الكتاب: زاد المسير
المؤلف: ابن الجوزي
الجزء: ٥
الوفاة: ٥٩٧
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد بن عبد الرحمن عبد الله
الطبعة: الطبعة الأولى
سنة الطبع: جمادى الأولى ١٤٠٧ - كانون الثاني ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: تخريج الأحاديث أبو هاجر السعيد بن بسيوني زغلول

زاد المسير
في علم التفسير
للإمام
أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد
الجوزي القرشي البغدادي
المتوفى سنة 597 ه‍
حققه وكتب هوامشه
محمد بن عبد الرحمن عبد الله
دكتوراه في علوم القرآن
أستاذ بكلية الدراسات الإسلامية بالأزهر
خرج أحاديثه
أبو هاجر
السعيد بن بسيوني زغلول
الجزء الخامس
سورة الإسراء - سورة النور
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

جميع حقوق إعادة الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
جمادى الأولى 1407 ه‍ - كانون الثاني 1987 م
2

(17) سورة الإسراء مكية
وآياتها إحدى عشرة ومائة
فصل في نزولها
هي مكية في قول الجماعة، إلا أن بعضهم يقول: فيها مدني، فروي عن ابن عباس أنه
قال: هي مكية إلا ثمان آيات: من قوله [تعالى]: * (وإن كادوا ليفتنونك) * إلى قوله [تعالى]:
* (نصيرا) *، وهذا قول قتادة. وقال مقاتل: فيها من المدني: * (وقل رب أدخلني مدخل
صدق) * وقوله [تعالى]: * (إن الذين أوتوا العلم من قبله) * وقوله [تعالى]: * (إن ربك
أحاط بالناس) * وقوله [تعالى]: * (وإن كادوا ليفتنونك) * وقوله [تعالى]: * (وإن كادوا
ليستفزونك) * وقوله [تعالى]: * (ولولا أن ثبتناك) * والتي تليها.
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا
حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير " 1 "
3

قوله تعالى: * (سبحان) * روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن تفسير " سبحان الله "، فقال:
" تنزيه الله عن كل سوء "، وقد ذكرنا هذا المعنى في البقرة قال الزجاج: و " أسري ":
بمعنى: سير عبده، يقال: أسريت وسريت: إذا سرت ليلا. وقد جاءت اللغتان في البقرة، قال الله
تعالى: * (والليل إذا يسر) *.
وفي معنى التسبيح ها هنا قولان:
أحدهما: أن العرب تسبح عند الأمر المعجب، فكأن الله تعالى عجب العباد مما أسدى إلى
رسوله من النعمة.
والثاني: أن يكون خرج مخرج الرد عليهم، لأنه لما حدثهم بالاسراء، كذبوه، فيكون
المعنى: تنزه الله أن يتخذ رسولا كذابا. ولا خلاف أن المراد بعبده هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله تعالى: * (من المسجد الحرام) * قولان:
أحدهما: أنه أسري به من نفس المسجد، قاله الحسن، وقتادة، ويسنده حديث مالك بن
صعصعة، وهو في " الصحيحين " " بينما أنا في الحطيم " وربما قال بعض الرواة: في
" الحجر ".
والثاني: أنه أسري به من بيت أم هانئ، وهو قول أكثر المفسرين، فعلى هذا يعني
بالمسجد الحرام. والحرم كله مسجد، ذكره القاضي أبو يعلى وغيره.
فأما * (المسجد الأقصى) * فهو بيت المقدس، وقيل له: الأقصى، لبعد المسافة بين
المسجدين. ومعنى * (باركنا حوله) *: أن الله أجرى حوله الأنهار، وأنبت الثمار. وقيل: لأنه مقر
الأنبياء، ومهبط الملائكة.
واختلف العلماء، هل دخل بيت المقدس، أم لا؟ فروى أبو هريرة أنه دخل بيت المقدس،
وصلى فيه بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماء. وقال حذيفة بن اليمان: لم يدخل بيت المقدس
ولم يصل فيه، ولا نزل عن البراق حتى عرج به.
فإن قيل: ما معنى قوله [تعالى]: * (إلى المسجد الأقصى) * وأنتم تقولون: صعد إلى
السماء؟
فالجواب: أن الإسراء كان إلى هنالك، والمعراج كان من هنالك.
وقيل: إن الحكمة في ذكر ذلك، أنه لو أخبر بصعوده إلى السماء في بدء الحديث، لاشتد
4

إنكارهم، فلما أخبر ببيت المقدس، وبان لهم صدقه فيما أخبرهم به من العلامات الصادقة، أخبر
بمعراجه.
قوله تعالى: * (لنريه من آياتنا) * يعني: ما رأى تلك الليلة من العجائب التي أخبر بها
الناس. * (إنه هو السميع) * لمقالة قريش، * (البصير) * بها. وقد ذكرنا في كتابنا المسمى
ب‍ " الحدائق " أحاديث المعراج، وكرهنا الإطالة هاهنا.
وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا " 2 "
ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا " 3 "
قوله تعالى: * (وآتينا موسى الكتاب) * لما ذكر في الآية الأولى إكرام محمد صلى الله عليه وسلم، ذكر في
هذه كرامة موسى. و * (الكتاب) *: التوراة. * (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) * أي: دللناهم به
على الهدى. * (ألا تتخذوا) * قرأ أبو عمرو: " يتخذوا " بالياء، والمعنى: هديناهم لئلا يتخذوا
وقرأ الباقون بالتاء، قال أبو علي: وهو على الانصراف إلى الخطاب بعد الغيبة، مثل * (الحمد
لله) * ثم قال * (إياك نعبد) *.
قوله تعالى: * (وكيلا) * قال مجاهد: شريكا. وقال الزجاج: ربا. قال ابن الأنباري: وإنما
قيل للرب: وكيل، لكفايته وقيامه بشأن عباده، من أجل أن الوكيل عند الناس قد علم أنه يقوم
بشؤون أصحابه، وتفقد أمورهم، فكان الرب وكيلا من هذه الجهة، لا على معنى ارتفاع منزلة
الموكل وانحطاط أمر الوكيل.
قوله تعالى: * (ذرية من حملنا) * قال مجاهد: هو نداء: يا ذرية من حملنا. قال ابن
الأنباري: من قرأ: " ألا تتخذوا " بالتاء، فإنه يقول: بعد الذرية مضمر حذف اعتمادا على دلالة
ما سبق، تلخيصه: يا ذرية من حملنا مع نوح لا تتخذوا وكيلا، ويجوز أن يستغني عن الإضمار
بقوله [تعالى]: * (إنه كان عبدا شكورا) * لأنه بمعنى: اشكروني كشكره. ومن قرأ: " ألا
يتخذوا " بالياء، جعل النداء متصلا بالخطاب، و " الذرية " تنتصب بالنداء، ويجوز نصبها بالاتخاذ
على أنها مفعول ثان، تلخيص الكلام: ألا يتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا. قال قتادة:
الناس كلهم ذرية من أنجى الله في تلك السفينة.
5

لله " وإذا شرب قال: " الحمد لله ". وقال غيره: كان إذا لبس ثوبا قال: " الحمد لله " فسماه الله
عبدا شكورا.
وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبير " 4 "
فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان
وعدا مفعولا " 5 " ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر
نفيرا " 6 "
قوله تعالى: * (وقضينا إلى بني إسرائيل) * فيه قولان:
أحدهما: أخبرناهم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: قضينا عليهم، رواه العوفي عن ابن عباس. وبه قال قتادة، فعلى الأول: تكون
* (إلى) * على أصلها، ويكون الكتاب: التوراة، وعلى الثاني: تكون * (إلى) * بمعنى " على "،
ويكون * (الكتاب) *: الذكر الأول.
قوله تعالى: * (لتفسدون في الأرض) * يعني: أرض مصر * (مرتين) * بالمعاصي ومخالفة التوراة.
وفيمن قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان:
أحدهما: زكريا، قاله السدي عن أشياخه.
6

والثاني: شعيا، قاله ابن إسحاق. فأما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني:، فهو يحيى
ابن زكريا. قال مقاتل: كان بين الفسادين مائتا سنة وعشر سنين. فأما السبب في قتلهم زكريا،
فإنهم اتهموه بمريم، وقالوا: منه حملت، فهرب منهم، فانفتحت له شجرة فدخل فيها وبقي من
ردائه هدب، فجاءهم الشيطان فدلهم عليه، فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها. وأما السبب في
قتلهم " شعيا "، فهو أنه قام فيهم برسالة من الله ينهاهم عن المعاصي. وقيل: هو الذي هرب
منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار، وأن زكريا مات حتف أنفه. فأما السبب في قتلهم
يحيى بن زكريا، ففيه قولان:
أحدهما: أن ملكهم أراد نكاح امرأة لا تحل له، فنهاه عنها يحيى.
ثم فيها أربعة أقوال:
أحدها: أنها ابنة أخيه، قاله ابن عباس.
والثاني: ابنته، قاله عبد الله بن الزبير.
والثالث: أنها امرأة أخيه، وكان ذلك لا يصلح عندهم، قاله الحسين بن علي عليهما
السلام.
والرابع: ابنة امرأته، قاله السدي عن أشياخه، وذكر أن السبب في ذلك: أن ملك بني
إسرائيل هوي بنت امرأته، فسأل يحيى عن نكاحها، فنهاه، فحنقت أمها على يحيى حين نهاه أن
يتزوج ابنتها، وعمدت إلى ابنتها فزينتها وأرسلتها إلى الملك حين جلس على شرابه، وأمرتها أن
تسقيه، وأن تعرض له، فإن أرادها على نفسها، أبت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست،
ففعلت ذلك، فقال: ويحك سليني غير هذا، فقالت: ما أريد إلا هذا، فأمر، فأتي برأسه
والرأس يتكلم ويقول: لا تحل لك، لا تحل لك.
والقول الثاني: أن امرأة الملك رأت يحيى عليه السلام وكان قد أعطي حسنا وجمالا،
فأرادته على نفسه، فأبى، فقالت لابنتها: سلي أباك رأس يحيى، فأعطاها ما سألت، قاله الربيع
ابن أنس. قال العلماء بالسير: ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني إسرائيل سبعون ألفا،
فسكن، وقيل: لم يسكن حتى جاء قاتله، فقال: أنا قتلته، فقتل، فسكن.
قوله تعالى: * (ولتعلن علوا كبيرا) * أي: لتعظمن عن الطاعة ولتبغن.
قوله تعالى: * (فإذا جاء وعد أولاهما) * أي: عقوبة أولى المرتين (بعثنا) أي: أرسلنا
* (عليكم عبادا لنا) * وفيهم خمسة أقوال:
7

أحدها: أنهم جالوت وجنوده، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: " بختنصر "، قاله سعيد بن المسيب، واختاره الفراء، والزجاج.
والثالث: العمالقة، وكانوا كفارا، قاله الحسن.
والرابع: سنحاريب، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: قوم من أهل فارس، قاله مجاهد. وقال ابن زيد: سلط الله عليهم سابور ذا
الأكتاف من ملوك فارس.
قوله تعالى: * (أولي بأس شديد) * أي: ذوي عدد وقوة في القتال.
وفي قوله: * (فجاسوا خلال الديار) * ثلاثة أقوال:
أحدها: مشوا بين منازلهم، قاله ابن أبي طلحة. وقال الزجاج: طافوا خلال الديار ينظرون
هل بقي أحد لم يقتلوه؟ و " الجوس ": طلب الشئ باستقصاء.
والثاني: قتلوهم بين بيوتهم، قاله الفراء، وأبو عبيدة.
والثالث: عاثوا وأفسدوا، يقال: جاسوا وحاسوا، فهم يجوسون ويحوسون إذا فعلوا ذلك،
قاله ابن قتيبة.
فأما الخلال: فهي جمع خلل، وهو الانفراج بين الشيئين. وقرأ أبو رزين، والحسن، وابن
جبير، وأبو المتوكل: " خلل الديار " بفتح الخاء واللام من غير ألف. * (وكان وعدا مفعولا) *
أي: لا بد من كونه.
قوله تعالى: * (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) * أي: أظفرناكم بهم. والكرة، معناها: الرجعة
والدولة، وذلك حين قتل داود جالوت وعاد ملكهم إليهم. وحكى الفراء أن رجلا دعى على " بختنصر ";
فقتله الله، وعاد ملكهم إليهم. وقيل: غزوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال والأسرى.
قوله تعالى: * (وجعلناكم أكثر نفيرا) * أي: أكثر عددا وأنصارا منهم. قال ابن قتيبة: النفير والنافر
واحد، كما يقال: قدير وقادر، وأصله: من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته.
8

إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسئوا
وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا " 7 " عسى
ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " 8 "
قوله تعالى: * (إن أحسنتم) * أي: وقلنا لكم إن أحسنتم فأطعتم الله * (أحسنتم لأنفسكم) *
أي: عاقبة الطاعة لكم * (وإن أسأتم) * بالفساد والمعاصي * (فلها) * وفيه قولان:
أحدهما: أنه بمعنى: فإليها.
والثاني: فعليها.
* (فإذا جاء وعد الآخرة) * جواب " فإذا " محذوف، تقديره: فإذا جاء وعد عقوبة المرة
الآخرة من إفسادكم، بعثناهم ليسوءوا وجوهكم، وهذا الفساد الثاني، هو قتلهم يحيى بن زكريا،
وقصدهم قتل " عيسى " فرفع، وسلط الله عليهم ملوك فارس والروم فقتلوهم وسبوهم، فذلك قوله
[تعالى]: * (ليسوءوا وجوهكم) *. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم:
" ليسوؤوا " بالياء على الجميع والهمز بين الواوين، والإشارة إلى المبعوثين. وقرأ ابن عامر،
وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: " ليسوء وجوهكم " على التوحيد; قال أبو علي: فيه وجهان.
أحدهما: ليسوء الله عز وجل. والثاني: ليسوء البعث. وقرأ الكسائي: " لنسوء " بالنون، وذلك
راجع إلى الله تعالى.
وفيمن بعث عليهم في المرة الثانية قولان:
أحدهما: بختنصر، قاله مجاهد، وقتادة. وكثير من الرواة يأبى هذا القول، ويقولون: كان
بين تخريب " بختنصر " بيت المقدس، وبين مولد يحيى بن زكريا زمان طويل.
والثاني: انطياخوس الرومي قاله مقاتل. ومعنى * (ليسوءوا وجوهكم) * أي: ليدخلوا
عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسبيكم، وخصت المساءة بالوجوه، والمراد: أصحاب
الوجوه، لما يبدو عليها من أثر الحزن والكآبة.
قوله تعالى: * (وليدخلوا المسجد) * يعني: بيت المقدس * (كما دخلوه) * في المرة الأولى
* (وليتبروا) * أي: ليدمروا ويخربوا. قال الزجاج: يقال لكل شئ ينكسر من الزجاج والحديد
والذهب: تبر. ومعنى * (ما علوا) * أي: ليدمروا في حال علوهم عليكم.
قوله تعالى: * (عسى ربكم أن يرحمكم) * هذا مما وعدوا، به في التوراة، و " عسى " من الله
واجبة فرحمهم الله بعد انتقامه منهم، وعمر بلادهم، وأعاد نعمهم بعد سبعين سنة. * (وإن
9

عدتم) * إلى معصيتنا * (عدنا) * إلى عقوبتكم. قال المفسرون: ثم إنهم عادوا إلى المعصية،
فبعث الله عليهم ملوكا من ملوك فارس والروم. قال قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم
محمدا صلى الله عليه وسلم، فهم في عذاب إلى يوم القيامة، فيعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
قوله تعالى: * (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) * فيه قولان:
أحدهما: سجنا، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة. وقال مجاهد: يحصرون فيها.
وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة: محبسا، وقال الزجاج: " حصيرا ": حبسا، أخذ من قولك:
حصرت الرجل، إذا حبسته، فهو محصور، وهذا حصيره، أي: محبسه، والحصير:
المنسوج، سمي حصيرا، لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض، ويقال للجنب: حصير، لأن
بعض الأضلاع محصور مع بعض. وقال ابن الأنباري: حصيرا: بمعنى: حاصرة، فصرف من
حاصرة إلى حصير، كما صرف " مؤلم " إلى أليم.
والثاني: فراشا ومهادا، قاله الحسن. قال أبو عبيدة: ويجوز أن تكون جهنم لهم مهادا
بمنزلة الحصير، والحصير: البساط الصغير.
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم
أجرا كبيرا " 9 " وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما " 10 "
قوله تعالى: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * قال ابن الأنباري: " التي " وصف
للجمع، والمعنى: يهدي إلى الخصال التي هي أقوم الخصال. قال المفسرون: وهي توحيد الله
والإيمان به وبرسله والعمل بطاعته، * (ويبشر المؤمنين أن لهم) * أي: بأن لهم * (أجرا) * وهو
الجنة، * (وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة) * أي: ويبشرهم بالعذاب، لأعدائهم، وذلك أن المؤمنين
كانوا في أذى من المشركين، فعجل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين.
10

ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا " 11 "
قوله تعالى: * (ويدعو الإنسان بالشر) * وذلك أن الإنسان يدعو في حال الضجر والغضب على
نفسه وأهله بما لا يحب أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير. * (وكان الإنسان عجولا) * يعجل
بالدعاء بالشر عند الغضب والضجر عجلته بالدعاء بالخير.
وفي المراد بالإنسان ها هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اسم جنس يراد به الناس، قال الزجاج وغيره.
والثاني: آدم، فاكتفى بذكره من ذكر ولده، ذكره ابن الأنباري.
والثالث: أنه النضر بن الحارث حين قال: * (فأمطر مع علينا حجارة من السماء) *، قاله
مقاتل. وقال سلمان الفارسي: أول ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر إلى جسده كيف
يخلق، قال: فبقيت رجلاه، فقال: يا رب عجل، فذلك قوله: * (وكان الإنسان عجولا) *.
وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا
من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا " 12 "
قوله تعالى: * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) * أي: علامتين يدلان على قدرة خالقهما.
* (فمحونا آية الليل) * فيه قولان:
أحدهما: أن آية الليل: القمر، ومحوها: ما في بعض القمر من الاسوداد. وإلى هذا
المعنى ذهب علي [رضي الله عنه]، وابن عباس في آخرين.
والثاني: آية الليل محيت بالظلمة التي جعلت ملازمة لليل; فنسب المحو إلى الظلمة إذ
كانت تمحو الأنوار وتبطلها، ذكره ابن الأنباري. ويروى أن الشمس والقمر كانا في النور والضوء
سواء، فأرسل الله جبريل فأمر جناحه على وجه القمر وطمس عنه الضوء.
قوله تعالى: * (وجعلنا آية النهار) * يعني: الشمس * (مبصرة) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: منيرة، قاله قتادة. قال ابن الأنباري: وإنما صلح وصف الآية بالإبصار على جهة
المجاز، كما يقال: لعب الدهر ببني فلان.
والثاني: أن معنى * (مبصرة) *: مبصرا بها، قاله ابن قتيبة.
11

والثالث: أن معنى * (مبصرة) * مبصرة، فجرى " مفعل "، مجرى " مفعل "، والمعنى: أنها تبصر
الناس، أي: تريهم الأشياء، قاله ابن الأنباري. ومعاني الأقوال تتقارب.
قوله تعالى: * (لتبتغوا فضلا من ربكم) * أي: لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وتطلبون
رزقكم بالنهار * (ولتعلموا عدد السنين والحساب) * بمحو آية الليل، ولولا ذلك، لم يعرف الليل
من النهار، ولم يتبين العدد. * (وكل شئ) * أي: ما يحتاج إليه، * (فصلناه تفصيلا) * بيناه تبيينا
لا يلتبس معه بغيره.
وكل إنسان ألزمنا طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " 13 "
اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " 14 "
قوله تعالى: * (وكل إنسان) * وقرأ ابن أبي عبلة " وكل " برفع وقرأ ابن مسعود، وأبي،
والحسن * (ألزمناه طيره) * بياء ساكنة من غير ألف.
وفي الطائر أربعة أقوال:
أحدها: شقاوته وسعادته، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال مجاهد: ما من مولود يولد إلا
وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي، أو سعيد.
والثاني: عمله، قاله الفراء، وعن الحسن كالقولين.
والثالث: أنه ما يصيبه، قاله خصيف. وقال أبو عبيدة: حظه.
قال ابن قتيبة: والمعنى فيما أرى - والله أعلم -: أن لكل امرئ حظا من الخير والشر قد
قضاه الله، فهو لازم عنقه، والعرب تقول لكل ما لزم الإنسان: قد لزم عنقه، وهذا لك علي وفي
عنقي حتى أخرج منه، وإنما قيل للحظ من الخير والشر: " طائر "، لقول العرب: جرى له الطائر
بكذا من الخير، وجرى له الطائر بكذا من الشر، على طريق الفأل والطيرة، فخاطبهم الله بما
يستعملون، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر، هو الذي يلزمه أعناقهم.
وقال الأزهري: الأصل في هذا أن الله تعالى لما خلق آدم، علم المطيع من ذريته،
والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى سعادة من علمه مطيعا، وشقاوة من علمه عاصيا،
فصار لكل منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه، فذلك قوله: * (ألزمناه طائره في عنقه) *.
والرابع: أنه ما يتطير من مثله من شئ عمله، وذكر العنق عبارة عن اللزوم له، كلزوم القلادة
العنق من بين ما يلبس، هذا قول الزجاج. وقال ابن الأنباري: الأصل في تسميتهم العمل طائرا،
12

أنهم كانوا يتطيرون من بعض الأعمال.
قوله تعالى: * (ونخرج له) * قرأ أبو جعفر: " ويخرج " بياء مضمومة وفتح الراء. وقرأ يعقوب.
وعبد الوارث: بالياء مفتوحة وضم الراء. وقرأ قتادة، وأبو المتوكل: " ويخرج " بياء مرفوعة وكسر الراء.
وقرأ أبو الجوزاء، والأعرج: " وتخرج " بتاء مفتوحة ورفع الراء، * (يوم القيامة كتابا) * وقرأ ابن عباس،
وعكرمة، والضحاك: " كتاب " بالرفع، وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر " يلقاه " بضم الياء وتشديد القاف.
وأمال حمزة، والكسائي القاف. قال المفسرون: هذا كتابه الذي فيه ما عمل. وكان أبو السوار العدوي إذا
قرأ هذه الآية قال: نشرتان وطية، أما ما حييت يا ابن آدم، فصحيفتك منشورة، فأمل فيها ما شئت، فإذا
مت، طويت، ثم إذا بعثت، نشرت.
قوله تعالى: * (اقرأ كتابك) *. قال الحسن: يقرؤه أميا كان أو غير أمي، ولقد عدل عليك من
جعلك حسيب نفسك.
وفي معنى * (حسيبا) * ثلاثة أقوال:
أحدها: محاسبا.
والثاني: شاهدا.
والثالث: كافيا، والمعنى: أن الإنسان يفوض إليه حسابه، ليعلم عدل الله بين العباد، ويرى
وجوب حجة الله عليه، واستحقاقه العقوبة، ويعلم أنه إن دخل الجنة، فبفضل الله، لا بعمله، وإن
دخل النار، فبذنبه. قال ابن الأنباري: وإنما قال: * (حسيبا) * والنفس مؤنثة، لأنه يعني بالنفس:
الشخص، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس، فشبهت بالسماء والأرض، قال الله تعالى:
* (السماء منفطر به) *، قال الشاعر:
ولا أرض أبقل إبقالها
من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر
أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " 15 "
قوله تعالى: * (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) * أي: له ثواب اهتدائه، وعليه عقاب ضلاله.
قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة) * أي: نفس وازرة * (وزر أخرى) * قال ابن عباس: إن الوليد بن
13

المغيرة قال: اتبعوني وأنا أحمل أوزاركم، فقال الله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *، قال أبو
عبيدة: والمعنى: ولا تأثم آثمة إثم أخرى. قال الزجاج: يقال: وزر، يزر، فهو وازر، وزرا،
ووزرا، ووزرة، ومعناه: أثم إثما.
وفي تأويل هذه الآية وجهان:
أحدهما: أن الآثم لا يؤخذ بذنب غيره.
والثاني: أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم، لأن غيره عمله، كما قال الكفار: * (إنا وجدنا
آباءنا على أمة) * ومعنى * (حتى نبعث رسولا) * أي: حتى نبين ما به نعذب، وما من أجله ندخل
الجنة.
فصل
قال القاضي أبو يعلى: في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإنما تجب بالشرع،
وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار. قال: وقيل معناه: أنه لا
يعذب في ما طريقه السمع إلا بقيام حجة السمع من جهة الرسول، ولهذا قالوا: لو أسلم بعض أهل
الحرب في دار الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها، لم يلزمه قضاء شئ منها، لأنها لم تلزمه
إلا بعد قيام حجة السمع، والأصل فيه قصة أهل قباء حين استداروا إلى الكعبة ولم يستأنفوا، ولو
أسلم في دار الإسلام ولم يعلم بفرض الصلاة، فالواجب عليه القضاء، لأنه قد رأى الناس يصلون
في المساجد بأذان وإقامة، وذلك دعاء إليها.
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها
تدميرا " 16 " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا " 17 "
قوله تعالى: * (وإذا أردنا أن نهلك قرية) * في سبب إرادته لذلك قولان:
أحدهما: ما سبق لهم في قضائه من الشقاء.
والثاني: عنادهم الأنبياء وتكذيبهم إياهم.
قوله تعالى: * (أمرنا مترفيها) * قرأ الأكثرون: " أمرنا " مخففة، على وزن " فعلنا "، وفيها ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه من الأمر، وفي الكلام إضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا، هذا
14

مذهب سعيد بن جبير. قال الزجاج: ومثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية
مخالفة الأمر.
والثاني: يقال: أمرت الشئ وآمرته، أي: كثرته، ومنه قولهم: مهرة مأمورة، أي: كثيرة
النتاج، يقال: أمر بنو فلان يأمرون أمرا: إذا كثروا، هذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة.
والثالث: أن معنى " أمرنا ": أمرنا، يقال: أمرت الرجل، بمعنى: أمرته، والمعنى: سلطنا
مترفيها بالإمارة، ذكره ابن الأنباري. وروى خارجة عن نافع: " آمرنا " ممدودة، مثل " آمنا "، وكذلك
روى حماد بن سلمة عن ابن كثير، وهي قراءة ابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي رزين، والحسن،
والضحاك، ويعقوب. قال ابن قتيبة: وهي اللغة العالية المشهورة، ومعناه: كثرنا، أيضا. وروى ابن
مجاهد أن أبا عمرو قرأ: " أمرنا " مشددة الميم، وهي رواية أبان عن عاصم، وهي قراءة أبي
العالية، والنخعي، والجحدري. قال ابن قتيبة: المعنى: جعلناهم أمراء، وقرأ أبو المتوكل، وأبو
الجوزاء، وابن يعمر: " أمرنا " بفتح الهمزة مكسورة الميم مخففة. فأما المترفون، فهم المتنعمون
الذين أبطرتهم النعمة وسعة العيش، والمفسرون يقولون: هم الجبارون والمسلطون والملوك، وإنما
خص المترفين بالذكر، لأنهم الرؤساء، ومن عداهم تبع لهم.
قوله تعالى: * (ففسقوا فيها) * أي: تمردوا في كفرهم، لأن الفسق في الكفر: الخروج إلى
أفحشه. وقد شرحنا معنى " الفسق " في البقرة.
قوله تعالى: * (فحق عليها القول) * قال مقاتل: وجب عليها العذاب. وقد ذكرنا معنى
" التدمير " في الأعراف.
قوله تعالى: * (وكم أهلكنا من القرون) * وهي جمع قرن. وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه في
الأنعام وشرحنا معنى " الخبير " و " البصير " في سورة (البقرة) قال مقاتل: وهذه الآية تخويف
لكفارة مكة.
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها
مذموما مدحورا " 18 " ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم
مشكورا " 19 "
15

قوله تعالى: * (من كان يريد العاجلة) * يعني: من كان يريد بعمله الدنيا، فعبر بالنعت عن
الاسم، * (عجلنا له فيها ما نشاء) * من عرض الدنيا، وقيل: من البسط والتقتير، * (لمن نريد) * فيه
قولان:
أحدهما: لمن نريد هلكته، قاله أبو إسحاق الفزاري.
والثاني: لمن نريد أن نعجل له شيئا وفي هذا ذم لمن أراد بعمله الدنيا، وبيان أنه لا ينال ما
يقصده منها إلا ما قدر له، ثم يدخل النار في الآخرة. وقال ابن جرير: هذه الآية لمن لا يوقن
بالمعاد. وقد ذكرنا معنى " جنهم " في البقرة، ومعنى * (يصلاها) * في سورة النساء،
ومعنى * (مذموما مدحورا) * في الأعراف.
قوله تعالى: * (ومن أراد الآخرة) * يعني: الجنة * (وسعى لها سعيها) * أي: عمل لها العمل
الذي يصلح لها، وإنما قال: * (وهو مؤمن) * لأن الإيمان شرط في صحة الأعمال، * (فأولئك كان
سعيهم مشكورا) * أي: مقبولا. وشكر الله عز وجل لهم: ثوابه إياهم، وثناؤه عليهم.
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " 20 " انظر
كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا " 21 " لا تجعل مع الله
إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا " 22 "
قوله تعالى: * (كلا نمد هؤلاء) * قال الزجاج: " كلا " منصوب ب‍ " نمد "، " هؤلاء " بدل من
" كل " والمعنى: نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، قال المفسرون: كلا نعطي من الدنيا، البر
والفاجر، والعطاء هاهنا: الرزق، والمحظور: الممنوع، والمعنى: أن الرزق يعم المؤمن والكافر،
16

والآخرة للمتقين خاصة. * (انظر) * يا محمد * (كيف فضلنا بعضهم على بعض) * وفيما وفضلوا فيه
قولان:
أحدهما: الرزق، منهم مقل، ومنهم مكثر.
والثاني: الرزق والعمل، فمنهم موفق لعمل صالح، ومنهم ممنوع من ذلك.
قوله تعالى: * (لا تجعل مع الله إلها آخر) * الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى عام لجميع
المكلفين. والمخذول: الذي لا ناصر له، والخذلان: ترك العون. قال مقاتل: نزلت حين دعوا
رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى ملة آبائه.
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما
أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما " 23 " واخفض لهما
جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا " 24 " ربكم أعلم بما في نفوسكم
إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا " 25 "
قوله تعالى: * (وقضى ربك) * روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمر ربك. ونقل عنه
الضحاك أنه قال: إنما هي " ووصى ربك " فالتصقت إحدى الواوين ب‍ " الصاد "، وكذلك قرأ
أبي بن كعب، وأبو المتوكل، وسعيد بن جبير: " ووصى "، وهذا على خلاف ما انعقد عليه
الإجماع، فلا يلتفت إليه. وقرأ أبو عمران، وعاصم الجحدري، ومعاذ القارئ: " وقضاء ربك "
بقاف وضاد بالمد والهمز والرفع وخفض اسم الرب. قال ابن الأنباري: هذا القضاء ليس من باب
الحتم والوجوب، لكنه من باب الأمر والفرض، وأصل القضاء في اللغة: قطع الشئ بإحكام
وإتقان، قال الشاعر يرثي عمر:
- قضيت أمورا ثم غادرت بعدها *
بوائق في أكمامها لم تفتق -
أراد: قطعتها محكما لها.
17

قوله تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) * وهو البر والإكرام، وقد ذكرنا هذا في البقرة.
قوله تعالى: * (إما يبلغن) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو وعاصم، وابن عامر: " يبلغن "
على التوحيد. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " يبلغان " على التثنية. قال الفراء: جعلت
" يبلغن " فعلا لأحدهما وكرت عليهما " كلاهما " ومن قرأ " يبلغان " فإنه ثنى لأن الوالدين قد ذكرا
قبل هذا، فصار الفعل على عددهما، ثم قال: * (أحدهما أو كلاهما) * على الاستئناف، كقوله
[تعالى]: * (فعموا وصموا) * ثم استأنف فقال: * (كثير منهم) *.
قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف) * قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم:
" أف " بالكسر من غير تنوين، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، والمفضل: " أف " بالفتح من
غير تنوين. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم: * (أف) * بالكسر والتنوين. وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر:
" أف " بالرفع والتنوين وتشديد الفاء. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم، الجحدري، وحميد بن قيس:
" أفا " مثل " تعسا ". وقرأ أبو عمران الجوني، وأبو السماك العدوي: " أف " بالرفع من غير تنوين
مع تشديد الفاء، وهي رواية الأصمعي عن أبي عمرو. وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، و أبو رجاء، وأبو
الجوزاء: " أف " بإسكان الفاء وتخفيفها; قال الأخفش: وهذا لأن بعض العرب يقول: أف لك،
على الحكاية، والرفع قبيح، لأنه لم يجئ بعده بلام. [وقرأ أبو العالية، وأبو حصين الأسدي:
" أفي " بتشديد الفاء وبياء] وروى ابن الأنباري أن بعضهم قرأها: " إف " بكسر الهمزة. وقال
الزجاج: فيها سبع لغات: الكسر بلا تنوين، وبتنوين، والضم بلا تنوين، وبتنوين والفتح بلا تنوين،
وبتنوين، واللغة السابعة لا تجوز في القراءة: " أفي " بالياء، هكذا قال الزجاج. وقال ابن الأنباري:
في " أف " عشرة أوجه: " أف " بفتح الفاء، و " أف " بكسرها، و " أف "، و " أفا " لك بالنصب
والتنوين على مذهب الدعاء كما تقول: " ويلا " للكافرين، و " أف " لك، بالرفع والتنوين، وهو رفع
باللام، كقوله تعالى: * (ويل للمطففين) *، و * (أف) * لك، بالخفض والتنوين، تشبيها بالأصوات،
كقولك: " صه " و " مه "، و " أفها " لك، على مذهب الدعاء أيضا، و " أفي " لك، على الإضافة
إلى النفس، و " أف " لك، بسكون الفاء تشبيها بالأدوات، مثل: " كم " و " هل " و " بل "،
و " إف " لك، بكسر الألف، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: وتقول: " أف " منه،
و " أف "، و " أف "، و " أف "، و " أفا "، و " أف "، و " أفي " مضاف، و " أفها " و " أفا " بالألف،
ولا تقل: " أفي " بالياء فإنه خطأ.
فأما معنى * (أف) * ففيه خمسة أقوال:
18

أحدها: أنه وسخ الظفر، قاله الخليل.
والثاني: وسخ الأذن، قاله الأصمعي.
والثالث: قلامة الظفر، قاله ثعلب.
والرابع: أن " الأف " الاحتقار والاستصغار، من " الأفف "، والأفف عند العرب: القلة، ذكره
ابن الأنباري.
والخامس: أن " الأف " ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس اللغوي.
وقرأت على شيخنا أبي منصور قال: معنى " الأف ": النتن، والتضجر، وأصلها: نفخك الشئ
يسقط عليك من تراب ورماد، وللمكان تريد إماطة الأذى عنه، فقيلت لكل مستثقل، قلت: وأما
قولهم: " تف "، فقد جعلها قوم بمعنى " أف "، فروي عن أبي عبيد أنه قال: أصل " الأف "
و " التف ": الوسخ على الأصابع إذا فتلته. وحكى ابن الأنباري فرقا، فقال: قال اللغويون: أصل
" الأف " في اللغة: وسخ الأذن، و " التف ": وسخ الأظفار، فاستعملتهما العرب فيما يكره ويستقذر
ويضجر منه. وحكى الزجاج فرقا آخر، فقال: قد قيل: إن " أف ": وسخ الأظفار، و " التف ":
الشئ الحقير، نحو وسخ الأذن، أو الشظية تؤخذ من الأرض، ومعنى " أف ": النتن، ومعنى الآية:
لا تقل لهما كلاما تتبرم فيه بهما إذا كبرا وأسنا، فينبغي أن تتولى من خدمتهما مثل الذي توليا من
القيام بشأنك وخدمتك، * (ولا تنهرهما) * أي: لا تكلمهما ضجرا صائحا في وجوههما. وقال عطاء
ابن أبي رباح: لا تنفض يدك عليهما، يقال: نهرته أنهره نهرا، وانتهرته انتهارا، بمعنى واحد، وقال ابن
فارس: نهرت الرجل وانتهرته مثل: زجرته. قال المفسرون: وإنما نهى عن أذاهما في الكبر، وإن
كان منهيا عنه على كل حال، لأن حالة الكبر يظهر فيها منهما ما يضجر ويؤذي، وتكثر خدمتهما.
قوله تعالى: * (وقل لهما قولا كريما) * أي: لينا لطيفا أحسن ما تجد. وقال سعيد بن المسيب:
قول العبد المذنب للسيد الفظ.
قوله تعالى: * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) * أي: ألن لهما جانبك متذللا لهما من
رحمتك إياهما. وخفض الجناح قد شرحناه في الحجر. قال عطاء: جناحك: يداك، فلا ترفعهما
على والديك. والجمهور يضمون الذال من " الذل " وقرأ أبو رزين، والحسن، وسعيد بن جبير،
وقتادة، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة: بكسر الذال. قال الفراء الذل: أن تتذلل لهما، من
الذل والذل، أن تتذلل ولست بذليل في الخلق والذل والذلة: مصدر الذليل، والذل بالكسر:
مصدر الذلول، مثل الدابة والأرض. قال ابن الأنباري: من قرأ " الذل " بكسر الذال، جعله بمعنى
19

الذل، بضم الذال، والذي عليه كبراء أهل اللغة أن الذل من الرجل الذليل، والذل من الدابة
الذلول.
قوله تعالى: * (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) * أي: مثل رحمتهما إياي في صغري
حتى ربياني، وقد ذهب قوم إلى أن هذا الدعاء المطلق نسخ منه الدعاء لأهل الشرك بقوله تعالى:
* (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) *، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس،
والحسن، وعكرمة، ومقاتل. ولا أرى هذا نسخا عند الفقهاء، لأنه عام دخله التخصيص، وقد ذكر
قريبا مما قلته ابن جرير.
قوله تعالى: * (ربكم أعلم بما في نفوسكم) * أي: بما تضمرون من البر والعقوق، فمن بدرت
منه بادرة وهو لا يضمر العقوق، غفر له ذلك، وهو قوله تعالى: * (إن تكونوا صالحين) * أي: طائعين
لله، وقيل بارين، وقيل: توابين، * (فإنه كان للأوابين غفورا) * في الأواب عشرة أقوال:
أحدها: أنه المسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: [أنه التواب، رواه أبو صالح عن ابن عباس]، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير،
والضحاك، وأبو عبيدة، وقال ابن قتيبة: هو التائب مرة بعد مرة. وقال الزجاج: هو التواب المقلع
عن جميع ما نهاه الله عنه، يقال: قد آب يؤوب أوبا: إذا رجع.
والثالث: أنه المسبح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والرابع: أنه المطيع لله تعالى، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والخامس: أنه الذي يذكر ذنبه في الخلاء، فيستغفر الله منه، قاله عبيد بن عمير.
والسادس: أنه المقبل إلى الله [تعالى] بقلبه وعمله، قاله الحسن.
والسابع: المصلي، قاله قتادة.
والثامن: هو الذي يصلي بين المغرب والعشاء، قاله ابن المنكدر.
والتاسع: الذي يصلي صلاة الضحى، قاله عون العقيلي.
والعاشر: انه الذي يذنب سرا ويتوب سرا، قاله السدي.
20

وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا " 26 " إن المبذرين كانوا إخوان
الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا " 27 " وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك
ترجوها فقل لهم قولا ميسورا " 28 "
قوله تعالى: * (وآت ذا القربى حقه) * فيه قولان:
أحدهما: أنه قرابة الرجل من قبل أبيه وأمه،، قاله ابن عباس، والحسن، فعلى هذا في حقهم
ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المراد به: برهم وصلتهم.
والثاني: النفقة الواجبة لهم وقت الحاجة.
والثالث: الوصية لهم عند الوفاة.
والثاني: أنهم قرابة الرسول، قال علي بن الحسين [عليهما السلام] والسدي. فعلى هذا،
يكون حقهم: إعطاؤهم من الخمس، ويكون الخطاب للولاة.
قوله تعالى: * (والمسكين وابن السبيل) * قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يكون المراد:
الصدقات الواجبة، يعني، الزكاة، ويجوز أن يكون الحق الذي يلزمه إعطاؤه عند الضرورة إليه.
وقيل: حق المسكين، من الصدقة، وابن السبيل، من الضيافة.
قوله تعالى: * (ولا تبذر تبذيرا) * في التبذير قولان:
أحدهما: أنه إنفاق المال في غير حق، قاله ابن مسعود، وابن عباس. وقال مجاهد: لو أنفق
الرجل ماله كله في حق، ما كان مبذرا، وأنفق مدا في غير حق، كان مبذرا. قال الزجاج: التبذير:
النفقة في غير طاعة الله، وكانت الجاهلية تنحر الإبل وتبذر الأموال تطلب بذلك الفخر والسمعة،
فأمر الله [عز وجل] بالنفقة في وجهها فيما يقرب منه.
والثاني: أنه الإسراف المتلف للمال، ذكره الماوردي. وقال أبو عبيدة: المبذر: هو المسرف
المفسد العائث.
قوله تعالى: * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) * لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم إليه،
ويشاكلونهم في معصية الله تعالى: * (وكان الشيطان لربه كفورا) * أي: جاحدا لنعمه. وهذا يتضمن
أن المسرف كفور للنعم.
قوله تعالى: * (وإما تعرضن عنهم) * في المشار إليهم أربعة أقوال:
21

أحدها: انهم الذين تقدم ذكرهم من الأقارب والمساكين وأبناء السبيل، قاله الأكثرون، فعلى
هذا في علة هذا الإعراض قولان:
أحدهما: الإعسار، قاله الجمهور.
والثاني: خوف إنفاقهم ذلك في معصية الله، قاله ابن زيد. وعلى هذا في الرحمة قولان:
أحدهما: الرزق، قاله الأكثرون.
والثاني: انه الصلاح والتوبة. هذا على قول ابن زيد.
والثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: وإما تعرضن عنهم لتكذيبهم، قاله سعيد بن جبير.
فتحتمل إذا الرحمة وجهين:
أحدهما: انتظار النصر عليهم.
والثاني: الهداة لهم.
والثالث: أنهم ناس من مزينة جاؤوا يستحملون رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقال: " لا أجد من أحملكم
عليه "، فبكوا، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء الخراساني.
والربع: انها نزلت في خباب، وبلال، وعمار، ومهجع، من الفقراء، كانوا يسألون رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] فلا يجد ما يعطيهم، فيعرض عنهم ويسكت، قاله مقاتل، فعلى هذا القول والذي قبله تكون
الرحمة بمعنى الرزق.
قوله تعالى: * (فقل لهم قولا ميسورا) * قال أبو عبيدة: لينا هينا، وهو من اليسر. وللمفسرين فيه
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه العدة الحسنة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد.
والثاني: انه القول الجميل، مثل أن يقول: رزقنا الله وإياك، قاله ابن زيد; وهذا على ما تقدم
من قوله.
والثالث: أنه المداراة لهم باللسان، على قول من قال: هم المشركون، قاله أبو سليمان
الدمشقي، وعلى هذا القول، تحتمل الآية النسخ.
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا " 29 " إن
22

ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " 30 " ولا تقتلوا أولادكم
خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا " 31 "
قوله تعالى: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * سبب نزولها: أن غلام جاء إلى رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] فقال، إن أمي تسألك كذا وكذا، قال: " ما عندنا اليوم شئ "، قال: فتقول لك: اكسني
قميصك، قال: فخلع قميصه فدفعه إليه، وجلس في البيت حاسرا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن
مسعود. وروى جابر بن عبد الله نحو هذا، فزاد فيه، فأذن بلال للصلاة، وانتظروه فلم يخرج،
فشغل قلوب الصحابة، فدخل عليه بعضهم، فرأوه عريانا، فنزلت هذه الآية، والمعنى: لا تمسك
يدك عن البذل كل الإمساك حتى كأنها مقبوضة إلى عنقك، * (ولا تبسطها كل البسط) * في الإعطاء
والنفقة * (فتقعد ملوما) * تلوم نفسك ويلومك الناس، * (محسورا) * قال ابن قتيبة: تحسرك العطية
وتقطعك كما يحسر السفر البعير فيبقى منقطعا به. قال الزجاج: المحسور: الذي قد بلغ الغاية في
التعب والإعياء، فالمعنى: فتقعد وقد بالغت في الحمل على نفسك وحالك حتى صرت بمنزلة من قد
حسر. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الخطاب أريد به غير رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لأنه لم يكن يدخر شيئا
لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما
يملكون، فلم ينههم الله، لصحة يقينهم، وإنما نهى من خيف عليه التحسر على ما خرج من يده،
فأما من وثق بوعد الله تعالى، فهو غير مراد بالآية.
قوله تعالى: * (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * أي: يوسع على من يشاء ويضيق،
* (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) * حيث أجرى أرزاقهم على ما علم فيه صلاحهم.
قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * قد فسرناه في [سورة] الأنعام.
قوله تعالى: * (كان خطءا كبيرا) * قرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
" خطءا " مكسورة الخاء ساكنة الطاء مهموزة مقصورة. وقرأ ابن كثير،: " خطأ " مكسورة الخاء
ممدودة مهموزة. وقرأ ابن عامر: " خطأ " بنصب الخاء والطاء وبالهمز من غير مد. وقرأ أبو رزين
كذلك، إلا أنه مد وقرأ الحسن، وقتادة، " خطءا " بفتح الخاء وسكون الطاء مهموز مقصورا، وقرأ
الزهري، وحميد بن قيس: " خطا " بكسر الخاء وتنوين الطاء من غير همز ولا مد. قال الفراء:
الخطء: الإثم، وقد يكون في معنى " خطأ " كما قالوا: " قتب " و " قتب " و " حذر " و " حذر " و " نجس " و
" نجس "، والخط، والخطاء، والخطاء، ممدود: لغات. وقال أبو عبيده: خطئت وأخطأت، لغتان.
وقال أبو علي: قراءة ابن كثير " خطأ "، يجوز أن تكون مصدر " خاطأ " وإن لم يسمع " خاطأ " ولكن قد
جاء ما يدل عليه، أنشد أبو عبيدة:
23

تخاطأت إليك أحشاؤه
وقال الأخفش: خطىء يخطأ بمعنى " أذنب " وليس بمعنى " أخطأ "، لأن " أخطأ ": فيما لم
يصنعه عمدا. وتقول فيما أتيته عمدا، " خطئت "، وفيما لم تتعمده: " أخطأت ". وقال ابن
الأنباري: " الخطء ": الإثم، يقال: قد خطىء يخطأ: إذا أثم، وأخطأ يخطئ: إذا فارق الصواب. وقد
شرحنا هذا في [سورة] يوسف عند قوله: * (وإن كنا لخاطئين) *.
ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا " 32 " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا
بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا " 33 "
قوله تعالى: * (ولا تقربوا الزنا) * وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، والحسن: بالمد. وقال أبو عبيدة:
وقد يمد " الزنا " في كلام أهل نجد، قال الفرزدق:
- أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه *
ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا -
وقال آخر:
- أخضبت فعلك للزناء ولم تكن * يوم اللقاء لتخضب الأبطالا -
وقال آخر:
- كانت فريضة ما تقول كما * كان الزناء فريضة الرجم -
قوله تعالى: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) * قد ذكرناه في [سورة] الأنعام.
قوله تعالى: * (فقد جعلنا) * قال الزجاج: الأجود إدغام الدال مع الجيم، والإظهار جيد بالغ،
إلا أن الجيم من وسط اللسان، والدال من طرف اللسان، والإدغام جائز، لأن حروف وسط اللسان
تقرب من حروف طرف اللسان. ووليه: الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه، فإن لم يكن له
ولي، فالسلطان وليه.
وللمفسرين في السلطان قولان:
أحدهما: أنه الحجة، قاله ابن عباس.
24

والثاني: أنه الوالي، والمعنى: * (فقد جعلنا لوليه سلطانا) * ينصره وينصفه في حقه، قاله ابن زيد:
قوله تعالى: * (فلا يسرف في القتل) * قرأ ابن كثير، نافع، وأبو عمرو، وعاصم: * (فلا يسرف) *
بالياء. وقرأ ابن عامر، وحمزة والكسائي: بالتاء.
وفي المشار إليه في الآية قولان:
أحدهما: أنه ولي المقتول. وفي المراد بإسرافه خمسة أقوال:
أحدها: أن يقتل غير القاتل، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: أن يقتل اثنين بواحد، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: أن يقتل أشرف من الذي قتل، قاله ابن زيد.
والرابع: أن يمثل، قاله قتادة.
والخامس:: أن يتولى هو قتل القاتل دون السلطان، ذكره الزجاج.
والثاني: أن الإشارة إلى القاتل الأول، والمعنى: فلا يسرف القاتل بالقتل تعديا وظلما، قاله
مجاهد.
قوله تعالى: * (إن كان منصورا) * أي: معانا عليه.
وفي هاء الكناية أربعة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى الولي، فالمعنى: أنه كان منصورا بتمكينه من القود، قاله قتادة،
والجمهور.
والثاني: أنها ترجع إلى المقتول، فالمعنى: أنه كان منصورا بقتل قاتله، قاله مجاهد.
والثالث: أنها ترجع إلى الدم، فالمعنى: أن دم المقتول كان منصورا، أي: مطلوبا به.
والرابع: أنها ترجع إلى القتل، ذكر القولين الفراء.
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد
كان مسؤولا " 34 " وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن
تأويلا " 35 " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان
عنه مسؤولا " 36 "
25

قوله تعالى: * (ولا تقربوا مال اليتيم) * قد شرحناه في [سورة] الأنعام.
قوله تعالى: * (وأوفوا بالعهد) * وهو عام فيما بين العبد وبين ربه، وفيما بينه وبين الناس. قال
الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد.
قوله تعالى: * (كان مسؤولا) * قال ابن قتيبة: أي: مسؤولا عنه.
قوله تعالى: * (وأوفوا الكيل) * أي: أتموه ولا تبخسوا منه.
قوله تعالى: * (وزنوا بالقسطاس) * فيه خمس لغات:
إحداها. " قسطاس "، بضم القاف وسينين، وهذه قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وابن
عامر، وأبي بكر عن عاصم هاهنا وفي [سورة] الشعراء.
والثانية: كذلك; إلا أن القاف مكسورة، وهذه قراءة حمزة، والكسائي، وحفص عن
عاصم. قال الفراء: هما لغتان:
والثالثة: " قصطاص "، بصادين.
والرابعة: " قصطاس "، بصاد قبل الطاء وسين بعدها، وهاتان مرويتان عن حمزة.
والخامسة: " قسطان "، بالنون. قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال:
القسطاس: الميزان، رومي معرب، " قسطاس " و " قسطاس ".
قوله تعالى: * (ذلك خير) * أي: ذلك الوفاء خير عند الله وأقرب إليه، * (وأحسن تأويلا) * أي:
عاقبة في الجزاء.
قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * قال الفراء: أصل " تقف " من القيافة، وهي:
تتبع الأثر، وفيه لغتان: قفا يقفو، وقاف يقوف وأكثر القراء يجعلونها من " قفوت " فيحرك الفاء إلى
الواو ويجزم القاف كما تقول: لا تدع وقرأ معاذ القارئ: " لا تقف "، مثل: تقل; والعرب تقول:
قفت أثره، وقفوت، ومثله: عاث وعثا، وقاع الجمل الناقة، وقعاها: إذا ركبها. قال الزجاج: من قرأ
بإسكان الفاء وضم القاف من: قاف يقوف، فكأنه مقلوب من قفا يقفو، والمعنى واحد، تقول:
قفوت الشئ أقفوه قفوا: إذا تبعت أثره. وقال ابن قتيبة: " لا تقف "، أي: لا تتبعه الظنون والحدس،
وهو من القفاء مأخوذ، كأنك تقفو الأمور، أي: تكون في أقفائها وأواخرها تتعقبها، والقائف: الذي
يعرف الآثار ويتبعها فكأنه مقلوب عن القافي.
وللمفسرين في المراد به أربعة أقوال:
أحدها: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم، رواه العوفي عن ابن عباس:
والثاني: لا تقل: رأيت، ولم تر، ولا سمعت، ولم تسمع. رواه عثمان بن عطاء عن أبيه عن
26

ابن عباس، وبه قال قتادة.
والثالث: لا تشرك بالله شيئا، رواه عطاء أيضا عن ابن عباس.
والربع: لا تشهد بالزور، قاله محمد بن الحنفية.
قوله تعالى: * (كل أولئك) * قال الزجاج: إنما قال: * (كل) *، ثم قال: * (كان) *، لأن كلا في
لفظ الواحد، وإنما قال: * (أولئك) * لغير الناس، لأن كل جمع أشرت إليه من الناس وغيرهم من
الموات، تشير إليه بلفظ " أولئك " قال جرير:
- ذم المنازل بعد منزلة اللوى * والعيش بعد أولئك الأيام -
قال المفسرون: الإشارة إلى الجوارح المذكورة، يسأل العبد يوم القيامة فيما إذا استعملها،
وفي هذا زجر عن النظر إلى ما لا يحل، والاستماع إلى ما يحرم، والعزم على مالا يجوز.
ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا " 37 " كل
ذلك كان سيئه عند ربك مكروها " 38 " ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل
مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا " 39 "
قوله تعالى: * (ولا تمش في الأرض مرحا) * وقرأ الضحاك، وابن يعمر: " مرحا " بكسر الراء،
قال الأخفش: والكسر أجود، لأن " مرحا " اسم الفاعل; قال الزجاج: كلاهما في الجودة سواء، غير
أن المصدر أوكد في الاستعمال، تقول: جاء زيد ركضا، وجاء زيد راكضا، ف‍ " ركضا " أوكد في
الاستعمال، لأنه يدل على توكيد الفعل، وتأويل الآية: لا تمش في الأرض مختالا فخورا، والمرح:
الأشر والبطر. وقال ابن فارس: المرح: شدة الفرح.
قوله تعالى: * (إنك لن تخرق الأرض) * فيه قولان:
أحدهما: لن تقطعها إلى آخرها.
والثاني: لن تنفذها وتنقبها. قال ابن عباس: لن تخرق الأرض بكبرك، ولن تبلغ الجبال طولا
بعظمتك. قال ابن قتيبة: والمعنى: لا ينبغي للعاجز أن يبذخ ويستكبر.
قوله تعالى: * (كل ذلك كان سيئه) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " سيئه " منونا غير
مضاف، على معنى: كان خطيئة، فعلى هذا يكون قوله تعالى: * (كل ذلك) * إشارة إلى المنهي،
عنه من المذكور فقط. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " سيئه " مضافا مذكرا، فتكون
27

لفظة " كل " يشار بها إلى سائر ما تقدم ذكره. وكان أبو عمرو لا يرى هذه القراءة. قال الزجاج: وهذا
غلط من أبي عمرو، لأن في هذه الأقاصيص سيئا وحسنا، وذلك أن فيها الأمر ببر الوالدين، وإيتاء
ذي القربى، والوفاء بالعهد، ونحو ذلك، فهذه القراءة أحسن من قراءة من نصب السيئة، وكذلك
قال أبو عبيدة: تدبرت الآيات من قوله [تعالى]: * (وقضى ربك...) * فوجدت فيها أمورا حسنة.
وقال أبو علي: من قرأ " سيئة " رأى أن الكلام انقطع عند قوله [تعالى]: * (وأحسن تأويلا) *، وأن
قوله: * (ولا تقف) * لا حسن فيه.
قوله تعالى: * (ذلك مما أوحى إليك ربك) * يشير إلى ما تقدم من الفرائض والسنن، * (من
الحكمة) *، أي: من الأمور المحكمة والأدب الجامع لكل خير. وقد سبق معنى " المدحور "
أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما " 40 "
قوله تعالى: * (أفأصفاكم ربكم بالبنين) * قال مقاتل: نزلت في مشركي العرب الذين قالوا:
الملائكة بنات الرحمن. وقال أبو عبيدة: ومعنى * (أفأصفاكم) *: اختصكم. وقال المفضل:
أخلصكم. وقال الزجاج: اختار لكم صفوة الشئ، وهذا توبيخ للكفار، والمعنى: اختار لكم
البنين دونه، وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه، فاختصكم بالأعلى وجعل لنفسه الأدون؟!
ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا " 41 "
قوله تعالى: * (ولقد صرفنا) * معنى التصريف هاهنا: التبيين، وذلك أنه إنما يصرف القول
ليبين. وقال ابن قتيبة: " صرفنا " بمعنى: وجهنا، وهو من قولك: صرفت إليك كذا، أي: عدلت
به إليك، وشدد للتكثير، كما تقول: فتحت الأبواب.
قوله تعالى: * (ليذكروا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر: " ليذكروا "
مشددا. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " ليذكروا " مخففا، وكذلك قرؤوا في الفرقان:
والتذكر: الاتعاظ والتدبر. * (وما يزيدهم) * تصريفنا وتذكيرنا * (إلا نفورا) * قال ابن عباس: ينفرون من
الحق، ويتبعون الباطل.
28

قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " 42 " سبحانه وتعالى
عما يقولون علوا كبيرا " 43 " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا
يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا " 44 "
قوله تعالى: * (كما تقولون) * قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر
عن عاصم: " تقولون " بالتاء. وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: " يقولون " بالياء.
قوله تعالى: * (إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * فيه قولان:
أحدهما: لابتغوا سبيلا إلى ممانعته وإزالة ملكه، قاله الحسن، وسعيد بن جبير.
والثاني: لابتغوا سبيلا إلى رضاه، لأنهم دونه، قاله قتادة.
قوله تعالى: * (عما يقولون) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر، وحفص
عن عاصم: " يقولون " بالياء. وقرأ حمزة، والكسائي: بالتاء..
قوله تعالى: * (تسبح له السماوات) * قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم:
" تسبح " بالتاء. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: " يسبح " بالياء. قال الفراء:
وإنما حسنت " الياء " هاهنا، لأنه عدد قليل، وإذا قل العدد من المؤنث والمذكر، كانت الياء فيه أحسن
من التاء، قال عز وجل في المؤنث القليل: * (وقال نسوة) * وقال في المذكر: * (فإذا انسلخ الأشهر
الحرم) *. قال العلماء: والمراد بهذا التسبيح: الدلالة على أنه الخالق القادر.
قوله تعالى: * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) * * (إن) * بمعنى " ما ". وهل هذا على إطلاقه، أم
لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه على إطلاقه، فكل شئ يسبحه حتى الثوب والطعام وصرير الباب، قاله إبراهيم
النخعي.
والثاني: أنه عام يراد به الخاص. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كل شئ فيه الروح، قاله الحسن، وقتادة والضحاك.
والثاني: أنه كل ذي روح، وكل نام من شجر أو نبات; قال عكرمة: الشجرة تسبح،
والأسطوانة لا تسبح وجلس الحسن على طعام فقدموا الخوان، فقيل له: أيسبح هذا الخوان؟،
فقال: قد كان يسبح مرة.
والثالث: أنه كل شئ لم يغير عن حاله، فإذا تغير انقطع تسبيحه، روى خالد بن معدان عن
29

المقدام بن معد يكرب قال: إن التراب ليسبح ما لم يبتل، فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الورقة تسبح
ما دامت على الشجرة، فإذا سقطت تركت التسبيح، وإن الثوب ليسبح ما دام جديدا، فإذا توسخ
ترك التسبيح.
فأما تسبيح الحيوان الناطق، فمعلوم، وتسبيح الحيوان غير الناطق، فجائز أن يكون بصوته،
وجائز أن يكون بدلالته على صانعه.
وفي تسبيح الجمادات ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه تسبيح لا يعلمه إلا الله.
والثاني: أنه خضوعه وخشوعه لله.
والثالث: دلالته على صانعه، فيوجب ذلك تسبيح مبصره. فإن قلنا: إنه تسبيح حقيقة، كان
قوله [تعالى]: * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) * لجميع الخلق; وإن قلنا: إنه دلالته على صانعه، كان
الخطاب للكفار، لأنهم لا يستدلون، ولا يعتبرون. وقد شرحنا معنى " الحليم " و " الغفور " في
[سورة] البقرة.
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا " 45 " وجعلنا
على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده
ولوا على أدبارهم نفورا " 46 " نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى
إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " 47 " أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا
فلا يستطيعون سبيلا " 48 " وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا " 49 " * قل
كونوا حجارة أو حديدا " 50 " أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل
الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون
قريبا " 51 " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " 52 "
30

قوله تعالى: * (حجابا مستورا) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الحجاب: هو الأكنة على قلوبهم، قاله قتادة.
والثاني: أنه حجاب يستره فلا يرونه; وقيل: إنها نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
إذا قرأ القرآن; قال الكلبي: وهم أبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأم جميل امرأة أبي
لهب، فحجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرون به، ولا يرونه.
والثالث: أنه منع الله عز وجل إياهم عن أذاه، حكاه الزجاج.
وفي معنى * (مستورا) * قولان:
أحدهما: انه بمعنى ساتر; قال الزجاج: وهذا قول أهل اللغة. قال الأخفش: وقد يكون
الفاعل في لفظ المفعول، كما تقول: إنك مشؤوم علينا، وميمون علينا، وإنما هو شائم ويامن، لأنه
من " شأمهم " و " يمنهم ".
والثاني: أن المعنى: حجابا مستورا عنكم لا ترونه، ذكره الماوردي. وقال ابن الأنباري: إذا
قيل: الحجاب هو الطبع على قلوبهم، فهو مستور عن الأبصار، فيكون " مستورا " باقيا على لفظه.
قوله تعالى: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * قد شرحناه في [سورة] الأنعام.
قوله تعالى: * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده) * يعني: قلت: لا إله إلا الله، وأنت تتلو
القرآن * (ولوا على أدبارهم) * قال أبو عبيدة: أي على أعقابهم، * (نفورا) * وهو: جمع نافر، بمنزلة قاعد
وقعود، وجالس وجلوس. وقال الزجاج: تحتمل مذهبين:
أحدهما: المصدر، فيكون المعنى: ولوا نافرين نفورا.
والثاني: أن يكون " نفورا " جمع نافر.
وفي المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم الشياطين، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم المشركون، وهذا مذهب ابن زيد.
قوله تعالى: * (نحن أعلم بما يستمعون) * قال المفسرون: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عليا [رضي
الله عنه] أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين، ففعل ذلك، ودخل عليهم رسول
الله [صلى الله عليه وسلم] فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى التوحيد، وكانوا يستمعون ويقولون فيما بينهم:
هو ساحر، هو مسحور، فنزلت هذه الآية: * (نحن أعلم بما يستمعون به) *، أي:
يستمعونه، والباء زائدة. * (إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى) * قال أبو عبيدة: هي مصدر من
31

" ناجيت " واسم منها، فوصف القوم بها، والعرب تفعل ذلك، كقولهم: إنما هو عذاب، وأنتم غم،
فجاءت في موضع " متناجين ". وقال الزجاج: والمعنى: وإذ هم ذوو نجوى، وكانوا يستمعون من
رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ويقولون بينهم: هو ساحر، وهو مسحور، وما أشبه ذلك من القول.
قوله تعالى: * (إذ يقول الظالمون) * يعني: أولئك المشركون * (إن تتبعون) * أي: ما تتبعون * (إلا
رجلا مسحورا) * وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الذي سحر فذهب بعقله، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: مخدوعا مغرورا، قاله مجاهد.
والثالث: له سحر، أي: رئة; وكل دابة أو طائر أو بشر يأكل فهو: مسحور ومسحر، لأن له
سحرا، قال لبيد:
- فأن تسألينا فيم نحن فإننا * عصافير من هذا الأنام المسحر -
وقال امرؤ القيس:
- أرانا مرصدين لأمر غيب * ونسحر بالطعام وبالشراب -
أي: نغذى، لأن أهل السماء لا يأكلون، فأراد أن يكون ملكا. فعلى هذا يكون المعنى: إن
تتبعون إلا رجلا به سحر، خلقه الله كخلقكم، وليس بملك، وهذا قول أبي عبيدة.
قال ابن قتيبة: والقول قول مجاهد، لأن السحر حيلة وخديعة; ومعنى قول لبيد " المسحر ":
المعلل، وقول امرئ القيس: " ونسحر " أي: نعلل، وكأنا نخدع، والناس يقولون: سحرتني
بكلامك، أي: خدعتني، ويدل عليه قوله [تعالى]: * (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) *، لأنهم لو
أرادوا رجلا ذا رئة، لم يكن في ذلك مثل ضربوه، فلما أرادوا مخدوعا - كأنه بالخديعة سحر - كان
مثلا ضربوه، وكأنهم ذهبوا إلى أن قوما يعلمونه ويخدعونه. قال المفسرون: ومعنى * (ضربوا لك
الأمثال) * بينوا لك الأشباه، حتى شبهوك بالساحر والشاعر والمجنون * (فضلوا) * عن الحق، * (فلا
يستطيعون سبيلا) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يجدون سبيلا إلى تصحيح ما يعيبونك به.
والثاني: لا يستطيعون سبيلا إلى الهدى، لأنا طبعنا على قلوبهم.
والثالث: لا يأتون سبيل الحق، لثقله عليهم; ومثله قولهم: لا أستطيع أن أنظر إلى فلان،
يعنون; أنا مبغض له، فنظري إليه يثقل، ذكرهن ابن الأنباري.
قوله تعالى: * (أئذا كنا عظاما) * قرأ ابن كثير: * (أيذا) * بهمزة ثم يأتي بياء ساكنة من غير مد،
* (أينا) *، مثله وكذلك في كل القرآن. وكذلك روى قالون عن نافع، إلا أن نافعا كان لا يستفهم في
* (أينا) *، كان يجعل الثاني خبرا في كل القرآن، وكذلك مذهب الكسائي، غير أنه يهمز الأولى
32

همزتين. وقرأ عاصم، وحمزة بهمزتين في الحرفين جميعا. وقرأ ابن عامر: " إذا كنا " بغير استفهام
بهمزة واحدة " آئنا " بهمزتين يمد بينهما مدة.
قوله تعالى: * (ورفاتا) * فيه قولان:
أحدهما: أنه التراب ولا واحد له، فهو بمنزلة الدقاق والحطام، قاله الفراء، وهو مذهب
مجاهد.
والثاني: أنه العظام ما لم تتحطم، والرفات: الحطام، قاله أبو عبيدة. وقال الزجاج: الرفات:
التراب. والرفات: كل شئ حطم وكسر، و * (خلقا جديدا) * في معنى مجددا.
قوله تعالى: * (أو خلقا مما يكبر في صدوركم) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الموت، قاله ابن عمر، وابن عباس والحسن، والأكثرون.
والثاني: أنه السماء والأرض والجبال، قاله مجاهد.
والثالث: أنه ما يكبر في صدوركم، من كل ما استعظموه من خلق الله تعالى، قاله قتادة.
فإن قيل: كيف قيل لهم: * (كونوا حجارة أو حديدا) * وهم لا يقدرون على ذلك؟ فعنه
جوابان:
أحدهما: إن قدرتم على تغير حالاتكم، فكونوا حجارة أو أشد منها، فإنا نميتكم، وننفذ
أحكامنا فيكم، ومثل هذا قولك للرجل: اصعد إلى السماء فإني لاحقك.
والثاني: تصوروا أنفسكم حجارة أو أصلب منها، فإنا سنبيدكم، قال الأحوص:
- إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا *
فكن حجرا من يابس الصخر جامدا
معناه: فتصور نفسك حجرا، وهؤلاء قوم اعترفوا أن الله خالقهم، وجحدوا البعث، فأعلموا أن
الذي ابتدأ خلقهم هو الذي يحييهم.
قوله تعالى: * (فسينغضون إليك رؤوسهم) * قال قتادة: يحركونها تكذيبا واستهزاء. قال
الفراء: يحركونها، كما يحرك الآيس من الشئ والمستبعد له رأسه، يقال: نغضت سنه: إذا
تحركت.
قوله تعالى: * (ويقولون متى هو؟) * يعنون البعث * (قل عسى أن يكون قريبا) * أي: هو قريب.
ثم بين متى يكون فقال: * (يوم يدعوكم) * يعني: من القبور بالنداء الذي يسمعكم، وهو النفخة
33

الأخيرة * (فتستجيبون) * أي: تجيبون. قال مقاتل: يقوم إسرافيل على صخرة بيت المقدس يدعو أهل
القبور في قرن، فيقول: أيتها العظام البالية، وأيتها اللحوم المتمزقة، وأيتها الشعور المتفرقة، وأيتها
العروق المتقطعة، اخرجوا إلى فصل القضاء لتجزوا بأعمالكم، فيسمعون الصوت، فيسعون إليه.
وفي معنى: * (بحمده) * أربعة أقوال:
أحدها: بأمره، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد.
والثاني: يخرجون من القبور وهم يقولون: سبحانك وبحمدك، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: أن معنى * (بحمده) *: بمعرفته، وطاعته، قاله قتادة، قال الزجاج: تستجيبون مقرين
أنه خالقكم.
والرابع: تجيبون بحمد الله لا بحمد أنفسكم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: * (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) * في هذا الظن قولان:
أحدهما: أنه بمعنى اليقين.
والثاني: أنه على أصله. وأين يظنون أنهم لبثوا قليلا؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: بين النفختين ومقداره أربعون سنة، ينقطع في ذلك العذاب عنهم، فيرون لبثهم في زمان
الراحة قليلا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: في الدنيا، لعلمهم بطول اللبث في الآخرة، قاله الحسن.
والثالث: في القبور، قاله مقاتل. فعلى هذا إنما قصر اللبث في القبور عندهم، لأنهم خرجوا
إلى ما هو أعظم عذابا من عذاب القبور. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية خطاب
للمؤمنين، لأنهم يجيبون المنادي يحمدون الله على إحسانه إليهم، ويستقلون مدة اللبث في القبور،
لأنهم كانوا غير معذبين.
وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان
عدوا مبينا " 53 "
قوله تعالى: * (وقل عبادي يقولوا التي هي أحسن) * في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بمكة، بالقول والفعل، فشكوا
34

ذلك إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فنزلت هذه الآية. قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن رجلا من الكفار شتم عمر بن الخطاب، فهم به عمر [رضي الله عنه]، فنزلت
هذه الآية، قاله مقاتل، والمعنى: وقل لعبادي المؤمنين يقولوا الكلمة التي هي أحسن. واختلفوا
فيمن تقال له هذه الكلمة على قولين:
أحدهما: أنهم المشركون، قال الحسن: تقول له: يهديك الله، وما ذكرنا من سبب نزول
الآية يؤيد هذا القول. وذهب بعضهم إلى أنهم أمروا بهذه الآية بتحسين خطاب المشركين قبل الأمر
بقتالهم، ثم نسخت هذه الآية بآية السيف.
والثاني: أنهم المسلمون، قاله ابن جرير. المعنى: وقل لعبادي يقول بعضهم لبعض التي
هي أحسن من المحاورة والمخاطبة. وقد روى مبارك عن الحسن قال: " التي هي أحسن " أن يقول له
مثل قوله، ولكن يقول له: يرحمك الله، ويغفر الله لك. قال الأخفش: وقوله * (يقولوا) * مثل قوله: * (يقيموا
الصلاة) *، وقد شرحنا ذلك في سورة إبراهيم.
قوله تعالى: * (إن الشيطان ينزغ بينهم) * أي: يفسد ما بينهم، والعدو المبين: الظاهر العداوة.
ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا " 54 "
قوله تعالى: * (ربكم أعلم بكم) * فيمن خوطب بهذا قولان:
أحدهما: أنهم المؤمنون. ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: * (إن يشأ يرحمكم) * فينجيكم من أهل مكة، * (وإن يشأ يعذبكم) * فيسلطهم عليكم،
رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: إن يشأ يرحمكم بالتوبة، أو يعذبكم بالإقامة على الذنوب، قاله الحسن.
والثاني: أنهم المشركون. ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: إن يشأ يرحكم، فيهديكم للإيمان، أو إن يشأ يعذبكم، فيميتكم على الكفر، قاله
مقاتل.
والثاني: أنه لما نزل القحط بالمشركين فقالوا: * (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) *، قال
الله تعالى: * (ربكم أعلم بكم) * من الذي يؤمن، ولا يؤمن * (إن يشأ يرحمكم) * فيكشف
القحط عنكم * (أو إن يشأ يعذبكم) * فيتركه عليكم، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال ابن الأنباري:
35

و " أو " هاهنا دخلت لسعة الأمرين عند الله [تعالى]، وانه لا يرد عنهما، فكانت ملحقة ب‍ " أو "
المبيحة في قولهم: جالس الحسن، أو ابن سيرين، يعنون: قد وسعنا لك الأمر.
قوله تعالى: * (وما أرسلناك عليهم وكيلا) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: كفيلا تؤخذ بهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: حافظا وربا، قاله الفراء.
والثالث: كفيلا بهدايتهم وقادرا على إصلاح قلوبهم، ذكره ابن الأنباري. وذهب بعض
المفسرين إلى أن هذا منسوخ بآية السيف.
وربك أعلم بمن السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا
داود زبورا " 55 "
قوله تعالى: * (وربك أعلم بمن في السماوات والأرض) * لأنه خالقهم، فهدى من شاء، وأضل
من شاء، وكذلك فضل بعض النبيين على بعض، وذلك عن حكمة منه وعلم، فخلق آدم بيده،
ورفع إدريس، وجعل الذرية لنوح، واتخذ إبراهيم خليلا، وموسى كليما، وجعل عيسى روحا،
وأعطى سليمان ملكا جسيما، ورفع محمدا [صلى الله عليه وسلم] فوق السماوات، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر. ويجوز أن يكون المفضلون أصحاب الكتب، لأنه ختم الكلام بقوله [تعالى]: * (وآتينا داود
زبورا) *. وقد شرحنا معنى " الزبور " في سورة النساء.
قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا " 56 " أولئك
الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن
عذاب ربك كان محذورا " 57 "
قوله تعالى: * (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) * في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن نفرا من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجن والنفر من العرب لا
يشعرون، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، روي عن ابن مسعود.
والثاني: أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون: هي تشفع لنا عند الله، فلما ابتلوا
36

بالقحط سبع سنين، قيل لهم: " ادعوا الذين زعمتم "، قاله مقاتل، والمعنى: قل ادعوا الذين زعمتم
أنهم آلهة، * (فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) * له إلى غيركم.
قوله تعالى: * (أولئك الذين يدعون) * في المشار إليهم ب‍ * (أولئك) * ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الجن الذين أسلموا.
والثاني: الملائكة، وقد سبق بيان القولين.
والثالث: أنهم المسيح، وعزير، والملائكة! والشمس، والقمر، قاله ابن عباس. وفى معنى
" يدعون " قولان:
أحدهما: يعبدون، أي: يدعونهم آلهة، وهذا قول الأكثرين.
والثاني: أنه بمعنى يتضرعون إلى الله في طلب الوسيلة. وعلى هذا يكون قوله [تعالى]:
" يدعون " راجعا إلى " أولئك "، ويكون قوله: " يبتغون " تماما للكلام. وعلى القول الأول: يكون
" يدعون " راجعا إلى المشركين، ويكون قوله: " يبتغون " وصفا ل‍ " أولئك " مستأنفا. وقرأ ابن مسعود،
وابن عباس، وأبو عبد الرحمن: " تدعون " بالتاء. قال ابن الأنباري: فعلى هذا، الفعل مردود إلى
قوله [تعالى]: * (فلا يملكون كشف الضر عنكم) * ومن قرأ " يدعون " بالياء، قال: العرب تنصرف من
الخطاب إلى الغيبة إذا أمن اللبس. ومعنى " يدعون ": يدعونهم آلهة. وقد فسرنا معنى " الوسيلة " في
المائدة.
وفي قوله [تعالى]: * (أيهم أقرب) * قولان: ذكرهما الزجاج.
أحدهما: أن يكون " أيهم " مرفوعا بالابتداء، وخبره أقرب إليه فيتوسلون إلى الله به.
والثاني: أن يكون " أيهم أقرب " بدلا من الواو في " يبتغون "، فيكون المعنى: يبتغي أيهم هو
أقرب الوسيلة إلى الله، أي: يتقرب إليه بالعمل الصالح.
وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في
الكتاب مسطورا " 58 "
قوله تعالى: * (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها) * " إن " بمعنى " ما "، والقرية الصالحة هلاكها
بالموت، والعاصية بالعذاب، والكتاب: اللوح المحفوظ، والمسطور: المكتوب.
37

وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا
بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " 59 "
قوله تعالى: * (وما منعنا أن نرسل بالآيات) * في سبب نزولها فيه قولان:
أحدهما: أن أهل مكة سألوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم
الجبال فيزرعون، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم لعلنا نجتبي منهم، وإن شئت نؤتيهم الذي
سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من كان قبلهم، قال: " لا، بل أستأني "، فنزلت هذه الآية، رواه
سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: قد ذكرناه عن الزبير في قوله تعالى * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) *، ومعنى
الآية: وما منعنا إرسال الآيات التي سألوها إلا تكذيب الأولين، يعني أن هؤلاء سألوا الآيات التي
استوجب بتكذيبها الأولون العذاب، فلم يرسلها لئلا يكذب بها هؤلاء، فيهلكوا كما هلك أولئك،
وسنة الله في الأمم أنهم إذا سألوا الآيات ثم كذبوا بها عذبهم.
قوله تعالى: * (وآتينا ثمود الناقة مبصرة) * قال ابن قتيبة: أي: بينة، يريد: مبصرا بها. قال
ابن الأنباري: ويجوز أن تكون مبصرة، ويصلح أن يكون المعنى: مبصر مشاهدوها، فنسب إليها
فعل غيرها تجوزا، كما يقال: لا أرينك هاهنا، فأدخل حرف النهي على غير المنهي عنه، إذ
المعنى: لا تحضر هاهنا، حتى إذا جئت لم أرك فيه. ومن قرأ " مبصرة " بفتح الميم والصاد،
فمعناه: المبالغة في وصف الناقة بالتبيان، كقولهم: " الولد مجبنة ".
قوله تعالى: * (فظلموا بها) * قال ابن عباس: فجحدوا بها. وقال الأخفش: بها كان ظلمهم.
قوله تعالى: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * أي: نخوف العباد ليتعظوا.
وللمفسرين في المراد بهذه الآيات أربعة أقوال:
أحدها: أنها الموت الذريع، قاله الحسن.
والثاني: معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفا للمكذبين.
والثالث: آيات الانتقام تخويفا من المعاصي.
والرابع: تقلب أحوال الإنسان من صغر إلى شباب، ثم إلى كهولة، ثم إلى مشيب، ليعتبر
بتقلب أحواله فيخاف عاقبة أمره، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي، ونسب الأخير منها إلى إمامنا
أحمد رضي الله عنه.
38

وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس
والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " 60 "
قوله تعالى: * (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أحاط علمه بالناس، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الربيع بن أنس. وقال
مقاتل: أحاط علمه بالناس، يعني: أهل مكة، أن يفتحها لرسوله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أحاطت قدرته بالناس، فهم في قبضته، قاله مجاهد.
والثالث: حال بينك وبين الناس أن يقتلوك، لتبلغ رسالته، قاله الحسن، وقتادة.
قوله تعالى: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) * في هذه الرؤيا قولان:
أحدهما: أنها رؤيا عين، وهي ما رأى ليلة أسري به من العجائب والآيات. روى عكرمة
عن ابن عباس قال: هي رؤيا ليلة أسري به، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن
جبير، ومجاهد، وعكرمة، ومسروق، والنخعي، وقتادة، وأبو مالك، وأبو صالح، وابن جريج، وابن
زيد في آخرين. فعلى هذا يكون معنى الفتنة: الاختبار، فإن قوما آمنوا بما قال، وقوما كفروا. قال
ابن الأنباري: المختار في هذه الرؤية أن تكون يقظة، ولا فرق بين أن يقول القائل: رأيت فلانا
رؤية، ورأيته رؤيا، إلا أن الرؤية يقل استعمالها في المنام، والرؤيا يكثر استعمالها في المنام،
ويجوز كل واحد منهما في المعنيين.
والثاني: أنها رؤيا منام. ثم فيها قولان:
أحدهما: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان قد أرى أنه يدخل مكة، هو وأصحابه، وهو يومئذ
بالمدينة، فعجل قبل الأجل، فرده المشركون، فقال أناس: قد رد، وكان حدثنا أنه سيدخلها، فكان
رجوعهم فتنتهم، رواه العوفي عن ابن عباس. وهذا لا ينافي حديث المعراج، لأن هذا كان
بالمدينة، والمعراج كان بمكة: قال أبو سليمان الدمشقي: وإنما ذكره ابن عباس على وجه الزيادة
في الإخبار لنا أن المشركين بمكة افتتنوا برؤيا عينه، والمنافقين بالمدينة افتتنوا برؤيا نومه.
والثاني: أنه أري بني أمية على المنابر، فساءه ذلك، فقيل له: إنها الدنيا يعطونها، فسري
عنه. فالفتنة هاهنا: البلاء، رواه علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب، وإن كان مثل هذا
لا يصح، ولكن قد ذكره عامة المفسرين.
39

وروى ابن الأنباري أن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قوما على منابر، فشق
ذلك عليه، وفيه نزل: * (والشجرة الملعونة في القرآن) *، قال: ومعنى قوله: * (إلا فتنة للناس) *:
إلا بلاء للناس. قال ابن الأنباري: فمن ذهب إلى أن الشجرة رجال رآهم النبي [صلى الله عليه وسلم] في منامه
يصعدون على المنابر، احتج بأن الشجرة يكنى بها عن المرأة لتأنيثها، وعن الجماعة لاجتماع أغصانها.
قالوا: ووقعت اللعنة بهؤلاء الذين كنى عنهم بالشجرة. قال المفسرون: وفي الآية تقديم و تأخير،
تقديره: وما جعلنا الرؤيا والشجرة إلا فتنة للناس.
وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها شجرة الزقوم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن
جبير، وعكرمة، ومسروق، والنخعي، والجمهور. وقال مقاتل: لما ذكر الله تعالى شجرة الزقوم،
قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا يخوفكم بشجرة الزقوم، ألستم تعلمون أن النار تحرق
الشجر، ومحمد يزعم أن النار تنبت الشجر، فهل تدرون ما الزقوم، فقال عبد الله بن الزبعرى: إن
الزقوم بلسان بربر: التمر والزبد، فقال أبو جهل: يا جارية ابغينا تمرا وزبدا، فجاءته به، فقال لمن
حوله: تزقموا من هذا الذي يخوفكم به محمد، فأنزل الله عز وجل: * (ونخوفهم فما يزيدهم إلا
طغيانا كبيرا) *: قال ابن قتيبة: كانت فتنتهم بالرؤيا قولهم: كيف يذهب إلى بيت المقدس، ويرجع
في ليلة؟! وبالشجرة قولهم: كيف يكون في النار شجرة؟!
وللعلماء في معنى " الملعونة " ثلاثة أقوال:
أحدها: المذمومة، قاله ابن عباس.
والثاني: الملعون آكلها، ذكره الزجاج، وقال: إن لم يكن في القرآن ذكر لعنها، ففيه لعن
آكليها; قال: والعرب تقول لكل طعام مكروه وضار: ملعون; فأما قوله [تعالى]: * (في القرآن) *
فالمعنى: التي ذكرت في القرآن، وهي مذكورة في قوله: * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) *.
والثالث: أن معنى " الملعونة ": المبعدة عن منازل أهل الفضل، ذكره ابن الأنباري.
والقول الثاني: أن الشجرة الملعونة هي التي تلتوي على الشجر، يعني: الكشوثى، وهذا
مروي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: أن الشجرة كناية عن الرجال على ما ذكرنا عن سعيد بن المسيب.
قوله تعالى; * (ونخوفهم) * قال ابن الأنباري: مفعول " نخوفهم " محذوف، تقديره:
40

ونخوفهم العذاب، * (فما يزيدهم) * أي: فما يزيدهم التخويف * (إلا طغيانا) *; وقد ذكرنا معنى
الطغيان في سورة البقرة، وذكرنا هناك تفسير قوله [تعالى]: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم
فسجدوا) *.
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا " 61 "
قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن يكون إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا
قليلا " 62 " قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا " 63 " واستفزز
من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد
وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " 64 " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى
بربك وكيلا " 65 "
قوله تعالى: * (آسجد) * قرأه الكوفيون: بهمزتين. وقرأه الباقون: بهمزة مطولة; وهذا
استفهام إنكار، يعني به: لم أكن لأفعل.
قوله تعالى: * (لمن خلقت طينا) * قال الزجاج: " طينا " منصوب على وجهين.
أحدهما: التمييز، المعنى: لمن خلقته من طين.
والثاني: على الحال، المعنى: أنشأته في حال كونه من طين. ولفظ * (قال أرأيتك) * جاء
هاهنا بغير حرف عطف، لأن المعنى: قال آسجد لمن خلقت طينا، وأرأيتك، وهي: في معنى:
أخبرني، والكاف ذكرت في المخاطبة توكيدا، والجواب محذوف، والمعنى: أخبرني عن هذا الذي
كرمت علي، لم كرمته علي وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟! فحذف هذا، لأن في الكلام
دليلا عليه.
قوله تعالى: * (لئن أخرتن إلى يوم القيامة) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر: " أخرتني " بياء
في الوصل. ووقف أبن كثير بالياء. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في وصول
ولا في وقف.
41

قوله تعالى: * (لأحتنكن ذريته) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لأستولين عليهم، قاله ابن عباس، والفراء.
والثاني: لأضلنهم، قاله ابن زيد.
والثالث: لأستأصلنهم; يقال: احتنك الجراد ما على الأرض: إذا أكله; واحتنك فلان ما عند
فلان من العلم: إذا استقصاه، فالمعنى: لأقودنهم كيف شئت، هذا قول ابن قتيبة.
فإن قيل: من أين علم الغيب. فقد أجبنا عنه في سورة النساء.
قوله تعالى: * (إلا قليلا) * قال ابن عباس: هم أولياء الله الذين عصمهم.
قوله تعالى: * (قال اذهب) * هذا اللفظ يتضمن إنظاره; * (فمن تبعك) *، أي: تبع أمرك
منهم، يعني: ذرية آدم. والموفور: الموفر. قال ابن قتيبة: يقال: وفرت ماله عليه، ووفرته،
بالتخفيف والتشديد.
قوله تعالى: * (واستفزز من استطعت منهم) * قال ابن قتيبة: استخف، ومنه تقول: استفزني
فلان.
وفي المراد بصوته قولان:
أحدهما: أنه كل داع دعا إلى معصية الله، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الغناء والمزامير، قاله مجاهد.
وقوله تعالى: * (وأجلب عليهم) * أي: صح * (بخيلك ورجلك) * واحثثهم عليهم بالإغراء;
يقال: أجلب القوم وجلبوا: إذا صاحوا. وقال الزجاج: المعنى: اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من
مكايدك; فعلى هذا تكون الباء زائدة. قال ابن قتيبة: والرجل: الرجالة; يقال: راجل ورجل، مثل
تاجر وتجر، وصاحب وصحب. قال ابن عباس: كل خيل تسير في معصية الله، وكل رجل يسير في
معصية الله. وقال قتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس. وروى حفص عن عاصم: " بخيلك
ورجلك " بكسر الجيم، وهي قراءة ابن عباس، وأبي رزين، وأبي عبد الرحمن السلمي. قال أبو
زيد: يقال: رجل رجل: للرجل، ويقال: جاءنا حافيا رجلا. وقرأ ابن السميفع، والجحدري:
" بخيلك ورجالك " برفع الراء وتشديد الجيم مفتوحة وبألف بعدها. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء،
وعكرمة: " ورجالك " بكسر الراء وتخفيف الجيم مع ألف.
قوله تعالى: * (وشاركهم في الأموال) * فيه أربعة أقوال:
42

أحدها: أنها ما كانوا يحرمونه من أنعامهم، رواه عطية عن ابن عباس.
والثاني: الأموال التي أصيبت من حرام، قاله مجاهد. والثالث: التي أنفقوها في معاصي.
الله، قال الحسن.
والرابع: ما كانوا يذبحون لآلهتهم، قاله الضحاك.
فأما مشاركته إياهم في الأولاد، ففيها أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أولاد الزنا، رواه عطية عن ابن عباس، به قال سعيد بن جبير، ومجاهد،
والضحاك.
والثاني: الموؤودة من أولادهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنه تسمية أولادهم عبيدا لأوثانهم كعبد شمس، وعبد العزى، وعبد مناف، رواه
أبو صالح عن ابن عباس.
والرابع: ما مجسوا وهودوا ونصروا، وصبغوا من أولادهم غير صبغة الإسلام، قاله الحسن،
وقتادة.
قوله تعالى: * (وعدهم) * قد ذكرناه في قوله [تعالى]: * (يعدهم ويمنيهم..) * إلى آخر
الآية. وهذه الآية لفظها لفظ الأمر، ومعناها التهديد، ومثلها في الكلام أن تقول للإنسان: اجهد
جهدك فسترى ما ينزل بك. قال الزجاج: إذا تقدم الأمر نهي عما يؤمر به، فمعناه التهديد والوعيد،
تقول للرجل: لا تدخلن هذه الدار; فإذا حاول أن يدخلها قلت: ادخلها وأنت رجل، فلست تأمره
بدخولها، ولكنك توعده وتهدده، ومثله: * (اعملوا ما شئتم) * وقد نهوا أن يعملوا بالمعاصي.
وقال ابن الأنباري: هذا أمر معناه التهديد، تقديره: إن فعلت هذا عاقبناك وعذبناك، فنقل إلى لفظ
الأمر عن الشرط، كقوله: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) *.
قوله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * قد شرحناه في الحجر.
قوله تعالى: * (وكفى بربك وكيلا) * قال الزجاج: كفى به وكيلا لأوليائه يعصمهم من القبول
من إبليس.
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما " 66 " وإذا
43

مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم قد إلى البر أعرضتم وكان الإنسان
كفورا " 67 " أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم
وكيلا " 68 " أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما
كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا " 69 " * ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر
والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " 70 "
قوله تعالى: * (ربكم الذي يزجي لكم الفلك) * أي: يسيرها. قال الزجاج: يقال: زجيت
الشئ، أي: قدمته.
قوله تعالى: * (لتبتغوا من فضله) * أي: في طلب التجارة.
وفي " من " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها زائدة.
والثاني: أنها للتبعيض.
والثالث: أن المفعول محذوف، والتقدير: لتبتغوا من فضله الرزق والخير، ذكرهن ابن
الأنباري.
قوله تعالى: * (إنه كان بكم رحيما) * هذا الخطاب خاص للمؤمنين، ثم خاطب المشركين فقال:
* (وإذا مسكم الضر في البحر) * يعني: خوف الغرق * (ضل من تدعون) * أي: يضل من يدعون من
الآلهة، إلا الله تعالى. ويقال: ضل بمعنى غاب، يقال: ضل الماء في اللبن: إذا غاب، والمعنى: أنكم
أخلصتم الدعاء لله، ونسيتم الأنداد. وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل: " ضل من يدعون " بالياء. * (فلما
نجاكم إلى البر أعرضتم) * عن الإيمان والإخلاص * (وكان الإنسان) * يعني الكافر * (كفورا) * بنعمة
ربه. * (أفأمنتم) * إذا خرجتم من البحر * (أن يخسف بكم) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " نخسف
بكم " " أو نرسل " " أن نعيدكم " " فنرسل " " فنغرقكم " بالنون في الكل. وقرأ نافع، وعاصم،
وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بالياء في الكل. وقرأ نافع، عاصم، وابن عامر، وحمزة،
والكسائي، بالياء في الكل. ومعنى * (نخسف بكم جانب البر) *، أي: نغيبكم ونذهبكم في ناحية
البر، والمعنى: إن حكمي نافذ في البر نفوذه في البحر، * (أو نرسل عليكم حاصبا) * فيه ثلاثة
أقوال:
أحدها: أن الحاصب: حجارة من السماء، قاله قتادة.
44

والثاني: أنه الريح العاصف تحصب، قاله أبو عبيدة، وأنشد للفرزدق:
- مستقبلين شمال الريح تضربهم *
بحاصب منه كنديف القطن منثور -
وقال ابن قتيبة: الحاصب: الريح، سميت بذلك لأنها تحصب، أي: ترمي بالحصباء، وهي
الحصى الصغار. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الحاصب: الريح التي فيها الحصى. وإنما قال
في الريح: * (حاصبا) * ولم يقل: " حاصبة " لأنه وصف لزم الريح ولم يكن لها مذكر تنتقل إليه في
حال، فكان بمنزلة قولهم: " حائض " للمرأة، حين لم يقل: رجل حائض. قال: وفيه جواب آخر،
وهو أن نعت الريح عري من علامة التأنيث، فأشبهت بذلك أسماء المذكر، كما قالوا: السماء
أمطر، والأرض أنبت.
والثالث: أن الحاصب: التراب الذي فيه حصباء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: * (ثم لا تجدوا لكم وكيلا) * أي: مانعا وناصرا.
قوله تعالى: * (أم أمنتم أن يعيدكم فيه) * أي: في البحر * (تارة أخرى) * أي: مرة أخرى،
والجمع: تارات. * (فيرسل عليكم قاصفا من الريح) * قال أبو عبيدة: هي التي تقصف كل شئ.
قال ابن قتيبة: القاصف: الريح التي تقصف الشجر، أي: تكسره.
قوله تعالى: * (فيغرقكم) * وقرأ أبو المتوكل، وأبو جعفر، وشيبة، ورويس: " فتغرقكم "
بالتاء، وسكون الغين، وتخفيف الراء. وقرا أبو الجوزاء، وأيوب: " فيغرقكم " بالياء، وفتح الغين،
وتشديدها. وقرأ أبو رجاء مثله، إلا أنه بالتاء * (بما كفرتم) * أي: بكفركم حيث نجوتم في المرة
الأولى، * (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) * قال ابن قتيبة: أي: من يتبع بدمائكم، أي: يطالبنا.
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ريح العذاب أربع، اثنتان في البر، واثنتان في البحر،
فاللتان في البر: الصرصر، والعقيم، واللتان في البحر: العاصف، والقاصف.
قوله تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * أي: فضلناهم. قال أبو عبيدة: و " كرمنا " أشد مبالغة
من " أكرمنا ".
وللمفسرين فيما فضلوا به أحد عشر قولا:
أحدها: أنهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة: جبريل، وميكائيل،
وإسرافيل، وملك الموت، وأشباههم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المراد:
المؤمنين منهم، ويكون تفضيلهم بالإيمان.
والثاني: أن سائر الحيوان يأكل بفيه، إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده، رواه ميمون بن مهران
45

عن ابن عباس. وقال بعض المفسرين: المراد بهذا التفضيل: أكلهم بأيديهم، و نظافة ما
يقتاتونه، إذ الجن يقتاتون العظام والروث.
والثالث: فضلوا بالعقل، روي عن ابن عباس.
والرابع: بالنطق والتمييز، قاله الضحاك.
والخامس: بتعديل القامة وامتدادها، قاله عطاء.
والسادس: بأن جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منهم، قاله محمد بن كعب.
والسابع: فضلوا بالمطاعم واللذات في الدنيا، قاله زيد بن أسلم.
والثامن: بحسن الصورة، قاله يمان.
والتاسع: بتسليطهم على غيرهم من الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم، قاله محمد بن
جرير.
والعاشر: بالأمر والنهي، ذكره الماوردي.
والحادي عشر: بأن جعلت اللحى للرجال، والذوائب للنساء، ذكره الثعلبي.
فإن قيل: كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل، وفيهم الكافر المهان؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه عامل الكل معاملة المكرم بالنعم الوافرة.
والثاني: أنه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة، أجرى الصفة على جماعتهم، كقوله
[تعالى]: * (كنتم خيرة أمة أخرجت للناس) *.
قوله تعالى: * (وحملناهم في البر) * على أكباد رطبة، وهي: الإبل، والخيل، والبغال،
والحمير، * (و) * في * (البحر) * على أعواد يابسة، وهي: السفن. * (ورزقناهم من الطيبات) * فيه
قولان:
أحدهما: الحلال. والثاني: المستطاب في الذوق.
قوله تعالى: * (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) * فيه قولان:
أحدهما: أنه على لفظه، وأنهم لم يفضلوا على سائر المخلوقات. وقد ذكرنا عن ابن عباس
أنهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة. وقال غيره: بل الملائكة أفضل.
والثاني: أن معناه: وفضلناهم على جميع من خلقنا. والعرب تضع الأكثر والكثير في موضع
الجمع، كقوله تعالى: * (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) *. وقد روى أبو هريرة عن رسول الله
46

صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المؤمن أكرم على الله عز وجل من الملائكة الذين عنده ".
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم
ولا يظلمون فتيلا " 71 " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " 72 "
قوله تعالى * (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) * والمراد به: يوم القيامة. وقرأ الحسن البصري:
" يوم يدعو " بالياء (كل) بالنصب. وقرأ أبو عمران الجوني: " يوم يدعى " بياء مرفوعة، وفتح
العين، وبعدها ألف، " كل " بالرفع.
وفي المراد بإمامهم أربعة أقوال:
أحدها: أنه رئيسهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه سعيد بن جبير أنه قال:
إمام هدى، أو إمام ضلالة.
والثاني: عملهم، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وأبو العالية.
والثالث: نبيهم، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد في رواية.
والرابع: كتابهم، قاله عكرمة، ومجاهد في رواية. ثم فيه قولان:
أحدهما: أنه كتابهم الذي فيه أعمالهم، قاله قتادة، ومقاتل.
والثاني: كتابهم الذي أنزل عليهم، قاله الضحاك، وابن زيد. فعلى القول الأول يقال: يا
متبعي موسى، يا متبعي عيسى، يا متبعي محمد; ويقال: يا متبعي رؤساء الضلالة.
وعلى الثاني: يا من عمل كذا وكذا.
وعلى الثالث: يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة محمد.
وعلى الرابع: يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل القرآن. أو يا صاحب الكتاب الذي
فيه عمل كذا وكذا.
قوله تعالى: * (فأولئك يقرؤون كتابهم) * معناه: يقرؤون حسابهم، لأنهم أخذوا كتبهم
بأيمانهم.
قوله تعالى: * (ولا يظلمون فتيلا) * أي: لا ينقصون من ثوابهم بقدر الفتيل، وقد بيناه في
سورة النساء.
47

قوله تعالى: * (ومن كان في هذه أعمى) * قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: " أعمى فهو
في الآخرة أعمى " مفتوحتي الميم، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسر الميمين.
وقرأ أبو عمرو: " في هذه أعمى " بكسر الميم، " فهو في الآخرة أعمى " بفتحها.
المشار إليها ب‍ * (هذه) * قولان:
أحدهما: أنها الدنيا، قاله مجاهد. ثم في معنى الكلام خمسة أقوال:
أحدها: من كان في الدنيا أعمى عن معرفة قدرة الله في خلق الأشياء، فهو عما وصف له
في الآخرة أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: من كان في الدنيا أعمى بالكفر، فهو في الآخرة أعمى، لأنه في الدنيا تقبل توبته،
وفي الآخرة لا تقبل، قاله الحسن.
والثالث: من عمي عن آيات الله في الدنيا، فهو عن الذي غيب عنه من أمور الآخرة أشد
عمى.
والرابع: من عمي عن نعم الله التي بينها في قوله [تعالى]: * (ربكم الذي يزجي لكم
الفلك في البحر) * إلى قوله: * (تفضيلا) * فهو في الآخرة أعمى عن رشاده وصلاحه، ذكرهما ابن
الأنباري.
والخامس: من كان فيها أعمى عن الحجة، فهو في الآخرة أعمى عن الجنة، قاله أبو بكر
الوراق.
والثاني: أنها النعم. ثم في الكلام قولان:
أحدهما: من كان أعمى عن النعم التي ترى وتشاهد، فهو في الآخرة التي لم تر أعمى،
رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: من كان أعمى عن معرفة حق الله في هذه النعم المذكورة في
قوله تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * ولم يؤد شكرها، فهو فيما بينه وبين الله مما يتقرب به إليه
أعمى * (وأضل سبيلا) *، قاله السدي. قال أبو علي الفارسي: ومعنى قوله: * (في الآخرة
أعمى) * أي: أشد عمى، لأنه كان في الدنيا يمكنه الخروج عن عماه بالاستدلال، ولا سبيل له
في الآخرة إلى الخروج من عماه. وقيل: معنى العمى في الآخرة. أنه لا يهتدي إلى طريق
الثواب، وهذا كله من عمى القلب.
فإن قيل: لم قال: * (فهو في الآخرة أعمى) * ولم يقل: أشد عمى، لأن العمى خلقة
بمنزلة الحمرة، والزرقة، والعرب تقول: ما أشد سواد زيد، وما أبين زرقة عمرو وقلما يقولون:
ما أسود زيدا، وما أزرق عمرا؟
48

فالجواب: أن المراد بهذا العمى عمى القلب، وذلك يتزايد ويحدث منه شئ بعد شئ،
فيخالف الخلق اللازمة التي لا تزيد، نحو عمى العين، والبياض، والحمرة، ذكره ابن الأنباري.
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك
خليلا " 73 " ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " 74 " إذا لأذقناك ضعف
الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا " 75 " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض
ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا " 76 " سنة من قد أرسلنا قبلك من
رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا " 77 "
قوله تعالى: * (وإن كادوا ليفتنونك) * في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أن وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: متعنا باللات سنة، وحرم وادينا كما حرمت
مكة، فأبى ذلك، فأقبلوا يكثرون مسألتهم، وقالوا: إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فان
خشيت أن يقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا، فقل: الله أمرني بذلك; فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم
عنهم ودخلهم الطمع، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. وروى عطية عن ابن عباس
أنهم قالوا: أجلنا سنة، ثم نسلم ونكسر أصنامنا، فهم أن يؤجلهم، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نكف عنك إلا بأن تلم بآلهتنا، ولو بأطراف
أصابعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما علي لو فعلت والله يعلم إني لكاره "؟ فنزلت هذه الآية،
قاله سعيد بن جبير، وهذا باطل لا يجوز أن يظن برسول الله [صلى الله عليه وسلم]، ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه
هم أن ينظرهم سنة، وكل ذلك مخالف في حقه.
والثالث: أن قريشا خلوا برسول الله ليلة إلى الصباح يكلمونه ويفخمونه; ويقولون: أنت
سيدنا وابن سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك،
ونزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والرابع: أنهم قالوا لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]: اطرد عنك سقاط الناس، ومواليهم، وهؤلاء الذين
رائحتها رائحة الضأن، وذلك أنهم كانوا يلبسون الصوف، حتى نجالسك ونسمع منك، فهم
رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يفعل ما يستدعي به إسلامهم، فنزلت هذه الآيات، حكاه الزجاج; قال:
49

ومعنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت " إن " واللام للتوكيد. قال المفسرون: وإنما قال:
" ليفتنونك "، لأن في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن.
قوله تعالى: * (لتفتري) * أي: لتختلق * (علينا غيره) * وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك،
* (وإذا) * لو فعلت ذلك * (لاتخذوك خليلا) * أي: والوك وصافوك.
قوله تعالى: * (ولولا أن ثبتناك) * على الحق، لعصمتنا إياك * (لقد كدت تركن إليهم) *
أي: هممت وقاربت أن تميل إلى مرادهم * (شيئا قليلا) * قال ابن عباس: وذلك حين سكت عن
جوابهم، والله أعلم بنيته. وقال ابن الأنباري: الفعل في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الباطن
للمشركين، وتقديره: لقد كادوا يركنونك إليهم، وينسبون إليك ما يشتهونه مما تكرهه، فنسب
الفعل إلى غير فاعله عند أمن اللبس، كما يقول الرجل للرجل: كدت تقتل نفسك اليوم، يريد:
كدت تفعل فعلا يقتلك غيرك من أجله; فهذا المجاز والاتساع وشبيه بهذا قوله [تعالى]: * (فلا
تموتن إلا وأنتم مسلمون) *، وقول القائل: لا أرينك في هذا الموضع.
قوله تعالى: * (إذا لأذقناك) * المعنى: لو فعلت ذلك الشئ القليل * (لأذقناك ضعف
الحياة) * أي: ضعف عذاب الحياة * (وضعف) * عذاب * (الممات) *، ومثله قول الشاعر:
واستب بعدك يا كليب المجلس
أي: أهل المجلس. وقال ابن عباس: ضعف عذاب الدنيا والآخرة. وكان رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] معصوما، ولكنه تخويف لأمته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في
شئ من أحكام الله وشرائعه.
قوله تعالى: * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض) * في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لما قدم المدينة، حسدته اليهود على مقامه بالمدينة،
وكرهوا قربه، فأتوه، فقالوا: يا محمد أنبي أنت؟ قال: نعم، قالوا: فوالله لقد علمت ما هذه
بأرض الأنبياء، وأن أرض الأنبياء الشام، فإن كنت نبيا فائت الشام، فنزلت هذه الآية، قاله أبو
50

صالح عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: هم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يشخص عن المدينة،
فنزلت هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن غنم: لما قالت له اليهود هذا، صدق ما قالوا، وغزا غزوة
تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك، نزلت هذه الآية.
والثاني: أنهم المشركون أهل مكة هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فأمره الله
بالخروج، وأنزل هذه الآية إخبارا عما هموا به، قاله الحسن، ومجاهد. وقال قتادة: هم أهل
مكة بإخراجه من مكة، ولو فعلوا ذلك ما نوظروا، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى أمره
بالخروج. وقيل: ما لبثوا بعد ذلك حتى بعث الله عليهم القتل ببدر.
فعلى القول الأول، المشار إليهم: اليهود، والأرض: المدينة.
وعلى الثاني: هم المشركون، والأرض: مكة، وقد ذكرنا معنى " الاستفزاز " آنفا،
وقيل: المراد به هاهنا: القتل، ليخرجوه من الأرض كلها، روي عن الحسن.
قوله تعالى: * (وإذا لا يلبثون خلفك) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن
عاصم: " خلفك ". وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " خلافك ". قال
الأخفش " خلافك " في معنى خلفك، والمعنى: لا يلبثون بعد خروجك * (إلا قليلا) * أي: لو
أخرجوك لاستأصلناهم علي بعد خروجك بقليل، وقد جازاهم الله على ما هموا به، فقتل صناديد
المشركين ببدر، وقتل من اليهود بني قريظة، وأجلى النضير. وقال ابن الأنباري: معنى الكلام:
لا يلبثون على خلافك ومخالفتك، فسقط حرف الخفض. وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل:
" خلافك " بضم الخاء، وتشديد اللام، ورفع الفاء.
قوله تعالى: * (سنة من قد أرسلنا) * قال الفراء: نصب السنة على العذاب
يعذبون كسنتنا فيمن أرسلنا. وقال الأخفش: المعنى: سنها سنة. وقال الزجاج: المضمر، أي: انتصب بمعنى
" لا يلبثون " وتأويله: إنا سننا هذه السنة فيمن أرسلنا قبلك أنهم إذا أخرجوا نبيهم أو قتلوه، لم
يلبث العذاب أن ينزل بهم.
أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان
51

مشهودا " 78 " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " 79 "
وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " 80 "
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " 81 "
قوله تعالى: * (أقم الصلاة) * أي: أدها * (لدلوك الشمس) * أي: عند دلوكها. وذكر ابن
الأنباري في " اللام " قولين:
أحدهما: أنها بمعنى " في ".
والثاني: أنها مؤكدة، كقوله تعالى: * (ردف لكم) *. وقال أبو عبيدة: دلوكها: من عند
زوالها إلى أن تغيب. وقال الزجاج: ميلها وقت الظهيرة دلوك، وميلها للغروب دلوك. وقال
الأزهري: معنى " الدلوك " في كلام العرب: الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف
النهار: دالكة، وإذا أفلت: دالكة، لأنها في الحالين زائلة.
وللمفسرين في المراد بالدلوك هاهنا قولان:
أحدهما: أنه زوالها نصف النهار. روى جابر بن عبد الله قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من
أصحابه، فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " اخرج يا أبا بكر
فهذا حيث دلكت الشمس "; وهذا قول ابن عمر، وأبي برزة، وأبي هريرة، والحسن، والشعبي، وسعيد
ابن جبير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وهو اختيار
الأزهري. قال الأزهري: لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، فيكون المعنى: أقم الصلاة من وقت
زوال الشمس إلى غسق الليل، فيدخل فيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم
قال: * (وقرآن الفجر) *، فهذه خمس صلوات.
والثاني: أنه غروبها، قاله ابن مسعود، والنخعي، وابن زيد، وعن ابن عباس كالقولين،
قال الفراء: ورأيت العرب تذهب في الدلوك إلى غيبوبة الشمس، وهذا اختيار ابن قتيبة، قال:
لأن العرب تقول: دلك النجم: إذا غاب; قال ذو الرمة:
- مصابيح ليست باللواتي تقودها * نجوم ولا بالآفلات الدوالك -
وتقول في الشمس: دلكت براح، يريدون: غربت، والناظر قد وضع كفه على حاجبه ينظر
52

إليها، قال الشاعر:
- والشمس قد كادت تكون دنفا * أدفعها وإن بالراح كي تزحلفا -
فشبهها بالمريض الدنف، لأنها قد همت بالغروب كما قارب الدنف الموت، وإنما ينظر إليها
من تحت الكف ليعلم كم بقي لها إلى أن تغيب، ويتوقى الشعاع بكفه. فعلى هذا، المراد بهذه
الصلاة: المغرب. فأما غسق الليل فهو فظلامه.
وفي المراد بالصلاة المتعلقة بغسق الليل ثلاثة أقوال:
أحدها: العشاء، قاله ابن مسعود.
والثاني: المغرب، قاله ابن عباس. قال القاضي أبو يعلى: فيحتمل أن يكون المراد بيان
وقت المغرب، أنه من غروب الشمس إلى غسق الليل.
والثالث: المغرب والعشاء، قاله الحسن.
قوله تعالى: * (وقرآن الفجر) * المعنى: وأقم قراءة الفجر. قال المفسرون: المراد به:
صلاة الفجر. قال الزجاج: وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة، حين
سميت الصلاة قرآنا.
قوله تعالى: * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) * روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تشهده
ملائكة الليل، وملائكة النهار ".
قوله تعالى: * (ومن الليل فتهجد به) * قال ابن عباس: فصل بالقرآن. قال مجاهد،
وعلقمة، والأسود: التهجد بعد النوم. قال ابن قتيبة: تهجدت: سهرت، وهجدت: نمت.
وقال ابن الأنباري: التهجد هاهنا بمعنى: التيقظ والسهر، واللغويون يقولون: هو من حروف
الأضداد; يقال للنائم: هاجد ومتهجد، وكذلك للساهر، قال النابغة:
- ولو أنها عرضت لأشمط راهب * عبد الإله صرورة متهجد -
- لرنا فيه لبهجتها وحسن حديثها * ولخاله رشدا وإن لم يرشد -
يعني بالمجتهد: الساهر، وقال لبيد:
قال هجدنا فقد طال السرى
أي: نومنا. وقال الأزهري: المتهجد: القائم إلى الصلاة من النوم: وقيل له: متهجد،
53

لإلقائه الهجود عن نفسه، كما يقال: تحرج وتأثم.
قوله تعالى: * (نافلة لك) * النافلة في اللغة: ما كان زائدا على الأصل.
وفي معنى هذه الزيادة في حقه قولان:
أحدهما: أنها زائدة فيما فرض عليه، فيكون المعنى: فريضة عليك، وكان قد فرض عليه
قيام الليل، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير.
والثاني: أنها زائدة على الفرض، وليست فرضا; فالمعنى: تطوعا وفضيلة. قال أبو
أمامة، والحسن، ومجاهد: إنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. قال مجاهد: وذلك أنه قد غفر له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر، فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة، وهو لغيره كفارة. وذكر بعض
أهل العلم: أن صلاة الليل كانت فرضا عليه في الابتداء، ثم رخص له في تركها، فصارت
نافلة. وذكر ابن الأنباري في هذا قولين:
أحدهما: يقارب ما قاله مجاهد، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تنفل لا يقدر له أن يكون
بذلك ماحيا للذنوب، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره إذا تنفل كان راجيا، ومقدرا
محو السيئات عنه بالتنفل، فالنافلة لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] زيادة على الحاجة، وهي لغيره مفتقر إليها،
ومأمول بها دفع المكروه.
والثاني: أن النافلة للنبي [صلى الله عليه وسلم] وأمته، والمعنى: ومن الليل فتهجدوا به نافلة لكم،
فخوطب النبي [صلى الله عليه وسلم] بخطاب أمته.
قوله تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * " عسى " من الله واجبة، ومعنى
يبعثك " يقيمك * (مقاما محمودا) * وهو الذي يحمده لأجله جميع أهل الموقف. وفيه قولان:
أحدهما: أنه الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر،
وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، والحسن، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والثاني: يجلسه على العرش يوم القيامة. روى أبو وائل عن عبد الله أنه قرأ هذه الآية،
وقال: يقعده على العرش، وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس، وليث عن مجاهد.
قوله تعالى: * (وقل رب أدخلني مدخل صدق) * وقرأ الحسن، وعكرمة، والضحاك،
وحميد بن قيس، وقتادة، وابن أبي عبلة بفتح الميم في " مدخل " و " مخرج ". قال الزجاج:
المدخل، بضم الميم: مصدر أدخلته مدخلا، ومن قال: مدخل صدق، فهو على أدخلته،
فدخل مدخل صدق، وكذلك شرح " مخرج " مثله.
54

وللمفسرين في المراد بهذا المدخل والمخرج أحد عشر قولا.
أحدها: أدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق. روى أبو ظبيان عن
ابن عباس قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه هذه الآية. وإلى هذا
المعنى ذهب الحسن في رواية سعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد.
والثاني: أدخلني القبر مدخل صدق، وأخرجني منه مخرج صدق، رواه العوفي عن ابن
عباس.
والثالث: أدخلني المدينة، وأخرجني إلى مكة، يعني: لفتحها، رواه أبو صالح عن ابن
عباس.
والرابع: أدخلني مكة مدخل صدق، وأخرجني منها مخرج صدق، فخرج منها آمنا من
المشركين، ودخلها ظاهرا عليها يوم الفتح، قاله الضحاك.
والخامس: أدخلني مدخل صدق الجنة، وأخرجني مخرج صدق من مكة إلى المدينة، رواه
قتادة عن الحسن.
والسادس: أدخلني في النبوة والرسالة، وأخرجني منها مخرج صدق، قاله مجاهد، يعني:
أخرجني مما يجب علي فيها.
والسابع: أدخلني في الإسلام، وأخرجني منه، قاله أبو صالح; يعني من أداء ما وجب علي
فيه إذا جاء الموت.
والثامن: أدخلني في طاعتك، وأخرجني منها، أي، سالما غير مقصر في أدائها، قاله عطاء.
والتاسع: أدخلني الغار، وأخرجني منه، قاله محمد بن المنكدر.
والعاشر: أدخلني في الدين، وأخرجني من الدنيا وأنا على الحق، ذكره الزجاج.
والحادي عشر: أدخلني مكة، وأخرجني إلى حنين، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
وأما إضافة الصدق إلى المدخل والمخرج، فهو مدح لهما. وقد شرحنا هذا المعنى في سورة
يونس.
55

قوله تعالى: * (واجعل لي من لدنك) * أي: من عندك * (سلطانا) * وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه التسلط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بإقامة الحدود، قاله الحسن.
والثاني: أنه الحجة البينة، قاله مجاهد.
والثالث: الملك العزيز الذي يقهر به العصاة، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري: وقوله
[تعالى]: * (نصيرا) * يجوز أن يكون بمعنى منصرا، ويصلح أن يكون تأويله ناصرا.
قوله تعالى: * (وقل جاء الحق وزهق الباطل) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن الحق: الإسلام، والباطل: الشرك، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن الحق: القرآن، والباطل: الشيطان، قاله قتادة.
والثالث: أن الحق: الجهاد، والباطل: الشرك، قاله ابن جريج.
والرابع: الحق: عبادة الله، والباطل: عبادة الأصنام، قاله مقاتل. ومعنى " زهق ": بطل
واضمحل. وكل شئ هلك وبطل فقد زهق، وزهقت نفسه: تلفت.
وروى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل
يطعنها ويقول: " * (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) * ".
فإن قيل: كيف قلتم: إن * (زهق) * بمعنى بطل، والباطل موجود معمول عليه عند أهله؟
فالجواب: أن المراد من بطلانه وهلكته: وضوح عيبه، فيكون هالكا عند المتدبر الناظر.
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " 82 "
قوله تعالى: * (وننزل من القرآن ما هو شفاء) * " من " هاهنا لبيان الجنس، فجميع القرآن
شفاء. وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال:
أحدها: شفاء من الضلال، لما فيه من الهدى.
والثاني: شفاء من السقم، لما فيه من البركة.
والثالث: شفاء من البيان للفرائض والأحكام.
وفي " الرحمة " قولان:
أحدهما: النعمة.
56

والثاني: سبب الرحمة.
قوله تعالى: * (ولا يزيد الظالمين) * يعني المشركين * (إلا خسارا) * لأنهم يكفرون به، ولا
ينتفعون بمواعظه، فيزيد خسرانهم.
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذ مسه الشر كان يئوسا " 83 " قل
كل يعمل على شا كلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا " 84 "
قوله تعالى: * (وإذا أنعمنا على الإنسان) * قال ابن عباس: الإنسان هاهنا: الكافر، والمراد به
الوليد بن المغيرة. قال المفسرون: وهذا الإنعام: سعة الرزق، وكشف البلاء. * (ونأى بجانبه) * قرأ
ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: " ونأى " على وزن " نعى " بفتح النون والهمزة.
وقرأ ابن عامر: " ناء " مثل " باع ". وقرأ الكسائي، وخلف عن سليم عن حمزة: " وناء " بإماله
النون والهمزة. وروى خلاد عن سليم: " نئي " بفتح النون، وكسر الهمزة، والمعنى: تباعد عن
القيام بحقوق النعم، وقيل: تعظم وتكبر. * (وإذا مسه الشر) * أي: نزل به البلاء والفقر * (كان
يؤوسا) * أي: قنوطا شديد اليأس، لا يرجو فضل الله.
قوله تعالى: * (قل كل يعمل على شاكلته) * فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: على ناحيته، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. قال الفراء: الشاكلة: الناحية،
والجديلة، والطريقة، سمعت بعض العرب يقول: وعبد الملك إذ ذاك على جديلته، وابن الزبير
على جديلته، يريد: على ناحيته. وقال أبو عبيدة: على ناحيته وخليقته. وقال ابن قتيبة: على
خليقته وطبيعته، وهو من الشكل. يقال: لست على شكلي، ولا شاكلتي. وقال الزجاج: على
طريقته، وعلى مذهبه.
والثاني: على نيته; قاله الحسن، ومعاوية بن قرة. وقال الليث: الشاكلة من الأمور: ما وافق
فاعله.
والثالث: على دينه، قاله ابن زيد. وتحرير المعنى: أن كل واحد يعمل على طريقته التي
تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند النعم واليأس عند الشدة، والمؤمن
يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، والله يجازي الفريقين. وذكر أبو
صالح عن ابن عباس: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *،
وليس بشئ.
57

ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " 85 "
قوله تعالى: * (ويسألونك عن الروح) * في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بناس من اليهود، فقالوا: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا
تسألوه، فيستقبلكم بما تكرهون. فأتاه نفر منهم، فقالوا: يا أبا القاسم: ما تقول في الروح؟
فسكت، ونزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود.
والثاني: أن اليهود قالت لقريش: سلوا محمدا عن ثلاث، فإن أخبركم عن اثنتين وأمسك عن
الثالثة فهو نبي; سلوه عن فتية فقدوا، وسلوه عن ذي القرنين، وسلوه عن الروح. فسألوه عنها، ففسر
لهم أمر الفتية في الكهف، وفسر لهم قصة ذي القرنين، وأمسك عن قصة الروح، فنزلت هذه الآية،
رواه عطاء عن ابن عباس.
وفي المراد بالروح هاهنا ستة أقوال:
أحدها: أنه الروح الذي يحيا به البدن، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس. وقد اختلف
الناس في ماهية الروح، ثم اختلفوا هل الروح النفس، أم هما شيئان فلا يحتاج إلى ذكر اختلافهم لأنه
لا برهان على شئ من ذلك وإنما هو شئ أخذوه عن الطب والفلاسفة؟ فأما السلف، فإنهم
أمسكوا عن ذلك، لقوله تعالى: * (قل الروح من أمر ربي) *، فلما رأوا أن القوم سألوا عن الروح
فلم يجابوا، والوحي ينزل، والرسول حي، علموا أن السكوت عما لم يحط بحقيقة علمه أولى.
والثاني: أن المراد بهذا الروح; ملك من الملائكة على خلقه هائلة، روي عن علي عليه
السلام، وابن عباس، ومقاتل.
والثالث: أن الروح: خلق من خلق الله عز وجل صورهم على صور بني آدم، رواه مجاهد
عن ابن عباس.
والرابع: أنه جبريل عليه السلام، قاله الحسن، وقتادة.
والخامس: أنه القرآن، روي عن الحسن أيضا.
والسادس: أنه عيسى ابن مريم، حكاه الماوردي. قال أبو سليمان الدمشقي: قد ذكر الله
تعالى الروح في مواضع من القرآن، فغالب ظني أن الناقلين نقلوا تفسيره من موضعه إلى موضع لا
يليق به، وظنوه مثله، وإنما هو الروح الذي يحيى به ابن آدم. وقوله تعالى: * (من أمر ربي) * أي:
من عمله الذي منع أن يعرفه أحد.
قوله تعالى: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * في المخاطبين بهذا قولان:
58

أحدهما: أنها اليهود، قاله الأكثرون.
والثاني: أنهم جميع الخلق، علمهم قليل بالإضافة إلى علم الله عز وجل، ذكره الماوردي.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى: * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا
كثيرا) *؟
فالجواب: أن ما أوتيه الناس من العلم، وإن كان كثيرا، فهو بالإضافة إلى علم الله قليل.
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا " 86 " إلا رحمة
من ربك إن فضله كان عليك كبيرا " 87 "
قوله تعالى: * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) * قال الزجاج: المعنى: لو شئنا لمحوناه
من القلوب والكتب، حتى لا يوجد له أثر، * (ثم لا تجد لك به علينا وكيلا) * أي لا تجد من يتوكل
عليه في رد شئ منه، * (إلا رحمة من ربك) * هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن الله
رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين. وقال ابن الأنباري: المعنى: لكن رحمة من ربك
تمنع من أن تسلب القرآن، وكان المشركون قد خاطبوا نساءهم من المسلمين في الرجوع إلى دين
آبائهم، فهددهم الله عز وجل بسلب النعمة، فكان ظاهر الخطاب للرسول، ومعنى التهدد للأمة.
وقال أبو سليمان: " ثم لا تجد لك به " أي: بما نفعله بك، من إذهاب ما عندك " وكيلا " يدفعنا
عما نريده بك. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يسرى على القرآن في ليلة واحدة، فيجئ
جبريل من جوف الليل، فيذهب به من صدورهم ومن بيوتهم، فيصبحون لا يقرؤون آية، ولا
يحسنونها. ورد أبو سليمان الدمشقي صحة هذا الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله لا
يقبض العلم انتزاعا " وحديث ابن مسعود مروي من طرق حسان، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد
بالعلم ما سوى القرآن، فإن العلم ما يزال ينقرض حتى يكون رفع القرآن آخر الأمر.
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان
بعضهم لبعض ظهيرا " 88 "
59

قوله تعالى: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن) * قال المفسرون: هذا تكذيب للنضر بن
الحارث حين قال: " لو شئنا لقلنا مثل هذا ". والمثل الذي طلب منهم: كلام له نظم كنظم القرآن،
في أعلى طبقات البلاغة. والظهير: المعين.
ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا " 89 " وقالوا
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " 90 " أو تكون لك جنة من نخيل وعنب
فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا " 91 " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله
والملائكة قبيلا " 92 " أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك
حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " 93 "
قوله تعالى: * (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن) * قد فسرناه في هذه السورة، والمعني:
من كل مثل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار * (فأبى أكثر الناس) * يعني أهل مكة * (إلا كفورا) *
أي: جحودا للحق وإنكارا.
قوله تعالى: * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * سبب نزول هذه الآية
وما يتبعها، أن رؤساء قريش، كعتبة، وشيبة، وأبي جهل، وعبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث
في آخرين، اجتمعوا عند الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى
تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، فجاءهم سريعا، وكان حريصا على
رشدهم، فقالوا: يا محمد، إنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على
قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فإن كنت إنما جئت
بهذا لتطلب مالا، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثر مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا،
سودناك علينا، وإن كان هذا الرئي الذي يأتيك قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طلب الطب لك
حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن تقبلوا منى ما جئتكم به، فهو حظكم في
الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ". قالوا يا محمد، فإن
كنت غير قابل منا ما عرضنا، فقد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أشد عيشا منا، سل
لنا ربك يسير لنا هذه الجبال التي ضيقت علينا، ويجري لنا أنهارا، ويبعث من مضى من آبائنا،
60

وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول: أحق هو؟
فإن فعلت صدقناك، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " ما بهذا بعثت، وقد أبلغتكم ما أرسلت به "; قالوا:
فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك، وسله أن يجعل لك جنانا، وكنوزا، وقصورا من ذهب وفضة
تغنيك; قال: " ما أنا بالذي يسأل ربه هذا "; قالوا: فأسقط السماء علينا كما زعمت بأن ربك إن
شاء فعل; فقال: " ذلك إلى الله عز وجل "; فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله
والملائكة قبيلا، وقال عبد الله بن أبي أمية: لا أؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلما، وترقى فيه
وأنا أنظر، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك فانصرف رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] حزينا لما رأى من مباعدتهم إياه، فأنزل الله تعالى: * (وقالوا لن نؤمن لك...) * الآيات،
رواه عكرمة عن ابن عباس.
قوله تعالى: * (حتى تفجر) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " حتى تفجر "
بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مع الكسرة. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " حتى تفجر "
بفتح التاء، وتسكين الفاء، وضم الجيم مع التخفيف. فمن ثقل، أراد كثرة الانفجار من الينبوع،
ومن خفف، فلأن الينبوع واحد. فأما الينبوع: فهو عين ينبع الماء منها; قال أبو عبيدة: وهو يفعول،
من نبع الماء، أي: ظهر وفار.
قوله تعالى: * (أو تكون لك جنة) * أي: بستان * (فتفجر الأنهار) * أي: تفتحها وتجريها
* (خلالها) * أي: وسط تلك الجنة.
قوله تعالى: * (أو تسقط السماء) * وقرأ مجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وحميد،
والجحدري: " أو تسقط " بفتح التاء، ورفع القاف " السماء " بالرفع.
قوله تعالى: * (كسفا) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " كسفا " بتسكين
السين في جميع القرآن إلا في (الروم) فإنهم حركوا السين. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم
بتحريك السين في الموضعين، وفي باقي القرآن بالتسكين. وقرأ ابن عامر هاهنا بفتح السين، وفي
باقي القرآن بتسكينها. قال الزجاج: من قرأ " كسفا " بفتح السين، جعلها جمع كسفة، وهي:
القطعة، ومن قرأ " كسفا " بتسكين السين، فكأنهم قالوا: أسقطها طبقا علينا; واشتقاقه من كسفت
الشئ: إذا غطيته، يعنون: أسقطها علينا قطعة واحدة. وقال ابن الأنباري: من سكن قال: تأويله:
سترا وتغطية، من قولهم: قد انكسفت الشمس: إذا غطاها ما يحول بين الناظرين إليها وبين أنوارها.
قوله تعالى: * (أو تأتي بالله والملائكة قبيلا) * فيه ثلاثة أقوال:
61

أحدها: عيانا، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل. وقال أبو
عبيدة: معناه: مقابلة، أي: معاينة، وأنشد الأعشى:
- نصالحكم حتى تبوؤوا بمثلها *
كصرخة حبلى يسرتها قبيلها -
أي: قابلتها. ويروى: وجهتها.
والثاني: كفيلا أنك رسول الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، قال: القبيل،
والكفيل، والزعيم، سواء; تقول: قبلت، وكفلت، وزعمت.
والثالث: قبيلة قبيلة، كل قبيلة على حدتها، قاله الحسن، ومجاهد. فأما الزخرف، فالمراد
به الذهب، وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في [سورة] يونس، و * (ترقى) *: بمعنى " تصعد "; يقال:
رقيت أرقي رقيا.
قوله تعالى: * (حتى تنزل علينا كتابا) * قال ابن عباس: كتابا من رب العالمين إلى فلان بن
فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه.
قوله تعالى: * (قل سبحان ربي) * قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي:
" قل ". وقرأ ابن كثير، وابن عامر: " قال "، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام، * (هل
كنت إلا بشرا رسولا) *، أي: أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر.
فإن قيل: لم اقتصر على حكاية " قالوا " من غير إيضاح الرد؟
فالجواب: أنه لما خصهم بقوله تعالى: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل
هذا القرآن) * فلم يكن في وسعهم، عجزهم، فكأنه يقول: قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما
يدل على نبوتي، ومن ذلك التحدي بمثل هذا القرآن، فأما عنتكم فليس في وسعي، ولأنهم ألحوا
عليه في هذه الأشياء، ولم يسألوه أن يسأل ربه، فرد قولهم بكونه بشرا، فكفى ذلك في الرد.
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا " 94 " قل لو
كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " 95 " قل كفى
بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " 96 "
62

قوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا) * قال ابن عباس: يريد أهل مكة. قال المفسرون:
ومعنى الآية: وما منعهم من الإيمان * (إذ جاءهم الهدى) * وهو البيان والإرشاد في القرآن * (إلا أن
قالوا) * قولهم في التعجب والإنكار: * (أبعث الله بشرا رسولا) *؟ وفي الآية اختصار، تقديره: هلا
بعث الله ملكا رسولا، فأجيبوا على ذلك بقوله [تعالى]: قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون
مطمئنين) * أي: مستوطنين الأرض. ومعنى الطمأنينة: السكون; والمراد من الكلام أن رسول كل
جنس ينبغي أن يكون منهم.
قوله تعالى: * (قل كفى بالله شهيدا) * قد فسرناه في الرعد * (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) *
قال مقاتل: حين اختص الله محمدا بالرسالة.
ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم
القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا " 97 " ذلك
جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا " 98 "
* أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم
أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا " 99 " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا
لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا " 100 "
قوله تعالى: * (من يهدي الله فهو المهتدي) * قرأ نافع، وأبو عمرو بالياء في الوصل، وحذفاها
في الوقف. وأثبتها يعقوب في الوقف، وحذفها الأكثرون في الحالتين. قال ابن عباس: من يرد الله
هداه * (فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه) * يهدونهم.
قوله تعالى: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يمشيهم على وجوههم، وشاهده ما روى البخاري ومسلم في " صحيحيهما " من
حديث أنس بن مالك أن رجلا سأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟
قال: " إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ".
63

والثاني: أن المعنى: ونحشرهم مسحوبين على وجوههم، قاله ابن عباس.
والثالث: نحشرهم مسرعين مبادرين، فعبر بقوله [تعالى]: " على وجوههم " عن الإسراع،
كما تقول العرب: قد مر القوم على وجوههم: إذا أسرعوا، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: * (عميا وبكما وصما) * فيه قولان:
أحدهما: عميا لا يرون شيئا يسرهم، وبكما لا ينطقون بحجة، وصما لا يسمعون شيئا
يسرهم، قاله ابن عباس. وقال في رواية: عميا عن النظر إلى ما جعل الله تعالى لأوليائه، وبكما عن
مخاطبة الله تعالى، وصما عما مدح به أولياءه، وهذا قول الأكثرين.
والثاني: أن هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول. قال مقاتل: هذا يكون
حين يقال لهم: * (اخسؤوا فيها) * فيصيرون عميا بكما صما لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد
ذلك.
قوله تعالى: * (كلما خبت) * قال ابن عباس: أي: سكنت. قال المفسرون: وذلك أنهم
تأكلهم، فإذا لم تبق منهم شيئا وصاروا فحما ولم تجد شيئا تأكله، سكنت، فيعادون خلقا جديدا،
فتعود لهم. وقال ابن قتيبة: يقال: خبت النار: إذا سكن لهبها. فاللهب يسكن، والجمر يعمل، فإن
سكن اللهب، ولم يطفأ الجمر، قيل: خمدت تخمد خمودا، فإن طفئت ولم يبق منها شئ، قيل:
همدت تهمد همودا. ومعنى * (زدناهم سعيرا) *: نارا تتسعر، أي: تتلهب. وما بعد هذا قد سبق
تفسيره إلى قوله تعالى: * (قادر على أن يخلق مثلهم) * أي: على أن يخلقهم مرة ثانية، وأراد ب‍
" مثلهم " إياهم، وذلك أن مثل الشئ مساو له، فجاز أن يعبر به عن نفس الشئ يقال: مثلك لا
يفعل هذا، أي: أنت، ومثله قوله تعالى: * (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به) * وقدتم الكلام عند
قوله تعالى: * (مثلهم) *، ثم قال: * (وجعل لهم أجلا لا ريب فيه) * يعني: أجل البعث * (فأبى
الظالمون إلا كفورا) * أي: جحودا بذلك الأجل
قوله تعالى: * (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي) * قال الزجاج: المعنى: لو تملكون
أنتم، قال المتلمس:
- ولغير أخوالي أرادوا نقيصتي * نصبت لهم فوق العرانين ميسما -
المعني: لو أراد غير أخوالي.
وفي هذه الخزائن قولان:
64

أحدهما: خزائن الأرزاق.
والثاني: خزائن النعم، فيخرج في الرحمة قولان:
أحدهما: الرزق.
والثاني: النعمة. وتحرير الكلام: لو ملكتم ما يملكه الله عز وجل لأمسكتم عن الإنفاق خشية
الفاقة. * (وكان الإنسان) * يعني: الكافر * (قتورا) * أي: بخيلا ممسكا; يقال: قتر يقتر، وقتر يقتر:
إذا قصر في الإنفاق. وقال الماوردي: لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى، لما جاد
كجود الله تعالى، لأمرين.
أحدهما: أنه لا بد أن يمسك منه لنفقته ومنفعته.
والثاني: أنه يخاف الفقر، والله تعالى منزه في جوده عن الحالين.
ثم إن الله تعالى ذكر إنكار فرعون آيات موسى، تشبيها بحال هؤلاء المشركين، فقال: * (ولقد
آتينا موسى تسع آيات) * وفيها قولان:
أحدهما: أنها بمعنى المعجزات والدلالات، ثم اتفق جمهور المفسرين على سبع آيات
منها، وهي: يده والعصاة، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، واختلفوا في الآيتين
الآخرتين على ثمانية أقوال:
أحدها: أنهما لسانه والبحر الذي فلق له، رواه العوفي عن ابن عباس; يعني بلسانه: أنه كان
فيه عقدة فحلها الله تعالى له.
والثاني: البحر والجبل الذي نتق فوقهم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: السنون ونقص الثمرات، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي،
وعكرمة، وقتادة. وقال الحسن: السنون ونقص الثمرات آية واحدة.
والرابع: البحر والموت أرسل عليهم، قاله الحسن، ووهب.
والخامس: الحجر والبحر، قاله سعيد بن جبير.
والسادس: لسانه وإلقاء العصا مرتين عند فرعون، قاله الضحاك.
والسابع: البحر والسنون، قاله محمد بن كعب.
والثامن: ذكره محمد بن كعب أيضا، فذكر السبع الآيات الأولى، إلا أنه جعل مكان يده
البحر، وزاد الطمسة والحجر، يعني قوله تعالى: * (اطمس على أموالهم) *.
والثاني: أنها آيات الكتاب، روى أبو داود السجستاني من حديث صفوان بن عسال، أن
يهوديا قال لصاحبه: تعالى حتى نسأل هذا النبي، فقال الآخر: لا تقل: إنه نبي، فإنه لو سمع ذلك،
65

صارت له أربعة أعين; فأتياه، فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال: " لا تشركوا بالله شيئا، وتقتلوا
النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا بالبرئ إلى
السلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة يهود
ألا تعدوا في السبت "، قال: فقبلا يده، وقالا: نشهد أنك نبي.
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون
إني لأظنك يا موسى مسحورا " 101 " قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات
والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا " 102 " فأراد أن يستفزهم من الأرض
فأغرقناه ومن معه جميعا " 103 " وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء
وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " 104 "
قوله تعالى: * (فاسأل بني إسرائيل) * قرأ الجمهور: " فاسأل " على معنى الأمر لرسول الله
[صلى الله عليه وسلم]. وإنما أمر أن يسأل من آمن منهم عما أخبر عنهم، ليكون حجة على من لم يؤمن منهم.
وقرأ ابن عباس: " فسأل بني إسرائيل "، الخبر عن موسى أنه سأل فرعون أن يرسل معه بني
إسرائيل. * (فقال له فرعون إني لأظنك) * أي: لأحسبك * (يا موسى مسحورا) * وفيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: مخدوعا، قاله ابن عباس.
والثاني: مسحورا قد سحرت، قاله ابن السائب.
والثالث: ساحرا، فوضع مفعولا في موضع فاعل، هذا مروي عن الفراء، وأبي عبيدة. فقال
موسى: * (لقد علمت) * قرأ الجمهور بفتح التاء. وقرأ علي عليه السلام بضمها، وقال: والله ما علم
عدو الله، ولكن موسى هو الذي علم، فبلغ ذلك ابن عباس، فاحتج بقوله تعالى: * (وجحدوا بها
واستيقنتها أنفسهم) *. واختار الكسائي وثعلب قراءة علي [عليه السلام]، وقد رويت عن ابن
عباس، وأبي رزين، وسعيد بن جبير، وابن يعمر. واحتج من نصرها بأنه لما نسب موسى إلى أنه
مسحور، أعلمه بصحة عقله بقوله تعالى: " لقد علمت "، والقراءة الأولى أصح، لاختيار
الجمهور، ولأنه قد أبان موسى من المعجزات ما أوجب علم فرعون بصدقه، فلم يرد عليه إلا
66

بالتعلل والمدافعة، فكأنه قال: لقد علمت بالدليل والحجة " ما أنزل هؤلاء " يعني الآيات. وقد
شرحنا معنى " البصائر " في [سورة] الأعراف.
قوله تعالى: * (وإني لأظنك) * قال أكثر المفسرين: الظن هاهنا بمعنى العلم، على خلاف
ظن فرعون في موسى، وسوى بينهما بعضهم، فجعل الأول بمعنى العلم أيضا.
وفي المثبور ستة أقوال:
أحدها: أنه الملعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
والثاني: المغلوب، رواه العفوي عن ابن عباس.
والثالث: الناقص العقل، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس.
والرابع: المهلك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة، وابن قتيبة. قال
الزجاج: يقال: ثبر الرجل، فهو مثبور; إذا أهلك.
والخامس: الهالك، قاله مجاهد.
والسادس: الممنوع من الخير; تقول العرب: ما ثبرك عن هذا، أي: ما منعك، قاله الفراء.
قوله تعالى: * (فأراد أن يستفزهم من الأرض) * يعني: فرعون أراد أن يستفز بني إسرائيل من
أرض مصر. وفي معنى * (يستفزهم) * قولان:
أحدهما: يستأصلهم، قاله ابن عباس.
والثاني: يستخفهم حتى يخرجوا، قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: جائز أن يكون استفزازهم
إخراجهم منها بالقتل أو بالتنحية. قال العلماء: وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله [صلى الله عليه وسلم]،
لأنه لما خرج موسى فطلبه فرعون، هلك فرعون وملك موسى، فكذلك أظهر الله نبيه بعد خروجه
من مكة حتى رجع إليها ظاهرا عليها.
قوله تعالى: * (وقلن من بعده) * أي: من بعد هلاك فرعون * (لبني إسرائيل اسكنوا الأرض) *
وفيها ثلاث أقوال:
أحدها: فلسطين والأردن، قاله ابن عباس.
والثاني: أرض وراء الصين، قاله مقاتل.
والثالث: أرض مصر والشام.
67

قوله تعالى: * (فإذا جاء وعد الآخرة) * يعني: القيامة * (جئنا بكم لفيفا) * أي: جميعا، قاله
ابن عباس، ومجاهد، وابن قتيبة. وقال الفراء: لفيفا، أي: من هاهنا ومن هاهنا. وقال الزجاج:
اللفيف: الجماعات من قبائل شتى.
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " 105 " وقرآنا فرقناه لتقرأه
على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " 106 " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم
من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا " 107 " ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا
لمفعولا " 108 " ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا " 109 "
قوله تعالى: * (وبالحق أنزلناه) * الهاء كناية عن القرآن، والمعنى: أنزلنا القرآن بالأمر الثابت
والدين المستقيم، فهو حق، ونزوله حق، وما تضمنه حق. وقال أبو سليمان الدمشقي: " وبالحق
أنزلناه " أي: بالتوحيد، " وبالحق نزل " يعني: بالوعد والوعيد، والأمر والنهي.
قوله تعالى: * (وقرآنا فرقناه) * قرأ علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، و أبي بن كعب،
وابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والأعرج، وأبو رجاء، وابن
محيصن: " فرقناه " بالتشديد. وقرأ الجمهور بالتخفيف.
فأما قراءة التخفيف، ففي معناها ثلاثة أقوال:
أحدها: بينا حلاله وحرامه، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: فرقنا فيه بين الحق والباطل، قاله الحسن.
والثالث: أحكمناه، وفصلناه، كقوله تعالى: * (فيها يفرق كل أمر حكيم) *، قاله الفراء. وأما
المشددة، فمعناها: أنه أنزل متفرقا، ولم ينزل جملة واحدة. وقد بينا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي
نزل فيها.
قوله تعالى: * (لتقرأه على الناس على مكث) * قرأ أنس، والشعبي، والضحاك، وقتادة، أبو
رجاء، وأبان عن عاصم، وابن محيصن: بفتح الميم; والمعنى: على تؤدة وترسل ليتدبروا معناه.
قوله تعالى: * (قل آمنوا به أولا تؤمنوا) * هذا تهديد لكفار مكة، والهاء كناية عن القرآن. * (إن
الذين أوتوا العلم) * وفيهم ثلاثة أقوال:
68

أحدها: أنهم ناس من أهل الكتاب، قاله مجاهد.
والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله ابن زيد.
والثالث: طلاب الدين، كأبي ذر، وسلمان، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، قاله
الواحدي.
وفي هاء الكناية في قوله تعالى: * (من قبله) * قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن، والمعنى: من قبل نزوله.
والثاني: ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد. فعلى الأول * (إذا يتلى عليهم) * القرآن.
وعلى قول ابن زيد * (إذا يتلى عليهم) * ما أنزل إليهم من عند الله.
قوله تعالى: * (يخرون للأذقان) * اللام هاهنا بمعنى " على ". قال ابن عباس: قوله
" للأذقان " أي: للوجوه. قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم، إنما يخر لوجهه، والذقن: مجتمع
اللحيين. وهو عضو من أعضاء الوجه، فإذا ابتدأ يخر، فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن.
وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه، فلذلك قال:
" للأذقان " ويجوز أن يكون المعنى: يخرون للوجوه، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يكتفى بالبعض
من الكل، وبالنوع من الجنس.
قوله تعالى: * (ويقولون سبحان ربنا) * نزهوا الله تعالى عن تكذيب المكذبين بالقرآن، وقالوا:
* (إن كان وعد ربنا) * بإنزال القرآن وبعث محمد صلى الله عليه وسلم * (لمفعولا) * واللام دخلت للتوكيد. وهؤلاء قوم
كانوا يسمعون أن الله باعث نبيا من العرب، ومنزل عليه كتابا، فلما عاينوا ذلك حمدوا الله تعالى
على إنجاز الوعد، * (ويخرون للأذقان) * كرر القول ليدل على تكرار الفعل منهم. * (ويزيدهم
خشوعا) * أي: يزيدهم القرآن تواضعا. وكان عبد الأعلى التيمي يقول: من أوتي من العلم مالا
يبكيه، لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: " إن الذين أوتوا
العلم... " إلى قوله تعالى: " يبكون ".
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك
ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا " 110 " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له
شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا " 111 "
قوله تعالى: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن...) * الآية. هذه الآية نزلت على سببين، نزل أولها
69

إلى قوله تعالى: * (الحسنى) * على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهجد ذات ليلة بمكة، فجعل يقول في سجوده: " يا رحمن، يا
رحيم "، فقال المشركون: كان محمد يدعو إلها واحدا، فهو الآن يدعو إلهين اثنين: الله
والرحمن، ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون: مسيلمة، فأنزل الله هذه الآية، قاله
ابن عباس.
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه كان يكتب في أول ما أوحي إليه: باسمك اللهم، حتى نزل: * (إنه
من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) * فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو
العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن؟ فنزلت هذه الآية، قاله ميمون بن مهران.
والثالث: أن أهل الكتاب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة
هذا الاسم، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك.
فأما قوله تعالى: * (ولا تجهر بصلاتك) * أي: بقراء تك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، * (ولا
تخافت بها) * عن أصحابك، فلا يسمعون، قاله ابن عباس [أولا].
والثاني: أن الأعرابي كان يجهر في التشهد ويرفع صوته، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة.
والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة عند الصفا، فجهر بالقرآن في صلاة الغداة،
فقال أبو جهل: لا تفتر على الله، فخفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فقال أبو جهل للمشركين: ألا ترون ما
فعلت بابن أبي كبشة؟! رددته عن قراءته، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
فأما التفسير، فقوله تعالى: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * المعنى: إن شئتم فقولوا: يا
الله، وإن شئتم فقولوا: يا رحمن، فإنهما يرجعان إلى واحد، * (أياما تدعوا) * المعنى: أي أسماء الله
تدعوا; قال الفراء: و " ما " قد تكون صلة، كقوله تعالى: * (عما قليل ليصبحن نادمين) *، وتكون في
معنى: " أي معادة لما اختلف لفظهما.
قوله تعالى: * (ولا تجهر بصلاتك) * فيه قولان:
أحدهما: أنها الصلاة الشرعية. ثم في المراد بالكلام ستة أقوال:
70

أحدها: لا تجهر بقراءتك، ولا تخافت بها، فكأنه نهي عن شدة الجهر وشدة المخافتة، قاله
ابن عباس. فعلى هذا في تسمية القراءة بالصلاة قولان: ذكرهما ابن الأنباري. أحدهما: أن يكون
المعنى: فلا تجهر بقراءة صلاتك. والثاني: أن القراءة بعض الصلاة، فنابت عنها، كما قيل لعيسى:
كلمة الله، لأنه بالكلمة كان.
والثاني: لا تصل مراءاة للناس، ولا تدعها مخافة الناس، قاله ابن عباس أيضا.
والثالث: لا تجهر بالتشهد في صلاتك، روي عن عائشة في رواية، وبه قال ابن سيرين.
والرابع: لا تجهر بفعل صلاتك ظاهرا ولا تخافت بها شديد الاستتار، قاله عكرمة.
والخامس: لا تحسن علانيتها، وتسئ سريرتها، قاله الحسن.
والسادس: لا تجهر بصلاتك كلها، ولا تخافت بجميعها، فاجهر في صلاة الليل، وخافت في
صلاة النهار، على ما أمرناك به، ذكره القاضي أبو يعلى.
والقول الثاني: أن المراد بالصلاة. الدعاء، وهو قول عائشة، وأبي هريرة، ومجاهد.
قوله تعالى: * (ولا تخافت بها) * المخافتة: الإخفاء، يقال: صوت خفيت. * (وابتغ بين ذلك
سبيلا) * أي: اسلك بين الجهر والمخافتة طريقا. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه
الآية بقوله تعالى: * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية، ودون الجهر من القول) *، وقال ابن
السائب: نسخت بقوله تعالى: * (فاصدع بما تؤمر) *; وعلى التحقيق، وجود النسخ هاهنا بعيد.
قوله تعالى: * (ولم يكن له شريك في الملك) * وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وطلحة بن
مصرف: " في الملك " بكسر الميم. * (ولم يكن له ولي من الذل) * قال مجاهد: لم يحالف أحدا،
ولم يبتغ نصر أحد; والمعنى: أنه لا يحتاج إلى موالاة أحد لذل يلحقه، فهو مستغن عن الولي
والنصير. * (وكبره تكبيرا) * أي: عظمه تعظيما تاما.
والله أعلم بالصواب.
71

(18) سورة الكهف مكية
وآياتها عشر ومائة
فصل في نزولها
روى أبو صالح عن ابن عباس أن سورة (الكهف) مكية، وكذلك قال الحسن، ومجاهد
وقتادة. وهذا إجماع المفسرين من غير خلاف نعلمه، إلا أنه قد روي عن ابن عباس، وقتادة أن منها
آية " مدنية " وهي قوله: * (واصبر نفسك) *. وقال مقاتل: من أولها إلى قوله تعالى: * (صعيدا
جرزا) * مدني، وقوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * الآيتان مدنية، وباقيها
مكي. وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حفظ عشر آيات من أول [سورة] (الكهف)
ثم أدرك الدجال لم يضره، ومن حفظ خواتيم [سورة] (الكهف) كانت له نورا يوم القيامة ".
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا " 1! قيما لينذر بأسا
شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا " 2 "
ماكثين فيه أبدا " 3 " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " 4 " مالهم به من علم ولا لآبائهم
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا " 5 " فلعلك باخع نفسك على
آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " 6 "
قوله تعالى: * (الحمد لله) * قد شرحناه في أول " الفاتحة ". والمراد بعبده هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم،
وبالكتاب: القرآن، تمدح بإنزاله، لأنه إنعام على الرسول خاصة، وعلى الناس عامة. قال العلماء
72

باللغة والتفسير: في هذه الآية تقديم وتأخير، تقديرها: أنزل على عبده الكتاب * (قيما) * أي:
مستقيما عدلا. وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، والنخعي، والأعمش:
" قيما " بكسر القاف، وفتح الياء، وقد فسرناه في الأنعام.
قوله تعالى: * (ولم يجعل له عوجا) * أي: لم يجعل فيه اختلافا، وقد سبق بيان العوج في [سورة]
آل عمران.
قوله تعالى: * (لينذر بأسا) * أي: عذابا شديدا، * (من لدنه) * أي: من عنده، ومن قبله،
والمعنى: لينذر الكافرين * (ويبشر المؤمنين) * أي: بأن لهم * (أجرا حسنا) * وهو الجنة. * (ماكثين) *
أي: مقيمين، وهو منصوب على الحال. * (وينذر) * بعذاب الله * (الذين قالوا اتخذ الله ولدا) * وهم
اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، والنصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون حين قالوا:
الملائكة بنات الله، * (ما لهم به) * أي. بذلك القول * (من علم) * لأنهم قالوا افترء على الله،
* (ولا لآبائهم) * الذين قالوا ذلك، * (كبرت) * أي: عظمت * (كلمة) * الجمهور على النصب. وقرأ ابن
مسعود، والحسن، ومجاهد، وأبو رزين، وأبو رجاء، ويحيى بن يعمر، وابن محيصن، وابن أبي
عبلة: " كلمة " بالرفع. قال الفراء: من نصب، أضمر: كبرت تلك الكلمة كلمة، ومن رفع، لم
يضمر شيئا، كما تقول: عظم قولك. وقال الزجاج: من نصب، فالمعنى: كبرت مقالتهم: اتخذ الله
ولدا كلمة، و " كلمة " منصوب على التمييز. ومن رفع، فالمعنى: عظمت كلمة هي قولهم: اتخذ
الله ولدا.
قوله تعالى: * (تخرج من أفواههم) * أي: إنها قول بالفم لا صحة لها، ولا دليل عليها، * (إن
يقولون) * أي: ما يقولون * (إلا كذبا) * ثم عاتبه على حزنه لفوت ما كان يرجو من إسلامهم، فقال:
* (فلعلك بأخ نفسك) * وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وقتادة: " باخع نفسك " بكسر السين،
على الإضافة. قال المفسرون واللغويون. فلعلك مهلك نفسك، وقاتل نفسك، وأنشد أبو عبيدة
لذي الرمة:
- ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه * لشئ نحته عن يديه المقادر -
أي: تحته.
فإن قيل: كيف قال: * (فلعلك) * والغالب عليها الشك، والله عالم بالأشياء قبل كونها؟
فالجواب: أنها ليست بشك، إنما هي مقدرة تقدير الاستفهام الذي يعني به التقرير، فالمعنى:
73

هل أنت قاتل نفسك؟! لا ينبغي أن يطول أساك على إعراضهم، فإن من حكمنا عليه بالشقوة لا
تجدي عليه الحسرة، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: * (على آثارهم) * أي: من بعد توليهم عنك * (إن لم يؤمنوا بهذا الحديث) * يعني
القرآن * (أسفا) * وفيه أربعة أقوال:
أحدها: حزنا، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.
والثاني: جزعا، قاله مجاهد.
والثالث: غضبا، قاله قتادة.
والرابع: ندما، قاله السدي. وقال أبو عبيدة: ندما وتلهفا وأسى. قال الزجاج: الأسف:
المبالغة في الحزن، أو الغضب، يقال: قد أسف الرجل، فهو أسيف، قال الشاعر:
- أرى رجلا منهم أسيفا كأنهما * يضم إلى كشحيه كفا مخضبا -
وهذه الآية يشير بها إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحرص على إيمان قومه لئلا يؤدي
ذلك إلى هلاك نفسه بالأسف.
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " 7 " وإنا لجاعلون ما عليها
صعيدا جرزا " 8 "
قوله تعالى: * (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنهم الرجال، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: العلماء، رواه مجاهد عن ابن عباس. فعلى هذين القولين تكون " ما " في موضع
" من " لأنها في موضع إبهام، قاله ابن الأنباري.
والثالث: أنه ما عليها من شئ، قاله مجاهد.
والرابع: النبات والشجر، قاله مقاتل. وقول مجاهد أعم، يدخل فيه النبات، والماء،
والمعادن، وغير ذلك.
فإن قيل: قد نرى بعض ما على الأرض سمجا وليس بزينة.
فالجواب: أنا إن قلنا: إن المراد به شئ مخصوص، فالمعنى: إنا جعلنا بعض ما على
74

الأرض زينة لها، فخرج مخرج العموم، ومعناه الخصوص. فإن قلنا: هم الرجال أو العلماء،
فلعبادتهم أو لدلالتهم على خالقهم. وإن قلنا: النبات والشجر، فلأنه زينة لها تجري مجرى الكسوة
والحلية. وإن قلنا: إنه عام في كل ما عليها، فلكونه دالا على خالقه، فكأنه زينة الأرض من هذه
الجهة.
قوله تعالى: * (لنبلوهم) * أي: لنختبر الخلق، والمعنى: لنعاملهم معاملة المبتلى. قال ابن
الأنباري: من قال إن ما على الأرض يعني به النبات، قال: الهاء والميم ترجع إلى سكان الأرض
المشاهدين للزينة، ومن قال: " ما على الأرض " الرجال، رد الهاء والميم على " ما على " لأنها
بتأويل الجميع، ومعنى الآية: لنبلوهم فنرى أيهم أحسن عملا، هذا، أم هذا. قال الحسن: أيهم
أزهد في الدنيا. وقد ذكرنا في هذه الآية أربعة أقوال في سورة هود. ثم أعلم الخلق أنه يفني جميع
ذلك، فقال [تعالى]: * (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا) * قال الزجاج: الصعيد: الطريق الذي لا
نبات فيه. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الصعيد: التراب، ووجه الأرض. فأما الجرز، فقال
الفراء: أهل الحجاز يقولون: أرض " جرز "، وأسد تقول: " جرز " وجرز، وتميم تقول: أرض
" جرز " وجرز " وبالتخفيف، وقال أبو عبيدة: الصعيد الجرز: الغليظ الذي لا ينبت شيئا. ويقال للسنة
المجدبة: جرز، " وسنون أجراز " لجدوبتها، وقلة مطرها، وأنشد:
قد جرفتهن السنون الأجراز
وقال الزجاج: الجرز: الأرض التي لا ينبت فيها شئ، كأنها تأكل النبت أكلا. وقال ابن
الأنباري: قال اللغويون: الجرز: التي لا يبقى بها نبات، تحرق كل نبات يكون بها. وقال
المفسرون: وهذا يكون يوم القيامة، يجعل الله الأرض مستوية لا نبات فيها ولا ماء.
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " 9 " إذ أوى الفتية إلى
الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا " 10 " فضربنا على
آذانهم في الكهف سنين عددا " 11 " ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا " 12 "
قوله تعالى: * (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم) * نزلت على سبب قد ذكرناه عند قوله
تعالى: * (ويسألونك عن الروح) * قال ابن قتيبة: ومعنى " أم حسبت ": أحسبت. فأما " الكهف "
75

فقال المفسرون: هو المغارة في الجبل، إلا أنه واسع، فإذا صغر، فهو غار. قال ابن الأنباري: قال
اللغويون: الكهف بمنزلة الغار في الجبل.
فأما الرقيم، ففيه ستة أقوال:
أحدها: أنه لوح من رصاص كانت فيه أسماء الفتية مكتوبة ليعلم من اطلع عليهم يوما من
الدهر ما قصتهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبه، وسعيد بن جبير في رواية.
وقال السدي: الرقيم: صخرة كتب فيها أسماء الفتية، وجعلت في سور المدينة. وقال مقاتل:
الرقيم: كتاب كتبه رجلان صالحان، وكانا يكتمان إيمانهما من الملك الذي فر منه الفتية، كتبا أمر
الفتية في لوح من رصاص، ثم جعلاه في تابوت من نحاس، ثم جعلاه في البناء الذي سدوا به باب
الكهف، فقالا: لعل الله أن يطلع على هؤلاء الفتية، فيعلمون أمرهم إذا قرؤوا الكتاب.
وقال الفراء: كتب في اللوح أسماؤهم، وأنسابهم، ودينهم، وممن كانوا، قال أبو عبيدة، وابن قتيبة:
الرقيم: الكتاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، ومنه: كتاب مرقوم، أي: مكتوب.
والثاني: أنه اسم القرية التي خرجوا منها، قاله كعب.
والثالث: اسم الجبل، قاله الحسن، وعطية.
والرابع: أن الرقيم: الدواة، بلسان الروم، قاله عكرمة ومجاهد في رواية.
والخامس: اسم الكلب، قاله سعيد بن جبير.
والسادس: اسم الوادي الذي فيه الكهف، قاله قتادة: والضحاك.
قوله تعالى: * (كانوا من آياتنا عجبا) * قال المفسرون: ومعنى الكلام: أحسبت أنهم كانوا
أعجب آياتنا؟! قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم، فإن خلق السماوات والأرض وما بينهما أعجب
من قصتهم. وقال ابن عباس: الذي آتيتك من الكتاب والسنة والعلم، أفضل من شأنهم.
قوله تعالى: * (إذ أوى الفتية) * قال الزجاج: معنى: أووا إليه، وجعلوه مأواهم.
والفتية: جمع فتى، مثل غلام وغلمة، وصبي وصبية. و " فعلة " من أسماء الجمع، وليس ببناء
يقاس عليه; لا يجوز غراب وغربة، ولا غني وغنية، وقال بعض المفسرين: الفتية: بمعنى الشبان.
وقد ذكرنا عن القتيبي أن الفتى: بمعنى الكامل من الرجال، وبيناه في قوله [تعالى]: * (من فتياتكم
المؤمنات) *.
76

قوله تعالى: * (فقالوا ربنا آتنا من لدنك) * أي: من عندك * (رحمة) * أي: رزقا * (وهيئ لنا) *
أي: أصلح لنا * (من أمرنا رشدا) * أي: أرشدنا إلى ما يقربنا منك. والمعنى: هيئ لنا من أمرنا ما
نصيب به الرشد. والرشد والرشد، والرشاد: نقيض الضلالة.
تلخيص قصة أصحاب الكهف
اختلف العلماء في بدو أمرهم، وسبب مصيرهم إلى الكهف، على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم هربوا ليلا من ملكهم حين دعاهم إلى عبادة الأصنام، فمروا براع له كلب،
فتبعهم على دينهم، فأووا إلى الكهف يتعبدون، ورجل منهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة، إلى أن
جاءهم يوما فأخبرهم أنهم قد ذكروا، فبكوا وتعوذوا بالله تعالى من الفتنة، فضرب الله [تعالى] على
آذانهم، وأمر الملك فسد عليهم الكهف، وهو يظنهم أيقاظا، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم،
وكلبهم قد غشيه ما غشيهم. ثم إن الرجلين مؤمنين يكتمان إيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم
في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس في البنيان، وقالا: لعل الله يطلع عليهم قوما
مؤمنين، فيعلمون خبرهم، هذا قول ابن عباس. وقال عبيد بن عمير: فقدهم قومهم فطلبوهم،
فعمى الله عليهم أمرهم، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في
شهر كذا، في سنة كذا، في مملكة فلان، ووضعوا اللوح في خزانة الملك، وقالوا: ليكونن لهذا
شأن.
والثاني: أن أحد الحواريين جاء إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن
على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له، فكره أن يدخلها، فأتى حماما قريبا من المدينة، فكان
يعمل فيه بالأجر، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم عن خبر السماء والأرض، وخبر
الآخرة، فآمنوا به وصدقوه، حتى جاء ابن الملك يوما بامرأة، فدخل معها الحمام، فأنكر عليه
الحواري ذلك، فسبه ودخل، فمات وماتت المرأة في الحمام، فأتى الملك، فقيل له: إن صاحب
الحمام قتل ابنك، فالتمس فهرب، فقال: من كان يصحبه؟ فسمي له الفتية، فالتمسوا فخرجوا من
المدينة، فمروا على صاحب لهم في زرع، وهو على مثل أمرهم، فانطلق معهم ومعه كلب حتى
آواهم الليل إلى الكهف، فدخلوه فقالوا: نبيت هاهنا، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم، فضرب
الله على آذانهم فناموا; وخرج الملك، وأصحابه يتبعونهم، فوجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد
رجل أن يدخل الكهف أرعب، فقال قائل للملك: أليس قلت: إن قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى، فابن عليهم
باب الكهف حتى يموتوا جوعا وعطشا، ففعل، هذا قول وهب بن منبه.
والثالث: أنهم كانوا أبناء عظماء المدينة وأشرافهم، خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير
ميعاد، فقال رجل منهم: هو أسنهم: إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده، فقالوا: ما تجد؟
77

قال: أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض، فقاموا جميعا فقالوا: ربنا رب السماوات
والأرض، فأجمعوا أن يدخلوا الكهف، فدخلوا، فلبثوا ما شاء الله، هذا قول مجاهد. وقال
قتادة: كانوا أبناء ملوك الروم، فتفردوا بدينهم في الكهف، فضرب الله على آذانهم.
فصل
فأما سبب بعث أصحاب الكهف من نومهم، فقال عكرمة: جاءت أمة مسلمة، وكان ملكهم
مسلما، فاختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: يبعث الروح والجسد. وقال قائل: يبعث الروح
وحده، والجسد تأكله الأرض فلا يكون شيئا، فشق اختلافهم على الملك، فانطلق فلبس
المسوح، وقعد على الرماد، ودعا الله أن يبعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف.
قال وهب ابن منبه: جاء راع قد أدركه المطر إلى الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف، وأدخلته
غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، ورد الله إليهم أرواحهم حين أصبحوا من الغد. وقال
ابن السائب: احتاج صاحب الأرض التي فيها الكهف أن يبني حظيرة لغنمه، فهدم ذلك السد، فبنى
به، فانفتح باب الكهف. وقال ابن إسحاق: ألقى الله في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم
البنيان فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة، فنزعاها، وفتحا باب الكهف،
فجلسوا فرحين، فسلم بعضهم على بعض لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم شيئا يكرهونه، إنما
هم كهيئتهم حيث رقدوا وهم يرون أن ملكهم في طلبهم، فصلوا، وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم:
انطلق فاستمع، ما نذكر به، وابتع لنا طعاما، فوضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، وخرج
فرأى الحجارة قد نزعت عن باب الكهف، فعجب، ثم مر مستخفيا متخوفا أن يراه أحد فيذهب به
إلى الملك، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإيمان، وخيل إليه أنها
ليست بالمدينة التي يعرف، ورأى ناسا لا يعرفهم، فجعل يتعجب ويقول: لعلي نائم; فلما دخلها
رأى قوما يحلفون باسم عيسى، فقام مسندا ظهره إلى جدار، وقال في نفسه: والله ما أدري ما هذا،
عشية أمس لم يكن على الأرض من يذكر عيسى إلا قتل، واليوم أسمعهم يذكرونه، لعل
هذه ليست المدينة التي اعرف، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران، وأخرج ورقا فأعطاه
رجلا وقال: بعني طعاما، فنظر الرجل إلى نقشه فعجب، ثم ألقاه إلى آخر، فجعلوا يتطارحونه
بينهم، ويتعجبون، ويتشاورون، وقالوا: إن هذا قد أصاب كنزا، ففرق منهم، وظنهم قد عرفوه،
فقال: أمسكوا طعامكم فلا حاجة بي إليه، فقالوا له: من أنت يا فتى؟ والله لقد وجدت كنزا وأنت
تريد أن تخفيه، شاركنا فيه وإلا أتينا بك إلى السلطان فيقتلك، فلم يدر ما يقول، فطرحوا كساءه في
عنقه وهو يبكي ويقول: فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت، فأتوا به إلى رجلين كانا
يدبران أمر المدينة، فقالا: أين الكنز الذي وجدت؟ قال: ما وجدت كنزا، ولكن هذه ورق آبائي،
78

ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، ولا ما أقول لكم، قال مجاهد: كان ورق
أصحاب الكهف مثل أخفاف الإبل، فقالوا: من أنت، وما اسم أبيك؟ فأخبرهم، فلم يجدوا من
يعرفه، فقال له أحدهما: أتظن أنك تسخر منا وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا
الضرب درهم ولا دينار؟! إني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا ثم قال أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز،
فقال يمليخا: أنبئوني عن شئ أسألكم عنه، فإن فعلتم صدقتكم، قالوا: سل، قال ما فعل
الملك دقيانوس؟ قالوا: لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس، وإنما هذا ملك كان
منذ زمان طويل، وهلكت بعده قرون كثيرة، فقال: والله ما يصدقني أحد بما أقوله، لقد كنا فتية،
وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا، فلما انتبهنا خرجت
أشتري لأصحابي طعاما، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فانطلقوا
معه وسائر أهل المدينة، وكان أصحابه قد ظنوا لإبطائه عليهم أنه قد أخذ، فبينما هم يتخوفون ذلك،
إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل، فظنوا أنهم رسل دقيانوس، فقاموا إلى الصلاة، وسلم بعضهم
على بعض، فسبق يمليخا إليهم وهو يبكي، فبكوا معه، وسألوه عن شأنه، فأخبرهم خبره، وقص
عليهم النبأ كله، فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله تعالى، وأنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقا
للبعث، ونظر الناس إلى المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم، فعجبوا، وأرسلوا إلى ملكهم فجاء،
واعتنق القوم، وبكى، فقالوا له: نستودعك الله ونقرأ عليك السلام، حفظك الله، وحفظ ملكك،
فبينا الملك قائم رجعوا إلى مضاجعهم، وتوفى الله عز وجل أنفسهم، فأمر الملك أن يجعل لكل
واحد منهم تابوت من ذهب، فلما أمسوا رآهم في المنام، فقالوا: إنا لم نخلق من ذهب وفضة،
ولكن خلقنا من تراب، فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عز وجل منه،
وحجبهم الله عز وجل حين خرجوا من عندهم بالذهب، فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم، وأمر
الملك فجعل على باب الكهف مسجد يصلى فيه، وجعل لهم عيدا عظيما يؤتى كل سنة، وقيل: إنه
لما جاء يمليخا ومعه الناس، قال: دعوني أدخل على أصحابي فأبشرهم، فإنهم إن رأوكم معي
أرعبتموهم، فدخل فبشرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، فدخل الناس، فإذا أجساد لا ينكرون منها
شيئا، غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم.
قوله تعالى: * (فضربنا على آذانهم) * قال الزجاج: المعنى: أنمناهم ومنعناهم السمع، لأن
النائم إذا سمع انتبه. و * (عددا) * منصوب على ضربين:
أحدها: على المصدر، المعنى: تعد عددا.
والثاني: أن يكون نعتا للسنين، المعنى: سنين ذات عدد، والفائدة في ذكر العدد في الشئ
79

المعدود، توكيد كثرة الشئ، لأنه إذا قل فهم مقداره، وإذا كثر احتيج إلى أن يعد العدد الكثير.
* (ثم بعثناهم) * من نومهم، يقال كل من خرج من الموت إلى الحياة، أو من النوم إلى الانتباه:
مبعوث، لأنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرف والانبعاث. وقيل: معنى * (سنين عددا) *: أنه
لم يكن فيها شهور ولا أيام، إنما هي كاملة، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: * (لنعلم أي الحزبين) * قال المفسرون: أي: لنرى. وقال بعضهم: المعنى:
لتعلموا أنتم أي الحزبين. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والنخعي: " ليعلم " بضم الياء، على ما
لم يسم فاعله ويعني بالحزبين: المؤمنين والكافرين من قول أصحاب الكهف.
* (أحصى لما لبثوا) * أي: لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أو هؤلاء، فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم
في الكهف بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر. قال قتادة: لم يكن للفريقين علم
بلبثهم، لا لمؤمنيهم، ولا لكافريهم، قال مقاتل: لما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث. وقال
القاضي أبو يعلى: معنى الكلام: بعثناهم ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم، لما
في ذلك من العبرة.
نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى " 13 " وربطنا على
قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا
إذا شططا " 14 " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن
أظلم ممن افترى على الله كذبا " 15 "
قوله تعالى: * (نحن نقص عليك نبأهم) * أي: خبر الفتية * (بالحق) * أي: بالصدق
قوله تعالى: * (وزدناهم هدى) * أي: ثبتناهم على الإيمان، * (وربطنا على قلوبهم) * أي:
ألهمناها الصبر * (إذ قاموا) * بين يدي ملكهم دقيانوس * (فقالوا ربنا رب السماوات والأرض) * وذلك أنه
كان يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، فعصم الله هؤلاء حتى عصوا ملكهم. وقال الحسن: قاموا في
قومهم فدعوهم إلى التوحيد. وقيل: هذا قولهم بينهم لما اجتمعوا خارج المدينة على ما ذكرنا في
أول القصة. فأما الشطط، فهو الجور. قال الزجاج: يقال: شط الرجل، وأشط: إذا جار. ثم قال
الفتية: * (هؤلاء قومنا) * يعنون الذين كانوا في زمن دقيانوس * (اتخذوا من دونه آلهة) * أي: عبدوا
الأصنام * (لولا) * أي: هلا * (يأتون عليهم) * أي: على عبادة الأصنام * (بسلطان بين) * أي: بحجة
80

وإنما قال: عليهم والأصنام مؤنثة، لأن الكفار نحلوها العقل والتمييز، فجرت مجرى المذكرين من
الناس.
قوله تعالى: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * فزعم أن له شريكا؟!
وإذ اعتزلوهم وما يعبدون إلا الله فأوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ
لكم من أمركم مرفقا " 16 " * وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات
اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من
يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا " 17 "
قوله تعالى: * (وإذ اعتزلتموهم) * قال ابن عباس: هذا قول يمليخا، وهو رئيس أصحاب
الكهف، قال لهم: وإذ اعتزلتموهم، أي: فارقتموهم، يريد: عبدة الأصنام، * (وما يعبدون إلا الله) *
فيه قولان:
أحدهما: واعتزلتم ما يعبدون، إلا الله، فإن القوم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة،
فاعتزل الفتية عبادة الآلهة، ولم يعتزلوا عبادة الله، هذا قول عطاء الخراساني، والفراء.
والثاني: وما يعبدون غير الله; قال قتادة: هي في مصحف، عبد الله: " وما يعبدون من دون
الله "، وهذا تفسيرها.
قوله تعالى: * (فأووا إلى الكهف) * أي: اجعلوه مأواكم، * (ينشر لكم ربكم من رحمته) * أي:
يبسط عليكم من رزقه، * (ويهيئ لكم من أمركم مرفقا) * قرأ ابن كثير، وأبو عامر، وعاصم،
وحمزة، والكسائي: " مرفقا " بكسر الميم، وفتح الفاء، وقرأ نافع، وابن عامر: " مرفقا " بفتح الميم
وكسر الفاء، في كل مرفق ارتفقت به، ويكسرون مرفق الإنسان، والعرب بعد يكسرون الميم منهما
جميعا. قال ابن الأنباري: معنى الآية: ويهيئ لكم من أمركم الصعب مرفقا، قال الشاعر:
- فليت لنا من ماء زمزم شربة * مبردة باتت على طهيان -
معناه: فليت لنا بدلا من ماء زمزم. قال ابن عباس: " ويهيئ لكم ": يسهل عليكم ما
تخافون من الملك وظلمه ويأتكم باليسر والرفق واللطف.
81

قوله تعالى: * (وترى الشمس إذا طلعت) * المعنى: لو رأيتها لرأيت ما وصفنا. * (تزاور) *
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " تزاور " بتشديد الزاي. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي:
" تزاور " خفيفة. وقرأ ابن عامر: " تزور " مثل: " تحمر ". وقرأ أبي بن كعب، وأبو مجلز، وأبو
رجاء، والجحدري: " تزوار " بإسكان الزاي، وبألف ممدودة بعد الواو من غير همزة، مشددة
الراء. وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل، وابن السميفع: " تزوئر " بهمزة قبل الراء، مثل:
" تزوعر ". وقرأ أبو الجوزاء، وأبو السماك: " تزور " بفتح التاء والزاي وتشديد الواو المفتوحة.
خفيفة الراء، مثل: " تكور " والمعنى: تميل أو تعدل. قال الزجاج: " تزاور ": تتزاور،
فأدغمت التاء في الزاي، و (تقرضهم) أي: تعدل عنهم وتتركهم، وقال ذو الرمة:
- إلى طغن لو يقرضن أجواز مشرف * شمالا وعن أيمانهن الفوارس -
يقرضن: يتركن. وأصل القرض: القطع والتفرقة بين الأشياء، ومنه: أقرضني
درهما، أي: اقطع لي من مالك درهما. قال المفسرون: كان كهفهم بإزاء بنات نعش في أرض
الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها وتغير ألوانهم. ثم
أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح، ونسيم الهواء، فقال: * (وهم في فجوة
منه) * قال أبو عبيدة: أي: في متسع، والجميع: فجوات، وفجاء، بكسر الفاء. وقال الزجاج:
إنما صرف الشمس عنهم آية من الآيات، ولم يرض قول من قال: كان كهفهم بإزاء بنات نعش.
قوله تعالى: * (ذلك من آيات الله) * يشير إلى ما صنعه بهم من اللطف في هدايتهم،
وصرف أذى الشمس عنهم، والرعب الذي ألقى عليهم حتى لم يقدر الملك الظالم ولا غيره على
أذاهم. " من آيات الله " أي: من دلائله على قدرته ولطفه. * (من يهد الله فهو المهتد) * هذا بيان
أنه هو الذي تولى هداية القوم، ولولا ذلك لم يهتدوا.
وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه
بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " 18 "
قوله تعالى: * (وتحسبهم أيقاظا) * أي: لو رأيتهم لحسبتهم بكر أيقاظا. قال الزجاج:
الأيقاظ: المنتبهون، واحدهم: يقظ، ويقظان، والجميع: أيقاظ; والرقود: النيام. وقال
الفراء: واحد الأيقاظ: يقظ، ويقظ. قال ابن السائب: وإنما يحسبون أيقاظا، لأن أعينهم مفتحة
وهم نيام. وقيل: لتقلبهم قد يمينا وشمالا. وذكر بعض أهل العلم: أن وجه الحكمة في فتح
أعينهم، أنه لو دام طبقها لذابت.
82

قوله تعالى: * (ونقلبهم) * وقرأ الحسن وأبو رجاء: " وتقلبهم " بتاء مفتوحة، وسكون
القاف، وتخفيف اللام المكسورة. وقرأ أبو الجوزاء، وعكرمة: " ونقلبهم " مثلها، إلا أنه
بالنون. * (ذات اليمين) * أي: على أيمانهم وعلى شمائلهم. قال ابن عباس: كانوا يقلبون في كل
عام مرتين، ستة أشهر على هذا الجنب، وستة أشهر على هذا الجنب، لئلا تأكل الأرض
لحومهم. وقال مجاهد: كانوا ثلاثمائة عام على شق واحد، ثم قلبوا تسع سنين.
قوله تعالى: * (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) * أخبر أن الكلب كان على مثل حالهم في
النوم، وهو في رأي العين منتبه. وفي الوصيد أربعة أقوال:
أحدها: أنه الفناء فناء الكهف، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن
جبير، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والفراء. قال الفراء: يقال: الوصيد والأصيد لغتان، مثل
الإكفاف والوكاف. وأرخت الكتاب وورخت، ووكدت الأمر وأكدت; وأهل الحجاز يقولون:
الوصيد، وأهل نجد يقولون: الأصيد، وهو: الحظيرة والفناء.
والثاني: أنه الباب، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي، قال ابن قتيبة:
فيكون المعنى: وكلبهم باسط ذراعيه بالباب، قال الشاعر:
- بأرض فضاء لا يسد وصيدها * على ومعروفي بها غير منكر -
والثالث: أنه الصعيد، وهو التراب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير،
ومجاهد في رواية عنهما.
والرابع: أنه عتبة الباب، قاله عطاء. قال ابن قتيبة: وهذا أعجب إلي، لأنهم يقولون:
أوصد بابك، أي: أغلقه، ومنه قوله تعالى: * (إنها عليهم مؤصدة) *، أي: مطبقة مغلقة،
وأصله أن يلصق الباب بالعتبة، إذا جعلت الكلب بالفناء، كان خارجا من الكهف، وإن جعلته بعتبة
الباب، أمكن أن يكون داخل الكهف، والكهف وإن لم يكن له باب وعتبة، فإنما أراد أن الكلب بموضع
العتبة من البيت، فاستعير.
قوله تعالى: * (لو اطلعت عليهم) * وقرأ الأعمش، وأبو حصين: لو اطلعت بضم الواو [أي
لو أشرفت عليهم] * (لوليت منهم فرارا) * رهبة لهم * (ولملئات) * قرأ عاصم، وابن عامر، وأبو
عمرو، وحمزة، والكسائي: " ولملئت " خفيفة مهموزة. وقرأ ابن كثير، ونافع: " ولملئت "
مشددة مهموزة، * (رعبا) *: أي فزعا وخوفا، وذلك أن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يدخل إليهم
83

أحد. وقيل: إنهم طالت شعورهم وأظفارهم جدا، فلذلك كان الرائي لهم لو رآهم هرب مرعوبا،
حكاه الزجاج.
وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم
قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما
فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا " 19 " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم
أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " 20 "
قوله تعالى: * (وكذلك بعثناهم) * أي: وكما فعلنا بهم ما ذكرنا، بعثناهم من تلك النومة
* (ليتساءلوا) * أي: ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم، فيفيد تساؤلهم اعتبار
المعتبرين بحالهم. * (قال قائل منهم كم لبثتم) * أي: كم مر علينا منذ دخلنا هذا الكهف قالوا؟ * (قالوا
لبثنا يوما أو بعض يوم) * وذلك أنهم دخلوا غدوة، وبعثهم الله في آخر النهار، فلذلك قالوا:
" يوما "، فلما رأوا الشمس قالوا: " أبو بعض يوم " * (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) * قال ابن عباس:
القائل لهذا يمليخا رئيسهم، رد علم ذلك إلى الله تعالى. وقال في رواية أخرى: إنما قاله
مكسلمينا، وهو أكبرهم. قال أبو سليمان: وهذا يوجب أن يكون نفوسهم قد حدثتهم أنهم
قد لبثوا أكثر مما ذكروا. وقيل: إنما قالوا ذلك، لأنهم رأوا أظفارهم وأشعارهم قد طالت جدا.
قوله تعالى: * (فابعثوا أحدكم) * قال ابن الأنباري: إنما قال: " أحدكم " ولم يقل:
واحدكم، لئلا يلتبس البعض بالممدوح المعظم، فإن العرب تقول; رأيت أحد القوم، ولا
يقولون: رأيت واحد القوم، إلا إذا أرادوا المعظم، فأراد بأحدهم: بعضهم، ولم يرد شريفهم.
قوله تعالى: * (بورقكم) * قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن
عاصم: " بورقكم " الراء مكسورة خفيفة. وقرا أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم ساكنة
الراء. وعن أبي عمرو: " بورقكم " مدغمة يشمها شيئا من التثقيل; قال الزجاج: تصير كافا
خالصة. قال الفراء: الورق لغة أهل الحجاز، وتيم يقولون: الورق، وبعض العرب يكسرون الواو، فيقولون: الورق. قال ابن قتيبة. الورق: الفضة، دراهم كانت أو غير دراهم، يدلك
على ذلك حديث عرفجة أنه اتخذ أنفا من ورق.
قوله تعالى: * (إلى المدينة) * يعنون التي خرجوا منها، واسمها دقسوس، ويقال: هي اليوم
طرسوس.
84

قوله تعالى: * (فلينظر أيها) * قال الزجاج: المعنى: أي أهلها (أزكى طعاما) وللمفسرين
في معناه ستة أقوال:
أحدها: أحل ذبيحة، قاله ابن عباس، وعطاء، وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفارا،
فكانوا يذبحون للطواغيت، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم.
والثاني: أحل طعاما، قاله سعيد بن جبير; قال الضحاك: وكان أكثر أموالهم غصوبا. وقال
مجاهد: قالوا لصاحبهم: لا تبتع طعاما فيه ظلم ولا غصب.
والثالث: أكثر، قاله عكرمة.
والرابع: خير، أي: أجود، قاله قتادة.
والخامس: أطيب، قاله ابن السائب، ومقاتل، والسادس: أرخص، قاله يمان بن رياب.
قال ابن قتيبة: وأصل الزكاء: النماء والزيادة.
قوله تعالى: * (فليأتكم برزق منه) * أي: بما تأكلونه. * (وليتلطف) * أي: ليدقق النظر
فيه، وليحتل لئلا يطلع عليه. * (ولا يشعرن بكم) * أي: ولا يخبرن أحدا بمكانكم. * (إنهم إن
يظهروا) * أي: يطلعوا ويشرفوا عليكم، * (يرجموكم) * وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يقتلوكم، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: يقتلوكم بالرجم.
والثاني: يرجموكم بأيديهم، استنكارا لكم، قاله الحسن.
والثالث: بألسنتهم شتما لكم، قاله مجاهد، وابن جريج.
قوله تعالى: * (أو يعيدوكم في ملتهم) * أي يردوكم في دينهم، * (ولن تفلحوا إذا أبدا) *
أي: إن رجعتم في دينهم، لم تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة.
وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون
بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن
عليهم مسجدا " 21 "
قوله تعالى: * (وكذلك أعثرنا عليهم) * أي: وكما أنمناهم وبعثناهم، أطلعنا وأظهرنا
عليهم. قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن من عثر بشئ وهو غافل، نظر إليه حتى يعرفه، فاستعير
85

العثار مكان التبين والظهور، ومنه قول الناس: ما عثرت على فلان بسوء قط، أي: ما ظهرت
على ذلك منه.
قوله تعالى: * (ليعلموا) * في المشار إليهم بهذا العلم قولان:
أحدهما: أنهم أهل بلدهم حين اختصموا في البعث، فبعث الله أهل الكهف ليعلموا (أن
وعد الله) بالبعث والجزاء (حق) وأن القيامة لا شك فيها، هذا قول الأكثرين.
والثاني: أنهم أهل الكهف، بعثناهم ليروا بعد علمهم أن وعد الله حق، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: * (إذ يتنازعون) * يعني: أهل ذلك الزمان. قال ابن الأنباري: المعنى: إذ
كانوا يتنازعون، ويجوز أن يكون المعنى: إذ تنازعوا.
وفي ما تنازعوا فيه خمسة أقوال:
أحدها: أنهم تنازعوا في البنيان، والمسجد. فقال المسلمون: نبني عليهم مسجدا، لأنهم
على ديننا; وقال المشركون: نبني عليهم بنيانا، لأنهم من أهل سنتنا، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم تنازعوا في البعث، فقال المسلمون: تبعث الأجساد والأرواح، وقال
بعضهم: تبث الأرواح دون الأجساد، فأراهم الله تعالى بعث الأرواح والأجساد ببعثه أهل
الكهف، قاله عكرمة. والثالث: أنهم تنازعوا ما يصنعون بالفتية، قاله مقاتل. والرابع: أنهم
تنازعوا في قدر مكثهم.
والخامس: تنازعوا في عددهم، ذكرهما الثعلبي.
قوله تعالى: * (ابنوا عليهم بنيانا) * أي: استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك
البنيان. وفي القائلين لهذا قولان:
أحدهما: أنهم مشركو ذلك الزمان، وقد ذكرناه عن ابن عباس.
والثاني: أنهم الذين أسلموا حين رأوا أهل الكهف، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: * (قال الذين غلبوا على أمرهم) * قال ابن قتيبة: يعني المطاعين والرؤساء، قال
المفسرون: وهم الملك وأصحابه المؤمنون اتخذوا عليهم مسجدا. قال سعيد بن جبير: بني
عليهم الملك بيعه.
سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون
86

سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء
ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " 22 " ولا تقولون لشئ إني فاعل ذلك غدا " 23 "
إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا
رشدا " 24 "
قوله تعالى: * (سيقولون ثلاثة) * قال الزجاج: * (ثلاثة) * مرفوعة بخبر الابتداء، المعنى:
سيقول الذين تنازعون في أمرهم هم ثلاثة. وفي هؤلاء القائلين قولان:
أحدهما: أنهم نصارى نجران، ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أهل الكهف، فقالت
الملكية: هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالت اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقالت
النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلهم، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أنهم أهل مدينتهم قبل ظهورهم عليهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: * (رجما بالغيب) * أي: ظنا غير يقين، قال زهير:
- وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم * وما هو عنها بالحديث المرجم -
فأما دخول الواو في قوله: * (وثامنهم كلبهم) * ولم تدخل فيما قبل هذا، ففيه أربعة أقوال:
أحدها: أن دخولها وخروجها واحد، قاله الزجاج.
والثاني: أن ظهور الواو في الجملة الثامنة دلالة على أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين، فأعلم
بذكرها هاهنا أنها مرادة فيما قبل، وإنما حذفت تخفيفا، ذكره أبو نصر المناشر في شرح " اللمع ".
والثالث: أن دخولها يدل على انقطاع القصة، وأن الكلام قد تم، ذكره الزجاج أيضا، وهو
مذهب مقاتل بسليمان، وإن الواو تدل على تمام الكلام قبلها، واستئناف ما بعدها; قال
الثعلبي: فهذه واو الحكم والتحقيق، كأن الله تعالى حكى اختلافهم، فتم الكلام عند قوله:
* (ويقولون سبعة) *، ثم حكم أن ثامنهم كلبهم. وجاء في بعض التفسير أن المسلمين قالوا عند
اختلاف النصارى: هم سبعة، فحقق الله قول المسلمين.
والرابع: أن العرب تعطف بالواو على السبعة، فيقولون: ستة، سبعة، وثمانية، لأن العقد
عندهم سبعة، كقوله: * (التائبون العابدون...) * إلى أن قال في الصفة الثامنة: * (والناهون عن
87

المنكر) *، وقوله في صفة الجنة: * (وفتحت أبوابها) * وفي صفة النار: * (فتحت أبوابها) *،
لأن أبواب النار سبعة، وأبواب الجنة ثمانية، ذكر هذا المعنى أبو إسحاق الثعلبي.
وقد اختلف العلماء في عددهم على قولين:
أحدهما: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن عباس.
والثاني: ثمانية، قاله ابن جريج، وابن إسحاق. وقال ابن الأنباري: وقيل: معنى قوله:
* (وثامنهم كلبهم) *: صاحب كلبهم، كما يقال: السخاء حاتم، والشعر زهير، أي: السخاء
سخاء حاتم، والشعر شعر زهير. فأما أسماؤهم، فقال هشيم: مكسلمينا، ويمليخا، وطرينوس،
وسدينوس، وسرينوس، ونواسس، ويرانوس، وفي التفسير خلاف في أسمائهم فلم أطل به.
واختلفوا في كلبهم لمن كان على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كان لراع مروا به فتبعهم الراعي والكلب، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه كان لهم يتصيدون عليه، قاله عبيد بن عمير:
والثالث: أنهم مروا بكلب فتبعهم، فطردوه، فعاد، ففعلوا ذلك به مرارا، فقال لهم
الكلب: ما تريدون مني؟! لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله تعالى، فناموا حتى أحرسكم، قاله
كعب الأحبار.
وفي اسم كلبهم أربعة أقوال:
أحدها: قطمير، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن اسمه الرقيم، وقد ذكرناه عن سعيد بن جبير.
والثالث: قطمور، قاله عبد الله بن كثير.
والرابع: حمران، قاله شعيب الجبائي.
وفي صفته ثلاثة أقوال:
أحدها: أحمر، حكاه الثوري.
والثاني: أصفر، حكاه ابن إسحاق.
والثالث: أحمر الرأس، أسود الظهر، أبيض البطن، أبلق الذنب، ذكره ابن السائب.
قوله تعالى * (ربي أعلم بعدتهم) * حرك الياء ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأسكنها
الباقون.
88

قوله تعالى: * (ما يعلمهم إلا قليل) * أي: ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس. قال عطاء
يعني بالقليل: هم سبعة، إن الله عدهم حتى انتهى إلى السبعة.
قوله تعالى: * (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا) * قال ابن عباس، وقتادة: لا تمار أحدا،
حسبك ما قصصت عليك من أمرهم. وقال ابن زيد: لا تمار في عدتهم إلا مراء ظاهرا أن تقول
لهم: ليس كما تقولون، كما تعلمون. وقيل: " إلا مراء ظاهرا " بحجة واضحة، حكاه
الماوردي. والمراء في اللغة: الجدال; يقال: مارى يماري مماراة ومراء، أي: جادل. قال
ابن الأنباري: معنى الآية: لا تجادل إلا جدال متيقن عالم بحقيقة الخبر، إذ الله تعالى ألقى إليك
مالا يشوبه باطل. وتفسير المراء في اللغة: استخراج غضب المجادل، من قولهم: مريت الشاة:
إذا استخرجت لبنها.
قوله تعالى: * (ولا تستفت فيهم) * أي: في أصحاب الكهف، (منهم) قال ابن عباس:
يعني: من أهل الكتاب. قال الفراء: أتاه فريقان من النصارى، نسطوري، ويعقوبي، فسألهم
النبي صلى الله عليه وسلم عن عددهم، فنهي عن ذلك.
قوله تعالى: * (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) * سبب نزولها أن قريشا
سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، وعن الروح، وعن أصحاب الكهف، فقال: غدا أخبركم
بذلك، ولم يقل: إن شاء الله، فأبطأ عليه جبريل خمسة عشر يوما لتركه الاستثناء، فشق ذلك
عليه، ثم نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. ومعنى الكلام: ولا تقولن لشئ إني
فاعل ذلك غدا، إلا أن تقول: إن شاء الله، فحذف القول.
قوله تعالى: * (واذكر ربك إذا نسيت) * قال ابن الأنباري: معناه: واذكر ربك بعد تفضي
النسيان، كما تقول: أذكر لعبد الله - إذا صلى - حاجتك، أي: بعد انقضاء الصلاة.
وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت، فقل: إن شاء الله، ولو كان بعد يوم
أو شهر أو سنة، قاله سعيد بن جبير، والجمهور.
والثاني: أن معنى " إذا نسيت ": إذا غضبت، قاله عكرمة، قال ابن الأنباري: وليس
ببعيد، لأن الغضب ينتج النسيان.
والثالث: إذا نسيت الشئ فاذكر الله ليذكرك إياه، حكاه الماوردي.
89

فصل
وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إذا لم يفعل حلف عليه، كقوله تعالى في
قصة موسى: * (ستجدني إن شاء الله صابرا) *، ولم يصبر، فسلم من الكذب لوجود الاستثناء
في حقه. ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، وأنه إذا قال:
أنت طالق أن شاء الله، وأنت حر إن شاء الله، أن ذلك يقع، وهو قول مالك; وقال أبو حنيفة
والشافعي: لا يقع شئ من ذلك. وأما اليمين بالله تعالى، فإن الاستثناء فيها يصح، بخلاف
الطلاق، وكذلك الاستثناء في كل ما يكفر، كالظهار، والنذر، لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ
إيقاع، وإذا علق به المشيئة، علمنا وجودها، لوجود لفظ الإيقاع من جهته، بخلاف سائر
الأيمان، لأنها ليست بموجبات للحكم، وإنما تتعلق بأفعال مستقبلة.
وقد اختلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يصح الاستثناء إلا موصولا بالكلام، وقد روي عن أحمد نحو هذا، وبه قال
أكثر الفقهاء.
والثاني: أنه يصح ما دام في المجلس قاله الحسن وطاووس، وعن أحمد نحوه.
والثالث: أنه لو استثنى بعد سنة، جاز، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو
العالية، وقال ابن جرير الطبري: الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه، فيقول:
إن شاء الله، ليخرج بذلك مما ألزمه الله في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفارة فلا تسقط
عنه بحال، إلا أن يكون الاستثناء موصولا بيمينه، ومن قال: له ثنياه ولو بعد سنة، أراد سقوط
الحرج الذي يلزمه بترك الاستثناء دون الكفارة.
قوله تعالى: * (وقل عسى أن يهديني ربي) * قرأ نافع، وأبو عمرو: " يهديني ربي " بياء في
الوصل دون الوقف. وقرأ ابن كثير بياء في الحالين. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي
بغير ياء في الحالين.
وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد
وأدل من قصة أصحاب الكهف، ففعل الله له ذلك، وآتاه من علم غيوب
90

المرسلين ما هو أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف، هذا قول الزجاج.
والثاني: أن قريشا لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبر أصحاب الكهف، قال: " غدا
أخبركم " كما شرحنا في سبب نزول الآية، فقال الله تعالى له: * (وقل عسى أن يهديني ربي) * أي:
عسى أن يعرفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم، ويعجل لي من جهته الرشاد، هذا
قول ابن الأنباري.
ولبثوا في كهفهم ثلث مائة سنين وازدادوا تسعا " 25 " قل الله أعلم بما لبثوا له غيب
السماوات والأرض أبصر به وأسمع مالهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه
أحدا " 26 "
قوله تعالى: * (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم
وابن عامر: " ثلاثمائة سنين " منون وقرأ حمزة والكسائي: " ثلاثمائة سنين " مضافا غير منون. قال
أبو علي: العدد المضاف إلى الآحاد قد جاء مضافا إلى الجميع، قال الشاعر:
- وما زودوني غير سحق عمامة * وخمسميء وإن منها قسي وزائف -
وفي هذا الكلام قولان:
أحدهما: أنه حكاية عما قال الناس في حقهم، وليس بمقدار لبثهم قاله ابن عباس،
واستدل عليه فقال: لو كانوا لبثوا ذلك، لما قال: * (الله أعلم بما لبثوا) * وكذلك قال قتادة، وهذا
قول أهل الكتاب.
والثاني: أنه مقدار ما لبثوا، قاله عبيد بن عمير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد;
والمعنى: لبثوا هذا القدر من يوم دخلوه إلى أن بعثهم الله وأطلع الخلق عليهم.
قوله تعالى: * (سنين) * قال الفراء، وأبو عبيدة، والكسائي، والزجاج: التقدير: سنين
91

ثلاثمائة. قال ابن قتيبة: المعنى: أنها لم تكن شهورا ولا أياما، إنما كانت سنين. وقال أبو علي
الفارسي: " سنين " بدل من قوله: " ثلاثمائة ". قال الضحاك: نزلت: * (ولبثوا في كهفهم
ثلاثمائة) * فقالوا: أياما، أو شهورا، أو سنين؟ فنزلت: " سنين " فلذلك قال: " سنين "، ولم
يقل: سنة.
قوله تعالى: * (وازدادوا تسعا) * يعني: تسع سنين، فاستغنى عن ذكر السنين بما تقدم من
ذكرها. ثم أعلم أنه أعلم بقدر مدة لبثهم من أهل الكتاب المختلفين فيها، فقال: * (قل الله أعلم
بما لبثوا) * قال ابن السائب: قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة، فقد عرفناها، وأما التسع، فلا
علم لنا بها، فنزل قوله تعالى: * (قل الله أعلم بما لبثوا) * وقيل: إن أهل الكتاب قالوا: إن للفتية
منذ دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فرد عليهم ذلك، وقال:
* (قل الله أعلم بما لبثوا) * بعد أن قبض أرواحهم إلى يومكم هذا، لا يعلم بذلك غير الله
وقيل: إنما زاد التسع، لأنه تفاوت ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: * (أبصر به وأسمع) * فيه قولان:
أحدهما: أنه على مذهب التعجب، فالمعنى: ما أسمع الله وأبصره، أي: هو عالم
بقصة أصحاب الكهف وغيرهم، هذا قول الزجاج، وذكر أنه إجماع العلماء.
والثاني: أنه في معنى الأمر، فالمعنى: أبصر بدين الله وأسمع، أي: أبصر بهدى الله
وسمع، فترجع الهاء إما على الهدى، وإما على الله عز وجل، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: * (ما لهم من دونه) * أي: ليس لأهل السماوات والأرض من دون الله من
ناصر، * (ولا يشرك في حكمه أحدا) * ولا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم به، وليس لأحد أن
يحكم من ذات نفسه فيكون شريكا لله [عز وجل] في حكمه. وقرأ ابن عامر: * (ولا تشرك) *
جزما بالتاء، والمعنى: لا تشرك أيها الإنسان.
واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا " 27 " واصبر
نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد
زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " 28 "
92

قوله تعالى: * (واتل ما أوحي إليك) * في هذه التلاوة قولان:
أحدهما: أنها بمعنى القراءة.
والثاني: بمعنى الاتباع. فيكون المعنى على الأول: اقرأ القرآن، وعلى الثاني: اتبعه
واعمل به. وقد شرحنا في [سورة] الأنعام معنى (لا مبدل لكلماته)
قوله تعالى: * (ولن تجد من دونه ملتحدا) * قال مجاهد، والفراء: ملجأ. وقال الزجاج:
معدلا عن أمره ونهيه. وقال غيرهم: موضعا تميل إليه في الالتجاء.
قوله تعالى: * (واصبر نفسك) * سبب نزولها أن المؤلفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وذووهم، فقالوا: يا رسول الله: أنك لو جلست في صدر
المجلس، ونحيت هؤلاء عنا، - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب
الصوف - جلسنا إليك، وأخذنا عنك، فنزلت هذه الآية إلى قوله: * (إنا اعتدنا للظالمين نارا) *،
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم، حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، قال: " الحمد لله
الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات " هذا
قول سلمان الفارسي. ومعنى قوله: * (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) * أي: احبسها معهم
على أداء الصلوات * (بالغداة والعشي) *. وقد فسرنا هذه الآية في [سورة] الأنعام إلى قوله تعالى:
* (ولا تعد عيناك عنهم) * أي: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف; وكان عليه
السلام حريصا على إيمان الرؤساء ليؤمن أتباعهم، ولم يكن مريدا لزينة الدنيا قط، فأمر أن يجعل
إقباله على فقراء المؤمنين.
قوله تعالى: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) * سبب نزولها أن أمية بن خلف الجمحي،
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طرد الفقراء عنه، وتقريب صناديد أهل مكة، فنزلت هذه الآية، رواه
الضحاك عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عنه أنه قال: هو عيينة وأشباهه. ومعنى " أغفلنا
قلبه ": جعلناه غافلا. وقرأ أبو مجلز: " من أغفلنا " بفتح اللام "، ورفع باء القلب. " عن ذكرنا ":
أي عن التوحيد والقرآن والإسلام، * (واتبع هواه) * في الشرك. * (وكان أمره فرطا) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه أفرط في قوله، لأنه قال: إنا رؤوس مضر، وإن نسلم يسلم الناس بعدنا، قاله
أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: ضياعا، قاله مجاهد. وقال أبو عبيدة: سرفا وتضييعا.
93

والثالث: ندما، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة.
والرابع: كان أمره التفريط، والتفريط: تقديم العجز، قاله الزجاج.
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا
أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب
وساءت مرتفقا " 29 "
قوله تعالى: * (وقل الحق من ربكم) * قال الزجاج: المعنى: وقل الذي أتيتكم به، الحق
من ربكم.
قوله تعالى: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: فمن شاء الله فليؤمن، روي عن ابن عباس.
والثاني: أنه وعيد وإنذار، وليس بأمر، قاله الزجاج.
والثالث: أن معناه: لا تنفعون الله بايمانكم، ولا تضرونه بكفركم، قاله الماوردي. وقال
بعضهم: هذا إظهار للغنى، لا إطلاق في الكفر.
قوله تعالى: * (إنا أعتدنا) * أي: هيأنا، وأعددنا، وقد شرحناه في قوله: * (وأعتدت لهن
متكأ) * فأما الظالمون، فقال المفسرون: هم الكافرون. وأما السرادق، فقال الزجاج:
السرادق: كل ما أحاط بشئ، نحو الشقة في المضرب، أو الحائط المشتمل على الشئ. وقال
ابن قتيبة: السرادق: الحجرة التي تكون حول الفسطاط. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي،
قال: السرادق فارسي معرب، وأصله بالفارسية سرادار، وهو الدهليز، قال الفرزدق:
- تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم * تركت لهم قبل الضراب السرادقا -
وفي المراد بهذا السرادق قولان:
أحدهما: أنه سرادق من نار، قاله ابن عباس. روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " لسرادق النار أربعة جدر كثف، كل جدار منها مسيرة أربعين سنة ". وفي رواية أبي
صالح عن ابن عباس، قال: السرادق: لسان من النار، يخرج من النار فيحيط بهم حتى يفرغ من
حسابهم.
94

والثاني: أنه دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الظل ذو ثلاث شعب الذي ذكره الله تعالى
في المرسلات، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: * (وإن يستغيثوا) * أي: مما هم فيه من العذاب وشدة العطش * (يغاثوا بماء
كالمهل) * وفيه سبعة أقوال:
أحدها: أنه ماء غليظ كدردي الزيت، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه كل شئ أذيب حتى انماع، قاله ابن مسعود، وقال أبو عبيدة، والزجاج: كل
شئ أذبته من نحاس أو رصاص أو نحو ذلك، فهول مهل.
والثالث: قيح ودم أسود كعكر الزيت، قاله مجاهد.
والرابع: أنه الفضة والرصاص يذابان، روي عن مجاهد أيضا.
والخامس: أنه الذي انتهى حره، قاله سعيد بن جبير.
والساس: أنه الصديد، ذكره ابن الأنباري. قال مغيب بن سمي: هذا الماء هو ما
يسيل من عرق أهل الموقف في الآخرة وبكائهم، وما يجري منهم من دم وقيح، يسيل ذلك إلى
واد في جهنم، فتطبخه جهنم، فيكون أول ما يغاث به أهل النار.
والسابع: أنه الرماد الذي ينفذ عن الخبزة إذا خرجت من التنور، حكاه ابن الأنباري.
قوله تعالى: * (يشوي الوجوه) * قال المفسرون: إذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه. ثم
ذمه، فقال بئس الشراب وساءت النار * (مرتفقا) * وفيه خمسة أقوال:
أحدها: منزلا، قاله ابن عباس.
والثاني: مجتمعا، قاله مجاهد.
والثالث: متكأ، قاله أبو عبيدة، وأنشد لأبي ذؤيب:
- إني أرقت فبت الليل مرتفقا * كأن عيني فيها الصاب مذبوح -
وذبحه: انفجاره; قال الزجاج: " مرتفقا " منصوب على التمييز. أي: متكأ على المرفق.
والرابع: ساءت مجلسا; قاله ابن قتيبة.
والخامس: ساءت مطلبا للرفق، لأن من طلب رفقا من جهتها، عدمه، ذكره ابن الأنباري.
ومعاني هذه الأقوال تتقارب. وأصل المرفق في اللغة: ما يرتفق به.
95

