله تعالى: * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) * (النبأ: 40) أي يعلم.
واعلم أنه كان خوفهم لأمور: أحدها: قلة العدد. وثانيها: أنهم كانوا رجالة. روي أنه ما كان فيهم إلا فارسان. وثالثها: قلة السلاح.
المسألة الثالثة: روي أنه صلى الله عليه وسلم إنما خرج من بيته باختيار نفسه، ثم إنه تعالى أضاف ذلك الخروج إلى نفسه فقال: * (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) * وهذا يدل على أن فعل العبد بخلق الله تعالى إما ابتداء أو بواسطة القدرة والداعية اللذين مجموعهما يوجب الفعل كما هو قولنا. قال القاضي معناه: أنه حصل ذلك الخروج بأمر الله تعالى وإلزامه، فأضيف إليه.
قلنا: لا شك أن ما ذكرتموه مجاز، والأصل حمل الكلام على حقيقته.
* (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) *.
اعلم أن قوله: * (إذ) * منصوب بإضمار أذكر أنها لكم بدل من إحدى الطائفتين. قال الفراء
127

والزجاج: ومثله قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) * (الزخرف: 66) * (وأن) * في موضع نصب كما نصب الساعة، وقوله أيضا: * (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم) * (الفتح: 25) * (أن) * في موضع رفع بلولا. والطائفتان: العير والنفير: وغير ذات الشوكة. العير. لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم. والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك، ويقال شوك القنا لسنانها، ومنه قولهم شاكي السلاح. أي تتمنون أن يكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدة، ولا تريدون الطائفة الأخرى ولكن الله أراد التوجه إلى الطائفة الأخرى ليحق الحق بكلماته، وفيه سؤالات:
السؤال الأول: أليس أن قوله: * (يريد الله أن يحق الحق بكلماته) * ثم قوله بعد ذلك: * (ليحق الحق) * تكرير محض؟
والجواب: ليس ههنا تكرير لأن المراد بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء، والمراد بالثاني تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة، لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين كان سببا لعزة الدين وقوته، ولهذا السبب قرنه بقوله: * (ويبطل الباطل) * الذي هو الشرك، ولك في مقابلة * (الحق) * الذي هو الدين والإيمان.
السؤال الثاني: الحق حق لذاته، والباطل باطل لذاته، وما ثبت للشيء لذاته فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل وفعل فاعل فما المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل؟
والجواب: المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل، بإظهار كون ذلك الحق حقا، وإظهار كون ذلك الباطل باطلا، وذلك تارة يكون بإظهار الدلائل والبينات، وتارة بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤوساء الباطل.
واعلم أن أصحابنا تمسكوا في مسألة خلق الأفعال بقوله تعالى: * (ليحق الحق) * قالوا وجب حمله على أنه يوجد الحق ويكونه، والحق ليس إلا الدين والاعتقاد، فدل هذا على أن الاعتقاد الحق لا يحصل إلا بتكوين الله تعالى. قالوا: ولا يمكن حمل تحقيق الحق على إظهار آثاره لأن ذلك الظهور حصل بفعل العباد، فامتنع أيضا إضافة ذلك الإظهار إلى الله تعالى، ولا يمكن أن يقال المراد من إظهاره وضع الدلائل عليها، لأن هذا المعنى حاصل بالنسبة إلى الكافر وإلى المسلم. وقبل هذه الواقعة، وبعدها فلا يحصل لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلا.
واعلم أن المعتزلة أيضا تمسكوا بعين هذه الآية على صحة مذهبهم. فقالوا هذه الآية تدل على أنه
128

لا يريد تحقيق الباطل وإبطال الحق البتة، بل إنه تعالى أبدا يريد تحقيق الحق وإبطال الباطل، وذلك يبطل قول من يقول إنه لا باطل ولا كفر إلا والله تعالى مريد له.
وأجاب أصحابنا بأنه ثبت في أصول الفقه أن المفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق فهذه الآية دلت على أنه تعالى أراد تحقيق الحق وإبطال الباطل في هذه الصورة، فلم قلتم إن الأمر كذلك في جميع الصور؟ بل قد بينا بالدليل أن هذه الآية تدل على صحة قولنا.
أما قوله: * (ويقطع دابر الكافرين) * فالدابر الآخر فاعل من دبر إذا أدبر، ومنه دابرة الطائر وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، والمراد أنكم تريدون العير للفوز بالمال، والله تعالى يريد أن تتوجهوا إلى النفير، لما فيه من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين.
* (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه يحق الحق ويبطل الباطل، بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يجوز أن يكون العامل في * (إذ) * هو قوله: * (ويبطل الباطل) * فتكون الآية متصلة بما قبلها، ويجوز أن تكون الآية مستأنفة على تقدير واذكروا إذ تستغيثون.
المسألة الثانية: في قوله: * (إذ تستغيثون) * قولان:
القول الأول: أن هذه الاستغاثة كانت من الرسول عليه السلام. قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف، استقبل القبلة ومد يده وهو يقول: " اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورده أبو بكر ثم التزمه ثم قال: كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فنزلت هذه الآية ولما اصطفت
129

القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور.
القول الثاني: أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلا فيهم، بل خوفهم كان أشد من خوف الرسول، فالأقرب أنه دعا عليه السلام وتضرع على ما روي، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه تابعين له في الدعاء في أنفسهم فنقل دعاء رسول الله لأنه رفع بذلك الدعاء صوته، ولم ينقل دعاء القوم، فهذا هو طريق الجمع بين الروايات المختلفة في هذا الباب. المسألة الثالثة: قوله: * (إذ تستغيثون) * أي تطلبون الإغاثة يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم الاستغاثة بين أنه تعالى أجابهم. وقال: * (إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (إني ممدكم) * أصله بأني ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه استجاب، فنصب محله، وعن أبي عمرو: أنه قرأ * (إني ممدكم) * بالكسر على إرادة القول أو على إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول.
المسألة الثانية: قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم * (مردفين) * بفتح الدال والباقون بكسرها. قال الفراء: * (مردفين) * أي متتابعين يأتي بعضهم في أثر بعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب و * (مردفين) * أي فعل بهم ذلك، ومعناه أنه تعالى أردف المسلمين وأيدهم بهم.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن الملائكة هل قاتلوا يوم بدر؟ فقال قوم نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة، وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرجال عليهم ثيابهم بيض وقاتلوا. وقيل قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين، وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا قال هو من الملائكة فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم، وروى أن رجلا من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالصوت فوقه فنظر إلى المشرك وقد خر مستلقيا وقد شق وجهه فحدث الأنصاري رسول الله فقال صدقت. ذاك من مدد السماء، وقال آخرون: لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك الدنيا كلها فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط وأهلك بلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة، والكلام في كيفية هذا الإمداد مذكور في سورة آل عمران بالاستقصاء
130

والذي يدل على صحة أن الملائكة ما نزلوا للقتال قوله تعالى: * (وما جعله الله إلا بشرى) * قال الفراء: الضمير عائد إلى الأرداف والتقدير: ما جعل الله الأرداف إلا بشرى. وقال الزجاج: ما جعل الله المردفين إلا بشرى، وهذا أولى لأن الأمداد بالملائكة حصل بالبشرى. قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر في العريش قاعدا يدعو، وكان أبو بكر قاعدا عن يمينه ليس معه غيره، فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه نعسا، ثم ضرب بيمينه على فخذ أبي بكر وقال: " أبشر بنصر الله ولقد رأيت في منامي جبريل يقدم الخيل " وهذا يدل على أنه لا غرض من إنزالهم إلا حصول هذه البشرى، وذلك ينفي إقدامهم على القتال.
ثم قال تعالى: * (وما النصر إلا من عند الله) * والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين، إلا أن الواجب على المؤمن أن لا يعتمد على ذلك بل يجب أن يكون اعتماده على إغاثة الله ونصره وهدايته وكفايته لأجل أن الله هو العزيز الغالب الذي لا يغلب، والقاهر الذي لا يقهر، والحكيم فيما ينزل من النصرة فيضعها في موضعها.
* (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام * إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين ءامنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان * ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: * (إذ) * موضعها نصب على معنى * (وما جعله الله إلا بشرى) * (آل عمران: 126)
131

في ذلك الوقت. ويجوز أيضا أن يكون التقدير: اذكروا إذ يغشيكم النعاس أمنة.
المسألة الثانية: في * (يغشاكم) * ثلاث قراآت: الأولى: قرأ نافع بضم الياء، وسكون الغين، وتخفيف الشين * (النعاس) * بالنصب. الثانية: * (يغشاكم) *
بالألف وفتح الياء وسكون العين * (النعاس) * بالرفع وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير. الثالثة: قرأ الباقون * (يغشيكم) * بتشديد الشين وضم الياء من التغشية * (النعاس) * بالنصب، أي يلبسكم النوم. قال الواحدي: القراءة الأولى من أغشى، والثانية من غشي، والثالثة من غشي فمن قرأ * (يغشاكم) * فحجته قوله: * (أمنة نعاسا) * يعني: فكما أسند الفعل هناك إلى النعاس والأمنة التي هي سبب النعاس كذلك في هذه الآية ومن قرأ * (يغشيكم) * أو * (يغشيكم) * فالمعنى واحد وقد جاء التنزيل بهما في قوله تعالى: * (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * (يس: 9) وقال: * (فغشاها ما غشى) * (النجم: 54) وقال: * (كأنما أغشيت وجوههم) * وعلى هذا فالفعل مسند إلى الله.
المسألة الثالثة: أنه تعالى لما ذكر أنه استجاب دعاءهم ووعدهم بالنصر فقال: * (وما النصر إلا من عند الله) * ذكر عقيبه وجوه النصر وهي ستة أنواع: الأول: قوله: * (إذ يغشاكم النعاس أمنة منه) * أي من قبل الله، واعلم أن كل نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلا من قبل الله تعالى فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله تعالى لا بد فيه من مزيد فائدة وذكروا فيه وجوها: أحدها: أن الخائف إذا خاف من عدوه الخوف الشديد على نفسه وأهله فإنه لا يؤخذه النوم، وإذا نام الخائفون أمنوا، فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن. وثانيها: أنهم خافوا من جهات كثيرة. أحدها: قلة المسلمين وكثرة الكفار. وثانيها: الأهبة والآلة والعدة للكافرين وقلتها للمؤمنين. وثالثها: العطش الشديد فلولا حصول هذا النعاس وحصول الاستراحة حتى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تم الظفر.
والوجه الثالث: في بيان كون ذلك النعاس نعمة في حقهم، أنهم ما ناموا نوما غرقا يتمكن العدو من معاقصتهم بل كان ذلك نعاسا يحصل لهم زوال الإعياء والكلال مع أنهم كانوا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله ولقدروا على دفعه.
والوجه الرابع: أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة. فلهذا السبب قيل: إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز.
فإن قيل: فإن كان الأمر كما ذكرتم فلو خافوا بعد ذلك النعاس؟
قلنا: لأن المعلوم أن الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفرا منصورا وذلك لا يمنع من صيرورة قوم منهم مقتولين.
فإن قيل: إذا قرىء * (يغشيكم) * بالتخفيف والتشديد ونصب * (النعاس) * فالضمير لله عز وجل * (وأمنة) *
132

مفعول له. أما إذا قرىء * (يغشاكم النعاس) * فكيف يمكن جعل قوله: * (أمنة) * مفعولا له، مع أن المفعول له يجب أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلل؟
قلنا: قوله: * (يغشاكم) * وإن كان في الظاهر مسندا إلى النعاس، إلا أنه في الحقيقة مسند إلى الله تعالى، فصح هذا التعليل نظرا إلى المعنى. قال صاحب " الكشاف ": وقرئ * (أمنة) * بسكون الميم، ونظير أمن أمنة، حي حياة، ونظير أمن أمنة، رحم رحمة. قال ابن عباس: النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان.
النوع الثاني: من أنواع نعم الله تعالى المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى: * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان) * ولا شبهة أن المراد منه المطر، وفي الخبر أن القوم سبقوا إلى موضع الماء، واستولوا عليه، وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة، وعطش المؤمنون وخافوا، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة، وأكثرهم احتلموا وأجنبوا، وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملا تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير، وكان الخوف حاصلا في قلوبهم، بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم، فلما أنزل الله تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلا على حصول النصرة والظفر، وعظمت النعمة به من جهات: أحدها: زوال العطش، فقد روي أنهم حفروا موضعا في الرمل، فصار كالحوض الكبير، واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا. وثانيها: أنهم اغتسلوا من ذلك الماء، وزالت الجنابة عنهم، وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه. وثالثها: أنهم لما عطشوا ولم يجدوا الماء ثم ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إن المطر نزل فزالت عنهم تلك البلية والمحنة وحصل المقصود. وفي هذه الحالة ما قد يستدل به على زوال العسر وحصول اليسر والمسرة.
أما قوله: * (ويذهب عنكم رجز الشيطان) * ففيه وجوه: الأول: أن المراد منه الاحتلام لأن ذلك من وساوس الشيطان. الثاني: أن الكفار لما نزلوا على الماء، وسوس الشيطان إليهم وخوفهم من الهلاك، فلما نزل المطر زالت تلك الوسوسة، روى أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم، تمثل لهم إبليس وقال أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة، وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي واتخذ المسلمون حياضا واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام. الثالث: أن المراد من رجز الشيطان سائر ما يدعو الشيطان إليه من معصية وفساد.
133

فإن قيل: فأي هذه الوجوه الثلاثة أولى؟
قلنا: قوله: * (ليطهركم) * معناه ليزيل الجنابة عنكم، فلو حملنا قوله: * (ويذهب عنكم رجز الشيطان) * على الجنابة لزم منه التكرير وأنه خلاف الأصل، ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد من قوله: * (ليطهركم) * حصول الطهارة الشرعية. والمراد من قوله: * (ويذهب عنكم رجز الشيطان) * إزالة جوهر المني عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث، ثم تقول: حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة وذلك لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقي أما تأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب فتأثير مجازي وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، واعلم أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه لزم القطع بأن المني رجز الشيطان، وذلك يوجب الحكم بكونه نجسا مطلقا لقوله تعالى: * (والرجز فاهجر) * (المدثر: 5).
النوع الثالث: من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: * (وليربط على قلوبكم) * والمراد أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف والفزع عنهم، ومعنى الربط في اللغة الشد، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى: * (ورابطوا) * (آل عمران: 200) ويقال لكل من صبر على أمر، ربط قلبه عليه كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب يقال: رجل رابط أي حابس. قال الواحدي: ويشبه أن يكون * (على) * ههنا صلة والمعنى - وليربط قلوبكم بالنصر - وما وقع من تفسيره يشبه أن لا يكون صلة لأن كلمة * (على) * تفيد الاستعلاء. فالمعنى أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها.
والنوع الرابع: من النعم المذكورة ههنا قوله تعالى: * (ويثبت به الأقدام) * وذكروا فيه وجوها: أحدها: أن ذلك المطر لبد ذلك الرمل وصيره بحيث لا تغوص أرجلهم فيه، فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا، ولولا هذا المطر لما قدروا عليه، وعلى هذا التقدير، فالضمير في قوله: * (به) * عائد إلى المطر. وثانيها: أن المراد أن ربط قلوبهم أوجب ثبات أقدامهم، لأن من كان قلبه ضعيفا فر ولم يقف، فلما قوى الله تعالى قلوبهم لا جرم ثبت أقدامهم، وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله: * (به) * عائد إلى الربط. وثالثها: روى أنه لما نزل المطر حصل للكافرين ضد ما حصل للمؤمنين، وذلك لأن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب والوحل، فلما نزل المطر عظم الوحل، فصار ذلك مانعا لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله: * (ويثبت به الأقدام) * يدل دلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك.
النوع الخامس: من النعم المذكورة ههنا قوله: * (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم) * وفيه بحثان: الأول: قال الزجاج: * (إذ) * في موضع نصب، والتقدير: وليربط على قلوبكم ويثبت به
134

الأقدام حال ما يوحي إلى الملائكة بكذا وكذا، ويجوز أيضا أن يكون على تقدير اذكروا. الثاني: قوله: * (أني معكم) * فيه وجهان: الأول: أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي مع الملائكة حال ما أرسلهم ردأ للمسلمين. والثاني: أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم، وهذا الثاني أولى لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار، وإنما الخائف هم المسلمون.
ثم قال: * (فثبتوا الذين آمنوا) * واختلفوا في كيفية هذا التثبيت على وجوه: الأول: أنهم عرفوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله ناصر المؤمنين والرسول عرف المؤمنين ذلك، فهذا هو التثبيت والثاني: أن الشيطان كما يمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان، فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهام إليه فهذا هو التثبيت في هذا الباب. والثالث: أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر.
والنوع السادس: من النعم المذكورة في هذه الآية قوله: * (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) * وهذا من النعم الجليلة، وذلك لأن أمر النفس هو القلب فلما بين الله تعالى أنه ربط قلوب المؤمنين بمعنى أنه قواها وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرعب والخوف في قلوب الكافرين فكان ذلك من أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين.
أما قوله تعالى: * (فاضربوا فوق الأعناق) * ففيه وجهان: الأول: أنه أمر للملائكة متصل بقوله تعالى: * (فثبتوا) * وقيل: بل أمر للمؤمنين وهذا هو الأصح لما بينا أنه تعالى ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة، واعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في حق المسلمين جميع موجبات النصر والظفر، فعند هذا أمرهم بمحاربتهم، وفي قوله: * (فاضربوا فوق الأعناق) * قولان: الأول: أن ما فوق العنق هو الرأس، فكان هذا أمرا بإزالة الرأس عن الجسد. والثاني: أن قوله: * (فاضربوا فوق الأعناق) * أي فاضربوا الأعناق.
ثم قال: * (واضربوا منهم كل بنان) * يعني الأطراف من اليدين والرجلين، ثم اختلفوا فمنهم من قال المراد أن يضربوهم كما شاؤوا، لأن ما فوق العنق هو الرأس، وهو أشرف الأعضاء، والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء، فذكر الأشرف والأخس تنبيها على كل الأعضاء، ومنهم من قال: بل المراد إما القتل، وهو ضرب ما فوق الأعناق أو قطع البنان، لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة، فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه الكثيرة من النعم على المسلمين. قال: * (ذلك بأنهم شاقوا
135

الله ورسوله) * والمعنى: أنه تعالى ألقاهم في الخزي والنكال من هذه الوجوه الكثيرة بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله. قال الزجاج: * (شاقوا) * جانبوا، وصاروا في شق غير شق المؤمنين، والشق الجانب * (وشاقوا الله) * مجاز، والمعنى: شاقوا أولياء الله، ودين الله.
ثم قال: * (ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب) * يعني أن هذا الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء قليل مما أعده الله لهم من العقاب في القيامة، والمقصود منه الزجر عن الكفر والتهديد عليه.
* (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الزجاج: * (ذلكم) * رفع لكونه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر ذلكم فذوقوه، ولا يجوز أن يكون * (ذلكم) * ابتداء، وقوله: * (فذوقوه) * خبر، لأن ما بعد الفاء لا يكون خبرا للمبتدأ، إلا أن يكون المبتدأ اسما موصولا أو نكرة موصوفة، نحو: الذي يأتيني فله درهم، وكل رجل في الدار فمكرم. أما أن يقال: زيد فمنطلق، فلا يجوز إلا أن نجعل زيدا خبرا لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا زيد فمنطلق، أي فهو منطلق.
المسألة الثانية: أنه تعالى لما بين أن من يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب، بين من بعد ذلك صفة عقابه، وأنه قد يكون معجلا في الدنيا، وقد يكون مؤجلا في الآخرة، ونبه بقوله: * (ذلكم فذوقوه) * وهو المعجل من القتل والأسر على أن ذلك يسير بالإضافة إلى المؤجل لهم في الآخرة، فلذلك سماه ذوقا، لأن الذوق لا
يكون إلا تعرف طعم اليسير ليعرف به حال الكثير، فعاجل ما حصل لهم من الآلام في الدنيا كالذوق القليل بالنسبة إلى الأمر العظيم المعد لهم في الآخرة، وقوله: * (فذوقوه) * يدل على أن الذوق يحصل بطريق آخر سوى إدراك الطعوم المخصوصة، وهي كقوله تعالى: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49) وكان عليه السلام يقول: " أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " فهذا يدل على إثبات الذوق والأكل والشرب بطريق روحاني مغاير للطريق الجسماني.
136

* (يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد بآء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الأزهري: أصل الزحف للصبي، وهو أن يزحف على أسته قبل أن يقوم، وشبه بزحف الصبي مشي الطائفتين اللتين تذهب كل واحدة منهما إلى صاحبتها للقتال، فيمشي كل فئة مشيا رويدا إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضراب. قال ثعلب: الزحف المشي قليلا قليلا إلى الشيء، ومنه الزحاف في الشعر يسقط مما بين حرفين. حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا) * أي متزاحفين نصب على الحال، ويجوز أن يكون حالا للكفار، ويجوز أن يكون حالا للمخاطبين وهم المؤمنون، والزحف مصدر موصوف به كالعدل والرضا، ولذلك لم يجمع، والمعنى: إذا ذهبتم إليهم للقتال، فلا تنهزموا، ومعنى * (فلا تولوهم الأدبار) * أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم. ثم إنه تعالى لما نهى عن هذا الانهزام بين أن هذا الانهزام محرم إلا في حالتين: إحداهما: أن يكون متحرفا للقتال، والمراد منه أن يخيل إلى عدوه أنه منهزم. ثم ينعطف عليه، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها، يقال: تحرف وانحرف إذا زال عن جهة الاستواء. والثانية: قوله: * (أو متحيزا إلى فئة) * قال أبو عبيدة: التحيز التنحي وفيه لغتان: التحيز والتحوز. قال الواحدي: وأصل هذا الحوز، وهو الجمع. يقال: حزته فانحاز وتحوز وتحيز إذا انضم واجتمع، ثم سمى التنحي تحيزا، لأن المتنحي عن جانب ينفصل عنه ويميل إلى غيره.
إذا عرفت هذا فنقول: الفئة الجماعة، فإذا كان هذا المتحيز كالمنفرد، وفي الكفار كثرة، وغلب على ظن ذلك المنفرد أنه إن ثبت قتل من غير فائدة، وإن تحيز إلى جمع كان راجيا للخلاص، وطامعا في العدو بالكثرة، فربما وجب عليه التحيز إلى هذه الفئة فضلا عن أن يكون ذلك جائزا
137

والحاصل أن الانهزام من العدو حرام إلا في هاتين الحالتين.
ثم إنه تعالى قال: * (ومن يولهم يومئذ دبره) * إلا في هاتين الحالتين، فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.
المسألة الثانية: احتج القاضي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة، وذلك لأن الآية دلت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ونار جهنم. قال وليس للمرجئة أن يحملوا هذه الآية على الكفار دون أهل الصلاة، كصنعهم في سائر آيات الوعيد، لأن هذا الوعيد مختص بأهل الصلاة.
واعلم أن هذه المسألة قد ذكرناها على الاستقصاء في سورة البقرة، وذكرنا أن الاستدلال بهذه الظواهر لا يفيد إلا الظن، وقد ذكرنا أيضا أنها معارضة بعمومات الوعد، وذكرنا أن الترجيح بجانب عمومات الوعد من الوجوه الكثيرة، فلا فائدة في الإعادة.
المسألة الثالثة: اختلف المفسرون في أن هذا الحكم هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإطلاق، فنقل عن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر، قالوا: والسبب في اختصاص يوم بدر بهذا الحكم أمور: أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حاضرا يوم بدر ومع حضوره لا يعد غيره فيه، أما لأجل أنه لا يساوي به سائر الفئات. بل هو أشرف وأعلى من الكل، وأما لأجل أن الله تعالى وعده بالنصر والظفر فلم يكن لهم التحيز إلى فئة أخرى. وثانيها: أنه تعالى شدد الأمر على أهل بدر، لأنه كان أول الجهاد ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه، لزم منه الخلل العظيم، فلهذا وجب عليهم التشدد والمبالغة، ولهذا السبب منع الله في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى.
والقول الثاني: أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاما في جميع الحروب، بدليل أن قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا) * عام فيتناول جميع السور، أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن جواز التحيز إلى فئة هل يحظر إذا كان العسكر عظيما أو إنما يثبت إذا كان في العسكر خفة؟ قال بعضهم: إذا عظم العسكر فليس لهم هذا التحيز. وقال بعضهم: بل الكل سواء، وهذا أليق بالظاهر لأنه لم يفصل.
138

* (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم) *.
فيه مسائل: المسألة الأولى: قال مجاهد: اختلفوا يوم بدر. فقال: هذا أنا قتلت. وقال الآخر أنا قتلت فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني أن هذه الكسرة الكبيرة لم تحصل منكم، وإنما حصلت بمعونة الله روي أنه لما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه قريش، قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك " اللهم إني أسألك ما وعدتني " فنزل جبريل وقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعلي أعطني قبضة من التراب من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم، وقال شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا. قال صاحب " الكشاف " والفاء في قوله: * (فلم تقتلوهم) * جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم.
ثم قال: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * يعني أن القبضة من الحصباء التي رميتها، فأنت ما رميتها في الحقيقة، لأن رميك لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي
سائر البشر، ولكن الله رماها حيث نفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم، فصورة الرمية صدرت من الرسول عليه الصلاة والسلام وأثرها إنما صدر من الله، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله عالي، وجه الاستدلال أنه تعالى قال: * (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) * ومن المعلوم أنهم جرحوا، فدل هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من الله. وأيضا قوله: * (وما رميت إذ رميت) * أثبت كونه عليه السلام راميا، ونفى عنه كونه راميا، فوجب حمله على أنه رماه كسبا وما رماه خلقا.
فأن قيل: أما قوله: * (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) * فيه وجوه: الأول: أن قتل الكفار إنما تيسر بمعونة الله ونصره وتأييده، فصحت هذه الإضافة. الثاني: أن الجرح كان إليهم، وإخراج الروح كان إلى الله تعالى، والتقدير: فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم.
139

وأما قوله: * (وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى) * قال القاضي فيه أشياء: منها أن الرمية الواحدة لا توجب وصول التراب إلى عيونهم، وكان إيصال أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلا بإيصال الله تعالى، ومنها أن التراب الذي رماه كان قليلا، فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل، فدل هذا على أنه تعالى ضم إليها أشياء أخر من أجزاء التراب وأوصلها إلى عيونهم، ومنها أن عند رميته ألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم، فكان المراد من قوله: * (ولكن الله رمى) * هو أنه تعالى رمى قلوبهم بذلك الرعب.
والجواب: أن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر، والأصل في الكلام الحقيقة.
فإن قالوا: الدلائل العقلية تمنع من القول بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى. فنقول: هيهات فإن الدلائل العقلية في جانبنا والبراهين النقلية قائمة على صحة قولنا، فلا يمكنكم أن تعدلوا عن الظاهر إلى المجاز. والله أعلم.
المسألة الثالثة: قرىء * (ولكن الله قتلهم ولكن الله رمى) * بتخفيف ولكن ورفع ما بعده.
المسألة الرابعة: في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال: الأول: وهو قول أكثر المفسرين أنها نزلت في يوم بدر. والمراد أنه عليه السلام أخذ قبضة من الحصباء، ورمى بها وجوه القوم وقال شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينيه ومنخريه منها شيء، فكانت تلك الرمية سببا للهزيمة، وفيه نزلت هذه الآية. والثاني: أنها نزلت يوم خيبر روي أنه عليه السلام أخذ قوسا وهو على باب خيبر. فرمى سهما. فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق، وهو على فرسه، فنزلت * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * والثالث: أنها نزلت في يوم أحد في قتل أبي بن خلف، وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وقال يا محمد من يحيى هذا وهو رميم؟ فقال عليه السلام يحييه الله ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار فأسر يوم بدر، فلما افتدى. قال لرسول الله إن عندي فرسا أعتلفها كل يوم فرقا من ذرة، كي أقتلك عليها. فقال صلى الله عليه وسلم: " بل أنا أقتلك إن شاء الله " فلما كان يوم أحد أقبل أبي يركض على ذلك الفرس حتى دنا من الرسول عليه الصلاة والسلام فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه. فقال عليه السلام: " استأخروا " ورماه بحربة فكسر ضلعا من أضلاعه، فحمل فمات ببعض الطريق ففي ذلك نزلت الآية والأصح أن هذه الآية نزلت في يوم بدر، وإلا لدخل في أثناء القصة كلام أجنبي عنها، وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما قوله تعالى: * (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) * فهذا معطوف على قوله: * (ولكن الله رمى) *
140

والمراد من هذا البلاء الأنعام، أي ينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصرة والغنيمة والأجر والثواب، قال القاضي: ولولا أن المفسرين اتفقوا على حمل الابتلاء ههنا على النعمة، وإلا لكان يحتمل المحنة بالتكليف فيما بعده من الجهاد، حتى يقال: إن الذي فعله تعالى يوم بدر، كان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات.
ثم إنه تعالى ختم هذا بقوله: * (إن الله سميع عليم) * أي سميع لكلامكم عليم بأحوال قلوبكم، وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب، لئلا يغتر العبد بظواهر الأمور، ويعلم أن الخالق تعالى مطلع على كل ما في الضمائر والقلوب.
* (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين * إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو * (موهن) * بتشديد الهاء من التوهين * (كيد) * بالنصب، وقرأ حفص عن عاصم * (موهن كيد) * بالإضافة، والباقون * (موهن) * بالتخفيف * (كيد) * بالنصب، ومثله قوله: * (كاشفات ضره) * (الزمر: 38) بالتنوين وبالإضافة.
المسألة الثانية: الكلام في ذلك ومحله من الإعراب كما في قوله: * (ذلكم فذوقوه) * (الأنفال: 14).
المسألة الثالثة: توهين الله تعالى كيدهم. يكون بأشياء باطلاع المؤمنين على عوراتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وتفريق كلمتهم، ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم. قال ابن عباس ينبئ رسول الله ويقول: إني قد أوهنت كيد عدوك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم.
أما قوله تعالى: * (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) * فيه قولان:
القول الأول: وهو قول الحسن ومجاهد والسدي أنه خطاب للكفار، روي أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر، وروي أنه قال: اللهم أينا كان أقطع
141

