الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٢٢
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

سورة طه
وهي مائة وثلاثون وخمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
طه (1) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2) إلا تذكرة لمن يخشى (3)
تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى (4) الرحمن على العرش استوى
(5) له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى (6)
وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى (7) الله لا اله إلا هو له الأسماء
الحسنى (8)
سورة طه
بسم الله الرحمن الرحيم
(طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكره لمن يخشى، تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات
العلى، الرحمن على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى،
وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، الله لا إله هو له الأسماء الحسنى).
اعلم أن قوله (طه) فيه مسألتان:
(المسألة الأولى) قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر
وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الطاء وقرأ حمزة والكسائي بكسر الطاء قال الزجاج
وقرئ طه بفتح الطاء وسكون الهاء وكلها لفات قال الزجاج من فتح الطاء والهاء فلان ما قبل
الألف مفتوح ومن كسر الطاء والهاء فأمال الكسرة لان الحرف مقصور والمقصور يغلب عليه
الإمالة إلى الكسرة:
(المسألة الثانية) للمفسرين فيه قولان: (أحدهما) أنه من حروف التهجي والآخر أنه كلمة
مفيدة، أما على القول الأول فقد تقدم الكلام فيه في أول سورة البقرة والذي زادوه ههنا أمور:
2

(أحدها) قال الثعلبي طا شجرة طوبى والهاء الهاوية فكأنه أقسم بالجنة والنار (وثانيها) يحكى عن
جعفر الصادق عليه السلام الطاء طهارة أهل البيت والهاء هدايتهم) (وثالثها) يا مطمع الشفاعة
للأمة ويا هادي الخلق إلى الملة (ورابعها) قال سعيد بن جبير هو افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي
(وخامسها) الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه قيل يا طاهرا من الذنوب ويا هاديا إلى علام
الغيوب (وسادسها) الطاء طول القراء والهاء هيبتهم في قلوب الكفار قال الله تعالى (سنلقي في
قلوب الذين كفروا الرعب) (وسابعها) الطاء تسعة في الحساب والهاء خمسة تكون أربعة عشر
ومعناه يا أيها البدر وقد عرفت فيما تقدم أن أمثال هذه الأقوال لا يجب أن يعتمد عليها (القول
الثاني) قول من قال إنها كلمة مفيدة على هذا القول ذكروا وجهين: أحدهما معناه يا رجل وهو
مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي رضي الله عنهم
ثم قال سعيد بن جبير بلسان النبطية وقال قتادة بلسان السريانية وقال عكرمة بلسان الحبشة وقال
الكلبي بلغة عك وأنشد الكلبي لشاعرهم:
إن السفاهة طه في خلائقكم... لا قدس الله أرواح الملاعين
وقد تكلم الناس على هذا القول من وجهين: (الأول) أنه بمعنى يا رجل في اللغة حمل عليه
لكنه لا يجوز إن ثبت على هذا المعنى إلا في لغة العرب إذ القرآن بهذه اللغة نزل فتحتمل أن تكون
لغة العرب في هذه اللفظة موافقة لسائر اللغات التي حكيناها، فأما على غير هذا الوجه فلا يحتمل
ولا يصح (الثاني) قال صاحب الكشاف إن كان طه في لغة عك بمعنى يا رجل فلعلهم تصرفوا في
يا هذا فقلبوا الياء طاء فقالوا طا واختصروا في هذا واقتصروا على ها فقوله طه بمعنى يا هذا
واعترض بعضهم عليه وقالوا لو كان كذلك لوجب أن يكتب أربعة أحرف طاها (وثانيهما)
أنه عليه السلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا وكان
الأصل طا فقلبت همزته هاء كما قالوا هياك في إياك وهرقت في أرفت) ويجوز أن يكون الأصل
من وطئ على ترك الهمزة فيكون أصله طا يا رجل ثم أثبت الهاء فيها للوقف والوجاد ذكرهما
الزجاج)، أما قوله تعالى (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) ففيه مسائل:
(المسألة الأولى) قال صاحب الكشاف إن جعلت طه تعديدا لأسماء الحروف فهذا ابتداء
كلام وإن جعلتها اسما للسورة احتمل أن يكون قوله (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) خبرا عنها
وهي في موضع المبتدأ والقرآن ظاهر أوقع موقع المضمر لأنها قرآن وأن يكون جوابا لها وهي قسم.
(المسألة الثانية) قرىء (ما نزل عليك القرآن لتشقى).
(المسألة الثالثة) ذكروا في سبب نزول الآية وجوها: (أحدها) قال مقاتل إن أبا جهل
والوليد بن الغيرة ومطعم بن عدي والنضر بن الحارث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لتشقى حيث
تركت دين آبائك فقال عليه السلام بل بعثت رحمة للعالمين قالوا بل أنت تشفى فأنزل الله تعالى
3

هذه الآية ردا عليهم وتعريفا لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن دين الاسلام هو السلام وهذا القرآن هو السلام
إلى نيل كان فوز والسبب في إدراك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها (وثانيها) أنه
عليه السلام صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل عليه السلام أبق على نفسك فان لها
عليك حقا أي ما أنزلناه لتهلك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة وما بعثت إلا بالحنيفية
السمحة، وروى أيضا أنه عليه السلام كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام
وقال بعضهم كان يقوم على رجل واحدة، وقال بعضهم كان يسهر طول الليل فأراد بقوله
(لتشقى) ذلك، قال القاضي هذا بعيد لأنه عليه السلام إن فعل شيئا من ذلك فلا بد وأن يكون
قد فعله بأمر الله تعالى، وإذا فعله بأمره فهو من باب السعادة فلا يجوز أن يقال له ما أمرناك
بذلك (وثالثها) قال بعضهم يحتمل أن يكون المراد لا تشق على نفسك ولا تعذبها بالأسف على
كفر هؤلاء فإنما إنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به، فمن آمن وأصلح فلنفسه ومن كفر فلا يحزنك
كفره فما عليك إلا البلاغ وهو كقوله تعالى (لعلك باخع نفسك) الآية (ولا يحزنك قولهم)
(ورابعها) أنك لا تلام على كفر قومك كقوله تعالى (لست عليهم بمسيطر، وما أنت عليهم
بوكيل) أي ليس عليك كفرهم إذا بغلت ولا تؤاخذ بذنبهم (وخامسها) أن هذه السورة من
أوائل ما نزل بمكة وفى ذلك الوقت كان عليه السلام مقهورا تحت ذل أعدائه فكأنه سبحانه قال
له لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة أبدا بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فانا ما أنزلنا عليك مثل هذا
القرآن لتبقى شقيا فيما بينهم بل تصير معظما مكرما. وأما قوله تعالى (إلا تذكرة لمن يخشى)
ففيه مسائل:
(المسألة الأولى) في كلمة إلا كلمة ههنا قولان (أحدهما) أنه استثناء منقطع بمعنى لكن (والثاني)
التقدير ما أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة كما يقال ما شافهناك بهذا
الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك.
(المسألة الثانية) إنما خص من يخشى بالتذكرة لانهم المنتفعون بها وإن كان ذلك عاما في
الجميع وهو كقوله (هدى للمتقين) وقال سبحانه وتعالى (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده
ليكون للعالمين نذيرا) وقال (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) وقال (وتنذر به قوما لدا)
وقال (وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين).
المسألة الثالثة: وجه كون القرآن تذكرة أنه عليه السلام كان يعظمهم به وببيانه فيدخل تحت قوله لمن يخشى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه في الخشية والتذكرة بالقرآن كان فوق الكل. وأما قوله تعالى: * (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في نصب تنزيلا وجوها. أحدها: تقديره نزل تنزيلا ممن خلق الأرض فنصب تنزيلا بمضمر. وثانيها: أن ينصب بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه
4

تذكرة. وثالثها: أن ينصب على المدح والاختصاص. ورابعها: أن ينصب بيخشى مفعولا به أي أنزله الله تعالى: * (تذكرة لمن يخشى) * تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين وقرئ تنزيل بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
المسألة الثانية: فائدة الانتقال من لفظ التكلم إلى لفظ الغيبة أمور، أحدها: أن هذه الصفات لا يمكن ذكرها إلا مع الغيبة. وثانيها: أنه قال أولا أنزلنا ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فتضاعفت الفخامة من طريقين. وثالثها: يجوز أن يكون أنزلنا حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه.
المسألة الثالثة: أنه تعالى عظم حال القرآن بأن نسبه إلى أنه تنزيل ممن خلق الأرض وخلق السماوات على علوها وإنما قال ذلك لأن تعظيم الله تعالى يظهر بتعظيم خلقه ونعمه وإنما عظم القرآن ترغيبا في تدبره والتأمل في معانيه وحقائقه وذلك معتاد في الشاهد فإنه تعظم الرسالة بتعظيم حال المرسل ليكون المرسل إليه أقرب إلى الامتثال.
المسألة الرابعة: يقال سماء عليا وسموات علا وفائدة وصف السماوات بالعلا الدلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها أما قوله تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء الرحمن مجرورا صفة لمن خلق والرفع أحسن لأنه إما أن يكون رفعا على المدح والتقدير هو الرحمن وإما أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق فإن قيل الجملة التي هي على العرش استوى ما محلها إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح؟ قلنا: إذا جررت فهو خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن يكون كذلك وأن يكون مع الرحمن خبرين للمبتدأ.
المسألة الثانية: المشبهة تعلقت بهذه الآية في أن معبودهم جالس على العرش وهذا باطل بالعقل والنقل من وجوه. أحدها: أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان، ولما خلق الخلق لم يحتج إلى مكان بل كان غنيا عنه فهو بالصفة التي لم يزل عليها إلا أن يزعم زاعم أنه لم يزل مع الله عرش. وثانيها: أن الجالس على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل في يسار العرش فيكون في نفسه مؤلفا مركبا وكل ما كان كذلك احتاج إلى المؤلف والمركب وذلك محال. وثالثها: أن الجالس على العرش إما أن يكون متمكنا من الإنتقال والحركة أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول فقد صار محل الحركة والسكون فيكون محدثا لا محالة وإن كان الثاني كان كالمربوط بل كان كالزمن بل أسوأ منه فإن الزمن إذا شاء الحركة في رأسه وحدقته أمكنه ذلك وهو غير ممكن على معبودهم. ورابعها: هو أن معبودهم إما أن يحصل في كل مكان أو في مكان دون مكان فإن حصل في كل مكان لزمهم أن يحصل في مكان النجاسات والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل، وإن حصل في مكان دون مكان افتقر إلى مخصص يخصصه
5

بذلك المكان فيكون محتاجا وهو على الله محال. وخامسها: أن قوله: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) يتناول نفي المساواة من جميع الوجوه بدليل صحة الاستثناء فإنه يحسن أن يقال ليس كمثله شيء إلا في الجلوس وإلا في المقدار وإلا في اللون وصحة الاستثناء تقتضي دخول جميع هذه الأمور تحته، فلو كان جالسا لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ يبطل معنى الآية. وسادسها: قوله تعالى: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17) فإذا كانوا حاملين للعرش والعرش مكان معبودهم فيلزم أن تكون الملائكة حاملين لخالقهم ومعبودهم وذلك غير معقول لأن الخلق هو الذي يحفظ المخلوق أما المخلوق فلا يحفظ الخالق ولا يحمله. وسابعها: أنه لو جاز أن يكون المستقر في المكان إلها فكيف يعلم أن الشمس والقمر ليس بإله لأن طريقنا إلى نفس إلهية الشمس والقمر أنهما موصوفان بالحركة والسكون وما كان كذلك كان محدثا ولم يكن إلها فإذا أبطلتم هذا الطريق انسد عليكم باب القدح في إلهية الشمس والقمر. وثامنها: أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلينا هي تحت بالنسبة إلى ساكني ذلك الجانب الآخر من الأرض وبالعكس، فلو كان المعبود مختصا بجهة فتلك الجهة وإن كانت فوقا لبعض الناس لكنها تحت لبعض آخرين، وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال المعبود تحت جميع الأشياء. وتاسعها: أجمعت الأمة على أن قوله: * (قل هو الله أحد) * (الإخلاص: 1) من المحكمات لا من المتشابهات فلو كان مختصا بالمكان لكان الجانب الذي منه يلي ما على يمينه غير الجانب الذي منه يلي ما على يساره فيكون مركبا منقسما فلا يكون أحدا في الحقيقة فيبطل قوله: * (قل هو الله أحد) *. وعاشرها: أن الخليل عليه السلام قال: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) ولو كان المعبود جسما لكان آفلا أبدا غائبا أبدا فكان يندرج تحت قوله: * (لا أحب الآفلين) * فثبت بهذه الدلائل أن الاستقرار على الله تعالى محال وعند هذا للناس فيه قولان، الأول: أنا لا نشتغل بالتأويل بل نقطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة ونترك تأويل الآية وروي الشيخ الغزالي عن بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل أنه أول ثلاثة من الأخبار: قوله عليه السلام " الحجر الأسود يمين الله في الأرض "، وقوله عليه السلام: " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن " وقوله عليه السلام: " إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن " واعلم أن هذا القول ضعيف لوجهين: الأول: أنه إن قطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة فقد قطع بأن ليس مراد الله تعالى من الاستواء الجلوس وهذا هو التأويل. وإن لم يقطع بتنزيه الله تعالى عن المكان والجهة بل بقي شاكا فيه فهو جاهل بالله تعالى، اللهم إلا أن يقول أنا قاطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به ظاهره بل مراده به شيء آخر ولكني لا أعين ذلك المراد خوفا من الخطأ فهذا يكون قريبا، وهو أيضا ضعيف لأنه تعالى لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا يريد باللفظ إلا موضوعه في لسان العرب وإذا كان لا معنى للاستواء في اللغة إلا الاستقرار والاستيلاء وقد تعذر حمله على الاستقرار فوجب حمله على الإستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وإنه غير جائز. والثاني: وهو دلالة قاطعة على أنه لا بد من المصير إلى التأويل وهو أن
6

الدلالة العقلية لما قامت على امتناع الاستقرار ودل ظاهر لفظ الاستواء على معنى الاستقرار، فإما أن نعمل بكل واحد من الدليلين، وإما أن نتركهما معا، وإما أن نرجح النقل على العقل، وإما أن نرجح العقل ونؤول النقل. والأول باطل وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد منزها عن المكان وحاصلا في المكان وهو محال. والثاني: أيضا
محال لأنه يلزم رفع النقيضين معا وهو باطل. والثالث: باطل لأن العقل أصل النقل فإنه ما لم يثبت بالدلائل العقلية وجود الصانع وعلمه وقدرته وبعثته للرسل لم يثبت النقل فالقدح في العقل يقتضي القدح في العقل والنقل معا، فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل وهذا برهان قاطع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول قال بعض العلماء المراد من الاستواء الإستيلاء قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق
فإن قيل هذا التأويل غير جائز لوجوه. أحدها: أن الإستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وذلك في حق الله تعالى محال. وثانيها: أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان له منازع ينازعه، وكان المستولى عليه موجودا قبل ذلك، وهذا في حق الله تعالى محال، لأن العرش إنما حدث بتخليقه وتكوينه. وثالثها: الاستيلاء حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة. والجواب: أنا إذا فسرنا الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، قال صاحب الكشاف لما كان الاستواء على العرش، وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على البلد يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد وبخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قوله جواد، ومنه قوله تعالى: * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم) * (المائدة: 64) أي هو بخيل * (بل يداه مبسوطتان) * (المائدة: 64) أي هو جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط، والتفسير بالنعمة والتمحل بالتسمية من ضيق العطن. وأقول: إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم أيضا يقولون المراد من قوله: * (فاخلع نعليك) * (طه: 12) الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور فعل، وقوله: * (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) * (إبراهيم: 69) المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام من يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة، وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى، بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليت من لم يعرف شيئا لم يخض فيه، فهذا تمام الكلام في هذه الآية، ومن أراد الاستقصاء في الآيات والأخبار المتشابهات فعليه بكتاب تأسيس التقديس وبالله التوفيق. أما قوله تعالى: * (له ما في السماوات وما في الأرض وما
7

بينهما وما تحت الثرى) * فاعلم أنه سبحانه لم شرح ملكه بقوله: * (الرحمن على العرش استوى) * والملك لا ينتظم إلا بالقدرة والعلم، لا جرم عقبه بالقدرة ثم بالعلم. أما القدرة فهي هذه الآية والمراد أنه سبحانه مالك لهذه الأقسام الأربعة فهو مالك لما في السماوات من ملك ونجم وغيرهما، ومالك لما في الأرض من المعادن والفلزات ومالك لما بينهما من الهواء. ومالك لما تحت الثرى، فإن قيل الثرى هو السطح الأخير من العالم فلا يكون تحته شيء فكيف يكون الله مالكا له قلنا: الثرى في اللغة التراب الندي فيحتمل أن يكون تحته شيء وهو إما الثور أو الحوت أو الصخرة أو البحر أو الهواء على اختلاف الروايات، أما العلم فقوله تعالى: * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) * وفيه قولان، أحدهما: أن قوله: * (وأخفى) * بناء المبالغة، وعلى هذا القول نقول إنه تعالى قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام: الجهر، والسر. والأخفى. فيحتمل أن يكون المراد من الجهر القول الذي يجهر به، وقد يسر في النفس وإن ظهر البعض، وقد يسر ولا يظهر على ما قال بعضهم. ويحتمل أن يكون المراد بالسر وبالأخفى ما ليس بقول وهذا أظهر فكأنه تعالى بين أنه يعلم السر الذي لا يسمع وما هو أخفى منه فكيف لا يعلم الجهر، والمقصود منه زجر المكلف عن القبائح ظاهرة كانت أو باطنة، والترغيب في الطاعات ظاهرة كانت أو باطنة، فعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل السر والأخفى على ما فيه ثواب أو عقاب، والسر هو الذي يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها، والأخفى هو الذي لم يبلغ حد العزيمة، ويحتمل أن يفسر الأخفى بما عزم عليه وما وقع في وهمه الذي لم يعزم عليه، ويتحمل ما لم يقع في سره بعد فيكون أخفى من السر، ويحتمل أيضا ما سيكون من قبل الله تعالى من الأمور التي لم تظهر، وإن كان الأقرب ما قدمناه مما يدخل تحت الزجر والترغيب. القول الثاني: أن أخفى فعل يعني أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه وهو كقوله: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه) * (البقرة: 255) فإن قيل كيف يطابق الجزاء الشرط؟ قلنا معناه إن تجهر بذكر الله تعالى من دعاء أو غيره، فاعلم أنه غني عن جهرك، وإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله: * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول) * (الأعراف: 205) وإما تعليما للعباد أن الجهر ليس لاستماع الله تعالى، وإنما هو لغرض آخر، واعلم أن الله تعالى لذاته عالم وأنه عالم بكل المعلومات في كل الأوقات بعلم واحد وذلك العلم غير متغير، وذلك العلم من لوازم ذاته من غير أن يكون موصوفا بالحدوث أو الإمكان والعبد لا يشارك الرب إلا في السدس الأول وهو أصل العلم ثم هذا السدس بينه وبين عباده أيضا نصفان فخمسة دوانيق ونصف جزء من العلم مسلم له والنصف الواحد لجملة عباده، ثم هذا الجزء الواحد مشترك بين الخلائق كلهم من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وحملة
8

العرش وسكان السماوات وملائكة الرحمة وملائكة العذاب وكذا جميع الأنبياء الذين أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وكذا جميع الخلائق كلهم في علومهم الضرورية والكسبية والحرف والصناعات وجميع الحيوانات في إدراكاتها وشعوراتها والاهتداء إلى مصالحها في أغذيتها ومضارها ومنافعها، والحاصل لك من ذلك الجزء أقل من الذرة المؤلفة، ثم إنك بتلك الذرة عرفت أسرار إلهيته وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة. فإذا كنت بهذه الذرة عرفت هذه الأسرار فكيف يكون علمه بخمس دوانيق ونصف. أفلا يعلم بذلك العلم أسرار عبوديتك؟ فهذا تحقيق قوله: * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) * بل الحق أن الدينار بتمامه له، لأن الذي علمته فإنما علمته بتعليمه على ما قال: * (أنزله بعلمه) * (النساء: 166) وقال: * (ألا يعلم من خلق) * (الملك: 14) ولهذا مثال وهو الشمس فإن ضوءها يجعل العالم مضيئا، ولا ينتقص البتة من ضوئها شيء، فكذا ههنا فكيف لا يكون عالما بالسر والأخفى، فإن من تدبيراته في خلق الأشجار وأنواع النبات أنها
ليس لها فم ولا سائر آلات الغذاء فلا جرم أصولها مركوزة في الأرض تمتص بها الغذاء فيتأدى ذلك الغذاء إلى الأغصان ومنها إلى العروق ومنها إلى الأوراق، ثم إنه تعالى جعل عروقها كالأطناب التي بها يمكن ضرب الخيام. وكما أنه لا بد من مد الطنب من كل جانب لتبقى الخيمة واقفة، كذلك العروق تذهب من كل جانب لتبقى الشجرة واقفة، ثم لو نظرت إلى كل ورقة وما فيها من العروق الدقيقة المبثوثة فيها ليصل الغذاء منها إلى كل جانب من الورقة ليكون ذلك تقوية لجرم الورقة فلا يتمزق سريعا، وهي شبه العروق المخلوقة في بدن الحيوان لتكون مسالك للدم والروح فتكون مقوية للبدن، ثم انظر إلى الأشجار فإن أحسنها في المنظر الدلب والخلاف، ولا حاصل لهما، وأقبحها شجرة التين والعنب، و (لكن) انظر إلى منفعتهما، فهذه الأشياء وأشباهها تظهر أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
أما قوله تعالى: * (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) * فالكلام فيه على قسمين. الأول: في التوحيد اعلم أن دلائل التوحيد ستأتي إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) وإنما ذكره ههنا ليبين أن الموصوف بالقدرة وبالعلم على الوجه الذي تقدم واحد لا شريك له، وهو الذي يستحق العبادة دون غيره، ولنذكر ههنا نكتا متعلقة بهذا الباب وهي أبحاث:
البحث الأول: اعلم أن مراتب التوحيد أربع. أحدها: الإقرار باللسان. والثاني: الاعتقاد بالقلب. والثالث: تأكيد ذلك الاعتقاد بالحجة. والرابع: أن يصير العبد مغمورا في بحر التوحيد بحيث لا يدور في خاطره شيء غير عرفان الأحد الصمد. أما الإقرار باللسان فإن وجد خاليا عن الاعتقاد بالقلب فذلك هو المنافق، وأما الاعتقاد بالقلب إذا وجد خاليا عن الإقرار باللسان ففيه صور. الصورة الأولى: أن من نظر وعرف الله تعالى وكما عرفه مات قبل أن يمضي عليه من الوقت ما يمكنه التلفظ بكلمة الشهادة فقال قوم إنه لا يتم إيمانه والحق أنه يتم لأنه أدى ما كلف به وعجز عن التلفظ به فلا يبقى مخاطبا، ورأيت في (بعض) الكتب أن ملك الموت
9

مكتوب على جبهته لا إله إلا الله لكي إذا رآه المؤمن تذكر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك التذكر عن الذكر. الصورة الثانية: أن من عرف الله ومضى عليه من الوقت ما يمكنه التلفظ بالكلمة ولكنه قصر فيه، قال الشيخ الغزالي: يحتمل أن يقال اللسان ترجمان القلب فإذا حصل المقصود في القلب كان امتناعه من التلفظ جاريا مجرى امتناعه من الصلاة والزكاة وكيف يكون من أهل النار، وقد قال عليه السلام: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان " وقلب هذا الرجل مملوء من الإيمان؟ وقال آخرون: الإيمان والكفر أمور شرعية نحن نعلم أن الممتنع من هذه الكلمة كافر. الصورة الثالثة: من أقر باللسان واعتقد بالقلب من غير دليل فهو مقلد والاختلاف في صحة إيمانه مشهور. أما المقام الثالث: وهو إثبات التوحيد بالدليل والبرهان فقد بينا في تفسير قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) أنه يمكن إثبات هذا المطلوب بالدلائل العقلية والسمعية واستقصينا القول فيها هناك. أما المقام الرابع: وهو الفناء في بحر التوحيد فقال المحققون: العرفان مبتدأ من تفريق ونقض وترك ورفض ممكن في جميع صفات هي من صفات الحق للذات المريدة بالصدق منتبه إلى الواحد القهار، ثم وقوف هذه الكلمات محيطة بأقصى نهايات درجات السائرين إلى الله تعالى.
البحث الثاني: في الأخبار الواردة في التهليل، أولها: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: أستغفر الله ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ". وثانيها: قال عليه السلام: " إن الله تعالى خلق ملكا من الملائكة قبل أن خلق السماوات والأرض وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله مادا بها صوته لا يقطعها ولا يتنفس فيها ولا يتمها، فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيما لله عز وجل ". وثالثها: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال عليه السلام: " ما زلت أشفع إلى ربي ويشفعني وأشفع إليه ويشفعني حتى قلت: يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله قال يا محمد هذه ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي لا أدع أحدا في النار قال لا إله إلا الله ". وثانيها: قال سفيان الثوري: سألت جعفر بن محمد عن حم عسق قال: الحاء حكمه والميم ملكه والعين عظمته والسين سناؤه والقاف قدرته، يقول الله جل ذكره: بحكمي وملكي وعظمتي وسنائي وقدرتي لا أعذب بالنار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. وخامسها: أن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قام في السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب له الله ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له بيتا في الجنة ".
البحث الثالث: في النكت. أحدها: ينبغي لأهل لا إله إلا الله أن يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله: التصديق والتعظيم والحلاوة والحرية، فمن ليس له التصديق فهو
10

منافق ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع ومن ليس له الحلاوة فهو مراء ومن ليس له الحرية فهو فاجر. وثانيها: قال بعضهم قوله: * (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة) * (إبراهيم: 24) إنه لا إله إلا الله: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * (فاطر: 10) لا إله إلا الله: * (وتواصوا بالحق) * (العصر: 3) لا إله إلا الله: * (قل إنما أعظكم بواحدة) * (سبأ: 46) لا إله إلا الله: * (وقفوهم إنهم مسؤولون) * (الصافات: 24) عن قول لا إله إلا الله: * (بل جاء بالحق وصدق المرسلين) * (الصافات: 37) هو لا إله إلا الله: * (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) * (إبراهيم: 27) هو لا إله إلا الله: * (ويضل الله الظالمين) * (إبراهيم: 27) عن قول لا إله إلا الله. وثالثها: أن موسى بن عمران عليه السلام قال: " يا رب علمني شيئا أذكرك به، قال: قل لا إله إلا الله قال كل عبادك يقولون لا إله إلا الله! فقال: قل لا إله إلا الله قال إنما أردت شيئا تحصني به! قال يا موسى لو أن السماوات السبع ومن فيهن في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله ".
البحث الرابع: في إعرابه قالوا كلمة لا ههنا دخلت على الماهية، فانتفت الماهية، وإذا انتفت الماهية انتفت كل أفراد الماهية. وأما الله فإنه اسم علم للذات المعينة إذ لو
كان اسم معنى لكان كلها محتملا للكثرة فلم تكن هذه الكلمة مفيدة للتوحيد، فقالوا: لا استحقت عمل أن لمشابهتها لها من وجهين، أحدهما: ملازمة الأسماء، والآخر تناقضهما فإن أحدهما لتأكيد الثبوت والآخر لتأكيد النفي، ومن عادتهم تشبيه أحد الضدين بالآخر في الحكم، إذا ثبت هذا فنقول لما قالوا: إن زيدا ذاهب كان يجب أن يقولوا لا رجلا ذاهب إلا أنهم بنوا لا مع ما دخل عليه من الاسم المفرد على الفتح، أما البناء فلشدة اتصال حرف النفي بما دخل عليه كأنهما صارا اسما واحدا، وأما الفتح فلأنهم قصدوا البناء على الحركة المستحقة توفيقا بين الدليل الموجب للإعراب والدليل الموجب للبناء. الثاني: خبره محذوف والأصل لا إله في الوجود ولا حول ولا قوة لنا وهذا يدل على أن الوجود زائد على الماهية.
البحث الخامس: قال بعضهم تصور الثبوت مقدم على تصور السلب، فإن السلب ما لم يضف إلى الثبوت لا يمكن تصوره فكيف قدم ههنا السلب على الثبوت. وجوابه: أنه لما كان هذا السلب من مؤكدات الثبوت لا جرم قدم عليه. القسم الثاني: من الكلام في الآية البحث عن أسماء الله تعالى وفيه أبحاث:
البحث الأول: قال عليه السلام: " إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيها الناس أنا جعلت لكم نسبا وأنتم جعلتم لأنفسكم نسبا، أنا جعلت أكرمكم عندي أتقاكم وأنتم جعلتم أكرمكم أغناكم فالآن أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون! "، واعلم أن الأشياء في قسمة العقول على ثلاثة أقاسم: كامل لا يحتمل النقصان، وناقص لا يحتمل الكمال، وثالث يقبل الأمرين، أما الكامل الذي لا يحتمل النقصان فهو الله تعالى وذلك في حقه بالوجوب الذاتي وبعده الملائكة فإن من كمالهم أنهم: * (لا يعصون الله ما أمرهم) * (التحريم: 6) ومن صفاتهم أنهم: * (عباد مكرمون) * (الأنبياء: 26) ومن
11

صفاتهم أنهم يستغفرون للذين آمنوا، وأما الناقص الذي لا يحتمل الكمال فهو الجمادات والنبات والبهائم، وأما الذي يقبل الأمرين جميعا فهو الإنسان تارة يكون في الترقي بحيث يخبر عنه بأنه * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) * (القمر: 55) وتارة في التسفل بحيث يقال: * (ثم رددناه أسفل سافلين) * (التين: 5) وإذا كان كذلك استحال أن يكون الإنسان كاملا لذاته، وما لا يكون كاملا لذاته استحال أن يصير موصوفا بالكمال إلى أن يصير منتسبا إلى الكامل لذاته. لكن الانتساب قسمان: قسم يعرض للزوال وقسم لا يكون يعرض للزوال. أما الذي يكون يعرض للزوال، فلا فائدة فيه ومثاله الصحة والمال والجمال، وأما الذي لا يكون يعرض للزوال فعبوديتك لله تعالى فإنه كما يمتنع زوال صفة الإلهية عنه يمتنع زوال صفة العبودية عنك فهذه النسبة لا تقبل الزوال، والمنتسب إليه وهو الحق سبحانه لا يقبل الخروج عن صفة الكمال. ثم إذا كنت من بلد أو منتسبا إلى قبيلة فإنك لا تزال تبالغ في مدح تلك البلدة والقبيلة بسبب ذلك الانتساب العرضي فلأن تشتغل بذكر الله تعالى ونعوت كبريائه بسبب الانتساب الذاتي كان أولى فلهذا قال: * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) * (الأعراف: 180) وقال: * (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) *.
البحث الثاني: في تقسيم أسماء الله تعالى. اعلم أن اسم كل شيء، إما أن يكون واقعا عليه بحسب ذاته أو بحسب أجزاء ذاته أو بحسب الأمور الخارجة عن ذاته. أما القسم الأول: فقد اختلفوا في أنه هل لله تعالى اسم على هذا الوجه وهذه المسألة مبنية على أن حقيقة الله تعالى هل هي معلومة للبشر أم لا؟ فمن قال إنها غير معلومة للبشر قال: ليس لذاته المخصوصة اسم، لأن المقصود من الاسم أن يشار به إلى المسمى وإذا كانت الذات المخصوصة غير معلومة امتنعت الإشارة العقلية إليها، فامتنع وضع الاسم لها، وقد تكلمنا في تحقيق ذلك في تفسير اسم الله، وأما الاسم الواقع عليه بحسب أجزاء ذاته فذلك محال لأنه ليس لذاته شيء من الأجزاء لأن كل مركب ممكن وواجب الوجود لا يكون ممكنا فلا يكون مركبا، وأما الاسم الواقع بحسب الصفات الخارجة عن ذاته، فالصفات إما أن تكون ثبوتية حقيقية أو ثبوتية إضافية أو سلبية أو ثبوتية مع إضافية أو ثبوتية مع سلبية أو إضافية مع سلبية أو ثبوتية وإضافية وسلبية ولما كانت الإضافات الممكنة غير متناهية، وكذا السلوب غير متناهية، أمكن أن يكون للباري تعالى أسماء متباينة لا مترادفة غير متناهية. فهذا هو التنبيه على المأخذ.
البحث الثالث: يقال: إن لله تعالى أربعة آلاف اسم، ألف لا يعلمها إلا الله تعالى وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة والأنبياء. وأما الألف الرابع فإن المؤمنين يعلمونها ثلثمائة منها في التوراة وثلثمائة في الإنجيل وثلثمائة في الزبور ومائة في الفرقان تسع وتسعون منها ظاهرة وواحد مكتوم فمن أحصاها دخل الجنة.
البحث الرابع: الأسماء الواردة في القرآن منها ما ليس بانفراده ثناء ومدحا، كقوله جاعل
12

وفالق وخالق فإذا قيل: * (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا) * (الأنعام: 96) صار مدحا، وأما الاسم الذي يكون مدحا فمنه ما إذا قرن بغيره صار أبلغ نحو قولنا: حي فإذا قيل الحي القيوم أو الحي الذي لا يموت كان أبلغ وأيضا قولنا بديع فإنك إذا قلت بديع السماوات والأرض ازداد المدح، ومن هذا الباب ما كان اسم مدح ولكن لا يجوز إفراده كقولك: دليل. وكاشف فإذا قيل: يا دليل المتحيرين، ويا كاشف الضر والبلوى جاز، ومنه ما يكون اسم مدح مفردا أو مقرونا كقولنا الرحمن الرحيم.
البحث الخامس: من الأسماء ما يكون مقارنتها أحسن كقولك الأول الآخر المبدئ المعيد الظاهر الباطن ومثاله قوله تعالى في حكاية قول المسيح: * (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) * (المائدة: 118) وبقية الأبحاث قد تقدمت في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم. البحث السادس: في النكت (أولها) رأى بشر الحافي كاغدا مكتوبا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم فرفعه وطيبه بالمسك وبلعه فرأى في النوم قائلا يقول: يا بشر طيبت اسمنا فنحن نطيب اسمك في الدنيا والآخرة. وثانيها: قوله تعالى: * (ولله الأسماء الحسنى) * (الأعراف: 180) وليس حسن الأسماء لذواتها لأنها ألفاظ وأصوات بل حسنها لحسن معانيها ثم ليس حسن أسماء الله حسنا يتعلق بالصورة والخلقة فإن ذلك محال على من ليس بجسم بل حسن يرجع إلى معنى الإحسان مثلا اسم الستار والغفار والرحيم إنا كانت حسناء لأنها دالة على معنى الإحسان، وروى أن حكيما ذهب إليه قبيح وحسن والتمسا الوصية فقال للحسن: أنت حسن والحسن لا يليق به الفعل القبيح، وقال للآخر أنت قبيح والقبيح إذا فعل الفعل القبيح عظم قبحه. فنقول: إلهنا أسماؤك حسنة وصفاتك حسنة فلا تظهر لنا من تلك الأسماء الحسنة والصفات الحسنة إلا الإحسان، إلهنا يكفينا قبح
أفعالنا وسيرتنا فلا نضم إليه قبح العقاب ووحشة العذاب. وثالثها: قوله عليه السلام: " اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه " إلهنا حسن الوجه عرضي أما حسن الصفات والأسماء فذاتي فلا تردنا عن إحسانك خائبين خاسرين. رابعها: ذكر أن صيادا كان يصيد السمك فصاد سمكة وكان له ابنة فأخذتها ابنته فطرحتها الماء وقالت: إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها، إلهنا تلك الصبية رحمت غفلة هاتيك السمكة وكانت تلقيها مرة أخرى في البحر ونحن قد اصطادتنا وسوسة إبليس وأخرجتنا من بحر رحمتك فارحمنا بفضلك وخلصنا منها وألقنا في بحار رحمتك مرة أخرى. وخامسها: ذكرت من الأسماء خمسة في الفاتحة، وهي الله والرب والرحمن والرحيم والملك فذكرت الإلهية وهي إشارة إلى القهارية والعظمة فعلم أن الأرواح لا تطيق ذلك القهر والعلو فذكر بعده أربعة أسماء تدل على اللطف، الرب وهو يدل على التربية والمعتاد أن من ربى أحدا فإنه لا يهمل أمره ثم ذكر الرحمن الرحيم وذلك هو النهاية في اللطف والرأفة ثم ختم الأمر بالملك والملك العظيم لا ينتقم من الضعيف العاجز ولأن عائشة قالت لعلي عليه السلام: " ملكت فأشجع فأنت أولى بأن تعفو عن هؤلاء الضعفاء ". وسادسها: عن محمد بن كعب القرظي قال موسى عليه السلام: " إلهي أي خلقك أكرم عليك؟ قال
13

الذي لا يزال لسانه رطبا من ذكري، قال: فأي خلقك أعلم؟ قال: الذي يلتمس إلى علمه علم غيره، قال: فأي خلقك أعدل؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس، قال: فأي خلقك أعظم جرما؟ قال: الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له ". إلهنا إنا لا نتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت به فهو فضل وكل ما تفعله فهو عدل فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا. وسابعها: قال الحسن إذا كان يوم القيامة نادى مناد سيعلم الجمع من أولى بالكرم، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون فيتخطون رقاب الناس، ثم يقال: أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ ثم ينادي مناد أين الحامدون لله على كل حال؟ ثم تكون التبعة والحساب على من بقي إلهنا فنحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار قدرتنا ومنتهى طاقتنا فاعف عنا بفضلك ورحمتك. ومن أراد الاستقصاء في الأسماء والصفات فعليه بكتاب لوامع البينات في الأسماء والصفات وبالله التوفيق.
قوله تعالى
* (وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إنى ءانست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى * فلمآ أتاها نودى يا موسى * إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) *
اعلم أنه تعالى لما عظم حال القرآن وحال الرسول فيما كلفه اتبع ذلك بما يقوي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام تقوية لقلبه في الإبلاغ كقوله: * (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) * (هود: 120) وبدأ بموسى عليه السلام لأن المحنة والفتنة الحاصلة له كانت أعظم ليسلي قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ويصبره على تحمل المكاره فقال: * (وهل أتاك حديث موسى) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وهل أتاك) * يحتمل أن يكون هذا أول ما أخبر به من أمر موسى عليه السلام فقال: * (وهل أتاك) * أي لم يأتك إلى الآن وقد أتاك الآن فتنبه له، وهذا قول الكلبي. ويحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال: أليس قد أتاك، وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس.
المسألة الثانية: قوله: * (وهل أتاك) * وإن كان على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله
14

تعالى لكن المقصود منه تقرير الجواب في قلبه، وهذه الصيغة أبلغ في ذلك كما يقول المرء لصاحبه هل بلغك خبر كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة ما يرمى إليه، ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قبل النبي عليه السلام لا من قبل الله تعالى.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (إذ رأى نارا) * أي هل أتاك حديثه حين رأى نارا قال المفسرون: استأذن موسى عليه السلام شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد حاد عن الطريق فقدح موسى عليه السلام النار فلم تور المقدحة شيئا، فبينا هو مزاولة ذلك إذ نظر نارا من بعيد عن يسار الطريق. قال السدي: ظن أنها نار من نيران الرعاة وقال آخرون: إنه عليه السلام رآها في شجرة وليس في لفظ القرآن ما يدل على ذلك، واختلفوا فقال بعضهم الذي رآه لم يكن نارا بل تخيله نارا والصحيح أنه رأى نارا ليكون صادقا في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء، قيل: الناس أربعة أقسام: نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا، ونار تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى: * (جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) * (يس: 80) ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة، ونار لا تأكل ولا تشرب وهي نار موسى عليه السلام وقيل أيضا النار على أربعة أقسام: أحدها: نار لها نور بلا حرقة وهي نار موسى عليه السلام. وثانيها: حرقة بلا نور وهي نار جهنم. وثالثها: الحرقة والنور وهي نار الدنيا. ورابعها: لا حرقة ولا نور وهي نار الأشجار، فلما أبصر النار توجه نحوها (فقال لأهله امكثوا) *. فيجوز أن يكون الخطاب للمرأة وولدها والخادم الذي معها ويجوز أن يكون للمرأة وحدها ولكن خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع، وأيضا فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيما أي أقيموا في مكانكم: * (إني آنست نارا) * أي أبصرت، والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين فإنه يبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم وقيل هو أيضا ما يؤنس به ولما وجد منه الإيناس وكان منتفيا حقيقة لهم أتى بكلمة إني لتوطين أنفسهم ولما كان الإيناس بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بني الأمر فيهما على الرجاء والطمع فقال: * (لعلي آتيكم) * ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به. والنكتة فيه أن قوما قالوا: كذب إبراهيم للمصلحة وهو محال لأن موسى عليه السلام قبل نبوته احترز عن الكذب فلم يقل آتيكم ولكن قال لعلي آتيكم ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما: * (أو أجد على النار هدى) * والهدى ما يهتدى به وهو اسم مصدر فكأنه قال أجد على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة، ومعنى الاستعلاء على النار أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا
مشرفين عليها * (فلما أتاها) * أي أتى النار قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء فوقف متعجبا من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة
15

تغير ضوء النار فسمع تسبيح الملائكة ورأى نورا عظيما، قال وهب: فظن موسى عليه السلام أنها نار أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء. وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي يا موسى قال القاضي الذي يروى من أن الزند ما كان يورى فهذا جائز وأما الذين يروى من أن النار كانت تتأخر عنه فإن كانت النبوة قد تقدمت له جاز ذلك وإلا فهو ممتنع إلا أن يكون معجزة لغيره من الأنبياء عليهم السلام وفي قوله: * (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) * (طه: 13) دلالة على أن هذه الحالة أوحى الله إليه وجعله نبيا، وعلى هذا الوجه يبعد ما ذكروه من تأخر النار عنه وبين فساد ذلك قوله تعالى: * (فلما أتاها نودي يا موسى) * وإن كانت تتأخر عنه حالا بعد حال لما صح ذلك ولما بقي لفاء التعقيب فائدة قلنا: القاضي إنما بنى هذا الاعتراض على مذهبه في أن الإرهاص غير جائز وذلك عندنا باطل فبطل قوله وأما التمسك بفاء التعقيب فقريب لأن تخلل الزمان القليل فيما بين المجيء والنداء لا يقدح في فاء التعقيب.
المسألة الرابعة: قرأ أبو عمرو وابن كثير (أنى) بالفتح أي نودي بأني أنا ربك والباقون بالكسر أي نودي فقيل: يا موسى أو لأن النداء ضرب من القول فعومل معاملته.
المسألة الخامسة: قال الأشعري إن الله تعالى أسمعه الكلام القديم الذي ليس بحرف ولا صوت، وأما المعتزلة فإنهم أنكروا وجود ذلك الكلام فقالوا: إنه سبحانه خلق ذلك النداء في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها لأن النداء كلام الله تعالى والله قادر عليه ومتى شاء فعله، وأما أهل السنة من أهل ما وراء النهر فقد أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى عليه السلام صوت خلقه الله تعالى في الشجرة واحتجوا بالآية على أن المسموع هو الصوت المحدث قالوا: إنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار والمرتب على المحدث محدث فالنداء محدث.
المسألة السادسة: اختلفوا في أن موسى عليه السلام كيف عرف أن المنادي هو الله تعالى فقال أصحابنا: يجوز أن يخلق الله تعالى له علما ضروريا بذلك ويجوز أن يعرفه بالمعجزة، قالت المعتزلة: أما العلم الضروري فغير جائز لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع العالم القادر لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوما له بالضرورة لخرج موسى عن كونه مكلفا لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف، وبالإتفاق لم يخرج موسى عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالمعجز ثم اختلفوا في ذلك المعجز على وجوه. أولها: منهم من قال نعلم قطعا أن الله تعالى عرفه ذلك بواسطة المعجز ولا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك المعجز ما هو. وثانيها: يروى أن موسى عليه السلام لما شاهد النور الساطع من الشجرة إلى السماء وسمع تسبيح الملائكة
16

وضع يديه على عينيه فنودي يا موسى؟ فقال: لبيك إني أسمع صوتك ولا أراك فأين أنت؟ قال: أنا معك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك منك. ثم إن إبليس أخطر بباله هذا الشك وقال: ما يدريك أنك تسمع كلام الله؟ فقال: لأني أسمعه من فوقي ومن تحتي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي كما أسمعه من قدامي، فعلمت أنه ليس بكلام المخلوقين. ومعنى إطلاقه هذه الجهات أنى أسمعه بجميع أجزائي وأبعاضي حتى كأن كل جارحة مني صارت أذنا. وثالثها: لعله سمع النداء من جماد كالحصى وغيرها فيكون ذلك معجزا. ورابعها: أنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث أن تلك الخضرة ما كانت تطفئ تلك النار وتلك النار ما كانت تضر تلك الخضرة، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه.
المسألة السابعة: قالوا: إن تكرير الضمير في * (إني أنا ربك) * كان لتوليد الدلالة وإزالة الشبهة.
المسألة الثامنة: ذكروا في قوله: * (فاخلع نعليك) * وجوها. أحدها: كانتا من جلد حمار ميت فلذلك أمر بخلعهما صيانة للوادي المقدس ولذلك قال عقيبه: * (إنك بالوادي المقدس طوى) * وهذا قول علي عليه السلام وقول مقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي. والثاني: إنما أمر بخلعهما لينال قدميه بركة الوادي وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد. وثالثها: أن يحمل ذلك على تعظيم البقعة من أن يطأها إلا حافيا ليكون معظما لها وخاضعا عند سماع كلام ربه، والدليل عليه أنه تعالى قال عقيبه: * (إنك بالوادي المقدس طوى) * وهذا يفيد التعليل فكأنه قال تعالى: اخلع نعليك لأنك بالوادي المقدس طوى. وأما أهل الإشارة فقد ذكروا فيها وجوها: أحدها: أن النعل في النوم يفسر بالزوجة والولد فقوله: * (اخلع نعليك) * إشارة إلى أن لا يلفت خاطره إلى الزوجة والولد وأن لا يبقى مشغول القلب بأمرهما. وثانيها: المراد بخلع النعلين ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة كأنه أمره بأن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ولا يلتفت بخاطره إلى ما سوى الله تعالى والمراد من الوادي المقدس قدس جلال الله تعالى وطهارة عزته يعني أنك لما وصلت إلى بحر المعرفة فلا تلتفت إلى المخلوقات. وثالثها: أن الإنسان حال الاستدلال على الصانع لا يمكنه أن يتوصل إليه إلا بمقدمتين مثل أن يقول العالم المحسوس محدث أو ممكن وكل ما كان كذلك فله مدبر ومؤثر وصانع وهاتان المقدمتان تشبهان النعلين لأن بهما يتوصل العقل إلى المقصود ويتنقل من النظر في الخلق إلى معرفة الخالق ثم بعد الوصول إلى معرفة الخالق وجب أن لا يبقى ملتفتا إلى تينك المقدمتين لأن بقدر الاشتغال بالغير يبقى محروما عن الاستغراق فيه فكأنه قيل له لا تكن مشتغل القلب والخاطر بتينك المقدمتين فإنك وصلت إلى الوادي المقدس الذي هو بحر معرفة الله تعالى ولجة ألوهيته.
المسألة التاسعة: استدلت المعتزلة بقوله: * (اخلع نعليك) * على أن كلام الله تعالى ليس بقديم إذ لو كان قديما لكان الله قائلا قبل وجود موسى اخلع نعليك يا موسى ومعلوم أن ذلك سفه فإن
17

الرجل في الدار الخالية إذا قال: يا زيد افعل ويا عمرو لا تفعل مع أن زيدا وعمرا لا يكونان حاضرين بعد ذلك جنونا وسفها فكيف يليق ذلك بالإله سبحانه وتعالى وأجاب أصحابنا عنه من وجهين: الأول: أن كلامه تعالى وإن كان قديما إلا أنه في الأزل لم يكن أمرا ولا نهيا. والثاني: أنه كان أمرا بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما لا يزال صار الشخص به مأمورا من غير وقوع التغير في ذلك الشيء كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة كذا ههنا وهذا الكلام فيه غموض وبحث دقيق.
المسألة العاشرة: ليس في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل والصحيح عدم الكراهة وذلك لأنا إن عللنا الأمر بخلع النعلين بتعظيم الوادي وتعظيم كلام الله كان الأمر مقصورا على تلك الصورة، وإن عللناه بأن النعلين كانا من جلد حمار ميت فجائز أن يكون قد كان محظورا لبس جلد الحمار الميت وإن كان مدبوغا فإن كان كذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام: " أيما إيهاب دبغ فقد طهر " وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال: " ما لكم خلعتم نعالكم " قالوا: خلعت فخلعنا قال: " فإن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا " فلم يكره النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في النعل وأنكر على الخالعين خلعهما وأخبرهم بأنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر.
المسألة الحادية عشر: قرىء طوى بالضم والكسر منصرفا وغير منصرف فمن نونه فهو اسم الوادي ومن لم ينونه ترك صرفه لأنه معدول عن طاوي فهو مثل عمر المعدول عن عامر ويجوز أن يكون اسما للبقعة.
المسألة الثانية عشرة: في طوى وجوه: الأول: أنه اسم للوادي وهو قول عكرمة وابن زيد. والثاني: معناه مرتين نحو مثنى أي قدس الوادي مرتين أو نودي موسى عليه السلام نداءين يقال ناديته طوى أي مثنى. والثالث: طوى أي طيا قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه مر بذلك الوادي ليلا فطواه فكان المعنى بالوادي المقدس الذي طويته طيا أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه ومن ذهب إلى هذا قال طوى مصدر خرج عن لفظه كأنه قال: طويته طوى كما يقال هدى يهدي هدي والله أعلم.
قوله تعالى
* (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلوة
18

لذكرى) * وقرأ حمزة: (وإنا اخترناك) وقرأ أبي بن كعب: (وإني اخترتك) ههنا مسائل:
المسألة الأولى: معناه اخترتك للرسالة وللكلام الذي خصصتك به، وهذه الآية تدل على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق لأن قوله: * (وأنا اخترتك) * يدل على أن ذلك المنصب العلي إنما حصل لأن الله تعالى اختاره له ابتداء لا أنه استحقه على الله تعالى.
المسألة الثانية: قوله: * (فاستمع لما يوحى) * فيه نهاية الهيبة والجلالة فكأنه قال: لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهب له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفا إليه فقوله: * (وأنا اخترتك) * يفيد نهاية اللطف والرحمة وقوله: * (فاستمع) * يفيد نهاية الهيبة فيحصل له من الأول نهاية الرجاء ومن الثاني نهاية الخوف.
المسألة الثالثة: قوله: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) * يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع لأن التوحيد في علم الأصول والعبادة من علم الفروع وأيضا الفاء في قوله: * (فاعبدني) * تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهيته وهذا هو تحقيق العلماء أن الله هو المستحق للعبادة.
المسألة الرابعة: أنه سبحانه بعد أن أمره بالتوحيد، أولا ثم بالعبادة ثانيا، أمره بالصلاة ثالثا احتج أصحابنا بهذه الآية على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز من وجهين: الأول: أنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفية تلك العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكا عن البيان. الثاني: أنه قال: * (وأقم الصلاة لذكري) * ولم يبين كيفية الصلاة قال: القاضي لا يمتنع أن موسى عليه السلام قد عرف الصلاة التي تعبد الله تعالى بها شعيبا عليه السلام وغيره من الأنبياء فصار الخطاب متوجها إلى ذلك ويحتمل أنه تعالى بين له في الحال وأن كان المنقول في القرآن لم يذكر فيه إلا هذا القدر. والجواب: أما العذر الأول فإنه لا يتوجه في قوله تعالى: * (فاعبدني) * وأيضا فحمل مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم لأن موسى عليه السلام ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب عليه السلام فلو حملنا قوله: * (وأقم الصلاة) * على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة، أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت الفائدة الزائدة، قوله: لعل الله تعالى بينه في ذلك الموضع وإن لم يحكه في القرآن قلنا لا نشك أن البيان أكثر فائدة من المجمل فلو كان مذكورا لكان أولى بالحكاية.
المسألة الخامسة: في قوله: * (لذكري) * وجوه: أحدها: لذكري يعني لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلي لي. وثانيها: لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد. وثالثها: لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها. ورابعها: لأن أذكرك بالمدح والثناء واجعل لك لسان صدق. وخامسها: لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. وسادسها: لإخلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضا آخر. وسابعها: لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم كما قال تعالى: * (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) * (النور: 37)
19

وثامنها: لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة لقوله تعالى: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * (النساء: 103). وتاسعها: * (أقم الصلاة) * حين تذكرها أي أنك إذا نسيت صلاة فاقضها إذا ذكرتها. روى قتادة عن أنس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " ثم قرأ: * (وأقم الصلاة لذكري) * قال الخطابي يحتمل هذا الحديث وجهين. أحدهما: أنه لا يكفرها غير قضائها والآخر أنه لا يلزم في نسيانها
غرامة ولا كفارة كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئا من نسكه فدية من إطعام أو دم. وإنما يصلي ما ترك فقط فإن قيل حق العبارة أن يقول أقم الصلاة لذكرها كما قال عليه السلام: " فليصلها إذا ذكرها " قلنا قوله: * (لذكري) * معناه للذكر الحاصل بخلقي أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي. المسألة السادسة: لو فاتته صلوات يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الشافعي رحمه الله ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة نظر إن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة ولو بدأ بصلاة الوقت جاز وإن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فات الوقت يجب أن يبدأ بصلاة الوقت حتى لا تفوت ولو تذكر الفائتة بعدما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها ولا يجب وقال أبو حنيفة رحمه الله يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم وليلة حتى قال: لو تذكر في خلال صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت فيقضي الفائتة ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيقا فلا تبطل حجة أبي حنيفة رحمه الله الآية والخبر والأثر والقياس، أما الآية فقوله تعالى: * (أقم الصلاة لذكري) * أي لتذكرها واللام بمعنى عند كقوله: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * (الإسراء: 78) أي عند دلوكها فمعنى الآية أقم الصلاة المتذكرة عند تذكرها وذلك يقتضي رعاية الترتيب وأما الخبر فقوله عليه السلام: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها " والفاء للتعقيب وأيضا روى جابر بن عبد الله قال: " جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس قال النبي صلى الله عليه وسلم وأنا والله ما صليتها بعد قال فنزل إلى البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها وهذا الحديث مذكور في " الصحيحين " قالت الحنفية والاستدلال به من وجهين: أحدهما: أنه عليه الصلاة والسلام قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " فلما صلى الفوائت على الولاء وجب علينا ذلك. والثاني: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة وهذا الفعل خرج بيانا لمجمل قوله تعالى: * (أقيموا الصلاة) * (النور: 56) ولهذا قلنا إن الفوائت إذا كانت في حد القلة يجب مراعاة الترتيب فيها وإذا دخلت في حد الكثرة يسقط الترتيب وأما الأثر فما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " من فاتته صلاة فلم يذكرها إلا في صلاة الإمام فليمض في صلاته فإذا قضى صلاته مع الإمام
20

يصلي ما فاته ثم ليعد التي صلاها مع الإمام " وقد يروى هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما القياس فهو أنهما صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة والمزدلفة فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك حجة الشافعي رحمه الله أنه روى في حديث أبي قتادة: " أنهم لما ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها " ولو كان وقت التذكر معينا للصلاة لما جاز ذلك فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع إذا ثبت هذا فنقول إيجاب قضاء الفوائت وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين فوجب أن يكون المكلف مخيرا في تقديم أيهما شاء ولأنه لو كان الترتيب في الفوائت شرطا لما سقط بالنسيان ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيم ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال والعصر بعد الزوال فإنه يعيدهما جميعا ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما كان شرطا فيهما فههنا أيضا لو كان شرطا فيهما لما كان يسقط بالنسيان.
قوله تعالى
* (إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) *
اعلم أنه تعالى لما خاطب موسى عليه السلام بقوله: * (فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) * (طه: 14) أتبعه بقوله: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) * وما أليق هذا بتأويل من تأول قوله * (لذكري) * أي لأذكرك بالأمانة والكرامة فقال عقيب ذلك: * (إن الساعة آتية) * لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة ثم قال: * (أكاد أخفيها) * وفيه سؤالان:
السؤال الأول: هو أن كاد نفيه إثبات وإثباته نفي بدليل قوله: * (وما كادوا يفعلون) * (البقرة: 71) أي وفعلوا ذلك فقوله: * (أكاد أخفيها) * يقتضي أنه ما أخفاها وذلك باطل لوجهين، أحدهما: قوله: * (إن الله عنده علم الساعة) * (لقمان: 34). والثاني: أن قوله: * (لتجزى كل نفس بما تسعى) * إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار. والجواب: من وجوه، أحدها: أن كاد موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات فقوله: * (أكاد أخفيها) * معناه قرب الأمر فيه من الإخفاء وأما أنه هل حصل ذلك الإخفاء أو ما حصل فذلك غير مستفاد من اللفظ بل من قرينة قوله: * (لتجزى كل نفس بما تسعى) * فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار. وثانيها: أن كاد من الله واجب فمعنى قوله: * (أكاد أخفيها) * أي أنا أخفيها
21

عن الخلق كقوله: * (عسى أن يكون قريبا) * (الإسراء: 51) أي هو قريب قاله الحسن. وثالثها: قال أبو مسلم: * (أكاد) * بمعنى أريد وهو كقوله: * (كذلك كدنا ليوسف) * (يوسف: 76) ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي ولا أريد أن أفعله. ورابعها: معناه: * (أكاد أخفيها) * من نفسي وقيل إنها كذلك في مصحف أبي وفي حرف ابن مسعود: * (أكاد أخفيها) * من نفسي فكيف أعلنها لكم قال القاضي هذا بعيد لأن الإخفاء إنما يصح فيمن يصلح له الإظهار وذلك مستحيل على الله تعالى لأن كل معلوم معلوم له فالإظهار والإسرار منه مستحيل، ويمكن أن يجاب عنه بأن ذلك واقع على التقدير يعني لو صح مني إخفاؤه على نفسي لأخفيته عني والإخفاء وإن كان محالا في نفسه إلا أنه لا يمتنع أن يذكر ذلك على هذا التقدير مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه، قال قطرب: هذا على عادة العرب في مخاطبة بعضهم بعضا يقولون: إذا بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي فالله تعالى بالغ في إخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب في مثله. وخامسها: * (أكاد) * صلة في الكلام والمعنى: إن الساعة آتية أخفيها، قال زيد الخيل: سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه * فما إن يكاد قرنه يتنفس
والمعنى فما يتنفس قرنه. وسادسها: قال أبو الفتح الموصلي * (أكاد أخفيها) * تأويله أكاد أظهرها وتلخيص هذا اللفظ أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب والنفي كقولك أعجمت الكتاب وأشكلته أي أزلت عجمته وإشكاله وأشكيته أي أزلت شكواه. وسابعها: قرىء أخفيها بفتح الألف أي أكاد أظهرها من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهاره كقوله) * (اقتربت الساعة) * (القمر: 1) قال امرؤ القيس: فإن تدفنوا الداء لا نخفه * وإن تمنعوا الحرب لا نقعد
معنى هذا أي لا نظهره قال الزجاج وهذه القراءة أبين لأن معنى أكاد أظهرها يفيد أنه قد أخفاها. وثامنها: أراد أن الساعة آتية أكاد وانقطع الكلام ثم قال أخفيها ثم رجع الكلام الأول إلى أن الأولى الإخفاء: * (لتجزى كل نفس بما تسعى) * وهذا الوجه بعيد والله أعلم. السؤال الثاني: ما الحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت؟ الجواب: لأن الله تعالى وعد قبول التوبة فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قريب من ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية، وإنه لا يجوز. أما قوله: * (لتجزى كل نفس بما تسعى) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة ذكر الدليل عليه وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسئ وذلك غير جائز وهو الذي عناه الله تعالى بقوله: * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض. أم نجعل المتقين كالفجار) * (ص: 28).
المسألة الثانية: احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل لأن الباء للالصاق فقوله: * (بما تسعى) * يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي.
22

المسألة الثالثة: احتجوا بها على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى وذلك لأن الآية صريحة في إثبات سعي العبد ولو كان الكل مخلوقا لله تعالى لم يكن للعبد سعي البتة أما قوله: * (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها) * فالصد المنع وههنا مسائل:
المسألة الأولى: في هذين الضميرين وجهان. أحدهما: قال أبو مسلم لا يصدنك عنها أي عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي بالساعة فالضمير الأول عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه. وثانيهما: قال ابن عباس فلا يصدنك عن الساعة أي عن الإيمان بمجيئها من لا يؤمن بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة. قال القاضي: وهذا أولى لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم فإنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا.
المسألة الثانية: الخطاب في قوله: * (فلا يصدنك) * يحتمل أن يكون مع موسى عليه السلام وأن يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم والأقرب أنه مع موسى لأن الكلام أجمع خطاب له وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج إنه ليس بمراد وإنما أريد به غيره وذلك لأنه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يجز عليه مع النبوة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطبا بذلك وليس الأمر كما ظن، لأنه إذا كان مكلفا بأن لا يقبل الكفر بالساعة من أحد وكان قادرا على ذلك جاز أن يخاطب به ويكون المراد هو وغيره، ويحتمل أيضا أن يكون المراد بقوله: * (فلا يصدنك عنها) * النهي له عن الميل إليهم ومقاربتهم.
المسألة الثالثة: المقصود نهي موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صد موسى عليه السلام وفيه وجهان، أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب. والثاني: أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل حمله على السبب كقوله: لا أرينك ههنا المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته، فكذا ههنا كأنه قيل: لا تكن رخوا بل كن في الدين شديدا صلبا.
المسألة الرابعة: الآية تدل على أن تعلم علم الأصول واجب لأن قوله: * (فلا يصدنك) * يرجع معناه إلى صلابته في الدين وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه من المحق فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قويا في تقرير الدلائل وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل هو يكون متمكنا من إزالة المبطل عن بطلانه.
المسألة الخامسة: قال القاضي قوله: * (فلا يصدنك) * يدل على أن العباد هم الذين يصدون ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصاد دونهم فدل ذلك على بطلان القول بالجبر، والجواب: المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم، أما قوله تعالى: * (واتبع هواه) * فالمعنى أن منكر
23

البعث إنما أنكره اتباعا للهوى لا لدليل وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد لأن المقلد متبع للهوى لا الحجة أما قوله: * (فتردى) * فهو بمعنى ولا يصدنك فتردى وإن صدوك وقبلت فليس إلا الهلاك بالنار. واعلم أن المتوغلين في أسرار المعرفة قالوا: المقام مقامان. أحدهما: مقام المحو والفناء عما سوى الله تعالى. والثاني: مقام البقاء بالله والأول مقدم على الثاني لأن من أراد أن يكتب شيئا في لوح مشغول بكتابة أخرى فلا سبيل له إليه إلا بإزالة الكتابة الأولى ثم بعد ذلك يمكن إثبات الكتابة الثانية والحق سبحانه راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب لأنه قال لموسى عليه السلام أولا: * (فاخلع نعليك) * وهو إشارة إلى تطهير السر عما سوى الله تعالى ثم بعد ذلك أمره بتحصيل ما يجب تحصيله وأصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة: علم المبدأ وعلم الوسط وعلم المعاد، فعلم المبدأ هو معرفة الحق سبحانه وتعالى وهو المراد بقوله: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا) * (طه: 14) وأما علم الوسط فهو علم العبودية ومعناها الأمر الذي يجب أن يشتغل الإنسان به في هذه الحياة الجسمانية وهو المراد بقوله: * (فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) * (طه: 14) ثم في هذا أيضا تعثر لأن قوله: * (فاعبدني) * إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله: * (لذكري) * إشارة إلى الأعمال الروحانية والعبودية أولها الأعمال الجسمانية وآخرها الأعمال الروحانية وأما علم المعاد فهو قوله: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) * ثم إنه تعالى افتتح هذه التكاليف بمحض اللطف وهو قوله: * (إني أنا ربك) * (طه: 12) واختتمها بمحض القهر وهو قوله: * (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) * تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة والرهبة والرجاء والخوف، وعند الوقوف على هذه
الجملة تعرف أن هذا الترتيب هو النهاية في الحسن والجودة وأن ذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات.
قوله تعالى
* (وما تلك بيمينك يا موسى * قال هى عصاى أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مأرب أخرى * قال ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هى حية تسعى * قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى) *
اعلم أن قوله: * (وما تلك بيمينك) * لفظتان، فقوله: * (وما تلك) * إشارة إلى العصا، وقوله: * (بيمينك) * إشارة إلى اليد، وفي هذا نكت، إحداها: أنه سبحانه لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزا قاهرا وبرهانا باهرا، ونقله من حد الجمادية إلى مقام الكرامة، فإذا صار
24

الجماد بالنظر الواحد حيوانا، وصار الجسم الكثيف نورانيا لطيفا، ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد، فأي عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى سعادة الطاعة ونور المعرفة. وثانيها: أن بالنظر الواحد صار الجماد ثعبانا يبتلع سحر السحرة، فأي عجب لو صار القلب بمدد النظر الإلهي بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء. وثالثها: كانت العصا في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركة يمينه انقلبت ثعبانا وبرهانا، وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليمين موسى عليه السلام هذه الكرامة والبركة، فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب إصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية، ثم ههنا سؤالات: الأول: قوله: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * سؤال، والسؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة فيه. والجواب فيه فوائد: إحداها: أن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئا شريفا فإنه يأخذه ويعرضه على الحاضرين ويقول لهم: هذا ما هو؟ فيقولون هذا هو الشيء الفلاني ثم إنه بعد إظهار صفته الفائقة فيه يقول لهم خذا منه كذا وكذا. فالله تعالى لما أراد أن يظهر من العصا تلك الآيات الشريفة كانقلابها حية، وكضربه البحر حتى انفلق، وفي الحجر حتى انفجر منه الماء، عرضه أولا على موسى فكأنه قال له: يا موسى هل تعرف حقيقة هذا الذي بيدك وأنه خشبة لا تضر ولا تنفع، ثم إنه قلبه ثعبانا عظيما، فيكون بهذا الطريق قد نبه العقول على كمال قدرته ونهاية عظمته من حيث إنه أظهر هذه الآيات العظيمة من أهون الأشياء عنده فهذا هو الفائدة من قوله: * (وما تلك بيمينك يا موسى) *. وثانيها: أنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه، ثم إنه مزج اللطف بالقهر فلاطفه أولا بقوله: * (وأنا اخترتك) * ثم قهره بإيراد التكاليف الشاقة عليه وإلزامه علم المبدأ والوسط والمعاد ثم ختم كل ذلك بالتهديد العظيم، تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * ليعرف موسى عليه السلام أن يمينه هي التي فيها العصا، أو لأنه لما تكلم معه أولا بكلام الإلهية وتحير موسى من الدهشة تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة، والنكتة فيه أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة أراد رب العزة إزالتها فسأله عن العصا وهو لا يقع الغلط فيه. كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال فالدهشة تغلبه والحياء يمنعه عن الكلام فيسألونه عن الأمر الذي لم يغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد، فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه. وثالثها: أنه تعالى لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية، فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها منافع أعظم مما ذكر، تنبيها على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات النبي الحاضر فلولا التوفيق والعصمة كيف يمكنهم الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها. ورابعها: فائدة هذا السؤال أن يقرر عنده أنه خشبة حتى إذا قلبها ثعبانا لا يخافها. السؤال الثاني: قوله: * (وما تلك بيمينك
25

يا موسى) * خطاب من الله تعالى مع موسى عليه السلام بلا واسطة، ولم يحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يكون موسى أفضل من محمد. الجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى كما خاطب موسى فقد خاطب محمدا عليه السلام في قوله: * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * (النجم: 10) إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق، والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وسلم كان سرا لم يستأهل له أحد من الخلق. والثاني: إن كان موسى تكلم معه وهو (تكلم) مع موسى فأمة محمد صلى الله عليه وسلم يخاطبون الله في كل يوم مرات على ما قال صلى الله عليه وسلم: " المصلي يناجي ربه " والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بالتسليم والتكريم والتكليم في قوله: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58). السؤال الثالث: ما إعراب قوله: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * الجواب، قال صاحب " الكشاف ": (تلك بيمينك) كقوله: * (وهذا بعلي شيخا) * (هود: 72) في انتصاب الحال بمعنى الإشارة ويجوز أن يكون تلك اسما موصولا وصلته * (بيمينك) * قال الزجاج: معناه وما التي بيمينك، قال الفراء: معناه ما هذه التي في يمينك، واعلم أنه سبحانه لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك أجاب موسى عليه السلام بأربعة أشياء، ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال. الأول: قوله: * (هي عصاي) * قرأ ابن أبي إسحق: (هي عصي) ومثلها: (يا بشرى) قرأ الحسن (هي عصاي) بسكون الياء والنكث ههنا ثلاثة. إحداها: أنه قال: * (هي عصاي) * فذكر العصا ومن كان قلبه مشغولا بالعصا ومنافعها كيف يكون مستغرقا في بحر معرفة الحق ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم عرض عليه الجنة والنار فلم يلتفت إلى شيء: * (ما زاغ البصر وما طغى) * (النجم: 17) ولما قيل له امدحنا، قال: " لا أحصي ثناء عليك " ثم نسي نفسه ونسي ثناءه فقال: " أنت كما أثنيت على نفسك ". وثانيها: لما قال: * (عصاي) * قال الله سبحانه وتعالى: * (ألقها) *، فلما ألقاها * (فإذا هي حية تسعى) * ليعرف أن كل ما سوى الله فالالتفات إليه شاغل وهو كالحية المهلكة لك. ولهذا قال الخليل عليه السلام: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) * وفي الحديث: " يجاء يوم القيامة بصاحب المال الذي لم يؤد زكاته ويؤتي بذلك المال على صورة شجاع أقرع " الحديث بتمامه. وثالثها: أنه قال هي عصاي فقد تم الجواب، إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض. الثاني: قوله: * (أتوكأ عليها) * والتوكي، والإتكاء، واحد كالتوقي، والإتقاء معناه اعتمد عليها إذا عييت أو وقفت على رأس القطيع أو
عند الطفرة فجعل موسى عليه السلام نفسه متوكئا على العصا وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: " اتكئ
على رحمتي " بقوله تعالى: * (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * (الأنفال: 64) وقال: * (والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 67) فإن قيل: أليس قوله: * (ومن اتبعك من المؤمنين) * يقتضي كون محمد يتوكأ على المؤمنين؟ قلنا قوله: * (ومن اتبعك من المؤمنين) * معطوف على الكاف في قوله: * (حسبك الله) * والمعنى الله حسبك، وحسب من اتبعك من المؤمنين. الثالث: قوله: * (وأهش بها على غنمي) * أي أخبط بها فأضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على غنمي فتأكله. وقال أهل
26

اللغة: هش على غنمه، يهش بضم الهاء في المستقبل، وهششت الرجل أهش بفتح الهاء في المستقبل، وهش الرغيف يهش بكسر الهاء. قاله ثعلب، وقرأ عكرمة: (وأهس) بالسين غير المنقوطة، والهش زجر الغنم، واعلم أن غنمه رعيته فبدأ بمصالح نفسه في قوله: * (أتوكأ عليها) * ثم بمصالح رعيته في قوله: * (وأهش بها على غنمي) * فكذلك في القيامة يبدأ بنفسه فيقول: نفسي نفسي ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمة: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * (الأنفال: 33). " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضا بأمته فيقول: " أمتي أمتي ". والرابع: قوله: * (ولي فيها مآرب أخرى) * أي حوائج ومنافع واحدتها مأربة بفتح الراء وضمها، وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضا، والأرب بفتح الراء، والإربة بكسر الألف وسكون الراء الحاجة، وإنما قال أخرى لأن المآرب في معنى جماعة فكأنه قال: جماعة من الحاجات أخرى ولو جاءت أخر لكان صوابا كما قال: * (فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 184) ثم ههنا نكت. إحداها: أنه لما سمع قول الله تعالى: * (وما تلك بيمينك) * عرف أن لله فيه أسرارا عظيمة فذكر ما عرف وعبر عن البواقي التي ما عرفها إجمالا لا تفصيلا بقوله: * (ولي فيها مآرب أخرى) *. وثانيها: أن موسى عليه السلام أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة. فقال موسى: إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها، لكنك لما سألت عنها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى ومن جملتها أنك كلمتني بسببها فوجدت هذا الأمر العظيم الشريف بسببها. وثالثها: أن موسى عليه السلام أجمل رجاء أن يسأل ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله مرة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك. ورابعها: أنه بسبب اللطف انطلق لسانه ثم غلبته الدهشة فانقطع لسانه وتشوش فكره فأجمل مرة أخرى، ثم قال وهب: كانت ذات شعبتين كالمحجن، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا حاول كسره لواه بالشعبتين، (و) إذا سار وضعها على عاتقه يعلق فيها أدواته من القوس والكنانة والثياب، وإذا كان في البرية ركزها وألقى كساء عليها فكانت ظلا. وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا ويصيران شمعتين في الليالي، وإذا ظهر عدو حاربت عنه. وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت. وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نصب وكانت تقيه الهوام. واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذه الجوابات أمره الله تعالى بإلقاء العصا فقال: * (ألقها يا موسى) * وفيه نكت، إحداها: أنه عليه السلام لما قال: * (ولي فيها مآرب أخرى) * أراد الله أن يعرفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائر مآربه فقال: * (ألقها يا موس، فألقاها فإذا هي حية تسعى) *. وثانيتها: كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فقال أولا: * (اخلع نعليك) * (طه: 12) إشارة إلى ترك الهرب، ثم قال ألقها يا موسى وهو إشارة إلى ترك الطلب. كأنه سبحانه قال: إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلا بنفسك
27

وطالبا لحظك فلا تكون خالصا لمعرفتي فكن تاركا للهرب والطلب لتكون خالصا لي. وثالثتها: أن موسى عليه السلام مع علو درجته، وكمال منقبته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بالقائهما حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابة. ورابعتها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان مجردا عن الكل ما زاغ البصر فلا جرم وجد الكل، لعمرك أما موسى لما بقي معه تلك العصا لا جرم أمره بإلقاء العصا، واعلم أن الكعبي تمسك به في أن الاستطاعة قبل الفعل فقال: القدرة على إلقاء العصا، إما أن توجد والعصا في يده أو خارجة من يده فإن أتته القدرة وهي في يده فذاك قولنا: * (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * (آل عمران: 182) وإذا أتته وليست في يده وإنما استطاع أن يلقي من يده ما ليس في يده فذلك محال، أما قوله: * (فألقاها فإذا هي حية تسعى) * ففيه أسئلة: السؤال الأول: ما الحكمة في قلب العصا حية في ذلك الوقت؟ الجواب فيه وجوه: أحدها: أنه تعالى قلبها حية لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه وذلك لأنه عليه السلام إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء، والنداء وإن كان مخالفا للعادات إلا أنه لم يكن معجزا لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن فلا جرم قلب الله العصا حية ليصير ذلك دليلا قاهرا والعجب أن موسى عليه السلام قال: أتوكأ عليها فصدقه الله تعالى فيه وجعلها متكأ له بأن جعلها معجزة له. وثانيها: أن النداء كان إكراما له فقلب العصا حية مزيدا في الكرامة ليكون توالي الخلع والكرامات سببا لزوال الوحشة عن قلبه. وثالثها: أنه عرض عليه ليشاهده أولا فإذا شاهده عند فرعون لا يخافه. ورابعها: أنه كان راعيا فقيرا ثم إنه نصب للمنصب العظيم فلعله بقي في قلبه تعجب من ذلك فقلب العصا حية تنبيها على أني لما قدرت على ذلك فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين. وخامسها: أنه لما قال: * (هي عصاي أتوكأ عليها) * إلى قوله: * (ولي فيها مآرب أخرى) * فقيل له: * (ألقها) * فلما ألقاها وصارت حية فر موسى عليه السلام منها فكأنه قيل له: ادعيت أنها عصاك وأن لك فيها مآرب أخرى فلم تفر منها، تنبيها على سر قوله: * (ففروا إلى الله) * (الذاريات: 50) وقوله؛ * (قل الله ثم ذرهم) * (الأنعام: 91). السؤال الثاني: قال ههنا حية وفي موضع آخر ثعبان وجان، أما الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير، وأما الثعبان والجان فبينهما تناف لأن الثعبان العظيم من الحيات والجان الدقيق وفيه وجهان: أحدهما: أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جرمها حتى صارت ثعبانا فأريد بالجان أول حالها وبالثعبان مآلها. والثاني: أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان، والدليل عليه قوله تعالى: * (فلما رآها تهتز كأنها جان) *. السؤال الثالث: كيف كانت صفة الحية. الجواب كان لها عرف كعرف
الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعا، وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها وجوفها، أما قوله تعالى: * (قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى) * ففيه سؤالات: السؤال الأول: لما نودي موسى
28

وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلم خاف. والجواب من وجوه: أحدها: أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط. وأيضا فهذه الأشياء معلومة بدلائل العقول. وعند الفزع الشديد قد يذهل الإنسان عنه. قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة. وثانيها: قال بعضهم: خافها لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها. وثالثها: أن مجرد قوله: * (لا تخف) * لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى: * (ولا تطع الكافرين) * (الأحزاب: 1) لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله: * (فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا) * (النمل: 10) يدل عليه، ولكن ذلك الخوف إنما ظهر ليظهر الفرق بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه عليه السلام أظهر تعلق القلب بالعصا والنفرة عن الثعبان، وأما محمد عليه السلام فما أظهر الرغبة في الجنة ولا النفرة عن النار. السؤال الثاني: متى أخذها، بعد انقلابها عصا أو قبل ذلك. والجواب: روي أنه أدخل يده بين أسنانها فانقلبت خشبة والقرآن يدل عليه أيضا بقوله: * (سنعيدها سيرتها الأولى) * وذلك يقع في الاستقبال، وأيضا فهذا أقرب للكرامة لأنه كما أن انقلاب العصا حية معجزة فكذلك إدخال يده في فمها من غير ضرر معجزة وانقلابها خشبا معجز آخر فيكون فيه توالي المعجزات فيكون أقوى في الدلالة. السؤال الثالث: كيف أخذه، أمع الخوف أو بدونه. والجواب: روي مع الخوف ولكنه بعيد، لأن بعد توالي الدلائل يبعد ذلك. وإذا علم موسى عليه السلام أنه تعالى عند الأخذ سيعيدها سيرتها الأولى فكيف يستمر خوفه، وقد علم صدق هذا القول وقال بعضهم لما قال له ربه: * (لا تخف) * بلغ من ذلك ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه إلى أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها. السؤال الرابع: ما معنى سيرتها الأولى، والجواب: قال صاحب " الكشاف ": السيرة من السير كالركبة من الركوب يقال: سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. السؤال الخامس: علام انتصب سيرتها، الجواب فيه وجهان: أحدهما: بنزع الخافض يعني إلى سيرتها. وثانيهما: أن يكون سنعيدها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها كانت أولا عصا فصارت حية فسنجعلها عصا كما كانت فنصب سيرتها بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى يعني سنعيدها سائرة بسيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها.
قوله تعالى
* (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضآء من غير سوء ءاية أخرى * لنريك من ءاياتنا الكبرى * اذهب إلى فرعون إنه طغى) *
29