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " 30 " أولئك لهم جنات
عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من
سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا " 31 "
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * قال الزجاج: خبر " إن " ها هنا على
ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون على إضمار: * (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) * منهم، ولم يحتج
إلى ذكر " منهم " لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه محبط عمل غير المؤمنين.
والثاني: أن يكون خبر " إن ": * (أولئك لهم جنات عدن) *، ويكون قوله: * (إنا لا
نضيع) * قد فصل به بين الاسم وخبره، لأنه يحتوي على معنى الكلام الأول، لأن من أحسن
عملا بمنزلة الذين آمنوا.
والثالث: أن يكون الخبر: * (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) * بمعنى: إنا لا نضيع
أجرهم.
قال المفسرون: ومعنى * (لا نضيع أجر من أحسن عملا) * أي: لا نترك أعماله تذهب
ضياعا، بل نجازيه عليها بالثواب.
فأما الأساور، فقال الفراء: في الواحد منها ثلاث لغات: إسوار، وسوار، وسوار; فمن
قال: إسوار، جمعه أساور، ومن قال: سوار أو سوار، جمعه أسورة، وقد يجوز أن يكون واحد
أساورة وأساور: سوار; وقال الزجاج: الأساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، يقال: سوار
اليد، بالكسرة، وقد حكي: سوار. قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور في اليد
والتيجان على الرؤوس، جعل الله تعالى ذلك لأهل الجنة. قال سعيد بن جبير: يحلى كل واحد
منهم بثلاثة من الأساور، واحد من فضة، وواحد من ذهب، وواحد من لؤلؤ ويواقيت.
فأما " السندس " و " الإستبرق "، فقال ابن قتيبة: السندس: رقيق الديباج، والإستبرق
ثخينه. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السندس: رقيق الديباج، لم يختلف أهل
اللغة في أنه معرب، قال الراجز:
- وليلة من الليالي حندس * لون حواشيها كلون السندس -
والاستبرق: غليظ الديباج، فارسي معرب، وأصله إستفره. وقال ابن دريد: إستروه،
96

ونقل من العجمية إلى العربية، فلوا حقر " إستبرق "، أو كسر، لكان في التحقير " أبيرق "، وفي
التكسير " أبارق " بحذف السين، والتاء جميعا.
قوله تعالى: * (متكئين فيها) * الاتكاء: التحامل على الشئ. قال أبو عبيدة: والأرائك:
الفرش فالحجال، ولا تكون الأريكة إلا بحجلة وسرير. وقال ابن قتيبة: الأرائك: السرر في
الحجال، واحدها: أريكة. وقال ثعلب: لا تكون الأريكة إلا سريرا في قبة عليه شوراه ومتاعه;
قال ابن قتيبة: الشوار، مفتوح الشين، وهو متاع البيت. وقال الزجاج: الأرائك: الفرش في
الحجال. قال: وقيل: إنها الفرش، وقيل إنها الأسرة، وهي على الحقيقة: الفرش كانت في
حجال لهم.
واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا
بينهما زرعا " 32 " كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا " 33 " وكان
له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " 34 " ودخل جنته
وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " 35 " وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت
إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا " 36 "
قوله تعالى: * (واضرب لهم مثلا رجلين) * روى عطاء عن ابن عباس، قال: هما ابنا ملك
كان في بني إسرائيل توفي وتركهما، فاتخذ أحدهما الجنان والقصور، وكان الآخر زاهدا في
الدنيا فكان إذا عمل أخوه شيئا من زينة الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدمه لآخرته، حتى نفد ماله،
فضربهما الله عز وجل مثلا للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة. وروى أبو صالح عن ابن عباس:
أن المسلم لما احتاج، تعرض لأخيه الكافر، فقال الكافر: أين ما ورثت عن أبيك؟ فقال: أنفقته
في سبيل الله، فقال الكافر: لكني ابتعت منه جنانا وغنما، وبقرا، والله لا أعطيتك شيئا أبدا حتى
تتبع ديني، ثم أخذ بيد المسلم فأدخله جنانه يطوف به فيها، ويرغبه في دينه. وقال مقاتل: اسم
المؤمن يمليخا، واسم الكافر فرطس، وقيل: فطرس، وقيل: هذا المثل ضرب لعيينة بن
حصن وأصحابه، ولسلمان وأصحابه.
قوله تعالى: * (وحففناهما بنخل) * الحف: الإحاطة بالشيء، ومنه قول: * (حافين
97

من حول العرش) * والمعنى: جعلنا النخل مطيفا. وقوله: * (وجعلنا بينهما زرعا) * إعلام أن
عمارتهما كاملة.
قوله تعالى: * (كلتا الجنتين آتت أكلها) * قال الفراء: لم يقل تعالى: آتتا، لأن " كلتا "
ثنتان لا تفرد واحدتهما، وأصله: " كل "، كما تقول للثلاثة: " كل "، فكان القضاء أن يكون
للثنتين ما كان للجمع، وجاز توحيده على مذهب " كل "، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي، ظهر في
" كلتا "، وكذلك فافعل ب‍ " كلا " و " كلتا " و " كل "، إذا أضفتهن إلى معرفة وجاء الفعل بعدهن
فوحد واجمع، فمن التوحيد قوله تعالى: * (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) *، ومن الجمع:
* (وكل أتوه داخرين) *، والعرب قد تفعل أيضا في " أي " فيؤنثون ويذكرون، قال الله
تعالى: * (وما تدري نفس بأي أرض تموت) *، ويجوز في الكلام " بأية أرض "، وكذلك
* (في أي صورة ما شاء ركبك) *، ويجوز في الكلام " في أية "، قال الشاعر:
- بأي به بلاء أم بأية نعمة * تقدم قبلي مسلم والمهلب -
ثم ابن الأنباري: " كلتا " وإن كان واقعا في المعنى على اثنتين، فإن لفظه لفظ واحدة
مؤنثة، فغلب اللفظ، ولم يستعمل المعنى ثقة بمعرفة المخاطب به; ومن العرب من يؤثر المعنى
على اللفظ، فيقول: " كلتا الجنتين آتتا أكلها "، ويقول آخرون: " كلتا الجنتين آتي أكله "،
لأن " كلتا " تفيد معنى " كل "، قال الشاعر:
- وكلتاهما قد خط لي في صحيفتي * فلا الموت أهواه ولا العيش أروح -
يعني: وكلهما قد خط لي، وقد قالت العرب: كلكم ذاهب، وكلكم ذاهبون. فوحدوا
للفظ " كل " وجمعوا لتأويلها. وقال الزجاج: إنما لم يقل " آتتا، لأن لفظ " كلتا " لفظ واحدة،
والمعنى: كل واحدة منهما آتت أكلها * (ولم تظلم) * أي: لم تنقص * (منه شيئا وفجرنا خلالهما
نهرا) * فأعلمنا أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أغزر الشرب. وقال الفراء: إنما قال:
" فجرنا " بالتشديد، وهو نهر واحد، لأن النهر يمتد، فكان التفجر فيه كله. قرأ أبو رزين، وأبو
مجلز، وأبو العالية، وابن يعم، وابن أبي عبلة: " وفجرنا " بالتخفيف. وقرأ أبو مجلز، وأبو
المتوكل: " خللهما ". وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: " نهرا " بسكون الهاء.
قوله تعالى: * (وكان له) * يعني: للأخ الكافر (ثمر) قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر،
98

وحمزة، والكسائي: " وكان له ثمر "، " وأحيط بثمره " بضمتين. وقرأ عاصم: " وكان لهم ثمر "،
" وأحيط بثمره " بفتح التاء والميم فيهما. وقرأ أبو عمرو: " ثمر " و " ثمره " بضمة واحدة وسكون
الميم. قال الفراء: الثمر، بفتح الثاء والميم: المأكول، وبضمها: المال. وقال ابن الأنباري.
الثمر، بالفتح: الجمع الأول، والثمر، بالضم: جمع الثمر، يقال: ثمر، وثمر، كما يقال:
أسد، وأسد، ويصلح أن يكون الثمر جمع الثمار، كما يقال: حمار وحمر، وكتاب وكتب; فمن
ضم، قال: الثمر أعم، لأنها تحتمل الثمار المأكولة، والأموال المجموعة. قال أبو على
الفارسي: وقراءة أبي عمرو: " ثمر " يجوز أن تكون جمع ثمار، ككتاب، وكتب، فتخفف،
فيقال: كتب، ويجوز أن يكون " ثمر " جمع ثمرة، كبدنة وبدن، وخشبة، وخشب. ويجوز أن
يكون (ثمر) واحدا، كعنق، وطنب.
وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الذهب، والفضة، قاله مجاهد.
والثالث: أنه جمع ثمرة، قال الزجاج: يقال: ثمرة، وثمار، وثمر. فإن قيل: ما الفائدة في
ذكر الثمر بعد ذكر الجنتين، وقد علم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه لم يكن أصل الأرض ملكا له، وإنما كانت له الثمار، قاله ابن عباس.
والثاني: أن ذكر الثمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنتين وغيرهما، ذكره ابن
الأنباري.
والثالث: قد ذكرنا أن المراد بالثمر الأموال من الأنواع وذكرنا أنها الذهب، والفضة، وذلك
يخالف الثمر المأكول; قال أبو علي الفارسي: من قال: هو الذهب، والورق، فإنما قيل لذلك:
ثمر على التفاؤل، لأن الثمر نماء في ذي الثمر، وكونه هاهنا بالجنى أشبه بالذهب والفضة. ويقوي
ذلك: * (وأحيط بثمرة فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها) * والإنفاق من الورق، لا من الشجر.
قوله تعالى: * (فقال) * يعني الكافر * (لصاحبه) * المؤمن * (وهو يحاوره) * أي: يراجعه الكلام
ويجاوبه.
وفي ما تحاورا فيه قولان:
أحدهما: أنه الإيمان والكفر.
والثاني: طلب الدنيا، وطلب الآخرة. فأما " النفر " فهم الجماعة، ومثلهم: القوم والرهط ولا
واحد لهذه الألفاظ من لفظها. وقال ابن فارس اللغوي: النفر: عدة رجال من ثلاثة إلى العشرة.
99

وفيمن أراد بنفره ثلاثة أقوال:
أحدها: عبيده، قاله ابن عباس.
والثاني: ولده، قاله مقاتل.
والثالث: عشيرته ورهطه، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: * (ودخل جنته) * يعني: الكافر * (وهو ظالم لنفسه) * بالكفر; وكان قد أخذ بيد أخيه
فأدخله معه: * (قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا) * أنكر فناء الدنيا، وفناء جنته، وأنكر البعث والجزاء بقوله
تعالى: * (وما أظن الساعة قائمة) * وهذا شك منه في البعث، ثم قال: * (ولئن رددت إلى ربي) *
أي: كما تزعم أنت. قال ابن عباس: يقول إن كان البعث حقا * (لأجدن خيرا منها) * قرأ أبو
عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: " خير منها "، وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: " خيرا منهما " بزيادة ميم على التثنية، وكذلك هي في مصاحف
أهل مكة والمدينة والشام. قال أبو علي: الإفراد أولى، لأنه أقرب إلى الجنة المفردة في قوله:
* (ودخل جنته) *، والتثنية لا تمتنع، لتقدم ذكر الجنتين.
قوله تعالى: * (منقلبا) * أي: كما أعطاني هذا في الدنيا، سيعطيني في الآخرة أفضل منه.
قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك
رجلا " 37 " لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا " 38 " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء
الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا " 39 " فعسى ربي أن يؤتين خيرا من
جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا " 40 " أو يصبح ماؤها غورا فلن
تستطيع له طلبا " 41 "
قوله تعالى: * (قال له صاحبه) * يعني: المؤمن * (وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب) *
يعني: خلق أباك آدم * (ثم من نطفة) * يعني: ما أنشئ هو منه، فلما شك في البعث كان كافرا.
قوله تعالى: * (لكنا هو الله ربي) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي،
وقالون عن نافع: * (لكن هو الله ربي) *، بإسقاط الألف في الوصل، وإثباتها في الوقف. وقرأ نافع
في رواية المسيبي بإثبات الألف وصلا ووقفا. وأثبت الألف ابن عامر في الحالين. وقرأ أبو رجاء:
100

" لكن " بإسكان النون خفيفة من غير ألف في الحالين. وقرأ ابن يعمر بتشديد النون من غير
ألف في الحالين. وقرأ الحسن: * (لكن أنا هو الله ربي) * باسكان نون " لكن " وإثبات " أنا ". قال:
الفراء: فيها ثلاث لغات: لكنا، ولكن، ولكنه بالهاء، أنشدني أبو ثروان:
- وترمينني بالطرف أي أنت مذنب * وتقلينني لكن إياك لا أقلي -
وقال أبو عبيدة: مجازه: لكن أنا هو الله ربي، ثم حذفت الألف الأولى، وأدغمت إحدى
النونين في الأخرى فشددت. قال الزجاج: وهذه الألف تحذف في الوصل، وتثبت في الوقف، فأما
من أثبتها في الوصل كما تثبت في الوقف، فهو على لغة من يقول: أنا قمت، فأثبت الألف، قال
الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني
وهذه القراءة جيدة، لأن الهمزة قد حذفت من " أنا "، فصار إثبات الألف عوضا من الهمزة.
قوله تعالى: * (ولولا إذ دخلت جنتك) * أي: وهلا; ومعنى الكلام التوبيخ. قال الفراء: * (ما
شاء الله) * في موضع رفع، إن شئت رفعته بإضمار هو، يريد: هو ما شاء الله; و إن شئت أضمرت
فيه: ما شاء الله كان; وجاز طرح جواب الجزاء، كما جاز في قوله: * (فإن استطعت أن تبتغي نفقا
في الأرض) * ليس له جواب، لأنه معروف، قال الزجاج: وقوله: * (لا قوة إلا بالله) * الاختيار النصب
بغير تنوين على النفي، كقوله: * (لا ريب فيها) *; ويجوز: " لا قوة إلا بالله " على الرفع بالابتداء،
والخبر " بالله "; المعنى: لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا الله تعالى، ولا يكون له إلا ما
شاء الله.
قوله تعالى: * (إن ترني) * قرأ ابن كثير: " إن ترني أنا " و " يؤتيني خيرا " بياء في الوصل والوقف.
وقرأ نافع، وأبو عمرو بياء في الوصل. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بحذف الياء فيهما وصلا
ووقفا. * (أنا أقل) * وقرأ ابن أبي عبلة: " أنا أقل " برفع اللام. قال الفراء: " أنا " هاهنا عماد إن نصبت
" أقل "، واسم إذا رفعت " أقل "، والقراءة بهما جائز.
قوله تعالى: * (فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك) * أي: في الآخرة، * (ويرسل عليها
حسبانا) * وفيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه العذاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، وقال أبو صالح
عن ابن عباس: نارا من السماء.
101

والثاني: قضاء من الله يقضيه، قاله ابن زيد.
والثالث: مرامي من السماء، واحدها: حسبانة، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. قال النضر بن
شميل: الحسبان: سهام يرمي: بها الرجل في جوف قصبة ينزع " في القوس، ثم يرمي بعشرين منها
دفعة، فعلى هذا القول يكون المعنى: ويرسل عليها مرامي من عذابه، إما حجارة أو بردا أو غيرهما
مما يشاء من أنواع العذاب.
والرابع: أن الحسبان: الحساب، كقوله: * (الشمس والقمر بحسبان) * أي: بحساب، فيكون
المعنى: ويرسل عليها عذاب حساب ما كسبت يداه، هذه قول الزجاج.
قوله تعالى: * (فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا) * قال ابن قتيبة: الصعيد الأملس
المستوى، والزلق: الذي تزل عنه الأقدام، والغور: الغائر، فجعل المصدر صفة، يقال: ماء غور،
ومياه غور، ولا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث، كما يقال: رجل نوم، ورجل صوم، ورجل فطر،
ورجال نوم، ونساء نوم، ويقال للنساء إذا نحن: نوح، والمعنى: يذهب ماؤها غائرا في الأرض،
أي: ذاهبا فيها. * (فلن تسطيع له طلبا) * فلا يبقى له أثر تطلبه به، ولا تناله الأيدي ولا الأرشية.
وقال ابن الأنباري: " غورا " إذا غور، فسقط المضاف، وخلفه المضاف إليه، والمراد بالطلب هاهنا:
الوصول، فقام الطلب مقامه لأنه سببه. وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء: " غؤورا " برفع الغين والواو
جميعا.
وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول
يا ليتني لم أشرك بربي أحدا " 42 " ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان
منتصرا " 43 " هنا لك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا " 44 "
قوله تعالى: * (وأحيط بثمره) * أي: أحاط الله العذاب بثمره، وقد سبق معنى الثمر. * (فأصبح
يقلب كفيه) * أي: يضرب بيد على يد، وهذا فعل النادم، * (على ما أنفق فيها) * أي: في جنته، و
" في " هاهنا بمعنى " على ". * (وهي خاوية) * أي: خالية ساقطة * (على عروشها) * والعروش:
السقوف; والمعنى: أن حيطانها قائمة والسقوف قد تهدمت فصارت في قرارها، فصارت الحيطان
كأنها على السقوف. * (ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا) * فأخبر الله تعالى أنه لما سلبه ما أنعم
به عليه، وحقق ما أنذره به أخوه في الدنيا، ندم على شركه حين لا تنفعه الندامة. وقيل: إنما يقول
هذا في القيامة. * (ولم تكن له فئة) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: " ولم تكن " بالتاء.
102

وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " ولم يكن " بالياء. والفئة: الجماعة * (ينصرونه) * أي: يمنعونه من
عذاب الله.
قوله تعالى: * (هنالك الولاية) * قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم: " الولاية " بفتح
الواو و * (لله الحق) * خفضا. وقرأ حمزة: " الولاية " بكسر الواو، و " الحق " بكسر القاف أيضا. وقرأ
أبو عمرو بفتح الواو، ورفع " الحق "، ووافقه الكسائي في رفع القاف، لكنه كسر " الولاية "، قال
الزجاج: معنى الآية في مثل تلك الحال: تبيين نصرة ولي الله. وقال غيره: هذا الكلام عائد إلى ما
قبل قصة الرجلين. فأما من فتح واو " الولاية " فإنه أراد الموالاة والنصرة، ومن كسر، أراد السلطان
والملك على ما شرحنا في آخر الأنفال. فعلى قراءة الفتح، في معنى الكلام قولان:
أحدهما: أنهم يتولون الله تعالى في القيامة، ويؤمنون به، ويتبرؤون مما كانوا يعبدون، قاله
ابن قتيبة.
والثاني: هنا لك يتولى الله أمر الخلائق، فينصر المؤمنين ويخذل الكافرين. وعلى قراءة
الكسر، يكون المعنى: هنا لك السلطان لله. قال أبو علي: من كسر قاف " الحق "، جعله من وصف
الله عز وجل، ومن رفعه جعله صفة للولاية.
فإن قيل: لم نعتت الولاية وهي مؤنثة بالحق وهو مصدر؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري:
أحدهما: أن تأنيثها ليس حقيقيا، فحملت على معنى النصر; والتقدير: هنا لك النصر لله
الحق، كما حملت الصيحة على معنى الصياح في قوله: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) *.
والثاني: أن الحق مصدر يستوي في لفظه المذكر المؤنث الاثنان والجمع، فيقال: قولك
حق، وكلمتك حق، وأقوالكم حق. ويجوز ارتفاع الحق على المدح للولاية، وعلى المدح لله تعالى
بإضمار " هو ".
قوله تعالى: * (هو خير ثوابا) * أي: هو أفضل ثوابا ممن يرجى ثوابه، وهذا على تقدير أنه لو
كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل.
قوله تعالى: * (وخير عقبا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر والكسائي: " عقبا "
مضمومة القاف. وقرأ عاصم، وحمزة: " عقبا " ساكنة القاف. قال أبو علي: ما كان على " فعل " جاز
تخفيفه، كالعنق، والطنب. قال أبو عبيدة: العقب، والعقب، والعقبى، بمعنى، وهي
الآخرة، والمعنى عاقبة طاعة الله خير من عاقبة طاعة غيره.
103

واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض
فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان الله على كل شئ مقتدرا " 45 "
قوله تعالى: * (اضرب لهم مثل الحياة الدنيا) * أي: في سرعة نفادها وذهابها، وقيل: في
تصرف أحوالها، إذ مع كل فرحة ترحة، وهذا مفسر في سورة (يونس) إلى قوله: * (فأصبح هشيما) *.
قال الفراء: الهشيم: كل شئ كان رطبا فيبس. وقال الزجاج: الهشيم: النبات الجاف. وقال ابن
قتيبة: الهشيم من النبت: المتفتت، وأصله من هشمت الشئ: إذا كسرته، ومنه سمي الرجل
هاشما. * (وتذروه الرياح) * تنسفه. وقرأ أبي، وابن عباس، وابن أبي عبلة: " تذريه " برفع التاء وكسر
الراء بعدها ياء ساكنة وهاء مكسورة. وقرأ ابن مسعود كذلك، إلا أنه فتح التاء. والمقتدر: مفتعل،
من قدرت. قال المفسرون: * (وكان الله على كل شئ) * من الإنشاء والإفناء * (مقتدرا) *.
المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " 46 "
قوله تعالى: * (المال البنون زينة الحياة الدنيا) * هذا رد على المشركين الذين كانوا يفتخرون
بالأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أن ذلك مما يتزين به في الدنيا، لا مما ينفع في الآخرة.
قوله تعالى: * (والباقيات الصالحات) * فيها خمسة أقوال:
أحدها: أنها " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر "; روى أبو هريرة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم انه قال: " إن عجزتم عن الليل، أن تكابدوه، وعن العدو أن تجاهدوه، فلا تعجزوا عن قول:
" سبحان الله " والحمد الله " ولا إله إلا الله، والله أكبر، فقولوها، فإنهن الباقيات الصالحات "، وهذا
قول ابن عباس في رواية عطاء، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك. وسئل عثمان بن عفان
عن الباقيات الصالحات، فقال هذه الكلمات، وزاد فيها: " ولا حول ولا قوة إلا بالله ". وقال سعيد
ابن المسيب، ومحمد بن كعب القرظي مثله سواء.
والثاني: " أنها لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله; ولا قوة إلا بالله " رواه علي بن أبي
طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثالث: الصلوات الخمس، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود،
ومسروق، وإبراهيم.
والرابع: الكلام الطيب، رواه العوفي عن ابن عباس.
والخامس: هي جميع أعمال الحسنات، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة،
104

وابن زيد.
قوله تعالى: * (خير عند ربك ثوابا) * أي: أفضل جزاء * (وخير أملا) * أي: خير مما تؤملون،
لأن آمالكم كواذب، وهذا أمل لا يكذب.
ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " 47 "
وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم
موعدا " 48 " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا وليتنا مال هذا
الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك
أحدا " 49 " وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر
ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين
بدلا " 50 " * ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ
المضلين عضدا " 51 "
قوله تعالى: * (ويوم تسير الجبال) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: " ويوم تسير " بالتاء
" الجبال " رفعا. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: " نسير " بالنون " الجبال " نصبا. وقرأ ابن
محيصن: " ويوم تسير " بفتح التاء وكسر السين وتسكين الياء " الجبال " بالرفع. قال الزجاج: " ويوم "
منصوب على معنى أذكر، ويجوز أن يكون منصوبا على: والباقيات الصالحات خير يوم تسير
الجبال. قال ابن عباس: تسير الجبال عن وجه الأرض، كما يسير السحاب في الدنيا، ثم تكسر
فتكون في الأرض كما خرجت منها.
105

قوله تعالى: * (وترى الأرض بارزة) * وقرأ عمرو بن العاص، وابن السميفع، وأبو العالية:
" وترى الأرض " برفع التاء والضاد. وقرأ أبو رجاء العطاردي كذلك، إلا أنه فتح ضاد " الأرض ".
وفي معنى " بارزة " قولان:
أحدهما: ظاهرة فليس عليها شئ من جبل أو شجر أو بناء، قاله الأكثرون.
والثاني: بارزا أهلها من بطنها، قاله الفراء.
قوله تعالى: * (وحشرناهم) * يعني المؤمنين والكافرين * (فلم نغادر) * قال ابن قتيبة: أي: فلم
نخلف، يقال: غادرت كذا: إذا خلفته، ومنه سمي الغدير، لأنه ماء تخلفه السيول. وروى أبان:
" فلم تغادر " بالتاء.
قوله تعالى: * (وعرضوا على ربك صفا) * إن قيل: هذا أمر مستقبل، فكيف عبر بالماضي؟
فالجواب: أن ما قد علم الله وقوعه، يجري مجرى المعاين، كقوله [تعالى]: * (ونادى أصحاب
الجنة) *.
وفي معنى قوله: * (صفا) * أربعة أقوال:
أحدها: أنه بمعنى جميعا، كقوله: * (ثم أئتوا صفا) * قاله مقاتل.
والثاني: أن المعنى: وعرضوا على ربك مصفوفين، هذا مذهب البصريين.
والثالث: أن المعنى: وعرضوا على ربك صفوفا، فناب الواحد عن الجميع، كقوله: * (ثم
نخرجكم طفلا) *.
والرابع: أنه لم يغب عن الله منهم أحد، فكانوا كالصف الذي تسهل الإحاطة بجملته، ذكر
هذه الأقوال ابن الأنباري، وقد قيل: إن كل أمة وزمرة صف.
قوله تعالى: * (لقد جئتمونا) * فيه إضمار " فقال لهم ".
وفي المخاطبين بهذا قولان:
أحدهما: أنهم الكل.
والثاني: الكفار، فيكون اللفظ عاما، والمعنى خاصا. وقوله: * (كما خلقناكم أول مرة) * مفسر
في الأنعام وقوله: * (بل زعمتم) * خطاب للكفار خاصة، والمعنى: زعمتم في الدنيا * (أن لن نجعل
لكم موعدا) * للبعث، والجزاء.
قوله تعالى: * (ووضع الكتاب) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الكتاب الذي سطر فيه ما تعمل الخلائق قبل وجودهم، قاله ابن عباس.
106

والثاني: انه الحساب، قاله ابن السائب.
والثالث: كتاب الأعمال، قاله مقاتل. وقال ابن جرير: وضع كتاب أعمال العباد في أيديهم،
فعلى هذا، الكتاب اسم جنس.
قوله تعالى: * (فترى المجرمين) * قال مجاهد: الكافرون.، فالمراد به: الكافر
قوله تعالى: * (مشفقين) * أي: خائفين * (مما فيه) * من الأعمال السيئة * (ويقولون يا ويلتنا) * هذا
قول كل واقع في هلكة. وقد شرحنا هذا المعنى في قوله: * (يا حسرتنا) *
قوله تعالى: * (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * هذا على ظاهره في صغير الأمور
وكبيرها; وقد روى عكرمة عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة، وقد يتوهم
أن المراد بذلك صغائر الذنوب وكبائرها، وليس كذلك، إذ ليس الضحك والتبسم، بمجردهما من
الذنوب، وإنما المراد أن التبسم من صغار الأفعال، والضحك فعل كبير، وقد روى الضحاك عن ابن
عباس، قال: الصغيرة: التبسم والاستهزاء بالمؤمنين، والكبيرة: القهقهة بذلك; فعلى هذا يكون
ذنبا من الذنوب لمقصود فاعله، لا لنفسه. ومعنى " أحصاها ": عدها وأثبتها، والمعنى: وجدت
محصاة. * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) * أي: مكتوبا مثبتا في الكتاب، وقيل: رأوا جزاءه حاضرا.
وقال أبو سليمان: الصحيح عند المحققين أن صغائر المؤمنين الذين وعدوا العفو عنها إذا اجتنبوا
الكبائر، إنما يعفى عنها في الآخرة بعد أن يراها صاحبها.
قوله تعالى: * (ولا يظلم ربك أحدا) * قال أبو سليمان: لا تنقص حسنات المؤمن، ولا يزاد في
سيئات الكافر. وقيل: إن كان للكافر فعل خير، كعتق رقبة، وصدقة، خفف عنه به من عذابه، وإن
ظلمة مسلم، أخذ الله من المسلم، فصار الحق لله.
ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر هؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس وما
أورثه الكبر، فقال: * (وإذ قلنا) * أي: أذكر ذلك.
وفي قوله: * (كان من الجن) * قولان:
أحدهما: أنه من الجن حقيقة، لهذا النص; واحتج قائلو هذا بأن له ذرية - وليس للملائكة
ذرية - وأنه كفر، والملائكة رسل الله، فهم معصومون من الكفر.
والثاني: انه كان من الملائكة، وإنما قيل: " من الجن "، لأنه كان من قبيل من الملائكة يقال
لهم: الجن، قاله ابن عباس; وقد شرحنا هذا في البقرة.
قوله تعالى: * (ففسق عن أمر ربه) * فيه ثلاثة أقوال.
107

أحدها: خرج عن طاعة ربه، تقول العرب: فسقت الرطبة من قشرها: إذا خرجت منه، قاله
الفراء، وابن قتيبة.
والثاني: أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب فسقه عن أمر ربه، قال الزجاج: وهذا
مذهب الخليل وسيبويه، وهو الحق عندنا.
والثالث: ففسق عن رد أمر ربه، حكاه الزجاج عن قطرب.
قوله تعالى: * (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) * أي: توالونهم بالاستجابة لهم؟! قال الحسن،
وقتادة: ذريته: أولاده، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. قال مجاهد: ذريته الشياطين، ومن ذريته
زلنبور صاحب راية إبليس بكل سوق، وثبر، وهو صاحب المصائب، والأعور صاحب الرياء،
ومسوط صاحب الأخبار يأتي بها فيطرحها على أفواه الناس، فلا يوجد لها أصل، وداسم صاحب
الإنسان إذا دخل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله، فهو يأكل معه إذا أكل. قال بعض أهل العلم: إذا
كانت خطيئة الإنسان في كبر فلا ترجه، وإن كانت في شهوة فارجه، فإن معصية إبليس كانت
بالكبر، ومعصية آدم بالشهوة.
قوله تعالى: * (بئس للظالمين بدلا) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: بئس الاتخاذ للظالمين بدلا.
والثاني: بئس الشيطان.
والثالث: بئس الشيطان والذرية، ذكرهن ابن الأنباري.
قوله تعالى: * (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض) * وقرأ أبو جعفر، وشيبة: " ما أشهدناهم "
بالنون والألف.
وفي المشار إليهم أربعة أقوال:
أحدها: إبليس وذريته.
والثاني: الملائكة.
والثالث: جميع الكفار.
والرابع: جميع الخلق; والمعنى: أني لم أشاورهم في خلقهن; وفي هذا بيان للغناء عن
الأعوان، وإظهار كمال القدرة.
قوله تعالى: * (ولا خلق أنفسهم) * أي: ما أشهدت بعضهم خلق بعض، ولا استعنت ببعضهم
على إيجاد بعض.
قوله تعالى: * (وما كنت متخذ المضلين) * يعني: الشياطين * (عضدا) * أي: أنصارا وأعوانا.
والعضد يستعمل كثيرا في معنى العون، لأنه قوام اليد، قال الزجاج: والاعتضاد: التقوي وطلب
108

المعونة، يقال: اعتضدت بفلان، أي: استعنت به.
وفي ما نفى اتخاذهم عضدا فيه قولان:
أحدهما: أنه الولايات، فالمعنى: ما كنت لأولي المضلين، قاله مجاهد.
والثاني: أنه خلق السماوات والأرض، قاله مقاتل. وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو جعفر:
" وما كنت " بفتح التاء.
ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا " 52 "
ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا " 53 "
قوله تعالى: * (ويوم يقول) * وقرأ حمزة: " نقول " بالنون، يعني: يوم القيامة * (نادوا شركائي) *
أضاف الشركاء إليه على زعمهم، والمراد: نادوهم لدفع العذاب عنكم، أو الشفاعة لكم، * (الذين
زعمتم) * أي: زعمتموهم شركاء * (فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) * أي: لم يجيبوهم، * (وجعلنا بينهم) *
في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم المشركون والشركاء.
والثاني: أهل الهدى وأهل الضلالة.
وفي معنى * (موبقا) * ستة أقوال:
أحدها: مهلكا، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وقال ابن قتيبة: مهلكا بينهم وبين
آلهتهم في جهنم، ومنه يقال: أوبقته ذنوبه، وقال الزجاج: المعنى: جعلنا بينهم من العذاب ما
يوبقهم، أي: يهلكهم، فالموبق: المهلك، يقال: وبق، ييبق، ويابق، وبقا، ووبق، يبق، وبوقا،
فهو وابق; وقال الفراء: جعلنا تواصلهم في الدنيا موبقا، أي: مهلكا لهم في الآخرة، فالبين، على
هذا القول; بمعنى التواصل، كقوله تعالى: * (لقد تقطع بينكم) * على قراءة من ضم النون.
والثاني: أن الموبق: واد عميق يفرق به بين أهل الضلالة وأهل الهدى، قاله عبد الله بن
عمرو.
والثالث: أنه واد في جهنم، قاله انس بن مالك; ومجاهد.
والربع: أن معنى الموبق: العدواة، قاله الحسن.
والخامس: أنه المحبس، قاله الربيع بن أنس.
والسادس: أنه الموعد، قاله أبو عبيدة.
109

قال ابن الأنباري: إن قيل: لم قال: " موبقا " ولم يقل: " موبقا "، بضم الميم، إذ كان معناه
عذابا موبقا؟
فالجواب: أنه اسم موضوع لمحبس في النار، والأسماء لا تؤخذ بالقياس، فيعلم ان " موبقا ":
مفعل، من أوبقه الله: إذا أهلكه، فتفتح [ميمه] كما تنفتح في موعد ومولد ومحتد إذا سميت الشخوص
بهن.
قوله تعالى: * (ورأى المجرمون النار) * أي: عاينوها وهي تتغيظ حنقا عليهم. والمراد
بالمجرمين: الكفار. * (فظنوا) * أي: أيقنوا * (أنهم مواقعوها) * أي: داخلوها. ومعنى المواقعة:
ملابسة الشئ بشدة * (ولم يجدوا عنها مصرفا) * أي: معدلا; والمصرف: الموضع الذي يصرف
إليه، وذلك أنها أحاطت بهم من كل جانب، فلم يقدروا على الهرب.
ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شئ جدلا " 54 "
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو
يأتيهم العذاب قبلا " 55 "
قوله تعالى: * (ولقد صرفنا في هذا القرآن) * قد فسرناه في [سورة] بني إسرائيل.
قوله تعالى: * (وكان الإنسان أكثر شئ جدلا) * فيمن نزلت قولان:
أحدهما: أنه النضر بن الحارث، وكان جداله في القرآن، قاله ابن عباس.
والثاني: أبي بن خلف، وكان جداله في البعث حين أتى بعظم قد رم، فقال: أيقدر الله
على إعادة هذا؟! قاله ابن السائب. قال الزجاج: كل ما يعقل من الملائكة والجن يجادل، والإنسان
أكثر هذه الأشياء جدلا.
قوله تعالى: * (وما منع الناس يؤمنوا) * قال المفسرون: يعني: أهل مكة * (إذ جاءهم
الهدى) * وهو: محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن، والإسلام * (إلا تأتيهم سنة الأولين) * وهو: أنهم إذا لم
يؤمنوا عذبوا.
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: ما منعهم من الإيمان إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين، قاله الرجاج.
110

والثاني: وما منع الشيطان الناس أن يؤمنوا إلا لأن تأتيهم سنة الأولين، أي: منعهم رشدهم
لكي يقع العذاب بهم، ذكره ابن الأنباري.
والثالث: ما منعهم إلا أني قد قدرت عليهم العذاب. وهذه الآية فيمن قتل ببدر واحد من
المشركين، قاله الواحدي.
قوله تعالى: * (أو يأتيهم العذاب) * ذكر ابن الأنباري في * (أو) * ها هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بمعنى الواو.
الثاني: أنها لوقوع أحد الشيئين، إذ لا فائدة في بيانه.
والثالث: أنها دخلت للتبعيض، أي: أن بعضهم يقع به هذا [وبعضهم يقع به هذا] وهذه
الأقوال الثلاثة قد أسلفنا بيانها في قوله تعالى: * (أو كصيب من السماء) *.
قوله تعالى: * (قبلا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " قبلا " بكسر القاف وفتح
الباء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " قبلا " بضم القاف والباء. وقد بينا علة القراءتين في
[سورة] الأنعام. وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود. " قبيلا " بوزن فعيل. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو
المتوكل " قبلا " بفتح القاف من غير ياء، قال ابن قتيبة: أراد استئنافا.
فإن قيل: إذا كان المراد بسنة الأولين العذاب، فما فائدة التكرار بقوله: * (أو يأتيهم
العذاب؟.
فالجواب: أن سنة الأولين أفادت عذابا مبهما يمكن أن يتراخى وقته، وتخلف أنواعه، وإتيان
العذاب قبلا أفاد القتل يوم بدر. قال مقاتل: " سنة الأولين ": عذاب الأمم السالفة، " أو يأتيهم
العذاب قبلا "، أي: عيانا قتلا بالسيف يوم بدر.
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به
الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا " 56 " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها
نسى ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقرا وإن تدعهم
إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا " 57 " وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بم كسبوا
111

لعجل لهم العذاب لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا " 58 " وتلك القرى أهلكناهم
لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا " 59 "
قوله تعالى: * (ويجادل الذين كفروا بالباطل) * قال ابن عباس: يريد: المستهزئين والمقتسمين
وأتباعهم. وجدالهم بالباطل: أنهم ألزموه أن يأتي بالآيات على أهوائهم * (ليدحضوا به الحق) * أي:
ليبطلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: جدالهم: قولهم: * (أإذا كنا عظاما ورفاتا) *; * (أإذا ضللنا في
الأرض) * ونحو ذلك ليبطلوا به ما جاء في القرآن من ذكر البعث والجزاء. قال أبو عبيدة: ومعنى
" ليدحضوا " ليزيلوا ويذهبوا يقال مكان دحض أي: مزل لا يثبت فيه قدم ولا حافر.
قوله تعالى: * (واتخذوا آياتي) * يعني القرآن * (وما أنذروا) * أي: خوفوا به من النار والقيامة
* (هزوا) * أي مهزوءا [به].
قوله تعالى: * (ومن أظلم) * قد شرحنا هذه الكلمة في البقرة و * (ذكر) * بمعنى: وعظ.
وآيات ربه: القرآن، وأعراضه عنها: تهاونه بها. * (ونسي ما قدمت يداه) * أي: ما سلف من ذنوبه؛
وقد شرحنا ما بعد هذا في الأنعام إلى قوله: * (وإن تدعهم إلى الهدى) * وهو: الإيمان والقرآن
* (فلن يهتدوا) * هذا اخبار عن علمه فيهم.
قوله تعالى: * (وربك الغفور ذو الرحمة) * إذ لم يعاجلهم بالعقوبة * (بل لهم موعد) * للبعث
والجزاء * (لن يجدوا من دونه موئلا) * قال الفراء: الموئل: المنجى، وهو الملجأ في المعنى، لأن
المنجي ملجأ، والعرب تقول: إنه ليوائل إلى موضعه، أي: يذهب إلى موضعه قال الشاعر:
لا واءلت الرحمن نفسك خليتها * للعامريين، ولم تكلم
يريد: لا نجت نفسك، وأنشد أبو عبيدة للأعشى:
وقد أخالس رب البيت غفلته * وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي: ما ينجو. وقال ابن قتيبة: الموئل: الملجأ يقال: وأل فلان إلى كذا: إذا لجأ.
فان قيل: ظاهر هذه الآية يقتضي أن تأخير العذاب عن الكفار برحمة الله، ومعلوم أنه لا
نصيب لهم في رحمته.
فعنه جوابان:
أحدهما: أن الرحمة هاهنا بمعنى النعمة ونعمة الله لا يخلو منها مؤمن ولا كافر. فأما
112

الرحمة التي هي الغفران والرضى، فليس للكافر فيها نصيب.
والثاني: أن رحمة الله محظورة على الكفار يوم القيامة، فأما في الدنيا، فإنهم ينالون منها
العافية والرزق.
قوله تعالى: * (وتلك القرى) * يريد: التي قصصنا عليكم ذكرها، والمراد: أهلها ولذلك قال:
* (أهلكناهم) * والمراد: قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب. قال الفراء: وقوله: * (لما ظلموا) *
معناه: بعدما ظلموا.
قوله تعالى: * (وجعلنا لمهلكهم) * قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام؛ قال الزجاج: وفيه
وجهان:
أحدهما: أن يكون مصدرا، فيكون المعنى: وجعلنا لإهلاكهم.
والثاني: أن يكون وقتا، فالمعنى: لوقت هلاكهم.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم واللام، وهو مصدر مثل الهلاك. وقرأ حفص عن عاصم
بفتح الميم وكسر اللام، ومعناه: لوقت اهلاكهم.
وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا " 60 " فلما بلغا مجمع
بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا " 61 " فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد
لقينا من سفرنا هذا نصبا " 62 " قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فاني نسيت الحوت
وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا " 63 " قال ذلك ما كنا
نبغ فارتدا على آثارهما قصصا " 64 " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه
من لدنا علما " 65 "
قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لفتاه...) *، الآية، سبب خروج موسى عليه السلام في هذا
السفر، ما روى ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل
، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله [تعالى] عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى
الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ
113

معك حوتا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم. فانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى
إذا أتيا الصخرة، وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب [أي الحوت] في المكتل فخرج منه فسقط في
البحر، فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق.
فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد
قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز
المكان الذي أمره الله به، فقال فتاه: * (أرأيت إذ أوينا) * إلى قوله: * (عجبا) *، قال: وكان للحوت
سربا، ولموسى ولفتاه عجبا، فقال موسى: * (ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصا) * قال: رجعا
يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى، فإذا هو مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر:
وأنى بأرضك السلام! من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم أتيتك لتعلمني
مما علمت رشدا، قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى، إني على علم من علم الله لا تعلمه
علمنيه، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه; فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا
أعصي لك أمرا; فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا;
فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير
نول; فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له
موسى: قوم قد حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها.... إلى قوله:
* (عسرا) *؟! قال:
وقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " كانت الأولى من موسى نسيانا " [قال] وجاء عصفور
فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك
من علم الله [عز وجل] إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما
هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه [بيده]
فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: * (أقتلت نفسا زاكية) * إلى قوله: * (يريد أن ينقض) * فقال الخضر بيده،
فأقامه، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا * (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) *! * (قال
هذا فراق بيني وبينك...) * الآية ". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين "،
وقد ذكرنا إسناده في كتاب " الحدائق " فآثرنا الاختصار هاهنا.
فأما التفسير، فقوله تعالى: * (وإذ قال موسى) * المعنى: واذكر ذلك. وفي موسى قولان:
أحدهما: أنه موسى بن عمران، قاله الأكثرون. ويدل عليه ما روي في " الصحيحين " من
حديث سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس هو
موسى صاحب الخضر، قال: كذب عدو الله، أخبرني أبي بن كعب.. فذكر الحديث الذي قدمناه آنفا.
114

والثاني: أنه موسى بن ميشا، قاله ابن إسحاق، وليس بشئ، للحديث الصحيح الذي ذكرناه
فأما فتاه فهو يوشع بن نون من غير خلاف. وإنما سمي فتاه، لأنه كان يلازمه، ويأخذ عنه العلم،
ويخدمه.
ومعنا لا أبرح: لا أزال. وليس المراد به: لا أزول، لأنه إذا لم يزل لم يقطع أرضا، فهو
مثل قولك: ما برحت أناظر عبد الله أي: ما زلت، قال الشاعر:
- إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة * وتحمل أخرى أفرحتك الودائع -
أي: أثقلتك، والمعنى: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، أي: ملتقاهما، وهو
الموضع الذي وعده الله بلقاء الخضر فيه، قال قتادة: بحر فارس، وبحر الروم، فبحر الروم نحو
المغرب، وبحر فارس نحو المشرق.
وفي اسم البلد الذي بمجمع البحرين قولان:
أحدهما: [أنه] إفريقية، قاله أبي بن كعب.
والثاني: طنجة، قاله محمد بن كعب القرظي.
وقوله تعالى: * (أو أمضي حقبا) * وقرأ أبو رزين، والحسن، وأبو مجلز، وقتادة، والجحدري،
وابن يعمر: " حقبا " باسكان الكاف. قال ابن قتيبة: الحقب: الدهر، والحقب: السنون، واحدتها
حقبة، ويقال: حقب وحقب كما يقال: قفل وقفل، وهزؤ وهزؤ، وكفؤ وكفؤ، وأكل وأكل،
وسحت وسحت، ورعب ورعب، ونكر ونكر، وأذن وأذن، وسحق وسحق، وبعد وبعد، وشغل
وشغل، وثلث وثلث، وعذر وعذر، ونذر ونذر، وعمر وعمر.
وللمفسرين في المراد بالحقب هاهنا ثمانية أقوال:
أحدها: أنه الدهر، قاله ابن عباس.
والثاني: ثمانون سنة، قاله عبد الله بن عمرو، وأبو هريرة.
والثالث: سبعون ألف سنة، قاله الحسن.
والرابع: سبعون سنة، قاله مجاهد.
والخامس: سبعة عشر ألف سنة، قاله مقاتل بن حيان.
والسادس: أنه ثمانون سنة، كل يوم ألف سنة من عدد الدنيا.
والسابع: أنه سنة بلغة قيس، ذكرهما الفراء.
والثامن: الحقب عند العرب وقت غير محدود، قاله أبو عبيدة. ومعنى الكلام: لا أزال
115

أسير، ولو احتجت ان أسير حقبا:
قوله تعالى: * (فلما بلغا) * يعني: موسى وفتاه * (مجمع بينهما) * يعني: البحرين * (نسيا
حوتهما) * وكانا قد تزودا حوتا مالحا في زبيل فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء، فلما انتهيا إلى
الصخرة على ساحل البحر وضع فتاه المكتل، فأصاب الحوت بلل البحر. وقيل: توضأ يوشع من
عين الحياة فانتضح على الحوت الماء، فعاش، فتحرك في المكتل، فانسرب في البحر، وقد كان
قيل لموسى: تزود حوتا مالحا، فإذا فقدته وجدت الرجل. وكان موسى حين ذهب الحوت في
البحر قد مضى لحاجة فعزم فتاه ان يخبره بما جرى ونسي وإنما قيل: " نسيا حوتهما " توسعا في
الكلام، لأنهما جميعا تزوداه، كما يقال: نسي القوم زادهم، وإنما نسيه أحدهم. قال الفراء: ومثله
قوله: * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * وإنما يخرج ذلك من المالح، لا من العذب. وقيل: نسي
يوشع أن يحمل الحوت، ونسي موسى أن يأمره فيه بشئ، فلذلك أضيف النسيان، إليهما.
قوله تعالى: * (فاتخذ سبيله في البحر سربا) * أي: مسلكا ومذهبا. قال ابن عباس: جعل
الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة. وقال قتادة: جعل لا يسلك طريقا إلا
صار الماء جامدا. وقد ذكرنا في حديث أبي بن كعب ان الماء صار مثل الطاق على الحوت.
قوله تعالى: * (فلما جاوزا) * ذلك المكان الذي ذهب فيه الحوت، أصابهما ما يصيب المسافر
من النصب، فدعا موسى بالطعام، فقال: * (آتنا غداءنا) * وهو الطعام الذي يؤكل بالغداة. والنصب.
الإعياء. وهذا يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من الأذى والتعب، ولا
يكون ذلك شكوى. * (قال) * يوشع لموسى * (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة) * أي: حين نزلنا هناك
* (فإني نسيت الحوت) * فيه قولان:
أحدهما: نسيت أن أخبرك خبر الحوت.
والثاني: نسيت حمل الحوت.
قوله تعالى: * (وما أنسانيه) * قرأ الكسائي: " أنسانيه " بإمالة السين [مع كسر الهاء]. وقرأ ابن
كثير: " أنسانيهي " بإثبات ياء في الوصل بعد الهاء وروى حفص عن عاصم: " أنسانيه إلا " بضم الهاء
قوله تعالى: * (واتخذ سبيله في البحر عجبا) * الهاء في السبيل ترجع إلى الحوت. وفي المتخذ
قولان:
أحدهما: أنه الحوت، ثم في المخبر عنه قولان:
أحدهما: أنه الله عز وجل، ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: فاتخذ سبيله في البحر يرى عجبا، ويحدث عجبا.
116

والثاني: أنه لما قال الله تعالى: * (واتخذ سبيله في البحر) *، قال: اعجبوا لذلك عجبا،
وتنبهوا لهذه الآية.
والثالث: أن إخبار الله تعالى انقطع عند قوله: " في البحر " فقال موسى: عجبا، لما شوهد
من الحوت. ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.
والثاني: أن المخبر عن الحوت يوشع، وصف لموسى ما فعل الحوت.
والقول الثاني: أن المتخذ موسى، اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا، فدخل في المكان
الذي مر فيه الحوت، فرأى الخضر. وروى عطية عن ابن عباس قال: رجع موسى إلى الصخرة
فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر، ويتبعه موسى، حتى انتهى به إلى جزيرة من جزائر
البحر، فلقي الخضر.
قوله تعالى: (قال) يعني: موسى * (ذلك ما كنا نبغي) * أي: ذلك الذي نطلب من العلامة
الدالة على مطلوبنا. قرأ ابن كثير; " نبغي " بياء في الوصل والوقف. وقرأ نافع، وأبو عمرو،
والكسائي، بياء في الوقف. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، بحذف الياء في الحالين.
قوله تعالى: * (فارتدا على آثارهما) * قال الزجاج: أي: رجعا في الطريق الذي سلكاه،
يقصان الأثر. والقصص: اتباع الأثر.
قوله تعالى: * (فوجدا عبدا من عبادنا) * يعني: الخضر.
وفي اسمه أربعة أقوال:
أحدها: اليسع، قاله وهب، ومقاتل.
والثاني: الخضر بن عاميا.
والثالث: أرميا بن حلقيا، ذكرهما ابن المنادي:
والرابع: يلياء بن ملكان، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
فأما تسميته بالخضر، ففيه قولان:
أحدهما: أنه جلس في فروة بيضاء فاخضرت، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والفروة:
الأرض اليابسة.
والثاني: أنه كان إذا جلس اخضر ما حوله، قاله عكرمة. وقال مجاهد: كان إذا صلى أخضر
ما حوله. وهل كان الخضر نبيا، أم لا؟ فيه قولان: ذكرهما أبو بكر بن الأنباري، وقال: كثير من
117

الناس يذهب إلى أنه كان نبيا، وبعضهم يقول: كان عبدا صالحا. واختلف العلماء هل هو باق إلى
يومنا هذا، على قولين حكاهما الماوردي، وكان الحسن يذهب إلى أنه مات، وكذلك كان ابن
المنادي من أصحابنا يقول، ويقبح قول من يرى بقاءه، ويقول: لا يثبت حديث في بقائه. وروى أبو
بكر النقاش أن محمد بن إسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال:
كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض
أحد "؟!.
قوله تعالى: * (آتينا رحمة من عندنا) * في هذه الرحمة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها النبوة، قاله مقاتل.
والثاني: الرقة والحنو على من يستحقه، ذكره ابن الأنباري.
والثالث: النعمة، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: * (وعلمناه من لدنا) * أي: من عندنا * (علما) * قال ابن عباس: أعطاه علما من
علم الغيب.
قاله موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا " 66 " قال إنك لن تستطيع
معي صبرا " 67 " وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " 68 " قال ستجدني إن شاء الله
صابرا ولا أعصي لك أمرا " 69 "
قوله تعالى: * (أن تعلمني) * قرأ ابن كثير: " تعلمني مما " بإثبات الياء في الوصل والوقف.
وقرأ نافع، وأبو عمرو بياء في الوصل. وقرأ ابن عامر، وعاصم بحذف الياء في الحالين.
قوله تعالى: * (مما علمت رشدا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
" رشدا " بضم الراء، خفيفة. وقرأ أبو عمرو: " رشدا " بفتح الراء والشين. وعن ابن عامر
بضمهما. والرشد، والرشد: لغتان، كالنخل والبخل، والعجم والعجم، والعرب والعرب،
والمعنى: أن تعلمني علما ذا رشد. وهذه القصة قد حرضت على الرحلة في طلب العلم، واتباع
المفضول للفاضل طلبا للفضل، وحثت على الأدب والتواضع للمصحوب.
قوله تعالى: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) * قال ابن عباس: لن تصبر على صنعي، لأني
علمت من غيب علم ربي.
118

وفي هذا الصبر وجهان:
أحدهما: على الإنكار. والثاني: عن السؤال.
قوله تعالى: * (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) * الخبر: علمك بالشيء; والمعنى:
كيف تصبر على أمر ظاهره منكر، وأنت لا تعلم باطنه؟!
قوله تعالى: * (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا) * قال ابن الأنباري: نفي
العصيان منسوق على الصبر. والمعنى: ستجدني صابرا ولا أعصي إن شاء الله.
قال فإن اتبعتني فلا تسئلني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا " 70 " فانطلقا حتى
إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا " 71 " قال ألم
أقل إنك لن تستطيع معي صبرا " 72 " قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري
عسرا " 73 " فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت
شيئا نكرا " 74 " قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " 75 " قال إن سألتك عن
شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا " 76 " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل
قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت
لتخذت عليه أجرا " 77 " قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطيع عليه صبرا " 78 "
قوله تعالى: * (فلا تسألني) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: " فلا
تسألني " ساكنة اللام. وقرأ نافع: " تسألني " مفتوحة اللام مشددة النون. وقرأ ابن عامر في رواية
الداجوني: " فلا تسألن عن شئ " بتحريك اللام من غير ياء، والنون مكسورة. والمعنى: لا تسألني
عن شئ مما أفعله * (حتى أحدث لك منه ذكرا) * أي: حتى أكون أنا الذي أبينه لك، لأن علمه قد
غاب عنك.
قوله تعالى: * (خرقها) * أي: شقها. قال المفسرون: قلع منها لوحا، وقيل: لوحين مما يلي
الماء، فحشاها موسى بثوبه وأنكر عليه ما فعل بقوله: * (أخرقتها لتغرق أهلها) * قرأ ابن كثير،
ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: لتغرق بالتاء أهلها بالنصب. وقرأ حمزة، والكسائي:
119

ليغرق أهلها برفع اللام.
[قوله]: * (لقد جئت شيئا إمرا) * وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: منكرا، قاله مجاهد. وقال الزجاج: عظيما من المنكر.
والثاني: عجبا، قاله قتادة، وابن قتيبة.
والثالث: داهية، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: * (لا تؤاخذني بما نسيت) * في هذا النسيان ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على حقيقته، وأنه نسي، روى ابن عباس عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] " أن الأولى
كانت نسيانا من موسى ".
والثاني: أنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، قاله أبي بن كعب، وابن عباس.
والثالث: أنه بمعنى الترك. فالمعنى: لا تؤاخذني بما تركته مما عاهدتك عليه، ذكره ابن
الأنباري.
قوله تعالى: * (ولا ترهقني) * قال الفراء: لا تعجلني. وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج:
لا تغشني. قال أبو زيد: يقال: أرهقته عسرا: إذا كلفته ذلك. قال الزجاج: والمعنى: عاملني
باليسر، لا بالعسر.
قوله تعالى: * (فانطلقا) * يعني: موسى والخضر. قال الماوردي: يحتمل أن يوشع تأخر
عنهما، لأن الإخبار عن اثنين، ويحتمل أن يكون معهما ولم يذكر لأنه تبع لموسى، فاقتصر على
حكم المتبوع.
قوله تعالى: * (حتى إذا لقيا غلاما) * اختلفوا في هذا الغلام هل كان بالغا أم لا؟ على
قولين:
أحدهما: أنه لم يكن بالغا، قاله ابن عباس، ومجاهد، والأكثرون.
والثاني: أنه كان شبابا قد قبض على لحيته، حكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا، واحتج بأن
غير البالغ لم يجر عليه قلم، فلا يستحب القتل. وقد يسمى الرجل غلاما، قالت ليلي الأخيلية تمدح
الحجاج:
شفاها من الداء العضال الذي بها
وفي صفة قتله له ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اقتلع رأسه، وقد ذكرناه في حديث أبي.
والثاني: كسر عنقه، قاله ابن عباس.
120

والثالث: أضجعه وذبحه بالسكين، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: * (أقتلت نفسا زاكية) * قرأ الكوفيون، وابن عامر: " زكية " بغير ألف، والياء
مشددة. وقرأ الباقون بالألف من غير تشديد. قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وهما بمنزلة
القاسية، والقسية.
وللمفسرين فيها ستة أقوال:
أحدها: أنها التائبة، روي عن ابن عباس أنه قال: الزكية: التائبة، وبه قال الضحاك.
والثاني: أنها المسلمة، روي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: أنها الزكية التي لم تبلغ الخطايا، قاله سعيد بن جبير.
والرابع: أنها الزكية النامية، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري: القويمة في تزكيتها.
والخامس: أن الزكية: المطهرة، قاله أبو عبيدة.
والسادس: أن الزكية: البريئة التي لم يظهر ما يوجب قتلها، قاله الزجاج.
وقد فرق بعضهم بين الزاكية، والزكية، فروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: الزاكية: التي لم تذنب
قط، والزكية: التي أذنبت ثم تابت. وروي عن أبي عبيدة أنه قال: الزاكية في البدن، والزكية في الدين.
قوله تعالى: * (بغير نفس) * أي: بغير قتل نفس * (لقد جئت شيئا نكرا) * قرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، وحمزة، والكسائي: نكرا خفيفة في كل القرآن، إلا قوله: * (إلى شئ نكر) * وخفف ابن
كثير أيضا " إلى شئ نكر ". وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: " نكرا " و " إلى شئ نكر ".
مثقل. والمخفف إنما هو من المثقل، كالعنق، والعنق، النكر، والنكر. قال الزجاج: والمعنى 6
لقد أتيت شيئا نكرا. ويجوز أن يكون معناه: جئت بشئ نكر، فلما حذف الباء، أفضى الفعل
فنصب نكرا، أقل منكرا من قوله: " إمرا " لأن تغريق من في السفينة كان عنده أنكر من قتل نفس
واحدة.
قوله تعالى: * (قال ألم أقل لك) *.
إن قيل: لم ذكر * (لك) * هاهنا، واحترز له من الموضع الذي قبله؟
فالجواب: أن إثباته للتوكيد، واحترز له لوضوح المعنى، وكلاهما معروف عند الفصحاء.
تقول العرب: قد قلت لك: اتق الله. وقد قلت لك: يا فلان اتق الله، وأنشد ثعلب:
- قد كنت حذرتك آل المصطلق * وقلت: يا هذا أطعني وانطلق -
121

فقوله: يا هذا، توكيد لا يختل الكلام بسقوطه. وسمعت الشيخ أبا محمد الخشاب يقول:
وقره في الأول، فلم يواجهه بكاف الخطاب، فلما خالف في الثاني، واجهه بها.
قوله تعالى: * (إن سألتك عن شئ) * أي: سؤال توبيخ وإنكار * (بعدها) * أي: بعد هذه
المسألة * (فلا تصاحبني) * وقرأ كذلك معاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو المتوكل، والأعرج، إلا أنهم
شددوا النون. قال الزجاج: ومعناه: إن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك. وقرأ أبي بن كعب،
وابن أبي عبلة، ويعقوب: " لا تصحبني " بفتح التاء من غير ألف. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية،
والأعمش كذلك، إلا أنهم شددوا النون. وقرأ أبو رجاء، وأبو عثمان النهدي، والنخعي،
والجحدري: " تصحبني " بضم التاء، وكسر الحاء، وسكون الصاد والباء. قال الزجاج: فيهما
وجهان:
أحدهما: لا تتابعني في شئ ألتمسه منك. يقال: قد أصحب المهر: إذا انقاد.
والثاني: لا تصحبني علما من علمك.
* (قد بلغت من لدني) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " من
لدني " مثقل. وقرأ نافع: " من لدني " بضم الدال مع تخفيف النون. وروى أبو بكر عن عاصم:
" من لدني " بفتح اللام مع تسكين الدال. وفي رواية أخرى عن عاصم: " لدني " بضم اللام
وتسكين الدال. قال الزجاج: وأجودها تشديد النون، لأن أصل " لدن " الإسكان، فإذا أضفتها إلى
نفسك زدت نونا، ليسلم سكون النون الأولى، تقول: من لدن زيد، فتسكن النون ثم تضيف إلى
نفسك، فتقول: من لدني، كما تقول: عن زيد وعني. فأما إسكان دال " لدني " فإنهم أسكنوها،
كما تقول في عضد: عضد، فيحذفون الضم. قال ابن عباس: يريد: إنك قد أعذرت فيما بيني
وبينك، يعني: أنك قد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبرا.
قوله تعالى: * (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية) * فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها أنطاكية، قاله ابن عباس.
والثاني: الأبلة، قاله ابن سيرين.
والثالث: باجروان، قاله مقاتل.
قوله تعالى: * (استطعما أهلها) * أي: سألاهم الضيافة * (فأبوا أن يضيفوهما) * روى المفضل
عن عاصم: " يضيفوهما " بضم الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية. وقرأ أبو الجوزاء
كذلك، إلا أنه فتح الياء الأولى وقرأ الباقون: " يضيفوها " بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها.
قال أبو عبيدة: ومعنى يضيفوهما: ينزلوهما منزل الأضياف، يقال: ضفت أنا، وأضافني الذي
122

ينزلني. وقال الزجاج: يقال: ضفت الرجل: إذا نزلت عليه، وأضفته: إذا أنزلته وقريته. وقال ابن
قتيبة: يقال: ضيفت الرجل: إذا أنزلته منزلة الأضياف، ومنه هذه الآية، وأضفته: أنزلته، وضفته:
نزلت عليه. وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كانوا أهل قرية لئاما ".
قوله تعالى: * (فوجدا فيها جدارا) * أي: حائطا. قال ابن فارس: وجمعه جدر، والجدر:
أصل الحائط. ومنه حديث الزبير: " ثم دع الماء يرجع إلى الجدر "، والجيدر: القصير.
قوله تعالى: * (يريد أن ينقض) * وقرأ أبي بن كعب، وأبو رجاء: " ينقاض " بألف ممدودة،
وضاد معجمة; وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: " ينقاص " بألف ومدة وصاد غير
معجمة، وكله بلا تشديد. قال الزجاج: فمعنى: ينقض: يسقط بسرعة، وينقاص، غير معجمة:
ينشق طولا، يقال: انقاصت سنة: إذا انشقت. قال ابن مقسم: انقاصت سنه، وانقاضت -
بالصاد، والضاد - على معنى واحد.
فإن قيل: كيف نسبت الإرادة إلى مالا يعقل؟
فالجواب: أن هذا على وجه المجاز تشبيها بمن يعقل، ويريد: لأن هيئته في التهيؤ للوقوع قد
ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين، فوصف بالإرادة إذ كانت الصورتان واحدة، وقد
أضافت العرب الأفعال إلى مالا يعقل تجوزا، قال الله عز وجل: * (ولما سكت عن موسى
الغضب) * والغضب لا يسكت، وإنما يسكت صاحبه، وقال: * (فإذا عزم الأمر) *.
وأنشدوا من ذلك:
- إن دهرا يلف شملي بجمل * لزمان يهم بالإحسان -
قال آخر:
- ضحكوا والدهر عنهم ساكت * ثم أبكاهم دما لما نطق -
وقال آخر:
- يريد الرمح صدر أبي براء * ويرغب عن دماء بني عقيل -
وقال آخر:
يشكو إلي جملي طول السرى
وهذا كثير في أشعارهم.
123

قوله تعالى: * (فأقامه) * أي: سواه، لأنه وجده مائلا.
وفي كيفية ما فعل قولان:
أحدهما: أنه دفعه بيده فقام.
والثاني: هدمه ثم قعد يبنيه، روي القولان عن ابن عباس.
قوله تعالى: * (لو شئت لتخذت عليه أجرا) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " لتخذت " بكسر
الخاء، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال، ابن كثير يظهرها. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر،
وحمزة، والكسائي: " لاتخذت " وكلهم أدغموا، إلا حفصا عن عاصم، فإنه لم يدغم مثل ابن
كثير. قال الزجاج: يقال: تخذ يتخذ في معنى: اتخذ يتخذ. وإنما قال له هذا، لأنهم لم
يضيفوهما.
قوله تعالى: * (قال) * يعني: الخضر * (هذا) * يعني: الإنكار علي * (فراق بيني وبينك) *
أي: هو المفرق بيننا. قال الزجاج: المعنى: هذا فراق بيننا، أي: فراق اتصالنا، وكرر " بين "
توكيدا، ومثله في الكلام: أخزى الله الكاذب مني ومنك. وقرأ أبو رزين، وابن السميفع، وأبو
العالية، وابن أبي عبلة: " هذا فراق " بالتنوين " بيني وبينك " بنصب النون. قال ابن عباس: كان
قول موسى في السفينة والغلام، لربه، وكان قوله في الجدار، لنفسه، لطلب شئ من الدنيا.
أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ
كل سفينة غصبا " 79 " وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا " 80 "
فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما " 81 " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين
في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا
كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " 82 "
قوله تعالى: * (فكانت لمساكين) * في المراد بمسكنتهم قولان:
أحدهما: أنهم كانوا ضعفاء في أكسابهم.
والثاني: في أبدانهم. وقال كعب: كانت لعشرة إخوة، خمسة زمني، وخمسة يعلمون في
البحر.
124

قوله تعالى: * (فأردت أن أعيبها) * أي: أجعلها ذات عيب، يعني بخرقها، * (وكان وراءهم) *
فيه قولان:
أحدهما: أمامهم، قاله ابن عباس، وقتادة، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقرأ أبي بن كعب، وابن
مسعود: " وكان أمامهم ملك ".
والثاني: خلفهم; قال الزجاج: وهو أجود الوجهين. فيجوز أن يكون رجوعهم في طريقهم
كان عليه، ولم يعلموا بخبره، فأعلم الله تعالى الخضر خبره.
قوله تعالى: * (يأخذ كل سفينة غصبا) * أي: كل سفينة صالحة. وفي قراءة أبي بن كعب:
" كل سفينة صحيحة " قال الخضر: إنما خرقتها، لأن الملك إذا رآها منخرقة تركها ورقعها أهلها
فانتفعوا بها.
قوله تعالى: * (وأما الغلام) * روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: " وأما الغلام فكان كافرا ".
وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا، ولو عاش
لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ". قال الربيع بن أنس: كان الغلام على الطريق لا يمر به أحد إلا قتله أو
غصبه، فيدعو ذلك عليه وعلى أبويه. وقال ابن السائب: كان الغلام لصا، فإذا جاء من يطلبه حلف
أبواه أنه لم يفعل.
قوله تعالى: * (فخشينا) * في القائل لهذا قولان 6
أحدهما: الله عز وجل. ثم في معنى الخشية المضافة إليه قولان: أحدهما: أنها بمعنى: العلم.
قال الفراء: معناه: فعلمنا. والثاني: الكراهة، قاله الأخفش، والزجاج، وقال ابن عقيل: المعني: فعلنا
فعل الخاشي.
والثاني: أنه الخضر، فتكون الخشية بمعنى الخوف للأمر المتوهم، قاله ابن الأنباري. وقد
استدل بعضهم على أنه من كلام الخضر بقوله: * (فأردنا أن يبدلهما ربهما) *. قال الزجاج:
المعنى: فأراد الله، لأن لفظ الخبر عن الله تعالى هكذا أكثر من أن يحصى. ومعنى * (يرهقهما) *:
يحملهما على الرهق، وهو الجهل. قال أبو عبيدة: " يرهقهما ": يغشيهما. قال سعيد بن جبير:
خشينا أن يحملهما حبه على أن يدخلا في دينه. وقال الزجاج: فرحا به حين ولد، وحزنا عليه حين
قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فرضي امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره، خير له
من قضائه.
قوله تعالى: * (فأردنا أن يبدلهما ربهما) * قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: " أن يبدلهما "
125

بالتخفيف. وقرأ نافع، وأبو عمرو بالتشديد.
قوله تعالى: * (خيرا منه زكاة) * فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: دينا، قاله ابن عباس.
والثاني: عملا، قاله مقاتل.
والثالث: صلاحا، قاله الفراء.
قوله تعالى: * (وأقرب رحما) * قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: " رحما "
ساكنة الحاء، وقرأ ابن عامر: " رحما " مثقلة. وعن أبي عمرو كالقراءتين. وقرأ ابن عباس، وابن
جبير، وأبو رجاء: " رحما " بفتح الراء، وكسر الحاء.
وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: أوصل للرحم وأبر للوالدين، قاله ابن عباس، وقتادة. وقال الزجاج: أقرب عطفا
وأمس بالقرابة. ومعنى الرحم والرحم في اللغة: العطف والرحمة، قال الشاعر:
- وكيف بظلم جارية * ومنها اللين والرحم -
والثاني: أقرب أن يرحما به، قاله الفراء. وفيما بدلا به قولان:
أحدهما: جارية، قاله الأكثرون. وروى عطاء عن ابن عباس، قال: أبدلهما به جارية
ولدت سبعين نبيا.
والثاني: غلام مسلم، قاله ابن جريج.
قوله تعالى: * (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) * يعني: القرية المذكورة في
قوله تعالى: * (أتيا أهل قرية) *، قال مقاتل: واسمهما: أصرم، وصريم.
قوله تعالى: * (وكان تحته كنز لهما) * فيه ثلاثة أقوال 6
أحدها: أنه كان ذهبا وفضة، رواه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن، وعكرمة،
وقتادة: كان مالا.
والثاني: أنه كان لوحا من ذهب، فيه مكتوب: عجبا لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجبا
لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبا لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبا لمن يوقن بالرزق كيف
يتعب، عجبا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن
إليها، أنا الله الذي لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي; وفي الشق الآخر: أنا الله لا إله إلا أنا
وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل
126

لمن خلقته للشر وأجريته على يديه، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن الأنباري: فسمي كنزا من
جهة الذهب، وجعل اسمه هو المغلب.
والثالث: كنز علم، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: صحف فيها علم وبه قال
سعيد بن جبير، والسدي. قال ابن الأنباري: فيكون المعنى على هذا القول: كان تحته مثل
الكنز، لأنه يتعجل من نفعه أفضل مما ينال من الأموال. قال الزجاج: والمعروف في اللغة: أن
الكنز إذا أفرد، فمعناه: المال المدفون المدخر، فإذا لم يكن المال، قيل: عنده كنز علم، وله
كنز فهم، والكنز هاهنا بالمال أشبه، وجائز أن يكون الكنز كان مالا، مكتوب فيه علم، على ما
روي، فهو مال وعلم عظيم.
قوله تعالى: * (وكان أبوهما صالحا) * قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما
صلاحا. وقال جعفر بن محمد: كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء. وقال مقاتل: كان
أبوهما ذا أمانة.
قوله تعالى: * (فأراد ربك) * قال ابن الأنباري: لما كان قوله: " فأردت " " وأردنا " كل
واحد منهما يصلح أن يكون خبرا عن الله عز وجل، وعن الخضر، أتبعهما بما يحصر الإرادة
عليه، ويزيلها عن غيره، ويكشف البغية من اللفظتين الأولين. وإنما قال: " فأردت " " فأردنا "
" فأراد ربك "، لأن العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتفاقه مع تساوي المعاني، لأنه أعذب على
الألسن، وأحسن موقعا في الأسماع، فيقول الرجل: قال لي فلان كذا، وأنبأني بما كان، وخبرني
بما نال. فأما " الأشد " فقد سبق ذكره في مواضع. ولو أن الخضر لم يقل الحائط لنقض وأخذ
ذلك الكنز قبل بلوغهما.
قوله تعالى: * (رحمة من ربك) * أي: رحمهما الله بذلك. * (وما فعلته عن أمري) * قال
قتادة: كان عبدا مأمورا.
فأما قوله: * (تسطع) * فان " استطاع " و " اسطاع " بمعنى واحد
ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا " 83 " إنا مكنا له في الأرض وآتيناه
من كل شئ سببا " 84 " فأتبع سببا " 85 " حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين
حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " 86 " قال
127

أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا " 87 " وأما من آمن وعمل
صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا " 88 "
قوله تعالى: * (ويسألونك عن ذي القرنين) * قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى:
* (ويسألونك عن الروح) *.
واختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال:
أحدها: عبد الله، قاله علي رضي الله عنه، وروي عن ابن عباس أنه عبد الله بن
الضحاك.
والثاني: الإسكندر، قاله وهب.
والثالث: عياش، قاله محمد بن علي بن الحسين.
والرابع: الصعب بن جابر بن القلمس، ذكره ابن أبي خيثمة.
وفي علة تسميته بذي القرنين عشرة أقوال:
أحدها: أنه دعا قومه إلى الله تعالى، فضربوه على قرنه فهلك، فغبر زمانا، ثم بعثه الله
فدعاهم إلى الله فضربوه على قرنه الآخر فهلك، فذانك قرناه، قاله علي رضي الله عنه.
والثاني: أنه سمي بذي القرنين، لأنه سار إلى مغرب الشمس وإلى مطلعها، رواه أبو صالح
عن ابن عباس.
والثالث: لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس.
والرابع: لأنه رأى في المنام كأنه امتد من السماء إلى الأرض وأخذ بقرني الشمس، فقص
ذلك على قومه، فسمي بذي القرنين.
الخامس: لأنه ملك الروم وفارس.
والسادس: لأنه كان في رأسه شبه القرنين، رويت هذه الأقوال الأربعة عن وهب بن منبه.
والسابع: لأنه كانت له غديرتان من شعر، قاله الحسن. قال ابن الأنباري: والعرب تسمي
الضفيرتين من الشعر غديرتين، وجميرتين، وقرنين; قال: ومن قال: سمي بذلك لأنه ملك فارس
والروم، قال: لأنهما عاليان على جانبين من الأرض يقال لهما: قرنان.
والثامن: لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت ذوي شرف.
والتاسع: لأنه انقرض في زمانه قرنان من الناس، وهو حي.
والعاشر: لأنه سلك الظلمة والنور، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو إسحاق الثعلبي.
128

واختلفوا هل كان نبيا، أم لا؟ على قولين.
أحدهما: أنه كان نبيا، قاله عبد الله بن عمرو، والضحاك بن مزاحم.
والثاني: أنه كان عبدا صالحا، ولم يكن نبيا، ولا ملكا، قاله على رضي الله تعالى عنه. وقال
وهب: كان ملكا، ولم يوح إليه.
وفي زمان كونه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من القرون الأول من ولد يافث بن نوح، قاله علي رضي الله تعالى عنه.
والثاني: أنه كان بعد ثمود، قاله الحسن. ويقال: كان عمره ألفا وستمائة سنة.
والثالث: [أنه] كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، قاله وهب.
قوله تعالى: * (سأتلو عليكم منه ذكرا) * أي: خبرا يتضمن ذكره. * (إنا مكنا له في
الأرض) * أي: سهلنا عليه السير فيها. قال علي رضي الله عنه: إنه أطاع الله، فسخر له
السحاب فحمله عليه، ومد له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء، وقال
مجاهد: ملك الأرض أربعة: مؤمنان، وكافران; فالمؤمنان: سليمان بن داود، وذو القرنين;
والكافران: النمرود، وبخت نصر.
قوله تعالى: * (وآتيناه من كل شئ سببا) * قال ابن عباس: علما يتسبب به إلى ما يريد.
وقيل: هو العلم بالطرق والمسالك.
قوله تعالى: * (فاتبع سببا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " فاتبع سببا " " ثم اتبع
سببا " " ثم اتبع سببا " مشددات التاء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " " فأتبع
سببا " " ثم أتبع سببا " مقطوعات. قال ابن الأنباري: من قرأ " فاتبع سببا " فمعناه: قفا الأثر،
ومن قرأ " فأتبع " فمعناه: لحق; يقال: اتبعني فلان، أي: تبعني، كما يقال: ألحقني،
بمعنى: لحقني. وقال أبو علي: " أتبع " تقديره: أتبع سببا سببا، فأتبع ما هو عليه سببا،
والسبب: الطريق، والمعنى: تبع طريقا يؤديه إلى مغرب الشمس. وكان إذا ظهر على قوم أخذ
منهم جيشا فسار بهم إلى غيرهم.
قوله تعالى: * (وجدها تغرب في عين حمئة) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص
عن عاصم: " حمئة "، وهي قراءة ابن عباس. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن
عاصم: " حامية "، وهي قراءة عمرو، وعلي، وابن مسعود، وابن الزبير، ومعاوية، وأبي عبد
الرحمن، والحسن، وعكرمة، والنخعي، وقتادة، وأبي جعفر، وشيبة، وابن محيصن،
والأعمش، كلهم لم يهمز. قال الزجاج: فمن قرأ: " حمئة " أراد في عين ذات حمأة. يقال:
حمأت البئر: إذا أخرجت حمأتها; وأحمأتها: إذا ألقيت فيها الحمأة. وحمئت فهي حمئة: إذا
129

صارت فيها الحمأة. ومن قرأ: " حامية " بغير همز; أراد: حارة. وقد تكون حارة ذات حمأة.
وروى قتادة عن الحسن، قال: وجدها تغرب في ماء يغلي كغليان القدور * (ووجد عندها قوما) *
لباسهم جلود السباع، وليس لهم طعام إلا ما أحرقت الشمس من الدواب إذا غربت نحوها، وما
لفظت العين من الحيتان إذا وقعت فيها الشمس. وقال ابن السائب: وجد عندها قوما مؤمنين
وكافرين، يعني عند العين. وربما توهم متوهم أن هذه الشمس على عظم قدرها تغوص بذاتها في
عين ماء، وليس كذلك. فإنها أكبر من الدنيا مرارا، فكيف يسعها عين وإنما وجدها تغرب في العين كما
يرى راكب البحر الذي لا يرى طرفه أن الشمس تغيب في الماء، وذلك لأن ذا القرنين انتهى إلى
آخر البنيان فوجد عينا حمئة ليس بعدها أحد.
قوله تعالى: * (قلنا يا ذا القرنين) * فمن قال: إنه نبي، قال: هذا القول وحي; ومن قال:
ليس بنبي، قال: هذا إلهام.
قوله تعالى: * (إما أن تعذب) * قال المفسرون: إما أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليهم،
وإما أن تأسرهم، فتبصرهم الرشد. * (قال أما من ظلم) * أي: أشرك * (فسوف نعذبه) * بالقتل إذا
لم يرجع عن الشرك. وقال الحسن: كان يطبخهم في القدور، * (ثم يرد إلى ربه) * بعد العذاب
* (فيعذبه عذابا نكرا) *.
قوله تعالى: * (فله جزاء الحسنى) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر
عن عاصم: " جزاء الحسنى " برفع مضاف. قال الفراء: " الحسنى " الجنة، وأضيف الجزاء
إليها، وهي الجزاء، كقوله: * (إنه لحق اليقين) * * (ودين القيمة) * * (ولدار الآخرة) * قال
أبو علي الفارسي: المعنى: فله جزاء الخلال الحسنى، لأن الإيمان والعمل الصالح خلال. وقرأ
حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، ويعقوب: " جزاء " بالنصب والتنوين; قال
الزجاج: وهو مصدر منصوب على الحال، المعنى: فله الحسنى مجزيا بها جزاء. قال ابن
الأنباري: وقد يكون الجزاء غير الحسنى إذا تأول الجزاء بأنه الثواب; والحسنى: الحسنة
المكتسبة في الدنيا، فيكون المعنى: فله ثواب ما قدم من الحسنات.
قوله تعالى: * (وسنقول له من أمرنا يسرا) * أي: نقول له قولا جميلا.
ثم اتبع سببا " 89 " حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم
130

من دونها سترا " 90 " كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا " 91 "
قوله تعالى: * (ثم اتبع سببا) * أي: طريقا آخر يوصله إلى المشرق. قال قتادة: مضى يفتح
المدائن ويجمع الكنوز ويقتل الرجال إلا من آمن حتى أتى مطلع الشمس فأصاب قوما في أسراب
عراة، ليس لهم طعام إلا ما أحرقت الشمس إذا طلعت، فإذا توسطت السماء خرجوا من أسرابهم
في طلب معايشهم مما أحرقته الشمس. وبلغنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليه بنيان، فيقال:
إنهم الزنج. وقال الحسن: إذا غربت الشمس خرجوا يتراعون كما يتراعى الوحش. وقرأ
الحسن، ومجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محيصن: " مطلع الشمس " بفتح اللام. قال
ابن الأنباري: ولا خلاف بين أهل العربية في أن المطلع، والمطلع كلاهما يعنى بهما المكان الذي
تطلع منه الشمس. ويقولون: ما كان على فعل يفعل، فالمصدر واسم الموضع يأتيان على
المفعل، كقولهم: المدخل، للدخول، والموضع الذي يدخل منه، إلا أحد عشر حرفا جاءت
مكسورة إذا أريد بها الموضع، وهي: المطلع، والمسكن، والمنسك، والمشرق، والمغرب،
والمسجد، والمنبت، والمجزر، والمفرق، والمسقط، الموضع الذي تضع فيه
الناقة; وخمسة من هؤلاء الأحد عشر حرفا سمع فيهن الكسر والفتح: المطلع، والمطلع.
المنسك، والمنسك. والمجزر، والمجزر. والمسكن، والمسكن. والمنبت، والمنبت; فقرا
الحسن على الأصل من احتمال المفعل الوجهين الموصوفين، وقراءة العامة على اختيار العرب وما
كثر على ألسنتها، وخصت الموضع بالكسر، وآثرت المصدر بالفتح. قال أبو عمرو: المطلع،
بالكسر: الموضع الذي تطلع فيه; والمطلع، بالفتح: الطلوع; قال ابن الأنباري: هذا هو
الأصل، ثم إن العرب تتسع فتجعل الاسم نائبا عن المصدر، فيقرؤون: * (حتى مطلع الفجر) *
بالكسر وهم يعنون الطلوع; ويقرأ من قرأ * (مطلع الشمس) * بالفتح على أنه موضع بمنزلة المدخل
الذي هو اسم للموضع الذي يدخل منه.
قوله تعالى: * (كذلك) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها.
والثاني: أتبع سببا كما أتبع سببا.
والثالث: كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم، كذلك وجد هؤلاء عند مطلعها
وحكم فيهم.
والرابع: أن المعنى: كذلك أمرهم كما قصصنا عليك; ثم استأنف فقال: * (وقد أحطنا
131

بما لديه) * أي: بما عنده ومعه من الجيوش والعدد. وحكى أبو سليمان الدمشقي: " بما لديه "
أي: بما عند مطلع الشمس. وقد سبق معنى الخبر.
ثم أتبع سببا " 92 " حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون
قولا " 93 " قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك
خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا " 94 " قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة
أجمل بينكم وبينهم ردما " 95 " آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا
حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا " 96 " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا
له نقبا " 97 " قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا " 98 "
قوله تعالى: * (ثم أتبع سببا) * أي: طريقا ثالثا بين المشرق والمغرب * (حتى إذا بلغ بين
السدين) * قال وهب بن منبه: هما جبلان منيفان في السماء، من ورائهما البحر، ومن أمامهما
البلدان، وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي بلاد أرمينية. وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس
قال: الجبلان من قبل أرمينية وأذربيجان. واختلف القراء في " السدين " فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو،
وحفص عن عاصم بفتح السين. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة، والكسائي
بضمها.
وهل المعنى واحد، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه واحد. قال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فسد ما وراءه، فهو سد، وسد، نحو:
الضعف والضعف، والفقر والفقر. قال الكسائي، وثعلب: السد والسد لغتان بمعنى واحد، وهذا
مذهب الزجاج.
والثاني: أنهما يختلفان.
وفي الفرق بينهما قولان.
أحدهما: أن ما هو من فعل الله تعالى فهو مضموم، وما هو ما من فعل الآدميين فهو مفتوح، قاله
132

ابن عباس، وعكرمة، وأبو عبيدة. قال الفراء: وعلى هذا رأيت المشيخة وأهل العلم من النحويين.
والثاني: أن السد، بفتح السين: الحاجز بين الشيئين، والسد، بضمها: الغشاوة في العين،
قاله أبو عمرو بن العلاء.
قوله تعالى; * (وجد من دونهما) * يعني: أمام السد * (قوما لا يكادون يفقهون قولا) * قرأ ابن
كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: " يفقهون " بفتح الياء، أي: لا يكادون يفهمونه. قال
ابن الأنباري: كقوله تعالى: * (وما كادوا يفعلون) *. قال المفسرون: وإن كانوا كذلك لأنهم لا
يعرفون غير لغتهم وقرأ حمزة، والكسائي: " يفقهون " بضم الياء، أراد: يفهمون غيرهم. وقيل: كلم
ذا القرنين عنهم مترجمون ترجموا.
قوله تعالى: * (إن يأجوج ومأجوج) * هما: اسمان أعجميان، وقد همزهما عاصم. قال
الليث: الهمز لغة رديئة. قال ابن عباس: يأجوج رجل، ومأجوج رجل، وهما ابنا يافث بن نوح عليه
السلام، فيأجوج ومأجوج عشرة أجزاء، وولد آدم كلهم جزء، وهم شبر وشبران وثلاثة أشبار. وقال
علي رضي الله عنه: منهم من طوله شبر، ومنهم من هو مفرط في الطول، ولهم من الشعر ما يواريهم
من الحر والبرد. وقال الضحاك: هم جيل من الترك. وقال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج
خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد، فبقيت خارجة. وروى شقيق عن حذيفة، قال: سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال: " يأجوج أمة، ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة أمة، لا
يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه كل قد حمل السلاح " قلت: يا رسول
الله، صفهم لنا، قال: " هم ثلاثة أصناف، صنف منهم أمثال الأرز "; قلت: يا رسول الله: وما
الأرز؟ قال: " شجر بالشام، طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء; وصنف منهم عرضه
وطوله سواء، عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش
أحدهم أذنه، ويلتحف بالأخرى ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلا أكلوه، ومن
مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام، وساقهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق و بحيرة طبرية ".
قوله تعالى: * (مفسدون في الأرض) * في هذا الفساد أربعة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا يفعلون فعل قوم لوط، قاله وهب بن منبه.
والثاني: أنهم كانوا يأكلون الناس، قاله سعيد بن عبد العزيز.
والثالث: يخرجون إلى الأرض الذين شكوا منهم أيام الربيع، فلا يدعون شيئا أخضر إلا
133

أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه إلى أرضهم، قاله ابن السائب.
والرابع: كانوا يقتلون الناس، قاله مقاتل.
قوله تعالى: * (فهل نجعل لك خرجا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر،
وعاصم: " خرجا " بغير ألف. وقرأ حمزة، والكسائي: " خراجا " بألف. وهل بينهما فرق؟ فيه
قولان:
أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد، قاله أبو عبيدة، والليث.
والثاني: أن الخرج: ما تبرعت به، والخراج: ما لزمك أداؤه، قاله أبو عمرو بن العلاء. قال
المفسرون: المعنى: هل نخرج إليك من أموالنا شيئا كالجعل لك؟
قوله تعالى: * (ما مكني) * وقرأ ابن كثير: " مكنني " بنونين، وكذلك هي في مصاحف مكة.
قال الزجاج: من قرأ: " مكني " بالتشديد، أدغم النون في النون لاجتماع النونين. ومن قرأ:
" مكنني " أظهر النونين، لأنهما من كلمتين، الأولى من الفعل، والثانية تدخل مع الاسم المضمر.
وفي الذي أراد بتمكينه منه قولان:
أحدهما: أنه العلم بالله; وطلب ثوابه.
والثاني: ما ملك من الدنيا. والمعنى: الذي أعطاني الله خير مما تبذلون لي.
قوله تعالى: * (فأعينوني بقوة) * فيها قولان:
أحدهما: أنها الرجال، قاله مجاهد، ومقاتل.
والثاني: الآلة، قاله ابن السائب. فأما الردم، فهو: الحاجز; قال الزجاج: والردم في اللغة
أكبر من السد، لأن الردم، ما جعل بعضه على بعض، يقال: ثوب مردم: إذا كان قد رقع رقعة فوق
رقعة.
قوله تعالى: * (آتوني زبر الحديد) * قرأ الجمهور: " ردما آتوني " أي: أعطوني. وروى أبو
بكر عن عاصم: " ردم أيتوني " بكسر التنوين، أي: جيئوني بها. قال ابن عباس: احملوها إلي.
وقال مقاتل: أعطوني. وقال الفراء: المعنى: إيتوني بها، فلما ألقيت الياء زيدت ألف. فأما الزبر،
فهي: القطع، واحدتها: زبرة; والمعنى: فأتوه بها فبناه، * (حتى إذا ساوى) * ورى أبان " إذا
سوى " بتشديد الواو من غير ألف. قال الفراء: ساوى وسوى سواء. واختلف القراء في
* (الصدفين) * فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: " الصدفين " بضم الصاد والدال، وهي: لغة
حمير. وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم: " الصدفين " بضم الصاد وتسكين الدال. وقرأ نافع،
134

وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، بفتح الصاد والدال جميعا، وهي لغة تميم،
واختارها ثعلب. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء; وابن يعمر: " الصدفين " بفتح الصاد ورفع الدال. وقرأ
أبو الجوزاء، وأبو عمران، والزهري، والجحدري برفع الصاد وفتح الدال. قال ابن الأنباري:
ويقال: صدف، على مثال نغر، وكل هذه لغات في الكلمة. قال أبو عبيدة: الصدفان: جنبا الجبل.
قال الأزهري: يقال لجانبي الجبل: صدفان، إذا تحاذيا، لتصادفهما، أي: لتلاقيهما. قال
المفسرون: حشا ما بين الجبلين بالحديد، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم، ووضع عليها
المنافيخ، ثم * (قال انفخوا) * فنفخوا * (حتى إذا جعله) * يعني: الحديد، وقيل: الهاء ترجع إلى ما
بين الصدفين * (نارا) * أي: كالنار، لأن الحديد إذا أحمي بالفحم والمنافيخ صار كالنار، * (قال
آتوني) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: " آتوني " ممدودة، والمعنى:
أعطوني، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: " إيتوني " مقصورة; والمعنى: جيئوني به أفرغه عليه.
وفي القطر أربعة أقوال:
أحدها: أنه النحاس، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، والزجاج.
والثاني: أنه الحديد الذائب، قاله أبو عبيدة.
والثالث: الصفر المذاب، قاله مقاتل.
والرابع: الرصاص، حكاه ابن الأنباري. قال المفسرون: أذاب القطر ثم صبه عليه، فاختلط
والتصق بعضه ببعض حتى صار جبلا صلدا من حديد وقطر. قال قتادة: فهو كالبرد المحبر، طريقة
سوداء وطريقة حمراء.
قوله تعالى: * (فما اسطاعوا) * أصله: فما " استطاعوا " فلما كانت التاء والطاء من مخرج
واحد أحبوا التخفيف فحذفوا. قال ابن الأنباري: إنما تقول العرب: اسطاع، تخفيفا، كما قالوا:
سوف يقوم، أو سو يقوم، فأسقطوا الفاء.
قوله تعالى: * (أن يظهروه) * أي: يعلوه; يقال: ظهر فلان فوق البيت: إذا علاه، والمعنى:
ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه واملاسه * (وما استطاعوا له نقبا) * من أسفله، لشدته وصلابته. وروى أبو
هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون
شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا، فستحفرونه غدا، فيعدون إليه، فيرونه كأشد ما كان،
حتى إذا بلغت مدتهم، وأراد الله عز وجل أن يبعثهم على الناس، حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع
الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا، فستحفرونه غدا إن شاء الله، ويستثني، فيعودون إليه وهو
135

كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس " وذكر باقي الحديث; وقد ذكرت هذا
الحديث بطوله وأشباهه في كتاب " الحدائق " فكرهت التطويل هاهنا.
قوله تعالى: * (قال هذا رحمة من ربي) * لما فرغ ذو القرنين من بنيانه قال هذا. وفيما أشار
إليه قولان:
أحدهما: أنه الردم، قاله مقاتل; قال: فالمعنى: هذا نعمة من ربي على المسلمين لئلا
يخرجوا إليهم.
والثاني: أنه التمكين الذي أدرك به عمل السد، قاله [الزجاج].
قوله تعالى: * (فإذا جاء وعد ربي) * فيه قولان:
أحدهما: القيامة.
والثاني: وعده لخروج يأجوج ومأجوج.
قوله تعالى: * (جعله دكا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " دكا " منونا غير
مهموز ولا ممدود. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " دكاء ممدودة " مهموزة بلا تنوين. وقد شرحنا معنى
الكلمة في [سورة] الأعراف.
قوله تعالى: * (وكان وعد ربي حقا) * أي: بالثواب والعقاب.
وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا " 99 " وعرضنا
جهنم يومئذ للكافرين عرضا " 100 " الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا
لا يستطيعون سمعا " 101 "
قوله تعالى: * (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) * في المشار إليهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم يأجوج ومأجوج. ثم في المراد ب‍ " يومئذ " قولان:
أحدهما: أنه يوم انقضى أمر السد، تركوا يموج بعضهم في بعض من ورائه مختلطين
لكثرتهم; وقيل: ماجوا متعجبين من السد. والثاني: أنه يوم يخرجون من السد تركوا يموج بعضهم
في بعض.
136

والثاني: أنهم الكفار.
والثالث: أنهم جميع الخلائق: الجن والإنس يموجون حيارى. فعلى هذين القولين،
المراد باليوم المذكور يوم القيامة.
قوله تعالى: * (ونفخ في الصور) * هذه نفخة البعث. وقد شرحنا معنى " الصور " في
[سورة] الأنعام.
قوله تعالى: * (وعرضنا جهنم) * أي: أظهرناها لهم حتى شاهدوها.
قوله تعالى: * (الذين كانت أعينهم) * يعني: أعين قلوبهم * (في غطاء) * أي: في غفلة
* (عن ذكري) * أي: عن توحيدي والإيمان بي وبكتابي * (وكانوا يستطيعون سمعا) * هذا
لعداوتهم وعنادهم وكراهتهم ما ينذرون به، كما تقول لمن يكره قولك: ما تقدر أن تسمع
كلامي.
أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم
للكافرين نزلا " 102 "
قوله تعالى: * (أفحسب الذين كفروا) * أي: أفظن المشركون * (أن يتخذوا عبادي) * في
هؤلاء العباد ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الشياطين، قاله ابن عباس.
والثاني: الأصنام، قاله مقاتل.
والثالث: الملائكة والمسيح وعزير وسائر المعبودات من دونه، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: * (من دوني) * فتح هذه الياء نافع، وأبو عمرو. وجواب الاستفهام في هذه الآية
محذوف، وفي تقديره قولان:
أحدهما: أفحسبوا أن يتخذوهم أولياء، كلا بل هم أعداء لهم يتبرؤون منهم.
والثاني: أن يتخذوهم أولياء ولا أغضب ولا أعاقبهم. وروى أبان عن عاصم، وزيد عن
يعقوب: " أفحسب " بتسكين السين وضم الباء، وهي قراءة علي، وابن عباس، وسعيد بن جبير،
ومجاهد، وعكرمة، وابن يعمر، وابن محيصن; ومعناها: أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء؟
137

فأما النزل فقيه قولان:
أحدهما: أنه ما يهيأ للضيف والعسكر، قاله ابن قتيبة.
والثاني: أنه المنزل، قاله الزجاج.
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا " 103 " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون
أنهم يحسنون صنعا " 104 " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا
نقيم لهم يوم القيامة وزنا " 105 " ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي
هزوا " 106 "
قوله تعالى: * (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) * فيهم قولان:
أحدهما: أنهم القسيسون والرهبان، قاله علي، والضحاك.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله سعد بن أبي وقاص.
قوله تعالى: * (أعمالا) * منصوب على التمييز، لأنه لما قال: " بالأخسرين " كان ذلك مبهما
لا يدل على ما خسروه، فبين ذلك في أي نوع وقع.
قوله تعالى: * (الذين ضل سعيهم) * أي: بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا، وهم يظنون
أنهم محسنون بأفعالهم، فرؤساؤهم يعلمون الصحيح، ويؤثرون الباطل لبقاء رئاستهم، وأتباعهم
مقلدون بغير دليل. * (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم) * جحدوا دلائل توحيده، وكفروا بالبعث
والجزاء، وذلك أنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، صاروا كافرين بهذه الأشياء * (فحبطت
أعمالهم) * أي: بطل اجتهادهم، لأنه خلا عن الإيمان * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * وقرأ ابن
مسعود، والجحدري: " فلا يقيم " بالياء.
وفي معناه ثلاثة أقوال 6
أحدها: أنه إنما يثقل الميزان بالطاعة، وإنما توزن الحسنات والسيئات، والكافر لا طاعة له.
والثاني: أن المعنى: لا نقيم لهم قدرا. قال ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية: يقال: ما
لفلان عندنا وزن، أي: قدر، لخسته. فالمعنى: أنهم لا يعتد بهم، ولا يكون لهم عند الله قدر ولا
منزلة. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب فلا يزن
138

جناح بعوضة، اقرؤوا إن شئتم: * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * ".
والثالث: أنه قال: " فلا نقيم لهم " لأن الوزن عليهم لا لهم، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: * (ذلك جزاؤهم) * أي: الأمر ذلك الذي ذكرت من بطلان عملهم وخسة
قدرهم، ثم ابتدأ فقال: * (جزاؤهم جهنم) *، وقيل: المعنى: ذلك التصغير لهم، وجزاؤهم جهنم،
فأضمرت واو الحال.
قوله تعالى: * (بما كفروا) * أي: بكفرهم واتخاذهم * (آياتي) * التي أنزلتها * (ورسلي
هزوا) * أي: مهزوءا به.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " 107 " خالدين
فيها لا يبغون عنهم حولا " 108 "
قوله تعالى: * (كانت لهم جنات الفردوس) * قال ابن الأنباري: كانت لهم في علم الله قبل أن
يخلقوا. وروى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" جنان الفردوس أربع، ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيها، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما
وما فيها وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ".
وروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين
كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه
الفردوس ".
قال أبو أمامة: الفردوس سره الجنة. قال مجاهد: الفردوس: البستان بالرومية. وقال كعب 7
والضحاك: " جنات الفردوس ": جنات الأعناب. قال الكلبي، والفراء: الفردوس: البستان الذي
139

فيه الكرم. وقال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر المتلف، الأغلب عليه
العنب. وقال ثعلب: كل بستان يحوط عليه فهو فردوس، قال عبد الله بن رواحة:
في جنات الفردوس ليس يخافون * خروجا عنها ولا تحويلا
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قال الزجاج: الفردوس أصله رومي أعرب، وهو
البستان، كذلك جاء في التفسير، وقد قيل: الفردوس تعرفه العرب، وتسمي الموضع الذي فيه كرم:
فردوسا. وقال أهل اللغة: الفردوس مذكر، وإنما أنث في قوله تعالى: * (يرثون الفردوس هم فيها
خالدون) *. لأنه عنى به الجنة. وقال الزجاج: وقيل: الفردوس: الأودية التي تنبت ضروبا من
النبت، وقيل: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، قال: والفردوس أيضا بالسريانية كذا لفظه:
فردوس، قال: ولم نجده في أشعار العرب إلا في شعر حسان، وحقيقته أنه البستان الذي يجمع كل
ما يكون في البساتين، لأنه عند أهل كل لغة كذلك، وبيت حسان:
- فإن ثواب الله كل موحد * جنان من الفردوس فيها يخلد -
وقال ابن الكلبي بإسناده: الفردوس: البستان بلغة الروم، وقال الفراء: وهو عربي أيضا،
والعرب تسمي البستان الذي فيه الكرم فردوسا. وقال السدي: الفردوس أصله بالنبطية " فرداسا ".
وقال عبد الله بن الحارث: الفردوس: الأعناب. وقد شرحنا معنى قوله: " نزلا " آنفا.
قوله تعالى: * (لا يبغون عنها حولا) * قال الزجاج: لا يريدون عنها تحولا، يقال: قد حال
من مكانه حولا، كما قالوا في المصادر: صغر صغرا، وعظم عظما، وعادني حبها عودا; قال: وقد
قيل أيضا: إن الحول: الحيلة، فيكون المعنى: لا يحتالون منزلا غيرها.
فإن قيل: قد علم أن الجنة كثيرة الخير، فما وجه مدحها بأنهم لا يبغون عنها حولا؟
فالجواب: أن الإنسان قد يجد في الدار الأنيقة معنى لا يوافقه، فيحب أن ينتقل إلى دار
أخرى، وقد يمل، والجنة على خلاف ذلك.
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو
جئنا بمثله مددا " 109 "
140

قوله تعالى: * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي) * سبب نزولها أنه لما نزل قوله
تعالى: * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * قالت اليهود: كيف وقد أوتينا التوراة وفيها علم كل شئ؟
فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. ومعنى الآية: لو كان ماء البحر مدادا يكتب به.. قال مجاهد:
والمعنى: لو كان البحر مدادا للقلم، والقلم يكتب. وقال ابن الأنباري: سمي المداد مدادا
لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجئ الشئ بعد الشئ. وقرأ الحسن، والأعمش: " مددا
لكلمات ربي " بغير ألف.
قوله تعالى: * (قبل أن تنفد كلمات ربي) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم:
" تنفد " بالتاء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: " ينفد " بالياء. قال أبو علي: التأنيث أحسن،
لأن المسند إليه الفعل مؤنث، والتذكير حسن، لأن التأنيث ليس بحقيقي، وإنما لم تنفد كلمات
الله، لأن كلامه صفة من صفات ذاته، ولا يتطرق على صفاته النفاد، * (ولو جئنا بمثله) * أي: بمثل
البحر * (مددا) * أي: زيادة; والمدد: كل شئ زاد في شئ.
فإن قيل: لم قال في أول الآية: " مدادا " وفي آخرها: " مددا " وكلاهما بمعنى واحد،
اشتقاقهما غير مختلف؟
فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال: لما كان الثاني آخر آية، وأواخر الآيات هاهنا أتت على
الفعل، والفعل، كقوله تعالى: " نزلا " " هزوا " " حولا " كان قوله: " مددا " أشبه بهؤلاء الألفاظ
من المداد، واتفاق المقاطع عند أواخر الآي، وانقضاء الآيات، وتمام السجع والنثر، أخف على
الألسن، وأحلى موقعا في الأسماع، فاختلفت اللفظتان لهذه العلة. وقد قرأ ابن عباس، وسعيد بن
جبير، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة، وابن محيصن: " ولو جئنا بمثله مدادا " فحملوها على الأولى،
ولم ينظروا إلى المقاطع. وقراءة الأولين أبين حجة، وأوضح منهاجا.
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه
فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " 110 "
قوله تعالى: * (قل إنما أنا بشر مثلكم) * قال ابن عباس: علم الله تعالى رسوله التواضع لئلا
يزهى على خلقه، فأمره أن يقر على نفسه بأنه آدمي كغير، إلا أنه أكرم بالوحي.
قوله تعالى: * (فمن كان يرجو لقاء ربه) * سبب نزولها أن جندب بن زهير العامري قال لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل فإذا اطلع عليه سرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله طيب لا يقبل إلا
141