للرحم وأفجر، فأهلكه الغداة، وقال السدي: إن المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا أستار الكعبة وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين، فأنزل الله هذه الآية، والمعنى: إن تستفتحوا أي تستنصروا لأهدى الفئتين وأكرم الحزبين، فقد جاءكم النصر. وقال آخرون: أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
والقول الثاني: أنه خطاب للمؤمنين، روي أنه عليه السلام لما رأى المشركين وكثرة عددهم استغاث بالله، وكذلك الصحابة وطلب ما وعده الله به من إحدى الطائفتين وتضرع إلى الله فقال: * (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) * والمراد أنه طلب النصرة التي تقدم بها الوعد، فقد جاءكم الفتح، أي حصل ما وعدتم به فاشكروا الله والزموا طاعته. قال القاضي: وهذا القول أولى لأن قوله: * (فقد جاءكم الفتح) * لا يليق إلا بالمؤمنين، أما لو حملنا الفتح على البيات والحكم والقضاء، لم يمتنع أن يراد به الكفار.
أما قوله: * (وإن تنتهوا فهو خير لكم) * فتفسير هذه الآية، يتفرع على ما ذكرنا من أن قوله: * (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) * خطاب للكفار أو للمؤمنين.
فإن قلنا: إن ذلك خطاب للكفار، كان تأويل هذه الآية إن تنتهوا عن قتال الرسول وعداوته وتكذيبه فهو خير لكم، أما في الدين فبالخلاص من العقاب والفوز بالثواب. وأما في الدنيا فبالخلاص من القتل والأسر والنهب.
ثم قال: * (وإن تعودوا) * أي إلى القتال * (نعد) * أي نسلطهم عليكم، فقد شاهدتم ذلك يوم بدر وعرفتم تأثير نصرة الله للمؤمنين عليكم * (ولن تغني عنكم فئتكم) * أي كثرة الجموع كما لم يغن ذلك يوم بدر. وأما إن قلنا إن ذلك خطاب للمؤمنين كان تأويل هذه الآية وإن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وتنتهوا عن طلب الفداء على الأسرى فقد كان وقع منهم نزاع يوم بدر في هذه الأشياء حتى عاتبهم الله بقوله: * (لولا كتاب من الله سبق) * (الأنفال: 68) فقال تعالى: * (إن تنتهوا) * عن مثله * (فهو خير لكم وإن تعودوا) * إلى تلك المنازعات * (نعد) * إلى ترك نصرتكم لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة وترك المخالفة، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة، فإن الله لا يكون إلا مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب.
واعلم أن أكثر المفسرين حملوا قوله: * (إن تستفتحوا) * على أنه خطاب للكفار، واحتجوا بقوله تعالى: * (وإن تعودوا نعد) * فظنوا أن ذلك لا يليق إلا بالقتال، وقد بينا أن ذلك يحتمل الحمل على ما ذكرناه من أحوال المؤمنين، فسقط هذا الترجيح.
142

وأما قوله: * (وأن الله مع المؤمنين) * فقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم * (وأن الله) * بفتح الألف في أن والباقون بكسرها. أما الفتح فقيل: على تقدير، ولأن الله مع المؤمنين، وقيل هو معطوف على قوله: * (إن الله موهن كيد الكافرين) * وأما الكسر فعلى الابتداء. والله أعلم.
* (يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) *.
اعلم أنه تعالى لما خاطب المؤمنين بقوله: * (إن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا) * (الأنفال: 19) أتبعه بتأديبهم فقال: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون) * ولم يبين أنهم ماذا يسمعون إلا أن الكلام من أول السورة إلى هنا لما كان واقعا في الجهاد علم أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد، ثم إن الجهاد اشتمل على أمرين: أحدهما: المخاطرة بالنفس. والثاني: الفوز بالأموال، ولما كانت المخاطرة بالنفس شاقة شديدة على كل أحد، وكان ترك المال بعد القدرة على أخذه شاقا شديدا، لا جرم بالغ الله تعالى في التأديب في هذا الباب فقال: * (أطيعوا الله ورسوله) * في الإجابة إلى الجهاد، وفي الإجابة إلى تركه المال إذا أمره الله بتركه والمقصود تقرير ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى: * (قل الأنفال لله والرسول) * (الأنفال: 1).
فإن قيل: فلم قال ولا تولوا عنه فجعل الكناية واحدة مع أنه تقدم ذكر الله ورسوله.
قلنا: إنه تعالى أمر بطاعة الله وبطاعة رسوله. ثم قال: * (ولا تولوا) * لأن التولي إنما يصح في حق الرسول بأن يعرضوا عنه وعن قبول قوله وعن معونته في الجهاد.
ثم قال مؤكدا لذلك: * (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) * والمعنى: أن الإنسان
143

لا يمكنه أن يقبل التكليف وأن يلتزمه إلا بعد أن يسمعه، فجعل السماع كناية عن القبول. ومنه قولهم سمع الله لمن حمده، والمعنى: ولا تكونوا كالذين يقولون بألسنتهم أنا قبلنا تكاليف الله تعالى، ثم إنهم بقلوبهم لا يقبلونها. وهو صفة للمنافقين كما أخبر الله عنهم بقوله: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) * (البقرة: 14).
ثم قال تعالى: * (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) * واختلفوا في الدواب. فقيل: شبههم بالدواب لجهلهم وعدولهم عن الانتفاع بما يقولون. ويقال لهم: ولذلك وصفهم بالصم والبكم وبأنهم لا يعقلون. وقيل: بل هم من الدواب لأنه اسم لما دب على الأرض ولم يذكره في معرض التشبيه، بل وصفهم بصفة تليق بهم على طريقة الذم، كما يقال لمن لا يفهم الكلام، هو شبح وجسد وطلل على جهة الذم.
ثم قال: * (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) * والمعنى أن كل ما كان حاصلا فإنه يجب أن يعلمه الله فعدم علم الله بوجوده من لوازم
عدمه، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده، وتقرير الكلام لو حصل فيهم خير، لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهيم، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بها، ولتولوا وهم معرضون. قيل: إن الكفار سألوا الرسول عليه السلام أن يحيي لهم قصي بن كلاب وغيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوته، فبين تعالى أنه لو علم فيهم خيرا، وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم حتى يسمعوا كلامهم، ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون هذا الكلام إلا على سبيل العناد والتعنت، وأنه لم أسمعهم الله كلامهم لتولوا عن قبول الحق ولأعرضوا عنه، وفي هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى حكم عليهم بالتولي عن الدلائل وبالإعراض عن الحق وأنهم لا يقبلونه البتة، ولا ينتفعون به البتة. فنقول: وجب أن يكون صدور الإيمان منهم محالا، لأنه لو صدر الإيمان، لكان إما أن يوجد ذلك الإيمان مع بقاء هذا الخبر صدقا أو مع انقلابه كذبا والأول محال، لأن وجود الإيمان مع الأخبار بعدم الإيمان جمع بين النقيضين وهو محال. والثاني محال، لأن انقلاب خبر الله الصدق كذبا محال. لا سيما في الزمان الماضي المنقضي، وهكذا القول في انقلاب علم الله جهلا، وتقريره سبق مرارا.
المسألة الثانية: النحويون يقولون: كلمة * (لو) * وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لأجل انتفاء غيره، فإذا قلت: لو جئتني لأكرمتك، أفاد أنه ما حصل المجيء، وما حصل الإكرام. ومن
144

الفقهاء من قال: إنه لا يفيد إلا الاستلزام، فأما الانتفاء لأجل انتفاء الغير، فلا يفيده هذا اللفظ والدليل عليه الآية والخبر، أما الآية، فهي هذه الآية، وتقريره: أن كلمة * (لو) * لو أفادت ما ذكروه لكان قوله: * (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) * يقتضي أنه تعالى ما علم فيهم خيرا وما أسمعهم. ثم قال: * (ولو أسمعهم لتولوا) * فيكون معناه: أنه ما أسمعهم وأنهم ما تولوا لكن عدم التولي خير من الخيرات، فأول الكلام يقتضي نفي الخير، وآخره يقتضي حصول الخير، وذلك متناقض. فثبت أن القول بأن كلمة * (لو) * تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره يوجب هذا التناقض، فوجب أن لا يصار إليه. وأما الخبر فقوله عليه السلام: " نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " فلو كانت لفظة " لو " تفيد ما ذكروه لصار المعنى أنه خاف الله وعصاه، وذلك متناقض. فثبت أن كلمة * (لو) * لا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، وإنما تفيد مجرد الاستلزام.
واعلم أن هذا الدليل أحسن إلا أنه على خلاف قول جمهور الأدباء.
المسألة الثالثة: أن معلومات الله تعالى على أربعة أقسام: أحدها: جملة الموجودات. والثاني: جملة المعدومات. والثالث: أن كل واحد من الموجودات لو كان معدوما فكيف يكون حاله. الرابع: أن كل واحد من المعدومات لو كان موجودا كيف يكون حاله، والقسمان الأولان علم بالواقع، والقسمان الثانيان عم بالمقدر الذي هو غير واقع، فقوله: * (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) * من القسم الثاني وهو العلم بالمقدرات، وليس من أقسام العلم بالواقعات ونظيره قوله تعالى حكاية عن المنافقين: * (لئن أخرجتم لنخرجن معكم..... وإن قوتلتم لننصرنكم) * وقال تعالى: * (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار) * (الحشر: 11، 12) فعلم تعالى في المعدوم أنه لو كان موجودا كيف يكون حاله، وأيضا قوله: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (الأنعام: 28) فأخبر عن المعدوم أنه لو كان موجودا كيف يكون حاله.
* (يا أيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) *.
في الآية مسائل:
145

المسألة الأولى: قال أبو عبيد والزجاج * (استجيبوا) * معناه أجيبوا وأنشد قول الشاعر: فلم يستجبه عند ذاك مجيب
المسألة الثانية: أكثر الفقهاء على أن ظاهر الأمر للوجوب، وتمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين:
الوجه الأول: أن كل من أمره الله بفعل فقد دعاه إلى ذلك الفعل وهذه الآية تدل على أنه لا بد من الإجابة في كل ما دعاه الله إليه.
فإن قيل: قوله: * (استجيبوا لله) * أمر. فلم قلتم: إنه يدل على الوجوب؟ وهل النزاع إلا فيه، فيرجع حاصل هذا الكلام إلى إثبات أن الأمر للوجوب بناء على أن هذا الأمر يفيد الوجوب، وهو يقتضي إثبات الشيء بنفسه وهو محال.
والجواب: أن من المعلوم بالضرورة أن كل ما أمر الله به فهو مرغب فيه مندوب إليه، فلو حملنا قوله: * (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) * على هذا المعنى كان هذا جاريا مجرى إيضاح الواضحات وأنه عبث، فوجب حمله على فائدة زائدة، وهي الوجوب صونا لهذا النص عن التعطيل، ويتأكد هذا بأن قوله تعالى بعد ذلك * (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) * جار مجرى التهديد والوعيد، وذلك لا يليق إلا بالإيجاب.
الوجه الثاني: في الاستدلال بهذه الآية على ثبوت هذا المطلوب. ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال: " ما منعك عن إجابتي " قال كنت أصلي قال: " ألم تخبر فيما أوحى إلي استجيبوا لله وللرسول " فقال: لا جرم لا تدعوني إلا أجيبك، والاستدلال به أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاه فلم يجبه لامه على ترك الإجابة، وتمسك في تقرير ذلك اللوم بهذه الآية فلولا دلالة هذه الآية على الوجوب، وإلا لما صح ذلك الاستدلال وقول من يقول مسألة أن الأمر يفيد الوجوب، مسألة قطعية، فلا يجوز التمسك فيها بخبر الواحد ضعيف، لأنا لا نسلم أن مسألة الأمر يفيد الوجوب مسألة قطعية، بل هي عندنا مسألة ظنية، لأن المقصود منها العمل، والدلائل الظنية كافية في المطالب العملية.
فإن قالوا: إنه تعالى ما أمر بالإجابة على الإطلاق بل بشرط خاص وهو قوله: * (إذا دعاكم لما يحييكم) * فلم قلتم إن هذا الشرط حاصل في جميع الأوامر؟
قلنا: قصة أبي بن كعب تدل على أن هذا الحكم عام وغير مخصوص بشرط معين، وأيضا فلا يمكن حمل الحياة ههنا على نفس الحياة. لأن إحياء الحي محال. فوجب حمله على شيء آخر وهو الفوز
146

بالثواب، وكل ما دعا الله إليه ورغب فيه فهو مشتمل على ثواب، فكان هذا الحكم عاما في جميع الأوامر وذلك يفيد المطلوب.
المسألة الثالثة: ذكروا في قوله: * (إذا دعاكم لما يحييكم) * وجوها: الأول: قال السدي: هو الإيمان والإسلام وفيه الحياة لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته، يدل عليه قوله تعالى: * (يخرج الحي من الميت) * (الروم: 19) قيل المؤمن من الكافر. الثاني: قال قتادة: يعني القرآن أي أجيبوه إلى ما في القرآن ففيه الحياة والنجاة والعصمة، وإنما سمي القرآن بالحياة لأن القرآن سبب العلم. والعلم حياة، فجاز أن يسمى سبب الحياة بالحياة. الثالث: قال الأكثرون: * (لما يحييكم) * هو الجهاد، ثم في سبب تسمية الجهاد بالحياة وجوه: أحدها: هو أن وهن أحد العدوين حياة للعدو الثاني. فأمر المسلمين إنما يقوى ويعظم بسبب الجهاد مع الكفار. وثانيها: أن الجهاد سبب لحصول الشهادة وهي توجب الحياة الدائمة قال تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 169) وثالثها: أن الجهاد قد يفضي إلى القتل، والقتل يوصل إلى الدار الآخرة، والدار الآخرة معدن الحياة. قال تعالى: * (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) * (العنكبوت: 64) أي الحياة الدائمة.
والقول الرابع: * (لما يحييكم) * أي لكل حق وصواب، وعلى هذا التقدير فيدخل فيه القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة. والمراد من قوله: * (لما يحييكم) * الحياة الطيبة الدائمة قال تعالى: * (فلنحييه حياة طيبة) * (النحل: 97). المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) * يختلف تفسيره بحسب اختلاف الناس في الجبر والقدر. أما القائلون بالجبر، فقال الواحدي حكاية عن ابن عباس والضحاك: يحول بين المرء الكافر وطاعته، ويحول بين المرء المطيع ومعصيته، فالسعيد من أسعده الله، والشقي من أضله الله. والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، فإذا أراد الكافر أن يؤمن والله تعالى لا يريد إيمانه يحول بينه وبين قلبه. وإذا أراد المؤمن أن يكفر والله لا يريد كفره حال بينه وبين قلبه. قلت: وقد دللنا بالبراهين العقلية على صحة أن الأمر كذلك وذلك لأن الأحوال القلبية إما العقائد وإما الإرادات والدواعي. أما العقائد: فهي إما العلم، وإما الجهل. أما العلم فيمتنع أن يقصد الفاعل إلى تحصيله إلا إذا علم كونه علما ولا يعلم ذلك إلا إذا علم كون ذلك الاعتقاد مطابقا للمعلوم ولا يعلم ذلك إلا إذا سبق علمه بالمعلوم وذلك يوجب توقف الشيء على نفسه وأما الجهل فالإنسان البتة لا يختاره ولا يريده إلا إذا ظن أن ذلك الاعتقاد علم، ولا يحصل له هذا الظن
147

إلا بسبق جهل آخر، وذلك أيضا يوجب توقف الشيء على نفسه، وأما الدواعي والإرادات فحصولها إن لم يكن بفاعل يلزم الحدوث لا عن محدث، وإن كان بفاعل فذلك الفاعل إما العبد وإما الله تعالى، والأول باطل، وإلا لزم توقف ذلك القصد على قصد آخر وهو محال، فتعين أن يكون فاعل الاعتقادات والإرادات والدواعي هو الله تعالى، فنص القرآن دل على أن أحوال القلوب من الله، والدلائل العقلية دلت على ذلك، فثبت أن الحق ما ذكرناه. أما القائلون بالقدر فقالوا: لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم، وبيانه من وجوه:
الوجه الأول: قال الجبائي: إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز، وأمر العاجز سفه، ولو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا الله بصعود السماء، وقد أجمعوا على أن الزمن لا يؤمر بالصلاة قائما، فكيف يجوز ذلك على الله تعالى؟ وقد قال تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) وقال في المظاهر: * (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) * (المجادلة: 4) فأسقط فرض الصوم عمن لا يستطيعه.
الوجه الثاني: أن الله تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول. وذكر هذا الكلام في معرض الذكر والتحذير عن ترك الإجابة، ولو كان المراد ما ذكرتم لكان ذلك عذرا قويا في ترك الإجابة، ولا يكون زجرا عن ترك الإجابة.
الوجه الثالث: أنه تعالى أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار، لا ليكون حجة للكفار على الرسول، ولو كان المعنى ما ذكرتم لصارت هذه الآية من أقوى الدلائل للكفار على الرسول ولقالوا إنه تعالى لما منعنا من الإيمان فكيف يأمرنا به؟ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر، قالوا ونحن نذكر في الآية وجوها: الأول: أن الله تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت، يعني بذلك أن تبادروا في الاستجابة فيما ألزمتكم من الجهاد وغيره قبل أن يأتيكم الموت الذي لا بد منه ويحول بينكم وبين الطاعة والتوبة. قال القاضي: ولذلك قال تعالى عقيبه ما يدل عليه وهو قوله: * (وأنه إليه تحشرون) * والمقصود من هذه الآية الحث على الطاعة قبل نزول الموت الذي يمنع منها. الثاني: أن المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه، فإن الأجل يحول دون الأمل، فكأنه قال: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء، فإن ذلك غير موثوق به، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأماني الحاصلة في القلب لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم، سال الوادي. الثالث: أن المؤمنين كانوا خائفين من القتال يوم بدر، فكأنه قيل لهم، سارعوا إلى الطاعة ولا تتمنعوا عنها
148

بسبب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن، فإن الله تعالى يغير تلك الأحوال فيبدل الضعف بالقوة، والجبن بالشجاعة، لأنه تعالى مقلب القلوب. الرابع: قال مجاهد: المراد من القلب ههنا العقل فكان المعنى أنه يحول بين المرء وقلبه. والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون، فإنكم لا تؤمنون زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف. وجعل القلب كناية عن العقل جائز، كما قال تعالى: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) * (ق: 37) أي لمن كان له عقل. الخامس: قال الحسن معناه، أن الله حائل بين المرء وقلبه، والمعنى أن قربه تعالى من عبده أشد من قرب قلب العبد منه، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لا يخفى عليه شيء
مما في باطن العبد ومما في ضميره، ونظيره قوله تعالى: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * (ق: 16) فهذه جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب لأصحاب الجبر والقدر.
ثم قال تعالى: * (وأنه إليه تحشرون) * أي واعلموا أنكم إليه تحشرون أي إلى الله ولا تتركون مهملين معطلين، وفيه ترغيب شديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة.
* (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة واعلموا أن الله شديد العقاب) *.
اعلم أنه تعالى كما حذر الإنسان أن يحال بينه وبين قلبه، فكذلك حذره من الفتن، والمعنى: واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصة بل تتعدى إليكم جميعا وتصل إلى الصالح والطالح. عن الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة. قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زمانا وما ظننا أنا أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وعن السدي: نزلت في أهل بدر اقتتلوا يوم الجمل، وروي أن الزبير كان يسامر النبي صلى الله عليه وسلم يوما إذ أقبل علي رضي الله عنه، فضحك إليه الزبير فقال رسول الله: " كيف حبك لعلي، فقال يا رسول الله أحبه كحبي لولدي أو أشد فقال: " كيف أنت إذا سرت إليه تقاتله ".
فإن قيل: كيف جاز دخول النون المؤكدة في جواب الأمر؟
قلنا: فيه وجهان: الأول: أن جواب الأمر جاء بلفظ النهي، ومتى كان كذلك حسن إدخال النون المؤكدة في ذلك النهي، كقولك انزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك، وكقوله تعالى: * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) * (النمل: 18) الثاني: أن التقدير: واتقوا فتنة
149

تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، إلا أنه جيء بصيغة النهي مبالغة في نفي اختصاص الفتنة بالظالمين كأن الفتنة نهيت عن ذلك الاختصاص. وقيل لها لا تصيبي الذين ظلموا خاصة، والمراد منه: المبالغة في عدم الاختصاص على سبيل الاستعارة.
ثم قال تعالى: * (واعلموا أن الله شديد العقاب) * والمراد منه: الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله.
فإن قيل: حاصل الكلام في الآية أنه تعالى يخوفهم من عذاب لو نزل لعم المذنب وغيره، وكيف يليق برحمة الرحيم الحكيم أن يوصل الفتنة والعذاب إلى من لم يذنب؟
قلنا: إنه تعالى قد ينزل الموت والفقر والعمى والزمانة بعبده ابتداء، إما لأنه يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكية، أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع الصلاح على اختلاف المذهبين، وإذا جاز ذلك لأحد هذين الوجهين فكذا ههنا. والله أعلم.
* (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) *.
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول، ثم أمرهم باتقاء المعصية، أكد ذلك التكليف بهذه الآية، وذلك لأنه تعالى بين أنهم كانوا قبل ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية القلة والذلة، وبعد ظهوره صاروا في غاية العزة والرفعة، وذلك يوجب عليهم الطاعة وترك المخالفة. أما بيان الأحوال التي كانوا عليها قبل ظهور محمد فمن وجوه: أولها: أنهم كانوا قليلين في العدد. وثانيها: أنهم كانوا مستضعفين، والمراد أن غيرهم يستضعفهم، والمراد من هذا الاستضعاف أنهم كانوا يخافون أن يتخطفهم الناس. والمعنى: أنهم كانوا إذا خرجوا من بلدهم خافوا أن يتخطفهم العرب، لأنهم كانوا يخافون من مشركي العرب لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم، ثم بين تعالى أنهم بعد أن كانوا كذلك قلبت تلك الأحوال بالسعادات والخيرات، فأولها: أنه آواهم والمراد منه أنه تعالى نقلهم إلى المدينة، فصاروا آمنين من شر الكفار، وثانيها: قوله: * (وأيدكم بنصره) * والمراد منه وجوه النصر في يوم بدر، وثالثها: قوله: * (ورزقكم من الطيبات) * وهو أنه تعالى
150

أحل لهم الغنائم بعد أن كانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة. ثم قال: * (لعلكم تشكرون) * أي نقلناكم من الشدة إلى الرخاء، ومن البلاء إلى النعماء والآلاء، حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة، فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة والمخاصمة بسبب الأنفال؟
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه رزقهم من الطيبات، فههنا منعهم من الخيانة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في المراد بتلك الخيانة على أقوال: الأول: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريظة لما حاصرهم، وكان أهله وولد فيهم. فقالوا يا أبا لبابة ما ترى لنا أننزل على حكم سعد بن معاد فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه، أي أنه الذبح فلا تفعلوا، فكان ذلك منه خيانة لله ورسوله. الثاني: قال السدي: كانوا يسمعون الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم، فيشقونه ويلقونه إلى المشركين، فنهاهم الله عن ذلك. الثالث: قال ابن زيد: نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون، يظهرون الإيمان ويسرون الكفر. الرابع: عن جابر بن عبد الله: أن أبا سفيان خرج من مكة، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم خروجه وعزم على الذهاب إليه، فكتب إليه رجل من المنافقين أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم، فأنزل الله هذه الآية. الخامس: قال الزهري والكلبي: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة لما هم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إليها، حكاه الأصم. والسادس: قال القاضي: الأقرب أن خيانة الله غير خيانة رسوله، وخيانة الرسول غير خيانة الأمانة، لأن العطف يقتضي المغايرة.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى أمرهم أن لا يخونوا الغنائم، وجعل ذلك خيانة له، لأنه خيانة لعطيته وخيانة لرسوله لأنه القيم بقسمها، فمن خانها فقد خان الرسول، وهذه الغنيمة قد جعلها الرسول أمانة في أيدي الغانمين وألزمهم أن لا يتناولوا لأنفسهم منها شيئا فصارت وديعة، والوديعة
151

أمانة في يد المودع، فمن خان منهم فيها فقد خان أمانة الناس، إذ الخيانة ضد الأمانة، قال: ويحتمل أن يريد بالأمانة كل ما تعبد به، وعلى هذا التقدير: فيدخل فيه
الغنيمة وغيرها، فكان معنى الآية: إيجاب أداء التكاليف بأسرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال. وأما الوجوه المذكورة في سبب نزول الآية، فهي داخلة فيها، لكن لا يجب قصر الآية عليها، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": معنى الخون النقص. كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه تخونه إذا انتقصه، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء. لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه.
المسألة الثالثة: في قوله: * (وتخونوا أماناتكم) * وجوه: الأول: التقدير * (ولا تخونوا أماناتكم) * والدليل عليه ما روي في حرف عبد الله * (ولا تخونوا أماناتكم) * الثاني: التقدير: لا تخونوا الله والرسول، فإنكم إن فعلتم ذلك فقد خنتم أماناتكم، والعرب قد تذكر الجواب تارة بالفاء، وأخرى بالواو، ومنهم من أنكر ذلك.
وأما قوله تعالى: * (وأنتم تعلمون) * فيه وجوه: الأول: وأنتم تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو. الثاني: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح، وحسن الحسن، ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد. نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب. فقال: * (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) * لأنها تشغل القلب بالدنيا، وتصير حجابا عن خدمة المولى.
ثم قال: * (وأن الله عنده أجر عظيم) * تنبيها على أن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم في الشرف، وأعظم في الفوز، وأعظم في المدة، لأنها تبقى بقاء لا نهاية له، فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظم. ويمكن أن يتمسك بهذه الآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأن الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله، والاشتغال بالنكاح يفيد الولد ويوجب الحاجة إلى المال، وذلك فتنة، ومعلوم أن ما أفضى إلى الأجر العظيم عند الله، فالاشتغال به خير مما أفضى إلى الفتنة.
152

* (يا أيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) *.
واعلم أنه تعالى لما حذر عن الفتنة بالأموال والأولاد، رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إدخال الشرط في الحكم إنما يحسن في حق من كان جاهلا بعواقب الأمور، وذلك لا يليق بالله تعالى.
والجواب: أن قولنا إن كان كذا كان كذا، لا يفيد إلا كون الشرط مستلزما للجزاء، فأما أن وقوع الشرط مشكوك فيه أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللفظ، سلمنا أنه يفيد هذا الشك إلا أنه تعالى يعامل العباد في الجزاء معاملة الشاك، وعليه يخرج قوله تعالى: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) * (محمد: 31).
المسألة الثانية: هذه القضية الشرطية شرطها شيء واحد وهو تقوى الله تعالى، وذلك يتناول اتقاء الله في جميع الكبائر. وإنما خصصنا هذا بالكبائر لأنه تعالى ذكر في الجزاء تكفير السيئات، والجزاء يجب أن يكون مغايرا للشرط، فحملنا التقوى على تقوى الكبائر وحملنا السيئات على الصغائر ليظهر الفرق بين الشرط والجزاء، وأما الجزاء المرتب على هذا الشرط فأمور ثلاثة: الأول: قوله: * (يجعل لكم فرقانا) * والمعنى أنه تعالى يفرق بينكم وبين الكفار. ولما كان اللفظ مطلقا وجب حمله على جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار فنقول: هذا الفرقان إما أن يعتبر في أحوال الدنيا أو في أحوال الآخرة. أما في أحوال الدنيا فإما أن يعتبر في أحوال القلوب وهي الأحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة، أما في أحوال القلوب فأمور: أحدها: أنه تعالى يخص المؤمنين بالهداية والمعرفة. وثانيها: أنه يخص قلوبهم وصدورهم بالانشراح كما قال: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) * (الزمر: 22) وثالثها: أنه يزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم ويزيل المكر والخداع عن صدورهم، مع أن المنافق والكافر يكون قلبه مملوءا من هذه الأحوال الخسيسة والأخلاق الذميمة، والسبب في حصول هذه الأمور أن القلب إذا صار مشرقا بطاعة
153

