الكتاب: زاد المسير
المؤلف: ابن الجوزي
الجزء: ٦
الوفاة: ٥٩٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد بن عبد الرحمن عبد الله
الطبعة: الطبعة الأولى
سنة الطبع: جمادى الأولى ١٤٠٧ - كانون الثاني ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: تخريج الأحاديث أبو هاجر السعيد بن بسيوني زغلول

زاد المسير
في علم التفسير
للإمام
أبى الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد
الجوزي القرشي البغدادي
المتوفى سنة 597 ه‍
حققه وكتب هوامشه
محمد بن عبد الرحمن عبد الله
دكتوراه في علوم القرآن
أستاذ بكلية الدراسات الاسلامية بالأزهر
خرج أحاديثه
أبو هاجر
السعيد بن بسيوني زغلول
الجزء السادس
سورة الفرقان - سورة ص
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

جميع حقوق إعادة الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
جمادى الأولى 1407 ه‍ - كانون الثاني 1987 م
دار الفكر بيروت لبنان المكاتب: اللبنانية المركزية - هاتف: 244739 - ص ب: 7061 / 11
المطابع والمعمل: حارة حريك - شارع عبد النور - هاتف: 390663 - 838202 - 837898
برقيا: فكسى. تلكس: 41392 فكرا LE FIKR 41392
2

(25) سورة الفرقان
وآياتها سبع وسبعون
بسم الله الرحمن الرحيم
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا (1) الذي له ملك السماوات
والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا (2)
واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا
يملكون موتا ولا حيوة ولا نشورا (3)
قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة في آخرين: هي مكية. وحكي عن
ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: (والذين لا
يدعون مع الله إلها آخر) إلى قوله تعالى: (غفورا رحيما).
قوله تعالى: (تبارك) قد شرحناه في [سورة] الأعراف والفرقان: القرآن، سمي
فرقانا، لأنه فرق به بين الحق والباطل. والمراد بعبده: محمد صلى الله عليه و آله وسلم، (ليكون) فيه قولان:
أحدهما: أنه كناية عن عبده، قاله الجمهور.
والثاني: عن القرآن، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (للعالمين) يعني الجن والإنس (نذيرا) أي: مخوفا من عذاب الله.
قوله تعالى: (فقدره تقديرا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: سواه وهيأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت.
3

والثاني: قدر له ما يصلحه ويقيمه.
والثالث: قدر له تقديرا من الأجل والرزق.
ثم ذكر ما صنعه المشركون، فقال: (واتخذوا من دونه آلهة) يعني: الأصنام (لا يخلقون
شيئا وهم يخلقون) أي: وهي مخلوقة (ولا يملكون لأنفسهم ضرا) أي: دفع ضر، ولا جر نفع، لأنها
جماد لا قدرة لها (ولا يملكونها موتا) أي: لا تملك ان تميت أحدا، ولا أن تحيي أحدا، ولا أن تبعث أحدا
من الأموات، والمعنى: كيف يعبدون ما هذه صفته، ويتركون عبادة من يقدر على ذلك كله؟!
وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما
وزورا (4) وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5) قل أنزله
الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما (6)
قوله تعالى: (وقال الذين كفروا) يعني: مشركي قريش، وقال مقاتل: هو قول النضر بن
الحارث من بني عبد الدار (إن هذا) أي: ما هذا، يعنون القرآن (إلا إفك) أي: كذب
(افتراه) أي: اختلقه من تلقاء نفسه (وأعانه عليه قوم آخرون) قال مجاهد: يعنون اليهود:
وقال مقاتل: أشاروا إلى عداس مولى حويطب، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبر مولى لعامر
أيضا، وكان الثلاثة من أهل الكتاب.
قال تعالى: (فقد جاؤوا ظلما وزورا). قال الزجاج: المعنى فقد جاؤوا بظلم وزور
فلما سقطت الباء، أفضى الفعل فنصب، والزور: الكذب. (وقالوا أساطير الأولين)
وقد بينا ذلك في الأنعام. قال المفسرون: والذي قال هذا هو النضر بن الحارث. ومعنى (اكتتبها) أمر
أن تكتب له. وقرأ ابن مسعود، وإبراهيم النخعي، وطلحة بن مصرف: " اكتتبها " برفع التاء الأولى وكسر
الثانية، والابتداء على قراءتهم برفع الهمزة، (فهي تملى) أي: تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها، لأنه
لم يكن كاتبا، (بكرة وأصيلا) أي: غدوة وعشيا. (قل) لهم يا محمد: (أنزله) يعني: القرآن (الذي
يعلم السر) أي: لا يخفي عليه شئ (في السماوات والأرض).
4

وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون
معه نذيرا (7) أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون
إلا رجلا مسحورا (8) أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (9)
قوله تعالى: (وقالوا) يعني المشركين (ما لهذا الرسول يأكل الطعام) ويمشي في
الطرق كما يمشي سائر الناس يطلب المعيشة، والمعنى: أنه ليس بملك ولا ملك، لأن الملائكة
لا تأكل، والملوك لا تتبذل في الأسواق، فعجبوا أن يكون مساويا للبشر لا يتميز عليهم بشئ،
وإنما جعله الله بشرا ليكون مجانسا للذين أرسل إليهم، ولم يجعله ملكا يمتنع من المشي في
الأسواق، لأن ذلك من فعل الجبابرة، ولأنه أمر بدعائهم، فاحتاج أن يمشي بينهم.
قوله تعالى: (لولا أنزل إليه ملك) وذلك أنهم قالوا له: سل ربك أن يبعث معك ملكا
يصدقك ويجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا، فذلك قوله تعالى: (أو يلقى
إليه كنز) أي: ينزل
إليه كنز من السماء (أو تكون له جنة) أي: بستان يأكل من ثمارها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو،
وعاصم، وابن عامر: " يأكل منها " بالياء، يعنون النبي صلى الله عليه و آله وسلم. وقرأ حمزة، والكسائي: " نأكل "
بالنون، قال أبو علي: المعنى: يكون له علينا مزية في الفضل بأكلنا من جنته. وباقي الآية مفسر
في بني إسرائيل.
قوله تعالى: (انظر) يا محمد (كيف ضربوا لك الأمثال) حين مثلوك بالمسحور،
وبالكاهن والمجنون والشاعر (فضلوا) بهذا عن الهدى (فلا يستطيعون سبيلا) فيه قولان:
أحدهما: لا يستطيعون مخرجا من الأمثال التي ضربوها، قاله مجاهد، والمعنى أنهم كذبوا
ولم يجدوا على قولهم حجة وبرهانا. وقال الفراء: لا يستطيعون في أمرك حيلة.
والثاني: سبيلا إلى الطاعة، قاله السدي.
تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك
قصورا (10) بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إذا رأتهم من مكان بعيد
سمعوا لها تغيظا وزفيرا (12) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا (13) لا تدعوا
5

اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا (14)
ثم أخبر أنه لو شاء لأعطاه خيرا مما قالوا في الدنيا، وهو قوله: (خيرا من ذلك) يعني: لو
شئت لأعطيتك في الدنيا خيرا مما قالوا، لأنه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة. (ويجعل لك
قصورا) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: " ويجعل لك " برفع اللام. وقرأ أبو
عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " ويجعل " بجزم اللام. فمن قرأ
بالجزم، كان المعنى: إن يشأ يجعل لك جنات ويجعل لك قصورا. ومن رفع، فعلى الاستئناف
المعنى: وسيجعل لك قصورا في الآخرة. وقد سبق معنى " اعتدنا " ومعنى " السعير ".
قوله تعالى: (إذ رأتهم من مكان بعيد) قال السدي عن أشياخه: من مسيرة مائة عام.
فإن قيل: السعير مذكر، فكيف قال: " إذا رأتهم "؟ فالجواب: أنه أراد بالسعير النار.
قوله تعالى: (سمعوا لها تغيظا) فيه قولان:
أحدهما: غليان تغيظ، قاله الزجاج. قال المفسرون: والمعنى أنها تتغيظ عليهم،
فيسمعون صوت تغيظها وزفيرها كالغضبان إذا غلا صدره من الغيظ.
و الثاني: يسمعون فيها تغيظ المعذبين وزفيرهم، حكاه ابن قتيبة.
قوله تعالى: (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين) قال المفسرون: تضيق عليهم كما يضيق
الزج على الرمح، وهم قد قرنوا مع الشياطين. والثبور: الهلكة. وقرأ عاصم الجحدري، وابن
السميفع: " ثبورا " بفتح الثاء.
قوله تعالى: (وادعوا ثبورا كثيرا) قال الزجاج: الثبور مصدر، فهو للقليل والكثير على
لفظ الواحد، كما تقول: ضربته ضربا كثيرا، والمعنى: هلاكهم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. وروى
أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: " أول من يكسى من أهل النار يوم القيامة إبليس، يكسى
حلة من النار فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته خلفه وهو يقول: وا ثبوراه، وهم
ينادون: يا ثبورهم، حتى يقفوا على النار، فينادي: يا ثبوراه، وينادون: يا ثبورهم، فيقول الله
عز وجل: (لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا).
قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا (15) لهم فيها
ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤلا (16)
6

قوله تعالى: (قل أذلك) يعني: السعير (خير أم جنة الخلد) وهذا تنبيه على تفاوت ما
بين المنزلتين، لا على أن في السعير خيرا. وقال الزجاج: قد وقع التساوي بين الجنة والنار في
أنهما منزلان، فلذلك وقع التفضيل بينهما.
قوله تعالى: (كانت لهم جزاء) أي: ثوابا (ومصيرا) أي: مرجعا.
قوله تعالى: (كان على ربك) المشار إليه، إما الدخول، وإما الخلود (وعدا) وعدهم
الله إياه على ألسنة الرسل. و في معنى " مسؤولا " قولان:
أحدهما: مطلوبا. وفي الطالب له قولان.
أحدهما: أنهم المؤمنون، سألوا الله في الدنيا إنجاز ما وعدهم به.
والثاني: أن الملائكة سألته ذلك لهم، وهو قوله: (ربنا وأدخلهم جنات عدن).
والثاني: أن معنى المسؤول: الواجب.
و يوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا
السبيل (17) قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم
وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا (18) فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون
صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا (19) وما أرسلنا قبلك من المرسلين
إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان
ربك بصيرا (20)
قوله تعالى: (ويوم يحشرهم) قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: " يحشرهم " " فيقول "
بالياء فيهما. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " نحشرهم "
بالنون " فيقول " بالياء. وقرأ ابن عامر: " نحشرهم " " فنقول " بالنون فيهما جميعا، ويعني:
المشركين، (وما يعبدون) قال مجاهد: يعني عيسى وعزيرا والملائكة. وقال عكرمة،
والضحاك: يعني الأصنام، فيأذن الله للأصنام في الكلام، ويخاطبها (فيقول أأنتم أضللتم
عبادي) أي: أمرتموهم بعبادتكم (أم هم ضلوا السبيل) أي: أخطأوا الطريق. (قالوا) يعني
7

الأصنام (سبحانك) نزهوا الله تعالى أن يعبد غيره (ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من
أولياء) نواليهم، والمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نعبد نحن غيرك، فكيف ندعو إلى عبادتنا؟! فدل
هذا الجواب على أنهم لم يأمروا بعبادتهم. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وابن جبير، والحسن،
وقتادة، وأبو جعفر، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: " أن نتخذ " برفع النون وفتح الخاء. ثم
ذكروا سبب تركهم للإيمان، فقالوا: (ولكن متعتهم) أي: أطلت لهم العمر و أوسعت لهم
الرزق (حتى نسوا الذكر) أي: تركوا الإيمان بالقرآن والاتعاظ به (وكانوا قوما بورا) قال ابن
عباس: هلكى. وقال في رواية أخرى، البور: في لغة أزد عمان: الفاسد. قال ابن قتيبة: هو
من بار يبور: إذا هلك وبطل، يقال: بار الطعام: إذا كسد، وبارت الأيم: إذا لم يرغب فيها،
وكان رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] يتعوذ من بوار الأيم، قال: وقال أبو عبيدة: يقال: رجل بور، وقوم بور،
لا يجمع ولا يثنى، واحتج بقول الشاعر:
يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذا أنا بور
قال: و قد سمعنا ب‍ " رجل بائر "، ورأيناهم ربما جمعوا " فاعلا " على " فعل "، نحو عائذ
وعوذ، وشارف وشرف. قال المفسرون: فيقال للكفار حينئذ (فقد كذبوكم) أي: فقد كذبكم
المعبودون في قولكم: إنهم آلهة. وقرأ سعيد بن جبير، ومجاهد، ومعاذ القارئ، وابن شنبوذ
عن قنبل: " بما يقولون " بالياء، والمعنى: كذبوكم بقولهم: (سبحانك ما كان ينبغي لنا...)
الآية، هذا قول الأكثرين. وقال ابن زيد: الخطاب للمؤمنين، فالمعنى: فقد كذبكم المشركون
بما تقولون: إن محمدا رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم].
قوله تعالى: (فما يستطيعون) قرأ الأكثرون بالياء. وفيه وجهان:
أحدهما: فما يستطيع المعبودون صرفا للعذاب عنكم ولا نصرا لكم.
والثاني: فما يستطيع الكفار صرفا لعذاب الله عنهم ولا نصرا لأنفسهم. وقرأ حفص عن
عاصم: " تستطيعون " بالتاء، والخطاب للكفار. وحكى ابن قتيبة عن يونس البصري أنه قال:
الصرف: الحيلة من قولهم: إنه ليتصرف.
قوله تعالى: (ومن يظلم منكم) أي: بالشرك (نذقه) في الآخرة. وقرأ عاصم
الجحدري، والضحاك، وأبو الجوزاء وقتادة: " يذقه " بالياء (عذابا كبيرا) أي: شديدا. (وما
أرسلنا قبلك من المرسلين) قال الزجاج: في الآية محذوف، تقديره: وما أرسلنا قبلك رسلا من
المرسلين، فحذفت لأن قوله: (من المرسلين) يدل عليها.
قوله تعالى: (إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) أي: إنهم كانوا على مثل
حالك، فكيف تكون بدعا منهم؟!
8

فإن قيل: لم كسرت " إنهم " هاهنا، وفتحت في براءة في قوله تعالى: (أن تقبل
منهم نفقاتهم إلا أنهم) فقد بينا علة فتح تلك، فأما كسر هذه فذكر ابن الأنباري فيه وجهين:
أحدهما: أن تكون فيها واو للحال مضمرة، فكسرت بعدها " إن " للاستئناف، فيكون
التقدير: إلا وإنهم ليأكلون الطعام، فأضمرت الواو ها هنا كما أضمرت في قوله تعالى: (أو هم
قائلون)، و التأويل، أو وهم قائلون.
و الثاني: أن تكون كسرت لإضمار " من " قبلها، فيكون التقدير: وما أرسلنا قبلك من
المرسلين إلا من إنهم ليأكلون، قال الشاعر:
فظلوا ومنهم دمعة سابق له * وآخر يثني دمعة العين بالمهل
أردا: من دمعه.
قوله تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) الفتنة: الابتلاء والاختبار. و في معنى الكلام
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه افتتان الفقير بالغني، يقول: لو شاء لجعلني غنيا، والأعمى بالبصير، والسقيم
بالصحيح، قاله الحسن.
والثاني: ابتلاء الشريف بالوضيع، والعربي بالمولى، فإذا أراد الشريف أن يسلم فرأى
الوضيع قد سبقه بالإسلام أنف فأقام على كفره، قاله ابن السائب.
والثالث: أن المستهزئين من قريش كانوا إذا رأوا فقراء المؤمنين، قالوا: انظروا إلى أتباع
محمد من موالينا ورذالتنا، قاله مقاتل.
فعلى الأول: يكون الخطاب بقوله: (أتصبرون) لأهل البلاء. وعلى الثاني: للرؤساء،
فيكون المعنى: أتصبرون على سبق الموالي والأتباع. وعلى الثالث: للفقراء، والمعنى:
أتصبرون على أذى الكفار واستهزائهم، فالمعنى: قد علمتم ما وعد الصابرون، (وكان ربك
بصيرا) بمن يصبر وبمن يجزع.
* وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في
أنفسهم وعتو عتوا كبيرا (21) يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا
9

محجورا (22) وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (23) أصحاب الجنة يومئذ
خير مستقرا وأحسن مقيلا (24)
قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) أي: لا يخافون البعث (لولا) أي: هلا
(أنزل علينا الملائكة) فكانوا رسلا إلينا وأخبرونا بصدقك، (أو نرى ربنا) فيخبرنا أنك
رسوله، (لقد استكبروا في أنفسهم) أي: تكبروا حين سألوا هذه الآيات (وعتوا عتوا كبيرا)
قال الزجاج: العتو في اللغة: مجاوزة القدر في الظلم.
قوله تعالى: (يوم يرون الملائكة) فيه قولان:
أحدهما: عند الموت.
والثاني: يوم القيامة.
قال الزجاج: وانتصب اليوم على معنى: لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة،
و " يومئذ " مؤكد ل‍ " يوم يرون الملائكة "، والمعنى أنهم يمنعون البشرى في ذلك اليوم، ويجوز
أن يكون " يوم " منصوبا على معنى: أذكر يوم يرون الملائكة، ثم أخبر فقال: (لا بشرى)،
والمجرمون هاهنا: الكفار.
قوله تعالى: (ويقولون حجرا محجورا) وقرأ قتادة، والضحاك، ومعاذ القارئ:
" حجرا " بضم الحاء. قال الزجاج: وأصل الحجر في اللغة: ما حجرت عليه، أي: منعت من
أن يوصل إليه، ومنه حجر القضاة على الأيتام. و في القائلين لهذا قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة يقولون للكفار: حجرا محجورا، أي: حراما محرما. وفيما حرموه
عليهم قولان:
أحدهما: البشرى، فالمعنى: حرام محرم أن تكون لكم البشرى، قاله الضحاك، والفراء
وابن قتيبة، والزجاج.
والثاني: أن تدخلوا الجنة، قاله مجاهد.
والثاني: أنه قول المشركين إذا عاينوا العذاب، ومعناه الاستعاذة من الملائكة، روي عن
مجاهد أيضا. وقال ابن فارس: كان الرجل إذا لقي من يخافه في الشهر الحرام، قال: حجرا
محجورا أي: حرام عليك أذاي، فإذا رأى المشركون الملائكة يوم القيامة، قالوا: حجرا
محجورا، يظنون أنه ينفعهم كما كان ينفعهم في الدنيا.
قوله تعالى: (وقدمنا) قال ابن قتيبة: أي: قصدنا وعمدنا، والأصل أن من أراد القدوم
إلى موضع عمد له وقصده.
قوله تعالى: (إلى ما عملوا من عمل) أي من أعمال الخير (فجعلناه هباء) لأن العمل لا
10

يتقبل مع الشرك، و في الهباء خمسة أقوال:
أحدها: أنه ما رأيته يتطاير في الشمس التي تدخل من الكوة مثل الغبار، قاله علي [رضي الله عنه]،
والحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، واللغويون، والمعنى أن الله أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة
الهباء.
والثاني: أنه الماء المهراق، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنه ما تنسفه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر، رواه عطاء الخراساني عن
ابن عباس.
والرابع: أنه الشرر الذي يطير من النار إذا أضرمت، فإذا وقع لم يكن شيئا، رواه عطية عن
ابن عباس.
والخامس: أنه ما يسطع من حوافر الدواب، قاله مقاتل. والمنثور: المتفرق.
قوله تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ) أي: يوم القيامة، (خير مستقرا) أفضل منزلا من
المشركين (وأحسن مقيلا) قال الزجاج: المقيل: المقام وقت القائلة، وهو النوم نصف النهار.
وقال الأزهري: القيلولة عند العرب: الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك
نوم. وقال ابن مسعود، وابن عباس: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقبل أهل الجنة في
الجنة وأهل النار في النار.
ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا (25) الملك يومئذ الحق للرحمن وكان
يوما على الكافرين عسيرا (26) ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول
سبيلا (27) يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني
وكان الشيطان للإنسان خذولا (29)
قوله تعالى: (ويوم تشقق السماء) هذا معطوف على قوله: (يوم يرون الملائكة)، وقرأ
ابن كثير، ونافع، وابن عامر: " تشقق " بالتشديد، فأدغموا التاء في الشين، لأن الأصل:
تتشقق. قال الفراء: المعنى: تتشقق السماء عن الغمام، وتنزل فيه الملائكة، و " على "
و " عن " و " الباء " في هذا الموضع بمعنى واحد. لأن العرب تقول: رميت عن القوس،
وبالقوس، وعلى القوس، والمعنى واحد. وقال أبو علي الفارسي: المعنى: تتشقق السماء
وعليها غمام، كما تقول: ركب الأمير بسلاحه، وخرج بثيابه، وإنما تتشقق السماء لنزول
الملائكة. قال ابن عباس: تتشقق السماء عن الغمام، وهو الغيم الأبيض، وتنزل الملائكة في
11

الغمام. وقال مقاتل: المراد بالسماء: السماوات، تتشقق عن الغمام، وهو غمام أبيض كهيئة
الضباب، فتنزل الملائكة عند انشقاقها. وقرأ ابن كثير: " وننزل " بنونين، الأولى مضمومة،
والثانية ساكنة، واللام مضمومة، و " الملائكة " نصبا. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران
الجوني: " ونزل " بنون واحدة مفتوحة ونصب الزاي وتشديدها وفتح اللام ونصب " الملائكة ". وقرأ
ابن يعمر: " ونزل " بفتح النون واللام والزاي والتخفيف " الملائكة " بالرفع.
قوله تعالى: (الملك يومئذ الحق للرحمن) قال الزجاج: المعنى: الملك الذي هو الملك
حقا للرحمن. فأما العسير، فهو العصب الشديد يشتد على الكفار، ويهون على المؤمنين فيكون
كمقدار صلاة مكتوبة.
قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن أبي بن خلف كان يحضر رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ويجالسه من غير أن يؤمن به، فزجره
عقبة بن أبي معيط عن ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس.
والثاني: أن عقبة دعا قوما فيهم رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] لطعام فأكلوا، وأبى رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] أن
يأكل، وقال: " لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله "، فشهد بذلك عقبة، فبلغ ذلك
أبي بن خلف، وكان خليلا له، فقال: صبوت يا عقبة؟ فقال: لا والله، ولكنه أبى أن يأكل حتى قلت
ذلك، وليس من نفسي، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
والثالث: أن عقبة كان خليلا لأمية بن خلف، فأسلم عقبة، فقال أمية: وجهي من وجهك
حرام إن تابعت محمدا، فكفر وارتد لرضى أمية، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي فأما الظالم المذكور
هاهنا، فهو الكافر، وفيه قولان:
أحدهما: أنه أبي بن خلف، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: عقبة بن أبي معيط، قاله مجاهد وسعيد بن جبير، وقتادة. و قال عطاء: يأكل يديه حتى تذهبا إلى
المرفقين، ثم تنبتان: فلا يزال هكذا كلما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل.
قوله تعالى: (يا ليتني اتخذت) الأكثرون يسكنون " يا ليتني "، وأبو عمرو يحركها، قال أبو
علي: والأصل التحريك، لأنها بإزاء الكاف التي للمخاطب، إلا أن حرف اللين تكره فيه الحركة،
12

ولذلك أسكن من أسكن، والمعنى: ليتني اتبعته فاتخذت معه طريقا إلى الهدى.
قوله تعالى: (يا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا) في المشار إليه أربعة أقوال:
أحدها: أنه عنى أبي بن خلف، قاله ابن عباس.
والثاني: عقبة بن أبي معيط، قاله أبو مالك.
والثالث: الشيطان، قاله مجاهد.
والرابع: أمية بن خلف، قاله السدي.
فإن قيل: إنما يكنى من يخاف المبادأة أو يحتاج إلى المداجاة، فما وجه الكناية؟
فالجواب: أنه أراد بالظالم: كل ظالم، وأراد بفلان: كل من أطيع في معصية الله وأرضي
بسخط الله، وإن كانت الآية نزلت في شخص، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: (لقد أضلني عن الذكر) أي: صرفني عن القرآن والإيمان به (بعد إذ جاءني)
مع الرسول، وهاهنا تم الكلام. ثم قال الله تعالى: (وكان الشيطان للإنسان) يعني: الكافر
(خذولا) يتبرأ منه في الآخرة.
وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (30) وكذلك جعلنا لكل نبي
عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا (31)
قوله تعالى: (وقال الرسول) يعني محمدا صلى الله عليه و آله وسلم، وهذا عند كثير من العلماء أنه يقوله يوم
القيامة، فالمعنى: ويقول الرسول يومئذ. وذهب آخرون، منهم مقاتل، إلى أن الرسول قال ذلك
شاكيا من قومه إلى الله تعالى حين كذبوه. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " إن قومي
اتخذوا " بتحريك الياء، وأسكنها عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي.
وفى المراد بقوله: (مهجورا) قولان:
أحدهما: متروكا لا يلتفتون إليه ولا يؤمنون به، وهذا معنى قول ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: هجروا فيه، أي: جعلوه كالهذيان، ومنه يقال: فلان يهجر في منامه، أي: يهذي،
قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: الهجر: ما لا ينتفع به من القول: قال المفسرون: فعزا الله عز وجل،
فقال: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا) أي: كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك، جعلنا لكل
نبي عدوا من كفار قومه، والمعنى: لا يكبرن هذا عليك، فلك بالأنبياء أسوة، (وكفى بربك هاديا)
13

لك (و نصيرا) يمنعك من عدوك. قال الزجاج: والباء في قوله: (بربك) زائدة، فالمعنى: كفى ربك هاديا
ونصيرا.
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك
ورتلناه ترتيلا (32) ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا (33) الذين
يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا (34)
قوله تعالى: (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) أي: كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور،
فقال الله عز وجل: (كذلك) أي: أنزلناه كذلك متفرقا، لأن معنى ما قالوا: لم نزل عليه متفرقا؟
فقيل: إنما أنزلناه كذلك (لنثبت به فؤادك) أي: لنقوي به قلبك فتزداد بصيرة، وذلك أنه كان يأتيه
الوحي في كل أمر وحادثة، فكان أقوى لقلبه وأنور لبصيرته وأبعد لاستيحاشه، (ورتلناه ترتيلا) أي:
أنزلناه على الترتيل، وهو التمكث الذي يضاد العجلة.
قوله تعالى: (ولا يأتونك) يعني المشركين (بمثل) يضربونه لك في مخاصمتك وإبطال
أمرك (إلا جئناك بالحق) أي: بالذي هو الحق لنرد به كيدهم (وأحسن تفسيرا) من مثلهم،
والتفسير: البيان والكشف.
قال مقاتل: ثم أخبر بمستقرهم في الآخرة، فقال: (الذين يحشرون على وجوههم) وذلك أن
كفار مكة قالوا: إن محمدا وأصحابه شر خلق الله، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: (أولئك شر مكانا) أي: منزلا ومصيرا (وأضل سبيلا) دينا وطريقا من
المؤمنين.
ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا (35) فقلنا اذهبا إلى القوم
الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا (36) وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم
للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما (37) وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك
كثيرا (38) وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا (39)
14

قوله تعالى: (اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا).
إن قيل: إنما عاينوا العذاب يوم القيامة، فكيف يقع التكذيب منهم قبل وجود الآيات؟
فالجواب: أنهم كانوا مكذبين أنبياء الله وكتبه المتقدمة، ومن كذب نبيا فقد كذب سائر
الأنبياء، ولهذا قال: (وقوم نوح لما كذبوا الرسل)، وقال الزجاج: يجوز أن يكون المراد به نوح
وحده، وقد ذكر بلفظ الجنس، كما يقال: فلان يركب الدواب، وإن لم يركب إلا دابة واحدة، وقد
شرحنا هذا في [سورة] هود عند قوله: (وعصوا رسله). وقد سبق معنى التدمير.
فوله تعالى: (وأصحاب الرس) في الرس ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بئر كانت تسمى الرس، قاله ابن عباس في رواية العوفي. وقال في رواية
عكرمة: هي بئر بآذربيجان. وزعم ابن السائب أنها بئر دون اليمامة. وقال السدي: بئر بأنطاكية.
والثاني: أن الرس قرية من قرى اليمامة، قاله قتادة.
والثالث: أنها المعدن، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة، و في تسميتها بالرس قولان:
أحدهما: أنهم رسوا نبيهم في البئر، قاله عكرمة. قال الزجاج: رسوه، أي: دسوه فيها.
والثاني: أن كل ركية لم تطو فهي رس، قاله ابن قتيبة، و اختلفوا في أصحاب الرس على
خمسة أقوال:
أحدها: أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة، فبعث الله إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب، فحفروا
له بئرا وألقوه فيها، فهلكوا، قاله علي بن أبي طالب.
والثاني: أنهم قوم كان لهم نبي يقال له: حنظلة بن صفوان، فقتلوا نبيهم فأهلكهم الله، قاله
سعيد بن جبير.
والثالث: أنهم كانوا أهل بئر ينزلون عليها، وكانت لهم مواش، وكانوا يعبدون الأصنام،
فبعث الله إليهم شعيبا، فتمادوا في طغيانهم، فانهارت البئر، فخسف بهم وبمنازلهم، قاله وهب بن
منبه.
والرابع: أنهم الذين قتلوا حبيبا النجار، قتلوه في بئر لهم، وهو الذي قال: (يا قوم اتبعوا
المرسلين)، قاله السدي.
والخامس: أنهم قوم قتلوا نبيهم وأكلوه، وأول من عمل السحر نساؤهم، قاله ابن السائب.
15

قوله تعالى: (وقرونا) المعنى: وأهلكنا قرونا (بين ذلك) أي: بين عاد وأصحاب الرس.
وقد سبق بيان القرون وفي هذه القصص تهديد لقريش.
قوله تعالى: (وكلا ضربنا له الأمثال) أي: أعذرنا إليه بالموعظة وإقامة الحجة (وكلا تبرنا)
قال الزجاج: التتبير: التدمير، وكل شئ كسرته وفتته فقد تبرته، وكسارته: التبر، ومن هذا قيل
لمكسور الزجاج: التبر، وكذلك تبر الذهب.
ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون
نشورا (40) وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا (41) إن كاد ليضلنا
عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا (42)
أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا (43) أم تحسب أن أكثرهم
يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا (44)
قوله تعالى: (ولقد أتوا) يعني كفار مكة (على القرية التي أمطرت مطر السوء) يعني قرية
قوم لوط التي رميت بالحجارة (أفلم يكونوا يرونها) في أسفارهم فيعتبروا؟! ثم أخبر بالذي جرأهم
على التكذيب، فقال: (بل كانوا لا يرجون نشورا) أي: لا يخافون بعثا، هذا قول المفسرين.
وقال الزجاج: الذي عليه أهل اللغة أن الرجاء ليس بمعنى الخوف، وإنما المعنى: بل كانوا لا
يرجون ثواب عمل الخير، فركبوا المعاصي.
قوله تعالى: (وإذا رأوك الذي إن يتخذونك) أي: ما يتخذونك (إلا هزوا) أي: مهزوءا به،
ثم ذكر ما يقولون من الاستهزاء: (أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا) أي: ليصرفنا عن
عبادة آلهتنا (لولا أن صبرنا عليها) أي: على عبادتها، قال الله تعالى: (وسوف يعلمون حين يرون
العذاب) في الآخرة (من أضل) أي: من أخطأ طريقا عن الهدى، أهم، أم المؤمنون.
ثم عجب نبيه من جهلهم حين عبدوا ما دعاهم إليه الهوى، فقال: (أرأيت من اتخذ إلهه
هواه) قال ابن عباس: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر.
وقال قتادة: هو الكافر لا يهوى شيئا إلا ركبه. وقال ابن قتيبة: المعنى: يتبع هواه ويدع الحق، فهو
16

له كالإله.
قوله تعالى: (أفأنت تكون عليه وكيلا) أي: حفيظا يحفظه من اتباع هواه. وزعم الكلبي أن
هذه الآية منسوخة بآية القتال.
قوله تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون) يعني أهل مكة، والمراد: يسمعون سماع
طالب الإفهام (أو يعقلون) ما يعاينون من الحجج والأعلام (إن هم إلا كالأنعام) وفي وجه
تشبيههم بالأنعام قولان:
أحدهما: أن الأنعام تسمع الصوت ولا تفقه القول.
والثاني: أنه ليس لها هم إلا المأكل والمشرب.
قوله تعالى: (بل هم أضل سبيلا) لأن البهائم تهتدي لمراعيها وتنقاد لأربابها وتقبل على
المحسن إليها، وهم على خلاف ذلك.
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا (45)
ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا (46) وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار
نشورا (47) وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا
لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا (49) ولقد صرفناه بينهم
ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا (50) ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا (51) فلا تطع
الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا (52)
قوله تعالى: (ألم تر إلى ربك) أي: إلى فعل ربك. وقال الزجاج: معناه: ألم تعلم، فهو
من رؤية القلب، ويجوز أن يكون من رؤية العين، فالمعنى: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك؟
والظل من وقت طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس (ولو شاء لجعله ساكنا) أي: ثابتا دائما لا يزول
(ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) فالشمس دليل على الظل، فلولا الشمس ما عرف أنه شئ، كما أنه
لولا النور ما عرفت الظلمة، فكل الأشياء تعرف بأضدادها.
قوله تعالى: (ثم قبضناه إلينا) يعني: الظل (قبضا يسيرا) وفيه قولان:
أحدهما: سريعا، قاله ابن عباس.
17

والثاني: خفيا، قاله مجاهد.
وفى وقت قبض الظل قولان:
أحدهما: عند طلوع الشمس عليه حتى تنسخه شيئا فشيئا.
والثاني: عند غروب الشمس تقبض أجزاء الظل بعد غروبها، ويخلف كل جزء منه جزءا من
الظلام.
قوله تعالى: (و هو الذي جعل لكم الليل لباسا) أي: ساترا بظلمته، لأن ظلمته تغشى
الأشخاص وتشتمل عليها اشتمال اللباس على لابسه (والنوم سباتا) قال ابن قتيبة: أي: راحة، ومنه
يوم السبت، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة، وكان الفراغ منه في يوم السبت، فقيل لبني إسرائيل:
استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا فيه شيئا، فسمي يوم السبت، أي: يوم الراحة، وأصل السبت:
التمدد، ومن تمدد استراح. وقال ابن الأنباري: أصل السبت، القطع، فالمعنى: وجعلنا النوم قطعا
لأعمالكم.
قوله تعالى: (و جعل النهار نشورا) فيه قولان:
أحدهما: تنتشرون فيه لابتغاء الرزق، قاله ابن عباس.
والثاني: تنشر الروح باليقظة كما تنشر بالبعث، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح) قد شرحناه في الأعراف إلى قوله تعالى: (وأنزلنا
من السماء ماء طهورا) يعني: المطر. قال الأزهري: الطهور في اللغة: الطاهر المطهر. والطهور ما
يتطهر به، كالوضوء الذي يتوضأ به، والفطور الذي يفطر عليه.
قوله تعالى: (لنحيي به بلدة ميتا) وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو جعفر: " ميتا "
بالتشديد. قال الزجاج: لفظ البلدة مؤنث، وإنما قيل: " ميتا " لأن معنى البلدة والبلد سواء. وقال
غيره: إنما قال: " ميتا " لأنه أراد بالبلدة المكان. وقد سبق معنى صفة البلدة بالموت ومعنى:
" ونسقيه " وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، والضحاك، والأعمش، وابن أبي عبلة: " ونسقيه " بفتح
النون. فأما الأناسي فقال الزجاج: هو جمع إنسي، مثل كرسي وكراسي، ويجوز أن يكون جمع
إنسان، وتكون الباء بدلا من النون، الأصل: أناسين مثل سراحين. وقرأ أبو مجلز، والضحاك، وأبو
العالية، وعاصم الجحدري: " وأناسي " بتخفيف الياء.
18

قوله تعالى: (ولقد صرفناه) يعني المطر (بينهم) مرة لهذه البلدة، ومرة لهذه (ليذكروا)
أي: ليتفكروا في نعم الله عليهم فيه فيحمدوه. وقرأ حمزة، والكسائي: " ليذكروا " خفيفة الذال.
قال أبو علي: يذكر في معنى يتذكر، (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) وهم الذين يقولون: مطرنا بنوء
كذا وكذا، كفروا بنعمة الله. (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) المعنى: إنا بعثناك إلى جميع
القرى لعظم كرامتك، (فلا تطع الكافرين)، وذلك أن كفار مكة دعوه إلى دين آبائهم،
(وجاهدهم به) أي بالقرآن (جهادا كبيرا) أي: تاما شديدا.
* وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا
وحجرا محجورا (53) وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54)
ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا (55)
قوله تعالى: (هو الذي مرج البحرين) قال الزجاج: أي: خلى بينهما، تقول: مرجت الدابة
وأمرجتها: إذا خليتها ترعى، ومنه الحديث: " مرجت عهودهم وأماناتهم " أي: اختلطت. قال
المفسرون: والمعنى أنه أرسلهما في مجاريهما، فهما يلتقيان، ولا يختلط الملح بالعذب، ولا
العذب بالملح، وهو قوله تعالى: (هذا) يعني: أحد البحرين (عذب) أي: طيب، يقال: عذب
الماء يعذب عذوبة، فهو عذب. قال الزجاج: والفرات صفة للعذب، وهو أشد الماء عذوبة، والأجاج
صفة للملح، وهو: المر الشديد المرارة. وقال ابن قتيبة: هو أشد الماء ملوحة، وقيل: هو الذي يخالطه
مرارة، ويقال ماء ملح، ولا يقال مالح، والبرزخ: الحاجز: وفي هذا الحاجز قولان:
أحدهما: أنه مانع من قدرة الله تعالى، قاله الأكثرون، قال الزجاج: فهما في مرأى العين
مختلطان، وفي قدرة الله منفصلان لا يختلط أحدهما بالآخر. قال أبو سليمان الدمشقي: ورأيت
عند عبدان من سواد البصرة الماء العذب ينحدر في دجلة نحو البحر، ويأتي المد من البحر،
فيلتقيان، فلا يختلط أحد الماءين بالآخر، يرى ماء البحر إلى الخضرة الشديدة، و ماء دجلة عذبا لا
يخالطه شئ، وإلى جانبه ماء البحر في مكان واحد.
والثاني: أن الحاجز: الأرض واليابس، وهو قول الحسن، والأول أصح.
قوله تعالى: (وحجرا محجورا) قال الفراء، أي: حراما محرما أن يغلب أحدهما صاحبه.
قوله تعالى: (هو الذي خلق من الماء بشرا) أي: إنسانا (فجعله نسبا وصهرا) أي: ذا
نسب وصهر. قال علي [رضي الله عنه]: النسب: ما لا يحل نكاحه، والصهر: ما يحل نكاحه.
19

وقال الضحاك: النسب سبع، وهو قوله: (حرمت عليكم أمهاتكم..) إلى قوله تعالى: (وبنات
الأخت)، والصهر خمس، وهو قوله (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم..) إلى قوله: (من
أصلابكم) وقال طاوس الرضاعة من الصهر. وقال ابن قتيبة: " نسبا " أي: قرابة النسب،
" وصهرا " أي: قرابة النكاح. وكل شئ من قبل الزوج، مثل الأب والأخ، فهم الأحماء، واحدهم
حما، مثل: قفا، وحمو مثل أبو، وحمؤ مهموز ساكن الميم، وحم مثل أب. وحماة المرأة: أم
زوجها، لا لغة فيها غير هذه وكل شئ من قبل المرأة، فهم الأختان. والصهر يجمع ذلك كله.
وحكى ابن فارس عن الخليل، أنه قال: لا يقال لأهل بيت الرجل إلا أختان، ولأهل بيت المرأة إلا
أصهار. ومن العرب من يجعلهم أصهارا كلهم. والصهر: إذابة الشئ. وذكر الماوردي أن المناكح
سميت صهرا، لاختلاط الناس بها كما يختلط الشئ إذا صهر.
قوله تعالى: (وكان الكافر على ربه ظهيرا) فيه أربعة أقوال:
أحدها: معينا للشيطان على ربه، لأن عبادته للأصنام معاونة للشيطان.
والثاني: معينا للمشركين على أن لا يوحدوا الله تعالى.
والثالث: معينا على أولياء ربه.
والرابع: وكان الكافر على ربه هينا ذليلا، من قولك: ظهرت بفلان: إذا جعلته وراء ظهرك
ولم تلتفت إليه. قالوا: والمراد بالكافر هاهنا أبو جهل.
وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (56) قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ
إلى ربه سبيلا (57) وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب
عباده خبيرا (58) الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على
العرش الرحمن فسئل به خبيرا (59) وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد
لما تأمرنا وزادهم نفورا (60)
20

قوله تعالى: (ما أسألكم عليه) أي: على القرآن وتبليغ الوحي (من أجر) وهذا توكيد
لصدقه، لأنه لو سألهم شيئا من أموالهم لاتهموه، (إلا من شاء) معناه: لكن من شاء (أن يتخذ إلى
ربه سبيلا) بإنفاق ماله في مرضاة الله، فعل ذلك، فكأنه قال: لا أسألكم لنفسي. وقد سبق تفسير
الكلمات التي تلي هذه. إلى قوله تعالى: (فاسأل به خبيرا)، و " به " بمعنى: " عنه "، قال ابن
احمر.
فإن تسألوني بالنساء فإنني * بصير بأدواء النساء طبيب
وفى هاء " به " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى الله تعالى.
والثاني: إلى اسمه الرحمن، لأنهم قالوا: لا نعرف الرحمن.
والثالث: إلى ما ذكر من خلق السماوات والأرض وغير ذلك، و في " الخبير " أربعة أقوال:
أحدها: أنه جبريل، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الله تعالى، والمعنى: سلني فأنا الخبير، قاله مجاهد.
والثالث: القرآن، قاله شمر.
والرابع: مسلمة أهل الكتاب، قاله أبو سليمان، وهذا يخرج على قولهم: لا نعرف الرحمن،
فقيل: سلوا مسلمة أهل الكتاب، فإن الله [تعالى] خاطب موسى في التوراة باسمه الرحمن، فعلى
هذا، الخطاب للنبي [صلى الله عليه و آله وسلم] والمراد سواه.
قوله تعالى: (وإذا قيل لهم) يعني كفار مكة (اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) قال
المفسرون: إنهم قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فأنكروا أن يكون من أسماء الله تعالى،
(أنسجد لما تأمرنا) وقرأ حمزة، والكسائي: " يأمرنا " بالياء، أي: لما يأمرنا به محمد، وهذا
استفهام إنكار، ومعناها: لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له، (وزادهم) ذكر الرحمن
(نفورا) أي: تباعدا من الإيمان.
تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا (61) وهو الذي جعل
الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا (62)
قوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) و قد شرحناه في الحجر: والمراد بالسراج:
21

الشمس. وقرأ حمزة، والكسائي: " سرجا " بضم السين والراء وإسقاط الألف. قال الزجاج: أراد:
الشمس والكواكب العظام، ويجوز " سرجا " بتسكين الراء، مثل رسل ورسل. قال الماوردي: لما
اقترن بضوء الشمس وهج حرها، جعلها لأجل الحرارة سراجا، ولما عدم ذلك في القمر جعله
نورا.
قوله تعالى: (و هو الذي جعل الليل والنهار خلفة) فيه قولان:
أحدهما: أن كل واحد منهما يخالف الآخر في اللون، فهذا أبيض، وهذا أسود، روى هذا
المعنى الضحاك عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة.
والثاني: أن كل واحد منهما يخلف صاحبه، رواه عمرو بن قيس الملائي عن مجاهد، وبه قال
ابن زيد وأهل اللغة، وأنشدوا قول زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفة * وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
أي: إذا ذهبت طائفة جاءت طائفة.
قوله تعالى: (لمن أراد أن يذكر) أي: يتعظ ويعتبر باختلافهما. وقرأ حمزة: " يذكر " خفيفة
الذال مضمومة الكاف، وهي في معنى: يتذكر، (أو أراد) شكر الله تعالى فيهما.
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (63)
والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما (64) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن
عذابها كان غراما (65) إنها ساءت مستقرا ومقاما (66) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم
يقتروا وكان بين ذلك قواما (67)
قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون) وقرأ علي، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن
السميفع: " يمشون " برفع الياء وفتح الميم والشين وبالتشديد، قال ابن قتيبة: إنما نسبهم إليه
لاصطفائه إياهم، كقوله تعالى: (ناقة الله)، ومعنى " هونا " مشيا رويدا. ومنه يقال: أحبب
حبيبك هونا ما. وقال مجاهد: يمشون بالوقار والسكينة. (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)
أي: سدادا. وقال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإن جهل عليهم حلموا. وقال مقاتل بن حيان:
22

" قالوا سلاما " أي: قولا: يسلمون فيه من الإثم. وهذه الآية محكمة عند الأكثرين. وزعم قوم
أن المراد بها أنهم يقولون للكفار: ليس بيننا وبينكم غير السلام، ثم نسخت بآية السيف.
قوله تعالى: (والذين يبيتون لربهم) قال الزجاج: كل من أدركه الليل فقد بات، نام أولم
ينم، يقال: بات فلان قلقا، إنما المبيت إدراك الليل.
قوله تعالى: (كان غراما) فيه خمسة أقوال متقارب معانيها:
أحدها: دائما، رواه أبو سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم.
والثاني: موجعا، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: ملحا، قاله ابن السائب، وقال ابن جريج: لا يفارق.
والرابع: هلاكا، قاله أبو عبيدة:
والخامس: أن الغرام في اللغة: أشد العذاب، قال الشاعر:
ويوم النسار ويوم الجفار * كانا عذبا وكانا غراما
قاله الزجاج:
قوله تعالى: (ساءت مستقرا) أي: بئس موضع الاستقرار وموضع الإقامة هي.
قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " يقتروا "
مفتوحة الياء مكسورة التاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " يقتروا " بفتح الياء وضم التاء. وقرأ
نافع، وابن عامر: " يقتروا " بضم الياء وكسر التاء. و في معنى الكلام قولان:
أحدها: أن الإسراف: مجاوزة الحد في النفقة، والإقتار: التقصير عن ما لا بد منه، ويدل
على هذا قول عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما اشتهى.
والثاني: أن الإسراف: الإنفاق في معصية الله وإن قل، والإقتار: منع حق الله [تعالى]، قاله
ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج في آخرين.
قوله تعالى: (وكان) يعني الإنفاق (بين ذلك) أي: بين الإسراف والإقتار (قواما)
أي: عدلا، قال ثعلب: القوام، بفتح القاف: الاستقامة والعدل، وبكسرها: ما يدوم عليه الأمر
ويستقر.
والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا
يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه
23

مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
وكان الله غفورا رحيما (70)
قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود، قال: سألت رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] أي
الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك "، قلت: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك مخافة
أن يطعم معك "، قلت: ثم أي؟ قال: " أن تزاني حليلة جارك "، فأنزل الله تعالى
تصديقها: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر...) الآية.
والثاني: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] فقالوا:
إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت هذه الآية، إلى قوله
[تعالى]: (غفورا رحيما)، أخرجه مسلم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: أن وحشيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام
الله، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: قد كنت أحب أن أراك على غير جوار، فأما إذا أتيتني مستجيرا فأنت
في جواري حتى تسمع كلام الله، قال: فإني أشركت بالله وقتلت التي حرم الله وزينت، فهل
يقبل الله مني توبة؟ حتى نزلت هذه الآية، فتلاها عليه، فقال: أرى شرطا، فلعلي لا أعمل صالحا،
أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزل: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء)، فدعاه فتلاها عليه، فقال: ولعلي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله،
فنزلت: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله...) الآية، فقال: نعم،
الآن لا أرى شرطا، فأسلم، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا وحشي هو قاتل حمزة، وفي هذا
الحديث المذكور عنه نظر، وهو بعيد الصحة، والمحفوظ في إسلامه غير هذا، وأنه قدم مع رسل
الطائف فأسلم من غير اشتراط. قوله تعالى: (يدعون) معناه: يعبدون. وقد سبق بيان قتل النفس
بالحق في الأنعام:
قوله تعالى: (يلق أثاما) وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل: " يلق " برفع الياء وفتح اللام
وتشديد القاف مفتوحة. قال ابن عباس: يلق جزاء. وقال مجاهد، وعكرمة: هو واد في جهنم. وقال
ابن قتيبة: يلق عقوبة، وأنشدوا:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى * عقوقا والعقوق له أثام
24

قال الزجاج: وقوله تعالى: (يلق أثاما) جزم على الجزاء. قال أبو عمرو
الشيباني: يقال: قد لقي أثام ذلك، أي: جزاء ذلك، وسيبويه والخليل يذهبان إلى أن معناه: يلقى
جزاء الأثام. قال سيبويه: وإنما جزم " يضاعف له العذاب " لأن مضاعفة العذاب لقي الآثام،
فلذلك جزمت، كما قال الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا * تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
لان الإتيان هو الإلمام، فجزم " تلمم " لأنه بمعنى " تأتي. وقرأ الحسن: " يضعف "، وهو
جيد بالغ، تقول: ضاعفت الشئ وضعفته. وقرأ عاصم: " يضاعف " بالرفع على تفسير " يلق
أثاما " كأن قائلا قال: ما لقي الأثام؟ فقيل: يضاعف للآثم العذاب. وقرأ أبو المتوكل، وقتادة، وأبو
حيوة: " يضعف " برفع الياء وسكون الضاد وفتح العين خفيفة من غير ألف. وقرأ أبو حصين
الأسدي، والعمري عن أبي جعفر مثله، إلا أن العين مكسورة، و " العذاب " بالنصب.
قوله تعالى: (ويخلد) وقرأ أبو حيوة، وقتادة، والأعمش: " ويخلد " برفع الياء وسكون
الخاء وفتح اللام مخففة. وقرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وأبو المتوكل مثله، إلا أنهم شددوا
اللام.
فصل
ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية قولان:
أحدهما: أنها منسوخة، وفي ناسخها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قوله تعالى: (و من يقتل مؤمنا
متعمدا فجزاؤه جهنم)، قاله ابن عباس. وكان يقول: هذه مكية، والتي في " النساء " مدنية.
والثاني: أنها نسخت بقوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به...) الآية. والثالث: أن الأولى
نسخت بالثانية، وهي: (إلا من تاب).
والقول الثاني: أنها محكمة، والخلود إنما كان لانضمام الشرك إلى القتل والزنا. وفساد القول
الأول ظاهر، لأن القتل لا يوجب تخليدا عند الأكثرين، وقد بيناه في سورة النساء، والشرك لا
يغفر إذا مات المشرك عليه، والاستثناء ليس بنسخ.
قوله تعالى: (إلا من تاب) قال ابن عباس: قرأنا على عهد رسول الله سنتين: (والذين لا
يدعون مع الله إلها آخر) ثم نزلت (إلا من تاب) فما رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فرح بشئ فرحه
25

بها، وب‍ (إنا فتحنا لك فتحا مبينا).
قوله تعالى: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) اختلفوا في كيفية هذا التبديل وفي زمان
كونه، فقال ابن عباس: يبدل الله شركهم إيمانا، وقتلهم إمساكا، وزناهم إحصانا، وهذا يدل:
أولا: على أنه يكون في الدنيا، وممن ذهب إلى هذا المعنى سعيد بن جبير، ومجاهد،
وقتادة، والضحاك، وابن زيد.
والثاني: أن هذا يكون في الآخرة، قاله سلمان رضي الله عنه، وسعيد بن المسيب، وعلي بن
الحسين. وقال عمرو بن ميمون: يبدل الله سيئات المؤمن إذا غفرها له حسنات، حتى إن العبد
يتمنى أن تكون سيئاته أكثر مما هي. وعن الحسن كالقولين. وروي عن الحسن أنه قال: ود قوم يوم
القيامة أنهم كانوا في الدنيا استكثروا من الذنوب، فقيل: من هم؟ قال: هم الذين قال الله تعالى
فيهم: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات)، ويؤكد هذا القول حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فتعرض عليه صغار ذنوبه وتنحى عنه
كبارها، فيقال: عملت يوم كذا، كذا، وهو مقر لا ينكر، وهو مشفق من الكبار، فيقال: أعطوه مكان
كل سيئة عملها حسنة "، أخرجه مسلم في " صحيحه ".
ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا (71) والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا
باللغو مروا كراما (72) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا (73) والذين
يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (74)
قوله تعالى: (ومن تاب) ظاهر هذه التوبة أنها عن الذنوب المذكورة. وقال ابن عباس:
يعني: ممن لم يقتل ولم يزن، (وعمل صالحا) فإني قد قدمتهم وفضلتهم على من قاتل نبيي
واستحل محارمي.
قوله تعالى: (فإنه يتوب إلى الله متابا) قال ابن الأنباري: معناه: من أراد التوبة وقصد
حقيقتها، فينبغي له أن يريد الله بها ولا يخلط بها ما يفسدها، وهذا كما يقول الرجل: من تجر فإنه
يتجر في البز، ومن ناظر فإنه يناظر في النحو، أي: من أراد ذلك، فينبغي أن يقصد هذا الفن، قال:
ويجوز أن يكون معنى الآية: ومن تاب وعمل صالحا، فإن ثوابه وجزاءه يعظمان له عند ربه الذي
أراد بتوبته، فلما كان قوله: " فإنه يتوب إلى الله متابا " يؤدي عن هذا المعنى، كفى منه، وهذا
كما يقول الرجل للرجل: إذا تكلمت فاعلم أنك تكلم من يعرف كلامك ويجازيك، ومثله قوله
تعالى: (إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت)، أي: فإني أتوكل على
26

من ينصرني ولا يسلمني. وقال قوم: معنى الآية: فإنه يرجع إلى الله مرجعا يقبله منه.
قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور) فيه ثمانية أقوال:
أحدها: أنه الصنم. روى الضحاك عن ابن عباس أن الزور صنم كان للمشركين.
والثاني: أنه الغناء، قاله محمد ابن الحنفية، ومكحول، وروى ليث عن مجاهد قال: لا
يسمعون الغناء.
والثالث: الشرك، قاله الضحاك، وأبو مالك.
والرابع: لعب كان لهم في الجاهلية، قاله عكرمة.
والخامس: الكافر، قاله قتادة، وابن جريج.
والسادس: شهادة الزور، قاله علي بن أبي طالب.
والسابع: أعياد المشركين، قاله الربيع بن أنس.
والثامن: أنه الخنا، قاله عمرو بن قيس. و في المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال:
أحدها: المعاصي، قاله الحسن.
والثاني: أذى المشركين إياهم، قاله مجاهد.
والثالث: الباطل، قاله قتادة.
والرابع: الشرك، قاله الضحاك.
والخامس: إذا ذكروا النكاح كنوا عنه، قاله مجاهد. وقال محمد بن علي: إذا ذكروا الفروج
كنوا عنها.
قوله [تعالى]: (مروا كراما) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: مروا حلماء، قاله ابن السائب.
والثاني: مروا معرضين عنه، قاله مقاتل.
والثالث: أن المعنى: إذا مروا باللغو جاوزوه، قاله الفراء.
قوله تعالى: (و الذين إذا ذكروا) أي: وعظوا (بآيات ربهم) وهي القرآن (لم يخروا
عليها صما وعميانا) قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها فكأنهم صم لم يسمعوها، عمي لم يروها.
وقال غيره من أهل اللغة: لم يثبتوا على حالتهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يروا، وإن لم يكونوا
خروا حقيقة، تقول العرب: شتمت فلانا فقام يبكي، وقعد يندب، وأقبل يعتذر، وظل يتحير، وإن
لم يكن قام ولا قعد.
قوله تعالى: (هب لنا من أزواجنا وذرياتنا) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن
27

عاصم: " وذرياتنا " على الجمع. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم:
" وذرياتنا " على التوحيد، (قرة أعين) وقرأ ابن مسعود، وأبو حيوة: " قرأت أعين " يعنون: من
يعمل بطاعتك فتقر به أعيننا في الدنيا والآخرة. وسئل الحسن عن قوله: " قرة أعين " في الدنيا، أم
في الآخرة؟ قال: لا، بل في الدنيا، وأي شئ أقر بعين المؤمن من أن يرى زوجته وولده يطيعون
الله، والله ما طلب القوم إلا أن يطاع الله فتقر أعينهم. قال الفراء: إنما قال: " قرة " لأنها فعل،
والفعل لا يكاد يجمع، ألا ترى إلى قوله: (وادعوا ثبورا كثيرا) فلم يجمعه، والقرة مصدر،
تقول: قرت عينه قرة، ولو قيل: قرة عين أو قرأت أعين كان صوابا. وقال غيره: أصل القرة من
البرد، لأن العرب تتأذى بالحر، وتستروح إلى البرد.
قوله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماما) فيه قولان:
أحدهما: اجعلنا أئمة يقتدى بنا، قاله ابن عباس. وقال غيره: هذا من الواحد الذي يراد به
الجمع، كقوله: (إنا رسول رب العالمين)، وقوله: (فإنهم عدر لي).
والثاني: اجعلنا مؤتمين بالمتقين مقتدين بهم، قاله مجاهد، فعلى هذا يكون الكلام من
المقلوب، فالمعنى: واجعل المتقين لنا إماما.
أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما (75) خالدين فيها حسنت
مستقرا ومقاما (76) قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون
لزاما (77)
قوله تعالى: (أولئك يجزون الغرفة) قال ابن عباس: يعني الجنة. وقال غيره: الغرفة: كل
بناء عال مرتفع، والمراد غرف الجنة، وهي من الزبرجد والدر والياقوت، (بما صبروا) على
دينهم وعلى أذى المشركين.
قوله تعالى: (ويلقون فيها) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم:
" ويلقون " بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن
عاصم: " ويلقون " بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، (تحية وسلاما) قال ابن عباس:
28

يحيي بعضهم بعضا بالسلام، ويرسل إليهم الرب عز وجل بالسلام. وقال مقاتل: " تحية " يعني
السلام، " وسلاما " أي: سلم الله لهم أمرهم وتجاوز عنهم.
قوله تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربي) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ما يصنع بكم! قاله ابن عباس.
والثاني: أي وزن يكون لكم عنده، تقول: ما عبأت بفلان، أي: ما كان له عندي وزن ولا
قدر، قاله الزجاج.
والثالث: ما يعبأ بعذابكم، قاله ابن قتيبة.
وفي قوله تعالى: (لولا دعاؤكم) أربعة أقوال:
أحدها: لولا إيمانكم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: لولا عبادتكم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه، قاله مجاهد، والمراد نفع الخلق، لأن الله تعالى غير
محتاج.
والرابع: لولا توحيدكم، حكاه الزجاج. وعلى قول الأكثرين ليس في الآية إضمار، وقال ابن
قتيبة: فيها إضمار تقديره: ما يعبأ بعذابكم لولا ما تدعونه من الشريك والولد، ويوضح ذلك قوله
تعالى: (فسوف يكون لزاما) يعني: العذاب، ومثله قول الشاعر:
من شاء دلى النفس في هوة * ضنك ولكن من له بالمضيق
أي: بالخروج من المضيق. وهل هذا خطاب للمؤمنين، أو للكفار؟ فيه قولان: أما قوله
تعالى: (فقد كذبتم) فهو خطاب لأهل مكة حين كذبوا رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم]، (فسوف يكون)
يعني: تكذيبكم (لزاما) أي: عذابا لازما لكم، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه قتلهم يوم بدر، فقتلوا يومئذ، واتصل بهم عذاب الآخرة لازما لهم، وهذا مذهب
ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومجاهد في آخرين.
والثاني: أنه الموت، قاله ابن عباس.
والثالث: أن اللزام: القتال، قاله ابن زيد.
و الله أعلم بالصواب
29

(26) سورة الشعراء مكية
و آياتها سبع و عشرون و مائتان
و هي مكية كلها، إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة، من قوله تعالى: (و الشعراء يتبعهم
الغاوون) إلى آخرها، قاله ابن عباس، وقتادة.
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم (1) تلك آيات الكتاب المبين (2) لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين
إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين (4) وما يأتيهم من ذكر من
الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين (5) فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به
يستهزءون (6) أو لم يروا إلى الأرض كم أنبئنا فيها من كل زوج كريم (7) إن في ذلك
لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (8) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (9)
قوله تعالى: (طسم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " طسم " بفتح الطاء
وإدغام النون من هجاء " سين " عند الميم. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبان، والمفضل:
" طسم " و " طس " بإمالة الطاء فيهما. وأظهر النون من هجاء " سين " عند الميم حمزة هاهنا
وفي القصص وفي معنى " طسم " أربعة أقوال:
أحدها: أنها حروف من كلمات، ثم فيها ثلاثة أقوال: أحدها: رواه علي بن أبي طالب [رضي الله عنه
] قال: لما نزلت " طسم " قال رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم]: " الطاء: طور سيناء، والسين:
30

الإسكندرية، والميم: مكة " والثاني: أن الطاء: طيبة، وسين: بيت المقدس، وميم: مكة، رواه
الضحاك عن ابن عباس. والثالث: الطاء: شجرة طوبى، والسين: سدرة المنتهى، والميم:
محمد صلى الله عليه و آله وسلم، قاله جعفر الصادق.
والثاني: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن
عباس. وقد بينا كيف يكون مثل هذا من أسماء الله تعالى في فاتحة مريم. وقال القرظي: أقسم الله
بطوله وسنائه وملكه.
والثالث: أنه اسم للسورة، قاله مجاهد.
والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة، وأبو روق. وما بعد هذا قد سبق تفسيره
إلى قوله: (ألا يكونوا مؤمنين) والمعنى: لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان.
ثم أخبر أنه لو أراد أن ينزل عليهم ما يضطرهم إلى الإيمان لفعل، فقال: (إن نشاء ننزل)
وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل: " إن يشأ ينزل " بالياء فيهما، (عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم
لها خاضعين) جعل الفعل أولا للأعناق، ثم جعل " خاضعين " للرجال، لأن الأعناق إذا خضعت
فأربابها خاضعون. وقيل: لما وصف الأعناق بالخضوع، وهو من صفات بني آدم، أخرج الفعل
مخرج الآدميين كما بينا في قوله [تعالى]: (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)، وهذا
اختيار أبي عبيدة. وقال الزجاج: قوله: " فظلت " معناه: فتظل، لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي
في معنى المستقبل، كقولك: إن تأتني أكرمتك، معناه: أكرمك، وإنما قال: " خاضعين " لأن
خضوع الأعناق هو خضوع أصحابها، وذلك أن الخضوع لما لم يكن إلا بخضوع الأعناق، جاز أن
يخبر عن المضاف إليه، كما قال الشاعر:
رأت مر السنين أخذن مني * كما أخذ السرار من الهلال
فلما كانت السنون لا تكون إلا بمر، أخبر عن السنين، وإن كان أضاف إليها المرور. قال:
وجاء في التفسير أنه يعني بالأعناق كبراءهم ورؤساءهم. وجاء في اللغة أن أعناقهم جماعاتهم، يقال:
جاءني عنق من الناس، أي: جماعة. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله: (أولم يروا إلى
الأرض) يعني المكذبين بالبعث (كم أنبتنا فيها) بعد أن لم يكن فيها نبات (من كل زوج
كريم) قال ابن قتيبة: من كل جنس حسن. وقال الزجاج: الزوج: النوع، والكريم: المحمود.
قوله تعالى: (إن في ذلك) الإنبات (لآية) تدل على وحدانية الله وقدرته (وما كان
أكثرهم مؤمنين) أي: ما كان أكثرهم يؤمن في علم الله، (وإن ربك لهو العزيز) المنتقم من
31

أعدائه (الرحيم) بأوليائه.
وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين (10) قوم فرعون ألا يتقون (11) قال رب
إني أخاف أن يكذبون (12) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون (13) ولهم
علي ذنب فأخاف أن يقتلون (14) قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون (15) فأتيا
فقولا إنا رسول رب العالمين (16) أن أرسل معنا بني إسرائيل (17) قال ألم نربك فينا وليدا
ولبثت فينا من عمرك سنين (18) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين (19) قال
فعلتها إذا وأنا من الضالين (20) ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني
من المرسلين (21) وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل (22)
قوله تعالى: (و إذ نادى) المعنى: واتل هذه القصة على قومك.
قوله تعالى: (أن يكذبون) ياء " يكذبون " محذوفة، ومثلها (أن يقتلون)
" سيهدين " " فهو يهدين " " ويسقين " " فهو يشفين " " ثم يحيين " " كذبون "
" وأطيعون " فهذه ثماني آيات أثبتهن في الحالين يعقوب.
قوله تعالى: (ويضيق صدري) أي بتكذيبهم إياي (ولا ينطلق لساني) للعقدة التي كانت
بلسانه. وقرأ يعقوب: " ويضيق " " ولا ينطلق " بنصب القاف فيهما، (فأرسل إلى هارون)
المعنى: ليعينني، فحذف، لأن في الكلام دليلا عليه. (ولهم علي ذنب) وهو القتيل الذي وكزه
فقضى عليه، فلهم علي دعوى ذنب (فأخاف أن يقتلون) به (قال كلا) وهو ردع وزجر عن
الإقامة على هذا الظن، والمعنى: لن يقتلوك لأني لا أسلطهم عليك، (فاذهبا) يعني: أنت
وأخوك (بآياتنا) وهي: ما أعطاهما من المعجزة (إنا) يعني نفسه عز وجل (معكم) فأجراهما
مجرى الجماعة (مستمعون) نسمع ما تقولان وما يجيبونكما به.
32

قوله تعالى: (إنا رسول رب العالمين) قال ابن قتيبة: الرسول يكون بمعنى الجميع،
كقوله: (هؤلاء ضيفي) وقوله: (ثم نخرجكم طفلا). وقال الزجاج: المعنى: إنا رسالة
رب العالمين، أي: ذوو رسالة رب العالمين، قال الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم
بسر ولا أرسلتهم برسول
قوله تعالى: (أن أرسل) المعنى: بأن أرسل (معنا بني إسرائيل) أي: أطلقهم من الاستعباد،
فأتياه فبلغاه الرسالة، ف‍ (قال ألم نر بك فينا وليدا) أي: صبيا صغيرا (ولبثت فينا من عمرك سنين) وفيها
ثلاثة أقوال:
أحدها: ثماني عشرة سنة، قاله ابن عباس.
والثاني: أربعون سنة، قاله ابن السائب.
والثالث: ثلاثون سنة، قاله مقاتل، والمعنى: فجازيتنا على أن ربيناك أن كفرت نعمتنا، وقتلت منا
نفسا، وهو قوله: (وفعلت فعلتك) وهي قتل النفس. قال الفراء: وإنما نصبت الفاء، لأنها مرة واحدة،
ولو أريد بها مثل الجلسة والمشية جاز كسرها.
وفي قوله: (وأنت من الكافرين) قولان:
أحدهما: من الكافرين لنعمتي، قاله ابن عباس، و سعيد بن جبير، و عطاء، و الضحاك و ابن
زيد.
والثاني: من الكافرين بإلهك، كنت معنا على ديننا الذي تعيب، قاله الحسن، والسدي.
فعلى الأول، وأنت من الكافرين الآن. وعلى الثاني: وكنت. و في قوله: (و أنا من الضالين) ثلاثة
أقوال:
أحدها: من الجاهلين، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة. وقال بعض
المفسرين: المعنى: إني كنت جاهلا لم يأتني من الله شئ.
والثاني: من الخاطئين، والمعنى: إني قتلت النفس خطأ، قاله ابن زيد.
والثالث: من الناسين، ومثله: (أن تضل إحداهما)، قاله أبو عبيدة.
33

قوله تعالى: (ففررت منكم) أي: ذهبت من بينكم (لما خفتكم) على نفسي إلى مدين،
وقرأ عاصم الجحدري، والضحاك، وابن يعمر: (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم، (فوهب لي
ربي حكما) وفيه قولان:
أحدهما: النبوة، قاله ابن السائب.
والثاني: العلم والفهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (و تلك نعمة تمنها علي) يعني التربية (أن عبدت بني إسرائيل) أي:
اتخذتهم عبيدا، يقال: عبدت فلانا وأعبدته واستعبدته: إذا اتخذته عبدا. و في " أن " وجهان:
أحدهما: أن تكون في موضع رفع على البدل من " نعمة ".
والثاني: أن تكون في موضع نصب بنزع الخافض، تقديره: لأن عبدت، أو لتعبيدك.
واختلف العلماء في تفسير الآية، ففسرها قوم على الإنكار، وقوم على الإقرار، فمن فسرها
على الإنكار قال معنى الكلام: أو تلك نعمة؟! على طريق الاستفهام، ومثله (هذا ربي)،
وقوله: (فهم الخالدون)، وأنشدوا:
لم أنس يوم الرحيل وقفتها * وجفنها من دموعها شرق
وقولها والركاب سائرة * تتركنا هكذا وتنطلق
وهذا قول جماعة منهم. ثم لهم في معنى الكلام ووجهه أربعة أقوال:
أحدها: أن فرعون أخذ أموال بني إسرائيل واستعبدهم وأنفق على موسى منها، فأبطل موسى
النعمة لأنها أموال بني إسرائيل، قاله الحسن.
و الثاني: أن المعنى: إنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكفلني أهلي، وكانت أمي
تستغني عن قذفي في اليم، فكأنك تمن علي بما كان بلاؤك سببا له، وهذا قول المبرد، والزجاج،
والأزهري.
والثالث: أن المعنى: تمن علي بإحسانك إلي خاصة، وتنسى إساءتك بتعبيدك بني
إسرائيل؟! قاله مقاتل.
والرابع: أن المعنى: كيف تمن علي بالتربية وقد استعبدت قومي؟! ومن أهين قومه فقد ذل،
فقد حبط إحسانك إلي بتعبيدك قومي، حكاه الثعلبي.
فأما من فسرها على الإقرار، فإنه قال: عدها موسى نعمة حيث رباه ولم يقتله ولا استعبده.
34

فالمعنى: هي لعمري نعمة إذ ربيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إسرائيل، " فإن " تدل على
المحذوف، ومثله في الكلام - أن تضرب بعض عبيدك وتترك الآخر، فيقول المتروك -: هذه نعمة
علي أن ضربت فلانا وتركتني، ثم تحذف " وتركتني " لأن المعنى معروف، هذا قول الفراء.
قال فرعون وما رب العالمين (23) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم
موقنين (24) قال لمن حوله ألا تستمعون (25) قال ربكم ورب آبائكم الأولين (26) قال إن
رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن
كنتم تعقلون (28)
قوله تعالى: (قال فرعون وما رب العالمين) سأله عن ماهية من لا ماهية له، فأجابه بما
يدل عليه من مصنوعاته. و في قوله [تعالى]: (إن كنتم موقنين) قولان:
أحدهما: أنه خلق السماوات والأرض.
والثاني: إن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه، فكذلك، فأيقنوا أنه رب السماوات
35

والأرض. قوله تعالى: (قال) يعني: فرعون (لمن حوله) من أشراف قومه (ألا تستمعون)
معجبا لهم. فإن قيل: فأين جوابهم؟
فالجواب: أنه أراد: ألا تستمعون قول موسى؟ فرد موسى، لأنه المراد بالجواب، ثم زاد في
البيان بقوله [تعالى]: (ربكم ورب آبائكم الأولين)، فأعرض فرعون عن جوابه ونسبه إلى
الجنون، فلم يحفل موسى بقول فرعون، واشتغل بتأكيد الحجة (فقال رب المشرق والمغرب وما
بينهما إن كنتم تعقلون) أي: إن كنتم ذوي عقول، لم يخف عليكم ما أقول.
قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين (29) قال أو لو جئتك بشئ
مبين (30) قال فأت به إن كنت من الصادقين (31) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان
مبين (32) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (33) قال للملأ حوله إن هذا لساحر
عليم (34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35) قالوا أرجه وأخاه
وابعث في المدائن حاشرين (36) يأتوك بكل سحار عليم (37) فجمع السحرة لميقات
يوم معلوم (38) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون (39) لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم
الغالبين (40) فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (41) قال
نعم وإنكم إذا لمن المقربين (42) قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (43) فألقوا حبالهم
وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44) فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف
ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46) قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى
وهارون (48)
قوله تعالى: (أو لو جئتك بشئ مبين) أي: بأمر ظاهر يعرف به صدقي أتسجنني؟! وما بعد
هذا مفسر في الأعراف إلى قوله: (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم) وهو يوم الزينة، وكان
36

عيدا لهم، (وقيل للناس) يعني أهل مصر. وذهب ابن زيد إلى أن اجتماعهم كان بالإسكندرية.
قوله تعالى: (لعلنا نتبع السحرة) قال الأكثرون: أرادوا سحرة فرعون، فالمعنى: لعلنا
نتبعهم على أمرهم. وقال بعضهم: أرادوا موسى وهارون، وإنما قالوا ذلك استهزاء. قال ابن جرير:
و " لعل " هاهنا بمعنى " كي ". وقوله تعالى: (بعزة فرعون) أي: بعظمته.
قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون
لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين (49) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا
منقلبون (50) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين (51)
قوله تعالى: (فلسوف تعلمون) قال الزجاج: اللام دخل للتوكيد.
قوله تعالى: (لا ضير) أي: لا ضرر. قال ابن قتيبة: هو من ضاره يضوره ويضيره،
بمعنى: ضره. والمعنى: لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا، لأنا ننقلب إلى ربنا في الآخرة مؤملين
غفرانه.
قوله تعالى: (أن كنا أول المؤمنين) بآيات موسى في هذه الحال.
وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون (52) فأرسل فرعون في المدائن
حاشرين (53) إن هؤلاء لشرذمة قليلون (54) وإنهم لنا لغائظون (55) وإنا لجميع حاذرون
فأخرجناهم من جنات وعيون (57) وكنوز ومقام كريم (58) كذلك وأورثناها بني
إسرائيل (59)
قوله تعالى: (إنكم متبعون) أي: يتبعكم فرعون وقومه.
قوله تعالى: (إن هؤلاء) المعنى: وقال فرعون إن هؤلاء، يعني بني إسرائيل (لشرذمة)
قال ابن قتيبة: أي: طائفة. قال الزجاج: والشرذمة في كلام العرب: القليل. قال المفسرون: وكانوا
ستمائة ألف، وإنما استقلهم بالإضافة إلى جنده، وكان جنده لا يحصى.
37

قوله تعالى: (وإنهم لنا لغائظون) تقول: غاظني الشئ، إذا أغضبك قال ابن جرير:
وذكر أن غيظهم كان لقتل الملائكة من قتلت من أبكارهم. قال: ويحتمل أن غيظهم لذهابهم
بالعواري التي استعاروها من حليهم، ويحتمل أن يكون لفراقهم إياهم وخروجهم من أرضهم على
كره منهم.
قوله تعالى: (وإنا لجميع حذرون) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " حذرون " بغير
ألف. و قرأ الباقون: " حاذرون " بألف. وهل بينهما فرق؟ فيه قولان:
أحدهما: الحاذر، المستعد، والحذر: المتيقظ. وجاء في التفسير أن معنى حاذرين: مؤدون،
أي: ذوو أداة، وهي السلاح، لأنها أداة الحرب.
والثاني: أنهما لغتان معناهما واحد، قال أبو عبيدة: يقال: رجل حذر وحذر وحاذر. والمقام
الكريم: المنزل الحسن. و في قوله: (كذلك) قولان:
أحدهما: كذلك أفعل بمن عصاني، قاله ابن السائب.
والثاني: الأمر كذلك، أي: كما وصفنا، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (و أورثناها بني إسرائيل) وذلك أن الله تعالى ردهم إلى مصر بعد غرق فرعون،
وأعطاهم ما كان لفرعون وقومه من المساكن والأموال. وقال ابن جرير الطبري: إنما جعل ديار آل
فرعون ملكا لبني إسرائيل ولم يرددهم إليها لكنه جعل مساكنهم الشام.
فأتبعوهم مشرقين (60) فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون (61) قال كلا إن
معي ربي سيهدين (62) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق
كالطود العظيم (63) وأزلفنا ثم الآخرين (64) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين (65) ثم
أغرقنا الآخرين (66) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (67) وإن ربك لهو العزيز
الرحيم (68)
قوله تعالى: (فأتبعوهم) قال ابن قتيبة: لحقوهم (مشرقين) أي: حين شرقت الشمس،
38

أي: طلعت، يقال: أشرقنا: دخلنا في الشروق، كما يقال: أمسينا وأصبحنا. وقرأ الحسن، وأيوب
السختياني: " فأتبعوهم " بالتشديد.
قوله تعالى: (فلما تراءى الجمعان) و قرأ أبو رجاء، والنخعي، والأعمش: " تراأى " بكسر
الراء وفتح الهمزة، أي: تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه.
قوله تعالى: (كلا) أي: لن يدركونا (إن معي ربي سيهدين) أي: سيدلني على طريق
النجاة.
قوله تعالى: (فانفلق) فيه إضمار " فضرب فانفلق "، أي: انشق الماء اثني عشر طريقا
(فكان كل فرق) أي: كل جزء انفرق منه. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري:
" كل فلق " باللام، (كالطود) وهو الجبل.
قوله تعالى: (وأزلفنا ثم الآخرين) أي: قربنا الآخرين من الغرق، وهم أصحاب فرعون.
وقال أبو عبيدة: " أزلفنا " أي: جمعنا. قال الزجاج: وكلا القولين حسن، لأن جمعهم تقريب
بعضهم من بعض، وأصل الزلفى في كلام العرب: القربى. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبو
رجاء، والضحاك، وابن يعمر: " أزلقنا " بقاف، وكذلك قرأوا: " أزلقت الجنة " بقاف أيضا.
قوله تعالى: (إن في ذلك لآية) يعني: في إهلاك فرعون وقومه عبرة لمن بعدهم (وما كان
أكثرهم) أي: لم يكن أكثر أهل مصر مؤمنين، إنما آمنت آسية، وخربيل مؤمن آل فرعون، وفنة
الماشطة، ومريم - امرأة دلت موسى على عظام يوسف -، هذا قول مقاتل. وما أخللنا به من تفسير
كلمات في قصة موسى، فقد سبق بيانها، وكذلك ما تفقد ذكره في مكان، فهو إما أن يكون قد
سبق، وإما أن يكون ظاهرا، فتنبه لهذا.
واتل عليهم نبأ إبراهيم (69) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون (70) قالوا نعبد أصناما
فنظل لها عاكفين (71) قال هل يسمعونكم إذ تدعون (72) أو ينفعونكم أو يضرون (73)
قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون (74) قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون (75) أنتم وآباؤكم
الأقدمون (76) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين (77) الذي خلقني فهو يهدين (78)
و الذي
39

هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذي يميتني ثم يحيين (81) والذي
أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين (82)
قوله تعالى: (هل يسمعونكم) والمعنى: هل يسمعون دعاءكم. وقرأ سعيد بن جبير، وابن
يعمر، وعاصم الجحدري: " هل يسمعونكم " بضم الياء وكسر الميم، (إذ تدعون) قال الزجاج:
إن شئت بينت الذال، وإن شئت أدغمتها في التاء وهو أجود في العربية، لقرب الذال من التاء.
قوله تعالى: (أو ينفعونكم) أي: إن عبدتموهم (أو يضرون) إن لم تعبدوهم؟ فأخبروا
عن تقليد آبائهم. قوله تعالى: (فإنهم عدو لي) فيه وجهان:
أحدهما: أن لفظه لفظ الواحد والمراد به الجميع، فالمعنى: فإنهم أعداء لي.
والثاني: فإن كل معبود لكم عدو لي. فإن قيل: ما وجه وصف الجماد بالعدواة؟
فالجواب: من وجهين.
أحدهما: أن معناه: فإنهم عدو لي يوم القيامة إن عبدتهم.
والثاني: أنه من المقلوب، والمعنى: فإني عدو لهم، لأن من عاديته عاداك، قاله ابن قتيبة.
وفي قوله: تعالى: (إلا رب العالمين) قولان:
أحدهما: أنه استثناء من الجنس، لأنه علم أنهم كانوا يعبدون الله مع آلهتهم، قاله ابن زيد.
و الثاني: أنه من غير الجنس، فالمعنى: و لكن رب العالمين، قاله أكثر النحويين.
قوله تعالى: (الذي خلقني فهو يهدين) أي: إلى الرشد، لا ما تعبدون، (والذي هو
يطعمني ويسقين) أي: هو رازقي الطعام والشراب.
فإن قيل: لم قال: " مرضت "، ولم يقل: " أمرضني "؟
فالجواب: أنه أراد الثناء على ربه فأضاف إليه الخير المحض، لأنه لو قال: " أمرضني " لعد
قومه ذلك عيبا، فاستعمل حسن الأدب، ونظير قصة الخضر حين قال في العيب: " فأردت "،
وفي الخير المحض: " فأراد ربك " فإن قيل: فهذا يرده قوله: (و الذي يميتني).
فالجواب: أن القوم كانوا لا ينكرون الموت، وإنما يجعلون له سببا سوى تقدير الله عز وجل،
فأضافه إبراهيم إلى الله تعالى، وقوله [تعالى]: (ثم يحيين) يعني البعث، [وهو] أمر لا يقرون
40

به، وإنما قاله استدلالا عليهم، والمعنى: أن ما وافقتموني عليه موجب لصحة قولي فيما خالفتموني
فيه.
قوله تعالى: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي) يعني: ما يجري على مثلي من الزلل،
والمفسرون يقولون: إنما عنى الكلمات الثلاث التي ذكرناها في الأنبياء، (يوم الدين) يعني:
يوم الحشر والحساب، وهذا احتجاج على قومه أنه لا تصلح الإلهية إلا لمن فعل هذه الأفعال.
رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين (83) واجعل لي لسان صدق في الآخرين (84) واجعلني
من ورثة جنة النعيم (85) واغفر لأبي إنه كان من الضالين (86) ولا تخزني يوم
يبعثون (87) يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89)
قوله تعالى: (هب لي حكما) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: النبوة، قاله أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: اللب، قاله عكرمة.
والثالث: الفهم والعلم، قاله مقاتل، وقد بينا قوله: (وألحقني بالصالحين) في سورة
يوسف، وبينا معنى (لسان صدق) في مريم والمراد بالآخرين: الذين يأتون بعده إلى يوم
القيامة.
قوله تعالى: (واغفر لأبي) قال الحسن: بلغني أن أمه كانت مسلمة على دينه، فلذلك لم
يذكرها.
فإن قيل: فقد قال: (اغفر لي ولوالدي).
قيل: أكثر الذكر إنما جرى لأبيه، فيجوز أن يسأل الغفران لأمه وهي مؤمنة، فأما أبوه فلا شك
في كفره. وقد بينا سبب استغفاره لأبيه في براءة، وذكرنا معنى الخزي في آل عمران.
قوله تعالى: (يوم يبعثون) يعني: الخلائق.
41

قوله تعالى: (إلا من أتى الله بقلب سليم) فيه ستة أقوال:
أحدها: سليم من الشرك، قاله الحسن، وابن زيد.
والثاني: سليم من الشك، قاله مجاهد.
والثالث: سليم، أي: صحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قاله
سعيد بن المسيب.
والرابع: أن السليم في اللغة: اللديغ، فالمعنى: كاللديغ من خوف الله عز وجل، قاله
الجنيد.
والخامس: سليم من آفات المال والبنين، قاله الحسين بن الفضل.
والسادس: سليم من البدعة، مطمئن على السنة، حكاه الثعلبي.
وأزلفت الجنة للمتقين (90) وبرزت الجحيم للغاوين (91) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون
من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون (93) فكبكبوا فيها هم والغاوون (94) وجنود إبليس
أجمعون (95) قالوا وهم فيها يختصمون (96) تالله إن كنا لفي ضلال مبين (97) إذ نسويكم
برب العالمين (98) وما أضلنا إلا المجرمون (99) فما لنا من شافعين (100) ولا صديق
حميم (101) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين (102) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم
مؤمنين (103) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (104)
قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين) أي: قربت إليهم حتى نظروا إليها، (وبرزت
الجحيم) أي: أظهرت (للغاوين) وهم الضالون، (وقيل لهم) على وجه التوبيخ (أين ما
كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم) أي: يمنعونكم من العذاب، أو يمتنعون منه.
قوله تعالى: (فكبكبوا) قال السدي: هم المشركون. قال ابن قتيبة: ألقوا على رؤوسهم،
وأصل الحرف " كببوا " من قولك: كببت الإناء، فأبدل من الباء الوسطى كافا، استثقالا لاجتماع
ثلاث باءات، كما قالوا: " كمكموا " من " الكمة "، والأصل: " كمموا ". وقال الزجاج: معناه:
طرح بعضهم على بعض، وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب، كأنه إذا ألقي ينكب مرة بعد مرة
حتى يستقر فيها. و في الغاوين ثلاثة أقوال:
42

أحدها: المشركون، قاله ابن عباس.
والثاني: الشياطين، قاله قتادة، ومقاتل.
والثالث: الآلهة، قاله السدي. (و جنود إبليس) أتباعه من الجن والإنس. (قالوا وهم فيها
يختصمون) يعني: هم وآلهتهم، (تالله إن كنا) قال الفراء: لقد كنا. وقال الزجاج: ما كنا إلا في
ضلال.
قوله تعالى: (إذ نسويكم) أي: نعدلكم بالله في العبادة، (وما أضلنا إلا المجرمون)
فيهم قولان:
أحدهما: الشياطين.
والثاني: أولوهم الذين اقتدوا بهم، قال عكرمة: إبليس وابن آدم القاتل.
قوله تعالى: (فما لنا من شافعين) هذا قولهم إذا شفع الأنبياء والمؤمنون. وروى
جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال: " إن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي فلان؟
وصديقه في الجحيم، فيقول الله عز وجل: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي: فما لنا
من شافعين ولا صديق حميم "؟. والحميم: القريب الذي توده ويودك والمعنى: ما لنا من ذي قرابة
يهمه أمرنا، (فلو أن لنا كرة) أي: رجعة إلى الدنيا (فنكون من المؤمنين) لتحل لنا الشفاعة كما حلت
للموحدين.
كذبت قوم نوح المرسلين (105) إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون (106) إني لكم رسول
أمين (107) فاتقوا الله وأطيعون (108) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب
العالمين (109) فاتقوا الله وأطيعون (110)
قوله تعالى: (كذبت قوم نوح) قال الزجاج: القوم مذكرون، فالمعنى: كذبت جماعة قوم
نوح.
قوله تعالى: (إذ قال لهم أخوهم نوح) كانت الأخوة من جهة النسب، لا من جهة الدين،
(ألا تتقون) عذاب الله بتوحيده وطاعته، (إني لكم رسول أمين) على الرسالة فيما بيني وبين
ربكم. (وما أسألكم عليه) أي: على الدعاء إلى التوحيد.
43

قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون (111) قال وما علمني بما كانوا يعملون (112) إن
حسابهم إلا على ربي لو تشعرون (113) وما أنا بطارد المؤمنين (114) إن أنا إلا نذير مبين (115)
قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين (116)
قوله تعالى: (واتبعك الأرذلون) وقرأ يعقوب: " وأتباعك الأرذلون "، وفيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: الحاكة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: الحاكة والأساكفة، قاله عكرمة.
والثالث: المساكين الذين ليس لهم مال ولا عز، قاله عطاء. وهذا جهل منهم، لأن الصناعة
لا تضر في باب الديانات.
قوله تعالى: (وما علمي بما كانوا يعملون) أي: لم أعلم أعمالهم وصنائعهم، ولم أكلف
ذلك، إنما كلفت أن أدعوهم، (إن حسابهم) فيما يعملون (إلا على ربي لو تشعرون) بذلك ما
عبتموهم في صنائعهم، (وما أنا بطارد المؤمنين) أي: ما أنا بالذي لا أقبل إيمانهم لزعمكم أنهم
الأرذلون.
و في قوله تعالى: (لتكونن من المرجومين) ثلاثة أقوال:
أحدها: من المشتومين، قاله الضحاك.
والثاني: من المضروبين بالحجارة، قاله قتادة.
والثالث: من المقتولين بالرجم، قاله مقاتل.
قال رب إن قومي كذبون (117) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين (118)
فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119) ثم أغرقنا بعد الباقين (120) إن في ذلك لآية
وما كان أكثرهم مؤمنين (121) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (122)
قوله تعالى: (فافتح بيني وبينهم) أي: اقض بيني وبينهم قضاء، يعني: بالعذاب (ونجني
ومن معي) من ذلك العذاب. والفلك قد تقدم بيانه. والمشحون: المملوء، يقال: شحنت الإناء:
إذا ملأته، وكانت سفينة نوح قد ملئت من الناس والطير والحيوان كله، (ثم أغرقنا بعد) نجاة
نوح ومن معه (الباقين).
44

