الكتاب: أحكام القرآن
المؤلف: ابن العربي
الجزء: ٤
الوفاة: ٥٤٣
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد عبد القادر عطا
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: لبنان - دار الفكر للطباعة والنشر
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:

سورة سبأ فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد) *) الآية 1
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قوله (* (فضلا) *) فيه أربعة عشر قولا
الأول النبوة
الثاني الزبور
الثالث حسن الصوت
الرابع تسخير الجبال والناس
الخامس التوبة
السادس الزيادة في العمر
السابع الطير
الثامن الوفاء بما وعد
التاسع حسن الخلق
العاشر الحكم بالعدل
الحادي عشر تيسير العبادة
3

الثاني عشر العلم قال الله تعالى (* (ولقد آتينا داود وسليمان علما) *) النمل 15
الثالث عشر القوة قال الله تعالى (* (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) *)
الرابع عشر قوله (* (وأوتينا من كل شيء) *) النمل 16
والمراد ها هنا من جملة الأقوال حسن الصوت فإن سائرها قد بيناه في موضعه في كتاب الأنبياء من المشكلين
وكان داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن وله قال النبي لأبي موسى الأشعري لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود وهي
المسألة الثانية
وفيه دليل الإعجاب بحسن الصوت وقد روى عبد الله بن مغفل قال رأيت النبي وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة وهو يرجع ويقول آ واستحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالألحان والترجيع وكرهه مالك
وهو جائز لقول أبي موسى للنبي عليه السلام لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا يريد لجعلته لك أنواعا حسانا وهو التلحين مأخوذ من الثوب المحبر وهو المخطط بالألوان
وقد سمعت تاج القراء ابن لفتة بجامع عمرو يقرأ (* (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) *) الإسراء 79 فكأني ما سمعت الآية قط
وسمعت ابن الرفاء وكان من القراء العظام يقرأ وأنا حاضر بالقرافة كهيعص فكأني ما سمعتها قط
4

وسمعت بمدينة السلام شيخ القراء البصريين يقرأ في دار بها الملك (* (والسماء ذات البروج) *) فكأني ما سمعتها قط حتى بلغ إلى قوله تعالى (* (فعال لما يريد) *) فكأن الإيوان قد سقط علينا
والقلوب تخشع بالصوت الحسن كما تخضع للوجه الحسن وما تتأثر به القلوب في التقوى فهو أعظم في الأجر وأقرب إلى لين القلوب وذهاب القسوة منها
وكان ابن الكازروني يأوي إلى المسجد الأقصى ثم تمتعنا به ثلاث سنوات ولقد كان يقرأ في مهد عيسى فيسمع من الطور فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا طول قراءته إلا الاستماع إليه
وكان صاحب مصر الملقب بالأفضل قد دخلها في المحرم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وحولها عن أيدي العباسية وهو حنق عليها وعلى أهلها بحصاره لهم وقتالهم له فلما صار فيها وتدانى بالمسجد الأقصى منها وصلى ركعتين تصدى له ابن الكازروني وقرأ (* (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) *) آل عمران 26 فما ملك نفسه حين سمعه أن قال للناس على عظم ذنبهم عنده وكثرة حقده عليهم (* (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) *) يوسف 92
والأصوات الحسنة نعمة من الله تعالى وزيادة في الخلق ومنة وأحق ما لبست هذه الحلة النفيسة والموهبة الكريمة كتاب الله فنعم الله إذا صرفت في الطاعة فقد قضي بها
حق النعمة
5

الآية الثانية
قوله تعالى (* (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور) *) الآية 13
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى المحراب
هو البناء المرتفع الممتنع ومنه يسمى المحراب في المسجد لأنه أرفعه أنشد فقيه المسجد الأقصى عطاء الصوفي
(جمع الشجاعة والخضوع لربه
* ما أحسن المحراب في المحراب)
والجفان أكبر الصحاف قال الشاعر
(يا جفنة بإزاء الحوض قد كفئت
* ومنطقا مثل وشي البردة الخضر)
والجوابي جمع جابية وهي الحوض العظيم المصنوع قال الشاعر يصف جفنة
(كجابية الشيخ العراقي تفهق
*)
(* (وقدور راسيات) *) يعني ثابتات قال الله تعالى (* (والجبال أرساها) *) النازعات 32
المسألة الثانية
شاهدت محراب داود عليه السلام في بيت المقدس بناء عظيما من حجارة صلدة لا تؤثر فيها المعاول طول الحجر خمسون ذراعا وعرضه ثلاثة عشر ذراعا وكلما قام بناؤه صغرت حجارته ويرى له ثلاثة أسوار لأنه في السحاب أيام الشتاء كلها لا يظهر لارتفاع موضعه وارتفاعه في نفسه له باب صغير ومدرجة عريضة وفيه الدور والمساكن وفي أعلاه المسجد وفيه كوة شرقية إلى المسجد الأقصى في قدر الباب ويقول الناس إنه تطلع منها على المرأة حين دخلت عليه الحمامة وليس لأحد في هدمه حيلة وفيه نجا من نجا من المسلمين حين دخلها الروم حتى صالحوا على أنفسهم بأن أسلموه إليهم على أن يسلموا في رقابهم وأموالهم فكان ذلك وتخلوا لهم عنه
6

ورأيت فيه غريبة الدهر وذلك أن ثائرا ثار به على واليه وامتنع فيه بالقوت فحاصره وحاول قتاله بالنشاب مدة والبلد على صغره مستمر على حاله ما أغلقت لهذه الفتنة سوق ولا سار إليها من العامة بشر ولا برز للحال من المسجد الأقصى معتكف ولا انقطعت مناظرة ولا بطل التدريس وإنما كانت العسكرية قد تفرقت فرقتين يقتتلون وليس عند سائر الناس لذلك حركة ولو كان بعض هذا في بلادنا لاضطرمت نار الحرب في البعيد والقريب ولانقطعت المعايش وغلقت الدكاكين وبطل التعامل لكثرة فضولنا وقلة فضولهم
المسألة الثالثة قوله (* (وتماثيل) *))
واحدتها تمثال وهو بناء غريب فإن الأسماء التي جاءت على تفعال قليلة منحصرة جماعها ما أخبرنا أبو المعالي ثابت بن بندار أخبره أبو الحسن بن رزية أخبرنا القاضي أبو سعيد أخبرنا أبو بكر بن دريد قال رجل تكلام كثير الكلام وتلقام كثير اللقم ورجل تمساح كذاب وناقة تضراب قريبة العهد بالضراب والتمراد بيت صغير للحمام وتلفاق ثوبان يخاط أحدهما بالآخر والتجفاف معروف وتمثال معروف وتبيان من البيان وتلقاء قبالتك وتهواء من الليل قطعة وتعشار موضع ورجل تنبال قصير وتلعاب كثير اللعب وتقصار قلادة فهذه ستة عشر مثالا
فلما قرأت إصلاح المنطق ببغداد على الشيخ الأجل الخطيب رئيس اللغة وخازن دار العلم أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي قال لي كنت أقرأ خطب ابن نباتة على أبي عبد الله بن العربي اللغوي الفرائضي فوصلت إلى قوله وتذكارهم تواصل مسيل العبرات وقرأته بخفض التاء فرد علي وقال وتذكارهم بفتحها لأنه ليس في كلام العرب تفعال إلا التلقاء وإلا التبيان وتعشار وتنزال موضعان وتقصار قلادة
قال لي التبريزي ثم قرأت خطب ابن نباتة على بعض أشياخي فلما وصلت إلى
7

اللفظ وذكرت له كلام ابن العربي قال لي اكتب ما أملي عليك فأملى علي الأشياء التي جاءت على تفعال ضربان مصادر وأسماء فأما المصادر فالتلقاء والتبيان وهما في القرآن والأسماء رجل تنبال أي قصير وزعم قوم أن التاء في تنبال أصلية فيكون وزنه فعلالا وذكر ما قال ابن دريد وزاد التنضال من المناضلة والتيغار حب مقطوع يزيد في الخابية وترياع موضع والتربان وترغام اسم شاعر ويقال جاء لتنفاق الهلال ويجوز أن يكون مصدرا والتمتان واحد التمتانين وهي خيوط تضرب بها الفسطاط ورجل تمزاح كثير المزاح والتمساح الدابة المعروفة
المسألة الرابعة
التمثال على قسمين حيوان وموات والموات على قسمين جماد ونام وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه وذلك معلوم من طريقين
أحدهما عموم قوله (* (وتماثيل) *)
والثاني ما روي من طرق عديدة أصلها الإسرائيليات لأن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان
فإن قيل لا عموم لقوله (* (وتماثيل) *) فإنه إثبات في نكرة والإثبات في النكرة لا عموم له إنما العموم في النفي في النكرة حسبما قررتموه في الأصول
قلنا كذلك نقول بيد أنه قد اقترن بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم وهو قوله (* (ما يشاء) *) فاقتران المشيئة به يقتضي العموم له
فإن قيل فكيف شاء عمل الصور المنهي عنها
قلنا لم يرد أنه كان منهيا عنها في شرعه بل ورد على ألسنة أهل الكتاب أنه
8

كان أمرا مأذونا فيه والذي أوجب النهي عنه في شرعنا والله أعلم ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام فكانوا يصورون ويعبدون فقطع الله الذريعة وحمى الباب
فإن قيل فقد قال حين ذم الصور وعملها من الصحيح قول النبي من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ وفي رواية الذين يشبهون بخلق الله فعلل بغير ما زعمتم
قلنا نهى عن الصورة وذكر علة التشبيه بخلق الله وفيها زيادة علة عبادتها من دون الله فنبه على أن نفس عملها معصية فما ظنك بعبادتها
وقد ورد في كتب التفسير شأن يغوث ويعوق ونسرا وأنهم كانوا أناسا ثم صوروا بعد موتهم وعبدوا وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات منهم ميت صوروه من خشب في أحسن صورة وأجلسوه في موضعه من بيته وكسوه بزته إن كان رجلا وحليتها إن كانت امرأة وأغلقوا عليه الباب
فإذا أصاب أحد منهم كرب أو تجدد له مكروه فتح الباب عليه وجلس عنده يبكي ويناجيه بكان وكان حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه ثم يغلق الباب عليه وينصرف عنه وإن تمادى بهم الزمان يعبدوها من جملة الأصنام والأوثان فعلى هذا التأويل
9

إن قلنا إن شريعة من قبلنا لا تلزمنا فليس ينقل على ذلك حكم
وإن قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا فيكون نهي النبي عن الصور نسخا وهي
المسألة الخامسة
على ما بيناه في قسم الناسخ والمنسوخ قبل هذا
وإن قلنا إن الذي كان يصنع له الصور المباحة من غير الحيوان وصورته فشرعنا وشرعه واحد
وإن قلنا إن الذي حرم عليه ما كان شخصا لا ما كان رقما في ثوب فقد اختلفت الأحاديث في ذلك اختلافا متباينا بيناه في شرح الحديث لبابه أن أمهات الأحاديث خمس أمهات
الأم الأولى ما روي عن ابن مسعود وابن عباس أن أصحاب الصور يعذبون أو هم أشد الناس عذابا وهذا عام في كل صورة
الأم الثانية روي عن أبي طلحة عن النبي لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة زاد زيد بن خالد الجهني إلا ما كان رقما في ثوب وفي رواية عن أبي طلحة نحوه فقلت لعائشة هل سمعت هذا فقالت لا وسأحدثكم خرج النبي في غزاة فأخذت نمطا فنشرته على الباب فلما قدم ورأى النمط عرفت الكراهة في وجهه فجذبه حتى هتكه وقال إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين قالت فقطعت منه وسادتين وحشوتهما ليفا فلم يعب ذلك علي
10

الأم الثالثة قالت عائشة كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله فقال رسول الله حولي هذا فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا
الأم الرابعة روي عن عائشة قالت دخل علي رسول الله وأنا متسترة بقرام فيه صورة فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه ثم قال إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله قالت عائشة فقطعته فجعلت منه وسادتين
الأم الخامسة قالت عائشة كان لنا ثوب ممدود على سهوة فيها تصاوير فكان النبي يصلي إليه ثم قال أخريه عني فجعلت منه وسادتين فكان النبي يرتفق بهما
وفي رواية في حديث النمرقة قالت اشتريتها لك لتقعد عليها وتتوسدها فقال إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة وإن الملائكة لا يدخلون بيتا فيه صورة
قال القاضي فتبين بهذه الأحاديث أن الصور ممنوعة على العموم ثم جاء إلا ما كان رقما في ثوب فخص من جملة الصور ثم بقول النبي لعائشة في الثوب المصور أخريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا فثبتت الكراهة فيه ثم بهتك النبي الثوب المصور على عائشة منع منه ثم بقطعها لها وسادتين حتى تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها بأن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة
11

ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز لقولها في النمرقة المصورة اشتريتها لك لتقعد عليها وتتوسدها فمنع منه وتوعد عليه وتبين بحديث الصلاة إلى الصورة أن ذلك كان جائزا في الرقم في الثوب ثم نسخه المنع فهكذا استقر فيه الأمر والله أعلم
المسألة السادسة قوله تعالى (* (وجفان كالجواب) *))
قال ابن القاسم عن مالك كالجوبة من الأرض وقدور راسيات يعني لا تحمل ولا تحرك لعظمها وكذلك كانت قدور عبد الله بن جدعان يصعد إليها في الجاهلية بسلم ورأيت برباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك فإنهم يطبخون جميعا ويأكلون جميعا من غير استئثار أحد منهم عن أحد وعنها عبر طرفة بن العبد بقوله
(كالجوابي لا تني مترعة
* لقرى الأضياف أو للمحتضر)
وقال أيضا
(يجبر المحروب فيها ماله
* يجفان وقباب وخدم))
المسألة السابعة قوله تعالى (* (اعملوا آل داود شكرا) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول روي أن النبي قام على المنبر فقال اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ثم قال ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود قال فقلنا ما هن قال العدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وخشية الله في السر والعلانية
12

الثاني قوله الحمد لله
الثالث الصلاة شكر والصيام شكر وكل خير يفعل لله شكر
قال القاضي رضي الله عنه حقيقة الشكر استعمال النعمة في الطاعة والكفران استعمالها في المعصية
وقليل من يفعل ذلك لأن الخير أقل من الشر والطاعة أقل من المعصية بحسب سابق التقدير والحمد لله رب العالمين
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) *) الآية 39
فيها مسألتان
المسألة الأولى (* (يخلفه) *))
يعني يأتي بثان بعد الأول ومنه الخلفة في النبات
وقال أعرابي لأبي بكر يا خليفة رسول الله فقال لا بل أنا الخالفة بعده قال ثعلب يريد بالقاعد بعده والخالفة الذي يستخلفه الرئيس على أهله وماله
المسألة الثانية في معنى الخلف ها هنا
أربعة أوجه
الأول يخلفه إذا رأى ذلك صلاحا كما يجيب الدعاء إذا شاء
الثاني يخلفه بالثواب
الثالث معنى يخلفه فهو أخلفه لأن كل ما عند العبد من خلف الله ورزقه
13

روى أشهب وابن نافع وابن القاسم عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي قال يقول الله يا بن آدم أنفق أنفق عليك وهذه إشارة إلى أن الخلف في الدنيا بمثل المنفق بها إذا كانت النفقة في طاعة الله وهو كالدعاء كما تقدم سواء إما أن تقضي حاجته وكذلك في النفقة يعوض مثله وأزيد وإما أن يعوض والتعويض ها هنا بالثواب وإما أن يدخر له والادخار هاهنا مثله في الآخرة
14

سورة فاطر فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور) *) الآية 1
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في قوله (* (يصعد) *))
والصعود هو الحركة إلى فوق وهو العروج أيضا ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض ولكن ضرب صعوده مثلا لقبوله لأن موضع الثواب فوق وموضع العذاب أسفل والصعود رفعة والنزول هوان
المسألة الثانية في الكلم الطيب ثلاثة أقوال
الأول أنه التوحيد الصادر عن عقيدة طيبة
الثاني ما يكون موافقا للسنة
الثالث ما لا يكون للعبد فيه حظ وإنما هو حق لله سبحانه وتعالى
المسألة الثالثة قوله (* (والعمل الصالح) *))
هو الموافق للسنة
15

المسألة الرابعة قوله (* (يرفعه) *))
قيل الفاعل في يرفعه مضمر يعود على الله أي هو الذي يرفع العمل الصالح كما أنه إليه يصعد الكلم الطيب
وقيل الفاعل في يرفعه مضمر يعود على العمل المعنى إلى الله يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح هو الذي يصعد الكلم الطيب وقد قال السلف بالوجهين وهما صحيحان
فالأول حقيقة لأن الله هو الرافع الخافض
والثاني مجاز ولكنه جائز سائغ
وحقيقته أن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع لأن من خالف قوله فعله فهو وبال عليه
وتحقيق هذا أن العمل الصالح إذا وقع شرطا في القول أو مرتبطا به فإنه لا قبول له إلا به وإن لم يكن شرطا فيه ولا مرتبطا به فإن كلمه الطيب يكتب له وعمله الصالح يكتب عليه وتقع الموازنة بينهما ثم يحكم له بالفوز والربح والخسران
المسألة الخامسة
ذكروا عند ابن عباس يقطع الصلاة الكلب فقرأ هذه الآية (* (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) *) وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم
وقد دخل هذا في الصلاة بشروطها فلا يقطعها عليه شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك من مثل ما انعقدت به من قرآن أوسنة
وقد تعلق من رأى ذلك بقوله يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود
16

وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف وشرح الحديث وذكرنا أن الآثار في ذلك بينة متعارضة فتبقى الصلاة على صحتها
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *) الآية 12
وقد قدمنا القول في طعام البحر وحليته في سورة المائدة والنحل بما يغني عن إعادته ها هنا
17

سورة يس فيها أربع آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يس) *) الآية 1
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
هكذا كتب على الصورة التي سطرناها الآن وهي في المصحف كذلك وكذلك ثبت قوله (* (ق) *) وثبت قوله (* (ن والقلم) *) ولم يثبت على التهجي فيقال فيه ياسين ولا قيل قاف والقرآن المجيد ولا نون والقلم ولو ثبت بهذه الصورة لقلت فيها قول من يقول إن قاف جبل وإن نون الحوت أو الدواة فكانت في ذلك حكمة بديعة وذلك أن الخلفاء والصحابة الذين تولوا كتب القرآن كتبوها مطلقة لتبقى تحت حجاب الإخفاء ولا يقطع عليها بمعنى من المعاني المحتملة فإن القطع عليها إنما يكون بدليل خبر إذ ليس للنظر في ذلك أثر والله أعلم
المسألة الثانية
اختلف الناس في معناه على أربعة أقوال
الأول أنه اسم من أسماء الله تعالى قاله مالك روى عنه أشهب قال سألت
18

مالكا هل ينبغي لأحد أن يسمي يس قال ما أراه ينبغي لقول الله (* (يس والقرآن الحكيم) *) يقول هذا اسمي يس
الثاني قال ابن عباس يس يا إنسان بلسان الحبشة وقولك يا طه يا رجل وعنه رواية أنه اسم الله كما قال مالك
الثالث أنه كنى به عن النبي وقيل له يا يس أي يا سيد
الرابع أنه من فواتح السور وقد روي عن ابن عباس أنه قال قال رسول الله سماني الله في القرآن سبعة أسماء محمدا وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله وهذا حديث لا يصح وقد جمعنا أسماءه من القرآن والسنة في كتاب النبي
المسألة الثالثة
رواية أشهب عن مالك لا يسمى أحد يس لأنه اسم الله كلام بديع وذلك أن العبد يجوز له أن يتسمى باسم الله إذا كان فيه معنى منه كقوله عالم وقادر ومريد ومتكلم وإنما
منع مالك من التسمية بهذا لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد إذا كان لا يعرف هل هو اسم من أسماء الباري فيقدم على خطر منه فاقتضى النظر رفعه عنه والله أعلم
فإن قيل فقد قال الله تعالى سلام على آل ياسين
قلنا ذلك مكتوب بهجاء فيجوز التسمية به وهذا الذي ليس بمتهجى هو الذي تكلم مالك عليه لما فيه من الإشكال والله أعلم
19

الآية الثانية
قوله تعالى (* (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) *) الآية 12
فيه مسألة واحدة
في سبب نزولها
روي عن ابن عباس قال كانت منازل الأنصار بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد فنزلت (* (ونكتب ما قدموا وآثارهم) *) فقالوا نثبت مكاننا
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن القوم كانوا بني سلمة وأن الآية نزلت فيهم
وفي الصحيح أن بني سلمة أرادوا ان ينتقلوا قريبا من المسجد فقال لهم النبي يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم يعني إلزموا دياركم تكتب لكم آثاركم أي خطاكم إلى المسجد فإنه كما قال النبي صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته في بيته وفي سوقه سبعا وعشرين ضعفا وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط بها عنه خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه الذي صلى فيه اللهم صل عليه اللهم ارحمه ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة
20

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) *) الآية 69
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى كلام العرب
على أوضاع منها الخطب والسجع والأراجيز والأمثال والأشعار وكان النبي أفصح بني آدم ولكنه حجب عنه الشعر لما كان الله قد ادخر من جعل فصاحة القرآن معجزة له ودلالة على صدقه لما هو عليه من أسلوب البلاغة وعجيب الفصاحة الخارجة عن أنواع كلام العرب اللسن البلغاء الفصح المتشدقين اللد كما سلب عنه الكتابة وأبقاه على حكم الأمية تحقيقا لهذه الحالة وتأكيدا وذلك قوله (* (وما ينبغي له) *) لأجل معجزته التبي بينا أن صفتها من صفته ثم هي زيادة عظمى على رتبته
المسألة الثانية
قد بينا فيما سبق من أوضاعنا في الأصول وجه إعجاز القرآن وخروجه عن أنواع كلام العرب وخصوصا عن وزن الشعر ولذلك قال أخو أبي ذر لأبي ذر لقد وضعت قوله على أقوال الشعراء فلم يكن عليها ولا دخل في بحور العروض الخمسة عشر ولا في زيادات المتأخرين عليها لأن تلك البحور تخرج من خمس دوائر
إحداها دائرة المختلف ينفك منها ثلاثة أبحر وهي الطويل والمديد والبسيط ثم تتشعب عليها زيادات كلها منفكة
21

الدائرة الثانية دائرة المؤتلف ينفك منها بحر الوافر والكامل ثم يزيد عليها زيادات لا تخرج عنها
الدائرة الثالثة دائرة المتفق وينفك منها في الأصل الهزج والرجز والرمل ثم يزيد عليها ما يرجع إليها
الدائرة الرابعة دائرة المجتث يجري عليها ستة أبحر وهي السريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجتث ويزيد عليها ما يجري معها في أفاعيلها
الدائرة الخامسة دائرة المنفرد وينفك منها عند الخليل والأخفش بحر واحد وهو المتقارب وعند الزجاج بحر آخر سموه المجتث والمتدارك وركض الخيل
ولقد اجتهد المجتهدون في أن يجروا القرآن أو شيئا منه على وزن من هذه الأوزان فلم يقدروا فظهر عند الولي والعدو أنه ليس بشعر وذلك قوله (* (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) *) وقال (* (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) *) الحاقة 41
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وما ينبغي له) *))
تحقيق في نفي ذلك عنه
وقد اعترض جماعة من فصحاء الملحدة علينا في نظم القرآن والسنة بأشياء أرادوا بها التلبيس على الضعفة منها قوله (* (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) *) المائدة 117 وقالوا إن هذا من بحر المتقارب على ميزان قوله
(فأما تميم تميم بن مر
* فألفاهم القوم رؤوسا نياما)
وهذا إنما اعترض به الجاهلون بالصناعة لأن الذي يلائم هذا البيت من الآية
22

قوله فلما إلى قوله (* (كل) *) وإذا وقفنا عليه لم يتم الكلام وإذا أتممناه بقوله (* (شيء شهيد) *) خرج عن وزن الشعر وزاد فيه ما يصير به عشرة أجزاء كلها
على وزن فعولن وليس في بحور الشعر ما يخرج البيت منه من عشرة أجزاء وإنما أكثره ثمانية
ومنها قوله (* (ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) *) التوبة 14 ادعوا أنه من بحر الوافر وقطعوه مفاعيل مفاعيل فعولن مفاعيل مفاعيل فعولن وهو على وزن قول الأول
(لنا غنم نسوقها غزار
* كأن قرون جلتها العصي)
وعلى وزن قول الآخر
(طوال قنا يطاعنها قصار
* وقطرك في ندى ووغى بحار)
وهذا فاسد من أوجه
أحدها أنه إنما كانت تكون على هذا التقدير لو زدت فيها ألفا بتمكين حركة النون من قوله مؤمنين فتقول مؤمنينا
الثاني أنها إنما تكون على الروي بإشباع حركة الميم في قوله (* (ويخزهم) *) وإذا دخل عليه التغيير لم يكن قرآنا وإذا قرئ على وجهه لم يكن شعرا
ومنها قوله (* (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) *) الشعراء 35 زعموا أنه موافق بحر الرجز في الوزن وهذا غير لازم لأنه ليس بكلام تام فإن ضممت إليه ما يتم به الكلام خرج عن وزن الشعر
ومنها قوله (* (وجفان كالجواب وقدور راسيات) *) سبأ 13 زعموا أنه من بحر الرجز كقول الشاعر امرئ القيس
(رهين معجب بالقينات
*)
وهذا لا يلزم من وجهين
23

أحدهما إنما يجري على هذا الروي إذا زدت ياء بعد الباء في قولك كالجوابي فإذا حذفت الياء فليس بكلام تام فيتعلق به أنه ليس على وزن شيء
ومنها قوله (* (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون) *) سبأ 3 فقالوا هذه آية تامة وهي على وزن بيت من الرمل وهذه مغالطة لأنه إنما يكون كذلك بأن تحذف من قولك لا تستأخرون قوله (لا تس) وتوصل قولك يوم بقولك تأخرون وتقف مع ذلك على النون من قولك تأخرون فتقول تأخرونا بالألف ويكون حينئذ مصراعا ثانيا ويتم المصراعان بيتا من الرمل حينئذ ولو قرئ كذلك لم يكن قرآنا ومتى قرئت الآية على ما جاءت لم تكن على وزن الشعر
ومنها قوله (* (ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا) *) الإنسان 14 وهذا موضوع على وزن الكامل من وجه وعلى روي الرجز من وزن آخر وهذا فاسد لأن من قرأ عليهم بإسكان الميم يكون على وزن فعول وليس في بحر الكامل ولا في بحر الرجز فعولن بحال ومن أشبع حركة الميم فلا يكون بيتا إلا بإسقاط الواو من دانية وإذا حذفت الواو بطل نظم القرآن
ومنها قوله (* (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك) *) الشرح 2 4 زعموا أرغمهم الله أنها من بحر الرمل وأنها ثلاثة أبيات كل بيت منها على مصراع وهو من مجزوه على فاعلات فاعلات ويقوم فيها فعلات مقامه فيقال لهم ما جاء في ديوان العرب بيت من الرمل على جزأين وإنما جاء على ستة أجزاء تامة كلها فاعلات أو فعلات أو على أربعة أجزاء كلها فاعلات أو فعلات فأما على جزأين كلاهما فاعلات فاعلات فلم يرد قط فيها وكلامهم هذا يقتضي أن تكون كل واحدة من هذه الآيات على وزن بعض بيت وهذا مما لا ننكره وإنما ننكر أن تكون آية تامة أو كلام تام من القرآن على وزن بيت تام من الشعر
24

فإن قيل أليس يكون المجزو والمربع من الرمل تارة مصرعا وتارة غير مصرع فما أنكرتم أن تكون هذه الآيات الثلاث من المجزو والمربع والمصرع من الرمل قلنا إن البيت من القصيدة إنما يكون مصرعا إذا كان فيه أبيات أو بيت غير مصرع فأما إذا كانت أنصاف أبياته كلها على سجع واحد وكل نصف منها بيت برأسه فقد بينا أنه ليس في الرمل ما يكون على جزأين وكل واحد من هذه الآيات جزآن فلم يرد على شرط الرمل
ومنها قوله تعالى (* (أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم) *) الماعون 1 2 وهذا باطل لأن الآية لا تقع في أقوال الشعراء إلا بحذف اللام من قوله (* (فذلك) *) وبتمكين حركة الميم من اليتيم فيكون اليتيما
ومنها قوله تعالى (* (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) *) النمل 23 فقوله (* (وأوتيت من كل شيء ولها) *) بيت تام فقد بينا فساد هذا وأن بعض آية وجزءا من كلام لا يكون شعرا
فإن قيل يقع بعد ذلك قوله (* (ولها عرش عظيم) *) إتماما للكلام على معنى النظمين وقد جاء ذلك في أشعارهم قال النابغة
(وهم وردوا الجفار على تميم
* وهم أصحاب يوم عكاظ إني)
(شهدت لهم مواطن صالحات
* أنرتهم بنصح القول مني)
قلنا التضمين على عيبه إنما يكون في بيت على تأسيس بيت قبله فأما أن يكون التأسيس بيتا والتضمين أقل من بيت فليس ذلك بشعر عند أحد من العرب ولا ينكر أحد أن يكون بعض آية على مثال قول الشعر كقوله تعالى (* (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *) الأنفال 38 فهذا على نصف بيت من الرجز
وكذلك قوله تعالى (* (وأعطى قليلا وأكدى) *) النجم 34 على نصف بيت من المتقارب المستمر وهذا كثير
25

المسألة الرابعة
وقد ادعوه في كلام رسول الله وقالوا إن لم يكن في كتاب الله فهو في كلام الذي نفيت عنه معرفة الشعر فمن ذلك قوله أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
قلنا قد قال الأخفش إن هذا ليس بشعر وروى ابن المظفر عن الخليل في كتاب العين إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعرا وروى غيره عنه أنه من منهوك الرجز فعلى القولين الأولين لا يكون شعرا وعلى القول الثالث لا يكون منهوك رجز إلا بالوقف على الباء من قولك لا كذب ومن قوله عبد المطلب ولم يعلم كيف قالها النبي والأظهر من حاله أنه قال لا كذب بتنوين الباء مرفوعة وبخفض الباء من عبد المطلب على الإضافة وقد قال النبي فيما يؤثر متمثلا بقول طرفة
(ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
* ويأتيك من لم تزود بالأخبار)
وقال
(أتجعل نهبي ونهب العبيد
* بين الأقرع وعيينة)
وقال
(كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا
*)
فقال له أبو بكر في ذلك بأبي أنت وأمي وقبل رأسه قال الله وما علمناه الشعر وما ينبغي له
26

قالوا ومنها قوله
(هل أنت إلا إصبع دميت
* وفي سبيل الله ما لقيت)
وألزمونا أن هذا شعر موزون من بحر السريع
قلنا إنما يكون هذا شعرا موزونا إذا كسرت التاء من دميت ولقيت فإن سكنت لم يكن شعرا بحال لأن هاتين الكلمتين على هذه الصفة تكون فعول ولا مدخل لفعول في بحر السريع ولعل النبي قالها ساكنة التاء أو متحركة التاء من غير إشباع
قالوا ومنها قوله (الله مولانا ولا مولى لكم) فادعوا أنه على وزن مشطور الرجز
قلنا إنما يكون شعرا إذا تكلم به المتكلم موصولا فإن وقف على قوله الله مولانا أو وصل وحرك الميم من قوله لكم لم يكن شعرا وقد نقله ووصله بكلام
ومنها قوله الولد للفراش وللعاهر الحجر وهذا فاسد لا يكون شعرا إلا بعد تفسير ما قاله النبي فتسكن اللام من قولك الولد وهذا لا يقوله أحد
وقد أجاب عن ذلك علماؤنا بأن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يعد شعرا وإنما يعد منه ما يجري على وزن الشعر ومع القصد إليه فقد يقول قائل حدثنا شيخ لنا وينادي يا صاحب الكساء ولا يعد هذا شعرا
وقد كان رجل ينادي في مرضه وهو من عرض العامة العقلاء اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى وبهذا وسواه يتبين صحة الآية معنى وبطلان ما موهوا به قطعا
المسألة الخامسة
روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر قال لا تكثر منه فمن عيبه أن الله يقول (* (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) *) قال ولقد بلغني أن عمر بن
27

الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري أن أجمع الشعراء قبلك واسألهم عن الشعر وهل بقي معهم معرفة به وأحضر لبيدا ذلك قال فجمعهم وسألهم فقالوا إنا لنعرفه ونقوله وسأل لبيدا فقال ما قلت شعرا منذ سمعت الله يقول (* (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه) *)
قال ابن العربي هذه الآية ليست من عيب الشعر كما لم يكن قوله تعالى (* (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) *) العنكبوت 48 من عيب الخط فلما لم تكن الأمية من عيب الخط كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي من عيب الشعر وقد بينا حال الشعر في سورة الظلة والحمد لله
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) *) الآية 78
فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها
يروى أن أبي بن خلف أو العاصي بن وائل مر برمة بالية فأخذها وقال اليوم أغلب محمدا وجاء إليه فقال يا محمد أنت الذي تزعم أن الله يعيد هذا كما بدأه وفتته بيده حتى عاد رميما فأنزل الله تعالى هذه الآية (* (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) *) إلى آخر السورة
المسألة الثانية قوله تعالى (* (قال من يحيي العظام وهي رميم) *))
دليل على أن في العظام حياة وأنه ينجس بالموت لأن كل محل تحل الحياة به فيخلفها الموت ينجس ويحرم بقوله تعالى (* (حرمت عليكم الميتة) *) المائدة
28

3 وساعدنا أبو حنيفة فيه وقال الشافعي لا حياة فيه ولا ينجس بالموت وقد اضطرب أرباب المذاهب فيه والصحيح ما قدمناه
فإن قيل أراد بقوله من يحيى العظام يعني أصحاب العظام وإقامة المضاف مقام المضاف إليه كثير في اللغة موجود في الشريعة
قلنا إنما يكون ذلك إذا احتيج إليه لضرورة وليس ههنا ضرورة تدعو إلى هذا الإضمار ولا يفتقر إلى هذا التقدير وإنما يحمل الكلام على الظاهر إذ الباري سبحانه قد أخبر به وهو قادر عليه والحقيقة تشهد له فإن الإحساس الذي هو علامة الحياة موجود فيه وقد بيناه في مسائل الخلاف
29

سورة الصافات فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) *) الآية 2
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى اختلف في الذبيح
هل هو إسحاق أو إسماعيل وقد اختلف الناس فيه اختلافا كثيرا قد بيناه في مسألة تبيين الصحيح في تعيين الذبيح وليست المسألة من الأحكام ولا من أصول الدين وإنما هي من محاسن الشريعة وتوابعها ومتمماتها لا أمهاتها
المسألة الثانية قوله تعالى (* (إني أرى في المنام أني أذبحك) *))
ورؤيا الأنبياء وحي حسبما بيناه في كتب الأصول وشرح الحديث لأن الأنبياء ليس للشيطان عليهم في التخييل سبيل ولا للاختلاط عليم دليل وإنما قلوبهم صافية وأفكارهم صقيلة فما ألقي إليهم ونفث به الملك في روعهم وضرب المثل له عليهم فهو حق ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها وما كنت أظن أنه ينزل في قرآن يتلى ولكن رجوت أن يرى رسول الله رؤيا يبرئني الله بها
30

المسألة الثالثة
قد بينا في كتب الأصول والحديث حقيقة الرؤيا وقد قدمنا في هذا الكتاب نبذة منها وأن الباري تبارك وتعالى يضربها للناس ولها أسماء وكنى فمنها رؤيا تخرج بصفتها ومنها رؤيا تخرج بتأويلها وهو كنيتها
وفي صحيح الحديث أن النبي قال لعائشة أريتك في سرقة من حرير فقال الملك هذه زوجك فاكشف عنها فإذا هي أنت فقلت إن يك هذا من عند الله يمضه ولم يشك فيه لقوله فقال لي الملك ولا يقول الملك إلا حقا ولكن الأمر احتمل عند النبي أن تكون الرؤيا باسمها أو تكون بكنيتها فإن كانت باسمها فتكون هي الزوجة وإن كانت الرؤيا مكناة فتكون في أختها أو قرابتها أو جارتها أو من يسمى باسمها أو غير ذلك من وجوه التشبيهات فيها وهذا أصل تقرر في الباب فليحفظ وليحصل فإنه أصله
المسألة الرابعة
قد جرى في هذه الآية غريبة قد بيناها حيث وقعت من كلامنا ذرها جميع علمائنا مع أحزاب الطوائف وهي مسألة النسخ قبل الفعل لأنه رفع الأمر بالذبح قبل أن يقع الذبح ولو لم يتصور رفعه
وقال المخالفون إنه لم ينسخ ولكنه نفذ الذبح وكان كلما قطع جزءا التأم فاجتمع الذبح والإعادة لموضعها حسبما كانت
وقالت طائفة وجد حلقه نحاسا أو مغشى بنحاس فكان كلما أراد قطعا وجد منعا وذلك كله جائز في القدرة الإلهية ولكن يفتقر إلى نقل صحيح فإنه لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر وكان الذبح والتئام الأجزاء بعد ذلك أوقع في مطلوبهم من وضع النحاس موضع الجلد واللحم وكله أمر بعيد من العلم وباب التحقيق فيها ومسلكه ما بيناه واخترناه فأوضحنا لبابه الذي لم نسبق إليه إن شاء الله
31

تعالى قال مخبرا عن إبراهيم إنه قال لولده (* (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) *) الآيات 12 - 15
وقد ثبت أن رؤيا الأنبياء وحي لأن الرؤيا إما أن تكون من غلبة الأخلاط كما تقول الفلاسفة وتلك أخلاط وأيها فليس لها بالأنبياء أخلاط وإما أن تكون من حديث النفس ولم يحدث إبراهيم قط نفسه بذبح ولده وإما أن تكون من تلاعب الشيطان فليس للشيطان على الأنبياء سبيل في تخييل ولا تلاعب حسبما بيناه وقررناه ومهدناه وبسطناه
فقال إبراهيم لابنه رأيت أني أذبحك في المنام فأخذ الوالد والولد الرؤيا بظاهرها واسمها وقال له افعل ما تؤمر إذ هو أمر من قبل الله تعالى لأنهما علما أن رؤيا الأنبياء وحي الله واستسلما لقضاء الله هذا في قرة عينه وهذا في نفسه أعطي ذبحا فداء وقيل له هذا فداؤك فامتثل فيه ما رأيت فإنه حقيقة ما خاطبناك فيه وهو كناية لا اسم وجعله
مصدقا للرؤيا بمبادرته الامتثال فإنه لا بد من اعتقاد الوجوب والتهيؤ للعمل
فلما اعتقدا الوجوب وتهيآ للعمل هذا بصورة الذابح وهذا بصورة المذبوح أعطى محلا للذبح فداء عن ذلك المرئي في المنام يقع موضعه برسم الكناية وإظهار الحق الموعود فيه
فإن قيل قد قال له الولد (* (يا أبت افعل ما تؤمر) *) فأين الأمر
قلنا هما كلمتان إحداهما من الوالد إبراهيم والثانية من الولد إسماعيل فأما كلمة إبراهيم فهي قوله أذبحك وهو خبر لا أمر وأما كلمة إسماعيل افعل ما تؤمر وهو أمر وقول إبراهيم (* (إني أرى في المنام أني أذبحك) *) وإن كانت صيغته
32

صيغة الخبر فإن معناها الأمر ضرورة لأنه لو كان عبارة عن خبر واقع لما كان له تأويل ينتظر وإنما هو بصيغة الخبر ومعناه الأمر ضرورة
فقال إسماعيل لأبيه إبراهيم (* (افعل ما تؤمر) *) فعبر عن نفسه بالانقياد إلى معنى خبر أبيه وهو الأمر ولذلك قال الله تعالى (* (قد صدقت الرؤيا) *) حين تيسرا للعمل وأقبلا على الفعل فكان صدقها ذبحا مكانها وهو الفداء وكان ذلك أمرا في المعنى ضرورة فكان ما كان من إبراهيم امتثالا ومن إسماعيل انقيادا ووضحت المعاني بحقيقتها وجرت الألفاظ على نصابها لصوابها ولم يحتج إلى تأويل فاسد يقلب الجلد نحاسا أو غيره
المسألة الخامسة
لما قررنا حظ التفسير والأصول في هذه الآية تركبت عليها مسألة من الأحكام وهو إذا نذر الرجل ذبح ولده
فقال الشافعي هي معصية يستغفر الله منها
وقال أبو حنيفة هي كلمة يلزمه بها ذبح شاة
وقال أبو عبد الله إمام دار الهجرة يلزمه ذبح شاة في تفصيل بيناه في كتب الفروع والذي ذكرناه هو الذي ننظره الآن
ودليلنا أن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا فألزم الله إبراهيم ذبح الولد وأخرجه عند بذبح الشاة وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يجب أن يلزمه ذبح شاة لأن الله تعالى قال ملة أبيكم إبراهيم والإيمان إلزام أصلي والنذر إلزام فرعي فيجب أن يكون عليه محمولا
33

فإن قيل كيف يؤمر إبراهيم بذبح الولد وهي معصية والأمر بالمعصية لا يجوز
قلنا هذا اعتراض على كتاب الله فلا يكون ذلك ممن يعتقد الإسلام فكيف ممن يفتي في الحلال منه والحرام وقد قال الله تعالى افعل ما تؤمر
والذي يجلو الالتباس عن قلوب الناس في ذلك أن المعاصي والطاعات ليست بأوصاف ذاتية للأعيان وإنما الطاعة عبارة عما تعلق به الأمر من الأفعال والمعصية عبارة عما تعلق به النهي من الأفعال فلما تلعق الأمر بذبح الولد إسماعيل من إبراهيم صار طاعة وابتلاء ولهذا قال الله تعالى (* (إن هذا لهو البلاء المبين) *) الآية 16 أي الصبر على ذبح الولد والنفس ولما النهي بنا في ذبح أبنائنا صار معصية
فإن قيل كيف يصير نذرا وهو معصية
قلنا إنما يصير معصية لو كان هو يقصد ذبح ولده بنذره ولا ينوي الفداء
فإن قيل فإن وقع ذلك وقصد المعصية ولم ينو الفداء
قلنا لو قصد ذلك لم يضره في قصده ولا أثر في نذره لأن ذبح الولد صار عبارة عن ذبح الشاة شرعا
فإن قيل فكيف يصح أن يكون عبارة عنه وكناية فيه وإنما يصح أن يكون الشيء كناية عن الشيء بأحد وجهين إما باشتباههما في المعنى الخاص وإما بنسبة تكون بينهما وها هنا لا نسبة بين الطاعة وهو النذر ولا بين المعصية وهي ذبح الولد ولا تشابه أيضا بينهما فإن ذبح الولد ليس بسبب لذبح الشاة
قلنا هو سبب له شرعا لأنه جعل كناية عنه في الشرع والأسباب إنما تعرف عادة أو شرعا وقد استوفينا باقي الكلام على المسألة في كتب الأصول ومسائل الخلاف
34

الآية الثانية
قوله تعالى (* (فساهم فكان من المدحضين) *) الآية 16
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
يونس عليه السلام رسول رب العالمين وهو يونس بن متى قال النبي لا تفضلوني على يونس بن متى ونسبه إلى أبيه
أخبرني غير واحد من أصحابنا عن إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله ابن يوسف الجويني أنه سئل هل الباري تعالى في جهة فقال لا وهو يتعالى عن ذلك قيل له ما الدليل عليه قال الدليل عليه قوله عليه السلام لا تفضلوني على يونس بن متى فقيل له ما وجه الدليل من هذا الخبر قال لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينه فقام رجلان فقالا هي علينا فقال لا يتبع بها اثنين لأنه يشق عليه فقال واحد هي علي
فقال إن يونس بن متى رمى بنفسه في البحر فالتقمه الحوت وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث ونادى لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين كما أخبر الله عنه ولم يكن محمد بأقرب من الله من يونس حين جلس على الرفرف الأخضر وارتقى به وصعد حتى انتهى به إلى موضع يسمع منه صرير الأقلام وناجاه ربه بما ناجاه
وأوحى إلى عبده ما أوحى بأقرب من الله من يونس بن متى في بطن الحوت وظلمة البحر
قصدت قبره مرارا لا أحصيها بقرية جلجون في مسيري من المسجد الأقصى إلى
35

قبر الخليل وبت به وتقربت إلى الله تعالى بمحبته ودرسنا كثيرا من العلم عنده والله ينفعنا به
المسألة الثانية
بعثه الله إلى أهل نينوى من قرى الموصل على دجلة ومن داناهم فكذبوه على عادة الأمم مع الرسل فنزل جبريل على يونس فقال له إن العذاب يأتي قومك يوم كذا وكذا فلما كان يومئذ جاءه جبريل فقال له إنهم قد حضرهم العذاب قال له يونس ألتمس دابة قال الأمر أعجل من ذلك قال فألتمس حذاء قال الأمر أعجل من ذلك قال فغضب يونس وخرج وكانت العلامة بينه وبين قومه في نزول العذاب عليم خروجه عنهم
فلما فقدوه خرجوا بالصغير والكبير والشاة والسخلة والناقة والهبع والفحل وكل شيء عندهم وعزلوا الوالدة عن ولدها والمرأة عن خليلها وتابوا إلى الله وصاحوا حتى سمع لهم عجيج فأتاهم العذاب حتى نظروا إليه ثم صرفه الله عنهم فغضب يونس وركب البحر في سفينة حتى إذا كانوا حيث شاء الله ركدت السفينة
وقيل هاج البحر بأمواجه وقيل عرض لهم حوت حبس جريتها فقالوا إن فينا مشؤوما أو مذنبا فلنقترع عليه فاقترعوا فطار السهم على يونس فقالوا على مثل هذا يقع السهم قد أخطأنا فأعيدوها فأعادوا القرعة فوقعت عليه فقالوا مثله وأعادوها فوقعت القرعة عليه فلما رأى ذلك يونس رمى بنفسه في البحر فالتقمه الحوت فأوحى الله إليه إنا لم نجعل يونس لك رزقا وإنما جعلنا بطنك له سجنا فنادى أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجاب الله له وأمر الحوت فرماه على الساحل قد ذهب شعره فأنبت الله عليه شجرة من يقطين فلما ارتفعت الشمس تحات ورقها فبكى فأوحى الله إليه أتبكي على شجرة أنبتها في يوم وأهلكتها في يوم ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون آمنوا فمتعناهم إلى حين
36

المسألة الثالثة قوله (* (فساهم فكان من المدحضين) *))
نص على القرعة وكانت في شريعة من قبلنا جائزة في كل شيء على العموم على ما يقتضيه موارد أخبارها في الإسرائيليات وجاءت القرعة في شرعنا على الخصوص على ما أشرنا إليه في سورة آل عمران فإن القوم اقترعوا على مريم أيهم يكفلها وجرت سهامهم عليها والقول في جرية الماء بها وليس ذلك في شرعنا وإنما تجري الكفالة على مراتب القرابة وقد وردت القرعة في الشرع في ثلاثة مواطن
الأول كان النبي إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه
الثاني أن النبي رفع إليه أن رجلا أعتق في مرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة
الثالث أن رجلين اختصما إليه في مواريث درست فقال اذهبا وتوخيا الحق واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه
فهذه ثلاثة مواطن وهي القسم في النكاح والعتق والقسمة وجريانا لقرعة فيها لرفع الإشكال وحسم داء التشهي
واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات عند الغزو على قولين والصحيح منهما الاقتراع وبه قال أكثر فقهاء الأمصار وذلك لأن السفر بجميعهن لا يمكن واختيار واحدة منهن إيثار فلم يبق إلا القرعة
وكذلك مسألة الأعبد الستة فإن كل اثنين منهم ثلث وهو القدر الذي يجوز له فيه العتق في مرض الموت وتعيينهما بالتشهي لا يجوز شرعا فلم يبق إلا القرعة
وكذلك التشاجر إذا وقع في أعيان المواريث لم يميز الحق إلا القرعة فصارت أصلا في تعيين المستحق إذا أشكل
37

والحق عندي أن تجري في كل مشكل فذلك أبين لها وأقوى لفصل الحكم فيها وأجلى لرفع الإشكال عنها ولذلك قلنا إن القرعة بين الزوجات في الطلاق كالقرعة بين الإماء في العتق وتفصيل الاقتراع في باب القسمة مذكور في كتب الفقه
المسألة الرابعة
الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز فكيف المسلم
وإنما كان ذلك في يونس وفي زمانه مقدمة لتحقيق برهانه وزيادة في إيمانه فإنه لا يجوز لمن كان عاصيا أن يقتل ولا يرمى في النار والبحر وإنما تجرى عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته
فإن قيل إنما رمي في البحر لأن السفينة وقفت وأشرفت على الهلاك فقالوا هذا من حادث فينا فانظروا من بينكم فلم يتعين فسلطوا عليه مسبار الإشكال وهي القرعة فلما خرجوا بالقرعة إليه مرة بعد أخرى علم أنه لا بد من رميهم له فرمى هو بنفسه وأيقن أنه بلاء من ربه ورجا حسن العاقبة ولهذا ظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم فيطرح بعضهم تخفيفا وهذا فاسد فإنها لا تخف برمي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال وإنما يصبرون على قضاء الله وذلك كله مستوفى عند ذكر المسائل الفرعية
38

سورة ص فيها إحدى عشرة آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب) *) الآيتان 18 19
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
قد ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة سبأ (* (يا جبال أوبي معه والطير) *) فأذن الله للجبال وخلق فيها ويسر لها أن تسبح مع داود عليه السلام إذا سبح وكذلك الطير وكان تسبيح داود إثر صلاته عند طلوع الشمس وعند غروبها وهي صلاة الأمم قبلنا فيما يروي أهل التفسير ثم قال (* (والطير محشورة) *) الآية 19 وهي
المسألة الثانية (* (كل له أواب) *))
أي راجع إليه ترجع معه وتسبح بتسبيحه وتحن إلى صوته لحسنه وتمثل مثل عبادته لربه
فإن قيل وهل للطير عبادة أو تكليف
قلنا كل له عبادة وكل له تسبيح كما تقدم والكل مكلف بتكليف التسخير وليس بتكليف الثواب والعقاب وإنما جعل الله ذلك كله آية لداود عليه السلام وكرامة من تسخير الكل له تسخير القهر والغلبة وآمن الجن بمحمد إيمان
39

الاختيار والطاعة فقالوا (* (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به) *) الجن 1 2 (* (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به) *) الأحقاف 31
المسألة الثالثة
قول ابن عباس ما كنت أعلم صلاة الضحى في القرآن حتى سمعت الله يقول (* (يسبحن بالعشي والإشراق) *) وعلى هذا جاء قوله أيضا في أحد التأويلات (* (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) *) النور 36 37
والأصح ها هنا أنها صلاة الضحى والعصر فأما صلاة الضحى فهي في هذه الآية نافلة مستحبة وهي في الغداة بإزاء العصر في العشي لا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة ويرتفع كدرها وتشرق بنورها كما لا تصلى العصر إذا اصفرت الشمس
ومن الناس من يبادر بها قبل ذلك استعجالا لأجل شغله فيخسر عمله لأنه يصليها في الوقت المنهي عنه ويأتي بعمل هو عليه لا له
المسألة الرابعة
ليس لصلاة الضحى تقدير معين إلا أنها صلاة تطوع وأقل التطوع عندنا ركعتان وعند الشافعي ركعة وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف
وفي صلاة الضحى أحاديث أصولها ثلاثة
الأول حديث أبي ذر وغيره عن النبي أنه قال يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة تسليمه على من لقيه صدقة وأمره بالمعروف صدقة ونهيه عن المنكر صدقة وإماطته الأذى عن الطريق صدقة ونفقته على أهله صدقة ويكفي عن ذلك كله ركعتان من الضحى
الثاني حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه أن النبي قال من
40

قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح صلاة الضحى لا يقول إلا خيرا غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر
الثالث حديث أم هانئ أن النبي صلى يوم الفتح ضحى ثماني ركعات وقالت عائشة ما سبح رسول الله سبحة الضحى قط وإني لاستحبها
وعنها أيضا أنها قالت لم يكن رسول الله يصلي الضحى إلا أن يجيء من مغيبه وتمام ذلك في شرح الحديث
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) *) الآية 2
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله (* (وشددنا ملكه) *))
قد بينا في كتاب الأمد وغيره أن الشد عبارة عن كثرة القدر وفي تعيين ذلك قولان
أحدهما الهيبة
والثاني بكثرة الجنود
وعندي أن معناه شددناه بالعون والنصرة ولا ينفع الجيش الكثير التفافه على غير منصور وغير معان
المسألة الثانية قوله (* (ملكه) *))
قد بينا في كتاب الأمد وغيره الملك والمعنى فيه وفي تفسير قوله تعالى (* (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) *) آل عمران 26
41

وحقيقة الملك كثرة الملك فقد يكون الرجل ملكا ولكن لا يكون ملكا ذا ملك حتى يكثر ذلك فلو ملك الرجل دارا وقوتا لم يكن ملكا حتى يكون له خادم يكفيه مؤونة التصرف في المنافع التي يفتقر إليها لضرورة الآدمية حسبما ورد في الحديث
المسألة الثالثة
في هذا دليل على أن حال النبي يجوز أن يسمى ملكا وقد روي أن النبي أمر العباس أن يحبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى يمر به المسلمون فحبسه العباس فجعلت
القبائل تمر مع النبي كتيبة كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال يا عباس من هذه قال له غفار قال ما لي ولغفار ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك ثم مرت سليم فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها فقال من هذه قال هؤلاء الأنصار عليهم سعد ابن عبادة وذكر الحديث فقال أبو سفيان للعباس لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما فقال إنه ليس بملك ولكنها النبوة
ولم يرد العباس نفي الملك وإنما أراد أن يرد على أبي سفيان في نسبة حال النبي إلى مجرد الملك وترك الأصل الأكبر وهو النبوة التي تتركب على الملك والعبودية
على أنه روي في الحديث أن جبريل نزل على النبي فقال له إن الله خيرك بين أن تكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا فنظر إلى جبريل كالمستشير له فأشار إليه جبريل أن تواضع فقال بل نبيا عبدا أجوع يوما وأشبع يوما
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وآتيناه الحكمة) *))
قد بيناها في غير موضع
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وفصل الخطاب) *))
قيل هو علم القضاء
وقيل هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل
42

وقيل هو قوله أما بعد
وكان أول من تكلم بها فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم مجرد وفصل منه مؤكد غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام ففي الحديث أقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل
وقد يكون الرجل بصيرا بأحكام الأفعال عارفا بالحلال والحرام ولا يقوم بفصل القضاء فيها وقد يكون الرجل يأتي القضاء من وجهه باختصار من لفظه وإيجاز في طريقه بحذف التطويل ورفع التشتيت وإصابة المقصود
ولذلك يروى أن علي بن أبي طالب قال لما بعثني النبي إلى اليمن حفر قوم زبية للأسد فوقع فيها الأسد وازدحم الناس على الزبية فوقع فيها رجل وتعلق بآخر وتعلق الآخر بآخر حتى صاروا أربعة فحرجهم الأسد فيها فهلكوا وحمل القوم السلاح وكاد يكون بينهم قتال فأتيتهم فقلت لهم أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة أناسي تعالوا أقض بينكم بقضاء فإن رضيتم فهو قضاء بينكم وإن أبيتموه رفعت ذلك إلى رسول الله فهو أحق بالقضاء فجعل للأول ربع الدية وللثاني ثلث الدية وللثالث نصف الدية وجعل للرابع الدية وجعل الديات على من حفر الزبية على قبائل الأربع
فسخط بعضهم ورضي بعضهم ثم قدموا على رسول الله فقصوا عليه القصة فقال أنا أقضي بينكم فقال قائل إن عليا قد قضى بيننا وأخبروه بما قضى به علي فقال عليه السلام القضاء كما قضاه علي
وفي رواية فأمضى رسول الله قضاء علي
وكذلك يروى في المعرفة بالقضاء أن أبا حنيفة جاء إليه رجل فقال إن ابن أبي ليلى وكان قاضيا بالكوفة جلد امرأة مجنونة قالت لرجل يا بن الزانيين فحدها حدين في المسجد وهي قائمة فقال أخطأ من ستة أوجه
43

وهذا الذي قاله أبو حنيفة بالبديهة لا يدركه أحد بالروية إلا العلماء
فأما قصة علي فلا يدركها الشادي ولا يلحقها بعد التمرن في الأحكام إلا العاكف المتمادي
وتحقيقها أن هؤلاء الأربعة مقتولون خطأ بالتدافع على الحفرة من الحاضرين عليها فلهم الديات على من حفر على وجه الخطأ بيد أن الأول مقتول بالمدافعة قاتل ثلاثة بالمجاذبة فله الدية بما قتل وعليه ثلاثة أرباع الدية للثلاثة الذين قتلهم
وأما الثاني فله ثلث الدية وعليه الثلثان للاثنين اللذين قتلهما بالمجاذبة
وأما الثالث فله نصف الدية وعليه النصف لأنه قتل واحدا بالمجاذبة فوقعت المحاصة وغرمت العواقل هذا التقدير بعد القصاص الجاري فيه وهذا من بديع الاستنباط
وأما أبو حنيفة فإنه نظر إلى المعاني المتعلقة فرآها ستة
الأول أن المجنون لا حد عليه لأن الجنون يسقط التكليف هذا إذا كان القذف في حالة الجنون فأما إذا كان يجن مرة ويفيق أخرى فإنه يحد بالقذف في حال إفاقته
الثاني قولها يا بن الزانيين فجلدها حدين لكل أب حد فإنما خطأه أبو حنيفة فيه بناء على مذهبه في أن حد القذف يتداخل لأنه عنده حق لله تعالى كحد الخمر والزنى
وأما الشافعي ومالك فإنهما يريان الحد بالقذف حقا للآدمي فيتعدد بتعدد المقذوف وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف
الثالث أنه حد بغير مطالبة المقذوف ولا يجوز إقامة حد القذف بإجماع من الأمة إلا بعد المطالبة بإقامته ممن يقول إنه حق لله ومن يقول إنه حق للآدمي وبهذا المعنى
44

وقع الاحتجاج لمن يرى أنه حق للآدمي إذ يقول لو كان حقا لله لما توقف على المطالبة كحد الزنا
الرابع أنه والى بين الحدين ومن وجب عليه حدان لم يوال بينهما بل يحد لأحدهما ثم يترك حتى يندمل الضرب أو يستبل المضروب ثم يقام عليه الحد الآخر
الخامس أنه حدها قائمة ولا تحد المرأة إلا جالسة مستورة قال بعض الناس في زنبيل حسبما بيناه في كتب المسائل
السادس أنه أقام الحد في المسجد ولا يقام الحد فيه إجماعا وفي القصاص في المسجد والتعزير فيه خلاف قدمنا بيانه فيما سلف من هذا الكتاب وفي كتب المسائل والخلاف فهذا هو فصل الخطاب وعلم القضاء الذي وقعت الإشارة إليه على أحد التأويلات في الحديث المروي أقضاكم علي حسبما أشرنا إليه آنفا
وأما من قال إنه الإيجاز فذلك للعرب دون العجم ولمحمد دون العرب وقد بين هذا بقوله أوتيت جوامع الكلم وكان أفصح الناس بعده أبو بكر الصديق حسبما بيناه في آيات الكتاب في سورة براءة وفي سورة النور
وأما من قال إنه قوله أما بعد فكان النبي يقول في خطبته أما بعد ويروى أن أول من قالها في الجاهلية سحبان وائل وهو أول من آمن بالبعث وأول من اتكأ على عصا وعمر مائة وثمانين سنة
ولو صح أن داود قالها فإنه لم يكن ذلك منه بالعربية على هذا النظم وإنما كان بلسانه والله أعلم
وقد روى ابن وهب عن مالك أن الحكمة المعرفة بالدين والفقه فيه والاتباع له
45

وروي عن ابن زيد أن فصل الخطاب هو الفهم وإصابة القضاء
قال ابن العربي وهذا صحيح فإن الله تعالى يقول في وصف كتابه العزيز (* (إنه لقول فصل وما هو بالهزل) *) لما فيه من إيجاز اللفظ وإصابة المعنى ونفوذ القضاء
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط) *) الآيتان 21 22
الآية فيها ست مسائل
المسألة الأولى
الخصم كلمة تقع على الواحد والاثنين والجمع وقوع المصادر على ذلك لأنه مصدر وقد روي أنهما كانا اثنين فينتظم الكلام بهما ويصح المراد فيهما
المسألة الثانية قوله تعالى (* (تسوروا المحراب) *))
يعني جاؤوا من أعلاه والسورة المنزلة العالية كانت بقعة محسوسة أو منزلة معقولة قال الشاعر
(ألم تر أن الله أعطاك سورة
* ترى كل ملك دونها يتذبذب)
فهذا هو المنزلة وسور المدينة الموضع العالي منها وذلك كله بغير همز والسؤر مهموز بقية الطعام والشراب في الإناء والسؤر الوليمة بالفارسية
46

وفي الحديث أن رسول الله قال يوم الأحزاب يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سؤرا فحيهلا بكم
المسألة الثالثة في المحراب
قد بيناه في سورة سبأ
المسألة الرابعة قوله (* (إذ دخلوا على داود) *))
قيل إنهما كانا إنسيين قاله النقاش
وقيل ملكين قاله جماعة
وعينهما جماعة فقالوا إنهما كانا جبريل وميكائيل وربك أعلم في ذلك بالتفصيل بيد أني أقول لكم قولا تستدلون به على الغرض وذلك أن محراب داود كان من الامتناع بالارتفاع بحيث لا يرقى إليه آدمي بحيلة إلا أن يقيم إليه أياما أو أشهرا بحسب طاقته مع أعوان يكثر عددهم وآلات جمة مختلفة الأنواع
ولو قلنا إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى مخبرا عن ذلك (* (تسوروا المحراب) *) إذ لا يقال تسور المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها وجاءها من أسفلها إلا أن يكون ذلك مجازا وإذا شاهدت الكوة التي يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعا أنهما ملكان لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا علوي ولا نبالي من كانا فإنه لا يزيدك بيانا وإنما الحكم المطلوب وراء ذلك
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (ففزع منهم) *))
فإن قيل لم فزع وهو نبي وقد قويت نفسه بالنبوة واطمأنت بالوحي ووثقت بما آتاه الله من المنزلة وأظهر على يديه من الآيات
قلنا لأنه لم يضمن له العصمة ولا أمن من القتل والإذاية ومنهما كان يخاف
47

وقد قال الله لموسى عليه السلام لا تخف وقبله قيل ذلك للوط فهم فزعون من خوف ما لم يكن قيل لهم فيه إنكم منه معصومون
المسألة السادسة قوله تعالى (* (خصمان بغى بعضنا على بعض) *))
أي نحن خصمان وإن قيل كيف لم يأمر بإخراجهم إذ علم مطلبهم وقد دخلوا عليه بغير إذن وهلا أدبهم على تعديهم
فالجواب عنه من أربعة أوجه
الأول أنا لا نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن فيكون الجواب على حسب تلك الأحكام وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملا عن هذه الأحكام حتى أوضحها الله تعالى بالبيان
الثاني إنا لو نزلنا الجواب على أحكام الحجاب لاحتمل أن يكون الفزع الطارئ عليه أذهله عما كان يجب في ذلك له
الثالث أنه أراد أن يستوفي كلامهما الذي دخلا له حتى يعلم آخر الأمر منه ويرى هل يحتمل التقحم فيه بغير إذن أم لا وهل يقترن بذلك عذر لهما أم لا يكون لهما عذر عنه وكان من آخر الحال ما انكشف من أنه بلاء ومحنة ومثل ضربه الله في القصة وأدب وقع على دعوى العصمة
الرابع أنه يحتمل أن يكون في المسجد ولا إذن في المسجد لأحد ولا حجر فيه على أحد
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب) *) الآية 23
48

فيها وفي الآية التي تليها أربع عشرة مسألة
المسألة الأولى
كنى بالنعجة عن المرأة لما هي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب وقد يكنى عنها بالبقرة والحجر والناقة لأن الكل مركوب
أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الجبار الهذلي عن أبي الحسن علي بن أبي طالب قال إنه يكنى عن المرأة بألف مثل في المقام يعبر به الملك عن المعنى الذي يريده وقد قيدناها كلها عنه في سفر واحد
المسألة الثانية تسع وتسعون نعجة
إن كان جميعهن أحرارا فذلك شرعه وإن كن إماء فذلك شرعنا
والظاهر أن شرع من قبلنا لم يكن محصورا بعدد وإنما الحصر في شريعة محمد لضعف الأبدان وقلة الأعمار
وهم وتنبيه وهي
المسألة الثالثة
قال بعض المفسرين لم يكن لداود مائة امرأة وإنما ذكر التسعة والتسعين مثلا المعنى هذا غني عن الزوجة وأنا مفتقر إليها وهذا فاسد من وجهين
أحدهما أن العدول عن الظاهر بغير دليل لا معنى له ولا دليل يدل على أن شرع من قبلنا كان مقصورا من النساء على ما في شرعنا
الثاني أنه روى البخاري وغيره أن سليمان قال لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله وهذا نص قدمنا تحقيقه قبل
49

المسألة الرابعة قوله تعالى (* (أكفلنيها) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول من كفلها أي ضمها أي اجعلها تحت كفالتي
الثاني أعطنيها ويرجع إلى الأول لأنه أعم منه معنى
الثالث تحول لي عنها قاله ابن عباس ويرجع إلى العطاء والكفالة إلا أنه أعم من الكفالة وأخص من العطاء
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وعزني في الخطاب) *))
يعني غلبني من قولهم من عز بز واختلف في سبب الغلبة فقيل معناه غلبني ببيانه وقيل غلبني بسلطانه لأنه لما سأله لم يستطع خلافه
كان ببلدنا أمير يقال له سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلا حاجة فقال لي أما علمت أن طلب السلطان الحاجة غصب لها
فقلت أما إذا كان عدلا فلا فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته كما عجب من جوابي له واستغربه
المسألة السادسة
في الآية الخامسة
قوله (* (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) *) الآية 24
الظلم وضع الشيء في غير موضعه وقد يكون محرما وقد يكون مكروها شرعا وقد يكون مكروها عادة فإن كان غلبه عادة على أهله فهو ظلم محرم وإن كان سأله إياها فهو ظلم مكروه شرعا وعادة ولكن لا إثم عليه فيه
50

المسألة السابعة في تقييد ما ذكره المفسرون في هذه القصة
وهو مروي عنهم بألفاظ مختلفة وأحوال متفاوتة أمثلها أن داود حدثته نفسه إذا ابتلي أن يعتصم فقيل له إنك ستبتلى وتعلم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون وجعل يدرج بين يديه فهم أن يتناوله بيده فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب فدنا منه ليأخذه فطار فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل فلما رأته غطت جسدها بشعرها فوقعت في قلبه وكان زوجها غازيا في سبيل الله فكتب داود إلى أمير الغزاة أن
يجعل زوجها في حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم وإما أن يقتلوا فقدمه فيهم فقتل فلما انقضت عدتها خطبها داود فاشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة من بعده وكتبت عليه بذلك كتابا وأشهدت عليه خمسين رجلا من بني إسرائيل فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشب وتسور الملكان وكان من قصتها ما قص الله تعالى في كتابه (* (قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض) *))
المسألة الثامنة في التنقيح
قد قدمنا لكم فيما سلف وأوضحنا في غير موضع أن الأنبياء معصومون عن الكبائر إجماعا وفي الصغائر اختلاف وأنا أقول إنهم معصومون عن الصغائر والكبائر لوجوه بيناها في كتاب النبوات من أصول الدين وقد قال جماعة لا صغيرة في الذنوب وهو صحيح كما قالت طائفة إن من الذنوب كبائر وصغائر وهو صحيح
وتحقيقه أن الكفر معصية ليس فوقها معصية كما أن النظرة معصية ليس دونها معصية وبينهما ذنوب إن قرنتها بالكفر والقتل والزنا وعقوق الوالدين والقذف
51

والغصب كانت صغائر وإن أضفتها إلى ما يليها في القسم الثاني الذي بعده من جهة النظر كانت كبائر والذي أوقع الناس في ذلك رواية المفسرين وأهل التقصير من المسلمين في قصص الأنبياء مصائب لا قدر عند الله لمن اعتقدها روايات ومذاهب ولقد كان من حسن الأدب مع الأنبياء صلوات الله عليهم ألا تبث عثراتهم لو عثروا ولا تبث فلتاتهم لو استفلتوا فإن إسبال الستر على الجار والولد والأخ والفضيلة أكرم فضيلة فكيف سترت على جارك حتى لم تقص نبأه في أخبارك وعكفت على أنبيائك وأحبارك تقول عنهم ما لم يفعلوا وتنسب إليهم ما لم يتلبسوا به ولا تلوثوا به نعوذ بالله من هذا التعدي والجهل بحقيقة الدين في الأنبياء والمسلمين والعلماء والصالحين
فإن قيل فقد ذكر الله أخبارهم
قلنا عن ذلك جوابان
أحدهما للمولى أن يذكر ما شاء من أخبار عبيده ويستر ويفضح ويعفو ويأخذ وليس ينبغي للعبد أن ينبز في مولاه بما يوجب عليه اللوم فكيف بما عليه فيه الأدب والحد وإن الله تعالى قد قال في كتابه لعباده في بر الوالدين (* (فلا تقل لهما أف) *) الإسراء 23 فكيف بما زاد عليه فما ظنك بالأنبياء وحقهم أعظم وحرمتهم آكد وأنتم تغمسون ألسنتكم في أعراضهم ولو قررتم في أنفسكم حرمتهم لما ذكرتم قصتهم
الثاني أن الحكمة في أن الله ذكر قصص الأنبياء فيما أتوا من ذلك علمه بأن العباد سيخوضون فيها بقدر ويتكلمون فيها بحكمة ولا يسأل عن معنى ذلك ولا عن غيره فقد ذكر الله أمرهم كما وقع ووصف حالهم بالصدق كما جرى كما قال تعالى (* (نحن نقص عليك أحسن القصص) *) يوسف 3 يعني أصدقه وقال (* (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) *) هود 12 وقد وصيناكم إذا كنتم لا بد آخذين في شأنهم ذاكرين قصصهم ألا تعدوا ما أخبر الله
52

عنهم وتقولوا ذلك بصفة التعظيم لهم والتنزيه عن غير ما نسب الله إليهم ولا يقولن أحدكم قد عصى الأنبياء فكيف نحن فإن ذكر ذلك كفر
المسألة التاسعة في ذكر قصة داود عليه السلام على الخصوص بالجائز منها دون الممتنع
أما قولهم إن داود حدث نفسه أن يعتصم إذا ابتلي ففيه ثلاثة أوجه
الأول أن حديث النفس لا حرج فيه في شرعنا آخرا وقد كنا قبل ذلك قيل لنا إنا نؤاخذ به ثم رفع ذلك عنا بفضله فاحتمل أن يكون ذلك مؤاخذا به في شرع من قبلنا وهو أمر لا يمكن الاحتراز منه فليس في وقوعه ممن يقع منه نقص وإنما الذي يمكن دفعه هو الإصرار بالتمادي على حديث النفس وعقد العزم عليه
الثاني أنه يحتمل أن يكون داود عليه السلام نظر من حاله وفي عبادته وخشوعه وإنابته وإخباته فظن أن ذلك يعطيه عادة التجافي عن أسباب الذنوب فضلا عن التوغل فيها فوثق بالعبادة فأراد الله تعالى أن يريه أن ذلك حكمه في العبادة واطرادها
الثالث أن هذا النقل لم يثبت فلا يعول عليه
وأما قولهم إن الطائر درج عنده فهم بأخذه فدرج فاتبعه فهذا لا يناقض العبادة لأن هذا مباح فعله لا سيما وهو حلال وطلب الحلال فريضة وإنما اتبع الطائر لذاته لا لجماله فإنه لا منفعة له فيه وإنما ذكرهم لحسن الطائر حذق في الجهالة أما أنه قد روي أنه كان طائرا من ذهب فاتبعه ليأخذه لأنه من فضل الله سبحانه كما روي في الصحيح أن أيوب كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحثي منه ويجعل في ثوبه فقال له الله يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك
وأما قولهم إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة فلما رأته أرسلت شعرها
53

فسترت جسدها فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع الأمة لأن النظرة الأولى لكشف المنظور إليه ولا يأثم الناظر بها
وأما قولهم أنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعا لأن داود عليه السلام لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة كانت في الأهل أو المال وقد قال سعيد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف حين آخى رسول الله بينهما ولي زوجتان أنزل لك عن إحداهما فقال له بارك الله لك في أهلك ومالك
وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه وليس في القرآن أن ذلك كان ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها ولا ولادتها لسليمان فعن من يروى هذا ويسند وعلى من في نقله يعتمد وليس يؤثره عن الثقات الأثبات أحد أما إن في سورة الأحزاب نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة وذلك قوله (* (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل) *) الأحزاب 38 يعني في أحد الأقوال كان تزويج المرأة التي نظر إليها كما زوج النبي بعده بزينب بنت جحش إلا أن
تزويج زينب كان من غير سؤال للزوج في فراق بل أمره بالتمسك بزوجيتها وكان تزويج داود المرأة بسؤال زوجها فراقها فكانت هذه المنقبة لمحمد على داود مضافة إلى مناقبه العلية ولكن قد قيل إن معنى قوله تعالى (* (سنة الله في الذين خلوا من قبل) *) تزويج الأنبياء بغير صداق من وهبت نفسها من النساء بغير صداق
وقيل أراد بقوله تعالى (* (سنة الله في الذين خلوا من قبل) *) أن الأنبياء فرض لهم ما يمتثلونه في النكاح وغيره وهذا أصح الأقوال
54

وقد روى المفسرون أن داود نكح مائة امرأة وهذا نص القرآن
وروي أن سليمان كانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية وربك أعلم وبعد هذا قفوا حيث وقف بكم البيان بالبرهان دون ما تتناقله الألسنة من غير تثقيف للنقل والله أعلم
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) *))
فيه الفتوى في النازلة بعد السماع من أحد الخصمين وقبل أن يسمع من الآخر بظاهر القول وذلك مما لا يجوز عند أحد ولا في ملة من الملل ولا يمكن ذلك للبشر وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين ادعى والآخر سلم في الدعوى فوقعت بعد ذلك الفتوى
وقد قال النبي لعلي رضي الله عنه إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر
وقيل إن داود لم يقض للآخر حتى اعترف صاحبه بذلك
وقيل تقديره لقد ظلمك إن كان كذلك والله أعلم بتعيين ما يمكن من هذه الوجوه
المسألة الحادية عشرة قال علماؤنا قوله تعالى (* (إذ تسوروا المحراب) *))
دليل على أن القضاء كان في المسجد ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي لما قررهم داود على ذلك ولقال انصرفا إلى موضع القضاء
وقد قال مالك إن القضاء في المسجد من الأمر القديم يعني في أكثر الأمر ولا بأس أن يجلس في رحبته ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض
55

وقد قال أشهب يقضي في منزله وأين أحب والذي عندي أنه يقسم أوقاته وأحواله ليبلغ كل أحد إليه ويستريح هو مما يرد من ذلك عليه
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (وظن داود أنما فتناه) *))
يعني أيقن والظن ينطلق على العلم والظن لأنه جاره وقد ورد ذلك كثيرا في قوله تعالى (* (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) *) التوبة 118
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (فاستغفر ربه) *))
اختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر منه على أقوال
الأول قيل إنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها
الثاني أنه أغزى زوجها في حملة التابوت
الثالث أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها
الرابع أنه حكم لأحد الخصمين من قبل أن يسمع من الآخر
قال القاضي قد بينا أن الأنبياء معصومون على الصفة المتقدمة من الذنوب المحدودة على وجه بين
فأما من قال إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز ذلك على الأنبياء وكذلك تعريض زوجها للتقل كما قدمنا تصوير للحق على روح الباطل والأعمال بالنيات
وأما من قال إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال لأن طموح البصر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة فكيف بالأنبياء الذين هم الوسائط المكاشفون بالغيب وقد بيناه في موضعه
وروى أشهب عن مالك قال بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقفت قريبا من داود وهي من ذهب فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها ففرت من يده ثم صنع مثل ذلك مرتين ثم طارت فأتبعها بصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغتسل ولها شعر طويل فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموع عينيه فأما النظرة الثانية فلا أصل لها
56