الله تعالى زالت عنه كل هذه الظلمات لأن معرفة الله نور، وهذه الأخلاق ظلمات، وإذا ظهر النور فلا بد من زوال الظلمة. وأما في الأحوال الظاهرة، فإن الله تعالى يخص المسلمين بالعلو والفتح والنصر والظفر، كما قال: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * (المنافقين: 8) وكما قال: * (ليظهره على الدين كله) * (التوبة: 33) وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك. وأما في أحوال الآخرة، فالثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة وكل هذه الأحوال داخلة في الفرقان.
والنوع الثاني: من الأجزية المرتبة على التقوى قوله: * (ويكفر عنكم سيئاتكم) * فنقول: إن حملنا قوله: * (إن تتقوا الله) * على الاتقاء من الكفر، كان المراد بقوله: * (ويكفر عنكم سيئاتكم) * جميع السيئات التي وجدت قبل الكفر، وإن حملناه على الاتقاء عن الكبائر، كان المراد من هذا تكفير الصغائر.
والنوع الثالث: قوله: * (ويغفر لكم) * واعلم أن المراد من تكفير السيئات سترها في الدنيا ومن المغفرة إزالتها في القيامة لئلا يلزم التكرار. ثم قال: * (والله ذو الفضل العظيم) * ومن كان كذلك فإنه إذا وعد بشيء وفى به، وإنما قلنا: إن أفضال الله أعظم من أفضال غيره لوجوه: الأول: أن كل ما سوى الحق سبحانه فإنه لا يتفضل ولا يحسن إلا إذا حصلت في قلبه داعية الإفضال والإحسان، وتلك الداعية حادثة فلا تحصل إلا بتخليق الله تعالى، وعند هذا ينكشف أن المتفضل ليس إلا الله الذي خلق تلك الداعية الموجبة لذلك الفعل. الثاني: أن كل من تفضل يستفيد به نوعا من أنواع الكمال إما عوضا من المال أو عوضا من المدح والثناء، وإما عوضا من نوع آخر وهو دفع الألم الحاصل في القلب بسبب الرقة الجنسية والله تعالى يعطي ويتفضل ولا يطلب به شيئا من الأعواض لأنه كامل لذاته، وما كان حاصلا للشيء لذاته امتنع أن يستفيده من غيره. الثالث: أن كل من تفضل على الغير فإن المتفضل عليه يصير ممنونا عليه من ذلك المتفضل، وذلك منفر، أما الحق سبحانه وتعالى فهو
الموجد لذات كل أحد بجميع صفاته، فلا يحصل الاستنكاف من قبول إحسانه. الرابع: أن كل من تفضل على غيره فإنه لا ينتفع المتفضل عليه بذلك التفضل إلا إذا حصلت له عين باصرة وأذن سامعة ومعدة هاضمة. حتى ينتفع بذلك الإحسان، وعند هذا ينكشف أن المتفضل هو الله في الحقيقة فثبت بهذه البراهين صحة قوله: * (والله ذو الفضل العظيم) *.
* (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله
154

والله خير الماكرين) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقوله: * (واذكروا إذ أنتم قليل) * (الأنفال: 26) فكذلك ذكر رسوله نعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه، وهذه السورة مدنية. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين: إن مشركي قريش تآمروا في دار الندوة ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وذكر أنه من أهل نجد. فقال بعضهم: قيدوه نتربص به ريب المنون، فقال إبليس: لا مصلحة فيه، لأنه يغضب له قومه فتسفك له الدماء. وقال بعضهم أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم، فقال إبليس: لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم. وقال أبو جهل: الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلا فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية، فقال إبليس: هذا هو الرأي الصواب، فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأذن له في الخروج إلى المدينة وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة، وأمر عليا أن يبيت في مضجعه، وقال له: تسج ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا عليا فبهتوا وخيب الله سعيهم. وقوله: * (ليثبتوك) * قال ابن عباس: ليوثقوك ويشدوك وكل من شد فقد أثبت، لأنه لا يقدر على الحركة ولهذا يقال لمن اشتدت به علة أو جراحه تمنعه من الحركة. فقد أثبت فلان فهو مثبت، وقيل ليسجنوك، وقيل ليحبسوك، وقيل ليثبتوك في بيت فحذف المحل لوضوح معناه، وقرأ بعضهم * (ليثبتوك) * بالتشديد وقرأ النخعي * (ليثبتوك) * من البيات وقوله: * (أو يقتلوك) * وهو الذي حكيناه عن أبي جهل لعنه الله * (أو يخرجوك) * أي من مكة، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام الثلاثة قال: * (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) * وقد ذكرنا في سورة آل عمران في تفسير قوله: * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) * (آل عمران: 54) تفسير المكر في حق الله تعالى، والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد والله تعالى نصره وقواه، فضاع فعلهم وظهر صنع الله تعالى. قال القاضي: القصة التي ذكرها ابن عباس موافقة للقرآن إلا ما فيها من حديث إبليس، فإنه زعم أنه كانت صورته موافقة لصورة الإنس وذلك باطل، لأن ذلك التصوير إما أن يكون من فعل الله أو من فعل إبليس، والأول باطل لأنه لا يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك ليفتن الكفار في المكر، والثاني أيضا باطل، لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يقدر إبليس على تغيير صورة نفسه.
واعلم أن هذا النزاع عجيب، فإنه لما لم يبعد من الله تعالى أن يقدر إبليس على أنواع الوساوس فكيف يبعد منه أن يقدره على تغيير صورة نفسه؟
فإن قيل: كيف قال: * (والله خير الماكرين) * ولا خير في مكرهم.
155

قلنا: فيه وجوه: أحدها: أن يكون المراد أقوى الماكرين فوضع * (خير) * موضع أقوى وأشد، لينبه بذلك على أن كل مكر فهو يبطل في مقابلة فعل الله تعالى. وثانيها: أن يكون المراد خير الماكرين لو قدر في مكرهم ما يكون خيرا وحسنا. وثالثها: أن يكون المراد من قوله: * (خير الماكرين) * ليس هو التفضيل، بل المراد أنه في نفسه خير كما يقال: الثريد خير من الله تعالى.
* (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا قالوا قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل هذآ إن هذآ إلا أساطير لاأولين * وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم * وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون * وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أوليآءه إن أوليآؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى مكرهم في ذات محمد. حكى مكرهم في دين محمد، روى أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجرا، واشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم، فيقرأ عليهم أساطير الأولين، وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين، فهذا هو المراد من قوله: * (قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين) * وههنا موضع بحث، وذلك لأن الاعتماد في كون القرآن معجزا عن أنه صلى الله عليه وسلم تحدى العرب
156

بالمعارضة، فلم يأتوا بها، وهذا إشارة إلى أنهم أتوا بتلك المعارضة، وذلك يوجب سقوط الدليل المعول عليه.
والجواب: أن كلمة * (لو) * تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. فقوله: * (لو نشاء لقلنا مثل هذا) * يدل على أنه ما شاء ذلك القول، وما قال. فثبت أن النضر بن الحرث أقر أنه ما أتى بالمعارضة، وإنما أخبر أنه لو شاءها لأتى بها، وهذا ضعيف. لأن المقصود إنما يحصل لو أتى بالمعارضة، أما مجرد هذا القول فلا فائدة فيه.
والشبهة الثانية: لهم قولهم: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) * أي بنوع آخر من العذاب أشد من ذلك وأشق منه علينا.
فإن قيل: هذا الكلام يوجب الإشكال من وجهين: الأول: أن قوله * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) * حكاه الله عن الكفار، وكان هذا كلام الكفار وهو من جنس نظم القرآن فقد حصلت المعارضة في هذا القدر، وأيضا حكى عنهم أنهم قالوا في سورة بني إسرائيل: * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * (الإسراء: 90) وذلك أيضا كلام الكفار فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن ومعارضته، وذلك يدل على حصول المعارضة. الثاني: أن كفار قريش كانوا معترفين بوجود الإله وقدرته وحكمته وكانوا قد سمعوا التهديد الكثير من محمد عليه الصلاة والسلام في نزول العذاب،
فلو كان نزول القرآن معجزا لعرفوا كونه معجزا لأنهم أرباب الفصاحة والبلاغة، ولو عرفوا ذلك لكان أقل الأحوال أن يصيروا شاكين في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ولو كانوا كذلك لما أقدموا على قولهم: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) * لأن المتوقف الشاك لا يتجاسر على مثل هذه المبالغة، وحيث أتوا بهذه المبالغة، علمنا أنه ما لاح لهم في القرآن وجه من الوجوه المعجزة.
والجواب عن الأول: أن الإتيان بهذا القدر من الكلام لا يكفي في حصول المعارضة، لأن هذا المقدار كلام قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة، وهذا الجواب لا يتمشى إلا إذا قلنا التحدي ما وقع بجميع السور، وإنما وقع بالسورة الطويلة التي يظهر فيها قوة الكلام.
والجواب عن الثاني: هب أنه لم يظهر لهم الوجه في كون القرآن معجز إلا أنه لما كان معجزا في نفسه، فسواء عرفوا ذلك الوجه أو لم يعرفوا فإنه لا يتفاوت الحال فيه.
المسألة الثانية: قوله: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) * قال الزجاج: القراءة بنصب * (الحق) * على خبر * (كان) * ودخلت * (هو) * للفصل ولا موضع لها، وهي بمنزلة " ما " المؤكدة ودخلت
157

ليعلم أن قوله: * (الحق) * ليس بصفة لهذا وأنه خبر. قال: ويجوز هو الحق رفعا ولا أعلم أحدا قرأ بها ولا خلاف بين النحويين في إجازتها، ولكن القراءة سنة، وروى صاحب " الكشاف " عن الأعمش أنه قرأ بها.
واعلم أنه تعالى لما حكى هاتين الشبهتين لم يذكر الجواب عن الشبهة الأولى، وهو قوله: * (لو نشاء لقلنا مثل هذا) * ولكنه ذكر الجواب عن الشبهة الثانية، وهو قوله: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن تقرير وجه الجواب أن الكفار لما بالغوا وقالوا: اللهم إن كان محمد محقا فأمطر علينا حجارة من السماء، ذكر تعالى أن محمدا وإن كان محقا في قوله إلا أنه مع ذلك لا يمطر الحجارة على أعدائه، وعلى منكري نبوته، لسببين: الأول: أن محمدا عليه الصلاة والسلام ما دام يكون حاضرا معهم، فإنه تعالى لا يفعل بهم ذلك تعظيما له، وهذا أيضا عادة الله مع جميع الأنبياء المتقدمين، فإنه لم يعذب أهل قرية إلا بعد أن يخرج رسولهم منها، كما كان في حق هود وصالح ولوط.
فإن قيل: لما كان حضوره فيهم مانعا من نزول العذاب عليهم، فكيف قال: * (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) * (التوبة: 14).
قلنا: المراد من الأول عذاب الاستئصال، ومن الثاني: العذاب الحاصل بالمحاربة والمقاتلة.
والسبب الثاني: قوله: * (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) * وفي تفسيره وجوه: الأول: وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون، فاللفظ وإن كان عاما إلا أن المراد بعضهم كما يقال: قتل أهل المحلة رجلا، وأقدم أهل البلدة الفلانية على الفساد، والمراد بعضهم. الثاني: وما كان الله معذب هؤلاء الكفار، وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه، فوصفوا بصفة أولادهم وذراريهم. الثالث: قال قتادة والسدي: * (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) * أي لو استغفروا لم يعذبوا، فكان المطلوب من ذكر هذا الكلام استدعاء الاستغفار منهم. أي لو اشتغلوا بالاستغفار لما عذبهم الله. ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الاستغفار ههنا بمعنى الإسلام والمعنى: أنه كان معهم قوم كان في علم الله أن يسلموا. منهم أبو سفيان بن حرب. وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. والحرث بن هشام. وحكيم بن حزام. وعدد كثير، والمعنى * (وما كان الله معذبهم وأنت فيهم) * مع أن في علم الله أن فيهم من يؤول أمره إلى الإيمان. قال أهل المعاني: دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. قال ابن عباس: كان فيهم أمانان نبي الله
158

والاستغفار، أما النبي فقد مضى، وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة، ثم قال: * (وما لهم ألا يعذبهم الله) * واعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لا يعذبهم ما دام رسول الله فيهم، وذكر في هذه الآية أنه يعذبهم فكان المعنى أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم ثم اختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم: لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر، وقيل بل يوم فتح مكة، وقال ابن عباس: هذا العذاب هو عذاب الآخرة، والعذاب الذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا، ثم بين تعالى ما لأجله يعذبهم، فقال: * (وهم يصدون عن المسجد الحرام) * وقد ظهرت الأخبار أنهم كيف صدوا عنه عام الحديبية، ونبه على أنهم يصدون لادعائهم أنهم أولياؤه، ثم بين بطلان هذه الدعوى بقوله: * (وما كانوا أولياؤه إن أولياؤه إلا المتقون) * الذين يتحرزون عن المنكرات، كالذي كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية، والمقصود بيان أن من كانت هذه حاله لم يكن وليا للمسجد الحرام، فهم إذن أهل لأن يقتلوا بالسيف ويحاربوا، فقتلهم الله يوم بدر، وأعز الإسلام بذلك على ما تقدم شرحه.
* (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكآء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *.
اعلم أنه تعالى لما قال في حق الكفار أنهم ما كانوا أولياء البيت الحرام. وقال: * (إن أولياؤه إلا المتقون) * (الأنفال: 34) بين بعده ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت، وهو أن صلاتهم عند البيت وتقربهم وعبادتهم إنما كان بالمكاء والتصدية. قال صاحب " الكشاف ": المكاء فعال بوزن النغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر، والمكاء الصفير. ومنه المكاء وهو طائر يألف الريف، وجمعه المكاكي سمى بذلك لكثرة مكانه. وأما التصدية فهي التصفيق. يقال: صدى يصدي تصدية إذا صفق بيديه، وفي أصلها قولان: الأول: أنها من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من جبل. الثاني: قال أبو عبيدة: أصلها تصددة، فأبدلت الياء من الدال. ومنه قوله تعالى: * (إذا قومك منه يصدون) * (الزخرف: 57) أي يعجزون، وأنكر بعضهم هذا الكلام، والأزهري صحح قول أبي عبيدة. وقال: صدى أصله صدى، فكثرت الدالات الدالة فقلبت إحداهن ياء.
إذا عرفت هذا فنقول: قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون
159

وقال مجاهد: كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزؤون به ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته، وقال مقاتل: كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته. فعلى قول ابن عباس: كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقاتل، كان إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم. والأول أقرب لقوله تعالى: * (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) *.
فإن قيل: المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف يجوز استثناؤهما عن الصلاة؟
قلنا: فيه وجوه: الأول: أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة، فخرج هذا الاستثناء على حسب معتقدهم. الثاني: أن هذا كقولك وددت الأمير فجعل جفائي صلتي. أي أقام الجفاء مقام الصلة فكذا ههنا. الثالث: الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له، كما تقول العرب، ما لفلان عيب إلا السخاء. يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له.
ثم قال تعالى: * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * أي عذاب السيف يوم بدر، وقيل: يقال لهم في الآخرة: * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *.
* (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون * ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله فى جهنم أولئك هم الخاسرون) *.
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية، أتبعها بشرح أحوالهم في الطاعات المالية. قال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد، وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم
160

أربعين أوقية والأوقية اثنان وأربعون مثقالا، هكذا قاله صاحب " الكشاف ". ثم بين تعالى أنهم إنما ينفقون هذا المال ليصدوا عن سبيل الله، أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك.
ثم قال: * (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) * يعني: أنه سيقع هذا الإنفاق ويكون عاقبته الحسرة، لأنه يذهب المال ولا يحصل المقصود، بل يصيرون مغلوبين في آخر الأمر كما قال تعالى: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * (المجادلة: 21) وقوله: * (والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) * ففيه بحثان:
البحث الأول: أنه لم يقل: وإلى جهنم يحشرون، لأنه كان فيهم من أسلم، بل ذكر أن الذين بقوا على الكفر يكونون كذلك.
البحث الثاني: أن ظاهر قوله: * (إلى جهنم يحشرون) * يفيد أنه لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم، لأن تقديم الخبر يفيد الحصر.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أنهم لا يستفيدون من بذلهم أموالهم في تلك الانفاقات إلا الحسرة والخيبة في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، وذلك يوجب الزجر العظيم عن ذلك الإنفاق، ثم قال: * (ليميز الله الخبيث من الطيب) * وفيه قولان:
القول الأول: ليميز الله الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا وهو عبارة عن الجمع والضم حتى يتراكموا كقوله تعالى: * (كادوا يكونون عليه لبدا) * (الجن: 19) يعني لفرط ازدحامهم فقوله: * (أولئك) * إشارة إلى الفريق الخبيث.
والقول الثاني: المراد بالخبيث نفقة الكافر على عداوة محمد، وبالطيب نفقة المؤمن في جهاد الكفار، كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام فيضم تعالى تلك الأمور الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها كقوله تعالى: * (فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) * (التوبة: 35) واللام في قوله: * (ليميز الله الخبيث) * على القول الأول متعلق بقوله: * (يحشرون) * والمعنى أنهم يحشرون ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطيب، وعلى القول الثاني متعلق بقوله: * (ثم تكون عليهم حسرة) * ثم قال: * (أولئك هم الخاسرون) * وهو إشارة إلى الذين كفروا.
* (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الاولين) *.
161

اعلم أنه تعالى لما بين صلاتهم في عباداتهم البدنية، وعباداتهم المالية، أرشدهم إلى طريق الصواب وقال: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": * (قل للذين كفروا) * أي قل لأجلهم هذا القول، وهو: * (إن ينتهوا يغفر لهم) * ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر وقال ابن مسعود هكذا.
المسألة الثانية: المعنى: أن هؤلاء الكفاء إن انتهوا عن الكفر وعداوة الرسول، ودخلوا الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم وعداوتهم للرسول وإن عادوا إليه وأصروا عليه فقد مضت سنة الأولين. وفيه وجوه: الأول: المراد فقد مضت سنة الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. الثاني: فقد مضت سنة الأولين الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الذين قد مروا فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. الثالث: أن معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وهي قوله: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * (المجادلة: 21) * (ولقد سبقت كلمتنا) * (الصافات: 171) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر * (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) * (الأنبياء: 105).
المسألة الثالثة: اختلف الفقهاء في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا؟ والصحيح أنها مقبولة لوجوه: الأول: هذه الآية، فإن قوله: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * يتناول جميع أنواع الكفر.
فإن قيل: الزنديق لا يعلم من حاله أنه هل انتهى من زندقته أم لا؟
قلنا: أحكام الشرع مبنية على الظواهر، كما قال عليه السلام: " نحن نحكم بالظاهر " فلما رجع وجب قبول قوله فيه. الثاني: لا شك أنه مكلف بالرجوع ولا طريق له إليه إلا بهذه التوبة فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق. الثالث: قوله تعالى: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات) * (الشورى: 25).
المسألة الرابعة: احتج أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع، قالوا لأنهم لو كانوا مخاطبين بها، لكان إما أن يكونوا مخاطبين بها مع الكفر أو بعد زوال الكفر. والأول باطل بالإجماع، والثاني باطل؛ لأن هذه الآية تدل على أن الكافر بعد الإسلام لا يؤاخذ بشيء مما مر عليه في زمان الكفر وإيجاب قضاء تلك العبادات ينافي ظاهره هذه الآية.
المسألة الخامسة: احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء
162

العبادات التي تركها في حالة الردة وقبلها، ووجه الدلالة ظاهر.
المسألة السادسة: قال عليه السلام: " الإسلام يجب ما قبله " فإذا أسلم الكافر لم يلزمه قضاء شيء من العبادات البدنية والمالية وما كان له من جناية على نفس أو مال فهو معفو عنه وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه. وقال يحيى بن معاذ الرازي في هذه الآية أن توحيد ساعة يهدم كفر سبعين سنة، وتوحيد سبعين سنة كيف لا يقوى على هدم ذنب ساعة؟!
* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير * وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن كفرهم حصل لهم الغفران، وإن عادوا فهم متوعدون بسنة الأولين، أتبعه بأن أمر بقتالهم إذا أصروا فقال: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) * قال عروة بن الزبير: كان المؤمنون في مبدأ الدعوة يفتنون عن دين الله، فافتتن من المسلمين بعضهم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم، فأصاب المؤمنين جهد شديد، فهذا هو المراد من الفتنة، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة. وفيه وجه آخر، وهو أن مبالغة الناس في حبهم أديانهم أشد من مبالغتهم في حبهم أرواحهم، فالكافر أبدا يسعى بأعظم وجوه السعي في إيذاء المؤمنين وفي إلقاء الشبهات في قلوبهم وفي إلقائهم في وجوه المحنة والمشقة، وإذا وقعت المقاتلة زال الكفر والمشقة، وخلص الإسلام وزالت تلك الفتن بالكلية. قال القاضي: إنه تعالى أمر بقتالهم ثم بين العلة التي بها أوجب قتالهم، فقال: * (حتى لا تكون فتنة) * ويخلص الدين الذي هو دين الله من سائر الأديان، وإنما يحصل هذا المقصود إذا زال الكفر بالكلية. إذا عرفت هذا فنقول: إما أن يكون المراد من الآية * (وقاتلوهم) * لأجل أن يحصل هذا المعنى أو يكون المراد * (وقاتلوهم) * لغرض أن يحصل هذا المعنى فإن كان المراد من الآية هو الأول وجب أن يحصل هذا المعنى من القتال فوجب أن يكون المراد
163

* (ويكون الدين كله لله) * في أرض مكة وما حواليها، لأن المقصود حصل هنا، قال عليه السلام: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " ولا يمكن حمله على جميع البلاد، إذ لو كان ذلك مرادا لما بقي الكفر فيها مع حصول القتال الذي أمر الله به، وأما إذا كان المراد من الآية هو الثاني، وهو قوله: قاتلوهم لغرض أن يكون الدين كله لله، فعلى هذا التقدير لم يمتنع حمله على إزالة الكفر عن جميع العالم لأنه ليس كل ما كان غرضا للإنسان، فإنه يحصل، فكان المراد الأمر بالقتال لحصول هذا الغرض سواء حصل في نفس الأمر أو لم يحصل.
ثم قال: * (فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) * والمعنى * (فإن انتهوا) * عن الكفر وسائر المعاصي بالتوبة والإيمان * (فإن الله بما يعملون بصير) * عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم * (وإن تولوا) * يعني عن التوبة والإيمان * (فاعلموا أن الله مولاكم) * أي وليكم الذي يحفظكم ويرفع البلاء عنكم، ثم بين أنه تعالى * (نعم المولى ونعم النصير) * وكل ما كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته، كان آمنا من الآفات مصونا عن المخوفات.
* (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شىء قدير) *.
اعلم أنه تعالى لما أمر بالمقاتلة في قوله: * (وقاتلوهم) * وكان من المعلوم أن عند المقاتلة قد تحصل الغنيمة، لا جرم ذكر الله تعالى حكم الغنيمة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الغنم: الفوز بالشيء، يقال: غنم يغنم غنما فهو غانم، والغنيمة في الشريعة ما دخلت في أيدي المسلمين من أموال المشركين على سبيل القهر بالخيل والركاب. المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": * (ما) * في قوله: * (ما غنمتم من شيء) * موصولة وقوله: * (من شيء) * يعني أي شيء كان حتى الخيط والمخيط * (فأن لله) * خبر مبتدأ محذوف تقديره: فحق أو فواجب
164

أن لله خمسه، وروى النخعي عن ابن عمر * (فإن لله خمسه) * بالكسر، وتقديره: على قراءة النخعي فلله خمسه والمشهور آكد وأثبت للإيجاب، كأنه قيل: فلا بد من إثبات الخمس فيه، ولا سبيل إلى الإخلال به، وذلك لأنه إذا حذف الخبر واحتمل وجوها كثيرة من المقدرات كقولك ثابت: واجب، حق، لازم، كان أقوى لإيجابه من النص على واحد، وقرئ * (خمسه) * بالسكون.
المسألة الثالثة: في كيفية قسمة الغنائم.
اعلم أن هذه الآية تقتضي أن يؤخذ خمسها، وفي كيفية قسمة ذلك الخمس قولان:
القول الأول: وهو المشهور أن ذلك الخمس يخمس، فسهم لرسول الله، وسهم لذوي قرباه من بني هاشم وبني المطلب، دون بني عبد شمس وبني نوفل، لما روي عن
عثمان وجبير بن مطعم أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لكونك منهم أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال عليه السلام: " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه " وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل، وأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فعند الشافعي رحمه الله: أنه يقسم على خمسة أسهم، سهم لرسول الله، يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين، كعدة الغزاة من الكراع والسلاح، وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والباقي للفرق الثلاثة وهم: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام سهمه ساقط بسبب موته، وكذلك سهم ذوي القربى، وإنما يعطون لفقرهم، فهو أسوة سائر الفقراء، ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وقال مالك: الأمر في الخمس مفوض إلى رأي الإمام إن رأى قسمته على هؤلاء فعل، وإن رأى إعطاء بعضهم دون بعض، فله ذلك.
واعلم أن ظاهر الآية مطابق لقول الشافعي رحمه الله وصريح فيه، فلا يجوز العدول عنه إلا لدليل منفصل أقوى منها، وكيف وقد قال في آخر الآية: * (إن كنتم آمنتم بالله) * يعني: إن كنتم آمنتم بالله فاحكموا بهذه القسمة، وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة، لم يحصل الإيمان بالله. والقول الثاني: وهو قول أبي العالية: إن خمس الغنيمة يقسم على ستة أقسام، فواحد منها لله، وواحد لرسول الله، والثالث لذوي القربى، والثلاثة الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل قالوا: والدليل عليه أنه تعالى جعل خمس الغنيمة لله، ثم للطوائف الخمسة، ثم القائلون بهذا القول
165

منهم من قال: يصرف سهم الله إلى الرسول، ومنهم من قال: يصرف إلى عمارة الكعبة. وقال بعضهم: إنه عليه السلام كان يضرب يده في هذا الخمس، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، وهو الذي سمى لله تعالى.
والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه: بأن قوله: * (لله) * ليس المقصود منه أثبات نصيب لله. فإن الأشياء كلها ملك لله، وملكه وإنما المقصود منه افتتاح الكلام بذكر الله على سبيل التعظيم، كما في قوله: * (قل الأنفال لله والرسول) * واحتج القفال على صحة هذا القول بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال لهم في غنائم خيبر: " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم " فقوله: مالي إلا الخمس يدل على أن سهم الله وسهم الرسول واحد، وعلى الإضمام سهمه السدس لا الخمس، وإن قلنا: إن السهمين يكونان للرسول. صار سهمه أزيد من الخمس، وكلا القولين ينافي ظاهر قوله: " مالي إلا الخمس " هذا هو الكلام في قسمة خمس الغنيمة، وأما الباقي وهو أربعة أخماس الغنيمة فهي للغانمين. لأنهم الذين حازوه واكتسبوه كما يكتسب الكلأ بالاحتشاش، والطير بالاصطياد، والفقهاء استنبطوا من هذه الآية مسائل كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
المسألة الرابعة: دلت الآية على أنه يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب، كما هو قول الشافعي رحمه الله، والدليل عليه: أن قوله: * (فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) * يقتضي ثبوت الملك لهؤلاء في الغنيمة، وإذا حصل الملك لهم فيه، وجب جواز القسمة لأنه لا معنى للقسمة على هذا التقدير إلا صرف الملك إلى المالك، وذلك جائز بالاتفاق.
المسألة الخامسة: اختلفوا في ذوي القربى. قيل: هم بنو هاشم. وقال الشافعي رحمه الله: هم بنو هاشم وبنو المطلب. واحتج بالخبر الذي رويناه. وقيل: آل علي، وجعفر، وعقيل، وآل عباس، وولد الحرث بن عبد المطلب، وهو قول أبي حنيفة.
المسألة السادسة: حكى صاحب " الكشاف " عن الكلبي: أن هذه الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي رحمه الله: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة.
ثم قال تعالى: * (إن كنتم آمنتم بالله) * والمعنى اعلموا أن خمس الغنيمة مصروف إلى هذه الوجوه الخمسة فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة * (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا) * يعني: إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا يوم الفرقان، يوم بدر. والجمعان: الفريقان من المسلمين والكافرين، والمراد منه ما أنزل عليه من الآيات، والملائكة، والفتح في ذلك اليوم * (والله على كل شيء قدير) * أي يقدر على نصركم وأنتم قليلون ذليلون والله أعلم.
166

* (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة وإن الله لسميع عليم) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (إذ أنتم بالعدوة الدنيا) * قولان: أحدهما: أنه متعلق بمضمر معناه واذكروا إذ أنتم كذا وكذا، كما قال تعالى: * (واذكروا إذ أنتم قليل) * (الأنفال: 26) والثاني: أن يكون قوله: * (إذ) * بدلا عن يوم الفرقان.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو * (بالعدوة) * بكسر العين في الحرفين. والباقون بالضم، وهما لغتان. قال ابن السكيت: عدوة الوادي وعدوته جانبه، والجمع عدى، وعدي. قال الأخفش: الكسر كلام العرب لم يسمع عنهم غير ذلك. وقال أحمد بن يحيى: الضم في العدوة أكثر اللغتين. وحكى صاحب " الكشاف ": الضم والفتح والكسر. قال: وقرئ بهن و * (بالعدية) * على قلب الواو ياء، لأن بينها وبين الكسر حاجزا غير حصين، كما في الفتية. وأما * (الدنيا) * فتأنيث الأدنى وضده * (القصوى) * وهو تأنيث الأقصى، وكل شيء تنحى عن شيء، فقد قصا، والأقصى والقصوى كالأكبر والكبرى.
فإن قيل: كلتاهما فعلى من باب الواو، فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو؟
قلنا: القياس قلب الواو ياء، كالعليا. وأما القصوى، فقد جاء شاذا، وأكثر استعماله على أصله.
المسألة الثالثة: المراد بالعدوة الدنيا، ما يلي جانب المدينة، وبالقصوى، ما يلي جانب مكة وكان الماء في العدوة التي نزل بها المشركون، وكان استظهارهم من هذا الوجه أشد * (والركب) * العير التي خرجوا لها كانت في موضع * (أسفل منكم) * إلى ساحر البحر * (ولو تواعدتم) * أنتم وأهل
167