كذبت عاد المرسلين (123) إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون (124) إني لكم رسول
أمين (125) فاتقوا الله وأطيعون (126) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب
العالمين (127) أتبنون بكل ريع آية تعبثون (128) وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (129)
وإذا بطشتم بطشتم جبارين (130) فاتقوا الله وأطيعون (131) واتقوا الذي أمدكم بما
تعلمون (132) أمدكم بأنعام وبنين (133) وجنات وعيون (134) إني أخاف عليكم عذاب يوم
عظيم (135)
قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية) وقرأ عاصم الجحدري، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة:
" بكل ريع " بفتح الراء. قال الفراء: هما لغتان. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه المكان المرتفع، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: بكل شرف. قال
الزجاج: هو في اللغة: الموضع المرتفع من الأرض.
والثاني: أنه الطريق، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
والثالث: الفج بين الجبلين، قاله مجاهد. والآية: العلامة.
وفيما أراد بهذا البناء ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه أراد: تبنون مالا تسكنون، رواه عطاء عن ابن عباس، والمعنى أنه جعل بناءهم ما
يستغنون عنه عبثا.
والثاني: بروج الحمام، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد.
والثالث: أنهم كانوا يبنون في المواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة فيسخروا منهم ويعبثوا
بهم، وهو معنى قول الضحاك.
قوله تعالى: (وتتخذون مصانع) فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: قصور مشيدة، قاله مجاهد.
والثاني: مصانع للماء تحت الأرض، قاله قتادة.
والثالث: بروج الحمام، قاله السدي. و في قوله تعالى: (لعلكم تخلدون) قولان:
أحدهما: كأنكم تخلدون، قاله ابن عباس، وأبو مالك.
والثاني: كيما تخلدوا، قاله الفراء، وابن قتيبة، وقرأ عكرمة، والنخعي، وقتادة، وابن يعمر:
45

" تخلدون " برفع التاء وتسكين الخاء وفتح اللام مخففة. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو حصين:
" تخلدون " بفتح الخاء وتشديد اللام.
قوله تعالى: (و إذا بطشتم بطشتم جبارين) المعنى: إذا ضربتم ضربتم بالسياط ضرب
الجبارين، وإذا عاقبتم قتلتم، وإنما أنكر عليهم ذلك، فإنه صدر عن ظلم، إذ لو ضربوا بالسيف أو
بالسوط في حق ما ليموا.
قالوا سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين (136) إن هذا إلا خلق الأولين (137)
وما نحن بمعذبين (138) فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (139)
وإن ربك لهو العزيز الرحيم (140) كذبت ثمود المرسلين (141) إذ قال لهم أخوهم صالح
ألا تتقون (142) إني لكم رسول أمين (143) فاتقوا الله وأطيعون (144) وما أسئلكم عليه من
أجر إن أجري إلا على رب العالمين (145)
قوله تعالى: (إن هذا إلا خلق الأولين) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي: " خلق "
بفتح الخاء وتسكين اللام، قال ابن قتيبة: أرادوا اختلاقهم وكذبهم، يقال: خلقت الحديث
واختلقته، أي: افتعلته، قال الفراء: والعرب تقول للخرافات: أحاديث الخلق. وقرأ عاصم، و نافع
وابن عامر، وحمزة، " خلق الأولين " بضم الخاء واللام. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وعاصم
الجحدري: " خلق " برفع الخاء وتسكين اللام، والمعنى: عادتهم وشأنهم. قال قتادة: قالوا له:
هكذا الناس يعيشون ثم يموتون، ولا بعث لهم ولا حساب.
قوله تعالى: (وما نحن بمعذبين) أي: على ما نفعله في الدنيا.
أتتركون في ما ههنا آمنين (146) في جنات وعيون (147) وزروع ونخل طلعها هضيم (148)
وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين (149) فاتقوا الله وأطيعون (150) ولا تطيعوا أمر المسرفين (151)
الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (152)
46

قوله تعالى: (أتتركون فيما هاهنا) أي: فيما أعطاكم الله في الدنيا (آمنين) من الموت
والعذاب.
قوله تعالى: (طلعها هضيم) الطلع: الثمر. وفي الهضيم سبعة أقوال:
أحدها: أنه الذي قد أينع وبلغ، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه الذي يتهشم تهشما، قاله مجاهد.
والثالث: أنه الذي ليس له نوى، قاله الحسن.
والرابع: أنه المذنب من الرطب، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: اللين، قاله قتادة، والفراء.
والسادس: أنه الحمل الكثير الذي يركب بعضه بعضا، قاله الضحاك.
والسابع: أنه الطلع قبل أن ينشق عنه القشر وينفتح، يريد أنه منضم مكتنز، ومنه قيل: رجل
أهضم الكشحين، إذا كان منضمهما، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: (و تنحتون من الجبال بيوتا فرهين) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو:
" فرهين ". وقرأ الباقون: " فارهين " بألف. قال ابن قتيبة: " فرهين ": أشرين بطرين، ويقال:
الهاء فيه مبدلة من حاء، أي: فرحين، و " الفرح " قد يكون السرور، وقد يكون الأشر، ومنه قوله
تعالى: (إن الله لا يحب الفرحين) أي: الأشرين، ومن قرأ: " فارهين " فهي لغة أخرى،
يقال: فره وفاره، كما يقال: فرح وفارح، ويقال: " فارهين " أي: حاذقين، قال عكرمة: حاذقين
بنحتها.
قوله تعالى: (ولا تطيعوا أمر المسرفين) قال ابن عباس: يعني: المشركين. وقال مقاتل: هم
التسعة الذين عقروا الناقة.
قالوا إنما أنت من المسحرين (153) ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من
الصادقين (154) قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (155) ولا تمسوها بسوء
فيأخذكم عذاب يوم عظيم (156) فعقروها فأصبحوا نادمين (157) فأخذهم العذاب إن في
ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (158) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (159) كذبت قوم لوط
47

المرسلين (160) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161) إني لكم رسول أمين (162) فاتقوا الله
وأطيعون (163) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (164)
قوله تعالى: (إنما أنت من المسحرين) قال الزجاج: أي: ممن له سحر، والسحر: الرئة،
والمعنى: أنت بشر مثلنا. وجائز أن يكون من المفعلين من السحر، والمعنى: ممن قد سحر مرة بعد
مرة.
قوله تعالى: (لها شرب) أي: حظ من الماء. و قال ابن عباس: لها شرب معروف لا
تحضروه معها، ولكم شرب لا تحضر معكم، فكانت إذا كان يومهم حضروا الماء فاقتسموه، وإذا
كان يومها شربت الماء كله. وقال قتادة: كانت إذا كان يوم شربها، شربت ماءهم أول النهار،
وسقتهم اللبن آخر النهار. وقرأ أبي بن كعب، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة: " لها
شرب " بضم الشين.
قوله تعالى: (فأصبحوا نادمين) قال ابن عباس: ندموا حين رأوا العذاب، على عقرها،
وعذابهم كان بالصيحة.
أتأتون الذكران من العالمين (165) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم
قوم عادون (166) قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين (167) قال إني لعملكم من
القالين (168) رب نجني وأهلي مما يعملون (169) فنجيناه وأهله أجمعين (170) إلا عجوزا في
الغابرين (171) ثم دمرنا الآخرين (172) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (173)
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (174) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (175)
قوله تعالى: (أتأتون الذكران) وهو جمع ذكر (من العالمين) أي: من بني آدم، (وتذرون
ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) قال الزجاج: وقرأ ابن مسعود: " ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم "
يعني به الفروج. وقال مجاهد: تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال.
قوله تعالى: (بل أنتم قوم عادون) أي: ظالمون معتدون. (قالوا لئن لم تنته) أي: لئن لم
تسكت عن نهينا (لتكونن من المخرجين) من بلدنا. (قال إني لعملكم) يعني: إتيان الرجال (من
48

القالين) قال ابن قتيبة: أي: من المبغضين، يقال: قليت الرجل: إذا أبغضته.
قوله تعالى: (رب نجني وأهلي مما يعملون) أي: من عقوبة عملهم، (فنجيناه وأهله) وقد
ذكرناهم في هود، (إلا عجوزا) يعني: امرأته (في الغابرين) أي: الباقين في العذاب. (ثم
دمرنا الآخرين) أهلكناهم بالخسف والحصب، وهو قوله تعالى: (وأمطرنا عليهم مطرا) يعني
الحجارة.
كذب أصحاب الأيكة المرسلين (176) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون (177) إني لكم رسول
أمين (178) فاتقوا الله وأطيعون (179) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب
العالمين (180)
قوله تعالى: (كذب أصحاب الأيكة) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: " أصحاب ليكة "
هاهنا، وفي صاد بغير همز والتاء مفتوحة، وقرأ الباقون: " الأيكة " بالهمزة فيهما والألف. وقد
سبق هذا الحرف. (إذ قال لهم شعيب) إن قيل: لم لم يقل: أخوهم، كما قال في الأعراف؟
فالجواب: أن شعيبا لم يكن من نسل أصحاب الأيكة، فلذلك لم يقل: أخوهم، وإنما أرسل إليهم
بعد أن أرسل إلى مدين، وهو من نسل مدين، فلذلك قال هناك: أخوهم، هذا قول مقاتل بن
سليمان. وقد ذكرنا في سورة هود عن محمد بن كعب القرظي، أن أهل مدين عذبوا بعذاب
الظلة، فإن كانوا غير أصحاب الأيكة كما زعم مقاتل، فقد تساووا في العذاب، وإن كان أصحاب
مدين هم أصحاب الأيكة، وهو مذهب ابن جرير الطبري كان حذف ذكر الأخ تخفيفا، والله أعلم.
وأوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين (182) وزنوا بالقسطاس المستقيم (182)
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (183) واتقوا الذي خلقكم
والجبلة الأولين (184)
قوله تعالى: (و لا تكونوا من المخسرين) أي: من الناقصين للكيل، يقال: أخسرت الكيل
والوزن: إذا نقصته. وقد ذكرنا القسطاس في بني إسرائيل.
49

قوله تعالى: (واتقوا الذي خلقكم والجبلة) أي: وخلق الجبلة. وقيل: المعنى: واذكروا ما
نزل بالجبلة (الأولين). وقرا الحسن، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: " الجبلة "
برفع الجيم والباء جميعا مشددة اللام. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك، وعاصم
الجحدري: بكسر الجيم وتسكين الباء وتخفيف اللام. قال ابن قتيبة: الجبلة: الخلق، يقال: جبل
فلان على كذا، أي: خلق، قال الشاعر:
وكان أعظم حادث * مما يمر على الجبلة
قالوا إنما أنت من المسحرين (185) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين (186)
فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين (187) قال ربي أعلم بما تعملون (188)
فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم (189) إن في ذلك لآية
وما كان أكثرهم مؤمنين (190) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (191)
قوله تعالى: (فأسقط علينا كسفا) قال ابن قتيبة: أي قطعة (من السماء)، و " كسف " جمع
" كسفة، كما يقال: قطع وقطعة.
قوله تعالى: (ربي أعلم بما تعملون) أي: من نقصان الكيل والميزان، والمعنى: إنه
يجازيكم إن شاء، وليس عذابكم بيدي، (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة) قال المفسرون: بعث
الله عليهم حرا شديدا، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هربا إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة
أظلتهم من الشمس، فوجدوا لها بردا، ونادى بعضهم بعضا، حتى إذا اجتمعوا تحتها، أرسل الله عليهم
نارا، فكان ذلك من أعظم العذاب، والظلة: السحابة التي أظلتهم.
وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من
المنذرين (194) بلسان عربي مبين (195) وإنه لفي زبر الأولين (196) أولم يكن لهم آية أن
يعلمه علماء بني إسرائيل (197) ولو نزلناه على بعض الأعجمين (198) فقرأه عليهم ما
50

كانوا به مؤمنين (199)
قوله تعالى: (وإنه) يعني القرآن (لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح) قرأ ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: " نزل به " خفيفا " الروح الأمين " بالرفع. وقرأ ابن عامر، وحمزة،
والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " نزل " مشددة الزاي " الروح الأمين " بالنصب. والمراد بالروح الأمين
جبريل، وهو أمين على وحي الله تعالى إلى أنبيائه، (على قلبك) قال الزجاج: معناه: نزل عليك فوعاه
قلبك، فثبت، فلا تنساه أبدا.
قوله تعالى: (لتكون من المنذرين) أي: ممن أنذر بآيات الله المكذبين، (بلسان عربي
مبين) قال ابن عباس: بلسان قريش ليفهموا ما فيه.
قوله تعالى: (وإنه لفي زبر الأولين) وقرأ الأعمش: " زبر " بتسكين الباء. وفي هاء الكناية
قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن، والمعنى: وإن ذكر القرآن وخبره، هذا قول الأكثرين.
والثاني: أنها تعود إلى رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم]، قاله مقاتل. والزبر: الكتب
قوله تعالى: (أو لم يكن لهم آية) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة،
والكسائي: " أو لم يكن " بالياء " آية " بالنصب. وقرأ ابن عامر، وابن أبي عبلة: " تكن " بالتاء " آية "
بالرفع. وقرأ أبو عمران الجوني، وقتادة: " تكن " بالتاء " آية " بالنصب قال الزجاج: إذا قلت: " يكن "
بالياء، فالاختيار نصب " آية " وتكون " أن " اسم كان، وتكون " آية " خبر كان، المعنى: أو لم يكن
لهم علم علماء بني إسرائيل أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم حق، وأن نبوته حق؟! " آية ": علامة موضحة، لأن
العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل وجدوا ذكر النبي [صلى الله عليه و آله وسلم] مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. ومن
قرأ " أو لم تكن " بالتاء آية جعل " آية " هي الاسم، و " أن يعلمه " خبر " تكن ". ويجوز أيضا " أو لم تكن " بالتاء
" آية " بالنصب، كقوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم) وقرأ الشعبي، والضحاك، وعاصم الجحدري:
" أن تعلمه " بالتاء.
وقال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه و آله وسلم، فقالوا: إن هذا
لزمانه، وإنا لنجد في التوراة صفته، فكان ذلك آية لهم على صدقه.
قوله تعالى: (على بعض الأعجميين) قال الزجاج: هو جمع أعجم، والأنثى عجماء،
51

والأعجم: الذي لا يفصح، وكذلك الأعجمي، فأما العجمي: فالذي من جنس العجم، أفصح أو
لم يفصح.
قوله تعالى: (ما كانوا به مؤمنين) أي: لو قرأه عليهم أعجمي لقالوا: لا نفقه هذا، فلم
يؤمنوا.
كذلك سلكناه في قلوب المجرمين (200) لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم (201)
فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (202) فيقولوا هل نحن منظرون (203) أفبعذابنا يستعجلون (204)
أفرأيت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206) ما أغنى عنهم ما كانوا
يمتعون (207) وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208) ذكرى وما كنا ظالمين (209)
قوله تعالى: (كذلك سلكناه) قد شرحناه في الحجر. والمجرمون هاهنا: المشركون.
قوله تعالى: (لا يؤمنون به) قال الفراء: المعنى: كي لا يؤمنوا. فأما العذاب الأليم، فهو
عند الموت. (فيقولوا) عند نزول العذاب (هل نحن منظرون) أي: مؤخرون لنؤمن ونصدق. قال
مقاتل: فلما أوعدهم رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] بالعذاب، قالوا: فمتى هو؟ تكذيبا به، فقال الله تعالى:
(أفبعذابنا يستعجلون).
قال تعالى: (أفرأيت إن متعناهم سنين) قال عكرمة: عمر الدنيا.
قوله تعالى: (ثم جاءهم ما كانوا يوعدون) أي: من العذاب. (وما أهلكنا من قرية)
بالعذاب في الدنيا (إلا لها منذرون) يعني: رسلا تنذرهم العذاب. (ذكرى) أي: موعظة
وتذكيرا.
وما تنزلت به الشياطين (210) وما ينبغي لهم وما يستطيعون (211) إنهم عن السمع
لمعزولون (212)
قوله تعالى: (وما تنزلت به الشياطين) سبب نزولها أن قريشا قالت: إنما تجيء بالقرآن
الشياطين فتلقيه على لسان محمد، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
52

قوله تعالى: (وما ينبغي لهم) أي: أن ينزلوا بالقرآن (وما يستطيعون) أن يأتوا به من
السماء، لأنهم قد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب. (إنهم عن السمع) أي: عن
الاستماع للوحي من السماء (لمعزولون) فكيف ينزلون به؟! وقال عطاء: عن سماع القرآن
لمحجوبون، لأنهم يرجمون بالنجوم.
فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين (213) وأنذر عشيرتك الأقربين (214)
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (215) فإن عصوك فقل إني برئ مما
تعملون (216) وتوكل على العزيز الرحيم (217) الذي يراك حين تقوم (218) وتقلبك
في الساجدين (219) إنه هو السميع العليم (220)
قوله تعالى: (فلا تدع مع الله إلها آخر) قال ابن عباس: يحذر به غيره، يقول: أنت أكرم
الخلق علي، ولو اتخذت من دوني إلها لعذبتك.
قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قام
رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] حين أنزل الله [تعالى] " وأنذر عشيرتك الأقربين " فقال: " يا معشر قريش: اشتروا
أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس
ابن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا
فاطمة بنت محمد سليني ما شئت ما أغني عنك من الله شيئا " وفي بعض الألفاظ:
" سلوني من مالي ما شئتم " - وفي لفظ: " غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها " ومعنى
قوله تعالى: (و انذر عشيرتك الأقربين): رهطك الأدنين. (فإن عصوك) يعني:
العشيرة (فقل إني بريء مما تعملون) من الكفر. و (و توكل على العزيز) أي: ثق به وفوض أمرك
إليه، فهو عزيز في نقمته، رحيم لم يعجل بالعقوبة. وقرأ نافع، وابن عامر: " فتوكل " بالفاء،
وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام. (الذي يراك حين تقوم) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: حين تقوم إلى الصلاة، قاله ابن عباس، ومقاتل.
53

والثاني: حين تقوم من مقامك، قاله أبو الجوزاء.
والثالث: حين تخلو، قاله الحسن.
قوله تعالى: (وتقلبك) أي: ونرى تقلبك (في الساجدين) وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: وتقلبك في أصلاب الأنبياء حتى أخرجك، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: تقلبك في الركوع والسجود والقيام مع المصلين في الجماعة، والمعنى: يراك وحدك
ويراك في الجماعة، وهذا قول الأكثرين منهم قتادة.
والثالث: وتصرفك في ذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين، قاله الحسن.
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السمع
وأكثرهم كاذبون (223)
قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين) هذا رد عليهم حين قالوا: إنما يأتيه
بالقرآن الشياطين. فأما الأفاك فهو الكذاب، والأثيم: الفاجر، قال قتادة: وهم الكهنة.
قوله تعالى: (يلقون السمع) أي: يلقون ما سمعوه من السماء إلى الكهنة.
وفي قوله تعالى: (وأكثرهم كاذبون) قولان:
أحدهما: أنهم الشياطين.
والثاني: الكهنة.
والشعراء يتبعهم الغاوون (224) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون (225) وأنهم يقولون
ما لا يفعلون (226) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما
ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227)
قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون) وقرأ نافع: " يتبعهم " بسكون التاء والوجهان
حسنان، يقال: تبعت واتبعت، مثل حفرت واحتفرت. وروى العوفي عن ابن عباس، قال: كان
رجلان على عهد رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] قد تهاجيا، فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، فقال الله
" والشعراء يتبعهم الغاوون ". وفي رواية أخرى عن ابن عباس، قال: هم شعراء المشركين قال مقاتل:
منهم عبد الله بن الزبعري، وأبو سفيان بن حرب، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، في آخرين،
قالوا: نحن نقول مثل قول محمد، وقالوا الشعر، فاجتمع إليهم غواة من قومهم يسمعون أشعارهم
54

ويروون عنهم. و في الغاوين ثلاثة أقوال:
أحدها: الشياطين، قاله مجاهد، وقتادة.
والثاني: السفهاء، قاله الضحاك.
والثالث: المشركون، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) هذا مثل بمن يهيم في الأودية، والمعنى أنهم
يأخذون في كل فن من لغو وكذب وغير ذلك، فيمدحون بباطل ويذمون بباطل، ويقولون: فعلنا،
ولم يفعلوا.
قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا) قال ابن عباس: لما نزل ذم الشعراء، جاء كعب بن مالك،
وعبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، فقالوا: يا رسول الله، أنزل الله هذا وهو يعلم أنا شعراء،
فنزلت هذه الآية. و قال المفسرون: وهذا الاستثناء لشعراء المسلمين الذين مدحوا رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم]
وذموا من هجاه، (وذكروا الله كثيرا) أي: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ولم يجعلوا الشعر همهم.
قال ابن زيد: وذكروا الله في شعرهم. وقيل: المراد بالذكر: الشعر في طاعة الله عز وجل.
قوله تعالى: (وانتصروا) أي: من المشركين (من بعد ما ظلموا) لأن المشركين بدؤوا
بالهجاء. ثم أوعد شعراء المشركين، فقال: (وسيعلم الذين ظلموا): أشركوا وهجوا رسول الله
[صلى الله عليه و آله وسلم] والمؤمنين (أي منقلب ينقلبون) قال الزجاج: " أي " منصوبة بقوله: " ينقلبون " لا بقوله:
" سيعلم "، لأن " أيا " وسائر الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها. ومعنى الكلام: إنهم ينقلبون إلى نار
يخلدون فيها.
وقرأ ابن مسعود، ومجاهد عن ابن عباس وأبو المتوكل، وأبو رجاء: " أي متقلب يتقلبون "
بتاءين مفتوحتين وبقافين على كل واحدة منهما نقطتان وتشديد اللام فيهما. وقرأ أبي بن كعب،
وابن عباس، وأبو العالية، وأبو مجلز، وأبو عمران، وعاصم الجحدري: " أي منفلت ينفلتون " بالفاء
فيهما وبنونين ساكنين. وكان شريح يقول: سيعلم الظالمون حظ من نقصوا، إن الظالم ينتظر
العقاب، وإن المظلوم ينتظر النصر.. والله أعلم.
55

سورة النمل مكية
و آياتها ثلاث و تسعون
و هي مكية كلها باجماعهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1) هدى وبشرى للمؤمنين (2) الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (3) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم
أعمالهم فهم يعمهون (4) أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم
الأخسرون (5) وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم (6) إذ قال موسى لأهله
إني آنست نارا سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون (7) فلما
جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين (8)
قوله تعالى: (طس) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي
رواية أخرى عنه، قال: هو اسم الله الأعظم.
والثاني: اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.
والثالث: الطاء من اللطيف، والسين من السميع، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: (وكتاب مبين) وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: " وكتاب مبين "
بالرفع فيهما.
قوله تعالى: (وبشرى) أي: بشرى بما فيه من الثواب للمصدقين.
56

قوله تعالى: (زينا لهم أعمالهم) أي: حببنا إليهم قبيح فعلهم. وقد بينا حقيقة التزيين
والعمه في سورة البقرة. و سوء العذاب: شديده.
قوله تعالى: (هم الأخسرون) لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إلى النار.
قوله تعالى: (وإنك لتلقى القرآن) قال ابن قتيبة: أي: يلقى عليك فتلقاه أنت، أي:
تأخذه. (إذ قال موسى) المعنى: أذكر إذ قال.
قوله تعالى: (بشهاب قبس) قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب إلا زيدا: " بشهاب "
بالتنوين. وقرأ الباقون على الإضافة غير منون. قال الزجاج: من نون الشهاب. جعل القبس من
صفة الشهاب، وكل أبيض ذي نور، فهو شهاب. فأما من أضاف، فقال الفراء: هذا مما يضاف إلى
نفسه إذا اختلفت الأسماء، كقوله تعالى: (ولدار الآخرة). قال ابن قتيبة: الشهاب: النار،
والقبس: النار تقبس، يقال: قبست النار قبسا، واسم ما قبست: قبس..
قوله تعالى: (تصطلون) أي: تستدفئون، وكان الزمان شتاء.
قوله تعالى: (فلما جاءها) أي: جاء موسى النار، وإنما كان نورا فاعتقده نارا، (نودي أن
بورك من في النار) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: قدس من في النار، وهو الله عز وجل، قاله ابن عباس، والحسن،
والمعنى، قدس من نادى من النار، لا أن الله عز وجل يحل في شئ.
والثاني: أن " من " زائدة، فالمعنى: بوركت النار، قاله مجاهد.
والثالث: أن المعنى: بورك على من في النار، أو فيمن في النار، قال الفراء: والعرب تقول:
بارك الله، وبارك عليه، وبارك فيه، بمعنى واحد، والتقدير، بورك في من طلب النار، وهو موسى،
فحذف المضاف. وهذه تحية من الله تعالى لموسى بالبركة، كما حيا إبراهيم بالبركة على ألسنة
الملائكة حين دخلوا عليه، فقالوا: (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت). فخرج في قوله
تعالى: (بورك) قولان:
أحدهما: قدس.
والثاني: من البركة.
وفي قوله تعالى: (ومن حولها) ثلاثة أقوال:
أحدها: الملائكة، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: موسى والملائكة، قاله محمد بن كعب.
57

والثالث: موسى، فالمعنى: بورك فيمن يطلبها وهو قريب منها.
يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم (9) وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى
مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون (10) إلا من ظلم ثم بدل
حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم (11) وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء
في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين (12) فلما جاءتهم آياتنا مبصرة
قالوا هذا سحر مبين (13) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان
عاقبة المفسدين (14)
قوله تعالى: (إنه أنا الله) الهاء عماد في قول أهل اللغة، وعلى قول السدي: هي كناية عن
المنادي، لأن موسى قال: من هذا الذي يناديني؟ فقيل: " إنه أنا الله ".
قوله تعالى: (وألق عصاك) في الآية محذوف، تقديره: فألقاها فصارت حية، (فلما رآها
تهتز كأنها جان) قال الفراء: الجان: الحية التي ليست بالعظيمة ولا بالصغيرة.
قوله تعالى: (ولم يعقب) فيه قولان:
أحدهما: لم يلتفت، قاله قتادة.
والثاني: لم يرجع، قاله ابن قتيبة، والزجاج قال ابن قتيبة: وأهل النظر يرون أنه مأخوذ من
العقب..
قوله تعالى: (إني لا يخاف لدي المرسلون) أي: لا يخافون عندي. وقيل: أراد: في
الموضع الذي يوحي إليهم فيه، فكأنه نبهه على أن من آمنه الله بالنبوة من عذابه لا ينبغي أن يخاف
من حية. و في قوله تعالى: (إلا من ظلم) ثلاثة أقوال:
و في قوله تعالى: (إلا من ظلم) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه استثناء صحيح، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل، والمعنى: إلا من ظلم منهم فإنه
يخاف. قال ابن قتيبة: علم الله تعالى أن موسى مستشعر خيفة من ذنبه في الرجل الذي وكزه،
فقال: " إلا من ظلم ثم بدل حسنا " أي: توبة وندما، فإنه يخاف، وإني غفور رحيم.
والثاني: أنه استثناء منقطع، والمعنى: لكن من ظلم فإنه يخاف، قاله ابن السائب، والزجاج.
وقال الفراء: " من " مستثناة من الذين تركوا في الكلام، كأنه قال: لا يخاف لدي المرسلون، إنما
58

الخوف على غيرهم، إلا من ظلم، فتكون " من " مستثناة. وقال ابن جرير: في الآية محذوف،
تقديره: إلا من ظلم، فمن ظلم ثم بدل حسنا.
والثالث: أن " إلا " بمعنى الواو، فهو كقوله [تعالى]: (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا
الذين ظلموا منهم)، حكاه الفراء عن بعض النحويين، ولم يرضه.
وقرأ أبي بن كعب، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعاصم الجحدري، وابن يعمر: " ألا من
ظلم " بفتح الهمزة وتخفيف اللام. و للمفسرين في المراد بالظلم هاهنا قولان:
أحدهما: المعاصي.
والثاني: الشرك. ومعنى " حسنا " توبة وندما.
وقرأ ابن مسعود، والضحاك، وأبو رجاء، والأعمش، وابن السميفع، وعبد الوارث عن أبي
عمرو: " حسنا " بفتح الحاء والسين (بعد سوء) أي: بعد إساءة وقيل: الإشارة بهذا إلى أن موسى
وإن كان قد ظلم نفسه بقتل القبطي، فإن الله يغفر له، لأنه ندم على ذلك وتاب.
قوله تعالى: (وأدخل يدك في جيبك) الجيب حيث جيب من القميص، أي: قطع. قال ابن
جرير: إنما أمر بادخاله يده في جيبه، لأنه كان عليه حينئذ مدرعة من صوف ليس لها كم. والسوء:
البرص.
قوله تعالى: (في تسع آيات) قال الزجاج: " في " من صلة قوله: " وألق عصاك " " وأدخل
يدك "، فالتأويل: أظهر هاتين الآيتين في تسع آيات. و " في " بمعنى " من "، فتأويله: من تسع آيات،
تقول: خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان، أي: منها فحلان. وقد شرحنا الآيات في بني إسرائيل
قوله تعالى: (إلى فرعون) أي: مرسلا إلى فرعون وقومه، فحذف ذلك لأنه معروف. (فلما
جاءتهم آياتنا مبصرة) أي: بينة واضحة، وهو كقوله [تعالى]: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة) وقد
شرحناه.
قوله تعالى: (قالوا هذا) أي: هذا الذي نراه عيانا (سحر مبين). (وجحدوا بها) أي:
أنكروها (واستيقنتها أنفسهم) أنها من عند الله، (ظلما) أي: شركا
وعلوا) أي: تكبرا. و قال الزجاج: المعنى: وجحدوا بها ظلما وعلوا، أي: ترفعا عن أن يؤمنوا بما
جاء به موسى وهم يعلمون أنها من عند الله.
ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده
59

المؤمنين (15) وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل
شئ إن هذا لهو الفضل المبين (16) وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير
فهم يوزعون (17) حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم
لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني
أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك
الصالحين (19)
قوله تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علما) قال المفسرون: علما بالقضاء وبكلام الطير
والدواب وتسبيح الجبال (وقالا الحمد لله الذي فضلنا) بالنبوة والكتاب وإلانة الحديد وتسخير
الشياطين والجن والإنس (على كثير من عباده المؤمنين) قال مقاتل: كان داود أشد تعبدا من
سليمان، وكان سليمان أعظم ملكا منه وأفطن.
قوله تعالى: (وورث سليمان داود) أي: ورث نبوته وعلمه وملكه، وكان لداود تسعة عشر
ذكرا، فخص سليمان بذلك، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيها سواء.
قوله تعالى: (وقال) يعني سليمان لبني إسرائيل (يا أيها الناس علمنا منطق الطير) قرأ أبي بن
كعب: " علمنا " بفتح العين واللام. قال الفراء: " منطق الطير ": كلام الطير كالمنطق إذا، قال
الشاعر:
عجبت لها أني يكون غناؤها * فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما
ومعنى الآية: فهمنا ما تقول الطير. قال قتادة: والنمل من الطير. (وأوتينا من كل شئ)
قال الزجاج: أي: من كل شئ يجوز أن يؤتاه الأنبياء والناس. وقال مقاتل: أعطينا الملك والنبوة
والكتاب والرياح ومنطق الطير، وسخرت لنا الجن والشياطين.
وروى جعفر بن محمد عن أبيه، قال: أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك
سبعمائة سنة وستة أشهر، وملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والشياطين والدواب والطير
والسباع، وأعطي علم كل شئ ومنطق كل شئ، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة، فذلك
قوله: (علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ).
قوله تعالى: (إن هذا) يعني: الذي أعطينا (لهو الفضل المبين) أي: الزيادة الظاهرة على
60

ما أعطي غيرنا. (وحشر لسليمان جنوده) أي: جمع له كل صنف من جنده على حدة، وهذا كان
في مسير له، (فهم يوزعون) قال مجاهد: يحبس أولهم على آخرهم. قال ابن قتيبة: وأصل
الوزع: الكف والمنع. يقال: وزعت الرجل، أي: كففته، ووازع الجيش: الذي يكفهم عن
التفرق، ويرد من شذ منهم.
قوله تعالى: (حتى إذا أتوا على) أي: أشرفوا (على وادي النمل) وفي موضعه قولان:
أحدهما: أنه بالطائف، قاله كعب.
والثاني: بالشام، قاله قتادة.
قوله تعالى: (قالت نملة) وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرف:
" نملة " بضم الميم، أي: صاحت بصوت، فلما كان ذلك الصوت مفهوما عبر عنه بالقول، ولما نطق
النمل كما ينطق بنو آدم، أجري مجرى الآدميين، فقيل: (ادخلوا)، وألهم الله تلك النملة معرفة
سليمان معجزا له، وقد ألهم الله النمل كثيرا من مصالحها تزيد به على الحيوانات، فمن ذلك أنها
تكسر كل حبة تدخرها قطعتين لئلا تنبت، إلا الكزبرة فإنها تكسرها أربع قطع، لأنها تنبت إذا كسرت
قطعتين، فسبحان من ألهمها هذا! و في صفة تلك النملة قولان:
أحدهما: أنها كانت كهيئة النعجة، قال نوف الشامي: كان النمل في زمن سليمان بن داود
كأمثال الذئاب.
والثاني: كانت نملة صغيرة.
(ادخلوا مساكنكم) وقرأ أبي بن كعب، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري: " مسكنكم "
على التوحيد.
قوله تعالى: (لا يحطمنكم). وقرأ أبي بن كعب، وأبو رجاء: " ليحطمنكم " بغير ألف بعد
اللام. وقرأ ابن مسعود: " لا يحطمكم " بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم
وحذف النون. وقرأ عمرو بن العاص، وأبان: " يحطمنكم " بفتح الياء وسكون الحاء والنون ساكنة أيضا
والطاء خفيفة. وقرأ أبو المتوكل، وأبو مجلز: " لا يحطمنكم " بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء
والنون جميعا. وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: " يحطمنكم " برفع الياء وسكون
الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون. والحطم: الكسر، والحطام: ما تحطم. قال مقاتل: سمع
سليمان كلامها من ثلاثة أميال. و في قوله: (وهم لا يشعرون) قولان:
أحدهما: وأصحاب سليمان لم يشعروا بكلام النملة، قاله ابن عباس.
والثاني: وأصحاب سليمان لا يشعرون بمكانكم، لأنها علمت أنه ملك لا بغي فيه، وأنهم
لو علموا بالنمل ما توطؤوهم، قاله مقاتل.
61

قوله تعالى: (فتبسم ضاحكا) قال الزجاج: " ضاحكا " منصوب، حال مؤكدة، لأن " تبسم "
بمعنى " ضحك ". قال المفسرون: تبسم تعجبا مما قالت، وقيل: من ثنائها عليه. وقال بعض
العلماء: هذه الآية من عجائب القرآن، لأنها بلفظة " يا " نادت " أيها " نبهت " النمل " عينت " ادخلوا "
أمرت " سليمان " خصت " وجنوده " عمت " وهم لا يشعرون " عذرت.
قوله تعالى: (وقال رب أوزعني) قال ابن قتيبة: ألهمني، أصل الإيزاع: الإغراء بالشيء،
يقال: أوزعته بكذا، أي: أغريته به، وهو موزع بكذا، ومولع بكذا. وقال الزجاج. تأويله في
اللغة: كفني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك، والمعنى: كفني عما يباعد منك، (وأن أعمل)
أي: وألهمني أن أعمل (صالحا ترضاه) قال المفسرون: إنما شكر الله تعالى لأن الريح أبلغت إليه
صوتها ففهم ذلك.
وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين (20) لأعذبنه عذابا
شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين (21) فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم
تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين (22) إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ
ولها عرش عظيم (23) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان
أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (24) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في
السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون (25) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم (26)
قوله تعالى: (وتفقد الطير) التفقد: طلب ما غاب عنك، والمعنى أنه طلب ما فقد من
الطير، و الطير اسم جامع للجنس، وكانت الطير تصحب سليمان في سفره تظله بأجنحتها (فقال
ما لي لا أرى الهدهد) قرأ ابن كثير، وعاصم، والكسائي: " مالي لا أرى الهدهد " بفتح الياء. وقرأ
نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة بالسكون، والمعنى: ما للهدهد لا أراه؟! تقول العرب: مالي
أراك كئيبا، أي: مالك؟ فهذا من المقلوب الذي معناه معلوم. قال المفسرون: لما فصل سليمان
عن وادي النمل، وقع في قفر من الأرض، فعطش الجيش فسألوه الماء، وكان الهدهد يدله على
الماء، فإذا قال له: هاهنا الماء، شققت الشياطين الصخرة وفجرت العيون قبل ان يضربوا أبنيتهم،
وكان الهدهد يرى الماء في الأرض كما يرى الماء في الزجاجة، فطلبه يومئذ فلم يجده. وقال
بعضهم: إنما طلبه لأن الطير كانت تظلهم من الشمس، فأخل الهدهد بمكانه، فطلعت الشمس
62

عليهم من الخلل.
قوله تعالى: (أم كان) قال الزجاج: معناه: بل كان.
قوله تعالى: (لأعذبنه عذابا شديدا) فيه ستة أقوال:
أحدها: نتف ريشه، قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: نتفه وتشميسه، قاله عبد الله بن شداد.
والثالث: شد رجله وتشميسه، قاله الضحاك.
والرابع: أن يطليه بالقطران ويشمسه، قاله مقاتل بن حيان.
والخامس: أن يودعه القفص.
والسادس: أن يفرق بينه وبين إلفه، حكاهما الثعلبي.
قوله تعالى: (أو ليأتيني) و قرأ ابن كثير: " ليأتيني، " بنونين، و كذلك هي في مصاحفهم. فأما
السلطان، فهو الحجة، وقيل: العذر.
وجاء في التفسير أن سليمان لما نزل في بعض مسيره، قال الهدهد: إنه قد اشتغل بالنزول
فأرتفع أنا إلى السماء فأنظر إلي طول الدنيا وعرضها، فارتفع فرأى بستانا لبلقيس، فمال إلى
الخضرة فوقع فيه، فإذا هو بهدهد قد لقيه، فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الشام مع صاحبي
سليمان وأنت فمن أين؟ قال: من هذه البلاد، وملكها امرأة يقال لها: بلقيس، فهل أنت منطلق معي
حتى ترى ملكها؟ قال: أخاف ان يتفقدني بعد سليمان وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، قال: إن
صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه، فنظر إلى بلقيس وملكها، (فمكث غير
بعيد) قرأ الجمهور بضم الكاف، وقرأ عاصم بفتحها، وقرأ ابن مسعود: " فتمكث " بزيادة تاء،
والمعنى: لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء، فقال سليمان: ما الذي أبطأ بك؟ (فقال أحطت بما لم
تحط به) أي: علمت شيئا من جميع جهاته مما لم تعلم (وجئتك من سبأ) قرأ ابن كثير، وأبو
عمرو: " سبأ " نصبا غير مصروف، وقرأ الباقون خفضا منونا. وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم
أن سبأ رجل من العرب، وقال قتادة: هي أرض باليمن يقال لها: مأرب. وقال أبو الحسن
الأخفش: إن شئت صرفت " سبأ " فجعلته اسم أبيهم، أو اسم الحي، وإن شئت لم تصرف فجعلته
اسم القبيلة، أو اسم الأرض. قال الزجاج: وقد ذكر قوم من النحويين أنه اسم رجل. وقال آخرون:
الاسم إذا لم يدر ما هو لم يصرف، وكلا القولين خطأ، لأن الأسماء حقها الصرف، وإذا لم يعلم
هل الاسم للمذكر أم للمؤنث، فحقه الصرف حتى يعلم أنه لا ينصرف، لأن أصل الأسماء الصرف.
وقول الذين قالوا: هو اسم رجل، غلط، لأن سبأ هي مدينة تعرف بمأرب من اليمن، بينها وبين
صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، فمن لم يصرفه جعله اسم مدينة، ومن صرفه فلأنه اسم البلد، فيكون
مذكرا سمي بمذكر.
63

قوله تعالى: (بنبأ يقين) أي: بخبر صادق، (إني وجدت امرأة تملكهم) يعني بلقيس
(وأوتيت من كل شئ) قال الزجاج: معناه: من كل شئ يعطاه الملوك ويؤتاه الناس. والعرش:
سرير الملك. قال قتادة: كان عرشها من ذهب، قوائمه من جوهر مكلل باللؤلؤ، وكان أحد أبويها من
الجن، وكان مؤخر أحد قدميها مثل حافر الدابة، وقال مجاهد: كان قدماها كحافر الحمار. وقال ابن
السائب: لم يكن بقدميها شئ، إنما وقع الجن فيها عند سليمان بهذا القول، فلما جعل لها
الصرح بان له كذبهم. قال مقاتل: كان ارتفاع عرشها ثمانين ذراعا في عرض ثمانين، وكانت أمها
من الجن. قال ابن جرير: وانما صار هذا الخبر عذرا للهدهد، لأن سليمان كان لا يرى لأحد في
الأرض مملكة سواه، وكان مع ذلك يحب الجهاد، فلما دله الهدهد على مملكة لغيره، وعلى قوم
كفرة يجاهدهم، صار ذلك عذرا.
قوله تعالى: (ألا يسجدوا) قرأ الأكثرون: " ألا " بالتشديد قال الزجاج: والمعنى: وزين
لهم الشيطان ألا يسجدوا، أي: فصدهم لئلا يسجدوا. وقرأ ابن عباس، وأبو عبد الرحمن
السلمي، والحسن، والزهري وقتادة، وأبو العالية، وحميد الأعرج، والأعمش، وابن أبي عبلة،
والكسائي: " ألا يسجدوا " مخففة، على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فيكون في الكلام إضمار
" هؤلاء " ويكتفى منها ب‍ " يا "، ويكون الوقف " ألا يا " والابتداء " اسجدوا "، قال الفراء، فعلى هذه
القراءة هي سجدة، وعلى قراءة من شدد لا ينبغي لها أن تكون سجدة. وقال أبو عبيدة: هذا أمر من
الله مستأنف، يعني: ألا يا أيها الناس اسجدوا. وقرأ ابن مسعود، وأبي: " هلا يسجدوا " بهاء.
قوله تعالى: (الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض) قال ابن قتيبة: أي: المستتر
فيهما، وهو من خبأت الشئ: إذا أخفيته، ويقال: خبء السماوات: المطر، وخبء الأرض:
النبات. وقال الزجاج: كل ما خبأته فهو خبء، فالخبء: كل ما غاب، فالمعنى: يعلم الغيب
في السماوات والأرض. وقال ابن جرير: " في " بمعنى " من " فتقديره: يخرج الخبء من السماوات.
قوله تعالى: (يعلم ما تخفون وما تعلنون) قرأ حفص عن عاصم، والكسائي، بالتاء فيهما.
وقرأ الباقون بالياء. قال ابن زيد: من قوله: (أحطت) إلى قوله: (العظيم) كلام الهدهد. وقرأ
الضحاك، وابن محيصن: " العظيم " برفع الميم.
قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين (27) إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم
ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت (28) يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم (29)
إنه من سليمن وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين (31)
64

فلما فرغ الهدهد من كلامه (قال سننظر) فيما أخبرتنا به (أصدقت) فيما قلت (أم كنت من
الكاذبين) وإنما شك في خبره، لأنه أنكر أن يكون لغيره في الأرض سلطان. ثم كتب كتابا وختمه
بخاتمه ودفعه إلى الهدهد وقال: (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم) قرأ ابن كثير، وابن عامر،
والكسائي: " فألقهي " موصولة بياء. وقرأ أبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، وحمزة: " فألقه " بسكون
الهاء، وروى قالون عن نافع: كسر الهاء من غير إشباع، ويعني إلى أهل سبأ، (ثم تول عنهم)
فيه قولان:
أحدهما: أعرض.
والثاني: انصرف، (فانظر ماذا يرجعون) أي: ماذا يردون من الجواب.
فإن قيل: إذا تولى عنهم فكيف يعلم جوابهم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن المعنى: ثم تول عنهم مستترا من حيث لا يرونك، فانظر ماذا يردون من
الجواب، وهذا قول وهب بن منبه.
والثاني: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، تقديره: فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم، وهذا
مذهب ابن زيد.
قال قتادة: أتاها الهدهد وهي نائمة فألقى الكتاب على نحرها فقرأته وأخبرت قومها. وقال
مقاتل: حمله بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة، فرفرف ساعة والناس ينظرون، فرفعت رأسها
فألقي الكتاب في حجرها، فلما رأت الخاتم أرعدت وخضعت وخضع من معها من الجنود.
واختلفوا لأي علة سمته كريما على سبعة أقوال:
أحدها: لأنه كان مختوما، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس أيضا.
والثاني، لأنها ظنته من عند الله عز وجل، روي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: أن معنى قولها: " كريم " حسن ما فيه، قاله قتادة، والزجاج.
والرابع: لكلام صاحبه، فإنه كان ملكا، ذكره ابن جرير.
والخامس: لأنه كان مهيبا، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
والسادس: لتسخير الهدهد لحمله، حكاه الماوردي.
والسابع: لأنها رأت في صدره " بسم الله الرحمن الرحيم "، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: (إنه من سليمان) أي: إن الكتاب من عنده (وإنه) أي: وإن المكتوب (بسم
الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا علي) أي: لا تتكبروا. وقرأ ابن عباس: " تغلوا " بغين معجمة و أتوني
(مسلمين): منقادين طائعين. ثم استشارت قومها، ف‍ (قالت يا أيها الملأ) يعني الأشراف،
وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر قائدا، كل رجل منهم على عشرة آلاف. وقال ابن عباس: كان معها مائة
65

ألف قيل، مع كل قيل مائة ألف. وقيل: كانت جنودها ألف ألف ومائتي ألف.
قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون (32) قالوا نحن
أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين (33) قالت إن الملوك إذا دخلوا
قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34) وإني مرسلة إليهم بهدية
فناظرة بم يرجع المرسلون (35)
قوله تعالى: (أفتوني في أمري) أي: بينوا لي ما أفعل، وأشيروا علي. قال الفراء: جعلت
المشورة فتيا، وذلك جائز لسعة اللغة.
قوله تعالى: (ما كنت قاطعة أمرا) أي: فاعلته (حتى تشهدون) أي: تحضرون: والمعنى:
إلا بحضوركم ومشورتكم. (قالوا نحن أولوا قوة) فيه قولان:
أحدهما: أنهم أرادوا القوة في الأبدان.
والثاني: كثرة العدد والبأس والشجاعة في الحرب.
وفيما أرادوا بذلك القول قولان:
أحدهما: تفويض الأمر إلى رأيها.
والثاني: تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم.
ثم قالوا: (والأمر إليك) أي: في القتال وتركه. (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية) قال
الزجاج: المعنى: إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة.
قوله تعالى: (أفسدوها) أي: خربوها (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) أي: أهانوا أشرافها ليستقيم
لهم الأمر. ومعنى الكلام: أنها حذرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادها.
قوله تعالى: (وكذلك يفعلون) فيه قولان:
أحدهما: أنه من تصديق الله تعالى لقولها، قاله الزجاج.
والثاني: من تمام كلامها، والمعنى: وكذلك يفعل سليمان وأصحابه إذا دخلوا بلادنا، حكاه
الماوردي.
قوله تعالى: (وإني مرسلة إليهم بهدية) قال ابن عباس: إنما أرسلت الهدية لتعلم أنه إن كان
نبيا لم يرد الدنيا، وإن كان ملكا فسيرضى بالحمل بالملك وأنها بعثت ثلاث لبنات من ذهب في كل
66

لبنة مائة رطل، وياقوتة حمراء طولها شبر مثقوبة، وثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة، وألبستهم لباسا
واحدا حتى لا يعرف الذكر من الأنثى، ثم كتبت: إني قد بعثت إليك بهدية فاقبلها، وبعثت إليك
بياقوتة طولها شبر، فأدخل فيها خيطا واختم على طرفي الخيط بخاتمك، وقد بعثت إليك ثلاثين
وصيفا وثلاثين وصيفة، فميز بين الجواري والغلمان، فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثت إليه، فقال
له: انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال لبنا من الذهب،
فانطلق، فبعث الشياطين، فقطعوا اللبن من الجبال وطلوه بالذهب وفرشوه، ونصبوا في الطريق
أساطين الياقوت الأحمر، فلما جاء الرسل، قال بعضهم لبعض: كيف تدخلون على هذا الرجل
بثلاث لبنات، وعنده ما رأيتم؟! فقال رئيسهم: إنما نحن رسل، فدخلوا عليه، فوضعوا اللبن بين
يديه، فقال: أتمدونني بمال؟ ثم دعا ذرة فربط فيها خيطا وأدخلها في ثقب الياقوتة حتى خرجت
من طرفها الآخر، ثم جمع بين طرفي الخيط فختم عليه ودفعها إليهم، ثم ميز بين الغلمان والجواري
هذا كله مروي عن ابن عباس. وقال مجاهد: جعلت لباس الغلمان للجواري ولباس الجواري
للغلمان، فميزهم ولم يقبل هديتها. وفي عدد الوصائف والوصفاء خمسة أقوال:
أحدها: ثلاثون وصيفا وثلاثون وصيفة، وقد ذكرناه عن ابن عباس.
والثاني: خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، قاله وهب.
والثالث: مائتا غلام ومائتا جارية، قاله مجاهد.
والرابع: عشرة غلمان وعشر جوار، قاله ابن السائب.
والخامس: مائة وصيف ومائة وصيفة، قاله مقاتل، و فيما ميزهم به ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أمرهم بالوضوء، فبدأ الغلام من مرفقه إلى كفه، وبدأت الجارية من كفها إلى
مرفقها، فميزهم بذلك، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: أن الغلمان بدؤوا بغسل ظهور السواعد قبل بطونها، والجواري على العكس، قاله
قتادة.
والثالث: أن الغلام اغترف بيده، والجارية اغترفت على يدها، قاله السدي. وجاء في
التفسير أنها أمرت الجواري أن يكلمن سليمان بكلام الرجال، وأمرت الرجال أن يكلموه كلام
النساء، وأرسلت قدحا أن يملأه ماء ليس من السماء ولا من ماء الأرض، فجرى الخيل
وملأ من عرقها.
قوله تعالى: (فناظرة بم يرجع المرسلون) أي: بقبول أم برد. قال ابن جرير: وأصل " بم ":
67

بما، وإنما أسقطت الألف لأن العرب إذا كانت بمعنى " أي " ثم وصلوها بحرف خافض، أسقطوا
ألفها، تفريقا بين الاستفهام والخبر، كقوله تعالى: (عم يتساءلون) و (قالوا فيم كنتم؟)،
وربما أثبتوا فيها الألف كما قال الشاعر:
على ما قام يشتمنا لئيم * كخنزير كما تمرغ في رماد؟
فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم
تفرحون (36) ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم
صاغرون (37) قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38) قال
عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين (39)
قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا
عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن
كفر فإن ربي غني كريم (40)
قوله تعالى: (فلما جاء سليمان) قال الزجاج: لما جاء رسولها، ويجوز: فلما جاءها برها.
قوله تعالى: (أتمدونني بمال) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " أتمدونني " بنونين وياء في
الوصل وروى المسيبي عن نافع: " أتمدوني " بنون واحدة خفيفة وياء في الوصل والوقف. وقرأ
عاصم، وابن عامر، والكسائي: " أتمدنن " بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ حمزة: " أتمدوني
بمال " بنون واحدة مشددة ووقف على الياء.
قوله تعالى: (فما آتاني الله) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن
عاصم: " فما آتان " بكسر النون من غير ياء. وقرأ يعقوب، ونافع، وحفص عن عاصم: " آتاني
الله " بفتح الياء. وكلهم فتح التاء غير الكسائي، فإنه أمالها من " أتاني
الله " و أمال حمزة: " أنا
آتيك به " أشم النون شيئا من الكسر، والمعنى: فما آتاني الله، أي: من النبوة والملك (خير مما
آتاكم) من المال (بل أنتم بهديتكم تفرحون) يعني إذا أهدى بعضكم إلى بعض فرح، فأما أنا
68

فلا، ثم قال للرسول: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل) أي: لا طاقة (لهم بها ولنخرجنهم
منها) يعني بلدتهم. فلما رجعت رسلها إليها بالخبر، قالت: قد علمت أنه ليس بملك وما لنا به
طاقة، فبعثت إليه، إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما تدعو إليه، ثم أمرت بعرشها فجعل وراء
سبعة أبواب، ووكلت به حرسا يحفظونه، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف ملك، تحت
يدي كل ملك ألوف. وكان سليمان مهيبا لا يبتدء بشئ حتى يسأل عنه، فجلس يوما على سرير
ملكه فرأى رهجا قريبا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس قد نزلت بهذا المكان، وكان قدر فرسخ،
وقد كان بلغه أنها احتاطت على عرشها قبل خروجها، (فقال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها)
وفي سبب طلبه له خمسة أقوال:
أحدها: ليعلم صدق الهدهد، قاله ابن عباس.
والثاني: ليجعل ذلك دليلا على صدق نبوته، لأنها خلفته في دارها واحتاطت عليه، فوجدته
قد تقدمها، قاله وهب بن منبه.
والثالث: ليختبر عقلها وفطنتها، أتعرفه أم تنكره، قاله سعيد بن جبير.
والرابع: لأن صفته أعجبته، فخشي أن تسلم فيحرم عليه مالها، فأراد أخذه قبل ذلك، قاله
قتادة.
والخامس: ليريها قدرة الله تعالى وعظم سلطانه، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: (قال عفريت من الجن) قال أبو عبيدة: العفريت من كل جن أو إنس: الفائق
المبالغ الرئيس. وقال ابن قتيبة: العفريت: الوثيق. وقال الزجاج: العفريت: النافذ في الأمر،
المبالغ فيه مع خبث ودهاء.
وقرأ أبي بن كعب، والضحاك، وأبو العالية، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: " قال عفريت "
بفتح العين وكسر الراء، وروى ابن أبي شريح عن الكسائي: " عفرية " بفتح الياء وتخفيفها، وروي
عنه أيضا تشديدها وتنوين الهاء على التأنيث. وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع: " عفراة " بكسر
69

العين وفتح الراء وبألف من غير ياء.
قوله تعالى: (قبل أن تقوم من مقامك) أي: من مجلسك، ومثله " في مقام أمين ".
وكان سليمان يجلس للقضاء بين الناس من وقت الفجر إلى طلوع الشمس، و قيل: إلى نصف
النهار. (وإني عليه) أي: على حمله (لقوي).
وفى قوله تعالى: (أمين) قولان:
أحدهما: أمين على ما فيه من الجوهر والدر وغير ذلك، قاله ابن السائب.
والثاني: أمين أن لا آتيك بغيره بدلا منه، قاله ابن زيد.
قال سليمان: أريد أسرع من ذلك. (قال الذي عنده علم من الكتاب) وهل هو إنسي أم
ملك؟ فيه قولان:
أحدهما: إنسي، قاله ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، ثم فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه رجل من بني إسرائيل، واسمه آصف بن برخياء، قاله مقاتل. قال ابن عباس: دعا
آصف - وكان آصف يقوم على رأس سليمان بالسيف - فبعث الله الملائكة فحملوا السرير تحت
الأرض يخدون الأرض خدا، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان.
والثاني: أنه سليمان عليه السلام، وإنما قال له رجل: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك،
فقال: هات، قال: أنت النبي ابن النبي، فإن دعوت الله جاءك، فدعا الله فجاءه، قاله محمد بن
المنكدر.
والثالث: أنه الخضر، قاله ابن لهيعة.
والرابع: أنه عابد خرج يومئذ من جزيرة في البحر فوجد سليمان فدعا فأتي بالعرش، قاله ابن
زيد.
والقول الثاني: أنه من الملائكة، فيه قولان:
أحدهما: أنه جبريل عليه السلام.
والثاني: ملك من الملائكة أيد الله تعالى به سليمان، حكاهما الثعلبي، و في العلم الذي
عنده من الملائكة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اسم الله الأعظم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور.
والثاني: أنه علم كتاب سليمان إلى بلقيس.
والثالث: علم ما كتب الله لبني آدم، وهذا على أنه ملك، حكى القولين الماوردي.
70

وفي قوله تعالى: (قبل أن يرتد إليك طرفك) أربعة أقوال:
أحدها: قبل أن يأتيك أقصى ما تنظر إليه، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: قبل أن ينتهي طرفك إذا مددته إلى مداه، قاله وهب.
والثالث: قبل أن يرتد طرفك حسيرا إذا أمدت النظر، قاله مجاهد.
والرابع: بمقدار ما تفتح عينك ثم تطرف، قاله الزجاج: قال مجاهد: دعا فقال: يا ذا الجلال
والإكرام، وقال ابن السائب: إنما قال: يا حي يا قيوم.
قوله تعالى: (فلما رآه) في الكلام محذوف، تقديره: فدعا الله فأتي به، فلما رآه، يعني:
سليمان (مستقرا عنده) أي: ثابتا بين يديه (قال هذا) يعني: التمكن من حصول المراد.
قوله تعالى: (أأشكر أم أكفر) فيه قولان:
أحدهما: أأشكر على السرير إذ أتيت به، أم أكفر إذا رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني،
قاله ابن عباس.
والثاني: أأشكر ذلك من فضل الله علي، أم أكفر نعمته بترك الشكر له، قاله ابن جرير.
قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون (41) فلما جاءت قيل
أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين (42) وصدها ما
كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين (43) قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته
حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت
نفسي وأسلمت مع سليمن لله رب العالمين (44)
قوله تعالى: (قال نكروا لها عرشها) قال المفسرون: خافت الشياطين أن يتزوج سليمان
بلقيس فتفشي إليه أسرار الجن، لأن أمها كانت جنية، فلا ينفكون من تسخير سليمان وذريته بعده،
فأساؤوا الثناء عليها وقالوا: إن في عقلها شيئا، وإن رجلها كحافر الحمار، فأراد سليمان أن يختبر
عقلها بتنكير عرشها، وينظر إلى قدميها ببناء الصرح. قال ابن قتيبة: ومعنى " نكروا ": غيروا،
71

يقال: نكرت الشئ فتنكر، أي: غيرته فتغير. وللمفسرين في كيفية تغييره ستة أقوال:
أحدها: أنه زيد فيه ونقص منه، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنهم جعلوا صفائح الذهب التي كانت عليه مكان صفائح الفضة، وصفائح الفضة
مكان صفائح الذهب، والياقوت مكان الزبرجد، والدر مكان اللؤلؤ، وقائمتي الزبرجد مكان قائمتي
الياقوت، قاله ابن عباس أيضا.
والثالث: أنهم نزعوا ما عليه من فصوصه وجواهره، روي عن ابن عباس أيضا.
والرابع: أنهم جعلوا ما كان منه أحمر أخضر، وما كان أخضر أحمر، قاله مجاهد.
والخامس: أنهم جعلوا أسفله أعلاه، ومقدمه مؤخره، وزادوا فيه، ونقصوا منه، قاله قتادة.
والسادس: أنهم جعلوا فيه تماثيل السمك، قاله أبو صالح.
وفى قوله تعالى: (كأنه هو) قولان:
أحدهما: أنها لما رأته جعلت تعرف وتنكر، ثم قالت في نفسها: من أين يخلص إلى ذلك
وهو في سبعة أبيات والحرس حوله؟! ثم قالت: كأنه هو، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال
قتادة: شبهته بعرشها. وقال السدي: وجدت فيه ما تعرفه فلم تنكر، ووجدت فيه ما تنكره فلم تثبت،
فلذلك قالت: كأنه هو.
والثاني: أنها عرفته، ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها، فلو أنهم قالوا: هذا عرشك،
لقالت: نعم، قاله مقاتل. قال المفسرون: فقيل لها: فإنه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب؟!
وفى قوله تعالى: (وأوتينا العلم) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه سليمان، قاله مجاهد، ثم في معناه قولان:
أحدهما: وأوتينا العلم بالله وقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة.
والثاني: أوتينا العلم باسلامها ومجيئها وكنا مسلمين لله.
والقول الثاني: أنه من قول بلقيس، فإنها لما رأت عرشها، قالت: قد عرفت هذه الآية،
وأوتينا العلم بصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة، تعني أمر الهدهد والرسل التي بعثت من قبل
هذه الآية، وكنا مسلمين منقادين لأمرك قبل أن نجئ.
والثالث: أنه من قول قوم سليمان، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (وصدها ما كانت تعبد) قال الفراء: معنى الكلام: هي عاقلة، إنما صدها عن
عبادة الله عبادتها الشمس والقمر، وكان عادة من دين آبائها، والمعنى: وصدها أن تعبد الله ما كانت
تعبد، قال: وقد قيل: صدها سليمان، أي: منعها ما كانت تعبد. قال الزجاج: المعنى: صدها عن
72

الإيمان العادة التي كانت عليها، لأنها نشأت ولم تعرف إلا قوما يعبدون الشمس، وبين عبادتها
بقوله: (إنها كانت من قوم كافرين) وقرأ سعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: " أنها كانت " بفتح
الهمزة.
قوله تعالى: (قيل لها ادخلي الصرح) قال المفسرون: أمر الشياطين فبنوا له صرحا كهيئة
السطح من زجاج. و في سبب أمره بذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أراد أن يريها ملكا هو أعز من ملكها، قاله وهب بن منبه.
والثاني: أنه أراد أن ينظر إلى قدمها من غير أن يسألها كشفها، لأنه قيل له: إن رجلها كحافر
الحمار، فأمر أن يهيأ لها بيت من قوارير فوق الماء، ووضع سرير سليمان في صدر البيت، هذا قول
محمد بن كعب القرظي.
والثالث: أنه فعل ذلك ليختبرها كما اختبرته بالوصائف والوصفاء، ذكره ابن جرير. فأما
الصرح، فقال ابن قتيبة: هو القصر، وجمعه: صروح، ومنه قول الهذلي:
تحسب أعلامهن الصروحا
قال: و يقال: الصرح بلاط اتخذ لها من قوارير، وجعل تحتها ماء وسمك، قال مجاهد: كانت
بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير. وقال مقاتل: كان قصرا من قوارير بني على الماء وتحته
السمك.
قوله تعالى: (حسبته لجة) وهي: معظم الماء (و كشفت عن ساقيها) لدخول الماء، فناداها
سليمان (إنه صرح ممرد) أي: مملس (من قوارير) أي: من زجاج، فعلمت حينئذ أن ملك
سليمان من الله تعالى، (فقالت رب إني ظلمت نفسي) أي: بعبادة غيرك. وقيل: ظنت في
سليمان أنه يريد تغريقها في الماء، فلما علمت أنه صرح ممرد قالت: رب إني ظلمت نفسي بذلك
الظن، وأسلمت مع سليمان، ثم تزوجها سليمان. وقيل: إنه ردها إلى مملكتها وكان يزورها في كل
شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام، وأنها ولدت منه. وقيل: إنه زوجها ببعض الملوك ولم يتزوجها
هو.
ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون (45) قال
يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون (46) قالوا
اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون (47)
73

قوله تعالى: (فإذا هم فريقان) مؤمن وكافر (يختصمون) وفيه قولان:
أحدهما: أنه قولهم: (أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه...) الآيات.
والثاني: أنه قول كل فريق منهم: الحق معي.
قوله تعالى: (لم تستعجلون بالسيئة) وذلك حين قالوا: إن كان ما أتيتنا به حقا فائتنا بالعذاب.
وفي السيئة والحسنة قولان:
أحدهما: أن السيئة: العذاب، والحسنة: الرحمة، قاله مجاهد.
والثاني: أن السيئة: البلاء، والحسنة، العافية، قاله السدي.
قوله تعالى: (لولا) أي: هلا (تستغفرون الله) من الشرك (لعلكم ترحمون) فلا تعذبون.
(قالوا اطيرنا) قال ابن قتيبة: المعنى: تطيرنا وتشاءمنا (بك)، فأدغمت التاء في الطاء، وأثبتت
الألف، ليسلم السكون لما بعدها. وقال الزجاج: الأصل: تطيرنا، فأدغمت التاء في الطاء،
واجتلبت الألف لسكون الطاء، فإذا ابتدأت قلت: اطيرنا، وإذا وصلت لم تذكر الألف وتسقط لأنها
ألف وصل، وإنما تطيروا به، لأنهم قحطوا وجاعوا، ف‍ (قال) لهم (طائركم عند الله) وقد شرحنا
هذا المعنى في الأعراف.
وفى قوله [تعالى]: (تفتنون) ثلاثة أقوال:
أحدها: تختبرون بالخير والشر، قاله ابن عباس.
والثاني: تصرفون عن دينكم، قاله الحسن.
والثالث: تبتلون بالطاعة والمعصية، قاله قتادة.
وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون (48) قالوا تقاسموا بالله
لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون (49) ومكروا مكرا
ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون (50) فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم
أجمعين (51) فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون (53) وأنجينا
الذين آمنوا وكانوا يتقون (53)
قوله تعالى: (وكان في المدينة) وهي الحجر التي نزلها صالح (تسعة رهط يفسدون في
74

الأرض) يريد: في أرض الحجر، وفسادهم: كفرهم ومعاصيهم، وكانوا يسفكون الدماء ويثبتون
على الأموال والفروج، وهم الذين عملوا في قتل الناقة. وروي عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي
رباح قالا: كان فسادهم كسر الدراهم والدنانير، (قالوا) فيما بينهم (تقاسموا
بالله) أي: احلفوا
بالله (لنبيتنه) أي: لنقتلن و قرأ حمزة، و الكسائي: " لتبيتنه وأهله ثم لتقولن " بالتاء فيهما. وقرأ
مجاهد، وأبو رجاء، وحميد بن قيس: " ليبيتنه " بياء وتاء مرفوعتين " ثم ليقولن " بياء مفتوحة وقاف
مرفوعة وواو ساكنة ولام مرفوعة (لوليه) أي: لولي دمه إن سألنا عنه (ما شهدنا) أي: ما حضرنا
(مهلك أهله) قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام، والمهلك يجوز أن يكون مصدرا بمعنى
الإهلاك، ويجوز أن يكون الموضع. وروى أبو بكر، وأبان عن عاصم: بفتح الميم واللام، يريد
الهلاك، يقال: هلك يهلك مهلكا. وروى عنه حفص، والمفضل: بفتح الميم وكسر اللام، وهو
اسم المكان، على معنى: ما شهدنا موضع هلاكهم، فهذا كان مكرهم، فجازاهم الله عليه
فأهلكهم. و في صفة إهلاكهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أتوا دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم، قاله ابن
عباس.
والثاني: رماهم الله بصخرة فقتلهم، قاله قتادة.
والثالث: أنهم دخلوا غارا ينتظرون مجيء صالح، فبعث الله صخرة سدت باب الغار، قاله
ابن زيد.
والرابع: أنهم نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح، فجثم عليهم الجبل
فأهلكهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (أنا دمرناهم) قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " أنا دمرناهم " بفتح الألف.
وقرأ الباقون بكسرها. فمن كسر استأنف، ومن فتح، فقال أبو علي، فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون بدلا من (عاقبة مكرهم).
والثاني: أن يكون محمولا على مبتدأ مضمر، كأنه قال: هو أنا دمرناهم.
قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية) قال الزجاج: هي منصوبة على الحال، المعنى: فانظر
إلى بيوتهم خاوية.
ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون (54) أئنكم لتأتون الرجال شهوة
من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون (55) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا
75

آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (56) فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها
من الغابرين (57) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (58)
قوله تعالى: (أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون) فيه قولان:
أحدهما: وأنتم تعلمون أنها فاحشة.
والثاني: وبعضكم يبصر بعضا.
قوله تعالى: (بل أنتم قوم تجهلون) قال ابن عباس: تجهلون القيامة وعاقبة العصيان.
قوله تعالى: (قدرناها من الغابرين) أي: جعلناها بتقديرنا وقضائنا عليها من الباقين في
العذاب. وقرأ أبو بكر عن عاصم: " قدرناها " خفيفة، وهي في معنى المشددة. وباقي القصة قد
تقدم تفسيره.
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما يشركون (59) أمن خلق
السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم
أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (60) أمن جعل الأرض قرارا
وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم
لا يعلمون (61)
قوله تعالى: (قل الحمد لله) هذا خطاب لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] أمر أن يحمد الله على هلاك
الأمم الكافرة، وقيل: على جميع نعمه، (وسلام على عباده، الذين اصطفى) فيهم أربعة أقوال:
أحدها: الرسل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه عكرمة، قال: اصطفى إبراهيم
بالخلة، وموسى بالكلام، ومحمدا بالرؤية.
والثاني: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، رواه أبو مالك عن ابن عباس، وبه قال السدي.
والثالث: أنهم الذين وحدوه وآمنوا به، رواه عطاء عن ابن عباس.
والرابع: أنه محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: (الله خير أما يشركون) قال أبو عبيدة: مجازه: أو ما تشركون، وهذا خطاب
76

للمشركين، والمعنى: الله خير لمن عبده، أم الأصنام لعابديها؟! ومعنى الكلام: أنه لما قص عليهم
قصص الأمم الخالية، أخبرهم أنه نجى عابديه، ولم تغن الأصنام عنهم.
قوله تعالى: (أمن خلق السماوات) تقديره: أما يشركون خير، أمن خلق السماوات
(والأرض) فأما الحدائق، فقال ابن قتيبة: هي البساتين، واحدها: حديقة، سميت بذلك لأنه
يحدق عليها، أي: يحظر، والبهجة: الحسن.
قوله تعالى: (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) أي: ما ينبغي لكم ذلك لأنكم لا تقدرون عليه.
ثم قال مستفهما منكرا عليهم: (أإله مع الله؟!) أي: ليس معه إله (بل هم) يعني: كفار مكة
(قوم يعدلون) وقد شرحناه في فاتحة (الأنعام) (أمن جعل الأرض قرارا) أي: مستقرا لا تميد
بأهلها (وجعل خلالها) أي: فيما بينها (أنهارا وجعل لها رواسي) أي؟ جبالا ثوابت (وجعل بين
البحرين حاجزا) أي: مانعا من قدرته بين العذاب والملح أن يختلطا، (بل أكثرهم لا يعلمون) قدر
عظمة الله [عز وجل].
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله
قليلا ما تذكرون (62) أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين
يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون (63) أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن
يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (64) قل
لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون (65) بل
ادراك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون (66) وقال الذين كفروا
أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون (67) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن
هذا إلا أساطير الأولين (68) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة
المجرمين (69) ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون (70) ويقولون متى هذا
الوعد إن كنتم صادقين (71) قل عسى ان يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون (72)
وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (73) وإن ربك ليعلم ما
77

تكن صدورهم وما يعلنون (74) وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب
مبين (75)
قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر) وهو: المكروب المجهود، (ويكشف السوء) يعني
الضر (ويجعلكم خلفاء الأرض) أي: يهلك قرنا وينشئ آخرين، و (تذكرون) بمعنى تتعظون.
وقرأها أبو عمرو بالياء، والباقون بالتاء (أمن يهديكم) أي: يرشدكم إلى مقاصدكم إذا سافرتم (في
ظلمات البر والبحر) وقد بيناها في الأنعام وشرحنا ما يليها من الكلمات فيما مضى إلى قوله:
(وما يشعرون) يعني من في السماوات والأرض (أيان يبعثون) أي: متى يبعثون بعد موتهم.
قوله تعالى: (بل أدرك علمهم في الآخرة) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " بل أدرك " قال
مجاهد: " بل " بمعنى " أم " والمعنى: لم يدرك علمهم، وقال الفراء: المعنى: هل أدرك علمهم
علم الآخرة؟ فعلى هذا يكون المعنى: إنهم لا يقفون في الدنيا على حقيقة العلم. وقرأ نافع، وابن
عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: " بل ادارك " على معنى: بل تدارك، أي: تتابع وتلاحق،
فأدغمت التاء في الدال. ثم في معناها قولان:
أحدهما: بل تكامل علمهم يوم القيامة لأنهم مبعوثون، قاله الزجاج: وقال ابن عباس: ما
جهلوه في الدنيا، علموه في الآخرة.
والثاني: بل تدارك ظنهم وحدسهم في الحكم على الآخرة، فتارة يقولون: إنها كائنة، وتارة
يقولون: لا تكون، قاله ابن قتيبة. وروى أبو بكر عن عاصم: " بل أدرك " على وزن من أدركت.
قوله تعالى: (بل هم في شك منها) أي: بل هم اليوم في شك من القيامة (بل هم منها
عمون) قال ابن قتيبة: أي: من علمها. وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله: (متى هذا الوعد)
يعنون: العذاب الذي تعدنا. (قل عسى أن يكون ردف لكم) قال ابن عباس: قرب لكم. وقال ابن
قتيبة: تبعكم، واللام زائدة، كأنه قال: ردفكم. و في ما تبعهم مما استعجلوه قولان:
أحدهما: يوم بدر.
والثاني: عذاب القبر.
قوله تعالى: (وإن ربك لذو فضل على الناس) قال مقاتل: على أهل مكة حين لا يعجل
عليهم العذاب.
قوله تعالى: (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم) أي: ما تخفيه (وما يعلنون) بألسنتهم من
78

عداوتك وخلافك، والمعنى أنه يجازيهم عليه. (وما من غائبة) أي: وما من جملة غائبة، (إلا في
كتاب) يعني اللوح المحفوظ، والمعنى: إن علم ما يستعجلونه من العذاب بين عند الله وإن غاب
عن الخلق.
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون (76) وإنه لهدى
ورحمة للمؤمنين (77) إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم (78) فتوكل على الله
إنك على الحق المبين (79) إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا
مدبرين (80) وما أنت بهدى العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم
مسلمون (81) وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن
الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون (82)
(إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل) وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا
أحزابا يطعن بعضهم على بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه، فلو أخذوا به لسلموا. (إن ربك
يقضي بينهم) يعني بين بني إسرائيل (بحكمه) وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران الجوني، وعاصم
الجحدري: " بحكمه " بكسر الحاء وفتح الكاف.
قوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى) قال المفسرون: هذا مثل ضربه للكفار فشبههم
بالموتى.
قوله تعالى: (ولا تسمع الصم الدعاء) وقرأ ابن كثير: " يسمع الصم " بفتح ميم " يسمع "
وضم ميم " الصم ".
قوله تعالى: (إذا ولوا مدبرين) أي: أن الصم إذا أدبروا عنك ثم ناديتهم و لم يسمعوا،
فكذلك الكافر. (وما أنت بهاد العمي) أي: بمرشد من أعماه الله عن الهدى، (إن تسمع) سماع
إفهام (إلا من يؤمن بآياتنا).
قوله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم) " وقع " بمعنى " وجب " و في المراد بالقول ثلاثة
أقوال:
79

أحدها: العذاب، قاله ابن عباس.
والثاني: الغضب، قاله قتادة.
والثالث: الحجة، قاله ابن قتيبة. ومتى ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: إذا لم يأمروا بمعروف، ولم ينهوا عن منكر، قاله ابن عمر، وأبو سعيد الخدري.
والثاني: إذا لم يرج صلاحهم، حكاه أبو سليمان الدمشقي، وهو معنى قول أبي العالية.
والإشارة بقوله: (عليهم) إلى الكفار الذين تخرج الدابة عليهم. و للمفسرين في صفة الدابة أربعة
أقوال:
أحدها: أنها ذات وبر وريش، رواه حذيفة بن اليمان عن النبي رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم. وقال ابن عباس: ذات
زغب وريش لها أربع قوائم.
والثاني: أن رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن إيل، وصدرها
صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة كبش، و قوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا
عشر ذراعا، رواه ابن جريج عن أبي الزبير.
والثالث: أن وجهها وجه رجل، وسائر خلقها كخلق الطير، قاله وهب.
والرابع: أن لها أربع قوائم وزغبا وريشا وجناحين، قاله مقاتل. و في المكان الذي تخرج منه
خمسة أقوال:
أحدها: من الصفا. روى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال: " بينما عيسى يطوف بالبيت
ومعه المسلمون، تضطرب الأرض تحتهم، وينشق الصفا مما يلي المسعى، وتخرج الدابة من الصفا،
أول ما يبدو منها رأسها، ملمعة ذات وبر وريش، لن يدركها طالب، ولن يفوتها هارب ". وفي
حديث آخر عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال: " طولها ستون ذراعا "، وكذلك قال ابن مسعود: تخرج من
الصفا. وقال ابن عمر: تخرج من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها. وقال
عبد الله بن عمر: تخرج الدابة فيمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض ما خرجتا.
والثاني: أنها تخرج من شعب أجياد، روي عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم، وعن ابن عمر مثله.
والثالث: يخرج من بعض أودية تهامة، قاله ابن عباس.
80

والرابع: من بحر سدوم، قاله وهب بن منبه.
والخامس: أنها تخرج بتهامة بين الصفا والمروة، حكاه الزجاج، وقد روى أبو هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تخرج الدابة معها خاتم سليمان، وعصا موسى، فتجلو وجه المؤمن بالعصا
وتحطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إن أهل البيت ليجتمعون، فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا
كافر ". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تسم المؤمن بين عينيه: مؤمن، و تسم الكافر بين عينيه
وتكتب بين عينيه: كافر، وتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين ". وقال حذيفة بن أسيد:
إن للدابة ثلاث خرجات: خرجة في بعض البوادي ثم تنكتم، وخرجة في بعض القرى ثم تنكتم،
فبينما الناس عند أشرف المساجد - يعني المسجد الحرام - إذ ارتفعت الأرض، فانطلق الناس
هرابا، فلا يفوتونها، حتى إنها لتأتي الرجل وهو يصلي، فتقول: أتتعوذ بالصلاة، والله ما كنت من
أهل الصلاة، فتخطمه، وتجلو وجه المؤمن. وقال عبد الله بن عمرو: إنها تنكت في وجه الكافر نكتة
سوداء فتفشو في وجهه فيسود وجهه، وتنكت في وجه المؤمن نكتة بيضاء فتفشو في وجهه حتى يبيض
وجهه، فيعرف الناس المؤمن والكافر، ولكأني بها قد خرجت في عقب ركب من الحاج.
قوله تعالى: (تكلمهم) قرأ الأكثرون بتشديد اللام، فهو من الكلام. و فيما تكلمهم به ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنها تقول لهم: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، قاله قتادة.
والثاني: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام، قاله السدي.
والثالث: تقول: هذا مؤمن، وهذا كافر، حكاه الماوردي.
وقرأ ابن أبي عبلة، والجحدري: بتسكين الكاف وكسر اللام فهو من الكلم، قال ثعلب:
والمعنى: تجرحهم. وسئل ابن عباس عن القراءتين، فقال: كل ذلك والله تفعله تكلم المؤمن،
وتكلم الفاجر والكافر، أي: تجرحه.
قوله تعالى: (أن الناس) قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بفتح الهمزة، وكسرها الباقون، فمن
فتح أراد: تكلمهم بأن الناس، وهكذا قرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: " تكلمهم بأن الناس "
بزيادة باء مع فتح الهمزة، ومن كسر، فلأن معنى " تكلمهم " تقول لهم: إن الناس، والكلام قول.
ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون (83) حتى إذا جاء
81

وقال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون (84) ووقع القول عليهم
بما ظلموا فهم لا ينطقون (85) ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا
إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (86)
قوله تعالى: (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) الفوج: الجماعة من الناس كالزمرة، والمراد به:
الرؤساء والمتبوعون في الكفر، حشروا وأقيمت الحجة عليهم. وقد سبق معنى (يوزعون)
(حتى إذا جاؤوا) إلى موقف لحساب (قال) الله تعالى لهم: (أكذبتم بآياتي؟!) هذا استفهام
إنكار عليهم ووعيد لهم (ولم تحيطوا بها علما) فيه قولان:
أحدهما: لم تعرفوها حق معرفتها.
و الثاني: لم تحيطوا علما ببطلانها. والمعنى: إنكم لم تتفكروا في صحتها، (أم ماذا كنتم
تعملون) في الدنيا فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه؟!
قوله تعالى: (ووقع القول عليهم) قد شرحناه آنفا (بما ظلموا) أي: بما أشركوا (فهم
لا ينطقون) بحجة عن أنفسهم. ثم احتج عليهم بالآية التي تلي هذه. ومعنى قوله تعالى:
(والنهار) يبصر فيه لابتغاء الرزق.
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله
وكل أتوه داخرين (87) وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع
الله الذي أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون (88) من جاء بالحسنة فله خير منها وهم
من فزع يومئذ آمنون (89) ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون
إلا ما كنتم تعملون (90)
قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور) قال ابن عباس: هذه النفخة الأولى.
قوله تعالى: (ففزع من في السماوات) قال المفسرون: المعنى: فيفزع من في السماوات
ومن في الأرض، والمراد أنهم ماتوا، بلغ بهم الفزع إلى الموت.
82

و في قوله تعالى: (إلا من شاء الله) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الشهداء، قاله أبو هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير.
و الثاني: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم إن الله تعالى يميتهم بعد ذلك، قاله
مقاتل.
والثالث: أنهم الذين في الجنة من الحور وغيرهن، وكذلك من في النار، لأنهم خلقوا للبقاء،
ذكره أبو إسحاق بن شاقلا من أصحابنا.
قوله تعالى: (وكل) من الأحياء الذين ماتوا ثم أحيوا (آتوه) وقرأ حمزة، وحفص عن
عاصم: " أتوه " بفتح التاء مقصورة، أي: يأتون الله يوم القيامة (داخرين) قال أبو عبيدة: " كل "
لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجميع، فهذه الآية في موضع جمع.
قوله تعالى: (وترى الجبال) قال ابن قتيبة: هذا يكون إذا نفخ في الصور، تجمع الجبال
وتسير فهي لكثرتها تحسب (جامدة) أي: واقفة (وهي تمر) أي: تسير سير السحاب، وكذلك كل
جيش عظيم يحسبه الناظر من بعيد واقفا وهو يسير، لكثرته، قال الجعدي يصف جيشا:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم
وقوف لحاج والركاب تهملج
قوله تعالى: (صنع الله) قال الزجاج: هو منصوب على المصدر، لأن قوله تعالى: (وترى
الجبال تحسبها جامدة) دليل على الصنعة، فكأنه قال: صنع الله ذلك صنعا، ويجوز الرفع على
معنى: ذلك صنع الله. فأما الإتقان، فهو في اللغة: إحكام الشئ.
قوله تعالى: (إنه خبير بما تفعلون) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: " يفعلون " بالياء.
وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي بالتاء.
قوله تعالى: (من جاء بالحسنة) قد شرحنا الحسنة والسيئة في آخر الأنعام.
وفي قوله تعالى: (فله خير منها) قولان:
أحدهما: فله خير يصل إليه منها، وهو الثواب، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة.
والثاني: فله أفضل منها، لأنه يأتي بحسنة فيعطى عشر أمثالها، قاله زيد بن أسلم.
قوله تعالى: (وهم من فزع يومئذ) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " من فزع
يومئذ " مضافا. وقرأ عاصم. وحمزة، والكسائي: " من فزع " بالتنوين " يومئذ " بفتح الميم. وقال
83

الفراء: الإضافة أعجب إلي في العربية، لأنه فزع معلوم، ألا ترى إلى قوله: (لا يحزنهم الفزع
الأكبر) فصيره معرفة، فإذا أضفت مكان المعرفة. كان أحب إلي واختار أبو عبيدة قراءة التنوين وقال: هي
أعم التأويلين، فيكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم. قال أبو علي الفارسي: إذا نون جاز أن يعنى
به فزع واحد، وجاز أن يعنى به الكثرة، لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة وإن كانت مفردة
الألفاظ، كقوله: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) وكذلك إذا أضيف جاز أن يعنى به فزع
واحد، وجاز أن يعنى به الكثرة، وعلى هذا القول، القراءتان سواء، فإن أريد به الكثرة، فهو شامل
لكل فزع يكون يوم القيامة، وإن أريد به الواحد، فهو المشار إليه بقوله: (لا يحزنهم الفزع
الأكبر). وقال ابن السائب: إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها، وأهل الجنة
آمنون من ذلك الفزع.
قوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة) قال المفسرون: هي الشرك (فكبت وجوههم) يقال: كببت
الرجل: إذا ألقيته لوجهه، وتقول لهم خزنة جهنم: (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) أي: إلا جزاء
ما كنتم تعملون في الدنيا من الشرك.
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون
من المسلمين (91) وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل
إنما أنا من المنذرين (92) وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل
عما تعملون (93)
قوله تعالى: (إنما أمرت) المعنى: قل للمشركين: إنما أمرت (أن أعبد رب هذه البلدة
الذي حرمها) وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: " التي حرمها " وهي مكة، وتحريمها: تعظيم
حرمتها بالمنع من القتل فيها والسبي والكف عن صيدها وشجرها، (وله كل شئ) لأنه خالقه
ومالكه، (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي: المخلصين لله بالتوحيد، (وأن أتلو القرآن)
عليكم (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) أي: فله ثواب اهتدائه (ومن ضل) أي: أخطأ طريق
الهدى (فقل إنما أنا من المنذرين) أي: ليس علي إلا البلاغ، وذكر المفسرون أن هذا منسوخ بآية
السيف. (وقل الحمد لله) أي: قل لمن ضل: الحمد لله الذي وفقنا لقبول ما امتنعتم منه
(سيريكم آياته) و متى يريهم؟ فيه قولان:
84

أحدهما: في الدنيا. ثم فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن منها الدخان وانشقاق القمر، وقد أراهم
ذلك، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: سيريكم آياته فتعرفونها في السماء، وفي أنفسكم، وفي
الرزق، قاله مجاهد، والثالث: القتل ببدر، قاله مقاتل.
والثاني: سيريكم آياته في الآخرة فتعرفونها على ما قال في الدنيا، قاله الحسن.
قوله تعالى: (و ما ربك بغافل عما تعملون) وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم:
" تعلمون " بالتاء، على معنى: قل لهم. وقرأ الباقون بالياء، على أنه وعيد لهم بالجزاء على
أعمالهم.
و الله أعلم بالصواب.
85

سورة القصص مكية
و آياتها ثمان و ثمانون
وهي مكية كلها غير آية منها، وهي قوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن) فإنها نزلت
عليه وهو بالجحفة في وقت خروجه للهجرة، هذا قول ابن عباس. وروي عن الحسن، وعطاء،
وعكرمة: أنها مكية كلها. وزعم مقاتل: أن فيها من المدني (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به
يؤمنون) إلى قوله تعالى: (لا نبتغي الجاهلين) وفيها آية ليست بمكية ولا مدنية وهي قوله
تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن) نزلت بالجحفة.
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم (1) تلك آيات الكتاب المبين (2) نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق
لقوم يؤمنون (3) أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح
أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (4) ونريد أن نمن على الذين استضعفوا
في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5) ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون
وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (6)
86

قوله تعالى: (طسم) قد سبق تفسيره.
قوله تعالى: (إن فرعون علا في الأرض) أي: طغى وتجبر في أرض مصر (وجعل أهلها
شيعا) أي: فرقا وأصنافا في خدمته (يستضعف طائفة منهم) وهم بنو إسرائيل، واستضعافه إياهم:
استعبادهم، (إنه كان من المفسدين) بالقتل والعمل بالمعاصي. (يذبح أبناءهم) وقرأ أبو رزين،
والزهري، وابن محيصن، وابن أبي عبلة: " يذبح " بفتح الياء وسكون الذال خفيفة.
قوله تعالى: (ونريد أن نمن) أي: ننعم (على الذين استضعفوا) وهم بنو إسرائيل،
(ونجعلهم أئمة) يقتدى بهم في الخير، وقال قتادة: ولاة وملوكا (ونجعلهم الوارثين) لملك فرعون
بعد غرقه.
قوله تعالى: (ويري فرعون) وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " ويرى " بياء مفتوحة وإمالة
الألف التي بعد الراء " فرعون وهامان وجنودهما " بالرفع. ومعنى الآية: أنهم أخبروا أن هلاكهم
على يدي رجل من بني إسرائيل، فكانوا على وجل منهم، فأراهم الله ما كانوا يحذرون.
وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني
إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين (7) فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا
إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين (8) وقالت امرأة فرعون قرت عين لي ولك
لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (9)
قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إلهام، قاله ابن عباس.
والثاني: أن جبريل أتاها بذلك، قاله مقاتل.
87