وقد روي عن علي أنه قال لا يبلغني عن أحد أنه يقول إن داود عليه السلام ارتكب من تلك المرأة محرما إلا جلدته مائة وستين سوطا فإنه يضاعف له الحد حرمة للنبي وهذا مما لا يصح عنه
فإن قيل فما حكمه عندكم
قلنا أما من قال إن نبيا زنى فإنه يقتل وأما من نسب إليه دون ذلك من النظرة والملامسة فقد اختلف نقل الناس في ذلك فإن صمم أحد على ذلك فيه ونسبه إليه فإنه يناقض التعزير المأمور به
وأما قولهم إنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها فلا شيء فيه إذ لم يعرضه للموت وبعد هذا فإن الذنب الذي أخبر الله عنه هو سؤاله زوجة وعدم القناعة بما كان من عدد النساء عنده والشهوة لا آخر لها والأمل لا غاية له فإن متاع الدنيا لا يكفي الإنسان وحده في ظنه ويكفيه الأقل منه والذي عتب الله فيه على داود تعلق باله إلى زوج غيره ومد عينه إلى متاع سواه حسبما نص الله عنه
وقد قال بعضهم إنه خطب على خطبة أوريا فمال إليها ولم يكن بذلك عارفا وهذا باطل يرده القرآن والآثار التفسيرية كلها
المسألة الرابعة عشرة قوله تعالى (* (وخر راكعا وأناب) *))
لا خلاف بين العلماء أن الركوع ها هنا السجود لأنه أخوه إذ كل ركوع سجود وكل سجود ركوع فإن السجود هو الميل والركوع هو الانحناء وأحدهما يدل على الآخر ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئة ثم جاء على تسمية أحدهما بالآخر فسمي السجود ركوعا
واختلف العلماء هل هي من عزائم السجود أم لا حسبما بيناه من قبل
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي قرأ على المنبر ص والقرآن ذي الذكر فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر
57

قرأها فتهيأ الناس للسجود فقال النبي إنها توبة نبي ولكنني رأيتكم تيسرتم للسجود ونزل فسجد وهذا لفظ أبي داود
وفي البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال ص ليست من عزائم القرآن وقد رأيت النبي يسجد فيها
وقد روي من طريق عن ابن مسعود أنه قال إنها توبة نبي لا يسجد فيها
وعن ابن عباس أنه قال إنها توبة نبي ونبيكم ممن أمر أن يقتدى به
والذي عندي أنها ليست موضع سجود ولكن النبي سجد فيها فسجدنا للاقتداء به
ومعنى السجود أن داود عليه السلام سجد خاضعا لربه معترفا بذنبه تائبا من خطيئته فإذا سجد أحد فيها فليسجد بهذه النية فلعل الله أن يغفر له بحرمة داود الذي اتبعه وسواء قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا فإن هذا أمر مشروع في كل ملة لكل أحد والله أعلم
وقد روى الترمذي وغيره واللفظ للغير أن رجلا من الأنصار على عهد النبي كان يصلي من الليل يستتر بشجرة وهو يعرض القرآن فلما بلغ السجدة سجد وسجدت الشجرة معه فسمعها وهي تقول اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجرا وارزقني بها شكرا
الآية السادسة
قوله تعالى (* (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) *) الآية 26
58

فيها مسألتان
المسألة الأولى
هذا كلام مرتبط بما قبله وصى الله فيه داود فيدل ذلك على أن الذي عوتب عليه طلب المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل ألا ترى أن محمدا لم يطلب امرأة زيد وإنما تكلم في أمرها بعد فراق زوجها وإتمام عدتها وقد بينا أن هذا جائز في الجملة ويبعد من منصب النبوة فلهذا ذكر وعليه عوتب وبه وعظ
المسألة الثانية قوله تعالى (* (خليفة) *))
قد بينا الخلافة ومعناها لغة وهو قيام الشيء مقام الشيء والحكم لله وقد جعله الله للخلق على العموم بقوله إن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون وعلى الخصوص في قوله تعالى (* (إني جاعل في الأرض خليفة) *) البقرة 3 وقوله تعالى (* (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) *) والخلفاء على أقسام
أولهم الإمام الأعظم وآخرهم العبد في مال سيده قال النبي كلكم راع وكلكم مسوؤل عن رعيته والعبد راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته بيد أن الإمام الأعظم لا يمكنه تولي كل الأمور بنفسه فلا بد من الاستنابة وهي على أقسام كثيرة
أولها الاستخلاف على البلاد وهو على قسمين
أحدهما أن يقدمه على العموم أو يقدمه على الخصوص فإن قدمه وعينه في منشوره وقف نظره حيث خص به وإن قدمه على العموم فكل ما في المصر يتقدم عليه وذلك في ثلاثة أحكام
الأول القضاء بين الناس فله أن يقضي وله أن يقدم من يقضي فإذا قدم للقضاء بين الناس والحكم بين الخلق كان له النظر فيما فيه التنازع بين الخلق وذلك
59

حيث تزدحم أهواؤهم وهي على ثلاثة أشياء النفس والعرض والمال يفصل فيما تنازعهم ويذب عنهم من يؤذيهم ويحفظ من الضياع أموالهم بالجباية إن كانت مفرقة وبتفريقها على من يستحقها إذا اجتمعت ويكف الظالم عن المظلوم ويدخل فيه قود الجيوش وتدبير المصالح العامة وهو الثالث
وقد رام بعض الشافعية أن يحصر ولايات الشرع فجمعها في عشرين ولاية وهي الخلافة العامة والوزارة والإمارة في الجهاد وولاية حدود المصالح وولاية القضاء وولاية المظالم وولاية النقابة على أهل الشرف والصلاة والحج والصدقات وقسم الفيء والغنيمة وفرض الجزية والخراج والموات وأحكامه والحمى والإقطاع والديوان والحسبة
فأما ولاية الخلافة فهي صحيحة وأما الوزارة فهي ولاية شرعية وهي عبارة عن رجل موثوق به في دينه وعقله يشاوره الخليفة فيما يعن له من الأمور قال الله تعالى مخبرا عن موسى (* (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري) *) طه 29 3 31 فلو سكت هاهنا كانت وزارة مشورة ولكنه تأدب مع أخيه لسنه وفضله وحلمه وصبره فقال (* (وأشركه في أمري) *) فسأل وزارة مشاركة في أصل النبوة
وعن النبي في الحديث الحسن وزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر
وأما الولاية على الجهاد فقد أمر النبي على الجيوش والسرايا كثيرا من أصحابه في كل غزوة لم يشهدها وقسموا الغنيمة فيها فدخلت إحدى الولايتين في الأخرى وللوالي أن يفردهما
وأما حدود المصالح فهي ثلاثة الردة وقطع السبيل والبغي فأما الردة والقطع للسبيل فكانا في حياة النبي فإن نفرا من عرينة قدموا على النبي المدينة
60

فجعلهم النبي في الإبل حتى صحوا فقتلوا الراعي واستاقوا الذود مرتدين فبعث النبي في آثارهم فجيء بهم فقتلهم على ذلك وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم كما فعلوا وقد بينا ذلك في سورة المائدة وشرح الحديث واستوفى الله بيان حرب الردة بأبي بكر الصديق على يديه وذلك مستوفى في كتب الحديث والفقه
وأما قتال أهل البغي فقد نصه الله في كتابه حيث يقول (* (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) *) الحجرات 9 ثم بين الله تعالى ذلك لعلي ابن أبي طالب على ما شرحناه في موضعه من الحديث والمسائل
وأما ولاية القضاء فقدم النبي لها في حياته علي بن أبي طالب حين بعثه إلى اليمن وقال لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر وشروطها مذكورة في الفقه وقدم النبي غيره من ولاته
وأما ولاية المظالم فهي ولاية غريبة أحدثها من تأخر من الولاة لفساد الولاية وفساد الناس وهي عبارة عن كل حكم يعجز عنه القاضي فينظر فيه من هو أقوى منه يدا وذلك أن التنازع إذا كان بين ضعيفين قوى أحدهما القاضي وإذا كان بين قوي وضعيف أو قويين والقوة في أحدهما بالولاية كظلم الأمراء والعمال فهذا مما نصب له الخلفاء أنفسهم وأول من جلس إليه عبد الملك بن مروان فرده إلى قاضيه ابن إدريس ثم جلس له عمر بن عبد العزيز فرد مظالم بني أمية على المظلومين إذ كانت في أيدي الولاة والعتاة الذين تعجز عنهم القضاة ثم صارت سنة فصار بنو العباس يجلسون لها وفي قصة دارسة على أنها في أصل وضعها داخلة في القضاء ولكن الولاة أضعفوا الخطة القضوية ليتمكنوا من ضعف الرعية ليحتاج الناس إليهم فيقعدوا عنهم فتبقى المظالم بحالها
61

وأما ولاية النقابة فهي محدثة أيضا لأنه لما كثرت الدعاوى في الأنساب الهاشمية لاستيلائها على الدولة نصب الولاة قوما يحفظون الأنساب لئلا يدخل فيها من ليس منها ثم زادت الحال فسادا فجعلوا إليهم من يحكم بينهم فردوهم لقاض منهم لئلا تمتهنهم القضاة من سائر القبائل وهم أشرف منهم وهي بدعية تنافي الشرعية
وأما ولاية الصلاة فهي أصل في نفسها وفرع للإمارة فإن النبي كان إذا بعث أميرا كانت الصلاة إليه ولما فسد الأمر ولم يكن فيهم من ترضى حاله للإمامة بقيت الولاية في يده بحكم الغلبة وقدم للصلاة من يرضى حاله سياسة منهم للناس وإبقاء على أنفسهم فقد كان بنو أمية حين كانوا يصلون بأنفسهم يتحرج أهل الفضل من الصلاة خلفهم ويخرجون على الأبواب فيأخذونهم بسياط الحرس فيضربون لها حتى يفروا بأنفسهم عن المسجد وهذا لا يلزم بل يصلى معهم وفي إعادة الصلاة خلاف بين العلماء بيانه في كتب الفقه
وأما ولاية الحج فهي مخصوصة ببلاد الحج وأول أمير بعثه عليه السلام أبو بكر الصديق بعثه سنة تسع قبل حجة الوداع وأرسله بسورة براءة ثم أردفه عليا كما تقدم بيانه في السورة المذكورة
وأما ولاية الصدقة فقد استعمل رسول الله على الصدقات كثيرا
أما وضع الجزية والخراج فقد صالح رسول الله أكيدر دومة وأهل البحرين فأمر عليهم العلاء بن الحضرمي بعد تقريره ولو لم يتفق التقرير لخليفة لجاز أن يبعث من يقرره كما فعل عمر حين بعث إلى العراق عماله وأمرهم بمساحة الأرض ووضع الخراج عليها
وأما ما تختلف أحكامه باختلاف البلدان فليس بولاية فيدخل في جملة الولايات وإنما هو النظر في مكة وحرمها ودورها وفي المدينة وحرمها وفيما توفي رسول الله عنه فيها وأحوال البلاد فيما فتح منها عنوة وصلحا وهذه الشريعة فيما
62

اختلفت الأسباب في تملكه من الأموال وليس بولاية مخصوصة حتى يذكر في جملة الولايات وكذلك إحياء الموات حكم من الأحكام وليس من الولايات وبيانه في كتب الفقه
وأما ولاية الحمى والإقطاع فهي مشهورة وأول من ولى فيها أبو بكر الصديق مولاه أبا أسامة على حمى الربذة وولى عمر على حمى السرف مولاه يرفأ وقال أضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فإنها مجابة وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي وغنم بن عوف وابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة والغنيمة يأتيني بعياله فيقول يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبالك فالماء والكلأ أهون علي من الدينار والدرهم والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا
وأما الإقطاع فهو باب من الأحكام فقد أقطع النبي لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية من ناحية الفرع وبيانها في كتب الفقه
وأما ولاية الديوان فهي الكتابة وقد كان للنبي كتاب وللخلفاء بعده وهي ضبط الجيوش بمعرفة أرزاقهم والأموال لتحصيل فوائدها لمن يستحقها
وأما ولاية الحدود فهي على قسمين تناول إيجابها وذلك للقضاة وتناول استيفائها وقد جعله النبي لقوم منهم علي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة وهي أشرف الولايات لأنها على أشرف الأشياء وهي الأبدان فلنقيصة الناس ودحضهم بالذنوب ألزمهم الله بالذلة بأن جعلها في أيدي الأدنياء والأوضاع بين الخلق
وأما ولاية الحسبة فهي محدثة وأصلها أكبر الولايات وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكثرة ذلك رأى الأمراء أن يجعلوها إلى رجل يتفقدها في الأحيان من
الساعات والله يتولى التوفيق للجميع ويرشد إلى سواء الطريق ويمن بتوبة تعيد الأمر إلى أهله وتوسعنا ما نؤمله من رحمته وفضله
63

الآية السابعة
قوله تعالى (* (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) *) الآية 28
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
قيل نزلت في بني هاشم وبني المطلب منهم علي وحمزة وجعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث والطفيل بن الحارث ابني المطلب وزيد بن حارثة وأم أيمن وغيرهم يقول أم نجعل هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض بالمعاصي من بني عبد شمس كعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة وحنظلة بن أبي سفيان والعاصي بن أمية
المسألة الثانية قوله تعالى (* (أم نجعل المتقين كالفجار) *))
يعني الذين تقدم ذكرهم من بني هاشم وبني المطلب في الآخرة كالفجار يعني من تقدم من بني عبد شمس
المسألة الثالثة
هذه أقوال المفسرين ولا شك في صحتها فإن الله قد نفى المساواة بين المؤمنين والكفار وبين المتقين والفجار رؤوسا برؤوس وأذنابا بأذناب ولا مساواة بينهم في الآخرة كما قال المفسرون لأن المؤمنين المتقين في الجنة والمفسدين الفجار في النار ولا مساواة أيضا بينهم في الدنيا لأن المؤمنين المتقين معصومون دما وعرضا والمفسدين في الأرض والفجار في النار مباحو الدم والعرض والمال فلا وجه لتخصيص المفسدين بذلك في الآخرة دون الدنيا
المسألة الرابعة
ووقعت في الفقه نوازل منها قتل المسلم بالكافر ومنها إذا بنى رجل في أرض
64

رجل بإذنه ثم انقضت المدة فإن لصاحب الأرض إخراجه عن البنيان وهل يعطيه قيمته قائما أو منقوضا
ومنها إذا بنى المشتري في الشقص الذي اشترى فأراد الشفيع أخذه بالشفعة فإنه يزن الثمن وهل يعطيه قيمة بنائه قائما أو منقوضا اختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال إذا بنى في الأرض رجل بإذنه ثم وجب له إخراجه فإنه يعطيه قيمة بنائه قائما ولذلك قال أبو حنيفة يعطي الشفيع للمشتري قيمة بنائه في الشقص منقوضا مساويا له بالغاصب وقاله ابن القاسم وسائر علمائنا والشافعية إلا القليل يعطيه قيمة بنائه قائما لأنه بناه بحق وتقوى وصلاح بخلاف الغاصب ولذلك لا يقتل المسلم إذا قتل الذمي وإن كان يقتل بمسلم مثله وتعلقوا في ذلك بقوله تعالى (* (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) *) وهذا ينبني على القول بالعموم وهو قول عام يقتضي المساواة بينهم في كل حال وزمان أما أنه يبقى النظر في أعيان هذه الفروع فتفصيل قد بيناه في مسائل الفقه لا نطيل بذكره ههنا فلينظر هنالك
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد) *) الآية 31
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله (* (بالعشي) *))
وقد تقدم بيانه وأنه من زوال الشمس إلى الغروب كما أن الغداة من طلوع الشمس إلى الزوال
65

المسألة الثانية قوله (* (الصافنات الجياد) *))
يعني التي وقفت من الدواب على ثلاث قوائم وذلك لعتقها فإذا ثنى الفرس إحدى رجليه فذلك علامة على كرمه كما أنه إذا شرب ولم يثن سنبكه دل أيضا على كرمه ومن الغريب في غريب الحديث من سره أن يقوم له الرجال صفونا يعني يديمون له القيام فليتبوأ مقعده من النار وهذا حديث موضوع
ومن الحديث المشهور من سره أن تتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار وقد بيناه في سورة الحج وقد يقال صفن لمجرد الوقوف والمصدر صفونا قال الشاعر
(ألف الصفون فما يزال كأنه
* مما يقوم على الثلاث كسيرا))
المسألة الثالثة
الجياد هي الخيل وكل شيء ليس برديء يقال له جيد ودابة جيدة وجياد مثل سوط وسياط عرضت الخيل على سليمان عليه السلام فشغلته عن صلاة العشي بظاهر القولين قال المفسرون هي العصر
وقد روى المفسرون حديثا أن النبي قال صلاة الوسطى صلاة العصر وهي التي فاتت سليمان وهي حديث موضوع
وقيل كانت ألف فرس ورثها من داود عليه السلام كان أصابها من العمالقة وكان له ميدان مستدير يسابق بينها فيه فنظر فيها حتى غابت الشمس خلف الحجاب وهو ما كان يحجب بينه وبينها لا غير مما يدعيه المفسرون وقيل أراد وهي
66

المسألة الرابعة
حتى توارت بالحجاب وغابت عن عينيه في المسابقة لأن الشمس لم يجر لها ذكر وهذا فاسد بل قد تقدم عليها دليل وهو قوله (* (بالعشي) *) كما تقول سرت بعد العصر حتى غابت يعني الشمس وتركها لدلالة السامع لها عليها بما ذكر مما يرتبط بها وتعلق بذكرها والغداة والعشي أمر مرتبط بمسير الشمس فذكره ذكر لها وقد بين ذلك لبيد بقوله
(حتى إذا ألقت يدا في كافر
* وأجن عورات الثغور ظلامها))
المسألة الخامسة
فلما فاتته الصلاة قال (* (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي) *) ص 32 يعني الخيل وسماها خيرا لأنها من جملة المال الذي هو خير بتسمية الشارع له بذلك وقد قدمنا بيانه في سورة البقرة ولذلك قرأها ابن مسعود إني أحببت حب الخيل بالتصريح بالتفسير قال (* (ردوها علي فطفق مسحا) *) ص 33 بسوقها وأعناقها فيه قولان
أحدهما مسحها بيده إكراما لها كما ورد في الحديث أن النبي رئي وهو يمسح عن فرسه عرقه بردائه وقال إني عوتبت الليلة في الخيل
والثاني أنه مسح أعناقها وسوقها بالسيوف عرقبة وهي رواية ابن وهب عن مالك وكان فعله هذا بها حين كانت سببا لاشتغاله بها عن الصلاة
فإن قيل كيف قتلها وهي خيل الجهاد
قلنا رأى أن يذبحها للأكل
67

وفي الصحيح عن جابر أنه قال أكلنا على عهد رسول الله فرسا فكان ذلك لئلا تشغله مرة أخرى
وقد روي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال من ترك شيئا لله عوضه الله أمثاله ألا ترى إلى سليمان كيف أتلف الخيل في مرضاة الله فعوضه الله منها الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر
ومن المفسرين من وهم فقال وسمها بالكي وسبلها في سبيل الله وليست السوق محلا للوسم بحال
الآية التاسعة
قوله عز وجل (* (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) *) الآية 35
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى كيف سأل سليمان الملك وهو من ناحية الدنيا
قال علماؤنا إنما سأله ليقيم فيه الحق ويستعين به على طاعة الله كما قال يوسف (* (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) *) يوسف 55 كما تقدمت الإشارة إليه
المسألة الثانية كيف منع من أن يناله غيره
قال علماؤنا فيه أجوبة سبعة
الأول إنما سأل أن يكون معجزة له في قومه وآية في الدلالة على نبوته
الثاني أن معناه لا تسلبه عني
الثالث لا ينبغي لأحد من بعدي أن يسأل الملك بل يكل أمره إلى الله
الرابع لا ينبغي لأحد من بعدي من الملوك ولم يرد من الأنبياء
الخامس أنه أراد القناعة
السادس أنه أراد ملكه لنفسه
68

السابع علم أن محمدا عبده ولم يسأله إياه ليفضل به
المسألة الثالثة في التنقيح لمناط الأقوال
أما قول من قال إنه سأل ذلك معجزة فليس في ذلك تخصيص بفائدة لأن من شأن المعجزة أن تكون هكذا
وأما من قال معناه لا تسلبه عني فإنما أراد ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يدعيه باطلا إذ كان الشيطان قد أخذ خاتمه وجلس مجلسه وحكم في الخلق على لسانه حسبما روي في كتب المفسرين وهو قول باطل قطعا لأن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء ولا يحكمون في الخلق بصورة الحق مكشوفا إلى الناس بمرأى منهم حتى يظن الناس أنهم مع نبيهم في حق وهم مع الشيطان في باطل ولو شاء ربك لوهب من المعرفة والدين لمن قال هذا القول ما يزعه عن ذكره ويمنعه من أن يخلده في ديوان من بعده حتى يضل به غيره
وأما من قال إن معناه لا ينبغي لأحد من بعدي أن يسأل الملك فإن ذلك إنما كان يصح لو جاء بقوله (* (لا ينبغي لأحد من بعدي) *) في سعة الاستئناف للقول والابتداء بالكلام
أما وقد جاء مجيء الجملة الحالة محل الصفة لما سبق قبلها من القول فلا يجوز تفسيره بهذه لتناقض المعنى فيه وخروج ذلك عن القانون العربي
وأما من قال إن معناه لا ينبغي لأحد من بعدي من الملوك دون الأنبياء فهذا قول قليل الفائدة جدا إذ قد علم قطعا ويقينا وهو والخلق كلهم معه أن الملوك لا سبيل لهم إلى ذلك لا بالسؤال ولا مع ابتداء العطاء وهو مع ما بعده أمثل من غيره مما يستحيل وقوعه
وأما من قال إنه علم أن عيسى عليه السلام على درجة من الزهد وأن محمدا عبد لا ملك فأراد أن سليمان علم أن أحدا من الأنبياء بعده لا يؤتى ذلك وأن محمدا مع فضله لا يسأله لأنه نبي عبد وليس بنبي ملك فحينئذ أقدم على السؤال وهو قول
69

متماثل ويشبه أن يكون الله تعالى أذن له في ذلك وأنه يعطيه بسؤاله كما غفر لمحمد بشرط استغفاره والله أعلم
وفي الصحيح عن النبي أنه قال إن عفريتا تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه وأردت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد ثم ذكرت قول أخي سليمان رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فأرسلته فلولا ذلك لأصبح يلعب به ولدان المدينة
وهذا يدل على مراعاة النبي لدعائه وأن معناه لا يكون لأحد في حياته ولا بعد مماته وذلك بإذن من الله تعالى مشروع إذ لا يجوز على النبي غيره
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) *) الآية 44
فيها ثلاثة مسائل
المسألة الأولى في سبب حلف أيوب عليه السلام
روي عن ابن عباس قال اتخذ إبليس تابوتا فوقف على الطريق يداوي الناس فأتته امرأة أيوب فقالت يا عبد الله إن ها هنا إنسانا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه قال لها نعم على أني إن شفيته يقول كلمة واحدة أنت شفيتني لا أريد منه غيرها
70

فأخبرت بذلك أيوب فقال ويحك ذلك الشيطان لله علي إن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضربها به فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة
وروي عن ابن عباس أن ذلك من قوله إنما كان حين باعت ذوائبها في طعامه وقد كانت عدمت الطعام وكرهت أن تتركه جائعا فباعت ذوائبها وجاءته بطعام طيب مرارا فأنكر ذلك عليها فعرفته به فقال ما قال
المسألة الثانية في عموم هذه القصة وخصوصها
روي عن مجاهد أنها للناس عامة وروي عن عطاء أنها لأيوب خاصة وكذلك روى ابن زيد عن ابن القاسم عن مالك من حلف ليضربن عبده مائة فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر
قال بعض علمائنا يريد مالك قوله تعالى (* (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) *) المائدة 48
قال القاضي شرع من قبلنا شرع لنا وقد بيناه في غير موضع وإنما انفرد مالك في هذه المسألة عن قصة أيوب هذه لا عن شريعته لتأويل بديع وهو أن مجرى الإيمان عند مالك في سبيل النية والقصد أولى لقول رسول الله إنما الأعمال بالنيات والنية أصل الشريعة وعماد الأعمال وعيار التكليف وهي مسألة خلاف كبيرة بيننا وبين فقهاء الأمصار قد أوضحناها في كتب الخلاف
وقصة أيوب هذه لم يصح كيفية يمين أيوب فيها فإنه روي أنه قال إن شفاني الله جلدتك وروي أنه قال والله لأجلدنك وهذه الروايات عن كتب الترمذي لا ينبني عليها حكم فلا فائدة في النصب فيها ولا في إشكالها بسبيل التأويل ولا طلب الجمع بينها وبين غيرها بجمع الدليل
71

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فاضرب به ولا تحنث) *)
يدل على أحد وجهين إما لأنه لم يكن في شرعه كفارة وإنما كان البر أو الحنث
والثاني أن يكون ما صدر منه نذرا لا يمينا وإذا كان النذر معينا فلا كفارة فيه عند مالك وأبي حنيفة
وقال الشافعي في كل نذر كفارة وهل مخرجها على التفصيل أو الإجمال
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون) *) الآية 69
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وذلك أن قريشا قالت للنبي فيم يختصم الملأ الأعلى قال سألني ربي عز وجل فيم يختصم الملأ الأعلى قلت في الكفارات والدرجات قال وما الكفارات قلت المشي على
الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات والتعقيب في المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة
قال وما الدرجات قلت إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام
وقيل خصومتهم قولهم (* (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) *) البقرة 3
هذا حديث الحسن وهو حسن
ومن طريق عبد الرحمن عن عائشة أن النبي قال رأيت ربي في أحسن
72

صورة فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات وما في الأرض ثم تلا هذه الآية (* (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) *) فقال يا محمد فقلت لبيك وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت أي رب في الكفارات قال وما الكفارات قلت المشي على الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء على المكروهات وانتظار الصلاة إلى الصلاة فمن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه
وقد روى الترمذي صحيحا عن عبد الرحمن بن عابس الحضرمي عن مالك بن يخامر السلمي عن معاذ بن جبل قال احتبس عنا رسول الله ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله وتجوز في صلاته فلما سلم قال لنا على مصافكم كما أنتم ثم انتقل إلينا ثم قال أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة إني قمت في الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال يا محمد فقلت لبيك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت ما أدري ثلاثا قال فرأيته وضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ثم قال يا محمد قلت لبيك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت في الكفارات قال ما هن قلت مشي الأقدام إلى الحسنات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات قال وما الحسنات قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام
قال سل قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك قال رسول الله إنها حق فادرسوها ثم تعلموها
73

المسألة الثانية
لا خلاف أن المشي فيما قرب من الطاعات أفضل من الركوب فأما كل ما يبعد فيكون المرء بكلاله أقل اجتهادا في الطاعة فالركوب أفضل فيه ألا ترى أن الراكب في الجهاد أفضل من الراجل لأجل غنائه وهذا فرع هذا الأصل إذ العمل ما كان أخلص وأبر كان الوصول إليه بالراحة أفضل
المسألة الثالثة
لم يختلف الملأ الأعلى في الأصل وإنما اختلفوا في كيفية الفضيلة وكميتها فيجتهدون ويقولون إنه أفضل كما لم يختلفوا ولا أنكروا أن يكون في الأرض قوم يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض وإنما طلبوا وجه الحكمة فغيبت عنهم حكمته
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى (* (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) *) الآية 86
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
بناء كلف في لسان العرب للإلزام والالتزام وقد غلط علماؤنا فقالوا إنه فعل ما فيه مشقة وكل إلزام مشقة فلا معنى لاشتراط المشقة وهو في نفسه مشقة وقد بيناه في أصول الفقه
المسألة الثانية
المعنى ما ألزم نفسي ما لا يلزمني ولا ألزمكم ما لا يلزمكم وما جئتكم باختياري دون أن أرسلت إليكم
74

المسألة الثالثة
أخبرنا أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار أخبرنا القاضي أبو الطيب الطبري أخبرنا الدارقطني حدثنا الحسن بن أحمد بن صالح الكوفي حدثنا علي بن الحسن بن هارون البلدي حدثنا إسماعيل بن الحسن الحراني أخبرنا أيوب بن خالد الحراني حدثنا محمد بن علوان عن نافع عن ابن عمر قال خرج رسول الله في بعض أسفاره فسار ليلا فمر على رجل جالس عند مقراة له فقال له عمر يا صاحب المقراة ولغت السباع الليلة في مقراتك فقال له النبي يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور
وهذا بيان سؤال عن ورود الحوض السباع فإن كان ممكنا غالبا لا يحتاج إليه وإنما يعول على حال الماء في لونه وطعمه وريحه فلا ينبغي لأحد أن يسأل ما يكسبه في دينه شكا أو إشكالا في عمله
ولهذا قلنا لكم إذا جاء السائل عن مسألة فوجدتم له مخلصا فيها فلا تسألوه عن شيء وإن لم تجدوا له مخلصا فحينئذ فاسألوه عن تصرف أحواله وأقواله ونيته عسى أن يكون له مخلص والله أعلم
75

سورة الزمر فيها أربع آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين) *) الآية 2
وهي دليل على وجوب النية في كل عمل وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان إن الوضوء يكفي من غير نية وما كان ليكون من الإيمان شطره ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية وقد حققناه في مسائل الخلاف
الآية الثانية
قوله تعالى (* (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) *) الآية 1
روى أبو بكر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس في قوله (* (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) *) قال هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها وقد بلغني أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد
قال القاضي الصبر مقام عظيم من مقامات الدين وهو حبس النفس عما تكرهه من تسريح الخواطر وإرسال اللسان وانبساط الجوارح على ما يخالف حال الصبر ومن الذي يستطيعه فما روي أن أحدا انتهى إلى منزلة أيوب عليه السلام حتى صبر على عظيم البلاء عن سؤال كشفه بالدعاء وإنما عرض حين خشي على دينه لضعف قلبه
76

عن الإيمان فقال مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ولهذا المعنى جعلوه في الآثار نصف الإيمان فإن الإيمان على قسمين مأمور ومزجور فالمأمور يتوصل إليه بالفعل والمزجور امتثاله بالكف والدعة عن الاسترسال إليه وهو الصبر فأعلمنا ربنا تبارك وتعالى أن ثواب الأعمال الصالحة مقدر من حسنة إلى سبعمائة ضعف وخبأ قدر الصبر منها تحت علمه فقال (* (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) *)
ولما كان الصوم نوعا من الصبر حين كان كفا عن الشهوات قال تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به
قال أهل العلم كل أجر يوزن وزنا ويكال كيلا إلا الصوم فإنه يحثى حثيا ويغرف غرفا ولذلك قال مالك هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها فلا شك أن كل من سلم فيما أصابه وترك ما نهي عنه فلا مقدار لأجره وأشار بالصوم إلى أنه من ذلك الباب وإن لم يكن جميعه والله أعلم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد) *) الآية 17
فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها
قال علماؤنا نزلت مع الآية التي قبلها في ثلاثة نفر زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي كانوا ممن لم يأتهم كتاب ولا بعث إليهم نبي ولكن وقر في نفوسهم كراهية ما الناس عليه بما سمعوا من أحسن ما كان في أقوال الناس فلا جرم قادهم ذلك إلى الجنة
77

أما زيد بن عمرو بن نفيل فمات على التوحيد في أيام الفترة فله ما نوى من الجنة وأما أبو ذر وسلمان فتداركتهم العناية ونالوا الهداية وأسلموا وصاروا في جملة الصحابة
المسألة الثانية
قال جماعة الطاغوت الشيطان وقيل الأصنام وقال ابن وهب عن مالك هو كل ما عبد من دون الله وهو فلعوت من طغى إذا تجاوز الحد ودخل في قسم المذموم فقال ابن إسحاق كانت العرب قد اتخذت في الكعبة طواغيت وهي ستون كانت تعظمها بتعظيم الكعبة وتهدي إليها كما تهدي إلى الكعبة وكان لها سدنة وحجاب وكانت تطوف بها وتعرف فضل الكعبة عليها
وقيل كان الشيطان يتصور في صورة إنسان فيتحاكمون إليه وهي صورة إبراهيم
وفي الحديث إنه يأتي شيطان في صورة رجل فيقول قال رسول الله يكذب على النبي متعمدا ليضل الناس فينبغي أن يحذر من الأحاديث الباطلة المضلة وينبغي ألا يقصد مسجدا ولا يعظم بقعة إلا البقاع الثلاث التي قال فيها رسول الله لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومكة والمسجد الأقصى
وقد سول الشيطان لأهل زماننا أن يقصدوا الربط ويمشوا إلى المساجد تعظيما لها وهي بدعة ما جاء النبي بها إلا مسجد قباء فإنه كان يأتيه كل سبت راكبا وماشيا لا لأجل المسجدية فإن حرمتها في مسجده كانت أكثر وإنما كان ذلك على طريق الافتقاد لأهله والتطييب لقلوبهم والإحسان بالألفة إليهم
78

الآية الرابعة
قوله تعالى (* (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) *) الآية 65
تقدم في سورة البقرة بيان حال الإحباط بالردة وسنزيده ها هنا بيانا فنقول
هذا وإن كان خطابا للنبي فقد قيل إن المراد بذلك أمته وكيفما تردد الأمر فإنه بيان أن الكفر يحبط العمل كيف كان ولا يعني به الكفر الأصلي لأنه لم يكن فيه عمل يحبط وإنما يعني به أن الكفر يحبط العمل الذي كان مع الإيمان إذ لا عمل إلا بعد أصل الإيمان فالإيمان معنى يكون به المحل أصلا للعمل لا شرطا في صحة العمل كما تخيله الشافعية لأن الأصل لا يكون شرطا للفرع إذ الشروط أتباع فلا تصير مقصودة إذ فيه قلب الحال وعكس الشيء وقد بين الله تعالى ذلك بقوله (* (ولو أشركوا لحبط
عنهم ما كانوا يعملون) *) الأنعام 88 وقال تعالى (* (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) *) المائدة 5 فمن كفر من أهل الإيمان حبط عمله واستأنف العمل إذا أسلم وكان كمن لم يسلم ولم يكفر لقوله تعالى (* (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *) الأنفال 38 والإسلام والهجرة يهدمان ما قبلهما من باطل ولا يكون إيمانا إلا باعتقاد عام على الأزمان متصل بتأبيد الأبد كما بيناه في كتب الأصول فإنه لا يتبعض وإن أفسد فسد جميعه وهو حكم لا يتجزأ شرعا وقد بيناه في التلخيص
79

سورة المؤمن فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) *) الآية 28
ظن بعضهم أن المكلف إذا كتم إيمانه ولم يتلفظ به بلسانه أنه لا يكون مؤمنا باعتقاده وقد قال مالك إنه إذا نوى بقلبه طلاق زوجه أنه يلزمه كما يكون مؤمنا وكافرا بقلبه فجعل مدار الإيمان على القلب وإنه كذلك لكن ليس على الإطلاق وقد بيناه في أصول الفقه بما لبابه أن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافرا وإن لم يلفظ بلسانه وأما إذا نوى الإيمان بقلبه فلا يكون مؤمنا حتى يتلفظ بلسانه وأما إذا نوى الإيمان بقلبه تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فلا يكون مؤمنا فيما بينه وبين الله تعالى وإنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف إنما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله
80

الآيتان الثانية والثالثة
قوله تعالى (* (الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون) *) الآيتان 79 8
قال القاضي كل حكم تعلق بالأنعام فقد تقدم بيانه فلا وجه لإعادته فمن شاء فليلحظه في موضعه
81

سورة فصلت فيها ست آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون) *) الآية 16
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال ابن وهب عن مالك يعني شدائد لا خير فيها وكذلك روي عن ابن القاسم
وقال زيد بن أسلم وإنما ذكر ذلك مالك ردا على من يقول إن النحس الغبار ولو كان الغبار نحسا لكان أقل ما أصابهم من نحس وكذلك من قال إنها متتابعات لا يخرج من لفظ قوله تعالى (* (نحسات) *) وإنما عرف التتابع من قوله تعالى (* (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) *) الحاقة 7
المسألة الثانية
قيل إنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء والناس يكرهون السفر يوم الأربعاء لأجل هذه الرواية لقيت يوما مع خالي الحسين بن أبي حفص رجلا من الكتاب فودعناه بنية السفر فلما فارقنا قال لي خالي إنك لا تراه أبدا لأنه سافر
82

يوم أربعاء لا يتكرر وكذلك كان مات في سفره وهذا ما لا أراه فإن يوم الأربعاء يوم عجيب بما جاء في الحديث من الخلق فيه والترتيب فإن الحديث ثابت بأن الله خلق يوم السبت التربة ويوم الأحد الجبال ويوم الاثنين الشجر ويوم الثلاثاء المكروه ويوم الأربعاء النور وروي النون وفي الحديث إنه خلق يوم الأربعاء غرة التقن وهو كل شيء أتقن به الأشياء يعني المعادن من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص فاليوم الذي خلق فيه المكروه لا يعافه الناس واليوم الذي خلق فيه النور أو التقن يعافونه إن هذا لهو الجهل المبين
وفي المغازي أن النبي دعا على الأحزاب من يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء بين الظهر والعصر فاستجيب له وهي ساعة فاضلة فالآثار الصحاح دليل على فضل هذا اليوم وكيف يدعى فيه تغرير النحس بأحاديث لا أصل لها وقد صور قوم أياما من الأشهر الشمسية ادعوا فيها الكرامة لا يحل لمسلم أن ينظر إليها ولا يشتغل بآلاتها والله حسيبهم
الآية الثانية
قوله تعالى (* (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) *) الآية 3
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (إن الذين قالوا ربنا الله) *))
يعني لا إله إلا الله محمد رسول الله إذ لا يتم أحد الركنين إلا بالآخر حسبما بيناه في غير موضع واستقر في قلوب المؤمنين في غير موضع
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ثم استقاموا) *))
استفعال من قام يعني دام واستمر وفيها قولان
83

أحدهما استقاموا على قول لا إله إلا الله حتى ماتوا عليها ولم يبدلوا ولم يغيروا
الثاني استقاموا على أداء الفرائض وكلا القولين صحيح لازم مراد بالقول والمعنى فإن لا إله إلا الله مفتاح له أسنان فمن جاء بالمفتاح وأسنانه فتح له وإلا لم يفتح له
المسألة الثانية (* (تتنزل عليهم الملائكة) *))
قال المفسرون يعني عند الموت وأنا أقول في كل يوم وآكد الأيام يوم الموت وحين القبر ويوم الفزع الأكبر وفي ذلك آثار بيناها في مواضعها
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) *) الآية 33
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وقد روي أنها نزلت في محمد وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول هذا رسول الله هذا حبيب الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله
وقيل نزلت في المؤذنين وهذا ذكر ثان لهم في كتاب الله وسيأتي الثالث إن شاء الله تعالى
والأول أصح لأن الآية مكية والأذان مدني وإنما يدخل فيها بالمعنى لا أنه كان المقصود ويدخل فيها أبو بكر الصديق حين قال في النبي وقد خنقه الملعون أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ويتضمن كل كلام حسن فيه ذكر التوحيد وبيان الإيمان
84

المسألة الثانية قوله تعالى (* (وعمل صالحا) *))
قالوا هي الصلاة وإنه لحسن وإن كان المراد به كل عمل صالح ولكن الصلاة أجله والمراد أن يتبع القول العمل وقد بيناه في غير موضع
المسألة الثالثة قوله (* (وقال إنني من المسلمين) *))
وما تقدم يدل على الإسلام لكن لما كان الدعاء بالقول والسيف يكون للاعتقاد ويكون للحجة وكان العمل يكون للرياء والإخلاص دل على أنه لابد من التصريح بالاعتقاد لله في ذلك كله وأن العمل لوجهه
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وقال إنني من المسلمين) *))
ولم يقل له إن شاء الله وفي ذلك رد على من يقول أنا مسلم إن شاء الله وقد بيناه في الأصول وأوضحنا أنه لا يحتاج إليه
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) *) الآية 34
فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أنها نزلت في أبي جهل كان يؤذي النبي فأمر عليه السلام بالعفو عنه وقيل له (* (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) *))
المسألة الثانية
اختلف ما المراد بها على ثلاثة أقوال
الأول قيل المراد بها ما روي في الآية أن نقول إن كنت كاذبا يغفر الله لك وإن كنت صادقا يغفر الله لي وكذلك روي أنا أبا بكر الصديق قاله لرجل نال منه
85

الثاني المصافحة وفي الأثر تصافحوا يذهب الغل وإن لم ير مالك المصافحة وقد اجتمع مع سفيان فتكلما فيها فقال سفيان قد صافح النبي جعفرا حين قدم من الحبشة فقال له مالك ذلك خاص له فقال له سفيان ما خصه رسول الله يخصنا وما عمه يعمنا والمصافحة ثابتة فلا وجه لإنكارها
وقد روى قتادة قال قلت لأنس هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله قال نعم وهو حديث صحيح
وروى البراء بن عازب قال رسول الله ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا
وفي الأثر من تمام المحبة الأخذ باليد
ومن حديث محمد بن إسحاق وهو إمام مقدم عن الزهري عن عائشة قالت قدم زيد بن حارثة المدينة في نفر فقرع الباب فقام رسول الله عريانا يجر ثوبه والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبله
الثالث السلام لا يقطع عنه سلامه إذا لقيه والكل محتمل والله أعلم
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) *) الآيتان 37 38
وهذه آية سجود بلا خلاف ولكن اختلف في موضعه فقال مالك موضعه
86

(* (كنتم إياه تعبدون) *) لأنه متصل بالأمر وقال ابن وهب والشافعي موضعه (* (وهم لا يسأمون) *) لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال
وقد كان علي وابن مسعود يسجدان عند قوله تعالى (* (إن كنتم إياه تعبدون) *) وكان ابن عباس يسجد عند قوله (* (يسأمون) *)
وقال ابن عمر اسجدوا بالآخرة منهما وكذلك يروى عن مسروق وأبي عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخغي وأبي صالح ويحيى بن وثاب وطلحة والحسن وابن سيرين وكان أبو وائل وقتادة وبكر بن عبد الله يسجدون عند قوله (* (يسأمون) *) والأمر قريب
الآية السادسة
قوله تعالى (* (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) *) الآية 44
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أن قريشا قالوا إن الذي يعلم محمدا يسار أبو فكيهة مولى من قريش وسلمان فنزلت هذه الآية وهذا يصح في يسار لأنه مكي والآية مكية وأما سلمان فلا يصح ذلك فيه لأنه لم يجتمع مع النبي إلا بالمدينة وقد كانت الآية نزلت بمكة بإجماع من الناس
المسألة الثانية في معنى الآية
وهو أن الله تعالى أراد أن هذا القرآن لو نزل باللغة الأعجمية لقالت قريش لمحمد يا محمد إذا أرسلت إلينا به فهلا فصلت آياته أي بينت وأحكمت
87

المسألة الثالثة أعجمي وعربي
التقدير أنى يجتمع ما يقولون أو ينتظم ما يأفكون يسار أعجمي والقرآن عربي فأنى يجتمعان
المسألة الرابعة
قال علماؤنا هذا يبطل قول أبي حنيفة في قوله إن ترجمة القرآن بإبدال اللغة العربية فيه بالفارسية جائز لأن الله تعالى قال ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا كذا لنفي أن يكون للعجمة إليه طريق فكيف يصرف إلى ما نهى الله تعه فأخبر أنه لم ينزل به
وقد بيناه في مسائل الخلاف وأوضحنا أن التبيان والإعجاز إنما يكون بلغة العرب فلو قلب إلى غير هذا لما كان قرآنا ولا بيانا ولا اقتضى إعجازا فلينظر هنالك على التمام إن شاء الله لا رب غيره ولا خير إلا خيره
88

سورة الشورى فيها ثمان آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) *) الآية 13
ثبت في الحديث الصحيح أن النبي قال في حديث الشفاعة المشهور الكبير ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقولون أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض
وهذا صحيح لا إشكال فيه كما أن آدم أول نبي بغير إشكال لأن آدم لم يكن معه إلا بنوه ولم تفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم وإنما كان تنبيها على بعض الأمور واقتصارا على ضرورات المعاش وأخذا بوظائف الحياة والبقاء واستقر المدى إلى نوح فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات ووظف عليه الواجبات وأوضح له الآداب في الديانات ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء صلوات الله عليهم واحدا بعد واحد شريعة بعد شريعة حتى ختمها الله بخير الملل ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا وكأن المعنى ووصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة وهي التوحيد
89

والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال والتزلف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكفر والقتل والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت والاعتداء على الحيوان كيفما كان واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات فهذا كله شرع دينا واحدا وملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم وذلك قوله تعالى (* (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) *) أي اجعلوه قائما يريد دائما مستمرا محفوظا مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب عليه فمن الخلق من وفى بذلك ومنهم من نكث به ومن نكث فإنما ينكث على نفسه
واختلفت الشرائع وراء هذا في معان حسبما أراده الله مما اقتضته المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم والله أعلم
الآية الثانية
قوله تعالى (* (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) *) الآية 2
وقد تقدم ذلك في سورة سبحان وغيرها بما فيه كفاية وقوله ها هنا (* (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) *) يبطل مذهب أبي حنيفة في قوله إنه من توضأ تبردا إنه يجزئه عن فريضة الوضوء الموظفة عليه فإن فريضة الوضوء الموظفة عليه من حرث الآخرة والتبرد من حرث الدنيا فلا يدخل أحدهما
على الآخر ولا تجزئ نيته عنه بظاهر هذه الآية وقد بيناه في مسائل الخلاف
90

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) *) الآية 32
وقد تقدم ذكر ركوب البحر بما يغني عن إعادته
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) *) الآية 38
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وأمرهم) *))
يعني به الأنصار كانوا قبل الإسلام وقبل قدوم النبي عليه السلام إذا كان يهمهم أمر اجتمعوا فتشاوروا بينهم وأخذوا به فأثنى الله عليهم خيرا
المسألة الثانية
الشورى فعلى من شار يشور شورا إذا عرض الأمر على الخيرة حتى يعلم المراد منه وفي حديث أبي بكر الصديق أنه ركب فرسا يشوره
المسألة الثالثة
الشورى ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسبب إلى الصواب وما تشاور قوم إلا هدوا وقد قال حكيم
(إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
* برأي لبيب أو مشورة حازم)
(ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
* فإن الخوافي نافع للقوادم))
المسألة الرابعة
مدح الله المشاور في الأمور ومدح القوم الذين يمتثلون ذلك وقد كان النبي
91

يشاور أصحابه في الأمور المتعلقة بمصالح الحروب وذلك في الآثار كثير ولم يشاورهم في الأحكام لأنها منزلة من عند الله على جميع الأقسام من الفرض والندب والمكروه والمباح والحرام
فأما الصحابة بعد استئثار الله به علينا فكانوا يتشاورون في الأحكام ويستنبطونها من الكتاب والسنة وإن أول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة فإن النبي لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبي بكر والأنصار ما سبق بيانه وقال عمر نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله لديننا وتشاوروا في أمر الردة فاستقر رأي أبي بكر على القتال
وتشاوروا في الجد وميراثه وفي حد الخمر وعدده على الوجوه المذكورة في كتب الفقه وتشاوروا بعد رسول الله في الحروب حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي فقال له الهرمزان إن مثلها ومثل من فيها من عدو المسلمين مثل طائر له رأس وله جناحان ورجلان فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس وإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس وإن شدخ الرأس ذهبت الرجلان والجناحان والرأس كسرى والجناح الواحد قيصر والآخر فارس فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى وذكر الحديث إلى آخره
وقال بعض العقلاء ما أخطأت قط إذا حزبني أمر شاورت قومي ففعلت الذي يرون فإن أصبت فهم المصيبون وإن أخطأت فهم المخطئون وهذا أبين من إطناب فيه
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) *) الآية 39
فيها مسألتان
المسألة الأولى
ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح وذكر العفو عن الجرم في موضع
92

آخر في معرض المدح فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين
إحداهما أن يكون الباغي معلنا بالفجور وقحا في الجمهور مؤذيا للصغير والكبير فيكون الانتقام منه أفضل وفي مثله قال إبراهيم النخعي يكره للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق
الثاني أن تكون الفلتة أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة فالعفو ها هنا أفضل وفي مثله نزلت (* (وأن تعفوا أقرب للتقوى) *) البقرة 237 وقوله تعالى (* (فمن تصدق به فهو كفارة له) *) المائدة 45 وقوله (* (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) *) النور 22
المسألة الثانية
قال السدي إنما مدح الله من انتصر ممن بغى عليه من غير اعتداء بالزيادة على مقدار ما فعل به يعني كما كانت العرب تفعله ويدل عليه قوله تعالى (* (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله) *) الشورى 4 فبين في آخر الآية المراد منها وهو أمر محتمل والأول أظهر وهي الآية السادسة
الآية السابعة
قوله تعالى (* (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم) *) الآية 42
فيها مسألتان
المسألة الأولى
هذه الآية في مقابلة الآية المتقدمة في براءة وهي قوله (* (ما على المحسنين من سبيل) *) الشورى 91 فكما نفى الله السبيل عمن أحسن فكذلك أثبتها على من ظلم واستوفى بيان القسمين
93

المسألة الثانية
روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك وسئل عن قول سعيد بن المسيب لا أحلل أحدا فقال ذلك يختلف فقلت يا أبا عبد الله الرجل يسلف الرجل فيهلك ولا فاء له قال أرى أن يحلله وهو أفضل عندي لقول الله تعالى (* (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) *) الزمر 18 وليس كلما قال أحد وإن كان له فضل يتبع فقيل له الرجل يظلم الرجل فقال لا أرى ذلك وهو مخالف عندي للأول لقول الله تعالى (* (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) *) ويقول تعال (* (ما على المحسنين من سبيل) *) التوبة 91 فلا أرى أن تجعله من ظلمه في حل
قال ابن العربي فصار في المسألة ثلاثة أقوال
أحدها لا يحلله بحال قاله سعيد بن المسيب
والثاني يحلله قاله محمد بن سيرين
الثالث إن كان مالا حلله وإن كان ظلما لم يحلله وهو قول مالك
وجه الأول ألا يحلل ما حرم الله فيكون كالتبديل لحكم الله
ووجه الثاني أنه حقه فله أن يسقطه كما يسقط دمه وعرضه
ووجه الثالث الذي اختاره مالك هو أن الرجل إذا غلب على حقك فمن الرفق به أن تحلله وإن كان ظالما فمن الحق ألا تتركه لئلا يغتر الظلمة ويسترسلوا في أفعالهم القبيحة
وفي صحيح مسلم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبو اليسر صاحب رسول الله ومعه غلام له معه ضمامة من صحف وعلى أبي اليسر بردة ومعافري وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له أبي أي عم أرى في وجهك سفعة من غضب فقال أجل كان لي على فلان ابن فلان الحرامي دين فأتيت أهله
94

فسلمت وقلت أثم هو قالوا لا فخرج علي ابن له جفر فقلت له أين أبوك فقال سمع صوتك فدخل أريكة أمي فقلت اخرج إلي فقد علمت أين أنت فخرج فقلت له ما حملك على أن اختبأت مني قال أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك خشيت والله أن أحدثك فأكذبك وأعدك فأخلفك وأنت صاحب رسول الله وكنت والله معسرا قال فقلت الله قال آلله قلت آلله قال آلله قال فقلت آلله قال آلله قال فأتى بصحيفته فمحاها بيده قال إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل وذكر الحديث
وهذا في الحي الذي يرجى له الأداء لسلامة الذمة ورجاء التحلل فكيف بالميت الذي لا محاللة معه ولا ذمة معه
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير) *) الآيتان 49 5
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في المراد بالآية
قال علماؤنا قوله (* (يهب لمن يشاء إناثا) *) يعني لوطا كان له بنات ولم يكن له ابن ويهب لمن يشاء الذكور إبراهيم كان له بنون ولم تكن له بنت
وقوله (* (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) *) يعني آدم كانت حواء تلد له في كل بطن ولدين توأمين ذكرا وأنثى فيزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من هذا البطن الآخر حتى أحكم الله التحريم في شرع نوح عليه السلام
وكذلك محمد كان له ذكور وإناث من الأولاد القاسم والطيب
95

والطاهر وعبد الله وزينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة وكلهم من خديجة رضي الله عنها وإبراهيم وهو من مارية القبطية
وكذلك قسم الله الخلق من لدن آدم إلى زماننا إلى أن تقوم الساعة على هذا التقدير المحدود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة ليبقى النسل ويتمادى الخلق وينفذ الوعد ويحق
الأمر وتعمر الدنيا وتأخذ الجنة والنار ما يملأ كل واحدة منهما ويبقى ففي الحديث إن النار لن تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط
وأما الجنة فتبقى فينشئ الله لها خلقا آخر
المسألة الثانية
إن الله لعموم قدرته وشديد قوته يخلق الخلق ابتداء من غير شيء وبعظيم لطفه وبالغ حكمته يخلق شيئا من شيء لا عن حاجة فإنه قدوس عن الحاجات سلام عن الآفات كما قال القدوس السلام فخلق آدم من الأرض وخلق حواء من آدم وخلق النشأة من بينهما منهما مرتبا عن الوطء كائنا عن الحمل موجودا في الجنين بالوضع كما قال النبي إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل أنثا
وكذلك في الصحيح أيضا إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله
وقد بينا تحقيق ذلك في شرح الحديث بما لبابه أنها أربعة أحوال
ذكر يشبه أعمامه أنثى تشبه أخوالها ذكر يشبه أخواله أنثى تشبه أعمامها وذلك في الجميع بين ظاهر التعالج أن معنى قوله سبق خرج من قبل ومعنى علا كثر فإذا خرج ماء الرجل من قبل وخرج ماء المرأة بعده وكان أقل منه كان
96

الولد ذكرا بحكم سبق ماء الرجل ويشبه أعمامه بحكم كثرة مائة أيضا وإن خرج ماء المرأة من قبل وخرج ماء الرجل بعده وكان أقل من مائها كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة ويشبه أخوالها لأن ماءها علا ماء الرجل وكاثره
وإن خرج ماء الرجل من قبل ولكن لما خرج ماء المرأة كان أكثر جاء الولد ذكرا بحكم سبق ماء الرجل وأشبه أمه وأخواله بحكم علو ماء المرأة وكثرته وإن خرج ماء المرأة من قبل لكن لما خرج ماء الرجل من بعد ذلك كان أكثر وأعلى كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة ويشبه أباه وأعمامه بحكم غلبة ماء الذكر وعلوه وكثرته على ماء المرأة فسبحان الخلاق العظيم
المسألة الثالثة
قد كانت الخلقة مستمرة ذكرا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى فأتى به فريض العرب ومعمرها عامر بن الظرب فلم يدر ما يقول فيه وأرجأهم عنه فلما جن عليه الليل تنكر موضعه وأقض عليه مضجعه وجعل يتقلى ويتقلب وتجيء به الأفكار وتذهب إلى أن أنكرت الأمة حالته فقالت ما بك قال لها سهرت لأمر قصدت فيه فلم أدر ما أقول فيه فقالت له ما هو قال لها رجل له ذكر وفرج كيف تكون حالته في الميراث قالت له الأمة ورثه من حيث يبول فعقلها وأصبح فعرضها لهم وأمضاها عليهم فانقلبوا بها راضين وجاء الإسلام على ذلك فلم تنزل إلا في عهد علي بن أبي طالب فقضى فيها بما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وقد روى الفرضيون عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي أنه سئل عن مولود له قبل وذكر من أين يورث قال من حيث يبول
وروي أنه أتي بخنثى من الأنصار فقال ورثوه من أول ما يبول
97

قال القاضي قال لنا شيخنا أبو عبد الله الشقاق فرضي الإسلام إن بال منهما جميعا ورث بالذي يسبق منه البول وكذلك رواه محمد ابن الحنفية عن علي ونحوه عن ابن عباس وبه قال ابن المسيب وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وحكاه المزني عن الشافعي
وقال قوم لا دلالة في البول فإن خرج البول منهما جميعا قال أبو يوسف يحكم بالأكثر
وأنكره أبو حنيفة وقال أيكيله ولم يجعل أصحاب الشافعي للكثرة حكما
وحكي عن علي والحسن تعد أضلاعه فإن المرأة تزيد على الرجل بضلع واحد ولو صح هذا لما أشكل حاله انتهى كلام شيخنا أبي عبد الله
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي لا أحفظ عن مالك في الخنثى شيئا وحكي عنه أنه جعله ذكرا وحكي عنه أنه جعل له نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى وليس بثابت عنه
قال أبو عبد الله الشقاق ومما يستدل به على حاله الحيض والحبل وإنزال المني من الذكر واللحية والثديان ولا يقطع بذلك وقد قيل إذا بلغ زال الإشكال
قال القاضي وروي عن علمائنا فيه قال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وابن وهب وابن نافع وأصبغ يعتبر مباله فإن بال منهما فالأسبق وإن خرج منهما فالأكثر ولولا ما قال العلماء هذا لقلت إنه إن بال من ثقب إنه يعتبر به هو الآخر لأن الولد لا يخرج من المبال بحال وإنما ثقب البول غير مخرج الولد ويتبين ذلك في الأنثى وقالوا على مخرج البول ينبني نكاحه وميراثه وشهادته وإحرامه في حجه وجميع أمره
وإن كان له ثدي ولحية أو لم يكن ورث نصف ميراث رجل ولا يجوز له حينئذ نكاح ويكون أمره في شهادته وصلاته وإحرامه على أحوط الأمرين
والذي نقول إنه يستدل فيه بالحبل والحيض
حالة ثالثة كحالة أولى لا بد منها وهي أنه إذا أشكل أمره فطلب النكاح من
98

ذكره وطلب النكاح من فرجه فإنه أمر لم يتكلم فيه علماؤنا وهو من النوع الذي يقال فيه دعه حتى يقع ولأجل هذه الإشكالات في الأحكام والتعارض في الإلزام والالتزام أنكره قوم من رؤوس العوام فقالوا إنه لا خنثى فإن الله تعالى قسم الخلق إلى ذكر وأنثى
قلنا هذا جهل باللغة وغباوة عن مقطع الفصاحة وقصور عن معرفة سعة القدرة أما قدرة الله تعالى فإنه واسع عليم
وأما ظاهر القرآن فلا ينفي وجود الخنثى لأن الله تعالى قال (* (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء) *) فهذا عموم فلا يجوز تخصيصه لأن القدرة تقتضيه وأما قوله (* (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير) *) فهذا إخبار عن الغالب في الموجودات وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول والوجود يشهد له والعيان يكذب منكره
وقد كان يقرا معنا برباط أبي سعيد على الإمام الشهيد من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جاري فربك أعلم به ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله
المسألة الرابعة في توريثه
وهو مذكور على التمام في كتب المسائل فلينظر هنالك
99

سورة الزخرف فيها ست آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) *) الآيتان 12 13
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) *))
يعني بذلك الإبل دون البقر لأن البقر لم تخلق لتركب
والدليل عليه الحديث الصحيح أن النبي قال بينما رجل راكب بقرة إذ قالت له إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال رسول الله آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر وما هما في القوم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (لتستووا على ظهوره) *))
يعني الإبل خاصة لأن الفلك إنما تركب بطونها ولكنه ذكرهما جميعا في أول الآية وعطف أحدهما على آخرهما ويحتمل أن يجعل ظاهرها باطنها لأن الماء غمره وستره وباطنها ظاهر لأنه انكشف للراكبين وظهر للمبصرين
100

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) *))
أي مطيقين تقول قرنت كذا وكذا إذا ربطته به وجعلته قرينه وأقرنت كذا بكذا إذا أطقته وحكمته كأنه جعله في قرن وهو الحبل فأوثقه به وشده فيه فعلمنا الله تعالى ما نقول إذا ركبنا الدواب وعلمنا الله في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن وهو قوله تعالى (* (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم) *) هود 41
وروي أن أعرابيا ركب قعودا له وقال إني لمقرن له فركضت به القعود حتى صرعته فاندقت عنقه وما ينبغي لعبد أن يدع قول هذا وليس بواجب ذكره باللسان وإنما الواجب اعتقاده بالقلب أما أنه يستحب له ذكره باللسان فيقول متى ركب وخاصة باللسان إذا تذكر في السفر (* (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون) *) الزخرف 14 اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور وسوء المنظر في الأهل والمال يعني بالحور والكور تشتت أمر الرجل بعد اجتماعه
وقال عمرو بن دينار ركبت مع أبي جعفر إلى ارض له نحو حائط يقال لها مدركة فركب على جمل صعب فقلت له أبا جعفر أما تخاف أن يصرعك فقال إن رسول الله قال على سنام كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فاذكروا اسم الله كما أمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله
وقال علي بن ربيعة شهدت علي بن أبي طالب ركب دابة يوما فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى على الدابة قال الحمد لله ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم قال الحمد لله والله أكبر ثلاثا اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب
101

إلا أنت ثم ضحك فقلت له ما أضحكك قال رأيت رسول الله صنع كما صنعت وقال كما قلت ثم ضحك فقلت له ما يضحكك يا رسول الله قال لعبد أو قال عجبا لعبد أن يقول اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيره
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) *) الآية 28
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في شرح الكلمة
وهي النبوة في قول والتوحيد في قول آخر ولا جرم لم تزل النبوة باقية في ذرية إبراهيم والتوحيد هم أصله وغيرهم فيه تبع لهم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (في عقبه) *))
بناء ع ق ب لم يخلف الشيء ويأتي بعده يقال عقب يعقب عقوبا وعقبا إذا جاء شيئا بعد شيء ولهذا قيل لولد الرجل من بعده عقبه
وفي حديث عمر أنه سافر في عقب رمضان وقد يستعمل في غير ذلك على موارد كثيرة
المسألة الثالثة
إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب بدعوتيه المجابتين
إحداهما بقوله (* (إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) *) البقرة 124 فقد قال له نعم إلا من ظلم منهم فلا عهد له
ثانيهما قوله (* (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) *) إبراهيم 35
102

وقيل بدل الأولى (* (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) *) الشعراء 83 فكل أمة تعظمه بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو في نوح
المسألة الرابعة
جرى ذكر العقب ها هنا موصولا في المعنى بالحقب وذلك مما يدخل في الأحكام ويترتب عليه عقود العمرى و التحبيس قال النبي أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث وهي ترد على أحد عشر لفظا
اللفظ الأول الولد
وهو عند الإطلاق عبارة عمن وجد عن الرجل وامرأته من الذكور والإناث وعن ولد الذكور دون ولد الإناث لغة وشرعا ولذلك وقع الميراث على الولد المعين وأولاد الذكور من المعين دون ولد البنات لأنه من قوم آخرين وكذلك لم يدخلوا في الحبس بهذا اللفظ قاله مالك في المجموعة وغيرها
اللفظ الثاني
فإن قال هذا حبس على ابني فلا يتعدى الولد المعين ولا يتعدد
ولو قال ولدي لتعدى وتعدد في كل من ولد وإن قال على بني دخل فيه الذكور والإناث قال مالك من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك
وروى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته فإن بنت بنته تدخل في ذلك مع بنات صلبه
والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنت لا يدخلون في البنين
103

فإن قيل فقد قال النبي في الحسن ابن بنته إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين
قلنا هذا مجاز وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه فيقول الرجل في ولد بنته ليس بابني ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه لأن الحقائق لا تنفى عن مسمياتها ألا ترى أنه ينسب إلى أبيه دون أمه ولذلك قيل في عبد الله بن عباس إنه هاشمي وليس بهلالي وإن كانت أمه هلالية
اللفظ الثالث الذرية
وهي مأخوذة من ذرأ الله الخلق في الأشهر فكأنهم وجدوا عنه ونسبوا إليه ويدخل فيه عند علمائنا ولد البنات لقوله تعالى (* (ومن ذريته داود وسليمان) *) الأنعا 84 إلى أن قال (* (وزكريا ويحيى وعيسى) *) الأنعام 85 فإنما هو من ذريته من قبل أمه لأنه لا أب له
اللفظ الرابع العقب
وهو في اللغة عبارة عن شيء جاء بعد شيء وإن لم يكن من جنسه يقال أعقب الله بخير أي جاء بعد الشدة بالرخاء وأعقب الشيب السواد والمعقاب من النساء التي تلد ذكرا بعد أنثى هكذا أبدا وعقب الرجل ولده وولد ولده الباقون بعده والعاقبة الولد قال يعقوب وفي القرآن (* (وجعلها كلمة باقية في عقبه) *) الزخرف 28
وقيل بل الورثة كلهم عقب والعاقبة الولد كذلك فسره مجاهد ها هنا
وقال ابن زيد ها هنا هم الذرية
وقال ابن شهاب هم الولد وولد الولد
104

وأما من طريق الفقه فقال ابن القاسم في المجموعة العقب الولد ذكرا كان أم أنثى
وقال عبد الملك وليس ولد البنات عقبا بحال
وقال محمد عن إبراهيم عن ابن القاسم عن مالك فيمن حبس على عقبه ولعقبه ولد فإنه يساوي بينهم وبين آبائهم للذكر والأنثى سواء ويفضل ذو العيال وهذا من قول ابن شهاب إنه الولد وولد الولد وليس ولد الابنة عقبا ولا ابنة الابنة
وقال القاضي إن كان المراد بالكلمة التوحيد فيدخل فيه الذكر والأنثى وإن كان المراد به الإمامة فلا يدخل فيه إلا الذكر وحده لأن الأنثى ليست بإمام وقد بينا ذلك وأوضحناه وإنما لا يكون ولد البنات عقبا ولا ولدا إذا كان القول الأول على ولدي أو عقبي مفردا وأما إذا تكرر فقال على ولدي وولد ولدي وعلى عقبي وعقب عقبي فإنه يدخل ولد البنات فيه حسبما يذكر فيه ولا يدخل فيما بعده مثل قوله أبدا ومثل قوله ما تناسلوا
اللفظ الخامس نسلي
وهو عند علمائنا كقوله ولد ولدي فإنه يدخل فيه ولد البنات ويجب أن يدخلوا لأن نسل بمعنى خرج وولد البنات قد خرجوا منه بوجه ولم يقترن به ما يخصه كما اقترن
بقوله عقبي ما تناسلوا حسبما تقدم والله أعلم
اللفظ السادس الآل
وهم الأهل وهو اللفظ السابع
قال ابن القاسم هما سواء وهم العصبة والإخوة والأخوات والبنات والعمات ولا تدخل فيه الخالات وأصل الأهل الاجتماع يقال مكان آهل إذا كان فيه جماعة وذلك بالعصبة ومن دخل في العقد والعصبة مشتقة منه وهي أخص به
وفي حديث الإفك يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا يعني عائشة
105

ولكن لا تدخل الزوجة فيه بإجماع وإن كانت أصل التأهل لأن ثبوتها ليس بيقين وقد يتبدل ربطها وينحل بالطلاق
وقد قال مالك آل محمد كل تقي وليس من هذا الباب وإنما أراد أن الإيمان أخص من القرابة وقد اشتملت عليه الدعوة وقصد بالرحمة
وقد قال أبو إسحاق التونسي يدخل في الأهل من كان من جهة الأبوين فوفى الاشتقاق حقه وغفل عن العرف ومطلق الاستعمال
وهذه المعاني إنما تبنى على الحقيقة أو العرف المستعمل عند الإطلاق فهذان لفظان
اللفظ الثامن القرابة
وفيها أربعة أقوال
الأول قال مالك في كتاب محمد وابن عبدوس إنهم الأقرب فالأقرب بالاجتهاد ولا يدخل فيه ولد البنات ولا ولد الخالات
الثاني يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه قاله علي بن زياد
الثالث قال أشهب يدخل فيه كل ذي رحم من الرجال والنساء
الرابع قال ابن كنانة يدخل فيه الأعمام والعمات والأخوات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت
وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى (* (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) *) الشورى 23 قال إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم
وقال لم يكن بطن من قريش إلا كانت بينها وبين النبي قرابة فهذا يضبطه والله أعلم
اللفظ التاسع العشيرة
ويضبطه الحديث الصحيح إن الله تعالى لما أنزل (* (وأنذر عشيرتك الأقربين) *) الشعراء 124 دعا النبي بطون قريش وسماهم كما تقدم ذكره وهم العشيرة
106

الأقربون وسواهم عشيرة في الإطلاق واللفظ يحمل على الأخص الأقرب بالاجتهاد كما تقدم من قول علمائنا
اللفظ العاشر القوم
قال القرويون يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء والقوم يشتمل على الرجال والنساء وإن كان الشاعر قد قال
(وما أدري وسوف إخال أدري
* أقوم آل حصن أم نساء)
ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال وإذا دعاهم للحرمة دخل فيهم الرجال والنساء فتعمه وتخصه القرينة
اللفظ الحادي عشر الموالي
قال مالك يدخل فيه موالي أبيه وابنه مع مواليه وقال ابن وهب يدخل فيه أولاد مواليه
قال القاضي والذي يتحصل فيه أنه يدخل فيه من يرثه بالولاء وهذه فصول الكلام وأصوله مرتبطة بظاهر القرآن والسنة المبينة له والتفريع والتتميم في كتب المسائل والله أعلم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون) *) الآية 33
فيها ثلاثة مسائل
المسألة الأولى معنى الآية
أن الدنيا عند الله تعالى من الهوان بحيث كان يجعل بيوت الكفار ودرجها وأبوابها ذهبا وفضة لولا غلبة حب الدنيا على القلوب فيحمل ذلك على الكفر والقدر
107

الذي جعل عند الكفار من الدنيا وعند بعض المؤمنين والأغنياء إنما هو فتنة لقوله تعالى (* (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) *) الفرقان 2
المسألة الثانية
في هذا دليل على أن السقف لصاحب السفل وذلك لأن البيت عبارة عن قاعة وجدار وسقف وباب فمن له البيت فله أركانه ولا خلاف في أن العلو له إلى السماء
واختلفوا في السفل فمنهم من قال هو له ومنهم من قال ليس له في بطن الأرض شيء وفي مذهبنا القولان وقد بين ذلك حديث الإسرائيلي الصحيح فيما تقدم أن رجلا باع
من رجل دارا فبناها فوجد فيها جرة من ذهب فجاء بها إلى البائع فقال إنما اشتريت الدار دون الجرة وقال البائع إنما بعت الدار بما فيها وكلاهما تدافعا فقضى بينهم أن يزوج أحدهما ولده من بنت الآخر ويكون المال بينهما
والصحيح أن العلو والسفل له إلا أن يخرج عنه بالبيع وهي
المسألة الثالثة
فإذا باع أحدهما أحد الموضعين فله منه ما ينتفع به وباقيه للمبتاع منه
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) *) الآية 44
فيها مسألتان
108

المسألة الأولى في الذكر
وفيه ثلاثة أقوال
أحدهما الشرف
الثاني الذكرى بالعهد المأخوذ في الدين
الثالث قال مالك هو قول الرجل حدثني أبي عن أبيه
وإذا قلنا إنه الشرف والفضل فإن ذلك حقيقة إنما هو بالدين فإن الدنيا لا شرف فيها قال النبي إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتفاخرها بالأحساب الناس مؤمن تقي أو كافر شقي كلكم لآدم وآدم من تراب وإن أكرمكم عند اله أتقاكم
وقيل وإنه لذكر لك ولقومك يعني الخلافة فإنها في قريش لا تكون في غيرهم قال النبي الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكفارهم
وقال مالك هو قول الرجل حدثني أبي عن أبيه ولم أجد في الإسلام هذه المرتبة إلا ببغداد فإن بني التميمي بها يقولون حدثني أبي قال حدثني أبي إلى رسول الله وبذلك شرفت أقدارهم وعظم الناس شأنهم وتهممت الخلافة بهم
ورأيت بمدينة السلام ابني أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن أبي الفرج بن عبد العزيز بن الجرد بن أسد بن الليث بن سليمان بن أسد بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن
109

عبد الله التميمي وكانا يقولان سمعنا أبانا رزق الله يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت علي بن أبي طالب يقول وقد سئل عن الحنان المنان الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال والقائل سمعت عليا أكينة بن عبد الله جدهم الأعلى
والأقوى أن يكون المراد بقوله (* (وإنه لذكر لك ولقومك) *) يعني القرآن فعليه ينبني الكلام وإليه يرجع الضمير وهي
المسألة الثانية في تنقيح هذه الأقوال
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون) *) الآية 71
وفيها سبع مسائل
المسألة الأولى
الجنة مخصوصة بالحرير والفضة والذهب لبسا وأكلا وشربا وانتفاعا وقطع الله ذلك في الدنيا عن الخلق إجماعا على اختلاف في الأحكام وتفصيل في الحلال والحرام فأما الحرير وهي
المسألة الثانية
فقد قال النبي من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة قال الراوي وإن لبسه أهل الجنة لم يلبسه هو فظن الناس أن ذلك من كلام النبي وإنما هو من تأويل الراوي وقد بينا تأويل هذا الحديث في كتاب المشكلين في شرح الحديث بما يغني عن إعادته ها هنا
110

وأمثلها تأويلان
أحدهما أن معناه ولم يتب كما قال من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها حرمها في الآخرة وكذلك خرجه مسلم وغيره من الحرير أيضا بنصه
الثاني وهو الذي يقضي بنصه على ا لأول أن معناه في حال دون حال وآخر الأمر إلى حسن العاقبة وجميل المآل
وقد اختلف العلماء في لباس الحرير على تسعة أقوال
الأول أنه محرم بكل حال
الثاني أنه محرم إلا في الحرب
الثالث أنه محرم إلا في السفر
الرابع أنه محرم إلا في المرض
الخامس أنه محرم إلا في الغزو
السادس أنه مباح بكل حال
السابع أنه محرم إلا العلم
الثامن أنه محرم على الرجال والنساء
التاسع أنه محرم لبسه دون فرشه قاله أبو حنيفة وابن الماجشون
فأما كونه محرما على الإطلاق فلقول رسول الله في الحلة السيراء إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة وشبهه
وأما من قال إنه محرم إلا في الحرب فهو اختيار ابن الماجشون من أصحابنا في الغزو به والصلاة فيه وأنكره مالك فيهما
ووجهه أن لباس الحرير من السرف والخيلاء وذلك أمر يبغضه الله تعالى إلا في الحرب فرخص فيه من الإرهاب على العدو
111

وهذا تعليل من لم يفهم الشريعة فظن أن النصر بالدنيا وزخرفها وليس كذلك بل فتح الله الفتوح على قوم ما كانت حلية سيوفهم إلا العلابي
وأما من قال إنه محرم إلا في السفر فلما روي في الصحيح من أن النبي رخص للزبير وعبد الرحمن بن عوف في قمص الحرير في السفر لحكة كانت بهما
وأما من قال إنه يحرم إلا في المرض فلأجل إباحة النبي لهما استعماله عند الحكة
وأما من قال إنه محرم إلا في الغزو فلأجل ما ورد في بعض طرق أنس إنه رخص للزبير وعبد الرحمن في قمص الحرير في غزاة لهما فذكر لفظ الغزو في العلة وذكر الصفة في الحكم تعليل حسبما بيناه في أصول الفقه ومسائل الخلاف وها هنا كما سبق
وأما من قال إنه مباح بكل حال فإنه رأى الحديث الصحيح يبيحه للحكة وفي بعض ألفاظ الصحيح لأجل القمل ولو كان حراما ما أباحه للحكة ولا للقمل كالخمر والبول فإن التداوي بما حرم الله لا يجوز
وهذا ضعيف فإن التحريم قد ثبت يقينا والرخصة قد وردت حقا وللبارئ سبحانه وتعالى أن يضع وظائف التحريم كيف شاء من إطلاق واستنثاء وإنما اذن النبي في ذلك لهما لأجل القمل والحكة لأنهم كانت عندهم خمائص غليظة لا يحتملها البدن فنقلهم إلى الحرير لعدم دقيق القطن والكتاب وإذا وجد صاحب الجرب والقمل دقيق الكتان والقطن لم يجز أن يأخذ لين الحرير
وأما من قال إنه محرم بكل حال إلا العلم فلما في الصحيح من إباحة العلم وتقديره بأصبعين وفي رواية بثلاث أو أربع واليقين ثلاث أصابع وهو الذي
112