مكة على القتال، لخالف بعضكم بعضا لقلتكم وكثرتهم * (ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) * أي أنه يثبتكم الله، وينصركم، ليقضي أمرا كان مفعولا، واجبا أن يخرج إلى الفعل وقوله: * (ليهلك من هلك) * بدل من قوله: * (ليقضي) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لا شك أن عسكر الرسول عليه السلام في أول الأمر كانوا في غاية الخوف والضعف بسبب القلة وعدم الأهبة، ونزلوا بعيدين عن الماء، وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضا رملية تغوص فيها أرجلهم. وأما الكفار، فكانوا في غاية القوة بسبب الكثرة في العدد، وبسبب حصول الآلات والأدوات، لأنهم كانوا قريبين من الماء، ولأن الأرض التي نزلوا فيها كانت صالحة للمشي، ولأن العير كانوا خلف ظهورهم، وكانوا يتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة، ثم إنه تعالى قلب القصة وعكس القضية، وجعل الغلبة للمسلمين، والدمار على الكافرين فصار ذلك من أعظم المعجزات وأقوى البينات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر. فقوله: * (ليهلك من هلك عن بينة) * إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن الذين هلكوا إنما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة، والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة، والمراد من البينة هذه المعجزة.
المسألة الثانية: اللام في قوله: * (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) * وفي قوله: * (ليهلك من هلك عن بينة) * لام الغرض، وظاهره يقتضي تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض والمصالح، إلا أنا نصرف هذا الكلام عن ظاهره بالدلائل العقلية المشهورة.
المسألة الثالثة: قوله: * (ليهلك من هلك عن بينة) * ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من الكل العلم والمعرفة والخير والصلاح، وذلك يقدح في قول أصحابنا: أنه تعالى أراد الكفر من الكافر، لكنا نترك هذا الظاهر بالدلائل المعلومة.
المسألة الرابعة: قوله: * (ويحيى من حي عن بينة) * قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير ونصير عن الكسائي * (من حيى) * بإظهار الياءين وأبو عمرو، وابن كثير برواية القواس، وابن عامر وحفص عن عاصم والكسائي بياء مشددة على الإدغام. فأما الإدغام فللزوم الحركة في الثاني، فجرى مجرى رد لأنه في المصحف مكتوب بياء واحدة. وأما الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه من " يحيى " فجرى على مشاكلته، وأجاز بعض الكوفيين الإدغام في * (يحيى) *.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: * (وإن الله لسميع عليم) * أي يسمع دعاءكم ويعلم حاجتكم وضعفكم، فأصلح مهمكم.
168

* (إذ يريكهم الله فى منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم فى الامر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور) *.
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التي أنعم الله بها على أهل بدر، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: * (إذ يريكهم الله) * منصوب بإضمار أذكر، أو هو بدل ثان من يوم الفرقان أو متعلق بقوله: * (لسميع عليم) * أي يعلم المصالح إذ يقللهم في أعينكم. المسألة الثانية: قال مجاهد: أرى الله النبي عليه السلام كفار قريش في منامه قليلا فأخبر بذلك أصحابه. فقالوا: رؤيا النبي حق، القوم قليل، فصار ذلك سببا لجراءتهم وقوة قلوبهم.
فإن قيل: رؤية الكثير قليلا غلط، فكيف يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك؟
قلنا: مذهبنا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأيضا لعله تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون. وعن الحسن: هذه الأراءة كانت في اليقظة. قال: والمراد من المنام العين التي هو موضع النوم.
ثم قال تعالى: * (ولو أراكهم كثيرا) * لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لفشلوا ولتنازعوا، ومعنى التنازع في الأمر، الاختلاف الذي يحاول به كل واحد نزع صاحبه عما هو عليه، والمعنى: لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم * (ولكن الله سلم) * أي سلمكم من المخالفة فيما بينكم. وقيل: سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم، وقيل سلمهم من الهزيمة يوم بدر والأظهر أن المراد، ولكن الله سلمكم من التنازع * (إنه عليم بذات الصدور) * يعلم ما يحصل فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع.
169

* (وإذ يريكموهم إذ التقيتم فى أعينكم قليلا ويقللكم فى أعينهم ليقضى الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور) *.
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من النعم التي أظهرها الله للمسلمين يوم بدر، والمراد أن القليل الذي حصل في النوم تأكد ذلك بحصوله في اليقظة. قال صاحب " الكشاف ": * (وإذ يريكموهم) * الضميران مفعولان يعني إذ يبصركم إياهم، و * (قليلا) * نصب على الحال.
واعلم أنه تعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين، وقلل أيضا عدد المؤمنين في أعين المشركين. والحكمة في التقليل الأول، تصديق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأيضا لتقوى قلوبهم وتزداد جراءتهم عليهم، والحكمة في التقليل. الثاني: أن المشركين لما استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب والحذر، فصار ذلك سببا لاستيلاء المؤمنين عليهم. فإن قيل: كيف يجوز أن يريهم الكثير قليلا؟
قلنا: أما على ما قلنا فذاك جائز، لأن الله تعالى خلق الإدراك في حق البعض دون البعض. وأما المعتزلة فقالوا: لعل العين منعت من إدراك الكل، أو لعل الكثير منهم كانوا في غاية البعد فما حصلت رؤيتهم.
ثم قال: * (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) *.
فإن قيل: ذكر هذا الكلام في الآية المتقدمة، فكان ذكره ههنا محض التكرار.
قلنا: المقصود من ذكره في الآية المتقدمة هو أنه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. والمقصود من ذكره ههنا، ليس هو ذلك المعنى، بل المقصود أنه تعالى ذكر ههنا أنه قلل عدد المؤمنين في أعين المشركين، فبين ههنا أنه إنما فعل ذلك ليصير ذلك سببا لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر، فيصير ذلك سببا لانكسارهم.
ثم قال: * (وإلى الله ترجع الأمور) * والغرض منه التنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد
* (يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وأطيعوا
170

الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين * ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئآء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع نعمه على الرسول وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بالفئة وهي الجماعة من المحاربين نوعين من الأدب: الأول: الثبات وهو أن يوطنوا أنفسهم على اللقاء ولا يحدثوها بالتولي. والثاني: أن يذكروا الله كثيرا، وفي تفسير هذا الذكر قولان:
القول الأول: أن يكونوا بقلوبهم ذاكرين الله وبألسنتهم ذاكرين الله. قال ابن عباس: أمر الله أولياءه بذكره في أشد أحوالهم، تنبيها على أن الإنسان لا يجوز أن يخلى قلبه ولسانه عن ذكر الله، ولو أن رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء، والآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل الله، كان الذاكر لله أعظم أجرا.
والقول الثاني: أن المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر، لأن ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى.
ثم قال: * (لعلكم تفلحون) * وذلك لأن مقاتلة الكافر إن كانت لأجل طاعة الله تعالى كان ذلك جاريا مجرى بذل الروح في طلب مرضاة الله تعالى، وهذا هو أعظم مقامات العبودية، فإن غلب الخصم فاز بالثواب والغنيمة، وإن صار مغلوبا فاز بالشهادة والدرجات العالية، أما إن كانت المقاتلة لا لله بل لأجل الثناء في الدنيا وطلب المال لم يكن ذلك وسيلة إلى الفلاح والنجاح.
فإن قيل: فهذه الآية توجب الثبات على كل حال، وهذا يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز.
قلنا: هذه الآية توجب الثبات في الجملة، والمراد من الثبات الجد في المحاربة. وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول الثبات في المحاربة بل كان الثبات في هذا المقصود، لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز.
ثم قال تعالى مؤكدا لذلك: * (وأطيعوا الله ورسوله) * في سائر ما يأمر به، لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات.
ثم قال: * (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) * وفيه مسائل:
171

المسألة الأولى: بين تعالى أن النزاع يوجب أمرين: أحدهما: أنه يوجب حصول الفشل والضعف. والثاني: قوله: * (وتذهب ريحكم) * وفيه قولان: الأول: المراد بالريح الدولة، شبهت الدولة وقت نفاذها وتمشية أمرها بالريح وهبوبها. يقال: هبت رياح فلان، إذا دانت له الدولة ونفد أمره. الثاني: أنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله، وفي الحديث " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور " والقول الأول أقوى، لأنه تعالى جعل تنازعهم مؤثرا في ذهاب الريح، ومعلوم أن اختلافهم لا يؤثر في هبوب الصبا. قال مجاهد: * (وتذهب ريحكم) * أي نصرتكم، وذهبت ريح أصحاب محمد حين تنازعوا يوم أحد.
المسألة الثانية: احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: القول بالقياس يفضي إلى المنازعة، والمنازعة محرمة، فهذه الآية توجب أن يكون العمل بالقياس حراما، بيان الملازمة المشاهدة، فإنا نرى أن الدنيا صارت مملوءة من الاختلافات بسبب القياسات، وبيان أن المنازعة محرمة. قوله: * (ولا تنازعوا) * وأيضا القائلون بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس تمسكوا بهذه الآية. وقالوا: قوله تعالى: * (وأطيعوا الله ورسوله) * صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نص عليه، ثم أتبعه بأن قال: * (ولا تنازعوا فتفشلوا) * ومعلوم أن من تمسك بالقياس المخصص بالنص فقد ترك طاعة الله وطاعة رسوله. وتمسك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل، وكل ذلك حرام، ومثبتو القياس أجابوا عن الأول؛ بأنه ليس كل قياس يوجب المنازعة.
ثم قال تعالى: * (واصبروا إن الله مع الصابرين) * والمقصود أن كمال أمر الجهاد مبني على الصبر، فأمرهم بالصبر. كما قال في آية أخرى: * (اصبروا وصابروا ورابطوا) * (آل عمران: 200) وبين أنه تعالى مع الصابرين، ولا شبهة أن المراد بهذه المعية النصرة والمعونة.
ثم قال: * (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله) * قال المفسرون: المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير، فلما وردوا الجحفة بعث الحقاف الكناني كان صديقا لأبي جهل إليه بهدايا مع ابن له، فلما أتاه قال: إن أبي ينعمك صباحا ويقول لك إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت، فقال أبو جهل: قل لأبيك جزاك الله والرحم خيرا، إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس، فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا فيها القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب،
172

وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بهذه الواقعة. قال المفسرون: فوردوا بدرا وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
واعلم أنه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء: الأول: البطر قال الزجاج: البطر الطغيان في النعمة. والتحقيق أن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها إلى مرضاته وعرف أنها من الله تعالى فذاك هو الشكر. وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر. والثاني: قوله: * (ورئاء الناس) * والرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع أن باطنه يكون قبيحا، والفرق بينه وبين النفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرئاء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية. روي أنه صلى الله عليه وسلم لما رآهم في موقف بدر قال: " اللهم أن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها لمعارضة دينك ومحاربة رسولك " والثالث: قوله: * (ويصدون عن سبيل الله) * فعل مضارع وعطف الفعل على الاسم غير حسن. وذكر الواحدي فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون قوله: * (ويصدون عن سبيل الله) * بمنزلة صادين. والثاني: أن يكون قوله: * (بطرا ورئاء) * بمنزلة يبطرون ويراؤن، وأقول: إن شيئا من هذه الوجوه لا يشفي الغليل، لأنه تارة يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل، ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر، وعن الثالث بالفعل. وأقول: إن الشيخ عبد القاهر الجرجاني، ذكر أن الاسم يدل على التمكين والاستمرار والفعل على التجدد والحدوث، قال ومثاله في الاسم قوله تعالى: * (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) * (الكهف: 18) وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة، ومثال الفعل قوله تعالى: * (قل من يرزقكم من السماء والأرض) * (يونس: 31) وذلك يدل على أنه تعالى يوصل الرزق إليهم ساعة فساعة، هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر.
إذا عرفت هذا فنقول: إن أبا جهل ورهطه وشيعته كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والعجب،
وأما صدهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي ادعى محمد عليه الصلاة والسلام النبوة ولهذا
السبب ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم، وذكر الصد عن سبيل الله بصيغة الفعل والله أعلم.
وحاصل الكلام: أنه تعالى أمرهم عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله، ومنعهم من
أن يكون الحامل لهم على ذلك الثبات، الطر والرئاء بل أوجب عليهم أن يكون الحامل لهم عليه
طلب عبودية الله.
واعلم أن حاصل القرآن من أوله إلى آخره دعوة الخلق من الاشتغال بالخلق، وأمرهم بالعناء
في طريق عبودية الحق، والمعصية مع الانكسار أقرب إلى الاخلاص من الطاعة مع الافتخار، ثم
173

* (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برىء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) *.
ختم هذه الآية بقوله (والله بما تعملون محيط) والمقصود أن الانسان ربما أظهر من نفسه أن
الحاصل له والداعي إلى الفعل المخصوص طلب مرضاة الله تعالى مع أنه لا يكون الامر كذلك في
الحقيقة، فبين تعالى كونه عالما بما في دواخل القلوب، وذلك كالتهديد والزجر عن الرئاء والتصنع.
قوله تعالى (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم
فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله
شديد العقاب).
اعلم أن هذا من جملة النعم التي خص أهل بدر بها وفيه مسائل:
المسألة الأولى: العامل في * (إذ) * فيه وجوه: قيل: تقديره اذكر إذ زين لهم، وقيل: هو عطف على ما تقدم من تذكير النعم، وتقديره: واذكروا إذ يريكموهم وإذ زين، وقيل: هو عطف على قوله: خرجوا بطرا ورئاء الناس. وتقديره: لا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورثاء الناس وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم.
المسألة الثانية: في كيفية هذا التزيين وجهان: الأول: أن الشيطان زين بوسوسته من غير أن يتحول في صورة الإنسان، وهو قول الحسن والأصم. والثاني: أنه ظهر في صورة الإنسان. قالوا: إن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة، لأنهم كانوا قتلوا منهم واحدا، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم، فتصور لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو من بني بكر بن كنانة وكان من أشرافهم في جند من الشياطين، ومعه راية، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم مجيركم من بني كنانة، فلما رأى إبليس نزول الملائكة نكص على عقيبه. وقيل: كانت يده في يد الحرث بن هشام، فلما نكص قال له الحرث: أتخذ لنا في هذه الحال؟ فقال: إني أرى ما لا ترون! ودفع في صدر الحرث وانهزموا. وفي هذه القصة سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة؟
والجواب فيه معجزة عظيمة للرسول عليه السلام وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة
174

قالوا هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة بل كان شيطانا.
فإن قيل: فإذا حضر إبليس لمحاربة المؤمنين. ومعلوم أنه في غاية القوة، فلم لم يهزموا جيوش المسلمين؟
قلنا: لأنه رأى في جيش المسلمين جبريل مع ألف من الملائكة، فلهذا السبب خاف وفر.
فإن قيل: فعلى هذا الطريق وجب أن ينهزم جميع جيوش المسلمين لأنه يتشبه بصورة البشر ويحضر ويعين جمع الكفار ويهزم جموع المسلمين، والحاصل: أنه إن قدر على هذا المعنى فلم لا يفعل ذلك في سائر وقائع المسلمين؟ وإن لم يقدر عليه فكيف أضفتم إليه هذا العمل في واقعة بدر؟
الجواب: لعله تعالى إنما غير صورته إلى صورة البشر في تلك الواقعة أما في سائر الوقائع فلا يفعل ذلك التغيير. السؤال الثاني: أنه تعالى لما غير صورته إلى صورة البشر فما بقي شيطانا بل صار بشرا. الجواب أن الإنسان إنما كان إنسانا بجوهر نفسه الناطقة، ونفوس الشياطين مخالفة لنفوس البشر فلم يلزم من تغيير الصورة تغيير الحقيقة، وهذا الباب أحد الدلائل السمعية على أن الإنسان ليس إنسانا بحسب بنيته الظاهرة وصورته المخصوصة.
السؤال الثالث: ما معنى قول الشيطان * (لا غالب لكم اليوم من الناس) * وما الفائدة في هذا الكلام مع أنهم كانوا كثيرين غالبين؟
والجواب: أنهم وإن كانوا كثيرين في العدد إلا أنهم كانوا يشاهدون أن دولة محمد عليه الصلاة والسلام كل يوم في الترقي والتزايد، ولأن محمدا كلما أخبر عن شيء فقد وقع فكانوا لهذا السبب خائفين جدا من قوم محمد صلى الله عليه وسلم، فذكر إبليس هذا الكلام إزالة للخوف عن قلوبهم، ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يؤمنهم من شر بني بكر بن كنانة خصوصا وقد تصور بصورة زعيم منهم، وقال: * (إني جار لكم) * والمعنى: إني إذا كنت وقومي ظهيرا لكم فلا يغلبكم أحد من الناس ومعنى الجار ههنا: الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن جاره، والعرب تقول: أنا جار لك من فلان أي حافظ من مضرته فلا يصل إليك مكروه منه.
ثم قال تعالى: * (فلما تراءت الفئتان) * أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى نكص على عقيبه، والنكوص الأحجام عن الشيء، والمعنى: رجع وقال: إني أرى مالا ترون، وفيه
175

وجوه: الأول: أنه روحاني، فرأى الملائكة فخافهم. قيل: رأى جبريل يمشي بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام. وقيل: رأى ألفا من الملائكة مردفين. الثاني: أنه رأى أثر النصرة والظفر في حق النبي عليه الصلاة والسلام، فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بلية.
ثم قال: * (إني أخاف الله) * قال قتادة صدق في قوله: * (إني أرى ما لا ترون) * وكذب في قوله: * (إني أخاف الله) * وقيل لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر فقال: ما قال إشفاقا على نفسه.
أما قوله: * (والله شديد العقاب) * فيجوز أن يكون من بقية كلام إبليس، ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله أخاف الله.
ثم قال تعالى بعده: * (والله شديد العقاب) *.
* (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إنما لم تدخل الواو في قوله: * (إذ يقول) * ودخلت في قوله: * (وإذ زين لهم) * (الأنفال: 48) لأن قوله: * (وإذ زين) * عطف على هذا التزيين على حالهم وخروجهم بطرا ورئاء، وأما هنا وهو قوله: * (إذ يقول المنافقون) * فليس فيه عطف لهذا الكلام على ما قبله بل هو كلام مبتدأ منقطع عما قبله، وعامل الإعراب في * (إذ) * فيه وجهان: الأول: التقدير والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والثاني: اذكروا إذ يقول المنافقون.
المسألة الثانية: أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج، وأما الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا. ثم إن قريشا لما خرجوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا. قال محمد بن إسحاق: ثم قتل هؤلاء جميعا مع المشركين يوم بدر. وقوله: * (غر هؤلاء دينهم) * قال ابن عباس: معناه أنه خرج بثلثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل،
176

وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم. وقيل المراد: إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم، رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت ويثابون على هذا القتل.
ثم قال تعالى: * (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) * أي ومن يسلم أمره إلى الله ويثق بفضله ويعول على إحسان الله، فإن الله حافظه وناصره، لأنه عزيز لا يغلبه شيء، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه، والرحمة والثواب إلى أوليائه:
* (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) *.
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم، والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وحده * (إذ تتوفى) * بالتاء على تأنيث لفظ الملائكة والجمع، والباقون بالياء على المعنى.
المسألة الثانية: جواب * (لو) * محذوف. والتقدير: لرأيت منظرا هائلا، وأمرا فظيعا، وعذابا شديدا.
المسألة الثالثة: * (ولو ترى) * ولو عاينت وشاهدت، لأن لو ترد المضارع إلى الماضي كما ترد إن الماضي إلى المضارع.
المسألة الرابعة: الملائكة رفعها بالفعل، ويضربون حال منهم، ويجوز أن يكون في قوله: * (يتوفى) * ضمير لله تعالى، والملائكة مرفوعة بالابتداء، ويضربون خبر.
المسألة الخامسة: قال الواحدي: معنى يتوفى الذين كفروا يقبضون أرواحهم على استيفائها وهذا يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد، وأنه هو الروح فقط؛ لأن قوله: * (يتوفى الذين كفروا) * يدل على أنه استوفى الذات الكافرة، وذلك يدل على أن الذات الكافرة هي التي استوفيت
177

من هذا الجسد، وهذا برهان ظاهر على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد، وقوله: * (يضربون وجوههم وأدبارهم) * قال ابن عباس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم، فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح، وأقول فيه معنى آخر ألطف منه، وهو أن روح الكافر إذا خرج من جسده فهو معرض عن عالم الدنيا مقبل على الآخرة، وهو لكفره لا يشاهد في عالم الآخرة إلا الظلمات، وهو لشدة حبه للجسمانيات، ومفارقته لها لا ينال من مباعدته عنها إلا الآلام والحسرات، فسبب مفارقته لعالم الدنيا تحصل له الآلام بعد الآلام والحسرات، وبسبب إقباله على الآخرة مع عدم النور والمعرفة، ينتقل من ظلمات إلى ظلمات، فهاتان الجهتان هما المراد من قوله: * (يضربون وجوههم وأدبارهم) *.
ثم قال تعالى: * (وذوقوا عذاب الحريق) * وفيه إضمار، والتقدير: ونقول ذوقوا عذاب الحريق ونظيره في القرآن كثير قال تعالى: * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا) * (البقرة: 127) أي ويقولان ربنا، وكذا قوله تعالى: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا) * (السجدة: 12) أي يقولون ربنا. قال ابن عباس: قول الملائكة لهم: * (وذوقوا عذاب الحريق) * إنما صح لأنه كان مع الملائكة مقامع، وكلما ضربوا بها التهبت النار في الأجزاء والأبعاض، فذاك قوله: * (وذوقوا عذاب الحريق) * قال الواحدي: والصحيح أن هذا تقوله الملائكة لهم في الآخرة. وأقول: أما العذاب الجسماني فحق وصدق. وأما الروحاني فحق أيضا لدلالة العقل عليه، وذلك لأنا بينا أن الجاهل إذا فارق الدنيا حصل له الحزن الشديد بسبب مفارقة الدنيا المحبوبة، والخوف الشديد بسبب تراكم الظلمات عليه في عالم الخوف والحزن. والخوف والحزن كلاهما يوجبان الحرقة الروحانية، والنار الروحانية.
ثم قال تعالى: * (ذلك بما قدمت أيديكم) * قيل هذا إخبار عن قول الملائكة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: يجوز أن يقال ذلك مبتدأ، وخبره قوله: * (بما قدمت أيديكم) * ويجوز أن يكون محل ذلك نصبا، والتقدير: فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم.
المسألة الثانية: المراد من قوله: * (ذلك) * هذا أي هذا العذاب الذي هو عذاب الحريق، حصل بسبب ما قدمت أيديكم، وذكرنا في قوله: * (ألم ذلك الكتاب) * أن معناه هذا الكتاب وهذا المعنى جائز.
المسألة الثالثة: ظاهر قوله: * (ذلك بما قدمت) * يقتضي أن فاعل هذا الفعل هو اليد، وذلك
178

ممتنع من وجوه: أحدها: أن هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم، ومحل الكفر هو القلب لا اليد. وثانيها: أن اليد ليست محلا للمعرفة والعلم، فلا يتوجه التكليف عليها، فلا يمكن إيصال العذاب إليها، فوجب حمل اليد ههنا على القدرة، وسبب هذا المجازان اليد آلة العمل والقدرة هي المؤثرة في العمل، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة.
واعلم أن التحقيق أن الإنسان جوهر واحد وهو الفعل وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع والعاصي، وهذه الأعضاء آلات له وأدوات له في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة، وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان.
المسألة الرابعة: قوله: * (بما قدمت أيديكم) * يقتضي أن ذلك العقاب كالأمر المتولد من الفعل الذي صدر عنه، وقد عرفت أن العقاب إنما يتولد من العقائد الباطلة التي يكتبها الإنسان، ومن الملكات الراسخة التي يكتسبها الإنسان، فكان هذا الكلام مطابقا للمعقول.
ثم قال تعالى: * (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في محل أن وجهان: أحدهما: النصب بنزع الخافض يعني بأن الله: والثاني: أنك إن جعلت قوله: * (ذلك) * في موضع رفع جعلت أن في موضع رفع أيضا، بمعنى وذلك أن الله قال الكسائي ولو كسرت ألف أن على الابتداء كان صوابا، وعلى هذا التقدير: يكون هذا كلاما مبتدأ منقطعا عما قبله.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: لو كان تعالى يخلق الكفر في الكافر، ثم يعذبه عليه لكان ظالما، وأيضا قوله تعالى: * (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) * يدل على أنه تعالى إنما لم يكن ظالما بهذا العذاب، لأنه قدم ما استوجب عليه هذا العذاب، وذلك يدل على أنه لو لم يصدر منه ذلك التقديم لكان الله تعالى ظالما في هذا العذاب، فلو كان الموجد للكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالما، وأيضا تدل هذه الآية على كونه قادرا على الظلم، إذ لو لم يصح منه لما كان في التمدح بنفيه فائدة.
واعلم أن هذه المسألة قد سبق ذكرها على الاستقصاء في سورة آل عمران، فلا فائدة في الإعادة. والله أعلم.
179

* (كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب * ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم * كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنآ ءال فرعون وكل كانوا ظالمين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما بين ما أنزله بأهل بدر من الكفار عاجلا وآجلا كما شرحناه أتبعه بأن بين أن هذه طريقته وسنته في الكل. فقال: * (كدأب آل فرعون) * والمعنى: عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم. فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإغراق وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال: فلان يدأب في كذا، أي يداوم عليه ويواظب ويتعب نفسه، ثم سميت العادة دأبا لأن الإنسان مداوم على عادته ومواظب عليها.
ثم قال تعالى * (إن الله قوي شديد العقاب) * والغرض منه التنبيه على أن لهم عذابا مدخرا سوى ما نزل بهم من العذاب العاجل، ثم ذكر ما يجري مجرى العلة في
العقاب الذي أنزله بهم، فقال: * (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (لم يك) * أكثر النحويين يقولون إنما حذفت النون. لأنها لم تشبه الغنة المحضة، فأشبهت حروف اللين ووقعت طرفا، فحذفت تشبيها بها كما تقول لم يدع ولم يرم ولم يل وقال الواحدي: وهذا ينتقض بقولهم لم يزن ولم يخن فلم يسمع حذف النون ههنا.
وأجاب علي بن عيسى عنه. فقال إن كان ويكون أم الأفعال من أجل أن كل فعل قد حصل
180

فيه معنى كان فقولنا ضرب معناه كان ضرب ويضرب معناه يكون ضرب، وهكذا القول في الكل فثبت أن هذه الكلمة أم الأفعال. فاحتيج إلى استعمالها في أكثر الأوقات، فاحتملت هذا الحذف بخلاف قولنا لم يخن ولم يزن، فإنه لا حاجة إلى ذكرها كثيرا فظهر الفرق. والله أعلم.
المسألة الثانية: قال القاضي: معنى الآية أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبل والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ويعدلوا عن الكفر، فإذا صرفوا هذه الأحوال إلى الفسق والكفر، فقد غيروا نعمة الله تعالى على أنفسهم، فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن قال: وهذا من أوكد ما يدل على أنه تعالى لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة، والذي يفعله لا يكون الأجزاء على معاص سلفت، ولو كان تعالى خلقهم وخلق جسمانهم وعقولهم ابتداء للنار كما يقوله القوم، لما صح ذلك، قال أصحابنا: ظاهر الآية مشعر بما قاله القاضي الإمام إلا أنا لو حملنا الآية عليه لزم أن يكون صفة الله تعالى معللة بفعل الإنسان، وذلك لأن حكم الله بذلك التغيير وإرادته لما كان لا يحصل إلا عند إتيان الإنسان بذلك الفعل، فلو لم يصدر عند ذلك الفعل لم يحصل لله تعالى ذلك الحكم وتلك الإرادة، فحينئذ يكون فعل الإنسان مؤثرا في حدوث صفة في ذات الله تعالى، ويكون الإنسان مغيرا صفة الله ومؤثرا فيها، وذلك محال في بديهة العقل، فثبت أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره، بل الحق أن صفة الله غالبة على صفات المحدثات، فلولا حكمه وقضاؤه أولا لما أمكن للعبد أن يأتي بشيء من الأفعال والأقوال.
المسألة الثالثة: أنه تعالى ذكر مرة أخرى قوله تعالى: * (كدأب آل فرعون) * ذكروا فيه وجوها كثيرة: الأول: أن الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول، لأن الكلام الأول فيه ذكر أخذهم، وفي الثاني ذكر إغراقهم وذلك تفصيل. والثاني: أنه أريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة في حال الموت، وبالثاني ما ينزل بهم في القبر في الآخرة. الثالث: أن الكلام الأول هو قوله: * (كفروا بآيات الله) * والكلام الثاني هو قوله: * (كذبوا بآيات ربهم) * فالأول إشارة إلى أنهم أنكروا الدلائل الإلهية، والثاني إشارة إلى أنه سبحانه رباهم وأنعم عليهم بالوجوه الكثيرة، فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها وتواليها عليهم، فكان الأثر اللازم من الأول هو الأخذ والأثر اللازم من الثاني هو الإهلاك والإغراق، وذلك يدل على أن لكفران النعمة أثرا عظيما في حصول الهلاك والبوار، ثم ختم تعالى الكلام بقوله: * (وكل كانوا ظالمين) * والمراد منه أنهم كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعصية، وظالمي سائر الناس بسبب الإيذاء والإيحاش، وأن الله تعالى
181