والثالث: أنه كان رؤيا منام، حكاه الماوردي. قال مقاتل: واسم أم موسى " يوخابذ ".
قوله تعالى: (أن أرضعيه) قال المفسرون: كانت امرأة من القوابل مصافية لأم موسى، فلما
وضعته تولت أمرها ثم خرجت فرآها بعض العيون فجاؤوا ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته: يا
أماه هذا الحرس بالباب، فلفت موسى في خرقة ووضعته في التنور وهو يسجر، فدخلوا ثم خرجوا،
فقالت لأخته: أين الصبي، قالت: لا أدري، فسمعت بكاءه من التنور فاطلعت بعد ولادته ثلاثة
أشهر، وقيل: أربعة أشهر، فلما خافت عليه صنعت له التابوت و في قوله: (فإذا خفت عليه) قولان:
أحدهما: إذا خفت عليه القتل، قاله مقاتل.
والثاني: إذا خفت عليه أن يصيح أو يبكي فيسمع صوته، قاله ابن السائب.
وفى قوله تعالى: (ولا تخافي) قولان:
أحدهما: أن يغرق، قاله ابن السائب.
والثاني: أن يضيع، قاله مقاتل.
قال الأصمعي: قلت لأعرابية: ما أفصحك! فقالت: أو بعد هذه الآية فصاحة وهي قوله
تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى) جمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين؟!
قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون) الالتقاط: إصابة الشئ من غير طلب. والمراد بآل
فرعون: الذين تولوا أخذ التابوت من البحر. و في الذين التقطوه ثلاثة أقوال:
أحدها: جواري امرأة فرعون، قاله السدي.
والثاني: ابنة فرعون، قاله محمد بن قيس.
والثالث: أعوان فرعون، قاله ابن إسحاق.
قوله تعالى: (ليكون لهم عدوا) أي: ليصير بهم الأمر إلى ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا،
وهذه اللام تسمى لام العاقبة، وقد شرحناه في يوسف و للمفسرين في معنى الكلام قولان:
أحدهما: ليكون لهم عدوا في دينهم وحزنا لما يصنعه بهم.
والثاني: عدوا لرجالهم وحزنا على نسائهم، فقتل الرجال بالغرق، واستعبد النساء. (وقالت
امرأة فرعون) وهي آسية بنت مزاحم، وكانت من بني إسرائيل تزوجها فرعون: (قرة عين) قال
الزجاج: رفع " قرة عين " على إضمار " هو ". قال المفسرون: كان فرعون لا يولد له إلا البنات،
فقالت: (عسى أن ينفعنا) فنصيب منه خيرا (أو نتخذه ولدا)، (وهم لا يشعرون) فيه أربعة
أقوال:
أحدها: لا يشعرون أنه عدو لهم، قاله مجاهد.
88

والثاني: أن هلاكهم على يديه، قاله قتادة.
والثالث: لا يشعر بنو إسرائيل أنا التقطناه، قاله محمد بن قيس.
والرابع: لا يشعرون أني أفعل ما أريد لا ما يريدون، قاله محمد بن إسحاق.
و أصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من
المؤمنين (10) وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون (11)
وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم
له ناصحون (12) فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن
أكثرهم لا يعلمون (13)
قوله تعالى: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) فيه أربعة أقوال:
أحدها: فارغا من كل شئ إلا من ذكر موسى، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال
مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك.
والثاني: أصبح فؤادها فزعا، رواه الضحاك عن ابن عباس، وهي قراءة أبي رزين، وأبي
العالية، والضحاك، وقتادة، وعاصم الجحدري، فإنهم قرؤوا: " فزعا " بزاي معجمة.
والثالث: فارغا من وحينا بنسيانه، قاله الحسن، وابن زيد.
والرابع: فارغا من الحزن، لعلمها أنه لم يقتل، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: وهذا من
أعجب التفسير، كيف يكون كذلك والله يقول: (لولا أن ربطنا على قلبها)؟! وهل يربط إلا على
قلب الجازع المحزون؟!
قوله تعالى: (إن كادت لتبدي به) في هذه الهاء قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى موسى. ومتى أرادت هذا؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حين فارقته،
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كادت تقول: يا بنياه. قال قتادة: وذلك من شدة
وجدها: والثاني: حين حملت لرضاعه كادت تقول: هو ابني، قاله السدي. والثالث: أنه لما كبر
وسمعت الناس يقولون: موسى بن فرعون، كادت تقول: لا بل هو ابني، قاله ابن السائب.
والقول الثاني: أنها ترجع إلى الوحي، والمعنى: إن كادت لتبدي بالوحي، حكاه ابن جرير.
89

قوله تعالى: (لولا أن ربطنا على قلبها) قال الزجاج: المعنى: لولا ربطنا على قلبها،
والربط: إلهام الصبر وتشديد القلب وتقويته.
قوله تعالى: (لتكون من المؤمنين) أي: من المصدقين بوعد الله. (وقالت لأخته
قصيه) قال ابن عباس: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا، أحي هو، أو قد أكلته الدواب؟
ونسيت الذي وعدها الله فيه. وقال وهب: إنما قالت لأخته: قصيه، لأنها سمعت أن فرعون قد
أصاب صبيا في تابوت. قال مقاتل: واسم أخته: مريم. قال ابن قتيبة: ومعنى " قصيه ": قصي أثره
واتبعيه (فبصرت به عن جنب) أي: عن بعد منها عنه وإعراض، لئلا يفطنوا، والمجانبة من هذا.
وقرأ أبي بن كعب، وأبو مجلز: " عن جناب " بفتح الجيم والنون وبألف بعدهما. وقرأ ابن مسعود،
وأبو عمران الجوني: " عن جانب " بفتح الجيم وكسر النون وبينهما ألف. وقرأ قتادة، وأبو العالية،
وعاصم الجحدري: " عن جنب " بفتح الجيم وإسكان النون من غير ألف.
قوله تعالى: (وهم لا يشعرون) فيه قولان:
أحدهما: وهم لا يشعرون أنه عدو لهم، قاله مجاهد.
والثاني: لا يشعرون أنها أخته، قاله السدي.
قوله تعالى: (و رحمنا عليه المراضع) وهي جمع مرضع (من قبل) أي: من قبل أن نرده
على أمه، وهذا تحريم منع، لا تحريم شرع. قال المفسرون: بقي ثمانية أيام ولياليهن، كلما أتي
بمرضع لم يقبل ثديها، فأهمهم ذلك واشتد عليهم (فقالت) لهم أخته: (هل أدلكم على أهل
بيت يكفلونه لكم) فقالوا لها: نعم، من تلك؟ فقالت: أمي، قالوا: و هل لها لبن؟ قالت: لبن
هارون. فلما جاءت قبل ثديها. و قيل: إنها لما قالت: (و هم له ناصحون) قالوا: لعلك تعرفين
أهله، قالت: لا، ولكني إنما قلت: وهم للملك ناصحون.
قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه) قد شرحناه في طه.
قوله تعالى: (ولتعلم أن وعد الله) برد ولدها (حق) وهذا علم عيان ومشاهدة (ولكن
أكثرهم لا يعلمون) أن الله وعدها أن يرده إليها.
ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (14) ودخل
المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه
فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من
90

عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (15) قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو
الغفور الرحيم (16) قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين (17)
(ولما بلغ أشده) قد فسرنا هذه الآية في سورة يوسف، فكلام المفسرين في لفظ الآيتين
متقارب، إلا أنهم فرقوا بين بلوغ الأشد وبين الاستواء. و في مدة الاستواء لهم قولان:
أحدهما: أنه أربعون سنة، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد.
والثاني: ستون سنة، ذكره ابن جرير. قال المفسرون: مكث عند أمه حتى فطمته، ثم ردته
إليهم، فنشأ في حجر فرعون وامرأته واتخذاه ولدا.
قوله تعالى: (ودخل المدينة) فيها قولان:
أحدهما: أنها مصر.
والثاني: مدينة بالقرب من مصر.
قال السدي: ركب فرعون يوما وليس عنده موسى، فلما جاء موسى ركب في إثره فأدركه
المقيل في تلك المدينة. وقال غيره: لما توهم فرعون في موسى أنه عدوه أمر بإخراجه من مدينته،
فلم يدخل إلا بعد أن كبر، فدخلها يوما (على حين غفلة من أهلها). في ذلك الوقت أربعة
أقوال:
أحدها: أنه كان يوم عيد لهم، وكانوا قد اشتغلوا فيه بلهوهم، قاله علي عليه السلام.
والثاني: أنه دخل نصف النهار، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.
والثالث: بين المغرب والعشاء، قاله وهب بن منبه.
والرابع: أنهم لما أخرجوه لم يدخل عليهم حتى كبر، فدخل على حين غفلة عن ذكره، لأنه
قد نسي أمره، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: (هذا من شيعته) أي: من أصحابه من بني إسرائيل (وهذا من عدوه) أي:
من أعدائه من القبط، والعدو يذكر للواحد وللجميع. قال الزجاج: وإنما قيل في الغائب: " هذا "
و " هذا "، على جهة الحكاية للحضرة، والمعنى: أنه إذا نظر إليهما الناظر قال: هذا من شيعته،
وهذا من عدوه. قال المفسرون: و كان القبطي كان قد سخر الإسرائيلي ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون
(فاستغاثه) أي: فاستنصره، (فوكزه) قال الزجاج: الوكز: أن يضربه بجمع كفه. وقال ابن
قتيبة: " فوكزه " أي: لكزه، يقال: وكزته ولكزته ولهزته: إذا دفعته، (فقضى عليه) أي: قتله،
وكل شئ فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه. وللمفسرين فيما وكزه به قولان:
91

أحدهما: كفه، قاله مجاهد.
والثاني: عصاه، قاله قتادة.
فلما مات القبطي ندم موسى لأنه لم يرد قتله، و (قال هذا من عمل الشيطان) أي: هو
الذي هيج غضبي حتى ضربت هذا، (إنه عدو) لابن آدم (مضل) (مبين) عداوته. ثم
استغفر (فقال رب إني ظلمت نفسي) أي: بقتل هذا، ولا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر. (قال
رب بما أنعمت علي) بالمغفرة (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) قال ابن عباس: عونا للكافرين.
وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا.
فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى
إنك لغوي مبين (18) فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني
كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من
المصلحين (19) وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك
ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (20)
قوله تعالى: (فأصبح في المدينة) وهي التي قتل بها القبطي (خائفا) على نفسه
(يترقب) أي: ينتظر سوءا يناله منهم ويخاف أن يقتل به (فإذا الذي استنصره بالأمس) وهو
الإسرائيلي (يستصرخه) أي: يستغيث به على قبطي آخر أراد أن يسخره أيضا (قال له موسى)
في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى القبطي.
الثاني: إلى الإسرائيلي، وهو أصح.
فعلى الأول يكون المعنى: (إنك لغوي) بتسخيرك وظلمك. و على الثاني فيه قولان:
أحدهما: أن يكون الغوي بمعنى المغوي، كالأليم والوجيع، والمعنى: إنك لمضل حين
قتلت بالأمس رجلا بسببك، وتدعوني اليوم إلى آخر.
والثاني: أن يكون الغوي بمعنى الغاوي، والمعنى، إنك غاو في قتالك من لا تطيق دفع شره
عنك.
92

قوله تعالى: (فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما) أي: بالقبطي (قال يا موسى)
هذا قول الإسرائيلي من غير خلاف علمناه بين المفسرين، قالوا: لما رأى الإسرائيلي غضب موسى
عليه حين قال له: " إنك لغوي مبين " ورآه قد هم أن يبطش بالفرعوني، ظن أنه يريده فخاف على
نفسه (فقال يا موسى أتريد أن تقتلني) وكان قوم فرعون لم يعلموا من قاتل القبطي، إلا أنهم أتوا
إلى فرعون فقالوا: إن بني إسرائيل قتلوا رجلا منا فخذ لنا بحقنا، فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد
عليه لآخذ لكم حقكم، فبينا هم يطوفون ولا يدرون من القاتل، وقعت هذه الخصومة بين الإسرائيلي
والقبطي فلما قال الإسرائيلي لموسى: " أتريد أن تقتلني " انطلق القبطي إلى فرعون فأخبره أن
موسى هو الذي قتل الرجل، فأمر بقتل موسى، فعلم بذلك رجل من شيعة موسى فأتاه فأخبره،
فذلك قوله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى). فأما الجبار، فقال السدي: هو
القتال، وقد شرحناه في هود، وأقصى المدينة: آخرها وأبعدها، ويسعى، بمعنى يسرع. قال ابن
عباس: وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وسيأتي الخلاف في اسمه في سورة المؤمن. فأما
الملأ، فهم الوجوه من الناس والأشراف. و في قوله: (يأتمرون بك) ثلاثة أقوال:
أحدها: يتشاورون فيك ليقتلوك، قاله أبو عبيدة.
والثاني: يهمون بك، قاله ابن قتيبة.
والثالث: يأمر بعضهم بعضا بقتلك، قاله الزجاج.
فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين (21) ولما توجه تلقاء مدين
قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل (22) ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من
الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى
يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير (23) فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت
إلي من خير فقير (24) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك
أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم
الظالمين (25) قالت إحداهما يا أبت استأجرته إن خير من استأجرت القوي الأمين (26)
93

قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا
فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين (27) قال
ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل (28)
قوله تعالى: (فخرج منها) أي: من مصر (خائفا) وقد مضى تفسيره.
قوله تعالى: (نجني من القوم الظالمين) يعني المشركين أهل مصر.
(ولما توجه تلقاء مدين) قال ابن قتيبة: أي: تجاه مدين ونحوها، وأصله: اللقاء، وزيدت فيه التاء، قال
الشاعر:
فاليوم قصر عن تلقائك الأمل
أي: عن لقائك.
قال المفسرون: خرج خائفا بغير زاد ولا ظهر، وكان بين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام، ولم
يكن له بالطريق علم، (فقال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) أي: قصده. قال ابن عباس:
لم يكن له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه. وقال السدي: بعث الله [تعالى] له ملكا فدله، قالوا:
ولم يكن له في طريقه طعام إلا ورق الشجر، فورد ماء مدين وخضرة البقل تتراءى في بطنه من
الهزال، والأمة، الجماعة، وهم الرعاة، (يسقون) مواشيهم (ووجد من دونهم) أي: من سوى
الأمة (امرأتين) وهما ابنتا شعيب، قال مقاتل: واسم الكبرى: صبورا والصغرى: عبرا
(تذودان) قال ابن قتيبة: أي: تكفان غنمهما، فحذف الغنم اختصارا. قال المفسرون: إنما فعلتا
ذلك ليفرغ الناس وتخلو لهما البئر، قال موسى: (ما خطبكما) أي: ما شأنكما لا تسقيان؟! (قالتا
لا نسقي) وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، وابن السميفع: " لا نسقي " برفع النون
(حتى يصدر الرعاء) وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر: " يصدر " بفتح الياء وضم الدال،
أي: حتى يرجع الرعاء. وقرأ الباقون: " يصدر " بضم الياء وكسر الدال، أرادوا: حتى يرد الرعاء
غنمهم عن الماء. والرعاء: جمع راع، كما يقال: صاحب وصحاب. وقرأ عكرمة، وسعيد بن
جبير، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: " الرعاء " بضم الراء، والمعنى: نحن امرأتان لا نستطيع أن
نزاحم الرجال (وأبونا شيخ كبير) لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر، فلذلك احتجنا نحن إلى أن
نسقي، وكان على تلك البئر صخرة عظيمة، فإذا فرغ الرعاء من سقيهم أعادوا الصخرة، فتأتي
94

المرأتان إلى فضول حياض الرعاء فتسقيان غنمهما. (فسقى) موسى لهما. و في صفة ما صنع
قولان:
أحدهما: أنه ذهب إلى بئر أخرى عليها صخرة لا يقتلعها إلا جماعة من الناس، فاقتلعها
وسقى لهما، قاله عمر بن الخطاب، وشريح.
والثاني: أنه زاحم القوم على الماء، وسقى لهما، قاله ابن إسحاق، والمعنى: سقى غنمهما
لأجلهما.
(ثم تولى) أي: انصرف (إلى الظل) و هو ظل شجرة (فقال رب إني لما) اللام
بمعنى إلى، فتقديره: إني إلى ما (أنزلت إلي من خير فقير) وأراد بالخير: الطعام. وحكى ابن
جرير أنه أسمع المرأتين هذا الكلام تعريضا أن تطعماه. (فجاءته إحداهما) المعنى: فلما شربت
غنمهما رجعتا إلى أبيهما فأخبرتاه خبر موسى، فبعث إحداهما تدعو موسى. وفيها قولان:.
أحدهما: الصغرى.
والثاني: الكبرى. فجاءته (تمشي على استحياء) قد سترت وجهها بكم درعها. و في سبب
استحيائها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كان من صفتها الحياء، فهي تمشي مشي من لم يعتد الخروج والدخول.
والثاني: لأنها دعته لتكافئه، وكان الأجمل عندها أن تدعوه من غير مكافأة.
والثالث: لأنها رسول أبيها.
قوله تعالى: (ليجزيك أجر ما سقيت لنا) قال المفسرون: لما سمع موسى هذا القول كرهه
وأراد أن لا يتبعها، فلم يجد بدا للجهد الذي به من اتباعها، فتبعها، فكانت الريح تضرب ثوبها
فيصف بعض جسدها، فناداها: يا أمة الله، كوني خلفي ودليني الطريق (فلما جاءه) أي: جاء
موسى شعيبا (و قص عليه القصص) أي: أخبره بأمره من حين ولد والسبب الذي أخرجه من أرضه
(قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين) أي: لا سلطان لفرعون بأرضنا ولسنا في مملكته.
(قالت إحداهما) و هي الكبرى: (يا أبت استأجره) أي: اتخذه أجيرا (إن خير من استأجرت
القوي الأمين) أي: خير من استعملت على عملك من قوي على عملك وأدى الأمانة، وإنما سمته
قويا، لرفعه الحجر عن رأس البئر، وقيل: لأنه استقى بدلو لا يقلها إلا العدد الكثير من الرجال،
وسمته أمينا، لأنه أمرها أن تمشي خلفه. وقال السدي: قال لها شعيب: قد رأيت قوته، فما يدريك
بأمانته؟ فحدثته. قال المفسرون: فرغب فيه شعيب، فقال له: (إني أريد أن أنكحك) أي:
95

أزواجك (إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) قال الفراء: تأجرني وتأجرني، بضم
الجيم وكسرها، لغتان. قال الزجاج: والمعنى: تكون أجيرا لي ثماني سنين (فإن أتممت عشرا
فمن عندك) أي: فذلك بفضل منك، وليس بواجب عليك.
قوله تعالى: (و ما أريد أن أشق عليك) أي: في العشر (ستجدني إن شاء الله من
الصالحين) أي: في حسن الصحبة والوفاء بما قلت. (قال) له موسى (ذلك بيني وبينك)
أي: ذلك الذي وصفت وشرطت علي فلك، وما شرطت لي من تزويج إحداهما فلي، فالأمر كذلك
بيننا. وتم الكلام هاهنا. ثم قال: (أيما الأجلين) يعني: الثماني والعشر. قال أبو عبيدة: " ما "
زائدة.
قوله تعالى: (قضيت) أي: أتممت (فلا عدوان علي) أي: لا سبيل علي، والمعنى: لا
تعتد علي بأن تلزمني أكثر منه (والله على ما نقول وكيل) قال الزجاج: أي: والله شاهدنا على ما
عقد بعضنا على بعض. واختلف العلماء في هذا الرجل الذي استأجر موسى على أربعة أقوال:
أحدها: أنه شعيب نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا أكثر التفسير، وفيه أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل عليه،
وبه قال وهب، ومقاتل.
والثاني: أنه صاحب مدين، واسمه يثربي، قاله ابن عباس.
والثالث: رجل من قوم شعيب، قاله الحسن.
والرابع: أنه يثرون ابن أخي شعيب، رواه عمرو بن مرة عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود،
وبه قال ابن السائب. و اختلفوا في التي تزوجها موسى من الابنتين على قولين:
أحدهما: الصغرى، روي عن ابن عباس.
والثاني: الكبرى، قاله مقاتل. وفي اسم التي تزوجها ثلاثة أقوال:
أحدها: صفوريا، حكاه أبو عمران الجوني.
والثاني: صفورة، قاله شعيب الجبائي.
الثالث: صبورا، قاله مقاتل.
فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله
امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون (29)
96

فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا
الله رب العالمين (30) وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب
يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين (31) أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من
غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم
كانوا قوما فاسقين (32) قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون (33) وأخي
هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون (34)
قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما
الغالبون (35)
قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل) روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أنه سئل: أي
الأجلين قضى موسى، قال: " أوفاهما وأطيبهما ". قال مجاهد: مكث بعد قضاء الأجل عندهم
عشرا أخر. وقال وهب بن منبه: أقام عندهم بعد أن أدخل عليه امرأته سنين، وقد سبق تفسير هذه
الآية إلى قوله [تعالى]: (أو جذرة) وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر،
والكسائي: " جذوة " بكسر الجيم. وقرأ عاصم بفتحها. وقرأ حمزة، وخلف، والوليد عن ابن عامر
بضمها، وكلها لغات. قال ابن عباس: الجذوة: قطعة حطب فيها نار، وقال أبو عبيدة: قطعة غليظة
من الحطب ليس فيها لهب، وهي مثل الجذمة من أصل الشجر، قال ابن مقبل:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها
جزل الجذا غير خوار ولا دعر
والداعر: الذي قد نخر، ومنه رجل داعر.
قوله تعالى: (نودي من شاطئ الواد) وهو: جانبه (الأيمن) وهو الذي عن يمين موسى
(في البقعة) وهي القطعة من الأرض (المباركة) بتكليم الله موسى فيها (من الشجرة) أي:
من ناحيتها. وفي تلك الشجرة قولان:
أحدهما: أنها شجرة العناب، قاله ابن عباس.
97

والثاني: عوسجة، قاله قتادة، وابن السائب، ومقاتل.
وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله [تعالى]: (إنك من الآمنين) أي: من أن ينالك
مكروه.
قوله تعالى: (أسلك يدك) أي: أدخلها، (واضمم إليك جناحك) قد فسرنا الجناح في
طه إلا أن بعض المفسرين خالف بين تفسير اللفظين، فشرحناه. وقال ابن زيد: جناحه: الذراع
والعضد والكف. وقال الزجاج: الجناح هاهنا: العضد، ويقال لليد كلها: جناح. وحكى ابن
الأنباري عن الفراء أنه قال: الجناح: العصا. قال ابن الأنباري: الجناح للإنسان مشبه للطائر، ففي
حال تشبه العرب رجلي الإنسان بجناحي الطائر، فيقولون: قد مضى فلان طائرا في حاجته،
يعنون ساعيا على قدميه، وفي حال يجعلون العضد منه بمنزلة جناحي الطائر، كقوله: " و اضمم يدك
إلى جناحك "، وفي حال يجعلون العصا بمنزلة الجناح، لأن الإنسان يدفع بها عن نفسه كدفع
الطائر عن نفسه بجناحه، كقوله [تعالى]: (واضمم إليك جناحك من الرهب)، وإنما يوقع
الجناح على هذه الأشياء تشبيها واستعارة، كما يقال: قد قض جناح الإنسان، وقد قطعت يده
ورجله: إذا وقعت به جائحه أبطلت تصرفه، ويقول الرجل للرجل: أنت يدي ورجلي، أي: أنت من
به أصل إلى محابي، قال جرير:
سأشكر أن رددت إلي ريشي * وأنبت القوادم في جناحي
وقالت امرأة من العرب ترثي زوجها الأغر:
يا عصمتي في النائبات ويا * ركني الأغر ويا يدي اليمنى
لا صنت وجها كنت صائنه * أبدا ووجهك في الثرى يبلى
وأما الرهب، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " من الرهب " بفتح الراء والهاء. وقرأ حمزة،
والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " من الرهب " بضم الراء وسكون الهاء. و هي قراءة ابن مسعود،
وابن السميفع. وقرأ أبي بن كعب، والحسن، وقتادة: بضم الراء و الهاء. قال الزجاج: الرهب،
والرهب بمعنى واحد، مثل الرشد، والرشد. وقال أبو عبيدة: الرهب والرهبة بمعنى الخوف والفرق.
وقال ابن الأنباري: الرهب، والرهب، والرهب، مثل الشغل، والشغل، والشغل، والبخل،
والبخل، والبخل، وتلك لغات ترجع إلى معنى الخوف والفرق. وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه لما هرب من الحية أمره الله [تعالى] أن يضم إليه جناحه ليذهب عنه الفزع. قال
98

ابن عباس: المعنى: اضمم يدك إلى صدرك من الخوف ولا خوف عليك. وقال مجاهد: كل من
فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع.
و الثاني: أنه لما هاله بياض يده وشعاعها، أمر أن يدخلها في جيبه، فعادت إلى حالتها
الأولى.
والثالث: أن معنى الكلام: سكن روعك، وثبت جأشك. قال أبو علي: ليس يراد به الضم
بين الشيئين، إنما أمر بالعزم على ما أمر به والجد فيه، ومثله: اشدد حيازيمك للموت.
قوله تعالى: (فذانك) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " فذانك " بالتشديد. و قرأ الباقون:
" فذانك " بالتخفيف. قال الزجاج: التشديد تثنية " ذلك "، و التخفيف تثنية " ذاك "، فجعل اللام
في " ذلك " بدلا من تشديد النون في " ذانك "، (برهانان) أي: بيانان اثنان. قال المفسرون:
" فذانك " يعني العصا واليد، حجتان من الله [تعالى] لموسى على صدقه، (إلى فرعون) أي:
أرسلنا بهاتين الآيتين إلى فرعون. وقد سبق تفسير ما بعد هذا إلى قوله تعالى: (هو أفصح مني
لسانا) أي: أحسن بيانا، لأن موسى كان في لسانه أثر الجمرة التي تناولها، (فأرسله معي ردءا)
قرأ الأكثرون: " ردءا " بسكون الدال وبعدها همزة. وقرأ أبو جعفر: " ردا " بفتح الدال وألف بعدها
من غير همز و لا تنوين، وقرأ نافع كذلك إلا أنه نون. قال الزجاج: الردء: العون، يقال: ردأته
أردؤه ردءا: إذا أعنته.
قوله تعالى: (يصدقني) قرأ عاصم، و حمزة: " يصدقني " بضم القاف. وقرأ الباقون
بسكون القاف. قال الزجاج: من جزم " يصدقني " فعلى جواب المسألة: أرسله يصدقني، ومن
رفع، فالمعنى: ردءا مصدقا لي. وأكثر المفسرين على أنه أشار بقوله [تعالى]: (يصدقني) إلى
هارون، وقال مقاتل بن سليمان: لكي يصدقني فرعون.
قوله تعالى: (سنشد عضدك بأخيك) قال الزجاج: المعنى: سنعينك بأخيك، ولفظ العضد
على جهة المثل، لأن اليد قوامها عضدها، وكل معين فهو عضد، (ونجعل لكما سلطانا) أي:
حجة بينة. وقيل للزيت: السليط، لأنه يستضاء به، فالسلطان: أبين الحجج.
قوله تعالى: (فلا يصلون إليكما) أي: بقتل ولا أذى. وفي قوله تعالى: (بآياتنا) ثلاثة
أقوال:
أحدها: أن المعنى: تمتنعان منهم بآياتنا وحججنا فلا يصلون إليكما.
99

و الثاني: أنه متعلق بما بعده، فالمعنى: بآياتنا أنتما و من اتبعكما الغالبون، أي: تغلبون
بآياتنا.
والثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، تقديره: ونجعل لكما سلطانا بآياتنا فلا يصلون
إليكما.
فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا
الأولين (36) وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة
الدار إنه لا يفلح الظالمون (37)
قوله تعالى: (ما هذا إلا سحر مفترى) أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر افتريته من قبل
نفسك ولم تبعث به (و ما سمعنا بهذا) الذي تدعونا إليه (في آبائنا الأولين)، (وقال موسى
ربي أعلم) وقرأ ابن كثير: " قال موسى " بلا واو، وكذلك هي في مصاحفهم (بمن جاء
بالهدى) أي: هو أعلم بالمحق منا، (ومن تكون له عاقبة الدار) وقرأ حمزة، والكسائي،
وخلف، والمفضل: " يكون " بالياء، والباقون بالتاء.
وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل
لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين (38) واستكبر هو وجنوده
في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم
في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (40) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة
لا ينصرون (41) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين (42)
قوله تعالى: (فأوقد لي يا هامان على الطين) قال ابن قتيبة: المعنى: اصنع لي الآجر
(فاجعل لي صرحا) أي: قصرا عاليا. وقال الزجاج: الصرح: كل بناء متسع مرتفع. وجاء في
التفسير أنه لما أمر هامان - وهو وزيره - ببناء الصرح، جمع العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف
بناء سوى الأتباع، فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد قط، فلما تم ارتقى فرعون
100

فوقه، وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء، فردت وهي متلطخة بالدم، فقال: قد قتلت إله موسى،
فبعث الله تعالى جبريل فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، فوقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت
ألف ألف رجل، ووقعت قطعة أخرى في البحر، وأخرى في المغرب.
قوله تعالى: (لعلي أطلع إلى إله موسى) أي: أصعد إليه وأشرف عليه (وإني لأظنه)
يعني موسى (من الكاذبين) في ادعائه إلها غيري. وقال ابن جرير: المعنى: أظن موسى كاذبا في
ادعائه أن في السماء ربا أرسله. (واستكبر هو وجنوده في الأرض) يعني أرض مصر (بغير
الحق) أي: بالباطل والظلم (وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون) بالبعث للجزاء. قرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، وعاصم، وابن عامر: " يرجعون " برفع الياء، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: بفتحها.
قوله تعالى: (وجعلناهم) أي: في الدنيا (أئمة) أي: قادة في الكفر يأتم بهم العتاة
(يدعون إلى النار) لأن من أطاعهم دخلها، و " ينصرون " بمعنى: يمنعون من العذاب. وما بعد
هذا مفسر في هود.
قوله تعالى: (من المقبوحين) أي: من المبعدين الملعونين، قال أبو زيد: يقال: قبح الله
فلانا، أي: أبعده من كل خير. وقال ابن جريج: معنى الآية: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم
القيامة لعنة أخرى، ثم استقبل الكلام، فقال: هم من المقبوحين.
ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى
ورحمة لعلهم يتذكرون (43) وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما
كنت من الشاهدين (44) ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل
مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين (45) وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة
من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (46) ولولا أن تصيبهم
مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون
من المؤمنين (47)
101

قوله تعالى: (من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (بصائر
للناس) أي: ليتبصروا به ويهتدوا.
قوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي) قال الزجاج: أي: وما كنت بجانب الجبل
الغربي.
قوله تعالى: (إذ قضينا إلى موسى الأمر) أي: أحكمنا الأمر معه بإرساله إلى فرعون وقومه
(وما كنت من الشاهدين) لذلك الأمر، وفي هذا بيان لصحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، لأنهم يعلمون أنه لم
يقرأ الكتب، ولم يشاهد ما جرى، فلولا أنه أوحي إليه ذلك، ما علم.
قوله تعالى: (و لكنا أنشأنا قرونا) أي: خلقنا أمما من بعد موسى (فتطاول عليهم العمر)
أي: طال إمهالهم فنسوا عهد الله وتركوا أمره، وهذا يدل على أنه قد عهد إلى موسى وقومه عهود في
أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأمروا بالإيمان به، فلما طال إمهالهم، أعرضوا عن مراعاة العهود، (وما كنت
ثاويا) أي: مقيما (في أهل مدين) فتعلم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة
وأخبرناك خبر المتقدمين، ولولا ذلك ما علمته. (وما كنت بجانب الطور) أي: بناحية الجبل
الذي كلم عليه موسى (إذ نادينا) موسى وكلمناه، هذا قول الأكثرين، وقال أبو هريرة: كان هذا
النداء: يا أمة محمد، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وأستجيب لكم قبل أن تدعوني.
قوله تعالى: (ولكن رحمة من ربك) قال الزجاج: المعنى: لم تشاهد قصص الأنبياء،
ولكنا أوحينا إليك وقصصناها عليك، رحمة من ربك.
(ولولا أن تصيبهم مصيبة) جواب " لولا " محذوف، تقديره: لولا أنهم يحتجون بترك
الإرسال ومؤاثرة الاحتجاج.
فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما
أوتي موسى من قبل قالوا ساحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون (48) قل فأتوا بكتاب
من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين (49) فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما
يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم
الظالمين (50) ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون (51) الذين آتيناهم
102

الكتاب من قبله هم به يؤمنون (52) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا
إنا كنا من قبله مسلمين (53) أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة
السيئة ومما رزقناهم ينفقون (54) وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم
أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين (55)
قوله تعالى: (فلما جاءهم) يعني أهل مكة (الحق من عندنا) وهو محمد [عليه السلام]
والقرآن [قالوا لولا] أي: هلا (أوتي) محمد من الآيات (مثل ما أوتي موسى) كالعصا
واليد. قال المفسرون: أمرت اليهود قريشا أن تسأل محمدا [صلى الله عليه و سلم] مثل ما أوتي موسى، فقال الله
تعالى: (أو لم يكفروا بما أوتي موسى) أي: فقد كفروا بآيات موسى، و (قالوا) في المشار
إليهم قولان:
أحدهما: اليهود.
والثاني: قريش. (سحران) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " ساحران ".
(تظاهرا) أي: تعاونا. وروى العباس الأنصاري عن أبي عمرو: " تظاهرا " بتشديد الظاء. و فيمن
عنوا ثلاثة أقوال:
أحدها: موسى ومحمد، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، فعلى هذا هو من قول
مشركي العرب.
والثاني: موسى وهارون، قاله مجاهد، فعلى هذا هو من قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة.
والثالث: محمد وعيسى [عليهما السلام]، قاله قتادة، فعلى هذا هو من قول اليهود الذين لم
يؤمنوا بنبينا. و قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " سحران " وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: التوراة والفرقان، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: الإنجيل والقرآن، قاله قتادة.
والثالث: التوراة والإنجيل، قاله أبو مجلز، وإسماعيل بن أبي خالد. ومعنى الكلام: كل
سحر منهما يقوي الآخر، فنسب التظاهر إلى السحرين توسعا في الكلام، (وقالوا إنا بكل
كافرون) يعنون ما تقدم ذكره على اختلاف الأقوال، فقال الله تعالى لنبيه (قل) لكفار مكة
(فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما) أي: من التوراة والقرآن، (إن كنتم صادقين) أنهما
ساحران. (فإن لم يستجيبوا لك) أي: فإن لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن، (فاعلم أنما يتبعون
أهواءهم) أي: أن ما ركبوه من الكفر لم يحملهم عليه حجة، وإنما آثروا فيه الهوى (و من أضل)
103

أي: ولا أحد أضل (ممن اتبع هواه بغير هدى) أي: بغير رشاد ولا بيان جاء (من الله).
(ولقد وصلنا لهم القول) وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وابن يعمر: " وصلنا " بتخفيف الصاد.
وفى المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم قريش، قاله الأكثرون، منهم مجاهد.
والثاني: اليهود، قاله رفاعة القرظي.
والمعنى: أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضا، ويخبر عن الأمم الخالية كيف عذبوا لعلهم
يتعظون. (الذين آتيناهم الكتاب) وفيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم مؤمنو أهل الكتاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
والثاني: مسلمو أهل الإنجيل، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أربعين من أصحاب
النجاشي قدموا على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فشهدوا معه أحدا، فنزلت فيهم هذه الآية.
والثالث: مسلمو اليهود، كعبد الله بن سلام وغيره، قاله السدي.
قوله تعالى: (من قبله) أي: من قبل القرآن (هم به) في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأن ذكره كان مكتوبا عندهم في كتبهم، فآمنوا به.
والثاني: إلى القرآن.
قوله تعالى: (و إذ يتلى عليهم) يعني القرآن (قالوا آمنا به)، (إنا كنا): من قبل نزول
القرآن (مسلمين) أي: مخلصين لله [تعالى] مصدقين لمحمد، وذلك لأن ذكره كان في كتبهم
فآمنوا به (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم مؤمنو أهل الكتاب، وهذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وفيما صبروا عليه
قولان: أحدهما: أنهم صبروا على الكتاب الأول، صبروا على اتباعهم محمدا [صلى الله عليه و آله و سلم]، قاله قتادة،
وابن زيد.
والثاني: أنهم صبروا على الإيمان بمحمد [صلى الله عليه و آله و سلم] قبل أن يبعث، ثم على اتباعه حين بعث،
قاله الضحاك.
والقول الثاني: أنهم قوم من المشركين أسلموا، فكان قومهم يؤذونهم، فصبروا على الأذى،
قاله مجاهد.
قوله تعالى: (و يدرؤون بالحسنة السيئة) فيه أقوال قد شرحناها في الرعد.
قوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو) فيه ثلاثة أقوال:
104

أحدها: الأذى والسب، قاله مجاهد.
والثاني: الشرك، قاله الضحاك.
والثالث: أنهم قوم من اليهود آمنوا، فكانوا يسمعون ما غير اليهود من صفة رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
فيكرهون ذلك ويعرضون عنه، قاله ابن زيد. وهل هذا منسوخ، أم لا؟ فيه قولان:
وفى قوله تعالى: (وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) قولان:
أحدهما: لنا ديننا ولكم دينكم.
والثاني: لنا حلمنا ولكم سفهكم.
(سلام عليكم) قال الزجاج: لم يريدوا التحية، وإنما أرادوا: بيننا وبينكم المتاركة، وهذا
قبل ان يؤمر المسلمون بالقتال. وذكر أهل التفسير أن هذا منسوخ بآية السيف. و في قوله تعالى:
(لا نبتغي الجاهلين) ثلاثة أقوال:
أحدها: لا نبتغي دين الجاهلين.
والثاني: لا نطلب مجاورتهم.
والثالث: لا نريد أن نكون جهالا.
والله أعلم
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56) وقالوا
إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات
كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون (57) وكم أهلكنا من قرية بطرت
معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين (58)
قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله [تعالى]: (ما
كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين)، وقد روى مسلم فيما انفرد به عن البخاري من
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: لعمه: " قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم
القيامة "، فقال: لولا أن تعيرني نساء قريش، يقلن: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها
105

عينك، فأنزل الله عز وجل: (إنك لا تهدي من أحببت). قال الزجاج: أجمع المفسرون أنها
نزلت في أبي طالب.
وفي قوله تعالى: (من أحببت) قولان:
أحدهما: من أحببت هدايته.
والثاني: من أحببته لقرابته.
(ولكن الله يهدي من يشاء) أي: يرشد لدينه من يشاء (و هو أعلم بالمهتدين) أي: بمن
قدر له الهدى.
قوله تعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك) قال ابن عباس في رواية العوفي: هم ناس من
قريش قالوا ذلك. وقال في رواية ابن أبي مليكة: إن الحارث بن عامر بن نوفل قال ذلك. وذكر
مقاتل أن الحارث بن عامر قال لرسوله الله [صلى الله عليه و آله وسلم]: إنا لنعلم أن الذي تقول حق، ولكن يمنعنا أن
نتبع الهدى معك مخافة أن تتخطفنا العرب لمخالفتنا إياها. والتخطف: الانتزاع بسرعة، فرد الله
عليهم قولهم، فقال [تعالى]: (أو لم نمكن لهم حرما) أي: أو لم نسكنهم حرما ونجعله مكانا
لهم، ومعنى (آمنا): ذو أمن يأمن فيه الناس، وذلك أن العرب كانت يغير بعضها على بعض،
وأهل مكة آمنون في الحرم من القتل والسبي والغارة، أي: فكيف يخافون إذا أسلموا وهم في حرم
آمن؟! (يجبى) قرأ نافع: " تجبى " بالتاء، أي: تجمع إليه وتحمل من كل النواحي الثمرات،
(رزقا من لدنا) أي: من عندنا (و لكن أكثرهم يعني أهل مكة (لا يعلمون) أن الله [تعالى]
هو الذي فعل بهم ذلك فيشكرونه. ومعنى الآية: إذا كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبدون
غيري، فكيف تخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي؟! ثم خوفهم عذاب الأمم الخالية فقال [تعالى]:
(وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) قال الزجاج: " معيشتها " منصوبة باسقاط " في "،
والمعنى: بطرت في معيشتها، والبطر: الطغيان في النعمة. قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق
الله وعبدوا الأصنام.
106

قوله تعالى: (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا) قال ابن عباس: لم يسكنها إلا
المسافرون ومار الطريق يوما أو ساعة، والمعنى: لم تسكن من بعدهم إلا سكنى قليلة (وكنا نحن
الوارثين) أي: لم يخلفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم، فبقيت خرابا غير مسكونة.
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي
القرى إلا وأهلها ظالمون (59) وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله
خير وأبقى أفلا تعقلون (60) أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع
الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين (61)
(وما كان ربك مهلك القرى) يعني القرى الكافر أهلها (حتى يبعث في أمها) أي: في
أعظمها (رسولا)، وإنما خص الأعظم ببعثة الرسول، لأن الرسول إنما يبعث إلى الأشراف،
وأشراف القوم ملوكهم، وإنما يسكنون المواضع التي هي أم ما حولها. وقال قتادة: أم القرى: مكة،
والرسول: محمد [صلى الله عليه و آله و سلم]
قوله تعالى: (يتلوا عليهم آياتنا) قال مقاتل: يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم
يؤمنوا.
قوله تعالى: (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) أي: بظلمهم أهلكهم. وظلمهم:
شركهم. (وما أوتيتم من شئ) أي: ما أعطيتم من مال وخير (فمتاع الحياة الدنيا) تتمتعون به
أيام حياتكم ثم يفنى وينقضي، (وما عند الله) من الثواب (خير وأبقى) أفضل وأدوم لأهله
(أفلا تعقلون) أن الباقي أفضل من الفاني؟!
قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعدا حسنا) اختلف فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] وأبي جهل.
والثاني: في علي وحمزة [رضي الله عنهما]، وأبي جهل. والقولان مرويان عن مجاهد.
والثالث: في المؤمن والكافر، قاله قتادة.
والرابع: في عمار والوليد بن المغيرة، قاله السدي.
وفي الوعد الحسن قولان:
107

أحدهما: الجنة.
والثاني: النصر.
قوله تعالى: (فهو لاقيه) أي: مصيبه ومدركه (كمن متعناه متاع الحياة الدنيا) أي: كمن
هو ممتع بشئ يفنى ويزول عن قريب (ثم هو يوم القيامة من المحضرين) فيه قولان:
أحدهما: من المحضرين في عذاب الله [تعالى]، قاله قتادة.
والثاني: من المحضرين للجزاء، حكاه الماوردي.
ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (62) قال الذين حق عليهم القول
ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون (63)
وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون (64)
ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (65) فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا
يتساءلون (66) فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين (67)
قوله تعالى: (و يوم يناديهم) أي: ينادي الله تعالى المشركين يوم القيامة (فيقول أين
شركائي) هذا على وجه حكاية قولهم، والمعنى: أين شركائي في قولكم؟! (قال الذين حق
عليهم القول) أي: وجب عليهم العذاب، وهم رؤساء الضلالة، وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم رؤوس المشركين.
والثاني: أنهم الشياطين (ربنا هؤلاء الذين أغوينا) يعنون الأتباع (أغويناهم كما غوينا)
أي: أضللناهم كما ضللنا (تبرأنا إليك) أي: تبرأنا منهم، والمعنى أنهم يتبرأ بعضهم من بعض
ويصيرون أعداء. (وقيل) لكفار بني آدم (ادعوا شركاءكم) أي: استغيثوا بآلهتكم لتخلصكم
من العذاب (فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) أي: فلم يجيبوهم إلى نصرهم (و رأوا العذاب لو أنهم
كانوا يهتدون) قال الزجاج: جواب " لو " محذوف، والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لما اتبعوهم
ولما رأوا العذاب.
قوله تعالى: (ويوم يناديهم) أي: ينادي الله الكفار ويسألهم (فيقول ماذا أجبتم
المرسلين). (فعميت عليهم الأنباء) وقرأ أبو رزين العقيلي، وقتادة، وأبو العالية، وأبو المتوكل،
108

وعاصم الجحدري: " فعميت " برفع العين وتشديد الميم، قال المفسرون: خفيت عليهم الحجج،
وسميت أنباء، لأنها أخبار يخبر بها. قال ابن قتيبة: المعنى: عموا عنها - من شدة الهول - فلم
يجيبوا، و " الأنباء " الحجج.
قوله تعالى: (فهم لا يتساءلون) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجة، قاله الضحاك.
والثاني: أن المعنى: سكتوا فلا يتساءلون في تلك الساعة، قاله الفراء.
والثالث: لا يسأل بعضهم بعضا أن يحمل عنه شيئا من ذنوبه، حكاه الماوردي.
(فأما من تاب) من الشرك (وآمن) أي: صدق بتوحيد الله [عز وجل] (و عمل
صالحا) أدى الفرائض (فعسى أن يكون من المفلحين) و " عسى " من الله [عز وجل] واجب.
وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون (68)
وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (69) وهو الله لا إله إلا هو له الحمد
في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون (70)
قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) روى العوفي عن ابن عباس في قوله [تعالى]:
(وربك يخلق ما يشاء ويختار) قال: كانوا يجعلون لآلهتهم خير أموالهم في الجاهلية. وقال
مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين
عظيم " والمعنى أنه لا تبعث الرسل باختيارهم. قال الزجاج: والوقف الجيد على قوله
[تعالى]: " ويختار " وتكون " ما " نفيا، والمعنى: ليس لهم أن يختاروا على الله [تعالى]: ويجوز
أن تكون " ما " بمعنى " الذي "، فيكون المعنى: ويختار الذي لهم فيه الخيرة مما يتعبدهم به
ويدعوهم إليه، قال الفراء: والعرب تقول لما تختاره: أعطني الخيرة والخيرة والخيرة، قال ثعلب:
كلها لغات.
قوله تعالى: (ما تكن صدورهم) أي: ما تخفي من الكفر والعداوة (وما يعلنون)
بألسنتهم.
109

قوله تعالى: (له الحمد في الأولى والآخرة أي: يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الجنة
(وله الحكم) وهو الفصل بين الخلائق. والسرمد: الدائم.
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء
أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله
غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار
لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين
كنتم تزعمون (74) ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل
عنهم ما كانوا يفترون (75)
قوله تعالى: (أفلا تسمعون) أي: سماع فهم وقبول فتستدلوا بذلك على وحدانية الله
تعالى؟! ومعنى (تسكنون فيه): تستريحون من الحركة والنصب (أفلا تبصرون) ما أنتم عليه
من الخطأ والضلالة؟! ثم أخبر أن الليل والنهار رحمة منه. وقوله تعالى: (لتسكنوا فيه) يعني في
الليل (و لتبتغوا من فضله) أي: لتلتمسوا من رزقه بالمعاش في النهار (و لعلكم تشكرون) الذي
أنعم عليكم بهما.
قوله تعالى: (و نزعنا من كل أمة شهيدا) أي: أخرجنا من كل أمة رسولها الذي يشهد عليها
بالتبليغ (فقلنا هاتوا برهانكم) أي: حجتكم على ما كنتم تعبدون من دوني (فعلموا أن الحق
لله) أي: علموا أنه لا إله إلا هو (وضل عنهم) أي: بطل في الآخرة (ما كانوا يفترون) في
الدنيا من الشركاء.
إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه
لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين (76) وابتغ
فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك
110

ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين (77)
قوله تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى) أي: من عشيرته، وفي نسبه إلى موسى ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه كان ابن عمه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عبد الله بن الحارث،
وإبراهيم، وابن جريج.
والثاني: ابن خالته، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: أنه كان عم موسى، قاله ابن إسحاق.
قال الزجاج: " قارون " اسم أعجمي لا ينصرف، ولو كان " فاعولا " من العربية من " قرنت
الشئ " لانصرف.
قوله تعالى: (فبغى عليهم) فيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه جعل لبغي جعلا على أن تقذف موسى بنفسها، ففعلت، فاستحلفها موسى على ما
قالت، فأخبرته بقصتها، فكان هذا بغيه، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه بغى بالكفر بالله تعالى، قاله الضحاك.
والثالث: بالكبر، قاله قتادة.
والرابع: أنه زاد في طول ثيابه شبرا، قاله عطاء الخراساني، وشهر بن حوشب.
والخامس: أنه كان يخدم فرعون فتعدى على بني إسرائيل وظلمهم، حكاه الماوردي. وفي
المراد بمفاتحه قولان:
أحدهما: أنها مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب، قاله مجاهد، وقتادة. وروى الأعمش
عن خيثمة قال: كانت مفاتيح قارون وقر ستين بغلا، وكانت من جلود، كل مفتاح مثل الأصبع.
والثاني: أنها خزائنه، قاله السدي، وأبو صالح، والضحاك. قال الزجاج: وهذا الأشبه أن
تكون مفاتحه خزائن ماله، وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة. قال أبو صالح: كانت خزائنه تحمل على
أربعين بغلا.
قوله تعالى: (لتنوء بالعصبة) أي: تثقلهم وتميلهم. ومعنى الكلام: لتنيء العصبة، فلما
دخلت الباء في " العصبة " انفتحت التاء، كما تقول: هذا يذهب بالأبصار، وهذا يذهب الأبصار،
وهذا اختيار الفراء، وابن قتيبة والزجاج في آخرين. وقال بعضهم: هذا من المقلوب، وتقريره: ما
إن العصبة لتنوء بمفاتحه، كما يقال: إنها لتنوء بها عجيزتها، أي: هي تنوء بعجيزتها، وأنشدوا:
111

فديت بنفسه نفسي ومالي * وما آلوك إلا ما أطيق
أي: فديت بنفسي وبمالي نفسه، وهذا اختيار أبي عبيدة، والأخفش. وقد بينا معنى العصبة
في سورة يوسف، وفي المراد هاهنا ستة أقوال:
أحدها: أربعون رجلا، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: ما بين الثلاثة إلى العشرة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: خمسة عشر، قاله مجاهد.
والرابع: فوق العشرة إلى الأربعين، قاله قتادة.
والخامس: سبعون رجلا، قاله أبو صالح.
والسادس: ما بين الخمسة عشر إلى الأربعين، حكاه الزجاج.
قوله تعالى: (إذ قال له قومه) في القائل له قولان:
أحدهما: أنهم المؤمنون من قومه، قاله السدي.
والثاني: أنه قول موسى له، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (لا تفرح) قال ابن قتيبة: المعنى: لا تأشر ولا تبطش، و لا تبطر، قال
الشاعر:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني * ولا جازع من صرفه المتحول
أي: لست بأشر، فأما السرور، فليس بمكروه: (إن الله لا يحب الفرحين) وقرأ أبو رجاء،
وأبو حيوة، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة: " الفارحين " بألف.
قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله) أي: اطلب فيما أعطاك الله من الأموال. وقرأ أبو
المتوكل، وابن السميفع: " واتبع " بتشديد التاء وكسر الباء وعين ساكنة غير معجمة (الدار
الآخرة) وهي: الجنة، وذلك يكون بانفاقه في رضى الله [تعالى] وشكر المنعم (ولا تنس
نصيبك من الدنيا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يعمل في الدنيا للآخرة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور.
والثاني: أن يقدم الفضل ويمسك ما يغنيه، قاله الحسن.
والثالث: أن يستغني بالحلال عن الحرام، قاله قتادة. و في معنى (و أحسن كما أحسن الله إليك) ثلاثة
أقوال:
112

أحدها: أعط فضل مالك كما زادك على قدر حاجتك.
والثاني: أحسن فيما افترض عليك كما أحسن في إنعامه إليك.
والثالث: أحسن في طلب الحلال كما أحسن إليك في الإحلال.
قوله تعالى: (ولا تبغ الفساد في الأرض) فتعمل فيها بالمعاصي.
قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون
من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون (78)
قوله تعالى: (إنما أوتيته) يعني المال (على علم عندي) فيه خمسة أقوال:
أحدها: على علم عندي بصنعة الذهب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، قال الزجاج: وهذا
لا أصل له، لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له.
والثاني: برضى الله عني، قاله ابن زيد.
والثالث: على خير علمه الله [تعالى] عندي، قاله مقاتل.
والرابع: إنما أعطيته لفضل علمي، قاله الفراء. قال الزجاج: ادعى أنه أعطي المال لعلمه
بالتوراة.
والخامس: على علم عندي بوجوه المكاسب، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (أولم يعلم) يعني قارون (أن الله قد أهلك) بالعذاب (من قبله من
القرون) في الدنيا حين كذبوا رسلهم (من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا) للأموال.
وفي قوله تعالى: (و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يسألون ليعلم ذلك من قبلهم وإن سئلوا سؤال توبيخ، قاله الحسن.
والثاني: أن الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا تسألهم عن ذنوبهم، قاله مجاهد.
والثالث: يدخلون النار بغير حساب، قاله قتادة. وقال السدي: يعذبون ولا يسألون عن
ذنوبهم.
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي
قارون إنه لذو حظ عظيم (79) وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل
113

صالحا ولا يلقها إلا الصابرون (80)
قوله تعالى: (فخرج على قومه في زينته) قال الحسن: في ثياب حمر وصفر، و عكرمة: في
ثياب معصفرة. وقال وهب بن منبه: خرج على بغلة شهباء عليها سرج أحمر من أرجوان، ومعه أربعة
آلاف مقاتل، وثلاثمائة وصيفة عليهن الحلي والزينة على بغال بيض. قال الزجاج: الأرجوان في
اللغة: صبغ أحمر.
قوله تعالى: (لذو حظ) أي: لذو نصيب وافر من الدنيا.
(وقال الذين أوتوا العلم) قال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إسرائيل. وقال مقاتل:
الذين أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة قالوا للذين تمنوا ما أوتي (ويلكم ثواب الله) أي: ما
عنده من الجزاء (خير لمن آمن) مما أعطي قارون.
قوله تعالى: (و لا يلقاها) قال أبو عبيدة: لا يوفق لها ويرزقها. وقرأ أبي بن كعب، وابن
أبي عبلة: " و لا يلقاها " بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. وفي المشار إليها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الأعمال الصالحة، قاله مقاتل.
والثاني: أنها الجنة، والمعنى: لا يعطاها في الآخرة إلا الصابرون على أمر الله تعالى، قاله
ابن السائب.
والثالث: أنها الكلمة التي قالوها، وفي قولهم: " ثواب الله خير "، قاله الفراء.
فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من
المنتصرين (81) وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن
يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون (82)
قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض) لما أمر قارون البغي بقذف موسى على ما سبق
شرحه غضب موسى فدعا عليه، فأوحى الله تعالى إليه: إني قد أمرت الأرض أن تطيعك فمرها،
فقال موسى: يا أرض خذيه، فأخذته حتى غيبت سريره، فلما رأى ذلك ناشده بالرحم، فقال: يا
أرض خذيه، فأخذته حتى غيبت قدميه، فما زال يقول: خذيه، حتى غيبته، فأوحى الله تعالى إليه:
يا موسى ما أفظك، وعزتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته. قال ابن عباس: فخسفت به الأرض إلى
114

الأرض السفلى. وقال سمرة بن جندب: إنه يخسف به كل يوم قامة، فتبلغ به الأرض السفلى يوم
القيامة. قال مقاتل: فلما هلك قارون قال بنو إسرائيل: إنما أهلكه موسى ليأخذ ماله وداره، فخسف
الله [تعالى] بداره وماله بعده بثلاثة أيام.
قوله تعالى: (ينصرونه من دون الله) أي: يمنعونه من الله [تعالى]: (وما كان من
المنتصرين) أي: الممتنعين مما نزل به. ثم أعلمنا أن المتمنين مكانه ندموا على ذلك التمني بالآية
التي تلي هذه.
وقوله تعالى: (لخسف بنا) الأكثرون على ضم الخاء وكسر السين. وقرأ يعقوب، والوليد
عن ابن عامر، وحفص، وأبان عن عاصم: بفتح الخاء والسين.
فأما قوله تعالى: (ويك) فقال ابن عباس: معناه: ألم تر، وكذلك قال أبو عبيدة،
والكسائي. وقال الفراء: " ويك أن " في كلام العرب تقرير، كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله
تعالى وإحسانه، أنشدني بعضهم:
ويك أن من يكن له نشب يحبب * ومن يفتقر يعش عيش ضر
وقال ابن الأنباري: في قوله: (ويك أنه) ثلاثة أوجه:
[الأول]: إن شئت قلت: " ويك " حرف، و " أنه " حرف، والمعنى: ألم تر أنه، والدليل
على هذا قول الشاعر:
سألتاني الطلاق أن رأتاني * قل مالي قد جئتماني بنكر
ويك أن من يكن له نشب يحبب * ومن يفتقر يعش عيش ضر
والثاني: أن يكون " ويك " حرفا، " وأنه " حرفا. والمعنى: ويلك اعلم أنه، فحذفت اللام،
كما قالوا: قم لا أباك، يريدون: لا أبالك، وأنشدوا:
أبالموت الذي لا بد أني * ملاق حتى لا أباك تخوفيني
أراد: لا أبالك، فحذف اللام.
والثالث: أن يكون " وي " حرفا، و " كأنه " حرفا، فيكون المعنى " وي " التعجب، كما
تقول: وي لم فعلت كذا و كذا، ويكون معنى " كأنه ": أظنه وأعلمه، كما تقول في الكلام: كأنك
بالفرج قد أقبل، فمعناه: أظن الفرج مقبلا. وإنما وصلوا الياء بالكاف في قوله [تعالى]:
(ويكأنه) لأن الكلام بهما يكثر، كما جعلوا " يا ابن أم " في المصحف حرفا واحدا، وهما
115

حرفان. وكان جماعة منهم يعقوب، يقفون على " ويك " في الحرفين، ويبتدئون " أن " و " أنه "
في الموضعين. وذكر الزجاج عن الخليل أنه قال: " وي " مفصولة من " كأن " وذلك أن القوم
تندموا فقالوا: " وي " متندمين على ما سلف منهم، وكل من ندم فأظهر ندامته قال: وي. وحكى
ابن قتيبة عن بعض العلماء أنه قال: معنى " ويكأن ": رحمة لك، بلغة حمير.
قوله تعالى: (لولا أن من الله علينا) أي: بالرحمة والمعافاة والإيمان (لخسف بنا).
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة
للمتقين (83) من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا
السيئات إلا ما كانوا يعملون (84)
قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة) يعني الجنة (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض)
وفيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه البغي، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: الشرف والعز، قاله الحسن.
والثالث: الظلم، قاله الضحاك.
والرابع: الشرك، قاله يحيى بن سلام.
والخامس: الاستكبار عن الإيمان، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (ولا فسادا) فيه قولان:
أحدهما: العمل بالمعاصي، قاله عكرمة.
والثاني: الدعاء إلى غير عبادة الله [تعالى]، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: (والعاقبة للمتقين) أي: العاقبة المحمودة لهم.
قوله تعالى: (من جاء بالحسنة) قد فسرناه في سورة النمل.
قوله تعالى: (فلا يجزي الذين عملوا السيئات) قال ابن عباس: يريد الذين أشركوا (إلا ما
كانوا يعملون) أي: إلا جزاء عملهم من الشرك، وجزاؤه النار.
116

إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن
هو في ضلال مبين (85) وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا
تكونن ظهيرا للكافرين (86) ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع
إلى ربك ولا تكونن من المشركين (87) ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل
شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (88)
قوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن) قال مقاتل: خرج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من الغار ليلا،
فمضى من وجهه إلى المدينة فسار في غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق فنزل
الجحفة بين مكة والمدينة، فعرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها، وذكر مولده، فأتاه جبريل فقال: أتشتاق
إلى بلدك ومولدك؟ قال: نعم، قال: فإن الله تعالى يقول: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك
إلى معاد)، فنزلت هذه الآية بالجحفة.
وفى معنى (فرض عليك القرآن) ثلاثة أقوال:
أحدها: فرض عليك العمل بالقرآن، قاله عطاء بن أبي رباح، وابن قتيبة.
والثاني: أعطاك القرآن، قاله مجاهد.
والثالث: أنزل عليك القرآن، قاله مقاتل، والفراء، وأبو عبيدة.
وفي قوله تعالى: (لرادك إلى معاد) ثلاثة أقوال:
أحدها: إلى مكة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية، والضحاك. قال
ابن قتيبة: معاد الرجل: بلده، لأنه يتصرف ثم يعود إلى بلده.
والثاني: إلى معادك من الجنة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والزهري. فإن
اعترض على هذا فقيل: الرد يقتضي أنه قد كان فيما رد إليه، فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه لما كان أبوه آدم في الجنة ثم أخرج، كان كأن ولده أخرج منها، فإذا دخلها فكأنه
أعيد.
والثاني: أنه دخلها ليلة المعراج، فإذا دخلها يوم القيامة رد إليها، ذكرهما ابن جرير.
والثالث: أن العرب تقول: رجع الأمر إلى كذا، وإن لم يكن له كون فيه قط، وأنشدوا:
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وقد شرحنا هذا في قوله (و إلى الله ترجع الأمور) عن ابن عباس، وبه قال أبو سعيد الخدري.
117

والثالث: لرادك إلى القيامة بالبعث، قاله الحسن، والزهري، ومجاهد في رواية، والزجاج.
ثم ابتدأ كلاما يرد به على الكفار حين نسبوا النبي [صلى الله عليه و آله و سلم] إلى الضلال، فقال: (قل ربي
أعلم من جاء بالهدى)، و المعنى: قد علم أني جئت بالهدى، وأنكم في ضلال مبين. ثم ذكره
نعمه، فقال: (و ما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب) أي: أن تكون نبيا وأن يوحى إليك القرآن
(إلا رحمة من ربك) قال الفراء: هذا استثناء منقطع، والمعنى: إلا أن ربك رحمك فأنزله عليك
(فلا تكونن ظهيرا للكافرين) أي: عونا لهم على دينهم، وذلك أنهم دعوه إلى دين آبائه فأمر
بالاحتراز منهم، والخطاب بهذا وأمثاله له، والمراد أهل دينه لئلا يظاهروا الكفار ولا يوافقوهم.
قوله تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه) فيه قولان:
أحدهما: إلا ما أريد به وجهه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الثوري.
والثاني: إلا هو، قاله الضحاك، وأبو عبيدة.
قوله تعالى: (له الحكم) أي: الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره (وإليه
ترجعون).
118

(29) سورة العنكبوت مكية
وآياتها تسع و ستون
فصل في نزولها
روي العوفي عن ابن عباس أنها مكية، وبه قال الحسن، وعطاء، و قتادة، وجابر بن زيد،
ومقاتل. وفي رواية عن ابن عباس أنها مدنية. وقال هبة الله بن سلامة المفسر: نزلت من أولها
إلى رأس العشر بمكة، وباقيها بالمدينة. وقال غيره عكس هذا: نزل العشر بالمدينة، وباقيها
بمكة.
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا
الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3) أم حسب الذين
يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون (4)
قوله تعالى: (ألم. أحسب الناس أن يتركوا) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لما أمر بالهجرة، كتب المسلمون إلى إخوانهم بمكة أنه لا يقبل منكم إسلامكم
119

حتى تهاجروا، فخرجوا نحو المدينة فأدركهم المشركون فردوهم، فأنزل الله تعالى من أول هذه
السورة عشر آيات، فكتبوا إليهم يخبرونهم بما نزل فيهم، فقالوا: نخرج، فان اتبعنا أحد قاتلناه،
فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله تعالى فيهم:
(ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا)، هذا قول الحسن، والشعبي.
والثاني: أنها نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله عز وجل، قاله عبد الله بن عبيد
ابن عمير.
والثالث: أنها نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب حين قتل ببدر، فجزع عليه أبواه
وامرأته، فأنزل الله تعالى في أبويه وامرأته هذه الآية.
قوله تعالى: (أحسب الناس) قال ابن عباس: يريد بالناس: الذين آمنوا بمكة، كعياش
ابن أبي ربيعة، وعمار بن ياسر، وسلمة بن هشام، وغيرهم.
قال الزجاج: لفظ الآية استخبار، ومعناها معنى التقرير والتوبيخ، والمعنى: أحسب الناس
أن يتركوا بأن يقولوا: آمنا، ولأن يقولوا: آمنا، أي: أحسبوا أن يقنع منهم بأن يقولوا: إنا
مؤمنون، فقط، ولا يمتحنون بما يبين حقيقة إيمانهم، (وهم لا يفتنون) أي: لا يختبرون بما
يعلم به صدق إيمانهم من كذبه. و للمفسرين فيه قولان:
أحدهما: لا يفتنون في أنفسهم بالقتل والتعذيب، قاله مجاهد.
والثاني: لا يبتلون بالأوامر والنواهي.
قوله تعالى: (ولقد فتنا الذين من قبلهم) أي: ابتليناهم واختبرناهم، (فليعلمن الله) فيه
ثلاثة أقوال:
أحدها: فليرين الله [عز وجل] الذين صدقوا في إيمانهم عند البلاء إذا صبروا لقضائه،
وليرين الكاذبين في إيمانهم إذا شكوا عند البلاء، قاله مقاتل.
والثاني: فليميزن، لأنه قد علم ذلك من قبل، قاله أبو عبيدة.
و الثالث: فليظهرن ذلك حتى يوجد معلومه، حكاه الثعلبي.
وقرأ علي بن أبي طالب [عليه السلام]، وجعفر بن محمد: " فليعلمن الله " " وليعلمن
الكاذبين " " وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين " بضم الياء وكسر اللام.
قوله تعالى: (أم حسب) أي: أحسب (الذين يعملون السيئات) يعني الشرك (إن
120

يسبقونا) أي: يفوتونا ويعجزونا (ساء ما يحكمون) أي: بئس ما حكموا لأنفسهم حين ظنوا
ذلك. قال ابن عباس: عنى بهم الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والعاص بن هشام، وغيرهم.
من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم (5) ومن جاهد فإنما
يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين (6) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن
عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون (7)
قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله) قد شرحناه في آخر الكهف (فان أجل الله لآت)
يعني الأجل المضروب للبعث، والمعنى: فليعمل لذلك اليوم (و هو السميع) لما يقول
(العليم) بما يعمل. (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) أي: إن ثوابه إليه يرجع.
قوله تعالى: (لنكفرن عنهم سيئاتهم) أي: لنبطلنها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل
(ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) أي: بأحسن أعمالهم، وهو الطاعة، ولا نجزيهم
بمساوئ أعمالهم.
ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس به علم فلا تطعهما
إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (8) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في
الصالحين (9)
قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) وقرأ أبي بن كعب، وأبو مجلز: وعاصم
الجحدري: " إحسانا " بألف. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء: " حسنا " بفتح الحاء والسين.
و روى أبو عثمان النهدي عن سعد بن أبي وقاص، قال: في أنزلت هذه الآية، كنت رجلا
برا بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد! ما هذا الدين الذي قد أحدثت، لتدعن دينك هذا أولا
آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال: يا قاتل أمه، قلت: لا تفعلي يا أماه، إني لا أدع ديني
هذا لشئ، قال: فمكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد جهدت، ثم مكثت يوما آخر وليلة لا
تأكل، فلما رأيت ذلك قلت: تعلمين والله يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما
121

تركت ديني هذا لشئ، فكلي، وإن شئت لا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت فأنزلت هذه الآية. وقيل:
أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة، وقد جرى له مع أمه نحو هذا. ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية، التي
في لقمان وفي الأحقاف: نزلن في قصة سعد.
قال الزجاج: من قرأ: " حسنا " فمعناه: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن، ومن
قرأ: " إحسانا " فمعناه: ووصينا الإنسان أن يحسن إلى والديه، وكان " حسنا " أعم في البر.
(وإن جاهداك) قال أبو عبيدة: مجاز هذا الكلام مجاز المختصر الذي فيه ضمير،
والمعنى: وقلنا له: وإن جاهداك.
قوله تعالى: (لتشرك بي) معناه: لتشرك بي شريكا لا تعلمه لي وليس لأحد بذلك علم،
(فلا تطعهما).
قوله تعالى: (لندخلنهم في الصالحين) أي: في زمرة الصالحين في الجنة. وقال
مقاتل: " في " بمعنى " مع ".
ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن
جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين (10)
وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين (11)
قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدوا، رواه عكرمة عن
ابن عباس.
والثاني: نزلت في قوم كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله [تعالى] أو مصيبة
في أنفسهم وأموالهم افتتنوا، قاله مجاهد.
122

والثالث: نزلت في ناس من المنافقين بمكة، كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا أو أصابهم بلاء من
المشركين رجعوا إلى الشرك، قاله الضحاك.
والرابع: أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة، كان أسلم، فخاف على نفسه من أهله
وقومه، فخرج من مكة هاربا إلى المدينة، وذلك قبل قدوم رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] إلى المدينة، فجزعت
أمه فقالت لأخويه أبي جهل والحارث ابني هشام - وهما أخواه لأمه -: والله لا آوي بيتا ولا آكل
طعاما ولا أشرب شرابا حتى تأتياني به، فخرجا في طلبه فظفرا به، فلم يزالا به حتى تابعهما
وجاءا به إليها، فقيدته، وقالت: والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بمحمد، ثم أقبلت
تجلده وتعذبه حتى كفر بمحمد عليه السلام جزعا من الضرب، فنزلت فيه هذه الآية، ثم هاجر بعد
وحسن إسلامه، هذا قول ابن السائب، ومقاتل. وفي رواية عن مقاتل أنهما جلداه في الطريق
مائتي جلدة، فتبرأ من دين محمد، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: (فإذا أوذي في الله) أي: ناله أذى أو عذاب بسبب إيمانه (جعل فتنة
الناس) أي: ما يصيبه من عذابهم في الدنيا (كعذاب الله) في الآخرة، وإنما ينبغي أن
يصبر على الأذى في الله تعالى لما يرجو من ثوابه (ولئن جاء نصر من ربك) يعني دولة للمؤمنين
(ليقولن) يعني المنافقين للمؤمنين (إنا كنا معكم) على دينكم، فكذبهم الله تعالى وقال:
(أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) من الإيمان والنفاق. وقد فسرنا الآية التي تلي هذه
في أول السورة.
وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم
من شئ إنهم لكاذبون (12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة
عما كانوا يفترون (13)
قوله تعالى: (اتبعوا سبيلنا) يعنون: ديننا. قال مجاهد: هذا قول كفار قريش لمن آمن
من أهل مكة، قالوا لهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، فإن كان عليكم شئ فهو علينا.
قوله تعالى: (و لنحمل خطاياكم) قال الزجاج: هو أمر في تأويل الشرط والجزاء، يعني
إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم. وقال الأخفش: كأنهم أمروا أنفسهم بذلك. وقرأ الحسن: " ولنحمل " بكسر
اللام. قال ابن قتيبة: الواو زائدة، والمعنى: لنحمل خطاياكم.
123

قوله تعالى: (إنهم لكاذبون) أي: فيما ضمنوا من حمل خطاياهم.
قوله تعالى: (و ليحملن أثقالهم) أي: أوزار أنفسهم (وأثقالا مع أثقالهم) أي: أوزارا
مع أوزارهم، وهي أوزار الذين أضلوهم، وهذا كقوله [تعالى]: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم
القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) (وليسألن يوم القيامة) سؤال توبيخ وتقريع (عما
كانوا يفترون) من الكذب على الله عز وجل، وقال مقاتل: عن قولهم: نحن الكفلاء بكل تبعة
تصيبكم من الله تعالى.
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم
ظالمون (14) فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين (15)
قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) و في هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث أعلم أن
الأنبياء قد ابتلوا قبله، وفيها وعيد شديد لمن أقام على الشرك، فإنهم وإن أمهلوا، فقد أمهل قوم نوح
أكثر ثم أخذوا.
قوله تعالى: (فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) اختلفوا في عمر نوح على خمسة
أقوال:
أحدها: بعث بعد أربعين سنة، وعاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم، وعاش
بعد الطوفان ستين سنة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس.
والثاني: أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد ذلك سبعين عاما، فكان مبلغ
عمره ألف سنة وعشرين سنة، قاله كعب الأحبار.
والثالث: أنه بعث وهو ابن خمسين وثلاثمائة، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم
عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة، قاله عون بن أبي شداد.
والرابع: أنه لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة، و لبث بعد الطوفان ثلاثمائة و خمسين
سنة، قاله قتادة. وقال وهب بن منبه: بعث لخمسين سنة.
والخامس: أن هذه الآية بينت مقدار عمره كله، حكاه الماوردي. فإن قيل: ما فائدة قوله [تعالى]: " إلا
خمسين عاما "، فهلا قال: تسعمائة وخمسين؟ فالجواب: أن المراد به تكثير العدد، وذكر الألف أفخم في
124

اللفظ، وأعظم للعدد.
وقال الزجاج: تأويل الاستثناء في كلام العرب: التوكيد، تقول: جاءني إخوتك إلا زيدا،
فتؤكد أن الجماعة جاؤوا، وتنقص زيدا. واستثناء نصف الشئ قبيح جدا لا تتكلم به العرب،
وإنما يتكلم بالاستثناء كما يتكلم بالنقصان، تقول: عندي درهم ينقص قيراطا، فلو قلت: ينقص
نصفه، كان الأولى أن تقول: عندي نصف درهم، ولم يأت الاستثناء في كلام العرب إلا قليل من
كثير.
قوله تعالى: (فأخذهم الطوفان) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: الموت، روت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في قوله [تعالى]: " فأخذهم الطوفان "
قال: " الموت ".
والثاني: المطر، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة. قال ابن قتيبة: هو المطر
الشديد.
والثالث: الغرق، قاله الضحاك.
قال الزجاج: الطوفان من كل شئ: ما كان كثيرا مطيفا بالجماعة كلها، فالغرق الذي يشتمل
على المدن الكثيرة: طوفان، وكذلك القتل الذريع، والموت الجارف: طوفان.
قوله تعالى: (و هم ظالمون) قال ابن عباس: كافرون.
قوله تعالى: (و جعلناها) يعني السفينة، قال قتادة: أبقاها الله تعالى آية للناس بأعلى
الجودي. قال أبو سليمان الدمشقي: وجاز أن يكون أراد: الفعلة التي فعلها بهم من الغرق
(آية)، أي عبرة (للعالمين) بعدهم.
وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16) إنما
تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون
لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (17) وإن تكذبوا
فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين (18)
قوله تعالى: (وإبراهيم) قال الزجاج: هو معطوف على نوح، والمعنى: أرسلنا إبراهيم.
125

قوله تعالى: (ذلكم) يعني عبادة الله (خير لكم) من عبادة الأوثان، (إن كنتم
تعلمون) ما هو خير لكم مما هو شر لكم، والمعنى: ولكنكم لا تعلمون. (إنما تعبدون من
دون الله أوثانا) قال الفراء: " إنما " في هذا الموضع حرف واحد، وليست على معنى " الذي "،
وقوله [تعالى]: (وتخلقون إفكا) مردود على " إنما "، كقولك: إنما تفعلون كذا، وإنما
تفعلون كذا. وقال مقاتل: الأوثان: الأصنام. قال ابن قتيبة: واحدها وثن، وهو ما كان من
حجارة أو جص.
قوله تعالى: (وتخلقون إفكا) وقرأ ابن السميفع، وأبو المتوكل: " وتختلقون " بزيادة
تاء. ثم فيه قولان:
أحدهما: تختلقون كذبا في زعمكم أنها آلهة.
والثاني: تصنعون الأصنام، فالمعنى: تعبدون أصناما أنتم تصنعونها. ثم بين عجزهم بقوله
[تعالى]: (لا يملكون لكم رزقا) أي: لا يقدرون على أن يرزقوكم (فابتغوا عند الله الرزق)
أي: فاطلبوا من الله [تعالى]، فإنه القادر على ذلك.
قوله تعالى: (وإن تكذبوا) هذا تهديد لقريش (فقد كذب أمم من قبلكم) والمعنى:
فأهلكوا.
أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19) قل سيروا
في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شئ قدير (20)
يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون (21) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في
السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (22) والذين كفروا بآيات الله ولقائه
أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم (23)
(أولم يروا) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " يروا " بالياء. وقرأ حمزة،
والكسائي: بالتاء. وعن عاصم كالقراءتين وعنى بالكلام كفار مكة (كيف يبدئ الله الخلق)
أي: كيف يخلقهم ابتداء من نطفة، ثم من مضغة إلى أن يتم الخلق (ثم يعيده) أي: ثم هو
يعبده في الآخرة عند البعث. وقال أبو عبيدة: مجازه: أولم يروا كيف استأنف الله الخلق الأول
ثم يعيده. وفيه لغتان: أبدأ وأعاد، وكان مبدئا ومعيدا، وبدأ وعاد، وكان بادئا وعائدا.
126

قوله تعالى: (إن ذلك) يعني الخلق الأول والخلق الثاني.
قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض) أي: انظروا إلى المخلوقات التي في الأرض، وابحثوا عنها هل
تجدون لها خالقا غير الله [عز وجل]، فإذا علموا أنه لا خالق سواه، لزمتهم الحجة في الإعادة، وهو قوله
[تعالى]: (ثم الله ينشئ النشأة الآخرة) أي: ثم الله [تعالى] ينشئهم عند البعث نشأة أخرى. وأكثر القراء
قرؤوا: " النشأة " بتسكين الشين وترك المد. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " النشاءة " بالمد.
قوله تعالى: (يعذب من يشاء) فيه قولان:
أحدهما: أنه في الآخرة بعد إنشائهم.
والثاني: أنه في الدنيا. ثم فيه خمسة أقوال حكاها الماوردي: أحدها: يعذب من يشاء
بالحرص، ويرحم من يشاء بالقناعة. والثاني: يعذب بسوء الخلق ويرحم بحسن الخلق. والثالث:
يعذب بمتابعة البدعة، ويرحم بملازمة السنة. والرابع: يعذب بالانقطاع إلى الدنيا، ويرحم
بالإعراض عنها. والخامس: يعذب من يشاء ببغض الناس له، ويرحم من يشاء بحب الناس له.
قوله تعالى: (و إليه تقلبون) أي: تردون. (و ما أنتم بمعجزين في الأرض) فيه قولان
حكاهما الزجاج:
أحدهما: وما أنتم بمعجزين في الأرض، ولا أهل السماء بمعجزين في السماء.
والثاني: و ما أنتم بمعجزين في الأرض، ولا لو كنتم في السماء. وقال قطرب: هذا
كقولك: ما يفوتني فلان لا هاهنا ولا بالبصرة، أي: ولا بالبصرة لو صار إليها. قال مقاتل:
والخطاب لكفار مكة، والمعنى: لا تسبقون الله حتى يجزيكم بأعمالكم السيئة، (ومالكم من
دون الله من ولي) أي: قريب ينفعكم (ولا نصير) يمنعكم من الله تعالى.
قوله تعالى: (و الذين كفروا بآيات الله ولقائه) أي: بالقرآن والبعث (أولئك يئسوا من
رحمتي) في الرحمة قولان:
أحدهما: الجنة، قاله مقاتل.
والثاني: العفو والمغفرة، قاله أبو سليمان. قال ابن جرير: وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب.
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات
لقوم يؤمنون (24) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا
127

ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من
ناصرين (25)
ثم عاد الكلام إلى قصة إبراهيم، وهو قوله تعالى: (فما كان جواب قومه) أي: حين
دعاهم إلى الله تعالى ونهاهم عن الأصنام (إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه) وهذا بيان لسفه أحلامهم
حين قابلوا احتجاجه عليهم بهذا.
قوله تعالى: (فأنجاه الله) المعنى: فحرقوه فأنجاه الله (من النار).
قوله تعالى: (إن في ذلك) يشير إلى إنجائه إبراهيم.
قوله تعالى: (وقال) يعني إبراهيم (إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم) قرأ ابن
كثير، وأبو عمرو: " مودة بينكم " بالرفع والإضافة. قال الزجاج: (مودة " مرفوعة باضمار " هي "
كأنه: تلك مودة بينكم، أي: ألفتكم واجتماعكم على الأصنام مودة بينكم، والمعنى: إنما
اتخذتم هذه الأوثان لتتوادوا بها في الحياة الدنيا. ويجوز أن تكون " ما " بمعنى الذي.
وقرأ ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وابن أبي عبلة: " مودة " بالرفع " بينكم "
بالنصب.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: " مودة بينكم " قال أبو علي: المعنى:
اتخذتم الأصنام للمودة، و " بينكم " نصب على الظرف، والعامل فيه المودة.
وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: " مودة بينكم " بنصب " مودة " مع الإضافة، وهذا على
الاتساع في جعل الظرف اسما لما أضيف إليه.
قال المفسرون: معنى الكلام: إنما اتخذتموها لتتصل المودة بينكم واللقاء والاجتماع
عندها، وأنتم تعلمون أنها لا تضر ولا تنفع، (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض) أي: يتبرأ
القادة من الأتباع (ويلعن بعضكم بعضا) يلعن الأتباع القادة لأنهم زينوا لهم الكفر.
فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم (26) ووهبنا له
إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة
لمن الصالحين (27) ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من
128

العالمين (28) أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان
جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين (29) قال رب
انصرني على القوم المفسدين (30)
قوله تعالى: (فآمن له لوط) أي: صدق بإبراهيم (و قال) يعني إبراهيم (إني مهاجر
إلى ربي) فيه قولان:
أحدهما: إلى رضى ربي.
والثاني: إلى حيث أمرني ربي، فهاجر من سواد العراق إلى الشام وهجر قومه المشركين.
(ووهبنا له إسحاق) بعد إسماعيل (ويعقوب) من إسحاق (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب)
وذلك أن الله تعالى لم يبعث نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه (وآتيناه أجره في الدنيا) فيه أربعة
أقوال:
أحدها: الذكر الحسن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: الثناء الحسن والولد الصالح، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: العافية والعمل الحسن والثناء، فلست تلقى أحدا من أهل الملل إلا يتولاه، قاله
قتادة.
والرابع: أنه أري مكانه من الجنة، قاله السدي.
قوله تعالى: (و إنه في الآخرة لمن الصالحين) قال ابن جرير: له هناك جزاء الصالحين
غير منقوص من الآخرة بما أعطي في الدنيا من الأجر. وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله
تعالى: (وتقطعون السبيل) وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا يعترضون من مر بهم لعملهم الخبيث، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنهم كانوا إذا جلسوا في مجالسهم يرمون ابن السبيل بالحجارة، فيقطعون سبيل
المسافر، قاله مقاتل.
والثالث: أنه قطع النسل للعدول عن النساء إلى الرجال، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (و تأتون في ناديكم المنكر) قال ابن قتيبة: النادي: المجلس، والمنكر يجمع
الفواحش من القول والفعل. و للمفسرين في المراد بهذا المنكر أربعة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم، فذلك المنكر، روته أم هانئ بنت
129

أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال عكرمة، والسدي: كانوا يحذفون كل من مر بهم.
والثاني: لف القميص على اليد، وجر الإزار، وحل الأزرار، والحذف والرمي بالبندق، ولعب
الحمام، والصفير، في خصال أخر رواها ميمون بن مهران عن ابن عباس.
والثالث: أنه الضراط، رواه عروة عن عائشة، وكذلك فسره القاسم بن محمد.
والرابع: أنه إتيان الرجال في مجالسهم، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد.
وهذه الآية تدل على أنه لا ينبغي للمجتمعين أن يتعاشروا إلا على ما يقرب من الله عز وجل،
ولا ينبغي أن يجتمعوا على الهزء واللعب.
قوله تعالى: (رب انصرني) أي: بتصديق قولي في العذاب.
ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها
كانوا ظالمين (31) قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته
كانت من الغابرين (32) ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف
ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين (33) إنا منزلون على أهل هذه
القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (34) ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون (35)
قوله تعالى: (إنا مهلكو أهل هذه القرية) يعنون قرية لوط.
قوله تعالى: (لننجينه) قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: " لننجينه " و " إنا
منجوك " بتشديد الحرفين، وخففهما حمزة، والكسائي. وروى أبو بكر عن عاصم: " لننجينه "
مشددة، و " إنا منجوك " مخففة ساكنة النون. وقد سبق شرح ما أخللنا بذكره إلى قوله [تعالى]:
(إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا) وهو الحصب والخسف.
قوله تعالى: (و لقد تركنا منها) في المكني عنها قولان:
أحدهما: أنها الفعلة التي فعل بهم، فعلى هذا في الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحجارة
التي أدركت أوائل هذه الأمة، قاله قتادة. والثاني: الماء الأسود على وجه الأرض، قاله مجاهد.
130

والثالث: الخبر عما صنع بهم.
والثاني: أنها القرية، فعلى هذا في المراد بالآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها آثار منازلهم الخربة، قاله ابن عباس.
والثاني: أن الآية في قريتهم إلى الآن أن أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها، حكاه أبو سليمان
الدمشقي.
والثالث: أن المعنى: تركناها آية، تقول: إن في السماء لآية، تريد أنها هي الآية، قاله
الفراء.
وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم أعبدوا الله وأرجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في
الأرض مفسدين (36) فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (37)
قوله تعالى: (وارجوا اليوم الآخر) قال المفسرون: أخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال.
وعاد وثمودا وقد تبين لكم من مساكنكم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن
السبيل وكانوا مستبصرين (38) وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات
فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين (39) فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه
حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان
الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (40)
قوله تعالى: (وعادا) قال الزجاج: وأهلكنا عادا وثمودا، لأن قبل هذا (فأخذتهم الرجفة).
قوله تعالى: (و قد تبين لكم من مساكنهم) أي: ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجاز
واليمن آية في هلاكهم، (و كانوا مستبصرين) قال الفراء: أي: ذوي بصائر. وقال الزجاج: أتوا ما
أتوه وقد تبين لهم أن عاقبته عذابهم. وقال غيره: كانوا عند أنفسهم مستبصرين يظنون أنهم على حق.
قوله تعالى: (وما كانوا سابقين) أي: ما كانوا يفوتون الله [تعالى] أن يفعل بهم ما يريد.
131

قوله تعالى: (فكلا أخذنا بذنبه) أي: عاقبنا بتكذيبه (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا) يعني
قوم لوط (و منهم من أخذته الصيحة) يعني ثمودا وقوم شعيب (و منهم من خسفنا به الأرض) يعني
قارون وأصحابه (ومنهم من أغرقنا) يعني قوم نوح وفرعون (وما كان الله ليظلمهم) فيعذبهم على
غير ذنب (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) بالإقامة على المعاصي.
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت
لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون (41) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز
الحكيم (42) وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (43)
قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء) يعني الأصنام يتخذها المشركون أولياء
يرجون نفعها ونصرها، فمثلهم في ضعف احتيالهم (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) قال ثعلب:
والعنكبوت أنثى، وقد يذكرها بعض العرب، قال الشاعر:
كأن العنكبوت هو ابتناها
قوله تعالى: (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ) أي: هو عالم بما عبدوه من دونه،
لا يخفى عليه ذلك، والمعنى أنه يجازيهم على كفرهم. (وتلك الأمثال) يعني أمثال القرآن التي
شبه بها أحوال الكفار، وقيل: إن " تلك " بمعنى " هذه "، و (العالمون) الذين يعقلون عن الله عز
وجل.
خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين (44) أتل ما أوحي إليك
من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله
يعلم ما تصنعون (45)
(خلق الله السماوات والأرض بالحق) أي: للحق، ولإظهار الحق.
قوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) في المراد بالصلاة قولان:
132

