الكتاب: تفسير السلمي
المؤلف: السلمي
الجزء: ١
الوفاة: ٤١٢
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: سيد عمران
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢١ - ٢٠٠١م
المطبعة: لبنان/ بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

سورة فاتحة الكتاب
' سبع آيات '
بسم الله الرحمن الرحيم
قيل: إنها سميت فاتحة الكتاب لأنه فتح عليك فاتحته لذيذ مناجاته فكانت فاتحة لكل
خير، وقيل أيضا: فاتحة الكتاب؛ أنه أوائل ما فتحناك من خطابنا، فإن تأدبت وإلا
حرمت لطائف ما بعده من لطائفه.
* (بسم الله الرحمن الرحيم) *.
قال أبو القاسم الحكيم: ' بسم الله الرحمن الرحيم ' إشارة إلى المودة بدءا.
حكي عن العباس بن عطاء أنه قال: الباء بره لأرواح الأنبياء بإلهام الرسالة والنبوة،
والسين سره مع أهل المعرفة بإلهام القربة والأنس.
والميم منته على المريدين بدوام نظره إليهم بعين الشفقة والرحمة.
وقال الجنيد في ' بسم الله الرحمن الرحيم ': بسم الله هيبته، وفي الرحمن عونه،
وفي الرحيم مودته ومحبته. وقيل الباء في ' بسم الله ' بالله ظهرت الأنبياء وبه فنيت
وبتجليه حسنت المحاسن وباستناره فتحت وسمحت.
24

وحكى عن الجنيد رحمه الله أنه قال: إن أهل المعرفة نفوا عن قلوبهم كل شيء
سوى الله عز وجل، وصفوا قلوبهم لله، وكان أول ما وهب الله تعالى لهم فناهم عن
كل شيء سوى الله قولوا بسم الله إلينا فانتسبوا ودعوا انتسابكم إلى آدم عليه السلام.
وقيل أيضا: إن ' بسم ' لبقاء هياكل الخلق، فلو افتتح كتابه باسمه؛ لذابت تحت
حقيقتها الخلائق إلا من كان من نبي أو ولي، والاسم بنور نعيم الحق على قلوب أهل
معرفته.
وقيل في ' بسم الله ': إنه صفاة أهل الحقيقة لئلا يتزينوا إلا بالحق، ولا يقسموا إلا
به.
وقال أبو بكر بن طاهر: الباء سر الله بالعارفين، والسين السلام عليهم، والميم
محبته لهم.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إن صح هذا، الباء بهاؤه والسين سناؤه، والميم مجده.
25

وقيل: إن الباء في ' بسم الله ' إلينا وصلهم إلى ' بسم الله '.
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندراني يقول: سمعت
أبا جعفر الملطي يذكر عن علي بن القاسم موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد
عليه السلام قال: ' بسم ' الباء بقاؤه والسين أسماؤه والميم ملكه، فإيمان المؤمن ذكره
ببقائه وخدمة المريد ذكره بأسمائه، والعارف عن المملكة بالمالك لها.
وقال أيضا: ' بسم ' ثلاثة أحرف: باء وسين وميم فالباء باب النبوة، والسين سر
النبوة الذي أسر بها النبي صلى الله عليه وسلم به إلى خواص أمته، والميم مملكة الدين الذي أنعم به
للأبيض والأسود، وأما ' الله ' فإن محمد بن موسى الواسطي قال: ما دعى الله أحد
باسم من أسمائه، إلا ولنفسه في ذلك نصيب إلا قوله ' الله '، فإن هذا الاسم يدعوه
إلى الوحدانية وليس للنقص فيه نصيب، وقيل: كل أسمائه تقتضي عوضا عند الدعاء
إلا ' الله '، فإنه اسم تفرد الحق به. وقيل: كل من قال: ' الله ' فمن عادة قالها إلا من
غيب عن شاهده، وقام الحق بتوليته عنه، عند ذاك زالت العيوب والزلل.
وقال الحسين: بسم الله منك منزلة ' كن ' منه فإذا أحسنت أن تقول: ' بسم الله '
26

وأنكرت فيه فضل من الله أن تقول الله وأنتم عند الغفلة والحيرة تحققت الأشياء بقولك
' بسم الله ' كما يتحقق له كن.
وحكي عن الشبلي أنه قال: ما قال الله أحد سوى الله، فإن كل من قاله قاله
بحظ وأنى يدرك الحقائق الحظوظ.
27

وقال أبو سعيد الخراز في كتاب درجات المريدين: ومنهم من جاوز نسيان حظوظ
نفسه، فوقع في نسيان حظه من الله ونسيان حاجته إلى الله فهو يقول: لا أوركها أريد
وما أقواه وما أنا ومن أين أنا، ضاع اسمي فلا اسم لي، وجهلت فلا علم لي،
وضللت فلا جهل لي، وأسوق إلى من يعرف أقول فيساعدني فيما أقول، وإذا قيل
لأحدهم ما تريد قال: الله وما تقول الله قال وما علمت قال: الله فلو تكلمت جوارحه
لقالت: الله وأعضاؤه ومفاصله ممتلئة من نور الله المخزون عنده، ثم يصيرون في القرب
إلى غاية لا يقدر أحد منهم أن يقول الله؛ لأنه ورد في الحقيقة على الحقيقة ومن الله
على الله ولا حيرة، ومعناه لا حيرة فيما فيه الحيرة.
وسئل الحسين بن منصور هل ذكره أحد على الحقيقة فقال: كيف يذكر على
الحقيقة من لا أمد لكونه ولا علة لفعله ليس له كدك، ولا لغيبه هدك له من الأسماء
معناها والحروف مجراها إذ الحروف مبدوعة والأنفاس مصنوعة، والحروف قول القائل
تنزغن ذلك من الأحوال خلقة، رجع الوصف في الموصف، وعمى العقل عن الفهم،
والفهم عن الدرك، والدرك عن الاستنباط، ودار الملك في الملك، وانتهى المخلوق إلى
28

مثله، عدا قدره الظن، ودها نوره الغيبة.
وقيل: إن الألف الأول من اسمه الله ابتداؤه، واللام الأول لام المعرفة، واللام
الثاني لام الآلاء والنعماء والسطر الذي بين اللامين معاني مخاطبات الأمر والنهي،
والهاء نهاية مما تكن العبادة عنه من الحقيقة لا غير.
وقيل: إن الألف آلاء الله، واللام لطف الله واللام الثاني لقاء الله والهاء هيبة بآلاء
الله فوله به المحبون والمشتاقون حين عجزوا عن علم شيء منه.
وحكى أن أبا الحسين النوري بقي في منزله سبعة أيام لم يأكل ولم ينم ولم
29

يشرب، ويقول في ولهه ودهشه: الله الله، وهو قائم يدور فأخبر الجنيد بذلك فقال:
انظروا أمحفوظ عليه أوقاته أم لا؟ فقيل: إنه يصلي الفرائض فقال: الحمد لله الذي لم
يجعل للشيطان عليه سبيلا ثم قال: قوموا حتى نزوره إما نستفيد منه أو نفيده فدخل
عليه وهو في ولهه قال: يا أبا الحسين ما الذي دهاك؟ قال: أقول: الله الله زيدوا علي
فقال له الجنيد: انظر هل قولك الله الله أم قولك قولك إن كنت القائل الله فالله ولست
القائل له وإن كنت تقوله بنفسك فأنت مع نفسك فما معنى الوله فقال: نعم الود
فسكنت وسكن عن ولهه فكان الشبلي يقول: الله فقيل له لم لا يقول لا إله إلا الله؟
فقال: لا أنفي به ضدا.
وقيل في قوله: الله هو المانع الذي يمنع الوصول إليه لما امتنع هذا الاسم عن
الوصول إليه حقيقة كانت اللذات أشد امتناعا لعجزهم في إظهار اسم الله، ليعلموا
بذلك عجزهم عن ذكر ذاته.
وقيل في قوله الله: الألف إشارة إلى الوحدانية واللام إشارة إلى محو الإشارة،
واللام الثاني إشارة إلى محو المحو في كشف الهاء.
وقيل: إن الإشارة في الألف هو قيام الحق بنفسه وانفصاله عن جميع خلقه ولا
اتصال له بشيء من خلقه كامتناع الألف أن يتصل بشيء من الحروف ابتداء بل تتصل
الحروف به على حد الاحتياج إليه واستغنائه عنها.
وقيل: إنه ليس من أسماء الله عز وجل اسم يبقى على إسقاط كل حرف منه اسم
الله إلا الله فإنه الله، فإذا أسقطت منه الألف يكون ' لله ' فإذا أسقطت إحدى لاميه
يكون ' له ' فإذا أسقطت اللامين بقي ' الهاء ' وهو غاية الإشارات.
وأما وله الخلق في تولهم فمنهم من وله سره في عظمة جلاله، ومنهم من وله
قلبه في وجوه معرفته، ومنهم من وله لسانه بدوام ذكره.
وحكي عن ابن الشبلي قال في تجلي الجنيد في ولهه: الله فقال له الجنيد: يا أبا
بكر الغيبة حرام أي أن ذكر الغائب غيبة فإن كنت غائبا فالذكر غيبه وإن كنت تذكره عن
مشاهدة فهو ترك الحرمة.
30

وقيل: من قال الله بالحروف، فإنه لم يقل الله لأنه خارج عن الحروف والخصوص
والأوهام ولكن رضى منك بذلك لأنه لا سبيل إلى توحيده من حيث لا حال ولا قال.
وقيل إن معنى قول الله: إن الأسماء كلها داخل في هذا الاسم وخارج منه، يخرج
من هذا الاسم معنى الأسماء كلها ولا يخرج هذا الاسم من اسم سواه وذلك أن الله
عز وجل يفرد به الاسم دون خلقه وشارك خلقه في اشتقاقات أساميه.
وقال بعض البغدادين: ليس الله ما يبدو لكم وبكم ووالله والله ما هذا فهو الله هذه
حروف تبدو لكم وبكم، فإذا انظهر انتقيت فمعناه ها هو الله، وقال أبو العباس بن
عطاء: قوله: ' الله ' هو إظهار هيبته وكبريائه.
وكتب أبو سعيد الخراز إلى بعض إخوانه: هل هو إلا الله، وهل يقدر أحد أن يقول
الله إلا الله، وهل يرى الله إلا الله، وهل عرف الله أو يعرفه إلا الله، وهل كان قبل
العبد وقبل الخلق إلا الله، وهل الآن في السماوات وفي الأرضين وما بينهما إلا الله؟ إذ
لم تكونوا فكونوا بالله ولله.
قال أبو سعيد الخراز: رأيت حكيما من الحكماء فقلت له: ما غاية هذا الأمر قال:
الله. قلت: فما معنى قولك الله؟ قال: يقول اللهم دلني عليك وثبتني عند وجودك ولا
تجعلني ممن يرضى بجميع ما هو ذلك عوضا وأقر قراري عند لقائك.
وقال أبو سعيد: إن الله عز وجل أول ما دعا عباده دعاهم إلى كلمة واحدة فمن
فهمها فقد فهم ما وراءها وهي قوله ' الله ' ألا يراه يقول قل هو الله فتم به الكلام لأهل
الحقائق ثم زاد بيانا للخاص فقال: أحد، ثم زاد بيانا للأولياء فقال: الصمد، ثم زاد
بيانا للعوام، فقال: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فأهل الحقائق استغنوا
باسمه الله وهذه الزيادات لمن نزلت مرتبته عن مراتبهم.
وقيل: إن كل أسمائه تتهيىء أن يتخلق به إلا قوله الله فإنما هو للتعلق دون التخلق
وقيل: إن الإشارة في ' الله ' هو اتصال اللامين والهاء وانفصال الألف عنه أي إنما
أشرتم به إلى الله من ألف التعريف منفصل عني لا بكم بإياكم.
يقولون: وما كان من صفاتي فإنه متصل به كلله حيث اتصلت حروفه.
سمعت منصورا بإسناده عن جعفر أنه قال في قوله ' الله ': إنه اسم تام لأنه أربعة:
أحرف الألف وهي عمود التوحيد واللام الأول لوح القلم واللام الثاني لوح النبوة
والهاء النهاية في الإشارة، والله هو الاسم المتفرد لا يضاف إلى شيء بل تضاف الأشياء
31

كلها إليه، وتفسير المعبود الذي هو إله الخلق منزه عن درك ماهيته والإحاطة بكيفيته
وهو المستور عن الأبصار، والأفهام والمحتجب بجلاله عن الإدراك.
قوله تعالى: * (الرحمن) *.
باسم الرحمن خرجت جميع الكرامات للمؤمنين مثل الإيمان والطاعات والولاية
والعصمة وسائر المنن وكل نعمة تدوم ولا يستحق أحد من المخلوقين هذا الاسم لأن
المخلوق عاجز عن إعطاء شيء لأحد يدوم ويبقى.
وأيضا فإن رحمة الرحمانية للمريدين بها ينفصلون عما دون الرحمن، ولما عمت
رحمته في العاجلة على الولي والعدو في معايشهم وأرزاقهم وغير ذلك سمي رحمن.
وقيل في اسمه الرحمن: حلاوة المنة ومشاهدة القربة ومحافظة الخدمة.
وقيل: إن المحبين يتنعمون بأسرارهم في رياض معاني اسمه الرحمن فيجتنون منها
ثمرة الأنس ويشربون منها ماء القربة ويتنعمون على ضفاف أنهار القدس ويرجعون منها
برؤية الآلاء والنعماء، والخائفون يتلذذون في قلوبهم في معاني اسمه الرحمن
ويتزودون منها حلاوة السكون والأمن، والتائبون يتروحون بأسرارهم في معاني اسمه
الرحمن فيرجعون منها بصفا السر وطهارة القلوب، والعاصون يمرون على ميادين اسمه
الرحمن فيرجعون منها بالندم والاستغفار.
وقال ابن عطاء: في اسمه الرحمن عونه ونصرته.
وقال الواسطي: الرحمن لا يتقرب إليه أحد إلا بصرف رحمانيته، والرحيم يتقرب
إليه بالطاعات لأنه يشارك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: * (بالمؤمنين رؤوف رحيم) *.
32

قوله تعالى: * (الرحيم) *.
يقال: إن معنى الرحيم هو ما يخرج من الرحمة الرحيمية لمعاش الخلق ومصالح
أبدانهم فلذلك لم يمنعوا أن يتسموا بالرحيم ومنعوا بالتسمية بالرحمن.
وقيل: إن معنى الرحيم أي بالرحيم وصلتم إلى الله وإلى الرحمن والرحيم بعث
محمدا صلى الله عليه وسلم في قوله: * (بالمؤمنين رؤوف رحيم) * كأن معناه يقول بسم الله الرحمن
الرحيم وبالرحيم محمد وصلتم إلى أن قلتم بسم الله الرحمن الرحيم، والرحيم هو
الذي يقبلك بجميع عيوبك إذا أقبلت عليه، ويحفظك أتم الحفظ في العاجلة وإن
أدبرت عنه، لاستغنائه عنك مقبلا ومدبرا.
قال ابن عطاء: في اسمه ' الرحيم ' مودته ورحمته، سمعت منصورا بإسناده عن
جعفر في قوله ' الرحمن الرحيم ' قال: هو واقع على المريدين والمرادين، فاسم الرحمن
للمرادين لاستغراقهم في الأنوار والحقائق، والرحيم للمريدين لبقائهم مع أنفسهم
واشتغالهم بإصلاح الظواهر، والرحمن المنتهى بكرامته إلى ما غاية له لأنه قد أوصل
الرحمة بالأزل وهو غاية الكرامة ومنتهاه بدءا وعاقبة، والرحيم وصل رحمته بالياء والميم
وهو ما يتصل به من رحمة الدنيا والهدى والأرزاق.
قوله عز وجل: * (الحمد لله رب العالمين) *.
قال ابن عطاء: معناه الشكر لله إذا كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه.
وقيل معنى الحمد لله أي: لا حمدا لله إلا الله. وقيل الحمد لله أي: أنت المحمود
لجميع صفاتك وأحوالك.
قال الواسطي: الناس في الحمد على ثلاث درجات، قالت العامة: الحمد لله على
العادة، وقالت الخاصة الحمد لله شكرا على اللذة وقالت الآية: الحمد لله الذي لم
ينزلنا منزلة استقطعنا النعمة عن شواهد ما أشهدنا الحق من حقه.
وذكر عن جعفر الصادق في قوله ' الحمد لله ' فقال: من حمده بجميع صفاته كما
وصف نفسه فقد حمده، لأن الحمد حاء وميم ودال فالحاء من الوحدانية والميم من
الملك والدال من الديمومة فمن عرفه بالوحدانية والملك والديمومة فقد عرفه.
وقال رجل بين يدي الجنيد رحمه الله: الحمد لله فقال لأتمها كما قال الله تعالى قل
' رب العالمين ' فقال الرجل ومن العالمين حتى يذكر مع الحق فقال قله يا أخي فإن
المحدث إذا قرن بالقديم لا يبقى له أثر.
33

وذكر عن عطاء أو غيره أنه قال: الحمد لله إقرار المؤمنين بوحدانيته وإقرار الموحدين
بفردانيته وإقرار العارفين باستحقاق ربوبيته، فالأول إقرار بالإلهية والثاني إقرار بالربوبية
والثالث إقرار بالتعظيم.
وقيل الحمد: هو الثناء لله فثناء المؤمنين في قراءة فاتحة الكتاب وثناء المريدين بالذكر
في الخلوات وثناء العارفين في الشوق إليه والأنس به.
وقال الحسين: ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها، والحمد النبي صلى الله عليه وسلم والمحمود الله
والحامد العبد والحميد حاله التي توصل بالمريد.
وقيل أيضا: الحمد لله رب العالمين عن العالمين قبل العالمين لعلمه بعجز العالمين عن
أداء حمد رب العالمين.
وقيل هذا رحمة للعالمين بإضافته إياهم إليه أنه ربهم.
وقيل في الحمد لله رب العالمين: إن الحمد يكون على السراء والضراء والشكر لا
يكون إلا على النعماء.
وقيل: الحمد لله يكون لاستغراق الحامد في النعمة والشكر لاستزاده.
وقيل في قوله: الحمد لله رب العالمين أي منطق العالمين لحمده.
وذكر عن ابن عطاء في قوله الحمد لله رب العالمين أي: مربى أفضل العارفين بنور
اليقين والتوفيق وقلوب المؤمنين بالصبر والإخلاص وقلوب المريدين بالصدق والوفاء
وقلوب العارفين بالفكرة والعبرة.
وقيل: رب العالمين أي هو الذي برأ العالمين بين رحمته الرحمن الرحيم حتى يؤهلهم
لتمجيده بقولهم: الحمد لله رب العالمين، أي سبق الحمد مني لنفسي قبل أن يحمدني
أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن لعلة، وحمد الخلق إياي
مشوب بالعلل، وقيل رب العالمين، أي: ملهم العالمين بحمده وحده.
وقيل: لما علم عجز عباده عن حمده حمد نفسه بنفسه في الأزل فاستراح طوق عباده
هو محل العجز عن حمده وأنى ينازع الحدث القدم، ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر
العجز بقوله ' لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك '.
34

وأنشد:
(إذا نحن أثنينا عليك بصالح
* فأنت كما نثنى وفوق الذي نثنى
*
وحمد نفسه بالأزل لما علم من كثرة نعمه على عباده وعجزهم عن القيام بواجب
حمده فحمد نفسه عنهم؛ لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط عنهم به ثقل رؤية
المنة.
وسئل جعفر بن محمد عن قوله: الحمد لله رب العالمين قال: معناه الشكر لله فهو
المنعم بجميع نعمائه على خلقه وحسن صنيعته وجميل بلائه، فالألف الحمد من الآية
وهو الواحد فبالآية أهل معرفته من سخطه وسوء قضائه، واللام من لطفه وهو الواحد
فبلطفه إذا فهم حلاوة عطفه وسقاهم كأس سره والحاء فمن حمده وهو السابق يحمد
نفسه قبل خلقه، فبسابق حمده استقرت النعم على خلقه وقدروا على حمده، والميم
فمن مجده فبجلال مجده زينهم بنور قدسه، والدال فمن دينه الإسلام فهو السلام ودينه
الإسلام وداره السلام وتحيتهم فيها سلام لأهل السلام في دار السلام.
قوله تعالى: * (الرحمن الرحيم) *.
بالإشراف على أسرار أوليائه والتجلي لأرواح أنبيائه والرحيم بالعطف على أنفس
الخلائق برهم وفاجرهم يبسط معايشهم في الدنيا.
وقيل: الرحمن خاص الاسم خاص الفعل والرحيم عام الاسم عام الفعل.
وقيل: الرحمن بالنعمة والرحيم بالعصمة.
وقيل: الرحمن بالتجلي والرحيم بالتولي.
وقيل: الرحمن بكشف الأنوار والرحيم لحفظ ودائع الأسرار.
وقيل: الرحمن بذاته والرحيم في نعوته وصفاته وجل الحق أن يدرك حقيقة أساميه
35

أحد؛ لأن أسماءه بلا علة، وإنما يظهر للخلق نصيبهم من الأسامي لا حقيقة حقه فمن
ظن أنه يفسر أساميه على حقيقة حقه فقد ضل ضلالا بعيدا؛ لأنه أظهر الأسامي
للإثبات رحمة لخلقه لا إشرافا على صفاته ونعوته قال الله تعالى: * (ولا يحيطون به علما) * وكيف يدرك شيء من صفات من الجهات لا يضمنه والسمات لا يأخذه
والأوقات لا تداوله ومصنوعة لا تجاوله والترجمة لا تجليه والآداب لا تؤدبه والإشارات
لا تدانيه، لم تلتبس به حال ولا ينازعه باك، لا الصفات أوجدته ولا الأسامي زينته،
بل هو موجد كل موجود وخالف كل موصوف - جل وتعالى -.
سمعت منصورا بإسناده يقول عن جعفر قال: الرحمن الذي يرزق الخلق ظاهرا
وباطنا، فرزق الظاهر الأقوات من المأكولات والمشروبات والعوافي، والباطن العقل
والمعرفة والفهم وما ركب فيه من أنواع البدائع كالسمع والبصر والشم والذوق واللمس
والهمة والظن.
قوله تعالى: * (مالك يوم الدين) *.
قال ابن عطاء: مجازى يوم الحساب كل صنف بمقصودهم وهمتهم، يجازى العارفين
بالقرب منه والنظر إلى وجهه الكريم، ويجازى أرباب المعاملات بالجنات.
وقيل: من حق العبيد إذا شاهدوا مليكهم أن ينسوا المملكة عند مشاهدة مليكهم.
وقيل: إنه لمن يزل ولا يزال قلقا فكن في الدنيا كما تكون في الآخرة. والها حذرا
عالما أنك في ملكه حيث ما كنت.
وقيل: ملك يوم الدين، يوم الكشف والإشهاد * (لتجزى كل نفس بما تسعى) *.
وقيل: إنها خمسة أسامي لله ورب العالمين والرحمن والرحيم ومالك فاستدعى
الإلهية الوله والربوبية رؤية المنة والرحمن رؤية الشفقة، والرحيم رؤية التعطف،
والمالك القطع عن المملكة بالاتصال بمالكها.
قوله تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *.
على ترك زكاتنا، وأيضا إياك نعبد بالعمل الخالص أي: إياك نعبد بقطع العلائق
والأعواض، وإياك نستعين على الثبات على هذه الحال فإنا بك لا بنا.
36

وأيضا إياك نعبد بالإخلاص وإياك نستعين على المكاشفة لأسرارنا.
وأيضا إياك نعبد بالإرادة وإياك نستعين عليه بالهمة.
وأيضا إياك نعبد بالعلم وإياك نستعين عليه بالمعرفة.
وأيضا إياك نعبد عبادة من يعلم أنه بتوفيقك وتيسيرك قد عبدك وبك نستعين على
قبولها وتصحيحها من عندك.
وأيضا إياك نعبد بأمرك وإياك نستعين عليها بفضلك.
وأيضا إياك نعبد بالدعاوى وإياك نستعين أن تسقط عنا الدعاوى تمررنا إلى رياض
الحقائق.
وأيضا إياك نعبد ظاهرا وإياك نستعين عليها باطنا، إياك نعبد فأسقط بإياك عنا رؤية
العبادة، وإياك نستعين فأزل عنا بإياك رؤية الاستعانة.
وأيضا إياك نعبد فأهلنا لعبادتك وإياك نستعين فلا تحرمنا معونتك إياك نعبد فأخلص
عبادتنا وإياك نستعين فأعذنا من رؤية عبادتنا.
وأيضا إياك نعبد على المشاهدة، وإياك نستعين على النازلة.
قال الجنيد: إن الله عز وجل خص قوما بمعرفة عبوديته، فأفردوا له العبودية ثم
أخرجهم عن ذلك فعرفوا أنفسهم، وما تولى الله من ذلك لهم فقالوا: وإياك نستعين
على عبادتنا إذ لا يمكن أداؤها إلا بك، فبك عبدنا كذلك، وبك استعنا على شكر
النعمة فيه.
وقال القاسم: إياك نعبد بالتوفيق، وإياك نستعين على شكر ما وفقتنا له من
عبادتك.
سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا جعفر الفرغلي يقول: من
37

أقر بإياك نعبد وإياك نستعين فقد برئ من الجبر والقدر.
قوله تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) *.
قيل معناه: مل بقلوبنا إليك وأقم بهممنا بين يديك وكن دليلنا منك إليك؛ حتى لا
38

ينقطع عما بك لك.
وقيل: اهدنا الصراط المستقيم أي: أرشدنا إلى طرق المعرفة؛ حتى نستقيم معك
بخدمتك فهذا دعاء المريدين في هذه الآية.
وقيل: اهدنا أي: أرنا طريق هدايتك كي نستقيم معك على توحيدك فهذا دعاء
المؤمنين.
وقيل: اهدنا أي: أرنا طريق أنسك فنفرح ونطرب بقربك فهذا دعاء العارفين.
وقيل: اهدنا بك إليك، لنستعين ببدايتك عن وسائط المقامات والمجاهدات.
وقيل: اهدنا بفناء أوصافنا فبنا الطريق إلى أوصافك التي لم تزل ولا تزال.
وقيل: اهدنا بكشف الغفلة عنا طريق الوصول إلى رضاك.
وقيل: اهدنا هدى العيان بعد البيان؛ لنستقيم لك على حب إرادتك فينا.
وقيل: اهدنا هدى من أنت المتولي لهدايته طريق حقيقة معرفتك؛ لنستقيم لك بفناء
أوصافنا فيك.
وقيل اهدنا هدى من يكون منك مبدأه؛ حتى يكون إليك منتهاه.
وقيل: اهدنا أي: اكشف عنا ظلمات أحوالنا لننظر في خفي غيبك نظرة الاستقامة.
وقيل: اهدنا الصراط المستقيم بالغيبوبة عن الصراط ليلا يكون من يوطأ بالصراط.
وقيل: اهدنا بك ولا تشغلنا بموارد الصراط والاستقامة عنك.
حكي عن أبي عثمان في قوله: اهدنا الصراط المستقيم أي: أرشدنا لاستعمال
السنن في أداء فرائضك.
39

حكي عن فضيل بن عياض في قوله اهدنا الصراط المستقيم قال: طريق الحج
صراط الذين أنعمت عليهم من الأنبياء والأولياء غير المغضوب عليهم ولا الضالين غير
اليهود والنصارى، فإنك قطعت عليهم طريق الحج بقولك: * (لا يقربوا المسجد الحرام) *.
وقيل: اهدنا الصراط المستقيم لنستعين بهدايتك على الشيطان، فإنه قال: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) *.
وقيل: اهدنا الصراط المستقيم وهو الافتقار إليك، كما قيل لأبي حفص النيسابوري
40

رحمه الله: فإذا تقدم على ربك، قال: وما للفقير أن يقدم به على الغنى سوى فقره.
وقال سهل بن عبد الله: أرشدنا بمعونتك الطريق إليك.
قيل أليس قد هداه الصراط المستقيم حتى صلى وسأل فقال: إنما سأل الله زيادة
هدى، كما قال الله تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * بسؤالهم اهدنا الصراط
المستقيم.
وقال الجنيد: إن القوم إنما سألوا الهداية من الحيرة التي قدرت عليهم من أسماء
صفات الأزلية، فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية ليلا؛ ليستغرقوا في رؤية صفات
الأزلية.
قوله تعالى: * (صراط الذين أنعمت عليهم) *.
صراط الذين أنعمت عليهم أي: مقام الدين. أنعمت عليهم بالمعرفة وهم العارفون،
وأنعم على الأولياء بالصدق والرضا واليقين، وأنعم على الأبرار بالحلم والرأفة وأنعم
على المريدين بحلاوة الطاعة، وأنعم على المؤمنين بالاستقامة، هذا قول ابن عطاء.
41

وحكي عن أبي عثمان أنه قال: صراط الذين أنعمت عليهم بأن عرفتهم مهالك
الصراط ومكايد الشيطان وخيانة النفس.
وحكي عن محمد بن الفضل أنه قال: صراط الذين أنعمت عليهم لقبول ما
افترضت عليهم.
وقال أبو الحسن الوراق: صراط الذين أنعمت عليهم بالعناية على الاستقامة في
طريق مناجاتك.
وقال بعضهم صراط الذين أنعمت عليهم في سابق الأزل بالسعادة.
وحكي عن بعض البغداديين أنه قال: من أفنيته عن النظر إلى النعمة بدوام التنعم
بقربك ومؤانستك.
42

وقال بعضهم: صراط الذين أنعمت عليهم بالنظر إلى جريان ما جرى عليهم في
الأزل فلم يشغلهم كشف ذلك لهم عن الشغل بك.
وحكي عن مالك بن أنس أنه سئل عن قوله ' صراط الذين أنعمت عليهم ' فقال:
متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: صراط الذين أنعمت عليهم بالإيمان والهداية والتوفيق والرعاية
والمراقبة والكلاءة.
وقال جعفر بن محمد: صراط الذين أنعمت عليهم بالعلم بك والفهم عنك.
وقال بعض البغداديين: صراط الذين أنعمت عليهم بفناء حظوظهم وقيامهم معك
حسن الأدب.
وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بمشاهدة المنعم بغير النعمة.
وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بالإسلام ظاهرا والإيمان باطنا. قال الله تعالى:
* (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) * وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بإزالة
ظلمات الأكوان عن سرائرهم وطهرت أرواحهم بنور قدسك فشاهدوك بهممهم، ولم
يشاهدوا معك سواك.
وقال محمد بن علي: صراط الذين أنعمت عليهم قال الذين زممت جوارحهم
بالهيبة عند خدمتك.
وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم من غيبك المستتر بأنوار هدايتك.
43

وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم بعبادتك على المشاهدة. كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
' أن تعبد الله كأنك تراه '.
وسئل سهل بن عبد الله عن قوله صراط الذين أنعمت عليهم قال: متابعة السنة.
وقيل أيضا: صراط الذين أنعمت عليهم بأن أذنت لهم في مناجاتك وسؤالك.
أخبرنا نصر بن محمد الأندلسي قال: حدثنا أبو عمر أحمد بن هلال بن نزار العطار
قال: حدثنا الحسن بن محمد بن حيان الفرياني قال: حدثنا أحمد بن عبد الواحد قال:
حدثنا محمد بن ميمون قال: حدثنا معاذ بن هلال قال: حدثنا إسماعيل بن حسام عن
الحسن في قوله صراط الذين أنعمت عليهم قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهم.
قوله تعالى: * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *.
قال ابن عطاء: غير المخذولين ولا المطرودين ولا المهانين ولا الضالين الذين ضلوا
عن طريق هدايتك ومعرفتك وسبيل ولايتك.
وقيل: غير المغضوب عليهم في طريق الهلكى، ولا الضالين عن طريق الهدى باتباع
الهوى.
وقيل: غير المغضوب عليهم المستهلكين في مفاوز الشيطان، ولا الضالين المطرودين
عن طاعة الرحمن.
وقيل: غير المغضوب عليهم برؤية الأفعال ولا الضالين عن رؤية المنن، وقيل غير
المغضوب عليهم بطلب الأعواض على أعمالهم ولا الضالين عن طريق الشكر بتيسير
الخدمة عليهم.
وقيل: غير المغضوب عليهم بترك حسن الأدب في أوقات القيام بخدمتك، ولا
44

الضالين عن... فيستغفر وينيب.
وقيل: غير المغضوب عليهم بالرياء ولا الضالين بترك السنن في أركان العبادات.
وقال أبو عثمان: غير المغضوب عليهم بترك قراءة هذه السورة في صلواتهم، ولا
الضالين عن ترك قراءتها.
وقيل: غير المغضوب عليهم بأن وكلتهم إلى أنفسهم ولا الضالين بقطعك الاعتصام
عنهم.
وقيل: غير المغضوب عليهم باتباع البدع ولا الضالين عن سنن الهدى والسنة في قول
القائل آمين بعد قراءة هذه السورة في صلاته والجهر به.
وقال ابن عطاء: أي كذلك فافعل ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
وقال جعفر: آمين أي: قاصدين نحوك وأنت أكرم من أن تجيب قاصدك.
وقال الجنيد رحمه الله: معنى آمين أي: عاجزين عن بلوغ الثناء عليك بصفاتنا إلا
باتباع محمد الأمين فيه.
وقال بعض العراقيين: آمين أي: راجين لإجابة هذه الدعوات التي دعوتك بها.
وقال بعضهم مستقيلين من جميع اسؤلتنا؛ لأن حسن اختيارك لنا خير من اختيارنا.
وقيل: آمين أي: راضين بما قضيت علينا ولنا.
* * *
45

سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (ألم) *.
قيل: إن الألف ألف الوحدانية واللام لام اللطف والميم ميم الملك. معناه: من
وجدني على الحقيقة بإسقاط العلائق والأغراض فلطفت له في معناه فأخرجته من رق
العبودية إلى الملك الأعلى، وهو الاتصال بمالك الملك بعد الاشتغال بشيء من الملك.
وقيل ' ألم ': سر الحق إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم ولا يعلم سر الحبيب، الا تراه يقول: ' لو
تعلمون ما أعلم ' أي من حقائق سر الحق وهو الحروف المفردة في الكتاب.
وقيل ' ألم ': معناه أنا الله أعلم.
وقيل ' ألم ': معنى الألف أي أفرد سرك لي واللام لين جوارحك لعبادتي والميم أتم
معي بحور شوقك وصفاتك أذبتك بصفات الأنس بي ولمشاهدة آياتي، والقرب مني.
وقال سهل بن عبد الله: الألف هو الله واللام جبريل والميم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض العراقيين: حير عقول الخلق في ابتداء خطابه وهو محل الفهم ليعلموا
46

أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلا بعلمهم بالعجز عن معرفة خطابه.
وقال بعضهم: ' ألم ' أي: أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ.
وقال بعضهم: لكل كتاب أنزله الله على النبيين منسي، وسره في القرآن هذه
الحروف في أوائل السور.
وقيل الألف: ألف الوحدانية واللام لام الإلهية والميم ميم المهيمنية.
قوله تعالى: * (ذلك الكتاب) *.
قيل: ذلك الكتاب الذي كتبت على الخلق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق، لا
ريب فيه: لا مبدل له.
وقيل: ذلك الكتاب الذي كتبت في قلوب أوليائي من محبتي ومعرفتي في الرضا
بموارد قضائي، والكتاب هو العهد إلى الحبيب وموضع السر، والنبي صلى الله عليه وسلم مشرف على
أسرار ما خوطب به، والأولياء والصديقون بعده على حب معرفتهم وحب الكشف لهم
عن لطائفه.
وقيل: ذلك الكتاب الذي كتبت على نفسي في الأزل ' إن رحمتي سبقت غضبي '
وقيل لا ريب فيه: لا شك فيه لمن فتحت سره وزينت قلبه بالفهم عني، وقيل لا ريب
فيه: لمن طهرت سره بنور الاطلاع على لطائف معانيه.
قوله تعالى: * (هدى للمتقين) *.
حقا لأهل المعرفة وزيادة بيان وهدى.
وقال سهل: بيان لمن تكبر أمر حوله وقوته.
قال الجنيد رحمه الله: هدى للمتقين، وصلة للمنقطعين عن الأعيان.
47

وقال أبو يزيد رحمه الله: المتقي من إذا قال: قال لله وإذا عمل عمل لله.
وقال الداراني: المتقون الذين نزع من قلوبهم حب الشهوات.
قوله تعالى: * (الذين يؤمنون بالغيب) *.
قيل: الغيب هو الله.
وقيل: إن الإيمان بالغيب للعام، لأن الإيمان بالغيب قطع عن مغيب الغيب حجبهم
بالغيب عن مغيبه.
وقال بعض العراقيين: الغيب هو مشاهدات الملك بعين الحق.
وقيل: الذين يؤمنون بالغيب: الذين يصدقون ما أظهره على أوليائك من الآيات
والكرامات.
وقال أبو يزيد رحمة الله عليه: لا يؤمن بالغيب من لم يكن معه سراج الغيب.
48

وقال بعض العراقيين: إنهم بغيب القرآن عاينوا غيب الآخرة، ثم بغيب الغيب
شاهدوا الحق مطلعا عليهم في جميع الأوقات، فغابوا باطلاعه عليهم مشاهدة عن
مشاهدة كل ما سواه، فهم قائمون معه على المشاهدة، وهذا هو الإيمان بالغيب.
وقال فارس: الإيمان بالغيب تعظيم الحقيقة وصون الشريعة والرضا بالقضية،
حتى تستيقن أن ليس لك من الأمر شيء.
قوله تعالى: * (ويقيمون الصلاة) *.
وإقامتها: حفظ حدودها ظاهرا وباطنا.
وقال بعضهم: النية في إقامة الصلاة أي: لا أواصلك بها ولا أواصلك بتركها،
ولكنها اتباع الأمر والنهي.
49

وقيل لا يكن حظك من صلاتك إقامتها دون السرور بما أحلت له من القربة والمناجاة.
وقيل: لا يكن همك فيها إقامتها دون الهيبة والتعظيم والخوف عن كيفية إقامتها
ورؤية التقصير فيها.
وقال ابن عطاء: إقامة الصلاة فيها حفظ حدودها مع حفظ السر مع الله أي: لا
يختلج بسرك سواه.
قوله تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) *.
قال بعض العراقيين: في الإمساك لذة وفي الإنفاق لذة، وكل ما يلتذ به العبد فهو
يعبد من عين الحق.
وقيل: مما رزقناهم ينفقون أي: مما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون بركتها
ونورها على متبعيهم.
وقيل: الذين يؤمنون بالغيب حظ قلبك ويعلمون حظ بدنك، ومما رزقناهم ينفقون
حظ مالك معناه تجرد قلبك وتتعب بدنك في خدمتي وتنفق مالك في مرضاتي لأوصلك
إلى معرفتي.
قوله تعالى: * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) *.
الذين لزموا طريق المواصلة بالانفصال عما سوى الحق فأفلحوا فانقطعت الحجب عن
قلوبهم فشاهدوا.
قوله تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم) * الآية.
معناه: إن الذين ضلوا عن رؤية منتي عليهم في السبق سواء عليهم من شاهد
الأعواض في خدمتي ومن شاهد العوض لأخلص سرائرهم، ولا يثبت لهم الإيمان
50

الغيبي، وإنما إيمانهم على العادة.
قوله تعالى: * (ختم الله على قلوبهم) *.
فلا يقول عن الحق فهوم مخاطباته، على سمعهم فلم يسمعوا منه لذيذ كلامه،
وعلى أبصارهم فلم يبصروا المغيبات بعين الغرامة، غشاوة غشيتهم ظلمات أنفسهم فلم
تضيء لهم أنوار قلوبهم، ولهم عذاب عظيم سكوتهم إلى هذه الأحوال واكتفاؤهم بها.
وقال بعضهم: أهل البصر نظروا من الله إلى الأشياء فشاهدوها في سر القدرة،
وأهل النظر استدلوا بالأشياء على الله تعالى محجتهم عقولهم واستدلالهم عن بلوغ كنه
المعرفة بالله.
قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) *.
قيل فيه: إن الناس اسم جنس واسم الجنس لا يخاطب به الأولياء.
وقال بعضهم: ليس الإيمان ما يتزين به العبد قولا وفعلا لكن الإيمان جرى السعادة
في سابق الأزل وأما ظهورها على الهياكل فربما تكون عوارى وربما تكون حقائق.
قوله تعالى: * (يخادعون الله) * الآية.
قال بعض العراقيين: الخداع والمكر تنبيه من جهة شهود السعايات والاكتفاء إلى
الطاعات حتى لا يعتقد فيها بأنها أسباب الوصول إلى الحق. كلا.
وقيل: إنما يخادع من لا يعرف البواطن، فأما من عرف البواطن فمن دخل معه في
الخداع فإنما يخادع نفسه.
قوله تعالى: * (في قلوبهم مرض) *.
لخلوها من العصمة والتوفيق والرعاية.
قال أبو عثمان: في قلوبهم مرض لسكونهم إلى الدنيا وحبهم لها وغفلتهم عن
الآخرة وإعراضهم عنها، فزادهم الله مرضا بأنه وكلهم إلى أنفسهم وجمع عليهم هموم
51

الدنيا، فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام الدين، ولهم عذاب أليم باشتغالهم بما يغني عما
يبقى.
وقال الجنيد رحمه الله: علل القلب من اتباع الهوى، كما أن علة الجوارح من مرض
البدن.
قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) * الآية.
باتباع الهوى مصلحون زين لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنا، ألا إنهم هم المفسدون
بعصيان الناصحين لهم، ولكن لا يشعرون لأنهم محجوبون عن طرق الإنابة والهداية.
قوله تعالى * (إنما نحن مصلحون) * قيل من أظهر الدعوى كذب، ألا ترى الله يقول:
* (ألا إنهم هم المفسدون) *.
قوله تعالى: * (الله يستهزئ بهم) * أي: يحسن في أعينهم قبائح أفعالهم.
قوله تعالى: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) * الآية.
قال أبو الحسن الوراق: هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن لم تصح له أحوال الإرادة
بدءا فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر من يضيء عليه أحوال إرادته
لو صححتها بملازمة آدابها، فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله عنه تلك الأنوار وبقي في
ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها.
قال الحسن: * (إذا أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) *.
قال: إذا أضاء لهم مرادهم من الدنيا والدين ألقوه، وإذا أظلم عليهم من خلاف
معقولهم قاموا مجهولين.
قوله تعالى: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) *.
قال بعضهم: وحدوا ربكم.
وقال بعضهم: أخلصوا عبادة ربكم من غير اتخاذ الشريك فيه، فتوصلكم الوحدانية
والإخلاص إلى التقوى.
قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) *.
أعلمكم في هذه الآية سبيل الفقر بأن يجعل الأرض وطئا والسماء غطاء والماء طيبا
والكلأ طعاما ولا تعبد أحدا من الخلق بسبب الدنيا، فإن الله قد أباح لك ما لا بد لك
52

منه من غير منة فيه لأحد عليك.
قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) *.
قيل فيه كنتم أمواتا بالشرك وأحياكم بالتوحيد.
وقال بعضهم: كنتم أمواتا بالجهل فأحياكم بالعلم.
وقيل فيه: كنتم أمواتا بالخلاف فأحياكم بالائتلاف.
قال بعض البغداديين: كنتم أمواتا بحياة نفوسكم فأحياكم بإماتة نفوسكم وإحياء
قلوبكم.
وقال الشبلي: كنتم أمواتا عنه فأحياكم به.
وقال ابن عطاء: كنتم أمواتا بالظواهر فأحياكم بمكاشفة السرائر.
وقال فارس: كنتم أمواتا بشواهدكم فأحياكم بشاهده ثم يميتكم عن شواهدكم ثم
يحييكم بقيام الحق عنه. ثم إليه ترجعون عن جميع ما لكم وكنتم له.
قال الواسطي: ويختم بها غاية التوبيخ لأن الموات والجماد لا ينازع ما نور في شيء،
إنما المنازعة من الهياكل الروحانية.
قوله تعالى: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) *.
قال: تستعينوا لتقووا به على طاعته لا لتصرفوه في وجوه معصيته.
وقيل: خلق لكم ما في الأرض ليعد نعمه عليكم فيقتضي الشكر من نفسك لطلب
المزيد منه.
قال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك؛ لتستدل به على سعة جوده وتسكن
إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء في المعاد ولا تستقل كثير بره على قليل عملك، فقد
ابتداك تعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد.
وقال ابن عطاء: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * ليكون الكون كله لك وتكون
لله كلا تشتغل عمن أنت له.
وقال بعض البغداديين في قوله: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * أنعم بها
عليك، فإن الخلق عبدة النعم باستيلاء النعمة عليهم فمن طهر للحضرة أسقط عنه
53

فالمنعم رؤية النعم.
وقال أبو الحسن النوري: على مقامات أهل الحقائق انقطاعهم عن العلائق.
قوله تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) *.
قال ابن عطاء: إن الملائكة جعلوا دعاءهم وسيلة إلى الله، فأمر الله النار فأحرقت
منهم ساعة واحدة ألوفا فأقروا بالعجز وقالوا: * (سبحانك لا علم لنا) *.
قال جعفر: لما باهوا بأعمالهم وتسبيحهم وتقديسهم ضربهم كلهم بالجهل حتى
54

قالوا: لا علم لنا.
وقال بعضهم: عجزهم عن درك المكتوبات عرفهم بذلك قصورهم عن حقائق الحق.
وقال بعضهم: من استكبر بعمله واستكثر بطاعته كان الجهل وطنه، ألا تراهم لما
قالوا للحق نسبح بحمدك ألجأهم إلى أن قالوا: لا علم لنا.
قال الواسطي: من قال أنا فقد نازع القدرة، قالت الملائكة: نحن نسبح بحمدك
وذلك ليغذيهم من المعارف وهم أرباب للافتخار والاعتراض عن الربوبية بقولهم أتجعل
فيها من يفسد فيها.
قال الواسطي في قوله: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * خلقه بعلمه السابق ودبره
بالتركيب وألبسه شواهد النعت حتى يعرفه، ثم كانت أنفاسه مدخرة عند الحق حتى
أبداها.
وقال بعض العراقيين: شروط الخلافة رؤيته بذاته الأشياء فصلا ووصلا، إذ الفصل
والوصل لم ينفصل منه قط، وأي وصل للحدث بالقدم.
وقال بعضهم: أعلمهم أن العلم بالله أتم من المجاهدات.
وقال بعضهم: عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع فيه فأمروا
بالسجود له.
وقال بعض البغداديين: حلاه بخصائص الخلع وأظهر عليه صفات القدم، فصار
الخضوع له قربة إلى الحق والاستكبار عليه بعدا من الحق.
وقال بعضهم: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * خاطب الملائكة لا للمشورة ولكن
لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادات والتسبيح والتقديس ردهم إلى قمتهم
فقال اسجدوا لآدم.
وقال الواسطي في قوله * (إني جاعل في الأرض خليفة) * أظهر عليهم ما أضمروه في
شواهدهم لكم دونه فأظهر حرف كرمه؛ لأن حرف الكرم أن ترى أن شروط الجناية لا
تهدم العناية ولو أكرمهم على ما كان منهم لم تظهر حقائق الكرم، ولما قالوا * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * علم آدم الأسماء كلها فرجعوا إلى رؤية التقصير في
تسبيحهم وتقديسهم فقالوا: * (سبحانك لا علم لنا) * إن التسبيح والتقديس لا يقربان
منك إنما يقرب منك سبق عناية الأزل وهو لا تقدح فيه الجنايات والعصيان.
55

قال أبو عثمان المغربي: ما بلاء الخلق إلا الدعاوى، ألا ترى أن الملائكة قالوا: نحن
نسبح بحمدك ونقدس لك حتى ركنوا إلى الجهل فقالوا: لا علم لنا.
قوله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها) *.
قال الجريري: علمه اسما من أسمائه المخزونة فعلم به جميع الأسامي.
فقال بعضهم علم آدم الأسماء كلها قال: علمها بتعليم الحق إياه وحفظها بحفظه
عليه ونسي ما عهد عليه، لأنه وكله فيه إلى نبيه فقال: * (عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) *.
وقال ابن عطاء: لو لم يكشف لآدم عليه السلام علم تلك الأسامي لكان لعجز من
الملائكة في الإخبار عنها، وقوله غلب علمه على علم الملائكة؛ لقوة مشاهدة الخطاب
من غير واسطة في قوله: * (وعلم آدم الأسماء كلها) *.
وقيل لبعضهم: أليس علم آدم على قدره؟ فقال: بل علمه أكثر من قدرة وجملة
تعلمه إذ فيه تدابير الخلق.
قوله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) * قال ابن عطاء:
لما استعظموا تسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره؛ يريهم استغناءه عنهم وعن
عباداتهم. وقال بعض العراقيين: ورد الخطاب على أسرار الملائكة فهم عاجزون عن
المخالفة، ورد على سر إبليس وهو عاجز عن الموافقة.
قوله تعالى: * (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) *.
قال القاسم: السكون إلى الجنة وفي الجنة وحشة من الحق ولكنه رد المخلوق إلى
المخلوق إظهار الملك ورعونات الطبع، وقيل في قوله * (اسكن أنت وزوجك الجنة) *
قال السكني: تكون مدة ثم تنقطع فيكون دخولهما في الجنة دخول سكنى لا دخول
ثواب.
قوله تعالى: * (ولا تقربا هذه الشجرة) *.
قال بعضهم: معناه أنه يقول نهاهما عن قرب الشجرة وقضى عليهما ما قضى ليريهما
56

فيهما وأن العصمة تقواهما لا جحدهما وطاقتهما.
قال ابن عطاء: نهى عن جنس الشجرة، فظن آدم أن النهي عن المشار إليه فتناول
على حد النسيان وترك المحافظة لا على التعمد والمخالفة قال الله تعالى * (ولم نجد له عزما) *.
قوله تعالى: * (فتلقى آدم من ربه كلمات) *.
أدركته خصوصية الخلقة باليد ونفخ الروح الخاص والاصطفاء.
وقيل: هو قوله * (ظلمنا أنفسنا) *.
وقيل: هي عطس الحمد لله.
قوله تعالى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) *.
قال بعضهم: ربط بني إسرائيل بذكر النعم، وأسقط عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك
ودعاهم إلى ذكره فقال * (فاذكروني أذكركم) * ليكون نظر الأمم من النعمة إلى المنعم،
ونظر أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المنعم إلى النعم.
وقال سهل بن عبد الله: أراد الله أن يخص أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم
بزيادة على الأمم كما خص نبيهم صلى الله عليه وسلم بزيادة على الأنبياء فقال للخليل صلى الله عليه وسلم * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * وقطع سر محمد صلى الله عليه وسلم ورؤيته عمن سواه
فقال: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) *.
قوله تعالى عز وجل: * (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) *.
قال بعض البغداديين: أوفوا بعهدي الذي عهدتم في الميثاق الأول بلفظة ' بلى '،
فلا ترجعوا في طلب شيء إلى غيري.
وقيل: أوفوا بعهدي احفظوا ودائعي عندكم، لا تظهروها إلا عند أهلها، أوف
57

بعهدكم أبح لكم مفاتيح خزائني وقربي فأنزلكم منازل الأصفياء.
وقيل أوفوا بعهدي في أداء الفرائض على السنة والإخلاص، أوف بعهدكم بقبولها
منكم ومجازاتكم عليها.
وقال ابن عطاء: أوفوا بعهدي في حفظ الجلود ظاهرا وباطنا، أوف بعهدكم بحفظ
أسراركم عن مشاهدة الأعيان.
وقال سهل: أوفوا بعهدي في مجاهدة أنفسكم، أوف بعهدكم لمعاونتكم عليها.
وقال أبو عثمان: أوفوا بعهدي في حفظ آداب الظواهر، أوف بعهدكم بتزين
سرائركم.
وقال بعضهم: أوفوا بعهدي في التوكل، أوف بعهدكم بكفاية مهماتكم. وقال بعض
العراقيين: أوفوا بعهدي كونوا لي خلقا، أوف بعهدكم أكن لكم حقا.
قال أبو الحسن الوراق: أوفوا بعهدي في العبادات، أوف بعهدكم أوصلكم إلى
منازل الدعايات. سئل الثوري عن فهم هذه الآية أوفوا بعهدي قال: أوفوا بعهدي في
دار محبتي على بساط خدمتي بحفظ حرمتي، أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط
قربى بسرور رؤيتي.
قوله تعالى: * (وإياي فارهبون) *.
الرهبة: هي خشية القلب من روى خواطره وقال سهل: وإياي فارهبون موضع
اليقين ومعرفته وإياي فاتقون، موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج.
قوله تعالى: * (وإياي فاتقون) * قال بعضهم: التقوى على أربعة أوجه: للعامة تقوى
الشرك وللخاص تقوى المعاصي وللعارفين تقوى التوسل ولأهل الصفوة تقواهم منه
إليه، والتقوى النظر إلى الكون بعين النقص.
قوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * الآية.
قال سهل بن عبد الله: استعينوا بها على إقامة الدين وثبات اليقين.
قال ابن عطاء: استعينوا بهما على البلوغ إلى درك الحقائق، وقال أبو عثمان:
استعينوا بهما على فراغة أوقاتكم.
* (وإنها لكبيرة) * الآية. قال: لمن خشع قلبه وروحه وسره لموارد الهيبة وطوالع
الإجلال.
58

قال أبو عثمان: * (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) * قال: لمن ذلت جوارحه للعبادات
فرحا بمجل خطاب الآمر فيه.
وقال بعض العراقيين: استعينوا بالصبر عمن دون الله والصلاة الوقوف بحسن الأدب
مع الله، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين إلا على من أيد في الأزل بخصائص الاجتباء.
وقال بعضهم: استعينوا بي في الصبر والصلاة فإنهما لا يحصلان لكم إلا بمعونتي.
قوله تعالى: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) * [الآية: 44].
قيل فيه: أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم خالون من ظاهر رسومها.
قوله تعالى ذكره: * (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) * [الآية: 46].
قيل: من وحد الله بأفعاله وطاعته كان توحيده على الظن، ألا تراه يقول:
* (واستعينوا بالصبر والصلاة) * الآية.
وقال بعضهم: الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم أي: لو حققوا التوحيد كانت
صلواتهم وخشوعهم عليهم رينا، فلما ركنوا على أفعالهم كان توحيدهم ظنا وطاعتهم
عليهم شينا، قال الله عز من قائل: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) * الآية.
قوله تعالى: * (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) * [الآية: 54].
قيل: عجل كل إنسان نفسه ممن أسقطه وخالف مراده وهواه فقد برئ من ظلمه.
قوله تعالى: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) *.
قيل: إذا كان أول قدم في العبودية التوبة وهو: إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات
وقطعها عن المراد، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصادقين وفي أول قدم منها
تلف المهج؟
59

وقيل: توبوا إلى بارئكم قال: ارجعوا إليه بأسراركم وقلوبكم واقتلوا أنفسكم
بالتبري منها، فإنها لا تصلح لبساط الأنس. وقال أبو منصور: ما شرع الحق إليه طريقا
إلا وأوائله التلف.
قال الله تعالى: * (توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) *.
فما دام يصحبك تمييز وعقل فأنت في عين الجهل حتى يضل عقلك ويذهب خاطرك
ويفقد نسبك إذ ذاك وعسى ولعل.
وقال الواسطي: كانت توبة بني إسرائيل إفناء أنفسهم ولهذه الأمة أشد وهو إفناء
أنفسهم مع مرادها مع بقاء رسومهم الهياكل.
قال فارس: التوبة محو البشرية وثبات الإلهية. قال الله تعالى: * (توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) *.
قوله تعالى: * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * [الآية: 55].
قال بعض البغداديين: من طالع الذات بعين الحرمة الحق، ومن طالعها بالحرمة أولى
عليه صفات الجبروت والعظمة، ويستغيث من ذلك بلسان العجز سبحانك تبت إليك.
قوله تعالى: * (قد علم كل أناس مشربهم) * [الآية: 60].
قيل: فيه مشرب كل أحد حيث أنزله رائده، فمن كان رائده نفسه فمشربه الدنيا،
ومن كان رائده قلبه فمشربه الآخرة، ومن كان رائده سره فمشربه الجنة، ومن كان
رائده روحه فمشربه السلسبيل، ومن كان رائده ربه فمشربه في الحضرة على المشاهدة
60

حيث يقول: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * به عن كل ما سواه.
قوله تعالى: * (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) * [الآية: 61].
قيل: الناس فيه رجلان: رجل أزيل عنه تدبيره مستريح في ميدان الرضا راض
بأحكام القضاء فيه ساء أم سر فهو في الزيادة أبدا، وآخر رد إلى تدبيره واختياره فلا
يزال تتخبط في تدبيره واختياره إلى أن يهلك.
قوله تعالى: * (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) *.
معناه: أتعارضون حسن اختياري لكم في الأزل بمخالفة الدعاء والسؤال * (ما يبدل القول لدي) *.
قال الواسطي في هذه الآية: ما يتولاه من المن والسلوى من غير كلفة لهم، فتبع
القوم شهوة نفوسهم وما يليق بطبائعهم لما رجع إلى القثاء والطين عند ذكرهم.
قوله تعالى: * (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها) *
[الآية: 71].
معناه: لا يصلح لكرامتي وإظهار ولايتي عليه إلا من لم يذلل نفسه بالسكون إلى
شيء من الأكوان ولم يسع في طلب الحوادث بحال مسلمة من منون عوارض الخلاف.
* (لا شية فيها) *: لا أثر عليه لأحد بالسكون إليه والاعتماد عليه فهو القائم بي
والناظر إلي والمعتمد علي أظهرت عليه آيات قدرتي وجعلته أحد شواهد عزتي فمن
شاهده استغرق في مشاهدته؛ لأنه قد ألبس رداء العز وأنشد على أثره.
(إذا فانظري الدنيا بعيني واسمعي
* بأذني فيها وانطقي بلساني
*
قوله تعالى: * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) *: الحرص.
قوله تعالى: * (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى) * [الآية: 73].
قيل فيه: إن الله أمر بقتل حي ليحيى ميتهم أعلمك بذلك أنه لا يحيى قلبك لأنوار.
61

المعرفة ولا لفهم الخطاب إلا بعد أن تقتل نفسك بالاجتهاد والرياضات، فيبقى جسمك
هيكلا لا صفة له من صفاته ولا يؤثر عليه بقاء صورتها شيئا فتحيي قلبك وتكون نفسك
رسما لا حقيقة لها، وقلبك حقيقة ليس عليه أثر من المريبين.
قوله تعالى: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) * [الآية: 81].
كسب سيئة برؤية أفعاله، وأحاطت به خطيئته بظنه أن عمله ينجيه أو يقربه، فهم
المبعدون عني بما تقربوا به إلي.
قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) *. [الآية: 82].
قيل آمنوا: أيقنوا أن النجاة في سعادة الأزل، وأنه ليس في الطاعات إلا اتباع الأمر
فيها، وعملوا الصالحات اتقوا من صالح أعمالهم لعلمهم بقصورها عن حقيقة تعبده،
أولئك هم الواصلون إلى الرضوان الأكبر زيادة في قوله تعالى * (توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) * أي: امنعوها عن الاشتغال بعبادة غيره.
وقيل: اقتلوا أنفسكم في طاعته ثم توبوا إليه من أفعالكم وأقوالكم وطاعاتكم.
وقال أبو منصور: توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم قال: التوبة محو البشرية وإثبات
الإلهية وقتل النفس عما دون الله وعن الله حتى يرجع إلى أصل القدم ويبقى الحق كما
لم يزل.
وقال تعالى: * (وإن يأتوكم أسارى) * [الآية: 85].
قال أبو عثمان: وإن يأتوكم غرقى في رؤية أفعالهم تنقذوهم من ذلك برؤية المنن.
قال الجنيد رحمه الله: وإن يأتوكم أسارى في أسباب الدنيا تنقذوهم إلى قطع
العلائق والأسباب فإن الحق أبى أن يتجلى لقلب متعلق بشيء.
وقال بعض البغداديين: وإن يأتوكم أسارى في صفاتهم ونعوتهم تفادوهم أي تخلوا
عنهم وثاق صفاتهم بصفات الحق ونعوته.
قوله تعالى: * (قلوبنا غلف) * [الآية: 88].
أي: حرم قسم السعادة لها في الأزل.
قوله تعالى: * (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) * [الآية: 96].
قال بعض الخراسانيين وهو محمد بن الفضل: لعلمهم بما قدموا من الآثام والخلاف
وهذا حال الكفار فواجب على الموحى أن يكون حاله ضد هذا أن يكون مشتاقا إلى
62

الموت لمكاشفة الغيوب ودفع حجاب الوحشة والوصول إلى محل الأنس، ألا ترى النبي
صلى الله عليه وسلم يقول: ' من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه '. وأن بلالا لما حضر قالت امرأته:
واحزناه فقال: يا واطرباه غدا نلقى الأحبة... الحديث.
قال الواسطي رحمه الله: جعل الموت يقظة للعالم فمن هابه حجب عن المميت ومتى
تكون في قلبك هيبة إذا هبت طوارق الموت.
قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها) * [الآية: 106].
ما نقلتك من حالة إلا أوصلناك إلى مقام أشرف منها وأعلى إلى أن تنتهى بك
الأحوال إلى محل الندامى والخطاب من غير واسطة بقوله * (دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى) *
قوله تعالى: * (بلى من أسلم وجهه لله) * [الآية: 112].
أي: أخلص وجهه عن أعمالهم من الربا: والشرك الخفي، وقيل أسلم وجهه لله
أي: أعتق وجهه عن عبودية غيره وهو محسن أي: وهو يحسن آداب العبودية فله أجره
عند ربه بدوام المعونة له من رضاه، ولا خوف عليهم في فوت حظهم من الحق، ولا
هم يحزنون بأن يشغلهم عنه بالجنة.
قوله تعالى: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * [الآية: 115].
قال أبو منصور: وجهه حيث توجهت وقصده أين قصدت وقال أيضا: هذا مثل
إبداء الحق للخلق كمثل الهلال يرى من جميع الأقطار، ويحتجب بالرسوم والآثار، فإذا
ارتفعت الرسوم صار ناظرا لا منظورا، وقال بعض البغداديين: القصد توجهك
والطريقة إليه استقامتك منك بفهمك وعنك بعلمك، ارتبط كل شيء بضده وانفرد
بنفسه.
63

قال تعالى: * (بديع السماوات والأرض فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * قال
بعض البغداديين: كل صنع صنعه ولا علة لصنعه ليس لكانه كان، لأنه قبل الكون
والكان وأوجد الأكوان بقوله كن.
قوله تعالى: * (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) * [الآية: 118].
قال الواسطي: قد كلمتهم حيث أنزلت عليهم خطابي فلم يفهموا، وأي آية أشرف
من محمد صلوات الله وسلامه عليه؟ وقد أظهرت لهم ذلك...
قوله: * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) * [الآية: 124].
قال بعضهم: أشد ما ابتلى الله به إبراهيم عليه السلام أن حمله أثقال الخلة، ثم
طالبه بتصحيح شرائطها، وتصحيح شرائط الخلة التخلي مما سواه ظاهرا وباطنا.
قوله تعالى: * (إني جاعلك للناس إماما) *.
أي: جاعلك سفيرا بيني وبين خلقي لتهديهم لاستصلاح الحضرة وهذا هو الإمامة.
وقال أبو عثمان: الإمام هو الذي يعاشر على الظاهر، ولا يؤثر ذلك فيما بينه وبين
ربه بسبب كالنبي صلى الله عليه وسلم كان قائما مع الخلق على حد الإبلاغ قائما مع الله على المشاهدة.
قوله تعالى: * (ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) *.
قطع بهذا أن يكون أحد يصل إليه بسبب أو نسب، إلا برضا الأزل وسبق العناية.
قوله تعالى: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) * [الآية: 125].
أي: مفزعا للمذنبين وأمنا أي: من دخله من المؤمنين حافظا لحدود الله فيه آمن من
نار جهنم.
سمعت منصورا يقول بإسناده عن جعفر عليه السلام قال: البيت ها هنا محمد
64

صلى الله عليه وسلم فمن آمن به وصدق برسالته دخل في ميادين الأمن والأمانة
قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) *.
قال بعض العراقيين: العمل لا يبلغ إلا إلى مخلوق مثله، وأعظم حجاب العارفين
الجنة والاشتغال بها عن الحق هي المصيبة العظمى، لأن الجنة خرجت من تحت ' كن '.
وقال بعضهم: العارفون في الجنة لا يستلذون بشيء منها، لأن الحق إذا استولى على
سر لا يملكه سواه.
قوله تعالى: * (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) * [الآية: 131].
أي: أخلص سرك فإنه موضع الاطلاع منك.
* (قال أسلمت) * أي: أسلمت إليك سري فأخلصه لي فإنك أولى به مني.
وقيل: أسلم: أي: أظهر شرائط موافقة الخلة في حالي سرائك وضرائك ليعلم الحق
منك ما تعلمه.
* (قال أسلمت) * أي: ها أنا ذاك واقف أنتظر موارد اختلاف الأحوال لأقابلها
بمعونتك مقابلة الخليل ما يرد عليه من خليله.
وقيل: إن العرب تقول: أسلم. أي: استأنس، وكأن الله يقول: استأنس فإن مثلك
لا يحمل الطوارق بمحن الحوادث بل يحدث إلى الاستغراق في بلايا القدم فيقول:
أسلمت أي: استأسرت وما زلت مذ كنت في أسر جبروتك وقهر عزك.
65

سمعت النصر آباذي يقول: سمعت الروذباري يقول: سلامة النفس في التسليم
وبلاؤها في التدبير.
قوله تعالى: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) *.
قال الجنيد: ظاهر علم الاستسلام سقوط المسافة والمدة من البعد، فليس يجدون في
66

إشاراتهم كلفة ولا في ذكرهم الذي به يقربون مؤونة، لأنه استولى من قربه واكتنافه
لهم والتحنن عليهم والبر بهم، لأنه قد أراح عنهم أسباب الطلب.
قال الواسطي رحمه الله: في قوله: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) * الآية.
قال ثم بين أن الخطاب على مقادير العقول ألا ترى كيف بين علمه في آخر الآية
[143] * (وما أنت بتابع قبلتهم) * إحكاما منه في صنعه وما جرى من ضبطه.
قال فارس: قوله اجعلنا مسلمين قال: أرحنا عن أسباب الطلب بالحيل ومطالعة
الجزاء بالعوض.
وقال جعفر في قوله: * (اجعلنا مسلمين لك) * قال: احفظني وأهل بيتي كي نسلم
أنفسنا وقلوبنا إليك، ولا نختار إلا ما تختاره لنا وقال أيضا: اجعلنا مقيمين معك لك.
قوله تعالى: * (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) * [الآية: 132].
قيل أوصاهم بالمجاوبة إلى الاستسلام الذي امر به فصح من إبراهيم صلى الله عليه وسلم فكما ابتلى
بذبح ابنه لم ينظر إليه، لأنه كان أسلم وصح له التسليم فمضى فيه من غير نظر إلى
الولد حتى فدى، ولما لم يصح ليعقوب عليه السلام ما صح للخليل رجع إلى جد الجزع
حين فقد ابنه وقال يا أسفي على يوسف.
قوله تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) * [الآية: 144].
قيل فيه أعلمه أولا أنه من الحق ليكون متأدبا بآداب الحق ومن حسن أدبه أنه نظر
67