إنما هلكهم بسبب ظلمهم، وأقول في هذا المقام اللهم أهلك الظالمين وطهر وجه الأرض منهم فقد عظمت فتنتهم وكثر شرهم، ولا يقدر أحد على دفعهم إلا أنت، فادفع يا قهار يا جبار يا منتقم.
* (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) *.
اعلم أنه تعالى لما وصف كل الكفار بقوله: * (وكل كانوا ظالمين) * أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد. فقال: * (إن شر الدواب عند الله) * أي في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان:
الصفة الأولى: الكافر الذي يكون مستمرا على كفره مصرا عليه لا يتغير عنه البتة.
الصفة الثانية: أن يكون ناقضا للعهد على الدوام فقوله: * (الذين عاهدت منهم) * بدل من قوله: * (الذين كفروا) * أي الذين عاهدت من الذين كفروا وهم شر الدواب وقوله: * (منهم) * لتبعيض فإن المعاهدة إنما تكون مع أشرافهم وقوله: * (ثم ينقضون عهدهم في كل مرة) * قال أهل المعاني إنما عطف المستقبل على الماضي، لبيان أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة. قال ابن عباس: هم قريظة فإنهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا: أخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه أيضا يوم الخندق، وقوله: * (وهم لا يتقون) * معناه أن عادة من رجع إلى عقل وحزم أن يتقي نقض العهد حتى يسكن الناس إلى قوله ويثقوا بكلامه، فبين تعالى أن من جمع بين الكفر الدائم وبين نقض العهد على هذا الوجه كان شر الدواب.
* (فإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين * ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) *.
اعلم أنه تعالى تارة يرشد رسوله إلى الرفق واللطف في آيات كثيرة. منها قوله: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) ومنها قوله: * (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) * (آل عمران: 159) وتارة يرشد إلى التغليظ
182

والتشديد كما في هذه الآية، وذلك لأنه تعالى لما ذكر الذين ينقضون عهدهم في كل مرة، بين ما يجب أن يعاملوا به فقال: * (فإما تثقفنهم في الحرب) * قال الليث: ثقفنا فلانا في موضع كذا، أي أخذناه وظفرنا به، والتشريد عبارة عن التفريق مع الاضطراب. يقال: شرد يشرد شرودا، وشرده تشريدا، فمعنى الآية أنك إن ظفرت في الحرب بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد فافعل بهم فعلا يفرق بهم من خلفهم. قال عطاء: تثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم، وقيل: نكل بهم تنكيلا يشرد غيرهم من ناقضي العهد * (لعلهم يذكرون) * أي لعل من خلفهم يذكرون ذلك النكال فيمنعهم ذلك عن نقض العهد، وقرأ ابن مسعود فشرذ بالذال المنقطة من فوق بمعنى ففرق وكأنه مقلوب شذر، وقرأ أبو حياة من خلفهم، والمعنى: فشرد تشريدا متلبسا بهم من خلفهم لأن أحد العسكرين إذا كسروا الثاني، فالكاسرون يعدون خلف المكسرين
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشردهم في ذلك الوقت.
وأما قوله: * (وإما تخافن من قوم خيانة) * يعني من قوم معاهدين خيانة ونكثا بأمارات ظاهرة * (فانبذ إليهم) * فاطرح إليهم العهد على طريق مستو ظاهر، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم أخبارا مكشوفا بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم، ولا تبادرهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد، فيكون ذلك خيانة منك * (إن الله لا يحب الخائنين) * في العهود وحاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بنبذ من ينقض العهد على أقبح الوجوه وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه. قال أهل العلم: آثار نقض العهد إذا ظهرت، فإما أن تظهر ظهورا محتملا أو ظهورا مقطوعا به، فإن كان الأول وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية، وذلك لأن قريظة عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله فحصل لرسول الله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب، أما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فههنا لا حاجة إلى نبذ العهد كما فعل رسول الله بأهل مكة فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم من ذمة النبي صلى الله عليه وسلم وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة. والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
في الآية مسائل:
183

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بين ما يفعل الرسول في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه وذكر أيضا ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد، بين أيضا حال من وفاته في يوم بدر وغيره، لئلا يبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية الرسول عليه الصلاة والسلام مبلغا عظيما فقال: * (لا تحسبن الذين كفروا سبقوا) * والمعنى: أنهم لما سبقوا فقد فاتوك ولم تقدر على إنزال ما يستحقونه بهم، ثم ههنا قولان: الأول: أن المراد ولا تحسبن أنهم انفلتوا منك، فإن الله يظفرك بعيرهم. والثاني: لا تحسبن أنهم لما تخلصوا من الأسر والقتل أنهم قد تخلصوا من عقاب الله ومن عذاب الآخرة * (إنهم لا يعجزون) * أي أنهم بهذا السبق لا يعجزون الله من الانتقام منهم والمقصود تسلية الرسول فيمن فاته ولم يتمكن من التشفي والانتقام منه.
المسألة الثانية: قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم " لا يحسبن " بالياء المنقطة من تحت، وفي تصحيحه ثلاثة أوجه: الأول: قال الزجاج: ولا يحسبن الذين كفروا أن يسبقونا، لأنها في حرف ابن مسعود أنهم سبقونا فإذا كان الأمر كذلك فهي بمنزلة قولك حسبت أن أقوم، وحسبت أقوم وحذف أن كثير في القرآن قال تعالى: * (قل أفغير الله تأمروني أعبد) * (الزمر: 64) والمعنى: أن أعبد. الثاني: أن نضمر فاعلا للحسبان ونجعل الذين كفروا المفعول الأول، والتقدير: ولا يحسبن أحد الذين كفروا. والثالث: قال أبو علي: ويجوز أيضا أن يضمر المفعول الأول، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا أو إياهم سبقوا، وأما أكثر القراء فقرؤا * (ولا تحسبن) * بالتاء المنقطة من فوق على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والذين كفروا المفعول الأول وسبقوا المفعول الثاني وموضعه نصب والمعنى: ولا تحسبن الذين كفروا سابقين.
المسألة الثالثة: أكثر القراء على كسر * (إن) * في قوله: * (إنهم لا يعجزن) * وهو الوجه لأنه ابتداء كلام غير متصل بالأول كقوله: * (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) * وتم الكلام ثم قال: * (ساء ما يحكمون) * فكما أن قوله: * (ساء ما يحكمون) * منقطع من الجملة التي قبلها، كذلك قوله: * (إنهم لا يعجزون) * وقرأ ابن عامر * (أنهم) * بفتح الألف، وجعله متعلقا بالجملة الأولى، وفيه وجهان: الأول: التقدير لا تحسبنهم سبقوا، لأنهم لا يفوتون فهم يجزون على كفرهم. الثاني: قال أبو عبيد: يجعل * (لا) * صلة، والتقدير: لا تحسبن أنهم يعجزون.
184

* (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شىء فى سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما أوجب على رسوله أن يشرد من صدر منه نقض العهد، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النقض، أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار. قيل: إنه لما اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم الله أن لا يعودوا لمثله وأن يعدوا للكفار ما يمكنهم من آلة وعدة وقوة، والمراد بالقوة ههنا: ما يكون سببا لحصول القوة وذكروا فيه وجوها: الأول: المراد من القوة أنواع الأسلحة. الثاني: روي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر وقال: " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثا. الثالث: قال بعضهم: القوة هي الحصون. الرابع: قال أصحاب المعاني الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة. وقوله عليه الصلاة والسلام: " القوة هي الرمي " لا ينفي كون غير الرمي معتبرا، كما أن قوله عليه الصلاة والسلام: " الحج عرفة " و " الندم توبة " لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا ههنا، وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي فريضة، إلا أنه من فروض الكفايات. وقوله: * (ومن رباط الخيل) الرباط المرابطة أو جمع ربيط، كفصال وفصيل، ولا شك أن ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد. روي أن رجلا قال لابن سيرين: إن فلانا أوصى بثلث ماله للحصون. فقال ابن سيرين: يشتري به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزى عليها، فقال الرجل إنما أوصى للحصون، فقال هي الخيل ألم تسمع قول الشاعر: ولقد علمت على تجنبي الردى * إن الحصون الخيل لا مدر القرى
قال عكرمة: ومن رباط الخيل الإناث وهو قول الفراء، ووجه هذا القول أن العرب تسمي الخيل إذا ربطت في الأفنية وعلفت ربطا واحدها ربيط، ويجمع ربط على رباط وهو جمع الجمع،
185

فمعنى الرباط ههنا، الخيل المربوط في سبيل الله، وفسر بالإناث لأنها أولى ما يربط لتناسلها ونمائها بأولادها، فارتباطها أولى من ارتباط الفحول، هذا ما ذكره الواحدي.
ولقائل أن يقول: بل حمل هذا اللفظ على الفحول أولى، لأن المقصود من رباط الخيل المحاربة عليها، ولا شك أن الفحول أقوى على الكر والفر والعدو، فكانت المحاربة عليها أسهل، فوجب تخصيص هذا اللفظ بها، ولما وقع التعارض بين هذين الوجهين وجب حمل اللفظ على مفهومه الأصلي، وهو كونه خيلا مربوطا، سواء كان من الفحول أو من الإناث، ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء. فقال: * (ترهبون به عدو الله وعدوكم) * وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وذلك الخوف يفيد أمورا كثيرة: أولها: أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام. وثانيها: أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية. وثالثها: أنه ربما صار ذلك داعيا لهم إلى الإيمان. ورابعها: أنهم لا يعينون سائر الكفار. وخامسها: أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام.
ثم قال تعالى: * (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) * والمراد أن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء، كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، ثم فيه وجوه: الأول: وهو الأصح أنهم هم المنافقون، والمعنى: أن تكثير أسباب الغزو كما يوجب رهبة الكفار فكذلك يوجب رهبة المنافقين.
فإن قيل: المنافقون لا يخافون القتال فكيف يوجب ما ذكرتموه الإرهاب؟
قلنا: هذا الإرهاب من وجهين: الأول: أنهم إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأدواتهم انقطع عنهم طمعهم من أن يصيروا مغلوبين، وذلك يحملهم على أن يتركوا الكفر في قلوبهم وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان، والثاني: أن المنافق من عادته أن يتربص ظهور الآفات ويحتال في إلقاء الإفساد والتفريق فيما بين المسلمين، فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم وترك هذه الأفعال المذمومة.
والقول الثاني: في هذا الباب ما رواه ابن جريج عن سليمان بن موسى قال: المراد كفار الجن. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: * (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) * فقال إنهم الجن. ثم قال: " إن الشيطان لا يخبل أحدا في دار فيها فرس عتيق " وقال الحسن: صهيل الفرس يرهب الجن، وهذا القول مشكل، لأن تكثير آلات الجهاد لا يعقل تأثيره في إرهاب الجن.
والقول الثالث: أن المسلم كما يعاديه الكافر، فكذلك قد يعاديه المسلم أيضا، فإذا كان قوي
186

الحال كثير السلاح، فكما يخافه أعداؤه من الكفار، فكذلك يخافه كل من يعاديه مسلما كان أو كافرا.
ثم إنه تعالى قال: * (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله) * وهو عام في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات * (يوف إليكم) * قال ابن عباس: يوف لكم أجره، أي لا يضيع في الآخرة أجره، ويعجل الله عوضه في الدنيا * (وأنتم لا تظلمون) * أي لا تنقصون من الثواب، ولما ذكر ابن عباس هذا التفسير تلا قوله تعالى: * (آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) * (الكهف: 33).
* (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) *.
واعلم أنه لما بين ما يرهب به العدو من القوة والاستظهار، بين بعده أنهم عند الإرهاب إذا جنحوا أي مالوا إلى الصلح، فالحكم قبول الصلح. قال النضر: جنح الرجل إلى فلان، وأجنح له إذا تابعه وخضع له، والمعنى: إن مالوا إلى الصلح فمل إليه وأنث الهاء في لها، لأنه قصد بها قصد الفعلة والجنحة كقوله: * (إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * أراد من بعد فعلتهم. قال صاحب " الكشاف ": السلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب. قال الشاعر:
السلم تأخذ منها ما رضيت به * والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
وقرأ أبو بكر عن عاصم للسلم بكسر السين، والباقون بالفتح وهما لغتان. قال قتادة هذه الآية منسوخة بقوله: * (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * (التوبة: 5) وقوله: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) * (التوبة: 29) وقال بعضهم الآية غير منسوخة لكنها تضمنت الأمر بالصلح إذا كان الصلاح فيه، فإذا رأى مصالحتهم فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة، وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم للمسلمين عشر سنين ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه هادن أهل مكة عشر سنين، ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة.
أما قوله تعالى: * (وتوكل على الله) * فالمعنى فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عونا لك على السلامة، ولكي ينصرك عليهم إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء، ولذلك قال: * (إنه هو السميع العليم) * تنبيها بذلك على الزجر عن نقض الصلح، لأنه عالم بما يضمره العباد، وسامع لما
187

يقولون. قال مجاهد الآية نزلت في قريظة والنضير. وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها. والله أعلم.
* (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الارض جميعا مآ ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) *.
اعلم أنه تعالى لما أمر في الآية المتقدمة بالصلح، ذكر في هذه الآية حكما من أحكام الصلح وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة، وجب قبول ذلك الصلح، لأن الحكم يبنى على الظاهر لأن الصلح لا يكون أقوى حالا من الإيمان، فلما بنينا أمر الإيمان عن الظاهر لا على الباطن، فههنا أولى ولذلك قال: * (وإن يريدوا) *
المراد من تقدم ذكره في قوله: * (وإن جنحوا للسلم) *.
فإن قيل: أليس قال: * (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم) * أي أظهر نقض ذلك العهد، وهذا يناقض ما ذكره في هذه الآية؟
قلنا: قوله: * (وإما تخافن من قوم خيانة) * محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير، إلا أنه لم تظهر أمارات تدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة، بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسألة وترك المنازعة، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك. قال: * (فإن حسبك الله) * أي فالله يكفيك، وهو حسبك وسواء قولك هذا يكفيني، وهذا حسبي. هو الذي أيدك بنصره. قال المفسرون: يرد قواك وأعانك بنصره يوم بدر، وأقول هذا التقييد خطأ لأن أمر النبي عليه السلام من أول حياته إلى آخر وقت وفاته، ساعة فساعة. كان أمرا إلهيا وتدبيرا علويا، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل، ثم قال: * (وبالمؤمنين) * قال ابن عباس: يعني الأنصار.
فإن قيل: لما قال: * (هو الذي أيدك بنصره) * فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين، حتى قال: * (وبالمؤمنين) *.
188

قلنا: التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين: أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة. والثاني: ما يحصل بواسطة أسباب معلومة معتادة. فالأول: هو المراد من قوله أيدك بنصره، والثاني: هو المراد من قوله: * (وبالمؤمنين) * ثم إنه تعالى بين أنه كيف أيده بالمؤمنين. فقال: * (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى قوم أنفتهم شديدة وحميتهم عظيمة حتى لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصارا، وعادوا أعوانا. وقيل هم الأوس والخزرج، فإن الخصومة كانت بينهم شديدة والمحاربة دائمة، ثم زالت الضغائن، وحصلت الألفة والمحبة، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية والمخالصة التامة مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات والكرامات كلها من خلق الله تعالى، وذلك لأن تلك الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام. فلو كان الإيمان فعلا للعبد لا فعلا لله تعالى، لكانت المحبة المرتبة عليه فعلا للعبد لا فعلا لله تعالى، وذلك على خلاف صريح الآية. قال القاضي: لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة، لما حصلت هذه الأحوال، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى على هذا التأويل، ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه، لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته، فكذا ههنا.
والجواب: كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر وحمل للكلام على المجاز، وأيضا كل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكفار، مثل حصولها في حق المؤمنين، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة، وأيضا فالبرهان العقلي مقو لظاهر هذه الآية، وذلك لأن القلب يصح أن يصير موصوفا بالرغبة بدلا عن النفرة وبالعكس، فرجحان أحد الطرفين على الآخر لا بد له من مرجح، فإن كان ذلك المرجح هو العبد عاد التقسيم، وإن كان هو الله تعالى، فهو المقصود، فعلم أن صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي في هذا الباب.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أن القوم كانوا قبل شروعهم في الإسلام ومتابعة الرسول
189

في الخصومة الدائمة والمحاربة الشديدة يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على البعض، فلما آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر. زالت الخصومات، وارتفعت الخشونات، وحصلت المودة التامة والمحبة الشديدة.
واعلم أن التحقيق في هذا الباب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير وكمال، فالمحبة حالة معللة بهذا التصور المخصوص، فمتى كان هذا التصور حاصلا كانت المحبة حاصلة، ومتى حصل تصوير الشر والبغضاء: كانت النفرة حاصلة، ثم إن الخيرات والكمالات على قسمين: أحدهما: الخيرات والكمالات الباقية الدائمة، المبرأة عن جهات التغيير والتبديل، وذلك هو الكمالات الروحانية والسعادات الإلهية. والثاني: وهو الكمالات المتبدلة المتغيرة، وهي الكمالات الجسمانية والسعادات البدنية، فإنها سريعة التغيير والتبدل، كالزئبق ينتقل من حال إلى حال، فالإنسان يتصور أن له في صحبة زيد مالا عظيما فيحبه، ثم يخطر بباله أن ذلك المال لا يحصل فيبغضه، ولذلك قيل إن العاشق والمعشوق ربما حصلت الرغبة والنفرة بينهما في اليوم الواحد مرارا لأن المعشوق إنما يريد العاشق لماله، والعاشق إنما يريد المعشوق لأجل اللذة الجسمانية، وهذان الأمران مستعدان للتغير والانتقال، فلا جرم كانت المحبة الحاصلة بينهما والعداوة الحاصلة بينهما غير باقيتين بل كانتا سريعتي لزوال والانتقال.
إذا عرفت هذا فنقول: الموجب للمحبة والمودة، إن كان طلب الخيرات الدنيوية والسعادات الجسمانية كانت تلك المحبة سريعة الزوال والانتقال، لأجل أن المحبة تابعة لتصور الكمال، وتصور الكمال تابع لحصول ذلك الكمال، فإذا كان ذلك الكمال سريع الزوال والانتقال، كانت معلولاته سريعة التبدل والزوال، وأما إن كان الموجب للمحبة تصور الكمالات الباقية المقدسة عن التغير والزوال، كانت تلك المحبة أيضا باقية آمنة من التغير، لأن حال المعلول في البقاء والتبدل تبع لحالة العلة، وهذا هو المراد من قوله تعالى: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * (الزخرف: 67).
إذا عرفت هذا فنقول: العرب كانوا قبل مقدم الرسول طالبين للمال والجاه والمفاخرة، وكانت محبتهم معللة بهذه العلة، فلا جرم كانت تلك المحبة سريعة الزوال، وكانوا بأدنى سبب يقعون في الحروب والفتن، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، زالت
الخصومة والخشونة عنهم. وعادوا إخوانا متوافقين، ثم بعد وفاته عليه السلام لما انفتحت عليهم أبواب الدنيا وتوجهوا إلى طلبها عادوا إلى محاربة بعضهم بعضا، ومقاتلة بعضهم مع بعض، فهذا هو السبب الحقيقي في هذا الباب ثم إنه تعالى ختم هذه الآية
190

بقوله: * (إنه عزيز حكيم) * أي قادر قاهر، يمكنه التصرف في القلوب. ويقلبها من العداوة إلى الصداقة، ومن النفرة إلى الرغبة، حكيم بفعل ما يفعله على وجه الإحكام والإتقان. أو مطابقا للمصلحة والصواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر.
* (يا أيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين * يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) *.
اعلم أنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء. وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقا على جميع التقديرات وعلى هذا الوجه لا يلزم حصول التكرار، لأن المعنى في الآية الأولى، إن أرادوا خداعك كفاك الله أمرهم. والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال والمراد بقوله: * (ومن اتبعك من المؤمنين) * الأنصار وعن ابن عباس رضي الله عنهما، نزلت في إسلام عمر، قال سعيد بن جبير أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، ثم أسلم عمر، فنزلت هذه الآية. قال المفسرون: فعلى هذا القول هذه الآية مكية، كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الآية قولان: الأول: التقدير، الله كافيك وكافي أتباعك من المؤمنين. قال الفراء: الكاف في حسبك خفض و * (من) * في موضع نصب والمعنى: يكفيك الله ويكفي من اتبعك، قال الشاعر: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا * فحسبك والضحاك سيف مهند
قال وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا حسبك وأخاك، بل المعتاد أن يقال حسبك وحسب أخيك. والثاني: أن يكون المعنى كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين. قال الفراء وهذا أحسن الوجهين، أي ويمكن أن ينصر القول الأول بأن من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله أو ينقص بسبب نصرة غير الله، وأيضا إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أن الواحد من ذلك المجموع لا يكفي في حصول ذلك المهم. وتعالى الله عنه ويمكن أن يجاب عنه بأن الكل من الله، إلا أن
191

من أنواع النصرة ما لا يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة، ومنها ما يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة. فلهذا الفرق اعتبر نصرة المؤمنين، ثم بين أنه تعالى وإن كان يكفيك بنصره وبنصر المؤمنين، فليس من الواجب أن تتكل على ذلك إلا بشرط أن تحرض المؤمنين على القتال فإنه تعالى إنما يكفيك بالكفاية بشرط أن يحصل منهم بذل النفس والمال في المجاهدة. فقال: * (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) * والتحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء، وذكر الزجاج في اشتقاقه وجها آخر بعيدا، فقال: التحريض في اللغة أن يحث الإنسان غيره على شيء حثا يعلم منه أنه إن تخلف عنه كان حارضا، والحارض الذي قارب الهلاك، أشار بهذا إلى أن المؤمنين لو تخلفوا عن القتال بعد حث النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا حارضين، أي هالكين. فعنده التحريض مشتق من لفظ الحارض والحرض.
ثم قال: * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) * وليس المراد منه الخبر بل المراد الأمر كأنه قال: * (إن يكن منكم عشرون) * فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى * (يغلبوا مائتين) * والذي يدل على أنه ليس المراد من هذا الكلام الخبر وجوه: الأول: لو كان المراد منه الخبر، لزم أن يقال: إنه لم يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين، ومعلوم أنه باطل. الثاني: أنه قال * (الآن خفف الله عنكم) * (الأنفال: 66) والنسخ أليق بالأمر منه بالخبر. الثالث: قوله من بعد: * (والله مع الصابرين) * (الأنفال: 66) وذلك ترغيبا في الثبات على الجهاد، فثبت أن المراد من هذا الكلام هو الأمر وإن كان واردا بلفظ الخبر، وهو كقوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * (البقرة: 233) * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن) * (البقرة: 228) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (إن يكن منكم عشرون صابرون) * يدل على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابرا قاهرا على ذلك، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء؛ منها: أن يكون شديد الأعضاء قويا جلدا، ومنها: أن يكون قوي القلب شجاعا غير جبان، ومنها: أن يكون غير منحرف إلا لقتال أو متحيزا إلى فئة، فإن الله استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدمة فعند حصول هذه الشرائط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة.
واعلم أن هذا التكليف إنما حسن لأنه مسبوق بقوله تعالى: * (حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلا لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه.
المسألة الثانية: قوله: * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة
192

يغلبوا ألفا من الذين كفروا) * حاصله وجوب ثبات الواحد في مقابلة العشرة، فما الفائدة في العدول عن هذه اللفظة الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة؟
وجوابه أن هذا الكلام إنما ورد على وفق الواقعة، وكان رسول الله يبعث السرايا، والغالب أن تلك السرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين وما كانت تزيد على المائة، فلهذا المعنى ذكر الله هذين العددين.
المسألة الثالثة: قرأ نافع وابن كثير وابن عامر * (إن تكن) * بالتاء، وكذلك الذي بعده * (وإن تكن منكم مائة صابرة) * وقرأ أبو عمرو الأول بالياء والثاني بالتاء والباقون بالياء فيهما.
المسألة الرابعة: أنه تعالى بين العلة في هذه الغلبة، وهو قوله: * (بأنهم قوم لا يفقهون) * وتقرير هذا الكلام من وجوه:
الوجه الأول: أن من لا يؤمن بالله ولا يؤمن بالمعاد، فإن غاية السعادة والبهجة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية. ومن كان هذا معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا
يعرضها للزوال، أما من اعتقد أنه لا سعادة في هذه الحياة وأن السعادة لا تحصل إلا في الدار الآخرة فإنه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها ولا يقيم لها وزنا، فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح، ومتى كان الأمر كذلك، كان الواحد من هذا الباب يقاوم العدد الكثير من الباب الأول.
الوجه الثاني: أن الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم، والمسلمون يستعينون بربهم بالدعاء والتضرع، ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق وأولى.
الوجه الثالث: وهو وجه لا يعرفه إلا أصحاب الرياضات والمكاشفات، وهو أن كل قلب اختص بالعلم والمعرفة كان صاحبه مهيبا عند الخلق، ولذلك إذا حضر الرجل العالم عند عالم من الناس الأقوياء الجهال الأشداء، فإن أولئك الأقوياء الأشداء الجهال يهابون ذلك العالم ويحترمونه ويخدمونه، بل نقول: إن السباع القوية إذا رأت الآدمي هابته وانحرفت عنه، وما ذاك إلا أن الآدمي بسبب ما فيه من نور العقل يكون مهيبا، وأيضا الرجل الحكيم إذا استولى على قلبه نور معرفة الله تعالى، فإنه تقوى أعضاؤه وتشتد جوارحه، وربما قوي عند ظهور التجلي في قلبه على أعمال يعجز عنها قبل ذلك الوقت. إذا عرفت هذا فالمؤمن إذا أقدم على الجهاد فكأنه بذل نفسه وماله في طلب رضوان الله. فكان في هذه الحالة كالمشاهد لنور جلال الله فيقوى قلبه وتكمل روحه ويقدر على ما لا يقدر غيره عليه، فهذه أحوال من باب المكاشفات تدل على أن المؤمن يجب أن يكون أقوى قوة من الكافر
193

فإن لم يحصل فذاك لأن ظهور هذا التجلي لا يحصل إلا نادرا وللفرد بعد الفرد. والله أعلم.
* (الان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث العشرة إلى وجه المائة، بعث حمزة في ثلاثين راكبا قبل بدر إلى قوم فلقيهم أبو جهل في ثلثمائة راكب وأرادوا قتالهم، فمنعهم حمزة وبعث رسول الله عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذلي وكان في جماعة، فابتدر عبد الله وقال: يا رسول الله صفه لي، فقال: " إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة وقد بلغني أنه جمع لي فاخرج إليه واقتله " قال: فخرجت نحوه فلما دنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي: من الرجل؟ قلت له من العرب سمعت بك وبجمعك؟ ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت أني قتلته. فأعطاني عصا وقال: " أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة " ثم إن هذا التكليف شق على المسلمين فأزاله الله عنهم بهذه الآية قال عطاء عن ابن عباس: لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون، وقالوا: يا رب نحن جياع وعدونا شباع، ونحن في غربة وعدونا في أهليهم، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا وأولادنا وعدونا ليس كذلك، وقال الأنصار: شغلنا بعدونا وواسينا إخواننا، فنزل التخفيف، وقال عكرمة: إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة، والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين، فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم، ولهذا قال ابن عباس: أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر، والحاصل أن الجمهور ادعوا أن قوله: * (الآن خفف الله عنكم) * ناسخ للآية المتقدمة وأنكر أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ، وتقرير قوله أن يقال: إنه تعالى قال في الآية الأولى: * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) * فهب أنا نحمل هذا الخبر على الأمر إلا أن هذا الأمر
194

كان مشروطا بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين، وقوله: * (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) * يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء، فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص، وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة.
فإن قالوا: قوله: * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) * معناه: ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم.
قلنا: لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين، فليشتغلوا بجهادهم؟ والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر خالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر، أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره، وتقديره إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم، وعلى هذا التقدير فلا نسخ.
فإن قالوا: قوله: * (الآن خفف الله عنكم) * مشعر بأن هذا التكليف كان متوجها عليهم قبل هذا التكليف.
قلنا: لا نسلم أن لفظ التخفيف يدل على حصول التثقيل قبله، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام، كقوله تعالى عند الرخصة للحر في نكاح الأمة * (يريد الله أن يخفف عنكم) * (النساء: 28) وليس هناك نسخ وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر، فكذا ههنا. وتحقيق القول أن هؤلاء العشرين كانوا في محل أن يقال إن ذلك الشرط حاصل فيهم، فكان ذلك التكليف لازما عليهم، فلما بين الله أن ذلك الشرط غير حاصل وأنه تعالى علم أن فيهم ضعفاء لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف، فصح أن يقال خفف الله عنكم، ومما يدل على عدم النسخ أنه تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى، وجعل الناسخ مقارنا للمنسوخ لا يجوز.
فإن قالوا: العبرة في الناسخ والمنسوخ بالنزول دون التلاوة فإنها قد تتقدم وقد تتأخر، ألا ترى أن في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ.
قلنا: لما كان كون الناسخ مقارنا للمنسوخ غير جائز في الوجود، وجب أن لا يكون جائزا في الذكر، اللهم إلا لدليل قاهر وأنتم ما ذكرتم ذلك، وأما قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ فنقول: إن أبا مسلم ينكر كل أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه؟ فهذا تقرير قول أبي مسلم. وأقول: إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليه، فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول: قول أبي مسلم صحيح حسن.
المسألة الثانية: احتج هشام على قوله إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها بقوله:
195