أحدهما: أنها الصلاة المعروفة، قاله الأكثرون. وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه
قال: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعدا ".
والثاني: أن المراد بالصلاة: القرآن، قاله ابن عمر، ويدل على هذا قوله تعالى: (و لا تجهر
بصلاتك) وقد شرحنا معنى الفحشاء والمنكر فيما سبق.
في معنى هذه الآية للعلماء ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الإنسان إذا أدى الصلاة كما ينبغي وتدبر ما يتلو فيها، نهته عن الفحشاء والمنكر،
هذا مقتضاها وموجبها.
والثاني: أنها تنهاه ما دام فيها.
والثالث: أن المعنى: ينبغي أن تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر.
قوله تعالى: (و لذكر الله أكبر) فيه أربعة أقوال:
أحدها: ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه، رواه ابن عمر عن رسول [الله صلى الله عليه و آله و سلم]، وبه قال
ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد في آخرين.
والثاني: ولذكر الله [تعالى] أفضل من كل شئ سواه، وهذا مذهب أبي الدرداء، وسليمان،
وقتادة.
والثالث: ولذكر الله [تعالى] في الصلاة أكبر مما نهاك عنه من الفحشاء والمنكر، قاله عبد
الله بن عون.
والرابع: ولذكر الله [تعالى] العبد - ما كان في صلاته - أكبر من ذكر العبد لله [تعالى] قاله
ابن قتيبة.
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا
بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46)
قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) في التي هي أحسن ثلاثة
أقوال:
133

أحدها: أنها لا إله إلا الله، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: الكف عنهم إذا بذلوا الجزية، فإن أبوا قوتلوا، قاله مجاهد.
والثالث: أنها القرآن والدعاء إلى الله [تعالى] بالآيات والحجج.
قوله تعالى: (إلا الذين ظلموا منهم) وهم الذين نصبوا الحرب وأبوا أن يؤدوا الجزية،
فجادلوا هؤلاء بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (وقولوا) لمن أدى الجزية منهم إذا أخبركم
بشئ مما في كتبهم (آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم...) الآية. وقد روى أبو هريرة قال: كان
أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] " لا
تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم (و قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم..) " الآية.
فصل
واختلف في نسخ هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها نسخت بقوله [تعالى]: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله...) إلى قوله
[تعالى]: (وهم صاغرون) قاله قتادة، والكلبي.
والثاني: أنها ثابتة الحكم، وهو مذهب ابن زيد.
وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء
من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون (47) وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا
تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48) بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم
وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (49)
قوله تعالى: (وكذلك) أي: وكما أنزلنا الكتاب عليهم (أنزلنا إليك
الكتاب فالذين آتيناهم
الكتاب يؤمنون به) يعني مؤمني أهل الكتاب (ومن هؤلاء) يعني أهل مكة (من يؤمن به) وهم
الذين أسلموا (وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) قال قتادة: إنما يكون الجحد بعد المعرفة. قال
مقاتل: وهم اليهود.
134

قوله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب) قال أبو عبيدة: مجازه: ما كنت تقرأ قبله
كتابا، و " من " زائدة. فأما الهاء في " قبله " فهي عائدة إلى القرآن. والمعنى: ما كنت قارئا قبل
الوحي ولا كاتبا، وهكذا كانت صفته في التوراة والإنجيل أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا يدل على
أن الذي جاء به، من عند الله تعالى.
قوله تعالى: (إذا لارتاب المبطلون) أي: لو كنت قارئا كاتبا لشك اليهود فيك، ولقالوا:
ليست هذه صفته في كتابنا. والمبطلون: الذين يأتون بالباطل، وفيهم هاهنا قولان:
أحدهما: كفار قريش، قاله مجاهد.
والثاني: كفار اليهود، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (بل هو آيات بينات) في المكني عنه قولان:
أحدهما: أنه النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن المعنى: بل
وجدان أهل الكتاب في كتبهم أن محمدا [صلى الله عليه و آله و سلم] لا يكتب ولا يقرأ، وأنه أمي، آيات بينات في
صدورهم، وهذا مذهب ابن عباس، والضحاك، وابن جريج. والثاني: أن المعنى: بل محمد
[عليه السلام] ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب، لأنهم يجدونه بنعته
وصفته، قاله قتادة.
والثاني: أنه القرآن، والذين أوتوا العلم: المؤمنون الذين حملوا القرآن على عهد رسول
الله [صلى الله عليه و آله و سلم] وحملوه بعده. وإنما أعطي الحفظ هذه الأمة، وكان من قبلهم لا يقرؤون كتابهم إلا
نظرا، فإذا أطبقوه لم يحفظوا ما فيه سوى الأنبياء، وهذا قول الحسن، و في المراد بالظالمين هاهنا
قولان:
أحدهما: المشركون، قاله ابن عباس.
والثاني: كفار اليهود، قاله مقاتل.
وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين (50)
أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم
يؤمنون (51) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين
آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون (52)
135

قوله تعالى: (وقالوا) يعني كفار مكة (لولا أنزل عليه آيات من ربه) قرأ نافع، وأبو عمرو،
وابن عامر، وحفص عن عاصم: " آيات " على الجمع. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو
بكر عن عاصم: " آية " على التوحيد. وإنما أرادوا: كآيات الأنبياء (قل إنما الآيات عند الله) أي:
هو القادر على إرسالها، وليست بيدي. وزعم بعض علماء أن قوله تعالى: (وإنما أنا نذير مبين)
منسوخ بآية السيف.
ثم بين الله عز وجل أن القرآن يكفي من الآيات التي سألوها بقوله [تعالى]: (أو لم يكفهم أنا
أنزلنا عليك الكتاب)؟! وذكر يحيى بن جعدة أن ناسا من المسلمين أتوا رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] بكتب قد
كتبوها، فيها بعض ما يقول اليهود، فلما نظر إليها ألقاها وقال: " كفى " فنزلت: " أو لم يكفهم " إلى
آخر الآية.
قوله تعالى: (قل كفى بالله) قال المفسرون: لما كذبوا بالقرآن نزلت: (قل كفى بالله بيني
وبينكم شهيدا) يشهد لي أني رسوله، ويشهد عليكم بالتكذيب، وشهادة الله له: إثبات المعجزة له
بانزال الكتاب عليه، (والذين آمنوا بالباطل) قال ابن عباس: بغير الله [تعالى]. وقال مقاتل:
بعبادة الشيطان.
ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا
يشعرون (53) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (54) يوم يغشاهم قوله
العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون (55)
قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب) قال مقاتل: نزلت في النضر بن الحارث حين قال
" فأمطر علينا حجارة من السماء ". و في الأجل المسمى أربعة أقوال:
أحدها: أنه يوم القيامة، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: أجل الحياة إلى حين الموت، وأجل الموت إلى حين البعث، قاله قتادة.
والثالث: مدة أعمارهم، قاله الضحاك.
والرابع: يوم بدر، حكاه الثعلبي.
136

قوله تعالى: (وليأتينهم) يعني العذاب. وقرأ معاذ القارئ، وأبو نهيك، وابن أبي عبلة:
" ولتأتينهم " بالتاء (بغتة وهم لا يشعرون) بإتيانه.
قوله تعالى: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) أي: جامعة لهم.
قوله تعالى: (ويقول ذوقوا) قرأ ابن كثير: بالنون. وقرأ نافع: بالياء. فمن قرأ بالياء، أراد
الملك الموكل بعذابهم، ومن قرأ بالنون، فلأن ذلك لما كان بأمر الله تعالى جاز أن ينسب إليه.
ومعنى (ما كنتم تعملون) أي: جزاء ما عملتم من الكفر والتكذيب.
يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون (56) كل نفس ذائقة الموت ثم
إلينا ترجعون (57) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرقا تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين (58) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون (59) وكأين
من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم (60)
قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: " يا عبادي "
بتحريك الياء. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بإسكانها.
قوله تعالى: (إن أرضي واسعة) وقرأ ابن عامر وحده: " أرضي " بفتح الياء وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه خطاب لمن آمن من أهل مكة، قيل لهم: " إن أرضي " يعني المدينة " واسعة "،
فلا تجاوروا الظلمة في أرض مكة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وكذلك قال مقاتل: نزلت في
ضعفاء مسلمي مكة، إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان، فأرض المدينة واسعة.
والثاني: أن المعنى: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرجوا منها، رواه سعيد بن جبير عن ابن
عباس، وبه قال عطاء.
والثالث: إن رزقي لكم واسع، قاله مطرف بن عبد الله.
قوله تعالى: (فإياي فاعبدون) أثبت فيها الياء يعقوب في الحالين، وحذفها الباقون. قال
الزجاج: أمرهم بالهجرة من الموضع الذي لا تمكنهم فيه عبادة الله إلى حيث تتهيأ لهم العبادة، ثم
خوفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة، فقال: (كل نفس ذائقة الموت) المعنى: فلا تقيموا في دار
الشرك خوفا من الموت (ثم إلينا ترجعون) بعد الموت فنجزيكم بأعمالكم، والأكثرون قرؤوا:
137

" ترجعون " بالتاء على الخطاب، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء.
قوله تعالى: (لنبوئنهم) قرأ ابن كثير، و نافع، وعاصم، وأبو بكر، و ابن عامر: " لنبوئنهم "
بالباء، أي: لننزلنهم. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " لنثوينهم " بالثاء وهو من: ثويت
بالمكان: إذا أقمت به، قال الزجاج: يقال: ثوى الرجل: إذا أقام، وأثويته: إذا أنزلته منزلا يقيم
فيه.
قوله تعالى: (وكأين من دابة) قال ابن عباس: لما أمرهم رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] بالخروج إلى
المدينة، قالوا: يا رسول الله، نخرج إلى المدينة وليس لنا بها عقار ولا مال؟! فمن يؤوينا ويطعمنا؟
فنزلت هذه الآية. قال ابن قتيبة: ومعنى الآية: كم من دابة لا ترفع شيئا لغد، قال ابن عيينة: ليس
شئ يخبأ إلا الإنسان والفأرة والنملة.
قال المفسرون وقوله: (الله يرزقها) أي: حيث ما توجهت (و إياكم) أي: ويرزقكم إن
هاجرتم إلى المدينة (وهو السميع) لقولكم: لا نجد ما ننفق بالمدينة (العليم) بما في قلوبكم.
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى
يؤفكون (61) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شئ عليم (62)
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد
لله بل أكثرهم لا يعقلون (63)
قوله تعالى: (ولئن سألتهم) يعني كفار مكة، وكانوا يقرون بأنه الخالق والرازق، وإنما أمره
أن يقول: (الحمد لله) على إقرارهم، لأن ذلك يلزمهم الحجة فيوجب عليهم التوحيد (بل أكثرهم
لا يعقلون) توحيد الله مع إقرارهم بأنه الخالق. والمراد بالأكثر: الجميع.
وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (64)
فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (65)
ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون (66)
138

قوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) والمعنى: وما الحياة في هذه الدنيا إلا
غرور ينقضي عن قليل (وإن الدار الآخرة) يعني الجنة (لهي الحيوان) قال أبو عبيدة: اللام في
" لهي " زائدة للتوكيد، والحيوان والحياة واحد، والمعنى: لهي دار الحياة التي لا موت فيها، ولا
تنغيص يشوبها كما يشوب الحياة في الدنيا (لو كانوا يعلمون) أي: لو علموا لرغبوا عن الفاني في
الباقي، ولكنهم لا يعلمون.
قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك) يعني المشركين (دعوا الله مخلصين له الدين) أي:
أفردوه بالدعاء. قال مقاتل: والدين بمعنى التوحيد، والمعنى أنهم لا يدعون من يدعونه شريكا له
(فلما نجاهم) أي: خلصهم من أهوال البحر، وأفضوا (إلى البر إذا هم يشركون) في البر، وهذا
إخبار عن عنادهم (ليكفروا بما آتيناهم) هذه لام الأمر، ومعناه التهديد والوعيد، كقوله تعالى:
(اعملوا ما شئتم) و المعنى: ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم (وليتمتعوا) قرأ ابن كثير،
وحمزة، والكسائي بإسكان اللام على معنى الأمر، والمعنى: ليتمتعوا بباقي أعمارهم (فسوف
يعلمون) عاقبة كفرهم. وقرأ الباقون بكسر اللام في " ليتمتعوا "، فجعلوا اللامين بمعنى " كي "،
فتقديره: لكي يكفروا، ولكي يتمتعوا، فيكون معنى الكلام: إذا هم يشركون ليكفروا وليتمتعوا،
أي: لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به في العاجلة من غير نصيب لهم في
الآخرة.
أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله
يكفرون (67) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم
مثوى للكافرين (68) و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69)
قوله تعالى: (أو لم يروا) يعني كفار مكة (أنا جعلنا حرما آمنا) يعني مكة، وقد شرحنا هذا
المعنى في [سورة] القصص (ويتخطف الناس من حولهم) أي: أن العرب يسبي بعضهم بعضا
وأهل مكة آمنون (أفبالباطل) وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: الشرك، قاله قتادة.
والثاني: الأصنام، قاله ابن السائب.
139

والثالث: الشيطان، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (يؤمنون) وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وعاصم الجحدري: " تؤمنون وبنعمة
الله تكفرون " بالتاء فيهما.
قوله تعالى: (وبنعمة الله) يعني: محمدا والإسلام، وقيل: بإنعام الله عليهم حين أطعمهم
وآمنهم (يكفرون)، (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أي: زعم أن له شريكا وأنه أمر
بالفواحش (و كذب بالحق لما جاءه) يعني محمدا والقرآن (أليس في جهنم مثوى للكافرين)؟!
وهذا استفهام بمعنى التقرير، كقول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا
(والذين جاهدوا فينا) أي: قاتلوا أعداءنا لأجلنا (لنهدينهم سبلنا) أي: لنوفقنهم لإصابة
الطريق المستقيمة، وقيل: لنزيدنهم هداية (وإن الله لمع المحسنين) بالنصرة والعون. قال ابن
عباس: يريد بالمحسنين: الموحدين، وقال غيره: يريد المجاهدين. وقال ابن المبارك: من
اعتاصت عليه مسألة، فليسأل أهل الثغور عنها، لقوله [تعالى]: (لنهدينهم سبلنا).
و الله أعلم بالصواب
140

(30) سورة الروم مكية
وآياتها ستون
وهي مكية كلها باجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (2) في
بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4) ينصر الله ينصر من
يشاء وهو العزيز الرحيم (5)
قوله تعالى: (غلبت الروم) ذكر أهل التفسير في سبب نزولها أنه كان بين فارس والروم حرب
فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] وأصحابه، فشق ذلك عليهم، وفرح المشركون
بذلك، لأن فارس لم يكن لهم كتاب وكانوا يجحدون البعث ويعبدون الأصنام، والروم أصحاب
كتاب، فقال المشركون لأصحاب رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم]: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب،
ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم، فإن قاتلتمونا لنظهرن
عليكم، فنزلت هذه الآية، فخرج بها أبو بكر الصديق إلى المشركين، فقالوا: هذا كلام صاحبك،
فقال: الله أنزل هذا، فقالوا لأبي بكر: نراهنك على أن الروم لا تغلب فارس، فقال أبو بكر: البضع
ما بين الثلاث إلى التسع، فقالوا: الوسط من ذلك ست، فوضعوا الرهان، وذلك قبل أن يحرم
الرهان، فرجع أبو بكر إلى أصحابه فأخبرهم، فلاموه وقالوا: هلا أقررتها كما أقرها الله [تعالى]؟!
لو شاء أن يقول: ستا، لقالوا! فلما كانت سنة ست، لم تظهر الروم على فارس، فأخذوا الرهان،
141

فلما كانت سنة سبع ظهرت الروم على فارس وروى ابن عباس قال: لما نزلت: (ألم. غلبت
الروم) ناصب أبو بكر قريشا، فقال له رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم]: " ألا احتطت، فإن البضع ما بين السبع
والتسع " وذكر بعضهم أنهم ضربوا الأجل خمس سنين، وقال بعضهم: ثلاث سنين، فقال رسول
الله [صلى الله عليه و آله و سلم]: " إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع " فخرج أبو بكر فقال لهم: أزايدكم في الخطر
وأمد في الأجل إلى تسع سنين، ففعلوا، فقهرهم أبو بكر، وأخذ رهانهم. و في الذي تولى وضع
الرهان من المشركين قولان:
أحدهما: أبي بن خلف، قال قتادة.
والثاني: أبو سفيان بن حرب، قاله السدي.
قوله تعالى: (في أدنى الأرض) وقرأ أبي بن كعب، والضحاك، وأبو رجاء، وابن السميفع:
" في أداني الأرض " بألف مفتوحة الدال، أقرب الأرض أرض الروم إلى فارس. قال ابن عباس:
وهي طرف الشام. و في اسم هذا المكان ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إلى فارس، قاله مجاهد.
والثاني: أذرعات وكسكر، قاله عكرمة.
والثالث: الأردن وفلسطين، قاله السدي.
قوله تعالى: (و هم) يعني الروم (من بعد غلبهم) وقرأ أبو الدرداء، وأبو رجاء، وعكرمة،
والأعمش: " غلبهم " بتسكين اللام، أي: من بعد غلبة فارس إياهم، والغلب والغلبة لغتان،
(سيغلبون في بضع سنين) في البضع تسعة أقوال قد ذكرناها في يوسف قال المفسرون: وهي
هاهنا سبع سنين، وهذا من علم الغيب الذي يدل على أن القرآن حق، (لله الأمر
من قبل) أي:
من قبل أن تغلب الروم ومن بعد ما غلبت، والمعنى أن غلبة الغالب وخذلان المغلوب، بأمر الله [عز
وجل] وقضائه (و يومئذ) يعني يوم غلبت الروم فارس (يفرح المؤمنون بنصر الله) للروم. وكان
التقاء الفريقين في السنة السابعة من غلبة فارس إياهم، فغلبتهم الروم، وجاء جبريل يخبر بنصر
الروم على فارس، فوافق ذلك يوم بدر، وقيل: يوم الحديبية.
142

وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون (6) يعلمون ظاهرا من الحياة
الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (7) أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات
والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (8)
قوله تعالى: (وعد الله) أي: وعد الله ذلك وعدا (لا يخلف الله وعده) أن الروم يظهرون
على فارس (ولكن أكثر الناس) يعني كفار مكة (لا يعلمون) أن الله [تعالى] لا يخلف وعده في
ذلك.
ثم وصف كفار مكة، فقال: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) قال عكرمة: هي المعايش.
وقال الضحاك: يعلمون بنيان قصورها وتشقيق أنهارها. وقال الحسن: يعلمون متى زرعهم ومتى
حصادهم، ولقد بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بظفره فيخبرك بوزنه ولا يحسن
يصلي.
قوله تعالى: (وهم عن الآخرة هم غافلون) لأنهم لا يؤمنون بها. قال الزجاج: وذكرهم ثانية
يجري مجرى التوكيد، كما يقول: زيد هو عالم، وهو أوكد من قولك: زيد عالم.
قوله تعالى: (أو لم يتفكروا في أنفسهم) قال الزجاج: معناه: أو لم يتفكروا
فيعلموا فحذف
" فيعلموا " لأن في الكلام دليلا عليه. ومعنى (بالحق): إلا للحق، أي: لإقامة الحق (وأجل
مسمى) وهو وقت الجزاء (وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون) المعنى: لكافرون بلقاء
ربهم، فقدمت الباء، لأنها متصلة ب‍ " كافرون "، وما اتصل بخبر " إن " جاز أن يقدم قبل اللام، ولا
يجوز أن تدخل اللام بعد مضي الخبر من غير خلاف بين النحويين، لا يجوز أن تقول: إن زيدا كافر
لبالله، لأن اللام حقها أن تدخل على الابتداء و الخبر، لأنها تؤكد الجملة. وقال مقاتل في قوله
[تعالى]: (وأجل مسمى) للسماوات والأرض أجل ينتهيان إليه، وهو يوم القيامة، (وإن كثيرا
من الناس) يعني كفار مكة (بلقاء ربهم) أي: بالبعث (لكافرون).
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة
وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم
143

ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (9) ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله
وكانوا بها يستهزئون (10) الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون (11)
قوله تعالى: (أو لم يسيروا في الأرض) أي: أو لم يسافروا فينظروا مصارع الأمم قبلهم كيف
أهلكوا بتكذيبهم فيعتبروا.
قوله تعالى: (وأثاروا الأرض) أي: قلبوها للزراعة، ومنه قيل للبقرة: مثيرة. وقرأ أبي بن
كعب، ومعاذ القارئ، وأبو حيوة: " وآثروا الأرض " بمد الهمزة وفتح الثاء مرفوعة الراء، (و عمروها
أكثر مما عمروها) أي: أكثر من عمارة أهل مكة، لطول أعمار أولئك وشدة قوتهم (و جاءتهم رسلهم
بالبينات) أي: بالدلالات (فما كان الله ليظلمهم) بتعذيبهم على غير ذنب (ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون) بالكفر والتكذيب، ودل هذا على أنهم لم يؤمنوا فأهلكوا.
ثم أخبر عن عاقبتهم فقال: (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى) يعني الخلة السيئة، وفيها
قولان:
أحدهما: أنها العذاب، قاله الحسن.
والثاني: جهنم، قاله السدي.
قوله تعالى: (أن كذبوا) قال الفراء: لأن كذبوا، فلما ألقيت اللام كان نصبا، وقال الزجاج:
لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم. وقيل: السوأى مصدر بمنزلة الإساءة، فالمعنى: ثم كان التكذيب
آخر أمرهم، أي: ماتوا على ذلك، كأن الله تعالى جازاهم على إساءتهم أن طبع على قلوبهم حتى
ماتوا على التكذيب عقوبة لهم. وقال مكي بن أبي طالب النحوي: " عاقبة " اسم كان،
و " السوأى " خبرها، و " أن كذبوا " مفعول من أجله، ويجوز أن يكون " السوأى " مفعولة ب‍
" أساؤوا "، و " أن كذبوا " خبر كان، ومن نصب " عاقبة " جعلها خبر " كان "، و " السوأى "
اسمها، ويجوز أن تكون " أن كذبوا " اسمها. وقرأ الأعمش: " أساؤوا السوء " برفع السوء ".
قوله تعالى: (الله يبدأ الخلق) أي: يخلقهم أولا، ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا،
(ثم إليه ترجعون) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص: " ترجعون "
بالتاء، فعلى هذا يكون الكلام عائدا من الخبر إلى الخطاب، وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم:
بالياء، لأن المتقدم ذكره غيبة، والمراد بذكر الرجوع: الجزاء على الأعمال، والخلق بمعنى
المخلوقين، وإنما قال: " يعيده " على لفظ الخلق.
144

ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون (12) ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا
بشركائهم كافرين (13) ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون (14) فأما الذين آمنوا وعملوا
الصالحات فهم في روضة يحبرون (15) وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة
فأولئك في العذاب محضرون (16)
قوله تعالى: (يبلس المجرمون) قد شرحنا الإبلاس في [سورة] الأنعام.
قوله تعالى: (و لم يكن لهم من شركائهم) أي: [من] أوثانهم التي عبدوها (شفعاء) في
القيامة (و كانوا بشركائهم كافرين) يتبرؤون منها وتتبرأ منهم.
قوله تعالى: (يومئذ يتفرقون) وذلك بعد الحساب ينصرف قوم إلى الجنة، وقوم إلى النار.
قوله تعالى: (فهم في روضة) الروضة: المكان المخضر من الأرض، وإنما خص الروضة،
لأنها كانت أعجب الأشياء إلى العرب، قال أبو عبيدة: ليس شئ عند العرب أحسن من الرياض
المعشبة ولا أطيب ريحا، قال الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة
خضراء جاد عليها مسبل هطل
يوما بأطيب منها نشر رائحة
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
قال المفسرون: والمراد بالروضة: رياض الجنة و في معنى " يحبرون " أربعة أقوال:
أحدها: يكرمون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: ينعمون، قاله مجاهد، وقتادة. و قال الزجاج: والحبرة في اللغة: كل نغمة حسنة.
والثالث: يفرحون، قاله السدي. وقال ابن قتيبة: " يحبرون " يسرون، والحبرة، السرور.
والرابع: أن الحبر: السماع في الجنة، فإذ أخذ أهل الجنة في السماع، لم تبق شجرة إلا
وردت، قاله يحيى بن أبي كثير. وسئل يحيى بن معاذ: أي الأصوات أحسن؟ فقال: مزامير أنس، في
145

مقاصير قدس، بألحان تحميد، في رياض تمجيد " في مقعد صدق عند مليك مقتدر ".
قوله تعالى: (فأولئك في العذاب محضرون) أي: هم حاضرون العذاب أبدا لا يخفف
عنهم.
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (17) وله الحمد في السماوات والأرض
وعشيا وحين تظهرون (18) يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض
بعد موتها وكذلك تخرجون (19)
ثم ذكر ما تدرك به الجنة ويتباعد به من النار فقال: (فسبحان الله حين تمسون) قال
المفسرون: المعنى: فصلوا لله [عز وجل] حين تمسون، أي: حين تدخلون في المساء (و حين
تصبحون) أي: تدخلون في الصباح، و (تظهرون) تدخلون في الظهيرة، و هي وقت الزوال،
(وعشيا) أي: وسبحوه عشيا. وهذه الآية قد جمعت الصلوات الخمس، فقوله [تعالى]: " حين
تمسون " يعني صلاة المغرب والعشاء، " وحين تصبحون " يعني به صلاة الفجر، " وعشيا "
و " حين تظهرون " الظهر.
قوله تعالى: (وله الحمد في السماوات والأرض) قال ابن عباس: يحمده أهل السماوات
وأهل الأرض ويصلون له.
قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت) فيه أقوال قد ذكرناها في [سورة] آل عمران.
قوله تعالى: (ويحيي الأرض بعد موتها) أي: يجعلها منبتة بعد أن كانت لا تنبت، وتلك
حياتها (وكذلك تخرجون) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: " تخرجون "
بضم التاء، وفتحها حمزة والكسائي، والمراد: تخرجون يوم القيامة من الأرض، أي: كما أحيا
الأرض بالنبات يحييكم بالبعث.
146

ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20) ومن آياته أن خلق
لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم
يتفكرون (21) ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم
إن في ذلك لآيات للعالمين (22) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من
فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23) ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا
وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (24)
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم
تخرجون (25) وله من في السماوات والأرض كل له قانتون (26) وهو الذي يبدؤا الخلق ثم
يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (27) ضرب
لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه
سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون (28) بل اتبع الذين
ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين (29)
قوله تعالى: (ومن آياته) أي: من دلائل قدرته (أن خلقكم من تراب) يعني آدم، لأنه أصل
البشر (ثم إذا أنتم بشر) من لحم ودم، يعني ذريته (تنتشرون) يعني: تنبسطون في الأرض.
قوله تعالى: (أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا) فيه قولان:
أحدهما: أنه يعني بذلك آدم، خلق حواء من ضلعه، وهو معنى قول قتادة.
والثاني: أن المعنى: جعل لكم آدميات مثلكم، ولم يجعلهن من غير جنسكم، قاله الكلبي.
قوله تعالى: (لتسكنوا إليها) أي: لتأووا هذه إلى الأزواج (وجعل بينكم مودة ورحمة) وذلك أن
الزوجين يتوادان ويتراحمان من غير رحم بينهما (إن في ذلك) الذي ذكره من صنعه (لآيات لقوم
147

يتفكرون) في قدرة الله [عز وجل] وعظمته.
قوله تعالى: (واختلاف ألسنتكم و ألوانكم) لأن الخلق بين أسود وأبيض وأحمر، وهم ولد رجل واحد
وامرأة واحدة. وقيل: المراد باختلاف الألسنة: اختلاف النغمات والأصوات، حتى إنه لا يشتبه صوت
أخوين من أب وأم. والمراد باختلاف الألوان: اختلاف الصور، فلا تشتبه صورتان مع التشاكل
(إن في ذلك لآيات للعالمين) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي،
وأبو بكر عن عاصم: " للعالمين " بفتح اللام. وقرأ حفص عن عاصم: " للعالمين " بكسر اللام.
قوله تعالى: (ومن آياته منامكم بالليل) أي: نومكم. قال أبو عبيدة: المنام من مصادر النوم،
بمنزلة قام يقوم قياما ومقاما، وقال يقول مقالا، قال المفسرون: وتقدير الآية: منامكم بالليل
(وابتغاؤكم من فضله) وهو طلب الرزق بالنهار (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) سماع اعتبار
وتذكر (و من آياته يريكم البرق) قال اللغويون: إنما حذف " أن " لدلالة الكلام عليه، وأنشدوا:
وما الدهر إلا تارتان فتارة * أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
ومعناه: فتارة أموت فيها، وقال طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
أراد: أن أحضر. وقد شرحنا معنى الخوف والطمع في رواية البرق في سورة الرعد.
قوله تعالى: (أن تقوم السماء والأرض) أي: تدوما قائمتين (بأمره) (ثم إذا دعاكم دعوة)
وهي نفحة إسرافيل الأخيرة في الصور بأمر الله [عز وجل] (من الأرض) أي: من قبوركم (إذا
أنتم تخرجون) منها وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله [تعالى]: (و هو أهون عليه) وفيه أربعة
أقوال:
أحدها: أن الإعادة أهون عليه من البداية، وكل هين عليه، قاله مجاهد، وأبو العالية.
والثاني: أن " أهون " بمعنى " هين " عليه، وقد يوضع " أفعل " في موضع " فاعل "،
ومثله قولهم في الأذان: الله أكبر، قال الفرزدق:
148

إن الذي سمك السماء بني لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول
وقال معن بن أوس المزني:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل * على أينا تغدو المنية أول
أي: وإني لوجل، وقال غيره:
أصبحت أمنحك الصدود وإنني * قسما إليك مع الصدود لأميل
وأنشدوا أيضا:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي: بواحد، هذا قول أبي عبيدة، وهو مروي عن الحسن، وقتادة و قرأ أبي بن كعب، وأبو
عمران الجوني، وجعفر بن محمد: " وهو هين عليه ".
والثالث: أنه خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب أن يكون عندهم البعث أسهل من
الابتداء في تقديرهم وحكمهم، فمن قدر على الإنشاء كان البعث أهون عليه، هذا اختيار الفراء،
والمبرد، والزجاج، وهو قول مقاتل. وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الهاء في " عليه " عائدة إلى الله
عز وجل.
والرابع: أن الهاء تعود على المخلوق، لأنه خلقه نطفة ثم علقة ثم مضغة، ويوم القيامة يقول
له كن فيكون، رواه أبو صالح، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو اختيار قطرب.
قوله تعالى: (و له المثل الأعلى) قال المفسرون: أي: له الصفة العليا
(في السماوات والأرض) وهي أنه لا إله غيره.
قوله تعالى: (ضرب لكم مثلا) سبب نزولها أن أهل الجاهلية كانوا يلبون فيقولون: لبيك لا
شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل.
ومعنى الآية: بين لكم أيها المشركون شبها، وذلك الشبه (من أنفسكم) ثم بينه فقال: (هل لكم
مما ملكت أيمانكم) أي: من عبيدكم في أموالكم (فأنتم فيه سواء) أي: أنتم وشركاؤكم من
عبيدكم سواء (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) أي: كما تخافون أمثالكم من الأحرار، وأقرباءكم
كالآباء والأبناء؟ قال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا؟ وقال غيره: تخافونهم
أن يقاسموكم أموالكم كما يفعل الشركاء؟ والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكه في
149

ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما
يخاف غيره من الشركاء، الأحرار؟. فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم، فلم عدلتم بي من خلقي هو
مملوك لي؟! (كذلك) أي: كما بينا هذا المثل (نفصل الآيات لقوم يعقلون) عن الله [تعالى] ثم
بين أنهم إنما اتبعوا الهوى في إشراكهم، فقال: (بل اتبع الذين ظلموا) أي: أشركوا بالله
(أهواءهم بغير علم يهدي من أضل الله) وهذا يدل على أنهم إنما أشركوا بإضلال الله إياهم (وما
لهم من ناصرين) أي: مانعين من عذاب الله [تعالى].
فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك
الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30) منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا
تكونوا من المشركين (31) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم
فرحون (32) وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا
فريق منهم بربهم يشركون (33) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (34) أم أنزلنا
عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون (35) وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها
وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون (36) أولم يروا أن الله يبسط الرزق
لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (37) فئات ذا القربى حقه
والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون (38)
قوله تعالى: (فأقم وجهك) قال مقاتل: أخلص دينك الإسلام (للدين) أي: للتوحيد.
وقال أبو سليمان الدمشقي: استقم بدينك نحو الجهة التي وجهك الله [تعالى] إليها. وقال غيره:
سدد عملك. والوجه: ما يتوجه إليه، وعمل الإنسان ودينه: ما يتوجه إليه لتسديده و إقامته.
قوله تعالى: (حنيفا) قال الزجاج: الحنيف: الذي يميل إلى الشئ ولا يرجع عنه، كالحنف
150

في الرجل، وهو ميلها إلى خارجها خلقة، لا يقدر الأحنف أن يرد حنفه، وقوله: (فطرة الله)
منصوب، بمعنى: اتبع فطرة الله لأن معنى " فأقم وجهك ": اتبع الدين القيم، واتبع فطرة الله
[تعالى]: أي: دين الله [تعالى] والفطرة: الخلقة التي خلق الله عليها البشر. وكذلك قوله عليه
السلام: " كل مولود يولد على الفطرة "!، أي: على الإيمان بالله [تعالى]، وقال مجاهد في قوله
[تعالى]: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: الإسلام، وكذلك قال قتادة. والذي أشار إليه
الزجاج أصح، وإليه ذهب ابن قتيبة، فقال: فرق ما بيننا وبين أهل القدر في هذا الحديث، أن الفطرة
عندهم: الإسلام، والفطرة عندنا: الإقرار بالله [عز و جل] والمعرفة به، لا الإسلام ومعنى الفطرة:
ابتداء الخلقة، فالكل أقروا حين قوله [تعالى]: (ألست بربكم؟ قالوا بلى) ولست واجدا أحدا
إلا وهو مقر بأن له صانعا ومدبرا وإن عبد شيئا دونه وسماه بغير اسمه، فمعنى الحديث: إن كل
مولود في العالم على ذلك العهد وذلك الإقرار الأول، وهو الفطرة، ثم يهود اليهود أبناءهم، أي:
يعلمونهم ذلك، وليس الاقرار الأول مما يقع به حكم ولا ثواب، وقد ذكر نحو هذا أبو بكر الأثرم،
واستدل عليه بأن الناس أجمعوا على أنه لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ثم أجمعوا
على أن اليهودي إذا مات له ولد صغير ورثه، وكذلك النصراني، والمجوسي، ولو كان معنى الفطرة
الإسلام، ما ورثه إلا المسلمون، ولا دفن إلا معهم، وإنما أراد بقوله عليه السلام: " كل مولود يولد
على الفطرة " أي: على تلك البداية التي أقروا له فيها بالوحدانية حين أخذهم من صلب آدم،
فمنهم من جحد ذلك بعد إقراره، ومثل هذا الحديث حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:
" قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء "، وذلك أنه لم يدعهم يوم الميثاق إلا إلى حرف
واحد، فأجابوه.
قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) لفظه لفظ النفي، ومعناه النهي، والتقدير: لا تبدلوا خلق
الله [عز وجل] وفيه قولان:
أحدهما: أنه إخصاء البهائم، قاله عمر بن الخطاب [رضي الله عنه].
والثاني: دين الله [عز و جل] قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي و آخرين، وعن
ابن عباس وعكرمة كالقولين.
قوله تعالى: (ذلك الدين القيم) يعني التوحيد المستقيم (ولكن أكثر الناس) يعني كفار مكة
(لا يعلمون) توحيد الله [عز و جل].
151

قوله تعالى: (منيبين إليه) قال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا: فأقيموا وجوهكم
منيبين، لأن مخاطبة النبي صلى الله عليه و آله و سلم تدخل معه فيها الأمة ومعنى " منيبين ": راجعين إليه في كل ما أمر، فلا
يخرجون عن شئ من أمره. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله [تعالى]: (وإذا مس الناس
ضر) وفيه قولان:
أحدهما: أنه القحط، والرحمة: المطر.
والثاني: أنه البلاء، والرحمة: العافية، (إذا فريق منهم) وهم المشركون. والمعنى: إن
الكل يلتجئون إليه في شدائدهم، ولا يلتفت المشركون حينئذ إلى أوثانهم.
قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم) قد شرحناه في آخر العنكبوت وقوله تعالى: (فتمتعوا)
خطاب لهم بعد الإخبار عنهم.
قوله تعالى: (أم أنزلنا عليهم) أي: على هؤلاء المشركين (سلطانا) أي: حجه وكتابا من
السماء (فهو يتكلم بما كانوا يشركون) أي: يأمرهم بالشرك؟! وهذا استفهام إنكار، و معناه: ليس
الأمر كذلك.
قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس) قال مقاتل: يعني كفار مكة (رحمة) وهي المطر. والسيئة:
المصيبة. قال المفسرون: وهذا الفرح المذكور هاهنا، هو فرح البطر الذي لا شكر فيه. والقنوط:
اليأس من فضل الله عز و جل، وهو خلاف وصف المؤمن، فإنه يشكر عند النعمة، ويرجو عند
الشدة، وقد شرحناه في بني إسرائيل: إلى قوله [تعالى]: (ذلك) يعني إعطاء الحق (خير) أي:
أفضل من الإمساك (للذين يريدون وجه الله) أي: يطلبون بأعمالهم ثواب الله.
وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه
الله فأولئك هم المضعفون (39) الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل
من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ سبحانه وتعالى عما يشركون (40)
152

قوله تعالى: (و ما آتيتم من ربا) في هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الربا هاهنا: أن يهدي الرجل للرجل الشئ يقصد أن يثيبه عليه أكثر من ذلك،
هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وطاووس، والضحاك، وقتادة، والقرظي، قال
الضحاك: فهذا ليس فيه أجر ولا وزر، وقال قتادة: ذلك الذي لا يقبله الله [عز و جل] ولا يجزي
به، وليس فيه وزر.
والثاني: أنه الربا المحرم، قاله الحسن البصري.
والثالث: أنه الرجل يعطي من يخدمه لأجل خدمته، لا لأجل الله تعالى، قاله الشعبي.
قوله تعالى: (ليربو في أموال الناس) و قرأ نافع، ويعقوب: " لتربو " بالتاء وسكون الواو،
أي: في اجتلاب أموال الناس، واجتذابها (فلا تربو عند الله) أي: لا تزكو ولا تضاعف، لأنكم
قصدتم زيادة العوض، ولم تقصدوا القربة.
(وما آتيتم من زكاة) أي: ما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة، إنما تريدون بها ما
عند الله، [تعالى]: (فأولئك هم المضعفون) قال ابن قتيبة: الذين يجدون التضعيف والزيادة.
وقال الزجاج: أي ذووا الأضعاف من الحسنات، كما يقال: رجل مقو، أي: صاحب قوة، وموسر:
صاحب يسار.
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم
يرجعون (41) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم
مشركين (42) فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ
يصدعون (43)
قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر) في هذا الفساد أربعة أقوال:
أحدها: نقصان البركة، قاله ابن عباس.
والثاني: ارتكاب المعاصي، قاله أبو العالية.
والثالث: الشرك، قاله قتادة، والسدي:
153

والرابع: قحط المطر، قاله عطية.
فأما البر. فقال ابن عباس: البر: البرية التي ليس عندها نهر، و في البحر قولان:
أحدهما: ما كان من المدائن والقرى على شط نهر، قاله ابن عباس. وقال عكرمة: لا أقول،
بحركم هذا، ولكن كل قرية عامرة. وقال قتادة: المراد بالبر: أهل البوادي، وبالبحر: أهل القرى.
وقال الزجاج: المراد بالبحر: مدن البحر التي على الأنهار، وكل ذي ماء فهو بحر.
والثاني: أن البحر: الماء المعروف. قال مجاهد: ظهور الفساد في البر: قتل ابن آدم أخاه،
وفي البحر: ملك جائر يأخذ كل سفينة غصبا. وقيل لعطية: أي فساد في البحر؟ فقال: إذا قل المطر
قل الغوص.
قوله تعالى: (بما كسبت أيدي الناس) أي: بما عملوا من المعاصي (ليذيقهم) وقرأ أبو
عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، وقتادة، وابن محيصن، وروح عن يعقوب، وقنبل عن ابن كثير:
" لنذيقهم " بالنون (بعض الذي عملوا) أي: جزاء بعض أعمالهم، فالقحط جزاء، ونقصان البركة
جزاء، ووقوع المعصية منهم جزاء معجل لمعاصيهم أيضا.
قوله تعالى: (لعلهم يرجعون) في المشار إليهم قولان: قاله الحسن.
أحدهما: أنهم الذين أذيقوا الجزاء. ثم في معنى رجوعهم قولان:
أحدهما: يرجعون عن المعاصي، قاله أبو العالية.
والثاني: يرجعون إلى الحق، قاله إبراهيم.
والثاني: أنهم الذين يأتون بعدهم، فالمعنى: لعله يرجع من بعدهم قاله الحسن.
قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض) أي: سافروا (فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل)
أي: الذين كانوا قبلكم، والمعنى: انظروا إلى مساكنهم وآثارهم (كان أكثرهم مشركين) المعنى:
فأهلكوا بشركهم.
(فأقم وجهك للدين) أي: أقم قصدك لأتباع الدين (القيم) وهو الإسلام المستقيم (من
قبل أن يأتي يوم لا مرد له) يعني القيامة لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم، لأن الله [تعالى]: قد قضى
كونه (يومئذ يصدعون) أي: يتفرقون إلى الجنة والنار.
من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون (44) ليجزي الذين آمنوا
154

وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين (45)
(من كفر فعليه كفره) أي: جزاء كفره (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) أي:
يوطئون. وقال مجاهد: يسوون المضاجع في القبور، قال أبو عبيدة: " من " تقع على الواحد والاثنين
والجمع من المذكر والمؤنث، ومجازها هاهنا مجاز الجميع، و " يمهد " بمعنى يكتسب ويعمل
ويستعد.
ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره
ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (46) ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم
بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين (47)
قوله تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) تبشر بالمطر (وليذيقكم من رحمته) وهو
الغيث والخصب (و لتجري الفلك) في البحر بتلك الرياح (بأمره) (ولتبتغوا) بالتجارة في البحر (من
فضله) وهو الرزق، وكل هذا بالرياح.
قوله تعالى: ((فجاؤوهم بالبينات) أي: بالدلالات على صدقهم (فانتقمنا من الذين
أجرموا) أي: عذبنا الذين كذبوهم (وكان حقا علينا) أي: واجبا هو أوجبه على نفسه (نصر
المؤمنين) إنجاؤهم مع الرسل من عذاب المكذبين.
الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا
فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48)
وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين (49) فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي
الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شئ قدير (50) ولئن أرسلنا ريحا
فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون (51) فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم
155

الدعاء إذا ولوا مدبرين (52) وما أنت بهد العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا
فهم مسلمون (53) الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل
من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (54) ويوم تقوم الساعة يقسم
المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون (55) وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد
لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون (56) فيومئذ
لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون (57)
قوله تعالى: (يرسل الرياح) وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، والنخعي، وطلحة بن مصرف،
والأعمش: " يرسل الريح " بغير ألف.
قوله تعالى: ((فتثير سحابا) أي: تزعجه (فيبسطه) الله (في السماء كيف يشاء) إن شاء
بسطة مسيرة يوم أو يومين أو أقل أو أكثر (ويجعله كسفا) أي: قطعا متفرقة. والأكثرون فتحوا سين
" كسفا "، وقرأ أبو رزين، وقتادة، وابن عامر، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة: بتسكينها، قال أبو
علي: يمكن ان يكون مثل سدرة وسدر، فيكون معنى القراءتين واحدا (فترى الودق يخرج من
خلاله) وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية: " من خلله "، وقد شرحناه في النور:
(فإذا أصاب به) أي: بالودق، ومعنى (يستبشرون) يفرحون بالمطر، (و إن كانوا من قبل أن
ينزل عليهم) المطر (من قبله) وفي هذا التكرير ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه للتأكيد، كقوله [تعالى]: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) قاله الأخفش في
آخرين.
والثاني: أن " قبل " الأولى للتنزيل، والثانية للمطر، قاله قطرب. قال ابن الأنباري: والمعنى:
من قبل نزول المطر، من قبل المطر، وهذا مثل ما يقول القائل: آتيك من قبل أن تتكلم، من قبل
أن تطمئن في مجلسك، فلا تنكر الإعادة، لاختلاف الشيئين.
والثالث: أن الهاء في قوله [تعالى]: " من قبله " ترجع إلى الهدى وإن لم يتقدم له ذكر، فيكون
المعنى: كانوا يقطنون من قبل نزول المطر، من قبل الهدى، فلما جاء الهدى والإسلام زال القنوط،
156

ذكره ابن الأنباري عن أبي عمر الدريري وأبي جعفر بن قادم. والمبلسون: الآيسون و قد سبق
الكلام في هذا.
(فانظر إلى آثار رحمة الله) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: " إلى
أثر ". وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " إلى آثار " على الجمع. والمراد
بالرحمة هاهنا: المطر، وأثرها: النبت والمنبت، و المعنى: انظر إلى حسن تأثيره في الأرض
(كيف يحيي الأرض) أي: كيف يجعلها تنبت بعد أن لم يكن فيها نبت. وقرأ عثمان بن عفان،
وأبو رجاء، وأبو عمران، وسليمان التيمي، " كيف تحيي " بتاء مرفوعة مكسورة الياء " الأرض " بفتح
الضاد.
قوله تعالى: (ولئن أرسلنا ريحا) أي: ريحا باردة مضرة، والريح إذا أتت على لفظ الواحد
أريد بها العذاب، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول عند هبوب الريح: " اللهم اجعلها رياحا ولا
تجعلها ريحا " (فرأوه) يعني النبت، والهاء عائدة إلى الأثر. قال الزجاج: المعنى: فرأوا النبت قد
اصفر وجف (لظلوا من بعده يكفرون) ومعناه: ليظلن، لأن معنى الكلام الشرط والجزاء، فهم
يستبشرون بالغيث، ويكفرون إذا انقطع عنهم الغيث وجف النبت. وقال غيره: المراد برحمة الله:
المطر. و " ظلوا " بمعنى صاروا " من بعده " أي: من بعد اصفرار النبت يجحدون ما سلف من
النعمة. وما بعد هذا مفسر في سورة النمل إلى قوله [تعالى]: (الله الذي خلقكم من ضعف)
وقد ذكرنا الكلام فيه في الأنفال، قال المفسرون: المعنى: خلقكم من ماء ذي ضعف، وهو
المني (ثم جعل من بعد ضعف) يعني ضعف الطفولة قوة الشباب، ثم جعل من بعد قوة الشباب
ضعف الكبر، و شيبة، (يخلق ما يشاء) أي: من ضعف وقوة وشباب وشيبة (وهو العليم) بتدبير
خلقه (القدير) على ما يشاء.
(ويوم تقوم الساعة) قال الزجاج: الساعة في القرآن على معنى الساعة التي تقوم فيها القيامة،
فلذلك لم تعرف أي ساعة هي.
قوله تعالى: (يقسم المجرمون) أي: يحلف المشركون (ما لبثوا) في القبور (غير ساعة
كذلك كانوا يؤفكون) قال ابن قتيبة: يقال: أفك الرجل: إذا عدل به عن الصدق، فالمعنى أنهم قد
كذبوه في هذا الوقت كما كذبوه في الدنيا. وقال غيره: أراد الله تعالى أن يفضحهم يوم القيامة بين
157

المؤمنين، فحلفوا على شئ تبين للمؤمنين كذبهم فيه، ويستدلون على كذبهم في الدنيا.
ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم بقوله [تعالى]: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان) وفيهم
قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة. والثاني: المؤمنون.
قوله تعالى: (لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) فيه قولان:
أحدهما: أن فيه تقديما وتأخيرا، تقديره: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله [عز
وجل]، قاله ابن جريج في جماعة من المفسرين.
والثاني: أنه على نظمه. ثم في معناه قولان:
أحدهما: لقد لبثتم في علم الله، [عز وجل]، قاله الفراء.
والثاني: لقد لبثتم في خبر الكتاب، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: (فهذا يوم البعث) أي: اليوم الذي كنتم تنكرونه (و لكنكم كنتم لا تعلمون)
في الدنيا أنه يكون. (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو،
وابن عامر: " لا تنفع " بالتاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بالياء، لأن التأنيث غير حقيقي. قاله
ابن عباس: لا يقبل من الذين أشركوا عذر ولا توبة.
قوله تعالى: (ولا هم يستعتبون) أي: لا يطلب منهم العتبى والرجوع في الآخرة.
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا
إن أنتم إلا مبطلون (58) كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون (59) فاصبر إن وعد
الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (60)
قوله تعالى: (ولئن جئتهم بآية) أي: كعصا موسى ويده (ليقولن الذين كفروا إن أنتم) أي:
ما أنتم يا محمد وأصحابك (إلا مبطلون) أي: أصحاب أباطيل، وهذا بيان لعنادهم. (كذلك)
أي: كما طبع على قلوبهم حتى لا يصدقون الآيات (يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) توحيد
الله [عز وجل]، فالسبب في امتناع الكفار من التوحيد، الطبع على قلوبهم.
قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله) بنصرك وإظهارك على عدوك (حق).
(ولا يستخفنك) وقرأ يعقوب إلا روحا وزيدا: " يستخفنك " بسكون النون. قال الزجاج: لا يستفزنك
عن دينك (الذين لا يوقنون) أي: هم ضلال شاكون. وقال غيره: لا يوقنون بالبعث والجزاء. وزعم بعض
المفسرين أن هذه الآية منسوخة. و الله أعلم.
158

(31) سورة لقمان مكية
وآياتها أربع و ثلاثون
وهي مكية في قول الأكثرين. وروي عن عطاء أنه قال: هي مكية سوى آيتين منها نزلنا
بالمدينة، وهما قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) والتي بعدها، وروي
الحسن أنه قال: إلا آية نزلت بالمدينة، وهي قوله [تعالى]: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة)، لأن الصلاة والزكاة مدنيتان.
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم (1) تلك آيات الكتاب الحكيم (2) هدى ورحمة للمحسنين (3) الذين
يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم
وأولئك هم المفلحون (5) ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله
بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (6) و إذا تتلى عليه آياتنا ولى
مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرأ فبشره بعذاب أليم (7) إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات لهم جنات النعيم (8) خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم (9) خلق
السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة
159

وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10) هذا خلق الله فأروني ماذا خلق
الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين (11) ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله
ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد (12) وإذ قال لقمان لابنه
وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (13)
قوله تعالى: (هدى ورحمة) وقرأ حمزة وحده: [ورحمة بالرفع]. قال الزجاج: القراءة
بالنصب على الحال، والمعنى: تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة، ويجوز الرفع على
إضمار " هو هدى ورحمة " وعلى معنى: " تلك هدى ورحمة ". وقد سبق تفسير مفتتح هذه السورة
إلى قوله [تعالى]: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رجل
اشترى جارية مغنية. وقال مجاهد: نزلت في شراء القيان والمغنيات. وقال ابن السائب ومقاتل:
نزلت في النضر بن الحارث، وذلك أنه كان تاجرا إلى فارس، فكان يشتري أخبار الأعاجم فيحدث
بها قريشا ويقول لهم: إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم
وإسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فنزلت فيه هذه الآية. و في
المراد بلهو الحديث أربعة أقوال:
أحدها: الغناء، كان ابن مسعود يقول: هو الغناء والذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات،
وبهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة. وروى ابن أبي نجيح عن
مجاهد، قال: اللهو: الطبل.
والثاني: أنه ما ألهى عن الله [تعالى]: قاله الحسن، وعنه مثل القول الأول.
والثالث: أنه الشرك، قاله الضحاك.
والرابع: الباطل، قاله عطاء. و في معنى " يشتري " قولان:
أحدهما: يشتري بماله، وحديث النضر يعضده.
والثاني: يختار ويستحب، قاله قتادة، ومطر.
وإنما قيل لهذه الأشياء: لهو الحديث، لأنها تلهي عن ذكر الله [تعالى]:.
قوله تعالى: (ليضل) المعنى: ليصير أمره إلى الضلال، وقد بينا هذا الحرف في الحج.
160

وقرأ أبو رزين، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وأبو جعفر: " ليضل " بضم الياء،
والمعنى: ليضل غيره، وإذا أضل غيره فقد ضل هو أيضا.
قوله تعالى: (ويتخذها) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن
عاصم: " ويتخذها " برفع الذال. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بنصب الذال. قال
أبو علي: من نصب عطف على " ليضل " " ويتخذ " ومن رفع عطفه على " من يشتري " " ويتخذ ". و في
المشار إليه بقوله [تعالى]: (ويتخذها) قولان:
أحدهما: أنها الآيات.
والثاني: السبيل.
وما بعد هذا مفسر في مواضع قد تقدمت إلى قوله [تعالى]: (ولقد آتينا لقمان الحكمة)
وفيها قولان:
أحدهما: الفهم والعقل، قاله الأكثرون.
والثاني: النبوة. وقد اختلف في نبوته على قولين:
أحدهما: أنه كان حكيما ولم يكن نبيا، قاله سعيد بن المسيب، ومجاهد وقتادة.
والثاني: أنه كان نبيا، قاله الشعبي، وعكرمة، والسدي. هكذا حكاه عنهم الواحدي، ولا
يعرف، إلا ان هذا مما انفرد به عكرمة، والقول الأول أصح. و في صناعته ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كان خياطا، قاله سعيد بن المسيب.
والثاني: راعيا، قاله ابن زيد.
والثالث: نجارا، قاله خالد الربعي.
فأما صفته، فقال ابن عباس، كان عبدا حبشيا. وقال سعيد بن المسيب: كان لقمان أسود من
سودان مصر. وقال مجاهد: كان غليظ الشفتين مشقق القدمين، وكان قاضيا على بني إسرائيل.
قوله تعالى: (أن اشكر) المعنى: وقلنا له: أن أشكر لله على ما أعطاك من الحكمة (ومن يشكر
فإنما يشكر لنفسه) أي: إنما يفعل لنفسه (ومن كفر) النعمة، فإن الله لغني عن عبادة خلقه.
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك
إلى المصير (14) وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في
161

الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم
تعملون (15) يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو
في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير (16) يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه
عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور (17)
قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه) قال مقاتل: نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد
شرحنا ذلك في العنكبوت.
قوله تعالى: (حملته أمه وهنا على وهن) و قرأ الضحاك، و عاصم الجحدري: " وهنا على
وهن " بفتح الهاء فيهما، قال الزجاج: أي: ضعفا على ضعف. والمعنى لزمها بحملها إياه أن
تضعف مرة بعد مرة. وموضع " أن " نصب " بوصينا "، المعنى: ووصينا الإنسان أن اشكر لي
ولوالديك، أي: وصيناه بشكرنا وشكر والديه.
قوله تعالى: (و فصاله في عامين) أي: فطامه يقع في انقضاء عامين. وقرأ إبراهيم النخعي،
وأبو عمران، والأعمش، " وفصاله " بفتح الفاء. وقرأ أبي بن كعب، والحسن، وأبو رجاء، وطلحة بن
مصرف، وعاصم الجحدري، وقتادة، " وفصله " بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف والمراد:
التنبيه على مشقة الوالدة بالرضاع بعد الحمل.
قوله تعالى: (وإن جاهداك) قد فسرنا ذلك في سورة العنكبوت إلى قوله [تعالى]:
(وصاحبهما في الدنيا معروفا) قال الزجاج: أي: مصاحبا معروفا، تقول صاحبه مصاحبا ومصاحبة،
والمعروف: ما يستحسن من الأفعال.
قوله تعالى: (واتبع سبيل من أناب إلي) أي: من رجع إلي، وأهل التفسير يقولون: هذه
الآية نزلت في سعد، فهو المخاطب بها. ففي المراد بمن أناب ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أبو بكر الصديق، قيل لسعد: اتبع سبيله في الإيمان، هذا معنى قول ابن عباس
في رواية عطاء. وقال ابن إسحاق: أسلم على يدي أبي بكر الصديق: عثمان بن عفان، وطلحة،
162

والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف.
والثاني: أنه رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] قاله ابن السائب.
والثالث: من سلك طريق محمد وأصحابه، ذكره الثعلبي.
ثم رجع إلى الخبر عن لقمان فقال: (يا بني). وقال ابن جرير: وجه اعتراض هذه الآيات
بين الخبرين عن وصية لقمان أن هذا مما أوصى به لقمان ابنه.
قوله تعالى: (إنها أن تك مثقال حبة) وقرأ نافع وحده " مثقال حبة " برفع اللام. و في سبب قول لقمان
لابنه هذا قولان:
أحدهما: أن ابن لقمان قال لأبيه: أرأيت لو كانت حبة في قعر البحر أكان الله [تعالى]:
يعلمها؟ فأجابه بهذه الآية، قاله السدي.
والثاني: أنه قال: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد، كيف يعلمها الله؟ فأجابه
بهذا، قاله مقاتل.
قال الزجاج: من قرأ برفع المثقال مع تأنيث " تك " فلأن " مثقال حبة من خردل " راجع إلى
معنى: خردلة، فهي بمنزلة: إن تك حبة من خردل، ومن قرأ: " مثقال حبة " فعلى معنى: إن التي
سألتني عنها إن تك مثقال حبة، وعلى معنى: إن فعلة الإنسان وإن صغرت يأت بها الله [عز وجل]
وقد بينا معنى " مثقال حبة من خردل " في الأنبياء.
قوله تعالى: (فتكن في صخرة) قال قتادة: في جبل. وقال السدي: هي الصخرة التي تحت
الأرض السابعة، ليست في السماوات ولا في الأرض.
وفي قوله تعالى: (يأت بها الله) ثلاثة أقوال:
أحدها: يعلمها الله [تعالى]:. قاله أبو مالك.
والثاني: يظهرها، قاله ابن قتيبة.
والثالث: يأت بها الله في الآخرة للجزاء عليها.
(إن الله لطيف) قال الزجاج: لطيف باستخراجها (خبير) بمكانها. وهذا مثل لأعمال العباد،
والمراد أن الله تعالى يأتي بأعمالهم يوم القيامة، من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة
شرا يره.
قوله تعالى: (واصبر على ما أصابك) أي: في المعروف والنهي عن المنكر من الأذى.
وباقي الآية مفسر في آل عمران.
163

ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور (18)
واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)
قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر،
ويعقوب: " تصعر " بتشديد العين من غير ألف. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: بألف من غير
تشديد. قال الفراء: هما لغتان، ومعناهما الإعراض من الكبر. وقرأ أبي بن كعب، وأبو رجاء وابن
السميفع، وعاصم الجحدري: " ولا تصعر " بإسكان الصاد وتخفيف العين من غير ألف. وقال
الزجاج: معناه: لا تعرض عن الناس تكبرا، يقال: أصاب البعير صعر: إذا أصابه داء يلوي منه
عنقه. وقال ابن عباس: هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه كالمستكبر. وقال أبو العالية: ليكن الغني
والفقير عندك في العلم سواء. وقال مجاهد: و هو الرجل يكون بينه وبين أخيه الحنة، فيراه فيعرض
عنه. وباقي الآية بعضه مفسر في بني إسرائيل وبعضه في سورة النساء.
قوله تعالى: (واقصد في مشيك) أي: ليكن مشيك قصدا، لا تخيلا ولا إسراعا. قال
عطاء: امش بالوقار والسكينة.
قوله تعالى: (واغضض من صوتك) أي: انقص منه. قال الزجاج: ومنه: غضضت بصري،
وفلان يغص من فلان، أي: يقصر به.
(إن أنكر الأصوات) وقرأ أبو المتوكل، وابن أبي عبلة: " أن أنكر الأصوات " بفتح الهمزة. ومعنى
" أنكر ": أقبح، تقول: أتانا فلان بوجه منكر، أي: قبيح. وقال المبرد: تأويله: أن الجهر بالصوت ليس
بمحمود، وأنه داخل في باب الصوت المنكر، وقال ابن قتيبة: عرفه قبح رفع الأصوات في المخاطبة والملاحاة
بقبح أصوات الحمير، لأنها عالية. قال ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيرا، ما جعله الله [عز وجل] للحمير. وقال
سفيان الثوري: صياح كل شئ تسبيح لله عز وجل، إلا الحمار، فإنه ينهق بلا فائدة.
فإن قيل: كيف قال: " لصوت " ولم يقل: " لأصوات الحمير "؟
فالجواب: أن لكل جنس صوتا، فكأنه قال: إن أنكر أصوات الأجناس صوت هذا الجنس.
164

ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة
وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (20) وإذا قيل
لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آبائنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى
عذاب السعير (21)
قوله تعالى: (و أسبغ عليكم) أي: أوسع وأكمل (نعمة) قرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص عن
عاصم: " نعمه "، أرادوا جميع ما أنعم به. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو
بكر عن عاصم: " نعمة " على التوحيد. قال الزجاج: هو ما أعطاهم من توحيده. وروى الضحاك
عن ابن عباس، قال: سألت رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] فقلت: يا رسول الله! ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؟
فقال: " أما ما ظهر: فالإسلام، وما سوى الله من خلقك، وما أفضل عليك من الرزق. وأما ما بطن.
فستر مساوئ عملك، ولم يفضحك " وقال الضحاك: الباطنة: المعرفة، والظاهرة: حسن الصوت،
وامتداد القامة، وتسوية الأعضاء.
قوله تعالى: (أو لو كان الشيطان يدعوهم) هو متروك الجواب، تقديره فيتبعونه؟.
ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة
الأمور (22) ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم
بذات الصدور (23) نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ (24) ولئن سألتهم من
خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (25) لله ما في
السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد (26) ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام
والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (27)
قوله تعالى: (ومن يسلم وجهه) وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وقتادة: " ومن
165

يسلم " بتشديد اللام. وذكر المفسرون أن قوله [تعالى]: (ومن كفر فلا يحزنك كفره) منسوخ بآية
السيف، ولا يصح، لأنه تسلية عن الحزن، وذلك لا ينافي الأمر بالقتال. وما بعد هذا قد تقدم تفسير
ألفاظه في مواضع إلى قوله [تعالى]: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) وفي سبب نزولها
قولان:
أحدهما: أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: أرأيت قول الله [تعالى]: " وما أوتيتم من العلم
إلا قليلا " إيانا تريد، أم قومك؟ فقال: " كلا "، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا
التوراة فيها تبيان كل شئ؟ فقال: " إنها في علم الله قليل "، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن
ابن عباس.
والثاني: أن المشركين قالوا في القرآن: إنما هو كلام يوشك أن ينفد وينقطع، فنزلت هذه
الآية، قاله قتادة.
ومعنى الآية: لو كانت شجر الأرض أقلاما، وكان البحر ومعه سبعة أبحر مدادا - وفي الكلام
محذوف تقديره: فكتب بهذه الأقلام وهذه البحور كلمات الله [عز وجل] - لتكسرت الأقلام ونفذت
البحور، ولم تنفذ كلمات الله، أي: لم تنقطع.
فأما قوله [تعالى]: (والبحر) فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة،
والكسائي: " والبحر " بالرفع، ونصبه أبو عمرو. وقال الزجاج: من قرأ: " والبحر " بالنصب، فهو
عطف على " ما "، المعنى: ولو أن ما في الأرض، ولو أن البحر، والرفع حسن على معنى والبحر
هذه حاله. قال اليزيدي: ومعنى " يمده من بعده ": يزيد فيه، يقال: مد قدرك، أي: زد في مائها،
وكذلك قال ابن قتيبة: " يمده " من المداد، لا من الإمداد، يقال: مددت دواتي بالمداد، وأمددته
بالمال والرجال.
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير (28) ألم تر أن الله يولج الليل
في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما
166

تعملون خبير (29) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي
الكبير (30) ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك
لآيات لكل صبار شكور (31) وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم
إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور (32)
قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) سبب نزولها أن أبي بن خلف في
آخرين من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: إن الله [عز وجل] خلقنا أطوارا: نطفة، علقة، مضغة، عظاما
لحما، ثم تزعم أنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة؟! فنزلت هذه الآية ومعناها: ما
خلقكم أيها الناس جميعا في القدرة إلا كخلق نفس واحدة، ولا بعثكم جميعا في القدرة إلا كبعث
نفس واحدة، قاله مقاتل.
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله [تعالى]: (ألم تر أن الفلك) تجري في البحر بنعمة
الله) قال ابن عباس: من نعمه جريان الفلك (ليريكم من آياته) أي: ليريكم من صنعه عجائبه
في البحر، وابتغاء الرزق (إن في ذلك لآيات لكل صبار) قال مقاتل: أي: لكل صبور على أمر الله
[عز وجل]: (شكور) في نعمه.
و قوله تعالى: (و إذا غشيهم) يعني الكفار، وقال بعضهم: هو عام في الكفار والمسلمين
(موج كالظل) قال ابن قتيبة: وهي جمع ظلة، يراد أن بعضه فوق بعض، فله سواد من كثرته.
قوله تعالى: (دعوا الله مخلصين له الدين) وقد سبق شرح هذا المعنى فإنهم يذكرون الله
وحده. وجاء في الحديث أن عكرمة بن أبي جهل لما هرب يوم الفتح من رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] ركب
البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أهل السفينة: أخلصوا، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا،
فقال عكرمة: ما هذا الذي تقولون، فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله [تعالى]: فقال: هذا إله
محمد الذي كان يدعونا إليه، لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره، ارجعوا
بنا، فرجع فأسلم.
قوله تعالى: (فمنهم مقتصد) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: مؤمن، قاله الحسن.
167

والثاني: مقتصد في قوله، وهو كافر، قاله مجاهد. يعني أنه يعترف بأن الله [تعالى] وحده
القادر على إنجائه وإن كان مضمرا للشرك.
والثالث: أنه العادل في الوفاء بما عاهد الله عليه في البحر من التوحيد، قال مقاتل.
فأما " الختار " فقال الحسن: هو الغدار. قال ابن قتيبة: الختر: أقبح الغدر وأشده.
يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده
شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (33) إن الله عنده علم
الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس
بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (34)
قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) قال المفسرون: هذا خطاب لكفار مكة. وقوله
[تعالى]: (لا يجزي والد عن ولده) أي: لا يقضي عنه شيئا من جنايته ومظالمه. قال مقاتل: وهذا
يعني به الكفار. وقد شرحنا هذا في البقرة قال الزجاج: وقوله [تعالى]: (هو جاز) جاءت في
المصاحف بغير ياء، والأصل " جازي " بضمة وتنوين. وذكر سيبويه والخليل أن الاختيار في الوقف
هو " جاز " بغير ياء، هكذا وقف الفصحاء من العرب ليعلموا أن هذه الياء تسقط في الوصل. وزعم
يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقف بياء، ولكن الاختيار اتباع المصحف.
قوله تعالى: (إن وعد الله حق) أي: بالبعث والجزاء (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) بزينتها عن الإسلام
والتزود للآخرة (ولا يغرنكم بالله) أي: بحلمه وإمهاله (الغرور) يعني: الشيطان، وهو الذي من شأنه أن يغر.
قال الزجاج: " الغرور " على وزن الفعول، وفعول من أسماء المبالغة، يقال: فلان أكول: إذا كان كثير الأكل،
وضروب: إذا كان كثير الضرب، فقيل للشيطان: غرور، لأنه يغر كثيرا، وقال ابن قتيبة: الغرور بفتح الغين:
الشيطان، وبضمها: الباطل.
قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة) سبب نزولها أن رجلا من أهل البادية جاء إلى
168

النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: إن امرأتي حبلى، فأخبرني ماذا تلد؟ وبلدنا مجدب، فأخبرني متى ينزل الغيث؟
وقد علمت متى ولدت، فأخبرني متى أموت، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
ومعنى الآية: " إن الله " [عز وجل] " عنده علم الساعة " متى تقوم، لا يعلم سواه ذلك (وينزل
الغيث) وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر: " وينزل " بالتشديد، فلا يعلم أحد متى
ينزل الغيث، أليلا أم نهارا (ويعلم ما في الأرحام) لا يعلم سواه ما فيها،
أذكرا أم أنثى، أبيض أو أسود (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) أخيرا أم شرا (و ما تدري
نفس بأي أرض تموت) أي: بأي مكان. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن أبي عبلة: " بأية
أرض " بتاء مكسورة. والمعنى: ليس أحد يعلم أين مضجعه من الأرض حتى يموت، أفي بر أو بحر
أو سهل أو جبل. وقال أبو عبيدة: يقال: بأي أرض كنت، وبأية أرض كنت، لغتان، وقال الفراء:
من قال: بأي أرض، اجتزأ بتأنيث الأرض من أن يظهر في " أي " تأنيثا آخر. قال ابن عباس: هذه
الخمس لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل مصطفى. قال الزجاج: فمن أدعى أنه يعلم شيئا من
هذه كفر بالقرآن لأنه خالفه.
169

(32) سورة السجدة مكية
وآياتها ثلاثون
وتسمى سورة المضاجع، وهي مكية باجماعهم
وقال الكلبي: فيها من المدني ثلاث آيات، أولها قوله [تعالى]: (أفمن كان مؤمنا...)
وقال مقاتل: فيها آية مدنية، وهي قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم...) الآية. وقال غيرهما:
فيها خمس آيات مدنيات، أولها (تتجافى جنوبهم...).
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم (1) تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (2) أم يقولون افتراه بل
هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون (3) الله الذي خلق
السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي
ولا شفيع أفلا تتذكرون (4)
قوله تعالى: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه) قال مقاتل: لا شك فيه أنه تنزيل (من رب
العالمين).
170

(أم يقولون) بل يقولون، يعني المشركين (افتراه) محمد [عليه السلام] من تلقاء نفسه،
(بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) يعني العرب الذين أدركوا رسول
الله صلى الله عليه و سلم لم يأتهم نذير من قبل محمد عليه السلام. وما بعده قد سبق تفسيره إلى قوله [تعالى]:
(ما لكم من دونه من ولي) يعني الكفار، يقول: ليس لكم من دونه عذابه من ولي، أي: قريب
يمنعكم فيرد عذابه عنكم (و لا شفيع) يشفع لكم (أفلا تتذكرون) فتؤمنون.
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما
تعدون (5) ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم (6) الذي أحسن كل شئ خلقه
وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8) ثم سواه ونفخ
فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (9)
قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) في معنى الآية قولان:
أحدهما: يقضي القضاء من السماء فينزله مع الملائكة إلى الأرض (ثم يعرج) الملك (إليه
في يوم) من أيام الدنيا، فيكون الملك قد قطع في يوم واحد من أيام الدنيا في نزوله وصعوده
مسافة ألف سنة من مسيرة الآدمي.
والثاني: يدبر أمر الدنيا مدة أيام الدنيا، فينزل القضاء والقدر من السماء إلى الأرض " ثم
يعرج إليه " أي: يعود إليه الأمر والتدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكام وينفرد الله تعالى
بالأمر (في يوم كان مقداره ألف سنة) وذلك في يوم القيامة، لأن كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة..
و قال مجاهد: يقضي أمر ألف سنة في يوم واحد، ثم يلقيه إلى الملائكة فإذا مضت قضى لألف
سنة آخري، ثم كذلك أبدا. و للمفسرين في المراد بالأمر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الوحي: قاله السدي.
والثاني: القضاء، قاله مقاتل.
والثالث: أمر الدنيا.
171

و " يعرج " بمعنى يصعد. قال الزجاج: يقال: عرجت في السلم أعرج، وعرج الرجل يعرج: إذا
صار أعرج.
وقرأ معاذ القارئ، وابن السميفع، وابن أبي عبلة: " ثم يعرج إليه " بياء مفتوحة وكسر الراء
وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: " ثم تعرج " بتاء مفتوحة ورفع الراء.
قوله تعالى: (الذي أحسن كل شئ خلقه) فيه خمسة أقوال:
أحدها: جعله حسنا.
والثاني: أحكم كل شئ، رويا عن ابن عباس، وبالأول قال قتادة، وبالثاني قال مجاهد.
والثالث: أحسنه، ولم يتعلمه من أحد، كما يقال: فلان يحسن كذا: إذا علمه، قاله السدي،
ومقاتل.
والرابع: أن المعنى ألهم خلقه كل ما يحتاجون إليه، كأنه أعلمهم كل ذلك وأحسنهم، قاله
الفراء.
والخامس: أحسن إلى كل شئ خلقه، حكاه الماوردي.
وفي قوله تعالى: " خلقه " قراءتان. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: " خلقه " ساكنة
اللام. وقرأ الباقون بتحريك اللام. وقال الزجاج: فتحها على الفعل الماضي، وتسكينها على
البدل، فيكون المعنى: أحسن خلق كل شئ خلقه. و قال أبو عبيدة: المعنى: أحسن خلق كل
شئ، و العرب تفعل مثل هذا، يقدمون ويؤخرون.
قوله تعالى: (وبدأ خلق الإنسان) يعني آدم، (ثم جعل نسله) أي: ذريته وولده، وقد سبق
شرح الآية.
ثم رجع إلى آدم فقال: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) وقد سبق بيان ذلك. ثم عاد إلى
ذريته فقال: (وجعل لكم السمع والأبصار) أي: بعد كونكم نطفا.
وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون (10) قل
يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون (11) ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا
رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون (12)
172

قوله تعالى: (وقالوا) يعني منكري البعث (أإذا ضللنا في الأرض) وقرأ علي بن أبي طالب،
وعلي بن الحسين، وجعفر بن محمد، وأبو رجاء، وأبو مجلز، وحميد، وطلحة: " ضللنا " بضاد
معجمة وكسر اللام الأولى. قال الفراء: ضللنا وضللنا لغتان، و المعنى: إذا صارت عظامنا ولحومنا
ترابا كالأرض، تقول: ضل الماء في اللبن، وضل الشئ في الشئ: إذا أخفاه وغلب عليه.
وقرأ أبو نهيك، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: " ضللنا " بضم المعجمة
وتشديد اللام الأولى وكسرها. وقرأ الحسن، وقتادة، ومعاذ القارئ: " صللنا " بصاد غير معجمة مفتوحة،
وذكر لها الزجاج معنيين:
أحدهما: أنتنا وتغيرنا وتغيرت صورنا، يقال: صل اللحم وأصل: أنتن وتغير.
والثاني: صرنا من جنس الصلة، وهي الأرض اليابسة.
قوله تعالى: (أإنا لفي خلق جديد)؟! هذا استفهام إنكار.
قوله تعالى: (الذي وكل بكم) أي: بقبض أرواحكم (ثم إلى ربكم ترجعون) يوم الجزاء.
ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم) أي:
مطأطئوها حياء وندما، (ربنا) فيه إضمار " يقولون ربنا " (أبصرنا وسمعنا) أي: علمنا صحة ما كنا
به مكذبين (فارجعنا) إلى الدنيا، وجواب " لو " متروك، تقديره: لو رأيت حالهم لرأيت ما يعتبر به،
ولشاهدت العجب.
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس
أجمعين (13) فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم
تعملون (14) إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا
يستكبرون (15) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم
ينفقون (16) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (17)
قوله تعالى: (ولكن حق القول مني) أي: وجب وسبق، والقول هو قوله [تعالى]
لإبليس (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين).
قوله تعالى: (لأملأن جهنم من الجنة والناس) أي: من كفار الفريقين. (فذوقوا) قال
مقاتل: إذا دخلوا قالت لهم الخزنة: فذوقوا العذاب. وقال غيره: إذا اصطرخوا فيها قيل لهم:
173

(فذوقوا) قال مقاتل: إذا دخلوا قالت لهم الخزنة فذوقوا العذاب. و قال غيره: إذا اصطرخوا فيها
قيل لهم: ذوقوا بما نسيتم، أي بما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، (إنا نسيناكم) أي: تركناكم من
الرحمة.
قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها) أي: وعظوا بها (خروا سجدا)
أي: سقطوا على وجوههم ساجدين. وقيل: المعنى: إنما يؤمن بفرائضنا من الصلوات الخمس
الذين إذا ذكروا بها بالأذان والإقامة خروا سجدا.
قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم) اختلفوا فيمن نزلت وفي الصلاة التي تتجافى لها جنوبهم
على أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في المتهجدين بالليل، روى معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله:
" تتجافى جنوبهم " قال: " قيام العبد من الليل " وفي لفظ آخر أنه قال لمعاذ: " إن شئت أنبأتك
بأبواب الخير "، قال: قلت أجل يا رسول الله، قال: " الصوم جنة، والصدقة تكفر الخطيئة،
وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله "، ثم قرأ: " تتجافى جنوبهم عن المضاجع ".
وكذلك قال الحسن، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وقتادة، وابن زيد أنها في قيام الليل. و قد
روى العوفي عن ابن عباس قال: تتجافى جنوبهم لذكر الله [تعالى]، كلما استيقظوا ذكروا الله
[تعالى]، إما في الصلاة، وإما في قيام، أو في قعود، أو على جنوبهم، فهم لا يزالون يذكرون
الله [عز وجل].
والثاني: أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] كانوا يصلون ما بين المغرب
والعشاء، قاله أنس بن مالك.
والثالث: أنها نزلت في صلاة العشاء كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لا ينامون حتى يصلوها،
قاله ابن عباس.
و الرابع: أنها صلاة العشاء والصبح في جماعة، قاله أبو الدرداء، والضحاك.
ومعنى " تتجافى ": ترتفع. والمضاجع جمع مضجع، وهو الموضع الذي يضطجع عليه.
(يدعون ربهم خوفا) من عذابه (وطمعا) في رحمته وثوابه (ومما رزقناهم ينفقون) في
الواجب والتطوع.
174

(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم) وأسكن ياء " أخفي " حمزة، ويعقوب. قال الزجاج في:
هذا الآية دليل على أن المراد بالآية التي قبلها: الصلاة في جوف الليل، لأنه عمل يستسر الإنسان
به فجعل لفظ ما يجازي به " أخفي لهم "، وإذا فتحت الياء من أخفي، فعلى تأويل الفعل
الماضي، وإذا أسكنتها، فالمعنى: ما أخفي لهم، إخبار عن الله تعالى، وكذلك قال الحسن
البصري: أخفي لهم، بالخفية خفية، وبالعلانية علانية. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم
" يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر، اقرؤوا إن شئتم: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم).
(من قرة أعين) وقرأ أبو الدرداء، وأبو هريرة، وأبو عبد الرحمن السلمي، والشعبي،
وقتادة: " من قرأت أعين " بألف على الجمع.
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون (18) أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم
جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون (19) وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا
منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (20) ولنذيقنهم من
العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون (21) ومن أظلم ممن ذكر بآيات
ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون (22)
قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال لعلي بن أبي طالب [عليه السلام]: أنا أحد
منك سنانا، وأبسط منك لسانا، وأملأ للكتيبة منك، فقال له علي: اسكت فإنما أنت فاسق،
فنزلت هذه الآية، فعنى بالمؤمن عليا، وبالفاسق الوليد، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه
قال عطاء بن يسار، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومقاتل.
والثاني: أنها نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل، قاله شريك.
قوله تعالى: (لا يستوون) قال الزجاج: لا يستوي المؤمنون والكافرون، ويجوز أن تكون
لاثنين، لأن معنى الاثنين جماعة، وقد شهد الله [عز وجل] بهذا الكلام لعلي [عليه السلام]
175

بالإيمان وأنه في الجنة، لقوله تعالى: (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات
المأوى). وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرف: " جنة المأوى " على التوحيد.
قوله تعالى: (نزلا) قرأ الحسن، والنخعي، والأعمش، وابن أبي عبلة: " نزلا " بتسكين
الزاي. وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله تعالى: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى) وفيه ستة
أقوال:
أحدها: أنه ما أصابهم يوم بدر، رواه مسروق عن ابن مسعود، وبه قال قتادة، والسدي.
والثاني: سنون أخذوا بها، رواه أبو عبيدة عن ابن مسعود، وبه قال النخعي. وقال مقاتل:
أخذوا بالجوع سبع سنين.
والثالث: مصائب الدنيا، قاله أبي بن كعب، وابن عباس في رواية ابن أبي طلحة، وأبو
العالية، والحسن، وقتادة، والضحاك.
والرابع: الحدود، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والخامس: عذاب القبر، قاله البراء.
والسادس: القتل والجوع، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (دون العذاب الأكبر) أي: قبل العذاب الأكبر، وفيه قولان:
أحدهما: أنه عذاب يوم القيامة، قاله ابن مسعود.
والثاني: أنه القتل ببدر، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (لعلهم يرجعون) قال أبو العالية: لعلهم يتوبون. وقال ابن مسعود: لعل
من بقي منهم يتوب. وقال مقاتل: لكي يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان.
قوله تعالى: (ومن أظلم) قد فسرناه في الكهف.
قوله تعالى: (إنا من المجرمين منتقمون) قال يزيد بن رفيع: هم أصحاب القدر. وقال
مقاتل: هم كفار مكة انتقم الله منهم بالقتل ببدر، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، وعجل
أرواحهم إلى النار.
ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني
إسرائيل (23) وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (24)
176

إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (25) أو لم يهد لهم كم
أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون (26)
أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم
أفلا يبصرون (27) ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين (28) قل يوم الفتح لا ينفع
الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون (29) فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون (30)
قوله تعالى: (و لقد آتينا موسى الكتاب) يعني التوراة (فلا تكن في مرية من لقائه) فيه
أربعة أقوال:
أحدها: فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربه، رواه ابن عباس عن رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم].
و الثاني: من لقاء موسى ليلة الإسراء، قاله أبو العالية، ومجاهد، وقتادة، وابن السائب.
والثالث: فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقي موسى، قاله الحسن.
والرابع: لا تكن في مرية من تلقى موسى كتاب الله [عز و جل] بالرضى والقبول، قاله السدي.
قال الزجاج: وقد قيل: فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب، فتكون الهاء للكتاب. وقال أبو
علي الفارسي: المعنى: من لقاء موسى الكتاب، فأضيف المصدر إلى ضمير الكتاب، وفي ذلك
مدح على امتثاله ما أمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل. وفي قوله: (و جعلناه هدى)
قولان:
أحدهما: الكتاب، قاله الحسن.
والثاني: موسى، قاله قتادة.
(وجعلنا منهم) أي: من بني إسرائيل (أئمة) أي: قادة في الخير (يهدون بأمرنا)
أي: يدعون الناس إلى طاعة الله (لما صبروا) و قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو،
وابن عامر: " لما صبروا " بفتح اللام وتشديد الميم. وقرأ حمزة، والكسائي: " لما " بكسر اللام
خفيفة. وقرأ ابن مسعود: " بما " بباء مكان اللام، والمراد: صبرهم على دينهم وأذى عدوهم
(وكانوا بآياتنا يوقنون) أنها من الله عز وجل، وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم الأنبياء.
والثاني: أنهم قوم صالحون سوى الأنبياء. وفي هذا تنبيه لقريش أنكم إن أطعتم جعلت
منكم أئمة.
قوله تعالى: (إن ربك هو يفصل بينهم) أي: يقضي ويحكم، وفي المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم الأنبياء وأممهم.
177

والثاني: المؤمنون والمشركون.
ثم خوف كفار مكة بقوله [تعالى]: (أو لم يهد لهم) وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي:
" نهد " بالنون. وقد سبق تفسيره.
(أو لم يروا أنا نسوق الماء) يعني المطر والسيل (إلى الأرض الجرز) وهي التي لا تنبت -
وقد ذكرناها في أول الكهف - فإذا جاء الماء أنبت فيها ما يأكل الناس والأنعام.
(ويقولون) يعني كفار مكة (متى هذا الفتح) وفيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه ما فتح يوم بدر، روى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: يوم بدر فتح
للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، فلم ينفع الذين كفروا إيمانهم بعد الموت.
والثاني: أنه يوم القيامة، وهو يوم الحكم بالثواب والعقاب، قاله مجاهد.
والثالث: أنه اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب في الدنيا، قاله السدي.
والرابع: فتح مكة، قاله ابن السائب، والفراء، وابن قتيبة، وقد اعترض على هذا القول،
فقيل: كيف لا ينفع الكفار إيمانهم يوم الفتح، وقد أسلم جماعة وقبل إسلامهم يومئذ؟! ففيه
جوابان:
أحدهما: لا ينفع من قتل من الكفار يومئذ إيمانهم بعد الموت، وقد ذكرناه عن ابن عباس.
وقد ذكر أهل السير أن خالدا دخل يوم الفتح من غير الطريق التي دخل منها رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم]،
فلقيه صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو في آخرين فقاتلوه، فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم، فقتل
أربعة وعشرين من قريش، وأربعة من هذيل، وانهزموا: فلما ظهر رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] قال: " ألم
أنه عن القتال "؟ فقيل: إن خالدا قوتل فقاتل.
والثاني: لا ينفع الكفار ما أعطوا من الأمان، لأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: " من أغلق بابه فهو
آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ". قال الزجاج: يقال: آمنت فلانا، فعلى هذا يكون
المعنى: لا يدفع هذا الأمان عنهم عذاب الله [عز و جل]. وهذا القول الذي قد دافعنا عنه ليس
بالمختار، وإنما بينا وجهه لأنه قد قيل.
وقد خرج بما ذكرنا في الفتح قولان:
أحدهما: أنه الحكم والقضاء، وهو الذي تختاره.
والثاني: فتح البلد.
قوله تعالى: (فأعرض عنهم وانتظر) أي: انتظر عذابهم (إنهم منتظرون) بك حوادث
الدهر. قال المفسرون: وهذه الآية منسوخة بأية السيف. والله أعلم بالصواب.
178

(33) سورة الأحزاب مدنية
و آياتها ثلاث و سبعون
وهي مدنية بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما (1) واتبع
ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا (2) وتوكل على الله وكفى بالله
وكيلا (3) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللاءي تظهرون
منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو
يهدي السبيل (4)
قوله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله) سبب نزولها أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي
جهل، وأبا الأعور السلمي، قدموا على رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] في الموادعة التي كانت بينهم، فنزلوا
على عبد الله بن أبي، ومتعب بن قشير، والجد بن قيس، فتكلموا فيما بينهم، وأتوا رسول الله
[صلى الله عليه و آله و سلم] فدعوه إلى أمرهم وعرضوا عليه أشياء كرهها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن
عباس. قال مقاتل: سألوا رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] أن يرفض ذكر اللات والعزى ويقول: إن لها شفاعة،
فكره ذلك، ونزلت الآية. وقال ابن جرير: (ولا تطع الكافرين) الذين يقولون: اطرد عنا
أتباعك من ضعفاء المسلمين (والمنافقين) فلا تقبل منهم رأيا. فإن قيل: ما الفائدة في أمر الله
179

تعالى رسوله بالتقوى، وهو سيد المتقين؟! فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن المراد بذلك استدامة ما هو عليه.
والثاني: الإكثار مما هو فيه.
والثالث: أنه خطاب ووجه به، والمراد أمته.
قال المفسرون: وأراد بالكافرين في هذه الآية: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور،
وبالمنافقين: عبد الله بن أبي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق. وما بعد هذا
قد سبق بيانه إلى قوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) وفي سبب نزولها
قولان:
أحدهما: أن المنافقين كانوا يقولون: لمحمد قلبان، قلب معنا، وقلب مع أصحابه،
فأكذبهم الله تعالى، ونزلت هذه الآية، قاله ابن عباس و
والثاني: أنها نزلت في جميل بن معمر الفهري - كذا نسبه جماعة من المفسرين. وقال
الفراء: جميل بن أسد، ويكنى: أبا معمر. وقال مقاتل: أبو معمر بن أنس الفهري - وكان لبيبا
حافظا لما سمع، فقالت قريش: ما حفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان في جوفه، وكان يقول: إن لي
قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما كان يوم بدر وهزم المشركون ومنهم يومئذ
جميل بن معمر، تلقاه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له: ما
حال الناس؟ قال: انهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما
شعرت إلا أنهما في رجلي، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده، وهذا قول
جماعة من المفسرين. وقد قال الزهري في هذا قولا عجيبا، قال: بلغنا أن ذلك في زيد بن
حارثة ضرب له مثل يقول: ليس ابن رجل آخر ابنك. قال الأخفش: " من " زائدة في قوله
[تعالى]: " من قلبين ".
قال الزجاج: أكذب الله عز وجل هذا الرجل الذي قال: لي قلبان، ثم قرر بهذا الكلام ما
يقوله المشركون وغيرهم مما لا حقيقة له، فقال: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن
أمهاتكم) فأعلم الله تعالى أن الزوجة لا تكون أما، وكانت الجاهلية تطلق بهذا الكلام: وهو أن
يقول لها: أنت علي كظهر أمي، وكذلك قوله تعالى: (و ما جعل أدعياءكم أبناءكم) أي: ما
جعل من تدعونه ابنا - وليس بولد في الحقيقة - ابنا (ذلكم قولكم بأفواهكم) أي: نسب من لا
180