الطيب، ولا يقبل ما روئي فيه " فنزلت فيه هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال طاووس: جاء رجل إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحب الجهاد وأحب أن يرى مكاني فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: جاء
رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أتصدق، وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى، فيذكر
ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.
وفي قوله: * (فمن كان يرجو) * قولان:
أحدهما: يخاف، قاله ابن قتيبة.
والثاني: يأمل، وهو اختيار الزجاج. وقال ابن الأنباري: المعنى: فمن كان يرجو لقاء ثواب
ربه. قال المفسرون: وذلك يوم البعث والجزاء. * (فليعمل عملا صالحا) * لا يرائي به * (ولا يشرك
بعبادة ربه أحدا) * قال سعيد بن جبير: لا يرائي. قال معاوية بن أبي سفيان: هذه آخر آية نزلت من
القرآن.
142

(19) سورة مريم مكية
وآياتها ثمان وتسعون
وهي مكية باجماعهم من غير خلاف علمناه. وقال مقاتل: هي مكية غير سجدتها، فإنها
مدنية. وقال هبة الله المفسر: هي مكية غير آيتين منها، قوله: * (فخلف من بعدهم خلف) * والتي
تليها.
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص " 1 " ذكر رحمت ربك عبده زكريا " 2 " إذ نادى ربه نداء خفيا " 3 " قال
رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا " 4 " وإني
خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا " 5 " يرثني ويرث من
آل يعقوب واجعله رب رضيا " 6 "
قوله تعالى: * (كهيعص) * قرأ ابن كثير: * (كهيعص ذكر) * بفتح الهاء والياء وتبيين الدال التي
في هجاء " صاد ". وقرأ أبو عمرو: " كهيعص " بكسر الهاء وفتح الياء ويدغم الدال في الذال، وكان
نافع يلفظ بالهاء والياء بين الكسر والفتح، ولا يدغم الدال التي في هجاء " صاد " في الذال من
" ذكر ". وقرأ أبو بكر عن عاصم، والكسائي، بكسر الهاء والياء. إلا أن الكسائي لا يبين الدال،
وعاصم يبينها. وقرأ ابن عامر، وحمزة، بفتح الهاء وكسر الياء ويدغمان. وقرأ أبي بن كعب:
" كهيعص " برفع الهاء وفتح الياء. وقد ذكرنا في أول " البقرة " ما يشتمل على بيان هذا الجنس.
وقد خص المفسرون هذه الحروف المذكورة هاهنا بأربعة أقوال:
143

أحدها: أنها حروف من أسماء الله عز وجل، قاله الأكثرون. ثم اختلف هؤلاء في الكاف من
أي اسم هو، على أربعة أقوال. أحدها: أنه من اسم الله الكبير.
والثاني: من الكريم.
والثالث: من الكافي، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والرابع: أنه من الملك، قاله محمد بن كعب. فأما الهاء، فكلهم قالوا: هي من اسمه
الهادي، إلا القرظي فإنه قال: من اسمه الله. وأما الياء، ففيها ثلاثة أقوال:
أحدها; أنها من حكيم.
والثاني: من رحيم.
والثالث: من أمين روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس. فأما العين،
ففيها أربعة أقوال:
أحدها: أنها من عليم.
والثاني: من عالم.
والثالث: من عزيز، رواها أيضا سعيد عن ابن عباس.
والرابع: أنها من عدل، قاله الضحاك. وأما الصاد، ففيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها من صادق.
والثاني: من صدوق، رواهما سعيد أيضا عن ابن عباس.
والثالث: أنها من الصمد، قاله محمد بن كعب.
والقول الثاني: أن " كهيعص " قسم أقسم الله تعالى به، وهو من أسمائه، رواه علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: هو اسم من أسماء الله تعالى. وروي
عنه أنه كان يقول: يا كهيعص اغفر لي. قال الزجاج: والقسم بهذا والدعاء لا يدل على أنه اسم
واحد، لأن الداعي إذا علم أن الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات الله تعالى فدعا بها، فكأنه
قال: يا كافي، يا هادي، يا عالم، يا صادق، وإذا أقسم بها، فكأنه قال: والكافي الهادي العالم
الصادق، وأسكنت هذه الحروف لأنها حروف تهج، النية فيها الوقف.
والثالث: أنه اسم للسورة، قاله الحسن، ومجاهد.
والرابع: اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.
فإن قيل: لم قالوا: هايا، ولم يقولوا في الكاف: كا، وفي العين: عا، وفي الصاد: صا،
لتتفق المباني كما اتفقت العلل؟
144

فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: حروف المعجم التسعة والعشرون تجري مجرى الرسالة
والخطبة، فيستقبحون فيها اتفاق الألفاظ واستواء الأوزان، كما يستقبحون ذلك في خطبهم
ورسائلهم، فيغيرون بعض الكلم ليختلف الوزن وتتغير المباني، فيكون ذلك أعذب على الألسن
وأحلى في الأسماع.
قوله تعالى: * (ذكر رحمة ربك) * قال الزجاج: الذكر مرفوع بالمضمر، المعنى: هذا الذي
نتلو عليك ذكر رحمة ربك عبده. قال الفراء: وفي الكلام تقديم وتأخير; المعنى: ذكر ربك عبده
بالرحمة، و " زكريا " في موضع نصب.
قوله تعالى: * (إذ نادى ربه) * النداء هاهنا بمعنى الدعاء.
وفي علة إخفائه لذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: ليبعد عن الرياء، قاله ابن جريج.
والثاني: لئلا يقول الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكبر، قاله مقاتل.
والثالث: لئلا يعاديه بنو عمه، ويظنوا أنه كره أن يلوا مكانه بعده، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
وهذه القصة تدل على أن المستحب إسرار الدعاء، ومنه الحديث: " إنكم لا تدعون أصم ".
قوله تعالى: * (رب إني وهن العظم مني) * وقرأ معاذ القارئ، والضحاك: " وهن " بضم الهاء،
أي: ضعف. قال الفراء وغيره: وهن العظم، ووهن، بفتح الهاء وكسرها; والمستقبل على الحالين
كليهما: يهن. وأراد أن قوة عظامه قد ذهبت لكبره; وإنما خص العظم، لأنه الأصل في التركيب.
وقال قتادة: شكا ذهاب أضراسه.
قوله تعالى: * (واشتعل الرأس شيبا) * يعني: انتشر الشيب فيه، كما ينتشر شعاع النار في
الحطب وهذا من أحسن الاستعارات. * (ولم أكن بدعائك) * أي: بدعائي إياك * (رب شقيا) *
أي: لم أكن لأتعب بالدعاء ثم أخيب، لأنك قد عودتني الإجابة; يقال: شقي فلان بكذا: إذا تعب
بسببه، ولم ينل مراده.
قوله تعالى: * (وإني خفت الموالي) * يعني: الذين يلونه في النسب، وهم بنو العم والعصبة
* (من ورائي) * أي: من بعد موتي.
وفي ما خافهم عليه قولان:
أحدهما: أنه خاف أن يرثوه، قاله ابن عباس.
فإن اعترض عليه معترض، فقال: كيف يجوز لنبي أن ينفس على قراباته بالحقوق المفروضة
145

لهم بعد موته؟ جوابان:
أحدهما: أنه لما كان نبيا، والنبي لا يورث، خاف أن يرثوا ماله فيأخذوا مالا يجوز لهم.
والثاني: أنه غلب عليه طبع البشر، فأحب أن يتولى ماله ولده، ذكرهما ابن الأنباري.
قلت: وبيان هذا أنه لا بد أن يتولى ماله وإن ولم يكن ميراثا، فأحب أن يتولاه ولده.
والقول الثاني: أنه خاف تضييعهم للدين ونبذهم إياه، ذكره جماعة من المفسرين.
وقرأ عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، وابن جبير، ومجاهد، وابن أبي
سرح عن الكسائي: " خفت " بفتح الخاء وتشديد الفاء على معنى " قلت "; فعلى هذا يكون إنما
خاف على علمه ونبوته ألا يورثا فيموت العلم. وأسكن ابن شهاب الزهري ياء " الموالي ".
قوله تعالى: * (من ورائي) * أسكن الجمهور هذه الياء، وفتحها ابن كثير في رواية قنبل.
وروى عنه شبل: " وراي " مثل " عصاي ".
قوله تعالى: * (فهب لي من لدنك) * أي: من عندك * (وليا) * أي: ولدا صالحا يتولاني.
قوله تعالى: * (يرثني ويرث من آل يعقوب) * قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر،
وحمزة: " يرثني ويرث " برفعهما. وقرا أبو عمرو، والكسائي: " يرثني ويرث " بالجزم فيهما. قال
أبو عبيدة: من قرأ بالرفع، فهو على الصفة للولي; فالمعنى: هب لي وليا وارثا، ومن جزم، فعلى
الشرط والجزاء، كقولك: إن وهبته إن وهبته لي ورثني.
وفي: المراد بهذا الميراث أربعة أقوال:
أحدها: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال أبو
صالح.
والثاني: يرثني العلم، ويرث من آل يعقوب الملك، فأجابه الله تعالى إلى وراثة العلم دون
الملك، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: يرثني نبوتي وعلمي، ويرث من آل يعقوب النبوة أيضا، قاله الحسن.
والرابع: يرثني النبوة، ويرث من آل يعقوب الأخلاق، قاله عطاء. قال مجاهد: كان زكريا
146

من ذرية يعقوب. وزعم الكلبي أن آل يعقوب كانوا أخواله، وأنه ليس بيعقوب أبي يوسف. وقال
مقاتل: هو يعقوب بن ماثان، وكان يعقوب هذا وعمران - أبو مريم - أخوين.
والصحيح: أنه لم يرد ميراث المال لوجوه:
أحدها: أنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه
صدقة ".
والثاني: أنه لا يجوز أن يتأسف نبي الله على مصير ماله بعد موته إذا وصل إلى وراثه
المستحق له شرعا.
والثالث: أنه لم يكن ذا مال. وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زكريا كان نجارا.
قوله تعالى: * (واجعله رب رضيا) * قال اللغويون: أي: مرضيا، فصرف عن مفعول إلى
فعيل، كما قالوا: مقتول وقتيل.
يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا " 7 " قال رب أنى يكون لي
غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا " 8 " قال كذلك قال ربك هو علي
هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " 9 " قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم
الناس ثلاث ليال سويا " 10 " فخرج علي قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة
وعشيا " 11 "
قوله تعالى: * (يا زكريا إنا نبشرك) * في الكلام إضمار، تقديره: فاستجاب الله له فقال " يا
زكريا إنا نبشرك ". وقرأ حمزة: " نبشرك " بالتخفيف. وقد شرحنا هذا في [سورة] آل عمران.
قوله تعالى: * (لم نجعل له من قبل سميا) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لم يسم يحيى قبله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقتادة، وابن
147

زيد، والأكثرون.
فإن اعترض معترض، فقال: ما وجه المدحة باسم ليسم به أحد قبله، ونرى كثيرا من
الأسماء لم يسبق إليها؟ فالجواب: أن وجه الفضيلة أن الله تعالى تولى تسميته، ولم يكل ذلك إلى
أبويه، فسماه باسم لم يسبق إليه.
والثاني: لم تلد العواقر مثله ولدا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فعلى هذا يكون
المعنى: لم نجعل له نظيرا.
والثالث: لم نجعل له من قبل مثلا وشبها، قاله مجاهد. فعلى هذا يكون عدم الشبه من حيث
إنه لم يعص ولم يهم بمعصية. وما بعد هذا مفسر في آل عمران إلى قوله * (وكانت امرأتي
عاقرا) *
وفي معنى " كانت " قولان:
أحدهما: أنه توكيد للكلام، فالمعنى: وهي عاقر، كقوله: * (كنتم خير أمة) * أي: أنتم
والثاني: أنها كانت منذ كانت عاقرا، لم يحدث ذلك بها، ذكرهما ابن الأنباري، واختار
الأول.
قوله تعالى: * (وقد بلغت من الكبر عتيا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو
بكر عن عاصم: " عتيا " و " بكيا " و " صليا " بضم أوائلها. وقرأ حمزة، والكسائي، بكسر
أوائلها، وافقهما حفص عن عاصم، إلا في قوله: " بكيا " فإنه ضم أوله. وقرأ ابن عباس،
ومجاهد: " عسيا " بالسين قال مجاهد: " عتيا " هو قحول العظم. وقال ابن قتيبة: أي: يبسا;
يقال: عتا وعسا بمعنى واحد. قال الزجاج: كل شئ انتهى، فقد عتا يعتو عتيا، وعتوا، وعسوا،
وعسيا.
قوله تعالى: * (قال كذلك) * أي: الأمر كما قيل لك من هبة الولد على الكبر * (قال ربك هو
علي هين) * أي: خلق يحيى علي سهل. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري: " هين " بإسكان
الياء. * (وقد خلقتك من قبل) * أي: أوجدتك. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن
عامر: " خلقتك ". وقرأ حمزة، والكسائي: " خلقناك " بالنون والألف. * (ولم تك شيئا) * المعنى:
148

فخلق الولد، كخلقك. وما بعد هذا مفسر في [سورة] آل عمران إلى قوله: * (ثلاث ليال سويا) * قال
الزجاج: " سويا " منصور على الحال، والمعنى: تمنع عن الكلام وأنت سوي. قال ابن قتيبة: أي:
سليما غير أخرس.
قوله تعالى: * (فخرج على قومه) * وهذا في صبيحة الليلة التي حملت فيها امرأته
* (من المحراب) * أي: من مصلاه، وقد ذكرناه في [سورة] آل عمران.
قوله تعالى: * (فأوحى إليهم) * فيه قولان:
أحدهما: أنه كتب إليهم في كتاب، قاله ابن عباس.
والثاني: أومأ برأسه ويديه، قاله مجاهد.
قوله تعالى: * (أن سبحوا) * أي: صلوا * (بكرة وعشيا) * قد شرحناه في آل عمران،
والمعنى: أنه كان يخرج إلى قومه فيأمرهم بالصلاة بكرة وعشيا، فلما حملت امرأته أمرهم بالصلاة
إشارة.
يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا " 12 " وحنانا من لدنا وزكاة وكان
تقيا " 13 " وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا " 14 " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم
يبعث حيا " 15 "
قوله تعالى: * (يا يحيى) * قال الزجاج: المعنى: فوهبنا له يحيى، وقلنا له: يا يحيى * (خذ
الكتاب) * يعني: التوراة، وكان مأمورا بالتمسك بها. وقال ابن الأنباري:
المعنى: أقبل كتب الله كلها إيمانا بها واستعمالا لأحكامها. وقد شرحنا في [سورة] البقرة: معنى
قوله: * (بقوة) *.
قوله تعالى: * (وآتيناه الحكم) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه الفهم، قاله مجاهد.
والثاني: اللب، قاله الحسن، وعكرمة.
والثالث: العلم، قاله ابن السائب.
والرابع: حفظ التوراة وعلمها، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد زدنا هذا شرحا في سورة
149

يوسف. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن من قبل أن يحتلم، فهو ممن أوتي
الحكم صبيا.
فأما قوله: * (صبيا) * ففي سنه يوم أوتي الحكم قولان:
أحدهما: أنه سبع سنين، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ابن ثلاث سنين، قاله قتادة، ومقاتل.
قوله تعالى: * (وحنانا من لدنا) * قال الزجاج: أي: وآتيناه حنانا. وقال ابن الأنباري:
المعنى: وجعلناه حنانا لأهل زمانه.
وفي الحنان ستة أقوال:
أحدها: أنه الرحمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، وقتادة،
والضحاك، والفراء، وأبو عبيدة، وأنشد:
- تحنن علي هداك المليك * فإن لكل مقام مقالا -
قال: وعامة ما يستعمل في المنطق على لفظ الاثنين، قال طرفة:
- أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا * حنانيك بعض الشر أهون من بعض -
قال ابن قتيبة: ومنه يقال: تحنن علي، وأصله من حنين الناقة على ولدها. وقال ابن
الأنباري: لم يختلف اللغويون أن الحنان: الرحمة، والمعنى: فعلنا ذلك رحمة لأبويه، وتزكية له.
والثاني: أنه التعطف من ربه عليه، قاله مجاهد. والثالث: أنه اللين، قاله سعيد بن جبير. والرابع:
البركة، وروي عن ابن جبير أيضا. والخامس: المحبة، قاله عكرمة، وابن زيد. والسادس:
التعظيم، قاله عطاء بن أبي رباح.
وفي قوله: * (وزكاة) * أربعة أقوال:
أحدها: أنها العمل الصالح، قاله الضحاك، وقتادة.
والثاني: أن معنى الزكاة: الصدقة، فالتقدير: إن الله تعالى جعله صدقة تصدق بها على
أبويه، قاله ابن السائب.
والثالث: أن الزكاة: التطهير، قاله الزجاج.
150

والرابع: أن الزكاة الزيادة، فالمعنى: وآتيناه زيادة في الخير على ما وصف وذكر، قاله ابن
الأنباري.
قوله تعالى: * (وكان تقيا) * قال ابن عباس: جعلته يتقيني، لا يعدل بي غيري.
قوله تعالى: * (وبرا بوالديه) * أي: وجعلناه برا بوالديه، والبر بمعنى: البار; والمعنى: لطيفا
بهما، محسنا إليهما. والعصي بمعنى: العاصي. وقد شرحنا معنى الجبار في [سورة] هود.
قوله تعالى: * (وسلام عليه) * فيه قولان:
أحدهما: أنه السلام المعروف من الله تعالى، قال عطاء: سلام عليه مني في هذه الأيام;
وهذا اختيار أبي سليمان.
والثاني: أنه بمعنى: السلامة، قاله ابن السائب.
فإن قيل: كيف خص التسليم عليه بالأيام وقد يجوز أن يولد ليلا ويموت ليلا؟
فالجواب: أن المراد باليوم الحين والوقت، على ما بينا في قوله: * (اليوم أكملت لكم
دينكم) *. قال ابن عباس: وسلام عليه حين ولد. وقال الحسن البصري: التقى يحيى وعيسى،
فقال يحيى لعيسى: أنت خير مني، فقال عيسى ليحيى: بل أنت خير مني، سلم الله عليك، وأنا
سلمت على نفسي. وقال سعيد بن جبير مثله، إلا أنه قال: أثنى الله عليك، وأنا أثنيت على نفسي.
وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن، يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما
كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم يره، فخص
الله تعالى يحيى فيها بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة.
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " 16 " فاتخذت من دونهم
حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " 17 " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن
كنت تقيا " 18 " قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " 19 " قالت أنى يكون
لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " 20 " قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله
151

آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا " 21 "
قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب) * يعني: القرآن * (مريم إذ انتبذت) * قال أبو عبيدة: تنحت
واعتزلت * (مكانا شرقيا) * مما يلي المشرق، وهو عند العرب خير من الغربي.
قوله تعالى: * (فاتخذت من دونهم) * يعني: أهلها * (حجابا) * أي: سترا وحاجزا وفيه ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنها ضربت سترا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن الشمس أظلتها، فلم يرها أحد منهم، وذلك مما سترها الله به، وهذا المعنى عن
ابن عباس أيضا.
والثالث: أنها اتخذت حجابا من الجدران، قاله السدي عن أشياخه وفي سبب انفرادها عنهم
قولان:
أحدهما: أنها انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط، قاله ابن عباس.
والثاني: لتفلي رأسها، قاله عطاء.
قوله تعالى: * (فأرسلنا إليها روحنا) * وهو جبريل في قول الجمهور. وقال ابن الأنباري:
صاحب روحنا، وهو جبريل. والروح بمعنى: الروح والفرح، ثم تضم الراء لتحقيق مذهب الاسم،
وإبطال طريق المصدر، ويجوز أن يراد بالروح هاهنا: الوحي وجبريل صاحب الوحي.
وفي وقت مجيئه إليها ثلاثة أقوال:
أحدها: وهي تغتسل.
والثاني: بعد فراغها، ولبسها الثياب.
والثالث: بعد دخولها بيتها. وقد قيل: المراد بالروح هاهنا: الروح الذي خلق منه عيسى،
حكاه الزجاج، والماوردي، وهو مضمون كلام أبي بن كعب فيما سنذكره عند قوله: * (فحملته) * قال
ابن الأنباري: وفيه بعد، لقوله: * (فتمثل لها بشرا سويا) * والمعنى: تصور لها في صورة البشر التام
الخلقة. وقال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعد قطط حين طر شاربه. وقرأ أبو
نهيك وأبو حيوة: " فأرسلنا إليها روحنا " بفتح الراء.
قوله تعالى: * (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) * المعنى: إن كنت تتقي الله،
152

فستنتهي بتعوذي منك، هذا هو القول عند المحققين، وحكي عن ابن عباس أنه كان في زمانها رجل
اسمه تقي، وكان فاجرا، فظنته إياه، ذكره ابن الأنباري، والماوردي. وفي قراءة علي رضي الله
عنه، وابن مسعود، وأبي رجاء: " إلا أن تكون تقيا ".
قوله تعالى: * (قال إنما أنا رسول ربك) * أي: فلا تخافي * (ليهب) * قرأ ابن كثير، ونافع،
وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " لأهب لك " بالهمز. وقرأ أبو عمرو، وورش عن نافع:
" ليهب لك " بغير همز. قال الزجاج: من قرأ " ليهب " فالمعنى: أرسلني ليهب لك، وقال ابن الأنباري
المعنى: أرسلني يقول لك: أرسلت رسولي إليك لأهب لك.
قوله تعالى: * (غلاما زكيا) * أي: طاهرا من الذنوب. والبغي: الفاجرة والزانية. قال ابن
الأنباري: وإنما لم يقل: " بغية " لأنه وصف يغلب على النساء، فقلما تقول العرب: رجل بغي،
فيجري مجرى حائض، وعاقر. وقال غيره: إنما لم يقل: " بغية " لأنه مصروف عن وجهه، فهو
" فعيل " بمعنى: " فاعل ". ومعنى الآية: ليس لي زوج، ولست بزانية، وإنما يكون الولد من هاتين
الجهتين. * (قال كذلك قال ربك) * قد شرحناه في قصة زكريا، والمعنى: أنه يسير علي أن أهب لك
غلاما من غير أب. * (ولنجعله آية للناس) * أي: دلالة على قدرتنا كونه من غير أب. قال ابن
الأنباري: إنما دخلت الواو في قوله: * (ولنجعله) * لأنها عاطفة لما بعدها على كلام مضمر محذوف،
تقديره: قال ربك خلقه علي هين لننفعك به، ولنجعله عبرة.
قوله تعالى: * (ورحمة منا) * أي: لمن تبعه وآمن به * (وكان أمرا مقضيا) * أي: وكان خلق أمرا
محكوما به، مفروغا عنه، سابقا في علم الله تعالى كونه.
* فحملته فانتبذت به مكانا قصيا " 22 " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت
يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " 23 " فنادها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك
تحتك سريا " 24 " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " 25 " فكلي واشربي
وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم
إنسيا " 26 "
قوله تعالى: * (فحملته) * يعني: عيسى.
153

وفي كيفية حملها له قولان:
أحدهما: أن جبريل نفخ في جيب درعها، فاستمر بها حملها، رواه سعيد بن جبير عن ابن
عباس. قال السدي: نفخ في جيب درعها وكان مشقوقا من قدامها، فدخلت النفخة في صدرها
فحملت من وقتها.
والثاني: أن الذي خاطبها هو الذي حملته، ودخل من فيها، قاله أبي بن كعب.
وفي مقدار حملها سبعة أقوال:
أحدها: أنها حين حملت وضعت، قاله ابن عباس، والمعنى: أنه ما طال حملها، وليس
المراد أنها وضعته في الحال، لأن الله تعالى يقول: * (فحملته فانتبذت به) *، وهذا يدل على أن بين
الحمل والوضع وقتا يحتمل الانتباذ به.
والثاني: أنها حملته تسع ساعات، ووضعت من يومها، قاله الحسن.
والثالث: تسعة أشهر قاله سعيد بن جبير، وابن السائب.
والرابع: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، قاله مقاتل
ابن سليمان.
والخامس: ثمانية أشهر، فعاش، ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر، فكان في هذا آية، حكاه
الزجاج.
والسادس: في ستة أشهر، حكاه الماوردي.
والسابع: في ساعة واحدة، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: * (فانتبذت به) * يعني بالحمل * (مكانا قصيا) * أي: بعيدا. وقرأ ابن مسعود. وابن
أبي عبلة: " قاصيا ". قال ابن إسحاق: مشت ستة أميال. قال الفراء: القصي والقاصي بمعنى
واحد. وقال غير الفراء: القصي والقاصي بمنزلة الشهيد والشاهد. وإنما بعدت، فرارا من قومها أن
يعيروها بولادتها من غير زوج.
قوله تعالى: * (فأجاءها المخاض) * وقرأ عكرمة، وإبراهيم النخعي، وعاصم الجحدري:
" المخاص " بكسر الميم. قال الفراء: المعنى: فجاء بها المخاص، فلما القيت الباء، جعلت في
الفعل ألفا، ومثله: * (آتنا غداءنا) * أي: ومثله: * (آتوني زبر الحديد) * أي: بزبر الحديد.
قال أبو عبيدة: أفعلها من جاءت هي فأجاءها غيرها. وقال ابن قتيبة: المعنى: جاء بها، وألجأها،
وهو من حيث يقال: جاءت بي الحاجة إليك، وأجاءتني الحاجة إليك، والمخاض: الحمل. وقال
154

غيره: المخاض: وجع الولادة. * (إلى جذع النخلة) * وهو ساق النخلة، وكانت نخلة يابسة في
الصحراء، ليس لها رأس ولا سعف. * (قالت يا ليتني مت قبل هذا) * اليوم، أو هذا الأمر، وقرأ
نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: " مت " بكسر الميم.
وفي سبب قولها هذا قولان:
أحدهما: أنها قالته حياء من الناس.
والثاني: لئلا يأثموا بقذفها.
قوله تعالى: * (وكنت نسيا منسيا) * قرا ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي،
وأبو بكر عن عاصم، بكسر النون، وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: " نسيا " بفتح النون، قال
الفراء: وأصحاب عبد الله يقرؤون: " نسيا " بفتح النون وسائر العرب بكسرها، وهما لغتان، مثل
الجسر والجسر، والوتر والوتر، والفتح أحب إلي، قال أبو علي الفارسي: الكسر على اللغتين. وقال ابن
الأنباري: من كسر النون قال النسي: اسم لما ينسى، بمنزلة البغض اسم لما يبغض، والسب اسم
لما يسب. والنسي بفتح النون: اسم لما ينسى أيضا على أنه مصدر ناب عن الاسم، كما يقال:
الرجل دنف، ودنف، فالمكسور: هو الوصف الصحيح، والمفتوح: مصدر سد مسد الوصف.
ويمكن أن يكون النسي والنسي اسمين لمعنى، كما يقال: الرطل والرطل.
وللمفسرين في قوله تعالى: * (نسيا منسيا) * خمسة أقوال:
أحدها: يا ليتني لما أكن شيئا، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد.
والثاني: " وكنت نسيا منسيا " أي: دم حيضة ملقاة، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة.
قال الفراء: النسي: ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها. وقال ابن الأنباري: هي خرق الحيض تلقيها
المرأة فلا تطلبها ولا تذكرها.
والثالث: أنه من السقط، قاله أبو العالية، والربيع.
والرابع: أن المعنى: ليتني لا يدري، من أنا، قاله قتادة.
والخامس: أنه الشئ التافه يرتحل عنه القوم، فيهون عليهم فلا يرجعون إليه، قاله ابن
السائب، وقال أبو عبيدة: النسي، والمنسي: ما ينسى من إداوة وعصا. يعني أنه ينسى في المنزل،
فلا يرجع إليه لاحتقار صاحبه إياه. وقال الكسائي: معنى الآية: ليتني كنت ما إذا ذكر لم يطلب.
قوله تعالى: * (فناداها من تحتها) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم:
" من تحتها " بفتح الميم، والتاء. قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " من
تحتها " بكسر الميم والتاء، فمن قرأ بكسر الميم، ففيه وجهان.
155

أحدهما: ناداها الملك من تحت النخلة. وقيل: كانت على نشز، فناداها الملك أسفل منها.
والثاني: ناداها عيسى لما خرج من بطنها. قال ابن عباس: كل ما رفعت إليه طرفك، فهو
فوقك، وكل ما خفضت إليه طرفك، فهو تحتك. ومن قرأ من تحتها بفتح الميم، ففيه الوجهان
المذكوران، وكان الفراء يقول: ما خاطبها إلا الملك على القراءتين جميعا.
قوله تعالى: * (قد جعل ربك تحتك سريا) * فيه قولان:
أحدهما: أنه النهر الصغير، قاله جمهور المفسرين، واللغويون، قال أبو صالح، وابن جريج:
هو الجدول بالسريانية.
والثاني: أنه عيسى كان سريا من الرجال، قاله الحسن، وعكرمة، وابن زيد، قال ابن الأنباري:
وقد رجع الحسن عن هذا القول إلى القول الأول، ولو كان وصفا لعيسى، كان غلاما سريا
أو سريا من الغلمان، وقلما تقول العرب: رأيت عندك نبيلا، حتى يقولوا: رجلا نبيلا.
فإن قيل: كيف ناسب تسليتها أن قيل: لا تحزني، فهذا نهر يجري؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنها حزنت لجدب مكانها الذي ولدت فيه، وعدم الطعام والشراب والماء الذي
يتطهر به، فقيل: لا تحزني قد أجرينا لك نهرا، وأطلعنا لك رطبا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنها حزنت لما جرى عليها من ولادة ولد عن غير زوج، فأجرى الله تعالى لها نهرا،
فجاءها من الأردن، وأخرج لها الرطب من الشجرة اليابسة، فكان ذلك آية تدل على قدرة الله عز
وجل في إيجاد عيسى، قاله مقاتل.
قوله تعالى: * (وهزي إليك) * الهز: التحريك.
والباء في قوله تعالى: * (بجذع النخلة) * فيها قولان:
أحدهما: أنها زائدة، كقوله تعالى: * (فليمدد بسبب إلى السماء) * قال الفراء: معناه: فليمدد
سببا. والعرب تقول: هزه، وهز به، وخذ الخطام وخذ بالخطام، وتعلق زيدا وتعلق به.
والثاني: أنها مؤكدة كقول الشاعر:
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
هذا مذهب أبي عبيدة.
والثالث: أنها دخلت على الجذع لتلصقه بالهز، فهي مفيدة للالصاق، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: * (تساقط) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن
عاصم: " تساقط " بالتاء مشددة السين، وقرأ حمزة، وعبد الوارث: " تساقط " بالتاء مفتوحة مخففة
156

السين، وقرأ حفص عن عاصم: " تساقط " بضم التاء وكسر القاف مخففة السين، وقرأ يعقوب، وأبو
زيد عن المفضل: " يساقط " [بالياء] مفتوحة وتشديد السين وفتح القاف. فهذه القراءات
المشاهير. وقرأ أبي بن كعب، وأبو حيوة: " يسقط " بفتح التاء وسكون السين ورفع القاف. وقرأ عبد
الله بن عمرو، وعائشة، والحسن: " يساقط " بألف وتخفيف السين ورفع الياء وكسر القاف. وقرأ
الضحاك، عمرو بن دينار: " يسقط " برفع الياء وكسر القاف مع سكون السين وعدم الألف. وقرأ
عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني مثله، إلا أنه بالتاء. وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر مثله، إلا
أنه بالنون. وقرأ أبو زرين العقيلي، وابن أبي عبلة: " يسقط " [بالتاء] مفتوحة مع سكون السين
ورفع القاف. وقرأ أبو السماك العدوي، وابن حذلم: " تتساقط " بتاءين مفتوحين وبألف. وقال
الزجاج: من قرأ " يساقط " فالمعنى: يتساقط، فأدغمت التاء في السين. ومن قرأ " تساقط " فكذلك
بالتاء والتخفيف فإنه حذف من تتساقط اجتماع يؤنث ومن قرأ تساقط بالتاء
أيضا، وأنث لأن لفظ النخلة مؤنث. ومن قرأ " تساقط " بالتاء والتخفيف، فإنه حذف من " تتساقط "
اجتماع التاءين. ومن قرأ " يساقط " ذهب إلى معنى: يساقط الجذع عليك. ومن قرأ " نساقط "
بالنون، فالمعنى: نحن نساقط عليك، فنجعله لك آية، والنحويون يقولون: إن " رطبا " منصوب
على التمييز إذا قلت: يساقط أو يتساقط، المعنى: يتساقط الجزع رطبا. وإذا قلت تساقط بالتاء،
فالمعنى: تتساقط النخلة رطبا.
قوله تعالى: * (جنيا) * قال الفراء: الجني: المجتنى، وقال ابن الأنباري: هو الطري،
والأصل: مجنو، صرف من مفعول إلى فعيل، كما يقال: قديد، وطبيخ، وقال غيره: هو الطري
بغباره; ولم يكن لتلك النخلة رأس، فأنبته الله تعالى، فلما وضعت يدها عليه، سقط الرطب رطبا
وكان السلف يستحبون للنفساء الرطب من أجل مريم عليها السلام.
قوله تعالى: * (فكلي) * أي: من الرطب * (واشربي) * من النهر * (وقري عينا) * بولادة عيسى عليه
السلام. قال الزجاج: يقال: قررت به عينا أقر، بفتح القاف، " وعينا " منصوب على التمييز.
وروى ابن الأنباري عن الأصمعي أنه قال: معنى " وقري عينا "; ولتبرد دمعتك، لأن دمعة الفرح
باردة، ودمعة الحزن حارة. واشتقاق " قري " من القرور، وهو الماء البارد. وقال لنا أحمد بن
يحيى: تفسير " قري عينا " بلغت غاية أملك حتى تقر عينك من الاستشراف إلى غيره، واحتج بقول
عمرو بن كلثوم:
- بيوم كريهة ضربا وطعنا * أقر به مواليك العيونا -
أي: ظفروا وبلغوا منتهى أمنيتهم، فقرت أعينهم من تطلع إلى غيره.
قوله تعالى: * (فأما ترين) * وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، والضحاك، وأبو
العالية، وعاصم الجحدري: " ترئن " بهمزة مكسورة من غير ياء. أي: إن رأيت من البشر أحدا
157

فقولي، وفيه إضمار تقديره: فسألك عن أمر ولدك. * (فقولي إني نذرت للرحمن صوما) * فيه قولان:
أحدهما: صمتا، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو رزين العقيلي: " صمتا " مكان قوله:
" صوما " وقرأ ابن عباس: صياما.
والثاني: صوما عن الطعام والشراب والكلام، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان المجتهد من بني
إسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام، إلا من ذكر الله عز وجل. قال السدي: فأذن لها
أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت. قال ابن مسعود: أمرت بالصمت، لأنها لم تكن لها حجة عند
الناس، فأمرت بالكف عن الكلام ليكفيها الكلام ولدها بما يبرئ به ساحتها. وقيل: كانت تكلم
الملائكة ولا تكلم الإنس. قال ابن الأنباري: الصوم في لغة العرب على أربعة معان، يقال: صوم
لترك الطعام والشراب وصوم للصمت، وصوم لضرب من الشجر، وصوم لذرق النعام.
واختلف العلماء في مقدار سن مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ولدت وهي بنت خمس عشرة سنة، قاله وهب بن منبه.
والثاني: بنت اثنتي عشرة، قاله زيد بن أسلم.
والثالث: بنت ثلاث عشرة سنة، قاله مقاتل.
فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " 27 " يا أخت هارون ما كان
أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " 28 " فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في
المهد صبيا " 29 " قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " 30 " وجعلني مباركا أين ما
كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " 31 " وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا " 32 "
والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " 33 "
قوله تعالى: * (فأتت به قومها تحمله) * قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أتتهم به بعد
أربعين يوما حين طهرت من نفاسها. وقال في رواية الضحاك: انطلق قومها يطلبونها، فلما رأتهم
حملت عيسى فتلقتهم به، فذلك قوله عز وجل: * (فأتت به قومها تحمله) *.
فإن قيل: " أتت به " يغني عن " تحمله " فما فائدة التكرير؟
فالجواب: أنه لما ظهرت منه آيات، جاز أن يتوهم السامع " فأتت به " أن يكون ساعيا على
158

قدميه، فيكون سعية آية كنطقه، فقطع ذلك التوهم، وأعلم أنه كسائر الأطفال، وهذا مثل قول
العرب: نظرت إلى فلان بعيني، فنفوا بذلك نظر العطف; والرحمة، وأثبتوا أنه نظر عين. وقال ابن
السائب: لما دخلت على قومها بكوا، وكانوا قوما صالحين; و * (قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا) *
وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: شيئا عظيما، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. قال الفراء: الفري: العظيم،
والعرب تقول: تركته يفري الفري، إذا عمل فأجاد العمل ففضل الناس، قيل هذا فيه، قال
النبي صلى الله عليه وسلم: " فما رأيت عبقريا يفري فري عمر ".
والثاني: عجبا فائقا، قاله أبو عبيدة.
والثالث: شيئا مصنوعا، ومنه يقال: فريت الكذب، وافتريته، قاله اليزيدي.
قوله تعالى: * (يا أخت هارون) * في المراد بهارون هذا خمسة أقوال:
أحدها: أنه أخ لها من أمها، وكان من أمثل فتى في بني إسرائيل، قاله أبو صالح عن ابن
عباس. وقال الضحاك: كان من أبيها وأمها.
والثاني: أنها كانت من بني هارون، قاله الضحاك عن ابن عباس. وقال السدي: كانت من
بني هارون أخي موسى عليهما السلام، فنسبت إليه، لأنها من ولده.
والثالث: أنه رجل صالح كان في بني إسرائيل، فشبهوها به في الصلاح، وهذا مروي عن ابن
عباس أيضا، وقتادة، ويدل عليه ما روى المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل
نجران، فقالوا: ألستم تقرؤون: " يا أخت هارون " وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ فلم أدر
ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم
والصالحين قبلهم ".
والربع: أن قوم هارون كان فيهم فساق وزناه، فنسبوها إليهم، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: أنه رجل من فساق بني إسرائيل شبهوها به، قاله وهب بن منبه.
فعلى هذا يخرج في معنى " الأخت " قولان:
أحدهما: أنها الأخت حقيقة.
والثاني: المشابهة، لا المناسبة، كقوله تعالى: * (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) *.
قوله تعالى: * (ما كان أبوك) * يعنون: عمران * (امرأ سوء) * أي: زانيا * (وما كانت أمك) * حنة
* (بغيا) * أي: زانية، فمن أين لك هذا الولد؟!
قوله تعالى: * (فأشارت) * أي: أومأت * (إليه) * أي: إلى عيسى فتكلم، وقيل المعنى: أشارت
159

إليه أن كلموه. وكان عيسى قد كلمها حين أتت به قومها وقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله
ومسيحه، فلما أشارت أن كلموه، تعجبوا من ذلك، و * (قالوا كيف نكلم من كان) * وفيها أربعة
أقوال:
أحدها: أنها زائدة، فالمعنى: كيف نكلم صبيا في المهد؟!
والثاني: أنها في معنى: وقع، وحدث.
والثالث: أنها في معنى الشرط والجزاء، فالمعنى: من يكن في المهد صبيا، فكيف نكلمه؟!
حكاها الزجاج واختار الأخير منها، قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل
موعظتي؟! أي: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء.
والرابع: أن " كان " بمعنى صار، قاله قطرب.
وفي المراد بالمهد قولان:
أحدهما: حجرها، قال نوف، وقتادة، والكلبي.
والثاني: سرير الصبي المعروف، حكاه الكلبي أيضا.
قال السدي: فلما سمع عيسى كلامهم، لم يزد على أن ترك الرضاع، وأقبل عليهم بوجهه،
فقال: إني عبد الله، قال المفسرون: إنما قدم ذكر العبودية، ليبطل قول من ادعى فيه الربوبية.
وفي قوله: * (آتاني الكتاب) * أسكن هذه الياء حمزة. وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: أنه آتاه الكتاب وهو في بطن أمه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقيل: علم
التوراة والإنجيل وهو في بطن أمه.
والثاني: قضى أن يؤتيني الكتاب، قاله عكرمة.
وفي " الكتاب " قولان.
أحدهما: أنه التوراة.
والثاني: الإنجيل.
قوله تعالى: * (وجعلني نبيا) * هذا وما بعده إخبار عما قضى الله له وحكم له به ومنحه إياه مما
سيظهر ويكون. قيل: المعنى: يؤتيني الكتاب ويجعلني نبيا إذا بلغت; فحل الماضي محل
المستقبل، كقوله تعالى: * (وإذ قال الله يا عيسى) *.
وفي وقت تكليمه لهم قولان:
أحدهما: أنه كلمهم بعد أربعين يوما.
والثاني: في يومه. وهو مبني على ما ذكرنا من الزمان الذي غابت عنهم فيه مريم.
160

قوله تعالى: * (وجعلني مباركا أينما كنت) * روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية
قال: " نفاعا حيثما توجهت " وقال مجاهد: معلما للخير.
وفي المراد " بالزكاة " قولان:
أحدهما: زكاة الأموال، قاله ابن السائب.
والثاني: الطهارة: قاله الزجاج.
قوله تعالى: * (وبرا بوالدتي) * قال ابن عباس: لما قال هذا، ولم يقل: " بوالدي " علموا أنه ولد
من غير بشر.
قوله تعالى: * (ولم يجعلني جبارا) * أي: متعظما * (شقيا) * عاصيا لربه * (والسلام علي يوم
ولدت) * قال المفسرون: السلامة علي من الله يوم ولدت حتى لم يضرني شيطان. وقد سبق تفسير
الآية.
فإن قيل: لم ذكر هاهنا " السلام " بألف ولام، وذكره في قصة يحيى بلا ألف ولام؟ فعنه
جوابان:
أحدهما: أنه لما جرى ذكر السلام قبل هذا الموضع بغير ألف ولام، كان الأحسن أن يرد ثانية
بألف ولام، هذا قول الزجاج.
وقد اعترض على هذا القول، فقيل: كيف يجوز أن يعطف هذا وهو قول عيسى، على الأول
وهو قول الله عز وجل؟!
وقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال: عيسى إنما يتعلم من ربه، فيجوز أن يكون سمع قول الله
في يحيى، فبنى عليه وألصقه بنفسه، ويجوز أن يكون الله عز وجل عرف السلام الثاني لأنه أتى
بعد سلام قد ذكره، وأجراه عليه غير قاصد به اتباع اللفظ المحكي، لأن المتكلم، له أن يغير بعض
الكلام الذي يحكيه، فيقول: قال عبد الله: أنا رجل منصف، يريد: قال لي عبد الله: أنت رجل
منصف.
والجواب الثاني: أن سلاما والسلام لغتان بمعنى واحد، ذكره ابن الأنباري.
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " 34 " ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه
161

إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " 35 " وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " 36 "
قوله تعالى: * (ذلك عيسى بن مريم) * قال الزجاج: أي، ذلك الذي قال: إني عبد الله، هو
ابن مريم، لا ما تقول النصارى: إنه ابن الله، وإنه إله.
قوله تعالى: * (قول الحق) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي: " قول
الحق " برفع اللام. وقرأ عاصم، وابن عامر، ويعقوب: بنصب اللام. قال الزجاج: من رفع " قول
الحق " فالمعنى: هو قول الحق، يعني هذا الكلام; ومن نصب، فالمعنى: أقول قول الحق. وذكر
ابن الأنباري في الآية وجهين:
أحدهما: أنه لما وصف بالكلمة جاز أن ينعت بالقول.
والثاني: أن في الكلام إضمارا، تقديره: ذلك نبأ عيسى، ذلك النبأ قول الحق.
قوله تعالى: * (الذي فيه يمترون) أي: يشكون. قال قتادة: امترت اليهود فيه والنصارى،
فزعم اليهود أنه ساحر، وزعم النصارى انه ابن الله وثالث ثلاثة. قرأ أبو مجلز، ومعاذ القارئ، وابن
يعمر، وأبو رجاء: " تمترون " بالتاء.
قوله تعالى: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * قال الزجاج: المعنى: أن يتخذ ولدا. و " من "
مؤكدة تدل على نفي الواحد والجماعة، أن للقائل أن يقول: ما اتخذت فرسا، يريد: اتخذت أكثر
من ذلك، وله أن يقول: ما اتخذت فرسين ولا أكثر، يريد: اتخذت فرسا واحدا; فإذا قال: ما
اتخذت من فرس، فقد دل على نفي الواحد والجميع.
قوله تعالى: * (كن فيكون) * وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة: " فيكون " بالنصب، وقد
ذكرنا وجهه في [سورة] البقرة.
قوله تعالى: * (وإن الله ربي وربكم) * قرأ ابن كثير، ونافع; وأبو عمرو: " وأن الله " بنصب
الألف، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " وإن الله " بكسر الألف. وهذا من قول
عيسى; فمن فتح، عطفه على قوله: * (وأوصاني بالصلاة والزكاة) * وبأن الله ربي; ومن كسر، ففيه
وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفا على قوله: * (إني عبد الله) *.
والثاني: أن يكون مستأنفا.
162

فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم " 37 " أسمع بهم
وأبصر بوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين " 38 " وأنذرهم يوم الحسرة إذ
قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون " 39 " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها
وإلينا يرجعون " 40 "
قوله تعالى: * (فاختلف الأحزاب من بينهم) * قال المفسرون: " من " زائدة، والمعنى: اختلفوا
بينهم. وقال ابن الأنباري: لما تمسك المؤمنون بالحق، كان اختلاف الأحزاب بين المؤمنين
مقصورا عليهم.
وفي الأحزاب قولان:
أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، فكانت اليهود تقول: إنه لغير رشدة، والنصارى تدعي فيه ما
لا يليق به.
والثاني: أنهم فرق النصارى، قال بعضهم [- يعني اليعقوبية] هو الله، وقال بعضهم:
[- يعني النسطورية] ابن الله، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة.
قوله تعالى: * (فويل للذين كفروا) * بقولهم في المسيح * (من مشهد يوم عظيم) * أي: من
حضورهم ذلك اليوم للجزاء.
قوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر) * فيه قولان:
أحدهما: أن لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر; فالمعنى: ما أسمعهم وأبصرهم حين لم ينفعهم ذلك
لأنهم شاهدوا من أمر الله ما لا يحتاجون معه إلى نظر وفكر فعلموا الهدى وأطاعوا، هذا قول الأكثرين.
والثاني: أسمع بحديثهم اليوم، وأبصر كيف يصنع بهم * (يوم يأتوننا) *، قاله أبو العالية.
قوله تعالى: * (لكن الظالمون) * يعني: المشركين والكفار * (اليوم) * يعني: في الدنيا * (في
ضلال مبين) *.
قوله تعالى: * (وأنذرهم) * أي: خوف كفار مكة * (يوم الحسرة) * يعني: يوم القيامة يتحسر
المسئ إذ لم يحسن، والمقصر إذ لم يزدد من الخير.
163

وموجبات الحسرة يوم القيامة كثيرة، فمن ذلك ما روى أبو سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قيل: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون،
وقيل: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيقال لهم: هل تعرفون
هذا؟ فيقولون: هذا الموت، فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود
فلا موت; ثم قرأ رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: * (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا
يؤمنون) * "
قال المفسرون: فهذه هي الحسرة إذا ذبح الموت، فلو مات أحد فرحا مات أهل الجنة، ولو
مات أحد حزنا مات أهل النار
ومن موجبات الحسرة: روى عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى يوم القيامة
بناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها، نودوا: أن اصرفوهم
عنها، لا نصيب لهم فيها، فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها. فيقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار
قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا; قال: ذلك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم،
وإذا لقيتم الناس لقيتوهم مخبتين، تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هبتم الناس ولم تهابوني،
وأجللتم الناس ولم تجلوني، تركتم للناس ولم تتركوا لي، فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتكم من
الثواب.
ومن موجبات الحسرة ما روي عن ابن مسعود قال: ليس من نفس يوم القيامة إلا وهي تنظر
إلى بيت في الجنة، وبيت في النار، ثم يقال: يعني لهؤلاء: لو عملتم، ولأهل الجنة، لولا أن من
الله عليكم.
ومن موجبات الحسرة: قطع الرجاء عند إطباق النار على أهلها.
قوله تعالى: * (إذ قضي الأمر) * قال ابن الأنباري: " قضي " في اللغة بمعنى: أتقن وأحكم،
وإنما سمي الحاكم قاضيا، لإتقانه، وإحكامه ما ينفذ. وفي الآية اختصار، والمعنى: إذ قضي الأمر
الذي فيه هلاكهم.
وللمفسرين في الأمر قولان:
أحدهما: أنه ذبح الموت، قاله ابن جريج، والسدي.
والثاني: أن المعنى: قضي العذاب لهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: * (وهم في غفلة) * عما يصنع بهم ذلك اليوم * (وهم لا يؤمنون) * بما يكون في الآخرة.
164

قوله تعالى: * (إنا نحن نرث الأرض) * أي: نميت سكانها فنرثها * (ومن عليها وإلينا يرجعون) *
بعد الموت.
فإن قيل: ما الفائدة في " نحن " وقد كفت عنها " إنا "؟.
فالجواب: أنه لما جاز في قول المعظم: " إنا نفعل " أن يوهم أن أتباعه فعلوا، وأبانت " نحن "
بأن الفعل مضاف إليه حقيقة.
فإن قيل: فلم قال: " ومن عليها " وهو يرث الآدميين وغيرهم؟!
فالجواب: أن " من " تختص أهل التمييز، وغير المميزين يدخلون في معنى الأرض ويجرون
مجراها، ذكر الجوابين عن السؤالين ابن الأنباري.
واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا " 41 " إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد مالا
يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا " 42 " يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني
أهدك صراطا سويا " 43 " يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا " 44 "
يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا " 45 " قال أراغب
أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا " 46 " قال سلام عليك سأستغفر
لك ربي إنه كان بي حفيا " 47 " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي عسى ألا أكون
بدعاء ربي شقيا " 48 " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا
جعلنا نبيا " 49 " ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا " 50 "
قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب إبراهيم) * أي: أذكر لقومك قصته. وقد سبق معنى الصديق.
قوله تعالى: * (ولا يغني عنك شيئا) * أي: لا يدفع عنك ضرا.
قوله تعالى: * (إني قد جاءني من العلم) * بالله والمعرفة * (ما لم يأتك) *.
قوله تعالى: * (لا تعبد الشيطان) * أي: لا تطعه فيما يأمر به من الكفر والمعاصي. وقد شرحنا
165

معنى " كان " آنفا. و * (عصيا) * أي: عاصيا، فهو " فعيل " بمعنى " فاعل ".
قوله تعالى: * (إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) * قال مقاتل: في الآخرة; وقال
غيره: في الدنيا، * (فتكون للشيطان وليا) * أي: قريبا في عذاب الله، فجرت المقارنة مجرى
الموالاة. وقيل: إنما طمع إبراهيم في إيمان أبيه، لأنه حين خرج من النار قاله له: نعم الإله إلهك
يا إبراهيم، فحينئذ أقبل يعظه، فأجابه أبوه: * (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) *! أي: أتارك
عبادتها أنت؟! * (لئن لم تنته) * عن عيبها وشتمها * (لأرجمنك) * وفيه قولان:
أحدهما: بالشتم والقول، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: بالحجارة حتى تتباعد عني، قاله الحسن.
قوله تعالى: * (واهجرني مليا) * فيه قولان:
أحدهما: اهجرني طويلا، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والفراء،
والأكثرون. قال ابن قتيبة: اهجرني حينا طويلا، ومنه يقال: تمليت حبيبك.
والثاني: اجتنبني سالما قبل أن تصيبك عقوبتي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال
قتادة، والضحاك; فعلى هذا يكون من قولهم: فلام ملي بكذا وكذا: إذا كان مضطلعا به،
فالمعنى: اهجرني وعرضك وافر، وأنت سليم من أذاي، قاله ابن جرير.
قوله تعالى: * (قال سلام عليك) * أي: سلمت من أن أصيبك بمكروه، وذلك أنه لم يؤمر بقتاله على
كفره، * (سأستغفر لك ربي) * فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: سأسأل الله لك توبة تنال بها مغفرته.
والثاني: أنه وعده الاستغفار وهو لا يعلم أن ذلك محظور في حق المصرين على الكفر،
ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى: * (إنه كان بي حفيا) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لطيفا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، والزجاج.
والثاني: رحيما، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: بارا عودني منه الإجابة إذا دعوته، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: * (وأعتزلكم) * أي: وأتنحى منه عنكم، * (و) * أعتزل * (ما تدعون من دون الله) * يعني
الأصنام.
وفي معنى " تدعون " قولان:
أحدهما: تعبدون.
والثاني: أن المعنى: وما تدعونه ربا، * (وأدعو ربي) * أي: وأعبده * (عسى ألا أكون بدعاء
166

ربي شقيا) * أي: أرجو أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام، لأنها لا تنفعهم ولا تجيب
دعاءهم * (فلما اعتزلهم) * قال المفسرون: هاجر عنهم إلى أرض الشام، فوهب الله له إسحاق
ويعقوب، فآنس الله وحشته عن فراق قومه بأولاد كرام. قال أبو سليمان: وإنما وهب له إسحاق
ويعقوب بعد إسماعيل.
قوله تعالى: * (وكلا) * أي: وكلا من هذين. وقال مقاتل: * (وكلا) * يعني: إبراهيم وإسحاق
ويعقوب * (جعلناه نبيا) *.
قوله تعالى: * (ووهبنا لهم من رحمتنا) * قال المفسرون: المال والولد والعلم والعمل،
* (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) *: أي: ذكرا حسنا في الناس مرتفعا، فجميع أهل الأديان يتولون
إبراهيم وذريته ويثنون عليهم، فوضع اللسان مكان القول، لأن القول يكون باللسان.
واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا " 51 " وناديناه من جانب الطور
الأيمن وقربناه نجيا " 52 " ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا " 53 "
قوله تعالى: * (إنه كان مخلصا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والمفضل عن
عاصم: " مخلصا " بكسر اللام. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم بفتح اللام. قال
الزجاج: المخلص، بكسر اللام: الذي وحد الله، وجعل نفسه خالصة في طاعة الله غير دنسة،
والمخلص، بفتح اللام: الذي أخلصه الله، وجعله مختارا خالصا من الدنس.
قوله تعالى: * (وكان رسولا) * قال ابن الأنباري: إنما أعاد * (كان) * لتفخيم النبي المذكور.
قوله تعالى: * (وناديناه من جانب الطور) * أي: من ناحية الطور، وهو جبل بين مصر ومدين
اسمه زبير. قال ابن الأنباري: خاطب الله العرب بما يستعملون في لغتهم، ومن كلامهم: عن يمين
القبلة وشمالها، يعنون: مما يلي يمين المستقبل لها وشماله، فنقلوا الوصف إلى ذلك اتساعا عند
انكشاف المعنى، لأن الوادي لا يد له فيكون له يمين. وقال المفسرون: جاء النداء عن يمين
موسى، فلهذا قال: " الأيمن "; ولم يرد به يمين الجبل.
قوله تعالى: * (وقربناه نجيا) * قال ابن الأنباري: معناه: مناجيا، فعبر " فعيل " عن مفاعل، كما
قالوا: فلان خليطي وعشيري: يعنون: مخالطي ومعاشري. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في
قوله: " وقربناه " قال: حتى سمع صريف القلم حين كتب له في الألواح.
167

قوله تعالى: * (ووهبنا له من رحمتنا) * أي: من نعمتنا عليه إذ أجبنا دعاءه حين سأل أن نجعل
معه أخاه وزيرا له.
واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا " 54 " وكان يأمر أهله
بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا " 55 " واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا
نبيا " 56 " ورفعناه مكانا عليا " 57 "
قوله تعالى: * (إنه كان صادق الوعد) * هذا عام فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس،
وقال مجاهد: لم يعد ربه بوعد قط إلا وفي له به.
فإن قيل: كيف خص بصدق الوعد إسماعيل، وليس في الأنبياء من ليس كذلك؟
فالجواب: أن إسماعيل عانى في الوفاء بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء، فأثني عليه
بذلك. وذكر المفسرون: أنه كان بينه وبين رجل ميعاد، فأقام ينتظره مدة فيها لهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أقام حولا، قاله ابن عباس.
والثاني: اثنين وعشرين يوما، قاله الرقاشي.
والثالث: ثلاثة أيام، قاله مقاتل.
قوله تعالى: * (وكان رسولا) * إلى قومه، وهم جرهم. * (وكان يأمر أهله) * قال مقاتل: يعني:
قومه. وقال الزجاج: أهله جميع أمته. فأما الصلاة والزكاة، فهما العبادتان المعروفتان.
قوله تعالى: * (ورفعناه مكانا عليا) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه في السماء الرابعة، روى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث مالك بن
صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج: أنه رأى إدريس في السماء الرابعة، وبهذا قال أبو
سعيد الخدري، ومجاهد، وأبو العالية.
والثاني: أنه في السماء السادسة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
والثالث: أنه في الجنة، قاله زيد بن أسلم، وهذا يرجع إلى الأول، لأنه قد روي أن الجنة في
السماء الرابعة.
والرابع: أنه في السماء السابعة، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
وفي سبب صعوده إلى السماء ثلاثة أقوال:
168

أحدها: أنه كان يصعد له من العمل مثل ما يصعد لجميع بني آدم; فأحبه ملك الموت، فاستأذن
الله في خلته، فأذن له، فهبط إليه في صورة آدمي، يقول يصحبه، فلما عرفه، قال: إني أسألك
حاجة، قال: ما هي؟ قال: تذيقني الموت، فلعلي أعلم ما شدته فأكون له أشد استعدادا; فأوحى
الله إليه أن اقبض روحة ساعة ثم أرسله، ففعل، ثم قال: كيف رأيت؟ قال: كان أشد مما بلغني
عنه، وإني أحب أن تريني النار، قال: فحمله، فأراه إياها; قال: إني أحب أن تريني الجنة، فأراه
إياها، فلما دخلها وطاف فيها، قال له ملك الموت: اخرج، فقال: والله لا أخرج حتى يكون الله
تعالى يخرجني; فبعث الله ملكا فحكم بينهما، فقال: ما تقول يا ملك الموت؟ فقص عليه ما جرى;
فقال: ما تقول يا إدريس؟ قال: إن الله تعالى قال: * (كل نفس ذائقة الموت) * وقد ذقته، وقال: * (وإن
منكم إلا واردها) * وقد وردتها، وقال لأهل الجنة: * (وما هم منها بمخرجين) *، فوالله لا
أخرج حتى يكون الله يخرجني; فسمع هاتفا من فوقه يقول: بإذني دخل، وبأمري فعل، فخل
سبيله; هذا معنى ما رواه زيد بن أسلم مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن سأل سائل فقال: من أين لإدريس هذه الآيات، وهي في كتابنا؟! فقد ذكر ابن الأنباري
عن بعض العلماء، قال: كان الله تعالى قد أعلم إدريس بما ذكر في القرآن من وجوب الورود،
وامتناع الخروج من الجنة، وغير ذلك; فقال ما قاله بعلم.
والثاني: أن ملكا من الملائكة استأذن ربه أن يهبط إلى إدريس، فأذن له، فلما عرفه إدريس،
قال: هل بينك وبين ملك الموت قرابة؟ قال: ذاك أخي من الملائكة، قال: هل تستطيع أن تنفعني
عند ملك الموت؟ قال: سأكلمه فيك، فيرفق بك، اركب بين جناحي، فركب إدريس، فصعد به
إلى السماء فلقي ملك الموت، فقال: إن لي إليك حاجة، قال; أعلم ما حاجتك، تكلمني في
إدريس وقد محي اسمه من الصحيفة ولم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين؟! فمات إدريس بين
جناحي الملك، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال أبو صالح عن ابن عباس: فقبض ملك الموت روح
إدريس في السماء السادسة.
والثالث: أن إدريس مشى يوما في الشمس، فأصابه وهجها، فقال: اللهم خفف ثقلها عمن
يحملها، يعني به الملك الموكل بالشمس، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها مالا
يعرف، فسأل الله تعالى عن ذلك، فقال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها،
فأجبته، فقال: يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيننا خلة، فأذن له، فأتاه، فكان فيما قاله إدريس:
اشفع لي إلى ملك الموت ليؤخر أجلي، فقال: إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، ولكن أكلمه
فيك، فما كان مستطيعا أن يفعل بأحد من بني آدم فعل بك ثم حمله الملك على جناحه، فرفعه
169

إلى السماء، فوضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت فقال: إن لي إليك حاجة صديق لي
من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله، قال: ليس ذاك إلي، ولكن إن أحببت أعلمته متى يموت،
فنظر في ديوانه، فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا، ولا أجده يموت إلا عند مطلع
الشمس، قال: إني أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق، فما أراك تجده إلا ميتا، فوالله ما بقي من
أجله شئ، فرجع الملك فرآه ميتا. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وكعب في آخرين. فهذا
القول والذي قبله يدلان على أنه ميت، والقول الأول يدل على أنه حي.
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية
إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا " 58 "
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " 59 " إلا
من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا " 60 " جنات عدن
التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا " 61 " لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم
رزقهم فيها بكرة وعشيا " 62 " تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا " 63 " وما
نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا " 64 "
رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا " 65 "
قوله تعالى: * (أولئك) * يعني الذين ذكرهم من الأنبياء في هذه السورة * (من ذرية آدم) * يعني
إدريس * (وممن حملنا مع نوح) * يعني إبراهيم، لأنه من ولد سام بن نوح * (ومن ذرية إبراهيم) * يريد:
إسماعيل وإسحاق ويعقوب * (وإسرائيل) * وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى.
قوله تعالى: * (وممن هدينا) * أي: وهؤلاء كانوا ممن أرشدنا، * (واجتبينا) * أي: واصطفينا.
قوله تعالى: * (خروا سجدا) * قال الزجاج: " سجدا " حال مقدرة، المعنى: خروا مقدرين
السجود، لأن الإنسان في حال خروره لا يكون ساجدا، ف‍ " سجدا " منصوب على الحال، وهو
جمع ساجد * (وبكيا) * معطوف عليه، وهو جمع باك فقد بين الله تعالى أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا
آيات الله سجدوا وبكوا من خشية الله.
170

قوله تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف) * قد شرحناه في [سورة] الأعراف.
وفي المراد بهذا الخلف ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم اليهود، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله السدي.
والثالث: أنهم من هذه الأمة، يأتون عند ذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم يتبارون بالزنا، ينزو
بعضهم على بعض في الأزقة زناة، قاله مجاهد، وقتادة.
قوله تعالى: * (أضاعوا الصلاة) * وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين العقيلي، والحسن البصري:
" الصلوات " على الجمع.
وفي المراد بإضاعتهم حتى إياها قولان:
أحدهما: أنهم أخروها عن وقتها، قاله ابن مسعود، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم
ابن مخيمرة.
والثاني: تركوها، قاله القرظي، واختاره الزجاج.
قوله تعالى: * (واتبعوا الشهوات) * قال أبو سليمان الدمشقي: وذلك مثل استماع الغناء، وشرب
الخمر، والزنا، واللهو، وما شاكل ذلك مما يقطع عن أداء فرائض الله عز وجل.
قوله تعالى: * (فسوف يلقون غيا) * ليس معنى هذا اللقاء مجرد الرؤية، وإنما المراد به الاجتماع والملابسة مع الرؤية.
وفي المراد بهذا الغي ستة أقوال:
أحدها: أنه واد في جهنم، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال كعب.
والثاني: أنه نهر في جهنم، قاله ابن مسعود.
والثالث: أنه الخسران، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والرابع: أنه العذاب، قاله مجاهد.
والخامس: أنه الشر، قاله ابن زيد، وابن السائب.
والسادس: أن المعنى: فسوف يلقون مجازاة الغي، كقوله: * (يلق أثاما) * أي: مجازاة الآثام،
قاله الزجاج.
قوله تعالى: * (إلا من تاب وآمن) * فيه قولان:
أحدهما: تاب من الشرك، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل.
171

والثاني: تاب من التقصير في الصلاة، وآمن من اليهود والنصارى.
قوله تعالى: * (جنات عدن) * وقرأ أبو رزين العقيلي، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة:
" جنات " برفع التاء. وقرأ الحسن البصري، والشعبي، وابن السميفع: " جنة عدن " على التوحيد مع
رفع التاء. وقرأ أبو مجلز، وأبو المتوكل الناجي: " جنة عدن " على التوحيد مع نصب التاء. وقوله.
* (التي وعد الرحمن عبادة بالغيب) * أي: وعدهم بها، ولم يروها، فهي غائبة عنهم
قوله تعالى: * (إنه كان وعده مأتيا) * فيه قولان:
أحدهما: آتيا، قال ابن قتيبة: وهو " مفعول " في معنى " فاعل " وهو قليل أن يأتي الفاعل على
لفظ المفعول به. وقال الفراء: إنما لم يقل: آتيا، لأن كل ما أتاك، فأنت تأتيه; ألا ترى أنك
تقول: أتيت على خمسين سنة، وأتت على خمسون.
والثاني: مبلوغا إليه، قاله ابن الأنباري. وقال ابن جريج: " وعده " هاهنا: موعوده، وهو
الجنة، و " مأتيا ": يأتيه أولياؤه.
قوله تعالى: * (لا يسمعون فيها لغوا) * فيه قولان:
أحدهما: أنه التخالف عند شرب الخمر، قاله مقاتل.
والثاني: ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه، قاله الزجاج. وقال ابن الأنباري: اللغو في العربية:
الفاسد المطرح.
قوله تعالى: * (إلا سلاما) * قال أبو عبيدة: السلام ليس من اللغو، والعرب تستثني الشئ بعد
الشئ وليس منه، وذلك أنها تضمر فيه، فالمعنى: إلا أنها يسمعون فيها سلاما. وقال ابن
الأنباري: استثنى السلام من غير جنسه، وفي ذلك توكيد للمعنى المقصود، لأنهم إذ لم يسمعوا من
اللغو إلا السلام، فليس يسمعون لغوا البتة، وكذلك قوله: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) *.
إذا لم يخرج من عداوتهم لي غير رب العالمين، فكلهم عدو.
وفي معنى هذا السلام قولان:
أحدهما: أنه تسليم الملائكة عليهم، قاله مقاتل.
والثاني: أنهم لا يسمعون إلا ما يسلمهم، ولا يسمعون ما يؤثمهم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * قال المفسرون: ليس في الجنة بكرة ولا عشية،
ولكنهم يؤتون برزقهم - على مقدار ما كانوا يعرفون - في الغداة والعشي. قال الحسن: كانت العرب
لا تعرف شيئا من العيش أفضل من الغداء والعشاء، فذكر الله لهم ذلك. وقال قتادة: كانت العرب
172

إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجب به، فأخبر الله أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيا على
قدر ذلك الوقت، وليس ثم ليل ولا نهار، وإنما هو ضوء ونور. وروى الوليد بن مسلم، قال: سألت
زهير بن محمد عن قوله تعالى: * (بكرة وعشيا) * فقال: ليس في الجنة ليل ولا نهار، هم في نور
أبدا، ولهم مقدار الليل والنهار، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون
مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب.
قوله تعالى: * (تلك الجنة) * الإشارة إلى قوله * (فأولئك يدخلون الجنة) *.
قوله تعالى: * (نورث) * وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وقتادة، وابن أبي
عبلة: بفتح الواو وتشديد الراء. قال المفسرون: ومعنى " نورث " نعطي، فيكون كالميراث لهم من جهة
أنها تمليك مستأنف. وقد شرحنا هذا في [سورة] الأعراف.
قوله تعالى: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر: " وما يتنزل " بياء
مفتوحة.
وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلو قال: " يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا "، فنزلت هذه الآية، رواه
سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أن الملك أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه، قال: " قد فعلت "،
قال: وما لي لا أفعل، وأنتم لا تتسوكون، ولا تقصون أظفاركم، ولا تنقون براجمكم، فنزلت
الآية، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري: البراجم عند العرب: الفصوص التي في ظهور
الأصابع، تبدو إذا جمعت، وتغمض إذا بسطت. والرواجب: ما بين البراجم، بين كل برجمتين
راجبة.
والثالث: أن جبريل احتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف، وذي
القرنين، والروح، فلم يدر ما يجيبهم، ورجا أن يأتيه جبريل بجواب، فأبطأ عليه، فشق على
رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة، فلما نزل جبريل قال له: " أبطأت علي حتى ساء ظني، واشتقت إليك "
فقال جبريل: إني كنت أشوق، ولكني عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست،
فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة، وقتادة، والضحاك.
وفي سبب احتباس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولان:
أحدهما: لامتناع أصحابه من كمال النظافة، كما ذكرنا في حديث مجاهد.
173

والثاني: لأنهم سألوه عن قصة أصحاب الكهف، فقال: " غدا أخبركم "، ولم يقل: إن شاء
الله; وقد سبق هذا في سورة * (الكهف) *
وفي مقدار احتباسه عنه خمسة أقوال:
أحدها: خمسة عشر يوما; وقد ذكرناه في * (الكهف) * عن ابن عباس.
والثاني: أربعون يوما، قاله عكرمة، ومقاتل.
والثالث: اثنتا عشرة ليلة، قاله مجاهد.
والرابع: ثلاثة أيام، حكاه مقاتل.
والخامس: خمسة وعشرون يوما، حكاه الثعلبي. وقيل: إن سورة * (الضحى) * نزلت في هذا
السبب. والمفسرون على أن قوله: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * قول جبريل. وحكى الماوردي: أنه
قول أهل الجنة إذا دخلوها، فالمعنى: ما ننزل هذه الجنان إلا بأمر الله. وقيل: ما ننزل موضعا
من الجنة إلا بأمر الله.
وفي قوله * (ما بين أيدينا وما خلفنا) * قولان:
أحدهما: ما بين أيدينا: الآخرة، وما خلفنا: الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن
جبير، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: ما بين أيدينا: ما مضى من الدنيا، وما خلفنا من الآخرة، فهو عكس ما بين أيدينا:
قبل أن نخلق، وما خلفنا بعد الفناء.
وفي قوله تعالى: * (وما بين ذلك) * ثلاثة أقوال:
أحدها: ما بين الدنيا والآخرة، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: ما بين النفختين، قاله مجاهد، وعكرمة، وأبو العالية.
والثاني: حين كوننا، قاله الأخفش. قال ابن الأنباري: وإنما وحد ذلك، والإشارة إلى
شيئين:
أحدهما: " ما بين أيدينا ".
والثاني: " ما خلفنا "، لأن العرب توقع ذلك على الاثنين والجمع.
قوله تعالى: * (وما كان ربك نسيا) * النسي، بمعنى الناسي.
وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: ما كان تاركا لك منذ أبطأ الوحي عنك، قاله ابن عباس. قال مقاتل: ما نسيك عند
انقطاع الوحي عنك.
174

والثاني: أنه عالم بما كان ويكون، لا ينسى شيئا، قاله الزجاج.
قوله تعالى: * (فاعبده) * أي: وحده، لأن عبادته بالشرك ليست عبادة، * (واصطبر لعبادته) *
أي: اصبر على توحيده وأمره ونهيه.
قوله تعالى: * (هل تعلم له سميا) * روى هارون عن أبي عمرو أنه كان يدغم " هل تعلم "،
ووجهه أن سيبويه يجيز إدغام اللام في التاء والثاء والدال والزاي والسين والصاد والطاء، لأن آخر
مخرج من اللام قريب من مخارجهن، قال أبو عبيدة: إذا كان بعد " هل " تاء، ففيه لغتان وبعضهم
يبين لام " هل "، وبعضهم يدغمها.
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: مثلا وشبها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد،
وقتادة.
والثاني: هل تعلم أحدا يسمى " الله " غيره، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: هل تعلم أحدا يستحق أن يقال له: خالق وقادر، إلا هو، قاله الزجاج.
ويقول الإنسان إذا ما مت لسوف أخرج حيا " 66 " أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه
من قبل ولم يك شيئا " 67 " فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم
جثيا " 68 " ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا " 69 " ثم لنحن أعلم بالذين
هم أولى بها صليا " 70 " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " 71 " ثم ننجي الذين
اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا " 72 "
قوله تعالى: * (ويقول الإنسان) * سبب نزولها أن أبي بن خلف أخذ عظما بالياء، فجعل يفته
بيده ويذريه في الريح ويقول: زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نكون مثل هذا العظم البالي،
فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وروى عطاء عن ابن عباس: أنه الوليد بن
المغيرة.
قوله تعالى: * (لسوف أخرج حيا) * إن قيل: ظاهره ظاهر سؤال، فأين جوابه؟ فعنه ثلاثة أجوبة
ذكرها ابن الأنباري:
175

أحدها: أن ظاهر الكلام استفهام، ومعناه معنى جحد وإنكار، تلخيصه: لست مبعوثا بعد
الموت.
والثاني: أنه لما استفهم بهذا الكلام عن البعث، أجابه الله عز وجل بقوله: * (أولا يذكر
الإنسان) *، فهو مشتمل على معنى: نعم، وأنت مبعوث.
والثالث: أن جواب سؤال هذا الكافر في يس عند قوله عز وجل: * (وضرب لنا مثلا) *، ولا
ينكر بعد الجواب، لأن القرآن كله بمنزلة الرسالة الواحدة، والسورتان مكيتان.
قوله تعالى: * (أولا يذكر الإنسان) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بفتح الذال
مشددة الكاف. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر: " يذكر " ساكنة الذال خفيفة. وقرأ أبي بن كعب،
وأبو المتوكل الناجي: بياء وتاء. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي،
والحسن: " يذكر " بياء من غير تاء ساكنة الذال مخففة مرفوعة الكاف، والمعنى: أولا يتذكر هذا
الجاحد أول خلقه، فيستدل بالابتداء على الإعادة؟! * (فوربك لنحشرنهم) * يعني: المكذبين بالبعث
* (والشياطين) * أي: مع الشياطين، وذلك أن كل كافر يحشر مع شيطانه في سلسلة، * (ثم
لنحضرنهم حول جهنم) * قال مقاتل: أي: في جهنم، وذلك أن حول الشئ يجوز أن يكون
داخله، تقول: جلس القوم حول البيت: إذا جلسوا داخله مطيفين به. وقيل: يجثون حولها قبل أن
يدخلوها.
فأما قوله: * (جثيا) * فقال الزجاج: هو جمع جاث، مثل قاعد وقعود، وهو منصوب على
الحال، والأصل ضم الجيم، وجاء كسرها اتباعا لكسرة الثاء.
وللمفسرين في معناه خمسة أقوال:
أحدها: قعودا، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: جماعات جماعات، وروي عن ابن عباس أيضا. فعلى هذا هو جمع جثوة وهي المجموع
من التراب والحجارة.
والثالث: جثيا على الركب، قاله الحسن، ومجاهد والزجاج.
والرابع: قياما، قاله أبو مالك.
والخامس: قياما على ركبهم، قاله السدي، وذلك لضيق المكان بهم.
قوله تعالى: * (لننزعن من كل شيعة) * أي: لنأخذن من كل فرقة وأمة وأهل دين * (أيهم أشد
176

على الرحمن عتيا) * أي: أعظمهم له معصية، والمعنى: أنه يبدأ بتعذيب الأعتى فالأعتى، وبالأكابر
جرما، والرؤوس القادة في الشر. قال الزجاج: وفي رفع " أيهم " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على الاستئناف، ولم تعمل: " لننزعن " شيئا، هذا قول يونس.
والثاني: أنه على معنى الذي يقال لهم: أيهم أشد على الرحمن عتيا؟ قاله الخليل، واختاره
الزجاج، وقال: التأويل: لننزعن الذي من أجل عتوه يقال: أي هؤلاء أشد عتيا؟ وأنشد:
- ولقد أبيت عن الفتاة بمنزل * فأبيت لا حرج ولا محروم -
أي: أبيت بمنزلة الذي يقال له: لا هو حرج ولا محرم.
والثالث: أن " أيهم " مبنية على الضم، لأنه خالفت أخواتها، فالمعنى: أيهم هو أفضل.
وبيان خلافها لأخواتها انك تقول: اضرب أيهم أفضل. ولا يحسن: اضرب من أفضل، حتى
تقول: من هو أفضل، ولا يحسن: كل ما أطيب، حتى تقول: ما هو أطيب، ولا خذ ما أفضل،
حتى تقول: الذي هو أفضل، فلما خالفت " ما " و " من " و " الذي " بنيت على الضم، قاله سيبويه.
قوله تعالى: * (هم أولى بها صليا) * يعني: أن الأولى بها صليا الذين هم أشد عتيا فيبتدأ بهم
قبل أتباعهم. و " صليا " منصوب على التفسير، يقال: صلي النار يصلاها: إذا دخلها وقاسى حرها.
قوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها) * في الكلام إضمار تقديره: وما منكم أحد إلا وهو
واردها.
وفيمن عني بهذا الخطاب قولان:
أحدهما: أنه عام في حق المؤمن والكافر، هذا قول الأكثرين. وروي عن ابن عباس أنه
قال: هذه الآية للكفار. وأكثر الروايات عنه كالقول الأول. قال ابن الأنباري; ووجه هذا أنه لما
قال: " لنحضرنهم " وقال " أيهم أشد على الرحمن عتيا " كان التقدير; وإن منهم، فأبدلت الكاف
من الهاء، كما فعل في قوله: * (إن هذا كان لكم جزاء) * المعنى: كان لهم، لأنه مردود على
قوله: * (وسقاهم ربهم) *، وقال الشاعر:
- شطت مزار العاشقين فأصبحت * عسرا علي طلابك ابنة مخرم -
أراد: طلابها. وفي هذا الورود خمسة أقوال:
أحدها: أنه الدخول. روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الورود: الدخول لا
يبقى بر ولا فاجر إلا دخله، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن
177

للنار - أو قال: لجهنم - ضجيجا من بردهم ". وروي عن ابن عباس أنه سأله نافع بن الأزرق عن
هذه الآية، فقال له: " أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر أيخرجنا الله عز وجل منها، أم لا؟ فاحتج
بقوله تعالى * (فأوردهم النار) * وبقوله تعالى: * (أنتم لها واردون) *. وكان عبد الله بن رواحة
يبكي ويقول: أنبئت أني وارد، ولم أنبأ أني صادر. وحكى الحسن البصري: أن رجلا قال لأخيه: يا
أخي هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم; قال: فهل أتاك أنك خارج منها؟ قال: لا; قال: ففيم
الضحك؟! وقال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة، قالوا: ألم يعدنا ربنا أن نرد النار؟
فيقال لهم: بلى، ولكن مررتم بها وهي خامدة.
وممن ذهب إلى أنه الدخول: الحسن في رواية، وأبو مالك. وقد اعترض على أرباب هذا
القول بأشياء. فقال الزجاج: العرب تقول: وردت بلد كذا، ووردت ماء كذا: إذا أشرفوا عليه وإن
لم يدخلوا، ومنه قوله تعالى: * (ولما ورد ماء مدين) * والحجة القاطعة في هذا القول قوله تعالى:
* (أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها) *، وقال زهير:
- فلما وردن الماء زرقا جمامه * وضعن عصي الحاضر المتخيم -
أي: لما بلغن الماء قمن عليه.
قلت: وقد أجاب بعضهم عن هذه الحجج، فقال: أما الآية الأولى، فإن موسى لما أقام حتى
استقى الماء وسقى الغنم، كان بلبثه ومباشرته كأنه دخل، وأما الآية الأخرى; فإنها تضمنت الإخبار
عن أهل الجنة حين كونهم فيها، وحينئذ لا يسمعون حسيسها. وقد روينا آنفا عن خالد بن معدان
أنهم يمرون بها، ولا يعلمون.
والثاني: أن الورود: الممر عليها، قاله عبد الله بن مسعود، وقتادة. وقال ابن مسعود: يرد
الناس النار، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم
كشد الرحل، ثم كمشية.
والثالث: أو ورودها: حضورها، قاله عبيد بن عمير.
والرابع: أو ورود المسلمين: المرور على الجسر، وورود المشركين: دخولها. قاله ابن
زيد.
والخامس: أن ورود المؤمن إليها: ما يصيبه من الحمى في الدنيا، روى عثمان بن الأسود
عن مجاهد أنه قال: الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ: * (وإن منكم إلا واردها) * فعلى هذا
178

من حم من المسلمين، فقد وردها.
قوله تعالى: * (كان على ربك) * يعني: الورود حتما والحتم: ايجاب القضاء، والقطع
بالأمر. والمقضي: الذي قضاه الله تعالى، والمعنى: إنه حتم ذلك وقضاه على الخلق.
قوله تعالى: * (ثم ننجي الذين اتقوا) * وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن يعمر، وابن أبي
ليلى، وعاصم الجحدري: " ثم " بفتح الثاء. وقرأ الكسائي، ويعقوب: " ننجي " مخففة.
وقرأت عائشة، وأبو بحرية، وأبو الجوزاء الربعي: " ثم ينجي " بياء مرفوعة قبل النون خفيفة
الجيم مكسورة. وقرأ أبي بن كعب، وأبو مجلز، وابن السميفع، وأبو رجاء: " ننحي " بحاء غير
معجمة مشددة. وهذه الآية يحتج بها القائلون بدخول جميع الخلق، لأن النجاة: تخليص الواقع
في الشئ، ويؤكده قوله تعالى: * (ونذر الظالمين فيها) * ولم يقل: وندخلهم; وإنما يقال: نذر
وترك لمن قد حصل في مكانه. ومن قال: إن الورود للكفار خاصة، قال: معنى هذا الكلام:
نخرج المتقين من جملة من يدخل النار. والمراد بالمتقين: الذين اتقوا الشرك، وبالظالمين:
الكفار، وقد سبق معنى قوله عز وجل: * (جثيا) *
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما
وأحسن نديا " 73 " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا " 74 "
قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم) * يعني: المشركين (آياتنا) يعني: القرآن * (قال الذين
كفرا) * يعني: مشركي قريش * (للذين آمنوا) * أي: لفقراء المؤمنين * (أي الفريقين خير مقاما) *
قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، وحفص عن عاصم مقاما بفتح
الميم وقرأ ابن كثير بضم الميم. قال أبو علي الفارسي: المقام: اسم المثوى، إن فتحت الميم
أو ضمت.
قوله تعالى: * (وأحسن نديا) * والندي والنادي: مجلس القوم ومجتمعهم. وقال الفراء:
الندي والنادي، لغتان. ومعنى الكلام: أنحن خير، أم أنتم؟ فافتخروا عليهم بالمساكن
والمجالس، فأجابهم الله تعالى فقال: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) * وقد بينا معنى القرن في
179

الأنعام وشرحنا الأثاث في النحل.
فأما قوله تعالى: * (ورئيا) * فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي:
" ورئيا " بهمزة بين الراء والياء في وزن: " رعيا "; قال الزجاج: ومعناها: منظرا، من
" رأيت ".
وقرأ نافع، وابن عامر: " ريا " بياء مشددة من غير همز، قال الزجاج: لها تفسيران.
أحدهما: أنها بمعنى الأولى. والثاني: أنها من الري، فالمعنى: منظرهم مرتو ولا من النعمة، كأن
النعيم بين فيهم.
وقرأ ابن عباس، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن أبي سريج عن الكسائي: " زيا "
بالزاي المعجمة مع تشديد الياء من غير همز. قال الزجاج: ومعناها: حسن هيئتهم.
قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما
الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا " 75 " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى
والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا " 76 "
قوله تعالى: * (قل من كان في الضلالة) * أي: في الكفر والعمى عن التوحيد * (فليمدد له
الرحمن) * قال الزجاج: وهذا لفظ أمر، ومعناه الخبر، والمعنى: أن الله تعالى جعل جزاء ضلالته
أن يتركه فيها. قال ابن الأنباري: خاطب الله العرب بلسانها، وهي تقصد التوكيد للخبر بذكر
الأمر، يقول أحدهم: إن زارنا عبد الله فلنكرمه، يقصد التوكيد، وينبه على أني ألزم نفسي
إكرامه; ويجوز أن تكون اللام لام الدعاء على معنى: قل يا محمد: من كان في الضلالة فاللهم
مد له في العمر مدا. قال المفسرون: ومعنى مد الله تعالى له: إمهاله في الغي. * (حتى إذا
رأوا) * يعني الذين مدهم في الضلالة. وإنما أخبر عن الجماعة، لأن لفظ " من " يصلح للجماعة.
ثم ذكر ما يوعدون فقال: * (إما العذاب) * يعني: القتل، والأسر * (وإما الساعة) * يعني: القيامة
وما وعدوا فيها من الخلود في النار * (فسيعلمون من هو شر مكانا) * في الآخرة، أهم، أم
المؤمنون؟ لأن مكان هؤلاء الجنة، ومكان هؤلاء النار، * (و) * يعلمون بالنصر والقتل من (أضعف
جندا) جندهم، أم جند رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. وهذا رد عليهم في قولهم: * (أي الفريقين خير مقاما
وأحسن نديا) *.
180

قوله تعالى: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * فيه خمسة أقوال:
أحدهما: ويزيد الله الذين اهتدوا بالتوحيد إيمانا.
والثاني: يزيدهم له بصيرة في دينهم.
والثالث: يزيدهم بزيادة الوحي إيمانا، فكلما نزلت سورة زاد إيمانهم.
والرابع: يزيدهم إيمانا بالناسخ والمنسوخ.
والخامس: يزيد الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ. قال الزجاج: المعنى: إن الله
تعالى يجعل جزاءهم أن يزيدهم يقينا، كما جعل جزاء الكافر أن يمده في ضلالته.
قوله تعالى: * (والباقيات الصالحات) * قد ذكرناها في [سورة] الكهف.
قوله تعالى: * (وخير مردا) * المرد هاهنا مصدر مثل الرد، والمعنى: وخير ردا للثواب على
عامليها، فليست كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت.
أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا " 77 " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن
عهدا " 78 " كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا " 79 " ونرثه ما يقول ويأتينا
فردا " 80 "
قوله تعالى: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) * في سبب نزولها قولان:
أحدهما: ما روى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث مسروق عن خباب قال:
كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى
تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت، ثم تبعث. قال: فإني إذا مت
ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد، فأعطيتك، فنزلت فيه هذه الآية، إلى قوله عز وجل:
* (فردا) *.
والثاني: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، وهذا مروي عن الحسن. والمفسرون على
الأول.
قوله تعالى: * (لأوتين مالا وولدا) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن
عامر: بفتح الواو. وقرأ حمزة، والكسائي: بضم الواو. وقال الفراء: وهما لغتان، كالعدم،
181

والعدم، وليس يجمع، وقيس تجعل الولد جمعا، والولد، بفتح الواو، واحدا.
وأين زعم هذا الكافر أن يؤتى المال والولد؟ فيه قولان. أحدهما: أنه أراد في الجنة على
زعمكم. والثاني: في الدنيا. قال ابن الأنباري: وتقدير الآية أرأيته مصيبا؟!
قوله تعالى: * (أطلع الغيب) * قال ابن عباس في رواية: أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أفي
الجنة هو، أم لا؟! وقال في رواية أخرى: أنظر في اللوح المحفوظ؟!
قوله تعالى: * (أم أتخذ عند الرحمن عهدا) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أم قال: لا إله إلا الله، فأرحمه بها؟ قاله ابن عباس.
والثاني: أم قدم عملا صالحا، فهو يرجوه؟! قاله قتادة.
والثالث: أم عهد إليه أنه يدخله الجنة؟! قاله ابن السائب.
قوله تعالى: * (كلا) * أي: ليس الأمر على ما قال من أنه يؤتى المال والولد. ويجوز أن
يكون معنى " كلا " أي: إنه لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الله عهدا. * (سنكتب ما يقول) * أي:
سنأمر الحفظة بإثبات قوله عليه لنجازيه به، * (ونمد له من العذاب مدا) * أي: نجعل بعض
العذاب على إثر بعض. وقرأ أبو العالية الرياحي، وأبو رجاء العطاردي: " سيكتب " " ويرثه " بياء
مفتوحة.
قوله تعالى: * (ونرثه ما يقول) * فيه قولان:
أحدهما: نرثه ما يقول أنه له في الجنة، فنجعله لغيره من المسلمين، قاله أبو صالح عن ابن
عباس، واختاره الفراء.
والثاني: نرث ما عنده من المال، والولد، بإهلاكنا إياه، وإبطال ملكه، وهو مروي عن ابن
عباس أيضا، وبه قال قتادة. قال الزجاج: المعنى: سنسلبه المال والولد، ونجعله لغيره.
قوله تعالى: * (ويأتينا فردا) * أي: بلا مال ولا ولد.
واتخذ من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا " 81 " كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون
عليهم ضدا " 82 " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا " 83 " فلا تعجل عليهم
إنما نعد لهم عدا " 84 "
182

قوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله آلهة) * يعني: المشركين عابدي الأصنام * (ليكونوا لهم
عزا) * قال الفراء: ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة.
قوله تعالى: * (كلا) * أي: ليس الأمر كما قدروا، * (سيكفرون) * يعني الأصنام بجحد
عبادة المشركين، كقوله عز وجل: * (كانوا إيانا يعبدون) * لأنها كانت جمادا لا تعقل العبادة،
* (ويكونون) * يعني: الأصنام * (عليهم) * يعني: المشركين * (ضدا) * أي: أعوانا عليهم في
القيامة، يكذبونهم ويلعنونهم.
قوله تعالى: * (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين) * قال الزجاج: في معنى هذا الإرسال وجهان:
أحدهما: خلينا بين الشياطين وبين الكافرين فلم نعصمهم من القبول منهم.
والثاني: وهو المختار: سلطانهم عليهم، وقيضناهم لهم بكفرهم. * (تؤزهم أزا) * أي:
تزعجهم إزعاجا حتى يركبوا المعاصي. وقال الفراء: تزعجهم إلى المعاصي، وتغريهم بها. قال
ابن فارس: يقال: أزه على كذا: إذا أغراه به، وأزت القدر: غلت
قوله تعالى: * (فلا تعجل عليهم) * أي: لا تعجل بطلب عذابهم. وزعم بعضهم أن هذا
منسوخ بآية السيف، وليس بصحيح، * (إنما نعد لهم عدا) * في هذا المعدود ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أنفاسهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال طاووس، ومقاتل.
والثاني: الأيام، والليالي، والشهور، والسنون، والساعات، رواه أبو صالح عن ابن
عباس.
والثالث: أنها أعمالهم، قاله قطرب.
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " 85 " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " 86 "
لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا " 87 "
قوله تعالى: * (يوم نحشر المتقين) * قال بعضهم: هذا متعلق بقوله تعالى: * (ويكونون
عليهم ضدا، يوم نحشر المتقين) * وقال بعضهم: تقديره: أذكر لهم يوم نحشر المتقين، وهم
الذين اتقوا الله بطاعته واجتناب معصيته. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: " يوم يحشر "
بياء مفتوحة ورفع الشين " ويسوق " بياء مفتوحة ورفع السين. وقرأ أبي بن كعب، والحسن
البصري، ومعاذ القارئ، وأبو المتوكل الناجي: " يوم يحشر " بياء مرفوعة وفتح الشين
" المتقون " رفعا " ويساق " بألف وياء مرفوعة " المجرمون " بالواو على الرفع. والوفد: جمع
183

وافد، مثل: ركب، وراكب، وصحب، وصاحب. قال ابن عباس، وعكرمة، والفراء:
الوفد الركبان. قال ابن الأنباري: الركبان عند العرب: ركاب الإبل.
وفي زمان هذا الحشر قولان:
أحدهما: أنه من قبورهم إلى الرحمن، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والثاني: أنه بعد الحساب، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: * (ونسوق المجرمين) * يعني: الكافرين * (إلى جهنم وردا) * قال ابن عباس،
وأبو هريرة، والحسن: عطاشا. قال أبو عبيدة: الورد: مصدر الورود. وقال ابن قتيبة: الورد:
جماعة يردون الماء، يعني: أنهم عطاش، لأنه لا يرد الماء إلا العطشان. وقال ابن الأنباري:
معنى قوله: " وردا ": واردين.
قوله تعالى: * (لا يملكون الشفاعة) * أي: لا يشفعون، ولا يشفع لهم.
قوله تعالى: * (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) * قال الزجاج: جائز أن يكون " من " في
موضع رفع على البدل من الواو والنون، فيكون المعنى: لا يملك الشفاعة إلا من اتخذ عند
الرحمن عهدا; وجائز أن يكون في موضع نصب على استثناء ليس من الأول، فالمعنى: لا يملك
الشفاعة المجرمون، ثم قال: " إلا " على معنى " لكن " * (من اتخذ عند الرحمن عهدا) * فإنه
يملك الشفاعة. والعهد هاهنا: توحيد الله والإيمان به. وقال ابن الأنباري: تفسير العهد في
اللغة: تقدمة أمر يعلم ويحفظ، من قولك: عهدت فلانا في المكان، أي: عرفته، وشهدته.
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " 88 " لقد جئتم شيئا إدا " 89 " تكاد السماوات يتفطرن منه
وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا " 90 " أن دعوا للرحمن ولدا " 91 " وما ينبغي للرحمن أن
يتخذ ولدا " 92 " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " 93 " لقد
أحصاهم وعدهم عدا " 94 " وكلهم آتية يوم القيامة فردا " 95 "
قوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) * يعني: اليهود، والنصارى، ومن زعم من
المشركين أن الملائكة بنات الله * (لقد جئتم شيئا إدا) * أي: شيئا عظيما من الكفر. قال أبو
عبيدة: الإد، والنكر: الأمر المتناهي العظم.
قوله تعالى: * (تكاد السماوات يتفطرن) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة،
184

وأبو بكر عن عاصم: " تكاد " بالتاء. وقرأ نافع، والكسائي: " يكاد " بالياء. وقرءا جميعا:
" يتفطرن " بالياء والتاء مشددة الطاء، وافقهما ابن كثير، وحفص عن عاصم في " يتفطرن " وقرأ أبو
عمرو، وأبو بكر عن عاصم: " ينفطرن " بالنون وهذا خلافهم في عسق. وقرأ حمزة، وابن عامر في [سورة]
مريم مثل أبي عمرو، وفي عسق مثل أبن كثير. ومعنى " يتفطرن منه " يقاربن الانشقاق من قولكم. قال
ابن قتيبة: وقوله تعالى: " هدا " أي: سقوطا.
قوله تعالى: * (أن دعوا) * قال الفراء: من أن دعوا، ولأن دعوا. وقال أبو عبيدة: معناه:
أن جعلوا، وليس هو من دعاء الصوت، وأنشد:
- ألا رب من تدعو نصيحا وإن تغب *
تجده بغيب غير منتصح الصدر -
قوله تعالى: * (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا) * أي: ما يصلح له، ولا يليق به اتخاذ
الولد، لأن الولد يقتضي مجانسة، وكل متخذ ولدا يتخذه من جنسه، والله تعالى منزه عن أن
يجانس شيئا، أو يجانسه، فمحال في حقه اتخاذ الولد، * (إن كل) * أي: ما كل * (من في
السماوات والأرض إلا آتي الرحمن) * يوم القيامة * (عبد) * ذليلا خاضعا. والمعنى: أن عيسى
وعزيرا والملائكة عبيد له. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذا دلالة على أن الوالد إذا اشترى ولده،
لم يبق ملكه عليه، وإنما يعتق بنفس الشراء، لأن الله تعالى نفى البنوة لأجل العبودية، فدل على
أنه لا يجتمع بنوة ورق.
قوله تعالى: * (لقد أحصاهم) * أي: علم عددهم * (وعدهم عدا) * فلا يخفى عليه مبلغ
جميعهم من كثرتهم * (وكلهم آتية يوم القيامة فردا) * بلا مال، ولا نصير يمنعه.
فإن قيل: لأية علة وحد في " الرحمن " و " آتية " وجمع في العائد في " أحصاهم،
وعدهم ".
فالجواب: أن لكل لفظ توحيدا، وتأويل جمع، فالتوحيد محمول على اللفظ، والجمع
مصروف إلى التأويل.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " 96 " فإنما يسرناه بلسانك
لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا " 97 " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد
185

أو تسمع لهم ركزا " 98 "
قوله تعالى: * (سيجعل لهم الرحمن ودا) * قال ابن عباس: نزلت في علي رضي الله عنه،
وقال معناه: يحبهم، ويحببهم المؤمنين. قال قتادة: يجعل لهم ودا في قلوب المؤمنين. ومن
هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحب الله عبدا قال: يا جبريل، إني أحب
فلانا فأحبوه، فيلقى حبه على أهل الأرض فيحب "، وذكر في البغض مثل ذلك. وقال هرم بن
حيان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل، إلا أقبل الله عز وجل بقلوب أهل الإيمان إليه، حتى
يرزقه مودتهم ورحمتهم.
قوله تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك) * يعني: القرآن. قال ابن قتيبة: أي، سهلناه،
وأنزلناه بلغتك واللد: جمع ألد، وهو الخصم الجدل.
قوله تعالى: * (وكم أهلكنا قبلهم) * هذا تخويف لكفار مكة * (هل تحس) * قال الزجاج:
أي: هل ترى، يقال: هل أحسست صاحبك، أي: هل رأيته؟ والركز: الصوت الخفي; وقال
ابن قتيبة: الصوت الذي لا يفهم، وقال أبو صالح: حركة، والله تعالى أعلم.
186

(20) سورة طه مكية
وآياتها خمس وثلاثون ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
طه " 1 " ما أنزلناه عليك القرآن لتشقى " 2 " إلا تذكرة لمن يخشى " 3 " تنزيلا
ممن خلق الأرض والسماوات العلى " 4 " الرحمن على العرش استوى " 5 " له ما في السماوات
وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى " 6 " وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " 7 "
الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى " 8 "
وهي مكية كلها بإجماعهم. وفي سبب نزول * (طه) * ثلاث أقوال:
أحدها: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان يراوح بين قدميه، يقوم على رجل، حتى نزلت هذه
الآية، قاله علي رضي الله عنه.
والثاني: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لما نزل عليه القرآن صلى هو و أصحابه فأطال القيام، فقالت
قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك.
والثالث: أن أبا جهل، والنضر بن الحارث، والمطعم بن عدي، قالوا يا رسول الله [صلى الله عليه وسلم]:
إنك لتشقى بترك ديننا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
وفي " طه " قراءات. قرأ ابن كثير، وابن عامر: " طه " بفتح الطاء والهاء. وقرأ حمزة،
والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بكسر الطاء والهاء. وقرأ نافع: " طه " بين الفتح والكسر، وهو إلى
الفتح أقرب; كذلك قال خلف عن المسيبي. وقرأ أبو عمرو: بفتح الطاء وكسر الهاء وروى عنه
عباس مثل حمزة. وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين العقيلي، وسعيد بن المسيب، وأبو العالية: بكسر
187

الطاء وفتح الهاء. وقرأ الضحاك، ومورق العجلي: " طه " بكسر الطاء وسكون الهاء.
واختلفوا في معناها على أربعة أقوال:
أحدها: أن معناها: يا رجل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير،
ومجاهد، وعطاء، وعكرمة; واختلف هؤلاء بأي لغة هي، على أربعة أقوال:
أحدها: بالنبطية، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير في رواية، والضحاك.
والثاني: بلسان عك، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: بالسريانية، قاله عكرمة في رواية، وسعيد بن جبير في رواية، وقتادة.
والرابع: بالحبشية، قاله عكرمة في رواية. قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت هذه اللغة
في المعنى.
والثاني: أنها حروف من أسماء. ثم فيها قولان:
أحدهما: أنها من أسماء الله تعالى. ثم فيها قولان:
أحدهما: أن الطاء من اللطيف، والهاء من الهادي، قاله ابن مسعود، وأبو العالية، والثاني:
أن الطاء افتتاح اسمه " طاهر " و " طيب " والهاء افتتاح اسمه " هادي " قاله سعيد بن جبير. والقول
الثاني: أنها من غير أسماء الله تعالى. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الطاء من طابة وهي مدينة رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، والهاء من مكة، حكاه أبو سليمان
الدمشقي.
والثاني: أن الطاء: طرب أهل الجنة، والهاء: هو أن أهل النار.
والثالث: أن الطاء: في حساب الجمل تسعة، والهاء خمسة، فتكون أربعة عشر. فالمعنى: يا
أيها البدر ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، حكى القولين الثعلبي.
والثالث: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقد شرحناه معنى كونه اسما في فاتحة (مريم). وقال القرظي: أقسم الله بطوله وهدايته; وهذا
القول قريب المعنى من الذي قبله.
والرابع: أن معناه: طأ الأرض بقدميك، قاله مقاتل بن حيان. ومعنى قوله تعالى * (لتشقى) *:
لتتعب وتبلغ من الجهد ما قد بلغت، وذلك أنه اجتهد في العبادة وبالغ، حتى إنه كان يراوح بين
قدميه لطول القيام، فأمر بالتخفيف.
قوله تعالى: * (إلا تذكرة) * قال الأخفش: هو بدل من قوله تعالى: * (لتشقى) * ما أنزلناه إلا
188