نحو السماء لم يشك فأجيب على نظره إلى مراده.
قوله تعالى: * (فلنولينك قبلة ترضاها) *.
أخبره بعد أن أجابه إلى مراده، إن مرادك يخالف مرادنا لأن إرادتنا فيك نقلك إلى
الكعبة وثباتك عليه وجعلها قبلة لك ولأمتك لتعلم أن رضاك لا يخالف رضانا أبدا.
قوله تعالى: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) *.
قال بعض العراقيين: ترسم معهم برسم الظاهر في استقبال الكعبة ببدنك، ولا
تقطع قلبك عن مشاهدتنا فإنا جعلنا الكعبة قبلة بدنك ونحن قبلة قلبك.
قوله عز وجل: * (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) * [الآية: 154].
قيل: لأنهم مقتولون في الحق، ومن كان مقتولا فيه كان حياته ولكن لا تشعرون،
أي لا يعلمه من نظر إلى الجهاد بعين التدبير ولم ينظر إليه بعين الرضا.
قوله عز وجل: * (اذكروني أذكركم) *.
قال الواسطي: حقيقة الذكر في الإعراض عن الذكر ونسيانه والقيام بالمذكور.
وقال بعض العراقيين في قوله: * (اذكروني أذكركم) * قال: لك نسيبة من الحق
يتحمل بها الموارد وهو ذكره إياك، فلولا ذكره إياك ما ذكرته. وقيل: اذكروني بجهدكم
وطاقتكم لأقرن ذكركم بذكري فيتحقق لكم الذكر.
قال سمنون: حقيقة الذكر أن ينسى كل شيء سوى مذكوره، لاستغراقه فيه
فيكون أوقاته كلها ذكرا وأنشد:
(لا لأني أنساك أكثر ذكراك
* ولكني بذاك يجري لساني
*
وقال بعض البغداديين: الذكر عقوبة لأنه طرد الغفلة ولو لم يكن غفلة فلا معنى
للذكر. وقال بعض المتأخرين من أهل خراسان: كيف يذكر الحق بعقول مصنوعة
68

وأوهام مطبوعة؟ وكيف يذكر بالزمان من كان قبل الزمان على ما هو به؟ إذ الحق سبق
كل مذكور. وقيل: اذكروني على الدوام لتطمئن قلوبكم بي، لأنه يقول: * (ألا بذكر
الله تطمئن القلوب) *.
وقال بعضهم: أتم الذكر أن تشهد ذكر المذكور لك بدوام ذكرك له، قال الله جل من
قائل: * (اذكروني أذكركم) *.
قوله تعالى: * (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس
والثمرات) * [الآية: 155].
سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: سمعت المديني
يقول: سمعت الشافعي يقول: الخوف خوف العدو، والجوع شهر رمضان، ونقص من
الأموال: الزكاة، والأنفس: الأمراض، والثمرات: الصدقات، وبشر الصابرين على
أدائها.
قوله تعالى: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) * [الآية: 158].
قيل: إن من صعد الصفا ولم يصف سره لله لم يبن عليه من شعائر الحج شيء،
ومن صعد المروة ولم تبين له حقائق المغيبات لم يظهر عليه من شعائر الحق شيء.
وقيل الصفا موضع المصافاة مع الحق، فمن لم يتجرد لمصافاة الحق معه فليعلم
بتضييع أيامه وسعيه في حجه. سمعت منصورا يقول بإسناده عن جعفر قال: الصفا:
الروح لصفائها من درن المخالفات والمروة: النفس لاستعمالها المروءة في القيام بخدمة
سيدها وقال: الصفا صفاء المعرفة والمروة مروءة العارف. وقال الصفا التصفية من
كدورات الدنيا وهوى النفس، والسعي هو الهرب إلى الله، فإذا اجتمع سعيك بالهرب
إلى الله فلا تبطله بالنظر إلى غيره.
قوله عز وجل: * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.
قال ابن عطاء: لا خوف عليهم عند الموت لما يلقون من البشرى، ولا هم يحزنون
على ما خلفوا من الأهل والأولاد؛ لعلمهم بأن الله تعالى خليفته عليهم.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) * [الآية: 172].
الطيبات: الرزق وهو التناول في أوقات الاضطرار مقدار استبقاء المهجة لأداء
69

الفرائض وهو الذي لا تبعة على أكله بحال.
قوله تعالى: * (والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) * [الآية: 157].
قال القاسم: هذه إشارة تدعو إلى الرضا بالقسمة والصبر على المحنة. قال: تحت
كل محنة نعمة وتحت كل أنوار النعمة نيران المحبة، ومدح قوما فقال: إذا أصابتهم
مصيبة سبقت الأمور بما جرت به الدهور لا يرد ذلك تقوى متق ولا عصيان عاص.
[قوله: * (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) *.
السلم هو الرضا بالقضاء قاله الجنيد.
وقال ابن عطاء: السلم اتباع الأوامر واجتناب النواهي.
وقال أبو عثمان: السلام هو المحمود تحت مجدي القدرة لك وعليك].
قوله تعالى: * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) * [الآية: 165].
قال القاسم: ومن أخرجناهم من جملة الخطاب الخاص بمخاطبة الإيمان أقواما
يتخذون أهواءهم آلهة يعبدونها ويحبونها * (والذين آمنوا أشد حبا لله) * منهم لأهوائهم
يرون البلاء من الله نعمة ولا يحجزهم عن محبتهم لربهم ترادف التجني عليهم بأن
يزيدهم بذلك محبة لهم، فلذلك قال: * (والذين آمنوا أشد حبا لله) *.
قوله تعالى: * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) * [الآية: 177].
قال بعضهم: الوفاء بالعهد لزوم الحدود والرضا بالموجود والصبر على المفقود.
قوله تعالى: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * [الآية: 185].
قيل: أنزله فيه بتفضيله وتخصيصه من بين الشهور وافتراض الصوم فيه، واستنان
القيام في لياليه بالقرآن.
قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) *.
من شهدني وشهد أمري فليصم أوقاته كلها عن المخالفات ومن شهد الشهر على
رؤية التعظيم فليمسك فيه عن الهوى واللغو والهم، ومن شهد على رؤية التعظيم
فليمسك فيه عن الهوى واللغو والهم ومن شهد على رؤية فعله وصومه فليس لله فيه
حاجة في ترك طعامه وشرابه وهو كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ' رب صائم حظه من
70

صيامه الجوع '.
قوله تعالى: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * [الآية: 186].
قال سهل: أدنى مقامات القرب الحياء من الله عز وجل.
قوله تعالى: * (الحج أشهر معلومات) *.
قال النصرآباذي: وقت الله عز وجل العبادات بأوقات ليتأهب العبد لها قبل أوقاتها
بالآداب الظاهرة ولم يوقت المعرفة بوقت لئلا يخلى العبد سره عن مراقبة المشاهدة
بحال.
قوله تعالى: * (فاتقون يا أولي الألباب) * أي: أقبلوا علي أصحاب الفهوم السليمة
واعقلوا عني.
قال الواسطي: هم من الخصوص خصوص لم يجعل للعموم فيهم طريقا.
قوله تعالى: * (واذكروه كما هداكم) * [الآية: 198].
إلى ذكره وجعلكم من أهله * (وإن كنتم من قبله لمن الضالين) * عن ذكره.
قوله تعالى: * (ثم أفيضوا نت حيث أفاض الناس) * [الآية: 199].
قال ابن عطاء: إذا عمرتم بواطنكم بذكرى واستفرغتم الوسع فيه، فارجعوا إلى ما
رجع إليه العام من القيام برسوم العبودية، واستغفروا الله عن اشتغالكم بغيره، إن الله
غفور للمطيعين تقصيرهم في طاعته، رحيم بالعاصين أن يردهم برحمته إلى بابه.
قوله تعالى: * (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم) * [الآية: 235].
أي: علم ما في أنفسكم قبل أن يخلقكم فاحذروه أي: فاحذروا أن يكون في
أسراركم سواه فيعرض عنكم.
71

قوله تعالى: * (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) *.
قال ابن عطاء: خيانة النفس الوقوف معها حيث ما وقفت.
قوله تعالى: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم) *.
قيل: معناه إنك تذكر إحسان أبيك إليك فتذكره بذلك أبدا، وإحساني إليك أقدم
وأكثر فاذكرني كما تذكر أباك.
وقيل هو الذي أوجد أباك وألقى في قلبه رحمتك، فذكر ولي النعم الأول أولى.
وقال بعضهم: اذكرني بالنعماء يرى عليك مني روائد الآلاء فاذكروني بالخوف تجدني
أمانا لك عند المخاوف، واذكرني بالعبودية الخالصة أقبلك على شرائط السلامة عاجلا
وآجلا، واذكرني بي أوصلك إلي فإن من ذكرني لرغبة أو رهبة أعطيته مرغوبه وأمنته
من مرهوبه، ومن ذكرني لي كنت له عوضا من الكل، ومن كنت له فالأكوان كلها في
أسره.
قال الواسطي: ذكر عارضي ودعا عادتي كيف ترجى بركته أو نموه وزيادته.
قوله تعالى: * (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة) *.
الإعراض عنها * (وفي الآخرة حسنة) * ترك الاشتغال بها * (وقنا عذاب النار) * وقنا
نيران عذاب شهواتنا فإن من شغل عنك مشؤوم، وقيل: العلم والعبادة، وقيل: الرزق
الحلال، وقيل: صحة الجسد.
قال الواسطي: في الدنيا حسنة الغيبة عن كل مصطلح من الحق وفي الآخرة حسنة
الغيبة عن رؤية الأفعال والرجوع إلى الفضل والرحمة.
وقال ابن عطاء: القناعة في الرزق والرضا بالقضاء.
وقال جعفر: صحبة الصالحين.
وقال بعضهم: في الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية.
قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) * [الآية: 210].
قال جعفر: هل ينظرون إلا إقبال الله عليهم بالعصمة والتوفيق فيكشف عنهم أستار
الغفلة، فيشهدون بره ولطفه بل ويشاهدون البار الرحيم اللطيف.
قوله تعالى: * (وقضي الأمر) *.
وكشف عن حقيقة الأمر ومغيبه.
72

قوله تعالى: * (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) * [الآية: 212].
قال جعفر: زين للذين جحدوا التوكل بزينة الحياة الدنيا حتى جمعوها وافتخروا بها،
ويسخرون من الذين آمنوا، من الذين توكلوا على الله في جميع أمورهم، ونبذوا
تدابيرهم وراء ظهورهم، وأعرضوا عنها وهم الفقراء الصبراء الراضون.
قوله تعالى: * (قل فيهما إثم كبير) *.
أي: في تناولهما، ومنافع للناس في تركهما.
قوله تعالى: * (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) *
[الآية: 219 - 220].
أنهما على فكر وخدعة، ألا ترى أن طاوسا وسالما قرءا: * (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) * فقال: لو علموا عمن شغلوا ما هناهم ما اشتغلوا به. وقال
بعضهم: وقد تغير قوم بالحضرة وهم لا يعلمون.
قوله تعالى: * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) *.
هذا خطاب للخاص لأنه لا زاد للعارف سوى معروفه، ولا للمحبوب سوى حبيبه
وأنشد:
(وإذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا
* كفى لمطايانا بذكراك هاديا
*
وقيل: تزودوا فإن خير الزاد الثقة به.
قوله تعالى: * (إن الله يحب التوابين) *.
المقيمين على توبتهم والمتطهرين من جميع ما تابوا منه.
وقال بعضهم: يحب التوابين من تقصير طاعاتهم، ويحب المتطهرين من أحوالهم
73

وهم القائمون مع الله بلا علاقة ولا سبب.
وقال جعفر: يحب التوابين من سوء إرادتهم ويحب المتطهرين من إراداتهم.
وقال محمد بن علي: التوابين من توبتهم والمتطهرين من طهارتهم. وقال أبو يزيد
رحمة الله عليه: التوبة من الذنب واحد ومن الطاعة ألف وقال القاسم: إن الله يحب
التوابين إن دامت توبتهم، ويحب المتطهرين إن دامت طهارتهم ليكون العبد على وجل.
سمعت النصرآباذي يقول: إن الله أثنى عليكم وجعل لكم قيمة حين قال: * (إن الله يحب التوابين) *.
قوله تعالى: * (وأنتم عاكفون في المساجد) *.
قال الواسطي: الإعتكاف حبس النفس وزم الجوارح ومراعاة الوقت ثم أينما كنت
فأنت معتكف.
وقال بعضهم: أهل الصفوة معتكفون بأسرارهم عند الحق لا يؤثر عليهم من حدثان
الحوادث شيء لاستغراقهم في المشاهدة.
قوله تعالى: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) *.
قال: ملكك ثم اشترى منك ما ملكك ليثبت معك نسبه ثم استقرض منك ما اشتراه
ثم وعدك عليه من العوض أضعافا، بين فيه أن نعمه وعطاياه بعيدتان أن تكونا مشوبتين
بالعلل.
قوله تعالى: * (إن الله يقبض ويبسط) *.
قال ابن عطاء: يقبضك عنك ويبسطك به وله.
قال أبو الحسين النوري: في قوله: * (يقبض ويبسط) * قال: الله: يقبضك بإياه
ويبسطك لإياه.
وقال الواسطي: يقبضك عما لك ويبسطك فيما له.
وقال بعض البغداديين في قوله: * (يقبض ويبسط) * قال: يقبض أي يوحى أهل
صفوته من رؤية الكرامات، ويبسطهم بالنظر إلى الكريم.
قوله عز وجل: * (وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) *
[الآية: 246].
74

قال فارس: لا يتجرد للحق من هو قائم مع الحق بسبب أو علاقة أو سكون أو
مسكن.
قوله تعالى: * (إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني) * [الآية: 249].
قال أبو عثمان: معنى هذه الآية إن هذا مثل ضربه الله للدنيا وأهلها أن من اطمأن
إليها وأكثر منها فليس من الله في شيء، ومن أعرض عنها ومقتها فهو الذي هيأه الله
لقربه إلا من تناول منها بمقدار ما يقيم صلبه للطاعة.
قوله تعالى: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * [الآية: 253].
قال أبو بكر الفارسي الصوفي: ما خلق الله عز وجل إلا متفاضلا ومتفاوتا أقدارهم
حتى الرسل قال الله تعالى * (تلك الرسل فضلنا بعضهم) * ليعلم بذلك نقص الخلق
وكماله جل وعلا.
قوله تعالى: * (فشربوا منه إلا قليلا منهم) *.
وهم الذين حفظهم من وساوس الشيطان لقوله: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) *.
قوله عز وجل: * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * [الآية: 255].
سئل أبو منصور عن هذا فقال: لا إله إلا الله يقتضي شيئين: إزالة العلة عن الربوبية
وتنزيه الحق عن الدرك.
وقال بعضهم: يحتاج قائل لا إله إلا الله إلى أربع خصال: تصديق وتعظيم وجلاوة
وحرمة، فمن لم يكن له تصديق فهو منافق، ومن لم يكن له تعظيم فهو مبتدع، ومن
لم يكن له جلاوة فهو مراء، ومن لم تكن له حرمة فهو فاسق.
وقال بعضهم: يحتاج قائلها أن يترك الشكوى في وقت المحن، ويترك المعصية في
وقت النعمة، ويترك الغفلة عند الفكرة.
وقيل لأبي الحسين النوري: لم لا تقول: لا إله إلا الله فقال: بل أقول: الله ولا
أبغي به ضدا.
وقال بعضهم: من قالها وفي قلبه رغبة أو رهبة أو طمع أو سؤال فهو مشرك في
قوله.
75

وقيل في قوله: * (الحي القيوم) * اجعله مراقبا في قيوميته عليك وعلى جميع العالم.
وقيل: إنه قيوم بحفظ أذكاره على أسرار أهل صفوته، الحي القيوم الذي أحيا كل
حي عن عدم، وهو الحي الذي لم يزل.
والقيوم: القائم على كل نفس بما كسبت، وقيل: القيوم القائم بكفاية عباده ليغنيهم
به عن غيره.
قوله تعالى: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) *.
قال بعض البغداديين: وأنى تأخذ السنة من كان ولا سنة وأوجد السنة قهرا لعباده
ونقصا ارتبط الأشياء بأضدادها وانفرد هو عن الأحوال لأنه محولها.
قوله تعالى: * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) *.
جذب به قلوب عباده إليه في العاجل والآجل.
وقال الواسطي: لو جعل إلى نفسه وسيلة غير نفسه كان معلولا، ومن تزين
بإخلاصه ومحبته ورضاه توسل بصفاته إلى من لا وسيلة إليه إلا به، قال الله تعالى
* (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) *.
قوله تعالى: * (ولا يحيطون بشيء من علمه) *.
صار علمه عزا لا إحاطة بشيء منه إلا ما خص به رسول الله أو صديقا من علم
لدني.
قوله تعالى: * (وسع كرسيه السماوات والأرض) *.
العرش والكرسي إظهارا للقدرة لا محلا للذات.
76

وقال أبو منصور في قوله * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * قال: وأي الشفيع إلى
من لا يسعه غيره ولا يحجبه سواه.
قوله تعالى: * (ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم) *.
وصف نفسه بالامتناع عن اعتراض القواطع والعلل.
قوله تعالى: * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) * [الآية: 256].
قال: طاغوت كل امرىء نفسه.
وقيل الطاغوت كل ما سوى الله جل وعز، وفي الجملة إن كل من لم يتبرأ من الكل
لم يصح له الإيمان بالله عز وجل.
قوله تعالى: * (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) *.
والعروة الوثقى: التوفيق في السبق، والسعادة في الختم.
وقيل العروة: لا إله إلا الله.
وقيل العروة الوثقى: محمد صلى الله عليه وسلم وقيل العروة الوثقى: السنة.
قوله تعالى: * (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) * [الآية: 257].
قال ابن عطاء: يغنيهم عن صفاتهم بصفته فيتدرج صفاتهم تحت صفاته كما اندرجت
أكوانهم تحت كونه وحقوقهم عند ذكر حقه، فيصير قائما بالحق مع الحق للحق.
وقال الواسطي رحمه الله: يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى أنوار ما جرى لهم في
السبق من الرضا والصدق والمحبة وغيرها.
وقال النوري: يخرجهم من ظلمات العلم إلى نور المشاهدة، لأن المعاين ليس في الخبر.
وقال الجنيد رحمه الله: يخرجهم من ظلمات أوصافهم إلى أنوار صفاته.
وقال أبو عثمان: يخرجهم من رؤية الأفعال إلى رؤية المنن والاتصال.
قوله عز وجل: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * [الآية: 259].
لم أرى إبراهيم إحياء الموتى في غيره وأرى عزير في نفسه؟ قيل: لأن الخليل تلطف
في السؤال فقال: أرني وأري في الغير وتعجب عزير في القدرة فأخرجه بلفظه أنى
يحيي فأري في نفسه ليسقط عنه التعجب في القدرة، ألا ترى أنه ختم قصته بالإيمان
77

* (أعلم أن الله على كل شيء قدير) *، وختم قصة الخليل بلفظ العزة والحكمة فقال:
* (واعلم أن الله عزيز حكيم) * [الآية: 260] لأن الخليل سأل إظهار الحكمة ومشاهدة
العزة وعزير تعجب من القدرة فأجيب كل أحد من حيث سأل.
سئل ابن عطاء لم أرى إبراهيم إحياء الموتى في غيره؛ وأري عزير في نفسه فقال:
لأن الخليل تلطف في السؤال فقال: أرني، وتعجب عزير من القدرة فأري ذلك في
نفسه تأديبا.
قوله تعالى: * (أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) *
[الآية: 260].
سمعت أبا القاسم النصرآباذي سئل عن هذه الآية فقال: حن الخليل إلى صنع خليله
ولم يتهمه.
وقال بعضهم: مرادي في هذا السؤال مخاطبتك واستجلاب معاتبتك لكي لا تقول
لي: أولم تؤمن وأنت أعلم بي مني فأحيا بعتابك كما يسعدني خلتك، وكان جواب
هذا السؤال إني كنت اشتقت إلى عياننا، فإنا جعلنا مشيئتنا في إحياء الموتى إليك فخذ
أربعة من الطير فصرهن إليك.
وقيل: إنه كان الطاوس والبط والغراب والديك والمعنى فيه أن الطاوس أشبه الطيور
بزينة الدنيا، والغراب أحرص الطيور والبط أطلبهم لرزقه، والديك أشدهم شهوة وكأنه
يقول: اقطع عنك زينة الدنيا والمفاخرة بها والحرص عليها وطلب الرزق فيها وإزالة
الشهوة منها؛ حتى تنال كمال حقيقة الإيمان، فإذا أسقطت عن نفسك هذه الخصال،
حليتك بصفتي في إحياء الموتى فتدعوهن فيجيبنك سعيا إليك، لأنك في ذلك الوقت
خال من صفاتك، وإنما دعوتهن بصفتنا التي حليناك.
وقيل أري الخليل من نفسه الشك، وما شك ليقابل بالجواب الشك ليزيده به قربة
وكذلك الخليل يحتال في محاورة خليله أبدا فلما قيل له: أولم تؤمن قال: بلى ولكن
اشتقت إلى خطابك فأنزلت نفسي منزلة الشك لأنال لذيذ خطابك، ولكن ليطمئن قلبي
فإن أكن محلا لعتابك فإنه قيل: ' ويبقى الود ما بقي العتاب '.
وقيل في قوله: ' أنى ' كيف تحيي الموتى قال: أنا أحيي الموتى بالربوبية، ولا يكون
في الربوبية كيف، وكيف تدرك بصفات العبودية صفات الربوبية!
وقال بعضهم: هذا سؤال على شرط الأدب كأنه يقول: أقدرني على إحياء الموتى،
78

يدل عليه قوله * (أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * والطمأنينة لا تكون ضد
الشك، فقوله ولكن ليطمئن قلبي عن هذه الشهوة والمنية.
وقال بعضهم: أراد أن يصير له علم اليقين وعين اليقين فقيل له: أولم تؤمن،
والإيمان غيبي في علم اليقين فقال: بلى ولكن أسألك مشاهدة الغيب.
وقيل أرني كيف تحيي الموتى، يعني: القلوب الميتة عنك بإحيائها بك، فقيل: أولم
تؤمن أي ألست الذي كنت تستدل علينا بالشمس والقمر وأفعالنا فأسقطنا عنك علة
الاستدلال، وكفا دليلك علينا: وقال سهل بن عبد الله: سأل كشف غطاء العيان.
ليزداد بنور اليقين يقينا وتمكنا في حاله ألا تراه كيف أجاب عن لفظ الشكر ببلى.
وقيل: إنه أجاب المشركين عن التوحيد بقوله * (ربي الذي يحيي ويميت) * أحب
أن يشاهد ذلك من صنع خليله؛ ليصح احتجاجه عيانا.
وقيل: ولكن ليطمئن قلبي أي أنك تجيبني إلى سؤالي.
قال بعضهم: إذا سكن العبد إلى ربه واطمأن إليه؛ أظهر الله عليه من الكرامات ما
أقلها إحياء الموتى، قال الله تعالى لإبراهيم: * (خذ أربعة من الطير) *.
قوله تعالى: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) * [الآية: 264].
قال السري: من تزين بعمله كانت حسناته سيئات، فكيف من رأى له قيمة وطلب
عليه العوض؟
قوله تعالى: * (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) * [الآية: 270].
قال الواسطي: أشار به إلى قوم لا يضرهم ولا ينفعهم مال ولا بنون، فإن الله بعلمه
يعلم من يختم له بخير.
قوله تعالى: * (يؤتي الحكمة من يشاء) * [الآية: 269].
قال بعضهم: الحكمة: العلم اللدني.
وقيل: الحكمة إشارة لا علة فيها.
وقيل: الحكمة إشهاد الحق على جميع الأحوال.
وقيل: الحكمة تجريد السر لورود الإلهام.
79

وقال أبو عثمان: الحكمة هي النور المفرق بين الإلهام والوسواس سمعت منصور بن
عبد الله يقول: سمعت الكتاني يقول: إن الله بعث الرسل بالنصح لأنفس خلقه
وأنزل الكتاب لتنبيه قلوبهم، وأنزل الحكمة لسكون أرواحهم، فالرسول داع إلى أمره،
والكتاب داع إلى أحكامه والحكمة مشيرة إلى فضله.
وقال القاسم: الحكمة أن يحكم عليك خاطر الحق ولا يحكم عليك شهودك.
وقيل يؤتي الحكمة من يشاء، الفهم في كتاب الله، ومن أوتي فهم كتاب الله أعطي
عطاء عظيما من قربه.
وقال أبو العباس بن عطاء: يؤتي الحكمة من يشاء إنها النبوة وذلك قوله: * (وآتيناه
الحكم والنبوة) * قال الجنيد رحمة الله عليه: أحيا الله أقواما بالحكمة ومدحهم عليها
فقال: * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * سمعت عبد الله المعلم يقول: سمعت
عبد الله بن المبارك يقول: الحكمة هي الحسنة.
قوله تعالى: * (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) * [الآية: 272].
قيل: ما يبدو منكم من الطاعات والمجاهدات فلأنفسكم، لا يصل إلي من ذلك
شيء وهو قوله: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) *.
وقيل أيضا في هذا المعنى: نعمي وعطائي لمن تستجلبه الحوادث والطاعات، لأن
نعمي وعطائي تفضل، والعلل وهن في التفضيل ابتدأت عبادي بالنقم، والمبتدىء بالنعم
لا يكون عن عوض ولا عن علة.
وقيل: ما يكون منكم فهو لكم، لأن الصمدية ممتنعة عن أن توصل إليه شيء
سواه.
قوله تعالى: * (الشيطان يعدكم الفقر) * [الآية: 268].
أي الحرص والله يأمركم بالقناعة وقيل: الشيطان يعدكم الفقر أي: البخل والحرص.
80

والله يأمرك بالإنفاق والسخاء وهو الغني لأن الله يعدل عليه مغفرة وفضلا.
وقال محمد بن الفضل: الشيطان يعدكم في السخاء ويأمركم بالفحشاء وهو البخل،
والله يعدكم في السخاء مغفرة منه وفضلا.
وقال أبو عثمان: الشيطان يعدكم الفقر على ترك الدنيا والإعراض عنها، والله يعدكم
على ذلك مغفرة منه وفضلا.
وقال محمد بن علي عليهما السلام: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء وهي
عمارة داره، والله يعدكم مغفرة منه وهو جزاء عمارة المآب وفضلا وهو الاستغناء به عن
كل ما سواه.
قال أبو بكر الوراق في قوله: * (الشيطان يعدكم الفقر) * فقال: ينبغي للعبد أن
يعلنه بذكر منن الله عنده وأفضاله عليه.
قوله تعالى: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) * [الآية: 273].
قال: هذه صفة الذين حبسوا أنفسهم على الله من غير تعريض ولا إظهار جزع إلا
إلى الله، فاتقوا السؤال إلا منه، فارتقت بهم أحوالهم إلى حالة يستغنون بعلم الله بهم
عن السؤال إياه وهو أحوال الرضا.
سمعت الحسن بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد
81

رحمه الله يقول: وسئل عن الفقير الصادق متى يكون مستوجبا لدخول الجنة قبل
الأغنياء بخمس مائة عام؟ قال: إذا كان الفقير معاملا لله بقلبه موافقا له في جميع
أحواله منعا وعطاء، يعد الفقر من الله نعمة عليه، يخاف على زواله كما يخاف الغني
على زوال غناه وكان صابرا محتسبا مسرورا باختيار الله له الفقر، صائنا لدينه كاتما لفقره
يظهر الإياس من الناس، مستغنيا بربه في فقره كما قال عز من قائل * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) * الآية، قال: إذا كان الفقير بهذه الصفة دخل الجنة قبل
الأغنياء بخمسمائة عام، ويكفى في يوم القيامة مؤنة الموقف.
وقيل في قوله: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) * قال: الذين وقفوا مع الله
بهممهم، فلم يرجعوا منه إلى غيره.
قوله تعالى: * (لا يستطيعون ضربا في الأرض) *.
لا يتحركون لطلب الأرزاق.
وقال محمد بن الفضل في هذه الآية: تمنعهم علومهم عن رفع حوائجهم إلى
مولاهم.
قوله تعالى: * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) *.
قال ابن عطاء: يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء في الظاهر، وهم أشد الناس افتقارا
إلى الله في الظاهر واستغناء به في الباطن.
وقال أيضا: سموا جهالا لجهلهم بالفقر والغنا، ولتوهمهم أن الفقر قلة الشيء
82

والغناء كثرته، ولم يعلموا أن الفقر هو الفقر إلى الله والغناء هو الاستغناء به.
قوله تعالى: * (تعرفهم بسيماهم) *.
قال: بطيب قلوبهم وحسن حالهم وبشاشة وجوههم ونور أسرارهم وجولان
أرواحهم في ملكوت ربهم.
وقال النوري: تعرفهم بسيماهم، بفرحهم بفقرهم واستقامة أحوالهم عند موارد
البلاء عليهم.
وقال أبو عثمان: تعرفهم بإيثار ما يملكون مع الحاجة إليه.
وقال المرتعش: سيماهم: غيرتهم على فقرهم وملازمتهم إياه.
قوله تعالى: * (لا يسألون الناس إلحافا) *.
قال الجنيد رحمة الله عليه كلت ألسنتهم عن سؤال من يملك الملك، فكيف من لا
يملك!
قوله تعالى: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * [الآية: 281].
قال الواسطي رحمة الله عليه: هذا ترهيب للعام فأما للخواص فقوله ' وأياي
فاتقون '.
83

قوله تعالى: * (لله ما في السماوات وما في الأرض) *.
قال ابن عطاء: لله الكونان هو مبدعهما من غير شيء، فمن اشتغل بهما استغل بلا
شيء عن كل شيء.
قال جعفر: لله ما في السماوات وما في الأرض، من اشتغل بهما قطعاه عن الله،
ومن أقبل على الله وتركهما ملكهما الله إياه.
قوله تعالى: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * [الآية: 284].
من الأفعال الظاهرة والأحوال الباطنة يحاسبكم به الله أي: يثيبكم عليه.
قال جعفر: ' وإن تبدوا ما في أنفسكم ' الإسلام أو تخفوه الإيمان.
قال الواسطي رحمة الله عليه: إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه من إرادة الكون أو
المكون يحاسبكم به الله أي بإرادتكم، فيغفر لمن يشاء لمن أراد الجنة ونعيمها، ويعذب
من يشاء من آثر الدنيا على الآخرة.
وقال علي بن سهل البوشنجي: إن تبدوا ما في أنفسكم من الأعمال، أو تخفوه
من الأحوال، يحاسبكم به الله العارف على أحواله والزاهد على أفعاله.
قوله عز وجل: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته) *
[الآية: 285].
قال ابن عطاء: إن النبي صلى الله عليه وسلم: معدن سر الحق، فإذا أظهره للعام أوقعه على شرائطه
قوله ' آمن الرسول بما أنزل إليه ' وإذا أخفاه أخبر عنه بقوله * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * وهو مستغرق أوقاته في انتظار ما يظهر عليه من الزيادات على روحه وسره
وفؤاده وقلبه وشخصه، ألا تراه كيف يغنيه عن صفاته بقوله: * (إنك ميت) * عن
صفاتك بحياتك بنا بإظهار صفاتنا عليك * (وإنهم ميتون) * عاجزون عن بلوغ درك
84

صفاتك، فإيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمان مكاشفة ومشاهدة وإيمان المؤمنين إيمان بالوسائط
والعلائق.
وقيل في قوله: * (والمؤمنون كل آمن بالله) * حكما وتسمية ولا المؤمن موجود ولا
الإيمان ظاهر.
* *
85

سورة آل عمران
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: * (ألم الله لا إله إلا هو) * [الآية: 1 - 2].
قيل: الألف من الأحدية واللام من اللطف والميم من الملك.
وقيل: الواحد اللطيف، الملك هو الله الذي لا إله إلا هو.
قال جعفر: الحروف المقطوعة في القرآن إشارات إلى الوحدانية والفردانية
والديمومية وقيام الحق بنفسه بالاستغناء عما سواه. قوله ' الحي ' هو الذي لا طول لحياته
ولا أمد لبقائه.
وقال بعضهم: ' الحي ' الكامل في ذاته لا بعلة وبه قيام كل منعوت بالحق.
قال بعضهم: ' الحي ' هو الذي به حياة كل حي ومن لم يحى به فهو ميت.
قوله تعالى: * (القيوم) * قيل: هو مزيل العلل عن ذاته بالدرك أو بالعبادة عنه أو
بالإشارة، فلا يبلغ أحد شيئا من كنه معرفته لأنه لا يعلم أحد ما هو إلا هو.
قوله تعالى: * (إن الذين كفروا بآيات الله) * [الآية: 4].
قال أبو سعيد الخراز: بإظهار كرامة الله تعالى على أوليائه، لهم عذاب شديد
بتعجيزهم الحق عن ذلك، والله عزيز يعز بولايته وإظهار الكرامة على من يشاء من
عباده ذو انتقام ممن يجحد ذلك.
وقال الواسطي: عزيز عن أن يخالف إرادته أحد، بل ينتقم بما يجري. نفى أن تكون
عقوبته مقابلة للأفعال المحدثة.
قوله تعالى: * (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) * [الآية: 5].
قيل: لا يخفى عليه شيء فطالعوا همومكم أن تكون خالية عن الأهواء والشبهات،
فإنه لا يخفى عليه شيء.
قال جعفر في قوله تعالى: * (إن الله لا يخفى عليه شيء) * قال: فلا يطلعن فيرى في
قلبك سواه فيمقتك.
قوله تعالى: * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) * [الآية: 6].
86

قيل: يصوركم عالما به وعالما بصفاته وعالما بأوامره وجاحدا له فمن يصحبه حزن ما
قدر عليه في وقت تصويره من الشقاوة والسعادة فهو الجاهل به والآمن مكره.
قال محمد بن علي: * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) * من الأنوار
والظلمات. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من
نوره فمن أصاب ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل '.
قال الحسين: خصوصية تصويره إياك قومك وسواك وعدلك وأنزلك منزلة
المخاطبين.
قوله تعالى: * (منه آيات محكمات) * [الآية: 7].
قال أبو عثمان: هو فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها.
قال محمد بن الفضل: هو سورة الإخلاص، لأنه ليس فيه إلا التوحيد فقط.
قوله تعالى: * (الراسخون في العلم) *.
قال الواسطي: هم الذين رسخوا بأزواجهم في غيب الغيب في سر السر فعرفهم ما
عرفهم، وخاضوا في بحر العلم بالفهم لطلب الزيادة، فانكشف لهم من مدخور
الخزائن تحت كل حرف منه من الفهم وعجائب الخطاب فنطقوا بالحكم. قال الخراز:
هم الذين كملوا في جميع العلوم وعرفوها واطلعوا على همم الخلائق كلهم أجمعين.
قال بعضهم: الراسخ من قورب روحه في ذاته، وكوشف بصفاته وخوطب بذاته.
قال بعضهم: الراسخ من طولع على محل المراد من الخطاب.
87

قوله تعالى: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) * [الآية: 8].
قال جعفر: لا تزغ قلوبنا عنك بعد إذ هديتنا إليك ' وهب لنا من لدنك رحمة ' أي
لزوما لخدمتك على شرط السنة ' إنك أنت الوهاب ' المعطي بفضله عباده ما لا يستحقون
من نعمة.
قال ابن عطاء: الزيغ: الميل إلى شيء سوى الحق.
قوله تعالى: * (إن الله لا يخلف الميعاد) * [الآية: 9].
الذي وعد من السعادة والشقاوة في أزل علمه، لا يخلف الميعاد لزهد زاهد ولا
لفسق فاسق.
قال الواسطي في قوله: * (إن الله لا يخلف الميعاد) * قال: في إنزال كل أحد ما كان
يطلبه من الأعواض، وإيصال الخصوص إلى محل الخاص من اللقاء والقرب.
قوله تعالى: * (والله يؤيد بنصره من يشاء) * [الآية: 13].
قال القاسم: يوفق من يشاء من عباده للزوم السنة وترك البدعة.
قوله تعالى: * (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين) * [الآية: 14].
قيل: من اشتغل بهذه الأشياء قطعته عن الحق، ومن استصغرها وأعرض عنها عوض
عليها السلامة منها وفتح له الطريق إلى الحقائق.
قوله: * (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات) * [الآية: 15].
قيل فيه: من عمل رجاء الجنة فإن غاية بلوغه إلى غاية رجائه من دخول الجنة، ومن
كانت معاملته على رؤية الرضا فإن له الرضوان. قال الله تعالى: * (ورضوان من الله أكبر) *.
قوله تعالى: * (والله بصير بالعباد) * قال: عالم بهمم العاملين وإراداتهم.
قوله تعالى: * (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) *
[الآية: 17].
قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: الصابر غير المتصبر، لأن الصابر المستسلم في كل
88

أموره ومساكن القلب فيه محفوظا، والمتصبر ما رددت فيه إلى حالك وعجزك يكابد
نفسه في الصبر على المكاره.
قال أبو حفص: الصبر ما كنت فيه محفوظا، والتصبر ما رددت فيه إلى حالك
وعجزك.
قال عمرو المكي: ليس الصبر ترك الاختيار على الله تعالى، لكن الصبر هو الثبات
فيه وتلقى بلاه بالرحب والدعة.
قال عمرو: من صبر على رؤية العوض يكون صبره مشوبا بعجز، وما هو بمتحقق
في الصبر، ومن صبر على رؤية المنة يكون متلذذا بالبلاء كتلذذه بالنعمة، إذ هما من
عين واحدة.
قال ابن عطاء: ' الصابرين ' هم الذين صبروا بالله تعالى في طاعة الله تعالى مع الله
تعالى، و ' الصادقين ' هم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه عن صدق قويم واعتماد
صحيح وسر لا يشوبه شيء و ' القانتين ' هم الذين أطاعوا الله تعالى في سرهم
وعلانيتهم، و ' المستغفرين بالأسحار ' هم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
وقال بعضهم: الصابرين مع الله تعالى على موارد قضائه، والصادقين في توحيدهم
89

ومحبتهم والقانتين الراجعين إليه في السراء والضراء والمنفقين ما سواه له، والمستغفرين
بالأسحار من أفعالهم وأحوالهم وأقوالهم. وقال بعضهم: الصابرين من صدق ما أجاب
به من لفظه بلى.
قوله تعالى: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) *
[الآية: 18]. سئل سهل بن عبد الله عن هذه الآية فقال: شهد لنفسه بنفسه وهو مشاهد
ذاته، واستشهد من استشهد من خلقه قبل خلقه لهم، فكان ذلك تنبيه أنه عالم بما
يكون قبل كونه، وإنه لا يتجاوز أحد من خلقه ما تجلى به.
وقيل في قوله تعالى: * (وأولوا العلم) *: إن العلماء ثلاثة: عالما بأمور الله تعالى
وأحكامه فيهم علماء الشريعة، وعالما بصفاته ونعوته فهم علماء النسبة، وعالما به
وبأسمائه فهم العالم الرباني.
قال أبو يزيد يوما لأصحابه: بقيت البارحة إلى الصباح أجهد أن أقول: أشهد أن لا
إله إلا الله ما قدرت عليه قيل: ولم؟ قال: ذكرت كلمة قلتها في صباي جائتني وحشة
تلك الكلمة فمنعتني عن ذلك وأعجب من يذكر الله تعالى وهو متصف بشيء من
صفاته.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: ما قلت الله إلا استغفرت
من ذلك، لأن الله تعالى يقول: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * فمن شهد بذلك له من
الأكوان إلا عن أمن أو غفلة.
وقال ابن عطاء: أول ما نحلوا من حقائق البقاء فنوا عن كل شيء دون الله تعالى
90

حتى بقوا مع الله تعالى.
وقيل: لا يصل إلى الشهادة لله تعالى بما شهد لنفسه حتى يصل إلى الفاقة الكبرى
قيل: وما الفاقة الكبرى؟ قال: حتى يعلم أنه لا يصل إليه إلا به، ولا ينجو منه إلا به.
وقال ابن منصور لرجل: أتشهد في الأذان؟ قال: نعم قال: ألحدت من حيث
وحدت في تشهدك حين شهدت لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم ولم تفرق بينهما حتى تشهد لله
تعالى بالتعظيم وللرسول (بالبلاغ والتسليم، عند ذلك باهت الأسرار فيما وراء الغيرة
ولا غير.
وقيل للشبلي رحمه الله: لم تقول الله ولا تقول لا إله إلا الله؟ فأنشأ يقول:
(شمس يغالب فقدها بثبوتها
* فإذا استحال الفقد ماذا يغيب
*
ثم قال: وهل يبقى إلا ما يستحيل كونه، وهل يثبت إلا ما لا يجوز فقده؟
وقال ابن عطاء في قوله: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) *، فقال: دلنا بنفسه من نفسه
على نفسه بأسمائه وفيه بيان ربوبيته وصفاته، فجعل لنا في كلامه وأسمائه شاهدا
ودليلا، وإنما فعل ذلك لأن الله تعالى وحد نفسه ولم يكن معه غيره، فكان الشاهد
عليه توحيده، ولا يستحق أن يشهد عليه من حيث الحقيقة سواه، إذ هو الشاهد فلا
شاهد معه، ثم دعا الخلق إلى شهادته، فمن وافقت شهادته فقد أصاب حظه من حقيقة
التوحيد، ومن حرم ضل.
وقال جعفر في قوله: ' شهد الله ' فقال: شهد الله بوحدانيته وأبديته وصمديته،
وشهد الملائكة وأولوا العلم له بتصديق ما شهد هو لنفسه.
91

سئل جعفر عن حقيقة هذه الشهادة ما هي؟ قال: هي مبنية على أربعة أركان: أولها
اتباع الأمر، والثاني اجتناب النهي، والثالث القناعة، والرابع الرضا.
قال ابن عطاء: إن الله شهد لنفسه بالفردانية والصمدية والأبدية ثم خلق الخلق
فشغلهم بعبادة هذه الكلمة فلا يطيقون حقيقة عبادتها، لأن شهادته لنفسه حق،
وشهادتهم له بذلك رسم، وأنى يستوي الحق مع الرسم.
قال أبو عبد الله القرشي في قوله تعالى: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * فقال: هو
تعليم منه ولطف وإرشاد بعباده إلى أن تشهدوا له بذلك، ولو لم يعلمهم ذلك ولم
يرشدهم لهلكوا كما هلك إبليس عند المعارضة. قال المزني: دخل أبو منصور مكة
فسئل عن شهادة الذر للحق بالوحدانية وعن التوحيد، فقال: هذا يليق به من حيث
رضى به نعتا وأمرا، ولا يليق به وصفا ولا حقيقة كما رضي بشكرنا لنعمه، وأنى يليق
شكرنا بنعمه. قال: وما دمت تشير فلست بموحد حتى يستولي الحق على إشارتك
بإخفائها عنك فلا تبقى مشيرا، وفي إشارة قوله تعالى: * (العزيز الحكيم) * قال: العزيز:
الممتنع عن أن تلحقه توحيد موحد، أو صفة التوحيد من حيث التوحيد ما شهد به الحق
لنفسه قبل الأكوان. وقال بعضهم: شهادة الله تعالى لنفسه بما شهد به شهادة صدق ولا
تقبل الشهادة إلا من الصادقين، فظهر بهذا أنه لا يصح إلا للصادقين دون غيرهم من
الخلق.
قال الحسين في قوله: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * شهادته لنفسه أن لا صانع غيره،
آمن بنفسه قبل أن يؤمن به مما وصف من نفسه، فهو المؤمن بغيبه الداعي إلى نفسه،
والملائكة مؤمنون به وبغيبه داعين إليه، والمؤمنون يؤمنون به وبغيبه، داعون إليه بكتبه
92

ورسله، فمن آمن به فقد آمن بغيبه، وكل ما في القرآن مما يشير إلى غيبه، فإنما يشير
بنفسه إلى غيبه ولا يعلم غيبه إلا هو.
قوله تعالى: * (إن الدين عند الله الإسلام) * [الآية: 19].
قال أبو عثمان: إن الدين ما سلم لك من البدع والضلالات، والأهواء، وسلمت
فيه من الرياء والشهوة الخفية، ورؤية الخلق وتعظيم الطاعات.
وقال محمد بن علي في قوله تعالى: * (إن الدين عند الله الإسلام) * إن المتدين
بالإسلام من سلم من رؤية الخلق وسلم قلبه من شهوات نفسه، وسلم روحه من
خواطر قلبه، وسلم سره من طيران روحه، فهو في حال الإستقامة مع الله تعالى.
قال جعفر: إن الدين عند الله الإسلام هو ما سلم عليه صاحبه من وساوس الشيطان
وهواجس النفس وعذاب الآخرة.
قوله تعالى: * (قل اللهم مالك الملك) * [الآية: 26].
قال الواسطي: عزى الملوك بذلك فأعلمهم أنهم مجبورون في ملكهم وأن الملك
عوارى لديهم بقوله: * (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) *.
قال أبو عثمان: الملك: الإيمان وهذا دليل أن الإيمان لا يتحقق على شخص إلا بعد
الكشف والسلامة له في الانقلاب إلى ربه، فربما يكون عارية وربما يكون عطاء. قال الله
تعالى: * (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) * فهو مترسم برسم الملوك، وقد
نزع منه ملكه.
93

قال محمد بن علي: المعرفة، تعطى معرفتك من تشاء من عبادك وتنزعها ممن تشاء،
وتعز من تشاء باصطفائك واجتبائك، وتذل من تشاء بالإعراض عنه، بيدك الخير أي
منك الاصطفاء والإجتباء قبل إظهار عبادة العابدين.
قال الحسين: تؤتي الملك من تشاء ' فتشغله به، وتنزع الملك ممن تشاء أي ممن
اصطفيته لك، فلا يؤثر فيه أسباب الملك، لأنه في أسرار الملك، وتعز من تشاء بإظهار
عزتك عليه وتذل من تشاء بإنصافه برسوم الهياكل.
قال الواسطي في هذه الآية: طوبى لمن ملكه قلبه وجوارحه كي يسلم من شرورهما.
قال الشبلي رحمه الله في قوله تعالى: * (تؤتي الملك من تشاء) * هذه الآية الملك:
الاستغناء بالمكون عن الكونين.
قوله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * [الآية: 28].
سئل أبو عثمان عن هذه الآية فقال: لا ينبسط سنى إلى مبتدع لفضل عشرة ولا
لقرابة نسب ولا يلقاه إلا ووجهه له كاره، فإن فعل شيئا من ذلك فقد أحب من أبغضه
الله تعالى وليس بولي لله من لا يوالي أولياء الله تعالى ولا يعادي أعداءه.
قوله تعالى: * (ويحذركم الله نفسه) * قال ابن عطاء: إنما يحذر نفسه من يعرفه، فأما
من لا يعرفه فإن هذا الخطاب زائل عنه قال الواسطي في قوله تعالى * (ويحذركم الله نفسه) * قال: فلا يأمن من أحد أن يفعل به ما فعل بإبليس، زينه بأنوار عبادته وهو عنده
في حقائق لعنته، فستر عليه ما سبق منه إليه حتى غافصه بإظهاره عليه. وقال أيضا:
لا يحذر نفسه من لا يعرفه وهذا خطاب الأكابر، فأما الأصاغر فخطابهم * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) *، * (واتقوا النار) *، * (واتقوا الله ما استطعتم) *.
94

وقال أيضا في قوله: * (ويحذركم الله نفسه) * هل هو إلا الإثبات وليس له من ذلك
شيء وإنما هو إيقاع البقية للسرائر، وتيقظ الطبع من الرعونة، وخلوصه من وساوسه.
قال جعفر رحمه الله: * (ويحذركم الله نفسه) *: أن تشهد لنفسك بالصلاح، لأن من
كانت له سابقة ظهرت سابقته في خاتمته.
قوله تعالى: * (والله رؤوف بالعباد) * [الآية: 30].
قال ابن عطاء: عم رحمته لعباده، أجمع مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم، وخص
رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بوقوفه على المؤمنين دون من سواهم، وهذا كقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم
حين قال: * (وارزق أهله من الثمرات من آمن بالله واليوم الآخر قال ومن كفر) * فإنه
لا رازق له في السماوات والأرض غيري.
قوله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) * [الآية: 31].
قال عمرو بن عثمان: محبة الله تعالى منى معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال
القلب به ودوام انتصاب القلب بذكره، ودوام الأنس به.
قال محمد بن خفيف: المحبة: الموافقة لله تعالى في التماس مرضاته.
وقيل المحبة: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وآدابه إلا ما خص به، لأن الله
تعالى قرن محبته باتباعه.
وقيل المحبة: هي الأثرة لله تعالى على جميع خلقه.
95

قال بعضهم: المحبة هي موافقة القلوب عند بروز لطائف الجمال.
قال أبو يزيد: أحببت الله تعالى حتى أبغضت نفسي، وأبغضت الدنيا حتى أحببت
طاعة الله تعالى، وتركت ما دون الله تعالى حتى وصلت إلى الله تعالى، واخترت الخالق
على المخلوق، فاشتغل بخدمتي كل مخلوق.
سئل الأنطاكي ما علامة المحبة؟ فقال: أن يكون قليل العبارة دائم التفكر، كثير
الخلوة، ظاهر الصمت، لا يبصر إذا نظر ولا يسمع إذا نودي، ولا يحزن إذا أصيب ولا
يفرح إذا أصاب ولا يخشى أحدا ولا يرجوه.
سئل يحيى بن معاذ عن حقيقة المحبة فقال: الذي لا يزيد بالبر ولا ينقص
بالجفوة.
قال سهل بن عبد الله: محب الله تعالى على الحقيقة من يكون اقتداؤه في أحواله
وأفعاله وأقواله بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال جعفر رحمه الله في قوله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) *
قيد أسرار الصديقين بمتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم لكي يعلموا أنهم وإن علت أحوالهم وارتفعت
مراتبهم لا يقدرون مجاورته ولا اللحوق به.
قال ابن عطاء في هذه الآية: أمر بطلب نور الأدنى من عمى عن نور الأعلى.
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله: لا وصول إلى النور الأعلى لمن لا يستدل
عليه بالنور الأدنى، ومن لم يجعل السبيل إلى النور الأعلى التمسك بآداب صاحب
النور الأدنى ومتابعته صلى الله عليه وسلم فقد عمي عن النورين جميعا فألبس ثوب الاغترار.
قال أبو عثمان في قوله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * قال: صدقوا
محبتكم إياي بمتابعة حبيبي، فإنه لا وصول إلى محبتي إلا بتقديم محبته، واتباعه على
طريقته، فإن طريقته هي الطريقة المثلى والوصلة إلى الحبيب الأعلى.
96

قال أبو يعقوب السوسي رحمه الله: حقيقة المحبة هي أن ينسى العبد حظه من ربه
وينسى حوائجه إليه.
قال الواسطي: لا تصح المحبة وللإعراض على سره أثر وللشواهد في قلبه خطر،
بل صحة المحبة نسيان الكل في استغراق مشاهدة المحبوب وفناه به عنه.
قال ابن منصور: حقيقة المحبة قيامك مع محبوبك وخلع أوصافك والاتصاف
بأوصافه.
قال محمد بن الفضل في قوله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) *: نفى اسم المحبة عمن يخالف شيئا من سنن الشريعة ظاهرا وباطنا، أو يترك متابعة
الرسول صلى الله عليه وسلم فيما دق وجل، لأن المتابع له من لا يخالفه في شيء من طريقته صلى الله عليه وسلم.
سمعت النصرآباذي يقول: محبة توجب حقن الدم، ومحبة توجب سفكه بأسياف
الحب وهو الأجل.
سمعت السلامي يقول في قول الله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله) * قال:
اشتقت المحبة من حبة القلب، وحبة القلب عين القلب، وهو مثل أن تقع الحبة في
الأرض فتنبت.
قوله تعالى: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا) * [الآية: 32].
97

قال الواسطي: اصطفاهم للولاية، وقال: اصطفاهم في أزليته وصفاهم لقربه
وصفاهم لمودته.
وقال أيضا: اصطفاه في الأزل قبل كونه، فأعلم بهذا خلقه أن عصيان آدم لا يؤثر
في اصطفائه له، لأنه سبق العصيان مع علم الحق له بما يكون منه.
وقال أيضا: اصطفى الأنبياء بالمشاهدة والتقريب، واصطفى المؤمنين للمطالعة
والتهذيب، واصطفى العام للمخاطبة والترتيب.
قال النصرآباذي: إذا نظرت إلى آدم بصفته لقيته بقوله: * (وعصى آدم ربه فغوى) *
وإذا لقيته بصفة الحق لقيته بقوله تعالى: * (إن الله اصطفى آدم) * وماذا يؤثر العصيان في
الاصطفاء؟
قال الواسطي: الاصطفاء قائم بالحق، والمعصية إظهار البشرية وتوبته أعجب لأنه من
نفسه إلى نفسه رجع.
قوله تعالى: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * [الآية: 35].
قال جعفر رحمه الله: عتيقا من رق الدنيا وأهلها.
قال محمد بن علي رحمه الله في قوله تعالى: * (نذرت لك ما في بطني محررا) *
أي: يكون لك عبدا مخلصا، ومن كان خالصا لك كان حرا مما سواك.
سئل سهل بن عبد الله عن المحرر قال: هو المعتق من إرادات نفسه ومتابعة هواه.
قال النوري - تغمده الله برحمته - في قوله تعالى: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * قال: محررا عن شغلي به وتدبيري له، ويكون مسلما إلى تدابيرك فيه وحسن
اختيارك له.
قال محمد بن الفضل رحمه الله في قوله تعالى: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) *، قال: عن الاشتغال بالمكاسب.
قال جعفر: تقبلها حتى تعجب الأنبياء مع علو أقدارهم في عظم شأنها عند الله
تعالى، ألا ترى أن زكريا قال: * (أنى لك هذا قالت هو من عند الله) * أي: من عند من
تقبلني.
قال الواسطي رحمه الله: بقبول حسن: محفوظة، وأنبتها نباتا حسنا: أضاف
98

الإحسان إليها في الشريعة، وفي الحقيقة حفظها وأنبتها.
قوله تعالى: * (وأنبتها نباتا حسنا) * [الآية: 37].
قال ابن عطاء: ما فتح الله تعالى على عبد من عبيده حالة سنية إلا باتباع الأوامر
وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب.
قال الواسطي: * (وهو قائم يصلي) * سره بمحاربه نفسه وهواه.
قال أبو عثمان: المحراب باب كل بر وموضع الإجابة واستفتاح الطريق إلى
الانبساط، والمناجاة والإعراض عن المحراب سبب إغلاق الباب دونك.
قوله تعالى: * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب) * [الآية: 39].
حدثني أحمد بن محمد قال: ما ظهرت على أحد حالة شريفة، إلا وأصلها الصبر
تحت الأمر والنهي.
وقال: ملازمة الخدمة توريك آداب الخدمة وآداب الخدمة توريك منازل القربة،
ومنازل القربة توريك حلاوة الأمن.
وقال بعضهم - رحمة الله عليه -: العبادات تجر إلى الإعواض والأحوال تجر إلى
المعوض.
قوله تعالى: * (وسيدا وحصورا) *.
قال ابن عطاء رحمه الله تعالى: السيد المتحقق حقيقة الحق والحصور المنزه عن
الأكوان وما فيها.
قال جعفر رحمة الله تعالى عليه: السيد المعاين عن الخلق وصفا وحالا وخلقا.
قال الجنيد رحمة الله تعالى عليه: السيد الذي حاد بالكونين عوضا عن ربه.
قال محمد بن علي رحمة الله تعالى عليه: السيد من استوت أحواله عند المنع
والعطاء.
99

قال ابن منصور رحمة الله تعالى عليه: السيد من خلا من أوصاف البشرية وأظهر
نعوت الربوبية.
قال أبو الحسين الوراق رحمة الله تعالى عليه: السيد من لا تغلبه نفسه وهواه.
قال النصرآباذي تغمده الله برحمته: من صحح نسبته مع الحق استوجب منه ميراث
النسبة.
قوله تعالى: * (ويكلم الناس في المهد وكهلا) * [الآية: 46].
قال: يكلم الناس وكهلا قال: تكليم الناس في المهد معجزة له وكهلا داعيا إلى ربه
والمهد معجزة له.
وقيل: ويكلم الناس في المهد ويكون كهلا من الصالحين.
وقيل ويكلم الناس في المهد صبيا وعند نزوله من السماء كهلا، ليكون على طرفي
كلامه معجزة.
قوله تعالى: * (وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله) * [الآية: 49].
قيل: من اشتملت عليه صفات الربوبية وغاب عن أوصاف لا يجدن حيي بنفسه
وأحيي به كل شيء وأبطل بهذه الآية دعاوى من ادعى إظهار معجزة عليه به دون إذن
ربه، فالله قادر على الإعجاز في جميع الأوقات، يظهرها على من يشاء فالإعجاز لله
والسبب المظهر عليهم، ذلك هو الهياكل والصور.
قوله تعالى: * (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا) * [الآية: 53].
قال ابن عطاء: آمنا بما نورث به قلوب أصفيائك من علوم غيبك، واتبعنا الرسول
فيما أظهرت من سنن أوامرك ونواهيك، رجاء أن يوصلنا ابتغاؤك إلى محبتك، واكتبنا
مع الشاهدين مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك.
قوله تعالى: * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) * [الآية: 54].
قال محمد بن علي: مكروا أنفسهم فحسن الله مكرهم عندهم، وهو كان في
الحقيقة الماكر بهم لتزيينه ذلك عندهم، ألا تراه يقول: * (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا) *.
100

سئل بعض أهل الحقيقة: كيف ينسب المكر إلى الله؟ فصاح وقال: لا علة لصنعه
وأنشد:
(ويقبح من سواك الفعل عندي
* وتفعله فيحسن منك ذاكا
*
قوله تعالى: * (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) * [الآية: 55].
قال الواسطي: إني متوفيك عنك ورافعك إلي ومطهرك من إرادتك وهواك، وذلك
لإظهار نعوت الأزل عليه.
وقال بعضهم: إني متوفيك عن حظوظك ورافع شخصك إلي ومطهر سرك من
مطالعات الأعيان والأعواض.
قوله تعالى: * (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) * [الآية: 60].
قال بعضهم: الحق من ربك إذ لا يظهر شيء من المكتوبات إلا من تحت ذل كن فلا
تكن، فإنه منفرد بأسمائه وصفاته، لا ينازعه في صفاته أحد من عبيده وخلقه.
قوله تعالى: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) * [الآية: 61].
قال جعفر: هذه إشارة في إظهار المدعين لأهل الحقائق؛ ليفتضحوا في دعاويهم عند
آثار أنوار التحقيق وبطلان ظلمات الدعاوى الكاذبة.
قوله تعالى: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * [الآية: 64].
قال الواسطي: هو إظهار العبودية عند ملاحظة الصمدية.
قال ابن عطاء: هو تحقيق التوحيد.
قوله تعالى: * (ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) * الآية.
قال أبو عثمان: أعلمك طريق التعبد في هذه الآية، وهو أن لا تطالع بسرك عند
101

اشتغالك العبادة سوى معبودك، ولا تفرغ في أمر من أمورك إلى غيره فتتخذ ذلك ربا.
قوله تعالى: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي) * [الآية: 68].
قال جعفر: للذين اتبعوه في شرائعهم ومناسكهم وهذا النبي يقرب حال إبراهيم من
حال النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته من شريعته دون سائر الأنبياء وسائر الشرائع، والذين آمنوا
لقرب حالهم من حال إبراهيم، والله ولي المؤمنين في تشريعهم إلى بلوغ مقام الخليل
صلى الله عليه وسلم إذ القرب منه في درجة المحبة بقوله: * (يحبهم ويحبونه) *.
قوله عز وجل: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * [الآية: 73].
قال بعضهم: لا تعاشروا إلا لمن يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم، قال المرتعش في
هذه الآية: لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله.
قال أبو بكر بن طاهر: لا تصدقوا ظهور الكرامة على أحد ما لم تتبينوا أوائله
ورياضته ومحافظته على ظاهر الشريعة.
قوله عز وعلا: * (يختص برحمته من يشاء) * [الآية: 74].
قال أبو عثمان: أهمل القول ليتقي معه رجاء الراجي وخوف الخائف.
وقال بعضهم: أزال العلل في العطايا ومنع النفوس عن ملاحظات المجاهدات ما
تطلعهم عن الشواهد والموارد قال: * (ولا يشرك في حكمه أحدا) *.
قال سهل في قوله: * (يختص برحمته من يشاء) * قال: ارتفعت العلل في العطايا
وفيما أظهر من النعوت والخفايا وفتن النفوس عن مطالعات المجاهدات فكيف يتوسل
المتوحد بالوسائل من أعمال البر بعد قوله * (يختص برحمته من يشاء) * فأيقن بأن ليس
إليه طريق بالشواهد والموارد والعوايد والفوائد.
[قال ابن عطاء في قوله * (يختص برحمته من يشاء) *: أنبأ أن لا طريق إليه بالعوائد
والفوائد].
قال الواسطي رحمة الله عليه في قوله: * (يختص برحمته من يشاء) * قال: أن تكون
حيث كنت بلا أنت، ويكون القائم هو لك بذاته ونعوته.
102

قال الواسطي في قوله: * (ويختص برحمته من يشاء) * من تجلى له بأحوال ليس كمن
تجلى بحال واحدة لذلك يختص برحمته من يشاء، قال: لما أن شاهدوا البرهان وعاينوا
الفرقان؛ فزعوا من صفاتهم إلى صفاته، ومن فعلهم إلى فضله فسكنوا إلى سبق
حسناته، حيث يقول * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) *.
وقال أبو سعيد في هذه الآية: إن الرحمة ها هنا فهم معاني السماع بالسمع الحقيقي،
وهو الذي خص به الحق خواص السادة من عباده.
قوله تعالى: * (كونوا ربانيين) * [الآية: 79].
قال الواسطي: يملكون الأشياء ولا يملكهم شيء.
وقيل: كونوا ربانيين علماء بالله حكماء بين عباده.
وقال ابن عطاء: عاينوا أوقات ترتيبكم لتتخلصوا من هذه الآفات كلها.
وقال جعفر في قوله: * (كونوا ربانيين) * قال: مستمعين بسمع القلوب وناظرين
بأعين الغيوب.
قال ابن عطاء: أخرجهم بهذا الخطاب عما خاطبهم به من العبودية.
قال الواسطي رحمة الله عليه: عاينوا أوقات ترتيبكم وتقديركم قبل آدم ومحمد صلى الله عليه وسلم
والانتساب إلى آدم، والافتخار بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس كالإفتخار بمن قدسك في الأزل.
وقال أيضا: * (كونوا ربانيين) * قال: كونوا كأبي بكر رضي الله عنه إذ ورد عليه
فوادح الأمور لا يؤثر على سره حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ' دع مناشدتك مع ربك
فإنه ينجز لك ما وعدك '.
وقال أيضا في هذه الآية: أمر إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالإستسلام، وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم بالعلم
فقال: * (فاعلم) *، فالإستسلام إظهار العبودية والعلم به والتوسل إلى الأزلية
103

والأبدية، لذلك قال خاطبهم فقال: * (كونوا ربانيين) *.
وقال في قوله: * (كونوا ربانيين) *: جذبهم بهذا من الافتخار بالطين إلى الافتخار
بالحق.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: أخرجهم من الكون جملة، وجذبهم إلى الحق إشارة،
وإذا أردت أن تعرف مقامات الخلق ومواطنهم في الحقيقة، فانظر إلى تصرف أخلاقهم
تجد كلا قائما في أشجانه، استقطعه ما وافق سريرته، فانظر بما ربطت القلوب فتشهد
سرائرهم، لأنهم أخذوا من المصادر الأول، فمن لم يستقطعه إلا إنسال أنواره والحياء
فيما ورد عليه أتقن كيفية باطنه على الحقيقة ينازعه في ربوبيته ويمن عليه بعبوديته ولا
تشعر أنت.
وقال بعض العراقيين: أخرجهم من آدم وبرأهم منه كي ينسوا العبودية ويتركوا
الافتخار بالماء والطين.
قوله تعالى: * (بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) *. من آلائي ونعمائي
عليكم وبما كنت توليت من أموركم.
وقال الشبلي في قوله تعالى: * (كونوا ربانيين) * قال: أخرجهم عما خاطبهم به من
العبودية، فمن استحق العلم به استحق علم الربانية، لأن الرباني النبي لا يأخذ العلوم
إلا من الرب ولا يرجع في بيانه إلا إلى الرب جل وعلا.
قال الواسطي رحمة الله عليه في هذه الآية: * (كونوا ربانيين) * قال: لأن تكون ابن
الأزل والأبد خير لك وأحسن من أن تكون من أبناء الماء والطين والأفعال والإحصاء
والعدد.
وقال سهل: الرباني هو العالم بالله والعالم بأمر الله والمكاشف له من العلوم اللدني
104

ما غيبه عن غيره.
وقال أيضا: الرباني الذي لا يختار على ربه حالا.
وقال الجريري: * (كونوا ربانيين) * أي سامعين من الله ناطقين بالله.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت الفضل بن العباس يقول: في قوله عز
وعلا: * (كونوا ربانيين) * قال: كونوا كأبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه لما مات النبي
صلى الله عليه وسلم اضطربت الأسرار كلها لموته، ولم يؤثر في سر أبي بكر فقال: ' من كان منكم يعبد
محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت '.
وقال القاسم: * (كونوا ربانيين) * متخلقين بأخلاق الحق علماء حلماء.
وقال بعضهم: * (كونوا ربانيين) * أي: عبيدا منقطعين يقتدون بالسيد ويتخلقون
بأخلاقه لا يلاحظون الكون بأسره، ولا ما يجري من المحو في وقته.
وقال بعضهم: الرباني بحقه من نسي نفسه في نسيانه، ونسي أوقاته بأوقاته، ونسي
حاله وصفاته وأرزاقه بصفاته، فصفاته حديثه إلى ذاته وذاته ملكه عن صفاته.
قوله تعالى: * (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا) * [الآية: 80].
قال ابن عطاء: موضعا للملاحظات وليس بأيديهم من الضر والنفع شيء، فكيف
بمن دونهم؟!
قال الواسطي في هذه الآية: لا يخطرن بأسراركم تعظيمهم ولا الفكر في معانيهم،
واعلموا أنما هي ربوبية تولت عبودية.
سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: إياك أن تلاحظ مخلوقا
105

وأنت تجد إلى ملاحظة الحق سبيلا. قال الله: * (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه في هذه الآية مجال للملاحظات وموضع للمعاملات
* (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) * أيأمركم بالإحتجاب عن الحق بعد معاينة الحق
أو بالانقطاع عن الحق بمواصله غيره.
وقيل في قوله: * (أيأمركم بالكفر) * أيأمركم بالتوسل إلى من لا وسيلة إليه إلا بالحق.
قوله تعالى: * (بلى من أوفى بعهده) * [الآية: 76].
قال جعفر: من أوفى بالعهد الجاري عليه في الميثاق الأول واتقى وطهر ذلك العهد
وذلك الميثاق أن يدنسه بباطل، والوفاء بالعهد والكون معه يقطع ما سواه لذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' أصدق كلمة تتكلم بها العرب كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
ومن أوفى بالعهد سمي محبا والله يحب المتقين.
قوله تعالى: * (أفغير دين الله يبغون) * [الآية: 83].
قال الواسطي: من تمسك بغير الوجدانية بل بغير الواجد فهو يعبد من عين الحقيقة.
قوله تعالى: * (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها) *.
قال الحسين: أخذهم عن شهود شواهدهم بخصائص الاطلاع عليهم، فمن طالع
الذات أسلم طوعا وكرها، ومن طالع الهيبة أسلم كرها.
قوله تعالى: * (قل آمنا بالله) * [الآية: 84].
قال ابن عطاء: صدقنا وأقمنا على طريق الصدق معه، لأنه الذي كتب علينا الإيمان
وخصنا به في علمه قبل أن أوجدنا فنحن مؤمنون به لسابق تفضله علينا.
قوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) * [الآية: 85].
قال القاسم: من يأخذ غير الانقياد طريقا في التعبد لم يصل إلى شيء من حقيقة
العبودية.
وقال مجاهد: من لم يعتد أفعاله بالسنة لا يقبل منه عمل.
106