رآه مالك في أشهر قوليه والأربع مشكوك فيه وقد يجوز أن يكف الثوب بالحرير كما يجوز إدخال العلم فيه لما روى الترمذي وغيره أن النبي كانت له فروة مكفوفة بالديباج
وفي صحيح مسلم عن عبد الله مولى أسماء قال أخرجت إلي أسماء طيالسة كسروانية لهما لبنة ديباج وفرجاها مكفوفان بالديباج فقالت هذه كانت عند عائشة تلبسها حتى قبضت وكان النبي يلبسها فنحن نغسلها للمرضى ليستشفى بها وهو حديث صحيح وأصل صريح والله أعلم
وأما من قال إنه محرم على النساء ففي صحيح مسلم أن عبد الله بن الزبير خطب فقال ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله يقول لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة
وهذا ظن من عبد الله يدفعه يقين الحديث الصحيح عن جماعة منهم علي بن أبي طالب قال أهديت للنبي حلة سيراء فبعث بها إلي فلبستها فعرفت الغضب في وجهه وقال إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثتها إليك لتشقها خمرا بين النساء
وفي رواية شققه خمرا بين الفواطم إحداهن فاطمة بنت رسول الله زوج علي والثانية فاطمة بنت أسد بن هاشم زوج أبي طالب أم علي وجعفر وعقيل وطالب ابن أبي طالب وكانت أسلمت وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي والله أعلم بغيرها
وأما من قال إنما حرم لبسه لا فرشه وهو أبو حنيفة فهي نزعة أعجمية لم يعلم ما هو اللباس في لغة العرب ولا في الشريعة والفرش والبسط ليس لغة وهو كذلك
113

حرام على الرجال في الشريعة ففي الصحيح عن أنس أن النبي جاء وذكر الحديث قال فيه فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس وهذا نص
المسألة الثالثة الحرير حرام على الرجال وحلال للنساء كما تقدم
والأصل فيه الحديث الصحيح أن النبي قال في الذهب والحرير هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها وللمرأة أن تتخذ ثياب الذهب والحرير والديباج وللرجل أن يكون معها فيها فإذا انفرد بنفسه لم يجز له شيء من ذلك
وقد روى جابر بن عبد الله أن النبي قال له حين تزوج اتخذت أنماطا قلت وأنى لنا الأنماط قال أما إنها ستكون وليس يلزم الرجل أن يخلعها عن ثيابها ولا أن يعري بيتها وفراشها وحينئذ يستمتع بها
المسألة الرابعة لبس الخز جائز
وهو ما سداه حريروليس لحمته منه وقد لبسه عبد الله بن الزبير وكان يرى الحرير حراما على النساء ولهذا أدخله مالك عنه في الموطأ وقد لبسه عثمان وكفى به حجة
وقد استوفينا ذلك في كتب الحديث
114

المسألة الخامسة
فأما استعمال الذهب والفضة ففي صحيح الحديث عن أم سلمة من رواية مالك وغيره أن النبي قال للذي يشرب في آنية من الذهب أو الفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم
وروى حذيفة في الصحيح أن النبي قال لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما ولا تلبسوا الحرير والديباج فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة
ولا خلاف في ذلك
واختلف الناس في استعمالها في غير ذلك والصحيح أنه لا يجوز للرجال استعمالها في شيء لقول النبي في الذهب والحرير هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها والنهي عن الأكل والشرب فيها وسائر ذلك يدل على تحريم استعمالها لأنه نوع من المتاع فلم يجز أصله الأكل والشرب ولأن العلة في ذلك استعجال أجر الآخرة وذلك يستوي فيه الأكل والشرب وسائر أجزاء الانتفاع ولأنه عليه السلام قال هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة فلم يجعل لنا فيها حظا في الدنيا
المسألة السادسة إذا كان الإناء مضببا بهما أو فيه حلقة منهما
فقال مالك لا يعجبني أن يشرب فيه وكذلك المرآة تكون فيها الحلقة من الفضة لا يعجبني أن ينظر فيها وجهه وقد كان عند أنس إناء مضبب بالفضة وقال لقد سقيت فيه النبي
قال ابن سرين كانت فيه حلقة حديد فأراد أنس أن يجعل فيه حلقة فضة فقال أبو طلحة لا أغير شيئا مما صنعه رسول الله فتركه
115

المسألة السابعة إذا لم يجز استعمالها لم يجز اقتناؤها
لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطنبور
وفي كتب علمائنا إنه يلزم الغرم في قيمتها لمن كسرها وهو معنى فاسد فإن كسرها واجب فلا ثمن لقيمتها ولا يجوز تقويمها في الزكاة بحال وغير هذا لا يلتفت إليه وقد بيناها في المسائل بأبلغ من هذا
الآية السادسة
قوله تعالى (* (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) *) الآية 86
وقد بينا أن الشهادة منصب عظيم وولاية كريمة فيها تنفيذ قول الغير على الغير ولا يكون إلا بما قد علمه الشاهد ولكنه قد يستدل على العلم بما يكون قطعا عنده وقد يكون عنده ظاهرا وذلك مستقصى في كتب الفقه ومسائله والله أعلم
116

سورة الدخان فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) *) الآية 3
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) *)
يعني أن الله أنزل القرآن بالليل وقد بينا أن منه ليليا ومنه نهاريا ومنه سفري وحضري ومنه مكي ومدني ومنه سمائي وأرضي ومنه هوائي والمراد ها هنا ما روي عن ابن عباس أنه أنزل جملة في الليل إلى السماء الدنيا ثم نزل على النبي نحو ما في عشرين عاما ونحوها
المسألة الثانية قوله (* (مباركة) *))
البركة هي النماء والزيادة وسماها مباركة لما يعطي الله فيها من المنازل ويغفر من الخطايا ويقسم من الحظوظ ويبث من الرحمة وينيل من الخير وهي حقيقة ذلك وتفسيره
المسألة الثالثة تعيين هذه الليلة
وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر ومنهم من قال إنها ليلة النصف من شعبان وهو باطل لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع (* (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) *) البقرة 185 فنص على أن ميقات نزوله رمضان ثم عبر عن زمانية الليل ها هنا بقوله (* (في ليلة مباركة) *) فمن زعم أنه في غيره فقد أعظم الفرية على الله وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها
117

الآية الثانية
قوله تعالى (* (فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون) *) الآية 23
فيها مسألتان
المسألة الأولى السرى
سير الليل والإدلاج سير السحر والإسآد سيره كله والتأويب سير النهار ويقال سرى وأسرى وقد يضاف إلى الليل قال الله تعالى (* (والليل إذا يسر) *) الفجر 4 وهو
يسرى فيه كما قيل ليل نائم وهو ينام فيه وذلك من اتساعات العرب
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فأسر بعبادي ليلا) *))
أمر بالخروج بالليل وسير الليل يكون من الخوف والخوف يكون من وجهين إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا فهو من أستار الله تعالى وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بحر أو جدب فيتخذ السرى مصلحة من ذلك وكان النبي يسري ويدلج ويترفق ويستعجل قدر الحاجة وحسب العجلة وما تقتضيه المصلحة
وفي جامع الموطأ إن الله رفيق يحب الرفق ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف فإذا ركبتم هذه الدواب العجم فأنزلوها منازلها فإن كانت الأرض جدبة فانجوا عليها بنقيها وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار وإياكم والتعريس على الطريق فإنه طرق الدواب ومأوى الحيات
الآية الثالثة
قوله تعالى (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) الآيتان 43 44
118

فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى الزقوم
كل طعام مكروه يقال تزقم الرجل إذا تناول ما يكره
ويحكى عن بعضهم أن الزقوم هو التمر والزبد بلسان البربر ويا لله ولهذا القائل وأمثاله الذين يتكلمون في الكتاب بالباطل وهم لا يعلمون
المسألة الثانية
روي أن ابن مسعود أقرأ رجلا (* (طعام الأثيم) *) فلم يفهمها فقال له طعام الفاجر فجعلها الناس قراءة حتى روى ابن وهب عن مالك قال أقرأ ابن مسعود رجلا (* (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) *) فجعل الرجل يقول طعام اليتيم فقال له عبد الله بن مسعود طعام الفاجر فقلت لمالك أترى أن يقول كذلك قال نعم
وروى البصريون عنه أنه لا يقرأ في الصلاة بما يروى عن ابن مسعود وقال ابن شعبان لم يختلف قول مالك إنه لا يصلى بقراءة ابن مسعود فإنه من صلى بها أعاد صلاته لأنه كان يقرأ بالتفسير
وقد بينا القول في حال ابن مسعود في سورة آل عمران ولو صحت قراءته لكانت القراءة بها سنة ولكن الناس أضافوا إليه ما لم يصح عنه فلذلك قال مالك لا يقرأ بما يذكر عن ابن مسعود
والذي صح عنه ما في المصحف الأصلي
فإن قيل ففي المصحف الأصلي قراءات واختلافات فبأي يقرأ قلنا وهي
المسألة الثالثة
بجميعها بإجماع من الأمة فما وضعت إلا لحفظ القرآن ولا كتبت إلا للقراءة بها ولكن ليس يلزم أن يعين المقروء به منها فيقرأ بحرف أهل المدينة وأهل الشام
119

وأهل مكة وإنما يلزمه ألا يخرج عنها فإذا قرأ آية بحرف أهل المدينة وقرأ التي بعدها بحرف أهل الشام كان جائزا وإنما ضبط أهل كل بلدي قراءتهم بناء على مصحفهم وعلى ما نقلوه عن سلفهم والكل من عند الله وقد بينا ذلك في تفسير قوله أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر
120

سورة الجاثية فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون) *) الآية 14
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أن رجلا من المشركين شتم عمر بن الخطاب فهم أن يبطش به فنزلت الآية وهذا لم يصح
المسألة الثانية في إعرابها
اعلموا وفقكم الله أن الخبر لا يصح أن يكون جواب هذا الأمر وجاء ظاهره ها هنا جوابا مجزوما وتقدير الكلام قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله وقد بيناه في ملجئة المتفقهين
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (لا يرجون أيام الله) *))
يحتمل أن يكون على الرجاء المطلق على أن تكون الأيام عبارة عن النعم ويحتمل أن يكون بمعنى الخوف ويعبر بالأيام عن النقم وبالكل ينتظم الكلام
121

المسألة الرابعة
هذا من المغفرة وشبهه من الصفح والإعراض منسوخ بآيات القتال وقد بيناه في القسم الثاني من علوم القرآن
الآية الثانية
قوله تعالى (* (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) *) الآية 18
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
الشريعة في اللغة عبارة عن الطريق إلى الماء ضربت مثلا للطريق إلى الحق لما فيها من عذوبة المورد وسلامة المصدر وحسنه
المسألة الثانية في المراد بها من وجوه الحق
وفي ذلك أربعة أقوال
الأول أن الأمر الدين
الثاني أنه السنة
الثالث أنه الفرائض
الرابع النية وهذه كلمة أرسلها من لم يتفطن للحقائق والأمر يرد في اللغة بمعنيين
أحدهما بمعنى الشأن كقوله تعالى (* (فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد) *) هود 97
والثاني أنه أحد أقسام الكلام الذي يقابله النهي وكلهما يصح أن يكون مرادا ها هنا وتقديره ثم جعلناك على طريقة من الدين وهي ملة الإسلام كما قال تعالى (* (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) *) النحل 123
122

ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح وإنما خالف بينها في الفروع بحسب ما علمه سبحانه
المسألة الثالثة
ظن بعض من تكلم في العمل أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا لأن الله تعالى أفرد النبي وأمته في هذه الآية بشريعة ولا ننكر أن النبي وأمته منفردان بشريعة وإنما الخلاف فيما أخبر النبي من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء والعظة هل يلزم اتباعه أم لا ولا إشكال في لزوم ذلك لما بيناه من الأدلة وقدمناها هنا وفي موضعه من البيان
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) *) الآية 21
فيها مسألتان المسألة الأولى قوله (* (اجترحوا) *)
معناه افتعلوا من الريح وضرب تأثير الجرح في البدن كتأثير السيئات في الدين مثلا وهو من بديع الأمثال
المسألة الثانية
قد بينا معنى هذه الآية في قوله تعالى (* (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) *) ص 28 فإنها على مساقها فلا وجه لإعادتها
123

سورة الأحقاف فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) *) الآية 4
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في مساق الآية
وهي أشرف آية في القرآن فإنها استوفت أدلة الشرع عقليها وسمعيها لقوله تعالى (* (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات) *) فهذه بيان لأدلة العقل المتعلقة بالتوحيد وحدوث العالم وانفراد الباري سبحانه بالقدرة والعلم والوجود والخلق ثم قال (* (ائتوني بكتاب من قبل هذا) *) على ما تقولون وهذه بيان لأدلة السمع فإن مدرك الحق إنما يكون بدليل العقل أو بدليل الشرع حسبما بيناه من مراتب الأدلة في كتب الأصول ثم قال (* (أو أثارة من علم) *) يعني أو علم يؤثر أو يروى وينقل وإن لم يكن مكتوبا فإن المنقول عن الحفظ مثل المنقول عن الكتب
المسألة الثانية
قال قوم إن قوله (* (أو أثارة من علم) *) يعني بذلك علم الخط وهو الضرب في التراب لمعرفة الكوائن في المستقبل أو فيما مضى مما غاب عن الضارب وأسندوا ذلك عن ابن عباس إلى النبي ولم يصح
124

وفي مشهور الحديث أن النبي قال كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذلك ولم يصح أيضا
واختلفوا في تأويله فمنهم من قال إنه جاء لإباحة الضرب به لأن بعض الأنبياء كان يفعله ومنهم من قال جاء للنهي عنه لأن النبي قال فمن وافق خطه فذلك ولا سبيل إلى معرفة طريق النبي المتقدم فيه فإذا لا سبيل إلى العمل به
(لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى
* ولا زاجرات الطير ما الله صانع)
وحقيقته عند أربابه ترجع إلى صور الكواكب فيدل ما يخرج منها على ما تدل عليه تلك الكواكب من سعد أو نحس يحل بهم فصار ظنا مبنيا على ظن وتعلقا بأمر غائب قد درست طريقه وفات تحقيقه وقد نهت الشريعة عنه وأخبرت أن ذلك مما اختص الله به وقطعه عن الخلق وإن كانت لهم قبل ذلك أسباب يتعلقون بها في درك الغيب فإن الله تعالى قد رفع تلك الأسباب وطمس تيك الأبواب وأفرد نفسه بعلم الغيب فلا يجوز مزاحمته في ذلك ولا تحل لأحد دعواه وطلبه عناء لو لم يكن فيه نهي فإذ قد ورد النهي فطلبه معصية أو كفر بحسب قصد الطالب
المسألة الثالثة
إن الله تعالى لم يبق من الأسباب الدالة على أن الغيب التي أذن في التعلق بها والاستدلال منها إلا الرؤيا فإنه أذن فيها وأخبر أنها جزء من النبوة وكذلك الفأل فأما الطيرة والزجر فإنه نهى عنهما
125

والفأل هو الاستدلال بما يستمع من الكلام على ما يريد من الأمر إذا كان حسنا فإن سمع مكروها فهو تطير وأمر الشرع بأن يفرح بالفأل ويمضي على أمره مسرورا به فإذا سمع المكروه أعرض عنه ولم يرجع لأجله وقال كما علمه النبي اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك وقد روي عن بعض الأدباء
(الفأل والزجر والكهان كلهم
* مضللون ودون الغيب أقفال)
وهذا كلام صحيح إلا في الفأل فإن الشرع استثناه وأمر به فلا يقبل من هذا الشاعر ما نظمه فيه فإنه تكلم بجهل وصاحب الشرع أعلم وأحكم
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) *) الآية 15
روي أن امرأة تزوجت فولدت لستة أشهر من يوم تزوجت فأتي بها عثمان فأراد أن يرجمها فقال ابن عباس لعثمان إنها إن تخاصمكم بكتاب الله تخصمكم قال الله عز وجل (* (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) *) وقال (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) البقرة 233 فالحمل ستة أشهر والفصال أربعة وعشرون شهرا فخلى سبيلها
وفي رواية أن علي بن أبي طالب قال له ذلك وقد تقدم بيانه في سورة البقرة وهو استنباط بديع
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) *) الآية 2
126

فيها مسألتان
المسألة الأولى
لا خلاف أن هذه الآية في الكفار بنص القرآن لقوله في أولها (* (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) *) أي فيقال لهم أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا يريد أفنيتموها في الكفر بالله ومعصيته وإن الله أحل الطيبات من الحلال واللذات وأمر باستعمالها في الطاعات فصرفها الكفار إلى الكفر فأوعدهم الله بما أخبر به عنهم وقد يستعملها المؤمن في المعاصي فيدخل في وعيد آخر وتناله آية أخرى برجاء المغفرة ويرجع أمره إلى المشيئة فينفذ الله فيه ما علمه منه وكتبه له
المسألة الثانية
روي أن عمر بن الخطاب لقي جابر بن عبد الله وقد ابتاع لحما بدرهم فقال له أما سمعت الله تعالى يقول (* (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) *)
وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشري لها الطباع وتستمر عليها العادة فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات وحتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله
والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه على المرء أن يأكل ما وجد طيبا كان أو قفارا ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة وقد كان يشبع إذا وجد ويصبر إذا عدم ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ويشرب العسل إذا اتفق له ويأكل اللحم إذا تيسر ولا يعتمده أصلا ولا يجعله ديدنا ومعيشة النبي معلومة وطريقة
127

أصحابه بعده منقولة فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير والله يهب الإخلاص ويعين على الخلاص برحمته
وقد روي أن عمر بن الخطاب قدم عليه ناس من العراق فرأى القوم كأنهم يتقززون في الأكل فقال ما هذا يا أهل العراق لو شئت أن يدهمق لي كما يدهمق لكم ولكنا نستبقي من دنيانا ما نجده في آخرتنا ألم تسمعوا أن الله تعالى ذكر قوما فقال (* (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) *)
128

سورة محمد فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) *) الآية 4
فيها تسع مسائل
المسألة الأولى في إعرابها
قال المعربون هو منصوب بفعل مضمر دل عليه المصدر تقديره فاضربوا الرقاب ضربا وعندي أنه مقدر بقولك اقصدوا ضرب الرقاب وكذلك في قوله (* (فإما منا بعد وإما فداء) *) معناه افعلوا ذلك وقد بيناه في رسالة الإلجاء
المسألة الثانية قوله تعالى (* (الذين كفروا) *))
فيها قولان
أحدهما أنهم المشركون قاله ابن عباس
الثاني كل من لا عهد له ولا ذمة وهو الصحيح لعموم الآية فيه
129

المسألة الثالثة في المراد بقوله عز وجل (* (فضرب الرقاب) *))
قولان
أحدهما أنه القتال قاله السدي
الثاني أنه قتل الأسير صبرا
والأظهر أنه في القتال وهو اللقاء وإنما نستفيد قتل الأسير صبرا من فعل النبي له وأمره به
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) *))
قد تقدم تفسيره في سورة الأنفال
المعنى اقتلوهم حتى إذا كثر ذلك وأخذتم من بقي فأوثقوهم شدا فإما أن تمنوا عليهم فتطلقوهم بغير شيء وإما أن تفادوهم وهي
المسألة الخامسة
كما فعل النبي بأبي عزة وبثمامة
وقال مقاتل هوا لعتق وكذلك روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك
والأول أصح فإن الإسقاط والترك معنى والعتق معنى وإن كان في العتق معنى الترك فليس حكمه
المسألة السادسة (* (حتى تضع الحرب أوزارها) *))
يعني ثقلها وعبر عن السلاح به لثقل حملها وفيه ثلاثة أقوال
أحدها حتى يؤمنوا ويذهب الكفر قاله الفراء
الثاني حتى يسلم الخلق قاله الكلبي
الثالث حتى ينزل عيسى ابن مريم قاله مجاهد
130

المسألة السابعة
اختلف الناس في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة
فقيل هي منسوخة بقوله (* (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *) التوبة 5 قاله السدي
الثاني أنها منسوخة في أهل الأوثان فإنهم لا يعاهدون وقيل إنها محكمة على الإطلاق قاله الضحاك
الثالث أنها محكمة بعد الإثخان قاله سعيد بن جبير لقوله (* (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) *) الأنفال 67
والتحقيق الصحيح أنها محكمة في الأمر بالقتال حسبما بيناه في القسم الثاني
المسألة الثامنة في التنقيح
اعلموا وفقكم الله أن هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها أمر الله سبحانه فيها بالقتال وبين كيفيته كما بينه في قوله تعالى (* (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) *) الأنفال 12 حسبما تقدم بيانه في الأنفال فإذا تمكن المسلم من عنق الكافر أجهز عليه وإذا تمكن من ضرب يده التي يدفع بها عن نفسه ويتناول بها قتال غيره فعل ذلك به فإن لم يتمكن إلا ضرب فرسه التي يتوصل بها إلى مراده فيصير حينئذ راجلا مثله أو دونه فإن كان فوقه قصد مساواته وإن كان مثله قصد حطه والمطلوب
نفسه والمآل إعلاء كلمة الله تعالى وذلك لأن الله سبحانه لما أمر بالقتال أولا وعلم أن ستبلغ إلى الإثخان والغلبة بين سبحانه حكم الغلبة بشد الوثاق فيتخير حينئذ المسلمون بين المن والفداء وبه قال الشافعي
وقال أبو حنيفة إنما لهم القتل والاسترقاق وهذه الآية عنده منسوخة
131

والصحيح إحكامها فإن شروط النسخ معدومة فيها من المعارضة وتحصيل المتقدم من المتأخر وقوله (* (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون) *) الأنفال 57 فلا حجة فيه لأن التشريد قد يكون بالمن والفداء والقتل فإن طوق المنن يثقل أعناق الرجال ويذهب بنفاسة نفوسهم والفداء يجحف بأموالهم ولم يزل العباس تحت ثقل فداء بدر حتى أدى عنه رسول الله
وأما قوله (* (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *) فقد قال وأحصروهم فأمر بالأخذ كما أمر بالقتل
فإن قيل أمر بالأخذ للقتل
قلنا أو للمن والفداء وقد عضدت السنة ذلك كله فروى مسلم أن النبي أخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها ناسا من المسلمين وقد هبط على النبي من أهل مكة قوم فأخذهم النبي ومن عليهم وقد من على سبي هوازن وقتل النضر بن الحارث صبرا فقالت أخته قتيلة ترثيه
(يا راكبا إن الأثيل مظنة
* من صبح خامسة وأنت موفق)
(أبلغ بها ميتا بأن تحية
* ما إن تزال بها النجائب تخفق)
(مني إليه وعبرة مسفوحة
* جادت بواكفها وأخرى تخنق)
(فليسمعن النضر إن ناديته
* إن كان يسمع ميت أو ينطق)
(أمحمد ولأنت ضنء كريمة
* في قومها والفحل فحل معرق)
(ما كان ضرك لو مننت وربما
* من الفتى وهو المغيظ المحنق)
(لو كنت قابل فدية لفديته
* بأعز ما يغلي به من ينفق)
(والنصر أقرب من أسرت قرابة
* وأحقهم لو كان عتق يعتق)
(ظلت رماح بني أبيه تنوشه
* لله أرحام هناك تشقق)
(صبرا يقاد إلى المنية متعبا
* رسف المقيد وهو عان موثق)
فالنظر إلى الإمام حسبما بيناه في مسائل الخلاف
132

وأما قوله تعالى (* (حتى تضع الحرب أوزارها) *) فمعناه عند قوم حتى تضع الحرب آثامها يريدون بأن يسلم الكل فلا يبقى كافر ويؤول معناه إلى أن يكون المراد حتى ينقطع الجهاد وذلك لا يكون إلى يوم القيامة لقوله الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم
ومن ذكر نزول عيسى ابن مريم فإنما هو لأجل ما روي أنه إذا نزل لا يبقى كافر من أهل الكتاب ولا جزية ويمكن أن يبقى من لا كتاب له ولا يقبل منه جزية في أصح القولين وقد بينا ذلك في كتب الحديث
المسألة التاسعة في تتميم القول
قال الحسن وعطاء في الآية تقديم وتأخير المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق وليس للإمام أن يقتل الأسير
وقد روي عن الحجاج أنه دفع أسيرا إلى عبد الله بن عمر ليقتله فأبى وقال ليس بهذا أمرنا الله وقرأ حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق
قلنا قد قاله رسول الله وفعله وليس في تفسير الله للمن والفداء منع من غيره فقد بين الله في الزنا حكم الجلد وبين النبي حكم الرجم ولعل ابن عمر كره ذلك من يد الحجاج
فاعتذر بما قال وربك أعلم
الآية الثانية
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) *) الآية 33
اختلف العلماء فيمن افتتح نافلة من صوم أو صلاة ثم أراد تركها قال الشافعي
133

له ذلك وقال مالك وأبو حنيفة ليس له ذلك لأنه إبطال لعمله الذي انعقد له وقال الشافعي هو تطوع فإلزامه إياه يخرجه عن الطواعية
قلنا إنما يكون ذلك قبل الشروع في الفعل فإذا شرع لزمه كالشروع في المعاملات
الثاني أنه لا تكون عبادة ببعض ركعة ولا ببعض يوم في صوم فإذا قطع في بعض الركعة أو في بعض اليوم إن قال إنه يعتد به فقد ناقض الإجماع وإن قال إنه ليس بشيء فقد نقض الإلزام وذلك مستقصى في مسائل الخلاف
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) *) الآية 35 وقد بينا حكم الصلح مع الأعداء في سورة الأنفال وقد نهى الله تعالى ها هنا عنه مع القهر والغلبة للكفار وذلك بين وإن الصلح إنما هو إذا كان له وجه يحتاج فيه إليه ويفيد فائدة والله أعلم لا رب غيره ولا خير إلا خيره
134

سورة الفتح فيها خمس آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما) *) الآية 16
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله (* (قل للمخلفين) *))
قيل هم الذين تخلفوا عن الحديبية وهم خمس قبائل جهينة ومزينة وأشجع وغفار وأسلم (* (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) *) وهي
المسألة الثانية
وفي تعيينهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم فارس والروم
الثاني أنهم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب
الثالث أنهم هوازن وغطفان يوم حنين تقاتلونهم أو يسلمون وهذا يدل على أنهم باليمامة لا بفارس ولا بالروم وهي
المسألة الثالثة
لأن الذي تعين عليه القتال حتى يسلم من غير قبول جزية هم العرب في أصح الأقوال والمرتدون
135

فأما فارس والروم فلا يقاتلون حتى يسلموا بل إن بذلوا الجزية قبلت منهم وجاءت الآية معجزة للنبي وإخبارا بالغيب الآتي وهي
المسألة الرابعة
ودلت على إمامة أبي بكر وعمر وهي
المسألة الخامسة
لأن الداعي لهم كان أبا بكر في قتال بني حنيفة وهو استخلف عمر وعمر كان الداعي لهم إلى قتال فارس والروم وخرج علي تحت لوائه وأخذ سهمه من غنيمته واستولد حنيفة الحنفية ولده محمدا ولو كانت إمامة باطلة وغنيمة حراما لما جاز عندهم وطء علي لها لأنه عندهم معصوم من جميع الذنوب
الآية الثانية
قوله تعالى (* (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما) *) الآية 17
وقد تقدم في سورة النور بيانها والمراد بها ها هنا الجهاد
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) *) الآية 25
فيها خمس مسائل
136

المسألة الأولى قوله تعالى (* (هم الذين كفروا) *))
يعني قريشا بغير خلاف لأن الآية نزلت فيهم والقصة مخصوصة بهم فلا يدخل غيرهم معهم منعوا النبي من دخول مكة في غزوة الحديبية ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله وهذا كانوا لا يعتقدونه ولكنهم حملتهم الأنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه وأدخل الأنس على رسول الله ببيانه ووعده
المسألة الثانية قوله تعالى (* (أن يبلغ محله) *))
فيه قولان
أحدهما منحره
الثاني الحرم قاله الشافعي
وكان الهدي سبعين بدنة ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع محلا للعذر ونحره النبي وأصحابه فيه بإذن الله تعال وقبوله وإبقائه سنة بعده لمن حبس عن البيت وصد كما صد رسول الله حسبما بيناه في تفسير سورة البقرة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم) *))
بمكة فخيف وطؤكم لهم بغير علم لأدخلناكم عليم عنوة وملكناكم البلد قسرا ولكنا صنا من كان فيها يكتم إيمانه خوفا وهذا حكم الله وحكمته ولا اعتراض عليه فيه فإنه قادر على كل شيء فإذا فعل بعضه لم يكن عن عجز وإنما هو عن حكمة
137

المسألة الرابعة قوله تعالى (* (بغير علم) *))
تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي حتى إنهم لو أصابوا من أولئك أحدا لكان من غير قصد وهذا كما وصفت النملة عن جند سليمان في قولها (* (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) *) النمل 18 حسبما بيناه في سورة النمل
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (لو تزيلوا) *))
يعني المؤمنين منهم لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما تنبيه على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن إذا لم تمكن إذاية الكافر إلا بإذاية المؤمن
وقال أبو زيد قلت لابن القاسم أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم أيحرق هذا الحصن أم لا يحرق
قال سمعت مالكا وسئل عن قوم من المشركين يرمون في مراكبهم أخذوا أسارى من المسلمين وادركهم أهل الإسلام فأرادوا أن يحرقوهم ومراكبهم بالنا ومعهم الأسارى في مراكبهم قال فقال مالك لا أرى ذلك لقوله تعالى لأهل مكة (* (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) *)
وقال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال وهذا ضعيف لقوله تعالى (* (أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم) *) وهو في صلب الرجل لا يوطأ ولا تصيب منه معرة وهو سبحانه وتعالى قد صرح فقال (* (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم) *) وذلك لا ينطلق على ما في بطن المرأة وصلب الرجل وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل وكذلك قال مالك
138

وقد حاصرنا مدينة للروم فحبس عنهم الماء فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا
وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى المسلمين وأطفالهم ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة
وقال الثوري فيه الكفارة ولا دية له
وقال الشافعي بقولنا وهذا ظاهر فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز ولا سيما بروح المسلم فلا قول إلا ما قاله مالك والله أعلم
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) *) الآية 27
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله تعالى (* (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) *))
وكان رسول الله يرى أنه يدخل مكة ويطوف فأنذر أصحابه بالعمرة وخرج في ألف وأربعمائة من أصحابه ومائتي قرشي حتى أتى أصحابه وبلغ الحديبية فصده المشركون وصالحوه أن يدخل من العام المقبل بسلاح الراكب بالسيف والفرس وفي رواية بجلبان السلاح وهو السيف في قرابه فسميت عمرة القضية لما كتب رسول الله بينهم من القضية وسميت عمرة القضاء لأن رسول الله قضاها من قابل وسميت عمرة القصاص لقوله تعالى (* (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص) *) البقرة 194 أي اقتصصتم منهم كما صدوكم فارتاب المنافقون ودخل الهم على جماعة من الرفعاء من أصحابه فجاء عمر بن
139

الخطاب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فقال له ألم يقل رسول الله إنه داخل البيت فمطوف به قال نعم ولكن لم يقل العام وإنه آتيه فمطوف به وجاء رسول الله فقال له مثل ما قال لأبي بكر وراجعه رسول الله بمراجعة أبي بكر قال عمر بن الخطاب فعملت لذلك أعمالا يعني من الخير كفارة لذلك التوقف الذي داخله حين رأي النبي وقد صد عن البيت ولم تخرج رؤياه في ذلك العام
المسألة الثانية
فلما كان في العام القابل دخله رسول الله وأصحابه آمنين فحلقوا وقصروا
وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر رسول الله على المروة بمشقص وهذا كان في العمرة لا في الحج لأن النبي حلق في حجته وأقام بها ثلاثة أيام فلما انقضت الثلاث أراد أن يبني بميمونة بمكة فأبوا ذلك على رسول الله فبنى بها بسرف وكذلك روى ابن القاسم عن مالك في ذكر ميمونة خاصة مما تقدم ذكره
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) *) الآية 29
فيها مسألتان
المسألة الأولى
يعني علامتهم وهي سيما وسيميا وفي الحديث قال النبي لكم سيما ليست لغيركم من الأمم تأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء رويت في هذا الحديث بالمد والقصر
140

المسألة الثانية في تأويلها
وقد تؤولت على ستة أقوال
الأول أنه يوم القيامة
الثاني ثرى الأرض قاله ابن جبير
الثالث تبدو صلاتهم في وجوههم قاله ابن عباس
الرابع أنه السمت الحسن قاله ابن عباس والحسن
الخامس أنه الخشوع قاله مجاهد
السادس أنه من صلى بالليل أصبح وجهه مصفرا قاله الضحاك
وقد قال بعض العلماء
من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار
ودسه قوم في حديث النبي على وجه الغلط وليس للنبي فيه ذكر بحرف
وقد قال مالك فيما روى ابن وهب عنه سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود وبه قال سعيد بن جبير
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الصبح إحدى وعشرين من رمضان وقد وكف المسجد وكان على عريش فانصرف النبي من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله يأمر الله الملائكة أن يخرجوا من النار من شهد أن لا إله إلا الله فيعرفونه بعلامة أثر السجود وحرم الله تعالى على النار أن تأكل من أبن آدم آثار السجود
وقد روى منصور عن مجاهد قال هو الخشوع
141

قلت هو أثر السجود فقال إنه يكون بين عينيه مثل ركبة العنز وهو كما شاء الله
وقال علماء الحديث ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة لقول النبي نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث
142

سورة الحجرات فيها سبع آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم) *) الآية 1
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفيه خمسة أقوال
الأول أن قوما كانوا يقولون لو أنزل في كذا وكذا فأنزل الله هذه الآية قاله قتادة
الثاني نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه قاله ابن عباس
الثالث لا تفتاتوا على الله ورسوله في أمر حتى يقضي الله على لسان رسول الله ما يشاء قاله مجاهد
الرابع أنها نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي النبي فأمرهم أن يعيدوا الذبح قاله الحسن
وفي الصحيح أن النبي قال لأصحابه في يوم الأضحى من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله فقام أبو بردة بن نيار خال البراء بن عازب فقال يا رسول الله هذا يوم يشتهى فيه اللحم وإني ذبحت قبل أن أصلي وعندي عناق جذعة خير من شاتي لحم فقال تجزئك ولن تجزئ عن أحد بعدك
143

الخامس لا تقدموا أعمال الطاعة قبل وقتها قاله الزجاج
المسألة الثانية
قال القاضي هذه الأقوال كلها صحيحة تدخل تحت العموم فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها ولعلها نزلت دون سبب
المسألة الثالثة
إذا قلنا إنها نزلت في تقديم النحر على الصلاة وذبح الإمام سيأتي ذلك في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة
إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج وذلك بين إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم وهو سد خلة الفقير ولأن النبي استعجل من العباس صدقة عامين ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقها يوم الوجوب وهو يوم الفطر فاقتض ذلك كله جواز تقديمها
وقال أبو حنيفة والشافعي يجوز تقديمها لعام ولأثنين
فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها وإن جاء رأس الحول وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع
وقال أشهب لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب
ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير
144

وما قاله أشهب أصح فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر والشهر كالسنة فإما تقديم كلي كما قال أبو حنيفة والشافعي وإما حفظ العبادة وقصرها على ميقاتها كما قال أشهب وغيره وذلك يقوى في النظر والله أعلم
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) *))
أصل في ترك التعر ض لأقوال النبي وإيجاب اتباعه والاقتداء به ولذلك قال النبي في مرضه مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة لحفصة قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء فمر عليا فليصل بالناس فقال النبي إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس
يعني بقوله صواحب يوسف الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز وقد بيناه في شرح الحديث بيانا شافيا
الآية الثانية
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) *) الآية 2
فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها
ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند النبي حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع وأشار الآخر برجل آخر قال نافع عنه لا أحفظ اسمه
145

فقال أبو بكر لعمر ما أردت إلا خلافي قال ما أردت ذلك فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) *) الآية قال ابن الزبير فما كان عمر يسمع رسول الله بعد هذه الآية حتى يستفهمه
المسألة الثانية
حرمة النبي ميتا كحرمته حيا وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى (* (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) *) الأعراف 24 وكلام النبي من الوحي وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه والله أعلم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) *) الآية 6
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أن النبي بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم ورجع إلى النبي فأخبره أنهما ارتدوا عن الإسلام فبعث خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتم فلما أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه عاد إلى النبي فأخبره ونزلت هذه
146

الآية ففي رواية أن النبي كان يقول العجلة من الشيطان والتأني من الله
المسألة الثانية
من ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا لأن الخبر أمانة والفسق قرينة تبطلها فأما في الإنسان على نفسه فلا يبطل إجماعا
وأما في الإنسان على غيره فإن الشافعي قال لا يكون وليا في النكاح وقال أبو حنيفة ومالك يكون وليا لأنه يلي ما لها فيلي بضعها كالعدل وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم وقد يبذل المال ويصون الحرمة فإذا ولى المال فالبضع أولى
المسألة الثالثة
ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤ إمامة الفاسق ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم ولا استطيعت إزالتهم صلي معهم ووراءهم كما قال عثمان الصلاة أحسن ما يفعل الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله ومنهم من كان يجعلها صلاته وبوجوب الإعادة أقول فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة خلف من لا يرضى من الأئمة ولكن يعيد سرا في نفسه ولا يؤثر ذلك عند غيره
147

المسألة الرابعة
وأما أحكامه إن كان حاكما واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر أو قول يحكى فإن الكلام كثير والحق ظاهر
المسألة الخامسة
لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله أو إذن يعلمه إذا لم يخرج عن حق المرسل والمبلغ فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله فهذا جائز للضرورة الداعية إليه فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منهم شيء لعدمهم في ذلك والله أعلم
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) *) الآية 9
فيها اثنتا عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك أربعة أقوال
الأول روى عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله قتال بالسيف والنعال ونحوه فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية
الثاني ما روى سعيد عن قتادة أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما ملاحاة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته وإن الآخر
148

دعاه إلى المحاكمة إلى النبي فأبى أن يتبعه ولم يزل بهم الأمر حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال فنزلت هذه الآية فيهم
الثالث ما رواه أسباط عن السدي أن رجلا من الأنصار كانت له امرأة تدعى أم زيد وأن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها وأن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها فخرج الرجل فاستغاث بأهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت هذه الآية فيهم
الرابع ما حكى قوم أنها نزلت في رهط عبد الله بن أبي ابن سلول من الخزرج ورهط عبد الله بن رواحة من الأوس وسببه أن النبي وقف على حمار له على عبد الله بن أبي وهو في مجلس قومه فراث حمار النبي أو سطع غباره فأمسك عبد الله بن أبي أنفه وقال لقد آذانا نتن حمارك فغضب عبد الله بن رواحة وقال إن حمار رسول الله أطيب ريحا منك ومن أبيك فغضب قومه واقتتلوا بالنعال والأيدي فنزلت هذه الآية فيهم
المسألة الثانية أصح الروايات
الأخيرة والآية تقتضي جميع ما روي لعمومها وما لم يرو فلا يصح تخصيصها ببعض الأحوال دون بعض
المسألة الثالثة
الطائفة كلمة تطلق في اللغة على الواحد من العدد وعلى ما لا يحصره عدد وقد بينا ذلك في سورة براءة
المسألة الرابعة
هذه الآية هي الأصل في قتال المسلمين والعمدة في حرب المتأولين وعليها عول الصحابة وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة وإياها عنى النبي بقوله يقتل عمارا
149

الفئة الباغية وقوله في شأن الخوارج يخرجون على خير فرقة من الناس أو على حين فرقة والرواية الأولى أصح لقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليا رضي الله عنه كان إماما وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح لأن عثمان رضي الله عنه قتل والصحابة برآء من دمه لأنه منع من قتال من ثار عليه وقال لا أكون أول من خلف رسول الله في أمته بالقتل فصبر على البلاء واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة ثم لم يمكن ترك الناس سدى فعرضت الإمامة على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر في الشورى وتدافعوها وكان علي أحق بها وأهلها فقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل ويتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل وربما تغير الدين وانقض عمود الإسلام فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكين من قتلة عثمان وأخذ القود منهم فقال لهم علي ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه فقالوا لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك نراهم صباحا ومساء فكان علي في ذلك أسد رأيا وأصوب قولا لأن عليا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربا ثالثة فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة العامة ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم فيجري القضاء بالحق
ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة وكذلك جرى لطلحة والزبير فإنهما ما خلعا عليا عن ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى فبقي هو على رايه لم يزعزعه عما رأى وهو كان الصواب كلامهما ولا أن يؤثر فيه قولهما وكذلك كان كل واحد منهما يثني على صاحبه ويذكر ما فيه ويشهد له بالجنة ويذكر مناقبه ولو كان الأمر على خلاف هذا لتبرأ كل واحد منهما من
150

صاحبه فلم يكن تقاتل القوم على دنيا ولا بغيا بينهم في العقائد وإنما كان اختلافا في اجتهاد فلذلك كان جميعهم في الجنة
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) *))
أمر الله بالقتال وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن البعض الباقين ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضي الله عنهم عن هذه المقامات كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وصوب ذلك علي بن أبي طالب لهم واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه
ويروى أن معاوية لما أفضى إليه الأمر عاتب سعدا على ما فعل وقال له لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين اقتتلا ولا ممن قاتل الفئة الباغية فقال له سعد ندمت على تركي قتال الفئة الباغية فتبين أنه ليس على الكل درك فيما فعل وإنما كان تصرفا بحكم الاجتهاد وإعمالا بما اقتضاه الشرع وقد بينا في المقسط كلام كل واحد ومتعلقه فيما ذهب إليه
المسألة السادسة
إن الله سبحانه أمر بالصلح قبل القتال وعين القتال عند البغي فعل علي بمقتضى حاله فإنه قاتل الباغية التي أرادت الاستبداد على الإمام ونقض ما رأى من الاجتهاد والتحيز عن دار النبوة ومقر الخلافة بفئة تطلب ما ليس لها طلبه إلا بشرطه من حضور مجلس الحكم والقيام بالحجة على الخصم ولو فعلوا ذلك ولم يقد علي منهم ما احتاجوا إلى مجاذبة فإن الكافة كانت تخلعه والله قد حفظه من ذلك وصانه وعمل الحسن رضي الله عنه بمقتضى حاله فإنه صالح حين استشرى الأمر عليه وكان ذلك بأسباب سماوية ومقادير أزلية ومواعيد من الصادق صادقة منها ما رأى من تشتت آراء من معه ومنها أنه طعن حين خرج إلى معاوية فسقط عن فرسه وداوى جرحه حتى برأ فعلم أن عنده من ينافق عليه ولا يأمنه على نفسه
151

ومنها أنه رأى الخوارج أحاطوا بأطرافه وعلم أنه إن اشتغل بحرب معاوية استولى الخوارج على البلاد وإن اشتغل بالخوارج استولى عليه معاوية
ومنها أنه تذكر وعد جده الصادق عند كل أحد في قوله إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين وإنه لما سار الحسن إلى معاوية بالكتائب في أربعين ألفا وقدم قيس بن سعد بعشرة آلاف قال عمرو بن العاص لمعاوية إني أرى كتيبة لا تولي أولاها حتى تدبر أخراها فقال معاوية لعمرو من لي بذراري المسلمين فقال أنا فقال عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة تلقاه فتقول له الصلح فصالحه فنفذ الوعد الصادق في قوله إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به فئتين عظيمتين من المسلمين وبقوله الخلافة ثلاثون سنة ثم تعود ملكا فكانت لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وللحسن منها ثمانية أشهر لا تزيد يوما ولا تنقص يوما فسبحان المحيط لا رب غيره
المسألة السابعة
قوله (* (فأصلحوا بينهما بالعدل) *))
وهذا صحيح فإن العدل قوام الدين والدنيا إن الله يأمر بالعدل والإحسان وقال إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين وهم الذين يعدلون بين الناس في أنفسهم وأهليهم وما ولوا ومن العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال فإنه تلف على تأويل وفي طلبهم له تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي
وهذا أصل في المصلحة وقد قال لسان الأمة إن حكمة الله في قتال الصحابة التعرف منهم لأحكام قتال أهل التأويل إذ كانت أحكام قتال التنزيل قد عرفت على لسان الرسول وفعله
152

المسألة الثامنة قوله (* (فإن بغت إحداهما على الأخرى) *))
بناء ب غ ى في لسان العرب الطلب قال الله تعالى (* (ذلك ما كنا نبغ) *) الكهف 64 ووقع التعبير به هاهنا عمن يبغي ما لا ينبغي على عادة اللغة في تخصيصه ببعض متعلقاته وهو الذي يخرج على الإمام يبغي خلعه أو يمنع من الدخول في طاعة له أو يمنع حقا يوجبه عليه بتأويل فإن جحده فهو مرتد
وقد قاتل الصديق رضي الله عنه البغاة والمرتدين فأما البغاة فهم الذين منعوا الزكاة بتأويل ظنا منهم أنها سقطت بموت النبي وأما المرتدون فهم الذين أنكروا وجوبها وخرجوا عن دين الإسلام بدعوى نبوة غير محمد
والذي قاتل علي طائفة أبوا الدخول في بيعته وهم أهل الشام وطائفة خلعته وهم أهل النهروان وأما أصحاب الجمل فإنما خرجوا يطلبون الإصلاح بين الفرقتين وكان من حق الجميع أن يصلوا إليه ويجلسوا بين يديه ويطالبوه بما رأوا أنه عليه فلما تركوا ذلك بأجمعهم صاروا بغاة بجملتهم فتناولت هذه الآية جميعهم
المسألة التاسعة
قال علماؤنا في رواية سحنون إنما يقاتل مع الإمام العدل سواء كان الأول أو الخارج عليه فإن لم يكونا عدلين فأمسك عنهما إلا أن تراد بنفسك أو مالك أو ظلم المسلمين فادفع ذلك
المسألة العاشرة
لا نقاتل إلا مع إما عادل يقدمه أهل الحق لأنفسهم ولا يكون إلا قرشيا وغيره لا حكم له إلا أن يدعو إلى الإمام القرشي قاله مالك لأن الإمامة لا تكون إلا لقرشي
وقد روى ابن القاسم عن مالك إذا خرج على الإمام العدل خارج وجب الدفع عنه مثل عمر بن عبد العزيز فأما غيره فدعه ينتقم الله من ظالم بمثله ثم ينتقم من
153

كليهما قال الله تعالى (* (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا) *) الإسراء 5
قال مالك إذا بويع للإمام فقام عليه إخوانه قوتلوا إذا كان الأول عدلا فأما هؤلاء فلا بيعة لهم إذا كان بويع لهم على الخوف
قال مالك ولابد من إمام بر أو فاجر
وقال ابن إسحاق في حديث يرويه معاوية إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا أحدهما وقد بلغني أنه كان يقول لا تكرهوا الفتنة فإنها حصاد المنافقين
المسألة الحادية عشرة
لا يقتل أسيرهم ولا يتبع منهزمهم لأن المقصود دفعهم لأقتلهم
وأما الذي يتلفونه من الأموال فعندنا أنه لا ضمان عليهم في نفس ولا مال
وقال أبو حنيفة يضمنون وللشافعي قولان
وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فليلزم الضمان
والمعول في ذلك كله عندنا على ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم في خروجهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا نفسا ولا مالا وهم القدوة والله أعلم بما كان في خروجهم من الحكمة في بيان أحكام قتال البغاة بخلاف الكفرة
المسألة الثانية عشرة
إن ولوا قاضيا وأخذوا زكاة وأقاموا حقا بعد ذلك كله جاز قاله مطرف وابن الماجشون
وقال ابن القاسم لا يجوز بحال
وروي عن أصبغ أنه جائز وروي عنه أيضا أنه لا يجوز كقول ابن القاسم وقاله أبو حنيفة لأنه عمل بغير حق ممن لا يجوز توليته فلم يجز كما لو كانوا بغاة
154

والعمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم في خروجهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا نفسا ولا مالا وهم القدوة والله أعلم وأن الصحابة لما انجلت الفتنة وارتفع الخلاف بالهدنة والصلح لم يعرضوا لأحد منهم في حكم
قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه الذي عندي أن ذلك لا يصلح لأن الفتنة لما انجلت كان الإمام هو الباغي ولم يكن هناك من يعترضه والله أعلم
فإن قيل فأهل ما وراء النهر وإن لم يكن لهم إمام ولم يعترض لهم حكم
قلنا ولا سمعنا أنهم كان لهم حكم وإنما كانوا فتنة مجردة حتى انجلت مع الباغي لسكت عنهم لئلا يعضد باعتراضه من خرجوا عليه والله أعلم
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) *) من الآية 11
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
النبز هو اللقب فقوله لا تنابزوا بالألقاب أي لا تداعوا بالألقاب واللقب هنا اسم مكروه عند السامع
وكذلك يروى أن النبي قدم المدينة ولكل رجل اسمان وثلاثة فكان يدعى باسم منها فيغضب فنزلت (* (ولا تنابزوا بالألقاب) *) وهي
المسألة الثانية في سبب نزولها
والمسألة الثالثة قوله (* (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) *))
يعني أنك إذا ذكرت صاحبك بما يكره فقد آذيته وإذاية المسلم فسوق وذلك لا يجوز
155

وقد روي أن أبا ذر كان عند النبي فنازعه رجل فقال له أبو ذر يا بن اليهودية فقال النبي ما ترى من ها هنا من أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه يعني إلا بالتقوى ونزلت (* (ولا تنابزوا بالألقاب) *))
المسألة الرابعة
وقع من ذلك مستثنى من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه فجوزته الأمة فاتفق على قوله أهل الملة وقد ورد لعمر الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه كقولهم في صالح جزرة لأنه صحف زجره فلقب بها وكذلك قوله في محمد بن سليمان الحضرمي مطين لأنه وقع في طين ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين
ولا أراه سائغا في الدين وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول لا أجعل أحدا صغر اسم أبي في حل وكان الغالب على اسم أبيه التصغير بضم العين والذي يضبط هذا كله ما قدمناه من الكراهة لأجل الإذابة والله أعلم
الآية السادسة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) *) الآية 12
فيها مسألتان
المسألة الأولى في حقيقة الظن
وقد قال علماؤنا إن حقيقة الظن تجويز أمرين في النفس لأحدهما ترجيح على الآخر والشك عبارة عن استوائهما والعلم هو حذف أحدهما وتعيين الآخر وقد حققناه في كتب الأصول
156

المسألة الثانية
أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله تعالى بالظن وجواز العمل به تحكم في الدين ودعوى في العقول وليس في ذلك أصل يعول عليه فإن الباري تعالى لم يذم جميعه وإنما ورد الذم كما قررناه آنفا في بعضه
ومتعلقهم في ذلك حديث أبي هريرة قال النبي إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا
وهذا لا حجة فيه لأن الظن في الشريعة قسمان محمود ومذموم فالمحمود بدلالة قوله (* (إن بعض الظن إثم) *) وقوله (* (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) *) النور 12 وقال النبي إذا كان أحدكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسبه كذا ولا أزكي على الله أحدا وعبادات الشرع وأحكامه ظنية في الأكثر حسبما بيناه في أصول الفقه وهي مسألة تفرق بين الغبي والفطن
الآية السابعة
قوله تعالى (* (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) *) الآية 13
157

فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
روى الترمذي وغيره أن النبي خطب يوم فتح مكة فقال إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها فالناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى (* (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) *) والحديث ضعيف
المسألة الثانية
بين الله تعالى في هذه الآية أنه سبحانه خلق الخلق من ذكر وأنثى ولو شاء لخلقه دونهما كخلقه لأدم أو دون ذكر لعيسى أو دون أنثى كخلقه لحواء من إحدى الجهتين وهذا الجائز في القدرة لم يرد به الوجود
وقد جاء أن آدم خلق الله منه حواء من ضلع انتزعها من أضلاعه فلعله هذا القسم وقد بينا فيما تقدم كيفية الخلق من ماء الذكر وماء الأنثى بما يغني عن إعادته
المسألة الثالثة
خلق الله الخلق بين الذكر والأنثى أنسابا وأصهارا وقبائل وشعوبا وخلق لهم منها التعارف وجعل لهم بها التواصل للحكمة التي قدرها وهو أعلم بها فصار كل أحد يحوز نسبه فإذا نفاه عنه أحد استوجب الحد بقذفه له مثل أن ينفيه عن رهطه وجنسه كقوله للعربي يا عجمي وللعجمي يا عربي ونحو ذلك مما يقع به النفي حقيقة وقد استوفيناه في كتب المسائل
المسألة الرابعة قوله (* (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) *))
قد بينا الكرم وأوضحنا حقيقته في غير موضع من صحيح الحديث
158

وفي صحيحه عن النبي الحسب المال والكرم التقوى وذلك يرجع إلى قوله تعالى (* (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) *)
وقد قال النبي الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم
وقال عليه السلام إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي
ولذلك كان أكرم البشر على الله تعالى وهذا المعنى هو الذي لحظ مالك في الكفاءة في النكاح
روي عن عبد الله عن مالك يزوج المولى العربية واحتج بهذه الآية
وقال أبو حنيفة والشافعي يراعى الحسب والمال
وفي الصحيح عن عائشة أن أبا حذيفة بن عقبة بن ربيعة وكان ممن شهد بدرا مع النبي تبنى سالما وأنكحه هند بنت أخيه الوليد بن عقبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد بن الأسود الكندي فدل على جواز نكاح المولى العربية وإنما تراعى الكفاءة في الدين
والدليل عليه أيضا ما روى سهل بن سعد في الصحيح أن النبي مر عليه رجل فقال ما تقولون في هذا قالوا حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يسمع قال ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين فقال ما تقولون
159

في هذا قالوا هذا حري إن خطب ألا ينكح وإن شفع إلا يشفع وإن قال ألا يسمع فقال رسول الله هذا خير من ملء الأرض مثل هذا
وقال رسول الله تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها وفي رواية وحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك
وقد خطب سلمان إلى أبي بكر ابنته فأجابه وخطب إلى عمر ابنته فالتوى عليه ثم سأله أن ينكحها فلم يفعل سلمان وخطب بلال بنت البكير فأبى إخوتها فقال بلال يا رسول الله ماذا لقيت من بني البكير خطبت إليهم أختهم فمنعوني وآذوني فغضب رسول الله من أجل بلال فبلغهم الخبر فأتوا أختهم فقالوا ماذا لقينا من سببك غضب علينا رسول الله من أجل بلال فقالت أختهم أمري بيد رسول الله فزوجها بلالا وقال النبي في أبي هند حين حجمه أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه وهو مولى بني بياضة
160

سورة ق فيها آية واحدة
وهي قوله سبحانه وتعالى (* (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود) *) الآيتان 39 4
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
في الصحيح عن جرير بن عبد الله قال كنا جلوسا ليلة مع النبي فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تلغبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ (* (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) *))
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ومن الليل فسبحه) *))
فيه أربعة أقوال
الأول هو تسبيح الله في الليل
الثاني أنها صلاة الليل
الثالث أنها ركعتا الفجر
الرابع أنها صلاة العشاء الأخيرة
161

المسألة الثالثة
قول من قال إنه التسبيح يعضده الحديث الصحيح من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله كفر عنه وغفر له
وأما من قال إنها صلاة الليل فإن الصلاة تسمى تسبيحا لما فيها من تسبيح الله ومنه سبحة الضحى
وأما من قال إنها صلاة الفجر والعشاء فلأنهما من صلاة الليل والعشاء أوضحه
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وأدبار السجود) *))
فيه قولان
أحدهما أنه النوافل
الثاني أنه ذكر الله بعد الصلاة وهو الأقوى في النظر في الحديث أن النبي كان يقول في دبر المكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد
162

المسألة الخامسة
ثبت في الصحيح أن النبي قرأ في الصبح ق فلما انتهى إلى قوله تعالى (* (والنخل باسقات لها طلع نضيد) *) ق 1 رفع بها صوته
وثبت أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي ماذا كان يقرأ به رسول الله في الفطر والأضحى فقال كان يقرا ب (* (ق والقرآن المجيد) *) واقتربت الساعة
163

سورة الذاريات فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) *) الآية 17
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى الهجوع
النوم وذلك من أحد وجهين
الأول الإقبال على الأنس بالحديث وكانت عادتهم أو على الوطء
الثاني الإقبال على الصلاة وهو الصحيح والأول ضعيف والثاني باطل ولولا مخافتنا أن يتعلق به متعلق يوما ما ذكرناه لبطلانه
المسألة الثانية
تكلم المفسرون في قوله (* (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) *) لأجل أن ظاهره يعطى أن نومهم بالليل كان قليلا ولم يكن كذلك وإنما مدح الله عز وجل من يصلي قليلا لأن الأول ليس في الإمكان وإنما معناه كانوا يهجعون قليلا من الليل أي يسهرون قليلا ومدح الله تعالى السهر بالقليل لأن عمل العباد كله قليل
164

وفي قوله ما اختلاف بين النحاة قال بعضهم هي صلة وقال بعضهم هي مع الفعل بتأويل المصدر والكل صحيح وقد بيناه في كتاب الملجئة
المسألة الثالثة
صلاة الليل ممدوحة شرعا إجماعا وهي أفضل من صلاة النهار لأجل فراغ القلب وضمان الإجابة وسيأتي القول عليه مستوفى في سورة المزمل إن شاء الله
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وبالأسحار هم يستغفرون) *) الآية 18
روى ابن وهب عن مالك في قوله تعالى (* (وبالأسحار هم يستغفرون) *) قال هو الرجل يمد الصلاة إلى السحر قال ابن شعبان يريد مالك بالرجل الربيع بن خثيم وقيل هي الصلاة في مسجد النبي بأهل قباء وفي ذلك أقوال هذا لبابها
وقال مجاهد كانوا قل ليلة تمر بهم إلا أصابوا منها خيرا
قال القاضي وخص السحر لما روي عن النبي أنه قال جوف الليل أسمع وروي في الصحاح عن النبي أنه قال إذا ذهب الثلث الأول وفي رواية إذا انتصف الليل وأصحه إذا بقي ثلث الليل ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) *) الآية 19
فيها ثلاث مسائل
165

المسألة الأولى (* (وفي أموالهم حق) *)
وقد بينا في غير موضع هل في المال حق سوى الزكاة أم لا بما يغني عن إعادته ها هنا
والأقوى في هذه الآية أنه الزكاة لقوله تعالى في سورة سأل سائل (* (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) *) المعارج 24 25 والحق المعلوم هو الزكاة التي بين الشرع قدرها وجنسها ووقتها فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم لأنه غير مقدر ولا مجنس ولا مؤقت
المسألة الثانية قوله (* (للسائل) *)
وهو المتكفف
المسألة الثالثة قوله (* (والمحروم) *)
وهو المتعفف فبين أن للسائل حق المسألة وللمحروم حق الحاجة
وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال الذي يحرم الرزق وقيل الذي أصابته جائحة قال تعالى مخبرا عن أصحاب الجنة المحترقة (* (قالوا إنا لضالون بل نحن
محرومون) *) القلم 26 27 وفيه أقوال كثيرة ليس لها أصل لم نطول بذكرها لأن هذا أصحها إذ يقتضي هذا التقسيم أن المحتاج إذا كان منه من يسال فالقسم الثاني هو الذي لا يسال ويتنوع أحوال المتعفف والاسم يعمه كله فإذا رأيته فسمه به واحكم عليه بحكمه والله أعلم
166

سورة الطور فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين) *) الآية 21
وقرئ وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان
فيها مسألة
القراءتان لمعنيين أما إذا كان اتبعتهم على أن يكون الفعل للذرية فيقتضي أن تكون الذرية مستقلة بنفسها تعقل الإيمان وتتلفظ به وأما إذا كان الفعل واقعا بهم من الله عز وجل بغير واسطة نسبة إليهم فيكون ذلك لمن كان من الصغر في حد لا يعقل الإسلام ولكن جعل الله له حكم أبيه لفضله في الدنيا من العصمة والحرمة
فأما اتباع الصغير لأبيه في أحكام الإسلام فلا خلاف فيه
وأما تبعيته لأمه فاختلف فيه العلماء واضطرب فيه قول مالك
والصحيح في الدين أنه يتبع من أسلم من أحد أبويه للحديث الصحيح عن ابن عباس قال كنت أنا وأمي من المستضعفين من المؤمنين وذلك أن أمه أسلمت ولم يسلم العباس فأتبع أمه في الدين وكان لأجلها من المؤمنين
167

فأما إذا كان أبواه كافرين فعقل الإسلام صغيرا وتلفظ به فاختلف العلماء اختلافا كثيرا
ومشهور المذهب أنه يكون مسلما والمسألة مشكلة وقد أوضحناها بطرقها في مسائل الخلاف ومن عمدها هذه الآية وهي قوله (* (واتبعتهم ذريتهم بإيمان) *) فنسب الفعل إليهم فهذا يدل على أنهم عقلوه وتكلموا به فاعتبره الله وجعل لهم حكم المسلمين
ومن العمد في هذه المسألة أن المخالف يرى صحة ردته فكيف يصح اعتبار ردته ولا يعتبر إسلامه وقد احتج جماعة بإسلام علي بن أبي طالب صغيرا وأبواه كافران
الآية الثانية
قوله تعالى (* (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم) *) الآيتان 48 - 49
فيها ثلاث مسائل
المسألة ا لأولى قوله (* (حين تقوم) *))
فيه أربعة أقوال
الأول المعنى فيه حين تقوم من المجلس ليكفره
الثاني حين تقوم من النوم ليكون مفتتحا به كلامه
الثالث حين تقوم من نوم القائلة وهي الظهر
الرابع التسبيح في الصلاة
المسألة الثانية
أما قول من قال إن معناه حين تقوم من المجلس فقد روي عن النبي أنه قال من جلس مجلسا يكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك
168

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت وأستغفرك وأتوب إليك إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك وهذا الحديث معلول
جاء مسلم بن الحجاج إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه وقال دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله حدثك محمد بن سلام حدثنا مخلد بن يزيد أخبرنا ابن جريج حدثني موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي في كفارة المجلس فما علته قال محمد ابن إسماعيل هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث الواحد إلا أنه معلول
حدثنا محمد بن إسماعيل أنبأنا وهيب أنبأنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله قال أنبأنا محمد بن إسماعيل هذا أولى فإنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل
قال القاضي ابن العربي أراد البخاري أن حديث عون بن عبد الله من قوله حمله سهيل على هذا الحديث حتى تغير حفظه بأخرة فهذه معان لا يحسنها إلا العلماء بالحديث فأما أهل الفقه فهم عنها بمعزل
والحديث الصحيح في هذا المعنى ما روى ابن عمر قال كنا نعد لرسول الله في المجلس الواحد قبل أن يقوم مائة مرة رب اغفر لي وتب علي
وأما قوله حين يقوم يعني من الليل ففي ذلك روايات كثيرة في الصحيح أنه قال من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وفي بعض روايات سقوط التهليل
الثاني وروي عنه أنه قرأ العشر الخواتم من سورة آل عمران
وروي عنه أنه كان يقول اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة
169

أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلفوا فيه من الحق فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم
وأما نوم القائلة فليس فيه أثر وهو يلحق بنوم الليل ويدخل فيه الصبح لنوم الليل والظهر لنوم القائلة وهو أصل التسبيح
وأما من قال إنه تسبيح الصلاة فهو أفضله والآثار في ذلك كثيرة أعظمها ما ثبت عن علي بن أبي طالب عن النبي أنه كان إذا قام للصلاة المكتوبة رفع يديه حذو منكبيه ويصنع ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويضعها إذا رفع رأسه من الركوع ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر ويقول حين يفتتح الصلاة بعد التكبير وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك وإنا بك وإليك لا منجى منك ولا ملجأ إلا إليك أستغفرك وأتوب إليك
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر عن أبي بكر الصديق أنه قال لرسول الله يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال قل رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإني أعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم
المسألة الثالثة
في الصحيح عن أم سلمة أنها قالت شكوت إلى رسول الله أني أشتكي
170

فقال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة قالت فطفت ورسول الله حينئذ يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور
وفيه عن جبير بن مطعم قال سمعت رسول الله يقرأ بالطور في المغرب
قال القاضي ورد جبير بن مطعم على النبي في أمر أسارى بدر وهو لم يسلم بعد فحضر صلاة النبي قال فسمعته يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ إلى قوله (* (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) *) الطور 35 كاد ينخلع فؤادي ثم فتح الله علي بعد بالإسلام
171

سورة النجم
قال علماؤنا رضي الله عنهم لم يختلف قول مالك إن سجدة النجم ليست من عزائم القرآن ورآها ابن وهب من عزائمه وكان مالك يسجدها في خاصة نفسه
وروى مالك أن عمر بن الخطاب قرأ بالنجم إذا هوى فسجد فيها ثم قام فقرأ سورة أخرى
وروى غيره أن السورة التي وصلها بها (* (إذا زلزلت الأرض زلزالها) *)
وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن النبي قرأ النجم فسجد فيها وسجد من كان معه إلا شيخا كبيرا أخذ كفا من حصى أو من تراب فرفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا
قال ابن مسعود ولقد رأيته بعد قتل كافرا
وروى ابن عباس أن النبي سجد فيها يعني في النجم وسجد فيها المسلمون والجن والإنس
والشيخ الذي لم يسجد مع النبي هو أمية بن خلف قتل يوم بدر كافرا
وقد روي أن عبد الله بن مسعود كان إذا قرأها على الناس سجد فإذا قرأها وهو في الصلاة ركع وسجد
وكان ابن عمر إذا قرأ (* (والنجم) *) وهو يريد أن تكون بعدها قراءة قرأها وسجد وإذا انتهى إليها ركع وسجد ولم يرها علي من عزائم السجود
وقال أبو حنيفة والشافعي هي من عزائم السجود وهو الصحيح
172

سورة الرحمن فيها آية واحدة
قوله تعالى (* (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) *) الآية 6
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن جبريل سأل النبي عن الإحسان فقال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
فهذا إحسان العبد
وأما حسان الله فهو دخول الحسنى وهي الجنة وللحسنى درجات بيناها في كتب الأصول وهذا من أجلها قدرا وأكرمها أمرا وأحسنها ثوابا فقد قال الله تعالى (* (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) *) يونس 26 فهذا تفسيره
173

سورة الواقعة فيها آية واحدة
قوله تعالى (* (لا يمسه إلا المطهرون) *) الآية 79
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
هل هذه الآية مبينة حال القرآن في كتب الله أم هي مبينة حاله في كتبنا
فقيل هو اللوح المحفوظ وقيل هو ما بأيدي الملائكة فهذا كتاب الله وقيل هي مصاحفنا
المسألة الثانية قوله (* (لا يمسه) *))
فيه قولان
أحدهما أنه المس بالجارحة حقيقة
وقيل معناه لا يجد طعم نفعه إلا المطهرون بالقرآن قاله الفراء
المسألة الثالثة قوله (* (إلا المطهرون) *))
فيه قولان
أحدهما أنهم الملائكة طهروا من الشرك والذنوب
الثاني أنه أراد المطهرين من الحدث وهم المكلفون من الآدميين
المسألة الرابعة هل قوله (* (لا يمسه) *) نهي أو نفي
فقيل لفظه لفظ الخبر ومعناه النهي
174

وقيل هو نفي وكان ابن مسعود يقرؤها ما يمسه إلا المطهرون لتحقيق النفي
المسألة الخامسة في تنقيح الأقوال
أما قول من قال إن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ فهو باطل لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال فلو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه محل
وأما من قال إنه الذي بأيدي الملائكة من الصحف فإنه قول محتمل وهو الذي اختاره مالك قال أحسن ما سمعت في قوله (* (لا يمسه إلا المطهرون) *) أنها بمنزلة الآية التي في (* (عبس وتولى) * فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة) عبس 12 16 يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة عبس
وأما من قال إنه أمر بالتوضؤ بالقرآن إذ أراد أحد أن يمس صحفه فإنهم اختلفوا فمنهم من قال إن لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر وقد بينا فساد ذلك في كتب الأصول وفيما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب وحققنا أنه خبر عن الشرع أي لا يمسه إلا المطهرون شرعا فإن وجد بخلاف ذلك فهو غير الشرع
وأما من قال إن معناه لا يجد طعمه إلا المطهرون من الذنوب التائبون العابدون فهو صحيح اختاره البخاري قال النبي ذاق طعم الإسلام من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا لكنه عدول عن الظاهر لغير ضرورة عقل ولا دليل سمع
وقد روى مالك وغيره أن في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله ونسخته من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم
175

ابن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد وكان في كتابه ألا يمس القرآن إلا طاهر
وقد روي أن عمر بن الخطاب دخل على أخته وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهما يقرآن طه فقال ما هذه الهينمة وذكر الحديث إلى أن قال هاتوا الصحيفة فقالت له أخته إنه لا يمسه إلا المطهرون فقام واغتسل وأسلم وقد قال أبو بكر الصديق يرثي النبي
(فقدنا الوحي إذ وليت عنا
* وودعنا من الله الكلام)
(سوى ما قد تركت لنا قديما
* توارثه القراطيس الكرام)
وأراد صحف القرآن التي كانت بأيدي المسلمين التي كان النبي يمليها على كتبته
وقد قال أهل العراق منهم إبراهيم النخعي ولا يمس القرآن إلا طاهر
واختلفت الرواية عن أبي حنيفة فروي عنه أنه يمسه المحدث وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه
وأما الكتاب فلا يمسه إلا المطهرون وهذا إن سلم مما يقوى الحجة عليه لأن حريم الممنوع ممنوع وفيما كتبه النبي لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه والله أعلم
176

سورة الحديد فيها أربع آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) *) الآية 3
وقد بينا في كتاب الأمد تفسير هذه الأسماء وحققنا أن الأول هو الآخر بعينه يعني لأنه واحد وأن الظاهر هو الباطن وأن الأول هو الباطن وأن الآخر هو الظاهر إذ هو تعالى واحد تختلف أوصافه وتتعدد أسماؤه وهو تعالى واحد قال ابن القاسم قال مالك لا يحد ولا يشبه قال ابن وهب سمعت مالكا يقول من قرأ (* (يد الله) *) وأشار إلى يده وقرأ عين الله وأشار إلى ذلك العضو منه يقطع تغليظا عليه في تقديس الله تعالى وتنزيهه عما أشبه إليه وشبهه بنفسه فتعدم نفسه وجارحته التي شبهها بالله وهذه
غاية في التوحيد لم يسبق إليها مالكا موحد
فإن قيل فقد روى البخاري عن نافع عن عبد الله قال ذكر الدجال عند رسول الله فقال إنه لا يخفى عليكم أن الله ليس بأعور وأشار بيده إلى عينه وأن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية
فالجواب من وجهين
177

أحدهما أن هذا خبر واحد لا يوجب علما
الثاني أن هذه الإشارة في النفي لا في الإثبات وفي التقديس لا في التشبيه وهذا نفيس فاعرفه
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير) *) الآية 1
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
نفى الله سبحانه المساواة بين من أنفق من قبل فتح مكة وبين من أنفق بعد ذلك لأن حاجة الناس كانت قبل الفتح أكثر لضعف الإسلام وفعل ذلك كان على المنافقين أشق والأجر على قدر النصب والله أعلم
المسألة الثانية
روى أشهب عن مالك قال ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم وقد قال الله تعالى (* (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) *) وقد بينا نحن فيما تقدم ترتيب أحوال الصحابة رضي الله عنهم ومنازلهم في التقدم والتأخر ومراتب التابعين
المسألة الثالثة
إذا ثبت انتفاء المساواة بين الخلق وقع التفضيل بين الناس بالحكمة والحكم فإن التقدم والتأخر يكون في الدين ويكون في أحكام الدنيا فأما في أحكام الدين ففي الصحيح عن عائشة قالت رضي الله عنها أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم وأعظم المنازل مرتبة الصلاة وقد قال النبي في مرضه مروا أبا
178

بكر فليصل بالناس فقيل له إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس الحديث
فقدم المقدم وراعى الأفضل
وفي حديث أبي مسعود الأنصاري من رواية الترمذي وغيره يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا ولا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه
وفي الصحيح أن النبي قال لمالك بن الحويرث وأخيه فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما ففهم منه البخاري وغيره من العلماء أنه أراد كبر المنزلة
كما قال الولاء للكبر ولم يعن كبر السن وإنما أراد كبر المنزلة
وقد قال مالك وغيره وإن للسن حقا وراعاه الشافعي وأبو حنيفة وهو أحق بالمراعاة لأنه إذا اجتمع العلم والسن في خيرين قدم العلم وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكاما الدين فمن قدم في الدين قدم في الدنيا
وفي الآثار ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعترف لعالمنا
وفي الحديث الثابت في الأفراد ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه
وأنشدني أبو عبد الله محمد بن قاسم العثماني الشهيد نزيل القدس لابن عبد الصمد السرقطي
(يا عائبا للشيوخ من أشر
* داخله للصبا ومن بذخ)
(اذكر إذا شئت أن تعيبهم
* جدك واذكر أباك يا بن أخي)
179

(واعلم بأن الشباب منسلخ
* عنك وما وزره بمنسلخ)
(من لا يعز الشيوخ لا بلغت
* يوما به سنه إلى الشيخ))
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) *) الآية 19
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في المراد بقوله تعالى (* (والشهداء) *))
وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنهم النبيون
الثاني أنهم المؤمنون
الثالث أنهم الشهداء في سبيل الله وكل واحد من هؤلاء شهيد أما الأنبياء عليهم السلام فهم شهداء على الأمم وأما المؤمنون فهم شهداء على الناس كما قال تعالى (* (لتكونوا شهداء على الناس) *) البقرة 143
وأما محمد فهو شهيد على الكل لقوله تعالى (* (ويكون الرسول عليكم شهيدا) *) البقرة 143
المسألة الثانية
إن كان المراد به المؤمنين فهو على العموم في كل شاهد وقد قال عليه السلام خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها وله الأجر إذا أدى والإثم إذا كتم ونورهم قيل وهي
180

المسألة الثالثة
هو ظهور الحق به وقيل نورهم يوم القيامة والكل صالح للقول حاصل للشاهد بالحق
وأما إن كان المراد به الشهداء في سبيل الله فهم الذين قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا وهم أوفى درجة وأعلى
والشهداء قد بينا عددهم وهم المقتول في سبيل الله المقتول دون ماله المقتول دون أهله المطعون الغرق الحرق المجنون الهديم ذات الجمع المقتول ظلما أكيل السبع الميت في سبيل الله من مات من بطن فهو شهيد المريض شهيد الغريب شهيد صاحب النظرة شهيد فهؤلاء ستة عشر شهيدا وقد بيناهم في شرح الحديث
المسألة الرابعة
قال جماعة إن قوله (* (والشهداء) *) معطوف على قوله تعالى (* (الصديقون) *) عطف المفرد على المفرد يعني أن الصديق هو الشهيد والكل لهم أجرهم ونورهم وقيل هو عطف على جملة جملة والشهداء ابتداء كلام والكل محتمل وأظهره عطف المفرد على المفرد حسبما بيناه في الملجئة
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) *) الآية 27
فيها أربع مسائل
181

المسألة الأولى الرهبانية
فعلانية من الرهب كالرحمانية وقد قرئت بضم الراء وهي من الرهبان كالرضوانية من الرضوان والرهب هو الخوف كنى به عن فعل التزم خوفا من الله ورهبا من سخطه
المسألة الثانية في تفسيرها
وفيه أربعة أقوال
الأول أنها رفض النساء وقد نسخ ذلك في ديننا كما تقدم
الثاني اتخاذ الصوامع للعزلة وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان
الثالث سياحتهم وهي نحو منه
الرابع روى الكوفيون عن ابن مسعود قال قال لي رسول الله هل تدري أي الناس أعلم قال قلت الله ورسوله أعلم قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه
وافترق من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة آزت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى حتى قتلوا وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى ذكر الله ودينه ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله فيها (* (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) *)
182