تذكرة، أي: عظة.
قوله تعالى: * (تنزيلا) * قال الزجاج: المعنى: أنزلناه تنزيلا، و * (العلى) * جمع العليا، تقول:
سماء عليه، وسماوات على، مثل الكبرى، والكبر، فأما " الثرى " فهو التراب الندي، والمفسرون
يقولون: أراد الثرى الذي تحت الأرض السابعة.
قوله تعالى: * (وإن تجهر بالقول) * أي: ترفع صوتك * (فإنه يعلم السر) * والمعنى: لا تجهد
نفسك برفع الصوت، فإن الله يعلم السر.
وفي المراد ب‍ " السر وأخفى " خمسة أقوال:
أحدها: أن السر: ما أسره الإنسان في نفسه، وأخفى: ما لم يكن بعد وسيكون، رواه جماعة
عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
والثاني: أن السر: ما حدثت به نفسك، وأخفى: ما لم تلفظ به، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: أن السر: العمل الذي يسره الإنسان من الناس، وأخفى منه: الوسوسة، قاله
مجاهد.
والرابع: أن معنى الكلام: يعلم إسرار عباده; وقد أخفى سره عنهم فلا يعلم، قاله زيد بن
أسلم، وابنه.
والخامس: يعلم ما أسره الإنسان إلى غيره، وما أخفاه في نفسه، قاله الفراء.
قوله تعالى: * (له الأسماء الحسنى) * قد شرحناه في [سورة] الأعراف.
وهل أتاك حديث موسى " 9 " إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي
آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى " 10 " فلما أتاها نودي يا موسى " 11 " إني أنا
ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى " 12 " وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى " 13 "
189

إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " 14 " إن الساعة آتية أكاد
أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى " 15 " فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه
فتردى " 16 "
قوله تعالى: * (وهل أتاك حديث موسى) * هذا استفهام تقرير، ومعناه: قد أتاك. قال ابن
الأنباري: وهذا معروف عند اللغويين أن تأتي " هل " معبرة عن " قد "، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
أفصح العرب: " اللهم هل بلغت "، يريد: قد بلغت.
قال وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا [عليهما السلام] في الرجوع إلى والدته، فإذن له،
فخرج بأهله، فولد له في الطريق في ليلة شاتية، فقدح فلم يرو الزناد، فبينا هو في مزاولته ذلك،
أبصرا نارا من بعيد عن يسار الطريق; وقد ذكرنا هذا الحديث بطولة في كتاب " الحدائق "
فكر هنا إطالة التفسير بالقصص، لأن غرضنا الاقتصار على التفسير ليسهل حفظه، قال المفسرون:
رأى نورا، ولكن أخبر بما كان في ظن موسى. * (فقال لأهله) * يعنى: امرأته * (امكثوا) * بضم الهاء
هاهنا وفي القصص * (إني آنست نارا) * قال الفراء: إني وجدت، يقال: هل آنست أحدا، أي:
وجدت؟ وقال ابن قتيبة: " آنست " بمعنى أبصرت. فأما القبس، فقال الزجاج: هو ما أخذته من
النار في رأس عود أو في رأس فتيلة.
قوله تعالى: * (أو أجد على النار هدى) * قال الفراء: أراد: هاديا، فذكره بلفظ المصدر، قال
ابن الأنباري: يجوز أن تكون " على " هاهنا بمعنى " عند "، وبمعنى " مع "، وبمعنى الباء. وذكر
أهل التفسير أنه كان قد ضل الطريق، فعلم أن النار لا تخلو من موقد. وحكى الزجاج: أنه ضل عن
الماء، فرجا أن يجد من يهديه الطريق أو يدله على الماء.
قوله تعالى: * (فلما أتاها) * يعني: النار * (نودي يا موسى إني أنا ربك) * إنما كرر الكناية،
لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإزالة الشبهة، ومثله * (إني أنا النذير المبين) *. قرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، وأبو جعفر: " أني " بفتح الألف والياء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
" إني " بكسر الألف، إلا أن نافعا فتح الياء، قال الزجاج: من قرأ: " أني أنا " بالفتح،
190

فالمعنى: نودي بأني أنا ربك، ومن قرأ بالكسر، فالمعنى: نودي يا موسى، فقال الله: إني أنا ربك.
قوله تعالى: * (فاخلع نعليك) * في سبب أمره بخلعهما قولان:
أحدهما: أنهما كانا من جلد حمار ميت، رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال علي بن
أبي طالب، وعكرمة.
والثاني: أنهما كانا من جلد بقرة ذكية، ولكنه أمر بخلعهما ليباشر تراب الأرض المقدسة،
فتناله بركتها، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة.
قوله تعالى: * (إنك بالواد المقدس) * فيه قولان قد ذكرناهما في [سورة] المائدة عند قوله
تعالى: * (الأرض المقدسة) *.
قوله تعالى: * (طوى) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: * (طوى وأنا) * غير مجراة. وقرأ عاصم،
وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " طوى " مجراة; وكلهم ضم الطاء، وقرأ الحسن وأبو حيوة:
" طوى " بكسر الطاء مع التنوين، وقرأ علي بن نصر عن أبي عمرو: " طوى " بكسر الطاء من غير
تنوين. قال الزجاج: في " طوى " أربعة أوجه. طوى، بضم أوله من غير تنوين وبتنوين. فمن نونه،
فهو اسم للوادي. وهو مذكر سمي بمذكر على فعل نحو حطم وصرد، ومن لم ينونه ترك صرفه من
جهتين:
إحداهما: أن يكون معدولا عن طاو، فيصير مثل " عمر " المعدول عن عامر، فلا ينصرف كما
لا ينصرف " عمر ".
والجهة الثانية: أن يكون اسما للبقعة، كقوله: * (في البقعة المباركة) *، وإذا كسر ونون فهو
مثل معي. والمعنى: المقدس مرة بعد مرة كما قال عدي بن زيد:
- أعاذل، إن اللوم في غير كنهه *
علي طوى من غيك المتردد -
أي: اللوم المكرر علي; ومن لم ينون جعله اسما للبقعة.
وللمفسرين في معنى " طوى " ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اسم الوادي، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: أن معنى " طوى " طأ الوادي، رواه عكرمة عن ابن عباس، وعن مجاهد
كالقولين
191

والثالث: أنه قدس مرتين، قاله الحسن وقتادة.
قوله تعالى: * (وأنا اخترتك) * أي: اصطفيتك، وقرأ حمزة، والمفضل: " وأنا " بالنون المشددة
" اخترناك " بألف. * (فاستمع لما يوحى) * أي: للذي يوحى، قال ابن الأنباري: الاستماع هاهنا
محمول على الإنصات. المعنى: فأنصت لوحيي، والوحي هاهنا قوله: * (إني أنا الله لا إله إلا أنا
فاعبدني) * أي: وحدني، * (وأقم الصلاة لذكري) * فيه قولان:
أحدهما: أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة، سواء كنت في وقتها أو لم تكن، هذا قول
الأكثرين. ورى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها
غير ذلك، وقرأ: * (أقم الصلاة لذكري) * ".
والثاني: أقم الصلاة لتذكرني فيها، قاله مجاهد: وقيل: إن الكلام مردود على قوله:
* (فاستمع) *، فيكون المعنى: فاستمع لما يوحى، واستمع لذكري. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن
كعب، وابن السميفع: " وأقم الصلاة للذكرى " بلامين وتشديد الذال.
قوله تعالى: * (أكاد أخفيها) * أكثر القراء على ضم الألف.
ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: أكاد أخفيها من نفسي، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد في آخرين. وقرأ
ابن سعود، وأبي كعب، ومحمد بن علي: أكاد أخفيها من نفسي، قال الفراء: المعنى: فكيف
أظهركم عليها؟ قال المبرد: وهذا على عادة العرب، فإنهم يقولون إذا بالغوا في كتمان الشئ:
كتمته حتى من نفسي، أي: لم أطلع عليه أحدا.
والثاني: أن الكلام تم عند قوله: " أكاد "، وبعده مضمر تقديره: أكاد آتي بها والابتداء:
أخفيها، قال ضابئ البرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت
أراد: كدت أفعل.
والثالث: أن معنى " أكاد ": أريد، قال الشاعر:
- كادت وكدت وتلك خير إرادة *
لو عاد من لهو الصبابة ما مضى -
معناه: أرادت وأردت، ذكرهما ابن الأنباري.
فإن قيل: فما فائدة هذا الاخفاء الشديد؟
فالجواب: أنه للتحذير والتخويف، ومن لم يعلم متى يهجم عليه عدوه كان أشد حذرا. وقرأ
192

سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبو رجاء العطاردي، وحميد بن قيس: " أخفيها " بفتح الألف،
قال الزجاج: ومعناه: أكاد أظهرها، قال امرؤ القيس:
- وإن تدفنوا الداء لا نخفه * وإن تبعثوا الحرب لا نقعد -
أي: إن تدفنوا الداء لا نظهره. قال: وهذه القراءة أبين في المعنى، لأن معنى " أكاد أظهرها "
قد أخفيتها يحيى وكدت أظهرها. * (لتجزى كل نفس بما تسعى) * أي: بما تعمل. و * (لتجزى) * متعلق
بقوله: * (إن الساعة آتية) * لتجزى، ويجوز أن يكون على " أقم الصلاة لذكري " لتجزى.
قوله تعالى: * (فلا يصدنك عنها) * أي: عن الإيمان بها * (من لا يؤمن بها) * أي: من لا
يؤمن بكونها; والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لجميع أمته، * (واتبع هواه) * أي: مراده وخالف أمر الله عز
وجل، * (فتردى) * أي: فتهلك; قال الزجاج: يقال: ردي يردى ردى: إذا هلك.
وما تلك بيمينك يا موسى " 17 " قال هي عصاي أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمي ولى
فيها مآرب أخرى " 18 " قال ألقها يا موسى " 19 " فألقها فإذا هي حية تسعى " 20 " قال خذها
ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى " 21 " واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير
سوء آية أخرى " 22 " لنريك من آياتنا الكبرى " 23 "
قوله تعالى: * (وما تلك بيمينك) * قال الزجاج: " تلك " اسم مبهم يجري مجرى " التي "،
والمعنى: ما التي بيمينك؟
قوله تعالى: * (أتوكأ عليه) * التوكؤ: التحامل على الشئ واليابس * (وأهش بها) * قال الفراء:
أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه غنمي، قال الزجاج: واشتقاقه من أني أحيل الشئ إلى
الهشاشة والإمكان. والمآرب: الحاجات، واحدها: مأربة، ومأربة، وروى قتيبة، وورش: " مآرب "
بإمالة الهمزة.
فإن قيل: ما الفائدة في سؤال الله تعالى له: " وما تلك بيمينك " وهو يعلم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن لفظه لفظ الاستفهام، ومجراه مجرى السؤال، ليجيب المخاطب بالإقرار به،
فتثبت عليه الحجة باعترافه فلا يمكنه الجحد، ومثله في الكلام أن تقول لمن تخاطبه وعندك ماء: ما
هذا؟ فيقول: ماء، فتضع عليه شيئا من الصبغ، فإن قال: لم يزل هكذا، قلت له: ألست قد
193

اعترفت بأنه ماء؟ فتثبت عليه الحجة، هذا قول الزجاج. فعلى هذا تكون الفائدة أنه قرر موسى أنها
عصا لما أراد أن يريه من قدرته في انقلابها حية، فوقع المعجز بها بعد التثبت في أمرها.
والثاني: أنه لما اطلع الله تعالى على ما في قلب موسى من الهيبة والإجلال حين التكليم،
أراد أن يؤانسه ويخفف عن ثقل ما كان فيه من الخوف، فأجرى هذا الكلام للاستئناس، حكاه أبو
سليمان الدمشقي.
فإن قيل: قد كان يكفي في الجواب أن يقول: " هي عصاي " فما الفائدة في قوله: " أتوكأ
عليها " إلى آخر الكلام، وإنما يشرح هذا لمن لا يعلم فوائدها؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه أجاب بقوله: " هي عصاي " فقيل له: ما تصنع بها؟ فذكر باقي الكلام جوابا عن
سؤال ثان، قاله ابن عباس، ووهب.
والثاني: أنه إنما أظهر فوائدها، وبين حاجته إليها، خوفا أن يأمره بإلقائها كالنعلين، قاله
سعيد بن جبير.
والثالث: أنه بين منافعها لئلا يكون عابثا بحملها، قاله الماوردي.
فإن قيل: فلم اقتصر على ذكر بعض منافعها ولم يطل الشرح؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه كره ان يشتغل عن كلام الله بتعداد منافعها.
والثاني: أنه استغنى بعلم الله فيها عن كثرة التعداد.
والثالث: أنه اقتصر على اللازم دون العارض.
وقيل: كانت تضيء له بالليل، وتدفع عنه الهوام، وتثمر له إذا اشتهى الثمار.
وفي جنسها قولان:
أحدهما: أنها كانت من آس الجنة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها كانت من عوسج.
فإن قيل: المآرب جمع، فكيف قال: " أخرى " ولم يقل: " أخر "؟
فالجواب: أن المآرب في معنى جماعة، فكأنه قال: جماعة من الحاجات أخرى، قاله
الزجاج.
قوله تعالى: * (قال ألقها يا موسى) * قال المفسرون: ألقاها، ظنا منه أنه قد أمر برفضها، فسمع
حسا فالتفت فإذا هي كأعظم ثعبان تمر بالصخرة العظيمة فتبتلعها، فهرب منها.
وفي وجه الفائدة في إظهار هذه الآية ليلة المخاطبة قولان:
أحدهما: لئلا يخاف منها إذا ألقاها بين يدي فرعون.
194

والثاني: ليريه أن الذي أبعثك إليه دون ما أريتك، فكما ذللت لك الأعظم وهو الحية، أذلل
لك الأدنى.
ثم إن الله تعالى أمره بأخذها وهي على حالها حية، فوضع يده عليها فعادت عصا، فذلك
قوله: * (سنعيدها سيرتها الأولى) * قال الفراء: طريقتها، يقول: تردها عصى كما كانت، قال
الزجاج: " وسيرتها " منصوبة على اسقاط الخافض وإفضاء الفعل إليها، المعنى: سنعيدها إلى
سيرتها.
فإن قيل: إنما كانت العصا واحدة، وكان إلقاؤها مرة، فما وجه اختلاف الأخبار عنها، فإنه
يقول في الأعراف * (فإذا هي ثعبان مبين) *، وهاهنا: " حية " وفي مكان آخر: * (كأنها جان) *
ليست بالعظيمة، والثعبان أعظم الحيات؟
فالجواب: أن صفتها بالجان عبارة عن ابتداء حالها، وبالثعبان إخبار عن انتهاء حالها، والحية
اسم يقع على الصغير والكبير والذكر والأنثى. وقال الزجاج: خلقها خلق الثعبان العظيم، واهتزازها
وحركتها وخفتها كاهتزاز الجان.
قوله تعالى: * (واضمم لأنه يدك إلى جناحك) * قال الفراء: الجناح من أسفل العضد إلى الإبط.
وقال أبو عبيدة: الجناح ناحية الجنب، وانشد:
أضمه للصدر والجناح
قوله تعالى: * (تخرج بيضاء من غير سوء) * أي: من غير برص * (آية أخرى) * أي: دلالة على
صدقك سوى العصا. قال الزجاج: ونصب " آية " على معنى: آتيناك آية، أو نؤتيك.
قوله تعالى: * (لنريك من آياتنا الكبرى) *.
إن قيل: لم لم يقل: " الكبر "؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه كقوله: * (مآرب أخرى) * وقد شرحناه، هذا قول الفراء.
والثاني: أن فيه إضمارا تقديره: لنريك من آياتنا الآية الكبرى. وقال أبو عبيدة: فيه تقديم
وتأخير، تقديره: لنريك الكبرى من آياتنا.
والثالث: أنه إنما كان ذلك لوفاق رأس الآي، حكى القولين الثعلبي.
195

اذهب إلى فرعون إنه طغى " 24 " قال رب اشرح لي صدري " 25 " ويسر لي أمري " 26 "
واحلل عقدة من لساني " 27 " يفقهوا قولي " 28 " واجعل لي وزيرا من أهلي " 29 " هارون
أخي " 30 " أشدد به أزري " 31 " وأشركه في أمري " 32 " كي نسبحك كثيرا " 33 " ونذكرك
كثيرا " 34 " إنك كنت بنا بصيرا " 35 "
قوله تعالى: * (إنه طغى) * أي: جاوز الحد في العصيان.
قوله تعالى: * (اشرح لي صدري) * قال المفسرون: ضاق موسى صدرا بما كلف من مقاومة
فرعون وجنوده، فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق حتى لا يخاف فرعون وجنود. ومعنى قوله:
* (يسر لي أمري) *: سهل علي ما بعثتني له. * (واحلل عقدة من لساني) * قال ابن قتيبة: كانت
فيه رتة قال المفسرون: كان فرعون قد وضع موسى في حجره وهو صغير، فجر لحية فرعون بيده،
فهم بقتله، فقالت له آسية: إنه لا يعقل، وسأريك بيان ذلك، قدم إليه جمرتين ولؤلؤتين، فإن
اجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، فأخذ موسى جمرة فوضعها في فيه فأحرقت لسانه وصار فيه
عقدة، فسأل حلها ليفهموا كلامه.
وأما، الوزير فقال ابن قتيبة: أصل الوزارة من الوزر وهو الحمل، كان الوزير قد حمل عن
السلطان الثقل، وقال الزجاج. اشتقاقه من الوزر، والوزر: الجبل الذي يعتصم به لينجي من
الهلكة، وكذلك وزير الخليفة، معناه: الذي يعتمد عليه في أموره ويلتجئ إلى رأيه. ونصب
" هارون " من جهتين. إحداهما: أن تكون " اجعل " تتعدى إلى مفعولين، فيكون المعنى:
اجعل هارون أخي وزيري، فينتصب " وزيرا " على أنه مفعول ثان. ويجوز أن يكون " هارون "
بدلا من قوله: * (وزيرا) *، فيكون المعنى: اجعل لي وزيرا من أهلي، ثم أبدل هارون من
وزير; والأول أجود. قال الماوردي: وإنما سأل الله تعالى أن يجعل له وزيرا، لأنه لم يرد أن
يكون مقصورا على الوزارة حتى يكون شريكا في النبوة، ولولا ذلك لجاز أن يستوزر من غير
مسألة. وحرك ابن كثير، وأبو عمرو بفتح ياء " أخي ".
قوله تعالى: * (أشدد به أزري) * قال الفراء: هذا دعاء من موسى، والمعنى: أشدد به يا
رب أزري، وأشركه يا رب في أمري. وقرأ ابن عامر: " أشدد " بالألف مقطوعة مفتوحة،
" وأشركه " بضم الألف، وكذلك يبتدئ بالألفين. قال أبو علي: هذه القراءة على الجواب
والمجازاة، والوجه الدعاء دون الإخبار، لأن ما قبله دعاء، ولأن الإشراك في النبوة لا يكون إلا من
الله عز وجل. قال ابن قتيبة: والأزر: الظهر، يقال: آزرت فلانا على الأمر، أي: قويته عليه
196

وكنت له فيه ظهرا
قوله تعالى: * (وأشركه في أمري) * أي: في النبوة معي * (كي نسبحك) * أي: نصلي لك
* (ونذكرك) * بألسنتنا حامدين لك على ما أوليتنا من نعمك * (إنك كنت بنا بصيرا) * أي: عالما
إذ خصصتنا بهذه النعم،
قال قد أوتيت سؤلك يا موسى " 36 " ولقد مننا عليك مرة أخرى " 37 " إذ أوحينا إلى
أمك ما يوحى " 38 " أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه
عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني " 39 " إذ تمشي أختك فتقول
هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا
فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر
يا موسى " 40 " واصطنعتك لنفسي " 41 " اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري " 42 "
قوله تعالى: * (قال قد أوتيت سؤلك) * قال ابن قتيبة: أي: طلبتك، وهو " فعل " من
" سألت "، أي: أعطيت ما سألت.
قوله تعالى: * (ولقد مننا عليك) * أي: أنعمنا عليك * (مرة أخرى) * قبل هذه المرة. ثم بين
متى كانت بقوله: * (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) * أي: ألهمناها ما يلهم مما كان سببا لنجاتك،
ثم فسر ذلك بقوله: * (أن اقذفيه في التابوت) * وقذف الشئ: الرمي به.
فإن قيل: ما فائدة قوله: * (ما يوحى) * وقد علم ذلك؟ فقد ذكر عنه ابن الأنباري جوابين:
أحدهما: أن المعنى: أوحينا إليها الشئ الذي يجوز أن يوحى إليها، إذ ليس كل الأمور
يصلح وحيه إليها، لأنها ليست بنبي، وذلك أنها ألهمت.
والثاني: أن * (ما يوحى) * أفاد توكيدا، كقوله: * (فغشاها ما غشى) *.
قوله تعالى: * (فليلقه اليم) * قال ابن الأنباري: ظاهر هذا الأمر، ومعناه معنى الخبر،
197

تأويله: يلقيه اليم، ويجوز أن يكون البحر مأمورا بآلة ركبها الله تعالى فيه، فسمع وعقل، كما
فعل ذلك بالحجارة والأشجار. فأما الساحل، فهو: شط البحر. * (يأخذه عدو لي وعدو له) *
يعني: فرعون. قال المفسرون: اتخذت أمه تابوتا وجعلت فيه قطنا محلوجا، ووضعت فيه موسى
وأحكمت بالقار شقوق التابوت، ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينا
هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية، إذا بالتابوت، فأمر الغلمان والجواري بأخذه، فلما
فتحوه رأوا صبيا من أصبح الناس وجها; فلما رآه فرعون أحبه حبا شديدا، فذلك قوله: * (وألقيت
عليك محبة مني) *، قال أبو عبيدة: ومعنى " ألقيت عليك " أي: جعلت لك محبة مني. قال ابن
عباس: أحبه وحببه إلى خلقه، فلا يلقاه أحد إلا أحبه من مؤمن وكافر. وقال قتادة: كانت في
عينيه ملاحة، فما رآه أحد إلا أحبه.
قوله تعالى: * (ولتصنع على عيني) * وقرأ أبو جعفر: " ولتصنع " بسكون اللام والعين
والإدغام. قال أبو عبيدة: على ما أريد وأحب. قال ابن الأنباري: هو
من قول العرب: غذي فلان على عيني، أي: على المحبة مني. وقال غيره:
لتربى وتغذى بمرأى مني، يقال: صنع الرجل جاريته: إذا رباها; وصنع فرسه: إذا داوم على
علفه ومراعاته، والمعنى: ولتصنع على عيني، قدرنا مشي أختك وقولها: * (هل أدلكم على من
يكفله) * لأن هذا كان من أسباب تربيته على ما أراد الله تعالى. فأما أخته، فقال مقاتل: اسمها
مريم. قال الفراء: وإنما اقتصر على ذكر المشي، ولم يذكر أنها مشت حتى دخلت على آل فرعون فدلتهم
على الظئر، لأن العرب تجتزئ بحذف كثير من الكلام، وبقليله، إذا كان المعنى معروفا، ومثله قوله:
* (أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون) *، ولم يقل: فأرسل حتى دخل على يوسف.
قال المفسرون: سبب مشي أخته أن أمه قالت لها: قصيه، فاتبعت موسى على أثر الماء،
فلما التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة، فقالت لهم أخته: " هل أدلكم على من يكفله "
أي: يرضعه ويضمه إليه، فقيل لها: ومن هي؟ فقالت: أمي، قالوا: وهل لها لبن؟ قالت:
لبن أخي هارون، وكان هارون أسن من موسى بثلاث سنين، فأرسلوها، فجاءت بالأم فقبل
ثديها، فذلك قوله [تعالى]: * (فرجعناك إلى أمك) * أي: رددناك إليها * (كي تقر عينها) * بك
وبرؤيتك. * (وقتلت نفسا) * يعني: القبطي الذي وكزه فقضى عليه، وسيأتي ذكره إن شاء الله
[تعالى] * (فنجيناك من الغم) * وكان مغموما مخافة أن يقتل به، فنجاه الله بأن هرب إلى مدين،
* (وفتناك فتونا) * فيه ثلاث أقوال:
198

أحدها: اختبرناك اختبارا، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: أخلصناك إخلاصا، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
والثالث: ابتليناك ابتلاء، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
وقال الفراء: ابتليناك بغم القتيل ابتلاء. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الفتون:
وقوعه في محنة بعد محنة خلصه الله منها، أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها
الأطفال، ثم إلقاؤه في البحر، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره لحية فرعون حتى هم
بقتله، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، ثم قتله القبطي، ثم خروجه إلى مدين خائفا; وكان ابن
عباس يقص هذه القصص على سعيد بن جبير، ويقول له عند كل بلية: وهذا من الفتون يا ابن
جبير; فعلى هذا يكون معنى " فتناك " خلصناك من تلك المحن كما يفتن الذهب بالنار فيخلص من
كل خبث. والفتون: مصدر.
قوله تعالى: * (فلبثت سنين) * تقدير الكلام: فخرجت إلى أهل مدين. ومدين: بلد
شعيب، وكان على ثمان مراحل من مصر، فهرب إليه موسى. وقيل: مدين: اسم رجل،
وقد سبق هذا.
وفي قدر لبثه هناك قولان:
أحدهما: عشر سنين، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: ثمان وعشرون سنة، عشر منهن مهر امرأته، وثمان عشرة أقام حتى ولد له، قاله
وهب.
قوله تعالى: * (ثم جئت على قدر) * أي: جئت لميقات قدرته لمجيئك قبل خلقك، وكان
ذلك على رأس أربعين سنة، وهو الوقت الذي يوحى فيه إلى الأنبياء، هذا قول الأكثرين. وقال
الفراء: " على قدر " أي: على ما أراد الله به من تكليمه.
قوله تعالى: * (واصطنعتك لنفسي) * أي: اصطفيتك واختصصتك، والاصطناع: اتخاذ
الصنيعة، وهو الخير تسديه إلى إنسان. وقال ابن عباس: اصطفيتك لرسالتي ووحيي * (اذهب أنت
وأخوك بآياتي) * وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها العصا واليد. وقد يذكر الاثنان بلفظ الجمع.
199

والثاني: العصا واليد وحل العقدة التي ما زال فرعون وقومه يعرفونها، ذكره ابن الأنباري.
والثالث: الآيات التسع. والأول أصح.
قوله تعالى: * (ولا تنيا) * قال ابن قتيبة: لا تضعفا ولا تفترا; يقال: ونى يني في الأمر;
وفيه لغة أخرى: وني، يونى.
وفي المراد بالذكر هاهنا قولان:
أحدهما: أنه الرسالة إلى فرعون.
والثاني: أنه القيام بالفرائض والتسبيح والتهليل.
اذهبا إلى فرعون إنه طغى " 43 " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " 44 " قالا
ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " 45 " قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " 46 "
فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من
ربك والسلام على من اتبع الهدى " 47 " إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب
وتولى " 48 "
قوله تعالى: * (اذهبا إلى فرعون) * فائدة تكرار الأمر بالذهاب، التوكيد. وقد فسرناه قوله
* (إنه طغى) *.
قوله تعالى: * (فقولا له قولا لينا) * وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: " لينا "
باسكان الياء، أي: لطيفا رفيقا.
وللمفسرين فيه خمسة أقوال:
أحدها: قولا له: قل: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له "، رواه خالد بن معدان عن
معاذ، والضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أنه قوله: * (هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى) *، قاله أبو
200

صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.
والثالث: كنياه، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي. فأما اسمه، فقد ذكرناه في
البقرة. وفي كنيته أربعة أقوال. أحدها: أبو مرة، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أبو
مصعب، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والثالث: أبو العباس. والرابع: أبو الوليد، حكاهما
الثعلبي.
والقول الرابع: قولا له: إن لك ربا، وإن لك معادا، وإن بين يديك جنة ونارا، قاله
الحسن.
والخامس: أن القول اللين: أن موسى أتاه، فقال له: تؤمن بما جئت به وتعبد رب
العالمين، على أن لك شبابك فلا تهرم، وتكون ملكا لا ينزع منك حتى تموت، فإذا مت دخلت
الجنة، فأعجبه ذلك; فلما جاء هامان، أخبره بما قال موسى، فقال: قد كنت أرى أن لك رأيا،
أنت رب أردت أن تكون مربوبا؟! فقلبه عن رأيه، قاله السدي. وحكي عن يحيى بن معاذ أنه قرأ
هذه الآية، فقال: إلهي هذا رفقك بمن يقول: أنا إله، فكيف رفقك بمن يقول: أنت إله.
قوله تعالى: * (لعله يتذكر أو يخشى) * قال الزجاج: " لعل " في اللغة: ترج وطمع،
تقول: لعلي أصير إلى خير، فخاطب الله تعالى العباد بما يعقلون. والمعنى عند سيبويه: اذهبا
على رجائكما وطمعكما. والعلم من الله تعالى من وراء ما يكون، وقد علم أنه لا يتذكر ولا
يخشى، إلا أن الحجة إنما تجب عليه بالآية والبرهان، وإنما تبعث الرسل وهي لا تعلم الغيب ولا
تدري أيقبل منها، أم لا، وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم، ومعنى " لعل " متصور في
أنفسهم، وعلى تصور ذلك تقوم الحجة. قال ابن الأنباري: ومذهب الفراء في هذا: كي يتذكر.
وروى خالد بن معدان عن معاذ قال: والله ما كان فرعون ليخرج من الدنيا حتى يتذكر أو يخشى،
لهذه الآية، وإنه تذكر وخشي لما أدركه الغرق. وقال كعب: والذي يحلف به كعب، إنه لمكتوب
في التوراة: فقولا له قولا لينا، وسأقسي قلبه فلا يؤمن. قال المفسرون: كان هارون يومئذ غائبا
بمصر، فأوحى الله تعالى إلى هارون أن يتلقى موسى، فتلقاه على مرحلة، فقال له موسى: إن
الله تعالى أمرني أن آتي فرعون، فسألته أن يجعلك معي; فعلى هذا يحتمل أن يكونا حين التقيا قالا: ربنا إننا
نخاف. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون القائل لذلك موسى وحده، وأخبر الله عنه بالتثنية لما ضم إليه
هارون، فإن العرب قد توقع التثنية على الواحد، فتقول: يا زيد قوما، يا حرسي اضربا عنقه.
201

قوله تعالى: * (أن يفرط علينا) * وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن السميفع، وابن يعمر، وأبو
العالية: " أن يفرط " برفع الياء وكسر الراء. وقرأ عكرمة، وإبراهيم النخعي: " أن يفرط " بفتح
الياء والراء. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وابن محيصن: " أن يفرط " بضم الياء و فتح الراء. قال
الزجاج: المعنى، أن يبادر بعقوبتنا، يقال: قد فرط منه أمر، أي: قد بدر; وقد أفرط في
الشئ: إذا اشتط فيه; وفرط في الشئ: إذا قصر; ومعناه كله: التقدم في الشئ، لأن الفرط
في اللغة: المتقدم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " أنا فرطكم على الحوض ".
قوله تعالى: * (أو أن يطغى) * فيه قولان:
أحدهما: يستعصي، قاله مقاتل. والثاني: يجاوز الحد في الإساءة إلينا. قال ابن زيد:
نخاف أن يعجل علينا قبل أن نبلغه كلامك وأمرك.
قوله تعالى: * (إنني معكما) * أي: بالنصرة والعون * (أسمع) * أقوالكم * (وأرى) *
أفعالكم. قال الكلبي: أسمع جوابه لكما، وأرى ما يفعل بكما.
قوله تعالى: * (فأرسل معنا بني إسرائيل) * أي: خل عنهم (ولا تعذبهم) وكان يستعملهم
في الأعمال الشاقة، * (قد جئناك بآية من ربك) * قال ابن عباس: هي العصا. قال مقاتل: أظهر
اليد في مقام، والعصا في مقام.
قوله تعالى: * (والسلام على من اتبع الهدى) * قال مقاتل: على من آمن بالله. قال
الزجاج: وليس يعني به التحية، وإنما معناه: أن من اتبع الهدى، سلم من عذاب الله وسخطه،
والدليل على أنه ليس بسلام، أنه ليس بابتداء لقاء وخطاب.
قوله تعالى: * (على من كذب) * أي: بما جئنا به وأعرض عنه.
قال فمن ربكما يا موسى " 49 " قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " 50 " قال فما
بال القرون الأولى " 51 " قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " 52 " الذي جعل
202

لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا
من نبات شتى " 53 " كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهي " 54 " * منها
خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " 55 "
قوله تعالى: * (قال فمن ربكما) * في الكلام محذوف معناه معلوم، وتقديره: فأتياه فأديا
الرسالة. قال الزجاج: وإنما لم يقل: فأتياه، لأن في الكلام دليلا على ذلك، لأن قوله: " فمن
ربكما " يدل على أنهما أتياه وقالا له.
قوله تعالى: * (أعطي كل شئ خلقه) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: أعطى كل شئ صورته، فخلق كل جنس من الحيوان على غير صورة جنسه، فصوره ابن
آدم لا كصورة البهائم، وصورة البعير لا كصورة الفرس، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وبه
قال مجاهد، وسعيد بن جبير.
والثاني: أعطى كل ذكر زوجه مثله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال السدي،
فيكون المعنى: أعطى كل حيوان ما يشاكله.
والثالث: أعطى كل شئ ما يصلحه، قاله قتادة.
وفي قوله: * (ثم هدى) * ثلاثة أقوال:
أحدها: هدى كيف يأتي الذكر الأنثى، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير.
والثاني: هدى للمنكح والمطعم والمسكن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: هدى كل شئ إلى معيشته، قاله مجاهد. وقرأ عمر بن الخطاب، وابن عباس،
والأعمش، وابن السميفع، ونصير عن الكسائي: " أعطى كل شئ خلقه " بفتح اللام.
فإن قيل: ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا؟
فالجواب: أنه قد ثبت وجود خلق وهداية، فلا بد من خالق وهاد.
قوله تعالى: * (قال فما بال القرون الأولى) * اختلفوا فيما سأل عنه من حال القرون الأولى
على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه سأله عن أخبارها وأحاديثها، ولم يكن له بذلك علم، إذ التوراة إنما نزلت عليه
بعد هلاك فرعون، فقال: * (علمها عند ربي) *، هذا مذهب مقاتل. وقال غيره: أراد: إني
رسول، وأخبار الأمم علم غيب، فلا علم لي بالغيب.
203

والثاني: أن مراده من السؤال عنها: لم عبدت الأصنام، ولم لم يعبد الله إن كان الحق ما
وصفت؟!
والثالث: أن مراده: ما لها لا تبعث ولا تحاسب ولا تجازى؟! فقال: علمها عند الله،
أي: علم أعمالها. وقيل: الهاء في " علمها " كناية عن القيامة، لأنه سأله عن بعث الأمم،
فأجابه بذلك.
وقوله: * (في كتاب) * أراد: اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: * (لا يضل ربي ولا ينسى) * وقرأ عبد الله بن عمرو، وعاصم الجحدري،
وقتادة، وابن محيصن: " لا يضل " بضم الياء، وكسر الضاد، أي: لا يضل وقرأ أبو المتوكل،
وابن السميفع: " لا يضل " بضم الياء وفتح الضاد. وفي هذه الآية توكيد للجزاء على الأعمال،
والمعنى: لا يخطئ ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم. وقيل: أراد: لم
يجعل ذلك في كتاب لأنه يضل وينسى.
قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض مهادا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن
عامر: " مهادا ". وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " مهدا " بغير ألف. والمهاد: الفراش،
والمهد: الفرش. * (وسلك لكم) * أي: أدخل لأجلكم في الأرض طرقا تسلكونها، * (وأنزل من
السماء ماء) * يعني: المطر. وهذا آخر الإخبار عن موسى. ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله:
* (فأخرجنا به) * يعني: بالماء * (أزواجا من نبات شتى) * أي: أصنافا مختلفة في الألوان
والطعوم، كل صنف منها زوج. و " شتى " لا واحد له من لفظه. * (كلوا) * أي: مما أخرجنا لكم
من الثمار * (وارعوا أنعامكم) * يقال: رعى الماشية، يرعاها: إذا سرحها في المرعى. ومعنى هذا
الأمر: التذكير بالنعم، * (إن في ذلك لآيات) * أي: لعبرا في اختلاف الألوان والطعوم (لأولي
النهى) قال الفراء: لذوي العقول، يقال للرجل: إنه لذو نهية: إذا كان ذا عقل. قال الزجاج:
واحد النهى: نهية، يقال: فلان ذو نهية، أي: ذو عقل ينتهي به عن المقابح، ويدخل به في
المحاسن; قال: وقال بعض أهل اللغة: ذو النهية: الذي ينتهى إلى رأيه وعقله، وهذا حسن
أيضا.
قوله تعالى: * (منها خلقناكم) * يعني: الأرض المذكورة في قوله: " جعل لكم الأرض
مهادا ". والإشارة بقوله: " خلقناكم " إلى آدم، والبشر كلهم منه. * (وفيها نعيدكم) * بعد الموت
* (ومنها نخرجكم تارة) * أي: مرة (أخرى) بعد البعث، يعني: كما أخرجناكم منها أولا عند خلق
آدم من الأرض.
204

ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى " 56 " قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك
يا موسى " 57 " فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت
مكانا سوى " 58 " قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى " 59 " فتولى فرعون فجمع
كيده ثم أتى " 60 " قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب
من افترى " 61 " فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى " 62 " قالوا إن هذان لساحران
يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى " 63 " فأجمعوا
كيدكم ثم أئتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى " 64 "
قوله تعالى: * (ولقد أريناه) * يعني: فرعون * (آياتنا كلها) * يعني: التسع الآيات، ولم ير كل آية
لله، لأنها لا تحصى، * (فكذب) * إذ نسب الآيات إلى الكذب، وقال: هذا سحر * (وأبى) * أن
يؤمن * (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا) * يعني: مصر * (بسحرك) * أي: تريد أن تغلب على ديارنا
بسحرك فتملكها وتخرجنا منها * (فلنأتينك بسحر مثله) * أي: فلنقابلن ما جئت به من السحر بمثله
* (فاجعل بيننا وبينك موعدا) * أي: اضرب بيننا وبينك أجلا وميقاتا * (لا نخلفه) * أي: لا نجاوزه
* (نحن ولا أنت مكانا) * وقيل: المعنى: أجعل بيننا وبينك موعدا مكانا نتواعد لحضورنا ذلك
المكان، ولا يقع منا خلاف في حضوره. * (سوى) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو والكسائي
بكسر السين. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وخلف، ويعقوب: " سوى " بضمها. وقرأ أبي بن
كعب، وأبو المتوكل، وابن أبي عبلة: " مكانا سواء " بالمد والهمز والنصب و التنوين وفتح السين.
وقرأ ابن مسعود مثله، إلا أنه كسر السين. قال أبو عبيدة: هو اسم للمكان النصف فيما بين
الفريقين، والمعنى: مكانا تستوي مسافته على الفريقين، فتكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق
الآخر. * (قال موعدكم يوم الزينة) * قرأ الجمهور برفع الميم. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن
أبي عبلة، وهبيرة عن حفص بنصب الميم. وفي هذا " اليوم " أربعة أقوال:
أحدها: يوم عيد لهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه، وبه قال
مجاهد، وقتادة، وابن زيد.
والثاني: يوم عاشوراء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
205

والثالث: يوم النيروز، ووافق ذلك يوم السبت أول يوم من السنة، رواه الضحاك عن ابن
عباس.
والرابع: يوم سوق لهم، قاله سعيد بن جبير.
وأما رفع اليوم، فقال البصريون: التقدير: وقت موعدكم يوم الزينة، فناب الموعد، عن
الوقت، وارتفع به ما كان يرتفع بالوقت إذا ظهر. فأما نصبه، فقال الزجاج: المعنى: موعدكم
يقع يوم الزينة، * (وأن يحشر الناس) * موضع " أن " رفع، المعنى: موعدكم حشر الناس
* (ضحى) * أي: إذا رأيتم الناس قد حشروا ضحى. ويجوز أن تكون " أن " في موضع خفض
عطفا على الزينة، المعنى: موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحى. وقرأ ابن مسعود، وابن
يعمر، وعاصم الجحدري: " وأن تحشر " بتاء مفتوحة ورفع الشين ونصب " الناس ". وعن ابن
مسعود، والنخعي: " وأن يحشر " بالياء المفتوحة ورفع الشين ونصب " الناس ".
قال المفسرون: أراد بالناس: أهل مصر، وبالضحى: ضحى اليوم، وإنما علقه
بالضحى، ليتكامل ضوء الشمس واجتماع الناس، فيكون أبلغ في الحجة وأبعد من الريبة.
قوله تعالى: * (فتولى فرعون) * فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: تولى عن الحق الذي أمر به.
والثاني: أنه انصرف إلى منزله لاستعداد ما يلقى به موسى، أي: مكره وحيلته * (ثم أتى) *
أي: حضر الموعد. وقد ذكرنا عددهم في الأعراف.
قوله تعالى: * (ويلكم) * قال الزجاج: هو منصوب على " ألزمكم الله ويلا " ويجوز أن يكون
على النداء، كقوله [تعالى]: * (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) *
قوله تعالى: * (لا تفتروا على الله كذبا) * قال ابن عباس: لا تشركوا معه أحدا.
قوله تعالى: * (فيسحتكم) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن
عاصم: " فيسحتكم " بفتح الياء، من " سحت ". وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن
عاصم: " فيسحتكم " بضم الياء، من " أسحت ". قال الفراء: ويسحت أكثر، وهو الاستئصال،
والعرب تقول: سحته الله، وأسحته، قال الفرزدق:
- وعض زمان يا بن مروان لم يدع *
من المال إلا مسحتا أو مجلف -
206

هكذا أنشد البيت الفراء، والزجاج. ورواه أبو عبيدة: " إلا مسحت أو مجلف " بالرفع.
قوله تعالى: * (فتنازعوا أمرهم بينهم) * يعني: السحرة تناظروا فيما بينها في أمر موسى،
وتشاوروا * (وأسروا النجوى) * أي: أخفوا كلامهم من فرعون وقومه. وقيل: من موسى وهارون.
وقيل: " أسروا " هاهنا بمعنى " أظهروا ".
وفي ذلك الكلام الذي جرى بينهم ثلاثة أقوال:
أحدها: إن كان هذا ساحرا، فإنا سنغلبه، وإن يكن من السماء كما زعمتم، فله أمره، قاله
قتادة.
والثاني: أنهم لما سمعوا كلام موسى قالوا: ما هذا بقول ساحر، ولكن هذا كلام الرب
الأعلى، فعرفوا الحق، ثم نظروا إلى فرعون وسلطانه، وإلى موسى وعصاه، فنكسوا على
رؤوسهم، وقالوا إن هذان لساحران، قاله الضحاك، ومقاتل.
والثالث * (قالوا إن هذان لساحران...) * الآيات، قاله السدي.
واختلف القراء في قوله [تعالى]: * (إن هذان لساحران) * فقرأ أبو عمرو بن العلاء: " إن
هذين " على إعمال " إن " وقال: إني لأستحيي من الله أن أقرأ " إن هذان ". وقرأ وقرأ ابن كثير:
" إن " خفيفة " هذان " بتشديد النون. وقرأ عاصم في رواية حفص: " إن " خفيفة " هذان " خفيفة
أيضا. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " إن " بالتشديد " هاذان " بألف ونون خفيفة.
فأما قراءة أبي عمرو، فاحتجاجه في مخالفة المصحف بما روى عن عثمان وعائشة، أن هذا من
غلط الكاتب على ما حكيناه في قوله تعالى: * (والمقيمين الصلاة) * في سورة النساء. وأما قراءة
عاصم، فمعناها: ما هذان إلا ساحران، كقوله تعالى: * (وإن نظنك لمن الكاذبين) * أي:
ما نظنك إلا من الكاذبين، وأنشدوا في ذلك:
- ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما * حلت عليه عقوبة المتعمد -
أي: ما قتلت إلا مسلما. قال الزجاج: ويشهد لهذه القراءة، ما روي عن أبي بن كعب أنه
قرأ " ما هذان إلا ساحران " وروي عنه، " إن هذان " بالتخفيف، والإجماع على أنه لم يكن
أحد أعلم بالنحو من الخليل. فأما قراءة الأكثرين بتشديد " إن " وإثبات الألف في قوله: " هاذان "
فروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: هي لغة بلحارث بن كعب وقال ابن الأنباري: هي لغة لبني
الحارث بن كعب، وافقتها لغة قريش. قال الزجاج: وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب، وهو
رأس من رؤوس الرواة: أنها لغة لكنانة، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على
لفظ واحد، يقولون: أتاني الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، وأنشدوا:
207

- فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى * مساغا لناباه الشجاع لصمما -
ويقول هؤلاء: ضربته بين أذناه وقال النحويون القدماء: هاهنا هاء مضمرة، المعنى: إنه
هذان لساحران. وقالوا أيضا: إن معنى " إن ": نعم " هذان لساحران "، وينشدون:
- ويقلن شيب قد علا * ك وقد كبرت فقلت إنه -
قال الزجاج: والذي عندي، وكنت عرضته على عالمنا محمد بن يزيد، وعلى إسماعيل بن
إسحاق بن حماد بن زيد، فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا، وهو أن " إن " قد وقعت
موقع " نعم "، والمعنى: نعم هذان لهما الساحران، ويلي هذا في الجودة مذهب بني كنانة.
وأستحسن هذه القراءة، لأنها مذهب أكثر القراء، وبها يقرأ. وأستحسن قراءة عاصم، والخليل.
لأنهما إمامان، ولأنهما وافقا أبي بن كعب في المعنى. ولا أجيز قراءة أبي عمرو لخلاف
المصحف. وحكى ابن الأنباري عن الفراء قال: " الف " " هذان " هي ألف " هذا " والنون فرقت
بين الواحد والتثنية، كما فرقت نون " الذين " بين الواحد والجمع.
قوله تعالى: * (ويذهبا بطريقتكم) * وقرأ أبان عن عاصم: " ويذهبا " بضم الياء وكسر الهاء.
وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو، وأبو رجاء العطاردي: " ويذهبا بالطريقة "
بألف ولام، مع حذف الكاف والميم.
وفي الطريقة قولان:
أحدهما: بدينكم المستقيم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وقال أبو عبيدة: بسنتكم
ودينكم وما أنتم عليه، يقال: فلا حسن الطريقة.
والثاني: بأمثلكم، وهو رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: بأولي العقل،
والأشراف، والأسنان. وقال الشعبي: يصرفان وجوه الناس إليهما. قال الفراء: الطريقة: الرجال
الأشراف، تقول العرب للقوم الأشراف: هؤلاء طريقة قومهم، وطرائق قومهم.
فأما " المثلى " فقال أبو عبيدة: هي تأنيث الأمثل. تقول في الإناث: خذ المثلى منهما،
وفي الذكور: خذ الأمثل. وقال الزجاج: ومعنى المثلى والأمثل: ذو الفضل الذي به يستحق أن
يقال هذا أمثل قومه; قال: والذي عندي أن في الكلام محذوفا، والمعنى: يذهبا بأهل طريقتكم
المثلى، وقول العرب: هذا طريقة قومه، أي: صاحب طريقتهم.
قوله تعالى: * (فأجمعوا كيدكم) * قرأ الأكثرون: " فأجمعوا " بقطع الألف من " أجمعت ".
والمعنى: ليكن عزمكم مجمعا عليه، لا تختلفوا فيختل أمركم. قال الفراء: والإجماع: الإحكام
208

والعزيمة على الشئ، تقول: أجمعت على الخروج، وأجمعت الخروج، تريد: أزمعت، قال
الشاعر:
- يا ليت شعري والمنى لا تنفع * هل أغدون يوما وأمري مجمع -
يريد: قد أحكم وعزم عليه. وقرأ أبو عمرو: " فاجمعوا " بفتح الميم من " جمعت "،
يريد: لا تدعوا من كيدكم شيئا إلا جئتم به. فأما كيدهم، فالمراد به: سحرهم، ومكرهم.
قوله تعالى: * (ثم ائتوا صفا) * أي: مصطفين مجتمعين، ليكون أنظم لأموركم، وأشد
لهيبتكم. قال أبو عبيدة: " صفا " أي: صفوفا. وقال ابن قتيبة: " صفا " بمعنى: جمعا. قال
الحسن: كانوا خمسة وعشرين صفا، كل ألف ساحر صف.
قوله تعالى: * (وقد أفلح من استعلى) * قال ابن عباس: فاز من غلب.
قالوا يا موسى إما أن تلقي وأما أن نكون أول من ألقى " 65 " قال بل ألقوا فإذا حبالهم
وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " 66 " فأوجس في نفسه خيفة موسى " 67 "
قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى " 68 " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد
ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " 69 " فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون
وموسى " 70 " قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر
فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن
أينا أشد عذابا وأبقى " 71 " قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا
فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " 72 " إنا آمنا بربنا ليغفر لنا
خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى " 72 "
قوله تعالى: * (بل ألقوا) * قال ابن الأنباري: دخلت * (بل) * لمعنى: جحد في الآية
الأولى، لأن الآية إذا تؤملت وجدت مشتملة على: إما أن تلقي، وإما أن لا تلقي.
قوله تعالى: * (وعصيهم) * قرأ الحسن، وأبو رجاء العطاردي، وأبو عمران الجوني، وأبو
209

الجوزاء: " وعصيهم " برفع العين.
قوله تعالى: * (يخيل إليه) * وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن،
وقتادة، والزهري، وابن أبي عبلة: " تخيل " بالتاء، " إليه " أي: إلى موسى. يقال: خيل
إليه: إذا شبه له. وقد استدل قوم بهذه الآية على أن السحر ليس بشئ. قالوا إنما خيل إلى
موسى، فالجواب: أنا لا ننكر أن يكون ما رآه موسى تخييلا، وليس بحقيقة، فإنه من الجائز أن
يكونوا تركوا الزئبق في سلوخ الحيات حتى جرت، وليس ذلك بحيات.
فأما السحر، فإنه يؤثر، وهو أنواع. وقد سحر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى أثر فيه، ولعن
العاضهة، وهي الساحرة.
قوله تعالى: * (فأوجس في نفسه خيفة) * قال ابن قتيبة: أضمر في نفسه خوفا.
وقال الزجاج: أصلها " خوفه " ولكن الواو قلبت ياء لانكسار ما قبلها:
وفي خوفه قولان:
أحدهما: أنه خوف الطبع البشري.
والثاني: أنه لما رأى سحرهم من جنس ما أراهم في العصى، خاف أن يلتبس على الناس
أمره، ولا يؤمنوا، فقيل له: * (لا تخف إنك أنت الأعلى) * عليهم بالظفر والغلبة. وهذا أصح من
الأول.
قوله تعالى: * (وألق ما في يمينك) * يعني: العصا * (تلقف) * وقرأ ابن عامر: " تلقف ما "
برفع الفاء وتشديد القاف. وروى حفص عن عاصم: " تلقف " خفيفة. وكان ابن كثير يشدد التاء
من " تلقف " يريد: " تتلقف. وقرأ بن مسعود، وأبي بن كعب، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء:
" تلقم " بالميم. وقد شرحناها في [سورة] الأعراف، * (إنما صنعوا كيد ساحر) * قرأ حمزة،
إن الذي صنعوا كيد السحر، أي: عمل ساحر. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: " إنما
صنعوا كيد " بنصب الدال. * (ولا يفلح الساحر) * قال ابن عباس: لا يسعد حيثما كان. وقيل: لا
يفوز. وروى جندب بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أخذتم الساحر فاقتلوه، ثم
قرأ * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) * قال: " لا يأمن حيث وجد ".
قوله تعالى: * (قال آمنتم له) * قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، وورش عن نافع: " آمنتم
له " على لفظ الخبر. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، " آمنتم له " بهمزة ممدودة. وقرأ
حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " أآمنتم له " بهمزتين الثانية ممدودة.
قوله تعالى: * (إنه لكبيركم) * قال ابن عباس: معلمكم. قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا
210

جاء من عند معلمه، قال: جئت من عند كبيري.
قوله تعالى: * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) * " في " بمعنى " على "، ومثله: * (أم لهم سلم
يستمعون فيه) *. * (ولتعلمن) * أيها السحرة * (أينا أشد عذابا) * لكم * (وأبقى) * أي: أدوم، أنا على
إيمانكم، أو رب موسى على ترككم الإيمان به؟ * (قالوا لن نؤثرك) * أي: لن نختارك * (على ما جاءنا من
البينات) * يعنون اليد والعصا.
فإن قيل: لم نسبوا الآيات إلى أنفسهم بقولهم: " جاءنا " وإنما جاءت عامة لهم ولغيرهم.
فالجواب أنهم لما كانوا بأبواب السحر ومذاهب الاحتيال أعرف من غيرهم، وقد علموا أن ما
جاء به موسى ليس بسحر، كان ذلك في حق غيرهم أبين وأوضح، وكانوا هم لمعرفته أخص.
قوله تعالى: * (والذي فطرنا) * وجهان ذكرهما الفراء، والزجاج.
أحدهما: أن المعنى: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات، وعلى الذي فطرنا.
والثاني: أنه قسم، تقديره: وحق الذي فطرنا.
قوله تعالى: * (فاقض ما أنت قاض) * أي: فاصنع ما أنت صانع. وأصل القضاء: عمل
بإحكام * (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) * قال الفراء: " إنما " حرف واحد، فلهذا نصب: " الحياة
الدنيا ". ولو قرأ قارئ برفع " الحياة " لجاز، على أن يجعل " ما " في مذهب " الذي "،
كقولك: إن الذي تقضي هذه الحياة الدنيا. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو المتوكل: " إنما تقضى "
بضم التاء على ما لم يسم فاعله، " الحياة " برفع التاء. قال المفسرون: والمعنى إنما سلطانك
وملكك في هذه الدنيا، لا في الآخرة.
قوله تعالى: * (ليغفر لنا) * يعنون الشرك * (وما أكرهتنا عليه) * أي: والذي أكرهتنا عليه،
أي: ويغفر لنا إكراهك إيانا على السحر.
فإن قيل: كيف قالوا: أكرهتنا، وقد قالوا: * (إن لنا لأجرا) * وفي هذا دليل على أنهم فعلوا
السحر غير مكرهين؟ فعنه أربعة أجوبة:
أحدهما: أن فرعون كان يكره الناس على تعلم السحر، قال ابن عباس. قال ابن الأنباري:
كان يطالب بعض أهل مملكته بأن يعلموا أولادهم السحر وهم لذلك كارهون، وذلك لشغفه
بالسحر، ولما خامر قلبه من خوف موسى، فالإكراه على السحر، هو الإكراه على تعلمه في أول
الأمر.
والثاني: أن السحرة لما شاهدوا موسى بعد قولهم: " أئن لنا لأجرا " ورأوا ذكره الله تعالى
وسلوكه منهاج المتقين، جزعوا من ملاقاته بالسحر، وحذروا أن يظهر عليهم فيطلع على ضعف
211

صناعتهم، فتفسد معيشتهم، فلم يقنع فرعون منهم إلا بمعارضة موسى، فكان هذا هو الإكراه على
السحر.
والثالث: أنهم خافوا أن يغلبوا في ذلك الجمع، فيقدح ذلك في صنعتهم عند الملوك
والسوق.
والرابع: أن فرعون أكرههم على مفارقة أوطانهم، وكان سبب ذلك السحر، ذكر هذه الأقوال ابن
الأنباري.
قوله تعالى: * (والله خير) * أي: خير منك ثوابا إذا أطبع * (وأبقى) * عقابا إذا عصي، وهذا
جواب قوله: " ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى "; وهذا آخر الإخبار عن السحرة.
إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى " 74 " ومن يأته مؤمنا
قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى " 75 " جنات عدن تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيه وذلك جزاء من تزكى " 76 "
قوله تعالى: * (إنه من يأت ربه مجرما) * يعني: مشركا * (فإن له جهنم لا يموت فيها) * فيستريح
* (ولا يحيى) * حياة تنفعه.
قوله تعالى: * (قد عمل الصالحات) * قال ابن عباس: قد أدى الفرائض، * (فأولئك لهم
الدرجات العلى) * يعني: درجات الجنة، وبعضها أعلى من بعض. والعلى، جمع العليا، وهو تأنيث
الأعلى. قال ابن الأنباري: وإنما قال: " فأولئك "، لأن " من " تقع بلفظ التوحيد على تأويل
الجمع. فإذا غلب لفظها، وحد الراجع إليها، وذلك يبين تأويلها، جمع المصروف إليها.
قوله تعالى: * (وذلك) * يعني الثواب * (جزاء من تزكى) * أي: تطهر من الكفر والمعاصي.
ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا تخاف
دركا ولا تخشى " 77 " فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم " 78 " وأضل فرعون
قومه وما هدى " 79 " يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن
212

ونزلنا عليكم المن والسلوى " 80 " كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل
عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى " 81 " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا
ثم اهتدى " 82 "
قوله تعالى: * (أن أسر بعبادي) * أي: سر بهم ليلا من أرض مصر * (فاضرب لهم طريقا) * أي:
اجعل لهم طريقا * (في البحر يبسا) * قرأ أبو المتوكل، والحسن، والنخعي: " يبسا " بإسكان الباء.
وقرأ الشعبي، وأبو رجاء، وابن السميفع: " يابسا " بألف. قال أبو عبيدة: اليبس، متحرك الحروف،
بمعنى اليابس، يقال: شاة يبس، أي: يابسة ليس لها لبن. وقال ابن قتيبة: يقال لليابس: يبس،
ويبس.
قوله تعالى: * (لا تخاف) * قرأ الأكثرون بألف. وقرأ أبان، وحمزة عن عاصم: " لا تخف " قال
الزجاج " من قرأ " لا تخاف " فالمعنى: لست تخاف، ومن قرأ " لا تخف " فهو نهي عن الخوف.
قال الفراء: قرأ حمزة: " لا تخف " بالجزم، ورفع " ولا تخشى " على الاستئناف، كقوله تعالى:
* (يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) * استأنف ب‍ " ثم " فهذا مثله، ولو نوى حمزة بقوله: " ولا تخش "
الجزم وإن كانت فيه الياء كان صوابا قال ابن قتيبة ومعنى دركا لحاقا قال المفسرون: قال
أصحاب موسى: هذا فرعون قد أدركنا، وهذا البحر بين أيدينا، فأنزل الله على موسى * (لا تخاف دركا) *
أي: من فرعون.
قوله تعالى: * (فأتبعهم فرعون) * قال ابن قتيبة: لحقهم. وروى هارون عن أبي عمرو:
" فاتبعهم " بالتشديد. وقال الزجاج: تبع الرجل الشئ، وأتبعه. بمعنى واحد، ومن قرأ فاتبعهم
بالتشديد، ففيه دليل على أنه اتبعهم ومعه الجنود. ومن قرأ " فأتبعهم " فمعناه: ألحق جنوده بهم،
وجائز أن يكون معهم على هذا اللفظ، وجائز أن لا يكون إلا أنه قد كان معهم * (فغشيهم من اليم ما
غشيهم) * من ماء البحر ما غرقهم، وقال ابن الأنباري: ويعني بقوله: " ما غشيهم " البعض الذي
غشيهم، لأنه لم يغشهم كل مائه. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، وأبو رجاء، والأعمش: " فغشاهم من
اليم ما غشاهم " بألف فيهما مع تشديد الشين وحذف الياء.
قوله تعالى: * (وأضل فرعون قومه) * أي: دعاهم إلى عبادته * (وما هدى) * أي: ما أرشدهم حين
أوردهم موارد الهلكة. وهذا تكذيب له في قوله: * (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) *.
قوله تعالى: * (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) * لأخذ التوراة. وقد ذكرناه في مريم معنى
213

" الأيمن " وذكرناه في البقرة " المن والسلوى ".
قوله تعالى: * (كلوا) * أي: وقلنا لهم: كلوا.
قوله تعالى: * (ولا تطغوا) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تبطروا في نعمي فتظلموا.
والثاني: لا تجحدوا نعمي فتكونوا طاغين.
والثالث: لا تدخروا منه لأكثر من يوم وليلة.
قوله تعالى: * (فيحل عليكم غضبي) * أي: فتحب لكم عقوبتي. والجمهور قرؤوا " فيحل "
بكسر الحاء * (ومن يحلل) * بكسر اللام. وقرأ الكسائي: " فيحل " بضم الحاء * (ومن يحلل) * بضم
اللام. قال الفراء: والكسر أحب إلي، لأن الضم من الحلول، ومعناه: الوقوع، و " يحل " بالكسر،
يجب، وجاء التفسير بالوجوب، لا بالوقوع.
قوله تعالى: * (فقد هوى) * أي: هلك.
قوله تعالى: * (وإني لغفار) * الغفار: الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أخرى، فكلما تكررت
ذنوبهم تكررت مغفرته، وأصل الغفر: الستر، وبه سمي زئبر الثوب: غفرا، لأنه يستر سداه.
فالغفار: الستار لذنوب عبادة، المسبل عليهم ثوب عطفه.
قوله تعالى: * (لمن تاب) * قال ابن عباس: لمن تاب من الشرك * (وآمن) * أي: وحد الله
وصدقه، * (وعمل صالحا) * أدى الفرائض.
وفي قوله تعالى: * (ثم اهتدى) * ثمانية أقوال:
أحدها: علم أن لعمله هذا ثوابا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: لم يشكك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: علم أن ذلك توفيق من الله له، رواه عطاء عن ابن عباس.
والرابع: لزم السنة والجماعة، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: استقام، قاله الضحاك.
والسادس: لزم الإسلام حتى يموت عليه، قاله قتادة.
والسابع: اهتدى كيف يعمل، قاله زيد بن أسلم.
والثامن: اهتدى إلى ولاية بيت النبي صلى الله عليه وسلم قاله ثابت البناني.
214

وما أعجلك عن قومك يا موسى " 83 " قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب
لترضى " 84 " قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري " 85 " فرجع موسى إلى
قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم
أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي " 86 " قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا
حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري " 87 " فأخرج لهم عجلا جسدا
له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي " 88 " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا و لا
يملك لهم ضرا ولا نفعا " 89 "
قوله تعالى: * (وما أعجلك عن قومك يا موسى) * قال المفسرون: لما نجى الله تعالى بني إسرائيل
وأغرق فرعون، قالوا: يا موسى، لو أتيتنا بكتاب من عند، الله فيه الحلال والحرام
والفرائض، فأوحى الله تعالى إليه يعده أنه ينزل عليه ذلك في الموضع الذي كلمه فيه، فاختار
سبعين، فذهبوا معه إلى الطور لأخذ التوراة، فعجل موسى من بينهم شوقا إلى ربه، وأمرهم بلحاقه،
فقال الله تعالى له: ما الذي حملك على العجلة عن قومك، * (قال هم أولاء) * أي: هؤلاء * (على
أثري) *، وقرأ أبو رزين العقيلي، وعاصم الجحدري: " على إثري " بكسر الهمزة وسكون الثاء. وقرأ
عكرمة، وأبو المتوكل، وابن يعمر، برفع الهمزة وسكون الثاء. وقرأ أبو رجاء، وأبو العالية: بفتح
الهمزة وسكون الثاء. والمعنى: هم بالقرب مني يأتون بعدي * (وعجلت إليك رب لترضى) * أي:
لتزداد رضى، * (قال فإنا قد فتنا قومك) * قال الزجاج: ألقيناهم في فتنة ومحنة، واختبرناهم.
قوله تعالى: * (من بعدك) * أي: من بعد انطلاقك من بينهم * (وأضلهم السامري) * أي: كان
سببا لإضلالهم، وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: " وأضلهم "
برفع اللام. وقد شرحناه في البقرة سبب اتخاذ السامري العجل، وشرحنا في [سورة] الأعراف معنى قوله
تعالى: * (غضبان) * أسفا.
قوله تعالى: * (ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) * أي: صدقا، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: إعطاء التوراة.
والثاني: قوله: * (لئن أقمتم الصلاة) * إلى قوله: * (لأكفرن عنكم سيأتكم...) * الآية وقوله
215

تعالى: * (وإني لغفار لمن تاب) *
والثالث: النصر والظفر.
قوله تعالى: * (أفطال عليكم العهد) * أي: مدة مفارقتي إياكم * (أم أردتم) * أن تصنعوا صنيعا
يكون سبب لغضب ربكم * (فأخلفتم موعدي) * أي: عهدي، وكانوا قد عاهدوه أنه إن فكهم الله من
ملكة آل فرعون، أن يعبدوا لله ولا يشركوا به، ويقيموا الصلاة، وينصروا الله ورسله. * (قالوا ما
أخلفنا موعدك بملكنا) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: بكسر الميم، وقرأ نافع، وعاصم:
بفتح الميم. وقرا حمزة، والكسائي: بضم الميم. قال أبو علي: وهذه لغات. وقال الزجاج: الملك
بالضم: السلطان والقدرة. والملك، بالكسر: ما حوته اليد. والملك، بالفتح: المصدر، يقال:
ملكت الشئ أملكه ملكا.
وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال:
أحدها: ما كنا نملك الذي اتخذ منه العجل ولكنها كانت زينة آل فرعون، فقذفناها، قاله ابن
عباس.
والثاني: بطاقتنا قاله قتادة، والسدي.
والثالث: لم نملك أنفسنا عند الوقوع في البلية، قال ابن زيد.
والرابع: لم يملك مؤمنونا سفهاءنا، ذكره الماوردي.
فيخرج فيمن قال هذا لموسى قولان:
أحدهما: أنهم الذين لم يعبدوا العجل. والثاني: عابدوه.
قوله تعالى: * (ولكنا حملنا أوزارا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم:
" حملنا " بضم الحاء وتشديد الميم. وقرأ أبو عمرو، وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: " حملنا "
خفيفة. والأوزار: الأثقال. والمراد بها: حلي آل فرعون الذي كانوا استعاروه منهم قبل خروجهم من
مصر. فمن قرأ " حملنا " بالتشديد فالمعنى: حملناها موسى، أمرنا باستعارتها من آل فرعون،
* (فقذفناها) * أي: طرحناها في الحفيرة. وقد ذكرنا سبب قذفهم إياها في سورة البقرة.
قوله تعالى: * (فكذلك ألقى السامري) * فيه قولان:
أحدهما: أنه ألقى حليا كما ألقوا.
والثاني: ألقى ما كان من تراب حافر فرس جبريل. وقد سبق شرح القصة في البقرة
وذكرناه في الأعراف معنى قوله [تعالى]: * (عجلا جسدا له خوار) *.
216

قوله تعالى: * (فقالوا هذا إلهكم) * هذا قول السامري ومن وافقه من الذين افتتنوا.
قوله تعالى: * (فنسي) * في المشار إليه بالنسيان قولان:
أحدهما: أنه موسى. ثم في المعنى ثلاثة أقوال:
أحدها: هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى أن يخبركم أن هذا إلهه، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: فنسي موسى الطريق إلى ربه، روي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: فنسي موسى إلهه عندكم، وخالفه في طريق آخر، قاله قتادة.
والثاني: أنه السامري، والمعنى: فنسي السامري إيمانه وإسلامه، قاله ابن عباس.
وقال مكحول: فنسي، أي: فترك السامري ما كان عليه من الدين. فنسي ان العجل لا يرجع
إليهم قولا، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا. فعلى هذا القول، يكون قوله [تعالى]: * (فنسي) * من
إخبار الله عز وجل عن السامري. وعلى ما قبله، فيمن قاله قولان:
أحدهما: أنه السامري. والثاني: بنو إسرائيل.
قوله تعالى: * (أفلا يرون ألا يرجع) * قال الزجاج: المعنى: أفلا يرون أنه لا يرجع * (إليهم
قولا) *.
ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا
أمري " 90 " قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى " 91 " قال يا هارون ما منعك إذ
رأيتهم ضلوا " 92 " ألا تتبعن أفعصيت أمري " 93 " قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي
إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي " 94 "
قوله تعالى: * (ولقد قال لهم هارون من قبل) * أي: من قبل أن يأتي موسى * (يا قوم إنما فتنتم
به) * أي: ابتليتم * (وإن ربكم الرحمن) * لا العجل، * (قالوا لن نبرح عليه عاكفين) * أي: لن نزال
مقيمين على عبادة العجل * (حتى يرجع إلينا موسى) * فلما رجع موسى * (قال يا هارون ما منعك إذ
رأيتهم ضلوا) * بعبادة العجل * (أن ألا تتبعني) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " ألا تتبعني " بياء في
الوصل ساكنة، ويقف ابن كثير بالياء، وأبو عمرو بغير ياء. وروى إسماعيل بن جعفر عن نافع: " ألا
تتبعني أفعصيت " بياء منصوبة. وروى قالون عن نافع مثل أبي عمرو سواء. وقرأ عاصم، وابن
217

عامر، وحمزة والكسائي: بغير ياء في الوصل، والوقف. والمعنى: ما منعك من اتباعي " ولا " كلمة
زائدة.
وفي المعنى ثلاثة أقوال:
أحدها: تسير ورائي بمن معك من المؤمنين، وتفارقهم. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أن تناجزهم القتال، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: في الإنكار عليهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: * (أفعصيت أمري) * وهو قوله في وصيته إياه " أخلفني في قومي وأصلح ". قال
المفسرون: ثم أخذ برأس أخيه ولحيته غضبا منه عليه. وهذا وإن لم يذكر هاهنا، فقد ذكر في
الأعراف فاكتفي بذلك، وقد شرحناه هناك معنى " يا ابن أم " واختلاف القراء فيها.
قوله تعالى: * (ولا برأسي) * أي: بشعر رأسي. وهذا الغضب كان لله عز وجل لا لنفسه، لأنه وقع
في نفسه، أن هارون عصى الله بترك اتباع موسى.
قوله تعالى: * (إني خشيت) * أي: إن فارقتهم واتبعتك * (أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) *
وفيه قولان:
أحدهما: باتباعي إياك ومن معي من المؤمنين.
والثاني: بقتالي لبعضهم ببعض.
وفي قوله تعالى: * (ولم ترقب قولي) * قولان:
أحدهما: لم ترقب قولي لك: " اخلفني في قومي وأصلح ".
والثاني: لم تنتظر أمري فيهم.
قال فما خطبك يا سامري " 95 " قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر
الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي " 96 " قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول
لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم
لننسفنه في اليم نسفا " 97 " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما " 98 "
218

قوله تعالى: * (فما خطب يا سامري) * أي: ما أمرك وشأنك الذي دعاك إلى ما صنعت؟
قال ابن الأنباري: وبعض اللغويين يقول: الخطب مشتق من الخطاب. المعنى: ما أمرك الذي
تخاطب فيه؟!
واختلفوا في اسم السامري على قولين:
أحدهما: موسى أيضا، قاله وهب بن منبه
[والثاني]: ميخا، قاله ابن السائب.
وهل كان من بني إسرائيل، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: لم يكن منهم، قاله ابن عباس.
والثاني: كان من عظمائهم، وكان من قبيلة تسمى " سامرة "، قاله قتادة. وفي بلده قولان:
أحدهما: كرمان، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: باجرما، قاله وهب.
قوله تعالى: * (بصرت بما لم يبصروا به) * وقرأ حمزة والكسائي: " تبصروا " بالتاء، فعلى قراءة
الجمهور أشار إلى بني إسرائيل، وعلى هذه القراءة خاطب الجميع. قال أبو عبيدة: علمت ما لم
يعلموا. قال: وقوم يقولون: بصرت، وأبصرت سواء، بمنزلة أسرعت، وسرعت. وقال الزجاج:
يقال: بصر الرجل يبصر: إذا صار عليما بالشيء، وأبصر يبصر: إذا نظر. قال المفسرون: فقال له
موسى: وما ذاك؟ قال: رأيت جبريل على فرس، فألقي في نفسي: أن اقبض من أثرها * (فقبضت
قبضة) *، وقرأ أبي بن كعب، والحسن، ومعاذ القارئ: " قبصة " بالصاد. وقال الفراء: والقبضة بالكف
كلها. والقبصة - بالصاد - بأطراف الأصابع.
قال ابن قتيبة: ومثل هذا: الخضم بالفم كله، والقضم بأطراف الأسنان. والنضخ أكثر من
النضح، والرجز: العذاب والرجس: النتن، والهلاس في البدن، والسلاس في العقل، والغلط في الكلام،
والغلت في الحساب، والخصر: الذي يجد البرد، والخرص: الذي يجد البرد والجوع، والنار
الخامدة: التي قد سكن لهبها ولم يطفأ جمرها، والهامدة: التي طفئت فذهبت البتة، والشكد:
219

العطاء ابتداء، فإن كان جزاء فهو شكم، والمائح: الذي يدخل البئر فيملأ الدلو، والماتح: الذي
ينزعها.
قوله تعالى: * (فنبذتها) * أي: فقذفتها في العجل. وقرأ أبو عمرو وحمزة، والكسائي، وخلف:
" فنبذتها " بالإدغام * (وكذلك) * أي: وكما حدثتك * (سولت لي نفسي) * أي: زينت لي * (قال) *
موسى * (اذهب) * أي: من بيننا * (فإن لك في الحياة) * أي: ما دمت حيا * (أن تقول لا مساس) * أي: لا
أمس ولا أمس، فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع، لا يمس أحدا، ولا يمسه أحد،
عاقبه الله بذلك، وألهمه أن يقول: " لا مساس " وكان إذا لقي أحدا يقول: لا مساس، أي: لا
تقربني، ولا تمسني، وصار بذلك عقوبة لولده، حتى بقاياهم اليوم، فيما ذكر أهل التفسير، بأرض
الشام يقولون ذلك. وحكي أنه إن مس واحد من غيرهم واحدا منهم، أخذتهما الحمى في الحال.
قوله تعالى: * (وإن لك موعدا) * أي: لعذابك يوم القيامة * (لن تخلفه) * أي: لن يتأخر عنك.
ومن كسر لام " تخلف " أراد: لن تغيب عنه.
قوله تعالى: * (وانظر إلى إلهك) * يعني: العجل * (الذي ظلت) * قال ابن عباس: معناه: أقمت
وقال الفراء: معنى " ظلت ": فعلته نهارا. وقرأ أبي بن كعب، وأبو الجوزاء، وابن يعمر: " ظلت "
برفع الظاء. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، والأعمش، وابن أبي عبلة: " ظلت " بكسر الظاء. وقال
الزجاج: " ظلت " و " ظلت " بفتح الظاء وكسرها، فمن فتح، فالأصل فيه: " ظللت " ولكن اللام
حذفت لثقل التضعيف والكسر، وبقيت الظاء على فتحها، ومن قرأ " ظلت " بالكسر، حول كسرة
اللام على الظاء. ومعنى * (عاكفا) * مقيما، * (لنحرقنه) * قرأ الجمهور * (لنحرقنه) * بضم النون وفتح
الحاء وتشديد الراء وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين، وابن يعمر: " لنحرقنه " بفتح النون وسكون
الحاء ورفع الراء مخففة. وقرأ أبو هريرة، والحسن، وقتادة: " لنحرقنه " برفع النون وإسكان الحاء
وكسر الراء مخففة. قال الزجاج: إذا شدد فالمعنى: نحرقه مرة بعد مرة وتأويل " لنحرقنه ":
لنبردنه، يقال: حرقت أحرق وأحرق: إذا بردت الشئ والنسف: التذرية. وجاء في التفسير: أن
موسى أخذ العجل فذبحه، فسال منه دم، لأنه كان قد صار لحما ودما، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه في
البحر، ثم أخبرهم موسى عن إلههم، فقال: * (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو) * أي: هو الذي
يستحق العبادة، لا العجل، * (وسع كل شئ علما) * أي: وسع علمه كل شئ.
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا " 99 " من أعرض
عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا " 100 " خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا " 101 " يوم
220

ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا " 102 " يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا " 103 "
نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما " 104 "
قوله تعالى: * (كذلك نقص عليك) * أي: كما قصصنا عليك يا محمد من نبأ موسى وقومه،
نقص عليك * (من أنباء ما قد سبق) * أي: من أخبار من مضى، والذكر هاهنا: القرآن * (من أعرض
عنه) * فلم يؤمن ولم يعمل بما فيه * (فإنه يحمل يوم القيامة) * وقرأ عكرمة وأبو المتوكل، وعاصم
الجحدري: " يحمل " برفع الياء وفتح الحاء وتشديد الميم، * (وزرا) * أي: إثما * (خالدين فيه) *
أي: في عذاب ذلك الوزر * (وساء لهم) * قال الزجاج: المعنى: وساء الوزر لهم يوم القيامة
* (حملا) * و " حملا " منصوب على التمييز.
قوله تعالى: * (يوم ينفخ في الصور) * قرأ أبو عمرو: " ننفخ " بالنون. وقرأ الباقون من السبعة:
" ينفخ " بالياء، على ما لم يسم فاعله. وقرأ أبو عمران الجوني: " يوم ينفخ " بياء مفتوحة ورفع الفاء
وقد سبق ذكر الصور. * (ونحشر المجرمين) * وقرأ أبي بن كعب، وأبو الجوزاء، وطلحة بن مصرف:
" ويحشر " بياء مفتوحة ورفع الشين. وقرأ ابن مسعود، والحسن، وأبو عمران: " ويحشر " بياء
مرفوعة وفتح الشين، " المجرمون " بالواو. قال المفسرون: والمراد بالمجرمين: المشركون * (يومئذ
زرقا) * وفيه قولان:
أحدهما: عميا، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن قتيبة: بيض العيون من العمى، قد
ذهب السواد، والناظر.
والثاني: زرق العيون من شدة العطش، قاله الزهري. والمراد: أنه يشوه خلقهم بسواد
الوجوه، وزرق العيون.
قوله تعالى: * (يتخافتون بينهم) * أي: يسار بعضهم بعضا * (إن لبثتم) * أي: ما لبثتم إلا
عشر ليال. وهذا على طريق التقليل، لا على وجه التحديد.
وفي مرادهم بمكان هذا اللبث قولان:
أحدهما: القبور. ثم فيه قولان. أحدهما: أنهم عنوا طول ما لبثوا فيها، روى أبو صالح عن
ابن عباس: إن لبثتم بعد الموت إلا عشرا. والثاني: ما بين النفختين، وهو أربعون سنة، فإنه يخفف
عنهم العذاب حينئذ، فيستقلون مدة لبثهم لهول ما يعاينون، حكاه علي بن أحمد النيسابوري.
221

والقول الثاني: أنهم عنوا لبثهم في الدنيا، قاله الحسن، وقتادة.
قوله تعالى: * (إذ يقول أمثلهم طريقة) * أي: أعقلهم، وأعدلهم قولا * (إن لبثتم إلا يوما) *
فنسي القوم مقدار لبثهم لهول ما عاينوا.
ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا " 105 " فيذرها قاعا صفصفا " 106 "
لا ترى فيها عوجا وأمتا " 107 " يومئذ يتبعون الداعي لاعوج له وخشعت الأصوات
للرحمن فلا تسمع إلا همسا " 108 " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي
له قولا " 109 " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما " 110 " * وعنت
الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما " 111 " ومن يعمل من الصالحات
وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما " 112 " وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من
الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا " 113 " فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل
بالقرءان من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما " 114 "
قوله تعالى: * (ويسألونك عن الجبال) * سبب نزولها أن رجالا من ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقالوا يا محمد: كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: * (فينسفها ربي نسفا) * قال المفسرون: النسف: التذرية. والمعنى:
يصيرها رمالا تسيل سيلا، ثم يصيرها كالصوف المنفوش، تطيرها الرياح فتستأصلها * (فيذرها) *
أي: يدع أماكنها من الأرض إذا نسفها * (قاعا) * قال ابن قتيبة القاع من الأرض: المستوي الذي يعلوه
الماء، والصفصف: المستوي أيضا، يريد: أنه لا نبت فيها.
قوله تعالى: * (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) * في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المراد بالعوج: الأودية، وبالأمت: الروابي، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس،
وكذلك قال مجاهد: العوج: الانخفاض، والأمت: الارتفاع، وهذا مذهب الحسن. وقال ابن قتيبة:
الأمت: النبك.
222

والثاني: أن العوج: الميل، والأمت: الأثر مثل الشراك، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن العوج: الصدع، والأمت: الأكمة.
قوله تعالى: * (يومئذ يتبعون الداعي) * قال الفراء: أي: يتبعون صوت الداعي للحشر، لا
عوج لهم عن دعائه: لا يقدرون أن لا يتبعوا.
قوله تعالى: * (وخشعت الأصوات) * أي: سكنت وخفيت * (فلا تسمع إلا همسا) * وفيه ثلاثة
أقوال:
أحدها: وطء الأقدام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير،
وعكرمة ومجاهد في رواية، واختاره الفراء، والزجاج.
والثاني: تحريك الشفاه بغير نطق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: الكلام الخفي، روى عن مجاهد. وقال أبو عبيدة: الصوت الخفي.
قوله تعالى: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة) * يعني: لا تنفع أحدا * (إلا من أذن له الرحمن) * أي:
إلا شفاعة من أذن له الرحمن، أي: أذن أن يشفع له، * (ورضي له قولا) * أي: ورضي للمشفوع
فيه قولا، وهو الذي كان في الدنيا من أهل " لا إله إلا الله ". * (يعلم ما بين أيديهم) * الكناية راجعة
إلى الذين يتبعون الداعي. وقد شرحنا هذه الآية في سورة البقرة.
وفي هاء " به " قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى، قاله مقاتل.
والثاني: إلى " ما بين أيديهم وما خلفهم "، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: * (وعنت الوجوه) * قال الزجاج: " عنت " في اللغة: خضعت، يقال: عنا
يعنو: إذا خضع، ومنه قيل: أخذت البلاد عنوة: إذا أخذت غلبة، وأخذت بخضوع من أهلها.
والمفسرون: على أن هذا في يوم القيامة، إلا ما روي عن طلق بن حبيب: هو وضع الجبهة والأنف
والكفين والركبتين وأطراف القدمين على الأرض للسجود. وقد شرحنا في آية الكرسي معنى " الحي
القيوم ".
قوله تعالى: * (وقد خاب من حمل ظلما) * قال ابن عباس: خسر من أشرك بالله.
قوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن) * " من " هاهنا للجنس. وإنما شرط
223

الإيمان، لأن غير المؤمن لا يقبل عمله، ولا يكون صالحا، * (فلا يخاف) * أي: فهو لا يخاف. وقرأ ابن
كثير: " " فلا يخف " على النهي.
قوله تعالى: * (ظلما ولا هضما) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: لا يخاف أن يظلم فيزاد في سيئاته، ولا أن يهضم من حسناته، رواه ابن أبي طلحة
عن ابن عباس.
والثاني: لا يخاف أن يظلم فيزاد من ذنب غيره، ولا أن يهضم من حسناته، قاله قتادة.
والثالث: لا يخاف أن يؤاخذ بما لم يعمل، ولا ينتقص من عمله الصالح، قاله
الضحاك
والرابع: لا يخاف أن لا يجزى بعمله، ولا أن ينقص من حقه، قاله ابن زيد. قال زيد. قال اللغويون:
الهضم: النقص، تقول العرب: هضمت لك من حقي، أي: حططت، ومنه: فلان هضيم
الكشحين، أي: ضامر الجنبين، ويقال: هذا شئ يهضم الطعام، أي: ينقص ثقله. وفرق بعض
المفسرين بين الظلم والهضم، فقال: الظلم: منع الحق كله، والهضم: منع البعض، وإن كان ظلما
أيضا.
قوله تعالى; * (وكذلك أنزلناه) * أي: وكما بينا في هذه السورة، أنزلناه، أي: أنزلناه هذا
الكتاب * (قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد) * أي: بينا فيه ضروب الوعيد. قال قتادة: يعني: وقائعه
في الأمم المكذبة.
قوله تعالى: * (لعلهم يتقون) * أي: ليكون سببا لاتقائهم الشرك بالاتعاظ بمن قبلهم * (أو
يحدث لهم) * أي: يجدد لهم القرآن، وقيل: الوعيد * (ذكرا) * أي: اعتبارا، فيتذكروا به عقاب
الأمم، فيعتبروا. وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري: " أو نحدث " بنون مرفوعة.
قوله تعالى: * (فتعالى الله) * أي: جل عن إلحاد الملحدين وقول المشركين في صفاته،
* (الملك) * الذي بيده كل شئ، * (الحق) * وقد ذكرناه في [سورة] يونس.
قوله تعالى: * (ولا تعجل بالقرآن) * في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالسورة الآي فيتلوها عليه، فلا يفرغ جبريل من
آخرها حتى يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأولها مخافة أن ينساها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن
عباس.
والثاني: أن رجلا لطم امرأته، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص، فجعل رسول
224

الله صلى الله عليه وسلم القصاص، فنزلت هذه الآية، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى: * (الرجال
قوامون على النساء) *، قاله الحسن البصري.
قوله تعالى: * (من قبل أن يقضى إليك وحيه) * وقرأ ابن مسعود، والحسن، ويعقوب:
" نقضي " بالنون وكسر الضاد وفتح الياء " وحيه " بنصب الياء.
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته تخاف نسيانه، هذا على القول
الأول.
والثاني: لا تقرئ أصحابك حتى نبين لك معاينة، قاله مجاهد، وقتادة.
والثالث: لا تسأل إنزاله قبل أن يأتيك الوحي، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: * (وقل رب زدني علما) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: زدني قرآنا، قاله مقاتل. والثاني: فهما. والثالث: حفظا، ذكرهما الثعلبي.
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما " 115 " وإذ قلنا للملائكة
اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى " 116 " فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا
يخرجنكما من الجنة فتشقى " 117 " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى " 118 " وأنك لا تظمؤا
فيها ولا تضحى " 119 " فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك
لا يبلى " 120 " فأكلا منها فبدت لهم سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة
وعصى آدم ربه فغوى " 121 " ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " 122 " قال اهبطا منها جميعا
بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " 123 "
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيمة أعمى " 124 " قال رب
لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا " 125 " قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم
225

تنسى " 126 " وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد
وأبقى " 27 "
قوله تعالى: * (ولقد عهدنا إلى آدم) * أي: أمرناه وأوصيناه أن لا يأكل من الشجرة * (من
قبل) * أي: من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا الإيمان بي، وهم الذين ذكرهم في قوله:
* (لعلهم يتقون) *، والمعنى: أنهم إن نقضوا العهد، فإن آدم قد عهدنا إليه * (فنسي) *.
وفي هذا النسيان قولان:
أحدهما: أنه الترك، قاله ان عباس، ومجاهد، والمعنى: ترك ما أمر به.
والثاني: أنه من النسيان الذي يخالف الذكر، حكاه الماوردي. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم
الجحدري، وابن السميفع: " فنسي " بفتح النون وتشديد السين.
قوله تعالى: * (ولم نجد له عزما) * العزم في اللغة: توطين النفس على الفعل.
وفي المعنى أربعة أقوال:
أحدهما: لم نجد له حفظا، رواه العوفي عن ابن عباس، والمعنى: لم يحفظ ما أمر به.
والثاني: صبرا، قاله قتادة، ومقاتل، والمعنى: لم يصبر عما نهي عنه.
والثالث: حزما، قاله ابن السائب. قال ابن الأنباري: وهذا لا يخرج آدم من أولي العزم،
وإنما لم يكن له عزم في الأكل فحسب.
والرابع: عزما في العود إلى الذنب، ذكره الماوردي. وما بعد هذا قد تقدم تفسيره البقرة إلى
قوله تعالى: * (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * قال المفسرون: المراد به نصب الدنيا وتعبها من
تكلف الحرث والزرع والعجن والخبز وغير ذلك. قال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر،
فكان يعتمل عليه ويمسح العرق عن جبينه، فذلك شقاؤه. قال العلماء: والمعنى: فتشقيا; وإنما لم يقل:
فتشقيا، لوجهين:
أحدهما: أن آدم هو المخاطب، فاكتفى به، مثله: * (عن اليمين وعن الشمال قعيد) *،
قاله الفراء.
والثاني: أنه لما كان آدم هو الكاسب، كان التعب في حقه أكثر، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: * (ألا تجوع فيها) * قرأ أبي بن كعب: " لا تجاع ولا تعرى " بالتاء المضمومة
226

والألف. * (وأنك لا تظمأ) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن
عاصم: " وأنك " مفتوحة الألف. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: " وإنك " بكسر الألف. قال أبو
علي: من فتح، حمله على أن لك أن لا تجوع وأن لك أن لا تظمأ، ومن كسر، استأنف.
قوله تعالى: * (لا تظمأ فيها) * أي: لا تعطش. يقال: ظمئ الرجل يظمأ ظمأ، فهو ظمآن، أي:
عطشان. ومعنى * (لا تضحى) * لا تبرز للشمس فيصيبك حرها، لأنه ليس في الجنة شمس.
قوله تعالى: * (هل أدلك عل شجرة الخلد) * أي: على شجرة من أكل منها لم يمت * (وملك
لا يبلى) * جديده ولا يفنى. وما بعد هذا مفسر في الأعراف.
وفي قوله تعالى: * (فغوى) * قولان:
أحدهما: ضل طريق الخلود حيث أراده من قبل المعصية.
والثاني: فسد عليه عيشه، لأن معنى الغي: الفساد. قال ابن الأنباري: وقد غلط بعض
المفسرين، فقال: معنى " غوى ": أكثر مما أكل من الشجرة حتى بشم، كما يقال: غوى الفصيل إذا
أكثر من لبن أمه فبشم وكاد يهلك، وهذا خطأ من وجهين:
أحدهما: أنه لا يقال من البشم: غوى يغوي، وإنما يقال: غوي يغوى.
والثاني: أن قوله تعالى: * (فلما ذاقا الشجرة) * يدل على أنهما لم يكثرا، ولم تتأخر عنهما
العقوبة حتى يصلا إلى الإكثار. قال ابن قتيبة: فنحن نقول في حق آدم: عصى وغوى كما قال الله
عز وجل، ولا نقول: آدم عاص وغاو، كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه: قد قطعه وخاطه، ولا
تقول: هذا خياط، حتى يكون معاودا لذلك الفعل، معروفا به.
قوله تعالى: * (ثم اجتباه ربه) * قد بينا الاجتباء في الأنعام. * (فتاب عليه وهدى) * أي:
هداه للتوبة. * (قال اهبطا) * في المشار إليهما قولان:
أحدهما: آدم وإبليس، قاله مقاتل.
والثاني: آدم وحواء، قاله أبو سليمان الدمشقي. ومعنى قوله عز وجل: * (بعضكم لبعض
عدو) * آدم وذريته، وإبليس وذريته، والحية أيضا; وقد شرحنا هذا في البقرة.
قوله تعالى: * (فمن اتبع هداي) * أي: رسولي وكتابي * (فلا يضل ولا يشقى) * قال ابن عباس:
227

من قرأ القرآن واتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه سوء الحساب، ولقد ضمن الله لمن اتبع القرآن أن
لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية.
قوله تعالى: * (ومن أعرض عن ذكري) * قال عطاء: عن موعظتي. وقال ابن السائب: عن القرآن
ولم يؤمن به ولم يتبعه.
قوله تعالى: * (فإن له معيشة ضنكا) * قال أبو عبيدة: معناه: معيشة ضيقة، والضنك يوصف به
الأنثى والذكر بغير هاء، وكل عيش أو مكان أو منزل ضيق، فهو ضنك، وأنشد:
وإن نزلوا بضنك فانزل
وقال الزجاج: الضنك أصله في اللغة: الضيق والشدة.
وللمفسرين في المراد بهذه المعيشة خمسة أقوال:
أحدها. أنها عذاب القبر، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدرون ما المعيشة الضنك؟
قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة
وتسعون تنينا ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة ". وممن ذهب إلى أنه عذاب
القبر ابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، والسدي.
والثاني: أنه ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه فيه، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: شدة عيشه في النار، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن
زيد. قال ابن السائب: وتلك المعيشة من الضريع والزقوم.
والرابع: أن المعيشة الضنك: كسب الحرام، روى الضحاك عن ابن عباس قال: المعيشة
الضنك: أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدى لشئ منها، وله معيشة حرام يركض فيها. قال
الضحاك: فهذه المعيشة هي الكسب الخبيث، وبه قال عكرمة.
والخامس: أن المعيشة الضنك: المال الذي لا يتقي الله صاحبه فيه، رواه العوفي عن ابن
عباس.
فخرج في مكان المعيشة ثلاثة أقوال:
أحدها: القبر.
والثاني: الدنيا.
والثالث: جهنم.
228

وفي قوله تعالى: * (ونحشره يوم القيامة أعمى) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو وابن عامر، وحفص
عن عاصم: " أعمى " " حشرتني أعمى " بفتح الميمين. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن
عاصم بكسرهما. وقرأ نافع بين الكسر والفتح. ثم في هذا المعنى للمفسرين قولان:
أحدهما: أعمى البصر، روى أبو صالح عن ابن عباس قال: إذا أخرج من القبر خرج بصيرا،
فإذا سيق إلى المحشر عمي.
والثاني: أعمى عن الحجة، قاله مجاهد، وأبو صالح. قال الزجاج: معناه: فلا حجة له
يهتدي بها، لأنه ليس للناس على الله حجة بعد الرسل.
قوله تعالى: * (كذلك) * أي: الأمر كذلك كما ترى * (أتتك آياتنا فنسيتها) * أي: فتركتها ولم
تؤمن بها، وكما تركتها في الدنيا تترك اليوم في النار. * (وكذلك) * أي: وكما ذكرنا * (نجزي من
أسرف) * أي: أشرك، * (ولعذاب الآخرة أشد) * من عذاب الدنيا ومن عذاب
القبر * (وأبقى) * لأنه
يدوم.
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات
لأولي النهي " 128 " ولولا كلمة هذه من ربك لكان لزاما وأجل مسمى " 129 " فاصبر
على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائ الليل فسبح
وأطراف النهار لعلك ترضى " 130 "
قوله تعالى: * (أفلم يهد لهم) * أي: أفلم يتبين لكفار مكة إذا نظروا آثار من أهلكنا من
الأمم; وكانت قريش تتجر وترى مساكن عاد وثمود وفيها علامات الهلاك، فذلك قوله تعالى:
* (يمشون في مساكنهم) *. وروى زيد عن يعقوب: " أفلم نهد " بالنون.
قوله تعالى: * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إلى يوم
القيامة، وقيل: إلى يوم بدر، وقيل إلى انقضاء آجالهم * (لكان لزاما) * أي: لكان العذاب لزاما،
أي: لازما لهم. واللزام: مصدر وصف به العذاب. قال الفراء وابن قتيبة: في هذه الآية تقديم
وتأخير، والمعنى: ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما.
قوله تعالى: * (فاصبر على ما يقولون) * أمر الله تعالى نبيه بالصبر على ما يسمع من أذاهم
229

إلى أن يحكم الله فيهم، ثم حكم فيهم بالقتل، ونسخ بآية السيف إطلاق الصبر.
قوله تعالى: * (وسبح بحمد ربك) * أي: صل له بالحمد له والثناء عليه * (قبل طلوع
الشمس) * يريد الفجر * (وقبل غروبها) * يعني: العصر * (ومن آناء الليل) * الآناء: الساعات، وقد
بيناها في آل عمران، * (فسبح) * أي: فصل.
وفي المراد بهذه الصلاة أربعة أقوال:
أحدها: المغرب والعشاء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
والثاني: جوف الليل، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: العشاء، قاله مجاهد، وابن زيد.
والرابع: أول الليل وأوسطه وآخره، قاله الحسن.
قوله تعالى: * (وأطراف النهار) * المعنى: وسبح أطراف النهار. قال الفراء: إنما هما طرفان،
فخرجا مخرج الجمع، كقوله تعالى: * (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) *.
وللمفسرين في المراد بهذه الصلاة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الظهر، قاله قتادة; فعلى هذا، إنما قيل لصلاة الظهر: أطراف النهار، لأن وقتها
عند الزوال، فهو طرف النصف الأول وطرف النصف الثاني.
والثاني: أنها صلاة المغرب وصلاة الصبح، قاله ابن زيد; وهذا على أن الفجر في ابتداء
الطرف الأول، والمغرب عند انتهاء الطرف الثاني.
والثالث: أنها الفجر والظهر والعصر; فعلى هذا يكون الفجر من الطرف الأول، والظهر
والعصر من الطرف الثاني، حكاه الفراء.
قوله تعالى: * (لعلك ترضى) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص
عن عاصم: " ترضى " بفتح التاء. وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم بضمها. فمن فتح،
فالمعنى: لعلك ترضى ثواب الله الذي يعطيك. ومن ضمها، ففيه وجهان:
أحدهما: لعلك ترضى بما تعطى.
والثاني: لعل الله أن يرضاك.
230

ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم
فيه ورزق ربك خير وأبقى " 131 " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا
نحن نرزقك والعاقبة للتقوى " 132 "
قوله تعالى: * (ولا تمدن عينيك) * سبب نزولها، ما روى أبو رافع مولى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]،
قال: نزل ضيف برسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فدعاني فأرسلني إلى رجل من اليهود يبيع طعاما، فقال: قل
له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول]: " بعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إلى هلال رجب " فأتيته
فقلت له ذلك، فقال اليهودي: والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته،
فقال: " والله لو باعني أو أسلفني لقضيته، وإني لأمين في السماء أمين في الأرض، اذهب بدرعي
الحديد إليه "، فنزلت هذه الآية تعزية له في الدنيا. قال أبي بن كعب: من لم يتعز بعزاء الله
تقطعت نفسه حسرات على الدنيا. وقد مضى تفسير هذه الآية في آخر [سورة] الحجر.
قوله تعالى: * (زهرة الحياة الدنيا) * وقرأ ابن مسعود، والحسن، والزهري، ويعقوب:
" زهرة " بفتح الهاء. قال الزجاج: وهو منصوب بمعنى " متعنا "، لأن معنى " متعنا ": جعلنا لهم
الحياة الدنيا زهرة، * (لنفتنهم فيه) * أي: لنجعل ذلك فتنة لهم. وقال ابن قتيبة: لنختبرهم. قال
المفسرون: زهرة الدنيا: بهجتها وغضارتها وما يروق الناظر منها عند رؤيته، وهو من زهرة النبات
وحسنه.
قوله تعالى: * (ورزق ربك خير وأبقى) * فيه قولان:
أحدهما: أنه ثوابه في الآخرة.
والثاني: القناعة.
قوله تعالى: * (وأمر أهلك بالصلاة) * قال المفسرون: المراد بأهله: قومه ومن كان على
دينه، ويدخل في هذا أهل بيته.
قوله تعالى: * (واصطبر عليها) * أي: واصبر على الصلاة * (لا نسألك رزقا) * أي: لا نكلفك
رزقا لنفسك ولا لخلقنا، إنما نأمرك بالعبادة ورزقك علينا، * (والعاقبة للتقوى) * أي: وحسن العاقبة
لأهل التقوى. وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا، ثم يقول:
بهذا أمر الله تعالى ورسوله، ويتلو هذه الآية.
231

وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى " 133 " ولو أنا
أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل
أن نذل ونخزى " 134 " قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن
اهتدى " 135 "
قوله تعالى: * (وقالوا) * يعني: المشركين * (لولا) * أي: هلا * (يأتينا) * محمد * (بآية من
ربه) * أي: كآيات الأنبياء، نحو الناقة والعصا، * (أو لم يأتهم) * قرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص عن
عاصم: " تأتهم " بالتاء. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم:
" يأتهم " بالياء.
قوله تعالى: * (بينه ما في الصحف الأولى) * أي: أولم يأتهم في القرآن بيان وما في الكتب
من أخبار الأمم التي أهلكناها لما سألوا الآيات ثم كفروا بها، فما يؤمنهم أن تكون حالهم في سؤال
الآيات كحال أولئك؟! * (ولو أنا أهلكناهم) * يعني: مشركي مكة * (بعذاب من قبله) * في الهاء
قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الكتاب، قاله مقاتل.
والثاني: إلى الرسول، قاله الفراء.
قوله تعالى: * (لقالوا) * يوم القيامة * (ربنا لولا) * أي: هلا * (أرسلت إلينا رسولا) * يدعونا
إلى طاعتك * (فنتبع آياتك) * أي: نعمل بمقتضاها * (من قبل أن نذل) * بالعذاب * (ونخزى) * في
جهنم. وقرأ ابن عباس، وابن السميفع، وأبو حاتم عن يعقوب: " نذل " و " نخزى " برفع النون
فيهما، وفتح الذال. * (قل) * لهم يا محمد: * (كل) * منا ومنكم * (متربص) * أي: نحن نتربص
بكم العذاب في الدنيا، وأنتم تتربصون بنا الدوائر * (فتربصوا) * أي: فانتظروا * (فستعلمون) * إذا
جاء أمر الله * (من أصحاب الصراط السوي) * أي: الدين المستقيم * (ومن اهتدى) * من الضلالة،
أنحن، أم أنتم؟ وقيل: هذه منسوخة بآية السيف، وليس بشئ.
232

(21) سورة الأنبياء مكية
وآياتها اثنتا عشرة ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " 1 " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث
إلا استمعوه وهم يلعبون " 2 " لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا
بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون " 3 " قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو
السميع العليم " 4 " بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل
الأولون " 5 " ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون " 6 " وما أرسلنا قبلك إلا
رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " 7 " وما جعلناهم جسدا لا
يأكلون الطعام وما كانوا خالدين " 8 " ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا
المسرفين " 9 " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون " 10 "
وهي مكية بإجماعهم من غير خلاف نعلمه.
قوله عز وجل: * (اقترب) * افتعل، من القرب، يقال: قرب الشئ، واقترب. وهذه الآية
نزلت في كفار مكة. وقال الزجاج: اقترب للناس وقت حسابهم. وقيل: اللام في قوله: * (للناس) *
بمعنى: " من ". والمراد بالحساب: محاسبة الله لهم على أعمالهم.
وفي معنى قربه قولان:
233