اعلم أن هذا هو المعجزة الثانية وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يقال لك ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر لأنه يجنحهما عند الطيران، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما إلى جناحك إلى صدرك والأول أولى لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر لأنه قال: * (تخرج بيضاء) * ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله: * (تخرج) * معنى واعلم أن معنى ضم اليد إلى الجناح ما قال في آية أخرى: * (وأدخل يدك في جيبك) * (النمل: 12) لأنه إذا أدخل يده في جيبه كان قد ضم يده إلى جناحه والله أعلم.
المسألة الثانية: السوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة والبرص أبغض شيء إلى العرب فكان جديرا بأن يكنى عنه يروى أنه عليه السلام كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها كانت تبرق مثل البرق وقيل مثل الشمس من غير برص ثم إذا ردها عادت إلى لونها الأول بلا نور.
المسألة الثالثة: بيضاء وآية حالان معا ومن غير سوء من صلة البيضاء كما تقول ابيضت من غير سوء وفي نصب آية وجه آخر وهو أن يكون بإضمار نحو خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام، وقد تعلق بهذا المحذوف لنريك أي خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصا لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك، فإن قيل الكبرى من نعت الآيات فلم لم يقل الكبر؟ قلنا: بل هي نعت الآية والمعنى لنريك الآية الكبرى ولئن سلمنا ذلك فهو كما قدمنا في قوله: * (مآرب أخرى) * (طه: 18)، و * (الأسماء الحسنى) * (طه: 8).
المسألة الرابعة: قال الحسن: اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه تعالى: ذكر * (لنريك من آياتنا الكبرى) * عقيب ذكر اليد وهذا ضعيف لأنه ليس في اليد إلا تغير اللون، وأما العصا ففيه تغير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الحجر والشجر، ثم عاد عصا بعد ذلك. فقد وقع التغير مرة أخرى في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم، وأما قوله: * (لنريك من آياتنا الكبرى) * فقد بينا أنه عائد إلى الكل وأنه غير مختص باليد.
المسألة الخامسة: أنه سبحانه وتعالى لما أظهر له هذه الآية عقبها بأن أمره بالذهاب إلى فرعون وبين العلة في ذلك وهي أنه طغى، وإنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى عليه السلام كان مبعوثا إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبر وكان متبوعا فكان ذكره أولى. قال وهب: قال الله تعالى لموسى عليه السلام: " اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان علي وسقط
30

من عيني فبلغه عني رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي: وقل له قولا لينا لا يغترن بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي، لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي، في كلام طويل
، قال فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك بعبده ".
قوله تعالى
* (قال رب شرح لى صدرى * ويسر لى أمرى * واحلل عقدة من لسانى * يفقهوا قولي * واجعل لى وزيرا من أهلى * هارون أخى * اشدد به أزرى * وأشركه فى أمرى * كى نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا) *
اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون وكان ذلك تكليفا شاقا فلا جرم سأل ربه أمورا ثمانية، ثم ختمها بما يجري مجرى العلة لسؤال تلك الأشياء. المطلوب الأول: قوله: * (رب اشرح لي صدري) * واعلم أنه يقال شرحت الكلام أي بينته وشرحت صدره أي وسعته والأول يقرب منه لأن شرح الكلام لا يحصل إلا ببسطة. والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر وهو قوله: * (ويضيق صدري ولا ينطلق لساني) * (الشعراء: 13) فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة، وقال: * (رب اشرح لي صدري) * فأفهم عنك ما أنزلت علي من الوحي، وقيل: شجعني لأجترئ به على مخاطبة فرعون ثم الكلام فيه يتعلق بأمور. أحدها: فائدة الدعاء وشرائطه. وثانيها: ما السبب في أن الإنسان لا يذكر وقت الدعاء من أسماء الله تعالى إلا الرب. وثالثها: ما معنى شرح الصدر. ورابعها: بماذا يكون شرح الصدر. وخامسها: كيف كان شرح الصدر في حق موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم. وسادسها: صفة صدر موسى عليه السلام هل كان منشرحا أو لم يكن منشرحا، فإن كان منشرحا كان طلب شرح الصدر تحصيلا للحاصل وهو محال، وإن لم يكن منشرحا فهو باطل من وجهين. الأول: أنه سبحانه بين له فيما تقدم كل ما يتعلق بالأديان من معرفة الربوبية والعبودية وأحوال المعاد وكل ما يتعلق بشرح الصدر في باب الدين فقد حصل، ثم إنه سبحانه تلطف له بقوله: * (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) * (طه: 13) ثم كلمه على سبيل الملاطفة بقوله: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * (طه: 17) ثم أظهر له المعجزات
31

العظيمة والكرامات الجسيمة، ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيرا وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل، ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر. والثاني: أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال عليه السلام: " لا يقضي القاضي وهو غضبان " فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء؟ فهذا مجموع الأمور التي لا بد من البحث عنها في هذه الآية.
أما البحث الأول: وهو فائدة الدعاء وشرائطه فقد تقدم في تفسير قوله: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * (البقرة: 286) إلا أنه نذكر منها ههنا بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضع فنقول: اعلم أن للكمال مراتب ودرجات وأعلاها أن يكون كاملا في ذاته مكملا لغيره، أما كونه كاملا في ذاته فكل ما كان كذلك كان كماله من لوازم ذاته، وكل ما كان كذلك كان كاملا في الأزل ولكنه يستحيل أن يكون مكملا في الأزل لأن التكميل عبارة عن جعل الشيء كاملا وذلك لا يتحقق إلا عند عدم الكمال، فإنه لو كان حاصلا في الأزل لاستحال التأثير فيه، فإن تحصيل الحاصل محال وتكوين الكائن ممتنع فلا جرم أنه سبحانه، وإن كان كاملا في الأزل إلا أنه يصير مكملا فيما لا يزال، فإن قيل: إذا كان التكميل من صفات الكمال فحيث لم يكن مكملا في الأزل فقد كان عاريا عن صفات الكمال فيكون ناقصا وهو محال، قلنا: النقصان إنما يلزم لو كان ذلك ممكنا في الأزل لكنا بينا أن الفعل الأزلي محال فالتكميل الأزلي محال فعدمه لا يكون نقصانا، كما أن قولنا: إنه لا يقدر على تكوين مثل نفسه لا يكون نقصانا لأنه غير ممكن الوجود في نفسه، وكقولنا: إنه لا يعلم عددا مفصلا كحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه، وحركات أهل الجنة غير متناهية فلا يكون له عدد مفصل، فامتنع ذلك لا لقصور في العلم، بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول. إذا ثبت هذا فنقول: إنه سبحانه وتعالى لما قصد إلى التكوين وكان الغرض منه تكميل الناقصين لأن الممكنات قابلة للوجود وصفة الوجود صفة كمال فاقتضت قدرة الله تعالى على التكميل وضع مائدة الكمال للممكنات فأجلس على المائدة بعض المعدومات دون البعض لأسباب. أحدها: أن المعدومات غير متناهية فلو أجلس الكل على مائدة الوجود لدخل ما لا نهاية له في الوجود. وثانيها: أنه لو أوجد الكل لما بقي بعد ذلك قادرا على الإيجاد لأن إيجاد الموجود محال، فكان ذلك وإن كان كمالا للناقص لكنه يقتضي نقصان الكامل فإنه ينقلب القادر من القدرة إلى العجز. وثالثها: أنه لو دخل الكل في الوجود لما بقي فيه تمييز فلا يتميز القادر على الموجب والقدرة كمال والإيجاب بالطبع نقصان، فلهذه الأسباب أخرج بعض الممكنات إلى الوجود فإن قيل عليه سؤالان: أحدهما: أن الموجودات متناهية والمعدومات غير متناهية ولا نسبة للمتناهي
32

إلى غير المتناهي، فتكون أيضا الضيافة ضيافة للأقل، وأما الحرمان فإنه عدد لما لا نهاية له، وهذا لا يكون وجودا. الثاني: أن البعض الذي خصه بهذه الضيافة إن كان لاستحقاق حصل فيه دون غيره فذلك الاستحقاق ممن حصل؟ وإن كان لا لهذا الاستحقاق كان ذلك عبثا وهو محال كما قيل: يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما (c)
وإنه لا يليق بأكرم الأكرمين. والجواب عن الكل أن هذه الشبهات إنما تدور في العقول والخيالات لأن الإنسان يحاول قياس فعله على فعلنا، وذلك باطل لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. إذا عرفت هذا فهذا الوجود الفائض من نور رحمته على جميع الممكنات هو الضيافة العامة والمائدة الشاملة وهو المراد من قوله: * (ورحمتي وسعت كل شيء) * (الأعراف: 156) ثم إن الموجودات انقسمت إلى الجمادات وإلى الحيوانات، ولا شك أن الجماد بالنسبة إلى الحيوان كالعدم بالنسبة إلى الوجود لأن الجماد لا خبر عنده من وجوده فوجوده بالنسبة إليه كالعدم وعدمه كالوجود، وأما الحيوان فهو الذي يميز بين الموجود والمعدوم ويتفاوتان بالنسبة إليه ولأن الجماد بالنسبة إلى الحيوان آلة لأن الحيوانات تستعمل الجمادات في أغراض أنفسها ومصالحها وهي كالعبد المطيع المسخر والحيوان كالمالك المستولي، فكانت الحيوانية أفضل من الجمادية فكما أن إحسان الله ورحمته اقتضيا وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون البعض كذلك اقتضيا وضع مائدة الحياة لبعض الموجودات دون البعض، فلا
جرم جعل بعض الموجودات أحياء دون البعض. والحياة بالنسبة إلى الجمادية كالنور بالنسبة إلى الظلمة والبصر بالنسبة إلى العمى والوجود بالنسبة إلى العدم، فعدن ذلك صار بعض الموجودات حيا مدركا للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر، فمن ثم قالت الأحياء عند ذلك: يا رب الأرباب إنا وإن وجدنا خلعة الوجود وخلعة الحياة وشرفتنا بذلك، لكن ازدادت الحاجة لأنا حال العدم وحال الجمادية ما كنا نحتاج إلى الملائم والموافق وما كنا نخاف المنافي والمؤذي، ولما حصل الوجود والحياة احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي فإن لم تكن لنا قدرة على الهرب والطلب والدفع والجذب لبقينا كالزمن المقعد على الطريق عرضة للآفات وهدفا لسهام البليات فأعطنا من خزائن رحمتك القدرة والقوة التي بها نتمكن من الطلب تارة والهرب أخرى، فاقتضت الرحمة التامة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض الموجودات بالحياة وتخصيص بعض المعدومات بالوجود. فقال القادرون عند ذلك: إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا لأحد القسمين إما للمجانين المقيدين بالسلاسل والأغلال، وإما للبهائم المستعملة في حمل الأثقال وكل ذلك من صفات النقصان وأنت قد رقيتنا من حضيض النقصان إلى أوج الكمال فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك وأعز مبدعاتك الذي شرفته بقولك: " بك أهين وبك أثيب وبك أعاقب " حتى تفوز من خزائن رحمتك بالخلع الكاملة والفضيلة التامة فأعطاهم العقل وبعث في أرواحهم نور
33

البصيرة وجوهر الهداية فعند هذه الدرجة فازوا بالخلع الأربعة، الوجود والحياة والقدرة والعقل، فالعقل خاتم الكل والخاتم يجب أن يكون أفضل ألا ترى أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم النبيين كان أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والإنسان لما كان خاتم المخلوقات الجسمانية كان أفضلها فكذلك العقل لما كان خاتم الخلع الفائضة من حضرة ذي الجلال كان أفضل الخلع وأكملها، ثم نظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالجفنة المملوءة من الجواهر النفيسة بل كأنها سماء مملوءة من الكواكب الزاهرة وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بدائه العقول وصرائح الأذهان، وكما أن الكواكب المركوزة في السماوات علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فكذلك الجواهر المركوزة في سماء العقل كواكب زاهرة يهتدي بها السائرون في ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار العالم الروحانية وفسحة السماوات وأضوائها. فلما نظر العقل إلى تلك الكواكب الزاهرة والجواهر الباهرة رأى رقم الحدوث على تلك الجواهر وعلى جميع تلك الخلع فاستدل بتلك الأرقام على راقم، وبتلك النقوش على ناقش. وعند ذلك عرف أن النقاش بخلاف النقش والباني بخلاف البناء، فانفتح له من أعلى سماء عالم المحدثات روازن إلى أضواء لوائح عالم القدم وطالع عالم القدم الأزلية والجلال وكان العقل إنما نظر إلى أضواء عالم الأزلية من ظلمات عالم الحدوث والإمكان فغلبته دهشة أنوار الأزلية فعميت عيناه فبقي متحيرا فالتجأ بطبعه إلى مفيض الأنوار، فقال: * (رب اشرح لي صدري) * فإن البحار عميقة والظلمات متكاثفة، وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الإنس والجن كثيرة فإن لم تشرح لي صدري ولم تكن لي عونا في كل الأمور انقطعت، وصارت هذه الخلع سببا لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات. فهذا هو المراد من قوله: * (رب اشرح لي صدري) * ثم قال: * (ويسر لي أمري) * وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فما لم يصر العبد مريدا له استحال أن يصير فاعلا له، فهذه الإرادة صفة محدثة ولا بد لها من فاعل وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى، ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم فيكون في الحقيقة هو الميسر للأمور وهو المتمم لجميع الأشياء وتمام التحقيق أن حدوث الصفة لا بد له من قابل وفاعل فعبر عن استعداد القابل بقوله: * (رب اشرح لي صدري) * وعبر عن حصول الفاعل بقوله: * (ويسر لي أمري) * وفيه التنبيه على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يقولون: يا مبتدئا بالنعم قبل استحقاقها. ومجموع هذين الكلامين كالبرهان القاطع على أن جميع الحوادث في هذا العالم واقعة بقضائه وقدره وحكمته وقدرته. ويمكن أن يقال أيضا: كأن موسى عليه السلام قال: إلهي لا أكتفي بشرح الصدر ولكن أطلب منك تنفيذ الأمر وتحصيل الغرض فلهذا قال: * (ويسر لي أمري) * أو يقال: إنه سبحانه وتعالى لما أعطاه الخلع الأربع وهي الوجود والحياة والقدرة والعقل فكأنه قال له يا موسى أعطيتك هذه الخلع الأربع فلا بد في
34

مقابلتها من خدمات أربع لتقابل كل نعمة بخدمة. فقال موسى عليه السلام: ما تلك الخدمات؟ فقال: وأقم الصلاة لذكري فإن فيها أنواعا أربعة من الخدمة، القيام والقراءة والركوع والسجود فإذا أتيت بالصلاة فقد قابلت كل نعمة بخدمة، ثم إنه تعالى لما أعطاه الخلعة الخامسة وهي خلعة الرسالة قال: * (رب اشرح لي صدري) * حتى أعرف أني بأي خدمة أقابل هذه النعمة فقيل له بأن تجتهد في أداء هذه الرسالة على الوجه المطلوب فقال موسى: يا رب إن هذا لا يتأتى مني مع عجزي وضعفي وقلة آلاتي وقوة خصمي فاشرح لي صدري ويسر لي أمري. الفصل الثاني: في قوله: * (رب اشرح لي صدري) * اعلم أن الدعاء سبب القرب من الله تعالى وإنما اشتغل موسى بهذا الدعاء طلبا للقرب فتفتقر إلى بيان أمرين إلى بيان أن الدعاء سبب القرب ثم إلى بيان أن موسى عليه السلام طلب القرب بهذا الدعاء، أما بيان أن الدعاء سبب القرب فيدل عليه وجوه. الأول: أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية، أما الأصولية فأولها في البقرة: * (يسألونك عن الآهلة قل هي مواقيت للناس والحج) * (البقرة: 189). وثانيها: في بني إسرائيل * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) *. وثالثها: * (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا) * (طه: 105). ورابعها: * (يسألوك عن الساعة أيان مرساها) * (النازعات: 42) وأما الفروعية فستة منها في البقرة على التوالي. أحدها: * (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين) * (البقرة: 215) وثانيها: * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير) * (البقرة: 217). وثالثها: * (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) * (البقرة: 219). ورابعها: * (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) * (البقرة: 219). وخامسها: * (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير) * (البقرة: 220). وسادسها: * (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) * (البقرة: 222). وسابعها: * (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) * (الأنفال: 1). وثامنها: * (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو
عليكم منه ذكرا) * (الكهف: 83). وتاسعها: * (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق) * (يونس: 53). وعاشرها: * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) * (النساء: 176). والحادية عشر: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * (البقرة: 186) إذا عرفت هذا فنقول جاءت هذه الأسئلة والأجوبة على صور مختلفة، فالأغلب فيها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر السؤال قال لمحمد صلى الله عليه وسلم قل وفي صورة أخرى جاء الجواب بصيغة فقل مع فاء التعقيب وفي صورة ثالثة ذكر السؤال ولم يذكر الجواب، وهو قوله تعالى: * (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) * (الأعراف: 187) وفي صورة رابعة ذكر الجواب ولم يذكر فيه لفظ قل ولا لفظ فقل وهو قوله تعالى: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * ولا بد لهذه الأشياء من الفائدة فنقول: أما الأجوبة الواردة بلفظ قل فلا إشكال فيها لأن قوله تعالى قل كالتوقيع المحدد في ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكالتشريف المحدد في كونه مخاطبا من الله تعالى بأداء الوحي والتبليغ. وأما الصورة الثانية وهي قوله: * (فقل ينسفها ربي نسفا) * (طه: 105) فالسبب أن قولهم: * (ويسألونك عن الجبال) * (طه: 105) سؤال إما عن قدمها أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجيب بلفظ
35

الفاء المفيد للتعقيب كأنه سبحانه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تقتصر فإن الشك فيه كفر ولا تمهل هذا الأمر لئلا يقعوا في الشك والشبهة، ثم كيفية الجواب أنه قال: * (فقل ينسفها ربي نسفا) * ولا شك أن النسف ممكن لأنه ممكن في حق كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكنا في حق كل الجبل وذلك يدل على أنه ليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف، فإن قيل: إنهم قالوا: أخبرنا عن إلهك أهو ذهب أو فضة أو حديد فقال: * (قل هو الله أحد) * (الإخلاص: 1) ولم يقل فقل هو الله أحد مع أن هذه المسألة من المهمات قلنا إنه تعالى لم يحك في هذا الموضع سؤالهم وحرف الفاء من الحروف العاطفة فيستدعي سبق كلام فلما لم يوجد ترك الفاء بخلاف ههنا فإنه تعالى حكى سؤالهم فحسن عطف الجواب عليه بحرف الفاء. وأما الصورة الثالثة: فإنه تعالى لم يذكر الجواب في قوله: * (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) * فالحكمة فيه أن معرفة وقت الساعة على التعيين مشتملة على المفاسد التي شرحناها فيما سبق فلهذا لم يذكر الله تعالى ذلك الجواب وذلك يدل على أن من الأسئلة ما لا يجاب عنها. وأما الصورة الرابعة: وهي قوله: * (فإني قريب) * ولم يذكر في جوابه قل ففيه وجوه. أحدها: أن ذلك يدل على تعظيم حال الدعاء وأنه من أعظم العبادات فكأنه سبحانه قال: يا عبادي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك يدل عليه أن كل قصة وقعت لم تكن معرفتها من المهمات. قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: أذكر لهم تلك القصة كقوله تعالى: * (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق) * (المائدة: 27). * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) * (الأعراف: 175). * (واذكر في الكتاب موسى) * (مريم: 51)، * (واذكر في الكتاب إسماعيل) * (مريم: 54). * (واذكر في الكتاب إدريس) * (مريم: 56). * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) * (الحجر: 51)، ثم قال في قصة يوسف: * (نحن نقص عليك أحسن القصص) * (يوسف: 3) وفي أصحاب الكهف: * (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) * (الكهف: 13). وما ذاك إلا لما في هاتين القصتين من العجائب والغرائب، والحاصل كأنه سبحانه وتعالى قال: يا محمد إذا سئلت عن غيري فكن أنت المجيب، وإذا سئلت عني فاسكت أنت حتى أكون أنا القائل. وثانيها: أن قوله: * (وإذا سألك عبادي عني) * يدل على أن العبد له (أن يسأل) وقوله: * (فإني قريب) * يدل على أن الرب قريب من العبد. وثالثها: لم يقل فالعبد مني قريب، بل قال أنا منه قريب، وهذا فيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو، هو في مركز العدم وحضيض الفناء، فكيف يكون قريبا، بل القريب هو الحق سبحانه وتعالى فإنه بفضله وإحسانه جعله موجودا وقربه من نفسه فالقرب منه لا من العبد فلهذا قال: * (فإني قريب) *. ورابعها: أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولا بغير الله تعالى فإنه لا يكون داعيا لله تعالى فإذا فنى عن الكل وصار مستغرقا بمعرفة الله الأحد الحق امتنع أن يبقى في مقام الفناء عن غير الله مع الالتفات إلى غير الله تعالى فلا جرم رفعت الواسطة من البين فما قال: فقل إني قريب بل قال: * (فإني قريب) * فثبت بما تقرر فضل الدعاء وأنه من أعظم القربات ثم من شأن العبد إذا أراد أن يتحف مولاه أن لا يتحفه إلا بأحسن التحف والهدايا فلا
36

جرم أول ما أراد موسى أن يتحف الحضرة الإلهية بتحف الطاعات والعبادات أتحفها بالدعاء فلا جرم قال: * (رب اشرح لي صدري) *. والوجه الثاني: في بيان فضل الدعاء قوله عليه السلام: " الدعاء مخ العبادة " ثم إن أول شيء أمر الله تعالى به موسى عليه السلام (العبادة) لأن قوله: * (إنني أنا الله) * (طه: 14) إخبار وليس بأمر إنما الأمر قوله: * (فاعبدني) * (طه: 14) فلما كان أول ما أورد على موسى من الأوامر هو الأمر بالعبادة لا جرم أول ما أتحف به موسى عليه السلام حضرة الربوبية من تحف العبادة هو تحفة الدعاء فقال: * (رب اشرح لي صدري) *. والوجه الثالث: وهو أن الدعاء نوع من أنواع العبادة فكما أنه سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والصوم فكذلك أمر بالدعاء ويدل عليه قوله تعالى: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب) * (البقرة: 186). * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60). * (وادعوه خوفا وطمعا) * (الأعراف: 56). * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * (الأعراف: 55). * (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين) * (غافر: 65). * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * (الإسراء: 110). * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة) * (الأعراف: 205) وقال صلى الله عليه وسلم: " ادعوا بياذا الجلال والإكرام " فبهذه الآيات عرفنا أن الدعاء عبادة قال بعض الجهال: الدعاء على خلاف العقل من وجوه: أحدها: أنه علام الغيوب يعلم ما في الأنفس وما تخفي الصدور، فأي حاجة بنا إلى الدعاء. وثانيها: أن المطلوب إن كان معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الدعاء وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه. وثالثها: الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى سوء أدب. ورابعها: المطلوب بالدعاء إن كان من المصالح فالحكيم لا يهمله وإن لم يكن من المصالح لم يجز طلبه. وخامسها: فقد جاء أن أعظم مقامات الصديقين الرضا بقضاء الله تعالى. وقد ندب إليه والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالالتماس والطلب. وسادسها: قال عليه السلام رواية عن الله تعالى: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " فدل على أن الأولى ترك الدعاء
والآيات التي ذكرتموها تقتضي وجوب الدعاء. وسابعها: أن إبراهيم عليه السلام لما ترك الدعاء واكتفى بقوله: " حسبي من سؤالي علمه بحالي " استحق المدح العظيم فدل على أن الأولى ترك الدعاء. والجواب عن الأول أنه ليس الغرض من الدعاء الأعلام بل هو نوع تضرع كسائر التضرعات. وعن الثاني: أنه يجري مجرى أن نقول للجائع والعطشان إن كان الشبع معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الأكل والشرب وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه. وعن الثالث: أن الصيغة وإن كانت صيغة الأمر إلا أن صورة التضرع والخشوع تصرفه عن ذلك. وعن الرابع: يجوز أن يصير مصلحة بشرط سبق الدعاء. وعن الخامس: أنه إذا دعا إظهارا للتضرع ثم رضي بما قدره الله تعالى فذاك أعظم المقامات وهو الجواب عن البقية إذا ثبت أنه من العبادات، ثم إنه تعالى أمره بالعبادة وبالصلاة أمرا ورد مجملا لا جرم شرع في أجل العبادات وهو الدعاء. الوجه الرابع: في فضل الدعاء أنه سبحانه لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه يغضب إذا لم يسأل فقال: * (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم
37

وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) * (الأنعام: 43) وقال عليه السلام: " لا يقولون أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت " ولكن يجزم فيقول: اللهم اغفر لي فلهذا السر جزم موسى عليه السلام بالدعاء وقال رب اشرح لي صدري. الوجه الخامس: في فضل الدعاء قوله تعالى: * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) وفيه كرامة عظيمة لأمتنا لأن بني إسرائيل فضلهم الله تفضيلا عظيما فقال في حقهم: * (وأني فضلتكم على العالمين) * (البقرة: 47) وقال أيضا: * (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) * (المائدة: 20) ثم مع هذه الدرجة العظيمة قالوا لموسى عليه السلام: * (أدع لنا ربك يبين لنا ما هي) * (البقرة: 68) وأن الحواريين مع جلالتهم في قولهم: * (نحن أنصار الله) * (آل عمران: 52) سألوا عيسى عليه السلام أن يسأل لهم مائدة تنزل من السماء ثم إنه سبحانه وتعالى رفع هذه الواسطة في أمتنا فقال مخاطبا لهم من غير واسطة: * (ادعوني أستجب لكم) * وقال: * (واسألوا الله من فضله) * (النساء: 32) فلهذا السبب لما حصلت هذه الفضيلة لهذه الأمة وكان موسى عليه السلام قد عرفها لا جرم فقال: " اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم " فلا جرم رفع يديه ابتداء فقال: * (رب اشرح لي صدري) * واعلم أنه تعالى قال: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * (البقرة: 186) ثم إنه تعالى جعل العباد على سبعة أقسام: أحدها: عبد العصمة: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * (الحجر: 42) وموسى عليه السلام كان مخصوصا بمزيد العصمة: * (واصطنعتك لنفسي) * (طه: 41) فلا جرم طلب زوائد العصمة فقال: * (رب اشرح لي صدري) *. وثانيها: عبد الصفوة: * (وسلام على عباده الذين اصطفى) * (النمل: 59) وموسى عليه السلام كان مخصوصا بمزيد الصفوة: * (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) * (الأعراف: 144) فلا جرم أراد مزيد الصفوة فقال: * (رب اشرح لي صدري) *. وثالثها: عبد البشارة: * (فبشر عبادي * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * (الزمر: 17، 18) وكان موسى عليه السلام مخصوصا بذلك: * (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) * (طه: 13) فأراد مزيد البشارة فقال: * (رب اشرح لي صدري) *. ورابعها: عبد الكرامة: * (يا عباد لا خوف عليكم) * (الزخرف: 68) وموسى عليه السلام كان مخصوصا بذلك: * (لا تخافا إنني معكما) * (طه: 46) فأراد الزيادة عليها فقال: * (رب اشرح لي صدري) *. وخامسها: عبد المغفرة: * (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم) * (الحجر: 49)، وكان موسى عليه السلام مخصوصا بذلك: * (رب اغفر لي) * (ص: 35) فغفر له فأراد الزيادة فقال: * (رب اشرح لي صدري) *. وسادسها: عبد الخدمة: * (اعبدوا ربكم) * (البقرة: 21) وموسى عليه السلام كان مخصوصا بذلك: * (واصطنعتك لنفسي) * فطلب الزيادة فيها فقال: * (اشرح لي صدري) *. وسابعها: عبد القربة: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) * (البقرة: 186) وموسى عليه السلام كان مخصوصا بالقرب: * (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا) * (مريم: 52) فأراد كمال القرب فقال: * (رب اشرح لي صدري) *.
الفصل الثالث: في قوله: * (رب اشرح لي صدري) * وفيه وجوه: أحدها: أنه تعالى لما خاطبه بالأشياء الستة (التي) أحدها: معرفة التوحيد: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا) * (طه: 14)، وثانيها: أمره بالعبادة والصلاة: * (فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) * (طه: 14)، وثالثها: معرفة الآخرة: * (إن الساعة آتية) * (طه: 15)
38

ورابعها: حكمة أفعاله في الدنيا: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * (طه: 17)، وخامسها: عرض المعجزات الباهرة عليه: * (لنريك من آياتنا الكبرى) * (طه: 23)، وسادسها: إرساله إلى أعظم الناس كفرا وعتوا فكانت هذه التكاليف الشاقة سببا للقهر فأراد موسى عليه السلام جبر هذا القهر بالمعجز فعرفه أن كل من سأله قرب منه فقال: * (رب اشرح لي صدري) * فأراد جبر القهر الحاصل من هذه التكاليف بالقرب منه فقال: * (رب اشرح لي صدري) * أو يقال خاف شياطين الإنس والجن فدعا ليصل بسبب الدعاء إلى مقام القرب فيصير مأمونا من غوائل شياطين الجن والإنس. وثانيها: أن المراد أنه أراد الذهاب إلى فرعون وقومه فأراد أن يقطع طمع الخلق عن نفسه بالكلية فعرف أن من دعا ربه قربه له وقربه لديه فحينئذ تنقطع الأطماع بالكلية فقال: * (رب اشرح لي صدري) *. وثالثها: الوجود كالنور والعدم كالظلمة وكل ما سوى الله تعالى فهو عدم محض فكل شيء هالك إلا وجهه فالكل كأنهم في ظلمات العدم وإظلال عالم الأجسام والإمكان فقال: * (رب اشرح لي صدري) * حتى يجلس قلبي في بهي ضوء المعرفة وسادة شرح الصدر والجالس في الضوء لا يرى من كان جالسا في الظلمة فحين جلس في ضوء شرح الصدر لا يرى أحدا في الوجود فلهذا عقبه بقوله: * (ويسر لي أمري) * فإن العبد في مقام الاستغراق لا يتفرغ لشيء من المهمات. ورابعها: رب اشرح لي صدري فإن عين العين ضعيفة فأطلع يا إلهي شمس التوفيق حتى أرى كل شيء كما هو، وهذا في معنى قول محمد صلى الله عليه وسلم: " أرنا الأشياء كما هي " واعلم أن شرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب والاستماع مقدمة الفهم الحاصل من سماع الكلأ فالله تعالى أعطى موسى عليه السلام المقدمة الثانية وهي فاستمع لما
يوحى فلا جرم نسج موسى على ذلك المنوال فطلب المقدمة الأخرى فقال: * (رب اشرح لي صدري) * ولما آل الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلم قيل له: * (وقل رب زدني علما) * (طه: 114) والعلم هو المقصود، فلما كان موسى عليه السلام كالمقدمة لمقدم محمد صلى الله عليه وسلم لا جرم أعطى المقدمة، ولما كان محمد كالمقصود لا جرم أعطى المقصود فسبحانه ما أدق حكمته في كل شيء. وسادسها: الداعي له صفتان: إحداهما: أن يكون عبدا للرب: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * (البقرة: 186). وثانيتهما: أن يكون الرب له: * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60) أضاف نفسه إلينا وما أضافنا إلى نفسه والمشتغل بالدعاء قد صار كاملا من هذين الوجهين فأراد موسى عليه السلام أن يرتع في هذا البستان فقال: * (رب اشرح لي صدري) *. وسابعها: أن موسى عليه السلام شرفه الله تعالى بقوله: * (وقربناه نجيا) * (مريم: 52) فكأن موسى عليه السلام قال إلهي لما قلت: * (وقربناه نجيا) * صرت قريبا منك ولكن أريد قربك مني فقال يا موسى أما سمعت قولي: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * فأشتغل بالدعاء حتى أصير قريبا منك فعند ذلك: * (قال رب اشرح لي صدري) *. وثامنها: قال موسى عليه السلام: * (رب اشرح لي صدري) * وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (ألم نشرح لك صدرك) * (الشرح: 1) ثم إنه تعالى ما تركه على هذه الحالة بل قال: * (وسراجا منيرا) * (الأحزاب: 46) فانظر إلى التفاوت فإن شرح الصدر هو أن يصير الصدر
39

قابلا للنور والسراج المنير هو أن يعطي النور فالتفاوت بين موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم كالتفاوت بين الآخذ والمعطي ثم نقول إلهنا إن ديننا وهي كلمة لا إله إلا الله نور، والوضوء نور، والصلاة نور، والقبر نور، والجنة نور، فبحق أنوارك التي أعطيتنا في الدنيا لا تحرمنا أنوار فضلك وإحسانك يوم القيامة. الفصل الرابع: في قوله: * (رب اشرح لي صدري) * سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال: نور يقذف في القلب، فقيل: وما أمارته فقال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل النزول، ويدل على أن شرح الصدر عبارة عن النور قوله تعالى: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) * (الزمر: 22) واعلم أن الله تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور، أحدها: وصف ذاته بالنور: * (الله نور السماوات والأرض) * (النور: 35). وثانيها: الرسول: * (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) * (المائدة: 15). وثالثها: القرآن: * (واتبعوا النور الذي أنزل معه) * (الأعراف: 157). ورابعها: الإيمان: * (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) * (التوبة: 32). وخامسها: عدل الله: * (وأشرقت الأرض بنور ربها) * (الزمر: 69). وسادسها: ضياء القمر: * (وجعل القمر فيهن نورا) * (نوح: 16)، وسابعها: النهار: * (وجعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1). وثامنها: البينات: * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) * (المائدة: 44). وتاسعها: الأنبياء: * (نور على نور) * (النور: 35). وعاشرها: المعرفة: * (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) * (النور: 35) إذا ثبت هذا فنقول كأن موسى عليه السلام قال: * (رب اشرح لي صدري) * بمعرفة أنوار جلالك وكبريائك. وثانيها: رب اشرح لي صدري، بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك. وثالثها: رب اشرح لي صدري، باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك. ورابعها: رب اشرح لي صدري، بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك. وخامسها: رب اشرح صدري بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك. وسادسها: رب اشرح لي صدري بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام حيث انتقل من الكوكب والقمر والشمس إلى حضرة العزة. وسابعها: رب اشرح لي صدري من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك. وثامنها: رب اشرح لي صدري بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسماواتك. وتاسعها: رب اشرح لي صدري في أن أكون خلف صور الأنبياء المتقدمين ومتشبها بهم في الإنقياد لحكم رب العالمين. وعاشرها: رب اشرح لي صدري بأن تجعل سراج الإيمان في قلبي كالمشكاة التي فيها المصباح، واعلم أن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج وذلك النور كالنار، ومعلوم أن من أراد أن يستوقد سراجا احتاج إلى سبعة أشياء: زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن. فالعبد إذا طلب النور الذي هو شرح الصدر افتقر إلى هذه السبعة. فأولها: لا بد من زند المجاهدة: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * (العنكبوت: 69). وثانيها: حجر التضرع: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * (الأعراف: 55). وثالثها: حراق منع الهوى: * (ونهى النفس عن الهوى) * (النازعات: 40). ورابعها: كبريت الإنابة: * (وأنيبوا إلى ربكم) * الزمر: 54) ملطخا رؤوس تلك
40

الخشبات بكبريت توبوا إلى الله. وخامسها: مسرجة الصبر: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 45). وسادسها: فتيلة الشكر: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * (إبراهيم: 7). وسابعها: دهن الرضا: * (واصبر لحكم ربك) * (الطور: 48) أي ارض بقضاء ربك فإذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن لا تطلب المقصود إلا من حضرته: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) * (فاطر: 2) ثم اطلبها بالخشوع والخضوع: * (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) * (طه: 108) فعند ذلك ترفع يد التضرع وتقول: * (رب اشرح لي صدري) * فهنالك تسمع؛ * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * (طه: 36) ثم نقول هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه: أحدها: الشمس تحجبها غمامة وشمس المعرفة لا يحجبها السماوات السبع: * (إليه يصعد الكلم الطيب) * (فاطر: 10). وثانيها: الشمس تغيب ليلا وتعود نهارا قال إبراهيم عليه السلام: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) أما شمس المعرفة فلا تغيب ليلا: * (إن ناشئة الليل هي أشد وطئا) * (المزمل: 6) * (والمستغفرين بالأسحار) * (آل عمران: 17) بل أكمل الخلع الروحانية تحصل في الليل: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) * (الإسراء: 1). وثالثها: الشمس تفنى: * (إذا الشمس كورت) * (التكوير: 1) وشمس المعرفة لا تفنى: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58). ورابعها: الشمس إذا قابلها القمر انكسفت أما ههنا فشمس المعرفة وهي معرفة أشهد أن لا إله إلا الله ما لم يقابلها قمر أشهد أن محمدا رسول الله لم يصل نوره إلى عالم الجوارح. وخامسها: الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيضها: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * (آل
عمران: 106). وسادسها: الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الحرق، جزيا مؤمن فإن نورك قد أطفأ لهبي. وسابعها: الشمس تصدع والمعرفة تصعد: * (إليه يصعد الكلم الطيب) * (فاطر: 10). وثامنها: الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في العقبى: * (والباقيات الصالحات خير) * (الكهف: 46). وتاسعها: الشمس في السماء زينة لأهل الأرض والمعرفة في الأرض زينة لأهل السماء. وعاشرها: الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى وذلك يدل على الحسد مع التكبر، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى، وذلك يدل على التواضع مع الشرف. وحادي عشرها: الشمس تعرف أحوال الخلق وبالمعرفة يصل القلب إلى الخالق. وثاني عشرها: الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي فلما كانت المعرفة موصوفة بهذه الصفات النفيسة لا جرم قال موسى: * (رب اشرح لي صدري) * وأما النكت: فإحداها: الشمس سراج استوقدها الله تعالى للفناء: * (كل من عليها فان) * (الرحمن: 26) والمعرفة استوقدها للبقاء فالذي خلقها للفناء لو قرب الشيطان منها لاحترق: * (شهابا رصدا) * (الجن: 9) والمعرفة التي خلقها للبقاء كيف يقرب منها الشيطان: * (رب اشرح لي صدري) *. وثانيتها: استوقد الله الشمس في السماء وإنها تزيل الظلمة عن بيتك مع بعدها عن بيتك، وأوقد شمس المعرفة في قلبك أفلا تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك مع قربها منك. وثالثتها: من استوقد سراجا فإنه لا يزال يتعهده ويمده والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة: * (ولكن الله حبب إليكم الإيمان) * (الحجرات: 7) أفلا يمده وهو معنى قوله: * (رب اشرح لي صدري) *. ورابعتها: اللص إذا رأى السراج يوقد في البيت لا يقرب منه والله قد أوقد سراج المعرفة في
41

قلبك فكيف يقرب الشيطان منه فلهذا قال: * (رب اشرح لي صدري) *. وخامستها: المجوس أوقدوا نارا فلا يريدون إطفاءها والملك القدوس أوقد سراج الإيمان في قلبك فكيف يرضى بإطفائه، واعلم أنه سبحانه وتعالى أعطى قلب المؤمن تسع كرامات، أحدها: الحياة: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * (الأنعام: 122) فلما رغب موسى عليه السلام في الحياة الروحانية قال: * (رب اشرح لي صدري) * ثم النكتة أنه عليه السلام قال من أحيا أرضا ميتة فهي له فالعبد لما أحيا أرضا فهي له فالرب لما خلق القلب وأحياه بنور الإيمان فكيف يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب: * (قل الله ثم ذرهم) * (الأنعام: 91) وكما أن الإيمان حياة القلب بالكفر موته: * (أموات غير أحياء وما يشعرون) * (النحل: 21). وثانيها: الشفاء: * (ويشف صدور قوم مؤمنين) * (التوبة: 14) فلما رغب موسى في الشفاء رفع الأيدي قال: * (رب اشرح لي صدري) * والنكتة أنه تعالى لما جعل الشفاء في العسل بقي شفاء أبدا فههنا لما وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى شفاء أبدا. وثالثها: الطهارة: * (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) * (الحجرات: 3) فلما رغب موسى عليه السلام في تحصيل طهارة التقوى قال: * (رب اشرح لي صدري) * والنكتة أن الصائغ إذا امتحن الذهب مرة فبعد ذلك لا يدخله في النار فههنا لما امتحن الله قلب المؤمن فكيف يدخله النار ثانيا ولكن الله يدخل في النار قلب الكافر: * (ليميز الله الخبيث من الطيب) * (الأنفال: 37). ورابعها: الهداية ومن يؤمن بالله يهد قلبه فرغب موسى عليه السلام في طلب زوائد الهداية فقال: * (رب اشرح لي صدري) * والنكتة أن الرسول يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك فلما كانت الهداية من الكفر من محمد صلى الله عليه وسلم لا جرم تارة تحصل وأخرى لا تحصل: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) * (القصص: 56) وهداية الروح لما كانت من القرآن فتارة تحصل وأخرى لا تحصل: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) * (البقرة: 26) أما هداية القلب فلما كانت من الله تعالى فإنها لا تزول لأن الهادي لا يزول: * (ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * (يونس: 25). وخامسها: الكتابة: * (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) * (المجادلة: 22) فلما رغب موسى عليه السلام في تلك الكتابة قال: * (رب اشرح لي صدري) * وفيه نكت: الأولى: أن الكاغدة ليس لها خطر عظيم وإذا كتب فيها القرآن لم يجز إحراقها فقلب المؤمن كتب فيه جميع أحكام ذات الله تعالى وصفاته فكيف يليق بالكريم إحراقه. الثانية: بشر الحافي أكرم كاغدا فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين فإكرام قلب فيه معرفة الله تعالى أولى بذلك. والثالثة: كاغد ليس فيه خط إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى أنه لا يجوز للجنب والحائض أن يمسه بل قال الشافعي رحمه الله تعالى ليس له أن يمس جلد المصحف، وقال الله تعالى: * (لا يمسه إلا المطهرون) * (الواقعة: 79) فالقلب الذي فيه أكرم المخلوقات: * (ولقد كرمنا بني آدم) * (الإسراء: 70) كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه والله أعلم. وسادسها: السكينة: * (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) * (الفتح: 4) فلما رغب موسى عليه السلام في طلب السكينة قال: * (رب اشرح لي صدري) * والنكتة أن أبا بكر رضي الله عنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان خائفا فلما نزلت السكينة عليه قال: لا تحزن فلما نزلت سكينة
42

الإيمان فرجوا أن يسمعوا خطاب: * (ألا تخافوا ولا تحزنوا) * (فصلت: 30) وأيضا لما نزلت السكينة صار من الخلفاء: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) * (النور: 55) أي أن يصيروا خلفاء الله في أرضه. وسابعها: المحبة والزينة: * (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينة في قلوبكم) * (الحجرات: 7) والنكتة أن من ألقى حبة في أرض فإنه لا يفسدها ولا يحرقها فهو سبحانه وتعالى ألقى حبة المحبة في أرض القلب فكيف يحرقها. وثامنها: * (وألف بين قلوبكم) * (الأنفال: 63) والنكتة أن محمدا صلى الله عليه وسلم ألف بين قلوب أصحابه ثم إنه ما تركهم (في) غيبة ولا حضور: " سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " فالرحيم كيف يتركهم. وتاسعها: الطمأنينة: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) وموسى طلب الطمأنينة فقال: * (رب اشرح لي صدري) * والنكتة أن حاجة العبد لا نهاية لها فلهذا لو أعطى كل ما في العالم من الأجسام فإنه لا يكفيه لأن حاجته غير متناهية والأجسام متناهية والمتناهي لا يصير مقابلا لغير المتناهي بل الذي يكفي في الحاجة الغير المتناهية الكمال الذي لا نهاية له وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى فلهذا قال: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * ولما عرفت حقيقة شرح الصدر للمؤمنين فاعرف صفات قلوب الكافرين لوجوه: أحدها: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم. وثانيها: ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم. وثالثها: في قلوبهم مرض. ورابعها: جعلنا قلوبهم قاسية. وخامسها: إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه. وسادسها: ختم الله على قلوبهم. وسابعها: أم على قلوب
أقفالها. وثامنها: كلا بل ران على قلوبهم. وتاسعها: أولئك الذين طبع الله على قلوبهم. إلهنا وسيدنا بفضلك وإحسانك أغلق هذه الأبواب التسعة من خذلانك عنا واجبرنا بإحسانك وافتح لنا تلك الأبواب التسعة من إحسانك بفضلك ورحمتك إنك على ما تشاء قدير. الفصل الخامس: في حقيقة شرح الصدر، ذكر العلماء فيه وجهين: الأول: أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا لا بالرغبة ولا بالرهبة أما الرغبة فهي أن يكون متعلق القلب بالأهل والولد وبتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم، وأما الرهبة فهي أن يكون خائفا من الأعداء والمنازعين فإذا شرح الله صدره صغر كل ما يتعلق بالدنيا في عين همته، فيصير كالذباب والبق والبعوض لا تدعوه رغبة إليها ولا تمنعه رهبة عنها، فيصير الكل عنده كالعدم وحينئذ يقبل القلب بالكلية نحو طلب مرضاة الله تعالى، فإن القلب في المثال كينبوع من الماء والقوة البشرية لضعفها كالينبوع الصغير فإذا فرقت ماء العين الواحدة على الجداول الكثيرة ضعفت الكل فأما إذا انصب الكل في موضع واحد قوي فسأل موسى عليه السلام ربه أن يشرح له صدره بأن يوفقه على معايب الدنيا وقبح صفاتها حتى يصير قلبه نفورا عنها فإذا حصلت النفرة توجه إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات بالكلية. الثاني: أن موسى عليه السلام لما نصب لذلك المنصب العظيم احتاج إلى تكاليف شاقة منها ضبط الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى ومنها إصلاح العالم الجسداني فكأنه صار مكلفا بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر، ألا ترى أن المشتغل بالإبصار يصير
43

ممنوعا عن السماع والمشتغل بالسماع يصير ممنوعا عن الإبصار والخيال، فهذه القوى متجاذبة متنازعة وأن موسى عليه السلام كان محتاجا إلى الكل ومن استأنس بجمال الحق استوحش من جمال الخلق فسأل موسى ربه أن يشرح صدره بأن يفيض عليه كمالا من القوة لتكون قوته وافية بضبط العالمين فهذا هو المراد من شرح الصدر. وذكر العلماء لهذا المعنى أمثلة. المثال الأول: اعلم أن البدن بالكلية كالمملكة والصدر كالقلعة والفؤاد كالقصر والقلب كالتخت والروح كالملك والعقل كالوزير والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة والغضب كالاسفهسالار الذي يشتغل بالضرب والتأديب أبدا والحواس كالجواسيس وسائر القوى كالخدم والعملة والصناع ثم إن الشيطان خصم لهذه البلدة ولهذه القلعة ولهذا الملك فالشيطان هو الملك والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده فأول ما أخرج الروح وزيره وهو العقل فكذا الشيطان أخرج في مقابلته الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى يدعو إلى الشيطان ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الشيطان في مقابلة الفطنة الشهوة، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا والشهوة تحركك إلى لذات الدنيا ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتقوي الفطنة بالفكرة فتقف على الحاضر والغائب من المعائب على ما قال عليه السلام: " تفكر ساعة خير من عبادة سنة " فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحا والقبيح حسنا والحلم يوقف العقل على قبح الدنيا فأخرج الشيطان في مقابلته العجلة والسرعة فلهذا قال عليه السلام: " ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا الخرق في شيء إلا شانه " ولهذا خلق السماوات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه هي الخصومة الواقعة بين الصنفين، وقلبك وصدرك هو القلعة. ثم إن لهذا الصدر
الذي هو القلعة خندقا وهو الزهد في الدنيا وعدم الرغبة فيها وله سور وهو الرغبة الآخرة ومحبة الله تعالى فإن كان الخندق عظيما والسور قويا عجز عسكر الشيطان عن تخريبه فرجعوا وراءهم وتركوا القلعة كما كانت وإن كان خندق الزهد غير عميق وسور حب الآخرة غير قوي قدر الخصم على استفتاح قلعة الصدر فيدخلها ويبيت فيها جنوده من الهوى والعجب والكبر والبخل وسوء الظن بالله تعالى والنميمة والغيبة فينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه فإذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح الأمر وانشرح الصدر وخرجت ظلمات الشيطان ودخلت أنوار هداية رب العالمين وذلك هو المراد بقوله: * (رب اشرح لي صدري) *. المثال الثاني: اعلم أن معدن النور هو القلب واشتغال الإنسان بالزوجة والولد والرغبة في مصاحبة الناس والخوف من الأعداء هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه ولا شك في أنهم من حيث هم عدم محض على ما قال تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) فلا يزال العبد يتأمل فيما سوى الله تعالى إلى أن يشاهد أنهم عدم محض فعند ذلك يزول
44

الحجاب بين قلبه وبين أنوار جلال الله تعالى وإذا زال الحجاب امتلأ القلب من النور فذلك هو انشراح الصدر.
الفصل السادس: في الصدر علم أنه يجيء والمراد منه القلب: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) * (الزمر: 22)، * (رب اشرح لي صدري) *، * (وحصل ما في الصدور) * (العاديات: 10)، * (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) * (غافر: 19) وقد يجيء والمراد الفضاء الذي فيه الصدر: * (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) * (الحج: 46) واختلف الناس في أن محل العقل هل هو القلب أو الدماغ وجمهور المتكلمين على أنه القلب، وقد شرحنا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 193، 194) وقال بعضهم المواد أربعة: الصدر والقلب والفؤاد واللب فالصدر مقر الإسلام: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) * (الزمر: 22) والقلب مقر الإيمان: * (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينة في قلوبكم) * (الحجرات: 7) والفؤاد مقر المعرفة: * (ما كذب الفؤاد ما رأى) * (النجم: 11)، * (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * (الإسراء: 36) واللب مقر التوحيد: * (إنما يتذكر أولو الألباب) * (الرعد: 19) واعلم أن القلب أول ما بعث إلى هذا العالم بعث خاليا عن النقوش كاللوح الساذج وهو في عالم البدن كاللوح المحفوظ، ثم إنه تعالى يكتب فيه بقلم الرحمة والعظمة كل ما يتعلق بعالم العقل من نقوش الموجودات وصور الماهيات وذلك يكون كالسطر الواحد إلى آخر قيام القيامة لهذا العالم الأصغر وذلك هو الصورة المجردة والحالة المطهرة، ثم إن العقل يركب سفينة التوفيق ويلقيها في بحار أمواج المعقولات وعوالم الروحانيات فيحصل من مهاب رياح العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الإدبار أخرى، فربما وصلت سفينة النظر إلى جانب مشرق الجلال فتسطع عليه أنوار الإلهية ويتخلص العقل عن ظلمات الضلالات، وربما توغلت السفينة في جنوب الجهالات فتنكسر وتغرق فحيثما تكون السفينة في ملتطم أمواج العزة يحتاج حافظ السفينة
إلى التماس الأنوار والهدايات فيقول هناك: * (رب اشرح لي صدري) * واعلم أن العقل إذا أخذ في الترقي من سفل الإمكان إلى علو الوجوب كثر اشتغاله بمطالعة الماهيات ومقارفة المجردات والمفارقات، ومعلوم أن كل ماهية فهي إما هي معه أو هي له، فإن كانت هي معه امتلأت البصيرة من أنوار جلال العزة الإلهية فلا يبقى هناك مستطلعا لمطالعة سائر الأنوار فيضمحل كل ما سواه من بصر وبصيرة، وإن وقعت المطالعة لما هو له حصلت هناك حالة عجيبة، وهي أنه لو وضعت كرة صافية من البلور فوقع عليها شعاع الشمس فينعكس ذلك الشعاع إلى موضع معين فذلك الموضع الذي إليه تنعكس الشعاعات يحترق فجميع الماهيات الممكنة كالبلور الصافي الموضوع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت للقلب نسبة إليها بأسرها فينعكس شعاع كبرياء الإلهية عن كل واحد منها إلى القلب فيحترق القلب، ومعلوم أنه كلما كان المحرق أكثر، كان الإحتراق أتم فقال: * (رب اشرح لي صدري) * حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات فأصل إلى
45

مقام الاحتراق بأنوار الجلال، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام: " أرنا الأشياء كما هي " فلما شاهد احتراقها بأنوار الجلال قال: " لا أحصى ثناء عليك ".
الفصل السابع: في بقية الأبحاث إنما قال: * (رب اشرح لي صدري) * ولم يقل رب اشرح صدري ليظهر أن منفعة ذلك الشرح عائدة إلى موسى عليه السلام لا إلى الله، وأما كيفية شرح صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفاضلة بينه وبين شرح صدر موسى عليه السلام فنذكره إن شاء الله في تفسير قوله: * (ألم نشرح لك صدرك) * (الشرح: 1) والله أعلم بالصواب.
المطلوب الثاني: قوله: * (ويسر لي أمري) * والمراد منه عند أهل السنة خلقها وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة، فإن قيل: كل ما أمكن من اللطف فقد فعله الله تعالى فأي فائدة في هذا السؤال، قلنا يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال ففائدة السؤال حسن فعل تلك الألطاف.
المطلوب الثالث: قوله: * (واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن النطق فضيلة عظيمة ويدل عليه وجوه. أحدها: قوله تعالى: * (خلق الإنسان * علمه البيان) * (الرحمن: 3، 4) ولم يقل وعلمه البيان لأنه لو عطفه عليه لكان مغايرا له، أما إذا ترك الحرف العاطف صار قوله: * (علمه البيان) * كالتفسير لقوله: * (خلق الإنسان) * كأنه إنما يكون خالقا للإنسان إذا علمه البيان، وذلك يرجع إلى الكلام المشهور من أن ماهية الإنسان هي الحيوان الناطق. وثانيها: اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان، قال زهير: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقال علي: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. والمعنى أنا لو أزلنا الإدراك الذهني والنطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم، وقالوا: المرء بأصغريه قلبه ولسانه. وقال صلى الله عليه وسلم: " المرء مخبوء تحت لسانه ". وثالثها: أن في مناظرة آدم مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال: * (يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض) * (البقرة: 33). ورابعها: أن الإنسان جوهر مركب من الروح والقالب وروحه من عالم الملائكة فهو يستفيد أبدا صور المغيبات من عالم الملائكة ثم بعد تلك الاستفادة يفيضها على عالم الأجسام وواسطته في تلك الاستفادة هي الفكر الذهني وواسطته في هذه الإفادة هي النطق اللساني فكما أن تلك الواسطة أعظم العبادات حتى قيل: " تفكر ساعة خير من عبادة سنة " فكذلك الواسطة في الإفادة يجب أن تكون أشرف الأعضاء فقوله: * (رب اشرح لي صدري) * إشارة إلى طلب النور الواقع في الروح، وقوله: * (ويسر لي أمري) * إشارة إلى تحصيل ذلك وتسهيل ذلك التحصيل، وعند ذلك يحصل الكمال في تلك الاستفادة الروحانية فلا يبقى بعد هذا إلا المقام البياني وهو إفاضة ذلك الكمال على الغير وذلك لا يكون
46

إلا باللسان. فلهذا قال: * (واحلل عقدة من لساني) *. وخامسها: وهو أن العلم أفضل المخلوقات على ما ثبت والجود والإعطاء أفضل الطاعات، وليس في الأعضاء أفضل من اليد، فاليد لما كانت آلة في العطية الجسمانية قيل: " اليد العليا خير من اليد السفلى " فالعلم الذي هو خير من المال لما كانت آلة إعطائه اللسان وجب أن يكون أشرف الأعضاء، ولا شك أن اللسان هو الآلة في إعطاء المعارف فوجب أن يكون أشرف الأعضاء، ومن الناس من مدح الصمت لوجوه، أحدها: قوله عليه السلام: " الصمت حكمة وقليل فاعله " ويروى أن الإنسان تفكر أعضاؤه اللسان ويقلن اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. وثانيها: أن الكلام على أربعة أقسام منه ما ضرره خالص أو راجح، ومنه ما يستوي الضرر والنفع فيه ومنه ما نفعه راجح ومنه ما هو خالص النفع، أما الذي ضرره خالص أو راجح فواجب الترك، والذي يستوي الأمران فيه فهو عيب، فبقي القسمان الأخيران وتخليصهما عن زيادة الضرر عسر، فالأولى ترك الكلام. وثالثها: أن ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما يتناوله الضمير يعبر عنه اللسان بحق أو باطل، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء، فإن العين لا تصل إلى غير الألوان، والصور والآذان لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف، واليد لا تصل إلى غير الأجسام، وكذا سائر الأعضاء بخلاف اللسان فإنه رحب الميدان ليس له نهاية ولا حد فله في الخير مجال رحب وله في الشر بحر سحب، وإنه خفيف المؤنة سهل التحصيل بخلاف سائر المعاصي فإنه يحتاج فيها إلى مؤن كثيرة لا يتيسر تحصيلها في الأكثر فلذلك كان الأولى ترك الكلام. ورابعها: قالوا: ترك الكلام له أربعة أسماء الصمت والسكوت والإنصات والإصاخة، فأما الصمت فهو أعمها لأنه يستعمل فيما يقوى على النطق وفيما لا يقوى عليه ولهذا يقال: مال ناطق وصامت وأما السكوت فهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام والانصات سكوت مع استماع ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات قال تعالى: * (فاستمعوا له وأنصتوا) * (الأعراف: 204
) والإصاخة استماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد. واعلم أن الصمت عدم ولا فضيلة فيه بل النطق في نفسه فضيلة والرذيلة في محاورته ولولاه لما سأل كليم الله ذلك في قوله تعالى: * (واحلل عقدة من لساني) *.
المسألة الثانية: اختلفوا في تلك العقدة التي كانت في لسان موسى عليه السلام على قولين، الأول: كان ذلك التعقد خلقة الله تعالى فسأل الله تعالى إزالته. الثاني: السبب فيه أنه عليه السلام حال صباه أخذ لحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية: إنه صبي لا يعقل وعلامته أن تقرب منه التمرة والجمرة فقربا إليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال لم تحترق اليد ولا اللسان لأن اليد آلة أخذ العصا وهي الحجة
47

واللسان آلة الذكر فكيف يحترق ولأن إبراهيم عليه السلام لم يحترق بنار نمروذ وموسى عليه السلام لم يحترق حين ألقى في التنور فكيف يحترق هنا؟ ومنهم من قال: احترقت اليد دون اللسان لئلا يحصل حق المواكلة والممالحة. الثالث: احترق اللسان دون اليد لأن الصولة ظهرت باليد أما اللسان فقد خاطبه بقوله يا أبت. والرابع: احترقا معا لئلا تحصل المواكلة والمخاطبة.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أنه عليه السلام لم طلب حل تلك العقدة على وجوه. أحدها: لئلا يقع في أداء الرسالة خلل البتة. وثانيها: لإزالة التنفير لأن العقدة في اللسان قد تفضي إلى الاستخفاف بقائلها وعدم الالتفات إليه. وثالثها: إظهارا للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام كان معجزا في حقه فكذا إطلاق لسان موسى عليه السلام معجز في حقه. ورابعها: طلب السهولة لأن إيراد مثل هذا الكلام على مثل فرعون في جبروته وكبره عسر جدا فإذا انضم إليه تعقد اللسان بلغ العسر إلى النهاية، فسأل ربه إزالة تلك العقدة تخفيفا وتسهيلا.
المسألة الرابعة: قال الحسن رحمه الله: إن تلك العقدة زالت بالكلية بدليل قوله تعالى: * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * (طه: 36) وهو ضعيف لأنه عليه السلام لم يقل واحلل العقدة من لساني بل قال: * (واحلل عقدة من لساني) * فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله، والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء قليل لقوله: حكاية عن فرعون * (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) * (الزخرف: 52) أي يقارب أن لا يبين وفي ذلك دلالة على أنه كان يبين مع بقاء قدر من الانعقاد في لسانه وأجيب عنه من وجهين. أحدهما: المراد بقوله: ولا يكاد يبين أي لا يأتي ببيان ولا حجة. والثاني: إن كاد بمعنى قرب ولو كان المراد هو البيان اللساني لكان معناه أنه لا يقارب البيان فكان فيه نفي البيان بالكلية وذلك باطل لأنه خاطب فرعون والجمع وكانوا يفقهون كلامه فكيف يمكن نفي البيان أصلا بل إنما قال ذلك تمويها ليصرف الوجوه عنه قال أهل الإشارة إنما قال: * (واحلل عقدة من لساني) * لأن حل العقد كلها نصيب محمد صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * (الأنعام: 152) فلما كان ذلك حقا ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله والله أعلم.
المطلوب الرابع: قوله: * (واجعل لي وزيرا من أهل) * واعلم أن طلب الوزير إما أن يكون لأنه خاف من نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر فطلب المعين أو لأنه رأى أن للتعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة مزية عظيمة في أمر الدعاء إلى الله ولذلك قال عيسى ابن مريم: * (من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله) * (آل عمران: 52) وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * (الأنفال: 64) وقال عليه السلام: " إن لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين، فاللذان في السماء جبريل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر " وههنا مسائل:
المسألة الأولى: الوزير من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه أو من الوزر
48

وهو الجبل الذي يتحصن به لأن الملك يعتصم برأيه في رعيته ويفوض إليه أموره أو من الموازرة وهي المعاونة، والموازرة مأخوذة من إزار الرجل وهو الموضع الذي يشده الرجل إذا استعد لعمل أمر صعب قاله الأصمعي وكان القياس أزيرا فقلبت الهمزة إلى الواو.
المسألة الثانية: قال عليه السلام: " إذا أراد الله بملك خيرا قيض له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن نوى خيرا أعانه وإن أراد شرا كفه " وكان أنوشروان يقول: لا يستغني أجود السيوف عن الصقل، ولا أكرم الدواب عن السوط، ولا أعلم الملوك عن الوزير.
المسألة الثالثة: إن قيل الاستعانة بالوزير إنما يحتاج إليها الملوك أما الرسول المكلف بتبليغ الرسالة والوحي من الله تعالى إلى قوم على التعيين فمن أين ينفعه الوزير؟ وأيضا فإنه عليه السلام سأل ربه أن يجعله شريكا له في النبوة فقال: * (وأشركه في أمري) * فكيف يكون وزيرا. والجواب: عن الأول أن التعاون على الأمر والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة له مزية عظيمة في تأثير الدعاء إلى الله تعالى فكان موسى عليه السلام واثقا بأخيه هارون فسأل ربه أن يشد به أزره حتى يتحمل عنه ما يمكن من الثقل في الإبلاغ.
المطلوب الخامس: أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه.
المطلوب السادس: أن يكون الوزير الذي من أهله هو أخوه هارون وإنما سأل ذلك لوجهين. أحدهما: أن التعاون على الدين منقبة عظيمة فأراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله، أو لأن كل واحد منهما كان في غاية المحبة لصاحبه والموافقة له، وقوله هارون في انتصابه وجهان. أحدهما: أنه مفعول الجعل على تقدير اجعل هارون أخي وزيرا لي. والثاني: على البدل من وزيرا وأخي نعت لهارون أو بدل، واعلم أن هارون عليه السلام كان مخصوصا بأمور منها الفصاحة لقوله تعالى عن موسى: * (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا) * (القصص: 34) ومنها أنه كان فيه رفق قال: * (يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) * (طه: 94) ومنها أنه كان أكبر سنا منه.
المطلوب السابع: قوله: أشدد به أزري وفيه مسائل:
المسألة الأولى: القراءة العامة: * (أشدد به، وأشركه) * على الدعاء وقرأ ابن عامر وحده: * (أشدد، وأشركه) * على الجزاء والجواب، حكاية عن موسى عليه السلام أي أنا أفعل ذلك ويجوز لمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل * (أخي) * مرفوعا على الابتداء * (وأشدد به) * خبره ويوقف على هارون.
المسألة الثانية: الأزر القوة وآزره قواه قال تعالى: * (فآزره) * أي أعانه قال أبو عبيدة * (أزري) * أي ظهري وفي كتاب الخليل: الأزر الظهر.
المسألة الثالثة: أنه عليه السلام لما طلب من الله تعالى أن جعل هارون وزيرا له طلب منه أن يشد به أزره ويجعله ناصرا له لأنه لا اعتماد على القرابة.
49

المطلوب الثامن: قوله: * (وأشركه في أمري) * والأمر ههنا النبوة، وإنما قال ذلك لأنه عليه السلام علم أنه يشد به عضده وهو أكبر منه سنا وأفصح منه لسانا ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال: * (كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا) * والتسبيح يحتمل أن يكون باللسان وأن يكون بالاعتقاد، وعلى كلا التقديرين فالتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله عما لا يليق به، وأما الذكر فهو عبارة عن وصف الله تعالى بصفات الجلال والكبرياء ولا شك أن النفي مقدم على الإثبات، أما قوله تعالى: * (إنك كنت بنا بصيرا) * ففيه وجوه: أحدها: إنك عالم بأنا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك ولا نريد بها أحدا سواك. وثانيها: * (كنت بنا بصيرا) * لأن هذه الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوة إليها. وثالثها: إنك بصير بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو أصلح لنا، وإنما قيد الدعاء بهذا إجلالا لربه عن أن يتحكم عليه وتفويضا للأمر بالكلية إليه.
قوله تعالى
* (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى * ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينآ إلى أمك ما يوحى * أن قذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى * إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين فى أهل مدين ثم جئت على قدر ياموسى * واصطنعتك لنفسى * اذهب أنت وأخوك باياتى ولا تنيا فى ذكرى *
50

اذهبآ إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) *
اعلم أن السؤال هو الطلب فعل بمعنى مفعول كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول، واعلم أن موسى عليه السلام لما سأل ربه تلك الأمور الثمانية، وكان من المعلوم أن قيامه بما كلف به تكليف لا يتكامل إلا بإجابته إليها، لا جرم أجابه الله تعالى إليها ليكون أقدر على الإبلاغ على الحد الذي كلف به فقال: * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * وعد ذلك من النعم العظام عليه لما فيه من وجوه المصالح ثم قال: * (ولقد مننا عليك مرة أخرى) * فنبه بذلك على أمور: أحدها: كأنه تعالى قال: إني راعيت مصلحتك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال. وثانيها: إني كنت قد ربيتك فلو منعتك الآن مطلوبك لكان ذلك ردا بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي. وثالثها: إنا لما أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك من حالة نازلة إلى درجة عالية دل هذا على أن نصبناك لمنصب عال ومهم عظيم فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع من المطلوب، وههنا سؤالان:
السؤال الأول: لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أن هذه اللفظة لفظة مؤذية والمقام مقام التلطف؟ والجواب إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصلت إليه ما كان مستحقا لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها بمحض التفضل والإحسان.
السؤال الثاني: لم قال مرة أخرى مع أنه تعالى ذكر مننا كثيرة؟ والجواب: لم يعن بمرة أخرى مرة واحدة من المنن لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير. واعلم أن المنن المذكورة ههنا ثمانية: المنة الأولى: قوله: * (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له) * أما قوله: * (إذ أوحينا) * فقد اتفق الأكثرون على أن أم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء وكيف لا نقول ذلك والمرأة لا تصلح للقضاء والإمامة بل عند الشافعي رحمه الله لا تمكن من تزويجها نفسها فكيف تصلح للنبوة ويدل عليه قوله تعالى: * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) * (الأنبياء: 7) وهذا صريح في الباب، وأيضا فالوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى: * (وأوحى ربك إلى النحل) * (النحل: 68) وقال: * (وإذ أوحيت إلى الحواريين) * (المائدة: 111) ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه: أحدها: المراد رؤيا رأتها أم موسى عليه السلام وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت وقذفه في البحر وأن الله تعالى يرده إليها. وثانيها: أن المراد عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة فكل من تفكر فيما وقع إليه ظهر له الرأي الذي هو أقرب إلى الخلاص ويقال لذلك الخاطر إنه وحي. وثالثها: المراد منه الإلهام لكنا
51

متى بحثنا عن الإلهام كان معناه خطور رأي بالبال وغلبة على القلب فيصير هذا هو الوجه الثاني وهذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأن الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساو للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني. والجواب: لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان إفضاء الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون. ورابعها: لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب عليه السلام أو غيره ثم إن ذلك النبي عرفها، إما مشافهة أو مراسلة، واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحقها من أنواع الخوف ما لحقها. والجواب: أن ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أن موسى عليه السلام كان يخاف فرعون مع أن الله تعالى كان يأمره بالذهاب إليه مرارا. وخامسها: لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك وانتهى ذلك الخبر إلى تلك المرأة. وسادسها: لعل الله تعالى بعث إليها ملكا لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله: * (فتمثل لها بشرا سويا) * (مريم: 17) وأما قوله: * (ما يوحى) * فمعناه وأوحينا إلى أمك ما يجب أن يوحى وإنما وجب ذلك الوحي لأن الواقعة واقعة عظيمة ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي فكان الوحي واجبا أما قوله تعالى: * (أن اقذفيه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أن هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول.
المسألة الثانية: القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع ومنه قوله تعالى: * (وقذف في قلوبهم الرعب) * (الأحزاب: 26).
المسألة الثالثة: روى أنها اتخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا محلوجا ووضعت فيه موسى عليه السلام وقيرت رأسه وشقوقه بالقار ثم ألقته في النيل وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذ بتابوت يجيء به الماء فلما رآه فرعون أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبي من أصبح الناس وجها فلما رآه فرعون أحبه وسيأتي تمام القصة في سورة القصص، قال مقاتل: إن الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون.
المسألة الرابعة: اليم هو البحر والمراد به ههنا نيل مصر في قول الجميع واليم اسم يقع على البحر وعلى النهر العظيم.
المسألة الخامسة: قال الكسائي الساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك لأن الماء يسحله أي يقذفه إلى أعلاه.
المسألة السادسة: قال صاحب " الكشاف " الضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت يؤدي إلى تنافر النظم فإن قيل المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلنا لا بأس بأن يقال المقذوف والملقى هو موسى عليه السلام
52

في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر ولا يحصل التنافر.
المسألة السابعة: لما كان تقدير الله تعالى أن يجري ماء اليم ويلقي بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل فليلقه اليم بالساحل أما قوله: * (يأخذه عدو لي وعدو له) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: قوله: * (يأخذه) * جواب الأمر أي اقذفيه يأخذه.
البحث الثاني: في كيفية الأخذ قولان، أحدهما: أن امرأة فرعون كانت بحيث تستسقي الجواري فبصرت بالتابوت فأمرت به فأخذت التابوت فيكون المراد من أخذ فرعون التابوت قبوله له واستحبابه إياه. الثاني: أن البحر ألقى التابوت بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون ثم أداه النهر إلى بركة فرعون فلما رآه أخذه.
البحث الثالث: قوله: * (يأخذه عدو لي وعدو له) * فيه إشكال وهو أن موسى عليه السلام لم يكن ذلك الوقت بحيث يعادى. وجوابه: أما كونه عدوا لله من جهة كفره وعتوه فظاهر وأما كونه عدوا لموسى عليه السلام فيحتمل من حيث إنه لو ظهر له حالة لقتله ويحتمل أنه من حيث يؤول أمره إلى ما آل إليه من العداوة. المنة الثانية: قوله: * (وألقيت عليك محبة مني) * وفيه قولان: الأول: وألقيت عليك محبة هي مني قال الزمخشري: * (مني) * لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإما أن يتعلق بمحذوف وهذا هو القول الثاني ويكون ذلك المحذوف صفة لمحبة أي وألقيت عليك محبة حاصلة مني واقعة بخلقي فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت: * (قرة عين لي ولك لا تقتلوه) * (القصص: 9) يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه وهو كقوله تعالى: * (سيجعل لهم الرحمن ودا) * (مريم: 96) قال القاضي: هذا الوجه أقرب لأنه في حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين لأن ذلك إنما يستعمل في المكلف من حيث استحقاق الثواب والمراد أن ما ذكرنا من كيفيته في الخلقة يستحلي ويغتبط فكذلك كانت حاله مع فرعون وامرأته وسهل الله تعالى له منهما في التربية ما لا مزيد عليه ويمكن أن يقال بل الاحتمال الأول أرجح لأن الاحتمال الثاني يحوج إلى الإضمار وهو أن يقال: وألقيت عليك محبة حاصلة مني وواقعة بتخليقي وعلى التقدير الأول لا حاجة إلى هذا الإضمار بقي قوله: إنه حال صباه لا يحصل له محبة الله تعالى قلنا: لا نسلم فإن محبة الله تعالى يرجع معناها إلى إيصال النفع إلى عباده وهذا المعنى كان حاصلا في حقه في حال صباه وعلم الله تعالى أن ذلك يستمر إلى آخر عمره فلا جرم أطلق عليه لفظ المحبة. المنة الثالثة: قوله: * (ولتصنع على عيني) * قال القفال: لترى على عيني أي على وفق إرادتي، ومجاز هذا أن من صنع لإنسان شيئا وهو حاضر ينظر إليه صنعه له كما يحب ولا يمكنه أن يفعل ما يخالف غرضه فكذا ههنا وفي كيفية المجاز قولان: الأول: المراد من العين العلم أن ترى على علم مني ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات
53

كما أن الناظر إليه يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه. الثاني: المراد من العين الحراسة وذلك لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما يؤذيه فالعين كأنها سبب الحراسة فأطلق اسم السبب على المسبب مجازا وهو كقوله تعالى: * (إنني معكما أسمع وأرى) * (طه: 46) ويقال: عين الله عليك إذا دعا لك بالحفظ والحياطة، قال القاضي ظاهر القرآن يدل على أن المراد من قوله: * (ولتصنع على عيني) * الحفظ والحياطة كقوله تعالى: * (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن) * فصار ذلك كالتفسير لحياطة الله تعالى له، بقي ههنا بحثان:
الأول: الواو في قوله: * (ولتصنع على عيني) * فيه ثلاثة أوجه. أحدها: كأنه قيل: * (ولتصنع على عيني) * ألقيت عليك محبة مني ثم يكون قوله: * (إذ تمشي أختك) * متعلقا بأول الكلام وهو قوله: * (ولقد مننا عليك مرة أخرى، إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) * وإذ تمشي أختك. وثانيها: يجوز أن يكون قوله: * (ولتصنع على عيني) * متعلقا بما بعده وهو قوله: * (إذ تمشي) * وذكرنا مثل هذين الوجهين في قوله: * (وليكون من الموقنين) * (الأنعام: 75). وثالثها: يجوز أن تكون الواو مقحمة أي وألقيت عليك محبة مني لتصنع وهذا ضعيف.
الثاني: قرىء ولتصنع بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر وقرئ ولتصنع بفتح التاء والنصب أي وليكون عملك وتصرفك على علم مني. المنة الرابعة: قوله: * (إذ تمشي أختك) * واعلم أن العامل في إذ تمشى ألقيت أو تصنع، يروى أنه لما فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاما في النيل وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها لأن الله تعالى قد حرم عليه المراضع غير أمه اضطروا إلى تتبع النساء فلما رأت ذلك أخت موسى جاءت إليهم متنكرة فقالت: * (هل أدلكم على أهل
بيت يكفلونه لكم) * (القصص: 12) ثم جاءت بالأم فقبل ثديها فرجع إلى أمه بما لطف الله تعالى له من هذا التدبير. أما قوله تعالى: * (فرجعناك إلى أمك) * أي رددناك، وقال في موضع آخر: * (فرددناه إلى أمه) * (القصص: 13) وهو كقوله: * (قال رب ارجعون) * (المؤمنون: 99) أي ردوني إلى الدنيا، أما قوله: * (كي تقر عينها ولا تحزن) * فالمراد أن المقصود من ردك إليها حصول السرور لها وزوال الحزن عنها، فإن قيل: لو قال كي لا تحزن وتقر عينها كان الكلام مفيدا لأنه لا يلزم من نفي الحزن حصول السرور لها، وأما لما قال أولا كي تقر عينها كان قوله بعد ذلك: * (ولا تحزن) * فضلا لأنه متى حصل السرور وجب زوال الغم لا محالة، قلنا: المراد أنه تقر عينها بسبب وصولك إليها فيزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك. والمنة الخامسة: قوله: * (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم) * فالمراد به وقتلت بعد كبرك نفسا وهو الرجل الذي قتله خطأ بأن وكزه حيث استغاثه الإسرائيلي عليه وكان قبطيا فحصل له الغم من وجهين، أحدهما: من عقاب الدنيا وهو اقتصاص فرعون منه ما حكى الله تعالى عنه: * (فأصبح في المدينة خائفا يترقب) * (القصص: 18) والآخر من عقاب الله تعالى حيث قتله لا بأمر الله فنجاه الله تعالى من الغمين، أما من فرعون فحين وفق له المهاجرة إلى مدين
54

وأما من عقاب الآخرة فلأنه سبحانه وتعالى غفر له ذلك. المنة السادسة: قوله: * (وفتناك فتونا) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: في قوله: * (فتونا) * وجهان: أحدهما: أنه مصدر كالعكوف والجلوس والمعنى وفتناك حقا وذلك على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر كقوله تعالى: * (وكلم الله موسى تكليما) * (النساء: 164)، والثاني: أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي فتناك ضروبا من الفتن وههنا سؤالان. السؤال الأول: إن الله تعالى عدد أنواع مننه على موسى عليه السلام في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع قوله: * (وفتناك فتونا) *. الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن الفتنة تشديد المحنة، يقال فتن فلان عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى: * (فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) * (العنكبوت: 10) وقال تعالى: * (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) * (العنكبوت: 1 - 3) وقال: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) * (البقرة: 214) فالزلزلة المذكورة في الآية ومس البأساء والضراء هي الفتنة والفتون، ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب لا جرم عده الله تعالى من جملة النعم. وثانيها: * (فتناك فتونا) * أي خلصناك تخليصا من قولهم: فتنت الذهب من الفضة إذا أردت تخليصه وسأل سعيد بن جبير بن عباس عن الفتون فقال: نستأنف له نهارا يا ابن جبير. ثم لما أصبح أخذ ابن عباس يقرأ عليه الآيات الواردة في شأن موسى عليه السلام من ابتداء أمره فذكر قصة فرعون وقتله أولاد بني إسرائيل ثم قصة إلقاء موسى عليه السلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الارتضاع من الأجانب، ثم قصة أن موسى عليه السلام أخذ لحية فرعون ووضعه الجمرة في فيه، ثم قصة قتل القبطي، ثم هربه إلى مدين وصيرورته أجيرا لشعيب عليه السلام، ثم عوده إلى مصر وأنه أخطأ الطريق في الليلة المظلمة واستئناسه بالنار من الشجرة وكان عند تمام كل واحدة منها يقول هذا من الفتون يا ابن جبير.
السؤال الثاني: هل يصح إطلاق اسم الفتان عليه سبحانه اشتقاقا من قوله: * (وفتناك فتونا) * والجواب لا لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي. المنة السابعة: قوله تعالى: * (فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى) * واعلم أن التقدير: * (وفتناك فتونا) * فخرجت خائفا إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم، أما مدة اللبث فقال أبو مسلم: إنها مشروحة في قوله تعالى: * (ولما توجه تلقاء مدين) * - إلى قوله - * (فلما قضى موسى الأجل) * (القصص: 29) وهي إما عشرة وإما ثمان لقوله تعالى: * (على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) * (القصص: 27) وقال وهب: لبث موسى عليه السلام عند شعيب عليه السلام ثمانيا وعشرين سنة منها عشر سنين
55