وقال سهل في قوله: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا) *: إنه التفويض، ومن لم يفوض
إلى مولاه جميع أموره لم يقبل منه شيئا من أعماله.
قوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * [الآية: 92].
قال ابن عطاء: لن تصلوا إلى القربة وأنتم متعلقون بحظوظ أنفسكم.
وقال جعفر: بإنفاق المهج يصل العبد إلى حبيبه وقرب مولاه. قال الله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *.
وقال أبو عثمان في قوله: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * قال: لن يصل
إلى مقامات الخواص من بقي عليه شيء من آداب النفوس ورياضاتها.
قال الواسطي رحمه الله: عليه الوصول إلى البر بإنفاق بعض المحاب والوصول إلى
البار بالتخلي من الكونين وما فيهما.
وقال النصرآباذي: أفردك له باستنفاقه المحاب منك، لتكون خالصا في محبته، لا
تلتفت إلى شيء سواه. والوصول إلى البار بالتخلي من الكونين وما فيهما.
قال بعضهم: البر محاورة الحق وقربه، ولا تنال ذلك المقام وأنت تجد شيئا سواه أو
تؤثر عليه غيره.
وقال ابن عطاء: لن تنالوا وصلتي وفي أسراركم موافقة ومحبة لسواي.
وقال النصر آباذي: قال بعض المفسرين في قوله: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا) * إنه
الجنة.
وعندي البر صفة الباري فكأنه قال: لن تنالوا قربي إلا بقطع العلائق.
وقال جعفر: لن تنالوا معرفتي وقربي حتى تخرجوا من أنفسكم وهممكم بالكلية.
وقال العلوي. في قوله: * (لن تنالوا البر) * الآية. قال: أحب الأشياء روحك
فاجعل حياتك نفقة عليك لك تنل بري بك.
وقال أبو بكر الوراق في قوله: * (لن تنالوا البر) * الآية: قال: ولهم بهذه الآية على
الفتوة.
107

وقال: لن تنالوا بري بكم إلا ببركم إخوانكم والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم
بكم وما تحبونه من أملاككم، فإذا فعلتم ذلك نالكم بري وعطفي، وأنا أعلم بنياتكم
في إنفاقكم وبركم، فما كان لي خالصا قابلته ببري وهو أعلى، وما كان ذلك من الرياء
والسمعة، فإني أغنى الشركاء للشريك كما روى عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال جعفر الصادق عليه السلام: لن تنالوا وصلتي وفي سركم موافقة مع سواي.
وقال أيضا: لن تنالوا الحق حتى تنفصلوا عما دونه.
وقال الجنيد رحمة الله عليه في قوله: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا) * الآية. قال: لن
تنالوا محبة الله حتى تسخوا بأنفسكم في الله.
قوله تعالى: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) * [الآية: 96].
قال الحسين: إن الحق تعالى أورد تكليفه على ضربين: تكليفا عن وسائط وتكليفا
بحقائق، فتكليف الحقائق بدت معارفه منه وعادت إليه، وتكليف الوسائط بدت معارفه
عمن دونه ولم يتصل به إلا بعد الترقي منها إلى الفناء عنها، فمن تكليف الوسائط
إظهار البيت والكعبة فقال: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) * فما دمت متصلا به
كنت منفصلا عنه، فإذا انفصلت عنه حقيقة وصلت إلى مطهره وواضعه، فكنت
مترسما بالبيت متحققا بواصفه.
قوله تعالى: * (مباركا) *. قال: مباركا لمن ينزل عليه بهمة وطالب الطرق به إلى ربه.
قوله تعالى: * (وهدى للعالمين) *. قال: هدى لمن اهتدى به إلى الهادي.
قوله عز وعلا: * (فيه آيات بينات) * [الآية: 97].
قال محمد بن الفضل: علامات ظاهرة يستدل بها العارف على معروفه.
قوله عز وعلا: * (مقام إبراهيم) *.
قال الشبلي: مقام إبراهيم هو الخلة، فمن شاهد فيه مقام إبراهيم الخليل فهو
108

شريف، ومن شاهد فيه مقام الحق فهو أشرف.
وقال محمد بن علي الترمذي: مقام إبراهيم بذل النفس والمال والولد في رضا
خليله، فمن نظر إلى المقام ولم يتخل مما تخلى منه إبراهيم من النفس والمال والولد
سفره فقد بطل وخابت رحلته.
قوله تعالى: * (ومن دخله كان آمنا) *.
قال النوري: من دخل قلبه سلطان الاطلاع كان آمنا من هواجس نفسه ووساوس
الشيطان.
قال الواسطي: من دخله على شرط الحقيقة كان آمنا من رعونات نفسه.
قال ابن عطاء: من دخله كان آمنا من عقابه ولله في الدنيا ثواب وعقاب، فثوابه
العافية وعقابه البلاء، فالعافية أن يتولى عليك أمرك، والعقوبة أن يكلك إلى نفسك.
قال جعفر في قوله: * (ومن دخله كان آمنا) * قال: من دخل الإيمان قلبه كان آمنا من
الكفر.
قال الواسطي رحمة الله عليه في موضع آخر: من جاور الإيمان قلبه كان آمنا من
رعونات نفسه. سمعت منصورا يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندراني يقول بإسناده
عن جعفر الصادق عليه السلام في قوله: * (ومن دخله كان آمنا) * فقال: من دخله على
الصفة التي دخلها الأنبياء والأولياء والأصفياء كان آمنا من عذابه كما آمنوا.
قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * الآية.
قيل: لم يخاطب الله عباده في شيء من العبادات بأن لله عليهم إلا الحج وفيه
فوائد:
109

إحداها: أنه ليس من العبادات عبادة يشترك فيها المال والنفس إلا الحج فأخرجه بهذا
الاسم.
وقيل: هي عبادة يكثر فيها التعب والنصب على مباشرتها فأخرجه بهذا الاسم ليكون
عونا له على ما تباشره لعلمه أنه يؤدي ما لله عليه في ذلك.
وقيل: لما كان فيه الإشارات القيمة من تجريد ووقوف وغيرة قال الله تعالى: عليك
لتهيئ باطنك للموقف الأكبر كما هيأت ظاهرك لهذا الموقف.
وفي الحج إشارات قيل: إن رجلا جاء إلى الشبلي فقال له: إلى أين؟ قال: إلى
الحج، قال: هات غرارتين فاملأهما رحمة واكبسهما وجئ بهما لتكون حظنا من الحج
نعرضها على من حضر ونحيي بها من زار، قال: فخرجت من عنده فلما رجعت قال
لي: أحججت؟ قلت: نعم، قال لي: أي شيء عملت؟ قلت: اغتسلت وأحرمت
وصليت ركعتين ولبيت، فقال لي: عقدت به الحج؟ قلت: نعم: قال أفسخت بعقدك
كل عقد عقدت منذ خلقت مما يضاد هذا العقد، قلت: لا، قال: فما عقدت، قال: ثم
نزعت ثيابك؟ قلت: نعم، قال: تجردت عن كل فعل فعلته؟ قلت: لا، قال: ما نزعت
قال: ثم تطهرت؟ قلت: نعم. قال: أزلت عنك كل علة بطهرك؟ قلت: لا. قال: ما
تطهرت قال: ثم لبيت؟ قلت: نعم. قال: وجدت جواب التلبية مثلا بمثل؟ قلت: لا.
قال: ما لبيت. قال: ثم دخلت الحرم؟ قلت: نعم، قال: عقدت بدخولك ترك كل
محرم؟ قلت: لا، قال: ما دخلت الحرم. قال: أشرفت على مكة؟ قلت: نعم، قال:
أشرف عليك من الله حال بإشرافك؟ قلت: لا، قال: ما أشرفت على مكة. قال:
دخلت المسجد الحرام؟ قلت: نعم، قال: دخلت في قربه من حيث علمته؟ قلت: لا،
قال: ما دخلت المسجد. قال: رأيت الكعبة؟ قلت: نعم، قال: رأيت ما قصدت له؟
قلت: لا. قال: ما رأيت الكعبة. قال: رملت ثلاثا ومشيت أربعا؟ قلت: نعم. قال:
هربت من الدينا هربا علمت أنك به فاصلتها، وانقطعت عنها ووجدت بمشيك الأربع
أمنا مما هربت منه فازددت لله شكرا لذاك؟ قلت: لا. قال: فما انقطعت. قال:
أصافحت الحجر؟ قلت: نعم، قال: ويلك قيل من صافح الحجر فقد صافح الحق
110

ومن صافحه فهو في محل الأمن، أظهر عليك أثر الأمن؟ قلت: لا. قال: ما صافحت
الحجر. قال: أصليت ركعتين بعدها؟ قلت: نعم، قال: وقفت الوقفة بين يدي الله جل
وعز، ووقفت على مكانك من ذلك وأديت قصدك؟ قلت: لا. قال: ما صليت. قال
خرجت إلى الصفا ووقفت بها؟ قلت: نعم. قال: أي شيء عملت؟ قلت: كبرت
عليها. قال: هل صفا سرك بصعودك على الصفا، وصغر في عينيك الأكوان بتكبيرك
ربك؟ قلت: لا. قال: ما صعدت ولا كبرت. قال: هرولت في سعيك؟ قلت نعم.
قال: هربت منه إليه؟ قلت: لا، قال: ما هرولت ولا سعيت. قال: وقفت على المروة؟
قلت: نعم. قال: رأيت نزول السكينة عليك وأنت على المروة؟ قلت: لا. قال: لم
تقف على المروة. قال: خرجت إلى منى؟ قلت: نعم. قال: أعطيت ما تمنيت؟ قلت:
لا. قال: ما خرجت إلى منى. قال: دخلت مسجد الخيف؟ قلت: نعم. قال: هل
تجدد عليك خوف بدخولك مسجد الخيف؟ قلت: لا قال: ما دخلته. قال مضيت إلى
عرفات؟ قلت: نعم. قال: عرفت الحال التي خلقت لها والحال التي تصير إليها؟ وهل
عرفت من ربك ما كنت منكرا له؟ وهل تعرف الحق إليك بشيء مما تعرف به إلى
خواصه؟ قلت: لا. قال ما مضيت إلى عرفات. قال أنفدت إلى المشعر؟ قلت: نعم.
قال: ذكرت الله فيه ذكرا أنساك فيه ذكر من سواه؟ وهل شعرت بماذا أجبت وبماذا
خوطبت؟ قلت: لا. قال: ما نفدت إلى المشعر. قال: ذبحت؟ قلت: نعم. قال:
أفنيت شهواتك وإرادتك في رضا الحق؟ قلت: لا. قال: ما ذبحت. قال: رميت؟
قلت: رميت جهلك منك بزيادة علم طهر علمك. قلت: لا. قال: ما رميت. قال:
زرت؟ قلت: نعم. قال: كوشفت شيئا من الحقائق، أو رأيت زيادة الكرامات عليك
للزيارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ' الحاج والعمار زوار الله حق على المزور أن يكرم
زائره '. قلت: لا. قال: ما زرت قال: أحللت؟ قلت: نعم. قال: عزمت على أكل
111

الحلال؟ قلت: لا. قال: ما أحللت. قال: ودعت؟ قلت: نعم. قال: خرجت من
نفسك وروحك بالكلية؟ قلت: لا. قال: ما ودعت ولا حججت وعليك العود إن
أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك.
ولما دخلت على الشيخ الحصري - قدس الله روحه - ببغداد قال لي: أحاج أنت؟
قلت: أنا مع القوم. قال لي: أليس فرائض الحج أربعة: الإحرام والدخول فيه بلفظ
التلبية؟ قلت: نعم. قال: والتلبية إجابة. قلت: نعم. قال: والإجابة من غير دعوة
سوء الأدب. قلت: نعم. قال: فتحققت الدعوة حتى تجيب ثم الوقوف. قلت: نعم.
قال: فاجتهد فيه فإنه محل المباهاة وانظر كيف تكون، والطواف وهو محل القربة من
الحق، فيكون قربك منه بحسن الأدب ثم السعي وهو محل الفرار إليه من التبري مما
112

سواه، فإياك أن تتعلق بعد سعيك بعلاقة من الدارين وما فيهما.
سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول:
سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت عبد الباري يقول: سئل ذو النون لم صير
الموقف بالمشعر الحرام ولم يصير بالحرم؟ فقال ذو النون: لأن الكعبة بيت الله والحرم
حجابه والمشعر بابه، فلما أن قصدها الوافدون وقفهم بالباب. الأول: يتضرعون إليه
حتى أذن لهم بالدخول ووقفهم بالحجاب.
الثاني: وهو المزدلفة فلما أن نظر إلى تضرعهم أمرهم بتقريب قربانهم، فلما قربوا
قربانهم وقضوا تفثهم طهروا من الذنوب التي كانت لهم حجابا من دونه، فأذن لهم
بالزيادة على الطهارة.
قال فارس: الإحرام هو الاعتقاد، والاعتقاد اعتقادان: اعتقاد قصد وإرادة واعتقاد
استشعار في الحال.
وقال بعضهم: لما أجابوا التلبية أدخلوا الحرم مقامه مقام الدهليز، ثم دخلوا الحرم
باعتقاد ترك كل محرم، ثم أشرفوا على الكعبة فأشرفت عليهم حال من الحق بإشرافهم
على الحق، ثم دخلوا المسجد الحرام فشهدوا عند ذلك قربة فطافوا ولاذوا وحنوا
وهرولوا، وكانوا في ذلك هداهم من الدنيا، والحجر شاهد لهم بوفاء عهودهم،
وخرجوا إلى الصفا فصفوا عن كل كدورة من آفاق الدنيا والنفس، ولما وصلوا إلى منى
وقع بهم التمني لما يأتلون فأعطوا ما تمنوا.
قوله تعالى: * (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) * [الآية: 101].
113

قال ابن عطاء: من افتقر إلى الله من جميع ما سوى الله فقد فتح له الطريق إلى
الحج وهو أقوم الطريق.
قال جعفر في هذه الآية: من عرفه استغنى به عن جميع الأنام.
قال الواسطي رحمة الله عليه: الاعتصام به منه فمن زعم أنه يعتصم بالله من غيره
فهو وهن في الربوية.
وقال أيضا: من يعتصم بالله للأئمة والعامة.
* (واعتصموا بحبل الله) * [الآية: 103].
وقال أيضا في قوله: * (ومن يعتصم بالله) * قال: هل شاهدت من شواهدك شيئا
يفزع منك إليه وهل فزعت إلا إلى نفسك.
والاعتصام: أن ترى نفسك في ظله وكنفه وحسن قيام نظره لك في أبده، فإن
التحقيق فصحة الاعتصام والتصديق يوجب الاعتصام.
وقيل: الاعتصام هو اللجأ بترك الحول والقوة والسكون والأمر والهدوء تحت مراد
الله.
وقيل: الاعتصام للمحجوبين ولأهل الحقائق رفع الاعتصام لأنهم في القبضة.
وقال أبو بكر الوراق: علامات الاعتصام ثلاثة: قطع القلب عن معونة المخلوقين،
وصرفه بالكلية إلى رب العالمين، وانتظار الفرج من الله.
قوله تعالى: * (اتقوا الله حق تقاته) * [الآية: 102].
تلف النفس في مواجبه.
قال القاسم: بذل المجهود واستعمال الطاعة وترك الرجوع إلى الراحة، ولا سبيل
إليه لأن أوائل طرق الوصول التلف.
قال الواسطي رحمة الله عليه: هو إتلاف النفس في مواجبه.
قال ابن عطاء: حق تقاته: هو صدق قول لا إله إلا الله وليس في قلبك سواه.
وقال بعضهم: أراد به أن يعرفنا مواضع فضله فيما رفهنا فيه من استعمال مواجبه،
لأن واجب الحق لا يتناهى والعمل به لا يتناهى.
114

سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: حقيقة التقوى كل
التقوى من إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله، وإذا نوى نوى لله، ويكون بالله ولله،
وقيل أيضا إنه التورع عن جميع الشبهات.
قال النصرآباذي: حق تقاته أن يتقي كل ما سواه.
قال جعفر: التقوى: أن لا ترى في قلبك شيئا سواه.
قال الواسطي رحمة الله عليه: الأكوان كلها أقدار في ميدان الحق، وميدان الحق لا
يطأه إلا من اتقى ما سواه؛ قال الله تعالى: * (اتقوا الله حق تقاته) *.
قال بعضهم: ما اتقى الله حق تقاته من سكن إلى شيء سواه.
قوله تعالى: * (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) *.
قال الواسطي رحمه الله: صفى النبي أصحابه وخاصهم فاختار منهم سبعين رجلا
الذين بايعوا ليلة العقبة ثم صفاهم ثانيا فاختار منهم عشرة، فقال: هؤلاء في
الجنة، ومدح كل واحد منهم بمدحة وحلاه بحلية ثم صفاهم فاختار منهم أربعة
جعلهم خلفاء من بعده ثم صفى واختار اثنين، وقال: ' اقتدوا بالذين من بعدي أبي
115

بكر وعمر - رضي الله عنهما - ' ثم صفى فاختار واحدا، فقال: ' لو وزن إيمان أبي
بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم '. ثم نقاه من الأصل فقال: ' لو كنت متخذا
116

خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا '.
وأصل هذا كله. انقطاع الرؤية عن المكتوبات لقوله: ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من
دون الله.
قوله عز وعلا: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) * [الآية: 102].
قال أبو يزيد: ما لم تفقد نفسك ولا تعتصم بخالقك لا يستجاب لك ومتى كنت
وسط الأمور والمخلوق لا يهتدي إلى الخالق، فإذا طرحت عنك كنت معتصما به.
وقيل: الاعتصام إليه هو ميل القلب بالوفاء وأداء الفرائض بغير تقصير.
قال ابن عطاء: حبل الله متصل بعبده يتوقع منه المزيد والفوائد في كل وقت، وحبله
عهده وكتابه فمن اعتصم به وصل.
سئل الجنيد رحمة الله عليه عن قوله: * (واعتصموا بحبل الله) * معناه قالت المتصوفة:
هو خصوص وعموم أما قوله: * (واعتصموا بحبل الله) * معناه: اعتصموا بالله عن
الاعتصام بحبل الله.
117

وقال أبو عثمان: الاعتصام بالله والامتناع به من الغفلة والكفر والشرك والمعاصي
والبدع والضلالات وسائر المخالفات.
وقيل: اعتصموا بحبل الله: اجتمعوا على موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه الحبل الأوثق،
ولا تفرقوا عنه ظاهرا وباطنا وسرا وعلانية.
قال الواسطي رحمة الله عليه: اعتصموا بحبل الله ومن يعتصم بالله فقد هدى
خطاب الخاص وخطاب العام: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) *.
قوله عز وجل: * (إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) *.
قيل: كنتم أعداء بملازمة حظوظ أنفسكم فألف بين قلوبكم فأزال عنكم حظوظ
الأنفس وردكم منها إلى حظ الحق فيكم.
وقال بعضهم: خص الله الأنبياء والأولياء والمؤمنين بخاصيته فأزال * (إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) * بعلمه.
قال: عطاياه لا تحمل إلا خطاياه فألف بين قلوب المرسلين بالرسالة، وقلوب الأنبياء
بالنبوة، وقلوب الصادقين بالولاية، وقلوب الشهداء بالمشاهدة، وقلوب الصالحين
بالخدمة، وقلوب عامة الخلق بالهداية، فجعل المرسلين رحمة على الأنبياء، والأنبياء
رحمة على الصديقين، والصديقين رحمة على الشهداء، والشهداء رحمة على
الصالحين، والصالحين رحمة على عباده المؤمنين، والمؤمنين رحمة على الكافرين.
قوله تعالى: * (فأصبحتم بنعمته إخوانا) *.
قال ابن عطاء في هذه الآية: فأثر فيكم عنايته وحسن نظره، فألف بين قلوبكم
وأرواحكم، وجعل الحظين فيها حظا واحدا.
قوله عز وعلا: * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) *.
قيل: برؤية النجاة بأعمالكم فأنقذكم منها برؤية الفضل.
قوله تعالى: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * [الآية: 106].
قال محمد بن علي: تبيض وجوه بنظرهم إلى مولاهم وتسود وجوه باحتجابه
عنهم.
118

وقال الحسين بن الفضل: يوم تبيض وجوه بالشهادة وتسود وجوه بالفرار من
الزحف.
وقال محمد بن الفضل: تبيض وجوه بالقناعة وتسود وجوه بالطمع.
قوله تعالى: * (ولقد نصركم الله ببدر) * [الآية: 123].
لضعفكم وصحة توكلكم على ربكم وانقطاعكم عن حولكم وقوتكم وردكم الأمر
إليه بالكلية، وأنتم أذلة عند أنفسكم لقلتكم وما كان يد وعز قط إلا بتذليل النفس
ومنعها من الشهوات، فأنزل الله عليكم نصره وأيدكم * (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا) *.
قوله عز وعلا: * (ليس لك من الأمر شيء) * [الآية: 128].
قال النوري: ليس لك من الأمر شيء ولكن الأمر كله إليك.
قال: لك من الأمر، فالأمر كله إليك وليس لك منه شيء جل قدرك أن يلاحظ غير
الحق فيما يبدئ ويعيد.
قوله عز وجل: * (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) * [الآية: 131].
قال ابن عطاء: أمر العوام باتقاء النار لخوفهم منها وتركهم المعاصي من أجلها، وأمر
الخواص بأن يتقوه وينظروا إليه دون غيره فقال: * (واتقون يا أولي الألباب) * أي: يا أهل
الخصوص.
قوله تعالى: * (الذين ينفقون في السراء والضراء) * [الآية: 134].
الذين يتبرءون من الأملاك والأنفس والقلوب، وينفقونها في رضا الله لا يبخلون
بشيء عليه.
وقيل: هذا خطاب خاطب به العام المتفرقين من أهل الذنوب ليردهم به إلى طريق
التوبة وخاطب الأوساط بقوله * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * اتقوه في تصحيح
طاعاتكم وإخلاصها وإخراج الشرك الخفي منها، وخاطب الخاص بقوله: * (اتقوا الله
119

حق تقاته) * وهو القيام معه في جميع الأحوال بحسن الموافقة.
قوله تعالى: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله) * [الآية: 135].
قال الواسطي: الطاعات فواحش، لا بل النظر إليها عجبا واستكبارا هي الفواحش لا
الطاعات.
سئل أبو عبد الله بن الجلاء عن الظلم فقال: متابعة النفس على ما تشتهيه.
سئل محمد بن علي عن قوله: * (والذين إذا فعلوا فاحشة) * قال: النظر إلى الأفعال
أو ظلموا أنفسهم برؤية النجاة بأعمالهم، ذكروا الله، لحقهم التوفيق من الله تعالى
وأدركتهم العصمة منه فاستغفروا لذنوبهم من أفعالهم وأقوالهم، ومن يغفر الذنوب إلا
الله، علموا أن لا وصول إلى الله تعالى إلا به.
قال أبو بكر الوراق: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بمتابعة الهوى
ومخالفة السنة.
قال جعفر المراوحي في هذه الآية: إنها على وجهين:
العامة: ذكروه بأنهم أحشموه فاستغفروه لترضوه.
والخواص: ذكروه بأنه تولاها منهم على ما سبق لهم فاستغفروه أدبا وذكروه
توحيدا.
قوله تعالى: * (هذا بيان للناس) * [الآية: 138].
قال جعفر: أظهر البيان للناس، ولكن لا ينتبه إلا من أيد منه بنور اليقين وطهارة
120

السر ألا تراه يقول: * (وهدى وموعظة للمتقين) * أي: أن الاهتداء بهذا البيان والإتعاظ
به للمتقين الذين اتقوا كل شيء سواه.
قوله تعالى: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون) * [الآية: 139].
سئل محمد بن موسى ما بال الإنسان يحزن مرة ويفرح أخرى؟ فقال: إن الأرواح
غذاؤها وتهذيبها في الاستتار والتجلي، يطرب عند التجلي ويحزن عند الاستتار، فمن
حجبه حزن ومن طالعه بعين البر واللطف فرح، ومن طالعه بعين السخط خاف وقلق.
قوله تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) * [الآية: 133].
فالطلب للمغفرة والغفران هو حظ النفس وكذلك طلب الجنان، وما دام العبد بهذه
الصفة فهو عبد نفسه وطالب حظه إلى أن يستوي في ميادين لطائف الخطاب ورود
الرضوان ودخول النيران، حينئذ فنى عن حظوظه وبقي بلا حظ، واستولت عليه في
ذلك جلابيب القدرة، فحينئذ يأنف أن ينظر إلى حظوظه فيبقى أثر الأثر لغير الحق
عليه.
قوله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) *.
قال يحيى بن معاذ: هذه مدحة لهم ولم يكن الله تعالى ليمدح قوما ثم يعذبهم.
وقال جعفر الصادق رحمة الله تعالى عليه: يأمرون بالمعروف والمعروف هو موافقته
الكتاب والسنة.
قوله تعالى: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) * [الآية: 144].
قال الحسين: ليس للرسول إلا ما أمر به أو كوشف به، ألا تراه لما سئل فيم يختصم
الملأ الأعلى بقي حيث لم يسمع حسا ولا نطقا فقال: لا أدري، فلما غيب عنه شاهده
121

بوقع الصفة عليه، شاهدهم بشهود الحق وذهب عنه صفة آدميته، أي: لما عاين ما
أطلعه الله عليه من مشاهدته غاب عن صفته لأنه صار غير آدمي فتكلم بالعلوم كلها.
قال الواسطي: سقمت البصائر عند موت محمد صلى الله عليه وسلم إلا من رجل واحد فضل
عليهم وهو الداعي إلى الله على البصيرة، وهو أبو بكر رضي الله عنه فكأن هذه الآية
خص هو بها، وعجزت الأمة عن ذلك لضعف تحايزها ووهن بصائرها وبأن فضيلة أبي
بكر رضي الله عنه بذلك وهو قوله: ' من كان يعبد محمدا فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد مات '.
قوله تعالى: * (من كان يريد ثواب الدنيا نؤته منها) *.
قيل: ثواب الدنيا: العافية والإكثار منها.
وقيل: إلهام شكر النعمة.
* (ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) *: ثواب الآخرة: الجنة ونعيمها.
قوله تعالى: * (بلى والله مولاكم) * [الآية: 150].
قال ابن عطاء: معينكم على ما حملكم من أوامره ونواهيه.
قال جعفر: متولى أموركم بدءا وعاقبة وهو خير الناصرين.
قال ابن عطاء: خير الناصرين لكم على أنفسكم وهواكم ومرادكم.
قال بعضهم: ' نعم المولى ' حيث لم يطالبهم بحقيقة ما تحملوا من الأمانات حين
أشفق من حملها السماوات والأرض ' ونعم النصير ' حين نصرهم إلى بلوغ رشدهم.
قوله تعالى: * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) * [الآية: 152].
قيل: قرئت هذه الآية بين يدي الشبلي فقال: أواه قطع طريق الخلق إليه ورد
الأشباح إلى قيمها.
122

قال محمد بن علي: منكم من يريد الدنيا للآخرة ومنكم يريد الآخرة لله تعالى.
قال أبو سعيد الخراز في هذه الآية: ما دمتم بكم وبأوصافكم كانت هممكم
الحوادث والدارين، فإذا توليتكم وأجليتكم من صفاتكم وأكوانكم، علوتم بهممكم إلي
فأنفتم من النظر إلى الأكوان وإرادتها وقمتم بالحق مع الحق.
وقال: متى ما طالعهم بأسرارهم محقهم عن إثارتهم ودهشتهم في مناديهم، أي:
ينظرون إلى ما صنع إليهم بدءا في منع أحوالهم لا إلى حركاتهم.
قال النوري: العامة في قميص العبودية والخاص في قميص الربوبية، فلا يلاحظون
العبودية وأهل الصفوة حد بهم الحق ومحاهم عن نفوسهم.
قال الشبلي - تغمده الله برحمته -: منكم من يريد الدنيا للطاعة، ومنكم من يريد
الآخرة للجنة فأين مريد الله تعالى؟ ومريد الله تعالى من إذا قال قال لله، وإذا سكت
فليس لسوى الله تعالى.
قال سهل بن عبد الله: دنياك نفسك فإذا قتلتها فلا نفس لك.
قال بعضهم في قوله تعالى: * (ثم صرفكم عنهم) * قال: صرف المريدين له عما دونه
وسواه.
قال الشبلي - رحمة الله عليه - في هذه الآية: أسقط العطفتين وقد وصلت، قيل:
وما العطفتان؟ قال: الكونين بما فيهما.
قوله تعالى: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة) * [الآية: 154].
قال ابن عطاء: من صدق إرادته واجتهاده ورياضته، رد إلى محل الأمن أي: عصم
من كل مخوف.
قوله تعالى: * (ربيون كثير) *.
قال الجريري: منقطعين إلى الرب جل وعز فانية عنهم أوصافهم وإراداتهم متطلعون
لإرادة الله تعالى فيهم.
123

قال بعضهم: * (ربيون كثير) *: وزراء الأنبياء فما وهنوا لما أصابهم اعتمادا على الله
تعالى، وما ضعفوا لما أصابهم في ذات الله تعالى، و ' ما استكانوا ' لم يتضرعوا لنزول
البلاء بهم.
قوله تعالى: * (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) *.
قال الواسطي: كونوا كأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما كانت نسبته إلى الحق لم
يؤثر عليه فقدان السبب، ولما ضعفت نسبتهم أثر عليهم الخطاب، فعمر بن الخطاب
رضي الله عنه يقول: ' من قال مات محمد صلى الله عليه وسلم ضربت عنقه وأبو بكر رضي الله عنه
نظر إلى ما دله عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم فقرأ: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) *.
قوله تعالى: * (فبما رحمة من الله لنت لهم) * [الآية: 159].
قال الواسطي: جميع أوصافك وما يخرج من أنفاسك رحمة مني عليك وعلى من
اتبعك، ثم أمره بإقامة العبودية في حسن المعاشرة مع أوليائه وتقريب منزلتهم والمشورة
معهم بقوله * (وشاورهم في الأمر) * ثم قال: * (فإذا عزمت فتوكل على الله) * أي فاقطع
عنهم جملة، وانقطع إلى سيرك وتوكل عليه، عاشرهم ظاهرا وطالع ربك سرا.
قال بعضهم: ' فاعف عنهم ': تقصيرهم في تعظيمك واستغفر لهم قعودهم عن
أمرك، وشاورهم في الأمر: لا تبعدهم بالعصيان عنك واشملهم بفضلك فإنك بنا تعفو
وبنا تغفر وإيانا تطالع.
ويقال: لا تعتمد عليهم وعلى كثرتهم في شيء من أمورك، إذا عزمت فأخلص
عزمك لنا، فإنك الحبيب ولا يحسن بالحبيب أن يلاحظ غير حبيبه.
قال ابن عطاء: لما علا خلقه جميع الأخلاق عظمت المؤنة عليه، فأمر بالغض والعفو
والاستغفار لهم.
قال جعفر: أمر باستقامة الظاهر مع الخلق وبتجريد باطنه للحق، ألا تراه يقول:
* (فإذا عزمت فتوكل على الله) *.
قوله تعالى: * (وسنجزي الشاكرين) *.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن سعيد يقول: الشاكر من يشكر
124

على الرخاء، والشكور من يشكر على البلاء.
وقد قيل: الشاكر من يشكر على النعماء والشكور من يتلذذ بالبلاء.
قوله تعالى: * (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) * [الآية: 160].
قال بعضهم: إنما يدرك نصر الله تعالى من تبرأ من حوله وقوته، واعتصم بربه في
جميع أسبابه لا من اعتمد على حوله وقوته ورأى الأشياء منه فإنه مردود إلى حوله
وقوته وعمله.
قوله تعالى: * (وما كان لنبي أن يغل) * [الآية: 161].
قال بعضهم: ما كان لنبي أن يستأثر بالوحي والشريعة بعض متبعيه على بعض.
قال يحيى العلوي في هذه الآية: ما كان لنبي أن يضع أسراره إلا عند الأمناء من
أمته.
قوله تعالى: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) *
[الآية: 164].
قال بعضهم: أكبر منن الله تعالى على الخلق وسائط الأنبياء إليهم، ليصلوا بهم إليه
لأنه لو أظهر عليهم من صفاته ذرة لأحرقتهم جميعا وأضلوا فيه عن الطريق إلا
المعصومين.
قوله تعالى: * (قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) * [الآية: 167].
قال الجوزجاني: جاهدوا أنفسكم وهواكم وجاهدوا معهم إلى أن تبلغوا منازل
الصديقين ودرجاتهم، فإن لم تستطيعوا ذلك فادفعوها عن ارتكاب المحارم والتوثب على
المناهي.
وقيل: قاتلوا أنفسكم على ملازمة الأوامر والنواهي، أو ادفعوها عن طريق الشرك
ظاهرا وباطنا.
قوله تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم) *
[الآية: 169].
قال ابن عطاء: المقتول على المشاهدة باق برؤية شاهده، والميت من عاش على رؤية
نفسه ومتابعة هواه.
125

قال أبو سعيد القرشي في هذه الآية: لا تظنن أن الهالكين في طريق الإرادة طلبا
للوصلة مردودين إلى مقاماتهم، بل قد بلغ بهم غاية ما قصدوا من القرب والوصلة،
أحياء بقرب الحي عند ربهم في مجلس المشاهدة، يرزقون زيادة الفوائد من أنوار
الاطلاع، فرحين بالغين أقصى الرضا.
قوله تعالى: * (يستبشرون بنعمة من الله وفضل) * [الآية: 171].
قال ابن عطاء: لو نظروا إلى المنعم لتبغض عليهم الإستبشار بنعمه وفضله ولكان
استبشارهم بالمنعم المتفضل.
قال بعضهم: الإستبشار بالنعمة منه هو الإستبشار بالمنعم.
قال بعضهم: يستبشرون بما أنعم عليهم من فضله القديم، حيث جعلهم أهلا لنعمه
وفضله.
قوله تعالى: * (فلا تخافوهم وخافوني) * [الآية: 175].
قال الجنيد رحمة الله تعالى عليه: الخوف توقع العذاب مع كل نفس.
قال بعضهم: خوف أهل المعرفة ثلاثة: خوف من تقلب القلب، وإفراط القول،
وتخليط العمل.
قال الواسطي: الخوف من شرط الإيمان والحسبة من شرط العلم.
قال ابن عطاء في قوله تعالى: * (فلا تخافوهم وخافوني) * قال: ما دمتم متمسكين
بالطريقة فخافوني فمن ترك الخوف فقد ترك الطريقة المستقيمة.
وقال أيضا في هذه الآية: الخوف رقيب العمل والرجاء شفيع المحن.
وقال أحمد بن عاصم: أنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن
على ما قد فات وألزمك الفكر في بقية عمرك وخاتمة أمرك.
قال الواسطي: ليس الخوف من وقعت به العبرة كخوف من لم تقع به، بل ليس قلق
126

من شاهد ما غاب كقلق من حذر ما غاب، بل ليست رهبة من هو غائب عن حضوره
كرهبة من حضر في غيبته، بل ليس خوف من هو في وقاية الحق كمن هو في رعاية
الحق.
قال سهل بن عبد الله في قوله: * (فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين) *: إن كنتم
مصدقين أنه لا دافع ولا نافع غيري.
قوله تعالى: * (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) * [الآية: 176].
قال الواسطي: الحزن في الأحوال كلها، وفي الحقيقة تعريف لهم وتنبيه، وهذه
الآية من حياد الحقائق التي جرت أنهم لن يضروا الله شيئا.
قال: لأنهم جحدوا ما يليق بطبائعهم.
قوله تعالى: * (الذين استجابوا لله والرسول) * [الآية: 172].
قال الواسطي: استجابوا لله تعالى بالوحدانية وأجابوا الرسول في اتباع أوامره
واجتناب نواهيه، وقبول الشريعة منه على الرأس والعين.
وقيل في قوله تعالى: * (الذين استجابوا لله) *: باستجابة الرسول صلى الله عليه وسلم فبلغتهم
استجابتهم المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة استجابة الحق تعالى.
وقيل: استجابوا لله بالفردانية وللرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ.
قوله تعالى: * (للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) *.
قيل للذين أحسنوا في أداء الشرائع واتقوا في التوحيد، أن يخالطوه بشرك خفي
' أجر عظيم ' هو حفظ أسرارهم وأوقاتهم عليهم من كل شاغل يشغلهم عن الحق.
وقيل للذين أحسنوا منهم في إجابة المصطفى صلى الله عليه وسلم واتقوا مخالفته سرا وعلنا. * (أجر عظيم) * وهو البلاغ إلى المحل العظيم من محاورة الحق ومشاهدته.
قوله تعالى: * (إنهم لن يضروا الله شيئا) * [الآية: 176].
لأنه الذي تولاهم وفي البلية ألقاهم.
قوله تعالى: * (يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة) *.
شغلهم فيما فيه هلاكهم من تكبير أنفسهم وطلب معاشهم، وقد سبق القضاء فيهما
ولا تغيير ولا تبديل.
127

قوله تعالى: * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * [الآية: 179].
قيل في هذه الآية: ما كان الله ليطلعكم على الغيب وأنتم تلاحظون أشباحكم
وأفعالكم وأحوالكم، فإنما يطلع على الغيب من كان أمين السر والعلانية موثوق الظاهر
والباطن، فيفتح له من طريق الغيب بقدر أمانته ووثاقته ألا تراه يقول: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) *.
وهو الفاني عن أوصافه المتصف بأوصاف الحق.
قوله تعالى: * (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) *.
أي: فيطلعه على الغيب، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم كيف حكم على الغيب بقوله: ' عشرة
من قريش في الجنة '.
قوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) * [الآية: 180].
قال ابن عطاء: السلوك في طريق الحض على السخاء واجتناب البخل، وهو بذل
المال والنفس والسر والروح والكل، فمن بخل بشيء في طريق الحق حجب به وبقى
معه، ومن نظر في طريق الحق إلى الغير حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب كما
128

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ' ما جبل ولي الله إلا على السخاء '.
قوله تعالى: * (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) * [الآية: 186].
قال ابن يزدانيار: لتبلون في أموالكم بجمعها ومنعها، والتقصير في حقوق الله
تعالى فيها، وأنفسكم باتباع شهواتها وترك رياضاتها وملازمتها أسباب الدنيا وخلوها عن
النظر في أمور المعاد.
وقيل: * (لتبلون في أموالكم) * بحبها ومنع حقوقها، وأنفسكم برؤية أعمالها
والاعتماد عليها.
وقيل: لتبلون في أموالكم بالاشتغال بها أخذا وعطاء.
قوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس) * [الآية: 187].
قيل: أخذ الله تعالى المواثيق على الأولياء أن لا يخفوا لألباب الله تعالى عندهم من
لا يفتتن بذلك ولا يتخذه دعوى، وأن يعلموا من قصدهم من المريدين الطريق إلى
الحق.
قوله تعالى: * (واشتروا به ثمنا قليلا) *.
129

قيل: ادعوا ذلك لأنفسهم ليفتنوا به الخلق.
قوله تعالى: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) * [الآية: 190].
قال الواسطي: في هذه الآية أثبت للعامة المخلوق فأثبتوا به الخالق فقال: * (لآيات لأولي الألباب) *.
قال لأهل الحقائق، وقال للخواص ' ألم تر إلى ربك '.
قال الجنيد رحمه الله: كل من أثبته بعلة فقد أثبت غيره، لأن العلة لا تصحب إلا
معلولا لأجل الحق عن ذلك.
قال الواسطي في هذه الآية: هو فرق بين معرفة العامة ومعرفة الموحدين، لأن
العامة اعتقدته بما يليق به، وكل حال أثبته العموم جحدته الخصوص فهو عند الخاص
منزه عن كل ما وصفه به العام لأن العام أثبتوه من حيث العبودية والخاص أثبتوه من
حيث الربوبية.
قال بعضهم في قوله تعالى: * (إن في خلق السماوات والأرض) *: إن الخواص لم
ينظروا إلى الكون والحوادث إلا بمشاهدة الآيات، وما شاهدوا الآيات إلا بمشاهدة الحق
فيها، ومن شاهد الحق لم يمازج سريرته طعم الحدث، وأنى بالحدث لمن الحدث عنده
غيرحدث.
قال النصرآباذي: من لم يكن من أولي الألباب لم يكن له في النظر إلى السماوات
والأرض اعتبار، وأولوا الألباب هم الناظرون إلى الخلق بعين الحق.
قوله تعالى: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * [الآية: 191].
قال أبو العباس بن عطاء: يذكرونه قياما بشرط قيامهم لوفاء الذكر، ويذكرونه
قعودا بقعودهم عن المخالفات، وعلى جنوبهم على كل جهة يجنبهم عليها أي يحملهم.
وسئل بعضهم هل في الجنة ذكر؟
قال: الذكر طرد الغفلة فإذا ارتفعت الغفلة فلا معنى لذكره وأنشد:
(كفى حزنا أنى أناديك أبيا
* كأني بعيد وكأنك غائب
*
130

(وأطلب منك الفضل من غير رغبة
* ولم أر مثلي زاهدا فيك راغب
*
قال جعفر: يذكرون الله تعالى قياما في مشاهدات الربوبية، وقعودا في إقامة
الخدمة، وعلى جنوبهم في رؤية الزلف.
قال الواسطي: كل ذاكر على قدر مطالعة قلبه بذكر، فمن طالع ملك الجلال ذكره
بذلك، ومن طالع ملك رحمته ذكره بذلك، ومن طالع ملك معرفته ذكره على ذلك،
ومن طالع ملك سخطه وغضبه كان ذكره أهيب، ومن طالع المذكور أغلق عليه باب
الذكر.
قال النصر آباذي: الذين يذكرون الله قياما وقعودا بقيوميته ' أفمن هو قائم على كل
نفس بما كسبت '. وقعودا بمجالسة أنا جليس من ذكرني '. وعلى جنوبهم إشارة * (يا
حسرتا على ما فرطت في جنب الله) *.
قال بعضهم: ' الذين يذكرون الله قياما ': يذكرونه قائمين باتباع أمر الله، وقعودا أي
قعودا عن زواجره ونواهيه، وعلى جنوبهم أي وعلى اجتنابهم مطالعات المخالفات
بحال.
وقيل: الأصل في الذكر أنه ذكرك إما بالتوحيد أو بالإلحاد، وذكرك للعطية أو
للمحبة فما أظهر عليك من نعمته ظهر عليك من ذكره قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' كل ميسر لما
خلق له '.
قال سهل: ما ذكره أحد إلا من غفلة.
131

قال فارس: الذكر طرد الغفلة وليس للمذكور من الذكر إلا حظ الذاكر منه، وكل
من ذكر فبنفسه بدأ لان ثمرته عائدة عليه والحق وراء ذلك.
قال ذو النون: إنما حسن ذكرك له لأنه تبع ذكره لك، ولولا ذاك لكان كسائر
أفعالك.
قال القناد: الذكر غذاء الأرواح كما أن الطعام غذاء الأشباح.
قال الشبلي رحمة الله تعالى عليه: ذكر الغفلة يكون جوابه اللغز. وأنشد:
(ما إن ذكرتك إلا هم يلعنني سري
* وذكري وفكري عند ذكراكا
*
(حتى كأن رقيبا منك يهتف بي
* إياك ويحك والتذكار إياكا
*
قوله تعالى: * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) *.
قال بعضهم: قدم الذكر على التفكر، ليتم شكر النعمة على حسب استحقاق المزيد
من واجب الشكر لأن الفكر يبرئ الكل منك، ولا ينصرف إلا بحق.
قال بعضهم: فكرة العامة في العواقب، وفكرة الخاصة في السوابق، وفكرة
الأوساط في الطوارق وهذا يدخل في مثلات تفسير قوله تعالى: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) *.
قال بعضهم: الفكرة بالملاحظة والبصيرة والنجيزة، فخلوص النجايز أورثت
مطالعات المعارف وسلامة البصائر أورثت الضياء في الضمائر وملاحظة الكريم أوجبت
البر والنعيم.
قال بعضهم: التفكر يتولد على قدر اليقين ولا يخلو القلب من فكرتين: فكرة في
الآخرة وفكرة في الدنيا، ومن صحة التفكر أن يكون حشوه اليقين والرجوع إلى الحق،
ومن فساد التفكر ان يجلب عليك الكدورات والشبهات.
قال بعضهم: التفكر أن تتفكر في تنبهك وغفلتك وطاعتك ومعصيتك، فإذا تفكرت
132

فيه خلص لك أفعالك.
قال بعضهم: هو رؤية الله تعالى قبل التفكر في الأشياء، وواسطة التفكر أن ترى
الأشياء قائمة بالله تعالى، وفساد التفكر أن ترى الأشياء فتستدل بها على الله تعالى.
قال ذو النون: من وفقه الله تعالى للتفكر فتح عليه المنه وغرقه في بحار النعمة
وأوصله إلى محبة المولى.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون
يقول: خلق الله تعالى على الفطرة وأطلق لهم الفكرة، فبالفطرة عرفوه وبالفكرة
عبدوه.
وقيل: ذلك بالتفكر في صفات الحق لا في المحدثات ولو دلك على المحدثات لقال
في حق السماوات والأرض.
قال النصرآباذي رحمة الله عليه: أوائل التفكر بالتمييز، وانتهاؤه عنده سقوط التمييز
بالتمييز وانتهاؤه.
قوله تعالى: * (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) *
[الآية: 188].
قال حاتم الأصم رحمة الله تعالى عليه: حذر الله تعالى بهذه الآية سلوك طريق
المرائين والمتقربين والمتزهدين والمتوسمين بسيما الصالحين وهم من ذلك خوالي، قال
الله تعالى: * (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) * إن ذلك الظاهر ينجيهم من العذاب كلا
بل لهم عذاب أليم، وهو أن يحجبهم عن رؤيته ويمنعهم لذيذ مخاطبته.
قوله تعالى: * (سبحانك فقنا عذاب النار) * [الآية: 191].
كأنه يقول: نزهني يا من لا ينزهني أبدا غيره وعظمني يا من لا يعظمني أبدا غيره.
قال النصرآباذي: سبحانك إني نزهت نفسك بنفسك في نفسك، بمعناك في معناك،
بما لاق منك بك لك.
قوله تعالى: * (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) *
[الآية: 193].
قال القاسم: الإيمان أنوار الحق إذا اشتملت على السريرة، وهو أن يغيب العبد تحت
133

أنواره ويبدو له بحر الاختراق، فيغيبه عن وساوس الافتراق فيكون مصحوب الحق في
أوقاته لا يشعر بتسخيره ولا يعلم بحجابه، وإنما تحجب الكل بالكل وحجب كلا بكليته
وقمع كلا بحده، لئلا يستوي علم أحد مع علمه، وهذا هو صريح الإيمان.
قال أبو بكر الوراق: للمؤمن أربع علامات: كلامه ذكر، وصمته تفكر، ونظره
عبره، وعمله بر.
قال ابن عطاء: المؤمن واقف مع نفسه، ألا تراه يقول: * (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) * كيف أثبت أفعال نفسه ورجوعه إلى الإيمان ولم يعلم أنه
مقدور ومدبرها ما هو فيه.
قوله عز وجل: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا) *.
قال فارس رحمه الله: الحكمة في إظهار الكون إظهار حقائق حكمته بالفعل
الحكيمي.
وقال غيره: الحكمة في إظهار الكون ارتفاع العلة فإذا ارتفعت العلة ظهرت الحكمة.
وقال إبراهيم الخواص: أمرهم بالتفكر في خلق السماوات والأرض ثم قطعهم عن
ذلك بقوله: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا) * دلهم عليها ثم حثهم على الرجوع إليه؛ لئلا
يقفوا معها فينقطعون عن مشاهدته والإقبال عليه.
قوله عز وجل: * (وتوفنا مع الأبرار) *.
قال: مع من رضيت ظاهرهم للخلق وباطنهم للحق عز وجل.
وقال أبو عثمان رحمه الله: الأبرار هم الذين أسقطوا عن أنفسهم أشغال الدنيا
واشتغلوا بما يقربهم إلى مولاهم.
وقال: الأبرار هم القائمون لله تعالى على حد التفريد والتوحيد والتجريد.
وقال سهل: هم المتمسكون بالسنة.
وقال: الأبرار: الناظرون إلى الخلق بعين الحق.
قوله عز وجل: * (ولا تخزنا يوم القيامة) * [الآية: 194].
لا تخزنا بأعمالنا علينا بفضلك ورحمتك * (إنك لا تخلف الميعاد) * بقولك ' سبقت
134

رحمتي غضبى '.
قوله عز وجل: * (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم) * [الآية: 195].
تركوا الشرور وفارقوا قرناء السوء.
قوله تعالى: * (وأوذوا في سبيلي) *.
قيل: إن الله تعالى خير القوم يصحبة الفقراء ومجالستهم والتزين لربهم لأن الفقراء
هم طريق الحق، ألا ترى المصطفى صلى الله عليه وسلم لما جلس معهم كيف قال: ' المحيا محياكم
والممات مماتكم '.
قوله تعالى: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) * [الآية: 196].
قال يوسف رحمه الله: لا تفتننكم الدنيا بوقوع الجهال عليها والاغترار بما فيها
والتكبر بنعيمها، فإنها زادهم إلى النار.
قوله تعالى: * (وما عند الله خير للأبرار) * [الآية: 198].
قيل: ما عنده لهم خير مما يطلبونه بأفعالهم قوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) * [الآية: 200].
قال الجنيد: إن الله تعالى ذكر الصبر وشرفه وعظم شأن الصابرين عليه لديه، فقال:
* (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا) * وأمرهم بالصبر على الصبر ثم قال:
* (ورابطوا) * وهو ارتباط السر مع الله تعالى سرا، والوقوف مع الله تعالى جهرا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إنما الصبر عند الصدمة الأولى '.
135

قال الحارث رحمه الله: في قوله تعالى: * (اصبروا) * قال: الصبر: التهدف بسهام
البلاء.
قال الجريري رحمه الله: الصبر إسبال البلوى قبل وقوع البلوى، فإذا صادف البلوى
تلقاه بالمولى فلم يجزع.
قال الجنيد رحمه الله: الصبر حبس النفس مع الله تعالى بنفي الجزع عما سواه.
قال ابن عطاء رحمه الله: اليقين سيف النفس، والصبر من سر الله تعالى في أرضه،
وإن الشيطان ليتعوذ من الصابرين كما يتعوذ المؤمن من الشيطان.
قال: وسمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفرا الخلدي رحمه الله
يقول: خير الدنيا والآخرة في صبر ساعة.
قال ذو النون رحمه الله: علامة الصبر خمسة:
- التباعد عن الخلطاء في الشدة والسكون إليهم.
- مع تجرع غصص البلية.
- وإظهار الغنى مع كثرة العيال.
- وجفاء الخلق مع هجرانهم له.
- وقول الحق مع احتمال الضرر في المال والبدن.
136

وقال بعضهم: اصبروا تحت حكمي، وصابروا في الجهاد مع أعدائي، ورابطوا
قلوبكم بموافقتي ورضائي.
وقيل: اصبروا قال: الصبر يوجب الرضا والرضا يوجب الحياء والحياء يوجب
الغنى.
قال جعفر الصادق رحمه الله: اصبروا عن المعاصي، وصابروا على الطاعات،
ورابطوا الأرواح بالمشاهدة، واتقوا الله بحسن الانبساط مع الحق عز وجل، لعلكم
تفلحون: تبلغون مواقف أهل الصدق فإنه محل الفلاح.
وقال بعضهم: اصبروا بجوارحكم على الطاعات وصابروا مع الله، ورابطوا
أسراركم بالحقائق لعلكم تجردون من همومكم وخطراتكم.
قال الجنيد رحمه الله: الصبر حبس النفس على المكروه.
* *
137

سورة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه توفيقي
* (يا أيها الناس اتقوا ربكم) * [الآية: 1].
قال بعضهم: * (يا أيها الناس) * يا بني النسيان والجهل.
قال الواسطي رحمه الله: يا بني الأعمار والأعمال والآمال، لا تذهبون فيما سبق
ولا تغيبون عما أنتم فيه.
وقال ابن عطاء رحمه الله: * (يا أيها الناس) * كونوا مع الناس الذين آنسوا بالله
واستوحشوا ممن سواه.
وقال جعفر الصادق رحمه الله: * (يا أيها الناس) * كونوا من الناس الذين هم الناس،
ولا تغفلوا عن الله فمن عرف أنه من الناس الذين خص خلقه ما خص به، كبرت همته
عن طلب المنازل، وسمت به الرفعة حتى يكون الحق عز وجل نهايته كما قال تعالى:
* (وأن إلى ربك المنتهى) * وسمو همته فيما خص به من الإختصاص من التعريف
والإلهام.
وقال بعضهم: * (يا أيها الناس) * خطاب العام، و ' يا عبادي ' خطاب الخاص، وخطاب
خاص الخاص * (يا أيها النبي) *، و * (يا أيها الرسول) *.
قوله تعالى: * (اتقوا ربكم) *.
روى الليث عن مجاهد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال له: أوصني قال: ' اتق الله فإنه جماع كل خير '.
وقال بعضهم: أصل التقوى أنه وصفك وقابلك بما يليق بك.
قال سمعت النصر آباذي رحمه الله يقول: التقوى نيل الحق، قال الله عز وجل:
138

* (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) *.
قال بعضهم: التقوى ترك المخالفات أجمع.
وقال سهل رحمه الله: من أراد التقوى فليترك الذنوب كلها وكل شيء يقع فيه خلل
فيدخل عليه التقوى شاء أم أبى.
وقال أيضا: التقوى ترك النهى والفواحش.
وقال بعضهم رحمه الله: التقوى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: التقوى في الأمر ترك التسويف والتقوى في النهى ترك الفكرة والقيام
عليه. والتقوى أداب مكارم الأخلاق، والتقوى في الترغيب أن لا يظهر ما في سرك،
والتقوى في الترهيب أن لا يقف على الجهل.
وقال بعضهم رحمه الله: التقوى من الله الاجتناب من كل شيء سوى الله.
وقال الجريري رحمه الله: من لم يحكم فيما بينه وبين الله تعالى بالتقوى والمراقبة لا
يصل إلى الكشف والمشاهدة.
قال الواسطي رحمه الله: التقوى على أربعة أوجه: للعامة تقوى الشرك، وللخاص
تقوى المعاصي، وللخاص من الأولياء تقوى التوسل بالأفعال، وللأنبياء تقواهم منه
إليه.
وقال أبو يزيد رحمه الله: كل التقوى من إذا قال لله ولم يقل لغيره، وإذا نوى نوى
لله ولم يتب لغيره، هكذا في جمعي ما يبدو منه.
قوله تعالى: * (الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) * الآية.
قيل: من أوجد النفس الأولى إلا القدرة الجارية والمشيئة النافذة.
وقال عمرو بن عثمان: إن الله عز وجل خلق العالم فهيأه باتساقه نظما وذكرا من
أطرافه وأكنافه وأوله وآخره وبدؤه ومنتهاه من أسفله إلى أعلاه، وجعله بحيث لا خلل
فيه ولا تفاوت ولا فطور، أحكم بناءه باتصال التدبير وحبسه عن حد تقديره وإن
اختلفت أجزاؤه في التفرقة والأجسام والهيئات والتخطيط والتصوير، وفرقه بتفرقة
الأماكن وحققه بائتلاف المصالح، فهو مربوط بحدود تقديره وشائع بأفضال تدبيره وبث
139

فيه الأجناس بينهما من شواهد الزينة، فأظهر القدرة بإيجاد آدم عليه السلام ثم بث
أولاده في البسط إلى تصاريف التدبير لهم والمشيئة.
قال الله تعالى: * (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) *.
قال الواسطي رحمه الله في قوله تعالى: * (خلقكم من نفس واحدة) * قال: خلقهم
بعلم سابق ودبرهم بالتركيب وألبسهم شواهد النعت، حتى عرفهم فكانت أنفاسهم
مدخرة عنده، حتى أبداها، فما أبداها هو ما أخفاها، وما أخفاها هو ما أبداها.
قوله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * [الآية: 5].
قيل: أولادكم الذين يمنعونكم عن الصدقة.
قال سهل رحمه الله: أسفه السفهاء نفسك فإن زخرفتها بالعلم والخوف والورع،
وإلا حجزتك عن طريق نجاتك من الخروج عن الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * أي: جعلها لكم إن قطعتم في سبيلي
وأورثتكم المحن إن تركتم قوله تعالى: * (فإن آنستم منهم رشدا) * قيل: يعني أبصرتم
منهم إصابة الحق.
وقيل: القيام في العبادات على شرط السنة.
وقيل: سخاء النفس، وقيل: صحبة الأكابر والميل إليهم.
وقال أبو عثمان رحمه الله: صحبة أهل الصلاح.
قال رويم: الرشيد: الرجوع إلى التفويض وترك التدبير.
وقال ابن عطاء رحمه الله: الرشيد من يفرق بين الإلهام والوسوسة.
قوله تعالى: * (وكفى بالله شهيدا) *.
قال: هو الشاهد عليك، الشهيد على خواطرك وأنفاسك فاتقه فيها.
وقال الواسطي رحمه الله: لا تشهد أفعالك ولا أحوالك وكفى بالله شهيدا عليها
140

وهو شاهد لها.
قوله عز وجل: * (إن الله كان عليكم رقيبا) *.
قيل: هو المراقب بسرك والناظر إليك، فاجتهد أن لا ينظر إليك فيراك مشتغلا بغيره
فيقطعك ويمحقك.
وقال ابن عطاء رحمه الله: في قوله تعالى: * (إن الله كان عليكم رقيبا) * قال: عالما بما
تغمره في سرك وما تخفيه من خواطرك، فراقب من هو الرقيب عليك.
قوله عز وجل: * (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) *
[الآية: 8].
قال محمد بن الفضل رحمه الله: دلت هذه الآية على كرم الله عز وجل مع عباده،
لأنه أمر إذا حضر من لا نصيب له في الميراث أن يرزقوهم منه، ولهذا إنه إذا حضر
عباده يوم القيامة في المشهد العظيم إنه يتفضل بعطائه على من لم يكن له مستحقا
لعطائه، لمخالفاته باتصال رحمته إليه، بفضله وسعة رحمته وبلوغه إلى منازل أولى
الأعمال، لأنه قال عز وجل: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) *. يعني هو خير من أفعالكم وطاعاتكم التي اعتمدتم عليها، فاعتمدوا على
فضلى وسعة رحمتي.
قوله عز وجل: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) * [الآية: 9].
قيل: استعينوا على كثرة العيال وقلة ذات اليد بالتقوى، فإنه الذي يجبر الكسر
ويغني الفقير.
وقال جعفر بن محمد الصادق رحمه الله: الصدق والتقوى يزيدان في الرزق
ويوسعان المعيشة.
قال الله عز وجل: * (فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) *.
قوله عز وجل: * (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله) *
[الآية: 11].
141

آباؤكم ببرهم وأبناؤكم بالشفقة عليهم والتأديب لهم هما محل النفع.
قوله عز وجل * (تلك حدود الله) *.
قال محمد بن الفضل رحمه الله: حدود الله أوامره ونواهيه، فمن تخطاها فقد ضل
عن سبيل الرشد. وقيل * (تلك حدود الله) * أي: الإظهار من الأحوال للمريدين على
حسب طاقتهم لها فإن التعدي فيها يهلكهم.
قال أبو عثمان رحمه الله: ما هلك المرء إذا لزم حده ولم يتعد طوره.
وقال بعض البغداديين رحمه الله: العبد يتقلب في جميع الأوقات على الحدود،
لكل وقت ولكل حال حد، ولكل عمل حد، فمن تخطا الحدود فدخل في هتك
الحرمات قال الله عز وجل: * (تلك حدود الله فلا تقربوها) * لأن المرتع إلى جانب
الحمى ربما يخالط الحمى.
قوله أيضا: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) * [الآية: 17].
قال: للذين يتقربون بالطاعات إلى من لا يتقرب إليه. الآية.
وقال محمد بن الفضل رحمه الله: ضمن الله عز وجل التوبة لمن يبدر منه الذنب
من غير قصد، لا لمن يضمره ويتأسف على فوته، قال الله تعالى: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) *.
قوله عز وجل: * (وعاشروهن بالمعروف) * [الآية: 19].
قيل: علموهن السنن والفرائض.
وقال عبد الله بن المبارك: العشرة الصحيحة ما لا تورثك الندم عاجلا وآجلا.
142

وقال أبو جعفر رحمه الله: المعاشرة بالمعروف حسن الخلق مع العيال فيما سأل
وكرهت صحبتها.
قوله عز وجل: * (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) *.
قيل: غيب عنك العواقب لئلا تستكن إلى مألوف ولا تفر من مكروه.
وقال أبو: عثمان رحمه الله: السكون إلى كراهية النفس جعل الله فيه خير الدارين.
قال الله تعالى * (ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) * والخير الكثير هو ما يتصل بالعقبى،
لأنه لا كثير في الدنيا، * (وأن تصبروا خير لكم) *.
قال: وسمعت سعيد بن أحمد يقول: سمعت جعفرا الخلدي يقول: سمعت الجنيد
رحمه الله يقول: الصبر مفتاح كل خير.
قال: وسمعت محمد بن الحسين البغدادي يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل
يقول: سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت ذا النون يقول: أفضل الصبر الصبر عن
المخالفات.
وسئل الجنيد رحمه الله عن الصبر فقال: حمل الضرر لله حتى تنقضي أوقاته.
وقال أيضا: لا يتم تحملك الصبر إلا مع الاستقبال بما يخامر البلايا بالصبر.
143

قوله عز وجل: * (يريد الله ليبين لكم) * [الآية: 26].
فتبينوا ولا تكونوا عميا عما بين لكم.
وقال بعضهم رحمه الله: لا يتبين بيان الله عز وجل إلا المكاشفون من حقائق الحق.
وقال بعضهم رحمه الله: يريد الله ليبين لكم أنه ليس إليكم من أموركم شيء.
قوله عز وجل: * (ويهديكم سنن الذين من قبلكم) *.
قيل: سنن الأنبياء والصديقين، وسننهم من التفويض والتسليم والرضا بالمقدور ساء
أم سر.
قوله عز وجل: * (والله يريد أن يتوب عليكم) * [الآية: 27].
قال النصرآباذي رحمه الله: ما تبت حتى أراد الله بك التوبة، ولولا إرادته لك
التوبة كنت عن التوبة بمعزل.
وقال أيضا: أراد لك التوبة فتاب عليك ولو أردتها لنفسك لعلك كنت تحرم.
قوله تعالى: * (يريد الله أن يخفف عنكم) * [الآية: 28].
قيل: يعني يقال العبودية لعلمه بضعفكم وجهلكم.
وقيل: يريد الله أن يخفف عنكم ما حملتموه بجهلكم من عظيم الأمانة.
قوله عز وجل: * (وخلق الإنسان ضعيفا) *.
قيل: ضعيف الرأي ضعيف العقل إلا من أمره الله بنور اليقين، فقوته باليقين لا
بنفسه.
قوله عز وجل: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * [الآية: 29].
بارتكاب المخالفات واستكبار الطاعات.
وقال سهل رحمه الله: ولا تقتلوا أنفسكم بالمعاصي والذنوب والإصرار وترك التوبة
والرجوع إلى الإستقامة.
وقال محمد بن الفضل رحمه الله: لا تقتلوا أنفسكم باتباع هواها.
وقال بعضهم رحمه الله: بالحرص على الدنيا.
وقال بعضهم رحمه الله: ولا تقتلوا أنفسكم بالرضا عنها.
144

قوله عز وجل: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * [الآية: 31].
قال أبو تراب اليخشبي رحمه الله: أمر الله عز وجل باجتناب الكبائر، وهي
الدعاوى الفاسدة والإشارات الباطلة وإطلاق الألفاظ من غير حقيقة.
قوله عز وجل: * (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله) * [الآية: 34].
وقال بعضهم رحمه الله: بحفظ الله لهن صرن حافظات للغيب، ولو وكلهن إلى
أنفسهن لهتكن ستورهن.
قوله عز وجل: * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) * [الآية: 32].
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ' ليس الإيمان بالتمني '.
145

وقال بعضهم رحمه الله: لا تتمنوا منازل السادات والأكابر أن تبلغوها، ولم تهذبوا
أنفسكم في ابتداء إرادتكم برياضات السنن والأسرار بالتطهير على الهمم الفاسدة ولا
قلوبكم عن الاشتغال بالفانية، فإن الله عز وجل قد فصل هذه الأحوال أولئك، فلا
ترتقوا إلى الدرجات العلى وقد ضيعتم الحقوق الأدنى.
وقال أبو العباس بن عطاء رحمه الله: لا تتمنوا فإنكم لا تدرون ما تحت تمنيكم، فإن
تحت أنوار نعمه نيران محنته، وتحت أنوار محنته أنوار نعمه.
وقال الواسطي رحمه الله في هذه الآية: من تمنى ما قدر له فقد أساء الظن بالحق عز
وجل، وإن تمنى ما لم يقدر له أساء التمني على الله عز وجل بأنه ينقص قسمته من
أجل تمني عبده.
وقال ابن عطاء رحمه الله في قوله عز وجل: * (واسألوا الله من فضله) * فإن عنده
أبواب كرامته.
قوله عز وجل: * (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) * في طلب المحبة وخلوص
القلب منهن لكم، فإنهن غير مالكات لقلوبهن والقلوب بيد الله عز وجل، وقد قال
المصطفى صلى الله عليه وسلم: ' اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك '.
قوله عز وجل: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) * [الآية: 36].
قال أبو عثمان رحمه الله: حقيقة العبودية قطع العلائق والشركاء عن الشرك.
وقال الجنيد رحمه الله: إذا أحزنك أمر فأول خاطر تستغيث به فهو معبودك.
وقال الواسطي رحمه الله: الشرك رؤية التقصير والعثرة من نفسه والملامة عليها.
146

يقال لها: لزمت الملامة من تولى إقامتها ومن قضى عليها العثرة.
وقال ابن عطاء رحمه الله: الشرك أن تطالع غيره أو ترى من سواه ضرا ونفعا.
وقال بعضهم رحمه الله: العبادة أصلها ستة: التعظيم والحياء والخوف والبكاء
والمحبة، والهيبة، من لم يتم له هذه المقامات لم تتم له العبودية.
وقال الطيب البصري رحمه الله: من لم يدرج وفاء العبودية في عز الربوبية، لم
تصف له العبودية.
وقال بعضهم رحمه الله: العبودية خلع الربوبية وهي جوهرة تظهر الربوبية من غير
علة.
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: دللهم ثم ذللهم ليعرفوا بالدل فاقة العبودية،
وبالذل عز الربوبية.
وقال ابن عطاء رحمه الله: العبودية ترك الاختيار وملازمة الذل والافتقار.
وقال أيضا: العبودية ترك الاختيار وهي جامعة لأربع خصال: الوفاء بالعهود والحفظ
للحدود والرضا بالموجود والصبر عن المفقود.
وقال الجنيد رحمه الله: العبودية ترك المشيئة ومن خرج من قال بالعبودية صنع به ما
يصنع بالآبق.
وقال بعضهم رحمه الله: العبودية بناؤها على ستة خصال: التعظيم وعنده الإخلاص،
والحياء وعنده اضطراب القلوب، والمحبة وعندها الشوق، والخوف وعنده ترك الذنوب،
والرجاء وعنده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتخلق بأخلاقه، والهيبة وعنده ترك الاختيار.
قوله عز وجل: * (والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) *.
قال سهل رحمه الله: الجار ذي القربى هو القلب، والجار الجنب هي النفس،
والصاحب بالجنب وهو العقل الذي ظهر على اقتداء السنة والشرع، وابن السبيل
الجوارح المطيعة لله عز وجل.
147

قوله عز وجل: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * [الآية: 37].
قال الذين يمنون بالعطاء ويطلبون من الناس الثناء عليه.
قوله عز وجل: * (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) *.
قال ابن عطاء رحمه الله: من البراهين الصادقة.
وقال بعضهم: لا يشكرون نعمة العافية عليهم.
قوله عز وجل: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) * [الآية: 41].
جئنا من كل أمة بولي وصديق، وجئنا بك مصدقا لولايتهم أو مكذبا لها.
148

قال الله عز وجل: * (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) *.
قوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * [الآية: 43].
قال بعضهم: السكر على أنواع: منها سكر الخمر وهو أسرعها إفاقة، وسكر الغفلة
وسكر الهوى وسكر الدنيا وسكر المال وسكر الأهل والولد وسكر المعاصي وسكر
الطاعات، وكل هذا وما أشبهها يمنع صاحبه عن تمام الصلاة والقيام إليها بالقعود عن
كل ما سواها.
قال الواسطي رحمه الله في هذه الآية: لا تقربوا يعني لا تتقربوا إلى مواصلتي، إلا
وأنت منفصل عن جميع الأكوان وما فيها.
قوله عز وجل: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *
[الآية: 48].
قال: أن يطالع سره شيئا سوى الله عز وجل.
وقيل: إن رؤية العمل ورؤية النفس وطلب الثواب على العمل وطلب المدح عليه،
كلها من أنواع الشرك التي أخبر الله تعالى أنه لا يغفره.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه عز وجل: ' من عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا
منه بريء وهو للذي أشرك '.
وقال محمد بن علي رحمه الله: هذا الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يغفره، وهو أن
يتواضع العبد لغيره في طلب الدنيا وهو المالك له دون الغير.
قوله عز وجل: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * [الآية: 49].
قال بعضهم: ليست الأنفس محل التزكية، فمن استحسن من نفسه شيئا فقد اسقط
عن باطنه أنوار اليقين.
قوله عز وجل: * (ألم تر إلى الذين أوتوا تصيبا من الكتاب) * [الآية: 51].
149