حقيقة لنسبه قول بالفم لا حقيقة (و الله يقول الحق) أي: لا يجعل غير الابن ابنا (وهو يهدي
السبيل) أي: السبيل المستقيم.
وذكر المفسرون أن قوله تعالى: " وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن " نزلت في أوس
بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة.
ومعنى الكلام: ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن كأمهاتكم في التحريم، إنما قولكم
معصية، وفيه كفارة، وأزواجكم حلال لكم، وسنشرح هذا في سورة المجادلة إن شاء الله.
وذكروا أن قوله [تعالى]: وما جعل أدعياءكم أبناءكم نزل في زيد بن حارثة، أعتقه رسول الله
[صلى الله عليه و آله و سلم] وتبناه قبل الوحي، فلما تزوج رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون:
تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها، فنزلت هذه الآية.
ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين
ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا
رحيما (5) النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان
ذلك في الكتاب مسطورا (6)
قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم) قال ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن
محمد، حتى نزلت " أدعوهم لآبائهم ".
قوله تعالى: (هو أقسط) أي: أعدل، (فإن لم تعلموا آباءهم) أي: إن لم تعرفوا
آباءهم (فإخوانكم) أي: فهم إخوانكم، فليقل أحدكم: يا أخي، (ومواليكم) قال الزجاج:
أي بنو عمكم. ويجوز أن يكون " مواليكم " أولياءكم في الدين. (و ليس عليكم جناح فيما
أخطأتم به) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: فيما أخطأتم به قبل النهي، قاله مجاهد.
والثاني: في دعائكم من تدعونه إلى غير أبيه وأنتم ترونه كذلك، قاله قتادة.
181

والثالث: فيما سهوتم فيه، قاله حبيب بن أبي ثابت.
فعلى الأول يكون معنى قوله [تعالى]: (ولكن ما تعمدت قلوبكم) أي: بعد النهي. وعلى الثاني
والثالث. ما تعمدت في دعاء الرجل إلى غير أبيه.
قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) أي: أحق، فله أن يحكم فيهم بما
يشاء، قال ابن عباس: إذا دعاهم إلى شئ، ودعتهم أنفسهم إلى شئ، كانت طاعته أولى من
طاعة أنفسهم، وهذا صحيح، فإن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، والرسول [عليه السلام]
يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم.
قوله تعالى: (و أزواجه أمهاتهم) أي: في تحريم نكاحهن على التأبيد، ووجوب إجلالهن
وتعظيمهن، ولا تجري عليهن أحكام الأمهات في كل شئ، إذ لو كان كذلك لما جاز لأحد أن
يتزوج بناتهن، ولورثن المسلمين، ولجازت الخلوة بهن. وقد روى مسروق عن عائشة أن امرأة
قالت: يا أماه، فقالت: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم، فبان بهذا الحديث أن معنى الأمومة
تحريم نكاحهن فقط. وقال مجاهد: " وأزواجه أمهاتهم " وهو أب لهم. وما بعد هذا مفسر في
آخر الأنفال إلى قوله [تعالى]: (من المؤمنين والمهاجرين) والمعنى أن ذوي القرابات بعضهم
أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة كما كانوا يفعلون قبل النسخ (إلا أن تفعلوا إلى
أوليائكم معروفا) وهذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفا جائز،
وذلك أن الله تعالى لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة، أباح الوصية للمعاقدين، فللانسان أن
يوصي لمن يتولاه بما أحب من ثلثه. فالمعروف ها هنا: الوصية.
قوله تعالى: (كان ذلك) يعني نسخ الميراث بالهجرة ورده إلى ذوي الأرحام (في
الكتاب) يعني اللوح المحفوظ (مسطورا) أي: مكتوبا.
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم
وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7) ليسئل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا
أليما (8) يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا
وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا (9)
182

قوله تعالى: (وإذ أخذنا) المعنى: واذكر إذا أخذنا (من النبيين ميثاقهم) أي:
عهدهم، وفيه قولان:
أحدهما: أخذ ميثاق النبيين: أن يصدق بعضهم بعضا، قاله قتادة.
والثاني: أن يعبدوا الله [تعالى] ويدعوا إلى عبادته، ويصدق بعضهم بعضا، وأن ينصحوا
لقومهم، قاله مقاتل.
وهذا الميثاق أخذ منهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذر. قال أبي بن كعب: لما أخذ ميثاق
الخلق خص النبيين بميثاق آخر.
فإن قيل: لم خص الأنبياء الخمسة بالذكر دون غيرهم من الأنبياء؟ فالجواب: أنه نبه بذلك
على فضلهم، لأنهم أصحاب الكتب والشرائع، وقدم نبينا صلى الله عليه و آله و سلم بيانا لفضله عليهم. قال قتادة: كان
نبينا أول النبيين في الخلق. و قوله: (ميثاقا غليظا) أي: شديدا على الوفاء بما حملوا. وذكر
المفسرون أن ذلك العهد الشديد: اليمين بالله عز وجل (ليسأل الصادقين) يقول: أخذنا ميثاقهم
لكي نسأل الصادقين، وهم الأنبياء (عن صدقهم) في تبليغهم. ومعنى سؤال الأنبياء - وهو يعلم
صدقهم - تبكيت مكذبيهم. وهاهنا تم الكلام. ثم أخبر بعد ذلك عما أعد للكافرين بالرسل.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود) وهم الذين
تحزبوا على رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] أيام الخندق.
الإشارة إلى القصة
ذكر أهل العلم بالسيرة أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم لما أجلي بني النضير، ساروا إلى خيبر، فخرج نفر
من أشرافهم إلى مكة فألبوا قريشا ودعوهم إلى الخروج لقتاله، ثم خرجوا من عندهم فأتوا غطفان
وسليم، ففارقوهم على مثل ذلك. وتجهزت قريش ومن تبعهم من العرب، فكانوا أربعة آلاف،
وخرجوا يقودهم أبو سفيان، ووافتهم بنو سليم ب‍ " مر الظهران "، وخرجت بنو أسد، وفزارة،
وأشجع، وبنو مرة، فكان جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف، وهم الأحزاب، فلما
بلغ رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] خروجهم من مكة، أخبر الناس خبرهم، وشاورهم، فأشار سلمان
بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، وعسكر بهم رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] إلى سفح " سلع "، وجعل
سلعا خلف ظهره، ودس أبو سفيان بن حرب حيي بن أخطب إلى بني قريظة يسألهم أن ينقضوا
العهد الذي بينهم وبين رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] ويكونوا معهم عليه، فأجابوا، واشتد الخوف، وعظم
البلاء، ثم جرت بينهم مناوشة وقتال، وحصر رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] و أصحابه بضع عشرة ليلة حتى
183

خلص إليهم الكرب، وكان نعيم بن مسعود الأشجعي قد أسلم، فمشى بين قريش وقريظة وغطفان
فخذل بينهم، فاستوحش كل منهم من صاحبه، واعتلت قريظة بالسبت فقالوا: لا يقاتل فيه،
وهبت ليلة السبت ريح شديدة، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله لستم بدار مقام،
لقد هلك الخف والحافر، وأجدب الجناب، وأخلفتنا قريظة، ولقينا من الريح ما ترون، فارتحلوا
فإني مرتحل، فأصبحت العساكر قد أقشعت كلها، قال مجاهد: والريح التي أرسلت عليهم هي
الصبا، حتى أكفأت قدورهم، " ونزعت فساطيطهم. والجنود: الملائكة، ولم تقاتل يومئذ.
وقيل: إن الملائكة جعلت تقلع أوتادهم وتطفئ نيرانهم وتكبر في جوانب عسكرهم، فاشتدت
عليهم، فانهزموا من غير قتال.
قوله تعالى: (لم تروها) وقرأ النخعي، والجحدري، والجوني، وابن السميفع: " لم
يروها " بالياء (و كان الله بما تعملون بصيرا) وقرأ أبو عمرو: " يعملون " بالياء.
إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر
وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11) وإذ يقول
المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا (12)
قوله تعالى: (إذ جاؤوكم من فوقكم) أي: من فوق الوادي ومن أسفله (وإذا زاغت
الأبصار) أي: مالت وعدلت، فلم تنظر إلى شئ إلا إلى عدوها مقبلا من كل جانب (وبلغت
القلوب الحناجر) وهي جمع حنجرة. والحنجرة: جوف الحلقوم. قال قتادة: شخصت عن
مكانها، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت. قال غيره: المعنى أنهم جبنوا وجزع
أكثرهم، وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فيرتفع حينئذ القلب إلى الحنجرة، وهذا
المعنى مروي عن ابن عباس والفراء. وذهب ابن قتيبة إلى أن المعنى: كادت القلوب تبلغ الحلوق
من الخوف وقال ابن الأنباري: " كاد " لا يضمر ولا يعرف معناه إذا لم ينطق به.
قوله تعالى: (وتظنون بالله الظنونا) قال الحسن: اختلفت ظنونهم، و ظن المنافقون أن
محمدا [عليه السلام] وأصحابه يستأصلون، وظن المؤمنون أنه ينصر.
184

قرأ ابن كثير، والكسائي، وحفص عن عاصم: " الظنونا " و " الرسولا " و " السبيلا "
بألف إذا وقفوا عليهن، وبطرحها في الوصل. وقال هبيرة عن حفص عن عاصم: وصل أو وقف
بألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بالألف فيهن وصلا ووقفا. وقرأ أبو عمرو،
وحمزة، والكسائي: بغير ألف في وصل ولا وقف. قال الزجاج: والذي عليه حذاق النحويين
والمتبعون السنة من قرائهم أن يقرؤوا: " الظنونا " ويقفون على الألف ولا يصلون، وإنما فعلوا
ذلك، لأن أواخر الآيات عندهم فواصل يثبتون في آخرها الألف في الوقف.
قوله تعالى: (هنالك) أي: عند ذلك (ابتلى المؤمنون) أي: اختبروا بالقتال
والحصر ليتبين المخلص من المنافق (وزلزلوا) أي: أزعجوا وحركوا بالخوف، فلم يوجدوا إلا
صابرين. وقال الفراء: حركوا إلى الفتنة تحريكا، فعصموا.
قوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) فيه قولان:
أحدهما: أنه الشرك، قاله الحسن.
والثاني: النفاق، قاله قتادة، (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) قال المفسرون: قالوا
يومئذ: إن محمدا يعدنا أن نفتح مدائن كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله! هذا والله
الغرور. وزعم ابن السائب أن قائل هذا معتب بن قشير.
وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم
النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (13) ولو دخلت عليهم من
أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا (14) ولقد كانوا عاهدوا الله من
قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا (15) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من
الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا (16) قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد
بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (17)
185

قوله تعالى: (و إذ قالت طائفة منهم) يعني من المنافقين. وفي القائلين لهذا منهم قولان:
أحدهما: عبد الله بن أبي وأصحابه، قاله السدي.
والثاني: بنو سالم من المنافقين، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (يا أهل يثرب) قال أبو عبيدة: يثرب: اسم أرض، ومدينة النبي صلى الله عليه و آله وسلم في ناحية
منها.
قوله تعالى: (لا مقام لكم) وقرأ حفص عن عاصم: " لا مقام " بضم الميم. قال
الزجاج: من ضم الميم، فالمعنى: لا إقامة لكم، ومن فتحها، فالمعنى: لا مكان لكم
تقيمون فيه. وهؤلاء كانوا يثبطون المؤمنين عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم.
قوله تعالى: (فارجعوا) أي: إلى المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم خرج بالمسلمين حتى
عسكروا ب‍ " سلع "، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم، فقال المنافقون للناس: ليس لكم هاهنا
مقام، لكثرة العدو، هذا قول الجمهور. وحكى الماوردي قولين آخرين.
أحدهما: لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب، قاله الحسن.
والثاني: لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى طلب الأمان، قاله الكلبي.
قوله تعالى: (ويستأذن فريق منهم النبي) فيه قولان:
أحدهما: أنهم بنو حارثة، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: بنو حارثة بن الحارث بن
الخزرج. وقال السدي: إنما استأذنه رجلان من بني حارثة.
والثاني: بنو حارثة، وبنو سلمة بن جشم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (إن بيوتنا عورة) قال ابن قتيبة: أي: خالية، فقد أمكن من أراد دخولها،
وأصل العورة: ما ذهب عنه الستر والحفظ، فكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت، فإذا ذهبوا عورت
البيوت، تقول العرب: أعور منزلك: إذا ذهب ستره، أو سقط جداره، وأعور: إذا بان منه
موضع خلل للضرب والطعن، يقول الله [تعالى] (وما هي بعورة) لأن الله [تعالى] يحفظها، ولكن
يريدون الفرار. وقال الحسن، ومجاهد قالوا: بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق. و قال قتادة: قالوا: بيوتنا
مما يلي العدو، ولا نأمن على أهلنا، فكذبهم الله [تعالى] وأعلم أن قصدهم الفرار.
قوله تعالى (ولو دخلت عليهم من أقطارها) يعني المدينة، والأقطار: النواحي والجوانب،
واحدها: قطر، (ثم سئلوا الفتنة) وقرأ علي بن أبي طالب [رضي الله عنه]، والضحاك،
والزهري، وأبو عمران وأبو جعفر، وشيبة: " ثم سيلوا " برفع السين وكسر الياء من غير همز.
186

وقرأ أبي بن كعب، ومجاهد وأبو الجوزاء: ثم سوءلوا " برفع السين ومد الواو بهمزة مكسورة بعدها.
وقرأ الحسن، وأبو الأشهب: " ثم سولوا " برفع السين وسكون الواو من غير مد ولا همز. وقرأ
الأعمش، وعاصم الجحدري: " ثم سيلوا " بكسر السين ساكنة الياء من غير همز ولا واو. ومعنى:
" سئلوا الفتنة "، سئلوا فعلها، والفتنة: الشرك، (لآتوها) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر:
" لآتوها " بالقصر، أي: لقصدوها، ولفعلوها. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي:
" لآتوها " بالمد، لأعطوها. قال ابن عباس في معنى الآية لو أن الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم
بالشرك لأشركوا.
قوله تعالى: (وما تلبثوا بها إلا يسيرا) فيه قولان:
أحدهما: وما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلا، قاله قتادة.
والثاني: وما تلبثوا بالمدينة بعد الإجابة إلا يسيرا حتى يعذبوا، قاله السدي، وحكى أبو
سليمان الدمشقي في الآية قولا عجيبا، وهو أن الفتنة هاهنا: الحرب، والمعنى: ولو دخلت
المدينة على أهلها من أقطارها، ثم سئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادرين، وما تلبثوا - يعني
الجيوش الداخلة عليهم بها - إلا قليلا حتى يخرجوهم منها، وإنما منعهم من القتال معك ما قد
تداخلهم من الشك في دينك، قال وهذا المعنى حفظته من كتاب الواقدي.
قوله تعالى: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل) في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر، فلما علموا ما أعطى الله [عز وجل] أهل بدر من
الكرامة قالوا: لئن شهدنا قتالا لنقاتلن، قاله قتادة.
والثاني: أنهم أهل العقبة، وهم سبعون رجلا بايعوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على طاعة الله
[تعالى] ونصرة رسوله، قاله مقاتل.
والثالث: أنه لما نزل بالمسلمين يوم أحد ما نزل، عاهد الله [تعالى] معتب بن قشير وثعلبة
ابن حاطب: لا نولي دبرا قط، فلما كان يوم الأحزاب نافقا، قاله الواقدي، واختاره أبو سليمان
الدمشقي، وهو أليق مما قبله. وإذا كان الكلام في حق المنافقين، فكيف يطلق القول على أهل
العقبة كلهم!
قوله تعالى: (وكان عهد الله مسؤولا) أي: يسألون عنه في الآخرة.
ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم، فقال: (قل لن ينفعك الفرار إن فررتم من الموت
أو القتل وإذا لا تمتعون) بعد الفرار في الدنيا (إلا قليلا) وهو باقي آجالكم.
187

ثم أخبر أن ما قدره عليهم لا يدفع بقوله [تعالى]: (من ذا الذي يعصمكم من الله)
أي: يجيركم ويمنعكم منه (إن أراد بكم سوءا) وهو الإهلاك والهزيمة والبلاء (أو أراد بكم
رحمة) وهي النصر والعافية والسلامة (ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) أي: لا
يجدون مواليا ولا ناصرا يمنعهم من مراد الله [عز و جل] فيهم.
قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا
قليلا (18) أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى
عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا
فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا (19) يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت
الأحزاب يودوا لو أنهم بأدون في الأعراب يسئلون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا
إلا قليلا (20) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر
وذكر الله كثيرا (21) ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق
الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما (22)
قوله تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم) في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن رجلا انصرف من عند رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يوم الأحزاب، فوجد أخاه لأبيه و أمه
وعنده شواء ونبيذ، فقال له: أنت هاهنا ورسول الله بين الرماح والسيوف؟! فقال: هلم إلي، لقد
أحيط بك وبصاحبك، والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا، فقال له: كذبت، والذي يحلف
به، أما والله لأخبرن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بأمرك، فذهب إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليخبره، فوجده قد
نزل جبريل بهذه الآية إلى قوله [تعالى]: (يسيرا)، هذا قول ابن زيد.
والثاني: أن عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إلى
المدينة، كانوا إذا جاءهم منافق قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرج، ويكتبون بذلك إلى إخوانهم
الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فانا ننتظركم - يثبطونهم عن القتال - وكانوا لا يأتون العسكر إلا
188

أن لا يجدوا بدا، فيأتون ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة، فنزلت هذه
الآية، قاله ابن السائب.
والمعوق: المثبط، تقول: عاقني فلان، واعتاقني، وعوقني: إذا منعك عن الوجه الذي
تريده. وكان المنافقون يعوقون عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نصاره.
قوله تعالى: (والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) فيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد.
والثاني: أنهم اليهود دعوا إخوانهم من المنافقين إلى ترك القتال، قاله مقاتل.
والثالث: أنهم المنافقون دعوا المسلمين إليهم عن رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم]، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (و لا يأتون البأس) أي: لا يحضرون القتال في سبيل الله [عز وجل] (إلا
قليلا) للرياء والسمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك الله [عز وجل] لكان كثيرا.
قوله تعالى: (أشحة عليكم) قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: لا يأتون
الحرب إلا تعذيرا، بخلاء عليكم.
وللمفسرين فيما شحوا به أربعة أقوال:
أحدها: أشحة بالخير، قاله مجاهد.
والثاني: بالنفقة في سبيل الله [عز و جل].
والثالث: بالغنيمة، رويا عن قتادة. وقال الزجاج: بالظفر والغنيمة.
والرابع: بالقتال معكم، حكاه الماوردي.
ثم أخبر عن جبنهم فقال: (فإذا جاء الخوف) أي: إذا حضر القتال (رأيتهم ينظرون إليك
تدور أعينهم كالذي يغشى عليه) من الموت أي: كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت،
وهو الذي دنا موته وغشيته أسبابه، فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يطرف، فكذلك
هؤلاء، لأنهم يخافون القتل.
(فإذا ذهب الخوف سلقوكم) قال الفراء: يقول آذوكم بالكلام في الأمن (بألسنة حداد)
سليطة ذربة، والعرب تقول: صلقوكم، بالصاد، ولا يجوز في القراءة، هذا قول الفراء. وقد قرأ
بالصاد أبي بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة في آخرين وقال
الزجاج: معنى " سلقوكم ": خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة، يقال: خطيب مسلاق:
إذا كان بليغا في خطبته (أشحة على الخير) أي: خاطبوكم وهم أشحة على المال والغنيمة. قال
قتادة: إذا كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطونا فلستم أحق بها منا،
189

فأما عند البأس، فأجبن قوم وأخذله للحق، وأما عند الغنيمة، فأشح قوم.
وفى المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الغنيمة.
والثاني: على المال أن ينفقوه في سبيل الله [تعالى].
والثالث: على رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] بظفره.
قوله تعالى: (أولئك لم يؤمنوا) أي: هم وإن أظهروا الإيمان فليسوا بمؤمنين، لنفاقهم
(فأحبط الله أعمالهم) قال مقاتل أي: أبطل جهادهم، لأنه لم يكن في إيمان (وكان ذلك)
الإحباط (على الله يسيرا).
ثم أخبر عنهم بما يدل على جبنهم، فقال: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) أي: يحسب
المنافقون من شدة خوفهم وجبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، (وإن يأت
الأحزاب) أي: يرجعوا إليهم كرة ثانية للقتال (يودوا لو أنهم بأدون في الأعراب) أي: يتمنوا لو
كانوا في بادية الأعراب من خوفهم، (يسألون عن أنبائكم) أي: ودوا لو أنهم بالبعد منكم
يسألون عن أخباركم، فيقولون: ما فعل محمد وأصحابه، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا
بالمشاهدة، فرقا وجبنا، وقيل: بل يسألون شماتة بالمسلمين وفرحا بنكباتهم (ولو كانوا فيكم)
أي: لو كانوا يشهدون القتال معكم (ما قاتلوا إلا قليلا) فيه قولان:
أحدهما: إلا رميا بالحجارة، قاله ابن السائب.
والثاني: إلا رياء من غير احتساب، قاله مقاتل.
ثم عاب من تخلف بالمدينة بقوله [تعالى]: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)
أي: قدوة صالحة. والمعنى: لقد كان لكم به اقتداء لو اقتديتم به في الصبر معه كما صبر يوم
أحد حتى كسرت رباعيته وشج جبينه وقتل عمه، وواساكم مع ذلك بنفسه.
وقرأ عاصم: " أسوة " بضم الألف، والباقون بكسر الألف، وهما لغتان. قال الفراء: أهل الحجاز وأسد
يقولون: " إسوة " بالكسر، وتميم وبعض قيس يقولون: " أسوة " بالضم. وخص الله [تعالى]
بهذه الأسوة المؤمنين، فقال: (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) والمعنى أن الأسوة برسول الله
[صلى الله عليه و آله و سلم] إنما كانت لمن كان يرجو الله وفيه قولان:
أحدهما: يرجو ما عنده من الثواب والنعيم، قاله ابن عباس.
والثاني: يخشى الله [عز و جل] ويخشى البعث، قاله مقاتل.
190

قوله تعالى: (و ذكر الله كثيرا) أي: ذكرا كثيرا، لأن ذاكر الله [تعالى] متبع لأوامره،
بخلاف الغافل عنه.
ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب، فقال: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا
ما وعدنا الله ورسوله) وفي ذلك الوعد قولان:
أحدهما: أنه قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من
قبلكم...) الآية: فلما عاينوا البلاء يومئذ قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، قاله ابن عباس،
وقتادة في آخرين.
والثاني: أن رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] وعدهم النصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحيرة،
ذكره الماوردي وغيره.
قوله تعالى: (و ما زادهم) يعني ما رأوه (إلا إيمانا) بوعد الله [تعالى] (و تسليما)
لأمره.
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر
وما بدلوا تبديلا (23) ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب
عليهم إن الله كان غفورا رحيما (24) ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله
المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا (25) وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من
صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26) وأورثكم أرضهم
وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شئ قديرا (27)
قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) اختلفوا فيمن نزلت على
قولين:
191

أحدهما: أنها نزلت في أنس بن النضر، قاله أنس بن مالك. وقد أخرج البخاري ومسلم من
حديث أنس بن مالك قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فلما قدم قال: غبت عن أول
قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم المشركين، لئن اشهدني الله عز وجل قتالا ليرين الله ما أصنع، فلما كان
يوم أحد انكشف الناس، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعني المشركين، وأعتذر
إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، ثم مشى بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ، فقال:
أي سعد، والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد، واها لريح الجنة. قال سعد: فما
استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة، من ضربة
بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، قد مثلوا به، قال: فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه، قال
أنس: فكنا نقول: أنزلت هذه الآية " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " فيه وفي
أصحابه.
والثاني: أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله. روى النزال بن سبرة عن علي [عليه السلام]
أنهم قالوا له: حدثنا عن طلحة، قال: ذاك امرؤ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى: " فمنهم من
قضى نحبه " لا حساب عليه فيما يستقبل. وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في
طلحة، وأولها في أنس. قال ابن جرير: ومعنى الآية: وفوا لله بما عاهدوه عليه. وفي ذلك
أربعة أقوال.
أحدها: أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإسلام والنصرة.
والثاني: أنهم قوم لم يشهدوا بدرا، فعاهدوا الله [عز وجل] أن لا يتأخروا بعدها.
والثالث: أنهم عاهدوا أن لا يفروا إذا لاقوا، فصدقوا.
والرابع: أنهم عاهدوا على البأساء والضراء وحين البأس.
192

قوله تعالى: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: فمنهم من مات، ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس و
والثاني: فمنهم من قضى عهده قتل أو عاش. ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال أو لقاء، قاله
مجاهد.
والثالث: فمنهم من قضى نذره الذي كان نذر، قاله أبو عبيدة. فيكون النحب على القول
الأول: الأجل، وعلى الثاني: العهد، وعلى الثالث: النذر. وقال ابن قتيبة: " قضى نحبه "
أي: قتل، وأصل النحب: النذر، كأن قوما نذورا أنهم إن لقوا العدو قاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح
الله عليهم، فقتلوا، فقيل: فلان قضى نحبه، أي: قتل فاستعير النحب مكان الأجل، لأن
الأجل وقع بالنحب، وكان النحب سببا له، ومنه قيل: للعطية: " من "، لأن من أعطى فقد من.
قال ابن عباس: ممن قضى نحبه: حمزة بن عبد المطلب، وأنس بن النضر وأصحابه. وقال ابن
إسحاق: " فمنهم من قضى نحبه " من استشهد يوم بدر وأحد، " ومنهم من ينتظر " ما وعد الله من
نصره، أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه (وما بدلوا) أي: ما غيروا العهد الذي عاهدوا
ربهم عليه كما غير المنافقون.
قوله تعالى: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم) وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا الله
تعالى عليه (ويعذب المنافقين) بنقض العهد (إن شاء) وهو أن يميتهم على نفاقهم (أو يتوب
عليهم) في الدنيا، فيخرجهم من النفاق إلى الإيمان، فيغفر لهم.
(ورد الله الذين كفروا) يعني الأحزاب، صدهم ومنعهم عن الظفر بالمسلمين (بغيظهم)
أي: لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا (لم ينالوا خيرا) أي: لم يظفروا بالمسلمين، وكان ذلك
عندهم خيرا، فخوطبوا على استعمالهم (وكفى الله المؤمنين القتال) بالريح والملائكة، (وأنزل
الذين ظاهروهم) أي: عاونوا الأحزاب، وهم بنو قريظة، وذلك أنهم نقضوا ما بينهم وبين رسول
الله [صلى الله عليه وسلم] من العهد، وصاروا مع المشركين يدا واحدة.
وهذه الإشارة إلى قصتهم
ذكر أهل العلم بالسيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الخندق وضع عنه اللأمة واغتسل،
فتبدى له جبريل، فقال: ألا أراك وضعت اللأمة، وما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة؟!
إن الله [عز وجل] يأمرك أن تسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم حصونهم، فدعا
عليا [رضي الله عنه] فدفع لواءه إليه، وبعث بلالا فنادى في الناس: إن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يأمركم أن
193

لا تصلوا العصر إلا ببني قريظة، ثم سار إليهم فحاصرهم خمسة عشر يوما أشد الحصار، و قيل:
عشرين ليلة، فأرسلوا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأرسله إليهم،
فشاوروه في أمرهم، فأشار إليهم بيده: إنه الذبح، ثم ندم فقال: خنت الله [تعالى] ورسوله،
فانصرف فارتبط في المسجد حتى أنزل الله [تعالى] توبته، ثم نزلوا على حكم رسول الله [صلى الله عليه وسلم]،
فأمر بهم رسول الله محمد بن مسلمة، فكتفوا، ونحوا ناحية، وجعل النساء والذرية ناحية. وكلمت
أوس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يهبهم لهم، وكانوا حلفاءهم، فجعل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الحكم فيهم
إلى سعد بن معاذ، هكذا ذكر محمد بن سعد. وحكى غيره: أنهم نزلوا أولا على حكم سعد بن
معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلف، فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة، فحكم فيهم أن يقتل كل من جرت
عليه المواسي، وتسبى النساء والذراري، وتقسم الأموال. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " لقد حكمت
بحكم الله [تعالى] من فوق سبعة أرقعة "، وانصرف رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم]، وأمر بهم فأدخلوا المدينة،
وحفر لهم أخدود في السوق، وجلس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ومعه أصحابه، وأخرجوا إليه فضربت
أعناقهم، وكانوا ما بين ستمائة إلى السبعمائة.
قوله تعالى: (من صياصيهم) قال ابن عباس وقتادة: من حصونهم، قال ابن قتيبة: وأصل
الصياصي: قرون البقر، لأنها تمتنع بها، وتدفع عن أنفسها، فقيل للحصون: الصياصي، لأنها
تمنع، وقال الزجاج: كل قرن صيصية، وصيصية الديك: شوكة يتحصن بها.
قوله تعالى: (و قذف في قلوبهم الرعب) أي: ألقى فيها الخوف (فريقا تقتلون) وهم
المقاتلة (وتأسرون) وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة: " وتأسرون " برفع السين (فريقا) وهم
النساء والذراري، (وأورثكم أرضهم وديارهم) يعني منازلهم و نخيلهم (و أموالهم) من الذهب
والفضة والحلي والعبيد والإماء (وأرضا لم تطؤوها) بأقدامكم بعد، وهي مما سنفتحها عليكم
وفيها أربعة أقوال:
أحدها: أنها فارس والروم، قاله الحسن.
والثاني: ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة، قاله عكرمة.
والثالث: مكة، قاله قتادة.
والرابع: خيبر، قاله ابن زيد، وابن السائب، وابن إسحاق، ومقاتل.
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن
194

وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات
منكن أجرا عظيما (29) يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب
ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا (30) ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا
نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما (31) يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن
اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32) وقرن في
بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله
ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (33)
اذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا (34)
قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك...) الآية، ذكر أهل التفسير أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
سألنه شيئا من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فآلى رسول
الله [صلى الله عليه وسلم] شهرا، وصعد إلى غرفة له فمكث فيها، فنزلت هذه الآية، وكن أزواجه يومئذ تسعا:
عائشة، وحفصة، وأم حبيبة: وسودة، وأم سلمة، وصفية الخيبرية، وميمونة الهلالية، وزينب بنت
جحش، وجويرية بنت الحارث، فنزل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فعرض الآية عليهن، فبدأ بعائشة،
فاختارت الله ورسوله، ثم قالت: يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني اخترتك، فقال، " إن الله بعثني
مبلغا ولم يبعثني متعنتا ". وقد ذكرت حديث التخيير في كتاب " الحدائق " وفي " المغنى " بطوله.
وفي ما خيرهن فيه قولان:
أحدهما: أنه خيرهن بين الطلاق والمقام معه، هذا قول عائشة رضي الله عنها.
والثاني: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن، أو اختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في
الطلاق، قاله الحسن، وقتادة. و في سبب تخييره إياهن ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهن سألنه زيادة النفقة.
والثاني: أنهن آذينه بالغيرة. والقولان مشهوران في التفسير.
والثالث: أنه لما خير بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة فاختار الآخرة، أمر بتخيير نسائه ليكن على
195

مثل حاله، حكاه أبو القاسم الصيمري.
والمراد بقوله [تعالى]: (أمتعكن): متعة الطلاق. والمراد بالسراح: الطلاق، وقد ذكرنا
ذلك في البقرة. والمراد بالدار الآخرة. الجنة. والمحسنات: المؤثرات للآخرة.
قال المفسرون: فلما اخترنه أثابهن الله عز وجل ثلاثة أشياء:
أحدها: التفضيل على سائر النساء بقوله [تعالى]: (لستن كأحد من النساء).
والثاني: أن جعلهن أمهات المؤمنين.
والثالث: أن حظر عليه طلاقهن والاستبدال بهن بقوله [تعالى]: (لا يحل لك النساء من بعد). وهل أبيح له بعد ذلك التزويج عليهن، فيه قولان سيأتي ذكرهما إن شاء الله [تعالى].
قوله تعالى: (من يأت منكن بفاحشة مبينة) أي: بمعصية ظاهرة. قال ابن عباس: يعني
النشوز وسوء الخلق (يضاعف لها العذاب ضعفين) أي: يجعل عذاب جرمها في الآخرة كعذاب
جرمين، كما أنها تؤتى أجرها على الطاعة مرتين. وإنما ضوعف عقابهن، لأنهن يشاهدن من الزواجر
الرادعة مالا يشاهد غيرهن، فإذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب، ولأن في معصيتهن أذى لرسول
الله [صلى الله عليه وسلم]، وجرم من آذى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أكبر من جرم غيره.
قوله تعالى: (وكان ذلك على الله يسيرا) أي: وكان عذابها على الله [عز وجل] هينا.
(ومن يقنت) أي: تطع، و (أعتدنا) قد سبق بيانه، والرزق الكريم: الحسن، وهو
الجنة.
ثم أظهر فضيلتهن على النساء بقوله [تعالى]: (لستن كأحد من النساء) قال الزجاج: لم
يقل: كواحدة من النساء، لأن " أحدا " نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة. قال ابن
عباس: يريد: ليس قدركن أن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي،
وثوابكن أعظم (إن اتقيتن)، فشرط عليهن التقوى بيانا ان فضيلتهن إنما تكون بالتقوى، لا بنفس
اتصالهن برسول الله [صلى الله عليه وسلم].
قوله تعالى: (فلا تخضعن بالقول) أي: لا تلن بالكلام (فيطمع الذي في قلبه مرض)
أي: فيجوز، والمعنى: لا تقلن قولا يجد به منافق أو فاجر سبيلا إلى موافقتكن له، والمرأة مندوبة
196

إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة.
(وقلن قولا معروفا) أي: صحيحا عفيفا لا يطمع فاجرا.
(وقرن في بيوتكن) قرأ نافع، وعاصم إلا أبان، وهبيرة، والوليد بن مسلم عن ابن عامر:
" وقرن " بفتح القاف، وقرأ الباقون بكسرها. قال الفراء: من قرأ بالفتح، فهو من قررت في المكان،
فخففت، كما قال: (ظلت عليه عاكفا)، ومن قرأ بالكسر، فمن الوقار، يقال: قر في
منزلك، وقال ابن قتيبة: من قرأ بالكسر، فهو من الوقار، يقال: وقر في منزله يقر وقورا. ومن قرأ
بنصب القاف جعله من القرار. وقرأ أبي بن كعب، وأبو المتوكل: " واقررن بإسكان القاف وبراءين
الأولى مفتوحة والثانية ساكنة. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة مثله، إلا أنهما كسرا الراء الأولى.
قال المفسرون: ومعنى الآية: الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن.
قوله تعالى: (ولا تبرجن) قال أبو عبيدة: التبرج: أن يبرزن محاسنهن. وقال الزجاج:
التبرج: إظهار الزينة وما تستدعى به شهوة الرجل، و في (الجاهلية الأولى) أربعة أقوال:
أحدها: أنها كانت بين إدريس ونوح، وكانت ألف سنة، رواه عكرمة عن ابن عباس.
و الثاني: أنها كانت على عهد إبراهيم عليه السلام، وهو قول عائشة رضي الله عنها.
والثالث: بين نوح وآدم، قاله الحكم.
والرابع: ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله الشعبي. قال الزجاج: وإنما قيل:
" الأولى "، لأن كل متقدم أول، وكل متقدمة أولى، فتأويله: أنهم تقدموا أمة محمد صلى الله عليه وسلم و في صفة
تبرج الجاهلية الأولى ستة أقوال:
أحدها: أن المرأة كانت تخرج فتمشي بين الرجال، فهو التبرج، قاله مجاهد.
والثاني: أنها مشية فيها تكسر وتغنج، قاله قتادة.
والثالث: أنه التبختر، قاله أبن أبي نجيح.
والرابع: أن المرأة منهن كانت تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ثم تمشي وسط الطريق ليس
عليها غيره، وذلك في زمن إبراهيم عليه السلام، قاله الكلبي.
والخامس: أنها كانت تلقي عن رأسها ولا تشده، فيرى قرطها وقلائدها، قاله مقاتل.
والسادس: أنها كانت تلبس الثياب تبلغ المال، لا تواري جسدها، حكاه الفراء.
197

قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) و في للمفسرين خمسة أقوال:
أحدها: الشرك، قاله الحسن.
والثاني: الإثم، قاله السدي.
والثالث: الشيطان، قاله ابن زيد.
والرابع: الشك.
والخامس: المعاصي، حكاهما الماوردي. قال الزجاج: الرجس: كل مستقذر من مأكول أو
عمل أو فاحشة.
ونصب " أهل البيت " على وجهين:
أحدهما: على معنى: أعني أهل البيت.
والثاني: على النداء، فالمعنى: يا أهل البيت. و في المراد بأهل البيت هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهن في بيته، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه
قال عكرمة، وابن السائب، ومقاتل. ويؤكد هذا القول أن ما قبله وبعده متعلق وبعده متعلق بأزواج رسول الله
[صلى الله عليه وسلم]. وعلى أرباب هذا القول اعتراض، وهو أن جمع المؤنث بالنون، فكيف قيل: " عنكم "
" ويطهركم "؟ فالجواب أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيهن، فغلب المذكر.
والثاني: أنه خاص في رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وعلي وفاطمة والحسن والحسين [رضوان الله
عليهم]، قاله أبو سعيد الخدري. وروي عن أنس وعائشة وأم سلمة نحو ذلك.
والثالث: أنهم أهل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأزواجه، قاله الضحاك. وحكى الزجاج أنهم نساء
النبي [صلى الله عليه وسلم] والرجال الذين هم آله، قال: واللغة تدل على أنها للنساء والرجال جميعا، لقوله
[تعالى]: (عنكم) بالميم، ولو كانت للنساء، لم يجز إلا " عنكن " ويطهركن ".
قوله تعالى: (ويطهركم تطهيرا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: من الشرك، قاله مجاهد.
والثاني: من السوء، قاله قتادة.
والثالث: من الإثم، قاله السدي، ومقاتل.
قوله تعالى: (واذكرن) فيه قولان:
أحدهما: أنه تذكير لهن بالنعم.
198

والثاني: أنه أمر لهن بحفظ ذلك. فمعنى " واذكرن ": واحفظن (ما يتلى في بيوتكن من
آيات الله) يعني القرآن. وفي الحكمة قولان:
أحدهما: أنها السنة، قاله قتادة.
والثاني: الأمر والنهي، قاله قتادة.
قوله تعالى: (إن الله كان لطيفا) أي: ذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها
آياته (خبيرا) بكن إذ اختاركن لرسوله.
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين
والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات
والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا
والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (35)
قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات) في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أن نساء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قلن: ما له ليس يذكر إلا المؤمنون، ولا يذكر المؤمنات
بشئ؟! فنزلت هذه الآية، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس.
والثاني: أن أم سلمة قالت: يا رسول الله يذكر الرجال ولا نذكر! فنزلت هذه الآية، ونزل قوله
تعالى: (لا أضيع عمل عامل منكم)، قاله مجاهد.
والثالث: أن أم عمارة الأنصارية قالت: قلت: يا رسول الله بأبي وأمي ما بال الرجال
يذكرون، ولا تذكر النساء؟! فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة. وذكر مقاتل بن سليمان أن أم سلمة وأم
عمارة قالتا ذلك، فنزلت الآية في قولهما.
199

والرابع: أن الله تعالى لما ذكر أزواج رسوله دخل النساء المسلمات عليهن فقلن: ذكرتن ولم
نذكر، ولو كان فينا خير ذكرنا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والخامس: أن أسماء بنت عميس لما رجعت من الحبشة دخلت على نساء رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
فقالت: هل نزل فينا شئ من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقالت: يا رسول الله إن
النساء لفي خيبة وخسار، قال: " ومم ذاك "؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال،
فنزلت هذه الآية، ذكره مقاتل بن حيان.
وقد سبق تفسير ألفاظ الآية في مواضع.
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم
ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36) وإذ تقول للذي أنعم الله عليه
وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس
والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين
حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37)
قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة...) الآية، في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] انطلق يخطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فقالت: لا أرضاه، ولست
بناكحته، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " بلى فانكحيه، فإني قد رضيته لك "، فأبت. فنزلت هذه الآية. وهذا المعنى
مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور. وذكر بعض المفسرين أن عبد الله بن جحش أخا زينب كره
ذلك كما كرهته زينب، فلما نزلت الآية رضيا وسلما. قال مقاتل: والمراد بالمؤمن: عبد الله بن جحش،
والمؤمنة: زينب بنت جحش.
200

و الثاني: أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أول امرأة هاجرت، فوهبت
نفسها لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقال: " قد قبلتك "، وزوجها زيد بن حارثة، فسخطت هي وأخوها،
وقالا: إنما أردنا رسول الله، فزوجها عبده؟! فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد. والأول عند المفسرين
أصح.
قوله تعالى: (إذا قضى الله ورسوله أمرا) أي: حكما بذلك (أن تكون) وقرأ أهل
الكوفة: " أن يكون " بالياء (لهم الخيرة) وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء: " الخيرة " باسكان الياء،
فجمع في الكناية في قوله [تعالى]: " هم "، لأن المراد جميع المؤمنين والمؤمنات، والخيرة:
الاختيار، فأعلم الله عز وجل أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله. فلما زوجها رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
زيدا مكثت عنده حينا، ثم إن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أتى منزل زيد فنظر إليها وكانت بيضاء جميلة من
أتم نساء قريش، فوقعت في قلبه، فقال: " سبحان الله مقلب القلوب "، وفطن زيد، فقال: يا
رسول الله ائذن لي في طلاقها، وقال بعضهم: أتى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] منزل زيد، فرأى زينب،
فقال: " سبحان مقلب القلوب "، فسمعت ذلك زينب، فلما جاء زيد ذكرت له ذلك، فعلم أنها قد
وقعت في نفسه، فأتاه فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها. وقال ابن زيد: جاء رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] إلى باب زيد - وعلى الباب ستر من شعر - فرفعت الريح الستر، فرأى زينب، فلما وقعت في
قلبه كرهت إلى الآخر، فجاء فقال: يا رسول الله أريد فراقها، فقال: " اتق الله ". وقال مقاتل: لما
فطن زيد لتسبيح رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، قال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرا، فهي
تعظم علي وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي [صلى الله عليه وسلم]: " أمسك عليك زوجك واتق الله ". ثم إن زيدا
طلقها بعد ذلك، فأنزل الله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) بالإسلام (وأنعمت عليه)
بالعتق.
قوله تعالى: (و اتق الله) أي: في أمرها فلا تطلقها (و تخفي في نفسك) أي: تسر وتضمر
في قلبك (ما الله مبديه) أي: مظهره، وفيه أربعة أقوال:
أحدها: حبها، قاله ابن عباس.
و الثاني: عهد عهده الله إليه أن زينب ستكون له زوجة، فلما أتى زيد يشكوها، قال له:
" أمسك عليك زوجك واتق الله "، وأخفى في نفسه ما الله مبديه، قاله علي بن الحسين.
والثالث: إيثاره لطلاقها، قاله قتادة، وابن جريج، ومقاتل.
والرابع: أن الذي أخفاه: إن طلقها زيد تزوجتها، قاله ابن زيد.
201

قوله تعالى: (و تخشى الناس) فيه قولان:
أحدهما: أنه خشي اليهود أن يقولوا: تزوج محمد امرأة ابنه، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: أنه خشي لوم الناس أن يقولوا: أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها.
قوله تعالى: (والله أحق أن تخشاه) أي: أولى أن تخشى في كل الأحوال. وليس المراد أنه لم يخش
الله [تعالى] في هذه الحال، ولكن لما كان لخشيته بالخلق نوع تعلق، قيل له: الله أحق أن تخشى
منهم. قالت عائشة: ما نزلت على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] آية هي أشد عليه من هذه الآية، ولو كتم شيئا
من الوحي لكتمها.
فصل
وقد ذهب بعض العلماء إلى تنزيه رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] من حبها وإيثاره طلاقها. وإن كان ذلك
شائعا في التفسير. قالوا: وإنما عوتب في هذه القصة على شيئين:
أحدهما: أنه أخبر بأنها ستكون زوجة له، فقال لزيد: " أمسك عليك زوجك " وكتم ما أخبره
الله [تعالى] به من أمرها حياء من زيد أن يقول له: إن زوجتك ستكون امرأتي، وهذا يخرج على
ما ذكرنا عن علي بن الحسين، وقد نصره الثعلبي، والواحدي.
والثاني: أنه لما رأى اتصال الخصومة بين زيد وزينب، ظن أنهما لا يتفقان وأنه سيفارقها،
وأضمر أنه إن طلقها تزوجها صلة لرحمها، وإشفاقا عليها، لأنها كانت بنت عمته أميمة بنت عبد
المطلب، فعاتبه الله تعالى على إضمار ذلك وإخفاؤه حين قال لزيد: " أمسك عليك زوجك "، وأراد
منه أن يكون ظاهره وباطنه عند الناس سواء كما قيل له في قصة رجل أراد قتله: هلا أومأت إلينا
بقتله؟ فقال: " ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين "، ذكر هذا القول القاضي أبو يعلى رحمة
الله عليه.
قوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطرا) قال الزجاج: الوطر كل حاجة لك فيها همة،
فإذا بلغها البالغ، و قد قضى وطره. وقال غيره: قضاء الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما في
النفس من الشئ، ثم صار عبارة عن الطلاق، لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة.
والمعنى: لما قضى زيد حاجته من نكاحها (زوجناكها)، وإنما ذكر قضاء الوطر هاهنا ليبين أن
امرأة المتبني تحل وإن وطئها، وهو قوله [تعالى]: (لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج
أدعيائهم)، والمعنى: زوجناك زينب - وهي امرأة زيد الذي تبنيته - لكيلا يظن أن امرأة المتبني لا
يحل نكاحها. وروى مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال: لما انقضت عدة زينب قال
202

رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لزيد: " اذهب فاذكرها علي "، قال زيد: فانطلقت، فلما رأيتها عظمت في
صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، لأن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على
عقبي، وقلت: يا زينب، أرسلني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر
ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فدخل عليها بغير إذن.
وذكر أهل العلم أن من خصائص رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه أجيز له التزويج بغير مهر ليخلص قصد
زوجاته لله [عز و جل] دون العوض، وليخفف عنه، وأجيز له التزويج بغير ولي، لأنه مقطوع
بكفاءته، وكذلك هو مستغن في نكاحه عن الشهود. وكانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول:
زوجكن أهلوكن، وزوجني في الله عز وجل.
ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله
قدرا مقدورا (38) الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله
حسيبا (39) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان
الله بكل شئ عليما (40)
قوله تعالى: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له) قال قتادة: فيما أحل الله [عز
وجل] له من النساء.
قوله تعالى: (سنة الله) هي منصوبة على المصدر، لأن معنى " ما كان على النبي من
حرج ": سن الله [عز و جل] سنة واسعة لا حرج فيها. والذين خلوا: هم النبيون، فالمعنى: أن
سنة الله [عز و جل] في التوسعة على محمد فيما فرض له، كسنته الله [تعالى] في الأنبياء
الماضين. قال ابن السائب: هكذا سنة الله في الأنبياء، كداود، فإنه كان له مائة امرأة، وسليمان كان
له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية، (و كان أمر الله قدرا مقدورا) أي: قضاء مقضيا. وقال ابن قتيبة:
" سنة الله في الذين خلوا " معناه: لا حرج على أحد فيما لم يحرم عليه.
ثم اثنى الله [تعالى] على الأنبياء بقوله [تعالى]: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا
203

يخشون أحدا إلا الله) أي: لا يخافون لائمة الناس وقولهم فيما أحل لهم. وباقي الآية قد تقدم
بيانه.
قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) قال المفسرون: لما تزوج رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] زينب، قال الناس: إن محمدا قد تزوج امرأة ابنه، فنزلت هذه الآية، والمعنى: ليس بأب
لزيد فتحرم عليه زوجته (ولكن رسول الله) قال الزجاج: من نصبه، فالمعنى: ولكن كان
رسول الله [عليه السلام]، وكان خاتم النبيين، ومن رفعه، فالمعنى: ولكن هو رسول الله
[عليه السلام]، ومن قرأ: " خاتم " بكسر التاء، فمعناه: وختم النبيين، ومن فتحها، فالمعنى: آخر
النبيين. قال ابن عباس: يريد: لو لم أختم به النبيين، لجعلت له ولدا يكون بعده نبيا.
يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرة وأصيلا (42) هو الذي يصلي
عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما (43) تحيتهم يوم
يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما (44)
قال تعالى: (اذكروا الله ذكرا كثيرا) قال مجاهد: هو أن لا تنساه أبدا. وقال ابن السائب:
يقال: " ذكرا كثيرا " بالصلوات الخمس. وقال مقاتل بن حيان: هو التسبيح والتحميد والتهليل
والتكبير على كل حال: وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول ربكم: أنا مع عبدي
ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ".
قوله تعالى: (و سبحوه بكرة وأصيلا) قال أبو عبيدة: الأصيل: ما بين العصر إلى الليل.
وللمفسرين في هذا التسبيح قولان:
أحدهما: أنه الصلاة، واتفق أرباب هذا القول على أن المراد بالتسبيح بكرة: صلاة الفجر.
واختلفوا في صلاة الأصيل على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها صلاة العصر، قاله أبو العالية، وقتادة.
والثاني: أنها الظهر والعصر، قاله مقاتل.
204

والقول الثاني: أنه التسبيح باللسان، وهو قوله: " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله،
والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله "، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته) في صلاة الله [تعالى] علينا خمسة
أقوال:
أحدها: أنها رحمته، قاله الحسن.
والثاني: مغفرته، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: ثناؤه، قاله أبو العالية.
والرابع: كرامته، قاله سفيان.
والخامس: بركته، قاله أبو عبيدة.
وفي صلاة الملائكة قولان:
أحدهما: أنها دعاؤهم، قاله أبو العالية.
والثاني: استغفارهم، قاله مقاتل.
وفى الظلمات والنور ههنا ثلاثة أقوال:
أحدها: الضلالة والهدى، قاله ابن زيد.
والثاني: الإيمان والكفر، قاله مقاتل.
والثالث: الجنة والنار، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (تحيتهم) الهاء والميم كناية عن المؤمنين.
فأما الهاء في قوله [تعالى]: (يلقونه) ففيها قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى: ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه تحيتهم من الله يوم
يلقونه سلام. وروى صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله [تعالى] يسلم على أهل الجنة. والثاني: تحيتهم
من الملائكة يوم يلقون الله [تعالى]: سلام، قاله مقاتل. وقال أبو حمزة الثمالي: تسلم عليهم
الملائكة يوم القيامة، وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم. والثالث: تحيتهم بينهم يوم يلقون ربهم:
سلام، وهو أن يحيي بعضهم بعضا بالسلام، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
و القول الثاني: أن الهاء ترجع إلى ملك الموت، وقد سبق ذكره في ذكر الملائكة. قال ابن
مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال له: ربك يقرئك السلام. وقال البراء بن
عازب: في قوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه) قال: ملك الموت ليس مؤمن يقبض روحه إلا
205

سلم عليه. فأما الأجر الكريم، فهو الحسن في الجنة.
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا
منيرا (46) وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (47) ولا تطع الكافرين والمنافقين
ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (48)
قوله تعالى تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا) أي: على أمتك بالبلاغ (ومبشرا)
بالجنة لمن صدقك (ونذيرا) أي: منذرا بالنار لمن كذبك، (وداعيا إلى الله) أي: إلى توحيده
وطاعته (بإذنه) أي: بأمره، لا أنك فعلته من تلقاء نفسك (وسراجا منيرا) أي: أنت لمن اتبعك
" سراجا "، أي: كالسراج المضئ في الظلمة يهتدي به.
قوله تعالى: (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) وهو الجنة. قال جابر بن عبد
الله: لما أنزل قوله [تعالى]: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا...) الآيات قالت الصحابة: هنيئا لك يا
رسول الله، فما لنا؟ فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: (ولا تطع الكافرين) قد سبق في أول السورة.
قوله تعالى: (ودع أذاهم) قال العلماء: معناه: لا تجازهم عليه (وتوكل على الله) في
كفاية شرهم، وهذا منسوخ بآية السيف.
يا أيها الذين آمنوا إذ نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم
عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (49)
قوله تعالى: (إذا نكحتم المؤمنات) قال الزجاج: معنى " نكحتم " تزوجتم. ومعنى
" تمسوهن " تقربوهن. وقرأ حمزة، والكسائي: " تماسوهن " بألف.
قوله تعالى: (فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) أجمع العلماء أنه إذا كان الطلاق قبل
206

المسيس والخلوة فلا عدة، وعندنا أن الخلوة توجب العدة وتقرر الصداق، خلافا للشافعي
عنه.
قوله تعالى: (فمتعوهن) المراد به من لم يسم لها مهرا، لقوله [تعالى] في: (أو تفرضوا
لهن فريضة) وقد بينا المتعة هنالك. وكان سعيد بن المسيب وقتادة يقولان: هذه الآية منسوخة بقوله
[تعالى]: (فنصف ما فرضتم).
قوله تعالى: (وسرحوهن سراحا جميلا) أي: من غير إضرار. وقال قتادة: هو طلاقها طاهرا
من غير جماع. وقال القاضي أبو يعلي: الأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق، لأنه قد ذكر الطلاق،
وإنما هو بيان أنه لا سبيل له عليها، وأن عليه تخليتها من يده وجباله.
فصل
واختلف العلماء فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، ثم تزوجها، فعندنا أنها لا تطلق،
وهو قول ابن عباس، وعائشة، والشافعي، واستدل أصحابنا بهذه الآية، وأنه جعل الطلاق بعد
النكاح. وقال سماك بن الفضل: النكاح عقدة، والطلاق يحلها، فكيف يحل عقدة لم تعقد؟! فجعل
بهذه الكلمة قاضيا على " صنعاء ". وقال أبو حنيفة: ينعقد الطلاق، فإذا وجد النكاح وقع. و قال
مالك: ينعقد ذلك في خصوص النساء، وهو إذا كان في امرأة بعينها، ولا ينعقد في عمومهن. فأما
إذا قال: إن ملكت فلانا فهو حر، ففيه عن أحمد روايتان.
يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء
الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك
وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من
دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك
حرج وكان الله غفورا رحيما (50) ترجى من تشاء منهن وتؤي إليك من تشاء ومن
ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما
207

آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما (51) لا يحل لك النساء من بعد
ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شئ
رقيبا (52)
قوله تعالى: (إنا أحللنا لك أزواجك) ذكر الله تعالى أنواع الأنكحة التي أحلها له، فقال:
(أزواجك اللاتي آتيت أجورهن) أي: مهورهن، وهن اللواتي تزوجتهن بصداق (و ما ملكت
يمينك) يعني الجواري (مما أفاء الله عليك) أي: رده عليك من الكفار، كصفية وجويرية، فإنه
أعتقهما وتزوجهما (وبنات عمك وبنات عماتك) يعني نساء قريش (وبنات خالك وبنات
خالاتك) يعني نساء بني زهرة (اللاتي هاجرن معك) إلى المدينة. قال القاضي أبو يعلى:
وظاهر هذا يدل على من لم يهاجر معه من النساء لم يحل له نكاحها. وقالت أم هانئ: خطبني
رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فاعتذرت إليه بعذر، ثم أنزل الله تعالى: (إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله
تعالى: (اللاتي هاجرن معك)، قالت: فلم أكن لأحل له، لأني لم أهاجر معه، كنت من
الطلقاء، وهذا يدل من مذهبها أن تخصيصه بالمهاجرات قد أوجب حظر من لم تهاجر.
وذكر بعض المفسرين: أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ، ولم يذكر ناسخه. وحكى
الماوردي في ذلك قولين:
أحدهما: أن الهجرة شرط في إحلال النساء له على الإطلاق.
والثاني: أنه شرط في إحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات.
قوله تعالى: (وامرأة مؤمنة) أي: وأحللنا لك امرأة مؤمنة (إن وهبت نفسها) لك، (إن
أراد النبي أن يستنكحها) أي: إن آثر نكاحها (خالصة لك) أي: خاصة. قال الزجاج: وإنما
قال: " إن وهبت نفسها للنبي "، ولم يقل: " لك " لأنه لو قال: " لك "، جاز أن يتوهم أن ذلك
يجوز لغير رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كما جاز في بنات العم وبنات العمات. و " خالصة " منصوب على
الحال. و للمفسرين في معنى " خالصة " ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المرأة إذا وهبت له نفسها، لم يلزمه صداقها دون غيره من المؤمنين، قاله أنس بن
مالك، وسعيد بن المسيب.
والثاني: أن له أن ينكحها بلا ولي ولا مهر دون غيره، قاله قتادة.
208

والثالث: خالصة لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين، وهذا قول الشافعي،
وأحمد.
وفى المرأة التي وهبت له نفسها أقوال:
أحدها: أم شريك.
والثاني: خولة بنت حكيم. ولم يدخل بواحدة منهما. وذكروا أن ليلى بنت الخطيم وهبت
نفسها له فلم يقبلها. قال ابن عباس: لم يكن عند رسول الله [صلى الله عليه وسلم] امرأة وهبت نفسها له. وقد
حكي عن ابن عباس أن التي وهبت نفسها له ميمونة بنت الحارث، وعن الشعبي: أنها زينب بنت
خزيمة. والأول: أصح.
قوله تعالى: (قد علمنا ما فرضنا عليهم) أي: على المؤمنين غيرك (في أزواجهم) وفيه
قولان:
أحدهما: أن لا يجاوز الرجل أربع نسوة، قاله مجاهد.
والثاني: أن لا يتزوج الرجل المرأة ألا بولي وشاهدين وصداق، قاله قتادة.
قوله تعالى: (وما ملكت أيمانهم) أي: وما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر
من غير عدد محصور.
قوله تعالى: (لكيلا يكون عليك حرج) هذا فيه تقديم، المعنى: أحللنا لك أزواجك، إلى
قوله [تعالى]: (خالصة لك من دون المؤمنين) (لكيلا يكون عليك حرج).
قوله تعالى: (ترجي من تشاء منهن) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن
عاصم: " ترجئ " مهموزا، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بغير همز. وسبب
نزولها أنه لما نزلت آية التخيير المتقدمة، أشفقن أن يطلقن، فقلن: يا نبي الله، اجعل لنا من مالك
ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو رزين. و في معنى الآية أربعة
أقوال:
أحدها: تطلق من تشاء من نسائك، وتمسك من تشاء من نسائك، قاله ابن عباس.
والثاني: تترك نكاح من تشاء، وتنكح من نساء أمتك من تشاء، قاله الحسن.
والثالث: تعزل من شئت من أزواجك فلا تأتيها بغير طلاق، وتأتي من تشاء فلا تعزلها. قاله
مجاهد.
209

والرابع: تقبل من تشاء من المؤمنات اللواتي يهبن أنفسهن، وتترك من تشاء، قاله الشعبي،
وعكرمة.
وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] مصاحبة نسائه كيف شاء من
غير إيجاب القسمة عليه والتسوية بينهن. و قال الزهري: ما علمنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أرجأ منهن
أحدا، ولقد آواهن كلهن حتى مات. وقال أبو رزين: آوى عائشة، وأم سلمة، وحفصة، وزينب،
وكان قسمه من نفسه وماله فيهن سواء. وأرجأ سودة، وجويرية، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وكان
يقسم لهن ما شاء. وكان أراد فراقهن فقلن: أقسم لنا ما شئت، ودعنا على حالنا. وقال قوم: إنه
أرجأ سودة وحدها لأنها وهبت يومها لعائشة، فتوفي وهو يقسم لثمان.
قوله تعالى: (و تؤوي) أي: تضم، (و من ابتغيت ممن عزلت) أي: إذا أردت أن تؤوي
إليك امرأة ممن عزلت من القسمة (فلا جناح عليك) أي: لا ميل عليك بلوم ولا عتب
(ذلك أدنى) أي: ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن. والمعنى: إنهن إذا
علمن أن هذا أمر من الله [تعالى]، كان أطيب لأنفسهن. وقرأ ابن محيصن، وأبو عمران الجوني:
" أن تقر " بضم التاء وكسر القاف " أعينهن " بنصب النون.
(ويرضين بما آتيتهن كلهن) أي: بما أعطيتهن من تقريب وتأخير (والله يعلم ما في
قلوبكم) من الميل إلى بعضهن. والمعنى: إنما خيرناك تسهيلا عليك.
قوله تعالى: (لا يحل لك النساء) كلهم قرأ: " لا يحل " بالياء، غير أبي عمرو، فإنه قرأ
بالتاء، والتأنيث ليس بحقيقي، إنما هو تأنيث الجمع، فالقراءتان حسنتان. و في قوله تعالى: (من
بعد) ثلاثة أقوال:
أحدها: من بعد نسائك اللواتي خيرتهن فاخترن الله [تعالى] ورسوله، قاله ابن عباس،
والحسن، وقتادة في آخرين، وهن التسع، فصار مقصورا عليهن ممنوعا من غيرهن. وذكر أهل العلم
أن طلاقه لحفصة وعزمه على طلاق سودة كان قبل التخيير.
والثاني: من بعد الذي أحللنا لك، فكانت الإباحة بعد نسائه مقصورة على المذكور في قوله
تعالى: " إنا أحللنا لك أزواجك " إلى قوله [تعالى]: (خالصة لك)، قاله أبي بن كعب،
والضحاك.
والثالث: لا تحل لك النساء غير المسلمات كاليهوديات والنصرانيات والمشركات، وتحل لك
المسلمات، قاله مجاهد.
210

قوله تعالى: (ولا أن تبدل بهن) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن تطلق زوجاتك وتستبدل بهن سواهن، قاله الضحاك.
والثاني: أن تبدل بالمسلمات المشركات، قاله مجاهد في آخرين.
والثالث: أن تعطي الرجل زوجتك وتأخذ زوجته، وهذه كانت عادة للجاهلية، قاله أبو هريرة،
وابن زيد.
قوله تعالى: (إلا ما ملكت يمينك) يعني الإماء. في معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: إلا أن تملك بالسبي، فيحل لك وطؤها وإن كانت من غير الصنف الذي أحللته لك،
وإلى هذا أومأ أبي بن كعب في آخرين.
والثاني: إلا أن تصيب يهودية أو نصرانية فتطأها بملك اليمين، قاله ابن عباس.
والثالث: إلا أن تبدل أمتك بأمة غيرك، قاله ابن زيد.
قال أبو سليمان الدمشقي: وهذه الأقوال جائزة، إلا أنا لا نعلم أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نكح
يهودية ولا نصرانية بتزويج ولا ملك يمين، ولقد سبى ريحانة القرظية فلم يدن منها حتى أسلمت.
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها منسوخة بقوله [تعالى]: (إنا أحللنا لك أزواجك)، وهذا مروي عن علي،
وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة، وعلي بن الحسين، والضحاك. وقالت عائشة: ما مات رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] حتى أحل له النساء، قال أبو سليمان الدمشقي: يعني نساء جميع القبائل من المهاجرات
وغير المهاجرات.
والقول الثاني: أنها محكمة، ثم فيها قولان:
أحدهما: أن الله تعالى أثاب نساءه حين اخترنه بأن قصره عليهن، فلم يحل له غيرهن، ولم
ينسخ هذا، قاله الحسن، وابن سيرين، وأبو أمامة بن سهل، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث.
والثاني: أن المراد بالنساء هاهنا: الكافرات، ولم يجز له أن يتزوج كافرة، قاله مجاهد،
وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر بن زيد.
211

يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه
ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان
يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فسئلوهن
من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن
تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما (53)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي...) الآية. في سبب نزولها ستة
أقوال:
الأول: أخرجاه في " الصحيحين " من حديث أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج
زينب بنت جحش دعا القوم، فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما
رأى ذلك قام وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، فجاء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فدخل فإذا القوم جلوس،
فرجع، وإنهم قاموا فانطلقوا، وجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت
أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله [تعالى] هذه الآية.
والثاني: أن ناسا من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن
يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون، فكان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يتأذى بهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن
عباس.
والثالث: أن عمر بن الخطاب قال: قلت يا رسول الله! إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر،
فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، أخرجه البخاري من حديث أنس، وأخرجه مسلم من
حديث ابن عمر، كلاهما عن عمر.
والرابع: أن عمر أمر نساء رسول الله [صلى الله عليه و آله وسلم] بالحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب، إنك
لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا؟! فنزلت الآية، قاله ابن مسعود.
والخامس: أن عمر كان يقول لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]: احجب نساءك، فلا يفعل، فخرجت سودة
ليلة، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة - حرصا على أن ينزل الحجاب - فنزل الحجاب، رواه عكرمة
عن عائشة.
212

والسادس: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان يطعم معه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد
عائشة، وكانت معهم، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت آية الحجاب، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) أي: أن تدعوا إليه (غير ناظرين) أي:
منتظرين (إناه). قال الزجاج: موضع " أن " نصب، والمعنى: إلا بأن يؤذن و لأن يؤذن،
و " غير " منصوبة على الحال، المعنى: إلا أن يؤذن لكم غير منتظرين. و " إناه ": نضجه وبلوغه.
قوله تعالى: (فانتشروا) أي: فاخرجوا.
قوله تعالى: (ولا مستأنسين لحديث) المعنى: ولا تدخلوا مستأنسين، أي: طالبي الأنس
لحديث، وذلك أنهم كانوا يجلسون بعد الأكل فيتحدثون طويلا، وكان ذلك يؤذيه، ويستحيي أن
يقول لهم: قوموا، فعلمهم الله [تعالى] الأدب، فذلك قوله [تعالى]: (و الله لا يستحيي من
الحق) أي: لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق (و إذا سألتموهن متاعا) أي: شيئا يستمتع به
وينتفع به من آلة المنزل (فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر) أي: سؤالكم إياهن المتاع من
وراء حجاب أطهر (لقلوبكم وقلوبهن) من الريبة.
قوله تعالى: (و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) أي: ما كان لكم أذاه في شئ من
الأشياء. قال أبو عبيدة: " كان " من حروف الزوائد. والمعنى: ما لكم أن تؤذوا رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم]
(ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا). روى عطاء عن ابن عباس، قال: كان رجل من أصحاب
رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: لو توفي رسول الله [صلى الله عليه و آله و سلم] تزوجت عائشة، فأنزل الله [تعالى] ما أنزل.
وزعم مقاتل أن ذلك الرجل طلحة بن عبيد الله.
قوله تعالى: (إن ذلكم) يعني نكاح أزواج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (كان عند الله عظيما) أي:
ذنبا عظيم العقوبة.
إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شئ عليما (54) لا جناح عليهن في آبائهن
ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت
أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شئ شهيدا (55)
213

قوله تعالى: (إن تبدوا شيئا أو تخفوه) قيل: إنها نزلت فيما أبداه القائل: لئن مات رسول
الله [صلى الله عليه و آله و سلم] لأتزوجن عائشة.
قوله تعالى: (لا جناح عليهن في آبائهن) قال المفسرون: لما نزلت آية الحجاب،
قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]: ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فأنزل الله
تعالى: (لا جناح عليهن في آبائهن) أي: في أن يروهن ولا يحتجبن عنهم، إلى قوله [تعالى]:
(ولا نسائهن) قال ابن عباس: يعني نساء المؤمنين، لأن نساء اليهود والنصارى يصفن لأزواجهن
نساء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إن رأينهن.
فإن قيل: ما بال العم والخال لم يذكرا؟ فعنه جوابان:
أحدهما: لأن المرأة تحل لأبنائهما، فكره أن تضع خمارها عند عمها وخالها، لأنهما ينعتانها
لأبنائهما، هذا قول الشعبي وعكرمة.
والثاني: لأنهما يجريان مجرى الوالدين فلم يذكرا، قاله الزجاج.
قوله [تعالى]: (و ما ملكت أيمانهن) ففيه قولان:
أحدهما: أنه أراد الإماء دون العبيد، قاله سعيد بن المسيب.
والثاني: أنه عام في العبيد والإماء. قال ابن زيد: كن أزواج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لا يحتجبن من
المماليك. وقد سبق بيان هذا في سورة النور.
قوله تعالى: (و اتقين الله) أي: أن يراكن غير هؤلاء (إن الله كان على كل شئ شهيدا)
أي: لم يغب عنه شئ.
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)
إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (57) والذين
يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (58)
قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) في صلاة الله وصلاة الملائكة أقوال قد
تقدمت في هذه السورة.
214

قوله تعالى: (صلوا عليه) قال كعب بن عجرة: قلنا: يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك،
فكيف الصلاة عليك، فقال: قولوا: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على
[آل] إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على [آل]
إبراهيم، إنك حميد مجيد "، أخرجه البخاري ومسلم. ومعنى قوله قد علمنا التسليم
عليك: ما يقال في التشهد: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ". وذهب ابن السائب
إلى أن معنى التسليم: سلموا لما يأمركم به.
قوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: في الذين طعنوا على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حين اتخذ صفية بنت حيي، قاله ابن عباس.
والثاني: نزلت في المصورين، قاله عكرمة.
و الثالث: في المشركين واليهود والنصارى، وصفوا الله [تعالى] بالولد وكذبوا رسوله وشجوا
وجهه وكسروا رباعيته وقالوا: مجنون شاعر ساحر كذاب. ومعنى أذى الله: وصفه بما هو منزه عنه.
وعصيانه، ولعنهم في الدنيا: بالقتل والجلاء، وفي الآخرة: بالنار.
قوله تعالى: (و الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات) في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أن عمر بن الخطاب رأى جارية متبرجة فضربها، وكف ما رأى من زينتها، فذهبت
إلى أهلها تشكو، فخرجوا إليه فآذوه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن
بالليل لقضاء حوائجهن، فيرون المرأة فيدنون منها فيغمزونها، وإنما كانوا يؤذون الإماء، غير أنه لم
تكن الأمة تعرف من الحرة، فشكون ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فنزلت
هذه الآية، قاله السدي.
والثالث: أنها نزلت فيمن تكلم في عائشة وصفوان بن المعطل بالإفك، قاله الضحاك.
والرابع: أن ناسا من المنافقين آذوا علي بن أبي طالب [رضي الله عنه]، فنزلت هذه الآية،
قاله مقاتل.
قال المفسرون: ومعنى الآية: يرمونهم بما ليس فيهم.
215

يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك
أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما (59) لئن لم ينته المنافقون والذين
في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا (60)
ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (61) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة
الله تبديلا (62)
قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك...) الآية، سبب نزولها أن الفساق كانوا يؤذون
النساء إذا خرجن بالليل، فإذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا: هذه حرة، وإذا رأوها بغير قناع
قالوا: أمة، فآذوها، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
قوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن) قال ابن قتيبة: يلبسن الأردية. وقال غيره: يغطين
رؤوسهن ووجوههن ليعلم أنهن حرائر (ذلك أدنى) أي: أحرى وأقرب (أن يعرفن) أنهن حرائر
(فلا يؤذين).
قوله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون) أي: عن نفاقهم (و الذين في قلوبهم مرض) أي:
فجور، وهم الزناة (والمرجفون في المدينة) بالكذب والباطل، يقولون: أتاكم العدو، وقتلت
سراياكم وهزمت (لنغرينك بهم) أي: لنسلطنك عليهم بأن نأمرك بقتالهم. قال المفسرون: وقد
أغري بهم، فقيل له: (جاهد الكفار والمنافقين) وقال يوم جمعة " اخرج يا فلان من المسجد
فإنك منافق، قم يا فلان فإنك منافق " (ثم لا يجاورونك فيها) أي: في المدينة (إلا قليلا) حتى
يهلكوا، (ملعونين) منصوب على الحال، أي: لا يجاورونك إلا وهم ملعونون (أينما ثقفوا) أي:
وجدوا وأدركوا (و أخذوا وقتلوا تقتيلا) معنى الكلام: الأمر، أي: هذا الحكم فيهم، (سنة الله)
أي: سن في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يفعل بهم هذا.
يسئلك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون
216

قريبا (63) إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا (64) خالدين فيها أبدا لا يجدون
وليا ولا نصيرا (65) يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا
الرسولا (66) وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا (67) ربنا آتهم
ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا (68)
قوله تعالى: (يسألك الناس عن الساعة) قال عروة: الذي سأله عنها عتبة بن ربيعة.
قوله تعالى: (و ما يدريك) أي: أي شئ يعلمك أمر الساعة ومتى تكون؟ والمعنى: أنت لا
تعرف ذلك، ثم قال: (لعل الساعة تكون قريبا). فإن قيل: هلا قال: قريبة؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه أراد الظرف، ولو أراد صفة الساعة بعينها، لقال: قريبة، هذا قول أبي عبيدة.
والثاني: أن المعنى راجع إلى البعث، أو إلى مجيء الساعة.
والثالث: أن تأنيث الساعة غير حقيقي، ذكرهما الزجاج. وما بعد هذا قد سبق بيان ألفاظه.
فأما قوله تعالى: (و أطعنا الرسول) فقال الزجاج: الاختيار الوقف بألف، لأن أواخر الآي
وفواصلها تجري مجرى أواخر الأبيات، وإنما خوطبوا بما يعقلونه من الكلام المؤلف ليدل بالوقف
بزيادة الحرف أن الكلام قد تم، وقد أشرنا إلى هذا في قوله [تعالى]: " الظنونا ".
قوله تعالى: (أطعنا سادتنا وكبراءنا) أي: أشرافنا وعظماءنا. قال مقاتل هم المطعمون في
غزوة بدر، وكلهم قرأوا: " سادتنا " على التوحيد، غير ابن عامر، فإنه قرأ: " سادتنا " على الجمع
مع كسر التاء، ووافقه المفضل، ويعقوب، إلا أبا حاتم (فأضلونا السبيل) أي: عن سبيل الهدى،
(آتهم) يعنون السادة (ضعفين) أي: ضعفي عذابنا، (والعنهم لعنا كبيرا) قرأ ابن كثير، ونافع،
وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " كثيرا " بالثاء. وقرأ عاصم، وابن عمر: " كبيرا ".
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله
217

وجيها (69) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أعمالكم
ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (71)
قوله تعالى: (لا تكونوا كالذين آذوا موسى) أي: لا تؤذوا محمدا كما آذى بنو إسرائيل موسى
فينزل بكم ما نزل بهم، وفي ما آذوا به أربعة أقوال:
أحدها: أنهم قالوا: هو آدر، فذهب يوما يغتسل، ووضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه،
فخرج في طلبه، فرأوه فقالوا: والله ما به من بأس. والحديث مشهور في الصحاح كلها من حديث
أبي هريرة عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقد ذكرته بإسناده في " المغني " و " الحدائق ". قال ابن قتيبة:
والآدر: عظيم الخصيتين.
والثاني: أن موسى صعد الجبل ومعه هارون، فمات هارون، فقال بنو إسرائيل: أنت قتلته
فآذوه بذلك، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى مرت به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة
بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات، فبرأه الله [تعالى] من ذلك، قاله علي [عليه السلام].
والثالث: أن قارون استأجر بغيا لتقذف موسى بنفسها على ملأ من بني إسرائيل فعصمها الله
[تعالى] وبرأ موسى من ذلك، قاله أبو العالية.
والرابع: أنهم رموه بالسحر والجنون، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (و كان عند الله وجيها) قال ابن عباس: كان عند الله [تعالى] حظيا لا يسأله
شيئا إلا أعطاه. وقد بينا معنى الوجيه في [سورة] آل عمران. وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وأبو
حيوة: " وكان عبد الله " بالتنوين والباء، وكسر اللام.
قوله تعالى: (وقولوا قولا سديدا) فيه أربعة أقوال:
أحدها: صوابا، قاله ابن عباس.
والثاني: صادقا، قاله الحسن.
والثالث: عدلا، قاله السدي.
والرابع: قصدا، قاله ابن قتيبة. ثم في المراد بهذا القول ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه " لا إله إلا الله " قاله ابن عباس، وعكرمة.
والثاني: أنه العدل في جميع الأقوال، والأعمال، قاله قتادة.
218

والثالث: في شأن زينب وزيد، ولا تنسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما لا يصلح، قاله مقاتل بن
حيان.
قوله تعالى: (يصلح لكم أعمالكم) فيه قولان:
أحدهما: يتقبل حسناتكم، قاله ابن عباس.
والثاني: يزكي أعمالكم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (فقد فاز فوزا عظيما) أي: نال الخير وظفر به.
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها
وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات
والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا
رحيما (73)
قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة) فيها قولان:
أحدهما: أنها الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، إن أدتها أثابها، وإن
ضيعتها عذبها، فكرهت ذلك، وعرضها على آدم فقبلها بما فيها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن
عباس، وكذلك قال سعيد بن جبير: عرضت الأمانة على آدم فقيل له: تأخذها بما فيها، إن أطعت
غفرت لك، وإن عصيت عذبتك، فقال: قبلت، فما كان إلا كما بين صلاة العصر إلى أن غربت
الشمس حتى أصاب الذنب. وممن ذهب إلى أنها الفرائض قتادة، والضحاك، والجمهور.
والثاني: أنها الأمانة التي يأتمن الناس بعضهم بعضا عليها. روى السدي عن أشياخه أن آدم
لما أراد الحج قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض،
فأبت، وقال للجبال،
فأبت، فقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وتجئ وتجد أهلك كما يسرك، فلما انطلق آدم قتل قابيل
هابيل، فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه، فذلك حيث يقول الله عز وجل: (إنا عرضنا الأمانة) إلى
قوله: (و حملها الإنسان) وهو ابن آدم، فما قام بها.
وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن آدم لما حضرته الوفاة قال: يا رب، من استخلف من
219

بعدي؟ فقيل له: اعرض خلافتك على جميع الخلق، فعرضها، فكل أباها غير ولده. و للمفسرين
في المراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض قولان:
أحدهما: أن الله تعالى ركب العقل في هذه الأعيان، وأفهمهن خطابه، وأنطقهن بالجواب
حين عرضها عليهن، ولم يرد بقوله: " أبين " المخالفة، ولكن أبين للخشية والمخافة، لأن العرض
كان تخييرا لا إلزاما، و " أشفقن " بمعنى خفن منها أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب، هذا قول
الأكثرين.
والثاني: أن المراد بالآية: إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من
الملائكة، قاله الحسن. و في المراد بالإنسان أربعة أقوال:
أحدها: آدم في قول الجمهور. والثاني: قابيل في قول السدي.
والثالث: الكافر والمنافق، قاله الحسن. والرابع: جميع الناس، قاله ثعلب.
قوله تعالى: (إنه كان ظلوما جهولا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ظلوما لنفسه، غرا بأمر ربه، قاله ابن عباس، والضحاك.
والثاني: ظلوما لنفسه، جهولا بعاقبة أمره، قاله مجاهد.
والثالث: ظلوما بمعصية ربه، جهولا بعقاب الأمانة، قاله ابن السائب.
و ذكر الزجاج في الآية وجها يخالف أكثر الأقوال، وذكر أنه موافق للتفسير فقال: إن الله تعالى
ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السماوات والأرض والجبال على طاعته
والخضوع له، فأما السماوات والأرض فقالتا: (أتينا طائعين) وأعلمنا أن من الحجارة ما يهبط من
خشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجدون لله، فعرفنا الله تعالى أن
السماوات والأرض لم تحتمل الأمانة، لأنها أدتها، وأداؤها: طاعة الله وترك معصيته، وكل من خان
الأمانة فقد احتملها، وكذلك كل من أثم فقد احتمل الإثم، وكذلك قال الحسن: " وحملها
الإنسان " أي: الكافر والمنافق حملاها، أي: خانا ولم يطيعا، فأما من أطاع، فلا يقال: كان ظلوما
جهولا.
قوله تعالى: (ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على
المؤمنين والمؤمنات) قال ابن قتيبة: المعنى: عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك
فيعذبهم الله، ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم، أي: يعود عليهم بالرحمة والمغفرة إن وقع
منهم تقصير في الطاعات.
220

(34) سورة سبأ مكية
و آياتها أربع و خمسون
وهي مكية باجماعهم
وقال الضحاك، وابن السائب، ومقاتل: فيها آية مدنية، وهي قوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا
العلم).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم
الخبير (1) يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها
وهو الرحيم الغفور (2) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم
الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر
إلا في كتاب مبين (3) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة
221

ورزق كريم (4) والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من
رجز أليم (5) ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي
إلى صراط العزيز الحميد (6)
قوله تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) ملكا وخلقا (و له الحمد
في الآخرة) يحمده أولياؤه إذا دخلوا الجنة، فيقولون: (الحمد لله الذي صدقنا وعده) (الحمد
لله الذي هدانا لهذا) (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن).
(يعلم ما يلج في الأرض) من بذر أو مطر أو كنز أو غير ذلك (وما يخرج منها) من زرع
ونبات وغير ذلك (وما ينزل من السماء) من مطر أو رزق أو ملك (وما يعرج فيها) من ملك أو
عمل أو دعاء.
(وقال الذين كفروا) يعني منكري البعث (لا تأتينا الساعة) أي: لا نبعث.
قوله تعالى: (عالم الغيب) قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: " عالم الغيب " بكسر
الميم، وقرأ نافع، وابن عامر: برفعها. وقرأ حمزة والكسائي: " علام الغيب " بالكسر ولام قبل
الألف. قال أبو علي: من كسر، فعلى معنى: الحمد لله عالم الغيب، ومن رفع، جاز أن يكون
" عالم الغيب " خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو عالم الغيب، ويجوز أن يكون ابتداء خبره (لا
يعزب عنه)، و " علام " أبلغ من " عالم ". وقرأ الكسائي وحده: " لا يعزب " بكسر الزاي، وهما
لغتان.
قوله تعالى: (ولا أصغر من ذلك) وقرأ ابن السميفع، والنخعي، والأعمش: " ولا أصغر من
ذلك ولا أكبر " بالنصب فيهما.
قوله تعالى: (ليجزي الذين آمنوا) قال الزجاج: المعنى: بلى وربي لنأتينكم المجازاة، وقال
ابن جرير: المعنى: أثبت مثقال الذرة وأصغر منه في كتاب مبين، ليجزي الذين آمنوا، وليري الذين
أوتوا العلم.
قوله تعالى: (من رجز أليم) قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ويعقوب، والمفضل:
222

" من رجز أليم " رفعا، والباقون بالخفض فيهما. و في (الذين أوتوا العلم) قولان:
أحدهما: أنهم مؤمنو أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن
عباس.
والثاني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة.
قوله تعالى: (الذي أنزل إليك من ربك) يعني القرآن (هو الحق) قال الفراء: " هو "
عماد، للذي فكذلك انتصب الحق. وما أخللنا به فقد سبق في مواضع.
وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق
جديد (7) أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب
والضلال البعيد (8) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ
نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب (9)
قوله تعالى: (و قال الذين كفروا) وهم منكروا البعث، قال بعضهم لبعض: (هل ندلكم على
رجل ينبئكم) أي: يقول لكم: إنكم (إذا مزقتم كل ممزق) أي: فرقتم كل فريق، والممزق هاهنا
مصدر بمعنى التمزيق (إنكم لفي خلق جديد) أي: يجدد خلقكم للبعث. ثم أجاب بعضهم
فقالوا: (أفترى على الله كذبا) حين زعم أنا نبعث؟! وألف " أفترى " ألف استفهام، وهو استفهام
تعجب وإنكار، (أم به جنة) أي: جنون؟! فرد الله [تعالى] عليهم فقال: (بل) أي: ليس الأمر
كما تقولون من الافتراء والجنون، بل (الذين لا يؤمنون بالآخرة) وهم الذين يجحدون البعث (في
العذاب) إذا بعثوا في الآخرة (والضلال البعيد) من الحق في الدنيا.
ثم وعظهم فقال: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض) وذلك أن
الإنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض قدماه وخلفه وعن يمينه وعن شماله، فالمعنى أنهم أين كانوا
فأرضي وسمائي محيطة بهم، وأنا القادر عليهم، إن شئت خسفت بهم الأرض، وإن شئت أسقطت
223

عليهم قطعة من السماء، (إن في ذلك) أي: فيما يرون من السماء والأرض (لآية) تدل على قدرة
الله [تعالى] على بعثهم والخسف بهم (لكل عبد منيب) أي: راجع إلى طاعة الله، متأمل لما
يرى.
ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (10) أن
اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير (11)
قوله تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلا) وهو النبوة والزبور وتسخير الجبال والطير، إلى غير
ذلك مما أنعم الله به عليه (يا جبال أوبي معه) وروى الحلبي عن عبد الوارث: " أوبي " بضم
الهمزة وتخفيف الواو. قال الزجاج: المعنى: وقلنا: يا جبال أوبي معه، أي: ارجعي معه.
والمعنى: سبحي معه ورجعي التسبيح. ومن قرأ: " أوبي " معناه: عودي في التسبيح معه كلما عاد.
وقال ابن قتيبة: " أوبي " أي: سبحي، وأصل التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله، وينزل
ليلا، فكأنه أراد: ادأبي النهار كله بالتسبيح إلى الليل.
قوله تعالى: (والطير) وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وابن أبي
عبلة، " والطير " بالرفع. فأما قراءة النصب، فقال أبو عمرو بن العلاء: هو عطف على قوله عز
وجل: (ولقد آتينا داود منا فضلا) (والطير) أي: وسخرنا له الطير. قال الزجاج: ويجوز أن يكون
نصبا على النداء، كأنه قال: دعونا الجبال والطير، فالطير معطوف على موضع الجبال، وكل منادى
عند البصريين فهو في موضع نصب، قال: وأما الرفع، فمن جهتين:
إحداهما: أن يكون نسقا على ما في " أوبي " فالمعنى يا جبال رجعي التسبيح معه أنت
والطير.
والثانية: على النداء، المعنى: يا جبال ويا أيها الطير أوبي معه.
قال ابن عباس: كانت الطير تسبح معه إذا سبح، وكان إذا قرأ لم تبق دابة إلا استمعت لقراءته
وبكت لبكائه. وقال وهب بن منبه: كان يقول للجبال: سبحي. وللطير: أجيبي، ثم يأخذ هو في تلاوة
الزبور بين ذلك بصوته الحسن، فلا يرى الناس منظرا أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئا أطيب منه.
قوله تعالى: (و ألنا له الحديد) أي: جعلناه لينا. قال قتادة: سخر الله له الحديد بغير نار،
224

فكان يسويه بيده، لا يدخله النار، ولا يضربه بحديدة، وكان أول من صنع الدروع، وكانت قبل ذلك
صفائح.
قوله تعالى: (أن اعمل) قال الزجاج: معناه: وقلنا له: اعمل، ويكون في معنى " لأن يعمل "
(سابغات) أي: دروعا سابغات، فذكر الصفة لأنها تدل على الموصوف.
قال المفسرون: كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء، فيعمل الدرع في
بعض يوم فيبيعه بمال كثير، فيأكل ويتصدق. والسابغات: الدروع الكوامل التي تغطي لابسها حتى
تفضل عنه فيجرها على الأرض.
(وقدر في السرد) أي: اجعله على قدر الحاجة. قال ابن قتيبة: السرد: النسج، ومنه يقال
لصانع الدروع: سراد وزراد، تبدل من السين الزاي، كما يقال: سراط وزراط. وقال الزجاج:
السرد في اللغة: تقدمة الشئ إلى الشئ تأتي به متسقا بعضه في إثر بعض متتابعا، ومنه قولهم:
سرد فلان الحديث. و في معنى الكلام قولان:
أحدهما: عدل المسمار في الحلقة ولا تصغره فيقلق، ولا تعظمه فتنفصم الحلقة، قاله
مجاهد.
والثاني: لا تجعل حلقه واسعة فلا تقي صاحبها، قاله قتادة.
قوله تعالى: (و اعملوا صالحا) خطاب لداود وآله.
ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل
بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له
ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا
وقليل من عبادي الشكور (13) فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة
الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب
المهين (14)
225