مهر امرأته، والآية تدل على أنه عليه السلام لبث عنده عشر سنين وليس فيها ما ينفي الزيادة على العشر، واعلم أن قوله: * (فلبث سنين في أهل مدين) * بعد قوله: * (وفتناك فتونا) * كالدلالة على أن لبثه في مدين من الفتون وكذلك كان، فإنه عليه السلام تحمل بسبب الفقر والغربة محنا كثيرة، واحتاج إلى أن آجر نفسه، أما قوله تعالى: * (ثم جئت على قدر يا موسى) * فلا بد من حذف في الكلام لأنه على قدر أمر من الأمور، وذكروا في ذلك المحذوف وجوها. أحدها: أنه سبق في قضائي وقدري أن أجعلك رسولا لي في وقت معين عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدر لا قبله ولا بعده، ومنه قوله: * (إنا كل شيء خلقناه بقدر) * (القمر: 49)، وثانيها: على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة. وثالثها: أن القدر هو الموعد فإن ثبت أنه تقدم هذا الموعد صح حمله عليه، ولا يمتنع ذلك لاحتمال أن شعيبا عليه السلام أو غيره من الأنبياء كانوا قد عينوا ذلك الموعد، فإن قيل: كيف ذكر الله تعالى مجيء موسى عليه السلام في ذلك الوقت من جملة مننه عليه، قلنا: لأنه لولا توفيقه له لما تهيأ شيء من ذلك. المنة الثامنة: قوله تعالى: * (واصطنعتك لنفسي) * والاصطناع اتخاذ الصنعة، وهي افتعال من الصنع. يقال: اصطنع فلان فلانا أي اتخذه صنيعه، فإن قيل: إنه تعالى غني عن الكل فما معنى قوله لنفسي. والجواب عنه من وجوه: الأول: أن هذا تمثيل لأنه تعالى لما أعطاه من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه أهلا لأن يكون أقرب الناس منزلة إليه وأشدهم قربا منه. وثانيها: قالت المعتزلة: إنه سبحانه وتعالى إذا كلف عباده وجب عليه أن يلطف بهم ومن جملة الألطاف ما لا يعلم إلا سمعا فلو لم يصطنعه بالرسالة لبقي في عهدة الواجب فصار موسى عليه السلام كالنائب عن ربه في أداء ما وجب على الله تعالى، فصح أن يقول: واصطنعتك لنفسي، قال القفال واصطنعتك أصله من قولهم اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان وجريح فلان وقوله لنفسي: أي لأصرفك في أوامري لئلا تشتغل بغير ما أمرتك به وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما عدد عليه المنن الثمانية في مقابلة تلك الالتماسات الثمانية رتب على
ذكر ذلك أمرا ونهيا، أما الأمر فهو أنه سبحانه وتعالى أعاد الأمر بالأول فقال: * (اذهب أنت وأخوك بآياتي) * واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال: * (واصطنعتك لنفسي) * عقبه بذكر ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: الباء ههنا بمعنى مع وذلك لأنهما لو ذهبا إليه بدون آية معهما لم يلزمه الإيمان وذلك من أقوى الدلائل على فساد التقليد.
المسألة الثانية: اختلفوا في الآيات المذكورة ههنا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها اليد والعصا لأنهما اللذان جرى ذكرهما في هذا الموضع وفي سائر المواضع التي اقتص الله تعالى فيها
56

حديث موسى عليه السلام فإنه تعالى لم يذكر في شيء منها أنه عليه السلام قد أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ولا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين قال تعالى عنه: * (قال فأت بآية إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) * (الشعراء: 31 - 33) وقال: * (فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه) * (القصص: 32) فإذا قيل لهؤلاء كيف يطلق لفظ الجمع على الاثنين أجابوا بوجوه: الأول: أن العصا ما كانت آية واحدة بل كانت آيات فإن انقلاب العصا حيوانا آية ثم إنها في أول الأمر كانت صغيرة لقوله تعالى: * (تهتز كأنها جان) * (النمل: 10) ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى، ثم كانت تصير ثعبانا وهذه آية أخرى. ثم إن موسى عليه السلام كان يدخل يده في فيها فما كانت تضر موسى عليه السلام فهذه آية أخرى ثم كانت تنقلب خشبة فهذه آية أخرى، وكذلك اليد فإن بياضها آية وشعاعها آية أخرى ثم زوالهما بعد حصولهما آية أخرى فصح أنهما كانتا آيات كثيرة لا آيتان. الثاني: هب أن العصا أمر واحد لكن فيها آيات كثيرة لأن انقلابها حية يدل على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل حكيم ويدل على نبوة موسى عليه السلام ويدل على جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيوانا فهذه آيات كثيرة ولذلك قال: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) * إلى قوله: * (فيه آيات بينات مقام إبراهيم) * (آل عمران: 96، 97) فإذا وصف الشيء الواحد بأن فيه آيات فالشيئان أولى بذلك. الثالث: من الناس من قال: أقل الجمع اثنان على ما عرفت في أصول الفقه. القول الثاني: أن قوله: * (اذهبا بآياتي) * معناه أني أمدكما بآياتي وأظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل من فرعون وقومه فاذهبا فإن آياتي معكما كما يقال اذهب فإن جندي معك أي أني أمدك بهم متى احتجت. القول الثالث: أن الله تعالى آتاه العصا واليد وحل عقدة لسانه وذلك أيضا معجز فكانت الآيات ثلاثة هذا هو شرح الأمر أما النهي فهو قوله تعالى: * (ولا تنيا في ذكري) * الوني الفتور والتقصير وقرئ ولا تنيا بكسر حرف المضارعة للاتباع ثم قيل فيه أقوال: أحدها: المعنى لا تنيا بل اتخذا ذكرى آلة لتحصيل المقاصد واعتقدا أن أمرا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري والحكمة فيه أن من ذكر جلال الله استحقر غيره فلا يخاف أحدا ولأن من ذكر جلال الله تقوى روحه بذلك الذكر فلا يضعف في المقصود، ولأن ذاكر الله تعالى لا بد وأن يكون ذاكرا لإحسانه وذاكر إحسانه لا يفتر في أداء أوامره. وثانيها: المراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على كل العبادات وتبليغ الرسالة من أعظمها فكان جديرا بأن يطلق عليه اسم الذكر. وثالثها: قوله: * (ولا تنيا في ذكري) * عند فرعون وكيفية الذكر هو أن يذكرا لفرعون وقومه أن الله تعالى لا يرضى منهم بالكفر ويذكرا لهم أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب. ورابعها: أن يذكرا لفرعون آلاء الله ونعماءه وأنواع إحسانه إليه ثم قال بعد ذلك: * (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) * وفيه سؤالان: الأول: ما الفائدة في ذلك بعد قوله: * (اذهب أنت وأخوك بآياتي) * قال القفال فيه وجهان. أحدهما: أن قوله: * (اذهب أنت وأخوك بآياتي) * يحتمل أن يكون كل واحد منهما
57

مأمورا بالذهاب على الانفراد فقيل مرة أخرى اذهبا ليعرفا أن المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعا لا أن ينفرد به هارون دون موسى. والثاني: أن قوله: * (اذهب أنت وأخوك بآياتي) * أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون، ثم إن قوله: * (إذهبا إلى فرعون) * أمر بالذهاب إلى فرعون وحده.
السؤال الثاني: قوله: * (إذهبا إلى فرعون) * خطاب مع موسى وهارون عليهما السلام وهذا مشكل لأن هارون عليه السلام لم يكن حاضرا هناك وكذلك في قوله تعالى: * (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) * (طه: 45) أجاب القفال عنه من وجوه. أحدها: أن الكلام كان مع موسى عليه السلام وحده إلا أنه كان متبوع هارون فجعل الخطاب معه خطابا مع هارون وكلام هارون على سبيل التقدير فالخطاب في تلك الحالة وإن كان مع موسى عليه السلام وحده إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله: * (وإذ قتلتم نفسا) * (البقرة: 72) وقوله: * (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) * (المنافقون: 8) وحكي أن القائل هو عبد الله بن أبي وحده. وثانيها: يحتمل أن الله تعالى لما قال: * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * سكت حتى لقي أخاه، ثم إن الله تعالى خاطبهما بقوله: * (اذهبا إلى فرعون) *. وثالثها: أنه حكى أنه في مصحف ابن مسعود وحفصة: * (قال ربنا إننا نخاف) * أي قال موسى: أنا وأخي نخاف فرعون أما قوله تعالى: * (فقولا له قولا لينا) * ففيه سؤالان:
السؤال الأول: لم أمر الله تعالى موسى عليه السلام باللين مع الكافر الجاحد. الجواب لوجهين: الأول: أنه عليه السلام كان قد رباه فرعون فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق وهذا تنبيه على نهاية تعظيم حق الأبوين. الثاني: أن من عادة الجبابرة إذا غلظ لهم في الوعظ أن يزدادوا عتوا وتكبرا، والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر فلهذا أمر الله تعالى بالرفق.
السؤال الثاني: كيف كان ذلك الكلام اللين. الجواب: ذكروا فيه وجوها. أحدها: ما حكى الله تعالى بعضه فقال: * (هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى) * (النازعات: 18، 19) وذكر أيضا في هذه السورة بعض ذلك فقال: * (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك) * (طه: 47) إلى قوله: * (والسلام على من اتبع الهدى) * (طه: 47). وثانيها: أن تعداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. وثالثها: كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة. ورابعها: حكى عن عمرو بن دينار قال: بلغني أن فرعون عمر أربعمائة سنة وتسع سنين فقال له
موسى عليه السلام: إن أطعتني عمرت مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة واعترضوا على هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة. أما الأول: فقيل لو حصلت له هذه الأمور الثلاثة في هذه المدة الطويلة لصار ذلك كالإلجاء إلى معرفة الله تعالى وذلك لا يصح مع التكليف. وأما الثاني: فلأن خطابه بالكنية أمر سهل فلا يجوز أن يجعل ذلك هو المقصود من قوله: * (فقولا له قولا لينا) *
58

بل يجوز أن يكون ذلك من جملة المراد. وأما الثالث: فالاعتراض عليه كما في الأول أما قوله تعالى: * (لعله يتذكر أو يخشى) * فاعلم أنه ليس المراد أنه تعالى كان شاكا في ذلك لأن ذلك محال عليه تعالى وإنما المراد: فقولا له قولا لينا، على أن تكونا راجيين لأن يتذكر هو أو يخشى. واعلم أن أحوال القلب ثلاثة. أحدها: الإصرار على الحق. وثانيها: الإصرار على الباطل. وثالثها: التوقف في الأمرين، وأن فرعون كان مصرا على الباطل وهذا القسم أردأ الأقسام فقال تعالى: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * فيرجع من إنكاره إلى الإقرار بالحق وإن لم ينتقل من الإنكار إلى الإقرار لكنه يحصل في قلبه الخوف فيترك الإنكار وإن كان لا ينتقل إلى الإقرار فإن هذا خير من الإصرار على الإنكار واعلم أن هذا التكليف لا يعلم سره إلا الله تعالى لأنه تعالى لما علم أنه لا يؤمن قط كان إيمانه ضدا لذلك العلم الذي يمتنع زواله فيكون سبحانه عالما بامتناع ذلك الإيمان وإذا كان عالما بذلك فكيف أمر موسى عليه السلام بذلك الرفق وكيف بالغ في ذلك الأمر بتلطيف دعوته إلى الله تعالى مع علمه استحالة حصول ذلك منه؟ ثم هب أن المعتزلة ينازعون في هذا الامتناع من غير أن يذكروا شبهة قادحة في هذا السؤال ولكنهم سلموا أنه كان عالما بأنه لا يحصل ذلك الإيمان وسلموا أن فرعون لا يستفيد ببعثة موسى عليه السلام إلا استحقاق العقاب والرحيم الكريم كيف يليق به أن يدفع سكينا إلى من علم قطعا أنه يمزق بها بطن نفسه ثم يقول: إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان إليه؟ يا أخي العقول قاصرة عن معرفة هذه الأسرار ولا سبيل فيها إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان، ويروى عن كعب أنه قال: والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة: فقولا له قولا لينا وسأقسي قلبه فلا يؤمن.
قوله تعالى
* (قالا ربنآ إننا نخاف أن يفرط علينآ أو أن يطغى * قال لا تخافآ إننى معكمآ أسمع وأرى * فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بنى إسراءيل ولا تعذبهم قد جئناك باية من ربك والسلام على من اتبع الهدى * إنا قد أوحى إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى) *
اعلم أن قوله: * (قالا ربنا إننا نخاف) * فيه أسئلة:
59

السؤال الأول: قوله: * (قالا ربنا) * يدل على أن المتكلم بذلك موسى وهارون عليهما السلام وهارون لم يكن حاضرا هذا المقال فكيف ذلك وجوابه قد تقدم.
السؤال الثاني: أن موسى عليه السلام قال: * (رب اشرح لي صدري) * (طه: 25) فأجابه الله تعالى بقوله: * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * (طه: 36) وهذا يدل على أنه قد انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قال بعده: * (إننا نخاف) * فإن حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر. والجواب: أن شرح الصدر عبارة عن تقويته على ضبط تلك الأوامر والنواحي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليه السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير زوال الخوف.
السؤال الثالث: أما علم موسى وهارون وقد حملهما الله تعالى الرسالة أنه تعالى يؤمنهما من القتل الذي هو مقطعة عن الأداء. الجواب: قد أمنا ذلك وإن جوزا أن ينالهما السوء من قبل تمام الأداء أو بعده وأيضا فإنهما استظهرا بأن سألا ربهما ما يزيد في ثبات قلبهما على دعائه وذلك بأن ينضاف الدليل النقلي إلى العقلي زيادة في الطمأنينة كما قال: * (ولكن ليطمئن قلبي) * (البقرة: 260).
السؤال الرابع: لما تكرر الأمر من الله تعالى بالذهاب فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على المعصية. الجواب: لو اقتضى الأمر الفور لكان ذلك من أقوى الدلائل على المعصية لا سيما وقد أكثر الله تعالى من أنواع التشريف وتقوية القلب وإزالة الغم ولكن ليس الأمر على الفور فزال السؤال وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الرسل أما قوله تعالى: * (أن يفرط علينا أو أن يطغى) * فاعلم أن في: * (أن يفرط) * وجوها. أحدها: فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط يسبق الخيل والمعنى نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة. وثانيها: أنه مأخوذ من أفرط غيره إذا حمله على العجلة فكان موسى وهارون عليهما السلام خافا من أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقوبة وذلك الحامل هو إما الشيطان أو إدعاؤه للربوبية أو حبه للرياسة أو قومه وهم القبط المتمردون الذين حكى الله تعالى عنهم: * (قال الملأ من قومه) * (الأعراف: 60). وثالثها: يفرط من الإفراط في الأذية أما قوله: * (أو أن يطغى) * فالمعنى يطغى بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته عليك واعلم أن من أمر بشيء فحاول دفعه بأعذار يذكرها فلا بد وأن يختم كلامه بما هو الأقوى وهذا كما أن الهدهد ختم عذره بقوله: * (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) * (النمل: 24) فكذا ههنا بدأ موسى بقوله: * (أن يفرط علينا) * وختم بقوله: * (أو أن يطغى) * لما أن طغيانه في حق الله تعالى أعظم من إفراطه في حق موسى وهارون عليهما السلام. أما قوله: * (قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) * فالمراد لا تخافا مما عرض في قلبكما من الإفراط والطغيان لأن ذلك هو المفهوم من الكلام يبين ذلك أنه تعالى لم يؤمنهما من الرد ولا من التكذيب بالآيات ومعارضة السحرة أما قوله: * (إنني معكما) * فهو عبارة عن الحراسة والحفظ وعلى هذا الوجه يقال: الله معك على وجه الدعاء وأكد ذلك بقوله: * (أسمع وأرى) * فإن من يكون مع الغير وناصرا له وحافظا
60

يجوز أن لا يعلم كل ما يناله وإنما يحرسه فيما يعلم فبين سبحانه وتعالى أنه معهما بالحفظ والعلم في جميع ما ينالهما وذلك هو النهاية في إزالة الخوف قال القفال قوله: * (أسمع وأرى) * يحتمل أن يكون مقابلا لقوله: * (أن يفرط علينا أو أن يطغى) * والمعنى: * (يفرط علينا) * بأن لا يسمع منا: * (أو أن يطغى) * بأن يقتلنا فقال الله تعالى: * (إنني معكما) * أسمع كلامه معكما فأسخره للاستماع منكما وأرى أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه، واعلم أن هذه الآية تدل على أن
كونه تعالى سميعا وبصيرا صفتان زائدتان على العلم لأن قوله: * (إنني معكما) * دل على العلم فقوله: * (أسمع وأرى) * لو دل على العلم لكان ذلك تكريرا وهو خلاف الأصل ثم إنه سبحانه أعاد ذلك التكليف فقال: * (فاتياه) * لأنه سبحانه وتعالى قال في المرة الأولى: * (لنريك من آياتنا الكبرى * إذهب إلى فرعون) * (طه: 23، 24) وفي الثانية: * (إذهب أنت وأخوك) * وفي الثالثة: * (قال اذهبا إلى فرعون) * (طه: 43) وفي الرابعة قال ههنا فأتياه فإن قيل إنه تعالى أمرهما في المرة الثانية بأن يقولا له: * (قولا لينا) * (طه: 44) وفي هذه المرة الرابعة أمرهما: * (أن يقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل) * وفيه تغليظ من وجوه: أحدها: أن قوله: * (إنا رسولا ربك) * فيه أبحاث:
البحث الأول: انقياده إليهما والتزامه لطاعتهما وذلك يعظم على الملك المتبوع.
البحث الثاني: قوله: * (فأرسل معنا بني إسرائيل) * فيه إدخال النقص على ملكه لأنه كان محتاجا إليهم فيما يريده من الأعمال من بناء أو غيره.
البحث الثالث: قوله: * (ولا تعذبهم) *. البحث الرابع: قوله: * (قد جئناك بآية من ر بك) * فما الفائدة في التليين أولا والتغليظ ثانيا؟ قلنا: لأن الإنسان إذا ظهر لجاجه فلا بد له من التغليظ فإن قيل: أليس كان من الواجب أن يقولا إنا رسولا ربك قد جئناك بآية فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم، لأن ذكر المعجز مقرونا بادعاء الرسالة أولى من تأخيره عنه؟ قلنا: بل هذا أولى من تأخيره عنه لأنهم ذكروا مجموع الدعاوى ثم استدلوا على ذلك المجموع بالمعجزة، أما قوله: * (قد جئناك بآية من ربك) * ففيه سؤال وهو أنه تعالى أعطاه آيتين وهما العصا واليد ثم قال: * (اذهب أنت وأخوك بآياتي) * (طه: 42) وذلك يدل على ثلاث آيات وقال ههنا: * (جئناك بآية) * وهذا يدل على أنها كانت واحدة فكيف الجمع؟ أجاب القفال بأن معنى الآية الإشارة إلى جنس الآيات كأنه قال: قد جئناك ببيان من عند الله ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججا كثيرة، وأما قوله: * (والسلام على من اتبع الهدى) * فقال بعضهم هو من قول الله تعالى لهما كأنه قال: فقولا إنا رسولا ربك، وقولا له: والسلام على من اتبع الهدى، وقال آخرون بل كلام الله تعالى قد تم عند قوله: * (قد جئناك بآية من ربك) * فقوله بعد ذلك: * (والسلام على من اتبع الهدى) * وعد من قبلهما لمن آمن وصدق بالسلامة له من عقوبات الدنيا والآخرة، والسلام بمعنى السلامة كما يقال رضاع ورضاعة واللام وعلى ههنا بمعنى واحد كما قال
61

* (لهم اللعنة ولهم سوء الدار) * (الرعد: 25) على معنى عليهم وقال تعالى: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) * (فصلت: 46) وفي موضع آخر: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7)، أما قوله: * (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) * (طه: 48) فاعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن عقاب المؤمن لا يدوم وذلك لأن الألف واللام في قوله: * (العذاب) * تفيد الاستغراق أو تفيد الماهية وعلى التقديرين يقتضي انحصار هذا الجنس فيمن كذب وتولى فوجب في غير المكذب المتولي أن لا يحصل هذا الجنس أصلا، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأنه لا يعاقب أحدا من المؤمنين بترك العمل به في بعض الأوقات فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام لأن العقاب المتناهي إذا حصل بعده السلامة مدة غير متناهية صار ذلك العقاب كأنه لا عقاب فلذلك يحسن مع حصول ذلك القدر أن يقال: إنه لا عقاب، وأيضا فقوله: * (والسلام على من اتبع الهدى) *، وقد فسرنا السلام بالسلامة فظاهره يقتضي حصول السلامة لكل من اتبع الهدى، والعارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون صاحب السلامة.
قوله تعالى
* (قال فمن ربكما ياموسى * قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الاولى * قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى * الذى جعل لكم الارض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن فى ذلك لأيات لاولى النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) *
اعلم أنهما عليهما السلام لما قالا: إنا رسولا ربك قال لهما: فمن ربكما يا موسى، فيه مسائل:
المسألة الأولى: أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر ثم إن موسى عليه
62

السلام لما دعاه إلى الله تعالى لم يشتغل معه بالبطش والإيذاء بل خرج معه في المناظرة لما أنه لو شرع أولا في الإيذاء لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع أولا في المناظرة وذلك يدل على أن السفاهة من غير الحجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم ثم إن فرعون لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع وذلك يدل على فساد التقليد ويدل أيضا على فساد قول التعليمية الذين يقولون نستفيد معرفة الإله من قول الرسول لأن موسى عليه السلام اعترف ههنا بأن معرفة الله تعالى يجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول وتدل على فساد قول الحشوية الذين يقولون نستفيد معرفة الله والدين من الكتاب والسنة.
المسألة الثانية: تدل الآية على أنه يجوز حكاية كلام المبطل لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله وحكى شبهات منكري النبوة وشبهات منكري الحشر، إلا أنه يجب أنك متى أوردت السؤال فاقرنه بالجواب لئلا يبقى الشك كما فعل الله تعالى في هذه المواضع.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطل والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش كما فعل موسى عليه السلام بفرعون ههنا وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله: * (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * (النحل: 125) وقال: * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) * (التوبة: 6).
المسألة الرابعة: اختلف الناس في أن فرعون هل كان عارفا بالله تعالى فقيل إنه كان عارفا إلا أنه كان يظهر الإنكار تكبرا وتجبرا وزورا وبهتانا، واحتجوا عليه بستة أوجه. أحدها: قوله: * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض) * (الإسراء: 102) فمتى نصبت التاء في علمت كان ذلك خطابا من موسى عليه السلام مع فرعون فدل ذلك على أن فرعون كان عالما بذلك وكذا قوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) * (النمل: 14). وثانيها: أنه كان عاقلا وإلا لم يجز تكليفه وكل من كان عاقلا قد علم بالضرورة أنه وجد بعد العدم وكل من كان كذلك افتقر إلى مدبر وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبر. وثالثها: قول موسى عليه السلام ههنا: * (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * وكلمة الذي تقتضي وصف المعرفة بجملة معلومة فلا بد وأن تكون هذه الجملة قد كانت معلومة له. ورابعها: قوله في سورة القصص في صفة فرعون وقومه وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بالمبدأ إلا أنهم كانوا منكرين للمعاد. وخامسها: أن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ولما هرب موسى عليه السلام إلى مدين قال له شعيب: * (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) * (القصص: 25) فمع هذا كيف يعتقد أنه إله العالم؟ وسادسها: أنه لما قال: * (وما رب العالمين) * قال موسى عليه السلام: * (رب السماوات والأرض وما بينهما) * (الشعراء: 24) قال: * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * (الشعراء: 27) يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوصف
63

فهو لم ينازع موسى في الوجود بل طلب منه الماهية فدل هذا على اعترافه بأصل الوجود، ومن الناس من قال إنه كان جاهلا بربه واتفقوا على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السماوات والأرضين والشمس والقمر وأنه خالق نفسه لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله فيحصل العلم الضروري بأنه ليس موجودا لها ولا خالقا لها، واختلفوا في كيفية جهله بالله تعالى فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للمؤثر أصلا، ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة لموجبه، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة. وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره.
المسألة الخامسة: أنه سبحانه حكى عنه في هذه السورة أنه قال: * (فمن ربكما يا موسى) * وقال في سورة الشعراء: * (وما رب العالمين) * فالسؤال ههنا بمن وهو عن الكيفية وفي سورة الشعراء بما وهو عن الماهية وهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدما على سؤال ما لأنه كان يقول إني أنا الله والرب فقال فمن ربكما فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى المقام الثاني وهو طلب الماهية وهذا أيضا مما ينبه على أنه كان عالما بالله لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره وشرع في المقام الصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر.
المسألة السادسة: إنما قال: * (فمن ربكما) * ولم يقل فمن إلهكما لأنه أثبت نفسه ربا في قوله: * (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) * (الشعراء: 18) فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال له أنا ربك فلم تدعى ربا آخر وهذا الكلام شبيه بكلام نمروذ لأن إبراهيم عليه السلام لما قال: * (ربي الذي يحيي ويميت) * (البقرة: 258) قال نمروذ له: * (أنا أحيي وأميت) * (البقرة: 258) ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرهما إبراهيم عليه السلام هما الذي عارضه بهما نمروذ إلا في اللفظ فكذا ههنا لما ادعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام ومراده أني أنا الرب لأني ربيتك ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله سبحانه وتعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ.
المسألة السابعة: اعلم أن موسى عليه السلام استدل على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات وهو قوله: * (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله: * (سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى) * (الأعلى: 1 - 3) قال إبراهيم عليه السلام: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين) * وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمور يعول على دلائل إبراهيم عليه السلام وسيأتي تقرير ذلك في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى واعلم أنه يشبه أن يكون الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان والهداية عبارة عن إبداع القوى المدركة والمحركة في تلك الأجسام وعلى هذا التقدير يكون الخلق مقدما على الهداية ولذلك قال: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) * (الحجر: 29) فالتسوية راجعة إلى القالب ونفخ الروح إشارة
64

إلى إبداع القوى وقال: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنون: 12) إلى أن قال: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * (المؤمنون: 14) فظهر أن الخلق مقدم على الهداية، والشروع في بيان عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية شروع في بحر لا ساحل له. ولنذكر منه أمثلة قريبة إلى الأفهام. أحدها: أن الطبيعي يقول: الثقيل هابط والخفيف صاعد وأشد الأشياء ثقلا الأرض ثم الماء وأشدها خفة النار ثم الهواء فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها، ثم إنه سبحانه قلب هذا الترتيب في خلقة الإنسان فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر وهما أيبس ما في البدن وهما بمنزلة الأرض ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو بمنزلة الهواء وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب التي هي بمنزلة النار فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعرف أن ذلك بتدبير القادر الحكيم الرحيم لا باقتضاء العلة والطبيعة. وثانيها: إنك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وعجائب أحوال البق والبعوض في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بالهام مدبر عالم بجميع المعلومات. وثالثها: أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها ويستخرجون الحديد من الجبال واللآلي من البحار ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة ويجمعون بين الأشياء المختلفة فيستخرجون لذات الأطعمة فثبت أنه سبحانه هو الذي خلق كل الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها، وهذا غير مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوانات فأعطى الإنسان إنسانة والحمار حمارة والبعير ناقة ثم هداه لها ليدوم التناسل وهدى الأولاد لثدي
الأمهات، بل هذا غير مختص بالحيوانات بل هو حاصل في أعضائها فإنه خلق اليد على تركيب خاص وأودع فيها قوة الأخذ وخلق الرجل على تركيب خاص وأودع فيها قوة المشي وكذا العين والأذن وجميع الأعضاء ثم ربط البعض بالبعض على وجوه يحصل من ارتباطها مجموع واحد، وهو الإنسان. وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع سبحانه لأن اتصاف كل جسم من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة والهداية، إما أن يكون واجبا أو جائزا والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن تلك التراكيب والقوى فدل على أن ذلك جائز، والجائز لا بد له من مرجح وليس ذلك المرجح هو الإنسان ولا أبواه لأن فعل ذلك يستدعي قدرة عليه وعلما بما فيه من المصالح والمفاسد، والأمران نائيان عن الإنسان لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة، وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لا يعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل فلا بد أن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجودا آخر وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسما لأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لا بد وأن يكون جائزا وإن كان جائزا افتقر إلى سبب آخر والدور والتسلسل محالان، فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة
65

إلى موجود مؤثر ومدبر ليس بجسم ولا جسماني ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار، والأول محال لأن الموجب لا يميز مثلا عن مثل وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فلم اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية وبعضها بالحيوانية؟ فثبت أن المؤثر والمدبر قادر والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالما، ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني لا بد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وفي صفاته وإلا لافتقر إلى مدبر آخر ويلزم التسلسل وهو محال، وإذا كان واجب الوجود في قادريته وعالميته والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الممكنات دون البعض وجب (أن) يكون عالما بكل ما صح أن يكون معلوما وقادرا على كل ما صح أن يكون مقدورا فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى عليه السلام ونبه على تقريرها استناد العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني وهو واجب الوجود في ذاته وفي صفاته عالم بكل المعلومات قادر على كل المقدورات وذلك هو الله سبحانه وتعالى.
المسألة الثامنة: أن فرعون خاطب الاثنين بقوله: * (فمن ربكما) * ثم وجه النداء إلى أحدهما وهو موسى عليه السلام لأنه الأصل في النبوة وهارون وزيره وتابعه، وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي في لسان موسى عليه السلام فأراد استنطاقه دون أخيه لما عرف من فصاحته والرتة التي في لسان موسى عليه السلام ويدل عليه قوله: * (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) * (الزخرف: 52).
المسألة التاسعة: في قوله: * (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * وجهان: أحدهما: التقديم والتأخير أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به. وثانيهما: أن يكون المراد من الخلق الشكل والصورة المطابقة للمنفعة فكأنه سبحانه قال: أعطى كل شيء الشكل الذي يطابق منفعته ومصلحته، وقرئ خلقه صفة للمضاف أو المضاف إليه، والمعنى أن كل شيء خلقه الله لم يخله من إعطائه وإنعامه، وأما قوله تعالى: * (قال فما بال القرون الأولى) * فاعلم أن في ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوها. أحدها: أن موسى عليه السلام لما قرر على فرعون أمر المبدأ والمعاد قال فرعون: إن كان إثبات المبدأ في هذا الحد من الظهور: * (فما بال القرون الأولى) * ما أثبتوه وتركوه؟ فكان موسى عليه السلام لما استدل بالدلالة القاطعة على إثبات الصانع قدح فرعون في تلك الدلالة بقوله إن كان الأمر في قوة هذه الدلالة على ما ذكرت وجب على أهل القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها فعارض الحجة بالتقليد. وثانيها: أن موسى عليه السلام هدد بالعذاب أولا في قوله: * (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) * (طه: 48) فقال فرعون: * (فما بال القرون الأولى) * فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا؟ وثالثها: وهو الأظهر أن فرعون لما قال: * (فمن ربكما يا موسى) * فذكر موسى عليه السلام دليلا ظاهرا وبرهانا باهرا على هذا المطلوب
66

فقال: * (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * فخاف فرعون أن يريد في تقرير تلك الحجة فيظهر للناس صدقه وفساد طريق فرعون فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام وأن يشغله بالحكايات فقال: * (فما بال القرون الأولى) * فلم يلتفت موسى عليه السلام إلى ذلك الحديث بل قال: * (علمها عند ربي في كتاب) * ولا يتعلق غرضي بأحوالهم فلا أشتغل بها، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول وإيراد الدلائل الباهرة على الوحدانية فقال: * (الذي خلق لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا) * وهذا الوجه هو المعتمد في صحة هذا النظم، ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في قوله: * (علمها عند ربي في كتاب) * فإن العلم الذي يكون عند الرب كيف يكون في الكتاب؟ وتحقيقه هو أن علم الله تعالى صفته وصفة الشيء قائمة به، فأما أن تكون صفة الشيء حاصلة في كتاب فذاك غير معقول فذكروا فيه وجهين: الأول: معناه أنه سبحانه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده لكون ما كتبه فيه يظهر للملائكة فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة، ولقائل أن يقول قوله: * (في كتاب) * يوهم احتياجه سبحانه وتعالى في ذلك العلم إلى ذلك الكتاب وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أنه يوهمه في أول الأمر لا سيما للكافر فكيف يحسن ذكره مع معاند مثل فرعون في وقت الدعوة؟ الوجه الثاني: أن تفسير ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها معلومة لله تعالى بحيث لا يزول شيء منها عن علمه، وهذا التفسير مؤكد بقوله بعد ذلك: * (لا يضل ربي ولا ينسى) *.
المسألة الثانية: اختلفوا في قوله: * (لا يضل ربي ولا ينسى) * فقال بعضهم معنى اللفظين واحد أي لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عليه وهذا قول مجاهد والأكثرون على الفرق بينهما، ثم ذكروا وجوها. أحدها: وهو الأحسن ما قاله القفال لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علم من ذلك لم ينسه فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالما بكل المعلومات واللفظ الثاني وهو قوله: ولا ينسى دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو إشارة إلى نفي التغير. وثانيها: قال مقاتل: لا يخطئ ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه. وثالثها: قال الحسن لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه. ورابعها: قال أبو عمرو أصل الضلال الغيبوبة والمعنى لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء. وخامسها: قال ابن جرير لا يخطئ في التدبير فيعتقد في غير الصواب كونه صوابا وإذا عرفه لا ينساه وهذه الوجوه متقاربة والتحقيق هو الأول.
المسألة الثالثة: أنه لما سأله عن الإله وقال: * (فمن ربكما يا موسى) * وكان ذلك مما سبيله الاستدلال أجاب بما هو الصواب بأوجز عبارة وأحسن معنى، ولما سأله عن شأن القرون الأولى وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته في ذلك خبر وكله إلى عالم الغيوب، واعلم أن موسى عليه السلام
67

لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة. أولها: قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض مهدا) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ أهل الكوفة ههنا وفي الزخرف * (مهدا) * والباقون قرؤوا مهادا فيهما قال أبو عبيدة: الذي اختاره مهادا وهو اسم والمهد اسم الفعل، وقال غيره: المهد الاسم والمهاد الجمع كالفرش والفراش أجاب أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل، وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشا يقال مهد مهدا ومهادا وفرش فرشا وفراشا.
البحث الثاني: قال صاحب " الكشاف ": * (الذي جعل) * مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لربي أو منصوب على المدح وهذا من مظانه ومجازه، واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبرا لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام موسى عليه السلام ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله: * (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) * على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث: المراد من كون الأرض مهدا أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) *. وثانيها: قوله تعالى: * (وسلك لكم فيها سبلا) * قال صاحب " الكشاف " سلك من قوله: * (ما سلككم في سقر) * (المدثر: 42) * (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) * (الشعراء: 200) أي جعل لكم فيها سبلا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري. وثالثها: قوله: * (وأنزل من السماء ماء) * والكلام فيه قد مر في سورة البقرة أما قوله: * (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: قوله: * (فأخرجنا) * فيه وجوه. أحدها: أن يكون هذا من تمام كلام موسى عليه السلام كأنه يقول ربي الذي جعل لكم كذا وكذا فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة أزواجا من نبات شتى. وثانيها: أن عند قوله: * (وأنزل من السماء ماء) * تم كلام موسى عليه السلام ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه متصلا بالكلام الأول بقوله: * (فأخرجنا به) * ثم يدل على هذا الاحتمال قوله: * (كلوا وارعوا أنعامكم) *. وثالثها: قال صاحب " الكشاف " انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للإيذان بأنه سبحانه وتعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره ومثله قوله تعالى: * (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء) * (الأنعام: 99) * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها) * (فاطر: 27) * (أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) * (النمل: 60) واعلم أن قوله: * (فأخرجنا) * إما أن يكون من كلام موسى عليه السلام أو من كلام الله تعالى والأول باطل لأن قوله بعد ذلك: * (كلوا وارعوا أنعامكم إن في
68

ذلك لآيات لأولى النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم) * لا يليق بموسى عليه السلام وأيضا فقوله: * (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) * لا يليق بموسى لأن أكثر ما في قدرة موسى عليه السلام صرف المياه إلى سقي الأراضي وأما إخراج النبات على اختلاف ألوانها وطبائعها فليس من موسى عليه السلام فثبت أن هذا كلام الله ولا يجوز أن يقال كلام الله ابتداؤه من قوله: * (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) * لأن الفاء يتعلق بما قبله فلا يجوز جعل هذا كلام الله تعالى وجعل ما قبله كلام موسى عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال: إن كلام موسى عليه السلام تم عند قوله: * (لا يضل ربي ولا ينسى) * ثم ابتدئ كلام الله تعالى من قوله: * (الذي جعل لكم الأرض مهدا) * ويكون التقدير هو الذي * (جعل لكم الأرض مهدا) * فيكون الذي خبر مبتدأ محذوف ويكون الانتقال من الغيبة إلى الخطاب التفاتا.
المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أنه سبحانه إنه يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء فيكون للماء فيه أثر وهذا بتقدير ثبوته لا يقدح في شيء من أصول الإسلام لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أعطاها هذه الخواص والطبائع لكن المتقدمين من المتكلمين ينكرونه ويقولون لا تأثير له فيه البتة.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (أزواجا) * أي أصنافا سميت بذلك لأنها مزدوجة مقرونة بعضها مع بعض * (شتى) * صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى ويجوز أن يكون صفة للنبات والنبات مصدر سمي به النابت كما يسمى بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم والطبع بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم أما قوله: * (كلوا وارعوا أنعامكم) * فهو حال من الضمير في أخرجنا والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها. وقد تضمن قوله كلوا سائر وجوه المنافع فهو كقوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (البقرة: 188) وقوله: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * (النساء: 10) وقوله: * (كلوا) * أمر إباحة * (إن في ذلك) * أي فيما ذكرت من هذه النعم * (لآيات) * أي لدلالات لذوي النهى أي العقول والنهية العقل. قال أبو علي الفارسي: النهي يجوز أن يكون مصدرا كالهدى ويجوز أن يكون جمعا أما قوله: * (منها خلقناكم) * فاعلم أنه سبحانه لما ذكر منافع الأرض والسماء بين أنها غير مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لكونها وسائل إلى منافع الآخرة فقال: * (منها خلقناكم) * وفيه سؤالان:
السؤال الأول: ما معنى قوله: * (منها خلقناكم) * مع أنه سبحانه وتعالى خلقنا من نطفة على ما بين ذلك في سائر الآيات. والجواب من وجهين: الأول: أنه لما خلق أصلنا وهو آدم عليه السلام من التراب على ما قال: * (كمثل آدم خلقه من تراب) * (آل عمران: 59) لا جرم أطلق ذلك علينا. الثاني: أن تولد الإنسان إنما هو من النطفة ودم الطمث وهما يتولدان من الأغذية، والغذاء إما حيواني أو نباتي والحيواني ينتهي إلى النبات والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب فصح أنه تعالى خلقنا منها وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين
69

من النطفة. والثالث: ذكرنا في قوله تعالى: * (هو الذي يصوركم في الأرحام) * (آل عمران: 6) خبر ابن مسعود أن الله يأمر ملك الأرحام أن يكتب الأجل والرزق والأرض التي يدفن فيها وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة ويذره على النطفة ثم يدخلها في الرحم.
السؤال الثاني: ظاهر الآية يدل على أن الشيء قد يكون مخلوقا من الشيء وظاهر قول المتكلمين يأباه. والجواب: إن كان المراد من خلق الشيء من الشيء إزالة صفة الشيء الأول عن الذات وأحداث صفة الشيء الثاني فيه فذلك جائز لأنه لا منافاة فيه، أما قوله تعالى: * (وفيها نعيدكم) * فلا شبهة في أن المراد الإعادة إلى القبور حتى تكون الأرض مكانا وظرفا لكل من مات إلا من رفعه الله إلى السماء، ومن هذا حاله يحتمل أن يعاد إليها أيضا بعد ذلك، أما قوله تعالى: * (ومنها نخرجكم تارة أخرى) * ففيه وجوه: أحدها: وهو الأقرب: * (ومنها نخرجكم) * يوم الحشر والبعث. وثانيها: ومنها نخرجكم ترابا وطينا ثم نحييكم بعد الإخراج وهذا مذكور في بعض الأخبار. وثالثها: المراد عذاب القبر عن البراء قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فذكر عذاب القبر وما يخاطب به المؤمن والكافر وأنه ترد روحه في جسده ويرد إلى الأرض وأنه تعالى يقول عند إعادتهم إلى الأرض إني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى "، واعلم أن الله تعالى عدد في هذه الآيات منافع الأرض وهي أنه تعالى جعلها لهم فراشا ومهادا يتقلبون عليها وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف أرادوا وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلف دوابهم وهي أصلهم الذي منه يتفرعون ثم هي كفاتهم إذا ماتوا، ومن ثم قال عليه السلام: " بروا بالأرض فإنها بكم برة ".
قوله تعالى
* (ولقد أريناه ءاياتنا كلها فكذب وأبى * قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى) *
اعلم أنه تعالى بين أنه أرى فرعون الآيات كلها ثم إنه لم يقبلها واختلفوا في المراد بالآيات، فقال بعضهم أراد كل الأدلة ما يتصل بالتوحيد وما يتصل بالنبوة، أما التوحيد فما ذكر في هذه السورة من قوله: * (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * (طه: 50) وقوله: * (الذي جعل لكم الأرض مهدا) * (طه: 53)
70

الآية، وما ذكر في سورة الشعراء: * (قال فرعون وما رب العالمين؟ * قال رب السماوات والأرض) * (الشعراء: 23، 24) الآيات، وأما النبوة فهي الآيات التسع التي خص الله بها موسى عليه السلام وهي العصا واليد وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل وعلى هذا التقرير معنى أريناه عرفناه صحتها وأوضحنا له وجه الدلالة فيها، ومنهم من حمل ذلك على ما يتصل بالنبوة وهي هذه المعجزات، وإنما أضاف الآيات إلى نفسه سبحانه وتعالى مع أن المظهر لها موسى عليه السلام لأنه أجراها على يديه كما أضاف نفخ الروح إلى نفسه فقال: * (فنفخنا فيها من روحنا) * (الأنبياء: 91) مع أن النفخ كان من جبريل عليه السلام، فإن قيل قوله: كلها يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملة الآيات ما أظهرها على الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل موسى عليه السلام والذين كانوا بعده قلنا: لفظ الكل وإن كان للعموم لكن قد يستعمل في الخصوص عند القرينة كما يقال دخلت السوق فاشتريت كل شيء أو يقال إن موسى عليه السلام أراه آياته وعدد عليه آيات غيره من الأنبياء عليهم السلام فكذب فرعون بالكل أو يقال تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى الله تعالى ذلك على الوجه الذي يلزم ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنه أنه كذب وأبى قال القاضي: الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك ولأن الله تعالى ذمه بأنه كذب وبأنه أبى ولو لم يقدر على ما هو فيه لم يصح، واعلم أن هذا السؤال مر في سورة البقرة في قوله: * (إلا إبليس أبى واستكبر) * (البقرة: 34) والجواب مذكور هناك، ثم حكى الله تعالى شبهة فرعون وهي قوله: * (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) * وتركيب هذه الشبهة عجيب وذلك لأنه ألقى في مسامعهم ما يصيرون به مبغضين له جدا وهو قوله: * (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا) * وذلك لأن هذا مما يشق على الإنسان في النهاية ولذلك جعله الله تعالى مساويا للقتل في قوله: * (أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) * (النساء: 66) ثم لما صاروا في نهاية البغض له أورد الشبهة الطاعنة في نبوته عليه السلام وهي أن ما جئتنا به سحر لا معجز، ولما علم أن المعجز إنما يتميز عن السحر لكون المعجز مما يتعذر معارضته والسحر مما يمكن معارضته قال: * (فلنأتينك بسحر مثله) * أما قوله تعالى: * (فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت) * فاعلم أن الموعد يجوز أن يكون مصدرا ويجوز أن يكون اسما لمكان الوعد كقوله: * (وإن جهنم لموعدهم أجمعين) * (الحجر: 43) وأن يكون اسما لزمان الوعد كقوله: * (إن موعدهم الصبح) * (هود: 81) والذي في هذه الآية بمعنى المصدر أي اجعل بيننا وبينك وعدا لا نخلفه لأن الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف. أما الزمان والمكان فلا يصح وصفهما بذلك، ومما يؤكد ذلك أن الحسن قرأ يوم الزينة بالنصب وذلك لا يطابق المكان والزمان وإنما نصب مكانا لأنه هو المفعول الثاني للجعل والتقدير اجعل مكان موعد لا نخلفه مكانا سوى. أما قوله: * (سوى) * فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة وابن عامر * (سوى) * بضم السين والباقون بكسرها وهما لغتان مثل طوى وطوى، وقرئ أيضا منونا وغير منون، وذكروا في معناه وجوها:
71

أحدها: قال أبو علي مكانا تستوي مسافته على الفريقين وهو المراد من قول مجاهد قال قتادة منصفا بيننا. وثانيها: قال ابن زيد: * (سوى) * أي مستويا لا يحجب العين ما فيه من الارتفاع والانخفاض فسوى على التقدير الأول صفة المسافة وعلى هذا التقدير صفة المكان والمقصود أنهم طلبوا موضعا مستويا لا يكون فيه ارتفاع ولا انخفاض حتى يشاهد كل الحاضرين كل ما يجري. وثالثها: مكانا يستوي حالنا في الرضاء به. ورابعها: قال الكلبي: مكانا سوى هذا المكان الذي نحن فيه الآن.
قوله تعالى
* (قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى * قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من
افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) *
إعلم أن في الآية مسائل: المسألة الأولى: يحتمل أن قوله تعالى: * (قال موعدكم) * أن يكون من قول فرعون فبين الوقت ويحتمل أن يكون من قول موسى عليه السلام، قال القاضي والأول أظهر لأنه المطالب بالاجتماع دون موسى عليه السلام، وعندي الأظهر أنه من كلام موسى عليه السلام لوجوه. أحدها: أنه جواب لقول فرعون فاجعل بيننا وبينك موعدا. وثانيها: وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي اطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أن اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. وثالثها: أن قوله: موعدكم خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون إلى موسى وهارون لزم إما حمله على التعظيم وذلك لا يليق بحال فرعون معهما أو على أن أقل الجمع اثنان وهو غير جائز أما لو جعلناه من موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه استقام الكلام.
المسألة الثانية: يوم الزينة قرأ بعضهم بضم الميم وقرأ الحسن بالنصب قال الزجاج: إذا رفع فعلى خبر المبتدأ والمعنى وقت موعدكم يوم الزينة ومن نصب فعلى الظرف معناه موعدكم يقع يوم الزينة وقوله: * (وأن يحشر الناس ضحى) * معناه موعدكم حشر الناس ضحى فموضع أن يكون رفعا ويجوز فيه الخفض عطفا على الزينة كأنه قال موعدكم يوم الزينة ويوم يحشر الناس ضحى فإن قيل ألستم قلتم في تفسير قوله: * (اجعل بيننا وبينك موعدا) * إن التقدير اجعل مكان موعد لا نخلفه مكانا سوى فهذا كيف يطابقه الجواب بذكر الزمان؟ قلنا هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا
72

لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان معين مشهود باجتماع الناس في ذلك اليوم فبذكر الزمان علم المكان.
المسألة الثالثة: ذكر المفسرون في يوم الزينة وجوها. أحدها: أنه يوم عيد لهم يتزينون فيه. وثانيها: قال مقاتل يوم النيروز. وثالثها: قال سعيد بن جبير يوم سوق لهم. ورابعها: قال ابن عباس يوم عاشوراء، وإنما قال يحشر فإنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حاشر لهم، وقرئ وأن يحشر الناس بالياء والتاء يريد وأن تحشر الناس يا فرعون وأن يحشر اليوم ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم بقوله: * (موعدكم) * وجعل ضمير يحشر لفرعون وإنما أوعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله تعالى وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد في المجمع العام ليكثر المحدث بذلك الأمر العجيب في كل بدو وحضر ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر، قال القاضي: إنه عين اليوم بقوله: * (يوم الزينة) * ثم عين من اليوم وقتا معينا بقوله: * (وأن يحشر الناس ضحى) * وأما قوله: * (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) * فاعلم أن التولي قد يكون إعراضا وقد يكون انصرافا والظاهر ههنا أنه بمعنى الانصراف وهو مفارقته موسى عليه السلام على الموعد الذي تواعدوا للاجتماع (فيه)، قال مقاتل: فتولى أي أعرض وثبت على إعراضه عن الحق ودخل تحت قوله: * (فجمع كيده) * السحرة وسائر من يجتمع لذلك ويدخل فيه الآلات وسائر ما أوردته السحرة * (ثم أتى) * دخل تحت أتى الموضع بالسحرة وبالقوم وبالآلات قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل واحد منهم حبل وعصا وقيل كانوا أربعمائة وقيل أكثر من ذلك ثم ضربت لفرعون قبة فجلس فيها ينظر إليهم وكان طول القبة سبعين ذراعا ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير مما قالوه وأقدموا عليه فقال: * (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا) * بأن تزعموا بأن الذي جئت به ليس بحق وأنه سحر فيمكنكم معارضتي، قال الزجاج: يجوز في انتصاب ويلكم أن يكون المعنى ألزمهم الله ويلا إن افتروا على الله كذبا ويجوز على النداء كقوله: * (يا ويلتا أألد وأنا عجوز) * (هود: 72)، * (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) * (يس: 52) وقوله: * (فيسحتكم بعذاب) * أي يعذبكم عذابا مهلكا مستأصلا وقرأ حمزة وعاصم والكسائي برفع الياء من الإسحات والباقون بفتحها من السحت والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم والسحت لغة أهل الحجاز فكأنه تعالى قال: من افترى على الله كذبا حصل له أمران: أحدهما: عذاب الاستئصال في الدنيا أو العذاب الشديد في الآخرة وهو المراد من قوله: * (فيسحتكم بعذاب) *. والثاني: الخيبة والحرمان عن المقصود وهو المراد بقوله: * (وقد خاب من افترى) * ثم بين سبحانه وتعالى أنه لم قال موسى عليه السلام ذلك أعرضوا عن قوله: * (فتنازعوا أمرهم بينهم) * وفي تنازعوا قولان: أحدهما: تفاوضوا وتشاوروا ليستقروا على شيء واحد. والثاني: قال مقاتل: اختلفوا فيما بينهم ثم قال بعضهم: دخل في التنازع فرعون
73

وقومه ومنهم من يقول: بل هم السحرة وحدهم والكلام محتمل وليس في الظاهر ما يدل على الترجيح وذكروا في قوله: * (وأسروا النجوى) * وجوها. أحدها: أنهم أسروها من فرعون وعلى هذا التقدير فيه وجوه. الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما إن نجواهم قالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه. والثاني: قال قتادة إن كان ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر. الثالث: قال وهب لما قال: * (ويلكم) * الآية قالوا ما هذا بقول ساحر. القول الثاني: أنهم أسروا النجوى من موسى وفرعون ونجواهم هو قولهم: * (إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم) * (طه: 63) وهو قول السدي. الوجه الثالث: أنهم أسروا النجوى من موسى وهارون ومن فرعون وقومه أيضا وكان نجواهم أنهم كيف يجب تدبير أمر الحبال والعصي وعلى أي وجه يجب إظهارها فيكون أوقع في القلوب للعيوب وهو قول الضحاك.
قوله تعالى
* (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى) *
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: القراءة المشهورة: * (إن هذان لساحران) * ومنهم من ترك هذه القراءة وذكروا وجوها أخر. أحدها: قرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر: (إن هذين لساحران) قالوا: هي قراءة عثمان وعائشة وابن الزبير وسعيد بن جبير والحسن رضي الله تعالى عنه واحتج أبو عمرو وعيسى على ذلك بما روى هشام بن عروة عن
أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت عن قوله: * (إن هذان لساحران) * وعن قوله: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى) * (المائدة: 69) في المائدة، وعن قوله: * (لكن الراسخون في العلم منهم - إلى قوله - والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) * (النساء: 162) فقالت يا ابن أخي هذا خطأ من الكاتب، وروى عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها، وعن أبي عمرو أنه قال: إني لأستحي أن أقرأ: * (إن هذان لساحران) *، وثانيها: قرأ ابن كثير: (إن هذان) بتخفيف إن وتشديد نون هذان. وثالثها: قرأ حفص عن عاصم إن هذان بتخفيف النونين. ورابعها: قرأ عبد الله بن مسعود: * (وأسروا النجوى، أن هذان ساحران) * بفتح الألف وجزم نونه (و) ساحران بغير لام. وخامسها: عن الأخفش: * (إن هذان لساحران) * خفيفة في معنى ثقيلة وهي لغة قوم يرفعون بها
74

ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى ما. وسادسها: روى عن أبي بن كعب: (ما هذان إلا ساحران) وروي عنه أيضا: (إن هذان لساحران) وعن الخليل مثل ذلك، وعن أبي أيضا: (إن ذان لساحران) فهذه هي القراءات الشاذة المذكورة في هذه الآية، واعلم أن المحققين قالوا: هذه القراءات لا يجوز تصحيحها لأنها منقولة بطريق الآحاد، والقرآن يجب أن يكون منقولا بالتواتر إذ لو جوزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق الآحاد لما أمكننا القطع بأن هذا الذي هو عندنا كل القرآن لأنه لما جاز في هذه القراءات أنها مع كونها مع القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك، فثبت أن تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة ولما كان ذلك باطلا فكذلك ما أدى إليه، وأما الطعن في القراءة المشهورة فهو أسوأ مما تقدم من وجوه: أحدها: أنه لما كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن وذلك يفضي إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كل القرآن وأنه باطل، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضا بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة. وثانيها: أن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحنا وغلطا فثبت فساد ما نقل عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما أن فيه لحنا وغلطا. وثالثها: قال ابن الأنباري إن الصحابة هم الأئمة والقدوة فلو وجدوا في المصحف لحنا لما فوضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم مع تحذيرهم من الإبتداع وترغيبهم في الاتباع، حتى قال بعضهم: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. فثبت أنه لا بد من تصحيح القراءة المشهورة. واختلف النحويون فيه وذكروا وجوها: الوجه الأول: وهو الأقوى أن هذه لغة لبعض العرب وقال بعضهم هي لغة بلحارث بن كعب، والزجاج نسبها إلى كنانة وقطرب نسبها إلى بلحارث بن كعب ومراد وخثعم وبعض بني عذرة، ونسبها ابن جني إلى بعض بني ربيعة أيضا وأنشد الفراء على هذه اللغة: فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى * مساغا لناباه الشجاع لصمما
وأنشد غيره: تزود منا بين أذناه ضربة * دعته إلى هابي التراب عقيم
قال الفراء وحكى بعض بني أسد أنه قال هذا خط يدا أخي أعرفه. وقال قطرب هؤلاء يقولون: رأيت رجلان واشتريت ثوبان قال رجل من بني ضبة جاهلي:
أعرف منها الجيد والعينانا * ومنخرين أشبها ظبيانا
وقوله ومنخرين على اللغة الفاشية وما وراء ذلك على لغة هؤلاء.
وقال آخر: طاروا علاهن فطر علاها * واشدد بمثنى حقب حقواها
75

وقال آخر: كأن صريف ناباه إذا ما * أمرهما صرير الأخطبان
قال بعضهم: الأخطبان ذكر الصردان، فصيرهما واحدا فبقي الاستدلال بقوله صريف ناباه، قال: وأنشدني يونس لبعض بني الحرث: كأن يمينا سحبل ومصيفه * مراق دم لن يبرح الدهر ثاويا
وأنشدوا أيضا: إن أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها
وقال ابن جني روينا عن قطرب: هناك أن تبكي بشعشعان * رحب الفؤاد طائل اليدان
ثم قال الفراء وذلك وإن كان قليلا أقيس لأن ما قبل حرف التثنية مفتوح، فينبغي أن يكون ما بعده ألفا ولو كان ما بعده ياء ينبغي أن تنقلب ألفا لانفتاح ما قبلها وقطرب ذكر أنهم يفعلون ذلك فرارا إلى الألف التي هي أخف حروف المد هذا أقوى الوجوه في هذه الآية ويمكن أن يقال أيضا: الألف في هذا من جوهر الكلمة والحرف الذي يكون من جوهر الكلمة لا يجوز تغييره بسبب التثنية والجمع لأن ما بالذات لا يزول بالعرض فهذا الدليل يقتضي أن لا يجوز أن يقال: (إن هذين) فلما جوزناه فلا أقل من أن يجوز معه أن يقال إن هذان. الوجه الثاني: في الجواب أن يقال إن ههنا بمعنى نعم قال الشاعر: ويقلن شيب قد علاك * وقد كبرت فقلت إنه
أي فقلت نعم فالهاء في إنه هاء السكت كما في قوله تعالى: * (هلك عني سلطانيه) * (الحاقة: 29) وقال أبو ذؤيب:
شاب المفارق إن إن من البلى * شيب القذال مع العذار الواصل
أي نعم إن من البلى فصار إن كأنه قال نعم هذان لساحران، واعترضوا عليه فقالوا: اللام لا تدخل في الخبر على الاستحسان إلا إذا كانت إن داخلة في المبتدأ، فأما إذا لم تدخل أن على المبتدأ فمحل اللام المبتدأ إذ يقال لزيد اعلم من عمرو ولا يقال زيد لأعلم من عمرو، وأجابوا عن هذا الاعتراض من وجهين، الأول: لا نسلم أن اللام لا يحسن دخولها على الخبر والدليل عليه قوله: أم الحليس لعجوز شهر به * ترضى من اللحم بعظم الرقبة
وقال آخر: خالي لأنت ومن جرير خاله * ينل العلاء ويكرم الأخوالا
وأنشد قطرب: ألم تكن حلفت بالله العلي * أن مطاياك لمن خير المطي
وإن رويت إن بالكسر لم يبق الاستدلال إلا أن قطربا قال: سمعناه مفتوح الهمزة وأيضا فقد
76

أدخلت اللام في خبر أمسى، قال ابن جني أنشدنا أبو علي: مروا عجالى فقالوا كيف صاحبكم * فقال من سئلوا أمسى لمجهودا
وقال قطرب وسمعنا بعض العرب يقول: أراك المسالمي وإني رأيته لشيخا وزيد والله لواثق بك وقال كثير: وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها * لكالهائم المقصى بكل بلاد
وقال آخر: ولكنني من حبها لعميد (c)
وقال المعترض هذه الأشعار من الشواذ وإنما جاءت كذا لضرورة الشعر وجل كلام الله تعالى عن الضرورة وإنما تقرر هذا الكلام إذا بينا أن المبتدأ إذا لم يدخل عليه إن وجب إدخال اللام عليه لا على الخبر وتحقيقه أن اللام تفيد تأكيد موصوفية المبتدأ بالخبر واللام تدل على حالة من حالات المبتدأ وصفة من صفاته فوجب دخولها على المبتدأ لأن العلة الموجبة لحكم في محل لا بد وأن تكون مختصة بذلك المحل لا يقال هذا مشكل بما إذا دخلت إن على المبتدأ فإن ههنا يجب إدخال اللام على الخبر مع أن ما ذكرتموه حاصل فيه لأنا نقول ذلك لأجل الضرورة وذلك لأن كلمة إن للتأكيد واللام للتأكيد فلو قلنا: إن لزيدا قائم لكنا قد أدخلنا حرف التأكيد على حرف التأكيد وذلك ممتنع فلما تعذر إدخالها على المبتدأ لا جرم أدخلناها على الخبر لهذه الضرورة، وأما إذا لم يدخل حرف إن على المبتدأ كانت هذه الضرورة زائلة فوجب إدخال اللام على المبتدأ لا يقال إذا جاز إدخال حرف النفي على حرف النفي في قوله: ما إن رأيت ولا سمعت به * كاليوم طالبني أنيق أجرب
والغرض به تأكيد النفي فلم لا يجوز إدخال حرف التأكيد على حرف التأكيد والغرض به تأكيد الإثبات لأنا نقول الفرق بين البابين أن قولك زيد قائم يدل على الحكم بموصوفية زيد بالقيام فإذا قلت إن زيدا قائم فكلمة إن تفيد تأكيد ذلك الحكم فلو ذكرت مؤكدا آخر مع كلمة إن صار عبثا، أما لو قلت: رأيت فلانا فهذا للثبوت فإذا أدخلت عليه حرف النفي أفاد حرف النفي معنى النفي ولا يفيد التأكيد لأنه مستقل بإفادة الأصل فكيف يفيد الزيادة فإذا ضممت إليه حرف نفي آخر صار الحرف الثاني مؤكدا للأول فلا يكون عبثا فهذا هو الفرق بين البابين فهذا منتهى تقرير هذا الاعتراض وهو عندي ضعيف، لأن الكل اتفقوا على أنه إذا اجتمع النقل والقياس فالنقل أولى، ولأن هذه العلل في نهاية الضعف فكيف يدفع بها النقل الظاهر. الوجه الثاني: في الجواب عن قولهم اللام لا يحسن دخولها على الخبر إلا إذا دخلت كلمة إن على المبتدأ كما ذكره الزجاج فقال: إن وقعت موقع نعم واللام في موقعها والتقدير نعم هذان لهما ساحران فكانت اللام داخلة على المبتدأ لا على الخبر. قال: وعرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلى إسماعيل بن إسحاق فارتضياه وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا. قال ابن جنى: هذا القول غير صحيح لوجوه: الوجه
77

الأول: أن الأصل أن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمرا معلوما جليا ولولا ذلك لكان في حذفه مع الجهل به ضرب من تكليف علم الغيب للمخاطب وإذا كان معروفا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام لأن التأكيد إنما يحتاج إليه حيث لم يكن العلم به حاصلا. الوجه الثاني: أن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب فالجمع بينهما غير جائز ولأن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس. الوجه الثالث: امتناع أصحابنا البصريين من تأكيد الضمير المحذوف العائد على المبتدأ في نحو قولك زيد ضربت فلا يجيزون زيد ضربت نفسه على أن يجعل النفس توكيدا للهاء المؤكدة المقدرة في ضربت أي ضربته لأن الحذف لا يكون إلا بعد التحقيق والعلم به، وإذا كان كذلك فقد استغنى عن تأكيده فكذا ههنا. الوجه الرابع: أن جميع النحويين حملوا قول الشاعر: أم الحليس لعجوز شهر به. على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة ولو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزا لما عدل عنه النحويون ولما حملوا الكلام عليه على الاضطرار إذا وجدوا له وجها ظاهرا، ويمكن الجواب عن اعتراض ابن جنى بأنه إنما حسن حذف المبتدأ لأن في اللفظ ما يدل عليه وهو قوله: هذان أما لو حذف التأكيد فليس في اللفظ ما يدل عليه فلا جرم كان حذف المبتدأ أولى من حذف التأكيد، وأما امتناعهم من تأكيد الضمير في قولهم: زيد ضربت نفسه فذاك إنما كان لأن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر فإذا قال زيد: ضربت نفسه كان قوله نفسه مفعولا فلا يمكن جعله تأكيدا للضمير فتأكيد المحذوف إنما امتنع ههنا لهذه العلة لا لأن تأكيد المحذوف مطلقا ممتنع وأما قوله: النحويون حملوا قول الشاعر: أم الحليس لعجوز شهر به. على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة فلو جاز ما قاله الزجاج لما عدل عنه النحويون، فهذا اعتراض في نهاية السقوط لأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلا فما أكثر ما ذهل المتقدم عنه وأدركه المتأخر فهذا تمام الكلام في شرح هذا. الوجه الثالث: في الجواب أن كلمة إن ضعيفة في العمل لأنها تعمل بسبب مشابهة الفعل فوجب كونها ضعيفة في العمل وإذا ضعفت جاز بقاء المبتدأ على إعرابه الأصلي وهو الرفع.
المقدمة الأولى: أنها تشبه الفعل وهذه المشابهة حاصلة في اللفظ والمعنى. أما اللفظ فلأنها تركبت من ثلاثة أحرف وانفتح آخرها ولزمت الأسماء كالأفعال، وأما المعنى فلأنها تفيد حصول معنى في الاسم وهو تأكيد موصوفيته بالخبر كما أنك إذا قلت: قام زيد فقولك قام أفاد حصول معنى في الاسم.
المقدمة الثانية: أنها لما أشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل فذلك ظاهر بناء على الدوران.
المقدمة الثالثة: أنها لم تنصب الاسم وترفع الخبر فتقريره أن يقال: إنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ والخبر معا أو تنصبهما معا أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول
78

باطل لأن المبتدأ والخبر كانا قبل دخول إن عليهما مرفوعين فلو بقيا كذلك بعد دخولها عليهما لما ظهر له أثر البتة ولأنها أعطيت عمل الفعل، والفعل لا يرفع الإسمين فلا معنى للاشتراك. والقسم الثاني: أيضا باطل لأن هذا أيضا مخالف لعمل الفعل لأن الفعل لا ينصب شيئا مع خلوه عما يرفعه. والقسم الثالث: أيضا باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع فإن الفعل يكون عمله في الفاعل أولا بالرفع وفي المفعول بالنصب فلو جعل النصب ههنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع، ولما
بطلت الأقسام الثلاثة تعين. القسم الرابع: وهو أنها تنصب الاسم وترفع الخبر، وهذا مما ينبه على أن هذه الحروف دخيلة في العمل لا أصيلة لأن تقديم المنصوب على المرفوع في باب العمل عدول عن الأصل فذلك يدل على أن العمل بهذه الحروف ليس بثابت بطريق الأصالة بل بطريق عارض.
المقدمة الرابعة: لما ثبت أن تأثيرها في نصب الاسم بسبب هذه المشابهة وجب جواز الرفع أيضا، وذلك لأن كون الاسم مبتدأ يقتضي الرفع ودخول إن على المبتدأ لا يزيل عنه وصف كونه مبتدأ لأنه يفيد تأكيد ما كان لا زوال ما كان إذا ثبت هذا فنقول: وصف كونه مبتدأ يقتضي الرفع وحرف إن يقتضي النصب ولكن المقتضى الأول أولى بالاقتضاء من وجهين: أحدهما: أن وصف كونه مبتدأ صفة أصلية للمبتدأ ودخول إن عليه صفة عرضية والأصل راجح على العارض. والثاني: أن اقتضاء وصف المبتدأ للرفع أصلي واقتضاء حرف إن للنصب صفة عارضة بسبب مشابهتها بالفعل فيكون الأول أولى فثبت بمجموع ما قررنا أن الرفع أولى من النصب فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من أصل الجواز ولهذا السبب إذا جئت بخبر إن ثم عطفت على الاسم إسما آخر جاز فيه الرفع والنصب معا. الوجه الرابع: في الجواب قال الفراء: هذا أصله ذا زيدت الهاء لأن ذا كلمة منقوصة فكملت بالهاء عند التنبيه وزيدت ألفا للتثنية فصارت هذا إن فاجتمع ساكنان من جنس واحد فاحتيج إلى حذف واحد ولا يمكن حذف ألف الأصل لأن أصل الكلمة منقوصة فلا تجعل أنقص فحذف ألف التثنية لأن النون يدل عليه فلا جرم لم تعمل إن لأن عملها في ألف التثنية، وقال آخرون: الألف الباقي إما ألف الأصل أو ألف التثنية. فإن كان الباقي ألف الأصل لم يجز حذفها لأن العامل الخارجي لا يتصرف في ذات الكلمة، وإن كان الباقي ألف التثنية فلا شك أنهم أنابوها مناب ألف الأصل، وعوض الأصل أصل لا محالة فهذا الألف أصل فلا يجوز حذفه ويرجع حاصل هذا إلى الجواب الأول. الوجه الخامس: في الجواب حكى الزجاج عن قدماء النحويين أن الهاء ههنا مضمرة والتقدير إنه هذان لساحران، وهذه الهاء كناية عن الأمر والشأن، فهذا ما قيل في هذا الموضع، فأما من خفف فقرأ إن هذان لساحران فهو حسن فإن ما بعد الخفيفة رفع واللام بعدها في الخبر لازمة واجبة وإن كانت في إن الثقيلة جائزة ليظهر الفرق بين إن المؤكدة وإن النافية. قال الشاعر:
79

وإن مالك للمرتجى إن تضعضعت * رحا الحرب أو دارت على خطوب
وقال آخر: إن القوم والحي الذي أنا منهم * لأهل مقامات وشاء وجامل
الجامل جمع جمل، ثم من العرب من يعمل إن ناقصة كما يعملها تامة اعتبارا بكان فإنها تعمل وإن نقصت في قولك: لم يكن لبقاء معنى التأكيد، وإن زال الشبه اللفظي بالفعل لأن العبرة للمعنى، وهذه اللغة تدل على أن العبرة في باب الإعمال الشبه المعنوي بالفعل وهو إثبات التوكيد دون الشبه اللفظي كما أن التعويل في باب كان على المعنى دون اللفظ لكونه فعلا محضا، وأما اللغة الظاهرة وهي ترك إعمال إن الخفيفة دالة على أن الشبه اللفظي في إن الثقيلة أحد جزأي العلة في حق عملها وعند الخفة زال الشبه فلم تعمل بخلاف السكون فإنه عامل بمعناه لكونه فعلا محضا ولا عبرة للفظه.
المسألة الثانية: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما أسروه من النجوى حكى عنهم ما أظهروه ومجموعه يدل على التنفير عن موسى عليه السلام ومتابعة دينه. فأحدها: قولهم: * (هذان لساحران) * وهذا طعن منهم في معجزات موسى عليه السلام ثم مبالغة في التنفير عنه لما أن كل طبع سليم يقتضي النفرة عن السحر وكراهة رؤية الساحر، ومن حيث إن الإنسان يعلم أن السحر لا بقاء له فإذا اعتقدوا فيه السحر قالوا: كيف نتبعه فإنه لا بقاء له ولا لدينه ولا لمذهبه. وثانيها: قوله: * (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم) * وهذا في نهاية التنفير لأن المفارقة عن المنشأ، والمولد شديدة على القلوب، وهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون في قوله: * (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) * (طه: 57) وكأن السحرة تلقفوا هذه الشبهة من فرعون ثم أعادوها. وثالثها: قوله: * (ويذهبا بطريقتكم المثلى) * وهذا أيضا له تأثير شديد في القلب فإن العدو إذا جاء واستولى على جميع المناصب والأشياء التي يرغب فيها فذلك يكون في نهاية المشقة على النفس فهم ذكروا هذه الوجوه للمبالغة في التنفير عن موسى والترغيب في دفعه وإبطال أمره وههنا بحثان:
البحث الأول: قال الفراء: الطريقة الرجال الأشراف الذين هم قدوة لغيرهم يقال هم طريقة قومهم، ويقال للواحد أيضا: هو طريقة قومه، وجعل الزجاج الآية من باب حذف المضاف أي ويذهبا بأهل طريقتكم المثلى، وعلى التقديرين، فالمراد أنهم كانوا يحرضون القوم بأن موسى وهارون عليهما السلام يريدان أن يذهبا بأشراف قومكم وأكابركم وهم بنوا إسرائيل لقول موسى عليه السلام: * (أرسل معنا بني إسرائيل) * (الشعراء: 17) وإنما سموا بني إسرائيل بذلك لأنهم كانوا أكثر القوم يومئذ عددا وأموالا ومن المفسرين من فسر الطريقة المثلى بالدين سموا دينهم بالطريقة المثلى: * (وكل حزب بما لديهم فرحون) * (الروم: 32) ومنهم من فسرها بالجاه والمنصب والرياسة.
البحث الثاني: * (المثلى) * مؤنثة لتأنيث الطريقة، واختلفوا في أنه لم سمى الأفضل بالأمثل
80

فقال بعضهم: الأمثل: الأشبه بالحق، وقيل: الأمثل الأوضح والأظهر، ثم إنه تعالى لما حكى عنهم مبالغتهم في التنفير عن موسى عليه السلام والترغيب في إبطال أمره حكى عنهم أنهم قالوا: * (فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا) * قرأ أبو عمرو بوصل الألف وفتح الميم من أجمعوا يعني لا تدعوا شيئا من كيدهم إلا جئتم به دليله قوله: * (فجمع كيده) * وقرأ الباقون بقطع الألف وكسر الميم وله وجهان: أحدهما: قال الفراء: الإجماع الأحكام والعزيمة على الشيء، يقال: أجمعت على الخروج مثل أزمعت. والثاني: بمعنى الجمع وقد مضى الكلام في هذا عند قوله: * (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) * (يونس: 71) قال الزجاج: ليكن عزمكم كلكم كاليد مجمعا عليه لا تختلفوا ثم ائتوا صفا، ذكر أبو عبيدة والزجاج وجهين: أحدهما: أن الصف موضع الجمع والمعنى ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم، والمعنى: ائتوا مصلى من المصليات أو كان الصف علما للمصلى بعينه فأمروا بأن يأتوه. والثاني: أن يكون الصف مصدرا والمعنى ثم ائتوا مصطفين مجتمعين لكي
يكون أنظم لأمركم وأشد لهيبتكم، وهذا قول عامة المفسرين، وقوله: * (وقد أفلح اليوم من استعلى) * اعتراض، يعني: وقد فاز من غلب فكانوا يقرون بذلك أنفسهم فيما اجتمعوا عليه من إظهار ما يظهرونه من السحر.
قوله تعالى
* (قالوا ياموسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس فى نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى * وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) *
اعلم أنه لما تقدم ذكر الموعد وهو يوم الزينة وتقدم أيضا قوله: * (ثم ائتوا صفا) * (طه: 64) صار ذلك مغنيا عن قوله فحضروا هذا الموضع وقالوا: * (إما أن تلقي) * لدلالة ما تقدم عليه وقوله: * (إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى) * معناه إما أن تلقى ما معك قبلنا، وإما أن نلقى ما معنا قبلك، وهذا التخيير مع تقديمه في الذكر حسن أدب منهم وتواضع له، فلا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته، ثم إن موسى عليه السلام قابل أدبهم بأدب فقال: * (بل ألقوا) * أما قوله: * (بل ألقوا) * ففيه سؤالان:
81

السؤال الأول: كيف يجوز أن يقول موسى عليه السلام: * (بل ألقوا) * فيأمرهم بما هو سحر وكفر لأنهم إذا قصدوا بذلك تكذيب موسى عليه السلام كان كفرا. والجواب من وجوه: أحدها: لا نسلم أن نفس الإلقاء كفر ومعصية لأنهم إذا ألقوا وكان غرضهم أن يظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول عليه السلام وهو موسى كان ذلك الإلقاء إيمانا وإنما الكفر هو القصد إلى تكذيب موسى وهو عليه السلام إنما أمر بالإلقاء لا بالقصد إلى التكذيب فزال السؤال. وثانيها: ذلك الأمر كان مشروطا والتقدير: * (ألقوا ما أنتم ملقون) * (الشعراء: 43) إن كنتم محقين كما في قوله تعالى: * (فأتوا بسورة من مثله إن كنتم صادقين) * (البقرة: 23) أي إن كنتم قادرين. وثالثها: أنه لما تعين ذلك طريقا إلى كشف الشبهة صار ذلك جائزا. وهذا كالمحق إذا علم أن في قلب واحد شبهة وأنه لو لم يطالبه بذكرها وتقريرها بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه، ويخرج بسببها عن الدين فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوه ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها ويزيل أثرها عن قلبه فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض تكون جائزة فكذا ههنا. ورابعها: أن لا يكون ذلك أمرا بل يكون معناه إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حسا لكي ينكشف الحق. وخامسها: أن موسى عليه السلام لا شك أنه كان كارها لذلك ولا شك أنه نهاهم عن ذلك بقوله: * (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) * (طه: 61) وإذا كان الأمر كذلك استحال أن يكون قوله أمرا لهم بذلك لأن الجمع بين كونه ناهيا وآمرا بالفعل الواحد محال، فعلمنا أن قوله غير محمول على ظاهره وحينئذ يزول الإشكال.
السؤال الثاني: لم قدمهم في الإلقاء على نفسه مع أن تقديم استماع الشبهة على استماع الحجة غير جائز فكذا تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة وجب أن لا يجوز لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة ثم لا يتفرغ لإدراك الحجة بعده فيبقى حينئذ في الكفر والضلال وليس لأحد أن يقول إن ذلك كان بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو عليه السلام قابل ذلك بأن قدمهم على نفسه لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس، فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز. والجواب أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزة مرة واحدة فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى والقوم إنما جاؤوا لمعارضته فقال عليه السلام: لو أني بدأت بإظهار المعجزة أولا لكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وذلك غير جائز، ولكني أفوض الأمر إليهم حتى أنهم باختيارهم يظهرون ذلك السحر ثم أنا أظهر المعجز الذي يبطل سحرهم فيكون على هذا التقدير سببا لإزالة الشبهة، وأما على التقدير الأول فإنه يكون سببا لوقوع الشبهة فكان ذلك أولى. أما قوله: * (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي الله عنهما: * (ألقوا حبالهم وعصيهم) * ميلا من هذا الجانب وميلا من هذا الجانب فخيل إلى موسى عليه السلام أن الأرض كلها حيات وأنها تسعى
82

فخاف فلما قيل له: * (ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا) * ألقى موسى عصاه فإذا هي أعظم من حياتهم ثم أخذت تزداد عظما حتى ملأت الوادي ثم صعدت وعلت حتى علقت ذنبها بطرف القبة ثم هبطت فأكلت كل ما عملوا في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها ثمانين ذراعا فصاح بموسى عليه السلام فأخذها فإذا هي عصى كما كانت ونظرت السحرة فإذا هي لم تدع من حبالهم وعصيهم شيئا إلا أكلته فعرفت السحرة أنه ليس بسحر وقالوا أين حبالنا وعصينا لو لم تكن سحرا لبقيت فخروا سجدا وقالوا: * (آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون) * (الأعراف: 121، 122).
المسألة الثانية: اختلفوا في عدد السحرة قال القاسم بن سلام: كانوا سبعين ألفا مع كل واحد عصا وحبل. وقال السدي: كانوا بضعة وثلاثين ألفا مع كل واحد عصا وحبل، وقال وهب: كانوا خمسة عشر ألفا، وقال ابن جريج وعكرمة كانوا تسعمائة: ثلثمائة من الفرس وثلثمائة من الروم وثلثمائة من الإسكندرية. وقال الكلبي: كانوا اثنين وسبعين ساحرا اثنان منهم من القبط وسبعون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على ذلك، واعلم أن الاختلاف والتفاوت واقع في عدد كثير وظاهر القرآن لا يدل على شيء منه والأقوال إذا تعارضت تساقطت. المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن تكون ناصبا فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى: * (فإذا حبالهم وعصيهم) * ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل، والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي اه.
المسألة الرابعة: قرىء عصيهم بالضم وهو الأصل والكسر اتباع نحو دلي ودلي وقسي وقسي وقرئ تخيل بالتاء المنقوطة من فوق بإسناد الفعل إلى الحبال والعصي
وقرئ بالضم بالياء المنقطة من تحت بإسناد الفعل إلى الكيد والسحر وقال الفراء أي يخيل إليه سعيها.
المسألة الخامسة: الهاء في قوله: * (يخيل إليه) * كناية عن موسى عليه السلام والمراد أنهم بلغوا في سحرهم المبلغ الذي صار يخيل إلى موسى عليه السلام أنها تسعى كسعي ما يكون حيا من الحيات لا أنها كانت حية في الحقيقة ويقال إنهم حشوها بما إذا وقعت الشمس عليه يضطرب ويتحرك. ولما كثرت واتصل بعضها ببعض فمن رآها كان يظن أنها تسعى، فأما ما روي عن وهب أنهم سحروا أعين الناس وعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك مستدلا بقوله تعالى: * (فلما ألقوا سحروا أعين الناس) * (الأعراف: 116) وبقوله تعالى: * (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * فهذا غير جائز لأن ذلك الوقت وقت إظهار المعجزة والأدلة وإزالة الشبهة فلو صار بحيث لا يميز الموجود عن الخيال الفاسد
83