قال سهل بن عبد الله: لا ينظر إليهم.
قال ابن عطاء رحمه الله: أعطوا الكتاب حجة عليهم لا كرامة لهم.
وقال بعضهم رحمه الله: أوتوا نصيبا من الكتاب لا الكتاب، ونصيبهم منه كفرهم
وإيمانهم بالجبت والطاغوت.
قوله عز وجل: * (بالجبت والطاغوت) *.
قال سهل رحمه الله: الطواغيت نفسك الامارة بالسوء، إذا خلى العبد معها عن
العصمة.
وقال بعضهم رحمه الله: الجبت مرادك، والطاغوت هيكلك.
قوله عز وجل: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * [الآية: 54].
من الكرامات والولايات والمشاهدات ويكذبون صاحبها ولا يعظمونه، كذلك كانت
الأولياء والصديقون قبل ذلك، فمن بين مكذب ومصدق قال الله عز وجل * (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه) *.
قوله عز وجل: * (وآتيناهم ملكا عظيما) *.
قال: إشرافا على الأسرار.
وقيل: فراسة صادقة، فمنهم من آمن به أي صدقهم بذلك، ومنهم من صد عنه
اتهمهم في ذلك.
قوله عز وجل: * (إن الذين كفروا بآياتنا) * [الآية: 56].
قال بعضهم رحمه الله: بإظهار البيان على الخواص.
قوله عز وجل: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * [الآية: 58].
قال الجريري رحمه الله: أفضل الأمانات الأسرار فلا تظهرها ولا تكشفها إلا
لأهلها، لأنهم أهل الأمانات العظماء.
وقال سهل رحمه الله: عندك أمانة في سمعك وبصرك وعلى لسانك وعلى فرجك
وظاهرك وباطنك. عرض الله عليك الأمانة فحملتها وجعلك محلا لها، فإن لم تحفظها
150

خنت نفسك والله لا يحب الخائنين.
وقيل الأمانة هي: أسرار الله عز وجل وأهل الأمانة هم العارفون بالله والعالمون
بأسراره، وهم الناظرون إلى القلوب بأنوار الغيوب، فيحكمون عليها ويحقق الله تعالى
أحكامهم وهو الذي قال: * (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) *.
قوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) *
[الآية: 59].
قال محمد بن علي رحمه الله: أطع الله عز وجل فإن تم لك ذلك وإلا فاستعن
بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على طاعة الله عز وجل، فإن وصلت إلى ذلك فاستعن بطاعة الأئمة
والمشايخ على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تسقط عن هذه الدرجة فتهلك.
وقال الجنيد رحمه الله في هذه الآية: قال: العبد مبتلى بالأمر والنهي، ولله تعالى
في قلبه أسرار تخطر دائما، فكلما خطر خطرة عرضه على الكتاب وهو طاعة الله
تعالى، فإن وجد له شفاء وإلا عرضه على السنة وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن وجد له
شفاء وإلا عرضه على سنن السلف الصالحين وهو طاعة أولي الأمر.
وقال جعفر بن محمد الصادق رحمه الله: لا بد للعبد المؤمن من ثلاث سنن: سنة
الله عز وجل، وسنة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وسنة الأولياء.
فسنة الله تعالى كتمان السر. قال الله عز وجل: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) *.
151

وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم مداراة الخلق، وسنة الأولياء الوفاء بالعهد والصبر في البأساء
والضراء.
قال: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: سمعت إبراهيم بن المولد يقول:
سمعت أبا سعيد الخراز يقول: العبودية ثلاثة: الوفاء لله عز وجل على الحقيقة ومتابعة
الرسول صلى الله عليه وسلم في الشريعة والأمر لجميع الأمة بالنصيحة.
قوله عز وجل: * (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) *.
قيل: إذا أشكل عليكم شيء من أحوال الكبار والسادة واختلفتم فيه، فاعرضوا
ذلك على أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم فردوه إليه، فإن لم يبين ذلك لكم، فردوه إلى الكتاب
المنزل من رب العالمين.
قوله عز وجل: * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * [الآية: 60].
قال أبو عثمان رحمه الله: يعني إلى إرادتهم وأهوائهم وأمثالهم وأشكالهم.
قال الله عز وجل: * (وقد أمروا أن يكفروا به) * أن يخالفوه.
وقال بعضهم رحمه الله: أعظم طاعة لك نفسك فلا تركن إليها في شيء من أوامرها
وإن أمرتك بالطاعة فإنها تخفى عنك شرها وتبدي لك خيرها.
قوله عز وجل: * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم) *
[الآية: 63].
قال الواسطي رحمه الله: أعرض عن الجهال وعظ الأوساط وأخبر بعيوب الأشراف
وخاطب كلا على قدر طاقته.
وقال فارس رحمه الله: فأعرض عنهم وعظهم وتوكل، ولا يصح للعبد توكل وهو
لا يجد غير الله معولا.
وقيل في قوله عز وجل: * (أعرض عنهم) * بقولك وأعرض عنهم بفعلك.
قوله عز وجل: * (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) *.
152

قال الجنيد رحمه الله: كلمهم على مقادير العقول ومحتمل الطاقة.
وقيل: أرهم عيوب ما يعتمدونه من طاعتهم.
قوله عز وجل: * (سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع) * [الآية: 46].
قال: إذا سمع ولم يفهم فهو غير مسموع، وإذا سمع وفهم فهو السمع المبتغى في
ذلك الفهم وهو التفضيل.
قوله عز وجل: * (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) * [الآية: 62].
قيل: أعظم المصائب اشتغالك عن الله عز وجل، وأعظم الغنائم اشتغالك بالله
تعالى.
وقيل: المصائب كثيرة وأجل المصائب ذهاب وقتك عنك بلا فائدة.
وقال أبو الحسين الوراق رحمه الله: أعظم المصائب سقوط الحرمة من قلبك ونزع
الحياء من وجهك ونقل السنن عن جوارحك.
قوله عز وجل * (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) * [الآية: 63].
قال سهل رحمه الله: مبلغا بلسانك كنه ما في قلبك بأحسن العبادة عني.
قوله عز وجل: * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) * [الآية: 64].
قال: بالمخالفات قصدوك فدللتهم على سبيل الموافقة.
وقيل: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك قال ابن عطاء رحمه الله: جعلوك الوسيلة
إلى الوصلة ليصلوا إلي، وقال: من لم يجعل قصده إلينا على سبيلك، وسنتك وهداك
ضل الطريق وأخطأ الرشد.
قال بعضهم رحمه الله: * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) * بالمخالفات قصدوك فدللتهم
على سبيل الموافقة.
وقيل: * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) * بالإعراض عنا، استشفعوا بك إلينا لأقبلنا
عليهم بالبر والفضل.
153

قوله عز وجل: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) *
[الآية: 65].
قال بعضهم رحمه الله في هذه الآية: أظهر الحق عز وجل على حبيبة صلى الله عليه وسلم خلعة من.
خلع الربوبية. فجعل الرضا بقضائه ساء أم سر سببا لإيمان المؤمنين، كما جعل الرضا
بقضائه سببا لإيقان الموقنين، فأسقط عنهم اسم الواسطة، لأنه متصف بأوصاف الحق
عز وجل متخلق بأخلاقه ألا ترى كيف قال حسان بن ثابت:
(فذوا العرش محمود وهذا محمد
*
وقال بعضهم: هذا في مخالفات الرسول فكيف في مخالفة أوامر الله تعالى
وأحكامه، هل هو إلا الدخول في خبر المخالفين.
قوله عز وجل: * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم) * [الآية: 66].
قال محمد بن الفضل رحمه الله: اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها أو اخرجوا من
دياركم، يعني أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم، ما فعلوه إلا قليل في العدد كثير في
المعاني، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة.
قوله عز وجل: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) *.
قال جعفر بن محمد الصادق رحمة الله عليه: من عرفك يا محمد بالرسالة والنبوة
فقد عرفني بالربوبية والإلهية.
قال سهل رحمه الله: من يطع الرسول في سنته فقد أطاع الله في فرائضه.
وقال أيضا: لأهل المعرفة همة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
154

قال: من صحح الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وألزم نفسه طاعته، أوصله الله تعالى إلى
مقامات الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه، والصديقين والشهداء. قال الله
تعالى * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) * [الآية: 69].
وقال بعضهم: لم يصل الأنبياء والصديقون إلى الرتب الأعلى بأفعالهم، ولكن أنعم
الله عليهم فأوصلهم، وليس يصل إحد إلى تلك الرتب إلا بملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرا
وباطنا.
وقال بعضهم: المتحققون في طاعة الرسول مع الأنبياء والمقتصدون مع الشهداء
والظالمون مع الصالحين.
وقيل: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة للحق عز وجل لفنائه عن أوصافه وقيامه بأوصاف
الحق، وفنائه عن رسومه وبقائه بالحق ظاهرا وباطنا، وطاعته طاعته وذكره ذكره، فيه
يصل العبد إلى الحق وبمخالفته يقطع عنه.
قوله تعالى: * (واجعل لنا من لدنك وليا) * [الآية: 75].
قيل: وليا يدلنا منك عليك.
قوله عز وجل * (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) * [الآية: 76].
قال سهل بن عبد الله: المؤمنون خصماء الله على أنفسهم، وأبدانهم، والمنافقون
خصماء النفس على الله، يبتدرون إلى السؤال والدعاء ولا يرضون بما يختار لهم وهو
سبيل الطاغوت.
قوله عز وعلا: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) * [الآية: 77].
قيل: وفيه قصروا أيديكم عن تناول الشهوات.
قوله عز وعلا: * (قل متاع الدنيا قليل) *.
قال محمد بن الفضل: متاع الدنيا قليل وأقل قيمة منها من يطلبها ويفرح بها،
وللآخرة خير لمن اتقى الدنيا وأهلها والركون إليها.
قال الواسطي: قل متاع الدنيا قليل: هون الدنيا في أعينهم، لئلا يشق عليهم تركها.
155

قوله تعالى: * (قل كل من عند الله) * [الآية: 78].
سمعت النصرآباذي يقول: الكل منه ومن عنده، ولكن لا يطيب ما منه ومن عنده
إلا بما به وبماله.
قوله عز وعلا: * (ما أصابك من حسنة فمن الله) * [الآية: 79].
قال محمد بن علي: أجل الحسنات والنعم عليك أن عرفك نفسه ووفقك لشكر
نفسه وألهمك ذكره.
قوله تعالى: * (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) *.
بداها لاتباع هواها وتركها رضا مولاها، وهي من النفس الأمارة بالسوء.
قوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن) * [الآية: 82].
قال بعضهم: ألا يتعظون بكريم مواعظه ويتبعون محاسن أوامره.
قال الواسطي رحمة الله عليه: سمي قرآنا لأنه صفة الله عز وجل فلا تزايله بك
قارئه فسمي قرآنا؛ لأن الصفة لا تزايل الموصوف.
سمعت أبا عثمان المغربي يقول: تدبرك في الخلق تدبر عبرة، وتدبرك في نفسك
تدبر موعظة، وتدبرك في القرآن تدبر حقيقة ومكاشفة.
* (أفلا يتدبرون القرآن) * جرأك به على تلاوة خطابه، ولولا ذلك لكلت الألسن عن
تلاوته.
سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت أبا الحسين يقول: سمعت علي بن
156

حميد يقول: سمعت السري يقول: فهم الناس من فهم أسرار القرآن وتدبر فيه.
قال سهل في قوله: * (أفلا يتدبرون القرآن) * قال: تدبروا بفهمه، ولا يكون التدبير
إلا لمن عرف المقاصد فيه ونطق بمعنى الحق.
قوله تعالى: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه) *
[الآية: 83].
قال ابن عطاء: لو أخذوا طريق السنة وطريق الأكابر في إرادتهم، لأوصلهم ذلك
إلى مقامات جليلة من مقامات الإيمان التي هي محل مقامات الاستنباط وطريق
المكاشفات قال أبو سعيد الخراز: إن لله عبادا يدخل عليهم الخلل، ولولا ذلك لفسدوا
وتعطلوا وذلك أنهم إذا بلغوا من العلم غاية، صاروا إلى العلم المجهول الذي لم ينصه
كتاب ولا جاء به خبر، لكن العقلاء العارفون يحتجون به من الكتاب والسنة بحسن
الاستنباط معرفتهم.
قال الله تعالى: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) *.
قال الحسين: استنباط القرآن على مقدار تقوى العبد في ظاهره وباطنه وتمام معرفته،
وهذا أجل مقامات الإيمان.
قوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) *.
قال ابن عطاء: لولا فضله عليكم في قبول طاعتكم، لخسرتم ما ضمن لكم في
آخرتكم ولكن برحمته نجاكم من خسرانكم وتفضل عليكم بما نجاكم.
قوله عز وعلا: * (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) * [الآية: 89].
قال بعضهم: ود أهل الدعاوى الفاسدة أن يكون المتحققون في أحوالهم أمثالهم
فأظهر عليهم فضائح دعاويهم.
قوله تعالى: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * [الآية: 97].
حدثنا محمد بن عبد الله بن شاذان قال: حدثنا زيد بن عبد الله الرومي بمصر قال:
سمعت عبد الله بن حبيق قال: سمعت يوسف بن أسباط قال: سمعت الهندي يقول:
حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه قال: سمعت علي بن أبي
طالب عليه السلام يقول: ليس بين أحدكم وبين أرض نسب فخير البلاد ما حملكم.
157

قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا) *
[الآية: 94].
قال: إذا سافرتم فاطلبوا أولياء الله وتثبتوا أن لا تفوتكم مشاهدتهم، فإنها الفوائد
في الأسفار وموضع التثبت والاستقامة.
قوله تعالى: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) * [الآية: 95].
قال بعضهم: العاملين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القاعدين عنه أجرا
عظيما.
قوله تعالى: * (لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) * [الآية: 98].
قال أبو سعيد: هم الذين أسرهم البلاء واستولى عليهم، حتى صار البلاء عليهم
الحال وطنا، ثم أفنى عنهم شاهد البلاء بإثبات علم البلاء، فدل عليهم علم الأشياء بما
تثابت عليهم علم الحق وذلك حين ردت عليهم صفاتهم بعد محو آثارهم، فإذ ذاك لا
يستطيون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
قوله تعالى: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) * [الآية: 100].
قال: أن يهاجر عما دون الله عز وجل وقال بعضهم: أن يخرج من جميع مراداته
وهواه متبعا لأمر الله وما يوصله إلى رضوانه.
قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) * [الآية: 102].
قال الحسين: ليس لله مقام ولا شهود في ناديه ولا استهلال في حيزه ولا ذهول في
عظمه، يقطع عن آداب الشريعة ولا له مقام وقف فيه الموحدين أشهدهم فصبح أن
جزنا بها عليهم علما للغير لا له ومما يصحح هذا قوله: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم
الصلاة، فجعل إقامته للصلاة أدبا لهم وهو في الحقيقة في عين الحصول لا يرجع إلى
غير الحق في متصرفاته، ولا يشهد سواه في سعاياته، وقال بعضهم: ما دمت فيه فإن
158

الصلاة تكون قائمة، وإذا غبت فالصلاة آتية أيضا كما قال: * (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) *.
قوله تعالى: * (فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) * [الآية: 103].
قال أبو عثمان: وقت الله العبادات كلها بالمواقيت إلا الذكر، فإنه أمرك به على كل
حال وفي كل أوان.
قوله تعالى: * (لتحكم بين الناس بما أراك الله) * [الآية: 105].
قال سهل: بما علمك الله من الحكمة في القرآن والشريعة.
وقال بعضهم: لتحكم بين الناس بما أراك وأظهره لك لا على ما يظهرونه، فإن
رؤيتك لهم رؤية كشف وعيان.
وقال ابن عطاء في هذه الآية: بما أراك الله فإنك بنا ترى وعنا تنطق، وأنت بمرأى منا
ومسمع.
قوله تعالى: * (أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) * [الآية: 139].
قال القاسم: أتطلب العز عند من عززته، ولا تطلبه مني وأنا الذي عززته.
قال الحسين: من اعتز بغير الحق فبعزه ذل.
قوله تعالى: * (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) * [الآية: 107].
قال بعضهم: خيانة النفس اتباع هواها ومرادها وترك نصيحتها.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت الحسن بن علي البامعاني يقول: من خان
الله في السر هتك ستره في العلانية.
قوله تعالى: * (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) * [الآية: 108].
قال محمد بن الفضل: من لم يكن أعظم شيء في قلبه ربه، كان جاهلا ومبعدا
عنه.
* (وكان فضل الله عليك عظيما) * [الآية: 113].
قال الواسطي رحمة الله عليه: إنما عظمت بالمباشرة فاحتمل الذات بعد ما احتمل
159

الصفات، وموسى صلى الله عليه وسلم احتمل الصفات ولم يحتمل الذات.
وقال بعضهم: فضلت في الأزل بالفضائل وقد تغتر في المشاهد العثرة، كما قال الله
عز وجل: * (عفا الله عنك) * فتعاتب ثم ترد إلى الفضل الذي جرى لك في الأزل.
قوله تعالى: * (وعلمك ما لم تكن تعلم) *.
قال الجنيد رحمة الله عليه: عرفك قدر نفسك وقال أيضا: العلوم أربعة:
علم المعرفة، وعلم العبارة، وعلم العبودية، وعلم الخدمة. جعل حظك منها أوفر
الحظوظ.
قال أبو يزيد: العلم علمان: علم بيان وعلم برهان.
قال سهل: العلماء ثلاثة: عالم بالله لا عالم بأمر الله ولا بأيام الله وهم المؤمنون.
وعالم بالله: عالم بأمر الله لا عالم بأيام الله وهم العلماء.
وعالم بالله: عالم بأمر الله عالم بأيام الله فهم النبيون والصديقون.
وقيل: علمتك من مكنون أسراري ما لم تعلمه إلا بي.
وقال أبو محمد الجريري: الأدلة ثلاثة: العلماء والحكماء، والأكابر، فالعلماء
يرون ظاهر الأشياء ومناقبها، والحكماء يرون باطن الأشياء وعيوبها، والأكابر يرون
عيون الأشياء وحقائقها.
وقال بعضهم: العلماء أربعة: عالم حظه من الله الله. وعالم حظه من الله العلم،
والمعرفة بالله، وعالم حظه السير إلى الآخرة. وعالم حظه علم السير إلى الآخرة.
قوله تعالى: * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) * [الآية: 114].
160

قيل: الأخير في الجماعات إلا ما يعود نفعه عليك أو على أهل مجلسك.
وقيل: * (إلا من أمر بصدقة) * إلا من تصدق على نفسه بمنعه عن أذى المسلمين.
وارتكاب المحارم * (أو معروف) * قيل: المعروف حث النفس على سبل الرشاد.
وقيل: إلا من تصدق بنفسه على الخلق فلا ينتقم لنفسه.
قوله تعالى: * (لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * [الآية: 118].
قال الواسطي رحمة الله عليه: إن كان إليك شيء من القدرة والقوة فاغو جيدا
سوى ما جعل له من النصيب المفروض عند ذلك يظهر عجزه وضعفه.
وقال بعضهم في هذه الآية: أكثر في أعينهم طاعاتهم وأغلق دونهم أبواب الإنابة
ورؤية الفضل.
قوله تعالى: * (يعدهم ويمنيهم) * [الآية: 120].
قال بعضهم: يعدهم طول العمر والموت غايتهم ويمنيهم الغنى والفقر سبيلهم.
* (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *.
إلا ما يقربهم من الدنيا ويبعدهم عن الآخرة.
قوله تعالى: * (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) * [الآية: 125].
قيل: من أحسن حالا ممن رضى بالمقدور، ومجازيها عليه من العسر واليسر، وأسلم
قلبه إلى ربه وأخلص وجهه له، وهو محسن أي متبع السنة للمصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال الواسطي رحمة الله عليه: في قوله: * (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) * أي وهو يحسن أن يسلم وجهه لله، فمن دخل على السلطان مسرعا بطاعته
بغير أدب فما ناله من المكروه أكثر، فلذلك من لا يحسن أن يبقى ولا يحسن أن يسلم
وجهه لله.
وقيل: ومن أحسن طريقة إلى الله ممن أسلم دينه له ولم يشرك فيه غيره.
قوله تعالى: * (واتبع ملة إبراهيم حنيفا) *.
قال ابن طاهر: يخرج من الكونين إقبالا منه على الحق.
وقال بعضهم: يبذل نفسه لربه وولده لاتباع أمره وماله شفقة على خلقه.
161

قال سهل بن عبد الله: كانت ملة إبراهيم السخاء وحاله التبري من كل شيء سوى
الله.
ألا تراه قال لجبريل صلى الله عليهما: ' أما إليك فلا ' لم يعتمد في الكونين سواه.
قال الواسطي رحمة الله عليه: حنيفا: أي مطهرا من أدناس الكون، خالصا للحق
فيما يبدو له وعليه.
قال تعالى: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: اتخذه فلما اتخذه اختص به.
قال ابن عطاء: اتخذه خليلا فلم يخالل سرائره شيئا غيره، وذلك حقيقة الخله
وأنشد:
(قد تخللت مسلك الروح منى
* وبذا سمى الخليل خليلا
*
(فإذا ما نطقت كنت حديثي
* وإذا ما سكت كنت الغليلا
*
قال الحسن: اتخذه خليلا ولا صنع لإبراهيم فيه وذلك موضع المنة، ثم أثنى عليه
بالخلة وذلك فعل الخلة.
وقال بعضهم: أخلاه عن الكل حتى كان له بالكلية.
قال الواسطي رحمة الله عليه: تخالله أنوار بره فسماه خليلا.
وقال محمد بن عيسى الهاشمي: سمي خليلا لأنه خلا به عما سواه.
سمعت منصورا يقول: سمعت أبا القاسم بإسناده عن جعفر بن محمد عليه السلام
في قوله: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * قال: أظهر اسم الخلة لإبراهيم، لأن الخليل
ظاهر في المعنى وأخفى اسم المحبة لمحمد صلى الله عليه وسلم لتمام حاله، إذ لا يحب الحبيب إظهار
حال حبيبه، بل يحب إخفاءه وستره، لئلا يطلع عليه سواه ولا يدخل أحد فيما بينهما
وقال لنبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم لما أظهر له حال المحبة: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) *. أي: ليس الطريق إلى محبة الله إلا باتباع حبيبه وطلب رضاه.
162

قوله تعالى: * (وأحضرت الأنفس الشح) * [الآية: 128].
قال النوري: ألزمت الأشباح مخالفة الحق في جميع الأحوال، وشحها ما يضرها في
طلب الدنيا.
قوله تعالى: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) * [الآية: 129].
فكيف تستطيعون أن تعدلوا بينكم وبين الحق وليس من العدل أن تحب ما يشغلك
عن حبيبك وليس من العدل أن تفتر عن طاعة من لا يفتر عن برك.
قوله تعالى: * (فلا تميلوا كل الميل) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: الجوارح تبع القلب، لأنه أمير أمرك ان تخالفه إذا
خالفت الحق.
قوله تعالى: * (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) *
[الآية: 131].
قال بعضهم: أمر الكل بالتقوى، وأوصل إلى التقوى من جرى له في السبق عناية.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) * [الآية: 135].
قال الجنيد رحمة الله عليه: لن يصل إلى قلبك روح التوحيد وله عندك حق لم
تقضه أو لم تؤده.
قوله تعالى: * (وكفى بالله حسيبا) *.
قال ابن عطاء: الحسيب الذي لا يضيع عنده عمل. وقيل: الحسيب الكريم في
المحاسبة أن يوفيك ما لك ولا يناقشك فيما عليك.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) * [الآية: 136].
سئل فارس ما معنى هذه الآية وليس في ظاهرها التجريد، قال: التجريد إنما يقع
بلسان السر من جهة موافقة الحق، ومعنى الآية * (آمنوا بالله وبرسوله) * يريد تكرار
الإيمان.
163

وقال بعضهم في قوله * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) *: أي يا أيها المدعون
تجريد الإيمان في من غير واسطة، لا سبيل لكم إلى الوصول إلى غير التجريد إلا بقبول
الوسائط واتباعهم آمنوا بالله ورسوله.
قوله تعالى: * (أيبتغون عندهم العزة) * [الآية: 139].
قال محمد بن الفضل: كيف تبتغي العزة ممن عزه بغيره، فاطلب العزة من مظانها
ومعدنها ومكانها، قال الله عز وجل: * (فإن العزة لله جميعا) * فمن اعتز بالعز أعزه،
ومن اعتز بغيره أذله.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ' من اعتز بالعبيد أذله الله، فابتغ العز من عند رب
العبيد يعزك في الدنيا والآخرة '.
وقال سهل: * (أيبتغون عندهم العزة) * قال: النعمة.
قال أبو سعيد: العارف بالله لا يرى العز إلا منه.
وقال الواسطي رحمة الله عليه: ما مالت السريرة إلى حب العز إلا ظهر خوفها، وما
مالت البحيرة إلى حب الدنيا إلا ظهر ظلمتها عليه، فصارت عن الباب محجوبة
مصروفة.
قوله تعالى: * (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين) * [الآية: 146].
ولم يقل من المؤمنين، لنعلم أن الاجتهاد لا يؤثر في سبق الأزل.
قال أبو عثمان: التوبة: الرجوع من أبواب الاختلاف إلى أبواب الائتلاف.
وقال محمد بن الفضل: الاعتصام: التشبث بالسنة وطريق السلف.
وقال بعضهم: تابوا من المخالفات وأصلحوا ظواهرهم باتباع الرسول واعتصموا بالله
وألقوا حبال القوة والحول عن ظواهرهم وبواطنهم وأخلصوا دينهم لله، لم تمنعهم رؤية
الناس عن القيام بالخدمة.
وقال سهل: تابوا من التوبة.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: التوية: الرجوع عما تأمرك به نفسك والطبع والهوى.
وقال سهل: تابوا من غفلاتهم عن الطاعات في كل ساعة وأوان.
164

قال بعضهم: * (فأولئك مع المؤمنين) * لا من المؤمنين، فإنهم مع المؤمنين ظاهرا يعني
المنافقين، وهم معنا بتوبتهم في الباطن. قال الله تعالى: * (وسوف يؤتي الله المؤمنين
أجرا عظيما) * ظاهرا وباطنا.
قوله تعالى: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) * [الآية: 147].
قال الحسين: ما يفعل الله بتعذيبكم أنفسكم في أنواع المجاهدات إن شكرتم، أن
طالعتم بري وإحساني إليكم وآمنتم. قال: قطعتم الهمم عمن سواي.
قوله: * (قد جاءكم من الله نور) *.
قال عطاء: العبد ينال بهذا النور ما هو أجل من النور، من أخذ سراجا إلى بيت
مظلم فيدور.
قوله تعالى: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * [الآية: 148].
قال الواسطي رحمة الله عليه: لا يرضى الله من عباده بإسماع الخفاء لأمثاله، إلا من
جحد نعم الله عنده في البينات والبراهين.
قوله تعالى: * (وآتينا موسى سلطانا مبينا) * [الآية: 153].
قال بعضهم: قوة عظيمة على سماع المخاطبة من كلام الحق.
وقيل: أعطى سلطانا على نفسه في مخالفتها وهو المبين الظاهر للخلق.
قوله تعالى: * (لكن الراسخون في العلم منهم) * [الآية: 162].
قيل: الراسخون في العلم هم: العلماء بالله، والعلماء بأمر الله، والمتبعون سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الراسخون في العلم هم الواقفون مع حدود العلم وشرائطه لا يتجاوزونه
بالرخص والتأويلات.
قوله تعالى: * (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله) * [الآية: 172].
قيل: لا يأنف أحد من القيام بالعبودية، فكيف يأنف منه وبه يتقرب إلى مولاه؟
165

قال بعضهم: كيف يأنف أحد من عبودية من يظهر على العبيد آثار صنائع الربوبية،
كما أظهر على عيسى صلى الله عليه وسلم في إحياء الموتى وغيره.
قوله تعالى: * (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) * [الآية: 174].
سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول:
سمعت سعيد التمار يقول: سمعت ذا النون المصري رحمة الله عليه وعليهم يقول:
استقرت منار الدجى وقامت حجة الله على خلقه فآخذ بحظه ومضيع لنفسه.
قوله تعالى: * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * [الآية: 174].
قيل: خطابا من القرآن فيه محل الشفاء لأسرار العارفين، والمبين ما يتبين به كل
شيء.
166

ذكر ما في سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) * [الآية: 1].
قال سري: اي خواص الخواص من عبادي.
قال ذو النون. علاقة المؤمن خلع الراحة وإعطاء المجهود في الطاعة ومحبة سقوط
المنزلة.
وقال ابن عطاء في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا) * أي: يا أيها الذين أعطيتهم قلوبا لا
تغفل عني ولا تحجب دوني طرفة عين.
قال الواسطي رحمة الله عليه: الإيمان إيمانان إيمان بضياء الروح وهو الحقيقي،
وإيمان محبة بظلمة الروح، لذلك استثنى من استثنى في إيمانه.
وقال بعضهم: صفة المؤمن كالأرض تحمل الأذى وتنبت المرعى.
وقال محمد بن خفيف: الإيمان تصديق القلوب بما علمه الحق من الغيوب.
وقال جعفر بن محمد في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا) * قال فيه أربع خصال: نداء
وكناية، وإشارة وشهادة، فيا نداء وأي خصوص نداء وها كناية والذين إشارة وآمنوا
شهادة.
قال ابن عطاء في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا) *: هم الذين خصصتهم ببري
ومشاهدتي لا يكونون كمن أعميتهم عن مشاهدتي ومطالعة بري.
وقال فارس: الإيمان تعظيم الحقيقة، وصون الشريعة والرضا بالقضية، حتى تستيقن
أنه ليس إليك من حركاتك وسكونك شيء.
167

قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) *.
قيل: أول عقد عقد عليك إجابتك له بالربوبية، فلا تخالفه بالرجوع إلى سواه.
والعقد الثاني: عقد بحمل الأمانة فلا تحقرنها.
قال الواسطي رحمة الله عليه: العقود إذا لم تشهد القصور تلون عليها المقصود.
وقال إبراهيم الخواص: من عرف الحق بوفاء العهد ألزمته تلك المعرفة السكون إليه
والاعتماد عليه.
وقال أبو محمد الجريري: الوفاء متصل بالصفاء.
قوله تعالى: * (إن الله يحكم ما يريد) *.
قال جعفر: حكم بما أراد وأمضى، وإرادته ومشيئته نافذة، فمن رضي بحكمه
استراح وهدى لسبيل رشده، ومن سخطه فإن حكمه ماض وله فيه السخط والهوان.
قوله عز وجل: * (وتعاونوا على البر والتقوى) *.
قيل البر: ما وافقك عليه العلم من غير خلاف والتقوى مخالفة الهوى * (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * قيل: الإثم طلب الرخص، والعدوان هو التخطي إلى الشبهات.
وقيل: البر: ما اطمأن إليه قلبك من غير أن تنكره بجهة ولا سبب.
وقال بعضهم: * (تعاونوا على البر والتقوى) * هو طاعة الأكابر من السادات والمشايخ
فلا تضيعوا حظوظكم منهم، ومن معاونتهم وخدمتهم * (ولا تعاونوا على الإثم) * وهو
الاشتغال بالدنيا * (والعدوان) * هو: موافقة النفس على مرادها وهواها.
قال الحسين: يصح للمتوكل الكسب بنية المعاونة لقوله تعالى: * (تعاونوا على البر والتقوى) * ويصح له ترك الكسب بحقيقة ضمان الله له، فإن خالف في العقد تركا أو
168

كسبا فقد أخطأ.
وقال سهل: البر: الإيمان. والتقوى: السنة. والإثم: الكفر. والعدوان: البدعة.
قوله تعالى: * (فلا تخشوهم واخشون) *.
قيل فيه: قطعك عن الكل قطعا وجذبك إليه جذبا بهذه الآية * (فلا تخشوهم واخشون) * وقال ابن عطاء: لا تجعل لهم من قلبك نصيبا وأفرد قلبك لي، تجدني بصفة
الفردانية مقبلا عليك.
وقال سهل: أعجز الناس من خشي ما لا ينفعه ولا يضره، والذي بيده الضر والنفع
يخاطبه بقوله * (فلا تخشوهم واخشون) *.
قوله عز وعلا: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) * [الآية: 3].
قال أبو حفص: كمال الدين في شيئين: في معرفة الله واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال جعفر بن محمد: اليوم إشارة إلى يوم بعث فيه محمدا صلى الله عليه وسلم ويوم رسالته.
وقيل: اليوم: إشارة إلى الأزل، والإتمام: إشارة إلى الوقت، والرضا: إشارة إلى
الأبد.
وقيل: * (أتممت عليكم نعمتي) * بأن خصصتكم من بين عبادي بمشاهدة المصطفى
صلى الله عليه وسلم يخاطب به أصحابه، وجعلتكم حجة لمن بعدكم من الأمة إلى يوم القيامة.
وقيل: * (أتممت عليكم نعمتي) * بالمعرفة.
وقال شقيق في هذه الآية: كمال الدين في الأمن والفراغ، إذا كنت آمنا بما
169

تكفل الله لك صرت فارغا لعبادته.
قوله تعالى: * (ورضيت لكم الإسلام دينا) *.
قيل: شرائط الإسلام كثيرة: منها سلامة روحك من جنايات سرك، وسلامة سرك
من جنايات صدرك، وسلامة صدرك من جنايات قلبك، وسلامة قلبك من جنايات
نفسك، وسلامة الخلق من جنايات شخصك وهيكلك وجوارحك، لذلك قال النبي
صلى الله عليه وسلم: ' المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) *.
وقيل: كمال الدين التبري من الحول والقوة والرجوع في الكل إلى منزلة الكل.
قال الواسطي رحمة الله عليه: الإسلام خصلة مرضية ولكن لا يهتدي إليه الكل،
والإسلام مرضي ولكن لا يلبسه الكل، والمرضي من أتى به ولكن على شرائط
الاستقامة.
وقال أبو يعقوب السوسي: الإسلام دار عليها أربعة أبواب وأربع قناطر ثم المراتب
بعد ذلك، من لم يدخل الدار ولم يعبر القناطر لم يصل إلى المراتب. فأول باب منها
أداء الفرائض ثم اجتناب المحارم ثم الأمن بالرزق ثم الصبر على المكروه، فإذا دخل
الدار استقبلته القناطر، فأول قنطرة منها الرضاء بالقضاء. والثاني: التوكل على الله.
والثالث: الشكر لنعماء الله. والرابع: إخلاص العمل لله، فمن لم يعبر هذه القناطر
لا يصل إلى المراتب.
وقال بعضهم: نزلت هذه الآية يوم عرفة في حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقف
وعندها كان كمال الدين حيث يرد الحج إلى يوم عرفه، فإنهم كانوا يحجون في كل سنة
في شهر فلما رد الله عز وجل وقت الحج إلى ميقات فريضته، أنزل الله تعالى: * (اليوم
170

أكملت لكم دينكم) *.
قوله تعالى: * (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات) * [الآية: 4].
قال سهل: الطيبات: الرزق من الحلال.
وقال يوسف بن الحسين: الطيب من الرزق ما يبدو لك من غير تكلف ولا إشراف
نفس.
وقال الروذباري: أطيب أرزاق العارفين المعونات.
قوله تعالى: * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) * [الآية: 5].
قيل: من لم يشكر الله على ما وهب له من المعرفة واليقين، فقد كفر بمعاني درجات
الإيمان وفيه إحباط ما سواه من الاجتهادات والرياضات.
وقيل: من لم ير سوابق المنن في خصائص الإيمان فقد عمى عن محل الشكر.
وقال علي بن بابويه في هذه الآية: من لم يجتهد في معرفته لا تقبل خدمته.
قوله عز وعلا: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) *
[الآية: 6].
قال: شرائع الطهارة معروفة، وحقيقتها لا ينالها إلا الموفقون من طهارة السر وأكل
الحلال وإسقاط الوساوس عن القلب، وترك الظنون والإقبال على الأمر بحسب
الطاقة.
وقال سهل: أفضل الطهارات أن يطهر العبد من رؤية الطهارة.
وقال سهل: الطهارة على سبعة أوجه: طهارة العلم من الجهل، وطهارة الذكر من
النسيان، وطهارة الطاعة من المعصية، وطهارة اليقين من الشك، وطهارة العقل من
الحمق، وطهارة الظن من التهمة، وطهارة الإيمان مما دونه، وكل عقوبة طاهرة إلا
عقوبة القلب، فإنها قسوة.
وقال سهل: إسباغ طهارة الظاهر يورث طهارة الباطن، وإتمام الصلاة يورث الفهم
عن الله عز وجل.
وقال سهل: الطهارة تكون في أشياء: في صفاء المطعم، ومباينة الآثام، وصدق
اللسان، وخشوع السر، وكل واحد من هذه الأربع مقابل لما أمر الله بتطهيره من
171

الأعضاء الظاهرة.
قال ابن عطاء: البواطن موضع النظر من الحق، لأنه روى عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه
قال: ' إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ' فموضع
النظر إلي بالطهارة لحق. فالطهارة الظاهرة هو تطهير الأعضاء الظاهرة الأربع لاتباع الأمر
والاقتداء وطهارة الباطن من الخيانات والجنايات وأنواع المخالفات وفنون الوسواس
والغش والحقد والرياء والسمعة، وغير ذلك من أنواع النواهي لحق.
وقال بعضهم: ليس شيء أشد على العارفين من جمع الهمم وطهارة السر.
قال بعضهم: لا يصح لأحد طهارة الباطن إلا بأكل الحلال والنظر إلى الحلال وأخذ
الحلال والمشي إلى الحلال وصدق اللسان هذا، أولئك طهارات الأسرار.
قوله عز وعلا: * (ولكن يريد ليطهركم) *.
قال بعضهم: يريد أن يطهركم من أفعالكم وأحوالكم وأخلاقكم، ويفنيكم عنها
لترجعوا إليه لحقيقة الفقر من غير تعلق ولا علاقة بسبب من الأسباب.
قوله تعالى وتقدس: * (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به) *
[الآية: 7].
قال أبو عثمان: النعم كثيرة وأجل النعم المعرفة، والمواثيق كثيرة وأجل المواثيق
الإيمان.
قيل للواسطي رحمة الله عليه: ما الحكمة فيما أنعم الله على خلقه، قال: أنعم
عليهم لكي يشهدوا المنعم بالنعم، فاستقطعتهم النعمة عن المنعم كما استقطعتهم الآفات
عن متوليها.
وقيل: اذكروا نعمة الله فيما أجرى عليكم من معرفته وطاعته.
قال بعضهم: اذكروا نعمة الله عليكم أن جعلكم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن أهل
القرآن، وأن زينكم بخدمته وجعلكم من أهل مناجاته حين قال صلى الله عليه وسلم: ' المصلى يناجى
ربه '.
قال أبو بكر الوراق في قوله: ' اذكروا نعمة الله عليكم ' حين زين باطنكم بأنوار
معرفته وظاهركم بآداب خدمته.
172

وقال يحيى بن معاذ: أعظم نعمة عليك أن جعل قلبك وعاء لمعرفته، وأطلق لسانك
بحلاوة ذكره، وإن أدبرت عنه خمسين سنة يصالحك باستغفار واحد.
قوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) * [الآية: 8].
قال بعضهم: كونوا أعوانا لأوليائه على أعدائه.
قال بعضهم: كونوا خصماء الله على أنفسكم ولا تكونوا خصماء لأنفسكم على
الله.
وقال بعضهم: كونوا طالبين من أنفسكم آداب الخدمة وقضاء حقوق المسلمين غير
مقتضين منهم حقوق أنفسكم.
قوله تعالى: * (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) *
[الآية: 12].
قال: أبو بكر الوراق: لم يزل في الأمم أخيار وبدلاء وأوتاد على المراتب، كما قال
الله تعالى: * (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) * وهم الذين كانوا يرجعون إليهم عند
الضرورات والفاقات والمصايب كما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ' إنه يكون في هذه الأمة
أربعون على خلق إبراهيم، وسبعة على خلق موسى، وثلاثة على خلق عيسى، وواحد
على خلق محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم فهم على مراتبهم للخلق والذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
أن بهم يمطرون، وبهم يدفع الله البلاء، وبهم يرزقون.
سمعت أبا عثمان المغربي يقول: البدلاء أربعون والامناء سبعة والخلفاء من الأئمة
ثلاثة، والواحد هو القطب، والقطب عارف بهم جميعا ومشرف عليهم ولا يعرفه أحد
ولا يشرف عليه وهو إمام الأولياء، والثلاثة الذين هم الخلفاء من الأئمة يعرفون
السبعة، والسبعة الأمناء يعرفون الأربعين الذين هم البدلاء ولا يعرفهم البدلاء،
والأربعون يعرفون سائر الأولياء من الأمة ولا يعرفهم من الأولياء أحد فإذا نقص الله
من الأربعين واحدا أبدل مكانه واحدا من أولياء الأمة، وإذا نقص من السبعة واحدا
جعل مكانه واحدا من الأربعين وإذا نقص من الثلاثة واحدا جعل مكانه من السبعة فإذا
مضى القطب الذي هو واحد في العدد، وبه قوام إعداد الخلق جعل بدله واحدا من
الثلاثة هكذا إلى أن يأذن الله في قيام الساعة.
173

قوله عز وجل: * (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) * [الآية: 13].
قال أبو عثمان: نقض الميثاق: الرجوع إلى الخلق بعد الإقرار الأول بالوحدانية.
وقال بعضهم: نقض العهد مع الحق السكون إلى سواه.
قوله تعالى: * (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) * [الآية: 15].
قال بعضهم: جاءكم نور قبلتم به ما آتاكم الرسول صلى الله عليه وسلم من بيان الكتاب.
وقال بعضهم: بعناية الأزل وصلتم إلى نور الكتاب المبين ونور التوحيد والأنوار
الظاهرة والباطنة.
قال ابن عطاء: تنال بهذا النور ما هو أجل من النور كمن أخذ سراجا إلى بيت مظلم
فبذره في البيت، فيجد به أخل من السراج.
وقيل: كشف عن أسرارهم غطاء الوحشة وألبسهم لباس الأنس.
قوله تعالى: * (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) * [الآية: 16].
قيل: فبه يهدي الله لأسلم المسالك في سبيل إرادته من خصه برضوانه.
قيل: إيجاده ليوصله الرضوان إلى محل الرضا.
قوله تعالى: * (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * [الآية: 18].
قال: يغفر لمن يشاء فضلا، ويعذب من يشاء عدلا.
وقيل: يغفر لمن يشاء بتقصيره في شكر النعمة، ويعذب من يشاء بتقصيره في شكر
المنعم، نس قارون النعمة فخسف به ونسي المنعم فما يرجو.
قوله تعالى: * (وجعلكم ملوكا) * [الآية: 20].
قال القرشي: ملككم سياسة أنفسكم.
وقال سهل: مالكين لأنفسكم ولا كملككم نفوسكم وأنشد في معناه.
(ملكت نفسي وذاك ملك
* ما مثله للأنام ملك
*
(فصرت حرا بملك نفسي
* فما خلف علي ملك
*
وقال بعضهم: جعلكم ملوكا أي: قانعين بما أعطيتم، والقناعة هو الملك الأكبر.
وقال بعضهم: جعلكم ملوكا وزراء أنبيائكم.
174

وقال الحسين: * (وجعلكم ملوكا) * قال: أحرارا من رق الكون وما فيه.
قوله تعالى: * (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) *.
قال محمد بن علي: أحل لكم أكل الغنائم والانتفاع بها.
وقال ابن عطاء: قلوبا سليمة من الغش والغل.
وقال بعضهم في قوله: * (وآتاكم ما لم يؤت أحد من العالمين) * قال: سياسة النبوة
وآداب الملك.
قوله تعالى: * (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) * [الآية: 23].
سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول:
سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت رجلا يسأل ذا النون ما التوكل؟
قال: خلع الأرباب وقطع الأسباب، فقال: زدني، فيه حالة أخرى. فقال: إلقاء
النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: التوكل على
ثلاث درجات:
الأولى منها إذا أعطى شكر، وإذا منع صبر، وأعلا منها حالا أن يكون المنع والعطاء
عندهم سواء، وأعلا منها حالا أن يكون المنع مع الشكر أحب إليهم.
وقال ذو النون: التوكل نفض العلائق وترك التملق للخلائق في السلائق،
واستعمال الصدق في الحقائق.
سمعت سعيد بن أحمد البلخي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت محمد بن عبد الله
يقول: سمعت خالي محمد بن الليث يقول: سمعت حامدا اللفاف يقول: سمعت
حاتما الأصم يقول: سمعت شقيق بن إبراهيم يقول: التوكل طمأنينة القلب بوعود الله.
قال سهل: التوكل طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية.
وقال أيضا: لا يصح التوكل إلا للمتقين.
وقال الواسطي رحمة الله عليه: من توكل على الله بعلة غير الله، فليس بمتوكل على
175

الله جعله سببا إلى مقصوده في ذلك وله قلة المعرفة بربه.
قوله تعالى: * (إني لا أملك إلا نفسي) * [الآية: 25].
قال سهل: في مخالفة هواها.
وقال بعضهم: في بذلها لله واستعمالها في طاعته.
قوله تعالى: * (إن فيها قوما جبارين) * [الآية: 22].
قال بعضهم: معجبين بأنفسهم غير راجعين إلى ربهم في أحوالهم.
قوله تعالى: * (لأقتلنك) * [الآية: 27].
قال ممشاد الدينوري: كان معصية آدم من الحرص، ومعصية إبليس من الكبر،
ومعصية ابن آدم من الحسد، فالحرص يوجب الحرمان والكبر يوجب الإهانة والحسد
يوجب الخذلان.
قوله تعالى: * (إنما يتقبل الله من المتقين) *.
قال سهل: التقوى والإخلاص محلا القلوب لأعمال الجوارح.
وقال ابن عطاء: المخلصين له فيما يقولون ويعملون.
قال السلامي: القرابين مختلفة وأقرب القرابين ما وعد الله جل وعز بقبوله ووعده
الصدق وهو الذكر في السجود، لأنه محل القربة. قال الله تعالى: * (واسجد واقترب) *.
قوله تعالى: * (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا) *.
176

قال الواسطي: تعليما بعد تعليم، يريد الله ألا يجعل لهم حظا: في الآخرة، لأنه
استعملهم فبما فيه هلاكهم.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) * [الآية: 35].
قال جعفر: اطلبوا منه القربة.
قال الواسطي رحمة الله عليه: في أداء الفرائض واجتناب المحارم السلامة من النار،
والوسيلة: القربة بآداب الإسلام إلى من وضعها وفرضها.
وقال أيضا: * (وابتغوا إليه الوسيلة) * قال: لو كشف عنهم ما عاملهم به، لنسبق
أوقاتهم وأوقات من يقتدي بهم.
وقال أيضا: * (وابتغوا إليه الوسيلة) * قال: ما توسل به إليكم بقوله: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) *.
وقال أيضا: الوسيلة المشار إليها النعوت فمن توسل إلى من لا وسيلة إليه إلا به فلم
يبتغ إليه الوسيلة.
ومن توسل بما لا خطر له في الملك خسر.
وقال محمد بن علي في قوله * (وابتغوا إليه الوسيلة) * قال: هو الرضا بالقضية
والصبر على الرزية والمجاهدة في سبيله والصبر على عبادته.
وقال ابن عطاء: الوسيلة: القربة بآداب الإسلام وأداء الفرائض لدخول الجنة
والنجاة من النار.
قال فارس: اتقوه واجعلوا تقواكم سببا لقربكم إليه.
قال الحسين: * (وابتغوا إليه الوسيلة) * التي كانت لكم مني إلي لا منكم إلي،
فالوسيلة منه إليك من غير سبب ولا سؤال.
قال بعضهم: اتقوا الله في المخالفات، وابتغوا إليه الوسيلة بالطاعات.
قوله تعالى: * (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) * [الآية: 41].
قال الخواص: من يرد افتراق أوقاته لم يملك جمعها له.
177

قال ابن عطاء: من يحجبه الله عن فوائد أوقاته لن يقدر أحد أيضا لها إليه.
وقال أبو عثمان: أفتن الفتن اتباع الشهوات والغفلة في الأوقات.
قوله تعالى: * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) *.
قال أبو عثمان: يطهر قلوبهم بالمراقبة والمراعاة.
وقال في موضع آخر: بالحياء من الله عز وجل.
قال أبو بكر الوراق: طهارة القلب في شيئين:
إخراج الحسد والغش منه وحسن الظن بجماعة المسلمين.
قوله تعالى: * (سماعون للكذب أكالون للسحت) * [الآية: 42].
قال بعضهم: سماعون للدعاوى الباطلة، أكالون للسحت يعني: أكالون بدينهم.
قوله تعالى: * (والربانيون والأحبار) * [الآية: 44].
قيل: الربانيون الراجعون إلى الرب في جميع أحوالهم، والأحبار: العلماء بالله
وبآياته.
وقيل: الربانيون: العلماء، والأحبار: العلماء بأحكام الله.
وقال ابن طاهر: الربانيون هم الصحابة الذين أخذوا كلام الرب التدبير الأعلى،
والواسطة الأدنى، والأحبار هم علماء الأمة العالمون بعلمهم.
قوله تعالى: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * [الآية: 44].
قال محمد بن الفضل: لا تطلبوا الدنيا بعمل الآخرة.
وقال بعضهم: لا تجعلوا طاعاتكم سببا لطلب الدنيا فقد خاب من فعل ذلك.
قوله تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *. والظالمون
والفاسقون.
قال بعضهم: من لم يحكم للناس كحكمه لنفسه فقد كفر نعمة الله عنده، وجحد
سنى مواهبه لديه وظلم نفسه بذلك.
قال بعضهم: من لم يحكم بخواطر الحق على قلبه كان محجوبا من المبعدين.
قوله تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * [الآية: 48].
178

قال بعضهم: كل قد فتح له الطريق إلى الله، فمن استقام على الطريق وصل إلى
الله ومن زاغ وقع في سبل الشيطان وضل عن سواء السبيل.
وقال أبو يزيد البسطامي رحمة الله عليه في هذه الآية: كما أنه بذاته يحبهم كذلك
يحبون ذاته فإن الإله راجعه إلى الذات دون النعوت والصفات.
وسمعت السلامي يقول في قوله: ' يحبهم ويحبونه ' بفضل حبه لهم أحبوه، كذلك
ذكرهم بفضل ذكره لهم ذكروه.
وقال: الحب شرطه أن يلحقه سكرات المحبة، فإذا لم يكن كذلك لم تكن فيه
حقيقة.
وقال يوسف بن الحسين: المحبة: الإيثار.
وأنشدني في معناه الحسين بن أحمد الرازي قال: أنشدني أبو علي الروذاباري
لنفسه:
(سامرت صفو صبابتي أشجانها
* جزق الهوى وغليله نيرانها
*
(وسألت عن فرط الصبابة قيل لي
* إيثار حبك قلت جذب عنانها
*
* وكل له وبه ومنه فزين
* وصف فاتورة فطاح لسانها
*
وقال بعضهم: سكون بعد الطلب، وطلب بعد السكون، لأن الطلب لا يساكن
الأحوال إلا بوجود مراده وهوى محبوبه.
[وقيل: المحبة ارتياح الذات لمشاهدة الصفات].
وقيل: المحبة هي أن تصير ذات المحب صفة المحبوب.
وقال بعضهم: المحبون لله هم الذين قطعوا العلائق التي تقطع عن الله من قبل أن
تقطعهم.
179

قال الواسطي رحمة الله عليه: بطل حبهم بذكر حبه لهم بقوله * (يحبهم ويحبونه) *
وأنى تقع صفات المعلولة من صفات الأزلي الأبدي.
وقال الشبلي: المحبة استواء الحب في الشدة والرخاء، إذا صح قوله ودعواه.
سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الداري يقول: سمعت أبا عثمان يقول:
إنه قد ذكر حبهم له وحبه لهم، ثم نعتهم في حبه لهم فقال: * (أذلة على المؤمنين) * فبدأ
من نعت المحبة بالتواضع الذي ضده الكبر، والكبر يتولد من الجهل الذي يؤدي إلى
الأمن واليأس. والتواضع يتولد من حقيقة العلم.
وقال الجنيد: من أثبت محبته لله من غير شرط محبة الله له، كان في دعواه مبطلا
حتى يثبت أولا محبة الله له، قال الله تعالى: * (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) *.
قوله تعالى: * (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) * [الآية: 54].
قال أبو بكر الوراق: الجهاد ثلاثة: جهاد مع نفسك، وجهاد مع عدوك، وجهاد مع
قلبك والجهاد في سبيل الله هو مجاهدة القلب لئلا تتمكن منه الغفلة بحال، وجهاد
النفس لا تفتر عن الطاعة بحال، وجهاد الشيطان أن لا يجد منك فرصة فيأخذ منك
بحظه.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: الناس في مجاهداتهم ثلاثة نفر مرتبطون بأفعالهم
وصفاتهم، يقولون في القيامة * (هآؤم اقرءوا كتابيه) * و * (يا ليت قومي يعلمون) *
ونفر غلبت صفات الله على سرائرهم، فهم ينظرون إلى السبق وإلى ما جرى به من
الحكم، ونفر تجلى الله لقلوبهم فخشعت عما سواه، فهم لا يدركون صفاتهم
وأعمالهم، ولا يدركون صفات الحق انقطاعا إلى الله واتصالا به.
قوله تعالى: * (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) *
[الآية: 56].
قال سهل: التوبة لها مقامات وحالات، والتوبة الصحيحة ما قال الله عز وجل:
* (ومن يتول الله ورسوله فإن حزب الله هم الغالبون) *.
180

قال القاسم: موالاة الله مشتقة من موالاة رسوله وموالاة الرسول مشتقة من موالاة
السادة والأكابر من عباده وهم المؤمنون، ومن لم يعظم الكبراء السادة لا يبلغ إلى شيء
من مقامات المولاة مع الله ورسوله فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ' من تعظيم جلال الله إكرام ذي
الشيبة المسلم '، وقال: صلى الله عليه وسلم: ' بجلوا المشايخ فإن تبجيل المشايخ من إجلال الله '.
وقال سهل في قوله: * (فإن حزب الله هم الغالبون) * قال: لأهوائهم وإراداتهم
ومقاصدهم.
وقال بعضهم: حزب الله أهل خاصته والقائمون معه على شرائط الاستقامة.
قوله تعالى: * (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) * [الآية: 15].
قال الواسطي رحمة الله عليه: ينال العبد بالنور ما هو أجل من النور، كداخل البيت
سراج يجد فيه جوهره.
قال النصر آباذي: إنه إنما دعى إلى النور الأدنى من عمي عن النور الأعلى.
وقال بعضهم: قد جاءكم من الله نور يفهمكم فوائد الكتاب المبين.
قوله تعالى: * (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار) * [الآية: 63].
قال الواسطي رحمة الله عليه: الربانيون العارفون مقادير الخلق لرحمة الحق،
والأحبار الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
وقال أبو عثمان رحمة الله عليه: الربانيون هم أهل حقيقة الحق وهم أهل المحبة لله
بالصدق.
181

قوله تعالى: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) * [الآية: 67].
قال الواسطي: حقائق الرسالة لو وضعت على الجبال لزالت، إلا أنهم يظهرون
للعالم على مقادير طاقتهم، ألا ترى إلى قوله تعالى * (بلغ ما أنزل إليك من ربك) * ولم
يقل ما تعرفنا به إليك.
وقال بعضهم: الرسول هو المبتدي والنبي هو المقتدي، قال الله تعالى في صفة
الأنبياء * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) *.
وقال بعضهم في قوله: * (بلغ ما أنزل إليك من ربك) * معناه: بلغ ما أنزل إليك من
ربك ودع ما تعرفنا به إليك، الأول: الشريعة والثاني: ما أنزل من الأنوار على
سر محمد صلى الله عليه وسلم لا يطيقها بسر.
وقال بعضهم: بلغ ما أنزل إليك من ربك ولا تبلغ ما خصصناك به من محل
الكشف والمشاهدة فإنهم لا يطيقون سماع ما أطقت حمله من مشاهدات اللذات
والتجلي بالصفات.
قوله تعالى: * (والله يعصمك من الناس) *. قيل يعصمك منهم أن يكون منك إليهم
التفات، أو يكون لك بهم اشتغال.
وقيل: يعصمك من أن ترى لنفسك فيها شيئا بل ترى الكل منه وبه.
وقال بعضهم: لصون سرك عن الاشتغال بهم والنظر إليهم، لأنك معصوم السر عن
مولد الشكوك ونزغات الشيطان وفلتات النفس.
قوله تعالى: * (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا) *
[الآية: 69].
قال الواسطي رحمة الله عليه: هم الذين تولى الله إضلالهم وصرف قلوبهم عن
إدراك حقائق الحكمة.
قوله تعالى: * (وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا) * [الآية: 71].
قال بعضهم ظنوا أن لا يفتتنوا في آرائهم وأهوائهم فعموا عن رؤية الحق وصموا عن
استماعه، إلا من أدركته رحمة الله وفضله فتاب عليه وفتح عينه لرشده.
182

وقيل: ظنوا أنهم لن يقعوا في الفتنة وهم طالبون للدنيا معتمدون على الخلق،
عميت أبصار قلوبهم وصمت آذان سرائرهم، إلا من يتداركه الله بكشف الغطا فيحله
محل التابعين.
قوله عز وجل: * (أن سخط الله عليهم) * [الآية: 80].
قال الواسطي رحمة الله عليه: ما أظهر الله من الوشم المكروه على خلقه، جعل
ذلك مضافا إلى غضبه وسخطه من غير أن يؤثر عليه شيء، ألا ترى إلى قول الحكيم
كيف يؤثر عليه، ما هو أحراه له كيف يغضبه ما هو أبداه وكيف يجري عليه الغضب
على نحو ما يعرف من الآدميين، ولا يكره شيئا خلقه وتولى إظهاره، وإن كان نفس ما
أظهره مكروها في ذاته، إذ لا ضرر عليه في شيء خلقه، كما لا زينة له في شيء
خلقه.
قوله تعالى: * (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه) * [الآية: 74].
قيل: أفلا يتوبون إليه من رؤية افعالهم ويستغفرونه من تقصيرهم فيها.
وقال أبو عثمان في قوله: * (أفلا يتوبون إلى الله) *.
قال: أفلا يرجعون إليه بالكلية ويقطعون قلوبهم عن الأسباب.
وقال رويم: حقيقة التوبة هي التوبة من التوبة.
وقال سهل: التوبة أن لا تنسى ذنبك.
وقال أبو حفص: التوبة أن لا تذكر ذنبك.
وقال السوسي: التوبة الرجوع عن كل ما ذمه العلم إلى ما مدحه العلم.
وقال الدقاق: أن تكون وجها لله بلا قفا كما كنت قفا بلا وجه.
وقال النوري: التوبة أن تتوب مما سوى الحق.
قوله تعالى: * (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) * [الآية: 82].
قال بعضهم: حرمات الخدمة أثبت عليهم وإن كانوا على طرق المخالفة، لكنهم لما
أظهروا لزوم الباب بدت عليهم آثارها في قبول الحرية وتحليل المناكحات والأسباب إلى
التزهد والرهبانية.
183

قوله تعالى: * (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع) *
[الآية: 83].
قال ابن عطاء: كادت جوارحهم وقلوبهم أن تنطق بقبول الوحي قبل سماعه في
مشاهدة المصطفى صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا منه لم يطيقوا إلا ببكاء فرح أو بكاء حسرة أو بكاء
دهشة أو بكاء حركة أو بكاء معرفة، كما قال الله تعالى: * (مما عرفوا من الحق) *.
وقال بعضهم في هذه الآية: كان فيهم ثلاثة أشياء: الدعاء والبكاء والرضاء.
فالدعاء على الجفاء، والبكاء على العطاء، والرضاء بالقضاء وكل أحد يدعي المعرفة
ولا تكون فيه هذه الثلاثة فليس بصادق في دعواه.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * [الآية: 87].
قال سهل: هو الرفق بالأسباب من غير طلب ولا إشراف نفس، وقد يبدو الرفق
بالسبب لأهل المعرفة على الظاهر وهم يأخذونه من المسبب على الحقيقة.
وقال أبو عثمان: لا تحرموا على أنفسكم المكاسب وطلب القوت الحلال من ذلك
ولا تعتدوا لانزواء رازقا سواه، فإنه الرازق. والرازق ربما أوصل إليك رزقك بسبب
وربما قطعك عن الأسباب وردك إلى الأخذ منه.
قوله تعالى: * (كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) * [الآية: 88].
قال بعضهم: رزقك الذي رزقك ما هو من غير حركة منك ولا استشراف، وهو
الطيب الحلال يحلك محل الدعة ويطيب قلبك بتناوله.
قوله تعالى: * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا) * [الآية: 92].
قال الواسطي رحمة الله عليه في هذه الآية: الحذر لا يزول عن العبد، وإن كان
مدرجا تحت الصفات ولولا ذلك لبسطه العلم إلى شرط الجور وقلة المبالاة بالأفعال،
ولكن الآداب في إقامة الموافقات كلما ازدادت السرائر به علما ازدادت له خشية.
وقال ابن العزمي: الحذر انكسار القلب.
وقال أيضا: معنى الحذر مراقبة القلب.
وقال الواسطي: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا) * أي: لا تلاحظوا طاعاتكم
فتسقطوا عن درجة الكمال.
184

وقال أبو سعيد الخراز: الحذر من ثمانية أوجه:
احذر الله فيما تعرفه من ذنوبك، واحذره فيما لا تعرفه أنت ويعرفه منك، واحذره
فيما لا ترى من فضله عليك، واحذره أن لا ينسيك عيوبك، واحذره أن تكون مخدوعا
برؤية طاعتك ونسيان مخالفاتك، واحذره أن تكون مستدرجا، واحذره أن يحجبك
برؤية رحمته عن رؤية عدله، واحذره أن لا يغرك بثناء الخلق عليك بخلاف ما يعلمه
منك.
قوله تعالى: * (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) * [الآية: 97].
سمعت محمد بن عبد الله الطبري يقول سمعت الشبلي يقول: الكعبة أمام أعين
الخلق، والحق إمام قبلة أوليائه.
وقيل: البيت الحرام أي حرام في مجاهرته لارتكاب المخالفات بحال.
وقيل: حرام على من يراه أن يرى وضعه بعد واضعه.
وقيل قياما للناس: أي من ذل عن قيامه فاعوج بالتدنس بمعصية فأتاه فتعلق به إقامة
بركاته وأثار الأنبياء عليهم السلام.
والصلاة فيه ورده إلى حال الاستقامة.
قوله تعالى: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا إذا ما
اتقوا) * [الآية: 93].
قال سهل: إذا طلب الحلال ولم يأخذ فوق الكفاية وآثر مما حصله وواسى.
قال أبو عثمان الحيري في قوله: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح
185

فيما طعموا) * إذا ما اتقوا الحرام وآمنوا بوعيد الله وعملوا الصالحات اتبعوا السنة، ثم
اتقوا البخل وآمنوا بالخلف ثم اتقوا كثرة الأكل وأحسنوا يعني قالوا: بالفضل.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) *
[الآية: 101].
قال بعضهم: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال بعضهم: لا تسألوا عن
مقامات الصديقين ودرجات الأولياء، فإنه إن بدا لكم شيء منها فأنكرتم ذلك هلكتم.
وقال سهل: سؤاله حجاب ودعاؤه قسوة.
قوله عز وعلا: * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) *
[الآية: 105].
قال محمد بن علي: عليك نفسك إن كفيت الناس شرها فقد أديت أكثر حقها.
ودخل خادم الحسين بن منصور عليه الليلة التي وعد من الغد قتله، فقال: أوصني:
فقال: عليك نفسك إن لم تشغلها شغلتك.
وسئل أبو عثمان عن هذه الآية فقال: عليك نفسك إن اشتغلت بصلاح فسادها
وستر عوراتها، شغلك ذلك عن النظر إلى الخلق والاشتغال بهم.
قوله تعالى وتقدس: * (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا) *
[الآية: 109].
قال الواسطي رحمة الله عليه: أظهر ما منه إليهم كلهم من توليه فقالوا كيف نقول
فعلت الأمم - أو فعلنا عندها - كلت إلا عن العبادة عن الحقيقة.
وقال بعضهم: لا علم لنا بسؤال عن الحقيقة.
وقال: خاطبهم لعلمه بأنهم يحملون ثقل الخطاب وأشد ما ورد على الأنبياء في
نبوتهم حمل الخطاب على المشاهدة، لذلك لم يظهروا الجواب ولم ينطقوا بالجواب إلا
على لسان العجز، لا علم لنا مع ما كشفت لنا من جبروتك.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: رفق بهم ولو فقهوا أو علموا لماتوا هيبة لورود الجواب
للخطاب.
وقال بعضهم: لولا أن الله تعالى أيدهم بخطابه بالوسائط، لذابوا حين فجئهم
186

خطاب المشاهدة.
وقال بعضهم: طاشت عقولهم وذهلت ألبابهم لهيبة ورود الخطاب عليهم.
وقال ابن عطاء: لا علم لنا بسؤالك ولا جواب لنا عنه.
وقال سهل بن عبد الله: لا عقل لنا وكانت مخاطبتهم في أصل العقل.
وقال بعضهم: لما ظهر لهم الحق بعلمه وسبقه ثم سألهم جحدوا علومهم ونسوها في
قوله: * (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا) * [الآية: 109].
وذلك من إقامة الأدب لأجلها بما أجابوا.
وحكى الواسطي رحمة الله عليه عن الجنيد رحمه الله أنه قال عن غفلة: قالوا لا
علم لنا ولو فقهوا لماتوا، ولو لحظت الرسل ما تحت خطابه لذابوا.
سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمرو محمد بن الأشعث يقول: في قوله:
* (ماذا أجبتم) *؟ قالوا: لا علم لنا كعلمك، فإنك تعلم ما أظهروا وما أعلنوا وأضمروا،
ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ.
وقال الواسطي رحمة الله عليه: خاطبهم بشاهدهم فثبتوا وأجابوا وسعوا في أمره
ونهيه، ثم خاطبهم بشاهده في الآخرة وبالحقيقة فجحدوا أمرهم وأنكروا ذلك حقهم،
لأن ما ستر عنهم لو أظهره لهم في الدنيا لما أبدوا رسالة ولا قاموا بحق، وكأنهم قالوا:
ما دعونا إلى الذي ظهر ولا قمنا بحق ما أظهرت لنا * (لا علم لنا) *.
وقال سهل بن عبد الله في قوله * (لا علم لنا) * أي: لا علم لنا بمرادك في سؤالك
وأنت علام الغيوب، وتلقى الخطاب بالجواب صعب ولا يتلقى خطابه إلا بالجهل
والاستكانة والفقر والذلة والخضوع.
سمعت محمد بن شاذان يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول: في هذه الآية: * (لا علم لنا) * أي: لا علم لنا بجواب ما يصلح لهذا السؤال.
وقال أيضا: * (لا علم لنا) * إلا علمنا بأنك أنت أعلم بهم منا وليس علمنا كعلمك يا
ربنا.
وقال بعضهم في هذه الآية: * (ماذا أجبتم) *؟ أي: كيف شكركم عن عبادي قالوا:
* (لا علم لنا) * بالإجابة، إن شكرنا كذبنا وإن صدقنا شكوا ولا تحتمل قلوبنا أن نشكوا
187