المسألة الثالثة
روي عن أبي أمامة الباهلي واسمه صدي بن عجلان أنه قال أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم إنما كتب عليكم الصيام فدوموا على القيام إذا فعلتموه ولا تتركوه فإن ناسا
من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال (* (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) *) يعني تركوا ذلك فعوقبوا ليها
المسألة الرابعة قد بينا أن قوله تعالى (* (ما كتبناها عليهم) *)
من وصف الرهبانية وأن قوله تعالى (* (ابتغاء رضوان الله) *) متعلق بقوله تعالى (* (ابتدعوها) *) وقد زاغ قوم عن منهج الصواب فظنوا أنها رهبانية كتبت عليهم بعد أن التزموها وليس يخرج هذا من قبيل مضمون الكلام ولا يعطيه أسلوبه ولا معناه ولا يكتب على أحد شيء إلا بشرع أو نذر وليس في هذا اختلاف بين أهل الملل والله أعلم
183

سورة المجادلة فيها ست آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير) *) الآيات 1 2 3
فيها تسع وعشرون مسألة
المسألة الأولى
قد تقدم الكلام في سماع الله تعالى للموجودات كلها قولا أو غيره لا يختص بسماع الأصوات بل كل موجود يسمعه ويراه ويعلمه ويعلم المعدوم بأبدع بيان في كتاب المشكلين والأصول وكذلك أوضحنا أنه يجوز تعلق سمعنا بكل موجود وكذلك رؤيتنا ولكن الباري تعالى أجرى العادة بتعلق رؤيتنا بالألوان وسمعنا بالأصوات ولله الحكمة فيما خص والقدرة فيما عم
المسألة الثانية قوله تعالى (* (تجادلك في زوجها) *))
وكذلك تقدم بيان المجادلة وحقيقتها وجوازها في طلب قصد الحق وإظهاره وأمر الله بها ونسخه وتخصيصه لها وتعميمه
184

المسألة الثالثة في تعيين هذه المجادلة
وفيه روايات كثيرة قيل هي خولة امرأة أوس بن الصامت وقيل هي خولة بنت دليج
وقيل بنت الصامت وأمها معاذة كانت أمة لابن أبي وفيها قال الله تعالى (* (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) *) النور 33 الآية
وقيل خولة بنت ثعلبة وهي أشبهها لما روي أن خولة بنت ثعلبة جاءت إلى عمر بن الخطاب وهي عجوز كبيرة والناس معه وهو على حمار قال فجنح إليها ووضع يده على منكبها وتنحى الناس عنها فناجاها طويلا ثم انطلقت فقالوا يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز قال أتدرون من هي هذه خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سماوات فوالله لو قامت هكذا إلى الليل لقمت معها إلى أن تحضر صلاة وأنطلق لأصلي ثم أرجع إليها
وقالت عائشة تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تقول يا رسول الله
وفي تراجم البخاري عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة قلت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات فأنزل الله عز وجل على النبي (* (قد سمع الله قول التي تجادلك) *)
ونصه على الاختصار ما روي أنه لما ظاهر أوس بن الصامت من امرأته خولة بنت ثعلبة قالت له والله ما أراك إلا قد أثمت في شأني لبست جدتي وأفنيت شبابي وأكلت مالي حتى إذا كبرت سني ورق عظمي واحتجت إليك فارقتني
قال ما أكرهني لذلك اذهبي إلى رسول الله فانظري هل تجدين عنده شيئا في أمرك
فأتت النبي فذكرت ذلك له فلم تبرح حتى نزل القرآن (* (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) *) فقال رسول الله أعتق رقبة قال لا أجد ذلك قال صم شهرين متتابعين قال لا أستطيع ذلك أنا شيخ كبير قال
185

أطعم ستين مسكينا قال لا أجد فأعطاه النبي شعيرا وقال خذ هذا فأطعمه
وروي أيضا أن سعيدا أتى أبا سلمة بن صخر أحد بني بياضة كان رجلا ميطا فلما جاء شهر رمضان جعل امرأته عليه كأمه فرآها ذات ليلة في بريق القمر ورأى بريق خلخالها وساقها فأعجبته فأتاها وأتى النبي فقص عليه القصة فقال له أتيت بهذا يا أبا سلمة ثلاثا فأمر النبي أن يعتق رقبة قال ما أملك غير رقبتي هذه فأمره بالإطعام قال إنما هي وجبة قال صم شهرين متتابعين قال ما من عمل يعمله الناس أشد علي من الصيام قال فأتى الناس النبي بقناع فيه تمر فقال له خذ هذا فتصدق به وأطعمه عيالك
وقيل هذا صخر بن سلمة بن صخر بن سليمان الذي أعطى النبي المجن يوم أحد وقال وجهي أحق بالكلم من وجهك وارتث بعد ذلك من القتلى وبه رمق وقد كلم كلوما كثيرة فمسح رسول الله كلومه واستشفى له فبرأ وفيه زلت آية الظهار
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وتشتكي إلى الله) *))
روي أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها فأتت النبي فسألته كذلك فقال رسول الله قد حرمت عليه فرفعت رأسها إلى السماء فقالت إلى الله أشكو حاجتي إليه
ثم عادت فقال رسول الله حرمت عليه فقالت إلى الله أشكو حاجتي
186

إليه وعائشة تغسل شق رأسه الأيمن ثم تحولت إلى الشق الآخر وقد نزل عليه الوحي فذهبت أن تعيد فقال يا عائشة اسكتي فإنه نزل الوحي
فلما نزل القرآن قال رسول الله لزوجها اعتق رقبة قال لا أجد قال صم شهرين متتابعين قال إن لم آكل في اليم ثلاث مرات خفت أن يعشو بصري قال فأطعم ستين مسكينا قال فأعني فأعانه بشيء
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (الذين يظاهرون) *))
حقيقته تشبيه ظهر بظهر والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم ويتفرع عليه فروع كثيرة أصولها سبعة
الفرع الأول إذا شبه جملة أهله بظهر أمه كما جاء في الحديث أنه قال أنت علي كظهر أمي
الفرع الثاني إذا شبه جملة أهله بعضو من أعضاء أمه كان ظهارا خلافا لأبي حنيفة في قوله إن شبهها بعضو يحل النظر إليه لم يكن ظهارا وهذا لا يصح لأن النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له وفيه رفع التشبيه وإياه قصد المظاهر وقد قال الشافعي في قول إنه لا يكون ظهارا إلا في الظهر وحده وهذا فاسد لأن كل عضو منها محرم فكان التشبيه به ظهارا كالظهر ولأن المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم فلزم على المعنى
والفرع الثالث إذا شبه عضوا من امرأته بظهر أمه قال الشافعي في أحد قوليه لا يكون ظهارا وهذا ضعيف منه لأنه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خلافا لأبي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه وقد بيناه في مسائل الخلاف
الفرع الرابع إذا قال أنت علي كأمي أو مثل أمي فإن نوى ظهارا كان ظهارا وإن نوى طلاقا كان طلاقا وإن لم تكن له نية كان ظهارا
187

وقال الشافعي وأبو حنيفة إن لم ينو شيئا لم يكن شيء
ودليلنا أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه فكان ظهارا أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي إذ معنى اللفظ فيه موجود واللفظ بمعناه ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما لزم لمعناه وهو التحريم
الفرع الخامس إذا قال أنت علي حرام كظهر أمي كان ظهارا ولم يكن طلاقا لأن قوله أنت حرام يحتمل التحريم بالطلاق وهي مطلقة ويحتمل التحريم بالظهار فلما صرح به كان تفسيرا لأحد الاحتمالين فقضى به فيه
الفرع السادس إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا حملا على الأول وإن لم يذكر الظهر فاختلف فيه علماؤنا فمنهم من قال يكون ظهارا ومنهم من قال يكون طلاقا
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يكون شيئا وهذا فاسد لأنه شبه محللا من المرأة بمحرم فكان مقيدا بحكمه كالظهر والأسماء بمعانيها عندنا وعندهم بألفاظها وهذا نقض للأصل منهم
الفرع السابع إذا قال أنت علي كظهر أختي كان مظاهرا
وقال الشافعي لا يكون له حكم وهذه أشكل من التي قبلها ودليلنا أنه شبه امرأته بظهر محرم عليه مؤبد كالأم
المسألة السادسة قوله تعالى (* (منكم) *))
يعني من المسلمين وذلك يقتضي خروج الذمي من الخطاب
فإن قيل هذا استدلال بدليل الخطاب
قلنا هو استدلال بالاشتقاق والمعنى فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار وذلك كقوله (* (وأشهدوا ذوي عدل منكم) *) الطلاق 2 وبه قال أبو حنيفة
188

وقال الشافعي يصح ظهار الذمي وهي مسألة خلاف عظمى وقد مددنا أطناب القول فيها في مسألة الخلاف
ولبابه عند المالكية أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة عندنا وعند الشافعي بغير خلاف وإذا خوطبوا فإن أنكحتهم فاسدة لإخلالهم بشروطها من ولي وأهل وصداق ووصف صداق فقد يعقدون بغير صداق ويعقدون بغير مال كخمر أو خنزير ويعقدون في العدة ويعقدون نكاح المحرمات وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال
المسألة السابعة
وهذا الدليل بعينه يقتضي صحة ظهار العبد خلافا لمن منعه لأنه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام
المسألة الثامنة
قال مالك ليس على النساء تظاهر إنما قال الله تعالى (* (الذين يظاهرون منكم من نسائهم) *) ولم يقل واللاتي يظاهرن منكن من أزواجهن إنما الظهار على الرجال
قال القاضي هكذا روي عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد وهو صحيح معنى لأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال ليس بيد
المرأة منه شيء وهذا إجماع
المسألة التاسعة
يلزم الظهار في كل أمة يصح وطؤها
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يلزم وهي مسألة عسيرة جدا علينا لأن مالكا
189

يقول إذا قال لأمته أنت علي حرام لم يلزم فكيف يبطل صريح التحريم ويصحح كنايته ولكن تدخل الأمة في عموم (* (من نسائهم) *) لأنه أراد به من محللاتكم
والمعنى فيه أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد فيصح في الأمة أصله الحلف بالله
المسألة العاشرة
من به لمم وانتظمت له في بعض الأوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره لما روي في الحديث أن خولة بنت ثعلبة وكان زوجها أوس بن الصامت وكان به لمم فداخله بعض لممه فظاهر من امرأته
المسألة الحادية عشرة
من غضب فظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط غضبه حكمه وفي بعض طرق هذا الحديث قال يوسف بن عبد الله بن سلام حدثتني خولة امرأة أوس بن الصامت قالت كان بيني وبينه شيء فقال أنت علي كظهر أمي ثم خرج إلى نادي قومه فقولها كان بيني وبينه شيء دليل على منازعة أحرجته فظاهر منها والغضب لغو لا يرفع حكما ولا يغير شرعا وقد بيناه فيما تقدم
المسألة الثانية عشرة
وكذلك السكران يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقل قوله ونظم كلامه
المسألة الثالثة عشرة
فيما أوردناه من هذا الخبر دليل على أن النبي حكم في الظهار بالفراق وهو الحكم بالتحريم بالطلاق حتى نسخ الله ذلك بالكفارة وهذا نسخ في حكم واحد في حق شخص واحد في زمانين وذلك جائز عقلا واقع شرعا وقد بيناه في كتاب النسخ
190

المسألة الرابعة عشرة
الظهار يحرم جميع أنواع الاستمتاع خلافا للشافعي في أحد قوليه لأن قوله أنت علي كظهر أمي يتقضي تحريم كل استمتاع بلظفه ومعناه وإنما حرم الوطء بالتشبيه بالمحرمة وهذا يقتضي تحريم كل الاستمتاع
المسألة الخامسة عشرة
قال الشافعي إذا ظاهر من الأجنبية بشرط الزواج لم يكن ظهارا وعندنا يكون ظهارا كما لو طلقها كذلك للزمه الطلاق إذا زوجها لأنها من نسائه حين شرط نكاحها وقد بيناه في مسائل الخلاف وفيما تقدم من هذا الكتاب
المسألة السادسة عشرة
إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة لزمته كفارة واحدة
وقال الشافعي يلزمه أربع كفارات وليس في الآية دليل على شيء من ذلك لأن لفظ الجمع إنما وقع في عامة المؤمنين وإنما المعول على المعنى وهو أنه لفظ يتعلق بالفرج يوجب الكفارة لوجه فكانت واحدة وإن علقه بعدد أصله الإيلاء وما أقرب ما بينهما وقد حققناه في الإنصاف وبينا أن الموجب لا يتعدد بتعدد المحل
المسألة السابعة عشرة قوله تعالى (* (وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) *))
فسماه منكرا من القول وزورا ثم رتب عليه حكمه من الكفارة والتحريم وهذا يدل على أن الطلاق المحرم وهو في حال الحيض يترتب عليه حكمه إذا وقع
191

المسألة الثامنة عشرة قوله (* (ثم يعودون لما قالوا) *)
وهو حرف مشكل واختلف الناس فيه قديما وحديثا وقد بيناه في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين
ومحصول الأقوال سبعة
أحدها أنه العزم على الوطء وهو مشهور قول العراقيين
الثاني أنه العزم على الإمساك
الثالث العزم عليهما وهو قول مالك في موطئه
الرابع أنه الوطء نفسه
الخامس قال الشافعي هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق
السادس أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة
السابع هو تكرير الظهار بلفظه ويسند إلى بكير بن الأشج
فأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح عن بكير وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه
وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم وأيضا فإن المعنى ينقضه لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجببت عليك الكفارة وهذا لا يعقل ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطء في صوم ونحوه
وأما قول الشافعي بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات
الأول أنه قال (* (ثم) *) وهذا بظاهره يقتضي التراخي
الثاني أن قوله (* (ثم يعودون) *) يقتضي وجود فعل من جهته ومرور الزمانليس بفعل منه
192

الثالث أن الطلاق الرجعي لا ينافي البقاء على الملك فلم يسقط حكم الظهار كالإيلاء
فإن قيل فإذا رآها كالأم لم يمسكها إذ لا يصح إمساك الأم بالنكاح وهذه عمدة أهل ما وراء النهر
قلنا إذا عزم على خلاف ما قال ورآها خلاف الأم كفر وعاد إلى أهله
وتحقيق هذا القول أنا لعزم قول نفسي وهذا رجل قال قولا يقتضي التحليل وهو النكاح وقال قولا يقتضي التحريم وهو الظهار ثم عاد لما قال وهو قول التحليل فلا يصح أن يكون منه ابتداء عقد لأن العقد باق فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي
وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله لقوله (* (من قبل أن يتماسا) *) وهذا تفسير بالغ في فنه
فإن قيل العزم على الفعل محرم فلا أثر له في موافقة المحرم
قلنا هذا لا معنى له لأنه إنما يعزم على ما يجوز له بمحلل وهو الكفارة
المسألة التاسعة عشرة
ولا يحل له أن يطأ حتى يكفر فإن وطئ قبل الكفارة لم تتعدد عليه الكفارة
وقال مجاهد عليه كفارتان
قلنا أما الكفارة الواحدة فقرآنية سنية وأما الثانية فقول بغير دليل وقد بيناه في كتاب الإنصاف على أن جماعة رووا منهم النسائي واللفظ له عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي وهو قد ظاهر من امرأته فوقع عليها فقال يا رسول الله إني قد ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر قال ما حملك على ذلك يرحمك الله قال رأيت خلخالها في ضوء القمر فقال لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله
193

المسألة الموفية عشرين
إذا طلقها ثلاثا بعد الظهار ثم عادت إليه بنكاح جديد لم يطأ حتى يكفر خلافا للشافعي وبناها على ما تقدم في مسألة العود وقد بيناه فلا معنى لإعادته
المسألة الحادية والعشرون
إذا ظاهر موقتا بزمان قال مالك يلزمه مؤبدا وقال الشافعي يلغو وما أخبر الله عنه في الظهار عموم في المؤقت والمؤبد وإذا وقع التحريم بالظهار لم يرفعه مرور الزمان وإنما ترفعه الكفارة التي جعلها الله رافعة له وقد وافقنا على أنه لو طلق زمانا مؤقتا لزمه الطلاق عاما ولا انفصال له عنه
المسألة الثانية والعشرون
وقد تقدم الكلام في ذكر الرقبة وأنها السليمة من العيوب وفي أنها المؤمنة ليست الكافرة وهي
المسألة الثالثة والعشرون
وأنها من لا شائبة للحرية فيها كالمكاتبة وأم الولد خلافا لأبي حنيفة في الجميع وهي
المسألة الرابعة والعشرون
وقد أجمعنا على أن أم الولد لا تجزي فالمكاتبة مثلها لأن عقد الحرية قد ثبت لها وهي من السيد في حكم الأجنبية وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ورجحنا أن المكاتبة أشبه بأم الولد منها بالأمة وكذلك بينا أنه لابد من اعتبار عدد المساكين خلافا لأبي حنيفة وهي
المسألة الخامسة والعشرون
على ما تقدم
المسألة السادسة والعشرون
اختلف علماؤنا هل المعتبر في الكفارة حال الوجوب أو حال الأداء فقال الشافعي
194

يعتبر حال الأداء في أحد قولين وقاله مالك في أحد قوليه أيضا والثاني الاعتبار بحال الوجوب والأول أشهر وهو قول أبي حنيفة
وظاهر قول الله سبحانه (* (ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) *) فيه يرتبط الوجوب بالعود وفيه يرتبط كيفما كانت حالة الارتباط بيد أنه للمسألة حرف جرى في
ألسنة علمائنا من غير قصد وهو مقصود المسألة وذلك أن المعتبر في الكفارة صفة العبادة أو صفة العقوبة
والشافعي اعتبر صفة العقوبة ونحن اعتبرنا صفة القربة وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف فإذا كان المعتبر صفة القربة فالقرب إنما يعتبر في حال الإجزاء خاصة بحال الأداء كالطهارة والصلاة والذي يعتبر فيه حالة الوجوب هي الحدود
فإن قيل إذا وجبت الصلاة عليه قائما ثم عجز فقعد فيها فهذا من المغاير للقربة في الهيئات بخلاف العتق والصوم فإنهما جنسان وعليه عول أبو المعالي
قلنا إن كان العتق والصوم جنسين فإن القيام والقعود ضدان فالخروج من جنس إلى جنس أقرب من العدول من ضد إلى ضد
فإن قيل الطهارة ليست مقصودة لنفسها وإنما تراد للصلاة فاعتبر حال فعل الصلاة فيها
قلنا وكذلك الكفارة ليست مقصودة لنفسها وإنما تراد لحل المسيس فإذا احتيج إلى المسيس اعتبرت الحالة المذكورة فيها
المسألة السابعة والعشرون
قد بينا في كفارة اليمين أن المعتبر الوسط من الإطعام وهو مد بمد النبي
وقال مالك في رواية ابن القاسم وابن عبد الحكم مد بمد هشام وهو الشبع هاهنا لأن الله تعالى أطلق الطعام ولم يذكر الوسط
195

وقال في رواية أشهب مدان بمد النبي قيل له ألم تكن قلت مد هشام قال بلى ومدان بم النبي أحب إلي وكذلك قال عنه ابن القاسم أيضا ومد هشام هو مدان غير ثلث بمد النبي
قال أشهب قلت له أيختلف الشبع عندنا وعندكم قال نعم الشبع عندنا مد بمد النبي والشبع عندكم أكثر لأن النبي دعا لنا بالبركة دونكم وأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن وهذا بين جدا
قال ابن العربي وقع الكلام ها هنا كما ترون في مد هشام وددت أن يهشم الزمان ذكره ويمحو من الكتب رسمه فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر بها الرسول ووقع عندهم الظهار وقيل لهم فيه فإطعام ستين مسكينا فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع وقدره معروف عندهم متقدر لديهم فقد كانوا يجوعون لحاجة ويشبعون بسنة لا بشهوة ومجاعة وقد ورد ذكر الشبع في الأخبار كثيرا وقد تكلمنا على هذه في الأنوار واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام فرأى مد النبي لا يشبعه ولا مثله من حاشية ونظرائه فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه فجعله رطلين وحمل الناس عليه فإذا ابتل عاد نحو ثلاثة أرطال فغير السنة وأذهب محل البركة قال النبي حين دعا ربه لأهل المدينة بالبركة لهم في مدهم وصاعهم مثل ما بارك لإبراهيم بمكة فكانت البركة تجري بدعوة النبي في مده فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب البركة فلم يستجب له في ذلك إلا هشام فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام ويجعلوه تفسيرا لما ذكره الله ورسوله بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي في كفارة الظهار أحب إلينا من الرواية بأنها بمد هشام
196

ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب الشبع عندنا بمد النبي والشبع عندكم أكثر لأن النبي دعا لنا بالبركة وبهذا أقول فإن العبادات إذا أديت بالسنة فإن كانت في البدن كان أسرع للقبول وإن كانت في المال كان قليلها أثقل في الميزان وأبرك في يد الآخذ وأطيب في شدقه وأقل آفة في بطنه وأكثر إقامة لصلبه والله الموفق لا رب غيره
المسألة الثامنة والعشرون قوله (* (فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا) *))
يقتضي أن الوطء للزوجة في ليل صوم الظهار يبطل الكفارة لأن الله سبحانه شرط في كفارة الظهار فعلها قبل التماس
وقال الشافعي إنما يكون شرط المسيس في الوطء بالنهار دون الليل قال لأن الله تعالى أوجب الصوم قبل التماس فإذا وطئ فيه فقد تعذر كونه قبله فإذا أتمها كان بعض الكفارة قبله وإذا استأنفها كان الوطء قبل جميعها وامتثال الأمر في بعضها أولى من تركه في جميعها
قلنا هذا كلام من لم يذق طعم الفقه فإن الوطء الواقع في خلال الصوم ليس بالمحل المأذون فيه بالكفارة وإنما هو وطء تعد فلا بد من الامتثال للأمر بصوم لا يكون في أثنائه وطء
المسألة التاسعة والعشرون
من غريب الأمر أن أبا حنيفة قال الحجر على الحر باطل واحتج بقوله تعالى (* (فتحرير رقبة) *) ولم يفرق بين السفيه والرشيد وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره فإن هذه الآية عامة وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله فاشيا والنظر يقتضيه ومن كان عليه حجر لصغر أو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام وقد بيناه في موضعه
197

الآية الثانية
قوله تعالى (* (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير) *) الآية 8
لا خلاف بين النقلة أن المراد بهم اليهود كانوا يأتون النبي فيقولون السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهرا وهم يعنون الموت باطنا فيقول النبي عليكم في رواية وفي رواية
أخرى وعليكم بالواو وهي مشكلة
وكانوا يقولون لو كان محمد نبيا ما أمهلنا الله بسبه والاستخفاف به وجهلوا أن البارئ تعالى حليم لا يعاجل من سبه فكيف من سب نبيه
وقد ثبت أن النبي قال لا أحد أصبر على الأذى من الله تعالى يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم
فأنزل الله هذا كشفا لسرائرهم وفضحا لبواطنهم ومعجزة لرسوله
وقد بينا شرح هذا في مختصر النيرين
وقد ثبت عن قتادة عن أنس أن يهوديا أتى على النبي وعلى أصحابه فقال السام عليكم فرد عليه فقال النبي أتدرون ما قال هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال قال كذا ردوه علي فردوه قال قلت السام عليكم فقال نعم فقال نبي الله عند ذلك إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليكم ما قلت فأنزل الله تعالى ()
198

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير) *) الآية 11
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في تفسير المجلس
فيه أربعة أقوال
الأول أنه مجلس النبي قاله ابن مسعود وكان قوم إذا أخذوا فيه مقاعدهم شحوا على الداخل أن يفسحوا له
ولقد أخبرنا القاضي أبو الحسن بن الكرامي بها أخبرنا عبد الرحمن بن عمر أخبرنا ابن الأعرابي أخبرنا محمد بن بكير الغلابي حدثنا العباس بن بكار الضبي حدثنا عبد الله بن المثنى الأنصاري عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس قال بينا رسول الله في المسجد وقد أطاف به أصحابه إذا أقبل علي ابن أبي طالب فوقف وسلم ثم نظر مجلسا يشبهه فنظر رسول الله في وجوه أصحابه أيهم يوسع له وكان أبو بكر جالسا على يمين النبي فتزحزح له عن مجلسه وقال ها هنا يا أبا الحسن فجلس بين يدي النبي وبين أبي بكر قال فرأينا السرور في وجه رسول الله ثم أقبل على أبي بكر فقال يا أبا بكر إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل
الثاني أنه المسجد يوم الجمعة
الثالث أنه مجلس الذكر
الرابع أنه موقف الصف في سبيل الله في القتال
199

والصحيح أن الجميع مراد بذلك لأن الأمر محتمل له والتفسح واجب فيه
المسألة الثانية قوله (* (انشزوا فانشزوا) *))
فيه أربعة أقوال
أحدها أنهم كانوا إذاجلسوا مع النبي في مجلسه أطالوا يرغب كل واحد منهم أن يكون آخر عهده بالنبي فأمرهم الله أن يرتفعوا
الثاني أنه الأمر بالارتفاع إلى القتال قاله الحسن
الثالث أنه موضع الصلاة قاله مقاتل بن حيان
الرابع أنه الخير كله قاله قتادة وهو الصحيح كما بيناه
المسألة الثالثة
الفسحة كل فراغ بين ملأين والنشز ما ارتفع من الأرض ذكر الأول بلفظه وحقيته وضرب المثل للثاني في الارتفاع فصار مجازا في اللفظ حقيقة في المعنى
المسألة الرابعة
كيفية التفسح في المجالس مشكلة وتفاصيلها كثيرة
الأول مجلس النبي يفسح فيه بالهجرة والعلم والسن
الثاني مجلس الجمعيات يتقدم فيه بالبكور إلا ما يلي الإمام فإنه لذوي الأحلام والنهى
الثالث مجلس الذكر يجلس فيه كل أحد حيث انتهى به المجلس
الرابع مجلس الحرب يتقدم فيه ذوو النجدة والمراس من الناس
الخامس مجلس الرأي والمشاورة يتقدم فيه من له بصر بالشورى وهو داخل في مجلس الذكر وذلك كله يتضمنه قوله (* (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) *) فيرتفع المرء بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا
وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة
200

فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه وسألهم عن تفسير (* (إذا جاء نصر الله والفتح) *) فسكتوا فقال ابن عباس هو أجل رسول الله أعلمه الله إياه فقال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم
وقد قال مالك إن الآية في مجلس النبي ومجالسنا هذه وإن الآية عامة في كل مجلس رواه عنه ابن القاسم
وقال يحيى بن يحيى عنه إن قوله (* (يرفع الله الذين آمنوا) *) الصحابة (* (والذين أوتوا العلم درجات) *) يرفع الله بها العالم والطالب للحق
والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية والله أعلم
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) *) الآية 12
فيها مسألتان
المسألة الأولى
روي عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب قال لما نزلت (* (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) *) قال لي النبي دينار قلت لا يطيقونه قال نصف دينار قلت لا يطيقونه قال فكم قلت شعيرة قال إنك لزهيد فنزلت (* (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات) *) قال فبي خفف الله عن هذه الأمة
وهذا يدل على مسألتين حسنتين أصوليتين
الأولى نسخ العبادة قبل فعلها
الثانية النظر في المقدرات بالقياس خلافا لأبي حنيفة وقد بينا ذلك في موضعه
201

ومعنى قوله شعيرة يريد وزن شعيرة من ذهب وقد روي عن مجاهد أن أول من تصدق في ذلك علي بن أبي طالب تصدق بدينار وناجى رسول الله وروي أنه تصدق بخاتم وهذا كله لا يصح وقد سرد المسألة كما يجب أسلم في رواية زيد ابنه عنه
المسألة الثانية
قال وكان النبي لا يمنع أحدا مناجاته يريد لا يسأله حاجة إلا ناجاه بها من شريف أو دنيء فكان أحدهم يأتيه فيناجيه كانت له حاجة أو لم تكن وكانت الأرض كلها حربا على المدينة وكان الشيطان يأتي أصحاب النبي وهم حوله فيقول له أتدرون لم ناجى فلان رسول الله إنما ناجاه أن جموعا كثيرة من بني فلان وفلان قد خرجوا ليقاتلوكم قال فيحزن ذلك المؤمنين ويشق عليهم وقال المنافقون إنما محمد أذن سماعة يسمع من كل أحد يناجيه فأنزل الله عز وجل (* (ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم) *) التوبة 61 وقال الله في ذلك (* (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *) المجادلة 9 1 فلم ينتهوا عن المناجاة فأنزل الله عز وجل (* (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر) *) لينتهي أهل الباطل عن مناجاة رسول الله
وعرف الله أن أهل الباطل لا يقدمون بين يدي نجواهم صدقة فانتهى أهل الباطل عن النجوى وشق ذلك على أصحاب الحوائج والمؤمنين فشكوا ذلك إلى رسول الله
202

وقالوا لا نطيقه فخفف الله ذلك عنهم ونسختها آية (* (فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم) *)
وهذا الخبر من زيد يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح فإن الله تعالى قال (* (ذلك خير لكم وأطهر) *) ثم نسخه مع كونه خيرا وأطهر وهذا دليل على المعتزلة عظيم في التزام المصالح لكن راوي الحديث عن زيد ابنه عبد الرحمن وقد ضعفه العلماء والأمر في قوله (* (ذلك خير لكم وأطهر) *) نص متواتر في الرد على المعتزلة والله أعلم
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) *) الآية 22
فيها مسألتان
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح كان يوم بدر أبوه الجراح يتصدى لأبي عبيدة فجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله فأنزل الله تعالى حين قتل أباه (* (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم) *))
المسألة الثانية
روى ابن وهب عن مالك لا تجالس القدرية وعادهم في الله لقول الآية (* (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) *
203

قال القاضي قد بينا فيما سلف من كلامنا في هذه الأحكام بدائع استنباط مالك من كتاب الله تعالى وقد كان حفيا بأهل التوحيد غريا بالمبتدعة يأخذ عليهم جانب الحجة من القرآن ومن أجله أخذه لهم من هذه الآية فإن القدرية تدعي أنها تخلق كما يخلق الله وأنها تأتي بما يكره الله ولا يريده ولا يقدر على رد ذلك
وقد روي أن مجوسيا ناظر قدريا فقال القدري للمجوسي مالك لا تؤمن فقال له المجوسي لو شاء الله لآمنت قال له القدري قد شاء الله ولكن الشيطان يصدك قال له المجوسي فدعني أقواهما
204

سورة الحشر فيها إحدى عشرة آية
الآية الأولى
قوله تعالى (* (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) *) الآية 2
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس سورة الحشر قال قل سورة النضير وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه
المسألة الثانية قوله تعالى (* (لأول الحشر) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول جلاء اليهود
الثاني إلى الشام لأنها أرض المحشر قاله عروة والحسن
الثالث قال قتادة أول الحشر نار تسوق الناس إلى المغارب وتأكل من خلف في الدنيا
205

ونحوه روى وهب عن مالك قال قلت لمالك هو جلاؤهم عن دارهم فقال لي الحشر يوم القيامة حشر اليهود قال وإجلاء رسول الله اليهود إلى خيبر حين سئلوا عن ذلك المال فكتموه فاستحلهم بذلك
قال ابن العربي للحشر أول ووسط وآخر فالأول إجلاء بني النضير والأوسط إجلاء خيبر والآخر حشر القيامة الذي ذكره مالك وأشار إلى أوله وآخره
المسألة الثالثة في وقتها
قال الزهري عن عروة كانت بعد بدر بستة أشهر وقال ابن إسحاق والواقدي كانت بعد أحد وبعد بئر معونة وكانت على يدي عمرو بن أمية الضمري واختار البخاري أنها قبل أحد
والصحيح أنها بعد ذلك وقد بينا ذلك في شرح الحديث
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) *))
وثقوا بحصونهم ولم يثقوا بالله لكفرهم فيسر الله منعتهم وأباح حوزتهم والحصن هو العدة والعصمة وقد قال بعض العرب
(ولقد علمت على توقي الردى
* أن الحصون الخيل لا مدن القرى)
(يخرجن من خلل القتام عوابسا
* كأنامل المقرور أقعى فاصطلى)
ولقد أحسن بعض المتأخرين في إصابة المعنى فقال
(وإن باشر الأصحاب فالبيض والقنا
* قراه وأحواض المنايا مناهله)
(وإن يبن حيطانا عليه فإنما
* أولئك عقالاته لا معاقله)
(وإلا فأعلمه بأنك ساخط
* ودعه فإن الخوف لا شك قاتله))
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) *) من الآية 2
206

فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (وقذف في قلوبهم الرعب) *))
ثبت في الصحيح أن النبي قال نصرت بالرعب مسيرة شهر فكيف لا ينصر به مسيرة ميل من المدينة إلى محلة بني النضير وهذه خصيصة لمحمد دون غيره
المسألة الثانية قوله تعالى (* (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) *)
فيه خمسة أقوال
الأول يخربون بأيديهم ينقض الموادعة وبأيدي المؤمنين بالمقاتلة قال الزهري
الثاني بأيديهم في تركهم لها وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها قاله أبو عمرو بن العلاء
الثالث بأيديهم داخلها وأيدي المؤمنين خارجها قاله عكرمة
الرابع كان المسلمون إذا هدموا بيتا من خارج الحصن هدموا بيوتهم يرمونهم منها
الخامس كانوا يحملون ما يعجبهم فذلك خراب أيديهم
وتحقيق هذه الأقوال أن التناول للإفساد إذا كان باليد كان حقيقة وإن كان ينقض العهد كان مجازا إلا أن قول الزهري في المجاز أمثل من قول أبي عمرو بن العلاء
المسألة الثالثة
زعم قوم أن من قرأها بالتشديد أراد هدمها ومن قرأها بالتخفيف أراد جلاءهم عنها وهذه دعوى لا يعضدها لغة ولا حقيقة والتضعيف بديل الهمزة في الأفعال
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (فاعتبروا يا أولي الأبصار) *))
وهي كلمة أصولية قد بيناها في موضعها ومن وجوه الاعتبار أنهم اعتصموا بالحصون دون الله عز وجل فأنزلهم الله منها ومن وجوهه أنه سلط عليهم من كان
207

يرجوهم ومن وجوهه أنهم هدموا أموالهم بأيديهم ومن لم يعتبر بغيره اعتبر بنفسه ومن الأمثال الصحيحة السعيد من وعظ بغيره
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب) *) الآية 4
فيها مسألة واحدة
يعني نقضوا العهد
وتحقيقه أنهم صاروا في شق أي جهة ورسول الله في أخرى وذكر الله مع رسوله تشريف له وكان نقضهم العهد لخبر رواه جماعة منهم ابن القاسم عن مالك قال جاء رسول الله النضير يستعينهم في دية فقعد في ظل جدار فأرادوا أن يلقوا عليه رحى فأخبره الله عز وجل بذلك فقام وانصرف وبذلك استحلهم وأجلاهم إلى خيبر وصفية منهم سباها رسول الله بخيبر قال فرجع إليهم رسول الله وأجلاهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم والصفراء والبيضاء والحلقة والدنان ومسك الجمل
فالصفراء والبيضاء الذهب والفضة والحلقة السلاح والدنان الفخار ومسك الجمل جلود يستقى فيها لماء بشعرها
فقال لهم رسول الله حين رجع إليهم يا أخابث خلق الله يا إخوة الخنازير والقردة قال ابن وهب قال مالك فقالوا مه يا أبا القاسم فما كنت فحاشا وهذا دليل على أن إضمار الخيانة نقض للعهد لأنه انعقد قولا فينتقض قولا والعقد إذا ارتبط بالقول انتقض بالقول وبالفعل وإذا ارتبط بالفعل لم ينتقض إلا بالفعل كالنكاح يرتبط بالقول وينحل بالقول وهو الطلاق وبالفعل
208

وهو الرضاع وعتق المديان ينعقد بالقول وينقضه الحاكم إذا لم يكن له مال سواه والاستيلاد لا ينقضه القول وقد بينا في سورة الأنفال كيفية نقض العهد
فإن قيل فإذا تحقق نقض العهد فلم بعث إليهم أخرجوا من بلادي ولم لم يأخذهم قبل ذلك
قلنا قد قال تعالى (* (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) *) الأنفال 58
فإن قيل هذا ما خافه وإنما تحقق بخبر الله عنه قلنا الخوف ها هنا الوقوع وإلا فمجرد الخوف موجود من كل عاقد
وقد يحتمل أن يكون النبي إنما أرسل إليهم لأنه علم ذلك وحده فأراد أن يكون أمرا مشهورا وساقه الله إلى ما كتب من الجلاء
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) *) الآية 5
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
ثبت في الصحيح أن النبي حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة ولها يقول حسان بن ثابت
(لهان على سراة بني لؤي
* حريق بالبويرة مستطير)
فأنزل الله تعالى (* (ما قطعتم من لينة) *) الآية
المسألة الثانية
اختلف الناس في تخريب دار العدو وحرقها وقطع ثمارها على قولين
الأول أن ذلك جائز قاله في المدونة
209

الثاني إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا وإن ييأسوا فعلوا قاله مالك في الواضحة وعليه تناظر الشافعية والصحيح الأول
وقد علم رسول الله أن نخل بني النضير له ولكنه قطع وحرق ليكون ذلك نكاية لهم ووهنا فيهم حتى يخرجوا عنها فإتلاف بعض المال لصلاح باقيه مصلحة جائزة شرعا مقصودة عقلا
المسألة الثالثة
اختلف الناس في النوع الذي قطع وهو اللينة على سبعة أقوال
الأول أنه النخل كله إلا العجوة قاله الزهري ومالك وعكرمة والخليل
الثاني أنه النخل كله قاله الحسن
الثالث أنه كرائم النخل قاله ابن شعبان
الرابع أنه العجوة خاصة قاله جعفر بن محمد
الخامس أنها النخل الصغار وهي أفضلها
السادس أنها الأشجار كلها
السابع أنها الدقل قاله الأصمعي قال وأهل المدينة يقولون لا ننحي الموائد حتى نجد الألوان يعنون الدقل
والصحيح ما قاله الزهري ومالك لوجهين
أحدهما أنهما أعرف ببلدهما وثمارها وأشجارها
الثاني أن الاشتقاق يعضده وأهل اللغة يصححونه قالوا اللينة وزنها لونة واعتلت على أصلهم فآلت إلى لينة فهو لون فإذا دخلت الهاء كسر أولها كبرك الصدر بفتح الباء وبركه بكسرها لأجل الهاء
المسألة الرابعة
متى كان القطع فأكثر المفسرين على أنها نخل بني النضير ورواه ابن القاسم عن مالك أنها نخل بني النضير وبني قريظة وهذا إنما يصح والله أعلم على أن الإذن
210

والجواز في بني النضير تضمن بني قريظة إذ لا خلاف أن الآية نزلت في بني النضير قبل قريظة بمدة كبيرة
المسألة الخامسة
تأسفت اليهود على النخل المقطوعة وقالوا ينهى محمد عن الفساد ويفعله
وروي أنه كان بعض الناس يقطع وبعضهم لا يقطع فصوب الله الفريقين وخلص الطائفتين فظن عند ذلك بعض الناس أن كل مجتهد مصيب يخرج من ذلك وهذا باطل لأن رسول الله كان معهم ولا اجتهاد مع حضور رسول الله وإنما يدل على اجتهاد النبي فيما لم ينزل عليه أخذا بعموم الإذاية للكفار ودخولا في الإذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار وذلك قوله (* (وليخزي الفاسقين) *))
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير) *) الآية 6
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى (* (ما أفاء الله) *))
يريد ما رد الله وحقيقة ذلك أن الأموال في الأرض للمؤمنين حقا فيستولي عليها الكفار من الله بالذنوب عدلا فإذا رحم الله المؤمنين وردها عليهم من أيديهم رجعت في طريقها ذلك فكان ذلك فيئا
المسألة الثانية قوله (* (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) *))
الإيجاف ضرب من السير والركاب اسم للإبل خاص عرفا لغويا وإن كان
211

ذلك مشتقا من الركوب ويشترك غيرها معها فيها ولكن للعرف احتكام في اختصاص بعض المشركات بالاسم المشترك
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ولكن الله يسلط رسله على من يشاء) *))
المعنى أن هذه الأموال وإن كانت فيئا فإن الله تعالى خصها لرسوله لأن رجوعها كان برعب ألقي في قلوبهم دون عمل من الناس فإنهم لم يتكلفوا سفرا ولا تجشموا رحلة ولا صاروا عن حالة إلى غيرها ولا أنفقوا مالا فأعلم الله أن ذلك موجب لاختصاص رسوله بذلك الفيء وأفاد البيان بأن ذلك العمل اليسير من الناس في محاضرتهم لغو لا يقع الاعتداد به في استحقاق سهم فكان النبي مخصوصا بها
روى ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان النضري أن عليا والعباس لما طلبا عمر بما كان في يد النبي من المال وذلك بحضرة عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد قال لهم عمر أحدثكم عن هذا الأمر أن الله قد خص رسوله من هذا الفيء بسهم لم يعطه أحدا غيره وقرأ (* (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير) *) فكانت هذه خالصة لرسوله وإن الله اختارها والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم وذكر باقي الحديث فكان رسول الله يبثها وإن كان الله خصه بها
وقد روي أنه أعطاها المهاجرين خاصة ومن الأنصار لأبي دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة لحاجة كانت بهم وفي آثار كثيرة بيناها في شرح الصحيحن
المسألة الرابعة تمام الكلام
فلا حق لكم فيه ولا حجة لكم عليه وحذفت اختصارا لدلالة الكلام عليه
212

الآية السادسة
قوله تعالى (* (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) *) الآية 7
فيها مسألتان
المسألة الأولى
لا خلاف أن الآية الأولى لرسول الله خاصة وهذه الآية اختلف الناس فيها على أربعة أقوال
الأول أنها هذه القرى التي قوتلت فأفاء الله بمالها فهي لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل قاله عكرمة وغيره ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال
الثاني هو ما غنمتم بصلح من غير إيجاف خيل ولا ركاب فيكون لمن سمى الله فيه والأولى للنبي خاصة إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين
الثالث قال معمر الأولى للنبي والثانية في الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه والثالثة الغنيمة في سورة الأنفال للغانمين
الرابع روى ابن القاسم وابن وهب في قوله تعالى (* (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) *) هي النضير لم يكن فيها خمس ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب كانت صافية لرسول الله فقسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار أبي دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة وقوله تعالى (* (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) *) هي قريظة وكانت قريظة والخندق في يوم واحد
المسألة الثانية
هذا لباب الأقوال الواردة وتحقيقها أنه لا خلاف أن السورة سورة النضير وأن
213

الآيات الواردة فيها آيات بني النضير وإن كان قد دخل فيها بالعموم من قال بقولهم وفعل فعلهم وفيها آيتان الآية الأولى قوله تعالى (* (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) *) والثانية قوله تعالى (* (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) *) وفي الأنفال آية ثالثة وهي (* (واعلموا أنما غنمتم من شيء) *)
واختلف الناس هل هي ثلاثة معان أو معنيان ولا إشكال في أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات أما الآية الأولى فهي قوله (* (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر) *) الحشر 2 ثم قال (* (وما أفاء الله على رسوله منهم) *) الحشر 6 يعني من أهل الكتاب معطوفا عليه (* (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) *) يريد كما بينا فلا حق لكم فيه ولذلك قال عمر إنها كانت خالصة لرسول الله يعني بني النضير وما كان مثلها فهذه آية واحدة ومعنى متحد
الآية السادسة
قوله تعالى (* (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى) *) الآية 7
وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول وسمى الآية الثالثة آية الغنيمة ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق ثان لمستحق آخر بيد أن الآية الأولى والثانية اشتركتا في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال واقتضت آية الأنفال أنه حاصل بقتال وعريت الآية الثالثة وهي قوله (* (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) *) عن ذكر حصوله لقتال أو لغير قتال فنشأ الخلاف من ها هنا فمن طائفة قالت هي ملحقة بالأولى وهو مال الصلح كله ونحوه ومن طائفة قالت هي ملحقة بالثانية وهي آية الأنفال
والذين قالوا إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة كما تقدم أو محكمة وإلحاقها بشهادة الله بالأولى أولى لأن فيه تجديد فائدة ومعنى ومعلوم أن حمل الحرب على فائدة مجددة أولى من حمله على فائدة معادة وهذا القول ينظم لك
214

شتات الرأي ويحكم المعنى من كل وجه وإذا انتهى الكلام إلى هذا القدر فيقول مالك إن الآية الثانية في بني قريظة إشارة إلى أن معناها يعود إلى آية الأنفال ويلحقها النسخ وهو أقوى من القول بالإحكام ونحن لا نختار إلا ما قسمنا وبينا أن الآية الثانية لها معنى مجدد حسبما دللنا عليه والله أعلم
الآية السابعة
قوله تعالى (* (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *) من الآية 7
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في المعنى
وفيها ثلاثة أقوال
الأول معناها ما أعطاكم من الفيء وما منعكم منه فلا تطلبوه
الثاني ما أتاكم الرسول من مال الغنيمة فخذوه وما نهاكم عنه من الغلول فلا تأتوه
الثالث ما أمركم به من طاعتي فافعلوه وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه وهذا أصح الأقوال لأنه لعمومه تناول الكل وهو صحيح فيه مراد به
المسألة الثانية
وقع القول ها هنا مطلقا بذلك وقيده النبي بقوله إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه
وقد بينا تحقيق ذلك من قبل
المسألة الثالثة
إذا أمر النبي بأمر كان شرعا وإذا نهى عن شيء لم يكن شرعا ولذلك قال من عمل عملا لم يكن عليه أمرنا فهو رد وقال في حديث العسيف الذي
215

افتدى من الجلد بمائة شاة ووليدة أما غنمك فرد عليك وجلد ابنك مائة وتغريبه عاما
وترددت ها هنا مسألة عظمى بين العلماء وهي ما إذا اجتمع في عقد أمر ونهي وازدحم عليه صحيح وفاسد فقال جماعة من العلماء لا يجوز ويفسخ بكل حال وقال علماؤنا ذلك يختلف أما في البيع فلا يجوز إجماعا وأما في النكاح فلا واختلفوا فيه على ما بيناه في مسائل الفقه وأما في الأحباس والهبات فيحتمل كثيرا من الجهالة والأخطار المنهي عنها فيها حتى قال أصبغ إن ما لا يجوز إذا دخل في الصلح مع ما يجوز مضى الكل وقال ابن الماجشون يمضي إن طال وقال سائر علمائنا لا يجوز شيء منه وهو كالبيع
وأما إن وقع النهي في البيع فقال كثير من العلماء يفسخ أبدا وقال مالك يفسخ ما لم يفت في تفصيل طويل بيانه في أصول الفقه تأصيلا وفي فروع مسائل الفقه تفصيلا بنيناه على تعارض الأدلة في الحظر والإباحة والمعنى والرد
والصحيح عندنا فسخ الفاسد أبدا حيثما وقع وكيفما وجد فات أو لم يفت لقوله عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
المسألة الرابعة قوله (* (وما آتاكم الرسول فخذوه) *))
وإن جاء بلفظ الإيتاء وهي المناولة فإن معناه الأمر بدليل قوله (* (وما نهاكم عنه فانتهوا) *) فقابله بالنهي ولا يقابل النهي إلا الأمر والدليل على فهم ذلك ما ثبت في الصحيح عن علقمة عن ابن مسعود قال قال رسول الله لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن والمغيرات لخلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت فقالت إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال ومالي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله فقالت لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول قال لئن
216

كنت قرأته لقد وجدته أما قرأت (* (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *) قالت بلى قال فإنه قد نهى عنه وذكر الحديث
الآية الثامنة
قوله تعالى (* (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) *) الآية 9
فيها سبع مسائل
المسألة الأولى
قال الخلق بأجمعهم يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله حين طرد ونصروه حين خذل فلا مثل لهم ولا لأجرهم
المسألة الثانية
قال ابن وهب سمعت مالكا وهو يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ الآية (* (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم) *) الآية
وقد بينا فضل المدينة على كل بقعة في كتاب الإنصاف ولا معنى لإعادته بيد أن القارئ ربما تعلقت نفسه بنكتة كافية في ذلك مغنية عن التطويل فيقال له إن أردت الوقوف على الحقيقة في ذلك فاتل مناقب مكة إلى آخرها فإذا استوفيتها قل إن النبي قال في الصحيح اللهم إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم المدينة بمثل ما حرم به إبراهيم مكة ومثله معه فقد جعل حرمة المدينة ضعفي حرمة مكة
وقال عمر في وصيته أوصي الخليفة بالمهاجرين وبالأنصار الأولين أن يعرف لهم
217

حقهم وأوصي الخليفة بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل أن يهاجر النبي أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) *))
يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره كذا قال الناس
ويحتمل أن يريد به ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلا بل يقنعون به ويرضون عنه وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي دنيا ثم كانوا عليه بعد موته وقد أنذرهم النبي وقال سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *))
في الصحيح عن أبي هريرة وغيره أن رجلا من الأنصار نزل به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية (* (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *) مختصر وتمامه ما روي في الصحيح عن أبي هريرة قال أتى رجل رسول الله فقال يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهم شيئا فقال رسول الله ألا رجل يضيفه الليلة رحمه الله
فقام رجل من الأنصار فقال أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته ضيف رسول الله لا تدخري عنه شيئا فقالت والله ما عندي سوى قوت الصبية
218

قال فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت
ثم غدا الرجل على رسول الله فقال لقد عجب الله أو ضحك الله من فلان وفلانة وأنزل (* (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *)
وروي أن النضير لما افتتحت أرسل إلى ثابت بن قيس فقال جئني بقومك قال الخزرج قال الأنصار فدعاهم
وقد كانوا واسوا المهاجرين بديارهم وأموالهم فقال لهم إن شئتم أشركتكم فيها مع المهاجرين وإن شئتم خصصتهم بها وكانت لكم أموالكم ودياركم فقال له السعدان بل نخصهم بها ويبقون على مواساتنا لهم فنزلت الآية والأول أصح
وفي الصحيح عن أنس كان الرجل يجعل للنبي النخلات حتى افتتح قريظة والنضير فكان بعد ذلك يرد عليهم
المسألة الخامسة
الإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس ومن الأمثال السائرة والجود بالنفس أقصى غاية الجود ومن عبارات الصوفية في حد المحبة إنها الإيثار ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام آثرته على نفسها بالتبرئة فقالت (* (أنا راودته عن نفسه) *)
وأفضل الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي يوم أحد وكان النبي يتطلع فيرى القوم فيقول له أبو طلحة لا تشرف يا رسول الله لا يصيبونك نحري دون نحرك ووقى بيده رسول اله فشلت
219

المسألة السادسة
الإيثار هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنياوية رغبة في الحظوظ الدينية وذلك ينشأ عن قوة النفس ووكيد المحبة والصبر على المشقة وذلك يختلف باختلاف أحوال المؤثرين كما روي في الآثار أن النبي قبل من أبي بكر ماله ومن عمر نصف ماله ورد أبا لبابة وكعبا إلى الثلث لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر إذ لا خير له في أن يتصدق ثم يندم فيحبط أجره ندمه
المسألة السابعة قوله تعالى (* (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) *))
اختلف الناس في الشح والبخل على قولين
فمنهم من قال إنهما بمعنى واحد
ومنهم من قال لهما معنيان فالبخل منع الواجب لقوله عليه السلام مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد فإذا أراد البخيل أن يتصدق لزمت كل حلقة مكانها فيوسعها فلا تتسع والشح منع الذي لم يجد بدليل هذه الآية والحديث فذكر الله أن ذلك من ذهاب الشح وهذا لا يلزم فإن كل حرف يفسر على معنيين أو معنى يعبر عنه بحرفين يجوز أن يكون كل واحد يوضع موضع صاحبه جمعا أو فرقا وذلك كثير في اللغة ولم يقم ها هنا دليل على الفرق بينهما
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) *) الآية 1
فيها مسألتان
220

المسألة الأولى في تعيين هؤلاء
وفي ذلك قولان
أحدهما أنهم أهل الإسلام غير ذين من سائر القبائل والأمم من الصحابة
الثاني أنهم التابعون بعد قرن الصحابة إلى يوم القيامة وهو اختيار جماعة منهم مالك بن أنس رواه عنه سوار بن عبد الله وأشهب وغيرهما قالوا قال مالك من سب أصحاب رسول الله فلا حق له في الفيء قال الله تعالى (* (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) *))
المسألة الثانية في تحقيق القول
هذه نازلة اختلف الصحابة فيها قديما وذلك أن الله تعالى لما افتتح الفتوح على عمر اجتمع إليه من شهد الوقعة واستحق بكتاب الله الغنيمة فسألوه القسمة فامتنع عمر منها فألحوا عليه حتى دعا عليهم فقال اللهم اكفنيهم فما حال الحول إلا وقد ماتوا
وقال عمر لولا أن أترك آخر الناس ببا نا ما تركت قرية افتتحت إلا قسمتها بين أهلها
ورأى الشافعي القسمة كما قسم النبي خيبر ورأى مالك أقوالا أمثلها أن يجتهد الوالي فيها وقد بينا ذلك في شرح الحديث وأوضحنا أن الصحيح قسمة المنقول وإبقاء العقار والأرض سهلا بين المسلمين أجمعين إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمرا فيمضي عمله فيه لاختلاف الناس عليه وإن هذه الآية قاضية بذلك لأن الله تعالى أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف المهاجرين والأنصار وهم معلومون (* (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) *) فهي عامة في جميع التابيعن والآتين بعدهم إلى يوم الدين ولا وجه لتخصيصها ببعض مقتضياتها
وفي الصحيح أن النبي خرج إلى المقبرة وقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني رأيت إخواننا فقالوا يا رسول
221

الله ألسنا بإخوانك فقال بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض
فبين النبي أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم وهذا تفسير صحيح ظاهر في المراد لا غبار عليه
الآية العاشرة
قوله تعالى (* (لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) *) الآية 14
فيها مسألتان
المسألة الأولى في المراد بها
فقيل إنهم اليهود وقيل هم المنافقون وهو الأصح لوجهين
أحدهما أن الآيات مبتدأة بذكرهم قال تعالى (* (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب) *) إلى قوله (* (الظالمين) *) الحشر 11 - 17
وعد عبد الله بن أبي اليهود بالنصر وضمن لهم أن بقاءه ببقائهم وخروجه بخروجهم فلم يكن ذلك ولا وفى به بل أسلمهم وتبرأ منهم فكان كما قال تعالى (* (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) *) الحشر 16 فغر أولا وكذب آخرا
الثاني أن اليهود والمنافقين كانت قلوبهم واحدة على معاداة النبي ولم تكن لإحداهما فئة تخالف الأخرى في ذلك
والشتى هي المتفرقة قال الشاعر
(إلى الله أشكو نية شقت العصا
* هي اليوم شتى وهي بالأمس جمع)
222

المسألة الثانية
تعلق بعض علمائنا من هذه الآية في منع صلاة المفترض خلف المتنفل حسبما بيناه في مسائل الخلاف لأنهم مجمعون على صورة التكبير والأفعال وهم مختلفون في النية وقد ذم الله ذلك فيمن فعل ذلك فيشمله هذا اللفظ ويناله هذا الظاهر
وهذا كان يكون حسنا بيد أنه يقطع به اتفاق الأمة على جواز صلاة المتنفل خلف المفترض والصورة في اختلاف النية واتفاق الفعل والقول فيهما واحد فإذا خرجت هذه الصورة عن عموم الآية تبين أنها مخصوصة في الطاعات وأنها محمولة على ما كان من اختلاف المنافقين في الإذاية للدين ومعاداة الرسول
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى (* (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون) *) الآية 2
تعلق بعض علمائنا بظاهر هذه الآية في نفي المساواة بين المؤمن والكافر في القصاص لأجل عموم نفي المساواة وقد تقدم بيان ذلك في سورة السجدة وحققنا في أصول الفقه اختلاف العلماء في التعلق بمثل هذا العموم لأنه لم يخرج مخرج التعميم والدليل عليه ما عقب الآية به من قوله (* (أصحاب الجنة هم الفائزون) *) يعني وأصحاب النار هم الهالكون ففي هذا القدر انتفت التسوية ومنهم من قال خصوص آخرها لا يمنع من عموم أولها وذلك محقق هنالك
223

سورة الممتحنة فيها سبع آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) *) الآية 1
فيها ثمان مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي في الصحيح واللفظ في البخاري أن أبا عبد الرحمن السلمي وكان عثمانيا قال لابن عطية وكان علويا قد علمت ما جرأ صاحبك على الدماء سمعته يقول بعثني النبي
والزبير فقال ائتوا روضة خاخ وتجدون بها امرأة أعطاها حاطب كتابا فأتينا الروضة فقلنا الكتاب فقالت لم يعطني شيئا فقلنا لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فأخرجته من حجزتها أو قال من عقاصها
فأرسل رسول الله إلى حاطب فقال لا تعجل فوالله ما كفرت وما ازددت للإسلام إلا حبا ولم يكن أحد من أصحابك إلا وله بمكة من يدفع الله به عن أهله وماله ولم يكن لي أحد فأحببت أن أتخذ عندهم يدا فصدقه النبي فقال عمر دعني أضرب عنقه فإنه قد نافق فقال له ما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فهذا الذي جرأه ونزلت (* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) *) الآية إلى (* (غفور رحيم) *) الممتحنة 12
224

المسألة الثانية قوله تعالى (* (عدوي وعدوكم) *))
قد بينا العداوة والولاية وأن مآلهما إلى القرب والبعد في الثواب والعقاب في كتاب الأمد الأقصى
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (تلقون إليهم بالمودة) *))
يعني في الظاهر لأن قلب حاطب كان سليما بالتوحيد بدليل أن النبي قال لهم أما صاحبكم فقد صدق
وهذا نص في سلامة فؤاده وخلوص اعتقاده
المسألة الرابعة
من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا ذا كان فعله لغرض دنياوي واعتقاده على ذلك سليم كما فعل حاطب بن أبي بلتعة حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين
المسألة الخامسة
إذا قلنا إنه لا يكون به كافرا فاختلف الناس فهل يقتل به حدا أم لا فقال مالك وابن القاسم وأشهب يجتهد فيه الإمام وقال عبد الملك إذا كانت تلك عادته قتل لأنه جاسوس
وقد قال مالك يقتل الجاسوس وهو صحيح لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض
فإن قيل وهي
المسألة السادسة
هل يقتل كما قال عمر من غير تفصيل ولم يرد عليه النبي إلا بأنه من أهل بدر وهذا يقتضي أن يمنع منه وحده ويبقى قتل غيره حكما شرعيا فهم عمر به بعلم النبي ولم يرد عليه السلام إلا بالعلة التي خصصها بحاطب
قلنا إنما قال عمر إنه يقتل لعلة أنه منافق فأخبر النبي أنه ليس بمنافق فإنما
225

يوجب عمر قتل من نافق ونحن لا نتحقق نفاق فاعل مثل هذا لاحتمال أن يكون نافق واحتمال أن يكون قصد بذلك منفعة نفسه مع بقاء إيمانه والدليل على صحة ذلك ما روي في القصة أن النبي قال له يا حاطب أنت كتبت الكتاب قال نعم فأقر به ولم ينكر وبين العذر فلم يكذب وصار ذلك كما لو أقر رجل بالطلاق ابتداء وقال أردت به كذا وكذا للنية البعيدة الصدق ولو قامت عليه البينة وادعى فيه النية البعيدة لم يقبل
وقد روي أن ابن الجارود سيد ربيعة أخذ درباسا وقد بلغه أنه يخاطب المشركين بعورات المسلمين وهم بالخروج إليهم فصلبه فصاح يا عمراه ثلاث مرات فأرسل عمر إليه فلما جاء أخذ الحربة فعلا بها لحيته وقال لبيك يا درباس ثلاث مرات فقال لا تعجل إنه كاتب العدو وهم بالخروج وإليهم فقال قتلته على الهم وأينا لا يهم
فلم يره عمر موجبا للقتل ولكنه أنفذ اجتهاد ابن الجارود فيه لما رأى من خروج حاطب عن هذا الطريق كله ولعل ابن الجارود إنما أخذ بالتكرار في هذا لأن حاطبا أخذ في أول فعله
المسألة السابعة
فإن كان الجاسوس كافرا فقال الأوزاعي يكون نقضا لعهده
وقال أصبغ الجاسوس الحربي يقتل والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا أن يتعاهدا على أهل الإسلام فيقتلان
وقد روي عن علي بن أبي طالب عن النبي أنه أتي بعين للمشركين اسمه فرات بن حيان فأمر به أن يقتل فصاح يا معشر الأنصار أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأمر به النبي فخلى سبيله ثم قال إن منكم من أكله إلى إيمانه منهم فرات بن حيان
المسألة الثامنة
تودد حاطب إلى الكفار ليجلب منفعة لنفسه ولم يعقد ذلك بقلبه
226

وقد روى جابر أن عبدا لحاطب جاء يشكو حاطبا إلى النبي فقال يا رسول الله صلى الله عليك ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدرا والحديبية
الآية الثانية
قوله تعالى (* (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) *) من الآية 4
وهذا نص في الاقتداء بإبراهيم عليه السلام في فعله وهذا يصحح أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله أو رسوله عنهم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) *) الآية 6 يعني في براءتهم من قومهم ومباعدتهم لهم ومنابذتهم عنهم وأنتم بمحمد أحق بهذا الفعل من قوم إبراهيم بإبراهيم (* (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) *) فليس فيه أسوة لأن الله تعالى قد بين حكمه في سورة براءة
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) *) الآية 8
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في بقاء حكمها أو نسخه
وفيه قولان
أحدهما أن هذا كان في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ قاله ابن زيد
227

الثاني أنه باق وذلك على وجهين
أحدهما أنهم خزاعة ومن كان له عهد
الثاني ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه طلق امرأته قتيلة أم أسماء في الجاهلية فقدمت عليهم في المدة التي كان رسول الله هادن فيها كفار قريش وأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطا فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله فذكرت ذلك له فأنزل الله الآية
والذي صح في رواية أسماء ما بيناه من رواية الصحيح فيه من قبل
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وتقسطوا إليهم) *))
أي تعطوهم قسطا من أموالكم على وجه الصلة وليس يريد به من العدل فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل
المسألة الثالثة
استدل به بعض من تعقد عليه الخناصر على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر وهذه وهلة عظيمة فإن الإذن في الشيء أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوبه وإنما يعطيك الإباحة خاصة وقد بينا أن إسماعيل بن إسحاق القاضي دخل عليه ذمي فأكرمه فوجد عليه الحاضرون فتلا هذه الآية عليهم
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم) *) الآية 1
فيها اثنتا عشرة مسألة
228

المسألة الأولى في سبب نزولها
ثبت أن النبي لما صالح أهل الحديبية كان فيه أن من جاء من المشركين إلى المسلمين رد إليهم ومن ذهب من المسلمين إلى المشركين لم يرد وتم العهد على ذلك وكان رسول الله رد أبا بصير عتبة بن أسيد بن حارثة الثقفي حين قدم وقدم أيضا نساء مسلمات منهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وسبيعة الأسلمية وغيرهما فجاء الأولياء إلى رسول الله فسألوه ردهن على الشرط واستدعوا منه الوفاء بالعهد فقال النبي إنما الشرط في الرجال لا في النساء وكان ذلك من المعجزات إلا أن الله عز وجل قبض ألسنتهم عن أن يقولوا غدر محمد حتى أنزل الله ذلك في النساء وذلك إحدى معجزاته
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فامتحنوهن) *))
اختلف في تفسير الامتحان على قولين
أحدهما اليمين رواه أبو نصر الأسدي عن ابن عباس ورواه الحارث بن أبي أسامة قال النبي لسبيعة وكان زوجها صيفي بن السائب بالله ما أخرجك من قومك ضرب ولا كراهية لزوجك ولا أخرجك إلا حرص على الإسلام ورغبة فيه لا تريدين غيره
الثاني وهو ما روي في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يمتحن النساء بهذه الآية
المسألة الثالثة
في المعنى الذي لأجله لم ترد النساء وإن دخلن في عموم الشرط وفي ذلك قولان
أحدهما لرقتهن وضعفهن
الثاني لحرمة الإسلام ويدل عليه قوله (* (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) *) والمعنيان صحيحان
ويجوز أن يعلل الحكم بعلتين حسبما بيناه في كتب الأصول
229

المسألة الرابعة
خروج النساء من عهد الرد كان تخصيصا للعموم لا ناسخا للعهد كما توهمه بعض الغافلين وقد بيناه في القسم الثاني
المسألة الخامسة
الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها هو إسلامها لا هجرتها كما بيناه في أصول مسائل الخلاف وهو التلخيص
وقال أبو حنيفة الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين وإليه إشارة في مذهب مالك بل عبارة قد أوضحناها في مسائل الفروع والعمدة فيه ها هنا أن الله تعالى قد قال (* (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) *) فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام وليس اختلاف الدارين
المسألة السادسة
أمر الله تعالى إذا أمسكت المرأة المسلمة أن ترد على زوجها ما أنفق وذلك من الوفاء بالعهد لأنه لما منع من أهله لحرمة الإسلام أمر الله سبحانه أن يرد إليه المال حتى لا يقع عليه خسران من الوجهين الزوجة والمال
المسألة السابعة
لما أمر الله سبحانه برد ما أنفقوا إلى الأزواج وكانا لمخاطب بهذا الإمام ينفذ ذلك مما بين يديه من بيت المال الذي لا يتعين له مصرف
المسألة الثامنة
رفع الله الحرج في نكاحها بشرط الصداق وسمى ذلك أجرا وقد تقدم بيانه وبيان شرط آخر وهو الاستبراء من ماء الكافر لقوله لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض والاستبراء ها هنا بثلاث حيض وهي العدة وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ثم قال وهي
230

المسألة التاسعة (* (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) *))
يعني إذ أسلمن وانقضت عدتهن لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدة فعاد جواز النكاح إلى حالة الإيمان ضرورة
المسألة العاشرة قوله (* (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) *))
هذا بيان لامتناع نكاح المشركة من جملة الكوافر وهو تفسيره والمراد به
قال أهل التفسير أمر الله تعالى من كان له زوجة مشركة أن يطلقها وقد كان الكفار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات ثم نسخ الله ذلك في هذه الآية وغيرها وكان ذلك نسخ الإقرار على الأفعال بالأقوال وقد بيناه في الناسخ والمنسوخ فطلق عمر بن الخطاب حينئذ قريبة بنت أمية وابنة جرول الخزامي فتزوج قريبة معاوية بن أبي سفيان وتزوج ابنة جرول أبو جهم فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية طلق قريبة لئلا يرى عمر سلبه في بيتك فأبى معاوية ذلك
المسألة الحادية عشرة قوله (* (واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا) *))
قال المفسرون كل من ذهب من المسلمات مرتدات من أهل العهد إلى الكفار يقال للكفار هاتوا مهرها ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة ردوا إلى الكفار مهرها وكان ذلك نصفا وعدلا بين الحالتين وكان هذا حكم الله مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة
المسألة الثانية عشرة
أما عقد الهدنة بين المسلمين والكفار فجائز على ما مضى من سورة الأنفال لمدة ومطلقا إليهم لغير مدة
فأما عقده على أن يرد من أسلم إليهم فلا يجوز لأحد بعد النبي وإنما جوزه الله له لما علم في ذلك من الحكمة وقضى فيه من المصلحة وأظهر فيه بعد ذلك من حسن العاقبة وحميد الأثر في الإسلام ما حمل الكفار على الرضا بإسقاطه والشفاعة في حطه ففي الصحيح لما كاتب رسول الله سهيل بن عمرو يوم الحديبية على قصر
231

المدة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة فنزلوا يأكلون فقتل أبو بصير أحدهما وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله لقد رأى هذا ذعرا فجاء أبو بصير فقال يا رسول الله قد أوفى الله ذمتك ثم أنجاني منهم فقال النبي ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وتفلت منهم أبو جندب بن سهيل فلحق بأبي بصير وجعل لا يخرج رجل من قريش أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوهم فقتلوهم وأخذوا بأموالهم فأرسلت قريش إلى النبي تنشده الله والرحم إلا أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي إليهم فأنزل الله (* (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) *) الآية إلى (* (حمية الجاهلية) *) الفتح 24 26 فظن الناس أن ذلك كان من النبي في الانقياد إليهم عن هوان وإنما كان عن حكمة حسن مآلها كما سقناه آنفا من الرواية والله أعلم
الآية السادسة
قوله تعالى (* (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) *) الآية 11
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال علماؤنا المعنى إن ارتدت امرأة ولم يرد الكفار صداقها إلى زوجها كما أمروا فردوا أنتم إلى زوجها مثل ما أنفق
232

المسألة الثانية قوله تعالى (* (فعاقبتم) *))
قال علماؤنا المعاقبة المناقلة على تصيير كل واحد من الشيئين مكان الآخر عقيب ذهاب عينه فأراد فعوضتم مكان الذاهب لهم عوضا أو عوضوكم مكان الذاهب لكم عوضا فليكن من مثل الذي خرج عنكم أو عنهم عوضا من الفائت لكم أو لهم
المسألة الثالثة في محل العاقبة
وفيه ثلاثة أقوال
أحدها من الفيء قاله الزهري
الثاني من مهر إن وجب للكفار في زوج أحد منهم على مذهب اقتصاص الرجل من مال خصمه إذا قدر عليه دون أذية
الثالث أنه يرد من الغنيمة
وفي كيفية رده من الغنيمة قولان
أحدهما أنه يخرج المهر والخمس ثم تقع القسمة وهذا منسوخ إن صح
الثاني أنه يخرج من الخمس وهو أيضا منسوخ وقد حققناه في القسم الثاني منه والله أعلم
الآية السابعة
قوله تعالى (* (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) *) الآية 12
فيها أربع عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله تعالى (* (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا) *) الآية
233

عن عروة عن عائشة قالت ما كان رسول الله يمتحن إلا بهذه الآية التي قال الله (* (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) *) الآية
قال معمر فأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال ما مست يده يد امرأة إلا امرأة يملكها
وعن عائشة أيضا في الصحيح ما مست يد رسول الله يد امرأة وقال إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة
وقد روي أنه صافحهن على ثوبه
وروي أن عمر صافحهن عنه وأنه كلف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهن
وذلك ضعيف وإنما ينبغي التعويل على ما روي في الصحيح
المسألة الثانية
روي عن عبادة بن الصامت أنه قال كنا عند النبي فقال تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا أيها النساء فمن وفى منكن فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو له كفارة ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهذا يدل على أن بيعة الرجال في الدين كبيعة النساء إلا في المسيس باليد خاصة
المسألة الثالثة
ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله ومع أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد فنزل نبي الله وكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء ومعه بلال فقرأ (* (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا) *) الآية كلها ثم قال حين فرغ أنتن على ذلك قالت امرأة منهن واحدة لم يجبه غيرها نعم يا رسول الله لا يدري الحسن من هي قال فتصدقن وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ والخواتم في ثوب بلال
234

المسألة الرابعة قوله (* (ولا يقتلن أولادهن) *))
يعني بالوأد والاستتار عن العمد إذا كان عن غير رشدة فإن رميه كقتله ولكنه إن عاش كان إثمها أخف
المسألة الخامسة قوله (* (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) *))
قيل في أيديهن قولان
أحدهما المسألة
الثاني أكل الحرام
المسألة السادسة قوله (* (وأرجلهن) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول الكذب في انقضاء العدة
الثاني هو إلحاق ولد بمن لم يكن له
الثالث أنه كناية عما بين البطن والفرج
المسألة السابعة (* (ولا يعصينك في معروف) *))
فيه ثلاثة أقوال
الأول النياحة
الثاني ألا يحدثن الرجال
الثالث ألا يخمشن وجها ولا يشققن جيبا ولا يرفعن صوتا ولا يرمين على أنفسهن نقعا
المسألة الثامنة في تنخيل هذه المعاني
أما من قال إن قوله (* (بين أيديهن) *) يعني المسألة فهو تجاوز كبير فإن أصلها اللسان وآخرها أن أعطي شيئا في اليد
235

وقول من قال إنه أكل الحرام أقرب وكأنه عكس الأول لأن الحرام يتناوله بيده فيحمله إلى لسانه والمسألة يبدؤها بلسانه ويحملها إلى يده ويردها إلى لسانه
وأما من قال إنه كناية عما بين البطن والفرج فهو أصل في المجاز حسن
وأما قوله (* (ولا يعصينك في معروف) *) فهو نص في إيجاب الطاعة فإن النهي عن الشيء أمر بضده إما لفظا أو معنى على اختلاف الأصوليين في ذلك وأما معنى تخصيص قوله (* (في معروف) *) وقوة قوله (* (ولا يعصينك) *) يعطيه لأنه عام في وظائف الشريعة وهي
المسألة التاسعة
ففيه قولان
أحدهما أنه تفسير للمعنى على التأكيد كما قال تعالى (* (قال رب احكم بالحق) *) الأنبياء 112 لأنه لو قال (* (احكم) *) لكفى
الثاني أنه إنما شرط المعروف في بيعة النبي حتى يكون تنبيها على أن غيره أولى بذلك وألزم له وأنفى للإشكال فيه
وفي الآثار لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
المسألة العاشرة
روي أن النبي كان إذا بايع النساء على هذا قال لهن فيما أطفتن فيقلن الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا
وهذا بيان من النبي لحقيقة الحال فإن الطاقة مشروطة في الشريعة مرفوع عن المكلفين ما ناف عليها حسبما بيناه في غير موضع
المسألة الحادية عشرة
روت أم عطية في الصحيح قالت بايعنا رسول الله فقرأ علينا أن لا يشركن بالله شيئا ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة على يدها وقالت أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها فما قال لها النبي شيئا فانطلقت فرجعت فبايعها فيكون هذا
236

تفسير قوله (* (ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) *) وذلك تخميش وجوه وشق جيوب
وفي الصحيح ليس منا من خمش الوجوه وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية
فإن قيل كيف جاز أن تستثنى معصية وتبقى على الوفاء بها ويقرها النبي على ذلك
قلنا وقد بيناه في شرح الحديث الصحيح الكافي منه أن النبي أمهلها حتى تسير إلى صاحبتها لعلمه بأن ذلك لا يبقى في نفسها وإنما ترجع سريعا عنه كما روي أن بعضهم شرط ألا يخر إلا قائما فقيل في أحد تأويليه إنه لا يركع فأمهله حتى آمن فرضي بالركوع
وقيل أرادت أن تبكي معها بالمقابلة التي هي حقيقة النوح خاصة
المسألة الثانية عشرة
في صفة أركان البيعة على ألا يشركن بالله شيئا إلى آخر الخصال الست
صرح فيهن بأركان النهي في الدين ولم يذكر أركان الأمر وهي الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج والاغتسال من الجنابة وهي سنة في الأمر في الدين وكيدة مذكورة في قصة جبريل مع النبي وفي اعتماده الإعلام بالمنهيات دون المأمورات حكمان اثنان
أحدهما أن النهي دائم والأمر يأتي في الفترات فكان التنبيه على اشتراط الدائم أوكد
الثاني أن هذه المناهي كانت في النساء كثير من يرتكبها ولا يحجزهن عنها شرف الحسب ولذلك روي أن المخزومية سرقت فأهم قريشا أمرها وقالوا من يكلم رسول الله
إلا أسامة فكلم رسول الله فقال أتشفع في حد من حدود الله وذكر الحديث
237