قوله تعالى: (و لسليمان الريح) قرأ الأكثرون بنصب الريح على معنى: وسخرنا لسليمان
الريح. وروى أبو بكر، والمفضل عن عاصم: " الريح " رفعا، أي: له تسخير الريح. وقرأ أبو جعفر:
" الرياح " على الجمع.
(غدوها شهر) قال قتادة: تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار، وتروح مسيرة شهر إلى آخر
النهار، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين. قال الحسن: لما شغلت نبي الله سليمان الخيل
عن الصلاة فعقرها، أبدله الله خيرا منها وأسرع وهي الريح، فكان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر
وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر للمسرع.
قوله تعالى: (و أسلنا له عين القطر) قال الزجاج: القطر: النحاس، وهو الصفر، أذيب مذ
ذاك وكان قبل سليمان لا يذوب.
قال المفسرون: أجرى الله تعالى: لسليمان عين الصفر حتى صنع منها ما أراد من غير نار،
كما ألين لداود الحديد بغير نار، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهن كجري الماء، وإنما يعمل الناس
اليوم مما أعطي سليمان.
قوله تعالى: (ومن الجن) المعنى: وسخرنا له من الجن (من يعمل بين يديه بإذن ربه)
أي: بأمره، سخرهم الله له، وأمرهم بطاعته، والكلام يدل على أن منهم من لم يسخر له (و من
يزغ منهم) أي: يعدل (عن أمرنا) له بطاعة سليمان (نذقه من عذاب السعير)، وهل هذا في
الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان:
أحدهما: في الآخرة، قاله الضحاك.
والثاني: في الدنيا، قاله مقاتل. وقيل: إنه كان مع سليمان ملك بيده سوط من نار، فمن زاغ من الجن
ضربه الملك بذلك السوط.
(يعملون له ما يشاء من محاريب) وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها المساجد، قاله مجاهد، وابن قتيبة.
والثاني: القصور، قاله عطية.
والثالث: المساجد والقصور، قاله قتادة. وأما التماثيل، فهي الصور، قال الحسن: ولم تكن يومئذ
محرمة، ثم فيها قولان:
أحدهما: أنها كانت كالطواويس والعقبان والنسور على كرسيه ودرجات سريره لكي يهابها من أراد
الدنو منه، قاله الضحاك.
و الثاني: أنها كانت صور النبيين والملائكة لكي يراهم الناس مصورين، فيعبدوا مثل عبادتهم
ويتشبهوا بهم، قاله ابن السائب.
226

وفي ما كانوا يعملونها منه قولان:
أحدهما: من النحاس، قاله مجاهد.
والثاني: من الرخام والشبه، قاله قتادة.
قوله تعالى: (و جفان كالجوابي) الجفان: جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة، والجوابي،
جمع جابية، وهي الحوض الكبير يجبي فيه الماء، أي: يجمع.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " كالجوابي " بياء، إلا أن ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف،
وأبو عمرو يثبتها في الوصل دون الوقف. قال الزجاج: وأكثر القراء على الوقف بغير ياء، وكان
الأصل الوقف بالياء، إلا أن الكسرة تنوب عنها.
قال المفسرون: كانوا يصنعون له القصاع كحياض الإبل، يجتمع على القصعة الواحدة ألف
رجل يأكلون منها.
قوله تعالى: (وقدور راسيات) أي: ثوابت، يقال: رسا يرسو، إذا ثبت.
وفي علة ثبوتها في مكانها قولان:
أحدهما: أن أثافيها منها، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها لا تنزل لعظمها، قاله ابن قتيبة.
قال المفسرون: وكانت القدور كالجبال لا تحرك من أماكنها، يأكل من القدر ألف رجل.
قوله تعالى: (و اعملوا آل داود شكرا) المعنى: و قلنا: اعملوا بطاعة الله [تعالى]: شكرا له
على ما آتاكم.
قوله تعالى: (فلما قضينا عليه الموت) يعني على سليمان.
قال المفسرون: كانت الإنس تقول: إن الجن تعلم الغيب الذي يكون في غد، فوقف سليمان
في محرابه يصلي متوكئا على عصاه، فمات، فمكث كذلك حولا والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة
ولا تعلم بموته حتى أكلت الأرض عصا سليمان، فخر فعلموا بموته، وعلم الإنس أن الجن لا تعلم
الغيب.
وقيل: إن سليمان سأل الله تعالى أن يعمي على الجن موته، فأخفاه الله عنهم حولا. و في
سبب سؤاله قولان:
أحدهما: لأن الجن كانوا يقولون للإنس: إننا نعلم الغيب، فأراد تكذيبهم.
والثاني: لأنه كان قد بقي من عمارة بيت المقدس بقية.
227

فأما (دابة الأرض) فهي: الأرضة. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري:
" دابة الأرض " بفتح الراء.
والمنسأة: العصا. قال الزجاج: وإنما سميت منسأة، لأنه ينسأ بها، أي: يطرد ويزجر. قال
الفراء: أهل الحجاز لا يهمزون المنسأة، وتميم وفصحاء قيس يهمزونها.
قوله تعالى: (فلما خر) أي: سقط (تبينت الجن) أي: ظهرت، وانكشف للناس أنهم لا
يعلمون الغيب، ولو علموا (ما لبثوا في العذاب المهين) أي: ما عملوا مسخرين وهو ميت وهم
يظنونه حيا. وقيل: تبينت الجن، أي: علمت، لأنها كانت تتوهم باستراقها السمع أنها تعلم
الغيب، فعلمت حينئذ خطأها في ظنها. وروى رويس عن يعقوب: " تبينت " برفع التاء والباء وكسر
الياء.
لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا
له بلدة طيبة ورب غفور (15) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم
جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل (16) ذلك جزيناهم بما كفروا وهل
نجازي إلا الكفور (17) وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا
فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين (18) فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم
فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (19) ولقد
صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (20) وما كان له عليهم من سلطان
إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شئ حفيظ (21)
قوله تعالى: (لقد كان لسبأ في مساكنهم آية) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر،
وأبو بكر عن عاصم: " في مساكنهم ". وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: " مسكنهم " بفتح الكاف من
228

غير ألف. وقرأ الكسائي، وخلف: " مسكنهم " بكسر الكاف، وهي لغة.
قال المفسرون: المراد بسبأ هاهنا: القبيلة التي هم من أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن
قحطان، وقد ذكرنا في سورة النمل، الخلاف في هذا، وأن قوما يقولون: هو اسم بلد، وليس باسم
رجل. وذكر الزجاج في هذا المكان أن من قرأ: " لسبأ " بالفتح وترك الصرف، جعله اسما للقبيلة،
ومن صرف وكسر ونون، جعله اسما للحي واسما لرجل، وكل جائز حسن. و (آية) رفع، اسم
" كان " و (جنتان) رفع على نوعين.
أحدهما: أنه بدل من " آية ".
والثاني: على إضمار، كأنه لما قيل: " آية " قيل: الآية جنتان.
الإشارة إلى قصتهم
ذكر العلماء بالتفسير والسير أن بلقيس لما ملكت قومها جعل قومها يقتتلون على ماء
واديهم، فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصرها فنزلته، فلما
كثر الشر بينهم وندموا، أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها، فأبت، فقالوا: لترجعن أو
لنقتلنك، فقالت: إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول، فقالوا: فإنا نطيعك، فجاءت إلى واديهم -
وكانوا إذا مطروا أتاه السيل من مسيرة أيام - فأمرت به، فسد ما بين الجبلين بمسناة، وحبست الماء
من وراء السد، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة وجعلت فيها اثني عشر
مخرجا على عدة أنهارهم، فكان الماء يخرج بينهم بالسوية، إلى أن كان من شأنها مع سليمان ما
سبق ذكره وبقوا بعدها على حالهم، وقيل: إنما بنوا ذلك البنيان لئلا يغشى السيل أموالهم
فيهلكها، فكانوا يفتحون من أبواب السد ما يريدون، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه، وكانت
لهم جنتان عن يمين واديهم وعن شماله، فأخصبت أرضهم، وكثرت فواكههم، وإن كانت المرأة
لتمر بين الجنتين والمكتل على رأسها، فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تمس بيدها شيئا منه، ولم
يكن ترى في بلدهم حية ولا عقرب، ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث، ويمر الغريب ببلدتهم وفي ثيابه
القمل، فيموت القمل لطيب هوائها. وقيل لهم: (كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة) أي:
هذه بلدة طيبة، أو بلدتكم بلدة طيبة، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي (ورب غفور) أي: والله
رب غفور، وكانت ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا، فكذبوا الرسل، ولم يقروا
229

بنعم الله، فذلك قوله تعالى: (فأعرضوا) أي: عن الحق، وكذبوا أنبياءهم (فأرسلنا عليهم سيل
العرم) وفيه أربعة أقوال:
أحدها: أن العرم: الشديد، رواه علي بن أبي طالب عن ابن عباس. وقال ابن الأعرابي:
العرم: السيل الذي لا يطاق.
والثاني: أنه اسم الوادي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، ومقاتل.
والثالث: أنه المسناة، قاله مجاهد، وأبو ميسرة، والفراء، وابن قتيبة. وقال أبو عبيدة:
العرم: جمع عرمة، وهي: السكر والمسناة.
والرابع: أن العرم: الجرذ الذي نقب عليهم السكر، حكاه الزجاج. و في صفة إرسال هذا
السيل عليهم قولان:
أحدهما: أن الله تعالى بعث على سكرهم دابة من الأرض فنقبت فيه نقبا، فسال ذلك الماء
إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال قتادة والضحاك
في آخرين: بعث الله عليهم جرذا يسمى الخلد - والخلد: الفأر الأعمى - فنقبه من أسفله، فأغرق
الله به جناتهم، وخرب به أرضهم.
والثاني: أنه أرسل عليهم ماء أحمر، أرسله في السد فنسفه وهدمه وحفر الوادي، ولم يكن
الماء أحمر من السد، وإنما كان سيلا أرسل عليهم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (و بدلناهم بجنتيهم) يعني اللتين تطعمان الفواكه (جنتين ذواتي أكل خمط
قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " أكل " بالتنوين. وقرأ أبو عمرو:
" أكل " بالإضافة. وخفف الكاف ابن كثير ونافع، وثقلها الباقون. أما الأكل، فهو الثمر. و في
المراد بالخمط ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الأراك، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور، فعلى هذا، أكله:
ثمره، ويسمى ثمر الأراك: البرير.
والثاني: كل شجرة ذات شوك، قاله أبو عبيدة.
والثالث: أنه كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله، قاله المبرد والزجاج.
فعلى هذا القول، الخمط: اسم للمأكول، فيحسن على هذا قراءة من نون الأكل، وعلى ما قبله،
هو اسم شجرة، والأكل ثمرها، فيحسن قراءة من أضاف.
فأما الأثل، ففيه ثلاثة أقوال:
230

أحدها: أنه الطرفاء، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه السمر، حكاه ابن جرير.
والثالث: أنه شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه.
قوله تعالى: (و شئ من سدر) ففيه تقديم، تقديره: وشئ قليل من سدر قال قتادة: بينما
شجرهم من خير الشجر، إذا صيره الله [تعالى] من شر الشجر.
قوله تعالى: (ذلك جزيناهم) أي: ذلك التبديل جزيناهم (بكفرهم وهل نجازي إلا الكفور).
فإن قيل: قد يجازي المؤمن والكافر، فما معنى هذا التخصيص؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن المؤمن يجزى ولا يجازى، فيقال في أفصح اللغة: جزى الله المؤمن، ولا
يقال: جازاه، بمعنى كافأه، فالكافر يجازى بسيئته مثلها، مكافأة له، والمؤمن يزاد في الثواب
ويتفضل عليه، هذا قول الفراء.
والثاني: أن الكافر ليست له حسنة تكفر ذنوبه، فهو يجازي بجميع الذنوب، والمؤمن قد أحبطت
حسناته سيئاته، هذا قول الزجاج. وقال طاوس: الكافر يجازى ولا يغفر له، والمؤمن لا يناقش
الحساب.
قوله تعالى: (و جعلنا بينهم) هذا معطوف على قوله تعالى: (لقد كان لسبأ)، والمعنى:
كان من قصصهم أنا جعلنا بينهم (وبين القرى التي باركنا فيها) وهي: قرى الشام، وقد سبق بيان معنى البركة
فيها، هذا قول الجمهور. وحكى ابن السائب أن الله تعالى لما أهلك جنتيهم قالوا للرسل: قد عرفنا نعمة الله
علينا، فلئن رد إلينا ما كنا عليه لنعبدنه عبادة شديدة، فرد عليهم النعمة، وجعل لهم قرى ظاهرة، فعادوا إلى
الفساد وقالوا: باعد بين أسفارنا، فمزقوا.
قوله تعالى: (قرى ظاهرة) أي: متواصلة ينظر بعضها إلى بعض (وقدرنا فيها السير) فيه
قولان:
أحدهما: أنهم كانوا يغدون فيقيلون في قرية، ويروحون فيبيتون في قرية، قاله الحسن،
وقتادة.
والثاني: أنه جعل ما بين القرية والقرية مقدارا واحدا، قاله ابن قتيبة.
231

قوله تعالى: (سيروا فيها) والمعنى: وقلنا لهم: سيروا فيها (ليالي وأياما) أي: ليلا ونهارا
(آمنين) من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سبع أو تعب. وكانوا يسيرون أربعة أشهر في
أمان، فبطروا النعمة وملوها كما مل بنو إسرائيل المن والسلوى (فقالوا ربنا بعد بين أسفارنا) قرأ
ابن كثير، وأبو عمرو: " بعد " بتشديد العين وكسرها. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة: " باعد " بألف
وكسر العين. وعن ابن عباس كالقراءتين. قال ابن عباس: إنهم قالوا: لو كانت جناتنا أبعد مما
هي، كان أجدر أن يشتهى جناها. قال أبو سليمان الدمشقي: لما ذكرتهم الرسل نعم الله، أنكروا
أن يكون ما هم فيه نعمة، وسألوا الله أن يباعد بين أسفارهم. وقرأ يعقوب: " ربنا " برفع الباء " باعد "
بفتح العين والدال، جعله فعلا ماضيا على طريق الإخبار للناس بما أنزله الله [عز وجل] بهم. وقرأ
علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، وابن السميفع، وابن أبي عبلة: " بعد "
برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف، على طريق الشكاية إلى الله عز وجل. وقرأ عاصم
الجحدري، وأبو عمران الجوني: " بوعد " برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين.
قوله تعالى: (وظلموا أنفسهم) فيه قولان:
أحدهما: بالكفر وتكذيب الرسل.
والثاني: بقولهم: " بعد بين أسفارنا ".
(فجعلناهم أحاديث) لمن بعدهم يتحدثون بما فعل بهم (ومزقناهم كل ممزق) أي: فرقناهم في
كل وجه من البلاد كل التفريق، لأن الله لما غرق مكانهم وأذهب جنتيهم تبددوا في البلاد، فصارت
العرب تتمثل في الفرقة بسبأ (إن في ذلك) أي: فيما فعل بهم (لآيات) أي: لعبرا (لكل صبار)
عن معاصي الله (شكور) لنعمه.
قوله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) " عليهم " بمعنى " فيهم "، وصدقه في ظنه أنه ظن
بهم أنهم يتبعونه إذ أغواهم، فوجدهم كذلك. وإنما قال: (ولأضلنهم ولأمنينهم) بالظن، لا
بالعلم، فمن قرأ: " صدق " بتشديد الدال، فالمعنى: حقق ما ظنه فيهم بما فعل بهم، ومن قرأ
بالتخفيف، فالمعنى: صدق عليهم في ظنه بهم. و في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم أهل سبأ.
والثاني: سائر المطيعين لإبليس.
قوله تعالى: (وما كان له عليهم من سلطان) قد شرحناه في قوله [تعالى]: (ليس لك عليهم
سلطان). قال الحسن: والله ما ضربهم بعصا ولا قهرهم على شئ، إلا أنه دعاهم إلى الأماني
والغرور.
232

قوله تعالى: (إلا لنعلم) أي: ما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين. وقرأ
الزهري: " إلا ليعلم " بياء مرفوعة على ما لم يسم فاعله. وقرأ ابن يعمر: " ليعلم " بفتح الياء.
وفي المراد بعلمه هاهنا ثلاثة أقوال: قد شرحناه في أول (العنكبوت:).
(وربك على كل شئ) من الشك و الإيمان (حفيظ)، وقال ابن قتيبة: والحفيظ بمعنى
الحافظ. قال الخطابي: وهو فعيل بمعنى فاعل، كالقدير، والعليم، فهو يحفظ السماوات والأرض
بما فيها لتبقى مدة بقائها، ويحفظ عباده من المهالك، ويحفظ عليهم أعمالهم، ويعلم نياتهم،
ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذنوب، ويحرسهم من مكايد الشيطان.
قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يعلمون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض
وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن
أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير (23)
قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم) المعنى: قل للكفار: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة
لينعموا عليكم بنعمة، أو يكشفوا عنكم بلية. ثم أخبر عنهم فقال: (لا يملكون مثقال ذرة في
السماوات ولا في الأرض) أي: من خير وشر ونفع وضر (و ما لهم فيهما من شرك) لم يشاركونا في
شئ من خلقهما، (و ماله) أي: وما لله (منهم) أي: من الآلهة (من ظهير) أي: من معين على
شئ.
(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: " أذن له " بفتح
الألف. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: " أذن له " برفع الألف وعن عاصم كالقراءتين.
أي: لا تنفع شفاعة ملك ولا نبي حتى يؤذن له في الشفاعة، وقيل: حتى يؤذن له فيمن يشفع. وفي
هذا رد عليهم حين قالوا: إن هذه الآلهة تشفع لنا.
(حتى إذا فزع عن قلوبهم) قرأ الأكثرون: " فزع " بضم الفاء وكسر الزاي، قال ابن قتيبة:
خفف عنها الفزع. وقال الزجاج: معناه: كشف الفزع عن قلوبهم. وقرأ ابن عامر، ويعقوب، وأبان:
233

" فزع " بفتح الفاء والزاي، والفعل لله عز وجل. وقرأ الحسن، وقتادة، وابن يعمر: " فرغ " بالراء غير
معجمة، وبالغين، وهو بمعنى الأول، لأنها فرغت من الفزع. وقال غيره بل فرغت من الشك
والشرك. و في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة. وقد دل الكلام على أنهم يفزعون لأمر يطرأ عليهم من أمر الله، ولم
يذكره في الآية، لأن إخراج الفزع يدل على حصوله وفي سبب فزعهم قولان:
أحدهما: أنهم يفزعون لسماع كلام الله تعالى. و روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا
يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل: ماذا
قال ربك؟ قال: فيقول: الحق، فينادون: الحق الحق ". وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا قضى الله عز وجل الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله [تعالى]:، كأنه
سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم، قالوا: للذي قال الحق (وهو
العلي الكبير) ".
والثاني: أنهم يفزعون من قيام الساعة. وفي السبب الذي ظنوه بدنو الساعة ففزعوا، قولان:
أحدهما: أنه لما كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، ثم بعث الله
محمدا، أنزل الله جبريل بالوحي، فلما نزل ظنت الملائكة أنه نزل بشئ من أمر الساعة، فصعقوا
لذلك، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي، قاله قتادة، ومقاتل،
وابن السائب. وقيل: لما علموا بالإيحاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فزعوا، لعلمهم أن ظهوره من أشراط
الساعة.
والثاني: أن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم
الله تعالى فانحدروا، يسمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من
أمر الساعة، فيخرون سجدا، ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا كلما مروا
عليهم، رواه الضحاك عن ابن مسعود.
والقول الثاني: أن الذي أشير إليهم المشركون، ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: أن المعنى: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند الموت - إقامة للحجة
عليهم - قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا: الحق، فأقروا حين لم ينفعهم
الإقرار، قاله الحسن، وابن زيد.
234

والثاني: حتى إذا كشف الغطاء عن قلوبهم يوم القيامة، قيل لهم: ماذا قال ربكم؟ قاله
مجاهد.
قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال
مبين (24) قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون (25) قل يجمع بيننا ربنا ثم
يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26) قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو
الله العزيز الحكيم (27)
قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماوات) يعني المطر (و الأرض) يعني النبات والثمر.
وإنما أمر أن يسأل الكفار، عن هذا، احتجاجا عليهم بأن الذي يرزق هو المستحق للعبادة، وهم لا
يثبتون رازقا سواه، ولهذا قيل له: (قل الله) لأنهم لا يجيبون بغير هذا، وهاهنا تم الكلام. ثم أمره
أن يقول لهم: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) مذهب المفسرين أن " أو " هاهنا بمعنى
الواو. وقال أبو عبيدة: معنى الكلام: وإنا لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين. وقال الفراء:
معنى " أو " عند المفسرين معنى الواو، وكذلك هو في المعنى، غير أن العربية على غير ذلك، لا
تكون " أو " بمنزلة الواو، ولكنها تكون في الأمر المفوض، كما تقول: إن شئت فخذ درهما أو اثنين،
فله أن يأخذ واحدا أو اثنين، وليس له أن يأخذ ثلاثة، وإنما معنى الآية: وإنا لضالون أو مهتدون،
وإنكم أيضا لضالون أو مهتدون، وهو يعلم أن رسوله المهتدي، وأن غيره الضال، كما تقول للرجل
تكذبه: والله إن أحدنا لكاذب - وأنت تعنيه - فكذبته تكذيبا غير مكشوف، ويقول الرجل: والله لقد
قدم فلان، فيقول له من يعلم كذبه: قل: إن شاء الله، فيكذبه بأحسن من تصريح التكذيب، ومن
كلام العرب أن يقولوا: قاتله الله، ثم يستقبحونها، فيقول: قاتعه الله، ويقول بعضهم: كاتعه الله،
ويقولون: جوعا، دعاء على الرجل، ثم يستقبحونها فيقولون: جودا، وبعضهم يقول: جوسا، ومن
ذلك قولهم: ويحك وويسك، وإنما هي في معنى " ويلك " إلا أنها دونها.
قوله تعالى: (قل لا تسألون عما أجرمنا) أي: لا تؤاخذون به (ولا نسأل عما تعملون) من
الكفر والتكذيب، والمعنى إظهار التبري منهم. وهذه الآية عند أكثر المفسرين منسوخة بآية السيف،
ولا وجه لذلك.
235

قوله تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا) يعني عند البعث في الآخرة (ثم يفتح بيننا) أي يقضي
(بالحق) أي: بالعدل (وهو الفتاح) القاضي (العليم) بما يقضي (قل) للكفار (أروني الذين
ألحقتم به شركاء) أي: أعلموني من أي وجه ألحقتموهم وهم لا يخلقون ولا يرزقون (كلا) ردع
وتنبيه، والمعنى: ارتدعوا عن هذا القول، وتنبهوا عن ضلالتكم، فليس الأمر على ما أنتم عليه.
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (28)
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (29) قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه
ساعة ولا تستقدمون (30)
قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) أي: عامة لجميع الخلائق. وفي الكلام تقديم،
تقديره: وما أرسلناك إلا للناس كافة. وقيل: معنى " كافة للناس ": تكفهم عما هم عليه من الكفر،
والهاء فيه للمبالغة.
(ويقولون متى هذا الوعد) يعنون العذاب الذي يعدهم به في يوم القيامة، وإنما قالوا هذا،
لأنهم ينكرون البعث، (قل لكم ميعاد يوم) وفيه قولان:
أحدهما: أنه يوم الموت عند النزع والسياق، قاله الضحاك.
والثاني: يوم القيامة، قاله أبو سليمان الدمشقي.
وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون
عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا
أنتم لكنا مؤمنين (31) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى
بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (32) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر
الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا
236

العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (33)
قوله تعالى: (وقال الذين كفروا) يعني مشركي مكة (لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين
يديه) يعنون التوراة والإنجيل، وذلك أن مؤمني أهل الكتاب قالوا: إن صفة محمد في كتابنا،
فكفر أهل مكة بكتابهم.
ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال: (ولو ترى إذ الظالمون) يعني مشركي مكة (موقوفون
عند ربهم) في الآخرة (يرجع بعضهم إلى بعض القول) أي: يرد بعضهم على بعض في الجدال
واللوم (يقول الذين استضعفوا) وهم الأتباع (للذين استكبروا) وهم الأشراف والقادة: (لولا أنتم
لكنا مؤمنين) أي: مصدقين بتوحيد الله، والمعنى: أنتم منعتمونا عن الإيمان، فأجابهم المتبوعون
فقالوا: (أنحن صددناكم عن الهدى) أي: منعناكم عن الإيمان (بعد إذ جاءكم) به الرسول؟ (بل
كنتم مجرمين) بترك الإيمان - وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير
سببا للعداوة في الآخرة - فرد عليهم الأتباع فقالوا: (بل مكر الليل والنهار) أي: بل مكركم بنا في
الليل والنهار. قال الفراء: وهذا مما تتوسع فيه العرب لوضوح معناه، كما يقولون: ليله قائم، ونهاره
صائم، فتضيف الفعل إلى غير الآدميين، والمعنى لهم: وقال الأخفش: وهذا كقوله [تعالى]: (من
قريتك التي أخرجتك) قال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السري * ونمت وما ليل المطي بنائم
وقرا سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: " بل مكر " بفتح الكاف والراء " الليل
والنهار " برفعهما. وقرأ ابن يعمر: " بل مكر " باسكان الكاف ورفع الراء وتنوينها " الليل والنهار "
بنصبهما.
قوله تعالى: (إذ تأمروننا أن نكفر بالله) وذلك أنهم كانوا يقولون لهم: إن ديننا حق ومحمد
كذاب، (و أسروا الندامة) وقد سبق بيانه في يونس.
قوله تعالى: (و جعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا) إذا دخلوا جهنم غلت أيديهم إلى
أعناقهم، وقالت لهم خزنة جهنم: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا. قال أبو عبيدة: مجاز
" هل " هاهنا مجاز الإيجاب، وليس باستفهام، والمعنى: ما تجزون إلا ما كنتم تعملون.
237

وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون (34) وقالوا
نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين (35) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء
ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون (36) وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم
عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في
الغرفات آمنون (37) والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب
محضرون (38) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من
شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين (39)
(وما أرسلنا في قرية من نذير) أي: نبي ينذر (إلا قال مترفوها) وهم أغنياؤها ورؤساؤها.
قوله تعالى: (و قالوا نحن أكثر أموالا وأولادا). في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم المترفون من كل أمة.
والثاني: مشركو مكة، فظنوا من جهلهم أن الله خولهم المال والولد لكرامتهم عليه، فقالوا:
(وما نحن بمعذبين) لأن الله أحسن إلينا بما أعطانا فلا يعذبنا، فأخبر أنه (يبسط الرزق لمن يشاء
ويقدر)، والمعنى أن بسط الرزق وتضييقه ابتلاء وامتحان، لا أن البسط يدل على رضى الله، ولا
التضييق يدل على سخطه (و لكن أكثر الناس لا يعلمون) ذلك. ثم صرح بهذا المعنى بقوله
[تعالى]: (و ما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) قال الفراء: يصلح أن تقع " التي "
على الأموال والأولاد جميعا، لأن الأموال جمع والأولاد جمع، وإن شئت وجهت " التي " إلى
الأموال، واكتفيت بها من ذكر الأولاد، وأنشد لمرار الأسدي:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف
وقد شرحنا هذا في قوله [تعالى]: (ولا ينفقونها في سبيل الله) وقال الزجاج: المعنى: وما
أموالكم بالتي تقربكم، ولا أولادكم بالذين يقربونكم، فحذف اختصارا. وقرأ أبي بن كعب،
والحسن، وأبو الجوزاء: " باللاتي تقربكم ". قال الأخفش: و " زلفى " هاهنا اسم مصدر، كأنه قال:
تقربكم عندنا ازدلافا. وقال ابن قتيبة: " زلفى " أي: قربى ومنزلة عندنا.
238

قوله تعالى: (إلا من آمن) قال الزجاج: المعنى: ما تقرب الأموال إلا من آمن وعمل بها في
طاعة الله، (فأولئك لهم جزاء الضعف) والمراد به هاهنا عشر حسنات، تأويله: لهم جزاء
الضعف الذي قد أعلمتكم مقداره. وقال ابن قتيبة: لم يرد فيما يرى أهل النظر - والله أعلم - أنهم
يجازون بواحد مثله، ولا اثنين، ولكنه أراد جزاء التضعيف، وهو مثل يضم إلى مثل ما بلغ، وكأن
الضعف الزيادة، فالمعنى: لهم جزاء الزيادة، وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، ورويس، وزيد
عن يعقوب: " لهم جزاء " بالنصب والتنوين وكسر التنوين وصلا " الضعف " بالرفع. وقرأ أبو الجوزاء،
وقتادة، وأبو عمران الجوني: " لهم جزاء " بالرفع والتنوين " الضعف " بالرفع.
قوله تعالى: (و هم في الغرفات) يعني غرف الجنة، وهي البيوت فوق الأبنية. وقرأ حمزة:
" في الغرفة " على التوحيد، أراد اسم الجنس. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل: " في الغرفات " بضم
الغين وسكون الراء مع الألف. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر: بضم الغين وفتح الراء مع الألف
(آمنون) من الموت والغير. وما بعد هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله [تعالى]: (وما أنفقتم من
شئ فهو يخلفه) أي: يأتي ببدله، يقال: أخلف الله له وعليه: إذا أبدل ما ذهب عنه. وفي معنى
الكلام أربعة أقوال:
أحدها: ما أنفقتم من غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: ما أنفقتم في طاعته، فهو يخلفه في الآخرة بالأجر، قاله السدي.
والثالث: ما أنفقتم في الخير والبر فهو يخلفه، إما أن يعجله في الدنيا، أو يدخره لكم في
الآخرة، قاله ابن السائب.
والرابع: أن الإنسان قد ينفق ماله في الآخرة ولا يرى له خلفا أبدا، وإنما معنى الآية: ما
كان من خلف فهو منه، ذكره الثعلبي.
قوله تعالى: (وهو خير الرازقين) لما دار على الألسن أن السلطان يرزق الجند، وفلان يرزق
عياله، أي: يعطيهم، أخبر أنه خير المعطين.
ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (40) قالوا سبحانك
239

أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون (41) فاليوم لا يملك
بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها
تكذبون (42) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم
عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما
جاءهم إن هذا إلا سحر مبين (43) وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم
قبلك من نذير (44) وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي
فكيف كان نكير (45)
قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعا) يعني المشركين، وقال مقاتل: يعني الملائكة ومن
عبدها (ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) وهذا استفهام تقرير وتوبيخ للعابدين، فنزهت
الملائكة ربها عن الشرك ف‍ (قالوا سبحانك) أي: تنزيها لك مما أضافوه إليك من الشركاء (أنت
ولينا من دونهم) أي: نحن نتبرأ إليك منهم، ما تولينا ولا اتخذناهم عابدين، ولسنا نريد وليا
غيرك (بل كانوا يعبدون الجن) أي: يطيعون الشياطين في عبادتهم إيانا (أكثرهم بهم) أي:
بالشياطين (مؤمنون) أي: مصدقون لهم فيما يخبرونهم من الكذب أن الملائكة بنات الله، فيقول
الله تعالى: (فاليوم) يعني في الآخرة (لا يملك بعضكم لبعض) يعني العابدين والمعبودين
(نفعا) بالشفاعة (ولا ضرا) بالتعذيب (ونقول للذين ظلموا) فعبدوا غير الله (ذوقوا عذاب
النار...) الآية.
ثم أخبر أنهم يكذبون محمدا والقرآن بالآية التي تلي هذه، وتفسيرها ظاهر.
ثم أخبر أنهم لم يقولوا ذلك عن بينة، ولم يكذبوا محمدا عن يقين، ولم يأتهم قبله كتاب ولا
نبي يخبرهم بفساد أمره، فقال: (وما آتيناهم من كتب يدرسونها) قال قتادة: ما أنزل الله على
العرب كتابا قبل القرآن ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد، وهذا محمول على الذين أنذرهم نبينا صلى الله عليه و آله وسلم،
وقد كان إسماعيل نذيرا للعرب.
ثم أخبر عن عاقبة المكذبين قبلهم مخوفا لهم، فقال: (وكذب الذين من قبلهم) يعني الأمم
الكافرة (و ما بلغوا معشار ما آتيناهم) و فيه ثلاثة أقوال:
240

أحدها: ما بلغ كفار مكة معشار ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوة والمال وطول العمر،
قاله الجمهور.
والثاني: ما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا هؤلاء من الحجة والبرهان.
والثالث: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، حكاهما الماوردي. و المعشار:
العشر. والنكير: اسم بمعنى الإنكار. قال الزجاج: والمعنى: فكيف كان نكيري، وإنما حذفت الياء
لأنه آخر آية.
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من
جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد (46) قل ما سألتكم من أجر فهو لكم
إن أجري إلا على الله وهو على كل شئ شهيد (47) قل إن ربي يقذف بالحق علام
الغيوب (48) قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد (49) قل إن ضللت فإنما
أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب (50)
قوله تعالى: (قل إنما أعظكم) أي: آمركم وأوصيكم (بواحدة) و فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها " لا إله إلا الله "، رواه ليث عن مجاهد..
والثاني: طاعة الله، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والثالث: أنها قوله [تعالى]: أن تقوموا لله مثنى وفرادى)، قاله قتادة. والمعنى: أن التي
أعظكم بها، قيامكم وتشميركم لطلب الحق، وليس بالقيام على الأقدام. والمراد بقوله [تعالى]:
" مثنى " يجتمع اثنان فيتناظران في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمراد ب‍ " فرادى " أن يتفكر الرجل وحده،
ومعنى الكلام: ليتفكر الإنسان وحده، وليخل بغيره، وليناظر، وليستشر، فيستدل بالمصنوعات
على صانعها، ويصدق الرسول على اتباعه، وليقل الرجل لصاحبه: هلم فلنتصادق هل رأينا بهذا
الرجل جنة قط، أو جربنا عليه كذبا قط. وتم الكلام عند قوله: (ثم تتفكروا ما بصاحبكم من
جنة)، وفيه اختصار تقديره: ثم تتفكروا لتعلموا صحة ما أمرتكم به وأن الرسول ليس بمجنون،
(إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) في الآخرة.
241

قوله تعالى: (قل ما سألتكم من أجر) على تبليغ الرسالة (فهو لكم) والمعنى: ما أسألكم
شيئا، ومثله قول القائل: ما لي في هذا فقد وهبته لك، يريد: ليس لي فيه شئ.
قوله تعالى: (قل إن ربي يقذف بالحق) (علام الغيوب) وقرأ أبو رجاء: " علام " بنصب
الميم. و في المراد بالباطل ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الشيطان، لا يخلق أحدا ولا يبعثه، قاله قتادة.
والثاني: أنه الأصنام، لا تبدئ خلقا ولا تحيي، قاله الضحاك. وقال أبو سليمان: لا يبتدئ
الصنم من عنده كلاما فيجاب، ولا يرد ما جاء من الحق بحجة.
والثالث: أنه الباطل الذي يضاد الحق، فالمعنى: ذهب الباطل بمجيء الحق، فلم تبق منه
بقية يقبل بها أو يبدئ أو يعيد، ذكره جماعة من المفسرين.
قوله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي) أي: إثم ضلالتي على نفسي، وذلك
أن كفار مكة زعموا أنه قد ضل حين ترك دين آبائه (وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي) من الحكمة
والبيان.
ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب (51) وقالوا آمنا به وأنى
لهم التناوش من مكان بعيد (52) وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان
بعيد (53) وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في
شك مريب (54)
قوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا) في زمان هذا الفزع قولان:
أحدهما: أنه حين البعث من القبور، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه عند ظهور العذاب في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وقال
سعيد بن جبير: هو الجيش الذي يخسف به بالبيداء، يبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقوا، وهذا
حديث مشروح في التفسير، وأن هذا الجيش يؤم البيت الحرام لتخريبه، فيخسف بهم. وقال
242

الضحاك وزيد بن أسلم: هذه الآية فيمن قتل يوم بدر من المشركين.
قوله تعالى: (فلا فوت) المعنى: فلا فوت لهم، أي: لا يمكنهم أن يفوتونا (و أخذوا من
مكان قريب) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: من مكانهم يوم بدر، قاله زيد بن أسلم.
والثاني: من تحت أقدامهم بالخسف، قاله مقاتل.
والثالث: من القبور، قاله ابن قتيبة. وأين كانوا، فهم من الله قريب.
قوله تعالى: (و قالوا) أي: حين عاينوا العذاب (آمنا به) في هاء الكناية أربعة أقوال:
أحدها: أنها تعود إلى الله عز وجل، قاله مجاهد.
والثاني: إلى البعث، قاله الحسن.
والثالث: إلى الرسول، قاله قتادة.
والرابع: إلى القرآن، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (و أنى لهم التناوش) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم:
" التناوش " غير مهموز. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم: بالهمز. قال
الفراء: من همز جعله من " نأشت "، ومن لم يهمز، جعله من " نشت "، وهما متقاربان، والمعنى:
تناولت الشئ، بمنزلة: ذمت الشئ وذأمته: إذا عبته، وقد تناوش القوم في القتال: إذا تناول
بعضهم بعضا بالرماح، ولم يتدانوا كل التداني، وقد يجوز همز " التناؤش " وهي من " نشت " لانضمام
الواو، مثل قوله تعالى: (وإذا الرسل أقتت). وقال الزجاج: من همز " التناؤش " فلأن واو التناوش
مضمومة، وكل واو مضمونة ضمتها لازمة، إن شئت أبدلت منها همزة، وإن شئت لم تبدل نحو:
أدؤر. وقال ابن قتيبة: معنى الآية: وأنى لهم التناوش لما أرادوا بلوغه وإدراك ما طلبوا من التوبة
(من مكان بعيد) وهو الموضع الذي تقبل فيه التوبة. وكذلك قال المفسرون: أنى لهم بتناول
الإيمان والتوبة وقد تركوا ذلك في الدنيا والدنيا قد ذهبت؟!
قوله تعالى: (وقد كفروا به) في هاء الكناية أربعة أقوال قد تقدمت في قوله تعالى: (آمنا
به) ومعنى (من قبل) أي: في الدنيا من قبل معاينة أهوال الآخرة (ويقذفون بالغيب) أي:
يرمون بالظن (من مكان بعيد) وهو بعدهم عن العلم بما يقولون.
وفي المراد بمقالتهم هذه ثلاثة أقوال:
243

أحدها: أنهم يظنون أنهم يردون إلى الدنيا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنه قولهم في الدنيا: لا بعث لنا ولا جنة ولا نار، قاله الحسن، وقتادة.
والثالث: أنه قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو ساحر، هو كاهن، هو شاعر، قاله مجاهد.
قوله تعالى: (و حيل بينهم وبين ما يشتهون) أي: منع هؤلاء الكفار مما يشتهون، وفيه ستة
أقوال:
أحدها: أنه الرجوع إلى الدنيا، قاله ابن عباس.
والثاني: الأهل والمال والولد، قاله مجاهد.
والثالث: الإيمان، قاله الحسن.
والرابع: طاعة الله، قاله قتادة.
والخامس: التوبة. قاله السدي.
والسادس: حيل بين الجيش الذي خرج لتخريب الكعبة وبين ذلك بأن خسف بهم، قاله
مقاتل.
قوله تعالى: (كما فعل) وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبو عمران: " كما فعل " بفتح
الفاء والعين (بأشياعهم من قبل) قال الزجاج: أي: بمن كان مذهبه مذهبهم. قال المفسرون:
والمعنى: كما فعل بنظرائهم من الكفار، من قبل هؤلاء، فإنهم حيل بينهم وبين ما يشتهون. وقال
الضحاك. هم أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة (إنهم كانوا في شك) من البعث ونزول
العذاب بهم (مريب) أي: موقع للريبة والتهمة.
والله أعلم بالصواب.
244

(35) سورة فاطر مكية
وآياتها خمس و أربعون
وتسمى سورة الملائكة، وهي مكية باجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث
ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شئ قدير (1) ما يفتح الله للناس من رحمة
فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم (2)
قوله تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) أي: خالقهما مبتدئا على غير مثال. قال
ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى اختصم أعرابيان في بئر، فقال أحدهما:
أنا فطرتها، أي: ابتدأتها.
قوله تعالى: (جاعل الملائكة) وروى الحلبي والقزاز عن عبد الوارث: " جاعل " بالرفع
والتنوين " الملائكة " بالنصب (رسلا) يرسلهم إلى الأنبياء وإلى ما شاء من الأمور (أولي أجنحة)
أي: أصحاب أجنحة (مثنى وثلاث ورباع) فبعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له
245

أربعة، و (يزيد في الخلق ما يشاء) فيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه زاد في خلق الملائكة الأجنحة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: يزيد في الأجنحة ما يشاء، رواه عباد بن منصور عن الحسن، وبه قال مقاتل.
والثالث: أنه الخلق الحسن، رواه عوف عن الحسن.
والرابع: أنه حسن الصوت، قاله الزهري: وابن جريج.
والخامس: الملاحة في العينين، قاله قتادة.
قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة) أي: من خير ورزق. وقيل: أراد بها المطر
(فلا ممسك لها) وقرأ أبي بن كعب، وابن أبي عبلة: " فلا ممسك له ". وفي الآية تنبيه على أنه
لا إله إلا هو، إذ لا يستطيع أحد إمساك ما فتح وفتح ما أمسك.
يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء و الأرض
لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3) وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله
ترجع الأمور (4) يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم
بالله الغرور (5) إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب
السعير (6) الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة
وأجر كبير (7)
قوله تعالى: (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم) قال المفسرون: الخطاب لأهل مكة،
و " اذكروا " بمعنى احفظوا، ونعمة الله عليهم: إسكانهم الحرم ومنع الغارات عنهم.
(هل من خالق غير الله) وقرأ حمزة والكسائي: " غير الله " بخفض الراء، قال أبو علي:
جعلاه صفة على اللفظ، وذلك حسن لإتباع الجر. وهذا استفهام تقرير وتوبيخ، والمعنى: لا خالق
سواه (يرزقكم من السماء) المطر (و) من (الأرض) النبات ن. وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى
246

قوله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو) أي: إنه يريد هلاككم (فاتخذوه عدوا) أي: أنزلوه من
أنفسكم منزلة الأعداء، وتجنبوا طاعته (إنما يدعو حزبه) أي: شيعته إلى الكفر (ليكونوا من
أصحاب السعير).
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب
نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون (8) والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه
إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور (9)
قوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في أبي جهل ومشركي مكة، قاله ابن عباس.
والثاني: في أصحاب الأهواء والملل التي خالفت الهدى، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله أبو قلابة. فإن قيل: أين جواب " أفمن زين
له "؟. فالجواب من وجهين: ذكرهما الزجاج.
أحدهما: أن الجواب محذوف، والمعنى: أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله؟ ويدل على
هذا قوله تعالى: (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء).
والثاني: أن المعنى: أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليهم حسرات؟!
ويدل على هذا قوله تعالى: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات).
وقرأ أبو جعفر: " فلا تذهب " بضم التاء وكسر الهاء " نفسك " بنصب السين.
وقال ابن عباس: لا تغتم ولا تهلك نفسك حسرة على تركهم الإيمان.
قوله تعالى: (فتثير سحابا) أي: تزعجه من مكانه، وقال أبو عبيدة: تجمعه وتجئ به،
و " سقناه " بمعنى " نسوقه "، والعرب قد تضع " فعلنا " في موضع " نفعل "، وأنشدوا:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا مني وما سمعوا من صالح دفنوا
المعنى: يطيروا ويدفنوا.
قوله تعالى: (و كذلك النشور) وهو الحياة، وفي معنى الكلام قولان:
247

أحدهما: كما أحيا الله الأرض بعد موتها يحيي الموتى يوم البعث. روى أبو رزين العقيلي،
قال: قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: " هل مررت
بوادي أهلك محلا، ثم مررت به يهتز خضرا؟ " قلت: نعم، قال: " فكذلك يحيي الله الموتى،
وتلك آيته في خلقه ".
والثاني: كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، كذلك يحيي الله الموتى بالماء. قال ابن
مسعود: يرسل الله تعالى ماء من تحت العرش كمني الرجال، قال: فتنبت لحمانهم وجسمانهم من
ذلك الماء، كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ هذه الآية. وقد ذكرنا في الأعراف نحو هذا
الشرح.
من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور (10)
قوله تعالى: (من كان يريد العزة) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: من كان يريد العزة بعبادة الأوثان (فلله العزة جميعا)، قاله مجاهد.
والثاني: من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله، قاله قتادة. وقد روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز، فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز ".
والثالث: من كان يريد علم العزة لمن هي، فإنها لله جميعا، قاله الفراء.
قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب) وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن السلمي،
والنخعي، والجحدري، والشيزري عن الكسائي: " يصعد الكلام الطيب " وهو توحيده وذكره
(والعمل الصالح يرفعه) قال علي بن المديني: الكلم الطيب: لا إله إلا الله، والعمل الصالح:
أداء الفرائض واجتناب المحارم. و في هاء الكناية في قوله تعالى: (يرفعه) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى الكلم الطيب، فالمعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، قاله ابن
عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك. وكان الحسن يقول: يعرض القول على
248

الفعل، فإن وافق القول الفعل قبل، وإن خالف رد.
والثاني: أنها ترجع إلى العمل الصالح، فالمعنى: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، فهو
عكس القول الأول، وبه قال أبو صالح، وشهر بن حوشب. فإذا قلنا: إن الكلم الطيب هو التوحيد،
كانت فائدة هذا القول أنه لا يقبل عمل صالح إلا من موحد.
والثالث: أنها ترجع إلى الله عز وجل، فالمعنى: والعمل الصالح يرفعه الله إليه، أي: يقبله.
قاله قتادة.
قوله تعالى: (والذين يمكرون السيئات) قال أبو عبيدة: يمكرون: بمعنى يكتسبون
ويجترحون. ثم في المشار إليهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم الذين مكروا برسول الله [صلى الله عليه وسلم] في دار الندوة، قاله أبو العالية.
والثاني: أنهم أصحاب الرياء، قاله مجاهد، وشهر بن حوشب.
والثالث: أنهم الذين يعملون السيئات، قاله قتادة، وابن السائب.
والرابع: أنهم قائلو الشرك، قاله مقاتل. و في معنى (يبور) قولان:
أحدهما: يبطل، قاله ابن قتيبة.
والثاني: يفسد، قاله الزجاج.
والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا
بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير (11)
وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما
طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم
تشكرون (12) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل
مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير (13) إن
تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا
249

ينبئك مثل خبير (14)
قوله تعالى: (و الله خلقكم من تراب) يعني آدم (ثم من نطفة) يعني نسله (ثم جعلكم
أزواجا) أي: أصنافا، ذكورا وإناثا، قال قتادة: زوج بعضهم ببعض.
قوله تعالى: (وما يعمر من معمر) أي: ما يطول عمر أحد (ولا ينقص) وقرأ الحسن،
ويعقوب: " ينقص " بفتح الياء وضم القاف (من عمره) في هذه الهاء قولان:
أحدهما: أنها كناية عن آخر، فالمعنى: ولا ينقص من عمر آخر، وهذا المعنى في رواية
العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في آخرين. قال الفراء: وإنما كني عنه كأنه الأول، لأن
لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول، كأنه قال: ولا ينقص من عمر معمر، ومثله في الكلام: عندي
درهم ونصفه، والمعنى: ونصف آخر.
والثاني: أنها ترجع إلى المعمر المذكور، فالمعنى: ما يذهب من عمر هذا المعمر يوم أو
ليلة إلا وذلك مكتوب، قال سعيد بن جبير: مكتوب في أول الكتاب: عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب
أسفل من ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، ذهبت ثلاثة، إلى أن ينقطع عمره، وهذا المعنى في
رواية ابن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة وأبو مالك في آخرين.
فأما الكتاب، فهو اللوح المحفوظ. و في قوله تعالى (إن ذلك على الله يسير) قولان:
أحدهما: أنه يرجع إلى كتابة الآجال.
والثاني: إلى زيادة العمر ونقصانه.
قوله تعالى: (وما يستوي البحران) يعني العذب والملح، وهذه الآية وما بعدها قد سبق
بيانه إلى قوله: (ما يملكون من قطمير) قال ابن عباس: هو القشر الذي يكون على ظهر
النواة.
قوله تعالى: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) لأنهم جماد (ولو سمعوا) بأن يخلق الله
لهم أسماعا (ما استجابوا لكم) أي: لم يكن عندهم إجابة (ويوم القيامة يكفرون بشرككم)
أي: يتبرؤون من عبادتكم (ولا ينبئك) يا محمد (مثل خبير) أي: عالم بالأشياء، يعني نفسه
عز وجل، والمعنى أنه لا أخبر منه عز وجل بما أخبر أنه سيكون.
250

أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد (15) إن يشأ يذهبكم
ويأت بخلق جديد (16) وما ذلك على الله بعزيز (17) ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع
مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب
وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير (18) وما يستوي الأعمى
والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20) ولا الظل ولا الحرور (21) وما يستوي الأحياء
ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور (22) إن أنت
إلا نذير (23) إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24) وإن
يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب
المنير (25) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير (26)
(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) أي: المحتاجون إليه (والله هو الغني) عن عبادتكم
(الحميد) عند خلقه بإحسانه إليهم. وما بعد هذا قد تقدم بيانه إلى قوله تعالى: (و إن تدع
مثقلة) أي: نفس مثقلة بالذنوب (إلى حملها) الذي حملت من الخطايا (لا يحمل منه شئ
ولو كان) الذي تدعوه (ذا قربى) ذا قرابة (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) أي:
يخشونه ولم يروه، والمعنى: إنما تنفع بإنذارك أهل الخشية، فكأنك تنذرهم دون غيرهم لمكان
اختصاصهم بالانتفاع، (ومن تزكى) أي: تطهر من الشرك والفواحش، وفعل الخير (فإنما
يتزكى لنفسه) أي: فصلاحه لنفسه (وإلى الله المصير) فيجزي بالأعمال.
(وما يستوي الأعمى والبصير) يعني المؤمن والمشرك، (ولا الظلمات) يعني الشرك
والضلالات (ولا النور) الهدى والإيمان، (ولا الظل ولا الحرور) فيه قولان:
أحدهما: ظل الليل وسموم النهار، قاله عطاء.
251

والثاني: الظل: الجنة، والحرور: النار، قاله مجاهد. قال الفراء: الحرور بمنزلة
السموم، وهي الرياح الحارة. والحرور تكون بالنهار وبالليل، والسموم لا تكون إلا بالنهار. وقال
أبو عبيدة: الحرور تكون بالنهار مع الشمس، وكان رؤبة يقول: الحرور بالليل، والسموم بالنهار.
قوله تعالى: (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) فيهم قولان:
أحدهما: أن الأحياء: المؤمنون، والأموات: الكفار.
والثاني: أن الأحياء، العقلاء: والأموات: الجهال. وفي " لا " المذكورة في هذه الآية
قولان:
أحدهما: أنها زائدة مؤكدة.
والثاني: أنها نافية لاستواء أحد المذكورين مع الآخر.
قال قتادة: هذه أمثال ضربها الله تعالى للمؤمن والكافر، يقول: كما لا تستوي هذه الأشياء،
كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن.
(إن الله يسمع من يشاء) أي: يفهم من يريد إفهامه (وما أنت بمسمع من في القبور)
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والجحدري: " بمسمع من " على الإضافة، يعني
الكفار، شبههم بالموتى، (إن أنت إلا نذير) قال بعض المفسرين: نسخ معناها بآية السيف.
قوله تعالى: (و إن من أمة إلا خلا فيها نذير) أي: ما من أمة إلا قد جاءها رسول. وما
بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله تعالى: (فكيف كان نكير) أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب،
وافقه في الوصل ورش.
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال
جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام
مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور (28)
قوله تعالى: (ومن الجبال جدد بيض) أي: ومما خلقنا من الجبال جدد. قال ابن قتيبة:
الجدد: الخطوط والطرائق تكون في الجبال، فبعضها بيض، وبعضها حمر، وبعضها غرابيب
سود، والغرابيب جمع غربيب، وهو الشديد السواد، يقال: أسود غربيب، وتمام الكلام عند
252

قوله: " كذلك "، يقول: من الجبال مختلف ألوانه، (و من الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه
كذلك) أي: كاختلاف الثمرات. قال الفراء: وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وسود
غرابيب، لأنه يقال: أسود غربيب، وقلما يقال: غربيب أسود. وقال الزجاج: المعنى: ومن
الجبال غرابيب سود، وهي ذوات الصخر الأسود. وقال ابن دريد: الغربيب: الأسود، أحسب أن
اشتقاقه من الغراب. و للمفسرين في المراد بالغرابيب ثلاثة أقوال:
أحدها: الطرائق السود، قاله ابن عباس.
والثاني: الأودية السود، قاله قتادة.
والثالث: الجبال السود، قاله السدي.
ثم ابتدأ فقال: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) يعني العلماء بالله عز وجل. قال ابن
عباس: يريد: إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني. وقال مجاهد والشعبي:
العالم من خاف الله. وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم.
إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية
يرجون تجارة لن تبور (29) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور (30)
والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده
لخبير بصير (31)
قوله تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله) يعني قراء القرآن، فأثنى عليهم بقراءة القرآن،
وكان مطرف يقول: هذه آية القراء.
وفي قوله: (يتلون) قولان:
أحدهما: يقرؤون.
والثاني: يتبعون.
قال أبو عبيدة: (وأقاموا الصلاة) بمعنى ويقيمون، وهو إدامتها لمواقيتها وحدودها.
قوله تعالى: (يرجون تجارة) قال الفراء: هذا جواب قوله [تعالى]: (إن الذين
253

يتلون). قال المفسرون: والمعنى: يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسد ولن تهلك ولن تكسد
(ليوفيهم أجورهم) أي: جزاء أعمالهم (ويزيدهم من فضله) قال ابن عباس: سوى الثواب ما
لم تر عين ولم تسمع أذن.
فأما الشكور، فقال الخطابي: هو الذي يشكر اليسير من الطاعة، فيثيب عليه الكثير من
الثواب، ويعطي الجزيل من النعمة، ويرضي باليسير من الشكر، ومعنى الشكر المضاف إليه:
الرضى بيسير الطاعة من العبد، والقبول له، وإعظام الثواب عليه، وقد يحتمل أن يكون معنى
الثناء على الله بالشكور ترغيب الخلق في الطاعة قلت أو كثرت، لئلا يستقلوا القليل من العمل،
ولا يتركوا اليسير منه.
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد
ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32) جنات عدن يدخلونها
يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33)
قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب) في " ثم " وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى الواو.
والثاني: أنها للترتيب. والمعنى: أنزلنا الكتب المتقدمة، ثم أورثنا الكتاب (الذين
اصطفينا) وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم الأنبياء وأتباعهم، قاله الحسن. وفي الكتاب قولان:
أحدهما: أنه اسم جنس، والمراد به الكتب التي أنزلها الله عز وجل، وهذا يخرج على
القولين. فإن قلنا: الذين اصطفوا أمة محمد، فقد قال ابن عباس: إن الله أورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم
كل كتاب أنزله. وقال ابن جرير الطبري: ومعنى ذلك: أورثهم الإيمان بالكتب كلها - وجميع
الكتب تأمر باتباع القرآن - فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها، واستدل على صحة هذا القول بأن الله
تعالى قال في الآية التي قبل هذه: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق) وأتبعه بقوله
[تعالى]: (ثم أورثنا الكتاب) فعلمنا أنهم أمة محمد، إذ كان معنى الميراث: انتقال شئ من
254

قوم إلى قوم، ولم تكن أمة على عهد نبينا انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته. فإن
قلنا: هم الأنبياء وأتباعهم، كان المعنى: أورثنا كل كتاب أنزل على نبي ذلك النبي وأتباعه.
و القول الثاني: أن المراد بالكتاب القرآن. و في معنى " أورثنا " قولان:
أحدهما: أعطينا، لأن الميراث عطاء، قاله مجاهد.
والثاني: أخرنا، ومنه الميراث، لأنه تأخر عن الميت، فالمعنى: أخرنا القرآن عن الأمم
السالفة وأعطيناه هذه الأمة، إكراما لها، ذكره بعض أهل المعاني.
قوله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه صاحب الصغائر، روى عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سابقنا
سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له ". وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في
هذه الآية، قال: " كلهم في الجنة ".
والثاني: أنه الذي مات على كبيرة ولم يتب منها. رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: أنه الكافر، رواه عمرو بن دينار عن ابن عباس، وقد رواه ابن عمر مرفوعا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يكون الاصطفاء لجملة من أنزل عليه الكتاب، كما قال: (وإنه لذكر لك
ولقومك) أي: لشرف لكم، وكم من مكرم لم يقبل الكرامة!
والرابع: أنه المنافق، حكي عن الحسن. وقد روي عن الحسن أنه قال: الظالم: الذي
ترجح سيئاته، والمقتصد: الذي قد استوت حسناته وسيئاته، والسابق: من رجحت حسناته.
وروي عن عثمان بن عفان أنه تلا هذه الآية، فقال: سابقنا أهل جهادنا، ومقتصدنا أهل حضرنا،
وظالمنا أهل بدونا.
قوله تعالى: (و منهم سابق) (بالخيرات) أي: بالأعمال الصالحة إلى الجنة، أو إلى
الرحمة (بإذن الله) أي: بإرادته وأمره (ذلك هو الفضل الكبير) يعني إيراثهم الكتاب.
ثم أخبر بثوابهم، فجمعهم في دخول الجنة فقال: (جنات عدن يدخلونها) قرأ أبو عمرو
وحده: " يدخلونها " بضم الياء، وفتحها الباقون، وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: (ولؤلؤا)
255

بالنصب. وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان يهمز الواو الثانية ولا يهمز الأولى، وفي رواية أخرى أنه
كان يهمز الأولى ولا يهمز الثانية. والآية مفسرة في سورة الحج. قال كعب: تحاكت مناكبهم
ورب الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
و قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) الذي أحلنا دار
المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35) والذين كفروا لهم نار
جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور (36)
وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر
فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير (37) إن الله عالم غيب
السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور (38) هو الذي جعلكم خلائف في الأرض
فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين
كفرهم إلا خسارا (39)
ثم أخبر عما يقولون عند دخولها، وهو قوله [تعالى]: (الحمد لله الذي أذهب عنا
الحزن) الحزن و الحزن واحد، كالبخل والبخل.
وفي المراد بهذا الحزن خمسة أقوال:
أحدها: أنه الحزن لطول المقام في المحشر. روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أما السابق "، فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد، فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم
لنفسه، فإنه حزين في ذلك المقام "، فهو الحزن والغم، وذلك قوله تعالى: " الحمد لله الذي
أذهب عنا الحزن ".
والثاني: أنه الجوع، رواه أبو الدرداء أيضا عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، ولا يصح، وبه قال
شمر بن عطية. وفي لفظ عن شمر أنه قال: الحزن: هم الخبز، وكذلك روي عن سعيد بن جبير
256

أنه قال: الحزن: هم الخبز في الدنيا.
والثالث: أنه حزن النار، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.
والرابع: حزنهم في الدنيا على ذنوب سلفت منهم، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والخامس: حزن الموت، قاله عطية.
والآية عامة في هذه الأقوال وغيرها، ومن القبيح تخصيص هذا الحزن بالخبز وما يشبهه،
وإنما حزنوا على ذنوبهم وما يوجبه الخوف.
قوله تعالى: (الذي أحلنا) أي: أنزلنا (دار المقامة) قال الفراء: المقامة هي الإقامة،
والمقامة: المجلس، بالفتح لا غير، قال الشاعر:
يومان يوم مقامات وأندية * ويوم سير إلى الأعداء تأويب
قوله تعالى: (من فضله) قال الزجاج: أي: بتفضله، لا بأعمالنا. والنصب: التعب.
واللغوب: الإعياء من التعب. ومعنى " لغوب ": شئ يلغب، أي: لا نتكلف شيئا نعنى منه.
قوله تعالى: (لا يقضى عليهم فيموتوا) أي: لا يهلكون فيستريحوا مما هم فيه، ومثله:
(فوكزه موسى فقضى عليه).
قوله تعالى: (كذلك نجزي كل كفور) وقرأ أبو عمرو: " يجزي " بالياء " كل " برفع
اللام. وقرأ الباقون: " نجزي " بالنون " كل " بنصب اللام.
قوله تعالى: (وهم يصطرخون فيها) وهو افتعال من الصراخ: والمعنى: يستغيثون،
فيقولون: (ربنا أخرجنا نعمل صالحا) أي: نوحدك ونطيعك (غير الذي كنا نعمل) من الشرك
والمعاصي، فوبخهم الله تعالى بقوله: (أو لم نعمركم) قال أبو عبيدة: معناه التقرير، وليس
باستفهام، والمعنى: أو لم نعمركم عمرا يتذكر فيه من تذكر؟! و في مقدار هذا التعمير أربعة
أقوال:
أحدها: أنه سبعون سنة، قال ابن عمر: هذه الآية تعبير لأبناء السبعين.
والثاني: أربعون سنة.
والثالث: ستون سنة، رواهما مجاهد عن ابن عباس، وبالأول منهما قال الحسن، وابن
السائب.
257

والرابع: ثماني عشرة سنة، قاله عطاء، ووهب بن منبه، وأبو العالية، وقتادة.
قوله تعالى: (و جاءكم النذير) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه الشيب، قاله ابن عمر، وعكرمة، وسفيان بن عيينة، والمعنى: أو لم نعمركم
حتى شبتم؟!
والثاني: النبي صلى الله عليه و آله وسلم، قاله قتادة، وابن زيد، وابن السائب، ومقاتل.
والثالث: موت الأهل والأقارب.
والرابع: الحمى، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: (فذوقوا) يعني: العذاب (فما للظالمين من نصير) أي: من مانع يمنع
عنهم. وما بعد هذا قد تقدم بيانه إلى قوله تعالى: (خلائف في الأرض) وهي الأمة التي خلفت
من قبلها ورأت فيمن تقدمها ما ينبغي أن تعتبر به (فمن كفر فعليه كفره) أي: جزاء كفره.
قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم
شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينت منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا
إلا غرورا (40) إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما
من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا (41)
قوله تعالى: (أرأيتم شركاءكم) المعنى: أخبروني عن الذين عبدتم من دون الله
واتخذتموهم يحيى شركاء بزعمكم، بأي شئ أوجبتم لهم الشركة في العبادة؟! أبشئ خلقوه من
الأرض، أم شاركوا خالق السماوات في خلقها؟! ثم عاد إلى الكفار فقال: (أم آتيناهم كتابا)
يأمرهم بما يفعلون (فهم على بينة منه؟!) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وحفص عن
عاصم: " على بينة " على التوحيد. وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم:
" بينات " جمعا. والمراد: البيان بأن مع الله شريكا (بل إن يعد الظالمون) يعني المشركين يعد
(بعضهم بعضا) أن الأصنام تشفع لهم، وأنه لا حساب عليهم ولا عقاب. وقال مقاتل: ما يعد
الشيطان الكفار من شفاعة الآلهة إلا باطلا.
258

قوله تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) أي: يمنعهما من الزوال
والذهاب والوقوع. قال الفراء (ولئن) بمعنى " ولو " و " إن " بمعنى " ما "، فالتقدير: ولو زالتا ما أمسكهما من
أحد. وقال الزجاج: لما قالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، كادت السماوات
يتفطرن والجبال أن تزول والأرض أن تنشق، فأمسكها الله عز وجل، وإنما وحد " الأرض " مع جمع " السماوات "،
لأن الأرض تدل على الأرضين. (ولئن زالتا) تحتمل وجهين.
أحدهما: زوالهما يوم القيامة.
والثاني: أن يقال تقديرا: وإن لم تزولا، وهذا مكان يدل على القدرة، غير أنه ذلك الحلم فيه، لأنه لما
أمسكهما عند قولهم: (اتخذ الرحمن ولدا)، حلم فلم يعجل لهم العقوبة.
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما
جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42) إستكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا
بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله
تحويلا (43)
قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) يعني كفار مكة حلفوا بالله قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم
(لئن جاءهم نذير) أي: رسول الله (ليكونن أهدى) أي: أصوب دينا (من إحدى الأمم) يعني:
اليهود والنصارى الصابئين (فلما جاءهم نذير) وهو محمد صلى الله عليه وسلم (ما زادهم) مجيئه (إلا نفورا)
أي: تباعدا عن الهدى، (استكبارا في الأرض) أي: عتوا على الله وتكبرا عن الإيمان به. قال
الأخفش: نصب " استكبارا " على البدل من النفور. قال الفراء: المعنى: فعلوا ذلك استكبارا
(ومكر السيء)، فأضيف المكر إلى السيء، كقوله: (وإنه لحق اليقين)، وتصديقه في
قراءة عبد الله: " ومكرا سيئا "، والهمزة في " السيء " مخفوضة، وقد جزمها الأعمش وحمزة،
لكثرة الحركات، قال الزجاج: وهذا عند النحويين الحذاق لحن، إنما يجوز في الشعر اضطرارا.
وقال أبو جعفر النحاس: كان الأعمش يقف على " مكر السيء " فيترك الحركة، وهو وقف حسن
259

تام، فغلط الراوي، فروى أنه كان يحذف الإعراب في الوصل، فتابع حمزة الغلط، فقرأ في
الإدراج بترك الحركة.
وللمفسرين في المراد ب‍ " مكر السيء " قولان:
أحدهما: أنه الشرك. قال ابن عباس: عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك.
و الثاني: أنه المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: (فهل ينظرون) أي: ينتظرون (إلا سنة الأولين) أي: إلا أن ينزل العذاب
بهم كما نزل بالأمم المكذبة قبلهم (فلن تجد لسنة الله) في العذاب (تبديلا) و إن تأخر (ولن
تجد لسنة الله تحويلا) أي: لا يقدر أحد أن يحول العذاب عنهم إلى غيرهم.
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم
قوة وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا (44)
ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى
فإذا جاء أجلهم فان الله كان بعباده بصيرا (45)
قوله تعالى: (و لن يؤاخذ الله الناس بما كسبوا) هذا عام، وبعضهم يقول: أراد بالناس
المشركين. والمعنى: لو واخذهم بأفعالهم لعجل لهم العقوبة. وقد شرحنا هذه الآية في
النحل. وما أخللنا به فقد سبق بيانه.
قوله تعالى: (فإن الله كان بعباده بصيرا) قال ابن جرير: بصيرا بمن يستحق العقوبة ومن
يستوجب الكرامة.
260

(36) سورة يس مكية
وآياتها ثلاث و ثلاثون
وفيها قولان:
أحدهما: أنها مكية، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والجمهور. وروي عن ابن
عباس وقتادة أنهما قالا: إنها مكية إلا آية منها، وهي قوله تعالى: (و إذا قيل لهم أنفقوا).
والثاني: أنها مدنية، حكاه أبو سليمان الدمشقي، وقال: ليس بالمشهور.
بسم الله الرحمن الرحيم
يس (1) والقرآن الحكيم (2) إنك لمن المرسلين (3) على صراط مستقيم (4)
تنزيل العزيز الرحيم (5) لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون (6)
وفي قوله: (يس) خمسة أقوال:
أحدها: أن معناها: يا إنسان، بالحبشية، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن،
وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومقاتل.
والثاني: أنها قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أن معناها: يا محمد، قاله ابن الحنفية، والضحاك.
والرابع: أن معناها: يا رجل، قاله الحسن.
والخامس: اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.
261

وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء: " يس " بفتح الياء وكسر النون. وقرأ أبو المتوكل، وأبو رجاء،
وابن أبي عبلة: بفتح الياء والنون جميعا. وقرأ أبو حصين الأسدي: بكسر الياء وإظهار النون. قال
الزجاج: والذي عند أهل العربية أن هذا بمنزلة افتتاح السور، وبعض العرب يقول: " يسن والقرآن "
بفتح النون، وهذا جائز في العربية لوجهين:
أحدهما: أن " يس " اسم للسورة، فكأنه قال: أتل يس، وهو على وزن هابيل وقابيل لا
ينصرف.
والثاني: أنه فتح لالتقاء الساكنين، والتسكين أجود، لأنه حرف هجاء.
قوله تعالى: (و القرآن الحكيم) هذا قسم، وقد سبق معنى " الحكيم "، قال الزجاج:
وجوابه: (إنك لمن المرسلين)، وأحسن ما جاء في العربية أن يكون " لمن المرسلين " خبر
" إن "، ويكون قوله تعالى: (على صراط مستقيم) خبرا ثانيا، فيكون المعنى: إنك لمن
المرسلين، إنك على صراط مستقيم. ويجوز أن يكون " على صراط " من صلة " المرسلين "،
فيكون المعنى: إنك لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة.
قوله تعالى: (تنزيل العزيز) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " تنزيل " برفع اللام. وقرأ
ابن عامر، وحمزة، والكسائي: " تنزيل " بنصب اللام. وعن عاصم كالقراءتين. قال الزجاج: من
قرأ بالنصب، فعلى المصدر، على معنى: نزل الله ذلك تنزيلا، ومن قرأ بالرفع، فعلى معنى: الذي
أنزل إليك تنزيل العزيز. وقال الفراء: من نصب، أراد: إنك لمن المرسلين تنزيلا حقا منزلا ويكون
الرفع على الاستئناف، كقوله تعالى: ذلك تنزيل العزيز. وقرأ أبي بن كعب، وأبو رزين، وأبو
العالية، والحسن، والجحدري: " تنزيل " بكسر اللام. وقال مقاتل: هذا القرآن تنزيل العزيز في
ملكه، الرحيم بخلقه.
قوله تعالى: (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) في " ما " قولان:
أحدهما: أنها نفي، وهو قول قتادة والزجاج في الأكثرين.
والثاني: أنها بمعنى " كما "، قاله مقاتل. وقيل: هي بمعنى " الذي ".
قوله تعالى: (فهم غافلون) أي: عن حجج التوحيد وأدلة البعث.
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (7) إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا
فهي إلى الأذقان فهم مقمحون (8) وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
262

فأغشيناهم فهم لا يبصرون (9) وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (10)
إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم (11) إنا
نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين (12)
(لقد حق القول) فيه قولان:
أحدهما: وجب العذاب.
والثاني: سبق القول بكفرهم.
قوله تعالى: (على أكثرهم) يعني أهل مكة، وهذه إشارة إلى إرادة الله تعالى السابقة
لكفرهم (فهم لا يؤمنون) لما سبق من القدر بذلك.
(إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها مثل، وليس هناك غل على حقيقة، قاله أكثر المحققين، ثم لهم فيه ثلاثة
أقوال: أحدها: أنها مثل لمنعهم عن كل خير، قاله قتادة. والثاني: لحبسهم عن الإنفاق في سبيل الله
بموانع كالأغلال، قاله الفراء، وابن قتيبة. والثالث. لمنعهم من الإيمان بالله، قاله أبو سليمان
الدمشقي.
والقول الثاني: أنها موانع حسية منعت كما يمنع الغل، قال مقاتل بن سليمان: حلف أبو جهل
لئن رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ليدمغنه، فجاءه وهو يصلي، فرفع حجرا فيبست يده والتصق الحجر بيده،
فرجع إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، فقام رجل منهم فأخذ الحجر، فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم طمس
الله على بصره فلم يره، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فنزل في أبي جهل: (إنا
جعلنا في أعناقهم أغلالا...) الآية.
والقول الثالث: أنه على حقيقته، إلا أنه وصف لما سينزله الله تعالى بهم في النار، حكاه
الماوردي.
قوله تعالى: (فهي إلى الأذقان) قال الفراء: " فهي " كناية عن الأيمان، ولم تذكر، لأن
الغل لا يكون إلا في اليمين والعنق جامعا لهما، فاكتفي بذكر أحدهما عن صاحبه. وقال الزجاج:
" هي " كناية عن الأيدي، ولم يذكرها إيجازا، لأن الغل يتضمن اليد والعنق، وأنشد:
وما أدري إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يليني
263

وإنما قال: أيهما، لأنه قد علم أن الخير والشر معرضان للإنسان. قال الفراء: والذقن: أسفل
اللحيين، والمقمح: الغاض بصره بعد رفع رأسه. قال أبو عبيدة: كل رافع رأسه فهو مقامح
وقامح، والجمع: قماح، فإن فعل ذلك بإنسان فهو مقمح، ومنه هذه الآية. وقال ابن قتيبة: يقال:
بعير قامح، وإبل قماح: إذا رويت من الماء فقمحت، قال الشاعر - وذكر سفينة -:
ونحن على جوانبها قعود * نغض الطرف كالإبل القماح
وقال الأزهري: المراد أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم، رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم،
فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها.
قوله تعالى: (و جعلنا من بين أيديهم سدا) قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم:
بفتح السين، والباقون: بضمها، وقد تكلمنا على الفرق في [سورة] الكهف. وفي معنى الآية
قولان:
أحدهما: منعناهم عن الإيمان بموانع، فهم لا يستطيعون الخروج عن الكفر.
والثاني: حجبناهم عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظلمة لما قصدوه بالأذى.
قوله تعالى: (فأغشيناهم) قال ابن قتيبة: أغشينا عيونهم وأعميناهم عن الهدى. وقرأ ابن
عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ويحيى بن يعمر: " فأغشيناهم " بعين غير
معجمة. ثم ذكر أن الإنذار لا ينفعهم لإضلاله إياهم بالآية التي بعد هذه. ثم أخبر عمن ينفعه
الإنذار بقوله تعالى: (إنما تنذر) أي: إنما ينفع إنذارك (من اتبع الذكر) وهو القرآن، فعمل
به (و خشي الرحمن بالغيب) وقد شرحناه في الأنبياء، والأجر الكريم: الحسن، وهو
الجنة. (إنا نحن نحيي الموتى) للبعث (و نكتب ما قدموا) من خير وشر في دنياهم. وقرأ
النخعي، والجحدري: " ويكتب " بياء مرفوعة وفتح التاء " وآثارهم " برفع الراء. وفي آثارهم ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنها خطاهم بأرجلهم، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة. قال أبو سعيد الخدري:
شكت بنو سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعد منازلهم من المسجد، فأنزل الله تعالى: (و نكتب ما
قدموا وآثارهم)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم منازلكم، فإنما يكتب آثاركم "، وقال قتادة وعمر بن
عبد العزيز: لو كان الله مغفلا شيئا، لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدم ابن آدم.
والثاني: أنها الخطأ إلى الجمعة، قاله أنس بن مالك.
264

والثالث: ما أثروا من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعدهم، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير،
واختاره الفراء، وابن قتيبة، والزجاج.
قوله تعالى: (و كل شئ) وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: " وكل " برفع اللام، أي:
من الأعمال (أحصيناه) أي: حفظناه (في إمام مبين) وهو اللوح المحفوظ.
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون (13) إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما
فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون (14) قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من
شئ إن أنتم إلا تكذبون (15) قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون (16) وما علينا إلا البلاغ
المبين (17) قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم (18)
قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون (19)
قوله تعالى: (و اضرب لهم مثلا) المعنى: صف لأهل مكة مثلا، أي: شبها. وقال
الزجاج: المعنى: مثل لهم مثلا (أصحاب القرية) وهو بدل من مثل، كأنه قال: أذكر لهم
أصحاب القرية. وقال عكرمة، وقتادة: هذه القرية هي أنطاكية.
(إذ أرسلنا إليهم اثنين) وفي أسميهما ثلاثة أقوال:
أحدها: صادق وصدوق، قاله ابن عباس، وكعب.
والثاني: يوحنا وبولس، قاله وهب بن منبه.
والثالث: تومان وبولس، قاله مقاتل.
265

قوله تعالى: (فعززنا) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي،
وحفص عن عاصم: " فعززنا " بتشديد الزاي، قال ابن قتيبة: المعنى: قوينا وشددنا، يقال: تعزز
لحم الناقة: إذا صلب. وقرأ أبو بكر، والمفضل عن عاصم: " فعززنا " خفيفة، قال أبو علي: أراد:
فغلبنا. قال مقاتل: واسم هذا الثالث شمعون، وكان من الحواريين، وهو وصي عيسى عليه السلام
قال وهب: وأوحى الله إلى شمعون يخبره خبر الاثنين ويأمره بنصرتهما، فانطلق يؤمهما. وذكر الفراء
أن هذا الثالث كان قد أرسل قبلهما، قال: ونراه في التنزيل كأنه بعدهما، وإنما المعنى: فعززنا
بالثالث الذي قبلهما، والمفسرون على أنه إنما أرسل لنصرتهما، ثم إن الثالث إنما يكون بعد ثان،
فأما إذا سبق الاثنين فهو أول، وإني لأتعجب من قول الفراء.
واختلف المفسرون فيمن أرسل هؤلاء الرسل على قولين.
أحدهما: أن الله تعالى أرسلهم، وهو ظاهر القرآن، وهو مروي عن ابن عباس، وكعب،
ووهب.
والثاني: أن عيسى أرسلهم، وجاز أن يضاف ذلك إلى الله تعالى لأنهم رسل رسوله، قاله
قتادة، وابن جريج.
قوله تعالى: (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) أي: مالكم علينا فضل في شئ (و ما أنزل
الرحمن من شئ) أي: لم ينزل كتابا ولم يرسل رسولا. وما بعده ظاهر إلى قوله: (قالوا إنا
تطيرنا بكم) وذلك أن المطر حبس عنهم، فقالوا: إنما أصابنا هذا من قبلكم (لئن لم تنتهوا)
أي: تسكتوا عنا (لنرجمنكم) أي: لنقتلنكم.
(قالوا طائركم معكم) أي: شؤمكم معكم بكفركم، لا بنا (أئن ذكرتم) قرأ ابن كثير:
" أين ذكرتم " بهمزة واحدة بعدها ياء، وافقه أبو عمرو، إلا أنه كان يمد. قال الأخفش: معناه:
حيث ذكرتم، أي: وعظتم وخوفتم، وهذا استفهام جوابه محذوف، تقديره: أئن ذكرتم تطيرتم بنا؟!
وقيل: أئن ذكرتم قلتم هذا القول؟ والمسرفون هاهنا: المشركون.
وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين (20) اتبعوا من لا
266

يسئلكم أجرا وهم مهتدون (21) ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22)
أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون (23)
إني إذا لفي ضلال مبين (24) إني آمنت بربكم فاسمعون (25) قيل ادخل الجنة قال
يا ليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين (27) وما أنزلنا على قومه
من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين (28) إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون (29)
قوله تعالى: (و جاء من أقصى المدينة رجل يسعى) واسمه حبيب البخاري: وكان مجذوما،
وكان قد آمن بالرسل لما وردوا القرية، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب القرية، فلما بلغه أن
قومه قد كذبوا الرسل وهموا بقتلهم، جاء يسعى، فقال ما قصه الله علينا إلى قوله تعالى: (و هم
مهتدون) يعني الرسل، فأخذوه ورفعوه إلى الملك، فقال له الملك، أفأنت تتبعهم؟ فقال:
(وما لي) أسكن هذه الياء حمزة، وخلف، ويعقوب (لا أعبد الذي فطرني) أي: وأي شئ لي
إذا لم أعبد خالقي (و إليه ترجعون) عند البعث، فيجزيكم بكفركم؟!
فإن قيل: لم أضاف الفطرة إلى نفسه والبعث إليهم وهو يعلم أن الله قد فطرهم جميعا كما
يبعثهم جميعا؟
فالجواب: أن إيجاد الله تعالى نعمة يوجب الشكر، والبعث في القيامة وعيد يوجب الزجر،
فكانت إضافة النعمة إلى نفسه أظهر في الشكر، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ في الزجر.
ثم أنكر عبادة الأصنام بقوله تعالى: (أأتخذ من دونه آلهة).
قوله تعالى: (لا تغن عني شفاعتهم) يعني أنه لا شفاعة لهم فتغني، (و لا ينقذون) أثبت
هاهنا الياء في الحالين يعقوب، وورش، والمعنى: لا يخلصوني من ذلك المكروه. (إني إذا)
فتح هذه الياء نافع، وأبو عمرو.
[قوله تعالى]: (إني آمنت بربكم) فتح هذه الياء أهل الحجاز وأبو عمرو. وفيمن خاطبهم
بإيمانه قولان:
أحدهما: أنه خاطب قومه بذلك، قاله ابن مسعود.
والثاني: أنه خاطب الرسل.
ومعنى (فاسمعون): اشهدوا لي بذلك، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: المعنى: فاسمعوا
267

مني. وأثبت ياء " فاسمعوني " في الحالين يعقوب. قال ابن مسعود: لما خاطب قومه بذلك، وطئوه
بأرجلهم. وقال السدي: رموه بالحجارة، وهو يقول: اللهم اهد قومي.
قوله تعالى: (قيل ادخل الجنة) لما قتلوه فلقي الله عز وجل، قيل له: " ادخل الجنة "،
فلما دخلها (قال يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي)، وفي " ما " قولان:
أحدهما: أنها مع " غفر " في موضع مصدر، والمعنى: بغفران الله لي.
والثاني: أنها بمعنى " الذي "، فالمعنى: ليتهم يعلمون بالذي غفر لي [به] ربي فيؤمنون،
فنصحهم حيا وميتا.
فلما قتلوه عجل الله لهم العذاب، فذلك قوله تعالى: (و ما أنزلنا على قومه) يعني قوم
حبيب (من بعده) أي: من بعد قتله (من جند من السماء) يعني الملائكة، أي: لم ينتصر
منهم بجند من السماء (و ما كنا) ننزلهم على الأمم إذا أهلكناهم. وقيل: المعنى: ما بعثنا إليهم
بعده نبيا، ولا أنزلنا عليهم رسالة.
(إن كانت إلا صيحة واحدة) قال المفسرون: أخذ جبريل [عليه السلام] بعضادتي باب
المدينة، ثم صاح بهم صيحة واحدة. فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس، كالنار إذا طفئت، وهو قوله
تعالى: (فإذا هم خامدون) أي: ساكنون كهيئة الرماد الخامد.
يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن (30) ألم يروا كم أهلكنا
قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون (31) وإن كل لما جميع لدينا محضرون (32)
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنات من
نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون (35)
سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36)
268

قوله تعالى: (يا حسرة على العباد) قال الفراء: المعنى: يا لها حسرة على العباد. وقال
الزجاج: الحسرة أن يركب الإنسان من شدة الندم مالا نهاية له حتى يبقى قلبه حسيرا. وفي
المتحسر على العباد قولان:
أحدهما: أنهم يتحسرون على أنفسهم، قال مجاهد والزجاج: استهزاؤهم بالرسل كان حسرة
عليهم في الآخرة. وقال أبو العالية: لما عاينوا العذاب، قالوا: يا حسرتنا على المرسلين، كيف لنا
بهم الآن حتى نؤمن.
والثاني: أنه تحسر الملائكة على العباد في تكذيبهم الرسل، قاله الضحاك.
ثم خوف كفار مكة فقال: (ألم يروا) أي: ألم يعلموا (كم أهلكنا قبلهم من القرون)
فيعتبروا ويخافوا أن نعجل لهم الهلاك كما عجل لمن أهلك قبلهم ولم يرجعوا إلى الدنيا؟!. قال
الفراء: وألف (أنهم) مفتوحة، لأن المعنى: ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون. وقد كسرها
الحسن، كأنه لم يوقع الرؤية على " كم "، فلم يقعها على " أن " وإن استأنفتها كسرتها.
قوله تعالى: (و إن كل لما) وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة: " لما " بالتشديد، (جميع
لدينا محضرون) أي: إن الأمم يحضرون يوم القيامة، فيجازون بأعمالهم. قال الزجاج: من قرأ
" لما " بالتخفيف، ف‍ " ما " زائدة مؤكدة، والمعنى: وإن كل لجميع، ومعناه: وما كل إلا جميع
لدينا محضرون. ومن قرأ " لما " بالتشديد، فهو بمعنى " إلا "، تقول: " سألتك لما فعلت " و " إلا فعلت ".
" و آية لهم الأرض الميتة) وقرأ نافع: " الميتة " بالتشديد، وهو الأصل، والتخفيف أكثر،
وكلاهما جائز، و " آية " مرفوعة بالابتداء، وخبرها " لهم "، ويجوز أن يكون خبرها " الأرض
الميتة "، والمعنى: وعلامة تدلهم على التوحيد وأن الله يبعث الموتى، أحياء الأرض الميتة.
قوله تعالى: (فمنه يأكلون) يعنى ما يقتات من الحبوب.
قوله تعالى: (و جعلنا فيها) وقوله تعالى (و فجرنا فيها) يعني في الأرض.
قوله تعالى: (ليأكلوا من ثمره) يعني النخيل، وهو في اللفظ مذكر.
269

(و ما عملته أيديهم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم:
" عملته " بهاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " عملت " بغير هاء. والهاء مثبتة في
مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة، ومحذوفة من مصاحف أهل الكوفة. قال الزجاج: موضع
" ما " خفض، والمعنى: ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم، ويجوز أن يكون " ما " نفيا، المعنى:
ولم تعمله أيديهم، وهذا على قراءة من أثبت الهاء، فإذا حذفت الهاء، فالاختيار أن تكون " ما " في
موضع خفض، وتكون بمعنى " الذي "، فيحسن حذف الهاء، وكذلك ذكر المفسرون القولين، فمن
قال بالأول، قال: ليأكلوا مما عملت أيديهم، وهو الغروس والحروث التي تعبوا فيها، ومن قال
بالثاني، قال: ليأكلوا ما ليس من صنعهم، ولكنه من فعل الحق عز وجل (أفلا يشكرون) الله
تعالى فيوحدوه؟!.
ثم نزه نفسه بقوله تعالى: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها) يعني الأجناس كلها
(مما تنبت الأرض) من الفواكه والحبوب وغير ذلك (و من أنفسهم) وهم الذكور والإناث
(ومما لا يعلمون) من دواب البر والبحر وغير ذلك مما لم يقفوا على علمه.
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجري لمستقر لها
ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39)
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النار وكل في فلك يسبحون (40)
قوله تعالى: (و آية لهم الليل نسلخ منه النهار) أي: وعلامة لهم تدل على توحيدنا وقدرتنا
الليل نسلخ منه النهار، قال الفراء: نرمي بالنهار عنه، و " منه " بمعنى " عنه ". وقال أبو عبيدة:
نخرج منه النهار ونميزه منه فتجيء الظلمة، قال الماوردي: وذلك أن ضوء النهار يتداخل في الهواء
فيضيء، فإذا خرج منه أظلم. وقوله تعالى: (فإذا هم مظلمون) أي: داخلون في الظلام.
(والشمس) أي: وآية لهم الشمس (تجري لمستقر لها) وفيه أربعة أقوال:
أحدها: إلى موضع قرارها، روى أبو ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عن قوله: " لمستقر لها "
قال: " مستقرها تحت العرش "، وقال: " إنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها، فتستأذن في
الطلوع، فيؤذن لها ".
270