من ضعفاء إلى متكبر جبار، إنك أنت علام الغيوب، يستعفون من ذلك السؤال قوله:
* (إنك أنت علام الغيوب) *.
قال بعضهم: قطعهم بذلك عن الشفاعات حتى يستأذنوا فيأذن لمن يشاء بقوله تعالى:
* (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) *.
قوله تعالى: * (إذ أيدتك بروح القدس) * [الآية: 110].
قال بعضهم: منهم من ألقى إليه روح النبوة، ومنهم من ألقى إليه روح الصديقية،
ومنهم من ألقى إليه روح المشاهدة، ومنهم من ألقى إليه روح الإصلاح والحرمة، وأسر
إليهم بما لا يترحم، ولا يعبر علم رباني غاب وصفه وبقي حقه.
قال الواسطي رحمة الله عليه: لا تصح الصحبة مع الله إلا بصحبة الروح في صحبة
القدم.
قال الله تعالى: * (أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا) * [الآية: 110].
بالعقل فمن صحت صحبة روحه في القدم صحت صحبته مع الله.
وقال في قوله أيدتك بروح القدس: ذكر الروح في هذا الموضع لطف بالقربة من
المستترات.
قال بعضهم: قدست روحك أن تمازج شيئا من هيكلك وطبعك، بل طهرته لئلا يرى
غيري ولا يشاهد سواي، وأسكنته قالب جسمك، سكون عارية كإسكان آدم صلى الله عليه وسلم الجنة
لأطهر به جسدك عن أدناس الكون حتى أقدسهما جميعا وأخرجهما إلى مجد القدس.
قوله تعالى: * (يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون
الله) * [الآية: 116].
قال ابن عطاء: قمعه هذا الخطاب وأسره حتى أحوجه وجميع الأنبياء معا أن أقروا
بالجهل فقالوا: لا علم لنا.
قال تعالى: * (وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني) * [الآية: 111].
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا الروذباري يقول: غاية الربوبية
في غاية العبودية لما استقام على بساط العبودية أظهر عليه شيئا من أوصاف الربوبية
بقضائه وقدره.
188

قوله تعالى: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: تعلم ما في نفسي لك ولا أعلم ما في نفسك لي.
قال يحيى: تعلم ما في نفسي لأنك أوجدتها، ولا أعلم ما في نفسك لبعد الذات
عن الدرك.
سمعت محمد بن عبد العزيز يقول: سمعت محمد الجريري يقول: سمعت الجنيد
رحمة الله عليه يقول: وقد سئل عن قوله تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك.
قال: تعلم ما أنا لك عليه وما لك عندي، ولا أعلم ما لي عندك إلا ما أطلعتني
عليه وأخبرتني به.
وقال: تعلم ما في نفسي من تدبيرك في وقضائك لي، ولا أعلم ما في نفسك من
المحبة لي أو الإبعاد.
قوله تعالى: * (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) * [الآية: 117].
قيل أنى يكون لي لسان القول إلا بعد الإذن بعد قولك * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) *.
قوله تعالى: * (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) *.
قيل: لما أسقطت عني ثقل الإبلاغ، كنت أنت أعلم من إقبالهم بما أجريت عليهم من
محتوم قضائك.
وقال أبو بكر الفارسي في هذه الآية: الموحد ذاهب عن حاله ووصفه وعما له
وعليه، وإنما هو ناظر بما يرد ويصدر ليس بينه وبين الحق حجاب، إن نطق فعنه وإن
سكت فيه، حيث ما نظر كان للحق منظوره، وإن أخلده النار لم يلتمس فرجا لأن رؤية
الحق وطنه ونجاته، وهلكته من عين واحدة لم يبق حجاب إلا طمسه برؤية التفريد وكان
المخاطب والمخاطب واحدا، وإنما يخاطب الحق نفسه بنفسه لنفسه، قد تاهت العقول
ودرست الرسوم وبطل ما كانوا يعملون.
قوله تعالى: * (إن تعذبهم فإنهم عبادك) * [الآية: 118].
قال الوراق: إن تعذبهم بتقصيرهم في طاعتك، فإنهم عبادك مقرون لك بالتقصير،
وإن تغفر لهم ذنوبهم فأنت أهل العزة والكرم.
189

وقال بعضهم: نزل عيسى عليه الصلاة والسلام له انبساط في السؤال للأمة وترك
المحاكمة في أفعاله، ونبينا صلى الله عليه وسلم لا يزال يشفع ويشفع ويقول: أمتي أمتي حتى يجاب في
الكل من أمته، وهذا هو المقام المحمود الذي خص به، ويغبطه عليه الأولون والآخرون
حيث راجع الحق منبسطا ويجاب بقوله قل يسمع واشفع تشفع.
قوله تعالى: * (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) * [الآية: 119].
سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول:
سمعت سعيد بن عثمان يقول:
قال ذو النون: ثلاثة من أعلام الصدق: ملازمة الصادقين، والسكون عند نظر
المتفرسين ووجدان الكراهية لتغير السر لرب العالمين.
سمعت النصر آباذي يقول: سمعت إبراهيم بن عائشة يقول: سمعت أبا سعيد
القرشي وقد سئل عن الصادق فقال: الذي ظاهره مستقيم وباطنه لا يميل إلى حظ
النفس لاستقامته، وعلامة صاحبه أن يجد الحلاوة في بعض الطاعة ولا يجد في
بعضها.
وإذا اشتغل بالذكر والاجتهاد يجد الروح وإذا اشتغل بحظوظ نفسه حجب عن الله
وعن الأذكار.
وقال بعضهم في قوله * (يوم ينفع الصادقين صدقهم) * حجاب الأكابر إخبارهم عن
حضورهم ومن حضر نفسه لا يحضر ربه، ومن ادعى الصدق أثبت نفسه وأحضرها.
سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الكتاني يقول: سألت ابن عطاء بمكة عن
قوله: * (يوم ينفع الصادقين صدقهم) * قال: إرادتهم في بيان أعمالهم بجوارحهم.
وقال الحسيني في هذه الآية: إذا قابل ربه بصدق، وجهل أمر ربه، وطالب ربه
بحظه ووعده يطالبه ربه بصدق صدقه فأفلسه عن رتبته وأبعده عما قصده، وينفع صدقه
من لقيه الإفلاس وأيقن أنه كان مستعملا تحت حكمه وقضيته.
190

قوله تعالى: * (فإنك أنت العزيز الحكيم) * [الآية: 118].
قال الواسطي رحمة الله عليه: عز كلامه ونعوته وعزت صفاته وبيانه وأساميه فلم
يبدها إلا لمن خلقه لها ومن كان هو أحق بها وأهلها.
191

ذكر ما في سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وعلا: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * [الآية: 1].
قيل: حمد نفسه بنفسه حين علم عجز الخلق عن بلوغ حمده.
وقيل: حمد نفسه على ما أبدى الخلق من مصالحهم ومعايشهم لغفلة الخلق عن
ذلك.
وقيل في قوله: * (خلق السماوات والأرض) * قال: السماوات سماوات المعرفة، والأرض أرض الخدمة.
وقيل هذه الآية من ذا الذي يستحق الحمد،، إلا من يقدر على مثل هذا الخلق
من السماوات والأرض وما فيهما.
وسئل الواسطي رحمة الله عليه ما الحكمة في إظهار الكون بقوله خلق السماوات
والأرض؟ فقال: لا حاجة به إلى الكون، لأن فقد الكون ظهوره وظهوره فقده عنده،
فإن قيل لإظهار الربوبية قيل: ربوبيته كانت ظاهرة ولم يظهر ربوبيته لغيره قط، لأنه لا
طاقة لأحد في ظهور ربوبيته، بل أظهر الكون وحجب الكون بالكون، لئلا تظهر لأحد
الربوبية فينطمس، لأن الحق لا يحتمله إلا الحق.
وسئل بعضهم: ما الحكمة في إظهار الكون؟ قال: ارتفاع العلة، فإذا ارتفعت العلة
ظهرت الحكمة.
قوله تعالى: * (وجعل الظلمات والنور) *.
قال بعضهم: أبدأ الظلمات في الهياكل والنور في الأرواح.
وقال بعضهم: جعل الظلمات الكفر والمعاصي، وجعل النور الإيمان والطاعات.
وقال الواسطي: هو الكفر والمعاصي والنور والإيمان، وأصله الافتراق والاقتران.
وقال بعضهم: جعل الظلمات والنور، الظلمات: أعمال البدن والنور: في
التفويض.
192

قوله تعالى: * (هو الذي خلقكم من طين) * [الآية: 2].
قال الحسن: ردهم إلى قيمتهم في أصل الخليقة، ثم أوقع عليهم نور السيد وخاصية
الخلقة، فتميزوا بذلك عن جملة الحيوانات بالمعرفة والعلم واليقين.
قوله تعالى: * (يعلم سركم وجهركم) * [الآية: 3].
قال بعضهم: ما تضمرون في سرائركم وما تجهرون به من دعواتكم.
قوله تعالى: * (وللبسنا عليهم ما يلبسون) * [الآية: 9].
قال الواسطي رحمة الله عليه: ليس على أهل ولايته بحضرته كما أنزل في بعض
الكتب بغيتي ما يتحمله المتحملون من أجلي وطلب مرضاتي، أتراني أنسى لهم ذلك
كيف وأنا الجواد الكريم، أقبل على من تولى عني فكيف بمن أقبل علي.
وقال النوري في قوله: * (وللبسنا عليهم ما يلبسون) * قال: رحمهم من حيث لم
يعلموا.
قوله عز وعلا: * (ولقد استهزئ برسل من قبلك) * [الآية: 10].
قال: القاسم لما لم يعرفوا حقوق الرسل ولم يكرموهم ولم ينظروا إليهم بعين
الحق، فصموا عن الأنوار والمشاهدات والرفيع من المقامات.
قوله عز وعلا: * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) * [الآية: 54].
قال: كتب في الأبد لمن نظر إليه في الأزل بعين الرحمة.
قال أبو عثمان: أوجب على نفسه عفو المقصرين من عباده، لذلك قال: كتب ربكم
على نفسه الرحمة.
وقال بعضم: في قوله: * (سلام عليكم) * قال: هي الصفات الجارية عليهم ولهم،
والذي أعتقهم من رق الكون وأظهرهم من خفايا المختزنات المصونات المكنونة بأعجب
أعجوبة ثم أشهدهم السلام.
قال محمد بن علي الكتاني: اختص الحق بقلوب العارفين لسكونها إليه، قال: ' وله
ما سكن ' وكانوا سالمين منه في أزليته، سالمين منه، في ظاهر ربوبيته، سالمين في
193

آخريته، فاستحقوا اسم السلام بذلك.
قوله عز ذكره: * (وله ما سكن في الليل والنهار) * [الآية: 13].
كيف لا يسكن إلى الحق ولدعاة الحقيقة تقصده وهو موضع النظر.
وقال الواسطي: * (وله ما سكن في الليل والنهار) * فمن ادعى شيئا من ملكه وهو ما
سكن في الليل والنهار من خطرة أو حركة أنها له فقد جارب القبضة وأوهن العزة.
* (ألا له الخلق والأمر) * أمر إطلاق.
وقال أيضا في هذه الآية: أزال الأملاك بل أبطلها حين أضافها إلى نفسه وتولاها
بقدرته وأظهرها بمشيئته وأوجدها بعدما أفقدها، فهو المالك لها على الحقيقة.
قوله تعالى: * (قل أغير الله أتخذ وليا) * [الآية: 14].
قال الجوزجاني: أبغى سواه ملجأ وقد سهل السبيل إليه.
وقال غيره: أسواه أستكفى، وهو الذي يكفيني المهم في الدارين.
وقال أبو عثمان: الالتجاء إلى الله عز وجل فإنه موضع اللجأ * (قل أغير الله أتخذ وليا) *.
قوله تعالى: * (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) *.
قال بعضهم: أكون أول من انقاذ للحق إذا ظهر.
وقال ابن عطاء: أن أكون من الخاضعين لما يبدو من مبادئ القدرة.
وقال جعفر: من الراضين بموارد القضاء.
قوله تعالى: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) * [الآية: 17].
قال الوراق: اعتمد على الله في جميع أمورك وأحوالك، فإنه لا مانع لما أعطى ولا
194

دافع لما أنزل سواه، ألا تراه يقول: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) *.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: معبودك أول خاطر يخطر لك عند نزول ضر أو نزول
بلاء إن رجعت فيه إلى الله فهو معبودك وهو الذي يكفيك، وإن رجعت إلى غيره تركك
وما رجعت إليه.
قوله تعالى: * (وهو القاهر فوق عباده) * [الآية: 18].
قيل: جبرهم وقهرهم حتى لو استطاعوا عنه معدلا ما أطاقوا، يجحدون ظاهرين
وتكذبهم البواطن.
وقال الحسين: القاهر يمحو به كل موجود.
وقال بعضهم: قهرهم على الإيجاد والإظهار، كما قهرهم على الموت والفناء.
وقال بعضهم: القاهر: الآمر بالطاعة من غير حاجة، والناهي عن المعصية من غير
كراهية، والمثيب من غير عوض، والمعاقب من غير حقد، لا يشتفي بالعقوبة ولا يتعزز
بالطاعة.
قوله عز وعلا: * (قل أي شيء أكبر شهادة) [الآية: 19].
قال الحسين: لا شهادة أصدق من شهادة الحق لنفسه بما شهد به في الأزل لقوله
* (أي شيء أكبر شهادة قل الله) *.
قوله تعالى: * (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة) * [الآية: 25].
قال ابن عطاء: لأنه لم يجعل لهم سمع الفهم، وإنما جعل لهم سمع الخطاب.
قال الواسطي رحمة الله عليه: ومنهم من يستمع إليك بنفسه وهو في ظلمات نفسه
يتردد، ومنهم من يستمع منك بنا فهو في أنوار المعارف يتقلب.
قوله تعالى: * (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) * [الآية: 28].
قيل: ظهر لهم من عيوب أسرارهم ما كان يخفيه عنهم قلة عملهم.
قال أبو العباس الدينوري: أبدا لهم الحق فساد دعاويهم التي كانوا يخفونها
195

ويظهرون للناس خلافها من التنسك والتقى.
قوله تعالى: * (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) * [الآية: 30].
قال ابن عطاء: وقفوا وقوف قهار، ولو وقفوا وقوف اشتياق لرأوا عن أنواع
الكرامات ما تعجبوا منها.
قوله تعالى: * (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) * [الآية: 32].
قال محمد بن علي: لعب لمن جمعه لهو لمن يرث عنه.
وقال الواسطي في قوله * (ولدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا يعقلون) * جهلهم
بعلمهم.
قال النصرآباذي: لمن لزم التقوى واشتاق إلى مفارقة الدنيا.
قال الله تعالى: * (وللدار الآخرة خير للذين يتقون) *، والإنسان يسارع إلى ما هو
خير له.
قال بعضهم في هذه الآية: تعزية للفقراء بما حرموا منها، وتقريع للأغنياء بما ركنوا
إليها.
قوله تعالى: * (ولقد كذبت رسل من قبلك) * [الآية: 34].
قال الواسطي رحمة الله عليه: طيب قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بما خالفوه به من أنواع الخلاف
لئلا يشق عليه حال الإبلاغ.
قوله تعالى: * (ولا مبدل لكلمات الله) *.
قيل: لا مغير لها لما أجرى في الأزل عند ظهورها في الأبد، والأزل والأبد عنده
واحد ولا أزل ولا أبد حقيقة.
قوله تعالى: * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) * [الآية: 35].
قال الواسطي: على جوهرة واحدة في صفة واحدة.
وقيل هذا الخطاب استهانة بمن أعرض عنه، بأنه سيرهم في مشيئته وصرفهم في
تدبيره.
196

قوله تعالى: * (إنما يستجيب الذين يسمعون) * [الآية: 36].
قال النوري: من فتح سمعه للسماع أجرى لسانه بالجواب.
قوله تعالى: * (إنما يستجيب الذين يسمعون) *.
قال ابن عطاء: أخبر الله أن أهل السماع هم الأحياء وهم أهل الخطاب والجواب،
وأخبر أن الآخرين هم الأموات بقوله * (والموتى يبعثهم الله) *.
قوله تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شيء) * [الآية: 38].
قيل: ما أخرنا في الكتاب ذكر أحد من الخلق ولكن لا يبصر ذكره: في الكتاب إلا
المؤيدون بأنوار العزة.
قوله عز وعلا * (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات) * [الآية: 39].
قال بعضهم: لم يصدقوا إظهار كرامتنا على المقربين من عبادنا، عموا وصموا عن
أنوار الملاحظات، وبقوا مع ظلمات النفوس وهواجس الهياكل.
قوله تعالى: * (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) *.
قال من يرد الله به الخير يجره إلى حسن اختياره له فيبقى على أسلم الطريق، وهو
الرضا بمجاري القدرة وهو الصراط المستقيم. ومن يرد به الشر تركه في سوء تدبيره
فيبقى في ضلاله.
قوله تعالى: * (أغير الله تدعون إن كنتم صادقين) * [الآية: 40].
قيل أعلى غيره تتوكلون وإلى سواه ترجعون؟ وهو الذي وفقكم لمعرفته وأقامكم
مقام الصادقين من عباده.
قال الجريري: مرجع العارفين إلى الحق في أوائل البدايات، ومرجع العوام إليه بعد
الإياس من الخلق.
قال الله تعالى: * (أغير الله تدعون إن كنتم صادقين) *.
قوله تعالى: * (بل إياه تدعون) * [الآية: 41].
قال الجنيد رحمة الله عليه: من دعا الحق فبإياه لإياه يدعو من غير حظ فيه ولا
حضور من نفسه.
197

قال الله تعالى: * (بل إياه تدعوه) *.
قال بعضهم: بل إليه المرجع لمن عقل عنه خطابه.
قوله تعالى: * (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون) * [الآية: 42].
قال ابن عطاء: أخذنا عليهم الطرق كلها ليرجعوا إلينا.
قوله تعالى: * (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم) * [الآية: 46].
قال الجريري: أي إن أخذ الله سمعكم عن فهم خطاباتهم وأبصاركم عن الاعتبار
بصنائع قدرته، وختم على قلوبكم تسلبكم معرفته، هل يقدر أحد فتح باب من هذه
الأبواب سواه؟ كلا بل هو المبتدئ بالنعم تفضلا ومنتهى في الانتهاء كرما.
قوله تعالى: * (فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم) * [الآية: 48].
قال بعضهم: من أخلص باطنه وأصلح ظاهره فلا خوف عليهم خوف القنوط ولا
هم يحزنون حزن القطيعة.
قوله تعالى: * (قل هل يستوي الأعمى والبصير) * [الآية: 50].
قال بعضهم: الأعمى من عمى عن طريق رشده والقائم مع عبادته، والبصير الناظر
إلى منن الحق عليه وحسن توليه له أفلا تتفكرون في اختلاف السبيلين وبيان المذهبين.
قوله تعالى: * (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) * [الآية: 51].
وقال أبو سعيد الخراز في قوله: * (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) *
قال: أن يجعلوا إلي وسيلة غيري، أو شفيعا إلي سواي.
سمعت الأستاذ أبا سهل محمد بن سليمان يقول: لسنا مخاطبين بحقائق القرآن إنما
المخاطب بحقيقته هم الذين وصفهم الله فقال: * (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) * وقال * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) * [ق: 37].
198

قوله تعالى: * (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: من استقطعته المملكة عن الملك، لا يصلح لخدمة
الملك.
وقال أيضا: لا تلاحظ أحدا وأنت تجد إلى ملاحظة الحق سبيلا.
قوله تعالى: * (لعلهم يتقون) *.
قال: أن يجعلوا إلي وسيلة غيري.
وقيل في هذه الآية: إنما يعطى الأطماع بمعاونة نصيب الكرم دون السعاية بضياء
الهداية.
قوله تعالى: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) *
[الآية: 52].
سئل النهرجوري عن المريد، فقال: صفته ما ذكر الله عز وجل في كتابه: * (ولا
199

تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) * الآية.
وهو دوام ذكره وإخلاص عمله، أوصى بذلك أكابرهم في التعطف عليهم والصفح
عن زللهم.
وقال أبو عثمان: الحال التي تجب على العبد لزوم حقيقة الذكر وخلوص السر وهو
المبدئ وهو المنهي.
وقال بعضهم في هذه الآية: لا تبعد عنك من زيناه بزينة العبودية، وجعلنا أيامه وفقا
على الإقبال علينا.
وقال أبو بكر الفارسي: إرادتك لله ذكرك له على الدوام، قال الله تعالى: * (ولا
تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) * وهذه صفة المتحققين من أهل الإرادة، ومن
علامة المريد الصادق أن يتنافر من غير جنسه ويطلب الجنس.
قوله تعالى: * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) * [الآية: 53].
قال الحسين: قطع الخلق بالخلق عن الحق، قال: * (فتنا بعضهم ببعض) *.
قال أبو بكر الوراق: هي فتنة الرجل بولده وزوجته والاشتغال بهم وبأسبابهم وقد
ذكر عن بعض السلف أنه قال: ما شغلك عن الله فهو مشئوم وهو بلاء وفتنة.
وقال محمد بن حامد في هذه الآية: فتن الفقراء بالأغنياء وفتنة الأغنياء بالفقراء،
ففتنة الفقير في الغني رؤية فضله عليه وسخطه لما يمنعه مما في يده ويراه المعطي والمانع
دون الله، وفتنة الغني بالفقير ازدراؤه بالفقراء وتحقيره إياهم ومنعهم ما أوجب الله لهم
عليه مما في يده وامتنانه عليهم بإيصالهم إلى حقوقهم أو إيصال الحقوق إليهم، والذي
يسقط عن الفقير فتنة فقره رؤية فضل الأغنياء والذي يسقط عن الغني فتنة غنائه رؤية
فضل الفقراء.
قوله تعالى: * (أليس الله بأعلم بالشاكرين) * [الآية: 53].
قال ذو النون: الشاكر هو المستزيد لذلك فضل الله الحامدين على الشاكرين.
وقال بضعهم: الشاكرين أي الراجعين إلى الله في جميع أحوالهم.
قوله عز وعلا: * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) * [الآية: 54].
قيل في هذه الآية: تسلم أنت على الذين يؤمنون بآياتنا، فإنا نسلم على الذين
200

يؤمنون بنا بلا واسطة وذلك قوله: * (سلام قولا من رب رحيم) *.
وقال بعضهم: إذا جاءك الذين خالفوا الامر وهم على طريقة التوحيد فاقبلهم ولا
تردهم بالمعاصي قال الله: * (لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *.
سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: سمعت إبراهيم بن المولد يقول: والله إن الحق هو
الذي يسلم على الفقراء، والنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك واسطة.
قوله تعالى: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: برحمته وصلوا إلى عبادته، لا بعبادتهم وصلوا إلى
رحمته، وبرحمته نالوا ما عنده، لا بأفعالهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ' ولا أنا إلا أن
يتغمدني الله منه برحمته '.
قوله تعالى: * (أنه من عمل منكم سوءا بجهالة) * [الآية: 54].
قال ابن عطاء: كل من عصى الله عصاه جهالة، وكل من اطاعه أطاعه بعلم فإن
العبد إذا لم يعظم قدر معرفة الله في قلبه ركب كل نوع من البلاء.
قوله عز وعلا: * (إني على بينة من ربي) * [الآية: 57].
قال أبو عثمان: الأنبياء والأولياء والأكابر منهم على بينات، فبينات الأنبياء وحي
ويقين وبينات الأولياء الفراسة الصادقة والإخبار عن الغيب كما كان ليوشع وللصديق
الأكبر.
قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * [الآية: 59].
قال الجريري: لا يعلمها إلا هو ومن يطلعه عليها من صفى وخليل وحبيب وولي.
قال ابن عطاء في هذه الآية: يفتح لأهل الخير المحبة والرحمة، ولأهل الشر الفتنة
والمهانة، ولأهل الولاية الكرامات، ولأهل السرائر السر، ولأهل التمكين جذبا.
201

وقال ابن عطاء: الفتح في القلوب الهداية وفي الهموم الرعاية وفي الجوارح
السياسة.
وقال أيضا: يفتح للأنبياء المكاشفات وللأولياء المعاينات وللصالحين الطاعات وللعامة
الهداية.
وقال أبو سعيد الخراز في هذه الآية: أبدأ ذلك لنبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم ففتح عليه أولا
أسباب التأديب، أدبه بالأمر والنهي، ثم فتح عليه أسباب التهذيب وهي المشيئة
والقدرة، ثم فتح عليه أسباب التذويب وهو قوله * (ليس لك من الأمر شيء) * ثم
أسباب التغييب وهو قوله: * (وتبتل إليه تبتيلا) * فهذه مفاتيح الغيب التي فتحها الله
لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال جعفر في قوله * (وعنده مفاتح الغيب) * قال: يفتح من القلوب الهداية ومن
الهموم الرعاية من اللسان الرواية ومن الجوارح السياسة والدلالة.
وقال بعضهم: يفتح لأهل الولاية ولاية وكرامة، ولأهل السر سر أبعد سر، ولأهل
التمكين جذبا وتقريبا، ولأهل الإهانة بعدا وتصريفا، ولأهل السخط حجبا وتبعيدا.
قوله تعالى: * (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) * [الآية: 59].
قال الواسطي رحمة الله عليه: متى يعلمها؟ حين لا متى! أقبل نضرتها وخضرتها
ودهائها حتى لا يوجد منها شيء فما ستر من صفاته وما ظهر واحد، إذا كان ذلك على
قدر الكون، إنما نتكلم بأقدارنا ونشير بأخطارنا، ولو كان بقدره كان الهلاك.
قوله تعالى: * (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) *.
فالاضطراب أن تقدم ما أخر أو تؤخر ما قدم، منازعة لربوبيته وخروجا عن
عبوديته.
وقال في قوله: * (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) * قال: هي في الأصل لا وزن لها
لأنها اخضرت ثم اصفرت ثم يبست ومرت، إنها الإشارة إليها لطفا، لأن ما دونها في
القلة، وما فوقها في الرتبة، بمنزلة لا زيادة في وجودها، ولا نقصان في فقدها.
202

وقال بعضهم: من مفاتيح غيبه ما قذف في قلبك من نور معرفته، وبسط فيه بساط الرضا بقضائه وجعله موضع نظره.
قوله تعالى: * (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) * [الآية: 62].
قال بعضهم: هي أرجا آية في كتاب الله، لأنه لا مرد للعبد أعز من أن يكون مرده
إلى مولاه.
قوله تعالى: * (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب) * [الآية: 64].
قال بعضهم في هذه الآية يقول الله: ' أنا كاشف الكروب، فمن قصدني عند كربائه
وحاجاته كشفت عنه كروبه ومن قصد غيري أسقطت عنه وجاهته '.
قوله تعالى: * (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) * [الآية: 65].
قال القاسم: عذابا من فوقكم اللهو والنظر إلى المحرمات والنطق بالفواحش، أو من
تحت أرجلكم: المشي إلى الملاهي وأبواب السلاطين وهتك أستار المحرمات، أو يلبسكم
شيعا يرفع عما بينكم الألفة، ويذيق بعضكم بأس بعض بتكفير أهل الأهواء بعضهم
بعضا.
قوله عز وعلا: * (لكل نبإ مستقر) * [الآية: 67].
قال الحسين: لكل دعوى كشف.
قوله عز وعلا: * (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء) * [الآية: 69].
قال أبو صالح بن حمدون: الطريق إلى الله التقوى، والتقوى أكل الحلال وحفظ
الجوارح وزمها عن الشبهات.
وقيل: ما على التاركين الاعتماد على الوسائط والآخذين من الحق حظوظهم
حساب.
قوله تعالى: * (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) * [الآية: 70].
203

قال الحسين: لا نلاحظ من شغلهم خلقنا عنا وأنسوا بحياتهم في دنياهم وهي في
الحقيقة موت، والحي من يكون به حيا.
قوله عز ذكره: * (قل إن هدى الله هو الهدى) * [الآية: 71].
قال القاسم: الطريق إلى الله هو الأصح، والقاصد عرصته هو المعان.
قال الله تعالى: * (قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم) *.
قال أبو عثمان: أمر العبد بالتسليم، والتسليم: ترك التدبير والرضا لمجاري القضاء.
قوله تعالى: * (وأن أقيموا الصلاة واتقوه) * [الآية: 72].
قال بعضهم: إقامة الصلاة حفظ حدودها والدخول فيها بشرط الخدمة، والقيام فيها
على سبيل الهيبة، والمناجاة فيها بلسان الاقتصار والذلة، والخروج منها رؤية التقصير في
الخدمة، هذه إقامة الصلاة لا الترسم بالركوع والسجود.
قال ابن عطاء: إقامة الصلاة حفظ حدودها مع الله وحفظ الأسرار فيها مع الله أن
لا يختلج في سره سواه.
قوله تعالى: * (قوله الحق وله الملك) * [الآية: 73].
قال الحسين: هو الحق ولا يظهر من الحق إلا الحق، قال الله تعالى: * (قوله الحق) *.
قوله عز وعلا: * (وكذلك نري إبراهيم) * [الآية: 75].
أراه ذلك ليطيق الهجوم على عظمته.
وقال فارس في قوله * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * قال:
بدايات أعلام الغيوب التي لا تبقى على النفوس غير الله، وهي دلائل أهل التوحيد مع
الله.
وقال بعضهم: أرى الخليل الملكوت لئلا يشتغل بها ويرجع إلى مالكها.
وقال بعضهم: أرى الخليل الملكوت فاشتغل بالاستدلال على الحق، فلما كشف له
من الحقيقة تبرأ من الكل فقال: ' أما إليك فلا '.
قوله جل ذكره: * (وليكون من الموقنين) *.
بأن لها صانعا يقلبها.
204

وقيل: أرى ملكوت السماوات والأرض أنها محدثة وأن لها مدبرا، فصار من الموقنين
بأن لا دافع ولا نافع سوى الله.
وقيل في قوله: * (وليكون من الموقنين) *: بعد معرفة اليقين.
وقال النصرآباذي في قوله: * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) *
ولم يقل رأى إبراهيم ولا يمكن رؤية الفروع بالفروع، إنما رأى الفروع من الملكوت
بالأصول.
قوله عز اسمه: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي) * [الآية: 76].
قال بعضهم: كمن فيه كواكب الوحدانية وشموسها وأقمارها، فغلب به الشكوك في
رؤية الأقمار والنجوم والشمس.
قال الواسطي رحمة الله عليه: في قوله رأى كوكبا قال: إنه كان يطالع الحق بسره لا
الكواكب، وكذلك في الشمس والقمر بقوله: * (لا أحب الآفلين) * عند رجوعه إلى
أوصافه بارتفاع المعنى البادي عليه، إني لا أحب زوال ما استوفاني من لذة المشاهدة
فأذهلني عنه وأحضرني فيه.
وقال النصرآباذي: أراه بالفرع الأفول وأراه في الأصول نفس الأفول وبطلانه فقال:
* (لا أحب الآفلين) *.
وقال أيضا: أراه الأفول حتى هيمه فيمن لا أفول له وأنشد:
(أن شمس النهار تغرب بالليل
* وشمس القلوب ليس تغيب
*
قال ابن عطاء في هذه الآية * (هذا ربي) * قال: كان الأول تفريقا للقوم، والثاني
مسأله الازدياد للهداية، فلما أزال العذر والتقريع به وقام بالحجة رجع إلى البراءة.
وقال: * (يا قوم إني بريء مما تشركون) *.
وقيل هذا دليل على ربي، لأن ربي لم يزل ولا يزال ولا يزول وهذا آفل، ومن لا
يقوم بنفسه، وتحويه الأماكن ويزول منها لا يكون ربا.
وقال بعضهم: لما أظلم عليه الكون وعمى عن الاختيار وألجأه الاضطرار إلى
النفس، الاضطرار ورد على قلبه من أنوار الربوبية فقال: هذا ربي ثم كشف له عن
أنوار الهيبة فازداد نورا، فصاح ثم أفنى بنور الإلهية عن معنى البشرية فقال: * (لئن لم
205

يهدني ربي) * ثم أبقى ببقاء الباقي فقال: * (يا قوم إني بريء مما تشركون) *.
قوله تعالى: * (لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) * [الآية: 77].
قال الواسطي رحمة الله عليه: لئن لم يقمني ربي على الهداية التي شاهدتها بإعلام
بواديه * (لأكونن من القوم الضالين) * في نظري إلى نفسي وبقاءي في صفاتي.
وقال سهل في هذه الآية: لئن لم يهدني ربي بمعونة منه لأكونن مثلكم في الضلالة
وقال بعضهم: لئن لم يزدني هدى ولم يثبتني على الهداية.
وقال بعضهم: لئن لم يكرمني بمزيد الهداية لأكونن كما أنتم في عبادتكم، فلما ثبتت
الحجة عليهم إنها ليست بآلهة رجع إلى وطنه فقال: * (إني بريء مما تشركون) *.
وقيل في قوله: * (إني بريء مما تشركون) * من الإستدلال بالمخلوقات على الخالق
بعلمي أن لا دليل على الله سواه.
وقيل في قوله: * (وما أنا من المشركين) *.
قال الواسطي: منى الدعوة ومن الله الهداية.
قال ابن عطاء في قوله: * (هذا ربي) * قال: كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم من شدة حبه لربه
وشغفه به لما رأى الصنع والآثار غاب عنها وتعلق بالصنائع، وهذا من عطشه وامتلائه
بربه، لم يكن فيه فضل من ربه أن يكون هذا صنع ربي الذي يظهر مثل هذه البدائع
والآثار، وهذا مقام الجمع أن لا يكون فيه فضل من ربه أن يذكر سواه أو يرى سواه.
قوله تعالى: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) * [الآية: 79].
قال جعفر: يعني أسلمت قلبي للذي خلقه وانقطعت إليه من كل شاغل وشغلي
للذي فطر السماوات والأرض قال: الذي رفع السماوات والأرض بغير عمد، وأظهر فيها
بدائع صنعه قادر على حفظ قلبي من الخواطر المذمومة والوساوس التي لا تليق بالحق.
قوله تعالى: * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * [الآية: 82].
قال ابن طاهر: لم يلبسوا إيمانهم أي: لم يرجعوا في النوائب والمهمات إلى غير الله
* (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) * راجعون إلى من إليه المرجع.
قوله تعالى: * (نرفع درجات من نشاء) * [الآية: 83].
قال: الصفاء: السر وصحة الهمة.
206

قال جعفر الخلدي: نرفع درجات من نشاء بالخلق السني والهمة الزكية.
وقال محمد بن الفضل: نرفع درجات من نشاء بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع سنته.
وقال النوري: نرفع درجات من نشاء بالكون مع الله والفهم عنه.
وقال بعضهم: نرفع درجات من نشاء بالسخاء وهو خلق الأنبياء ولذلك قيل حسن
الخلق.
قوله تعالى: * (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) * [الآية: 87].
قال الجنيد: في هذه الآية أخلصناهم لنا وأدبناهم بحضرتنا ودللناهم على الاكتفاء بنا
عما سوانا.
قوله عز وعلا: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * [الآية: 90].
قيل: أولئك الذين هدى الله لآداب عبادته وطرق خدمته، فاقتد بهم في آداب
العبودية.
قال الواسطي: هذبهم بذاته وقدسهم بصفاته، فأسقط عنهم الشواهد والأغراض
ومطالبات الاعتراض، فلا لهم إشارة في سرائرهم ولا عبارة عن أماكنهم.
وقيل في هذه الآية: لا تصح الإرادة إلا بالأخذ عن الأئمة وبركات نظرهم ألا ترى
كيف أثر نظر المصطفى صلى الله عليه وسلم في وزيريه بين أصحابه فقال: ' اقتدوا باللذين من بعدي '
فلا يصح الاقتداء إلا بمن صحت بدائته ويسلك سلوك السادات وأثر فيه بركات
شواهدهم، ألا ترى المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول: ' طوبى لمن رآني ' أي فاز
207

من أثر فيه رؤيتي.
قوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره) * [الآية: 91].
قال الحسين: كيف يقدر أحد حق قدره، وهو بقدره يريد أن يقدر قدره، وأوصاف
الحدث أين تقع من أوصاف القدم.
قال بعضهم: ما عرفوا حق قدره، ولو عرفوا ذلك لذابت أرواحهم عند كل وارد يرد
عليهم من صنعه.
قوله تعالى: * (قل الله ثم ذرهم) *.
قال بعضهم: دعا خواصه بهذه الآية إلى انقطاع من كشف ما له إلى الكشف عما
به، وقد قال الله إشارة إلى جريان السر ' قل الله ' في سرك وذر ما في لسانك.
قال الواسطي: كان محمد صلى الله عليه وسلم مكافحا في سره، وكان يسمع له أزيز كأزيز
المرجل ' فلذلك كل من تحقق بذكره امتحق ما دونه من سره، قال الله عز من قائل:
* (قل الله ثم ذرهم) *.
وقال بعضهم: من أصحاب الشبلي قلت له: أوصني وقت مفارقتي له؟ فقال:
عليك بالله ودع ما سواه وكن معه * (وقل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) *.
208

قوله تعالى: * (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه) * [الآية: 92].
قيل: مبارك على من اتبعه وآمن به، مبارك على من صدقه وعمل بما فيه.
وقيل: مبارك على من فهم عن الله أمره ونهيه، مبارك على من عظم حرمته، مبارك
على من قرأه بتدبيره وعلى من سمعه بحضوره.
قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه
شيء) * [الآية: 93].
قال بعضهم: إن ما لا يليق بجلاله. قدره وحقيقة شأنه من التنافر به وإن كان
مأذونا فيه، لأن ذلك أقدار خلقه وطاقتهم لذلك.
قال سهل بن عبد الله: من ذكر فقد افترى، قال الله تعالى: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * لا بأذكار الغفلة.
قوله تعالى: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) * [الآية: 94].
قال بعضهم: أجل مقامات العبد إظهار إفلاسه والرجوع إليه خاليا من جميع
طاعاته.
قيل لأبي حفص: بماذا تقدم على الله، قال: وما للفقير أن يقدم به على الغني سوى
فقره، قال الله تعالى: * (ولقد جئتمونا فرادى) * خالين من جميع أعمالكم وأحوالكم
وطاعاتكم.
قوله تعالى: * (إن الله فالق الحب والنوى) * [الآية: 95].
قال ابن عطاء: مظهر ما في حبة القلب من الإخلاص والرياء.
قوله تعالى: * (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها) * [الآية: 97].
قال أبو علي الجوزجاني: جعل الله تعالى الليل مطية ودليلا، فالمطية يركبها في طلب
الزلف، والدليل يستدل به على أبواب الرضا، قال الله تعالى * (لتهتدوا بها) * الطريق إلى
الجنة.
قوله تعالى: * (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا) * [الآية: 96].
209

قال بعضهم: فالق القلوب بشرح أنوار الغيوب.
وقال بعضهم: منور الأسرار بنور المعرفة.
قوله تعالى: * (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) * [الآية: 98].
قال ابن عطاء: خلق أهل المعرفة على جهة ومنزلة واحدة فمستقر في حال معرفته
مكشوف عنه، ومستودع في حال معرفته مستتر عنه.
قال بعضهم: مستقر لطاعته وعبادته مع الإيمان به، ومستودع لذلك زائل عنه بعد
موته.
قال الواسطي رحمة الله عليه: مستقر فيه أنوار الذات على الأبد، ومستودع لا يعود
إليه إذا فارقه.
وقال محمد بن عيسى الهاشمي في قوله مستقر ومستودع قال: لم يزل عالما بخلقه
شائيا لما أراد، وأودع اللوح فيما استقر من كلامه، ثم أودع اللوح إلى المقادير ما استقر
فيه، ثم كذلك حالا بعد حال حتى يبلغه إلى درجة السعادة أو الشقاوة، وذلك قوله
فمستقر ومستودع.
قوله تعالى: * (بديع السماوات والأرض) * [الآية: 101].
قيل: هو المبدع للأشياء والمبدئ لها.
قال بعضهم: فاق الأشياء جمالا وكمالا.
قوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * [الآية: 103].
قال أبو يزيد رحمة الله عليه: إن الله احتجب عن القلوب كما احتجب عن الأبصار،
فإن أطيع تجلى فالبصر والفؤاد واحد وقيل معناه: إن الله عز وجل يطلع على الأبصار
بالتجلي لها، لأن الأبصار تسمو إليه.
قال ابن عطاء: لا تحيط به وهو يحيط بها.
قوله تعالى: * (وهو اللطيف الخبير) *.
قال الحسين في قوله اللطيف قال: لطف عن الكنه فأنى له الوصف، ومن لطفه
ذكره لعبده في الدهور الخالية، إذ لا سماء مبنية ولا أرض مدحية قبل سبق الوقت
وإظهار الكونين وما فيهما فهذا معنى اللطيف.
210

قال القاسم: اللطيف الذي لم يدع أحدا يقف على ماهية اسمه فكيف الوقوف على
وصفه.
قوله تعالى: * (قد جاءكم بصائر من ربكم) * [الآية: 104].
قال الخواص: أنزل الله البصائر فطوبى لمن رزق بصيرة منها وأدنى البصائر أن يبصر
الإنسان رشده.
قوله تعالى: * (ولنبينه لقوم يعلمون) * [الآية: 105].
قال ابن عطاء: لقوم يعلمون حقيقة البيان وهو الوقوف معه حيث ما وقف، والجرى
معه حيث ما جرى لا يتقدمه بغلبة ولا يتخلف عنه لعجزه.
قوله تعالى: * (اتبع ما أوحي إليك من ربك) * [الآية: 106].
قال بعضهم: الوحي سر عن غير واسطة والرسالة ولا يزال ظاهر بواسطة لذلك.
قال: ' اتبع ما أنزل إليك من ربك ' لأن الوحي كان خالصا له مستورا لقوله * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) *.
واتبع ما أوحي إليك من ربك.
قوله تعالى: * (كذلك زينا لكل أمة عملهم) * [الآية: 108].
قال أبو بشر المروزي: قوالب جفوها أنوار وظلمات، فالنور والظلمة يعيران
والأعمال أصنام ولا يؤذن يوم القيامة إلا بحشوها.
قال الواسطي رحمة الله عليه: زينت الأعمال عند أربابها، فأسقطوا بها عن درجة
المتحققين إلا من عصم بنور المشاهدة، فشاهد المنة في التوفيق بل شاهد المنان.
وقال أيضا: مهلنا ويسرنا له ما هو فيه حتى يستوفى ما قدرنا له وعليه.
قوله تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * [الآية: 110].
سمعت النصرآباذي يقول: النفوس في التنقيل والقلوب في التقليب لذلك قال النبي
صلى الله عليه وسلم: ' يا مقلب القلوب '.
211

قال أبو حمزة: أقبل الله على قلوب فأقبلت عليه، وأعرض عن قلوب فأعرضت
عنه.
قوله تعالى: * (أفغير الله أبتغي حكما) * [الآية: 114].
قال محمد بن الفضل: أسواه اطلب سيدا.
قوله تعالى: * (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) * [الآية: 115].
قيل: صدقا للأولياء تفضلا عليهم وعدلا على الأعداء أخذهم بميزان العدل.
قوله عز وعلا: * (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك) * [الآية: 116].
قيل: من نظر إلى سوى الخلق خاب وضل.
قوله عز وجل: * (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم) * [الآية: 119].
قال القرشي: يتبعون مرادهم فيتركون أوامر الكتاب والسنة.
قوله عز وعلا: * (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) * [الآية: 120].
212

قال بعضهم: ظاهر الإثم: رؤية الأفعال وباطنه الركون إليها في السر باطنا.
وقال النهرجوري: إن الله أمر الخلق ونهاهم في الظاهر والباطن فقال: * (وذروا ظاهر الإثم) * وجعل حد الأمر والنهي في العلم لقيام الحجة على من يتخلف عن أمر
الله، فإذا بلغ العبد ذلك الحد، فقد بلغ حد الكمال من حيث السر والعلانية.
قال بعضهم: * (ظاهر الإثم) * طلب الدنيا، وباطن الإثم طلب الجنة والنعيم، وهما
جميعا يشغلان عن الحق وما شغل عن الحق فهو إثم.
وقيل: * (ظاهر الإثم) * حظوظ النفس وباطن الإثم حظوظ القلب.
وقال سهل: اتركوا المعاصي الجوارح وحبها بالقلب.
قوله تعالى وتقدس * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) * [الآية: 121].
قال أبو عثمان المغربي في هذه الآية: يلقون على ألسنة المدعين ما يقطعون به الطرق
على المتحققين.
قوله عز وعلا * (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا) * [الآية: 122].
قال شاه الكرماني: علامة الحياة ثلاثة: وجدان الأنس بفقدان الوحشة، والإمتلاء
من الحق بإدمان التذكرة، واستشعار الهيبة بخالص المراقبة.
وقال جعفر في قوله: * (أومن كان ميتا فأحييناه) * قال: ميتا عنا فأحييناه بنا، وجعلناه
إماما يهتدى به وبنوره الأجانب ويرجع إليه الضلال كمن مثله في الظلمات كمن نزل مع
شهوته وهواه فلم يؤيد بروائح القرب ومؤانسة الحضرة.
قال ابن عطاء: أو من كان ميتا بحياة نفسه وموت قلبه، فأحييناه بإماتة نفسه وحياة
قلبه، وسهلنا عليه سبيل التوفيق وكحلناه بأنوار القرب فلا يرى غيرنا ولا يلتفت إلى
سوانا.
213

وقال شاه: علامة النور في القلب النظر إلى الدنيا بعين الزوال وتقرب الأجل بإبطال
الأمل استعدادا للموت، وإهمال الدمع عند ذكر الآخرة.
قال أبو محمد الجريري: في قوله: * (أومن كان ميتا فأحييناه) * قال: إذا أحيا الله عبدا
بأنواره لا تموت أبدا، وإذا أماته بخذلانه لا يحيا أبدا.
وقال جعفر: أو من كان ميتا بالاعتماد على الطاعات، فأحييناه: فجعلنا له نور
التضرع والاعتذار.
وقال بعضهم: ميتا برؤية الأفعال فأحييناه برؤية الافتقار.
وقال القاسم: أحيا أولياءه بنور الانتباه، كما أحيا الأجساد بالأرواح.
قال القناء: هذه حياة المعرفة لا حياة البشرية، وقال: ميت لا ذكر له في الفناء عن
الأذكار، فأحييناه بالموت عن إدراكنا والحياة فينا.
وقال سهل: من كان ميتا بالجهل فأحييناه بالعلم.
وقال ابن عطاء: أو من كان ميتا بالانقطاع عنه، فأحييناه بالاتصال بنا وجعلنا له نورا
اتصالا كمن تركه في ظلمات الانقطاع.
قوله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * [الآية: 124].
قال النصرآباذي: الله أعلم بالأوعية التي تصلح لسره ومنازلاته ومكاشفاته فيزينها
لخواص الأنوار ويقدسها بلطائف الاطلاع.
قوله تعالى: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) * [الآية: 125].
قال سهل: فمن يرد الله أن يهديه إلى قوله حرجا قال: الهداية: المعونة على ما أمر
والعصمة عما نهى عنه.
قوله تعالى: * (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) * [الآية: 125].
قيل: الضلالة ها هنا هي الترك من العصمة مع الهوى.
قال النهرجوري: صفة المراد خلوه مما له، وقبوله ما عليه، وسعة صدره لموارد الحق
عليه.
قال الله تعالى: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) *.
قال سهل: إن الله ينظر في القلوب والقلوب عنده فما كان أشد تواضع خصه بما
214

شاء، ثم بعد ذلك ما كان أسرع رجوعا وهما هاتان الخصلتان.
وقال النهر جوري: منة من الله ولطفا منه، وإن لم يستأهل العبد ذلك.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: نور يقذف في القلوب فيشرح به الصدر.
قال ابن عطاء: ما بلاء أشد من البلاء من أظلم عليه قلبه والتبس عليه أمره وخفى
عليه قدر مولاه فهو يتردد في أمره متمردا على مولاه، لفقدان نور الهداية عن قلبه،
وطلب النجاة من غير وجهه.
قوله تعالى: * (وهذا صراط ربك مستقيما) * [الآية: 126].
قال أبو عثمان: أهدى الطرق وأقومها طريقة المتابعة، وأوهن الطريق وأضلها طريق
الدعاوى والمخادعة، قال الله تعالى: * (وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) *.
قال سهل: التوحيد والإسلام صراط ربك المستقيم.
قوله تعالى: * (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم) * [الآية: 127].
قال سهل: دار السلام هو الذي يسلم فيه من هواجس نفسه ووسواس عدوه.
وقال بعضهم: دار السلام هو محل السلامة من القطيعة.
وقال بعضهم: دار السلام هو الذي يكرمهم الله فيه بالسلام عليهم، وهو قوله:
* (سلام عليكم بما صبرتم) *.
قوله تعالى: * (وربك الغني ذو الرحمة) * [الآية: 133].
قال بعضهم: الغنى عن طاعات المطيعين، وذو الرحمة على المذنبين.
215

قال الواسطي: الغنى بذاته والرحيم بصفاته.
قوله تعالى: * (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) * [الآية: 147].
قال سهل: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم من أعرض عنك فرغبه في، فإنه من رغب فينا ففيك
رغب لا غير.
قال الله تعالى: * (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) *: أطمعهم في الرحمة
ولا تقطع قلبك عنهم.
قوله تعالى: * (قل فلله الحجة البالغة) * [الآية: 149].
قال النصرآباذي: الخلق كلهم منعهم شدة الحاجة إليهم عن معاني رؤية الحجة، ولو
اسقط عنهم الحاجات لكشف لهم براهين الحجة.
وقال أيضا: رؤية الحاجة حسنة ورؤية الحجة أحسن.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: آثار مشية الهداية عند أهل الهدى تنبئة.
قوله تعالى: * (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) * [الآية: 151].
قال حارث المحاسبي: الفواحش ما أريد به غير الله.
قال بعضهم: ما ظهر من الفواحش في الأفعال هو الرياء، وما بطن منها الدعاوي
الكاذبة.
قوله تعالى: * (وإذا قلتم فاعدلوا) * [الآية: 152].
قال أبو سليمان في هذه الآية: إذا تكلمتم فتعلموا بذكره.
وقال محمد بن حامد العدل: في الكلام ما لا يكون على صاحبه في ذلك تبعة
عاجلا وآجلا.
216

قوله تعالى: * (وبعهد الله أوفوا) *.
قال الجوزجاني: العهود كثيرة وأحق العهود بالوفاء الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
فأمر نفسك بالمعروف، فإن قبلت منك وإلا روضها بالجوع والسهر وكثرة الذكر ومجالسة
الصالحين لترغب في المعروف، ثم تأمر به غيرك وتنهى نفسك عن المنكر، فإن قبلت
منك وإلا فأدبها بالسياحة، والتقطع والعزلة وقلة الكلام وملازمة الصبر لتنتهي، فإن
انتهت فإنه الناس عن المنكر.
قوله تعالى: * (وأن هذا صراطي مستقيما) * [الآية: 153].
قال جعفر بن محمد: طريق من القلب إلى الله بالإعراض عما سواه.
قال سهل: الطريق المستقيم هو الذي لا يكون للنفس فيه مراد ولاحظ.
قوله عز وعلا: * (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) * [الآية: 159].
قال فارس: لم يستقيموا لله على وتيرة واحدة.
قوله عز وعلا: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * [الآية: 160].
ومن لاحظها من مواصلة الحق فهو الذي يصلي عليك وملائكته والله يضاعف لمن
يشاء.
قوله عز وعلا: * (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما) * [الآية: 161].
قال أبو عثمان: الصراط المستقيم الاقتداء والاتباع وترك الهوى والابتداع، ألا تراه
يقول: * (وما ينطق عن الهوى) *.
وقيل في قوله: * (دينا قيما) * أي: سليما من الاعوجاج وهواجس الأنفس ووجود
لذاذة المراد فيه.
وقال ابن المبارك: هداني ربي إلى صراط مستقيم قال: إلى أوقات أداء الفرائض
من الصلاة والصوم والحج.
قوله تعالى: * (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) *
[الآية: 162].
217

قال الواسطي رحمة الله عليه: بيان هذه الآية في قوله: * (له ما في السماوات وما في الأرض) * فمن لاحظها من نفسه قصمته، ومن تبرأ منها عصمته، كيف تجوز لموجود أن
يلاحظ [فضلا] * (وأنا أول المسلمين) * معنى قوله إني أسلمت لتصاريف قدرته متبرئا
من حولي وقوتي مع أن التسليم في الحقيقة علة.
قوله تعالى: * (أغير الله أبغي ربا) * [الآية: 164].
قال الجوزجاني: أسواه أطلب حافظا وراعيا ووكيلا، وهو الذي كفاني المهم وألهمني
الرشد.
قوله تعالى: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) *.
قال بعضهم: لا تكسب من خير وشر كل نفس إلا عليها أما الشر فمأخوذ به، وأما
الخير فمطلوب منه صحة قصده وخلوه من الرياء والعجب والرؤية من نفسه والتزين به
والافتخار به والاعتماد عليه والإحسان فيه فإذا حصلته وجدته عليه لا له، إلا أن يعفو
الله عز وجل.
قوله تعالى: * (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات) * [الآية: 165].
قال بعضهم: يخلف الولي وليا والصديق صديقا، ويرفع درجات البعض على
البعض، ودرجات البعض بالبعض لئلا تخلو الأرض من حجة الله وأمانه.
وقال بعضهم: ورفع بعضكم فوق بعض درجات، ليقتدى الأدنى بالأعلى، ويتبع
المريد درجة المراد ليصل إليه.
218

ذكر ما في سورة الأعراف
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (المص) * [الآية: 1].
حكى محمد بن عيسى الهاشمي عن ابن عطاء أنه قال: لما أظهر الله صورة الأحرف
جعل لها سرا، فلما خلق آدم بث فيه ذلك السر ولم يبثه في الملائكة، فجرت الأحرف
على لسان آدم بفنون الجريان وفنون اللغات، فجعلنا الله صورة لها.
وقال الحسين: الألف ألف المألوف واللام لام الآلاء، والميم ميم الملك، والصاد صاد
الصدق.
وقال: في القرآن علم كل شيء وعلم القرآن في الأحرف الست في أوائل السور،
وعلم الحروف في لام الألف، وعلم لام الألف في الألف، وعلم الألف في النقطة،
وعلم النقطة في المعرفة الأصلية، وعلم المعرفة الأصلية في الأقوال، وعلم الأول في
المشيئة، وعلم المشيئة في غيب الهو، وغيب الهو ليس كمثله شيء.
وقيل في قوله: * (المص) *. قال: أنا الله أفضل.
وقال أبو محمد الجريري: إن لكل حرف ولفظ من الحروف مشربا وفهما غير
الآخر، ومن شرح ذلك حين سمعه يقول: * (المص) * الألف عندهم للفهم في
محضرهم استماع إلى حسن مخرج، وطعم عذب موجود ونظر إلى المتكلم وكذلك
اللام حسن استماع من مخرج غير الألف، وطعم فهم موجود وكذلك الميم حسن
استماع من مخرج غير اللام، وطعم فهو موجود، والصاد حسن الاستماع إلى حسن
مخرج، وطعم فهم موجود غير الميم فممزوج ذلك كله بملاحظة متكلمه.
وقال الحسين في قوله: * (المص) * الألف ألف الأزل واللام لام الأبد والميم بينهما
والصاد اتصال من اتصل به وانفصال من انفصل عنه، وفي الحقيقة الاتصال والانفصال
وهي ألفاظ تجري على حسن العبارات، ومعادن الحق مصونة عن الألفاظ والعبارات.
قوله تعالى: * (كتاب أنزل إليك) * [الآية: 2].
219

قال وابن عطاء: عهد خصصت به من بين الأنبياء أنك خاتم الرسل، وعهدك ختم
العهود للشرح به صدرا وتقر به عينا.
قوله تعالى: * (فلا يكن في صدرك حرج منه) *.
قال الجنيد رحمة الله عليه: لا يضيقن قلبك بحمله وثقله فإن حمل الصفات ثقيلة
إلا على من يؤيد بقبول المشاهدة.
وقال النوري: إن أنوار الحقائق إذا وردت على السر ضاق عن حملها كالشمس يمنع
شعاعها عن إدراك نهايتها.
وقال القرشي: لما قص الله في هذه السورة قصة الكليم، علم أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم
يتحرك لذلك فقال: * (فلا يكن في صدرك حرج منه) * لأنه كلم على الطور وكلمت
وراء الستور ومنع المشاهدة ورزقتها.
قوله تعالى: * (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) * [الآية: 3].
قال بعضهم: من يتبع غير ما أنزل إليه من ربه فهو بعيد من عين الحق، ومن له
نصيب في الدارين لا يمكن أن يتبع ما أنزل إليه من ربه، والمتبعون هم أقل من القليل.
قوله تعالى: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) * [الآية: 6].
قيل: لنسألن الذين أرسل إليهم عن قبول الرسالة والقيام بشروطها، ولنسألن
المرسلين عن أداء الرسالة والأمانة فيها.
قال أبو حفص في هذه الآية: لنسألن الذين أرسل إليهم عن حفظ حرمات الرسل،
ولنسألن المرسلين عن الشفقة على الأمم.
قوله تعالى: * (فلنقصن عليهم بعلم) * [الآية: 7].
قال ابن عطاء: في حال عدمهم ووجودهم.
قوله عز وعلا: * (والوزن يومئذ الحق) * [الآية: 8].
قيل في هذه الآية: من وزن نفسه بميزان العدل كان من المخبتين.
ومن وزن خطراته وأنفاسه بميزان الحق اكتفى بمشاهدته، والموازين مختلفة: ميزان
للنفس والروح، وميزان القلب والعقل، وميزان المعرفة والسر. فميزان النفس والروح
للأمر والنهي وكفتاه الكتاب والسنة، وميزان القلب والعقل الثواب والعقاب وكفتاه
220

الوعد والوعيد، وميزان المعرفة والسر الرضا والسخط وكفتاه الهرب والطلب، وقد فسر
في غير هذا الموضع.
قوله تعالى: * (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) * [الآية: 11].
قال بعضهم: أبدع الله الهياكل وأظهرها على أخلاق شتى وصور مختلفة، وجعل
لكل شيء منها عيشا فعيش القلوب في الشهود، وعيش النفوس في الوجود، وعيش
العبد معبوده، وعيش الخواص الإخلاص. وعيش الآخرة: العلم، وعيش الدنيا: الجهل
والعمارة والاغترار بها.
قوله تعالى: * (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) * [الآية: 11].
قال أبو حفص: عرف الملائكة استغناءه عن عبادتهم فقال * (اسجدوا لآدم) * ولو كان
سجودهم يزن عنده مثقال ذرة لما أمرهم بذلك ولصرف وجوههم إلى آدم، فإن سجود
الملائكة وجميع خلقه لا يزيد في ملكه، لأنه عزيز قبل أن يخلقهم وعزيز بعد أن يفنيهم
وعزيز حين يبعثهم وله العزة جميعا.
وقال بعضهم: قوله لإبليس أمر تكليف وقوله * (اخرج منها) * أمر إهانة، ولولا ذلك
لامتنع منها كما امتنع من السجود، وكان سجود الملائكة لآدم تحية له وطاعة لهم.
قوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * [الآية: 12].
قال الواسطي رحمة الله عليه: من استصحب كل نسك في الدنيا والآخرة، فالجهل
وطنه والاعتراض عرضه، والبعد من الله سببه، لأن العبادات تقطع الدعيات، ورؤية
النسك رؤية الأفعال والنفوس، ولا متوتب على الله أشد من طالع نفسه بعين الرضا.
قوله تعالى: * (أنا خير منه خلقتني من نار) *.
قال بعضهم: لما نظر إلى الجوهر والعبادة ظن أنه المسكين خير، وسبب فساد النفوس
من رؤية الطاعات.
وقيل: لما قال إبليس: ' أنا ' قيل له: إن عليك اللعنة، ما أبعده إلا رؤية نفسه.
وقيل في قوله ' أنا خير منه ' توهم أن الجوهر من الكون على مثله وشكله في
الخلقة، فضل من جهة الخلقة والجوهرية، ولم يعلم ولم يتيقن أن الفضل من المتفضل
دون الجوهرية.
221

قال الواسطي رحمة الله عليه: من لبس قميص النسك خاصره ' أنا ' لذلك قال
إبليس: ' أنا خير منه ' ولو لم يقل خير منه لأهلكه قوله في المقابلة ' أنا '.
قال ابن عطاء في قوله: ' أنا خير منه ': حجب إبليس برؤية الفخر بنفسه عن
التعظيم، ولو رأى تعظيم الحق لم يعظم غيره، لأن الحق إذا استولى على سر شيء
قهره فلم يترك فيه فضلا لغيره.
قوله عز وعلا: * (وإن عليك اللعنة) *، * (وإن عليك لعنتي) * الفرق بينهما إذا
قال: لعنتي أي سخطي الذي لم يزل مني جاريا عليك، وإذا قال اللعنة بالتعريف
والإشارة فهو ما ظهر للوقت عليه، ويزداد على الأيام إلى وقت سؤاله الإنظار.
قال الواسطي رحمة الله عليه: لا يأمنن أحد أن يفعل به كما فعل بإبليس، لقيه
بأنوار عصمته وهو عنده في حقائق لعنته، فستر عليه ما سبق منه إليه حتى غافصه
بإظهاره عليه بقوله * (وإن عليك اللعنة) *.
وقال بعضهم: لعن إبليس بخمسة أشياء شقي بها: لم يقر بالذنب، ولم يندم عليه،
ولم يلم نفسه، ولم ير التوبة على نفسه واجبة وقنط من رحمة الله.
وسعد آدم بخمسة أشياء: أقر على نفسه بالذنب، وندم عليه، ولام نفسه، وأسرع
في التوبة، ولم يقنط من رحمة الله.
قوله تعالى: * (فبما أغويتني) * [الآية: 16].
قال محمد بن عيسى الهاشمي: لو نجا إبليس بشيء لنجا برؤية القدرة عليه والإقرار
على نفسه رب بما أغويتني.
قوله تعالى: * (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) *
[الآية: 17].
سمعت أبا عثمان المغربي يقول: إن الشيطان يأتي على الناس عن أيمانهم بالطاعات،
ومن بين أيديهم بالأماني والكرامات، ومن خلفهم بالبدع والضلالات، وعن شمائلهم
بالشرك فإذا جرى لعبد سعادة قبل منهم ما يأمرونه من الطاعات، فإذا أرادوا أن يهلكوه
بطاعته رد إلى السعادة التي جرت له فيكون ذلك ربحا وزيادة، ألا تراه يقول: * (لآتينهم
222

من بين أيديهم ومن خلفهم) * الآية.
قال: ولا تجد أكثرهم شاكرين، فالأكثر من هلك بطاعته، والأقل من أدركته السعادة
فنجا إذ ذاك وشكر.
وقال بعضهم: * (لآتينهم من بين أيديهم) * من الدنيا ومن خلفهم للآخرة وعن
أيمانهم الحسنات وعن شمائلهم السيئات.
وقال الشبلي: لم يقل: من فوقهم ولا من تحتهم لأن الفوق موضع نظر الملك إلى
قلوب العارفين، والتحت مواضع الساجدين وموضع نظره وموضع عبادتهم لا يكون
للشيطان هناك موضع ولا فيه طريق.
قوله تعالى: * (فوسوس لهما الشيطان) * [الآية: 20].
قال أبو سليمان الداراني: وسوس لهما الشيطان لإرادة الشر بهما، وكان ذلك سببا
لعلو آدم وبلوغه إلى أعلى الرتب، وذلك أن آدم ما عمل عملا قط أتم له من الخطيئة
التي هي أدبته وأقامته مقام الحقائق وأسقط عنه، فلعله خامر سره من سجود الملائكة له
ورده إلى البركة الأولى من التخصيص في الخلقة باليد، حتى رجع إلى ربه بقوله
* (ظلمنا أنفسنا) *.
قال سهل: الوسوسة ذكر الطبع ثم النفس ثم الهم والتدبير.
قوله تعالى وتقدس: * (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) * [الآية: 21].
قال أبو بكر الوراق: لا تقبل النصيحة إلا ممن يعتمد دينه وأمانته، ولا تكون له حظ
في نصيحته إياك، فإن العدو أظهر لآدم النصيحة وأضمر الخيانة قال الله تعالى:
* (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) *.
قوله تعالى: * (ولا تقربا هذه الشجرة) *.
قيل: أشار إلى جنس الشجرة، فظن آدم أن النهي عن المشار إليها، وإنما أراد الله
جل وعز جنس الشجرة المشار إليها فتناول آدم غيرها، وإنما وقعت التوبة على ترك
التحفظ لا على المخالفة.
قال الله تعالى: * (فنسي ولم نجد له عزما) *.
223

قال الخراز: والله ما هنىء آدم الجنة ولا سكناها، إذ جعل في جواره الأمر والنهي،
ولو نظر آدم في نفس المكرمة إلى خفاء الأمر والنهي في ذلك المحل، ما هنأه نعيم دار
السلام ولا استغف عن تلك الشجرة التي ابتلاه الله بالنهي خوفا، ولكنه أغفله لتقع به
الهفوة التي من أجلها رأى الزلة وقامت بها الحجة، وأخرجه من جواره معنفا وسماه
عاصيا.
قوله تعالى: * (وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة) * [الآية: 22].
قال القرشي: قيل لآدم ادخل الجنة ولا تأكل من هذه الشجرة، فلما أكلا ناداهما
ربهما والقول على معنى القرب، والنداء على حد البعد.
قوله تعالى: * (فدلاهما بغرور) *.
قيل: غرهما بالله ولولا ذلك ما اغتر.
وسئل بعضهم: ما الفرق بين آدم وبين إبليس وقد ترك كل واحد منهما الأمر.
فقال: آدم طالع الخطيئة فأذهلته الخطيئة عن الأمر فارتكب النهي، وظن إبليس أن
للعبادات العظيمة عنده خطرا وأنه لا يقصد بالتعبد غيره، فنظر إلى الجنسين فقال: أنا
خير منه فهلك، وإذا نظرت إلى شأنهما وجدتهما جريا تحت التلبيس، لكن أحدهما
سومح والآخر لم يسامح.
قوله تعالى: * (فبدت لهما سوءاتهما) *.
قال: سوء الأدب في القرب ليس كسوء الأدب في البعد - وأيضا - لأن التوبة من
الكفر تغفر لصاحبه لا محالة، والتوبة من الخطيئة لا تحكم بالقبول.
وقيل: يطالب الأنبياء بمثاقيل الذر، ولا تطالب العامة بذلك لبعدهم عن مصادر
السر.
وقال بعضهم: * (بدت لهما سوآتهما) * قال: بدت لهما ولم يبد ذلك لغيرهما فهتك
عنهما ستر العصمة.
قوله جل ذكره: * (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) * [الآية: 23].
قال الحسين: الظلم هو الاشتغال بغيره عنه.
وقال ابن عطاء: ظلمنا أنفسنا باشتغالنا بالجنة وطلبها عنك.
224

قال الشبلي: ذنوب الأنبياء تؤديهم إلى الكرامة والرتب، كما كان ذنب آدم أداه إلى
الاجتباء والاصطفاء، وذنوب الأولياء تؤديهم إلى الكفارة، وذنوب العامة تؤديهم إلى
الإهانة.
قال الواسطي رحمة الله عليه في قوله: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * قال: لم يكن له في
حال ظنيته خواطر غير الحق، فلما أحضره في حضوره غاب عن حضوره، فقال: ' ربنا
ظلمنا) * هلا غيبه ما ورد عليه من ربه عن غيره، وهلا قطعه باتصاله في اتصاله عن
اتصاله، وهلا غيبه ما عاينه في نفسه بنفسه عن نفسه.
قوله عز اسمه: * (فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) * [الآية: 25].
قال بعضهم: فيها تحيون بالمعرفة، وفيها تموتون بالجهل، ومنها تخرجون بما أنتم فيه
من التقدير والتدبير إلى سوابق القدر عليكم وجري الأحكام فيكم.
قوله تعالى: * (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم) * [الآية: 26].
قال النصرآباذي: اللباس كله ملك الحق، ولباس التقوى لباس الحق، قال الله
تعالى: * (ولباس التقوى ذلك خير) *.
واللباس الذي يواري السوأة لباس الكرامة.
ولباس التقوى لباس الإيمان وهو أشرف.
وقال بعضهم: لباس الهداية للعام ولباس التقوى للخاص ولباس الهيبة للعارفين
ولباس الزينة لأهل الدنيا ولباس اللقاء والمشاهدة للأولياء ولباس الحضرة للأنبياء.
قوله تعالى: * (كما أخرج أبويكم من الجنة) * [الآية: 27].
سئل بعضهم ما الذي قطع الخلق عن الحق بعد إذ عرفوه؟ فقال: الذي أخرج أباهم
من الجنة اتباع النفس والهوى والشيطان.
سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: خروج آدم من الجنة وكثرة
بكائه وافتقاره وخروج الأنبياء من صلبه، كان خيرا له من الجنة والتلذذ والتنعم فيها.
قوله تعالى: * (ينزع عنهما لباسهما) *.
قيل: هو أنوار كرامات القرب ولمعان العز.
قال أبو سعيد الخراز: هو النور الذي شملهما في القرب.
225