لم يتمكن من إظهار المعجزة فحينئذ يفسد المقصود، فإذن المراد أنه شاهد شيئا لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى، أما قوله تعالى: * (فأوجس في نفسه خيفة موسى) * فالإيجاس استشعار الخوف أي وجد في نفسه خوفا، فإن قيل: إنه لا مزيد في إزالة الخوف على ما فعله الله تعالى في حق موسى عليه السلام فإنه كلمه أولا وعرض عليه المعجزات الباهرة كالعصا واليد، ثم إنه تعالى صيرها كما كانت بعد أن كانت كأعظم ثعبان، ثم إنه أعطاه الاقتراحات الثمانية وذكر ما أعطاه قبل ذلك من المنن الثمانية ثم قال له بعد ذلك كله: * (إنني معكما أسمع وأرى) * (طه: 46) فمع هذه المقدمات الكثيرة كيف وقع الخوف في قلبه والجواب عنه من وجوه. أحدها: أن ذلك الخوف إنما كان لما طبع الآدمي عليه من ضعف القلب وإن كان قد علم موسى عليه السلام أنهم لا يصلون إليه وأن الله ناصره وهذا قول الحسن. وثانيها: أنه خاف أن تدخل على الناس شبهة فيما يرونه فيظنوا أنهم قد ساووا موسى عليه السلام ويشتبه ذلك عليهم وهذا التأويل متأكد بقوله: * (لا تخف إنك أنت الأعلى) * وهذا قول مقاتل. وثالثها: أنه خاف حيث بدأوا وتأخر إلقاؤه أن ينصرف بعض القوم قبل مشاهدة ما يلقيه فيدوموا على اعتقاد الباطل. ورابعها: لعله عليه السلام كان مأمورا بأن لا يفعل شيئا إلا بالوحي فلما تأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت خاف أن لا ينزل الوحي في ذلك الوقت فيبقى في الخجالة. وخامسها: لعله عليه السلام خاف من أنه لو أبطل سحر أولئك الحاضرين فلعل فرعون قد أعد أقواما آخرين فيأتيه بهم فيحتاج مرة أخرى إلى إبطال سحرهم وهكذا من غير أن يظهر له مقطع وحينئذ لا يتم الأمر ولا يحصل المقصود، ثم إنه تعالى أزال ذلك الخوف بالإجمال أولا وبالتفصيل ثانيا، أما الإجمال فقوله تعالى: * (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى) * ودلالته على أن خوفه كان لأمر يرجع إلى أن أمره لا يظهر للقوم فآمنه الله تعالى بقوله: * (إنك أنت الأعلى) * وفيه أنواع من المبالغة. أحدها: ذكر كلمة التأكيد وهي إن. وثانيها: تكرير الضمير. وثالثها: لام التعريف. ورابعها: لفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة وأما التفصيل فقوله: * (وألق ما في يمينك) * وفيه سؤال، وهو أنه لم لم يقل وألق عصاك. والجواب: جاز أن يكون تصغيرا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي بيمينك فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفها على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها وجائز أن يكون تعظيما لها أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكثيرة فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء عندها فألقه يتلقفها بإذن الله تعالى ويمحقها، أما قوله: * (تلقف) * أي فإنك إذا ألقيتها فإنها تلقف ما صنعوا قراءة العامة تلقف بالجزم والتشديد أي فألقها تتلقفها وقرأ ابن عامر تلقف بالتشديد وضم الفاء على معنى الحال أي ألقها متلقفة أو بالرفع على الاستئناف، وروى حفص عن عاصم بسكون اللام مع التخفيف أي تأخذ بفيها ابتلاعا بسرعة واللقف والتلقف جميعا يرجعان إلى هذا المعنى، وصنعوا ههنا بمعنى اختلقوا وزوروا والعرب تقول في الكذب: هو كلام مصنوع وموضوع وصحة قوله: * (تلقف) * أنه إذا ألقى ذلك وصارت حية تلقفت
84

ما صنعوا وفي قوله: * (فألقي السحرة سجدا) * (طه: 70) دلالة على أنه ألقى العصا وصارت حية وتلقفت ما صنعوه وفي التلقف دلالة على أن جميع ما ألقوه تلقفته وذلك لا يكون إلا مع عظم جسدها وشدة قوتها. وقد حكى عن السحرة أنهم عند التلقف أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام ليس من مقدور البشر من وجوه: أحدها: ظهور حركة العصا على وجه لا يكون مثله بالحيلة. وثانيها: زيادة عظمه على وجه لا يتم ذلك بالحيلة. وثالثها: ظهور الأعضاء عليه من العين والمنخرين والفم وغيرها ولا يتم ذلك بالحيلة. ورابعها: تلقف جميع ما ألقوه على كثرته وذلك لا يتم بالحيلة. وخامسها: عوده خشبة صغيرة كما كانت وشئ من ذلك لا يتم بالحيلة ثم بين سبحانه وتعالى أن ما صنعوا كيد ساحر والمعنى أن الذي معك يا موسى معجزة إلهية والذي معهم تمويهات باطلة فكيف يحصل التعارض. وقرئ كيد ساحر بالرفع والنصب فمن رفع فعلى أن ما موصولة ومن نصب فعلى أنها كافة وقرئ كيد سحر بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته أو بين الكيد لأنه يكون سحرا وغير سحر، كما يبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو، بقي سؤالات:
السؤال الأول: لم وحد الساحر، ولم يجمع. الجواب: لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد فلو جمع تخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى إلى قوله: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) * أي هذا الجنس.
السؤال الثاني: لم نكر أولا ثم عرف ثانيا. الجواب: كأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر وجميع أقسام السحر لا فائدة فيه ولا شك أن هذا الكلام على هذا الوجه أبلغ.
السؤال الثالث: قوله: * (ولا يفلح الساحر حيث أتى) * يدل على أن الساحر لا يحصل له مقصوده بالسحر خيرا كان أو شرا وذلك يقتضي نفي السحر بالكلية. الجواب: الكلام في السحر وحقيقته قد تقدم في سورة البقرة فلا وجه للإعادة والله أعلم.
قوله تعالى
* (فالقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم
فى جذوع
85

النخل ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى) *
اعلم أن في قوله: * (فألقى السحرة سجدا) * دلالة على أنه ألقى ما في يمينه وصار حية تلقف ما صنعوا وظهر الأمر فخروا عند ذلك سجدا وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر فلما رأوا ما فعله موسى عليه السلام خارجا عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر البتة ويقال: قال رئيسهم كنا نغالب الناس بالسحر وكانت الآلات تبقى علينا لو غلبنا فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقيناه فاستدلوا بتغير أحوال الأجسام على الصانع العالم القادر وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولا صادقا من عند الله تعالى، فلا جرم تابوا وآمنوا وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود، أما قوله تعالى: * (فألقي السحرة سجدا) * فليس المراد منه أنهم أجبروا على السجود إلا لما كانوا محمودين بل التأويل فيه ما قال الأخفش وهو أنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا، وقال صاحب " الكشاف ": ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود. فما أعظم الفرق بين الإلقاءين، وروى أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها. وعن عكرمة: لما خروا سجدا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة. قال القاضي: هذا بعيد لأنه تعالى لو أراهم عيانا لصاروا ملجئين، وذلك لا يليق به قولهم: * (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) * (طه: 73). وجوابه: لما جاز لإبراهيم عليه السلام مع قطعه بكونه مغفورا له أن يقول: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي) * (الشعراء: 82) فلم لا يجوز مثله في حق السحرة، واعلم أن هذه القصة تنبه على أسرار عجيبة من أمور الربوبية ونفاذ القضاء الإلهي وقدره في جملة المحدثات، وذلك لأن ظهور تلك الأدلة كانت بمرأى من الكل ومسمع فكان وجه الاستدلال فيها جليا ظاهرا وهو أنه حدثت أمور فلا بد لها من مؤثر والعلم بذلك ضروري، وذلك المؤثر إما الخلق، وإما غيرهم. والأول بديهي البطلان لأن كل عاقل يعلم بالضرورة من نفسه أنه لا يقدر على إيجاد الحيوانات وتعظيم جثتها دفعة واحدة ثم يصغرها مرة أخرى كما كانت وهذه العلوم الجلية متى حصلت في العقل أفادت القطع بأنه لا بد من مدبر لهذا العالم، فماذا يقول ألا ترى أن أولئك المنكرين جهلوا صحة هذه المقدمات وهذا في نهاية البعد، لأنا بينا أن كل واحد منها بحيث لا يمكن ارتياب العاقل فيه وإذا فقد عرفوا صحتها لكنهم أصروا على الجهل وكرهوا تحصيل العلم والسعادة لأنفسهم وأحبوا تحصيل الجهل والشقاوة لأنفسهم ما أرى أن عاقلا يرضى بذلك لنفسه قط، فلم يبق إلا أن يقال: العقل والدليل لا يكفي بل لا بد من مدبر يخلق هذه المقدمات في القلوب، ويخلق الشعور بكيفية ترتيبها وبكيفية استنتاجها
86

للنتيجة حتى أنه متى فعل ذلك حصلت النتائج في القلوب وذلك يدل على أن الكل بقضائه وقدره فإنه لا اعتماد على العقول والقلوب في مجاريها وتصرفاتها ومن طرح التعصب عن قلبه ونظر إلى أحوال نفسه في مجاري أفكاره وأنظاره ازداد وثوقا بما ذكرناه. أما قوله: * (قالوا آمنا برب هارون وموسى) * فاعلم أن التعليمية احتجوا بهذه الآية وقالوا: إنهم آمنوا بالله الذي عرفوه من قبل هارون وموسى فدل ذلك على أن معرفة الله لا تستفاد إلا من الإمام، وهذا القول ضعيف بل في قولهم: * (آمنا برب هارون وموسى) * فائدتان سوى ما ذكروه.
الفائدة الأولى: وهي أن فرعون ادعى الربوبية في قوله: * (أنا ربكم الأعلى) * (النازعات: 24) والإلهية في قوله: * (ما علمت لكم من إله غيري) * (القصص: 38) فلو أنهم قالوا: آمنا برب العالمين لكان فرعون يقول: إنهم آمنوا بي لا بغيري فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة، والدليل عليه أنهم قدموا ذكر هارون على موسى لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى بناء على أنه رباه في قوله: * (ألم نربك فينا وليدا) * (الشعراء: 18) فالقوم لما احترزوا عن إيهامات فرعون لا جرم قدموا ذكر هارون على موسى قطعا لهذا الخيال.
الفائدة الثانية: وهي أنهم لما شاهدوا أن الله تعالى خصهما بتلك المعجزات العظيمة والدرجات الشريفة لا جرم قالوا: رب هارون وموسى لأجل ذلك، ثم إن فرعون لما شاهد منهم السجود والإقرار خاف أن يصير ذلك سببا لاقتداء سائر الناس بهم في الإيمان بالله تعالى وبرسوله ففي الحال ألقى شبهة أخرى في النبي فقال: * (آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) * وهذا الكلام مشتمل على شبهتين. إحداهما: قوله: * (آمنتم له قبل أن آذن لكم) * وتقريره أن الاعتماد على الخاطر الأول غير جائز بل لا بد فيه من البحث والمناظرة والاستعانة بالخواطر، فلما لم تفعلوا شيئا من ذلك بل في الحال: * (آمنتم له) * دل ذلك على أن إيمانكم ليس عن البصيرة بل عن سبب آخر. وثانيها: قوله: * (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) * يعني أنكم تلامذته في السحر فاصطلحتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجا لأمره وتفخيما لشأنه، ثم بعد إيراد الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيرا لهم عن الإيمان وتنفيرا لغيرهم عن الاقتداء بهم في ذلك فقال: * (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) * قرىء لأقطعن ولأصلبن بالتخفيف. والقطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين خلاف الآخر، فإن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال وقوله: * (من خلاف) * في محل النصب على الحال أي: لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضا فقد اتصفت بالاختلاف ثم قال: * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) * فشبه تمكن المصلوب في الجذع يتمكن الشيء الموعى في وعائه فلذلك قال في جذوع النخل والذي يقال في المشهور أن في بمعنى على فضعيف ثم قال: * (ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) * أراد بقوله: * (أينا) * نفسه لعنه الله لأن قوله: * (أينا) * يشعر بأنه أراد نفسه وموسى عليه السلام بدليل قوله: * (آمنتم له) * وفيه تصالف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس بأنواع العذاب واستضعاف موسى عليه السلام مع الهزء به لأن موسى عليه السلام قط لم
87

يكن من التعذيب في شيء، فإن قيل: إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية بتلك العظمة التي شرحتموها وذكرتم أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون وآل الأمر إلى أن استغاث بموسى عليه السلام من شر ذلك الثعبان فمع قرب عهده بذلك وعجزه عن دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد ويستهزئ بموسى عليه السلام في قوله: * (أينا أشد عذابا وأبقى) * قلنا لم لا يجوز أن يقال: إنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه كان يظهر تلك الجلادة والوقاحة تمشية
لناموسه وترويجا لأمره، ومن استقرى أحوال أهل العالم علم أن العاجز قد يفعل أمثال هذه الأشياء، ومما يدل على صحة ذلك أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عذاب الله أشد من عذاب البشر، ثم إنه أنكر ذلك، وأيضا فقد كان عالما بكذبه في قوله: * (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) * لأنه علم أن موسى عليه السلام ما خالطهم البتة وما لقيهم وكان يعرف من سحرته أن أستاذ كل واحد من هو وكيف حصل ذلك العلم، ثم إنه مع ذلك كان يقول هذه الأشياء فثبت أن سبيله في كل ذلك ما ذكرناه وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخره شهداء ".
قوله تعالى
* (قالوا لن نؤثرك على ما جآءنا من البينات والذى فطرنا فاقض مآ أنت قاض إنما تقضى هذه الحيوة الدنيآ * إنآ آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ومآ أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى * جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزآء من تزكى) *
88

اعلم أنه تعالى لما حكى تهديد فرعون لأولئك حكى جوابهم عن ذلك بما يدل على حصول اليقين التام والبصيرة الكاملة لهم في أصول الدين، فقالوا: * (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) * وذلك يدل على أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان وإلا فعل بهم ما أوعدهم فقالوا: * (لن نؤثرك) * جوابا لما قاله وبينوا العلة وهي أن الذي جاءهم بينات وأدلة، والذي يذكره فرعون محض الدنيا، ومنافع الدنيا ومضارها لا تعارض منافع الآخرة ومضارها، أما قوله: * (والذي فطرنا) * ففيه وجهان: الأول: أن التقدير لن نؤثرك يا فرعون على ما جاءنا من البينات وعلى الذي فطرنا أي وعلى طاعة الذي فطرنا وعلى عبادته. الوجه الثاني: يجوز أن يكون خفضا على القسم. واعلم أنهم لما علموا أنهم متى أصروا على الإيمان فعل فرعون ما أوعدهم به فقالوا: * (فاقض ما أنت قاض) * لا على معنى أنهم أمروه بذلك لكن أظهروا أن ذلك الوعيد لا يزيلهم البتة عن إيمانهم وعما عرفوه من الحق علما وعملا، ثم بينوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك فقالوا: * (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) * وقرئ: (نقضي هذه الحياة الدنيا) ووجهها أن الحياة في القراءة المشهورة منتصبة على الظرف فاتسع في الظرف باجرائه مجرى المفعول به كقولك: في صمت يوم الجمعة صيم والمعنى أن قضاءك وحكمك إنما يكون في هذه الحياة الدنيا وهي كيف كانت فانية وإنما مطلبنا سعادة الآخرة وهي باقية، والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني المتوصل به إلى السعادة الباقية ثم قالوا: * (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) * ولما كان أقرب خطاياهم عهدا ما أظهروه من السحر، قالوا: * (وما أكرهتنا عليه من السحر) * وذكروا في ذلك الإكراه وجوها. أحدها: أن الملوك في ذلك الزمان كانوا يأخذون البعض من رعيتهم ويكلفونهم تعلم السحر فإذا شاخ بعثوا إليه أحداثا ليعلمهم ليكون في كل وقت من يحسنه فقالوا هذا القول لأجل ذلك أي كنا في التعلم أولا والتعليم ثانيا مكرهين قاله ابن عباس. وثانيها: أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين، اثنان من القبط، والباقي من بني إسرائيل فقالوا لفرعون: أرنا موسى نائما فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا: ما هذا بساحر، الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه. وثالثها: قال الحسن: إن السحرة حشروا من المدائن ليعارضوا موسى عليه السلام فأحضروا بالحشر وكانوا مكرهين في الحضور وربما كانوا مكرهين أيضا في إظهار السحر. ورابعها: قال عمرو بن عبيد: دعوة السلطان إكراه وهذا ضعيف لأن دعوة السلطان إذا لم يكن معها خوف لم تكن إكراها، ثم قالوا: * (والله خير) * ثوابا لمن أطاعه. * (وأبقى) * عقابا لمن عصاه، وهذا جواب لقوله: * (ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) * (طه: 71). قال الحسن: سبحان الله القوم كفار وهم أشد الكافرين كفرا ثبت في قلوبهم الإيمان في طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا: * (أقض ما أنت قاض) * في ذات الله تعالى والله إن أحدكم اليوم ليصحب القرآن ستين عاما ثم إنه يبيع دينه بثمن حقير، ثم ختموا هذا الكلام بشرح أحوال المؤمنين وأحوال المجرمين في عرصة القيامة، فقالوا في المجرمين:
89

* (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الهاء في قوله: * (إنه) * ضمير الشأن يعني أن الأمر والشأن كذا وكذا. المسألة الثانية: استدلت المعتزلة بهذه الآية في القطع على وعيد أصحاب الكبائر قالوا: صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم لقوله: * (إنه من يأت ربه مجرما) * وكلمة من في معرض الشرط تفيد العموم بدليل أنه يجوز استثناء كل واحد منها والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، واعترض بعض المتكلمين من أصحابنا على هذا الكلام، فقال: لا نسلم أن صاحب الكبيرة مجرم والدليل عليه أنه تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فإنه قال في هذه الآية: * (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات) * وقال: * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) * (المطففين: 29) وأيضا فإنه قال: * (فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) * والمؤمن صاحب الكبيرة وإن عذب بالنار لا يكون بهذا الوصف، وفي الخبر الصحيح: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ". واعلم أن هذه الاعتراضات ضعيفة، أما قوله: إن الله تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فهذا مسلم لكن هذا إنما ينفع لو ثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن، ومذهب المعتزلة أنه ليس بمؤمن فهذا المعترض كأنه بنى هذا الاعتراض على مذهب نفسه وذلك ساقط، قوله ثانيا: إنه لا يليق بصاحب الكبيرة أن يقال في حقه: إن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، قلنا: لا نسلم فإن عذاب جهنم في غاية الشدة قال تعالى: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * (آل عمران: 192) وأما الحديث فيقال: " القرآن متواتر فلا يعارضه خبر الواحد ". ويمكن أن يقال: ثبت في أصول الفقه أنه يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد وللخصم أن يجيب فيقول ذلك يفيد الظن فيجوز الرجوع إليه في العمليات، وهذه المسألة ليست من العمليات بل من الاعتقادات، فلا يجوز المصير إليها ههنا. فإن اعترض إنسان آخر، وقال: أجمعنا على أن هذه الآية مشروطة بنفي التوبة وبأن لا يكون عقابه محبطا بثواب طاعته والقدر المشترك بين الصورتين هو أن لا يوجد ما يحبط ذلك العقاب ولكن عندنا العفو محبط للعقاب، وعندنا أن المجرم الذي لا يوجد في حقه العفو لا بد وأن يدخل جهنم، واعلم أن هذا
الاعتراض أيضا ضعيف أما شرط نفي التوبة فلا حاجة إليه لأنه قال: * (من يأت ربه مجرما) * أي حال كونه مجرما والتائب لا يصدق عليه أنه أتى ربه حال كونه مجرما. وأما صاحب الصغيرة فلأنه لا يسمى مجرما لأن المجرم اسم للذم فلا يجوز إطلاقه على صاحب الصغيرة، بل الاعتراض الصحيح أن نقول: عموم هذا الوعيد معارض بما جاء بعده من عموم الوعد وهو قوله تعالى: * (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) * وكلامنا فيمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة ثم أتى بعد ذلك ببعض الكبائر. فإن قيل: عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة، قلنا: لم لا يجوز أن يقال: ثواب الإيمان يدفع عقاب المعصية فإن قالوا: لو كان كذلك لوجب أن لا يجوز لعنه وإقامة الحد عليه. قلنا: أما اللعن الغير جائز عندنا، وأما إقامة الحد عليه فقد تكون على سبيل المحنة كما في حق التائب وقد تكون
90

على سبيل التنكيل. قالت المعتزلة قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله) * (المائدة: 38) فالله تعالى نص على أنه يجب عليه إقامة الحد على سبيل التنكيل، وكل من كان كذلك استحال أن يكون مستحقا للمدح والتعظيم، وإذا لم يبق ذلك لم يبق الثواب كما قلنا. فدلنا ذلك على أن عقاب الكبيرة أولى بإزالة ثواب الطاعة المتقدمة من الطاعات بدفع عقاب الكبيرة الطارئة. هذا منتهى كلامهم في مسألة الوعيد قلنا حاصل الكلام يرجع إلى أن النص الدال على إقامة الحد عليه على سبيل التنكيل صار معارضا للنصوص الدالة على كونه مستحقا للثواب، فلم كان ترجيح أحدهما على الآخر أولى من العكس وذلك لأن المؤمن كان ينقسم إلى السارق وغير السارق، فالسارق ينقسم إلى المؤمن وإلى غير المؤمن فلم يكن لأحدهما مزية على الآخر في العموم والخصوص فإذا تعارضا تساقطا. ثم نقول: لا نسلم أن كلمة من في إفادة العموم قطعية بل ظنية ومسألتنا قطعية فلا يجوز التعويل على ما ذكرته، وتمام الكلام فيه مذكور في كتاب المحصول في الأصول.
المسألة الثالثة: تمسكت المجسمة بقوله: * (إنه من يأت ربه مجرما) * فقالوا: الجسم إنما يأتي ربه لو كان الرب في المكان. وجوابه: أن الله تعالى جعل إتيانهم موضع الوعد إتيانا إلى الله مجازا كقول إبراهيم عليه السلام: * (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) * (الصافات: 99).
المسألة الرابعة: الجسم الحي لا بد وأن يبقى إما حيا أو يصير ميتا فخلوه عن الوصفين محال، فمعناه في الآية أنه يكون في جهنم بأسوء حال لا يموت موتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة. ثم ذكر حال المؤمنين فقال: * (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) * واعلم أن قوله: * (قد عمل الصالحات) * يقتضي أن يكون آتيا بكل الصالحات. وذلك بالإتفاق غير معتبر ولا ممكن فينبغي أن يحمل ذلك على أداء الواجبات، ثم ذكر أن من أتى بالإيمان والأعمال الصالحات كانت له الدرجات العلى، ثم فسرها فقال: * (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار) * وفي الآية تنبيه على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى من الجنة لمن أتى ربه بالإيمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات التي هي غير عالية لا بد وأن تكون لغيرهم. ما هم إلا العصاة من أهل الإيمان، أما قوله: * (وذلك جزاء من تزكى) * فقال ابن عباس: يريد من قال لا إله إلا الله، وأقول لما دلت هذه الآية على أن الدرجات العالية هي جزاء من تزكى أي تطهر عن الذنوب وجب بحكم ذلك الخطاب أن الدرجات التي لا تكون عالية أن لا تكون جزاء من تزكى فهي لغيرهم ممن يكون قد أتى بالمعاصي وعفا الله بفضله ورحمته عنهم، واعلم أنه ليس في القرآن أن فرعون فعل بأولئك القوم المؤمنين ما أوعدهم به ولكن ثبت ذلك في الأخبار.
قوله تعالى
ولقد أوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا
91

لا تخاف دركا ولا تخشى * فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قومه وما هدى) *
واعلم أن في قوله: * (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) * دلالة على أن موسى عليه السلام في تلك الحالة كثر مستجيبوه. فأراد الله تعالى تمييزهم من طائفة فرعون وخلاصهم فأوحى إليه أن يسري بهم ليلا، والسري اسم لسير الليل والإسراء مثله، فإن قيل: ما الحكمة في أن يسري بهم ليلا، قلنا لوجوه: أحدها: أن يكون اجتماعهم لا بمشهد من العدو فلا يمنعهم عن استكمال مرادهم في ذلك. وثانيها: ليكون عائقا عن طلب فرعون ومتبعيه. وثالثها: ليكون إذا تقارب العسكران لا يرى عسكر موسى عسكر فرعون فلا يهابوهم، أما قوله: * (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) * ففيه وجهان: الأول: أي فاجعل لهم من قولهم ضرب له في ماله سهما، وضرب اللبن عمله. والثاني: بين لهم طريقا في البحر بالضرب بالعصا وهو أن يضرب البحر بالعصا حتى ينفلق، فعدى الضرب إلى الطريق. والحاصل أنه أريد بضرب الطريق جعل الطريق بالضرب يبسا ثم بين تعالى أن جميع أسباب الأمن كان حاصلا في ذلك الطريق. أحدها: أنه كان يبسا قرىء يابسا ويبسا بفتح الياء وتسكين الباء فمن قال: يابسا جعله بمعنى الطريق ومن قال يبسا بتحريك الباء فاليبس واليابس شيء واحد والمعنى طريقا أيبس. ومن قال: يبسا بتسكين الباء فهو مخفف عن اليبس، والمراد أنه ما كان فيه وحل ولا نداوة فضلا عن الماء. وثانيها: قوله: * (لا تخاف دركا ولا تخشى) * أي لا تخاف أن يدركك فرعون فإني أحول بينك وبينه بالتأخير، قال سيبويه: قوله: * (تخاف) * رفعه على وجهين: أحدهما: على الحال كقولك غير خائف ولا خاش. والثاني: على الابتداء أي أنت لا تخاف وهذا قول الفراء، قال الأخفش والزجاج: المعنى لا تخاف فيه كقوله: * (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس) * (البقرة: 48) أي لا تجزي فيه نفس وقرأ حمزة لا تخف وفيه وجهان. أحدهما: أنه نهي. والثاني: قال أبو علي: جعله جواب الشرط على معنى إن تضرب لا تخف وعلى هذه القراءة ذكروا في قوله: * (ولا تخشى) * ثلاثة أوجه. أحدهما: أن يستأنف كأنه قيل وأنت لا تخشى أي ومن شأنك أنك آمن لا تخشى. وثانيها: أن لا تكون الألف هي الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام الفعل ولكن زائدة للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله تعالى: * (فأضلونا السبيلا) * (الأحزاب: 48) * (وتظنون بالله الظنونا) * (الأحزاب: 10). وثالثها: أن يكون مثل قوله: (وتضحك مني شيخة عبشمية) * كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
92

وثالثها: قوله: * (ولا تخشى) * والمعنى أنك لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء أما قوله: * (فاتبعهم فرعون بجنوده) * قال أبو مسلم: زعم رواة
اللغة أن أتبعهم وتبعهم واحد وذلك جائز ويحتمل أن تكون الباء زائدة والمعنى أتبعهم فرعون جنوده كقوله تعالى: * (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) * (طه: 94) أسرى بعبده وقال الزجاج: قرىء: (فأتبعهم فرعون وجنوده) أي ومعه جنوده وقرئ: * (بجنوده) * ومعناه ألحق جنوده بهم ويجوز أن يكون بمعنى معهم أما قوله: * (فغشيهم) * فالمعنى: علاهم وسترهم وما غشيهم تعظيم للأمر أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى وقرئ: (فغشاهم من اليم ما غشيهم) وفاعل غشاهم إما الله سبحانه وتعالى أو ما غشيهم أو فرعون لأنه الذي ورط جنوده وتسبب في هلاكهم أما قوله: * (وأضل فرعون قومه وما هدى) * فاحتج القاضي به وقال لو كان الضلال من خلق الله تعالى لما جاز أن يقال وأضل فرعون قومه بل وجب أن يقال الله تعالى أضلهم ولأن الله تعالى ذمه بذلك فكيف يجوز أن يكون خالقا للكفر لأن من ذم غيره بشيء لا بد وأن يكون هو غير فاعل لذلك الفعل وإلا لاستحق ذلك الذم وقوله: * (وما هدى) * تهكم به في قوله: * (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) * (غافر: 29) ولنذكر القصة وما فيها من المباحث. قال ابن عباس رضي الله عنهما لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر وكان موسى عليه السلام وبنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلي والدواب لعيد يخرجون إليه فخرج بهم ليلا وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين وقد كان يوسف عليه السلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر فلم يخرجوا بها فتحير القوم حتى دلتهم عجوز على موضع العظام فأخذوها فقال موسى عليه السلام للعجوز: احتكمي فقالت: أكون معك في الجنة. وذكر ابن عباس أن محمدا صلى الله عليه وسلم وأبا بكر هجموا على رجل من العرب وامرأة ليس لهم إلا عنز فذبحوها لهما فقال عليه السلام: إذا سمعت برجل قد ظهر بيثرب فاته فلعل الله يرزقك منه خيرا، فلما سمع بظهور الرسول صلى الله عليه وسلم أتاه مع امرأته فقال: أتعرفني؟ قال: نعم عرفتك فقال له: احتكم، فقال: ثمانون ضانية فأعطاه إياها وقال له: " أما إن عجوز بني إسرائيل خير منك " وخرج فرعون في طلب موسى عليه السلام وعلى مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب فلما انتهى موسى إلى البحر قال: ههنا أمرت ثم قال موسى عليه السلام للبحر: انفرق فأبى، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فقال لهم موسى عليه السلام: ادخلوا فيه فقالوا: كيف وأرضه رطبة فدعا الله فهبت عليه الصبا فجفت فقالوا: نخاف الغرق في بعضنا فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر فأقبل فرعون إلى تلك الطرق فقال قومه له: إن موسى قد سحر البحر فصار كما ترى وكان على فرس حصان وأقبل جبريل عليه السلام على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة فصار جبريل عليه السلام بين يدي فرعون وأبصر الحصان الفرس الحجر فاقتحم بفرعون على أثرها وصاحت الملائكة في الناس
93

الحقوا الملك حتى إذا دخل آخرهم وكاد أولهم أن يخرج التقى البحر عليهم فغرقوا فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم، فقالوا: ما هذا يا موسى؟ قال: قد أغرق الله فرعون وقومه فرجعوا لينظروا إليهم فقالوا: يا موسى ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فدعا فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سلاحهم، وذكر ابن عباس أن جبريل عليه السلام قال: يا محمد لو رأيتني وأنا أدس فرعون في الماء والطين مخافة أن يتوب فهذا معنى قوله: * (فغشيهم من اليم ما غشيهم) * وفي القصة أبحاث.
البحث الأول: روي في الأخبار أن موسى عليه السلام لما ضرب بعصاه البحر حصل اثنا عشر طريقا يابسا يتهيأ طروقه وبقي الماء قائما بين الطريق والطريق كالطود العظيم وهو الجبل. فأخذ كل سبط من بني إسرائيل في طريق من هذه الطرق. ومنهم من قال: بل حصل طريق واحد وحجة القول الأول الأخبار ومن القرآن قوله تعالى: * (فصار كل فرق كالطود العظيم) * (الشعراء: 63) وذلك لا يحصل إلا إذا حصل هناك طرق حتى يكون الماء القائم بين الطريقين كالطود العظيم وحجة القول الثاني ظاهر قوله: * (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) * وذلك يتناول الطريق الواحد وإن أمكن حمله على الطرق نظرا إلى الجنس.
البحث الثاني: روي أن بني إسرائيل بعد أن أظهر موسى عليه السلام لهم الطريق وبينها لهم تعنتوا وقالوا: نريد أن يرى بعضنا بعضا وهذا كالبعيد وذلك أن القوم لما أبصروا مجيء فرعون صاروا في نهاية الخوف والخائف إذا وجد طريق الفرار والخلاص كيف يتفرغ للتعنت البارد.
البحث الثالث: أن فرعون كان عاقلا بل كان في نهاية الدهاء فكيف اختار إلقاء نفسه إلى التهلكة فإنه كان يعلم من نفسه أن انفلاق البحر ليس بأمره فعند هذا ذكروا وجهين. أحدهما: أن جبريل عليه السلام كان على الرمكة فتبعه فرس فرعون، ولقائل أن يقول: هذا بعيد لأنه يبعد أن يكون خوض الملك في أمثال هذه المواضع مقدما على خوض جميع العسكر وما ذكروه إنما يتم إذا كان الأمر كذلك وأيضا فلو كان الأمر على ما قالوه لكان فرعون في ذلك الدخول كالمجبور وذلك مما يزيده خوفا ويحمله على الإمساك في أن لا يدخل وأيضا فأي حاجة لجبريل عليه السلام إلى هذه الحيلة وقد كان يمكنه أن يأخذه مع قومه ويرميه في الماء ابتداء، بل الأولى أن يقال: إنه أمر مقدمة عسكره بالدخول فدخلوا وما غرقوا فغلب على ظنه السلامة فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى.
البحث الرابع: أن الذي نقل عن جبريل عليه السلام أنه كان يدسه في الماء والطين خوفا من أن يؤمن فبعيد لأن المنع من الإيمان لا يليق بالملائكة والأنبياء عليهم السلام.
البحث الخامس: الذي روي أن موسى عليه السلام كلم البحر قال له: انفلق لي لأعبر عليك، فقال البحر: لا يمر علي رجل عاص. فهو غير ممتنع على أصولنا لأن عندنا البنية ليست شرطا للحياة وعند المعتزلة أن ذلك على لسان الحال لا على لسان المقال. والله أعلم.
94

قوله تعالى
* (يابنى إسراءيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الايمن ونزلنا عليكم المن والسلوى * كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى * وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) *
اعلم أنه تعالى لما أنعم على قوم موسى عليه السلام بأنواع النعم ذكرهم إياها ولا شك أن إزالة المضرة يجب أن تكون متقدمة على إيصال المنفعة ولا شك أن إيصال
المنفعة الدينية أعظم في كونه نعمة من إيصال المنفعة الدنيوية، فلهذا بدأ الله تعالى بقوله: * (أنجيناكم من عدوكم) * وهو إشارة إلى إزالة الضرر فإن فرعون كان ينزل بهم من أنواع الظلم كثيرا من القتل والإذلال والإخراج والإتعاب في الأعمال، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية وهي قوله: * (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) * ووجه المنفعة فيه أنه أنزل في ذلك الوقت عليهم كتابا فيه بيان دينهم وشرح شريعتهم ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية وهي قوله: * (ونزلنا عليكم المن والسلوى * كلوا من طيبات ما رزقناكم) * ثم زجرهم عن العصيان بقوله: * (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي) * ثم بين أن من عصى ثم تاب كان مقبولا عند الله بقوله: * (وإني لغفار لمن تاب) * وهذا بيان المقصود من الآية ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي قد أنجيتكم ووعدتكم إلى قوله: * (من طيبات ما رزقناكم) * كلها بالتاء إلا قوله: * (ونزلنا عليكم المن والسلوى) * فإنها بالنون وقرأ الباقون كلها بالنون وقرأ نافع وعاصم وواعدناكم وقرأ حمزة والكسائي وواعدتكم.
المسألة الثانية: قال الكلبي: لما جاوز موسى عليه السلام ببني إسرائيل البحر قالوا له: أليس وعدتنا أن تأتينا من ربنا بكتاب فيه الفرائض والأحكام. قال بلى، ثم تعجل موسى إلى ربه ليأتيهم بالكتاب ووعدهم أن يأتيهم إلى أربعين ليلة من يوم انطلق، وإنما قال: * (وواعدناكم) * لأنه إنما واعد موسى أن يؤتيه التوراة لأجلهم وقال مقاتل: إنما قال: واعدناكم لأن الخطاب له وللسبعين المختارة والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال المفسرون: ليس للجبل يمين ولا يسار بل المراد أن طور سيناء عن
95

يمين من انطلق من مصر إلى الشام وقرئ الأيمن بالجر على الجوار نحو حجر ضب خرب وانتفاع القوم بذلك إما لأن الله تعالى أنزل التوراة عليهم وفيها شرح دينهم، وإما لأن الله تعالى لما كلم موسى على الطور حصل للقوم بسبب ذلك شرف عظيم.
المسألة الرابعة: قوله: * (كلوا) * ليس أمر إيجاب بل أمر إباحة كقوله: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * (المائدة: 2).
المسألة الخامسة: في الطيبات قولان: أحدهما: اللذائذ لأن المن والسلوى من لذائذ الأطعمة. والثاني: وهو قول الكلبي ومقاتل الحلال لأنه شيء أنزله الله تعالى إليهم ولم تمسه يد الآدميين ويجوز الجمع بين الوجهين لأن بين المعنيين معنى مشتركا. وتمام القول في هذه القصة تقدم في سورة البقرة.
المسألة السادسة: في قوله تعالى: * (ولا تطغوا) * فيه وجوه. أحدها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تطغوا، أي لا يظلم بعضكم بعضا فيأخذه من صاحبه. وثانيها: قال مقاتل والضحاك: لا تظلموا فيه أنفسكم بأن تتجاوزوا حد الإباحة. وثالثها: قال الكلبي: لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي ولا تعرضوا على الشكر ولا تعدلوا عن الحلال إلى الحرام.
المسألة السابعة: قرأ الأعمش والكسائي فيحل ومن يحلل كلاهما بالضم وروى الأعمش عن أصحاب عبد الله فيحل بالكسر ومن يحلل بالرفع وقراءة العامة بالكسر في الكلمتين أما من كسر فمعناه الوجوب من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه ومنه قوله تعالى: * (حتى يبلغ الهدي محله) * (البقرة: 196) والمضموم في معنى النزول وقوله: * (فقد هوى) * أي شقي وقيل فقد وقع في الهاوية، يقال: هوى يهوي هويا إذا سقط من علو إلى أسفل. المسألة الثامنة: اعلم أن الله تعالى وصف نفسه بكونه غافرا وغفورا وغفارا، وبأن له غفرانا ومغفرة وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر. أما إنه وصف نفسه بكونه غافرا فقوله: * (غافر الذنب) * (غافر: 3) وأما كونه غفورا فقوله: * (وربك الغفور ذو الرحمة) * (الكهف: 58) وأما كونه غفارا فقوله: * (وإني لغفار لمن تاب) * وأما الغفران فقوله: * (غفرانك ربنا) * (البقرة: 285) وأما المغفرة فقوله: * (وإن ربك لذو مغفرة للناس) * (الرعد: 6) وأما صيغة الماضي فقوله: في حق داود عليه السلام * (فغفرنا له ذلك) * (ص: 25) وأما صيغة المستقبل فقوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) وقوله: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * (الزمر: 53) وقوله في حق محمد صلى الله عليه وسلم: * (ليغفر لك الله) * (الفتح: 2) وأما لفظ الاستغفار فقوله: * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) * (محمد: 19) وفي حق نوح عليه السلام: * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا) * (نوح: 10) وفي الملائكة: * (ويستغفرون لمن في الأرض) * (الشورى: 5) واعلم أن الأنبياء عليهم السلام كلهم طلبوا المغفرة أما آدم عليه السلام فقال: * (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * (الأعراف: 23)، وأما نوح عليه السلام فقال: * (وإلا تغفر لي وترحمني) * (هود: 47)، وأما إبراهيم عليه السلام فقال: * (والذي أطمع
96

أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * (الشعراء: 82) وطلبها لأبيه: * (سأستغفر لك ربي) * (مريم: 47) وأما يوسف عليه السلام فقال في إخوته: * (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) * (يوسف: 92) وأما موسى عليه السلام ففي قصة القبطي: * (رب اغفر لي ولأخي) * (الأعراف: 151) وأما داود عليه السلام: * (فاستغفر ربه) * (ص: 24) أما سليمان عليه السلام: * (رب اغفر لي وهب لي ملكا) * (ص: 35) وأما عيسى عليه السلام: * (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) * (المائدة: 118) وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقول: * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) * (محمد: 19) وأما الأمة فقوله: * (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا) * (الحشر: 10) واعلم أن بسط الكلام ههنا أن نبين أولا حقيقة المغفرة ثم نتكلم في كونه تعالى غافرا وغفورا وغفارا ثم نتكلم في أن مغفرته عامة ثم نبين أن مغفرته في حق الأنبياء عليهم السلام كيف تعقل مع أنه لا ذنب لهم، ويتفرع على هذه الجملة استدلال أصحابنا في إثبات العفو وتقريره أن الذنب إما أن يكون صغيرا أو كبيرا بعد التوبة أو قبل التوبة والقسمان الأولان يقبح من الله عذابهما ويجب عليه التجاوز عنهما وترك القبيح لا يسمى غفرانا فتعين أن لا يتحقق الغفران إلا في القسم الثالث وهو المطلوب، فإن قيل: هذا يناقض صريح الآية لأنه أثبت الغفران في حق من استجمع أمورا أربعة: التوبة والإيمان والعمل الصالح والاهتداء، قلنا: إن من تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ثم أذنب بعد ذلك كان تائبا ومؤمنا وآتيا بالعمل الصالح، ومهتديا ومع ذلك يكون مذنبا
فحينئذ يستقيم كلامنا، وههنا نكتة، وهي أن العبد له أسماء ثلاثة: الظالم والظلوم والظلام. فالظالم: * (فمنهم ظالم لنفسه) * (فاطر: 32) والظلوم: * (إنه كان ظلوما جهولا) * (الأحزاب: 72) والظلام إذا كثر ذلك منه، ولله في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسم فكأنه تعالى يقول: إن كنت ظالما فأنا غافر وإن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت ظلاما فأنا غفار: * (وإني لغفار لمن تاب وآمن) * (طه: 82).
المسألة التاسعة: كثير اختلاف المفسرين في قوله تعالى: * (ثم اهتدى) * وسبب ذلك أن من تاب وآمن وعمل صالحا فلا بد وأن يكون مهتديا، فما معنى قوله ثم اهتدى بعد ذكر هذه الأشياء؟ والوجوه الملخصة فيه ثلاثة. أحدها: المراد منه الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة حتى يستمر عليه في المستقبل ويموت عليه ويؤكده قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * (فصلت: 30) وكلمة ثم للتراخي في هذه الآية وليست لتباين المرتبتين بل لتباين الوقتين فكأنه تعالى قال: الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح مما قد يتفق لكل أحد ولا صعوبة في ذلك إنما الصعوبة في المداومة على ذلك والاستمرار عليه. وثانيها: المراد من قوله: * (ثم اهتدى) * أي علم أن ذلك بهداية الله وتوفيقه وبقي مستعينا بالله في إدامة ذلك من غير تقصير، عن ابن عباس. وثالثها: المراد من الإيمان الاعتقاد المبني على الدليل والعمل الصالح إشارة إلى أعمال الجوارح بقي بعد ذلك ما يتعلق بتطهير القلب من الأخلاق الذميمة وهو المسمى بالطريقة في لسان الصوفية، ثم انكشاف حقائق الأشياء له وهو المسمى بالحقيقة في
97

لسان الصوفية فهاتان المرتبتان هما المرادتان بقوله: * (ثم اهتدى) *.
المسألة العاشرة: منهم من قال: تجب التوبة عن الكفر أولا ثم الإتيان بالإيمان ثانيا واحتج عليه بهذه الآية فإنه تعالى قدم التوبة على الإيمان، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن العمل الصالح غير داخل في الإيمان لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه.
قوله تعالى
* (ومآ أعجلك عن قومك ياموسى * قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى) *
اعلم أن في قوله: * (وما أعجلك عن قومك يا موسى) * دلالة على أنه قد تقدم قومه في المسير إلى المكان ويجب أن يكون المراد ما نبه عليه في قوله تعالى: * (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) * (طه: 80) في هذه السورة، وفي سائر السور كقوله: * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) * (الأعراف: 142) يريد الميقات عند الطور وعلى الآية سؤالات:
السؤال الأول: قوله: * (وما أعجلك) * استفهام وهو على الله محال. الجواب أنه إنكار في صيغة الاستفهام ولا امتناع فيه.
السؤال الثاني: أن موسى عليه السلام لا يخلو إما أن يقال إنه كان ممنوعا عن ذلك التقدم أو لم يكن ممنوعا عنه، فإن كان ممنوعا كان ذلك التقدم معصية فيلزم وقوع المعصية من الأنبياء، وإن قلنا إنه ما كان ممنوعا كان ذلك الإنكار غير جائز من الله تعالى. والجواب: لعله عليه السلام ما وجد نصا في ذلك إلا أنه باجتهاده تقدم فأخطأ في ذلك الاجتهاد فاستوجب العتاب.
السؤال الثالث: قال: * (وعجلت) * والعجلة مذمومة. والجواب: إنها ممدوحة في الدين. قال تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة) * (آل عمران: 133).
السؤال الرابع: قوله: * (لترضى) * يدل على أنه عليه السلام إنما فعل ذلك لتحصيل الرضا لله تعالى وذلك باطل من وجهين. أحدهما: أنه يلزم تجدد صفة الله تعالى، والآخر أنه تعالى قبل حصول ذلك الرضا وجب أن يقال: إنه تعالى ما كان راضيا عن موسى لأن تحصيل الحاصل محال، ولما لم يكن راضيا عنه وجب أن يكون ساخطا عليه، وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام. الجواب: المراد تحصيل دوام الرضا كما أن قوله: * (ثم اهتدى) * المراد دوام الاهتداء.
السؤال الخامس: قوله: * (وعجلت إليك) * يدل على أنه ذهب إلى الميعاد قبل الوقت الذي
98

عينه الله تعالى له، وإلا لم يكن ذلك تعجيلا ثم ظن أن مخالفة أمر الله تعالى سبب لتحصيل رضاه وذلك لا يليق بأجهل الناس فضلا عن كليم الله تعالى. والجواب: ما ذكرنا أن ذلك كان بالاجتهاد وأخطأ فيه.
السؤال السادس: قوله: * (إليك) * يقتضي كون الله في الجهة لأن إلى لانتهاء الغاية. الجواب: توافقنا على أن الله تعالى لم يكن في الجبل فالمراد إلى مكان وعدك.
السؤال السابع: * (ما أعجلك) * سؤال عن سبب العجلة فكان جوابه اللائق به أن يقول: طلبت زيادة رضاك والشوق إلى كلامك، وأما قوله: * (هم أولاء على أثري) * فغير منطبق عليه كما ترى والجواب من وجهين: الأول: أن سؤال الله تعالى يتضمن شيئين: أحدهما: إنكار نفس العجلة. والثاني: السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين عند موسى عليه السلام بالجواب هذا الثاني فقال: لم يوجد مني إلا تقدم يسير لا يحتفل به في العادة وليس بيني وبين من سبقته إلا تقدم يسير يتقدم بمثله الوفد عن قومهم ثم عقبه بجواب السؤال عن العجلة فقال: * (وعجلت إليك رب لترضى) *. الثاني: أنه عليه السلام لما ورد عليه من هيبة عتاب الله تعالى ما ورد ذهل عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام، واعلم أن في قوله: * (وما أعجلك عن قومك يا موسى) * دلالة على أنه تعالى أمره بحضور الميقات مع قوم مخصوصين، واختلفوا في المراد بالقوم فقال بعضهم: هم النقباء السبعون الذين قد اختارهم الله تعالى ليخرجوا معه إلى الطور فتقدمهم موسى عليه السلام شوقا إلى ربه. وقال آخرون: القوم جملة بني إسرائيل وهم الذين خلفهم موسى مع هارون وأمره أن يقيم فيهم خليفة له إلى أن يرجع هو مع السبعين فقال: * (هم أولاء على أثري) * يعني بالقرب مني ينتظرونني، وعن أبي عمرو ويعقوب إثري بالكسر وعن عيسى بن عمر أثري بالضم، وعنه أيضا أولى بالقصر، والأثر أفصح من الأثر. وأما
الأثر فمسموع في فرند السيف وهو بمعنى الأثر غريب.
قوله تعالى
* (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامرى * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى * قالوا مآ أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنآ أوزارا من زينة
99

القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامرى * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذآ إلهكم وإله موسى فنسى * أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) *
اعلم أنه تعالى لما قال لموسى: * (وما أعجلك عن قومك) * (طه: 83) وقال موسى في جوابه: * (وعجلت إليك رب لترضى) * (طه: 84) عرفه الله تعالى ما حدث من القوم بعد أن فارقهم مما كان يبعد أن يحدث لو كان معهم فقال: * (فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى خلق فيهم الكفر لوجهين، الوجه الأول: الدلائل العقلية الدالة على أنه لا يجوز من الله أن يفعل ذلك. الثاني: أنه قال: * (وأضلهم السامري) * ولو كان الله خلق الضلال فيهم لم يكن لفعل السامري فيه أثر وكان يبطل قوله: * (وأضلهم السامري) * وأيضا فلأن موسى عليه السلام لما طالبهم بذكر سبب تلك الفتنة قال: * (أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) * فلو حصل ذلك بخلق الله تعالى لكان لهم أن يقولوا السبب فيه أن الله خلقه فينا لا ما ذكرت فكان يبطل تقسيم موسى عليه السلام وأيضا فقال: * (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) * ولو كان ذلك بخلقه لاستحال أن يغضب عليهم فيما هو الخالق له ولما بطل ذلك وجب أن يكون لقوله: * (فتنا) * معنى آخر وذلك لأن الفتنة قد تكون بمعنى الامتحان. يقال: فتنت الذهب بالنار إذا امتحنته بالنار لكي يتميز الجيد من الردئ فههنا شدد الله التكليف عليهم وذلك لأن السامري لما أخرج لهم ذلك العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة العالم والأجسام على أن لها إلها ليس بجسم وحينئذ يعرفون أن العجل لا يصلح للإلهية فكان هذا التعبد تشديدا في التكليف فكان فتنة والتشديد في التكليف موجود قال تعالى: * (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) * (العنكبوت: 2) هذا تمام كلام المعتزلة قال الأصحاب: ليس في ظهور صوت عن عجل متخذ من الذهب شبهة أعظم مما في الشمس والقمر والدليل الذي ينفي كون الشمس والقمر إلها أولى بأن ينفي كون ذلك العجل إلها فحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديدا في التكليف فلا يصح حمل الآية عليه فوجب حمله على خلق الضلال
100

فيهم، قولهم: أضاف الإضلال إلى السامري قلنا: أليس أن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن كان الموجد لها هو الله تعالى فكذا ههنا وأيضا قرىء وأضلهم السامري أي وأشدهم ضلالا السامري وعلى هذا لا يبقى للمعتزلة الاستدلال، ثم الذي يحسم مادة الشغب التمسك بفصل الداعي على ما سبق تقريره في هذا الكتاب مرارا كثيرة.
المسألة الثانية: المراد بالقوم ههنا هم الذين خلفهم مع هارون عليه السلام على ساحل البحر وكانوا ستمائة ألف افتتنوا بالعجل غير أثني عشر ألفا.
المسألة الثالثة: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية سعيد بن جبير: كان السامري علجا من أهل كرمان وقع إلى مصر وكان من قوم يعبدون البقر والذي عليه الأكثرون أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة، قال الزجاج وقال عطاء عن ابن عباس: بل كان رجلا من القبط جارا لموسى عليه السلام وقد آمن به.
المسألة الرابعة: روى في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا: قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل بعد ذلك والتوفيق بين هذا وبين قوله لموسى عند مقدمه: * (فإنا قد فتنا قومك من بعدك) * من وجهين. الأول: أنه تعالى أخبر عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته. الثاني: أن السامري شرع في تدبير الأمر لما غاب موسى عليه السلام وعزم على إضلالهم حال مفارقة موسى عليه السلام وكأنه قدر الفتنة موجودة.
المسألة الخامسة: إنما رجع موسى عليه السلام بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة.
المسألة السادسة: ذكروا في الأسف وجوها. أحدها: أنه شدة الغضب وعلى هذا التقدير لا يلزم التكرار لأن قوله: غضبان يفيد أصل الغضب وقوله: أسفا يفيد كماله. وثانيها: قال الأكثرون حزنا وجزعا يقال أسف يأسف أسفا إذا حزن فهو آسف. وثالثها: قال قوم: الآسف المغتاظ وفرقوا بين الاغتياظ والغضب بأن الله تعالى لا يوصف بالغيظ ويوصف بالغضب من حيث كان الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه والغيظ تغير يلحق المغتاظ وذلك لا يصح إلا على الأجسام كالضحك والبكاء ثم إن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه عاتبهم بعد رجوعه إليهم قالت المعتزلة: وهذا يدل على أنه ليس المراد من قوله: * (فإنا قد فتنا قومك من بعدك) * أنه تعالى خلق الكفر فيهم وإلا لما عاتبهم بل يجب أن يعاتب الله تعالى قال الأصحاب: وقد فعل ذلك بقوله: * (إن هي إلا فتنتك) * (الأعراف: 155) ومجموع تلك المعاتبات أمور. أحدها: قوله: * (يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) * وفيه سؤالان:
السؤال الأول: قوله: * (ألم يعدكم ربكم) * هذا الكلام إنما يتوجه عليهم لو كانوا معترفين بإله آخر سوى العجل أما لما اعتقدوا أنه لا إله سواه على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا هذا
101

إلهكم وإله موسى كيف يتوجه عليهم هذا الكلام. الجواب: أنهم كانوا معترفين بالإله لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام. السؤال الثاني: ما المراد بذلك الوعد الحسن. الجواب: ذكروا وجوها. أحدها: أن المراد ما وعدهم من إنزال التوراة عليهم ليقفوا على الشرائع والأحكام ويحصل لهم بسبب ذلك مزية فيما بين
الناس وهو الذي ذكره الله تعالى فيما تقدم من قوله: * (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) * (طه: 80). وثانيها: أن الوعد الحسن هو الوعد الصدق بالثواب على الطاعات. وثالثها: الوعد هو العهد وهو قول مجاهد وذلك العهد هو قوله تعالى: * (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي) * (طه: 81) إلى قوله: * (ثم اهتدى) * (طه: 82) والدليل عليه قوله بعد ذلك: * (أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) * فكأنه قال: أفنسيتم ذلك الذي قال الله لكم ولا تطغوا فيه. ورابعها: الوعد الحسن ههنا يحتمل أن يكون وعدا حسنا في منافع الدين وأن يكون في منافع الدنيا، أما منافع الدين فهو الوعد بإنزال الكتاب الشريف الهادي إلى الشرائع والأحكام والوعد بحصول الثواب العظيم في الآخرة. وأما منافع الدنيا فهو أنه تعالى قبل إهلاك فرعون كان قد وعدهم أرضهم وديارهم، وقد فعل ذلك ثم قال: * (أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) * فالمراد أفنسيتم ذلك العهد أم تعمدتم المعصية، واعلم أن طول العهد يحتمل أمورا: أحدها: أفطال عليكم العهد بنعم الله تعالى من إنجائه إياكم من فرعون وغير ذلك من النعم المعدودة المذكورة في أوائل سورة البقرة وهذا كقوله: * (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم) * (الحديد: 16). وثانيها: يروى أنهم عرفوا أن الأجل أربعون ليلة فجعلوا كل يوم بإزاء ليلة وردوه إلى عشرين. قال القاضي: هذا ركيك لأن ذلك لا يكاد يشتبه على أحد. وثالثها: أن موسى عليه السلام وعدهم ثلاثين ليلة فلما زاد الله تعالى فيها عشرة أخرى كان ذلك طول العهد، وأما قوله: * (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) * فهذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحدا لا يريد ذلك ولكن المعصية لما كانت توجب ذلك، ومريد السبب مريد للمسبب بالعرض صح هذا الكلام واحتج العلماء بذلك على أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام. أما قوله: * (فأخلفتم موعدي) * فهذا يدل على موعد كان منه عليه السلام مع القوم وفيه وجهان: أحدهما: أن المراد ما وعدوه من اللحاق به والمجيء على أثره. والثاني: ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور، فعند هذا قالوا: * (ما أخلفنا موعدك بملكنا) * وفي أن قائل هذا الجواب من هو وجهان: الأول: أنهم الذين لم يعبدوا العجل فكأنهم قالوا: إنا ما أخلفنا موعدك بملكنا أي بأمر كنا نملكه وقد يضيف الرجل فعل قريبه إلى نفسه كقوله تعالى: * (وإذ فرقنا بكم البحر) * (البقرة: 50)، * (وإذ قتلتم نفسا) * (البقرة: 72) وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم فكأنهم قالوا: الشبهة قويت على عبدة العجل فلم نقدر على منعهم عنه ولم نقدر أيضا على مفارقتهم لأنا خفنا
102

أن يصير ذلك سببا لوقوع التفرقة وزيادة الفتنة. الوجه الثاني: أن هذا قول عبدة العجل والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا وفاعل السبب فاعل المسبب ومخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة فإنه كان كالمالك لنا. فإن قيل: كيف يعقل رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة العجل الذي يعرف فسادها بالضرورة، ثم إن مثل هذا الجمع لما فارقوا الدين وأظهروا الكفر فكيف يعقل رجوعهم دفعة واحدة عن ذلك الدين بسبب رجوع موسى عليه السلام وحده إليهم، قلنا: هذا غير ممتنع في حق البله من الناس، واعلم أن في بملكنا ثلاث قراءات، قرأ حمزة والكسائي بضم الميم ونافع وعاصم بفتح الميم وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر، أما الكسر والفتح فهما واحد وهما لغتان مثل رطل ورطل. وأما الضم فهو السلطان، ثم إن القوم فسروا ذلك العذر المجمل فقالوا: * (ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم) * قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر حملنا مخففة من الحمل وقرأ ابن كثير ونافع وحفص وابن عامر: حملنا مشددة، فمن قرأ بالتخفيف فمعناه حملنا مع أنفسنا ما كنا استعرناه من القوم ومن قرأ بالتشديد ففيه وجوه: أحدها: أن موسى عليه السلام حملهم على ذلك أي أمرهم باستعارة الحلي والخروج بها فكأنه ألزمهم ذلك. وثانيها: جعلنا كالضامن لها إلى أن نؤديها إلى حيث يأمرنا الله. وثالثها: أن الله تعالى حملهم ذلك على معنى أنه ألزمهم فيه حكم المغنم، أما الأوزار فهي الأثقال ومن ذلك سمي الذنب وزرا لأنه ثقل ثم فيه احتمالات. أحدها: أنه لكثرتها كانت أثقالا. وثانيها: أن المغانم كانت محرمة عليهم فكان يجب عليهم حفظها من غير فائدة فكانت أثقالا. وثالثها: المراد بالأوزار الآثام والمعنى حملنا آثاما، روي في الخبر أن هارون عليه السلام قال: إنها نجسة فتطهروا منها، وقال السامري: إن موسى عليه السلام إنما احتبس عقوبة بالحلي فيجوز أن يكونوا أرادوا هذا القول. وقد يقول الإنسان للشيء الذي يلزمه رده هذا كله إثم وذنب. ورابعها: أن ذلك الحلي كان القبط يتزينون به في مجامع لهم يجري فيها الكفر لا جرم أنها وصفت بكونها أوزارا كما يقال مثله في آلات المعاصي. أما قوله: * (فقذفناها) * فذكروا فيه وجوها في أنهم أين قذفوها؟ الوجه الأول: قذفوها في حفرة كان هارون عليه السلام أمرهم بجمع الحلي فيها انتظارا لعود موسى عليه السلام. والوجه الثاني: قذفوها في موضع أمرهم السامري بذلك. الوجه الثالث: في موضع جمع فيه النار ثم قالوا: فكذلك ألقى السامري أي فعل السامري مثل ما فعلنا، أما قوله: * (فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار) * فاختلفوا في أنه هل كان ذلك الجسد حيا أم لا؟ فالقول الأول: لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد الضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيها منافذ ومخارق بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. والقول الثاني: أنه صار حيا وخار كما يخور العجل واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: قوله: * (فقبضت قبضة من أثر الرسول) * (طه: 96) ولو لم يصر حيا لما بقي لهذا الكلام فائدة. وثانيها: أنه تعالى
103

سماه عجلا والعجل حقيقة في الحيوان وسماه جسدا وهو إنما يتناول الحي. وثالثها: أثبت له الخوار وأجابوا عن حجة الأولين بأن ظهور خوارق العادة على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الإلتباس وههنا كذلك فوجب أن لا يمتنع، وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون عليه السلام مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي فقال: اللهم أعطه ما سأل فلما مضى هارون قال السامري: اللهم إني أسألك أن يخور فخار وعلى هذا التقدير يكون ذلك معجزا للنبي، أما قوله: * (فقالوا هذا إلهكم وإله موسى) * ففيه إشكال وهو أن القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات والأرض فهم مجانين وليسوا بمكلفين ولأن مثل هذا الجنون على مثل ذلك الجمع العظيم محال وإن لم يعتقدوا ذلك فكيف قالوا: هذا إلهكم وإله موسى، وجوابه: لعلهم كانوا من الحلولية فجوزوا حلول الإله أو حلول صفة من صفاته في ذلك الجسم، وإن كان ذلك أيضا في غاية البعد لأن ظهور الخوار لا يناسب الإلهية،
ولكن لعل القوم كانوا في نهاية البلادة والجلافة، وأما قوله: فنسي ففيه وجوه. الأول: أنه كلام الله تعالى كأنه أخبر عن السامري أنه نسي الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء ثم إنه سبحانه بين المعنى الذي يجب الاستدلال به وهو قوله: * (أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ونفعا) * أي لم يخطر ببالهم أن من لا يتكلم ولا يضر ولا ينفع لا يكون إلها ولا يكون للإله تعلق به في الحالية والمحلية. الوجه الثاني: أن هذا قول السامري وصف به موسى عليه السلام والمعنى أن هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى أن هذا هو الإله فذهب يطلبه في موضع آخر وهو قول الأكثرين. الوجه الثالث: فنسي وقت الموعد في الرجوع أما قوله: * (ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) * فهذا استدلال على عدم إلهيتها بأنها لا تتكلم ولا تنفع ولا تضر وهذا يدل على أن الإله لا بد وأن يكون موصوفا بهذه الصفات وهو كقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * (مريم: 42) وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمر لا يعول إلا على دلائل إبراهيم عليه السلام بقي ههنا بحثان.
البحث الأول: قال الزجاج: الاختيار أن لا يرجع بالرفع بمعنى أنه لا يرجع وهذا كقوله: * (وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا) * (المائدة: 71) بمعنى أنه لا تكون وقرئ بالنصب أيضا على أن أن هذه هي الناصبة للأفعال.
البحث الثاني: هذه الآية تدل على وجوب النظر في معرفة الله تعالى وقال في آية أخرى: * (ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا) * (الأعراف: 148) وهو قريب في المعنى من قوله في ذم عبدة الأصنام: * (ألهم أرجل يمشون بها) * (الأعراف: 195) وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلها لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطا بشروط كثيرة ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط، ولكن
104

حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط. الثالث: قال بعض اليهود لعلي عليه السلام: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم؟ فقال: إنما اختلفنا عنه وما اختلفنا فيه، وأنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؟
قوله تعالى
* (ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعونى وأطيعوا أمرى * قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) *
اعلم أن هارون عليه السلام إنما قال ذلك شفقة منه على نفسه وعلى الخلق أما شفقته على نفسه فلأنه كان مأمورا من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان مأمورا من عند أخيه موسى عليه السلام بقوله: * (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) * (الأعراف: 142) فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفا لأمر الله تعالى ولأمر موسى عليه السلام وذلك لا يجوز، أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم وستين ألفا من شرارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فقال: إنهم لم يغضبوا لغضبي. وقال ثابت البناني قال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصبح وهمه غير الله تعالى فليس من الله في شيء ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم. وعن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في تواددهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " وقال أبو علي الحسن الغوري: كنت في بعض المواضع فرأيت زورقا فيها دنان مكتوب عليها لطيف فقلت للملاح: إيش هذا فقال: أنت صوفي فضولي وهذه خمور المعتضد، فقلت له: أعطني ذلك المدري، فقال لغلامه: اعطه حتى نبصر إيش يعمل، فأخذت المدري وصعدت الزورق فكنت أكسر دنا دنا والملاح يصيح حتى بقي واحد فأمسكت فجاء صاحب السفينة فأخذني وحملني إلى المعتضد وكان سيفه قبل كلامه فلما وقع بصره علي قال من أنت؟ قلت المحتسب، قال من ولاك الحسبة؟ قلت: الذي ولاك الخلافة. قال: لم كسرت هذه الدنان؟ قلت شفقة عليك إذا لم تصل يدي إلى دفع مكروه عنك. قال: فلم أبقيت هذا الواحد قلت إني لما كسرت هذه الدنان فإني إنما كسرتها حمية في دين الله فلما وصلت إلى هذا أعجبت فأمسكت ولو بقيت كما كنت لكسرته، فقال: اخرج يا شيخ فقد وليتك الحسبة، فقلت كنت أفعله لله تعالى فلا أحب أن أكون شرطيا. وأما الشفقة على
105

المسلمين فلأن الإنسان يجب أن يكون رقيق القلب مشفقا على أبناء جنسه وأي شفقة أعظم من أن يرى جمعا يتهافتون على النار فيمنعهم منها، وعن أبي سعيد الخدري عنه عليه السلام: " يقول الله تعالى اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها في القاسية قلوبهم فإن فيهم غضبي "، وعند عبد الله بن أبي أوفى قال: " خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أبو بكر وعمر معه فجاء صغير فبكى فقال لعمر: ضم الصبي إليك فإنه ضال فأخذه عمر فإذا امرأة تولول كاشفة رأسها جزعا على ابنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدرك المرأة فناداها فجاءت فأخذت ولدها وجعلت تبكي والصبي في حجرها فالتفتت فرأت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت فقال عليه السلام عند ذلك: أترون هذه رحيمة بولدها؟ قالوا: يا رسول الله كفى بهذه رحمة فقال " والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها ". ويروى: " أنه بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا فسمع الشاب ذلك فولى، فقال: إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد علي بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشعل النار بي حتى تبر يمينه ولا تشعل النار بأحد آخر، فهبط جبريل عليه السلام وقال: " يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك وفدائه أمتك بنفسه وشفقته على الخلق ". إذا ثبت ذلك فاعلم أن الأمر بالمعروف والشفقة على المسلمين واجب. ثم إن هارون عليه السلام رأى القوم متهافتين على النار ولم يبال بكثرتهم ولا بقوتهم بل صرح بالحق فقال: * (يا قوم إنما فتنتم به) * الآية وههنا دقيقة وهي أن الرافضة تمسكوا بقوله عليه السلام لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " ثم إن هارون ما منعته التقية في مثل هذا الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعة
نفسه والمنع من متابعة غيره، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان يجب على علي عليه السلام أن يفعل ما فعله هارون عليه السلام وأن يصعد على المنبر من غير تقية وخوف وأن يقول: * (فاتبعوني وأطيعوا أمري) * فلما لم يفعل ذلك علمنا أن الأمة كانوا على الصواب، واعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولا بقوله: * (إنما فتنتم به) * ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانيا بقوله: * (وإن ربكم الرحمن) * ثم دعاها ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله: * (فاتبعوني) * ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: * (وأطيعوا أمري) * وهذا هو الترتيب الجيد لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق وهو إزالة الشبهات ثم معرفة الله تعالى هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة، فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه، وإنما قال: * (وإن ربكم الرحمن) * فخص هذا الموضع باسم الرحمن لأنه كان ينبئهم بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم، ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون ثم إنهم لجهلهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال بالتقليد والجحود فقالوا: * (لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) * كأنهم قالوا: لا نقبل حجتك ولكن نقبل قول
106

موسى وعادة المقلد ليس إلا ذاك.
قوله تعالى
* (قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمرى * قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرءيل ولم ترقب قولى) *
اعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون بهذه الآية من وجوه. أحدها: أن موسى عليه السلام إما أن يكون قد أمر هارون باتباعه أو لم يأمره، فإن أمره به فإما أن يكون هارون قد اتبعه أو لم يتبعه، فإن اتبعه كانت ملامة موسى لهارون معصية وذنبا لأن ملامة غير المجرم معصية. وإن لم يتبعه كان هارون تاركا للواجب فكان فاعلا للمعصية، وأما إن قلنا: إن موسى عليه السلام ما أمره باتباعه كانت ملامته إياه بترك الاتباع معصية فثبت أن على جميع التقديرات يلزم إسناد المعصية إما إلى موسى أو إلى هارون. وثانيها: قول موسى عليه السلام: * (أفعصيت أمري) * استفهام على سبيل الإنكار فوجب أن يكون هارون قد عصاه، وأن يكون ذلك العصيان منكرا، وإلا لكان موسى عليه السلام كاذبا وهو معصية، فإذا فعل هارون ذلك فقد فعل المعصية. وثالثها: قوله: * (يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) * وهذا معصية لأن هارون عليه السلام قد فعل ما قدر عليه من النصيحة والوعظ والزجر، فإن كان موسى عليه السلام قد بحث عن الواقعة، وبعد أن علم أن هارون قد فعل ما قدر عليه كان الأخذ برأسه ولحيته معصية وإن فعل ذلك قبل تعرف الحال كان ذلك أيضا معصية. ورابعها: إن هارون عليه السلام قال: * (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) * فإن كان الأخذ بلحيته وبرأسه جائزا كان قول هارون لا تأخذ منعا له عما كان له أن يفعله فيكون ذلك معصية، وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزا كان موسى عليه السلام فاعلا للمعصية فهذه أمثلة لطيفة في هذا الباب. والجواب عن الكل: أنا بينا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (فأزلهما الشيطان عنها) * (البقرة: 36) أنواعا من الدلائل الجلية في أنه لا يجوز صدور المعصية من الأنبياء، وحاصل هذه الوجوه تمسك بظواهر قابلة للتأويل ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز، إذا ثبتت هذه المقدمة فاعلم أن لنا في الجواب عن هذه الإشكالات وجوها. أحدها: أنا وإن اختلفنا في جواز المعصية على الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم، وإن كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنعه الآخر أعني بهما
107

موسى وهارون عليهما السلام لعله كان أحدهما أولى والآخر كان ترك الأولى فلذلك فعله أحدهما وتركه الآخر، فإن قيل هذا التأويل غير جائز لأن كل واحد منهما كان جازما فيما يأتي به فعلا كان أو تركا وفعل المندوب وتركه لا يجزم به، قلنا: تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع، فنحن نحمل ذلك الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح، وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوما متقررا. وثانيها: أن موسى عليه السلام أقبل وهو غضبان على قومه فأخذ برأس أخيه وجره إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه ويفتل أصابعه ويقبض لحيته فأجرى موسى عليه السلام أخاه هارون مجرى نفسه لأنه كان أخاه وشريكه فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب فأما قوله: * (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) * فلا يمتنع أن يكون هارون عليه السلام خاف من أن يتوهم بنو إسرائيل من سوء ظنهم أنه منكر عليه غير معاون له، ثم أخذ في شرح القصة فقال: * (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) *، وثالثها: أن بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى عليه السلام حتى أن هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى عليه السلام: أنت قتلته، فلما واعد الله تعالى موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر وكتب له في الألواح من كل شيء ثم رجع فرأى في قومه ما رآى فأخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون عليه السلام أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له فقال إشفاقا على موسى: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي لئلا يظن القوم ما لا يليق بك. ورابعها: قال صاحب " الكشاف ": كان موسى عليه السلام رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء شديد الغضب لله تعالى ولدينه فلم يتمالك حين رآى قومه يعبدون عجلا من دون الله تعالى من بعد ما رأوا من الآيات العظام أن ألقى ألواح التوراة لما غلب على ذهنه من الدهشة العظيمة غضبا لله تعالى وحمية وعنف بأخيه وخليفته على قومه فأقبل عليه إقبال العدو المكاشر، واعلم أن هذا الجواب ساقط لأنه يقال: هب أنه كان شديد الغضب ولكن مع ذلك الغضب الشديد هل كان يبقى عاقلا مكلفا أم لا؟ فإن بقي عاقلا مكلفا فالأسئلة باقية بتمامها أكثر ما في الباب أنك ذكرت أنه أتى بغضب شديد وذلك من جملة المعاصي فقد زدت إشكالا آخر. فإن قلتم بأنه في ذلك الغضب لم يبق عاقلا ولا مكلفا فهذا مما لا يرتضيه مسلم البتة فهذه أجوبة من لم يجوز الصغائر وأما من جوزها فلا شك في سقوط السؤال والله أعلم. أما قوله: * (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن) * ففيه وجهان: الأول: أن لا صلة والمراد ما منعك أن تتبعني. والثاني: أن يكون المراد ما دعاك إلى أن لا تتبعني فأقام منعك مقام دعاك وفي الاتباع قولان: أحدهما: ما منعك من اتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء.
والثاني: أن تتبعني في وصيتي إذ قلت لك: * (أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) * (الأعراف: 142) فلم تركت قتالهم وتأديبهم وهذا قول مقاتل ثم قال: * (أفعصيت أمري) * ومعناه ظاهر
108

وهذا يدل على أن تارك المأمور به عاص والعاصي مستحق للعقاب لقوله: * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها) * (الجن: 23) ولقوله: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) * (النساء: 14) فمجموع الآيتين يدل على أن الأمر للوجوب، فأجاب هارون عليه السلام وقال: * (يا ابن أم) * قيل: إنما خاطبه بذلك ليدفعه عنه فيتركه، وقيل: كان أخاه لأمه: * (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) * واعلم أنه ليس في القرآن دلالة على أنه فعل ذلك، فإن النهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي فاعلا للمنهي عنه كقوله: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) * (الأحزاب: 48) وقوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (الزمر: 65) والذي فيه أنه أخذ برأس أخيه يجره إليه وهذا القدر لا يدل على الاستخفاف به بل قد يفعل ذلك لسائر الأغراض على ما بيناه، ومن الناس من يقول إنه أخذ ذؤابتيه بيمينه ولحيته بيساره ثم قال: * (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) * ولقائل أن يقول: إن قول موسى عليه السلام: (ما منعك أن لا تتبعن أفعصيت أمري) يدل على أنه أمره بشيء فكيف يحسن في جوابه أن يقال: إنما لم أمتثل قولك خوفا من أن تقول: * (ولم ترقب قولي) * فهل يجوز مثل هذا الكلام على العاقل. والجواب: لعل موسى عليه السلام إنما أمره بالذهاب إليه بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى فساد في القوم فلما قال موسى: (ما منعك أن لا تتبعن) قال لأنك إنما أمرتني باتباعك إذا لم يحصل الفساد فلو جئتك مع حصول الفساد ما كنت مراقبا لقولك. قال الإمام أبو القاسم الأنصاري: الهداية أنفع من الدلالة فإن السحرة كانوا أجانب عن الإيمان وما رأوا إلا آية واحدة فآمنوا وتحملوا العذاب الشديد في الدنيا ولم يرجعوا عن الإيمان، وأما قومه فإنهم رأوا انقلاب العصا ثعبانا والتقم كل ما جمعه السحرة ثم عاد عصا ورأوا اعتراف السحرة بأن ذلك ليس بسحر وأنه أمر إلهي ورأوا الآيات التسع مدة مديدة ثم رأوا انفراق البحر اثني عشر طريقا وأن الله تعالى أنجاهم من الغرق وأهلك أعداءهم مع كثرة عددهم، ثم إن هؤلاء مع ما شاهدوا من هذه الآيات لما خرجوا من البحر ورأوا قوما يعبدون البقر قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، ولما سمعوا صوتا من عجل عكفوا على عبادته، وذلك يدل على أنه لا يحصل الغرض بالدلائل بل بالهداية، قرأ حمزة والكسائي: (يا ابن أم) بكسر الميم والإضافة ودلت كسرة الميم على الياء والباقون بالفتح وتقديره يا ابن أماه والله أعلم.
قوله تعالى
* (قال فما خطبك ياسامري * قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر
109

الرسول فنبذتها وكذلك سولت لى نفسى * قال فاذهب فإن لك فى الحيوة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذى ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا * إنمآ إلهكم الله الذى لا إله إلا هو وسع كل شىء علما) *
اعلم أن موسى عليه السلام لما فرغ من مخاطبة هارون عليه السلام وعرف العذر له في التأخير أقبل على السامري ويجوز أن يكون قد كان حاضرا مع هارون عليه السلام فلما قطع موسى الكلام مع هارون أخذ في التكلم مع السامري، ويجوز أن يكون بعيدا ثم حضر السامري من بعد أو ذهب إليه موسى ليخاطبه، فقال موسى عليه السلام: * (ما خطبك يا سامري) * والخطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه، فإذا قيل لمن يفعل شيئا ما خطبك؟ معناه ما طلبك له والغرض منه الإنكار عليه وتعظيم صنعه ثم ذكر السامري عذره في ذلك فقال: * (بصرت بما لم يبصروا به) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرىء * (بصرت بما لم يبصروا به) * بالكسر وقرأ حمزة والكسائي بما لم تبصروا بالتاء المعجمة من فوق والباقون بالياء أي بما لم يبصر به بنو إسرائيل.
المسألة الثانية: في الإبصار قولان: قال أبو عبيدة: علمت بما لم يعلموا به ومنه قولهم: رجل بصير أي عالم وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال الزجاج في تقريره: أبصرته بمعنى رأيته وبصرت به بمعنى صرت به بصيرا عالما. وقال آخرون: رأيت ما لم يروه فقوله بصرت به بمعنى أبصرته وأراد أنه رأى دابة جبريل عليه السلام فأخذ من موضع حافر دابته قبضة من تراب ثم قال: * (فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الحسن قبضة بضم القاف وهي اسم للمقبوض كالغرفة والضفة وأما القبضة فالمرة من القبض وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير وقرئ أيضا فقبصت قبصة بالضاد والصاد فالضاد بجميع الكف والصاد بأطراف الأصابع ونظيرهما الخضم والقضم الخاء بجميع الفم والقاف بمقدمه. قرأ ابن مسعود من أثر فرس الرسول.
المسألة الثانية: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول جبريل عليه السلام وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته ثم اختلفوا أنه متى رآه فقال الأكثرون: إنما رآه يوم فلق البحر. وعن علي عليه السلام أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى عليه السلام إلى الطور أبصره السامري من بين الناس، واختلفوا في أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين سائر الناس، فقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الكلبي: إنما عرفه
110

لأنه رآه في صغره وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل، فكانت المرأة تلد وتطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فتأخذ الملائكة الولدان فيربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس فكان السامري ممن أخذه جبريل عليه السلام وجعل كف نفسه في فيه وارتضع منه العسل واللبن فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه، فلما رآه عرفه، قال ابن جريج: فعلى هذا قوله: * (بصرت بما لم يبصروا به) * بمعنى رأيت ما لم يروه ومن فسر الكلمة بالعلم فهو صحيح ويكون المعنى علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء، قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون فههنا وجه آخر وهو أن يكون
المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسئلة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: بصرت بما لم يبصروا به، أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من سنتك ودينك فقذفته أي طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة، وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا وبماذا يأمر الأمير، وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولا مع جحده وكفره فعلى مثل مذهب من حكى الله عنه قوله: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * (الحجر: 6) وإن لم يؤمنوا بالإنزال. واعلم أن هذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا مخالفة المفسرين ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه. أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام كأنه تكليف بعلم الغيب. وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل. وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه فبعيد، لأن السامري إن عرف جبريل حال كمال عقله عرف قطعا أن موسى عليه السلام نبي صادق فكيف يحاول الإضلال وإن كان ما عرفه حال البلوغ فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربيا له في الطفولية في حصول تلك المعرفة. ورابعها: أنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه لكان لقائل أن يقول: فلعل موسى عليه السلام اطلع على شيء آخر يشبه ذلك فلأجله أتى بالمعجزات ويرجع حاصله إلى سؤال من يطعن في المعجزات ويقول: لم لا يجوز أن يقال إنهم لاختصاصهم بمعرفة بعض الأدوية التي لها خاصية أن تفيد حصول تلك المعجزة، أتوا بتلك المعجزة، وحينئذ ينسد باب المعجزات بالكلية. أما قوله: * (وكذلك سولت لي نفسي) * فالمعنى فعلت ما دعتني إليه نفسي وسولت مأخوذ من السؤال فالمعنى لم
111

يدعني إلى ما فعلته أحد غيري بل اتبعت هواي فيه، ثم إن موسى عليه السلام لما سمع ذلك من السامري أجابه بأن بين حاله في الدنيا والآخرة وبين حال إلهه أما حاله في الدنيا فقوله: * (فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) * وفيه وجوه: أحدها: أن المراد: أني لا أمس ولا أمس قالوا: وإذا مسه أحد حم الماس والمسوس فكان إذا أراد أحد أن يمسه صاح خوفا من الحمى وقال لا مساس. وثانيها: أن المراد بقوله: * (لا مساس) * المنع من أن يخالط أحدا أو يخالطه أحد وقال مقاتل: إن موسى عليه السلام أخرجه من محلة بني إسرائيل وقال له: اخرج أنت وأهلك فخرج طريدا إلى البراري، اعترض الواحدي عليه فقال الرجل: إذا صار مهجورا فلا يقول هو لا مساس وإنما يقال له ذلك، وهذا الاعتراض ضعيف لأن الرجل إذا بقي طريدا فريدا فإذا قيل له: كيف حالك فله أن يقول لا مساس أي لا يماسني أحد ولا أماس أحدا، والمعنى إني أجعلك يا سامري في المطرودية بحيث لو أردت أن تخبر غيرك عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس وهذا الوجه أحسن وأقرب إلى نظم الكلام من الأول. وثالثها: ما ذكره أبو مسلم وهو أنه يجوز في حمله ما أريد مسي النساء فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله فلا يكون له ولد يؤنسه فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: * (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) * (الكهف: 46) وقرئ لا مساس بوزن فجاز وهو اسم علم للمرة الواحدة من المس، وأما شرح حاله في الآخرة فهو قوله: * (وإن لك موعدا لن تخلفه) * والموعد بمعنى الوعد أي هذه عقوبتك في الدنيا ثم لك الوعد بالمصير إلى عذاب الآخرة فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين، قرأ أهل المدينة والكوفة: لن تخلفه بفتح اللام أي لن تخلف ذلك الوعد أي سيأتيك به الله ولن يتأخر عنك وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن بكسر اللام أي تجيء إليه ولن تغيب عنه ولن تتخلف عنه وفتح اللام اختيار أبي عبيد كأنه قال: موعدا حقا لا خلف فيه وعن ابن مسعود: لن نخلفه بالنون فكأنه عليه السلام حكى قول الله تعالى بلفظه كما مر بيانه في قوله: * (لأهب لك) * (مريم: 19) وأما شرح حال إلهه فهو قوله: * (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا) * قال المفضل في ظلت: إنه يقرأ بفتح الظاء وكسرها وكذلك: * (فظلتم تفكهون) * (الواقعة: 65) وأصله ظللت فحذفت اللام الأولى وذلك إنما يكون إذا كانت اللام الثانية ساكنة تستحب العرب طرح الأولى ومن كسر الظاء نقل كسرة اللام الساقطة إليها ومن فتحها ترك الظاء على حالها وكذلك يفعلون في المضاعف يقولون: مسته ومسسته ثم قال: * (لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا) * وفي قوله: * (لنحرقنه) * وجهان. أحدهما: المراد إحراقه بالنار وهذا أحد ما يدل على أنه صار لحما ودما، لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار، وقال السدي: أمر موسى عليه السلام بذبح العجل فذبح فسال منه الدم ثم أحرق ثم نسف رماده وفي حرف ابن مسعود لنذبحنه ولنحرقنه وثانيهما لنحرقنه أي لنبردنه بالمبرد، يقال: حرقه يحرقه إذا برده وهذه القراءة تدل على أنه لم ينقلب لحما ولا دما فإن ذلك لا يصح أن يبرد بالمبرد، ويمكن أن يقال: إنه صار لحما فذبح ثم بردت عظامه بالمبرد
112