فخص الله ذلك بالذكر لهذا كما روي أنه قال لوفد عبد القيس آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع آمركم بالإيمان بالله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمس ما غنمتم وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي لأنها كانت عادتهم
وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سواها مما لا شهوة له فيها
المسألة الثالثة عشرة
لما قال النبي لهن في البيعة ألا يسرقن قالت هند يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن آخذ من ماله ما يكفيني وولدي فقال لا إلا بالمعروف فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها أبو سفيان فتضيع أو تأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة فقال لها النبي لا أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف يعني من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة
وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب ولا يضبط عليها بقفل فإنها إذا هتكته الزوجة وأخذت منه كانت سارقة تعصي بها وتقطع عليه يدها حسبما تقدم في سورة المائدة
المسألة الرابعة عشرة في صفة البيعة لمن أسلم من الكفار
وذلك لأنها كانت في صدر الإسلام منقولة وهي اليوم مكتوبة إذ كان في عصر النبي لا يكتب إلا القرآن
وقد اختلف في السنة على ما بيناه في أصول الفقه وغيرها وكان النبي لا يكتب أصحابه ولا يجمعهم له ديوان حافظ اللهم إلا أنه قال يوما اكتبوا لي من يلفظ بالإسلام لأمر عرض له فاما اليوم فيكتب إسلام الكفرة كما يكتب سائر معالم الدين المهمة والتوابع منها لضرورة حفظها حين فسد الناس وخفت أمانتهم ومرج أمرهم ونسخة ما يكتب
بسم الله الرحمن الرحيم لله أسلم فلان ابن فلان من أهل أرض كذا وآمن به وبرسوله محمد وشهد له بشهادة الصدق وأقر بدعوة الحق لا إله إلا الله محمد
238

رسول الله والتزم الصلوات الخمس بأركانها وأوصافها وأدى الزكاة بشروطها وصوم رمضان والحج إلى البيت الحرام إذا استطاع إليه سبيلا ويغتسل من الجنابة ويتوضأ من الحدث وخلع الأنداد من دون الله تحقق أن الله وحده لا شريك له
وإن كان نصرانيا قلت وإن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
وإن كان يهوديا قلت وإن العزير عبد الله وإن كان صابئا قلت وإن الملائكة عبيد الله ورسله الكرام وكتابه البررة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
وإن كان هنديا قلت وإن ماني باطل محض وبهتان صرف وكذب مختلق مزور وكذلك من كان على مذهب من الكفر اعتمدته بالبراءة منه بالذكر
وتقول بعده سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا (* (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * لقد أحصاهم وعدهم عدا لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) تعالى وتقدس عن ذلك كله والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا والتزم ألا يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يسرق ولا يزني ولا يشرب الخمر ولا يتكلم بالزور ويكون مع إخوانه المؤمنين كأحدهم ولا يسلمهم ولا يسلمونه ولا يظلمهم ولا يظلمونه وعلم أن للدين فرائض وشرائع وسننا فعاهد الله على أن يلتزم كل خصلة منها على نعتها بقلب سليم وسنن قويم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وشهد أنه من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وشهد على فلان ابن فلان من أشهد عليه وهو صحيح العقل في شهر كذا
وقد أدرك التقصير جملة من المؤرخين وكتبوا معالم الأمر دون وظائف النهي والنبي كان يذكر في بيعته الوجهين أو يغلب ذكر وظائف النهي كما جاء في القرآن
239

وكتبوا أنه أسلم طوعا وكتبوا وكان إسلامه على يدي فلان وكتبوا أنه اغتسل وصلى
فأما قولهم وكان إسلامه طوعا فباطل فإنه لو أسلم مكرها لصح إسلامه ولزمه وقتل بالردة وقد بينا ذلك في قوله (* (لا إكراه في الدين) *) والكفار إنما يقاتلون قسرا على الإسلام فيستخرج منهم بالسيف والإمام مخير بين قتل الأسرى أو مفاداتهم بالخمسة الأوجه المتقدمة فيهم فإذا أسلم سقط حكم السيف عنه
وفي الصحيح عجب ربكم من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل
وكذلك الذمي لو جنى جناية فخاف من موجبها القتل والضرب فأسلم سقط عنه الضرب والقتل وكان إسلامه كرها وحكم بصحته وإنما يكون الإكراه المسقط للإسلام إذا كان ظلما وباطلا مثل أن يقال للذمي ابتداء من غير جناية ولا سبب أسلم وإلا قتلتك فهذا لا يجوز فإن اسلم لم يلزمه وجاز له الرجوع إلى دينه عند أمنه مما خاف منه وإذا ادعى الذمي أنه أكره بالباطل لزمه إثبات ذلك فلا حاجة إلى ذكر الطواعية بوجه ولا حال في كل كافر والله أعلم
وأما قولهم كان إسلامه على يد فلان فأنى علقوها ويشبه أن يكونوا رأوه في كتب المخالفين لأنهم يذكرون ذلك في شروطهم لعلة أنهم يرون الرجل إذا أسلم على يدي الرجل كان له ولاؤه وذلك مما ليس بمذهب لنا وقد بينا فساده في مسائل الخلاف وغيرها
وأما قولهم اغتسل وصلى فليس يحتاج إليه في العقد المكتوب لأنه إن لم يكن وقت صلاة فلا غسل عليه ولا وضوء لأنه ليس عليه صلاة
وأما إذا كان وقت صلاة فيؤمر بالغسل والصلاة فيفعلهما ولا يكون ذلك مكتوبا والله أعلم
240

سورة الصف فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) *) الآية 2
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
روى أبو موسى في الصحيح أن سورة كانت على قدرها أولها سبح لله كان فيها (* (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) *) ستكتب شهادة في أعناقهم فتسألون عنها يوم القيامة وهذا كله ثابت في الدين
أما قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) *) فثابت في الدين لفظا ومعنى في هذه السورة ما تلوناه آنفا فيها
وأما قوله فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة فمعنى ثابت في الدين لفظا ومعنى فإن من التزم شيئا لزمه شرعا وهي
المسألة الثانية والملتزم على قسمين
أحدهما النذر وهو على قسمين
241

نذر تقرب مبتدأ كقوله لله علي صوم وصلاة وصدقة ونحوه من القرب فهذا يلزمه الوفاء به إجماعا
ونذر مباح وهو ما علق بشرط رغبة كقوله إن قدم غائبي فعلي صدقة أو علق بشرط رهبة كقوله إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة فاختلف العلماء فيه فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه الوفاء به وقال الشافعي في أحد أقواله إنه لا يلزمه الوفاء به وعموم الآية حجة لنا لأنها بمطلقها تتضمن ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط
وقد قال أصحابه إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة وهذا وإن كان من جنس القربة لكنه لم يقصد به القربة وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الإقدام على فعل
قلنا القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات وهذا تكلف في التزام هذه القربة مشقة لجلب نفع أو دفع ضر فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب
المسألة الثالثة
فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله إن تزوجت أعنتك بدينار أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا فهذا لازم إجماعا من الفقهاء
وإن كان وعدا مجردا فقيل يلزم بمطلقه وتعلقوا بسبب الآية فإنه روي أنهم كانوا يقولون لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهو حديث لا بأس به
242

وقد روى مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل
والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر
الآية الثانية
قوله تعالى (* (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) *) الآية 4
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (مرصوص) *))
أي محكم ثابت كأنه عقد بالرصاص وكثيرا ما تعقد به الأبنية القديمة عاينت منها بمحراب داود عليه السلام والمسجد الأقصى وغيرهما وهو كذلك بالصاد المهملة ويقال حديث مرسوس بالسين المهملة أي سيق سياقة محكمة مرتبة
المسألة الثانية قوله تعالى (* (يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) *))
وقد بينا في كتاب الأمد أن المحبة هي إرادة الثواب للعبد
المسألة الثالثة
في إحكام الصفوف جمال للصلاة وحكاية للملائكة وهيئة للقتال ومنفعة في أن تحمل الصفوف على العدو كذلك
وأما الخروج من الصف فلا يكون إلا لحاجة تعرض للإنسان أو في رسالة يرسلها الإمام ومنفعة تظهر في المقام كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها أو يتظاهر على التبرز للمبارزة
243

وفي الخروج عن الصف للمبارزة خلاف على قولين
أحدهما أنه لا بأس بذلك إرهابا للعدو وطلبا للشهادة وتحريضا على القتال
وقال أصحابنا لا يبرز أحد طالبا لذلك لأن فيه رياء وخروجا إلى ما نهى الله عنه من تمني لقاء العدو وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر كما كانت في حروب النبي يوم بدر وفي غزوة خيبر وعليه درج السلف
244

سورة الجمعة فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) *) الآية 9
فيها ست عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا) *))
ظاهر في أن المخاطب بالجمعة المؤمنون دون الكفار وقد بينا في كتب الأصول وغيرها وها هنا أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ومن جملتها الجمعة وإنما خص بهذه الآية المؤمنون دون الكفار تشريفا لهم بالجمعة وتخصيصا دون غيرهم وذلك لما ثبت عن النبي أنه قال في الصحيح نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فغدا لليهود وللنصارى بعد غد
المسألة الثانية الجمعة خاصة بهذه الأمة
ويوم الإسلام كما تقدم وأفضل الأيام روي أن جبريل جاء إلى النبي وبيده مرآة فيها نكتة سوداء فقال يا جبريل ما هذه المرآة قال يوم الجمعة قال ما هذه النكتة السوداء التي فيها قال الساعة وفيها تقوم
245

كما روي في الصحيح أن النبي قال خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط من الجنة وفيه تيب عليه وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه كما تقدم بيانه والله أعلم
المسألة الثالثة الجمعة فرض
لا خلاف في ذلك لأنها قرآنية سنية وهي ظهر اليوم أو بدل منه على ما بيناه في كتب الفقه ولا يلتفت إلى ما يحكى في ذلك لا سيما ما يؤثر عن سحنون أنه قال إن بعض الناس قال يجوز أن يتخلف العروس عنها فإن العروس عندنا لا يجوز له أن يتخلف عن صلاة الجماعة لأجل العرس فكيف عن صلاة الجمعة
ولها شروط وأركان في الوجوب والأداء فشروط الوجوب سبعة
العقل والذكورية والحرية والبلوغ والقدرة والإقامة والقرية
وأما شروط الأداء فهي
الإسلام فلا تصح من كافر والخطبة والإمام القيم للصلاة ليس الأمير وقد قال مالك كلمة بديعة إن لله فرائض في أرضه لا يضيعها إن وليها وال أو لم يلها
وقال علماؤنا من شروط أدائها المسجد المسقف ولا أعلم وجهه
ومنها العدد وليس له حد وإنما حده جماعة تتقرى بهم بقعة ومن أدائها الاغتسال وتحسين الشارة وتمام ذلك في كتب المسائل
246

المسألة الرابعة قوله تعالى (* (إذا نودي للصلاة) *))
النداء هو الأذان وقد بينا جملة منه في سورة المائدة وقد كان الأذان في عهد النبي في الجمعة كسائر الأذان في الصلوات يؤذن واحد إذا جلس على المنبر وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة ثم زاد عثمان على المنبر أذانا ثالثا على الزوراء حتى كثر الناس بالمدينة فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذن النبي ثم يخطب عثمان
وفي الحديث الصحيح أن الأذان كان على عهد النبي واحدا فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء وسماه في الحديث ثالثا لأنه أضافه إلى الإقامة فجعله ثالث الإقامة كما قال النبي بين كل أذانين صلاة لمن شاء يعني الأذان والإقامة فتوهم الناس أنه أذان أصلي فجعلوا المؤذنين ثلاثة فكان وهما ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم ورأيتهم بمدينة السلام يؤذنون بعد أذان المنار بين يدي الإمام تحت المنبر في جماعة كما كانوا يفعلون عندنا في الدول الماضية وكل ذلك محدث
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (للصلاة) *))
يعني بذلك الجمعة دون غيرها وقال بعض العلماء كون الصلاة الجمعة ها هنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة وهي قوله (* (من يوم الجمعة) *) وذلك يفيده لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو
247

نداء تلك الصلاة فأما غيرها فهو عام في سائر الأيام ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى ولا فائدة
المسألة السادسة
قال بعض علمائنا كان اسم الجمعة في العرب الأول عروبة فسماها الجمعة كعب ابن لؤي لاجتماع الناس فيها إلى كعب قال الشاعر
(لا يبعد الله أقواما هم خلطوا
* يوم العروبة أصراما بأصرام))
المسألة السابعة قوله تعالى (* (فاسعوا إلى ذكر الله) *))
اختلف العلماء في معناه على ثلاثة أقوال
الأول أن المراد به النية قاله الحسن
الثاني أنه العمل كقوله تعالى (* (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن) *) الإسراء 19 وقوله تعالى (* (إن سعيكم لشتى) *) الليل 4 وهو قول الجمهور
الثالث أن المراد به السعي على الأقدام
ويحتمل ظاهره رابعا وهو الجري والاشتداد وهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون والفقهاء الأقدمون وقرأها عمر فامضوا إلى ذكر الله فرارا عن ظن الجري والاشتداد الذي يدل عليه الظاهر
وقرأ ابن مسعود ذلك وقال لو قرأت فاسعوا لسعيت حتى سقط ردائي
وقرأ ابن شهاب فامضوا إلى ذكر الله سالكا تلك السبل وهو كله تفسير منهم لا قراءة قرآن منزل وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير
فأما من قال المراد بذلك النية فهو أول السعي ومقصوده الأكبر فلا خلاف فيه
وأما من قال إنه السعي على الأقدام فهو أفضل ولكنه ليس بشرط في الصحيح أن أبا عيسى بن جبير واسمه عبد الرحمن وكان من كبار الصحابة يمشي إلى
248

الجمعة راجلا وقال سمعت رسول الله يقول من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار فذلك فضل وأجر لا شرط
وأما من قال إنه العمل فأعمال الجمعة هي الاغتسال والتمشط والإدهان والتطيب والتزين باللباس وفي ذلك كله أحاديث بيانها في كتب الفقه وظاهر الآية وجوب الجميع لكن أدلة الاستحباب ظهرت على أدلة الوجوب فقضى بها حسبما بيناه في شرح الحديث
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (إلى ذكر الله) *))
اختلف الناس فيه فمنهم من قال إنه الخطبة قاله سعيد بن جبير
ومنهم من قال إنه الصلاة
والصحيح أنه واجب الجميع أوله الخطبة فإنها تكون عقب النداء وهذا يدل على وجوب الخطبة وبه قال علماؤنا إلا عبد الملك بن الماجشون فإنه رآها سنة والدليل على وجوبها أنها تحرم البيع ولولا وجوبها ما حرمته لأن المستحب لا يحرم المباح وإذا قلنا إن المراد بالذكر الصلاة فالخطبة من الصلاة والعبد يكون ذاكرا لله بفعله كما يكون مسبحا لله بفعله
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (وذروا البيع) *))
وهذا مجمع على العمل به ولا خلاف في تحريم البيع
واختلف العلماء إذا وقع ففي المدونة يفسخ
وقال المغيرة يفسخ ما لم يفت وقاله ابن القاسم في الواضحة وأشهب وقال في المجموعة البيع ماض
وقال ابن الماجشون يفسخ بيع من جرت عادته به
249

وقال الشافعي لا يفسخ بكل حال وأبو حنيفة يقول بالفسخ في تفصيل قريب من المالكية
وقد بينا توجيه ذلك في الفقه وحققنا أن الصحيح فسخه بكل حال لقوله عليه السلام في الصحيح من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
المسألة العاشرة
فإن كان نكاحا فقال ابن القاسم في العتبية لا يفسخ قال علماؤنا لأنه نادر ويقرب هذا من قول ابن الماشجون يفسخ بيع من جرت عادته بالبيع وقالوا إن الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ
والصحيح فسخ الجميع لأن البيع إنما منع للاشتغال به فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ ردعا
المسألة الحادية عشرة
لا تفتقر إقامة الجمعة إلى السلطان خلافا لأبي حنيفة وإنما تفتقر إلى الإمام وعليه تدل الآية لا على السلطان وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (إذا نودي للصلاة) *))
يختص بوجوب الجمعة على القريب الذي يسمع النداء فأما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب
واختلف الناس فيمن يأتي الجمعة من الداني والقاصي اختلافا متباينا بيناه في المسائل وغيرها من الخلافيات
وجملة القول فيه أن المحققين من علمائنا قالوا إن الجمعة تلزم من كان على ثلاثة أميال من المدينة لوجهين
250

أحدهما أن أهل العوالي كانوا يأتونها على عهد النبي وحكمته أن الصوت إذا كان رفيعا والناس في هدو وسكون فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال وهذا نظر وملاحظة إلى قوله تعالى (* (نودي) *) وهو الصحيح
فإن قيل فإن العبد والمرأة يسمعان النداء وقد قلتم لا تجب الجمعة عليهما
قلنا أما المرأة فلا يلزمها خطاب الجمعة لأنها ليست من أهل الجماعة ولهذا لا تدخل في خطابها
وأما العبد ففي صحيح المذهب لا تجب عليه لأن نقص الرق أثر بصفته حتى لم تقبل شهادته ولا يلزم عليه الفاسق لأن نقصه في فعله وهذا نقصه في ذاته فأشبه نقص المرأة
ومن النكت البديعة في سقوط الجمعة عن العبد قوله تعالى (* (وذروا البيع) *) فإنما خاطب الله بالجمعة من يبيع والعبد والصبي لا يبيعان فإن العبد تحت حجر السيد والصبي تحت حجر الصغر
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) *))
دليل على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء والنداء لا يكون إلا بعد دخول الوقت
وقد روي عن أبي بكر الصديق وأحمد بن حنبل أنها تصلى قبل الزوال وتعلق في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع كنا نصلي مع النبي ثم ننصرف وليس للحيطان ظل
وبحديث ابن عمر ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة وقد كان عمر بن الخطاب لا يخرج إلى الجمعة حتى يغشى ظل الجدار الغربي طنفسة عقيل بن أبي طالب التي كانت تطرح له عند الجدار وذلك بعد الزوال وحديث سلمة محمول على التكبير
251

بالجمعة وحديث ابن عمر دليل على أنهم كانوا يبكرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة وقبلها فلا يتناولون ذلك إلا بعد انقضاء الصلاة
وقد رأى مالك أن التبكير إلى الجمعة إنما يكون وقت الزوال بيسير وتأول قول النبي من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن الحديث أنه كله في ساعة واحدة وحمله سائر العلماء على ساعات النهار الزمانية الاثنتي عشرة ساعة المستوية أو المختلفة بحسب زيادات النهار ونقصانه وهو أصح لحديث ابن عمر ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة يريد لكثرة البكور إليها
المسألة الرابعة عشرة
فرض الله سبحانه السعي إلى الجمعة على كل مسلم ردا على من يقول إنها فرض على الكفاية لقول الله سبحانه (* (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) *) وثبت عن النبي أنه قال الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم وفي الحديث من ترك الجمعة طبع الله على قلبه بالنفاق
المسألة الخامسة عشرة
أوجب الله السعي إلى الجمعة مطلقا من غير شرط وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات لقوله تعالى (* (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) *) الآية وقال النبي لا يقبل الله صلاة بغير طهور
252

وأغربت طائفة بقوله عليه السلام غسل الجمعة واجب على كل محتلم
فقالت إن غسل الجمعة فرض وهذا باطل لما روى النسائي وأبو داود أن النبي قال من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل وهذا نص
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم راح إلى المسجد فأنصت ولم يلغ غفر له وهذا نص آخر
وفي الموطأ أن رجلا دخل يوم الجمعة المسجد والإمام عمر يخطب الحديث إلى أن قال ما زدت على أن توضأت فقال عمر والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل فأمر عمر بالغسل ولم يأمره بالرجوع إليه فدل على أنه محمول على الاستحباب فلم يمكن وقد تلبس بالفرض وهو الحضور والإنصات للخطبة أن يرجع عنه إلى السنة وذلك بمحضر فحول الصحابة وكبار المهاجرين حوالي عمر وفي مسجد النبي
المسألة السادسة عشرة
لا يسقط الجمعة كونها في يوم عيد خلافا لأحمد بن حنبل حين قال إذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها
وتعلق في ذلك بما روي أن عثمان أذن في يوم العيد لأهل العوالي أن يتخلفوا عن الجمعة وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه والأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام
253

الآية الثانية
قوله تعالى (* (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) *) الآية 11
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفي ذلك ثلاث روايات
الأولى ثبت في الصحيح كان رسول الله في صلاة الجمعة فدخلت عير إلى المدينة فالتفتوا فخرجوا إليها حتى لم يبق مع النبي غير اثني عشر رجلا فنزلت (* (وإذا رأوا تجارة أو لهوا) *) الآية كلها
الثانية روى محمد بن علي كان الناس قريبا من السوق فرأوا التجارة فخرجوا إليها وتركوا رسول الله يخطب قائما وكانت الأنصار إذا كانت لهم عرس يمرون بالكير يضربون به فخرج إليه ناس فغضب الله لرسوله
الثالثة من حديث مجاهد نزلت مع دحية الكلبي تجارة بأحجار الزيت فضربوا طبلهم يعرفون بإقبالهم فخرج إليهم الناس بمثله فعاتبهم الله ونزلت الآية وقال النبي لو تفرق
جمعهم لسال الوادي عليهم نارا
المسألة الثانية
في هذه الآية دليل على أن الإمام إنما يخطب قائما كذلك كان النبي يفعل وأبو بكر وعمر وخطب عثمان قائما حتى رق فخطب قاعدا
ويروى أن أول من خطب قاعدا معاوية ودخل كعب بن عجرة المسجد وعبد الرحمن بن الحكم يخطب قاعدا فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا والله تعالى يقول (* (وتركوك قائما) *) إشارة إلى أن فعل النبي في القربات على الوجوب ولكن في بيان المجمل الواجب لا خلاف فيه وفي الإطلاق مختلف فيه
254

وقد قيل إن معاوية إنما خطب قاعدا لسنه وقد كان النبي يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم ولا يتكلم في قعدته رواه جابر بن سمرة ورواه ابن عمر في كتاب البخاري وغيره
المسألة الثالثة
قال كثير من علمائنا إن هذا القول يوجب الخطبة لأن الله تعالى ذمهم على تركها والواجب هو الذي يذم تاركه شرعا حسبما بيناه في أصول الفقه وقال ابن الماجشون إنها سنة والصحيح ما قدمناه والله أعلم
255

سورة المنافقون فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) *) الآية 1
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى الشهادة تكون بالقلب
وتكون باللسان وتكون بالجوارح فأما شهادة القلب فهو الاعتقاد أو العلم على رأي قوم والعلم على رأي آخرين والصحيح عندي أنه الاعتقاد والعلم كما بيناه في أصول الفقه والدين
وأما شهادة اللسان فبالكلام وهو الركن الظاهر من أركانها وعليه تنبني الأحكام وتترتب الأعذار والاعتصام قال النبي أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله
256

المسألة الثانية قوله تعالى (* (والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) *)
إن البارئ سبحانه وتعالى علم وشهد فهذا علمه وشهادته قوله تعالى (* (شهد الله أنه لا إله إلا هو) *) آل عمران 18 وأمثاله
وقد يقال شهادة الله على ما كان من الشهادات في ذات الله يقال والله يشهد إن المنافقين لكاذبون في قولهم بألسنتهم ما لا يعتقدونه في قلوبهم فخدعوا وغروا والله خادعهم وماكر بهم وهو خير الماكرين
المسألة الثالثة
قال بعض الشافعية إن قول الشافعي إن الرجل إذا قال في يمينه أشهد بالله يكون يمينا بنية اليمين
ورأى أبو حنيفة ومالك أنه دون النية يمين فليس الأمر كما زعم الشفعوي أنها تكون يمينا بالنية ولا أرى المسألة إلا هكذا في أصلها وإنما غلط هذا العالم أو غلط في النقل
وقد قال مالك إذا قال الرجل أشهد إنه يمين إذا أراد بالله
الآية الثانية
قوله تعالى (* (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون) *) الآية 2
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله تعالى (* (اتخذوا أيمانهم جنة) *)
ليس يرجع إلى قوله () وإنما يرجع إلى سبب الآية الذي
257

المسألة الأولى
روى الترمذي وغيره عن ابن عباس أنه قال من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب فيه الزكاة فلم يفعل شيئا سأل الرجعة عند الموت فقال رجل يا بن عباس اتق الله إنما سأل الرجعة الكفار قال سأتلو عليك بذلك قرآنا (* (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون) *) المنافقون 9, 1, 11 قال فما يوجب الزكاة قال إذا بلغ المال مائتي درهم فصاعدا قال فما يوجب الحج قال الزاد والبعير
المسألة الثانية
أخذ ابن عباس بعموم الآية في الإنفاق الواجب خاصة دون النفل وهو الصحيح لأن الوعيد إنما يتعلق بالواجب دون النفل
وأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما وتقديرا بالمائتين
وأما القول في الحج ففيه إشكال لأنا إن قلنا إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل أدائه خلاف بين العلماء بيناه في أصول الفقه فلا تخرج الآية عليه
وإن قلنا إن الحج على الفور فالآية على العموم صحيح لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات
وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف بين العلماء وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها والمختلف عليها وإنما يدخل في المتفق عليه
والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق كيف تصرف بالإجماع أو بنص القرآن لأجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد
259

سورة التغابن فيها خمس آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) *) الآية 9
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قال علماء التفسير إن المراد به غبن أهل الجنة أهل النار يوم القيامة المعنى إن أهل الجنة أخذوا الجنة وأخذ أهل النار على طريق المبادلة فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر والجيد بالرديء والنعيم بالعذاب على من أخذ الأشد وحصل على الأدنى
فإن قيل فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها
قلنا وهي
المسألة الثانية
إنما هذا مثل لأن الله سبحانه خلق الخلق منقسمين على دارين دنيا وآخرة وجعل الدنيا دار عمل وجعل الآخرة دار جزاء على ذلك العمل وهي الدار المطلوبة التي لأجلها خلق الله الخلق ولولا ذلك لكان عبثا وعنده وقع البيان بقوله
260

سبحانه (* (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق) *) المؤمنون 115, 116 يعني عن ذلك وعن أمثاله مما هو منزه عنه مقدس منه وبين سبحانه النجدين وخلق للقلب المعرفة والحواس سبلا لها والعقل والشهوة يتنازعان للعلائق والملك يعضد العقل والشيطان يحمل الشهوة والتوفيق قرين الملك والخذلان قرين الشيطان والقدر من فوق ذلك يحمل العبد إلى ما كتب له من ذلك وقد فرق الخلق فريقين في أصل المقدار وكتبهم بالقلم الأول في اللوح المحفوظ فريقين فريق للجنة وفريق للنار ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار فإن سبق التوفيق حصل العبد من أهل الجنة وكان في الجنة وإن سبق الخذلان على العبد الآخر فيكون من أهل النار فيحصل الموفق على منزل المخذول ويحصل للمخذول منزل الموفق في النار فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن
والأمثال موضوعة للبيان في حكم القرآن واللغة وذلك كله مجموع من نشر الآثار وقد جاءت متفرقة في هذا الكتاب وغيره
المسألة الثالثة
استدل علماؤنا بقوله تعالى (* (ذلك يوم التغابن) *) على أنه لا يجوز الغبن في معاملة الدنيا لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة فقال (ذلك يوم التغابن) وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث واختاره البغداديون واحتجوا عليه بوجوه منها قوله لحبان بن منقذ إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا وهذا فيه نظر طويل بيناه في مسائل الخلاف نكتته أن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدنيا إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز منه لأحد فمضى في البيوع إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا لأنه لا يخلو منه حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به والفرق بين
261

القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم فقدر علماؤنا الثلث لهذا الحد إذ رأوه حدا في الوصية وغيرها ويكون معنى الآية على هذا ذلك يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل أو ذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا لأن تغابن الدنيا يستدرك بوجهين إما برد في بعض الأحوال على قول بعض العلماء وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى
فأما من خسر الجنة فلا درك له أبدا وقد قال بعض علماء الصوفية إن الله كتب الغبن على الخلق أجمعين ولا يلقى أحد ربه إلا مغبونا لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب وفي الأثر قال النبي لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إذ لم يحسن وإن كان محسنا إذ لم يزدد والقول متشعب والقدر الذي يتعلق منه بالأحكام هذا فاعلموه
الآية الثانية
قوله تعالى (* (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم) *) الآية 11
قال القاضي أدخل علماؤنا هذه الآية في فنون الأحكام وقالوا إن ذلك الرضا بالقضاء والتسليم لما ينفذ من أمر الله والمقدار الذي يتعلق منه بالأحكام أن الصبر على المصائب لعلم العبد بالمقادير من أعمال القلوب وهذا خارج عن سبل الأحكام لكن للجوارح في ذلك أعمال من دمع العين والقول باللسان والعمل بالجوارح فإذا هدأ القلب
جرى اللسان بالحق وركدت الجوارح عن الخرق ولو استرسل الدمع لم يضر قال النبي مبينا لذلك تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون
262

وقد بينا حكم النياحة وما يتعلق بها من الأعمال المكروهة فيما تقدم فلا وجه لإعادتها
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) *) الآية 14
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
قد بينا العداوة ومقابلتها الولاية في كتاب الأمد الأقصى وغيره وحققنا أن الولاية هي القرب وأن العداوة هي البعد وأوضحنا أن القرب والبعد يكونان حقيقة بالمسافة وذلك محال في حق الإله ويكونان بالمودة والمنزلة وذلك جائز في حق الإله وكلا الوجهين يجوز على الخلق
والمراد بالعداوة ها هنا بعد المودة والمنزلة فإن الزوجة قريب والولد قريب بحكم المخالطة والصحبة ولكنهما قد يقربان بالألفة الحسنة والعشرة الجميلة فيكونان وليين وقد يبعدان بالنفرة والفعل القبيح فيكونان عدوين وعن هذا أخبر الله سبحانه ومنه حذر وبه أنذر
المسألة الثانية
ثبت عن ابن عباس من طريق الترمذي وغيره أنه سأله رجل عن هذه الآية (* (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) *) قال هؤلاء رجال اسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي وأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي فلما أتوا رسول الله ورأوا الناس فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله عز وجل (* (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) *)
263

المسألة الثالثة
هذا يبين وجه العداوة فإن العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا لفعله فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة
وفي صحيح مسلم عن النبي أنه قال إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك أهلك ومالك فخالفه فهاجر فقعد له في طريق الجهاد فقال أتجاهد فتقتل نفسك وتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل فحق على الله أن يدخله الجنة
وقعود الشيطان يكون بوجهين
أحدهما يكون بالوسوسة
والثاني بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب قال الله سبحانه (* (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) *) فصلت 25 وفي حكمة عيسى عليه السلام من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا
وفي صحيح الحديث بيان أدنى من ذلك في حال العبد قال النبي تعس عبد الدينار تعس عبد الرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد القطيفة تعس فانتكس وإذا شيك فلا انتقش ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد
المسألة الرابعة
كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدوا كذلك المرأة يكون لها ولدها وزوجها عدوا بهذا المعنى بعينه
264

وعموم قوله (* (من أزواجكم) *) يدخل فيه الذكر والأنثى كدخولهما في كل آية
المسألة الخامسة قوله (* (فاحذروهم) *))
معناه على أنفسكم
والحذر على النفس يكون بوجهين إما لضرر في البدن وإما لضرر في الدين وضرر البدن يتعلق بالدنيا وضرر الدين يتعلق بالآخرة فحذر الله العبد من ذلك وأنذره به
المسألة السادسة قوله (* (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) *))
قال علماء التفسير المراد بذلك أن قوما من أهل مكة أسلموا ومنعهم أزواجهم وأولادهم من الهجرة فمنهم من قال لئن رجعت لأقتلنهم ومنهم من قال لئن رجعت لا ينالون مني خيرا أبدا فأنزل الله الآية إلى قوله (* (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) *))
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) *) الآية 15
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
روى الترمذي وغيره واللفظ للترمذي قال كان النبي يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله من المنبر
فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال صدق الله إنما أموالكم
265

وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما
المسألة الثانية
الفتنة ما بيناها فيما تقدم وهي الابتلاء فالمعنى أن الله ابتلى العبد بالمال والأهل لينظر أيطيعه أم يعصيه حسبما ثبت في علمه وتقدم في حكمه فإن مال العبد إليهما خسر وإن صبر على العزوف عنهما وأناب إلى إيثار جانب الطاعة عليهما فالله عنده أجر عظيم وهي الجنة بعينها التي أخبر الله عنها بقوله (* (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم) *) الحجرات 3 وقد قال الشاعر
(وقد فتن الناس في دينهم
* وخلى ابن عفان شرا طويلا))
المسألة الثالثة قوله (* (والله عنده أجر عظيم) *))
يعني الجنة فهي الغاية ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين
وعندي ما هو أعظم منها وهو ما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال واللفظ للبخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا اسخط عليكم بعده أبدا ولا شك في أن الرضا غاية الآمال وقد أنشد بعض الصوفية في تحقيق ذلك
(امتحن الله به خلقه
* فالنار والجنة في قبضته)
(فهجره أعظم من ناره
* ووصله أطيب من جنته))
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) *) الآية 16
266

فيها ثمان مسائل
المسألة الأولى في التقوى
قد بينا حقيقة التقوى فيما تقدم فلا وجه لإعادته
المسألة الثانية
روى زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال في قول الله عز وجل (* (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *) آل عمران 12 يقول مطيعين قال فلم يدر أحد ما حق تقاته من عظم حقه تبارك وتعالى ولو اجتمع أهل السماوات والأرض على أن يبلغوا حق تقاته ما بلغوا قال فأراد الله أن يعلم خلقه قدرته ثم نسخها وهون على خلقه بقوله تبارك وتعالى (* (فاتقوا الله ما استطعتم) *) فلم يدع لهم مقالا
فلو قلت لرجل اتق الله حق تقاته رأى أنك كلفته شططا من أمره فإذا قلت اتق الله ما استطعت رأى أنك لم تكلفه شططا وهي قوله (* (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) *) إبراهيم 34 نسختها الآية التي في النحل (* (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) *) النحل 18
المسألة الثالثة
ثبت عن النبي في الصحيح أنه قال إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وقد ذكرناه في مواضع وها هنا وفيما تقدم وبينا حكمة ربط الأمر بالاستطاعة وإطلاق النهي على الجملة وها هنا قد قرن النهي بالاستطاعة أيضا فقال (* (فاتقوا الله ما استطعتم) *)
وعموم التقوى يتعلق بالأمر والنهي ومن النهي ما يقف على الاستطاعة وهو إذا تعلق بأمر مفعول وقد حققناه في شرح الحديث وأصول الفقه
267

المسألة الرابعة
إن جماعة من المفسرين رووا أن هذه الآية (* (اتقوا الله حق تقاته) *) آل عمران 12 لما نزلت قام قوم حتى تورمت أقدامهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى (* (فاتقوا الله ما استطعتم) *) فنسخ ذلك وقد بيناه فيما تقدم وفي القسم الثاني من علوم القرآن وهو قسم الناسخ والمنسوخ
المسألة الخامسة قوله (* (واسمعوا وأطيعوا) *)
فيه قولان
أحدهما أصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله وهو الأصل في السماع
الثاني أن معناه اقبلوا ما تسمعون وعبر عنه بالسماع لأنه فائدته على أحد قسمي المجاز الذي بيناه في غير موضع
المسألة السادسة قوله (* (وأطيعوا) *))
وقد تقدم بيان الطاعة وأنها الانقياد
المسألة السابعة (* (وأنفقوا) *))
قيل هو الزكاة وقيل هو النفقة في النفل وقيل نفقة الرجل على نفسه وإنما أوقع قائل ذلك فيه قوله (* (لأنفسكم) *) وخفي عليه أن نفقة الفرض والنفل على الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه قال الله تعالى (* (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) *) الإسراء 7 وكل ما يفعله الرجل من خير فلنفسه
والصحيح أنها عامة روي عن النبي أنه قال له رجل عندي دينار قال أنفقه على نفسك قال عندي آخر قال أنفقه على عيالك قال عندي آخر قال أنفقه على ولدك قال عندي آخر قال تصدق به فبدأ بالنفس والأهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك وهو الأصل في الشرع
المسألة الثامنة قوله تعالى (* (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) *))
تقدم بيانه في سورة الحشر
268

سورة الطلاق فيها خمس آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *) الآية 1
فيها ست عشرة مسألة
المسألة الأولى في سبب نزولها
وفيها قولان
أحدهما أن النبي طلق حفصة فلما أتت أهلها أنزل الله الآية وقيل له راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك في الجنة
الثاني أنها نزلت في عبد الله بن عمر أو عبد الله بن عمرو وعيينة بن عمرو وطفيل بن الحارث وعمرو بن سعيد بن العاص وهذا كله وإن لم يكن صحيحا فالقول الأول أمثل والأصح فيه أنها بيان لشرع مبتدأ
المسألة الثانية قوله تعالى (* (يا أيها النبي) *))
فيه قولان
أحدهما أنه خطاب للنبي عليه السلام بلفظ الإفراد على الحقيقة له وقوله (* (طلقتم) *) خبر عنه على جهة التعظيم بلفظ الجمع
269

الثاني أنه خطاب للنبي والمراد به أمته وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب وذلك لغة فصيحة كما قال (* (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) *) يونس 22 تقديره يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وهذا هو قولهم إن الخطاب له وحده لفظا والمعنى له وللمؤمنين وإذا أراد الله الخطاب للمؤمنين لاطفه بقوله يا أيها النبي وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال يا أيها الرسول
وقيل المراد به نداء النبي تعظيما ثم ابتدأ فقال (* (إذا طلقتم النساء) *) المائدة 9 فذكر المؤمنين على معنى تقدمتهم وتكرمتهم ثم افتتح فقال (* (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام) *) الآية
قال القاضي الصحيح أن معناها يا أيها النبي إذا طلقت أنت والمخبرون الذين أخبرتهم بذلك النساء فليكن طلاقهن كذا وساغ هذا لما كان النبي يقضي منبأ وهذا كثير في اللغة صحيح فيها
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (لعدتهن) *))
يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن من الأزواج لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله (* (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) *) الأحزاب 49
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (لعدتهن) *))
قيل المعنى في عدتهن واللام تأتي بمعنى في قال الله تعالى (* (يا ليتني قدمت لحياتي) *) الفجر 24 أي في حياتي وهذا فاسد حسبما بيناه في رسالة الملجئة وإنما المعنى فيه فطلقوهن لعدتهن التي تعتبر واللام على أصلها كما تقول افعل كذا لكذا ويكون مقصود الطلاق والاعتداد مآله الذي ينتهي إليه وكذلك قوله تعالى (* (يا ليتني قدمت لحياتي) *) الفجر 24 يعني حياة القيامة التي هي الحياة الحقيقية الدائمة
270

المسألة الخامسة ما هذه العدة
فقال مالك والشافعي هو زمان الطهر وقال أبو حنيفة هو زمان الحيض وقد بينا ذلك في سورة البقرة
ولما أراد الله تعالى أن يبين أنها الطهر قرأها النبي لقبل عدتهن تفسيرا لا قرآنا رواه ابن عمر وابن مسعود وابن عباس وثبت في الصحيحين عن النبي من رواية ابن عمر
أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله فتغيظ رسول الله فقال مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء وهذا بالغ قاطع لأجل هذا قال علماؤنا وهي
المسألة السادسة إن الطلاق على ضربين
سنة وبدعة واختلف في تفسيره فقال علماؤنا طلاق السنة ما جمع سبعة شروط وهي أن يطلقها واحدة وهي ممن تحيض طاهرا لم يمسها في ذلك الطهر ولا تقدمه طلاق في حيض ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه وخلا عن العوض وهذه الشروط السبعة مستقرآت من حديث ابن عمر المتقدم حسبما بيناه في شرح الحديث ومسائل الفقه
وقال الشافعي طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يكن بدعة
وقال أبو حنيفة طلاق السنة أن يطلقها في كل قرء طلقة يقال ذلك لفقه يتحصل وهو أن السنة عندنا في الطلاق تعتبر بالزمان والعدد وفارق مالك أبا حنيفة بأن مالكا قال يطلقها واحدة في طهر لم يمسها فيه ولا يتبعه طلاق في
271

العدة ولا يكون الطهر تاليا لحيض وقع في الطلاق لقول النبي مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض فتطهر فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء وقال الشعبي يجوز أن يطلقها في طهر جامعها فيه
وتعلق الشافعي بظاهر قوله (* (فطلقوهن لعدتهن) *) وهذا عام في كل طلاق كان واحدة أو انثتين وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ولم يعتبر العدد وهذه غفلة عن الحديث الصحيح فإنه قال فيه مره فليراجعها وهذا يدفع الثلاث
وفي الحديث أنه قال أرأيت لو طلقها ثلاثا قال له حرمت عليك وبانت منك بمعصية
وقال أبو حنيفة ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء وهو مذهب الشافعي ولولا قوله بعد ذلك لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية وكذلك قال أكثر العلماء وهو نمط بديع لهم
وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية كما قالوا ولكن الحديث فسرها كما قلنا وبيانه التام في شرح الحديث وكتب المسائل
وأما قول الشعبي إنه يجوز طلاق في طهر جامع فيه فيرده حديث ابن عمر بنصه ومعناه أما نصه فقد قدمناه وأما معناه فلأنه إذا منع من طلاق الحائض لعدم الاعتداد به فالطهر المجامع فيه أولى بالمنع لأنه يسقط الاعتداد به وبالحيض التالي له
المسألة السابعة قوله تعالى (* (وأحصوا العدة) *))
معناه احفظوها تقديره احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق حتى إذا انفصل المشروط منه وهو الثلاثة قروء في قوله (* (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *) البقرة 228 حلت للأزواج
وهذا يدل على أن العدة هي بالأطهار وليست بالحيض ويؤكده ويفسره قراءة
272

النبي لقبل عدتهن وقبل الشيء بعضه لغة وحقيقة بخلاف استقباله فإنه يكون غيره
المسألة الثامنة من المخاطب بأمر الإحصاء
وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنهم الأزواج
الثاني أنهم الزوجات
الثالث أنهم المسلمون
والصحيح أن المخاطب بهذا اللفظ الأزواج لأن الضمائر كلها من (* (طلقتم) *) و (أحصوا) و (لا تخرجوهن) على نظام واحد يرجع إلى الأزواج ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق بالزوج لأن الزوج يحصي ليراجع وينفق أو يقطع وليسكن أو يخرج وليلحق نسبه أو يقطع وهذه كلها أمور مشتركة بينه وبين المرأة وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك وكذلك الحاكم يفتقر إلى الإحصاء للعدة للفتوى عليها وفصل الخصومة عند المنازعة فيها وهذه فوائد الإحصاء المأمور به
المسألة التاسعة
فيها لا يتم الإحصاء إلا به وهو معرفة أسباب العدة وأنواعها
فأما أسبابها فأربعة وهي الطلاق والفسخ والوفاة وانتقال الملك والملك والوفاة مذكوران في القرآن والفسخ محمول على الطلاق لأنه في معناه أو هو هو والاستبراء مذكور في السنة وليس بعدة لأنه حيضة واحدة وسميت مدة الاستبراء عدة لأنها مدة ذات عدد تعتبر بحل وتحريم
وأما محلها فهي الحرة والأمة
وأما أنواعها فهي أربعة ثلاثة أقراء كما قال الله تعالى في سورة البقرة وثلاثة أشهر ووضع الحمل كما جاء في هذه السورة وسنة كما جاء في السنة فهذه جملتها
273

وفيها تفاصيل عظيمة باختلاف الأسباب وتعارضها واختلاف أحوال النساء والتدخل الطارئ عليها والعوارض اللاحقة لها بيانها في مسائل الفقه ومحصولها اللائق بهذا الفن الذي تصدينا له أربعة أقسام
القسم الأول المعتادة
القسم الثاني متأخر حيضها لعذر
القسم الثالث الصغيرة
القسم الرابع الآيسة
فأما المعتادة فعدتها ثلاثة قروء وتحل إذا طعنت في الحيضة الثالثة لأن الأطهار هي الأقراء وقد كملت ثلاثة
وأما من تأخر حيضها لمرض فقال مالك وابن القاسم وعبد الله وأصبغ تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة وقال أشهب هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة وقد طلق حبان بن منقذ امرأته وهي ترضع فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع ثم مرض حبان فخاف أن ترثه إن مات فخاصمها إلى عثمان وعنده علي وزيد فقالا نرى أن ترثه لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها تسعة أشهر ثم ثلاثة فتحل ما لم ترتب بحمل فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام أو خمسة أو سبعة على اختلاف الروايات عن علمائنا ومشهورها خمسة أعوام فإن تجاوزتها حلت
وقال أشهب لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة وهو الصحيح لأنه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة وأكثر من ذلك
وقد روي عن مالك مثله
وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال
الأول قال ابن المسيب تعتد سنة وهو مشهور قول علمائنا
وقال ابن القاسم تعتد ثلاثة أشهر بعد تسعة
274

وقال الشافعي في أحد أقواله عدتها ثلاثة أشهر وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين وهو الصحيح عندي
وأما المرتابة فقاسها قوم عليها والصحيح أنها تبقى أبدا حتى تزول الريبة
وأما الصغيرة فعدتها ثلاثة أشهر كيفما كانت حرة أو أمة مسلمة أو كتابية في المشهور عندنا
وقال ابن الماجشون إن كانت أمة فعدتها شهر ونصف وقال آخرون شهران والصحيح أن الحيضة الواحدة تدل على براءة الرحم والثانية تعبد فلذلك جعلت قرأين على النصف من الحرة على ما تقدم في سورة البقرة فانظره هنالك مجردا
وأما الأشهر فإنها دليل على براءة الرحم لأجل تقدير المدة التي يخلق الله فيها الولد وهذا تستوي فيه الحرة والأمة ويعارضه أن عدة الوفاة عندهم شهران وخمس ليال وأجل الإيلاء شهران وأجل العنة نصف عام والأحكام متعارضة
وأما الآيسة فهي مثلها وإذا أشكل حال اليائسة كالصغيرة لقرب السنين وغيرهما من الجهتين فإن عدتها ثلاثة أشهر ولا يعتبر بالدم إلا أن ترتاب مع الأشهر فتذهب بنفسها إلى زوال الريبة
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن) *))
جعل الله للمطلقة المعتدة السكنى فرضا واجبا وحقا لازما هو لله سبحانه وتعالى لا يجوز للزوج أن يمسكه عنها ولا يجوز لها أن تسقطه عن الزوج وهذه مسألة عسيرة على أكثر المذاهب
قال مالك لكل مطلقة السكنى كان الطلاق واحدا أو ثلاثا
وقال قتادة وابن أبي ليلى لا سكنى إلا للرجعية وقال الضحاك لها أن تترك
275

السكنى فجعله حقا لها وظاهر القرآن أن السكنى للمطلقة الرجعية لقوله تعالى (* (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *) وإنما عرفنا وجوبه لغيرها من دليل آخر بيناه في مسائل الخلاف وشرح الحديث وذكرنا التحقيق فيه وأما قول الضحاك فيرده قول الله تعالى (* (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن) *) وهذا نص
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (من بيوتهن) *))
إضافة إسكان وليست إضافة تمليك كقوله تعالى (* (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) *) الأحزاب 34 وقد بينا ذلك في سورة الأحزاب
وقوله (* (لا تخرجوهن) *) يقتضي أن يكون حقا على الأزواج ويقتضي قوله (* (ولا يخرجن) *) أنه حق على الزوجات
المسألة الثانية عشرة
ذكر الله الإخراج والخروج عاما مطلقا ولكن روى مسلم عن جابر أن النبي أذن لخالته في الخروج في جداد نخلها
وفي صحيح البخاري ومسلم معا قال النبي لفاطمة بنت قيس وكان زوجها طلقها آخر ثلاث تطليقات لا نفقة لك ولا سكنى
وقالت عائشة لا خير لها في ذكر هذا الحديث
وفي مسلم قالت فاطمة لرسول الله أخاف أن يقتحم علي قال أخرجي
وفي البخاري عن عائشة كان في مكان وحش فخيف عليها وقال مروان حيث عيب عليه نقل بنت عبد الرحمن بن الحكم حين طلقها يحيى بن سعيد بن العاص وذكر حديث
فاطمة إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر
276

وثبت في الصحيح أن عمر قال في حديث فاطمة بنت قيس لا ندع كتاب الله ولا سنة نبينا لقول امرأة لا تدري أحفظت أم نسيت فأنكر عمر وعائشة حديث فاطمة بنت قيس لكن عمر رده بعموم القرآن وردته عائشة بعلة توحش مكانها وقد قيل إنه لم يخصص عموم القرآن بخبر الواحد وقد بينا ذلك في أصول الفقه
وفي الصحيح أن فاطمة بنت قيس قالت بيني وبينكم كتاب الله قال الله تعالى (* (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *) فأي أمر يحدث بعد الثلاث فتبين أن الآية في تحريم الإخراج والخروج إنما هو في الرجعية وصدقت وهكذا هو في الآية الأولى ولكن ذلك في المبتوتة ثبت من الآية الأخرى وهو قوله تعالى (* (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) *) الطلاق 6 حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وجاء من هذا أن لزوم البيت للمعتدة شرع لازم وأن الخروج للحث والبذاء والحاجة إلى المعاش وخوف العورة من المسكن جائز بالسنة والله أعلم
المسألة الثالثة عشرة في صفة الخروج
أما الخروج لخوف البذاء والتوحش والحاجة إلى المعاش فيكون انتقالا محضا
وأما الخروج للتصرف للحاجات فيكون بالنهار دون الليل إذ لا سبيل لها إلى المبيت عن منزلها وإنما تخرج بالإسفار وترجع قبل الإغطاش وتمكن فحمة الليل قال مالك ولا تفعل ذلك دائما وإنما أذن لها فيه إن احتاجت إليه وإنما يكون خروجها في العدة كخروجها في النكاح لأن العدة فرع النكاح لكن النكاح يقف فيه على إذن الزوج ويقف في العدة على إذن الله وإذن الله إنما هو بقدر العذر الموجب له بحسب الحاجة إليه
المسألة الرابعة عشرة
لما قال الله تعالى (* (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن) *) وكان هذا في المطلقة الرجعية كما بينا كانت السكنى حقا عليهن لله وكانت النفقة حقا على
277

الأزواج فسقطت بتركهن وكان ذلك دليلا على أن النفقة من أحكام الرجعة والسكنى من حقوق العدة
المسألة الخامسة عشرة قوله تعالى (* (إلا أن يأتين بفاحشة) *))
اختلف الناس في ذلك على أربعة أقوال
الأول أنه الزنا
الثاني أنه البذاء قاله ابن عباس وغيره
الثالث أنه كل معصية واختاره الطبري
الرابع أنه الخروج من البيت واختاره ابن عمر
فأما من قال إنه الخروج للزنا فلا وجه له لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام
وأما من قال إنه البذاء فهو معتبر في حديث فاطمة بنت قيس
وأما من قال إنه كل معصية فوهم لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج
وأما من قال إنه الخروج بغير حق فهو صحيح وتقدير الكلام لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعديا
وتحقيق القول في الآية أن الله تعالى أوجب السكنى وحرم الخروج والإخراج تحريما عاما وقد ثبت في الحديث الصحيح ما بيناه ورتبنا عليه إيضاح الخروج الممنوع من الجائز والله أعلم
المسألة السادسة عشرة قوله تعالى (* (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *))
قال جميع المفسرين أراد بالأمر ها هنا الرغبة في الرجعة ومعنى القول التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث فإنه إذا طلق ثلاثا أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع ولا يجد عند إرادة الرجعة سبيلا وكما أن
278

قوله (* (فطلقوهن لعدتهن) *) فيه الأمر بالطلاق في طهر لم يجامع فيه لئلا يضر بالمرأة في تطويل العدة فكذلك قوله (* (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *) فيه النهي عن طلاق الثلاث لئلا تفوت الرجعة عندما يحدث له من الرغبة
الآية الثانية
قوله تعالى (* (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة) *) الآية 2
فيها ثلاث عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله تعالى (* (فإذا بلغن أجلهن) *))
يعني قاربن بلوغ أجلهن يعني الأجل المقدر في انقضاء العدة والعبارة عن مقاربة البلوغ بالبلوغ سائغ لغة ومعلوم شرعا ومنه ما ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم كان لا ينادي حتى يقال له أصبحت يعني قاربت الصبح ولو كان لا ينادي حتى يرى وكيله الصبح عليه ثم يعلمه هو فيرقى على السطح بعد ذلك يؤذن لكان الناس يأكلون جزءا من النهار بعد طلوع الفجر فدل على أنه إنما كان يقال له أصبحت أي قاربت فينادي فيمسك الناس عن الأكل في وقت ينعقد لهم فيه الصوم قبل طلوع الفجر أو معه وفي
معناه قول الشماخ
(وتشكو بعين ما أكل ركابها
* وقيل المنادي أصبح القوم أدلج)
يعني قارب القوم الصباح
المسألة الثانية قوله تعالى (* (فأمسكوهن) *))
يعني بالرجعة أو فارقوهن وهي
279

المسألة الثالثة
معناه أو اتركوهن على حكم الطلاق الأول فيقع الفراق عند انقضاء العدة بالطلاق الماضي لترك الإمساك بالرجعة إذ قد وقع الفراق به وإنما له الاستدراك بالتمسك بالتصريح بالرجعة المناقض للتصريح بالطلاق وسمي التمادي على حكم الفراق وترك التمسك بالتصريح بالرجعة فراقا مجازا
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (بمعروف) *)
فيه قولان
أحدهما بمعلوم من الإشهاد
الثاني القصد إلى الخلاص من النكاح عند تعذر الوصلة مع عدم الألفة لا بقصد الإضرار حسبما كان يفعله أهل الجاهلية كانوا يطلقون المرأة حتى إذا أشرفت على انقضاء العدة أشهد برجعتها حتى إذا مر لذلك مدة طلقها هكذا كلما ردها طلقها فإذا أشرفت على انقضاء العدة راجعها لا رغبة لكن إضرارا وإذاية فنهوا أن يمسكوا أو يفارقوا إلا بالمعروف كما تقدم في سورة البقرة في قوله (* (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) *) البقرة 231 وقوله (* (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *) البقرة 229
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (فإذا بلغن) *))
يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا أدعت ذلك فيما يمكن على ما بيناه في قوله (* (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) *) البقرة 228 في سورة البقرة
المسألة السادسة قوله تعالى (* (فأمسكوهن بمعروف) *))
اختلف العلماء فيه كاختلافهم في قوله (* (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) *) البقرة 228 وقد بيناه في سورة البقرة تمامه أن الزوج له الرجعة في العدة بلا خلاف والرجعة تكون بالقول والفعل عندنا وبه قال أبو حنيفة والليث وقال
280

الشافعي لا تصح إلا بالقول وقد اختلف فيه التابعون قديما بيد أن علماءنا قالوا إن الرجعة لا تكون بالفعل حتى تقترن به النية فيقصد بالوطء أو القبلة الرجعة وبالمباشرة كلها
وقال أبو حنيفة والليث الوطء مجردا رجعة وهذا ينبني على أصل هو
المسألة السابعة هل الرجعية محرمة الوطء أم لا
فعندنا أنها محرمة الوطء وبه قال ابن عمر وعطاء
وقال أبو حنيفة وطؤها مباح وبه قال أحمد في إحدى روايتيه
واحتجوا بأنه طلاق لا يقطع النكاح فلم يحرم الوطء كما لو قال إن قدم زيد فأنت طالق وهذا لا يصح لأن الطلاق المعلق بقدوم زيد لم يقع وهذا طلاق واقع فيجب أن يؤثر في تحريم الوطء المقصود من العقد لا سيما وهي جارية به إلى بينونة خارجة عن العصمة فإذا ثبت أنها محرمة الوطء فلا بد من قصد الرد وحينئذ يصح معه الرد
قال الشافعي لا تكون الرجعة بالفعل وإنما تكون بالقول ولا معتمد له من القرآن والسنة ولنا كل ذلك فأما القرآن فقوله (* (فأمسكوهن بمعروف) *) وهذا ظاهر في القول والفعل إذ الإمساك يكون بهما عادة ويكون شرعا ألا ترى أن خيار المعتقة يكون إمساكها بالقول بأن تقول اخترت وبالفعل بأن تمكن من وطئها ولذلك قال تعالى (* (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) *) البقرة 228 والرد يكون تارة بالقول وتارة بالفعل ومن عجيب الأمر أن للشافعي قولين في قول الرجل للمطلقة الرجعية أمسكتها هل يكون رجعة أم لا قال القاضي أبو مظفر الطبري لا يكون رجعة لأن استباحة الوطء لا تكون إلا بلفظين
281

وهما قوله راجعت أو رددت كما يكون النكاح بلفظين وهما قوله زوجت أو نكحت وهذا من ركيك الكلام الذي لا يليق بمنصب ذلك الإمام من وجهين
أحدهما أنه تحكم
والثاني أنه لو صح أن يقف على لفظين لكان وقوفه على لفظي القرآن وهما رددت وأمسكت اللذان جاءا في سورة البقرة وها هنا أولى من لفظ راجعت الذي لم يأت في القرآن بيد أنه جاء في السنة في قول النبي لعمر مره فليراجعها كما جاء في السنة لفظ ثالث في النكاح وهو في شأن الموهوبة إذ قال له النبي اذهب ملكتكها بما معك من القرآن فذكر النكاح بلفظ التمليك
المسألة الثامنة
من قول علمائنا كما تقدم إن الرجعة تكون بالقول والفعل مع النية فلو خلا ذلك من نية أو كانت نية دون قول أو فعل ما حكمه
قال أشهب في كتاب محمد إذا عري القول أو الفعل عن النية فليسا برجعة
وفي المدونة أن الوطء العاري من نية ليس برجعة والقول العاري عن النية جعله رجعة إذا قال راجعتك وكنت هازلا فعلى قول علي بأن النكاح بالهزل لا يلزم فلا يكون رجعة فإن كانت رجعة بالنية دون قول أو فعل فحمله القرويون على قول مالك في الطلاق واليمين إنه يصح بالنية دون قول ولا يصح ذلك حسبما بيناه في المسائل الخلافية لأن الطلاق أسرع في الثبوت من النكاح
المسألة التاسعة قوله (* (وأشهدوا ذوي عدل منكم) *))
وهذا ظاهر في الوجوب بمطلق الأمر عند الفقهاء وبه قال أحمد بن حنبل في أحد قوليه والشافعي
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر إن الرجعة لا
282

تفتقر إلى القبول فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق وخصوصا حل الظهار بالكفارة
وركب أصحاب الشافعي على وجوب الإشهاد في الرجعة أنه لا يصح أن يقول كنت راجعت أمس وأنا أشهد اليوم لأنه إشهاد على الإقرار بالرجعة ومن شرط الرجعة الإشهاد عليها فلا تصح دونه وهذا فاسد مبني على أن الإشهاد في الرجعة تعبد ونحن لا نسلم فيها ولا في النكاح بل نقول إنه موضوع للتوثق وذلك موجود في الإقرار كما هو موجود في الإنشاء وبيناه في مسائل الخلاف
المسألة العاشرة
وهي فرع غريب إذا راجعها بعد أن ارتدت لم تصح الرجعة وقال المزني تصح لعموم قوله (* (فإذا بلغن أجلهن) *) وهذا عام في كل زوجة مسلمة أو مرتدة ولأن الرجعة تصح في حال كونها محرمة بالإحرام والحيض كذلك الردة وهذا فاسد فإن الرجعة استباحة فرج محرم فلم تجز مع الردة كالنكاح والمحرمة والحائض ليستا بمحرمتين عليه فإنه تجوز الخلوة بهما لزوجهما
المسألة الحادية عشرة
لو قال بعد العدة كنت راجعتها وصدقته جاز ولو أنكرت حلفت وذلك في مسائل الخلاف مشروح وهو مبني على القول بإعمال الإقرار في الرجعة
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى (* (وأشهدوا ذوي عدل منكم) *))
وهذا يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث لأن قوله (* (ذوي) *) مذكر ولذلك قال علماؤنا لا مدخل لشهادة النساء فيما عدا الأموال وقد بينا ذلك في سورة البقرة
المسألة الثالثة عشرة قوله تعالى (* (وأقيموا الشهادة لله) *))
يعني لا تضيعوها ولا تغيروها وأتوا بها على وجهها وقد بينا ذلك في سورة البقرة
283

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا) *) الآية 4
فيها ست مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم) *))
وهذه آية مشكلة واختلف أصحابنا في تأويلها على ثلاثة أقوال
الأول أن معناها إذا ارتبتم وحروف المعاني يبدل بعضها من بعض والذين قالوا هذا اختلفوا في الوجه الذي رجعت فيه إن بمعنى إذا فمنهم من قال إن ذلك راجع إلى ما روي أن أبي بن كعب قال للنبي يا رسول الله إن الله قد بين لنا عدة الحائض بالأقراء فما حكم الآيسة والصغيرة فأنزل الله الآية
ومنهم من قال وهو الثاني إن الله جعل عدة الحائض بالأقراء فمن انقطع حيضها وهي تقرب من حد الاحتمال فواجب عليها العدة بالأشهر بهذه الآية ومن ارتفعت عن حد الاحتمال وجب عليها الاعتداد بالأشهر بالإجماع لا بهذه الآية لأنه لا ريبة فيها
الثالث قال مجاهد الآية واردة في المستحاضة لأنها لا تدري دم حيض هو أو دم علة
المسألة الثانية في تحقيق المقصود
أما وضع حروف المعاني أبدالا بعضها من بعض فإن ذلك مما لا يجوز وإن اختلفوا في حروف الخفض وإنما الآية واردة على أن أصل العدة موضوع لأجل الريبة إذ الأصل براءة الرحم وترتاب لشغله بالماء فوضعت العدة لأجل هذه الريبة ولحقها ضرب من التعبد
284

نزلت عليه وهو ما روي في الصحيح بألفاظ مختلفة منها عن أبي إسحاق عن زيد ابن أرقم قال كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكر ذلك لرسول الله فدعاني فجئته فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي
وأصحابه فحلفوا ما قالوا فكذبني رسول الله وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله فجلست في البيت فقال عمي ما أردت إلا إلى أن كذبك رسول الله ومقتك فأنزل الله تعالى (* (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) *) المنافقون 1 فبعث إلي النبي فقال إن الله قد صدقك فتبين بهذا أن قوله تعالى (* (اتخذوا أيمانهم جنة) *) إشارة إلى أن ابن أبي حلف أنه ما قال وقد قال وليس ذلك براجع إلى قوله تعالى (* (نشهد إنك لرسول الله) *) فاعلموه
المسألة الثانية
هذه اليمين كانت غموسا كاذبة من عديم الإيمان فهي موجبة للنار أما عدم إيمانه فبقوله تعالى (* (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) *) المنافقون 3
وأما عدم الثواب فيهم ووجوب العقاب لهم فبآيات الوعيد الواردة في الكفار وقد كثر ذلك في القرآن
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) *) الآية 1
فيها مسألتان
ويحقق هذا أن حرف إن يتعلق بالشرط الواجب كما يتعلق بالشرط الممكن وعلى هذا خرج قوله وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وقد بينا ذلك في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين واللغويين
وأما حديث أبي فغير صحيح وقد روى ابن القاسم وأشهب وعبد الله بن الحكم عن مالك في قوله تعالى (* (إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر) *) يقول في شأن العدة إن تفسيرها إن لم تدروا ما تصنعون في امرها فهذه سبيلها والله أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (واللائي لم يحضن) *))
يعني الصغيرة وعدتها أيضا بالأشهر لتعذر الأقراء فيها عادة والأحكام إنما أجراها الله على العادات فهي تعتد بالأشهر فإذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء انتقلت إلى الدم لوجود الأصل فإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم كما أن المسنة إذا اعتدت بالدم ثم انقطع عادت إلى الأشهر
روى سعيد بن المسيب أن عمر قال أيما امرأة اعتدت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر فإن استبان بها حمل فذلك وإلا اعتدت بعد تسعة أشهر ثلاثة أشر ثم حلت وأمر ابن عباس بالتربص سنة
وقال الشافعي وأبو حنيفة تبقى إلى سن اليأس
وقال علماؤنا تعتد سنة وإن كانت مسنة وانقطع حيضها وقال النساء إن مثلها لا تحيض اعتدت بثلاثة أشهر
وأما قول أبي حنيفة والشافعي إنها تبقى إلى سن اليأس فإن معناه إذا كانت مرتابة بحمل وكذلك قال أشهب لا تحل أبدا حتى تيأس وهو الصحيح
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (واللائي لم يحضن) *) دليل على أن للمرء أن ينكح ولده الصغار لأن الله تعالى جعل عدة من لم يحض من النساء ثلاثة أشهر ولا تكون عليها عدة إلا أن يكون لها نكاح فدل ذلك على هذا الغرض وهو بديع في فنه
285

المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) *))
هذا وإن كان ظاهرا في المطلقة لأنه عطف عليها وإليها رجع عقب الكلام فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك لعموم الآية وحديث سبيعة في السنة والحكمة فيه أن براءة الرحم قد حصلت يقينا وقد بيناه في سورة البقرة
المسألة السادسة
إذا وضعت الحامل ما وضعت من علقة أو مضغة حلت
وقال الشافعي وأبو حنيفة لا تحل إلا بما يكون ولدا وقد تقدم بيانه وأوضحنا أن الحكمة في وضع الله العدة ثلاثة أشهر أنها المدة التي فيها يخلق الولد فوضعت اختبارا لشغل الرحم من فراغه
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) *) الآية 6
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (أسكنوهن من حيث سكنتم) *))
قال أشهب عن مالك يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل لقول الله تعالى (* (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) *) فلو كان معها ما قال أسكنوهن
وروى ابن نافع قال قال مالك في قول الله تعالى (* (أسكنوهن من حيث سكنتم) *) يعني المطلقات اللاتي قد بن من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا فلها
السكنى ولا نفقة له ولا كسوة لأنها بائن منه لا يتوارثان ولا رجعة له عليها
286

وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها
فأما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثن ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كن في عدتهن ولم يؤمروا بالسكنى لهن لأن ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن كن حوامل أو غير حوامل وإنما أمر الله بالسكنى للاتي بن من أزواجهن قال تعالى (* (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) *) فجعل عز وجل للحوامل اللائي قد بن من أزواجهن السكنى والنفقة
المسألة الثالثة في بسط ذلك وتحقيقه
إن الله سبحانه وتعالى لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها وهي مسألة عظيمة قد مهدنا سبلها قرآنا وسنة ومعنى في مسائل الخلاف وهذا مأخذها من القرآن
فإن قيل لا حجة في هذه الآية لأن قوله تعالى (* (أسكنوهن) *) راجع إلى ما قبله وهي المطلقة الرجعية
قلنا لو كان هذا صحيحا لما قال (* (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن) *) فإن المطلقة الرجعية ينفق عليها حاملا كانت أو غير حامل فلما خصها بذكر النفقة حاملا دل على أنها البائن التي لا ينفق عليها
وتحقيقه أن الله تعالى ذكر المطلقة الرجعية وأحكامها حتى بلغ إلى قوله تعالى (* (ذوي عدل منكم) *) ثم ذكر بعد ذلك حكما يعم المطلقات كلهن من تعديد الأشهر وغير ذلك من الأحكام وهو عام في كل مطلقة فرجع ما بعد ذلك من الأحكام إلى كل مطلقة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) *))
قد بينا في سورة البقرة شيئا من مسائل الرضاع ووضحنا أنه يكون تارة على الأم ولا يكون عليها تارة
287

وتحريره أن العلماء اختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد على ثلاثة أقوال
الأول قال علماؤنا رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية إلا لشرفها أو مرضها فعلى الأب حينئذ رضاعه في ماله
الثاني قال أبو حنيفة والشافعي لا يجب على الأم بحال
الثالث قال أبو ثور يجب عليها في كل حال
ودليلنا قوله تعالى (* (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) *) وقد مضى في سورة البقرة أنه لفظ محتمل لكونه حقا عليها أو لها ولكن العرف يقضي بأنه عليها إلا أن تكون شريفة وما جرى به العرف فهو كالشرط حسبما بيناه في أصول الفقه من أن العرف والعادة أصل من أصول الشريعة يقضى به في الأحكام والعادة إذا كانت شريفة ألا ترضع فلا يلزمها ذلك فإن طلقها فلا يلزمها إرضاعه إلا أن يكون غير قابل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع أو تكون مختارة لذلك فترضع في الوجهين بالأجرة لقوله تعالى (* (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) *) ويحقق ذلك قوله تعالى (* (وأتمروا بينكم بمعروف) *) وهي
المسألة الرابعة
فالمعروف أن ترضع ما دامت زوجة إلا أن تكون شريفة وألا ترضع بعد الزوجية إلا بأجر فإن قبل غيرها لم يلزمها وإن شاءت إرضاعه فهي أولى بما يأخذه غيرها
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا) *) الآيتان 6 7
فيها خمس مسائل
288

المسألة الأولى قوله تعالى (* (وإن تعاسرتم) *))
المعنى إن المرأة إذا امتنعت من رضاعه بعد الطلاق فغيرها ترضع يعني إن قبل فإن لم يقبل كما تقدم لزمها ولم ينفعها تعاسرها مع الأب
المسألة الثانية قوله تعالى (* (لينفق ذو سعة من سعته) *))
هذا يفيد أن النفقة ليست مقدرة شرعا وإنما تتقدر عادة بحسب الحالة من المنفق والحالة من المنفق عليه فتقدر بالاجتهاد على مجرى العادة
وقد فرض عمر للمنفوس مائة درهم في العام بالحجاز والقوت بها محبوب والميرة عنه بعيدة وينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق عليه ثم ينظر إلى حالة المنفق فإن احتملت الحالة الحاجة أمضاها عليه وإن قصرت حالته عن حالة المنفق عليه ردها إلى قدر احتمال حاله لقوله تعالى وهي
المسألة الثالثة (* (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) *))
فإذا كان للعبد ما يكفيه ويفضل عنه فضل أخذه ولده ومن يجب عليه الإنفاق وإنما يبدأ به أولا لكن لا يرتفع له بل يقدر له الوسط حتى إذا استوفاه عاد الفضل إلى سواه والأصل فيه قول النبي لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان الواجب عليه بطلبها
المسألة الرابعة في تقدير الإنفاق
قد بينا أنه ليس له تقدير شرعي وإنما أحاله الله سبحانه على العادة وهي دليل أصولي بنى الله عليه الأحكام وربط به الحلال والحرام وقد أحاله الله على العادة فيه في الكفارة فقال (* (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم) *) المائدة 89
289

وقال (* (فإطعام ستين مسكينا) *) المجادلة 4
وقد تكلمنا عليه في موضعه وقدرنا للكبير نفقة لشبعه وكسوته وملاءته
وأما الصغير الذي لا يأكل الطعام فلأمه أجرها بالمثل إذا شطت على الأب والمفتون منا يقدرونها بالطعام والإدام وليس لها تقدير إلا بالمثل من الدراهم لا من الطعام وأما إذا أكل فيفرض له قدر مأكله وملبسه على قدر الحال كما قدمنا
وفرض عمر للمنفوس مائة درهم وفرض له عثمان خمسين درهما واحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب حال السنين أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس
وقد روى نافع عن ابن عمر أن عمر كان لا يفرض للمولود حتى يطعم ثم أمر مناديا فنادى لا تعجلوا أولادكم عن الفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام
وقد روى محمد بن هلال المزني قال حدثني أبي وجدتي أنها كانت ترد على عثمان ففقدها فقال لأهله مالي لا أرى فلانة فقالت امرأته يا أمير المؤمنين ولدت الليلة فبعث إليها بخمسين درهما وشقيقة أنبجانية ثم قال هذا عطاء ابنك وهذه كسوته فإذا مرت له سنة رفعناه إلى مائة
وقد أتي علي بن أبي طالب بمنبوذ ففرض له مائة
وقال القاضي هذا الفرض قبل الفطام مما اختلف فيه العلماء فمنهم من رآه مستحبا لأنه داخل في حكم الآية ومنهم من رآه واجبا لما تجدد من حاجته وعرض من مؤنته وبه أقول ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة وبحاله عند الفطام
وقد روى سفيان بن وهب أن عمر أخذ المد بيد والقسط بيد وقال إني فرضت لكل نفس مسلمة في كل شهر مدي حنطة وقسطي خل وقسطي زيت زاد غيره وقال إنا قد أجزنا لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر فمن انتقصها فعل الله به كذا وكذا ودعا عليه قال أبو الدرداء كم سنة راشدة مهدية قد سنها عمر في أمة محمد
والمد والقسط كيلان شاميان في الطعام والإدام وقد درسا بعرف آخر فأما المد
290

فدرس إلى الكيلجة وأما القسط فدرس إلى الكيل ولكن التقدير فيه عندنا ربعان في الطعام وثمنان في الإدام وأما الكسوة فبقدر العادة قميص وسراويل وجبة في الشتاء وكساء وإزار وحصير وهذا الأصل ويتزيد بحسب الأحوال والعادة
المسألة الخامسة
هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم خلافا لمحمد بن المواز إذ يقول إنها على الأبوين على قدر الميراث وبيانها في مسائل الفقه والخلافيات ولعل محمدا أراد أنها على الأم عند عدم الأب وفي البخاري عن النبي تقول لك المرأة أنفق علي وإلا طلقني ويقول العبد أنفق علي واستعملني ويقول لك ابنك أنفق علي إلى من تكلني فقد تعاضد القرآن والسنة وتواردا في مشرعة واحدة والحمد لله
291

سورة التحريم فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم) *) الآية 1
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال
الأول أن سبب نزولها الموهوبة التي جاءت النبي فقالت إني وهبت لك نفسي فلم يقبلها رواه عكرمة عن ابن عباس
الثاني أنها نزلت في شأن مارية أم إبراهيم خلا بها رسول الله في بيت حفصة وقد خرجت لزيارة أبيها فلما عادت وعلمت عتبت عليه فحرمها رسول الله على نفسه إرضاء لحفصة وأمرها ألا تخبر أحدا من نسائه فأخبرت بذلك عائشة لمصافاة كانت بينهما فطلق النبي حفصة واعتزل نساءه شهرا وكان جعل على نفسه أن يحرمهن شهرا فأنزل الله هذه الآية وراجع حفصة واستحل مارية وعاد إلى نسائه قاله الحسن وقتادة والشعبي وجماعة
واختلفوا هل حرم النبي مارية بيمين على قولين فقال قتادة والحسن والشعبي حرمها بيمين وقال غيرهم إنه حرمها بغير يمين ويروى عن ابن عباس
الثالث ثبت في الصحيح واللفظ للجعفي عن عبيد بن عمير عن عائشة
292

قالت كان رسول الله يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها فتواصيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له أكلت مغافير إني أجد منك ريح مغافير قال لا ولكني شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري أحدا يبتغي مرضاة أزواجه
وفي صحيح مسلم أنه شربه عند حفصة وذكر نحوا من القصة وكذلك روى أشهب عن مالك والأكثر في الصحيح أنه عند زينب وأن اللتين تظاهرتا عليه عائشة وحفصة
وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة وروى أسباط عن السدي أنه شربه عند أم سلمة وكله جهل وتسور بغير علم
المسألة الثانية
أما من روى أن الآية نزلت في الموهوبة فهو ضعيف في السند وضعيف في المعنى أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي للموهوبة ليس تحريما لها لأن من وهب له لم يحرم عليه وإنما حقيقة التحريم بعد التحليل
وأما من روى أنه حرم مارية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى لكنه لم يدون في صحيح ولا عدل ناقله أما أنه روي مرسلا
وقد روى ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال حرم رسول الله أم ولده إبراهيم فقال أنت علي حرام والله لا أتيتك فأنزل الله في ذلك (* (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك) *)
وروى مثله ابن القاسم عنه
وروى أشهب عن مالك قال راجعت عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار في شيء فاقشعر من ذلك وقال ما كان النساء هكذا قالت بلى وقد
293