* (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) * قال: فإن معنى الآية: الآن علم الله أن فيكم ضعفا وهذا يقتضي أن علمه بضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت. والمتكلمون أجابوا بأن معنى الآية: أنه تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حاصلا واقعا، بل يعلم منه أنه سيحدث، أما عند حدوثه ووقوعه فإن يعلمه حادثا واقعا، فقوله: * (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) * معنا: أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله، وقبل ذلك فقد كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع أو سيحدث.
المسألة الثالثة: قرأ عاصم وحمزة * (علم أن فيكم ضعفا) * بفتح الضاد وفي الروم مثله، والباقون فيهما بالضم، وهما لغتان صحيحتان، الضعف والضعف كالمكث والمكث. وخالف حفص عاصما في هذا الحرف وقرأهما بالضم وقال: ما خالفت عاصما في شيء من القرآن إلا في هذا الحرف.
المسألة الرابعة: الذي استقر حكم التكليف عليه بمقتضى هذه الآية أن كل مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء مشركين، عبدا كان أو حرا فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل به، فإن لم يبق معه سلاح فله أن ينهزم، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمة والصبر أحسن. روى الواحدي في " البسيط " أنه وقف جيش موتة وهم ثلاثة آلاف وأمراؤهم على التعاقب زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة في مقابلة مائتي ألف من المشركين، مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة وهم لخم وجذام.
المسألة الخامسة: قوله: * (بإذن الله) * فيه بيان أنه لا تقع الغلبة إلا بإذن الله. والإذن ههنا هو الإرادة. وذلك يدل على قولنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات.
واعلم أنه تعالى ختم الآية بقوله: * (والله مع الصابرين) * والمراد ما ذكره في الآية الأولى من قوله: * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) * (الأنفال: 65) فبين في آخر هذه الآية أن الله مع الصابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا فإن نصرتي معهم وتوفيقي مقارن لهم، وذلك يدل على صحة مذهب أبي مسلم وهو أن ذلك الحكم ما صار منسوخا بل هو ثابت كما كان، فإن العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين بقي ذلك الحكم، وإن لم يقدروا على مصابرتهم فالحكم المذكور ههنا زائل.
* (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله
196

يريد الاخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيمآ أخذتم عذاب عظيم * فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم) *.
واعلم أن المقصود من هذه الآية تعليم حكم آخر من أحكام الغزو والجهاد في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمر * (وتكون) * بالتاء والباقون بالياء، أما قراءة أبي عمرو بالتاء فعلى لفظ الأسرى، لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير للرجال فهو مؤنث اللفظ، وأما القراءة بالياء فلأن الفعل متقدم، والأسرى مذكورون في المعنى، وقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل وكل واحد من هذه الثلاثة إذا انفرد أوجب تذكير الفعل كقولك جاء الرجال وحضر قبيلتك وحضر القاضي امرأة. فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان التذكير أولى. وقال صاحب " الكشاف ": قرىء للنبي صلى الله عليه وسلم على التعريف و * (أسارى) * و * (يثخن) * بالتشديد.
المسألة الثانية: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بسبعين أسيرا فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال: قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك، فقام عمر وقال: كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم. فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء. فمكن عليا من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان ينسب له فنضرب أعناقهم. فقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال * (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) * (إبراهيم: 36) ومثل عيسى في قوله: * (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) * (المائدة: 118) ومثلك يا عمر مثل نوح * (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * (نوح: 26) ومثل موسى حيث قال: * (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) * (يونس: 88) ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر. روي أنه قال لعمر يا أبا حفص وذلك أول ما كناه، تأمرني أن أقتل العباس، فجعل عمر يقول: ويل لعمر ثكلته أمه، وروي أن عبد الله بن رواحة أشار بأن تضرم عليهم نار كثيرة الحطب فقال له العباس قطعت رحمك. وروي
197

أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا تخرجوا أحدا منهم إلا بفداء أو بضرب العنق " فقال ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد خوفي. ثم قال من بعد: " إلا سهيل بن بيضاء " وعن عبيدة السلماني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقوم: " إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم " فقالوا: بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد. وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية، وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهما أو ستة دنانير. وروي أنهم أخذوا الفداء نزلت هذه الآية فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال: يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت، فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه - ولو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ. هذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية.
المسألة الثالثة: تمسك الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه:
الوجه الأول: أن قوله تعالى: * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) * صريح في أن هذا المعنى منهي عنه، وممنوع من قبل الله تعالى. ثم إن هذا المعنى قد حصل،
ويدل عليه وجهان: الأول: قوله تعالى بعد هذه الآية: * (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) * (الأنفال: 70) الثاني: أن الرواية التي ذكرناها قد دلت على أنه عليه الصلاة والسلام ما قتل أولئك الكفار، بل أسرهم، فكان الذنب لازما من هذا الوجه.
الوجه الثاني: أنه تعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام وجميع قومه يوم بدر بقتل الكفار وهو قوله: * (فاضربوا فوق الإعناق واضربوا منهم كل بنان) * (الأنفال: 12) وظاهر الأمر للوجوب، فلما لم يقتلوا بل أسروا كان الأسر معصية.
الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأخذ الفداء، وكان أخذ الفداء معصية، ويدل عليه وجهان: الأول: قوله تعالى: * (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) * وأجمع المفسرون على أن المراد من عرض الدنيا ههنا هو أخذ الفداء. والثاني: قوله تعالى: * (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) * وأجمعوا على أن المراد بقوله: * (أخذتم) * ذلك الفداء.
الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بكيا، وصرح الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إنما بكى لأجل أنه حكم بأخذ الفداء، وذلك يدل على أنه ذنب.
الوجه الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العذاب قرب نزوله ولو نزل لما نجا منه إلا عمر " وذلك يدل على الذنب، فهذه جملة وجوه تمسك القوم بهذه الآية.
198

والجواب عن الوجه الذي ذكروه أولا: أن قوله: * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) * يدل على أنه كان الأسر مشروعا، ولكن بشرط سبق الإثخان في الأرض، والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد، ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقا عظيما، وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس. ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة، والآية تدل على أن بعد الإثخان يجوز الأسر فصارت هذه الآية دالة دلالة بينة على أن ذلك الأسر كان جائزا بحكم هذه الآية، فكيف يمكن التمسك بهذه الآية في أن ذلك الأسر كان ذنبا ومعصية؟ ويتأكد هذا الكلام بقوله تعالى: * (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) * (محمد: 4).
فإن قالوا: فعلى ما شرحتموه دلت الآية على أن ذلك الأسر كان جائزا والإتيان بالجائز المشروع لا يليق ترتيب لعقاب عليه، فلم ذكر الله بعده ما يدل على العقاب؟ فنقول: الوجه فيه أن الإثخان في الأرض ليس مضبوطا بضابط معلوم معين، بل المقصود منه إكثار القتل بحيث يوجب وقوع الرعب في قلوب الكافرين، وأن لا يجترئوا على محاربة المؤمنين، وبلوغ القتل إلى هذا الحد المعين لا شك أنه يكون مفوضا إلى الاجتهاد، فلعله غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أن ذلك القدر من القتل الذي تقدم كفى في حصول هذا المقصود، مع أنه ما كان الأمر كذلك فكان هذا خطأ واقعا في الاجتهاد في صورة ليس فيها نص، وحسنات الأبرار سيئات المقربين. فحسن ترتيب العقاب على ذكر هذا الكلام لهذا السبب، مع أن ذلك لا يكون البتة ذنبا ولا معصية.
والجواب عن الوجه الذي ذكروه ثانيا أن نقول: إن ظاهر قوله تعالى: * (فاضربوا فوق الأعناق) * أن هذا الخطاب إنما كان مع الصحابة لإجماع المسلمين على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان مأمورا أن يباشر قتل الكفار بنفسه، وإذا كان هذا الخطاب مختصا بالصحابة، فهم لما تركوا القتل وأقدموا على الأسر، كان الذنب صادرا منهم لا من الرسول صلى الله عليه وسلم. ونقل أن الصحابة لما هزموا الكفار وقتلوا منهم جمعا عظيما والكفار فروا ذهب الصحابة خلفهم وتباعدوا عن الرسول وأسروا أولئك الأقوام، ولم يعلم الرسول بإقدامهم على الأسر إلا بعد رجوع الصحابة إلى حضرته، وهو عليه السلام ما أسر وما أمر بالأسر، فزال هذا السؤال.
فإن قالوا: هب أن الأمر كذلك، لكنهم لما حملوا الأسارى إلى حضرته فلم لم يأمر بقتلهم امتثالا لقوله تعالى: * (فاضربوا فوق الأعناق) *.
قلنا: إن قوله: * (فاضربوا) * تكليف مختص بحالة الحرب عند اشتغال الكفار بالحرب، فأما بعد انقضاء الحرب فهذا التكليف ما كان متناولا له. والدليل القاطع عليه أنه عليه الصلاة والسلام استشار
199

الصحابة في أنه بماذا يعاملهم؟ ولو كان ذلك النص متناولا لتلك الحالة، لكان مع قيام النص القاطع تاركا لحكمه وطالبا ذلك الحكم من مشاورة الصحابة، وذلك محال، وأيضا فقوله: * (فاضربوا فوق الأعناق) * أمر، والأمر لا يفيد إلا المرة الواحدة، وثبت بالإجماع أن هذا المعنى كان واجبا حال المحاربة فوجب أن يبقى عديم الدلالة على ما وراء وقت المحاربة، وهذا الجواب شاف.
والجواب عما ذكروه ثالثا، وهو قولهم: إنه عليه الصلاة والسلام حكم بأخذ الفداء، وأخذ الفداء محرم. فنقول: لا نسلم أن أخذ الفداء محرم.
وأما قوله: * (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) * فنقول هذا لا يدل على قولكم، وبيانه من وجهين: الأول: أن المراد من هذه الآية حصول العتاب على الأسر لغرض أخذ الفداء، وذلك لا يدل على أن أخذ الفداء محرم مطلقا. الثاني: أن أبا بكر رضي الله عنه قال الأولى: أن نأخذ الفداء لتقوى العسكر به على الجهاد، وذلك يدل على أنهم إنما طلبوا ذلك الفداء للتقوى به على الدين، وهذه الآية تدل على ذم من طلب الفداء لمحض عرض الدنيا ولا تعلق لأحد البابين بالثاني. وهذان الجوابان بعينهما هما الجوابان عن تمسكهم بقوله تعالى: * (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) *.
والجواب عما ذكروه رابعا: أن بكاء الرسول عليه الصلاة والسلام يحتمل أن يكون لأجل أن بعض الصحابة لما خالف أمر الله في القتل، واشتغل بالأسر استوجب العذاب، فبكى الرسول عليه الصلاة والسلام خوفا من نزول العذاب عليهم، ويحتمل أيضا ما ذكرناه أنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في أن القتل الذي حصل هل بلغ مبلغ الإثخان الذي أمره الله به في قوله: * (حتى يثخن في الأرض) * ووقع الخطأ في ذلك الاجتهاد، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فأقدم على البكاء لأجل هذا المعنى.
والجواب عما ذكروه خامسا: أن ذلك العذاب إنما نزل بسبب أن أولئك الأقوام خالفوا أمر الله بالقتل، وأقدموا على الأسر حال ما وجب عليهم الاشتغال بالقتل، فهذا تمام الكلام في هذه المسألة. والله أعلم.
المسألة الرابعة: في شرح الألفاظ المشكلة في هذه الآية.
أما قوله: * (ما كان لنبي أن تكون له أسرى) * فلقائل أن يقول: كيف حسن إدخال لفظة كان على لفظة تكون في هذه الآية.
والجواب: قوله * (ما كان) * معناه النفي والتنزيه، أي ما يجب وما ينبغي أن يكون له المعنى المذكور ونظيره ما كان لله أن يتخذ من ولد قال أبو عبيدة. يقول: لم يكن لنبي ذلك، فلا يكون لك، وأما
200

من قرأ * (ما كان للنبي) * فمعناه: أن هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي، وهو محمد عليه الصلاة والسلام. قال الزجاج: * (أسرى) * جمع، و * (أسارى) * جمع الجمع. قال ولا أعلم أحدا قرأ * (أسارى) * وهي جائزة كما نقلنا عن صاحب " الكشاف ": أنه نقل أن بعضهم قرأ به وقوله: * (حتى يثخن في الأرض) * فيه بحثان:
البحث الأول: قال الواحدي: الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته، يقال: قد أثخنه المرض إذا اشتد قوة المرض عليه، وكذلك أثخنه الجراح، والثخانة الغلظة فكل شيء غليظ، فهو ثخين. فقوله: * (حتى يثخن في الأرض) * معناه حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر، ثم إن كثيرا من المفسرين. قالوا المراد منه: أن يبالغ في قتل أعدائه. قالوا وإنما حملنا اللفظ عليه لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل. قال الشاعر: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى * حتى يراق على جوانبه الدم
ولأن كثرة القتل توجب قوة الرعب وشدة المهابة، وذلك يمنع من الجراءة، ومن الإقدام على ما لا ينبغي، فلهذا السبب أمر الله تعالى بذلك.
البحث الثاني: أن كلمة * (حتى) * لانتهاء الغاية. فقوله: * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) * يدل على أن بعد حصول الإثخان في الأرض له أن يقدم على الأسر.
أما قوله: * (تريدون عرض الدنيا) * فالمراد الفداء، وإنما سمى منافع الدنيا ومتاعها عرضا، لأنه لا ثبات له ولا دوام، فكأنه يعرض ثم يزول، ولذلك سمى المتكلمون الأعراض أعراضا، لأنه لا ثبات لها كثبات الأجسام لأنها تطرأ على الأجسام، وتزول عنها مع كون الأجسام باقية، ثم قال: * (والله يريد الآخرة) * يعني أنه تعالى لا يريد ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول وإنما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الباقية الدائمة المصونة عن التبديل والزوال. واحتج الجبائي والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول: لا كائن من العبد إلا والله يريده لأن هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه، ونص الله على أنه لا يريده بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة دون ما يكون فيه عصيان.
وأجاب أهل السنة عنه بأن قالوا: إنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأسر منهم طاعة، وعملا جائزا مأذونا. ولا يلزم من نفي إرادة كون هذا الأسر طاعة، نفي كونه مراد الوجود، وأما الحكماء فإنهم يقولون الشيء مراد بالعرض مكروه بالذات.
ثم قال: * (والله عزيز حكيم) * والمراد أنكم إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم لأن الله عزيز لا يقهر
201

ولا يغلب حكيم في تدبير مصالح العالم. قال ابن عباس: هذا الحكم إنما كان يوم بدر، لأن المسلمين كانوا قليلين، فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى * (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) * (محمد: 4) وأقول إن هذا الكلام يوهم أن قوله: * (فإما منا بعد وإما فداء) * يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها، وليس الأمر كذلك لأن كلتا الآيتين متوافقتان، فإن كلتاهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان، ثم بعده أخذ الفداء.
ثم قال تعالى: * (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) *.
واعلم أنه كثر أقاويل الناس في تفسير هذا الكتاب السابق. ونحن نذكرها ونذكر ما فيها من المباحث: فالقول الأول: وهو قول سعيد بن جبير وقتادة لولا كتاب من الله سبق يا محمد بحل الغنائم لك ولأمتك، لمسكم العذاب. وهو مشكل لأن تحليل الغنائم والفداء هل كان حاصلا في ذلك الوقت، أو ما كان حاصلا في ذلك الوقت؟ فإن كان التحليل والإذن حاصلا في ذلك الوقت امتنع إنزال العذاب عليهم، لأن ما كان مأذونا فيه من قبل لم يحصل العقاب على فعله، وإن قلنا: إن الإذن ما كان حاصلا في ذلك الوقت كان ذلك الفعل حراما في ذلك الوقت أقصى ما في الباب أنه كان في علم الله أنه سيحكم بحله بعد ذلك إلا أن هذا لا يقدح في كونه حراما في ذلك الوقت.
فإن قالوا: إن كونه بحيث سيصير حلالا بعد ذلك يوجب تخفيف العقاب.
قلنا: فإذا كان الأمر كذلك امتنع إنزال العقاب بسببه، وذلك يمنع من التخويف بسبب ذلك العقاب.
القول الثاني: قال محمد بن إسحاق: * (لولا كتاب من الله سبق) * إني لا أعذب إلا بعد النهي لعذبتكم فيما صنعتم، وأنه تعالى ما نهاهم عن أخذ الفداء، وهذا أيضا ضعيف لأنا نقول حاصل هذا القول أنه ما وجد دليل شرعي يوجب حرمة ذلك الفداء، فهل حصل دليل عقلي يقتضي حرمته أم لا؟ فإن قلنا حصل، فيكون الله تعالى قد بين تحريمه بواسطة ذلك الدليل العقلي، ولا يمكن أن يقال إنه تعالى لم يبين تلك الحرمة، وإن قلنا: إنه ليس في العقل ولا في الشرع ما يقتضي المنع، فحينئذ امتنع أن يكون المنع حاصلا، وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق، وإذا لم يكن المنع حاصلا كان الإذن حاصلا، وإذا كان الإذن حاصلا، فكيف يمكن ترتيب العقاب على فعله؟
القول الثالث: قال قوم قد سبق حكم الله بأنه لا يعذب أحدا ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضا مشكل لأنه يقتضي أن يقال: إنهم ما منعوا عن الكفر والمعاصي والزنا
202

والخمر وما هددوا بترتيب العقاب على هذه القبائح، وذلك يوجب سقوط التكاليف عنهم ولا يقوله عاقل. وأيضا فلو صار كذلك، فكيف آخذهم الله تعالى في ذلك الموضع بعينه في تلك الواقعة بعينها، وكيف وجه عليهم هذا العقاب القوي؟
والقول الرابع: لولا كتاب من الله سبق في أن من أتى ذنبا بجهالة، فإنه لا يؤاخذه به لمسهم العذاب، وهذا من جنس ما سبق.
واعلم أن الناس قد أكثروا فيه، والمعتمد في هذا الباب أن نقول: أما على قولنا: فنقول: يجوز أن يعفو الله عن الكبائر. فقوله: * (لولا كتاب من الله سبق) * معناه لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم، وهذا هو المراد من قوله: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * (الأنعام: 54) ومن قوله: " سبقت رحمتي غضبي " وأما على قول المعتزلة فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر، فكان معناه * (لولا كتاب من الله سبق) * في أن من احترز عن الكبائر صارت صغائره مغفورة وإلا لمسهم عذاب عظيم، وهذا الحكم وإن كان ثابتا في حق جميع المسلمين، إلا أن طاعات أهل بدر كانت عظيمة وهو قبولهم الإسلام، وانقيادهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال: إن الثواب الذي استحقوه على هذه الطاعات كان أزيد من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب، فلا جرم صار هذا الذنب مغفورا، ولو قدرنا صدور هذا الذنب من سائر المسلمين لما صار مغفورا، فبسبب هذا القدر من التفاوت حصل لأهل بدر هذا الاختصاص.
ثم قال تعالى: * (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) * روى أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم إليها، فنزلت هذه الآية. وقيل هو إباحة الفداء.
فإن قيل: ما معنى الفاء في قوله: * (فكلوا) *.
قلنا التقدير: قد أبحت لكم الغنائم * (فكلوا مما غنمتم حلالا) * نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر، أي أكلا حلالا * (واتقوا الله إن الله غفور رحيم) * والمعنى: واتقوا الله فلا تقدموا على المعاصي بعد ذلك، واعلموا أن الله غفور ما أقدمتم عليه في الماضي من الزلة، رحيم ما أتيتم من الجرم والمعصية، فقوله: * (واتقوا الله) * إشارة إلى لمستقبل. وقوله: * (إن الله غفور رحيم) * إشارة إلى الحالة الماضية.
* (يا أيها النبى قل لمن فى أيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا
203

يؤتكم خيرا ممآ أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم * وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم) *.
اعلم أن الرسول لما أخذ الفداء من الأسارى وشق عليهم أخذ أموالهم منهم، ذكر الله هذه الآية استمالة لهم فقال: * (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في العباس، وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحرث، كان العباس أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر، فقال العباس: كنت مسلما إلا أنهم أكرهوني، فقال عليه السلام: " إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك " فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا. قال العباس: فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب علي، فقال: " أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا " قال: وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحرث، فقال العباس: تركتني يا محمد أتكفف قريشا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدري ما يصيبني، فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل " فقال العباس: وما يدريك؟ قال: " أخبرني به ربي " قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في أمرك، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب. قال العباس: فأبدلني الله خيرا من ذلك، لي الآن عشرون عبدا، وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا، وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي. وروي أنه قدم على رسول الله مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه، فأخذ ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني، وأنا أرجو المغفرة. واختلف المفسرون في أن الآية نازلة في العباس خاصة، أو في جملة الأسارى. قال قوم: إنها في العباس خاصة، وقال آخرون: إنها نزلت في الكل، وهذا أولى، لأن ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه: أحدها: قوله: * (قل لمن في أيديكم) * وثانيها: قوله: * (من الأسرى) * وثالثها: قوله: * (في قلوبكم) *
204

ورابعها: قوله: * (يؤتكم خيرا) * وخامسها: قوله: * (مما أخذ منكم) * وسادسها: قوله: * (ويغفر لكم) * فلما دلت هذه الألفاظ الستة على العموم، فما الموجب للتخصيص؟ أقصى ما في الباب أن يقال: سبب نزول الآية هو العباس، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما قوله: * (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: يجب أن يكون المراد من هذا الخير: الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف، والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي، ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول، والتوبة عن محاربته.
المسألة الثانية: احتج هشام بن الحكم على قوله: إنه تعالى لا يعلم الشيء إلا عند حدوثه بهذه الآية، لأن قوله: * (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) * فعل كذا وكذا شرط وجزاء، والشرط هو حصول هذا العلم، والشرط والجزاء لا يصح وجودهما إلا في المستقبل، وذلك يوجب حدوث علم الله تعالى.
والجواب: أن ظاهر اللفظ وإن كان يقتضي ما ذكره هشام، إلا أنه لما دل الدليل على أن علم الله يمتنع أن يكون محدثا وجب أن يقال: ذكر العلم وأراد به المعلوم من
حيث إنه يدل حصول العلم على حصول المعلوم.
أما قوله: * (يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": قرأ الحسن * (مما أخذ منكم) * على البناء للفاعل.
المسألة الثانية: للمفسرين في هذا الخير أقوال:
القول الأول: المراد: الخلف مما أخذ منهم في الدنيا. قال القاضي: لأنه تعالى عطف عليه أمر الآخرة بقوله: * (ويغفر لكم) * فما تقدم يجب أن يكون المراد منه منافع الدنيا.
ولقائل أن يقول: إن قوله: * (ويغفر لكم) * المراد منه إزالة العقاب، وعلى هذا التقدير: لم يبعد أن يكون المراد من هذا الخير المذكور أيضا الثواب والتفضل في الآخرة.
والقول الثاني: المراد من هذا الخير ثواب الآخرة، فإن قوله: * (ويغفر لكم) * المراد منه في الآخرة، فالخير الذي تقدمه يجب أيضا أن يكون في الدنيا.
والقول الثالث: أنه محمول على الكل.
فإن قيل: إذا حملتم الخير على خيرات الدنيا، فهل تقولون إن كل من أخلص من الأسارى قد آتاه الله خيرا مما أخذ منه؟
205

قلنا: هكذا يجب أن يكون بحكم الآية، إلا أنا لا نعلم من المخلص بقلبه. حتى يتوجه علينا فيه السؤال، ولا نعلم أيضا من الذي آتاه الله علما، وقد علمنا أن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر.
ثم قال: * (والله غفور رحيم) * وهو تأكيد لما مضى ذكره من قوله: * (ويغفر لكم) * والمعنى: كيف لا يفي بوعده المغفرة وأنه غفور رحيم؟
أما قوله: * (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير هذه الخيانة وجوه: الأول: أن المراد منه الخيانة في الدين وهو الكفر، يعني إن كفروا بك فقد خانوا الله من قبل. الثاني: أن المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء. الثالث: روي أنه عليه السلام لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته وإلى معاهدة المشركين، وهذا هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر، فقال تعالى: * (وإن يريدوا خيانتك) * أي نكث هذا العهد فقد خانوا الله من قبل، والمراد أنهم كانوا يقولون * (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) * (يونس: 22) * (ولئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) * (الأعراف: 189) ثم إذا وصلوا إلى النعمة وتخلصوا من البلية نكثوا العهد ونقضوا الميثاق، ولا يمنع دخول الكل فيه، وإن كان الأظهر هو هذا الأخير.
ثم قال تعالى: * (فأمكن منهم) * قال الأزهري: يقال أمكنني الأمر يمكنني فهو ممكن ومفعول الإمكان محذوف، والمعنى: فأمكن المؤمنين منهم، والمعنى أنهم خانوا الله بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر فأمكن الله منهم قتلا وأسرا، وذلك نهاية الإمكان والظفر. فنبه الله بذلك على أنهم قد ذاقوا وبال ما فعلوه ثم، فإن عادوا كان التمكين منهم ثابتا حاصلا، وفيه بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يتمكن من كل من يخونه وينقض عهده.
ثم قال: * (والله عليم) * أي ببواطنهم وضمائرهم * (حكيم) * يجازيهم بأعمالهم.
* (إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أوليآء بعض والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى
206

يهاجروا وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير * والذين كفروا بعضهم أوليآء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة فى الارض وفساد كبير * والذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم * والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شىء عليم) *.
اعلم أنه تعالى قسم المؤمنين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أربعة أقسام، وذكر حكم كل واحد منهم، وتقرير هذه القسمة أنه عليه السلام ظهرت نبوته بمكة ودعا الناس هناك إلى الدين، ثم انتقل من مكة إلى المدينة، فحين هاجر من مكة إلى المدينة صار المؤمنون على قسمين منهم من وافقه في تلك الهجرة، ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي هناك.
أما القسم الأول: فهم المهاجرون الأولون، وقد وصفهم بقول: * (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) * وإنما قلنا إن المراد منهم المهاجرون الأولون لأنه تعالى قال في آخر الآية: * (والذين آمنوا من بعد وهاجروا) * وإذا ثبت هذا ظهر أن هؤلاء موصوفون بهذه الصفات الأربعة: أولها: أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
207

وقبلوا جميع التكاليف التي بلغها محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتمردوا، فقوله: * (إن الذين) * يفيد هذا المعنى.
والصفة الثانية: قوله: * (وهاجروا) * يعني: فارقوا الأوطان، وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله، ومعلوم أن هذه الحالة حالة شديدة، قال تعالى: * (أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) * (النساء: 66) جعل مفارقة الأوطان معادلة لقتل النفس، فهؤلاء في المرتبة الأولى تركوا الأديان القديمة لطلب مرضاة الله تعالى، وفي المرتبة الثانية تركوا الأقارب والخلان والأوطان والجيران لمرضاة الله تعالى.
والصفة الثالثة: قوله: * (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) * أما المجاهدة بالمال فلأنهم لما فارقوا الأوطان فقد ضاعت دورهم ومساكنهم وضياعهم ومزارعهم، وبقيت في أيدي الأعداء، وأيضا فقد احتاجوا إلى الإنفاق الكثير بسبب تلك العزيمة، وأيضا كانوا ينفقون أموالهم على تلك الغزوات، وأما المجاهدة بالنفس فلأنهم كانوا أقدموا على محاربة بدر من غير آلة ولا أهبة ولا عدة مع الأعداء الموصوفين بالكثرة والشدة، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أنفسهم في سبيل الله.
وأما الصفة الرابعة: فهي أنهم كانوا أول الناس إقداما على هذه الأفعال والتزاما لهذه الأحوال، ولهذه السابقة أثر عظيم في تقوية الدين. قال تعالى: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) * (الحديد: 10) وقال: * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) * (التوبة: 100) وإنما كان السبق موجبا للفضيلة، لأن إقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم، فيصير ذلك سببا للقوة أو الكمال، ولهذا المعنى قال تعالى: * (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) * (المائدة: 32) وقال عليه السلام: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " ومن عادة الناس أن دواعيهم تقوى بما يرون من أمثالهم في أحوال الدين والدنيا، كما أن المحن تخف على قلوبهم بالمشاركة فيها، فثبت أن حصول هذه الصفات الأربعة للمهاجرين الأولين يدل على غاية الفضيلة ونهاية المنقبة، وأن ذلك يوجب الاعتراف بكونهم رؤساء المسلمين وسادة لهم.
وأما القسم الثاني: من المؤمنين الموجودين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم فهم الأنصار، وذلك لأنه عليه السلام لما هاجر إليهم مع طائفة من أصحابه، فلولا أنهم آووا ونصروا وبذلوا النفس والمال في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإصلاح مهمات أصحابه لما تم المقصود البتة،
208