حتى صارت بحيث يمكن نسفها، قراءة العامة بضم النون وتشديد الراء ومعناه لنحرقنه بالنار، وقرأ أبو جعفر وابن محيصن لنحرقنه بفتح النون وضم الراء خفيفة يعني لنبردنه، واعلم أن موسى عليه السلام لما فرغ من إبطال ما ذهب إليه السامري عاد إلى بيان الدين الحق فقال: * (إنما إلهكم) * أي المستحق للعبادة والتعظيم: * (الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما) * قال مقاتل: يعلم من يعبده ومن لا يعبده.
قوله تعالى
* (كذلك نقص عليك من أنبآء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وسآء لهم يوم القيامة حملا * يوم ينفخ فى الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) *
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما شرح قصة موسى عليه السلام مع فرعون أولا ثم مع السامري ثانيا أتبعه بقوله: * (كذلك نقص عليك) * من سائر أخبار الأمم وأحوالهم
تكثيرا لشأنك وزيادة في معجزاتك وليكثر الاعتبار والاستبصار للمكلفين بها في الدين: * (وقد آتيناك من لدنا ذكرا) * يعني القرآن كما قال تعالى: * (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) * (الأنبياء: 50) * (وإنه لذكر لك) * (الزخرف: 44) * (والقرآن ذي الذكر) * (ص: 1) * (ما يأتيهم من ذكر) * (الأنبياء: 2) * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) * (الحجر: 6) ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه: أحدها: أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم. وثانيها: أنه يذكر أنواع آلاء الله تعالى ونعمائه ففيه التذكير والمواعظ. وثالثها: فيه الذكر والشرف لك ولقومك على ما قال: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (الزخرف: 44)، واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكرا فقال: * (فاسألوا أهل الذكر) * (النحل: 43) وكما بين نعمته بذلك بين شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به من وجوه: أولها: قوله: * (من أعرض عنه) * فإنه يحمل يوم القيامة وزرا والوزر هو العقوبة الثقيلة سماها وزرا تشبيها في ثقلها
113

على المعاقب وصعوبة احتمالها الذي يثقل على الحامل وينقض ظهره أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم وقرئ يحمل، ثم بين تعالى صفة ذلك الوزر من وجهين: أحدهما: أنه يكون مخلدا مؤبدا. والثاني: قوله: * (وساء لهم يوم القيامة حملا) * أي وما أسوأ هذا الوزر حملا أي محمولا وحملا منصوب على التمييز. وثانيها: * (يوم ينفخ في الصور) * فالمراد بيان أن يوم القيامة هو يوم ينفخ في الصور وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو ننفخ بفتح النون كقوله: * (ونحشر) * وقرأ الباقون ينفخ على ما لم يسم فاعله ونحشر بالنون لأن النافخ ملك التقم الصور والحاشر هو الله تعالى، وقرئ يوم ينفخ بالياء المفتوحة على الغيبة والضمير لله تعالى أو لإسرافيل عليه السلام، وأما: يحشر المجرمين فلم يقرأ به إلا الحسن وقرئ في الصور بفتح الواو جمع صورة.
المسألة الثانية: * (في الصور) * قولان: أحدهما: أنه قرن ينفخ فيه يدعي به الناس إلى المحشر. والثاني: أنه جمع صورة والنفخ نفخ الروح فيه ويدل عليه قراءة من قرأ: الصور بفتح الواو والأول أولى لقوله تعالى: * (فإذا نقر في الناقور) * (المدثر: 8) والله تعالى يعرف الناس أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوق عند الأسفار وفي العساكر.
المسألة الثالثة: المراد من هذا النفخ هو النفخة الثانية لأن قوله بعد ذلك: * (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) * كالدلالة على أن النفخ في الصور كالسبب لحشرهم فهو نظير قوله: * (يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا) * (النبأ: 18)، أما قوله: * (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة قوله: * (المجرمين) * يتناول الكفار والعصاة فيدل على عدم العفو عن العصاة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلها آخر، وقد تقدم هذا الكلام. المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بالزرقة على وجوه: أحدها: قال الضحاك ومقاتل: يعني زرق العيون سود الوجوه وهي زرقة تتشوه بها خلقتهم والعرب تتشاءم بذلك، فإن قيل: أليس أن الله تعالى أخبر أنهم: يحشرون عميا فكيف يكون أعمى وأزرق؟ قلنا: لعله يكون أعمى في حال وأزرق في حال. وثانيها: المراد من الزرقة العمى. قال الكلبي: زرقا أي عميا، قال الزجاج: يخرجون بصراء في أول مرة ويعمون في المحشر. وسواد العين إذا ذهب تزرق فإن قيل: كيف يكون أعمى، وقد قال تعالى: * (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) * وشخوص البصر من الأعمى محال، وقد قال في حقهم: * (إقرأ كتابك) * (الإسراء: 14) والأعمى كيف يقرأ. فالجواب: أن أحوالهم قد تختلف. وثالثها: قال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم والأزرق شاخص لأنه لضعف بصره يكون محدقا نحو الشيء يريد أن يتبينه وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره وهو كقوله: * (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) * (إبراهيم: 41). ورابعها: زرقا عطاشا هكذا رواه ثعلب عن ابن الأعرابي قال: لأنهم من شدة
114

العطش يتغير سواد عيونهم حتى تزرق ويدل على هذا التفسير قوله تعالى: * (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * (مريم: 86). وخامسها: حكى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: طامعين فيما لا ينالونه. الصفة الثالثة: من صفات الكفار يوم القيامة قوله تعالى: * (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يتخافتون أي يتسارون. يقال: خفت يخفت وخافت مخافتة والتخافت السرار وهو نظير قوله تعالى: * (فلا تسمع إلا همسا) * (طه: 108) وإنما يتخافتون لأنه امتلأت صدورهم من الرعب والهول أو لأنهم صاروا بسبب الخوف في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن المراد بقوله: * (إن لبثتم) * اللبث في الدنيا أو في القبر، فقال قوم أرادوا به اللبث في الدنيا، وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك، واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين) * (المؤمنون: 112، 113) فإن قيل: إما أن يقال إنهم نسوا قدر لبثهم في الدنيا، أو ما نسوا ذلك، والأول غير جائز إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقى الإنسان خمسين سنة في بلد ثم ينساه. والثاني: غير جائز لأنه كذب وأهل الآخرة لا يكذبون لا سيما وهذا الكذب لا فائدة فيه قلنا فيه وجوه: أحدها: لعلهم إذا حشروا في أول الأمر وعاينوا تلك الأهوال فلشدة وقعها عليهم ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدنيا وما ذكروا إلا القليل فقالوا: ليتنا ما عشنا إلا تلك الأيام القليلة في الدنيا حتى لا نقع في هذه الأهوال، والإنسان عند الهول الشديد قد يذهل عن أظهر الأشياء وتمام تقريره مذكور في سورة الأنعام في قوله: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 23). وثانيها: أنهم عالمون بمقدار عمرهم في الدنيا إلا أنهم لما قابلوا أعمارهم في الدنيا بأعمار الآخرة وجدوها في نهاية القلة فقال بعضهم: ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام وقال أعقلهم: بل ما لبثنا إلا يوما واحدا أي قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى قدر لبثنا في الآخرة كعشرة أيام بل كاليوم الواحد بل كالعدم، وإنما خص العشرة والواحد بالذكر لأن القليل في أمثال هذه الواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد. وثالثها: أنهم لما عاينوا الشدائد تذكروا أيام النعمة والسرور وتأسفوا عليها فوصفوها بالقصر لأن أيام السرور قصار. ورابعها: أن أيام الدنيا قد انقضت وأيام الآخرة مستقبلة والذاهب وإن طالت مدته قليل بالقياس إلى الآتي وإن قصرت مدته فكيف والأمر بالعكس ولهذه الوجوه رجح الله تعالى
قول من بالغ في التقليل فقال: * (إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) *. القول الثاني: أن المراد منه اللبث في القبر ويعضده قوله تعالى: * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون) * (الروم: 55) وقال: * (الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) * (الروم: 56) فأما من جوز الكذب على أهل القيامة فلا إشكال له في الآية، أما من لم يجوز، قال: إن الله تعالى لما أحياهم في القبر وعذبهم ثم أماتهم ثم بعثهم يوم القيامة لم يعرفوا أن قدر لبثهم في القبر كم كان، فخطر ببال بعضهم أنه في تقدير عشرة أيام، وقال آخرون: إنه يوم
115

واحد، فلما وقعوا في العذاب مرة أخرى، تمنوا زمان الموت الذي هو زمان الخلاص لما نالهم من هول العذاب.
المسألة الثالثة: الأكثرون على أن قوله: * (إن لبثتم إلا عشرا) * أي عشرة أيام، فيكون قول من قال: * (إن لبثتم إلا يوما) * أقل وقال مقاتل: * (إن لبثتم إلا عشرا) * أي عشر ساعات كقوله: * (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) * (النازعات: 46) وعلى هذا التقدير يكون اليوم أكثر، والله أعلم واعلم أنه سبحانه وتعالى بين بهذا القول أعظم ما نالهم من الحيرة التي دفعوا عندها إلى هذا الجنس من التخافت.
قوله تعالى
* (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا * يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما * وعنت الوجوه للحى القيوم وقد خاب من حمل ظلما * ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) *
اعلم أنه تعالى لما وصف أمر يوم القيامة حكى سؤال من لم يؤمن بالحشر فقال: * (ويسألونك عن الجبال) * وفي تقرير هذا السؤال وجوه. أحدها: أن قوله: * (يتخافتون) * (طه: 103) وصف من الله تعالى لكل المجرمين بذلك، فكأنهم قالوا: كيف يصح ذلك والجبال حائلة ومانعة من هذا التخافت
116

وثانيها: قال الضحاك: نزلت في مشركي مكة قالوا: يا محمد كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ وكان سؤالهم على سبيل الاستهزاء. وثالثها: لعل قومه قالوا: يا محمد إنك تدعي أن الدنيا ستنقضي فلو صح ما قلته لوجب أن تبتدئ أولا بالنقصان ثم تنتهي إلى البطلان، لكن أحوال العالم باقية كما كانت في أول الأمر، فكيف يصح ما قلته من خراب الدنيا؟ وهذه شبهة تمسك بها جالينوس في أن السماوات لا تفنى، قال: لأنها لو فنيت لابتدأت في النقصان أولا حتى ينتهي نقصانها إلى البطلان، فلما لم يظهر فيها النقصان علمنا أن القول بالبطلان باطل، ثم أمر الله تعالى رسوله بالجواب عن هذا السؤال وضم إلى الجواب أمورا أخر في شرح أحوال القيامة وأهوالها.
الصفة الأولى: قوله: * (فقل ينسفها ربي نسفا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إنما قال: * (فقل) * مع فاء التعقيب لأن مقصودهم من هذا السؤال الطعن في الحشر والنشر، فلا جرم أمره بالجواب مقرونا بفاء التعقيب. لأن تأخير البيان في مثل هذه المسألة الأصولية غير جائز، أما في المسائل الفروعية فجائزة، لذلك ذكر هناك قل من غير حرف التعقيب.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: * (ينسفها) * عائد إلى الجبال والنسف التذرية، أي تصير الجبال كالهباء المنثور تذرى تذرية فإذا زالت الجبال الحوائل فيعلم صدق قوله: * (يتخافتون) * قال الخليل: * (ينسفها) * أي يذهبها ويطيرها، أما الضمير في قوله: * (فيذرها) * فهو عائد إلى الأرض فاستغنى عن تقديم ذكرها كما في عادة الناس من الإخبار عنها بالإضمار كقولهم: ما عليها أكرم من فلان وقال تعالى: * (ما ترك على ظهرها من دابة) * وإنما قال: * (فيذرها قاعا صفصفا) * ليبين أن ذلك النسف لا يزيل الاستواء لئلا يقدر أنها لما زالت من موضع إلى موضع آخر صارت هناك حائلة، هذا كله إذا كان المقصود من سؤالهم الاعتراض على كيفية المخافتة، أما لو كان الغرض من السؤال ما ذكرنا من أنه لا نقصان فيها في الحال فوجب أن لا ينتهي أمرها إلى البطلان، كان تقرير الجواب: أن بطلان الشيء قد يكون بطلانا يقع توليديا، فحينئذ يجب تقديم النقصان على البطلان وقد يكون بطلانا يقع دفعة واحدة، وههنا لا يجب تقديم النقصان على البطلان، فبين الله تعالى أنه يفرق تركيبات هذا العالم الجسماني دفعة بقدرته ومشيئته فلا حاجة ههنا إلى تقديم النقصان على البطلان.
المسألة الثالثة: أنه تعالى وصف الأرض ذلك الوقت بصفات. أحدها: كونها قاعا وهو المكان المطمئن وقيل مستنقع الماء. وثانيها: الصفصف وهو الذي لا نبات عليه. وقال أبو مسلم: القاع الأرض الملساء المستوية وكذلك الصفصف. وثالثها: قوله: * (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) * وقال صاحب " الكشاف ": قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا: العوج بالكسر في المعاني والعوج بالفتح في الأعيان، فإن قيل: الأرض عين فكيف صح فيها المكسور العين؟ قلنا: اختيار هذا اللفظ له موقع بديع في وصف الأرض بالاستواء ونفي الاعوجاج، وذلك لأنك لو عمدت إلى قطعة
117

أرض فسويتها وبالغت في التسوية فإذا قابلتها المقاييس الهندسية وجدت فيها أنواعا من العوج خارجة عن الحس البصري. قال فذاك القدر في الاعوجاج لما لطف جدا ألحق بالمعاني فقيل فيه: عوج بالكسر، واعلم أن هذه الآية تدل على أن الأرض تكون ذلك اليوم كرة حقيقية لأن المضلع لا بد وأن يتصل بعض سطوحه بالبعض لا على الاستقامة بل على الاعوجاج وذلك يبطله ظاهر الآية. ورابعها: الأمت النتوء اليسير، يقال: مد حبله حتى ما فيه أمت وتحصل من هذه الصفات الأربع أن الأرض تكون ذلك اليوم ملساء خالية عن الارتفاع والانخفاض وأنواع الانحراف والإعوجاج.
الصفة الثانية: ليوم القيامة قوله: * (يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له) * وفي الداعي قولان: الأول: أن ذلك الداعي هو النفخ في الصور وقوله: * (لا عوج له) * أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكل. الثاني: أنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي ويقول: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتفرقة، واللحوم المتمزقة، قومي إلى ربك للحساب والجزاء. فيسمعون صوت الداعي فيتبعونه، ويقال: إنه إسرافيل عليه السلام يضع قدمه على الصخرة فإن قيل هذا الدعاء يكون قبل الإحياء
أو بعده؟ قلنا: إن كان المقصود بالدعاء إعلامهم وجب أن يكون ذلك بعد الإحياء لأن دعاء الميت عبث وإن لم يكن المقصود إعلامهم بل المقصود مقصود آخر مثل أن يكون لطفا للملائكة ومصلحة لهم فذلك جائز قبل الإحياء.
الصفة الثالثة: قوله: * (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) * وفيه وجوه: أحدها: خشعت الأصوات من شدة الفزع وخضعت وخفيت فلا تسمع إلا همسا وهو الذكر الخفي، قال أبو مسلم: وقد علم الإنس والجن بأن لا مالك لهم سواه فلا يسمع لهم صوت يزيد على الهمس وهو أخفى الصوت ويكاد يكون كلاما يفهم بتحريك الشفتين لضعفه. وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه ويضعف صوته ويختلط قوله ويطول غمه. وثانيها: قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وعكرمة وابن زيد: الهمس وطء الأقدام، فالمعنى أنه لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر.
الصفة الرابعة: قوله: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) * قال صاحب " الكشاف ": من يصلح أن يكون مرفوعا ومنصوبا فالرفع على البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف إليه أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن والنصب على المفعولية، وأقول: الاحتمال الثاني أولى لوجوه: الأول: أن الأول يحتاج فيه إلى الإضمار وتغيير الأعراب والثاني: لا يحتاج فيه إلى ذلك. والثاني: أن قوله تعالى: * (لا تنفع الشفاعة) * يراد به من يشفع بها والاستثناء يرجع إليهم فكأنه قال: لا تنفع الشفاعة أحدا من الخلق إلا شخصا مرضيا. والثالث: وهو أن من المعلوم بالضرورة أن درجة الشافع درجة عظيمة فهي لا تحصل إلا لمن أذن الله له فيها وكان عند الله مرضيا، فلو حملنا الآية على ذلك صارت جارية مجرى إيضاح الواضحات، أما لو حملنا الآية على المشفوع له لم يكن ذلك إيضاح الواضحات فكان ذلك أولى، إذا ثبت هذا فنقول: المعتزلة
118

قالوا: الفاسق غير مرضي عند الله تعالى فوجب أن لا يشفع الرسول في حقه لأن هذه الآية دلت على أن المشفوع له لا بد وأن يكون مرضيا عند الله. واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق لأن قوله ورضي له قولا يكفي في صدقه أن يكون الله تعالى قد رضي له قولا واحدا من أقواله، والفاسق قد ارتضى الله تعالى قولا واحدا من أقواله وهو: شهادة أن لا إله إلا الله. فوجب أن تكون الشفاعة نافعة له لأن الاستثناء من النفي إثبات فإن قيل إنه تعالى استثنى عن ذلك النفي بشرطين: أحدهما: حصول الإذن. والثاني: أن يكون قد رضي له قولا، فهب أن الفاسق قد حصل فيه أحد الشرطين وهو أنه تعالى قد رضي له قولا، لكن لم قلتم إنه أذن فيه، وهذا أول المسألة قلنا: هذا القيد وهو أنه رضي له قولا كاف في حصول الاستثناء بدليل قوله تعالى: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * (الأنبياء: 28) فاكتفى هناك بهذا القيد ودلت هذه الآية على أنه لا بد من الإذن فظهر من مجموعهما أنه إذا رضي له قولا يحصل الإذن في الشفاعة، وإذا حصل القيدان حصل الاستثناء وتم المقصود.
الصفة الخامسة: قوله: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الضمير في قوله: * (بين أيديهم) * عائد إلى الذين يتبعون الداعي ومن قال إن قوله: * (من أذن له الرحمن) * المراد به الشافع. قال ذلك الضمير عائد إليه والمعنى لا تنفع شفاعة الملائكة والأنبياء إلا لمن أذن له الرحمن في أن تشفع له الملائكة والأنبياء، ثم قال: * (يعلم ما بين أيديهم) * يعني ما بين أيدي الملائكة كما قال في آية الكرسي، وهذا قول الكلبي ومقاتل وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفعوا له. قال مقاتل: يعلم ما كان قبل أن يخلق الملائكة وما كان منهم بعد خلقهم.
المسألة الثانية: ذكروا في قوله تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) * وجوها: أحدها: قال الكلبي: * (ما بين أيديهم) * من أمر الآخرة * (وما خلفهم) * من أمر الدنيا. وثانيها: قال مجاهد: * (ما بين أيديهم) * من أمر الدنيا والأعمال * (وما خلفهم) * من أمر الآخرة والثواب والعقاب. وثالثها: قال الضحاك يعلم ما مضى وما بقي ومتى تكون القيامة.
المسألة الثالثة: ذكروا في قوله: * (ولا يحيطون به علما) * وجهين: الأول: أنه تعالى بين أنه يعلم ما بين أيدي العباد وما خلفهم. ثم قال: * (ولا يحيطون به علما) * أي العباد لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علما. الثاني: المراد لا يحيطون بالله علما والأول أولى لوجهين: أحدهما: أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات والأقرب ههنا قوله: * (ما بين أيديهم وما خلفهم) *. وثانيهما: أنه تعالى أورد ذلك مورد الزجر ليعلم أن سائر ما يقدمون عليه وما يستحقون به المجازاة معلوم لله تعالى.
الصفة السادسة: قوله: * (وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما) * ومعناه أن في ذلك اليوم تعنوا الوجوه أي تذل ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره ومن
119

لفظ العنو أخذوا العاني وهو الأسير، يقال: عنا يعنو عناء إذا صار أسيرا وذكر الله تعالى: * (الوجوه) * وأراد به المكلفين أنفسهم لأن قوله: * (وعنت) * من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه وهو كقوله: * (وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية) * (الغاشية: 8، 9) وإنما خص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يبين وفيها يظهر وتفسير * (الحي القيوم) * قد تقدم، وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اطلبوا اسم الله الأعظم في هذه السور الثلاث البقرة وآل عمران وطه) *. قال الراوي: فوجدنا المشترك في السور الثلاث: * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * فبين تعالى على وجه التحذير أن ذلك اليوم لا يصح الإمتناع مما ينزل بالمرء من المجازاة، وأن حاله مخالفة لحال الدنيا التي يختار فيها المعاصي ويمتنع من الطاعات، أما قوله تعالى: * (وقد خاب من حمل ظلما) * فالمراد بالخيبة الحرمان أي حرم الثواب من حمل ظلما والمراد به من وافى بالظلم ولم يتب عنه واستدلت المعتزلة بهذه الآية في المنع من العفو فقالوا قوله: * (وقد
خاب من حمل ظلما) * يعم كل ظالم، وقد حكم الله تعالى فيه بالخيبة والعفو ينافيه والكلام على عمومات الوعيد قد تقدم مرارا، واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال يوم القيامة ختم الكلام فيها بشرح أحوال المؤمنين فقال: * (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) * يعني ومن يعمل شيئا من الصالحات والمراد به الفرائض فكان عمله مقرونا بالإيمان وهو قوله: * (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات) * (طه: 75) فقوله: * (فلا يخاف) * في موضع جزم لكونه في موضع جواب الشرط والتقدير فهو لا يخاف ونظيره: * (ومن عاد فينتقم الله منه) * (المائدة: 95)، * (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا) * (الجن: 13) وقرأ ابن كثير: فلا يخف على النهي وهو حسن لأن المعنى فليأمن والنهي عن الخوف أمر بالأمن والظلم هو أن يعاقب لا على جريمة أم يمنع من الثواب على الطاعة، والهضم أن ينقص من ثوابه، والهضيمة النقيصة ومنه هضيم الكشح أي ضامر البطن ومنه: * (طلعها هضيم) * (الشعراء: 148) أي لازق بعضه ببعض ومنه انهضم طعامي، وقال أبو مسلم: الظلم أن ينقص من الثواب والهضم أن لا يوفي حقه من الإعظام لأن الثواب مع كونه من اللذات لا يكون ثوابا إلا إذا قارنه التعظيم وقد يدخل النقص في بعض الثواب ويدخل فيما يقارنه من التعظيم فنفى الله تعالى عن المؤمنين كلا الأمرين.
قوله تعالى
* (وكذلك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا * فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدنى علما) *
120

اعلم أن قوله: * (وكذلك) * عطف على قوله: * (كذلك نقص) * أي ومثل ذلك لا نزال وعلى نهجه أنزلنا القرآن كله ثم وصف القرآن بأمرين: أحدهما: كونه عربيا لتفهمه العرب فيقفوا على إعجازه ونظمه وخروجه عن جنس كلام البشر. والثاني: قوله: * (وصرفنا فيه من الوعيد) * أي كررناه وفصلناه ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم لأن الوعيد فعل يتعلق فتكريره يقتضي بيان الأحكام فلذلك قال: * (لعلهم يتقون) * والمراد اتقاء المحرمات وترك الواجبات ولفظ لعل قد تقدم تفسيره في سورة البقرة في قوله: * (والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * (البقرة: 183) أما قوله: * (أو يحدث لهم ذكرا) * ففيه وجهان. الأول: أن يكون المعنى إنا إنما أنزلنا القرآن لأجل أن يصيروا متقين أي محترزين عما لا ينبغي أو يحدث القرآن لهم ذكرا يدعوهم إلى الطاعات وفعل ما ينبغي، وعليه سؤالات:
السؤال الأول: القرآن كيف يكون محدثا للذكر. الجواب: لما حصل الذكر عند قراءته أضيف الذكر إليه.
السؤال الثاني: لم أضيف الذكر إلى القرآن وما أضيفت التقوى إليه. الجواب: أن التقوى عبارة عن أن لا يفعل القبيح، وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يجز إسناده إلى القرآن، أما حدوث الذكر فأمر حدث بعد أن لم يكن فجازت إضافته إلى القرآن.
السؤال الثالث: كلمة أو للمنافاة ولا منافاة بين التقوى وحدوث الذكر بل لا يصح الإتقاء إلا مع الذكر فما معنى كلمة أو. الجواب: هذا كقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين أي لا تكن خاليا منهما فكذا ههنا. الوجه الثاني: أن يقال: إنا أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث القرآن لهم ذكرا وشرفا وصيتا حسنا، فعلى هذين التقديرين يكون إنزاله تقوى، ثم إنه تعالى لما عظم أمر القرآن ردفه بأن عظم نفسه فقال: * (فتعالى الله الملك الحق) * تنبيها على ما يلزم خلقه من تعظيمه وإنما وصفه بالحق لأن ملكه لا يزول ولا يتغير وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره أولى به فلهذا وصف بذلك، وتعالى تفاعل من العلو وقد ثبت أن علوه وعظمته وربوبيته بمعنى واحد وهو اتصافه بنعوت الجلال وأنه لا تكفيه الأوهام ولا تقدره العقول وهو منزه عن المنافع والمضار فهو تعالى إنما أنزل القرآن ليحترزوا عما لا ينبغي وليقدموا على ما ينبغي، وأنه تعالى منزه عن التكمل بطاعاتهم والتضرر بمعاصيهم، فالطاعات إنما تقع بتوفيقه وتيسيره، والمعاصي إنما تقع عدلا منه وكل ميسر لما خلق له أما قوله: * (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: في تعلقه بما قبله وجهان. الوجه الأول: قال أبو مسلم: إن من قوله: * (ويسألونك عن الجبال) * (طه: 105) إلى ههنا يتم الكلام وينقطع ثم قوله: * (ولا تعجل بالقرآن) * خطاب
121

مستأنف فكأنه قال: ويسألونك ولا تعجل بالقرآن. الوجه الثاني: روى أنه عليه السلام كان يخاف من أن يفوته منه شيء فيقرأ مع الملك فأمره بأن يسكت حال قراءة الملك ثم يأخذ بعد فراغه في القراءة فكأنه تعالى شرح كيفية نفع القرآن للمكلفين وبين أنه سبحانه متعال عن كل ما لا ينبغي وأنه موصوف بالإحسان والرحمة ومن كان كذلك وجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي، وإذ حصل الأمان عن السهو والنسيان قال: * (ولا تعجل بالقرآن) *.
المسألة الثانية؛ قوله: * (ولا تعجل بالقرآن) * ويحتمل أن يكون المراد لا تعجل بقراءته في نفسك، ويحتمل أن لا تعجل في تأديته إلى غيرك، ويحتمل في اعتقاد ظاهره، ويحتمل في تعريف الغير ما يقتضيه ظاهره، وأما قوله: * (من قبل أن يقضى إليك وحيه) * فيحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك تمامه، ويحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك بيانه، لأن هذين الأمرين لا يمكن تحصيلهما إلا بالوحي، ومعلوم أنه عليه السلام لا ينهى عن قراءته لكي يحفظه ويؤديه فالمراد إذن أن لا يبعث نفسه ولا يبعث غيره عليه حتى يتبين بالوحي تمامه أو بيانه أو هما جميعا، لأنه يجب التوقف في معنى الكلام ما لم يأت عليه الفراغ لما يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات فهذا هو التحقيق في تفسير الآية. ولنذكر أقوال المفسرين: أحدها: أن هذا كقوله تعالى: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * (القيامة: 16) وكان عليه السلام يحرص على أخذ القرآن من جبريل عليه السلام فيعجل بقراءته قبل استتمام جبريل مخافة النسيان فقيل له: لا تعجل إلى أن يستتم وحيه فيكون أخذك إياه عن تثبت وسكون والله تعالى يزيدك فهما وعلما، وهذا قول مقاتل والسدي ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما. وثانيها: لا تعجل بالقرآن فتقرأه على أصحابك قبل أن يوحى إليك بيان معانيه وهذا قول مجاهد وقتادة. وثالثها: قال الضحاك: إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا: يا محمد أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة بأن اليهود قد غلبوا محمدا فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (ولا تعجل بالقرآن)
* أي بنزوله من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللوح المحفوظ إلى إسرافيل ومنه إلى جبريل ومنه إليك: * (وقل رب زدني علما) *. ورابعها: روى الحسن أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: زوجي لطم وجهي فقال: بينكما القصاص فنزل قوله: * (ولا تعجل بالقرآن) * فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصاص حتى نزول قوله تعالى: * (الرجال قوامون على النساء) * (النساء: 34) وهذا بعيد والاعتماد على التفصيل الأول أما قوله تعالى: * (وقل رب زدني علما) * فالمعنى أنه سبحانه وتعالى أمره بالفزع إلى الله سبحانه في زيادة العلم التي تظهر بتمام القرآن أو بيان ما نزل عليه.
المسألة الثالثة: الاستعجال الذي نهى عنه إن كان فعله بالوحي فكيف نهى عنه. الجواب: لعله فعله بالاجتهاد، وكان الأولى تركه، فلهذا نهى عنه.
122

قوله تعالى
* (ولقد عهدنآ إلى ءادم من قبل فنسى ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقلنا يا ادم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) *
اعلم أن هذا هي المرة السادسة من قصة آدم عليه السلام في القرآن: أولها في سورة البقرة ثم في الأعراف ثم في الحجر ثم في الإسراء ثم في الكهف، ثم ههنا. واعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها. أحدها: أنه تعالى لما قال: * (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) * (طه: 99) ثم إنه عظم أمر القرآن وبالغ فيه ذكر هذه القصة انجازا للوعد في قوله: * (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) *. وثانيها: أنه لما قال: * (وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) * (طه: 113) أردفه بقصة آدم عليه السلام كأنه قال: إن طاعة بني آدم للشيطان وتركهم التحفظ من وساوسه أمر قديم فإنا قد عهدنا إلى آدم من قبل أي من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد وبالغنا في تنبيهه حيث قلنا: * (إن هذا عدو لك ولزوجك) * ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد فأمر البشر في ترك التحفظ من الشيطان أمر قديم. وثالثها: أنه لما قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (وقل رب زدني علما) * (طه: 114) ذكر بعده قصة آدم عليه السلام فإنه بعدما عهد الله إليه وبالغ في تجديد العهد وتحذيره من العدو نسي، فقد دل ذلك على ضعف القوة البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه في أن يوفقه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان. ورابعها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما قيل له: * (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) * (طه: 114) دل على أنه كان في الجد في أمر الدين بحيث زاد على قدر الواجب فلما وصفه بالإفراط وصف آدم بالتفريط في ذلك فإنه تساهل في ذلك ولم يتحفظ حتى نسي فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط ليعلم أن البشر لا ينفك عن نوع زلة. وخامسها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما قيل له: * (ولا تعجل) * ضاق قلبه وقال في نفسه: لولا أني أقدمت على ما لا ينبغي وإلا لما نهيت عنه فقيل له: إن كنت فعلت ما نهيت عنه فإنما فعلته حرصا منك على العبادة، وحفظا لأداء الوحي
123

وإن أباك أقدم على ما لا ينبغي للتساهل وترك التحفظ فكان أمرك أحسن من أمره، أما قوله تعالى: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل) * فلا شك أن المراد بالعهد أمر من الله تعالى أو نهي منه كما يقال في أوامر الملوك ووصاياهم أشار الملك إليه وعهد إليه. قال المفسرون: عهدنا إليه أن لا يأكل من الشجرة ولا يقربها، وفي قوله تعالى: * (من قبل) * وجوه. أحدها: من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد في القرآن. وثانيها: قال ابن عباس: من قبل أن يأكل من الشجرة عهدنا إليه أن لا يأكل منها. وثالثها: أي من قبل محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وهو قول الحسن، أما قوله: * (فنسى) * فقد تكلمنا فيه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة، ونعيد ههنا منه شيئا قليلا، وفي النسيان قولان: أحدهما: المراد ما هو نقيض الذكر، وإنما عوتب على ترك التحفظ والمبالغة في الضبط حتى تولد منه النسيان، وكان الحسن رحمه الله يقول: والله ما عصى قط إلا بنسيان. والثاني: أن المراد بالنسيان الترك وأنه ترك ما عهد إليه من الاحتراز عن الشجرة وأكل من ثمرتها، وقرئ: فنسي أي فنساه الشيطان، وعلى هذا التقدير يحتمل أن يقال: أقدم على المعصية من غير تأويل وأن يقال: أقدم عليها مع التأويل، والكلام فيه قد تقدم في سورة البقرة، وأما قوله: * (ولم نجد له عزما) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: الوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومنه ولم نجد له عزما وأن يكون نقيض العدم كأنه قال: وعدمنا له عزما.
البحث الثاني: العزم هو التصميم والتصلب، ثم قوله: * (ولم نجد له عزما) * يحتمل ولم نجد له عزما على القيام على المعصية فيكون إلى المدح أقرب، ويحتمل أن يكون المراد ولم نجد له عزما على ترك المعصية أو لم نجد له عزما على التحفظ والاحتراز عن الغفلة، أو لم نجد له عزما على الاحتياط في كيفية الاجتهاد إذا قلنا: إنه عليه السلام إنما أخطأ بالاجتهاد. وأما قوله: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى) * فهذا يشتمل على مسائل: إحداها: أن المأمورين كل الملائكة أو بعضهم. وثانيتها: أنه ما معنى السجود. وثالثتها: أن إبليس هل كان من الملائكة أم لا؟ وإن لم يكن فكيف صح الاستثناء وبأي شيء صار مأمورا بالسجود؟ ورابعتها: أن هذا يدل على أن آدم أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وخامستها: أن قوله في صفة إبليس أنه أبى كيف لزم الكفر من ذلك الإباء وأنه هل كان كافرا ابتداء أو كفر بسبب ذلك. واعلم أن هذه المسائل مرت على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة، أما قوله: * (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * ففيه سؤالات: الأول: ما سبب تلك العداوة؟ الجواب من وجوه: أحدها: أن إبليس كان حسودا فلما رآى آثار نعم الله تعالى في حق آدم عليه السلام حسده فصار عدوا له. وثانيها: أن آدم كان شابا عالما لقوله وعلم آدم الأسماء كلها، وإبليس كان شيخا جاهلا لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله وذلك جهل، والشيخ الجاهل
124

أبدا يكون عدوا للشاب العالم. وثالثها: أن إبليس مخلوق من النار وآدم مخلوق من الماء والتراب فبين أصليهما عداوة فبقيت تلك العداوة.
السؤال الثاني: لم قال: * (فلا يخرجنكما من الجنة) * مع أن المخرج لهما من الجنة هو الله تعالى. الجواب: لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج
صح ذلك.
السؤال الثالث: لم أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون حواء مع اشتراكهما في الفعل. الجواب من وجهين: أحدهما: أن في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم كما أن في ضمن سعادته سعادتهم فاختص الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على رعاية الفاصلة. الثاني: أريد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك على الرجل دون المرأة، وروي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه أما قوله: * (ألا أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء وإنك بالفتح والكسر ووجه الفتح العطف على أن لا تجوع فيها، فإن قيل: أن لا تدخل على أن فلا يقال أن أن زيدا منطلق والواو نائبة عن أن وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها؟ قلنا: الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن أن، إنما هي نائبة عن كل عامل، فلما لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة كان لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع أن وأن.
المسألة الثانية: الشبع والري والكسوة والإكتنان في الظل هي الأقطاب التي يدور عليها أمر الإنسان. فذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء له في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب وذكرها بلفظ النفي لأضدادها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحى ليطرق سمعه شيئا من أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يبالغ في الاحتراز عن السبب الذي يوقعه فيها، وهذه الأشياء كلها كأنها تفسير الشقاء المذكور في قوله: * (فتشقى) *.
قوله تعالى
* (فوسوس إليه الشيطان قال يا ادم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى ءادم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) *
125

واعلم أنه سبحانه بين أنه عظم آدم عليه السلام بأن جعله مسجودا للملائكة وبين أنه عرفه شدة عداوة إبليس له ولزوجه وأنه لعداوته يدعوهم إلى المعصية التي إذا وقعت زالت تلك النعم بأسرها، ثم إنه مع ذلك اتفق منه ومن حواء الإقدام على الزلة ما اتفق، والعجب ما روي عن أبي أمامة الباهلي قال: " لو أن أحلام بني آدم إلى قيام الساعة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في الأخرى لرجح حلمه بأحلامهم " ولكن المكادحة مع قضاء الله تعالى ممتنعة، واعلم أن واقعة آدم عجيبة وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله: * (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) * (طه: 117 - 119) ورغبه إبليس أيضا في دوام الراحة بقوله: * (هل أدلك على شجرة الخلد) * وفي انتظام المعيشة بقوله: * (وملك لا يبلى) * فكان الشيء الذي رغب الله آدم فيه هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراس عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها، ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله تعالى مولاه وناصره ومربيه أعلمه بأن إبليس عدوه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته، كيف قبل في الواقعة الواحدة والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بكمال عداوته له وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه هو الناصر والمربي. ومن تأمل في هذا الباب طال تعجبه وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله ولا مانع منه، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله تعالى ذلك وقدره. وأما قوله: * (فوسوس إليه الشيطان) * (الأعراف: 20) فقد تقدم في سورة البقرة أنه كيف وسوس، وبماذا وسوس. فإن قيل: كيف عدى وسوس تارة باللام في قوله: * (فوسوس لهما الشيطان) * وأخرى بإلى؟ قلنا قوله: فوسوس له معناه لأجله وقوله: * (وسوس إليه) * معناه أنهى إليه الوسوسة كقوله حدث له وأسر إليه ثم بين أن تلك الوسوسة كانت بتطميعه في أمرين: أحدهما: قوله: * (هل أدلك على شجرة الخلد) * أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها صار مخلدا بزعمه. الثاني: قوله: * (وملك لا يبلى) * أي من أكل من هذه الشجرة دام ملكه، قال القاضي: ليس في الظاهر أن آدم قبل ذلك منه بل لوجدت هذه الوسوسة حال كون آدم عليه السلام نبيا لاستحال أن يكون آدم عليه السلام قبل ذلك منه، لأنه لا بد وأن تحصل بين حال التكليف وحال المجازاة فترة بالموت، وبالمعنى فآدم لما كان نبيا امتنع أن لا يعلم ذلك. قلنا: لا نسلم بأنه لا بد من حصول هذه الفترة بين حال التكليف وحال المجازاة، ولم لا يجوز أن يقال: لا حاجة إلى الفترة أصلا، وإن كان ولا بد فيكفي حصول الفترة بغشي أو نوم خفيف. ثم إن كان ولا بد من حصول الفترة بالموت فلم قلت: النبي لا بد وأن يعلم ذلك، أليس قوم منكم يقولون إن موسى عليه السلام إنما سأل الرؤية لأنه ما كان يعرف امتناعها على الله تعالى فإذا جاز ذلك الجهل فلم لا يجوز هذا الجهل، ثم ما الدليل على أن آدم كان نبيا في ذلك الوقت فإن مذهبنا أن واقعة الزلة إنما حصلت قبل رسالته لا بعدها،
126

ثم إن الذي يدل على أن آدم عليه السلام قبل ذلك قوله تعالى عقيب ذكر الوسوسة فأكلا منها، وهذا الترتيب مشعر بالعلية كقولهم: " زنى ماعز فرجم " " وسها رسول الله فسجد " فإن هذه الفاء تدل على أن الرجم كالمسبب للزنا والسجود كالمسبب للسهو فكذلك ههنا يجب أن يكون الأكل كالمعلل باستماع قوله: * (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) * وإنما يحصل هذا التعليل لو قبل آدم ذلك منه، فإنه لو رد قوله لما أقدم على الأكل بناء على قوله، فثبت أن آدم عليه السلام قبل ذلك من إبليس ثم إنه سبحانه بين أنهما لما أكلا بدت لهما سوآتهما، قال ابن عباس: عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما وإنما جمع فقيل سوآتهما كما قال: * (صغت قلوبكما) * (التحريم: 4) فإن قيل: هل كان ظهور سوآتهما كالجزاء على معصيتهما، قلنا: لا شك أن ذلك كالمعلق على ذلك الأكل، لكن يحتمل أن لا يكون عقابا عليه، بل إنما ترتب عليه لمصلحة أخرى أما قوله: * (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: قال صاحب " الكشاف ": طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وأخذ وأنشأ وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا وبينها وبينه مسافة قصيرة، وهي
للشروع في أول الأمر، وكاد لمقاربته والدنو منه. البحث الثاني: قرى يخصفان للتكثير والتكرير من خصف النعل، وهو أن يخرز عليها الخصاف أي يلزقان الورقة على سوآتهما للستر وهو ورق التين، أما قوله: * (وعصى آدم ربه فغوى) * فمن الناس من تمسك بهذا في صدور الكبيرة عنه من وجهين: الأول: أن العاصي اسم للذم فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) * (النساء: 14) ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلا يعاقب عليه. والوجه الثاني: أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان والغي ضد الرشد ومثل هذا الاسم لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه. أجاب قوم عن الكلام الأول فقالوا: المعصية مخالفة الأمر، والأمر قد يكون بالواجب والندب فإنهم يقولون: أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني، وأمرته بشرب الدواء فعصاني، وإذا كان الأمر كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم لا لكونه تاركا للواجب بل لكونه تاركا للمندوب، فأجاب المستدل عن هذا الاعتراض بأنا بينا أن ظاهر القرآن يدل على أن العاصي مستحق للعقاب والعرف يدل على أنه اسم ذم فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصيا لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة في كل حال لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب، فإن قيل: وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد، قلنا: لما سلمت كونه مجازا فالأصل عدمه، أما قوله: أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني قلنا: لا نسلم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب، ولئن سلمنا ذلك ولكنهم إنما يطلقون ذلك إذا جزموا على المستشير بأنه لا بد وأن يفعل ذلك الفعل وأنه لا يجوز الإخلال بذلك الفعل
127

وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلا وإن لم يكن الوجوب حاصلا، وذلك يدل على أن لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب، لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى يقتضي الوجوب، فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم عليه السلام إنما كان لكونه تاركا للواجب، ومن الناس من سلم أن الآية تدل على صدور المعصية منه لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر، وهذا قول عامة المعتزلة وهو أيضا ضعيف، لأنا بينا أن اسم العاصي اسم للذم، ولأن ظاهر القرآن يدل على أنه يستحق العقاب وذلك لا يليق بالصغيرة، وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف وكذلك القول في غوى، وهذا أيضا بعيد لأن مصالح الدنيا تكون مباحة، ومن يفعلها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم للذم ولا يقال: (فدلالهما بغرور) وأما التمسك بقوله تعالى: * (فغوى) * فأجابوا عنه من وجوه: أحدها: أنه خاب من نعيم الجنة وذلك لأنه لما أكل من تلك الشجرة ليصير ملكه دائما ثم لما أكل زال فلما خاب سعيه وما نجح قيل إنه غوى، وتحقيقه أن الغي ضد الرشد، والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء يوصل إلى المقصود فمن توصل بشيء إلى شيء فحصل له ضد مقصوده كان ذلك غيا. وثانيها: قال بعضهم: غوى أي بشم من كثرة الأكل. قال صاحب الكشاف: هذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا، فيقول في فنى وبقى فنا وبقا، وهم بنو طيء فهو تفسير خبيث، واعلم أن الأولى عندي في هذا الباب والأحسم للشغب أن يقال: هذه الواقعة كانت قبل النبوة وقد شرحنا ذلك في سورة البقرة. وههنا بحث لا بد منه وهو أن ظاهر القرآن وإن دل على أن آدم عصى وغوى لكن ليس لأحد أن يقول: إن آدم كان عاصيا غاويا، ويدل على صحة قولنا أمور: أحدها: قال العتبي: يقال لرجل قطع ثوبا وخاطه قد قطعه وخاطه، ولا يقال: خائط ولا خياط حتى يكون معاودا لذلك الفعل معروفا به، ومعلوم أن هذه الزلة لم تصدر عن آدم عليه السلام إلا مرة واحدة فوجب أن لا يجوز إطلاق هذا الاسم عليه. وثانيها: أن على تقدير أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة، لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرفه بالرسالة والنبوة، إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن أسلم بعد الكفر إنه كافر بمعنى أنه كان كافرا، بل وبتقدير أن يقال: هذه الواقعة وقعت بعد النبوة لم يجز أيضا أن يقال ذلك لأنه عليه السلام تاب عنها، كما أن الرجل المسلم إذا شرب الخمر أو زنى ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك إنه شارب خمر أو زان فكذا ههنا. وثالثها: أن قولنا: عاص وغاو يوهم كونه عاصيا في أكثر الأشياء وغاويا عن معرفة الله تعالى ولم ترد هاتان اللفظتان في القرآن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عصى فيها فكأنه قال: عصى في كيت وكيت وذلك لا يوهم التوهم الباطل الذي ذكرناه. ورابعها: أنه يجوز من الله تعالى ما لا يجوز من غيره، كما يجوز للسيد في عبيده وولده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغير السيد في عبده وولده، أما قوله: * (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) * فالمعنى ثم اصطفاه فتاب عليه أي عاد
128

عليه بالعفو والمغفرة وهداه رشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار وقبل الله منه ذلك، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود كان بكاؤه أكثر، ولو جمع كل ذلك إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر، وإنما سمي نوحا لنوحه على نفسه، ولو جمع كل ذلك إلى بكاء آدم لكان بكاء آدم على خطيئته أكثر " وقال وهب: إنه لما كثر بكاؤه أوحى الله تعالى إليه وأمره بأن يقول: " لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين " فقالها آدم عليه السلام ثم قال قل: " لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين " ثم قال قل: " لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم " قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الكلمات هي التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه.
قوله تعالى
* (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نجزى من أسرف ولم يؤمن بايات ربه ولعذاب الاخرة أشد وأبقى) *
اعلم أن على أول هذه الآية سؤالا وهو أن قوله: * (اهبطا) *، إما أن يكون خطابا مع شخصين أو أكثر فإن كان خطابا لشخصين فكيف قال بعده: * (فإما يأتينكم
مني هدى) * وهو خطاب الجمع وإن كان خطابا لأكثر من شخصين فكيف قال: * (اهبطا) * وذكروا في جوابه وجوها: أحدها: قال أبو مسلم: الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبليس ومعه ذريته فلكونهما جنسين صح قوله: * (اهبطا) * ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله: * (فإما يأتينكم) * قال صاحب " الكشاف ": لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلا للبشر والسبب اللذين منهما تفرعوا جعلا كأنهما
129

البشر أنفسهم فخوطبا مخاطبتهم فقال: * (فإما يأتينكم) * على لفظ الجماعة، أما قوله: * (بعضكم لبعض عدو) * فقال القاضي: يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء للناس والناس أعداء لهم، فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام، وقوله: * (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي) * فيه دلالة على أن المراد الذرية، وقد اختلفوا في المراد بالهدى، فقال بعضهم: الرسل وبعضهم قال: الآخر والأدلة وبعضهم قال القرآن، والتحقيق أن الهدى عبارة عن الدلالة فيدخل فيه كل ذلك، وفي قوله: * (فلا يضل ولا يشقى) * دلالة على أن المراد بالهدى الذي ضمن الله على اتباعه ذلك اتباع الأدلة، واتباعها لا يتكامل إلا بأن يستدل بها وبأن يعمل بها، ومن هذا حاله فقد ضمن الله تعالى له أن لا يضل ولا يشقى، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وثانيها: لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة ويمكنه فيها. وثالثها: لا يضل ولا يشقى في الدنيا فإن قيل: المتبع لهدى الله قد يحلقه الشقاء في الدنيا، قلنا: المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل الشقاء بسبب آخر فلا بأس، ولما وعد الله تعالى من يتبع الهدى أتبعه بالوعيد فيمن أعرض، فقال: * (ومن أعرض عن ذكري) * والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى على ما تقدم بيانه ويحتمل أن يراد به الأدلة، وقوله: * (فإن له معيشة ضنكا) * فالضنك أصله الضيق والشدة وهو مصدر ثم يوصف به فيقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، فكأنه قال: معيشة ذات ضنك، واعلم أن هذا الضيق المتوعد به إما أن يكون في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين أو في كل ذلك أو أكثره. أما الأول: فقال به جمع من المفسرين وذلك لأن المسلم لتوكله على الله يعيش في الدنيا عيشا طيبا كما قال: * (فلنحيينه حياة طيبة) * (النحل: 97) والكافر بالله يكون حريصا على الدنيا طالبا للزيادة أبدا فعيشته ضنك وحالته مظلمة، وأيضا فمن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره قال تعالى: * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) * (البقرة: 61) وقال: * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * (المائدة: 66) وقال تعالى: * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) * (الأعراف: 96) وقال: * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين) * (نوح: 10 - 12) وقال: * (وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) * (الجن: 16). وأما الثاني: وهو عذاب القبر، فهذا قول عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن عذاب القبر للكافر قال والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنينا " قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت الآية في الأسود بن عبد العزى المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيها أضلاعه. وأما الثالث: وهو الضيق في الآخرة في جهنم، فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين فلا يموتون فيها
130

ولا يحيون وهذا قول الحسن وقتادة والكلبي. وأما الرابع: وهو الضيق في أحوال الدين فقال ابن عباس رضي الله عنهما: المعيشة الضنك هي أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها. سئل الشبلي عن قوله عليه السلام: " إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية " فقال أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأي معيشة أضيق وأشد من أن يرد الإنسان إلى نفسه، وعن عطاء قال: المعيشة الضنك هي معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب. وأما الخامس: وهو أن يكون المراد الضيق في كل ذلك أو أكثره فروي عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عقوبة المعصية ثلاثة: ضيق المعيشة والعسر في الشدة، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله تعالى " أما قوله تعالى: * (ونحشره يوم القيامة أعمى) * ففيه وجوه: أحدها: هذا مثل قوله: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) * (الإسراء: 97) وكما فسرت الزرقة بالعمى، ثم قيل: إنه يحشر بصيرا فإذا سيق إلى المحشر عمى والكلام فيه وعليه قد تقدم في قوله: * (زرقا) * (طه: 132). وثانيها: قال مجاهد والضحاك ومقاتل: يعني أعمى عن الحجة، وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال القاضي: هذا القول ضعيف لأن في القيامة لا بد أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه حتى يتميز لهم الحق من الباطل، ومن هذا حاله لا يوصف بذلك إلا مجازا، والمراد به أنه كان من قبل ذلك كذلك ولا يليق بهذا قوله: * (وقد كنت بصيرا) * ولم يكن كذلك في حال الدنيا أقول ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا فلو كان العمى الحاصل في الآخرة بين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر، كما أنه ما كان له في الدنيا بسبب ذلك ضرر، واعلم أن تحقيق الجواب عن هذا الاعتراض مأخوذ من أمر آخر وهو أن الأرواح الجاهلة في الدنيا المفارقة عن أبدانها على جهالتها تبقى على تلك الجهالة في الآخرة وأن تلك الجهالة تصير هناك سببا لأعظم الآلام الروحانية. وبين هذه الطريقة وبين طريقة القاضي المبنية على أصول الاعتزال بون شديد. وثالثها: قال الجبائي: المراد من حشره أعمى أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيرا بل يبقى واقفا متحيرا كالأعمى الذي لا يهتدي إلى شيء، أما قوله: * (قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) * ففي تقرير هذا الجواب وجهان: أحدهما: أنه تعالى إنما أنزل به هذا العمى جزاء على تركه اتباع الهدى والإعراض عنه. والثاني: هو أن الأرواح البشرية إذا فارقت أبدانها جاهلة ضالة عن الاتصال بالروحانيات بقيت على تلك الحالة بعد المفارقة وعظمت الآلام الروحانية، فلهذا علل الله تعالى حصول العمى في الآخرة بالإعراض عن الدلائل في الدنيا، ومن فسر المعيشة الضنك بالضيق في الدنيا، قال إنه تعالى بين أن من أعرض عن ذكره في الدنيا فله المعيشة الضنك في الدنيا، والعمى في الآخرة، أما قوله: * (وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه) * فقد
131

اختلفوا فيه فبعضهم قال: أشرك وكفر، وبعضهم قال: أسرف في أن عصى الله وقد بين تعالى المراد بذلك بقوله: * (ولم يؤمن بآيات ربه) * لأن ذلك كالتفسير لقوله: أسرف وبين أنه يجزي من هذا حاله بما تقدم ذكره من المعيشة الضنك والعمى وبين بعد ذلك أن: * (عذاب الآخرة أشد وأبقى) * أما الأشد فلعظمه، وأما الأبقى فلأنه غير منقطع.
قوله تعالى
* (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إن فى ذلك لأيات لاولى النهى * ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى * فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءانآء اليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) *
اعلم أنه تعالى لما بين أن من أعرض عن ذكره كيف يحشر يوم القيامة أتبعه بما يعتبر (به) المكلف من الأحوال الواقعة في الدنيا بمن كذب الرسل فقال: * (أفلم يهد لهم) * والقراءة العامة أفلم يهد بالياء المعجمة من تحت وفاعله هو قوله: * (كم أهلكنا) * قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم، كما جعل مثل ذلك واعظا لهم وزاجرا، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي أفلم نهد لهم بالنون، قال الزجاج: يعني أفلم نبين لهم بيانا يهتدون به لو تدبروا وتفكروا، وأما قوله: * (كم أهلكنا) * فالمراد به المبالغة في كثرة من أهلكه الله تعالى من القرون الماضية وأراد بقوله: * (يمشون في مساكنهم) * أن قريشا يشاهدون تلك الآيات العظيمة الدالة على ما كانوا عليه من النعم، وما حل بهم من ضروب الهلاك، وللمشاهدة في ذلك من الاعتبار ما ليس لغيره، وبين أن في تلك الآيات آيات لأولى النهى، أي لأهل العقول والأقرب أن للنهية مزية على العقل، والنهي لا يقال إلا فيمن له عقل ينتهي به عن القبائح، كما أن لقولنا: أولو العزم مزية على أولو الحزم، فلذلك قال بعضهم: أهل الورع وأهل التقوى، ثم بين تعالى الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلا على
132

من كذب وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: * (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى) * وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما، ولا شبهة في أن الكلمة هي إخبار الله تعالى ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ، أن أمته عليه السلام وإن كذبوا فسيؤخرون ولا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال، واختلفوا فيما لأجله لم يفعل ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: لأنه علم أن فيهم من يؤمن، وقال آخرون: علم أن في نسلهم من يؤمن ولو أنزل بهم العذاب لعمهم الهلاك، وقال آخرون: المصلحة فيه خفية لا يعلمها إلا هو، وقال أهل السنة: له بحكم المالكية أن يخص من شاء بفضله ومن شاء بعذابه من غير علة، إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل، فلهذا قال أهل التحقيق: كل شيء صنيعه لا لعلة، وأما الأجل المسمى ففيه قولان: أحدهما: ولولا أجل مسمى في الدنيا لذلك العذاب وهو يوم بدر. والثاني: ولولا أجل مسمى في الآخرة لذلك العذب وهو أقرب، ويكون المراد ولولا كلمة سبقت تتضمن تأخير العذاب إلى الآخرة كقوله: * (بل الساعة موعدهم) * (القمر: 46) لكان العقاب لازما لهم فيما يقدمون عليه من تكذيب الرسول وأذيتهم له، ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه بأنه لا يهلك أحدا قبل استيفاء أجله أمره بالصبر على ما يقولون ولا شبهة في أن المراد أن يصبر على ما يكرهه من أقوالهم، فيحتمل أن يكون ذلك قول بعضهم: إنه ساحر أو مجنون أو شاعر إلى غير ذلك، ويحتمل أن يكون المراد تكذيبهم له فيما يدعيه من النبوة، ويحتمل أيضا تركهم القبول منه لأن كل ذلك مما يغمه ويؤذيه فرغبه تعالى في الصبر وبعثه على الإدامة على الدعاء إلى الله تعالى وإبلاغ ما حمل من الرسالة وأن لا يكون ما يقدمون عليه صارفا له عن ذلك، ثم قال الكلبي ومقاتل: هذه الآية منسوخة بآية القتال، ثم قال: * (وسبح بحمد ربك) * وهو نظير قوله: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 45) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: * (بحمد ربك) * في موضع الحال وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه.
المسألة الثانية: إنما أمر عقيب الصبر بالتسبيح لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى.
المسألة الثالثة: اختلفوا في التسبيح على وجهين، فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه. أحدها: أن الآية تدل على أن الصلوات الخمس لا أزيد ولا أنقص، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: دخلت الصلوات الخمس فيه، فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر، وقبل غروبها هو الظهر والعصر لأنهما جميعا قبل الغروب، ومن آناء الليل فسبح المغرب والعشاء الأخيرة ويكون قوله: * (وأطراف النهار) * كالتوكيد للصلاتين الواقعتين في طرفي النهار وهما صلاة الفجر وصلاة المغرب كما اختصت في قوله: * (والصلاة الوسطى) * (البقرة: 238) بالتوكيد. القول
133

الثاني: أن الآية تدل على الصلوات الخمس وزيادة، أما دلالتها على الصلوات الخمس فلأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين، فأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما، بقي قوله: * (ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) * وأطراف النهار للنوافل. القول الثالث: أنها تدل على أقل من الخمس، فقوله: قبل طلوع الشمس للفجر، وقبل غروبها للعصر، ومن آناء الليل للمغرب والعتمة، فيبقى الظهر خارجا. والقول الأول أقوى وبالاعتبار أولى. هذا كله إذا حملنا التسبيح على الصلاة، قال أبو مسلم: لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات، وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره، وذلك لأنه تعالى صبره أولا على ما يقولون من تكذيبه ومن إظهار الشرك والكفر، والذي يليق بذلك أن يأمر بتنزيهه تعالى عن قولهم حتى يكون دائما مظهرا لذلك وداعيا إليه فلذلك قال ما يجمع كل الأوقات.
المسألة الرابعة: أفضل الذكر ما كان بالليل لأن الجمعية فيه أكثر. وذلك لسكون الناس وهدء حركاتهم وتعطيل الحواس عن الحركات وعن الأعمال، ولذلك قال سبحانه وتعالى: * (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا) * (المزمل: 6) وقال: * (أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة) * (الزمر: 9) ولأن
الليل وقت السكون والراحة. فإذا صرف إلى العبادة كانت على الأنفس أشق وللبدن أتعب فكانت أدخل في استحقاق الأجر والفضل.
المسألة الخامسة: لقائل أن يقول: النهار له طرفان فكيف قال: * (وأطراف النهار) * بل الأولى أن يقول كما قال: * (وأقم الصلاة طرفي النهار) * (هود: 114)، وجوابه من الناس من قال أقل الجمع اثنان فسقط السؤال، ومنهم من قال: إنما جمع لأنه يتكرر في كل نهار ويعود، أما قوله تعالى: * (لعلك ترضى) * ففيه وجوه. أحدها: أن هذا كما يقول الملك الكبير: يا فلان اشتغل بالخدمة فلعلك تنتفع به ويكون المراد إني أوصلك إلى درجة عالية في النعمة، وهو إشارة إلى قوله: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * (الضحى: 5) وقوله: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *، وثانيها: لعلك ترضى ما تنال من الثواب. وثالثها: لعلك ترضى ما تنال من الشفاعة. وقرأ الكسائي وعاصم: لعلك ترضى بضم التاء والمعنى لا يختلف لأن الله تعالى إذا أرضاه فقد رضيه وإذا رضيه فقد أرضاه.
قوله تعالى
* (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى * وأمر أهلك بالصلوة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة
134

للتقوى * وقالوا لولا يأتينا باية من ربه أولم تأتهم بينة ما فى الصحف الاولى * ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك من قبل أن نذل ونخزى * قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) *
اعلم أنه تعالى لما صبر رسوله عليه السلام على ما يقولون، وأمره بأن يعدل إلى التسبيح أتبع ذلك بنهيه عن مد عينيه إلى ما متع به القوم فقال تعالى: * (ولا تمدن عينيك) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: في قوله: * (ولا تمدن عينيك) * وجهان: أحدهما: المراد منه نظر العين وهؤلاء قالوا: مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه إعجابا به كما فعل نظارة قارون حيث قالوا: * (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) * (القصص: 79) حتى واجههم أولوا العلم والإيمان بقولهم: * (ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا) * (القصص: 80) وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه وذلك كما إذا نظر الإنسان إلى شيء مرة ثم غض، ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع قيل: * (ولا تمدن عينيك) * أي لا تفعل ما أنت معتاد له. ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمركوب وغير ذلك لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمقوى لهم على اتخاذها. القول الثاني: قال أبو مسلم الذي نهى عنه بقوله: * (ولا تمدن عينيك) * ليس هو النظر، بل هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا.
المسألة الثانية: قال أبو رافع: " نزل ضيف بالنبي صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف، فقال: والله لا أفعل ذلك إلا برهن فأخبرته بقوله فأمرني أن أذهب بدرعه إليه فنزل قوله تعالى: * (ولا تمدن عينيك) * " وقال عليه السلام: " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم " وقال أبو الدرداء: الدنيا دار من لا دار له ومال
135

من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له. وعن الحسن: لولا حمق الناس لخربت الدنيا. وعن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم لها عبيدا، وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رآى ما عند السلاطين يتلو هذه الآية، وقال الصلاة يرحمكم الله، أما قوله عز وجل: * (إلى ما متعنا به) * (أي) ألذذنا به، والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الروائح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح، يقال أمتعه إمتاعا ومتعه تمتيعا والتفعيل يقتضي التكثير، أما قوله: * (أزواجا منهم) * أي أشكالا وأشباها من الكفار وهي من المزاوجة بين الأشياء وهي المشاكلة، وذلك لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أصنافا منهم، وقال الكلبي والزجاج: رجالا منهم، أما قوله: * (زهرة الحياة الدنيا) * ففي انتصابه أربعة أوجه. أحدها: على الذم وهو النصب على الاختصاص أو على تضمين متعنا معنى أعطينا وكونه مفعولا ثانيا له أو على إبداله من محل الجار والمجرور أو على إبداله من أزواجا على تقدير ذوي، فإن قيل: ما معنى الزهرة فيمن حرك قلنا معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة كما جاء في الجهرة. قرىء: أرنا الله جهرة، وأن يكون جمع زاهر وصفا لهم بأنهم زهرة هذه الدنيا لصفاء ألوانهم وتهلل وجوههم بخلاف ما عليه الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب، أما قوله: * (لنفتنهم فيه) * فذكروا فيه وجوها. أحدها: لنعذبهم به كقوله: * (فلا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) * (التوبة: 55). وثانيها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إضلالا مني لهم. وثالثها: قال الكبي ومقاتل تشديدا في التكاليف عليهم لأن الإعراض عن الدنيا عند حضورها والإقبال إلى الله أشد من ذلك عند عدم حضورها ولذلك كان رجوع الفقراء إلى خدمة الله تعالى والتضرع إليه أكثر من تضرع الأغنياء، ولأن على من أوتي الدنيا ضروبا من التكليف لولاها لما لزمتهم تلك التكاليف ولأن القادر على المعاصي يكون الاجتناب عن المعاصي أشق عليه من العاجز الفقير، فمن هذه الجهات تكون الزيادة في الدنيا تشديدا في التكليف ثم قال لرسوله: * (ورزق ربك خير وأبقى) * والأظهر أن المراد أن مطلوبك الذي تجده من الثواب خير من مطلوبهم وأبقى، لأنه يدوم ولا ينقطع وليس كذلك حال ما أوتوه من في الدنيا، ويحتمل أن يكون المراد ما أوتيته من يسير الدنيا إذا قرنته بالطاعة خير لك من حيث العاقبة وأبقى، فذكر الرزق في الدنيا ووصفه بحسن عاقبته إذا رضي به وصبر عليه، ويحتمل أن يكون المراد ما أعطى من النبوة والدرجات الرفيعة، وأما قوله: * (وأمر أهلك بالصلاة) * فمنهم من حمله على أقاربه ومنهم من حمله على كل أهل دينه، وهذا أقرب وهو كقوله: * (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) * (مريم: 55) وإن احتمل أن يكون المراد من يضمه المسكن إذ التنبيه على الصلاة والأمر بها في أوقاتها ممكن فيهم دون سائر الأمة يعنى كما أمرناك بالصلاة فامر أنت قومك بها، أما قوله: * (واصطبر عليها) * فالمراد كما تأمرهم فحافظ عليها فعلا، فإن الوعظ بلسان الفعل أتم منه بلسان القول، وكان رسول الله
136

صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعلي عليهما السلام كل صباح ويقول: " الصلاة " وكان يفعل ذلك أشهرا، ثم بين تعالى أنه إنما يأمرهم بذلك لمنافعهم وأنه متعال عن المنافع بقوله: * (لا نسألك رزقا نحن نرزقك) * وفيه وجوه. أحدها: قال أبو مسلم: المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج، وهو كقوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) * (الذاريات: 56، 57). وثانيها: * (لا نسألك رزقا) * لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك ونرزق أهلك، ففرغ بالك لأمر الآخرة، وفي معناه قول الناس: من كان في عمل الله كان الله في عمله. وثالثها: المعنى أنا لما أمرناك بالصلاة فليس ذلك لأنا ننتفع بصلاتك. فعبر عن هذا المعنى بقوله: * (لا نسألك رزقا) * بل نحن نرزقك في الدنيا بوجوه النعم وفي الآخرة بالثواب، قال عبد الله بن سلام: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية " واعلم أنه ليس في الآية رخصة في ترك التكسب لأنه تعالى قال في وصف المتقين: * (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) * (النور: 37)، أما قوله: والعاقبة للتقوى فالمراد والعاقبة الجميلة لأهل التقوى يعني تقوى الله تعالى، ثم إنه سبحانه بعد هذه الوصية حكى عنهم شبهتهم، فكأنه من تمام قوله: * (فاصبر على ما يقولون) * (طه: 130) وهي قولهم: * (لولا يأتينا بآية من ربه) * أوهموا بهذا الكلام أنه يكلفهم الإيمان من غير آية، وقالوا في موضع آخر: * (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) * (الأنبياء: 5) وأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) * وفيه وجوه: أحدها: أن ما في القرآن إذ وافق ما في كتبهم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشتغل بالدراسة والتعلم وما رأى أستاذا البتة كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزا. وثانيها: أن بينة ما في الصحف الأولى ما فيها من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبنبوته وبعثته. وثالثها: ذكر ابن جرير والقفال (أن) المعنى: * (أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) * من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات وكفروا بها كيف عاجلناهم بالعقوبة فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك، وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن، فلهذا وصف القرآن بكونه: * (بينة ما في الصحف الأولى) * واعلم أنه إنما ذكر الضمير الراجع إلى البينة لأنها في معنى البرهان والدليل، ثم بين أنه تعالى أزاح لهم كل عذر وعلة في التكليف، فقال: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) * والمراد كان لهم أن يقولوا ذلك فيكون عذرا لهم، فأما الآن وقد أرسلناك وبينا على لسانك لهم ما عليهم وما لهم فلا حجة لهم البتة بل الحجة عليهم. ومعنى: * (من قبله) * يحتمل من قبل إرساله ويحتمل من قبل ما أظهره من البينات فإن قيل فما معنى قوله: * (ولو أنا أهلكناهم... لقالوا) * (طه: 134) والهالك لا يصح أن يقول قلنا المعنى لكان لهم أن يقولوا ذلك يوم القيامة ولذلك قال: * (من قبل أن نذل ونخزى) * وذلك لا يليق إلا بعذاب الآخرة، روي أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال عليه السلام: " يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك لك. وتلا قوله: * (لولا
137

أرسلت إلينا رسولا) * والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلا أنتفع به، ويقول الصبي: كنت صغيرا لا أعقل فترفع لهم نار، ويقال لهم: ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله تعالى أنه شقي ويبقى من في علمه أنه سعيد، فيقول الله تعالى لهم: " عصيتم اليوم فكيف برسلي لو أتوكم " والقاضي طعن في الخبر وقال: لا يحسن العقاب على من لا يعقل، واعلم أن في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الجبائي: هذه الآية تدل على وجوب فعل اللطف إذ المراد أنه يجب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده ولو لم يفعل لكان لهم أن يقولوا هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن؟ وهلا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك؟ وإن كان المعلوم أنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم الرسول لم يكن في ذلك حجة، فصح أنه إنما يكون حجة لهم إذا كان في المعلوم أنهم يؤمنون عنده إذا أطاعوه.
المسألة الثانية: قال الكعبي قوله: * (لولا أرسلت إلينا رسولا) * أوضح دليل على أنه تعالى يقبل الاحتجاج من عباده، وأنه ليس قوله: * (لا يسأل عما يفعل) * (الأنبياء: 23) كما ظنه أهل الجبر من أن ما هو جور منا يكون عدلا منه بل تأويله: أنه لا يقع منه إلا العدل فإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة.
المسألة الثالثة: قال أصحابنا: الآية تدل على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع إذ لو تحقق العقاب قبل مجيء الشرع لكان العقاب حاصلا قبل مجيء الشرع.
ثم إنه سبحانه ختم السورة بضرب من الوعيد فقال: * (قل كل متربص) * أي كل منا ومنكم منتظر عاقبة أمره وهذا الانتظار يحتمل أن يكون قبل الموت، إما بسبب الأمر بالجهاد أو بسبب ظهور الدولة والقوة، ويحتمل أن يكون بالموت فإن كل واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه، ويحتمل أن يكون بعد الموت وهو ظهور أمر الثواب والعقاب، فإنه يتميز في الآخرة المحق من المبطل بما يظهر على المحق من أنواع كرامة الله تعالى، وعلى المبطل من أنواع إهانته * (فستعلمون) * عند ذلك * (من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) * إليه وليس هو بمعنى الشك والترديد، بل هو على سبيل التهديد والزجر للكفار، والله أعلم.
138

سورة الأنبياء عليهم السلام
مائة واثنتا عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذآ إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) *
اعلم أن قوله تعالى: * (اقترب للناس حسابهم) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: القرب لا يعقل إلا في المكان والزمان، والقرب المكاني ههنا ممتنع فتعين القرب الزماني، والمعنى اقترب للناس وقت حسابهم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول كيف وصف بالاقتراب، وقد عبر بعد هذا القول قريب من ستمائة عام والجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مقترب عند الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده، وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * (الحج: 47). وثانيها: أن كل آت قريب وإن طالت أوقات ترقبه، وإنما البعيد هو الذي انقرض قال الشاعر: فلا زال ما تهواه أقرب من غد * ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
وثالثها: أن المعاملة إذا كانت مؤجلة إلى سنة ثم انقضى منها شهر، فإنه لا يقال اقترب الأجل أما إذا كان الماضي أكثر من الباقي فإنه يقال: اقترب الأجل، فعلى هذا الوجه قال العلماء: إن فيه دلالة على قرب القيامة، ولهذا الوجه قال عليه السلام: " بعثت أنا والساعة كهاتين " وهذا الوجه قيل إنه عليه السلام ختم به النبوة، كل ذلك لأجل أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي.
139

المسألة الثالثة: إنما ذكر تعالى هذا الاقتراب لما فيه من المصلحة للمكلفين فيكون أقرب إلى تلافي الذنوب والتحرر عنها خوفا من ذلك والله أعلم.
المسألة الرابعة: إنما لم يعين الوقت لأجل أن كتمانه أصلح، كما أن كتمان وقت الموت أصلح.
المسألة الخامسة: الفائدة في تسمية يوم القيامة بيوم الحساب أن الحساب هو الكاشف عن حال المرء فالخوف من ذكره أعظم.
المسألة السادسة: يجب أن يكون المراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون دون من لا مدخل له، ثم قال ابن عباس: المراد بالناس المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين أما قوله تعالى: * (وهم في غفلة معرضون) * فاعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين الغفلة والإعراض. أما الغفلة فالمعنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسئ ثم إذا انتبهوا من سنة الغفلة ورقدة الجهالة مما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم.
أما قوله: * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن أبي عبلة محدث بالرفع صفة للمحل.
المسألة الثانية: إنما ذكر الله تعالى ذلك بيانا لكونهم معرضين، وذلك لأن الله تعالى يجدد لهم الذكر وقتا فوقتا ويظهر لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم ذلك إلا لعبا واستسخارا.
المسألة الثالثة: المعتزلة احتجوا على حدوث القرآن بهذه الآية فقالوا: القرآن ذكر والذكر محدث فالقرآن محدث، بيان أن القرآن ذكر قوله تعالى في صفة القرآن: * (إن هو إلا ذكر للعالمين) * (ص: 87) وقوله: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (الزخرف: 44) وقوله: * (ص والقرآن ذي الذكر) * (ص: 1) وقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * (الحجر: 9) وقوله: * (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) * (يس: 69) وقوله: * (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) * (الأنبياء: 5) وبيان أن الذكر محدث قوله في هذا الموضع: * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) * وقوله في سورة الشعراء: * (ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث) * ثم قالوا: فصار مجموع هاتين المقدمتين المنصوصتين كالنص في أن القرآن محدث والجواب من وجهين: الأول: أن قوله: * (إن هو إلا ذكر للعالمين) * وقوله: * (وهذا ذكر مبارك) * إشارة إلى المركب من الحروف والأصوات فإذا ضممنا إليه قوله: * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) * لزم حدوث المركب من الحروف والأصوات وذلك مما لا نزاع فيه بل حدوثه معلوم بالضرورة، وإنما النزاع في قدم كلام الله تعالى بمعنى آخر. الثاني: أن قوله: * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) * لا يدل على حدوث كل ما كان ذكرا بل على ذكر ما محدث كما أن قول القائل لا يدخل هذه البلدة رجل فاضل إلا يبغضونه، فإنه لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون
140

فاضلا بل على أن في الرجال من هو فاضل وإذا كان كذلك فالآية لا تدل إلا على أن بعض الذكر محدث فيصير نظم الكلام هكذا القرآن ذكر وبعض الذكر محدث وهذا لا ينتج شيئا كما أن قول القائل: الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس لا ينتج شيئا فظهر أن الذي ظنوه قاطعا لا يفيد ظنا ضعيفا فضلا عن القطع. أما قوله: * (إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أن ذلك ذم للكفار وزجر لغيرهم عن مثله لأن الإنتفاع بما يسمع لا يكون إلا بما يرجع إلى القلب من تدبر وتفكر، وإذا كانوا عند استماعه لاعبين حصلوا على مجرد الاستماع الذي قد تشارك البهيمة فيه الإنسان ثم أكد تعالى ذمهم بقوله: * (لاهية قلوبهم) * واللاهية من لهى عنه إذا ذهل وغفل، وإنما ذكر اللعب مقدما على اللهو كما في قوله تعالى: * (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) * (محمد: 36) تنبيها على أن اشتغالهم باللعب الذي معناه السخرية والاستهزاء معلل باللهو الذي معناه الذهول والغفلة، فإنهم أقدموا على اللعب للهوهم وذهولهم عن الحق، والله أعلم بالصواب.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: * (وهم يلعبون لاهية قلوبهم) * حالان مترادفان أو متداخلان ومن قرأ لاهية بالرفع فالحال واحدة لأن لاهية قلوبهم خبر بعد خبر لقوله: * (وهم) *.
أما قوله: * (وأسروا النجوى الذين ظلموا) * ففيه سؤالان:
السؤال الأول: النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية فما معنى قوله: * (وأسروا النجوى) *. الجواب: معناه بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم.
السؤال الثاني: لم قال: * (وأسروا النجوى الذين ظلموا) *. الجواب: أبدل الذين ظلموا من أسروا إشعارا بأنهم هم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به أو جاء على لغة من قال: أكلوني البراغيث أو هو منصوب المحل على الذم أو هو مبتدأ خبره: * (أسروا النجوى) * قدم عليه والمعنى وهؤلاء أسروا النجوى فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم.
أما قوله: * (هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من النجوى أي وأسروا هذا الحديث ويحتمل أن يكون التقدير وأسروا النجوى وقالوا هذا الكلام.
المسألة الثانية: إنما أسروا هذا الحديث لوجهين: أحدهما: أنه كان ذلك شبهة التشاور فيما بينهم والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعادة المتشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرهم عن أعدائهم. الثاني: يجوز أن يسروا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله والمؤمنين إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررناه.
المسألة الثالثة: أنهم طعنوا في نبوته بأمرين: أحدهما: أنه بشر مثلهم. والثاني: أن الذي أتى به سحر، وكلا الطعنين فاسد. أما الأول: فلأن النبوة تقف صحتها على المعجزات والدلائل
141

لا على الصور إذ لو بعث الملك إليهم لما علم كونه نبيا لصورته، وإنما كان يعلم بالعلم فإذا ظهر ذلك على من هو بشر فيجب أن يكون نبيا، بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشرا لأن المرء إلى القبول من أشكاله أقرب وهو به آنس. وأما الثاني: وهو أن ما أتى به الرسول عليه السلام سحر وأنهم يرون كونه سحرا فجهل أيضا، لأن كل ما أتى به الرسول من القرآن وغيره ظاهر الحال لا تمويه فيه ولا تلبيس فيه. فقد كان عليه السلام يتحداهم بالقرآن حالا بعد حال مدة من الزمان وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، وكانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره وأقوى الأمور في إبطال أمره معارضة القرآن فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها لأن الفعل عند توافر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع، فلما لم يأتوا بها دلنا ذلك على أنه في نفسه معجزة وأنهم عرفوا حاله. فكيف يجوز أن يقال: إنه سحر والحال على ما ذكرناه، وكل ذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بصدقه، إلا أنهم كانوا يموهون على ضعفائهم بمثل هذا القول وإن كانوا فيه مكابرين.
قوله تعالى
* (قال ربى يعلم القول فى السمآء والارض وهو السميع العليم * بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا باية كمآ أرسل الاولون * مآ ءامنت قبلهم من قرية أهلكناهآ أفهم يؤمنون) *
أما قوله: * (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء * (قال ربي) * حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وقرأ الباقون قل بضم القاف وحذف الألف وسكون اللام.
المسألة الثانية: أنه تعالى لما أورد هذا الكلام عقيب ما حكى عنهم وجب أن يكون كالجواب لما قالوه فكأنه قال إنكم وإن أخفيتم قولكم، وطعنكم فإن ربي عالم بذلك وإنه من وراء عقوبته، فتوعدوا بذلك لكي لا يعودوا إلى مثله.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: فإن قلت فهلا قيل له يعلم السر لقوله: * (وأسروا النجوى) * (الأنبياء: 3) قلت القول علام يشمل السر والجهر فكأن في العلم به العلم بالسر وزيادة فكأن آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: * (يعلم السر) * كما أن قوله تعالى: * (يعلم السر) * آكد من أن يقول يعلم سرهم فإن قلت فلم ترك الآكد في سورة الفرقان في قوله: * (قل أنزله الذي يعلم السر
142