كان أزواج النبي يراجعنه فاحتزم ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها أتراجعين رسول الله قالت نعم ولو أعلم أنك تكره ما فعلت فلما بلغ عمر أن رسول الله هجر نساءه قال رغم أنف حفصة
وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه وجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك ونزلت الآية في الجميع
المسألة الثالثة قوله (* (لم تحرم) *))
إن كان النبي حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا في معنى ولا يحرم شيئا قول الرجل هذا حرام علي حاشا الزوجة
وقال أبو حنيفة إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس وكانت يمينا توجب الكفارة
وقال زفر هو يمين في الكل حتى في الحركة والسكون وعول المخالف على أن النبي حرم العسل فلزمته الكفارة
وقد قال الله تعالى فيه (* (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *) التحريم 2 فسماه يمينا وعول أيضا على أن معنى اليمني التحريم فإذا وجد ملفوظا به تضمن معناه كالملك في البيع
ودليلنا قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) *) المائدة 87 وقوله (* (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون) *) يونس 59 فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة وقد بينا ذلك عند ذكر هذه الأيات وهذا ينقض مذهب المخالفين زفر وأبي حنيفة
294

وينقض مذهب أبي حنيفة إخراجه اللباس منه ولا جواب له عنه وخفي عن القوم سبب الآية وأن النبي حلف ألا يشرب عسلا وكان ذلك سبب الكفارة وقيل له لم تحرم
وقولهم إن معنى النهي تحريم الحلال فكان كالمال في البيع لا يصح بل التحريم معنى يركب على لفظ اليمين فإذا لم يوجد اللفظ لم يوجد المعنى بخلاف الملك فإنه لم يركب على لفظ البيع بل هو في معنى لفظه وقد استوعبنا القول في كتاب تخليص التلخيص والإنصاف في مسائل الخلاف
المسألة الرابعة إذا حرم الزوجة فقد اختلف العلماء في ذلك على خمسة عشر قولا
وجمعناها في كتب المسائل وأوضحناها بما مقصوده أن نقول يجمعها ثلاثة مقامات
المقام الأول في جميع الأقوال
الأول أنها يمين تكفر قاله أبو بكر الصديق وعائشة والأوزاعي
الثاني قال ابن مسعود تجب فيه كفارة وليست بيمين وبه قال ابن عباس في إحدى روايتيه والشافعي في أحد قوليه
الثالث أنها طلقة رجعية قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون
الرابع أنها ظهار قاله عثمان وأحمد بن حنبل
الخامس أنها طلقة بائنة قاله حماد بن سلمة ورواه ابن خويز منداد عن مالك
السادس أنها ثلاث تطليقات قاله علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو هريرة ومالك
السابع قال أبو حنيفة إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى وإلا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته
الثامن أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا قاله ابن القاسم
295

التاسع قال يحيى بن عمر يكون طلاقا فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار
العاشر هي ثلاث قبل وبعد لكنه ينوي في التي لم يدخل بها في الواحدة قاله مالك وابن القاسم
الحادي عشر ثلاث ولا ينوي بحال ولا في محل قاله عبد الملك في المبسوط
الثاني عشر هي في التي لم يدخل بها واحدة وفي التي دخل بها ثلاث قاله أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم
الثالث عشر أنه إن نوى الظهار وهو أن ينوي أنها محرمة كتحريم أمه كان ظهارا وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين وإن لم ينو شيئا
فعليه كفارة يمين قاله الشافعي
الرابع عشر أنه إن لم ينو شيئا لم يكن شيء
الخامس عشر أنه لا شيء عليه فيها قاله مسروق بن ربيعة من أهل المدينة ورأيت بعد ذلك لسعيد بن جبير أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا ولست أعلم له وجها ولا يتعدد في المقالات عندي
المقام الثاني في التوجيه
أما من قال إنها يمين فقال سماها الله يمينا في قوله تعالى (* (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) *) إلى قوله تعالى (* (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) *) التحريم 2 فسماها الله يمينا وهذا باطل فإن النبي حلف على شرب العسل وهذه يمين كما قدمنا
وأما من قال تجب فيها كفارة وليست بيمين فبناه على أمرين
أحدهما أنه ظن أن الله أوجب الكفارة فيها ولم تكن يمينا وقد بينا فساد ذلك
296

الثاني أن معنى اليمني عنده التحريم فوقعت الكفارة على المعنى ونحن لا نقول به وقد بينا فساد ذلك فيما تقدم وفي مسائل الخلاف
وأما من قال إنه طلقة رجعية فبناه على أصل من أصول الفقه وهو حمل اللفظ على أقل وجوهه والرجعية محرمة الوطء فيحمل عليه اللفظ وهذا يلزم مالكا لقوله إن الرجعية محرمة الوطء وكذلك وجه من قال إنه ثلاث فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث وقد بينا ذلك في أصول الفقه ومسائل الخلاف
وأما من قال إنه ظهار فبناه على أصلين
أحدهما أنه أقل درجات التحريم فإنه تحريم لا يرفع النكاح
وأما من قال إنه طلقة بائنة فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة وأن الطلاق البائن يحرمها لأنه لو قال لها أنت طالق لا رجعة لي عليك نفذ وسقطت الرجعة وحرمت فكذلك إذا قال لها أنت حرام علي فإنه يكون طلاقا بائنا معنويا وكأنه ألزم نفسه معنى ما تقدم ذكره من إنفاذ الطلاق وإسقاط الرجعة ونحن لا نسلم أنه ينفذ قوله أنت طالق لا رجعة لي عليك فإن الرجعة حكم الله ولا يجوز إسقاطه إلا بما أسقطه الله من العوض المقترن به أو الثلاث القاضية عليه والغاية له
وأما قول من قال وهو أبو حنيفة إنها تكون عارية عن النية يمينا فقد تقدم بطلانه
وأما نفي الظهار فيه فينبغي على أن الظهار حكم شرعي يختص بمعنى فاختص بلفظ وهذا إنما يلزم لمن يرى مراعاة الألفاظ ونحن إنما نعتبر المعاني خاصة إلا أن يكون اللفظ تعبدا
وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا فلما ارتجعها احتاط بأن ألزمه الكفارة وهذا لا يصح لأنه جمع بين المتضادين فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل
وأما من قال إنه ينوي في التي لم يدخل بها فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا
297

وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه فإن الطلاق الرجعي مختلف في اقتضائه التحريم في العدة
وأما من قال إنها ثلاث فيهما فلأنه أخذ بالحكم الأعظم فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم
وأما القول الثالث عشر فيرجع إلى إيجاب الكفارة في التحريم وقد تقدم فساده
وأما من قال لا شيء فيها فعمدتهم أنه كذب في تحريم ما أحل الله واقتحم ما نهى الله عنه بقوله تعالى (* (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) *) المائدة 87 وإنما يكون التحريم في الشرع مرتبا على أسبابه فأما إرساله من غير سبب فذلك غير جائز
والصحيح أنها طلقة واحدة لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج فهذا نص على المراد وقد أحكمنا الأسئلة والأجوبة في مسائل الخلاف والتفريع
المقام الثالث في تصويرها
وأخرناه في الأحكام القرآنية لما يجب من تقديم معنى الآية واستقدمناه في مسائل الخلاف والتفريع ليقع الكلام على كل صورة منها وعدد صورها عشرة
الأولى قوله حرام
الثانية قوله علي حرام
الثالثة أنت حرام
الرابعة أنت علي حرام
الخامسة الحلال علي حرام
السادسة ما أنقلب إليه حرام
298

السابعة ما أعيش فيه حرام
الثامنة ما أملكه حرام علي
التاسعة الحلال حرام
العاشرة أن يضيف التحريم إلى جزء من أجزائها
فأما الأولى والثانية والتاسعة فلا شيء عليه فيها لأنه لفظ مطلق لا ذكر للزوجة فيه ولو قال ما أنقلب إليه حرام فهو ما يلزمه في قوله الحلال علي حرام أنه يدخل فيه الزوجة إلا أن يحاشيها ولا يلزمه شيء في غيرها من المحللات كما تقدم بيانه
واختلف علماؤنا في وجه المحاشاة فقال أكثر أصحابنا إن حاشاها بقلبه حرجت وقال أشهب لا يحاشيها إلا بلفظه كما دخلت في لفظه والصحيح جواز المحاشاة بالقلب بناء على أن العموم يختص بالنية
وأما إضافة التحريم إلى جزء من أجزائها فشأنه شأنه فيما إذا أضاف الطلاق إلى جزء من أجزائها وهي مسألة خلاف كبيرة
قال مالك والشافعي يطلق في جميعها وقال أبو حنيفة يلزمه الطلاق في ذكر الرأس ونحوه ولا يلزمه الطلاق في ذكر اليد ونحوها وذلك في كتب المسائل الخلافية والتفريعية
المسألة الخامسة إذا حرم الأمة لم يلزمه تحريم
وقد قال الشافعي في أحد قوليه تلزمه الكفارة وساعده سواه فإن تعلقوا بالآية فلا حجة فيها وإن تعلقوا بأن الظهار عندنا يصح فيها فلا يلزم ذلك لأنا بينا أن الظهار حكم مختص لا يلحق به غيره وقد قال علماؤنا إنما صح ظهاره في الأمة لأنها من النساء وقد بينا ذلك في سورة المجادلة وأوضحنا أيضا أن الأمة من المحللات فلا يلحقها التحريم كالطعام واللباس وما لهم من شبهة قد تقصينا عنها في مسائل الإنصاف
299

الآية الثانية
قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) *) الآية 6
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (قوا) *))
قال علماء التفسير معناه اصرفوا وتحقيقها اجعلوا بينكم وبينها وقاية ومثله قول النبي اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة
المسألة الثانية في تأويلها
وفيه ثلاثة أقوال
الأول أن معناه قوا أنفسكم وأهليكم فليقوا أنفسهم
الثاني قوا أنفسكم ومروا أهليكم بالذكر والدعاء
الثالث قوا أنفسكم بفعالكم وأهليكم بوصيتكم إياهم قاله علي بن أبي طالب وهو الصحيح والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل كقوله
(علفتها تبنا وماء باردا
*)
وكقوله
(ورأيت زوجك في الوغى
* متقلدا سيفا ورمحا)
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية ففي
300

صحيح الحديث أن النبي قال كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم وعن هذا عبر الحسن في هذه الآية بقوله يأمرهم وينهاهم
وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع خرجه جماعة
وهذا لفظ أبي داود وخرج أيضا عن سمرة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها
وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الفطر إذا وجب مستندا في ذلك إلى رؤية الهلال
وقد روى مسلم أن النبي كان إذا أوتر يقول قومي فأوتري يا عائشة
وروي أن النبي قال رحم الله امرأ قام من الليل يصلي فأيقظ أهله فإن لم تقم رش وجهها بالماء رحم الله امرأة قامت من الليل تصلي وأيقظت زوجها فإن لم يقم رشت على وجهه من الماء
ومنه قوله عليه السلام أيقظوا صواحب الحجر
ويدخل هذا في عموم قوله تعالى (* (وتعاونوا على البر والتقوى) *) المائدة 2 وقد تقدم
المسألة الثالثة
وكما يؤدب ولده في مصلحتهم فكذلك يؤدب أهله فيما يصلحه ويصلحهم أدبا خفيفا على طريق التعزير
وليس يدخل ذلك في شرطها المحدث الذي يكتبه المتصدرون ويقولون ولا
301

يضربها في نفسها فإن فعل فأمرها بيدها فيظن المتصدرون من المفتين أنه إذا أراد أدبها كان أمرها بيدها وليس كذلك إنما يجب لها الخيار إذا كان ضربها ابتداء أو على غير سبب موجب لذلك وهو الضرر
فأما ما يصلح الزوج ويصلح المرأة فليس ذلك ضررا وقد تكلمنا على حد الضرر في كتب الأصول وبينا حده الذي يخرج عن الحدود والآداب فلينظر هنالك والتقريب فيه الآن أن يقال إنه الألم الذي لا نفع معه يوازيه أو يربي عليه
المسألة الرابعة
من وقاية الرجل أهله إقامة الرجل حده على عبده وأمته وقد بينا ذلك في سورة النساء وغيرها
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) *) الآية 9
وقد تقدمت في سورة براءة
302

سورة الملك فيها آية واحدة
قوله تعالى (* (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) *) الآية 15
وقد تقدم ذكر السفر وأقسام المشي في الأرض في سورة المائدة
وكذلك بينا قوله تعالى (* (وكلوا من رزقه) *) في عدة مواضع
303

سورة القلم فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ن والقلم وما يسطرون) *) الآية 1
فيها مسألتان
المسألة الأولى
روى الوليد بن مسلم عن أنس بن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قوله (* (ن والقلم) *) ثم قال اكتب قال وما أكتب قال ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم ختم على القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ثم خلق العقل فقال الجبار ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت ثم قال رسول الله أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته
المسألة الثانية خلق الله القلم الأول
فكتب ما يكون في الذكر ووضعه عنده فوق عرشه ثم خلق القلم الثاني ليعلم به من في الأرض على ما يأتي بيانه في سورة (* (اقرأ باسم ربك الذي خلق) *) إن شاء الله تعالى
304

الآية الثانية
قوله تعالى (* (ودوا لو تدهن فيدهنون) *) الآية 9
فيها مسألتان
المسألة الأولى
ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوال كلها دعاوى على اللغة والمعنى أمثلها قولهم ودوا لو تكذب فيكذبون ودوا لو تكفر فيكفرون
وقال أهل اللغة الإدهان هو التلبيس معناه ودوا لو تلبس إليهم في عملهم وعقدهم فيميلون إليك
وحقيقة الإدهان إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة أي مدافعة
وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنه استأذن على النبي رجل فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة هو أو ابن العشيرة فلما دخل ألان له الكلام فقلت له يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول فقال لي يا عائشة إن شر الناس منزلة من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه
وقد ثبت أن النبي قال مثل المداهن في حدود الله والقائم عليها كمثل قوم استهموا في سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها فأراد الذين في أسفلها أن يستقوا الماء على الذين في أعلاها فمنعوهم فأرادوا أن يستقوا الماء في أسفل السفينة فإن منعوهم نجوا وإن تركوهم هلكوا جميعا
وقد قال الله تعالى (* (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) *) الواقعة 81 قال المفسرون يعني مكذبون وحقيقته ما قدمناه أي أفبهذا الحديث أنتم مقاربون في
305

الظاهر مع إضمار الخلاف في الباطن يقولون الله الله ثم يقولون مطرنا بنجم كذا ونوء كذا ولا ينزل المطر إلا الله سبحانه غير مرتبط بنجم ولا مقترن بنوء وقد بيناه في موضعه
المسألة الثانية
قال الله سبحانه (* (لو تدهن فيدهنون) *) فساقه على العطف ولو جاء به جواب التمني لقال فيدهنوا وإنما أراد أنهم تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك عطفا لا جزاء عليه ولا مكافأة له وإنما هو تمثيل وتنظير
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (سنسمه على الخرطوم) *) الآية 16
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله تعالى (* (سنسمه على الخرطوم) *))
ذكر فيه أهل التفسير قولين
أحدهما أنها سمة سوداء تكون على أنفه يوم القيامة يميز بها بين الناس وهذا كقوله (* (يعرف المجرمون بسيماهم) *) الرحمن 41
وقيل يضرب بالنار على أنفه يوم القيامة يعني وسما يكون علامة عليه وقد قال تعالى (* (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) *) آل عمران 16 فهذه علامة ظاهرة وقال (* (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا) *) طه 12 - 13 وهذه علامة أخرى ظاهرة فأفادت هذه الآية علامة ثالثة وهي الوسم على الخرطوم من جملة الوجه
المسألة الثانية قوله تعالى (* (سنسمه) *))
كان الوسم في الوجه لذوي المعصية قديما عند الناس حتى إنه روي كما تقدم
306

أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا عنه بالضرب وتحميم الوجه وهذا وضع باطل
ومن الوسم الصحيح في الوجه ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور علامة على قبح المعصية وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ممن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته وقد كان عزيزا بقول الحق وقد صار مهينا بالمعصية وأعظم الإهانة إهانة الوجه وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لحياة الأبد والتحريم له على النار فإن الله قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود حسبما ثبت في الصحيح
307

سورة المعارج فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (وفصيلته التي تؤويه) *) الآية 13
فيها مسألتان
المسألة الأولى الفصيلة في اللغة عندهم أقرب من القبيلة
وأصل الفصيلة القطعة من اللحم والذي عندي أن الفصيلة من فصل أي قطع أي مفصولة كالأكيلة من أكل والأخيذة من أخذ وكل شيء فصلته من شيء فهو فصيلة فهذا حقيقة فيه يشهد له الاشتقاق وأدنى الفصيلة الأبوان فإن الله تعالى يقول (* (خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب) *) الطارق 6 - 7 وقال (* (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) *) النحل 78 فهذا هو أدنى الأدنى ولهذا التحقيق تفطن إمام دار الهجرة وحبر الملة مالك ابن أنس رحمه الله قال أشهب سألت مالكا عن قول الله تعالى (* (وفصيلته التي تؤويه) *) قال هي أمه فعبر عن هذه الحقيقة ثم صرح بالأصل فقال ابن عبد الحكم هي عشيرته والعشيرة وإن كانت كلها فصيلة فإن الفصيلة الدانية هي الأم وهي أيضا المراد في هذه الآية لأنه قال (* (يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه) *) المعارج 11 - 12 - 13 فذكر للقرابة معنيين وختمها بالفصيلة المختصة منهم وهي الأم
308

المسألة الثانية
إذا حبس على فصيلته أو أوصى لها فمن راعي العموم حمله على العشيرة ومن ادعى الخصوص حمله على الأم والأولى أكثر في النطق
الآية الثانية
قوله تعالى (* (إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون) *) الأيتان 22, 23
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال ابن عباس هي الصلوات الخمس وقال ابن مسعود والليث هي المواقيت وقال ابن جريج هي النوافل وقد تقدم ذكر المحافظة على الصلوات الخس فأما قول ابن جريج إنه النفل فهو قول حسن فإنه لا فرض لمن لا نفل له وقد روى الترمذي وغيره أنه تكمل صلاة الفريضة للعبد من تطوعه وقد روي في الصحيح أنه لم يكن النبي على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر وقد روى الترمذي وغيره في الصحيح أنه قال من صلى كل يوم ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في الجنة
المسألة الثانية
قال عقبة بن عامر في قوله (* (الذين هم على صلاتهم دائمون) *) قال هم الذين إذا صلوا لا يلتفتون يمينا ولا شمالا ولا خلف وينظر إلى قوله (* (الذين هم) *
309

عن صلاتهم ساهون) الماعون 5 فإن الملتفت ساه عن صلاته وفي الصحيح أن أبا بكر الصديق كان لا يلتفت في صلاته فكان عليها دائما ولها مراعيا والآية عامة في المحافظة عليها وعلى مواقيتها على فرضها ونفلها
وأما قوله (* (والذين في أموالهم حق معلوم) *) الآية 24 وهي الآية الثالثة فقد تقدم بيانه في مواضع كثيرة
310

سورة نوح فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ما لكم لا ترجون لله وقارا) *) الآية 13
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (لا ترجون لله وقارا) *))
يعني لا تخشون لله عقابا وعبر عن العقاب بالوقار لأن من عظمه فقد عرفه وعن الخشية بالرجاء لأنها نظيرته
المسألة الثانية قوله (* (وقد خلقكم أطوارا) *))
يعني في الطول والقصر والسواد والبياض والعلم والجهل والإيمان والكفر والطاعة والمعصية وكل صفة ونعت تكون لهم وكذلك تدبيره في النشأة من تراب إلى نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى لحم ودم وخلق سوي
وتحقيق القول فيه ما لكم لا تؤملون توقيركم لأمر الله ولطفه ونعمته أدخلها القاضي أبو إسحاق في الأحكام
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) *) الآية 26
فيها ثلاث مسائل
311

المسألة الأولى
لما قال لنوح عليه السلام (* (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) *) هود 36 حين استنفد ما في أصلاب الرجال وما في أرحام النساء من المؤمنين دعا عليهم نوح بقوله (* (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) *) فأجاب الله دعوته وأغرق أمته وهذا كقول النبي اللهم منزل الكتاب سريع الحساب هازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم
المسألة الثانية دعا نوح على الكافرين أجمعين
ودعا النبي على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم وكان هذا أصلا في الدعاء على الكفار في الجملة فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه لأن مآله عندنا مجهول وربما كان عند الله معلوم الخاتمة للسعادة وإنما خص النبي الدعاء على عتبة وشيبة وأصحابه لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم والله أعلم
المسألة الثالثة
إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة
قلنا قال الناس في ذلك وجهان
أحدهما أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة والشفاعة تكون عن رضا ورقة فخاف أن يعاتب بها فيقال دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم
الثاني أنه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك فخاف الدرك فيه يوم القيامة كما قال موسى إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها وبهذا أقول والله أعلم وتمامه قد ثبت في القسم الثاني
312

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا) *) الآية 28
قال المفسرون معناه مسجدي فجعل دخول المسجد سببا للدعاء بالمغفرة وقد قال النبي إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه حسبما ثبت في صحيح الرواية
وفضل المساجد كثير قد أثبتناه في صحيح الحديث وشرحه
313

سورة الجن فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا) *) إلى (* (هربا) *) الآيات 1 - 12
فيها ست مسائل
المسألة الأولى في حقيقة الجن
وقد بيناها في كتب الأصول وأوضحنا أنهم أحد خلق الأرض أنزل أبوهم إبليس إليها كما أنزل أبونا آدم هذا مرضي عنه وهذا مسخوط عليه
وقد روى عكرمة عن ابن عباس أن الجان مسخ الجن كما مسخت القردة من بني إسرائيل
وقال شيخنا أبو الحسن في كتاب المختزن إن إبليس كان من الملائكة ولم يكن من الجن ولست أرضاه وقد بينا ذلك في كتب الأصول
المسألة الثانية
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما قرأ رسول الله على الجن ولا رآهم انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فقالوا ما حال
314

بيننا وبين خبر السماء إلا حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها تتبعون ما هذا الخبر الذي حال بينكم وبين خبر السماء فضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا هذا والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء
قال فهناك رجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا (* (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) *) الجن 1 - 2 فأنزل الله تعالى على نبيه (* (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) *) وإنما أوحي إليه قول الجن
قال ابن عباس قول الجن لقومهم (* (لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) *) الجن 19 قال لما رأوه وأصحابه يصلون بصلاته ويسجدون بسجوده قال فتعجبوا من طواعية أصحابه له قالوا لقومهم (* (لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) *) صح ذلك عن النبي ولفظه للترمذي
ولفظ البخاري قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا ما لكم فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا حدث فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء قال فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن سمعوا له فقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا (* (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد) *
315

* (فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) *) وأنزل الله على نبيه (* (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) *) وإنما أوحي إليه قول الجن
وفي الصحيح عن علقمة قال قلت لابن مسعود هل صحب النبي ليلة الجن منكم أحد قال ما صحبه منا أحد ولكن افتقدناه ذات ليلة وهو بمكة فقلنا اغتيل استطير ما فعل به فبتنا بشر ليلة بات بها قوم حتى إذا أصبحنا أو كان في وجه الصبح إذا نحن به من قبل حراء قال فذكروا له الذي كانوا فيه قال فقال أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم
وابن مسعود أعرف بالأمر من ابن عباس لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة
المسألة الثالثة
قال الشعبي في روايته وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال كل عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحما وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم فقال رسول الله فلا تستنجوا به فإنه زاد إخوانكم من الجن
وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن وقالوا إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله وافتراء عليه وقد مهدنا الرد عليهم في كتب الأصول وبينا جواز وجودهم عقلا لعموم القدرة الإلهية وأوضحنا وجوب وجودهم شرعا بالخبر المتواتر من القرآن والسنة وأن الله خلق لهم من تيسر التصور في الهيئات ما خلق لنا من تيسر التصور في الحركات فنحن إلى أي جهة شئنا ذهبنا وهم في أي صورة شاؤوا تيسرت لهم ووجدوا عليها ولا نراهم في هيئاتهم إنما يتصورون في خلق الحيوانات
وقولهم إنهم بسائط فليس في المخلوقات بسيط بل الكل مركب مزدوج إنما
316

الواحد الله سبحانه وغيره مركب ليس بواحد كيفما تصرف حاله وليس يمتنع أن يراهم النبي في صورهم كما يرى الملائكة وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات ففي الحديث الصحيح عن مالك وغيره عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته قال فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى تقضى صلاته فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلي أن أجلس فجلست فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال أترى هذا البيت فقلت نعم فقال كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس قال فخرجنا مع رسول الله إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله فاستأذنه يوما فقال له رسول الله خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة فقالت له كف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني فدخل فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها ثم خرج به فركزه في الدار فاضطربت عليه فما ندري أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى قال فجئنا إلى النبي فذكرنا له ذلك وقلنا ادع الله يحييه لنا فقال استغفروا لصاحبكم ثم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثا فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان
وفي الصحيح أنه قال إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر
أو قال اذهبوا فادفنوا صاحبكم
ومن حديث ابن عجلان عن أبي السائب عن أبي سعيد أن رسول الله قال إن بالمدينة نفرا من الجن أسلموا فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان
وقد روى ابن أبي ليلى أن رسول الله سئل عن الحيات التي تكون في البيوت فقال إذا رأيتم منهن شيئا بعد ذلك فقولوا نشدتكم العهد الذي أخذ عليكم
317

نوح نشدتكم العهد الذي أخذ عليكم سليمان ألا تؤذونا فإن رأيتم منهن شيئا بعد ذلك فاقتلوهن
المسألة الرابعة
قال مالك في رواية ابن وهب عنه في التقدم إلى الحيات يقول يا عبد الله إن كنت تؤمن بالله ورسوله وكنت مسلما فلا تؤذنا ولا تشعفنا ولا تروعنا ولا تبدون لنا فإنك إن تبد بعد ثلاث قتلتك قال ابن القاسم قال مالك يحرج عليه ثلاث مرات ألا يبدو لنا ولا يخرج
وقال أيضا عنه أحرج عليك الله ألا تبدو لنا
قال القاضي ثبت في الصحيح أن النبي كان مع أصحابه في غار وهو يقرأ والمرسلات عرفا وإن فاه لرطب بها حتى خرجت حية من غار فبادرناها فدخلت جحرا فقال النبي وقيت شركم ووقيتم شرها ولم يأمرهم النبي بإنذار ولا تحريج لأنها لم تكن من عوامر البيوت
وأمر في الصحيح وغيره بقتل الحيات مطلقا من غير إنذار ولا تحريج فدل على أن ذلك من الإنذار إنما هو لمن في الحضر لا لمن يكون في القفر وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة لقوله في الصحيح إن بالمدينة جنا أسلموا وهذا لفظ مختص بها فتختص بحكمها
قلنا هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها لأنه لم يعلل بحرمة المدينة فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها وإنما علل بالإسلام وذلك عام في غيرها ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذين لقي فروى أنهم كانوا من جن الجزيرة وهذا بين يعضده قوله ونهى عن عوامر البيوت وهذا عام
318

المسألة الخامسة
اختلف الناس في إنذارهم والتحريج عليهم هل يكون ثلاثة أقوال في ثلاثة أحوال أم يكون ثلاثة أقوال في حالة واحدة والقول محتمل لذلك ولا يمكن حمله على العموم لأنه إثبات لمفرد في نكرة وإنما يكون العموم في المفردات إذا اتصلت بالنفي حسبما بيناه في أصول الفقه وفيما سبق ها هنا
والصحيح أنه ثلاث مرات في حالة واحدة لأنا لو جعلناها ثلاث مرات في ثلاث حالات لكان ذلك استدراجا لهن وتعريضا لمضرتهن ولكن إذا ظهرت تنذر كما تقدم فإن فرت وإلا أعيد عليها القول فإن فرت ولا أعيد عليها الإنذار ثلاثا فإن فرت وإلا أعيد لها الإنذار فإن فرت وغابت وإلا قتلت
المسألة السادسة
قال من لم يفهم أو من لم يسلم كيف ينذر بالقول ويحرج بالعهد على البهائم والحشرات وهي لا تعقل الأقوال ولا تفهم المقاصد والأغراض
قلنا الحيات على قسمين قسم حية على أصلها فبيننا وبينها العداوة الأصلية في معاضدة إبليس على آدم وإلى هذا وقعت الإشارة بقول النبي ما سالمناهن منذ حاربناهن فهذا القسم يقتل ابتداء من غير إنذار ولا إمهال وعلامته البتر والطفى لقوله اقتلوا الأبتر وذا الطفيتين فإن كانت على غير هذه الهيئة احتمل أن تكون حية أصلية واحتمل أن تكون جنيا تصور بصورتها فلا يصح الإقدام بالقتل على المحتمل لئلا يصادف منهيا عنه حسبما يروى للعروس بالمدينة حين قتل الحية فلم يعلم أيهما كان أسرع موتا هو أم الحية
ويكشف هذا الخفاء الإنذار فإن صرم كان علامة على أنه ليس بمؤمن أو أنه من جملة الحيات الأصليات إذ لم يؤذن للجن في التصور على البتر والطفى ولو تصورت في هذا كتصورها في غيره لما كان لتخصيص النبي بالإطلاق بالقتل في
319

ذين والإنذار في سواهما معنى وإنما تعلق البليد والمرتاب بعدم فهمهن فيقال إيه انظر إلى التقسيم إن كنت تريد التعليم لا يخلو أن تكون حية جنية أو أصلية فإن كانت جنية فهي أفهم منك وإن كانت أصلية فصاحب الشرع أذن في الخطاب ولو كان لمن لا يفهم لكان أمرا بالتلاعب ولا يجوز ذلك على الأنبياء فإن شك في النبوة أو في خلق الجن
أو في صفة من هذه الصفات فلينظر في المقسط والمتوسط والمشكلين يعاين الشفاء من هذا الإشكال إن شاء الله تعالى
فإن قيل إنما يحتاج الإنذار للتفرقة بين الجان والحيوان فإن كف فهو جن مؤمن وإلا كان كافرا أو حيوانا
قلنا أما الحيوان فقد جعلت له علامة وأما غيره فقد خص بالإنذار والحيوان يفهم بالإنذار كما يفهم بالزجر ولهذا تؤدب البهيمة والله أعلم
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) *) الآية 18
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى
الأرض كلها لله ملكا وخلقا كما قال الله سبحانه وتعالى (* (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) *) الأعراف 128 والمساجد لله رفعة وتشريفا كما قال تعالى (* (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) *) والكعبة بيت الله تخصيصا وتعظيما كما قال تعالى (* (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين) *) البقرة 125 وفي موضع آخر (* (والقائمين) *) الحج 26 فجعل الله تعالى الأرض كلها مسجدا كما قال جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا واصطفى منها مواضع ثلاثة بصفة المسجدية وهي المسجد الأقصى وهو مسجد إيلياء ومسجد النبي والمسجد الحرام واصطفى من الثلاثة المسجد الحرام في قول ومسجد النبي
320

في قول على اختلاف في أيها أفضل حسبما بيناه في مسائل الخلاف فقد ثبت عن النبي أنه قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام
واختلف في هذا الاستثناء هل هو على تفضيل المفضل أو احتماله فمنهم من قال إنه مفضل بتفضيل المسجد الحرام على مسجد المدينة ومنهم من قال إنه محتمل وهو الصحيح لأن كل تأويل تضمن فيه مقدارا يجوز تقديره على خلافه على أنه قد روي من طريق لا بأس بها أن النبي قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فإن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي ولو صح هذا لكان نصا
المسألة الثانية
المساجد وإن كانت لله ملكا وتشريفا فإنها قد نسبت إلى غيره تعريفا فيقال مسجد فلان
وفي صحيح الحديث أن النبي سابق بين الخيل التي أضمرت من الحيفاء وأمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وتكون هذه الإضافة بحكم المحلية كأنها في قبلتهم وقد تكون بتحبيسهم فإن الأرض لله ملكا ثم يخص بها من يشاء فيردها إليه ويعينها لعبادته فينفذ ذلك بحكمه ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك
المسألة الثالثة
إذا تعينت لله أصلا وعينت له عقدا فصارت عتيقة عن التملك مشتركة بين الخليقة في العبادة فإنه يجوز اتخاذ الأبواب لها ووضع الأغلاق عليها من باب الصيانة لها فهذه الكعبة بأبوابها وكذلك أدركنا المساجد الكريمة
وفي البخاري مدرجا وفي كتاب أبي داود مسندا كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد فلا يرشون ذلك وهذا لأنه لم يكن للمسجد حينئذ باب ثم
وروي أنه كان يصلي بعد العشاء ركعتين ويصلي من الليل تسعا منها الوتر وكان ينام أول الليل ويحيي آخره وما ألفاه السحر إلا عند أهله قائما وكان يوتر في آخر الليل حتى انتهى وتره إلى السحر وما قرأ القرآن كله قط في ليلة ولا صلى ليلة إلى الصبح وكان إذا فاته قيام الليل من وجع أو غيره صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة وكان يقول الوتر ركعة من آخر الليل ويقول أوتروا قبل أن تصبحوا وقال صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل
وهذا كله صحيح في الصحيح وقد بينا في شرح الحديث الجمع بين اختلاف الروايات في عدد صلاته فإنه كان يصلي إحدى عشرة ركعة وهي كانت وظيفته الدائمة وكان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين فهذه ثلاث عشرة ركعة
وكان يصلي إذا طلع الفجر ركعتين ثم يخرج إلى صلاة الصبح فهذا تأويل قول من روى أنه كان يصلي خمس عشرة ركعة
وقد روت عائشة في الصحيح أن النبي كان يصلي تسع ركعات فيها الوتر ولعل ذلك كان حين ضعف وأسن وحطمه البأس أو كان لألم والله أعلم
الآية السابعة
قوله تعالى (* (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا) *) الآية 8
فيها مسألتان
المسألة الأولى في معنى التبتل
وهو عند العرب التفرد قاله ابن عرفة وقال غيره وهو الأقوى هو القطع يقال بتل إذا قطع وتبتل إذا كان القطع في نفسه فلذلك قالوا إن معنى الآية انفرد لله وصدقة بتلة أي منقطعة من جميع المال
وفي حديث سعد رد رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له فيه لاختصينا يعني الانقطاع عن النساء
321

اتخذ له الباب بعد ذلك ولم يكن ترك الباب له شرعا وإنما كان من تقصير النفقة واختصار الحالة
المسألة الرابعة
مع أن المساجد لله لا يذكر فيها غير الله فإنه تجوز القسمة للأموال فيها ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين فكل من جاء أكل ويجوز حبس الغريم فيها وربط الأسير والنوم فيها وسكنى المريض فيها وفتح الباب للجار وإنشاد الشعر فيها إذا عري عن الباطل ولا نبالي أن يكون غزلا وقد بينا ذلك في موضعه
المسألة الخامسة قوله (* (فلا تدعوا مع الله أحدا) *)
هذا توبيخ للمشركين في دعواهم مع الله غيره في المسجد الحرام وهو لله اصطفاه لهم واختصهم به ووضعه مسكنا لهم
وأحياه بعد الممات على يد أبيهم وعمره من الخراب بسلفهم وحين بلغت الحالة إليهم كفروا هذه النعمة وأشركوا بالله غيره فنبه الله رسوله عليهم وأوعز على لسانه إليهم به وأمرهم بإقامة الحق فيه وإخلاص الدعوة لله بمعالمه
322

سورة المزمل فيها تسع آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) *) الآيتان 1 و 2
فيها مع التي تليها ست مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (يا أيها المزمل) *))
هو الملتف بإضافة الفعل إلى الفاعل وكل شيء لفف في شيء فقد زمل به ومنه قيل للفافة الراوية والقربة زمال
وفي الحديث في قتلى أحد زملوهم بثيابهم ودمائهم أي لففوهم يقال تزمل يتزمل فإذا أدغمت التاء قلت ازمل بتشديدين
واختلف في تأويله فمنهم من حمله على حقيقته قيل له يا من تلفف في ثيابه أو في قطيفته قم قاله إبراهيم وقتادة ومنهم من حمله على المجاز كأنه قيل له يا من تزمل بالنبوة
روى عكرمة أنه قال معناه يا من تزمل أي زملت هذا الأمر فقم به
فأما العدول عن الحقيقة إلى المجاز فلا يحتاج إليه لا سيما وفيه خلاف الظاهر وإذا تعاضدت الحقيقة والظاهر لم يجز العدول عنه وأما قول عكرمة إنك زملت هذا الأمر فقم به وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشددة بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله وأما وهو بلفظ الفاعل فهو باطل
323

وأما قول من قال إنه زمل بالقرآن فهو صحيح في المجاز لكنه كما قدمنا لا يحتاج إليه ويشهد لمعناه حديث يؤثر لم يصح وهو قوله إن الله قد زادكم صلاة إلى صلاتكم هذه وهي الوتر فأوتروا يا أهل القرآن
المسألة الثانية في المعنى
وهو الأول في القول قوله (* (قم) *) هو فعل لا يتعدى ولكنه على أصل الأفعال القاصرة في تعديه إلى الظروف فأما ظرف الزمان فسائغ فيه وارد كثيرا به يقال قام الليل وصام النهار فيصح ويفيد وأما ظرف المكان فلا يصل إليه إلا بواسطة لا تقول قمت الدار حتى تقول وسط الدار وخارج الدار وقد قيل قم ها هنا بمعنى صل عبر به عنه واستعير له عرفا فيه بكثرة الاستعمال
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (الليل) *))
فخصه بالذكر واختلف في وجه تخصيصه فمنهم من قال خصه بالذكر لأنه أشق وسيأتي بيانه وقيل خصه بالذكر لأنه كان فرضا
في صحيح مسلم وغيره عن عائشة واللفظ لمسلم قال سعد بن هشام بن عامر فانطلقت إلى عائشة فقلت يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق النبي قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى قالت فإن خلق النبي كان القرآن قال فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت
ثم قلت أنبئيني عن قيام رسول الله فقالت ألست تقرأ يا أيها المزمل قلت بلى قالت فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبي وأصحابه حولا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضته وذكر الحديث
المسألة الرابعة
إن الله سبحانه خلق المكان والزمان سعة للإنسان ومجالا للعمل كما تقدم في قوله
324

(* (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) *) الفرقان 62 وكما أن العمل في الآدمي أصل خلقي فكذلك الزمان للسياحة وجه خلقي أيضا لكن الحكمة فيه أن يقدم للدار الأخرى ويعتمد فيه قبل العمل ما هو به أولى وأحرى ولو عمره كله بالشكر والذكر ورزق على ذلك قدرة ما كان قضاء لحق النعمة فوضعه الله أوقاتا للعبادة وأوقاتا للعادة فالنهار خمسة أقسام الأول من الصبح إلى طلوع الشمس محل لصلاة الصبح وهو فسحة للفريضة فإن أديت كانت فيه محلا للذكر وكان رسول الله إذا صلى الصبح جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسا فإذا طلعت قام إلى وظيفته الآدمية حتى تبيض الشمس فيكون هنالك عبادة نفلية يمتد وقتها إلى أن تجد الفصال حر الشمس في الأرض لقول النبي صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال
وهو أيضا خلفة لمن نام عن قيام الليل لقوله عليه السلام من فاته حزبه من الليل فصلاه ما بين صلاة الصبح إلى صلاة الظهر فكأنه لم يفته وهو مغمور بحال المعاش
قال الإمام كنا بثغر الإسكندرية مرابطين أياما وكان في أصحابنا رجل حداد وكان يصلي معنا الصبح ويذكر الله إلى طلوع الشمس ثم يحضر حلقة الذكر ثم يقوم إلى حرفته
حتى إذا سمع النداء بالظهر رمى بالمرزبة في أثناء العمل وتركه وأقبل على الطهارة وجاء المسجد فصلى وأقام في صلاة أو ذكر حتى يصلي العصر ثم ينصرف إلى منزله في معاشه حتى إذا غابت الشمس جاء فصلى المغرب ثم عاد إلى فطره ثم يأتي المسجد فيركع أو يسمع ما يقال من العلم حتى إذا صلى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله
وهو محل للقائلة وهي نوم النهار المعين على قيام الليل في الصلاة أو العلم
فإذا زالت الشمس حانت صلاة الظهر فإذا صار ظل كل شيء مثله حانت صلاة العصر فإذا غربت الشمس زال النهار بوظائفه ونوافله
325

ثم يدخل الليل فتكون صلاة المغرب وكان ما بعدها وقتا للتطوع يقال إنه المراد بقوله (* (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) *) السجدة 16 وإنه المراد أيضا بقوله (* (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا) *) المزمل 6
ثم يغيب الشفق فتدخل العشاء الآخرة ويمتد وقتها إلى نصف الليل أو ثلثه وهو محل النوم إذا صلى العشاء الآخرة إلى نصف الليل فإذا انتصف الليل فهو وقت لقيام الليل
في الحديث الصحيح ينزل ربنا جل وعلا كل ليلة إلى سماء الدنيا إذا ذهب شطر الليل فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له حتى إذا ذهب ثلث الليل فهو أيضا وقت للقيام لقوله إذا بقي ثلث الليل ينزل ربنا إلى سماء الدنيا الحديث
وفي الحديث أيضا خرجه مسلم إذا ذهب ثلث الليل الأول ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له وعلى هذا الترتيب جاء قوله تعالى (* (قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا) *) المزمل 2 - 3 هو إذا بقي ثلث الليل (* (أو زد عليه) *) وهو إذا ذهب ثلث الليل الأول وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن فإنهما ينظران من مشكاة واحدة حتى إذا بقي سدس الليل كان محلا للنوم ففي الحديث الصحيح أن النبي حث على سنن داود في صومه وقيامه فقال عليه السلام إن داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ثم يطلع الفجر فتعود الحالة الأولى هكذا أبدا ذلك تقدير العزيز العليم وتدبير العلي الحكيم
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (إلا قليلا) *))
استثنى من الليل كله (* (قليلا) *) وهذا استثناء على وجه كلام فيه وهو إحالة التكليف على مجهول يدرك علمه بالاجتهاد إذ لو قال إلا ثلثه أو ربعه أو سدسه لكان بيانا نصا فلما قال (* (إلا قليلا) *) وكان مجملا لا يدرك إلا بالاجتهاد دل ذلك على أن القياس أصل من أصول الشريعة وركن من أركان أدلة التكليف
326

المسألة السادسة وهي من الآية الثانية قوله (* (نصفه) *))
ذكر علماء الأصول أن قوله (* (نصفه) *) دليل على استثناء الأكثر من الجملة وإنما يفيد استثناء شيء فبقي مثله والمطلوب استثناء شيء من الجملة فبقي أقل منها تحت اللفظ المتناول للجميع وهذا مبني على أصل وهو أن قوله (* (نصفه) *) بدل من قوله (* (الليل) *) كأن تقدير الكلام قم نصف الليل أو انقص منه أو زد عليه يسيرا ويعضده حديث ابن عباس في الصحيح بت عند خالتي ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا ذكر أول الحديث وآخره
وإن كان قوله (* (نصفه) *) بدلا من قوله (* (قليلا) *) كان تقدير الكلام قم الليل إلا نصفه أو أقل من نصفه أو أكثر من نصفه ويكون أيضا استثناء الأكثر من متناول الجملة وإذا احتمل الوجهين سقط الاحتجاج به لا سيما والأول أظهر
وفي الصحيح أن النبي مر بحبل معلق في المسجد فسأل عنه فقيل له فلانة تصلي لا تنام الليل فإذا أضعفت تعلقت به فقال النبي اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا
وقد اندرجت الآية الثالثة في هذه الأوجه وهي قوله (* (أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا) *) الآية 4 قال أهل اللغة معناه بين قراءته تقول العرب ثغر رتل ورتل بفتح العين وكسرها إذا كان مفلجا لا فضض فيه
قال مجاهد معناه بعضه إثر بعض وقال سعيد بن جبير معناه فسره تفسيرا يريد تفسير القراءة حتى لا يسرع فيه فيمتزج بعضه ببعض
وقد روى الحسن أن النبي مر برجل يقرأ آية ويبكي فقال ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى (* (ورتل القرآن ترتيلا) *) هذا الترتيل
وسمع رجل علقمة يقرأ قراءة حسنة فقال رتل القرآن فداك أبي وأمي
وقد روى أنس أن قراءة النبي كان يمد صوته مدا وقد تقدم تمام هذا
327

الآية الرابعة
قوله تعالى (* (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) *) الآية 5
فيها قولان
أحدهما ثقله على النبي حين كان يلقيه الملك إليه وقد سئل كيف يأتيك الوحي فقال أحيانا يأتيني الملك مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وقد كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيتفصد جبينه عرقا
الثاني ثقل العمل به قاله الحسن وقتادة وغيرهما
والأول أولى لأنه قد جاء (* (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *) الحج 78 وجاء عن النبي بعثت بالحنيفية السمحة
وقد قيل أراد ثقله في الميزان
وقد روي أن النبي كان ينزل عليه الوحي وهو على ناقته فتلقي بجرانها على الأرض فلا يزال كذلك حتى يسرى عنه وهذا يعضد ثقل الحقيقة
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا) *) الآية 6
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى (* (ناشئة الليل) *))
فاعلة من قولك نشأ ينشأ فهو ناشئ ونشأت تنشأ فهي ناشئة ومنه قوله تعالى (* (أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) *) الزخرف 18 وقال العلماء بالأثر إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة
328

المسألة الثانية اختلف العلماء في تعيينها على أقوال
جملتها قولان
أحدهما أنها بين المغرب والعشاء منهم ابن عمر إشارة إلى أن لفظ نشأ يعطي الابتداء فهو بالأولية أحق ومنه قول الشاعر
(ولولا أن يقال صبا نصيب
* لقلت بنفسي النشأ الصغار)
الثاني أنه الليل كله قال ابن عباس وهو الذي اختاره مالك بن أنس وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (أشد وطأ) *))
قرىء بفتح الواو وإسكان الطاء فممن قرأه كذلك نافع وابن كثير والكوفيون وقرئ بكسر الطاء ممدودا وممن قرأه كذلك أهل الشام وأبو عمرو
فأما من قرأه بفتح الواو وإسكان الطاء فإنه أشار إلى ثقله على النفس لسكونها إلى الراحة في الليل وغلبة النوم فيه على المرء
وأما من قرأه بكسر الفاء وفتح العين فإنه من المواطأة وهي الموافقة لأنه يتوافق فيه السمع لعدم الأصوات والبصر لعدم المرئيات والقلب لفقد الخطرات
قال مالك أقوم قيلا هدوا من القلب وفراغا له
والمعنيان فيه صحيحان لأنه يثقل على العبد وأنه الموافق للقصد
الآية السادسة
قوله تعالى (* (إن لك في النهار سبحا طويلا) *) الآية 7
فيه أربع مسائل
المسألة الأولى
قال أهل اللغة معناه اضطرابا ومعاشا وتصرفا سبح يسبح إذا تصرف
329

واضطرب ومنه سباحة الماء ومنه قوله (* (كل في فلك يسبحون) *) الأنبياء 33 يعني يجرون وقال (* (والسابحات سبحا) *) النازعات 3 قيل الملائكة تسبح بين السماء والأرض أي تجري وقيل هي السفن وقيل أرواح المؤمنين تخرج بسهولة
وقال أبو العالية معناه فراغا طويلا وساعده عليه غيره فأما حقيقة س ب ح فالتصرف والاضطراب فأما الفراغ فإنما يعني به تفرغه لأشغاله وحوائجه عن وظائف تترتب عليه فأحد التفسيرين لفظي والآخر معنوي
المسألة الثانية
قرئ سبخا بالخاء المعجمة ومعناه راحة وقيل نوما والتسبيخ النوم الشديد يقال سبخ أي نام بالخاء المعجمة وسبح بالحاء المهملة أي تصرف كما تقدم
وفي الحديث أنه سمع عائشة تدعو على سارق فقال لا تسبخي عنه بدعائك أي لا تخففي عنه فإن السارق أخذ مالها وهي أخذت من عرضه فإذا وقعت المقاصة كان تخفيفا مما لها عليه من حق السرقة ويعضده قوله تعالى في الأثر من دعا على من ظلمه فقد انتصر
وهذه إشارة إلى أن الليل عوض النهار وكذلك النهار عوض الليل كما تقدم في قوله تعالى (* (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) *) الفرقان 62
المسألة الثالثة
في هذه الآية تنبيه على نوم القائلة الذي يستريح به العبد من قيام الليل في الصلاة أو في العلم
المسألة الرابعة في حال النبي في ذلك
فقد كان يصلي إحدى عشرة ركعة وروي ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بخمس لا يجلس إلا في آخرها
330

وفي الأثر لا رهبانية ولا تبتل في الإسلام ومنه مريم العذراء البتول أي التي انقطعت عن الرجال وتسمى فاطمة بنت رسول الله البتول لانقطاعها عن نساء زمانها في الفضل والدين والنسب والحسب وهذا قول أحدثته الشيعة وإلا فقد اختلف الناس في التفضيل بينها وبين عائشة وليست من المسائل المهمة وكلتاهما من الدين والجلال في الغاية القصوى وربك أعلم بمن هو أفضل وأعلى وقد أشرنا إليه في كتاب المشكلين وشرح الصحيحن
المسألة الثانية
قد تقدم في سورة المائدة في تفسير قوله تعالى (* (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) *) المائدة 87 حال الدين في الكراهية لمن تبتل فيه وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما يغني عن إعادته وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس وخفت أماناتهم واستولى الحرام على الحطام فالعزلة خير من الخلطة والعزبة أفضل من التأهل ولكن معنى الآية انقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله وكذلك قال مجاهد معناه أخلص له العبادة ولم يرد انقطع عن الناس والنساء وهو اختيار البخاري لأجل ما روي من نهي النبي عن التبتل فصار التبتل مأمورا به في القرآن منهيا عنه في السنة ومتعلق الأمر غير متعلق النهي إذ لا يتناقضان وإنما بعث النبي ليبين للناس ما نزل إليهم فالتبتل المأمور به الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة كما قال (* (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) *) البينة 5
والتبتل المنهي عنه هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن
332

الآية الثامنة
قوله تعالى (* (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) *) الآية 1
فيها مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية منسوخة بآية القتال
وكل منسوخ لا فائدة لمعرفة معناه لا سيما في هذا الموضع إلا على القول بأن المرء إذا غلب بالباطل كان له أن يفعل ما فعله النبي مع الكفار حين غلبوه وهي
المسألة الثانية
فأما الصبر على ما يقولون فمعلوم وأما الهجر الجميل فهو الذي لا فحش فيه وقيل هو السلام عليهم وبالجملة فهو مجرد الإعراض
الآية التاسعة
قوله تعالى (* (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) *) الآية 2
فيها إحدى عشرة مسألة
المسألة الأولى قوله (* (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى) *) الآية
هذا تفسير لقوله (* (قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه) *) المزمل 2 - 3 - 4 كما قدمنا
(* (وطائفة من الذين معك) *) روي أنها لما نزلت (* (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) *) قاموا حتى تورمت أقدامهم فخفف الله عنهم هذا قول عائشة وابن
333

عباس لكن عائشة قالت خفف الله عنهم بالصلوات الخمس وقال ابن عباس بآخر السورة ونبينه إن شاء الله
المسألة الثانية قوله تعالى (* (والله يقدر الليل والنهار) *))
يعني يقدره للعبادات فإن تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما شاء من وظائف التكليف
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (علم أن لن تحصوه) *))
يعني تطيقوه
اعلموا وفقكم الله أن البارئ تعالى وإن كان له أن يحكم في عباده بما شاء ويكلفهم فوق الطوق فقد تفضل بأن أخبر أنه لا يفعل وما لا يطاق يقسم قسمين
أحدهما ألا يطاق جنسه أي لا تتعلق به قدرة
والثاني أن القدرة لم تخلق له وإن كان جنسه مقدورا كتكليف القائم القعود أو القاعد القيام وهذا الضرب قد يغلب إذا تكرر بقيام الليل منه فإنه وإن كان مما تتعلق به القدرة فإنه يغلب بالتكرار والمشقة كغلبة خمسين صلاة لو كانت مفروضة كما أن الاثنين والعشرين ركعة الموظفة كل يوم من الفرض والسنة تغلب الخلق فلا يفعلونها وإنما يقوم بها الفحول في الشريعة
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (فتاب عليكم) *))
أي رجع عليكم بالفراغ الذي كنتم فيه من تكليفها لكم وهذا يدل على أن آخر السورة هي التي نسختها كما روت عائشة في الصحيح وكما نقله المفسرون عنها
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) *))
فيه قولان
أحدهما أن المراد به نفس القراءة
الثاني أن المراد به الصلاة عبر عنها بالقراءة لأنها فيها كما قال (* (وقرآن) *
334

* (الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) *) وهو الأصح لأنه عن الصلاة أخبر وإليها رجع القول
المسألة السادسة قوله (* (علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله) *))
بين الله سبحانه علة التخفيف بأن الخلق منهم المريض ومنهم المسافر في طلب الرزق ومنهم الغازي وهؤلاء يشق عليهم القيام فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء وقد بينا حكمة الشريعة في أمثال هذا المقصد
المسألة السابعة قوله تعالى (* (فاقرؤوا ما تيسر منه) *))
معناه صلوا ما أمكن ولم يفسره ولهذا قال قوم إن فرض قيام الليل بقي في ركعتين من هذه الآية قاله البخاري وغيره وعقد باب يعقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل
وذكر في حديث آخر يعقد قافية رأس أحدكم ثلاث عقد يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان
وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي في الرؤيا قال أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه الذي يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة
وحديث عبد الله بن مسعود قال ذكر عند النبي رجل نام الليل إلى الصباح فقال ذاك رجل بال الشيطان في أذنه
وهذه كلها أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل
وفي الصحيح واللفظ للبخاري قال عبد الله بن عمر قال لي رسول الله يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ولو كان فرضا ما اقره النبي ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه بل كان يذمه غاية الذم
335

وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر قال كان الرجل في حياة النبي إذا رأى رؤيا قصها على النبي فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على النبي وكنت غلاما عزبا شابا وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان وإذا فيها ناس قد عرفتهم فجعلت أقول أعوذ بالله من النار قال ولقينا ملك آخر فقال لي لم ترع فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله فقال نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا ولو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك لم ترع والله أعلم
المسألة الثامنة
تعلق كثير من الفقهاء في تعيين القراءة في الصلاة بهذه الآية وهي قوله (* (فاقرؤوا ما تيسر منه) *) فقال قوم هي آية وقال قوم هي ثلاث آيات لأنها أقل سورة وبه قال أبو حنيفة
وقد بينا أن المراد بالقراءة ها هنا الصلاة وإنما يصح هذا التقدير ويتصور الخلاف في قول النبي للرجل الذي علمه النبي الصلاة وقال له ارجع فصل فإنك لم تصل وقال له اقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر معك من القرآن وقد تكلمنا عليه في مسائل الخلاف بما فيه كفاية لبابه أنا لو قلنا إن المراد به القراءة لكان النبي قد عين هذا المبهم بقوله لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب خرجه الشيخان وكان النبي يقرؤها في كل ركعة فقد اعتضد القول والفعل
جواب آخر وذلك أن النبي إنما قصد والله أعلم التخفيف عن الرجل فقال له اقرأ ما تيسر معك من القرآن أي ما حفظت وقد ظن القاضي أبو زيد الدبوسي فحل الحنفية الأهدر ومناضلها الأقدر أن قوله فاقرؤوا ما تيسر منه مع زيادة الفاتحة عليه زيادة على النص والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن لا يجوز إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر على الوجه الذي تمهد في أصول الفقه
336

وأجاب علماؤنا بأن الزيادة على النص لا تكون نسخا وقد قررناه في أصول الفقه وهو مذهب ضعيف جدا
قال القاضي أبو زيد الدبوسي الصلاة تثبت بالتواتر فأركانها يجب أن تثبت بمثله فنأمره بقراءة فاتحة الكتاب لخبر النبي ولا يعيد الصلاة بتركها لئلا تثبت الأركان بما لم يثبت به الأصل
قلنا هذا باطل ليس عليه دليل وإنما هو مجرد دعوى وقد اتفقنا على ثبوت أركان البيع بخبر الواحد وبالقياس وأصل البيع ثابت بالقرآن وهذا بعض ما قررناه في مسائل الخلاف فلينظر ما بقي من القول هنالك إن شاء الله تعالى
المسألة التاسعة قوله تعالى (* (وأقيموا الصلاة) *))
المسألة العاشرة قوله تعالى (* (وآتوا الزكاة) *))
وقد تقدم بيانهما
المسألة الحادية عشرة قوله تعالى (* (وأقرضوا الله قرضا حسنا) *))
وقد تقدم ذلك في سورة البقرة
337

سورة المدثر فيها أربع آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (يا أيها المدثر) *) الآية 1
فيها مسألتان
المسألة الأولى
روى العدل في الصحيح واللفظ للبخاري قال يحيى بن أبي كثير سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال (* (يا أيها المدثر) *) قلت إنهم يقولون (* (اقرأ باسم ربك الذي خلق) *) فقال أبو سلمة سألت جابر ابن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت فقال جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله قال جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يمين فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا قال فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت (* (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر) *)
وقال بعض المفسرين إنه جرى على النبي من عقبة بن ربيعة أمر فرجع إلى منزله مغموما فتلفف واضطجع فنزلت (* (يا أيها المدثر) *) وهذا باطل
وقيل أراد يا من تدثر بالنبوة وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبيا إلا بعد على أنها أول القرآن ولم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل
338

المسألة الثانية
هذه ملاطفة من الكريم إلى الحبيب ناداه بحاله وعبر عنه بصفته ومثله قول النبي لعلي رضي الله عنه قم أبا تراب إذ خرج مغاضبا لفاطمة ونام في المسجد فسقط رداؤه وأصابه ترابه وقوله لحذيفة يوم الخندق قم يا نومان
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وربك فكبر) *) الآية 3
فيها مسألتان
المسألة الأولى
التكبير هو التعظيم حسبما بيناه في كتاب الأمد الأقصى ومعناه ذكر الله بأعظم صفاته بالقلب والثناء عليه باللسان بأقصى غايات المدح والبيان والخضوع له بغاية العبادة كالسجود له ذلة وخضوعا
المسألة الثانية
هذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة فإنه مراد به التكبير والتقديس والتنزيه بخلع الأنداد والأصنام دونه ولا تتخذ وليا غيره ولا تعبد ولا ترى لغيره فعلا إلا له ولا نعمة إلا منه لأنه لم تكن صلاة عند نزولها وإنما كان ابتداء التوحيد
وقد روي أن أبا سفيان قال يوم أحد اعل هبل اعل هبل فقال النبي قولوا له الله أعلى وأجل وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله الله أكبر وحمل عليه لفظ النبي الوارد على الإطلاق في مواردها منها قوله تحريمها التكبير وتحليلها التسليم والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعمومه ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشرك وإعلانا باسمه في النسك وإفرادا لما شرع لأمره بالسفك
339

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وثيابك فطهر) *) الآية 4
فيها مسألتان
المسألة الأولى
اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على قولين
أحدهما أنه أراد نفسك فطهر والنفس يعبر عنها بالثياب كما قال امرؤ القيس
(وإن تك قد ساءتك مني خليقة
* فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي)
الثاني أن المراد به الثياب الملبوسة فتكون حقيقة ويكون التأويل الأول مجازا والذي يقول إنها الثياب المجازية أكثر روى ابن وهب عن مالك أنه قال ما يعجبني أن أقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الطريق قال الله تعالى (* (وثيابك فطهر) *) يريد مالك أنه كنى بالثياب عن الدين
وقد روى عبد الله بن نافع عن أبي بكر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس في قوله تعالى (* (وثيابك فطهر) *) أي لا تلبسها على غدرة
وقد روي ذلك مسندا إلى ابن عباس وكثيرا ما تستعمله العرب في ذلك كله قال أبو كبشة
(ثياب بني عوف طهارى نقية
* وأوجههم عند المشاعر غران)
يعني بطهارة ثيابهم سلامتهم من الدناءات ويعني بغرة وجوههم تنزيههم عن المحرمات أو جمالهم في الخلقة أو كليهما وقد قال غيلان بن سلمة الثقفي
(فإني بحمد الله لا ثوب غادر
* لبست ولا من غدرة أتقنع))
المسألة الثانية
ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز على ما بيناه في أصول الفقه وإذا حملناها على الثياب المعلومة الظاهرة فهي تتناول معنيين
340

أحدهما تقصير الأذيال فإنها إذا أرسلت تدنست ولهذا قال عمر بن الخطاب لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخيا يا غلام ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى وقد قال النبي في الصحيح إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك ففي النار فقد جعل النبي الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد ما تحته بالنار فما بال رجال يرسلون أذيالهم ويطيلون ثيابهم ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر وقائدة العجب وأشد ما في الأمر أنهم يعصون ويحتجون ويلحقون أنفسهم بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه قال النبي لا ينظر الله لمن جر ثوبه خيلاء ولفظ الصحيح من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله له يوم القيامة قال أبو بكر يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه قال رسول الله لست ممن يصنعه خيلاء فعم رسول الله بالنهي واستثنى أبا بكر الصديق فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالأقصياء وليس ذلك لهم
والمعنى الثاني غسلها من النجاسة وهو ظاهر منها صحيح فيها وقد بينا اختلاف الأقوال في ذلك بصحيح الدلائل ولا نطول بإعادته وقد أشار بعض الصوفية إلى أن معناه وأهلك فطهر وهذا جائز فإنه قد يعبر عن الأهل بالثياب قال الله تعالى (* (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) *) البقرة 187
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (ولا تمنن تستكثر) *) الآية 6
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى ذكر المفسرون فيها ستة أقوال
الأول لا تعط عطية فتطلب أكثر منها روي عن ابن عباس
الثاني لا تعط الأغنياء عطية لتصيب منهم أضعافها
341

الثالث لا تعط عطية تنتظر ثوابها
الرابع ولا تمنن بالنبوة على الناس تأخذ أجرا منهم عليها
الخامس لا تمنن بعملك تستكثره على ربك قاله الحسن
السادس لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه
المسألة الثانية
هذه الأقوال يتقارب بعضها وهي الثلاثة الأول فأما قوله لا تعط عطية فتطلب أكثر منها فهذا لا يليق بالنبي ولا يناسب مرتبته وقد قال (* (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) *) الروم 39 على ما بينا معناه وقد روى أبو داود وغيره عن عائشة أن النبي كان يقبل الهدية ويثيب عليها
وفي الصحيح في الحديث واللفظ للبخاري قال لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت ولفظه مختلف فكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب لأنها باب من أبواب المذلة وكذلك قول من قال إن معناه لا تعط عطية تنتظر ثوابها فإن الانتظار تعلق بالإطماع وذلك في حيزه بحكم الامتناع وقد قال الله تعالى (* (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) *) طه 131 وذلك جائز لسائر الخلق لأنه من متاع الحياة الدنيا وطلب الكسب فيها والتكاثر منها
وأما من قال أراد به العمل أي لا تستكثر به على ربك فهو صحيح فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر وهذا كله بني على أصل وهي
342

المسألة الثالثة
وذلك أن قوله (* (تستكثر) *) قد وردت القراءات بالروايات فيه بإسكان الراء وروي بضم الراء فإذا أسكنت الراء كانت جوابا للأمر بالتقلل فيكون الأول الثاني وإن ضممت الراء كان الفعل بتقدير الاسم وكان بمعنى الحال التقدير ولا تمنن مستكثرا وكان الثاني غير الأول وهذا ينبني على أصل وهي
المسألة الرابعة وهو القول في تحقيق المن
وهو ينطلق على معنيين
أحدهما العطاء
والثاني التعداد على المنعم عليه بالنعم فيرجع إلى القول الأول ويعضده قوله تعالى (* (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) *) البقرة 264 وقوله (* (لهم أجر غير ممنون) *) فصلت 8 ويعضد الثاني قوله (* (فامنن أو أمسك بغير حساب) *) ص 39 وقوله (* (فإما منا بعد وإما فداء) *) محمد 4 وقال النبي ما أحد أمن علينا من ابن أبي قحافة
والآية تتناول المعنيين كليهما والله أعلم
343

سورة القيامة فيها أربع آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره) *) الآيتان 14 - 15
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه لأنها شهادة منه عليها قال الله سبحانه (* (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) *) النور 24 ولا خلاف فيه لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه لأن العاقل لا يكذب على نفسه وقد قال الله سبحانه في كتابه الكريم (* (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) *) آل عمران 81 وقال تعالى (* (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) *) التوبة 12 وهو في الآثار كثير قال النبي واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها
المسألة الثانية
لا يصح إقرار إلا من مكلف لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه لأن الحجر
344

يسقط قوله إذا كان لحق نفسه فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط ومنه جائز وبيانه في مسائل الفقه
وللعبد حالتان في الإقرار
أحدهما في ابتدائه ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم
والثانية في انتهائه وذلك مثل إبهام الإقرار وله صور كثيرة وأمهاتها ست
الصورة الأولى أن يقول له عندي شيء قال الشافعي لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر فإذا فسر به قبل منه وحلف عليه
الصورة الثانية أن يفسرها بخمر أو خنزير وما لا يكون مالا في الشريعة لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له
الصورة الثالثة أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرجين أو كلب فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء لأن الحكم قد نفذ بإبطاله
وقال بعض أصحاب الشافعي يلزم الخمر والخنزير وهو قول باطل وقال أبو حنيفة إذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما
وهذا ضعيف فإن غيرهما يثبت في الذمة إذ وجب ذلك إجماعا
الصورة الرابعة إذا قال له عندي مال قبل تفسيره بما يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين ما لم يجيء من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه
الصورة الخامسة أن يقول له عندي مال كثير أو عظيم فقال الشافعي يقبل في الحبة وقال أبو حنيفة لا يقبل إلا في نصاب الزكاة وقال علماؤنا في ذلك أقوالا
345

مختلفة منها نصاب السرقة والزكاة والدية وأقله عندي نصاب السرقة لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في عظيم وقد بيناه في مسائل الخلاف وبه قال أكثر الحنفية ومن تعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما قيل له ومن أين تقول ذلك قال لأن الله تعالى قال (* (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) *) وغزواته وسراياه كانت ثنتين وسبعين وهذا لا يصح لأنه أخرج حنينا منها فكان حقه أن يقول يقبل في واحد وسبعين وقد قال الله تعالى (* (اذكروا الله ذكرا كثيرا) *) الأحزاب 41 وقال (* (لا خير في كثير من نجواهم) *) النساء 114 وقال (* (والعنهم لعنا كبيرا) *) الأحزاب 68
الصورة السادسة إذا قال له علي عشرة أو مائة أو ألف فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه فإن قال ألف درهم أو مائة عبد أو مائة وخمسون درهما فإنه تفسير مبهم ويقبل منه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا لقوله مائة وخمسون درهما لأن الدرهم تفسير للخمسين والخمسين تفسير للمائة وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعي إن الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء وقد بينا في ملجئة المتفقهين تحقيق ذلك ويتركب على هذه الصور ما لا يحصى كثرة وهذه أصولها
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ولو ألقى معاذيره) *))
معناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يقبل منه وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعد ما أقر في الحدود التي هي خالص حق الله فقال أكثرهم منهم الشافعي وأبو حنيفة يقبل رجوعه بعد الإقرار وقال به مالك في أحد قوليه وقال في القول الآخر لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا
والصحيح جواز الرجوع مطلقا لما روى الأئمة منهم البخاري ومسلم أن النبي رد المقر بالزنا مرارا أربعا كل مرة يعرض عنه ولما شهد على نفسه أربع مرات
346

دعاه النبي وقال أبك جنون قال لا قال أحصنت قال نعم وفي حديث البخاري لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت وفي النسائي وأبي داود حتى قال له في الخامسة أنكتها قال نعم قال حتى غاب ذلك منك في ذلك منها قال نعم قال كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال نعم ثم قال هل تدري ما الزنا قال نعم أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا قال فما تريد مني بهذا القول قال أريد أن تطهرني قال فأمر به فرجم
قال الترمذي وأبو داود فلما وجد مس الحجارة مر يشتد فضربه رجل بلحي جمل وضربه الناس حتى مات فقال النبي هلا تركتموه قال أبو داود والنسائي تثبت رسول الله فأما لترك حد فلا وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله وفي قوله لعلك غمزت إشارة إلى قول مالك إنه يقبل رجوعه إذا ذكر فيها وجها
المسألة الرابعة
ومن الناس من قال إن معنى (* (ولو ألقى معاذيره) *)
أي ستوره بلغة أهل اليمن واحدها معذار وقال ثعلب واحدها معذرة المعنى أنه إذا اعتذر يوم القيامة وأنكر الشرك لا ينفع الظالمين معذرتهم ويختم على فمه فتشهد عليه جوارحه ويقال له كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
المسألة الخامسة
وهذا في الحر المالك لأمر نفسه وأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين إما أن يقر على بدنه أو على ما في يده وذمته فإن أقر على بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه
وقال محمد بن الحسن لا يقبل ذلك منه لأن بدنه مسترق بحق السيد وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه ودليلنا قوله عليه السلام من أصاب من هذه
347

القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد المعنى أن محل العقوبة أصل الخلقة وهي الدمية في الآدمية ولا حق للسيد فيها وإنما حقه في الوصف والتبع وهي المالية الطارئة عليه ألا ترى أنه لو أقر بمال لم يقبل حتى قال أبو حنيفة إنه لو قال سرقت هذه السلعة إنه يقطع يده ويأخذها المقر له
وقال علماؤنا السلعة للسيد ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق لأن مال العبد للسيد إجماعا فلا يقبل قوله فيه ولا إقراره عليه لا سيما وأبو حنيفة يقول إن العبد لا ملك له ونحن وإن قلنا إنه يصح تملكه ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين
المسألة السادسة
وقد قيل إن معنى قوله (* (بل الإنسان على نفسه بصيرة) *) أي عليه من يبصر أعماله ويحصيها وهم الكرام الكاتبون وهذه كلها مقاصد محتملة للفظ أقواها ما تقدم ذكرنا له
الآية الثانية
قوله تعالى (* (لا تحرك به لسانك لتعجل به) *) الآية 16
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
ثبت في الصحيح واللفظ للبخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله (* (لا تحرك به لسانك لتعجل به) *) قال كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك به شفتيه فقال ابن عباس فأنا أحركهما كما كان رسول الله يحركهما وقال سعيد أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل (* (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه) *) قال جمعه لك في صدرك وتقرؤه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه قال فاستمع له وأنصت (* (ثم إن علينا بيانه) *) ثم إن علينا أن نقرأه فكان رسول الله
348

بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي كما أقرأه
المسألة الثانية
هذا يعضد ما تقدم في سورة المزمل من قوله (* (ورتل القرآن ترتيلا) *) حسبما تقدم بيانه في ذلك الموضع وهذا المعنى صحيح وذلك أن المتلقن من حكمه الأوكد أن يصغي إلى الملقن بقلبه ولا يستعين بلسانه فيشترك الفهم بين القلب واللسان فيذهب روح التحصيل بينهما ويخزل اللسان بتجرد القلب للفهم فيتيسر التحصيل وتحريك اللسان يجرد القلب عن الفهم فيتعسر التحصيل بعادة الله التي يسرها وذلك معلوم عادة يتحقق لذي مشاهدة
قال الإمام كنت أحضر عند الحاسب بتلك الديار المكرمة وهو يجعل الأعداد على المتعلمين الحاسبين وأفواههم مملوءة من الماء حتى إذا انتهى إلقاؤه وقال ما معكم رمى كل واحد بما في فمه وقال ما معه ليعودهم خزل اللسان عن تحصيل المفهوم عن المسموع وللقوم في التعلم سيرة بديعة وهي أن الصغير منهم إذا عقل بعثوه إلى المكتب
فإذا عبر المكتب أخذه بتعليم الخط والحساب والعربية فإذا حذقه كله أو حذق منه ما قدر له خرج إلى المقرئ فلقنه كتاب الله فحفظ منه كل يوم ربع حزب أو نصفه أو حزبا حتى إذا حفظ القرآن خرج إلى ما شاء الله من تعليم العلم أو تركه ومنهم وهم الأكثر من يؤخر حفظ القرآن ويتعلم الفقه والحديث وما شاء الله فربما كان إماما وهو لا يحفظه وما رأيت بعيني إماما يحفظ القرآن لا رأيت فقيها يحفظه إلا اثنين ذلك لتعلموا أن المقصود حدوده لا حروفه وعلقت القلوب اليوم بالحروف وضيعوا الحدود خلافا لأمر رسول الله لكنه إنفاذ لقدر الله وتحقيق لوعد رسول الله وتبيين لنبوته وعضد لمعجزته
المسألة الثالثة
الباري سبحانه يجمع القرآن في قلب الرسول تيسيرا للتبليغ ويجمعه في قلب غيره تيسيرا لإقامة الحجة فإما أن يكون شفاء لما يعرض في الصدور وإما أن يكون عمى
349

في الأبصار والبصائر وإما أن يكون بينه وبين العلم به رين فيبقى تاليا ولا يجعل له من المعرفة ثانيا وهو أخفه حالا وأسلمه مآلا وقد حقق الله لرسوله وعده بقوله (* (سنقرئك فلا تنسى) *) الأعلى 6 وهو خبر وليس بأمر معنوي لثبوت الياء في الخط إجماعا وليس ينبغي بعد هذا تأويل لأنه لا يحتاج إليه
وفي الصحيح أنه كان يعارضه جبريل القرآن مرة في كل شهر رمضان حتى كان العام الذي قبضه الله بينه وبين الآخر عارضه مرتين ففطن لتأكيد الحفظ والجمع عنده وقال ما أراه إلا قد حضر أجلي إذ كان المقصود من بعثه إلى الخلق تبليغ الأحكام وتمهيد الشرع ثم يستأثر الله به على الخلق ويظهره برفعه إليه عنهم وينفذ بعد ذلك حكمه فيهم
المسألة الرابعة
انتهى النظر في هذه الآية بقوم من الرفعاء منهم قتادة إلى أن يقولوا في قوله ثم إن علينا بيانه أي تفصيل أحكامه وتمييز حلاله من حرامه حتى قال حين سئل عن ذلك إن منه وجوب الزكاة في مائتي درهم وهذا وإن لم يشهد له مساق الآية فلا ينفيه عمومها ونحن لا نرى تخصيص العموم بالسبب ولا بالأولى من الآية والحديث ولا بالمساق حسبما بيناه في أصول الفقه
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى) *) الآيتان 37 - 38
فيها مسألة واحدة
وهي ما تقدم في نظير هذه الآية ما يكون الولد من أحوال التخليق ولدا من النطفة والعلقة والمضغة وهذه الآية بظاهرها تقتضي أن المرتبة الثالثة بعد العلقة وتكون خلقا مسوى فتكون به المرأة أم ولد ويكون الموضوع سقطا وقد
350

حققنا ذلك واختلاف الناس فيه كما سبق وهذه التسوية أولها ابتداء الخلقة وآخرها استكمال القوة والكل مراد والله أعلم
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى) *) الآية 39
وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى وقد بينا في سورة الشورى أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب حسبما تقدم هنالك فليجتزئ به اللبيب فإنه وفى بالمقصود إن شاء الله تعالى
351

سورة الدهر فيها ست آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) *) الآية 1
وقد تقدم القول في الحين بما فيه الكفاية فلينظر في سورة إبراهيم عليه السلام
الآية الثانية
قوله تعالى (* (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا) *) الآية 2
بمعنى أخلاط ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة أصفر رقيق فيجمعهما الملك بأمر الله وتنقلهما القدرة من تطوير إلى تطوير حتى تنتهي إلى ما دبره من التقدير وقد بينا ذلك فيما تقدم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) *) الآية 7
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله تعالى (* (يوفون بالنذر) *))
فيه أقوال لبابها قولان
أحدهما يوفون بما افترض عليهم
352