أحدهما: أنه آت، وكل آت قريب.
والثاني: لأن الزمان - لكثرة ما مضى وقلة ما بقي - قريب.
قوله تعالى: * (وهم في غفلة) * أي: عما يفعل الله بهم ذلك اليوم * (معرضون) * عن التأهب
له. وقيل: " اقترب للناس " عام، والغفلة والإعراض خاص في الكفار، بدلالة قوله [تعالى]:
* (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) *، وفي هذا الذكر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه القرآن، قاله ابن عباس; فعلى هذا تكون الإشارة بقوله: * (محدث) * إلى إنزاله
له، لأنه أنزل شيئا بعد شئ.
والثاني: أنه ذكر من الأذكار، وليس بالقرآن، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وقال النقاش: هو
ذكر من رسول الله، وليس بالقرآن.
والثالث: أنه رسول الله، بدليل قوله في سياق الآية: * (هل هذا إلا بشر مثلكم) *، قاله
الحسن بن الفضل.
قوله تعالى: * (إلا استمعوه وهم يلعبون) * قال ابن عباس: يستمعون القرآن مستهزئين.
قوله تعالى: * (لاهية قلوبهم) * أي: غافلة عما يراد بهم. قال الزجاج: المعنى: إلا
استمعوه لاعبين لاهية قلوبهم; ويجوز أن يكون منصوبا بقوله:
" ويلعبون ". وقرأ عكرمة، وسعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: " لاهية " بالرفع.
قوله تعالى: * (وأسروا النجوى) * أي: تناجوا فيما بينهم، يعني المشركين. ثم بين من هم
فقال: * (الذين ظلموا) * أي: أشركوا بالله. و " الذين " في موضع رفع على البدل من الضمير في
" وأسروا " ثم بين سرهم الذي تناجوا به فقال: * (هل هذا إلا بشر مثلكم) * أي: آدمي، فليس
بملك، وهذا إنكار لنبوته. وبعضهم يقول: " أسروا " هاهنا بمعنى: أظهروا، لأنه من الأضداد.
قوله تعالى: * (أفتأتون السحر) * أي: أفتقبلون السحر * (وأنتم تعلمون) * أنه سحر؟! يعنون
أن متابعة محمد [صلى الله عليه وسلم] متابعة السحر. * (قل ربي) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر،
وأبو بكر عن عاصم: " قل ربي ". وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " قال ربي "،
وكذلك هي في مصاحف الكوفيين، وهذا على الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يعلم القول، أي: لا يخفى
عليه شئ يقال في السماء والأرض، فهو عالم بما أسررتم. * (بل قالوا) *، قال الفراء: رد
ب‍ * (بل) * على معنى تكذيبهم، وإن لم يظهر قبله الكلام بجحودهم، لأن معناه الإخبار عن الجاحدين،
234

وأعلم أن المشركين كانوا قد تحيروا في أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فاختلفت أقوالهم فيه، فبعضهم
يقول: هذا الذي يأتي به سحر، وبعضهم يقول: أضغاث أحلام، وهي الأشياء المختلطة ترى في
المنام; وقد شرحناها في يوسف، وبعضهم يقول: افتراه، أي: اختلقه، وبعضهم يقول: هو شاعر
فليأتنا بآية كالناقة والعصا، فاقترحوا الآيات التي لا إمهال بعدها.
قوله تعالى: * (ما آمنت قبلهم) * يعني: مشركي مكة * (من قرية) * وصف القرية، والمراد
أهلها، والمعنى: أن الأمم التي أهلكت بتكذيب الآيات، لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم، فكيف يؤمن
هؤلاء؟! وهذه إشارة إلى أن الآية لا تكون سببا للإيمان، إلا أن يشاء الله.
قوله تعالى: * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا) * هذا جواب قولهم: " هل هذا إلا بشر مثلكم ".
قوله تعالى: * (نوحي إليهم) * قرأ الأكثرون: " يوحى " بالياء. وروى حفص عن عاصم:
" نوحي " بالنون. وقد شرحناه هذه الآية في النحل.
قوله تعالى: * (وما جعلناهم) * يعني: الرسل * (جسدا) * قال الفراء: لم يقل: أجسادا، لأنه
اسم الجنس. قال مجاهد: وما جعلناهم جسدا ليس فيهم روح. قال ابن قتيبة: ما جعلنا الأنبياء قبله
أجسادا لا تأكل الطعام ولا تموت فنجعله كذلك. قال المبرد وثعلب جميعا: العرب إذا جاءت بين
الكلام بجحدين، كان الكلام إخبارا، فمعنى الآية: إنما جعلناهم جسدا ليأكلوا الطعام. قال قتادة:
المعنى: وما جعلناهم جسدا إلا ليأكلوا الطعام.
قوله تعالى: * (ثم صدقناهم الوعد) * يعني: الأنبياء أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم
وإهلاك مكذبيهم * (فأنجيناهم ومن نشاء) * وهم الذين صدقوهم * (وأهلكنا المسرفين) * يعني: أهل
الشرك; وهذا تخويف لأهل مكة. ثم ذكر منته عليهم بالقرآن فقال: * (لقد أنزلناه إليكم كتابا فيه
ذكركم) *، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: فيه شرفكم، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: فيه دينكم، قاله الحسن، يعني: فيه تحتاجون إليه من أمر دينكم.
والثالث: فيه تذكرة لكم لما تلقونه من رجعة أو عذاب، قاله الزجاج.
قوله تعالى: * (أفلا تعقلون) * ما فضلتكم به على غيركم.
وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين " 11 " فلما أحسوا
235

بأسنا إذا هم منها يركضون " 12 " لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم
تسئلون " 13 " قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين " 14 " فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم
حصيدا خامدين " 15 "
ثم خوفهم فقال: * (وكما قصمنا) * قال المفسرون واللغويون: معناه: وكم أهلكنا، وأصل
القصم: الكسر. قوله تعالى: * (كانت ظالمة) *; أي: كافرة، والمراد: أهلها. * (فلما أحسوا
بأسنا) * أي: رأوا عذابنا بحاسة البصر * (إذا هم منها يركضون) * أي: يعدون، وأصل الركض:
تحريك الرجلين، يقال: ركضت الفرس: إذا أعديته بتحريك رجليك فعدا.
قوله تعالى: * (لا تركضوا) * قال المفسرون: هذا قول الملائكة لهم: * (وارجعوا إلى ما
أترفتم فيه) *، أي: إلى نعمكم التي أترفتكم، وهذا توبيخ لهم.
وفي قوله: * (لعلكم تسألون) * قولان:
أحدهما: تسألون من دنياكم شيئا، استهزاء بهم، قاله قتادة.
والثاني: تسألون عن قتل نبيكم، قاله ابن السائب. فلما أيقنوا بالعذاب * (قالوا يا ويلنا إنا كنا
ظالمين) * بكفرنا، * (فما زالت تلك دعواهم) * أي: ما زالت تلك الكلمة التي هي " يا ويلنا إنا كنا
ظالمين " قولهم يرددونها. * (حتى جعلناهم حصيدا) * بالعذاب، وقيل: بالسيوف * (خامدين) *،
أي: ميتين كخمود النار إذا طفئت.
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين " 16 " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من
لدنا إن كنا فاعلين " 17 " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم
الويل مما تصفون " 18 " وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن
عبادته ولا يستحسرون " 19 " يسبحون الليل والنهار لا يفترون " 20 " أم اتخذوا آلهة من
الأرض هم ينشرون " 21 " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما
يصفون " 22 " لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون " 23 " أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا
236

برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم
معرضون " 24 "
قوله تعالى: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) * أي: لم نخلق ذلك عبثا، إنما
خلقناهما دلالة على قدرتنا ووحدانيتنا ليعتبر الناس بخلقه، فيعلموا أن العبادة لا تصلح إلا لخالقه،
لنجازي أولياءنا، ونعذب أعداءنا.
قوله تعالى: * (لو أردنا أن نتخذ لهوا) * في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن المشركين لما قالوا: الملائكة بنات الله والآلهة بناته، نزلت هذه الآية، قاله أبو
صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن نصارى نجران قالوا: إن عيسى ابن الله، فنزلت هذه الآية، مقاتل.
وفي المراد باللهو ثلاثة أقوال:
أحدها: الولد، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال السدي. قال الزجاج: المعنى: لو
أردنا أن نتخذ ولدا ذا لهو نلهى به.
والثاني: المرأة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة.
والثالث: اللعب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
قوله تعالى: * (لاتخذناه من لدنا) * قال ابن جريج: لاتخذنا نساء وولدا من أهل السماء، لا
من أهل الأرض. قال ابن قتيبة: وأصل اللهو: الجماع، فكني عنه باللهو، كما كني عنه بالسر،
والمعنى: لو فعلنا ذلك لاتخذناه من عندنا، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده، لا
عند غيره.
وفي قوله تعالى: * (إن كنا فاعلين) * قولان:
أحدهما: أن * (إن) * بمعنى " ما "، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة.
237

والثاني: أنها بمعنى الشرط. قال الزجاج: والمعنى: إن كنا نفعل ذلك، ولسنا ممن يفعله;
قال: والقول الأول قول المفسرين، والثاني: قول النحويين، وهم يستجيدون القول الأول أيضا، لأن
" إن " تكون في موضع النفي، إلا أن أكثر ما تأتي مع اللام، تقول: إن كنت لصالحا، معناه: ما كنت إلا
صالحا.
قوله تعالى: * (بل) * أي: دع ذاك الذي قالوا، فإنه باطل * (نقذف بالحق) * أي: نسلط الحق
وهو القرآن * (على الباطل) * وهو كذبهم * (فيدمغه) * قال ابن قتيبة: أي: يكسره، وأصل هذا إصابة
الدماغ بالضرب، وهو مقتل * (فإذا هو زاهق) * أي: زائل ذاهب. قال المفسرون: والمعنى: إنا
نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يضمحل * (ولكم الويل مما تصفون) * أي: من وصفكم الله
بما لا يجوز * (وله من في السماوات والأرض) * يعني: هم عبيده وملكه * (ومن عنده) * يعني:
الملائكة.
وفي قوله: * (ولا يستحسرون) * ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يرجعون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: لا ينقطعون، قاله مجاهد. وقال ابن قتيبة: لا يعيون، والحسر: المنقطع الواقف
إعياء وكلالا.
والثالث: لا يملون، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: * (لا يفترون) * قال قتادة: لا يسأمون. وسئل كعب: أما يشغلهم حاجة؟ فقال
للسائل: يا ابن أخي، جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، ألست تأكل وتشرب وتقوم وتجلس
وتجئ وتذهب وتتكلم وأنت تتنفس؟! فكذلك جعل لهم التسبيح. ثم إن الله تعالى عاد إلى توبيخ
المشركين فقال: * (أم اتخذوا آلهة من الأرض) * لأن أصنامهم من الأرض هي، سواء كانت من ذهب
أو فضة أو خشب أو حجارة * (هم) * يعني: الآلهة * (ينشرون) * أي: يحيون الموتى. وقرأ الحسن:
" ينشرون " بفتح الياء وضم الشين. وهذا استفهام بمعنى الجحد، والمعنى: ما اتخذوا آلهة تنشر
ميتا. * (لو كان فيهما) * يعني: السماء والأرض * (آلهة) * يعني: معبودين * (إلا الله) * قال الفراء: سوى
الله. وقال الزجاج: غير الله.
قوله تعالى: * (لفسدتا) * أي: لخربتا وبطلتا وهلك من فيهما، لوجود التمانع بين الآلهة، فلا
يجري امر العالم على النظام، لأن كل أمر صدر عن اثنين فصاعدا لم يسلم من الخلاف.
قوله تعالى: * (لا يسأل عما يفعل) * أي: عما يحكم في عباده من هدي وإضلال، وإعزاز
238

وإذلال، لأنه المالك للخلق، والخلق يسألون عن أعمالهم، لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال امر
مولاهم. ولما أبطل عز وجل أن يكون إله سواه من حيث العقل بقوله: * (لفسدتا) *، أبطل ذلك
من حيث الأمر فقال: * (أم اتخذوا من دونه آلهة) * وهذا استفهام إنكار وتوبيخ * (قل برهانكم) *
على ما تقولون، * (هذا ذكر من معي) * يعني: القرآن خبر من معي على ديني ممن يتبعني إلى يوم
القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية * (وذكر من قبلي) * يعني: الكتب
المنزلة، والمعنى: هذا القرآن، وهذه الكتب التي أنزلت قبله، فانظروا هل في واحد منها أن الله
أمر باتخاذ إله سواه؟ فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود غيره من حيث الأمر به قال الزجاج: قيل
لهم: هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أخبر أمته بأن لهم إلها غير الله!.
قوله تعالى: * (بل أكثرهم) * يعني: كفار مكة * (لا يعلمون الحق) * وفيه قولان:
أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن عباس.
والثاني: التوحيد، قاله مقاتل * (فهم معرضون) * عن التفكر والتأمل وما يجب عليهم من
الإيمان.
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " 25 " وقالوا
اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون " 26 " لا يسبقون بالقول وهم بأمره
يعملون " 27 " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته
مشفقون " 28 " * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي
الظالمين " 29 "
قوله تعالى: * (من رسول إلا يوحي) * قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " إلا نوحي "
بالنون; والباقون بالياء.
قوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) * في القائلين لهذا قولان:
أحدهما: أنهم مشركو قريش، قاله ابن عباس. وقال ابن إسحاق: القائل لهذا النضر بن
الحارث.
239

والثاني: انهم اليهود قالوا: إن الله صاهر الجن فكانت منهم الملائكة، قاله قتادة. فعلى
القولين، المراد بالولد: الملائكة، وكذلك المراد بقوله: * (بل عباد مكرمون) *، والمعنى: بل عباد
أكرمهم الله واصطفاهم، * (لا يسبقونه بالقول) *، أي: لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به. وقال ابن قتيبة:
لا يقولون حتى يقول، ثم يقولون عنه، ولا يعملون حتى يأمرهم.
قوله تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم) * أي: ما قدموا من الأعمال * (وما خلفهم) * ما هم عاملون،
ولا يشفعون يوم القيامة، وقيل: لا يستغفرون في الدنيا * (إلا لمن ارتضى) * أي: لمن رضي
عنه، * (وهم من خشيته) * أي: من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إلى المفعول، * (مشفقون) * أي:
خائفون. وقال الحسن: يرتعدون. * (ومن يقل منهم) * أي: من الملائكة. قال الضحاك في آخرين:
هذه خاصة لإبليس، لم يدع أحد من الملائكة إلى عبادة نفسه سواه; قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا قول
من قال: إنه من الملائكة، فإن إبليس قال ذلك للملائكة الذين هبطوا معه إلى الأرض، ومن قال: إنه ليس
من الملائكة، قال: هذا على وجه التهديد، وما قال أحد من الملائكة ذلك.
أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء
كل شئ حي أفلا يؤمنون " 30 " وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها
فجاجا سبلا لعلهم يهتدون " 31 " وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها
معرضون " 32 " وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون " 33 "
قوله تعالى: * (أولم ير الذين كفروا) * أي: أولم يعلموا. وقرأ ابن كثير: " ألم ير الذين كفروا "
بغير واو بين الألف واللام، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة، * (أن السماوات والأرض كانتا رتقا
ففتقناهما) * قال أبو عبيدة: السماوات جمع; والأرض واحدة، فخرجت صفة لفظ الجمع على لفظ
صفة الواحد والعرب تفعل هذا إذا أشركوا بين جمع وبين واحد; والرتق مصدر يوصف به الواحد
والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث سواء، ومعنى الرتق: الذي ليس فيه ثقب. قال الزجاج: المعنى:
كانتا ذواتي رتق، فجعلناهما ذوات فتق، وإنما لم يقل: " رتقين " لأن الرتق مصدر.
وللمفسرين في المراد به ثلاثة أقوال:
أحدهما: أن السماوات كانت رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر،
240

وهذه بالنبات، رواه عبد الله بن دينار عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة، ومجاهد في رواية،
والضحاك في آخرين.
والثاني: أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين، ففتقهما الله تعالى، رواه العوفي عن ابن
عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة.
والثالث: أنه فتق من الأرض ست أرضين فصارت سبعا، ومن السماء ست سماوات فصارت
سبعا، رواه السدي عن أشياخه، وابن أبي نجيح عن مجاهد.
قوله تعالى: * (وجعلنا من الماء كل شئ حي) * وقرأ معاذ القارئ، وابن أبي عبلة، وحميد
ابن قيس: " كل شئ حيا " بالنصب.
وفي هذا الماء قولان:
أحدهما: أنه الماء المعروف، والمعنى: جعلنا الماء سببا لحياة كل حي، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه النطفة، قاله أبو العالية.
241

قوله تعالى: * (وجعلنا في الأرض رواسي) * قد فسرناه في [سورة] النحل.
قوله تعالى: * (وجعلنا فيها) * أي: في الرواسي * (فجاجا) * قال أبو عبيدة: هي المسالك.
قال الزجاج: الفجاج جمع فج، وهو كل منخرق بين جبلين، ومعنى * (سبلا) * طرقا. قال ابن
عباس: جعلنا من الجبال طرقا كي تهتدوا إلى مقاصدكم في الأسفار. قال المفسرون: وقوله:
* (سبلا) * تفسير للفجاج، وبيان أن تلك الفجاج نافذة مسلوكة، فقد يكون الفج غير نافذ. * (وجعلنا
السماء سقفا) * أي: هي الأرض كالسقف.
وفي معنى * (محفوظا) * قولان:
أحدهما: بالنجوم من الشياطين، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: محفوظا من الوقوع إلا بإذن الله، قاله الزجاج.
قوله تعالى: * (وهم) * يعني: كفار مكة * (عن آياتها) * أي: شمسها وقمرها ونجومها، قال
الفراء: وقرا مجاهد: " عن آيتها " فوحده، فجعل السماء بما فيها آية; وكل صواب.
قوله تعالى: * (كل) * يعني: الطوالع * (في فلك) * قال ابن قتيبة: الفلك: مدار النجوم الذي
يضمها، وسماه فلكا، لاستدارته، ومنه قيل: فلكه المغزل، وقد فلك ثدي المرأة. قال أبو سليمان:
وقيل: إن الفلك - كهيئة الساقية من ماء - مستديرة دون السماء وتحت الأرض، فالأرض وسطها
والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار يجرون في الفلك، وليس الفلك يديرها. ومعنى
" يسبحون ": يجرون. قال الفراء: لما كانت السباحة من أفعال الآدميين، ذكرت بالنون، كقوله:
* (رأيتهم لي ساجدين) * لأن السجود من أفعال الآدميين.
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون " 34 " كل نفس ذائقة الموت
ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون " 35 " وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك
إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون " 36 "
قوله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) * سبب نزولها أن ناسا قالوا: إن محمدا لا
يموت، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الآية ما خلدنا قبلك أحدا من بني آدم; والخلد:
البقاء الدائم. * (أفإن مت فهم الخالدون) * يعني: مشركي مكة، لأنهم قالوا: * (نتربص به ريب
المنون) *.
242

قوله تعالى: * (ونبلوكم بالشر والخير) * قال ابن زيد: نختبركم بما تحبون لننظر كيف شكركم،
وبما تكرهون لننظر كيف صبركم.
قوله تعالى: * (وإلينا يرجعون) * قرأ ابن عامر: " ترجعون " بتاء مفتوحة. وروى ابن عباس عن
أبي عمرو: " يرجعون " بياء مضمومة. وقرأ الباقون بتاء مضمومة.
قوله تعالى: * (وإذا رآك الذين كفروا) * قال ابن عباس: يعني المستهزئين، وقال السدي: نزلت -
في أبي جهل، مر به رسول الله، فضحك وقال: هذا نبي بني عبد مناف. و * (إن) * بمعنى " ما " ومعنى
* (هزوا) * مهزوءا به * (أهذا الذي يذكر آلهتكم) * أي: يعيب أصنامكم، وفيه إضمار " يقولون "، * (وهم بذكر
الرحمن هم كافرون) * وذلك أنهم قالوا: ما نعرف الرحمن، فكفروا بالرحمن.
خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون " 37 " ويقولون متى هذا الوعد
إن كنتم صادقين " 38 " لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا
عن ظهورهم ولا هم ينصرون " 39 " بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا
هم ينظرون " 40 " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به
يستهزءون " 41 "
قوله تعالى: * (خلق الإنسان من عجل) * وقرأ أبو رزين العقيلي، ومجاهد، والضحاك; " خلق
الإنسان " بفتح الخاء واللام ونصب النون. وهذه الآية نزلت حين استعجلت قريش بالعذاب.
وفي المراد بالإنسان هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: النضر بن الحارث، وهو الذي قال: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك...) *
رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: آدم عليه السلام، قاله سعيد بن جبير، والسدي في آخرين.
والثالث: أنه اسم جنس، قاله علي بن أحمد النيسابوري; فعلى هذا يدخل النضر بن الحارث
وغيره في هذا وإن كانت الآية نزلت فيه.
243

فأما من قال: أريد به آدم، ففي معنى الكلام قولان:
أحدهما: أنه خلق عجولا، قاله الأكثرون. فعلى هذا يقول: لما طبع آدم على هذا المعنى،
وجد في أولاده، وأورثهم العجل.
والثاني: خلق بعجل، استعجل بخلقه قبل غروب الشمس من يوم الجمعة، وهو آخر الأيام
الستة، قاله مجاهد.
فأما من قال: هو اسم جنس، ففي معنى الكلام قولان:
أحدهما: خلق عجولا; قال الزجاج: خوطبت العرب بما تعقل، بعد تقول للذي يكثر منه
اللعب: إنما خلقت من لعب، يريدون المبالغة في وصفه بذلك.
والثاني: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والمعنى: خلقت العجلة في الإنسان، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: * (سأريكم آياتي) * فيه قولان:
أحدهما: ما أصاب الأمم المتقدمة; والمعنى: أنكم تسافرون فترون آثار الهلاك في
الماضين، قاله ابن السائب.
والثاني: أنها القتل ببدر، قاله مقاتل.
قوله تعالى: * (فلا تستعجلون) * أثبت الياء في الحالين يعقوب
قوله تعالى: * (ويقولون متى هذا الوعد) * يعنون: القيامة. * (لم يعلم الذين كفروا) * جوابه
محذوف، والمعنى: لو علموا صدق الوعد ما استعجلوا، * (حين لا يكفون) * أي: لا يدفعون * (عن
وجوههم النار) * إذا دخلوا * (ولا عن ظهورهم) * لإحاطتها بهم * (ولا هم ينصرون) * أي: يمنعون مما
نزل بهم، * (بل تأتيهم) * يعني: الساعة * (بغتة) * فجأة * (فتبهتهم) * تحيرهم; وقد شرحنا هذا عند
قوله: * (فبهت الذي كفر) * * (فلا يستطيعون ردها) * أي: صرفها عنهم، ولا هم يمهلون لتوبة أو
معذرة. ثم عزى نبيه، فقال: * (ولقد استهزئ برسل من قبلك) * أي: كما فعل بك قومك * (فحاق) *
أي نزل * (بالذين سخروا منهم) * أي: من الرسل * (ما كانوا به يستهزئون) * يعني: العذاب الذي
كانوا استهزؤوا به.
قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون " 42 " أم لهم
244

آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون " 43 " بل متعنا
هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها
أفهم الغالبون " 44 " قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون " 45 "
قوله تعالى: * (قل من يكلؤكم) * المعنى: قل لهؤلاء المستعجلين بالعذاب: من يحفظكم من
بأس الرحمن إن أراد إنزاله بكم؟ وهذا استفهام إنكار، أي: لا أحد يفعل ذلك، * (بل هم عن
ذكر ربهم) * أي: عن كلامه ومواعظه * (معرضون) * لا يتفكرون ولا يعتبرون. * (أم لهم آلهة تمنعهم
من دوننا) * فيه تقديم وتأخير، وتقديره: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم؟ وهاهنا تم الكلام. ثم وصف
آلهتهم بالضعف، فقال: * (لا يستطيعون نصر أنفسهم) * والمعنى: من لا يقدر على نصر نفسه عما
يراد به، فكيف ينصر غيره؟!
قوله تعالى: * (ولا هم) * في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم الكفار، وهو قول ابن عباس.
والثاني: أنهم الأصنام، قاله قتادة.
وفي معنى * (يصحبون) * أربعة أقوال:
أحدها: يجارون، رواه العوفي عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: والمعنى: لا يجيرهم منا
أحد، لأن المجير صاحب لجاره.
والثاني: يمنعون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: ينصرون، قاله مجاهد.
والرابع: لا يصحبون بخير، قاله قتادة.
ثم بين اغترارهم بالإهمال، فقال: * (بل متعنا هؤلاء وآباءهم) * يعني: أهل مكة * (حتى طال
عليهم العمر) * فاغتروا بذلك، * (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) * قد شرحناه في
الرعد * (أفهم الغالبون) * أي: مع هذه الحال، وهو نقص الأرض، والمعنى: ليسوا بغالبين،
ولكنهم المغلوبون. * (قل إنما أنذركم) * أي: أخوفكم * (بالوحي) * أي: بالقرآن، والمعنى: إنني ما
جئت به من تلقاء نفسي، إنما أمرت فبلغت. * (ولا يسمع الصم الدعاء) * وقرأ ابن عامر: " ولا
تسمع " بالتاء مضمومة " الصم " نصبا. وقرأ ابن يعمر، والحسن: " ولا يسمع " بضم الياء وفتح الميم
" الصم " بضم الميم. شبه الكفار بالصم الذين لا يسمعون نداء مناديهم; ووجه التشبيه أن هؤلاء لم
245

ينتفعوا بما سمعوا، كالصم لا يفيدهم صوت مناديهم. * (ولئن مستهم) * أي: أصابتهم * (نفحة) * قال
ابن عباس: طرف. وقال الزجاج: المراد أدنى شئ من العذاب، * (ليقولن يا ويلنا) * والويل ينادي
به كل من وقع في هلكة.
ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين " 46 " ونضع الموازين
القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى
بنا حاسبين " 47 "
قوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط) * قال الزجاج: المعنى: ونضع الموازين ذوات القسط،
والقسط: العدل، وهو مصدر يوصف به، يقال: ميزان قسط، وميزانا قسط، وموازين قسط. قال
الفراء: القسط من صفة الموازين وإن كان موحدا، كما تقول: أنتم عدل، وأنتم رضي. وقوله تعالى:
* (ليوم القيامة) * و " في يوم القيامة " سواء. وقد ذكرنا الكلام في الميزان في أول الأعراف.
فإن قيل: إذا كان الميزان واحدا، فما المعنى بذكر الموازين؟
فالجواب: أنه لما كانت أعمال الخلائق توزن وزنة بعد وزنة، سميت موازين.
قوله تعالى: * (فلا تظلم نفس شيئا) * أي: لا ينقص محسن من إحسانه، ولا يزاد مسيء على
إساءته * (وإن كان مثقال حبة) * أي: وزن حبة. وقرأ نافع: " مثقال " برفع اللام. قال الزجاج: ونصب
" مثقال " على معنى: وإن كان العمل مثقال حبة. وقال أبو علي الفارسي: وإن كان الظلامة مثقال
حبة، لقوله [تعالى]: " فلا تظلم نفس شيئا ". قال: ومن رفع، أسند الفعل إلى المثقال، كما أسند
في قوله [تعالى]: * (وإن كان ذو عسرة) *.
قوله تعالى: * (أتينا بها) * أي: جئنا بها. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد: " آتينا بها "
ممدودة، أي: جازينا بها.
قوله تعالى: * (وكفى بنا حاسبين) * قال الزجاج: هو منصوب على وجهين أحدهما: التمييز;
والثاني: الحال.
246

ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين " 48 " الذين يخشون ربهم بالغيب
وهم من الساعة مشفقون " 49 " وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون " 50 "
قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: التوراة التي فرق بها الحلال والحرام، قاله مجاهد، وقتادة.
والثاني: البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون، قاله ابن زيد.
والثالث: النصر والنجاة لموسى، وإهلاك فرعون، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: * (وضياء) * روى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يرى الواو زائدة; قال الزجاج:
وكذلك قال بعض النحويين أن المعنى: الفرقان ضياء، وعند البصريين: أن الواو لا تزاد ولا تأتي
إلا بمعنى العطف، فهي هاهنا مثل قوله [تعالى]: * (فيها هدى ونور) * قال المفسرون: والمعنى
أنهم استضاؤوا بالتوراة حتى اهتدوا بها في دينهم. ومعنى قوله [تعالى]: * (وذكرا للمتقين) * أنهم
يذكرونه ويعملون بما فيه. * (الذين يخشون ربهم بالغيب) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: يخافونه ولم يروه، قاله الجمهور.
والثاني: يخشون عذابه ولم يروه، قاله مقاتل.
والثالث: يخافونه من حيث لا يراهم أحد، قاله الزجاج.
والرابع: يخافونه إذا غابوا عن أعين الناس كخوفهم له إذا كانوا بين الناس، قاله أبو سليمان
الدمشقي. ثم عاد إلى ذكر القرآن، فقال: * (وهذا) * يعني: القرآن * (ذكر) * لمن تذكر به، وعظه لمن
اتعظ * (مبارك) * أي: كثير الخير * (أفأنتم) * يا أهل مكة * (له منكرون) * أي: جاحدون؟ وهذا استفهام
توبيخ.
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين " 51 " إذ قال لأبيه وقومه ما
هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " 52 " قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين " 53 " قال لقد كنتم
أنتم وآباؤكم في ضلال مبين " 54 " قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " 55 " قال بل
ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين " 56 " وتالله
247

لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين " 57 " فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه
يرجعون " 58 "
قوله تعالى * (ولقد آتينا إبراهيم رشده) * أي: هداه * (من قبل) * وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: من قبل بلوغه، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: آتيناه ذلك في العلم السابق، قاله الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: من قبل موسى وهارون، قاله الضحاك. وقد أشرنا إلى قصة إبراهيم في الأنعام.
قوله تعالى: * (وكنا به عالمين) * أي: علمنا أنه موضع لإيتاء الرشد. ثم بين متى آتاه فقال:
* (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل) * يعني: الأصنام: والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق
من خلق الله تعالى، وأصله من مثلث الشئ بالشيء إذا شبهته به وفي قوله تعالى: * (التي أنتم
لها) * أي: على عبادتها * (عاكفون) * أي: مقيمون، فأجابوه أنهم رأوا آباءهم في ضلال مبين، * (قالوا
أجئتنا بالحق) *. يعنون: أجاد أنت، أم لاعب؟!
قوله تعالى: * (لأكيدن أصنامكم) * الكيد: احتيال الكائد في ضر المكيد. والمفسرون
يقولون: لأكيدنها بالكسر * (بعد أن تولوا) * أي: تذهبوا عنها، وكان لهم عيد في كل سنة يخرجون
إليه ولا يخلفون بالمدينة أحدا، فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج
معهم، فلما كان ببعض الطريق، قال: إني سقيم، وألقى نفسه، وقال سرا منهم: " وتالله لأكيدن
أصنامكم "، فسمعه رجل منهم، فأفشاه عليه، فرجع إلى بيت الأصنام، وكانت - فيما ذكره مقاتل
ابن سليمان - اثنين وسبعين صنما من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب، فكسرها، ثم وضع
الفأس في عنق الصنم الكبير، فذلك قوله: * (فجعلهم جذاذا) * قرأ الأكثرون: " جذاذا " بضم
الجيم. وقرأ أبو بكر الصديق، وابن مسعود، وأبو رزين، وقتادة، وابن محيصن، والأعمش،
والكسائي: " جذاذا " بكسر الجيم. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وأيوب السختياني، وعاصم
الجحدري: " جذاذا " بفتح الجيم. وقرأ الضحاك، وابن يعمر: " جذذا " بفتح الجيم من غير ألف.
مستأصلين، قال جرير.
- بني المهلب جذ الله دابرهم * أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف -
أي: لم يبق منهم شئ ولفظ " جذاذ " يقع على الواحد والاثنين والجميع من المذكر
248

والمؤنث. وقال ابن قتيبة " جذاذا " أي: فتاتا، وكل شئ كسرته فقد جذذته، ومنه قيل للسويق:
الجذيذ: وقرأ الكسائي: جذاذا " بكسر الجيم على أنه جمع جذيذ، مثل ثقيل وثقال، وخفيف
وخفاف. والجذيذ بمعنى: المجذوذ، وهو المكسور. * (إلا كبيرا لهم) * أي: كسر الأصنام إلا
أكبرها. قال الزجاج: جائز أن يكون أكبرها في ذاته، وجائز أن يكون أكبرها عندهم في تعظيمهم
إياه، * (لعلهم إليه يرجعون) *، في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الصنم، ثم فيه قولان:
أحدهما: لعلهم يرجعون إليه فيشاهدونه، إلا هذا قول مقاتل.
والثاني: لعلهم يرجعون إليه بالتهمة، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
والثاني: أنها ترجع إلى إبراهيم. والمعنى: لعلهم يرجعون إلى دين إبراهيم بوجوب الحجة
عليهم، قاله الزجاج.
قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " 59 " قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له
إبراهيم " 60 " قالوا فاتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون " 61 " قالوا أأنت فعلت هذا
بآلهتنا يا إبراهيم " 62 " قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون " 63 "
فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إلى آلهتهم * (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) * أي:
قد فعل ما لم يكن له فعله، فقال الذي سمع إبراهيم يقول: " لأكيدن أصنامكم ": * (سمعنا فتى
يذكرهم) * قال الفراء: أي يعيبهم; نقول للرجل: لئن ذكرتني لتندمن، تريد: بسوء.
قوله تعالى: * (فأتوا به على أعين الناس) * أي: بمرأى منهم، لا تأتوا به خفية. قال أبو
عبيدة: تقول العرب إذا أظهر الأمر وشهر: كان ذلك على أعين الناس.
قوله تعالى: * (لعلهم يشهدون) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يشهدون أنه قال لآلهتنا ما قال، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن،
وقتادة.
والثاني: يشهدون أنه فعل ذلك، قاله السدي.
والثالث: يشهدون عقابه وما يصنع به، قاله محمد بن إسحاق.
249

قال المفسرون: فانطلقوا به إلى نمرود، فقال له: * (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال
بل فعله كبيرهم هذا) * غضب أن تعبد معه الصغار، فكسرها، * (فاسألوهم إن كانوا ينطقون) * من
فعله بهم؟! وهذا إلزام للحجة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النطق.
واختلف العلماء في وجه هذا القول من إبراهيم عليه السلام على قولين:
أحدهما: وإنه وإن كان في صورة الكذب، إلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له، لا
يصلح أن يكون إلها. ومثله قول الملكين لدواد: " إن هذا أخي ". له تسع وتسعون نعجة "، ولم
يكن له شئ، فجرى هذا مجرى التنبيه لداود على ما فعل، أنه هو المراد بالفعل والمثل
المضروب; ومثل هذا لا تسميه العرب كذبا.
والثاني: أنه من معاريض الكلام; فروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله [تعالى]: * (بل
فعله) * ويقول معناه: فعله مفعله، ثم يبتدئ * (كبيرهم هذا) *. قال الفراء: وقرأ بعضهم: " بل
فعله " بتشديد اللام، يريد: بل فعله كبيرهم هذا. وقال ابن قتيبة: هذا من المعاريض، ومعناه:
إن كانوا ينطقون، فقد فعله كبيرهم، وكذلك قوله: * (إني سقيم) * أي: سأسقم، ومثله * (إنك
ميت) * أي: ستموت، وقوله: * (لا تؤاخذني بما نسيت) * قال ابن عباس: لم ينس، ولكنه من
معاريض الكلام، والمعنى: لا تؤاخذني بنسياني، ومن هذا قصة الخصمين إذ تسوروا
المحراب " ومثله * (وإنا أو إياكم لعلى هدى) *، والعرب تستعمل التعريض في كلامها كثيرا،
فتبلغ إرادتها بوجه هو ألطف من الكشف وأحسن من التصريح. وروي أن قوما من الأعراب خرجوا
يمتارون، فلما صدروا، خالف رجل في بعض الليل إلى عكم صاحبه، فأخذ منه برا وجعله في
عكمه، فلما أراد الرحلة وقاما يتعاكمان، رأى عكمه يشول، وعكم صاحبه يثقل، فأنشأ يقول:
250

- عكم تغشى بعض أعكام القوم * لم أر عكما سارقا قبل اليوم -
فخون صاحبه بوجه هو ألطف من التصريح. قال ابن الأنباري: كلام إبراهيم كان صدقا عند
البحث، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " كذب إبراهيم ثلاث كذبات ": قال قولا يشبه الكذب في الظاهر،
وليس بكذب، قال المصنف: وقد ذهب جماعة من العلماء إلى هذا الوجه، وأنه من
المعاريض،
والمعاريض لا تذم، خصوصا إذا احتيج إليها روى عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن
في المعاريض لمندوحة عن الكذب "، وقال عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]: ما يسرني أن لي بما
أعلم من معاريض القول مثل أهلي ومالي، وقال النخعي، لهم كلام يتكلمون به إذا خشوا من شئ
يدرؤون به عن أنفسهم. وقال ابن سيرين: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف، وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعجوز: " إن الجنة لا يدخلها العجائز "، أراد قوله تعالى: * (إنا أنشأناهن إنشاء) * وروي
عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يمازح بلالا، فيقول: " ما أخت خالك منك "؟، وقال لامرأة: " من زوجك "؟ فسمته
له، فقال: " الذي في عينيه بياض "؟، وقال لرجل: " إنا حاملوك على ولد ناقة "، وقال له العباس: ما
ترجو لأبي طالب؟ فقال: " كل خير أرجوه من ربي "، وكان أبو بكر حين خرج من الغار مع رسول
الله [صلى الله عليه وسلم] إذا سأله أحد: من هذا بين يديك؟ يقول: " هاد يهديني ". وكانت امرأة ابن رواحة قد رأته
مع جارية له، فقالت له: وعلى فراشي أيضا؟! فجحد، فقالت له: فاقرأ القرآن، فقال:
- وفينا رسول الله يتلو كتابه * إذا انشق مشهور من الصبح طالع -
- يبيت يجافي جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالكافرين المضاجع -
فقالت: آمنت بالله، وكذبت بصري، فأتى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فأخبره، فضحك وأعجبه ما
صنع.
وعرض شريح ناقة ليبيعها فقال له المشتري: كيف لبنها؟ قال: احلب في أي إناء شئت،
قال: كيف الوطاء؟ قال: افرش ونم، قال: كيف نجاؤها؟ قال: إذا رأيتها في الإبل عرفت مكانها،
علق سوطك وسر، قال: كيف قوتها؟ قال. احمل على الحائط ما شئت; فاشتراها فلم ير شيئا
مما وصف، فرجع إليه، فقال: لم أر فيها شيئا مما وصفتها به، قال: ما كذبتك، قال: أقلني،
قال: نعم، وخرج شريح من عند زياد وهو مريض، فقيل له: كيف وجدت الأمير؟ قال: تركته يأمر
وينهى، فقيل له: ما معنى يأمر وينهى؟ قال: يأمر بالوصية، وينهى عن النوح. وأخذ محمد بن
يوسف حجرا المدري فقال: العن عليا، فقال: إن الأمير امرني أن ألعن عليا محمد بن يوسف،
فالعنوه، لعنه الله. وأمر بعض الأمراء صعصعة بن صوحان بلعن علي، فقال: لعن الله من لعن الله
251

ولعن علي، ثم قال: إن هذا الأمير قد أبى إلا أن ألعن عليا، فالعنوه، لعنه الله. وامتحنت الخوارج
رجلا من الشيعة، فجعل يقول: أنا من علي ومن عثمان برئ. وخطب رجل امرأة وتحته أخرى،
فقالوا: لا نزوجك حتى تطلق امرأتك! فقال: اشهدوا أني قد طلقت ثلاثا، فزوجوه، فأقام مع المرأة
الأولى، فادعوا أنه قد طلق، فقال: أما تعلمون أنه كان تحتي فلانة فطلقتها، ثم فلانة فطلقتها؟
قالوا: بلى، قال: فقد طلقت ثلاثا - وحكي أن رجلا عثر به الطائف ليلة، فقال له: من أنت؟ فقال:
- أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره * وإن نزلت يوما فسوف تعود -
- ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره * فمنهم قيام حولها وقعود -
فظن الطائف أنه ابن بعض الأشراف البصرة، فلما أصبح سأل عنه، فإذا هو ابن باقلائي.
ومثل هذا كثير.
فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون " 64 " ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت
ما هؤلاء ينطقون " 65 " قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم " 66 "
أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " 67 "
قوله تعالى: * (فرجعوا إلى أنفسهم) * فيه قولان:
أحدهما: رجع بعضهم إلى بعض.
والثاني: رجع كل منهم إلى نفسه متفكرا.
قوله تعالى: * (فقالوا إنكم أنتم الظالمون) * فيه خمسة أقوال:
أحدها: حين عبدتم من لا يتكلم، قاله ابن عباس.
والثاني: حين تتركون آلهتكم وحدها، وتذهبون، قاله وهب بن منبه.
والثالث: في عبادة هذه الأصاغر مع هذا الكبير، روي عن وهب أيضا.
والرابع: لإبراهيم حين اتهمتموه والفأس في يد كبير الأصنام، قاله ابن إسحاق، ومقاتل.
والخامس: أنتم ظالمون لإبراهيم حين سألتموه، وهذه أصنامكم حاضرة، فاسألوها، ذكره
ابن جرير.
قوله تعالى: * (ثم نكسوا على رؤوسهم) * وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة:
" نكسوا " برفع النون وكسر الكاف مشددة. وقرأ سعيد بن جبير، وابن يعمر، وعاصم الجحدري:
252

" نكسوا " بفتح النون والكاف مخففة. قال أبو عبيدة: " نكسوا ": قلبوا، تقول: نكست فلانا على
رأسه; إذا قهرته وعلوته.
ثم في المراد بهذا الانقلاب ثلاثة أقوال.
أحدها: أدركتهم حيرة، فقالوا: * (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) *، قاله قتادة.
والثاني: رجعوا إلى أول ما كانوا يعرفونها به من أنها لا تنطق، قاله ابن قتيبة.
والثالث: انقلبوا على إبراهيم يحتجون عليه بعد أن أقروا به ولاموا أنفسهم في تهمته، قاله
أبو سليمان. وفي قوله تعالى: * (لقد علمت) * إضمار " قالوا "، وفي هذا إقرار منهم بعجز ما يعبدونه
عن النطق، فحينئذ توجهت لإبراهيم الحجة، فقال موبخا لهم: * (أفتعبدون من دون الله ما لا
ينفعكم) * أي: لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئا * (ولا يضركم) * إذا لم تعبدوه، وفي هذا حث لهم على
عبادة من يملك النفع والضر، * (أف لكم) * قال الزجاج: معناه: النتن لكم; فلما ألزمهم الحجة
غضبوا، فقالوا: * (حرقوه) *. وذكر في التفسير ان نمرود استشارهم، بأي عذاب أعذبه، فقال رجل:
حرقوه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين " 68 " قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " 69 "
وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " 70 " ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها
للعالمين " 71 " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين " 73 " وجعلناهم أئمة
يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا
عابدين " 74 "
قوله تعالى: * (وانصروا آلهتكم) * أي: بتحريقه، لأنه يعيبها * (إن كنتم فاعلين) * أي:
ناصريها.
الإشارة إلى القصة
ذكر أهل التفسير أنهم حبسوا إبراهيم عليه السلام في بيت ثم بنوا له حيرا طول جداره ستون
ذراعا إلى سفح جبل منيف، ونادى منادي الملك: أيها الناس احتطبوا لإبراهيم، ولا يتخلفن عن
ذلك صغير ولا كبير، فمن تخلف ألقي في تلك النار، ففعلوا ذلك أربعين ليلة، حتى إن كانت
253

المرأة لتقول: إن ظفرت بكذا لأحتطبن لنار إبراهيم، حتى إذا كان الحطب يساوي رأس الجدار
سدوا أبواب الحير وقذفوا فيه النار، فارتفع لهبها، حتى إن كان الطائر ليمر بها فيحترق من شدة حرها،
، ثم بنوا بنيانا شامخا، وبنوا فوقه منجنيقا، ثم رفعوا إبراهيم على رأس البنيان، فرفع إبراهيم رأسه
إلى السماء، فقال: اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد
يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل; فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة: ربنا إبراهيم
يحرق فيك، فائذن لنا في نصرته; فقال: أنا أعلم به، وإن دعاكم فأغيثوه; فقذفوه في النار وهو ابن
ست عشرة سنة، وقيل: ست وعشرين، فقال: " حسبي الله ونعم الوكيل " فاستقبله جبريل، فقال:
يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك، فلا، قال: جبريل فسل ربك، فقال: " حسبي من سؤالي علمه
بحالي "، فقال الله عز وجل: * (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) *، فلم تبق نار على وجه
الأرض يومئذ إلا طفئت وظنت انها عنيت. وزعم السدي أن جبريل هو الذي ناداها. وقال ابن
عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها. قال السدي: فأخذت الملائكة بضبعي
إبراهيم فأجلسوه على الأرض، فإذا عين من ماء عذب، وورد أحمر، ونرجس، قال كعب ووهب:
فما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه، وأقام في ذلك الموضع سبعة أيام، وقال غيرهما: أربعين أو
خمسين يوما، فنزل جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة، فألبسه القميص، وأجلسه على
الطنفسة وقعد معه يحدثه. وإن آزر أتى نمرود فقال: أئذن لي أن أخرج عظام إبراهيم فأدفنها،
فانطلق نمرود ومعه الناس، فأمر بالحائط فنقب، فإذا إبراهيم في روضة يهتز وثيابه تندى، وعليه
القميص وتحته الطنفسة والملك إلى جنبه، فناداه نمرود: يا إبراهيم إن إلهك الذي بلغت قدرته
هذا لكبير، هل تستطيع أن تخرج؟ قال: نعم، فقام إبراهيم يمشي حتى خرج، فقال: من الذي
رأيت معك؟ قال: ملك أرسله إلى ربي ليؤنسني، فقال نمرود: إني مقرب لإلهك قربانا لما رأيت
من قدرته، فقال: إذن لا يقبل الله منك ما كنت على دينك، فقال: يا إبراهيم، لا أستطيع ترك
ملكي، ولكن سوف أذبح له، فذبح القربان وكف عن إبراهيم.
قال المفسرون: ومعنى: " كوني بردا " أي: ذات برد، " وسلاما " أي " سلامة. * (وأرادوا به
كيدا) * وهو التحريق بالنار * (فجعلناهم الأخسرين) * وهو أن الله تعالى سلط البعوض عليهم حتى أكل
لحومهم وشرب دماءهم، ودخلت واحدة في دماغ لا نمرود حتى أهلكته، والمعنى: أنهم كادوه بسوء.
فانقلب السوء عليهم.
قوله تعالى: * (ونجيناه) * أي: من نمرود وكيده * (ولوطا) * وهو ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن
هاران بن تارح، وكان قد آمن به، فهاجرا من أرض العراق إلى الشام. وكانت سارة مع إبراهيم في
254

قول وهب. وقال السدي: إنما هي ابنة ملك حران، لقيها إبراهيم فتزوجها على أن لا يغيرها،
وكانت قد طعنت على قومها في دينهم.
قوله تعالى: * (إلى الأرض التي باركنا فيها) *، ففيها قولان:
أحدهما: أنها أرض الشام، وهذا قول الأكثرين. وبركتها: أن الله تعالى بعث أكثر الأنبياء منها،
وأكثر فيها الخصب والثمار والأنهار.
والثاني: أنها مكة، رواه العوفي عن ابن عباس. والأول أصح.
قوله تعالى: * (ووهبنا له) * يعني: إبراهيم * (إسحاق ويعقوب نافلة) *.
وفي معنى النافلة قولان:
أحدهما: أنها بمعنى الزيادة، والمراد بها: يعقوب خاصة، فكأنه سأل واحدا، فأعطي
اثنين، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والفراء.
والثاني: أن النافلة بمعنى العطية، والمراد بها: إسحاق ويعقوب، وهذا مذهب مجاهد،
وعطاء.
قوله تعالى: * (وكلا جعلناه صالحين) * يعني: إبراهيم وإسحاق ويعقوب. قال أبو عبيدة: " كل "
يقع خبره على لفظ الواحد، لأن لفظه لفظ الواحد، ويقع خبره على لفظ الجميع، لأن معناه معنى
الجميع.
قوله تعالى: * (وجعلناهم أئمة) * أي: رؤوسا يقتدى بهم في الخير * (يهدون بأمرنا) * أي:
يدعون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بذلك * (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) * قال ابن عباس: شرائع
النبوة. وقال مقاتل: الأعمال الصالحة، * (وإقام الصلاة) * قال الزجاج: حذف الهاء من " إقامة
الصلاة " قليل في اللغة، تقول: أقام إقامة، والحذف جائز، لأن الإضافة عوض من الهاء.
ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا
قوم سوء فاسقين " 74 " وأدخلناه على في رحمتنا إنه من الصالحين " 75 "
قوله تعالى: * (ولوطا آتيناه حكما) * قال الزجاج: انتصب " لوط " بفعل مضمر، لأن قبله فعلا،
فالمعنى: وأوحينا إليهم وآتينا لوطا. وذكر بعض النحويين أنه منصوب على " واذكر لوطا "، وهذا
جائز لأن ذكر إبراهيم قد جرى، فحمل لوط على معنى: واذكر.
255

قال المفسرون: لما هاجر لوط مع إبراهيم، نزل إبراهيم أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة
على مسيرة يوم وليلة أو نحو ذلك من إبراهيم، فبعثه الله نبيا.
فأما " الحكم " ففيه قولان:
أحدهما: أنه النبوة، قاله ابن عباس.
والثاني: الفهم والعقل، قاله مقاتل، وقد ذكرنا فيه أقوالا في سورة يوسف. وأما " القرية "
هاهنا، فهي سدوم، والمراد أهلها، والخبائث: أفعالهم المنكرة، فمنها إتيان الذكور، وقطع
السبيل، إلى غير ذلك مما قد ذكره الله عز وجل عنهم في مواضع.
قوله تعالى: * (وأدخلناه في رحمتنا) * أي: بإنجائه من بينهم.
ونوحا إذا نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم " 76 " ونصرناه
من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين " 77 "
قوله تعالى: * (ونوحا) * المعنى: واذكر نوحا، وكذلك ما يأتيك من ذكر الأنبياء * (إذ نادى) *
أي: دعا على قومه * (من قبل) * أي: من قبل إبراهيم ولوط. فأما الكرب العظيم! فقال ابن عباس:
هو الغرق وتكذيب قومه.
قوله تعالى: * (ونصرناه من القوم) * أي: منعناه منهم أن يصلوا إليه بسوء، وقيل: " من " بمعنى
" على ".
وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم
شاهدين " 78 " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال
يسبحن والطير وكنا فاعلين " 79 " وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم
شاكرون " 80 " ولسليمان من الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا
256

بكل شئ عالمين " 81 " ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك
وكنا لهم حافظين " 82 "
قوله تعالى: * (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) * وفيه قولان:
أحدهما: أنه كان عنبا، قاله ابن مسعود، ومسروق، وشريح.
والثاني: كان زرعا، قاله قتادة.
* (إذ نفشت فيه غنم القوم) * قال ابن قتيبة: أي: رعت ليلا، يقال: نفشت الغنم بالليل،
وهي إبل نفش ونفاش ونفاش، والواحد: نافش، وسرحت وسربت بالنهار. قال قتادة: النفش
بالليل، والهمل بالنهار. وقال ابن السكيت: النفش أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع.
الإشارة إلى القصة
ذكر أهل التفسير أن رجلين كانا على عهد داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث، والآخر
صاحب غنم، فتفلتت الغنم فوقعت في الحرث فلم تبق منه شيئا، فاختصما إلى داود، فقال
لصاحب الحرث: لك رقاب الغنم، فقال سليمان: أو غير ذلك؟ قال: ما هو؟ قال: ينطلق
أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها، ويقبل أصحاب الغنم على الكرم، حتى
إذا كان كليلة نفشت فيه الغنم، دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم، فقال
داود: قد أصبت القضاء، ثم حكم بذلك، فذلك قوله: (وكنا لحكمهم) وفي المشار إليهم
قولان:
أحدهما: داود وسليمان، فذكرهما بلفظ الجمع، لأن الاثنين جمع، هذا قول الفراء.
والثاني: أنهم داود وسليمان والخصوم، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن مسعود، وابن
عباس، وابن أبي عبلة: " وكنا لحكمهما " على التثنية. ومعنى " شاهدين ": أنه لم يغب عنا من
أمرهم شئ. (ففهمناها سليمان) يعني: القضية والحكومة. وإنما كنى عنها، لأنه قد سبق ما
يدل عليها من ذكر الحكم، * (وكلا منهما آتينا حكما) * وقد سبق بيانه. قال الحسن: لولا هذه
الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه، وعذر داود باجتهاده.
فصل
قال أبو سليمان الدمشقي: كان قضاء داود وسليمان جميعا من طريق الاجتهاد، ولم يكن
257

نصا، إذ لو كان نصا ما اختلفا. قال القاضي أبو يعلى: وقد اختلف الناس في الغنم إذا نفشت ليلا
في زرع رجل فأفسدته، فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة
وأصحابه: لا ضمان عليه ليلا ونهارا، إلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها، فظاهر الآية يدل
على قول أصحابنا، لأن داود حكم بالضمان، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه. فإن
قيل: فقد ثبت نسخ هذا الحكم، لأن داود حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث، وحكم سليمان
له بأولادها وأصوافها ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشت غنمه في حرث رجل شئ من ذلك;
قيل: الآية تضمنت أحكاما، منها وجوب الضمان وكيفيته، فالنسخ حصل على كيفيته، ولم
يحصل على أصله، فوجب التعلق به، وقد روى حرام بن محيصة عن أبيه: أن ناقة للبراء دخلت
حائط رجل فأفسدت، فقضى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل
المواشي حفظها بالليل.
قوله تعالى: * (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن) * تقديره الكلام: وسخرنا الجبال يسبحن مع
داود. قال أبو هريرة: كان إذا سبح أجابته الجبال والطير بالتسبيح والذكر، وقال غيره: كان إذا
وجد فترة، أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق هو فيسبح.
قوله تعالى: * (وكنا فاعلين) * أي: لذلك. قال الزجاج: المعنى: وكنا نقدر على ما
نريده.
قوله تعالى: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم) * في المراد باللبوس قولان.
أحدهما: الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح، وكان داود أول من صنع هذه الحلق وسرد،
قاله قتادة.
والثاني: أن اللبوس: السلاح كله من درع إلى رمح، قاله أبو عبيدة. وقرأ أبو المتوكل،
وابن السميفع: " لبوس " بضم اللام.
قوله تعالى: * (ليحصنكم) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي:
" ليحصنكم " بالياء. وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: " لتحصنكم " بالتاء. وروى أبو بكر
عن عاصم: " لنحصنكم " بالنون خفيفة. وقرأ أبو الدرداء، وأبو عمران الجوني، وأبو حيوة:
" لتحصنكم " بتاء مرفوعة وفتح الهاء وتشديد الصاد. وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وحميد بن
قيس: " لتحصنكم " بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها. وقرأ أبو رزين العقيلي،
وأبو المتوكل، ومجاهد: " لنحصنكم " بنون مرفوعة وفتح الحاء وكسر الصاد مع تشديدها. وقرأ
258

معاذ القارئ، وعكرمة، وابن يعمر، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: " ليحصنكم " بياء
مرفوعة وسكون الحاء وكسر الصاد مشددة النون.
فمن قرأ بالياء، ففيه أربعة أوجه: قال أبو علي الفارسي: أن يكون اللباس، لأن اللبوس
بمعنى اللباس من حيث كان ضربا منه، ويجوز أن يكون داود، ويجوز أن يكون التعليم، وقد دل عليه
" علمناه ".
ومن قرأ بالتاء، حمله على المعنى، لأنه الدرع.
ومن قرأ بالنون، فلتقدم قوله: " وعلمناه ".
ومعنى " لتحصنكم ": لتحرزكم وتمنعكم (من بأسكم) يعني: الحرب.
قوله تعالى: * (ولسليمان الريح) * وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران الجوني، وأبو
حيوة الحضرمي: " الرياح " بألف مع رفع الحاء. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء:
بالألف ونصب الحاء، والمعنى: وسخرنا لسليمان الريح (عاصفة) أي: شديدة الهبوب (تجري
بأمره) يعني: بأمر سليمان (إلى الأرض التي باركنا فيها) وهي أرض الشام، وقد مر بيان بركتها
في هذه السورة والمعنى: أنها كانت تسير به إلى حيث شاء، ثم تعود به إلى منزله بالشام.
قوله تعالى: * (وكنا بكل شئ عالمين) * علمنا أن ما نعطي سليمان يدعوه إلى الخضوع
لربه.
قوله تعالى: * (ومن الشياطين من يغوصون له) * قال أبو عبيدة: " من " تقع على الواحد
والاثنين والجمع من المذكر والمؤنث. قال المفسرون: كانوا يغوصون في البحر، فيستخرجون
الجواهر، * (ويعملون عملا دون ذلك) * قال الزجاج: معناه: سوى ذلك: * (وكنا لهم حافظين) *
أن يفسدوا ما عملوا. وقال غيره: أن يخرجوا عن أمره.
وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " 83 " فاستجبنا له فكشفنا
ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين " 84 "
وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين " 85 " وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من
الصالحين " 86 "
259

قوله تعالى: * (وأيوب إذ نادى ربه أني) * وقرأ أبو عمران الجوني: " إني بكسر "
الهمزة، * (مسني الضر) * وقرأ حمزة: " مسني " بتسكين الياء، أي: أصابني الجهد، * (وأنت
أرحم الراحمين) * أي: أكثرهم رحمة، وهذا تعريض منه بسؤال الرحمة إذ أثنى عليه بأنه الأرحم
وسكت.
الإشارة إلى قصته
ذكر أهل التفسير أن أيوب عليه السلام كان أغنى أهل زمانه، وكان كير الإحسان. فقال
إبليس: يا رب سلطني على ماله وولده - وكان له ثلاثة عشر ولدا - فإن فعلت رأيته كيف يطيعني
ويعصيك، فقيل له: قد سلطتك على ماله وولده، فرجع إبليس فجمع شياطينه ومردته، فبعث
بعضهم إلى دوابه ورعاته، فاحتملوها حتى قذفوها في البحر، وجاء إبليس في صورة قيمه، فقال:
يا أيوب ألا أراك تصلي وقد أقبلت ريح عاصف فاحتملت دوابك ورعاتها حتى قذفتها في البحر؟
فلم يرد عليه شيئا حتى فرغ من صلاته، ثم قال: الحمد لله الذي رزقني ثم قبله مني، فانصرف
خائبا، ثم أرسل بعض الشياطين إلى جنانه وزروعه، فأحرقوها، وجاء فأخبره، فقال مثل ذلك،
فأرسل بعض الشياطين فزلزلوا منازل أيوب وفيها ولده وخدمه، فأهلكوهم، وجاء فأخبره، فحمد
الله، وقال لإبليس وهو يظنه قيمه في ماله: لو كان فيك خير لقبضك معهم، فانصرف خائبا، فقيل
له: كيف رأيت عبدي أيوب؟ قال: يا رب سلطني على جسده فسوف ترى، قيل له قد سلطتك على
جسده فجاء فنفخ في إبهام قدميه، فاشتعل فيه مثل النار، ولم يكن في زمانه أكثر بكاء منه خوفا من الله
تعالى، فلما نزل به البلاء لم يبك مخافة الجزع، وبقي لسانه للذكر، وقلبه للمعرفة والشكر،
وكان يرى أمعاءه وعروقه وعظامه، وكان مرضه أنه خرج في جميع جسده حكة لا يملكها، فحك
بأظفاره حتى سقطت، ثم بالمسوح، ثم بالحجارة، فأنتن جسمه وتقطع، وأخرجه أهل القرية
فجعلوا له عريشا على كناسة، ورفضه الخلق سوى زوجته، واسمها رحمة بنت إفراييم بن
يوسف ين يعقوب، فكانت تختلف إليه بما يصلحه. وروى أبو بكر القرشي عن الليث بن سعد،
260

قال: كان ملك يظلم الناس، فكلمه في ذلك جماعة من الأنبياء، وسكت عنه أيوب لأجل خيل
كانت له في سلطانه، فأوحى الله إليه: تركت كلامه من أجل خيلك؟! لأطيلن بلاءك.
واختلفوا في مدة لبثه في البلاء على أربعة أقوال:
أحدها: ثماني عشرة سنة، رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: سبع سنين، قاله ابن عباس، وكعب، ويحيى بن أبي كثير.
والثالث: سبع سنين وأشهر، قاله الحسن.
والرابع: ثلاث سنين، قاله وهب.
وفي سبب سؤاله العافية ستة أقوال:
أحدها: أنه اشتهى إداما، فلم تصبه امرأته حتى باعت قرنا من شعرها،
فلما: " مسني الضر "، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أن الله تعالى أنساه الدعاء مع كثرة ذكره الله، فلما انتهى أجل البلاء، يسر الله له
الدعاء، فاستجاب له، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن نفرا من بني إسرائيل مروا به، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه هذا إلا بذنب
عظيم، فعند ذلك قال: " مسني الضر "، قاله نوف البكالي. فقال عبد الله بن عبيد بن عمير:
كان له أخوان، فأتياه يوما فوجدا ريحا، فقالا: لو كان الله علم منه خيرا ما بلغ بكل هذا، فما
سمع شيئا أشد عليه من ذلك، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان وأنا أعلم مكان
جائع فصدقني، فصدق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصا وأنا
أعلم مكان عار فصدقني، فصدق وهما يسمعان، فخر ساجدا، ثم قال: اللهم لا أرفع رأسي
حتى تكشف ما بي، فكشف الله عز وجل ما به.
والرابع: أن إبليس جاء إلى زوجته بسخلة، فقال: ليذبح أيوب هذه لي وقد برأ، فجاءت
فأخبرته، فقال: لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، أمرتني أن أذبح لغير الله؟! ثم طردها
عنه، فذهبت، فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا صديق، خر ساجدا وقال: " مسني
الضر "، قاله الحسن.
والخامس: أن الله تعالى أوحى إليه وهو في عنفوان شبابه: أني مبتليك، قال: يا رب،
وأين يكون قلبي؟ قال: عندي، فصب عليه من البلاء ما سمعتم، حتى إذا بلغ البلاء منتهاه،
أوحى إليه أن معافيك، قال: يا رب، وأين يكون قلبي؟ قال: عندك، قال: " مسني الضر "،
قاله إبراهيم بن شيبان القرميسي فيما به عنه.
261

والسادس: أن الوحي انقطع عنه أربعين يوما، فخاف هجران ربه، فقال: " مسني
الضر "، ذكره الماوردي.
فإن قيل: أين الصبر، وهذا لفظ الشكوى؟
فالجواب: أن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، وإنما المذموم الشكوى إلى الخلق، ألم
تسمع قول يعقوب: " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ". قال سفيان بن عيينة: وكذلك من شكا
إلى الناس، وهو في شكواه راض بقضاء الله، لم يكن ذلك جزعا، ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
لجبريل في مرضه: " أجدني مغموما " و " أجدني مكروبا "، وقوله: " بل أنا وا رأساه ".
قوله تعالى: * (وآتيناه أهله) * يعني: أولاده * (ومثلهم معهم) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أحيا له أهله بأعيانهم، وآتاه مثلهم معهم في الدنيا، قاله ابن
مسعود، والحسن، وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس: كانت امرأته ولدت له سبعة بنين
وسبع بنات، فنشروا له، وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات.
والثاني: أنهم كانوا قد غيبوا عنه ولم يموتوا، فآتاه في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة،
رواه هشام عن الحسن.
والثالث: آتاه الله أجور أهله في الآخرة، وآتاه مثلهم في الدنيا، قاله نوف، ومجاهد.
والرابع: آتاه أهله ومثلهم معهم في الآخرة، حكاه الزجاج.
قوله تعالى: * (رحمة من عندنا وذكرى) * أي عظة * (للعابدين) * قال محمد بن كعب: من أصابه
بلاء فليذكر ما أصاب أيوب، فليقل: إنه قد أصاب من هو خير مني.
قوله تعالى: * (وذا الكفل) * اختلفوا هل كان نبيا، أم لا؟ على قولين.
أحدهما: أنه لم يكن نبيا، ولكنه كان عبدا صالحا، قاله أبو موسى الأشعري، ومجاهد.
ثم اختلف أرباب هذا القول في علة تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رجلا كان يصلي كل يوم مائة صلاة فتوفي، فكفل بصلاته، فسمي: ذا
الكفل، قاله أبو موسى الأشعري.
والثاني: أنه تكفل للنبي بقومه أن يكفيه أمرهم ويقيمه ويقضي بينهم بالعدل ففعل، فسمي:
ذا الكفل، قاله مجاهد.
والثالث: أن ملكا قتل ثلاثمائة، وفر منه مائة نبي، فكفلهم ذو الكفل، قاله ابن السائب.
262

والقول الثاني: أنه كان نبيا، قاله الحسن، وعطاء. قال عطاء: أوحى الله تعالى إلى نبي
من الأنبياء: إني أريد قبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك بأنه يصلي
الليل لا يفتر، ويصوم النهار لا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب، فادفع ملكك إليه، ففعل
ذلك، فقام شاب فقال: أنا أتكفل لك بهذا، فتكفل به، فوفى فشكر الله له ذلك، ونبأه،
وسمي: ذا الكفل. وقد ذكر الثعلبي حديث ابن عمر عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في الكفل: " أنه كان
رجلا لا ينزع عن ذنب، وأنه خلا بامرأة ليفجر بها، فبكت، وقالت: ما فعلت هذا قط، فقام عنها
تائبا، ومات من ليلته، فأصبح مكتوبا على بابه: قد غفر الله للكفل ": والحديث معروف، وقد
ذكرته في " الحدائق "، فجعله الثعلبي أحد الوجوه في بيان ذي الكفل، وهذا غلط، لأن ذلك
اسمه الكفل، والمذكور في القرآن: ذو الكفل، ولأن الكفل مات في ليلته التي تاب فيها، فلم
يمض عليه زمان طويل يعالج فيه الصبر عن الخطايا. وإذا قلنا: إنه نبي، فإن الأنبياء معصومون
عن مثل هذا الحال. وذكرت هذا لشيخنا أبي الفضل بن ناصر، فوافقني، وقال: ليس هذا
بذاك.
قوله تعالى: * (كل من الصابرين) * أي: على طاعة الله وترك معصيته، * (وأدخلناهم في
رحمتنا) * في هذه الرحمة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الجنة، قاله ابن عباس.
والثاني: النبوة، قاله مقاتل.
والثالث: النعمة والموالاة، حكاها أبو سليمان الدمشقي.
وذا النون إذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت
سبحانك إني كنت من الظالمين " 87 " فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " 88 "
قوله تعالى: * (وذا النون) * يعني: يونس بن متى. والنون: السمكة; أضيف إليها
لابتلاعها إياه.
قوله تعالى: * (إذ ذهب مغاضبا) * قال ابن قتيبة: المغاضبة: مفاعلة، وأكثر المفاعلة من
اثنين، كالمناظرة والمجادلة والمخاصمة، وربما تكون من واحد، كقولك: سافرت، وشارفت
الأمر، وهي هاهنا من هذا الباب. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري، وابن
السميفع: " مغضبا " بإسكان الغين وفتح الضاد من غير ألف.
واختلفوا في مغاضبته بكر لمن كانت؟ على قولين:
263

أحدهما: أنه غضب على قومه، قاله أبن عباس، والضحاك. وفي سبب غضبه عليهم ثلاثة
أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أوحى إلى نبي نبي يقال له: شعيا: أن ائت فلانا الملك، فقل له يبعث نبيا
أمينا إلى بني إسرائيل، وكان قد غزا بني إسرائيل ملك، وسبا منهم الكثير، فأراد النبي والملك أن
يبعثا يونس إلى ذلك الملك ليكلمه حتى يرسلهم، فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجي قد؟
قال: لا، قال: فهل سماني لك؟ قال: لا، قال: فها هنا غيري من الأنبياء، فألحوا عليه،
فخرج مغاضبا للنبي والملك ولقومه، هذا مروي عن ابن عباس; وقد زدناه شرخا في [سورة] يونس.
والثاني: أنه عانى من قومه أمرا صعبا من الأذى والتكذيب، فخرج عنهم قبل أن يؤمنوا
ضجرا، وما ظن أن هذا الفعل يوجب عليه ما جرى من العقوبة، ذكره ابن الأنباري. وقد روي عن
وهب بن منبه، قال: لما حملت عليه أثقال النبوة، ضاق بها ذرعا ولم يصبر، فقذفها من يده
وخرج هاربا.
والثالث: أنه لما أوعدهم العذاب، فتابوا ورفع عنهم، قيل له: ارجع إليهم، فقال: كيف
أرجع فيجدوني كاذبا؟ فانصرف مغاضبا لقومه، عاتبا على ربه. وقد ذكرنا هذا في [سورة] يونس.
والثاني: أنه خرج مغاضبا لربه، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، والشعبي، وعروة، وقال:
المعنى: مغاضبا من أجل ربه، وإنما غضب لأجل تمردهم وعصيانهم. وقال ابن قتيبة: كان
مغيظا عليهم لطول ما عاناه من تكذيبهم، مشتهيا أن ينزل العذاب لهم فعاقبه الله على كراهيته العفو
عن قومه.
قوله تعالى: * (فظن أن لن نقدر عليه) * وقرأ يعقوب: " يقدر عليه " بضم الياء وتشديد الدال
وفتحها. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وابن أبي ليلى: " يقدر " بياء مرفوعة مع سكون
القاف وتخفيف الدال وفتحها. وقرأ أبو عمران الجوني: " يقدر " بياء مفتوحة وسكون القاف وكسر
الدال خفيفة. وقرأ الزهري، وابن يعمر، وحميد بن قيس: " نقدر " بنون مرفوعة وفتح القاف
وكسر الدال وتشديدها. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن لن نقض عليه بالعقوبة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة،
والضحاك. قال الفراء: معنى الآية. فظن أن لن نقدر عليه ما قدرنا من العقوبة، والعرب تقول:
قدر، بمعنى: قدر، قال أبو صخر:
264

- ولا عائدا ذاك الزمان الذي مضى *
تباركت ما تقدر يكن ولك الشكر -
أراد: ما تقدر، وهذا مذهب الزجاج.
والثاني: فلا فظن أن لن نضيق عليه، ومقدر عليه، ومقتر عليه، ومنه قوله تعالى: * (فقدر عليه
رزقه) * أي: ضيق عليه الخروج، فكأنه ظن أن الله تعالى قد وسع عليه، إن شاء أن يقيم، وإن
شاء أن يخرج، ولم يؤذن له في الخروج.
والثالث: أن المعنى: أفظن أنه يعجز ربه، فلا يقدر عليه، رواه عوف عن الحسن. وقال ابن
زيد، وسليمان التيمي: المعنى: أفظن أن لن نقدر عليه; فعلى هذا الوجه يكون استفهاما قد حذفت
ألفه; وهذا الوجه يدل على أنه من القدرة، ولا يتصور إلا مع تقدير الاستفهام، ولا أعلم له وجها إلا
أن يكون استفهام إنكار، تقديره: ما ظن عجزنا، فأين يهرب منا؟!
قوله تعالى: * (فنادى في الظلمات) * فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، قاله سعيد بن جبير، وقتادة،
والأكثرون.
والثاني: أن حوتا جاء فابتلع الحوت الذي هو في بطنه، فنادى في ظلمة حوت، ثم في ظلمة
حوت، ثم في ظلمة البحر، قاله سال بن أبي الجعد.
والثالث: أنها ظلمة الماء، وظلمة معاء السمكة، وظلمة بطنها، قاله ابن السائب. وقد روى
سعد بن أبي وقاص عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه قال: " إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله
عنه، كلمة أخي يونس فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ".
قال الحسن: وهذا اعتراف من يونس بذنبه وتوبة من خطيئته.
قوله تعالى: * (فاستجبنا له) * أي: أجبناه * (ونجيناه من الغم) * أي: من الظلمات * (وكذلك
ننجي المؤمنين) * إذا دعونا. وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ: " نجي المؤمنين " بنون واحدة مشددة
الجيم; قال الزجاج: وهذا لحن لا وجه له، وقال أبو علي الفارسي: غلط الراوي عن عاصم، ويدل
على هذا إسكانه الياء من " نجي " ونصب " المؤمنين " ولو كان على ما لم يسم فاعله ما سكن
الياء، ولرفع " المؤمنين ".
265

وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين " 89 " فاستجبنا
له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا
ورهبا وكانوا لنا خاشعين " 90 " والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها
وابنها آية للعالمين " 91 " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " 92 "
قوله تعالى: * (لا تذرني فردا) * أي: وحيدا بلا ولد * (وأنت خير الوارثين) * أي: أفضل من بقي
حيا بعد ميت.
قوله تعالى: * (وأصلحنا له زوجه) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أصلحت للولد بعد أن كانت عقيما، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة.
والثاني: أنه كان في لسانها طول، وهو: البذاء، فأصلحت، قاله عطاء وقال السدي: كانت
سليطة فكف عنه لسانها.
والثالث: أنه كان خلقها سيئا، قاله محمد بن كعب.
قوله تعالى: * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) * أي: يبادرون في طاعة الله.
وفي المشار إليهم قولان:
أحدهما: زكريا، وامرأته، ويحيى.
والثاني: جميع الأنبياء المذكورون في هذه السورة.
قوله تعالى: * (ويدعوننا) * وقرأ ابن مسعود، وابن محيصن: " ويدعونا " بنون واحدة.
قوله تعالى: * (رغبا ورهبا) * أي: رغبا فيما عندنا، ورهبا منا; وقرأ الأعمش: " رغبا ورهبا "
بضم الراءين وجزم الغين والهاء، وهما لغتان مثل النحل، والنحل، والسقم، والسقم * (وكانوا لنا
خاشعين) * أي: متواضعين.
قوله تعالى: * (والتي أحصنت فرجها) * فيه قولان:
266

أحدهما: أنه مخرج الولد، والمعنى منعته مما لا يحل. وإنما وصفت بالعفاف لأنها قذفت
بالزنا.
والثاني: أنه جيب درعها. ومعنى الفرج في اللغة: كل فرجة بين شيئين، وموضع جيب درع
المرأة مشقوق، فهو يسمى فرجا. وهذا أبلغ في الثناء عليها، لأنها إذا منعت جيب درعها، فهي
لنفسها أمنع.
قوله تعالى: * (فنفخنا فيها) * أي: أمرنا جبريل، فنفخ في درعها، فأجرينا فيها روح عيسى كما
تجري الريح بالنفخ. وأضاف الروح إليه إضافة الملك، للتشريف والتخصيص * (وجعلناها وابنها
آية) * قال الزجاج: لما كان شأنهما واحدا، كانت الآية فيهما آية واحدة، وهي ولادة من غير فحل.
وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: " آيتين " على التثنية.
قوله تعالى: * (إن هذه أمتكم) * قال ابن عباس: المراد بالأمة هاهنا: الدين وفي المشار
إليهم قولان:
أحدهما: أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو معنى قول مقاتل.
والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله أبو سليمان الدمشقي. ثم ذكر أهل الكتاب، فذمهم
بالاختلاف، فقال [تعالى]: * (وتقطعوا أمرهم بينهم) * أي: اختلفوا في الدين، * (فمن يعمل من
الصالحات) * أي: شيئا من الفرائض وأعمال البر * (فلا كفران لسعيه) * أي: لا نجحد ما عمل، قاله
ابن قتيبة، والمعنى: أنه يقبل منه، ويثاب عليه * (وإنا له كاتبون) * ذلك، بأمر الحفظة أن يكتبوه
ليجازيه به.
وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون " 93 " فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن
فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون " 94 " وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون " 95 "
حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون " 96 " واقترب الوعد الحق فإذا
هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين " 97 " إنكم وما
267

تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " 98 " لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل
فيها خالدون " 99 " لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون " 100 "
قوله تعالى: * (وحرام على قرية) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر وحفص عن
عاصم: " وحرام " بألف. وقرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " وحرم " بكسر الحاء من غير
ألف، وهما لغتان. يقال: حرم وحرام. وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني:
" حرم " بفتح الحاء وسكون الراء من غير ألف والميم مرفوعة منونة. وقرأ سعيد بن جبير: " وحرم "
بفتح الحاء وسكون الراء ونصب الميم من غير تنوين ولا ألف. وقرأ أبو الجوزاء، وعكرمة،
والضحاك: " وحرم " بفتح الحاء والميم وكسر الراء من غير تنوين ولا ألف. وقرأ سعيد بن المسيب،
وأبو مجلز وأبو رجاء: " وحرم " بفتح الحاء وضم الراء ونصب الميم من غير ألف.
وفي معنى قوله تعالى: * (وحرام) * قولان:
أحدهما: واجب، قاله ابن عباس، وأنشدوا في معناه:
- فإن حراما لا أرى الدهر باكيا * على شجوه إلا بكيت على عمرو -
أي: واجب.
والثاني: أنه بمعنى العزم، قاله سعيد بن جبير. وقال عطاء: حتم من الله، والمراد بالقرية:
أهلها.
ثم في معنى الآية أربعة أقوال:
أحدها: واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: واجب عليها أنها إذا أهلكت لا ترجع إلى دنياها، هذا قول قتادة; وقد روي عن ابن
عباس نحوه.
والثالث: أن " لا " زائدة; والمعنى: حرام على قرية مهلكة أنهم يرجعون إلى الدنيا، قاله ابن
جريح، وابن قتيبة في آخرين.
والرابع: أن الكلام متعلق بما قبله، لأنه لما قال: " فلا كفران لسعيه " أعلمنا أنه قد حرم
قبول أعمال الكفار; فمعنى الآية: وحرام على قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل، لأنهم لا يتوبون،
هذا قول الزجاج.
فإن قيل: كيف يصح أن يحرم على الإنسان ما ليس من فعله، ورجوعهم بعد الموت ليس
إليهم؟
268

فالجواب: أن المعنى: منعوا من ذلك فلا يقدرون عليه] كما يمنع الإنسان من الحرام
وإن قدر عليه، فكان التشبيه بالتحريم للحالتين من حيث المنع.
قوله تعالى: * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج) * وقرأ ابن عامر: " فتحت " بالتشديد،
والمعنى: فتح الردم عنهم * (وهم من كل حدب) * قال ابن قتيبة: من كل نشر من الأرض وأكمة
* (ينسلون) * من النسلان: وهو مقاربة الخطو مع الإسراع كمشي الذئب إذا بادر، والعسلان مثله.
وقال الزجاج: الذي: كل أكمة، و " ينسلون " يسرعون. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وعاصم
الجحدري: " ينسلون " بضم السين.
وفي قوله تعالى: * (وهم) * قولان:
أحدهما: أنه إشارة إلى يأجوج ومأجوج، قاله الجمهور.
والثاني: إلى جميع الناس، فالمعنى: وهم يحشرون إلى الموقف، قاله مجاهد. والأول
أصح.
فإن قيل: أين جواب " حتى "؟ ففيه قولان:
أحدهما: أنه قوله تعالى: * (واقترب الوعد الحق) * والواو في قوله [تعالى]: " واقترب "
زائدة، قاله الفراء. قال: ومثله " حتى ذا جاؤوها وفتحت أبوابها " وقوله تعالى: * (فلما أسلما وتله
للجبين، وناديناه) * المعنى: نادينا. وقال عبد الله بن مسعود: الساعة من الناس بعد يأجوج
ومأجوج، كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ليلا أو نهارا.
والثاني: أنه قول محذوف في قوله: * (يا ويلنا) *، فالمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج
واقترب الوعد، قالوا: يا ويلنا. قال الزجاج: هذا قول البصريين. فأما * (الوعد الحق) * فهو القيامة.
قوله تعالى: * (فإذا هي) * في " هي " أربعة أقوال:
أحدها: أن " هي " كناية عن الأبصار، والأبصار تفسير لها، كقول الشاعر:
- لعمرو أبيها لا تقول ظعينتي * ألا فر عني علي مالك بن أبي كعب -
فذكر الظعينة، وقد كنى عنها في " لعمرو أبيها ".
والثاني: أن " هي " عماد، ويصلح في موضعها " هو "، ومثله قوله: * (إنه أنا الله) * وقوله * (فإنها
لا تعمى الأبصار) *، وأنشدوا:
269

- بثوب ودينار وشاه ودرهم * فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس -
ذكرهما الفراء.
والثالث: أن يكون تمام الكلام عند قوله: " هي " على معنى: فإذا هي بارزة واقفة، يعني: من
قربها، كأنها آتية حاضرة، ثم ابتدأ فقال: * (شاخصة،) * ذكره الثعلبي.
والرابع: أن " هي " كناية عن القصة، والمعنى: القصة أن أبصارهم شاخصة في ذلك اليوم،
ذكره علي بن أحمد النيسابوري. قال المفسرون: تشخص أبصار الكفار من هول يوم القيامة،
ويقولون: * (يا ويلنا قد كنا) * أي: في الدنيا * (في غفلة من هذا) * أي: عن هذا * (بل كنا ظالمين) *
أنفسنا بكفرنا ومعاصينا. ثم خاطب أهل مكة، فقال: * (إنكم وما تعبدون من دون الله) * يعني:
الأصنام * (حصب جهنم) * وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو العالية، وعمر بن عبد العزيز: " حطب "
بالطاء. وقرأ ابن عباس، وعائشة وابن السميفع: " حضب " بالضاد المعجمة المفتوحة. وقرأ عروة،
وعكرمة، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: " حضب جهنم " باسكان الضاد المعجمة. وقرأ أبو المتوكل،
وأبو حيوة، ومعاذ القارئ " حضب " بكسر الحاء مع تسكين الضاد المعجمة. وقرأ أبو مجلز، وأبو
رجاء، وابن محيصن: " حصب " بفتح الحاء وبصاد غير معجمة ساكنة. قال الزجاج: من قرأ
" حصب جهنم " فمعناه: كل ما يرمى به فيها، ومن قرأ " حطب " فمعناه: ما يوقد به، ومن قرأ
بالضاد المعجمة، فمعناه: ما تهيج به النار وتذكى به، قال ابن قتيبة: الحصب: ما ألقي فيها،
وأصله من الحصباء، وهو: الحصى، يقال: حصبت فلانا; إذا رميته حصبا، بتسكين الصاد، وما
رميت به فهو حصب، بفتح الصاد.
قوله تعالى: * (أنتم) * يعني: العابدين والمعبودين * (لها واردون) * أي: داخلون. * (لو كان
هؤلاء) * يعني: الأصنام * (آلهة) * على الحقيقة * (ما وردوها) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إشارة إلى الأصنام، والمعنى: لو كانوا آلهة ما دخلوا النار.
والثاني: أنه إشارة إلى عابديها، فالمعنى: لو كانت الأصنام آلهة، منعت عابديها دخول النار.
والثالث: أنه إشارة إلى الآلهة وعابديها، بدليل قوله تعالى: * (وكل فيها خالدون) * يعني:
العابد والمعبود.
قوله تعالى: * (لهم فيه زفير) * قد شرحنا معنى الزفير في [سورة] هود وفي علة كونهم لا
يسمعون ثلاثة أقوال:
270

أحدها: أنه يوضع في مسامعهم مسامير من نار، ثم يقذفون في توابيت من نار مقفلة عليهم،
رواه أبو أمامة عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في حديث طويل. وقال ابن مسعود: إذا بقي في النار من يخلد
فيها جعلوا في توابيت من نار، هو جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، فلا يسمعون شيئا، ولا
يرى أحدهم أن في النار أحدا يعذب غيره.
والثاني: أن السماع أنس، والله لا يحب ان يؤنسهم، قاله عون بن عمارة.
والثالث: إنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنم، قاله أبو سليمان الدمشقي.
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " 101 " لا يسمعون حسيسها وهم
في ما اشتهت أنفسهم خالدون " 102 " لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم
الذي كنتم توعدون " 103 " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق
نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " 104 " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها
عبادي الصالحون " 105 " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " 106 " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " 107 "
قوله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * سبب نزولها انه لما نزلت " إنكم وما
تعبدون من دون الله حصب جهنم " شق ذلك على قريش، وقالوا: شتم آلهتنا، فجاء ابن الزبعري،
فقال: ما لكم؟ قالوا: شتم آلهتنا، قال: وما قال؟ فأخبروه، فقال: ادعوه لي، فلما دعي رسول
الله [صلى الله عليه وسلم]، قال: يا محمد، هذا شئ لآلهتنا خاصة، أو لكل من عبد من دون الله؟ قال: " لا، بل
لكل من عبد من دون الله "، فقال ابن الزبعري: خصمت ورب هذه البيت، ألست تزعم أن
الملائكة عباد صالحون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عزيرا عبد صالح، فهذه بنو مليح يعبدون
الملائكة، وهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيرا، فضج أهل مكة، فنزلت هذه الآية،
قاله ابن عباس. وقال الحسين بن الفضل: إنما أراد بقوله: * (وما تعبدون) * الأصنام دون غيرها،
271

لأنه لو أراد الملائكة والناس، لقال: " ومن " وقيل: " إن " بمعنى: " إلا "، فتقديره: إلا الذين
سبقت لهم منه الحسنى، وهي قراءة ابن مسعود، وأبي نهيك، فإنهما قرا: " إلا الذين ". وروي عن
علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية، فقال: أنا منهم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير،
وسعود، وعبد الرحمن.
وفي المراد " بالحسنى " قولان: أحدهما: الجنة، قاله ابن عباس، وعكرمة. والثاني: السعادة،
قاله ابن زيد.
قوله تعالى: * (أولئك عنها) * أي: عن جهنم، وقد تقدم ذكرها * (مبعدون) * والبعد: طول
المسافة، والحسيس: الصوت تسمعه من الشئ إذا مر قريبا منك، قال ابن عباس: لا يسمع أهل
الجنة حسيس أهل النار إذا نزلوا منازلهم من الجنة.
قوله تعالى: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * وقرأ أبو رزين وقتادة، وابن أبي عبلة، وابن
محيصن، وأبو جعفر الشيزري عن الكسائي: " لا يحزنهم " بضم الياء وكسر الزاي.
وفي الفزع الأكبر أربعة أقوال:
أحدها: أنه النفخة الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس; وبهذه النفخة يقوم الناس من
قبورهم، ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى: * (وتتلقاهم الملائكة) *.
والثاني: أنه إطباق النار على أهلها، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وبه قال
الضحاك.
والثالث: ذبح الموت بين الجنة والنار، وهو مروي عن ابن عباس أيضا، وبه قال ابن جريج.
والرابع: أنه حين يؤمر بالعبد إلى النار، قاله الحسن البصري.
وفي مكان تلقي الملائكة لهم قولان:
أحدهما: إذا قاموا من قبورهم، قاله مقاتل.
والثاني: على أبواب الجنة، قاله ابن السائب.
قوله [تعالى]: * (هذا يومكم) * فيه إضمار: " يقولون " هذا يومكم * (الذي كنتم توعدون) * فيه
الجنة.
قوله تعالى: * (يوم نطوي السماء) * وقرأ أبو العالية، وابن أبي عبلة، وأبو جعفر: " تطوى " بتاء
مضمومة " السماء " بالرفع; وذلك بمحو رسومها، وتكدير نجومها، وتكوير شمسها، * (كطي السجل
للكتاب) * قرأ الجمهور: " السجل " بكسر السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل،
272

وأبو الجوزاء، ومحبوب عن أبي عمرو: " السجل " بكسر السين وإسكان الجيم خفيفة. وقرأ أبو
السماك كذلك، إلا أنه فتح الجيم.
قوله تعالى: * (للكتاب) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: " للكتاب ". وقرأ
حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " للكتب " على الجمع.
وفي السجل أربعة أقوال:
أحدها: أنه ملك، قاله علي بن أبي طالب، وابن عمر، والسدي.
والثاني: أنه كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.
والثالث: أن السجل بمعنى: الرجل، روى أبو الجوزاء عن ابن عباس، قال: السجل: هو
الرجل. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: وقد قيل: " السجل " بلغة الحبشة: الرجل.
والرابع: أنه الصحيفة. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والفراء وابن
قتيبة. وقرأت على شيخنا أبي منصور، قال: قال أبو بكر، يعني - ابن دريد -: السجل: الكتاب،
والله أعلم; ولا ألتفت إلى قولهم: إنه فارسي معرب، والمعنى: كما يطوي السجل على ما فيه من
كتاب. و " اللام " بمعنى " على ". وقال بعض العلماء: المراد بالكتاب: المكتوب، فلما كان
المكتوب ينطوي بانطواء الصحيفة، جعل السجل كأنه يطوي.
ثم استأنف، فقال تعالى: * (كما بدأنا أول خلق نعيده) * الخلق هاهنا مصدر، وليس بمعنى
المخلوق.
وفي معنى الكلام أربعة أقوال:
أحدها: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا، كذلك نعيدهم يوم القيامة; روي
عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: " قال يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غرلا كما خلقوا،
ثم قال: كما بدأنا أول خل نعيده "; وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد.
والثاني: أن المعنى: إنا نهلك كل شئ كما كان أول مرة، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن السماء تمطر أربعين يوما كمني الرجال، فينبتون بالمطر في قبورهم، كما ينبتون
في بطون أمهاتهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والرابع: أن المعنى: قدرتنا على الإعادة كقدرتنا على الابتداء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: * (وعدا) * قال الزجاج: هو منصوب على المصدر، لأن قوله تعالى: " نعيده "
بمعنى: وعدنا هذا وعدا، * (إنا كنا فاعلين) * أي: قادرين على فعل ما نشاء. وقال غيره: إنا كنا
فاعلين ما وعدنا.
273

قوله تعالى: * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن الزبور جميع الكتب المنزلة من السماء، و " الذكر ": أم الكتاب الذي عند الله،
قاله سعيد بن جبير في رواية، ومجاهد، وابن زيد، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية ابن جبير،
فإنه قال: الزبور: التوراة والإنجيل والقرآن، والذكر: الذي في السماء.
والثاني: أن الزبور: الكتب، والذكر: التوراة، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن الزبور: القرآن، والذكر: التوراة والإنجيل، قاله سعيد بن جبير في رواية.
والرابع: أن الزبور: زبور داود، والذكر: ذكر موسى، قاله الشعبي.
وفي الأرض المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أرض الجنة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون.
والثاني: أرض الدنيا، وهو منقول عن ابن عباس أيضا.
والثالث: الأرض المقدسة، قاله ابن السائب.
وفي قوله تعالى: * (يرثها عبادي الصالحون) * ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية: ترث أمة
محمد أرض الدنيا بالفتوح.
والثاني: بنو إسرائيل، قاله ابن السائب.
والثالث: أنه عام في كل صالح، قاله بعض فقهاء المفسرين.
قوله تعالى: * (إن في هذا) * يعني: القرآن * (لبلاغا) * أي: لكفاية; والمعنى: أن من
اتبع القرآن وعمل به، كان القرآن بلاغة إلى الجنة.
وقوله تعالى: * (لقوم عابدين) * قال كعب: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات
الخمس ويصومون شهر رمضان.
قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * قال ابن عباس: هذا عام للبر والفاجر،
فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به صرفت عنه العقوبة إلى الموت والقيامة.
وقال ابن زيد: هو رحمة بمن آمن به خاصة.
قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون " 108 " فإن تولوا فقل آذنتكم
على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون " 109 " إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما
274

تكتمون " 110 " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " 111 " قال رب احكم بالحق وربنا
الرحمن المستعان على ما تصفون " 112 "
قوله تعالى: * (فهل أنتم مسلمون) * قال ابن عباس: فهل أنتم مخلصون له العبادة؟ قال أهل
المعاني: هذا استفهام بمعنى الأمر.
قوله تعالى: * (فان تولوا) * أي: اعرضوا ولم يؤمنوا * (فقل آذنتكم على سواء) * في معنى
الكلام قولان:
أحدهما: نابذتكم وعاديتكم وأعلمتكم ذلك، فصرت أنا وأنتم على سواء قد استوينا في العلم
بذلك، وهذا من الكلام المختصر، قاله ابن قتيبة.
والثاني: أعلمتكم بالوحي إلي لتستووا في الإيمان به، قال الزجاج.
قوله تعالى: * (وإن أدري) * أي: وما أدري * (أقريب أم بعيد ما توعدون) * بنزول العذاب
بكم. * (إنه يعلم الجهر) * وهو ما يقولونه للنبي صلى الله عليه وسلم " * (متى هذا الوعد) *، و * (ما تكتمون) *
إسرارهم أن العذاب لا يكون.
قوله تعالى: * (لعله فتنة لكم) * في هاء " لعله " قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى ما آذنهم به، قاله الزجاج.
والثاني: إلى العذاب; فالمعنى: لعل تأخير العذاب عنكم فتنة، قاله ابن جرير، وأبو
سليمان الدمشقي. ومعنى الفتنة هاهنا: الاختبار، * (ومتاع إلى حين) * أي: تستمعون إلى انقضاء
آجالكم. * (قل رب) * وروى حفص عن عاصم: " قال رب " * (احكم) * قرأ أبو جعفر: " رب
احكم " بضم الباء. وروى زيد عن يعقوب: " ربي " بفتح الياء " أحكم " بقطع الهمزة وفتح
الكاف ورفع الميم. ومعنى " احكم بالحق " أي: بعذاب كفار قومي الذي نزوله حق، فحكم
عليهم بالقتل في يوم بدر وفيما بعده من الأيام; والمعنى على هذا: افصل بيني وبين المشركين بما
يظهر به الحق. ومعنى * (على ما تصفون) أي: من كذبكم وباطلكم. وقرأ ابن عامر، والمفضل
عن عاصم: " يصفون " بالياء.
فإن قيل: فهل يجوز على الله أن يحكم بغير الحق؟
فالجواب: أن المعنى: احكم بحكمك الحق، كأنه استعجل النصر. عليهم والله أعلم
بالصواب.
275

(22) سورة الحج مدنية
وآياتها ثمان وسبعون
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم " 1 " يوم ترونها تذهل كل
مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن
عذاب الله شديد " 2 " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد " 3 "
كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير " 4 "
فصل في نزولها
روى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية كلها، غير آيتين نزلتا بالمدينة: قوله سبحانه وتعالى:
* (ومن الناس من يعبد الله على حرف) *، والتي تليها وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مدنية
إلا أربع آيات نزلت بمكة، وهي قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول...) * إلى آخر
الأربع. وقال عطاء بن السائب: نزلت بمكة إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة: * (هذان
خصمان) * واللتان بعدها وقال أبو سليمان الدمشقي: أولها مدني إلى قوله تعالى: * (وبشر
المحسنين) * وسائرها مكي. وقال الثعلبي: هي مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله
[تعالى]: * (هذان خصمان) * إلى قوله تعالى: * (الحميد) *. وقال هبة الله بن سلامة: هي من
276

أعاجيب سور القرآن، لأن فيها مكيا، ومدنيا، وحضريا، وسفريا، وحربيا، وسلميا، وليليا، ونهاريا،
وناسخا، ومنسوخا.
فأما المكي، فمن رأس الثلاثين منها إلى آخرها.
وأما المدني، فمن رأس خمس وعشرين إلى رأس ثلاثين.
وأما الليلي، فمن أولها إلى آخر خمس آيات.
وأما النهاري، فمن رأس خمس آيات إلى رأس تسع.
وأما السفري، فمن رأس تسع إلى اثنتي عشرة.
وأما الحضري، فإلى رأس العشرين، نسب إلى المدينة، لقرب مدته.
قوله تعالى: * (اتقوا ربكم) * أي: احذروا عقابه * (إن زلزلة الساعة) * الزلزلة: الحركة على
الحالة الهائلة.
وفي وقت هذه الزلزلة قولان:
أحدهما: أنها يوم القيامة بعد النشور. روى عمران بن حصين عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه قرأ:
" إن زلزلة الساعة شئ عظيم " وقال: تدرون أي يوم ذلك؟ فأنه يوم ينادي الرب عز وجل آدم عليه
السلام: ابعث بعثا إلى النار، فذكر الحديث. وروى أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم: قم، فابعث بعث النار، فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من
كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، فحينئذ يشيب المولود، وتضع كل ذات حمل حملها "،
وقرأ الآية. وقال ابن عباس: زلزلة الساعة: قيامها، يعني أنها تقارب قيام الساعة، وتكون معها.
وقال الحسن، والسدي: هذه الزلزلة تكون يوم القيامة.
والثاني: أنها تكون في الدنيا قبل القيامة، وهي من أشراط الساعة، قاله علقمة، والشعبي،
وابن جريج. وروى أبو العالية عن أبي بن كعب، قال: ست آيات قبل القيامة، بينما الناس في
أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت
الجبال على وجه الأرض، فتحركت، واضطربت، ففزع الجن إلى الإنس، والإنس إلى الجن،
واختلطت الدواب، والطير، والوحش، فماج بعضهم في بعض، فقالت الجن للإنس: نحن نأتيكم
بالخبر، فانطلقوا إلى البحور، فإذا هي نار تأجج، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض
السابعة، والسماء إلى السماء السابعة، فينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فماتوا. وقال مقاتل: هذه
الزلزلة قبل النفخة الأولى، وذلك أن مناديا ينادي من السماء: يا أيها الناس أتى أمر الله فيفزعون فزعا
شديدا فيشيب الصغير، وتضع الحوامل.
277

قوله تعالى: * (شئ عظيم) * أي: لا يوصف لعظمه.
قوله تعالى: * (يوم ترونها) * يعني: الزلزلة * (تذهل) * فيه قولان:
أحدهما: تسلو عن ولدها، وتتركه، قاله ابن قتيبة.
والثاني: تشغل عنه، قاله قطرب، ومنه قول ابن رواحة:
ويذهل الخليل عن خليله
وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة: " تذهل " برفع التاء وكسر الهاء " كل " بنصب
اللام. قال الأخفش: وإنما قال: " مرضعة "، لأنه أراد - والله أعلم - الفعل، ولو أراد الصفة فيما نرى،
لقال: " مرضع ". قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها
لغير تمام، وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا، لأن بعد البعث لا تكون حبلى.
قوله تعالى: * (وترى الناس سكارى) * وقرأ عكرمة، والضحاك، وابن يعمر، " وترى " بضم
التاء. ومعنى " سكارى ": من شدة الخوف * (وما هم بسكارى) * من الشراب، والمعنى: ترى
الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم، لشدة ما يمر بهم، يضطربون اضطراب السكران من
الشراب. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " سكرى وما هم بسكرى " وهي قراءة ابن مسعود. قال
الفراء: وهو وجه جيد، لأنه بمنزله الهلكى والجرحى. وقرأ عكرمة، والضحاك، وابن السميفع:
" سكارى وما هم بسكارى " بفتح السين والراء وإثبات الألف، * (ولكن عذاب الله شديد) * فيه دليل
على أن سكرهم من خوف عذابه.
قوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله) * قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث. وفيما
جادل فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنه كان كلما نزل شئ من القرآن كذب به، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه زعم أن الملائكة بنات الله، قاله مقاتل.
والثالث: أنه قال: لا يقدر الله على إحياء الموتى، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: * (بغير عل) * أي: إنما يقوله بإغواء الشيطان، لا بعلم * (ويتبع) * ما يسول له
* (كل شيطان مريد) * وقد ذكرنا معنى " المريد " في سورة (النساء).
قوله تعالى: * (كتب عليه أنه من تولاه) * " كتب " بمعنى: قضي. والهاء في " عليه " وفي
" تولاه " كناية عن الشيطان. ومعنى الآية: قضي على الشيطان أنه يضل من اتبعه. وقرأ أبو عمران
278

الجوني: " كتب " بفتح الكاف " أنه " بفتح الهمزة " فإنه " بكسر الهمزة وقرأ أبو مجلز، وأبو العالية،
وابن أبي ليلى، والضحاك، وابن يعمر: " إنه " فإنه " بكسر الهمزة فيهما. وقد بينا معنى " السعير "
في سورة النساء.
أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة
ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم
نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر
لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت
وأنبتت من كل زوج بهيج " 5 " ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيى الموتى وأنه على كل شئ
قدير " 6 " وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور " 7 "
قوله تعالى: * (يا أيها الناس) * يعني: أهل مكة * (إن كنتم في ريب من البعث) * أي: في
شك من القيامة * (فإنا خلقناكم من تراب) * يعني: خلق آدم * (ثم من نطفة) * يعني: خلق ولده،
والمعنى: إن شككتم في بعثكم فتدبروا أمر خلقكم وابتدائكم، فإنكم لا تجدون في القدرة فرقا بين
الابتداء والإعادة. فأما النطفة، فهي المني. والعلقة: دم عبيط جامد. وقيل: سميت علقة
لرطوبتها وتعلقها بما تمر به، فإذا جفت فليست علقة. والمضغة: لحمة صغيرة. قال ابن قتيبة:
وسميت بذلك، لأنه بقدر ما يمضغ، كما قيل: غرفة لقدر ما يغرف.
قوله تعالى: * (مخلقة وغير مخلقة) * فيه خمسة أقوال:
أحدها: أن المخلقة: ما خلق سويا، وغير المخلقة: ما ألقته الأرحام من النطف، وهو دم
قبل أن يكون خلقا، قاله ابن مسعود.
والثاني: أن المخلقة: ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه، وهو الذي يولد حيا لتمام، وغير
المخلقة: ما سقط غير حي لم يكمل خلقه بنفخ الروح فيه، هذا معنى قول ابن عباس.
والثالث: أن المخلقة: المصورة، وغير المخلقة: غير مصورة، قاله الحسن.
279

والرابع: أن المخلقة وغير المخلقة: السقط، تارة يسقط نطفة وعلقة، وتارة قد صور بعضه،
وتارة قد صور كله، قاله السدي.
والخامس: أن المخلقة: التامة، وغير المخلقة: السقط، قاله الفراء، وابن قتيبة.
قوله تعالى: * (لنبين لكم) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: خلقناكم لنبين لكم ما تأتون وما تذرون.
والثالث: لنبين لكم كمال حكمتنا وقدرتنا في تقليب أحوال خلقكم.
والرابع: لنبين لكم أن البعث حق.
وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة: " ليبين لكم " بالياء.
قوله [تعالى]: * (ونقر في الأرحام) * وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء: " ويقر " بباء مرفوعة
وفتح القاف ورفع الراء. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو إسحاق السبيعي: " ويقر " بياء مرفوعة وبكسر القاف
ونصب الراء. والذي يقر في الأرحام، هو الذي لا يكون سقطا، * (إلى أجل مسمى) * وهو أجل
الولادة * (هم نخرجكم طفلا) * قال أبو عبيدة: هو في موضع " أطفال "، والعرب قد تضع لفظ
الواحد في معنى الجميع، قال الله تعالى: * (والملائكة بعد ذلك ظهير) * أي: ظهراء، وأنشد:
- فقلنا أسلموا إنا أخوكم * فقد برئت من الإحن الصدور -
وأنشد أيضا:
في حلقكم عظم وقد شجينا
وقال غيره: إنما قال: " طفلا " فوحد، لأن الميم في قوله تعالى: * (نخرجكم) * قد دلت على
الجميع، فلم يحتج إلى أن يقول: أطفالا.
قوله تعالى: * (ثم لتبلغوا) * فيه إضمار، تقديره: ثم نعمركم لتبلغوا أشدكم، وقد سبق
معنى " الأشد "، * (ومنكم من يتوفى) * من قبل بلوغ الأشد * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) *
وقد شرحناه في النحل. ثم إن الله تعالى دلهم على إحيائه الموتى بإحيائه الأرض، فقال تعالى:
* (وترى الأرض هامدة) * قال ابن قتيبة: أي: ميتة يابسة، ومثله: همدت النار: إذا طفئت فذهبت.
قوله تعالى: * (فإذا أنزلنا عليها الماء) * يعني: المطر * (اهتزت) * أي: تحركت للنبات،
280