في السماوات والأرض) * (الفرقان: 6) قلت: ليس بواجب أن يجيء بالآكد في قوله في كل موضع، ولكن يجيء بالتوكيد مرة وبالآكد مرة أخرى، ثم الفرق أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول: إن ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة وثمة قصد وصف ذاته بأن قال: * (أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض) * فهو كقوله: * (علام الغيوب) * (سبأ: 48)، * (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة) * (سبأ: 3). المسألة الرابعة: إنما قدم السميع على العليم لأنه لا بد من سماع الكلام أولا ثم من حصول العلم بمعناه، أما قوله: * (بل قالوا أضغاث أحلام، بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) * فاعلم أنه تعالى عاد إلى حكاية قولهم المتصل بقوله: * (هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر) * (الأنبياء: 3) ثم قال: * (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر) * فحكى عنهم ثم هذه الأقوال الخمسة فترتيب كلامهم كأنهم قالوا: ندعي أن كونه بشرا مانع من كونه رسولا لله تعالى. سلمنا أنه غير مانع، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن معجز، ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدور البشر، قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك سحرا وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا: إنها أضغاث أحلام، وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراه، وإن ادعينا إنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعراء، وعلى جميع هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزا، ولما فرغوا من تعديد هذه الاحتمالات قالوا: * (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) * فالمراد أنهم طلبوا آية جلية لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كالآيات المنقولة عن موسى وعيسى عليهما السلام، ثم إن الله تعالى بدأ بالجواب عن هذا السؤال الأخير بقوله: * (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) * والمعنى أنهم في العتو أشد من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا، فأهلكهم الله، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثا. قال الحسن رحمه الله تعالى: إنهم لم يجابوا لأن حكم الله تعالى أن من كذب بعد الإجابة إلى ما اقترحه
من الآيات فلا بد من أن ينزل به عذاب الاستئصال وقد مضى حكمه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم.
قوله تعالى
* (ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين * ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشآء
143

وأهلكنا المسرفين * لقد أنزلنآ إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) *
اعلم أنه تعالى أجاب عن سؤالهم الأول وهو قولهم: * (ما هذا إلا بشر مثلكم) * (المؤمنون: 33) بقوله: * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) * فبين أن هذه عادة الله تعالى في الرسل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولم يمنع ذلك من كونهم رسلا للآيات التي ظهرت عليهم فإذا صح ذلك فيهم فقد ظهر على محمد مثل آياتهم فلا مقال عليه في كونه بشرا فأما قوله تعالى: * (فاسئلوا أهل الذكر) * فالمعنى أنه تعالى أمرهم أن يسألوا أهل الذكر وهم أهل الكتاب حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا ولم يكونوا ملائكة، وإنما أحالهم على هؤلاء لأنهم كانوا يتابعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: * (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) * (آل عمران: 186) فإن قيل إذا لم يوثق باليهود والنصارى، فكيف يجوز أن يأمرهم بأن يسألوهم عن الرسل قلنا: إذا تواتر خبرهم وبلغ حد الضرورة جاز ذلك، كما قد يعمل بخبر الكفار إذا تواتر، مثل ما يعمل بخبر المؤمنين. ومن الناس من قال: المراد بأهل الذكر أهل القرآن وهو بعيد لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلم فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للعامي أن يرجع إلى فتيا العلماء وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر فبعيد لأن هذه الآية خطاب مشافهة وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين. ثم بين تعالى أنه لم يجعل الرسل قبله جسدا لا يأكلون الطعام وفيه أبحاث:
البحث الأول: قوله: * (لا يأكلون الطعام) * صفة جسد والمعنى وما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين.
البحث الثاني: وحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال ذوي ضرب من الأجساد.
البحث الثالث: أنهم كانوا يقولون: * (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) * (الفرقان: 7) فأجاب الله بقوله: * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) * فبين تعالى أن هذه عادة الله في الرسل من قبل وأنه لم يجعلهم جسدا لا يأكلون بل جسدا يأكلون الطعام ولا يخلدون في الدنيا بل يموتون كغيرهم، ونبه بذلك على أن الذي صاروا به رسلا غير ذلك وهو ظهور المعجزات على أيديهم وبراءتهم عن الصفات القادحة في التبليغ، أما قوله تعالى: * (ثم صدقناهم الوعد) * فقال صاحب " الكشاف ": هو مثل قوله: * (واختار موسى قومه سبعين رجلا) * (الأعراف: 155) والأصل في الوعد ومن قومه ومنه صدقوهم المقال: * (ومن نشاء) * هم المؤمنون، قال المفسرون: المراد منه
144

أنه تقدم وعده جل جلاله بأنه إنما يهلك بعذاب الاستئصال من كذب الرسل دون نفس الرسل ودون من صدق بهم، وجعل الوفاء بما وعد صدقا من حيث يكشف عن الصدق ومعنى: * (وأهلكنا المسرفين) * أي بعذاب الاستئصال وليس المراد عذاب الآخرة لأنه إخبار عما مضى وتقدم، ثم بين تعالى بقوله: * (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم) * عظيم نعمته عليهم بالقرآن في الدين والدنيا، فلذلك قال فيه: * (ذكركم) * وفيه ثلاثة أوجه: أحدها؛ ذكركم شرفكم وصيتكم، كما قال: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (الزخرف: 44). وثانيها: المراد فيه تذكرة لكم لتحذروا ما لا يحل وترغبوا فيما يجب، ويكون المراد بالذكر الوعد والوعيد، كما قال: * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * (الذاريات: 55). وثالثها: المراد ذكر دينكم ما يلزم وما لا يلزم لتفوزوا بالجنة إذا تمسكتم به وكل ذلك محتمل، وقوله: * (أفلا تعقلون) * كالبعث على التدبر في القرآن لأنهم كانوا عقلاء لأن الخوض من لوازم الغفلة والتدبر دافع لذلك الخوض ودفع الضرر عن النفس من لوازم الفعل فمن لم يتدبر فكأنه خرج عن العقل.
قوله تعالى
* (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما ءاخرين * فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * قالوا ياويلنآ إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) *
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم تلك الاعتراضات وكانت تلك الاعتراضات ظاهرة السقوط لأن شرائط الإعجاز لما تمت في القرآن ظهر حينئذ لكل عاقل كونه معجزا، وعند ذلك ظهر أن اشتغالهم بإيراد تلك الاعتراضات كان لأجل حب الدنيا وحب الرياسة فيها فبالغ سبحانه في زجرهم عن ذلك فقال: * (وكم قصمنا من قرية) * قال صاحب " الكشاف " القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف القصم وذكر القرية وأنها ظالمة وأراد أهلها توسعا لدلالة العقل على أنها لا تكون ظالمة ولا مكلفة ولدلالة قوله تعالى: * (وأنشأنا بعدها قوما آخرين) * فالمعنى أهلكنا قوما وأنشأنا قوما آخرين وقال: * (فلما أحسوا بأسنا) * - إلى قوله - * (قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين) * وكل ذلك لا يليق إلا بأهلها الذين كلفوا بتصديق الرسل فكذبوهم ولولا هذه
145

الدلائل لما جاز منه سبحانه ذكر المجاز لأنه يكون ذلك موهما للكذب، واختلفوا في هذا الإهلاك فقال ابن عباس: المراد منه القتل بالسيوف والمراد بالقرية حضور وهي وسحول قريتان باليمن ينسب إليهما الثياب. وفي الحديث: " كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين " وروى: " حضوريين بعث الله إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم " وروى: " أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء " فندموا واعترفوا بالخطأ
، وقال الحسن: المراد عذاب الاستئصال، واعلم أن هذا أقرب لأن إضافة ذلك إلى الله تعالى أقرب من إضافته إلى القاتل، ثم بتقدير أن يحمل ذلك على عذاب القتل فما الدليل على قول ابن عباس ولعل ابن عباس ذكر حضور بأنها إحدى القرى التي أرادها الله تعالى بهذه الآية، وأما قوله تعالى: * (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون) * فالمعنى لما علموا شدة عذابنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا في ديارهم، والركض ضرب الدابة بالرجل، ومنه قوله تعالى: * (اركض برجلك) * فيجوز أن يكونوا ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب، ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين، أما قوله: * (لا تركضوا) * قال صاحب " الكشاف ": القول محذوف، فإن قلت من القائل قلنا يحتمل أن يكون بعض الملائكة ومن ثم من المؤمنين، أو يكونوا خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثون به نفوسهم، أما قوله: * (وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم) * أي من العيش والرفاهية والحال الناعمة، والإتراف إبطار النعمة وهي الترفه، أما قوله تعالى: * (لعلكم تسألون) * فهو تهكم بهم وتوبيخ، ثم فيه وجوه: أحدها: أي ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة. وثانيها: ارجعوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم بم تأمرون وماذا ترسمون كعادة المخدومين. وثالثها: تسألكم الناس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات ويستعينون بآرائكم. ورابعها: يسألكم الوافدون عليكم والطامعون فيكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم وتوبيخا إلى توبيخ، أما قوله تعالى: * (فما زالت تلك دعواهم فقال صاحب " الكشاف " تلك إشارة إلى * (يا ويلنا) * لأنها عدوى كأنه قيل فما زالت تلك الدعوى دعواهم، والدعوى بمعنى الدعوة قال تعالى: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (يونس: 10) فإن قلت: لم سميت دعوى؟ قلت: لأنهم كانوا دعوا بالويل: * (فقالوا يا ويلنا) * أي يا ويل أحضر فهذا وقتك، وتلك مرفوع أو منصوب إسما أو خبرا وكذلك: * (دعواهم) * قال المفسرون: لم يزالوا يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله تعالى: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * (غافر: 85) أما قوله: * (حتى جعلناهم حصيدا خامدين) *
146

فالحصيد الزرع المحصود أي جعلناهم مثل الحصيد شبههم به في استئصالهم، كما تقول جعلناهم رمادا أي مثل الرماد فإن قيل: كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل، قلت: حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد والمعنى جعلناهم جامعين لهذين الوصفين، والمراد أنهم أهلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق لهم حس ولا حركة وجفوا كما يجف الحصيد، وخمدوا كما تخمد النار.
قوله تعالى
* (وما خلقنا السمآء والارض وما بينهما لاعبين * لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنآ إن كنا فاعلين * بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) *
اعلم أن فيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان: الأول: أنه تعالى لما بين إهلاك أهل القرية لأجل تكذيبهم اتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلا منه ومجازاة على ما فعلوا فقال: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) * أي وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب والغرائب كما تسوى الجبابرة سقوفهم وفرشهم للهو واللعب، وإنما سويناهم لفوائد دينية ودنيوية أما الدينية فليتفكر المتفكرون فيها على ما قال تعالى: * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) * (آل عمران: 191) وأما الدنيوية فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعد ولا تحصى وهذا كقوله: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) * (ص: 27) وقوله: * (ما خلقناهما إلا بالحق) * (الدخان: 39). والثاني: أن الغرض منه تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والرد على منكريه لأنه أظهر المعجزة عليه فإن كان محمد كاذبا كان إظهار المعجزة عليه من باب اللعب وذلك منفي عنه وإن كان صادقا فهو المطلوب وحينئذ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن.
المسألة الثانية: قال القاضي عبد الجبار: دلت الآية على أن اللعب ليس من قبله تعالى إذ لو كان كذلك لكان لاعبا فإن اللاعب في اللغة اسم لفاعل اللعب فنفى الاسم الموضوع للفعل يقتضي نفي الفعل. والجواب: يبطل ذلك بمسألة الداعي عن ما مر غيره مرة أما قوله: * (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) * فاعلم أن قوله: * (لاتخذناه من لدنا) * معناه من جهة قدرتنا. وقيل: اللهو الولد بلغة اليمن وقيل: المرأة وقيل من لدنا أي من الملائكة لا من الإنس ردا لمن قال بولادة المسيح وعزيز فأما قوله تعالى: * (بل نقذف بالحق على الباطل) * فاعلم أن قوله: * (بل) *
147

اضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه منه لذاته كأنه قال سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب بل من عادتنا وموجب حكمتنا أن نغلب اللعب بالجد وندحض الباطل بالحق، واستعار لذلك القذف والدمغ تصويرا لإبطاله فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلا قذف به على جرم رخو فدمغه، فأما قوله تعالى: * (ولكم الويل مما تصفون) * يعني من تمسك بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام إلى غير ذلك من الأباطيل، وهو الذي عناه بقوله: * (مما تصفون) *.
قوله تعالى
* (وله من فى السماوات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان. الأول: أنه تعالى لما نفى اللعب عن نفسه ونفي اللعب لا يصح إلا بنفي الحاجة ونفي الحاجة لا يصح إلا بالقدرة التامة، لا جرم عقب تلك الآية بقوله: * (وله من في السماوات والأرض) * لدلالة ذلك على كمال الملك والقدرة. الثاني: وهو الأقرب أنه تعالى لما حكى كلام الطاعنين في النبوات وأجاب عنها وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد وعدم الإنقياد بين في هذه الآية أنه تعالى منزه عن طاعتهم لأنه هو المالك لجميع المحدثات والمخلوقات، ولأجل أن الملائكة مع جلالتهم مطيعون له خائفون منه فالبشر مع نهاية الضعف أولى أن يطيعوه.
المسألة الثانية: قوله: * (وله من في السماوات والأرض) * معناه أن كل المكلفين في السماء والأرض فهم عبيده وهو الخالق لهم والمنعم عليهم بأصناف النعم، فيجب على الكل طاعته والانقياد لحكمه.
المسألة الثالثة: دلالة قوله: * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) * على أن الملك أفضل من البشر من ثلاثة أوجه قد تقدم بيانها في سورة البقرة.
المسألة الرابعة: قوله: * (ومن عنده) * المراد بهم الملائكة بإجماع الأمة ولأنه تعالى وصفهم بأنهم: * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * وهذا لا يليق بالبشر وهذه العندية عندية الشرف والرتبة لا عندية المكان والجهة، فكأنه تعالى قال: الملائكة مع كمال شرفهم ونهاية جلالتهم لا يستكبرون عن طاعته فكيف يليق بالبشر الضعيف التمرد عن طاعته.
المسألة الخامسة: قال الزجاج: ولا يستحسرون ولا يتعبون ولا يعيون قال صاحب " الكشاف ": فإن قلت الاستحسار مبالغة في الحسور فكأن الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى
148

الحسور قلت في الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه وأنهم أحقاء لتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا فيما يفعلون أما قوله تعالى: * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * فالمعنى أن تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم لا يتخلله فترة بفراغ أو بشغل آخر، روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل، قال: قلت لكعب: أرأيت قول الله تعالى: * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * ثم قال: * (جاعل الملائكة رسلا) * (فاطر: 1) أفلا تكون تلك الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح وأيضا قال: * (أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) * (البقرة: 161) فكيف يشتغلون باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح؟ أجاب كعب الأحبار فقال: التسبيح لهم كالتنفس لنا فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذا اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال. فإن قيل هذا القياس غير صحيح لأن الإشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام، لأن آلة التنفس غير آلة الكلام أما التسبيح واللعن فهمنا من جنس الكلام فاجتماعهما محال. والجواب: أي استبعاد في أن يخلق الله تعالى لهم ألسنة كثيرة ببعضها يسبحون الله وببعضها يلعنون أعداء الله، أو يقال معنى قوله: * (لا يفترون) * أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال: إن فلانا يواظب على الجماعات لا يفتر عنها لا يراد به أنه أبدا مشتغل بها بل يراد به أنه مواظب على العزم على أدائها في أوقاتها.
قوله تعالى
* (الارض هم ينشرون * لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون * لا يسأل عما يفعل وهم يسالون * أم اتخذوا من دونه ءالهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معى وذكر من قبلى بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون * ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) *
اعلم أن الكلام من أول السورة إلى ههنا كان في النبوات وما يتصل بها من الكلام سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الأضداد والأنداد.
149

أما قوله تعالى: * (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": أم ههنا هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة قد أذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها، والمنكر هو اتخاذهم آلهم من الأرض ينشرون الموتى، ولعمري إن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات، فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة ينشرون وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم بل كانوا في نهاية البعد عن هذه الدعوى، فإنهم كانوا مع إقرارهم بالله وبأنه خالق السماوات والأرض منكرين للبعث، ويقولون: * (من يحيي العظام وهي رميم) * فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة البتة؟ قلت: لأنهم لما اشتغلوا بعبادتها ولا بد للعبادة من فائدة هي الثواب فإقدامهم على عبادتها يوجب عليهم الإقرار بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب، فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم والتجهيل، يعني إذا كانوا غير قادرين على أن يحيوا ويميتوا ويضروا وينفعوا فأي عقل يجوز اتخاذهم آلهة.
المسألة الثانية: قوله: * (من الأرض) * كقولك فلان من مكة أو من المدينة، تريد مكي أو مدني إذ معنى نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لأن الآلهة على ضربين: أرضية وسماوية ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض، لأنها إما أن تكون منحوتة من بعض الحجارة أو معمولة من بعض جواهر الأرض.
المسألة الثالثة: النكتة في * (هم ينشرون) * معنى الخصوصية كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة من الأرض لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم.
المسألة الرابعة: قرأ الحسن (ينشرون) وهما لغتان أنشر الله الموتى ونشرها.
أما قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال أهل النحو إلا ههنا بمعنى غير أي لو كان يتولاهما ويدير أمورهما شيء غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا، ولا يجوز أن يكون بمعنى الاستثناء لأنا لو حملناه على الاستثناء لكان المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد، وذلك
باطل لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء لم يكن الله معهم أو كان فالفساد لازم. ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت أن المراد ما ذكرناه. المسألة الثانية: قال المتكلمون: القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالا، إنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلا بد وأن يكون كل واحد منهما قادرا على كل المقدورات ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادرا على تحريك زيد وتسكينه فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه والآخر تسكينه، فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، فلو امتنعا معا لوجدا
150

معا وذلك محال أو يقع مراد أحدهما دون الثاني وذلك محال أيضا لوجهين: أحدهما: أنه لو كان كل واحد منهما قادرا على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لا بد وأن يستويا في القدرة. وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح. وثانيهما: أنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده يكون قادرا والذي لم يقع مراده يكون عاجزا والعجز نقص وهو على الله محال. فإن قيل الفساد إنما يلزم عند اختلافهما في الإرادة وأنتم لا تدعون وجوب اختلافهما في الإرادة بل أقصى ما تدعونه أن اختلافهما في الإرادة ممكن، فإذا كان الفساد مبنيا على الإختلاف في الإرادة وهذا الإختلاف ممكن والمبني على الممكن ممكن فكان الفساد ممكنا لا واقعا فكيف جزم الله تعالى بوقوع الفساد؟ قلنا الجواب من وجهين: أحدهما: لعله سبحانه أجرى الممكن مجرى الواقع بناء على الظاهر من حيث إن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب. والثاني: وهو الأقوى أن نبين لزوم الفساد لا من الوجه الذي ذكرناه بل من وجه آخر، فنقول: لو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادرا على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد وهو محال لأن استناد الفعل إلى الفاعل لإمكانه فإذا كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلا منهما جميعا فيلزم استغناؤه عنهما معا واحتياجه إليهما معا وذلك محال. وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد، فنقول القول بوجود الإلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور لواحد منهما وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع البتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعا، أو نقول لو قدرنا إلهين، فإما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال وإن اختلفا، فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات، فإن قلت: لم لا يجوز أن يتفقا على الشيء الواحد ولا يلزم الفساد لأن الفساد إنما يلزم لو أراد كل واحد منهما أن يوجده هو وهذا اختلاف، أما إذا أراد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما بعينه فهناك لا يلزم وقوع مخلوق بين خالقين، قلت: كونه موجدا له، إما أن يكون نفس القدرة والإرادة أو نفس ذلك الأثر أو أمرا ثالثا، فإن كان الأول لزم الاشتراك في القدرة والإرادة والاشتراك في الموجد، وإن كان الثاني فليس وقوع ذلك الأثر بقدرة أحدهما وإرادته أولى من وقوعه بقدرة الثاني، لأن لكل واحد منهما إرادة مستقلة بالتأثير، وإن كان الثالث وهو أن يكون الموجد له أمرا ثالثا فذلك الثالث إن كان قديما استحال كونه متعلق الإرادة. وإن كان حادثا فهو نفس الأثر، ويصير هذا القسم هو القسم الثاني الذي ذكرناه. واعلم أنك لما وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل وحدانية الله تعالى بل
151

وجود كل واحد من الجواهر والأعراض دليل تام على التوحيد من الوجه الذي بيناه. وهذه الدلالة قد ذكرها الله تعالى في مواضع من كتابه، واعلم أن ههنا أدلة أخرى على وحدانية الله تعالى. أحدها: وهو الأقوى أن يقال: لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لذاتيهما فلا بد وأن يشتركا في الوجود ولا بد وأن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بنفسه وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركبا مما به يشارك الآخر ومما به امتاز عنه، وكل مركب فهو مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته. هذا خلف، فإذن واجب الوجود ليس إلا الواحد وكل ما عداه فهو ممكن مفتقر إليه وكل مفتقر في وجوده إلى الغير فهو محدث فكل ما سوى الله تعالى محدث، ويمكن جعل هذه الدلالة تفسيرا لهذه الآية. لأنا إنما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجبا وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات، وحينئذ يلزم الفساد فثبت أنه يلزم من وجود إلهين وقوع الفساد في كل العالم. وثانيها: أنا لو قدرنا إلهين لوجب أن يكون كل واحد منهما مشاركا للآخر في الإلهية، ولا بد وأن يتميز كل واحد منهما عن الآخر بأمر ما وإلا لما حصل التعدد، فما به الممايزة إما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال فالخالي عنه يكون خاليا عن الكمال فيكون ناقصا والناقص لا يكون إلها، وإن لم يكن صفة كمال فالموصوف به يكون موصوفا بما لا يكون صفة كمال فيكون ناقصا، ويمكن أن يقال: ما به الممايزة إن كان معتبرا في تحقق الإلهية فالخالي عنه لا يكون إلها وإن لم يكن معتبرا في الإلهية لم يكن الاتصاف به واجبا، فيفتقر إلى المخصص فالموصوف به مفتقر ومحتاج. وثالثها: أن يقال: لو فرضنا إلهين لكان لا بد وأن يكونا بحيث يتمكن الغير من التمييز بينهما، لكن الامتياز في عقولنا لا يحصل إلا بالتباين في المكان أو في الزمان أو في الوجوب والإمكان وكل ذلك على الإله محال فيمتنع حصول الإمتياز. ورابعها: أن أحد الإلهين إما أن يكون كافيا في تدبير العالم أو لا يكون فإن كان كافيا كان الثاني ضائعا غير محتاج إليه، وذلك نقص والناقص لا يكون إلها. وخامسها: أن العقل يقتضي احتياج المحدث إلى الفاعل ولا امتناع في كون الفاعل الواحد مدبرا لكل العالم. فأما ما وراء ذلك فليس عدد أولى من عدد فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها وذلك محال فالقول بوجود الآلهة محال. وسادسها: أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يخص نفسه بدليل يدل عليه ولا يدل على غيره أو لا يقدر عليه. والأول محال لأن دليل الصانع ليس إلا بالمحدثات وليس في حدوث المحدثات ما يدل على تعيين أحدهما دون الثاني والتالي محال لأنه يفضي إلى كونه عاجزا عن تعريف نفسه على التعيين والعاجز لا يكون إلها. وسابعها: أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يستر شيئا من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر، فإن قدر لزم أن يكون المستور عنه جاهلا، وإن لم يقدر لزم كونه عاجزا. وثامنها: لو
152

قدرنا إلهين لكان مجموع قدرتيهما بينهما أقوى من قدرة كل واحد منهما وحده، فيكون كل واحد من القدرتين متناهيا والمجموع ضعف المتناهي فيكون الكل متناهيا. وتاسعا: العدد ناقص لاحتياجه إلى الواحد، والواحد الذي يوجد من جنسه عدد ناقص ناقص، لأن العدد أزيد منه، والناقص لا يكون إلها فالإله واحد لا محالة. وعاشرها: أنا لو فرضنا معدوما ممكن الوجود ثم قدرنا إلهين فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كل واحد منهما عاجزا والعاجز لا يكون إلها، وإن قدر أحدهما دون الآخر فهذا الآخر يكون إلها، وإن قدرا جميعا فإما أن يوجداه بالتعاون فيكون كل واحد منهما محتاجا إلى إعانة الآخر، وإن قدر كل واحد على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإما أن يبقى الثاني قادرا عليه وهو محال لأن إيجاد الموجود محال، وإن لم يبق فحينئذ يكون الأول قد أزال قدرة الثاني وعجزه فيكون مقهورا تحت تصرفه فلا يكون إلها. فإن قيل الواجد إذا أوجد مقدوره فقد زالت قدرته عنه فيلزمكم العجز، قلنا: الواحد إذا أوجده فقد نفذت قدرته فنفاذ القدرة لا يكون عجزا، أما الشريك فإنه لما نفذت قدرته لم يبق لشريكه قدرة البتة بل زالت قدرته بسبب قدرة الأول فيكون تعجيزا. الحادي عشر: أن نقرر هذه الدلالة على وجه آخر وهو أن نعين جسما وتقول هل يقدر كل واحد منهما على خلق الحركة فيه بدلا عن السكون وبالعكس، فإن لم يقدر كان عاجزا وإن قدر فنسوق الدلالة إلى أن نقول إذا خلق أحدهما فيه حركة امتنع على الثاني خلق السكون، فالأول أزال قدرة الثاني وعجزه فلا يكون إلها، وهذان الوجهان يفيدان العجز نظرا إلى قدرتيهما والدلالة الأولى إنما تفيد العجز بالنظر إلى إرادتيهما. وثاني عشرها: أنهما لما كانا عالمين بجميع المعلومات كان علم كل واحد منهما متعلقا بعين معلوم الآخر فوجب تماثل علميهما والذات القابلة لأحد المثلين قابلة للمثل الآخر، فاختصاص كل واحد منهما بتلك الصفة مع جواز اتصافه بصفة الآخر على البدل يستدعي مخصصا يخصص كل واحد منهما بعلمه وقدرته فيكون كل واحد منهما عبدا فقيرا ناقصا. وثالث عشرها: أن الشركة عيب ونقص في الشاهد، والفردانية والتوحد صفة كمال، ونرى الملوك يكرهون الشركة في الملك الحقير المختصر أشد الكراهية. ونرى أنه كلما كان الملك أعظم كانت النفرة عن الشركة أشد، فما ظنك بملك الله عز وجل وملكوته فلو أراد أحدهما استخلاص الملك لنفسه، فإن قدر عليه كان المغلوب فقيرا عاجزا فلا يكون إلها، وإن لم يقدر عليه كان في أشد الغم والكراهية فلا يكون إلها. ورابع عشرها: أنا لو قدرنا إلهين لكان إما أن يحتاج كل واحد منهما إلى الآخر أو يستغني كل واحد منهما عن الآخر أو يحتاج أحدهما إلى الآخر والآخر يستغني عنه، فإن كان الأول كان كل واحد منهما ناقصا لأن المحتاج ناقص وإن كان الثاني كان كل واحد منهما مستغنيا عنه، والمستغني عنه ناقص، ألا ترى أن البلد إذا كان له رئيس والناس يحصلون مصالح البلد من غير رجوع منهم إليه ومن غير التفات منهم إليه عد ذلك الرئيس ناقصا، فالإله هو الذي يستغني به ولا يستغنى عنه، وإن احتاج أحدهما إلى الآخر من غير عكس
153

كان المحتاج ناقصا والمحتاج إليه هو الإله. واعلم أن هذه الوجوه ظنية إقناعية والاعتماد على الوجوه المتقدمة، أما الدلائل السمعية فمن وجوه: أحدها: قوله تعالى: * (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) * (الحديد: 3) فالأول هو الفرد السابق، ولذلك لو قال أول عبد اشتريته فهو حر فلو اشترى أولا عبدين لم يحنث لأن شرط الأول أن يكون فردا. وهذا ليس بفرد فلو اشترى بعد ذلك واحدا لم يحنث أيضا لأن شرط الفرد أن يكون سابقا وهذا ليس بسابق. فلما وصف الله تعالى نفسه بكونه أولا وجب أن يكون فردا سابقا فوجب أن لا يكون له شريك. وثانيها: قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * (الأنعام: 59) فالنص يقتضي أن لا يكون له شريك. وثالثها: أن الله تعالى صرح بكلمة * (لا إله إلا هو) * (البقرة: 163) في سبعة وثلاثين موضعا من كتابه وصرح بالوحدانية في مواضع نحو قوله: * (وإلهكم إله واحد) * (البقرة: 163) وقوله: * (قل هو الله أحد) * (الإخلاص: 1) وكل ذلك صريح في الباب. ورابعها: قوله تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * حكم بهلاك كل ما سواه، ومن عدم بعد وجوده لا يكون قديما، ومن لا يكون قديما لا يكون إلها. وخامسها: قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * وهو كقوله: * (ولعلا بعضهم على بعض) * (المؤمنون: 91) وقوله: * (إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * (الإسراء: 42). وسادسها: قوله: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) * (الأنعام: 17) * (وإن يردك بخير فلا راد لفضله) * (يونس: 107) وقال في آية أخرى: * (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته) * (الزمر: 38). وسابعها: قوله تعالى: * (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به) * (الأنعام: 46) وهذا الحصر يدل على نفي الشريك. وثامنها: قوله تعالى: * (الله خالق كل شيء) * (الزمر: 62) فلو وجد الشريك لم يكن خالقا فلم يكن فيه فائدة، واعلم أن كل مسألة لا تتوقف معرفة صدق الرسل عليها فإنه يمكن إثباتها بالسمع والوحدانية لا تتوقف معرفة صدق الرسل عليها، فلا جرم يمكن إثباتها بالدلائل السمعية، واعلم أن من طعن في دلالة التمانع فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة تقول بإلهيتها عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم قالوا وهذا أولى لأنه تعالى حكى عنهم قوله: * (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) * ثم ذكر الدلالة على فساد هذا فوجب أن يختص الدليل به وبالله التوفيق.
أما قوله تعالى: * (فسبحان الله رب العرش عما يصفون) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: أنه سبحانه لما أقام الدلالة القاطعة على التوحيد قال بعده: * (فسبحان الله رب العرش عما يصفون) * أي هو منزه لأجل هذه الأدلة عن وصفهم بأن معه إلها، وهذا تنبيه على أن الإشتغال بالتسبيح إنما ينفع بعد إقامة الدلالة على كونه تعالى منزها وعلى أن طريقة التقليد طريقة مهجورة.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول أي فائدة لقوله: * (فسبحان الله رب العرش عما يصفون) *
154

ولم لم يكتف بقوله: * (فسبحان الله عما يصفون) *؟ وجوابه أن هذه المناظرة إنما وقعت مع عبدة الأصنام، إلا أن الدليل الذي ذكره الله تعالى يعم جميع المخالفين، ثم إنه تعالى بعد ذكر الدليل العام نبه على نكتة خاصة بعبدة الأصنام، وهي أنه كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الذي لا يعقل ولا يحس شريكا في الإلهية لخالق العرش العظيم وموجد السماوات والأرضين ومدبر الخلائق من النور والظلمة واللوح والقلم والذات والصفات والجماد والنبات وأنواع الحيوانات أجمعين.
أما قوله تعالى: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * فاعلم أنه مشتمل على بحثين: أحدهما: أن الله تعالى لا يسأل عن شيء من أفعاله ولا يقال له لم فعلت. والثاني: أن الخلائق مسؤولون عن أفعالهم، أما البحث الأول ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن عمدة من أثبت لله شريكا ليست إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى قالوا: رأينا في العالم خيرا وشرا ولذة وألما وحياة وموتا وصحة وسقما وغنى وفقرا، وفاعل الخير خير وفاعل الشر شرير، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيرا وشريرا معا، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلا للخير والآخر فاعلا للشر. ويرجع حاصل هذه الشبهة إلى أن مدبر العالم لو كان واحدا لما خص هذا بالحياة والصحة والغنى، وخص ذلك بالموت والألم والفقر. فيرجع حاصله إلى طلب اللمية في أفعال الله تعالى. فلما كان مدار أمر القائلين بالشريك على طلب اللمية لا جرم أنه سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك، لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يقع الابتداء بذكر الدليل المثبت للمطلوب. ثم يذكر بعده ما هو الجواب عن شبهة الخصم.
المسألة الثانية: في الدلالة على أنه سبحانه: * (لا يسأل عما يفعل) * أما أهل السنة فإنهم استدلوا عليه بوجوه: أحدها: أنه لو كان كل شيء معللا بعلة لكانت علية تلك العلة معللة بعلة أخرى ويلزم التسلسل فلا بد في قطع التسلسل من الإنتهاء إلى ما يكون غنيا عن العلة وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى وصفاته، وكما أن ذاته منزهة عن الإفتقار إلى المؤثر والعلة، وصفاته مبرأة عن الافتقار إلى المبدع والمخصص فكذا فاعليته يجب أن تكون مقدسة عن الاستناد إلى الموجب والمؤثر. وثانيها: أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة، إما أن تكون واجبة أو ممكنة فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونه فاعلا، وحينئذ يكون موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار، وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلا لله تعالى أيضا فتفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال. وثالثها: أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقر إلى علة أخرى ولزم التسلسل. ورابعها: أن من فعل فعلا لغرض، فإما أن يكون متمكنا من تحصل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة أو لا يكون متمكنا
155

منه. فإن كان متمكنا منه كان توسط تلك الواسطة عبثا وإن لم يكن متمكنا منه كان عاجزا والعجز على الله تعالى محال، أما العجز علينا فغير ممتنع فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض، وكل ذلك في حق الله تعالى محال. وخامسها: أنه لو كان فعله معللا بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العباد والأول محال لأنه منزه عن النفع والضر، وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وأن يكون عائدا إلى العباد، ولا غرض للعباد إلا حصول اللذات وعدم حصول الآلام، والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء من غير شيء من الوسائط. وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئا لأجل شيء. وسادسها: هو أنه لو فعل فعلا لغرض لكان وجود ذلك الغرض وعدمه بالنسبة إليه إما أن يكون على السواء أو لا يكون، فإن كان على السواء استحال أن يكون غرضا، وإن لم يكن على السواء لزم كونه تعالى ناقصا بذاته كاملا بغيره وذلك محال، فإن قلت وجود ذلك الغرض وعدمه وإن كان بالنسبة إليه على السواء. أما بالنسبة إلى العباد فالوجود أولى من العدم، قلنا: تحصيل تلك الأولوية للعبد وعدم تحصيلها له إما أن يكون بالنسبة إليه على السوية أو لا على السوية، ويعود التقسيم الأول. وسابعها: وهو أن الموجود إما هو سبحانه أو ملكه وملكه ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ذلك. وثامنها: وهو أن من قال لغيره لم فعلت ذلك؟ فهذا السؤال إنما يحسن حيث يحتمل أن يقدر السائل على منع المسؤول منه عن فعله وذلك من العبد في حق الله تعالى محال، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك؟ إما بأن يهدده بالعقاب والإيلام وذلك على الله تعالى محال، أو بأن يهدده باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والإنصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة وذلك أيضا محال، لأن استحقاقه للمدح واتصافه بصفات الحكمة والجلال أمور ذاتية له، وما ثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات العرضية الخارجية، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله لم فعلت هذا الفعل؟ فإن كل شيء صنعه ولا علة لصنعه، وأما المعتزلة فإنهم سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت هذا الفعل ولكنهم بنوا ذلك على أصل آخر، وهو أنه تعالى عالم بقبح القبائح، وعالم بكونه غنيا عنها، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح، وإذا عرفنا ذلك عرفنا إجمالا أن كل ما يفعله الله تعالى فهو حكمة وصواب، وإذا كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله لم فعلت هذا.
أما البحث الثاني: وهو قوله تعالى: * (وهم يسألون) * فهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أن الكلام في هذا السؤال إما في الإمكان العقلي أو في الوقوع السمعي، أما الإمكان العقلي فالخلاف فيه مع منكري التكاليف، واحتجوا على قولهم بوجوه. أحدها: قالوا: التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك، أو حال رجحان أحدهما على الآخر. والأول محال لأن حال الاستواء يمتنع الترجيح وحال امتناع الترجيح يكون التكليف
156

بالترجيح تكليفا بالمحال، والثاني محال لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع والمرجوع ممتنع الوقوع. والتكليف بإيقاع ما يكون واجب الوقوع عبث، وبإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف بما لا يطاق. وثانيها: قالوا كل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع فيكون التكليف به عبثا، وكل ما علم الله تعالى عدمه كان ممتنع الوقوع، فيكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق. وثالثها: قالوا: سؤال العبد ما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة فإن كان لفائدة فتلك الفائدة إن عادت إلى الله تعالى كان محتاجا وهو محال، وإن عادت إلى العبد فهو محال، لأن سؤاله لما كان سببا لتوجيه العقاب عليه، لم يكن هذا نفعا عائدا إلى العبد بل ضررا عائدا إليه، وإن لم يكن في السؤال فائدة كان عبثا وهو غير جائز على الحكيم، بل كان إضرارا وهو غير جائز على الرحيم. والجواب عنها من وجهين: الأول: أن غرضكم من إيراد هذه الشبهة النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم تكلفونا بنفي التكليف وهو متناقض. والثاني: وهو أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد وهو أن التكاليف كلها
تكاليف بما لا يطاق فلا يجوز من الحكيم أن يوجبها على العباد فيرجع حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال له تعالى: لم كلفت عبادك، إلا أن قد بينا أنه سبحانه: * (لا يسأل عمال يفعل وهم يسألون) * فظهر بهذا أن قوله: * (لا يسأل عما يفعل) * كالأصل والقاعدة لقوله: * (وهم يسألون) * فتأمل في هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن، وأما الوقوع السمعي فلقائل أن يقول إن قوله: * (وهم يسألون) * وإن كان متأكدا بقوله: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) * (الحجر: 92) وبقوله: * (وقفوهم إنهم مسؤولون) * (الصافات: 24) إلا أنه يناقضه قوله: * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) * (الرحمن: 39) والجواب: أن يوم القيامة يوم طويل وفيه مقامات فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام آخر دفعا للتناقض.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة فيه وجوه: أحدها: أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل، بل كان يذم بما حقه الذم، كما يحمد بما حقه المدح. وثانيها: أنه كان يجب أن لا يسأل عن الأمور إذا كان لا فاعل سواه. وثالثها: أنه كان لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم. ورابعها: أن أعمالهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنها من حيث خلقها وأوجدها فيهم. وخامسها: أنه تعالى صرح في كثير من المواضع بأنه يقبل حجة العباد عليه كقوله: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * (النساء: 165) وهذا يقتضي أن لهم عليه الحجة قبل بعثة الرسل، وقال: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) * (طه: 134) ونظائر هذه الآيات كثيرة وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على الله تعالى. وسادسها: قال ثمامة إذا وقف العبد يوم القيامة فيقول الله تعالى: ما حملك على معصيتي؟ فيقول على مذهب الجبر: يا رب إنك خلقتني كافرا وأمرتني بما لا أقدر عليه وحلت بيني وبينه، ولا شك أنه على مذهب الجبر يكون صادقا، وقال الله تعالى: * (هذا يوم ينفع
157

الصادقين صدقهم) * (المائدة: 119) فوجب أن ينفعه هذا الكلام فقيل له، ومن يدعه يقول: هذا الكلام أو يحتج؟ فقال ثمامة: أليس إذا منعه الله الكلام والحجة فقد علم أنه منعه مما لو لم يمنعه منه لانقطع في يده، وهذا نهاية الانقطاع. والجواب عن هذه الوجوه: أنها معارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه الثمانية التي بينا فيها أنه يستحيل طلب لمية أفعال الله تعالى وأحكامه.
وأما قوله تعالى: * (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم) * فاعلم أنه سبحانه كرر قوله: * (أم اتخذوا من دونه آلهة) * استعظاما لكفرهم أي وصفتم الله بأن له شريكا فهاتوا برهانكم على ذلك. أما من جهة العقل، أو من جهة النقل فإنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد أولا وقرر الأصل الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية ثانيا، أخذ يطالبهم بذكر شبهتهم ثالثا.
أما قوله تعالى: * (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسيره وفيه أقوال: أحدها: * (هذا ذكر من معي) * أي هذا هو الكتاب المنزل على من معي: * (وهذا ذكر من قبلي) * أي الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وهو التوراة والإنجيل والزبور والصحف، وليس في شيء منها أنى أذنت بأن تتخذوا إلها من دوني بل ليس فيها إلا: * (أني أنا الله لا إله إلا أنا) * كما قال بعد هذا: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) * وهذا قول ابن عباس واختيار القفال والزجاج. والثاني: وهو قول سعيد ابن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله: * (وذكر من قبلي) * صفة للقرآن فإنه كما يشتمل على أحوال هذه الأمة فكذا يشتمل على أحوال الأمم الماضية. الثالث: ما ذكره القفال وهو أن المعنى قل لهم هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على بيان أحوال من معي من المخالفين والموافقين وعلى بيان أحوال من قبلي من المخالفين والموافقين فاختاروا لأنفسكم، كأن الغرض منه التهديد.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف " قرىء: * (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) * بالتنوين ومن مفعول منصوب بالذكر كقوله: * (أو إطعام في يوم ذي مسبغة * يتيما) * (البلد: 14، 15) وهو الأصل والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله: * (غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) * (الروم: 2، 3) وقرئ: من معي ومن قبلي، بكسر ميم من على ترك الإضافة في هذه القراءة وإدخال الجار على مع غريب والعذر فيه أنه اسم هو ظرف نحو قبل وبعد فدخل من عليه كما يدخل على أخواته وقرئ: ذكر معي وذكر قبلي.
وأما قوله: * (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد وطالبهم بالدلالة على ما ادعوه وبين أنه لا دليل لهم البتة عليه لا من جهة العقل ولا من جهة السمع، ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه، بل ذلك لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد كله وهو عدم العلم، ثم ترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه.
158

المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": قرىء: * (الحق) * بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل.
أما قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) * فاعلم أن يوحى ونوحي قراءتان مشهورتان، وهذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد.
قوله تعالى
* (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من
خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين) *
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين بالدلائل الباهرة كونه منزها عن الشريك والضد والند أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد فقال: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) * نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله وأضافوا إلى ذلك أنه تعالى صاهر الجن على ما حكى الله تعالى عنهم فقال: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * (الصافات: 158) ثم إنه سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله سبحانه لأن الولد لا بد وأن يكون شبيها بالوالد فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه، ثم لا بد وأن يخالفه من وجه آخر وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات الله سبحانه وتعالى وكل مركب ممكن، فاتخاذه للولد يدل على كونه ممكنا غير واجب. وذلك يخرجه عن حد الإلهية ويدخله في حد العبودية، ولذلك نزه نفسه عنه.
أما قوله: * (بل عباد مكرمون) * فاعلم أنه سبحانه لما نزه نفسه عن الولد أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم مكرمون مفضلون على سائر العباد وقرئ: * (مكرمون، لا يسبقونه) * من سابقته فسبقته أسبقه. والمعنى أنهم يتبعونه في قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله فلا يسبق قولهم قوله، وكما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضا كذلك مبني على أمره لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به.
ثم إنه سبحانه ذكر ما يجري مجرى السبب لهذه الطاعة فقال: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) * والمعنى أنهم لما علموا كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات علموا كونه عالما بظواهرهم هم وبواطنهم، فكان ذلك داعيا لهم إلى نهاية الخضوع وكمال العبودية. وذكر
159

المفسرون فيه وجوها. أحدها: قال ابن عباس: يعلم ما قدموا وما أخروا من أعمالهم. وثانيها: ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا وقيل على عكس ذلك. وثالثها: قال مقاتل: يعلم ما كان قبل أن يخلقهم وما يكون بعد خلقهم. وحقيقة المعنى أنهم يتقلبون تحت قدرته في ملكوته وهو محيط بهم، وإذا كانت هذه حالتهم فكيف يستحقون العبادة وكيف يتقدمون بين يدي الله تعالى فيشفعون لمن لم يأذن الله تعالى له. ثم كشف عن هذا المعنى فقال: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * أي لمن هو عند الله مرضي: * (وهم من خشيته مشفقون) * أي من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إلى المفعول ومشفقون خائفون ولا يأمنون مكره وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله تعالى " ونظيره قوله تعالى: * (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن) * (النساء: 38).
أما قوله تعالى: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم) * فالمعنى أن كل من يقول من الملائكة ذلك القول فإنا نجازي ذلك القائل بهذا الجزاء، وهذا لا يدل على أنهم قالوا ذلك أو ما قالوه وهو قريب من قوله تعالى: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: هذه الصفات تدل على العبودية وتنافي الولادة لوجوه. أحدها: أنهم لما بالغوا في الطاعة إلى حيث لا يقولون قولا ولا يعملون عملا إلا بأمره فهذه صفات للعبيد لا صفات الأولاد. وثانيها: أنه سبحانه لما كان عالما بأسرار الملائكة وهم لا يعلمون أسرار الله تعالى وجب أن يكون الإله المستحق للعبادة هو لا هؤلاء الملائكة وهذه الدلالة هي نفس ما ذكره عيسى عليه السلام في قوله: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * (المائدة: 116). وثالثها: أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ومن يكن إلها أو ولدا للإله لا يكون كذلك. ورابعها: أنهم على نهاية الإشفاق والوجل وذلك ليس إلا من صفات العبيد. وخامسها: نبه تعالى بقوله: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم) * على أن حالهم حال سائر العبيد المكلفين في الوعد والوعيد فكيف يصح كونهم آلهة.
المسألة الثانية: احتجت المعتزلة بقوله تعالى: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر لأنه لا يقال في أهل الكبائر إن الله يرتضيهم. والجواب: قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك: * (إلا لمن ارتضى) * أي لمن قال لا إله إلا الله. واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر وتقريره هو أن من قال لا إله إلا الله فقد ارتضاه تعالى في ذلك ومتى صدق عليه أنه ارتضاه الله تعالى في ذلك فقد صدق عليه أنه ارتضاه الله لأن المركب متى صدق فقد صدق لا محالة كل واحد من أجزائه، وإذا ثبت أن الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية فثبت بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على ما قرره ابن عباس رضي الله عنهما.
المسألة الثالثة: هذه الآية تدل على أمور ثلاثة: أحدها: تدل على كون الملائكة مكلفين
160

من حيث قال: * (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * * (وهم من خشيته مشفقون) * ومن حيث الوعيد. وثانيها: تدل أيضا على أن الملائكة معصومون لأنه قال: * (وهم بأمره يعملون) *. وثالثها: قال القاضي عبد الجبار قوله: * (كذلك نجزي الظالمين) * يدل على أن كل ظالم يجزيه الله جهنم كما توعد الملائكة به وذلك يوجب القطع على أنه تعالى لا يغفر لأهل الكبائر في الآخرة. والجواب: أقصى ما في الباب أن هذا العموم مشعر بالوعيد وهو معارض بعمومات الوعيد.
قوله تعالى
* (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من المآء كل شىء حى أفلا يؤمنون * وجعلنا فى الارض رواسى أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون * وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن ءاياتها معرضون * وهو الذى خلق اليل والنهار والشمس والقمر كل فى فلك يسبحون) *
اعلم أنه سبحانه وتعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع، وهذه الدلائل أيضا دالة على كونه منزها عن الشريك، لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم، ووجود الإلهين يقتضي وقوع الفساد. فهذه الدلائل تدل من جهة على التوحيد فتكون كالتوكيد لما تقدم. وفيها أيضا رد على عبدة الأوثان من حيث إن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات الشريفة كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع. فهذا وجه تعلق هذه الآية بما قبلها، واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر ههنا ستة أنواع من الدلائل:
النوع الأول: قوله: * (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ألم ير بغير الواو والباقون بالواو وإدخال الواو يدل على العطف لهذا القول على أمر تقدمه. قال صاحب " الكشاف ": قرىء رتقا بفتح التاء، وكلاهما في معنى
161

المفعول كالخلق والنفض أي كانتا مرتوقتين، فإن قلت الرتق صالح أن يقع موقع مرتوقتين لأنه مصدر فما بال الرتق؟ قلت: هو على تقدير موصوف أي كانتا شيئا رتقا.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: المراد من الرؤية في قوله تعالى: * (أو لم ير الذين كفروا) *، إما الرؤية، وإما العلم والأول مشكل، أما أولا فلأن القوم ما رأوهما كذلك البتة، وأما ثانيا فلقوله سبحانه وتعالى: * (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض) * (الكهف: 51)، وأما العلم فمشكل لأن الأجسام، قابلة للفتق والرتق في أنفسها، فالحكم عليها بالرتق أولا وبالفتق ثانيا لا سبيل إليه إلا السمع، والمناظرة مع الكفار الذين ينكرون الرسالة، فكيف يجوز التمسك بمثل هذا الاستدلال. والجواب: المراد من الرؤية هو العلم وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه: أحدها: أنا نثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسائر المعجزات ثم نستدل بقوله: ثم نجعله دليلا على حصول النظام في العالم وانتقاء الفساد عنه وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد. وثانيا: أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق والعقل، يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصا. وثالثها: أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك فإنه جاء في التوراة إن الله تعالى خلق جوهرة، ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم خلق السماوات والأرض منها وفتق بينها، وكان بين عبدة الأوثان وبين اليهود نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك.
المسألة الثالثة: إنما قال كانتا رتقا ولم يقل كن رتقا لأن السماوات لفظ الجمع والمراد به الواحد الدال على الجنس، قال الأخفش: السماوات نوع والأرض نوع، ومثله: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) * ومن ذلك قولهم أصلحنا بين القومين، ومرت بنا غنمان أسودان، لأن هذا القطيع غنم وذلك غنم.
المسألة الرابعة: الرتق في اللغة السد، يقال: رتقت الشيء فارتتق والفتق الفصل بين الشيئين الملتصقين. قال الزجاج: الرتق مصدر والمعنى كانتا ذواتي رتق، قال المفضل: إنما لم يقل كانتا رتقين كقوله: * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) * (الأنبياء: 8) لأن كل واحد جسد كذلك فيما نحن فيه كل واحد رتق.
المسألة الخامسة: اختلف المفسرون في المراد من الرتق والفتق على أقوال: أحدها: وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أن المعنى كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء لأنه تعالى لما فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية، قال كعب: خلق الله السماوات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحا توسطتهما ففتقهما بها. وثانيها: وهو قول أبي صالح ومجاهد أن المعنى كانت السماوات مرتفعة فجعلت سبع سماوات
162

وكذلك الأرضون. وثالثها: وهو قول ابن عباس والحسن وأكثر المفسرين أن السماوات والأرض كانتا رتقا بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر، ونظيره قوله تعالى: * (والسماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع) * (الطارق: 11، 12) ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي) * وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا. فإن قيل: هذا الوجه مرجوح لأن المطر لا ينزل من السماوات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا، قلنا: إنما أطلق عليه لفظ الجمع، لأن كل قطعة منها سماء، كما يقال: ثوب أخلاق وبرمة أعشار. واعلم أن هذا التأويل يجوز حمل الرؤية على الإبصار. ورابعها: قول أبي مسلم الأصفهاني: يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله: * (فاطر السماوات والأرض) * (الشورى: 11) وكقوله: * (قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن) * (الأنبياء: 56) فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق. أقول وتحقيقه أن العدم نفي محض، فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة، بل كأنه أمر واحد متصل متشابه، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض وينفصل بعضها عن بعض، فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازا عن العدم والفتق عن الوجود. وخامسها: أن الليل سابق على النهار، لقوله تعالى: * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) * (يس: 37) وكانت السماوات والأرض مظلمة أولا ففتقهما الله تعالى بإظهار النهار المبصر، فإن قيل: فأي الأقاويل أليق بالظاهر؟ قلنا: الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه، والأرض على ما هي عليه كانتا رتقا، ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان، والرتق ضد الفتق فإذا كان الفتق هو المفارقة فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة، وبهذا الطريق صار الوجه الرابع والخامس مرجوحا، ويصير الوجه الأول أولى الوجوه ويتلوه الوجه الثاني. وهو أن كل واحد منهما كان رتقا ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعا، ويتلوه الثالث وهو أنهما كانا صلبين من غير فطور وفرج، ففتقهما لينزل المطر من السماء، ويظهر النبات على الأرض.
المسألة السادسة: دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع وعلى وحدانيته ظاهرة، لأن أحدا لا يقدر على مثل ذلك، والأقرب أنه سبحانه خلقهما رتقا لما فيه من المصلحة للملائكة، ثم لما أسكن الله الأرض أهلها جعلهما فتقا لما فيه من منافع العباد.
النوع الثاني من الدلائل: قوله تعالى: * (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف " قوله: وجعلنا لا يخلو إما أن يتعدى إلى واحد أو اثنين، فإن تعدى إلى واحد فالمعنى خلقنا من الماء كل حيوان كقوله: * (والله خلق كل دابة من ماء) * (النور: 45) أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله: * (خلق الإنسان من عجل) * (الأنبياء: 37) وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه ومن هذا نحو من
163

في قوله عليه السلام: " ما أنا من دد ولا الدد مني " وقرئ حيا وهو المفعول الثاني. المسألة الثانية: لقائل أن يقول كيف قال: وخلقنا من الماء كل حيوان، وقد قال: * (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) * (الحجر: 27) وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام: * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني) * (المائدة: 110) وقال في حق آدم: * (خلقه من تراب) * (آل عمران: 59) والجواب: اللفظ وإن كان عاما إلا أن القرينة المخصصة قائمة، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهدا محسوسا ليكون أقرب إلى المقصود، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام، لأن الكفار لم يروا شيئا من ذلك.
المسألة الثالثة: اختلف المفسرون فقال بعضهم المراد من قوله: * (كل شيء حي) * الحيوان فقط، وقال آخرون بل يدخل فيه النبات والشجر لأنه من الماء صار ناميا وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر، وهذا القول أليق بالمعنى المقصود، كأنه تعالى قال: ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حيا، حجة القول الأول أن النبات لا يسمى حيا، قلنا لا نسلم والدليل عليه قوله تعالى: * (كيف يحيي الأرض بعد موتها) * (الروم: 50) أما قوله تعالى: * (أفلا يؤمنون) * فالمراد أفلا يؤمنون بأن يتدبروا هذه الأدلة فيعلموا بها الخالق الذي لا يشبه غيره ويتركوا طريقة الشرك.
النوع الثالث: قوله تعالى: * (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن تميد بهم كراهة أن تميد بهم أو لئلا تميد بهم فحذف لا واللام الأولى وإنما جاز حذف لا لعدم الالتباس كما ترى ذلك في قوله: * (لئلا يعلم أهل الكتاب) *.
المسألة الثانية: الرواسي الجبال، والراسي هو الداخل في الأرض.
المسألة الثالثة: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الأرض بسطت على الماء فكانت تنكفئ بأهلها كما تنكفئ السفينة، لأنها بسطت على الماء فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال.
النوع الرابع: قوله تعالى: * (وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": الفج الطريق الواسع، فإن قلت في الفجاج معنى الوصف فمالها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى: * (لتسلكوا منها سبلا فجاجا) * قلت لم تقدم وهي صفة، ولكنها جعلت حالا كقوله: لعزة موحشا طلل قديم (c)
والفرق من جهة المعنى أن قوله سبلا فجاجا، إعلام بأنه سبحانه جعل فيها طرقا واسعة، وأما قوله: * (فجاجا سبلا) * فهو إعلام بأنه سبحانه حين خلقها جعلها على تلك الصفة، فهذه الآية بيان لما أبهم في الآية الأولى.
المسألة الثانية: في قوله * (فيها) * قولان: أحدهما أنها عائدة إلى الجبال، أي وجعلنا في الجبال التي هي رواسي فجاجا سبلا، أي طرقا واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرقها فجاجا وجعل فيها طرقا. الثاني:
164

أنها عائدة إلى الأرض، أي وجعلنا في الأرض فجاجا وهي المسالك والطرق وهو قول الكلبي.
المسألة الثالثة: قوله: * (لعلهم يهتدون) * معناه لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله تعالى.
المسألة الرابعة: في يهتدون قولان: الأول: ليهتدوا إلى البلاد. والثاني: ليهتدوا إلى وحدانية الله تعالى بالاستدلال، قالت المعتزلة وهذا التأويل يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء. والكلام عليه قد تقدم، وفيه قول ثالث وهو أن الإهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في مفهوم واحد وهو أصل الاهتداء فيحمل اللفظ على ذلك المشترك وحينئذ تكون الآية متناولة للأمرين ولا يلزم منه كون اللفظ المشترك مستعملا في مفهوميه معا.
النوع الخامس: قوله تعالى: * (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: سمى السماء سقفا لأنها للأرض كالسقف للبيت.
المسألة الثانية: في المحفوظ قولان: أحدهما: أن محفوظ من الوقوع والسقوط الذين يجري مثلهما على سائر السقوف كقوله: * (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) * (الحج: 65) وقال: * (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) * (الروم: 25) وقال تعالى: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) * (فاطر: 41) وقال: * (ولا يؤده حفظهما) * (البقرة: 255). الثاني: محفوظا من الشياطين قال تعالى: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) * (الحجر: 17) ثم ههنا قولان: أحدهما: أنه محفوظ بالملائكة من الشياطين. والثاني: أنه محفوظ بالنجوم من الشياطين، والقول الأول أقوى لأن حمل الآيات عليه مما يزيد هذه النعمة عظما لأنه سبحانه كالمتكفل بحفظه وسقوطه على المكلفين بخلاف القول الثاني لأنه لا يخاف على السماء من استراق سمع الجن.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (وهم عن آياتها معرضون) * معناه عما وضع الله تعالى فيها من الأدلة والعبر في حركاتها وكيفية حركاتها وجهات حركاتها ومطالعها ومغاربها واتصالات بعضها ببعض وانفصالاتها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة.
المسألة الرابعة: قرىء عن آيتها على التوحيد والمراد الجنس أي هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية كالاستضاءة بقمرها والاهتداء بكواكبها، وحياة الأرض بأمطارها وهم عن كونها آية بينة على وجود الخالق ووحدانيته معرضون.
النوع السادس: قوله تعالى: * (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه سبحانه لما قال: * (وهم عن آياتها معرضون) * فصل تلك الآيات ههنا لأنه تعالى لو خلق السماء والأرض ولم يخلق الشمس والقمر ليظهر بهما الليل والنهار ويظهر بهما من المنافع بتعاقب الحر والبرد لم تتكامل نعم الله تعالى على عباده بل إنما يكون
165

ذلك بسبب حركاتها في أفلاكها، فلهذا قال: * (كل في فلك يسبحون) * وتقريره أن نقول قد ثبت بالأرصاد أن للكواكب حركات مختلفة فمنها حركة تشملها بأسرها آخذة من المشرق إلى المغرب وهي حركة الشمس اليومية، ثم قال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة، وههنا حركة أخرى من المغرب إلى المشرق قالوا وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة، واستدلوا عليها بأنا وجدنا الكواكب السيارة كلما كان منها أسرع حركة إذا قارن ما هو أبطأ حركة فإنه بعد ذلك يتقدمه نحو المشرق وهذا في القمر ظاهر جدا فإنه يظهر بعد الإجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس ثم يزداد كل ليلة بعدا منها إلى أن يقابلها على قريب من نصف الشهر وكل كوكب كان شرقيا منه على طريقته في ممر البروج يزداد كل ليلة قربا منه ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي وتنكسف تلك الكواكب عنه بطرفه الغربي فعرفنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق، وكذلك وجدنا للكواكب الثابتة حركة بطيئة على توالي البروج فعرفنا أن لها حركة من المغرب إلى المشرق. هذا ما قالوه ونحن خالفناهم فيه، وقلنا: إن ذلك محال لأن الشمس مثلا لو كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة ولا شك أنها متحركة بسبب الحركة اليومية من المغرب إلى المشرق لزم كون الجرم الواحد متحركا حركتين إلى جهتين مختلفتين دفعة واحدة وذلك محال لأن الحركة إلى الجهة تقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين وهو محال. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: الشمس حال حركتها إلى الجانب الشرقي تنقطع حركتها إلى الجانب الغربي وبالعكس، وأيضا فما ذكرتموه ينتقض بحركة الرحى إلى جانب والنملة التي تكون عليها تتحرك إلى خلاف ذلك الجانب، قلنا: أما الأول فلا يستقيم عل أصولكم لأن حركات الأفلاك مصونة عن الانقطاع عندكم، وأما الثاني فهو مثال محتمل وما ذكرناه برهان قاطع فلا يتعارضان، أما الذي احتجوا به على أن للكواكب حركة من المغرب إلى المشرق فهو ضعيف، فإنه يقال لم لا يجوز أن يقال إن جميع الكواكب متحركة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض فيتخلف بعضها عن بعض بسبب ذلك التخلف فيظن أنها تتحرك إلى خلاف تلك الجهة مثلا الفلك الأعظم استدارته من أول اليوم الأول إلى أول اليوم الثاني دورة تامة وفلك الثوابت استدارته من أول اليوم الأولى إلى أول اليوم الثاني دورة تامة إلا مقدار ثانية فيظن أن فلك الثوابت تحرك من الجهة الأخرى مقدار ثانية ولا يكون كذلك بل ذلك لأنه تخلف بمقدار ثانية، وعلى هذا التقدير فجميع الجهات شرقية وأسرعها الحركة اليومية، ثم يليها في السرعة فلك الثوابت ثم يليها زحل وهكذا إلى أن ينتهي إلى فلك القمر فهو أبطأ الأفلاك حركة وهذا الذي قلناه مع ما يشهد له البرهان المذكور فهو أقرب إلى ترتيب الوجود، فإن على هذا التقدير تكون نهاية الحركة الفلك المحيط وهو الفلك الأعظم
166

ونهاية السكون الجرم الذي هو في غاية البعد وهو الأرض، ثم إن كل ما كان أقرب إلى الفلك المحيط كان أسرع حركة وما كان منه أبعد كان أبطأ فهذا ما نقوله في حركات الأفلاك في أطوالها وأما حركاتها في عروضها فظاهرة وذلك بسبب اختلاف ميولها إلى الشمال والجنوب. إذا ثبت هذا فنقول لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصا ببقعة واحدة، فكان سائر الجوانب تخلو عن المنافع الحاصلة منه، وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال وكانت القوة هناك لكيفية واحدة، فإن كانت حارة أفنت الرطوبات فأحالتها كلها إلى النارية، وبالجملة فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى وخط المتوسط بينهما على كيفية أخرى فيكون في موضع شتاء دائم ويكون فيه الهواء والعجاجة وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم تكن عودات متتالية، وكان الكوكب يتحرك بطيئا لكان الميل قليل المنفعة والتأثير شديد الإفراط، وكان يعرض قريبا مما لو لم يكن ميل ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت، وأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة ثم ينتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة ويبقى في كل جهة برهة تم بذلك تأثيره بحيث يبقى مصونا عن طرفي الإفراط والتفريط. وبالجملة، فالعقول لا تقف إلا على القليل من أسرار المخلوقات فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية.
المسألة الثانية: أنه لا يجوز أن يقول: * (وكل في فلك يسبحون) * إلا ويدخل في الكلام مع الشمس والقمر النجوم ليثبت معنى الجمع ومعنى الكل فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة أولا فإنها مذكورة لعود هذا الضمير إليها والله أعلم.
المسألة الثالثة: الفلك في كلام العرب كل شيء دائر وجمعه أفلاك، واختلف العقلاء فيه فقال بعضهم: الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم وهو قول الضحاك، وقال الأكثرون: بل هي أجسام تدور النجوم عليها، وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن، ثم اختلفوا في كيفيته فقال بعضهم: الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه، وقال الكلبي: ماء مجموع تجري فيه الكواكب واحتج بأن السباحة لا تكون إلا في الماء، قلنا؛ لا نسلم فإنه يقال في الفرس الذي يمد يديه في الجري سابح، وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة: إنها أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والإلتئام والنمو والذبول، فأما الكلام على الفلاسفة فهو مذكور في الكتب اللائقة به، والحق أنه لا سبيل إلى معرفة صفات السماوات إلا بالخبر.
المسألة الرابعة: اختلف الناس في حركات الكواكب والوجوه الممكنة فيها ثلاثة فإنه إما أن يكون الفلك ساكنا والكواكب تتحرك فيه كحركة السمك في الماء الراكد، وإما أن يكون الفلك متحركا والكواكب تتحرك فيه أيضا إما مخالفا لجهة حركته أو موافقا لجهته إما
167

بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة، وإما أن يكون الفلك متحركا والكوكب ساكنا، أما الرأي الأول فقالت الفلاسفة إنه باطل لأنه يوجب خرق الأفلاك وهو محال، وأما الرأي الثاني فحركة الكواكب إن فرضت مخالفة لحركة الفلك فذاك أيضا يوجب الخرق وإن كانت حركتها إلى جهة الفلك فإن كانت مخالفة لها
في السرعة والبطء لزم الانخراق وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضا لازم لأن الكواكب تتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أن يكون الكوكب مغروزا في الفلك واقفا فيه والفلك يتحرك فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك، واعلم أن مدار هذا الكلام على امتناع الخرق على الأفلاك وهو باطل بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي يدل عليه لفظ القرآن أن تكون الأفلاك واقفة والكواكب تكون جارية فيها كما تسبح السمكة في الماء.
المسألة الخامسة: قال صاحب " الكشاف ": * (كل) * التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي كلهم في فلك يسبحون والله أعلم.
المسألة السادسة: احتج أبو علي بن سينا على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله: * (يسبحون) * قال والجمع بالواو والنون لا يكون إلا للعقلاء، وبقوله تعالى: * (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) * (يوسف: 4)، والجواب: إنما جعل واو الضمير للعقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة قال صاحب " الكشاف ": فإن قلت الجملة ما محلها قلت النصب على الحال من الشمس والقمر أو لا محل لها لاستئنافها، فإن قلت: لكل واحد من القمرين فلك على حدة فكيف قيل جميعهم يسبحون في فلك؟ قلت: هذا كقولهم كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفا أي كل واحد منهم.
قوله تعالى
* (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون * كل نفس ذآئقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون * وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذى يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون) *
168

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما استدل بالأشياء الستة التي شرحناها في الفصل المتقدم وكانت تلك الأشياء من أصول النعم الدنيوية أتبعه بما نبه به على أن هذه الدنيا جعلها كذلك لا لتبقى وتدوم أو يبقى فيها من خلقت الدنيا له، بل خلقها سبحانه وتعالى للإبتلاء والامتحان، ولكي يتوصل بها إلى الآخرة التي هي دار الخلود.
فأما قوله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) * ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: قال مقاتل: أنا أناسا كانوا يقولون إن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يموت فنزلت هذه الآية. وثانيها: كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا أي قضى الله تعالى أن لا يخلد في الدنيا بشرا فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت أفإن مت أنت أيبقى هؤلاء لا وفي معناه قول القائل: فقل للشامتين بنا أفيقوا * سيلقى الشامتون كما لقينا
وثالثها: يحتمل أنه لما ظهر أنه عليه السلام خاتم الأنبياء جاز أن يقدر مقدر أنه لا يموت إذ لو مات لتغير شرعه فنبه الله تعالى على أن حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام في الموت.
أما قوله تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: أن هذا العموم مخصوص فإنه تعالى نفس لقوله: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * (المائدة: 116) مع أن الموت لا يجوز عليه وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت، والعام المخصوص حجة فيبقى معمولا به فيما عدا هذه الأشياء، وذلك يبطل قول الفلاسفة في أن الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية لا تموت. والثاني: الذوق ههنا لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن الموت ليس من جنس المطعوم حتى يذاق بل الذوق إدراك خاص فيجوز جعله مجازا عن أصل الإدراك، وأما الموت فالمراد منه ههنا مقدماته من الآلام العظيمة لأن الموت قبل دخوله في الوجود يمتنع إدراكه وحال وجوده يصير الشخص ميتا ولا يدرك شيئا. والثالث: الإضافة في ذائقة الموت في تقدير الإنفصال لأنه لما يستقبل كقوله: * (غير محلي الصيد) * (المائدة: 1)، و * (هديا بالغ الكعبة) * (المائدة: 95).
أما قوله تعالى: * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الابتلاء لا يتحقق إلا مع التكليف، فالآية دالة على حصول التكليف وتدل على أنه سبحانه وتعالى لم يقتصر بالمكلف على ما أمر ونهى وإن كان فيه صعوبة بل ابتلاه بأمرين: أحدهما: ما سماه خيرا وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور والتمكين من المرادات. والثاني: ما سماه شرا وهو المضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين، فبين تعالى أن العبد مع التكليف يتردد بين هاتين الحالتين، لكي يشكر على المنح ويصبر في المحن، فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم.
المسألة الثانية: إنما سمي ذلك ابتلاء وهو عالم بما سيكون من أعمال العالمين قبل وجودهم
169

لأنه في صورة الاختبار.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": * (فتنة) * مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه.
المسألة الرابعة: احتجت التناسخية بقوله: * (وإلينا ترجعون) * فإن الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه. والجواب: أنه مذكور مجازا.
المسألة الخامسة: المراد من قوله: * (وإلينا ترجعون) * أنهم يرجعون إلى حكمه ومحاسبته ومجازاته، فبين بذلك بطلان قولهم في نفي البعث والمعاد، واستدلت التناسخية بهذه الآية، وقالوا: إن الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه، وقد كنا موجودين قبل دخولنا في هذا العالم واستدلت المجسمة بأنا أجسام، فرجوعنا إلى الله تعالى يقتضي كون الله تعالى جسما. والجواب عنه قد تقدم في مواضع كثيرة.
أما قوله تعالى: * (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤا) * قال السدي ومقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو سفيان
مع أبي جهل، فقال أبو جهل لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فقال أبو سفيان: وما تنكر أن يكون نبيا في بني عبد مناف. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قولهما فقال لأبي جهل: " ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان: فإنما قلت ما قلت حمية " فنزلت هذه الآية، ثم فسر الله تعالى ذلك بقوله: * (أهذا الذي يذكر آلهتكم) * والذكر يكون بخير وبخلافه، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد كقولك للرجل سمعت فلانا يذكرك، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء، وإن كان عدوا فهو ذم، ومنه قوله تعالى: * (سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) * (الأنبياء: 60) والمعنى أنه يبطل كونها معبودة ويقبح عبادتها.
وأما قوله تعالى: * (وهم بذكر الرحمن هم كافرون) * فالمعنى أنه يعيبون عليه ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، مع * (أنهم بذكر الرحمن) * الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت * (كافرون) * ولا فعل أقبح من ذلك، فيكون الهزؤ واللعب والذم عليهم يعود من حيث لا يشعرون، ويحتمل أن يراد * (بذكر الرحمن) * القرآن والكتب، والمعنى في إعادتهم أن الأولى إشارة إلى القوم الذين كانوا يفعلون ذلك الفعل، والثانية إبانة لاختصاصهم به، وأيضا فإن في أعادتها تأكيدا وتعظيما لفعلهم.
قوله تعالى
* (خلق الإنسان من عجل سأوريكم ءاياتى فلا تستعجلون * ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم
170

ولا هم ينصرون * بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون * ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون) *
أما قوله تعالى: * (خلق الإنسان من عجل) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: في المراد من الإنسان قولان: أحدهما: أنه النوع، والثاني: أنه شخص معين. أما القول الأول فتقريره أنهم كانوا يستعجلون عذاب الله تعالى وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار: * (ويقولون متى هذا الوعد) * (الملك: 25) فأراد زجرهم عن ذلك، فقدم أولا ذم الإنسان على إفراط العجلة ثم نهاهم وزجرهم كأنه قال: لا يبعد منكم أن تستعجلوا فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم، فإن قيل: مقدمة الكلام لا بد وأن تكون مناسبة للكلام، وكون الإنسان مخلوقا من العجل يناسب كونه معذورا فيه فلم رتب على هذه المقدمة قوله: * (فلا تستعجلون) * قلنا: لأن العائق كلما كان أشد، كانت القدرة عليه مخالفته أكمل، فكأنه سبحانه نبه بهذا على أن ترك الاستعجال حالة شريفة عالية مرغوب فيها. أما القول الثاني: وهو أن المراد شخص معين فهذا فيه وجهان: أحدهما: أن المراد آدم عليه السلام، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والكلبي ومقاتل والضحاك، وروى ابن جريج وليث بن أبي سليم عن مجاهد قال: خلق الله آدم عليه السلام بعد كل شيء من آخر نهار الجمعة، فلما دخل الروح رأسه ولم يبلغ أسفله، قال: يا رب استعجل خلقي قبل غروب الشمس، قال ليث: فذلك قوله تعالى: * (خلق الإنسان من عجل) * وعن السدي لما نفخ فيه الروح فدخل في رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله، فقال ذلك: فقال الله له: يرحمك ربك. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، ولما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه إلى ثمار الجنة. وهذا هو الذي أورث أولاده العجلة. وثانيهما: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء: نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث والمراد بالإنسان هو، واعلم أن القول الأول أولى لأن الغرض ذم القوم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا لفظ الإنسان على النوع.
المسألة الثانية: من المفسرين من أجرى هذه الآية على ظاهرها ومنهم من قلبها، أما الأولون فلهم فيها أقوال: أحدها: قول المحققين وهو أن قوله: * (خلق الإنسان من عجل) * أي خلق
171

عجولا، وذلك على المبالغة كما قيل للرجل الذكي: هو نار تشتعل، والعرب قد تسمي المرء بما يكثر منه فتقول: ما أنت إلا أكل ونوم، وما هو إلا إقبال وإدبار، قال الشاعر: أما إذا ذكرت حتى إذا غفلت * فإنما هي إقبال وإدبار
وهذا الوجه متأكد بقوله تعالى: * (وكان الإنسان عجولا) * (الإسراء: 11) قال المبرد: * (خلق الإنسان من عجل) * أي من شأنه العجلة كقوله: * (خلقكم من ضعف) * (الروم: 54) أي ضعفاء. وثانيها: قال أبو عبيد: العجل الطين بلغة حمير وأنشدوا: والنخل يثبت بين الماء والعجل (c)
وثالثها: قال الأخفش: (من عجل) أي من تعجيل من الأمر وهو قوله كن. ورابعها: من عجل، أي من ضعف عن الحسن. أما الذين قلبوها فقالوا المعنى: خلق العجل من الإنسان، كقوله: * (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) * (الأحقاف: 20) أي تعرض النار عليهم والقول الأول أقرب إلى الصواب وأبعد الأقوال هذا القلب لأنه إذا أمكن حمل الكلام على معنى صحيح وهو على ترتيبه فهو أولى من أن يحمل على أنه مقلوب، وأيضا فإن قوله: خلقت العجلة من الإنسان فيه وجوه من المجاز. فما الفائدة في تغيير النظم إلى ما يجري مجراه في المجاز.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: القوم استعجلوا الوعد على وجه التكذيب ومن هذا حاله لا يكون مستعجلا على الحقيقة. قلنا: استعجالهم على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه إذا ذم المرء استعجال الأمر المعلوم فبأن يذم على استعجال ما لا يكون معلوما له كان أولى، وأيضا فإن استعجالهم بما توعدهم من عقاب الآخرة أو هلاك الدنيا يتضمن استعجال الموت وهم عالمون بذلك فكانوا مستعجلين في الحقيقة.
أما قوله تعالى: * (سأريكم آياتي فلا تستعجلون) * فقد اختلفوا في المراد بالآيات على أقوال: أحدها: أنه هي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولذلك قال: * (فلا تستعجلون) * أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها. وثانيها: أنها أدلة التوحيد وصدق الرسول. وثالثها: أنها آثار القرون الماضية بالشام واليمن والأول أقرب إلى النظم.
أما قوله تعالى: * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * فاعلم أن هذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء وهو كقوله: * (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب) * (العنكبوت: 53) فبين تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم، ثم إنه سبحانه ذكر في رفع هذا الحزن عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهين: الأول: بأن بين ما لصاحب هذا الاستهزاء من العقاب الشديد فقال: * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون) * قال صاحب " الكشاف ": جواب لو محذوف وحين مفعول به ليعلم أي لو يعلمون الوقت الذي يسألون عنه بقولهم: * (متى هذا الوعد) * وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من قدام ومن خلف فلا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ولا يجدون أيضا ناصرا ينصرهم لقوله تعالى:
172

* (فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) * (غافر: 29) لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم به هو الذي هونه عليهم وإنما حسن حذف الجواب لأن ما تقدم يدل عليه. وهذا أبلغ ومثله: * (ولو يرى الذين ظلموا) * (البقرة: 165)، * (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا) * (الأنفال: 50)، * (ولو أن قرآن سيرت به الجبال) * (الرعد: 31) وإنما خص الوجوه والظهور لأن مس العذاب لهما أعظم موقعا ولكثرة ما يستعمل ذكرهما في دفع المضرة عن النفس ثم إنه تعالى لما بين شدة هذا العذاب بين أن وقت مجيئه غير معلوم لهم بل تأتيهم الساعة بغتة وهم لها غير محتسبين ولا لأمرها مستعدين فتبهتهم أي تدعهم حائرين واقفين لا يستطيعون حيلة في ردها ولا عما يأتيهم منها مصرفا ولا هم ينظرون أي لا يمهلون لتوبة ولا معذرة، واعلم أن الله تعالى إنما لم يعلم المكلفين وقت الموت والقيامة لما فيه من المصلحة لأن المرء مع كتمان ذلك أشد حذرا وأقرب إلى التلافي، ثم إنه سبحانه ذكر الوجه الثاني في دفع الحزن عن قلب رسوله فقال: * (ولقد استهزئ برسل من قبلك) * يا محمد كما استهزأ بك قومك * (فحاق) * أي نزل وأحاط * (بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون) * أي عقوبة استهزائهم وحاق وحق بمعنى كزال وزل وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم.
قوله تعالى
* (قل من يكلؤكم باليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون * أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون * بل متعنا هؤلاء وءابآءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتى الارض ننقصها من أطرافهآ أفهم الغالبون) *
اعلم أنه تعالى لما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار بسائر ما وصفهم به أتبعه بأنهم في الدنيا أيضا لولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة فقال لرسوله: قل لهؤلاء الكفار الذين يستهزءون ويغترون بما هم عليه: * (من يكلؤكم بالليل والنهار) * وهذا كقول الرجل لمن حصل في قبضته ولا مخلص له منه إلى أين مقرك منى! هل لك محيص عني! والكالئ الحافظ.
173