الثاني يوفون بما اعتقدوه وبما عقدوه على أنفسهم ولا ثناء أبلغ من هذا كما أنه لا فعل أفضل منه فإن الله قد ألزم عبده وظائف وربما جهل العبد عجزه عن القيام بما فرض الله عليه فينذر على نفسه نذرا فيتعين عليه الوفاء به أيضا فإذا قام بحق الأمرين وخرج عن واجب النذرين كان له من الجزاء ما وصف الله في آخر السورة
وعلى عموم الأمرين كل ذلك حمله مالك روى عنه أشهب أنه قال (* (يوفون بالنذر) *) هو نذر العتق والصيام والصلاة وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال قال مالك يوفون بالنذر قال النذر هو اليمين
المسألة الثانية النذر مكروه بالجملة
ثبت في الصحيح عن مالك عن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة أن النبي قال قال الله تعالى لا يأتي النذر على ابن آدم بشيء لم أكن قدرته له إنما يستخرج به من البخيل وذلك لفقه صحيح وهو أن الباري سبحانه وعد بالرزق على العمل ومنه مفروض ومنه مندوب فإذا عين العبد ليستدر به الرزق أو يستجلب به الخير أو يستدفع به الشر لم يصل إليه به فإن وصل فهو لبخله والله أعلم
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *) الآية 8
فيها ست مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى ())
تنبيه على المواساة ومن أفضل المواساة وضعها في هذه الأصناف الثلاثة وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر سئل رسول الله أي الإسلام خير قال
353

تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وهذا في الفضل لا في الفرض من الزكاة على ما تقدم بيانه
المسألة الثانية قوله تعالى (* (على حبه) *))
وقد بيناه في سورة البقرة
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (مسكينا) *))
المسكين قد تقدم بيانه وهذا مثاله ما روي في شأن الأنصاري الذي ذكرنا قصته في سورة الحشر عند تأويل قوله (* (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *) الحشر 9 فهذا هو ذلك
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ويتيما) *))
وإنما أكد باليتيم لأنه مسكين مضعوف بالوحدة وعدم الكافل مع عجز الصغر
المسألة الخامسة قوله تعالى (* (وأسيرا) *))
وفي إطعامه ثواب عظيم وإن كان كافرا فإن الله يرزقه وقد تعين بالعهد إطعامه ولكن من الفضل في الصدقة لا من الأصل في الزكاة ويدخل فيه المسجون من المسلمين فإن الحق قد حبسه عن التصرف وأسره فيما وجب عليه فقد صار له على الفقير المطلق حق زائد بما هو عليه من المنع عن التحمل في المعاش أو التصرف في الطلب وهذا كله إذا خلصت فيه النية لله وهي
المسألة السادسة
دون توقع مكافأة أو شكر من المعطي فإذا لم يشكر فسخط المعطي يحبط ثوابه
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا) *) الآية 25
354

سورة المرسلات فيها ثلاث آيات
وهي من غرائب القرآن على ما أشرنا إليه في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ فإنها نزلت على رسول الله تحت الأرض وروى الصحيحان عن عبد الله بن مسعود قال كنا مع رسول الله في غار فنزلت (* (والمرسلات عرفا) *) فإنا لنتلقاها من فيه رطبة إذ خرجت حية من جحرها فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا فدخلت جحرها فقال رسول الله وقيت شركم كما وقيتم شرها
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ألم نجعل الأرض كفاتا) *) الآية 25
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى الكفات
الضم والجمع وهو مصدر يقال كفته يكفته كفتا وكفاتا مثل كتب يكتب كتبا وكتابا أي يجمعهم أحياء وأمواتا وكل شيء ضممته فقد كفته فإذا حل العبد في موضعه فهو كفاته وهو منزله وهو داره وهو حرزه وهو حريمه وهو حماه كان يقظان أو نائما والدليل عليه ما روي عن صفوان قال كنت نائما في المسجد على خميصة لي بثمن ثلاثين
درهما فجاء رجل فاختلسها مني فأخذ الرجل فأتي به النبي فأمر به ليقطع قال فقلت له أتقطعه من أجل ثلاثين درهما أنا أبيعه إياها وأنسئه ثمنها قال هلا قبل أن تأتيني به فكانت نفسه حيازة موضعه وحرزه وحريمه ومنعته وحصنه
356

المسألة الثانية قوله تعالى (* (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا) *))
يقتضي أن يدفن فيها الميت بجميع أجزائه كلها من شعر وظفر وثياب وما يواريه على التمام وما اتصل به وما بان عنه وقد قررنا ذلك في كتاب الجنائز من المسائل
المسألة الثالثة
احتج علماؤنا بهذه الآية في قطع النباش لأنه سرق من حرز مكفوت وحمى مضموم وقد عهدنا ذلك في مسائل الخلال وقررناه أن ينظر في دخوله في هذه الآية بأن نقول هذا حرز كفات لقول الله تعالى (* (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا) *) فجعل حال المرء فيها بعد الممات في كفتها له وضمها لحاله كحالة الحياة وما تحفظه وتحرز حاله حيا كذلك يجب أن يكون ميتا فهذا أصل ثبت بالقرآن ثم ينظر في دخوله تحت قوله (* (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *) المائدة 38 وذلك يثبت بطريق اللغة فإن السارق فيها هو آخذ المال على طريق الخفية ومسارقة الأعين وهذا فعله في القبر كفعله في الدار ثم ينظر بعد ذلك في أن الذي سرق مال لأن أبا حنيفة بقول إن الكفن ليس بمال لأنه معرض للإتلاف وقلنا نحن هو معرض للإتلاف في منفعة المالك كالملبوس في الحياة ثم ينظر في أنه مملوك لمالك فإن الميت مالك والدليل عليه أنه لو نصب شبكة في حال حياته فوقع فيها صيد بعد وفاته فإنه يكون له تقضى منه ديونه وتنفذ فيه وصاياه وحقيقة الملك موجودة في الكفن لأنه مختص به ومحتاج إليه فإذا ثبتت هذه الأركان من القرآن والمعنى ثبت القطع والله أعلم
الآية الثانية
قوله تعالى (* (إنها ترمي بشرر كالقصر) *) الآية 32
فيها ثلاث مسائل
357

المسألة الأولى
قال المفسرون فيها ستة أقوال
الأول أصول الشجرة
الثاني الجبل
الثالث القصر من البناء
الرابع خشب طوله ثلاثة أذرع قاله ابن عباس
الخامس أعناق الدواب
السادس روي أن ابن عباس قرأها القصر وفسرها بأعناق الإبل
المسألة الثانية
أما ق ص ر فهو بناء ينطلق على مختلفات كثيرة ينطلق عليها انطلاقا واحدا والمعنى مختلف في ذلك والصحيح ما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال (* (ترمي بشرر كالقصر) *) قال كنا نرفع الخشب بقصر ثلاث أذرع أو أقل فنرفعه للشتاء فنسميها القصر
المسألة الثالثة
أما ادخار القوت فقد تقدم القول فيه وأما ادخار الحطب والفحم فمستفاد من هذه الآية فإنه وإن لم يكن من القوت فإنه من مصالح المرء ومغاني مفاقره وذلك مما يقتضي النظر أن يكتسبه في غير وقت حاجته ليكون أرخص وحالة وجوده أمكن كما كان النبي يدخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه وماله ومن لم يكن له مال اكتسبه في وقت رخصه وكل شيء محمول عليه ولذلك قال العلماء فيمن وكل وكيلا يبتاع له فحما فابتاعه له في الصيف فإن ذلك لا يجوز لأنه وقت لا يحتاج إليه فيه وعندي أنه يلزمه لأنه الوقت الذي يبتاع فيه ليدخره العبد
358

لوقت الحاجة إليه إلا أن يقترن بذلك ما يوجب تخصيصه بحال فيحمل على ذلك المقتضى بالاستدلال
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) *) الآية 48
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
الركوع معلوم لغة معلوم شرعا حسبما قررناه فلا وجه لإعادته كراهية التطويل
المسألة الثانية
هذه الآية حجة على وجوب الركوع وإنزاله ركنا في الصلاة وقد انعقد الإجماع عليه وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه
ويل وعقاب وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا فمن كان يسجد لله تمكن من السجود ومن كان يسجد رئاء لغيره صار ظهره طبقا واحدا
المسألة الثالثة
روي في الصحيح قال عبد الله يعني ابن مسعود بينا نحن مع رسول الله في غار إذ نزلت عليه (* (والمرسلات عرفا) *) الحديث الخ فمن الفوائد العارضة ها هنا أن القرآن في محل نزوله ووقفه عشرة أقسام سماوي وأرضي وما تحت الأرض وحضري وسفري ومكي ومدني وليلي ونهاري وما نزل بين السماء والأرض وقد بيناه في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ والله أعلم
359

المسألة الرابعة
ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ (* (والمرسلات عرفا) *) فقالت يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله يقرأ بها في المغرب ثم ما صلى لنا حتى قبضه الله
وقد قدمنا أنه قرأ بالطور في المغرب في طريق أخرى
وفي الصحيحين أنه كان يقرأ في المغرب بطولى الطوليين
360

سورة النبأ فيها آيتان
الآية الأولى
قوله سبحانه وتعالى (* (وجعلنا الليل لباسا) *) الآية 1
امتن الله تعالى على الخلق بأن جعل الليل غيبا يغطي بسواده كما يغطي الثوب لابسه ويستر كل شيء كما يستره الحجاب
قاله أبو جعفر فظن بعض الغافلين أن الرجل إذا صلى عريانا ليلا في بيت مظلم أن صلاته صحيحة لأن الظلام يستر عورته وهذا باطل قطعا فإن الناس بين قائلين منهم من يقول إن ستر العورة فرض إسلامي لا يختص وجوبه بالصلاة ومنهم من قال إنه شرط من شروط الصلاة وكلاهما اتفقا على أن ستر العورة للصلاة في الظلمة كما هو في النور إثباتا بإثبات ونفيا بنفي ولم يقل أحد إنه يجب في النور ويسقط في الظلمة اجتراء بسترها عن ستر ثوب يلبسه المصلي فلا وجه لهذا بحال عند أحد من المسلمين
الآية الثانية
قوله تعالى (* (لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا) *) الآيتان 15 - 16
امتن الله سبحانه وتعالى على عباده بإنزاله الماء المبارك من السماء وبإخراجه الحب والنبات ولفيف الجنات وكل ما امتن الله به من النعم ففيه حق الصدقة بالشكر فإن الله جعل الصدقة شكر نعمة المال كما جعل الصلاة شكر نعمة البدن
وقد بينا ذلك في سورة الأنعام وغيرها وحققنا تفصيل وجوب الزكاة ومحلها ومقدارها بما يغني عن إعادته لظهوره وشموله في البيان بموضعين
361

سورة عبس فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (عبس وتولى) *) الآية 1
فيها مسألتان
المسألة الأولى
لا خلاف أنها نزلت في ابن أم مكتوم الأعمى وقد روي في الصحيح قال مالك إن هشام بن عروة حدثه عن عروة أنه قال نزلت (* (عبس وتولى) *) في ابن أم مكتوم جاء إلى النبي فجعل يقول يا محمد علمني مما علمك الله وعند النبي رجل من عظماء المشركين فجعل النبي يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول يا فلان هل ترى بما أقول بأسا فيقول لا ما أرى بما تقول بأسا فأنزل الله عز وجل (* (عبس وتولى) *)
قالت المالكية من علمائنا اسم ابن أم مكتوم عمرو ويقال عبد الله والرجل من عظماء المشركين هو الوليد بن المغيرة ويكنى أبا عبد شمس خرجه الترمذي مسندا قال أنبأنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي حدثني أبي قال هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت نزلت عبس وتولى فذكر مثله
المسألة الثانية هذا مثل قوله (* (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) *) الأنعام 52
ومعناه نحوه حيثما وقع وأن النبي إنما قصد تألف الرجل الطارئ ثقة بما
362

كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان كما قال إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه
وأما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة وقال آخرون إنه أمية بن خلف فهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين وذلك أن أمية والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما ولا حضرا معه وكان موتهما كافرين أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر ولم يقصد قط أمية المدينة ولا حضر عنده مفردا ولا مع أحد
الآية الثانية
قوله تعالى (* (في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة) *) الآيتان 13 - 14 وقد تقدم تفسيرها في سورة الواقعة عند ذكرنا لقوله تعالى (* (إنه لقرآن كريم في كتاب
مكنون لا يمسه إلا المطهرون) *) الواقعة 77 - 78 - 79 فلينظر هنالك فيه من احتاج إليه ها هنا
وقد قال وهب بن منبه إنه أراد بقوله (* (بأيدي سفرة كرام بررة) *) عبس 15 - 16 يعني أصحاب محمد
قال القاضي لقد كان أصحاب محمد كراما بررة ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية ولا قاربوا المرادين بها بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق ولا يشاركهم فيها سواهم ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم
روي في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران
وقوله (* (أنا صببنا الماء صبا) *) عبس 25 قد تقدم القول في أنها نزلت وأمثالها في معرض الامتنان وتحقيق القول فيها
363

سورة المطففين فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ويل للمطففين) *) الآية 1
فيها ست مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى النسائي عن ابن عباس قال لما قدم النبي المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله عز وجل (* (ويل للمطففين) *) فأحسنوا الكيل بعد ذلك
المسألة الثانية في تفسير اللفظ
قال علماء اللغة المطففون هم الذين ينقصون المكيال والميزان وقيل له المطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف مأخوذ من طف الشيء وهو جانبه ومنه الحديث كلكم بنو آدم طف الصاع يعني بعضكم قريب من بعض فليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى
وفي الموطأ قال مالك يقال لكل شيء وفاء وتطفيف والتطفيف ضد التوفية وروي أن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي إلى خيبر فاستخلف على المدينة سباع بن عرفطة فقال أبو هريرة فوجدناه في صلاة الصبح فقرأ في الركعة الأولى (* (كهيعص) *) وقرأ في الركعة الثانية (* (ويل للمطففين) *) قال أبو
364

هريرة فأقول في صلاتي ويل لأبي فلان له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي وإذا كال كال بالناقص
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وإذا كالوهم) *) المطففين
يعني كالوا لهم وكثير من الأفعال يأتي كذلك كقولهم شكرت فلانا وشكرت له ونصحت فلانا ونصحت له واخترت أهلي فلانا واخترت من أهلي فلانا سواء كان الفعل في التعدي مقتصرا أو متعديا أيضا وقد بيناه في الملجئة
المسألة الرابعة قوله (* (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) *))
فبدأ بالكيل قبل الوزن والوزن هو الأصل والكيل مركب عليه وكلاهما للتقدير لكن البارئ سبحانه وضع الميزان لمعرفة الأشياء بمقاديرها إذ يعلمها سبحانه بغير واسطة ولا مقدر ثم قد يأتي الكيل على الميزان بالعرف كما قال النبي المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة فالأقوات والأدهان يعتبر فيها الكيل دون الوزن لأن النبي بعث وهي تكتال بالمدينة فجرى فيها الكيل وكذلك الأموال الربوية يعتبر فيها المماثلة بالكيل دون الوزن حاشا النقدين حتى إن الدقيق والحنطة يعتبر فيهما الكيل وليس للوزن فيهما طريق وإن ظهر بينهما زيغ فهو كظهوره بين البرين وذلك غير معتبر وقد بيناه في مسائل الفقه
المسألة الخامسة
روى ابن القاسم عن مالك أنه قرا (* (ويل للمطففين) *) مرتين قال مسح المدينة من التطفيف وكرهه كراهية شديدة وروى أشهب قال قرأ مالك ويل للمطففين فقال لا تطفف ولا تجلب ولكن أرسل وصب عليه صبا حتى إذا استوى أرسل يدك ولا تمسك
365

وقال عبد الملك بن الماجشون نهى رسول الله عن التطفيف وقال إن البركة في رأسه قال بلغني أن كيل فرعون كان طفافا مسحا بالحديدة
المسألة السادسة
قال علماء الدين التطفيف في كل شيء في الصلاة والوضوء والكيل والميزان
وقال ابن العربي كما أن السرقة في كل شيء وأسوأ السرقة من يسرق صلاته فلا يتم ركوعها ولا سجودها
الآية الثانية
قوله تعالى (* (يوم يقوم الناس لرب العالمين) *) الآية 6
فيها مسألتان
المسألة الأولى
روى مالك عن ابن عمر عن النبي يقوم الناس لرب العالمين حتى إن أحدهم ليغيب في رشحه إلى أنصاف أذنيه
وعنه أيضا عن النبي يقوم مائة سنة
المسألة الثانية
القيام لله رب العالمين سبحانه حقير بالإضافة إلى عظمته وحقه فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف الناس فيه فمنهم من أجازه ومنهم من منعه
وقد روي أن النبي قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه وقام طلحة لكعب ابن مالك يوم تيب عليه
وقال النبي للأنصار حين طلع عليه سعد بن معاذ قوموا لسيدكم
366

وقال أيضا من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار
وقد بينا في شرح الحديث أن ذلك راجع إلى حال الرجل ونيته فإن انتظر لذلك واعتقده لنفسه حقا فهو ممنوع وإن كان على طريق البشاشة والوصلة فإنه جائز وخاصة عند الأسباب كالقدوم من السفر ونحوه
367

سورة الانشقاق
فيها آية واحدة قوله تعالى (* (فلا أقسم بالشفق) *) الآية 16
فيها مسألتان
المسألة الأولى في الشفق
قال أشهب وعبد الله وابن القاسم وغيرهم وكثير عددهم عن مالك الشفق الحمرة التي تكون في المغرب فإذا ذهبت الحمرة فقد خرج وقت المغرب ووجبت صلاة العشاء
وقال ابن القاسم عن مالك الشفق الحمرة فيما يقولون ولا أدري حقيقة ذلك ولكني أرى الشفق الحمرة
قال ابن القاسم قال مالك وإنه ليقع في قلبي وما هو إلا شيء فكرت فيه منذ قريب أن البياض الذي يكون بعد حمرة الشفق أنه مثل البياض الذي يكون قبل الفجر فكما لا يمنع طعاما ولا شرابا من أراد الصيام فلا أدري هذا يمنع الصلاة والله أعلم وبه قال ابن عمر وقتادة وشداد بن أوس وعلي بن أبي طالب وابن عباس ومعاذ في كثير من التابعين
وروي عن ابن عباس أنه البياض وعن أبي هريرة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وأبي حنيفة وجماعة
وروي عن ابن عمر مثله
وقد اختلف في ذلك أهل اللغة اختلافا كثيرا واعتضد بعضهم بالاشتقاق وأنه مأخوذ من الرقة والذي يعضده قول النبي في الصحيح وقت صلاة العشاء ما
368

لم يسقط نور الشفق فهذا يدل على أنه على حالين كثير وقليل وهو الذي توقف فيه مالك من جهة اشتقاقه واختلاف إطلاقه ثم فكر فيه منذ قريب وذكر كلاما مجملا تحقيقه أن الطوالع أربعة الفجر الأول والثاني والحمرة والشمس وكذلك الغوارب أربعة البياض الذي يليه الحمرة الشفق
وقال أبو حنيفة كما يتعلق الحكم في الصلاة والصوم بالطالع الثاني من الأول في الطوالع كذلك ينبغي أن يتعلق الحكم بالغارب من الآخر وهو البياض
وقال علماؤهم المحققون وكما قال حتى مطلع الفجر فكان الحكم متعلقا بالفجر الثاني كذلك إذا قال حتى يغيب الشفق يتعلق الحكم بالشفق الثاني وهذه تحقيقات قوية علينا
واعتمد علماؤنا على أن النبي صلى العشاء حين غاب الشفق والحكم يتعلق بأول الاسم وكذلك كنا نقول في الفجر إلا أن النص قطع بنا عن ذلك فقال ليس الفجر أن يكون هكذا ورفع يده إلى فوق ولكنه أن يكون هكذا وبسطها وقال ليس المستطيل ولكنه المستطير يعني المنتشر ولأن النعمان بن بشير قال أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة كان النبي يصليها لسقوط القمر لثلثيه وقال الخليل رقبت مغيب البياض فوجدته يتمادى إلى ثلث الليل وقال ابن أبي أويس رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر فلما لم يتحدد وقته منه سقط اعتباره
المسألة الثانية قوله (* (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) *) الانشقاق 21
ثبت في الصحيح أن أبا هريرة قرأ (* (إذا السماء انشقت) *) فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله سجد فيها وقد قال مالك إنها ليست من عزائم السجود والصحيح أنها منه وهي رواية المدنيين عنه وقد اعتضد فيها القرآن والسنة
قال ابن العربي لما أممت بالناس تركت قراءتها لأني إن سجدت أنكروه وإن تركتها كان تقصيرا مني فاجتنبتها إلا إذا صليت وحدي وهذا تحقيق وعد الصادق
369

سورة البروج فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (وشاهد ومشهود) *) الآية 3
فيها مسألتان
المسألة الأولى
الشاهد فاعل من شهد والمشهود مفعول منه ولم يأت حديث صحيح يعينه فيجب أن يطلق على كل شاهد ومشهود وقد روى عباد بن مطر الرهاوي عن مالك عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن نافع بن جبير عن أبيه عن النبي في قوله (* (وشاهد ومشهود) *) قال الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة
وقد روي عن ابن عباس أنه قال الشاهد محمد ويصح أن يكون الله ورسله والملائكة والمؤمنين والحجر الأسود وقد يكون المشهود عليه الإنسان والمشهود فيه يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم النحر وأيام المناسك كلها ويوم القيامة وليس إلى التخصيص سبيل بغير أثر صحيح
المسألة الثانية
إذا كان الشاهد الله فقد بينا معناه ومتعلقه في الأمد الأقصى وإذا كان الرسول والمؤمنين فقد قال سبحانه (* (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) *) البقرة 143 وهذا إذا تتبعته بالأخبار وجدته كثيرا في جماعة وأما المشهود فعلقه بكل مشهود فيه ومشهود عليه ومشهود به حسب متعلقات الفعل بأقسام المفعول فإنه في ذلك كله صحيح سائغ لغة ومعنى فاحمله عليه وعممه فيه
370

بأن يكون المعروف منكرا والمنكر معروفا وقد قال النبي لعائشة لولا حدثان عهد قومك بالكفر لهدمت البيت ورددته على قواعد إبراهيم
ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه وهذا مذهب مالك والشافعي وتفعله الشيعة فحضر عندي يوما بمحرس ابن الشواء بالثغر موضع تدريسي عند صلاة الظهر ودخل المسجد من المحرس المذكور فتقدم إلى الصف الأول وأنا في مؤخره قاعد على طاقات البحر أتنسم الريح من شدة الحر ومعه في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة ويتطلع على مراكب تحت الميناء فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة وأصحابه ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا فقوموا إليه فاقتلوه وارموا به في البحر فلا يراكم أحد فطار قلبي من بين جوانحي وقلت سبحان الله هذا الطرطوسي فقيه الوقت فقالوا لي ولم يرفع يديه فقلت كذلك كان النبي يفعل وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته وقمت معه إلى المسكن من المحرس ورأى تغير وجهي فأنكره وسألني فأعلمته فضحك وقال ومن أين لي أن أقتل على سنة فقلت له ولا يحل لك هذا فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك فقال دع هذا الكلام وخذ في غيره
وفي الحديث الصحيح عن أبي رافع قال صليت خلف أبي هريرة صلاة العشاء يعني العتمة فقرأ (* (إذا السماء انشقت) *) فسجد فيها فلما فرغ قلت يا أبا هريرة وإن هذه السجدة ما كنا نسجدها قال سجدها أبو القاسم وأنا خلفه فلا أزال أسجدها حتى ألقى أبا القاسم وكان عمر بن عبد العزيز يسجد فيها مرة ومرة لا يسجد كأنه لا يراها من العزائم عزائم القرآن وقد بينا الصحيح في ذلك والله أعلم بغيبه وأحكم
371

الآية الثانية
قوله تعالى (* (قتل أصحاب الأخدود) *) الآية 4
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
ثبت عن صهيب واللفظ لمسلم أن رسول الله قال كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك قد كبرت فابعث لي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب قعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب فقعد إليه وإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجرا وقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى إلى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع به جليس الملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال لك ما هنالك أجمع أن شفيتني قال إني لا اشفي أحدا إنما يشفي الله فإن أنت آمنت بالله دعوت لك فشفاك فآمن بالله فشفاه الله
فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال ولك رب غيري قال ربي وربك الله
فأخذه فلم يزل به حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له
372

ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقال له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا كذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فصعدوا به الجبل فقال اللهم أكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله
فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل بسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني
فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده
على صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام فأتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس برب الغلام فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النار وقال من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له
373

سورة الطارق فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق) *) الآيتان 5 - 6
فيها مسألتان
المسألة الأولى
بين الله تعالى محل الماء الذي ينتزع منه وأنه بين الصلب والترائب تزعجه القدرة وتميزه الحكمة وقد قال الأطباء إنه الدم الذي تطبخه الطبيعة بواسطة الشهوة وهذا ما لا سبيل إلى معرفته أبدا إلا بخبر صادق وأما القياس فلا مدخل له فيه والنظر العقلي لا ينتهي إليه وكل ما يصفون فيه دعوى يمكن أن تكون حقا بيد أنه لا سبيل إلى تعيينها كما قدمنا ولا دليل على تخصيصها حسبما أوضحنا والذي يدل على صحة ذلك من جهة الخبر قوله تعالى (* (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة) *) المؤمنون 12 وما بعدها وهي الدم فأخبر تعالى أن الدم هو الطور الثالث وعند الأطباء أنه الطور الأول وهذا تحكم ممن يجهل
فإن قيل وهي
المسألة الثانية
فلم قلتم إنه نجس
قلنا قد بينا ذلك في مسائل الخلاف وقد دللنا عليه بما فيه مقنع وأخذنا معهم
374

اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت
المسألة الثانية
أصحاب الأخدود هم الذين حفروه من الكفار وهم الذين رموا فيه المؤمنين فكان لفظ الصحبة محتملا إلا أنه بينه وخصصه آخر القول في الآية الثالثة لها والرابعة منها وهما قوله (* (إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) *) الآيتان 6 - 7
المسألة الثالثة
هذا الحديث سترون إن شاء الله تفسيره في مختصر النيرين والذي يختص به من الأحكام ها هنا أن المرأة والغلام صبرا على العذاب من القتل والصلب وإلقاء النفس في النار دون الإيمان وهذا منسوخ عندنا حسبما تقرر في سورة النحل
375

فيه كل طريق وملكنا عليهم بثبت الأدلة كل ثنية للنظر فلم يجدوا للسلوك إلى مرامهم من أنه طاهر سبيلا وأقربه أنه يخرج على ثقب البول عند طرف الكمرة فيتنجس بمروره على محل نجس
الآية الثانية
قوله تعالى (* (يوم تبلى السرائر) *) الآية 9
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى قوله (* (يوم تبلى السرائر) *))
يعني تختبر الضمائر وتكشف ما كان فيها والسرائر تختلف بحسب اختلاف أحوال التكليف والأفعال
المسألة الثانية
أما السرائر فقال مالك في رواية أشهب عنه وسأله عن قوله تعالى (* (يوم تبلى السرائر) *) أبلغك أن الوضوء من السرائر قال قد بلغني ذلك فيما يقول الناس فأما حديث أخذته فلا والصلاة من السرائر والصيام من السرائر إن شاء قال صليت ولم يصل ومن السرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد
قال القاضي قال ابن مسعود يغفر للشهيد إلا الأمانة والوضوء من الأمانة والصالة والزكاة من الأمانة والوديعة من الأمانة وأشد ذلك الوديعة تمثل له على هيئتها يوم أخذها فيرمى بها في قعر جهنم فيقال له أخرجها فيتبعها فيجعلها في عنقه فإذا رجا أن يخرج بها زلت منه وهو يتبعها فهو كذلك دهر الداهرين
وقال أبي بن كعب من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها قال أشهب قال لي سفيان في الحيضة والحمل إذا قالت لم أحض وأنا حامل صدقت ما لم تأت بما يعرف فيه أنها كاذبة وفي الحديث غسل الجنابة من الأمانة
المسألة الثالثة
قد بينا أنه كل ما لا يعلمه إلا الله
376

سورة الأعلى فيها أربع آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (سنقرئك فلا تنسى) *) الآية 6
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله (* (سنقرئك) *))
أي سنجعلك قارئا فلا تنسى ما نقرئك وقد تقدم ذكره وقد روى ابن وهب قال سألت مالكا عن قوله (* (سنقرئك فلا تنسى) *) قال فتحفظ قال علماؤنا يريد مالك أن الله لم يأمره بترك النسيان إذ كان ليس من استطاعته ولكنه قدم له تركه وحكم له بأنه لا ينسى ما أنزل عليه
قال القاضي وهذا صحيح لأن تكليف الناسي في حال نسيانه أن يصرف نسيانه لا يعقل قولا فكيف يكون مكلفا به فعلا
فإن قيل فقد قال الله عز وجل (* (ولا تنس نصيبك من الدنيا) *) القصص 77
قلنا معناه لا تترك وقد بينا أن النسيان هو الترك لغة والترك على قسمين ترك بقصد وترك بغير قصد والتكليف إنما يتعلق بما يرتبط بالقصد من الترك والله أعلم
المسألة الثانية
ثبت أن النبي كان يقرأ في العيدين ب (* (سبح اسم ربك الأعلى) *) و (* (هل) *
377

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (إنه لقول فصل وما هو بالهزل) *) الآيتان 13 - 14
قد بينا أنه ليس في الشريعة هزل وإنما هي جد كلها فلا يهزل أحد بعقد أو قول أو عمل إلا وينفذ عليه لأن الله تعالى لم يجعل في قوله هزلا وذلك لأن الهزل محل للكذب وللباطل يفعل وللعب يمتثل وقد بينا هذا الغرض في الآيات الواردة فيه وفي مسائل الفقه
378

أتاك حديث الغاشية) من طريق سمرة بن جندب والنعمان بن بشير خرجه النسائي وغيره زاد النعمان في الجمعة والعيدين
وفي الصحيح أن رسول الله قال للذي طول صلاته بالناس اقرأ ب (* (سبح اسم ربك الأعلى) *) والشمس وضحاها ونحو ذلك
الآية الثانية
قوله تعالى (* (قد أفلح من تزكى) *) الآية 14
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال أبو العالية نزلت في صدقة الفطر يزكي ثم يصلي
المسألة الثانية
في سرد أقوال العلماء في ذلك
قال عكرمة كان الرجل يقول أقدم زكاتي بين يدي صلاتي فقال سفيان قال الله تعالى (* (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) *)
وروى سفيان عن جعفر بن برقان قال كتب إلينا عمر بن عبد العزيز إن هذا الرجف شيء يعاقب الله به العباد وقد كتبت إلى أهل الأمصار أن يخرجوا في يوم كذا من شهر كذا فمن استطاع منكم أن يتصدق فليفعل فإن الله تعالى يقول (* (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) *)
وكان عمر بن عبد العزيز يخطب الناس على المنبر يقول قدموا صدقة الفطر قبل الصلاة فإن الله يقول (* (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) *)
وكذلك كان رسول الله يأمر بها ويخرجها
وقول عمر بن عبد العزيز إن هذا الرجف شيء يعاقب الله به عباده يعني الزلازل
379

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وذكر اسم ربه فصلى) *) الآية 15
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قد بينا أن الذكر حقيقته إنما هو في القلب لأنه محل النسيان الذي هو ضده والضدان إنما يتضادان في المحل الواجب فأوجب الله بهذه الآية النية في الصلاة خصوصا وإن كان قد اقتضاها عموما قوله تعالى (* (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) *) البينة 5 وقوله إنما الأعمال بالنيات والصلاة أم الأعمال ورأس العبادات ومحل النية في الصلاة مع تكبيرة الإحرام فإن الأفضل في كل نية بفعل أن تكون مع الفعل لا قبله وإنما رخص في تقديم نية الصوم لأجل تعذر اقتران النية فيه بأول الفعل عند الفجر لوجوده والناس في غفلة وبقيت سائر العبادات على الأصل
وتوهم بعض القاصرين عن معرفة الحق أن تقديم النية على الصلاة جائز بناء على ما قال علماؤنا من تجويز تقديم النية على الوضوء في الذي يمشي إلى النهر في الغسل
فإذا وصل واغتسل نسي أن يجزئه قال فكذلك الصلاة وهذا القائل ممن دخل في قوله تعالى (* (أفمن يمشي مكبا على وجهه) *) الملك 22 وقد بيناه في كل موضع يعتري فيه وحققنا أن الصلاة أصل متفق عليه في وجوب النية والوضوء فرع مختلف فيه فكيف يقاس المتفق عليه على المختلف فيه ويحمل الأصل على الفرع
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وذكر اسم ربه فصلى) *))
إذا قلنا إنه الذكر الثاني باللسان المخبر عن ذكر القلب المعبر عنه بأنه مشروع في الصلاة مفتتح به في أولها باتفاق من الأئمة لكنهم اختلفوا في تعيينه فمنهم من قال إنه كل ذكر حتى لو قال سبحان الله بدل التكبير أجزأه بل لو قال بدل الله أكبر بزرك خداي لأجزأه منهم أبو حنيفة
380

وقال أبو يوسف يجزئه الله الكبير والله أكبر والله الأكبر
وقال الشافعي يجزئه الله أكبر والله الأكبر وقال مالك لا يجزئه إلا قوله الله أكبر
فأما تعلق أبي حنيفة في الذكر بالعجمية بقوله تعالى (* (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) *) الأعلى 18 - 19 فيأتي ذكر وجه التقصي عنه في الآية التي بعد هذه إن شاء الله تعالى
وأما قوله إنه الذكر مطلقا بقوله العام (* (وذكر اسم ربه فصلى) *) فهذا العام قد عينه قول النبي وفعله أما قوله فهو في الحديث المشهور تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وأما الفعل فإنه كان يقول في صلاته كلها الله أكبر
وأما التعلق للشافعي بقوله إن زيادة الألف واللام فيه لا تغير بناءه ولا معناه
فالجواب أن التعبد إذا وقع بقول أو فعل لم يجز أن يعبر عما شرع فيه بما لا يغير حاله لأنها شرعة في الشريعة واعتبار من غير اضطرار وذلك لا يجوز
وجواب ثان وذلك أن الألف واللام تدخل للجنس وللعهد وكلاهما ممنوع ها هنا أما الجنس فإن البارئ تعالى لا جنس له وأما العهد فلأن التعبير بالكبرية عن الله تعالى وصف فلا معنى للزيادة وإذا بطل مذهب الشافعي فمذهب أبي يوسف أبطل
فإن قيل قوله (* (وذكر اسم ربه فصلى) *) عموم في كل ذكر وقول النبي الله أكبر في الصلاة تخصيص لبعض ذلك العموم فيحمل على الاستحباب وإنما كان يحمل على الوجوب لو كان بيانا لمجمل واحد وهذا سؤال قوي لأصحاب أبي حنيفة وقد تقصينا عنه في مسائل الخلاف ونعول الآن هنا على أن النبي قال صلوا كما رأيتموني أصلي وهو إنما كان يكبر ولا يتعرض لكل ذكر فتعين التكبير بأمره باتباعه في صلاته فهو المبين لذلك كله
381

الآية الرابعة
قوله تعالى (* (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) *) الآيتان 18 - 19
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في معناه
فيه ثلاثة أقوال
الأول أنه القرآن
الثاني أنه ما قصه الله سبحانه في هذه السورة
الثالث أن هذا يعني أحكام القرآن
المسألة الثانية تحقيق قوله تعالى (* (إن هذا لفي الصحف الأولى) *))
يعني القرآن مطلقا قول ضعيف لأنه باطل قطعا
وأما القول بأنه فيه أحكامه فإن أراد معظم الأحكام فقد بينا تحقيق ذلك في قوله (* (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك) *) الشورى 13 وأما إن أراد به ما في هذه السورة فهو الأولى من الأقوال وهو الصحيح منها والله أعلم
المسألة الثالثة
تعلق أبو حنيفة وأصحابه في جواز القراءة في الصلاة بالعجمية بقوله تعالى (* (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) *) قالوا فقد أخبر الله أن كتابه وقرآنه في صحف إبراهيم وموسى بالعبرانية فدل على جواز الإخبار بها عنه وبأمثالها من سائر الألسن التي تخالفه
والجواب عنه من وجهين
الأول أنا نقول إن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل عليهم الكتب وما بعث الله
382

من رسول إلا بلسان قومه كما أخبر وما أنزل من كتاب إلا بلغتهم فقال سبحانه وتعالى (* (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) *) إبراهيم 4 كل ذلك تيسير منه عليهم وتقريب للتفهيم إليهم وكل مفهم بلغته متعبد بشريعته ولكل كتاب بلغتهم اسم فاسمه بلغة موسى التوراة واسمه بلغة عيسى الإنجيل واسمه بلغة محمد القرآن فقيل لنا اقرؤوا القرآن فيلزمنا أن نعبد الله بما يسمى قرآنا
الثاني هبكم سلمنا لكم أن يكون في صحف موسى بالعبرانية فما الذي يقتضي أنه تجوز قراءته بالفارسية فإن قيل بالقياس
قلت ليس هذا موضعه لا سيما عندكم وقد بيناه في أصول الفقه ومسائل الخلاف على التمام فلينظر هنالك إن شاء الله تعالى
383

سورة الغاشية فيها آية واحدة
وهي قوله تعالى (* (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر) *) الآيتان 21 - 22
فيها مسألتان
المسألة الأولى
المسيطر هو المسلط الذي يقهر ويغلب على ما يقول
المسألة الثانية
كان النبي في أول أمره معرفا برسالته مذكرا بنبوته يدعو الخلق إلى الله ويذكرهم عهده ويبشرهم وعده ويحذرهم وعيده ويعرفهم دينه حتى وضحت المحجة وقامت لله سبحانه الحجة فلما استمر الخلق على فساد رأيهم ولجوا في طغيانهم وغلوائهم أمره الله بالقتال وسوق الخلق إلى الإيمان قسرا ونسخ هذه الآية وأمثالها حسبما بيناه
وروى الترمذي وغيره أن النبي قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم قرأ (* (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر) *) بمسلط على سرائرهم مفسرا معنى الآية وكاشفا خفي الخفاء عنها
المعنى إذا قال الناس لا إله إلا الله فلست بمسلط على سرائرهم وإنما عليك بالظاهر وقد كان قبل ذلك لا يطالب لا بالظاهر ولا بالباطن فلما استولى الله بأمره وتكليفه القتال على الظاهر وكل سرائرهم إليه وهذا الحديث صحيح السند صحيح المعنى والله أعلم
384

سورة الفجر فيها خمس آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (والفجر) *) الآية 1
فيها مسألتان
المسألة الأولى الفجر
هو أول أوقات النهار الذي هو أحد قسمي الزمان وهو كما قدمنا فجران
أحدهما البياض الذي يبدو أولا ثم يخفى وهو الذي تسميه العرب ذنب السرحان لطرآنه ثم إقلاعه
والثاني هو البادي متماديا ويسمى الأول المستطيل لأنه يبدو كالحبل المعلق من الأفق أو الرمح القائم فيه ويسمى الثاني المستطير لأنه ينتشر عرضا في الأفق ويسمى الأول الكاذب وليس يتعلق به حكم ويسمى الثاني الصادق لثبوته وبه تتعلق الأحكام كما تقدم
ومن حديث سمرة بن جندب عن النبي قال لا يمنعكم من السحور أذان بلال ولا الصبح المستطيل ولكن المستطير بالأفق
المسألة الثانية
فيما يترتب عليه من أحكام وقد تقدم ولأجله قال مالك في رواية ابن القاسم وأشهب عنه الفجر أمره بين وهو البياض المعترض في الأفق
385

الآية الثانية
قوله تعالى (* (وليال عشر) *) الآية 2
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى في تعيينها
أربعة أقوال
الأول أنها عشر ذي الحجة روي عن ابن عباس وقاله جابر ورواه عن النبي ولم يصح
الثاني عشر المحرم قاله الطبري
الثالث أنها العشر الأواخر من رمضان
الرابع أنها العشر التي أتمها الله لموسى عليه السلام في ميقاته معه
المسألة الثانية
أما كل مكرمة فداخلة معه في هذا اللفظ بالمعنى لا بمقتضى اللفظ لأنها نكرة في إثبات والنكرة في الإثبات لا تقتضي العموم ولا توجب الشمول وإنما تتعلق بالعموم مع النفي فهذا القول يوجب دخول ليال عشر فيه ولا يتعين المقصود منه فربك أعلم بما هي لكن تبقى هاهنا نكتة وهي أن تقول فهل من سبيل إلى تعيينها وهي
المسألة الثالثة
قلنا نحن نعينها بضرب من النظر وهي العشر الأواخر من رمضان لأنا لم نر في هذه الليالي المعتبرات أفضل منها لا سيما وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر
فلا يعادلها وقت من الزمان
386

المسألة الرابعة
قال ابن وهب عن مالك (* (وليال عشر) *) قال الأيام مع الليالي والليل قبل النهار وهو حساب القمر الذي وقت الله عليه العبادات كما رتب على حساب الشمس الذي يتقدم فيه النهار على الليل بالعادات في المعاش والأوقات
وقد ذكر شيخ اللغة وحبرها أبو عمرو الزاهد أن من العرب من يحسب النهار قبل الليل ويجعل الليلة لليوم الماضي وعلى هذا يخرج قول عائشة في حديث إيلاء رسول الله من نسائه فلما كان صبيحة تسع وعشرين ليلة أعدهن عدا دخل علي رسول الله قلت يا رسول الله ألم تكن آليت شهرا
فقال إن الشهر تسع وعشرون ولو كانت الليلة لليوم الآتي لكان قد غاب عنهن ثمانية وعشرين يوما وهذا التفسير بالغ طالما سقته سؤالا للعلماء باللسان وتقليبا للدفاتر بالبيان حتى وجدت أبا عمرو قد ذكر هذا فإما أن تكون لغة نقلها وإما أن تكون نكتة أخذها من هذا الحديث واستنبطها والغالب في ألسنة الصحابة والتابعين غلبة الليالي للأيام حتى إن من كلامهم صمنا خمسا يعبرون به عن الليالي وإن كان الصوم في النهار والله أعلم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (والشفع والوتر) *) الآية 3
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى للعلماء في تعيينها ثمانية أقوال
الأول أن الصلاة شفع كلها والمغرب وتر قاله عمران بن حصين عن النبي خرجه الترمذي
الثاني أن الشفع أيام النحر والوتر يوم عرفة رواه جابر عن النبي
الثالث أن الشفع يوم منى والوتر الثالث من أيام منى وهو الثالث عشر من ذي الحجة
387

الرابع أن الشفع عشر ذي الحجة والوتر أيام منى لأنها ثلاثة
الخامس الشفع الخلق والوتر الله تعالى قاله قتادة
السادس أنه الخلق كله لأن منه شفعا ومنه وترا
السابع أنه آدم وتر شفعته زوجته فكانت شفعا له قاله الحسن
الثامن أن العدد منه شفع ومنه وتر
المسألة الثانية
هذه الآية خلاف التي قبلها لأن ذكر الشفع كان بالألف واللام المقتضية للعهد لاستغراق الجنس ما لم يكن هنالك عهد وليس بممتنع أن يكون المراد بالشفع والوتر كل شفع ووتر مما ذكر ومما لم يذكر وإن كان ما ذكر يستغرق ما ترك في الظاهر والله أعلم
المسألة الثالثة
لكن إن قلنا إن الليالي العشر عشر ذي الحجة فيبعد أن يكون المراد بالشفع والوتر يوم النحر لأنه قد ذكر في القسم المتقدم وكذلك من قال إنه عشر ذي الحجة لهذه العلة
وأما القول الخامس فوجه القسم فيه وحق الخلق والخالق لهم
وأما القول السادس فمعناه وحق الخلق
ووجه القول السابع وحق آدم وزوجته
ووجه القول الثامن أنه قال وحق العدد الذي جعله الله قوام الخلق وتماما لهم حتى لقد غلا فيه الغالون حتى جعلوه أصل التوحيد والتكليف وسر العالم وتفاصيل المخلوقات التي تدور عليه وهو هوس كله وقد استوفيناه في كتاب المشكلين
المسألة الرابعة
إذا قلنا إن المراد به الصلاة فمنها شفع وهي الصلوات الأربع ومنها وتر وهي صلاة المغرب ولذلك قال علماؤنا إنها لا تعاد في جماعة خلافا للشافعي لأنها لو
388

طلب بها فضل الجماعة لانقلبت شفعا حتى تناهى علماؤنا في ذلك فقالوا لو أعادها رجل في جماعة غفلة لقيل له أعدها ثالثة حتى تكون وترا تسع ركعات وهذا باطل فإن المغرب لو صارت بالإعادة في الجماعة شفعا لصارت الظهر بإعادتها ثمانيا ويعود ذلك في حال التخليط الذي يضرب به المثل فيقال فيه
(فوالله ما أدري إذا ما ذكرتها
* اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا)
فكما لا تتضاعف الظهر بالإعادة كذلك لا تتضاعف المغرب وأشده الصلاة الثالثة فإنه من الغلو في الدين
المسألة الخامسة
لما قال علماؤنا إن أقل النفل ركعتان
قلنا إن قول الله تعالى (* (والشفع) *) يصح أن يكون المراد به الصلوات كلها فرضها ونفلها
وقوله تعالى (* (والوتر) *) ينطلق على الوتر وحده الذي هو فرد
وفي صحيح الحديث واللفظ لمسلم الاستجمار وتر والطواف وتر والفرد كثير وما أشرنا إليه يكفي فيه
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (والليل إذا يسر) *) الآية 4
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
أقسم الله بالليل والنهار كما أقسم بسائر المخلوقات عموما وخصوصا وجملة وتفصيلا وخصه ها هنا بالسرى لنكتة هي
المسألة الثانية
أن الله تعالى قال (* (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) *) يونس 67
389

وقال (* (وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا) *) النبأ 1 - 11 وأشار ها هنا إلى أن الليل قد يتصرف فيه للمعاش كما يتصرف في النهار ويتقلب في الحال فيه للحاجة إليه
وفي الصحيح أن جابر بن عبد الله أتى رسول الله بليل فقال له السرى يا جابر وخاصة للمسافر كما تقدم بيانه
المسألة الثالثة
كنت قد قيدت في فوائدي بالمنار أن الأخفش قال لمؤرج ما وجه من حذف من عدا ابن كثير الياء من قوله يسري فسكت عنها سنة ثم قلنا له نختلف إليك نسألك منذ عام عن هذه المسألة فلا تجيبنا فقال إنما حذفها لأن الليل يسرى فيه ولا يسري فعجبت من هذا الجواب المقصر من غير مبصر فقال لي بعض أشياخي تمامه في بيانه أن ذلك لفقه هو أن الحذف يدل على الحذف وهو مثل الأول
والجواب الصحيح قد بيناه في الملجئة
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد) *) الآيتان 6 - 7
فيها ست مسائل
المسألة الأولى
أما عاد فمعلومة قد جرى ذكرها في القرآن كثيرا وعظم أمرها
المسألة الثانية قوله (* (إرم) *))
فيه ستة أقوال
الأول أنه اسم جد عاد قاله محمد بن إسحاق
الثاني إرم أمة من الأمم قاله مجاهد
390

الثالث أنه اسم قبيلة من عاد قاله قتادة وقيل وهو
الرابع هو إرم بن عوص بن سام بن نوح عليه السلام
الخامس أن إرم الهلاك يقال أرم بنو فلان أي هلكوا
السادس أنه اسم القرية
المسألة الثالثة
قال القاضي لو أن قوله ارم يكون مضافا إلى عاد لكان يحتمل أن يكون مضافا إلى جده أو إلى إرم فأما قوله عاد منون فيحتمل أن يكون بدلا من جده ويحتمل أن يكون وصفا زائدا لعاد على القول بأنها أمة وكذلك إذ كان قبيلة منها وكذلك إذا كان اسم القرية ويحتمل إذا كان بمعنى الهلاك أن يكون بدلا لولا أن المصدر فيها إرم بكسر الفاء فالله أعلم بما تحت ذلك من الخفاء
المسألة الرابعة قوله (* (ذات العماد) *))
فيه أربعة أقوال
الأول أنهم كانوا أهل عمود ينتجعون القطر
الثاني أنه الطول كانوا أطول أجساما وأشد قوة وزعم قتادة أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعا
وروي عن ابن عباس سبعون ذراعا وهو باطل لأن في الصحيح أن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا في الهواء فلم يزل الخلق ينقص إلى الآن
الثالث أن العماد القوة ويشهد له القرآن
الرابع أنه ذات البناء المحكم يقال إن فيها أربعمائة ألف عمود
المسألة الخامسة في تعيينها
وفيه قولان
الأول أن أشهب قال عن مالك هي دمشق وقال محمد بن كعب القرظي هي
391

الإسكندرية وتحقيقها أنها دمشق لأنها ليس في البلاد مثلها وقد ذكرت صفتها وخبرها في كتاب ترتيب الرحلة للترغيب وإليها أوت مريم وبها كان آدم وعلى الغراب جبلها دم هابيل في الحجر جار لم تغيره الليالي ولا أثرت فيه الأيام ولا ابتلعته الأرض باطنها كظاهرها مدينة بأعلاها ومدينة بأسفلها تشقها تسعة أنهار للقصبة نهر وللجامع نهر وباقيها للبلد وتجري الأنهار من تحتها كما تجري من فوقها ليس فيها كظامة ولا كنيف ولا فيها دار ولا سوق ولا حمام إلا ويشقه الماء ليلا ونهارا دائما أبدا وفيها أرباب دور قد مكنوا أنفسهم من سعة الأحوال بالماء حتى إن مستوقدهم عليه ساقية فإذا طبخ الطعام وضع في القصعة وأرسل في الساقية فيجرف إلى المجلس فيوضع في المائدة ثم ترد القصعة من الناحية الأخرى إلى المستوقد فارغة فترسل أخرى ملأى وهكذا حتى يتم الطعام وإذا كثر الغبار في الطرقات أمر صاحب الماء أن يطلق النهر على الأسواق والأرباض فيجري الماء عليها حتى يلجأ الناس في الأسواق والطرقات إلى الدكاكين فإذا كسح غبارها سكر الساقياني أنهارها فمشيت في الطرق على برد الهواء ونقاء الأرض ولها باب جيرون بن سعد بن عبادة وعنده القبة العظيمة والميقاتات لمعرفة الساعات عليها باب الفراديس ليس في الأرض مثله عنده كان مقري وإليه من الوحشة كان مفري وإليه كان انفرادي للدرس والتقري وفيها الغوطة مجمع الفاكهات ومناط الشهوات عليها تجري المياه ومنها تجنى الثمرات وإن في الإسكندرية لعجائب لو لم يكن إلا المنار فإنها مبنية الظاهر والباطن على العمد ولكن لها أمثال فأما دمشق فلا مثال لها
وقد روى معن عن مالك أن كتابا وجد بالإسكندرية فلم يدر ما هو فإذا فيه أنا شداد بن عاد الذي رفع العماد بنيتها حين لا شيب ولا موت قال مالك إن كان لتمر بهم مائة سنة لا يرون بها جنازة
وذكر عن ثور بن زيد أنه قال أنا شداد بن عاد أنا الذي رفعت العماد أنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع لا يخرجه إلا أمة محمد
392

سورة البلد فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (لا أقسم بهذا البلد) *)
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى في قراءتها
قرأ الحسن والأعمش وابن كثير لأقسم من غير ألف زائدة على اللام إثباتا وقرأها الناس بالألف نفيا
المسألة الثانية
اختلف الناس إذا كان حرف لا مخطوطا بألف على صورة النفي هل يكون المعنى نفيا كالصورة أم لا فمنهم من قال تكون صلة في اللفظ كما تكون ما صلة فيه وذلك في حرف ما كثير فأما حرف لا فقد جاءت كذلك في قول الشاعر
(تذكرت ليلى فاعترتني صبابة
* وكاد ضمير القلب لا يتقطع)
أي يتقطع ودخل حرف لا صلة
ومنهم من قال يكون توكيدا كقول القائل لا والله وكقول أبي كبشة امرئ القيس
(فلا وأبيك ابنة العامر
* ي لا يدعي القوم أني أفر)
قال أبو بكر بن عياش ومنهم من قال إنها رد لكلام من أنكر البعث ثم ابتدأ
393

المسألة السادسة
فيها من طريق الأحكام التحذير من التطاول في البنيان والتعاظم بتشييد الحجارة والندب إلى تحصيل الأعمال التي توصل إلى الدار الآخرة ومن أشراط الساعة التطاول في البنيان وقد عرض على النبي بنيان مسجده فقال عريش كعريش موسى والبنيان أهون من ذلك
ولقد توفي وما وضع لبنة على لبنة ثم تطاولنا في بنياننا وزخرفنا مساجدنا وعطلنا قلوبنا وأبداننا والله المستعان
394

القسم فقال أقسم ليكون فرقا بين اليمين المبتدأة وبين اليمين التي تكون ردا قاله الفراء
المسألة الثالثة
أما كونها صلة فقد ذكروا في قوله (* (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) *) الأعراف 12 في سورة الأعراف أنه صلة بدليل قوله في ص (* (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت) *) ص 75 والنازلة واحدة والمقصود واحدة والمعنى سواء فالاختلاف إنما يعود إلى اللفظ خاصة
وأما من قال إنه توكيد فلا معنى له ها هنا لأن التوكيد إنما يكون إذا ظهر المؤكد كقوله لا والله لا أقوم فإذا لم يكن هناك مؤكد فلا وجه للتأكيد ألا ترى إلى قوله
(فلا وأبيك ابنة العامر
* ي لا يدعي القوم أني أفر)
كيف أكد النفي وهو لا يدعي بمثله
ومن أغرب هذا أنه قد تضمر وينفى معناها كما قال أبو كبشة
(فقلت يمين الله أبرح قاعدا
* ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي)
في قول وقد حققنا ذلك في رسالة الإلجاء للفقهاء إلى معرفة غوامض الأدباء
وأما من قال إنها رد فهو قول ليس له رد لأنه يصح به المعنى ويتمكن اللفظ والمراد
المسألة الرابعة
وأما من قرأها لأقسم فاختلفوا فمنهم من حذفها في الخط كما حذفها في اللفظ وهذا لا يجوز فإن خط المصحف أصل ثبت بإجماع الصحابة ومنهم من قال أكتبها ولا ألفظ بها كما كتبوا ((لا إلى الجحيم)) و ((لا إلى الله تحشرون) بألف ولم يلفظوا بها وهذا يلزمهم في قوله () فلا أقسم بمواقع النجوم) وشبهه ولم يقولوا به
395

فإن قيل إنما تكون صلة في أثناء الكلام كقوله (* (لئلا يعلم أهل الكتاب) * أن لا تسجد إذ أمرتك) ونحوه فأما في ابتداء الكلام فلا يوصل بها إلا مقرونة بألف كقوله (* (ألا إن وعد الله حق) *)
فأجابوا عنه بأن قالوا إن القرآن ككلمة واحدة وليس كما زعموا لأنه لو وصل بها ما قبلها لكانت أهل التقوى وأهل المغفرة لا أقسم بيوم القيامة
وهذا لا يجوز حتى إن قوما كرهوا في القراءة أن يصلوها بها وقفوا حتى يفرقوا بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم ليقطعوا الوصل المتوهم
والجواب الصحيح أن نقول إن الصلة بها في أول الكلام كصلة آخره بها كذكرها في أثنائه بل ذكرها في أثنائه أبلغ في الإشكال كقوله (* (ما منعك ألا تسجد) *) ولو كان هذا كله خارجا عن أسلوب البلاغة قادحا في زين الفصاحة مثبجا قوانين العربية التي طال القرآن بها أنواع الكلام ولاعترض عليه به الفصحاء البلغ والعرب العرب والخصماء اللد فلما سلموا فيه تبين أنه على أسلوبهم جار وفي رأس فصاحتهم منظوم وعلى قطب عربيتهم دائر وقد عبر عنه سعيد بن جبير وغيره من محققي المفسرين فقالوا قوله (* (لا أقسم) *) قسم
المسألة الخامسة
فإن قيل كيف أقسم الله سبحانه بغيره
قلنا هذا قد بينا الجواب عنه على البلاغ في كتاب قانون التأويل وقلنا للباري تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته تعظيما لها
فإن قيل فلم منع النبي من القسم بغير الله
قلنا لا تعلل العبادات ولله أن يشرع ما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء وينوع المباح والمباح له ويغاير بين المشتركين ويماثل بين المختلفين ولا اعتراض عليه فيما كلف من ذلك وحمل فإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
فإن قيل فلم قال النبي في الحديث الصحيح للأعرابي الذي قص عليه دعائم
396

الإسلام وفرائض الإيمان فقال والله لا أزيد على هذا ولا أنقص أفلح وأبيه إن صدق
قلت قد رأيته في نسخة مشرقية في الإسكندرية أفلح والله إن صدق ويمكن أن يتصحف قوله والله بقوله وأبيه
جواب آخر بأن هذا منسوخ بقوله ((إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم))
جواب آخر إن النبي إنما نهي عنه عبادة فإذا جرى ذلك على الألسن عادة فلا يمنع فقد كانت العرب تقسم في ذلك بمن تكره فكيف بمن تعظم قال ابن ميادة
(أظنت سفاها من سفاهة رأيها
* لأهجوها لما هجتني محارب)
(فلا وأبيها إنني بعشيرتي
* ونفسي عن هذا المقام لراغب)
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحد فقهاء المدينة السبعة
(لعمر أبي الواشين أيان نلتقي
* لما لا تلاقيها من الدهر أكثر)
(يعدون يوما واحدا إن لقيتها
* وينسون أياما على النأي تهجر)
وقال آخر
(لعمر أبي الواشين لا عمر غيرهم
* لقد كلفتني خطة لا أريدها)
وقال آخر
(فلا وأبي أعدائها لا أزورها
*)
وإذا كان هذا شائعا كان من هذا الوجه سائغا
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وأنت حل بهذا البلد) *) الآية 2
فيها ثلاث مسائل
397

المسألة الأولى في قوله تعالى (* (وأنت حل بهذا البلد) *))
فيها أربعة أقوال
أحدها وأنت ساكن تقدير الكلام أقسم بهذا البلد الذي أنت فيه لكرامتك علي وحبي لك وتكون هذه الجملة على نحو الحال كأنه قال أقسم بهذا البلد وأنت فيه
الثاني وأنت حل بهذا البلد يحل لك فيه القتل وقد قال النبي إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما حلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس
الثالث ويرجع إلى الثاني أنه يحل لك دخوله بغير إحرام دخل النبي مكة وعلى رأسه المغفر ولم يكن محرما
الرابع قال مجاهد وأنت حل بهذا البلد ليس عليك ما على الناس فيه من الإثم يريد أن الله عصمك وقد بيناه
المسألة الثانية أما قوله (* (وأنت حل بهذا البلد) *))
أي ساكن فيه فيحتمل اللفظ وتقتضيه الكرامة ويشهد له عظم المنزلة
وأما القول الثاني فقد تقدم القول في جواز القتل بمكة وإقامة الحدود فيها في غير ما موضع من كتابنا هذا خلافا لأبي حنيفة وفي غير هذا الكتاب
وأما دخوله مكة بغير إحرام فقد كان ذلك
وأما دخول الناس مكة فعلى قسمين إما لتردد المعاش وإما لحاجة عرضت فإن كان لتردد المعاش فيدخلها حلالا لأنه لو كلف الإحرام في كل وقت لم يطقه وقد رفع تكليف هذا عنا وأما إن كان لحاجة عرضت فلا يخلو إما أن تكون حجة أو عمرة أو غيرهما فإن كان حجة أو عمرة فلا خلاف في وجوب الإحرام وإن كان غيرهما فاختلفت الرواية فيه ففي المشهور عن مالك أنه لا بد من الإحرام وروي عنه تركه
398

واختلف العلماء مثل هذا الاختلاف والصحيح وجوب الإحرام لقوله عليه السلام لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار وهذا عام
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (بهذا البلد) *))
مكة باتفاق من الأمة وذلك أن السورة مكية وقد أشار له ربه بهذا وذكر له البلد بالألف واللام فاقتضى ذلك ضرورة التعريف المعهود وفيه قولان
أحدهما أنه مكة
والثاني أنه الحرم كله وهو الصحيح لأن البلد بحريمه كما أن الدار بحريمها فحريم الدار ما أحاط بجدرانها واتصل بحدودها وحريم بابها ما كان للمدخل والمخرج وحريم البئر في الحديث أربعون ذراعا وعند علمائنا يختلف ذلك بحسب اختلاف الأراضي في الصلابة والرخاوة ولها حريم السقي بحيث لا تختلط الماشية بالماشية من البئر الأخرى في المسقى والمبرك ومن حاز حريما أو مناخا قبل صاحبه فهو له وحريم الشجرة ما عمرت به في العادة
وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال اختصم إلى رسول الله رجلان في حريم نخلة فأمر بها وفي رواية له فأمر بجريدة من جرائدها فذرعت فوجدت سبعة أذرع وفي رواية له أيضا خمسة أذرع فقضى بذلك
والذي يقضي به ما قلناه من أنه يأخذ حقه في العمارة التامة من ناحية الأرض ويأخذ دوحتها في الهواء إلا أن تسترسل أغصانها على أرض رجل فإنه يقطع منها ما أضر
به
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (فلا اقتحم العقبة) *) الآية 11
فيها ثمان مسائل
399

المسألة الأولى العقبة
فيها خمسة أقوال
الأول أنها طريق النجاة قاله ابن زيد
الثاني جبل في جهنم قاله ابن عمر
الثالث عقبة في جهنم هي سبعون درجة قاله كعب
الرابع أنها نار دون الحشر
الخامس أن يحاسب نفسه وهواه وعدوه الشيطان قاله الحسن عقبة والله شديدة
المسألة الثانية
العقبة في اللغة هي الأمر الشاق وهو في الدنيا بامتثال الأمر والطاعة وفي الآخرة بالمقاساة للأهوال وتعيين أحد الأمرين لا يمكن إلا بخبر الصادق
المسألة الثالثة (* (اقتحم) *))
معناه قطع الوادي بسلوكه فيه وقال الليث هو رميه في وهدة بنفسه وقال علي من سره أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والإخوة
وإنما فسرناه بعد العقبة لأن الموصوف تقدم في الشرح على الصفة بحكم النظر الحقيقي حسبما بيناه في أصول الفقه
المسألة الرابعة
اختار البخاري من هذا التقسيم قول مجاهد إنه لم يقتحم العقبة في الدنيا وإنما اختار ذلك لأنه قال بعد ذلك في الآية الثالثة (* (وما أدراك ما العقبة) *) الآية 12 ثم قال في الآية الرابعة (* (فك رقبة) *) الآية 13 وفي الآية الخامسة (* (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) *) الآية 14 ثم قال في الآية السادسة (* (يتيما ذا مقربة) *) الآية 15 ثم قال في الآية السابعة (* (أو مسكينا ذا متربة) *) الآية 16 فهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا
المعنى فلم يأت في الدنيا بما يسهل له سلوك العقبة في الآخرة
400

تحقيقه وما أدراك ما العقبة أي شيء يقتحم به العقبة لأن الاقتحام يدل على مقتحم به وهو ما فسره من الأعمال الصالحة أولها فك رقبة والفك هو حل القيد والرق قيد وسمي المرقوق رقبة لأنه كالأسير الذي يربط بالقيد في عنقه قال حسان
(كم من أسير فككناه بلا ثمن
* وجز ناصية كنا مواليها)
وفك الأسير من العدو مثله بل أولى منه على ما بيناه فيما قبل
وفي الحديث من أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار وفي الحديث من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى الفرج بالفرج
وهو حديث صحيح عظيم في تكفير الزنا بالعتق
وفي كتب المالكية أن واثلة بن الأسقع سئل أن يحدث بحديث لا وهم فيه ولا نقصان فغضب واثلة وقال المصاحف تجددون فيها النظر بكرة وعشية وأنتم تهمون تزيدون وتنقصون ثم قال جاء ناس إلى رسول الله فقالوا يا رسول الله صاحبنا هذا قد أوجب قال النبي مروه فليعتق رقبة فإن له بكل عضو من المعتق عضوا منه من النار
وروى الوليد بن مسلم عن مالك بن أنس عن إبراهيم بن أبي عبلة حدثهم عن إبراهيم بن عبد الله الديلي عن واثلة بن الأسقع بنحو مثله
المسألة الخامسة
قال أصبغ الرقبة الكافرة ذات الثمن أفضل في العتق من الرقبة المؤمنة القليلة الثمن لقول النبي وقد سئل أي الرقاب أفضل قال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها
والمراد في هذا الحديث من المسلمين بدليل قوله عليه السلام من أعتق امرأ مسلما ومن أعتق رقبة مؤمنة وما ذكره أصبغ وهلة وإنما نظر إلى تنقيص المال والنظر إلى تجريد المعتق للعبادة وتفريغه للتوحيد أولى وقد بيناه في كتاب الصريح من مختصر النيرين
401

سورة الليل فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (وما خلق الذكر والأنثى) *) الآية 3
فيها مسألتان
المسألة الأولى في معنى القسم فيها
وفيه ثلاثة أقوال
الأول إن معناه ورب الذكر والأنثى وهذا المحذوف مقدر في كل قسم أقسم الله به من المخلوقات وقد تقدم ذكر القسم بها
الثاني أن معنى قوله تعالى (* (وما خلق الذكر والأنثى) *) والشفع والوتر كما تقدم يعني آدم وحواء وآدم خلق وحده قبل خلق حواء حسبما سبق بيانه
المسألة الثانية
قراءة العامة وصورة المصحف (* (وما خلق الذكر والأنثى) *) وقد ثبت في الصحيح أن أبا الدرداء وابن مسعود كانا يقرآن والذكر والأنثى قال إبراهيم قدم أصحاب عبد الله على أبي الدرداء فطلبهم فوجدهم فقال أيكم يقرأ على قراءة عبد الله قالوا كلنا قال كيف تقرؤون والليل إذا يغشى قال علقمة والذكر والأنثى قال أشهد أني سمعت رسول الله يقرأ هكذا وهؤلاء يريدون أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى والله لا أتابعهم
قال القاضي هذا مما لا يلتفت إليه بشر إنما المعول عليه ما في الصحف فلا
402

المسألة السادسة
إطعام الطعام قد بينا فضله وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل من إطعامه لمجرد الحاجة أو على مقتضى الشهوة وإطعام اليتيم الذي لا كافل له أفضل من إطعام ذي الأبوين لوجود الكافل وقيام الناصر وهي
المسألة السابعة
والمسألة الثامنة قوله تعالى (* (ذا مقربة) *))
يفيد أن الصدقة على القريب أفضل منها على البعيد ولذلك بدأ به قبل المسكين وذلك عند مالك في النفل وقد بينا ذلك فيما تقدم مع قوله تعالى (* (أو مسكينا ذا متربة) *) والمتربة الفقر البالغ الذي لا يجد صاحبه طعاما إلا التراب ولا فراشا سواه والله أعلم
سورة الشمس فيها آية واحدة
قوله تعالى (* (ولا يخاف عقباها) *) الآية 15
روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالا أخرج إلينا مالك مصحفا لجده زعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كتب المصاحف مما فيه ولا يخاف عقباها بالواو وهكذا قرأ أبو عمرو من القراء السبعة وغيره
فإن قيل لم يقرأ به نافع وقد قال مالك السنة قراءة نافع
قلنا ليس كل أحد من أصحابه ولا كل سامع يفهم عنه في قراءة نافع الهمز وحذفه والمد وتركه والتفخيم والترقيق والإدغام والإظهار في نظائر له من الخلاف في القراءات فدل على أنه أراد السنة في توسع الخلق في القراءة بهذه الوجوه من غير ارتباط إلى شيء مخصوص منها وقد بينا ذلك في تأويل قوله أنزل القرآن على سبعة أحرف وقد ثبت عن النبي أنه قال لمعاذ لا تكن فتانا اقرأ سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحوهما فخصهما بالذكر
403

تجوز مخالفته لأحد ثم بعد ذلك يقع النظر فيما يوافق خطه مما لم يثبت ضبطه حسبما بيناه في موضعه فإن القرآن لا يثبت بنقل الواحد وإن كان عدلا وإنما يثبت بالتواتر الذي يقع به العلم وينقطع معه العذر وتقوم به الحجة على الخلق
الآية الثانية
قوله تعالى (* (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) *) الآيات 5 - 1
فيها ثمان مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روي في ذلك روايات
الرواية الأولى عن أبي الدرداء قال قال رسول الله ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا فأنزل الله تعالى في ذلك (* (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى) *)
الرواية الثانية عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة وكان يعتق نساء وعجائز فقال له أبوه أي بني أراك تعتق أناسا ضعفاء فلو أنك أعتقت رجالا جلدا يقومون معك ويدفعون عنك ويمنعونك فقال أي أبت إنما أريد ما عند الله قال فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه (* (فأما من أعطى واتقى) *))
المسألة الثانية قوله (* (من أعطى) *))
حقيقة العطاء هي المناولة وهي في اللغة والاستعمال عبارة عن كل نفع أو ضر يصل من الغير إلى الغير وقد بيناه في كتاب الأمد الأقصى وغيره
405

المسألة الثالثة قوله تعالى (* (واتقى) *))
وقد تقدم الكلام في حقيقة التقوى وأنها عبارة عن حجاب معنوي يتخذه العبد بينه وبين العقاب كما أن الحجاب المحسوس يتخذه العبد مانعا بينه وبين ما يكرهه
المسألة الرابعة قوله تعالى (* (وصدق بالحسنى) *))
فيها ثلاثة أقوال
الأول أنها الخلف من المعطى قاله ابن عباس
الثاني أنها لا إله إلا الله قاله ابن عباس أيضا
الثالث أنها الجنة قاله قتادة
المسألة الخامسة في المختار
كل معنى ممدوح فهو حسنى وكل عمل مذموم فهو سوأى وعسرى وأول الحسنى التوحيد وآخره الجنة وكل قول أو عمل بينهما فهو حسنى وأول السوأى كلمة الكفر وآخره النار وغيره ذلك مما يتعلق بهما فهو منهما ومراد باللفظ المعبر عنهما
واختار الطبري أن الحسنى الخلف وكل ذلك يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة
المسألة السادسة قوله (* (فسنيسره) *))
يعني نهيئه بخلق أسبابه وإيجاد مقدماته ثم نخلقه بعد ذلك فإن كان حسنا سمي يسرى وإن مذموما سمي عسرى والباري سبحانه خالق الكل فإن أراد السعادة هيأ أسبابها للعبد وخلقها فيه وإن أراد الشقاء هيأ أسبابه للعبد وخلقها فيه وذلك مروي أيضا عن النبي من طريق صحيحة يعضد ما قامت عليه أدلة القول ويعتضد بالشرع المنقول منه ما روي عن علي كنا في جنازة بالبقيع فأتى رسول الله فجلس وجلسنا ومعه عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه إلى السماء فقال ما منكم من نفس منفوسة إلا كتب مدخلها فقلنا يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا فقال بل اعملوا فكل ميسر فأما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل
406

سورة الضحى فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (والضحى) *) الآية 1
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله (* (والضحى) *))
هو ضوء النهار حين تشرق الشمس وهي مؤنثة يقال ارتفعت الضحى ومعناها هو الضوء مذكر وتصغيره ضحيا فإذا فتحت مددت قال الشاعر
(أعجلها أقدحي الضحاء ضحى
* وهي تناصي ذوائب السلم)
يصف أنه نام عن إبل فأخذها ضحى قبل أن تبلغ الضحاء وتبين بهذا أن الضحاء بعد الضحى حق إنه ليتمادى إلى نصف النهار ففي الحديث إن النبي قدم المدينة حين هاجر وقد اشتد الضحاء وكادت الشمس تزول
المسألة الثانية في سبب نزولها
وفيه قولان
أحدهما أن رسول الله رمي بالحجر في إصبعه فدميت فقال النبي هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت قال فمكث ليلة أو ليلتين أو ثلاثا لا يقوم فقالت امرأة له يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت السورة
الثاني روى جندب بن سفيان في الصحيح قال اشتكى رسول الله فلم يقم
407

أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل الشقاء ثم قرأ (* (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى) *) إلى قوله (* (بخل) *))
قد بينا حقيقة البخل فيما تقدم وأنه منع الواجب وقد ذكرنا قول النبي مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد الحديث إلى آخره
المسألة الثامنة قوله (* (واستغنى) *))
قال ابن عباس استغنى عن الله وهو كفر فإن الله غني عن العالمين وهم فقراء إليه وهو الغني الحميد ويشبه أن يكون المراد استغنى بالدنيا عن الآخرة فركن إلى المحسوس وآمن به وضل عن المعقول وكذب به ورأى أن راحة النقد خير من راحة النسيئة وضل عن وجه النجاة وربح التجارة التي اتفق العقلاء على طلبها بإسلام درهم إلى غني وفي ليأخذ عشرة في المستقبل والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد وهو الغني له ما في السماوات وما في الأرض والخلق ملكه أمر بالعمل وندب إلى النصب ووعد عليه بالثواب فالحرام معقولا والواجب منقولا امتثال أمره وارتقاب وعده وهذا منتهى الحكم في الآية وما يتعلق به وراء ذلك من البيان ما يخرج عن المقصود فأرجأته إلى مكانه بمشيئة الله وعونه
408

ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك وفي رواية ما أرى صاحبك إلا أبطأك فنزلت وهذا أصح
المسألة الثالثة
بوب عليه البخاري في باب ترك القيام للمريض وأدخل الحديث ليتبين بذلك وجوب قيام الليل وقد قدمنا القول المحقق فيه في سورة المزمل وإن ذلك كان فرضا على النبي وحده
المسألة الرابعة
الحديث بأن رسول الله اشتكى فترك القيام صحيح وذكره فيه هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت غير صحيح وقوله فلم يقم ليلة أو ليلتين أسقطه الترمذي والبخاري في كتابيهما وهو صحيح خرجه القاضي أبو إسحاق وغيره من طريق صحيحة وقد ذكرناه في صريح الصحيح
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وأما السائل فلا تنهر) *) الآية 1
فيها مسألتان
المسألة الأولى
ذكر المفسرون فيها قولين
الأول وأما السائل للبر فلا تنهر أي رده بلين ورحمة قاله قتادة
الثاني سائل الدين للبيان لا تنهره بالجفوة والغلظة
المسألة الثانية
أما من قال إنه سائل البر فقد قدمنا وجوه السؤال في غير موضع وكيفية العمل فيه وقول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى فكيف بالأذى دون الصدقة وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم على الكفاية كإعطاء سائل البر سواء
409

وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث ويبسط رداءه لهم ويقول مرحبا بأحبة رسول الله
وفي حديث أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري يقول مرحبا بوصية رسول الله إن النبي قال إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا وفي رواية يأتيكم رجال من قبل المشرق فذكره
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (وأما بنعمة ربك فحدث) *) الآية 11
فيها مسألتان
المسألة الأولى في قوله (* (وأما بنعمة ربك فحدث) *))
ثلاثة أقوال
أحدها أنها النبوة
الثاني أنها القرآن
الثالث إذا أصبت خيرا أو عملت خيرا فحدث به الثقة من إخوانك قاله الحسن
المسألة الثانية
أما من قال إنها النبوة فقد روى عبد الله بن شداد بن الهاد قال جاء جبريل إلى النبي فقال يا محمد اقرأ قال وما أقرأ قال (* (اقرأ باسم ربك الذي خلق) *) حتى بلغ (* (علم الإنسان ما لم يعلم) *) فقال لخديجة يا خديجة ما أراني إلا قد عرض لي فقالت خديجة كلا والله ما كان ربك ليفعل ذلك بك وما أتيت فاحشة قط قال فأتت خديجة ورقة بن نوفل فذكرت ذلك له فقال ورقة إن تكوني صادقة فزوجك نبي وليلقين من أمته شدة فاحتبس جبريل عن النبي
410