قال بعضهم: نزع عنهما اللباس الذي كان يسترهما من وساوس الشيطان.
سمعت النصرآباذي يقول: أحسن اللبس ما ألبس الصفي في الحضرة، فلما بدت منه
المخالفة نزع منه لذلك.
قال بعض السلف: من تهاون بستر الله عليه أنطقه الله بعيوب نفسه.
قوله تعالى: * (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) *.
قال بعضهم: سلط عليك الشيطان يراك من حيث لا تراه، فلا اعتصام لك منه إلا
بالتبري من حولك وقوتك والرجوع إلى الله والاستعانة به.
قوله عز وعلا: * (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) *.
قال ابن عطاء: إنا جعلنا الشياطين وأنهم اتخذوا الشياطين، فالحقيقة منها ما أضاف
إلى نفسه، والمعارف ما أضاف إليهم كذلك خطابه في جميع القرآن.
قوله عز وعلا * (قل أمر ربي بالقسط) * [الآية: 29].
قال الجنيد رحمة الله عليه في هذه الآية: أمر بحفظ السر وعلو الهمة وأن يرضى
بالله عوضا عما سواه.
قال أبو عثمان: القسط الصدق.
قوله عز وعلا: * (وادعوه مخلصين له الدين) *.
قال رويم: إخلاص الدعاء أن ترفع رؤيتك عن أفعالك.
قال ابن عطاء: إخلاص الدعاء ما خلص من الآفات.
وقال حارث المحاسبي: إخلاص الدعاء إخراج الخلق من معاملة الله.
226

قال أبو عثمان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق لدوام النظر إلى الخالق.
قال بعضهم: الإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ كلها.
قوله تعالى: * (كما بدأكم تعودون) *.
قال: أبدأ خلقة إبليس على الكفر والخلاف ثم استعمله بأعمال المطيعين بين الملائكة
والمقربين، ثم رده إلى ما ابتدأه عليه من الخلاف. والسحرة ابتدأ خلقهم على الهدى
والموافقة واستعملهم بأعمال المخالفين وأهل الضلالة ثم ردهم إلى ما ابتدأهم عليه من
الإنفاق، لذلك قال الله تعالى: * (كما بدأكم تعودون) *.
قال الحسين: في قوله: * (كما بدأكم تعودون) * لا تغيير لما أجرى عليه من الاعمال،
لأن الأعمال قد توافق الخلقة أو تخالف.
قوله تعالى: * (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) * [الآية: 31].
قال الواسطي رحمة الله عليه: قوله * (يا بني آدم) * تعيير كأنه يقول: يا بني التقصير
والعيب، يرد ذلك عليهم حتى لا ينظروا إلى نفوسهم ولا يلتفتوا إليها.
قال جعفر: ابعد أعضائك عن أن تمس بها شيئا بعد أن جعلها الله آلة تؤدي بها
فرائض الله.
قوله تعالى: * (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) *
[الآية: 32].
قال بعضهم: الزينة التي أخرج الله لعباده هي المباحات في البوادي والكسب الحلال
في الحضر، والطيبات من الرزق هي الغنائم.
قال أبو عثمان الدمشقي: من حرم التزين بما يبدو على الأولياء من المعونات
والكرامات التي أخرجها الله لعباده المخلصين، والطيبات من الرزق هي كسر الفقراء
الذين يأخذونها من ضرورة وفاقة.
227

قوله تعالى: * (إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) * [الآية: 33].
قال أبو عثمان في كتبه إلى إخوانه: واعلم يا أخي أن الفواحش ما أريد من الطاعات
لغير وجه الله.
قال بعضهم في هذه الآية: ما ظهر من الفواحش هو الكذب والغيبة والبهتان، وما
بطن الغل والغش والحقد والحسد.
وقال بعضهم: ' ما ظهر منها وما بطن ' ما ظهر منها بتركه وما بطن محبته.
قوله تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *.
قال سهل من تكلم عن الله بغير إذن وعلى غير سبيل الخدمة وحفظ الأدب، فقد
هتك ستره وعلا طوره، وقد حذر الله عز وجل أن يقول أحد عليه ما لا يعلم فقال:
* (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) *.
قوله تعالى: * (فمن اتقى وأصلح) * [الآية: 36].
قال بعضهم: من اتقى في ظاهره عن تناول الشبهات، وأصلح باطنه بدوام مراقبة
الله عز وجل فلا خوف عليهم في الدنيا، ولا حزن عليهم في الآخرة.
قوله تعالى: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * [الآية: 43].
قيل: هو التحاسد والتباغض والتدابر الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.
قال سهل: هو الأهواء والبدع.
قال بعضهم: من تخطى بساط القرب سقط عنه رعونات النفس وحظوظ الشيطان.
قال الله: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) *.
قيل فيه: دلنا على توحيده وجعلنا في سابق علمه على خواص عباده، واختار لنا
أعز الأديان.
228

ولو وكلنا إلى اختيارنا لضللنا في أول لحظة.
قال بعضهم في هذه الآية: رؤية الهيبة توقع قبضا في الأحوال وربما تورث بسطا،
والعبد متردد فيما بينهما من قبض وبسط، وحال البسط أورث قوله: * (الحمد لله الذي هدانا لهذا) *.
قوله تعالى: * (وعلى الأعراف رجال) * [الآية: 46].
سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت عباس بن عصام يقول: سمعت سهلا
يقول: أهل المعرفة هم أصحاب الأعراف قال الله * (يعرفون كلا بسيماهم) * أقامهم
ليشرفهم على الدارين وأهلهما ويعرفهم الملكين، كما أشرفهم على أسرار العباد في
الدنيا والآخرة وأحوالهم.
قال فارس: وأصحاب الأعراف هم الذين عرفهم الله مقام من استقطعتم عن الحق
الحظوظ والمخالفات فأهل النار قطعهم عن الحق المخالفين وأهل الجنة قطعهم عنه
الحظوظ، وبقى أصحاب الأعراف يعرفون كلا بسيماهم، ولا وسم لهم ولا سيما سوى
الحق.
قوله تعالى: * (أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) * [الآية: 50].
قال بعضهم: ماء الرحمة، أو مما رزقكم الله من القربة.
قال بعضهم: أفيضوا علينا من ماء الحياة ليحيى به، أو مما رزقكم الله من النعمة
229

لتنعم به.
قوله عز وعلا: * (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *
[الآية: 52].
قال بعضهم: أنزل الله عليك كتابا فيه هدى من الضلالة ورحمة من العذاب، وفرق
بين الولي والعدو، ولا يعلم معانيه إلا المؤمنون بمتشابهه والعاملون بأحكامه والتالون
آناء الليل وآناء النهار، له فيه الفلاح لمن طلب الفلاح، والنجاة لمن رام، لا يهلك عليه
إلا هالك ولا ينجو به إلا ناج، قال الله تعالى * (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه) * الآية.
قوله تعالى: * (ألا له الخلق والأمر) * [الآية: 54].
قال الواسطي رحمة الله عليه: إذا كان له فمنه وبه وإليه، لأن الأمر صفة الآمر.
قال بعضهم: لله الخلق وهو الذي أنشأهم.
وله وفيهم الأمر لأنه ربهم تبارك الله رب العالمين، جل الله تعالى حيث كفاهم
للاشتغال ليكون شغلهم به، فاشتغلوا بما هو كاف لهم عما لا بد لهم منه.
قوله عز وعلا * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) * [الآية: 55].
قال أبو عثمان: التضرع في الدعاء أن لا تقدم إليه أفعالك وصلاتك وصيامك
وقرآنك ثم تدعو على أثره، إنما التضرع أن تقدم إليه افتقارك وعجزك وضرورتك
وفاقتك وقلة حيلتك، ثم تدعو بلا غفلة ولا سبب فترفع دعاءك، ألا ترى ما ذكر عن
أبي يزيد رحمة الله عليه أنه قال: قيل لي خزائننا مملوءة من الطاعات فإن أردتها فعليك
بالذلة والافتقار، وكما قال أبو حفص حين قيل له بما تقدم على ربك؟
قال: وما للفقير أن يقدم به على الغني سوى فقره.
قال الواسطي رحمة الله عليه: * (تضرعا وخفية) * قال: تضرعا بذل العبودية
وخلع الاستطالة، و ' خفية ' أي أخفى ذكرى صيانة عن غيري، ألا تراه يقول: خير
الذكر الخفي.
قوله تعالى: * (وادعوه خوفا وطمعا) * [الآية: 56].
قيل: خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه.
وقيل: خوفا من بعده وطمعا في قربه.
230

وقيل: خوفا من إعراضه وطمعا في إقباله.
وقيل: خوفا منه وطمعا فيه.
قوله تعالى: * (إن رحمت الله قريب من المحسنين) *.
قال بعضهم: المحسن هو الذي صحح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه وأقبل على
أداء فرائضه وكفى المسلمين شره.
قوله تعالى: * (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) * [الآية: 57].
قال بعضهم: كل ريح تنشر نوعا من الرحمة فريح التوبة تنشر على القلب رحمة
المحبة، وريح الخوف تنشر رحمة الهيبة، وريح الرجاء تنشر رحمة الأنس، وريح القرب
تنشر رحمة الشوق، وريح الشوق تنشر نيران القلق، والوله قال الله تعالى: * (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) *.
قوله تعالى: * (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) *
[الآية: 58].
قال أبو عثمان: البلد الطيب مثل قلب المؤمن النقي، يخرج نباته بإذن ربه، تظهر
على الجوارح أنوار الطاعات والزينة بالإخلاص، والذي خبث قلب الكافر لا يظهر منه
إلا النكد والشؤم والظلم على الجوارح من إظهار المخالفات.
وقال الواسطي رحمة الله عليه: البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه أي بتوليه، والذي
خبث لا يخرج إلا نكدا، حجب عن التجلي واللحظات * (كذلك نصرف الآيات) *
كذلك الشمس تحرق طوائف من النبات وتفنيها، وتغذي طوائف من النبات فتطيبها
وتنميها، وذلك على قدر جوهرها، كما أن بإرادة واحدة ظهرت المخالفات والموافقات.
وقال بعضهم في قوله: * (والبلد الطيب يخرج) * قال: طيبها يرخص أسعارها.
وقال بعضهم: بكثرة علمائها.
وقال بعضم: بظهور الطاعات فيها.
وقال بعضهم: طيبها بدوام الأمن وعدل السلطان.
وقال الجوزجاني: البلد الطيب هو القلب يخرج نباته بإذن ربه، بظهور أنواع
الطاعات على الجوارح، والذي خبث من القلوب لا يظهر على الجوارح إلا بالمخالفات،
231

قوله تعالى: * (وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون) * [الآية: 62].
قال بعضهم: * (أنصح لكم) *: أدلكم على طريق رشدكم، * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) * من سعة رحمته وقبول التوبة لمن رجع إليه بالإخلاص وقال شاه الكرماني:
علامة النصح ثلاثة: اغتمام القلب بمصائب المسلمين، وبذل النصح لهم. وإرشادهم
إلى مصالحهم وإن جهلوها وكرهوها.
قوله تعالى: * (فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) * [الآية: 69].
والأكابر تحبه على الإثبات والربوبية ولكل علامة، فعلامة الأولى: دوام الذكر له
والفرح به، والثانية: الاستئناس به لرؤية ما أنفذه منه، والثالثة: الاشتغال به عن كل ما
يقطع عنه.
قوله تعالى: * (إنهم كانوا قوما عمين) * [الآية: 64].
قال ابن عطاء: ضالين عن طريق الحق.
وقال بعضهم: عميت أبصارهم عن النظر إلى الكون برؤية الاعتبار، ونظرهم نظر
مراد وشهوة.
وقال بعضهم: متثاقلين في القيام إلى الطاعات.
قوله تعالى: * (وأنا لكم ناصح أمين) *.
قال أبو حفص: الناصح الأمين الذي لا يكون في نصيحته حظ لنفسه ولا طلب
جاه، وإنما يكون مراده منه قبول النصيحة والنجاة بها.
قال سهل: من لم ينصح الله في نفسه ولم ينصحه في خلقه هلك، ونصيحة الخلق
أشد من نصيحة النفس، وأدنى نصيحة النفس الشكر وهو أن لا يعصى الله بنعمته.
وقال أيضا: النصيحة أن لا يدخل في شيء لا يملك صلاحه.
قوله تعالى: * (أخرجوهم من قريتكم) * [الآية: 82].
قال القرشي: عيروهم بغسل الجنابة والاستنجاء.
232

قال بعضهم: * (إنهم أناس يتطهرون) * أي: يخالفون ما أنتم عليه من أديانكم
وملككم.
قوله تعالى: * (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) *
[الآية: 94].
قال بعضهم: دعاك إلى بابه بالشفقة، فلما لم تجبه ولم ترجع إليه صب عليك أنواع
البلاء لترجع إليه كرها، إذا أبيت الرجوع إليه طوعا، قال الله عز وعلا: * (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) * الآية.
قوله تعالى: * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) * [الآية: 96].
قيل معناه: لو أنهم صدقوا وعدي واتقوا مخالفتي، لنورت قلوبهم بمشاهدي وهو
بركة السماء، وزينت جوارحهم بخدمتي وهو بركة الأرض.
قوله تعالى * (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا) * [الآية: 97].
روى أن ابنة مالك بن دينار قالت لأبيها: إن الناس ينامون ما لك لا تنام، قال إن
أباك يخاف البيات.
قال النصرآباذي رحمة الله عليه: كيف يأمن الجاني من المكر، وأي جناية أكبر من
جناية من يشاهد شيئا من أفعاله، هل هو إلا متوثب على الرؤية ومنازع للوحدانية.
قوله تعالى: * (أفأمنوا مكر الله) * [الآية: 99].
قال الحسين: لا يأمن المكر إلا من هو غريق في المكر فلا يرى المكر به مكرا؛ وأما
أهل اليقظة فإنهم يخافون المكر في جميع الأحوال، إذ السوابق جارية والعواقب خفية.
233

وقال: من لا يرى المكر تلبيسا كان المكر منه قريبا.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبا الخير الديلمي يقول: كنت يوما عند
الجنيد رحمة الله عليه فارتعدت فرائصه وتغير لونه وبكى وقال: ما أخوفني أن يأخذني
الله فقال له بعض أصحابنا: تتكلم في درجات الراضين وأحوال المشتاقين فقال له: إياك
يا أخي ان تأمن مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وقيل: لا تعتمد فضله وتنسى مكره، فقد قال: * (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) *.
قوله تعالى: * (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) * [الآية: 102].
قال الجنيد رحمة الله عليه: أحسن العباد حالا من وقف مع الله على حفظ الحدود
والوفاء بالعهود.
قال الله تعالى: * (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) *.
قوله تعالى: * (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق) * [الآية: 105].
قال ابن عطاء: من تحقق بالحق فإنه لا يقول على الحق إلا ما يليق بالحق.
قال الخراز: سبيل الواصلين إلى الله أن لا يتكلموا إلا عن الحق، ولا يسمعوا إلا
من الحق ولا ينطقوا إلا بحق، فإن حقائق الحق إذا استولت على أسرار المحقين
أسقطت عنهم ما سوى الحق، ولا يبلغ أحد من هذه الدرجات شيئا حتى يستوفى الحق
أوقاته عليه ومنه، فحينئذ يبقى ولا وقت له ولا حال، فحينئذ الله أعلم.
قوله تعالى: * (إنكم لمن المقربين) * [الآية: 114].
قال بعضهم: دعا فرعون السحرة إلى القرب منه، وجرى لهم في الأزل إلى منازل
القرب من الحق قال فرعون: ' إنكم لمن المقربين '. فقربوا إلى منازل الأبرار وبعدوا من
قرب الأشقياء.
قوله عز وعلا * (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون) * [الآية: 118].
قال السوسي: أظهر الحق لطيفة من صنعه في خشبة عجز السحرة عنها وجعلها سببا
لنجاتهم فقال: * (فوقع الحق) * أي بإظهار القدرة في جهاد * (وبطل ما كانوا يعملون) * من
234

الأباطيل.
قوله تعالى: * (فألقي السحرة ساجدين) * [الآية: 120].
قال الواسطي: أدركتهم سابقة ما جرى لهم في الأزل من السعادة، فأظهر منهم
السجود.
وقال جعفر: وجدوا نسيم رياح العناية القديمة بهم، فالتجؤوا إلى السجود شكرا و
* (قالوا آمنا برب العالمين) * [الآية: 121].
قوله عز اسمه: * (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) * [الآية: 124].
قال سمنون: يحمل الهياكل من البلايا على المشاهدة ما لا تحمله في حال الغيبة،
ألا ترى كيف لم يبال سحرة فرعون بما هددهم من قوله: * (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) *.
قوله تعالى: * (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا) * [الآية: 128].
قال أبو عثمان: من استعان بالله في أموره وصبر على ما لا يلحقه في مسالك
الاستعانة؛ أتى الفرج من الله، قال الله تعالى: * (استعينوا بالله واصبروا) *.
قال سهل: أمروا أن يستعينوا بالله على أمر الله، وأن يصبروا على آداب الله.
وقال بعضهم: قال موسى لقومه استعينوا بالله على مصائبكم واصبروا إن الأرض لله
يورثها من يشاء من عباده. فقيل له: ما لك [ولدار تعز الظالمين] فعن قريب تراها
خالية من الفاسقين.
قوله تعالى: * (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض) *
[الآية: 129].
قال بعضهم في هذه الآية: أعدى عدو لك نفسك، عسى أن يمكنك الله من قيادها
235

ويفني عنها أهواءها ومراداتها الباطلة، ويجعلك خليفة على جوارحك وقلبك أميرا
عليها فتقهر النفس بما فيها وتستولي عليها وعلى مخالفتها، فينظر كيف تعملون: كيف
معرفتك بشكر ما أنعم عليك.
قوله عز وعلا * (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) * [الآية: 130].
قال: ذكرناهم النعم وأخذناهم بالمحن لعلهم يرجعون إلينا، فأبوا إلا طغيانا وتماديا.
رأيت في كتاب عبد الله الرازي بخطه، سمعت محمد بن الفضل يقول: أذل رياضة
يروض الإنسان بها نفسه الجوع، لأن الله تعالى أخذ الأعداء بذلك فقال: * (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) * وأعز رياضة يروض بها الإنسان نفسه التقوى، لأن الله يقول
* (فإياي فاتقون) *.
قوله تعالى: * (ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت) * [الآية: 134].
قال القاسم: من لم يراع أسرار الأولياء في الأوقات، لا ينفعه اللجأ إليهم في أوقات
البلاء، ألا ترى كيف لم يؤثر على أصحاب فرعون اللجأ إلى موسى في اعتقاد المخالفة،
قال الله: * (فانتقمنا منهم) *.
قوله تعالى: * (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) *
[الآية: 137].
قال الجنيد رحمة الله عليه في كتاب ' مراتب أهل الصبر ' في قوله: * (وتمت كلمة ربك) * قال: طلبوا تمام الكلمة بوجود النعمة والمواظبة على الصبر واستشعروا التشبت
بحبائل الوفاء عند من أبلاهم، لتتم عليهم كلمة ربك الحسنى بجميل الثناء على الصبر
التي ضمن لهم إتمامها بالوفاء.
قال أبو سعيد: طلبوا إتمام النعمة بالمواظبة على الصبر، واستشعروا وعده الذي وعد
لهم إتمامه عند القيام بما لزمهم من شرائط الصبر.
قوله تعالى: * (قال أغير الله أبغيكم إلها) * [الآية: 140].
قال بعضهم: من لم يرض بمجاري المقدور عليه ولم يستقبل نعمة الله بالشكر وبلاءه
236

بالصبر فقد كفر بنعم الله عنده.
قال أبو عثمان: أتطلب ربا غيره وهو فضلك على ما سواك من جميع ذوات
الأرواح والجماد فتذل وتخضع لغيره، وهو فضلك عليه، ذل لمن لا يذل من يذل له،
تستوي معه وتنل به الأوفر من العز.
قوله عز اسمه * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) * [الآية: 142].
قيل لأبي بكر بن طاهر: ما بال موسى لم يجع أربعين يوما حين أراد أن يكلم ربه،
وجاع في نصف يوم حين أراد أن يلقى الخضر فقال: * (آتنا غداءنا) * الآية قال: لأنه
في الأول أنساه هيبة الوقوف الذي ينتظره الشراب والطعام، والثاني كان سفر التأديب
فزاد البلاء على البلاء حتى جاع في أقل من نصف يوم، والأول كان أوقات الكرامة.
قال جعفر: كان وعده ثلاثين ليلة فالتزم على ميعاد ربه وانتهى الأجل لقدومه
فأخرجه عن حده ورسمه، وأكرم موسى بكلامه وبان عليه شرفه خارجا عن رسوم
البشرية حتى سمع ما سمع من ربه من غير نفسه وعلمه وغير وقته الذي وقته لقومه،
دليلا بذلك أن منار الربوبية خارج عن رسوم البشرية.
وسمعنا بعض المتأخرين يقول في هذه الآية: مواعيد الأحبة وإن أخلفت بها فإنها
يؤنس بها.
وأنشد على أثره:
(أمطليني وسوفي
* وعديني ولا تفي
*
قوله تعالى: * (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي) * [الآية: 142].
قال محمد بن حامد في قوله: * (اخلفني في قومي) * قال: لم يزل الأنبياء والأولياء
خلف يخلفهم فيمن بعدهم من أمتهم وأصحابهم، يكون هديهم على هديه، يحفظون
على أمتهم ما يضعونه من سنتهم وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان هو القائم بهذا
المقام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يقم هو؛ لذهبت سنن منها محاربة أهل الردة وغير ذلك.
237

قوله تعالى: * (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) * [الآية: 143].
قال أبو سعيد: من غيرة الله تعالى أنه لم يكلم موسى إلا في جوف الليل، وغيبه
عن كل ذي حسب حتى لم يحضر كلامه معه أحد سواه، وكذلك محادثته مع الأنبياء.
قال القرشي: إنما كلم الله موسى بإياه، ولو كلمه على حد العظمة لذاب وصار لا
شيء.
قال الواسطي رحمة الله عليه: لما غاب موسى عن أنفاسه وحركاته وقام مقام
الانفراد مع الله ناداه * (إني أنا الله) *.
قال جعفر في قوله: * (ولما جاء موسى لميقاتنا) * قال: الميقات طلب الرؤية.
وقال جعفر: سمع كلامه خارجا عن بشريته وأضاف الكلام إليه، وكلمه من نفسه
موسى وعبوديته فغاب موسى عن نفسه وفنى عن صفاته، وكلمه ربه من حقائق معانيه،
فسمع موسى صلى الله عليه وسلم من ربه ومحمد صلى الله عليه وسلم سمع من ربه صفة ربه، وكان أحمد المحمودين
عند ربه، ومن هذا كان مقام محمد صلى الله عليه وسلم المنتهى، ومقام موسى عليه السلام الطور،
ومنذ كلم الله موسى على الطور أفنى صفته، فلم يظهر فيه النبات ولا تمكين لأحد
عليه.
وقال الحسين في قوله: * (ولما جاء موسى لميقاتنا) * قال: أزال عنه التوقيف والترتيب،
وجاء إلى الله على ما دعاه إليه وأراده له وأخذه عليه وأوجده منه وأظهره عليه، ببذل
الجهد والطاقات وركوب الصعب والمشقات، فلما لم تبق عليه باقية بها يمتنع، أقيم مقام
المواجهة والمخاطبة وأطلق مصطنعة لسانه بالمراجعة والمطالبة، أما سمعت قوله قبل هذه
الحال طالبا منه لما طولع بحال الربوبية وكوشف بمقام الإلهية سائلا حل عقدة من لسانه
ليكون - إذا كان ذلك - مالكا لنطقه وبيانه.
وقيل: فسأل ربه شرح صدره ثم نظر إلى أليق الأحوال، وإذا هو تيسير أمره فسأل
ذلك على التمام لتترقى به حاله إلى أرفع المقام وهو المجيء إلى الله بالله، لما علم أن من
238

وصل إليه لم تعترض عليه عارضة، حينئذ صلح للمجيء، إلى الله وحده بلا شريك ولا
نظير وكان ممن وفى المواقيت حقها، غابت عنه الأحوال فلم يرها وذهبت عن عينه
وحضوره، وما عداها إلا ما كان للحق منه ومعه حتى تحقق بقوله: * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * فهذا حال المجيء وهذا معنى قوله * (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) * تفرد
بكلامه لأنه كان قبل ذلك مكلما بالسر والسفرة والوسائط، فلما رقى الله به إلى المقام
للأجل وحققه بالحال الأعظم الأرفع، خاطبه مكلما على الكشف، وغيبه عن كل عين
رائية ومرئية وكل صورة مكونة ومنشئة إلا ما كان من المكلم والمكلم، وأفرد الله عبده
بالشرف الأعظم فسمع خطابا لا كالمخاطبات ومناج منه وله عند ذلك طلب لا
كالمطالبات، واقتضى من الله ما لم تكن قبل يقتضيه، فلذلك سأل النظر إليه إذ رجع
إلى حقيقته فرأى الله في كل منظور ومبصر، فلما تحققت له هذه الأحوال * (قال رب أرني أنظر إليك) * فإني في كل مرادي راجع إليك، أي أرني ما شئت فلست أرى غيرك
مقابلي، إذ تحققت بما حققتني به إنك غير مزايلي ألم يدلك على ذلك خطابه ورجوعه
إليك إذ ذاك جوابه أرني فإليك أنظر وأحضر ما شئت فلست غيرك أحضر بعد أن
تحققت منك بحال توجب لي منك ذاك، وحق لمن تحقق بهذا وتمكن فيه أن ينفرد بسؤال
لا تشاركه فيه الخليقة.
قوله تعالى: * (قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل) *
[الآية: 143].
فهو أشد منك جسدا وأعظم منك خلقا وأهيب منك منظرا، فإن ثبت لرؤيتي ثبت
ولا يحملني ولا يصبر لمشاهدتي شيء إلا قلوب العارفين التي زينتها بمعرفتي وأيدتها
بأنوار كرامتي وقدستها بنظري ونورتها بنوري، فإن حملني شيء وصبر لمشاهدتي فتلك
القلوب دون غيرها، لذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ' حجابه النور لو كشفه لأحرقت
239

سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره '.
ثم إذا حملتني تلك القلوب وصبرت لمشاهدتي فأنا حاملي لا غير، إذ بي حملني
وبإياي صبر لمشاهدتي، فلا مشاهدة للحق سواه جل ربنا وتعالى.
قال ابن عطاء في قوله: * (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل) *: شغله بالجبل ثم تجلى،
ولو لم يشغله بالجبل لمات وقت التجلي.
وقال الحسين قوله لموسى * (لن تراني) * لو تركه على ذلك لتقطع شوقا إليه، ولكنه
سكنه بقوله: * (ولكن) *.
وقال أيضا في هذه الآية: انبسط على ربه في معاني الرؤية لما كان يرجع منه إلى
شيء سواه.
قال الواسطي رحمة الله عليه: * (لن تراني) *: إلى وقت ولا على الأبد.
وقال: كان موسى غائبا عن طبع البشرية، حتى استطاع المقام في وقت الكلام
والمفاجأة، فلما وجد حلاوة كلامه طلب الكشف في الحال غائبا عن الحال كذلك.
قال يحيى بن معاذ: وعد نعمك يشير إلى وفاء كرمك.
وقال جعفر: انبسط إلى ربه في معنى رؤيته لأنه رأى جمال كلامه على قلبه فيه،
فانبسط إليه فقال له ' لن تراني ' أي لا تقدر ان تراني، لأنك أنت الفاني فكيف السبيل
لفان إلى باق؟ ولكن انظر إلى الجبل أوقع على الجبل علم الاطلاع فصار دكا متفرقا،
زال الجبل من ذكر اطلاع ربه، وصعق موسى من رؤية تدكدك الجبل فكيف له برؤية
ربه عيانا، معاينة رؤية الله لعبده والعبد فان، ورؤية العبد لربه والعبد بربه باق ثم قال
ثلاث من يلتمس العبيد إلى ربهم محال: التجلي والوصلة والمعرفة، فلا عين تراه في
الدنيا، ولا قلب يصل إليه، ولا عقل يعرفه لأن أصل المعرفة من الفطرة، وأصل
المواصلة من المسافة، وأصل المشاهدة من المباينة.
240

وقال جعفر في قوله: * (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل) *: شغله بالجبل ثم تجلى
ولولا ما كان من اشتغاله بالجبل؛ لمات موسى صعقا بلا إفاقة.
قوله تعالى: * (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) * [الآية: 143].
قال الواسطي رحمة الله عليه في قوله * (جعله دكا) * قال: اماع كأن لم يكن قط،
ولا عجب لهيبة ما ورد عليه.
قال أبو سعيد القرشي: الكرم والجمال يبقيان والإجلال والهيبة يفنيان، كما أن الله
كلم موسى بصفة الهيبة، تجلى للجبل فصار الجبل دكا وخر موسى صعقا، وكان آخر
عهده بالنسيان ولم يتهيأ لأحد أن ينظر إلى وجهه.
قال الواسطي رحمة الله عليه: وصل إلى الخلق من صفاته ونعوته على مقاديرهم لا
كلية الصفات، كما أن التجلي لم يكن بكلية الذات.
وقال بعضهم: ينال الكون من صفاته ونعوته على قدر احتمالهم.
قال الواسطي رحمة الله عليه: قالوا لن يغيب التجلي والله يقول: * (فلما تجلى ربه للجبل) *.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إن الله إذا تجلى لشيء خشع له '.
قلت: ذلك على التعارف ومقادير الطاقات أليس يستحيل ان يقال: تجلى الهواء لذرة
واحدة، لو احتجب لساواها ولو تجلى لقاريها وهو أجل من أن يخفى ويستتر وأعز من
أن يرى، ويتجلى إلى وقت الميعاد تنزه عن أن تقع عليه للإلحاظ بمعانيها، أو يقع تحت
الألسنة بأمانيها.
241

قال: وجرى بين الجنيد رحمة الله عليه ذكر قوله تعالى: * (فلما تجلى ربه) * الآية
فصاح وقال: بالجعل صار دكا لا بالتجلي، ولو وقع عليه آثار التجلي لأفناه، فكيف
التجلي.
وقال بعضهم: انفرد موسى بالتجلي لما صعق كأنه لما سأل الرؤية قيل له: أنت لا
ترانا ببشريتك فقال: أفنني عني وعن بشريتي فأفناه، وانفرد الحق بذاته فتجلى لموسى
في حال صعقته، لأنه كان معه قائما بالمحبة.
قال الله تعالى: * (وألقيت عليك محبة مني) *.
فأفناه حتى رآه ثم رده إلى صفاته.
قوله تعالى: * (سبحانك تبت إليك) *.
قال بعضهم: تبت أن أسألك حظا لي، إذ لا يحيط بك أحد ولا يشهدك غيرك.
* (سبحانك تبت إليك) * الآية.
قال ابن خفيف: لما قال: إن استقر مكانه فسوف تراني. قال: تبت إليك من أن لا
أصدقك بكل ما ورد منك ولا أطالب بالعلاقات، وذلك كما قال: * (أرني أنظر إليك قال لن تراني) * لم يكفه هذا حتى قال: ' انظر إلى الجبل ' فالتوبة من هذا.
قال الواسطي رحمة الله عليه: لم يزل المقصود ممتنعا من الاستغراق، ألا ترى إلى
قول موسى: * (سبحانك تبت إليك) *.
قال جعفر في قوله: * (سبحانك تبت إليك) * قال: نزه ربه واعترف إليه، بالعجز
وتبرأ من عقله، ' تبت إليك ' رجعت إليك من نفسي، فلا أميل إلى علمي، فالعلم ما
علمتني والعقل ما أكرمتني * (وأنا أول المؤمنين) * إنك لا ترى في الدنيا وإنما جوز الكلام
ولم تجوز الرؤية، لأن الرؤية الإشراف على الذات والكلام صفة من الصفات،
والصفات سمات إلى عباده ولهم إلى ذلك سبيل، ولا سبيل لأحد من خلقه إلى ذاته
قال الله تعالى: * (ولا يحيطون به علما) *.
242

قوله تعالى: * (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك) *
[الآية: 144].
قال بعضهم: الاصطفائية أورثت التكلم ولا التكلم، والكلام أورثا الإصطفائية.
وقيل في قوله تعالى: * (فخذ ما آتيتك) * من عطائي، وكن من الشاكرين لا من
المدعين المختارين، فما سبق مني إليك أكثر مما اخترته لنفسك.
قال بعضهم: لما قال اصطفيتك لنفسي أورث الاصطناع والاصطفائية، فكنت
مصطفى على الناس، لا بسابقة سبقت لك إلي بل بسابقة سبقت مني إليك.
قوله تعالى: * (وكتبنا له في الألواح من كل شيء) * [الآية: 145].
قال بعضهم: سر الله عند عباده وأهل خصوصيته لا يحمله إلا الأقوياء بأبدانهم
وقلوبهم ألا ترى الله جل وعز يقول لكليمه صلى الله عليه وسلم * (فخذها بقوة) * والقوة هي الثقة بالله
والاعتماد عليه، ولذلك قال بعضهم: عطاياه لا تحتمل إلا مطاياه.
وقيل في قوله: * (فخذها بقوة) *: أي خذها بي ولا تأخذها بنفسك، فالقوي من لا
حول له ولا قوة، ويكون حوله وقوته بالقوى.
قوله عز وعلا: * (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) *
[الآية: 146].
قال بعضهم: التكبر تكبران: وتكبر بحق وتكبر بغير حق، فالتكبر بالحق تكبر الفقراء
على الأغنياء، استغناء بالله عما في أيديهم وتكبر بغير حق وهو تكبر الأغنياء على
الفقراء ازدراء لما هم فيه من فقرهم.
قال الواسطي رحمة الله عليه: والتكبر بالحق هو التكبر على الأغنياء والفسقة
والكفار وأهل البدع، لأنه روي في الأثر: ' ألقوا أهل المعاصي بوجوه مكفهرة '.
قال بعضهم: أرباب الكبائر مصروفون عن الكرائم، لأن الله يقول: * (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون) *.
قال سهل: هو أن يحرمهم فهم القرآن، والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عطاء: سأمنع قلوبهم وأسرارهم وأرواحهم عن الجولان في ملكوت القدس
عن الحق، لأن ذلك في ملكوت القدس قال الجريري في هذه الآية: * (ساصرف عن
243

آياتي الذين يتكبرون) * حتى لا يفهموها ولا يجدوا لها لذة، لأنهم تكبروا بأحوال
النفوس بالخلق والدنيا، فصرف الله عن قلوبهم آياته لما انصرفوا عنه، ومن استولت
عليه النفس صار أسيرا في حكم الشهوات، محصورا في سجن الهوى، حرم الله على
قلبه فوائد آياته وكتابه وإن أكثر ترداده على لسانه.
قوله تعالى: * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار) *
[الآية: 148].
قال سهل: عجل كل إنسان ما أقبل عليه وأعرض به عن الله من أهل وولد، ولا
نتخلص من ذلك إلا بعد إفناء حظوظه أجمع من أسبابه، كما لم يتخلص عبدة العجل
من عبادته، إلا من بعد قتلهم أنفسهم.
قوله تعالى: * (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) * [الآية: 150].
قال: آسفا على ما فاته من مخاطبة الحق إلى مخاطبة من لا أوزان لهم، فرده من
شوقه إلى شاهده ليلا يقطعه من حال شوقه * (وأخذ برأس أخيه يجره إليه) *.
قال ابن عطاء: غضبان على نفسه حيث ترك قومه حتى ضلوا، آسفا على مناجاة
ربه.
قال بعضهم: ماقتا نفسه متأسفا على ما فاته من اختصاصه بالمخاطبة.
قال بعضهم: من رأى من قومه من ارتكاب مخالفة الله وقيل: أغضبه الرجوع عن
مفاجأة الحق إلى مخاطبة الخلق.
قوله تعالى: * (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه) *.
قال القرشي: من تحرك غيرة للحق فإن الحق يحفظ عليه حدوده، لئلا تخرجه
الحركة إلى شيء مذموم، كموسى لما ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما رأى
قومه يعبدون العجل، فلم يعاتبه الله على ذلك، ولو باشر أحد من الكسر والأخذ ما
باشر موسى، كان ملوما على ذلك ولكن حركة موسى كانت بلا حظ لموسى فيها، بل
قام غيرة لله وابتغاء ماله، فلم يزدد بذلك من الحق إلا قربا.
قوله تعالى: * (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم) * [الآية: 152].
قال أبو عثمان: من أقبل على الله فلينتظر الراحة، والزلفة والفرج من القبول، ومن
244

أعرض عن الله فلينتظر الذل والسخط والبغض مع غضب الله في الآخرة.
قال الله * (إن الذين اتخذوا العجل) * الآية.
قال الحسين بن الفضل: لا ترى مبتدعا إلا ذليلا، لأن الله يقول: * (وكذلك نجزي المفترين) *.
قوله تعالى: * (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا) * [الآية: 155].
قال بعضهم: اختار موسى على عدد الأولياء في الأمم السالفة وفي أمته وهم
السبعون الذين إليهم متضرع الخلق وبهم يحفظون.
قوله تعالى: * (إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء) * [الآية: 156].
قال الواسطي رحمة الله عليه: ذلك في نفس المعارف ما عرفه أحد إلا تكدر عيشه،
وأرباب الحقائق لا يعذبون في الدنيا إلا بتواتر نعم الله عليهم والتقرب، حتى يرد عليه
ما منه يغيب من الصفات والنعوت، فيرتفع عند سوء الأدب في السير.
قوله تعالى: * (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) * [الآية: 156].
قال الكتاني رحمة الله عليه: تسع كل شيء ولكن خص بها الأنبياء لقوله تعالى.
* (فسأكتبها للذين يتقون) * ومن يمكنه تصحيح التقوى فيكون بشرط الآية.
قال بعضهم: وصف العذاب بصفة الخصوص مقرونا بالمشيئة، وعم الرحمة أنها تسع
كل شيء.
قال أبو عثمان: لا أعلم في القرآن آية أقنط من قوله: * (ورحمتي وسعت كل
شيء) * والناس يرونها أرجى آية، وذلك أن الله يقول: * (فسأكتبها للذين يتقون) *.
قوله تعالى: * (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) * [الآية: 157].
قال ابن عطاء: الأمي هو الأعجمي، قال أعجمي عما دوننا عالم بنا وبما ينزل عليه
245

من كلامنا ومن حقائقنا.
وقال أيضا في قوله: * (النبي الأمي) * قال: الذي لا يدنسه شيء من الكون.
وقال الأمي: من لا يعلم من الدنيا شيئا ولا في الآخرة إلا ما علمه ربه، حالته مع
الله حالة واحدة وهو الطهارة بالافتقار إليه والاستغناء عما سواه.
قوله تعالى: * (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) *.
قال جعفر: أثقال الشرك وذل المخالفات وغل الإهمال.
قوله تعالى: * (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه) *.
قال بعضهم: صدقوا ما جاء به وبذلوا المنهج بين يديه.
وقيل في قوله: * (واتبعوا النور الذي أنزل معه) * قال: اتبعوا سنته ليوصلهم اتباع
السنن إلى ميادين الأحوال السنية.
قوله تعالى: * (واتبعوه لعلكم تهتدون) * [الآية: 158].
قال الحسين: إن الحق أورد تكليفا عن وسائط وتكليف الحقائق، فتكليف الحقيقة
بدت معارفه منه وعادت إليه، وتكليف الوسائط بدت معارفه عمن دونه فلا يصل إليه،
فتناهى من معارفهم إلى نهايات معرفة أهل الوسائط، ولا تتناهى معارف من أحد
معارفه عن شهود الحق، كل ذلك رفق من الحق بالخلق، لعلمه بأنه لا يوصل إليه إلا
بما منه.
قوله تعالى: * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * [الآية: 159].
قوله تعالى: * (يهدون بالحق) * قيل: يدلون الخلق على طريق الحق وإياه يسلكون.
قوله تعالى: * (فانبجست منه اثتنا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم) *
[الآية: 160].
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندراني يقول: سمعت
أبا جعفر الفلسطيني يحكى عن الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد عليه السلام في هذه
الآية قال: انبجست من المعرفة اثنتا عشرة عينا، يشرب كل أهل مرتبة في مقام من عين
من تلك العيون على قدرها، فأول عين منها عين التوحيد، والثانية عين العبودية
والسرور بها، والثالثة عين الإخلاص، والرابعة عين الصدق، والخامسة عين التواضع،
246

والسادسة عين الرضا والتفويض، والسابعة عين السكينة والوقار، والثامنة عين السخاء
والثقة بالله، والتاسعة عين اليقين، والعاشرة عين العقل، والحادية عشر عين المحبة،
والثانية عشر عين الأنس والخلوة، وهي عين المعرفة بنفسها، ومنها تنفجر هذه العيون،
ومن شرب من عين منها يجد حلاوتها ويطمع في العين التي هي أرفع منها، من عين
إلى عين حتى يصل إلى الأصل، وإذا وصل إلى الأصل تحقق بالحق.
قوله تعالى: * (قد علم كل أناس مشربهم) *.
قال بعضهم: ظهر لكل سالك سلوكه وآثار براهينه وبركات سعيه وأنوار حقائقه.
قوله تعالى: * (لسريع العقاب) * [الآية: 167].
قال بعضهم: ما كان في القرآن آية أشد من قوله: * (لسريع العقاب) * فإنها عقوبة
الحجاب بالحجاب عنه.
قوله تعالى: * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) * [الآية: 168].
قال: اختبرناهم بالنعم طلبا للشكر، واختبرناهم بالمحن طلبا للصبر فأبى الجميع فلا
هم عند النعم شاكرون ولا هم عند المحن صابرون.
قوله تعالى: * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه) * [الآية: 169].
قيل: ألم يبين لهم على لسان الوسائط في الكتب المنزلة أن لا يصفوا الحق إلا بنفاد
المشيئة وعلو القدرة.
قال سهل في قوله * (ودرسوا ما فيه) * تركوا العمل به.
قوله تعالى: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم) * [الآية: 172].
قال أبو سعيد الخراز في هذه الآية قال: تراءى لأهل الإيمان بالسكون فعرفوه
وسكنوا واطمأنوا، وتراءى لأهل الكفر بالتعظيم فطاشت عقولهم وتفرقوا عنه.
وقال يوسف في هذه الآية: قد أخبر أنه خاطبهم ربهم وهم غير موجودين إلا
بايجاده لهم، إذ كانوا واجدين للحق من غير وجودهم لأنفسهم، كان الحق بالحق في
ذلك موجود بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ولا يجده سواه.
247

قال بعضهم في قوله: * (ألست بربكم قالوا بلى) * من غير مشاهدة، ثم كوشفوا
فشهدوا ما خوطبوا به، فقالوا ' شهدنا ' أي شاهدنا اي شاهدنا حقائق حقك وقال الحسين: انطق
الذر بالإيمان طوعا. وكرها أنطقتهم بركة الآخذ أحدهم عنهم، ثم أشهدهم حقيقته
فأنطقت عنهم القدرة من غير شركة كان لهم فيه.
وقيل: إن توحيد الخاص أن يكون العبد قائما بسره بين يدي ربه، يجري عليه
تصاريف تدبيره وأحكام تقديره في بحار توحيده، بالفناء عن نفسه وذهاب نفسه بقيام
الحق به في مراد منه، فيكون كما كان قبل أن يكون، كما قال تعالى: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم) * الآية.
قال النصر آباذي رحمه الله في هذه الآية: مؤيل الأكبر ومالف الأعظم، معافون من
السلالة والطين وما بعده من النطف والمضغ أفأنتم في حملة للأخذ الأول، أم مردودون
إلى ميعاد الأخذ في السلالات والمضغ والنطف، فإن أخذ للأول أول بأول للأول وهو
بأول للأول أول.
وقال النصر آباذي: أخذ ربك تلطفا وتكرما بل أخذه جلالة وعظمة، بل أخذه غنى
واستغناء.
وقال أيضا: أخذ لا للحاجة بل للحجة فمنع الخلق حاجتهم أن يروا ذرة من معاني
الحجة.
وقال أبو عثمان المغربي: وسئل عنه ما الخلق؟
قال: قوالب تجري عليها أحكام القدرة، وقال: أخذ ربك من معدن إلى معدن ومن
معدن للمعدن.
وقال الجريري في قوله: * (ألست بربكم) * قال: تعرف إلى كل طائفة من الطوائف
بما منحها من معرفته فقال: ' بلى ' وكل أقر بما مخ ثم أخرجهم من صلب آدم فقال:
* (وكنتم أعداء فألف بين قلوبكم) * وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) *.
248

قال أبو سعيد الخراز في قوله ' بلى ' قال: من قال حين قال: من أين أجابوا عنهم
إلا القدرة والنافذة والمشيئة التامة وهل كانوا إلا رسما لأحكام مليك.
وهل هم الآن إلا أشباح تختلف عليهم تصاريف تدبيره.
وقال بعضهم: خطب منصوب القدرة في عين العدم.
قال ابن بنان في هذه الآية: قد أخبرك أنه قد خاطبهم وهم غير موجودين إلا
بوجوده لهم، إذ كان واجد الخليقة بغير معنى وجودها لأنفسها بالمعنى الذي لا يعلمه
غيره ولا يجده سواه، فقد كان واجدا مخاطبا شاهدا عليهم بديا في حال فنانهم عن
بقائهم الذي كانوا به، كذلك هو الوجود الرباني والإدراك الإلهي الذي لا ينبغي إلا له.
وقال في قوله: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم) * خوطبوا بهذا الكلام وأيش كانوا
فقال: كانوا موجودين في القدرة مغيبين عن شهود التوحيد.
قيل: إنما أجيب عنهم على حسب الاستسلام فهذا مقام الفناء، وقد تقدمت الستلة
الإجابة فالعالم يجري في التسخير من حيث التمكين في قبضة الحق.
قال الحسين: لا يعلم أحد من الملائكة المقربين ما أظهر الخلق وكيف الانتهاء
والابتداء، إذ الألسنة ما نطقت والعيون ما أبصرت والآذان ما سمعت، كيف أجاب من
هو عن الحقائق غائب وإليها آيب في قوله: * (ألست بربكم) * فهو المخاطب وهو
المجيب.
وقال الحسين في قوله: ' بلى ': القائل عنكم سواكم والمجيب غيركم، فسقطتم أنتم
وبقي من لم يزل كما لم يزل.
وسئل علي بن عبد الرحيم عن قوله: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم) *
قال: كانوا موجودين في القدرة مغيبين عن شهود الوجود.
قال الواسطي رحمة الله عليه في قوله: * (ألست بربكم) * قالوا بلى: ' قال: هو
تقرير في صورة السؤال.
وقال بعضهم: القدرة أجابت القدرة.
249

وقيل في قوله: ' بلى ' قالوا: سمعوا كلامه أن * (ليس كمثله شيء) * وخلق حياتهم
من ذلك النور وجعل قوام جميعهم بتلك الكلمة. وأنشد:
(لو يسمعون كما سمعت كلامه
* خروا لعزة ركعا وسجودا
*
قال ابن بنان: لله خالصة من خلقه، انتخبهم للولاية واستخلصهم للكرامة وأفردهم
به له، فجعل أجسادهم دنياوية وأرواحهم نورانية وأذهانهم روحانية وأوطان أرواحهم
غيبية، وجعل لهم فسوحا في غوامض غيوب الملكوت الذين أوجدهم لديه في كون
الأزل، ثم دعاهم فأجابوا سراعا، أجاب تركيبهم حين أوجدهم لديه في كون الأزل،
ثم دعاهم فأجابوا الدعوة منة منه، وعرفهم نفسه حين لم يكونوا في صدرة الإنسية، ثم
أخرجهم بمشيئته خلقا فأودعهم صلب آدم، فقال: * (وإذا أخذ ربك من بني آدم من
ظهورهم ذريتهم) * فأخبر أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم، إذ كانوا غير
واجدين للحق إلا بإيجاده لهم في غير وجودهم لأنفسهم، وكان الحق بالحق في ذلك
موجودا.
قوله تعالى: * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) * [الآية: 175].
قال ابن عطاء: سوابق الأزل تؤثر على انتهاء الأبد، قال الله تعالى: * (آتيناه آياتنا فانسلخ منها) *.
قوله تعالى: * (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) *
[الآية: 176].
قال ابن عطاء: لو جرى له في الأزل السعادة لأثر ذلك عليه في عواقب سعيه
وكدحه في أواخر أفعاله.
قوله تعالى: * (من يهد الله فهو المهتدي) * [الآية: 178].
قال بعضهم: ليس الناجي من سعى إنما الناجي من سبقت له الهداية من الهادي.
قال الله تعالى: * (من يهد الله فهو المهتدي) *.
قوله تعالى: * (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا
يسمون بها) * [الآية: 179].
250

قال: ' قلوب لا يفقهون بها ' شواهد الحق ' وأعين لا يبصرون بها ' دلائل الحق،
' وآذان لا يسمعون بها ' دعوة الحق.
قوله عز وعلا: * (أولئك كالأنعام بل هم أضل) *.
قيل: الأنعام والبهائم لا تحس بالاستتار والتجلي، والأرواح نعيمها في التجلي
وعذاؤها في الاستتار. قال الله تعالى: * (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل) *.
قوله تعالى: * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) * [الآية: 180].
قال بعضهم: كل اسم من أسمائه يبلغك مرتبة من المراتب، واسم الله يبلغك الوله
في حبه، والرحمن الرحيم يبلغانك إلى رحمته كذلك جميع أسمائه إذا دعوته بها عن
خلوص ضميرك وصفاء عقدك.
وقال بعضهم في هذه الآية * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) *: أي قفوا معها عن
إدراك حقيقتها.
وقيل في قوله: * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) * قال: إنه وراء الأسماء أسماء
والصفات صفات، لا تخرقها الأفهام لأن الحق نار تتضرم لا سبيل إليه ولا بد من
الاقتحام فيه.
وقال بعضهم: أبدى أسماءه للدعاء لا بطلب الوقوف عليها، وأنى يقف على صفاته
أحد.
قوله تعالى: * (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * [الآية: 181].
قال بعضهم: يدعون إلى الصلاح وإياه يعملون.
وقال بعضهم: يدلون على اتباع الهدى واجتناب الهوى، ' وبه يعدلون ' أي: وإياه
يسلكون.
قوله تعالى: * (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) *
[الآية: 182].
قال سهل: نمدهم بالنعم وننسيهم الشكر عليها، فإذا سكنوا إلى النعمة وحجبوا عن
المنعم أخدوا
251

قال: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *.
قوله تعالى: * (ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون) * [الآية: 192].
قال بعضهم: كيف ينصر غيره من هو عاجز عن نصرة نفسه، وكيف ينصر نفسه من
لم يجعل إليه من أمره شيئا وهو مدبر بالقدرة ومقدر في المشيئة.
قوله تعالى: * (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) * [الآية: 201].
قال بعضهم: من جال سره في ميادين الأنس والقربة، وحجز نفسه عن طوارق
الفتنة وطوائف الشيطان هم الذين قال الله لهم * (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) *
قال بعضهم: الناس في مطالعة الأسرار على وجوه ثلاثة: منهم من له من سره
مطالع يطالعه فذلك قوله تعالى: * (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) *. ومنهم من
له في سره ينهاه قال الله تعالى: * (ونهى النفس عن الهوى) *.
قوله تعالى: * (وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * [الآية: 204].
قيل: فيه استمعوا له بآذانكم لعلكم تسمعون بقلوبكم وتفهمون مراد مخاطبة الحق
إياكم، وتأدبوا بلطائف مواعظه فيوصلكم حسن الأدب إلى استماع، وبركة الخطاب إلى
رحمته وهو أن يرزقكم آداب خدمته كما رزقكم سنن شريعته وأجل رحمة رحم الله بها
عباده آداب العبودية التي خص الله بها الأكابر من الأصفياء والسادات من الأولياء.
وقيل في قوله: * (وأنصتوا) * أي من آداب الاستماع الإنصات والاشتغال، بما يبدو
من بركات السماع دون طلب حظ فيه بحال.
قوله تعالى: * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول) *
[الآية: 205].
قال الحسين في هذه الآية: لا يظهر ذكرك لنفسك فتطلب به عوضا، فأشرف الذكر
ما لا يشرف عليه إلا الحق، وما خفى من الذكر أشرف مما ظهر.
252

قوله تعالى: * (ولا تكن من الغافلين) *.
قال سهل: حقا أقول لكم لا باطلا يقينا لا شك ما من أحد ذهب عنه نفس واحد
بغير ذكر الله إلا وهو غافل.
وقال: الغافل من غفل عن درك حقائق الأمور.
253

ذكر ما في سورة الأنفال
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى ذكره: * (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) * [الآية: 1].
قال سهل: التقوى ترك كل شيء يقع عليه الذم.
وقال: لا تصح التقوى إلا للمقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين.
وقال: التقوى في الآداب: مكارم الأخلاق. وفي الترغيب أن لا يظهر ما في سره،
وفي الترهيب أن لا يقف مع الجهل.
قوله تعالى: * (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) * [الآية: 2].
قال أبو سعيد الخراز في هذه الآية: هل رأيت ذلك الرجل عند سماع الذكر أو عند
سماع كتابه؟ وهل أخرسك سماع ذلك الذكر حتى لم تنطق إلا به؟ وهل أصمك حتى
لا تسمع إلا منه هيهات؟
وقيل: المؤمن إذا سمع الذكر أو ذكر هو وجل قلبه أي: عاد القلب على اللسان
بالذكر وعلى الآذان بسماع الذكر، فاضطرب وهو الوجل الذي ذكره الله عز وجل.
قال سهل في قوله * (وجلت قلوبهم) * قال: هاجت من خشية الفراق فخشعت
الجوارح لله بالخدمة.
قال الواسطي رحمة الله عليه: وجلت قلوبهم الوجل على مقدار مطالعته، ربما يريه
مواضع السطوة، وربما يريه مواضع المودة والمحبة إن كان يريه التقريب والتبعيد.
قال الجنيد رحمة الله عليه: وجلت قلوبهم من فوات الحق..
وقال بعضهم: الوجل على مقدار المطالعات فإن طالع السطوة هابه، وإن طالع المودة
وجل قلبه مخافة فوته.
وجملة ذلك من طالع التقريب بالتأديب وجل، ومن طالع التهديد بالتبعيد وجل
ومن طالعه مغيبا عن شاهده قائما سرمده خاليا من أزله وأبده، فلا وجل حينئذ ولا
اضطراب ولا تباعد ولا اقتراب، فإنه تحقق بالذات ونسي الصفات وفنى من الذات
254

بالذات، كما هرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصفات إلى الذات فقال: ' أعوذ بك منك '.
قوله عز وعلا: * (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) * [الآية: 2].
قال بعضهم: أظهر عليهم بركة التلاوة وزيادة يقين في بواطنهم، وزيادة طاعة على
ظاهرهم.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: * (زادتهم إيمانا) * إذ لا سبيل إلى الوصول إلى الله إلا
بالله.
قال عمرو بن عثمان: الوجد الصحيح هو الذي يرى صاحبه زيادة ذلك في أحواله
وأفعاله وأقواله واخلاقه، لأن الله عز وجل يقول * (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) *.
قوله تعالى اسمه: * (أولئك هم المؤمنون حقا) * [الآية: 4].
قيل: اجتمع فيهم أشياء حقق بها إيمانهم التعظيم للذكر، والوجل عند سماعه.
وإظهار الزيادة عليهم عند تلاوة الذكر وسماعه، وحقيقة التوكل على الله والقيام
بشروط العبودية على حد الوفاء، وكملت أوصافهم في حقيقة الحقائق فصاروا متحققين
بالإيمان.
قال الجنيد رحمة الله عليه: حقا إنهم سبقت لهم من الله السعادة.
255

قوله تعالى: * (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) * [الآية: 5].
قال ابن عطاء: أخرجك من بلدتك ليحيى بك قلوبا عميا عن الحق * (وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) * مفارقة أوطانهم [ولا يتم لعبد حقيقة الصحبة والنصيحة إلا بعد
هجران أقاربه ومفارقة أوطانه].
أخرجهم من تلك البلدة حتى ألفوا غيرها من البلاد، ولم يتبق عليهم مطالبة لها
فردهم إليها لئلا يملكهم سوى الحق شيء.
وقال بعضهم في هذه الآية: أفناك عن أوصافك ومواضع سكونك واعتمادك، وما
كان يميل إليه قلبك، لئلا تلاحظ مجالا ولا تسكن إلى مألوف، فأخرجك من
المألوفات، ليكون بالحق قيامك وعليه اعتمادك * (وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) * ظاهر
خروجك ومفارقة أوطانك ولا يعلمون أن خروجك منها الخروج عن جميع الرسوم
المألوفة والطبائع المعهودة، وإنك بمفارقة هذا الوطن المعتاد يصير الحق وطنك.
قوله عز اسمه: * (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) * [الآية: 7].
قال بعضهم: من ظن أنه يصل إلى الحق بالجهد فمتعن، ومن ظن أنه يصل إليه بغير
جهد فمتمن.
قال بعضهم: لا يصل أحد إلى حياة القلب ما لم يمت نفسه بنزاع الشهوات عنها
ومخالفتها في جميع الأحوال وهو معنى قوله: * (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) *.
قوله عز وعلا: * (ليحق الحق ويبطل الباطل) * [الآية: 8].
قال بعضهم: ليحق الحق بالكشف، ويبطل الباطل بالستر.
وقال بعضهم: ليحق الحق بالقبول، ويبطل الباطل بالرد.
قال الواسطي: ليحق الحق بتجليه، ويبطل الباطل باستتاره.
وقال بعضهم: ليحق الحق بالاقبال عليه، ويبطل الباطل بالاعراض عنه.
وقال بعضهم: ليحق الحق بالرضا، ويبطل الباطل بالسخط.
256

وقيل: ليحق الحق للأولياء، ويبطل الباطل للأعداء.
وقيل: ليحق الحق بالجذب، ويبطل الباطل بالصرف.
وقيل: ليحق الحق بالبراهين، ويبطل الباطل بالدعاوى.
قوله تعالى: * (وما النصر إلا من عند الله) * [الآية: 10].
قيل: بين الله آثار النصر وبدو السلامة فمن لم يطلب النصر والسلامة بالذلة
والافتقار لا يناله، لأن طالب النصرة بالقوة والقدرة منازعة الربوبية، ومن نازع الولي
قهره.
قوله تعالى: * (أن الله عزيز حكيم) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: العزيز الذي لا يدركه طالبوه ولو أدركوه لضل.
قوله تعالى: * (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) * [الآية: 9].
قال بعضهم: من صدق الاستعانة أجيب في الوقت. قال الله تعالى * (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) *.
قال أبو سعيد الخراز في هذه الآية: ومناشدة النبي صلى الله عليه وسلم ربه: ' إنك إن تهلك هذه
العصابة لا تعبد ' وقول الصديق أبي بكر رضي الله عنه: ' دع مناشدتك ربك فإنه منجز
لك ما وعدك '.
أبو بكر رضي الله عنه تكلم عن التجريد برؤية الوعد بالوفاء ناظرا بالإشارة إليه،
والنبي صلوات الرحمن عليه كان أتم وأبلغ وأقوى وأسكن من أبي بكر وأشد طمأنينة
إلى انجاز الوعد لأنه بالله أعرف، إلا أنه في ذلك راجع إلى أوصافه، فخرج إلى ربه
بآداب العبودية بقوله * (ادعوني أستجب لكم) * فرجع إلى الله بالله سائلا من الله إنجاز
وعده.
قال النصر آباذي: استغاثة منه واستغاثة إليه، فالإستغاثة منه لا يجاب صاحبها
بجواب، بل يكون أبدا معلق بتلك الاستغاثة واستغاثة إليه فذلك الذي يجاب إليه
257

الأنبياء والأولياء والأصفياء.
وقال أيضا: النفس تستغيث لطلب حظها من البقاء ودوام العافية فيها، والقلب
يستغيث من خوف التقليب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء '
والروح يستغيث بها لطلب الرواح، والسر يستغيث لاطلاعه على الخفيات * (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) *.
قوله عز اسمه: * (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) * [الآية: 11].
قال سهل: النعاس ينزل من الدماغ والقلب حي، والنوم يحل بالقلب من الظاهر
وهو حكم النوم، وحكم النعاس حكم الروح.
قال بعضهم: ألقى على الصحابة النعاس حتى غلبهم ذلك، فلم يبق منهم أحد إلا
وهو ناعس تحت حجفته، فلما أزال عنهم أوصافهم وبرأهم من حولهم وقوتهم أيدهم
بالأمن، ليعلموا أن النصر من عنده، وهو الذي يهزمهم لا هم وأنه الملقي في قلوبهم
الرعب، وأن الكل إليه وليس إليهم من الأمر شيء.
قوله تبارك وتعالى: * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) * [الآية: 11].
قال ابن عطاء: أنزل عليهم ماء طهر به ظواهر أبدانهم ودنسها، وأنزل عليهم رحمة
نور بها قلوبهم وشفا بها صدورهم عن وساوس العدو، وألبس بواطنهم لباس الطمأنينة
والصدق.
258

قال بعضهم: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة، تنسيهم الاستغفار من تلك
الخطيئة.
قال بندار: الاستدراج هو أن يترك المستدرج مع ظاهر الرسوم مع غيبته عن
الحقائق والفهم الفائد.
قوله تعالى: * (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض) *.
قال بعضهم: النظر في الملكوت يورث الاعتبار والنظر إلى المالك يسقط عنهم
الاشتغال بسواه.
قال سهل: أخبر الله عن قدرته على عباده ووصف حاجتهم إليه وما خلق من شيء
مما سمعوا به ولم يروه فاعتبروا به، ولو شاهدوا ذلك بقلوبهم لوصفوه مثل المعاينة،
آمنوا بالغيب فأداهم الإيمان إلى مشاهدة الغيب الذي غاب عنهم، وورثوا بذلك درجات
الأنوار فصاروا أعلاما للهدى.
قوله تعالى: * (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) *.
قال سهل: كيف يملك نفع غيره من لا يملك نفع نفسه.
قال أبو الحسين الوراق حاكيا عن أبي عثمان أنه قال: عجز الخلق عن إيصال نفع
إلى نفسه أو دفع ضرر عنها آجلا وعاجلا، فكيف يثق بإيمانه وكيف يعتمد على طاعاته؟
قال الله تعالى: (فلا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) * لأن النافع والضار هو
الله مكن الخلق من الأسباب وهو المسبب لجميع ذلك.
قوله تعالى: * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) *.
259

قال بعضهم: لو كنت أملك الغيب وأقدر عليه لما مسني السوء، ولكن طويت الغيوب
عنا وألزمت الملامة لنا.
قوله تعالى: * (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) *.
قال بعضهم: خلقها ليسكن إليها فلما سكن إليها غفل عن مخاطبات الحقيقة لسكونه
إليها فوقع فيما وقع من تناول الشجرة.
قوله تعالى: * (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) *.
قال بعضهم: لاحظ الأولياء بعين اللطف ولاحظ العباد بعين البر، ولاحظ الأنبياء
بعين التولي فقال: * (إن وليي الله) *.
وقيل في قوله: * (وهو يتولى الصالحين) * عن رعونة البشرية توليا، وأصلح الخواص
بصحة المقصود والإقرار بالإخلاص للمعبود، وأصلح العوام بصحة الأوقات.
وسئل جعفر عن الحكمة في قوله: وهو يتولى الصالحين ونحن نعلم أنه يتولى
العالمين، فقال التولية على وجهين: تولية إقامة وإبراء، وتولية عناية ورعاية لإقامة
الحق.
قال الواسطي رحمة الله عليه: يتولى الصالحين بالوقاية والرعاية، ويتولى الفاسقين
بالغواية.
قوله تعالى: * (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا) *.
قيل: كيف يسمع الدعاء من أصمه الداعي عن المدعو إليه، ولا يسمع نداء الحق إلا
من أسمعه فبإسماعه يسمع لا باستماعه ولا بسمعه.
قوله تعالى: * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) *.
قيل: بأنفسهم ينظرون إليك، فلا يبصرون خصائص ما أودعناه فيك، وبركات ما
أجرينا في الخليقة بك، وكذا من نظر بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجب عن إدراك معانيه
حتى ينظر ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو أيضا قاصر النظر حتى تنظر إليه بالحق ومن الحق،
260

إذ ذاك يتبين له شرف ما خص به.
قال بعضهم: النظر إلى السفير للأدنى والمبلغ للأعلى، والرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم نظر
عام، ولكن لا يبصره في النظر إليه، ولا يراه إلا الخواص، فمن أبصره أو رآه ظهرت
عليه بركات رؤيته بقدر ما كشف له عن رؤيته وفتح من بصره، ألا تراه يقول: ' طوبى
لمن رآني ' وقد رآه الكفار وشاهدوه، ولكن طوبى لمن رآه بالموضع الذي وضع ورزق
في مشاهدة عظيم حرماته، ولم يكتف بمشاهدة ظاهره بهذه الرؤية التي تظهر على الرأي
نتائج هذه البركات، التي لو فاضت واحدة منها على أهل الأرض لوسعتهم.
وقال سهل: هي القلوب التي لم يزينها الله بأنوار القربة، فهي عمي عن إدراك
الحقائق ورؤية الأكابر.
وقال القناد: تراهم ينظرون إليك قال: لا يفهمون ما ألقى إليهم، بل يسمعون
صفحا وهم عنه معرضون.
قوله تعالى: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *.
قال بعضهم: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ظاهرا وباطنا، والصفح عن زلات
الخلائق، والأمر بمكارم الأخلاق، ويعرض عن الجاهلين أي: أعرض عن المعرضين عنا
فهم الجهال.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم سئل جبريل صلى الله عليه وسلم عن تفسير هذه الآية فقال: ' تصل من قطعك
وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وتحسن إلى من أساء إليك '.
وروت عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالعفو عن
أخلاق الرجال بقوله: * (خذ العفو) *.
261

وقال بعضهم: أقبل عليهم بظاهرك ولا تكن بباطنك إلا مقيدة علينا.
قال ابن عطاء: * (خذ العفو) * المشاهدة، وأمر بالعرف واستعن بالله على ما نلت من
القرب، وأعرض عن الجاهلين، قال: هي النفس إذا طالعت شهواتها.
وقال بعضهم: مكارم الأخلاق كلها في قوله.
ماء اليقين إذا نزل على الأسرار أسقط عنها الاختلاج والشك، قال الله تعالى:
* (أنزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) * من كل ما تدنستم به من أنواع المخالفات.
قوله تعالى: * (وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام) *.
قال بعضهم: ربط على قلوب أوليائه، لتلقى البلاء بأسلحة الصبر، وربط على
قلوب العارفين لثبات الأسرار في مشاهدة ما يبدو لهم من الغيوب.
قال بعضهم: القلوب ثلاثة: قلب مربوط بالأكوان، وقلب مربوط بالأسامى
والصفات وقلب مربوط بالحق.
قوله تعالى: * (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) *
[الآية: 17].
قال فارس: ما كنت راميا إلا بنا، ولا مصيبا إلا بمعونتنا وإمدادنا إياك بالقوة.
قال بعضهم: أثبتهم في القتل والرمي ومباشرتهما، ثم نفى عنهم ذلك كله لئلا
يشهدوا من أنفسهم حالا ولا سببا ويشاهدوا الحق على جميع الأحوال بقوله * (ولكن الله قتلهم) * ورماهم، ومن رمى منكم فبإيانا رمى، ولو بإياكم رميتم لبلغ الرمي إلى
مقدار ما يليق بكم.
وقال بعضهم: * (وما رميت إذ رميت) *، ولكن رميت بسهام الجمع فغيبك عنك،
فرميت وكنا الرامين عنك، لأن المباشرة لك والحقيقة لنا إذ لم نفترق.
وقال بعضهم قوله: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * أضاف الفعل اليه بقوله
رميت وسلبه بقوله * (ولكن الله رمى) * فكأنه يقول: فإن كنت الرامي به، فأنا قد
توليت عليك في رميك، لأنك ما رميته بإياك لإياك بل رميته بنا لنا، وكل من عمل بنا
لنا فنحن متولو تقويمه في وقت مباشرته، والقائمون بقبوله والمثنون عليه بذلك.
قوله تعالى: * (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) *.
262