والثاني: أن مستقرها مغربها لا تجاوزه ولا تقتصر عنه، قاله مجاهد.
والثالث: لوقت واحد لا تعدوه، قاله قتادة. وقال مقاتل: لوقت لها إلى يوم القيامة.
والرابع: تسير في منازلها حتى تنتهي إلى مستقرها الذي لا تجاوزه، ثم ترجع إلى أول
منازلها، قاله ابن السائب. وقال ابن قتيبة: إلى مستقر لها، ومستقرها: أقصى منازلها في الغروب،
لأنها لا تزال تتقدم إلى أقصى مغاربها، ثم ترجع.
وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، وعلي بن الحسين، والشيزري عن الكسائي: " لا مستقر لها "
والمعنى أنها تجري أبدا، لا تثبت في مكان واحد.
قوله تعالى: (ذلك) الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس و القمر (تقدير العزيز) في
ملكه (العليم) بما يقدر.
قوله تعالى: (و القمر) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " والقمر " بالرفع. وقرأ عاصم،
وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " والقمر " بالنصب. قال الزجاج: من قرأ بالنصب. فالمعنى:
وقدرنا القمر قدرناه منازل، ومن قرأ بالرفع، فالمعنى: وآية لهم القمر قدرناه، ويجوز أن يكون على
الابتداء، و " قدرناه " الخبر.
قال المفسرون: ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلا ينزلها من أول الشهر إلى آخره، وقد
سميناها في سورة يونس، فإذا صار إلى آخر منازله، دق فعاد كالعرجون، وهو عود العذق الذي
تركته الشماريخ، فإذا جف وقدم يشبه الهلال. قال ابن قتيبة: و " القديم " هاهنا: الذي قد أتى عليه
حول، شبه القمر آخر ليلة يطلع به. قال الزجاج: وتقدير " عرجون ": فعلون، من الانعراج.
وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، والضحاك، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: " كالعرجون "،
بكسر العين.
قوله تعالى: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهما إذا اجتمعا في السماء، كان أحدهما بين يدي الآخر، فلا يشتركان في المنازل،
قاله ابن عباس.
والثاني: لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر، قاله مجاهد.
والثالث: لا يجتمع ضوء أحدهما مع الآخر، فإذا جاء سلطان أحدهما ذهب سلطان الآخر،
271

قال قتادة، فيكون وجه الحكمة في ذلك أنه لو اتصل الضوء، لم يعرف الليل.
قوله تعالى: (و لا الليل سابق النهار) وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء،
وأبو عمران،
وعاصم الجحدري: " سابق " بالتنوين " النهار " بالنصب، وفيه قولان:
أحدهما: لا يتقدم الليل قبل استكمال النهار.
والثاني: لا يأتي ليل من غير نهار فاصل بينهما. وباقي الآية مفسر في سورة الأنبياء.
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (41) وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (42)
وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون (43) إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين (44)
وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون (45) وما تأتيهم من آية من
آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (46)
قوله تعالى: (و آية لهم أنا حملنا ذريتهم) قرأ نافع، وابن عامر: " ذرياتهم " على الجمع،
وقرأ الباقون من السبعة: " ذريتهم " على التوحيد. قال المفسرون: أراد: في سفينة نوح، فنسب
الذرية إلى المخاطبين، لأنهم من جنسهم، كأنه قال: ذرية الناس. وقال الفراء: أي: ذرية من هو
منهم، فجعلها ذرية لهم، وقد سبقتهم. وقال غيره: هو حمل الأنبياء في أصلاب الآباء حين ركبوا
السفينة، ومنه قول العباس:
بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق
قال المفضل بن سلمة: الذرية: النسل، لأنهم من ذرأهم الله منهم، والذرية أيضا: الآباء
لأن الذر وقع منهم، فهو من الأضداء، ومنه هذه الآية، وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: (ذرية
بعضها من بعض) والمشحون: المملوء.
قوله تعالى: (خلقنا لهم من مثله) فيه قولان:
272

أحدهما: مثل سفينة نوح، وهي السفن، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه
قال الضحاك، وأبو مالك، وأبو صالح، والمراد بهذا ذكر منته بأن خلق الخشب الذي تعمل منه
السفن.
والثاني: أنها الإبل، خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر، رواه العوفي
عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وعن الحسن وقتادة كالقولين.
قوله تعالى: (فلا صريخ لهم) أي: لا مغيث ولا مجير (و لا هم ينقذون) أي: ينجون
من الغرق، يقال: أنقذه واستنقذه: إذا خلصه، من المكروه، (إلا رحمة منا) المعنى: إلا أن
نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم.
قوله تعالى: (و إذا قيل لهم) يعني الكفار (اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم) فيه أربعة
أقوال:
أحدها: " ما بين أيديكم ": ما مضى من الذنوب، " و ما خلفكم ": ما يأتي من الذنوب، قاله
مجاهد.
والثاني: ما تقدم من عذاب الله للأمم، " و ما خلفكم " من أمر الساعة، قاله قتادة.
والثالث: " ما بين أيديكم " من الدنيا، " وما خلفكم " من عذاب الآخرة، قاله سفيان.
والرابع: " ما بين أيديكم " من أمر الآخرة، " وما خلفكم " من أمر الدنيا فلا تغتروا بها.
(لعلكم ترحمون) أي: لتكونوا على رجاء الرحمة من الله. وجواب " إذا " محذوف،
تقديره: إذا قيل لهم هذا، أعرضوا، ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى (و ما تأتيهم من آية)
أي: من دلالة تدل على صدق الرسول.
وإذا قيل لهم انفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من
لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين (47) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم
صادقين (48) ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون (49) فلا يستطيعون
توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (50) ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم
ينسلون (51) قالوا يا ويلتنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (52)
273

إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون (53) فاليوم لا تظلم نفس
شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون (54) إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون (55)
هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون (56) لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون (57)
سلام قولا من رب رحيم (58)
قوله تعالى: (و إذا قيل لهم أنفقوا) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: في اليهود، قاله الحسن.
والثاني: في الزنادقة، قاله قتادة.
والثالث: في مشركي قريش، قاله مقاتل، وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على
المساكين النصيب الذي زعمتم أنه لله من الحرث والأنعام، فقالوا: (أنطعم من لو يشاء الله
أطعمه). وقال ابن السائب: كان العاص بن وائل إذا سأله مسكين، قال: اذهب إلى ربك فهو
يرزقهم، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم فلا نطعمهم، وهذا خطأ منهم، لأن الله تعالى أغنى بعض
الخلق وأفقر بعضا، ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له في ماله من الزكاة، والمؤمن لا يعترض على
المشيئة، وإنما يوافق الأمر. وقيل: إنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء.
وفي قوله تعالى: (إن أنتم إلا في ضلال مبين) قولان:
أحدهما: أنه من قول الكفار للمؤمنين، يعنون: إنكم في خطأ من اتباع محمد.
والثاني: أنه من قول الله للكفار لما ردوه من جوانب المؤمنين.
قوله تعالى: (متى هذا الوعد؟) يعنون القيامة، والمعنى: متى إنجاز هذا الوعد (إن كنتم
صادقين)؟ يعنون محمدا وأصحابه.
(ما ينظرون) أي: ما ينتظرون (إلا صيحة واحدة) وهي النفخة الأولى. و (يخصمون)
بمعنى يختصمون، فأدغمت التاء في الصاد كذلك قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " يخصمون " بفتح الياء
و الخاء و تشديد الصاد. و قرأ حمزة بسكون الخاء و تخفيف الصاد، أي: يخصم بعضهم بعضا. و قرأ
أبي بن كعب: " يختصمون " بزيادة تاء، والمعنى أن الساعة تأتيهم أغفل ما كانوا عنها وهم
يتشاغلون في متصرفاتهم وبيعهم وشرائهم، (فلا يستطيعون توصية) قال مقاتل: أعجلوا عن
الوصية فماتوا، (و لا إلى أهلهم يرجعون) أي: لا يعودون من الأسواق إلى منازلهم، فهذا وصف
ما يلقون في النفخة الأولى. ثم ذكر ما يلقون في النفخة الثانية قال: (و نفخ في الصور فإذا هم من
الأجداث) يعني القبور، (إلى ربهم ينسلون) أي: يخرجون بسرعة، وقد شرحنا هذا المعنى في
274

سورة الأنبياء. (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين،
والضحاك، وعاصم الجحدري: " من بعثنا " بكسر الميم والثاء وسكون العين. قال المفسرون: إنما
قالوا هذا، لأن الله تعالى رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين. قال أبي بن كعب: ينامون نومة قبل
البعث، فإذا بعثوا قالوا هذا.
قوله تعالى: (هذا ما وعد الرحمن) في قائلي هذا الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه قول المؤمنين، قاله مجاهد، وقتادة، وابن أبي ليلى. قال قتادة: أول الآية
للكافرين، وآخرها للمؤمنين.
والثاني: أنه قول الملائكة لهم، قاله الحسن.
والثالث: أنه قول الكافرين، يقول بعضهم لبعض: هذا الذي أخبرنا به المرسلون أننا نبعث
ونجازى، قاله ابن زيد.
قال الزجاج: " من مرقدنا " هو وقف التمام، ويجوز أن يكون " هذا " من نعت " مرقدنا " على
معنى: من بعثنا من مرقدنا هذا الذي كنا راقدين فيه؟ ويكون في قوله تعالى: (ما وعد الرحمن)
أحد إضمارين، إما " هذا "، وإما " حق "، فيكون المعنى: حق ما وعد الرحمن.
ثم ذكر النفخة الثانية، فقال: (إن كانت إلا صيحة واحدة)، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله:
(إن أصحاب الجنة اليوم) يعني في الآخرة (في شغل) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " في
شغل " بإسكان الغين. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " في شغل " بضم الشين
والغين. وقرأ أبو هريرة، وأبو رجاء، وأيوب السختياني: " في شغل " بفتح الشين والغين. وقرأ أبو
مجلز، وأبو العالية، وعكرمة، والضحاك، والنخعي، وابن يعمر، والجحدري: " في شغل " بفتح
الشين وسكون الغين، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن شغلهم افتضاض العذارى، رواه شقيق عن ابن مسعود، ومجاهد عن ابن عباس،
وبه قال سعيد بن المسيب، وقتادة، والضحاك.
والثاني: ضرب الأوتار، رواه عكرمة عن ابن عباس، وعن عكرمة كالقولين، ولا يثبت هذا
القول.
والثالث: النعمة، قاله مجاهد. وقال الحسن: شغلهم: نعيمهم عما فيه أهل النار من
العذاب.
275

قوله تعالى: (فاكهون) وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وقتادة،
وأبو الجوزاء، والنخعي: وأبو جعفر: " فكهون ". وهل بينهما فرق؟ فيه قولان:
أحدهما: أن بينهما فرقا.
فأما " فاكهون " ففيه أربعة أقوال:
أحدها: فرحون، قاله ابن عباس.
والثاني: معجبون، قاله الحسن، وقتادة.
والثالث: ناعمون، قاله أبو مالك، ومقاتل.
والرابع: ذوو فاكهة، كما يقال: فلان لابن تأمر، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة.
وأما " فكهون " ففيه قولان:
أحدهما: أن الفكه: الذي يتفكه، تقول العرب للرجل إذا كان يتفكه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض
الناس: إن فلانا لفكه بكذا، ومنه يقال للمزاح: فكاهة، قاله أبو عبيدة.
والثاني: أن فكهين بمعنى فرحين، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والقول الثاني: أن فاكهين وفكهين بمعنى واحد، كما يقال: حاذر وحذر، قاله الفراء. وقال
الزجاج: فاكهون وفكهون بمعنى فرحين. وقال أبو زيد: الفكه: الطيب النفس الضحوك، يقال:
رجل فاكه وفكه.
قوله تعالى: (هم وأزواجهم) يعنى حلائلهم (في ظلال) وقرأ حمزة، والكسائي،
وخلف: " في ظلل ". قال الفراء: الظلال جمع ظل والظلل جمع ظلة أيضا، كما يقال: خلة وخلل، فإذا
كثرت فهي الخلال والحلال والقلال. قال مقاتل: والظلال: أكنان القصور. قال أبو عبيدة: والمعنى أنهم لا
يضحون. فأما الأرائك، فقد بيناها في سورة الكهف.
قوله تعالى: (و لهم ما يدعون) قال ابن قتيبة: ما يتمنون، ومنه يقول الناس: هو في خير ما
ادعى، أي: ما تمنى، والعرب تقول: ادع ما شئت، أي: تمن ما شئت. وقال الزجاج: و هو مأخوذ
من الدعاء، والمعنى: كل ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. وقوله: (سلام) بدل من " ما "،
المعنى: لهم ما يتمنون سلام، أي: هذا منى أهل الجنة أن يسلم الله عليهم. و (قولا) منصوب
على معنى: سلام يقوله الله قولا. و قال أبو عبيدة: " سلام " رفع على " لهم "، فالمعنى: لهم فيها
فاكهة ولهم فيها سلام. وقال الفراء: معنى الكلام: لهم ما يدعون مسلم خالص، ونصب القول،
276

كأنك قلت: قاله قولا، وإن شئت جعلته نصبا من قوله تعالى: ولهم ما يدعون قولا، كقولك: عدة من
الله. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، والجحدري: " سلاما قولا " بنصبهما جميعا.
وامتازوا اليوم أيها المجرمون (59) ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا
الشيطان إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61) ولقد أضل
منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62) هذه جهنم التي كنتم توعدون (63)
اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون (64)
قوله تعالى: (و امتازوا اليوم) قال ابن قتيبة: أي: انقطعوا عن المؤمنين وتميزوا منهم، يقال:
مزت الشئ من الشئ: إذا عزلته عنه، فانماز وامتاز، وميزته فتميز.
قال المفسرون: إذا اختلط الإنس والجن في الآخرة، قيل: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون "،
فيقال للمجرمين: (ألم أعهد إليكم؟) أي: ألم آمركم، ألم أوصكم؟ و " تعبدوا " بمعنى
تطيعوا، والشيطان هو إبليس، زين لهم الشرك فأطاعوه، (إنه لكم عدو مبين) ظاهر العداوة،
أخرج أبويكم من الجنة.
(وأن اعبدوني) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي: " وأن اعبدوني " بضم النون.
وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة: " وأن اعبدوني " بكسر النون، والمعنى: وحدوني (هذا صراط
مستقيم) يعني التوحيد.
(ولقد أضل منكم جبلا) قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف: " جبلا " بضم الجيم
والباء وتخفيف اللام، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر: " جبلا " بضم الجيم وتسكين الباء
مع تخفيف اللام. وقرأ نافع، وعاصم: " جبلا " بكسر الجيم والباء مع تشديد اللام. وقرأ علي بن
أبي طالب، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، والزهري، والأعمش: " جبلا " بضم الجيم
والباء مع تشديد اللام. وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن السميفع: " جبلا " بكسر الجيم و سكون الباء
وتخفيف اللام. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، ومعاذ القارئ: " جبلا " برفع الجيم وفتح الباء
وتخفيف اللام. وقرأ أبو العالية: وابن يعمر: " جبلا " بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام. وقرأ
أبو عمران الجوني، وعمرو بن دينار، " جبالا " مكسورة الجيم مفتوحة الباء وبألف. ومعنى الكلمة
كيف تصرفت في هذه اللغات: الخلق والجماعة، فالمعنى: ولقد أضل منكم خلقا كثيرا (أفلم
277

تكونوا تعقلون؟)، فالمعنى: قد رأيتم آثار الهالكين قبلكم بطاعة الشيطان، أفلم تعقلوا ذلك؟! وقرأ
ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن يعمر: " أفلم يكونوا
يعقلون " بالياء فيهما، فإذا أدنوا إلى جهنم قيل لهم: (هذه جهنم التي كنتم توعدون) بها في
الدنيا (اصلوها) أي: قاسوا حرها.
اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (65)
ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون (66) ولو نشاء لمسخناهم
على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون (67) ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا
يعقلون (68)
قوله تعالى: (اليوم نختم على أفواهم) وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء: " يختم " بياء
مضمومة وفتح التاء (و تكلمنا) قرأ ابن مسعود: " ولتكلمنا " بزيادة لام مكسورة وفتح الميم وواو
قبل اللام. وقرأ أبي بن كعب، وابن أبي عبلة: " لتكلمنا " بلام مكسورة من غير واو قبلها وبنصب
الميم، وقرأوا جميعا: " و لتشهد أرجلهم " بلام مكسورة وبنصب الدال.
ومعنى " نختم ": نطبع عليها، وقيل: منعها من الكلام هو الختم عليها، وفي سبب ذلك
أربعة أقوال:
أحدها: أنهم لما قالوا: (و الله ربنا ما كنا مشركين) ختم الله على أفواههم ونطقت
جوارحهم، قاله أبو موسى الأشعري.
والثاني: ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم على المعاصي صارت شهودا
عليهم.
والثالث: ليعرفهم أهل الموقف، فتميزوا منهم بذلك.
والرابع: لأن إقرار الجوارح أبلغ في الإقرار من نطق اللسان، ذكرهن الماوردي.
فإن قيل: ما الحكمة في تسمية نطق اليد كلاما ونطق الرجل شهادة؟
فالجواب: أن اليد كانت مباشرة والرجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى،
وقول الفاعل على نفسه إقرار بما فعل.
278

قوله تعالى: (و لو نشاء لطمسنا على أعينهم) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ولو نشاء لأذهبنا أعينهم حتى لا يبدو لها شق ولا جفن. والمطموس: الذي لا يكون
بين جفنيه شق، (فاستبقوا الصراط) أي: فتبادروا إلى الطريق (فأنى يبصرون) أي: فكيف
يبصرون وقد أعمينا أعينهم؟! وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة بن الزبير، وأبو رجاء: " فاستبقوا "
بكسر الباء " فأنى تبصرون " بالتاء. وهذا تهديد لأهل مكة، وهو قول الأكثرين.
والثاني: ولو نشاء لأضللناهم وأعميناهم عن الهدى، فأنى يبصرون الحق؟ رواه ابن أبي
طلحة عن ابن عباس.
والثالث: ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم وأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى
الهدى فأبصروا رشدهم، فأنى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم؟! حكى عن جماعتهم مقاتل.
قوله تعالى: (و لو نشاء لمسخناهم على مكانتهم) روى أبو بكر، عن عاصم " على مكاناتهم " وقد سبق
بيان هذا وفي المراد بقوله: " لمسخناهم " أربعة أقوال:
أحدها: لأهلكناهم، قاله ابن عباس.
والثاني: لأقعدناهم على أرجلهم، قاله الحسن، وقتادة.
والثالث: لجعلناهم حجارة، قاله أبو صالح، ومقاتل.
والرابع: لجعلناهم قردة وخنازير لا أرواح فيها، قاله ابن السائب.
وفي قوله: (فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) ثلاثة أقوال:
أحدها: فما استطاعوا أن يتقدموا ولا أن يتأخروا، قاله قتادة.
والثاني: فما استطاعوا مضيا عن العذاب، ولا رجوعا إلى الخلقة. الأولى بعد المسخ، قاله
الضحاك.
والثالث: مضيا من الدنيا ولا رجوعا إليها، قاله أبو صالح.
قوله تعالى: (و من نعمره ننكسه في الخلق) قرأ حمزة: " ننكسه " مشددة مع ضم النون
الأولى وفتح الثانية، والباقون: بفتح النون الأولى وتسكين الثانية من غير تشديد، وعن عاصم
كالقراءتين. ومعنى الكلام: من نطل عمره ننكس خلقه، فنجعل مكان القوة الضعف، وبدل الشباب
الهرم، فنرده إلى أرذل العمر. (أفلا يعقلون) قرأ نافع، وأبو عمرو: " أفلا يعقلون " بالياء،
والباقون بالتاء. والمعنى: أفلا يعقلون أن من فعل هذا قادر على البعث؟
279

و ما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (69) لينذر من كان
حيا ويحق القول على الكافرين (70)
قوله تعالى: (و ما علمناه الشعر) قال المفسرون: إن كفار مكة قالوا: إن القرآن شعر وإن
محمدا شاعر، فقال الله تعالى: (و ما علمناه الشعر) (وما ينبغي له) أي: ما يتسهل له ذلك.
قال المفسرون: ما كان يتزن له بيت شعر، حتى إنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه تمثل يوما فقال:
فقال أبو بكر: يا رسول الله، إنما قال الشاعر:
" كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا "
أشهد أنك رسول الله، ما علمك الله الشعر، وما ينبغي لك. ودعا يوما بعباس بن مرادس
فقال: " أنت القائل:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة "؟
فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي، لم يقل كذلك، فأنشده أبو بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا
يضرك بأيهما بدأت "، فقال أبو بكر: والله ما أنت بشاعر، ولا ينبغي لك الشعر. وتمثل يوما، فقال:
" ويأتيك من لم تزوده بالأخبار "
فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله، فقال: " إني لست بشاعر، ولا ينبغي لي ". و إنما
منع من قول الشعر، لئلا تدخل الشبهة على قوم فيما أتى به من القرآن فيقولون: قوي على ذلك بما
في طبعه من الفطنة للشعر.
قوله تعالى: (إن هو) يعني القرآن (إلا ذكر) إلا موعظة (و قرآن مبين) فيه الفرائض
والأحكام.
قوله تعالى: (لتنذر) قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " لينذر "
بالياء، يعنون القرآن. وقرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب: " لتنذر " بالتاء، يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، أي:
لتنذر يا محمد بما في القرآن. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن السميفع: " لينذر " بياء مرفوعة
وفتح الذال والراء جميعا.
قوله تعالى: (من كان حيا) وفيه أربعة أقوال:
أحدها: حي القلب حي البصر، قاله قتادة.
والثاني: من كان عاقلا، قاله الضحاك. قال الزجاج: من كان يعقل ما يخاطب به، فإن الكافر
كالميت في ترك النذير.
280

والثالث: مهتديا في علم الله.
والرابع: من كان مؤمنا، قاله يحيى بن سلام، وهذا على المعنى الذي قد سبق في قوله
تعالى: (إنما تنذر الذين يخشون ربهم)، ويجوز أن يريد: إنما ينفع إنذارك من كان مؤمنا في
علم الله.
قوله تعالى: (و يحق) معناه: يجب. وفي المراد بالقول قولان:
أحدهما: أنه العذاب.
والثاني: الحجة.
أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون (71) وذللناها
لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (72) ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون (73)
واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون (74) لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند
محضرون (75) فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون (76)
ثم ذكرهم قدرته فقال: (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما) قال ابن قتيبة:
يجوز أن يكون المعنى: مما عملناه بقوتنا وقدرتنا، وفي اليد القدرة والقوة على العمل، فتستعار اليد
فتوضع موضعها، هذا مجاز للعرب يحتمله هذا الحرف، والله أعلم بما أراد. وقال غيره: ذكر
الأيدي هاهنا يدل على انفراده بما خلق، والمعنى: لم يشاركنا أحد في إنشائنا، والواحد منا إذا
قال: عملت هذا بيدي، دل ذلك على انفراده بعمله. وقال أبو سليمان الدمشقي: معنى الآية: مما
أوجدناه بقدرتنا وقوتنا، وهذا إجماع أنه لم يرد هاهنا إلا ما ذكرنا.
قوله تعالى: (فهم لها مالكون) فيه قولان:
أحدهما: ضابطون، قاله قتادة، ومقاتل. قال الزجاج: ومثله في الشعر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا * أملك رأس البعير إن نفرا
أي: لا أضبط رأس البعير.
281

والثاني: قادرون عليها بالتسخير لهم، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: (و ذللناها لهم) أي: سخرناها، فهي ذليلة لهم (فمنها ركوبهم) قال ابن
قتيبة: الركوب: ما يركبون، والحلوب: ما يحلبون. قال الفراء: ولو قرأ قارئ: " فمنها ركوبهم "،
كان وجها، كما تقول: منها أكلهم وشربهم وركوبهم. وقد قرأ بضم الراء الحسن، وأبو العالية،
والأعمش، وابن يعمر في آخرين. وقرأ أبي بن كعب، وعائشة: " ركوبتهم " بفتح الراء والباء وزيادة
تاء مرفوعة. قال المفسرون: يركبون من الأنعام الإبل، ويأكلون الغنم، (و لهم فيها منافع) من
الأصواف والأوبار والأشعار والنسل (و مشارب) من ألبانها، (أفلا يشكرون) رب هذه النعم
فيوحدونه؟!.
ثم ذكر جهلهم فقال: (و اتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون) أي: لتمنعهم من عذاب
الله، ثم أخبر أن ذلك لا يكون بقوله: (لا يستطيعون نصرهم) أي: لا تقدر الأصنام على منعهم
من أمر أراده الله بهم (وهم) يعني الكفار و (لهم) يعني الأصنام (جند محضرون) وفيه
أربعة أقوال:
أحدها: جند في الدنيا محضرون في النار، قاله الحسن.
والثاني: محضرون عند الحساب، قاله مجاهد.
والثالث: المشركون جند للأصنام، يغضبون لها في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا
تدفع عنهم شرا، قاله قتادة. وقال مقاتل: الكفار يغضبون للآلهة ويحضرونها في الدنيا. وقال
الزجاج: هم للأصنام ينتصرون، وهي لا تستطيع نصرهم.
والرابع: هم جند محضرون عند الأصنام يعبدونها، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: (فلا يحزنك قولهم) يعني قول كفار مكة في تكذيبك (إنا نعلم ما يسرون)
في ضمائرهم من تكذيبك (و ما يعلنون) بألسنتهم من ذلك، والمعنى: إنا نثيبك و نجازيهم.
أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا
ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة
وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه
282

توقدون (80) أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو
الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان
الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون (83)
قوله تعالى: (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة) اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية والتي
بعدها على خمسة أقوال:
أحدها: أنه العاص بن وائل السهمي، أخذ عظما من البطحاء ففته بيده، ثم قال لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا بعدما أرم؟ فقال: " نعم، يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم "،
فنزلت هذه الآيات، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أنه عبد الله بن أبي ابن سلول، جرى له نحو هذه القصة، رواه العوفي عن ابن
عباس.
والثالث: أنه أبو جهل بن هشام، وأن هذه القصة جرت له، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والرابع: أنه أمية بن خلف، قاله الحسن.
والخامس: أنه أبي بن خلف الجمحي، وهذه القصة جرت له، قاله مجاهد، وعليه
المفسرون.
ومعنى الكلام: التعجب من جهل هذا المخاصم في إنكاره البعث، والمعنى: ألا يعلم أنه
مخلوق فيتفكر في بدء خلقه فيترك خصومته؟! وقيل: هذا تنبيه له على نعمة الله عليه حيث أنشأه
من نطفة فصار مجادلا.
(وضرب لنا مثلا) في إنكار البعث بالعظم البالي حين فته بيده، وتعجب ممن يقول: إن الله
يحييه (و نشي خلقه) أي: نسي خلقنا له، أي: ترك النظر في خلق نفسه إذ خلق من نطفة (قال
من يحيي العظام وهي رميم؟!) أي: بالية، يقال: رم العظم، إذا بلي، فهو رميم، لأنه معدول
عن فاعله، وكل معدول عن وجهه ووزنه فهو مصروف عن إعرابه كقوله: (و ما كانت أمه بغيا) فأسقط
الهاء لأنها مصروفة، عن " باغية "، فقاس هذا الكافر قدرة الله تعالى بقدرة الخلق، فأنكر إحياء العظم البالي
لأن ذلك.
283

ليس في مقدور الخلق. (قل يحييها الذي أنشأها) أي: ابتدأ خلقها (أول مرة وهو بكل خلق)
من الابتداء والإعادة (عليم).
(الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) قال ابن قتيبة: أراد الزنود التي توري بها
الأعراب من شجر المرخ والعفار.
فإن قيل: لم قال: (الشجر الأخضر).
فالجواب: أن الشجر جمع، وهو يؤنث ويذكر، قال الله تعالى: (فمالئون منها البطون)،
وقال: (فإذا أنتم منه توقدون).
ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان. فقال: (أو ليس الذي خلق السماوات والأرض
بقادر) و قرأ أبو بكر الصديق، وعاصم الجحدري: " يقدر " بياء من غير ألف (على أن يخلق
مثلهم؟!) وهذا استفهام تقرير، والمعنى: من قدر على ذلك العظيم، قدر على هذا اليسير. وقد
فسرنا معنى " أن يخلق مثلهم " في بني إسرائيل، ثم أجاب هذا الاستفهام فقال: (بلى وهو
الخلاق) يخلق خلقا بعد خلق. وقرأ أبي بن كعب، والحسن، وعاصم الجحدري: " وهو
الخالق " (العليم) بجميع المعلومات. والملكوت والملك واحد. وباقي السورة قد تقدم
شرحه.
والله أعلم بالصواب.
284

(37) سورة الصافات مكية
و آياتها ثنتان و ثمانون و مائة
و هي مكية كلها باجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصافات صفا (1) فالزاجرات زجرا (2) فالتاليات ذكرا (3) إن إلهكم لواحد (4)
رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق (5)
قوله تعالى: (و الصافات صفا) فيها قولان:
أحدهما: أنها الملائكة، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد،
وقتادة، والجمهور. قال ابن عباس: هم الملائكة صفوف في السماء، لا يعرف ملك منهم من إلى
جانبه، لم يلتفت منذ خلقه الله عز وجل. وقيل: هي الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة إلى
أن يأمرها [الله تعالى] بما يشاء.
والثاني: أنها الطير، كقوله تعالى: (و الطير صافات) حكاه الثعلبي.
285

وفي الزاجرات قولان:
أحدهما: أنها الملائكة التي تزجر السحاب، قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: أنها زواجر القرآن وكل ما ينهى ويزجر عن القبيح، قاله قتادة. وفي التاليات ذكرا
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الملائكة تقرأ كتب الله تعالى، قاله ابن مسعود، والحسن، والجمهور.
والثاني: أنهم الرسل، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: ما يتلى في القرآن من أخبار الأمم، قاله قتادة.
وهذا قسم بهذه الأشياء، وجوابه: (إن إلهكم لواحد). وقيل: معناه: ورب هذه الأشياء إنه
واحد.
قوله تعالى: (و رب المشارق) قال السدي: المشارق ثلاثمائة وستون مشرقا، والمغارب
مثلها، على عدد أيام السنة.
فإن قيل، لم ترك ذكر المغارب؟
فالجواب: أن المشارق تدل على المغارب، لأن الشروق قبل الغروب.
إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (6) وحفظا من كل شيطان مارد (7) لا
يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب (8) دحورا ولهم عذاب واصب (9) إلا
من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب (10)
قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا) يعني التي تلي الأرض، وهي أدنى السماوات إلى
الأرض (بزينة الكواكب) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو، والكسائي: " بزينة
الكواكب " مضافا، أي: بحسنها وضوئها. وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: " بزينة " منونة وخفض
" الكواكب " فجعل " الكواكب " بدلا من الزينة لأنها هي، كما تقول: مررت بأبي عبد الله زيد،
فالمعنى: إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب. وقرأ أبو بكر عن عاصم: " بزينة " بالتنوين وبنصب
" الكواكب "، والمعنى: زينا السماء الدنيا بأن زينا الكواكب فيها حين ألقيناها في منازلها وجعلناها
ذات نور. قال الزجاج: ويجوز أن يكون " الكواكب " في النصب بدلا من قوله: " بزينة " لأن قوله:
286

" بزينة " في موضع نصب. وقرأ أبي بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو حصين الأسدي في
آخرين: " بزينة " بالتنوين " الكواكب " برفع الباء، قال الزجاج: والمعنى، إنا زينا السماء الدنيا بأن
زينتها الكواكب وبأن زينت الكواكب. (وحفظا) أي: وحفظناها حفظا. فأما المارد، فهو العاتي،
وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: (شيطانا مريدا).
قوله تعالى: (لا يسمعون) قال الفراء: " لا " هاهنا كقوله تعالى: (كذلك سلكناه في قلوب
المجرمين. لا يؤمنون به)، ويصلح في " لا " على هذا المعنى الجزم، و العرب تقول: ربطت
فرسي لا ينفلت. وقال غيره: لكي لا يسمعوا إلى الملأ الأعلى، وهم الملائكة الذين في السماء.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " لا يسمعون " بتشديد السين، وأصله: يتسمعون،
فأدغمت التاء في السين، وإنما قال: (إلى الملأ الأعلى) لأن العرب تقول: سمعت فلانا،
وسمعت من فلان، وإلى فلان.
(ويقذفون من كل جانب) بالشهب (دحورا) قال قتادة: أي قذفا بالشهب. وقال ابن قتيبة:
أي: طردا، يقال: دحرته دحرا ودحورا، أي: دفعته. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رجاء، وأبو عبد
الرحمن، والضحاك، وأيوب السختياني، وابن أبي عبلة: " دحورا " بفتح الدال، وفي " الواصب "
قولان:
أحدهما: أنه الدائم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة.
والثاني: أنه الموجع، قاله أبو صالح، والسدي. وفي زمان هذا العذاب قولان:
أحدهما: أنه في الآخرة.
والثاني: [أنه] في الدنيا، فهم يخرجون بالشهب ويخلون إلى النفخة الأولى في الصور.
قوله تعالى: (إلا من خطف الخطفة) قرأ ابن السميفع: " خطف " بفتح الخاء وكسر الطاء
وتشديدها. وقرأ أبو رجاء، والجحدري: بكسر الخاء والطاء جميعا وبالتخفيف. و قال الزجاج:
خطف وخطف، بفتح الطاء وكسرها، يقال: خطفت أخطف، وخطفت أخطف: إذا أخذت الشئ
بسرعة، ويجوز " إلا من خطف " بفتح الخاء وتشديد الطاء، ويجوز " خطف " بكسر الخاء و فتح
الطاء، والمعنى: اختطف، فأدغمت التاء في الطاء، وسقطت الألف لحركة الخاء، فمن فتح الخاء،
ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في " اختطف "، ومن كسر الخاء، فلسكونها وسكون الطاء. فأما من
روى " خطف " بكسر الخاء والطاء، فلا وجه لها إلا وجها ضعيفا جدا، وهو أن يكون على
287

اتباع الطاء كسرة الخاء. قال المفسرون: والمعنى: إلا من اختلس الكلمة من كلام الملائكة
مسارقة (فأتبعه) أي لحقه (شهاب ثاقب) قال ابن قتيبة: أي كوكب مضيء، يقال: أثقب نارك،
أي: أضئها، والثقوب: ما تذكى به النار.
فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب (11) بل عجبت
ويسخرون (12) وإذا ذكروا لا يذكرون (13) وإذا رأوا آية يستسخرون (14) وقالوا إن هذا
إلا سحر مبين (15) أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون (16) أو آباؤنا الأولون (17)
قل نعم وأنتم داخرون (18) فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون (19) وقالوا يا ولينا
هذا يوم الدين (20) هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون (21) أحشروا الذين ظلموا
وأزواجهم وما كانوا يعبدون (23) من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم (23) وقفوهم
إنهم مسؤولون (24) مالكم لا تناصرون (25) بل هم اليوم مستسلمون (26)
قوله تعالى: (فاستفتهم) أي: فسلهم سؤال تقرير (أهم أشد خلقا) صنعة (أم من خلقنا)
فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: أم من عددنا خلقه من الملائكة والشياطين والسماوات والأرض، قاله
ابن جرير.
والثاني: أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة، والمعنى: إنهم ليسوا بأقوى من أولئك وقد
أهلكناهم بالتكذيب، فما الذي يؤمن هؤلاء؟
ثم ذكر خلق الناس فقال: (إنا خلقناهم من طين لازب) قال الفراء، وابن قتيبة: أي: لاصق
لازم، والباء تبدل من الميم لقرب مخرجيهما. قال ابن عباس: هو الطين الحر الجيد اللزق. وقال
غيره: هو الطين الذي ينشف عنه الماء وتبقى رطوبته في باطنه فيلصق باليد كالشمع. وهذا إخبار عن
288

تساوي الأصل في خلقهم وخلق من قبلهم، فمن قدر على إهلاك الأقوياء، قدر على إهلاك
الضعفاء.
قوله تعالى: (بل عجبت) " بل " معناه: ترك الكلام في الأول والأخذ في الكلام الآخر، كأنه
قال: دع يا محمد ما مضى.
وفي " عجبت " قراءتان قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: " بل عجبت "
بفتح التاء. وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي،
وعكرمة، وقتادة، وأبو مجلز، والنخعي، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وابن أبي ليلى، وحمزة،
والكسائي في آخرين: " بل عجبت " بضم التاء، واختارها الفراء. فمن فتح أراد: بل عجبت يا
محمد، (و يسخرون) هم. قال ابن السائب: أنت تعجب منهم، وهم يسخرون منك. وفي ما
عجب منه قولان:
أحدهما: من الكفار إذ لم يؤمنوا بالقرآن.
والثاني: إذ كفروا بالبعث. ومن ضم، أراد الإخبار عن الله عز وجل أنه عجب، وقد أنكر هذه
القراءة قوم، منهم شريح القاضي، قال: إن الله لا يعجب، إنما يعجب من لا يعلم، قال الزجاج:
وإنكار هذه القراءة غلط، لأن العجب من الله خلاف العجب من الآدمين، وهذا كقوله تعالى:
(ويمكر الله) وقوله: (سخر الله منهم)، وأصل العجب في اللغة: أن الإنسان إذا رأى ما
ينكره ويقل مثله، قال: قد عجبت من كذا، وكذلك إذا فعل الآدميون ما ينكره الله عز وجل، جاز أن
يقول عجبت، والله قد علم الشئ قبل كونه. وقال ابن الأنباري: المعنى: جازيتهم على عجبهم من
الحق، فسمى الجزاء على الشئ باسم الشئ الذي له الجزاء، فسمى فعله عجبا وليس بعجب في
الحقيقة، لأن المتعجب يدهش ويتحير، والله عز وجل قد جل عن ذلك، وكذلك سمي تعظيم
الثواب عجبا، لأنه إنما يتعجب من الشئ إذا كان في النهاية، والعرب تسمي الفعل باسم الفعل إذا
داناه من بعض وجوهه وإن كان مخالفا له في أكثر معانيه، قال عدي:
ثم أضحوا لعب الدهر بهم
فجعل إهلاك الدهر وإفساده لعبا، قال ابن جرير: من ضم التاء، فالمعنى: بل عظم عندي
وكبر اتخاذهم لي شريكا وتكذيبهم بتنزيلي. وقال غيره: إضافة العجب إلى الله عز وجل على
ضربين:
289

أحدهما: بمعنى الإنكار والذم، كهذه الآية.
والثاني: بمعنى الاستحسان والإخبار عن تمام الرضا، كقوله عليه السلام: " عجب ربك من
شاب ليست له صبوة ".
قوله تعالى: (و إذا ذكروا) أي: إذا وعظوا بالقرآن لا يذكرون ولا يتعظون. وقرأ سعيد بن
جبير، والضحاك، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: " ذكروا " بتخفيف الكاف.
(وإذا رأوا آية) قال ابن عباس: يعني انشقاق القمر (يستخسرون) قال أبو عبيدة:
يستسخرون ويسخرون سواء. قال ابن قتيبة: يقال: سخر واستسخر، كما يقال: قر واستقر، وعجب
واستعجب، ويجوز أن يكون: يسألون غيرهم من المشركين أن يسخروا من رسول الله، كما يقال:
استعتبته، أي: سألته العتبى، واستوهبته، أي: سألته الهبة، واستعفيته: سألته العفو.
(وقالوا إن هذا) يعنون انشقاق القمر (إلا سحر مبين) أي: بين لمن تأمله أنه سحر.
(إذا متنا) قد سبق بيان هذه الآية.
(أو آباؤنا) هذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف، كقوله: (أو أمن أهل
القرى). وقرأ نافع، وابن عامر: " أو آباؤنا الأولون " بسكون الواو هاهنا و في الواقعة.
(قل نعم) تبعثون (و أنتم داخرون) أي: صاغرون.
(فإنما هي زجرة واحدة) أي: فإنما قصة البعث صيحة واحدة من إسرافيل، وهي نفخة
البعث، وسميت زجرة، لأن مقصودها الزجر (فإذا هم ينظرون) قال الزجاج: أي: يحيون ويبعثون
بصراء ينظرون، فإذا عاينوا بعثهم، ذكروا إخبار الرسل عن البعث، (فقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين)
أي: يوم الحساب والجزاء، فتقول الملائكة: (هذا يوم الفصل) أي: يوم القضاء الذي يفصل فيه
بين المحسن والمسئ، ويقول الله عز وجل يومئذ للملائكة: (احشروا) أي: اجمعوا (الذين
ظلموا) من حيث هم، وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم المشركون.
والثاني: أنه عام في كل ظالم. وفي أزواجهم أربعة أقوال:
أحدها: أمثالهم وأشباههم، وهو قول عمر وابن عباس، والنعمان بن بشير، ومجاهد في
آخرين. وروي عن عمر قال: يحشر صاحب الربا مع صاحب الربا وصاحب الزنا مع صاحب الزنا
وصاحب الخمر مع صاحب الخمر.
290

والثاني: أن أزواجهم: المشركات، قاله الحسن.
والثالث: أشياعهم، قاله قتادة.
والرابع: قرناؤهم من الشياطين الذين أضلوهم، قاله مقاتل.
وفي قوله تعالى: (و ما كانوا يعبدون) ثلاثة أقوال:
أحدها: الأصنام، قاله عكرمة، وقتادة.
والثاني: إبليس وحده، قاله مقاتل.
والثالث: الشياطين، ذكره الماوردي وغيره.
قوله تعالى: (فاهدوهم) أي: دلوهم على طريقها، والمعنى: اذهبوا بهم إليها. قال الزجاج:
يقال: هديت الرجل: إذا دللته، وهديت العروس إلى زوجها، وأهديت الهداية، فإذا جعلت
العروس كالهدية، قلت: أهديتها.
قوله تعالى: (وقفوهم) أي: احبسوهم (إنهم مسؤولون) وقرأ ابن السميفع: " أنهم " بفتح
الهمزة. قال المفسرون: لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط، لأن السؤال هناك. وفي هذا
السؤال ستة أقوال:
أحدها: أنهم سئلوا عن أعمالهم وأقوالهم في الدنيا.
و الثاني: عن " لا إله إلا الله "، رويا جميعا عن ابن عباس.
والثالث: عن خطاياهم، قاله الضحاك.
والرابع: سألهم خزنة جهنم (ألم يأتكم نذير) ونحو هذا، قاله مقاتل.
والخامس: أنهم يسألون عما كانوا يعملون، ذكره ابن جرير.
والسادس: أن سؤالهم قوله تعالى: (ما لكم لا تناصرون)، ذكره الماوردي، قال
المفسرون: المعنى: مالكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا؟! وهذا جواب أبي جهل
حين قال يوم بدر: (نحن جميع منتصر)، فقيل لهم ذلك يومئذ توبيخا. والمستسلم: المنقاد
الذليل، والمعنى أنهم منقادون لا حيلة لهم.
واقبل بعضهم على بعض يتساءلون (27) قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين (28) قالوا
بل لم تكونوا مؤمنين (29) وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين (30) فحق
291

علينا قول ربنا إنما لذائقون (31) فأغويناكم إنا كنا غاوين (32) فإنهم يومئذ في العذاب
مشتركون (33) إنا كذلك نفعل بالمجرمين (34) إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله
يستكبرون (35) ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون (36) بل جاء بالحق وصدق
المرسلين (37) إنكم لذائقوا العذاب الأليم (38) وما تجزون إلا ما كنتم تعلمون (39) إلا عباد
الله المخلصين (40) أولئك لهم رزق معلوم (41) فواكه وهم مكرمون (42) في جنات
النعيم (43) على سرر متقابلين (44) يطاف عليهم بكأس من معين (45) بيضاء لذة للشاربين (46)
لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون (47) وعندهم قاصرات الطرف عين (48) كأنهن بيض
مكنون (49)
قوله تعالى: (و أقبل بعضهم على بعض) فيهم قولان:
أحدهما: الإنس على الشياطين.
والثاني: الأتباع على الرؤساء (يتساءلون) تساءل توبيخ وتأنيب ولوم فيقول الأتباع للرؤساء:
لم غرتمونا؟ ويقول الرؤساء: لم قبلتم منا؟ فذلك قوله تعالى: (قالوا) يعنى الأتباع للمتبوعين
(إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: كنتم تقهروننا بقدرتكم علينا، لأنكم كنتم أعز منا، رواه الضحاك.
والثاني: من قبل الدين فتضلونا عنه، قاله الضحاك وقال الزجاج: تأتوننا من قبل الدين
فتخدعونا بأقوى الأسباب.
والثالث: كنتم توثقون ما كنتم تقولون بأيمانكم، فتأتوننا من قبل الأيمان التي تحلفونها، حكاه
علي بن أحمد النيسابوري. فيقول المتبوع لهم: (بل لم تكونوا مؤمنين) أي: لم تكونوا على حق
فنضلكم عنه، إنما الكفر من قبلكم. (و ما كان عليكم من سلطان) فيه قولان:
أحدهما: أنه القهر.
والثاني: الحجة. فيكون المعنى على الأول: وما كان لنا عليكم من قوة نقهركم بها ونكرهكم
292

على متابعتنا، وعلى الثاني: لم نأتكم بحجة على ما دعوناكم إليه كما أتت الرسل.
قوله تعالى: (فحق علينا قول ربنا) أي: فوجبت علينا كلمة العذاب، وهي قوله تعالى:
(لأملئن جهنم) (إنا لذائقون) العذاب جميعا نحن وأنتم، (فأغويناكم) أي: أضللناكم عن
الهدى بدعائكم إلى ما نحن عليه، وهو قوله تعالى: (إنا كنا غاوين).
ثم أخبر عن الأتباع والمتبوعين بقوله تعالى: (فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون)،
والمجرمون هاهنا: المشركون، (إنهم كانوا) في الدنيا (إذا قيل لهم لا إله إلا الله) أي: قولوا
هذه الكلمة (يستكبرون) أي: يتعظمون عن قولها، (و يقولون أئنا لتاركو آلهتنا) المعنى: أنترك
عبادة آلهتنا (لشاعر) أي: لاتباع شاعر؟! يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد الله تعالى عليهم فقال: (بل)
أي: ليس الأمر على ما قالوا، (جاء بالحق) وهو التوحيد والقرآن: (و صدق المرسلين) الذين
كانوا قبله، والمعنى أنه أتى بما أتوا به. ثم خاطب المشركين بما بعد هذا إلى قوله تعالى: (إلا
عباد الله المخلصين) يعني الموحدين. قال أبو عبيدة: والعرب تقول: إنكم لذاهبون إلا زيدا. وفي
ما استثناهم منه قولان:
أحدهما: من الجزاء على الأعمال، فالمعنى: إنا لا نؤاخذهم بسوء أعمالهم، بل نغفر لهم،
قاله ابن زيد.
والثاني: من دون العذاب، فالمعنى: فإنهم لا يذوقون العذاب، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (أولئك لهم رزق معلوم) فيه قولان:
أحدهما: أنه الجنة، قاله قتادة.
والثاني: أنه الرزق في الجنة، قاله السدي، فعلى هذا، في معنى " معلوم " قولان:
أحدهما: أنه بمقدار الغداة والعشي، قاله ابن سائب.
والثاني: أنهم حين يشتهونه يؤتون به، قاله مقاتل.
ثم بين الرزق فقال: (فواكه) وهي جمع فاكهة وهي الثمار كلها، رطبها ويابسها (و هم
مكرمون) بما أعطاهم الله. وما بعد هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله تعالى: (يطاف عليهم بكأس
من معين) قال الضحاك: كل كأس ذكرت في القرآن، فإنما عني بها الخمر، قال أبو عبيدة:
الكأس: الإناء بما فيه، والمعين: الماء الطاهر الجاري. قال الزجاج: الكأس: الإناء الذي فيه
الخمر، وتقع الكأس على كل إناء مع شرابه، فإن كان فارغا فليس بكأس. والمعين: الخمر
293

يجري كما يجري الماء على وجه الأرض من العيون.
قوله تعالى: (و بيضاء) قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، قال أبو سليمان
الدمشقي: ويدل على أنه أراد بالكأس الخمر، أنه قال: " بيضاء " فأنث ولو أراد الإناء على انفراده،
أو الإناء والخمر، لقال: أبيض. وقال ابن جرير: إنما أراد بقوله: " بيضاء " الكأس، ولتأنيث الكأس
أنثت البيضاء.
قوله تعالى: (لذة) قال ابن قتيبة: أي: لذيذة، يقال: شراب لذاذ: إذا كان طيبا وقال الزجاج:
أي: ذات لذة.
(لا فيها غول) فيه سبعة أقوال:
أحدها: ليس فيها صداع، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: ليس فيها وجع بطن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن زيد.
والثالث: ليس فيها وجع و لا صداع رأس، قاله قتادة.
والرابع: ليس فيها أذى ولا مكروه، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: لا تغتال عقولهم، قاله السدي. وقال الزجاج فالمعنى لا تغتال عقولهم فتذهب بها
ولا يصيبهم منها وجع.
والسادس: ليس فيها إثم، حكاه ابن جرير.
والسابع: ليس فيها شئ من هذه الآفات، لأن كل من ناله شئ من هذه الآفات، قيل: قد
غالته غول، فالصواب أن يكون نفي الغول عنها يعم جميع هذه الأشياء، هذا اختيار ابن جرير.
قوله تعالى: (و لا هم عنها ينزفون) قرأ حمزة، والكسائي: بكسر الزاي هاهنا وفيه الواقعة
وفتح عاصم الزاي هاهنا، وكسرها في الواقعة وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، بفتح
الزاي في السورتين، قال الفراء: فمن فتح، فالمعنى: لا تذهب عقولهم بشربها. يقال للسكران:
نزيف ومنزوف، ومن كسر، ففيه وجهان:
أحدهما: لا ينفدون شرابهم، أي: هو دائم أبدا.
والثاني: لا يسكرون، قال الشاعر:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم
لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
قوله تعالى: (و عندهم قاصرات الطرف) فيه قولان:
294

أحدهما: أنهن النساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم. وأصل القصر:
الحبس، قال ابن زيد: إن المرأة منهن لتقول لزوجها: وعزة ربى ما أرى في الجنة شيئا أحسن
منك، فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي.
والثاني: أنهن قد قصرن طرف الأزواج عن غيرهن، لكمال حسنهن، سمعته من الشيخ أبي
محمد بن الخشاب النحوي.
وفي العين ثلاثة أقوال:
أحدها: حسان العيون، قاله مجاهد.
والثاني: عظام الأعين، قاله السدي. وابن زيد.
والثالث: كبار العيون حسانها، وواحدتهن عيناء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (كأنهن بيض مكنون) في المراد بالبيض هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اللؤلؤ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة.
والثاني: بيض النعام، قاله الحسن، وابن زيد، والزجاج. قال جماعة من أهل اللغة: والعرب
تشبه المرأة الحسناء في بياضها وحسن لونها بيضة النعامة، وهو أحسن ألوان النساء، وهو أن تكون
المرأة بيضاء مشربة صفرة.
والثالث: أنه البيض حين يقشر قبل أن تمسه الأيدي، قاله السدي وإلى هذا المعنى ذهب
سعيد بن جبير، وقتادة، وابن جرير.
فأما المكنون، فهو المصون. فعلى القول الأول: هو مكنون في صدفه، وعلى الثاني: هو
مكنون بريش النعام، وعلى الثالث: هو مكنون بقشره.
فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (50) قال قائل منهم إني كان لي قرين (51) يقول
إنك لمن المصدقين (52) أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون (53) قال هل أنتم
مطلعون (54) فاطلع فرآه في سواء الجحيم (55) قال تالله إن كدت لتردين (56) ولولا
نعمة ربي لكنت من المحضرين (57) أفما نحن بميتين (58) إلا موتتنا الأولى وما نحن
بمعذبين (59) إن هذا لهو الفوز العظيم (60) لمثل هذا فليعمل العاملون (61)
295

قوله تعالى: (فأقبل بعضهم على بعض) يعني أهل الجنة (يتساءلون) عن أحوال كانت في
الدنيا.
(قال قائل منهم إني كان لي قرين) فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه الصاحب في الدنيا.
والثاني: أنه الشريك، رويا عن ابن عباس.
والثالث: أنه الشيطان، قاله مجاهد.
والرابع: أنه الأخ، قال مقاتل: وهما الأخوان المذكوران في سورة الكهف في قوله تعالى:
(واضرب لهم مثلا رجلين)، والمعنى، كان لي صاحب أو أخ ينكر البعث، (يقول أئنك لمن
المصدقين) قال الزجاج: هي مخففة الصاد، من صدق يصدق فهو مصدق، ولا يجوز هاهنا تشديد
الصاد، قال المفسرون: والمعنى: أئنك لمن المصدقين بالبعث؟ وقرأ بكر بن عبد الرحمن القاضي
عن حمزة: " المصدقين " بتشديد الصاد.
قوله تعالى: (أئنا لمدينون) أي: مجزيون بأعمالنا، يقال: دنته بما صنع، أي: جازيته.
فأحب المؤمن أن يرى قرينة الكافر، فقال لأهل الجنة: (هل أنتم مطلعون) أي: هل تحبون
الاطلاع إلى النار لتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهلها؟ وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو عمران،
وابن يعمر: " هل أنتم مطلعون " بإسكان الطاء وتخفيفها (فأطلع) بهمزة مرفوعة وسكون الطاء.
وقرأ أبو رزين وابن أبي عبلة: " مطلعون " بكسر النون قال ابن مسعود: اطلع ثم التفت إلى أصحابه
فقال: لقد رأيت جماجم القوم تغلي، قال ابن عباس: وذلك أن في الجنة كوى ينظر منها أهلها
إلى النار.
قوله تعالى: (فرآه) يعني قرينة الكافر (في سواء الجحيم) أي: في وسطها. وقيل: إنما
سمي الوسط سواء، لاستواء المسافة منه إلى الجوانب. قال خليد العصري: والله لولا أن الله عرفه
إياه، ما عرفه، لقد تغير حبره وسبره. فعند ذلك (قال تالله إن كدت لتردين) قال المفسرون: معناه:
والله ما كدت إلا تهلكني، يقال: أرديت فلانا، أي: أهلكته. (و لولا نعمة ربي) أي: إنعامه علي
بالإسلام (لكنت من المحضرين) معك في النار.
قوله تعالى: (أفما نحن بميتين) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إذا ذبح الموت، قال أهل الجنة: " أفما نحن بميتين، إلا موتتنا الأولى " التي
كانت في الدنيا (و ما نحن بمعذبين) فيقال لهم: لا، فعند ذلك قالوا: (إن هذا لهو الفوز العظيم)
فيقول الله تعالى: (لمثل هذا فليعمل العاملون)، قاله ابن السائب. وقيل: يقول ذلك للملائكة.
296

والثاني: أنه قوله المؤمن لأصحابه، فقالوا له: إنك لا تموت، فقال: " إن هذا لهو الفوز
العظيم "، قاله مقاتل. وقال أبو سليمان الدمشقي: إنما خاطب المؤمن أهل الجنة بهذا على طريق
الفرح بدوام النعيم، لا على طريق الاستفهام، لأنه قد علم أنهم ليسوا بميتين، ولكن أعاد الكلام
ليزداد بتكراره على سمعه سرورا.
والثالث: أنه قول المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ بما كان ينكره، ذكره الثعلبي.
قوله تعالى: (لمثل هذا) يعنى النعيم الذي ذكره في قوله: (أولئك لهم رزق معلوم)
(فليعمل العاملون)، وهذا ترغيب في طلب ثواب الله [عز وجل]. بطاعته
أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم (62) إنا جعلناها فتنة للظالمين (63) إنها شجرة
تخرج في أصل الجحيم (64) طلعها كأنه رؤوس الشياطين (65) فإنهم لآكلون منها فمالئون
منها البطون (66) ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم (67) ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم (68)
إنهم ألفوا آباءهم ضالين (69) فهم على آثارهم يهرعون (70) ولقد ضل
قبلهم أكثر الأولين (71) ولقد أرسلنا فيهم منذرين (72) فانظر كيف كان عاقبة
المنذرين (73) إلا عباد الله المخلصين (74)
(أذلك خير) يشير إلى ما وصف لأهل الجنة (نزلا) قال ابن قتيبة: أي: رزقا، ومنه: إقامة
الأنزال، وأنزال الجنود: أرزاقها، وقال الزجاج: النزل هاهنا: الريع والفضل تقول: هذا طعام نزل
ونزل، بتسكين الزاي وضمها، والمعنى: أذلك خير في باب الأنزال التي تتقوت ويمكن معها
الإقامة، أم نزل أهل النار؟! وهو قوله تعالى: (أم شجرة الزقوم)؟
واختلف العلماء هل هذه الشجرة في الدنيا، أم لا؟
فقال قطرب: هي شجرة مرة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر. وقال غيره: الزقوم: ثمرة
شجرة كريهة الطعم. وقيل: إنها لا تعرف في شجر الدنيا، وإنما هي في النار، يكره أهل النار على
تناولها.
297

قوله تعالى: (إنا جعلناها فتنة للظالمين) يعني للكافرين، وفي المراد بالفتنة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لما ذكر أنها في النار، افتتنوا وكذبوا، فقالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار
تأكل الشجر؟، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة، وقال السدي: فتنة لأبي جهل وأصحابه.
والثاني: أن الفتنة بمعنى العذاب، قاله ابن قتيبة.
والثالث: أن الفتنة بمعنى الاختبار، اختبروا بها فكذبوا، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (تخرج في أصل الجحيم) أي: في قعر النار. قال الحسن: أصلها في
قعر النار، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. (طلعها) أي: ثمرها، وسمي طلعا، لطلوعه (كأنه
رؤوس الشياطين). فإن قيل: كيف شبهها بشئ لم يشاهد؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه قد استقر في النفوس قبح الشياطين - وإن لم تشاهد - فجاز تشبيهها بما قد علم
قبحه، قال امرؤ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي * ومسنونة زرق كأنياب أغوال
قال الزجاج: هو لم ير الغول ولا أنيابها، ولكن التمثيل بما يستقبح أبلغ في باب المذكر أن
يمثل بالشياطين، وفي باب المؤنث أن يشبه بالغول.
والثاني: أن بين مكة واليمن شجر يسمى: رؤوس الشياطين، فشبهها بها، قاله ابن
السائب.
والثالث: أنه أراد بالشياطين: حيات لها رؤوس ولها أعراف، فشبه طلعها برؤوس الحيات،
ذكره الزجاج. قال الفراء: والعرب تسمي بعض الحيات شيطانا، وهو حية ذو عرف قبيح الوجه.
قوله تعالى: (فإنهم لآكلون منها) أي: من ثمرها (فمالئون منها البطون) وذلك أنهم
يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم.
(ثم إن لهم عليها لشوبها من حميم) قال ابن قتيبة: أي: لخلطا من الماء الحار يشربونه
عليها. قال أبو عبيدة: تقول العرب: كل شئ خلطته بغيره فهو مشوب. قال المفسرون: إذا
أكلوا الزقوم ثم شربوا عليه الحميم، شاب الحميم الزقوم في بطونهم فصار شوبا له.
(ثم إن مرجعهم) أي: بعد أكل الزقوم وشرب الحميم (لإلى الجحيم) وذلك أن
الحميم خارج من الجحيم، فهم يوردونه كما تورد الإبل الماء، ثم يردون إلى الجحيم، ويدل
على هذا قوله: (يطوفون بينها وبين حميم آن) و (ألفوا) بمعنى وجدوا. و (يهرعون)
298

ومشروح في (هود)، والمعنى أنهم يتبعون آباءهم في سرعة. (و لقد ضل قبلهم) أي:
قبل هؤلاء المشركين (أكثر الأولين) من الأمم الخالية.
قوله تعالى: (إلا عباد الله المخلصين) يعنى الموحدين، فإنهم نجوا من العذاب. قال ابن
جرير: وإنما حسن الاستثناء، لأن المعنى: فانظر كيف أهلكنا المنذرين إلا عباد الله.
ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون (75) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) وجعلنا
ذريته هم الباقين (77) وتركنا عليه في الآخرين (78) سلام على نوح في العالمين (79)
إنا كذلك نجزى المحسنين (80) إنه من عبادنا المؤمنين (81) ثم أغرقنا الآخرين (83)
(ولقد نادانا نوح) أي: دعانا. وفي دعائه قولان:
أحدهما: أنه دعا مستنصرا على قومه.
والثاني: أن ينجيه من الغرق (فلنعلم المجيبون) نحن، والمعنى: إنا أنجيناه وأهلكنا قومه.
وفي (الكرب العظيم) قولان:
أحدهما: [أنه] الغرق.
والثاني: أذى قومه. (و جعلنا ذريته هم الباقين) وذلك أن نسل أهل السفينة
انقرضوا غير نسل ولده، فالناس كلهم من ولد نوح، (و تركنا عليه) أي: تركنا عليه ذكرا جميلا
(في الآخرين) وهم الذين جاؤوا بعده إلى يوم القيامة. قال الزجاج: وذلك الذكر الجميل قوله
تعالى: (سلام على نوح في العالمين) والمعنى: تركنا عليه أن يصلى عليه في الآخرين إلى
يوم القيامة.
قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين) قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في
العالمين.
وإن من شيعته لإبراهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم (84) إذ قال لأبيه وقومه
ماذا تعبدون (85) أئفكا آلهة دون الله تريدون (80) فما ظنكم برب العالمين (87)
299

فنظر نظرة في النجوم (88) فقال إني سقيم (89) فتولوا عنه مدبرين (90) فراغ إلى آلهتهم
فقال ألا تأكلون (91) مالكم لا تنطقون (92) فراغ عليهم ضربا باليمين (93) فأقبلوا إليه
يزفون (94) قال أتعبدون ما تنحتون (95) والله خلقكم وما تعملون (96) قالوا ابنوا له بنيانا
فألقوه في الجحيم (97) فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين (98) وقال إني ذاهب إلى
ربى سيهدين (99) رب هب لي من الصالحين (100) فبشرناه بغلام حليم (101)
قوله تعالى: (و إن من شيعته لإبراهيم) أي: من أهل دينه وملته. والهاء في " شيعته "
عائدة على نوح في قول الأكثرين، وقال ابن السائب: تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم، واختاره الفراء.
فإن قيل: كيف يكون من شيعته، وهو قبله؟ فالجواب: أنه مثل قوله تعالى:
(حملنا ذريتهم)، فجعلها ذريتهم وقد سبقتهم، وقد شرحنا هذا فيما مضى.
قوله تعالى: (إذا جاء ربه) أي: صدق الله وآمن به (بقلب سليم) من الشرك وكل
دنس، وفيه أقوال ذكرناها في الشعراء.
قوله تعالى: (ماذا تعبدون؟) هذا استفهام توبيخ، كأنه وبخهم على عبادة غير الله.
(أإفكا؟!) أي: أتأفكون إفكا و تعبدون آلهة سوى الله؟! (فما ظنكم برب العالمين) ألقيتموه
وقد عبدتم غيره؟! كأنه قال: فما ظنكم أن يصنع بكم؟ (فنظر نظرة في النجوم) فيه قولان:
أحدهما: أنه نظر في علم النجوم، وكان القوم يتعاطون علم النجوم، فعاملهم من حيث
هم، وأراهم أني أعلم من ذلك ما تعلمون، لئلا ينكروا عليه ذلك. قال ابن المسيب: رأى نجما
طالعا، فقال: إني مريض غدا.
والثاني: أنه نظر إلى النجوم، لا في علمها.
فإن قيل: فما كان مقصوده؟ فالجواب أنه كان لهم عيد، فأراد التخلف عنهم ليكيد
أصنامهم، فاعتل بهذا القول.
قوله تعالى: (إني سقيم) من معاريض الكلام. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناه: سأسقم، قاله الضحاك. قال ابن الأنباري: أعلمه الله [عز وجل] أنه
يمتحنه بالسقم إذا طلع نجم يعرفه، فلما رأى النجم، علم أنه سيسقم.
300

والثاني: أني سقيم القلب عليكم إذ تكهنتم بنجوم لا تضر ولا تنفع، ذكره ابن الأنباري.
والثالث: أنه سقم لعلة عرضت له، حكاه الماوردي. وذكر السدي أنه خرج معهم إلى يوم
عيدهم، فلما كان ببعض الطريق، ألقى نفسه وقال: إني سقيم أشتكي رجلي، (فتولوا عنه
مدبرين، فراغ إلى آلهتم) أي: مال إليها - وكانوا قد جعلوا بين يديها طعاما لتبارك فيه على
زعمهم - (فقال) إبراهيم استهزاء بها (ألا تأكلون؟).
وقوله تعالى: (ضربا باليمين) في اليمين ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها اليد اليمنى، قاله الضحاك.
والثاني: بالقوة والقدرة، قاله السدي، والفراء.
والثالث: باليمين التي سبقت منه، وهي قوله: (تالله لأكيدن أصنامكم). حكاه
الماوردي.
قال الزجاج: " ضربا " مصدر، والمعنى: فمال على الأصنام يضربها ضربا باليمين، وإنما
قال: " عليهم "، وهي أصنام، لأنهم جعلوها بمنزلة ما يميز.
(فأقبلوا إليه يزفون) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر،
والكسائي: " يزفون " بفتح الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ حمزة، والمفضل عن عاصم:
" يزفون " برفع الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ ابن أبي عبلة، و أبو نهيك: " يزفون " بفتح
الياء و سكون الزاي وتخفيف الفاء. قال الزجاج: أعرب القراءات فتح الياء وتشديد الفاء، وأصله
من زفيف النعام، وهو ابتداء عدو النعام، يقال: زف النعام يزف، وأما ضم الياء، فمعناه:
يصيرون إلى الزفيف، وأنشدوا:
فأضحى حصين قد أذل وأقهر
أي: صار إلى القهر. وأما كسر الزاي مع تخفيف الفاء، فهو من: وزف يزف، بمعنى
أسرع يسرع، ولم يعرفه الكسائي ولا الفراء، وعرفه غيرهما.
قال المفسرون: بلغهم ما صنع إبراهيم، فأسرعوا، فلما انتهوا إليه، قال لهم محتجا
عليهم. (أتعبدون ما تنحتون) بأيديكم (و الله خلقكم وما تعملون؟!)، قال ابن جرير: في
" ما " وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر، فيكون المعنى: والله خلقكم وعملكم.
والثاني: أن تكون بمعنى " الذي "، فيكون المعنى: والله خلقكم وخلق الذي تعملونه
301

بأيديكم من الأصنام، وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه.
فلما لزمتهم الحجة (قالوا ابنوا له بنيانا) وقد شرحنا قصته في سورة الأنبياء، و بينا معنى
الجحيم في (البقرة)، والكيد الذي أرادوا به: إحراقه.
ومعنى قوله تعالى: (فجعلناهم الأسفلين) أن إبراهيم علاهم بالحجة حيث سلمه الله من
كيدهم وحل الهلاك بهم.
(وقال) يعني إبراهيم (إني ذاهب إلى ربي) في هذا الذهاب قولان:
أحدهما: أنه ذاهب حقيقة، ثم في وقت قوله هذا قولان:
أحدهما: أنه حين أراد هجرة قومه، فالمعنى: إني ذاهب إلى حيث أمرني ربي عز وجل إلى
(سيهديني) إلى حيث أمرني، وهو الشام، قاله الأكثرون.
والثاني: حين ألقي في النار، قاله سليمان بن صرد، فعلى هذا، و في المعنى قولان:
أحدهما: ذاهب إلى الله بالموت، سيهدين إلى الجنة.
والثاني: ذاهب إلى ما قضى به ربي، سيهدين إلى الخلاص من النار.
والقول الثاني: إني ذاهب إلى ربي بقلبي وعملي ونيتي، قاله قتادة.
فلما قدم الأرض المقدسة، سأل ربه الولد فقال: (رب هب لي من الصالحين) أي: ولدا صالحا من
الصالحين، فاجتزأ بما ذكر عما ترك، ومثله: (و كانوا فيه من الزاهدين) فاستجاب له، وهو قوله تعالى:
(فبشرناه بغلام حليم) وفيه قولان:
أحدهما: أنه إسحاق.
والثاني: أنه إسماعيل. قال الزجاج. هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى
حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم.
فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال
يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102) فلما أسلما وتله للجبين (103)
وناديناه أن يا إبراهيم (104) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين (105) إن هذا
302

لهو البلاء المبين (106) وفديناه بذبح عظيم (107) وتركنا عليه في الآخرين (108) سلام على
إبراهيم (109) كذلك نجزي المحسنين (110) إنه من عبادنا المؤمنين (111) وبشرناه بإسحق
نبيا من الصالحين (112) وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (113)
قوله تعالى: (فلما بلغ معه السعي) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المراد بالسعي هاهنا: العمل، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه المشي، والمعنى: مشى مع أبيه، قاله قتادة. قال ابن قتيبة: بلغ أن ينصرف
معه ويعينه. قال ابن السائب: كان ابن ثلاث عشرة سنة.
والثالث: أن المراد بالسعي: العبادة، قاله ابن زيد، فعلى هذا، يكون قد بلغ.
قوله تعالى: (إني أرى في المنام أني أذبحك) أكثر العلماء على أنه لم ير أنه ذبحه في
المنام، وإنما المعنى أنه أمر في المنام بذبحه، ويدل عليه قوله تعالى (أفعل ما تؤمر). وذهب
بعضهم إلى أنه رأى أنه يعالج ذبحه، ولم ير إراقة الدم. قال قتادة: ورؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا
شيئا، فعلوه. وذكر السدي عن أشياخه أنه لما بشر جبريل سارة بالولد، قال إبراهيم: هو إذا لله
ذبيح، فلما فرغ من بنيان البيت، أتي في المنام، فقيل له: أوف بنذرك. واختلفوا في الذبيح
على قولين:
أحدهما: أنه إسحاق، قاله عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والعباس ابن عبد
المطلب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأنس، وكعب الأحبار، ووهب بن
منبه، ومسروق، وعبيد بن عمير، والقاسم ابن أبي بزة، ومقاتل بن سليمان، واختاره ابن
جرير. وهؤلاء يقولون: كانت هذه القصة بالشام. وقيل: طويت له الأرض حتى حمله إلى المنحر
بمنى في ساعة.
والثاني: أنه إسماعيل، قاله ابن عمر، وعبد الله بن سلام، والحسن البصري، وسعيد بن
المسيب، والشعبي، ومجاهد، ويوسف بن مهران، وأبو صالح، ومحمد بن كعب القرظي،
والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن سابط. واختلفت الرواية عن ابن عباس، فروى عنه عكرمة أنه
إسحاق، وروى عنه عطاء، ومجاهد، والشعبي، وأبو الجوزاء، ويوسف بن مهران أنه إسماعيل،
وروى عنه سعيد بن جبير كالقولين. وعن سعيد بن جبير، وعكرمة، والزهري، وقتادة، والسدي
303

روايتان. وكذلك عن أحمد [رضي الله] عنه روايتان. ولكل قوم حجة ليس هذا موضعها،
وأصحابنا ينصرون القول الأول.
(الإشارة إلى قصة الذبح)
ذكر أهل العلم السير والتفسير أن إبراهيم لما أراد ذبح ولده، قال له: انطلق فنقرب قربنا إلى الله
عز وجل، فأخذ سكينا وحبلا، ثم انطلق، حتى إذا ذهبا بين الجبال، قال له الغلام: يا أبت أين
قربانك؟ قال: يا بني إني رأيت في المنام أني أذبحك، فقال له: اشدد رباطي حتى لا
أضطرب، واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليك من دمي فتراه أمي فتحزن، وأسرع مر السكين
على حلقي ليكون أهون للموت علي، فإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني، فأقبل عليه إبراهيم
يقبله ويبكي ويقول: نعم العون أنت يا بني على أمر الله عز وجل، ثم إنه أمر السكين على
حلقه فلم يحك شيئا. وقال مجاهد: لما أمرها على حلقه انقلبت، فقال: مالك؟ قال:
انقلبت، قال: اطعن بها طعنا. وقال السدي: ضرب الله على حلقه صفيحة من نحاس، وهذا لا
يحتاج إليه، بل منعها بالقدرة أبلغ. قالوا: فلما طعن بها، نبت، وعلم الله منهما الصدق في
التسليم، فنودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، هذا فداء ابنك، فنظر إبراهيم، فإذا جبريل معه
كبش أملح.
قوله تعالى: (فانظر ماذا ترى) لم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله عز وجل،
ولكن أراد أن ينظر ما عنده من الرأي. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " ماذا تري " بضم التاء
وكسر الراء، فيها قولان:
أحدهما: ماذا تريني من صبرك أو جزعك، قاله الفراء.
والثاني: ماذا تبين، قاله الزجاج. وقال غيره: ماذا تشير.
قوله تعالى: (افعل ما تؤمر) قال ابن عباس: افعل ما أوحي إليك من ذبحي (ستجدني
إن شاء الله من الصابرين) على البلاء.
قوله تعالى: (فلما أسلما) أي: استسلما لأمر الله عز وجل وأطاعا ورضيا وقرأ علي بن أبي
طالب، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والأعمش وابن أبي عبلة:
" فلما سلما " بتشديد اللام من غير همز قبل السين، والمعنى: سلما لأمر الله عز وجل. وفي
جواب قوله: " فلما أسلما " قولان:
أحدهما: أن جوابه: " وناديناه "، والواو زائدة، قاله الفراء.
والثاني: أن الجواب محذوف لأن في الكلام دليلا عليه، والمعنى: فلما فعل ذلك، سعد
304

وأجزل ثوابه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: (و تله للجبين) قال ابن قتيبة: أي: صرعه على جبينه فصار أحد جبينيه على
الأرض، وهما جبينان، والجبهة بينهما، وهي ما أصاب الأرض في السجود، و الناس لا يكادون
يفرقون بين الجبين والجبهة، فالجبهة مسجد الرجل الذي يصيبه ندب السجود، والجبينان
يكتنفانها، من كل جانب جبين.
قوله تعالى: (و ناديناه) قال المفسرون: نودي من الجبل: (يا إبراهيم قد صدقت)
الرؤيا) وفيه قولان:
أحدهما: قد عملت ما أمرت، وذلك أنه قصد الذبح بما أمكنه، وطاوعه الابن بالتمكين من
الذبح، إلا أن الله [تعالى] صرف ذلك كما شاء، فصار كأنه قد ذبح وإن لم يتحقق الذبح.
والثاني: أنه رأى في المنام معالجة الذبح، ولم ير إراقة الدم، فلما فعل في اليقظة ما رأى
في المنام، قيل له: " قد صدقت الرؤيا ".
وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، والجحدري: " قد صدقت الرؤيا " بتخفيف
الدال، وهاهنا تم الكلام. ثم قال تعالى: (إنا كذلك) أي: كما ذكرنا من العفو من ذبح ولده
(نجزى المحسنين).
(إن هذا لهو البلاء المبين) فيه قولان:
أحدهما: النعمة البينة، قاله ابن السائب، ومقاتل.
والثاني: الاختبار العظيم، قاله ابن زيد، وابن قتيبة. فعلى الأول، يكون قوله هذا إشارة
إلى العفو عن الذبح. وعلى الثاني، يكون إشارة إلى امتحانه بذبح ولده.
قوله تعالى: (و فديناه) يعني: الذبيح (بذبح) وهو بكسر الذال: اسم ما ذبح، وبفتح
الذال: مصدر ذبحت، قاله ابن قتيبة. ومعنى الآية: خلصناه هذا من الذبح بأن جعلنا الذبح فداء له.
وفي هذا الذبح ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كان كبشا أقرن قد رعى في الجنة قبل ذلك أربعين عاما، قاله ابن عباس في
رواية مجاهد، وقال في رواية سعيد بن جبير: هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه، كان في
الجنة حتى فدي به.
والثاني: أن إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين، رواه أبو الطفيل عن ابن
عباس.
305

والثالث: أنه ما فدي إلا بتيس من الأورى، ثم أهبط عليه من ثبير، قاله الحسن. وفي
معنى (عظيم) أربعة أقوال:
أحدها: لأنه كان قد رعى في الجنة، قاله ابن عباس، و سعيد بن جبير.
والثاني: لأنه ذبح على دين إبراهيم وسنته، قاله الحسن.
والثالث: لأنه متقبل، قاله مجاهد. وقال أبو سليمان الدمشقي: لما قر به ابن آدم، رفع
حيا، فرعى في الجنة، ثم جعل فداء الذبيح، فقبل مرتين.
والرابع: لأنه عظيم الشخص والبركة، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: (و تركنا عليه ن) قد فسرناه في هذه السورة.
قوله تعالى: (و بشرناه بإسحاق) من قال: إن إسحاق الذبيح، قال: بشر إبراهيم بنبوة
إسحاق، وأثيب إسحاق بصبره النبوة، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة، وبه قال قتادة،
والسدي. ومن قال: الذبيح إسماعيل، قال: بشر الله إبراهيم بولد يكون نبيا بعد هذه القصة،
جزاء لطاعته وصبره، وهذا قول سعيد بن المسيب.
قوله تعالى: (و باركنا عليه وعلى إسحاق) يعني بكثرة ذريتهما، وهم الأسباط كلهم
(ومن ذريتهما محسن) أي: مطيع لله (و ظالم) وهو العاصي له. وقيل: المحسن:
المؤمن، والظالم: الكافر.
ولقد مننا على موسى وهارون (114) ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم (115) ونصرناهم
فكانوا هم الغالبين (116) وآتيناهما الكتاب المستبين (117) وهديناهما
الصراط المستقيم (118) وتركنا عليهما في الآخرين (119) سلام على موسى وهارون (120) إنا
كذلك نجزي المحسنين (121) إنهما من عبادنا المؤمنين (122) وإن إلياس لمن
المرسلين (123) إذ قال لقومه ألا تتقون (124) أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين (125)
الله ربكم ورب آبائكم الأولين (126) فكذبوه فإنهم لمحضرون (127) إلا عباد الله
المخلصين (128) وتركنا عليه في الآخرين (129) سلام على آل ياسين (130) إنا كذلك
306

نجزي المحسنين (131) إنه من عبادنا المؤمنين (132)
قوله تعالى: (و لقد مننا على موسى وهارون) أي: أنعمنا عليهما بالنبوة. وفي (الكرب
العظيم) قولان:
أحدهما: استعباد فرعون وبلاؤه، وهو معنى قول قتادة.
والثاني: الغرق، قاله السدي.
قوله تعالى: (و نصرناهم) فيه قولان:
أحدهما: أنه يرجع إلى موسى وهارون وقومهما.
والثاني: أنه يرجع إليهما فقط، فجمعا، لأن العرب تذهب بالرئيس إلى الجمع، لجنوده
وأتباعه، ذكرهما ابن جرير. وما بعد هذا قد تقدم بيانه. إلى قوله: (و إن إلياس لمن
المرسلين) فيه قولان:
أحدهما: أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه إدريس، قاله ابن مسعود، وقتادة، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود، وأبو العالية،
وأبو عثمان النهدي: " وإن إدريس " مكان " إلياس ".
قوله تعالى: (إذ قال لقومه ألا تتقون) أي: ألا تخافون الله فتوحدونه وتعبدونه؟!
(اتدعون بعلا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بمعنى الرب، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقال
الضحاك: كان ابن عباس قد أعياه هذا الحرف، فبينا هو جالس، إذ مر أعرابي قد ضلت ناقته وهو
يقول: من وجد ناقة أنا بعلها؟ فتبعه الصبيان يصيحون به: يا زوج الناقة، يا زوج الناقة، فدعاه
ابن عباس فقال: ويحك، ما عنيت ببعلها؟ قال: أنا ربها، فقال ابن عباس: صدق الله " أتدعون
بعلا ": ربا. وقال قتادة: هذه لغة يمانية.
والثاني: أنه اسم صنم كان لهم، قاله الضحاك، وابن زيد. وحكى ابن جرير أنه به سميت
" بعلبك ".
والثالث: أنها امرأة كانوا يعبدونها، حكاه محمد بن إسحاق.
قوله تعالى: (الله ربكم) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن
عاصم: " الله ربكم " بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف،
ويعقوب: " الله " بالنصب.
307

قوله تعالى: (فكذبوه فإنهم لمحضرون) النار (إلا عباد الله المخلصين) الذين لم يكذبوه،
فإنهم لا يحضرون النار.
(الإشارة إلى القصة)
ذكر أهل العلم بالتفسير والسير أنه لما كثرت الأحداث بعد قبض حزقيل، و عبدت الأوثان،
بعث الله تعالى إلياس. قال ابن إسحاق: وهو إلياس بن تشبي بن فنحاص بن العيزار بن هارون
ابن عمران، فجعل يدعوهم فلا يسمعون منه، فدعا عليهم بحبس المطر، فجهدوا جهدا شديدا،
واستخفى إلياس خوفا منهم على نفسه. ثم إنه قال لهم يوما: إنكم قد هلكتم جهدا، وهلكت
البهائم والشجر بخطاياكم، فاخرجوا بأصنامكم وادعوها، فإن استجابت لكم، فالأمر كما تقولون،
وإن لم تفعل، علمتم أنكم على باطل فنزعتم عنه، ودعوت الله ففرج عنكم، فقالوا: أنصفت،
فخرجوا بأوثانهم، فدعوا فلم تستجب لهم، فعرفوا ضلالهم، فقالوا: ادع الله لنا، فدعا لهم،
فأرسل المطر وعاشت بلادهم، فلم ينزعوا عما كانوا عليه، فدعا إلياس ربه أن يقبضه إليه ويريحه
منهم، فقيل له: اخرج يوم كذا إلى مكان كذا، فما جاءك من شئ فاركبه ولا تهبه، فخرج، فأقبل
فرس من نار، فوثب عليه، فانطلق به، وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم
والمشرب، فطار في الملائكة، فكان إنسيا ملكيا، أرضيا سماويا.
قوله تعالى: (سلام على إلياسين) قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي:
" إلياسين " موصولة مكسورة الألف ساكنة اللام، فجعلوها كلمة واحدة، وقرأ الحسن مثلهم، إلا أنه
فتح الهمزة، وقرأ نافع، وابن عامر، وعبد الوارث، ويعقوب إلا زيدا: " إل ياسين " مقطوعة،
فجعلوها كلمتين. وفي قراءة الوصل قولان:
أحدهما: أنه جمع لهذا النبي وأمته المؤمنين، به، وكذلك يجمع ما ينسب إلى الشئ،
فتقول: رأيت المهالبة، تريد: بني المهلب، والمسامعة، تريد: بني مسمع.
والثاني: أنه اسم النبي وحده، وهو اسم عبراني، والعجمي من الأسماء قد يفعل به هذا،
كما يقال ميكال وميكائيل، ذكر القولين الفراء والزجاج. فأما قراءة من قرأ: " إل ياسين " مفصولة،
ففيها قولان:
أحدهما: أنهم آل هذا النبي المذكور، وهو يدخل فيهم، كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: " اللهم صلى على آل أبي
أوفى "، فهو داخل فيهم، لأنه هو المراد بالدعاء.
والثاني: أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الكلبي. وكان عبد الله بن مسعود يقرأ: " سلام على
إدراسين " وقد بينا مذهبه في أن إلياس هو إدريس.
308

فإن قيل: كيف قال: " إدراسين " وإنما الواحد إدريس، والمجموع إدريسي، لا إدراس ولا
إدراسي؟.
فالجواب: أنه يجوز أن يكون لغة، كإبراهيم و إبراهام، ومثله:
قدني من نصر الخبيبين قدي
وقرأ أبي بن كعب، وأبو نهيك: " سلام على ياسين " بحذف الهمزة واللام.
وإن لوطا لمن المرسلين (133) إذ نجيناه وأهله أجمعين (134) إلا عجوزا في الغابرين (135)
ثم دمرنا الآخرين (136) وإنكم لتمرون عليهم مصبحين (137) وبالليل أفلا تعقلون (138)
قوله تعالى: (إذ نجيناه) " إذ " هاهنا لا يتعلق بما قبله، لأنه لم يرسل إذ نجي، ولكنه يتعلق
بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد إذ نجيناه. وقد تقدم تفسير ما بعد هذا إلى قوله تعالى:
(وإنكم لتمرون عليهم مصبحين) هذا خطاب لأهل مكة، كانوا إذا ذهبوا إلى الشام وجاؤوا، مروا
على قرى قوم لوط صباحا ومساء، (أفلا تعقلون) فتعتبرون؟!
وإن يونس لمن المرسلين (139) إذ أبق إلى الفلك المشحون (140) فساهم فكان من المدحضين (141)
فالتقمه الحوت وهو مليم (142) فلولا أنه كان من المسبحين (143) للبث في بطنه إلى
يوم يبعثون (144) فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145) وأنبتنا عليه شجرة من يقطين (146)
وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون (147) فآمنوا فمتعناهم إلى حين (148)
قوله تعالى: (إذ أبق) قال المبرد: تأويل " أبق ": تباعد، وقال أبو عبيدة: فزع، وقال الزجاج
هرب، وقال بعض أهل المعاني: خرج ولم يؤذن له، فكان بذلك كالهارب من مولاه. قال الزجاج:
والفلك: السفينة، والمشحون: المملوء، وساهم بمعنى قارع، (من المدحضين) أي:
المغلوبين، قال ابن قتيبة: يقال: أدحض الله حجته، فدحضت، أي: أزالها فزالت، وأصل
الدحض: الزلق.
309

الإشارة إلى قصته
قد شرحنا بعض قصته في آخر (يونس) وفي (الأنبياء) على قدر ما تحتمله الآيات، ونحن
نذكر هاهنا ما تحتمله. قال عبد الله بن مسعود: لما وعد يونس قومه بالعذاب بعد ثلاث، جأروا إلى
الله [عز وجل] واستغفروا، فكف عنهم العذاب، فانطلق مغاضبا حتى انتهى إلى قوم في سفينة،
فعرفوه فحملوه، فلما ركب السفينة وقفت، فقال: ما لسفينتكم؟ قالوا: لا ندري، قال: لكني
أدري، فيها عبد آبق من ربه، و إنها والله لا تسير حتى تلقوه، فقالوا: أما أنت يا نبي الله فوالله لا
نلقيك، قال: فاقترعوا، فمن قرع فليقع، فاقترعوا، فقرع يونس، فأبوا أن يمكنوه من الوقوع، فعادوا
إلى القرعة حتى قرع يونس ثلاث مرات. وقال طاووس: إن صاحب السفينة هو الذي قال: إنما
يمنعها أن تسير أن فيكم رجلا مشؤوما، فاقترعوا لنلقي أحدنا، فاقترعوا، فقرع يونس ثلاث مرات.
قال المفسرون: وكل الله به حوتا، فلما ألقى نفسه في الماء التقمه، وأمر أن لا يضره ولا يكلمه،
وسارت السفينة حينئذ. ومعنى التقمه: ابتلعه.
(وهو مليم) قال ابن قتيبة: أي: مذنب، يقال: ألام الرجل: إذا أتى ذنبا يلام عليه، قال
الشاعر:
و من يخذل أخاه فقد ألاما
قوله تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: من المصلين، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير.
والثاني: من العابدين، قاله مجاهد، ووهب، بن منبه.
والثالث: قول (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) قاله الحسن: وروى
عمران القطان عن الحسن قال: والله ما كانت إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت، فعلى هذا القول،
يكون تسبيحه في بطن الحوت. وجمهور العلماء على أنه أراد: لولا ما تقدم له قبل التقام الحوت
إياه من التسبيح، (للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) قال قتادة: لصار بطن الحوت له قبرا إلى يوم
القيامة، ولكنه كان كثير الصلاة في الرخاء، فنجاه الله تعالى بذلك.
وفي قدر مكثه في بطن الحوت خمسة أقوال:
أحدها: أربعون يوما، قاله أنس بن مالك، وكعب، وأبو مالك، وابن جريج، والسدي.
والثاني: سبعة أيام، قاله سعيد بن جبير، وعطاء.
والثالث: ثلاثة أيام، قاله مجاهد، وقتادة.
310

والرابع: عشرون يوما، قاله الضحاك.
والخامس: بعض يوم، التقمه ضحى، ونبذه قبل غروب الشمس، قاله الشعبي.
قوله تعالى: (فنبذناه) قال ابن قتيبة: أي ألقيناه (بالعراء) وهي الأرض التي لا يتوارى فيها
بشجر ولا غيره، فكأنه من عري الشئ.
قوله تعالى: (و هو سقيم) أي: مريض، قال ابن مسعود: كهيأة الفرخ الممعوط الذي ليس
له ريش. وقال سعيد بن جبير: أوحى الله تعالى إلى الحوت أن ألقه في البر، فألقاه لا شعر عليه
ولا جلد ولا ظفر.
قوله تعالى: (و أنبتنا عليه شجرة من يقطين) قال ابن عباس: هو القرع، وقد قال أمية بن
الصلت قبل الإسلام:
فأنبت يقطينا عليه برحمة * من الله لولا الله ألفي ضاحيا
قال الزجاج: كل شجرة لا تنبت على ساق وإنما تمتد على وجه الأرض نحو القرع والبطيخ
والحنظل، فهي يقطين، واشتقاقه من: قطن بالمكان: إذا أقام، فهذا الشجر ورقه كله على وجه
الأرض، فلذلك قيل له: يقطين. قال ابن مسعود: كان يستظل بها ويصيب منها فيبست فبكى
عليها، فأوحى الله إليه: أتبكي على شجرة أن يبست، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن
تهلكهم؟ و قال زيد بن عبد الله بن قسيط: قيض الله له أروية من الوحش تروح عليه بكرة وعشيا
فيشرب من لبنها حتى نبت لحمه.
فإن قيل: ما الفائدة في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟
فالجواب: أنه خرج كالفرخ على ما وصفنا، وجلده قد ذاب، فأدنى شئ يمر به يؤذيه، وفي
ورق اليقطين خاصية، وهو أنه إذا ترك على شئ، لم يقربه ذباب، فأنبته الله عليه ليغطيه ورقها
ويمنع الذباب ريحه أن يسقط عليه فيؤذيه.
قوله تعالى: (و أرسلناه إلى مائة ألف) اختلفوا، هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه،
أم بعد ذلك؟ على قولين:
أحدهما: أنها كانت بعد نبذ الحوت إياه، على ما ذكرنا في [سورة] يونس، وهو مروي عن
ابن عباس.
والثاني: أنها كانت قبل التقام الحوت له، وهو قول الأكثرين، منهم الحسن، ومجاهد، وهو
الأصح، والمعنى: وكنا أرسلناه إلى مائة ألف، فلما خرج من بطن الحوت، أمر أن يرجع إلى قومه
الذين أرسل إليهم. وفي قوله: (أو) ثلاثة أقوال:
311