ويجب أن يكون حال المهاجرين أعلى في الفضيلة من حال الأنصار لوجوه: أولها: أنهم هم السابقون في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل وعنوان المناقب: وثانيها: أنهم تحملوا العناء والمشقة دهرا دهيرا، وزمانا مديدا من كفار قريش وصبروا عليه، وهذه الحال ما حصلت للأنصار. وثالثها: أنهم تحملوا المضار الناشئة من مفارقة الأوطان والأهل والجيران، ولم يحصل ذلك للأنصار. ورابعها: أن فتح الباب في قبول الدين والشريعة من الرسول عليه السلام إنما حصل من المهاجرين، والأنصار اقتدوا بهم وتشبهوا بهم، وقد ذكرنا أنه عليه السلام قال: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " فوجب أن يكون المقتدى أقل مرتبة من المقتدى به، فجملة هذه الأحوال توجب تقديم المهاجرين الأولين على الأنصار في الفضل والدرجة والمنقبة، فلهذا السبب أينما ذكر الله هذين الفريقين قدم المهاجرين على الأنصار وعلى هذا الترتيب ورد ذكرهما في هذه الآية.
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذين القسمين في هذه الآية قال: * (أولئك بعضهم أولياء بعض) * واختلفوا في المراد بهذه الولاية، فنقل الواحدي عن ابن عباس والمفسرين كلهم، أن المراد هو الولاية في الميراث. وقالوا جعل الله تعالى سبب الإرث الهجرة والنصرة دون القرابة. وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر، واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى، لأن هذا اللفظ مشع بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب. ويقال: " السلطان ولي من لا ولي له " ولا يفيد الإرث وقال تعالى: * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (يونس: 62) ولا يفيد الإرث بل الولاية تفيد القرب فيمكن حمله على غير الإرث، وهو كون بعضهم معظما للبعض مهتما بشأنه مخصوصا بمعاونته ومناصرته، والمقصود أن يكونوا يدا واحدة على الأعداء، وأن يكون حب كل واحد لغيره جاريا مجرى حبسه لنفسه، وإذا كان اللفظ محتملا لهذا المعنى كان حمله على الإرث بعيدا عن دلالة اللفظ، لا سيما وهم يقولون إن ذلك الحكم صار منسوخا بقوله تعالى في آخر الآية: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) * وأي حاجة تحملنا على حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به، ثم الحكم بأنه صار منسوخا بآية أخرى مذكورة معه، هذا في غاية البعد، اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك، فحينئذ يجب المصير إليه إلا أن دعوى الإجماع بعيد.
القسم الثالث: من أقسام مؤمني زمان الرسول عليه السلام وهم المؤمنون الذين ما وافقوا الرسول في الهجرة وبقوا في مكة وهم المعنيون بقول: * (والذين آمنوا ولم يهاجروا) * فبين تعالى حكمهم
209

من وجهين: الأول: قوله: * (مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الولاية المنفية في هذه الصورة، هي الولاية المثبتة في القسم الذي تقدم، فمن حمل تلك الولاية على الإرث، زعم أن الولاية المنفية ههنا هي الإرث، ومن حمل تلك الولاية على سائر الاعتبارات المذكورة، فكذا ههنا. واحتج الذاهبون، إلى أن المراد من هذه الولاية الإرث، بأن قالوا: لا يجوز أن يكون المراد منها الولاية بمعنى النصرة والدليل عليه أنه تعالى عطف عليه قوله: * (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) * ولا شك أن ذلك عبارة عن الموالاة في الدين والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمرا مغايرا لمعنى النصرة وهذا الاستدلال ضعيف، لأنا حملنا تلك الولاية على التعظيم والإكرام وهو أمر مغاير للنصرة، ألا ترى أن الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض المهمات وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم والإجلال فسقط هذا الدليل.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (حتى يهاجروا) *.
واعلم أن قوله تعالى: * (مالكم من ولايتهم من شيء) * يوهم أنهم لما لم يهاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سقطت ولايتهم مطلقا، فأزال الله تعالى هذا الوهم بقوله: * (مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) * يعني أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية وحصلت، والمقصود منه الحمل على المهاجرة والترغيب فيها، لأن
المسلم متى سمع أن الله تعالى يقول: إن قطع المهاجرة انقطعت الولاية بينه وبين المسلمين ولو هاجر حصلت تلك الولاية وعادت على أكمل الوجوه، فلا شك أن هذا يصير مرغبا له في الهجرة، والمقصود من المهاجرة كثرة المسلمين واجتماعهم وإعانة بعضهم لبعض، وحصول الألفة الشوكة وعدم التفرقة.
المسألة الثالثة: قرأ حمزة * (من ولايتهم) * بكسر الواو، والباقون بالفتح. قال الزجاج: من فتح جعلها من النصرة والنسب. وقال: والولاية التي بمنزلة الإمارة مكسورة للفصل بين المعنيين وقد يجوز كسر الولاية لأن في تولي بعض القوم بعضا جنسا من الصناعة كالقصارة والخياطة فهي مكسورة. وقال أبو علي الفارسي: الفتح أجود، لأن الولاية ههنا من الدين والكسر في السلطان.
والحكم الثاني: من أحكام هذا القسم الثالث، قوله تعالى: * (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) *.
واعلم أنه تعالى لما بين الحكم في قطع الولاية بين تلك الطائفة من المؤمنين، بين أنه ليس المراد منه المقاطعة التامة كما في حق الكفار بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا لم استنصروكم فانصروهم
210

ولا تخذلوهم. روي أنه لما نزل قوله تعالى: * (مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) * قام الزبير وقال: فهل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا؟ فنزل * (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) *
ثم قال تعالى: * (إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) * والمعنى أنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك.
ثم قال تعالى: * (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا الترتيب الذي اعتبره الله في هذه الآية في غاية الحسن لأنه ذكر ههنا أقساما ثلاثة: فالأول: المؤمنون من المهاجرين والأنصار وهم أفضل الناس وبين أنه يجب أن يوالي بعضهم بعضا. والقسم الثاني: المؤمنون الذين لم يهاجروا فهؤلاء بسبب إيمانهم لهم فضل وكرامة وبسبب ترك الهجرة لهم حالة نازلة فوجب أن يكون حكمهم حكما متوسطا بين الإجلال والإذلال وذلك هو أن الولاية المثبتة للقسم الأول، تكون منفية عن هذا القسم، إلا أنهم يكونون بحيث لو استنصروا المؤمنين واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم. فهذا الحكم متوسط بين الإجلال والإذلال. وأما الكفار فليس لهم البتة ما يوجب شيئا من أسباب الفضيلة. فوجب كون المسلمين منقطعين عنهم من كل الوجوه فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصلة بوجه من الوجوه، فظهر أن هذا التريب في غاية الحسن.
المسألة الثانية: قال بعض العلماء: قوله: * (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) * يدل على أن الكفار في الموارثة مع اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة، فالمجوسي يرث الوثني، والنصراني يرث المجوسي، لأن الله تعالى قال: * (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) *.
واعلم أن هذا الكلام إنما يستقيم إذا حملنا الولاية على الإرث وقد سبق القول فيه، بل الحق أن يقال: إن كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلما ظهرت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم تناصروا وتعاونوا على إيذائه ومحاربته، فكان المراد من الآية ذلك. وتمام التحقيق فيه أن الجنسية علة الضم وشبيه الشيء منجذب إليه، والمشركون واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم صارت هذه الجهة موجبة لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض وذلك يدل على أنهم ما أقدموا على تلك العداوة لأجل الدين، لأن كل واحد منهم كان في نهاية الإنكار لدين صاحبه، بل كان ذلك من أدل الدلائل على أن تلك العداوة لمحض الحسد والبغي والعناد.
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحكام قال: * (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) * والمعنى: إن لم تفعلوا ما أمرتكم به في هذه التفاصيل المذكورة المتقدمة تحصل فتنة في الأرض
211

ومفسدة عظيمة، وبيان هذه الفتنة والفساد من وجوه: الأول: أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم، وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم، فربما صارت تلك المخالطة سببا لالتحاق المسلم بالكفار. الثاني: أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم، فيصير ذلك سببا لجراءة الكفار عليهم. الثالث: أنه إذا كان جمع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدة والعدة، صار ذلك سببا لمزيد رغبتهم فيما هم فيه ورغبة المخالف في الالتحاق بهم.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا القسم الثالث، عاد إلى ذكر القسم الأول والثاني مرة أخرى فقال: * (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا فلم مغفرة ورزق كريم) *.
واعلم أن هذا ليس بتكرار وذلك لأنه تعالى ذكرهم أولا ليبين حكمهم وهو ولاية بعضهم بعضا، ثم إنه تعالى ذكرهم ههنا لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم، وبيانه من وجهين: الأول: أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم وذلك يدل على الشرف التعظيم. والثاني: وهو أنه تعالى أثنى عليهم ههنا من ثلاثة أوجه: أولها: قوله: * (أولئك هم المؤمنون حقا) * فقوله: * (أولئك هم المؤمنون) * يفيد الحصر وقوله: * (حقا) * يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، والأمر في الحقيقة كذلك، لأن من لم يكن محقا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن ولم يبذل النفس والمال ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين. وثانيها: قوله: * (لهم مغفرة) * وتنكير لفظ المغفرة يدل على الكمال كما أن التنكير في قوله: * (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) * (البقرة: 96) يدل على كمال تلك الحياة، والمعنى: لهم مغفرة تامة كاملة عن جميع الذنوب والتبعات. وثالثها: قوله: * (ورزق كريم) * والمراد منه الثواب الرفيع الشريف. والحاصل: أنه تعالى شرح حالهم في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فقد وصفهم بقوله: * (أولئك هم المؤمنون حقا) * وأما في الآخرة فالمقصود إما دفع العقاب، وإما جلب الثواب، أما دفع العقاب فهو المراد بقوله: * (لهم مغفرة) * وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله: * (ورزق كريم) * وهذه السعادات العالية
إنما حصلت لأنهم أعرضوا عن اللذات الجسمانية، فتركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال، وذلك تنبيه على أنه لا طريق إلى تحصيل السعادات إلا بالإعراض عن هذه الجسمانيات.
القسم الرابع: من مؤمني زمان محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة إلا أنهم بعد ذلك هاجروا إليه، وهو المراد من قوله تعالى: * (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) * وفيه مسائل:
212

المسألة الأولى: اختلفوا في المراد من قوله تعالى: * (من بعد) * نقل الواحدي عن ابن عباس: بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية، وقيل بعد نزول هذه الآية، وقيل: بعد يوم بدر، والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى، وهؤلاء هم التابعون بإحسان كما قال: * (والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) * (التوبة: 100).
المسألة الثانية: الأصح أن الهجرة انقطعت بفتح مكة لأن عنده صارت مكة بلد الإسلام وقال الحسن: الهجرة غير منقطعة أبدا، وأما قوله عليه السلام: " لا هجرة بعد الفتح " فالمراد الهجرة المخصوصة، فإنها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام. أما لو اتفق في بعض الأزمان كون المؤمنين في بلد وفى عددهم قلة، ويحصل للكفار بسبب كونهم معهم شوكة وإن هاجر المسلمون من تلك البلدة وانتقلوا إلى بلدة أخرى ضعفت شوكة الكفار، فههنا تلزمهم الهجرة على ما قاله الحسن، لأنه قد حصل فيهم مثل العلة في الهجرة من مكة إلى المدينة.
المسألة الثالثة: قوله: * (فأولئك منكم) * يدل على أن مرتبة هؤلاء دون مرتبة المهاجرين السابقين لأنه ألحق هؤلاء بهم وجعلهم منهم في معرض التشريف، ولولا كون القسم الأول أشرف وإلا لما صح هذا المعنى. فهذا شرح هذه الأقسام الأربعة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية.
ثم قال تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الذين قالوا المراد من قوله تعالى: * (أولئك بعضهم أولياء بعض) * ولاية الميراث قالوا هذه الآية ناسخة له، فإنه تعالى بين أن الإرث كان بسبب النصرة والهجرة، والآن قد صار ذلك منسوخا فلا يحصل الإرث إلا بسبب القرابة وقوله: * (في كتاب الله) * المراد منه السهام المذكورة في سورة النساء، وأما الذين فسروا تلك الآية بالنصرة والمحبة والتعظيم قالوا: إن تلك الولاية لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث بين الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة، إلا ما خصه الدليل، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة هذا الوهم، وهذا أولى، لأن تكثير النسخ من غير ضرورة ولا حاجة لا يجوز.
المسألة الثانية: تمسك محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في كتابه إلى أبي جعفر المنصور بهذه الآية في أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب فقال: قوله تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) * يدل على ثبوت الولاية وليس في الآية شيء معين في ثبوت هذه الأولوية، فوجب حمله على الكل إلا ما خصه الدليل، وحينئذ يندرج فيه الإمامة، ولا يجوز أن يقال: إن أبا بكر كان من أولي الأرحام لما نقل أنه عليه
213

السلام أعطاه سورة براءة ليبلغها إلى القوم، ثم بعث عليا خلفه وأمر بأن يكون المبلغ هو علي، وقال: " لا يؤديها إلا رجل مني " وذلك يدل على أن أبا بكر ما كان منه، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية.
والجواب: إن صحت هذه الدلالة كان العباس أولى بالإمامة، لأنه كان أقرب إلى رسول الله من علي. وبهذا الوجه أجاب أبو جعفر المنصور عنه.
المسألة الثالثة: تمسك أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بهذه الآية، في توريث ذوي الأرحام، وأجاب أصحابنا عنه بأن قوله: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) * مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية، فلما قال: * (في كتاب الله) * كان معناه في الحكم الذي بينه الله في كتابه، فصارت هذه الأولوية مقيدة بالأحكام التي بينها الله في كتابه، وتلك الأحكام ليست إلا ميراث العصبات. فوجب أن يكون المراد من هذا المجمل هو ذلك فقط فلا يتعدى إلى توريث ذوي الأرحام.
ثم قال في ختم السورة: * (إن الله بكل شيء عليم) * والمراد أن هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب وصلاح، وليس فيها شيء من العبث والباطل، لأن العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب. ونظيره أن الملائكة لما قالوا: * (أتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء) * قال مجيبا لهم: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * (البقرة: 30) يعني لما علمتم كوني عالما بكل المعلومات، فاعلموا أن حكمي يكون منزها عن الغلط كذا ههنا. والله أعلم.
تم تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر، كما هو أهله ومستحقه. يوم الأحد في رمضان سنة إحدى وستمائة في قرية يقال لها بغدان. ونسأل الله الخلاص من الأهوال وشدة الزمان، وكيد أهل البغي والخذلان، إنه الملك الديان. وصلاته وسلامه على حبيب الرحمن، محمد المصطفى صاحب المعجزات والبرهان.
214

سورة التوبة
مدنية إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان وآياتها 129 نزلت بعد المائدة سورة التوبة مائة وثلاثة وثلاثون
وقيل عشرون وتسع آيات مدنية
قال صاحب " الكشاف ": لها عدة أسماء: براءة، والتوبة؛ والمقشقشة، والمبعثرة، والمشردة، والمخزية، والفاضحة، والمثيرة، والحافرة، والمنكلة، والمدمدمة، وسورة العذاب. قال لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، وتبحث عنها، وتثيرها. وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكل بهم، وتشردهم وتخزيهم، وتدمدم عليهم. وعن حذيفة: إنكم تسمونها سورة التوبة، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه. وعن ابن عباس في هذه السورة قال: إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم حتى خشينا أن لا تدع أحدا، وسورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.
فإن قيل: ما السبب في إسقاط التسمية من أولها؟
قلنا: ذكروا فيه وجوها:
الوجه الأول: روي عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان، ما حملكم على أن عمدتم إلى سورة براءة وهي من المئين، وإلى سورة الأنفال وهي من المثاني، فقرنتم بينهما وما فصلتم ببسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما نزلت عليه سورة يقول: " ضعوها في موضع
215

كذا " وكانت براءة من آخر القرآن نزولا. فتوفي صلى الله عليه وسلم ولم يبين موضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقرن بينهما. قال القاضي يبعد أن يقال: إنه عليه السلام لم يبين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال، لأن القرآن مرتب من قبل الله تعالى ومن قبل رسوله على الوجه الذي نقل، ولو جوزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله على سبيل الوحي، لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السور الواحدة، وتجويزه يطرف ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن. وذلك يخرجه من كونه حجة، بل الصحيح أنه عليه السلام أمر بوضع هذه السورة، بعد سورة الأنفال وحيا، وأنه عليه السلام حذف بسم الله الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحيا.
الوجه الثاني: في هذا الباب ما يروى عن أبي بن كعب أنه قال: إنما توهموا ذلك، لأن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود. فوضعت إحداهما بجنب الأخرى والسؤال المذكور عائد ههنا، لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة.
والوجه الثالث: أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة التوبة سورة واحدة أم سورتان؟ فقال بعضهم: هما سورة واحدة لأن كلتيهما نزلت في القتال ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال وهي سبع، وما بعدها المئون. وهذا قول ظاهر لأنهما معا ومائتان وست آيات، فهما بمنزلة سورة واحدة. ومنهم من قال هما سورتان، فلما ظهر الاختلاف بين الصحابة في هذا الباب تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول هما سورتان، وما كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة، وعلى هذا القول لا يلزمنا تجويز مذهب الإمامية، وذلك لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين، وعملوا عملا يدل على أن هذا الاشتباه كان حاصلا، فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير، وذلك يبطل قول الإمامية.
الوجه الرابع: في هذا الباب: أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية، ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله: * (براءة من الله ورسوله) * (التوبة: 1) فلما كان هذا عين ذلك الكلام وتأكيدا له وتقريرا له، لزم وقوع الفاصل بينهما، فكان إيقاع الفصل بينهما تنبيها على كونهما سورتين متغايرتين، وترك كتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيها على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى.
الوجه الخامس: قال ابن عباس: سألت عليا رضي الله عنه: لم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود
216

وليس فيها أمان. ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى، وأكده بقوله تعالى: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) * (النساء: 94) فقيل له: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل الحرب بسم الله الرحمن الرحيم. فأجاب عنه: بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله، ولم ينبذ إليهم عهدهم. ألا تراه قال في آخر الكتاب: " والسلام على من اتبع الهدى " وأما في هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهود فظهر الفرق.
والوجه السادس: قال أصحابنا: لعل الله تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن، أمر بأن لا تكتب ههنا، تنبيها على كونها آية من أول كل سورة، وأنها لما لم تكن آية من هذه السورة، لا جرم لم تكتب، وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة.
* (برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا فى الارض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزى الكافرين) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: معنى البراءة انقطاع العصمة. يقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة، ومن هنا يقال برئت من الدين، وفي رفع قوله: * (براءة) * قولان: الأول: أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة. قال الفراء: ونظيره قولك إذا نظرت إلى رجل جميل، جميل والله، أي هذا جميل والله، وقوله: * (من) * لابتداء الغاية، والمعنى: هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم، كما تقول كتاب من فلان إلى فلان. الثاني: أن يكون قوله: * (براءة) * مبتدأ وقوله: * (من الله ورسوله) * صفتها وقوله: * (إلى الذين عاهدتم) * هو الخبر كما تقول رجل من بني تميم في الدار.
فإن قالوا: ما السبب في أن نسب البراءة إلى الله ورسوله، ونسب المعاهدة إلى المشركين؟
قلنا قد أذن الله في معاهدة المشركين، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدهم ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين.
المسألة الثالثة: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون وأرجفوا بالأراجيف، جعل المشركون ينقضون العهد، فنبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد إليهم.
217

فإن قيل: كيف يجوز أن ينقض النبي صلى الله عليه وسلم العهد؟
قلنا: لا يجوز أن ينقض العهد إلا على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يظهر له منهم خيانة مستورة ويخاف ضررهم فينبذ العهد إليهم، حتى يستووا في معرفة نقض العهد لقوله: * (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) * (الأنفال: 58) وقال أيضا: * (الذين..... ينقضون عهدهم في كل مرة) * (الأنفال: 56) والثاني: أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أن يأمر الله تعالى بقطعه. فلما أمره الله تعالى بقطع العهد بينهم قطع لأجل الشرط. والثالث: أن يكون مؤجلا فتنقضي المدة وينقضي العهد ويكون الغرض من إظهار هذه البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود إلى العهد، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة، فأما فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد البتة، لأنه يجري مجرى الغدر وخلف القول، والله ورسوله منه بريئان، ولهذا المعنى قال الله تعالى: * (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) * (التوبة: 4) وقيل: إن أكثر المشركين نقضوا العهد إلا أناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة.
المسألة الثالثة: روي أن فتح مكة كان سنة ثمان وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، ونزول هذه السورة سنة تسع، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه سنة تسع أن يكون على الموسم، فلما نزلت هذه السورة أمر عليا أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم. فقيل له لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء، فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور، ثم ساروا، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم، وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم، فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، وعن مجاهد ثلاث عشرة آية، ثم قال: أمرت بأربع أن لا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده. فقالوا عند ذلك يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف، واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر عليا بقراءة هذه السورة عليهم وتبليغ هذه الرسالة إليهم، فقالوا السبب فيه أن عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما نعرف فينا من نقض العهود فربما لم يقبلوا، فأزيحت علتهم بتولية ذلك عليا رضي الله عنه، وقيل لما خص أبا بكر رضي الله عنه بتوليته أمير الموسم خص عليا بهذا التبليغ تطييبا للقلوب ورعاية للجوانب،
218

وقيل قرر أبا بكر علي الموسم وبعث عليا خلفه لتبليغ هذه الرسالة، حتى يصلي على خلف أبي بكر ويكون ذلك جاريا مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر، والله أعلم.
وقرر الجاحظ هذا المعنى فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميرا على الحاج وولاه الموسم وبعث عليا يقرأ على الناس آيات من سورة براءة فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع وكان أبو بكر الرافع بالموسم والسابق لهم والآمر لهم، ولم يكن ذلك لعلي رضي الله عنه. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يبلغ عني إلا رجل مني " فهذا لا يدل على تفضيل علي على أبي بكر، ولكنه عامل العرب بما يتعارفونه فيما بينهم، وكان السيد الكبير منهم إذا عقد لقوم حلفا أو عاهد عهدا لم يحل ذلك العهد والعقد إلا هو أو رجل من أقاربه القريبين منه كأخ أو عم. فلهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك القول.
وأما قوله: * (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) * ففيه أبحاث: الأول: أصل السياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب. يقال للصائم سائح لأنه يشبه السائح لتركه المطعم والمشرب. قال المفسرون: * (فسيحوا في الأرض) * يعني اذهبوا فيها كيف شئتم وليس ذلك من باب الأمر، بل المقصود الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وإزالة الخوف، يعني أنتم آمنون من القتل والقتال في هذه المدة. البحث الثاني: قال المفسرون: هذا تأجيل من الله للمشركين أربعة أشهر، فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى الأربعة، ومن كانت مدته أقل من أربعة أشهر رفعه إلى الأربعة والمقصود من هذا الإعلام أمور: الأول: أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر، ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة: إما الإسلام أو قبول الجزية أو السيف، فيصير ذلك حاملا لهم على قبول الإسلام ظاهرا. والثاني: لئلا ينسب المسلمون إلى نكث العهد، والثالث: أراد الله أن يعم جميع المشركين بالجهاد، فعم الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار، ولا يصح ذلك إلا بنقض العهود. والرابع: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج في السنة الآتية، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يشاهد العراة.
البحث الثالث: قال ابن الأنباري: قوله: * (فسيحوا) * القول فيه مضمر والتقدير: فقل لهم سيحوا أو يكون هذا رجوعا من الغيبة إلى الحضور كقوله: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) * (الإنسان: 21، 22).
البحث الرابع: اختلفوا في هذه الأشهر الأربعة، وعن الزهري أن براءة نزلت في شوال،
219

وهي أربعة أشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وقيل هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر، وإنما سميت حرما لأنه كان يحرم فيها القتل والقتال، فهذه الأشهر الحرم لما حرم القتل والقتال فيها كانت حرما، وقيل إنما سميت حرما لأن أحد أقسام هذه المدة من الأشهر الحرم لأن عشرين من ذي الحجة مع المحرم من الأشهر الحرم. وقيل: ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع، والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ".
وأما قوله: * (واعلموا أنكم غير معجزي الله) * فقيل: اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب. وقيل تقديره: فسيحوا عالمين أنكم لا تعجزون الله في حال. والمقصود: أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات، فإنكم لا تعجزون الله بل الله يعجزكم ويقهركم.
وقيل: اعملوا أن هذا الإمهال لأجل أنه لا يخاف الفوت، لأنكم حيث كنتم فأنتم في ملك الله وسلطانه، وقوله: * (وأن الله مخزي الكافرين) * قال ابن عباس: بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة. وقال الزجاج: هذا ضمان من الله عز وجل لنصرة المؤمنين على الكافرين والإخزاء والإذلال مع إظهار الفضيحة والعار، والخزي النكال الفاضح.
* (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برىء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) *.
اعلم أن قوله: * (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) * (التوبة: 1) جملة تامة، مخصوصة بالمشركين، وقوله: * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر) * جملة أخرى تامة معطوفة
220

على الجملة الأولى وهي عامة في حق جميع الناس، لأن ذلك مما يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك من حيث كان الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعا، فيجب على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يكون فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه، فأمر الله تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر، وهو الجمع الأعظم ليصل ذلك الخبر إلى الكل ويشتهر. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الأذان الأعلام. قال الأزهري: يقال آذنته أوذنه إيذانا، فالأذان اسم يقوم مقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقي، ومنه أذان الصلاة. وقوله: * (من الله ورسوله إلى الناس) * أي أذان صادر من الله ورسوله، واصل إلى الناس، كقولك: إعلام صادر من فلان إلى فلان.
المسألة الثانية: اختلفوا في يوم الحج الأكبر. فقال ابن عباس في رواية عكرمة إنه يوم عرفة، وهو قول عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد، وإحدى الروايتين عن علي: ورواية عن المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أنه، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة. فقال: أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر. وقال ابن عباس: في رواية عطاء: يوم الحج الأكبر يوم النحر، وهو قول الشعبي والنخعي والسدي وأحد الروايتين عن علي، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير. والقول الثالث ما رواه ابن جريج عن مجاهد أنه قال: يوم الحج الأكبر أيام منى كلها، وهو مذهب سفيان الثوري، وكان يقول يوم الحج الأكبر أيامه كلها، ويقول يوم صفين، ويوم الجمل يراد به الحين والزمان، لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياما كثيرة. حجة من قال يوم عرفة قوله عليه الصلاة والسلام: " الحج عرفة " ولأن أعظم أعمال الحج هو الوقوف بعرفة، لأن من أدركه، فقد أدرك الحج، ومن فاته فقد فاته الحج. وذلك إنما يحصل في هذا اليوم. وحجة من قال إنه يوم النحر، هي أن أعمال الحج إنما تتم في هذا اليوم، وهي الطواف والنحر والحلق والرمي، وعن علي رضي الله عنه أن رجلا أخذ بلجام دابته فقال: ما الحج الأكبر. قال: يومك هذا، خل عن دابتي، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع. فقال هذا يوم الحج الأكبر، وأما قول من قال المراد مجموع تلك الأيام، فبعيد لأنه يقتضي تفسير اليوم بالأيام الكثيرة، وهو خلاف الظاهر. فإن قيل: لم سمي ذلك بالحج الأكبر؟
قلنا فيه وجوه: الأول: أن هذا هو الحج الأكبر، لأن العمر تسمى الحج الأصغر. الثاني:
221

أنه جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته، لأنه إذا فات الحج، وكذلك إن أريد به يوم النحر، لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج الأكبر. الثالث: قال الحسن: سمي ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه، وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمن وكافر. طعن الأصم في هذا الوجه وقال: عيد الكفار فيه سخط، وهذا الطعن ضعيف، لأن المراد أن ذلك اليوم يو استعظمه جميع الطوائف، وكان من وصفه بالأكبر أولئك. والرابع: سمي بذلك لأن المسلمين والمشركين حجوا في تلك السنة. والخامس: الأكبر الوقوف بعرفة، والأصغر النحر، وهو قول عطاء ومجاهد. السادس: الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد، وهو منقول عن مجاهد. ثم إنه تعالى بين أن ذلك الأذان بأي شيء كان؟ فقال: * (أن الله بريء من المشركين ورسوله) * وفيه مباحث:
البحث الأول: لقائل أن يقول: لا فرق بين قوله: * (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) * وبين قوله * (أن الله بريء من المشركين ورسوله) * فما الفائدة في هذا التكرير؟
والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن المقصود من الكلام الأول الإخبار بثبوت البراءة، والمقصود من هذا الكلام إعلام جميع الناس بما حصل وثبت.
والوجه الثاني: أن المراد من الكلام الأول البراءة من العهد، ومن الكلام الثاني البراءة التي هي نقيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد، والذي يدل على حصول هذا الفرق أن في البراءة الأولى برئ إليهم، وفي الثانية: برئ منهم، والمقصود أنه تعالى أمر في آخر سورة الأنفال المسلمين بأن يوالي بعضهم بعضا، ونبه به على أنه يجب عليهم أن لا يوالوا الكفار وأن يتبرؤا منهم، فههنا بين أنه تعالى كما يتولى المؤمنين فهو يتبرأ عن المشركين ويذمهم ويلعنهم، وكذلك الرسول، ولذلك أتبعه بذكر التوبة المزيلة للبراءة.
والوجه الثالث: في الفرق أنه تعالى في الكلام الأول، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد. وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معين، تنبيها على أن الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم.
البحث الثاني: قوله: * (أن الله بريء من المشركين) * فيه حذف والتقدير: * (وأذان من الله ورسوله) * بأن الله بريء من المشركين إلا أنه حذف الباء لدلالة الكلام عليه.
222