وذلك أنها ترتفع عن النبات إذا ظهر، فهو معنى قوله تعالى * (وربت) * أي ارتفعت وزادت.
وقال المبرد: أراد: اهتز نباتها وربا، فحذف المضاف. قال الفراء: وقرأ أبو جعفر المدني:
" وربأت " بهمزة مفتوحة بعد الباء. فإن كان ذهب إلى الربيئة الذي يحرس القوم، أي: أنه يرتفع،
وإلا، فهو غلط.
قوله تعالى: * (وأنبتت من كل زوج بهيج) * قال ابن قتيبة: من كل جنس حسن يبهج، أي:
يسر، وهو فعيل في معنى فاعل.
قوله تعالى: * (ذلك) * قال الزجاج: المعنى: الأمر ذلك كما وصف لكم. والأجود أن يكون
موضع " ذلك " رفعا، ويجوز أن يكون نصبا على معنى: فعل الله ذلك بأنه هو الحق.
قوله تعالى: * (وأن الساعة) * أي: ولتعلموا أن الساعة * (آتية) *.
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى وكتاب منير " 8 " ثاني عطفه
ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيام عذاب الحريق " 9 " ذلك
بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد " 10 "
قوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل) * قد سبق بيانه. وهذا مما نزل في النضر أيضا.
* (والهدى) *: البيان والبرهان.
قوله تعالى: * (ثاني عطفه) * العطف: الجانب. وعطفا الرجل: جانباه عن يمين وشمال،
وهذا الموضع الذي يعطفه الإنسان ويلويه عند إعراضه عن المشي. قال الزجاج: " ثاني " منصوب
على الحال، ومعناه: التنوين، معناه: ثانيا عطفه. وجاء في التفسير: أن معناه: لاويا عنقه، وهذا
يوصف به المتكبر، والمعنى: ومن الناس من يجادل بغير علم متكبرا.
قوله تعالى: * (ليضل) * أي: ليصير أمره إلى الضلال، فكأنه وإن لم يقدر أنه يضل، فإن أمره
يصير إلى ذلك، * (له في الدنيا خزي) * وهو ما أصابه يوم بدر، وذلك أنه قتل. وما بعد هذا قد
سبق تفسيره إلى قوله [تعالى]: * (ومن الناس من يعبد الله على حرف) * وفي سبب نزول هذه
الآية قولان:
أحدهما: أن ناسا من العرب كان يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: نحن على دينك، فإن
أصابوا معيشة، ونتجت خيلهم، وولدت نساؤهم، الغلمان اطمأنوا وقال: هذا دين حق، وإن لم يجر
281

الأمر على ذلك قالوا: هذا دين سوء، فينقلبون عن دينهم، فنزلت هذه الآية، هذا معنى قول ابن
عباس، و به قال الأكثرون.
والثاني: أن رجلا من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإسلام، فأتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن الإسلام لا يقال ". فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيرا،
أذهب بصري ومالي وولدي، فقال: " يا يهودي: إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث
الحديد والفضة والذهب "، فنزلت هذه الآية، رواه عطية عن أبي سعيد الخدري.
ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب
على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين " 11 " يدعوا من دون الله مالا
يضره ومالا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد " 12 " يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس
المولى ولبئس العشير " 13 " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من
تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد " 14 "
قوله تعالى: * (على حرف) * قال مجاهد، وقتادة: " على شك "، قال أبو عبيدة: كل شاك
في شئ فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم. وبيان هذا أن القائم على حرف الشئ غير متمكن منه
فشبه به الشاك، لأنه قلق في دينه على غير ثبات، ويوضحه قوله تعالى: * (فإن أصابه خير) * أي:
رخاء وعافية * (اطمأن به) * على عبادة الله * (وإن أصابته فتنة) * اختبار بجدب وقلة مال * (انقلب
على وجهه) * أي: رجع عن دينه إلى الكفر. والمعنى: انصرف إلى وجهه الذي توجه منه، وهو
الكفر، * (خسر الدنيا) * حيث لم يظفر بما أراد منها، * (و) * خسر * (الآخرة) * بارتداده عن الدين.
وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو مجلز، ومجاهد، وطلحة بن مصرف، وابن أبي عبلة، وزيد عن
يعقوب: " خاسر الدنيا " بألف قبل السين، وبنصب الراء " والآخرة " بخفض التاء. * (يدعو) * هذا
المرتد، أي: يعبد * (مالا يضره) * إن لم يعبده * (ولا ينفعه) * إن أطاعه * (ذلك) * الذي فعل * (هو
الضلال البعيد) * عن الحق * (يدعو لمن ضره) * قال بعضهم: اللام صلة، والمعنى: يدعو من
ضره. وحكى الزجاج عن البصريين والكوفيين أن اللام معناها التأخير، والمعنى: يدعو من لضره
* (أقرب من نفعه) *، قال: وشرح هذا أن اللام لليمين والتوكيد، فحقها أن تكون أول الكلام،
فقدمت لتجعل في حقها. قال السدي: ضره في الآخرة بعبادته إياه أقرب من نفعه.
282

فإن قيل: فهل للنفع من عبادة الصنم وجه؟
فالجواب: أنه لا نفع من قبله أصلا، غير أنه جاء على لغة العرب، وهم يقولون في الشئ
الذي لا يكون: هذا بعيد.
قوله تعالى: * (لبئس المولى ولبئس العشير) * قال ابن قتيبة: المولى: الولي. والعشير: الصاحب،
والخليل.
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع
فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ " 15 " وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من
يريد " 16 " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا
إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد " 17 "
قوله تعالى; * (من كان يظن أن لن ينصره الله) * قال مقاتل: نزلت في نفر من أسد،
وغطفان، قالوا: إنا نخاف أن لا ينصر محمد، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود، وإلى نحو
هذا ذهب أبو حمزة الثمالي، والسدي. وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الإشارة بهذه الآية إلى الذين
انصرفوا عن الإسلام لأن أرزاقهم ما اتسعت، وقد شرحنا القصة في قوله [تعالى] * (ومن الناس
من يعبد الله على حرف) *.
وفي هاء " ينصره " قولان:
أحدهما: أنها ترجع على " من "، والنصر: بمعنى الرزق، هذا معنى قول ابن عباس في
رواية عطاء، وبه قال مجاهد. قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر، فقال من: ينصرني
نصره الله، أي: من يعطيني أعطاه الله، ويقال: نصر المطر أرض كذا، أي: جادها، وأحياها، قال
الراعي:
وانصري أرض عامر
والثاني: أنها ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا، رواه
التميمي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وقتادة. قال ابن قتيبة: وهذه كناية عن غير مذكور، وكان
قوم من المسلمين لشدة حنقهم أو على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، وآخرون من
283

المشركين، يريدون اتباعه، ويخشون أن لا يتم أمره، فقال هذه الآية للفريقين. ثم في معنى هذا
النصر قولان:
أحدهما: أنه الغلبة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، والجمهور.
والثاني: أنه الرزق، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: * (فليمدد بسبب إلى السماء) * في المراد بالسماء قولان:
أحدهما: سقف بيته، والمعنى: فليشدد حبلا في سقف بيته، فليختنق به * (ثم ليقطع) *
الحبل ليموت مختنقا، هذا قول الأكثرين. ومعنى الآية: ليصور هذا الأمر في نفسه لا أنه يفعله، لأنه
إذا اختنق لا يمكنه النظر والعلم.
والثاني: أنها السماء المعروفة، والمعنى: فليقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قدر، قاله ابن
زيد.
قوله تعالى: * (ثم ليقطع) * قرأ أبو عمرو، وابن عامر: " ثم ليقطع " " ثم ليقضوا " بكسر
اللام. زاد ابن عامر " وليوفوا " " وليطوفوا " بكسر اللام أيضا. وكسر ابن كثير لام " ثم
ليقضوا " فحسب. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: بسكون هذه اللامات، وكذلك في كل القرآن
إذا كان قبلها واو أو فاء أو ثم، قال الفراء: من سكن فقد خفف، وكل لام أمر وصلت بواو أو فاء،
فأكثر كلام العرب تسكينها، وقد كسرها بعضهم. قال أبو علي: الأصل الكسر، لأنك إذا ابتدأت
قلت: ليقم زيد.
قوله تعالى: * (هل يذهبن كيده) * قال ابن قتيبة: المعنى: هل تذهبن حيلته غيظه، والمعنى:
ليجهد جهده.
قوله تعالى: * (وكذلك) * أي: ومثل ذلك الذي تقدم من آيات القرآن (أنزلناه)
يعني: القرآن. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: * (إن الله يفصل بينهم) * أي: يقضي * (يوم
القيامة) * بينهم بإدخال المؤمنين الجنة، والآخرين النار * (إن الله على كل شئ) * من أعمالهم
* (شهيد) *.
ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال
284

والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من
مكرم إن الله يفعل ما يشاء " 18 "
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر
والنجوم والجبال والشجر والدواب) * أي: ألم تعلم. وقد بينا في سورة (النحل) معنى
السجود في حق من يعقل، ومن لا يعقل.
قوله تعالى: * (وكثير من الناس) * يعني: المؤمنين الذين يسجدون لله.
وفي قوله تعالى: * (وكثير حق عليه العذاب) * قولان:
أحدهما: أنهم الكفار، وهم يسجدون، وسجودهم سجود ظلهم، قاله مقاتل.
والثاني: أنهم لا يسجدون; والمعنى: وكثير من الناس أبى السجود، فحق عليه العذاب،
لتركه السجود، هذا قول الفراء.
قوله تعالى: * (ومن يهن الله) * أي: من يشقه الله فما له من مسعد، * (إن الله يفعل ما
يشاء) * في خلقه من الكرامة والإهانة.
هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب
من فوق رؤوسهم الحميم " 19 " يصهر به ما في بطونهم والجلود " 20 " ولهم مقامع من
حديد " 21 " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق " 22 "
قوله تعالى: * (هذان خصمان) * اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في النفر الذين تبارزوا للقتال يوم بدر، حمزة، وعلي، وعبيد بن
الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، هذا قول أبي ذر.
والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتابا،
ونبينا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من
285

كتاب، وأنتم تعرفون، ثم كفرتم به حسدا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثالث: أنها في جميع المؤمنين، والكفار، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، وعطاء،
ومجاهد.
والرابع: أنها نزلت في اختصام الجنة والنار، فقالت النار: خلقني الله لعقوبته، وقالت
الجنة: خلقني الله لرحمته، قاله عكرمة.
فأما قوله تعالى: * (هذان) * وقرأ ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن كثير:
" هاذان " بتشديد النون " خصمان "، فمعناه: جمعان، وليسا برجلين، ولهذا قال تعالى:
* (اختصموا) * ولم يقل: اختصما; على أنه قرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: " اختصما ".
وفي خصومتهم ثلاثة أقوال:
أحدها: في دين ربهم، وهذا على القولين الأوليين.
والثاني: في البعث، قاله مجاهد. والثالث: أنه خصام مفاخرة، على قول عكرمة.
قوله تعالى: * (قطعت لهم ثياب) * أي: سويت وجعلت لباسا. قال ابن عباس: قمص من
نار، وقال سعيد بن جبير: المراد بالنار هاهنا: النحاس. فأما " الحميم " فهو الماء الحار * (يصهر
به) * قال الفراء: يذاب به، يقال صهرت الشحم بالنار. قال المفسرون: يذاب بالماء الحار * (ما
في بطونهم) * من شحم أو معي حتى يخرج من أدبارهم، وتنضج الجلود فتتساقط من حره، * (ولهم
مقامع) * قال الضحاك: هي المطارق. وقال الحسن: إن النار ترميهم بلهبها، حتى إذا كانوا في
أعلاها، ضربوا بمقامع فهووا فيها سبعين خريفا، فإذا انتهوا إلى أسفلها، ضربهم زفير لهبها، فلا
يستقرون ساعة. قال مقاتل: إذا جاشت جهنم، ألقتهم في أعلاها، فيريدون الخروج، فتتلقاهم
خزنة جهنم بالمقامع، فيضربونهم، فيهوي أحدهم من تلك الضربة إلى قعرها. وقال غيره: إذا
دفعتهم النار، ظنوا أنها ستقذفهم خارجا منها، فتعيدهم الزبانية بمقامع الحديد.
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها
من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير " 23 " وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا
إلى صراط الحميد " 24 "
قوله تعالى: * (ولؤلؤ) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " ولؤلؤ "
286

بالخفض. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: " ولؤلؤا " بالنصب. قال أبو علي: من خفض،
فالمعنى: يحلون أساور من ذهب ومن لؤلؤ; ومن نصب قال: ويحلون لؤلؤا قال الزجاج: واللؤلؤ
اسم جامع للحب الذي يخرج من البحر.
قوله تعالى: * (وهدوا) * أي: أرشدوا في الدنيا * (إلى الطيب من القول) * وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه " لا إله إلا الله، والحمد لله " قاله ابن عباس. وزاد ابن زيد: " والله
أكبر ".
والثاني: القرآن، قاله السدي.
والثالث: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حكاه الماوردي.
فأما " صراط الحميد " فقال ابن عباس: هو طريق الإسلام.
إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء
العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " 25 "
قوله تعالى: * (ويصدون عن سبيل الله) * أي: يمنعون الناس من الدخول في الإسلام. قال
الزجاج: ولفظ " يصدون " لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي، لأن معنى " الذين كفروا ":
الذين هم كافرون، فكأنه قال: إن الكافرين والصادين; فأما خبر " إن " فمحذوف، فيكون
المعنى: إن الذين هذه صفتهم هلكوا.
وفي " المسجد الحرام " قولان:
أحدهما: جميع الحرم. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كانوا يرون الحرم كله
مسجدا.
والثاني: نفس المسجد، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: * (الذي جعلناه للناس) * هذا وقف التمام.
وفي معناه قولان:
أحدهما: جعلناه للناس كلهم، لم نخص به بعضهم دون بعض، هذا على أنه جميع
الحرم.
287

والثاني: جعلناه قبلة لصلاتهم، ومنسكا لحجهم، وهذا على أنه نفس المسجد. وقرأ
إبراهيم النخعي، وابن أبي عبلة، وحفص عن عاصم: " سواء " بالنصب، فيتوجه الوقف على
" سواء "، وقد وقف بعض القراء كذلك. قال أبو علي الفارسي: أبدل العاكف والبادي من الناس
من حيث كانا كالشامل لهم، فصار المعنى: الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء. فأما العاكف:
فهو المقيم، والبادي: الذي يأتيه من غير أهله، وهذا من قولهم: بدا القوم: إذا خرجوا عن
الحضر إلى الصحراء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " البادي " بالياء، غير أن ابن كثير، وقف
بياء، وأبو عمرو بغير ياء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، والمسيبي عن نافع بغير
باء في الحالتين.
ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: أن العاكف والبادي يستويان في سكنى مكة والنزول بها، فليس أحدهما أحق
بالمنزل من الآخر، غير أنه لا يخرج أحد من بيته، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة;
وإلى نحو هذا ذهب أبو حنيفة، وأحمد; ومذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام، هذا على
أن المسجد: الحرم كله.
والثاني: أنهما يستويان في تفضيله وحرمته وإقامة المناسك به، هذا قول الحسن، ومجاهد.
ومنهم من أجاز بيع دور مكة، وإليه يذهب الشافعي. وعلى هذا يجوز أن يراد بالمسجد الحرم، ويجوز
أن يراد نفس المسجد.
قوله تعالى: * (ومن يرد فيه بإلحاد) * الإلحاد في اللغة: العدول عن القصد، والباء زائدة،
كقوله تعالى: * (تنبت بالدهن) *، وأنشدوا:
- بواد يمان ينبت الشت صدروه * وأسفله بالمرخ والشبهان -
المعنى: وأسفله ينبت المرخ; وقال آخر:
- هن الحرائر لا ربات أخمرة * سود المحاجر لا يقرأن بالسور -
وقال آخر:
- نحن بنوا جعدة أرباب الفلج * نضرب بالسيف ونرجو بالفرج -
هذا قول جمهور اللغويين. قال ابن قتيبة: والباء قد تزاد في الكلام، كهذه الآية، وكقوله
تعالى: * (اقرأ باسم ربك) * * (وهزي إليك بجذع النخلة) * * (بأيكم المفتون) * * (تلقون
288

إليهم بالمودة) * * (عينا يشرب بها) * أي: يشربها; وقد تزاد " من "، كقوله تعالى: * (ما
أريد منهم من رزق) *، وتزاد " اللام " كقوله تعالى: * (الذين هم لربهم يرهبون) *،
والكاف، كقوله تعالى: * (ليس كمثله شئ) *، و " عن "، كقوله تعالى: * (يخالفون عن
أمره) *، و " إن "، كقوله تعالى * (فإنه ملاقيكم) * و " إن الخفيفة، كقوله تعالى: * (فيما
إن مكناكم فيه) *، و " ما "، كقوله تعالى: * (عما قليل ليصبحن نادمين) *، و " الواو "،
كقوله تعالى: * (وتله للجبين، وناديناه) *.
وفي المراد بهذا الإلحاد خمسة أقوال:
أحدها: أنه الظلم، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: هو عمل سيئة; فعلى هذا
تدخل فيه جميع المعاصي، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا تحتكروا الطعام بمكة،
فان احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم.
والثاني: أنه الشرك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة.
والثالث: الشرك والقتل، قاله عطاء.
والرابع: أنه استحلال محظورات الإحرام، وهذا المعنى محكي عن عطاء أيضا.
والخامس: استحلال الحرام تعمدا، قاله ابن جريج.
فإن قيل: هل يؤاخذ الإنسان إن أراد الظلم بمكة، ولم يفعله؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه إذا هم بذلك في الحرم خاصة، عوقب، هذا مذهب ابن مسعود، فإنه قال:
لو أن رجلا هم بخطيئة، لم تكتب عليه ما لم يعملها، ولو أن رجلا هم بقتل مؤمن عند البيت،
وهو ب‍ " عدن أبين "، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم. وقال الضحاك: إن الرجل ليهم
بالخطيئة بمكة وهو بأرض أخرى، فتكتب عليه ولم يعملها. وقال مجاهد: تضاعف السيئات
بمكة، كما تضاعف الحسنات. وسئل الإمام أحمد: هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال:
لا، إلا بمكة لتعظيم البلد. وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها; وقد جاور جابر بن عبد
الله، وكان ابن عمر يقيم بها.
والثاني: أن معنى: " ومن يرد " من يعمل. قال أبو سليمان الدمشقي. هذا قول سائر من
حفظنا عنه.
289

وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين
والركع السجود " 26 " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج
عميق " 27 " ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة
الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " 28 " ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا
بالبيت العتيق " 29 "
قوله تعالى: * (وإذ بوأنا) * قال ابن عباس: جعلنا. وقال مقاتل: دللناه عليه، وقال ثعلب:
وإنما أدخل اللام، على أن " بوأنا " في معنى: جعلنا، فيكون بمعنى " ردف لكم " أي:
ردفكم. وقد شرحنا كيفية بناء البيت في [سورة] البقرة.
قوله تعالى: * (أن لا تشرك بي شيئا) * المعنى: وأوحينا إليه ذلك * (وطهر بيتي) * حرك هذه
الياء، نافع وحفص عن عاصم. وقد شرحنا الآية في البقرة.
وفي المراد ب‍ " القائمين " قولان: أحدهما: القائمون في الصلاة، قاله عطاء، والجمهور.
والثاني: المقيمون بمكة، حكي عن قتادة.
قوله تعالى: * (وأذن في الناس بالحج) * قال المفسرون: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت،
أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن،
وعلي البلاغ، فعلا على جبل أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس: إن ربكم قد بنى بيتا، فحجوه،
فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله أن يحج، فأجابوه: لبيك
اللهم لبيك. والأذان بمعنى النداء والإعلام، والمأمور بهذا الأذان، إبراهيم في قول الجمهور،
إلا ما روي عن الحسن أنه قال: المأمور به محمد صلى الله عليه وسلم والناس ها هنا: اسم يعم جميع بني آدم عند
الجمهور، إلا ما روى العوفي عن ابن عباس أنه قال: عنى بالناس أهل القبلة.
واعلم أن من أتى البيت الذي دعا إليه إبراهيم، فكأنه قد أتى إبراهيم لأنه أجاب نداءه.
وواحد الرجال هاهنا: راجل، مثل صاحب، وصحاب، والمعنى: يأتوك مشاة. وقد روي أن
إبراهيم وإسماعيل حجا ماشيين، وحج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا من المدينة إلى
مكة، والنجائب تقاد معه، وحج الإمام أحمد ماشيا مرتين أو ثلاثا.
290

قوله تعالى: * (وعلى كل ضامر) * أي: ركبانا على ضمر من طول السفر. قال الفراء:
و " يأتين " فعل للنوق. وقال الزجاج: " يأتين " على معنى الإبل. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي
عبلة: " يأتون " بالواو.
قوله تعالى: * (من كل فج عميق) * أي: طريق بعيد. وقد ذكرنا تفسير الفج عند قوله
تعالى: * (وجعلنا فيها فجاجا) *.
قوله تعالى: * (ليشهدوا) * أي: ليحضروا * (منافع لهم) * وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: التجارة، قاله ابن عباس، والسدي.
والثالث: منافع الدارين جميعا، قاله مجاهد. وهو أصح، لأنه لا يكون القصد للتجارة
خاصة، وإنما الأصل قصد الحج; والتجارة تبع.
وفي الأيام المعلومات ستة أقوال:
أحدها: أنها أيام العشر، رواه مجاهد عن ابن عمر، وسعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال
الحسن، وعطاء، وعكرمة ومجاهد، وقتادة والشافعي.
والثاني: تسعة أيام من العشر، قاله أبو موسى الأشعري.
والثالث: يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده، رواه نافع عن ابن عمر، ومقسم عن ابن عباس.
والرابع: أنها أيام التشريق، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء الخراساني،
والنخعي، والضحاك.
والخامس: أنها خمسة أيام، أولها يوم التروية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والسادس: ثلاثة أيام، أولها يوم عرفة، قاله مالك بن أنس. وقيل: إنما قال: " معلومات "
ليحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها. قال الزجاج: والذكر هاهنا يدل على
التسمية على ما ينحر، لقوله تعالى: * (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) *; قال القاضي أبو يعلى:
ويحتمل ان يكون الذكر المذكور هاهنا: هو الذكر على الهدايا الواجبة، كالدم الواجب لأجل التمتع
والقران، ويحتمل ان يكون الذكر المفعول عند رمي الجمار وتكبير التشريق، لأن الآية عامة في
ذلك.
قوله تعالى: * (فكلوا منها) * يعني: الأنعام التي تنحر; وهذا أمر إباحة. وكان أهل الجاهلية لا
291

يستحلون أكل ذبائحهم، فأعلم الله عز وجل أن ذلك جائز، غير أن هذا إنما يكون في الهدي
المتطوع به، فأما دم التمتع والقران فعندنا أنه يجوز أن يأكل منه، وقال الشافعي: لا يجوز، وقد روى
عطاء عن ابن عباس أنه قال: من كل الهدي يؤكل، إلا ما كان من فداء أو جزاء أو نذر. فأما
" البائس " فهو ذو البؤس، وهو شدة الفقر.
قوله تعالى: * (ثم ليقضوا تفثهم) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: حلق الرأس، وأخذ الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ
من العارضين، ورمي الجمار، والوقوف بعرفة، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: مناسك الحج، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر.
والثالث: حلق الرأس، قاله مجاهد.
والرابع: الشعر، والظفر، قاله عكرمة.
والقول الأول أصح، لأن التفث: الوسخ، والقذارة: من طول الشعر والأظفار والشعث.
وقضاؤه: نقضه، وإذهابه. والحاج مغبر شعث لم يدهن، ولم ويستحد، فإذا قضى نسكه، وخرج من
إحرامه بالحلق، والقلم، وقص الأظفار، ولبس الثياب، ونحو ذلك، فهذا قضاء تفثه. قال الزجاج:
وأهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير، وكأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال.
قوله تعالى: * (وليوفوا نذورهم) * وروى أبو بكر عن عاصم: " وليوفوا " بتسكين اللام وتشديد
الفاء. وقال ابن عباس: هو نحر ما نذروا من البدن، وقال غيره: ما نذروا من أعمال البر في أيام
الحج، فإن الإنسان ربما نذر أن يتصدق إن رزقه الله رؤية الكعبة، وقد يكون عليه نذور مطلقة،
فالأفضل أن يؤديها بمكة.
قوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * هذا هو الطواف الواجب، لأنه أمر به بعد الذبح، إنما
يكون في يوم النحر، فدل على أنه الطواف المفروض.
وفي تسمية البيت عتيقا أربعة أقوال.
أحدها: لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة. روى عبد الله بن الزبير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إنما سمى الله البيت: العتيق، لأن الله أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبار قط " وهذا قول
مجاهد، وقتادة.
والثاني: أن معنى العتيق: القديم، قاله الحسن، وابن زيد.
والثالث: لأنه لم يملك قط، قاله مجاهد في رواية، وسفيان بن عيينة.
والرابع: لأنه أعتق من الغرق زمان الطوفان، قاله ابن السائب وقد تكلمنا في هذه السورة
292

في " ليقضوا " و " ليوفوا " و " ليطوفوا ".
ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى
عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور " 30 " حنفاء لله غير مشركين
به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان
سحيق " 31 " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " 32 " لكم فيها منافع إلى
أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق " 33 "
قوله تعالى: * (ذلك) * أي: الأمر ذلك، يعني: ما ذكر من أعمال الحج * (ومن يعظم حرمات
الله) * فيجتنب ما حرم الله عليه في الإحرام تعظيما لأمر الله. قال الليث: الحرمة: مالا يحل
انتهاكه. وقال الزجاج: الحرمة: ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه.
قوله تعالى: * (فهو) * يعني: التعظيم * (خير له عند ربه) * في الآخرة * (وأحلت لكم الأنعام) *
وقد سبق بيانها * (إلا ما يتلى عليكم) * تحريمه، يعني به: ما ذكر في [سورة] المائدة من حال
إحرامكم، إلا ما يتلى عليكم في الصيد، فإنه حرام.
قوله تعالى: * (فاجتنبوا الرجس) * أي: دعوه جانبا، قال الزجاج: " ومن " هاهنا، لتخليص
جنس من الأجناس، المعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن. وقد شرحنا معنى الرجس في
المائدة.
وفي المراد بقول الزور أربعة أقوال:
أحدها: شهادة الزور، قاله ابن مسعود.
والثاني: الكذب، قاله مجاهد.
والثالث: الشرك، قاله أبو مالك.
والرابع: أنه قول المشركين في الأنعام: هذا حلال، وهذا حرام، قاله الزجاج، قال: وقوله
تعالى: * (حنفاء لله) * منصوب على الحال، وتأويله: مسلمين لا ينسبون إلى دين غير الإسلام. ثم
ضرب الله مثلا للمشرك، فقال: * (ومن يشرك بالله) * إلى قوله تعالى: * (سحيق) *، والسحيق:
البعيد.
293

واختلفوا في قراءة " فتخطفه " فقرأ الجمهور: " فتخطفه " بسكون الخاء من غير تشديد الطاء.
وقرأ نافع: بتشديد الطاء، وقرأ أبو المتوكل، ومعاذ القارئ: بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء
ونصب الفاء. وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني: بكسر التاء والخاء وتشديد
الطاء ورفع الفاء. وقرأ الحسن، والأعمش: بفتح التاء وكسر وتشديد الطاء ورفع الفاء. وكلهم فتح
الطاء.
وفي المراد بهذا المثل قولان:
أحدهما: أنه شبه المشرك بالله في بعده عن الهدى وهلاكه، بالذي يخر من السماء، قاله
قتادة.
والثاني: أنه شبه حال المشرك في أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا دفع ضر يوم القيامة، بحال
الهاوي من السماء، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: * (ذلك) * أي: الأمر ذلك الذي ذكرناه * (ومن يعظم شعائر الله) * قد شرحنا معنى
الشعائر في البقرة.
وفي المراد بها هاهنا قولان:
أحدهما: أنها البدن. وتعظيمها: استحسانها: واستسمانها * (لكم فيها منافع) * قبل أن يسميها
صاحبها هديا، أو يشعرها ويوجبها، فإذا فعل ذلك، لم يكن له من منافعها شئ، روى هذا
المعنى مقسم عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك. وقال عطاء بن أبي رباح: لكم
في هذه الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هدايا إذا احتجتم إلى شئ من ذلك أو اضطررتم إلى
شرب ألبانها * (إلى أجل مسمى) * وهو أن تنحر.
والثاني: أن الشعائر: المناسك ومشاهد مكة; والمعنى: لكم فيها منافع بالتجارة إلى أجل
مسمى، وهو الخروج من مكة، رواه أبو رزين عن ابن عباس. وقيل: لكم فيها منافع من الأجر،
والثواب في قضاء المناسك إلى أجل مسمى، وهو انقضاء أيام الحج.
قوله تعالى: * (فإنها) * يعني الأفعال المذكورة، من اجتناب الرجس وقول الزور، وتعظيم
الشعائر. وقال الفراء: " فإنها " يعني الفعلة * (من تقوى القلوب) *، وإنما أضاف التقوى إلى القلوب،
لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب.
قوله تعالى: * (ثم محلها) * أي: حيث يحل نحرها * (إلى البيت) * يعني: عند البيت، والمراد
294

به: الحرم كله، لأنا نعلم أنها لا تذبح عند البيت، ولا في المسجد، هذا على القول الأول، وعلى
الثاني، يكون المعنى: ثم محل الناس من إحرامهم إلى البيت، وهو أن يطوفوا به بعد قضاء
المناسك.
ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله
واحد فله أسلموا وبشر المخبتين " 34 " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على
ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون " 35 "
قوله تعالى: * (ولكل أمة جعلنا منسكا) * قرأ حمزة، والكسائي، وبعض أصحاب أبي عمرو
بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها: فمن فتح أراد المصدر، من نسك ينسك، ومن كسر أراد مكان
النسك كالمجلس والمطلع. ومعنى الآية: لكل جماعة مؤمنة من الأمم السالفة جعلنا ذبح القرابين
* (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) *، وإنما خص بهيمة الأنعام، لأنها المشروعة
في القرب. والمراد من الآية: أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة، وأن التسمية عليها كانت
مشروعة قبل هذه الأمة.
قوله تعالى: * (فإلهكم واحد) *: لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم سواه * (فله أسلموا) * أي:
انقادوا واخضعوا. وقد ذكرنا معنى الإخبات في [سورة] هود. وكذلك ألفاظ الآية التي تلي هذه.
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف
فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم
تشكرون " 36 " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم
لتكبروا والله على ما هداكم وبشر المحسنين " 37 "
قوله تعالى: * (والبدن) * وقرأ الحسن، وابن يعمر برفع الدال. قال الفراء: يقال: بد وبدن،
والتخفيف أجود وأكثر، لأن كل جمع كان واحده على " فعلة " ثم ضم أول جمعه، خفف، مثل أكمة
295

وأكم وأجمة وأجم، وخشبة وخشب. وقال الزجاج: " البدن " منصوبة بفعل مضمر يفسره الذي
ظهر، والمعنى: وجعلنا البدن; وإن شئت رفعتها على الاستئناف، والنصب أحسن; ويقال: بدن
وبدن وبدنة، مثل قولك: ثمر وثمر وثمرة; وإنما سميت بدنة، لأنها تبدن، أي: تسمن.
وللمفسرين في البدن قولان:
أحدهما: أنها الإبل والبقر، قاله عطاء.
والرابع: الإبل خاصة، حكاه الزجاج، وقال: الأول قول أكثر فقهاء الأمصار. قال القاضي
أبو يعلى: البدنة: اسم يختص الإبل في اللغة، والبقرة تقوم مقامها في الحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل
البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.
قوله تعالى: * (و جعلناها لكم من شعائر الله) * أي: جعلنا لكم فيها عبادة لله، من سوقها إلى
البيت، وتقليدها، وإشعارها، ونحرها، والإطعام منها، * (لكم فيها خير) * وهو النفع في الدنيا
والأجر في الآخرة، * (فاذكروا اسم الله عليها) * أي: على نحرها، * (صواف) * وقرأ ابن مسعود، وابن
عباس، وقتادة: " صوافن " بالنون. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو العالية، والضحاك، وابن يعمر:
" صوافي " بالياء. قال الزجاج: " صواف " منصوبة على الحال، ولكنها لا تنون لأنها لا تنصرف;
أي: قد صفت قوائمها، والمعنى: اذكروا اسم الله عليها في حال نحرها; والبعير ينحر قائما،
وهذه الآية تدل على ذلك. ومن قرأ: " صوافن " فالصافن: التي تقوم على ثلاث، والبعير إذا أرادوا
نحره، تعقل إحدى يديه، فهو الصافن، والجميع: صوافن. هذا ومن قرأ: " صوافي " بالياء وبالفتح
بغير تنوين، فتفسيره: خوالص، أي: خالصه لله لا تشركوا به في التسمية على نحرها أحدا. * (فإذا
وجبت جنوبها) * أي: إذا سقطت إلى الأرض، يقال: وجب الحائط وجبة، إذا سقط. ووجب القلب
وجيبا: إذا تحرك من فزع. واعلم أن نحرها قياما سنة، والمراد بوقوعها على جنوبها: موتها،
والأمر بالأكل منها أمر إباحة، وهذا في الأضاحي.
قوله تعالى: * (وأطعموا القانع والمعتر) * وقرأ الحسن: " والمعتر " بكسر الراء خفيفة. وفيهما
ستة أقوال:
أحدهما: أن القانع: الذي يسأل، والمعتر السائل الذي يتعرض ولا يسأل، رواه بكر بن عبد
الله عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، واختاره الفراء.
والثاني: أن القانع: المتعفف، والمعتز: السائل، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس،
296

وبه قال قتادة، والنخعي. وعن الحسن كالقولين.
والثالث: أن القانع: المستغني بما أعطيته وهو في بيته; والمعتر: الذي يتعرض لك ويلم بك
ولا يسأل، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد: القانع: جارك الذي يقنع بما أعطيته،
والمعتر: الذي يتعرض ولا يسأل، وهذا مذهب القرظي. فعلى هذا يكون معنى القانع: أن يقنع
بما أعطي. ومن قال: هو المتعفف، قال: هو القانع بما عنده.
والرابع: القانع: أهل مكة، والمعتر: الذي يعتر بهم من غير أهل مكة، رواه خصيف عن
مجاهد.
والخامس: القانع: الجار وإن كان غنيا، والمعتر الذي يعتر بك، رواه ليث عن مجاهد.
والسادس: القانع: المسكين السائل، والمعتر: الصديق الزائر، قاله زيد بن أسلم. قال
ابن قتيبة: يقال: قنع يقنع قنوعا: إذا سأل، وقنع يقنع قناعة: إذ رضي، ويقال في المعتر: اعترني
واعتراني وعراني. وقال الزجاج: مذهب أهل اللغة أن القانع: السائل، يقال: قنع يقنع قنوعا: إذا
- لما المرء يصلحه فيغني * مفاقره أعف من القنوع -
أي: من السؤال; ويقال: قنع قناعة: إذا رضي، فهو قنع، والمعتر والمعتري واحد
قوله تعالى: * (كذلك) * أي: مثل ما وصفنا من نحرها قائمة * (سخرناها لكم) * نعمة منا عليكم
لتتمكنوا من نحرها على الوجه المسنون * (لعلكم تشكرون) * أي: لكي تشكروا.
قوله تعالى: * (لن تنال الله لحومها) * وقرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وابن أبي عبلة،
ويعقوب:: " لن تنال الله لحومها " بالتاء * (ولكن تناله التقوى) * بالتاء أيضا.
سبب نزولها أن المشركين كانوا إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء ينضحون بها نحو الكعبة،
فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال المفسرون:
297

ومعنى الآية: لن ترفع إلى الله لحومها ولا دماؤها، وإنما يرفع إليه التقوى،; وهو ما أريد به وجهه
منكم، فمن قرأ " يناله " بالتاء، فلأن التقوى والتقى واحد. والإشارة بهذه الآية إلى أنه لا يقبل
اللحوم والدماء إذا لم تكن صادرة عن تقوى الله، وإنما يتقبل ما يتقونه به، وهذا تنبيه على امتناع
قبول الأعمال إذا عريت عن نية صحيحة.
قوله تعالى: * (كذلك سخرها) * قد سبق تفسيره * (لتكبروا الله على ما هداكم) * أي: على ما بين
لكم وأرشدكم إلى معالم دينه ومناسك حجه، فذلك أن تقول: الله أكبر على ما هدانا، * (وبشر
المحسنين) * قال ابن عباس: يعني: الموحدين.
إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور " 38 " أذن للذين يقاتلون
بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " 39 " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا
أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات
ومساجد يذكر فيه اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز " 40 "
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن
المنكر ولله عاقبة الأمور " 41 "
قوله تعالى: * (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " يدافع " وقرأ
عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " إن الله يدافع " بألف " ولولا دفع " بغير ألف، وهذا على
مصدر " دافع " والمعنى: يدفع عن الذين آمنوا غائلة المشركين بمنعهم منهم ونصرهم عليهم. قال
الزجاج: والمعنى: إذا فعلتم هذا وخالفتم الجاهلية فيما يفعلونه من نحرهم وإشراكهم، فإن الله
يدفع عن حزبه، وال‍ " خوان " فعال من الخيانة، والمعنى: أن من ذكر غير اسم الله، وتقرب إلى
الأصنام بذبيحته، فهو خوان.
قوله تعالى: * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) * قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة،
والكسائي: " أذن " بفتح الألف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص عن عاصم: " أذن "
بضمها.
قوله تعالى: * (للذين يقاتلون) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن
298

عاصم: بكسر التاء. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: بفتحها وقال ابن عباس: كان
مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: " اصبروا، فإني لم أومر بالقتال " حتى
هاجر رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فأنزل الله هذه الآية، وهي أول آية أنزلت في القتال. وقال مجاهد: هم ناس
خرجوا من مكة مهاجرين، فأدركهم كفار قريش، فأذن لهم في قتالهم قال الزجاج: معنى الآية:
أذن للذين يقاتلون أن يقاتلوا. * (بأنهم ظلموا) * أي: بسبب ما ظلموا. ثم وعدهم النصر بقوله:
* (وإن الله على نصرهم لقدير) * ولا يجوز أن تقرأ بفتح " إن " هذه من غير خلاف بين أهل اللغة، لئن
" إن " إذا كانت معها اللام، ثم تفتح أبدا، وقوله: * (إلا أن يقولوا ربنا الله) * معناه: اخرجوا
لتوحيدهم.
قوله تعالى: * (ولولا دفع الله الناس) * قد فسرناه في [سورة] البقرة.
قوله تعالى: * (لهدمت) * قرأ ابن كثير، ونافع: " لهدمت " خفيفة، والباقون بتشديد الدال.
فأما الصوامع، ففيها قولان:
أحدهما: أنها صوامع الرهبان، قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وابن زيد.
والثاني: أنها صوامع الصابئين، قاله قتادة، وابن قتيبة.
فأما البيع، فهي جمع بيعة، وهي بيع النصارى.
وفي المراد بالصلوات قولان:
أحدهما: مواضع الصلوات. ثم فيها قولان.
أحدهما: أنها كنائس اليهود، قاله قتادة، والضحاك، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي،
قال: قوله تعالى: * (وصلوات) * هي كنائس اليهود، وهي بالعبرانية " صلوثا ".
والثاني: أنها مساجد الصابئين، قاله أبو العالية.
والقول الثاني: أنها الصلوات حقيقة، والمعنى: لولا دفع الله عن المسلمين بالمجاهدين;
لانقطعت الصلوات في المساجد، قاله ابن زيد.
فأما المساجد، فقال ابن عباس: هي مساجد المسلمين. وقال الزجاج: معنى الآية: لولا
دفع بعض الناس ببعض لهدمت في زمان موسى الكنائس، وفي زمان عيسى الصوامع والبيع، وفي
زمان محمد المساجد.
وفي قوله تعالى: * (يذكر فيها) * قولان: جميع الأماكن المذكورات، قاله الضحاك.
والثاني: إلى المساجد خاصة، لأن جميع المواضع المذكورة الغالب فيها الشرك، قاله أبو
299

سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: * (ولينصرن الله من ينصره) * أي: من ينصر دينه وشرعه.
قوله تعالى: * (الذين إن مكناهم في الأرض) * قال الزجاج: هذه صفة ناصريه. قال
المفسرون: التمكين في الأرض: نصرهم على عدوهم، والمعروف: لا إله إلا الله، والمنكر:
الشرك. قال الأكثرون: وهؤلاء أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقال القرظي: هم الولاة.
قوله تعالى: * (ولله عاقبة الأمور) * أي: إليه مرجعها، لأن كل ملك يبطل سوى ملكه.
وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود " 42 " وقوم إبراهيم وقوم
لوط " 43 " وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان
نكير " 44 " فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر
معطلة وقصر مشيد " 45 "
قوله تعالى: * (ثم أخذتهم) * أي: بالعذاب * (فكيف كان نكير) * أثبت الياء في " نكير " يعقوب
في الحالين، ووافقه ورش في إثباتها في الوصل، والمعنى: كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من
التكذيب بالإهلاك؟! والمعنى: إني أنكرت عليهم أبلغ إنكار، وهذا استفهام معناه التقرير.
قوله تعالى: * (أهلكتها) * قرأ أبو عمرو: " أهلكتها " بالتاء، والباقون: " أهلكناها " بالنون.
قوله تعالى: * (وبئر معطلة) * قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عمرو، وحمزة،
والكسائي: " وبئر " مهموز، وروى ورش عن نافع بغير همز، والمعنى: وكم بئر معطلة، أي: متروكة
* (وقصر مشيد) * فيه قولان:
أحدهما: مجصص، قاله ابن عباس، وعكرمة. قال الزجاج: أصل الشيد الجص والنورة،
وكل ما بني بهما أو بأحدهما فهو مشيد.
والثاني: طويل، قاله الضحاك، ومقاتل. وفي الكلام إضمار، تقديره: وقصر مشيد معطل
أيضا ليس فيه ساكن.
300

أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها
لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " 46 " ويستعجلونك بالعذاب ولن
يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون " 47 " وكأين من قرية أمليت
لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير " 48 "
قوله تعالى: * (أفلم يسيروا) * قال المفسرون: أفلم يسر قومك في أرض اليمن والشام
* (فتكون لهم قلوب يعقلون بها) * إذا نظروا آثار من هلك * (أو آذان يسمعون بها) * أخبار الأمم
المكذبة * (فإنها لا تعمى الأبصار) * قال الفراء: الهاء في قوله: " فإنها " عماد، والمعنى: أن
أبصارهم لم تعم، وإنما عميت قلوبهم. فأما قوله تعالى: * (التي في الصدور) * فهو توكيد، لأن
القلب لا يكون إلا في الصدر، ومثله: * (تلك عشرة كاملة) * * (يطير بجناحيه) *، * (يقولون
بأفواههم آل عمران) *.
قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب) * قال مقاتل: نزلت في النضر بن الحارث القرشي.
وقال غيره: هو قولهم له: * (متى هذا الوعد) * ونحوه من استعجالهم، ولن يخلف الله وعده) * في
إنزال العذاب بهم في الدنيا، فأنزله بهم يوم بدر، * (وإن يوما عند ربك) * أي: من أيام الآخرة
* (كألف سنة مم تعدون) * من أيام الدنيا، قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: " تعدون " بالتاء.
وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: " يعدون " بالياء.
فإن قيل: كيف انصرف الكلام من ذكر العذاب إلى قوله: " وإن يوما عند ربك "؟ فعنه
جوابان:
أحدهما: أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا، فقيل لهم: لن يخلف الله وعده في إنزال
العذاب بكم في الدنيا. وإن يوما من أيام عذابكم الآخرة كألف سنة من سني الدنيا، فكيف
تستعجلون بالعذاب؟! فقد تضمنت الآية وعدهم بعذاب الدنيا والآخرة، هذا قول الفراء.
والثاني: وإن يوما عند الله وألف سنة سواء في قدرته على عذابهم، فلا فرق بين وقوع ما
يستعجلونه وبين تأخيره في القدرة، إلا أن الله تفضل عليهم بالإمهال، هذا قول الزجاج.
قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين " 49 " فالذين آمنوا وعلموا الصالحات لهم
301

مغفرة ورزق كريم " 50 " والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم " 51 "
قوله تعالى: * (ورزق كريم) * يعني به الحسن في الجنة.
قوله تعالى: * (والذين سعوا في آياتنا) * أي: عملوا في إبطالها * (معاجزين) * قرأ عاصم، وابن
عامر، وحمزة، والكسائي: " معجزين " بغير ألف. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " معاجزين " قال
الزجاج: " معاجزين " أي: ظانين أنهم يعجزوننا، لأنهم ظنوا أنهم لا يبعثون وأنه لا جنة ونار.
قال: وقيل في التفسير: معاجزين: معاندين، وليس هو بخارج عن القول الأول; و " معجزين "
تأويلها: أنهم كانوا يعجزون من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويثبطونهم عنه.
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ
الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم " 52 " ليجعل ما يلقي الشيطان
فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد " 53 "
وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين
آمنوا إلى صراط مستقيم " 54 " ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة
أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " 55 "
قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول) * الآية. قال المفسرون: سبب نزولها ان رسول
الله [صلى الله عليه وسلم] لما نزلت عليه سورة * (النجم) * قرأها حتى بلغ قوله: * (أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثلاثة
الأخرى) * فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجي; فلما سمعت
قريش بذلك فرحوا، فأتاه جبريل، فقال: ماذا صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله،
فحزن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حزنا شديدا، فنزلت هذه الآية تطييبا لقلبه، وإعلاما له أن الأنبياء قد جرى
لهم مثل هذا. قال العلماء المحققون: وهذا لا يصح، لأن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] معصوم عن مثل هذا،
ولو صح، كان المعنى أن بعض شياطين الإنس قال تلك الكلمات، فإنهم كانوا إذا تلا لغطوا، كما قال
الله عز وجل: * (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) *. قال: وفي معنى " تمنى " قولان:
302

أحدهما: تلا، قاله الأكثرون، وأنشدوا:
- تمنى كتاب الله أول ليله * وآخره لاقى حمام المقادر -
وقال آخر:
- تمنى كتاب الله آخر ليله * تمني داود الزبور على رسل -
والثاني: أنه من الأمنية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنى يوما أن لا يأتيه من الله شئ ينفر عنه
به قومه، فألقى الشيطان على لسانه لما كان قد تمناه، قاله محمد بن كعب القرظي.
قوله تعالى: * (فينسخ ما يلق الشيطان) * أي: يبطله ويذهبه * (ثم يحكم الله آياته) * قال مقاتل:
يحكمها من الباطل.
قوله تعالى: * (ليجعل) * اللام متعلقة بقوله: " ألقى الشيطان "، والفتنة هاهنا بمعنى البلية
والمحنة. والمرض: الشك والنفاق. * (والقاسية قلوبهم) * يعني: الجافية عن الإيمان. ثم أعلمهم
أنهم ظالمون وأنهم في شقاق دائم، والشقاق: غاية العداوة.
قوله تعالى: * (وليعلم الذين أوتوا العلم) * وهو التوحيد والقرآن، وهم المؤمنون. وقال
السدي: التصديق بنسخ الله.
قوله تعالى: * (أنه الحق) * إشارة إلى نسخ ما يلقي الشيطان; فالمعنى: ليعلموا أن نسخ ذلك
وإبطاله حق من الله * (فيؤمنوا) * بالنسخ * (فتخبت له قلوبهم) * أي: تخضع وتذل. ثم بين بباقي الآية
أن هذا الإيمان والإخبات إنما هو بلطف الله وهدايته..
قوله تعالى: * (في مرية منه) * أي: في شك. وفي هاء " منه " أربعة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى قوله: تلك الغرانيق العلى.
والثاني: أنها ترجع إلى سجوده في سورة * (النجم) *. والقولان عن سعيد بن جبير، فيكون
المعنى: إنهم يقولون: ما باله ذكر آلهتنا ثم رجع عن ذكرها؟!
والثالث: أنها ترجع إلى القرآن، قاله ابن جريج.
والرابع: أنها ترجع إلى الدين، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: * (حتى تأتيهم الساعة) * وفيها قولان:
أحدهما: القيامة تأتي من تقوم عليه من المشركين، قاله الحسن.
والثاني: ساعة موتهم، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: * (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) * فيه قولان:
أحدهما: أنه يوم بدر، روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي.
303

والثاني: أنه يوم القيامة، قاله عكرمة، والضحاك. وأصل العقم في الولادة، يقال: امرأة
عقيم لا تلد، ورجل عقيم لا يولد له; وأنشدوا:
- عقم النساء فلا يلدن شبيهه * إن النساء بمثله عقم -
وسميت الريح العقيم بهذا الاسم، لأنها لا تأتي بالسحاب الممطر، فقيل لهذا اليوم: عقيم،
لأنه لم يأت بخير.
فعلى قول من قال: هو يوم بدر في تسميته بالعقيم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لم يكن فيه للكفار بركة ولا خير، قاله الضحاك.
والثاني: لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء، قاله ابن جريج.
والثالث: لأنه لا مثل له في عظم أمره، لقتال الملائكة فيه، قاله يحيى بن سلام.
وعلى قول من قال: هو يوم القيامة، في تسميته بذلك قولان:
أحدهما: لأنه لا ليلة له، قاله عكرمة.
والثاني: لأنه لا يأتي المشركين بخير ولا فرج، ذكره بعض المفسرين.
الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم " 56 "
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين " 57 " والذين هاجروا في سبيل
الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين " 58 " ليدخلنهم مدخلا
يرضونه وإن الله لعليم حليم " 59 "
قوله تعالى: * (الملك يومئذ) * أي: يوم القيامة * (لله) * من غير منازع ولا مدع * (يحكم بينهم) *
أي: بين المسلمين والمشركين; وحكمه بينهم بما ذكره في تمام الآية وما بعدها. ثم ذكر فضل
المهاجرين فقال: * (والذين هاجروا في سبيل الله) * أي: من مكة إلى المدينة.
وفي الرزق الحسن قولان:
أحدهما: أنه الحلال، قاله ابن عباس.
والثاني: رزق الجنة، قاله السدي.
304

قوله تعالى: * (ثم قتلوا) * وقرأ ابن عامر: " قتلوا " بالتشديد قوله تعالى: * (ليدخلنهم مدخلا) *
وقرأ نافع بفتح الميم * (يرضونه) * يعني: الجنة. والمدخل يجوز أن يكون مصدرا، فيكون المعنى:
ليدخلنهم إدخالا يكرمون فيرضونه; ويجوز أن يكون بمعنى المكان. و " مدخلا " بفتح الميم على
تقدير: فيدخلون مدخلا. * (وإن الله لعليم) * بنياتهم * (حليم) * عنهم.
ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو
غفور " 60 " ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع
بصير " 61 " ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلى
الكبير " 62 "
قوله تعالى: * (ذلك) * قال الزجاج: المعنى: الأمر ذلك، أي: الأمر ما قصصنا عليكم * (ومن
عاقب بمثل ما عوقب به) * والعقوبة: الجزاء; والأول ليس بعقوبة، ولكنه سمي عقوبة، لاستواء
الفعلين في جنس المكروه، كقوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * لما كانت المجازاة إساءة
بالمفعول به سميت سيئة، ومثله * (الله يستهزئ بهم) * قاله الحسن، ومعنى الآية: من قاتل
المشركين كما قاتلوه * (ثم بغي عليه) * أي: ظلم بإخراجه عن منزله. وزعم مقاتل أن سبب نزول هذه
الآية أن مشركي مكة لقوا المسلمين لليلة بقيت من المحرم، فقاتلوهم، فناشدهم المسلمون أن لا
يقاتلوا في الشهر الحرام، فأبوا إلا القتال، فثبت المسلمون، ونصرهم الله على المشركين، ووقع في
نفوس المسلمين من القتال في الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، وقال: * (إن الله لعفو) * عنهم
* (غفور) * لقتالهم في الشهر الحرام.
قوله تعالى: * (يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل وأن الله سميع) * لدعاء المؤمنين
* (بصير) * بهم حيث جعل فيهم الإيمان والتقوى، * (ذلك) * الذي فعل من نصر المؤمنين * (بإذن الله
هو الحق) * أي: هو الإله الحق * (وأن ما يدعون) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي،
وحفص عن عاصم: " يدعون " بالياء. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بالتاء، والمعنى:
وأن ما يعبدون * (من دونه هو الباطل) *.
305

ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير " 63 "
له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد " 64 "
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) * يعني: المطر * (فتصبح الأرض مخضرة) *
بالنبات. وحكى الزجاج عن الخليل أنه قال: معنى الكلام التنبيه، كأنه كذي وكذا. وقال ثعلب: معنى
الآية عند الفراء خبر، كأنه قال: اعلم أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح، ولو كان استفهاما والفاء شرطا
لنصبه.
قوله تعالى: * (إنه لطيف) * أي: باستخراج النبات من الأرض رزقا لعباده * (خبير) * بما في
قلوبهم عند تأخير المطر. وقد سبق معنى الغني الحميد في [سورة] البقرة.
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك
السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم " 65 " وهو الذي
أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور " 66 "
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض) * يريد البهائم التي تركب * (ويمسك
السماء أن تقع) * قال الزجاج: كراهة أن تقع. وقال غيره: لئلا تقع * (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) *
فيما سخر لهم وفيما حبس عنهم من وقوع السماء عليهم. * (وهو الذي أحياكم) * بعد أن كنتم نطفا
ميتة * (ثم يميتكم) * عند آجالكم * (ثم يحييكم) * للبعث والحساب * (إن الإنسان) * يعني: المشرك
* (لكفور) * لنعم الله إذ لم يوحده.
لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك
لعلى هدى مستقيم " 67 " وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون " 68 " الله يحكم بينكم
يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون " 69 " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن
306

ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير " 70 "
قوله تعالى: * (لكل أمة جعلنا منسكا) * قد سبق بيانه في هذه السورة * (فلا ينازعنك في الأمر) *
أي: في الذبائح، وذلك أن كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في أمر الذبيحة، فقالوا:
كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله؟! يعنون: الميتة.
فإن قيل: إذا كانوا هم المنازعين له، فكيف قيل: " فلا ينازعنك في الأمر "؟
فقد أجاب عنه الزجاج، فقال المراد: النهي له عن منازعتهم، فالمعنى: لا تنازعنهم، كما
تقول للرجل: لا يخاصمنك فلان في هذا أبدا، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا من اثنين،
لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين، فإذا قلت: لا يجادلنك فلان، فهو بمنزلة: لا تجادلنه،
ولا يجوز هذا في قولك: لا يضربنك فلان وأنت تريد: لا تضربنه، ولكن لو قلت: لا يضاربنك
فلان، لكان كقولك: لا تضاربن، ويدل على هذا الجواب قوله: * (وإن جادلوك) *.
قوله تعالى: * (وادع إلى ربك) * أي: إلى دينه والإيمان به. و " جادلوك " بمعنى: خاصموك في
أمر الذبائح، * (فقل الله أعلم بما تعملون) * من التكذيب، فهو يجازيكم به. * (الله يحكم بينكم يوم
القيامة) * أي: يقضي بينكم * (فيما كنتم فيه تختلفون) * من الدين، أي: تذهبون إلى خلاف ما ذهب
إليه المؤمنون وهذا أدب حسن علمه الله عباده ليردوا به من جادل على سبيل التعنت، ولا يجيبوه،
ولا يناظروه.
فصل
قال أكثر المفسرين: هذا نزل قبل الأمر بالقتال، ثم نسخ بآية السيف. وقال بعضهم: هذا
نزل في حق المنافقين، كانت تظهر من أقوالهم وأفعالهم فلتات تدل على شركهم، ثم يجادلون
على ذلك، فوكل أمرهم إلى الله تعالى، فالآية على هذا محكمة.
قوله تعالى: * (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء الأرض) * هذا استفهام يراد به التقرير;
والمعنى: قد علمت ذلك * (إن ذلك) * يعني ما يجري في السماوات والأرض * (في كتاب) * يعني:
اللوح المحفوظ، * (إن ذلك) * أي: علم الله بجميع ذلك * (على الله يسير) * سهل لا يتعذر عليه العلم
به.
ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من
نصير " 71 " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر
307

يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله
الذين كفروا وبئس المصير " 72 "
قوله تعالى: * (ويعبدون) * يعني: كفار مكة * (ما لم ينزل به سلطانا) * أي: حجة * (وما ليس لهم
به علم) * أنه إله، * (وما للظالمين) *، يعني: المشركين * (من نصير) * أي: مانع من العذاب. * (وإذا
تتلى عليهم آياتنا) * يعني القرآن; والمنكر هاهنا بمعنى الإنكار، فالمعنى: أثر الإنكار من الكراهة،
وتعبيس الوجوه، معروف عندهم. * (يكادون يسطون) * أي: يبطشون ويوقعون بمن يتلو عليهم
القرآن من شدة الغيظ، يقال: سطا عليه، وسطا به: إذا تناوله بالعنف والشدة. * (قل) * لهم يا
محمد: * (أفأنبئكم بشر من ذلكم) * أي: بأشد عليكم وأكره إليكم من سماع القرآن، ثم ذكر ذلك
فقال: * (النار) * أي: هو النار.
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا
ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب
والمطلوب " 73 " ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز " 74 "
قوله تعالى: * (يا أيها الناس ضرب مثل) * قال الأخفش: إن قيل: أين المثل؟
فالجواب: أنه ليس هاهنا مثل، وإنما المعنى: يا أيها الناس ضرب مثل، أي: شبهت بي
الأوثان * (فاستمعوا) * لهذا المثل. وتأويل الآية: جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي
فاستمعوا حالها; ثم بين ذلك بقوله: * (إن الذين تدعون) * أي: تعبدون * (من دون الله) *، وقرأ ابن
عباس، وأبو رزين، وابن أبي عبلة: " يدعون " بالياء المفتوحة. وقرأ ابن السميفع، وأبو رجاء
وعاصم الجحدري: " يدعون " بضم الياء وفتح العين، يعني: الأصنام، * (لن يخلقوا ذبابا) * والذباب
واحد، والجمع القليل: أذبة، والكثير: الذبان، مثل: غراب وأغربة وغربان; وقيل: إنما خص
الذباب لمهانته واستقذاره وكثرته. * (ولو اجتمعوا) * يعني: الأصنام; قال ابن عباس: كانوا يطلون
أصنامهم بالزعفران فيجف، فيأتي الذباب فيختلسه. وقال ابن جريج: كانوا إذا طيبوا أصنامهم عجنوا
طيبهم بشئ من الحلواء، كالعسل ونحوه، فيقع عليه الذباب فيسلبها إياه، فلا تستطيع الآلهة ولا
من عبدها أن يمنعه ذلك. وقال السدي: كانوا يجعلون للآلهة طعاما، فيقع الذباب عليه فيأكل منه
قال ثعلب: وإنما قال: * (لا يستنقذوه منه) * فجعل أفعال الآلهة كأفعال الآدميين، إذ كانوا
يعظمونها ويذبحون لها وتخاطب، كقوله: * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) * لما خاطبهم جعلهم
308

كالآدميين، ومثله: * (رأيتهم لي ساجدين) *، وقد بينا هذا المعنى في الأعراف عند قوله تعالى:
* (وهم يخلقون) *.
قوله تعالى: * (ضعف الطالب والمطلوب) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الطالب: الصنم، والمطلوب: الذباب، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: الطالب: الذباب يطلب ما يسلبه من الطيب الذي على الصنم، والمطلوب: الصنم
يطلب الذباب منه سلب ما عليه، روي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: الطالب: عابد الصنم يطلب التقرب بعبادته، والمطلوب: الصنم، هذا معنى قول
الضحاك، والسدي.
قوله تعالى: * (ما قدروا الله حق قدره) * أي: ما عظموه حق عظمته، إذ جعلوا هذه الأصنام
شركاء له * (إن الله لقوي) * لا يقهر * (عزيز) * لا يرام.
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير " 75 " يعلم ما بين أيديهم
وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور " 76 "
قوله تعالى: * (الله يصطفي من الملائكة رسلا) * كجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك
الموت، * (ومن الناس) * الأنبياء المرسلين، * (إن الله سميع) * لمقالة العباد * (بصير) * بمن يتخذه
رسولا. وزعم مقاتل أن هذه الآية نزلت حين قالوا: * (أأنزل عليه الذكر من بيننا) *.
قوله تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) * الإشارة إلى الذين اصطفاهم; وقد بينا
معنى ذلك في آية الكرسي.
يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون " 77 "
وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم
309

إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا
شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى
ونعم النصير " 78 "
قوله تعالى: * (اركعوا واسجدوا) * قال المفسرون: المراد: صلوا، لأن الصلاة لا تكون إلا
بالركوع والسجود، * (واعبدوا ربكم) * أي: وحدوه * (وافعلوا الخير) * يريد: أبواب المعروف
* (لعلكم تفلحون) * أي: لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة.
فصل
لم يختلف أهل العلم في السجدة الأولى من (الحج) واختلفوا في هذه السجدة الأخيرة;
فروي عن عمر، وابن عمر، وعمار، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وابن عباس، أنهم قالوا: في
الحج سجدتان، وقالوا: فضلت هذه السورة على غيرها بسجدتين، وبهذا قال أصحابنا، وهو
مذهب الشافعي رضي الله عنه. وروي عن ابن عباس أنه قال: في الحج سجدة، وبهذا قال
الحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، وجابر بن زيد، وأبو حنيفة وأصحابه،
ومالك; ويدل على الأول ما روى عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله في (الحج)
سجدتان؟ قال: " نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما ".
فصل
واختلف العلماء في عدد سجود القرآن، فروي عن أحمد روايتان، إحداهما: أنها أربع
عشرة سجدة. وبه قال الشافعي، والثانية: أنها خمس عشرة، فزاد سجدة ص. وقال أبو حنيفة:
هي أربع عشرة، فأخرج التي في آخر (الحج) وأبدل منها سجدة ص.
فصل
وسجود التلاوة سنة، وقال أبو حنيفة: واجب. ولا يصح سجود التلاوة إلا بتكبيرة الإحرام
والسلام، خلافا لأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. ولا يجزئ الركوع عن سجود
التلاوة، وقال أبو حنيفة: يجزئ. ولا يسجد المستمع إذا لم يسجد التالي، نص عليه أحمد
رضي الله عنه. وتكره قراءة السجدة في صلاة الإخفات، خلافا للشافعي.
قوله تعالى: * (وجاهدوا في الله) * في هذا الجهاد ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه فعل جميع الطاعات، هذا قول الأكثرين.
310

والثاني: أنه جهاد الكفار، قاله الضحاك.
والثالث: أنه جهاد النفس والهوى، قاله عبد الله بن المبارك.
فأما حق الجهاد، ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الجد في المجاهدة، واستيفاء الإمكان فيها.
والثاني: أنه إخلاص النية لله عز وجل.
والثالث: أنه فعل ما فيه وفاء لحق الله عز وجل.
فصل
وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة، واختلفوا في ناسخها على قولين:
أحدهما: قوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *.
والثاني: قوله: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * وقال آخرون: بل هي محكمة، ويؤكده
القولان الأولان في تفسير حق الجهاد، وهو الأصح، لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها.
قوله تعالى: * (هو اجتباكم) * أي: اختاركم واصطفاكم لدينه. والحرج: الضيق، فما من
شئ وقع الإنسان فيه إلا وجد له في الشرع مخرجا بتوبة أو كفارة أو انتقال إلى رخصة ونحو ذلك.
وروي عن ابن عباس أنه قال: الحرج: ما كان على بني إسرائيل من الإصر والشدائد، وضعه الله
عن هذه الأمة.
قوله تعالى: * (ملة أبيكم) * قال الفراء: المعنى: وسع عليكم كملة أبيكم، فإذا ألقيت
الكاف نصبت، ويجوز النصب على معنى الأمر بها، لأن أول الكلام أمر، وهو قوله تعالى:
* (اركعوا واسجدوا) * والزموا ملة أبيكم.
فإن قيل: هذا الخطاب للمسلمين، وليس إبراهيم أبا لكلهم.
فالجواب: أنه إن كان خطابا عاما للمسلمين، فهو كالأب لهم، لأن حرمته وحقه عليكم
كحق الوالد، وإن كان خطاب للعرب خاصة، فإبراهيم أبو العرب قاطبة، هذا قول المفسرين.
والذي يقع لي أن الخطاب لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]، لأن إبراهيم أبوه، وأمة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] داخلة
فيما خوطب به رسول الله.
311

قوله تعالى: * (هو سماكم المسلمين) * في المشار إليه قولان:
أحدهما: أنه الله عز وجل، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور; فعلى هذا في قوله:
* (من قبل) * قولان. أحدهما: من قبل القرآن سماكم بهذا في الكتب التي أنزلها. والثاني: " من
قبل " أي: في أم الكتاب، وقوله تعالى: * (وفي هذا) * أي: في القرآن.
والثاني: أنه إبراهيم عليه السلام حين قال: * (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) *; فالمعنى:
من قبل هذا الوقت، حين قال: * (ومن ذريتنا أمة مسلمة) *، هذا قول ابن زيد.
قوله تعالى: * (ليكون الرسول) * المعنى: اجتباكم وسماكم ليكون الرسول يعني محمدا صلى الله عليه وسلم
* (شهيدا عليكم) * يوم القيامة أنه قد بلغكم; وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة إلى قوله: * (وآتوا
الزكاة) *.
قوله تعالى: * (واعتصموا بالله) * قال ابن عباس: سلوه أن يعصمكم من كل ما يسخط
ويكره. وقال الحسن: تمسكوا بدين الله. وما بعد هذا مشروح في الأنفال.
312

(23) سورة المؤمنون مكية
وآياتها ثماني عشرة ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
قد أفلح المؤمنون " 1 " الذين هم في صلاتهم خاشعون " 2 " والذين هم عن
اللغو معرضون " 3 " والذين هم للزكوة فاعلون " 4 " والذين هم لفروجهم حافظون " 5 "
إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " 6 " فمن ابتغى ورآه ذلك
فأولئك هم العادون " 7 " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " 8 " والذين هم على صلواتهم
يحافظون " 9 " أولئك هم الوارثون " 10 " الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون " 11 "
سورة المؤمنين مكية في قول الجميع; روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " لقد أنزلت علينا عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ: * (قد أفلح المؤمنون) *
إلى عشر آيات "، رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه.
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى حاط حائط الجنة لبنة
من ذهب ولبنة من فضة، وغرس غرسها بيده فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون،
فقال لها: طوبى لك منزل الملوك ". قال الفراء: " قد " هاهنا يجوز أن تكون تأكيدا لفلاح
المؤمنين، ويجوز أن تكون تقريبا للماضي من الحال، لأن " قد " تقرب الماضي من الحال حتى
تلحقه بحكمه، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة، قبل حال قيامها، فيكون معنى الآية: إن
الفلاح قد حصل لهم وإنهم عليه في الحال. وقرأ أبي بن كعب، وعكرمة، وعاصم الجحدري،
313

وطلحة بن مصرف: " قد أفلح " بضم الألف وكسر اللام وفتح الحاء، على ما لم يسم فاعله. قال
الزجاج: ومعنى الآية: قد نال المؤمنون البقاء الدائم في الخير. ومن قرأ: " قد أفلح " بضم
الألف، كان معناه: قد أصيروا إلى الفلاح. وأصل الخشوع في اللغة: الخضوع والتواضع. وفي
المراد بالخشوع في الصلاة أربعة أقوال:
أحدها: أنه النظر إلى موضع السجود. روى أبو هريرة قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا
صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت: " الذين هم في صلاتهم خاشعون " فنكس رأسه. وإلى هذا
المعنى ذهب مسلم بن يسار، وقتادة.
والثاني: أنه ترك الالتفات في الصلاة، وأن تلين كنفك للرجل المسلم، قاله علي بن أبي
طالب.
والثالث: أنه السكون في الصلاة، قاله مجاهد، وإبراهيم، والزهري.
والرابع: أنه الخوف، قاله الحسن.
وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال:
أحدها: الشرك، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: الباطل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: المعاصي، قاله الحسن.
والرابع: الكذب، قاله السدي.
والخامس: الشتم والأذى الذي كانوا يسمعونه من الكفار، قاله مقاتل. قال الزجاج:
واللغو: كل لعب ولهو، وكل معصية فهي مطرحة ملغاة. فالمعنى: شغلهم الجد فيما أمرهم الله
به عن اللغو.
قوله تعالى: * (للزكاة فاعلون) * أي: مؤدون، فعبر عن التأدية بالفعل، لأنه فعل.
قوله تعالى: * (إلا على أزواجهم) * قال الفراء: " على " بمعنى " من ". وقال الزجاج:
المعنى: أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم وأمروا بحفظه، إلا على أزواجهم * (أو ما ملكت
أيمانهم) * فإنهم لا يلامون.
قوله تعالى: * (فمن ابتغى) * أي: طلب * (وراء ذلك) * أي: سوى الأزواج والمملوكات
* (فأولئك هم العادون) * يعني الجائرين الظالمين، لأنهم قد تجاوزوا إلى ما لا يحل، * (والذين
314

هم لأماناتهم) * قرأ ابن كثير: " لأمانتهم " وهو اسم جنس، والمعنى: للأمانات التي ائتمنوا
عليها، فتارة تكون الأمانة بين العبد وبين ربه، وتارة تكون بينه وبين جنسه، فعليه مراعاة الكل.
وكذلك العهد. ومعنى * (راعون) *: حافظون. قال الزجاج: وأصل الرعي في اللغة: القيام على
إصلاح ما يتولاه الراعي من كل شئ.
قوله تعالى: * (على صلواتهم) * قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر:
" صلواتهم " على الجمع. وقرأ حمزة، والكسائي: " صلاتهم " على التوحيد، وهو اسم جنس.
والمحافظة على الصلوات: أداؤها في أوقاتها.
قوله تعالى: * (أولئك هم الوارثون) * ذكر السدي عن أشياخه أن الله تعالى يرفع للكفار
الجنة، فينظرون إلى بيوتهم فيها لو أنهم أطاعوا، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم، فذلك قوله:
" أولئك هم الوارثون ". وقد شرحنا هذا في الأعراف عند قوله: * (أورثتموها) *، وشرحنا معنى
الفردوس في الكهف.
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " 12 " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " 13 " ثم
خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما
ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " 14 " ثم إنكم بعد ذلك لميتون " 15 " ثم
إنكم يوم القيامة تبعثون " 16 "
قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان) * فيه قولان:
أحدهما: أنه آدم عليه السلام. وإنما قيل: " من سلالة " لأنه استل من كل الأرض، هذا
مذهب سلمان الفارسي، وابن عباس في رواية، وقتادة.
والثاني: أنه ابن آدم، والسلالة: النطفة استلت من الطين، والطين: آدم عليه السلام،
قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: والسلالة: فعالة، وهي القليل مما ينسل، وكل مبني
على " فعالة " يراد به القليل، من ذلك: الفضالة، والنخالة، والقلامة.
قوله تعالى: * (ثم جعلناه) * يعني: ابن آدم * (نطفة في قرار) * وهو الرحم * (مكين) * أي:
315

حريز، قد هيئ لاستقراره فيه. وقد شرحنا في سورة (الحج) معنى النطفة والعلقة والمضغة.
قوله تعالى: * (فخلقنا المضغة عظاما) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة،
والكسائي، وحفص عن عاصم: " عظاما فكسونا العظام " على الجمع. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر
عن عاصم: " عظما فكسونا العظم " على التوحيد.
قوله تعالى: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * وهذه الحالة السابعة. قال علي رضي الله عنه لا
تكون موءودة حتى تمر على التارات السبع.
وفي محل هذا الإنشاء قولان:
أحدهما: أنه بطن الأم. ثم في صفة الإنشاء قولان:
أحدهما: أنه نفخ الروح فيه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية، والشعبي،
ومجاهد، وعكرمة، والضحاك في آخرين. والثاني: أنه جعله ذكرا أو أنثى، قاله الحسن.
والقول الثاني: أنه بعد خروجه من بطن أمه. ثم في صفة هذا الإنشاء أربعة أقوال:
أحدها: أن ابتداء ذلك الإنشاء أنه استهل، ثم دل على الثدي، وعلم كيف يبسط رجليه
إلى أن قعد، إلى أن قام على رجليه، إلى أن مشى، إلى أن فطم، إلى أن بلغ الحلم، إلى أن
تقلب في البلاد، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه استواء الشباب، قاله ابن عمر، ومجاهد.
والثالث: أنه خروج الأسنان والشعر، قاله الضحاك، فقيل له: أليس يولد وعلى رأسه
الشعر؟ فقال: وأين العانة والإبط؟.
والرابع: أنه إعطاء العقل والفهم، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: * (فتبارك الله) * أي: استحق التعظيم والثناء. وقد شرحنا معنى " تبارك " في
(الأعراف) * (أحسن الخالقين) * أي: المصورين والمقدرين. والخلق في اللغة: التقدير. وجاء
في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وعنده عمر، إلى قوله تعالى: * (خلقا آخر) *، فقال
عمر: فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد ختمت بما تكلمت به يا ابن
الخطاب ".
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: * (أحسن الخالقين) * وقوله: * (هل من خالق غير
الله) *.
316

فالجواب: أن الخلق يكون بمعنى الإيجاد، ولا موجد سوى الله، ويكون بمعنى التقدير،
كقول زهير:
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
فهذا المراد ها هنا، أن بني آدم قد يصورون ويقدرون ويصنعون الشئ، فالله خير
المصورين والمقدرين. وقال الأخفش: الخالقون هاهنا هم الصانعون، فالله خير الخالقين.
قوله تعالى: * (ثم إنكم بعد ذلك) * أي: بعد ما ذكر من تمام الخلق * (لميتون) * عند انقضاء
آجالكم. وقرأ أبو رزين العقيلي، وعكرمة، وابن أبي عبلة: " لمائتون " بألف. قال الفراء:
والعرب تقول لمن لم يمت: إنك مائت عن قليل، وميت، ولا يقولون للميت الذي قد مات: هذا
مائت، إنما يقال في الاستقبال فقط، وكذلك يقال: هذا سيد قومه اليوم، فإذا أخبرت أنه
يسودهم عن قليل، قلت: هذا سائد قومه عن قومه، وكذلك هذا شريف القوم، وهذا شارف عن
قليل; وهذا الباب كله في العربية على ما وصفت لك.
ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين " 17 " وأنزلنا من السماء
ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون " 18 " فأنشأنا لكم به
جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون " 19 " وشجرة تخرج من طور
سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " 20 "
قوله تعالى: * (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) * يعني: السماوات السبع، قال الزجاج: كل
واحدة طريقة. وقال ابن قتيبة: إنما سميت " طرائق " بالتطارق، لأن بعضها فوق بعض، يقال:
طارقت الشئ: إذا جعلت بعضه فوق بعض.
قوله تعالى: * (وما كنا عن الخلق غافلين) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ما غفلنا عنهم إذ بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب.
والثاني: ما كنا تاركين لهم بغير رزق، فأنزلنا المطر.
والثالث: لم نغفل عن حفظهم من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم.
قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء بقدر) * يعلمه الله، وقال مقاتل: بقدر ما يكفيهم
للمعيشة.
317

قوله تعالى: * (وشجرة) * هي معطوفة على قوله: * (جنات) *. وقرأ أبو مجلز، وابن يعمر،
وإبراهيم النخعي: " وشجرة " بالرفع. والمراد بهذه الشجرة: شجرة الزيتون.
فإن قيل: لماذا خص هذه الشجرة من بين الشجر؟
فالجواب من أربعة أوجه:
أحدها: لكثرة انتفاعهم بها، فذكرهم من نعمه ما يعرفون، وكذلك خص النخيل والأعناب في
الآية الأولى، لأنهما كانا جل ثمار الحجاز وما والاها، وكانت النخيل لأهل المدينة، والأعناب لأهل
الطائف.
والثاني: لأنهم لا يكادون يتعاهدونها بالسقي، وهي تخرج الثمرة التي يكون منها الدهن.
والثالث: أنها تنبت بالماء الذي هو ضد النار، وفي ثمرتها حياة للنار ومادة لها.
والرابع: لأن أول زيتونة نبتت بذلك المكان فيما زعم مقاتل.
قوله تعالى: * (طور سيناء) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " طور سيناء " مكسورة السين،
وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، مفتوحة السين، وكلهم مدها. قال الفراء: العرب
تقول: سيناء، بفتح السين في جميع اللغات، إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون السين. قال أبو علي:
ولا تنصرف هذه الكلمة، لأنها جعلت اسما لبقعة أو أرض، وكذلك " سينين " ولو جعلت اسما
للمنزل أو للمكان أو نحو ذلك من الأسماء المذكرة لصرفت، لأنك كنت قد سميت مذكرا بمذكر.
والطور: الجبل.
وفي معنى " سيناء " خمسة أقوال:
أحدها: أنه بمعنى الحسن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال الضحاك: " الطور ": الجبل
بالسريانية، و " سيناء ": الحسن بالنبطية. وقال عطاء: يريد: الجبل الحسن.
والثاني: أنه المبارك، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أنه اسم حجارة بعينها، أضيف الجبل إليها لوجودها عنده، قاله مجاهد.
والرابع: أن طور سيناء: الجبل المشجر، قاله ابن السائب.
والخامس: أن سيناء: اسم المكان الذي به هذا الجبل، قاله الزجاج; قال الواحدي: وهو
أصح الأقوال; قال ابن زيد: وهذا هو الجبل الذي نودي منه موسى، وهو بين مصر وأيلة.
قوله تعالى: * (تنبت بالدهن) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " تنبت " برفع التاء وكسر الباء. وقرأ
نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بفتح التاء وضم الباء. قال الفراء: وهما لغتان:
نبتت، وأنبتت، وكذلك قال الزجاج: يقال: نبت الشجر وأنبت في معنى واحد، قال زهير:
318

- رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم * قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل -
قال: ومعنى " تنبت بالدهن ": تنبت ومعها دهن، كما تقول: جاءني زيد بالسيف، أي:
جاءني ومعه السيف. وقال أبو عبيدة: معنى الآية: تنبت الدهن والباء، زائدة كقوله: * (ومن يرد فيه
بالحاد بظلم) * وقد بينا هذا المعنى هناك.
قوله تعالى: * (وصبغ) * وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر، إبراهيم النخعي، والأعمش:
" وصبغا " بالنصب. وقرأ ابن السميفع: " وصباغ " بألف مع الخفض. قال ابن قتيبة: الصبغ مثل
الصباغ، كما يقال: دبغ ودباغ، ولبس ولباس. وقال المفسرون: والمراد بالصبغ هاهنا: الزيت،
لأنه يلون الخبز إذا غمس فيه، والمراد أنه إدام يصبغ به.
وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها
تأكلون " 21 " وعليها وعلى الفلك تحملون " 22 "
قوله تعالى: * (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم) * وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن
عاصم: " نسقيكم " بفتح النون. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن
عاصم: بضمها. وقد شرحناه هذا في النحل إلى قوله تعالى: * (ولكم فيها منافع كثيرة) * يعني: في
ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها * (ومنها تأكلون) * من لحومها وأولادها والكسب عليها.
قوله تعالى: * (وعليها) * يعني: الإبل خاصة * (وعلى الفلك تحملون) * فالإبل تحمل في البر
والسفن تحمل في البحر.
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا
تتقون " 23 " فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل
عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين " 24 " إن هو إلا رجل به
319

جنة فتربصوا به حتى حين " 25 " قال رب انصرني بما كذبون " 26 " فأوحينا إليه أن اصنع
الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين استويت
إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " 27 " فإذا استويت
أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجنا من القوم الظالمين " 28 " وقل رب أنزلني
منزلا مباركا وأنت خير المنزلين " 29 " إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين " 30 " ثم
أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " 31 " فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله مالكم من إله
غيره أفلا تتقون " 32 " وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم
في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون " 33 "
ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون " 34 " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا
وعظاما أنكم مخرجون " 35 " * هيهات هيهات لما توعدون " 36 " إن هي إلا حياتنا
الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " 37 " إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن
له بمؤمنين " 38 " قال رب انصرني بما كذبون " 39 " قال عما قليل ليصبحن نادمين " 40 "
فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين " 41 " ثم أنشأنا من بعدهم
قرونا آخرين " 42 " ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون " 43 " ثم أرسلنا رسلنا تترا كل
ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون " 44 "
قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) * قال المفسرون: هذا تعزية لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] بذكر
هذا الرسول الصابر ليتأسى به في صبره، وليعلم أن الرسل قبله قد كذبوا.
قوله تعالى: * (يريد أن يتفضل عليكم) * أي: يعلوكم بالفضيلة، فيصير متبوعا، * (ولو شاء الله) *
أن لا يعبد شئ سواه * (لأنزل ملائكة) * تبلغ عنه أمره، لم يرسل بشرا * (ما سمعنا بهذا) * الذي
320

يدعونا إليه نوح من التوحيد * (في آبائنا الأولين) *. فأما الجنة فمعناها: الجنون.
وفي قوله: * (حتى حين) * قولان:
أحدهما: أن الموت، فتقديره: انتظروا موته.
والثاني: أنه وقت منكر.
قوله تعالى: * (قال رب انصرني) * وقرأ عكرمة، وابن محيصن: " قال رب " بضم الباء، وفي
القصة الأخرى.
قوله تعالى: * (بما كذبون) * وقرأ يعقوب: " كذبوني " بياء، وفي القصة التي تليها أيضا:
" فاتقوني " " أن يحضروني " " رب ارجعوني " " ولا * (تكلموني) * أثبتهن في الحالين
يعقوب، والمعنى: انصرني بتكذيبهم، أي: انصرني باهلاكهم جزاء لهم بتكذيبهم. * (فأوحينا إليه) *
قد شرحناه في هود إلى قوله: * (فاسلك فيها) * أي: أدخل في سفينتك * (من كل زوجين اثنين) *
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " من كل "
بكسر اللام من غير تنوين. وقرأ حفص عن عاصم: " من كل " بالتنوين. قال أبو علي: قراءة
الجمهور إضافة " كل " إلى " زوجين " وقراءة حفص تؤول إلى زوجين، لأن المعنى: من كل
الأزواج زوجين.
قوله تعالى: * (وقل رب أنزلني منزلا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة
والكسائي، وحفص عن عاصم: " منزلا " بضم الميم. وروى أبو بكر عن عاصم فتحها. والمنزل،
بفتح الميم: اسم لكل ما نزلت به، والمنزل، بضمها: المصدر: بمعنى الإنزال، تقول: أنزلته إنزالا
ومنزلا.
وفي الوقت الذي قال فيه نوح ذاك قولان:
أحدهما: عند نزوله في السفينة.
والثاني: عند نزوله من السفينة.
قوله تعالى: * (إن في ذلك) * أي: في قصة نوح وقومه * (لآيات وإن كنا) * أي: وما كنا
* (لمبتلين) * أي: لمختبرين إياهم بإرسال نوح إليهم. * (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) * يعني عادا
* (فأرسلنا فيهم رسولا منهم) * وهو هود، هذا قول الأكثرين; وقال أبو سليمان الدمشقي: هم ثمود،
والرسول صالح. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: * (أيعدكم أنكم) * قال الزجاج: موضع " أنكم " نصب
321

على معنى: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم فلما طال الكلام أعيد ذكر " أن " كقوله: * (ألم يعلموا
أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم) *.
قوله تعالى: * (هيهات هيهات) * قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر،
وحمزة، والكسائي: " هيهات هيهات " بفتح التاء فيهما في الوصل، وإسكانها في الوقف. وقرأ أبي
ابن كعب، وأبو مجلز، وهارون عن أبي عمرو: " هيهاتا هيهاتا " بالنصب والتنوين. وقرأ ابن مسعود،
وعاصم الجحدري، وأبو حيوة الحضرمي، وابن السميفع: " هيهات هيهات " بالرفع والتنوين. وقرأ
أبو العالية، وقتادة: " هيهات هيهات " بالخفض والتنوين. وقرأ أبو جعفر: " هيهات هيهات "
بالخفض من غير تنوين، وكان يقف بالهاء. وقرأ أبو المتوكل ناجي، وسعيد بن جبير، وعكرمة:
" هيهات هيهات " بالرفع من غير تنوين، وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو رجاء وخارجة عن
أبي عمرو: " هيهات هيهات " بإسكان التاء فيهما. وفي " هيهات " عشر لغات قد ذكرنا منها سبعة
عن القراء، والثامنة: " إيهات "، والتاسعة: " إيهان " بالنون، والعاشرة: " إيها " بغير نون، ذكرهن
ابن القاسم; وأنشد الأحوص في الجمع بين لغتين منهن:
- تذكر أياما مضين من الصبا * وهيهات هيهاتا إليك رجوعها -
قال الزجاج: فأما الفتح، فالوقف فيه بالهاء، تقول: " هيهاه " إذا فتحت ووقفت بعد الفتح،
فإذا كسرت ووقفت على التاء كنت ممن ينون في الوصل، أو كنت ممن لا ينون. وتأويل
" هيهات ": البعد لما توعدون. وإذا قلت " هيهات ما قلت " فمعناه: بعيد ما قلت. وإذا قلت:
" هيهات لما قلت "، فمعناه: البعد لما قلت. ويقال: " أيهات " في معنى " هيهات "، وأنشدوا:
- وأيهات أيهات العقيق ومن به * وأيهات وصل بالعقيق نواصله -
قال أبو عمرو بن العلاء: إذا وقفت على " هيهات " فقل: " هيهاه " وقال الفراء: الكسائي
يختار الوقف بالهاء، وأنا أختار التاء.
قوله تعالى: * (لما توعدون) * قرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: " ما توعدون " بغير لام. قال
المفسرون: استبعد القوم بعثهم بعد الموت إغفالا منهم للتفكر في بدو أمرهم وقدرة الله على
إيجادهم، وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبدا، * (إن هي إلا حياتنا الدنيا) * يعنون: ما الحياة إلا
ما نحن فيه، وليس بعد الموت حياة.
فإن قيل: كيف قالوا: * (نموت ونحيا) * وهم لا يقرون بالبعث؟
فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها الزجاج:
أحدها: نموت ويحيا أولادنا، فكأنهم قالوا: يموت قوم ويحيا قوم.
322

والثاني: نحيا ونموت، لأن الواو للجمع، لا للترتيب.
والثالث: ابتداؤنا موات في أصل الخلقة، ثم نحيا، ثم نموت.
قوله تعالى: * (إن هو) * يعنون الرسول. وقد سبق تفسير ما بعد هذا إلى قوله: * (قال عما
قليل) * قال الزجاج: معناه: عن قليل، و " ما " زائدة بمعنى التوكيد.
قوله تعالى: * (ليصبحن نادمين) * أي: على كفرهم، * (فأخذتهم الصيحة بالحق) * أي:
باستحقاقهم العذاب بكفرهم. قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من
تحتهم، فصاروا لشدتها غثاء. قال أبو عبيدة: الغثاء: ما أشبه الزبد وما ارتفع على السيل ونحو ذلك
مما لا ينتفع به في شئ. وقال ابن قتيبة: المعنى: فجعلناهم هلكى كالغثاء، وهو ما علا السيل من
الزبد والقمش، لأنه يذهب ويتفرق. وقال الزجاج: الغثاء: الهالك والبالي من ورق الشجر الذي إذا
جرى السيل رأيته مخالطا زبده. وما بعد هذا قد سبق شرحه إلى قوله تعالى: * (ثم أرسلنا رسلنا تترى) *
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر: " تترى كلما " منونة والوقف بالألف. وقرأ نافع، وابن عامر،
وعاصم، وحمزة، والكسائي: بلا تنوين، والوقف عند نافع وابن عامر، بألف. وروى هبيرة،
وحفص عن عاصم، أنه يقف بالياء; قال أبو علي: يعني بقوله: يقف بالياء، أي: بألف ممالة. قال
الفراء: أكثر العرب على ترك التنوين، ومنهم من نون، قال ابن قتيبة: والمعنى: نتابع بفترة بين كل
رسولين، وهو من التواتر، والأصل: وترى، فقبلت الواو تاء كما قلبوها في التقوى والتخمة. وحكى
الزجاج عن الأصمعي أنه قال: معنى واترت الخبر: اتبعت بعضه بعضا، وبين الخبرين هنية. وقرأت
على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: ومما تضعه العامة غير موضعه قولهم: تواترت كتبي إليك،
يعنون: اتصلت من غير انقطاع، فيضعون التواتر في موضع الاتصال، وذلك غلط، إنما التواتر
مجئ الشئ ثم انقطاعة ثم مجيئه، وهو التفاعل من الوتر، وهو الفرد، يقال: واترت الخبر، أتبعت
بعضه بعضا، وبين الخبرين هنيهة قال الله تعالى: * (ثم أرسلنا رسلنا تترى) * أصلها " وترى " من
المواترة فأبدلت التاء من الواو، ومعناه: منقطعة متفاوتة، لأن بين كل نبيين دهرا طويلا، وقال أبو
هريرة: لا بأس بقضاء رمضان تترى، أي: منقطعا، فإذا قيل: واتر فلان كتبه، فالمعنى: تابعها،
وبين كل كتابين فترة.
قوله تعالى: * (فأتبعنا بعضهم بعضا) * أي: أهلكنا الأمم بعضهم في إثر بعض * (وجعلناهم
أحاديث) * قال أبو عبيدة: أي: يتمثل بهم في الشر، ولا يقال في الخير: جعلته حديثا.
323

ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين " 45 " إلى فرعون وملئه فاستكبروا
وكانوا قوما عالين " 46 " فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون " 47 " فكذبوهما
فكانوا من المهلكين " 48 "
قوله تعالى: * (فاستكبروا) * أي: عن الإيمان بالله وعبادته * (وكانوا قوما عالين) * أي: قاهرين
للناس بالبغي والتطاول عليهم.
قوله تعالى: * (وقومهما لنا عابدون) * أي: مطيعون. قال أبو عبيدة: كل من دان لملك فهو
عابد له.
ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون " 49 " وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما
إلى ربوة ذات قرار ومعين " 50 "
قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب) * يعني: التوراة، أعطيها جملة واحدة بعد غرق فرعون
* (لعلهم) * يعني: بني إسرائيل، والمعنى: لكي يهتدوا.
قوله تعالى: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) * وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: " آيتين " على
التثنية، وهذا كقوله: * (وجعلناها وابنها آية) * وقد سبق شرحه.
قوله تعالى: * (وآويناهما) * أي: جعلناهما يأويان * (إلى ربوة) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو،
وحمزة، والكسائي: " ربوة " بضم الراء، وقرأ عاصم، وابن عامر: بفتحها. وقد شرحنا معنى الربوة
في البقرة، * (ذات قرار) * أي: مستوية يستقر عليها ساكنوها، والمعنى: ذات موضع قرار. وقال
الزجاج: أي: ذات مستقر * (ومعين) * وهو الماء الجاري من العيون. وقال ابن قتيبة: " ذات قرار "
أي: يستقر بها للعمارة " ومعين " هو الماء الظاهر، ويقال: هو مفعول من العين، كأن أصله معيون،
كما يقال: ثوب مخيط، وبر مكيل.
واختلف المفسرون في موضع هذه الربوة الموصوفة على أربعة أقوال:
أحدها: أنها دمشق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عبد الله بن سلام، وسعيد بن
المسيب.
324

والثاني: أنها بيت المقدس، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وعن الحسن
كالقولين.
والثالث: أنها الرملة من أرض فلسطين، قاله أبو هريرة.
والرابع: مصر، قاله وهب بن منبه، وابن زيد، وابن السائب.
فأما السبب الذي لأجله أويا إلى الربوة، فقال أبو صالح عن ابن عباس: فرت مريم بابنها
عيسى من ملكهم، ثم رجعت إلى أهلها بعد اثنتي عشرة سنة. قال وهب بن منبه: وكان الملك أراد
قتل عيسى.
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم " 51 " وإن هذه أمتكم
أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " 52 " فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم
فرحون " 53 " فذرهم في غمرتهم حتى حين " 54 " أيحسبون أنما نمدهم به من مال
وبنين " 55 " نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " 56 "
قوله تعالى: * (يا أيها الرسل) * قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة في آخرين: يعني
بالرسل هاهنا محمدا صلى الله عليه وسلم وحده، وهو مذهب العرب في مخاطبة الواحد خطاب الجميع، ويتضمن
هذا أن الرسل جميعا كذا أمروا، وإلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة، والزجاج، والمراد بالطيبات:
الحلال. قال عمرو بن شرحبيل: كان عيسى عليه السلام يأكل من غزل أمه.
قوله تعالى: * (وأن هذه أمتكم) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: " وأن " بالفتح وتشديد
النون. وافق ابن عامر في فتح الألف، لكنه سكن النون. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " وإن "
بكسر الألف وتشديد النون. قال الفراء: من فتح، عطف على قوله: " إني بما تعملون عليم " وبأن
هذه أمتكم، فموضعها خفض لأنها مردودة على " ما "، وإن شئت كانت منصوبة بفعل مضمر، كأنك
قلت: واعلموا هذا; ومن كسر استأنف. قال أبو علي الفارسي: وأما ابن عامر، فإنه خفف النون
المشددة، وإذا خففت تعلق بها ما يتعلق بالمشددة. وقد شرحنا معنى الآية والتي بعدها في الأنبياء
إلى قوله: * (زبرا) * وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني: " زبرا " برفع الزاي وفتح الباء. وقرأ أبو
325

الجوزاء، وابن السميفع: " زبرا " برفع الزاي وإسكان الباء. قال الزجاج: من قرأ " زبرا " بضم
الباء، فتأويله: جعلوا دينهم كتبا مختلفة، جمع زبور. ومن قرأ " زبرا " بفتح الباء، أراد قطعا.
قوله تعالى: * (كل حزب بما لديهم فرحون) * أي: بما عندهم من الدين الذي ابتدعوه
معجبون، يرون أنهم على الحق.
وفي المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم أهل الكتاب، قاله مجاهد.
والثاني: أنهم أهل الكتاب ومشركو العرب، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: * (فذرهم في غمرتهم) * وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب: " في غمراتهم " على
الجمع. قال الزجاج: في عمايتهم وحيرتهم * (حتى حين) * أي: إلى حين يأتيهم ما وعدوا به من
العذاب. قال مقاتل: يعني كفار مكة.
فصل
وهل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ فيها قولان:
أحدهما: أنها منسوخة بآية السيف.
والثاني: أن معناها التهديد، فهي محكمة.
قوله تعالى: * (أيحسبون أنما نمدهم به) * وقرأ عكرمة، وأبو الجوزاء: " يمدهم " بالياء
المرفوعة وكسر الميم. وقرأ أبو عمران الجوني: " نمدهم " بنون مفتوحة ورفع الميم. قال الزجاج:
المعنى: أيحسبون أن الذي نمدهم به * (من مال وبنين) * مجازاة لهم؟! إنما هو استدراج، * (نسارع
لهم في الخيرات) * أي: نسارع لهم به في الخيرات. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وأيوب السختياني:
" يسارع " بياء مرفوعة وكسر الراء. وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكل مثله، إلا أنهما فتحا الراء وقرأ
أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: " يسرع " بياء مرفوعة وسكون السين
ونصب الراء من غير ألف.
قوله تعالى: * (بل لا يشعرون) * أي: لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم.
أن الذين هم من خشية ربهم مشفقون " 57 " والذين هم بآيات ربهم يؤمنون " 58 "
والذين هم بربهم لا يشركون " 59 " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم
راجعون " 60 " أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " 61 "
326

ثم ذكر المؤمنين فقال: * (إن الذين هم خشية ربهم مشفقون) * وقد شرحنا هذا المعنى في
قوله: * (وهم من خشيته مشفقون) *.
قوله تعالى: * (والذين يؤتون ما آتوا) * وقرأ عاصم الجحدري: " يأتون ما أتوا " بقصر همزة
" أتوا ". وسألت عائشة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن هذه الآية فقالت: يا رسول الله، أهم الذين يذنبون
وهم مشفقون؟ فقال: " لا، بل هم الذين يصلون وهم مشفقون، ويصومون وهم مشفقون،
ويتصدقون وهم مشفقون أن لا يتقبل منهم ". قال الزجاج: فمعنى: " يؤتون ": يعطون ما أعطوا
وهم يخافون أن لا يتقبل منهم، * (أنهم إلى ربهم راجعون) * أي: لأنهم يوقنون أنهم يرجعون.
ومعنى " يأتون ": يعملون الخيرات وقلوبهم خائفة أن يكونوا مع اجتهادهم مقصرين، * (أولئك
يسارعون في الخيرات) * وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: " يسرعون " برفع الياء وإسكان السين
وكسر الراء من غير ألف. قال الزجاج: يقال: أسرعت وسارعت في معنى واحد، إلا أن " سارعت "
أبلغ من " أسرعت "، * (وهم لها) * أي: من أجلها، وهذا كما تقول: أنا أكرم فلانا لك، أي: من
أجلك. وقال بعض أهل العلم: الوجل المذكور هاهنا واقع على مضمر.
ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم يظلمون " 62 "
في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون " 63 " حتى إذا أخذنا
مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون " 64 " لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون " 65 " قد كانت
آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون " 66 " مستكبرين به سامرا تهجرون " 67 "
قوله تعالى: * (ولدينا كتاب) * يعني: اللوح المحفوظ * (ينطق بالحق) * قد أثبت فيه أعمال
الخلق، فهو ينطق بما يعملون * (وهم لا يظلمون) * أي: لا ينقصون من ثواب أعمالهم. ثم عاد إلى
الكفار، فقال: * (بل قلوبهم في غمرة من هذا) * قال مقاتل: في غفلة عن الإيمان بالقرآن. وقال
ابن جرير: في عمى عن هذا القرآن. قال الزجاج: يجوز أن يكون إشارة إلى ما وصف من أعمال
البر في قوله: * (أولئك يسارعون في الخيرات) *، فيكون المعنى: بل قلوب هؤلاء في عماية من
هذا; ويجوز أن يكون إشارة إلى الكتاب، فيكون المعنى: بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي
ينطق بالحق وأعمالهم محصاة فيه.
فخرج في المشار إليه ب‍ " هذا " ثلاثة أقوال.
أحدها: القرآن.
327

والثاني: أعمال البر.
والثالث: اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: * (ولهم أعمال من دون ذلك) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: أعمال سيئة دون الشرك، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: خطايا من دون ذلك الحق، قاله مجاهد. وقال ابن جرير: من دون أعمال المؤمنين
وأهل التقوى والخشية.
والثالث: أعمال غير الأعمال التي ذكروا بها سيعملونها، قاله الزجاج.
والرابع: أعمال - من قبل الحين الذي قدر الله تعالى أنه يعذبهم عند مجيئه - من المعاصي،
قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: * (هم لها عاملون) * إخبار بما سيعملونه قد من أعمالهم الخبيثة التي كتبت عليهم
لا بد لهم من عملها.
قوله تعالى: * (حتى إذا أخذنا مترفيهم) * أي: أغنياءهم ورؤساءهم، والإشارة إلى قريش.
وفي المراد " بالعذاب " قولان:
أحدهما: ضرب السيوف يوم بدر، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك.
والثاني: الجوع الذي عذبوا به سبع سنين، قاله ابن السائب. و * (يجأرون) * بمعنى:
يصيحون. * (لا تجأروا اليوم) * أي: لا تستغيثوا من العذاب *) (إنكم منا لا تنصرون) * أي: لا
تمنعون من عذابنا. * (قد كانت آياتي تتلى عليكم) * يعني: القرآن * (فكنتم على أعقابكم
تنكصون) * أي: ترجعون وتتأخرون عن الإيمان بها، * (مستكبرين) * منصوب على الحال. وقوله:
* (به) * الكناية عن البيت الحرم، وهي كناية عن غير مذكور; والمعنى: إنكم تستكبرون وتفتخرون
بالبيت والحرام، لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم. تقولون: نحن أهل الحرم فلا
نخاف أحدا، ونحن أهل بيت الله وولاته، هذا مذهب ابن عباس وغيره. قال الزجاج: ويجوز أن
تكون الهاء في " به " للكتاب، فيكون المعنى: تحدث لكم تلاوته عليكم استكبارا.
قوله تعالى: * (سامرا) * قال أبو عبيدة: معناه: تهجرون سمارا، والسامر بمعنى السمار،
بمنزلة طفل في موضع أطفال، وهو من سمر الليل. وقال ابن قتيبة: " سامرا " أي: متحدثين ليلا،
والسمر: حديث الليل. وقرأ أبي بن كعب، وأبو العالية، وابن محيصن: " سمرا " بضم السين
وتشديد الميم وفتحها، جمع سامر. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري: " سمارا "
برفع السين وتشديد الميم وألف بعدها.
328

قوله تعالى: * (تهجرون) * قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة،
والكسائي: " تهجرون " بفتح التاء وضم الجيم. وفي معناها أربعة أقوال:
أحدها: تهجرون ذكر الله والحق، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: تهجرون كتاب الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن.
والثالث: تهجرون البيت، قاله أبو صالح. وقال سعيد بن جبير: كانت قريش تسمر حول
البيت، وتفتخر به ولا تطوف به.
والرابع: تقولون هجرا من القول، وهو اللغو والهذيان، قاله ابن قتيبة. قال الفراء: يقال: قد
هجر الرجل في منامه: إذا هذى، والمعنى: إنكم تقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه ومالا
يضره.
وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن محيصن، ونافع: " تهجرون " بضم التاء وكسر
الجيم. قال ابن قتيبة: وهذا من الهجر، وهو السب والإفحاش من المنطق، يريد سبهم للنبي صلى الله عليه وسلم
ومن اتبعه. وقرأ أبو العالية، وعكرمة، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: " تهجرون " بتشديد الجيم
ورفع التاء; قال ابن الأنباري: ومعناها معنى قراءة ابن عباس.
أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين " 68 " أم لم يعرفوا رسولهم فهم
له منكرون " 69 " أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون " 70 "
قوله تعالى: * (أفلم يدبروا القول) * يعني: القرآن، فيعرفوا ما فيه من الدلالات والعبر على
صدق رسولهم * (أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين) * المعنى: أليس قد أرسل الأنبياء إلى أممهم
كما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم؟! * (أم لم يعرفوا رسولهم) * هذا توبيخ لهم، لأنهم عرفوا نسبه وصدقه وأمانته
صغيرا وكبيرا ثم أعرضوا عنه. والجنة: الجنون، * (بل جاءهم بالحق) * يعني القرآن.
ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم
فهم عن ذكرهم معرضون " 71 " أم تسئلهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين " 72 "
329

وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم " 73 "
قوله تعالى: * (ولو اتبع الحق أهواءهم) * في المراد بالحق قولان:
أحدهما: أنه الله عز وجل، قاله مجاهد، وابن جريج، والسدي في آخرين.
والثاني: أنه القرآن، ذكره الفراء، والزجاج. فعلى القول الأول يكون المعنى: لو جعل الله
لنفسه شريكا كما يحبون. وعلى الثاني: لو نزل القرآن بما يحبون من جعل شريك لله * (لفسدت
السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم) * أي: بما فيه شرفهم وفخرهم، وهو القرآن * (فهم
عن ذكرهم معرضون) * أي: قد تولوا عما جاءهم من شرف الدنيا والآخرة. وقرأ ابن مسعود، وأبي
ابن كعب، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: " بل أتيناهم بذكراهم فهم عن ذكراهم معرضون " بألف فيهما.
* (أم تسألهم) * عما جئتهم به * (خرجا) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: " خرجا " بغير
ألف " فخراج بألف. وقرأ ابن عامر: " خرجا فخرج " بغير ألف في الحرفين. وقرأ حمزة،
والكسائي: " خراجا " بألف " فخراج " بألف في الحرفين. ومع " نخرجا ": أجرا ومالا، * (فخراج
ربك) * أي: فما يعطيك ربك من أجره وثوابه * (خير وهو خير الرازقين) * أي: أفضل من أعطى;
وهذا على سبيل التنبيه لهم أنه لم يسألهم أجرا، لا أنه قد سألهم. والناكب: فلا العادل; يقال: نكب عن
الطريق، أي: عدل عنه.
وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون " 74 " * ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم
من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون " 75 " ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " 76 "
حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون " 77 "
قوله تعالى: * (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر) * قال ابن عباس: الضر هاهنا: الجوع
الذي نزل بأهل مكة حين دعا عليهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال: " اللهم أعني على قريش بسنين
كسني يوسف "، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فشكا إليه الضر، وأنهم قد أكلوا القد
والعظام، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، وهو العذاب المذكور في قوله: * (ولقد أخذناهم
بالعذاب) *.
قوله تعالى: * (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يوم بدر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: أنه الجوع الذي أصابهم، قاله مقاتل.
330

والثالث: باب من عذاب جهنم في الآخرة، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: * (إذا هم فيه مبلسون) * وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو
نهيك، ومعاذ القارئ: " مبلسون " بفتح اللام. وقد شرحنا معنى المبلس في [سورة] الأنعام.
وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون " 78 " وهو الذي
ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون " 79 " وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل
والنهار أفلا تعقلون " 80 " بل قالوا مثل ما قال الأولون " 81 " قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما
أإنا لمبعوثون " 82 " لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين " 83 "
قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون " 84 " سيقولون الله قل أفلا تذكرون " 85 "
قوله تعالى: * (ذرأكم في الأرض) * أي: خلقكم من الأرض.
قوله تعالى: * (وله اختلاف الليل والنهار) * أي: هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان
في السواد والبياض * (أفلا تعقلون) * ما ترون من صنعه؟! وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: * (قل لمن
الأرض) * أي: قل لأهل مكة المكذبين بالبعث: لمن الأرض * (ومن فيها) * من الخلق * (إن كنتم
تعلمون) * بحالها، * (سيقولون لله) * قرأ أبو عمرو: " لله " بغير ألف هاهنا، وفي اللذين بعدها بألف.
وقرأ الباقون: " لله " في المواضع الثلاثة. وقراءة أبي عمرو على القياس. قال الزجاج: ومن قرأ:
" سيقولون الله " فهو جواب السؤال، ومن قرأ " لله " فجيد أيضا، لأنك إذا قلت; من صاحب هذه
الدار؟ فقيل: لزيد، جاز، لأن معنى " من صاحب هذه الدار؟ ": لمن هي وقال أبو علي
الفارسي: من قرأ " لله " في الموضعين الآخرين، فقد أجاب على المعنى دون ما يقتضيه اللفظ.
وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: " سيقولون الله " " الله " بألف فيهن كلهن. قال أبو
علي الأهوازي: وهو في مصاحف أهل البصرة بألف فيهن.
قوله تعالى: * (قل أفلا تذكرون) * فتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء، أقدر على
إحياء الأموات؟!
قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم " 86 " سيقولون لله قل أفلا تتقون " 87 "
331

قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون " 88 " سيقولون
لله قل فأنى تسحرون " 89 "
قوله تعالى: * (أفلا تتقون) * فيه قولان.
أحدهما: تتقون عبادة غيره.
والثاني: تخشون عذابه. فأما الملكوت، فقد شرحناه في [سورة] الأنعام.
قوله تعالى: * (وهو يجير ولا يجار عليه) * أي: يمنع من السوء من شاء، ولا يمنع منه من
أراده بسوء، يقال: أجرت فلانا: أي: حميته، وأجرت عليه: أي: حميت عنه.
قوله تعالى: * (فأنى تسحرون) * قال ابن قتيبة: أنى تخدعون وتصرفون عن هذا؟!.
بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون " 90 " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا
لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون " 91 " عالم
الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون " 92 "
قوله تعالى: * (بل أتيناهم بالحق) * أي: بالتوحيد والقرآن * (وإنهم لكاذبون) * فيما يضيفون
إلى الله من الولد والشريك; ثم نفاهما عنه بما بعد هذا إلى قوله: * (إذا لذهب كل إله بما خلق) *
أي: لا نفرد بخلقه ولم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره، ولمنع الإله الآخر عن الاستيلاء
على ما خلق * (ولعلا بعضهم على بعض) * أي: غلب بعضهم بعضا.
قوله تعالى: * (عالم الغيب) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم:
" عالم " بالخفض. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " عالم " بالرفع. قال
الأخفش: الجر أجود، ليكون الكلام من وجه واحد، والرفع، على أن يكون خبر ابتداء محذوف.
ويقويه أن الكلام الأول قد انقطع.
قل رب إما تريني ما يوعدون " 93 " رب فلا تجعلني في القوم الظالمين " 94 " وإنا على أن
نريك ما نعدهم لقادرون " 95 " إدفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون " 96 " وقل
332

رب أعوذ بك من همزات الشياطين " 97 " وأعوذ بك رب أن يحضرون " 98 "
قوله تعالى: * (إما تريني) * وقرأ أبو عمران الجوني، والضحاك: " ترئني " بالهمز بين الراء
والنون من غير ياء. والمعنى: إن أريتني ما يوعدون من القتل والعذاب، فاجعلني خارجا عنهم ولا
تهلكني بهلاكهم; فأراه الله تعالى ما وعدهم ببدر وغيرها، ونجاه ومن معه.
قوله تعالى: * (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: ادفع إساءة المسئ بالصفح، قاله الحسن.
والثاني: أدفع الفحش بالسلام، قاله عطاء، والضحاك.
والثالث: ادفع الشرك بالتوحيد، قاله ابن السائب.
والرابع: ادفع المنكر بالموعظة، حكاه الماوردي. وذكر بعض المفسرين أن هذا منسوخ بآية
السيف.
قوله تعالى: * (نحن أعلم بما يصفون) * أي: بما يقولون من الشرك والتكذيب; والمعنى: إنا
نجازيهم على ذلك. * (وقل رب أعوذ) * أي: ألجأ وأمتنع * (بك من همزات الشياطين) * قال ابن
قتيبة: هو نخسها وطعنها، ومنه قيل للغائب: همزة، كأنه يطعن وينخس إذا عاب. وقال ابن فارس:
الهمز كالعصر، يقال: همزت الشئ في كفي، ومنه الهمز في الكلام، لأنه كأنه يضغط الحرف،
وقال غيره: الهمز اللغة: الدفع، وهمزات الشياطين: دفعهم بالإغواء إلى المعاصي.
قوله تعالى: * (أن يحضرون) * أي: أن يشهدون; والمعنى: أن يصيبوني بسوء، لأن
الشيطان لا يحضر ابن آدم إلا بسوء. ثم أخبر أن هؤلاء الكفار المنكرين للبعث يسألون الرجعة إلى
الدنيا عند الموت بالآية التي تلي هذه، وقيل: هذا السؤال منهم للملائكة الذين يقبضون أرواحهم.
فإن قيل: كيف قال: " ارجعون " وهو يريد: " ارجعني "؟
فالجواب: أن هذا اللفظ تعرفه العرب للعظيم الشأن، وذلك أنه يخبل عن نفسه فيه بما تخبر به
الجماعة، كقوله: * (إنا نحن نحيي ونميت) *، فجاء خطابه كإخباره عن نفسه، هذا قول الزجاج.
حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون " 99 " لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا
333

إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " 100 " فإذا نفخ في الصور فلا
أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " 101 " فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون " 102 "
ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون " 103 " تلفح وجوههم
النار وهم فيها كالحون " 104 "
قوله تعالى: * (لعلي أعمل صالحا فيما تركت) * قال ابن عباس: فيما مضى من عمري;
وقال مقاتل: فيما تركت من العمل الصالح.
قوله تعالى: * (كلا) * أي: لا يرجع إلى الدنيا * (إنها) * يعني: مسألته الرجعة * (كلمة هو
قائلها) * أي: هو كلام لا فائدة له فيه * (ومن ورائهم) * أي: أمامهم وبين أيديهم * (برزخ) * قال ابن
قتيبة: البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة، وكل شئ بين شيئين فهو برزخ. وقال الزجاج: البرزخ في
اللغة: الحاجز، وهو هاهنا: ما بين موت الميت وبعثه.
قوله تعالى: * (فإذا نفخ في الصور) * في هذه النفخة قولان:
أحدهما: أنها النفخة الأولى، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أنها الثانية، رواه عطاء عن ابن عباس.
قوله تعالى: * (فلا أنساب بينهم) * في الكلام محذوف، تقديره: لا أنساب بينهم يومئذ
يتفاخرون بها أو يتقاطعون بها، لأن الأنساب لا تنقطع يومئذ، إنما يرفع التواصل والتفاخر بها.
وفي قوله: * (ولا يتساءلون) * ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يتساءلون بالأنساب أن يترك بعضهم لبعض حقه.
والثاني: لا يسأل بعضهم بعضا عن شأنه، لاشتغال كل واحد بنفسه.
والثالث: لا يسأل بعضهم بعضا من أي قبيل أنت، كما تفعل العرب لتعرف النسب فتعرف
قدر الرجل. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله: * (تلفح وجوههم النار) * قال
الزجاج: تلفح وتنفح بمعنى واحد، ة إلا أن اللفح أعظم تأثيرا، والكالح: الذي قد تشمرت شفته عن
أسنانه، نحو ما ترى من رؤوس الغنم إذا برزت الأسنان وتشمرت الشفاه. وقال ابن مسعود: قد
بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم كالرأس المشيط بالنار. وروى أبو عبد الله الحاكم في " صحيحه "
من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: " تشويه النار فتقلص شفته
العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته ".
334

ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون " 105 " قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا
قوما ضالين " 106 " ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " 107 " قال اخسئوا فيها ولا
تكلمون " 108 " إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا حتى وأنت خير
الراحمين " 109 " فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون " 110 " إني جزيتهم اليوم
بما صبروا أنهم هم الفائزون " 111 "
قوله تعالى: * (ألم تكن) * المعنى: ويقال لهم: ألم تكن * (آياتي تتلى عليكم) * يعني:
القرآن. * (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا) * قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
" شقوتنا " بكسر الشين من غير ألف، وقرأ عمرو بن العاص، وأبو رزين العقيلي، وأبو رجاء
العطاردي كذلك، إلا أنه بفتح الشين. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي،
والحسن، والأعمش، وحمزة، والكسائي: " شقاوتنا " بألف مع فتح الشين والقاف; وعن الحسن،
وقتادة كذلك، إلا أن الشين مكسورة. قال المفسرون: أقر القوم بأن ما كتب عليهم من الشقاء
منعهم الهدى.
قوله تعالى: * (ربنا أخرجنا منها) * أي: من النار. قال ابن عباس: طلبوا الرجوع إلى الدنيا
* (فإن عدنا) * أي: إلى الكفر والمعاصي.
قوله تعالى: * (اخسؤوا) * قال الزجاج: تباعدوا تباعد سخط، يقال: خسأت الكلب اخسؤه:
إذا زجرته ليتباعد.
قوله تعالى: * (ولا تكلمون) * أي: في رفع العذاب عنكم. قال عبد الله بن عمرو: إن أهل
جهنم يدعون مالكا أربعين عاما، فلا يجيبهم، ثم يقول: * (إنكم ماكثون) *، ثم ينادون ربهم
* (ربنا أخرجنا منها) * فيدعهم مثل عمر الدنيا، ثم يقول: * (إنكم ماكثون) * ثم ينادون ربهم * (ربنا
أخرجنا منها) * فيدعهم مثل عمر الدنيا، ثم يرد عليهم * (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) * فما ينبس القوم
بعد ذلك بكلمة إن كان، إلا الزفير والشهيق.
ثم بين الذي لأجله أخسأهم بقوله: * (إنه) * وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني، وعاصم
الجحدري: " أنه " بفتح الهمزة * (كان فريق من عبادي) * قال ابن عباس: يريد المهاجرين.
335

قوله تعالى: * (فاتخذتموهم) * قال الزجاج: الأجود إدغام الذال في التاء لقرب المخرجين،
وإن شئت أظهرت، لأن الذال من كلمة والتاء من كلمة، وبين الذال والتاء في المخرج شئ من
التباعد.
قوله تعالى: * (سخريا) * قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو حاتم عن يعقوب: " سخريا "
بضم السين هاهنا وفي [سورة ص]، تابعهم المفضل في (ص). وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو،
وعاصم، وابن عامر: بكسر السين في السورتين. ولم يختلف فضم السين في الحرف الذي في
(الزخرف). واختار الفراء الضم، والزجاج الكسر. وهل هما بمعنى؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما لغتان ومعناهما واحد، قاله الخليل، وسيبويه، ومثله قول العرب، بحر لجي
ولجي، وكوكب دري ودري.
والثاني: أن الكسر بمعنى الهمز، والضم بمعنى والاستعباد، قاله أبو عبيدة، وحكاه
الفراء، وهو مروي عن الحسن، وقتادة.
قال أبو علي: قراءة من كسر أرجح من قراءة من ضم، لأنه من الهمز، والأكثر في الهمز كسر
السين. قال مقاتل: كان رؤوس كفار قريش كأبي جهل وعقبة والوليد قد اتخذوا فقراء أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم كعمار وبلال وخباب وصهيب سخريا يستهزئون بهم ويضحكون منهم.
قوله تعالى: * (حتى أنسوكم ذكري) * أي: أنساكم الاشتغال بالاستهزاء بهم ذكري، فنسب
الفعل إلى المؤمنين وإن لم يفعلوه، لأنهم كانوا السبب في وجوده، كقوله: * (إنهن أضللن كثيرا من
الناس) *.
قوله تعالى: * (إني جزيتهم اليوم بما صبروا) * أي: على أذاكم واستهزائكم * (أنهم) * قرأ ابن
كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: " أنهم " بفتح الألف. وقرأ حمزة، والكسائي:
" إنهم " بكسرها. فمن فتح " أنهم " فالمعنى: جزيتهم بصبرهم الفوز، ومن كسر " إنهم " استأنف.
قل كم لبثتم في الأرض عدد سنين " 112 " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين " 113 " قال
إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون " 114 " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا
336

ترجعون " 115 " فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم " 116 " ومن يدع مع
الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون " 117 "
وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " 118 "
قوله تعالى: * (قال كم لبثتم) * قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: " قال كم لبثتم "
وهذا سؤال الله تعالى للكافرين. وفي وقته قولان:
أحدهما: أنه يسألهم يوم البعث.
والثاني: بعد حصولهم في النار.
وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: " قل كم لبثتم " وفيها قولان:
أحدهما: أنه خطاب لكل واحد منهم، والمعنى: قل يا أيها الكافر.
والثاني: أن المعنى: قولوا، فأخرجه مخرج الأمر للواحد، والمراد الجماعة، لأن المعنى
مفهوم. وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي يدغمون ثاء " لبثتم "، والباقون لا يدغمونها; فمن أدغم،
فلتقارب مخرج الثاء والتاء، ومن لم يدغم، فلتباين المخرجين.
وفي المراد بالأرض قولان:
أحدهما: أنها القبور.
والثاني: الدنيا. فاحتقر القوم ما لبثوا لما عاينوا من الأهوال والعذاب فقالوا: * (لبثنا يوما أو
بعض يوم) * قال الفراء: والمعنى: لا ندري كم لبثنا.
وفي المراد بالعادين قولان:
أحدهما: الملائكة، قاله مجاهد.
والثاني: الحساب، قاله قتادة. وقرأ الحسن، والزهري، وأبو عمران الجوني، وابن يعمر:
" العادين " بتخفيف الدال.
قوله تعالى: * (قال إن لبثتم) * قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: " قال
إن لبثتم ". وقرأ حمزة، والكسائي: " قل إن لبثتم " على معنى: قل أيها السائل عن لبثهم. وزعموا
أن في مصحف أهل الكوفة " قل " فالموضعين، فقرأهما حمزة، والكسائي على ما في
مصاحفهم، أي: ما لبثتم في الأرض * (إلا قليلا) * لأن مكثهم في الأرض وإن طال، فإنه متناه
ومكثهم في النار لا يتناهى.
337

وفي قوله: * (لو أنكم كنتم تعلمون) * قولان:
أحدهما: لو علمتم قدر لبثكم في الأرض.
والثاني: لم علمتم أنكم إلى الله ترجعون، فعملتم لذلك.
قوله تعالى: * (أفحسبتم) * أي: أفظننتم * (أنما خلقناكم عبثا) * أي: العبث; والبعث في
اللغة: اللعب، وقيل: هو الفعل لا لغرض صحيح، * (وأنكم إلينا لا ترجعون) * قرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، وعاصم: " لا ترجعون " بضم التاء. وقرأ حمزة، والكسائي بفتحها. * (فتعالى الله) * عما
يصفه به الجاهلون من الشرك والولد، * (الملك) * قال الخطابي: هو التام الملك الجامع فيه لأصناف
المملوكات. وأما المالك: فهو الخالص الملك. وقد ذكرنا معنى " الحق " في [سورة] يونس.
قوله تعالى: * (رب العرش الكريم) * والكريم في صفة الجماد بمعنى: الحسن. وقرأ ابن
محيصن: " الكريم " برفع الميم، يعني الله عز وجل.
قوله تعالى: * (لا برهان له به) * أي: لا حجة له به ولا دليل; وقال بعضهم: معناه: فلا برهان
له به.
قوله تعالى: * (فإنما حسابه عند ربه) * أي: جزاؤه عند ربه.
338

(24) سورة النور مدنية
وآياتها أربع وستون
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " 1 " الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله
واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " 2 " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة
والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " 3 "
وهي مدينة كلها بإجماعهم
روى أبو عبد الله الحاكم في " صحيحه " من حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا
تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغزل وسورة النور "، يعني: النساء.
339

قوله تعالى: * (سورة) * قرأ الجمهور بالرفع. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة، ومحبوب
عن أبي عمرو: " سورة " بالنصب. قال أبو عبيدة: من رفع، فعلى الابتداء. وقال الزجاج: هذا
قبيح، لأنها نكرة، و * (أنزلناها) * صفة لها، وإنما الرفع على إضمار: هذه سورة، والنصب على
وجهين: أحدهما على معنى: أنزلنا سورة [والثاني] على معنى: أتل سورة.
قوله تعالى: * (وفرضناها) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالتشديد. وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد
الرحمن السلمي، والحسن، وعكرمة، والضحاك، والزهري، ونافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة،
والكسائي، وأبو جعفر، وابن يعمر، والأعمش، وابن أبي عبلة بالتخفيف. قال الزجاج: من قرأ
بالتشديد، فعلى وجهين:
أحدهما: على معنى التكثير، أي: إننا فرضنا فيها فروضا.
والثاني: على معنى: بينا وفصلنا ما فيها من الحلال والحرام; ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه:
ألزمناكم العمل بما فرض فيها. وقال غيره: من شدد، أراد: فصلنا فرائضها، ومن خفف، فمعناه:
فرضنا ما فيها.
قوله تعالى: * (الزانية والزاني) * القراءة المشهورة بالرفع. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو
الجوزا، وابن أبي عبلة، وعيسى بن عمر: " الزانية " بالنصب. واختار الخليل وسيبويه والرفع
اختيار الأكثرين. قال الزجاج: والرفع أقوى في العربية، لأن معناه: من زنى فاجلدوه، فتأويله
الابتداء، ويجوز النصب على معنى: اجلدوا الزانية. فأما الجلد، فهو ضرب الجلد، يقال: جلده:
إذا ضرب جلده، كما يقال: بطنه إذا ضرب بطنه.
قال المفسرون: ومعنى الآية: الزانية والزاني إذا كانا حرين بالغين بكرين، * (فاجلدوا كل
واحد منهما مائة جلدة) *.
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية تقتضي وجوب الجلد على البكر والثيب. وقد روي
عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في حق البكر زيادة على الجلد بتغريب عام، وفي حق الثيب زيادة على الجلد
بالرجم بالحجارة. فروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " البكر بالبكر جلد مائة
وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ". وممن قال بوجوب النفي في حق البكر
340

أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وممن بعدهم عطاء، وطاوس، وسفيان، ومالك،
وابن أبي ليلى، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وممن قال بالجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب
علي بن أبي طالب، والحسن البصري، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق. قال: وذهب قوم
من العلماء إلى أن المراد بالجلد المذكور في هذه الآية: البكر، فأما الثيب، فلا يجب عليه الجلد،
وإنما يجب الرجم، روي عن عمر، وبه قال النخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة
ومالك، وروي عن أحمد رواية مثل قول هؤلاء.
قوله تعالى: * (ولا تأخذكم) * وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رزين، والضحاك، وابن
يعمر، والأعمش: " يأخذكم " بالياء * (بهما رأفة) * قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم،
وحمزة، والكسائي: " رأفة " بإسكان الهمزة. وقرأ أبو المتوكل، ومجاهد، وأبو عمران الجوني، وابن
كثير: بفتح الهمزة وقصرها على وزن رعفة. وقرأ سعيد بن جبير، والضحاك، وأبو رجاء العطاردي:
" رآفة " مثل سآمة وكآبة، وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: لا تأخذكم بهما رأفة، فتخففوا الضرب، ولكن أوجعوهما، قاله سعيد بن المسيب،
والحسن، والزهري، وقتادة.
والثاني: لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها، قاله مجاهد، والشعبي، وابن زيد
في آخرين.
فصل
واختلف العلماء في شدة الضرب في الحدود، فقال الحسن البصري: ضرب الزنا أشد من
القذف، والقذف أشد من الشرب، ويضرب الشارب أشد من ضرب التعزير، وعلى هذا مذهب
أصحابنا، وقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب، وضرب الزني أشد من ضرب الشارب، وضرب
الشارب أشد من ضرب القذف. وقال مالك: الضرب في الحدود كلها سواء غير مبرح.
فصل
فأما ما يضرب من الأعضاء، فنقل الميموني عن أحمد في جلد الزاني، قال: يجرد، ويعطى
كل عضو حقه، ولا يضرب وجهه ولا رأسه. ونقل يعقوب ابن بختان: لا يضرب الرأس ولا الوجه
ولا المذاكير، وهو قول أبي حنيفة وقال مالك: لا يضرب إلا في الظهر. وقال الشافعي: يتقى
الفرج والوجه.
قوله تعالى: * (في دين الله) * فيه قولان:
أحدهما: في حكمه، قاله ابن عباس.
341

والثاني: في طاعة الله، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: * (وليشهد عذابهما) * قال الزجاج: القراءة بإسكان اللام، ويجوز كسرها، والمراد
بعذابهما ضربهما، المراد بالطائفة هاهنا خمسة أقوال:
أحدها: الرجل فما فوقه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. وقال
النخعي: الواحد طائفة.
والثاني: الاثنان فصاعدا، قاله سعيد بن جبير، وعطاء; وعن عكرمة كالقولين. قال الزجاج:
والقول الأول على غير ما عند أهل اللغة، لأن الطائفة في معنى جماعة، وأقل الجماعة اثنان.
والثالث: ثلاثة فصاعدا، قاله الزهري.
والرابع: أربعة، قاله ابن زيد.
والخامس: عشرة، قاله الحسن البصري.
قوله تعالى: * (الراني لا ينكح إلا زانية) * قال عبد الله بن عمرو: كانت امرأة تسافح، وتشترط
للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها، فذكر ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]،
فنزلت هذه الآية. وقال عكرمة: نزلت في بغايا، كن بمكة، ومنهن تسع صواحب رايات، وكانت
بيوتهن تسمى في الجاهلية: المواخير، ولا يدخل عليهن إلا زان من أهل القبلة، أو مشرك من أهل
الأوثان، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن، فنزلت هذه الآية. قال المفسرون: ومعنى الآية: الزاني
من المسلمين لا يتزوج من أولئك البغايا إلا زانية * (أو مشركة) * لأنهن كذلك كن * (والزانية) * منهن
* (لا ينكحها إلا زان أو مشرك) *، ومذهب أصحابنا أنه إذا زنى بامرأة، لم يجز له أن يتزوجها إلا بعد
التوبة منهما.
قوله تعالى: * (وحرم ذلك) * وقرأ أبي بن كعب، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: " وحرم الله ذلك "
بزيادة اسم الله [تعالى] مع فتح حروف " حرم ". وقرأ زيد بن علي: " وحرم ذلك " بفتح الحاء
وضم الراء مخففة. ثم فيه قولان:
أحدهما: أنه نكاح الزواني، قاله مقاتل.
والثاني: الزنا، قاله الفراء.
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا
لهم شهادة أبد وأولئك هم الفاسقون " 4 " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا
342

فإن الله غفور رحيم " 5 "
قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) * شرائط الإحصان عندنا أربعة: البلوغ، والحرية،
والعقل، والوطء في نكاح صحيح. فأما الإسلام، فليس بشرط في الإحصان، خلافا لأبي حنيفة،
ومالك ومعنى الآية: يرمون المحصنات بالزنا، فاكتفى بذكره المتقدم عن إعادته * (ثم لم يأتوا) *
على ما رموهن به * (بأربعة شهداء) * عدول يشهدون أنهم رأوهن يفعلن ذلك * (فاجلدوهم) * يعني
القاذفين.
فصل
وقد أفادت هذه الآية أن على القاذف إذا لم يقم البينة الحد ورد الشهادة وثبوت الفسق،
واختلفوا هل يحكم بفسقه ورد شهادته بنفس القذف، أم بالحد؟ فعلى قول أصحابنا: إنه يحكم
بفسقه ورد شهادته إذا لم يقم البينة، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يحكم بفسقه،
وتقبل شهادته ما لم يقم الحد عليه.
فصل
والتعريض بالقذف - كقوله لمن يخاصمه: ما أنت بزان، ولا أمك زانية - يوجب الحد في
المشهور من مذهبنا. وقال أبو حنيفة: لا يوجب الحد. وحد العبد في القذف نصف حد الحر، وهو
أربعون، قاله الجماعة، إلا الأوزاعي فإنه قال: ثمانون. فأما قاذف المجنون، فقال الجماعة: لا
يحد. وقال الليث: يحد. فأما الصبي، فإن كان مثله يجامع أو كانت صبية مثلها يجامع، فعلى
القاذف الحد. وقال مالك: يحد قاذف الصبية التي يجامع مثلها، ولا يحد قذف الصبي. وقال أبو
حنيفة، والشافعي: لا يحد قاذفهما. فإن قذف رجل جماعة بكلمة واحدة، فعليه حد واحد، وإن
أفرد كل واحد بكلمة، فعليه لكل واحد حد، وهو قول الشعبي، وابن أبي ليلى; وقال أبو حنيفة
وأصحابه: عليه حد واحد، سواء قذفهم بكلمة أو بكلمات.
فصل
وحد القذف حق لآدمي، يصح ان يبرئ منه، ويعفو عنه، وقال أبو حنيفة: هو حق الله [عز
وجل] وعندنا أنه لا يستوفي إلا بمطالبة المقذوف، وهو قول الأكثرين. وقال ابن أبي ليلى: يحده
الإمام وإن لم يطالب المقذوف.
قوله تعالى: * (إلا الذين تابوا) * أي: من القذف * (وأصلحوا) * قال ابن عباس: أظهروا التوبة;
وقال غيره: لم يعودوا إلى قذف المحصنات، وفي هذا الاستثناء قولان:
343

أحدهما: أنه نسخ [حد] القذف وإسقاط الشهادة معا، وهذا قول عكرمة، والشعبي،
وطاووس، ومجاهد، والقاسم بن محمد، والزهري، والشافعي، وأحمد.
والثاني: أنه يعود إلى الفسق فقط، وأما الشهادة، فلا تقبل أبدا، قاله الحسن، وشريح،
وإبراهيم، وقتادة. فعلى هذا القول انقطع الكلام عند قوله: " أبدا "; وعلى القول الأول وقع
الاستثناء على جميع الكلام، وهذا أصح، لأن المتكلم بالفاحشة لا يكون أعظم جرما من راكبها، فإذا
قبلت شهادة المقذوف بعد ثبوته، فالرامي أيسر جرما، وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فإنه إذا
أسلم قبلت شهادته.
والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع
شهادات بالله إنه لمن الصادقين " 6 " والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين " 7 "
ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين " 8 " والخامسة أن
غضب الله عليها إن كان من الصادقين " 9 " ولولا فضل الله عليكم ورحمته
وأن الله تواب حكيم " 10 "
قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم) * سبب نزولها أن هلال بن أمية وجد عند أهله رجلا،
فرأى بعينه وسمع بأذنه، فلم يهجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقال: يا رسول الله:
إني جئت أهلي، فوجدت عندها رجلا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما جاء
به، واشتد عليه، فقال سعد بن عبادة: الآن يضرب رسول الله هلالا ويبطل شهادته، فقال هلال:
والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، فوالله إن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يريد أن يأمر بضربه
نزل عليه الوحي، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. وفي حديث آخر أن الرجل الذي
قذفها به شريك بن سحماء، وأن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال لهلال حين قذفها: " ائتني بأربعة شهداء،
وإلا فحد في ظهرك "، فنزلت هذه الآية، فنسخ حكم الجلد في حق الزوج القاذف.
344

فصل
في بيان حكم الآية
إذا قذف الرجل زوجته بالزنا، لزمه الحد، وله التخلص منه بإقامة البينة، أو باللعان فإن أقام
البينة لزمها الحد، وإن لاعنها، فقد حقق عليها الزنا، ولها التخلص منه باللعان فإن نكل الزوج
عن اللعان، فعليه حد القذف، وإن نكلت الزوجة، لم تحد، وحبست حتى تلاعن أو نقر بالزنا في
إحدى الروايتين، وفي الأخرى: يخلى سبيلها، وقال أبو حنيفة: لا يحد واحد منهما، ويحبس حتى
يلاعن. وقال مالك، والشافعي: يجب الحد على الناكل منهما.
فصل
ولا تصح الملاعنة إلا بحضرة الحاكم. فإن كانت المرأة خفرة، بعث الحاكم من يلاعن
بينهما. وصفة اللعان أن يبدأ الزوج فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا،
أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تقول الزوجة أربع
مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا، ثم نقول: وغضب الله عليها إن كان من
الصادقين. والسنة أن يتلاعنا قياما، ويقال للزوج إذا بلغ اللعنة: اتق الله فإنها الموجبة، وعذاب
الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكذلك يقال للزوجة إذا بلغت إلى الغضب. فإن كان بينهما ولد،
افتقر نفيه عن الأب إلى ذكره في اللعان، فيزيد في الشهادة: وما هذا الولد ولدي، وتزيد هي: وإن
هذا الولد ولده.
فصل
واختلف الفقهاء في الزوجين اللذين يجري بينهما اللعان، فالمشهور عن أحمد أن كل زوج
صح قذفه صح لعانه، فيدخل تحت هذا المسلم والكافر والحر والعبد، وكذلك المرأة، وهذا قول
مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجوز اللعان بين الحر والأمة، ولا بين العبد والحرة، ولا بين
الذميين، أو إذا كان أحدهما ذميا; ونقل حرب عن أحمد نحو هذا، والمذهب هو الأول. ولا
تختلف الرواية عن أحمد أن فرقة اللعان لا تقع بلعان الزوج وحده واختلف هل تقع بلعانهما من
غير فرقة الحاكم على روايتين. وتحريم اللعان مؤبد، فإن أكذب الملاعن نفسه لم تحل له زوجته
أيضا، وبه قال عمر، وعلي، وابن مسعود، وعن أحمد روايتان، أصحهما: هذا، والثانية: يجتمعان
بعد التكذيب، وهو قول أبي حنيفة.
قوله تعالى: * (يكن لهم شهداء) * وقرأ أبو حنيفة و أبو المتوكل. وابن يعمر، والنخعي:
" تكن " بالتاء.
345

قوله تعالى: * (فشهادة أحدهم أربع شهادات) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر،
وأبو بكر عن عاصم: " أربع " بفتح العين. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: برفع
العين. قال الزجاج: من رفع " أربع " فالمعنى: فشهادة أحدهم التي تدر حد القذف أربع; ومن
نصب، فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع.
قوله تعالى: * (والخامسة) * قرأ حفص عن عاصم: " والخامسة " نصبا، حملا على نصب
" أربع شهادات ".
قوله تعالى: * (لعنة الله عليه) * قرأ نافع، ويعقوب، والمفضل: " أن لعنة الله " و " أن
غضب الله " بتخفيف النون فيهما وسكونهما ورفع الهاء من " لعنة " والباء من " غضب "، إلا أن
نافعا كسر الضاد من " غضب " وفتح الباء.
قوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) * أي: ستره ونعمته. قال الزجاج: وجواب
" لولا " هاهنا عذاب عظيم، وقال غيره: لولا فضل الله لبين الكاذب من الزوجين فأقيم عليه الحد،
* (وأن الله تواب) * يعود على من رجع عن المعاصي بالرحمة * (حكيم) * فيما فرض من الحدود.
إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ
منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " 11 " لولا إذ سمعتموه ظن
المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين " 12 " لولا جاؤوا عليه بأربعة
شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " 13 " ولولا فضل الله
عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم " 14 " إذ تلقونه
بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " 15 "
ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " 16 " يعظكم
346

الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين " 17 " ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله
يعلم وأنتم لا تعلمون " 19 " ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم " 20 "
قوله تعالى: * (إن الذين جاؤوا بالإفك) * أجمع المفسرون; أن هذه الآية وما يتعلق بها بعدها
نزلت في قصة عائشة رضي الله عنهما، وفي حديث الإفك أن هذه الآية إلى عشر آيات نزلت في قصة
عائشة. وقد ذكرنا حديث الإفك في كتاب " الحدائق " وفي كتاب " المغني في التفسير " فلم نطل
بذكره، لأن غرضنا اختصار هذا الكتاب ليحفظ. فأما الإفك، فهو الكذب، والعصبة: الجماعة:
ومعنى قوله تعالى: * (منكم) * أي: من المؤمنين. وروى عروة عن عائشة أنها قالت: هم أربعة:
حسان بن ثابت، وعبد الله بن أبي، ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، وكذلك عدهم
مقاتل.
قوله تعالى: * (لا تحسبوه شرا لكم) * قال المفسرون: هذا خطاب لعائشة وصفوان بن
المعطل، وقيل: لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأبي بكر وعائشة; والمعنى: إنكم تؤجرون فيه، * (لكل امرئ
منهم) * يعني: من العصبة الكاذبة * (ما اكتسب من الإثم) * أي: جزاء ما اجترح من الذنب على قدر
خوضه فيه، * (والذي تولى كبره) * وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، ومجاهد وابن أبي عبلة،
والحسن، ومحبوب عن أبي عمرو، ويعقوب: " كبره " بضم الكاف. قال الكسائي: وهما لغتان.
وقال ابن قتيبة: كبر الشئ: معظمه، ومنه هذه الآية. قال قيس بن الخطيم يذكر امرأة:
- تنام عن كبر شأنها فإذ * قامت رويدا تكاد تنعرف -
وفي المتولي لذلك قولان:
أحدهما: أنه عبد الله بن أبي، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وعروة عن عائشة، وبه قال
مجاهد، والسدي، ومقاتل. قال المفسرون: هو الذي أشاع الحديث، فله عذاب عظيم بالنار. وقال
347

الضحاك: هو الذي بدأ بذلك.
والثاني: أنه حسان; روى الشعبي أن عائشة قالت: ما سمعت أحسن من شعر حسان، وما
تمثلت به إلا رجوت له الجنة; فقيل: يا أم المؤمنين، أليس الله يقول: * (والذي تولى كبره منهم له
عذاب عظيم) *، فقالت: أليس قد ذهب بصره؟ وروى عنها مسروق أنها قالت: وأي عذاب أشد من
العمى، ولعل الله يجعل ذلك العذاب العظيم، ذهاب بصره، تعني: حسان بن ثابت.
ثم إن الله عز وجل أنكر على الخائضين في الإفك بقوله تعالى: * (لولا إذ سمعتموه) * أي:
هلا إذ سمعتم أيتها العصبة الكاذبة قذف عائشة * (ظن المؤمنون) * من العصبة الكاذبة، وهم حسان
ومسطح * (والمؤمنات) * وهي: حمنة بنت جحش * (بأنفسهم) * وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: بأمهاتهم.
والثاني: بأخواتهم.
والثالث: بأهل دينهم، لأن المؤمنين كنفس واحدة، * (وقالوا هذا إفك مبين) * أي: كذب بين.
وجاء في التفسير أن أبا أيوب الأنصاري قالت له أمه: ألا تسمع ما يقول الناس في أمر عائشة؟!
فقال: هذا إفك مبين، أكنت يا أماه فاعلته؟ فقالت: معاذ الله، قال: فعائشة والله خير منك; فنزلت
هذه الآية.
قوله تعالى: * (جاؤوا) * أي: هلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة * (بأربعة
شهداء) * وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: " بأربعة " منونة; والمعنى: يشهدون بأنهم عاينوا ما
رموها به * (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله) * أي: في حكمه * (هم الكاذبون) *. ثم ذكر القاذفين
فقال: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) * أي: لولا ما من به عليكم، * (لمسكم) * أي: لأصابكم
* (فيما أفضتم) * أي: أخذتم وخضتم * (فيه) * من الكذب والقذف * (عذاب عظيم) * في الدنيا
والآخرة. ثم ذكر الوقت الذي لولا فضله لأصابهم فيه العذاب فقال: * (إذ تلقونه) * وكان الرجل منهم
يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا، فيتلقاه بعضهم من بعض. وقرأ عمر بن الخطاب: " إذ تلقونه " بتاء
واحدة خفيفة مرفوعة وإسكان اللام وقاف منقوطة بنقطتين مرفوعة خفيفة; وقرأ معاوية، وابن السميفع
مثله، إلا أنهما فتحا التاء والقاف. وقرأ ابن مسعود: " تتلقونه " بتاءين مفتوحتين مع نصب اللام
وتشديد القاف. وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، ومجاهد، وأبو حيوة: " تلقونه " بتاء واحدة خفيفة
مفتوحة وكسر اللام ورفع القاف. وقال الزجاج: " تلقونه ": يلقيه بعضكم إلى بعض وتلقونه; ومعناه:
إذ تسرعون بالكذب، يقال: قد ولق يلق: إذا أسرع في الكذب وغيره، قال الشاعر:
جاءت به عنس من الشام تلق
348

أي: تسرع. وقال ابن قتيبة: " تلقونه " أي: تقبلونه، ومن قرأ: " تلقونه " أخذه من الولق، وهو
الكذب.
قوله تعالى: * (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) * أي: من غير أن تعلموا أنه حق
* (وتحسبونه) * يعني: ذلك القذف * (هينا) * أي: سهلا لا إثم فيه * (وهو عند الله عظيم) * في الوزر.
ثم زاد عليهم في الإنكار وقال: * (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا) * أي: ما يحل وما ينبغي لنا
* (أن نتكلم بهذا سبحانك) * وهو يحتمل التنزيه والتعجب. وروت عائشة أن امرأة أبي أيوب
الأنصاري قالت له: ألم تسمع ما يتحدث الناس؟! فقال " ما يكون لنا أن نتكلم بهذا.. " الآية،
فنزلت الآية، وقد روينا آنفا أن أمه ذكرت له ذلك، فنزلت الآية المتقدمة، وروي عن سعيد بن جبير
أن سعد بن معاذ لما سمع ذلك قال: سبحانك هذا بهتان عظيم، فقيل للناس: هلا قلتم كما قال
سعد؟!
قوله تعالى: * (الله) * أي: ينهاكم الله * (أن تعودوا لمثله) * أي: إلى مثله * (إن كنتم
مؤمنين) * لأن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة. * (ويبين الله لكم الآيات) * في الأمر والنهى.
ثم هدد القاذفين بقوله تعالى: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) * أي: يحبون أن يفشو
القذف بالفاحشة، وهو الزنا * (في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا) * يعني: الجلد * (والآخرة) *
عذاب النار. وروت عمرة عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على المنبر،
فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة، فضربوا حدهم. وروى أبو صالح عن ابن
عباس أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] جلد عبد الله بن أبي، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة، فأما
الثلاثة فتابوا، وأما عبد الله فمات منافقا; وبعض العلماء ينكر صحة هذا، ويقول: لم يضرب
أحدا.
قوله تعالى: * (والله يعلم) * شر ما خضتم فيه وما يتضمن من سخط الله * (وأنتم لا تعلمون) *
ذلك، * (ولولا فضل الله عليكم) * جوابه محذوف، تقديره: لعاقبكم فيما قلتم لعائشة. قال ابن
عباس: يريد: مسطحا، وحسان، وحمنة.
يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه
يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا
ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم " 21 "
349

قوله تعالى: * (لا تتبعوا خطوات الشيطان) * أي: تزيينه لكم قذف عائشة وقد سبق شرح
" خطوات الشيطان " وبيان الفحشاء والمنكر ".
قوله تعالى: * (ما زكى منكم) * وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة: " ما زكى " بتشديد الكاف.
وفيمن خوطب بهذا قولان:
أحدهما: أنه عام في الخلق.
والثاني: أنه خاص للمتكلمين في الإفك. ثم في معناه أربعة أقوال:
أحدها: ما اهتدى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: ما أسلم، قاله ابن زبد.
والثالث: ما أصلح، قاله مقاتل.
والرابع: ما ظهر، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: * (ولكن الله يزكي من يشاء) * أي: يطهر من يشاء من الإثم بالتوبة والغفران;
فالمعنى: وقد شئت أن أتوب عليكم * (والله سميع عليم) * علم ما في نفوسكم من التوبة والندامة.
ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين
في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " 22 "
قوله تعالى: * (ولا يأتل) * وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة: " ولا يتأل "
بهمزة مفتوحة بين التاء واللام وتشديد اللام على وزن يتعل. قال المفسرون: سبب نزولها أن أبا بكر
الصديق كان ينفق على مسطح لقرابته وفقره، فلما خاض في أمر عائشة قال أبو بكر: والله لا أنفق
عليه أبدا، فنزلت هذه الآية. فأما الفضل، فقال أبو عبيدة: هو التفضل والسعة: الجدة. قال
المفسرون: والمراد به: أبو بكر.
قوله تعالى: * (أن يؤتوا) * قال ابن قتيبة: معناه: أن لا يؤتوا، فحذف " لا " فأما قوله تعالى:
* (أولي القربى) * فإنه يعنى مسطحا، وكان أبن خالة أبي بكر، وكان مسكينا، وكان مهاجر. قال
المفسرون: فلما سمع أبو بكر * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) * قال بلى يا رب، وأعاد نفقته على
مسطح.
350

إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة
ولهم عذاب عظيم " 23 " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا
يعملون " 24 " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين " 25 "
قوله تعالى: * (إن الذين يرمون المحصنات) * يعني: العفائف * (الغافلات) * عن الفواحش،
* (لعنوا في الدنيا) * أي: عذبوا بالجلد، وفي الآخرة بالنار.
وأختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في عائشة خاصة. قال خصيف: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية،
فقلت: من قذف محصنة لعنة الله؟ قال. لا، إنما أنزلت هذه الآية في عائشة خاصة.
والثاني: أنها في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله الضحاك.
والثالث: أنها في المهاجرات. قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أن المرأة كانت إذا خرجت إلى
المدينة مهاجرة، قذفها المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنما خرجت تفجر، فنزلت هذه الآية.
والرابع: أنها عامة في أزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] وغيرهن، وبه قال قتادة، وابن زيد.
فإن قيل: لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال؟
فالجواب: أن من رمى مؤمنة فلا بد أن يرمي معها مؤمنا، فاستغني عن ذكر المؤمنين، ومثله:
* (سرابيل تقيكم الحر) * أراد: والبرد، قاله الزجاج.
قوله تعالى: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم) * وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " يشهد " بالياء;
وهو إقرارها بما تكلموا به من الفرية. قال أبو سليمان الدمشقي: وهؤلاء غير الذين يختم على
أفواههم. وقال ابن جرير: المعنى: أن ألسنة بعضهم تشهد على بعض.
قوله تعالى: * (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) * أي: حسابهم العدل، وقيل: جزاءهم
الواجب. وقرأ مجاهد، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس، والأعمش: " دينهم الحق " برفع القاف
* (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) * قال ابن عباس: وذلك أن عبد الله بن أبي كان يشك في
الدين، فإذا كانت القيامة علم حيث لا ينفعه.
الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك
351

مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم " 26 "
قوله تعالى: * (الخبيثات للخبيثين) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: الكلمات الخبيثات لا يتكلم بها إلا الخبيث من الرجال والنساء، والكلمات الطيبات لا
يتكلم بها إلا الطيبون من الرجال والنساء.
والثاني: الكلمات الخبيثات إنما تلصق بالخبيثين من الرجال والنساء، فأما الطيبات والطيبون،
فلا يصلح أن يقال في حقهم إلا الطيبات.
والثالث: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال.
والرابع: الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من
الأعمال، وكذلك الطيبات قوله تعالى: * (أولئك) * يعني: عائشة وصفوان * (مبرؤون) * أي: منزهون
* (مما يقولون) * من الفرية * (لهم مغفرة) * لذنوبهم * (ورزق كريم) * في الجنة.
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم
خير لكم لعلكم تذكرون " 27 " فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل
لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم " 28 " ليس عليكم جناح أن
تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " 29 "
قوله تعالى: * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم) * ذكر أهل التفسير أن سبب نزولها أن امرأة من
الأنصار جاءت إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب
أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل علي رجل من أهلي، فنزلت هذه الآية; فقال أبو بكر بعد
نزولها: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن، فنزل قوله تعالى: * (ليس
عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة..) * الآية. ومعنى قوله تعالى: * (لا تدخلوا بيوتا غير
352

بيوتكم) * أي: بيوتا ليست لكم. واختلف القراء في باء البيوت، فقرأ بعضهم بضمها، وبعضهم
بكسرها. وقد بينا ذلك في [سورة] البقرة.
قوله تعالى: * (حتى تستأنسوا) * قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: حتى تسلموا
وتستأنسوا. قال الزجاج: و " تستأنسوا " في اللغة، بمعنى تستأذنوا، وكذلك في هو في التفسير،
والاستئذان: الاستعلام، تقول: آذنته بكذا، أي: أعلمته، وآنست منه كذا، أي: علمت منه،
ومثله: * (فإن آنستم منهم رشدا) * أي: علمتم. فمعنى الآية: حتى تستعلموا، يريد أهلها أن تدخلوا،
أم لا؟ قال المفسرون: وصفة الاستعلام أن تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ولا يجوز أن تدخل
بيت غيرك إلا بالاستئذان، لهذه الآية، * (ذلكم خير لكم) * من أن تدخلوا بغير إذن * (لعلكم
تذكرون) * أن الاستئذان خير فتأخذون به، قال عطاء: قلت لابن عباس: أستأذن على أمي وأختي
ونحن في بيت واحد؟ قال: أيسرك أن ترى منهن عورة؟ قلت: لا، قال: فاستأذن.
قوله تعالى: * (فإن لم تجدوا فيها أحدا) * أي: إن وجدتموها خالية * (فلا تدخلوا وإن قيل لكم
ارجعوا) * أي: إن ردوكم فلا تقفوا على أبوابهم وتلازموها، * (ولا هو أزكى لكم) * يعني: الرجوع خير
لكم وأفضل * (والله بما تعملون) * من الدخول بإذن وغير إذن * (عليم) *.
فصل
وهل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ فيها قولان:
أحدهما: أن حكمها عام في جميع البيوت، ثم نسخت منها البيوت التي ليس لها أهل
يستأذنون بقوله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة) *، هذا مروي عن الحسن،
وعكرمة.
والثاني: أن الآيتين محكمتان، فالاستئذان شرط في الأولى إذا كان للدار أهل، والثانية وردت
في بيوت لا ساكن لها، والإذن لا يتصور من غير آذن، فإذا بطل الاستئذان، لم تكن البيوت الخالية
داخلة في الأولى، وهذا أصح.
قوله تعالى: * (أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة) * فيها خمسة أقوال:
أحدها: أنها الخانات والبيوت المبينة للسابلة ليأووا إليها، ويؤووا أمتعتهم، قاله قتادة.
والثاني: أنها البيوت الخربة، والمتاع: قضاء الحاجة فيها من الغائط والبول، قاله عطاء.
والثالث: أنها بيوت مكة، قاله محمد بن الحنفية.
والرابع: حوانيت التجار التي بالأسواق، قاله ابن زيد.
والخامس: أنها جميع البيوت التي لا ساكن لها، لأن الاستئذان إنما جعل لأجل الساكن،
353

قاله ابن جريج. فيخرج في معنى " المتاع " ثلاثة أقوال:
أحدهما: الأمتعة التي تباع وتشترى.
والثاني: إلقاء الأذى من الغائط والبول.
والثالث: الانتفاع بالبيوت لاتقاء الحر والبرد.
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير
بما يصنعون " 30 " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين
زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو
آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني
أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو
الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من
زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون " 31 "
354

قوله تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) * في " من " قولان:
أحدهما: أنها صلة.
والثاني: أنها أصل،، لأنهم لم يؤمروا بالغض مطلقا، وإنما أمروا بالغض عما لا يحل.
وفي قوله تعالى: * (ويحفظوا فروجهم) * قولان:
أحدهما: عما لا يحل لهم، قاله الجمهور.
والثاني: عن أن ترى، فهو أمر لهم بالاستتار، قاله أبو العالية، وابن زيد.
قوله تعالى: * (ذلك) * إشارة إلى الغض وحفظ الفروج * (أزكى لهم) * أي: خير وأفضل * (إن الله
خبير بما يصنعون) * في الأبصار والفروج. ثم أمر النساء بما أمر به الرجال.
قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن) * أي: لا يظهرنها لغير محرم. وزينتهن على ضربين: خفيفة
كالسوارين والقرطين والدملج والقلائد ونحو ذلك، وظاهر وهي المشار إليها بقوله [تعالى]: * (إلا ما ظهر
منها) * وفيه سبعة أقوال:
أحدها: أنها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود; وفي لفظ آخر قال: هو الرداء.
والثاني: أنها الكف والخاتم والوجه.
والثالث: الكحل والخاتم، رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والرابع: القلبان، وهما السواران والخاتم والكحل، قاله المسور بن مخرمة. والخامس: الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد.
والسادس: الخاتم والسوار، قاله الحسن.
والسابع: الوجه والكفان، قاله الضحاك. قال القاضي أبو يعلى: والقول الأول أشبه، وقد
355

نص عليه أحمد، فقال: الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شئ منها عورة حتى الظفر، ويفيد هذا
تحريم النظر إلى شئ من الأجنبيات لغير عذر، أن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها، فإنه ينظر
في الحالين إلى وجهها; خاصة فأما النظر إليها بغير عذر، فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها، وسواء في
ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن. فإن قيل: فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟! فالجواب:
أن في تغطيته مشقة، فعفي عنه.
قوله تعالى: * (وليضربن بخمرهن) * وهي جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها،
والمعنى: وليلقين مقانعهن * (على جيوبهن) * ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن وأعناقهن. وقرأ ابن
مسعود، وأبي بن كعب، وإبراهيم النخعي، والأعمش: " على جيوبهن " بكسر الجيم، * (ولا يبدين
زينتهن) * يعني: الخفية، وقد سبق بيانها * (إلا لبعولتهن) * قال ابن عباس: لا يضعن الجلباب
والخمار إلا لأزواجهن.
قوله تعالى: * (أو نسائهن) * يعني: المسلمات. قال أحمد: لا يحل للمسلمة أن تكشف
رأسها عند نساء أهل الذمة، واليهودية والنصرانية لا تقبلان المسلمة.
قوله تعالى: * (أو ما ملكت أيمانهن) * قال أصحابنا: المراد به: الإماء دون العبيد. وقال
أصحاب الشافعي: يدخل فيه العبيد، يجوز للمرأة عندهم أن تظهر لمملوكها ما تظهر لمحارمها،
لأن مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه محرم لها وعندنا أنه ليس بمحرم، ولا يجوز أن ينظر إلى
غير وجهها وكفيها، وقد نص أحمد على أنه لا يجوز أن ينظر إلى شعر مولاته. قال القاضي أبو
يعلى: وإنما ذكر الإماء في الآية، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للاماء، لأن
الذين تقدم ذكرهم أحرار، فلما ذكر الإماء زال الإشكال.
قوله تعالى: * (أو التابعين) * وهم الذين يتبعون القوم ويكونون معهم لإرفاقهم إياهم، أو
لأنهم نشأوا فيهم. وللمفسرين في هذا التابع ستة أقوال:
أحدها: أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل، قاله قتادة، وكذلك قال
مجاهد: هو الأبلة الذي يريد الطعام ولا يريد النساء.
والثاني: أنه العنين، قاله عكرمة.
والثالث: المخنث كان يتبع الرجل يخدمه بطعامه، ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن،
قاله الحسن.
والرابع: أنه الشيخ الفاني.
والخامس: أنه الخادم، قالهما ابن السائب.
والسادس: أنه الذي لا يكترث بالنساء، إما لكبر أو لهرم أو لصغر، ذكره ابن المنادي من
356

أصحابنا. قال الزجاج: " غير " صفة للتابعين. وفيه دليل على أن قوله: * (أو ما ملكت أيمانهن) *
معناه: * (غير أولي الأربعة من الرجال) * والمعنى: ولا يبدين زينتهن لمماليكهن، ولا لتباعهن، إلا
أن يكونوا غير أولي الإربة، والإربة: الحاجة، ومعناه: غير ذوي الحاجات إلى النساء.
قوله تعالى: * (أو الطفل) * قال ابن قتيبة: يريد الأطفال، بدليل قوله تعالى: * (لم يظهروا
على عورات النساء) * أي: لم يعرفوها.
قوله تعالى: * (ولا يضربن بأرجلهن) * أي: بإحدى الرجلين على الأخرى ليضرب الخلخال
الخلخال فيعلم أن عليها خلخالين.
وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله
من فضله والله واسع عليم " 32 " وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من
فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا
وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتيانكم على البغاء إن أردن تحصنا
لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " 33 "
ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين " 34 "
[قوله تعالى]: * (وأنكحوا الأيامى) * وهم الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال:
رجل أيم وامرأة أيم، ورجل أرمل وامرأة أرملة، ورجل بكر وامرأة بكر: إذا لم يتزوجا، وامرأة
ثيب ورجل ثيب: إذا كانا قد تزوجا، * (والصالحين من عبادكم) * أي: من عبيدكم، يقال: عبد
وعباد وعبيد، كما يقال: كلب وكلاب وكليب. وقرأ الحسن، ومعاذ القارئ: " من عبيدكم ".
قال المفسرون: والمراد بالآية الندب. ومعنى الصلاح هاهنا: الإيمان. والمراد بالعباد:
المملوكون، فالمعنى: زوجوا المؤمنين من عبيدكم وولائدكم. ثم رجع إلى الأحرار فقال: * (إن
يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) * فأخبرهم أن النكاح سبب لنفي الفقر.
قوله تعالى: * (وليستعفف الذين لا يجحدون نكاحا) * أي: وليطلب العفة عن الزنا والحرام من
لا يجد ما ينكح به من صداق ونفقة. وقد روى ابن مسعود عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه قال: " يا
357

معشر الشباب عليكم بالباءة، فمن لم يجد فعليه بالصيام فإنه له وجاء ".
قوله تعالى: * (والذين يبتغون الكتاب) * أي: يطلبون المكاتبة من العبيد والإماء على
أنفسهم، * (فكاتبوهم) * فيه قولان:
أحدهما: أنه مندوب إليه، قاله الجمهور.
والثاني: أنه واجب، قاله عطاء، وعمرو بن دينار. وذكر المفسرون: أنها نزلت في غلام
لحويطب بن عبد العزي يقال له: صبيح، سأل مولاه الكتابة فأبى عليه، فنزلت هذه الآية، فكاتبه
حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا.
قوله تعالى: * (إن علمتم فيهم خيرا) * فيه ستة أقوال:
أحدها: إن علمتم لهم مالا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء،
والضحاك.
والثاني: إن علمتم لهم حيلة، يعني: الكسب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: إن علمتم فيهم دينا، قاله الحسن.
والرابع: إن علمتم أنهم يريدون بذلك الخير، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: إن أقاموا الصلاة، قاله عبيدة السلماني.
والسادس: إن علمتم لهم صدقا ووفاء، قاله إبراهيم.
قوله تعالى: * (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) * فيه قولان:
أحدهما: أنه خطاب للأغنياء الذين تجب عليهم الزكاة، أمروا أن يعطوا المكاتبين من سهم
الرقاب، روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو سهم الرقاب يعطى منه المكاتبون.
والثاني: أنه خطاب للسادة، أمروا أن يعطوا مكاتبيهم من كتابتهم شيئا. قال أحمد
والشافعي: الإيتاء واجب، وقدره أحمد بربع مال الكتابة. وقال الشافعي: ليس بمقدر. وقال أبو
حنيفة ومالك: لا يجب الإيتاء. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كاتب غلاما له يقال له: أبو
أمية، فجاءه بنجمه حين حل; فقال اذهب يا أبا أمية فاستعن به في مكاتبتك، قال: يا أمير المؤمنين
لو أخرته حتى يكون في آخر النجوم، فقال: يا أبا أمية: إني أخاف أن لا أدرك ذلك، ثم قرأ:
" وآتوهم من مال الله الذي آتاكم "، قال عكرمة: وكان ذلك أول نجم أدي في الإسلام.
358

قوله تعالى: * (ولا تكرهوا فتيانكم على البغاء) * روى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي
سفيان عن جابر، قال: كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئا، فنزلت هذه
الآية. قال المفسرون: وكان له جاريتان، معاذة ومسيكة، فكان يكرههما على الزنا، ويأخذ منهما
الضريبة، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إماءهم، فلما جاء الإسلام قالت معاذة
لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه إن كان خيرا فقد استكثرنا منه، وإن كان شرا فقد آن لنا أن
ندعه، فنزلت هذه الآية. وزعم مقاتل أنها نزلت في ست جوار كن لعبد الله بن أبي، معاذة،
ومسيكة، وأميمة، وقتيلة، وعمرة، وأروى. فأما الفتيات، فهن الإماء. والبغاء: الزنا.
والتحصن: التعفف. واختلفوا في معنى * (إن أردن تحصنا) * على أربعة أقوال:
أحدها: أن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكرناه، فخرج النهي عن صفة السبب، وإن
لم يكن شرطا فيه.
والثاني: إنه إنما شرط إرادة التحصن، لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأما إذا
لم ترد المرأة التحصن، فإنها تبغي بالطبع.
والثالث: أن " إن " بمعنى " إذ " ومثله: * (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) * * (وأنتم
الأعلون إن كنتم مؤمنين) *.
والرابع: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، تقديره: " وأنكحوا الأيامي " إلى قوله:
" وإمائكم " " إن أردن تحصنا " ولا تكرهوا فتيانكم على البغاء * (لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) * وهو
كسبهن وبيع أولادهن * (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) * وللمكرهات
* (رحيم) * وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد: " من بعد إكراههن لهن غفور
رحيم ".
قوله تعالى: * (آيات مبينات) * قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة غير أبي بكر، وأبان: " مبينات "
بكسر الياء في الموضعين في هذه السورة وآخر سورة الطلاق.
قوله تعالى: * (ومثلا من الذين خلوا) * أي: شبها من حالهم بحالكم أيها المكذبون، وهذا
تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق المكذبين قبلهم.
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة
359

الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد
زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله
الأمثال للناس والله بكل شئ عليم " 35 "
قوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض) * فيه قولان:
أحدهما: هادي أهل السماوات والأرض، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال
أنس بن مالك، وبيان هذا أن النور في اللغة: الضياء، وهو الذي تصل به الأبصار إلى مبصراتها،
فورد النور مضافا إلى الله تعالى، لأنه هو الذي يهدي المؤمنين ويبين لهم ما يهتدون به. فالخلائق
بنوره يهتدون.
والثاني: مدبر السماوات والأرض، قاله مجاهد، والزجاج. وقرأ أبي ابن كعب، وأبو
المتوكل، وابن السميفع: " الله نور " بفتح النون والواو وتشديدها ونصب الراء " السماوات "
بالخفض " والأرض " بالنصب.
قوله تعالى: * (مثل نوره) * في هاء الكناية أربعة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إلى الله عز وجل، قال ابن عباس: مثل هداه في قلب المؤمن.
والثاني: أنها ترجع إلى المؤمن، فتقديره: مثل نور المؤمن، قاله أبي ابن كعب. وكان أبي
وابن مسعود يقرآن: " مثل نور المؤمنين ".
والثالث: أنها ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، قاله كعب.
والرابع: أنها ترجع إلى القرآن، قاله سفيان. فأما المشكاة، ففيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها في موضع الفتيلة الذي هو كالأنبوب، والمصباح: الضوء، قاله
ابن عباس.
والثاني: أنها القنديل، والمصباح: الفتيلة، قاله مجاهد.
والثالث: أنها الكوة التي لا منفذ لها، والمصباح: السراج، قاله كعب، وكذلك قال
الفراء: المشكاة: الكوة التي ليست بنافذة. وقال ابن قتيبة: المشكاة: الكوة بلسان الحبشة.
وقال الزجاج: هي من كلام العرب، والمصباح: السراج. وإنما ذكر الزجاجة، لأن النور في
الزجاج أشد ضوءا منه في غيره. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وابن أبي عبلة: " في زجاجة الزجاجة "
بفتح الزاء فيهما. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وابن يعمر: بكسر الزاء فيهما. وقال
بعض أهل المعاني: معنى الآية: كمثل مصباح في مشكاة، فهو من المقلوب.
360

فأما الدري، فقرأ أبو عمرو، والكسائي، وأبان عن عاصم " دري " بكسر الدال وتخفيف
الياء ممدودا مهموزا. قال ابن قتيبة: المعنى على هذا: إنه من الكواكب الدراريء، وهي اللاتي
يدرأن عليك، أي: يطلعن. وقال الزجاج: هذا مأخوذ من درأ يدرأ: إذا اندفع منقضا فتضاعف
نوره، يقال: تدارأ الرجلان: إذا تدافعا. وروى المفضل عن عاصم كسر الدال وتشديد الياء من
غير همز ولا مد، وهي قراءة عبد الله بن عمرو، والزهري. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر،
بضم الدال وكسر الراء وتشديد الياء من غير مد ولا همز، وقرأ عثمان بن عفان، وابن عباس،
وعاصم الجحدري: " دريء " بفتح الدال وكسر الراء ممدودا مهموزا. وقرأ أبي بن كعب،
وسعيد بن المسيب، وقتادة: بفتح الدال وتشديد الراء والياء من غير مد ولا همز. وقرأ ابن
مسعود، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن يعمر: بفتح الدال وكسر الراء مهموزا
مقصورا. قال الزجاج: الدريء: منسوب إلى أنه كالدر في صفائه وحسنه. وقال الكسائي:
الدريء: يشبه الدر، والدريء: جار، والدرء: يلتمع، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم،
والوليد بن عتبة عن ابن عامر: بضم الدال وتخفيف الياء مع إثبات الهمزة والمد، قال الزجاج:
والنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في هذا; وقال الفراء: ليس هذا بجائز في العربية، لأنه ليس
في الكلام " فعيل " إلا أعجمي، مثل مريق، وما أشبهه. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي:
المريق: العصفر، أعجمي معرب، وليس في كلامهم اسم على زنة فعيل. قال أبو علي: وقد
حكى سيبويه عن أبي الخطاب: كوكب دريء: من الصفات، ومن الأسماء: المريق: العصفر.
قوله تعالى: * (توقد) * قرأ ابن كثير. وأبو عمرو: بالتاء المفتوحة وتشديد القاف ونصب
الدال، يريدان المصباح، لأنه هو الذي يوقد. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم:
" يوقد " بالياء مضمومة مع ضم الدال، يريدون المصباح أيضا. وقرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر
عن عاصم: " توقد " بضم التاء والدال، يريدون الزجاجة، قال الزجاج: والمقصود: مصباح
الزجاجة، فحذف المضاف.
قوله تعالى: * (من شجرة) * أي: من زيت شجرة، فحذف المضاف، يدلك على ذلك قوله
تعالى: * (يكاد زيتها يضيء) *; والمراد بالشجرة هاهنا: شجرة الزيتون، وبركتها من وجوه،
فإنها تجمع الأدم والدهن والوقود، فيوقد بحطب الزيتون، ويغسل برماده الإبريسم، ويستخرج
دهنه أسهل استخراج، ويورق غصنه من أوله إلى آخره. وإنما خصت بالذكر هاهنا دون غيرها،
لأن دهنها أصفى وأضوأ.
قوله تعالى: * (لا شرقية ولا غربية) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بين الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس، قاله أبي بن كعب،
ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
361

والثاني: أنها في الصحراء لا يظلها جبل ولا كهف، ولا يواريها شئ، فهي أجود لزيتها،
رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزجاج.
والثالث: أنها من شجر الجنة، لا من شجرة الدنيا، قاله الحسن.
قوله تعالى: * (يكاد زيتها يضيء) * أي: يكاد من صفائه يضيء قبل أن تصيبه النار بأن
يوقد به. * (نور على نور) * قال مجاهد: النار على الزيت. وقال ابن السائب: المصباح نور،
والزجاجة نور. وقال أبو سليمان الدمشقي: نور النار، ونور الزيت، ونور الزجاجة، * (يهدي الله
لنوره) * فيه أربعة أقوال:
أحدها: لنور القرآن.
والثاني: لنور الإيمان.
والثالث: لنور محمد صلى الله عليه وسلم.
والرابع: لدينه الإسلام.
فصل
فأما وجه هذا المثل، ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه شبه نور محمد صلى الله عليه وسلم بالمصباح النير; فالمشكاة جوف رسول الله [صلى الله عليه وسلم]،
والمصباح النور الذي في قلبه، والزجاجة قلبه، فهو من شجرة مباركة، وهو إبراهيم عليه السلام،
سماه شجرة مباركة، لأن أكثر الأنبياء من صلبه " لا شرقية ولا غربية " لا يهودي ولا نصراني، يكاد
محمد [صلى الله عليه وسلم] يتبين للناس أنه نبي ولو لم يتكلم. وقال القرظي: المشكاة: إبراهيم، والزجاجة:
إسماعيل، والمصباح: محمد، صلوات الله عليهم أجمعين. وقال الضحاك: شبه عبد المطلب
بالمشكاة، وعبد الله بالزجاجة، ومحمدا صلى الله عليه وسلم بالمصباح.
362

والثاني: أنه شبه نور الإيمان في قلب المؤمن بالمصباح، فالمشكاة: قلبه، والمصباح:
نور الإيمان فيه. وقيل: المشكاة: صدره، والمصباح: القرآن والإيمان اللذان في صدره،
والزجاجة: قلبه، فكأنه مما فيه من القرآن والإيمان كوكب مضيء توقد من شجرة، وهي
الإخلاص، فمثل الإخلاص عنده كشجرة لا تصيبها الشمس، فكذلك هذا المؤمن قد احترس من
أن تصيبه الفتن، فإن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل، فقلب
المؤمن يعم بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى كما يكاد هذا
الزيت يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته اشتد نوره، فالمؤمن كلامه نور، وعمله نور، ومدخله
نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى نور يوم القيامة.
والثالث: أنه شبه القرآن بالمصباح يستضاء به ولا ينقص، والزجاجة: قلب المؤمن،
والمشكاة: لسانه وفمه، والشجرة المباركة: شجرة الوحي، تكاد حجج القرآن تتضح وإن لم
نقرأ. وقيل: تكاد حجج الله تضيء لمن فكر فيها وتدبرها ولو لم ينزل القرآن، " نور على نور "
أي: القرآن نور من الله لخلقه مع ما قد قام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن.
قوله تعالى: * (ويضرب الله الأمثال) * أي: ويبين الله الأشباء للناس تقريبا إلى الأفهام
وتسهيلا لسبل الإدراك.
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال " 36 "
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما
تتقلب فيه القلوب والأبصار " 37 " ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله
يرزق من يشاء بغير حساب " 38 "
قوله تعالى: * (في بيوت) * قال الزجاج: * (في) * من صلة قوله: " كمشكاة "، فالمعنى:
363

كمشكاة في بيوت; ويجوز أن تكون متصلة بقوله: " يسبح له فيها " فتكون فيها تكريرا على
التوكيد; والمعنى: يسبح لله رجال في بيوت.
فإن قيل: المشكاة إنما تكون في بيت واحد، فكيف قال: " في بيوت "؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه من الخطاب المتلون الذي يفتح بالتوحيد ويختم بالجمع، كقوله تعالى: * (يا
أيها النبي إذا طلقتم النساء) *.
والثاني: أنه راجع إلى كل واحد من البيوت، فالمعنى: في كل بيت مشكاة. وللمفسرين
في المراد بالبيوت ها هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها المساجد، [قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد.
والثالث: بيت المقدس، قاله الحسن.
فأما * (أذن) * فمعنا: أمر. وفي معنى * (أن ترفع) * قولان:
أحدهما: أن تعظم، قاله الحسن، والضحاك.
والثاني: أن تبنى، قاله مجاهد، وقتادة. وفي قوله تعالى: * (ويذكر فيها اسمه) * قولان:
أحدهما: توحيده; رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: يتلى فيها كتابه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
قوله تعالى: * (يسبح) * قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة،
والكسائي: " يسبح " بكسر الباء; وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بفتحها. وقرأ معاذ
القارئ، وأبو حيوة: " تسبح " بتاء مرفوعة وكسر الباء ورفع الحاء. وفي قوله تعالى: * (يسبح له
فيها) * قولان:
أحدهما: أنه الصلاة. ثم في صلاة الغدو قولان: أحدهما: أنها صلاة الفجر، رواه ابن
أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: صلاة الضحى، روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: إن
صلاة الضحى لفي كتاب الله، وما يغوص عليها إلا غواص، أن ثم قرأ " يسبح له فيها بالغدو
والآصال ". وفي صلاة الآصال قولان:
أحدهما: أنها صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قاله ابن السائب.
والثاني: صلاة العصر، قاله أبو سليمان الدمشقي.
364

والقول الثاني: أنه التسبيح المعروف، ذكره بعض المفسرين.
قوله تعالى: * (رجال لا تلهيهم) * أي: لا تشغلهم * (تجارة ولا بيع) * قال ابن السائب:
التجار: الجلابون، والباعة: المقيمون. وقال الواقدي: التجارة هاهنا بمعنى الشراء. وفي
المراد بذكر الله ثلاثة أقوال:
أحدها: الصلاة المكتوبة، قاله ابن عباس، وعطاء. وروى سالم عن ابن عمر أنه كان في
السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت " رجال لا
تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ".
والثاني: عن القيام بحق الله، قاله قتادة.
والثالث: عن ذكر الله باللسان، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: * (وإقام الصلاة) * أي: أداؤها لوقتها وإتمامها. فإن قيل: إذا كان المراد بذكر
الله الصلاة، فما معنى إعادتها؟ فالجواب: أنه بين أنهم يقيمونها بأدائها في وقتها.
قوله تعالى: * (تتقلب فيه القلوب والأبصار) * في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن من كان قلبه مؤمنا بالبعث والنشور، ازداد بصيرة برؤية ما وعد به; ومن كان قلبه
على غير ذلك، رأى ما يوقن معه بأمر القيامة، قاله الزجاج.
والثاني: أن القلوب تتقلب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تتقلب،
تنظر من أين يؤتون كتبهم، أمن قبل اليمين، أم من قبل الشمال؟ وأي ناحية يؤخذ بهم، أذات
اليمين، أم ذات الشمال؟ قاله ابن جرير.
والثالث: تتقلب القلوب فتبلغ إلى الحناجر، وتتقلب الأبصار إلى الزرق بعد الكحل والعمى
بعد النظر.
قوله تعالى: * (ليجزيهم) * المعنى: يسبحون الله ليجزيهم * (أحسن ما عملوا) * أي:
ليجزيهم بحسناتهم. فأما مساوئهم فلا يجزيهم بها * (ويزيدهم من فضله) * ما لم يستحقوه
بأعمالهم * (والله يرزق من يشاء بغير حساب) * قد شرحناه في (آل عمران).
365

والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا
ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب " 39 " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه
موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " 40 "
ثم ضرب الله مثلا للكفار فقال: * (والذين كفروا أعمالهم كسراب) * قال ابن قتيبة:
السراب: ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار، والآل: ما رأيته في أول النهار وآخره، وهو
يرفع كل شئ، والقيعة والقاع واحد. وقرأ أبي بن كعب، وعاصم الجحدري، وابن السميفع:
" بقيعات ". وقال الزجاج: القيعة جمع قاع، مثل جار وجيرة، والقيعة والقاع: ما انبسط من
الأرض ولم يكن فيه نبات، فالذي يسير فيه يرى كأن فيه ماء يجري، وذلك هو السراب، والآل
مثل السراب، إلا أنه يرتفع وقت الضحى - كالماء - بين السماء والأرض يحسبه الظمآن - وهو
الشديد العطش - ماء، حتى إذا جاء إلى موضع السراب رأى أرضا لا ماء فيها، فأعلم الله أن الكافر
الذي يظن أن عمله قد نفعه عند الله - كظن الذي يظن السراب ماء - وعمله قد حبط.
قوله تعالى: * (ووجد الله عنده) * أي: قدم على الله * (فوفاه حسابه) * أي: جازاه بعمله;
وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن، والمراد به الخبر عن الكافر.
قوله تعالى: * (والله سريع الحساب) * مفسر [سورة] في البقرة:
قوله تعالى: * (أو كظلمات) * في هذا المثل قولان:
أحدهما: أنه لعمل الكافر، قاله الجمهور، واختاره الزجاج.
والثاني: أنه مثل لقلب الكافر في أنه لا يعقل ولا يبصر، قاله الفراء. فأما اللجي، فهو
العظيم اللجة، وهو العميق * (يغشاه) * أي: يعلو ذلك البحر * (موج من فوقه) * أي: من فوق
الموج موج، والمعنى: يتبع الموج موج، حتى كأن بعضه فوق بعض، * (من فوقه) * أي: من
فوق ذلك الموج * (سحاب) *.
ثم ابتدأ فقال: * (ظلمات) * يعني: ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الذي
فوق الموج، وظلمة السحاب. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن: " سحاب ظلمات " مضافا. * (إذا
أخرج يده) * يعني: إذا أخرجها مخرج، * (لم يكد يراها) * فيه قولان:
366

أحدهما: أنه لم يرها، قاله الحسن، واختاره الزجاج. قال: لأن في دون هذه الظلمات لا
يرى الكف; وكذلك قال ابن الأنباري: معناه: لم يرها البتة، لأنه قد قام الدليل عند وصف
تكاثف الظلمات على أن الرؤية معدومة، فبان بهذا الكلام أن " يكد " زائدة للتوكيد، بمنزلة " ما " في
قوله تعالى: * (عما قليل ليصبحن نادمين) *.
والثاني: أنه لم يرها إلا بعد الجهد، قاله المبرد. قال الفراء: وهذا كما تقول: ما كدت
أبلغ إليك، وقد بلغت، قال الفراء: وهذا وجه العربية.
فصل
وأما وجه المثل، فقال المفسرون: لما ضرب الله للمؤمن مثلا بالنور، ضرب للكافر هذا
المثل بالظلمات; والمعنى: أن الكافر في حيرة لا يهتدي لرشد. وقيل: الظلمات: ظلمة الشرك
وظلمة المعاصي. وقال بعضهم: ضرب الظلمات مثلا لعمله، والبحر اللجي لقلبه، والموج لما
يغشى قلبه من الشرك والجهل والحيرة، والسحاب للرين والختم على قلبه، فكلامه ظلمة، وعمله
ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة.
قوله تعالى: * (لم يجعل الله له نورا) * فيه قولان:
أحدهما: دينا وإيمانا، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: هداية، قاله الزجاج.
ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته
وتسبيحه والله عليم بما يفعلون " 41 " ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير " 42 "
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض) * قد تقدم تفسيره.
قوله تعالى: * (والطير) * أي: وتسبح له الطير * (صافات) * أي: باسطات أجنحتها في
الهواء. وإنما خص الطير بالذكر، لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت، فهي خارجة عن
جملة من في السماوات والأرض.
قوله تعالى: * (كل) * أي: من الجملة التي ذكرها * (قد علم صلاته وتسبيحه) * قال
المفسرون: الصلاة، لبني آدم، والتسبيح، لغيرهم من الخلق. وفي المشار إليه بقوله: " قد
367

علم " قولان:
أحدهما: أنه الله تعالى، والمعنى: قد علم الله صلاة المصلي وتسبيحه، قاله الزجاج.
والثاني: أنه المصلي والمسبح. ثم فيه قولان: أحدهما: قد علم المصلي والمسبح صلاة
نفسه وتسبيحه، أي: قد عرف ما كلف من ذلك. والثاني: قد علم المصلي صلاة الله وتسبيحه،
أي: علم أن ذلك لله تعالى وحده.
وقرأ قتادة، وعاصم الجحدري، وابن يعمر: " كل قد علم " برفع العين وكسر اللام " صلاته
وتسبيحه " بالرفع فيهما.
ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله
وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد
سنا برقه يذهب بالأبصار " 43 " يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " 44 "
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله يزجي سحابا) * أي: يسوقه * (ثم يؤلف بينه) * أي: يضم
بعضه إلى بعض، فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة. والسحاب لفظه لفظ الواحد، ومعناه
الجمع، فلهذا قال: * (يؤلف بينه ثم يجعله ركاما) * أي: يجعل بعض السحاب فوق بعض
* (فترى الودق) * وهو المطر. قال الليث: الودق: المطر كله شديده وهينه.
قوله تعالى: * (من خلاله) * وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد،
والضحاك: " من خلله ". والخلال: جمع خلل، مثل: جبال وجبل. * (وينزل من السماء) *
مفعول الإنزال محذوف، تقديره: وينزل من السماء من جبال فيها من برد بردا، فاستغنى عن ذكر
المفعول للدلالة عليه. و " من " الأولى، لابتداء الغاية، لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية،
للتبعيض، لأن الذي ينزله الله بعض تلك الجبال، والثالثة، لتبيين الجنس، لأن جنس تلك الجبال
جنس البرد; قال المفسرون: وهي جبال في السماء مخلوقة من برد. وقال الزجاج: معنى
الكلام: وينزل من السماء من جبال برد فيها، كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد،
المعنى: هذا خاتم حديد في يدي.
قوله تعالى: * (فيصيب به) * أي البرد * (من يشاء) * فيضره في زرعه وثمره. والسنا: الضوء، * (يذهب) *
368

وقرأ مجاهد، وأبو جعفر: " يذهب " بضم الياء وكسر الهاء. * (يقلب الله الليل والنهار) * أي:
يأتي بهذا، ويذهب بهذا * (إن في ذلك) * التقلب * (لعبرة لأولي الأبصار) * أي: دلالة لأهل
البصائر والعقول على وحدانية الله وقدرته.
والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين
ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير " 45 "
قوله تعالى: * (والله خلق كل دابة) * وقرأ حمزة، والكسائي: " والله خالق كل دابة من
ماء) * وفي الماء قولان:
أحدهما: أن الماء أصل كل دابة.
والثاني: أنه النطفة، والمراد به: جميع الحيوان المشاهد في الدنيا. وإنما قال: " فمنهم "
تغليبا لما يعقل. وإنما لم يذكر الذي يمشي على أكثر من أربع، لأنه في رأي العين كالذي يمشي
على أربع، وقيل: لأنه يعتمد في المشي على أربع. وإنما سمي السائر على بطنه ماشيا، لأن كل
سائر ومستمر يقال له: ماش وإن لم يكن حيوانا، حتى إنه يقال: قد مشى هذا الأمر، هذا قول
الزجاج. وقال أبو عبيدة: إنما هذا على سبيل التشبيه بالماشي، لأن المشي لا يكون على
البطن، إنما يكون لمن له قوائم، فإذا خلطوا ماله قوائم بما لا قوائم له، جاز ذلك، كما
يقولون: أكلت خبزا ولبنا، ولا يقال: أكلت لبنا.
لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم " 46 " ويقولون
آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين " 47 "
وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون " 48 " وإن يكن لهم
الحق يأتوا إليه مذعنين " 49 " أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله
عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون " 50 " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله
ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون " 51 " ومن يطع
369

الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون " 52 "
قوله تعالى: * (ويقولون آمنا بالله) * قال المفسرون: نزلت في رجل من المنافقين يقال له:
بشر كان بينه وبين يهودي حكومة، فدعا اليهودي المنافق إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليحكم بينهما،
فقال المنافق لليهودي: إن محمدا يحيف علينا، ولكن بيني وبينك كعب بن الأشرف، فنزلت هذه
الآية.
قوله تعالى: * (ثم يتولى فريق منهم) * يعني: المنافقين * (من بعد ذلك) * أي: من بعد
قولهم: آمنا * (وما أولئك) * يعني: المعرضين عن حكم الله ورسوله * (بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى
الله) * أي: إلى كتابه * (ورسوله ليحكم بينهم) * الرسول * (إذا فريق منهم معرضون) * ومعنى
الكلام: أنهم كانوا يعرضون عن حكم الرسول عليهم، لعلمهم أنه يحكم بالحق; وإن كان الحق
لهم على غيرهم، أسرعوا إلى حكمه مذعنين، لثقتهم أنه يحكم لهم بالحق. قال الزجاج:
والإذعان في اللغة: الإسراع مع الطاعة، تقول: قد أذعن، أي: قد طاوعني لما كنت ألتمسه
منه.
قوله تعالى: * (أفي قلوبهم مرض) * أي: كفر * (أم ارتابوا) * أي: شكوا في القرآن؟ وهذا
استفهام ذم وتوبيخ، والمعنى: إنهم كذلك، وإنما ذكره بلفظ الاستفهام ليكون أبلغ في ذمهم،
كما قال جرير في المدح.
ألستم خير من ركب المطايا
أي: أنتم كذلك. فأما الحيف، فهو: الميل في الحكم; يقال: حاف في قضيته، أي:
جار، * (بل أولئك هم الظالمون) * أي: لا يظلم الله ورسوله أحدا، بل هم الظالمون لأنفسهم
بالكفر والإعراض عن حكم الرسول.
ثم نعت المؤمنين، فقال: * (إنما كان قول المؤمنين) * قال الفراء: ليس هذا بخبر ماض،
وإنما المعنى: إنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعوا أن يقولوا سمعنا. وقرأ الحسن،
وأبو الجوزاء: " إنما كان قول المؤمنين " بضم اللام. وقرأ أبو جعفر، وعاصم الجحدري، وابن
أبي عبلة: " ليحكم بينهم " برفع الياء وفتح الكاف. قال المفسرون: والمعني: سمعنا قول رسول
الله [صلى الله عليه وسلم] وأطعنا أمره، وإن كان ذلك فيما يكرهونه.
قوله تعالى: * (ويخش الله) * أي: فيما مضى من ذنوبه * (ويتقه) * فيما بعد أن يعصيه. وقرأ
ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وورش عن نافع: " ويتقهي " قال موصولة بياء. وروى قالون عن
نافع: " ويتقه فأولئك " بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن
370

عاصم: " ويتقه " جزما.
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير
بما تعملون " 53 " قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم
وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين " 54 "
قوله تعالى: * (وأقسموا بالله) * قال المفسرون: لما نزل في هؤلاء المنافقين ما نزل من بيان
كراهتهم لحكم الله، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا،
فكيف لا نرضى حكمك؟! فنزلت هذه الآية وقد بينا معنى * (جهد أيمانهم) *، * (لئن أمرتهم
ليخرجن) * من أموالهم وديارهم، وقيل: ليخرجن إلى الجهاد * (قل لا تقسموا) * هذا تمام
الكلام; ثم قال: * (طاعة معروفة) * قال الزجاج: المعنى: أمثل من قسمكم الذي لا تصدقون فيه
طاعة معروفة. قال ابن قتيبة: وبعض النحويين يقول: الضمير فيها: لتكن منكم طاعة معروفة،
أي: صحيحة لا نفاق فيها.
قوله تعالى: * (فان تولوا) * هذا خطاب لهم، والمعنى: فان تتولوا، فحذف إحدى التاءين،
ومعنى التولي: الإعراض عن طاعة الله ورسوله، * (فإنما عليه) * يعني: الرسول * (ما حمل) * من
التبليغ * (وعليكم ما حملتم) * من الطاعة; وذكر بعض المفسرين أن هذا منسوخ بآية السيف،
وليس بصحيح.
قوله تعالى: * (وإن تطيعوه) * يعني: رسول الله [صلى الله عليه وسلم] * (تهتدوا) *، وكان بعض السلف
يقول: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا، نطق بالحكمة، ومن أمر البدعة الهوى على نفسه قولا
وفعلا، نطق بالبدعة، لقوله تعالى: * (وإن تطيعوه تهتدوا) *.
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين
من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني
371

لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون " 55 " وأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون " 56 "
قوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا منكم) * روى أبو عبد الله الحاكم في " صحيحه " من
حديث أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب
عن قوس واحدة، كانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا في لأمتهم، فقالوا: أترون أنا
نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل؟! فنزلت هذه الآية. قال أبو العالية:
لما أظهر الله عز وجل رسوله على جزيرة العرب، وضعوا السلاح وأمنوا، ثم قبض الله نبيه، فكانوا
آمنين كذلك في إمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة،
فأدخل الله عز وجل عليهم الخوف، فغير الله تعالى ما بهم. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن
هذا الوعد وعده الله أمة محمد في التوراة والإنجيل. وزعم مقاتل أن كفار مكة لما صدوا رسول الله
[صلى الله عليه وسلم] والمسلمين عن العمرة عام الحديبية، قال المسلمون. لو أن الله تعالى فتح علينا مكة،
فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: * (ليستخلفنهم) * أي: ليجعلنهم يخلفون من قبلهم، والمعنى: ليورثنهم
أرض الكفار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها. وعلى قول مقاتل: المراد
بالأرض مكة.
قوله تعالى: * (كما استخلف الذين من قبلهم) * وقرأ أبو بكر عن عاصم: " كما استخلف "
بضم التاء وكسر اللام; يعني: بني إسرائيل، وذلك أنه لما هلكت الجبابرة بمصر، أورثهم الله
أرضهم وديارهم وأموالهم.
قوله تعالى: * (وليمكنن لهم دينهم) * وهو الإسلام، وتمكينه: إظهاره على كل دين،
* (وليبدلنهم) * وقرأ ابن كثير، وأبو بكر، وأبان، ويعقوب: " وليبدلنهم " بسكون الباء وتخفيف
الدال * (من بعد خوفهم أمنا) * لأنهم كانوا مظلومين مقهورين، * (من بعد خوفهم أمنا) * لأنهم كانوا
مظلومين مقهورين، * (يعبدونني) * هذا استئناف كلام في الثناء عليهم، * (ومن كفر بعد ذلك) *
بهذه النعم، أي: من جحد حقها. قال المفسرون: وأول من كفر بهذه النعم قتله عثمان.
لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير " 57 "
قوله تعالى: * (لا تحسبن الذين كفروا) * قرأ ابن عامر، وحمزة وحفص عن عاصم: " لا
372

يحسبن " بالياء وفتح السين. وقرأ الباقون: بالتاء وكسر السين.
يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم
ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة
العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على
بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " 58 " وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم
فليستئذنوا كما استئذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم " 59 "
والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير
متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم " 60 "
قوله تعالى: * (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) * في سبب نزولها قولان:
أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه غلاما من الأنصار يقال له: مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب
وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر على حالة كره عمر رؤيته عليها، فقال: يا رسول الله، وددت له لو
أن الله [تعالى] أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثاني: أن أسماء بنت مرثد كان لها غلام، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول
الله [صلى الله عليه وسلم]، فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها، فنزلت هذه الآية، قاله
مقاتل، ومعنى الآية: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم; وفيهم قولان:
أحدهما: أنه أراد الذكور دون الإناث، قاله ابن عمر.
والثاني: الذكور والإناث، رواه أبو حصين عن أبي عبد الرحمن. ومعنى الكلام:
ليستأذنكم مماليككم في الدخول عليكم. قال القاضي أبو يعلى: والأظهر أن يكون المراد: العبيد
الصغار والإماء الصغار، لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته، فكيف
يضاف إلى الصبيان الذين هم غير مكلفين؟!
قوله تعالى: * (والذين لم يبلغوا الحلم) * وقرأ عبد الوارث: " الحلم " بإسكان اللام
373

* (منكم) * أي: من أحراركم من الرجال والنساء * (ثلاث مرات) * أي: ثلاثة أوقات; ثم بينها
فقال: * (من قبل صلاة الفجر) * وذلك لأن الإنسان قد يبيت عريانا، أو على حالة لا يحب أن يطلع
عليه فيها * (وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة) * أي: القائلة * (ومن بعد صلاة العشاء) * حين يأوي
الرجل إلى زوجته، * (ثلاث عورات) * قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص
عن عاصم: " ثلاث عورات " برفع الثاء من " ثلاث "، والمعنى: هذه الأوقات هي ثلاث عورات،
لأن الإنسان يضع فيها ثيابه، فربما بدت عورته. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم:
" ثلاث عورات " بنصب الثاء; قال أبو علي: وجعلوه بدلا من قوله: " ثلاث مرات " والأوقات
ليست عورات، ولكن المعنى: أنها أوقات ثلاث عورات، فلما حذف المضاف أعرب
[بإعرابه]. وقرأ أبو عبد الرحمن سلمي، وسعيد بن جبير، والأعمش: " عورات " بفتح الواو،
* (ليس عليكم) * يعني: المؤمنين الأحرار * (ولا عليهم) * يعني: الخدم والغلمان * (جناح) * أي:
حرج * (بعدهن) * أي: بعد مضي هذه الأوقات أن لا يستأذنوا، فرفع الحرج عن الفريقين،
* (طوافون عليكم) * أي: هم، يطوف * (بعضكم على بعض) * أي: يطوف بعضكم وهم المماليك
على بعض وهم الأحرار.
فصل
وأكثر علماء المفسرين على أن هذه الآية محكمة، وممن روي عنه ذلك ابن عباس، والقاسم
ابن محمد، وجابر بن زيد، والشعبي. وحكي عن سعيد بن المسيب أنها منسوخة بقوله: * (وإذا
بلغ الأطفال منكم) * أو من الأحرار الحلم، فليستأذنوا، أي: في جميع الأوقات في الدخول
عليكم * (كما استأذن الذين من قبلهم) * يعني: كما استأذن الأحرار الكبار، الذين هم قبلهم في
الوجود، وهم الذين أمروا بالاستئذان على كل حال; فالبالغ يستأذن في كل وقت، والطفل والمملوك
يستأذنان في العورات الثلاث.
قوله تعالى: * (والقواعد من النساء) * قال ابن قتيبة: يعني: العجز، واحدها: قاعد،
ويقال: إنما قيل لها: قاعد، لقعودها عن الحيض والولد، وقد تقعد عن الحيض والولد ومثلها
يرجو النكاح، ولا أراها سميت قاعدا إلا بالقعود، لأنها إذا أسنت عجزت عن التصرف وكثرة
الحركة، وأطالت القعود، فقيل لها: " قاعد " بلا هاء، ليدل حذف الهاء على أنه قعود كبر، كما
قالوا: " امرأة حامل "، ليدلوا بحذف الهاء على أنه حمل حبل، وقالوا في غير ذلك: قاعدة في
بيتها، وحاملة على ظهرها.
قوله تعالى: * (أن يضعن ثيابهن) * أي: عند الرجال; ويعني بالثياب: الجلباب والرداء
والقناع الذي فوق الخمار، هذا المراد بالثياب، لا جميع الثياب، * (غير متبرجات بزينة) * أي:
من غير أن يردن بوضع الجلباب أن ترى زينتهن; والتبرج: إظهار المرأة محاسنها، * (وأن
374

يستعففن) * فلا يضعن تلك الثياب * (خير لهن) *، قال ابن قتيبة: والعرب تقول: امرأة واضع:
إذا كبرت فوضعت الخمار، ولا يكن هذا إلا في الهرمة. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية
دلالة على أنه يباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال، وأما شعرها، فيحرم النظر إليه
كشعر الشابة.
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم
أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت
أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو
ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا
فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم
تعقلون " 61 "
قوله تعالى: * (ليس على الأعمى حرج) * في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: أنه لما نزل قوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * تحرج المسلمون
عن مؤاكلة المرضى والزمني والعمي والعرج، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى
عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والمريض لا يستوفي الطعام،
فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثاني: أن ناسا كانوا إذا خرجوا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى
والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا، فكانوا
يتقون أن يأكلوا منها، ويقولون: نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة، فنزلت هذه الآية، قاله
سعيد بن المسيب.
والثالث: أن العرجان والعميان كانوا يمتنعون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس يتقذرونهم،
فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، والضحاك.
والرابع: أن قوما من أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمون المريض
375

والزمن، ذهبوا به إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم وبعض من سمى الله عز وجل في هذه الآية، فكان
أهل الزمانة يتحرجون من أكل ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير مالكه، فنزلت هذه الآية، قاله
مجاهد.
والخامس: أنها نزلت في إسقاط الجهاد عن أهل الزمانة المذكورين في الآية، قاله
الحسن، وابن يزيد.
فعلى القول الأول يكون معنى الآية: ليس عليكم في الأعمى حرج أن تأكلوا معه، ولا في
الأعرج، وتكون " على " بمعنى " في "، ذكره ابن جرير. وكذلك يخرج معنى الآية على كل قول
بما يليق به. وقد كان جماعة من المفسرين يذهبون إلى أن آخر الكلام " ولا على المريض حرج "
وأن ما بعده مستأنف لا تعلق له به، وهو يقوي قول الحسن، وابن زيد.
قوله تعالى: * (أن تأكلوا من بيوتكم) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بيوت الأولاد.
والثاني: البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم، فيكون الخطاب لأهل الرجل وولده
وخادمه ومن يشتمل عليه منزله، ونسبا إليهم لأنهم سكانها.
والثالث: أنها بيوتهم، والمراد أكلهم من مال عيالهم وأزواجهم، لأن بيت المرأة كبيت
الرجل.
وإنما أباح الأكل من بيوت القرابات المذكورين، لجريان العادة ببذل طعامهم لهم; فإن كان
الطعام وراء حرز، لم يجز هتك الحرز.
قوله تعالى: * (أو ما ملكتم مفاتحه) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الوكيل، لا بأس أن يأكل اليسير، وهو معنى قول ابن عباس. وقرأها سعيد بن
جبير، وأبو العالية: " ما ملكتم " بضم الميم وتشديد اللام مع كسرها على ما لم يسم فاعله،
وفسرها سعيد فقال: يعني القهرمان الذي بيده المفاتيح. وقرأ أنس بن مالك، وقتادة، وابن
يعمر: " مفتاحه " بكسر الميم على التوحيد.
والثاني: بيت الإنسان الذي يملكه، وهو معنى قول قتادة.
والثالث: بيوت العبيد، قاله الضحاك.
قوله تعالى: * (أو صديقكم) * قال ابن عباس: نزلت هذه في الحارث بن عمرو، خرج مع
رسول الله [صلى الله عليه وسلم] غازيا، وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا، فقال:
تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فنزلت هذه الآية. وكان الحسن وقتادة يريان الأكل من
طعام الصديق بغير استئذان جائزا.
376

قوله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا) * في سبب نزول هذا ثلاثة أقوال:
أحدها: أن حيا من بني كنانة يقال لهم: بنو ليث كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام
وحده، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة
والضحاك.
والثاني: أن قوما من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فنزلت هذه
الآية، ورخص لهم أن يأكلوا جميعا أو أشتاتا، قاله عكرمة.
والثالث: أن المسلمين كانوا يتحرجون من مؤاكلة أهل الضر خوفا من أن يستأثروا عليهم،
ومن الاجتماع على الطعام، لاختلاف الناس في مأكلهم وزيادة بعضهم على بعض، فوسع
عليهم، وقيل: " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا " أي: مجتمعين " أو أشتاتا " أي: متفرقين،
قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: * (فإذا دخلتم بيوتا) * فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بيوت أنفسكم، فسلموا على أهاليكم وعيالكم، قاله جابر بن عبد الله،
وطاووس، وقتادة.
والثاني: أنها المساجد، فسلموا على من فيها، قاله ابن عباس.
والثالث: بيوت الغير، فالمعنى: إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم، قاله الحسن.
قوله تعالى: * (تحية) * قال الزجاج: هي منصوبة على المصدر، لأن قوله: * (فسلموا) *
بمعنى: تحيوا أو يحيي بعضكم بعضا تحية، * (من عند الله) * قال مقاتل * (مباركة) * بالأجر،
* (طيبة) * أي: حسنة.
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى
يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض
شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم " 62 "
قوله تعالى: * (وإذا كانوا معه) * يعني: مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] * (على أمر جامع) * أي:
على أمر طاعة يجتمعون عليها، نحو الجهاد والجمعة والعيد ونحو ذلك * (لم يذهبوا حتى
يستأذنوه) * قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج
من المسجد لحاجة أو عذر، لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حيث يراه، فيعرف أنه
377

إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم، فالأمر إليه في ذلك. قال مجاهد: وإذن الإمام يوم
الجمعة أن يشير بيده.
قوله تعالى: * (واستغفر لهم الله) * أي: لخروجهم عن الجماعة إن رأيت لهم عذرا.
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا
فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " 63 " ألا إن لله ما في
السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله
بكل شئ عليم " 64 "
قوله تعالى: * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم) * فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه نهي عن التعرض لإسخاط يكون رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فإنه إذا دعا على شخص فدعوته
موجبة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم أمروا أن يقولوا: يا رسول الله، ونهوا أن يقولوا: يا محمد، قاله سعيد بن
جبير، وعلقمة، والأسود، وعكرمة، ومجاهد.
والثالث: أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتأخر إذا دعاهم، حكاه الماوردي.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وأبو المتوكل، ومعاذ القارئ: " دعاء الرسول نبيكم " بياء
مشددة ونون قبل الباء.
قوله تعالى: * (قد يعلم الله الذين يتسللون) * التسلل: الخروج في خفية. واللواذ: أن
يستتر بشئ مخافة من يراه. والمراد بقوله " قد يعلم " التهديد بالمجازاة. قال الفراء: كان
المنافقون يشهدون الجمعة فيذكرهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ويعيبهم بالآيات التي أنزلت فيهم، فإن خفي
لأحدهم القيام قام، فذلك قوله: * (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا) * أي: يلوذ هذا
بهذا، أي: يستتر ذا بذا. وإنما يقال: " لواذا " لأنها مصدر " لاوذت "، ولكان مصدرا
ل‍ " لذت " لقلت: لذت لياذا، كما يقال: قمت قياما. وكذلك قال ثعلب: وقع البناء على لاوذ
ملاوذة، ولو بني على لاذ يلوذ، لقيل: لياذا. وقيل: هذا كان في حفر الخندق، كان المنافقون
ينصرفون عن غير أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مختفين.
قوله تعالى: * (فليحذر الذي يخالفون عن أمره) * في هاء الكناية قولان:
378

أحدهما: أنها ترجع إلى الله عز وجل، قال مجاهد.
والثاني: إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، قال قتادة. وفي " عن " قولان:
أحدهما: أنها زائدة، قال الأخفش.
والثاني: أن معنى " يخالفون ": يعرضون عن أمره. وفي الفتنة هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: الضلالة، قاله ابن عباس.
والثاني: بلاء في الدنيا، قاله مجاهد.
والثالث: كفر، قاله السدي، ومقاتل.
قوله تعالى: * (أو يصيبهم عذاب أليم) * فيه قولان:
أحدهما: القتل في الدنيا.
والثاني: عذاب جهنم في الآخرة.
قوله تعالى: * (قد يعلم ما أنتم عليه) * أي: ما في أنفسكم، وما تنطوي عليه ضمائركم من
الإيمان والنفاق; وهذا تنبيه على الجزاء على ذلك.
والله أعلم بالصواب
* * *
انتهى الجزء الخامس من زاد المسير
من علم التفسير للإمام ابن الجوزي
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس
مبتدئا ب‍ سورة الفرقان
379