وأما قوله: * (من الرحمن) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في معناه وجوه: أحدها: * (من يكلؤكم من الرحمن) * أي مما يقدر على إنزاله بكم من عذاب تستحقونه. وثانيها: من بأس الله في الآخرة. وثالثها: من القتل والسبي وسائر ما أباحه الله لكفرهم فبين سبحانه أنه لا حافظ لهم ولا دافع عن هذه الأمور لو أنزلها بهم ولولا تفضله بحفظهم لما عاشوا ولما متعوا بالدنيا.
المسألة الثانية: إنما خص ههنا اسم الرحمن بالذكر تلقينا للجواب حتى يقول العاقل: أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك، كما في قوله: * (ما غرك بربك الكريم) * (الانفطار: 6) إنما خص اسم الكريم بالذكر تلقينا للجواب.
المسألة الثالثة: إنما ذكر الليل والنهار لأن لكل واحد من الوقتين آفات تختص به والمعنى من يحفظكم بالليل إذا نمتم وبالنهار إذا تصرفتم في معايشكم.
أما قوله: * (بل هم عن ذكر ربهم معرضون) * فالمعنى أنه تعالى مع إنعامه عليهم ليلا ونهارا بالحفظ والحراسة فهم عن ذكر ربهم الذي هو الدلائل العقلية والنقلية ولطائف القرآن معرضون فلا يتأملون في شيء منها ليعرفوا أنه لا كالئ لهم سواه ويتركون عبادة الأصنام التي لا حظ لها في حفظهم ولا في الإنعام عليهم.
أما قوله تعالى: * (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون) * فاعلم أن الميم صلة يعني ألهم آلهة تكلؤهم من دوننا، والتقدير ألهم آلهة من تمنعهم. وتم الكلام ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال: * (لا يستطيعون نصر أنفسهم) * وهذا خبر مبتدأ محذوف أي فهذه الآلهة لا تستطيع حماية أنفسها عن الآفات، وحماية النفس أولى من حماية الغير. فإذا لم تقدر على حماية نفسها فكيف تقدر على حماية غيرها، وفي قوله: * (ولا هم منا يصحبون) * قولان: الأول: قال المازني: أصحبت الرجل إذا منعته فقوله: * (ولا هم منا يصحبون) * من ذلك لا من الصحبة. الثاني: أن الصحبة ههنا بمعنى النصرة والمعونة وكلها سواء في المعنى يقال: صحبك الله ونصرك الله ويقال للمسافر: في صحبة الله وفي حفظ الله فالمعنى ولا هم منا في نصرة ولا إعانة، والحاصل أن من لا يكون قادرا على دفع الآفات ولا يكون مصحوبا من الله بالإعانة، كيف يقدر على شيء ثم بين سبحانه تفضله عليهم مع كل ذلك بقوله: * (بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر) * يعني ما حملهم على الإعراض إلا الاغترار بطول المهلة. يعني طالت أعمارهم في الغفلة فنسوا عهدنا وجهلوا موقع مواقع نعمتنا واغتروا بذلك.
أما قوله تعالى: * (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها) * فالمعنى أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها نأخذ الواحد بعد الواحد ونفتح البلاد والقرى مما حول مكة ونزيدها في ملك محمد صلى الله عليه وسلم ونميت رؤساء المشركين الممتعين بالدنيا
174

وننقص من الشرك بإهلاك أهلم أما كان لهم في ذلك عبرة فيؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلموا أنهم لا يقدرون على الامتناع من الله وإرادته فيهم ولا يقدرون على مغالبته ثم قال: * (أفهم الغالبون) * أي فهؤلاء هم الغالبون أم نحن وهو استفهام بمعنى التقرير والتقريع والمعنى بل نحن الغالبون وهم المغلوبون وقد مضى الكلام في هذه الآية في سورة الرعد. وفي تفسير النقصان وجوه: أحدها: قال ابن عباس ومقاتل والكلبي رضي الله عنهم ننقصها بفتح البلدان. وثانيها: قال ابن عباس في
رواية أخرى يريد نقصان أهلها وبركتها. وثالثها: قال عكرمة: تخريب القرى عند موت أهلها. ورابعها: بموت العلماء وهذه الرواية إن صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعدل عنها وإلا فالأظهر من الأقاويل ما يتعلق بالغلبة فلذلك قال: * (أفهم الغالبون) * والذي يليق بذلك أنه ينقصها عنهم ويزيدها في بلاد الإسلام، قال القفال: نزلت هذه الآية في كفار مكة فكيف يدخل فيها العلماء والفقهاء فبين تعالى أن كل ذلك من العبر التي لو استعملوا عقلهم فيها لأعرضوا عن جهلهم.
قوله تعالى
* (قل إنمآ أنذركم بالوحى ولا يسمع الصم الدعآء إذا ما ينذرون * ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن ياويلنآ إنا كنا ظالمين * ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *
اعلم أنه سبحانه لما كرر في القرآن الأدلة وبالغ في التنبيه عليها على ما تقدم أتبعه بقوله: * (قل إنما أنذركم بالوحي) * أي بالقرآن الذي هو كلام ربكم فلا تظنوا أن ذلك من قبلي بل الله آتيكم به وأمرني بإنذاركم فإذا قمت بما ألزمني ربي فلم يقع منكم القبول والإجابة فالوبال عليكم يعود، ومثلهم من حيث لم ينتفعوا بما سمعوا من إنذاره مع كثرته وتواليه بالصم الذين لا يسمعون أصلا إذ الغرض بالإنذار ليس السماع بل التمسك به في إقدام على واجب وتحرز عن محرم ومعرفة بالحق. فإذا لم يحصل هذا الغرض صار كأنه لم يسمع. قال صاحب " الكشاف ": قرىء ولا تسمع الصم الدعاء بالتاء والياء أي لا تسمع أنت أو لا يسمع رسول الله أو لا يسمع الصم من أسمع، فإن قلت: الصم لا تسمع دعاء البشر كما لا يسمعون دعاء المنذر. فكيف قال إذا ما ينذرون؟ قلت: اللام في الصم
175

إشارة إلى هؤلاء المنذرين كائنة للعهد لا للجنس، والأصل ولا يسمعون الدعاء إذا ما ينذرون فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصاممهم وسدهم أسماعهم إذا أنذروا أي هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصامم عن آيات الإنذار. ثم بين تعالى أن حالهم سيتغير إلى أن يصيروا بحيث إذا شاهدوا اليسير مما أنذروا به فعنده يسمعون ويعتذرون ويعترفون حين لا ينتفعون وهذا هو المراد بقوله: * (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين) * وأصل النفح من الريح اللينة والمعنى ولئن مسهم شيء قليل من عذاب الله كالرائحة من الشيء دون جسمه لتنادوا بالويل واعترفوا على أنفسهم بالظلم. قال صاحب " الكشاف " في المس والنفحة ثلاث مبالغات: لفظ المس وما في النفح من معنى القلة والنزارة، يقال: نفحته الدابة وهو رمح يسير ونفحه بعطية رضخه، ولفظ المرة. ثم بين سبحانه وتعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلا عدلا فهم وإن ظلموا أنفسهم في الدنيا فلن يظلموا في الآخرة وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: * (ونضع الموازين بالقسط) * وصفها الله تعالى بذلك لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه، فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل والقسط، وأكد ذلك بقوله: * (فلا تظلم نفس شيئا) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: معنى وضعها إحضارها، قال الفراء: القسط صفة الموازين وإن كان موحدا وهو كقولك للقوم: أنتم عدل، وقال الزجاج: ونضع الموازين ذوات القسط وقوله: * (ليوم القيامة) * قال الفراء في يوم القيامة وقيل لأهل يوم القيامة.
المسألة الثانية: في وضع الموازين قولان: أحدهما: قال مجاهد هذا مثل والمراد بالموازين العدل ويروى مثله عن قتادة والضحاك والمعنى بالوزن القسط بينهم في الأعمال فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه يعني أن حسناته تذهب بسيئاته ومن أحاطت سيئاته بحسناته فقد خفت موازينه أي أن سيئاته تذهب بحسناته، حكاه ابن جرير هكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. الثاني: وهو قول أئمة السلف أنه سبحانه يضع الموازين الحقيقية فتوزن بها الأعمال، وعن الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان وهو بيد جبريل عليه السلام. ويروى: " أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه، فلما أفاق قال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، فقال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة " ثم على هذا القول في كيفية وزن الأعمال طريقان. أحدهما: أن توزن صحائف الأعمال. والثاني: يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل: أهل القيامة إما أن يكونوا عالمين بكونه سبحانه وتعالى عادلا غير ظالم أو لا يعلمون ذلك. فإن علموا ذلك كان مجرد حكمة كافيا في معرفة أن الغالب هو الحسنات أو السيئات فلا يكون في وضع الميزان فائدة البتة، وإن لم يعلموا لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف لاحتمال أنه سبحانه جعل إحدى الصحيفتين أثقل أو أخف ظلما فثبت أن وضع الميزان على كلا التقديرين خال عن الفائدة. وجوابه على قولنا قوله تعالى: * (لا يسأل
176

عما يفعل وهم يسألون) * (الأنبياء: 23) وأيضا ففيه ظهور حال الولي من العدو في مجمع الخلائق، فيكون لأحد القبيلين في ذلك أعظم السرور وللآخر أعظم الغم، ويكون ذلك بمنزلة نشر الصحف وغيره. إذا ثبت هذا فنقول: الدليل على وجود الموازين الحقيقية أن حمل هذا اللفظ على مجرد العدل مجاز وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز، لا سيما وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في هذا الباب.
المسألة الثالثة: قال قوم: إن هذه الآية يناقضها قوله تعالى: * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * (الكهف: 105)، والجواب: أنه لا يكرمهم ولا يعظمهم.
المسألة الرابعة: إنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم وهو جمع تفخيم، ويجوز أن يرجع إلى الموزونات.
أما قوله تعالى: * (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها) * فالمعنى أنه لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسئ، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء: * (مثقال حبة) * على كان التامة كقوله تعالى: * (وإن كان ذو عسرة) * وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما * (آتينا بها) * وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء، وقرأ حميد: أثبنا بها من الثواب، وفي حرف أبي جئنا بها.
المسألة الثانية: لم أنث ضمير المثقال؟ قلنا: لإضافته إلى الحبة كقولهم ذهبت بعض أصابعه.
المسألة الثالثة: زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزء من الثواب فهذا الأقل يتحبط بالأكثر ويبقى الأكثر كما كان. واعلم أن هذه الآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة قوله: * (فلا تظلم نفس شيئا) * فيه دلالة على أن مثل ذلك لو ابتدأه الله تعالى لكان قد ظلم، فدل هذا الوجه على أنه تعالى لا يعذب من لا يستحق ولا يفعل المضار في الدنيا إلا للمنافع والمصالح. والجواب: الظلم هو التصرف في ملك الغير وذلك في حق الله تعالى محال لأنه المالك المطلق، ثم الذي يدل على استحالة الظلم عليه عقلا أن الظلم عند الخصم مستلزم للجهل أو الحاجة المحالين على الله تعالى ومستلزم المحال محال، فالظلم على الله تعالى محال. وأيضا فإن الظالم سفيه خارج عن الإلهية فلو صح منه الظلم لصح خروجه عن الإلهية، فحينئذ يكون كونه إلها من الجائزات لا من الواجبات، وذلك يقدح في إلهيته.
المسألة الخامسة: إن قيل الحبة أعظم من الخردلة، فكيف قال حبة من خردل؟ قلنا: الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار. والغرض المبالغة في أن شيئا من الأعمال صغيرا كان أو كبيرا غير ضائع عند الله تعالى.
أما قوله تعالى: * (وكفى بنا حاسبين) * فالغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث
177

لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء، حقيق بالعاقل أن يكون في أشد الخوف منه، ويروي عن الشبلي رحمه الله تعالى أنه رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك فقال: حاسبونا فدققوا * ثم منوا فأعتقوا
قوله تعالى
* (ولقد ءاتينا موسى وهارون الفرقان وضيآء وذكرا للمتقين * الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون * وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون) *
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء عليهم السلام، تسلية للرسول عليه السلام فيما يناله من قومه وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر على كل عارض دونها وذكر ههنا منها قصصا. (القصة الأولى، قصة موسى عليه السلام)
ووجه الإتصال أنه تعالى لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: * (إنما أنذركم بالوحي) * (الأنبياء: 45) أتبعه بأن هذه عادة الله تعالى في الأنبياء قبله فقال: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرى للمتقين) * واختلفوا في المراد بالفرقان على أقوال: أحدها: أنه هو التوراة، فكان فرقانا إذ كان يفرق به بين الحق والباطل، وكان ضياء إذ كان لغاية وضوحه يتوصل به إلى طرق الهدى وسبل النجاة في معرفة الله تعالى ومعرفة الشرائع، وكان ذكرى أي موعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف أما الواو في قوله: * (وضياء) * فروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ ضياء بغير واو وهو حال من الفرقان، وأما القراءة المشهورة فالمعنى آتيناهم الفرقان وهو التوراة وآتينا به ضياء وذكرى للمتقين. والمعن أنه في نفسه ضياء وذكرى أو آتيناهما بما فيه الشرائع والمواعظ ضياء وذكرى. القول الثاني: أن المراد من الفرقان ليس التوراة ثم فيه وجوه: أحدها: عن ابن عباس رضي الله عنهما الفرقان هو النصر الذي أوتي موسى عليه السلام كقوله: * (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) * (الأنفال: 41) يعني يوم بدر حين فرق بين الحق وغيره من الأديان الباطلة.
178

وثانيها: هو البرهان الذي فرق به دين الحق عن الأديان الباطلة عن ابن زيد. وثالثها: فلق البحر عن الضحاك. ورابعها: الخروج عن الشبهات، قال محمد بن كعب واعلم أنه تعالى إنما خصص الذكرى بالمتقين لما في قوله: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) أما قوله تعالى: * (الذين يخشون ربهم بالغيب) * فقال صاحب " الكشاف ": محل الذين جر على الوصفية أو نصب على المدح أو رفع عليه وفي معنى الغيب وجوه: أحدها: يخشون عذاب ربهم فيأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه وإيمانهم بالله غيبي استدلالي، فالعباد يعملون لله في الغيب والله لا يغيب عنه شيء عن ابن عباس رضي الله عنهما. وثانيها: يخشون ربهم وهم غائبون عن الآخرة وأحكامها. وثالثها: يخشون ربهم في الخلوات إذا غابوا عن الناس وهذا هو الأقرب، والمعنى أن خشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم إلا أن ذلك مما يظهرونه في الملا دون الخلا * (وهم من) * عذاب * (الساعة) * وسائر ما يجري فيها من الحساب والسؤال * (مشفقون) * فيعدلون بسبب ذلك الإشفاق عن معصية الله تعالى، ثم قال وكما أنزلت عليهم الفرقان فكذلك هذا القرآن المنزل عليك وهو معنى قوله: * (وهذا ذكر مبارك) * بركته كثرة منافعه وغزارة علومه وقوله: * (أفأنتم له منكرون) * فالمعنى أنه لا إنكار في إتزانه وفي عجائب ما فيه فقد آتينا موسى وهارون التوراة، ثم هذا القرآن معجز لاشتماله على النظم العجيب والبلاغة البديعة واشتماله على الأدلة العقلية وبيان الشرائع، فمثل هذا الكتاب مع كثرة منافعه كيف يمكنكم إنكاره. (القصة الثانية، (قصة) إبراهيم عليه السلام)
قوله تعالى
* (ولقد ءاتينآ إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنآ ءابآءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وءابآؤكم فى ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) *
اعلم أن قوله تعالى: * (ولقد آتينا إبراهيم رشده) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: في الرشد قولان: الأول: أنه النبوة واحتجوا عليه بقوله: * (وكنا به عالمين) * قالوا: لأنه تعالى إنما يخص بالنبوة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحقها ويجتنب
179

ما لا يليق بها ويحترز عما ينفر قومه من القبول. والثاني: أنه الاهتداء لوجوه الصلاح في الدين والدنيا قال تعالى: * (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) * وفيه قول ثالث وهو أن تدخل النبوة والاهتداء تحت الرشد إذ لا يجوز أن يبعث نبي إلا وقد دله الله تعالى على ذاته وصفاته ودله أيضا على مصالح نفسه ومصالح قومه
وكل ذلك من الرشد.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا في أن الإيمان مخلوق لله تعالى بهذه الآية فإنه لو كان الرشد هو التوفيق والبيان فقد فعل الله تعالى ذلك بالكفار فيجب أن يكون قد آتاهم رشدهم. أجاب الكعبي: بأن هذا يقال فيمن قبل لا فيمن رد، وذلك كمن أعطى المال لولدين فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه. فيقال: أغنى فلان ابنه فيمن أثمر المال، ولا يقال مثله فيمن ضيع. والجواب عنه: هذا الجواب لا يتم إلا إذا جعلنا قبوله جزءا من مسمى الرشد وذلك باطل، لأن المسمى إذا كان مركبا من جزأين ولا يكون أحدهما مقدور الفاعل لم يجز إضافة ذلك المسمى إلى ذلك الفاعل فكان يلزم أن لا يجوز إضافة الرشد إلى الله تعالى بالمفعولية لكن النص وهو قوله: * (ولقد آتينا إبراهيم رشده) * صريح أن ذلك الرشد إنما حصل من الله تعالى فبطل ما قالوه.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": قرىء رشده كالعدم والعدم، ومعنى إضافته إليه أنه رشد مثله وأنه رشد له شأن.
أما قوله تعالى: * (من قبل) * ففيه وجوه: أحدها؛ آتينا إبراهيم نبوته واهتداءه من قبل موسى عليه السلام عن ابن عباس وابن جرير. وثانيها: في صغره قبل بلوغه حين كان في السرب وظهرت له الكواكب فاستدل بها. وهذا على قول من حمل الرشد على الاهتداء وإلا لزمه أن يحكم بنبوته عليه السلام قبل البلوغ عن مقاتل. وثالثها: يعني حين كان في صلب آدم عليه السلام حين أخذ الله ميثاق النبيين عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الضحاك.
أما قوله تعالى: * (وكنا به عالمين) * فالمراد أنه سبحانه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها حتى أهله لأن يكون خليلا له، وهذا كقولك في رجل كبير: أنا عالم بفلان فإن هذا الكلام في الدلالة على تعظيمه أدل مما إذا شرحت جلال كماله.
أما قوله تعالى: * (إذ قال لأبيه وقومه) * فقال صاحب " الكشاف ": إذ إما أن تتعلق بآتينا أو برشده أو بمحذوف أي أذكر من أوقات رشده هذا الوقت.
أما قوله: * (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: التمثال اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى، وأصله من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به واسم ذلك الممثل تمثال.
المسألة الثانية: أن القوم كانوا عباد أصنام على صور مخصوصة كصورة الإنسان أو غيره، فجعل عليه السلام هذا القول منه ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيبطلها عليهم.
180

المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": لم ينو للعاكفين مفعولا وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقولك فاعلون للعكوف أو واقفون لها، قال: فإن قلت هلا قيل عليها عاكفون كقوله: * (يعكفون على أصنام لهم) *؟ قلت: لو قصد التعدية لعداه بصلته التي هي على.
أما قوله: * (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) * فاعلم أن القوم لم يجدوا في جوابه إلا طريقة التقليد الذي يوجب مزيد النكير لأنهم إذا كانوا على خطأ من أمرهم لم يعصمهم من هذا الخطأ أن آباءهم أيضا سلكوا هذا الطريق فلا جرم أجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله: * (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) * فبين أن الباطل لا يصير حقا بسبب كثرة المتمسكين به، فلما حقق عليه السلام ذلك عليهم ولم يجدوا من كلامه مخلصا ورأوه ثابتا على الإنكار قوى القلب فيه وكانوا يستبعدون أن يجري مثل هذا الإنكار عليهم مع كثرتهم وطول العهد بمذهبهم، فعند ذلك قالوا له: * (أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) * موهمين بهذا الكلام أنه يبعد أن يقدم على الإنكار عليهم جادا في ذلك فعنده عدل صلى الله عليه وسلم إلى بيان التوحيد.
قوله تعالى
* (قال بل ربكم رب السماوات والارض الذى فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون * قالوا من فعل هذا بالهتنآ إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) *
اعلم أن القوم لما أوهموا أنه يمازح بما خاطبهم به في أصنامهم أظهر عليه السلام ما يعلمون به أنه مجد في إظهار الحق الذي هو التوحيد وذلك بالقول أولا وبالفعل ثانيا، أما الطريقة القولية فهي قوله: * (بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن) * وهذه الدلالة تدل على أن الخالق الذي خلقهما لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن من يقدر على ذلك يقدر على أن يضر وينفع في الدار الآخرة بالعقاب والثواب. فيرجع حاصل هذه الطريقة إلى الطريقة التي ذكرها لأبيه في قوله: * (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * (مريم: 42) قال صاحب " الكشاف ": الضمير في فطرهن للسموات والأرض أو للتماثيل، وكونه للتماثيل أدخل في الاحتجاج عليهم.
181

أما قوله: * (وأنا على ذلكم من الشاهدين) * ففيه وجهان: الأول: أن المقصود منه المبالغة في التأكيد والتحقيق كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه أشهد أنه كريم أو ذميم. والثاني: أنه عليه السلام عنى بقوله: * (وأنا على ذلكم من الشاهدين) * ادعاء أنه قادر على إثبات ما ذكره بالحجة، وأني لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم، وأما الطريقة الفعلية فهي قوله: * (وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) * فإن القوم لما لم ينتفعوا بالدلالة العقلية عدل إلى أن أراهم عدم الفائدة في عبادتها، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": قرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه وبالله، وقرئ تولوا بمعنى تتولوا ويقويها قوله: * (فتولوا عنه مدبرين) * فإن قلت: ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت: إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها والتاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته.
المسألة الثانية: إن قيل لماذا قال: * (لأكيدن أصنامكم) * والكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به وذلك لا يتأتى في الأصنام. وجوابه: قال ذلك توسعا لما كان عندهم أن الضرر يجوز عليها، وقيل: المراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل قد أنزل بهم الغم.
المسألة الثالثة: في كيفية أول القصة وجهان: أحدهما: قال السدي: كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم عليه السلام: لو خرجت معنا فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي فلما مضوا وبقي ضعفاء الناس نادى وقال: * (تالله لأكيدن أصنامكم) * واحتج هذا القائل بقوله تعالى: * (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) *. وثانيها: قال الكلبي: كان إبراهيم عليه السلام من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضا فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه: أراني أشتكي غدا فذلك قوله؛ * (فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم) * (الصافات: 88، 89) وأصبح من الغد معصوبا رأسه فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال: أما والله لأكيدن أصنامكم، وسمع رجل منهم هذا القول فحفظه عليه ثم إن ذلك الرجل أخبر غيره وانتشر ذلك في جماعة فلذلك قال تعالى: * (قالوا سمعنا فتى يذكرهم) * واعلم أن كلا الوجهين ممكن. ثم تمام القصة أن إبراهيم عليه السلام لما دخل بيت الأصنام وجد سبعين صنما مصطفة، وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وكان في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلا الكبير، ثم علق الفأس في عنقه.
أما قوله تعالى: * (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إن قيل لم قال: * (فجعلهم جذاذا) * وهذا جمع لا يليق إلا بالناس، جوابه: من حيث اعتقدوا فيها أنها كالناس في أنها تعظم ويتقرب إليها، ولعل كان فيهم من يظن أنها تضر وتنفع.
182

المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": جذاذا قطعا من الجذ وهو القطع، وقرئ بالكسر والفتح وقرئ جذاذا جمع جذيذ وجذذا جمع جذة.
المسألة الثالثة: إن قيل ما معنى: * (إلا كبيرا لهم) * قلنا: يحتمل الكبير في الخلقة ويحتمل في التعظيم ويحتمل في الأمرين.
وأما قوله: * (لعلهم إليه يرجعون) * فيحتمل رجوعهم إلى إبراهيم عليه السلام، ويحتمل رجوعهم إلى الكبير. أما الأول: فتقريره من وجهين: الأول: أن المعنى أنهم لعلهم يرجعون إلى مقالة إبراهيم ويعدلون عن الباطل. والثاني: أنه غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فبكتهم بما أجاب به من قوله: * (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم) * (الأنبياء: 63) أما إذا قلنا: الضمير راجع إلى الكبير ففيه وجهان: الأول: أن المعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحا والفأس على عاتقك. وهذا قول الكلبي، وإنما قال ذلك بناء على كثرة جهالاتهم فلعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تجيب وتتكلم. والثاني: أنه عليه السلام قال ذلك مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم، وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكلات.
المسألة الرابعة: إن قيل أولئك الأقوام إما أن يقال إنهم كانوا عقلاء أو ما كانوا عقلاء. فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أن تلك الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، فأي حاجة في إثبات ذلك إلى كسرها؟ أقصى ما في الباب أن يقال: القوم كانوا يعظمونها كما يعظم الواحد منا المصحف والمسجد والمحراب، وكسرها لا يقدح في كونها معظمة من هذا الوجه. وإن قلنا: إنهم ما كانوا عقلاء وجب أن لا تحسن المناظرة معهم ولا بعثة الرسل إليهم. الجواب: أنهم كانوا عقلاء وكانوا عالمين بالضرورة أنها جمادات ولكن لعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تماثيل الكواكب وأنها طلسمات موضوعة بحيث أن كل من عبدها انتفع بها وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد، ثم إن إبراهيم عليه السلام كسرها مع أنه ما ناله منها البتة ضرر فكان فعله دالا على فساد مذهبهم من هذا الوجه.
أما قوله تعالى: * (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) * أي (أن) من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم معدود في الظلمة إما لجراءته على الآلهة الحقيقة بالتوقير والإعظام، وإما لأنهم رأوا إفراطا في كسرها وتماديا في الاستهانة بها.
أما قوله تعالى: * (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الزجاج: ارتفع إبراهيم على وجهين: أحدهما: على معنى يقال هو إبراهيم. والثاني: على النداء على معنى يقال له يا إبراهيم، قال صاحب " الكشاف " والصحيح أنه فاعل يقال لأن المراد الاسم دون المسمى.
183

المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أن القائلين جماعة لا واحد، فكأنهم كانوا من قبل قد عرفوا منه وسمعوا ما يقوله في آلهتهم فغلب على قلوبهم أنه الفاعل ولو لم يكن إلا قوله ما هذه التماثيل إلى غير ذلك لكفى.
قوله تعالى
* (قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون * قالوا ءأنت فعلت هذا بالهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسالوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) *
اعلم أن القوم لما شاهدوا كسر الأصنام، وقيل إن فاعله إبراهيم عليه السلام قالوا فيما بينهم: * (فأتوا به على أعين الناس) * قال صاحب " الكشاف ": على أعين الناس في محل الحال أي فأتوا به مشاهدا أي بمرأى منهم ومنظر. فإن قلت: ما معنى الاستعلاء في علي؟ قلت: هو وارد على طريق المثل أي يثبت إثباته في الأعين
ثبات الراكب على المركوب. أما قوله تعالى: * (لعلهم يشهدون) * ففيه وجهان: أحدهما: أنهم كرهوا أن يأخذوه بغير بينة فأرادوا أن يجيئوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عليه بما قاله فيكون حجة عليه بما فعل. وهذا قول الحسن وقتادة والسدي وعطاء وابن عباس رضي الله عنهم. وثانيهما: وهو قول محمد بن إسحاق أي يحضرون فيبصرون ما يصنع به فيكون ذلك زاجرا لهم عن الإقدام على مثل فعله، وفيه قول ثالث: وهو قول مقاتل والكلبي أن المراد مجموع الوجهين فيشهدون عليه بفعله ويشهدون عقابه.
أما قوله تعالى: * (قالوا أأنت فعلت هذا) * فاعلم أن في الكلام حذفا، وهو: فأتوا به وقالوا أأنت
184

فعلت، طلبوا منه الاعتراف بذلك ليقدموا على إيذائه، فظهر منه ما انقلب الأمر عليهم حتى تمنوا الخلاص منه، فقال: * (بل فعله كبيرهم هذا) * وقد علق الفأس على رقبته لكي يورد هذا القول فيظهر جهلهم في عبادة الأوثان، فإن قيل قوله: بل فعله كبيرهم كذب. والجواب للناس فيه قولان: أحدهما: وهو قول كافة المحققين أنه ليس بكذب، وذكروا في الاعتذار عنه وجوها. أحدها: أن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، إنما قصد تقرير لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك، وقد كتبت كتابا بخط رشيق، وأنت شهير بحسن الخط، أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمي لا يحسن الخط ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة، فقلت له: بل كتبته أنت، كأن قصدك بهذا الجواب تقرير ذلك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش، لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء به وإثبات للقادر. وثانيها: أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزينة. وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسد إلى الحامل عليه. وثالثها: أن يكون حكاية لما يلزم على مذهبهم كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم، فإن من حق من يعبد ويدعي إلها أن يقدر على هذا وأشد منه. وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها صاحب " الكشاف ". ورابعها: أنه كناية عن غير مذكور، أي فعله من فعله وكبيرهم هذا ابتداء الكلام ويروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله ثم يبتدئ كبيرهم هذا. وخامسها: أنه يجوز أن يكون فيه وقف عند قوله كبيرهم ثم يبتدئ فيقول هذا فاسألوهم، والمعنى بل فعله كبيرهم وعنى نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم. وسادسها: أن يكون في الكلام تقديم وتأخير كأنه قال: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم فتكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطا بكونهم ناطقين فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين. وسابعها: قرأ محمد بن السميفع فعله كبيرهم أي فلعل الفاعل كبيرهم. القول الثاني: وهو قول طائفة من أهل الحكايات، أن ذلك كذب واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله تعالى، قوله: * (إني سقيم) * وقوله: * (بل فعله كبيرهم هذا) * وقوله لسارة هي أختي " وفي خبر آخر: " أن أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة قال: إني كذبت ثلاث كذبات " ثم قرروا قولهم من جهة العقل وقالوا: الكذب ليس قبيحا لذاته، فإن النبي عليه السلام إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان، وجاء الظالم وسأل عن حاله فإنه يجب الكذب فيه، وإذا كان كذلك فأي بعد في أن يأذن الله تعالى في ذلك لمصلحة لا يعرفها إلا هو، واعلم أن هذا القول مرغوب عنه. أما الخبر الأول وهو الذي رووه فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه، فلنجوز هذا
185

الاحتمال في كل ما أخبروا عنه، وفي كل ما أخبر الله تعالى عنه وذلك يبطل الوثوق بالشرائع وتطرق التهمة إلى كلها، ثم إن ذلك الخبر لو صح فهو محمول على المعاريض على ما قال عليه السلام: " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ".
فأما قوله تعالى: * (إني سقيم) * فلعله كان به سقم قليل واستقصاء الكلام فيه يجيء في موضعه.
وأما قوله: * (بل فعله كبيرهم) * فقط ظهر الجواب عنه.
أما قوله لسارة: إنها أختي، فالمراد أنها أخته في الدين، وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء عليهم السلام فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلا زنديق.
أما قوله تعالى: * (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) * ففيه وجوه: الأول: أن إبراهيم عليه السلام لما نبههم بما أورده عليهم على قبح طريقهم تنبهوا فعلموا أن عبادة الأصنام باطلة، وأنهم على غرور وجهل في ذلك. والثاني: قال مقاتل: فرجعوا إلى أنفسهم فلاموها وقالوا إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير. وثالثها: المعنى أنكم أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتم منه عن ذلك حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب، والأقرب هو الأول.
أما قوله تعالى: * (ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) * فقال صاحب " الكشاف ": نكسه قلبه فجعل أسفله أعلاه وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في المعنى وجوه: أحدها: أن المراد استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وأتوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا فقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا (في) المجادلة بالباطل وأن هؤلاء مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق آلهة معبودة. وثانيها: قلبوا على رؤوسهم حقيقة لفرط إطراقهم خجلا وانكسارا وانخذالا مما بهتهم به إبراهيم فما أحاروا جوابا إلا ما هو حجة عليهم. وثالثها: قال ابن جرير ثم نكسوا على رؤوسهم في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم. أي قلبوا في الحجة واحتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم، فقالوا: * (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) * فأقروا بهذه للحيرة التي لحقتهم، قال والمعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم.
المسألة الثانية: قرىء نكسوا بالتشديد ونكسوا على لفظ ما لم يسم فاعله، أي نكسوا أنفسهم على رؤوسهم وهي قراءة رضوان بن عبد المعبود.
أما قوله تعالى: * (قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) * فالمعنى ظاهر. قال صاحب " الكشاف ": أف صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر، وإن إبراهيم عليه السلام أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم، وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. ثم يحتمل أنه قال لهم ذلك وقد عرفوا صحة قوله. ويحتمل أنه قال لهم ذلك وقد ظهرت الحجة وإن لم يعقلوا. وهذا هو الأقرب لقوله:
186

* (أفتعبدون) * ولقوله: * (أفلا تعقلون) *.
قوله تعالى
* (قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين * ونجيناه ولوطا إلى الارض التى باركنا فيها للعالمين) *
اعلم أنه تعالى لما بين ما أظهره إبراهيم عليه السلام من دلائل التوحيد وإبطال ما كانوا عليه من عبادة التماثيل أتبعه بما يدل على جهلهم، وأنهم: * (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ليس في القرآن من القائل لذلك والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنحاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح، وقال مجاهد: سمعت ابن عمر يقول: إنما أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام رجل من الكرد من أعراب فارس، وروى ابن جريج عن وهب عن شعيب الجبائي قال: إن الذي قال حرقوه رجل اسمه هبرين، فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
المسألة الثانية: أما كيفية القصة فقال مقاتل: لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنيانا كالحظيرة، وذلك قوله: * (قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم) * (الصافات: 97) ثم جمعوا له الحطب الكثير حتى أن المرأة لو مرضت قالت: إن عافاني الله لأجعلن حطبا لإبراهيم، ونقلوا له الحطب على الدواب أربعين يوما، فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق، ثم أخذوا إبراهيم عليه السلام ورفعوه على رأس البنيان وقيدوه، ثم اتخذوا منجنيقا ووضعوه فيه مقيدا مغلولا، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة إلا الثقلين صيحة واحدة، أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته، فقال سبحانه: إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه، فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خازن الرياح فقال: إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم عليه السلام: لا حاجة بي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: " اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، أنت حسبنا ونعم الوكيل " وقيل إنه حين ألقي في النار قال: " لا إله إلا أنت سبحانك ربك العالمين، لك الحمد
187

ولك الملك، لا شريك لك " ثم وضعوه في المنجنيق ورموا به النار، فأتاه جبريل عليه السلام وقال: يا إبراهيم هل لك حاجة، قال: أما إليك فلا؟ قال: فاسأل ربك، قال: حسبي من سؤالي، علمه بحالي. فقال الله تعالى: * (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) * (الأنبياء: 69) وقال السدي: إنما قال ذلك جبريل عليه السلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية مجاهد: ولو لم يتبع بردا سلاما لمات إبراهيم من بردها، قال: ولم يبق يومئذ في الدنيا نار إلا طفئت، ثم قال السدي: فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه في الأرض، فإذا عين ماء عذب، وورد أحمر، ونرجس. ولم تحرق النار منه إلا وثاقه، وقال المنهال بن عمرو أخبرت أن إبراهيم عليه السلام لما ألقى في النار كان فيها إما أربعين يوما أو خمسين يوما، وقال: ما كنت أياما أطيب عيشا مني إذ كنت فيها، وقال ابن إسحاق: بعث الله ملك الظل في صورة إبراهيم، فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة، وقال: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبابي، ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالسا في روضة، ورأى الملك قاعدا إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب، فناداه نمروذ: يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: قم فاخرج، فقام يمشي حتى خرج منها، فلما خرج قال له نمروذ: من الرجل الذي رأيته معك في صورتك؟ قال: ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني فيها. فقال نمروذ: إني مقرب إلى ربك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك. فإني ذابح له أربعة آلاف بقرة، فقال إبراهيم عليه السلام: لا يقبل الله منك ما دمت على دينك، فقال نمروذ: لا أستطيع ترك ملكي، ولكن سوف أذبحها له، ثم ذبحها له وكف عن إبراهيم عليه السلام، ورويت هذه القصة على وجه آخر، وهي أنهم بنوا لإبراهيم بنيانا وألقوه فيه، ثم أوقدوا عليه النار سبعة أيام، ثم أطبقوا عليه، ثم فتحوا عليه من الغد، فإذا هو غير محترق يعرق عرقا، فقال لهم هاران أبو لوط: إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله، فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته، فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته.
المسألة الثالثة: إنما اختاروا المعاقبة بالنار لأنها أشد العقوبات، ولهذا قيل: * (إن كنتم فاعلين) * أي إن كنتم تنصرون آلهتكم نصرا شديدا، فاختاروا أشد العقوبات وهي الإحراق.
أما قوله تعالى: * (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو مسلم الأصفهاني في تفسير قوله تعالى: * (قلنا يا نار كوني بردا) * المعنى أنه سبحانه جعل النار بردا وسلاما، لا أن هناك كلاما كقوله: * (أن يقول له كن فيكون) * أي يكونه، وقد احتج عليه بأن النار جماد فلا يجوز خطابه، والأكثرون على أنه وجد ذلك القول. ثم هؤلاء لهم قولان: أحدهما: وهو
قول سدي: أن القائل هو جبريل عليه السلام. والثاني: وهو قول الأكثرين أن القائل هو الله تعالى، وهذا هو الأليق الأقرب بالظاهر، وقوله: النار جماد فلا
188

يكون في خطابها فائدة، قلنا: لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذلك الأمر مصلحة عائدة إلى الملائكة.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن النار كيف بردت على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير. وثانيها: أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه، كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة، وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار. وثالثها: أنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلا يمنع من وصول أثر النار إليه، قال المحققون: والأول أولى لأن ظاهر قوله: * (يا نار كوني بردا) * أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها، لا أن النار بقيت كما كانت، فإن قيل: النار جسم موصوف بالحرارة واللطافة، فإذا كانت الحرارة جزء من مسمى النار امتنع كون النار باردة، فإذا وجب أن يقال: المراد من النار الجسم الذي هو أحد أجزاء مسمى النار وذلك مجاز فلم كان مجازكم أولى من المجازين الآخرين؟ قلنا: المجاز الذي ذكرناه يبقى معه حصول البرد وفي المجازين اللذين ذكرتموهما لا يبقى ذلك فكان مجازنا أولى.
أما قوله تعالى: * (كوني بردا وسلاما على إبراهيم) * فالمعنى أن البرد إذا أفرط أهلك كالحر بل لا بد من الإعتدال ثم في حصول الاعتدال ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يقدر الله تعالى بردها بالمقدار الذي لا يؤثر. وثانيها: أن بعض النار صار بردا وبقي بعضها على حرارته فتعادل الحر والبرد. وثالثها: أنه تعالى جعل في جسمه مزيد حر فسلم من ذلك البرد بل قد انتفع به والتذ ثم ههنا سؤالات:
السؤال الأول: أو كل النار زالت وصارت بردا. الجواب: أن النار هو اسم الماهية فلا بد وأن يحصل هذا البرد في الماهية ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية، وقيل: بل اختص بتلك النار لأن الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار وفي النار منافع للخلق فلا يجوز تعطيلها، والمراد خلاص إبراهيم عليه السلام لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق.
السؤال الثاني: هل يجوز ما روي عن الحسن من أنه سلام من الله تعالى على إبراهيم عليه السلام. الجواب الظاهر كما أنه جعل النار بردا جعلها سلاما عليه حتى يخلص، فالذي قاله يبعد وفيه تشتيت الكلام المرتب.
السؤال الثالث: أفيجوز ما روي من أنه لو لم يقل وسلاما لأتى البرد عليه. والجواب: ذلك بعيد لأن برد النار لم يحصل منها وإنما حصل من جهة الله تعالى فهو القادر على الحر والبرد فلا يجوز أن يقال: كان البرد يعظم لولا قوله سلاما.
السؤال الرابع: أفيجوز ما قيل من أنه كان في النار أنعم عيشا منه في سائر أحواله. والجواب: لا يمتنع ذلك لما فيه من مزيد النعمة عليه وكمالها، ويجوز أن يكون إنما صار أنعم
189

عيشا هناك لعظم ما ناله من السرور بخلاصه من ذلك الأمر العظيم ولعظم شروره بظفره بأعدائه وبما أظهره من دين الله تعالى.
أما قوله تعالى: * (وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين) * أي أرادوا أن يكيدوه فما كانوا إلا مغلوبين، غالبوه بالجدال فلقنه الله تعالى الحجة المبكتة، ثم عدلوا القوة والجبروت فنصره وقواه عليهم، ثم إنه سبحانه أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجى لوطا معه وهو ابن أخيه وهو لوط بن هاران إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين. وفي الأخبار أن هذه الواقعة كانت في حدود بابل فنجاه الله تعالى من تلك البقعة إلى الأرض المباركة، ثم قيل: إنها مكة وقيل أرض الشام لقوله تعالى: * (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) * (الإسراء: 1) والسبب في بركتها، أما في الدين فلأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا منها وانتشرت شرائعهم وآثارهم الدينية فيها، وأما في الدنيا فلأن الله تعالى بارك فيها بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب العيش، وقيل: ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس.
قوله تعالى
* (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينآ إليهم فعل الخيرات وإقام الصلوة وإيتآء الزكوة وكانوا لنا عابدين) *
اعلم أنه تعالى بعد ذكره لإنعامه على إبراهيم وعلى لوط بأن نجاهما إلى الأرض المباركة أتبعه بذكر غيره من النعم، وإنما جمع بينهما لأن في كون لوط معه مع ما كان بينهما من القرابة والشركة في النبوة مزيد إنعام، ثم إنه سبحانه ذكر النعم التي أفاضها على إبراهيم عليه السلام ثم النعم التي أفاضها على لوط، أما الأول فمن وجوه؛ أحدها: * (ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة) * واعلم أن النافلة العطية خاصة وكذلك النفل ويسمى الرجل الكثير العطايا نوفلا، ثم للمفسرين ههنا قولان: الأول: أنه ههنا مصدر من وهبنا له مصدر من غير لفظه ولا فرق بين ذلك وبين قوله: * (ووهبنا له) * هبة أي وهبناهما له عطية وفضلا من غير أن يكون جزاء مستحقا، وهذا قول مجاهد وعطاء. والثاني: وهو قول أبي بن كعب وابن عباس وقتادة والفراء والزجاج: أن إبراهيم عليه السلام لما سأل الله ولدا قال: * (رب هب لي من الصالحين) * (الصافات: 100) فأجاب الله دعاءه: ووهب له إسحق وأعطاه يعقوب من غير دعائه فكان ذلك: * (نافلة) * كالشئ المتطوع به من الآدميين فكأنه قال: * (ووهبنا له إسحق) * إجابة
190

لدعائه: ووهبنا له يعقوب نافلة على ما سأل كالصلاة النافلة التي هي زيادة على الفرض وعلى هذا النافلة يعقوب خاصة.
والوجه الأول: أقرب لأنه تعالى جمع بينهما، ثم ذكر قوله: نافلة فإذا صلح أن يكون وصفا لهما فهو أولى.
النعمة الثانية: قوله تعالى: * (وكلا جعلنا صالحين) * أي وكلا من إبراهيم وإسحق ويعقوب أنبياء مرسلين، هذا قول الضحاك وقال آخرون عاملين بطاعة الله عز وجل مجتنبين محارمه.
والوجه الثاني: أقرب لأن لفظ الصلاح يتناول الكل لأنه سبحانه قال بعد هذه الآية: * (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) * فلو حملنا الصلاح على النبوة لزم التكرار واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأن قوله؛ * (وكلا جعلنا صالحين) * يدل على أن ذلك الصلاح من قبله، أجاب الجبائي بأنه لو كان كذلك لما وصفهم بكونهم صالحين وبكونهم أئمة وبكونهم عابدين. ولما مدحهم بذلك، ولما أثنى عليهم، وإذا ثبت ذلك فلا بد من التأويل وهو من وجهين: الأول: أن يكون المراد أنه سبحانه آتاهم من لطفه وتوفيقه ما صلحوا به. والثاني: أن يكون المراد أنه سماهم بذلك كما يقال: زيد فسق فلانا وضلله وكفره إذا وصفه بذلك وكان مصدقا عند الناس، وكما يقال في الحاكم: زكى فلانا وعدله وجرحه إذا حكم بذلك. واعلم أن هذه الوجوه مختلة، أما اعتمادهم على المدح والذم. فالجواب المعهود أن نعارضه بمسألتي الداعي والعلم، وأما الحمل على اللطف فباطل لأن فعل الإلطاف عام في المكلفين فلا بد في هذا التخصيص من مزيد فائدة، وأيضا فلأن قوله: جعلته صالحا، كقوله جعلته متحركا، فحمله على تحصيل شيء سوى الصلاح ترك للظاهر، وأما الحمل على التسمية فهو أيضا مجاز أقصى ما في الباب أنه قد يصار إليه عند الضرورة في بعض المواضع وههنا لا ضرورة إلا أن يرجعوا مرة أخرى إلى فصل المدح والذم، فحينئذ نرجع أيضا إلى مسألتي الداعي والعلم.
النعمة الثالثة: قوله تعالى: * (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) * وفيه قولان: أحدهما: أي جعلناهم أئمة يدعون الناس إلى دين الله تعالى والخيرات بأمرنا وإذننا. الثاني: قول أبي مسلم أن هذه الإمامة هي النبوة، والأول أولى لئلا يلزم التكرار، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أمرين: أحدهما: على خلق الأفعال بقوله: * (وجعلناهم أئمة) * وتقريره ما مضى. والثاني: على أن الدعوة إلى الحق والمنع عن الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى لأن الأمر لو لم يكن معتبرا لما كان في قوله بأمرنا فائدة.
النعمة الرابعة: قوله تعالى: * (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) * وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة وذلك من أعظم النعم على الأب، قال الزجاج: حذف الهاء من إقامة الصلاة لأن الإضافة عوض عنه، وقال غيره: الإقام والإقامة مصدر، قال أبو القاسم الأنصاري: الصلاة
191

أشرف العبادات البدنية وشرعت لذكر الله تعالى، والزكاة أشرف العبادات المالية ومجموعهما التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله، واعلم أنه سبحانه وصفهم أولا بالصلاح لأنه أول مراتب السائرين إلى الله تعالى ثم ترقى فوصفهم بالإمامة. ثم ترقى فوصفهم بالنبوة والوحي. وإذا كان الصلاح الذي هو العصمة أول مراتب النبوة دل ذلك على أن الأنبياء معصومون فإن المحروم عن أول المراتب أولى بأن يكون محروما عن النهاية، ثم إنه سبحانه كما بين أصناف نعمه عليهم بين بعد ذلك اشتغالهم بعبوديته فقال: * (وكانوا لنا عابدين) * كأنه سبحانه وتعالى لما وفى بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام فهم أيضا وفوا بعهد العبودية وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة. القصة الثالثة، قصة لوط عليه السلام
قوله تعالى
* (ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه فى رحمتنآ إنه من الصالحين) *
اعلم أنه سبحانه بعد بيان ما أنعم به على إبراهيم عليه السلام أتبعه بذكر نعمه على لوط عليه السلام لما جمع بينهما من قبل، وههنا مسألتان:
المسألة الأولى: في الواو في قوله: * (ولوطا) * قولان: أحدهما: وهو قول الزجاج أنه عطف على قوله: * (وأوحينا إليهم) * (الأنبياء: 73). والثاني: قول أبي مسلم أنه عطف على قوله: * (آتينا إبراهيم رشده) * (الأنبياء: 51) ولا بد من ضمير في قوله: * (ولوطا) * فكأنه قال وآتينا لوطا فأضمر ذكره.
المسألة الثانية: في أصناف النعم وهي أربعة وجوه: أحدها: الحكم أي الحكمة وعي التي يجب فعلها أو الفصل بين الخصوم وقيل هي النبوة. وثانيها: العلم، واعلم أن إدخال التنوين عليهما يدل على علو شأن ذلك العلم وذلك الحكم. وثالثها: قوله: * (ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث) * والمراد أهل القرية لأنهم هم الذين يعملون الخبائث دون نفس القرية ولأن الهلاك بهم نزل فنجاه الله تعالى من ذلك، ثم بين سبحانه وتعالى بقوله: * (إنهم كانوا قوم سوء فاسقين) * ما أراده بالخبائث، وأمرهم فيما كانوا يقدمون عليه ظاهر. ورابعها: قوله: * (وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين) * وفي تفسير الرحمة قولان: الأول: أنه النبوة أي أنه لما كان صالحا للنبوة أدخله الله في رحمته لكي يقوم بحقها عن مقاتل. الثاني: أنه الثواب عن ابن عباس والضحاك، ويحتمل أن يقال: إنه عليه السلام لما آتاه الله الحكم والعلم وتخلص عن جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الإلهية وهي بحر لا ساحل له وهي الرحمة في الحقيقة.
192

(القصة الرابعة، قصة نوح عليه السلام)
قوله تعالى
* (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا باياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) *
أما قوله تعالى: * (إذ نادى من قبل) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لا شبهة في أن المراد من هذا النداء دعاؤه على قومه بالعذاب ويؤكده حكاية الله تعالى عنه ذلك تارة على الإجمال وهو قوله: * (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) * (القمر: 10) وتارة على التفصيل وهو قوله: * (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * (نوح: 26) ويدل عليه أيضا أن الله تعالى أجابه بقوله: * (فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) * وهذا الجواب يدل على أن الإنجاء المذكور فيه كان هو المطلوب في السؤال فدل هذا على أن نداءه ودعاءه كان بأن ينجيه مما يلحقه من جهتهم من ضروب الأذى بالتكذيب والرد عليه وبأن ينصره عليهم وأن يهلكهم. فلذلك قال بعده: * (ونصرناه من القوم الذين
كذبوا بآياتنا) *.
المسألة الثانية: أجمع المحققون على أن ذلك النداء كان بأمر الله تعالى لأنه لو لم يكن بأمره لم يؤمن أن يكون الصلاح أن لايجاب إليه فيصير ذلك سببا لنقصان حال الأنبياء، ولأن الإقدام على أمثال هذه المطالب لو لم يكن بالأمر لكان ذلك مبالغة في الإضرار، وقال آخرون: إنه عليه السلام لم يكن مأذونا له في ذلك. وقال أبو أمامة: لم يتحسر أحد من خلق الله تعالى كحسرة آدم ونوح، فحسرة آدم على قبول وسوسة إبليس، وحسرة نوح على دعائه على قومه. فأوحى الله تعالى إليه أن لا تتحسر فإن دعوتك وافقت قدري.
أما قوله تعالى: * (فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) * فالمراد بالأهل ههنا أهل دينه، وفي تفسير الكرب وجوه: أحدها: أنه العذاب النازل بالكفار وهو الغرق وهو قول أكثر المفسرين. وثانيها: أنه تكذيب قومه إياه وما لقي منهم من الأذى. وثالثها: أنه مجموع الأمرين وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وهو الأقرب لأنه عليه السلام كان قد دعاهم إلى الله تعالى مدة طويلة وكان قد ينال منهم كل مكروه، وكان الغم يتزايد بسبب ذلك وعند إعلام الله تعالى إياه أنه يغرقهم وأمره باتخاذ الفلك كان أيضا على غم وخوف من حيث لم يعلم من الذي يتخلص
193

من الغرق ومن الذي يغرق فأزال الله تعالى عنه الكرب العظيم بأن خلصه من جميع ذلك وخلص جميع من آمن به معه.
أما قوله تعالى: * (ونصرناه من القوم) * فقراءة أبي بن كعب ونصرناه على القوم ثم قال المبرد: تقديره ونصرناه من مكروه القوم، وقال تعالى: * (فمن ينصرنا من بأس الله) * (غافر: 29) أي يعصمنا من عذابه، قال أبو عبيدة: من بمعنى على. وقال صاحب " الكشاف ": إنه نصر الذي مطاوعه انتصر وسمعت هذليا يدعو على سارق: اللهم انصرهم منه، أي اجعلهم منتصرين منه. أما قوله تعالى: * (إنهم كانوا قوم سوء) * فالمعنى أنهم كانوا قوم سوء لأجل ردهم عليه وتكذيبهم له فأغرقناهم أجمعين، فبين ذلك الوجه الذي به خلصه منهم. (القصة الخامسة، قصة داود وسليمان عليهما السلام) *
قوله تعالى
* (وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون * ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الارض التى باركنا فيها وكنا بكل شىء عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين) *
اعلم أن قوله تعالى: وداود وسليمان وأيوب وزكريا وذا النون، كله نسق على ما تقدم من قوله: * (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل) * (الأنبياء: 51) ومن قوله: * (ولوطا آتيناه حكما وعلما) * (الأنبياء: 74) واعلم أن المقصود ذكر نعم الله تعالى على داود وسليمان فذكر أولا النعمة المشتركة بينهما، ثم ذكر ما يختص به كل
194

واحد منهما من النعم. أما النعمة المشتركة فهي القصة المذكورة وهي قصة الحكومة، ووجه النعمة فيها أن الله تعالى زينهما بالعلم والفهم في قوله: * (وكلا آتينا حكما وعلما) * ثم في هذا تنبيه على أن العلم أفضل الكمالات وأعظمها، وذلك لأن الله تعالى قدم ذكره ههنا على سائر النعم الجليلة مثل تسخير الجبال والطير والريح والجن. وإذا كان العلم مقدما على أمثال هذه الأشياء فما ظنك بغيرها وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن السكيت النفش أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع، وهذا قول جمهور المفسرين، وعن الحسن أنه يجوز ذلك ليلا ونهارا.
المسألة الثانية: أكثر المفسرين على أن الحرث هو الزرع، وقال بعضهم: هو الكرم والأول أشبه بالعرف.
المسألة الثالثة: احتج من قال: أقل الجمع اثنان بقوله تعالى: * (وكنا لحكمهم شاهدين) * مع أن المراد داود وسليمان. جوابه: أن الحكم كما يضاف إلى الحاكم فقد يضاف إلى المحكوم له، فإذا أضيف الحكم إلى المتحاكمين كان المجموع أكثر من الاثنين، وقرئ وكنا لحكمهما شاهدين.
المسألة الرابعة: في كيفية القصة وجهان. الأول: قال أكثر المفسرين: دخل رجلان على داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث: إن غنم هذا دخلت حرثي وما أبقت منه شيئا، فقال داود عليه السلام: اذهب فإن الغنم لك. فخرجا فمرا على سليمان، فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه: فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا. فأخبر بذلك داود عليه السلام فدعاه وقال: كيف كنت تقضي بينهما، فقال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا كان الحرث من العام المستقبل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه. الثاني: قال ابن مسعود وشريح ومقاتل رحمهم الله: أن راعيا نزل ذات ليلة بجنب كرم، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم، فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود عليه السلام فقضى له بالغنم لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الغنم تفاوت، فخرجوا ومروا بسليمان فقال لهم: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه به، فقال غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر داود عليه السلام بذلك فدعا سليمان وقال له: بحق الأبوة والنبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، فقال: تسلم الغنم إلى صاحب الكرم حتى يرتفق بمنافعها ويعمل الراعي في إصلاح الكرم حتى يصير كما كان، ثم ترد الغنم إلى صاحبها، فقال داود عليه السلام: إنما القضاء ما قضيت وحكم بذلك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: حكم سليمان بذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة، وههنا أمور ولا بد من البحث عنها.
السؤال الأول: هل في الآية دلالة على أنهما عليهما السلام اختلفا في الحكم أم لا؟ فإن أبا بكر الأصم قال: إنهما لم يختلفا البتة، وأنه تعالى بين لهما الحكم لكنه بينه على لسان سليمان عليه السلام. الجواب: الصواب أنهما اختلفا والدليل إجماع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على
195

ما رويناه، وأيضا فقد قال الله تعالى: * (وكنا لحكمهم شاهدين) * ثم قال: * (ففهمناها سليمان) * والفاء للتعقيب فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقا على هذا التفهيم،
وذلك الحكم السابق إما أن يقال: اتفقا فيه أو اختلفا فيه، فإن اتفقا فيه لم يبق لقوله: * (ففهمناها سليمان) * فائدة وإن اختلفا فيه فذلك هو المطلوب.
السؤال الثاني: سلمنا أنهما اختلفا في الحكم ولكن هل كان الحكمان صادرين عن النص أو عن الاجتهاد. الجواب: الأمران جائزان عندنا وزعم الجبائي أنهما كانا صادرين عن النص، ثم إنه تارة يبني ذلك على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء، وأخرى على أن الاجتهاد وإن كان جائزا منهم في الجملة، ولكنه غير جائز في هذه المسألة.
أما المأخذ الأول: فقد تكلمنا فيه في الجملة في كتابنا المسمى بالمحصول في الأصول ولنذكر ههنا أصول الكلام من الطرفين احتج الجبائي على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء عليهم السلام بأمور: أحدها: قوله تعالى: * (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * (يونس: 15) وقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى) * (النجم: 3). وثانيها: أن الاجتهاد طريقه الظن وهو قادر على إدراكه يقينا فلا يجوز مصيره إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له أن يجتهد. ثالثها: أن مخالفة الرسول توجب الكفر لقوله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * (النساء: 65) ومخالفة المظنون والمجتهدات لا توجب الكفر. ورابعها: لو جاز أن يجتهد في الأحكام غير جائز عليه. وخامسها: أن الاجتهاد إنما يجوز المصير إليه عند فقد النص، لكن فقدان النص في حق الرسول كالممتنع فوجب أن لا يجوز الاجتهاد منه. وسادسها: لو جاز الاجتهاد من الرسول لجاز أيضا من جبريل عليه السلام وحينئذ لا يحصل الأمان بأن هذه الشرائع التي جاء بها أهي من نصوص الله تعالى أو من اجتهاد جبريل؟ والجواب عن الأول: أن قوله تعالى: * (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إلي) * (يونس: 15) لا يدل على قولكم لأنه وارد في إبدال آية بآية لأنه عقيب قوله: * (قال الذين لا يرجون لقاءنا أئت بقرآن غير هذا أو بدله) * (يونس: 15) ولا مدخل للاجتهاد في ذلك. وأما قوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى) * (النجم: 3) فبعيد لأن من يجوز له الاجتهاد يقول إن الذي اجتهد فيه هو عن وحي على الجملة وإن لم يكن كذلك على التفصيل، وإن الآية واردة في الأداء عن الله تعالى لا في حكمه الذي يكون بالعقل. والجواب عن الثاني: أن الله تعالى إذا قال له إذا غلب على ظنك كون الحكم معللا في الأصل بكذا، ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فههنا الحكم مقطوع به والظن غير واقع فيه بل في طريقه. والجواب عن الثالث: أنا لا نسلم أن مخالفة المجتهدات جائزة مطلقا بل جواز مخالفتها مشروط بصدورها عن غير المعصوم والدليل عليه أنه يجوز على الأمة أن يجمعوا اجتهادا ثم يمتنع مخالفتهم وحال الرسول أؤكد. والجواب عن الرابع: لعله عليه السلام كان ممنوعا من الاجتهاد في بعض الأنواع أو كان مأذونا مطلقا لكنه لم يظهر له في تلك الصورة وجه الاجتهاد، فلا جرم
196

أنه توقف. والجواب عن الخامس: لم لا يجوز أن يحبس النص عنه في بعض الصور فحينئذ يحصل شرط جواز الاجتهاد. والجواب عن السادس: أن هذا الاحتمال مدفوع باجماع الأمة على خلافه فهذا هو الجواب عن شبه المنكرين والذي يدل على جواز الاجتهاد عليهم وجوه: أحدها: أنه عليه السلام إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل معلل بمعنى ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل، وعنده مقدمة يقينية وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون. وعند هذا، إما أن يقدم على الفعل والترك معا وهو محال لاستحالة الجمع بين النقيضين. أو يتركهما وهو محال لاستحالة الخلو عن النقيضين، أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل، أو يرجح الراجح على المرجوح وذلك هو العمل بالقياس. وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس وهي قائمة أيضا في حق الأنبياء عليهم السلام. وهذا يتوجه على جواز الاجتهاد من جبريل عليه السلام. وثانيها: قوله تعالى: * (فاعتبروا) * أمر للكل بالاعتبار فوجب اندراج الرسول عليه السلام فيه لأنه إمام المعتبرين وأفضلهم. وثالثها: أن الاستنباط أرفع درجات العلماء فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب. فإن قيل هذا إنما يلزم لو لم تكن درجة أعلى من الإعتبار، وليس الأمر كذلك، لأنه كان يستدرك الأحكام وحيا على سبيل اليقين، فكان أرفع درجة من الاجتهاد الذي ليس قصاراه إلا الظن. قلنا: لا يمتنع أن لا يجد النص في بعض المواضع، فلو لم يتمكن من الاجتهاد لكان أقل درجة من المجتهد الذي يمكنه أن يعرف ذلك الحكم من الإجتهاد، وأيضا قد بينا أن الله تعالى لما أمره بالاجتهاد كان ذلك مفيدا للقطع بالحكم. ورابعها: قال عليه السلام: " العلماء ورثة الأنبياء " فوجب أن يثبت للأنبياء درجة الإجتهاد ليرث العلماء عنهم ذلك. هذا تمام القول في هذه المسألة. وخامسها: أنه تعالى قال: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * فذاك الإذن إن كان بإذن الله تعالى استحال أن يقول: لم أذنت لهم، وإن كان بهوى النفس فهو غير جائز، وإن كان بالاجتهاد فهو المطلوب.
المأخذ الثاني: قال الجبائي: لو جوزنا الاجتهاد من الأنبياء عليهم السلام ففي هذه المسألة يجب أن لا يجوز لوجوه؛ أحدها: أن الذي وصل إلى صاحب الزرع من در الماشية ومن منافعها مجهول المقدار، فكيف يجوز في الاجتهاد جعل أحدهما عوضا عن الآخر. وثانيها: أن اجتهاد داود عليه السلام إن كان صوابا لزم أن لا ينقض لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. وإن كان خطأ وجب أن يبين الله تعالى توبته كسائر ما حكاه عن الأنبياء عليهم السلام، فلما مدحهما بقوله: * (وكلا آتينا حكما وعلما) * دل على أنه لم يقع الخطأ من داود. وثالثها: لو حكم بالاجتهاد لكان الحاصل هناك ظنا لا علما لأن الله تعالى قال: * (وكلا آتينا حكما وعلما) *. ورابعها: كيف يجوز أن يكون
197

عن اجتهاد من مع قوله: * (ففهمناها سليمان) *. والجواب عن الأول: أن الجهالة في القدر لا تمنع من الاجتهاد كالجعالات وحكم المصراة. وعن الثاني: لعله كان خطأ من باب الصغائر. وعن الثالث: بينا أن من تمسك بالقياس فالظن واقع في طريق إثبات الحكم فأما الحكم فمقطوع به. وعن الرابع: أنه إذا تأمل واجتهد فأداه اجتهاده إلى ما ذكرنا كان الله تعالى فهمه من حيث بين له طريق ذلك. فهذه جملة الكلام في بيان أنه لا يمتنع أن يكون اختلاف داود وسليمان عليهما السلام في ذلك الحكم
إنما كان بسبب الاجتهاد. وأما بيان أنه لا يمتنع أيضا أن يكون اختلافهما فيه بسبب النص فطريقه أن يقال: إن داود عليه السلام كان مأمورا من قبل الله تعالى في هذه المسألة بالحكم الذي حكم به، ثم إنه سبحانه نسخ ذلك بالوحي إلى سليمان عليه السلام خاصة وأمره أن يعرف داود ذلك فصار ذلك الحكم حكمهما جميعا فقوله: * (ففهمناها سليمان) * أي أوحينا إليه فإن قيل هذا باطل لوجهين: الأول: لما أنزل الله تعالى الحكم الأول على داود وجب أن ينزل نسخه أيضا على داود لا على سليمان. الثاني: أن الله تعالى مدح كلا منهما على الفهم ولو كان ذلك على سبيل النص لم يكن في فهمه كثير مدح إنما المدح الكثير على قوة الخاطر والحذاقة في الاستنباط.
المسألة الثالثة: إذا أثبتم أنه يجوز أن يكون اختلافهما لأجل النص وأن يكون لأجل الاجتهاد فأي القولين أولى. والجواب: الاجتهاد أرجح لوجوه: أحدها: أنه روى في الأخبار الكثيرة أن داود عليه السلام لم يكن قد بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان أن غير ذلك أولى، وفي بعضها أن داود عليه السلام ناشده لكي يورد ما عنده وكل ذلك لا يليق بالنص، لأنه لو كان نصا لكان يظهره ولا يكتمه.
السؤال الرابع: بينوا أنه كيف كان طريق الاجتهاد. الجواب: أن وجه الاجتهاد فيه ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن داود عليه السلام قوم قدر الضرر بالكرم فكان مساويا لقيمة الغنم فكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر أن يزال بمثله من النفع فلا جرم سلم الغنم إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة رحمه الله في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وأما سليمان عليه السلام فإن اجتهاده أدى إلى أن يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد، فأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائز لأنه يقتضي الحيف والجور، ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الكرم فحكم به، كما قال الشافعي رضي الله عنه: فيمن غصب عبدا فأبق من يده أنه يضمن القيمة لينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد فإذا ظهر ترادا.
السؤال الخامس: على تقدير أن ثبت قطعا أن تلك المخالفة كانت مبنية على الاجتهاد، فهل تدل هذه القصة على أن المصيب واحد أو الكل مصيبون. الجواب: أما القائلون بأن المصيب واحد ففيهم من استدل بقوله تعالى: * (ففهمناها سليمان) * قال ولو كان الكل مصيبا لم يكن لتخصيص
198

سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة، وأما القائلون بأن الكل مصيبون ففيهم من استدل بقوله: * (وكلا آتينا حكما وعلما) * ولو كان المصيب واحدا ومخالفه مخطئا لما صح أن يقال: * (وكلا آتينا حكما وعلما) * واعلم أن الاستدلالين ضعيفان. أما الأول: فلأن الله تعالى لم يقل إنه فهمه الصواب فيحتمل أنه فهمه الناسخ ولم يفهم ذلك داود عليه السلام لأنه لم يبلغه وكل واحد منهما مصيب فيما حكم به، على أن أكثر ما في الآية أنها دالة على أن داود وسليمان عليهما السلام ما كانا مصيبين وذلك لا يوجب أن يكون الأمر كذلك في شرعنا. وأما الثاني: فلأنه تعالى لم يقل إن كلا آتيناه حكما وعلما بما حكم به، بل يجوز أن يكون آتيناه حكما وعلما بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام، على أنه لا يلزم من كون كل مجتهد مصيبا في شرعهم أن يكون الأمر كذلك في شرعنا.
السؤال السادس: لو وقعت هذه الواقعة في شرعنا ما حكمها؟ الجواب: قال الحسن البصري: هذه الآية محكمة، والقضاة بذلك يقضون إلى يوم القيامة، واعلم أن كثيرا من العلماء يزعمون أنه منسوخ بالإجماع ثم اختلفوا في حكمه فقال الشافعي رحمه الله: إن كان ذلك بالنهار لا ضمان لأن لصاحب الماشية تسييب ماشيته بالنهار، وحفظ الزرع بالنهار على صاحبه. وإن كان ليلا يلزمه الضمان لأن حفظها بالليل عليه. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا ضمان عليه ليلا كان أو نهارا إذا لم يكن متعديا بالإرسال، لقوله صلى الله عليه وسلم: " جرج العجماء جبار " واحتج الشافعي رحمه الله بما روي عن البراء بن عازب أنه قال: " كانت ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدته فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل " وهذا تمام القول في هذه الآية. ثم إن الله تعالى ذكر بعد ذلك من النعم التي خص بها داود عليه أمرين: الأول: قوله تعالى: * (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير هذا التسبيح وجهان: أحدهما: أن الجبال كانت تسبح ثم ذكروا وجوها. أحدها: قال مقاتل إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه. وثانيها: قال الكلبي: إذا سبح داود أجابته الجبال. وثالثها: قال سليمان بن حيان: كان داود عليه السلام إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطا واشتياقا. القول الثاني: وهو اختيار بعض أصحاب المعاني أنه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال والطير بمثابة قوله: * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44) وتخصيص داود عليه السلام بذلك إنما كان بسبب أنه عليه السلام كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقينا وتعظيما، والقول الأول أقرب لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره. وأما المعتزلة فقالوا: لو حصل الكلام من الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله تعالى فيه. والأول: محال لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة والعلم والقدرة، وما لا يكون حيا
199

عالما قادرا يستحيل منه الفعل. والثاني: أيضا محال لأن المتكلم عندهم من كان فاعلا للكلام لا من كان محلا للكلام، فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله تعالى لكان المتكلم هو الله تعالى لا الجبل، فثبت أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره فعند هذا قالوا في: * (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن) * ومثله قوله تعالى: * (يا جبال أوبي معه) * (سبأ: 10) معناه تصرفي معه وسيري بأمره ويسبحن من السبح الذي السباحة خرج اللفظ فيه على التكثير ولو لم يقصد التكثير لقيل يسبحن فلما كثر قيل يسبحن معه، أي سيرى وهو كقوله: * (إن لك في النهار سبحا طويلا) * (المزمل: 7) أي تصرفا ومذهبا. إذا ثبت هذا فنقول: إن سيرها هو التسبيح لدلالته على قدرة الله تعالى وعلى سائر ما تنزه عنه واعلم أن مدار هذا القول على أن بنية الجبل لا تقبل الحياة، وهذا ممنوع وعلى أن التكلم من فعل الله وهو أيضا ممنوع.
المسألة الثانية: أما الطير فلا امتناع في أن يصدر عنها الكلام، ولكن أجمعت الأمة على أن المكلفين إما الجن أو الإنس أو الملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف، بل تكون على حالة كحال الطفل في أن يؤمر وينهي وإن لم يكن مكلفا فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق، وأيضا فيه دلالة
على قدرة الله تعالى وعلى تنزهه عما لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": يسبحن حال بمعنى مسبحات أو استئناف كأن قائلا قال: كيف سخرهن؟ فقال: يسبحن. والطير إما معطوف على الجبال وإما مفعول معه. فإن قلت: لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت: لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان ناطق.
أما قوله: * (وكنا فاعلين) * فالمعنى أنا قادرون على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم وقيل نفعل ذلك بالأنبياء عليهم السلام.
الإنعام الثالث: قوله تعالى: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: اللبوس اللباس، قال ألبس لكل حالة لبوسها.
المسألة الثانية: لتحصنكم قرىء بالنون والياء والتاء وتخفيف الصاد وتشديدها، فالنون لله عز وجل والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع والياء لله تعالى أو لداود أو للبوس.
المسألة الثالثة: قال قتادة: أول من صنع الدرع داود عليه السلام، وإنما كانت صفائح قبله فهو أول من سردها واتخذها حلقا، ذكر الحسن أن لقمان الحكيم عليه السلام حضره وهو يعمل الدرع، فأراد أن يسأل عما يفعل ثم سكت حتى فرغ منها ولبسها على نفسه، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله قالوا إن الله تعالى ألان الحديد له يعمل منه بغير نار كأنه طين.
المسألة الرابعة: البأس ههنا الحرب وإن وقع على السوء كله، والمعنى ليمنعكم ويحرسكم من
200

بأسكم أي من الجرح والقتل والسيف والسهم والرمح.
المسألة الخامسة: فيه دلالة على أن أول من عمل الدرع داود ثم تعلم الناس منه، فتوارث الناس عنه ذلك. فعمت النعمة بها كل المحاربين من الخلق إلى آخر الدهر، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة فقال: * (فهل أنتم شاكرون) * أي اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة، واعلم أنه سبحانه لما ذكر النعم التي خص داود بها ذكر بعده النعم التي خص بها سليمان عليه السلام، وقال قتادة: ورث الله تعالى سليمان من داود ملكه ونبوته وزاده عليه أمرين سخر له الريح والشياطين. الإنعام الأول: قوله تعالى: * (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره) * أي جعلناها طائعة منقادة له بمعنى أنه إن أرادها عاصفة كانت عاصفة وإن أرادها لينة كانت لينة والله تعالى مسخرها في الحالتين، فإن قيل: العاصف الشديدة الهبوب، وقد وصفها الله تعالى بالرخاوة في قوله: * (رخاء حيث أصاب) * فكيف يكون الجمع بينهما. والجواب: من وجهين: الأول: أنها كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال: * (غدوها شهر ورواحها شهر) * وكانت جامعة بين الأمرين رخاء في نفسها وعاصفة في عملها مع طاعتها لسليمان عليه السلام وهبوبها على حسب ما يريد ويحكم آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة. الثاني: أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفا، لأجل هبوبها على حكم إرادته.
المسألة السادسة: قرىء الريح والرياح بالرفع والنصب فيهما فالرفع على الابتداء والنصب للعطف على الجبال، فإن قيل: قال في داود: * (وسخرنا مع داود الجبال) * وقال في حق سليمان: * (ولسليمان الريح) * فذكره في حق داود عليه السلام بكلمة مع وفي حق سليمان عليه السلام باللام وراعى هذا الترتيب أيضا في قوله: * (يا جبال أوبي معه والطير) * وقال: * (فسخرنا له الريح تجري بأمره) * فما الفائدة في تخصيص داود عليه السلام بلفظ مع، وسليمان باللام قلنا يحتمل أن الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف، فما أضيف إليه بلام التمليك، أما الريح فلم يصدر عنه إلا ما يجري مجرى الخدمة، فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك، وهذا إقناعي.
أما قوله: * (إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) * أي إلى المضي إلى بيت المقدس، قال الكلبي: كانت تسير في إصطخر إلى الشام يركب عليها سليمان وأصحابه.
أما قوله: * (وكنا بكل شيء عالمين) * أي لعلمنا بالأشياء صح منا أن ندبر هذا التدبير في رسلنا وفي خلقنا، وأن نفعل هذه المعجزات القاهرة.
الإنعام الثاني: قوله تعالى: * (ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المراد أنهم يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما قال: * (يعملون
201

له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان) * وأما الصناعات فكاتخاذ الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون.
المسألة الثانية: قوله: * (ومن الشياطين من يغوصون له) * يعني وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له، فيكون في موضع النصب نسقا على الريح قال الزجاج ويجوز أن يكون في موضع رفع من وجهين: أحدهما: النسق على الريح، وأن يكون المعنى: * (ولسليمان الريح وله من يغوصون له من الشياطين، ويجوز أن يكون رفعا على الابتداء ويكون له هو الخبر.
المسألة الثالثة: يحتمل أن يكون من يغوص منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال، ويحتمل أنهم فرقة أخرى ويكون الكل داخلين في لفظة من وإن كان الأول هو الأقرب.
المسألة الرابعة: ليس في الظاهر إلا أنه سخرهم، لكنه قد روى أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين وهو الأقرب من وجهين: أحدهما: إطلاق لفظ الشياطين. والثاني: قوله: * (وكنا لهم حافظين) * فإن المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد، وإنما يجب ذلك في الكافر.
المسألة الخامسة: في تفسير قوله: * (وكنا لهم حافظين) * وجوه: أحدها: أنه تعالى وكل بهم جمعا من الملائكة أو جمعا من مؤمني الجن. وثانيها: سخرهم الله تعالى بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم من مخالفته. وثالثها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد وسلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء، فإن قيل وعن أي شيء كانوا محفوظين قلنا فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه تعالى كان يحفظهم عليه لئلا يذهبوا ويتركوه. وثانيها؛ قال الكلبي كان يحفظهم من أن يهيجوا أحدا في زمانه. وثالثها: كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا فكان دأبهم أنهم يعملون بالنهار ثم يفسدونه في الليل.
المسألة السادسة: سأل الجبائي نفسه، وقال: كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل، وإنما يمكنهم الوسوسة؟ وأجاب بأنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزا لسليمان عليه السلام، فلما مات سليمان ردهم الله إلى الخلقة الأولى لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس، ولو ادعى متنبي النبوة وجعله دلالة لكان كمعجزات الرسل فلذا ردهم إلى خلقتهم الأولى، واعلم أن هذا الكلام ساقط من وجوه: أحدها: لم قلت إن الجن من الأجسام، ولم لا يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ويكون الجن منهم؟ فإن قلت: لو كان الأمر كذلك لكان مثلا للباري تعالى، قلت: هذا ضعيف لأن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فكيف اللوازم السلبية، سلمنا أنه جسم، لكن لا يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف، وكلامه بناء على البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف. سلمنا أنه لا بد من تكثيف أجسامهم لكن لم قلت بأنه لا بد من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت سليمان عليه السلام، فإن قال: لئلا يفضي إلى التلبيس
202

قلنا التلبيس غير لازم، لأن المتنبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه فللمدعي أن يقول: لم لا يجوز أن يقال إن قوة أجسادهم كانت معجزة لنبي آخر قبلك، ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به، واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة، أما الكثيف فأكثف الأجسام الحجارة والحديد وقد جعلهما الله تعالى معجزة لداود عليه السلام، فأنطق الحجر ولين الحديد وكل واحد منهما كما يدل على التوحيد والنبوة يدل على صحة الحشر، لأنه لما قدر على إحياء الحجارة فأي بعد في إحياء العظام الرميمة، وإذا قدر على أن يجعل في إصبع داود عليه السلام قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة، فأي بعد في أن يجعل التراب اليابس جسما حيوانيا، وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار، وقد جعلهما الله معجزة لسليمان عليه السلام، أما الهواء فقوله تعالى: * (فسخرنا له الريح) * وأما النار فلأن الشياطين مخلوقون منها وقد سخرهم الله تعالى فكان يأمرهم بالغوص في المياه والنار تنطفئ بالماء وهم ما كان يضرهم ذلك، وذلك يدل على قدرته على إظهار الضد من الضد. (القصة السادسة، قصة أيوب عليه السلام)
قوله تعالى
* (وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وءاتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) *
اعلم أن في أمر أيوب عليه السلام وما ذكره الله تعالى من شأنه ههنا وفي غيره من ا لقرآن من العبر والدلائل ما ليس في غيره، لأنه تعالى مع عظيم فضله أنزل به من المرض العظيم ما أنزله مما كان غيره له ولغيره ولسائر من سمع بذلك وتعريفا لهم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على المرء أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد في القيام بحق الله تعالى ويصبر على حالتي الضراء والسراء وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال وهب بن منبه: كان أيوب عليه السلام رجلا من الروم وهو أيوب ابن أنوص وكان من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط، وكان الله تعالى قد اصطفاه وجعله نبيا، وكان مع ذلك قد أعطاه من الدنيا حظا وافرا من النعم والدواب والبساتين وأعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء، وكان رحيما بالمساكين، وكان يكفل الأيتام والأرامل ويكرم
203

الضيف وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وعرفوا فضله، قال وهب: وإن لجبريل عليه السلام بين يدي الله تعالى مقاما ليس لأحد من الملائكة مثله في القربة والفضيلة، وهو الذي يتلقى الكلام فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه جبريل عليه السلام ثم تلقاه ميكائيل عليه السلام ثم من حوله من الملائكة المقربين، فإذا شاع ذلك فهم يصلون عليه. ثم صلت ملائكة السماوات ثم ملائكة الأرض. وكان إبليس لم يحجب عن شيء من السماوات، وكان يقف فيهن حيثما أراد، ومن هناك وصل إلى آدم عليه السلام حتى أخرجه من الجنة. ولم يزل على ذلك حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع. فكان يصعد بعد ذلك إلى ثلاث إلى زمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فحجب عند ذلك عن جميع السماوات إلا من استرق السمع، قال: فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب فأدركه الحسد، فصعد سريعا حتى وقف من السماء موقفا كان يقفه، فقال: يا رب إنك أنعمت على عبدك أيوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجربه بشدة ولا بلاء وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك، فقال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله. فانقض الملعون حتى وقع إلى الأرض وجمع عفاريت الشياطين، وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب؟ قال عفريت: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار فأحرقت كل شيء آتي عليه، فقال إبليس: فأت الإبل ورعاءها فذهب ولم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها شيء إلا احترق فلم يزل يحرقها ورعاءها حتى أتى على آخرها، فذهب إبليس على شكل بعض أولئك الرعاة إلى أيوب فوجده قائما يصلي، فلما فرغ من الصلاة قال: يا أيوب هل تدري ما صنع ربك الذي اخترته بإبلك ورعائها؟ فقال أيوب: إنها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه. قال إبليس: فإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاؤها كلها وتركت الناس مبهوتين متعجبين منها. فمن قائل يقول: ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور، ومن قائل يقول: لو كان إله أيوب يقدر على شيء لمنع من وليه، ومن قائل آخر يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت عدوه به ويفجع به صديقه. فقال أيوب عليه السلام: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عريانا خرجت من بطن أمي، وعريانا أعود في التراب، وعريانا أحشر إلى الله تعالى، ولو علم الله فيك أيها العبد
خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا وآجرني فيك، ولكن الله علم منك شرا فأخرك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا. فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه، فقال إبليس: فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها. فخرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول: ورد عليه أيوب الرد الأول، فرجع إبليس صاغرا. فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه، قال فاذهب إلى الحرث والثيران فأتاهم فأهلكهم ثم رجع إبليس متمثلا حتى جاء أيوب وهو يصلي، فقال مثل قوله الأول فرد عليه أيوب الرد الأول، فجعل
204