سئل الجنيد رحمة الله عليه عن هذه الآية فقال: البلاء الحسن أن يثبته عند الأمر
ويحفظه عند النهي، وينفرد به عند مشاهدة العين.
وقال رويم: البلاء الحسن أن تكون رؤية الحق أسبق إليه من نزول البلاء، فيمر به
البلاء وهو لا يشعر لاستغراقه في رؤية الحق.
قال أبو عثمان: البلاء الحسن ما يورثك الصبر عليه والرضاء به.
سمعت منصورا يقول بإسناده عن جعفر بن محمد أنه قال: يفنيهم عن نفوسهم،
فإذا أفناهم عن نفوسهم؛ كان هو عوضا لهم عن نفوسهم.
قوله تعالى: * (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) * [الآية: 21].
قال بعضهم: من سمع ولم ير عليه فوائد السماع وزوائده في أحواله، فهو غير
مستمع ولا سامع، والمستمع على الحقيقة من يرجع من حال السماع بزيادة فائدة أو
زيادة حال، ومن حضر مجلس ذكر ولم يرجع بزيادة، فإنما يرجع بنقصان قال الله
تعالى: * (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) *.
قوله تعالى: * (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) * [الآية: 22].
قال بعضهم في هذه الآية: الصم عن سماع الذكر وفهم معانيه، والبكم عن مداومة
تلاوة الذكر وطلب الزوائد منه، الذين لا يعقلون ما خوطبوا به وما خلقوا له وما هم
صائرون إليه في الممات والمآب.
قوله تعالى: * (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) * [الآية: 23].
قال بعضهم: حقيقة السماع ما تبدو عليك منه بركات ما تسمعه من زيادة عمل أو
زجر عن ارتكاب معصية.
ومن أراد الله به الخير أسمعه من الحكمة ما ينفعه.
قال يحيى بن معاذ: إن هذا العلم الذي تسمعونه، إنما تسمعون ألفاظه من العلماء
ومعانيه من الله بآذان قلوبكم، فاعملوا تعقلوا ما تسمعون، فإن لم تعملوا كان ضره
أقرب إليكم من نفعه.
قال بعضهم: علامة الخير في السماع أن يسمعه بفناء أوصافه ونعوته، ويسمعه بحق
من حق.
263

قال بعضهم: لو جعلهم أهلا للسماع لفتح آذانهم للاستماع.
قوله تعالى ذكر: * (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) * [الآية: 24].
قال الجنيد رحمة الله عليه في كتاب ' رواء التفريط ' في هذه الآية: قرع أسماع
همومهم حلاوة الدعوة وتنسموا روح ما أدته إليهم الأفهام الظاهرة من الأدناس،
فأسرعوا إلى حذف العلائق المشغلة قلوب الواقفين معها، وهجموا بالنفوس على معانقة
الحذر، وتجرعوا مرارة المكابدة وصدقوا الله في المعاملة، وأحسنوا الأدب فيما توجهوا
إليه، وهانت عليهم المصائب وعرفوا قدر ما يطلبون؛ فاغتنموا سلامة الأوقات،
وسجنوا هموهم عن التلفت إلى مذكور سوى وليهم، فيحيون حياة الأبد بالحق الذي
لم يزل ولا يزال، فهذا معنى قوله تعالى: * (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) *.
وقال الواسطي رحمة الله عليه في قوله: * (إذا دعاكم لما يحييكم) *.
قال: حياة [النفس] تصفيتها من كل معلول لفظا وفعلا.
وقال جعفر: أجيبوه إلى الطاعة لتحيا بها قلوبكم.
وقال أيضا: * (إذا دعاكم لما يحييكم) * قال: الحياة بالله هي الحياة وهي المعرفة، كما
قال الله: * (فلنحيينه حياة طيبة) *.
قال بعضهم: استجيبوا لله بسرائركم وللرسول بظواهركم، إذا دعاكم لما يحييكم حياة
النفوس بمتابعة الرسول، وحياة القلب بمشاهدة الغيوب، وهو الحياء من الله برؤية
التقصير.
قال ابن عطاء: الاستجابة على أربعة أوجه:
أولها: إجابة التوحيد.
والثاني: إجابة التحقيق.
والثالث: إجابة التسليم.
والرابع: إجابة التقريب.
264

قوله تعالى: * (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) * [الآية: 24].
وأنه قيل: * (إن الله) * إشارة إلى قلوب أوليائه بأن الله يأخذها منهم ويحجبها لهم
ويقلبها بصفاته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن
يقلبها كيف يشاء '. فيختمها بخاتم المعرفة، ويطبعها بطابع الشوق.
وسمعت النصرآباذي يقول: القلوب في التقليب والنفوس في التنقيل.
وقيل: * (يحول بين المرء وقلبه) * أي: عقله في التقليب وفهمه عن الله خطابه.
وقيل: يحول بين المؤمن والإيمان، والكافر والكفر، يردهما إلى ما سبق لهما منه
في الأزل.
قوله تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * [الآية: 25].
قيل: الفتنة التي يرضى العبد بها أو يميل إلى إحدى جوانبها، فإنها فتنة أصابته وإن
لم يباشرها.
قال أبو عثمان: اكتساب المال من الحرام من الفتن التي تصيب غير مباشرها.
قال بشر بن الحارث: لا أرى هذه الآية * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * نزلت إلا فيمن يرى النكاح من غير ولي.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) *
[الآية: 27].
قال أبو عثمان: من خان الله في السر هتك ستره في العلانية.
وقال بعضهم في هذه الآية: خيانة الله في الأسرار من حب الدنيا وحب الرياسة.
والإظهار خلاف الإضمار، وخيانة الرسول في آداب الشريعة وترك السنن والتهاون بها،
وخيانات الأمانات في المعاملات والأخلاق. ومعاشرة المؤمنين في ترك النصيحة لهم.
قوله تعالى: * (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) * [الآية: 28].
قال بعضهم: أموالكم فتنة إن جمعتم وأمسكتم، ونعمة إن أنفقتم وبذلتم في وجوه
الخيرات.
265

قال بعضهم: المال فتنة لمن طلب به الفتنة. نعمة لمن كان خازنا لله فيه يأخذه بأمره.
ويخرجه بأمره إلى أربابه.
وقال أبو الحسين الوراق: ما اعتمدت سوى الله في الدنيا والآخرة فهو فتنة، حتى
تعرض عن الجميع وتقبل على مولاك وتعتمد عليه.
قوله تعالى: * (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) * [الآية: 29].
قال سهل: نورا في القلب يفرق بين الحق والباطل.
قال الجنيد رحمة الله عليه في هذه الآية: إذا اتقى العبد ربه جعل له تبيانا يتبين به
الحق من الباطل، وهذه نتيجة التقوى، فقيل له: أليس التقوى فرقانا؟ قال: بلى.
الأول: بذاته من الله، والثاني: اكتساب فإذا اتقى الله اكتسب بتقواه معرفة التفرقة
بين الحق والباطل، فيتبين هذا من هذا.
قوله تعالى: * (والله خير الماكرين) * [الآية: 30].
قال: المكر مكران: مكر تلبيس ومكر هلاك.
وقال الشبلي: المكر في النعمة الباطنة، والاستدراج في النعمة الظاهرة.
قوله تعالى: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * [الآية: 33].
قال أبو بكر الوراق: ما كان الله ليظهر فيهم البدع وأنت فيهم، وما كان الله ليأخذهم
بذنوبهم وهم يستغفرون.
قال بعضهم: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأمان الأعظم ما عاش وما دامت سنته باقية فهو
باق، فإذا أميتت سنته فلينتظروا البلاء والفتن.
قوله تعالى: * (ليميز الله الخبيث من الطيب) * [الآية: 37].
قيل: المخلص من المرائي، والمؤمن من الكافر، والمطيع من العاصي.
قال محمد بن الفضل: الخبيث من الأموال هي التي لم يخرج منها حقوق الله،
والطيب من الأموال ما أخرجت منها حقوق الله.
قال بعضهم: الطيب من الأموال ما أنفقت في إرفاق الفقراء في أوقات الضرورات والخبيث من الأموال ما أدخل عليهم في أوقات استغنائهم عنها، فشغلت خواطرهم
266

وقال بعضهم: الطيب من الأموال ما أنفقت في وجوه الطاعات، والخبيث ما أنفق
في وجوه الفساد.
قوله تعالى: * (فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير) * [الآية: 40].
قال بعضهم: نعم المولى لمن والاه، ونعم النصير لمن استنصره.
وقيل: نعم المولى لأهل الولاية، ونعم النصير لأهل الإرادة.
قوله تعالى: * (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) * [الآية: 42].
قال بعضهم: أظهر للخلق الآيات، ونصب لهم الأعلام، وفتح أعين قوم لرؤيتها،
وأعمى أعين قوم دونها، وبعث إليهم الوسائط بالبراهين الصادقة والأنوار النيرة، ولكن
يهدي لنوره من يشاء من عباده، وقدم هذه المقدمات ليهلك من هلك عن بينة.
وقال بعضهم: لا حياة إلا لمن حيي بذكره وأنس بقربه، والخلق كلهم متحركون في
أسبابهم، والحي منهم من تكون حياته بالحي الذي لا يموت.
قوله تعالى: * (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) * [الآية: 42].
قال جعفر: ما قضاه الله في الأزل يظهره في الحين بعد الحين والوقت بعد الوقت.
وقال بعضهم: ليكشف عن سابق علمه في غيبه، بإيصال كل من الفريقين إلى ما
سبق له منه في أزله.
قوله تعالى: * (واصبروا إن الله مع الصابرين) * [الآية: 46].
سئل محمد بن موسى الواسطي رحمة الله عليه عن ماهية الصبر وحقيقة قوله: * (وإن
الله مع الصابرين) * قال: هو إسنال التولي قبل مخامرة المحبة، فإذا صادقت المحبة التولي
حمتها بلا كلفة، هذا صفة من كان الله معه في صبره.
قوله تعالى: * (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) * [الآية: 48].
قال: عظم طاعاتهم في أعينهم، وصغر نعم الله عندهم.
وقال بعضهم: أظهر لهم قوتهم حتى اعتمدوها.
وقيل: هو مخالفاتهم للسنن.
267

قوله تعالى: * (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: ترك الذنوب على ضروب: منهم من تركها حياء من
نعمه كيوسف صلى الله عليه وسلم، ومنهم من تركها خوفا كإبليس حين قال: * (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه) *.
قوله تعالى: * (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * [الآية: 53].
قال جعفر: ما دام العبد يعرف نعم الله عنده، فإن الله لا ينزع عنه نعمة حتى إذا
جهل النعمة ولم يشكر الله عليها، إذ ذاك حري أن ينزع منه.
قال سهل: خص الأنبياء وبعض الصديقين بمعرفة تلك النعمة التي أنعم الله عليهم
قبل زوالها وحكم الله عنهم.
قوله تعالى: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) * [الآية: 60].
قيل في هذه الآية: إنه الرمي، بل هو الرامي ظاهرا بسهام القسي والرامي بسهام
الليالي في الغيب بالخضوع والاستكانة، ورمي القلب إلى الحق معتمدا عليه راجعا عما
سواه.
قال أبو علي الروذاباري في قوله: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) *.
قال: القوة: هي الثقة بالله. وقوله: * (هو الذي أيدك بنصره) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: قواك به وقوى المؤمنين بك، بل أيدك وأيد المؤمنين
بنصرك.
قوله تعالى: * (وألف بين قلوبهم) * [الآية: 63].
قال أبو سعيد الخراز: ألف بين الأشكال وعين الرسوم لمقام آخر، وكل مربوط
بمنحته ومستأنس في أهل نحلته، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ' الأرواح جنود مجندة '.
قال بعضهم: ألف بين قلوب المرسلين بالرسالة، وقلوب الأنبياء بالنبوة، وقلوب
268

الصادقين بالصدق، وقلوب الشهداء بالمشاهدة، وقلوب الصالحين بالخدمة وقلوب عامة
المؤمنين بالهداية، فجعل المرسلين رحمة على الأنبياء، وجعل الأنبياء رحمة على
الصادقين، وجعل الصادقين رحمة على الشهداء، وجعل الشهداء رحمة على
الصالحين، وجعل الصالحين رحمة على عامة المؤمنين، وجعل المؤمنين رحمة على
الكافرين.
قوله تعالى: * (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * [الآية: 64].
قال الواسطي رحمة الله عليه: حسبك الله وليا وحافظا وناصرا، ومن اتبعك من
المؤمنين فالله حسبهم.
قوله تعالى: * (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) * [الآية: 66].
قال ابن عطاء: ما في السماء لا يوجد إلا بالافتقار، وما في الأرض لا يوجد إلا
بالاضطرار.
قال النصرآباذي: هذا التخفف كان للأمة دون الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن لا يثقله حمل
أمانة النبوة كيف يخاطب بتخفيف اللقاء للأضداد، وكيف يخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم،
وهو الذي يقول: ' بك أصول وبك أجول '، ومن كان به كيف يخفف عنه أو يثقل
عليه بعمل النبوة.
قوله تعالى: * (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) * [الآية: 67].
قال جعفر: تريدون الدنيا، والله يريد الآخرة وما يريده الله لكم خير مما تريدونه
لأنفسكم.
قوله تعالى: * (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) * [الآية: 69].
قال جعفر: الحلال ما لا يعصى الله فيه، والطيب ما لا ينسى الله فيه.
قال بعضهم: الحلال ما أخذته عن فاقة وضرورة، والطيب من الحلال ما أثرت به
مع الحاجة والفاقة.
269

وقال بعضهم: الحلال ما يظهر لك من غير سبب، والطيب ما يبدو لك عن المسبب.
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا) * [الآية: 72].
قال أبو يزيد: جهاد النفس في هجرانها نزعها عن المألوفات، وإجراؤها في سبيل الله
بإسقاط العلائق من المال والأهل، وذلك قوله: * (هاجروا وجاهدوا) *.
قوله تعالى: * (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا) * إلى قوله: * (أولئك هم المؤمنون حقا) * [الآية: 74].
قال شقيق: الجهاد ثلاثة:
جهاد في سرك مع الشيطان.
وجهاد في ظاهرك على أداء الفرائض.
وجهاد بنفسك مع أعداء الله.
قال بعضهم: ' هاجروا ' أي فارقوا قرناء السوء والأعمال القبيحة والدعاوي الباطلة.
قال بعضهم ' آمنوا ': صدقوا تصديق القلوب، وهاجروا وتركوا الشبهات من
الأموال والأصحاب والإخوان والأخدان وجاهدوا الأنفس على ملازمة الحق واتباع
الرشد، أولئك الذين جرت لهم السعادة في الأزل بتحقيق الإيمان.
قال أبو بكر الفارسي: فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الخلق بشيئين: بصحبتهم للنبي
صلى الله عليه وسلم والمجاهدة معه، وهجرتهم إلى الله بالسرائر وغربتهم مع أنفسهم، ألا ترى الله
يقول: * (الذين آمنوا) * قال: آمنوا من طوارق الخذلان وهاجروا بقلوبهم في ملكوت
الغيوب وجاهدوا أنفسهم على طاعة رسوله: * (أولئك هم المؤمنون حقا) * حقيقة إيمانهم
لما قدم من الثناء عليهم.
270

ذكر ما في سورة التوبة
قوله عز وجل: * (إن الله بريء من المشركين ورسوله) * [الآية: 3].
قال ابن عطاء: كل من أشرك مع الله فيما لله غير الله، فهو بريء منه.
قوله تعالى: * (فإن تبتم فهو خير لكم) *.
قال أبو عثمان: مفتاح كل خير قال الله تعالى: * (فإن تبتم فهو خير لكم) *.
قال الجنيد رحمة الله عليه: لا يبلغ التائب منزلة التحقيق في التوبة، ما لم تجتمع فيه
خصال أربع:
أولها: حل الإصرار من القلب بالندم.
والثاني: شدة المجاهدة فيما بقي.
والثالث: صحة العزم في ترك العود.
والرابع: رد المظالم والخروج عن التبعات.
قوله تعالى: * (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) * [الآية: 10]
قال محمد بن الفضل: حرمة المؤمن أفضل الحرمات وتعظيمه أجل الطاعات، قال
الله تعالى: * (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) *.
قوله تعالى: * (أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه) * [الآية: 13].
قال بعضهم: الخشية للذات والخوف للصفات.
قال الله: * (أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه) *، وقال: * (يخشون ربهم ويخافون سوء
الحساب) *.
قال أبو علي الجوزجاني: الخشية: التمسك بالالتجاء على الدوام.
قوله تعالى: * (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله) * [الآية: 18].
قال بعضهم: عمارة المسجد بعمارة القلب عند دخوله، بصدق النية وحسن الطوية
وطهارة الباطن لله، كما طهرت ظاهرك بأمر الله ودخول المسجد بالخروج عن جميع
الأشغال والموانع، فذلك من عمارة المساجد.
271

قال بعضهم: المساجد مواضع السجود منك، فاعمرها بحسن الأدب من غض طرف
وإمساك لسان والإعراض عن اللغو، وإمساك اليد عن الشهوات.
قوله تعالى: * (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات) * [الآية: 21].
قال أبو عثمان: هو الذي تستجلب رضوانه. ورضوانه يوجب مجاورته، ومجاورته
يوجب النعيم الدائم قال الله * (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان) *.
قوله: * (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن
عنكم شيئا) * [الآية: 25].
قال جعفر: استجلاب النصر في شيء واحد، وهو الذلة والافتقار والعجز لقوله:
* (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) * لم تقوموا فيها بأنفسكم، ولم تشهدوا قوتكم
وكثرتكم، وعلمتم أن النصر لا يؤخذ بالقوة، وأن الله هو الناصر والمعين ومتى علم
العبد حقيقة ضعفه نصره الله، وحلول الخذلان بشيء واحد وهو العجب، قال الله:
* (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا) * فلما عاينوا القوة من أنفسهم
دون الله؛ رماهم الله بالهزيمة وضيق الأرض عليهم.
قال الله: * (ثم وليتم مدبرين) * موكلين إلى أحوالكم وقوتكم وكثرتكم.
قوله تعالى: * (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) * [الآية: 36].
قال بعضهم: السكينة التي أنزلها الله على رسوله وعلى المؤمنين.
قال بعضهم: السكينة التي أنزلها الله على رسوله هي التي أظهرها عليه المسري عند
سدرة المنتهى * (ما زاغ البصر وما طغى) * بل السكينة أقامته في مقام الدنو بحسن
الأدب، ناظرا إلى الحق مستمعا منه مثنيا به عليه بقوله ' التحيات لله ' والسكينة التي
أنزلت على المؤمنين هو سكون قلوبهم إلى ما يأتيهم به المصطفى صلى الله عليه وسلم من وعد ووعيد
وبشارة وحكم.
وقيل: السكينة: سكون القلب مع الله بلا علاقة.
وقيل: السكينة: هي الطمأنينة عند ورود القضاء.
قال الجوزجاني: السكينة هي التأدب بآداب الشريعة والتمسك بحبل السنة.
وقيل السكينة: المقام مع الله بفناء الحظوظ.
272

قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) * [الآية: 28].
قال أبو صالح: المشرك في عمله من يحسن ظاهره لملاقاة الناس ومجاورتهم، ويظهر
للخلق أحسن ما عنده، وينظر إلى نفسه بعين الرضا عنها، إنما أظهر عليها من زينة
العبادات وينجس باطنه مخالفة ما أظهره وهو الرياء واتباع الشهوات وسائر المخالفات
فلذلك المشرك في عبادته النجس باطنه ولا يصلح لبساط القدس إلا المقدس ظاهرا وباطنا
سرا وعلانية، لأن الله تعالى يقول: * (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) * ومن
كان نجسا، فإن الأمكنة لا تطهره، وسنن الظاهر عليه لا ينظفه.
قوله تعالى: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * [الآية: 31].
قال بعضهم: سكنوا أمثالهم وطلبوا الحق من غير مظانه، وطرق الحق واضحة لمن
كحل بنور التوفيق وبصر سبيل التحقيق، ومن أعمى عن ذلك كان مردودا من طريق
الحق إلى طريق الجناس من الخلق.
قوله تعالى: * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) * [الآية: 33].
قيل: جعل الله الوسائط طريقا للعباد بعثهم أعلاما للهدى على الطرق، ونورا يهتدي
بهم، وعمر بهم سبل الحق وحقيقة الدين، قال الله عز وجل: * (أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) *.
قوله تعالى: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) *
[الآية: 34].
قال بعضهم: من بخل بالقليل من ملكه فقد سد على نفسه باب نجاته، وفتح على
نفسه طريق هلاكه.
وقيل: ليس من أخلاق الأنبياء والصديقين البخل، لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: ' ما جبل ولي الله إلا على السخاء '.
قوله تعالى: * (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) * [الآية: 36].
قيل: باتباع الشهوات.
قال بعضهم: ظلم نفسه من أطلق عنانها في طرق الأماني من اتباع الشهوات
273

وارتكاب السيئات والتخطي إلى المحارم.
قوله تعالى: * (زين لهم سوء أعمالهم) * [الآية: 37].
قال الواسطي: جبرهم على ما فيه هلاكهم ولم يعذرهم بقوله: * (زين لهم سوء أعمالهم) *.
سئل جعفر الصادق عليه السلام عن قوله * (زين لهم سوء أعمالهم) * قال: هو
الرياء.
قوله تعالى: * (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) * [الآية: 38].
قال يحيى بن معاذ: الناس من مخافة الفضيحة في الدنيا وقعوا في فضيحة الآخرة.
قال الله عز وجل: * (اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) * [الآية: 38].
قال النهرجوري: الدنيا بحر والآخرة ساحل والمركب واحد وهو التقوى والناس
سفن.
وقال بعضهم: ما تعطاه عارية ينتزع منك أو تنتزع منها، وهو قليل فيما تملكه من
نعيم الآخرة على الأبد.
قال النهرجوري: الدنيا أولها بكاء وأوسطها عناء وآخرها فناء.
قوله تعالى: * (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار) * [الآية: 40].
قوله: * (فقد نصره الله) * حيث أغناه عن نصرتكم بقوله: * (والله يعصمك من الناس) *. فمن كان في ميدان العصمة، كان مستغنيا عن نصرة المخلوقين، ألا ترى أنه
لما اشتد الأمر كيف قال: ' بك أصول فإنك النصار والمعين) *.
وقال ابن عطاء في قوله: * (ثاني اثنين إذ هما في الغار) * قال: في محل القرب في
كهف الأنوار في الأزل.
قال في قوله: * (لا تحزن إن الله معنا) * قال: ليس من حكم من كان الله معه أن
يحزن.
وقال الشبلي: * (ثاني اثنين) * بشخصه مع صاحبه، وواحد الواحد بقلبه مع سيده
274

وقيل في قوله: * (إذ أخرجه الذين كفروا) *: قال: الذين جحدوا نعمة الله عليهم به
وبمكانه.
قال ابن عطاء في قوله: * (إن الله معنا) *.
قال: معناه في الأزل، حيث وصل بيننا وصلة الصحبة ولم ينفصل.
وقال بعضهم في قوله: * (لا تحزن) * قال: كان حزن أبي بكر إشفاقا على النبي صلى الله عليه وسلم
وقيل: شفقة على الإسلام أن يقع فيه وهن.
وقال فارس: إنما نهى عن الحزن لأن الحزن علة وإنما هو تعريف أن الحزن لا يحل
بمثله، لأنه في محل القربة وقيل في قوله: * (إذ هما في الغار) * قال: أخرجهما غيرة مما
كانوا يرونه من مخالفات الحق، فأخرجتهما الغيرة إلى الغار، فغار عليهم الحق فسترهما
عن أعين الخلق لأنهم كانوا في مشاهدته يشهدهم ويشهدونه، ألا تراه صلى الله عليه وسلم كيف يقول
لأبي بكر رضي الله عنه: ' ما ظنك باثنين الله ثالثهما ' مشاهدا لهما وعونا وناصرا.
قوله تعالى: * (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) * [الآية: 40].
قال بعضهم: السكينة نزلت على أبي بكر فثبت، وزال عن قلبه ما كان يجده من
الوجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال بعضهم: السكينة لأبي بكر ما ظهر له على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم من قوله: ' ما
ظنك باثنين الله ثالثهما '.
قال بعضهم: السكينة: سكون القلب إلى ما يبدو من مجاري الأقدار.
قال جعفر: في قوله: * (وأيده بجنود لم تروها) *. قال: تلك الجنود اليقين والثقة
بالله عز وجل والتوكل.
قال بعضهم: السكينة هي التثبت، ولا يتم التثبت إلا بالقطع عما سواه.
قوله تعالى: * (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) * [الآية: 41].
قال ابن عطاء: خفافا بقلوبكم، وثقالا بأبدانكم.
275

قال أبو عثمان في قوله: * (انفروا خفافا وثقالا) * في وقت النشاط والكراهية، فإن
البيعة على هذا وقعت، كما روى عن جرير بن عبد الله أنه قال: * (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
على السمع والطاعة في المنشط والمكره '.
وقال بعضهم: انفروا خفافا إلى الطاعات، وثقالا إلى المخالفات. * (وجاهدوا
بأموالكم وأنفسكم) * الفقر ألا تمنعوهم حقوقهم، وجاهدوا بأنفسكم الشياطين كي لا
يستولي عليكم.
قال بعضهم: * (انفروا خفافا وثقالا) * قال: هو نزع القلب عن الأماني الباطلة،
وإخراج العادات القبيحة عن النفس.
قوله تعالى: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * [الآية: 43].
قيل: إن الله عز وجل إذا عاتب أنبياءه وأولياءه عاتبهم ببر قبلها أو بعدها، ألا تراه
يقول: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) *.
وقال الحسين بن منصور: الأنبياء مبسطون على مقاديرهم واختلاف مقاماتهم، وكل
ربط مع حظه باستعماله الأدب بين يدي الحق، وكل أثيب على ترك الاستعمال فمنهم
النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أنس قبل التأنيب، ومنهم من أنس بعد التأنيب على اختلاف إذ لو أنس
بعد التأنيب لتفطر لقربه من الحق وذلك أن الله عز وجل أمره بقوله: * (فأذن لمن شئت
منهم) * ثم قال مؤنبا له على ذلك: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * فلو قال لم أذنت
لهم عفا الله عنك لذاب وهذا غاية القرب، وقال تعالى حاكيا عن نوح أنه قال: * (رب
إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق) *. مؤنبا له وأنسه بعد التأنيب * (إنه ليس من
أهلك) * إلى قوله * (أن تكون من الجاهلين) *.
ولو ولم يؤنسه بعد التأنيب لتفطر، وهذا مقام نوح وليس المفضول بمقصر إذ كل
منهم له رتبة من الحق.
276

قال ابن عطاء: عوتب كل نبي بذنبه، ثم غفر له وغفر لمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موافقة الذنب
فقال: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * إحلالا له.
قوله تعالى: * (ولكن كره الله انبعاثهم) * [الآية: 46].
قال جعفر: طالب عباده بالحق ولم يجعلهم لذلك أهلا، ثم لم يعذرهم، ولامهم
على ذلك، ألا تراه يقول: وقالوا لا تنفروا في الحر.
قال ابن الفرحي: إنما هو نعت واحد كالماء الواحد يسقي به ألوان الشجر فتختلف
ثمارها، لو سقى الورد بالبول ما وجد منه إلا ريح الورد، ولو سقى الحنظل بماء الورد،
لما خرج إلا الحنظل وريحه إنما يلي اللطيفة التي جرى بها الخذلان والتوفيق.
قوله تعالى: * (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا) *
[الآية: 44].
قال الواسطي رحمة الله عليه كيف يستأذن من هو مأذون له الإذن التام، إن قام قام
بإذن وإن قعد قعد بإذن، فجريان الحركات منه تظهر سوابق المأذون له فيه.
قوله تعالى: * (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) * [الآية: 46].
قال جعفر: لو عرفوا الله لاستحيوا منه، ولخرجوا له عن أنفسهم وأزواجهم
وأموالهم، بذلا لأمر واحد من أوامره.
قال بعضهم في هذه الآية: لو طلبوا التوكل لسلكوا طريق الثقة بالله فإنها الطريق
إليه.
قوله تعالى: * (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله) * [الآية: 48].
قال السوسي: حملوك على طلب الدنيا والركون إليها، حتى ظهر الحق سرك من
الركون إلى شيء سواه وظهر أمر الله، قال: فتح لك من خزائن الأرض وعرضها
عليك، فأبيت أن تسكن إليها أو تقبل منها، وهم كارهون ما أنتم عليه من الإعراض
عما أقبلوا عليه.
قوله تعالى: * (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) * [الآية: 51].
قال بعضهم: العارف بالله من سكن إلى ما يبدو له في الوقت بعد الوقت من
277

تصاريف القضاء ومجاري القدرة، ولا يسخط لوارد من ذلك عليه.
قال بعضهم: التفويض هو الاعتماد على الله، والعلم بأن ما سبق من قضائه، قيل:
لا بد أنه مصيبك فإن الخلق مجبورون ليس لهم اختيار، قال الله تعالى: * (لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) *.
قوله تعالى: * (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) * [الآية: 54].
قال محمد بن الفضل: من لم يعرف الأمر، قام إلى الأمر على جد الكسل، من
عرف الأمر قام إليه على جد الاستفتاح والاسترواح.
سمعت جدي يقول: التهاون بالأمر من قلة المعرفة بالأمر.
قال حمدون: القائمون بالأوامر على ثلاث مقامات، واحد يقوم إليه على العادة
وقيامه إليه قيام كسل، وآخر يقوم إليه قيام طلب ثواب، وقيامه إليه قيام طمع، وآخر
يقوم إليه قيام مشاهدة، فهو القائم بالله لأمره، لا قائم بالأمر لله.
قوله تعالى: * (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) * [الآية: 55].
قال بعضهم: فلا تعجبك ما يتزينون به من صنوف الأموال والعبيد والخدم
ويستكثرون به من الأولاد، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، يعذبهم لجمعها
ويعذبهم لحفظها ويعذبهم بحبها ويعذبهم بالبخل بها والحزن عليها والخصومة فيها، كل
هذا عذاب إلى أن يوردهم عذاب النار.
قال الواسطي في قوله: * (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) *. أي بنعمتي أن كانوا من أهل طاعتي، وغيرهم كافرون جاحدون، ومن
استقطعته النعمة عن المنعم فهو جاحد.
قوله تعالى: * (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله) * [الآية: 59].
278

قال إبراهيم بن أدهم: من رضى بالمقادير لم يغتم.
سمعت أبا عمرو بن حمدان يقول: سمعت الهيثم بن خلف يقول: سمعت محمد
ابن علي بن شقيق يقول: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سمعت الفضيل رحمة الله
عليه يقول: الراضي لا يتمنى فوق منزلته.
قال أبو جعفر: الرضا هو سكون السر مع مجاري المقدورات، وقال: الرضا تلقى
البلاء بالقبول على حد الطرف والفرح.
قوله عز وعلا: * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * [الآية: 60].
قال سهل بن عبد الله وقد سئل عن الفقر والمسكنة فقال: الفقر عز والمسكنة ذل.
قال بعضهم: الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل ولا يتعرض وإن أعطي لم يقبل فذاك
كالروحانيين.
وفقير لا يسأل ولا يتعرض وإن أعطي قبل مقدار حاجته فذاك لا حساب عليه.
وفقير يسأل مقدار قوته فإن استغنى كف فذاك في حظيرة القدس.
قال إبراهيم الخواص: نعت الفقير السكون عند العدم، والإيثار والبذل عند الوجود،
والمسكين من يرى عليه أثر العدم.
قال بعضهم: صدق الفقير أخذه بالصدقة ممن يعطيه لا ممن يصل إليه على يده والحق
هو المعطي على الحقيقة، لأنه جعلها لهم فمن قبله من الحق، فهو الصادق في فقره
بعلو همته، ومن قبله من الوسائط فهو من الترسم مع دناءة همته.
قوله تعالى: * (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) * [الآية: 67].
قال أبو بكر الوراق: المنافق ستر المنافق يستر عليه عوراته، والمؤمن مرآة المؤمن يبصر
به عيوبه وبذله على سبيل نجاته.
قوله تعالى ذكره: * (ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم) *.
279

قال بعضهم: يقبضون أيديهم عن رفعها إلى مولاها في الدعوات والحوائج كما روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في الموقف ويده على صدره، كاستطعام المسكين وهو ينشد.
(ها إن صددت يدي إليك فردها
* بالوصل لا بشماتة الحساد
*
وقيل: يقبضون أيديهم عن الصدقة.
وقيل: يقبضون أيديهم عن معونة المسلمين.
قوله تعالى: * (نسوا الله فنسيهم) *
قال سهل: نسوا نعم الله عندهم فأنساهم الله شكر النعم.
قوله عز وجل: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * [الآية: 71].
قال أبو عثمان: المؤمنون أيضا يتعاونون على العبادة، ويتبادرون إليها، كل واحد
منهم يشد ظهر صاحبه ويعينه على سبيل نجاته، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ' المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا '.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' المؤمنون كالجسد الواحد '.
وقال الله تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات) * قال أبو بكر الوراق: المؤمن يوالي المؤمن
طبعا وسجية.
قوله تعالى: * (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) * [الآية: 73].
قال محمد بن علي: جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان.
قال سهل: النفس كافرة فجاهدها بسيف المخالفة، وحملها حمولات الندم وسيرها
في مفاوز الخوف، لعلك تردها إلى طريق التوبة والإنابة، ولا تصح التوبة إلا لمتجبر في
280

أمره مبهوت في شأنه، واله القلب مما جرى عليه، قال الله جل وعز: * (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) * [التوبة: 25].
قوله تعالى: * (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن) * [الآية: 75].
قال: سمعت النصرآباذي يقول في هذه الآية: الفضل رؤية الإحسان راء من أنفسهم
إحسانا لم يعلموه بعد، وصدقة لم يتصدقوا بها وصححوا لأنفسهم أفعالا بقوله:
لنصدقن، فنقضوا العهد لما أظفرهم بما سألوه، فتولدهم من ذلك البخل الذي قال النبي
صلى الله عليه وسلم ' أي داء أدوى من البخل ' والتواني عن سبيل الرشد، والإعراض عن مناهج
الحق.
وقال: البخل يتولد منه أنواع الأدواء فبخل تستعمله في نفسك مع نفسك وبخل
تستعمله مع بني جنسك.
وبخل تستعمله في التحية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: البخيل من ذكرت عنده ولم يصل
علي ' صلى الله عليه وسلم. وقال: ' أبخل الناس من بخل بالسلام '.
281

قوله تعالى: * (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) * [الآية: 77].
وهو ميراث البخل وهو الكذب والخلف والخيانة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' علامة
المنافق ثلاثة: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان '.
وظهرت هذه الثلاثة في تقلبه.
قوله تعالى: * (فلما آتاهم من فضله بخلوا به) * [الآية: 76].
سئل أبو حفص: ما البخل؟ قال: نزل الإيثار عند الحاجة إليه.
قال حمدون القصار: من رأى لنفسه ملكا، فقد بخل لأنه قصر عنه الأيدي
الأخرى.
قوله تعالى: * (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم) * [الآية: 78].
قال: السر ما لا يطلع عليه إلا عالم الأسرار والنجوى ما يطلع عليه الحفظة.
قوله تعالى: * (لكن الرسول والذين ءامنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم) *
[الآية: 88].
قال بعضهم: اجتهد الرسول صلى الله عليه وسلم في أداء الرسالة، أبلغ الغاية وجاهد المسلمون
بأنفسهم في قبول ما جاء به من الشرع، ما كان منه حظ النفس بالنفس وما كان منه حظ
المال بالمال.
قوله تعالى: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) * [الآية: 91].
قال بعضهم: من لم نمكن من القدرة فقد رفع عنه الحرج.
وقال بعضهم: أفضل العصمة أن لا تقدر.
قال أبو طاهر: لو لم يكن في الفقر والقلة إلا إسقاط الحرج عن صاحبه، لكان
ذلك عظيما قال الله تعالى: * (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) * وقيل: ليس
على من سلب القيام بالخدمة بظاهر الجوارح من جرح في تقصير يقع له في نافله، إذا
282

أصبحت له الفرائض وسكن قلبه وصلحت سريرته.
قوله تعالى: * (ما على المحسنين من سبيل) *.
قال القاسم: المحسن من يرى الإحسان كله من الله، فلا يكون لأحد عليه سبيل.
وقال ابن عطاء: المحسن يحسن محاورة نعم الله.
وقال في موضع آخر: المحسن من يرى إحسان الله إليه، ولا يرى من نفسه
مستجيبا بحال.
قال جعفر: المحسن الذي يحسن آداب خدمة سيده.
وقال حمدون القصار: المحسن المطالب نفسه بعد حقوق الله بحقوق المسلمين عليه،
والتارك حقه لهم، بل من لا يرى لنفسه على أحد حقا.
قوله تعالى: * (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) * [الآية: 92].
قال النصرآباذي: تحملهم على الإقبال علينا والثقة بنا والرجوع إلينا.
وقال أيضا: تحملهم أي: تحمل عنهم أثقال المخالفات.
قوله تعالى: * (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء) * [الآية: 93].
قال النصرآباذي: ألزم الله الذم الأغنياء، لأنهم اعتمدوا على أملاكهم وأموالهم
واستغنوا بها، ولو اعتمدوا على الله واستغنوا به؛ لما ألزموا الخدمة.
وقيل في قوله: * (أغنياء) * أي مظهرين الاستغناء عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم
والقتال معه.
قوله تعالى: * (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما) * [الآية: 98].
قيل: من يرى الملك لنفسه كان ما ينفقه غرامة عنده، ومن يرى الأشياء عارية لله في
يده، يرى أن ما ينفقه غنما لا غرما.
قوله تعالى: * (ويتخذ ما ينفق قربات عند الله) * [الآية: 99].
قال بعضهم: من طلب القربة إلى الله، هان عليه ما بذله في جنب ذلك، وكيف
ينال القربة إلى الله من لا يزال يتقرب إلى ما يبعده من الله وهو الدنيا.
قوله تعالى: * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) * [الآية: 100]
283

قال ابن عطاء: السابق من سبق له في الأزل من الحق حسن عناية، فتظهر عليه في
وقت إيجاده أنوار تلك السابقة فإنه ما وصل إليه أحد إلا بعد أن سبق له منه في الأزل
لطف وعناية.
سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا عثمان يقول: هم الذين سبقوا إلى الله
بقلوبهم وحسن قصدهم إليه بطاعتهم له، فأفردوا هممهم بذكر الله. والله وفقهم لذلك
حتى صارت قلوبهم فارغة من ذكر كل شيء إلا من ذكره.
وقال أيضا: السابقون إلى الله بصدق القصد إليه.
قال الواسطي رحمة الله عليه: السباق السباق قولا وفعلا حذر النفس حسرة المسبوق.
قوله تعالى: * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) *.
قال جعفر رضي الله عنه: ما كان سبق لهم من الله من عناية وتوفيق، ورضوا عنه
بما من عليهم بمتابعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وقبول ما جاء به، وإنفاقهم الأموال وبذل المهج.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: الرضا سرور القلب بمر القضاء، وقال: الرضا باب الله
الأعظم.
وقال ابن يزدانيار: رضاء الخلق عن الله بما يتجدد لديهم من ظهور قدرته، ورضاه
عنهم أن يوفقهم للرضا عنه.
وقال النصرآباذي: ما رضوا عنه حتى رضى عنهم، فبفضل رضاه عنهم رضوا عنه.
قوله تعالى: * (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) * [الآية: 102].
قال بعضهم: صفة النادمين والمعرضين عن الذنوب والناوين للتوبة، وهو الاعتراف
بما سبق منهم، وكثرة الندم على ذلك والاستغفار منه ونسيان الطاعات وذكر المعاصي
على الدوام والابتهال إلى الله بصحة الافتقار، لعل الله يفتح له باب التوبة ويجعله من
أهلها.
قال الله تعالى: * (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا) *.
قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * [الآية: 103].
قال بعضهم: خذ منهم الصدقة فإن أخذك يطهرهم لإعطاء الزكاة، وتطهرهم عن
دنس الأكوان، وصلواتك تسكنهم إلى الآخرة وتقطعهم عن الدنيا.
284

قال رويم: تطهر سرائرهم وتزكي نفوسهم.
وقيل في قوله عز وجل: * (وصل عليهم) *: أي: ادع لهم فإن دعاءك لهم سكون
إلى الآخرة وانقطاع عن الدنيا.
قوله تعالى: * (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) *
[الآية: 104].
قال النصرآباذي: فرق بين الأخذ والقبول، لأنه قد يقبل ولا يأخذ، ولا يأخذ إلا
عن قبول فالأخذ أثم وأدم.
وقال أيضا: أخذ الصدقة أحل من قبول التوبة، لذلك يقع فيه التربية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يأخذها فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله.
قوله تعالى: * (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) * [الآية: 105].
قال أبو حفص وأبو عثمان: اعمل وأصلح العمل وأخلص النية فإن الله عز وجل
يرى سرك وضميرك، والرسول يراه رؤية مشاهدة، والمؤمنون يرونه رؤية فراسة
وتوسم.
قال الله تعالى: * (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) *.
قوله تعالى: * (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) *
[الآية: 108].
قال أبو بكر الوراق: من صحح إرادته بدا ولم يعارضه شك أو ريبة، فإن أحواله
تجري على الاستقامة، فتصحيح الإرادة هو الخلع عن مراده أجمع، والرجوع إلى مراد
الله فيه، قال الله عز وجل: * (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) *.
وقال عبد الله بن مبارك: المقام في عرضات الشر وأماكنه من أوائل الخذلان، وقد
أمر الله بالفرار منها.
قال الله تعالى: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) *.
285

قال أبو عثمان: أرض الفتنة لا ينبت فيها إلا الفتنة، وأرض الرحمة يصيب الإنسان
رحمتها ولو بعد حين.
قوله تعالى: * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) *.
قال سهل: الطهارة على ثلاثة أوجه: طهارة العلم من الجهل وطهارة الذكر من
النسيان وطهارة الطاعة من المعصية.
قال بعضهم: * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) * أي يطهروا أسرارهم من دنس
الأكوان.
قال سهل: هذه الطهارة التي ذكر الله هي الطاعة لله عز وجل وإدامة الذكر له سرا
وعلنا.
قال بعضهم: طهارتهم من الأوهام القبيحة والأماني الفاسدة دون ارتكابها.
قوله تعالى: * (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير) * [الآية: 109].
قال أبو تراب النخشي: من كان ابتداء إرادته على الصحة والسلامة من هواجس
نفسه بلغ إلى الرضوان الأكبر والمقام الأرفع، قال الله: * (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: على تقوى من الله لا من نفسه يكون الله أصل ذلك
التقوى.
قوله تعالى: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * [الآية: 111].
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزار يقول: سمعت ابن عطاء
يقول: في قوله: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * قال: نفسك موضع كل
شهوة وبلية ومالك محل كل إثم ومعصية، فأراد أن يزيل ملكك عما يضرك، ويعوضك
عليه ما ينفعك عاجلا وآجلا.
قال سهل: لا نفس للمؤمن إنها دخلت في البيع من الله، فمن لم يبع من الله حياته
الفانية كيف يعيش مع الله ويحيا حياة طيبة قال الله عز وجل: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) *.
قال جعفر في قوله: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) * قال: مكر بهم على لسان
286

الحقيقة وعلى لسان المعاملة اشترى منهم الأجساد لمواضع وقوع المحبة من قلوبهم
وأحياهم بالوصلة.
وقال بعضهم: من سمع الخطاب فانتبه له، كان كأبي بكر رضي الله عنه لما قيل له:
ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: الله ورسوله ' أي أبقيت لنفسي من لا يفنى ولا يزال باقيا.
فأبقى ببقائهما دون الأعراض التي هي عواري.
وقال بعضهم: اشترى منك ما هو محل الآفات والبليات وهو النفس والمال، وجعل
ثمنهما الجنة، فإن آنس قلبك كان الثواب عليه المشاهدة والقربة.
قال الحسين: نفوس المؤمنين نفوس أبية استرقها الحق فلا يملكها سواه.
قال النصرآباذي: سئل الجنيد رحمة الله عليه: متى أشتري؟ قال: حين لأمني أزال
عنهم العلل يزول ملكهم عن أنفسهم وأموالهم ليصلحوا المجاورة للحق ومخاطبته.
قال ابن عطاء: مكر بهم وهم لا يشعرون، لكن الكلام فيه من جهة المعاملة مليح
اشترى منهم الأجساد لمواضع وقوع المحبة من قلوبهم، فاجتباهم بالوصلة.
قال النصرآباذي: اشترى منك ما هو صفتك، والقلب تحت صفته فلم تقع عليه
المبايعة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن) * قال: مباينه منك
في الابتداء أوجبت المشاراة، ومن لم يباين الحق لم يقع عليه اسم الشراء ألا ترى أن
الله الكريم خاطب الكليم بقوله: * (واصطفيتك لنفسي) * فلا شراء ولا بيع ولا مباينة
بحال.
287

قال أبو عثمان: اشترى من المؤمنين أنفسهم، كي لا يخاصموا عنها، فإنها ليست
لهم، والإنسان لا يخاصم عما ليس له.
قال أبو بكر الوراق: اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ولا شيء يتقرب به العبد
إلى الله في أداء الأوامر والفرائض، إلا النفس والمال فاشترى منهم النفس والمال لئلا
ينظروا إلى ما يبدو منهم من أنواع القرب، لأنهم باعوا قبل فلا يعجبوا بشيء من
أفعالهم، ولا يفتخروا بشيء من طاعاتهم، لأن مواضعها النفس والمال، وليس لهم عليها
ملك، ومن لا يملك الأصل كيف يفتخر بالفرع.
قوله تعالى: * (ومن أوفى بعهده من الله) *.
قال الحسين: عهد الحق في الأزل إلى خواصه باختصاص خاصيته، خصهم بها من
بين تكوينه فأظهر آثار أنوار ذلك عليهم عند استخراج الذر، فرأى آدم الأنوار تتلألأ
فقال: من هؤلاء؟ ثم أظهر سمات ذلك حين أوجدهم، وهي آثار ذلك العهد الذي عهد
إليهم، فوفى لهم بعهودهم * (ومن أوفى بعهده من الله) * قال: * (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) *.
قال النصرآباذي: البشرى في هذا البيع أنه يوفي بما وعد، بأن لهم الجنة ويزيد لمن
يشاء، فضلا منه وكرما بالرؤية والمشاهدة ولو لم يكن فيه إلا مساواة المساومة لكان
عظيما، فكيف المبايعة والمشاراة.
قوله تعالى: * (التائبون العابدون الحامدون السائحون) * [الآية: 112].
قال سهل: ليس في الدنيا شيء من الحقوق أوجب على الخلق من التوبة، ولا
عقوبة أشد عليهم من فقد علم التوبة.
قال ابن عطاء: لا تصح العبادة إلا بالتوبة له إلا بالمداومة والسياحة والرياضة ولا
هذه المقامات وهذه المقدمات إلا بمداومة الركوع والسجود، ولا يصح هذا كله إلا بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يصح شيء مما تقدم إلا بحفظ الحدود ظاهرا وباطنا،
والمؤمن من تكون هذه صفته، لأن الله يقول: * (وبشر المؤمنين) * الذين هم بهذه
الصفة.
وقيل في قوله: * (التائبون) * الراجعون إلى الله بالكلية عن جميع ما لهم من صفاتهم
وأحوالهم.
288

* (العابدون) * القائمون معه على حقيقة شرائط الخدمة.
* (الحامدون) * العارفون نعم الله عليهم في كل خطوة وطرفة عين.
* (السائحون) * الذين حبسوا أنفسهم عن مرادها طلبا لرضاه.
* (الراكعون) * الخاضعون له على الدوام الساجدون الطالبون قربه.
* (الآمرون بالمعروف) * الآمرون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
* (والناهون عن المنكر) * عن ارتكاب مخالفات السنن.
* (والحافظون لحدود الله) * المراعون أوامر الله عليهم في جوارحهم وقلوبهم
وأسرارهم وأرواحهم * (وبشر المؤمنين) * القائمون بحفظ هذه الحرمات.
قال أبو يزيد رحمة الله عليه: السياحة راحة من ساح راح.
قال أبو سعيد الخراز في قوله: * (الحافظون لحدود الله) * قال: هم الذين أصغوا إلى
الله بآذان أفهامهم الواعية وقلوبهم الطاهرة، ولم يتخلفوا عن بداية بحال.
قال بعضهم: الناس أربعة: تائب وعابد ومحب وعارف، فالتائب يعمل للنجاة،
والعابد يعمل للدرجات، والمحب يعمل للقربات، والعارف يعمل لرضا ربه من غير حظ
لنفسه فيه.
قال بعضهم: التائب: الراجع إليه من كل ما سواه، والعابد المداوم على الخدمة مع
رؤية التقصير، والحامد الذي يحمد على الضراء حمده على السراء. والسائح هو الذي
يسيح في طلب الأولياء والأوتاد.
والراكع الساجد هو الخاضع لله عز وجل في جميع الأحوال.
* (الآمرون بالمعروف) * هم المتحابون في الله * (والناهون عن المنكر) * هم المتباغضون
في الله * (والحافظون لحدود الله) * القائمون معه على آداب السنن والشريعة.
قوله تعالى: * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم) * [الآية: 115].
قال بعضهم: من جرى له في الأزل من السعادة والعناية نصيب، فإن الجنايات لا
تؤثر عليه، قال الله: * (وما كان الله ليضل قوما) * في الأبد * (بعد إذ هداهم) * في الأزل.
وقيل: لا يضلهم عنه بعد إذ هداهم إليه.
289

قوله تعالى: * (إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت) * [الآية: 116].
قال ابن عطاء: له ملك السماوات والأرض فمن طلب الملك من غير مالك الملك فقد
أخطأ الطريق.
قال النصرآباذي: من اشتغل بالملك فإنه الملك، ومن طلب مالك الملك أتاه الملك
راغما.
قال جعفر: الأكوان كلها له فلا تشغلنك ما له عنه.
قوله تعالى: * (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) * [الآية: 117].
قال بعضهم: توبة النبي هي مقدمة توبة الأمة، ليصح بالمقدمة التوابع من توبة
التائبين.
قال بعضهم: توبة الأنبياء لمشاهدة الحق في وقت الإبلاغ، لا يغيبون عن الحضرة،
بل لا يحضرون مواضع الغيبة، لأنهم في عين الجمع أبدا.
قوله تعالى: * (ثم تاب عليهم ليتوبوا) *.
قال ابن عطاء: قطعهم بميتة عن أوصافهم.
قال الواسطي رحمة الله عليه: التوبة المقبولة مقبولة قبل الخطيئة وقبل قصد التوبة،
قال الله * (ثم تاب عليهم ليتوبوا) *.
قال النصرآباذي: متى تاب عليهم حين لا متى قبل التوبة عنهم بإياه لإياه، حين لم
يكن آدم، ولا كون أزال عنهم بذلك كل علة أبدا. شعر:
(إذا مرضتم أتيناكم نعودكم
* وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
*
290

سئل أبو حفص عن التوبة فقال ليس للعبد من التوبة شيء، لأن التوبة إليه لا منه.
قوله تعالى: * (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) * [الآية: 118].
قال أبو عثمان: من رجع إلى الله وإلى سبيله، فلتكن صفة هذه الآية تضيق عليه
الأرض، حتى لا يجد لقدمه فيها موضع قرار إلا وهو خائف، إن الله ينتقم منه فيه
وتضيق عليه أحوال نفسه فينتظر الهلاك مع كل نفس هذه أوائل دلائل التوبة النصوح،
ولا يكون له ملجأ ولا معاد ولا رجوع إلا إلى ربه، بانقطاع قلبه عن كل سبب قال الله
تعالى: * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) *.
قوله تعالى: * (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) *.
قال بعضهم: لم يعتمدوا حبيبا ولا خليلا بل قلوبهم منقطعة عن الخلق أجمع وعن
الأكوان كلها، لذلك قيل: المعارف أن لا تلاحظ حبيبا ولا خليلا ولا كليما وأنت تجد
إلى ملاحظة الحق سبيلا.
قال الجنيد رحمة الله عليه: ما نجا من نجا إلا بصدق اللجأ.
قوله تعالى: * (ثم تاب عليهم ليتوبوا) *.
قال أحمد بن خضرويه لأبي يزيد رحمة الله عليه: بماذا أصل التوبة النصوح قال:
بالله وبتوفيقه، ثم تاب عليهم ليتوبوا.
قال بعضهم: عطف عليهم ببوادي عطفه ونعمه وفضله فألفوا إحسانه ورجعوا إليه
فكان هو الذي أخذهم إلى نفسه، لا هم بأنفسهم رجعوا إليه.
قال ابن عطاء: تعطف الرب على خلقه ولم يتعطف العبد إلى الله الطاعة.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) * [الآية: 119].
قال بعضهم: * (مع الصادقين) * مع المقيمين على منهاج الحق.
قال بعضهم: مع من ترضى حاله سرا وعلنا وظاهرا وباطنا.
قال بعضهم: * (كونوا مع الصادقين) * قال: هم الذين لم يخالفوا الميثاق الأول، فإنها
صدق كلمة.
وقال أبو سليمان: الصحبة على الصدق والصفاء تنفي كل علة عن المصطحبين، إذا
قاما وثبتا على منهاج الصدق لأن الله يقول: * (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *.
291

قوله تعالى: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * [الآية: 122].
قال سهل: أفضل الرحل رحلة من الهوى إلى العقل، ومن الجهل إلى العلم، ومن
الدنيا إلى الآخرة، ومن الاستطاعة إلى التبري، ومن الحول والقوة والنفس إلى التقوى
ومن الأرض إلى السماء، ومن الخلق إلى الله عز وجل.
وقال المرتعش: السياحة والأسفار على ضربين: سياحة لتعليم أحكام الدين وأساس
الشريعة وسياحة لآداب العبودية ورياضة الأنفس، فمن رجع عن سياحة الأحكام قام
بلسانه يدعو الخلق إلى ربه، ومن رجع من سياحه الأدب والرياضة، قام في الخلق
يؤدبهم بأخلاقه وشمائله وسياحة هي سياحة الحق وهي رؤية أهل الحق والتأدب
بآدابهم، فهذا بركاته تعم العباد والبلاد، قال عز وجل: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) * الآية.
قوله تعالى: * (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) * [الآية: 123].
قال سهل: النفس كافرة فقاتلها بالمخالفة لهواها، واحملها على طاعة الله والمجاهدة
في سبيله وأكل الحلال وقول الصدق وما قد أمرت به من مخالفة الطبيعة.
قوله تعالى: * (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) * [الآية: 124].
قال ابن عطاء: الذين صدقوا حكم الربوبية وتمسكوا بعهد العبودية، زادتهم معرفة
في قلوبهم ونظرا أسقط عنهم النظر إلى ما سواه.
قال أبو بكر الوراق: زيادة الإيمان يصيرونه بمعاتبة القلب.
قوله تعالى: * (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) * [الآية: 126].
سمعت أبا عثمان المغربي يقول: ليس الرجوع في أيام الفتنة إلا إلى اللجأ والاستغاثة
وطلب الأمان وقصد التوبة فمن رجع إلى غير هذه الأسباب لم يسلم من فتنة نفسه،
وإن سلم من فتنة العوام، قال الله تعالى: * (ثم لا يتوبون) * الآية: أي: لا يرجعون إلى
الله بقلوبهم والراجع إلى الله سالم من الفتن والآفات، * (ولا هم يذكرون) * أي: لا
يشكرون نعمتي السالفة عندهم.
ويعلمون رفقي بهم بالفتنة إذ لم أجعلهم من المفتونين في الفتنة.
قوله تعالى: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) * [الآية: 128].
292

أخبرنا علي بن الحسن البلخي قال: حدثنا عبد الله بن عجلان الزنجاني قال: حدثنا
أبو عثمان أحمد بن غالب قال: حدثنا أبو عاصم عن بهز بن حكيم عن الحسن عن أنس
قال: قال رسول الله: ' لقد جاءكم رسول من أنفسكم قال: علي بن أبي طالب
عليه السلام: ما معنى من أنفسكم قال: من أنفسكم نفسا ونسبا وحسبا وصهرا، ليس
في آبائك من لدن آدم سفاح كلنا نكاح '.
قال الخراز: أثبت لنفسك خطرا حين قال عن رسول لله صلى الله عليه وسلم: من أنفسكم. قال
الحسين: من أجلاكم نفسا وأعلاكم همة، جاء بالكونين عوضا عن الحق، وما طغى
قلبه عن موافقته.
قال ابن عطاء: نفسه موافقة لا نفس الخلق، خلقه ومباينة لها حقيقة فإنها نفس
مقدسة بأنوار النبوة، مؤيدة بمشاهدة الحقائق ثابتة في المحل الأدنى والمقام الأعلى * (ما زاغ البصر وما طغى) *.
قوله تعالى: * (عزيز عليه ما عنتم) *.
قال بعضهم قوله عزيز عليه قال: يشق عليه ركوبكم مراكب الخلاف.
قوله تعالى: * (حريص عليكم بالمؤمنين) * الآية.
قال ابن عباس: حريص على هدايتكم، لو كانت الهداية إليه مشفق على من اتبعه
أن تأتيه نزغة من نزغات الشيطان الرجيم عليه، يستجلب برحمته له رحمة الله إياه.
وقال: حريص عليكم أن تبلغوا محل أهل المعرفة.
قال جعفر الصادق عليه السلام: علم الله عجز خلقه عن طاعته فعرفهم ذلك، لكي
يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته وأقام بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في
الصورة، فقال: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه) * الآية.
وألبسه من نعته الرأفة والرحمة وأخرجه إلى الخلق سفيرا صادقا، وجعل طاعته
طاعته وموافقته موافقته فقال: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) *.
293

ذكر ما قيل في سورة يونس
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) * [الآية: 1].
قيل: الراء أنا الله أرى وقال أبو الحسين: في القرآن علم بكل شيء، وعلم القرآن
في الأحرف التي في أوائل السور.
وقيل في قوله: * (تلك آيات الكتاب الحكيم) * أي فيه علامات قبول الحكماء لهذا
الخطاب.
وقيل في قوله * (تلك آيات الكتاب الحكيم) * اي فيه وآيات الكتاب المحكم عليك
بالفرائض والسنن والآداب والأخلاق والأحوال.
وقيل: ' الكتاب الحكيم ' العهد الناطق عليك بأحكام الظاهر والباطن.
وقال محمد بن علي الترمذي: الألف واللام لطفه والراء رأفته.
قوله تعالى: * (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس) * [الآية: 2].
علم الله أن قوله * (أن أنذر الناس) * مما يذهل عقول الصالحين والمنتبهين فقال على
أثره * (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) *.
قوله تعالى: * (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) *
قال سهل: سابقة رحمته أودعها في محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو سعيد الخراز: تفرق الطالبون عند قوله: من طلبني وجدني على سبل شتى:
أولهم أهل الإشارات طلبوه على ما سبق من قوة الإشارة وهم أهل قدم صدق عند
ربهم فبالقدم أشار إليهم، فهل أهل الطوالع والإشارات حظهم منه ذلك.
قال محمد بن علي الترمذي في قوله * (أن لهم قدم صدق عند ربهم) * قال: قدم
صدق هو إمام الصادقين والصديقين وهو الشفيع المطاع والسائل المجاب محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: * (يدبر الأمر) * [الآية: 3].
قال بعضهم: يختار للعبد ما هو خير له من اختياره لنفسه.
294

وقال أبو عثمان في رسالته إلى شاه: قد دبر الله لك يا أخي كل تدبير، وأسقط قدم
صدق السنة والمتابعة سوء تدبيرك، وارض بتدبير الله لك كي تنجو من هواجس النفس،
لأن الله يقول: * (يدبر الأمر يفصل الآيات) *.
وقيل لسهل بن عبد الله حين حضرته الوفاة: فبماذا تلقن وأين تقبر ومن يصلي
عليك. قال: أدبر أمري حيا وميتا. وقد كفنت بسابق تدبير الله لي.
قوله تعالى: * (إليه مرجعكم جميعا) * [الآية: 4].
قال الجنيد رحمة الله عليه: في هذه الأمة منه الابتداء وإليه الانتهاء، وما بين ذلك
مراتع فضله وتواتر نعمه، فمن سبقت له في الابتداء سعادة أظهرت عليه في مراتعه
وتقلبه في نعمته بإظهار لسان الشكر وحال الرضا ومشاهدة المنعم، ومن لم تحركه سعادة
الابتداء أبطل أيامه في سياسة نفسه وجمع الحطام الفاني ليؤده إلى ما سبق له في
الابتداء من الشقاوة.
قال الله * (إليه مرجعكم جميعا) * والراجع بالحقيقة إليه هو الراجع مما سواه إليه،
فيكون متحققا في الرجوع إليه.
قوله تعالى: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) * [الآية: 5].
قال بعضهم: الشموس مختلفة فشمس المعرفة يظهر ضياؤها على الجوارح فيزينها
بآداب الخدمة وأقمار الأنس تقدس الأسرار بنور الوحدانية والفردانية فيدخلها في
مقامات التوحيد والتفريد.
295

قال بعضهم: جعل الله شمس التوفيق طلبا لطاعات العباد وقمر التوحيد نور في
أسرارهم فهم يتقلبون في ضياء التوفيق ونور التوحيد إلى المنازل الصديقية.
قوله تعالى: * (إن الذين لا يرجون لقاءنا) * [الآية: 7].
قال: لا يخافون الموقف الأعظم * (يوم تبلى السرائر) *.
وتظهر الخفايا * (ورضوا بالحياة الدنيا) * ركنوا إلى مذموم عيشهم * (واطمأنوا بها) *
نسوا مفاجأة الموت * (والذين هم عن آياتنا غافلون) * تقليب القلوب وعقوبات الجوارح.
قوله تعالى: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * [الآية: 10].
قال الشبلي: لو ألهموا حمد الحق في أوائل الأنفاس لسقطت عنهم الدعاوي،
ولكنهم لم يزالوا يركضون في ميادين الجهل إلى أن فتح لهم طريق الحمد واسقط عنهم
الدعاوي، فرجعوا إلى رؤية المنة فكان آخر دعواهم أن قالوا: الحمد لله رب العالمين.
ففوضوا الكل إليه ورجعوا بالكلية إليه، فأنطقهم بما أنطقهم به من النطق المحمود.
قوله تعالى: * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) * [الآية: 12].
قال أبو حفص: الدعاء باب الله الأعظم وهو سلاح المؤمن عند النوائب.
وقال: الدعاء الذي فيه الإجابة هو أن لا ترى حيلة بعقل ولا بعلم.
وقال سهل: الدعاء هو التبري مما سوى الله.
وقال أبو حفص: يرجع العبد إلى ربه بالحقيقة عند الفاقات ونزول المصائب والمحن،
ولو رجع إليه في أيام الرفاهية لأكرم في وقت نزول المصائب بالرضاء، ولكنه لما لم يكن
له في أوقات الرفاهية رجوع إليه رده في حال المصائب والضروريات إلى الدعاء واللجأ
وهذا أيضا مقام جليل، فتح باب الدعاء على العبد عند نزول البلاء، والمحروم من يرجع
فيما يترك به من المصائب والضروريات إلى العبيد، ويقطع قلبه عن ربه، فمصيبته في
إعراضه عن ربه أكثر من مصيبته بنزول البلاء عليه.
قال بعضهم: الخلق مجبورون تحت قسيمته، مقهورون في خلقته ألا ترى إذا ضاقت
القلوب واشتدت عليهم الأمور كيف يرجعون إلى الملك الغفور.
ودعاء أهل الحقائق فيما بلغني عن بعضهم أنه كان يقول: يا من حجبني بالدعاء
296

احجبني عن موضع رؤية الدعاء.
وسمعت جدي يقول: الدعاء على العبادة خيانة، وعلى حد اليقين نجاة وعبادة، كما
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ' الدعاء هو العبادة ' ولكن للدعاء أوقات وآداب
وشروط: فمن يطالب نفسه بأوقات الدعاء وأدبه وشروطه كان محروما فيه، وآداب
الدعاء وشرائطه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ' ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة '
واعلموا أن الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل لاه.
قوله تعالى: * (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا) * [الآية: 13].
قال ابن عطاء: لما اعتمدوا سوانا.
قال جعفر: لما قابلوا نعمتنا بالكفران.
وقال أبو عثمان: * (لما ظلموا) * لما لم يعرفوا حقوق أكابرهم، ولم يتأدبوا بآدابهم.
وقال بعضهم: لما خالفوا الشعراء والوسائط.
وقال محمد بن علي الترمذي: * (لما ظلموا) * لما ضيعوا السنن.
وقال بعضهم: لما تكبروا وتجبروا ولم يخضعوا لقبول الحق.
297

وقال أبو بكر الوراق: الظلم هو اتباع الهوى وركوب الشهوات والركض في ميادين
اللهو واللعب وهذه تؤدي إلى الهلاك.
قال الله تعالى: * (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا) *.
قال بعضهم: لما لم يقابلوا نعمتنا بالشكر.
قوله تعالى: * (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم) * [الآية: 14].
قال بعضهم: لم تزل الأنبياء لهم خلفا والأولياء لهم خلفا أبدلهم الله كأنهم ليرى
الباقون سنتهم ويتمسكوا بطريقتهم.
قال الله: * (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم) *.
قوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) *.
قال: إذا صح الإيمان لا يصح إلا أن يأذن الله له بذلك في أزله، وجريه القضاء
السابق له بالإيمان فيما يبدو عليه في الوقت، وهو الذي سبق به القضاء في الأزل.
قوله تعالى: * (هو الذي يسيركم في البر والبحر) * [الآية: 22].
قال ابن عطاء: سير الأولياء بقلوبهم وسير الأعداء بنفوسهم.
ومعنى البر: اللسان، ومعنى البحر القلب.
وقيل: ليسيركم في براري الشوق وبحار القربة، حتى إذا كنتم في الفلك يعني: في
القبضة والأسر وهبت رياح الكرم على المريدين الذين هم في الطريق، وفرحوا بما
تلحقهم من العناية والرعاية جاءتها ريح عاصف أتت عليهم من موارد القدرة ما أفناهم
عن صفاتهم وحيرهم في طريقهم، وجاءتهم أمواج القهر وقهرهم عما بهم وظنوا أنهم
أحيط بهم توهموا أنهم من الهلكى في الأمواج، وهم المطهرون الأخيار، دعوا الله
مخلصين له الدين تركوا ما لهم وبهم وعليهم من الاختيار والتدبير ورجعوا إلى حد
التفويض والتسليم فنجوا.
وقال بعضهم: سير العباد والزهاد بالأنفس في البر وهو الدرجات والمنازل، وسير
العارفين بالقلوب في البحار وفيها الأمواج والأخطار، ولكن سير شهر في يوم.
قال بعضهم: * (هو الذي يسيركم في البر) * هو الصفات، وفي البحر هو الاستغراق
في الذات.
298