سورة الانشراح فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ألم نشرح لك صدرك) *) الآية 1
شرحه حقيقة حسية وذلك حين كان عند ظئره وحين أسري به وشرحه معنى حين جمع له التوحيد في صدره والقرآن وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيما وشرحه حين خلق له القبول لكل ما ألقى إليه والعمل به وذلك هو تمام الشرح وزوال الترح
الآية الثانية
قوله تعالى (* (ورفعنا لك ذكرك) *) الآية 4
يعني قرناه بذكرنا في التوحيد والأذان وقد تقدم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (فإذا فرغت فانصب) *) الآية 7
فيها مسألتان
المسألة الأولى
اتفق الموحدون والمفسرون على أن معناه إذا فرغت من الصلاة فانصب للأخرى بلا فتور ولا كسل وقد اختلفوا في تعيينهما على أربعة أقوال
الأول إذا فرغت من الفرائض فتأهب لقيام الليل
411

فقالت خديجة يا محمد ما أرى ربك إلا قد قلاك فأنزل الله تعالى (* (والضحى) *) يعني السورة فهذا حديثه بالنبوة
وأما حديثه بالقرآن فتبليغه إياه قالت عائشة رضي الله عنها لو كان رسول الله كاتما من الوحي شيئا لكتم هذه الآية (* (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك) *) الأحزاب 37 وقالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد أعظم على الله الفرية والله يقول (* (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) *) المائدة 67
وأما تحدثه بعمل فإن ذلك يكون بإخلاص من النية عند أهل الثقة فإنه ربما خرج إلى الرياء وأساء الظن بسامعه وقد روى أيوب قال دخلت على أبي رجاء العطاردي فقال لقد رزق الله البارحة خيرا صليت كذا وسبحت كذا قال قال أيوب فاحتملت ذلك لأبي رجاء
ومن الحديث بالنعمة إظهارها بالملبس والمركب قال النبي إن الله إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يرى أثر نعمته وإظهارها بالملبس والمركب وإظهارها بالجديد والقوي من الثياب النقي وليس بالخلق الوسخ وفي المركب اقتناؤه للجهاد أو لسبيل الحلال حسبما تقدم بيانه
412

سورة التين فيها خمس آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (والتين والزيتون) *) الآية 1
قيل هو حقيقة وقيل عبر به عن دمشق أو جبلها أو مسجدها ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل
وإنما أقسم الله سبحانه بالتين ليبين فيه وجه المنة العظمى فإنه جمي المنظر طيب المخبر نشر الرائحة سهل الجنى على قدر المضغة وقد أحسن القائل فيه
(انظر إلى التين في الغصون ضحى
* ممزق الجلد مائل العنق)
(كأنه رب نعمة سلبت
* فعاد بعد الجديد في الخلق)
(أصغر ما في النهود أكبره
* لكن ينادي عليه في الطرق)
ولامتنان الباري سبحانه وتعظيم النعمة فيه فإنه مقتات مدخر فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه وإنما فر كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه تقية جور الولاة فإنهم يتحاملون في الأموال الزكائية فيأخذونها مغرما حسبما أنذر به الصادق فكره العلماء أن يجعلوا لهم سبيلا إلى مال آخر يتشططون فيه ولكن ينبغي للمرء أن يخرج عن نعمة ربه بأداء حقه وقد قال الشافعي لهذه العلة أو غيرها لا زكاة في الزيتون والصحيح وجوب الزكاة فيهما
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وهذا البلد الأمين) *) الآية 3
413

الثاني إذا فرغت من الصلاة فانصب للدعاء
الثالث إذا فرغت من الجهاد فاعبد ربك
الرابع إذ فرغت من أمر دنياك فانصب لأمر آخرتك
ومن المبتدعة من قرأ هذه الآية فأنصب بكسر الصاد والهمز في أوله وقالوا معناه أنصب الإمام الذي يستخلف وهذا باطل في القراءة باطل في المعنى لأن النبي لم يستخلف أحدا وقرأها بعض الجهال فانصب بتشديد الباء معناه إذا فرغت من الغزو فجد إلى بلدك وهذا باطل أيضا قراءة لمخالفة الإجماع لكن معناه صحيح لقول النبي السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل الرجوع إلى أهله
وأشد الناس عذابا وأسوأهم مآبا ومباء من أخذ معنى صحيحا فركب عليه من قبل نفسه قراءة أو حديثا فيكون كاذبا على الله كاذبا على رسوله ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أما أنه قد روي وهي
المسألة الثانية
عن شريح أنه مر بقوم يلعبون يوم عيد فقال ما بهذا أمر الشارع وفيه نظر فإن الحبش كانوا يلعبون بالدرق والحراب في المسجد يوم العيد والنبي ينظر
ودخل أبو بكر بيت رسول الله على عائشة وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنيان فقال أبو بكر أمزمارة الشيطان في بيت رسول الله فقال دعهما يا أبا بكر فإنه يوم عيد
وليس يلزم الدؤوب على العمل بل هو مكروه للخلق حسبما تقدم بيانه في غير موضع
414

يعني مكة لما خلق الله فيه من الأمن حسبما تقدم بيانه في آل عمران والعنكبوت وغيرهما وبهذا احتج من قال إنه أراد بالتين دمشق وبالزيتون بيت المقدس فأقسم الله بجبل دمشق لأنه مأوى عيسى عليه السلام وبجبل بيت المقدس لأنه مقام الأنبياء كلهم وبمكة لأنه أثر إبراهيم ودار محمد
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) *) الآية 4
قال ابن العربي رضي الله عنه ليس لله تعالى خلق هو أحسن من الإنسان فإن الله خلقه حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما وهذه صفات الرب وعنها عبر بعض العلماء ووقع البيان بقوله إن الله خلق آدم على صورته يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها
وفي رواية على صورة الرحمن ومن أين تكون للرجل صفة مشخصة فلم يبق إلا أن تكون معاني وقد تكلمنا على الحديث في موضعه بما فيه بيانه
وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الأزدي أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي علي القاضي المحسن عن أبيه قال كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجه حبا شديدا فقال لها يوما أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت واحتجبت عنه وقالت طلقني وبات بليلة عظيمة ولما أصبح غدا إلى دار المنصور فأخبره الخبر وقال يا أمير المؤمنين إن تم علي طلاقها تصلفت نفسي غما وكان الموت أحب إلي من الحياة وأظهر للمنصور جزعا عظيما فاستحضر الفقهاء واستفتاهم فقال جميع من حضر قد طلقت إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة فإنه كان ساكتا فقال له المنصور ما لك لا تتكلم فقال له الرجل بسم الله الرحمن الرحيم (* (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) *) يا أمير المؤمنين الإنسان أحسن الأشياء ولا شيء أحسن منه فقال المنصور لعيسى بن موسى الأمر كما قال فأقبل على زوجك فأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجه أن أطيعي زوجك ولا تعصيه فما طلقك
415

فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق الله باطنا وهو أحسن خلق الله ظاهرا جمال هيئة وبديع تركيب الرأس بما فيه والصدر بما جمعه والبطن بما حواه والفرج وما طواه واليدان وما بطشتاه والرجلان وما احتملتاه ولذلك قالت الفلاسفة إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات أجمع فيه هذا على الجملة وكيف على التفصيل بتناسب المحاسن فهو أحسن من الشمس والقمر بالعينين جميعا وقد بينا القول في ذلك في كتاب المشكلين وبهذه الصفات الجليلة التي ركب عليها الإنسان استولى على جماعة الكفران وغلب على طائفة الطغيان حتى قال أنا ربكم الأعلى وحين علم الله هذا من عبده وقضاؤه صادر من عنده رده أسفل سافلين وهي
الآية الرابعة
بأن جعله مملوءا قذرا مشحونا نجاسة وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا على وجه الاختيار تارة وعلى وجه الغلبة أخرى حتى إذا شاهد ذلك من أمره رجع إلى قدره
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (أليس الله بأحكم الحاكمين) *) الآية 8
قد روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة أن النبي قال إذا قرأ أحدكم أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين
ومن رواية غيره إذا قرأ أحدكم أو سمع (* (أليس الله بأحكم الحاكمين) * أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) فليقل بلى
وهذه أخبار ضعيفة أما إن ذلك يتعين في الاعتقاد لأجل ما يلزم في فهم القرآن
416

سورة العلق فيها خمس آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (اقرأ باسم ربك الذي خلق) *) الآية 1
فيها مسألة واحدة
القول في أول ما نزل من القرآن وفيه أربعة أقوال
الأول هذه السورة قالته عائشة وابن عباس وابن الزبير وغيرهم
الثاني أنه نزل يا أيها المدثر قاله جابر
الثالث قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول ما نزل من القرآن (* (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) *) الأنعام 151
الرابع قال أبو ميسرة الهمداني أول ما نزل فاتحة الكتاب
والصحيح ما رواه الأئمة واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت كان أول ما بدئ به رسول الله الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق
الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه والتحنث التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثل ذلك حتى فجئه الوحي وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ فقال رسول الله ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال (* (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق) *) إلى قوله (* (علم الإنسان ما لم يعلم) *) فرجع بها رسول الله
417

من الانتقاد وقد روى مالك عن البراء بن عازب قال صليت مع رسول الله فصلى فيها بالتين والزيتون وهو صحيح
وفي البخاري سمعت البراء يقول إن النبي كان في سفر فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون ففسر المعنى الذي أوجب قراءتها مع قصرها في صلاة العشاء وهو السفر
418

وفؤاده يرجف حتى دخل على خديجة فقال زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة أي خديجة ما لي لقد خشيت على نفسي فأخبرها الخبر فقالت خديجة كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا فوالله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل وهو ابن عم خديجة أخو أبيها وكان أمرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني ويكتب الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت خديجة يا بن عم اسمع من ابن أخيك قال ورقة يا بن أخي ماذا ترى فأخبره النبي خبر ما رأى فقال ورقة هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك قال رسول الله أو مخرجي هم قال ورقة نعم لم يأت أحد بما جئت به إلا أوذي وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله قال محمد بن شهاب فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال قال رسول الله وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه بينا أنا أمشي سمعت صوتا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي قد جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ففزعت منه فرجعت فقلت زملوني دثروني فدثروه فأنزل الله تبارك وتعالى (* (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) *)
قال أبو سلمة وهي الأوثان التي كانت الجاهلية تعبدها ثم تتابع الوحي
الآية الثانية
قوله تعالى (* (خلق الإنسان من علق) *) الآية 2
فيها دليل على أن الإنسان مخلوق من العلق وأنه قبل أن يكون علقة ليس بإنسان وقد بينا ذلك في غير موضع
419

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (الذي علم بالقلم) *) الآية 4
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى الأقلام في الأصل ثلاثة
القلم الأول كما ثبت في الحديث أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فكتب ما كان وما يكون إلى يوم الساعة فهر عنده في الذكر فوق عرشه
القلم الثاني ما جعل الله بأيدي الملائكة يكتبون به المقادير والكوائن والأعمال وذلك قوله تعالى (* (كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) *) الانفطار 11 - 12 خلق الله لهم الأقلام وعلمهم الكتاب بها
القلم الثالث أقلام الناس جعلها الله تعالى بأيديهم يكتبون بها كلامهم ويصلون بها إلى مآربهم والله أخرج الخلق من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا وخلق لهم السمع والبصر والنطق حسبما بيناه في كتاب قانون التأويل ثم رزقهم معرفة العبادة باللسان على ثمانية وعشرين وجها وقيل حرفا يضطرب بها اللسان بين الحنك والأسنان فيتقطع الصوت تقطيعا يثبت عنه مقطعاته على نظام متسق قرنت به معارف في أفرادها وفي تأليفها وألقى إلى العبد معرفة أدائها فذلك قوله (* (وعلمك ما لم تكن تعلم) *) النساء 113
ثم خلق الله اليد والقدرة ورزقه العلم والرتبة وصور له حروفا تعادل له الصورة المحسوسة في إظهار المعنى المنقول في النطق فتقابل هذا مكتوبا ذلك الملفوظ وتقابل الملفوظ ما ترتب في القلب ويكون الكل سواء ويحصل به العلم (* (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) *))
المسألة الثانية
جعل الله هذا كله مرتبا للخلق ونظاما للآدميين ويسره فيهم فكان أقل الخلق
420

المسألة الخامسة
قال أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي أول من وضع الخط نفر من طيء وهم صوار بن مرة ويقال مرار بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن خدرة فساروا إلى مكة فتعلمه منهم شيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن الحارث وهشام بن المغيرة ثم أتوا الأنبار فتعلمه نفر منهم ثم أتوا الحيرة فعلموه جماعة منهم سفيان بن مجاشع ابن عبد الله بن دارم وولده ويسمون بالكوفة بني الكاتب
قال ابن العربي الكلبي متهم لا يؤثر نقله ولا يصح ما ذكره بلفظه من طريق يعول عليها أن الله علم الخط بالعربية ونقله الكافة فالكافة حتى انتهى إلى العرب عن غيرهم من الأمم فيمكن أن يقال إن أول من نقل الخط إلى بلاد العرب فلان وأما أن يقال أول من وضع الخط فلان فالخط ليس بموضوع وإنما هو منقول وقد كان قبل طيء بما لا
يحصى من السنين عددا فأما وضعه فليس لأحد من خلق الله ولا ينبغي له
وقد روي عن كعب أن أول من كتب الكتاب العربي والسرياني والمسند وهو كتاب حمير كتبه آدم عليه السلام ووضعها في الطين وطبخها فلما أصاب الأرض الغرق وانجلى وخلق الله بعد ذلك من خلق وجدت كل أمة كتابها فأصاب إسماعيل كتاب العرب
وروي عن ابن عباس أن أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل على لفظه ومنطقه كتابا واحدا مثل الأصول فتعرفه ولده من بعده
وروي من عروة أول ما وضع أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت وأسند إلى عمرو وهذه كلها روايات ضعيفة ليس لها أصل يعتمد عليه فيها وأعجب من هذا أن القول في ذلك خوض فيما لا يعتمد ولا يتعلق عليه حكم ولا يتعلق به فائدة شرعية وإنما أشرنا إليه ليعلم الطالب ما جرى ويفهم من ذلك الأولى بالدين والأحرى والله أعلم
وقد بينا أن إسماعيل إنما تعلم العربية من جرهم حسبما ثبت في الصحيح والله
421

به معرفة العرب وأقل العرب به معرفة الحجازيون وأعدم الحجازيين به معرفة المصطفى صرفه عن عمله ليكون ذلك أثبت لمعجزته وأقوى في حجته
المسألة الثالثة
ولكل أمة تقطيع في الأصوات على نظام يعبر عما في النفس ولهم صورة في الخط تعبر عما يجري به اللسان وفي اختلاف ألسنتكم وألوانكم دليل قاطع على ربكم القادر العليم الحكيم الحاكم وأم اللغات وأشرفها العربية لما هي عليه من إيجاز اللفظ وبلوغ المعنى وتصريف الأفعال وفاعليها ومفعوليها كلها على لفظ واحد الحروف واحدة والأبنية ف الترتيب مختلفة وهذه قدرة وسيعة وآية بديعة
المسألة الرابعة
لكل أمة حروف مصورة بالقلم موضوعة على الموافقة لما في نفوسهم من الكلم على حسب مراتب لغاتهم من عبراني ويوناني وفارسي وغير ذلك من أنواع اللغات أو عربي وهو أشرفها وذلك كله مما علم الله لآدم عليه السلام حسبما جاء في القرآن في قوله (* (وعلم آدم الأسماء كلها) *) البقرة 31 فلم يبق شيء إلا وعلم الله سبحانه آدم اسمه بكل لغة وذكره آدم للملائكة كما علمه وبذلك ظهر فضله وعظم قدره وتبين علمه وثبتت نبوته وقامت حجة الله على الملائكة وحجته وامتثلت الملائكة لما رأت من شرف الحال ورأت من جلال القدرة وسمعت من عظيم الأمر ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف وتناقلوه قوما عن قوم تحفظه أمة وتضيعه أخرى والبارئ سبحانه يضبط على الخلق بالوحي منه ما شاء على من شاء من الأمم على مقاديرها ومجرى حكمه فيها حتى جاء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وتعلم العربية من جيرته جرهم وزوجوه فيهم واستقر بالحرم فنزل عليه جبريل فعلمه العربية غضة طرية وألقاها إليه صحيحة فصيحة سوية واستطرب على الأعقاب في الأحقاب إلى أن وصلنا إلى محمد فشرف وشرفت بالقرآن العظيم وأوتي جوامع الكلام وظهرت حكمته وحكمه وأشرق على الآفاق فهمه وعلمه والحمد لله
422

أعلم في الحديث الطويل لقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وذكره إلى قوله فكانت كذلك هاجر حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طرق كداء أو أهل بيت من طريق كداء أو أهل بيت من جرهم نزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عليهما فقالوا إن هذا الطائر يدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا قال وأم إسماعيل عليه السلام عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك قلت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا نعم
قال ابن عباس قال النبي قالت ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وساق الحديث
الآية الرابعة
قوله تعالى (* (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) *) الآيتان 9 - 1
فيها مسألتان
المسألة الأولى
ثبت عن ابن عباس عن النبي أنه لما قال أبو جهل لئن رأيت محمدا لأطأن على عنقه فقال محمد لو فعل لأخذته الملائكة عيانا خرجه الترمذي وغيره
وروى الترمذي أيضا عن ابن عباس قال كان النبي يصلي فجاء أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا ألم أنهك عن هذا فانصرف النبي فزبره فقال أبو جهل إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني فنزلت (* (فليدع ناديه سندع الزبانية) *) فقال ابن عباس والله لو دعا نادية لأخذته زبانية الله
423

المسألة الثانية
تعلق بها بعض الناس في مسائل منها لو رأى الماء وهو في أثناء الصلاة متيمما فقال أبو حنيفة وغيره يقطع الصلاة ولا يجوز له أن يتمادى عليها
وقال بعضهم إنه يدخل في الذم في قوله (* (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) *) وهذا غير لازم لأن الخلاف بيننا وبينهم هل يكون في صلاة إذا رأى الماء فلا يتناوله الذم إلا إذا كانت الصلاة باقية ونحن قلنا لهم إذا أمرتموه بقطعها برؤية الماء فقد دخلتم في العموم المذموم قالوا لا ندخل لأنا نرفع الطهارة بالتراب بمعارضها وهو رؤية الماء
قلنا لا تكون رؤية الماء معارضة للطهارة بالتراب إلا إذا كانت القدرة على استعمال الماء مقارنة للرؤية ولا قدرة مع الصلاة ولا تبطل الطهارة إلا برؤية مع قدرة فتمانعا فبقيت الصلاة بحالها
وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف وبينا أن المسألة قطعية لأنها تتعلق بحدوث العالم
الآية الخامسة
قوله تعالى (* (كلا لا تطعه واسجد واقترب) *) الآية 19
فيها مسألتان
المسألة الأولى قوله تعالى (* (واسجد) *))
فيها طريقة القربة فهو يتأكد على الوجوب على ما بيناه في أصول الفقه لكنه يحتمل أن يكون سجود الصلاة ويحتمل أن يكون سجود التلاوة والظاهر أنه سجود الصلاة لقوله (* (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) *) إلى قوله (* (كلا لا تطعه واسجد واقترب) *) لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم وغيره من الأئمة عن أبي هريرة أنه قال سجدت مع النبي في (* (إذا السماء انشقت) *) وفي (* (اقرأ باسم ربك الذي خلق) *) سجدتين فكان هذا نصا على أن المراد به سجود التلاوة
424

سورة القدر فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (إنا أنزلناه في ليلة القدر) *) الآية 1
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى
قد بينا في كتاب المشكلين وقسم الأفعال من الأمد الأقصى معنى النزول في القرآن وأن الملك علمه في العلو وأنهاه في السفل فعبر عنه بالنزول مجازا في المعنى عن الحس إلى العقل إذ المحسوس هو الأول والمعقول هو المرتب عليه
المسألة الثانية
في تمييز المنزل وهو القرآن وإن لم يتقدم له ذكر ولكنه وقع للمخاطبين به العلم قال الله تعالى (* (حتى توارت بالحجاب) *) ومنه كثير في الكتاب كما قال تعالى فيه (* (حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) *))
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (في ليلة) *))
قد بينا أن القرآن نزل ليلا إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ في رمضان كما أخبر عنه تبارك وتعالى في قوله (* (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) *) البقرة 185 وأنزله من الشهر في الليلة المباركة ليلة القدر
425

وقد روى ابن وهب عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن علي بن أبي طالب قال عزائم السجود أربع (* (ألم تنزيل) *) و (* (حم تنزيل من الرحمن الرحيم) *) و (* (والنجم) *) و (* (اقرأ باسم ربك) *) وهذا إن صح يلزمه عليه السجود الثاني من سورة الحج وإن كان مقترنا بالركوع لأنه يكون معناه اركعوا في موضع الركوع واسجدوا في موضع السجود
المسألة الثانية قوله تعالى (* (واقترب) *))
المعنى اكتسب القرب من ربك في السجود فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده لأنها نهاية العبودية والذلة لله ولله غاية العزة وله العزة التي لا مقدار لها فلما بعدت من صفته قربت من جنته ودنوت من جواره في داره
وفي الحديث الصحيح أن النبي قال أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فإنه قمن أن يستجاب لكم
وقد قال ابن نافع ومطرف وكان مالك يسجد في خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة وابن وهب يراها من العزائم
426

المسألة الرابعة قوله تعالى (* (ليلة القدر) *))
قيل ليلة الشرف والفضل وقيل ليلة التدبير والتقدير وهو أقرب لقوله (* (فيها يفرق كل أمر حكيم) *) الدخان 4 ويدخل فيه الشرف والرفعة ومن شرفها نزول القرآن فيها إلى السماء الدنيا جملة ومن شرفها بكرتها وسلامتها التي يأتي إن شاء الله تعالى بيانها
ومعنى التقدير والتدبير فيها أن الله قد دبر الحوادث والكوائن قبل خلقها بغير مدة وقدر المقادير قبل خلق السماوات والأرض من غير تحديد وعلم الأشياء قبل حدوثها بغير أمد ومن جهالة المفسرين أنهم قالوا إن السفرة ألقته إلى جبريل في عشرين ليلة وألقاه جبريل إلى محمد عليهما السلام في عشرين سنة وهذا باطل ليس بين جبريل وبين الله واسطة ولا بين جبريل ومحمد واسطة
قال علماؤنا فيحدث الله عز وجل في رمضان في ليلة القدر كل شيء يكون في السنة من الأرزاق والمصائب وما يقسم من السعادة والشقاوة والحياة والموت والمطر والرزق حتى يكتب فلان يحج في العام ويكتب ذلك في أم الكتاب
وقال آخرون يكتب كل شيء إلا السعادة والشقاوة والموت والحياة فقد فرغ من ذلك ونسخ لملك الموت من يموت ليلة القدر إلى مثلها فتجد الرجل ينكح النساء ويغرس الغروس واسمه في الأموات مكتوب
الآية الثانية
قوله تعالى (* (ليلة القدر خير من ألف شهر) *) الآية 3
فيها ثلاث مسائل
427

المسألة الأولى في سبب هبتها لهذه الأمة والمنة عليهم
وفي ذلك ثلاثة أقوال
الأول أنه فضل من ربك
الثاني أنه ذكر رسول الله يوما أربعة من بني إسرائيل فقال عبدوا الله ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل ابن العجوز ويوشع ابن نون فعجب أصحاب النبي من ذلك فأتاه جبريل فقال يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين فقد أنزل الله عليك خيرا من ذلك ثم قرأ (* (إنا أنزلناه في ليلة القدر) *) هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك منه قال فسر بذلك رسول الله
الثالث قال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره عنه سمعت من أثق به يقول إن رسول الله أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر
قال القاضي والصحيح هو الأول أن ذلك فضل من الله ولقد أعطيت أمة محمد من الفضل ما لم تعطه أمة في طول عمرها فأولها أن كتب لها خمسون صلاة بخمس صلوات وكتب لها صوم سنة بشهر رمضان بل صوم سنة بثلاثين سنة في رواية عبد الله بن عمر وحسبما بيناه في الصحيح وطهر مالها بربع العشر وأعطيت خواتيم سورة البقرة من قرأها في ليلة كفتاه يعني عن قيام الليل وكتب لها ان من صلى الصبح في جماعة فكأنما قام ليلة ومن صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة فهذه ليلة ونصف في كل ليلة إلى غير ذلك مما يطول تعداده
ومن أفضل ما أعطوا ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وهذا فضل لا يوازيه فضل ومنة لا يقابلها شكر
428

المسألة الثانية
روي فيها قول رابع أخرجه الترمذي وغيره أن محمود بن غيلان حدثه قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد قال قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال سودت وجوه المؤمنين أو يا مسود وجوه المؤمنين فقال لا تؤنبني رحمك الله فإن النبي أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت (* (إنا أعطيناك الكوثر) *) يعني نهرا في الجنة ونزلت (* (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر) *) يملكها بنو أمية يا محمد قال القاسم فعددناها فإذا هي ألف لا تزيد يوما ولا تنقص يوما
المسألة الثالثة قوله تعالى (* (ليلة القدر خير من ألف شهر) *))
ليس فيها ليلة القدر في قول المفسرين لأنها لا يصح أن تكون خيرا من نفسها وتركب على هذا قول النحاة إنه لا يجوز زيد أفضل إخوته لأنه من الإخوة يريدون ولا يجوز أن يكون الشيء أفضل من نفسه وهذا تدقيق لا يؤول إلى تحقيق
أما ليلة القدر فإنها خير من ألف شهر فيها ليلة القدر فيكون العمل فيها خيرا من ألف شهر هي من جملتها فإذا عمر الرجل بعد البلوغ عاما كتب الله له بليلة القدر ألف شهر فيها ليلة القدر ولا يكتب له ليلة القدر وألف شهر زائدا عليها وركب على هذا بقية الأعوام
وأما قولهم زيد أفضل اخوته فهذا تجوز جائز لأن العرب قد سحبت على هذا الغرض ذيل الغلط وأجرته على مساق الجواز في النطق فإنها تقول الاثنان نصف الأربعة تتجوز بذلك لأن الاثنين من الأربعة
429

وتحقيق القول في نسبتها لشيء تركب مثله وفي قولهم الواحد ثلث الثلاثة شيء تركب مثليه وهكذا إلى آخر النسب ولكنها لم تتحاش عن هذا المذهب لأن اللفظ منظوم والمعنى مفهوم ووجه المجاز فيه ظاهر والله أعلم
الآية الثالثة
قوله تعالى (* (سلام هي حتى مطلع الفجر) *) الآية 5
فيها أربع مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (سلام هي) *))
فقد تقدم معناه في عدة مواضع وذكر العلماء فيه ها هنا ثلاثة أقوال
الأول إن ليلة القدر سلامة من كل شيء لا يحدث فيها حدث ولا يرسل فيها شيطان
الثاني إن ليلة القدر هي كلها خير وبركة
الثالث إن الملائكة لتسلم على المؤمنين في ليلة القدر إلى مطلع الفجر قاله مجاهد وقتادة وذلك كله صحيح فيها على ما تقدم بيانه من العموم في الإثبات إذا كان مصدرا أو معنى يحتمله اللفظ بخلاف الأشخاص والأعلام فإنها لا تحتمل العموم بالإثبات وقد بيناه في الملجئة وأصول الفقه
المسألة الثانية قوله تعالى (* (هي) *))
نزع بذلك كثير من العلماء إلى أنها في ليلة سبع وعشرين لأنهم عدوا حروف السورة فلما بلغوا إلى قولهم (* (هي) *) وجدوها سبعة وعشرين حرفا فحكموا عليه بها وهو أمر بين وعلى النظر بعد التفطن له هين ولا يهتدي له إلا من كان صادق الفكر شديد العبرة وقد أشبعت القول في هذه المسألة في كتاب شرح
430

الصحيحين ولبابه اللائق بالأحكام أن العلماء اختلفوا في تحريرها على ثلاثة عشر قولا
الأول أنها في العام كله سئل ابن مسعود عن ليلة القدر فقال من يقم الحول يصب ليلة القدر
الثاني أنها في شهر رمضان دون سائر شهور العام قاله سائر الأئمة عدا من سميناه
الثالث أنها ليلة سبع عشرة من الشهر قاله عبد الله بن الزبير
الرابع أنها ليلة إحدى وعشرين
الخامس أنها ليلة ثلاث وعشرين
السادس أنها ليلة خمس وعشرين
السابع أنها ليلة سبع وعشرين
الثامن أنها ليلة تسع وعشرين
التاسع أنها في الأشفاع للأفراد الخمسة فإذا أضفتها إلى الثمانية الأقوال اجتمع فيها ثلاثة عشر قولا أصولها هذه التسعة التي أشرنا إليها
توجيه الأقوال وأدلتها
أما قول ابن مسعود إنها في العام كله فنزع إلى أنها موجودة شرعا مخبر عنها قطعا ولم يتعين لتوقيتها دليل فبقيت مترقبة في الزمان كله وقد رآه ابن مسعود مع فقهه في كتاب الله وعلمه به
وأما من قال إنها في شهر رمضان فلأن النبي اعتكف العشر الأول يطلبها واعتكف العشر الأواسط واعتكف العشر الأواخر ولو كانت مخصصة بجزء منه ما تقلب في جميعه يطلبها فيه
وأما من قال إنها ليلة سبع عشرة فإن عبد الله بن الزبير نزع بقوله تعالى (* (وما) *
431

أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) الأنفال 41 وكان ذلك ليلة سبع عشرة
وأما قول من قال إنها إحدى وعشرين فمعوله على حديث أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله يجاوز العشر في أول الشهر ثم اعتكف العشر الأواسط في قبة تركية على سدتها حصير ثم قال إني أوتيت وقيل لي إنها في العشر الأواخر وإني رأيتها ليلة وتر وكأني أسجد صبيحتها في ماء وطين فأصبح من ليلة إحدى وعشرين وقد صلى الصبح فمطرت السماء ووكف المسجد فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وأرنبة أنفه فيهما أثر الطين والماء
وأما من قال إنها ليلة ثلاثة وعشرين فلوجهين
أحدهما أن عبد الله بن أنيس قال للنبي مرني بليلة أنزل فيها إليك فقال له النبي أنزل ليلة ثلاث وعشرين
وفي صحيح مسلم أن النبي قال إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين قال عبد الله بن أنيس فرأيته في صبيحة ثلاث وعشرين سجد في الماء والطين كما أخبر
وأما من قال إنها ليلة خمس وعشرين ففي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال التمسوها في العشر الأواخر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى زاد النسائي على مسلم أو ثلث آخر ليلة
وأما من قال إنها ليلة سبع وعشرين فاحتج بالحديث الصحيح في مسلم عن أبي بن كعب قال زر بن حبيش سألت أبي بن كعب فقلت إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر فقال رحمه الله أراد ألا يتكل الناس أما أنه قد علم أنها في شهر رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين فقلت بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر
432

فقال بالعلامة التي أخبرنا رسول الله في الشمس من صبيحتها أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها
وأما من قال إنها ليلة تسع وعشرين فنزع بحديث النسائي المتقدم
وأما من قال إنها في الأشفاع فنزع بالحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال اعتكف رسول الله العشر الأواسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له فلما انقضين أمر بالبناء فقوض ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر فأمر بالبناء فأعيد ثم خرج على الناس فقال يا أيها الناس إنه كانت أبينت لي ليلة القدر وإني خرجت لأخبركم بها فجاء رجلان يختصمان معهما الشيطان فنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة قال أبو نضرة راوي الحديث قلت لأبي سعيد إنكم أعلم بالعدد منا قال أجل نحن أحق بذلك منكم قال فقلت فما التاسعة والسابعة والخامسة قال إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنتان وعشرون فهي التاسعة وإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة وإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها وهي الخامسة
المسألة الثالثة
في الصحيح فيها وترجيح سبل النظر الموصلة إلى الحق منها
وذلك أنا نقول إن الله تبارك وتعالى قال (* (ليلة القدر خير من ألف شهر) *) فأفاد هذا بمطلقه لو لم يكن كلام سواه أنها في العام كله لقوله تعالى (* (إنا أنزلناه في ليلة القدر) *) فأنبأنا أنه أنزله في ليلة من العام فقلنا من يقم الحول يصب ليلة القدر ثم نظرنا إلى قوله تعالى (* (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) *) فأفادنا ذلك أن تلك الليلة هي ليلة من شهر رمضان لإخبار الله أن القرآن أنزل فيها فقلنا من يقم شهر رمضان يصب ليلة القدر وقد طلبها رسول الله في أوله وفي وسطه وآخره رجاء الحصول وقال من قام رمضان إيمانا واحتسابا
433

غفر له ما تقدم من ذنبه ولم يعمه بالطلب لما كان يظنه من التخصيص ورجاء ألا يشق على أمته ثم أنبأه الله بها فخرج ليخبر بها فأنسيها لشغله مع المتخاصمين لكن بقي له من العلم الذي كان أخبر به أنها في العشر الأواخر ثم أخبر في الصحيح أنها في العشر الأواخر وتواطأت روايات الصحابة على أنها في العشر الأواخر كما قال هو واقتضت رؤياه أنها في العشر الأواخر من طريق أبي سعيد الخدري في ليلة إحدى وعشرين ومن طريق عبد الله بن أنيس أنها ليلة ثلاث وعشرين ثم أنبأ عنها بعلامة وهي طلوع الشمس بيضاء لا شعاع لها يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة فوجد ذلك الصحابة ليلة سبع وعشرين ولم تصلح لرؤية ذلك النور لكثرة ظلمة الذنوب فإن رآها أحد من المذنبين فحجة عليه إن مات ونقمة منه إن بقي كما كان ثم خص السبع الأواخر من جملة الشهر فحث على التماسها فيها ثم وجدناها بالرؤيا الحق ليلة إحدى وعشرين في عام ثم وجدناها بالرؤيا الصدق في ليلة ثلاث وعشرين في عام ثم وجدناها بالعلامة الحق ليلة سبع وعشرين فعلمنا أنها تنتقل في الأعوام لتعم بركتها من العشر الأواخر جميع الأيام وخبأها عن التعيين ليكون ذلك أبرك على الأمة في القيام في طلبها شهرا أو أياما فيحصل مع ليلة القدر ثواب غيرها كما خبأ الكبائر في الذنوب وساعة الجمعة في اليوم حسبما قدمناه
فهذه سبل النظر المجتمعة من القرآن والحديث أجمع فتبصروها لمما واسلكوها أمما إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة
من قال لزوجته أنت طالق في ليلة القدر فللعلماء فيه ثلاثة أقوال
الأول لا تطلق حتى يتم العام من أول يمينه لأنه يحتمل أن تكون ليلة القدر في العام فلا يبطل يقين النكاح بالشك في الطلاق إجماعا من أكثر الأئمة
الثاني إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان طلقت لأنها في شهر رمضان كما ثبت في الآثار ولا يتبين تعيينها إلا بدخول سبع وعشرين فلا يقع يقين الفراق الذي يرتفع به يقين النكاح إلا حينئذ
434

الثالث أنها تطلق في حين قوله ذلك قاله مالك وليس مبنيا على الطلاق بالشك فإن مالكا لم يطلق قط بشك ولا يرفع الشك عنده اليقين بحال وقد جهل ذلك علماؤنا وقد بيناه في مسائل الفقه وشرح الحديث وإنما تطلق عند مالك بأن من علق طلاق زوجته على أجل آت لا محالة فإنها تطلق الآن لأن الفروج لا تقبل تأقيتا ولذلك أبطل العلماء نكاح المتعة وهذا بمنزلة ما إذا قال لزوجته أنت طالق في شهر قبل ما بعد قبله رمضان وقد بيناه في جزء منفرد وهذا القدر يكفي ها هنا
435

سورة البينة فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) *) الآية 1
الآية فيها اربع مسائل
المسائل الأولى في قراءتها
قرأها أبي (* (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) *) وفي قراءة ابن مسعود لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين وهذه قراءة على التفسير وهي جائزة في معرض البيان لا في معرض التلاوة فقد قرأ النبي في رواية الصحيح ((فطلقوهن لقبل عدتهن)) وهو تفسير فإن التلاوة ما كان في خط المصحف
المسألة الثانية
روى إسحاق بن بشر الكاهلي عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب عن النبي لو يعلم الناس ما في (* (لم يكن الذين كفروا) *) لعطلوا الأهل والمال ولتعلموها
وهذا حديث باطل وإنما الحديث الصحيح ما روي عن أنس أن النبي قال لأبي بن كعب إن الله قد أمرني أن أقرأ عليك (* (لم يكن الذين كفروا) *) قال وسماني لك قال نعم فبكى
436

المسألة الثالثة وقوله (* (منفكين) *))
يعني زائلين عن دينهم حتى تأتيهم البينة ببطلان ما هم عليه وتلك البينة هي (* (رسول من الله يتلو صحفا مطهرة) *) البينة 2 وهي
المسألة الرابعة قالوا (* (مطهرة) *))
من الشرك وقالوا مطهرة بحسن الذكر وقلب مطهر من كل عيب
وقد قال مالك في الآية التي في (* (عبس وتولى) * مكرمة مرفوعة مطهرة) إنها القرآن وإنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال في سورة الواقعة وهذه الآية توافق ذلك
وتؤكده فلا يمسها إلا طاهر شرعا ودينا فإن وجد غير ذلك فباطل لا ينفي ذلك في كرامتها ولا يبطل حرمتها كما لو قتل النبي لم تبطل نبوته ولا أسقط ذلك حرمته ولا اقتضى ذلك تكذيبه بل يكون زيادة في مرتبته في الدارين
الآية الثانية
قوله تعالى (* (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) *) الآية 5
فيها مسألتان
المسألة الأولى
أمر الله عباده بعبادته وهي أداء الطاعة له بصفة القربة وذلك بإخلاص النية بتجريد العمل عن كل شيء إلا لوجهه وذلك هو الإخلاص الذي تقدم بيانه
المسألة الثانية
إذا ثبت هذا فالنية واجبة في التوحيد لأنها عبادة فدخلت تحت هذا العموم دخول الصلاة
فإن قيل فلم خرجت عنه طهارة النجاسة وذلك يعترض عليكم في الوضوء
قلنا إزالة النجاسة معقولة المعنى لأن الغرض منها إزالة العين لكن بمزيل
437

مخصوص فقد جمعت عقل المعنى وضربا من التعبد كالعدة جمعت بين براءة الرحم والتعبد حتى صارت على الصغيرة واليائسة اللتين تحقق براءة رحمهما قطعا لا سيما ومنها غرض ناجز وهو النظافة فيستقل به وليس في الوضوء غرض ناجز إلا مجرد التعبد بدليل أنه لو أكمل الوضوء وأعضاؤه تجري بالماء وخرج منه ريح بطل وضوءه وقد حققنا القول فيها في كتاب تخليص التلخيص
438

سورة الزلزلة
اختلف العلماء في هذه السورة فمنهم من قال إنها مكية ومنهم من قال إنها مدنية وفضلها كثير وتحتوي على عظيم قال إبراهيم التيمي لقد أدركت سبعين شيخا في مسجدنا هذا أصغرهم الحارث بن سويد وسمعته يقرأ (* (إذا زلزلت الأرض) *) حتى إذا بلغ إلى قوله (* (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *) الزلزلة 7 - 8 بكى ثم قال إن هذا لإحكام شديد
ولقد روى العلماء الأثبات أن هذه الآية نزلت على النبي وأبو بكر يأكل فأمسك فقال يا رسول الله وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر قال أرأيت ما تكره فهو مثاقيل ذر الشر ويدخر لكم مثاقيل ذر الخير حتى تعطوه يوم القيامة
قال أبو إدريس إن مصداقه من كتاب الله (* (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) *) الشورى 3
وروى القاضي أبو إسحاق أن النبي دفع رجلا إلى رجل يعلمه حتى إذا بلغ (* (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *) قال حسبي قال النبي دعوه فإنه قد فقه
وروى كعب الأحبار أنه قال لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل ألا تجدون (* (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال) *
439

* (ذرة شرا يره) *) قال جلساؤه بلى قال فإنهما قد أحصتا ما في التوراة والإنجيل وذكر الحديث
وقد تقدم حديث أبي هريرة عن النبي الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر وذكر الحديث إلى قوله فسئل رسول الله عن الحمر فقال ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة (* (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *)
وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية القائلون بالعموم ومن لم يقل به وقد بين ما فسرنا به أن الرؤية قد تكون في الدنيا بالبلاء كما تكون في الآخرة بالجزاء وقد بينا ذلك في كتاب المشكلين
قال القاضي وقد سردنا من القول في هذه السورة ما سردنا وحديث أبي هريرة هذا قد بيناه في شرح الحديث ومن تمامه أن النبي سئل عن الحمر وسكت عن البغال والجواب فيهما واحد لأنا لبغل والحمار لا كر فيهما ولا فر فلما ذكر النبي ما في الخيل من الأجر الدائم والثواب المستمر سأل السائل عن الحمر لأنهم لم يكن عندهم يومئذ بغل ولا دخل الحجاز منها شيء إلا بغلة النبي الدلدل التي أهداها له المقوقس فأفتاه في الحمير بعموم الآية وإن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة
وقد بينا في سورة آل عمران وجه هذا الدليل ونوعه وأنه من باب القياس أو غيره وتحقيقه في كتب الأصول
440

سورة العاديات
أقسم الله بمحمد فقال (* (يس والقرآن الحكيم) *)
وأقسم بحياته فقال (* (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) *) الحجر 72
وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها وقدح حوافرها النار من الحجر فقال (* (والعاديات ضبحا) *) الآية 1 الآيات الخمس
والمقسم عليه (* (إن الإنسان لربه لكنود) *) الآية 6 (* (وإنه لحب الخير لشديد) *) الآية 8 وهو المال
وقد تبين فيما تقدم حال المال في الخير والشر والنفع والضر والفائدة والخيبة
441

سورة التكاثر فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (ألهاكم التكاثر) *) الآية 1
فيها مسألتان
المسألة الأولى
قال المفسرون إنها مكية وروى البخاري أنها مدنية
قال ابن شهاب أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله قال لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب فقال ثابت عن أنس عن أبي قال كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت (* (ألهاكم التكاثر) *)
وهذا نص صحيح مليح غاب عن أهل التفسير فجهلوا وجهلوا والحمد لله على المعرفة
المسألة الثانية
قد كنا أملينا فيها مائة وثمانين مجلسا وذكرنا أنموذجها في قانون التأويل فلينظر فيه فهو مدخل عظيم
442

الآية الثانية
قوله تعالى (* (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) *) الآية 8
فيها مسألتان
المسألة الأولى
ذكر المفسرون في النعيم أقوالا كثيرة لبابها خمسة
الأول الأمن والصحة
الثاني السلامة
الثالث لذة المأكل والمشرب قاله جابر بن عبد الله
الرابع الغداء والعشاء قاله الحسن
الخامس شبع البطن وشرب الماء البارد
المسألة الثانية تحقيق النعيم من النعم
وبناء ن ع م للموافقة وأعظمها موافقة ما قال مالك رحمه الله في رواية كادح ابن رحمة أنه صحة البدن وطيب النفس وقد أخذه الشاعر فقال
(إذا القوت يأتي لك والصحة والأمن
* وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن)
وقد كان هذا يتأتى قبل اليوم فأما في هذا الزمان فإنه عسير التكوين قليل الوجود ويرى كثير من العلماء أن مالكا أخذه من حكم لقمان ففيها أن لقمان الحكيم قال لابنه ليس غنى كصحة ولا نعيم كطيب نفس
وقد روى الترمذي عن الزبير بن العوام قال لما نزلت (* (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) *) قال الزبير يا رسول الله عن أي نعيم نسأل وإنما هما الأسودان التمر والماء قال أما إنه سيكون
وفيه عن أبي هريرة قال لما نزلت هذه الآية (* (ثم لتسألن يومئذ عن) *
443

النعيم) قال الناس يا رسول الله عن أي النعيم نسأل فإنما هما الأسودان والعدو حاضر وسيوفنا على عواتقنا قال أما إنه سيكون
قال القاضي وهذا يدل على أن السورة مدنية نزلت بعد شرع القتال
وروى ابن القاسم عن مالك قال بلغني أن رسول الله دخل المسجد فوجد أبا بكر وعمر فقالا أخرجنا الجوع فقال رسول الله وأنا أخرجني الجوع فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان فأمر لهم بشعير من عنده فعمل وقام فذبح لهم شاة واستعذب لهم ماء فعلق في نخلة ثم أتوا بذلك الطعام فأكلوا منه وشربوا من ذلك الماء فقال رسول الله لتسألن عن نعيم هذا اليوم
قال القاضي رضي الله عنه والحديث مسند مشهور في الصحاح وغيرها وهذا نعيم المأكل والمشرب وأصله الذي لا تنعم فيه جلف الخبز والماء وحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه هكذا قال رسول الله
وقد يكون النعيم في الخادم كما حدث الهجيع بن قيس أن رسول الله قيل له ما يكفي ابن آدم من الدنيا قال ما أشبع جوعتك وستر عورتك فمن كان له خادم فهناك النعيم فهناك النعيم
ومن حديث أبي هريرة قال قال رسول الله إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له ألم أصح جسمك ألم أروك من الماء البارد خرجه الترمذي وغيره
وقد روى البيهقي هذا الحديث فقال إن أبا الهيثم بن التيهان قال إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خرج فإذا هو بعمر بن الخطاب جالس في المسجد فعمد نحوه فوقف فسلم فرد عمر عليه السلام فقال له أبو بكر ما أخرجك هذه الساعة قال وأنت ما أخرجك هذه الساعة قال أبو بكر أنا سألت قبل أن تسألني قال أخرجني الجوع قال أبو بكر وأنا أخرجني الذي أخرجك فجلسا يتحدثان فطلع رسول الله فعمد نحوهما حتى وقف عليهما فسلم فردا السلام عليه فقال ما أخرجكما هذه الساعة فنظر كل واحد منهما إلى صاحبه ليس منهما واحد إلا يكره
444

أن يخبره فقال أبو بكر خرج يا رسول الله وخرجت بعده فسألته ما أخرجك هذه الساعة قال بل أنت ما أخرجك هذه الساعة فقلت أنا سألتك قبل أن تسألني قال أخرجني الجوع قال فقلت له أخرجني الذي أخرجك فقال رسول الله وأنا أخرجني الذي أخرجكما قال ثم قال رسول الله تعلمان من أحد نضيفه اليوم قالا نعم أبو الهيثم بن التيهان حري إن جئناه أن نجد عنده فضلا من تمر يعالج جنانه هو وامرأته لا يبيعان منه شيئا قال فخرج رسول الله وصاحباه حتى دخلوا الحائط فسلم رسول الله فسمعت أم الهيثم تسليمه ففدته بالأب والأم وأخرجت حلسا لها من شعر فطرحته فجلس عليه فقال رسول الله أين أبو الهيثم قالت ذهب يستعذب لنا من الماء قال فطلع أبو الهيثم بالقرية على رقبته فلما رأى رسول الله بين ظهراني النخل أسندها إلى جذع وأقبل يفدي بالأب والأم فلما رأى وجوههم عرف الذي بهم فقال لأم الهيثم هل أطعمت رسول الله وصاحبيه شيئا فقالت إنما جلس رسول الله الساعة قال فما عندك قالت عندي حبات من شعير قال كركريها واعجني واخبزي إذ لم يكونوا يعرفون الخمير وأخذ شفرة فقال رسول الله إياك وذوات الدر فقال يا رسول الله إنما أريد عناقا في الغنم قال فذبح فلم يلبث أن جاء بذلك إلى رسول الله فأكل رسول الله وصاحباه قال فشبعوا شبعة لا عهد لهم بمبثلها فما مكث رسول الله إلا يسيرا حتى أتي بأسير من اليمن فجاءت فاطمة بنت رسول الله تشكو إليه العمل وتريه يدها وتسأله إياه قال لا ولكن أعطيه أبا الهيثم فقد رأيت ما لقيه هو ومريته يوم ضفناهم قال فأرسل إليه فأعطاه إياه فقال خذ هذا الغلام يعينك على حائطك واستوص به خيرا قال فمكث الغلام عند أبي الهيثم ما شاء الله أن يمكث ثم قال يا غلام لقد كنت مستقلا أنا وصاحبتي بحائطنا اذهب فلا رب لك إلا الله قال فخرج الغلام إلى الشام
وروى عكراش بن ذؤيب قال بعثني بنو مرة بن عبيد بصدقات أموالهم إلى رسول الله فقدمت عليه المدينة فوجدته جالسا بين المهاجرين والأنصار قال ثم أخذ بيدي فانطلق بي إلى بيت أم سلمة فقال هل من طعام فأتينا بجفنة كثيرة
445

الثريد والودك وأقبلنا نأكل منها فخبطت بيدي في نواحيها وأكل رسول الله من بين يديه فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى ثم قال يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد ثم أتينا بطبق فيه ألوان الرطب أو من عبيد الله شك قال فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله في الطبق وقال يا عكراش كل من حيث شئت فإنه من غير لون واحد ثم أتينا بماء فغسل رسول الله يديه ومسح ببلل يديه وجهه وذارعيه ورأسه وقال يا عكراش هذا الوضوء مما غيرت النار
وقال القاضي رضي الله عنه فهذا كله يدل على أنه يجوز للمرء أن يتوسع في الطعام ويتلذذ ويسمي الله عز وجل ويحمده ولا يصرف قوته المستفادة بذلك في معصيته فإن سئل وجذبته سعادته فسيوفق للجواب إن شاء الله عز وجل
446

سورة العصر فيها آية واحدة
وهي قوله تعالى (* (والعصر) *) الآية 1
قال مالك من حلف ألا يكلم رجلا عصرا لم يكلمه سنة ولو حلف ألا يكلمه العصر لم يكلمه أبدا لأن العصر هو الدهر
قال ابن العربي بناء ع ص ر ينطلق على كثير من المعاني فأما ما يتعلق بالزمان ففيه أربعة أقوال
الأول العصر الدهر
الثاني الليل والنهار
قال الشاعر
(ولن يلبث العصران يوم وليلة
* إذا طلبا أن يدركا ما تيمما)
الثالث العصر الغداة والعشي قال الشاعر
(وأمطله العصرين حتى يملني
* ويرضى بنصف الدين والأنف راغم)
وقد قيل إن العصر مثل الدهر قال الشاعر
(سبيل الهوى وعر وبحر الهوى غمر
* ويوم الهوى شهر وشهر الهوى دهر)
يريد عاما
الرابع أن العصر ساعة من ساعات النهار قاله مطرف وقتادة
447

سورة قريش فيها آية واحدة
وهي قوله تعالى (* (إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) *) الآية 2
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (إيلاف))
هو مصدر ألف يألف على غير المصدر وقيل آلف يؤالف قاله الخليل وإيلافهم هذا يدل من الأول على معنى البيان
وهو متعلق بما قبله ولا يجوز أن يكون متعلقا بما بعده وهو قوله تعالى (* (فليعبدوا رب هذا البيت) *) وقد بيناه في الملجئة فإذا ثبت أنه متعلق بالسورة الأخرى وقد قطع عنه بكلام مبتدأ واستئناف بيان وسطر بسم الله الرحمن الرحيم فقد تبين وهي
المسألة الثانية جواز الوقف في القراءة في القرآن قبل تمام الكلام
وليست المواقف التي تنزع بها القراء شرعا عن النبي مرويا وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني فإذا علموها وقفوا حيث شاؤوا فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك ولكن أبدأ من حيث وقف بك نفسك هذا رأيي فيه ولا دليل على ما قالوه بحال ولكني أعتمد الوقف على التمام كراهية الخروج عنهم وأطرق القول من عي
448

قال القاضي رضي الله عنه إنما حمل مالك يمين الحالف ألا يكلم امرأ عصرا على السنة لأنه أكثر ما قيل فيه وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الإيمان
وقال الشافعي يبر بساعة إلا أن تكون له نية وبه أقول لا أن يكون الحالف عربيا فيقال له ما أردت فإذا فسره بما يحتمل قبل منه وإن كان الأقل ويجيء على مذهب مالك أن يحمل على ما يفسر والله أعلم
سورة الفيل
قال ابن وهب عن مالك ولد رسول الله عام الفيل وقال قيس بن مخرمة ولدت أنا ورسول الله عاما لفيل
وقد روى الناس عن مالك أنه قال ليس من مروءة الرجل أن يخبر بسنه فإنه إن كان صغيرا استحقروه وإن كان كبيرا استهرموه وهذا قول ضعيف لأن مالكا لا يخبر بسن النبي ويكتم سنه وهو من أعظم العلماء قدوة به فلا بأس أن يخبر الإنسان بسنه كان صغيرا أو كبيرا
قيل لبعض القضاة كم سنك قال سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله مكة وكانت سنه يومئذ دون العشرين
449

المسألة الثالثة
قال مالك الشتاء نصف السنة والصيف نصفها ولم أزل أرى ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومن معه لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا وهو يوم التاسع عشر من بشنس وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس وأراد بطلوع الثريا أن يخرج السعاة وتسير الناس بمواشيهم إلى مياههم وأن طلوع الثريا قبل الصيف ودبر الشتاء وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه
وقال أشهب عنه وحده إذا سقطت الهقعة نقص الليل فلما جعل طلوع الثريا أول الصيف وجب أن يكون له شطر السنة ستة أشهر ثم يستقبل الشتاء من بعد ذهاب الصيف ستة أشهر
وقد سئل محمد بن عبد الحكم عمن حلف ألا يكلم امرأ حتى يدخل الشتاء فقال لا يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من هاتور ولو قال حتى يدخل الصيف لم يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من بشنس فهو سهو إنما هو تسعة عشر من بشنس لأنك إذا حسبت المنازل على ما هي عليه من ثلاث عشرة ليلة كل منزلة علمت أن ما بين تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازله إلا بتسع عشرة من بشنس والله أعلم
المسألة الرابعة
قال قوم الزمان أربعة أقسام شتاء وربيع وصيف وخريف وقال قوم هو شتاء وصيف وقيظ وخريف
والذي قال مالك أصح لأجل قسمة الله الزمان قسمين ولم يجعل لهما ثالثا وقد حققناه في مسائل الفقه
المسألة الخامسة
لما امتن الله على قريش برحلتين رحلة الشتاء والصيف رحلة الشتاء إلى
451

سورة الماعون فيها ثلاث آيات
الآية الأولى
قوله تعالى (* (الذين هم عن صلاتهم ساهون) *) الآية 5
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
قد بينا أن النسيان هوالترك وقد يكون بقصد وقد يكون بغير قصد فإن كان بقصد فاسمه العمد وإن كان بغير قصد فاسمه السهو ولا يتعلق به تكليف وهي
المسألة الثانية
فإن تكليف الساهي محال لأن من لا يعقل الخطاب كيف يخاطب
فإن قيل فكيف ذم من لا يعقل الذم أو كلف من لا يصح منه التكليف
قلنا إنما ذلك على وجهين
أحدهما أن يعقد نيته على تركها فيتعلق به الذم إذا جاء الوقت وإن كان حينئذ غافلا أو لمن يكون الترك لها عادته فهذا يتعلق به الذم دائما ولا يدخل فيه من يسهو في صلاته وهي
452

اليمن لأنها بلاد حامية ورحلة الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة وقيل بتنقلها بين الشتاء والصيف إلى مكة والطائف كان هذا دليلا على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلين يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر كالجلوس في المجلس البحري في الصيف وفي القبلي في الشتاء وفي اتخاذ البادهنجات والخيش للتبريد واللبد واليانوسة للدفء والله أعلم
453

المسألة الثالثة
لأن السلامة عن السهو محال فلا تكليف وقد سها النبي في صلاته والصحابة وكل من لا يسهو في صلاته فذلك رجل لا يتدبرها ولا يعقل قراءتها وإنما همه في أعدادها وهذا رجل يأكل القشور ويرمي اللب وما كان النبي يسهو في صلاته إلا لفكرته في أعظم منها اللهم إلا أنه قد يسهو في صلاته من يقبل على وسواس الشيطان إذا قال له اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكره حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى
الآية الثانية
قوله تعالى (* (الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون) *) الآيتان 6 - 7
قال ابن وهب قال مالك هم المنافقون الذين يراؤون بصلاتهم يري المنافق الناس أنه يصلي طاعة وهو يصلي تقية والفاسق أنه يصلي عبادة وهو يصلي ليقال إنه يصلي
وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادات وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس فأولها تحسين السمت وهو من أجزاء النبوة ويريد بذلك الجاه والثناء
ثانيها الرياء بالثياب القصار والخشنة ليأخذ بذلك هيئة الزهد في الدنيا
ثالثها الرياء بالقول بإظهار التسخط على أهل الدنيا وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوت من الخير والطاعة
رابعها الرياء بإظهار الصلاة والصدقة أو بتحسين الصلاة لأجل رؤية الناس وذلك يطول وهذا دليله
454

الآية الثالثة
قوله تعالى (* (ويمنعون الماعون) *) الآية 7
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في تحقيق الكلمة الماعون
مفعول من أعان يعين والعون هو الإمداد بالقوة والآلة والأسباب الميسرة للأمر
المسألة الثانية في أقوال العلماء فيه
وذلك ستة أقوال
الأول قال مالك هي الزكاة والمراد بها المنافق يمنعها وقد روى أبو بكر بن عبد العزيز عن مالك قال بلغني أن قول الله تعالى (* (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون) *) الآيات 4 - 7 قال إن المنافق إذا صلى صلى لا لله بل رياء وإن فاتته لم يندم عليها ويمنعون الماعون الزكاة التي فرض الله عليهم
قال زيد بن أسلم لو خففت لهم الصلاة كما خففت لهم الزكاة ما صلوها
الثاني قال ابن شهاب الماعون المال
الثالث قال ابن عباس هو ما يتعاطاه الناس بينهم
الرابع هو القدر والدلو والفأس وأشباه ذلك
الخامس هو الماء والكلأ
السادس هو الماء وحده وأنشد الفراء
(يمج صبيره الماعون صبا
*)
455

سورة الكوثر فيها آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى (* (إنا أعطيناك الكوثر) *) الآية 1
ثبت في الصحيح أن جبريل نزل على النبي فقال له (* (بسم الله الرحمن الرحيم) * * (إنا أعطيناك الكوثر) *) وقد بينا أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست آية من الفاتحة ولا من سور القرآن وإنماهي آية واحدة من القرآن في سورة النمل قوله (* (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين) *) بما يغني عن إعادته ها هنا واستوفيناه في مسائل الخلاف من التلخيص والإنصاف
الآية الثانية
قوله تعالى (* (فصل لربك وانحر) *) الآية 2
فيها خمس مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى (* (فصل) *))
فيه أربعة أقوال
الأول اعبد
الثاني صل الصلوات الخمس
الثالث صل يوم العيد
الرابع صل الصبح بجمع
المسألة الثانية قوله تعالى (* (وانحر) *))
فيه قولان
456

المسألة الثالثة
لما بينا أن الماعون من العون كان كل ما ذكره العلماء في تفسيره عونا وأعظمه الزكاة إلى المحلاب وعلى قدر الماعون والحاجة إليه يكون الذم في منعه إلا أن الذم إنما هو على منع الواجب والعارية ليست بواجبة على التفصيل بل إنها واجبة على الجملة والله أعلم لأن الويل لا يكون إلا لمن منع الواجب فاعلموه وتحققوه
457

أحدهما اجعل يدك على نحرك إذا صليت
الثاني انحر البدن والضحايا
المسألة الثالثة في تحقيق المراد من هذه الأقوال لهذه الآية
أما من قال إنها العبادة فاحتج بأنها أصل الصلاة لغة وحقيقة على كل معنى وبكل اشتقاق فكأنه قال تعالى له فاعبد ربك ولا تعبد غيره وانحر له ولا تنحر لسواه من الأصنام والأوثان والأنصاب حسبما كانت عليه العرب وقريش في جاهليتها
وأما من قال إنها الصلوات الخمس فلأنها ركن العبادات وقاعدة الإسلام وأعظم دعائم الدين
وأما من قال إنها صلاة الصبح بالمزدلفة فلأنها مقرونة بالنحر وهو في ذلك اليوم ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها فخصصها من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر فأما مالك فقال ما سمعت فيه شيئا والذي يقع في نفسي أن المراد بذلك صلاة الصبح يوم النحر والنحر بعدها
قال القاضي رضي الله عنه قد سمعنا فيه أشياء وروينا محاسن
قال علي قوله فصل لربك وانحر قال ضع يدك اليمنى على ساعدك اليسرى ثم ضعهما على نحرك قاله ابن عباس وقاله أبو الجوزاء
وقال مجاهد قوله تعالى (* (وانحر) *) يوم النحر
وقال الحكم قوله (* (فصل لربك وانحر) *) صلاة الفجر والنحر
وعن جعفر بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الصلاة الصلاة النحر النحر
وقال سعيد بن جبير الصلاة ركعتان يوم النحر بمنى ثم اذبح
وقال عطاء موقفهم بجمع صلاتهم والنحر والنحر
قال مجاهد النحر لنا والذبح لبني إسرائيل
وقال عطاء إن شاء ذبح وإن شاء نحر
وقال عطاء أيضا فصل لربك وانحر إذا صليت الصبح فانحر
458

وقال محمد بن كعب القرظي إنا أعطيناك الكوثر فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله
وروى أبو معاوية البجلي عن سعيد بن جبير أن سبب هذه الآية يوم الحديبية أتاه جبريل فقال انحر وارجع فقام رسول الله فخطب خطبة الفطر والأضحى ثم ركع ركعتين
ثم انصرف إلى البدن فنحرها فذلك حين يقول (* (فصل لربك وانحر) *)
قال قتادة صلاة الأضحى والنحر نحر البدن
فهذه أقوال أقران مالك ومتقدميه فيها كثير وقد تركنا أمثالها
والذي أراد مالك أنه أخذه من الإقران بين الصلاة والنحر ولا يقرنان إلا يوم النحر والاستدلال بالقرآن ضعيف في نفسه ما لم يعتضد بدليل من غيره
والذي عندي أنه أراد اعبد ربك وانحر له ولا يكن عملك إلا لمن خصك بالكوثر وبالحري أن يكون جميع العمل يوازي هذه الخصيصة من الكوثر وهو الخير الكثير الذي أعطاك الله إياه أو النهر الذي طينته مسك وعدد آنيته عدد نجوم السماء أما أن يوازي هذا صلاة يوم النحر وذبح كبش أو بقرة أو بدنة فذلك بعيد في التقدير والتدبير وموازنة الثواب للعباد إذا ثبت هذا فلا بد أن نفرغ على قالب القولين وننسج على منوال الفريقين فنقول أما إذا قلنا إن المراد به النحر يوم الأضحى فقد تقدم ذكره وسببه في سورة (* (والصافات) *) وغيرها والأصل في ذلك قصة إبراهيم في ولده إسماعيل وما بينه الله فيه للأمة وجعله لهم قدوة وشرع تلك الملة
وقد اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال
القول الأول إنها واجبة قاله أبو حنيفة وابن حبيب
وقال ابن القاسم إن اشتراها وجبت وهو الثاني
الثالث أنها سنة واجبة قاله محمد بن المواز
الرابع أنها سنة مستحسنة وهو أشهر الأقوال عندنا
وقيل لعبد الله بن عمر الأضحية واجبة هي فقال ضحى رسول الله وضحى المسلمون كما قال أوتر رسول الله فأوتر المسلمون
459

وتعلق من أوجبها بقوله (* (فصل لربك وانحر) *) وبقوله (* (ملة أبيكم إبراهيم) *)
وقد تقرب بدم واجب في يوم النحر فليتقرب كل من كان على ملته بدم واجب لأن الجميع قد ألزم الملة المذكورة
وقد روى مسلم في صحيحه على أهل كل بيت أضحاة وعتيرة والعتيرة هي الرجبية
وقال النبي لأبي بردة بن نيار حين ذبح الجذعة في الأضحية تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك ولا يقال تجزي إلا في الواجب
قلنا أما قوله (* (فصل لربك وانحر) *) فقد بينا اختلاف الناس فيه وما اخترناه من ذلك فلاحتماله تسقط الحجة منه
وأما قوله (ملة أبيكم) فملة أبينا إبراهيم تشتمل على فرائض وفضائل وسنن ولا بد في تعيين كل قسم منها دليل
وأما قوله عليه السلام تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك فكذلك يقال تجزيك في السنة كما يقال في الفرض فلكل واحد شرعه وفيه شرطه ومنه إجزاؤه أو رده
وأما قوله على أهل كل بيت أضحاة وعتيرة فيعارضه حديث شعبة عن مالك خرجه مسلم من رأى منكم هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يحلقن شعرا ولا يقلمن ظفرا حتى ينحر ضحيته فعلق الأضحية بالإرادة والواجب لا يتوقف عليها بل هو فرض أراد المكلف أو لم يرد
وقد روى النسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي قال أمرت بيوم الأضحى عيد جعله الله لهذه الأمة قال رجل أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أهلي أضحي بها قال لا ولكن تأخذ من شعرك وأظفارك وتقص شاربك وتحلق عانتك فذلك تمام أضحيتك
قال القاضي أبو بكر محمد بن العربي أنبأنا قراءة عليه عن أبي يوسف البغدادي
460

عن أبي ذر عن عمر بن أحمد بن عثمان حدثنا محمد بن هارون الحضرمي حدثنا معتمر بن سليمان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن مطرف عن عامر بن حذيفة بن أسيد قال لقد رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان عن أهلهما خشية أن يستن بهما قال فلما جئت بلادكم هذه حملني أهلي على الجفاء بعد ما علمت السنة فقد تعارضت الأدلة والأصل براءة الذمة وهذا محقق في مسائل الخلاف وهذا القدر يكفي من القرآن والسنة
المسألة الرابعة
من عجيب الأمر أن الشافعي قال إن من ضحى قبل الصلاة أجزأه والله تعالى يقول في كتابه (* (فصل لربك وانحر) *) فبدأ بالصلاة قبل النحر
وقد قال النبي أيضا في البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر من فعل فقد أصاب نسكنا ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء وأصحابه ينكرونه وحبذا الموافقة وبقية مسائل الأضاحي في كتب الفقه وشرح الحديث
المسألة الخامسة
وأما إن قلنا إن معنى قوله (* (وانحر) *) ضع يدك على نحرك فقد اختلف في ذلك علماؤنا على ثلاثة أقوال
الأول لا توضع في فريضة ولا نافلة لأن ذلك من باب الاعتماد ولا يجوز في الفرض ولا يستحب في النفل
الثاني أنه لا يفعلها في الفريضة ويفعلها في النافلة استعانة لأنه موضع ترخص
الثالث يفعلها في الفريضة وفي النافلة وهو الصحيح روى مسلم عن وائل بن حجر أنه رأى النبي يرفع يديه حين دخل في الصلاة حيال أذنيه ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على اليسرى الحديث
461

سورة النصر فيها آية واحدة
قوله تعالى (* (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) *) الآية 3
فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى
روى البخاري وغيره عن ابن عباس كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد نفسه فقال لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر إنه من قد علمتم فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم فقال ما تقولون في قوله تعالى (* (إذا جاء نصر الله والفتح) *) فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا جاء نصر الله وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي كذلك تقول يا بن عباس قلت لا قال فما تقول قلت هو أجل رسول الله أعلمه به قال له إذا جاء نصر الله والفتح في ذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا فقال لا أعلم منها إلا ما تقول
المسألة الثانية
روى الأئمة عن عائشة رضي الله عنها واللفظ للبخاري قالت ما صلى رسول الله صلاة بعد إذ نزلت عليه سورة (* (إذا جاء نصر الله والفتح) *) إلا يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي
462

وقد روى البخاري عن سهل بن سعيد قال كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة قال أبو حازم لا أعلمه ينمي ذلك إلا إلى النبي
463

سورة تبت وفيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى البخاري وغيره عن ابن عباس من طريق الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عنه قال لما نزلت (* (وأنذر عشيرتك الأقربين) *) ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله حتى صعد الصفا وهتف يا صباحاه فقالوا من هذا فاجتمعوا إليه فقال أنا نذير لكم بين يدي عذاب شديد أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل وأن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب ألهذا جمعتنا تبا لك فأنزل الله عز وجل ((تبت يدا أبي لهب وقد تب)) إلى آخرها
هكذا قرأها الأعمش علينا يومئذ زاد الحميدي وغيره فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن أتت رسول الله وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر رضي الله عنه وفي يدها فهر من حجارة فلما وقفت عليه أخذ الله ببصرها عن رسول الله فلا ترى إلا أبا بكر فقالت يا أبا بكر أين صاحبك فقد بلغني أنه يهجوني فوالله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه والله إني لشاعرة
(مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
*)
ثم انصرفت فقال أبو بكر يا رسول الله أما تراها رأتك قال ما رأتني لقد أخذ الله ببصرها عني
464

وعن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن
وقال أبو بكر يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال قل سبحانك اللهم وبحمدك ربي إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإني أعلم انه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم
المسألة الثالثة
ماذا يغفر للنبي روى الأئمة أنه كان يقول رب اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري كله وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وجهلي وهزلي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير
قال القاضي وأنا أقول كل ذلك عندي مضاعف وهو منه بريء ولكن كان يستقصر نفسه لعظيم ما أنعم الله عليه ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا فأما أنا فإنما ذنوبي بالعمد المحض والترك التام والمخالفة البينة والله يفتح بالتوبة ويمن بالعصمة بمنه وفضله ورحمته لا رب سواه
465

وكانت قريش إنما تسمي النبي مذمما ثم يسبونه فكان يقول ألا تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريش يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد
المسألة الثانية قوله (* (تبت يدا أبي لهب) *))
اسمه عبد العزى واسم امرأته العوراء أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب فظن قوم أن هذا ليل على جواز تكنية المشرك حسبما بيناه في سروة طه في قوله (* (فقولا له قولا لينا) *) يعني كنياه على أحد الأقوال
وهذا باطل إنما كناه الله تعالى عند العلماء بمعان أربعة
الأول أنه لما كان اسمه عبد العزى فلم يضف الله العبودية إلى صنم في كتابه الكريم
الثاني أنه كان تكنيته أشهر منه باسمه فصرح به
الثالث أن الاسم أشرف من الكنية فحطه الله عن الأشرف إلى الأنقص إذ لم يكن بد من الإخبار عنه ولذلك دعا الله أنبياءه بأسمائهم ولم يكن عن أحد منهم ويدلك على شرف الاسم على الكنية أن الله يسمى ولا يكنى وإن كان ذلك لظهوره وبيانه واستحالة نسبة الكنية إليه لتقدسه عنها
الرابع أن الله تعالى أراد أن يحقق نسبه بأن يدخله النار فيكون ابا لها تحقيقا للنسب وإمضاء للفأل والطيرة التي اختار لنفسه لذلك
وقد قيل إن أهله إنما كانوا سموه أبا لهب لتلهب وجهه وحسنه فصرفهم الله عن أن يقولوا أبو نور وأبو الضياء الذي هو مشترك بين المحبوب والمكروه وأجرى على ألسنتهم أن يضيفوه إلى اللهب الذي هو مخصوص بالمكروه المذموم وهو النار ثم تحقق ذلك فيه بأن جعلها مقره
466

المسألة الثالثة
مرت في هذه السورة قراءتان إحداهما قوله ((وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين)) والثانية قوله تعالى ((تبت يدا أبي لهب وقد تب)) وهما شاذتان وإن كان العدل رواهما عن العدل ولكنه كما بينا لا يقرأ إلا بما بين الدفتين واتفق عليه أهل الإسلام
467

سورة الإخلاص
وقيل التوحيد فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولها
روى محمد بن إسحاق عن سعيد بن جبير مقطوعا عن النبي مرسلا أنه قال أتى رهط من يهود رسول الله فقالوا يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلقه فغضب رسول الله حتى انتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربه فجاء جبريل عليه السلام فسكنه فقال خفض عليك يا محمد وجاءه من الله بجواب ما سألوه (* (قل هو الله أحد) *) السورة وفي ذلك أحاديث باطلة هذا أمثلها
المسألة الثانية في فضلها
وفي الحديث الصحيح عن مالك وغيره أن رجلا سمع رجلا يقرأ (* (قل هو الله أحد) *) يرددها فلما أصبح رسول الله فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال النبي والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن فهذا فضلها وقد قررناه في شرح الحديث والمشكلين
المسألة الثالثة
روى أن رجلا كان يؤم قومه فيقرأ في كل ركعة بقل هو الله أحد فذكر ذلك قومه للنبي فأرسل إليه فقال إني أحبها فقال له حبك إياها أدخلك الجنة فكان هذا دليلا على أنه يجوز تكرار سورة في كل ركعة وقد رأيت على باب الأسباط فيما يقرب منه إماما من جملة الثمانية والعشرين إماما كان فيه يصلي التراويح في رمضان بالأتراك فيقرأ في كل ركعة بالحمد لله وقل هو الله أحد حتى يتم التراويح تخفيفا عليهم ورغبة في فضلها وليس من السنة ختم القرآن في رمضان حسبما ذكرناه في شرح الحديث والمسائل
468

سورة الفلق والناس فيها ثلاث مسائل
المسألة الأولى في سبب نزولهما
روي أن النبي سحر حتى كان يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء ولا يفعله فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث ثم قال يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي قال الذي عند رأسي للذي عند رجلي ما شأن الرجل قال مطبوب قال ومن طبه قال لبيد بن الأعصم فقال فيماذا قال في مشط ومشاقة في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذي أروان فجاء البئر واستخرجه انتهى الصحيح زاد غيره فوجد فيها إحدى عشرة عقدة فنزل جبريل عليه السلام عليه بالمعوذتين إحدى عشرة آية فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد وقام كأنما أنشط من عقال أفادنيها شيخنا الزاهد أبو بكر بن أحمد بن بدران الصوفي
المسألة الثانية قوله تعالى (* (ومن شر غاسق إذا وقب) *))
روي أنه الذكر وروي أنه الليل وروي أنه القمر وذلك صحيح خرجه الترمذي
ووجه أنه الذكر أو الليل لا يخفى ووجه أنه القمر لما يتعلق به من جهة الجهل وعبادته واعتقاد الطبائعيين أنه يفعل الفاكهة أو تنفعل عنه أو لأنه إذا طلع بالليل انتشرت عنه الحشرات بالإذايات وهذا يضعف لأجل أن انتشارها بالليل أكثر من انتشارها بالقمر وفيما ذكرنا ما يغني عن الزيادة عليه
469

المسألة الثالثة
روي أن النبي قال أنزلت علي آيات لم أر مثلهن فذكر السورتين الفلق والناس صححه الترمذي
وفي الصحيح واللفظ للبخاري أن النبي كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذتين قالت عائشة فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها
قلت للزهري كيف ينفث قال ينفث على يديه ويمسح بهما وجهه
وقال ابن وهب قال مالك هما من القرآن وقد بينا ذلك في كتاب المشكلين
قال الإمام القاضي ابن العربي رضي الله عنه قد أتينا على ما شرطنا في علوم القرآن حسب الإمكان على حال الزمان والله المستعان على عوارض لا تعارض ما بين معاش يراش ومساورة عدو أو هراش وسماع للحديث ليس له دفاع وطالب لابد من مساعدته في المطالب إلى همم لأهل هذه الأقطار قاصرة وأفهام متقاصرة وتقاعد عن
الاطلاع إلى بقاء الاستبصار واقتناع بالقشر عن اللباب وإقصار واجتزاء بالنفاية عن النقاوة وزهد في طريق الحقائق بيد أنه لم يسعنا والحالة هذه إلا نشر ما جمعناه ونثر ما وعيناه والإمساك عما لا يليق بهم ولا تبلغه إحاطتهم
وكمل القول الموجز في التوحيد والأحكام والناسخ والمنسوخ من عريض بيانه وطويل تبيانه وكثير برهانه وبقي القول في علم التذكير وهو بحر ليس لمده حد ومجموع لا يحصره العد وقد كنا أملينا عليكم في ثلاثين سنة ما لو قيض له تحصيل
470

لكانت له جملة تدل على التفصيل ولما ذهب به المقدار فسيعلم الغافل لمن عقبى الدار
والله المستعان وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله انتهى القول في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسمائة والحمد لله كثيرا كما هو أهله
471