إبليس يصيب أمواله شيئا فشيئا حتى أتى على جميعها. فلما رأى إبليس صبره على ذلك وقف الموقف الذي كان يقفه عند الله تعالى، وقال: يا إلهي هل أنت مسلطي على ولده، فإنها الفتنة المضلة. فقال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ولده، فأتى أولاد أيوب في قصرهم فلم يزل يزلزله بهم من قواعده حتى قلب القصر عليهم، ثم جاء إلى أيوب متمثلا بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه، فقال: لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب عليه السلام وبكى وقبض قبضة من التراب ووضعها على رأسه، فاغتنم ذلك إبليس، ثم لم يلبث أيوب عليه السلام حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال: يا إلهي إنما يهون على أيوب خطر المال والولد، لعلمه أنك تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك، فقال تعالى: انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه فانقض عدو الله سريعا فوجد أيوب عليه السلام ساجدا لله تعالى فأتاه من قبل الأرض فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وخرج به من فرقه إلى قدمه ثآليل وقد وقعت فيه حكة لا يملكها، وكان يحك بأظفاره حتى سقطت أظفاره، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم بالفخار والحجارة، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير ونتن، فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت افرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره، ثم إن وهبا طول في الحكاية إلى أن قال: إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثا متضرعا إليه فقال: يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، ويا ليتني كنت عرفت الذنب الذي أذنبته، والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني، ألم أكن للغريب دارا، وللمسكين قرارا، ولليتيم وليا، وللأرملة قيما، إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا، وللفتنة نصبا، وسلطت علي ما لو سلطته على جبل لضعف من حمله. إلهي تقطعت أصابعي، وتساقطت لهواتي، وتناثر شعري وذهب المال، وصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها علي ويعيرني بفقري وهلاك أولادي. قال الإمام أبو القاسم الأنصاري رحمه الله، وفي جملة هذا الكلام: ليتك لو كرهتني لم تخلقني، ثم قال: ولو كان ذلك صحيحا لاغتنمه إبليس، فإن قصده أن يحمله على الشكوى، وأن يخرجه عن حلية الصابرين، والله تعالى لم يخبر عنه إلا قوله: * (أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) * ثم قال: * (إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) * (ص: 44) واختلف العلماء في السبب الذي قال لأجله: * (أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) * وفي مدة بلائه. فالرواية الأولى: روى ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان ويروحان إيه، فقال أحدهما للآخر ذات يوم: والله لقد أذنب أيوب ذنبا
205

ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ فقال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى ولم يكشف ما به. فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب عليه السلام. فقال أيوب: ما أدري ما تقولون، غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله عز وجل فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق. وفي رواية أخرى أن الرجلين لما دخلا عليه وجدا ريحا فقالا: لو كان لأيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة، قال: فما شق على أيوب شيء مما ابتلى به أشد مما سمع منهما، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعانا وأنا أعلم بمكان جائع فصدقني فصدقه وهما يسمعان، ثم خر أيوب عليه السلام ساجدا ثم قال: اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي قال فكشف الله ما به. الرواية الثانية: قال الحسن رحمه الله: مكث أيوب عليه السلام بعد ما ألقى على الكناسة سبع سنين وأشهرا، ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته رحمة صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام وتحمد الله تعالى مع أيوب وكان أيوب مواظبا على حمد الله تعالى والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه، فصرخ إبليس صرخة جزعا من صبر أيوب، فاجتمع جنوده من أقطار الأرض وقالوا له ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فلم أدع له مالا ولا ولدا ولم يزدد بذلك إلا صبرا وحمدا لله تعالى، ثم سلطت على جسده فتركته ملقى في كناسة وما يقربه إلا امرأته، وهو مع ذلك لا يفتر عن الذكر والحمد لله، فاستعنت بكم لتعينوني عليه فقالوا له: أين مكرك! أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا علي، قالوا: أدليت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال من قبل امرأته، قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقر به أحد غيرها. قال: أصبتم فانطلق حتى أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده، فلما سمعها طمع أن يكون ذلك كله جزعا، فوسوس إليها وذكرها ما كان لها من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه. قال الحسن رحمه الله: فصرخت، فلما صرخت علم أنها قد جزعت فأتاها بسخلة، وقال ليذبح هذه لي أيوب ويبرأ، قال: فجاءت تصرخ إلى أيوب يا أيوب حتى متى يعذبك ربك، ألا يرحمك أين المال، أين الماشية، أين الولد، أين الصديق، أين اللون الحسن، أين جسمك الذي قد بلى وصار مثل الرماد، وتردد فيه الدواب أذبح هذه السخلة واسترح؟ فقال أيوب عليه السلام: أتاك عدو الله ونفخ فيك فأجبتيه! ويلك أترين ما تبكين عليه مما تذكرين مما كنا فيه من المال والولد والصحة، من أعطانا ذلك؟ قالت الله. قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر، قال ويلك، والله ما أنصفت ربك، ألا
صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة. والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة. أمرتيني أن أذبح لغير الله، وحرام علي أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك الذي تأتيني به، فطردها فذهبت، فلما نظر
206

أيوب في شأنه وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق، وقد ذهبت امرأته خر ساجدا، وقال: * (رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) * فقال: ارفع رأسك فقد استجبت لك * (اركض برجلك) * فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها، فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت منه، ثم ضرب برجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحا، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن ما كان، ثم كسى حلة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان له من الأهل والولد والمال، إلا وقد ضعفه الله تعالى حتى صار أحسن مما كان، حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب، قال: فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها، قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعا وتأكله السباع لأرجعن إليه، فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ولا تلك الحال وإذا بالأمور قد تغيرت، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب عليه السلام، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه وتسأله عنه فأرسل إليها أيوب عليه السلام ودعاها وقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلي الذي كان ملقى على الكناسة، فقال لها أيوب عليه السلام: ما كان منك، فبكت وقالت بعلي، فقال: أتعرفينه إذا رأيتيه، قالت وهل يخفى على أحد يراه! فتبسم وقال: أنا هو، فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال إنك أمرتيني أن أذبح سخلة لإبليس، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله تعالى فرد علي ما ترين. الرواية الثالثة: قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات وقال وهب رحمه الله بقي في البلاء ثلاث سنين، فلما غلب أيوب إبليس لعنه الله ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها: أنت صاحبة أيوب؟ قالت: نعم، قال: فهل تعرفيني؟ قالت لا: قال: أنا إله الأرض أنا صنعت بأيوب ما صنعت، وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك وعليه جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي، قال وهب وسمعت أنه قال: لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم الله تعالى لعوفي مما هو فيه من البلاء، وفي رواية أخرى: بل قال لها لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك، فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها، فقال لها أيوب: أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجلدنك مائة جلدة، وقال عند ذلك * (مسني الضر) * يعني من طمع إبليس في سجودي له وسجود زوجتي ودعائه إياها وإياي إلى الكفر. الرواية الرابعة: قال وهب: كانت امرأة أيوب عليه السلام تعمل للناس وتأتيه بقوته، فلما طال عليه البلاء سئمها الناس فلم يستعملوها فالتمست ذات يوم شيئا من الطعام فلم تجد شيئا فجزت قرنا من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها: أين قرنك فأخبرته بذلك، فحينئذ قال: * (مسني الضر) *. الرواية الخامسة: قال إسماعيل السدي: لم يقل أيوب مسني الضر إلا لأشياء
207

ثلاث. أحدها: قول الرجلين له لو كان عملك الذي كنا نرى لله تعالى لما أصابك الذي أصابك. وثانيها: كان لامرأته ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزا ولحما فجاءت إلى أيوب عليه السلام فقال من أين هذا؟ فقالت: كل فإنه حلال فلما كان من الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية وكذلك فعلت في اليوم الثالث، وقالت: كل فإنه حلال فقال: لا آكل ما لم تخبريني فأخبرته، فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم، وقيل: إنما باعت ذوائبها لأن إبليس تمثل لقوم في صورة بشر، وقال: لئن تركتم أيوب في قريتكم فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فأخرجوه إلى باب البلد، ثم قال لهم: إن امرأته تدخل في بيوتكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته، فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها. وثالثها: حين قالت له امرأته ما قالت فحينئذ دعا. الرواية السادسة: قيل: سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها إلى موضعها، وقال قد جعلني الله تعالى طعمة لك فعضته عضة شديدة، فقال: مسني الضر. فأوحى الله تعالى إليه لولا أني جعلت تحت كل شعرة منك صبرا لما صبرت.
المسألة الثانية: إعلم أن المعتزلة قد طعنوا في هذه القصة من وجوه. أحدها: قال الجبائي: ذهب بعض الجهال إلى أن ما كان به من المرض كان فعلا للشيطان سلطه الله عليه، لقوله تعالى حكاية عنه: * (مسني الشيطان بنصب وعذاب) * وهذا جهل، أما أولا فلأنه لو قدر على إحداث الأمراض والأسقام وضدهما من العافية لتهيأ له فعل الأجسام، ومن هذا حاله يكون إلها، وأما ثانيا فلأن الله تعالى أخبر عنه وعن جنوده بأنه قال: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22) والواجب تصديق خبر الله تعالى، دون الرجوع إلى ما يروى عن وهب بن منبه رضي الله عنه. واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف لأن المذكور في الحكاية أن الشيطان نفخ في منخره فوقعت الحكة فيه، فلم قلتم إن القادر على النفخة التي تولد مثل هذه الحكة لا بد وأن يكون قادرا على خلق الأجسام، وهل هذا إلا محض التحكم، وأما التمسك بالنص فضعيف لأنه إنما يقدم على هذا الفعل متى علم أنه لو أقدم عليه لما منعه الله تعالى عنه، وهذه الحالة لم تحصل إلا في حق أيوب عليه السلام على ما دلت الحكاية عليه من أنه استأذن الله تعالى فأذن له فيه، ومتى كان كذلك لم يبق بين ذلك النص وبين هذه الحكاية مناقضة. وثانيها: قالوا: ما روي أنه عليه السلام لم يسأل إلا عند أمور مخصوصة فبعيد، لأن الثابت في العقل أنه يحسن من المرء أن يسأل في ذلك ربه ويفزع إليه كما يحسن منه المداواة، وإذا جاز أن يسأل ربه عند الغم مما يراه من إخوانه وأهله جاز أيضا أن يسأل ربه من قبل نفسه، فإن قيل: أفلا يجوز أنه تعالى تعبده بأن لا يسأل الكشف إلا في آخر أمره، قلنا: يجوز ذلك بأن يعلمه بأن إنزال ذلك به مدة مخصوصة من مصالحه ومصالح غيره لا محالة، فعلم عليه السلام أنه لا وجه للمسألة في هذا الأمر الخاص، فإذا قرب الوقت جاز أن يسأل ذلك، من حيث يجوز أن يدوم ويجوز أن ينقطع. وثالثها: قالوا: انتهاء ذلك المرض إلى حد التنفير عنه غير
208

جائز، لأن الأمراض المنفرة من القبول غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام فهذا جملة ما قيل في هذه الحكاية.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف " قوله تعالى: * (أني مسني الضر) * أي ناداه بأني مسني الضر، وقرئ إني بالكسر على إضمار القول أو لتضمين النداء معناه، والضر بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال.
المسألة الرابعة: أنه عليه السلام ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب، فإن قيل: أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابرا. والجواب: قال سفيان بن عيينة رحمه الله من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعا إذا كان في شكواه راضيا بقضاء الله إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء، ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام: * (إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله) * (يوسف: 86) أما قوله: * (وأنت أرحم الراحمين) * فالدليل على أنه سبحانه: * (أرحم الراحمين) * أمور. أحدها: أن كل من رحم غيره فأما أن يرحمه طلبا للثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو دفعا للرقة الجنسية عن الطبع، وحينئذ يكون مطلوب ذلك الراحم منفعة نفسه، أما الحق سبحانه فإنه يرحم عباده من غير وجه من هذه الوجوه، ومن غير أن يعود إليه من تلك الرحمة زيادة ولا نقصان من الثناء ومن صفات الكمال، فكان سبحانه أرحم الراحمين. وثانيها: أن كل من يرحم غيره فلا يكون ذلك إلا بمعونة رحمة الله تعالى لأن من أعطى غيره طعاما أو ثوبا أو دفع عنه بلاء، فلولا أنه سبحانه خلق المطعوم والملبوس والأدوية والأغذية وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء، ثم بعد وصول تلك العطية إليه، فلولا أنه سبحانه جعله سببا للراحة لما حصل النفع بذلك، فإذا رحمة العباد مسبوقة برحمة الله تعالى وملحوقة برحمته بل رحمتهم فيما بين الطرفين كالقطرة في البحر، فوجب أن يكون تعالى هو أرحم الراحمين. وثالثها: أن الله تعالى لو لم يخلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور ذلك الفعل عنه، فكان الراحم هو الحق سبحانه، من حيث إنه هو الذي أنشأ تلك الداعية، فثبت أنه أرحم الراحمين فإن قيل كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه سبحانه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام وسلط البعض على البعض بالذبح والكسر والإيذاء، وكان قادرا على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وإيذائه؟ والجواب: أن كونه سبحانه ضارا لا ينافي كونه نافعا، بل هو الضار النافع فإضراره ليس لدفع مشقة وإنفاعه ليس لجلب منفعة، بل لا يسأل عما يفعل.
أما قوله تعالى: * (فاستجبنا له) * فإنه يدل على أنه دعا ربه، لكن هذا الدعاء قد يجوز أن يكون واقعا منه على سبيل التعريض، كما يقال إن رأيت أو أردت أو أحببت فافعل كذا. ويجوز أن يكون على سبيل التصريح وإن كان الأليق بالأدب وبدلالة الآية هو الأول، ثم إنه سبحانه بين أن كشف ما به من ضر وذلك يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله، وبين الله تعالى أنه آتاه أهله ويدخل
209

فيه من ينسب إليه من زوجة وولد وغيرهما ثم فيه قولان: أحدهما: وهو قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والكلبي وكعب رضي الله عنهم أن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم. والثاني: روى الليث رضي الله عنه، قال: أرسل مجاهد إلى عكرمة وسأله عن الآية فقال: قيل له إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا. فقال: يكونون لي في الآخرة وأوتي مثلهم في الدنيا. والقول الأول أولى لأن قوله: * (وآتيناه أهله) * يدل بظاهره على أنه تعالى أعادهم في الدنيا وأعطاه معهم مثلهم أيضا.
وأما قوله تعالى: * (وذكرى للعابدين) * ففيه دلالة على أنه تعالى فعل ذلك لكي يتفكر فيه فيكون داعية للعابدين في الصبر والاحتساب، وإنما خص العابدين بالذكر (ى) لأنهم يختصون بالانتفاع بذلك.
(القصة السابعة)
قوله تعالى
* (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين * وأدخلناهم فى رحمتنا إنهم من الصالحين) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر صبر أيوب عليه السلام وانقطاعه إليه أتبعه بذكر هؤلاء فإنهم كانوا أيضا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة، أما إسماعيل عليه السلام فلأنه صبر على الإنقياد للذبح، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء، وصبر في بناء البيت، فلا جرم أكرمه الله تعالى وأخرج صلبه خاتم النبيين، وأما إدريس عليه السلام فقد تقدمت قصته في سورة مريم عليها السلام، قال ابن عمر رضي الله عنهما: " بعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله تعالى فأبوا فأهلكهم الله تعالى ورفع إدريس إلى السماء الرابعة " وأما ذوا الكفل ففيه مسائل:
المسألة الأولى: فيها بحثان: الأول: قال الزجاج الكفل في اللغة الكساء الذي يجعل على عجز البعير، والكفل أيضا النصيب واختلفوا في أنه لم سمي بهذا الاسم على وجوه. أحدها: وهو قول المحققين أنه كان له ضعف عمل الأنبياء عليهم السلام في زمانه وضعف ثوابهم. وثانيها: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية: " إن نبيا من أنبياء بني إسرائيل آتاه الله الملك والنبوة ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك، فأعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل حتى يصبح ويصوم بالنهار فلا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب فادفع ملكك إليه، فقام ذلك النبي في بني إسرائيل
210

وأخبرهم بذلك، فقام شاب وقال: أنا أتكفل لك بهذا. فقال في القوم: من هو أكبر منك فاقعد ثم صاح الثانية والثالثة فقام الرجل وقال: أتكفل لك بهذه الثلاث فدفع إليه ملكه، ووفى بما ضمن. فحسده إبليس فأتاه وقت ما يريد أن يقيل، فقال: إن لي غريما قد مطلني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة ودعا إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح، ثم أتاه من الغد عند القيلولة فقال: إن الرجل الذي استأذنتك له في موضع كذا فلا تبرح حتى آتيك به، فذهب وبقي منتظرا حتى فاتته القيلولة، ثم أتاه فقال له: هرب مني فمضى ذو الكفل إلى صلاته فصلى ليلته حتى أصبح، فأتاه إبليس وعرفه نفسه، وقال له: حسدتك على عصمة الله إياك فأردت أن أخرجك حتى لا تفي بما تكفلت به، فشكره الله تعالى على ذلك ونبأه، فسمي ذا الكفل ". وعلى هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة. وثالثها:
قال مجاهد: لما كبر اليسع عليه السلام، قال: لو أني استخلفت رجلا على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل، فجمع الناس وقال من يتقبل مني حتى استخلفه ثلاثا يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي فلا يغضب، وذكر علي كرم الله وجهه نحو ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه من فعل إبليس وتفويته عليه القيلولة ثلاثة أيام. وزاد أن ذا الكفل قال للبواب في اليوم الثالث: قد غلب علي النعاس فلا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق علي النعاس، فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة في البيت وتسور فيها فإذا هو يدق الباب من داخل، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب، فقال: أما من قبلي فلم تؤت. فقام إلى الباب فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ معه في البيت، فقال له: أتنام والخصوم على الباب. فعرفه فقال: أنت إبليس، قال نعم أعييتني في كل شيء ففعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني. فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بما تكفل به.
المسألة الثانية: قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ومجاهد ذو الكفل لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا، وقال الحسن والأكثرون إنه من الأنبياء عليهم السلام وهذا أولى الوجوه: أحدها: أن ذا الكفل يحتمل أن يكون لقبا وأن يكون اسما، والأقرب أن يكون مفيدا، لأن الاسم إذا أمكن حمله على ما يفيد فهو أولى من اللقب. إذا ثبت هذا فنقول الكفل هو النصيب والظاهر أن الله تعالى إنما سماه بذلك على سبيل التعظيم، فوجب أن يكون ذلك الكفل هو كفل الثواب فهو إنما سمي بذلك لأن عمله وثواب عمله كان ضعف عمل غيره وضعف ثواب غيره ولقد كان في زمنه أنبياء على ما روي ومن ليس بنبي لا يكون أفضل من الأنبياء. وثانيها: أنه تعالى قرن ذكره بذكر إسماعيل وإدريس والغرض ذكر الفضلاء من عباده ليتأسى بهم وذلك يدل على نبوته. وثالثها: أن السورة ملقبة بسورة الأنبياء فكل من ذكره الله تعالى فيها فهو نبي.
المسألة الثالثة: قيل إن ذا الكفل زكريا وقيل يوشع وقيل إلياس، ثم قالوا خمسة من الأنبياء سماهم الله تعالى باسمين: إسرائيل ويعقوب، إلياس وذو الكفل، عيسى والمسيح، يونس
211

وذو النون، محمد وأحمد.
وأما قوله تعالى: * (كل من الصابرين) * أي على القيام بأمر الله تعالى واحتمال الأذى في نصرة دينه. وقوله: * (وأدخلناهم في رحمتنا) * قال مقاتل: الرحمة النبوة، وقال آخرون بل يتناول جميع أعمال البر والخير. (القصة الثامنة، قصة يونس عليه السلام)
قوله تعالى
* (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين) *
اعلم أن هنها مسائل:
المسألة الأولى: أنه لا خلاف في أن ذا النون هو يونس عليه السلام لأن النون هو السمكة، وقد ذكرنا أن الاسم إذا دار بين أن يكون لقبا محضا وبين أن يكون مفيدا، فحمله على المفيد أولى، خصوصا إذا علمت الفائدة التي يصلح لها ذلك الوصف.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن وقوعه عليه السلام في بطن السمكة كان قبل اشتغاله بأداء رسالة الله تعالى أو بعده. أما القول الأول: فقال ابن عباس رضي الله عنه: كان يونس عليه السلام وقومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا، وبقي سبطان ونصف. فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبي عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبيا قويا أمينا فإني ألقى في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فقال له الملك: فمن ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال يونس بن متى: فإنه قوي أمين فدعا الملك بيونس وأمره أن يخرج فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا، قال فهل سماني لك؟ قال: لا قال فههنا أنبياء غيري، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوما هيأوا سفينة فركب معهم فلما تلججت السفينة تكفأت بهم وكادوا أن يغرقوا، فقال الملاحون: ههنا رجل عاص أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح إلا وفيها رجل عاص، ومن رسمنا أنا إذا ابتلينا بمثل هذا البلاء أن نقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر، ولأن يغرق (و) أحد خير من أن تغرق السفينة، فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فيها كلها على يونس عليه السلام، فقال: أنا
212

الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى نفسه في البحر فجاء حوت فابتلعه، فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة. فإني جعلت بطنك سجنا له ولم أجعله طعاما لك، ثم لما نجاه الله تعالى من بطن الحوت نبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد، فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس عليه السلام فقيل له: أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون، حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب راحتهم. ثم أوحى الله إليه وأمره أن يذهب إليهم فتوجه يونس عليه السلام نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فأتاهم يونس عليه السلام، وقال لملكهم إن الله تعالى أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل، فقالوا: ما نعرف ما تقول، ولو علمنا أنك صادق لفعلنا، ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم فلو كان كما تقول لمنعنا الله عنكم، فطاف ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله تعالى إليه: قل لهم إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب فأبلغهم فأبوا، فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه، ثم ذكروا أمرهم وأمر يونس للعلماء الذين كانوا في دينهم، فقالوا انظروا واطلبوه في المدينة فإن كان فيها فليس مما ذكر من نزول العذاب شيء، وإن كان قد خرج فهو كما قال: فطلبوه فقيل لهم إنه خرج العشي فلما آيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم ولا غنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات، ثم قاموا ينتظرون الصبح. فلما انشق الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها، وصاح الصبيان وثغت الأغنام والبقر، فرفع الله تعالى عنهم العذاب، فبعثوا إلى يونس عليه السلام فآمنوا به، وبعثوا معه بني إسرائيل. فعلى هذا القول كانت رسالة يونس عليه السلام بعد ما نبذه الحوت، ودليل
هذا القول قوله تعالى في سورة الصافات: * (فنبذناه بالعراء وهو سقيم * وأنبتنا عليه شجرة من يقطين * وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * (الصافات: 145 - 147) وفي هذا القول رواية أخرى وهي أن جبريل عليه السلام قال ليونس عليه السلام: انطلق إلى أهل نينوى وأنذرهم أن العذاب قد حضرهم، فقال يونس عليه السلام: التمس دابة فقال الأمر أعجل من ذلك فغضب وانطلق إلى السفينة، وباقي الحكاية كما مرت إلى أن التقمه الحوت فانطلق إلى أن وصل إلى نينوى فألقاه هناك. أما القول الثاني: وهو أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم قالوا إنهم لما لم يؤمنوا وعدهم بالعذاب، فلما كشف العذاب عنهم بعد ما توعدهم به خرج منهم مغاضبا، ثم ذكروا في سبب الخروج والغضب أمورا. أحدها: أنه استحى أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الكذب. وثانيها: أنه كان من عادتهم قتل الكاذب. وثالثها: أنه دخلته الأنفة. ورابعها: لما لم ينزل العذاب بأولئك، وأكثر العلماء على القول بأن قصة الحوت وذهاب يونس عليه السلام مغاضبا بعد أن أرسله الله تعالى إليهم، وبعد رفع العذاب عنهم.
المسألة الثالثة: احتج القائلون بجواز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من
213

وجوه. أحدها: أن أكثر المفسرين على أنه ذهب يونس مغاضبا لربه ويقال، هذا قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب واختيار ابن قتيبة ومحمد بن جرير فإذا كان كذلك فيلزم أن مغاضبته لله تعالى من أعظم الذنوب، ثم على تقدير أن هذه المغاضبة لم تكن مع الله تعالى بل كانت مع ذلك الملك أو مع القوم فهو أيضا كان محظورا لأن الله تعالى قال: * (فاصبر لحكم ربك * ولا تكن كصاحب الحوت) * (القلم: 48) وذلك يقتضي أن ذلك الفعل من يونس كان محظورا. وثانيها: قوله تعالى: * (فظن أن لن نقدر عليه) * وذلك يقتضي كونه شاكا في قدرة الله تعالى. وثالثها: قوله: * (إني كنت من الظالمين) * والظلم من أسماء الذم لقوله تعالى: * (ألا لعنة الله على الظالمين) * (هود: 18). ورابعها: أنه لو لم يصدر منه الذنب، فلم عاقبه الله بأن ألقاه في بطن الحوت. وخامسها: قوله تعالى في آية أخرى: * (فالتقمه الحوت وهو مليم) * (الصافات: 142) والمليم هو ذو الملامة، ومن كان كذلك فهو مذنب. وسادسها: قوله: * (ولا تكن كصاحب الحوت) * فإن لم يكن صاحب الحوت مذنبا لم يجز النهي عن التشبه به وإن كان مذنبا فقد حصل الغرض. وسابعها: أنه قال: * (ولا تكن كصاحب الحوت) * وقال: * (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) * (الأحقاف: 35) فلزم أن لا يكون يونس من أولي العزم وكان موسى من أولي العزم، ثم قال: في حقه لو كان ابن عمران حيا ما وسعه إلا اتباعي، وقال في يونس: " لا تفضلوني على يونس بن متى " وهذا خارج عن تفسير الآية. والجواب عن الأول أنه ليس في الآية من غاضبه، لكنا نقطع على أنه لا يجوز على نبي الله أن يغاضب ربه؛ لأن ذلك صفة من يجهل كون الله مالكا للأمر والنهي والجاهل بالله لا يكون مؤمنا فضلا عن أن يكون نبيا، وأما ما روي أنه خرج مغاضبا لأمر يرجع إلى الاستعداد، وتناول النفل فمما يرتفع حال الأنبياء عليهم السلام عنه، لأن الله تعالى إذا أمرهم بشيء فلا يجوز أن يخالفوه لقوله تعالى: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) * (الأحزاب: 36) وقوله: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * إلى قوله: * (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) * (النساء: 65) فإذا كان في الاستعداد مخالفة لم يجز أن يقع ذلك منهم، وإذا ثبت أنه لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى الله تعالى، وجب أن يكون المراد أنه خرج مغاضبا لغير الله، والغالب أنه إنما يغاضب من يعصيه فيما يأمره به فيحتمل قومه أو الملك أو هما جميعا، ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العذاب عليهم عندها، وقرأ أبو شرف مغضبا.
أما قوله مغاضبة القوم أيضا كانت محظورة لقوله تعالى: * (ولا تكن كصاحب الحوت) * (القلم: 48) قلنا لا نسلم أنها كانت محظورة، فإن الله تعالى أمره بتبليغ تلك الرسالة إليهم، وما أمره بأن يبقى معهم أبدا مظاهر الأمر لا يقتضي التكرار، فلم يكن خروجه من بينهم معصية، وأما الغضب فلا نسلم أنه معصية وذلك لأنه لما لم يكن منهيا عنه قبل ذلك فظن أن ذلك جائز، من حيث إنه لم يفعله إلا غضبا لله تعالى وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، بل كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من الله
214

تعالى في المهاجرة عنهم، ولهذا قال تعالى: * (ولا تكن كصاحب الحوت) * كأن الله تعالى أراد لمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل المنازل وأعلاها. والجواب عن الشبهة الثانية: وهي التمسك بقوله تعالى: * (فظن أن لن نقدر عليه) * أن نقول من ظن عجز الله تعالى فهو كافر، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين، فكيف إلى الأنبياء عليهم السلام فإذن لا بد فيه من التأويل وفيه وجوه: أحدها: * (فظن أن لن نقدر عليه) * لن نضيق عليه وهو كقوله تعالى: * (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر) * (العنكبوت: 12) أي يضيق: * (ومن قدر عليه رزقه) * (الفجر: 16) أي ضيق: * (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه) * (الطلاق: 7) أي ضيق ومعناه أن لن نضيق عليه، واعلم أن على هذا التأويل تصير الآية حجة لنا، وذلك لأن يونس عليه السلام ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج، وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره، وكان في المعلوم أن الصلاح في تأخر خروجه، وهذا من الله تعالى بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج، لا على تعمد المعصية لكن لظنه أن الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر، وكان الصلاح خلاف ذلك. وثانيها: أن يكون هذا من باب التمثيل بمعنى فكانت حالته ممثلة بحالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر الله تعالى. وثالثها: أن تفسر القدرة بالقضاء فالمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي، ورواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهم واختيار الفراء والزجاج، قال الزجاج: نقدر بمعنى نقدر. يقال: قدر الله الشيء قدرا وقدره تقديرا، فالقدر بمعنى التقدير وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري: (فظن أن لن نقدر عليه بضم) النون والتشديد من التقدير، وقرأ عبيد بن عمر بالتشديد على المجهول وقرأ يعقوب: (يقدر عليه) بالتخفيف على المجهول، وروي أنه دخل ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه، فقال معاوية: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فعرفت فيها فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك فقال: وما هي؟ قال: يظن نبي الله أن لن يقدر الله عليه؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما هذا من القدر لا من القدرة. ورابعها: فظن أن لن نقدر: أي فظن أن لن نفعل لأن بين القدرة والفعل مناسبة فلا يبعد جعل أحدهما مجازا عن الآخر. وخامسها:
أنه استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه عن ابن زيد. وسادسها: أن على قول من يقول هذه الواقعة كانت قبل رسالة يونس عليه السلام كان هذا الظن حاصلا قبل الرسالة، ولا يبعد في حق غير الأنبياء والرسل أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان. ثم إنه يرده بالحجة والبرهان. والجواب عن الثالث: وهو التمسك بقوله: * (إني كنت من الظالمين) * فهو أن نقول إنا لو حملناه على ما قبل النبوة فلا كلام، ولو حملناه على ما بعدها فهي واجبة التأويل لأنا لو أجريناها على ظاهرها، لوجب القول بكون النبي مستحقا للعن، وهذا لا يقوله مسلم، وإذا وجب التأويل فنقول لا شك أنه كان تاركا للأفضل مع القدرة على تحصيل الأفضل فكان ذلك ظلما. والجواب عن الرابع: أنا لا نسلم أن ذلك كان عقوبة إذ الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، بل المراد به المحنة، لكن كثير من المفسرين يذكرون في كل مضرة تفعل
215

لأجل ذنب أنها عقوبة. والجواب عن الخامس: أن الملامة كانت بسبب ترك الأفضل.
المسألة الرابعة: قال صاحب " الكشاف " في الظلمات أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى: * (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات) * (البقرة: 17) وقوله: * (يخرجونهم من النور إلى الظلمات) * (البقرة: 257) ومنهم من اعتبر أنواعا مختلفة من الظلمات فإن كان النداء في الليل فهناك ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت، وإن كان في النهار أضيف إليه ظلمة أمعاء الحوت، أو أن حوتا ابتلع الحوت الذي هو في بطنه، أو لأن الحوت إذا عظم غوصه في قعر البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة، أما قول من قال: إن الحوت الذي ابتلعه غاص في الأرض السابعة فإن ثبت ذلك بخبر فلا كلام، وإن قيل بذلك لكي يقع نداؤه في الظلمات فما قدمناه يغني عن ذلك.
أما قوله: * (أن لا إله إلا أنت) * فالمعنى بأنه لا إله إلا أنت، أو بمعنى أي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له " وعن الحسن: ما نجاه الله تعالى إلا بإقراره عن نفسه بالظلم.
أما قوله سبحانك فهو تنزيه عن كل النقائص ومنها العجز، وهذا يدل على أنه ما كان مراده من قوله: * (فظن أن لن نقدر عليه) * أنه ظن العجز، وإنما قال: * (سبحانك) * لأن تقديره سبحانك أن تفعل ذلك جورا أو شهوة للانتقام، أو عجزا عن تخليصي عن هذا الحبس، بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة.
أما قوله: * (إني كنت من الظالمين) * فالمعنى ظلمت نفسي بفراري من قومي بغير إذنك، كأنه قال: كنت من الظالمين، وأنا الآن من التائبين النادمين، فاكشف عني المحنة، يدل عليه قوله: * (فاستجبنا له) * وفيه وجه آخر وهو أنه عليه السلام وصفه بقوله: * (لا إله إلا أنت) * بكمال الربوبية ووصف نفسه بقوله: * (إني كنت من الظالمين) * بضعف البشرية والقصور في أداء حق الربوبية، وهذا القدر يكفي في السؤال على ما قال المتنبي: وفي النفس حاجات وفيك فطانة * سكوتي كلام عندها وخطاب
وروى عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما أراد الله حبس يونس عليه السلام، أوحى إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما، ولا تكسر له عظما " فأخذه وهوى به إلى أسفل البحر، فسمع يونس عليه السلام حسا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه هذا تسبيح دواب البحر، قال فسبح، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا مثله.
أما قوله: * (ونجيناه من الغم) * أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت، وبسبب خطيئته، وكما أنجينا يونس عليه السلام من كرب الحبس إذ دعانا: كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا. روى سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " دعوة ذي النون في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين، ما دعا بها عبد مسلم قط وهو مكروب إلا استجاب الله دعاءه ".
216

قال صاحب " الكشاف ": قرىء ننجي وننجي ونجى والنون لا تدغم في الجيم، ومن تمحل لصحته فجعله فعل وقال: نجى النجاء المؤمنين فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره، ونصب المؤمنين بالنجاء، فتعسف بارد التعسف. (القصة التاسعة، قصة زكريا عليه السلام)
قوله تعالى
* (وزكريآ إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) *
اعلم أنه تعالى بين انقطاع زكريا عليه السلام إلى ربه تعالى لما مسه الضر بتفرده، وأحب من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه ويكون قائما مقامه بعد موته، فدعا الله تعالى دعاء مخلص عارف بأنه قادر على ذلك، وإن انتهت الحال به وبزوجته من كبر وغيره إلى اليأس من ذلك بحكم العادة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان سنه مائة وسن زوجته تسعا وتسعين.
أما قوله: * (وأنت خير الوارثين) * ففيه وجهان: أحدهما: أنه عليه السلام إنما ذكره في جملة دعائه على وجه الثناء على ربه ليكشف عن علمه بأن مآل الأمور إلى الله تعالى. والثاني: كأنه عليه السلام قال: " إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث ".
وأما قوله تعالى: * (فاستجبنا له) * أي فعلنا ما أراده لأجل سؤاله، وفي ذلك إعظام له، فلذلك تقول العلماء بأن الاستجابة ثواب لما فيه من الإعظام. وأما قوله تعالى: * (ووهبنا له يحيى) * فهو كالتفسير للاستجابة وفي تفسير قوله: * (وأصلحنا له زوجه) * ثلاثة أقوال: أحدها: أصلحها للولادة بأن أزال عنها المانع بالعادة، وهذا أليق بالقصة. والثاني: أنه أصلحها في أخلاقها وقد كانت على طريقة من سوء الخلق وسلاطة اللسان تؤذيه وجعل ذلك من نعمه عليه. والثالث: أنه سبحانه جعلها مصلحة في الدين، فإن صلاحها في الدين من أكبر أعوانه في كونه داعيا إلى الله تعالى فكأنه عليه السلام سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل
جميعا. وهذا كأنه أقرب إلى الظاهر لأنه إذا قيل: أصلح الله فلانا فالأظهر فيه ما يتصل بالدين، واعلم أن قوله: * (ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه) * يدل على أن الواو لا تفيد الترتيب
217

لأن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد مع أنه تعالى أخره في اللفظ وبين تعالى مصداق ما ذكرناه فقال: * (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) * وأراد بذلك زكريا وولده وأهله فبين أنه آتاهم ما طلبوه وعضد بعضهم ببعض من حيث كانت طريقتهم أنهم يسارعون في الخيرات، والمسارعة في طاعة الله تعالى من أكبر ما يمدح المرء به لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة.
أما قوله تعالى: * (ويدعوننا رغبا ورهبا) * قرىء رغبا ورهبا وهو كقوله: * (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) * والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين: أحدهما: الفزع إلى الله تعالى لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة في عقابه. والثاني: الخشوع وهو المخافة الثابتة في القلب، فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفا من الإثم. (القصة العاشرة، قصة مريم عليها السلام)
قوله تعالى
* (والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنهآ ءاية للعالمين) *
اعلم أن التقدير واذكر التي أحصنت فرجها، ثم فيه قولان: أحدهما: أنها أحصنت فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا كما قالت: * (ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا) * (مريم: 20). والثاني: من نفخة جبريل عليه السلام حيث منعته من جيب درعها قبل أن تعرفه والأول أولى لأنه الظاهر من اللفظ.
وأما قوله: * (فنفخنا فيها من روحنا) * فلقائل أن يقول: نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه قال تعالى: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) * (الحجر: 29) أي أحييته وإذا ثبت ذلك كان قوله: * (فنفخنا فيها من روحنا) * ظاهر الأشكال لأنه يدل على إحياء مريم عليها السلام. والجواب من وجوه: أحدها: معناه فنفخنا الروح في عيسى فيها، أي أحييناه في جوفها كما يقول الزمار نفخت في بيت فلان أي في المزمار في بيته. وثانيها: فعلنا النفخ في مريم عليها السلام من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها ثم بين تعالى بأخصر الكلام ما خص به مريم وعيسى عليهما السلام من الآيات فقال: * (وجعلناها وابنها آية للعالمين) * أما مريم فآياتها كثيرة: أحدها: ظهور الحبل فيها لا من ذكر فصار ذلك آية ومعجزة خارجة عن العادة. وثانيها: أن رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة وهو قوله تعالى: * (أنى لك هذا قالت هو من عند الله) *. وثالثها ورابعها: قال الحسن إنها لم تلتقم ثديا يوما قط وتكلمت هي أيضا في صباها كما تكلم عيسى عليه السلام، وأما آيات عيسى عليه السلام فقد تقدم بيانها فبين سبحانه أنه جعلهما آية للناس يتدبرون فيما خصا به من الآيات ويستدلون به على قدرته وحكمته سبحانه
218

وتعالى فإن قيل: هلا قيل آيتين كما قال: * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) * (الإسراء: 12) قلنا؛ لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل. وهنا آخر القصص.
قوله تعالى
* (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون * وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون) *
قال صاحب " الكشاف ": الأمة الملة وهو إشارة إلى ملة الإسلام، أي أن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها يشار إليها بملة واحدة غير مختلفة، وأنا إلهكم إله واحد فاعبدون، ونصب الحسن (أمتكم) على البدل من هذه ورفع أمة خبرا وعنه رفعهما جميعا خبرين أو نوى للثاني المبتدأ.
أما قوله تعالى: * (وتقطعوا أمرهم بينهم) * والأصل وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريق الالتفات كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء، والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما تتوزع الجماعة الشيء ويقسمونه فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب تمثيلا لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى.
أما قوله تعالى: * (كل إلينا راجعون) * فقد توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون، فهو محاسبهم ومجازيهم، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة فتهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة واحدة، قالوا: يا رسول الله من تلك الفرقة الناجية؟ قال: الجماعة الجماعة الجماعة " فتبين بهذا الخبر أن المراد بقوله تعالى: * (وأن هذه أمتكم) * الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات، وأن في قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الناجية إنها الجماعة إشارة إلى أن هذه أشار بها إلى أمة الإيمان وإلا كان قوله في تعريف الفرقة الناجية إنها الجماعة لغوا إذ لا فرقة تمسكت بباطل أو بحق إلا وهي جماعة من حيث العدد وطعن بعضهم في صحة هذا الخبر، فقال: إن أراد بالثنتين والسبعين فرقة أصول الأديان فلم يبلغ هذا القدر، وإن أراد الفروع فإنها تتجاوز هذا القدر إلى أضعاف ذلك، وقيل أيضا: قد روى ضد ذلك، وهو أنها كلها ناجية إلا فرقة واحدة. والجواب: المراد ستفترق أمتي في حال ما وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال لا يجوز أن يزيد وينقص.
219

قوله تعالى
* (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون * وحرام على قرية أهلكناهآ أنهم لا يرجعون * حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق فإذا هى شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا فى غفلة من هذا بل كنا ظالمين) *
اعلم أنه سبحانه لما ذكر أمر الأمة من قبل وذكر تفرقهم وأنهم أجمع راجعون إلى حيث لا أمر إلا له أتبع ذلك بقوله: * (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) * بين أن من جمع بين أن يكون مؤمنا وبين أن يعمل الصالحات فيدخل في الأول العلم والتصديق بالله ورسوله وفي الثاني فعل الواجبات وترك المحظورات: * (فلا كفران لسعيه) * أي لا بطلان لثواب عمله وهو كقوله تعالى: * (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن، فأولئك كان سعيهم مشكورا) * (الإسراء: 19) فالكفران مثل في حرمان الثواب والشكر مثل في إعطائه وقوله: * (فلا كفران) * المراد نفي الجنس ليكون في نهاية المبالغة لأن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها.
وأما قوله تعالى: * (وإنا له كاتبون) * فالمراد وإنا لسعيه كاتبون، فقيل: المراد حافظون لنجازي عليه، وقيل: كاتبون إما في أم الكتاب أو في الصحف التي تعرض يوم القيامة، والمراد بذلك ترغيب العباد في التمسك بطاعة الله تعالى.
أما قوله: * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) * فاعلم أن قوله: * (وحرام) * خبر فلا بد له من مبتدأ وهو إما قوله: * (أنهم لا يرجعون) * أو شيء آخر أما الأول فالتقدير أن عدم رجوعهم حرام أي ممتنع وإذا كان عدم رجوعهم ممتنعا كان رجوعهم واجبا فهذا الرجوع إما أن يكون المراد منه الرجوع إلى الآخرة أو إلى الدنيا. أما الأول: فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب، ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم أنه لا
220

كفران لسعي أحد فإنه سبحانه سيعطيه الجزاء على ذلك يوم القيامة وهو تأويل أبي مسلم بن بحر. وأما الثاني: فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الدنيا واجب لكن المعلوم أنهم لم يرجعوا إلى الدنيا فعند هذا ذكر المفسرون وجهين: الأول: أن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب والدليل عليه الآية والاستعمال والشعر، أما الآية فقوله تعالى: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا) * (الأنعام: 151) وترك الشرك واجب وليس بمحرم، وأما الشعر فقول الخنساء: وإن حراما لا أرى الدهر باكيا * على شجوه إلا بكيت على عمرو
يعني وإن واجبا، وأما الاستعمال فلأن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور كقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) إذا ثبت هذا فالمعنى أنه واجب على أهل كل قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون، ثم ذكروا في تفسير الرجوع أمرين: أحدهما: أنهم لا يرجعون عن الشرك ولا يتولون عنه وهو قول مجاهد والحسن. وثانيها: لا يرجعون إلى الدنيا وهو قول قتادة ومقاتل. الوجه الثاني: أن يترك قوله وحرام على ظاهره ويجعل في قوله: * (لا يرجعون) * صلة زائدة كما أنه صلة في قوله: * (ما منعك أن لا تسجد) * (الأعراف: 12) والمعنى حرام على قرية أهلكناها رجوعهم إلى الدنيا وهو كقوله: * (فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون) * (يس: 50) أو يكون المعنى وحرام عليهم رجوعهم عن الشرك وترك الأيمان، وهذا قول طائفة من المفسرين، وهذا كله إذا جعلنا قوله وحرام خبرا لقوله: * (أنهم لا يرجعون) * أما إذا جعلناه خبرا لشيء آخر فالتقدير وحرام على قرية أهلكناها ذاك، وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور ثم علل فقال: * (إنهم لا يرجعون) * عن الكفر فكيف لا يمتنع، ذلك هذا على قراءة إنهم بالكسر والقراءة بالفتح يصح حملها أيضا على هذا أي أنهم لا يرجعون.
أما قوله تعالى: * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم * (من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أن حتى متعلقة بحرام فأما على تأويل أبي مسلم فالمعنى أن رجوعهم إلى الآخرة واجب حتى أن وجوبه يبلغ إلى حيث أنه إذا فتحت يأجوج ومأجوج، واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفورا، والمعنى أنهم يكونون أول الناس حضورا في محفل القيامة، فحتى متعلقة بحرام وهي غاية له ولكنه غاية من جنس الشيء كقولك دخل الحاج حتى المشاة. وحتى ههنا هي التي يحكى بعدها الكلام. والكلام المحكى هو هذه الجملة من الشرط والجزاء أعني قوله: * (وإذا فتحت يأجوج ومأجوج * واقترب الوعد الحق) * فهناك يتحقق شخوص أبصار الذين كفروا، وذلك غير جائز لأن الشرط إنما يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل في يوم القيامة، والشرط والجزاء لا بد وأن يكونا متقاربين، قلنا التفاوت القليل يجري مجرى المعدوم، وأما على التأويلات الباقية فالمعنى أن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم الساعة.
221

المسألة الثانية: قوله: * (حتى إذا فتحت) * المعنى فتح سد يأجوج ومأجوج فحذف المضاف وأدخلت علامة التأنيث في فتحت لما حذف المضاف لأن يأجوج ومأجوج مؤنثان بمنزلة القبيلتين، وقيل حتى إذا فتحت جهة يأجوج.
المسألة الثالثة: هما قبيلتان من جنس الإنس، يقال: الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد.
المسألة الرابعة: قيل: السد يفتحه الله تعالى ابتداء، وقيل: بل إذا جعل الله تعالى الأرض دكا زالت الصلابة عن أجزاء الأرض فحينئذ ينفتح السد.
أما قوله تعالى: * (وهم من كل حدب ينسلون) * فحشو في أثناء الكلام، والمعنى إذا فتحت يأجوج واقترب الوعد الحق شخصت أبصار الذين كفروا، والحدب النشز من الأرض، ومنه حدبة الأرض، ومنه حدبة الظهر، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما * (من كل جدث ينسلون) *، اعتبارا بقوله: * (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) * (يس: 51) وقرئ بضم السين ونسل وعسل أسرع ثم فيه قولان، قال أكثر المفسرين إنه كناية عن يأجوج ومأجوج، وقال مجاهد: هو كناية عن جميع المكلفين أي يخرجون من قبورهم من كل موضع فيحشرون إلى موقف الحساب، والأول هو الأوجه وإلا لتفكك النظم، وأن يأجوج ومأجوج إذا كثروا على ما روى في " الخبر "، فلا بد من أن ينشروا فيظهر إقبالهم على الناس من كل موضع مرتفع.
أما قوله تعالى: * (واقترب الوعد الحق) * فلا شبهة أن الوعد المذكور هو يوم القيامة.
أما قوله: * (فإذا هي) * فاعلم أن إذا ههنا للمفاجأة فسمى الموعد وعدا تجوزا، وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله: * (إذا هم يقنطون) * (الروم: 36) فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ولو قيل: * (إذا هي شاخصة) * أو فهي شاخصة كان سديدا، أما لفظة * (هي) * فقد ذكر النحويون فيها ثلاثة أوجه. أحدها: أن تكون كناية عن الأبصار، والمعنى فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة أبصارهم كني عن الإبصار ثم أظهر. والثاني: أن تكون عمادا ويصلح في موضعها هو فيكون كقوله: * (إنه أنا الله) * ومثله: * (فإنها لا تعمى الأبصار) * وجاز التأنيث لأن الأبصار مؤنثة وجاز التذكير للعماد وهو قول الفراء، وقال سيبويه الضمير للقصة بمعنى فإذا القصة شاخصة، يعني أن القصة أن أبصار الذين كفروا تشخص عند ذلك، ومعنى الكلام أن القيامة إذا قامت شخصت أبصار هؤلاء من شدة الأهوال، فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم، ومن توقع ما يخافونه، ويقولون: * (يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا) * يعني في الدنيا حيث كذبناه وقلنا: إنه غير كائن بل كنا ظالمين أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وعبادة الأوثان، واعلم أنه لا بد قبل قوله يا ويلنا من حذف والتقدير يقولون يا ويلنا.
222

قوله تعالى
* (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء ءالهة ما وردوها وكل فيها خالدون * لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون) *
اعلم أن قوله: * (إنكم) * خطاب لمشركي مكة وعبدة الأوثان.
أما قوله تعالى: * (وما تعبدون من دون الله) * روي أنه عليه السلام دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفحمه ثم تلا عليهم: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * الآية فأقبل عبد الله بن الزبعري فرآهم يتهامسون فقال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله أما والله لو وجدته لخصمته فدعوه، فقال ابن الزبعري أأنت قلت ذلك؟ قال نعم، قال قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنوا مليح عبدوا الملائكة ثم روى في ذلك روايتان: إحداهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت ولم يجب فضحك القوم فنزل قوله تعالى: * (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) * (الزخرف: 57، 58) ونزل في عيسى والملائكة: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * (الأنبياء: 101) الآية هذا قول ابن عباس. الرواية الثانية: أنه عليه السلام أجاب وقال بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله سبحانه: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * (الأنبياء: 101) الآية يعني عزيرا والمسيح والملائكة واعلم أن سؤال ابن الزبعري ساقط من وجوه: أحدها: أن قوله: * (إنكم) * خطاب مشافهة وكان ذلك مع مشركي مكة وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط. وثانيها: أنه لم يقل ومن تعبدون بل قال ما تعبدون وكلمة ما لا تتناول العقلاء.
أما قوله تعالى: * (والسماء وما بناها) * (الشمس: 5) وقوله: * (لا أعبد ما تعبدون) * (الكافرون: 2) فهو محمول على الشيء ونظيره ههنا أن يقال: إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم فلا يتوجه سؤال ابن الزبعري. وثالثها: أن من عبد الملائكة لا يدعي أنهم آلهة، وقال سبحانه: * (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) *. ورابعها: هب أنه ثبت العموم لكنه
223

مخصوص بالدلائل العقلية والسمعية في حق الملائكة والمسيح وعزير لبراءتهم من الذنوب والمعاصي، ووعد الله إياهم بكل مكرمة، وهذا هو المراد من قوله سبحانه: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) * (الأنبياء: 101). وخامسها: الجواب الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أنهم كانوا يعبدون الشياطين، فإن قيل الشياطين عقلاء، ولفظ ما لا يتناولهم فكيف قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قلنا كأنه عليه السلام قال: لو ثبت لكم أنه يتناول العقلاء فسؤالكم أيضا غير لازم من هذا الوجه. وأما ما قيل: إنه عليه السلام سكت عند إيراد ابن الزبعري هذا السؤال فهو خطأ لأنه لا أقل من أنه عليه السلام كان يتنبه لهذه الأجوبة التي ذكرها المفسرون، لأنه عليه السلام كان أعلم منهم باللغة وبتفسير القرآن، فكيف يجوز أن تظهر هذه الأجوبة لغيره، ولا يظهر شيء منها له عليه السلام. فإن قيل: جوزوا أن يسكت عليه السلام انتظارا للبيان قلنا: لما كان البيان حاضرا معه لم يجز عليه السكوت لكي لا يتوهم فيه الانقطاع عن سؤالهم، ومن الناس من أجاب عن سؤال ابن الزبعري فقال: إن الله تعالى يصور لهم في النار ملكا على صورة من عبدوه، وحينئذ تبقى الآية على ظاهرها واعلم أن هذا ضعيف من وجهين. الأول: أن القوم لم يعبدوا تلك الصورة وإنما عبدوا شيئا آخر لم يحصل معهم في النار. الثاني: وهو أن الملك لا يصير حصب جهنم في الحقيقة وإن صح أن يدخلها، فإن خزنة النار يدخلونها مع أنهم ليسوا حصب جهنم.
المسألة الثانية: الحكمة في أنهم قرنوا بآلهتهم أمور. أحدها: أنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة، لأنهم ما وقعوا في ذلك العذاب إلا بسببهم والنظر إلى وجه العدو باب من العذاب. وثانيها: أن القوم قدروا أنهم يشفعون لهم في الآخرة في دفع العذاب، فإذا وجدوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم. وثالثها: أن إلقاءها في النار يجري مجرى الاستهزاء بعبادها. ورابعها: قيل ما كان منها حجرا أو حديدا يحمى ويلزق بعبادها، وما كان خشبا يجعل جمرة يعذب بها صاحبها.
أما قوله تعالى: * (حصب جهنم) * فالمراد يقذفون في نار جهنم فشبههم بالحصباء التي يرمى بها الشيء فلما رمى بها كرمي الحصباء، جعلهم حصب جهنم تشبيها، قال صاحب " الكشاف ": الحصب الرمي وقرئ بسكون الصاد وصفا بالمصدر، وقرئ حطب وحضب بالضاد المنقوطة متحركا وساكنا.
أما قوله تعالى: * (أنتم لها واردون) * فإنما جاز مجيء اللام في لها لتقدمها على الفعل تقول أنت لزيد ضارب كقوله تعالى: * (والذين هم لأماناتهم وعهدهم) * (
المؤمنون: 8) * (والذين هم لفروجهم) * (المؤمنون: 5) أي أنتم فيها داخلون، والمعنى أنه لا بد وأن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها. أما قوله تعالى: * (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) * فاعلم أن قوله: * (إنكم وما تعبدون من دون الله) * بالأصنام أليق لدخول لفظة ما، وهذا الكلام بالشياطين أليق لقوله هؤلاء ويحتمل أن يريد
224

الشياطين والأصنام فيغلب بأن يذكروا بعبارة العقلاء، ونبه الله تعالى على أن من يرمى إلى النار لا يمكن أن يكون إلها. وههنا سؤال: وهو أن قوله: * (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) * لكنهم وردوها فهم ليسوا آلهة حجة، وهذه الحجة إما أن يكون ذكرها لنفسه أو لغيره، فإن ذكرها لنفسه فلا فائدة فيه لأنه كان عالما بأنها ليست آلهة وإن ذكرها لغيره، فإما أن يذكرها لمن يصدق بنبوته أو لمن يكذب بنبوته، فإن ذكرها لمن صدق بنبوته فلا حاجة إلى هذه الحجة لأن كل من صدق بنبوته لم يقل بإلهية هذه الأصنام وإن ذكرها لمن يكذب بنبوته، فذلك المكذب لا يسلم أن تلك الآلهة يردون النار ويكذبونه في ذلك، فكان ذكره هذه الحجة ضائعا كيف كان، وأيضا فالقائلون بآلهيتها لم يعتقدوا فيها كونها مدبرة للعالم وإلا لكانوا مجانين، بل اعتقدوا فيها كونها تماثيل الكواكب أو صور الشفعاء، وذلك لا يمنع من دخولها في النار. وأجيب عن ذلك بأن المفسرين قالوا: المعنى لو كان هؤلاء يعني الأصنام آلهة على الحقيقة ما وردوها أي ما دخل عابدوها النار، ثم إنه سبحانه وصف ذلك العذاب بأمور ثلاثة: أحدها: الخلود فقال: * (وكل فيها خالدون) * يعني العابدين والمعبودين وهو تفسير لقوله: * (إنكم وما تعبدون من دون الله) *. وثانيها: قوله: * (لهم فيها زفير) * قال الحسن: الزفير هو اللهيب، أي يرتفعون بسبب لهب النار حتى إذا ارتفعوا ورجوا الخروج ضربوا بمقامع الحديد فهووا إلى أسفلها سبعين خريفا، قال الخليل: الزفير أن يملأ الرجل صدره غما ثم يتنفس قال أبو مسلم وقوله لهم: عام لكل معذب، فنقول لهم: زفير من شدة ما ينالهم والضمير في قوله: * (وهم فيها يسمعون) * يرجع إلى المعبودين أي لا يسمعون صراخهم وشكواهم. ومعناه: أنهم لا يغيثونهم وشبهه سمع الله لمن حده أي أجاب الله دعاءه. وثالثها: قوله: * (وهم فيها لا يسمعون) * وفيه وجهان: أحدهما: أنه محمول على الأصنام خاصة على ما حكيناه عن أبي مسلم. والثاني: أنها محمولة على الكفار، ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه. أحدها: أن الكفار يحشرون صما كما يحشرون عميا زيادة في عذابهم. وثانيها: أنهم لا يسمعون ما ينفعهم لأنهم إنما يسمعون أصوات المعذبين أو كلام من يتولى تعذيبهم من الملائكة. وثالثها: قال ابن مسعود إن الكفار يجعلون في توابيت من نار والتوابيت في توابيت أخر فلذلك لا يسمعون شيئا والأول ضعيف لأن أهل النار يسمعون كلام أهل الجنة فلذلك يستغيثون بهم على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف.
قواه تعالى
* (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم فى ما اشتهت أنفسهم خالدون * لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذى
225

كنتم توعدون) *
اعلم أن من الناس من زعم أن ابن الزبعري لما أورد ذلك السؤال على الرسول صلى الله عليه وسلم بقي ساكتا حتى أنزل الله تعالى هذه الآية جوابا عن سؤاله لأن هذه الآية كالإستثناء من تلك الآية. وأما نحن فقد بينا فساد هذا القول وذكرنا أن سؤاله لم يكن واردا، وأنه لا حاجة في دفع سؤاله إلى نزول هذه الآية، وإذا ثبت هذا لم يبق ههنا إلا أحد أمرين: الأول: أن يقال: إن عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار، فلهذا السبب ذكر هذه الآية عقيب تلك فهي عامة في حق كل المؤمنين. الثاني: أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعري، ثم من قال العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهو الحق أجراها على عمومها فتكون الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام داخلين فيها، لا أن الآية مختصة بهم، ومن قال: العبرة بخصوص السبب خصص قوله: * (إن الذين) * بهؤلاء فقط.
أما قوله تعالى: * (سبقت لهم منا الحسنى) * فقال صاحب " الكشاف ": الحسنى الخصلة المفضلة والحسنى تأنيث الأحسن، وهي إما السعادة وإما البشرى بالثواب، وإما التوفيق للطاعة. والحاصل أن مثبتي العفو حملوا الحسنى على وعد العفو ومنكري العفو حملوه على وعد الثواب، ثم إنه سبحانه وتعالى شرح من أحوال ثوابهم أمور خمسة: أحدها: قوله: * (أولئك عنها مبعدون) * فقال أهل العفو معناه أولئك عنها مخرجون، واحتجوا عليه بوجهين: الأول: قوله: * (وإن منكم إلا واردها) * (مرمي: 71) أثبت الورود وهو الدخول، فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج. الثاني: أن أبعاد الشيء عن الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن اخر، لأن تحصيل الحاصل محال، واحتج القاضي عبد الجبار على فساد هذا القول الأول بأمور: أحدها: أن قوله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * يقتضي أن الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا وليس هذا حال من يخرج من النار لو صح ذلك. وثانيها: أنه تعالى قال: * (أولئك عنها مبعدون) * وكيف يدخل في ذلك من وقع فيها. وثالثها: قوله تعالى: * (لا يسمعون حسيسها) * وقوله: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * يمنع من ذلك. والجواب عن الأول: لا نسلم أن (يقال) المراد من قوله: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم، ولم لا يجوز أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالعفو، سلمنا أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالثواب، لكن لم قلتم إن الوعد بالثواب لا يليق بحال من يخرج من النار فإن عندنا المحابطة باطلة ويجوز الجمع بين استحقاق الثواب والعقاب. وعن الثاني: أنا بينا أن قوله: * (أولئك عنها مبعدون) * لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار. وعن الثالث: أن قوله: * (لا يسمعون حسيسها) * مخصوص بما بعد الخروج.
226

أما قوله: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * فالفزع الأكبر هو عذاب الكفار، وهذا بطريق المفهوم يقتضي أنهم يحزنهم الفزع الأصغر، فإن لم يدل عليه فلا أقل من أن
لا يدل على ثبوته ولا على عدمه. الوجه الثاني: في تفسير قوله: * (أولئك عنها مبعدون) * أن المراد الذين سبقت لهم منا الحسنى لا يدخلون النار ولا يقربونها البتة، وعلى هذا القول بطل قول من يقول: إن جميع الناس يردون النار ثم يخرجون إلى الجنة، لأن هذه الآية مانعة منه وحينئذ يجب التوفيق بينه وبين قوله: * (وإن منكم إلا واردها) * (مريم: 71) وقد تقدم. الصفة الثانية: قوله تعالى: * (لا يسمعون حسيسها) * والحسيس الصوت الذي يحس، وفيه سؤالان: الأول: أي وجه في أن لا يسمعوا حسيسها من البشارة ولو سمعوه لم يتغير حالهم. قلنا: المراد تأكيد بعدهم عنها لأن من لم يدخلها وقرب منها قد يسمع حسيسها. السؤال الثاني: أليس أن أهل الجنة يرون أهل النار فكيف لا يسمعون حسيس النار؟ الجواب: إذا حملناه على التأكيد زال هذا السؤال. الصفة الثالثة: قوله: * (وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون) * والشهوة طلب النفس للذة يعني نعيمها مؤبد، قال العارفون: للنفوس شهوة وللقلوب شهوة وللأرواح شهوة، وقال الجنيد: سبقت العناية في البداية، فظهرت الولاية في النهاية. الصفة الرابعة: قوله: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * وفيه وجوه: أحدها: أنها النفخة الأخيرة لقوله تعالى: * (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض) * (النمل: 87). وثانيها: أنه الموت قالوا: إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بعث الله تعالى جبريل عليه السلام ومعه الموت في صورة كبش أملح فيقول لأهل الدارين أتعرفون هذا فيقولون: لا فيقول هذا الموت ثم يذبحه ثم ينادي يا أهل الجنة خلود ولا موت أبدا، وكذلك لأهل النار، واحتج هذا القائل بأن قوله: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * إنما ذكر بعد قوله: * (وهم فيها خالدون) * (البقرة: 25) فلا بد وأن يكون لأحدهما تعلق بالآخر، والفزع الأكبر الذي هو ينافي الخلود هو الموت. وثالثها: قال سعيد بن جبير هو إطباق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة، قال القاضي عبد الجبار: الأولى في ذلك إنه الفزع من النار عند مشاهدتها لأنه لا فزع أكبر من ذلك، فإذا بين تعالى أن ذلك لا يحزنهم فقد صح أن المؤمن آمن من أهوال يوم القيامة، وهذا ضعيف لأن عذاب النار على مراتب فعذاب الكفار أشد من عذاب الفساق، وإذا كانت مراتب التعذيب بالنار متفاوتة كانت مراتب الفزع منها متفاوتة، فلا يلزم من نفي الفزع الأكبر نفي الفزع من النار.
الصفة الخامسة: قوله: * (وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) * قال الضحاك: هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم ويقولون لهم مبشرين: * (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) *.
قوله تعالى
* (يوم نطوى السمآء كطى السجل للكتب كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا
227

كنا فاعلين * ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادى الصالحون * إن فى هذا لبلاغا لقوم عابدين * ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين) *
اعلم أن التقدير لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء، أو وتتلقاهم الملائكة يوم نطوي السماء. وقرئ يوم تطوى السماء على البناء للمفعول والسجل بوزن العتل والسجل بوزن الدلو وروى فيه الكسر، وفي السجل قولان: أحدهما: أنه اسم للطومار الذي يكتب فيه والكتاب أصله المصدر كالبناء، ثم يوقع على المكتوب، ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة، فيكون معنى طي السجل للكتاب كون السجل ساترا لتلك الكتابة ومخفيا لها لأن الطي ضد النشر الذي يكشف والمعنى نطوي السماء كما يطوى الطومار الذي يكتب فيه.
القول الثاني: أنه ليس اسما للطومار ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما: السجل اسم ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه، وهو مروي عن علي عليه السلام، وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه اسم كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بعيد؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا معروفين وليس فيهم من سمي بهذا، وقال الزجاج: هو الرجل بلغة الحبشة، وعلى هذه الوجوه فهو على نحو ما يقال: كطي زيد الكتاب واللام في للكتاب زائدة كما في قوله ردف لكم، وإذا قلنا: المراد بالسجل الطومار فالمصدر وهو الطي مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف والتقدير كطي الطاوي السجل، وهذا الأخير هو قول الأكثرين.
أما قوله تعالى: * (كما بدأنا أول خلق نعيده) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء: انقطع الكلام عند قوله الكتاب ثم ابتدأ فقال: * (كما بدأنا) * ومنهم من قال: إنه تعالى لما قال: * (وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) * (الأنبياء: 103) عقبه بقوله: * (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) * فوصف اليوم بذلك، ثم وصفه بوصف آخر فقال: * (كما بدأنا أول خلق نعيده) *.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف " رحمه الله: * (أول خلق) * مفعول نعيد الذي يفسره نعيده والكاف مكفوفة بما والمعنى نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيها للإعادة بالابتداء، فإن قلت: ما بال خلق منكرا؟ قلت: هو كقولك أول رجل جاءني زيد، تريد أول الرجال ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا، فكذلك معنى أول خلق أول الخلق بمعنى أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع.
228

المسألة الثالثة: اختلفوا في كيفية الإعادة فمنهم من قال: إن الله تعالى يفرق أجزاء الأجسام ولا يعدمها ثم إنه يعيد تركيبها فذلك هو الإعادة، ومنهم من قال: إنه تعالى يعدمها بالكلية ثم إنه يوجدها بعينها مرة أخرى وهذه الآية دلالة على هذا الوجه لأنه سبحانه شبه الإعادة بالابتداء. ولما كان الابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة بل عن الوجود بعد العدم، وجب أن يكون الحال في الإعادة كذلك واحتج القائلون بالمذهب الأول بقوله تعالى: * (والسماوات مطويات بيمينه) * (الزمر: 67) فدل هذا على أن السماوات حال كونها مطوية تكون موجودة، وبقوله تعالى: * (يوم تبدل الأرض غير الأرض) * (إبراهيم: 48) وهذا يدل على أن أجزاء
الأرض باقية لكنها جعلت غير الأرض.
أما قوله تعالى: * (وعدا علينا) * ففيه قولان: أحدهما: أن وعدا مصدر مؤكد لأن قوله: * (نعيده) * عدة للإعادة. الثاني: أن يكون المراد حقا علينا بسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه مع أن وقوع ما علم الله وقوعه واجب، ثم إنه تعالى حقق ذلك بقوله: * (إنا كنا فاعلين) * أي سنفعل ذلك لا محالة وهو تأكيد لما ذكره من الوعد.
أما قوله تعالى: * (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة بضم الزاي والباقون بفتحها يعني الزبور كالحلوب والركوب يقال: زبرت الكتاب أي كتبته والمزبور بضم الزاي جمع زبر كقشر وقشور، ومعنى القراءتين واحد لأن الزبور هو الكتاب.
المسألة الثانية: في الزبور والذكر وجوه: أحدها: وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد الزبور هو الكتب المنزلة والذكر الكتاب الذي هو أم الكتاب في السماء، لأن فيها كتابة كل ما سيكون اعتبارا للملائكة وكتب الأنبياء عليهم السلام من ذلك الكتاب تنسخ. وثانيها: الزبور هو القرآن والذكر هو التوراة وهو قول قتادة والشعبي. وثالثها: الزبور زبور داود عليه السلام، والذكر هو الذي يروى عنه عليه السلام، قال: كان الله تعالى ولم يكن معه شيء، ثم خلق الذكر. وعندي فيه وجه رابع: وهو أن المراد بالذكر العلم أي كتبنا ذلك في الزبور بعد أن كنا عالمين علما لا يجوز السهو والنسيان علينا، فإن من كتب شيئا والتزمه ولكنه يجوز السهو عليه فإنه لا يعتمد عليه، أما من لم يجز عليه السهو والخلف فإذا التزم شيئا كان ذلك الشيء واجب الوقوع.
أما قوله تعالى: * (إن الأرض يرثها عبادي الصالحون) * ففيه وجوه: أحدها: الأرض أرض الجنة والعباد الصالحون هم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى فالمعنى أن الله تعالى كتب في كتب الأنبياء عليهم السلام وفي اللوح المحفوظ أنه سيورث الجنة من كان صالحا من عباده وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وأبي العالية وهؤلاء أكدوا هذا القول بأمور: أما أولا: فقوله تعالى: * (وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر
229

العاملين) * (الزمر: 74)، وأما ثانيا: فلأنها الأرض التي يختص بها الصالحون لأنها لهم خلقت، وغيرهم إذا حصل معهم في الجنة فعلى وجه التبع، فأما أرض الدنيا فلأنها للصالح وغير الصالح. وأما ثالثا: فلأن هذه الأرض مذكورة عقيب الإعادة وبعد الإعادة الأرض التي هذا وصفها لا تكون إلا الجنة. وأما رابعا: فقد روى في الخبر أنها أرض الجنة فإنها بيضاء نقية. وثانيها: أن المراد من الأرض أرض الدنيا فإنه سبحانه وتعالى سيورثها المؤمنين في الدنيا وهو قول الكلبي وابن عباس في بعض الروايات ودليل هذا القول قوله سبحانه: * (وعد الله الذين آمنوا) * إلى قوله: * (ليستخلفنهم في الأرض) * (النور: 55) وقوله تعالى: * (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) * (الأعراف: 128). وثالثها: هي الأرض المقدسة يرثها الصالحون، ودليله قوله تعالى؛ * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) * (الأعراف: 137) ثم بالآخرة يورثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام.
أما قوله تعالى: * (إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) * فقوله هذا إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة والبلاغ الكفاية وما تبلغ به البغية وقيل في العابدين إنهم العالمون وقيل بل العاملون والأولى أنهم الجامعون بين الأمرين، لأن العلم كالشجر والعمل كالثمر، والشجر بدون الثمر غير مفيد، والثمر بدون الشجر غير كائن.
أما قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا، أما في الدين فلأنه عليه السلام بعث والناس في جاهلية وضلالة، وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم فبعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام، ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار وكان التوفيق قرينا له قال الله تعالى: * (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) * إلى قوله: * (وهو عليهم عمى) * (فصلت: 44) وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب ونصروا ببركة دينه. فإن قيل: كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟ قلنا: الجواب من وجوه: أحدها: إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة. وقال: * (ونزلنا من السماء ماء مباركا) * (ق: 9) ثم قد يكون سببا للفساد. وثانيها: أن كل نبي قبل نبينا كان إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال تعالى: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * (الأنفال: 33) لا يقال: أليس أنه تعالى قال: * (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) * (التوبة: 14) وقال تعالى: * (ليعذب الله المنافقين والمنافقات) * (الأحزاب: 73) لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه. وثالثها: أنه عليه السلام كان في
230

نهاية حسن الخلق قال تعالى: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * (القلم: 4) وقال أبو هريرة رضي الله عنه: " قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أدع على المشركين، قال: إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابا " وقال في رواية حذيفة: " إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة يوم القيامة ". ورابعها: قال عبد الرحمن بن زيد: * (إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) يعني المؤمنين خاصة، قال الإمام أبو القاسم الأنصاري والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لما بينا أنه كان رحمة للكل لو تدبروا في آيات الله وآيات رسوله، فأما من أعرض واستكبر، فإنما وقع في المحنة من قبل نفسه كما قال: * (وهو عليهم
عمى) * (فصلت: 44).
المسألة الثانية: قالت المعتزلة لو كان الله تعالى أراد من الكافرين الكفر ولم يرد منهم القبول من الرسول، بل ما أراد منهم إلا الرد عليه وخلق ذلك فيهم ولم يخلقهم إلا كذلك كما يقوله أهل السنة، لوجب أن يكون إرساله نقمة وعذابا عليهم لا رحمة وذلك على خلاف هذا النص، لا يقال: إن رسالته عليه السلام رحمة للكفار من حيث لم يعجل عذابهم في الدنيا، كما عجل عذاب سائر الأمم، لأنا نقول: إن كونه رحمة للجميع على حد واحد وما ذكرتموه للكفار فهو حاصل للمؤمنين أيضا، فإذا يجب أن يكون رحمة للكافرين من الوجه الذي صار رحمة للمؤمنين. وأيضا فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته صلى الله عليه وسلم كحصولها بعده، بل كانت نعمهم في الدنيا قبل بعثته أعظم لأن بعد بعثته نزل بهم الغم والخوف منه، ثم أمر بالجهاد الذي فني أكثرهم فيه فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد. والجواب: أن نقول لما علم الله سبحانه وتعالى أن أبا لهب لا يؤمن البتة وأخبر عنه أنه لا يؤمن كان أمره إياه بالإيمان أمرا يقلب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا وذلك محال، فكان قد أمره بالمحال. وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة، فلم لا يجوز أن يقال البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر؟ ولأن قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازم، وإن كانت صالحة للضدين توقف للترجيح على مرجح من قبل الله تعالى، قطعا للتسلسل. وحينئذ يعود الإلزام ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون رحمة للكافر بمعنى تأخير عذاب الاستئصال عنه؟ قوله: أولا لما كان رحمة للجميع على حد واحد وجب أن يكون رحمة للكفار من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين، قلنا: ليس في الآية أنه عليه السلام رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين، فدعواك بكون الوجه واحدا تحكم. قوله نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل قلنا: نعم ولكنه عليه السلام لكونه رحمة للمؤمنين لما بعث حصل الخوف للكفار من نزول العذاب، فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار.
المسألة الثالثة: تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة، قالوا: لأن الملائكة من العالمين. فوجب بحكم هذه الآية أن يكون عليه السلام رحمة للملائكة، فوجب أن يكون أفضل منهم. والجواب: أنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة: * (ويستغفرون للذين آمنوا) * (غافر: 7) وذلك رحمة
231

منهم في حق المؤمنين، والرسول عليه السلام داخل في المؤمنين، وكذا قوله تعالى: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * (الأحزاب: 56).
قوله تعالى
* (قل إنمآ يوحى إلى أنمآ إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون * فإن تولوا فقل ءاذنتكم على سوآء وإن أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون * إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون * وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين * قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) *
اعلم أنه تعالى لما أورد على الكفار الحجج في أن لا إله سواه من الوجوه التي تقدم ذكرها، وبين أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين، أتبع ذلك بما يكون إعذارا وإنذارا في مجاهدتهم والإقدام عليهم، فقال: * (قل إنما يوحى إلي) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": إنما يقصر الحكم على شيء أو يقصر الشيء على حكم، كقولك إنما زيد قائم أو إنما يقوم زيد، وقد اجتمع المثالان في هذه الآية. لأن: * (إنما يوحى إلي) * مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد: * (وأنما إلهكم إله واحد) * بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصور على إثبات وحدانية الله تعالى وفي قوله؛ * (فهل أنتم مسلمون) * أن الوحي الوارد على هذا السنن يوجب أن تخلصوا التوحيد له وأن تتخلصوا من نسبة الأنداد، وفيه أنه يجوز إثبات التوحيد بالسمع. فإن قيل: لو دلت إنما على الحصر لزم أن يقال: إنه لم يوح إلى الرسول شيء إلا التوحيد ومعلوم أن ذلك فاسد، قلنا: المقصود منه المبالغة، أما قوله: * (فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء) * فقال صاحب " الكشاف ": آذن منقول من أذن إذا علم ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار، ومنه قوله: * (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * (البقرة: 279) إذا عرفت هذا فنقول: المفسرون ذكروا فيه وجوها. أحدها: قال أبو مسلم: الإيذان على
232

السواء الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى: * (فانبذ إليهم على سواء) * (الأنفال: 58) وفائدة ذلك أنه كان يجوز أن يقدر على من أشرك من قريش أن حالهم مخالف لسائر الكفار في المجاهدة، فعرفهم بذلك أنهم كالكفار في ذلك. وثانيها: أن المراد فقد أعلمتكم ما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره على السواء، فلم أفرق في الإبلاغ والبيان بينكم، لأني بعثت معلما. والغرض منه إزاحة العذر لئلا يقولوا: * (ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) * (طه: 134). وثالثها: على سواء على إظهار وإعلان. ورابعها: على مهل، والمراد أني لا أعاجل بالحرب الذي آذنتكم به بل أمهل وأؤخر رجاء الإسلام منكم.
أما قوله: * (وإن أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون) * ففيه وجهان: أحدهما: * (أقريب أم بعيد ما توعدون) * من يوم القيامة، ومن عذاب الدنيا ثم قيل: نسخه قوله: * (واقترب الوعد الحق) * (الأنبياء: 97) يعني منهما، فإن مثل هذا الخبر لا يجوز نسخه. وثانيها: المراد أن الذي آذنهم فيه من الحرب لا يدري هو قريب أم بعيد لئلا يقدر أنه يتأخر كأنه تعالى أمره بأن ينذرهم بالجهاد الذي يوحى إليه أن يأتيه من بعد ولم يعرفه الوقت، فلذلك أمره أن يقول: إنه لا يعلم قربه أم بعده. تبين بذلك أن السورة مكية، وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة. وثالثها: أن ما يوعدون به من غلبة المسلمين عليهم كائن لا محالة ولا بد أن يلحقهم بذلك الذل والصغار، وإن كنت لا أدري متى يكون، وذلك لأن الله تعالى لم يطلعني عليه.
أما قوله تعالى: * (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون) * فالمقصود منه الأمر بالإخلاص وترك النفاق، لأنه تعالى إذا كان عالما بالضمائر وجب على العاقل أن يبالغ في الإخلاص.
أما قوله تعالى: * (وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) * ففيه وجوه؛ أحدها: لعل تأخير العذاب عنكم. وثانيها: لعل إبهام الوقت الذي ينزل بكم العذاب فيه
فتنة لكم أي بلية واختبار لكم ليرى صنعكم وهل تحدثون توبة ورجوعا عن كفركم أم لا. وثالثها: قال الحسن: لعل ما أنتم فيه من الدنيا بلية لكم والفتنة البلوى والاختبار. ورابعها: لعل تأخير الجهاد فتنة لكم إذا أنتم دمتم على كفركم، لأن ما يؤدي إلى الضرر العظيم يكون فتنة، وإنما قال لا أدري لتجويز أن يؤمنوا فلا يكون تبقيتهم فتنة بل ينكشف عن نعمة ورحمة. وخامسها: أن يكون المراد وإن أدرى لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت فتنة لكم، لأنه زيادة في عذابكم إن لم تؤمنوا لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالا بعد حال يكون عذابه أشد، وإذا متعه الله تعالى بالدنيا يكون ذلك كالحجة عليه.
أما قوله تعالى: * (قال رب احكم بالحق) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء: قل رب أحكم بالحق على الإكتفاء بالكسرة (ورب احكم) على الضم (وربي أحكم) أفعل التفضيل (وربي أحكم) من الإحكام.
المسألة الثانية: * (رب احكم بالحق) * فيه وجوه: أحدها أي ربي اقض بيني وبين قومي
233

بالحق أي بالعذاب. كأنه قال: اقص بيني وبين من كذبني بالعذاب، وقال قتادة: أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون: * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * (الأعراف: 89) فلا جرم حكم الله تعالى عليهم بالقتل يوم بدر. وثانيها: افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع وهو أن تنصرني عليهم.
أما قوله تعالى: * (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) * ففيه وجهان؛ أحدهما: أي من الشرك والكفر وما تعارضون به دعوتي من الأباطيل والتكذيب كأنه سبحانه قال: قل داعيا لي: * (رب احكم بالحق) * وقل متوعدا للكفار: * (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) * قرأ ابن عامر بالياء المنقوطة من تحت، أي قل لأصحابك المؤمنين، وربنا الرحمن المستعان على ما يصف الكفار من الأباطيل، أي من العون على دفع أباطيلهم. وثانيها: كانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وخذلهم، قال القاضي: إنما ختم الله هذه السورة بقوله: * (قل رب احكم بالحق) * لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان الغاية لهم وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له وتعريفا أن المقصود مصلحتهم، فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم، فعليك بالانقطاع إلى ربك ليحكم بينك وبينهم بالحق، إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره، وإما بتأخير ذلك فإن أمرهم وإن تأخر فما هو كائن قريب، وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول كالإستعجال للأمر بمجاهدتهم وبالله التوفيق، وصلاته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وسلم تسليما آمين.
234