أحدها: أنها بمعنى " بل " قاله ابن عباس، والفراء.
والثاني: أنها بمعنى الواو، قاله ابن قتيبة، وقد قرأ أبي بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبو
المتوكل، وأبو عمران: " ويزيدون " من غير ألف..
والثالث: أنها على أصلها، والمعنى: أو يزيدون في تقديركم، إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء
مائة ألف أو يزيدون.
وفي زيادتهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا مائة ألف يزيدون عشرون ألفا، رواه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنهم كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا.
والثالث: مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفا، رويا عن ابن عباس.
والرابع: أنهم كانوا يزيدون سبعين ألفا، قاله سعيد بن جبير، ونوف.
قوله تعالى: (فآمنوا) في وقت إيمانهم قولان:
أحدهما: عند معاينة العذاب.
والثاني: حين أرسل إليهم يونس (فمتعناهم إلى حين) إلى منتهى آجالهم.
فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون (150)
ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152) أصطفى البنات على
البنين (153) ما لكم كيف تحكمون (154) أفلا تذكرون (155) أم لكم سلطان مبين (156) فأتوا
بكتابكم إن كنتم صادقين (157) و جعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم
لمحضرون (158) سبحان الله عما يصفون (159) إلا عباد الله المخلصين (160) فإنكم وما
تعبدون (161) ما أنتم عليه بفاتنين (162) إلا من هو صال الجحيم (163)
قوله تعالى: (فاستفهم) أي: سل أهل مكة سؤال توبيخ وتقرير، لأنهم زعموا أن الملائكة
بنات الله (وهم شاهدون) أي: حاضرون. (ألا إنهم من إفكهم) أي: كذبهم (ليقولون، ولد
الله) حين زعموا أن الملائكة بناته..
قوله تعالى: (أصطفى البنات) قال الفراء: هذا استفهام فيه توبيخ لهم، وقد تطرح ألف
الاستفهام من التوبيخ، ومثله: (أذهبتم طيباتكم) و " أذهبتم " يستفهم بها ولا يستفهم، ومعناهما
312

واحد. وقرأ أبو هريرة، وابن المسيب، والزهري، وابن جماز عن نافع، وأبو جعفر، وشيبة: " لكاذبون
اصطفى " بالوصل غير مهموز ولا ممدود، و قال أبو علي: وهو على وجه الخبر، كأنه قال:
اصطفى البنات فيما يقولون، كقوله: (ذق انك أنت العزيز الكريم).
قوله تعالى: (ما لم كيف تحكمون) لله بالبنات ولأنفسكم بالبنين؟! (أم لكم سلطان مبين)
أي: حجة بينة على ما تقولون، (فأتوا بكتابكم) الذي فيه حجتكم.
(وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم قالوا: هو وإبليس أخوانا، رواه العوفي عن ابن عباس، قال الماوردي: وهو قول
الزنادقة والذين يقولون: الخير من الله، والشر من إبليس.
والثاني: أن كفار قريش قالوا: الملائكة بنات الله، والجنة صنف من الملائكة يقال لهم:
الجنة، قاله مجاهد.
والثالث: أن اليهود قالت: إن الله تعالى تزوج إلى الجن فخرجت من بينهم الملائكة، قاله
قتادة، وابن السائب.
فخرج في معنى الجنة قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة.
والثاني: الجن. فعلى الأول، يكون معنى قوله تعالى: (و لقد علمت الجنة) أي: علمت
الملائكة (إنهم) أي: إن هؤلاء المشركين (لمحضرون) النار.
وعلى الثاني: " ولقد علمت الجنة إنهم " أي: إن الجن أنفسها " لمحضرون " الحساب.
قوله تعالى: (إلا عباد الله المخلصين) يعني الموحدين. وفيما استثنوا منه قولان:
أحدهما: أنهم استثنوا من حضور النار، قاله مقاتل.
والثاني: مما يصف أولئك، وهو معنى قول ابن السائب.
قوله تعالى: (فإنكم) يعني المشركين (و ما تعبدون) من دون الله، (ما أنتم عليه) أي:
على ما تعبدون (بفاتنين) أي: بمضلين أحدا، (إلا من هو صال الجحيم) أي: من سبق له
في علم الله أنه يدخل النار.
وما منا إلا له مقام معلوم (164) وإنا لنحن الصافون (165) وإنا لنحن المسبحون (166)
وإن كانوا ليقولون (167) لو أن عندنا ذكرا من الأولين (168) لكنا عباد الله المخلصين (169)
313

فكفروا به فسوف يعلمون (170) ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم
المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173) فتول عنهم حتى حين (174) وأبصرهم فسوف
يبصرون (175) أفبعذابنا يستعجلون (176) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين (177)
وتول عنهم حتى حين (178) و أبصر فسوف يبصرون (179) سبحان ربك رب العزة عما
يصفون (180) وسلام على المرسلين (181) والحمد لله رب العالمين (182)
ثم أخبر عن الملائكة بقوله تعالى: (و ما منا) ملك (إلا له مقام معلوم) أي: مكان في
السماوات مخصوص يعبد الله فيه (و إنا لنحن الصافون) قال قتادة: صفوف في السماء. وقال
السدي: هو الصلاة. وقال ابن السائب: صفوفهم في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض.
قوله تعالى: (و إنا لنحن المسبحون) فيه قولان:
أحدهما: المصلون.
والثاني: المنزهون لله [عز وجل] عن السوء. وكان عمر بن الخطاب إذا أقيمت الصلاة أقبل
على الناس بوجهه وقال: يا أيها الناس استووا، فإنما يريد الله بكم هدي الملائكة، وإنا لنحن
الصافون، وإنا لنحن المسبحون.
ثم عاد إلى الإخبار عن المشركين، فقال: (و إن كانوا ليقولون) اللام في " ليقولون " لام
توكيد، والمعنى: وقد كان كفار قريش يقولون قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن عندنا ذكرا) أي: كتابا
(من الأولين) أي: مثل كتب الأولين، وهم اليهود والنصارى، (لكنا عباد الله المخلصين) أي:
لأخلصنا العبادة لله [عز وجل].
(فكفروا به) فيه اختصار، تقديره: فلما آتاهم ما طلبوا، كفروا به، (فسوف يعلمون) عاقبة
كفرهم، وهذا تهديد لهم.
(ولقد سبقت كلمتنا) أي: تقدم وعدنا للمرسلين بنصرهم والكلمة قوله تعالى: (كتب الله
لأغلبن أنا ورسلي)، (إنهم لهم المنصورون) بالحجة، (و إن جندنا) يعني حزبنا المؤمنين
(لهم الغالبون) بالحجة أيضا والظفر. (فتول عنهم) أي: أعرض عن كفار مكة (حتى حين)
أي: حتى تنقضي مدة إمهالهم. وقال مجاهد: حتى نأمرك بالقتال، فعلى هذا، الآية محكمة. وقال
314

في رواية. حتى الموت، وكذلك قال قتادة. وقال ابن زيد: حتى القيامة، فعلى هذا، يتطرق نسخها.
وقال مقاتل بن حيان: نسختها آية السيف.
قوله تعالى: (و أبصرهم) أي: انظر إليهم إذا نزل بهم العذاب. قال مقاتل بن سليمان، هو
العذاب ببدر، وقيل: أبصر حالهم بقلبك (فسوف يبصرون) ما أنكروا، وكانوا يستعجلون بالعذاب
تكذيبا به، فقيل: (أفبعذابنا يستعجلون؟!).
(فإذا نزل) يعني العذاب. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران، والجحدري، وابن يعمر:
" فإذا نزل " برفع النون وكسر الزاي وتشديدها (بساحتهم) أي: بفنائهم وناحيتهم. والساحة: فناء
الدار. قال الفراء: العرب تكتفي بالساحة والعقوة من القوم، فيقولون: نزل بك العذاب، وبساحتك.
قال الزجاج: فكان عذاب هؤلاء القتل (فساء صباح المنذرين) أي: بئس صباح الذين أنذروا
بالعذاب.
ثم كرر ما تقدم توكيدا لوعده بالعذاب، فقال: (و تول عنهم...) الآيتين.
ثم نزه نفسه عن قولهم بقوله تعالى: (سبحان ربك رب العزة) قال مقاتل. يعني عزة من
يتعزز من ملوك الدنيا.
قوله تعالى: (عما يصفون) أي: من اتخاذ النساء والأولاد.
(وسلام على المرسلين) فيه وجهان:
أحدهما: تسليمه عليهم إكراما لهم.
والثاني: إخباره بسلامتهم.
(والحمد لله رب العالمين) على هلاك المشركين ونصرة الأنبياء و المؤمنين.
والله أعلم بالصواب
315

(38) سورة ص مكية
و آياتها ثمان و ثمانون
ويقال لها: سورة داود، وهي مكية كلها بإجماعهم.
فأما سبب نزولها، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن قريشا شكوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: " يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها
العرب وتؤدي إليهم الجزية بها العجم "، قال: كلمة؟ قال: " كلمة واحدة "، قال: ما هي؟ قال: " لا
إله إلا الله "، فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا، فنزلت فيهم: (ص والقرآن) إلى قوله تعالى: (إن هذا إلا
اختلاق).
بسم الله الرحمن الرحيم
ص والقرآن ذي الذكر (1) بل الذين كفروا في عزة وشقاق (2) كم أهلكنا من قبلهم
من قرن فنادوا ولات حين مناص (3)
واختلفوا في معنى " ص " على سبعة أقوال:
أحدها: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
316

والثاني: أنه بمعنى: صدق محمد صلى الله عليه و آله و سلم، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: صدق الله، قاله الضحاك، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: معناه: صادق فيما
وعد. وقال الزجاج: معناه: الصادق الله تعالى.
والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، أقسم الله به، قاله قتادة.
والخامس: أنه اسم حية رأسها تحت العرش وذنبها تحت الأرض السفلى، حكاه أبو سليمان
الدمشقي، وقال: أظنه عن عكرمة.
والسادس: أنه بمعنى: حادث القرآن، أي: انظر فيه، قاله الحسن، وهذا على قراءة من
كسروا، منهم ابن عباس، والحسن، وابن أبي عبلة، قال ابن جرير: فيكون المعنى: صاد
بعملك القرآن، أي عارضه. وقيل: اعرضه على عملك، فانظر أين هو منه.
والسابع: أنه بمعنى: صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به وأحبوه، حكاه الثعلبي،
وهذا على قراءة من فتح، وهي قراءة أبي رجاء، وأبي الجوزاء، وحميد، ومحبوب عن أبي
عمرو، قال الزجاج: والقراءة " صاد " بتسكين الدال، لأنها من حروف التهجي. وقد قرئت بالفتح
وبالكسر، فمن فتحها، فعلى ضربين:.
أحدهما: لالتقاء الساكنين.
والثاني: على معنى: أتل " صاد " وتكون [صاد] اسما للسورة لا ينصرف، ومن كسر، فعلى
ضربين:
أحدهما: لالتقاء الساكنين أيضا.
والثاني: على معنى: صاد القرآن بعملك، من قولك: صادى يصادي: إذا قابل وعادل،
يقال: صاديته: إذا قابلته.
قوله تعالى: (ذي الذكر) في المراد بالذكر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الشرف، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدي.
والثاني: البيان، قاله قتادة.
والثالث: التذكير، قاله الضحاك.
فإن قيل: أين جواب القسم بقوله: " ص والقرآن ذي الذكر "؟ فعنه خمسة أجوبة:
أحدها: أن " ص " جواب لقوله: " والقرآن "، ف " ص " في معناها، كقولك: وجب والله، نزل
والله، حق والله، قاله الفراء، وثعلب.
والثاني: أن جواب " ص " قوله تعالى (كم أهلكنا من قبلهم من قرن) ومعناه: لكم، فلما طال
الكلام، حذفت اللام، ومثله: (و الشمس وضحاها) (قد أفلح)، فإن المعنى: لقد أفلح،
317

غير أنه لما اعترض بينهما كلام، تبعه قوله تعالى: (قد أفلح)، حكاه الفراء، وثعلب أيضا.
والثالث: أنه قوله: (إن كل إلا كذب الرسل)، حكاه الأخفش.
والرابع: أنه قوله: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) قاله الكسائي، وقال الفراء: لا
نجده مستقيما في العربية، لتأخره جدا عن قوله تعالى: (والقرآن).
والخامس: أن جوابه محذوف، تقديره: والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقول الكفار، ويدل
على هذا المحذوف قوله تعالى: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق)، ذكره جماعة من المفسرين،
وإلى نحوه ذهب قتادة. والعزة: الحمية والتكبر عن الحق. وقرأ عمرو بن العاص، وأبو رزين، وابن
يعمر، وعاصم الجحدري، ومحبوب عن أبي عمرو: " في غرة " بغين معجمة وراء غير معجمة.
والشقاق: الخلاف والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق بيان الكلمتين مشروحا.
ثم خوفهم بقوله تعالى: (كم أهلكنا من قبلهم من قرن) يعنى الأمم الخالية (فنادوا) عند
وقوع الهلاك بهم. وفي هذا النداء قولان:
أحدهما: أنه الدعاء.
والثاني: الاستغاثة.
قوله تعالى: (ولات حين مناص) وقرأ الضحاك، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، وابن
يعمر: " ولات حين " بفتح التاء ورفع النون. قال ابن عاصم: ليس حين يروه فرار. وقال عطاء: في
لغة أهل اليمن " لات " بمعنى " ليس ". وقال وهب بن منبه: هي بالسريانية. وقال الفراء: " لات "
بمعنى " ليس "، فالمعنى: ليس بحين فرار. ومن القراء من يخفض " لات "، والوجه النصب، لأنها في
معنى " ليس "، أنشدني المفضل:
تذكر حب ليلى لات حينا * وأضحى يكون الشيب قد قطع القرينا
قال ابن الأنباري: كان الفراء والكسائي والخليل وسيبويه والأخفش وأبو عبيدة يذهبون إلى أن
التاء في قوله تعالى: " ولات " منقطعة من " حين "، قال: وقال أبو عبيدة: الوقف عندي على هذا
الحرف " ولا "، والابتداء " تحين " لثلاث حجج:
إحداهن: أن تفسير ابن عباس يشهد لها، لأنه قال: ليس حين يروه فرار، فقد علم أن " ليس "
هي أخت " لا " و بمعناها.
والحجة الثانية: أنا لا نجد في شئ من كلام العرب " ولات "، إنما المعروفة " لا ".
318

والحجة الثالثة: أن هذه التاء، إنما وجدناها تلحق مع " حين " ومع " الآن " ومع ال‍ " أوان "،
فيقولون: كان هذا تحين كان ذلك، وكذلك: " تأوان "، ويقال: اذهب تلان، ومنه قول أبي وجزة
السعدي:
العاطفون تحين ما من عاطف
والمطعمون زمان ما من مطعم
وذكر ابن قتيبة عن ابن الأعرابي أن معنى هذا البيت: " العاطفونه " بالهاء، ثم تبتدئ: " حين ما
من عاطف "، قال ابن الأنباري: وهذا غلط، لأن الهاء إنما تقحم على النون في مواضع القطع والسكون،
فأما مع الاتصال، فإنه غير موجود، وقال علي بن أحمد النيسابوري: النحويون يقولون في قوله تعالى:
" ولات ": هي " لا " زيدت فيها التاء كما قالوا: ثم وثمت، ورب وربت، وأصلها هاء وصلت ب‍ " لا "،
فقالوا: " لاه " فلما وصلوها، جعلوها تاء، والوقف عليها بالتاء عند الزجاج، وأبي علي، وعند الكسائي
بالهاء، وعند أبي عبيد الوقف على " لا ".
فأما المناص، فهو الفرار. قال الفراء: النوص في كلام العرب: التأخر، والبوص: التقدم: قال امرؤ
القيس:
أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص
فتقصر عنها خطوة وتبوص
وقال أبو عبيدة: المناص: مصدر ناص ينوص، وهو المنجى والفوز.
وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4) أجعل الآلهة إلها
واحدا إن هذا لشئ عجاب (5) وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن
هذا لشئ يراد (6) ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (7) أأنزل عليه
الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب (8) أم عندهم خزائن رحمة
ربك العزيز الوهاب (9) أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في
319

الأسباب (10) جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب (11)
قوله تعالى: (و عجبوا) يعني الكفار (أن جاءهم منذر منهم) يعني رسولا من أنفسهم ينذرهم
النار.
(اجعل الآلهة إلها واحدا) لأنه دعاهم إلى الله وحده وأبطل عبادة آلتهم، وهذا قولهم لما
اجتمعوا عند أبي طالب، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أتعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم
بها العجم، وهي " لا إله إلا الله "، فقاموا يقولون: " أجعل الآلهة إلها واحدا " ونزلت هذه الآية
فيهم. (إن هذا) الذي يقول محمد من أن الآلهة إله واحدا (لشئ عجاب) أي: لأمر عجب.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن السميفع: " عجاب " بتشديد الجيم.
قال اللغويون: العجاب والعجاب والعجيب بمعنى واحد، كما يقال: كبير وكبار، وكريم وكرام، وطويل
وطوال وطوال، وأنشد الفراء:
جاؤوا بصيد عجب من العجب * أزيرق العينين طوال الذنب
قال قتادة: عجب المشركون أن دعي الله وحده، وقالوا: أيسمع لحاجتنا جميعا إله واحد؟!
قوله تعالى: (و انطلق الملأ منهم) قال المفسرون: لما اجتمع أشراف قريش عند أبي طالب
وشكوا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سبق بيانه، نفروا من قول: " لا إله إلا الله "، وخرجوا من عند
أبي طالب، فذلك قوله تعالى: (وانطلق الملأ منهم). و الانطلاق: الذهاب بسهولة، ومنه طلاقة
الوجه. والملأ: أشراف قريش. فخرجوا يقول بعضهم لبعض: (امشوا) و (أن) بمعنى " أي "،
فالمعنى: أي: امشوا. قال الزجاج: ويجوز أن يكون المعنى: انطلقوا بأن امشوا، أي: انطلقوا
بهذا القول. وقال بعضهم: المعنى: انطلقوا يقولون: امشوا إلى أبي طالب فاشكوا إليه ابن أخيه،
(واصبروا على آلهتكم) أي: أثبتوا على عبادتها (إن هذا) الذي نراه من زيادة أصحاب محمد
(لشئ يراد) أي: لأمر يراد بنا.
(ما سمعنا بهذا) الذي جاء به محمد من التوحيد (في الملة الآخرة) وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: النصرانية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وإبراهيم بن المهاجر عن مجاهد،
وبه قال محمد بن كعب القرظي، ومقاتل.
والثاني: أنها ملة قريش، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة.
والثالث: اليهودية والنصرانية، قاله الفراء، والزجاج، والمعنى أن اليهود أشركت بعزير،
والنصارى، قالت: ثالث ثلاثة، فلهذا أنكرت التوحيد.
(إن هذا) الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم (إلا اختلاق) أي: كذب. (أأنزل عليه الذكر) يعنون
320

القرآن. " عليه " يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، (من بيننا) أي: كيف خص بهذا دوننا وليس بأعلانا نسبا
ولا أعظمنا شرفا؟! قال الله تعالى: (بل هم في شك من ذكري) أي: من القرآن، والمعنى أنهم
ليسوا على يقين مما يقولون، إنما هم شاكون (بل لما) قال مقاتل: " لما " بمعنى " لم " كقوله تعالى:
(ولما يدخل الإيمان في قلوبكم). وقال غيره: هذا تهديد لهم، والمعنى أنه لو نزل بهم
العذاب، علموا أن ما قاله محمد حق. وأثبت ياء (عذابي) في الحالين يعقوب
قال الزجاج: ولما دل قولهم: " أأنزل عليه الذكر " على حسدهم له، أعلم الله عز وجل أن
الملك والرسالة إليه، فقال: (أم عندهم خزائن رحمة ربك)؟! قال المفسرون: ومعنى الآية:
أبأيديهم مفاتيح النبوة فيضعونها حيث شاؤوا؟! والمعنى: ليست بأيديهم، ولا ملك السماوات
والأرض لهم، فإن ادعوا شيئا من ذلك (فليرتقوا في الأسباب) قال سعيد بن جبير: أي: في أبواب
السماء. وقال الزجاج: فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء.
قوله تعالى: (جند) أي: هم جند. والجند: الأتباع، فكأنه قال: هم اتباع مقلدون ليس
فيهم عالم راشد. و (ما) زائدة، و (هنالك) إشارة إلى بدر. والأحزاب: جميع من تقدمهم من الكفار
الذين تحزبوا على الأنبياء. قال قتادة: أخبر الله نبيه وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين، فجاء
تأويلها يوم بدر.
كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد (12) و ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة
أولئك الأحزاب (13) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (14) وما ينظر هؤلاء إلا صيحة
واحدة مالها من فواق (15)
قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح) قال أبو عبيدة: قوم من العرب يؤنثون، و قوم
يذكرون، فإن احتج عليهم بهذه الآية، قالوا: وقع المعنى على العشيرة، واحتجوا بقوله تعالى:
(كلا إنها تذكرة)، قالوا: والمضمر مذكر.
قوله تعالى: (و فرعون ذو الأوتاد) فيه ستة أقوال:
أحدها: أنه كان يعذب الناس بأربعة أوتاد يشدهم فيها، ثم يرفع صخرة فتلقى على الإنسان
فتشدخه، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وكذلك قال الحسن، ومجاهد: كان يعذب الناس بأوتاد
يوتدها في أيديهم وأرجلهم.
والثاني: أنه ذو البناء المحكم، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال الضحاك، والقرظي،
321

واختاره ابن قتيبة، قال: والعرب تقول: هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد، يريدون أنه دائم
شديد، وأصل هذا، أن البيت [من بيوتهم] يثبت بأوتاد، قال الأسود بن يعفر:
في ظل ملك ثابت الأوتاد
والثالث: أن المراد بالأوتاد: الجنود، رواه عطية عن ابن عباس، وذلك أنهم كانوا يشدون
ملكه ويقوون أمره كما يقوي الوتد الشئ.
والرابع: أنه كان له أربع أسطوانات، فيأخذ الرجل فيمد كل قائمة إلى أسطوانة فيعذبه، روي
القولان عن سعيد بن جبير.
والسادس: أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب له عليها، قاله عطاء، وقتادة.
ولما ذكر المكذبين، قال: (أولئك الأحزاب) فأعلمنا أن مشركي قريش من هؤلاء، وقد
عذبوا وأهلكوا، (فحق عقاب). أثبت الياء في الحالين يعقوب. (و ما ينظر) أي: وما ينتظر
(هؤلاء) يعني كفار مكة (إلا صيحة واحدة) وفيها قولان:
أحدهما: أنها النفخة الأولى، قاله مقاتل.
والثاني: النفخة الأخيرة، قاله ابن السائب.
وفي الفواق قراءتان. قرأ حمزة، وخلف، والكسائي: بضم الفاء. وقرأ الباقون: بفتحها. وهل
بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد، وهو معنى قول الفراء، وابن قتيبة، والزجاج. قال
الفراء: والمعنى: مالها من راحة ولا إفاقة، وأصله من الإفاقة في الرضاع إذا ارتضعت البهيمة أمها
ثم تركتها حتى تنزل شيئا من للبن، فتلك الإفاقة. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " العيادة قدر فواق
ناقة ". ومن يفتح الفاء، فيه لغة جيدة عالية. وقال ابن قتيبة: الفواق والفواق واحد، وهو أن تحلب
الناقة وتترك ساعة حتى تنزل شيئا من اللبن، ثم تحلب، فما بين الحلبتين فواق. فاستعير الفواق في
موضع المكث والانتظار. وقال الزجاج: الفواق: ما بين حلبتي الناقة، وهو مشتق من الرجوع، لأنه
يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، يقال: أفاق من مرضه، أي: رجع إلى الصحة.
والثاني: أن من فتحها، أراد: مالها من راحة، ومن ضمها، أراد: فواق الناقة، قاله أبو
عبيدة.
وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال:
أحدها: مالها من رجعة، ثم فيه قولان:
أحدهما: مالها من ترداد، قاله ابن عباس، والمعنى أن تلك الصيحة لا تكرر.
والثاني: مالها من رجوع إلى الدنيا، قاله الحسن، وقتادة، والمعنى أنهم لا يعودون بعدها إلى
الدنيا.
322

والثاني: ما لهم منها من إفاقة، بل تهلكهم، قاله ابن زيد.
والثالث: مالها من فتور ولا انقطاع، قاله ابن جرير.
والرابع: مالها من راحة، حكاه جماعة من المفسرين.
وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب (16) اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا
الأيد إنه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة
كل له أواب (19) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20)
قوله تعالى: (و قالوا ربنا عجل لنا قطنا) في سبب قولهم هذا قولان:
أحدهما: أنه لما ذكر لهم ما في الجنة، قالوا هذا، قاله سعيد بن جبير، والسدي:.
والثاني: أنه لما نزل قوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه...) الآيات، قالت قريش:
زعمت يا محمد أنا نؤتى كتبنا بشمائلنا؟! فعجل لنا قطنا، يقولون ذلك تكذيبا، قاله أبو العالية،
ومقاتل. وفي المراد بالقط أربعة أقوال:
أحدها: أنه الصحيفة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال الفراء: القط في كلام العرب:
الصك. وقال أبو عبيدة: القط: الكتاب، والقطوط: الكتب بالجوائز، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن،
ومقاتل، وابن قتيبة.
والثاني: أن القط: الحساب، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: أنه القضاء، قاله عطاء الخراساني، والمعنى أنهم لما وعدوا بالقضاء بينهم، سألوا
ذلك.
الرابع: أنه النصيب، قاله سعيد بن جبير. قال الزجاج: القط: النصيب، وأصله: الصحيفة
يكتب للانسان فيها شئ يصل إليه، واشتقاق القط من قططت، أي: قطعت، فالنصيب: هو القطعة
من الشئ. ثم في هذا القول للمفسرين قولان:
أحدهما: أنهم سألوه نصيبهم من الجنة، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: سألوه نصيبهم من العذاب، قاله قتادة. وعلى جميع الأقوال، إنما سألوا ذلك استهزاء،
لتكذيبهم بالقيامة.
323

(اصبر على ما يقولون) أي: من تكذيبهم وأذاهم، وفي هذا قولان
أحدهما: أنه أمر بالصبر، سلوكا لطريق أولي العزم، وهذا محكم.
والثاني: أنه منسوخ بآية السيف فيما زعم الكلبي.
قوله تعالى: (و أذكر عبدنا داود) في وجه المناسبة بين قوله: " اصبر " وبين قوله: " واذكر عبدنا
داود " قولان:
أحدهما: أنه أمر أن يتقوى على الصبر بذكر قوة داود على العبادة والطاعة.
والثاني: أن المعنى: عرفهم أن الأنبياء [عليهم السلام] - مع طاعتهم - كانوا خائفين مني،
هذا داود مع قوته على العبادة، لم يزل باكيا مستغفرا، فكيف حالهم مع أفعالهم؟!
فأما قوله: (ذا الأيد) فقال ابن عباس: هي القوة في العبادة. وفي " الصحيحين " من حديث
عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحب الصيام إلى صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر
يوما، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ".
وفي الأواب أقوال قد ذكرناها في (بني إسرائيل).
(إنا سخرنا الجبال معه يسبحن) قد ذكرنا تسبيح الجبال معه في سورة الأنبياء، وذكرنا
معنى العشي في مواضع مما تقدم، وذكرنا معنى الإشراق في الحجر عند قوله تعالى (مشرقين).
قال الزجاج: الإشراق: طلوع الشمس وإضاءتها. وروي عن ابن عباس أنه قال: طلبت صلاة
الضحى، فلم أجدها إلا في هذه الآية. وقد ذكرنا عنه أن صلاة الضحى مذكورة في النور في قوله
تعالى: (بالغدو والآصال).
قوله تعالى: (و الطير محشورة) وقرأ عكرمة، وأبو الجوزاء، والضحاك، وابن أبي عبلة:
" والطير محشورة " قرأ أبو عكرمة و أبو الجوزاء بالرفع فيهما، أي: مجموعة إليه، تسبح الله معه
(كل له) في هاء الكناية قولان:
أحدهما: ترجع إلى داود، أي: كل لداود (أواب) أي: رجاع إلى طاعته وأمره، والمعنى:
كل له مطيع بالتسبيح معه، هذا قول الجمهور.
والثاني: أنها ترجع إلى الله تعالى، فالمعنى: كل مسبح لله، قاله السدي.
قوله تعالى: (و شددنا ملكه) أي: قويناه. وفي ما شد به ملكه قولان:
324

أحدهما: أنه الحرس والجنود، قال ابن عباس: كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل.
والثاني: أنه هيبة ألقيت له في قلوب الناس، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا.
قوله تعالى: (و آتيناه الحكمة) وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها الفهم، قاله ابن عباس،
والحسن، وابن زيد. والثاني: الصواب، قاله مجاهد. والثالث: السنة، قاله قتادة. والرابع:
النبوة، قاله السدي.
وفي فصل الخطاب أربعة أقوال:
أحدها: علم القضاء والعدل، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: بيان الكلام، روي عن ابن عباس أيضا. وذكر الماوردي أنه البيان الكافي في كل
غرض مقصود.
والثالث: قوله: " أما بعد "، وهو أول من تكلم بها، قاله أبو موسى الأشعري، والشعبي.
والرابع: تكليف المدعي البينة، والمدعى عليه اليمين، قاله شريح، وقتادة، وهو قول
حسن، لأن الخصومة إنما تفصل بهذا.
وهل آتك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا
تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء
الصراط (22) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني
في الخطاب (23) قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء
ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن
داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له ذلك وإن له عندنا
لزلفى وحسن مآب (25) يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26)
قوله تعالى: (و هل أتاك نبأ الخصم) قال أبو سليمان: المعنى: قفد أتاك فاستمع له نقصص
عليك.
325

واختلف العلماء في السبب الذي امتحن لأجله داود [عليه السلام] بما امتحن به على خمسة
أقوال:
أحدها: أنه قال: يا رب قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لو وددت أنك
أعطيتني مثله، فقال الله تعالى: إني ابتليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم
به وأعطيتك كما أعطيتهم؟ قال: نعم، فبينما هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة، فأراد أن يأخذها
فطارت، فذهب ليأخذها، فرأى امرأة تغتسل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال السدي.
والثاني: أنه ما زال يجتهد في العبادة حتى برز له قرناؤه من الملائكة وكانوا يصلون معه
ويسعدونه بالبكاء، فلما استأنس بهم، قال: أخبروني بأي شئ أنتم موكلون؟ قالوا: ما نكتب
عليك ذنبا، بل نكتب صالح عملك ونثبتك ونوفقك ونصرف عنك السوء، فقال في نفسه: ليت
شعري، كيف أكون لو خلوني ونفسي، وتمنى أن يخلى بينه وبين نفسه ليعلم كيف يكون، فأمر الله
تعالى قرناءه أن يعتزلوه ليعلم أنه لا غناء به عن الله [تعالى] عز وجل، فلما فقدهم، جد واجتهد
ضعف عبادته إلى أن ظن أنه قد غلب نفسه، فأراد الله تعالى] أن يعرفه ضعفه، فأرسل إليه طائرا من
طيور الجنة، فسقط في محرابه، فقطع صلاته ومد يده إليه، فتنحى عن مكانه، فأتبعه بصره، فإذا
امرأة أوريا، هذا قول وهب بن منبه.
والثالث: أنه تذاكر هو وبنو إسرائيل، فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟
فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك، فلما كان يوم عبادته، أغلق أبوابه وأمر أن لا يدخل عليه أحد
وأكب على قراءه الزبور، فإذا حمامة من ذهب، فأهوى إليها فطارت، فتبعها فرأى المرأة، رواه مطر
عن الحسن.
والرابع: أنه قال لبني إسرائيل حين ملك: والله لأعدلن بينكم، ولم يستثن، فابتلي، رواه
قتادة عن الحسن.
والخامس: أنه أعجبه كثرة عمله، فابتلي، قاله أبو بكر الوراق.
الإشارة إلى قصة ابتلائه
وذكر جماعة من المفسرين أن داود لما نظر إلى المرأة، سأل عنها، وبعث زوجها إلى الغزاة
مرة بعد مرة إلى أن قتل، فتزوجها، وروى، مثل هذا عن ابن عباس، ووهب، والحسن في
326

جماعة. و هذا لا يصح من طريق النقل، ولا يجوز من حيث المعنى، لأن الأنبياء منزهون عنه.
وقد اختلف المحققون في ذنبه الذي عوتب عليه على أربعة أقوال:
أحدها: أنه لما هويها، قال لزوجها: تحول لي عنها، فعوتب على ذلك. وقد روى سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال: ما زاد داود على أن قال لصاحب المرأة: أكفلنيها وتحول لي عنها، ونحو
ذلك روي عن ابن مسعود. وقد حكى أبو سليمان الدمشقي أنه بعث إلى أوريا فأقدمه من غزاته،
فأدناه وأكرمه جدا، إلى أن قال له يوما: انزل لي عن امرأتك، وانظر أي امرأة شئت في بني إسرائيل
أزوجكها، أو أي أمة شئت أبتاعها لك، فقال: لا أريد بامرأتي بديلا، فلما لم يجبه إلى ما سأل، أمره
327

أن يرجع إلى غزاته.
والثاني: أنه تمنى تلك المرأة حلالا، وحدث نفسه بذلك، فاتفق غزو أوريا من غير أن يسعى
في سبب قتله ولا في تعريضه للهلاك، فلما بلغة قتله، لم يجزع عليه كما جزع على غيره من
جنده، ثم تزوج امرأته، فعوتب على ذلك. وذنوب الأنبياء عليهم السلام وإن صغرت، فهي عظيمة
عند الله [عز وجل].
والثالث: أنه لما وقع بصره عليها، أشبع النظر إليها حتى علقت بقلبه.
والرابع: أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة، فخطبها داود مع علمه بأن أوريا قد خطبها،
فتزوجها، فاغتم أوريا، وعاتب الله تعالى داود إذ لم يتركها لخاطبها الأول، واختار القاضي أبو يعلى
هذا القول، واستدل عليه بقوله تعالى: (و عزني في الخطاب)، قال: فدل هذا على أن الكلام إنما
كان بينهما في الخطبة، ولم يكن قد تقدم تزوج الآخر، فعوتب داود عليه السلام لشيئين ينبغي
للأنبياء التنزه عنهما:
أحدهما: خطبته على خطبته غيره.
والثاني: إظهار الحرص على التزويج مع كثرة نسائه، ولم يعتقد ذلك معصية، فعاتبه الله تعالى
عليها، قال: فأما ما روي أنه نظر إلى المرأة فهويها وقدم زوجها للقتل، فإنه وجه لا يجوز على الأنبياء، لأن
الأنبياء لا يأتون المعاصي مع العلم بها.
قال الزجاج: إنما قال: " الخصم " بلفظ الواحد، وقال: " تسوروا " بلفظ الجماعة، لأن
قولك: خصم، يصلح للواحد والاثنين والجماعة والذكر والأنثى، تقول، هذا خصم، وهي خصم،
وهما خصم، وهم خصم، وإنما يصلح لجميع ذلك لأنه مصدر، تقول: خصمته أخصمه خصما.
والمحراب هاهنا كالغرفة، قال الشاعر:
ربة محراب إذا جئتها * لم ألقها أو أرتقي سلما
و " تسوروا " يدل على علو.
قال المفسرون: كانا ملكين، وقيل: هما جبريل وميكائيل [عليهما السلام] أتياه لينبهاه على
التوبة وإنما قال: " تسوروا " وهما اثنان، لأن معنى الجمع ضم شئ إلى شئ، والاثنان فما فوقهما
جماعة.
قوله تعالى: (إذ دخلوا على داود) قال الفراء: يجوز أن يكون معنى " تسوروا ": دخلوا،
فيكون تكرارا، ويجوز أن يكون بمعنى " لما "، فيكون المعنى: إذ تسوروا المحراب لما دخلوا، ولما
تسوروا إذ دخلوا.
قوله تعالى: (ففزع منهم) وذلك أنهما أتيا على غير صفة مجيء الخصوم، وفي غير
328

الحكومة، ودخلا تسورا من غير إذن. وقال أبو الأحوص: دخلا عليه وكل واحد منهما آخذ برأس
صاحبه. و (خصمان) مرفوع بإضمار " نحن "، قال ابن الأنباري: المعنى: نحن كخصمين،
ومثل خصمين، فسقطت الكاف، وقام الخصمان مقامها، كما تقول العرب: عبد الله القمر حسنا
وهم يريدون: مثل القمر، قالت هند بنت عتبة ترثي أباها وعمها:
من حس لي الأخوين * كالغصنين أو من رآهما
أسدين في غيل يحيد * القوم عن عرواهما
صقرين لا يتذللان * ولا يباح حماهما
رمحين خطيين في * كبد السماء تراهما
أرادت: مثل أسدين، ومثل صقرين، فأسقطت مثلا وأقامت الذي بعده مقامه. ثم صرف
الله عز وجل النون والألف في " بعضنا " إلى " نحن " المضمر، كما تقول العرب: نحن قوم شرف
أبونا، ونحن قوم شرف أبوهم، والمعنى واحد. والحق هاهنا: العدل.
(ولا تشطط) أي: لا تجر، يقال: شط وأشط: إذا جار. قال الفراء: وبعض العرب
يقول: شططت علي في السوم، وأكثر الكلام " أشططت " بالألف، وشطت الدار: تباعدت.
قوله تعالى: (و اهدنا إلى سواء الصراط) أي: إلى قصد الطريق، والمعنى: احملنا على
الحق. فقال داود: تكلما، فقال أحدهما: (إن هذا أخي) قال ابن الأنباري: المعنى: قال
أحد الخصمين اللذين شبه الملكان بهما: إن هذا أخي، فأضمر القول لوضوح معناه (له تسع
وتسعون نعجة) قال الزجاج: كني عن المرأة بالنعجة. وقال غيره: العرب تشبه النساء بالنعاج،
وتوري عنها بالشاء والبقر. قال ابن قتيبة: ورى عن ذكر النساء بذكر النعاج، كما قال عنترة:
يا شاة ما قنص لمن حلت له * حرمت علي وليتها لم تحرم
يعرض بجارية، يقول: أي صيد أنت لمن حل له أن يصيدك! فأما أنا، فإن حرمة الجوار
قد حرمتك علي. وإنما ذكر الملك هذا العدد لأنه عدد نساء داود.
قوله تعالى: (ولي نعجة) فتح الياء حفص عن عاصم، وأسكنها الباقون.
(فقال أكفلنيها) قال ابن قتيبة: أي: ضمها إلي واجعلني كافلها. وقال الزجاج: أنزل
أنت عنها واجعلني أنا أكفلها.
قوله تعالى: (و عزني في الخطاب) أي: غلبني في القول. وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو
رزين العقيلي، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: " وعازني " بألف، أي: غالبني.
329

قال ابن مسعود، وابن عباس في قوله " وعزني في الخطاب ": ما زاد على أن قال: انزل لي
عنها. وروى العوفي عن ابن عباس قال: إن دعوت ودعا كان أكثر، وإن بطشت وبطش كان أشد
مني.
فطن قيل: كيف قال الملكان هذا، وليس شئ منه موجودا عندهما؟
فالجواب: أن العلماء قالوا: إنما هذا على سبيل المثل والتشبيه بقصة داود، وتقدير
كلامهما: ما تقول إن جاءك خصمان فقالا كذا وكذا؟ وكان داود لا يرى أن عليه تبعة فيما فعل،
فنبهه الله بالملكين. وقال ابن قتيبة: هذا مثل ضربه الله له ونبهه على خطيئته. وقد ذكرنا آنفا
أن المعنى: نحن كخصمين.
قوله تعالى: (قال) يعني داود (لقد ظلمك بسؤال نعجتك) قال الفراء: أي: بسؤاله
نعجتك، فإذا ألقيت الهاء من السؤال، أضفت الفعل إلى النعجة، ومثله: (لا يسأم الإنسان من
دعاء الخير)، أي: من دعائه بالخير، فلما ألقى الهاء، أضاف الفعل إلى الخير، وألقى من
الخير الباء، وأنشدوا:
فلست مسلما ما دمت حيا * على زيد بتسليم الأمير
أي: بتسليم على الأمير.
قوله تعالى: (إلى نعاجه) أي: ليضمها إلى نعاجه. قال ابن قتيبة: المعنى: بسؤال
نعجتك مضمومة إلى نعاجه، فاختصر. قال: ويقال " إلى " بمعنى " مع ".
فإن قيل: كيف حكم داود قبل أن يسمع كلام الآخر؟
فالجواب: أن الخصم الآخر اعترف، فحكم عليه باعترافه، وحذف ذكر الاعتراف اكتفاء
بفهم السامع، والعرب تقول: أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال، أي: فاتجرت فكسبت، ويدل
عليه قول السدي: إن داود قال للخصم الآخر: ما تقول؟ قال: نعم، أريد أن آخذها منه فأكمل
بها نعاجي وهو كاره، قال: إذا لا ندعك، وإن رمت هذا ضربنا منك هذا - ويشير إلى أنفه
وجبهته - فقال: أنت يا داود أحق أن يضرب هذا منك حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن
لأوريا إلا واحدة، فنظر داود فلم ير أحدا، فعرف ما وقع فيه.
قوله تعالى: (و إن كثيرا من الخلطاء) يعني الشركاء، واحدهم: خليط، وهو المخالط
في المال وإنما قال هذا، لأنه ظنهما شريكين، (إلا الذين آمنوا) أي: فإنهم لا يظلمون أحدا،
(وقليل ما هم) " ما " زائدة، والمعنى: وقليل هم، وقيل: المعنى: هم قليل، يعني
330

الصالحين الذين لا يظلمون.
قوله تعالى: (و ظن داود) أي: أيقن وعلم (أنما فتناه) فيه قولان:
أحدهما: اختبرناه.
والثاني: ابتليناه بما جرى له من نظره إلى المرأة وافتتانه بها. وقرأ عمر بن الخطاب: " أنما
فتناه " بتشديد التاء والنون جميعا. وقرأ أنس بن مالك، وأبو رزين، والحسن، وقتادة، وعلي بن
نصر عن أبي عمرو: " أنما فتناه " بتخفيف التاء والنون جميعا، يعني الملكين، قال أبو علي
الفارسي: يريد: صمدا له. وفي سبب علمه وتنبيهه على ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الملكين أفصحا له بذلك، على ما ذكرناه عن السدي.
والثاني: أنهما عرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه، فعلم أنه عني بذلك، قاله
وهب.
والثالث: أنه لما حكم بينهما، نظر أحدهما إلى صاحبه وضحك، ثم صعدا إلى السماء وهو
ينظر، فعلم أن الله [تعالى] ابتلاه بذلك، قاله مقاتل.
قوله تعالى: (فاستغفر ربه) قال المفسرون: لما فطن داود بذنبه خر راكعا، قال ابن
عباس: أي: ساجدا، وعبر عن السجود بالركوع، لأنهما بمعنى الانحناء. وقال بعضهم:
المعنى: فخر بعد أن كان راكعا.
فصل
واختلف العلماء هل هذه من عزائم السجود؟ على قولين:
أحدهما: ليست من عزائم السجود، و قاله الشافعي.
والثاني: أنها من عزائم السجود، قاله أبو حنيفة. وعن أحمد روايتان. قال المفسرون:
فبقي في سجوده أربعين ليلة، لا يرفع رأسه إلا لوقت صلاة مكتوبة أو حاجة لا بد منها، ولا يأكل
ولا يشرب، فأكلت الأرض من جبينه، ونبت العشب من دموعه، ويقول في سجوده: رب داود،
زل داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب. و قال مجاهد: نبت البقل من دموعه حتى غطى رأسه،
ثم نادى: رب قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه في خطيئته شئ، فنودي: أجائع
فتطعم، أم مريض فتشفى، أم مظلوم فينتصر لك؟ فنحب نحيبا هاج كل شئ نبت، فعند ذلك
غفر له. وقال ثابت البناني: اتخذ داود سبع حشايا من شعر وحشاهن من الرماد، ثم بكى حتى
أنفذها دموعا، ولم يشرب شرابا إلا ممزوجا بدموع عينيه. وقال وهب بن منبه: نودي: يا داود
ارفع رأسك فإنا قد غفرنا لك، فرفع رأسه وقد زمن وصار مرعشا.
331

فأما قوله: (و أناب) فمعناه: رجع من ذنبه تائبا إلى ربه، (فغفرنا له ذلك) يعني الذنب
(وإن له عندنا لزلفى) قال ابن قتيبة: أي: تقدم وقربة.
قوله تعالى: (و حسن مآب) قال مقاتل: حسن مرجع، وهو ما أعد الله له في الجنة.
قوله تعالى: (يا داود) المعنى: وقلنا له يا داود (إنا جعلناك) أي: صيرناك (خليفة في
الأرض) أي: تدبر أمر العباد من قبلنا بأمرنا، فكأنك خليفة عنا (فاحكم بين الناس بالحق)
أي: بالعدل (و لا تتبع الهوى) أي: لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله عز وجل (فيضلك
عن سبيل الله) أي: عن دينه (إن الذين يضلون) وقرأ أبو نهيك، وأبو حيوة، وابن يعمر:
" يضلون " بضم الياء.
قوله تعالى: (بما نسوا يوم الحساب) فيه قولان:
أحدهما: بما تركوا العمل ليوم الحساب، قاله السدي. قال الزجاج: لما تركوا العمل
لذلك اليوم، صاروا بمنزلة الناسين.
والثاني: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، تقديره: لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا،
أي: تركوا القضاء بالعدل، وهو قول عكرمة.
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين
كفروا من النار (27) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم
نجعل المتقين كالفجار (28) كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا
الألباب (29)
قوله تعالى: (و ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) أي: عبثا (ذلك ظن الذين
كفروا) أن ذلك خلق لغير شئ، وإنما خلق للثواب والعقاب.
(أم نجعل الذين آمنوا) قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة مثل ما
تعطون، فنزلت هذه الآية. وقال ابن السائب: نزلت في الستة الذين تبارزوا يوم بدر، علي
[رضي الله عنه]، وحمزة [رضي الله عنه]، وعبيدة بن الحارث [رضي الله عنه]، وعتبة،
وشيبة، والوليد بن عتبة، فذكر أولئك بالفساد في الأرض لعملهم فيها بالمعاصي، وسمى المؤمنين
بالمتقين لاتقائهم الشرك، وحكم الآية عام.
332

قوله تعالى: (كتاب) أي: هذا كتاب، يعني القرآن، وقد بينا معنى بركته في سورة
الأنعام.
(ليدبروا آياته) وقرأ عاصم في رواية: " لتدبروا آياته " بالتاء خفيفة الدال، أي: ليتفكروا
فيها فيتقرر عندهم صحتها (و ليتذكر) بما فيه من المواعظ (أولوا الألباب)، وقد سبق بيان
هذا.
ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب (30) إذ عرض عليه بالعشي الصافنات
الجياد (31) فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب (32) ردوها
علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33) ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم
أناب (34) قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (35)
فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب (36) والشياطين كل بناء وغواص (37)
وآخرين مقرنين في الأصفاد (38) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39) وإن
له عندنا لزلفى وحسن مآب (40) واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان
بنصب وعذاب (41) أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) ووهبنا له أهله
ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب (43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به
ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44)
قوله تعالى: (نعم العبد) يعني به سليمان.
وفي الأواب أقوال قد تقدمت في بني إسرائيل أليقها بهذا المكان أنه رجاع بالتوبة
إلى الله تعالى مما يقع منه من السهو والغفلة.
قوله تعالى: (إذ عرض عليه بالعشي) وهو ما بعد الزوال (الصافنات) وهي الخيل.
333

وفي معنى الصافنات قولان:
أحدهما: أنها القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو
رجل، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وابن زيد، واختاره الزجاج، وقال هذا أكثر قيام الخيل
إذا وقفت كأنها تراوح بين قوائمها، قال الشاعر:
ألف الصفون فما يزال كأنه * مما يقوم على الثلاث كسيرا
والثاني: أنها القائمة، سواء كانت على ثلاث أو غير ثلاث، قال الفراء: على هذا رأيت
العرب، وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة. وقال ابن قتيبة: الصافن في كلام العرب: الواقف
من الخيل وغيرها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن يقوم له الرجال صفونا، فليتبوأ مقعده من
النار "، أي: يديمون القيام له.
فأما الجياد، فهي السراع في الجري. وفي سبب عرضها عليه أربعة أقوال:
أحدها: أنه عرضها لأنه أراد جهاد عدو له، قاله علي.
والثاني: أنها كانت من دواب البحر. قال الحسن: بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر
لها أجنحة. وقال إبراهيم التيمي: كانت عشرين فرسا ذات أجنحة. وقال ابن زيد: أخرجتها له
الشياطين من البحر.
والثالث: أنه ورثها من أبيه داود، فعرضت عليه، قاله وهب بن منبه، ومقاتل.
والرابع: أنه غزا جيشا، فظفر به وغنمها، فدعا بها فعرضت عليه، قاله ابن السائب.
وفي عددها أربعة أقوال:
أحدها: ثلاثة عشر ألفا، قاله وهب.
والثاني: عشرون ألفا، قاله سعيد بن مسروق.
والثالث: ألف فرس، قاله ابن السائب، ومقاتل.
والرابع: عشرون فرسا، وقد ذكرناه عن إبراهيم التيمي.
قال المفسرون: ولم تزل تعرض عليه إلى أن غابت الشمس، ففاتته صلاة العصر، وكان
مهيبا لا يبتدئه أحد بشئ، فلم يذكروه، ونسي هو، فلما غابت الشمس ذكر الصلاة، (فقال إني
أحببت) فتح الياء أهل الحجاز وأبو عمرو (حب الخير) وفيه قولان:
أحدهما: أنه المال، قاله سعيد بن جبير، والضحاك.
والثاني: حب الخيل، قاله قتادة، والسدي. والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لأنه أراد
بالخير الخيل، وهي مال. وقال الفراء: العرب تسمي الخيل: الخير. قال الزجاج: وقد سمى
334

رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخيل: زيد الخير، ومعنى " أحببت ": آثرت حب الخير على ذكر ربي،
وكذلك قال غير الزجاج: " عن " بمعنى " على ". وقال بعضهم: يحتمل المعنى: فشغلني عن
ذكر ربي. و قال أبو عبيدة: معنى [الكلام]: أحببت حبا، ثم أضاف الحب إلى الخير. وقال ابن
قتيبة: سمى الخيل خيرا، لما فيها من الخير. والمفسرون على أن المراد بذكر ربه: صلاة
العصر، قاله علي، وابن مسعود، وقتادة في آخرين. وقال الزجاج: لا أدري هل كانت صلاة
العصر مفروضة، أم لا!، إلا أن اعتراضه الخيل شغله عن وقت كان يذكر الله فيه (حتى توارت
بالحجاب) وأهل اللغة يقولون: يعني الشمس، ولم يجر لها ذكر، ولا أحسبهم أعطوا في هذا
الفكر حقه، لأن في الآية دليلا على الشمس، وهو قوله: " بالعشي " ومعناه: عرض عليه بعد
زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب، ولا يجوز الإضمار إلا أن يجري ذكر، أو دليل ذكر
فيكون بمنزلة الذكر، وأما الحجاب، فهو ما يحجبها عن الأبصار.
قوله تعالى: (ردوها علي) قال المفسرون: لما شغله عرض الخيل عليه عن الصلاة،
فصلاها بعد خروج وقتها، اغتم وغضب، وقال: " ردوها علي "، يعني: أعيدوا الخيل علي
(فطفق) قال ابن قتيبة: أي أقبل (مسحا) قال الأخفش: أي: يمسح مسحا.
فأما السوق، فجمع ساق، مثل دور ودار. وهمز السؤق ابن كثير، قال أبو علي: وغير
الهمز أحسن منه. وقرأ أبو عمران الجوني، وابن محيصن: " بالسؤوق " مثل الرؤوس. وفي
المراد بالمسح هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ضربها بالسيف. روى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " فطفق مسحا
بالسوق والأعناق " قال: " بالسيف ". وروى مجاهد عن ابن عباس قال: مسح أعناقها وسوقها
بالسيف. وقال الحسن، وقتادة، وابن السائب: قطع أعناقها وسوقها، وهذا اختيار السدي،
ومقاتل، والفراء، وأبي عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة، وأبي سليمان الدمشقي، والجمهور.
والثاني: أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبا لها، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس. وقال مجاهد: مسحها بيده، وهذا اختيار ابن جرير، والقاضي أبي يعلى.
والثالث: أنه كوى سوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله تعالى، حكاه الثعلبي.
والمفسرون على القول الأول، وقد اعترضوا القول الثاني، وقالوا: أي مناسبة بين شغلها
إياه عن الصلاة وبين مسح أعرافها حبا لها؟! ولا أعلم قوله: " حبا لها " يثبت عن ابن
عباس. وحملوا قول مجاهد " مسحها بيده " أي: تولى ضرب أعناقها.
فان قيل: فالقول الأول يفسد بأنه لا ذنب للحيوان، فكيف وجه العقوبة إليه وقصد التشفي
335

بقتله، وهذا يشبه فعل الجبارين، لا فعل الأنبياء؟
فالجواب: أنه لم يكن ليفعل ذلك إلا وقد أبيح له، وجائز أن يباح له ما يمنع منه في
شرعنا، على أنه إذا ذبحها كانت قربانا، وأكل لحمها جائز، فما وقع تفريط. قال وهب بن منبه:
لما ضرب سوقها وأعناقها، شكر الله تعالى له ذلك، فسخر له الريح مكانها، وهي أحسن في
المنظر، وأسرع في السير، وأعجب في الأحدوثة.
قوله تعالى: (و لقد فتنا سليمان) أي: ابتليناه وامتحناه بسلب ملكه (و ألقينا على
كرسيه) أي: على سريره (جسدا) وفيه قولان:
أحدهما: أنه شيطان، قاله ابن عباس، والجمهور. وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال:
أحدها: صخر، رواه العوفي عن ابن عباس. وذكر العلماء أنه كان شيطانا مريدا لم يسخر
لسليمان.
والثاني: آصف، قاله مجاهد، إلا أنه ليس بالمؤمن الذي عنده الاسم الأعظم، إلا أن بعض ناقلي
التفسير حكى أنه آصف الذي عنده علم من الكتاب، وأنه لما فتن سليمان سقط الخاتم من يده فلم يثبت،
فقال آصف: أنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك، فقام في مقامه، وسار بالسيرة الجميلة، و هذا لا
يصح، ولا ذكره من يوثق به.
والثالث: حبقيق، قاله السدي، والمعنى: أجلسنا على كرسيه في ملكه شيطانا. (ثم أناب) أي:
336

رجع. وفيما رجع إليه قولان:
و المعنى: أجلسنا على كرسيه في ملكه شيطانا. (ثم أناب) أي: رجع. و فيما رجع إليه
قولان:
أحدهما: تاب من ذنبه، قاله قتادة.
والثاني: رجع إلى ملكه، قاله الضحاك.
وفي سبب ابتلاء سليمان بهذا خمسة أقوال:
أحدها: أنه كانت له امرأة يقال لها: جرادة، فكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة، فقضى
بينهم بالحق، إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا، وأوحى الله
تعالى إليه أنه سيصيبك بلاء، فكان لا يدري أيأتيه من السماء، أو من الأرض، رواه سعيد بن جبير
عن ابن عباس.
والثاني: أن زوجته جرادة كانت آثر النساء عنده، فقالت له يوما: إن أخي بينه وبين فلان
خصومة، وإني أحب أن تقضي له، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتلي لأجل ما قال، قاله السدي.
والثالث: أن زوجته جرادة كان قد سباها في غزاة له، وكانت بنت ملك فأسلمت، وكانت
تبكي عنده بالليل والنهار، فسألها عن حالها، فقالت: أذكر أبي وما كنت فيه، فلو أنك أمرت
الشياطين فصوروا صورته في داري فأتسلى بها، ففعل، فكانت إذا خرج سليمان، تسجد له هي
و ولائدها أربعين صباحا، فلما علم سليمان، كسر تلك الصورة، وعاقب المرأة وولائدها ثم
تضرع إلى الله تعالى مستغفرا مما كان في داره، فسلط الشيطان على خاتمه، هذا قول وهب بن
منبه.
والرابع: أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى الله تعالى إليه: يا سليمان، احتجبت عن
الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي ولم تنصف مظلوما من ظالم؟! فسلط الشيطان على
خاتمه، قاله سعيد بن المسيب.
والخامس: أنه قارب امرأة من نسائه في الحيض أو غيره، قاله الحسن.
والقول الثاني: أن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه: أنه ولد له ولد فاجتمعت
الشياطين، فقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد، لم ننفك من البلاء، فسبيلنا أن نقتل ولده أو
نخبله، فعلم بذلك سليمان، فأمر السحاب فحمله، وعدا ابنه في السحاب خوفا من الشياطين،
فعاتبه الحق تعالى على تخوفه من الشياطين، ومات الولد، فألقي على كرسيه ميتا جسدا، قاله الشعبي
والمفسرون على القول الأول. ونحن نذكر قصة ابتلائه على قول الجمهور.
337

الإشارة إلى ذلك
اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين:
أحدهما: أنه كان جالسا على شاطئ البحر، فوقع منه في البحر، قاله علي: رضي الله عنه.
والثاني: أن شيطانا أخذه، وفي كيفية ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أنه دخل ذات يوم الحمام ووضع الخاتم تحت فراشه، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في
البحر، وجعل الشيطان يقول: أنا نبي الله، قاله سعيد بن المسيب.
والثاني: أن سليمان قال للشيطان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فأعطاه
إياه، فنبذه في البحر، فذهب ملك سليمان، وقعد الشيطان على كرسيه، قاله مجاهد.
والثالث: أنه دخل الحمام، ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه، فأتاها الشيطان فتمثل لها
في صورة سليمان وأخذ الخاتم منها، فلما خرج سليمان، طلبه منها، فقالت: قد دفعته إليك،
فهرب سليمان وجاء الشيطان فجلس على ملكه. قاله سعيد بن جبير.
والرابع: أنه دخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه، فألقاه الشيطان في البحر فذهب ملك سليمان.
وألقي على الشيطان شبهه قاله قتادة.
فأما قصة الشيطان، فذكر أكثر المفسرين أنه لما أخذ الخاتم رمى به في البحر، وألقي عليه
شبه سليمان، فجلس على كرسيه، وتحكم في سلطانه. وقال السدي: لم يلقه في البحر حتى فر من
مكان سليمان. وهل كان يأتي نساء سليمان؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه لم يقدر عليهن، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني: أنه كان يأتيهن في زمن الحيض، فأنكرنه، قاله سعيد بن المسيب، والأول أصح.
قالوا: وكان يقضي بقضايا فاسدة، ويحكم بما لا يجوز، فأنكره بنو إسرائيل، فقال بعضهم لبعض:
إما أن تكونوا قد هلكتم أنتم، وإما أن يكون ملككم قد هلك، فاذهبوا إلى نسائه فاسألوهن، فذهبوا،
فقلن: إنا والله قد أنكرناه، فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء.
وفي كيفية بعد الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال:
أحدها: أن سليمان وجد خاتمه فتختم به، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان، قاله سعيد بن
المسيب.
والثاني: أن سليمان لما رجع إلى ملكه وجاءته الريح والطير والشياطين، فر الشيطان حتى
دخل البحر، قاله مجاهد.
والثالث: أنه لما مضى أربعون يوما، طار الشيطان من مجلسه، قاله وهب.
والرابع: أن بني إسرائيل لما أنكروه، أتوه فأحدقوا به، ثم نشروا التوراة فقرؤوا فطار من بين
338

أيديهم حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت، قاله السدي.
وفي قدر مكث الشيطان قولان:
أحدهما: أربعون يوما، قاله الأكثرون.
والثاني: أربعة عشر يوما، حكاه الثعلبي.
وأما قصة سليمان عليه السلام، فإنه لما سلب خاتمه، ذهب ملكه، فانطلق هاربا في الأرض،
قال مجاهد: كان يستطعم فلا يطعم، فيقول: لو عرفتموني أعطيتموني، أنا سليمان، فيطردونه، حتى
أعطته امرأة حوتا، فوجد خاتمه في بطن الحوت. وقال سعيد بن جبير: انطلق سليمان حتى أتى
ساحل البحر، فوجد صيادين قد صادوا سمكا كثيرا وقد أنتن عليهم بعضه، فأتاهم يستطعم، فقالوا:
اذهب إلى تلك الحيتان فخذ منها، فقال: لا، أطعموني من هذا، فأبوا عليه، فقال: أطعموني،
فإني سليمان، فوثب إليه رجل منهم فضربه بالعصا غضبا لسليمان، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها
شيئا، فشق بطن حوت، فإذا هو بالخاتم. وقال الحسن: ذكر لي أنه لم يؤوه أحد من الناس، ولم
يعرف أربعين ليلة، وكان يأوي إلى امرأة مسكينة، فبينا هو يوما على شط نهر، وجد سمكة، فأتى بها
المرأة فشقتها فإذا بالخاتم. وقال الضحاك: اشترى سمكة من امرأة فشق بطنها فوجد خاتمه وفي
المدة التي سلب فيها الملك قولان:
أحدهما: أربعون ليلة، كما ذكرنا عن الحسن.
والثاني: خمسون ليلة، قاله سعيد بن جبير. قال المفسرون: فلما جعل الخاتم في يده، رد
الله عليه بهاءه وملكه، فأظلته الطير، وأقبل لا يستقبله جني ولا طائر ولا حجر ولا شجر إلا سجد
له، حتى انتهى إلى منزله قال السدي: ثم أرسل إلى الشيطان، فجيء به، فأمر به فجعل في
صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وأقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فألقي في البحر، فهو فيه
إلى أن تقوم الساعة. وقال وهب: جاب صخرة فأدخله فيها، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم قذفه
في البحر.
قوله تعالى: (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) فتح الياء نافع، وأبو عمرو، وفيه
قولان:
أحدهما: لا يكون لأحد بعدي، قاله مقاتل، وأبو عبيدة. وقد أخرج البخاري ومسلم في
" الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن عفريتا من الجن تفلت علي
البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري
المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: (ذهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من
339

بعدي) فرددته خاسئا ".
والثاني: لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي، كما فعل الشيطان الذي جلس على كرسيه،
قاله الحسن، وقتادة. وإنما طلب هذا الملك، ليعلم أنه قد غفر له، ويعرف منزلته بإجابة دعوته، قاله
الضحاك. ولم يكن في ملكه حين دعا بهذا الريح ولا الشياطين (فسخرنا له الريح) وقرأ أبو
الجوزاء، وأبو جعفر، وأبو المتوكل: " الرياح " على الجمع.
قوله تعالى: (رخاء) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: مطيعة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والضحاك.
والثاني: أنها الطيبة، قاله مجاهد.
والثالث: اللينة، مأخوذ من الرخاوة، قاله اللغويون.
فإن قيل: كيف وصفها بهذا بعد أن وصفها في سورة الأنبياء بأنها عاصفة؟
فالجواب: أن المفسرين قالوا: كان يأمر العاصف تارة ويأمر الرخاء أخرى. وقال إن قتيبة:
كأنها كانت تشتد إذا أراد.
قوله تعالى: (حيث أصاب) أي: حيث قصد وأراد. قال الأصمعي: تقول العرب: أصاب
فلان الصواب فأخطأ الجواب، أي: أراد الصواب.
قوله تعالى: (و الشياطين) أي: وسخرنا له الشياطين (كل بناء) يبنون له ما يشاء
(وغواص) يغوصون له في البحار فيستخرجون الدر، (و آخرين) أي: وسخرنا له آخرين، وهم
مردة الشياطين، سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم، قال مقاتل: أوثقهم في الحديد. وقد
شرحنا معنى (مقرنين في الأصفاد) في سورة [نبي الله] إبراهيم [عليه السلام] (هذا عطاؤنا)
المعنى: قلنا له: هذا عطاؤنا. وفي المشار إليه قولان:
أحدهما: أنه جميع ما أعطي، (فامنن أو أمسك) أي: أعط من شئت من المال، وامنع من
شئت، والمن: الإحسان إلى من لا يطلب ثوابه.
والثاني: أنه إشارة إلى الشياطين المسخرين له، فالمعنى: فامنن على من شئت باطلاقه،
وأمسك من شئت منهم. وقد روي معنى القولين عن ابن عباس.
قوله تعالى: (بغير حساب) قال الحسن: لا تبعة عليك في الدنيا ولا في الآخرة. وقال
سعيد بن جبير: ليس عليك حساب يوم القيامة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: هذا
340

عطاؤنا بغير حساب فامنن أو أمسك بغير حساب.
وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله: (مسني الشيطان) وذلك أن الشيطان سلط عليه،
فأضاف ما أصابه إليه.
قوله تعالى: (بنصب) قرأ الأكثرون بضم النون وسكون الصاد، وقرأ الحسن، وابن أبي
عبلة، وابن السميفع، والجحدري، ويعقوب: بفتحهما، وهل بينهما فرق؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما سواء، قال الفراء: هما كالرشد والرشد والعدم، والعدم، والحزن والحزن،
وكذلك قال ابن قتيبة، والزجاج. و قال المفسرون: والمراد بالنصب: الضر الذي أصابه.
والثاني: أن النصب بتسكين الصاد: الشر. وبتحريكها: الإعياء، قاله أبو عبيدة.
وقرأت عائشة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو عمارة عن حفص: " بنصب "
بضم النون والصاد جميعا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو الجوزاء، وهبيرة بن حفص:
" بنصب " بفتح النون وسكون الصاد. وفي المراد بالعذاب قولان:
أحدهما: أنه العذاب الذي أصاب جسده.
والثاني: أنه أخذ ماله وولده و أهله.
قوله تعالى: (أركض) أي: اضرب الأرض (برجلك)، ومنه: ركضت الفرس، فركض
فنبعت عين ماء، فذلك قوله [تعالى]: (هذا مغتسل) قال ابن قتيبة: المغتسل: الماء، وهو
الغسول أيضا. قال الحسن: ركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها، ثم مشى نحوا من أربعين
ذراعا، ثم ركض برجله فنبعت عين فشرب منها، وعلى هذا جمهور العلماء أنه ركض ركضتين
فنبعت له عينان، فاغتسل من واحدة، وشرب من الأخرى.
قوله تعالى: (و خذ بيدك ضغثا) كان قد حلف لئن شفاه الله ليجلدن زوجته مائة جلدة. وفي
سبب هذه اليمين ثلاثة أقوال:
أحدها: أن إبليس جلس في طريق زوجة أيوب كأنه طبيب، فقالت له: يا عبد الله: إن هاهنا
إنسانا مبتلى، فهل لك أن تداويه قال: نعم، إن شاء شفيته، على أن يقول إذا برأ: أنت شفيتني،
فجاءت فأخبرته، فقال: ذاك الشيطان، لله علي إن شفاني أن أجلدك مائة جلدة، رواه
يوسف بن مهران عن ابن عباس.
والثاني: أن إبليس لقيها فقال: إني أنا الذي فعلت بأيوب ما به، وأنا إله الأرض، وما أخذته
منه فهو بيدي، فانطلقي أريك، فمشى بها غير بعيد، ثم سحر بصرها، فأراها واديا عميقا فيه أهلها
341

وولدها ومالها، فأنت أيوب فأخبرته، فقال: ذاك الشيطان، ويحك كيف وعى قوله سمعك، والله لئن
شفاني الله عز وجل لأجلدنك مائة، قاله وهب بن منبه.
والثالث: أن إبليس جاء إلى زوجته بسخلة، فقال: ليذبح لي هذه وقد برأ، فأخبرته، فحلف
ليجلدنها، وقد ذكرنا هذا القول في سورة (الأنبياء) عن الحسن.
فأما الضغث، فقال الفراء: هو كل ما جمعته كل من شئ مثل الحزمة الرطبة، قال: وما قام
على ساق واستطال ثم جمعته، فهو ضغث. وقال ابن قتيبة: هو الحزمة من الخلال والعيدان. قال
الزجاج: هو الحزمة من الحشيش والريحان وما أشبهه. قال المفسرون: جزى الله زوجته بحسن
صبرها أن أفتاه في ضربها فسهل الأمر، فجمع لها مائة عود، وقيل: مائة سنبلة، وقيل: كانت أسلا،
وقيل: من الإذخر، وقيل: كانت شماريخ، فضربها بها ضربة واحدة ولم يحنث في يمنيه. وهل ذلك
خاص له، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه عام وبه قال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح.
والثاني: أنه خاص لأيوب، قاله مجاهد.
فصل
وقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلها وضربه بها ضربة
واحدة، فقال مالك، والليث بن سعد: لا يبر، وبه قال أصحابنا. وقال أبو حنيفة والشافعي إذا أصابه في
الضربة الواحدة كل واحد منها، فقد بر واحتجوا بعموم قصة أيوب [عليه الصلاة والسلام].
قوله تعالى: (إنا وجدناه صابرا) أي: على البلاء الذي ابتليناه به.
واذكر عبادنا إبراهيم واسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار (45) إنا أخلصناهم
بخالصة ذكرى الدار (46) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47) واذكر إسماعيل
واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار (48) هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب (46)
جنات عدن مفتحة لهم الأبواب (50) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب (51)
وعندهم قاصرات الطرف أتراب (52) هذا ما توعدون ليوم الحساب (53) إن
342

هذا لرزقنا ماله من نفاد (54)
قوله تعالى: (و أذكر عبادنا) وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد، وابن محيصن، وابن كثير:
" عبدنا " إشارة إلى إبراهيم، وجعلوا إسحاق ويعقوب عطفا عليه، لأنه الأصل وهما ولداه،
والمعنى: أذكر صبرهم، فإبراهيم ألقي في النار، وإسحاق أضجع للذبح، ويعقوب صبر على ذهاب
بصره وابتلي بفقد ولده، ولم يذكر إسماعيل معهم، لأنه لم يبتل كما ابتلوا.
(أولى الأيدي) يعني القوة في الطاعة (و الأبصار) البصائر في الدين والعلم. قال ابن جرير:
وذكر الأيدي مثل، وذلك لأن باليد البطش، وبالبطش تعرف قوة القوي فلذلك قيل للقوي: ذو يد،
وعني بالبصر: بصر القلب، وبه تنال معرفة الأشياء. وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وابن أبي عبلة:
" أولي الأيد " بغير ياء في الحالين. قال الفراء: ولها وجهان:
أحدهما: أن يكون القارئ لهذا أراد الأيدي، فحذف الياء، وهو صواب، مثل الجوار
والمناد.
والثاني: أن يكون من القوة والتأييد، من قوله تعالى: (و أيدناه بروح القدس).
قوله تعالى: (إنا أخلصناهم) أي: اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين، فأفردناهم بمفردة من
خصال الخير، ثم أبان عنها بقوله تعالى: (ذكرى الدار). و في المراد بالدار هاهنا قولان:
أحدهما: الآخرة.
والثانية: الجنة.
وفي الذكرى قولان:
أحدهما: أنها من الذكر، فعلى هذا يكون المعنى: أخلصناهم بذكر الآخرة، فليس لهم ذكر
غيرها، قاله مجاهد، وعطاء، والسدي. وكان الفضيل بن عياض يقول: هو الخوف الدائم في
القلب.
والثاني: أنها التذكير، فالمعنى أنهم يدعون الناس إلى الآخرة وإلى عبادة الله تعالى، قاله
قتادة.
وقرأ نافع: " بخالصة ذكرى الدار " فأضاف " خالصة " إلى " ذكرى الدار " قال أبو علي:
تحتمل قراءة من نون وجهين:
343

أحدهما: أن تكون " ذكرى " بدلا من " خالصة "، والتقدير: أخلصناهم بذكر الدار.
والثاني: أن يكون المعنى: أخلصناهم بأن يذكروا الدار بالتأهب للآخرة والزهد في الدنيا.
ومن أضاف، فالمعنى: أخلصناهم باخلاصهم ذكرى الدار بالخوف منها. وقال ابن زيد: أخلصناهم
بأفضل ما في الجنة.
قوله تعالى: (و إنهم عندنا لمن المصطفين) أي: من الذين اتخذهم الله صفوة فصفاهم من
الأدناس (الأخيار) الذين اختارهم.
(واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل) أي: أذكرهم بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم واليسع
نبي، واسمه أعجمي معرب، وقد ذكرناه في [سورة] الأنعام، و شرحنا في سورة الأنبياء قصة
ذي الكفل، وتكلمنا في [سورة] البقرة في اسم إسماعيل.
قوله تعالى: (هذا ذكر) أي: شرف وثناء جميل يذكرون به أبدا (و إن للمتقين لحسن مآب)
أي: حسن مرجع يرجعون إليه في الآخرة.
ثم بين ذلك المرجع، فقال: (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) قال الفراء: إنما رفعت
" الأبواب " لأن المعنى: مفتحة لهم أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة،
فيقولون: مررت على رجل حسن العين، قبيح الأنف، والمعنى: حسنة عينة، قبيح أنفه، ومنه قوله
تعالى: (فإن الجحيم هي المأوى) والمعنى: مأواه. وقال الزجاج: المعنى: مفتحة لهم الأبواب
منها، فالألف واللام للتعريف، لا للبدل. قال ابن جرير: والفائدة في ذكر تفتيح الأبواب، أن الله
تعالى أخبر عنها أن أبوابها تفتح لهم بغير فتح سكانها لها بيد، ولكن بالأمر، قال الحسن: هي أبواب
تكلم، فتكلم: انفتحي، انغلقي.
قوله تعالى: (و عندهم قاصرات الطرف) قد مضى بيانه في [سورة] الصافات قال
الزجاج: والأتراب: اللواتي أسنانهن واحدة في غاية الشباب والحسن.
قوله تعالى: (هذا ما توعدون) قرأ أبو عمرو، وابن كثير بالياء، والباقون بالتاء.
قوله تعالى: (ليوم الحساب) اللام بمعنى " في ". والنفاد: الانقطاع. قال السدي: كلما
أخذ من رزق الجنة شئ، عاد مثله.
344

هذا وإن للطاغين لشر مآب (55) جهنم يصلونها فبئس المهاد (56) هذا فليذوقوه
حميم وغساق (57) وآخر من شكله أزواج (58) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم
إنهم صالوا النار (59) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار (60)
قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار (61) وقالوا مالنا لا نرى رجالا كنا
نعدهم من الأشرار (62) اتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار (63) إن ذلك لحق
تخاصم أهل النار (64) قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار (65) رب
السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار (66)
قوله تعالى: (هذا) المعنى: هذا الذي ذكرناه (و إن للطاغين) يعني الكافرين (لشر مآب)،
ثم بين ذلك بقوله تعالى: (جهنم) والمهاد: الفراش. (هذا فليذوقوه) قال الفراء: في الآية تقديم
وتأخير، تقديرها: هذا حميم وغساق فليذوقوه، وإن شئت جعلت الحميم مستأنفا، كأنك قلت: هذا
فليذوقوه، ثم قلت: منه حميم، ومنه غساق، كقول الشاعر:
حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس * وغودر البقل ملوي ومحصود
فأما الحميم، فهو الماء الحار. وأما الغساق، ففيه لغتان، قرأ حمزة، والكسائي، وخلف،
وحفص: بالتشديد، وكذلك في (عم يتساءلون)، تابعهم المفضل في (عم يتساءلون) وقرأ
الباقون بالتخفيف، وفي الغساق أربعة أقوال:
أحدها: أنه الزمهرير، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: الغساق لا يستطيعون
أن يذوقوه من برده.
والثاني: أنه ما يجري من صديد أهل النار، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عطية،
وقتادة، وابن زيد.
والثالث: أن الغساق: عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية أو عقرب أو
غيرها، فيستنقع، فيؤتي بالآدمي فيغمس فيها غمسة، فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام،
ويجر لحمه جر الرجل ثوبه، قاله كعب.
والرابع: أنه ما يسيل من دموعهم، قاله السدي. قال أبو عبيدة: الغساق: ما سال، يقال:
345

غسقت العين والجرح. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن قتيبة قال: لم يكن أبو عبيدة
يذهب إلى أن في القرآن شيئا من غير لغة العرب، وكان يقول: هو اتفاق يقع بين اللغتين، وكان
غيره يزعم أن الغساق: البارد المنتن بلسان الترك. وقيل: فعال، من غسق يغسق، فعلى هذا
يكون عربيا، وقيل في معناه: إنه الشديد البرد، يحرق من برده. وقيل: هو ما يسيل من جلود أهل
النار من الصديد.
قوله تعالى: (و آخر) قرأ أبو عمرو، والمفضل: " وأخر " بضم الهمزة من غير مد، فجمعا
لأجل نعته بالأزواج، وهي جمع. وقرأ الباقون بفتح الألف ومده على التوحيد، واحتجوا بأن العرب
تنعت الاسم إذا كان فعلا بالقليل والكثير، قال الفراء: تقول: عذاب فلان ضروب شتى، وضربان
مختلفان، وإن شئت جعلت الأزواج نعتا للحميم والغساق والآخر، فهن ثلاثة، والأشبه أن تجعله
صفة لواحد. وقال الزجاج: من قرأ " وآخر " بالمد فالمعنى: وعذاب آخر (من شكله) أي: مثل
الأول. ومن قرأ: " وأخر " فالمعنى: وأنواع أخر، لأن قوله: (أزواج) بمعنى أنواع. فقال ابن
قتيبة: " من شكله " أي: من نحوه، " أزواج " أي: أصناف. وقال ابن جرير: " من شكله " أي:
من نحو الحميم. قال ابن مسعود في قوله: " وآخر من شكله ": هو الزمهرير. وقال الحسن: لما
ذكر الله تعالى العذاب الذي يكون في الدنيا، قال: " وآخر من شكله " أي: وآخر لم ير في الدنيا.
قوله تعالى: (هذا فوج) هذا قول الزبانية للقادة المتقدمين في الكفر إذا جاؤوهم بالأتباع.
وقيل: بل هو قول الملائكة لأهل النار كلما جاؤوهم بأمة بعد أمة. والفوج: الجماعة من الناس
وجمعه: أفواج. والمقتحم: الداخل في الشئ رميا بنفسه. قال ابن السائب: إنهم يضربون
بالمقامع، فيلقون أنفسهم في النار ويثبون فيها خوفا من تلك المقامع. فلما قالت الملائكة ذلك
لأهل النار، قالوا: لا مرحبا بهم، فاتصل الكلام كأنه قول واحد، وإنما الأول من قول الملائكة،
والثاني من قول أهل النار، وقد بينا مثل هذا في قوله: (ليعلم إني لم أخنه بالغيب) والرحب
والرحب: السعة. والمعنى: لا اتسعت بهم مساكنهم. قال أبو عبيدة: تقول العرب للرجل: لا مرحبا
[بك] أي: لا رحبت عليك الأرض. وقال ابن قتيبة: معنى قولهم: " مرحبا وأهلا " أي: أتيت
الأرض. أي: سعة، و أهلا، أي: أتيت أهلا لا غرباء فائنس و لا تستوحش، و سهلا، أي: أتيت
سهلا لا حزنا، وهو في مذهب الدعاء، كما تقول: لقيت خيرا. قال الزجاج: و " مرحبا " منصوب
بقوله: رحبت بلادك مرحبا، وصادفت مرحبا، فأدخلت " لا " على ذلك المعنى.
قوله تعالى: (إنهم صالوا النار) أي: داخلوها كما دخلناها ومقاسون حرها. فأجابهم القوم،
ف‍ (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا) إن قلنا: إنه قول الأمة المتأخرة للأمة المتقدمة،
فالمعنى: أنتم شرعتم لنا الكفر و بدأتم به قبلنا، فدخلتم النار قبلنا (فبئس القرار) أي: بئس
346

المستقر والمنزل.
(قالوا ربنا من قدم لنا هذا) أي: من سنة وشرعه (فزده عذابا ضعفا في النار) وقد شرحناه
في الأعراف وفي القائلين لهذا قولان:
أحدهما: أنه قول جميع أهل النار، قاله ابن السائب.
والثاني: قول الأتباع. قاله مقاتل.
قوله تعالى: (و قالوا) يعني أهل النار (ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار) قال
المفسرون: إذا دخلوا النار، نظروا فلم يروا من كان يخالفهم من المؤمنين، فيقولون ذلك. قال
مجاهد: يقول أبو جهل في النار. أين صهيب، أين عمار، أين خباب، أين بلال؟!
قوله تعالى: (اتخذناهم سخريا) قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " من الأشرار
اتخذناهم " بالوصل على الخبر، أي: [إنا] اتخذناهم، وهؤلاء يبتدئون بكسر الهمزة. وقرأ الباقون
بقطع الألف وفتحها على معنى الاستفهام، وهؤلاء يبتدئون بفتح الهمزة. وقال الفراء: وهذا استفهام
بمعنى التعجب والتوبيخ، والمعنى أنهم يوبخون أنفسهم على ما صنعوا بالمؤمنين. و " سخريا " يقرأ
بضم السين وكسرها. وقد شرحناها في آخر سورة [سورة] المؤمنين (أم زاغت عنهم الأبصار)
أي: وهم معنا في النار ولا نراهم؟! وقال أبو عبيدة: " أم " هاهنا بمعنى " بل ".
قوله تعالى: (إن ذلك لحق) قال الزجاج: أي: إن الذي وصفناه عنهم لحق، ثم بين ما
هو، فقال: هو (تخاصم أهل النار) وقرأ أبو الجوزاء، وأبو الشعثاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة:
" تخاصم " برفع الصاد وفتح الميم، وكسر اللام من " أهل " وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية، وأبو
المتوكل، وابن السميفع: " تخاصم أهل " بفتح الصاد والميم ورفع اللام.
قل هو نبأ عظيم (67) أنتم عنه معرضون (68) ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ
يختصمون (69) إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين (70) إذ قال ربك للملائكة إني خالق
بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72) فسجد
الملائكة كلهم أجمعون (73) إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين (74) قال
347

يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين (75) قال
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (76) قال فاخرج منها فإنك رجيم (77) وإن عليك
لعنتي إلى يوم الدين (78) قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون (79) قال فإنك من المنظرين (80)
إلى يوم الوقت المعلوم (81) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم
المخلصين (83) قال فالحق والحق أقول (84) لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85)
قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (86) إن هو إلا ذكر للعالمين (87) ولتعلمن
نبأه بعد حين (88)
قوله تعالى: (قل هو نبأ عظيم) النبأ: الخبر. وفي المشار إليه قولان:
أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور.
والثاني: أنه البعث بعد الموت، قاله قتادة (أنتم عنه معرضون) أي: لا تتفكرون فيه فتعلمون
صدقي في نبوتي، وأن ما جئت به من الأخبار عن قصص الماضين لم أعلمه إلا بوحي من الله ويدل على هذا
المعنى قوله تعالى: (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى) يعني الملائكة (إذ يختصمون) في شأن آدم حين قال
الله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) والمعنى: إني ما علمت هذا إلا بوحي يوحى، (إن يوحى إلي)
أي: ما يوحى إلي (إلا أنما أنا نذير) أي: إلا أني نبي أنذركم وأبين لكم ما تأتونه وتجتنبونه.
(إذ قال ربك) هذا متصل بقوله: " يختصمون " وإنما اعترضت تلك الآية بينهما. قال ابن
عباس: اختصموا حين شووروا في خلق آدم، فقال الله تعالى لهم: (إني جاعل في الأرض
خليفة)، وهذه الخصومة منهم إنما كانت مناظرة بينهم. وفي مناظرتهم قولان:
أحدهما: أنه قولهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها)، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أنهم قالوا: لن يخلق الله خلقا إلا كنا أكرم منه وأعلم، قاله الحسن، هذا قول الأكثر
المفسرين. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رأيت ربي عز وجل، فقال لي: فيم يختصم الملأ
الأعلى؟ قلت: أنت أعلم يا رب، قال: في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات، فإسباغ الوضوء
348

في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. وأما الدرجات فإفشاء
السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام ".
قوله تعالى: (أستكبرت) أي: استكبرت بنفسك حين أبيت السجود (أم كنت من العالين)
أي: من قوم يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك من قوم يتكبرون؟!
قوله تعالى: (فإنك رجيم) أي: مرجوم بالذم واللعن.
قوله تعالى: (إلى يوم الوقت المعلوم) و هو وقت النفخة الأولى، وهو حين موت الخلائق.
وقوله: (فبعزتك) يمين بمعنى: فوعزتك. وما أخللنا به في هذه القصة فهو مذكور في
الأعراف والحجر وغيرهما مما تقدم.
قوله تعالى: (قال فالحق والحق أقول) قرأ عاصم إلا حسنون عن هبيرة، وحمزة، وخلف،
وزيد عن يعقوب: " فالحق " بالرفع في الأول ونصب الثاني، وهذا مروي عن ابن عباس. ومجاهد،
قال ابن عباس في معناه: فأنا الحق وأقول الحق، وقال غيره: خبر الحق محذوف، تقديره: الحق
مني. وقرأ محبوب عن أبي عمرو بالرفع فيهما، قال الزجاج: من رفعهما جميعا، كان المعنى: فأنا
الحق والحق أقول. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: بالنصب فيهما. قال
الفراء: وهو على معنى قولك: حقا لآتينك، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء، وهو بمنزلة
قولك: حمدا لله، وقال مكي بن أبي طالب: انتصب الحق الأول على الإغراء، أي: اتبعوا الحق
واسمعوا والزموا الحق. وقيل: هو نصب على القسم، كما تقول: الله لأفعلن، فتنصب حين حذفت
الجار، لأن تقديره و بالحق، و أما الحق الثاني، فيجوز أن يكون الأول، وكرره توكيدا، ويجوز أن
يكون منصوبا ب‍ " أقول " كأنه قال: وأقول الحق. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو رجاء،
ومعاذ القارئ، [والأعمش]: " فالحق " بكسر القاف " والحق " بنصبها. وقرأ أبو عمران بكسر
القافين جميعا. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو نهيك: " فالحق " بالنصب " والحق " بالرفع.
قوله تعالى: (لأملأن جهنم منك) أي: من نفسك وذريتك.
(قل ما أسألكم عليه من أجر) أي: على تبليغ الوحي (و ما أنا من المتكلفين) أي: لم
أتكلف إتيانكم من قبل نفسي، إنما أمرت أن آتيكم، ولم أقل القرآن من تلقاء نفسي، إنما أوحي
إلي.
(إن هو) أي: ما هو، يعني القرآن (إلا ذكر) أي: موعظة (للعالمين) (و لتعلمن) يا
349

معاشر الكفار (نبأه) أي: خبر صدق القرآن (بعد حين) وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: بعد الموت.
والثاني: يوم القيامة، رويا عن ابن عباس، وبالأول يقول قتادة، وبالثاني يقول عكرمة.
والثالث: يوم بدر، قاله السدي، ومقاتل. وقال ابن السائب: من بقي إلى أن ظهر أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم علم ذلك، ومن مات علمه بعد الموت. وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة
بآية السيف، ولا وجه لذلك.
* * *
انتهى الجزء السادس من كتاب زاد المسير
ويليه الجزء السابع مبتدئا بسورة الزمر
350