واعلم أن في رفع قوله: * (ورسوله) * وجوها: الأول: أنه رفع بالابتداء وخبره مضمر، والتقدير ورسوله أيضا بريء والخبر عن الله دل على الخبر عن الرسول. والثاني: أنه عطف على المنوي في بريء فإن التقدير بريء هو ورسوله من المشركين. الثالث: أن قوله: * (أن الله) * رفع بالابتداء وقوله: * (برئ) * خبره وقوله: * (ورسوله) * عطف على المبتدأ الأول. قال صاحب " الكشاف ": وقد قرىء بالنصب عطفا على اسم أن لأن الواو بمعنى مع، أي برئ مع رسوله منهم، وقرئ بالجر على الجوار وقيل على القسم والتقدير أن الله بريء من المشركين وحق رسوله.
ثم قال تعالى: * (فإن تبتم) * أي عن الشرك * (فهو خير لكم) * وذلك ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لكون الله ورسوله موصوفين بالبراءة منه * (وإن توليتم) * أي أعرضتم عن التوبة عن الشرك * (فاعلموا أنكم غير معجزي الله) * وذلك وعيد عظيم، لأن هذا الكلام يدل على كونه تعالى قادرا على إنزال أشد العذاب بهم.
ثم قال: * (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) * في الآخرة لكي لا يظن أن عذاب الدنيا لما فات وزال، فقد تخلص عن العذاب، بل العذاب الشديد معد له يوم القيامة ولفظ البشارة ورد ههنا على سبيل استهزاء كما يقال: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم.
* (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) *.
هذا الاستثناء إلى أي شيء عاد؟ فيه وجهان: الأول: قال الزجاج: إنه عائد إلى قوله: * (براءة) * والتقدير * (براءة من الله ورسوله) * إلى المشركين المعاهدين إلا من الذين لم ينقضوا العهد. والثاني: قال صاحب " الكشاف "، وجهه أن يكون مستثنى من قوله: * (فسيحوا في الأرض) * لأن الكلام خطاب للمسلمين، والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم.
واعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين: أحدهما: قوله: * (ثم لم ينقصوكم) * والثاني: قوله: * (ولم يظاهروا عليكم أحدا) * والأقرب أن يكون المراد من الأول أن يقدموا على المحاربة بأنفسهم، ومن الثاني:
223

أن يهيجوا أقواما آخرين وينصروهم ويرغبوهم في الحرب. ثم قال: * (فأتموا إليهم عهدهم) * والمعنى أن الذين ما غادروا من هذين الوجهين، فأتموا إليهم عهدهم، ولا تجعلوا الوافين كالغادرين. وقوله: * (فأتموا إليهم عهدهم) * أي أدوه إليهم تاما كاملا. قال ابن عباس: بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم * (إن الله يحب المتقين) * يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلتين أو يكون المراد أن هذه الطائفة لما أنفوا النكث ونقض العهد، استحقوا من الله أن يصان عهدهم أيضا عن النقض والنكث. روى أنه عدت بنو بكر علي بن خزاعة في حال غيبة رسول الله وظاهرتهم قريش بالسلاح، حتى وقد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله فأنشده:
لا هم إني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيك ألا تلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا * ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا * وقتلونا ركعا وسجدا
فقال عليه الصلاة والسلام: " لا نصرت إن لم أنصركم " وقرئ * (لم ينقضوكم) * بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم.
* (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) *.
قوله تعالى: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الليث: يقال سلخت الشهر إذا خرجت منه، وكشف أبو الهيثم عن هذا المعنى فقال: يقال أهللنا هلال شهر كذا، أي دخلنا فيه ولبسناه، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباسا منه، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءا فجزءا، حتى نسلخه عن أنفسنا وأنشد: إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله * كفى قائلا سلخي الشهور وإهلالي
224

وأقول تمام البيان فيه أن الزمان محيط بالشيء وظرف له، كما أن المكان محيط به وظرف له ومكان الشيء عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر ومن الجسم المحوي فإذا انسلخ الشيء من جلده فقد انفصل من السطح الباطن من ذلك الجلد وذلك السطح، وهو مكانه في الحقيقة فكذلك إذا تم الشهر فقد انفصل عن إحاطة ذلك الشهر به، ودخل في شهر آخر، والسلخ اسم لانفصال الشيء عن مكانه المعين، فجعل أيضا اسما لانفصاله عن زمانه المعين، لما بين المكان والزمان من المناسبة التامة الشديدة. وأما الأشهر الحرم فقد فسرناها في قوله: * (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) * (التوبة: 2) وهي يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، والمراد من كونها حرما، أن الله حرم القتل والقتال فيها. ثم إنه تعالى عند انقضاء هذه الأشهر الحرم أذن في أربعة أشياء: أولها: قوله: * (واقتلوهم حيث
وجدتموهم) * (النساء: 89) وذلك أمر بقتلهم على الإطلاق، في أي وقت، وأي مكان. وثانيها: قوله: * (وخذوهم) * أي بالأسر، والأخيذ الأسير. وثالثها: قوله: * (واحصروهم) * معنى الحصر المنع من الخروج من محيط. قال ابن عباس: يريد إن تحصنوا فاحصروهم. وقال الفراء: حصرهم أن يمنعوا من البيت الحرام. ورابعها: قوله تعالى: * (واقعدوا لهم كل مرصد) * والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم: رصدت فلانا أرصده إذا ترقبته، قال المفسرون: المعنى اقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة، قال الأخفش في الكلام محذوف والتقدير: اقعدوا لهم على كل مرصد.
ثم قال تعالى: * (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أن تارك الصلاة يقتل، قال لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقا بجميع الطرق، ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة، وهي التوبة عن الكفر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فعندما لم يوجد هذا المجموع، وجب أن يبقى إباحة الدم على الأصل.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يكون المراد الإقرار بهما واعتقاد وجوبهما؟ والدليل عليه أن تارك الزكاة لا يقتل.
أجابوا عنه: بأن ما ذكرتم عدول عن الظاهر، وأما في تارك الزكاة فقد دخله التخصيص.
فإن قالوا: لم كان حمل التخصيص أولى من حمل الكلام على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة؟
قلنا: لأنه ثبت في أصول الفقه أنه مهما وقع التعارض بين المجاز وبين التخصيص، فالتخصيص أولى بالحمل.
225

المسألة الثانية: نقل عن أب بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول: في مانعي الزكاة لا أفرق بين ما جمع الله، ولعل مراده كان هذه الآية، لأنه تعالى لم يأمر بتخلية سبيلهم إلا لمن تاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فأوجب مقاتلة أهل الردة لما امتنعوا من الزكاة وهذا بين إن جحدوا وجوبها أما إن أقروا بوجوبها وامتنعوا من الدفع إليه خاصة، فمن الجائز أنه كان يذهب إلى وجوب مقاتلتهم من حيث امتنعوا من دفع الزكاة إلى الإمام. وقد كان مذهبه أن ذلك معلوم من دين الرسول عليه السلام كما يعلم سائر الشرائع الظاهرة.
المسألة الثالثة: قد تكلمنا في حقيقة التوبة في سورة البقرة في قوله: * (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) * (البقرة: 37) روى الحسن أن أسيرا نادى بحيث يسمع الرسول أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ثلاثا، فقال عليه السلام: عرف الحق لأهله فأرسلوه.
المسألة الرابعة: قوله: * (فخلوا سبيلهم) * قيل إلى البيت الحرام، وقيل إلى التصرف في مهماتهم * (إن الله غفور رحيم) * لمن تاب وآمن. وفيه لطيفة وهو أنه تعالى ضيق عليهم جميع الخيرات وألقاهم في جميع الآفات، ثم بين أنهم لو تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فقد تخلصوا عن كل تلك الآفات في الدنيا، فنرجو من فضل الله أن يكون الأمر كذلك يوم القيامة أيضا فالتوبة عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل، والصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي وذلك يدل على أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى.
* (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في تقرير وجه النظم نقل عن ابن عباس أنه قال: إن رجلا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل، فقال علي: " لا " إن الله تعالى قال: * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) * أي فأمنه حتى يسمع كلام الله، وتقرير هذا الكلام: أن نقول: إنه تعالى لما أوجب بعد انسلاخ الأشهر
226

الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفى في إزاحة عذرهم وعلتهم، وذلك يقتضي أن أحدا من المشركين لو طلب الدليل والحجة لا يلتفت إليه، بل يطالب إما بالإسلام وإما بالقتل، فلما كان هذا الكلام واقعا في القلب لا جرم ذكر الله هذه الآية إزالة لهذه الشبهة، والمقصود منه بيان أن الكافر إذا جاء طالبا للحجة والدليل أو جاء طالبا لاستماع القرآن، فإنه يجب إمهاله ويحرم قتله ويجب إيصاله إلى مأمنه، وهذا يدل على أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد، ويدل أيضا على أن النظر في دين الله أعلى المقامات وأعلى الدرجات، فإن الكافر الذي صار دمه مهدرا لما أظهر من نفسه كونه طالبا للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار، ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه.
المسألة الثانية: أحد مرتفع بفعل مضمر يفسره الظاهر، وتقديره: وإن استجارك أحد، ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل لا يدخل على غيره.
فإن قيل: لما كان التقدير ما ذكرتم فما الحكمة في ترك هذا الترتيب الحقيقي؟
قلنا: الحكمة فيه ما ذكره سيبويه، وهو أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه، أعني وقد بينا ههنا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشركين، فقدم ذكره ليدل ذلك على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار، قال الزجاج: المعنى إن طلب منك أحد منهم أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات، فدل ذلك على أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات، ثم من المعلوم بالضرورة أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة، لأن تكلم الله بهذه الحروف إما أن يكون معا أو على الترتيب، فإن تكلم بها معا لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم، لأن الكلام لا يحصل منتظما إلا عند دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب، فلو حصلت معا لا متعاقبة لما حصل الانتظام، فلم يحصل الكلام. وأما إن حصلت متعاقبة، لزم أن ينقضي المتقدم ويحدث المتأخر، وذلك يوجب الحدوث، فدل هذا عن
أن كلام الله محدث. قالوا: فإن قلتم إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات؛ فهذا باطل لأن الرسول ما كان يشير بقوله كلام الله إلا هذه الحروف والأصوات، وأما الحشوية والحمقى من الناس، فقالوا ثبت بهذه الآية أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات، وثبت أن كلام الله قديم، فوجب القول بقدم الحروف والأصوات.
227

واعلم أن الأستاذ أبا بكر بن فورك زعم أنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى وأما سائر الأصحاب فقد أنكروا عليه هذا القول، وذلك لأن ذلك الكلام القديم إما أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات، وإما أن يكون شيئا آخر مغايرا لها. والأول: هو قول الرعاع والحشوية وذلك لا يليق بالعقلاء.
وأما الثاني: فباطل لأنا على هذا التقدير لما سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا شيئا آخر يخالف ماهية هذه الحروف والأصوات، لكنا نعلم بالضرورة أن عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئا آخر سواها ولم ندرك بحاسة السمع أمرا آخر مغايرا لها فسقط هذا الكلام.
والجواب الصحيح عن كلام المعتزلة أن نقول: هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم، لأن كلام الله ليس إلا الحروف والأصوات التي خلقها أولا، بل تلك الحروف والأصوات انقضت وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم.
واعلم أن أبا علي الجبائي لقوة هذا الإلزام ارتكب مذهبا عجيبا فقال: كلام الله شيء مغاير للحروف والأصوات وهو باق مع قراءة كل قارئ، وقد أطبق المعتزلة على سقوط هذا المذهب والله أعلم. المسألة الرابعة: اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين وأنه لا بد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له إما أن تؤمن، وإما أن نقتلك فلما لم يقل له ذلك، بل أمهلناه وأزلنا الخوف عنه ووجب علينا أن نبلغه مأمنه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف، بل لا بد من الحجة والدليل فأمهلناه وأخرناه ليحصل له مهلة النظر والاستدلال.
إذا ثبت هذا فنقول: ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه والله أعلم.
المسألة الخامسة: المذكور في هذه الآية كونه طالبا لسماع القرآن فنقول: ويلتحق به كونه طالبا لسماع الدلائل، وكونه طالبا للجواب عن الشبهات، والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك الإجارة بكونه غير عالم لأنه قال ذلك بأنهم قوم لا يعلمون وكان المعنى فأجره، لكونه طالبا للعلم مسترشدا للحق وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته.
228

المسألة السادسة: في قوله: * (حتى يسمع كلام الله) * وجوه: قيل: أراد سماع جميع القرآن، لأن تمام الدليل والبينات فيه، وقيل: أراد سماع سورة براءة، لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين، وقيل: أراد سماع كل الدلائل. وإنما خص القرآن بالذكر، لأنه الكتاب الجاري لمعظم الدلائل. وقوله: * (ثم أبلغه مأمنه) * معناه أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم.
المسألة السابعة: قال الفقهاء: والكافر الحربي إذا دخل دار الإسلام كان مغنوما مع ماله، إلا أن يدخل مستجيرا لغرض شرعي كاستماع كلام الله رجا الإسلام، أو دخل لتجارة. فإن دخل بأمان صبي أو مجنون فأمانهما شبهة أمان، فيجب تبليغه مأمنه. وهو أن يبلغ محروسا في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له، ومن دخل منهم دار الإسلام رسولا فالرسالة أمان، ومن دخل ليأخذ مالا في دار الإسلام ولماله أمان فأمان له والله أعلم.
* (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) *.
قوله: * (كيف) * استفهام بمعنى الإنكار كما تقول: كيف يسبقني مثلك، أي لا ينبغي أن يسبقني وفي الآية محذوف وتقديره: كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، لأجل أنهم ما نكثوا وما نقضوا قيل: إنهم بنو كنانة وبنو ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقتلوهم فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله * (إن الله يحب المتقين) * يعني من اتقى الله يوفي بعهده لمن عاهد والله أعلم.
* (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفوههم وتأبى
229

قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم سآء ما كانوا يعملون * لا يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون) *.
اعلم أن قوله: * (كيف) * تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل كونه معلوما أي كيف يكون عهدهم وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لم ينظروا إلى حلف ولا عهد * (ولم يبقوا عليكم) * هذا هو المعنى، ولا بد من تفسير الألفاظ المذكورة في الآية يقال: ظهرت على فلان إذا علوته، وظهرت على السطح إذا صرت فوقه. قال الليث: الظهور الظفر بالشيء. وأظهر الله المسلمين على المشركين أي أعلاهم عليهم ومنه قوله تعالى: * (فأصبحوا ظاهرين) * (الصف: 14) وقوله: * (ليظهره على الدين كله) * (التوبة: 33) أي ليعليه، وتحقيق القول فيه أن من غلب غيره حصلت له صفة كمال، ومن كان كذلك أظهر نفسه ومن صار مغلوبا صار كالناقص، والناقص لا يظهر نفسه ويخفي نقصانه فصار الظهور كناية للغلبة لكونه من لوازمها فقوله: * (إن يظهروا عليكم) * يريد أن يقدروا عليكم وقوله: * (لا يرقبوا فيكم) * قال الليث: رقب الإنسان يرقبه رقبة ورقوبا وهو أن ينتظره ورقيب القوم حارسهم وقوله: * (ولم ترقب قولي) * (طه: 94) أي لم تحفظه، أما الأول ففيه أقوال: الأول: أنه العهد قال الشاعر: وجدناهم كاذبا الهم * وذو الال والعهد لا يكذب
يعني العهد الثاني. قال الفراء: الال القرابة. قال حسان: لعمرك أن الك من قريش * كال السقب من رأل النعام
يعني القرابة والثالث الأل الحلف. قال أوس بن حجر: لولا بنو مالك والأل مرقبه * ومالك فيهم الآلاء والشرف
يعني الحلف. والرابع: الأل هو الله عز وجل، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما سمع هذيان مسيلمة قال: إن هذا الكلام لم يخرج من إل، وطعن الزجاج في هذا القول وقال: أسماء الله معلومة من الأخبار والقرآن ولم يسمع أحد يقول: يا إل. الخامس: قال الزجاج: حقيقة الإل عندي على ما توجبه اللغة تحديد الشديد، فمن ذلك الألة الحربة. وأذن مؤللة، فالإل يخرج في جميع
230

ما فسر من العهد والقرابة. السادس: قال الأزهري: أيل من أسماء الله عز وجل بالعبرانية، فجائز أن يكون عرب. فقيل إل. السابع: قال بعضهم: الإل مأخوذ من قولهم إل يؤل ألا، إذا صفا ولمع ومنه الآل للمعانه، وأذن مؤللة شبيهة بالحربة في تحديدها وله أليل أي أنين يرفه به صوته، ورفعت المرأة أليلها إذا ولولت، فالعهد سمى إلا، لظهوره وصفائه من شوائب الغدر، أو لأن القوم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه.
أما قوله: * (ولا ذمة) * فالذمة العهد، وجمعها ذمم وذمام، كل أمر لزمك، وكان بحيث لو ضيعته لزمتك مذمة، وقال أبو عبد الله الذمة ما يتذمم منه، يعني ما يجتنب فيه الذم يقال: تذمم فلان، أي ألقى على نفسه الذم، ونظيره تحوب، وتأثم وتحرج. أما قوله: * (يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم) * أي يقولون بألسنتهم كلاما حلوا طيبا، والذي في قلوبهم بخلاف ذلك، فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه * (وأكثرهم فاسقون) * وفيه سؤالان:
السؤال الأول: الموصوفين بهذه الصفة كفار. والكفر أقبح وأخبث من الفسق، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم.
السؤال الثاني: أن الكفار كلهم فاسقون، فلا يبقى لقوله: * (وأكثرهم فاسقون) * فائدة.
والجواب عن الأول: أن الكافر قد يكون عدلا في دينه، وقد يكون فاسقا خبيث النفس في دينه، فالمراد ههنا أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود * (أكثرهم فاسقون) * في دينهم وعند أقوامهم، وذلك يوجب المبالغة في الذم.
والجواب عن الثاني: عين ما تقدم، لأن الكافر قد يكون محترزا عن الكذب، ونقض العهد والمكر والخديعة، وقد يكون موصوفا بذلك، ومثل هذا الشخص يكون مذموما عند جميع الناس وفي جميع الأديان، فالمراد بقوله: * (وأكثرهم فاسقون) * أن أكثرهم موصوفون بهذه الصفات المذمومة، وأيضا قال ابن عباس: لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب، فلهذا السبب قال: * (وأكثرهم فاسقون) * حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام.
أما قوله: * (اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله) * ففيه قولان: الأول: المراد منه المشركون. قال مجاهد: أطعم أبو سفيان بن حرب حلفاءه، وترك حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة. الثاني: لا يبعد أن تكون طائفة من اليهود أعانوا
231

المشركين على نقض تلك العهود، فكان المراد من هذه الآية ذم أولئك اليهود، وهذا اللفظ في القرآن كالأمر المختص باليهود ويقوى هذا الوجه بما أن الله تعالى أعاد قوله: * (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) * (التوبة: 10) ولو كان المراد منه المشركين لكان هذا تكرارا محضا، ولو كان المراد منه اليهود لم يكن هذا تكرارا، فكان ذلك أولى.
ثم قال: * (وأولئك هم المعتدون) * (التوبة: 10) يعني يعتدون ما حده الله في دينه وما يوجبه العقد والعهد، وفي ذلك نهاية الذم. والله أعلم.
(11) * (فإن تابوا وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة فإخوانكم في الدين ونفصل الايات لقوم يعلمون) *.
(12) * (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين حال من لا يرقب في الله إلا ولا ذمة، وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدى ما حد له، بين من بعد أنهم إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة كيف حكمهم، فجمع ذلك الشيء بقوله: * (فإخوانكم في الدين) * وهو يفيد جملة أحكام الإيمان، ولو شرح لطال.
فإن قيل: المعلق على الشيء بكلمة * (إن) * عدم عند عدم ذلك الشيء، فهذا يقتضي أنه متى لم توجد هذه الثلاثة لا يحصل الأخوة في الدين، وهو مشكل لأنه ربما كان فقيرا، أو إن كان غنيا، لكن قبل انقضاء الحول لا تلزمه الزكاة.
قلنا: قد بينا في تفسير قوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * (النساء: 31) أن المعلق على الشيء بكلمة * (إن) * لا يلزم من عدمه عدم ذلك الشيء، فزال هذا السؤال، ومن الناس من قال المعلق على الشيء بكلمة * (إن) * عدم عند عدم ذلك الشيء، فههنا قال المواخاة بالإسلام بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعا، فإن الله تعالى شرطها في إثبات المواخاة، ومن لم يكن أهلا لوجوب الزكاة عليه، وجب عليه أن يقر بحكمها، فإذا أقر بهذا الحكم دخل في الشرط الذي به تجب الأخوة، وكان
232

ابن مسعود يقول رحم الله أبا بكر ما أفقهه في الدين، أراد به ما ذكره أبو بكر في حق مانعي الزكاة، وهو قوله والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما بقي في قوله: * (فإخوانكم في الدين) * بحثان: الأول: قوله: * (فإخوانكم) * قال الفراء معناه، فهم إخوانكم بإضمار المبتدأ كقوله تعالى: * (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم) * (الأحزاب: 5) أي فهم إخوانكم. الثاني: قال أبو حاتم قال أهل البصرة أجمعون الأخوة في النسب والأخوان في الصداقة، وهذا غلط يقال للأصدقاء، وغير الأصدقاء أخوة وأخوان. قال الله تعالى: * (إنما المؤمنون إخوة) * (الحجرات: 10) ولم يعن النسب. وقال تعالى: * (أو بيوت إخوانكم) * (النور: 61) وهذا في النسب. قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة.
ثم قال: * (ونفصل الآيات لقوم يعلمون) * قال صاحب " الكشاف ": وهذا اعتراض وقع بين الكلامين، والمقصود الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.
ثم قال: * (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم) * يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد أحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه، ومنه قوله تعالى: * (من بعد قوة أنكاثا) * (النحل: 92) والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف والقسم. وقيل: للحلف يمين، وهو اسم اليد لأنهم كانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا. وقيل: سمي القسم يمينا ليمين البر فيه. فقوله: * (وإن نكثوا أيمانهم) * أي نقضوا عهودهم. وفيه قولان: الأول: هو قول الأكثرين إن المراد نكثهم لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: أن المراد حمل العهد على الإسلام بعد الإيمان، فيكون المراد ردتهم بعد الإيمان، ولذلك قرأ بعضهم * (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم) * والأول أولى للقراءة المشهورة، ولأن الآية وردت في ناقضي العهد لأنه تعالى صنفهم صنفين، فإذا ميز منهم من تاب لم يبق إلا من أقام على نقض العهد. وقوله: * (وطعنوا في دينكم) * يقال طعنه بالرمح يطعنه، وطعن بالقول السيء يطعن. قال الليث: وبعضهم يقول: يطعن بالرمح، ويطعن بالقول: فيفرق بينهما، والمعنى أنهم عابوا دينكم، وقدحوا فيه.
ثم قال: * (فقاتلوا أئمة الكفر) * أي متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو * (أيمة الكفر) * بهمزة واحدة غير ممدودة وتليين الثانية والباقون بهمزتين على التحقيق. قال الزجاج: الأصل في الأئمة أأمة، لأنها جمع إمام، مثل مثال وأمثلة، لكن الميمين إذا اجتمعتا أدغمت الأولى في الثانية، وألقيت حركتها على الهمزة، فصارت أأمة، فأبدلت من المكسورة الياء لكراهة اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة. هذا هو
233

الاختيار عند جميع النحويين.
إذا عرفت هذا فنقول: قال صاحب " الكشاف ": لفظة " أئمة " همزة بعدها همزة بين بين، والمراد بين مخرج الهمزة والياء. أما بتحقيق الهمزتين فقراءة مشهورة. وإن لم تكن مقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن يكون قراءة، ومن صرح بها فهو لاحن محرف.
المسألة الثانية: قوله: * (فقاتلوا أئمة الكفر) * معناه قاتلوا الكفار بأسرهم، إلا أنه تعالى خص الأئمة والسادة منهم الذكر، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على هذه الأعمال الباطلة.
المسألة الثالثة: قال الزجاج: هذه الآية توجب قتل الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام، لأن عهده مشروط بأن لا يطعن، فإن طعن فقد نكث ونقض عهدهم.
ثم قال تعالى: * (إنهم لا أيمان لهم) * قرأ ابن عامر * (لا أيمان لهم) * بكسر الألف ولها وجهان: أحدها: لا أمان لهم، أي لا تؤمنوهم. فيكون مصدرا من الإيمان الذي هو ضد الإخافة، والثاني: أنهم كفرة لا إيمان لهم، أي لا تصديق ولا دين لهم، والباقون بفتح الهمزة وهو جمع يمين، ومعناه لا أيمان لهم على الحقيقة. وأيمانهم ليست بأيمان، وبه تمسك أبو حنيفة رحمه الله في أن يمين الكافر لا يكون يمينا، وعند الشافعي رحمه الله يمينهم يمين، ومعنى هذه الآية عنده: أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان، أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله: * (وإن نكثوا أيمانهم) * ولو لم يكن منعقدا لما صح وصفها بالنكث.
ثم قال تعالى: * (لعلهم ينتهون) * وهو متعلق بقوله: * (فقاتلوا أئمة الكفر) * أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه من الكفر، وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإحسان. (13)
* (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (قاتلوا أئمة الكفر) * (التوبة: 12) أتبعه بذكر السبب الذي يبعثهم على مقاتلتهم فقال: * (ألا تقاتلون قوما نكثوا) *.
234

واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أسباب كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد، فكيف بها حال الاجتماع: أحدها: نكثهم العهد، وكل المفسرين حمله على نقض العهد. قال ابن عباس والسدي والكلبي: نزلت في كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة وهذه الآية تدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجرا لغيرهم، وثانيها: قوله: * (وهموا بإخراج الرسول) * فإن هذا من أوكد ما يجب القتال لأجله. واختلفوا فيه فقال بعضهم: المراد إخراجه من مكة حين هاجر. وقال بعضهم: بل المراد من المدينة لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل. وقال آخرون: بل هموا بإخراجه من حيث أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج وهو نقض العهد، وإعانة أعدائه، فأضيف الإخراج إليهم توسعا لما وقع منهم من الأمور الداعية إليه. وقوله: * (وهموا بإخراج الرسول) * إما بالفعل وإما بالعزم عليه، وإن لم يوجد ذلك الفعل بتمامه، وثالثها: قوله: * (وهم بدؤكم أول مرة) * يعني بالقتال يوم بدر، لأنهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه.
والقول الثاني: أراد أنهم قاتلوا حلفاء خزاعة فبدؤا بنقض العهد، وهذا قول الأكثرين، وإنما قال: * (بدؤكم) * تنبيها على أن البادئ أظلم، ولما شرح تعالى هذه الموجبات الثلاثة زاد فيها، فقال: * (أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) * وهذا الكلام يقوي داعية القتال من وجوه: الأول: أن تعديد الموجبات القوية وتفصيلها مما يقوي هذه الداعية، والثاني: أنك إذا قلت للرجل: أتخشى خصمك كان ذلك تحريكا منه لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفا من خصمه، والثالث: أن قوله: * (فالله أحق أن تخشوه) * يفيد ذلك كأنه قيل: إن كنت تخشى أحدا فالله أحق أن تخشاه لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة، والضرر المتوقع منهم غايته القتل. أما المتوقع من الله فالعقاب الشديد في القيامة، والذم اللازم في الدنيا، والرابع: أن قوله: * (إن كنتم مؤمنين) * معناه: أنكم إن كنتم مؤمنين بالإيمان وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة، ومعناه أنكم إن لم تقدموا عليها وجب أن لا تكونوا مؤمنين فثبت أن هذا كلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على
مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد.
بقي في الآية أبحاث:
البحث الأول: حكى الواحدي عن أهل المعاني أنهم قالوا: إذا قلت لا تفعل كذا، فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده، وإذا قلت ألست تفعل فإنما تقول ذلك في فعل تحقق وجوده، والفرق بينهما أن لا ينفي بها المستقبل، فإذا دخلت عليها الألف صار تحضيضا على فعل ما يستقبل، وليس إنما تستعمل لنفي الحال. فإذا دخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال.
235

البحث الثاني: نقل عن ابن عباس أنه قال: قوله تعالى: * (ألا تقاتلون قوما) * ترغيب في فتح مكة وقوله: * (قوما نكثوا أيمانهم) * أي عهدهم، يعني قريشا حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام، فأمر الله رسوله أن يسير إليهم فينصر خزاعة، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأمر الناس أن يتجهزوا إلى مكة وأبو سفيان عند هرقل بالروم، فرجع وقدم المدينة ودخل على فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم يستجير بها فأبت، وقالت ذلك لابنيها الحسن والحسين فأبيا، فخاطب أبا بكر فأبى، ثم خاطب عمر فتشدد، ثم خاطب عليا فلم يجبه، فاستجار بالعباس وكان مصافيا له فأجاره، وأجاره الرسول لإجارته وخلى سبيله. فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان فيه أبهة فاجعل له شيئا، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فعاد إلى مكة ونادى من دخل داري فهو آمن فقاموا إليه وضربوه ضربا شديدا وحصل الفتح عند ذلك، فهذا ما قاله ابن عباس. وقال الحسن: لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك، لأن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة بسنة، وتمييز حق هذا الباب من باطله لا يعرف إلا بالأخبار.
البحث الثالث: قال أبو بكر الأصم: دلت هذه الآية على أنهم كرهوا هذا القتال لقوله تعالى: * (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) * (البقرة: 216) فآمنهم الله تعالى بهذه الآيات. قال القاضي: إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارها له ولا مقصرا فيه، فإن أراد أن مثل هذا التحريض علي الجهاد لا ينفع إلا وهناك كره للقتال لم يصح أيضا، لأنه يجوز أن يحث الله تعالى بهذا الجنس على الجهاد لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع.
البحث الرابع: دلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه، وأن لا يخشى أحدا سواه.
236