قال بعضهم: يسيركم في البر الاستدلالات بالوسائط، والبحر غلبات الحق بلا
واسطة.
قوله تعالى: * (دعوا الله مخلصين له الدين) *.
قال النوري: المخلص في دعائه من لا يصحبه من نفسه شيء سوى رؤية من يدعوه.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: الإخلاص ما أريد الله به أي عمل كان.
وقال رويم: الإخلاص ارتفاع رؤيتك من الفعل.
قال ابن عطاء: الإخلاص ما خلص من الآفات.
قال حارث: الإخلاص إخراج الخلق من معاملة الله.
قال ذو النون: الإخلاص ما حفظ من العدوان يفسده.
وسألت أبا عثمان المغربي عن الإخلاص فقال: الإخلاص ما لا يكون للنفس فيه
حظ بحال، وهذا إخلاص العوام وإخلاص الخواص ما يجري عليهم لا بهم، فتبدو
الطاعات وهم عنها بمعزل، ولا يقع لهم عليها رؤية ولا بها اعتداء، فذلك إخلاص
الخواص.
قال أبو يعقوب السوسي: الخالص من الأعمال ما لم يعلم به ملك فيكتبه ولا عدو
فيفسده ولا تعجب به النفس.
قوله تعالى: * (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم) * [الآية: 23].
قال الواسطي رحمة الله عليه: البغي يحدث من ملاحظات النفس ورؤية ما خدع
به، كما قيل لذي النون رحمة الله عليه ما أخفى ما يخدع به العبد؟
قال: الألطاف والكرامات ورؤية الآيات.
قوله تعالى: * (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) *
[الآية: 25].
قال أبو سعيد القرشي في هذه الآية: خرجت هداية المريدين من الاجتهاد في قوله:
* (والذين جاهدوا فينا) *.
299

وخرجت هداية المراد من المشيئة وهو قوله * (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) *
وهو الفرق بين المريد والمراد.
قال القاسم: الدعوة عامة والهداية خاصة، بل الهداية عامة والصحبة خاصة، بل
الصحبة عامة والاتصال خاص.
قال ابن عطاء: عم خلقه بالدعوة واختص من شاء منهم بالرحمة فمن اختصه قبل
خلقه، فهو المحمود في سعايته، ومن خذله قبل كون خلقه، فهو المذموم لا عذر، فمن
قصد بنفسه صرف عن حظه، ومن قصده به فهو المحجوب عن نفسه.
قال بعضهم: لا تنفع الدعوة لمن لم تسق له من الله الهداية.
قال جعفر: الدعوة عامة والهداية خاصة.
وقال أيضا: ما طابت الجنة إلا بالسلم، وإنما اختارك بهذه الخصائص لكي لا تختار
عليه أحدا.
وقال أيضا: عملت الدعوة في السرائر فتحللت بها وركبت إليها.
وقال بعضهم: يدعو إلى دار السلام بالآيات، ويهدي من يشاء للحقائق والمعارف.
قال بعضم: الدعوة لله والهداية من الله.
قوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * [الآية: 26].
قال الواسطي رحمة الله عليه: معاملة الله على المشاهدة الحسنى الإلتذاذ في
المعاملة، والزيادة هي النظر إلى الله.
قوله تعالى: * (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) *.
قال بعضهم: كيف تذل الوجوه وقد تلقاها الحق منه بالحسنى والإحسان، وكيف تدل
شواهد من هو مشاهد للحق على الدوام بل هو على زيادة الأوقات، يزيد نورا وضياء
وعزا وسناء.
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم) *.
قال ابن عطاء: تظهر عليهم بركات إقرارهم عند إيجاد الذر بقولهم: بلى، فمن
بركتها لزوم الطاعات والفرائض واتباع السنن وتحقيق الإيمان وتصحيح الأعمال.
300

قوله تعالى: * (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) *.
قال ذو النون: مقام المتحققين من العارفين التنزيه والتبري من جميع ما لهم من
أنواع الأفعال والأقوال والأحوال وغير ذلك والرجوع إلى الحق على حد التنزيه له، أن
يقصده أحد بسببه، أو يتوصل إليه بطاعته، أو يعمل كل لإظهار سعادة الأزل على
السعداء وسمات الشقاوة على الأشقياء.
قوله تعالى: * (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) * [الآية: 30].
قال: يطالب كل مدع بحقيقة ما ادعاه.
قوله تعالى: * (ومن يدبر الأمر) * [الآية: 31].
قيل: أي تقلب الأكوان.
قال الواسطي رحمة الله عليه: من يبدئ أمره ويعيده، ويبديه في أوقاته السائرة،
فإذا قال: من يدبر الأمر أزال الأملاك، فكيف يجوز لقائل أن يقول: فعلي وعملي.
قوله تعالى: * (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال) * [الآية: 32].
قال الحسين: الحق هو المقصود إليه بالعبادات والمصحوب إليه بالطاعات، لا يشهد
بغيره، ولا يدرك بسواه.
قال الواسطي: * (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال) * قال: لا يجوز
للموحد أن يشهد بشاهد التوحيد، لأنه وصف الأشياء بالضلال، فلم يتهيأ لضال أن
يقف، ولا لعاجز أن يصف.
قال الحسين: الحق هو الذي لا يستقبح قبيحا ولا يستحسن حسنا، كيف يعود عليه ما
منه بدا، أو يؤثر عليه ما هو أنشأ، وقيل في قوله * (فأنى تصرفون) * من الحق إلى
سواه.
قوله تعالى: * (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده) * [الآية: 34].
قال ابن عطاء: يبدأ بإظهار القدرة فيوجد المعدوم، ثم يعيدها بإظهار الهيئة فيفقد
الموجود.
وقيل: يبدأ بكشف الأولياء فيمحو منها كل خاطر سواه، ثم يعيد فيبقى بإبقائه،
فلذلك عظم حال العارف ودليله.
301

قوله تعالى: * (قل هل من شرئكائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن
يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى) * [الآية: 35].
سئل الحسين من هذا الحق الذي يشيرون إليه فقال: هو معل الأيام ولا يعتل.
سئل الواسطي رحمة الله عليه ما حقيقة الحق؟ قال: حقيقته لا يقف عليها إلا الحق.
وأنشد الحسين بن منصور:
(حقيقة الحق مستنير
* صارخة من بنا خبير
*
(حقائق الحق قد تجلت
* مبلغ من رامها عسير
*
قال بعضهم: الحق لا يجري به قول، ولا يثبت له وصف ولا يذكر له حد.
قوله تعالى: * (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) * [الآية: 36].
قال الجنيد رحمة الله عليه: مر على يدي أرباب التوحيد حتى أبو يزيد، ما خرجوا
من الدنيا إلا على التوهم.
قال الواسطي رحمة الله عليه: * (إلا ظنا) * أنهم قد وصلوا وهم في محل الانفصال،
إذ لا وصل ولا فصل على الحقيقة، الذات ممتنعة عن الاتصال كما هي ممتنعة عن
الانفصال.
سئل أبو حفص عن حقيقة التوكل فقال: كيف يجوز لنا أن نتكلم في حقائق
الأحوال، والله يقول: * (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) *.
سئل أبو عثمان ما الظن؟ قال: هواجس النفس في طلب مرادها.
قوله تعالى: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) * [الآية: 39].
قال بعضهم: كذبوا أولياء الله في براهينهم، لما حرموا ما خص القوم به، والمحروم
من حرم حظه من قبولهم وتصديقهم والإيمان بما يظهر الله عليهم من أنواع الكرامات.
قال أبو تراب النخشبي: إذا بعدت القلوب عن الله مقتت القائمين بحقوق الله.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: الناس أعداء ما جهلوا.
قوله تعالى: * (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) *
[الآية: 42].
302

قال الحسين: من استمع إليك بآية فإنك لا تسمعه، إنما تسمع من أسمعناه في الأزل
فيسمع منك، وإما لم تسمعه فما للأصم والسماع وإن سمع ولم يعقل فكأنه لم يسمع
قال الله تعالى: * (إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا) *. إلا من أجرينا عليه حكم السعادة في
الأزل.
قال بعضهم: من حكم المتحقق أن يكون أصم أعمى يعني: أصم عمن يعبر عنه،
أعمى عما يشار إليه.
وقال بعضهم: إذا لم تسمع نداء الله فكيف تجيب داعي الله.
قوله تعالى: * (ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) *
[الآية: 43].
قال الواسطي رحمة الله عليه: ليس من ينظر إليك بنفسه يراك إنما يراك من ينظر
إليك بنا، فأما من ينظر بنفسه أو به، فإنه لا يراك إلا من يعمر أوقاته في رؤيتك
ويستغرق هو فيما قال الله: * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) *.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' طوبى لمن رآني ومن رأى من رآني '.
قوله تعالى: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا) * [الآية: 44].
قال الواسطي رحمة الله عليه في هذه الآية: لا يتجلى لهم بحقه فإن ذلك ظلم،
لأن الحق لا يحتملونه بل فيه ذهابهم، ويستحيل أن يكون لهم من القوة ما يطيعون
الحق بحقه، إذ في ذلك مساواة ومقارنة.
قوله تعالى: * (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا) * [الآية: 49].
قال بعضهم: نفى من السيد الأخص أن يكون له من نفسه شيء أو يعتمد لها حالا،
بل أظهر أن الكل لمن له الكل، ومن لا يملك الأصل كيف يملك فروعه ومن لم يملك
نفسه كيف يملك ضرها ونفعها، ومن صحت له هذه الحالة فقد سلم من مدح الخلق
فإنه هو الضار النافع.
قوله تعالى: * (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق) * [الآية: 53].
قال بعضهم: أنوار الحق مشرقة وآياته ظاهرة، لا يشك فيها إلا معاند، ولا يعمى
303

عنها إلا ضال والمتحققون بحقائق الحق هم السالكون مسالك أنوار الحق في مقاصدهم
ومواردهم ومصاردهم، والراجعون منها إلى الأعيان هم الضالون عن سنن الحق، قال
الله * (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق) *.
قوله تعالى: * (ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق) * [الآية: 55].
قال بعضهم: المغبون من يرجع إلى غير ربه في سؤاله ومهماته وطلباته، وله من في
السماوات والأرض فالكل له فمن طلب بعض الكل من غيره فقد أخطأ الطريق.
وقيل في قوله: * (ألا إن وعد الله حق) * أن يجزم سائلا غيره ويبعد عليه وجه طلبته
ولا يجيب سائله ويبلغه أقصى أمنيته.
قوله تعالى: * (هو يحيي ويميت وإليه ترجعون) * [الآية: 56].
قيل يحيى بفضله ويميت بعدله وإليه رجوع كلتا الطائفتين.
وقال بعضهم: هو يحيى القلوب بإماتة النفوس، ويميت النفوس بحياة القلب،
وهذا لمن كان رجوعه إليه في جميع أحواله.
وقيل: يحيى السرائر بأنوار العزة، ويميت النفوس بنزع الشهوات عنها.
قال بعضهم: يحيى من نشأ بالإقبال عليه، ويميت من نشأ بالإعراض عنه.
قال النصرآباذي: يحيى الأرواح في المشاهدة والتجلي، ويميت الهياكل في الاستتار.
وقال بعضهم: يحيى القلوب بالتقليب ويميت النفوس بالتنقيل.
قوله تعالى: * (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور) *
[الآية: 57].
قال ابن عطاء: الموعظة للنفوس والشفاء للقلوب، والهدى للأسرار والرحمة لمن
هذه صفته.
قال جعفر: شفاء لما في الصدور أي: راحة لما في السرائر.
قال بعضهم: الشفاء المعرفة والصفاء.
قال بعضهم: الشفاء التسليم والرضا.
ولبعضهم: شفاء التوبة والوفاء وقال: الشفاء المشاهدة واللقاء.
304

قوله تعالى: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) * [الآية: 58].
قال بعضهم: فضل الله إيصال حسناته إليك ورحمته ما سيق لك منه ولم تك شيئا
من الهداية، * (فبذلك فليفرحوا) * أي فاعتمدوا وهو خير مما تجمعون من أذكاركم
وأفعالكم وأقوالكم، فإنها نتائج تلك المقدمة، وبها يتم جميع الأحوال.
قال الواسطي: أيسهم أن يكون لهم شيء من عند قوله قل بفضل الله.
قال القاسم: هو الفضل الذي جاز به على أهل طاعته، لا الفضل الذي استدرج به
أهل معصيته.
قال جعفر في هذه الآية: إنه انتباه من غفلة، أو انقطاع عن زلة، والمباينة من دواعي
الشهوة.
قال أيضا: فضل الله معرفته ورحمته توفيقه.
قال بعضهم: الثواب أعواض والفضل كرم، قال * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) *. مما يؤملون من الثواب على الأفعال.
قوله تعالى: * (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) * [الآية: 61].
قال شقيق: على العبد أن يلزم نفسه دوام نظر الله إليه وقربه منه وقدرته عليه، لأن
الله عز وجل يقول: * (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) * إذ تفيضون فيه.
قال بعضهم: من شهد شهود الحق إياه، قطعه ذلك عن مشاهدة الأعيان أجمع.
قال النصرآباذي: شتان بين من عمل على رؤية الثواب وبين من عمل لاتباع الأمر،
وبين من عمل على سبيل المشاهدة.
قال الله عز وجل: * (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) *.
قوله تعالى: * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * [الآية: 62].
قال بعضهم: عرض الأولياء بإزالة الخوف والحزن عنهم ولم يبلغهم إلى مقام أهل
الاصطفاء والاختيار، لأن ذلك أقدارهم حتى يجيء قدر الذي لا يوصف بوصف فيظهر
عليهم من الكرامات ما يزيل بها الخوف والحزن على أهل الأكوان ببركاتهم.
قال الواسطي رحمة الله عليه: حظوظ الأولياء مع تباينها من أربعة أسماء، وقيام كل
فريق باسم منها: هو الأول والآخر والظاهر والباطن فمن فنى عنها بعد ملابستها فهو
305

الكامل التام فمن كان حظه من اسمه الظاهر لاحظ عجائب قدرته، ومن كان حظه من
اسمه الباطن لاحظ ما جرى في السرائر من أنواره ومن كان حظه من اسمه الأول كان
شغله ما سبق، ومن لاحظ اسمه الآخر كان مرتبطا بما يستقبله، وكل كوشف على قدر
طبعه وطاقته إلا من تولاه الحق ببره وقام عنه بنفسه.
وقال يحيى بن معاذ: الولي الذي لا يرائي ولا ينافق، وما أقل صديق من كان هذا
خلقه.
قال بعضهم: قلوب أهل الولاية مصانة عن كل معنى لأنها موارد الحق.
قال الواسطي رحمة الله عليه: علامة الولي أربعة: الأولى يحفظ سرائره التي بينه
وبين ربه مما يرد على قلبه من المصائب فلا يشكو.
والثانية: أن يصون كرامته فلا يتخذها رياء ولا سمعة ولا يعقل عنها هوانا.
والثالثة: أن يحتمل أذى خلقه فلا يكافؤهم.
والرابعة: أن يداري عباده على تفاوت أخلاقهم، لأنه رأى الخلق لله وفي أسر
القدرة فعاشرهم على رؤية ما منه إليهم.
وسئل بعضهم ما علامة الأولياء؟
قال: همومهم مع الله وشغلهم بالله وفرارهم إلى الله.
قال بعضهم: حال الأولياء في الدنيا أشرف منها في الآخرة لأنه جذب سرهم إلى سره وغيبهم عن كل ما سواه، وهم في الآخرة كما قال: * (في شغل فاكهون) *.
قال سهل: الولي هو الذي توالت أفعاله على الموافقة.
سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت محمد بن معاذ النهرجوري يقول: صفة
الأولياء أن يكون الفقر كرامتهم وطاعة الله جلاوتهم، وحب الله حيلتهم، وإلى الله
حاجتهم والله حافظهم، ومع الله تجارتهم وبه افتخارهم وعليه توكلهم وبه أنسهم،
والجوع طعامهم والزهد ثمارهم، وحسن الخلق لباسهم، وطلاقة الوجه حليتهم
وسخاوة النفس حرمتهم، وحسن المعاشرة صحبتهم، والشكر زينتهم، والذكر همتهم
والرضا راحتهم، والخوف سجيتهم، والليل فكرتهم، والنهار غيرتهم، أولئك أولياء الله
306

لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قال أبو سعيد الخراز: الأولياء في الدنيا يطيرون بقلوبهم في الملكوت، يرتادون ألوان
الفوائد والحكمة، ويشربون من عين المعرفة، فهم يفرون من فضول الدنيا، ويأنسون
بالمولى ويستوحشون من نفوسهم إلى وقت موافاة رسول الرحيل.
وقال أيضا: نفوس الأولياء تذوب كما يذوب الملح في الماء، للحفظ على أمور المولى
في مواقيتها وأداء الأمانة في كل ساعة.
وقال أيضا: إن نفوس الأولياء حملت قلوبهم، وقلوب الأعداء حملت نفوسهم،
لأن نفوس الأولياء تحمل الأعباء في دار الدنيا؛ طمعا في فراغ قلوبهم، وقلوب الأعداء
تحمل أثقال نفوسهم من الشرك طمعا في راحة نفوسهم.
وقال بعضهم: الولي من يصبر على البلاء ويرضى بالقضاء ويشكر على النعماء.
وقال أبو يزيد: أولياء الله هم عرائس الله، ولا يرى العرائس إلا من يكون محرما
لهم، وهم مخدرون عند الله في مجال الأنس لا يراهم أحد.
قال بعضهم: إن حال الأولياء في الدنيا أرفع من حالهم في الآخرة، لأن الله جذب
بينهم في الدنيا وقطعهم عن الكون وفي الآخرة يشغلهم بنعيم الجنة.
قال أبو علي الجوزجاني: الولي هو الفاني في حاله، الباقي في مشاهدة الحق
وذاته، تولى الله أسبابه فتوالت عليه أنوار التولي، لم يكن له عن نفسه أخبار ولا مع
أحد غير الله قرار.
وسئل أبو حفص عن الولي، فقال: الولي من أيد بالكرامات وغيب عنها.
قوله تعالى: * (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) * [الآية: 64].
قال أبو سعيد الخراز في هذه الآية قال: هم به وله، موقوفون بين يديه، غير أن
307

الحق ممتع لهم بماله، أراهم من عظم الفوائد وجزيل الزخائر، ومما لا يقع لهم به علم،
ولا علم عليه قبل حين وروده حتى يكون الحق مطالعا على ما تريد من ذلك على
حسب ما قسمه لهم، فهم في ذلك على الأحوال شتى، فذلك قوله * (لهم البشرى في الحياة الدنيا) *.
قال بعضهم: البشرى في الدنيا هو ما وعد من رؤيته، والبشرى في الآخرة تصديق
ذلك الوعد.
قوله تعالى: * (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) * [الآية: 67].
قال جعل سكون الليل إلى الخلوة والمناجاة، والنهار مبصرا ليبصروا فيه عجائب
القدرة والاعتبار بالكون.
قوله * (وأمرت أن أكون من المسلمين) *.
قال بعضهم: من يسلم سرى من قلبي، وقلبي من نفسي، ونفسي من لساني،
ولساني من الكذب والغيبة والبهتان.
وقال بعضهم: المسلم المنقاد لأوامر الحق عليه طوعا قوله: * (ويحق) *.
قوله تعالى: * (ويحق الله الحق بكلماته) * [الآية: 82].
قال الحسين: حقق الحق بكلماته، بإظهار ما أوجد تحت الكن.
قال بعضهم: الحق على ثلاثة أوجه: حق حق وهو قوله * (ويحق الله الحق بكلماته) *.
أي: كون الكون بكلماته وحق أحقه حق، وهي صفات لأنها قائمة بالموصوف،
والموصوف قائم بالصفات، والحق المطلق هو الله - جل اسمه - قال تعالى: * (فذلكم الله ربكم الحق) *.
قوله تعالى: * (إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا) * [الآية: 84].
سئل إبراهيم الخواص عن قوله: * (فعليه توكلوا) * قال: تنالوا السبب من الله بلا
واسطة.
قوله تعالى: * (أجيبت دعوتكما فاستقيما) * [الآية: 89].
قال ذو النون: الإستقامة في الدعاء أن لا تغضب لتأخير الإجابة، ولا تسكن إلى
308

تعجيل الإجابة، ولا تسل سواك الخصومة.
قال بعضهم: الإستقامة في الدعاء هو رؤية الإجابة مكرا واستدراجا، ورؤية تأخير
الإجابة طردا وبعدا.
وقيل: أجيبت دعوتكما فاستقيما على دعائكما إلى أن يظهر لكما الإجابة.
وقيل: أجيبت دعوتكما فاستقيما على منهاج الصدق.
قوله تعالى: * (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) * [الآية: 94].
قال ابن عطاء: مما فضلناك به وشرفناك، فسل الذين يقرءون الكتاب من قبلك وهم
الأعداء، كيف وجدوا وصفك في كتبهم وكيف رأوا فيها نشر فضائلك، يدل عليه قوله
حين أنزلت عليه هذه الآية: ' لا أشك لا أشك '.
قوله تعالى: * (إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية
حتى يروا العذاب الأليم) * [الآية: 96 - 97].
قال الواسطي: من لم يلحقه نور الأزل؛ لا يتبين عليه صفات الوقت، فإن صفات
الوقت نتائج أنوار الأزل قال الله تعالى: * (إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا
يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية) *.
قوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) * [الآية: 100].
قال بعضهم: إذا صح له الإيمان، لا يصح إلا أن يأذن الله له بذلك في إزالة وحرية
القضاء السابق له بالإيمان على أحد إلا سعادة سابقة في الأزل ونور متقدم.
قوله تعالى: * (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا) * [الآية: 99].
قال الواسطي: رفع المدح والذم فلا معذور ولا غير معذور ولا شقاء ولا سعادة،
إنما هي إرادة أمضاها ومشيئة أنفذها وقيس آمنوا بإذن الله المتولى لإظهار الكونين، لا
شريك له فلا يستغفرون ولا يفتخرون.
قوله تعالى: * (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * [الآية: 101].
قال بعضهم: لا تصل العقول الخالية عن التوفيق إلى سبيل النجاة، وما يغنى ضياء
العقل مع ظلمة الخذلان إنما تنفع أنوار العقل من كان مؤيدا بأنوار التوفيق وعناية
الأزل، وإلا فإنه متخبط في هلاكه بعقله.
309

قوله تعالى: * (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) *
[الآية: 103].
قال بعضهم: ننجي رسلنا من مراد النفس وغفلة الوقت وغلبة الشهوة وشتات السر،
والذين آمنوا بالرسل نجزيهم على مناهج الرسل، وكذلك حقا علينا نجاة من صدق في
عبوديته.
قوله تعالى: * (وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين) * [الآية: 105].
قال ابن عطاء في هذه الآية: صحح معرفتك ولا تكونن من الناظرين إلى شيء
سوى الله، فيمقتك الله، وإقامة الملة الحنيفية هذا هو تصحيح المعرفة.
قال الواسطي رحمة الله عليه في قوله: * (وأن أقم وجهك للدين حنيفا) * قال: لا
تعتمد صلاة ولا طاعة؛ فتعمى عن سبيل الفضل والرحمة، أيتوهم البائس إنما صلاته
مواصلة وإنما هي في الحقيقة مفاصلة وأنى ذلك، ولا فصل ولا وصل إنما هذه الكلمات
عبارات إن تركتها كفرت، وإن قصدتها بشاهدك أشركت، لأن صحة القصود تكوين
المقصود وليس الشأن في القصود، إنما الشأن في المقصود لذلك خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:
* (وأن أقم وجهك للدين حنيفا) *.
قوله تعالى ذكره * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) * [الآية: 106].
قال شقيق: الظالم من طلب نفعه ممن لا يملك نفع نفسه واستدفع الضر بمن لا
يملك الدفاع عن نفسه، ومن عجز عن إقامة نفسه كيف تقيم غيره.
قال الله تعالى: * (فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) *.
قوله تعالى: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) * [الآية: 107].
قال ابن عطاء رحمة الله عليه: قطع الحق على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه
بإعلامهم أنه الضار النافع.
قال جعفر: جعل الله مس الضر منوطا بصفتك وإرادة الخير لك منوطة بصفته،
ليكون رجاؤك أغلب من خوفك.
310

قال أبو عثمان: أنت بين رجائك من ضر ونفع، وفي الحالتين جميعا الرجوع إلى
سواه سوء تدبير وقلة يقين.
قال بعضهم: الكاشف للضر على الحقيقة هو القادر على ابتلائك به، والمتفضل
بالأفضال من ناب عنك في الغيب بحسن التولية لك في الأزل.
قوله تعالى ذكره: * (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) * [الآية: 108].
قال الواسطي رحمة الله عليه: لو وقع التفاضل بالنعوت والصفات كان الذات
معلولا ما أظهر، فإنما أظهره لك أن أجرى الإحسان عليكم فلكم بقوله * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) *، وإن أجر الاهتداء فلكم بقوله: * (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) * وإن أجر الشكر عليكم فلكم بقوله * (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) *.
قوله عز وجل: * (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله) * [الآية: 109].
قال سهل: أجرى الله في الخلق أحكاما وأيدهم على اتباعها بقدرته وفضله، ودلهم
على رشدهم بقوله: * (واتبع ما يوحى إليك واصبر) * والصبر على الاتباع وترك تدبير
النفس فيه النجاة عاجلا من رعونات النفس وأجلا من حياة المخالفة.
وقال أبو عثمان: أصل الدين الاتباع ثم الصبر عليه من غير أن يكون ذلك فيه من
عندك شيء، بل الرجوع عن جميع مالك باتباع ما ألزمته.
311

ذكر ما قيل في سورة هود
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) * [الآية: 1].
حكيم فيما أنزل. خبير بمن أقبل على أمره أو أعرض عنه.
قال بعضهم: أحكمت آياته في قلوب العارفين، وفصلت أحكامه على أبدان
العالمين.
قال فارس: أحكمت آياته للورعين، وفصلت أحكامه للمتقين.
وقيل: أحكمت آياته بالكرامات وفصلت بالبينات.
وقيل: أحكمت آياته بالفضل، وفصلت آياته بالعدل.
وقال الحسن: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالوعد والوعيد. حكيم فيما أنزل.
خبير بمن يقول بأمره، أو يعرض عنه.
قوله تعالى: * (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) * [الآية: 3].
قال أبو بكر الحواشي: التوبة التي تتولد من الاستغفار أن ترفع ثوب النجس والغش
والدنس.
سئل سهل بن عبد الله عن الاستغفار. فقال: هو الإنابة ثم الإجابة، ثم التوبة ثم
الاستغفار بالظاهر والإنابة بالقلب والتوبة مداومة الاستغفار من تقصيره فيها.
قال بعضهم: الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين.
وقال بعضهم: استغفروا ربكم من الدعاوى وتوبوا إليه من الخطرات المذمومة.
وقال يوسف: استغفار العامة من الذنوب واستغفار الخاصة من رؤية الأفعال ومن
رؤية المنة والفضل، واستغفار الأكابر من رؤية كل شيء سوى الحق.
قوله تعالى: * (يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل) *
[الآية: 3].
قال الواسطي رحمة الله عليه: طيب النفس وسعة الرزق والرضاء بالمقدور.
312

قال سهل: هو نزل الخلق والإقبال على الحق.
قال أبو الحسين الوراق في قوله: يمتعكم متاعا حسنا قال يرزقكم صحبة الفقراء
الصادقين.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: لا شيء أحسن على العبد من ملازمة الحقيقة وحفظ
السر مع الله وهو تفسير قوله يمتعكم متاعا حسنا.
قال الحسين يمتعكم متاعا حسنا: الرضاء بالميسور والصبر على كربة المقدور.
قال محمد بن الفضل: هو طيب النفس وسعة الصدر وتمام الرزق والرضاء.
قوله تعالى: * (ويؤت كل ذي فضل فضله) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: ذو الفضل من رزق بعد الاستغفار والتوبة حسن
الإنابة والإخبات مع دوام الخشوع.
قال النصرآباذي: رؤية الفضل تقطع عن المتفضل كما أن رؤية المنة تحجب عن
المنان.
قال بعضهم في قوله: * (ويؤت كل ذي فضل فضله) * يوصل كل مستحق إلى ما
يستحقه من مجالس القربة وسمو المنزلة.
قال الجوزجاني: من قدر عليه الفضل في السبق يوصله إلى ذلك عند إيجاده.
سئل أبو عثمان عن قوله: * (ويؤت كل ذي فضل فضله) * قال: يحقق آمال من
أحسن ظنه به.
قوله تعالى: * (يعلم ما يسرون وما يعلنون) * [الآية: 5].
قال فارس: يعلم ما تسرون من أحوالكم وما تظهرون من أفعالكم وهو عالم بكم
قبل أن خلقكم وأبدأكم.
قال فارس: الحركات على الجوارح والمشاهدة على الأسرار.
وقال بعضهم: يعلم ما يسرون من الإخلاص وما يظهرون من العتاب.
313

قوله عز وجل: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها) * [الآية: 6].
قيل: قرأ يوسف بن الحسين هذه الآية ثم قال: ندب الله عباده جميعا إلى التوكل
والاعتماد عليه فأبوا بأجمعهم إلا الاعتماد على عوارى ما ملكوا إلا الفقراء المهاجرين
ثم جرت تلك البركة في الفقراء الصادقين إلى من ترسم بهم من المتصوفة فأبى الخلق
إلا الاعتماد على الأسباب وأبت هذه الطائفة أن تعتمد على غير المسبب وهو من أشد
المناهج.
قال بعضهم: المغبون من لم يثق بالله في رزقه بعد أن ضمنه له.
وقال بعضهم كفاك ما تحتاج إليه ولم يجعل للخلق فيه سبيلا لتكون له بالكلية.
وقيل: يعلم مستقرها من رحم الأمهات ومستودعها من الدنيا.
وقيل: يعلم مستقرها من الدنيا ومستودعها في دار الخلود.
وقيل: يعلم مستقرها ظاهر إسلامه ومستودعها باطن إيمانه.
وقيل: يعلم مستقرها من الخلق ومستودعها من الحق.
وقيل: مستقرها في الطاعات ومستودعها في الأحوال.
وبلغني أن رجلا قال لأبي عثمان الحيري: من أين تأكل؟ فقال: إن كنت مؤمنا فأنت
مستغن عن هذا السؤال وإن كنت جاحدا فلا خطاب معك ثم تلا: * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) *.
قوله تعالى: * (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه) * [الآية: 9].
قال أبو سعيد الخراز: من أذيق حلاوة الذكر وصفاء السر ثم نزع منه ذلك فلم تظهر
عليه الاهتمام به، والذبول لفقده ولا يرى من سره مطالبة لما نزع منه من سنى المقامات
والأحوال فليحكم لقلبه بالموت ولسره بالعمى عن طريق الهدى كذلك قال الله * (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة) * وهو محل القربة ثم نزعناها منه وهو حجاب النعمة.
قوله تعالى: * (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور) * [الآية: 10].
لو رددنا عليه ما قبضناه منه ليقولن ذهب السيئات عني أمنا من مكري وطمأنينة إلى
314

الدنيا إنه لفرح بغير مفروح به فخور بما لا يفتخر به.
قوله تعالى: * (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) * [الآية: 15].
قال أبو بكر الوراق: حياة الدنيا هي ارتكاب الأماني واتباع الشهوات والجولان في
ميادين الآمال والغفلة عن بغتة الآجال وجمع ما فيها من الأموال من وجوه الحلال
والحرام، وزينة الدنيا هي ما أظهر الله فيها من الأموال ومن وجوه أنواع العلائق التي
أخبر الله عنها بقوله: * (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة) *.
قال بعضهم: إرادة الحياة هي كراهية الموت، وكل مريب خائف.
قال أبو حفص في قوله * (من كان يريد الحياة الدنيا) * قال: حياة الدنيا هي صحبة
أهل الدنيا والميل إليهم والأنس بهم. ومن أحب الدنيا فقد أحب ما أبغض الله، ومن
صحب أهلها فقد مال إليهم، ومن مال إليهم فقد مال عن طريق الحق، فإن الحق مبائن
للدنيا وأهلها لأنها لهو ولعب. الآية كما أخبر الله عنها فقال: * (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) *.
قوله تعالى: * (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) * [الآية: 17].
سمعت أبا عثمان المغربي يقول: سمعت ابن الكاتب يقول: جاء رجل إلى الجنيد
رحمة الله عليه فقال: أسألك عن شيء في ضميري، فقال: سل. فقال: قد سألت،
فقال الجنيد: قد سألت عن كذا وكذا والجواب فيه كذا وكذا. فقال الرجل: لا. قال:
بلى ولكنك قلبت السؤال إلى كذا وكذا، والجواب فيه كذا وكذا.
قال الشيخ أبو عثمان: وهذا تفسير قوله: * (أفمن كان على بينة من ربه) * ومن كان
على البينة لا يخفى عليه سر.
وقال رويم: البينة هي الإشراف على القلوب والحكم على الغيوب.
وقال سهل في قوله: * (أفمن كان على بينة من ربه) * قال: هي التقى والبر.
315

* (ويتلوه شاهد منه) *.
قال: هو حالة للعبد وقت ذكر الله.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: البينة حقيقة يؤيدها ظاهر العلم.
وقال النوري أبو الحسين: البينات هي التي لا تكشف أواخرها عن عثرة ولا غلط.
قال أبو بكر بن طاهر في قوله: * (أفمن كان على بينة من ربه) * قال: من كان من ربه
على بينة كانت جوارحه وقفا على الطاعات والموافقات ولسانه ملزوم بالذكر ونشر الآلاء
والنعماء، وقلبه منور بأنوار التوفيق وضياء التحقيق، وسره وروحه مشاهد للحق في
جميع الأوقات عالم بما يبدو من مكنون الغيوب ومستورها، ورؤيته للأشياء رؤية يقين
لا شك فيه، وحكمه على الخلق لحكم الحق. لا ينطق إلا بحق ولا يرى إلا الحق لأنه
مستغرق في الحق فأنى له مرجع إلا إلى الحق ولا إخبار إلا عنه.
قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) * [الآية: 18].
قال بعضهم: المفتري على الله من اتخذ أحوال السادات بدعواه لنفسه حالا أو أظهر
عن نفسه مشاهدة ما لا يشهده أولئك يفضحهم الله في الدنيا بكذبهم فيطلع عليهم
الذين يشهدون حقائق الأشياء هؤلاء الذين كذبوا على ربهم أظهروا من الأحوال ما ليس
لهم وتزينوا بالعواري من لباس لبس السادة فهذه فضيحتهم في مجالس أهل الحقيقة إلى
أن يرجعوا إلى الفضيحة في مشهد الحق.
قوله تعالى: * (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) * [الآية: 20].
قال بعضهم كيف يستطيع السمع من لم يفتح مسامعه سماع الحق وكيف يبصر من لم
يكتحل بنور التوفيق إذ لا سماع إلا عن إسماع ولا بصر إلا عن إبصار.
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم) * [الآية: 23].
قال شاه: علامات الإخبات ثلاث:
غم الإياس مع التوبة لكره العود إلى الذنوب.
وخوف الاستدراج في إسبال الستر.
وتوقيع العقوبة في كل وقت حذرا وإشفاقا من العدل.
316

حذرا وإشفاقا من العدل.
قوله تعالى: * (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) * [الآية: 24].
قال أبو سليمان الداراني: الأعمى حقا من عمى في آخر سفره وقد قارب المنزل
فيضيع سعيه فلا استدلال ببصر ولا دليل قائد.
وقال بشر: الأعمى حقا من عمى عن طريق رشده والأصم حقا من صم عما أنذر
به.
وقال بعضهم: البصير من عاين ما يراد به وما يجري له وعليه في جميع أوقاته
والسميع من يسمع ما يخاطب به من تقريع وتأديب وحث وندب لا يغفل عن الخطاب
في حال من الأحوال.
وقيل: السميع من فتح سمعه باستماع ما يعنيه.
وقيل: الأعمى الذي عمى عن رؤية الاعتبار والأصم الذي منع لطائف الخطاب
والبصير الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئا ولا يتعجب من شيء.
وقيل: السميع من يسمع من الحق فيميز بذلك الإلهام من الوسوسة.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: الأعمى الذي عمى عن درك الحقائق.
قوله تعالى: * (ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) * [الآية: 27].
قال أبو الفرج: لم يشهد مخالفو الأنبياء والرسل منهم إلا هياكل البشرية، وعموا
عن درك حقائقهم في ميادين الربوبية واختصاصهم بما خصوا به من فناء حظوظهم فيهم
وبقاء أشباحهم وهياكلهم رحمة للخلق.
فقالوا: ما نراك إلا بشرا مثلنا: أكلا وطعما وشربا، ولو لاحظوا مقامهم من الحق
وقربهم منه لأخرستهم مشاهدتهم عن مثل هذا الخطاب؛ لأنهم في مشاهد القدس.
قوله تعالى: * (وما أنا بطارد الذين آمنوا) * [الآية: 29].
قال أبو عثمان رحمة الله عليه في هذه الآية: ما أنا بمعرض عمن أقبل على الله، فإن
من أقبل على الله بالحقيقة أقبل الله عليه، ومن أعرض عمن أقبل الله عليه فقد أعرض
عن الله.
317

قوله تعالى: * (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم) * [الآية: 34].
قال حمدون القصار: النصيحة لمن لم ينصح نفسه قبل سماع النصيحة بدوام
الاجتهاد ومجانبة الاختلاف.
قوله تعالى: * (واصنع الفلك بأعيننا) * [الآية: 37].
قال السقطي: عن نفسك تدبيرك، واصنع ما أنت صانع من أفعالك على مشاهدتنا
دون مشاهدة نفسك ومشاهدة أحد من الخلق.
قال بعضهم: اصنع الفلك ولا تعتمد عليه، فإنك بأعيننا رعاية وكلأة، فإن
اعتمدت على الفلك وكلت إليه وسقطت عن أعيننا.
قوله تعالى: * (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) * [الآية: 37].
قال ذو النون: إن كنت قد ابتدأت في الأزل بشيء من العناية فقد نجوت، وإلا فإن
الدعاء لا ينفع الغرقى.
قوله تعالى: * (إلا من سبق عليه القول) * [الآية: 40].
قال بعضهم: بالسبق قيد العواقب فمن أجرى له في السبق السعادة كانت عاقبته إلى
السعادة، ومن أجرى له في السبق الشقاوة ختم له بالشقاوة.
وألسنة الأولياء والأنبياء قاصرة عن سؤال مخالفة ما جرى في الأزل؛ لأنه حكم
القاهر به وسلطان الجبار به.
قوله تعالى: * (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) * [الآية: 43].
إلا من دله على الاعتصام به، فذلك الذي يعصمه الله من امره.
قوله تعالى: * (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي) * [الآية: 45].
قال الحسين: لم يؤذن لأحد في الانبساط على بساط الحق بحال؛ لأن بساط الحق
عزيز وحواشيه قهر وجبروت، فمن انبسط عليه رد عليه كما رد على نوح - عليه السلام
- لما قال: * (إن ابني من أهلي) *. قيل له: إن ابنك ليس هو من أهلك.
قوله تعالى: * (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) * [الآية: 46].
318

قال القاسم: الأهل على وجهين: أهل قرابة وأهل ملة. فنفى الله عنه أهلية الملة
[الأهلية والقرابة].
قوله تعالى: * (فلا تسألن ما ليس لك به علم) * [الآية: 46].
قال بعضهم: أما علمت أني قد أمضيت حال الشقاوة والسعادة في الأزل، فلا راد
لحلمي وقضائي إني أعظك أن تجهل تلك الأحكام.
وقال بعضهم: أما علمت أني كافيت الخلق قبل الخلق فالاختبار على من منه
الاختبار محال.
قوله تعالى: * (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) * [الآية: 46].
قال بعضهم: إن نوحا لما أشرف ابنه على الغرق قال: إن ابني من أهلي.
قال: خصصت ولدك بالدعاء دون سائر عبادي، وابنك واحد منهم.
إني أعظك أن تكون من الجاهلين في أن تقتضي حقك على الخصوص، وتهمل
حقوق عبادي بأجمعهم.
قوله تعالى: * (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) * [الآية: 47].
قال أبو سعيد الخراز: إن نوحا صلى الله عليه وسلم وهو من الصفوة وأولي العزم من الرسل نصح،
وكدح لربه ألف سنة إلا خمسين عاما ثم قال: إن ابني من أهلي فقويت عليه، فأبكاه
ذلك سنة حتى قال: وإلا تغفر لي وترحمني، وكان دهره يطلب المغفرة من هذه الكلمة
ونسي ما كدح وعنا واجتهد.
قوله تعالى: * (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك) * [الآية: 49].
قال الجنيد رحمة الله عليه: كشف الله لكل نبي طرفا من الغيب وكشف لنبينا محمد
صلى الله عليه وسلم أنباء الغيب، وهو الغاية من الكشف وكان مكشوفا له من الغيب ما لا يجوز أن
يكون مكشوفا لأحد من المخلوقين؛ وذلك لعظيم أمانته وجلالة قدره، إذ الأسرار لا
تكشف إلا للأمناء، فمن كان أعظم أمانة كان أعظم كشفا.
قوله تعالى: * (فاصبر إن العاقبة للمتقين) * [الآية: 49].
319

قال النصر آباذي: نجاة العاقبة لمن وسم التقوى وحلى به، قال تعالى * (فاصبر إن العاقبة للمتقين) * [الآية: 49].
قوله تعالى: * (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم) *
[الآية: 55، 56].
قال الواسطي: غلب على هود عليه السلام في ذلك الوقت الحال والوصلة
والقربة فما تأكد بشيء ولا أحس به إذ هو في محل الحضور ومجلس القربة.
وقال في قصة لوط صلى الله عليه وسلم حين قال: * (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) *،
كان نطقه نطقا طبعيا شاهد في ذلك حاله، ووقته واشتغاله بهم.
وقال في هود: * (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) * [الآية: 55].
نطق عن مشاهدة لا يرى سواه.
قال بعضهم: أي كيدوني بالحق من هو في قبضة الحق وسرادق العز، وجلابيب
الهيبة والكيد لا تلحق إلا من هو أسير في طريق المخالفة.
قوله تعالى: * (ما من دابة إلا هو آخد بناصيتها) * [الآية: 56].
قال بعضهم: كيف يكون ذلك محل وأنت بغيرك قيامك، ويقال لذلك قال: من قال
أنا فقد نازع القبضة.
قال بعضهم: فيه ذكر إبطال الدعاوى، فإن من ادعى حارب القدرة ونازع القبضة.
قوله تعالى: * (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) * [الآية: 69].
قال بعضهم: بشروا إبراهيم بأن نسب الخلة ثابتة وأنها لا تنقطع.
قال بعضهم: بشروه بإخراج محمد صلى الله عليه وسلم من صلبه، وأنه خاتم الأنبياء وصاحب لواء
الحمد.
قال بعضهم: رسول الخليل إذا ورد فهو بشارة، فإذا أدى الرسالة فقد تم به
البشرى، خصوصا إذا أدى من الخليل سلاما ألا تراه كيف ذكر: قالوا سلاما من
الخليل، فقال: سلام من الخليل، تم به المراد.
320

قوله تعالى: * (قالوا سلاما قال سلام) * [الآية: 69].
قال ابن عطاء: سلام لك رتبة الخلة من الزلل.
* (قال سلام) *: أي هذه السلامة التي توجب لي السلام من السلام.
قال الترمذي: كانت الملائكة قصدوا هلاك قوم لوط فلما رآهم الخليل صلى الله عليه وسلم فزع
منهم، فزادوا ذلك فيه، فقالوا: سلاما، أي قد سلمت أنت وأهلك وقصدنا لهلاك الأمة
العاصية، فأنت ومن معك منا في سلامة وسلام، فقال سلام - الحمد لله الذي أمنني
وأهلي من الهلاك.
قوله تعالى: * (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) * [الآية: 69].
قال بعضهم: من آداب الفتوة إذا ورد الضيف أن يبدأ أولا بإكرامه في الإنزال ثم
يثنيه بالطعام ثم بالكلام ألا ترى الخليل عليه السلام كيف بدأ بالطعام بعد السلام، فقال:
فما لبث أن جاء بعجل حنيذ، وهو تعجيل ما حضر والتكلف بعد ذلك لمن أحب.
قوله تعالى: * (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم) * [الآية: 70].
سمعت غير واحد من أصحابنا يحكون عن البوشنجي أنه قال: من دخل هذه
الدويرة ولم يبسط معنا في كسرة أو فيما حضر فقد جفاني غاية الجفاء.
سمعت أبا بكر بن إبراهيم يقول: سمعت أبا جعفر بن عبدوس يقول: من أشبع من
طعام العقد أو الفتيان فقد أظهر كبره.
وقيل في قوله: نكرهم: نكر أخلاقهم، مما تبين فيهم من الخير.
قوله تعالى: * (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) * [الآية: 73].
قال بعضهم: بركات أهل البيت من دعوات الخليل، ودعوات الملائكة وأمر النبي
صلى الله عليه وسلم بالدعاء له في الصلاة في قوله: كما باركت على إبراهيم، فبارك علينا، فأنا من
أهل بيته وأولاده.
قوله تعالى: * (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) * [الآية: 74].
قال بعضهم: ذهب عنه روع ما يجده في نفسه من تنزههم عن طعامه، وعلم أنهم
الملائكة، وجاءته البشرى بالسلام من الله لما فرغ من قضاء حق الضيف ولقي البشرى
رجع إلى حد الشفقة على الخلق والمجادلة عنهم، يجادلنا في قوم لوط: الرحمة التي
321

جبله الله عليها.
قوله تعالى: * (لو أن لي بكم قوة...) * [الآية: 80].
من نفسي لمنعتكم عن معصية ربي، ولكن ألتجىء إلى من يقدر على منعكم منه
وصرفكم عنه وهو الحق * (أو آوى إلى ركن شديد) * [الآية: 80].
قيل: آوى إلى حصن حصين، وأمنع حرز، وهو القادر على ذلك كله.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبا العباس بن عطاء يقول في هذه الآية
قال: لو أن لي بكم قوة لو أن المعرفة بيدي لأوصلتها إليكم.
قال بعضهم: لو أن لي جرأة على الدعاء لدعوت عليكم، أو آوى إلى ركن شديد:
من علم الغيب بما أنتم صائرون إليه من سعادة أو شقاوة.
وحكى الشبلي أنه قال في هذه الآية: لو أن النجاة بيدي، وكنت أقوى على
هدايتكم لعملت فيها وأصل إلى المعدن الذي تتفصل منه المعرفة لأوصلتكم إليه.
قال الواسطي في قوم لوط صلى الله عليه وسلم: * (لو أن لي بكم قوة) * وقول هود: * (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) *.
قال: لوط نطق نطق طبع، وهود عليه السلام نطق عن مشاهدة، لا يرى غيره،
ومن عتقته الموارد عن أماكنها هو أدفع ممن أعتقته الشواهد والأعراض.
قوله تعالى: * (وإنك لتعلم ما نريد) * [الآية: 79].
قال الجنيد رحمة الله عليه: سمعت السري رحمة الله عليه يقول: رأيت رب العزة
في المنام، فقال يا سري خلقت الخلق، وخلقت الدنيا، فذهب مع الدنيا تسعة أعشار
الخلق، وبقي معي العشر، ثم خلقت الجنة، فذهب مع الجنة تسعة أعشار ما بقي،
وبقي معي منهم العشر، ثم سلطت عليهم البلاء ففر من البلاء تسعة أعشار ما بقي،
وبقي عشر العشر، فقلت: ماذا تريدون لا الدنيا أردتم، ولا الجنة طلبتم، ولا من البلاء
فررتم، فأجابوني. فقالوا: إنك تعلم ما نريد. قال: فإني أنزل عليكم من البلاء ما لا
يطيق له الرواسي. فقالوا: ألست أنت الفاعل بنا فقد رضينا.
322

قوله تعالى: * (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) * [الآية: 81].
لذلك حكى عن السري رحمة الله عليه: أنه قال: قلوب الأبرار لا تعتمل الانتظار.
قال بعضهم: انتظار ما هو كائن قريب خصوصا إذا كان ذلك من خير صدق وموعد
حق.
قوله تعالى: * (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها) * [الآية: 82].
قال بعضهم: ما أدركتم الحكم السابق الجاري في الأزل عليهم قلبنا بهم أرضهم،
كما حكمنا عليهم بتقليب قلوبهم وصرفهم عن طريق الحق، وسبيل الرشاد.
قوله تعالى: * (وما هي من الظالمين ببعيد) * [الآية: 83].
قال محمد بن الفضل: ما أصاب قوم لوط ما أصابهم إلا بالتهاون بالأمر، وقلة
المبالاة، وارتكاب المحارم بالتأويلات.
قال الله تعالى: * (وما هي من الظالمين ببعيد) * أي ما العذاب ممن عمل ما عملوا من
تخطي الشرع، والتهاون بالأمر وارتكاب المناهي بالتأويلات ببعيد، والظالم من وضع ما
أمر به غير موضعه، إذ ليس كل مترسم بالطاعة مطيعا حتى يحفظ أوقات الطاعة باتباع
الأمر ممن فرط في ذلك، أو تخطى أوقات الأوامر صار في درجة العصاة التي قال الله:
* (وما هي من الظالمين ببعيد) *.
قوله تعالى: * (إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم) * [الآية: 84].
قال بعضهم: أقرب حال إلى الاستدراج الأمن والدعة، وتواتر النعم عليك وترادف
الخيرات عندك، ألا ترى الله يقول حاكيا عن بعض أنبيائه لأمته: * (إني أراكم بخير وإني
أخاف عليكم) *.
قال بعضهم: إني أراكم بخير أي بنعمة من الله، وإني أخاف عليكم تقصيركم في
شكر النعمة.
قوله تعالى: * (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) * [الآية: 86].
قال بعضهم: ما ادخره الله لكم من كراماته خير مما تسألونه فيه.
323

وقيل: فضله القديم عليكم مما تستجلبونه بأعمالكم إن كنتم مؤمنين.
وقال بعضهم: مؤمنين: موقنين أن اختيار الحق للعبد خير من اختياره لنفسه.
قوله تعالى: * (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) * [الآية: 88].
قال أبو عثمان: ليس بواعظ من كان واعظا بلسانه دون عمله، وليس بحكيم من لم
تكن أفعاله أفعال الحكماء، وإنما الحكيم من يكون حكيما في نطقه، حكيما في فعله،
حكيما في جميع أحواله، وإلا فإنه يقال: ناطق بالحكمة.
وقيل: إن الله عز وجل أوحى إلى عيسى صلى الله عليه وسلم يا عيسى عظ نفسك، فإن اتعظت،
وإلا فاستحي مني.
قوله تعالى: * (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) * [الآية: 88].
قيل فيه: مرادي صلاحكم إن ساعدكم التوفيق، ولا أستطيع أنا ذلك لكم إلا بمعونة
من الله لي عليه.
قوله تعالى: * (وما توفيقي إلا بالله) * [الآية: 88].
قال النهرجوري: التوفيق حسن عناية سيق إلى العبد ليس فيه سبب ولا منة إليه
طلب.
قال بعضهم: التوفيق هو الدليل الذي يدل على سبيل الحق، ويبعد عن نهج
الباطل، وسلوكه، وهو أن يوصل إلى العبد ما جرى له فيه من العناية في الأزل.
قوله تعالى: * (عليه توكلت وإليه أنيب) * [الآية: 88].
قال الجنيد رحمة الله عليه: التوكل أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدة
الفاقة، ولا نزول عن حقيقة الشكور إلى الحق. مع وقوفك عليها.
قال بعضهم: التوكل: ترك رؤية التوكل وإسقاط رؤية الوسائط، والتعلق بأعلى
الوثائق.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: التوكل: أن تستوي عندك أفخاذ السباع، والمتكأ
على الجشايا.
قال ابن عطاء في قوله: ' وإليه أنيب ': قال إليه أرجع عن جميع ما لي وعلي، وأن
لا أعتمد سواه.
324

قال بعضهم: الإنابة: هي الرجوع عن جميع ما له، ثم إذا صح له هذا يكون
مرجعه منه إليه، فبقي مستهلكا في مشاهدة المرجوع، فلا يكون له رجوع ولا ثبوت.
قوله تعالى: * (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود) * [الآية: 90].
قال محمد بن الفضل: من لم يكن ميراث استغفاره تصحيح توتبه، كان كاذبا في
استغفاره، ومن لم يكن ميراث توبته تصحيح محبته، كان...
قال الشبلي: ما من حرف من الحروف إلا وهو يسبح الله تعالى بلسان، ويذكره بلغة
لكل لسان منها حروف، ولكل حرف لسان، وهو سر الله تعالى في خلقه الذي تقع
زوائد الفهوم وزيادات الأذكار.
قال حارث المحاسبي: إن الله تعالى لما خلق الأحرف، دعاها إلى الطاعة، فأجابت
على حسبما جلاها الخطاب، وألبسها، وكانت الحروف كلها على صورة الألف. إلا أن
الألف بقيت على صورتها وجليتها التي ما ابتدئت.
325

سورة الرعد
قوله عز وجل: * (يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون) * [الآية: 2].
قال ابن عطاء: يدبر الأمور بالقضاء السابق، ويفصل الآيات بالأحكام الظاهرة لعلكم
تتيقنون إن الذي يجري عليكم هذه الأحوال لا بد لكم من الرجوع إليه.
قوله عز وجل: * (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي) * [الآية: 3].
قال بعضهم: هو الذي بسط الأرض وجعل فيها أوتادا من أوليائه، وسادة من
عبيده، فإليهم الملجأ، وبهم الغياث فمن ضرب في الأرض يقصدهم فاز ونجا، ومن كان
سعيه لغيرهم خاب وخسر.
سمعت علي بن سعيد يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: كان في جواز الجنيد
إنسان مصاب في حربة، فلما مات الجنيد، وحملنا جنازته، فلما رجعنا تقدم خطوات،
وعلا موضعا عاليا، واستقبل بوجهه، وقال: يا أبا محمد إني أرجع إلى تلك الحربة
وقد فقدت ذلك السيد، ثم أنشأ يقول: وا أسفي من فراق قوم هم المصابيح والحصون
والمدد والمزن والرواسي والخير والأمن والسكون لم تتغير لنا الليالي حتى توفتهم المنون
فكل جفن لنا قلوب وكل ماء لنا عيون.
قوله عز وجل: * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) * [الآية: 3].
قال بعضهم: الفكرة تصفية القلوب لموارد الفوائد.
قال أبو عثمان: الفكرة استرواح القلب، من وساوس التدبير.
326

قال ابن عطاء: التبصرة لمن تفكر في ابتداء الخلق، وانتهائهم، ومصير كلهم إلى
الفناء، ودوام البقاء للأحد الصمد.
قوله عز وجل: * (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل) * [الآية: 4].
قال الواسطي: لم تتلون الإرادات، وتلونت المرادات كما تلونت الأشجار والأثمار
ولم تتلون المياه التي سقت الأشياء المختلفات كذلك العلم بالأشياء لا يتلون وتتلون
المعلومات فمن قال كيف فهو الضيق القدرة عنده وعلة تلوين المحدثات لعلة إثبات
الربوبية واقتدائها، ولئلا يسبق إلى الأوهام أن شيئا من الكون بغير إرادته الموت، والحياة
والظلمة والضياء، ولم تتلون الإرادة كذلك ما أراد من الكفر والإيمان.
قوله تعالى: * (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) * [الآية: 4].
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ' العاقل من عقل عن الله أمره '.
سمعت القاضي يقول: سمعت أبا علي البنوي يقول: قال أبو بكر الواسطي: العقل
ما عقلك عن المخازي.
قال أبو عثمان: العاقل من وفق لملازمة طريق رشده ومنع عن اتباع غيه.
سئل أبو حفص عن العاقل، فقال: من أعرض عما لا يعنيه واشتغل بما يعنيه.
قوله تعالى: * (وإن تعجب فعجب قولهم) * [الآية: 5].
قال الجنيد: ذهب العجب بقوة سلطان العجب، وكل العجب من العجب أن لا
عجب.
قال الله تعالى: * (وإن تعجب فعجب) *.
قال الترمذي: ليس العجب من العجب، العجب ممن يتعجب إذ لا عجب.
قوله عز وجل: * (إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * [الآية: 6].
قال بعضهم: إن ربك ليستر على أودائه ما أظهروا من المخالفات، ومن ظلمهم
أنفسهم باتباع هواها، والسعي في موافقة رضاها.
قال أبو عثمان: إنما يرجو المغفرة من الله من يرتكب الذنوب على خطر وخوف
وحذر، لا من يقتحم فيها من غير مبالاة.
قوله عز وجل: * (إنما أنت منذر) * [الآية: 7].
327

قال ابن عطاء: إنما أنت مخبر عنا بصدق ما أكرمناك به من القرب، والزلف.
قال بعضهم: أنت المبلغ، والتوفيق يوصلهم إلى الهداية.
قوله عز وجل: * (وكل شيء عنده بمقدار) * [الآية: 8].
قال الحسين: كل ربط يحده، وأوقف مع وقته فلا يجاوز قدره، ولا يعدو طوره.
قال بعضهم: وكل شيء يوزن ومن لم يزن نفسه، ولم يطالع أنفاسه فهو في حيز
الغافلين، ومن لم يعرف مقداره وقدر عظيم النعمة عليه، أعجب بنفسه، أو بما يبدو
منه.
قوله عز وجل: * (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) * [الآية: 9].
قال ابن عطاء: العالم على الحقيقة، من يكون الشاهد والغائب عنده سواء في العلم
لا بأن يستدل، والعالم على الحقيقة هو الحق جل وعلا، الكبير في ذاته المتعالي في
صفاته.
قال بعضهم: عالم بما غيب فيك مما لا تعلمه من نفسك قبل أن يبديها أو يظهرها
وعالم بما يبدو من أفعالك على أي نية تعملها.
قال جعفر: في قوله: الكبير المتعال: كبير في قلوب العارفين محله فصغر عندهم كل
ما سواه وتعالى أن يتقرب إليه إلا بصرف كرمه.
قوله عز وجل: * (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) * [الآية: 10].
قال النصر آباذي: سواء منكم من أسر: ما أودعنا فيه لطائف برنا وكتم إشفاقا عليه،
أو أظهره ونادى عليه سرورا ومحبة له، فإنهما جميعا من أهل الأمانة في محل اليقظة.
قوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) * [الآية: 11].
قال بعضهم: المحفوظ بالأسباب محفوظ بالمسبب وأمره فالعلماء رأوا السبب،
والعارفون رأوا المسبب.
قال الله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) *.
قال ابن عطاء: الأسباب تحفظك من أمره فإذا جاء القضاء خلا بينك وبينه وكيف
يكون محفوظا من هو محفوظ من حافظه، والمحفوظ بالحقيقة من هو محفوظ بالحافظ
لا محفوظ من الحافظ.
328

قوله عز وجل: * (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * [الآية: 11].
قال الصادق: لا يوفقهم لتغيير أسرارهم ولا يغير عليهم أحوالهم ولو وصفهم لتغيير
أحوالهم، أسرارهم ومشاهدة البلوي، لذلوا وافتقروا فنالوا به النجاة.
قال النصر آباذي: لكل قوم تغيير وتبديل لكن لا يناقش العوام على ما يناقش عليه
أهل الصفوة.
وقال بعضهم: غيروا ألسنتهم عن حقائق ذكره فغير قلوبهم عن لطائف بره، وغيروا
أنفسهم عن معاني العبودية فغير قلوبهم عن دلائل الربوبية.
قوله عز وجل: * (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له) * [الآية: 11].
قال القاسم: إذا أراد هلاك قوم حسن في أعينهم موارد الهلاك حتى يمشون إليه
بأرجلهم وتدبيرهم، وهو الذي أتى بهم.
قوله عز وجل: * (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا) * [الآية: 12].
قال ابن عطاء: خوفا للمسافر، وطمعا للمقيم.
قال ابن البرقي: يريكم أنوار محبته، فبين خائف من استناره وطامع في تخليه.
قال أبو علي الثقفي: ورود الأحوال على الأسرار عندي كالبرق لا يمكث بل يلوح،
فإذا لاح فربما أزعج من خائف خوفه، وربما جرى من محب حبه.
قال أبو بكر بن طاهر: خوفا من اعتراض الكدورة في صفاء المعرفة، وطمعا في
الملامة في إخلاص المعاملة.
قال أبو يعقوب الأبهري: خوفا من القطع والافتراق وطمعا في القرب والإتيان.
وقال بعضهم: خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه.
قوله عز وجل: * (ويسبح الرعد بحمده) * [الآية: 13].
سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت ابن الريحاني يقول: الرعد صعقات
الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم.
قوله عز وجل: * (له دعوة الحق) * [الآية: 14].
قال ابن عطاء: أصدق الدواعي دواعي الحق فمن أجاب داعي الحق بلغه إليه الحق،
329

ومن أجاب دواعي النفس رمى به إلى الهلاك.
قال الجنيد: داعي الحق، داعي رشد لا يقع للشيطان فيه يد ولا يكون للنفس فيه
نصيب وداعي الحق إذا برت، أبرت أنوار الحق فلا يبقى على المدعو ريب ولا شك
بحال.
قال بعضهم: داعي الحق من يدعو بالحق إلى الحق.
قوله عز وجل: * (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) * [الآية: 14].
قال جعفر: من دعا بنفسه فإلى نفسه دعا وهو الكفر والضلال وذلك محل الخيانة
والإسقاط من درجات أهل الأمانة فإن الدواعي تختلف: داع بالحق، وداع إلى الحق،
وداع إلى طريق الحق كل هؤلاء دعاة يدعون الخلق إلى هذه الطرق لا بأنفسهم وهذه
طرق الحق وداع يدعو بنفسه فإلى أي شيء دعا فهو ضلال.
قوله عز وجل: * (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها) * [الآية: 15].
قال الجنيد: العارف طوعا، والمعرض كرها.
وقال إذا نزلته المصائب ذل، وإذا جاءه الرجاء مل.
قوله تعالى: * (قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور) *
[الآية: 16].
قال أبو عثمان: لا يستوي من حل بنور التوفيق وهدى لطريق الخدمة ومن عمي
عنها وحرم رؤيتها أم هل يستوي من هو في أنوار التوفيق مع من هو في ظلمات
التدبير.
قال أبو حفص: الأعمى حقا من يرى الله تعالى بالأشياء، ولا يرى الأشياء بالله
تعالى والبصير من يكون نظره من ربه إلى المكونات.
قوله تعالى: * (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) * [الآية: 17].
قال الواسطي: خلق الله تعالى درة صافية فلاحظها بعين الجمال فزابت منه حياء،
* (فسالت أودية بقدرها) * فصفاء القلوب من وصول الماء إليه وحياء الأسرار من نزول
ماء ذلك المشرب.
قال ابن عطاء: * (أنزل من السماء ماء فسالت أودية) * هذا مثل ضربه الله تعالى للعبد
330

كما أنه إذا سال السيل في الأودية، لم يبق في الأودية نجاسة إلا كنسها وذهب بها،
كذلك إذا سال النور الذي قسم الله تعالى للعبد في نفسه لا يبقى فيه غفلة ولا ظلمة
* (أنزل من السماء ماء) * يعني قسمة النور * (فسالت أودية بقدرها) * يعني في القلوب
الأنوار على ما قسم له في الأزل، * (فأما الزبد فيذهب جفاء) * فبذلك النور يصير القلب
منورا فلا يبقى فيه جفوة، * (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) * فذهب البواطيل
وتبقى الحقائق.
قال بعضهم: * (أنزل من السماء ماء) *: أنواع الكرامات فأخذ كل قلب بحظه،
ونصيبه فكل قلب مؤيد بنور التوفيق، أضاء فيه سراج المعرفة، وكل قلب زين بنور
الهدى أضاء فيه أنوار المعرفة، وكل قلب قيد بنور المحبة، أضاء فيه لهيب الشوق وكل
قلب عمى بلهيب الشوق أضاء فيه أنس القرب، كذلك القلوب تتقلب من حالة إلى
حالة حتى تستغرق في أنوار المشاهدة، أخذ كل قلب بحظه، ونصيبه إلى أن تبدو الأنوار
على الشواهد من فضل نور السر.
قوله عز وجل: * (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) *
[الآية: 17].
قال ابن عطاء: ما كان من الأحوال صدقا. ثبت في القلوب بركاتها، وما كان من
غير ذلك فإنه لا يبقى فيه خير.
قال الواسطي: في قوله تعالى: * (أنزل من السماء ماء) * هو القرآن في صرف الكرم
والفضل * (فاحتمل السيل زبدا رابيا) * رؤيتك الأعمال، وصولتك بها على جيرانك،
* (فأما الزبد فيذهب جفاء) * عند أهل التوحيد، * (وأما ما ينفع الناس) * وهو اليقين،
وهو ما سال من الله عليه من صرف الكرم فيبقى عليه.
قوله عز وجل: * (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) *
[الآية: 19].
قال السياري: ليس من استدل عليك بربه كمن يستدل بك على ربه وليس من تحقق
بما أنزل إليك من جهة الحق، كم تحققه من جهته، وليس من شاهد جريان الأشياء في
الأزل كمن شاهده في وقت ظهوره.
331

قوله عز وجل: * (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) * [الآية: 20].
قال بعضهم: الموفون بالعهد هم القائمون له بشرط العبودية من اتباع الأمر والنهي.
قال ابن عطاء: لا ينقضون ميثاق الأزل في وقت، بلى أنه لا رب لهم غيره ولا
يخافون غيره، ولا يرجون سواه، ولا يسكنون إلا إليه.
قوله عز وجل: * (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) * [الآية: 21].
قيل: هم الذين وصلوا أوقاتهم بالطاعات ووقفوا عند الحدود فلم يجاوزوها.
قال ابن عطاء: الذين يديمون على شكر النعمة ومعرفة منة المنعم بدوام النعمة
إليهم، وإيصالهم بهم.
قال بعضهم: هم المتحابون في ذات الله تعالى.
قوله تعالى: * (ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) * [الآية: 21].
قال الواسطي: الخشية منه، حقيقة الخوف منه، ومن غيره.
قال الله تعالى: * (ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) *.
قال بعضهم: الخشية هي مراقبة القلب أن لا يطالع في حال من الأحوال، غير الحق
فيمنعه.
قال ابن عطاء: الخشية سراج القلب، والخوف أدب النفس.
قوله تعالى: * (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم) * [الآية: 22].
قال أبو عثمان: صبروا عن المناهي أجمع، لا لخوف النار بل لسبب النهي، وحرمة
عظمة الناهي.
قال بعضهم: صبروا عن جميع مراداتهم وخالفوا النفس في اتباع الشهوات حفظا
لحدود الله تعالى عليهم.
قال بعضهم: هذا مقام المريدين، أمروا أن يصبروا على إرادتهم، وعلى ما يلحقهم
من الميثاق، ولا يطلبوا الرفاهية ولا يرجعوا إليها، ويكون ذلك ابتغاء لحقيقة تصحيح
الإرادة.
قوله عز وجل: * (سلام عليكم بم صبرتم) * [الآية: 24].
332

قال ابن عطاء: صبروا على ما أمروا به من الطاعات، وصبروا عما نهوا عنه من
المعاصي فقال الله تعالى لهم على لسان السفراء الصادقين: * (سلام عليكم بما صبرتم) *.
قال بعضهم: * (سلام عليكم بما صبرتم) * معنا عما لنا.
قوله عز وجل * (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) * [الآية: 25].
قال القاسم: نقض العهد هو الخروج من العبودية والدخول في الربوبية.
قال بعضهم: نقض العهد هو لزوم التدبير والاختيار وترك التفويض والتسليم بعد أن
أخبرك أن ليس لك من الأمر شيء.
قال أبو القاسم الحكيم: نقض العهد هو السكون إلى غير مسكون إليه والفرح إلى
غير مفروح به.
قوله عز وجل: * (وفرحوا بالحياة الدنيا) * [الآية: 26].
قال الواسطي: الدنيا مدرة ولك منها غبرة فمن أسرته غبرة فهو أقل منها، ومن
ملكه جناح بعوضة أو أقل فذلك قدره.
وقال أيضا: لا تدعوا الدنيا فتغرقكم في بحارها، وغرقوها في بحر التوحيد حتى
تجدوا منها شيئا.
قال بعضهم: أخبر الله تعالى عن الدنيا أنها في الآخرة متاع، والآخرة أقل خطر في
جنب الحقيقة من خطر الدنيا، في جنب الآخرة.
قوله عز وجل: * (قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب) * [الآية: 27].
قال بعضهم: يضل من قام بنفسه، واعتمد عليها عن سبيل رشده ويهدي إلى سبيل
رشده، من رجع إليه في جميع أموره، وتبرأ من حوله وقوته.
قال جعفر: يضل عن إدراكه ووجوده من قصره بنفسه، ويهدي أي يوصل إلى
حقائقه من طلبه.
قوله عز وجل: * (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن
القلوب) * [الآية: 28].
قيل في هذه الآية: القلوب على أربعة أنحاء: قلوب العامة، اطمأنت بذكر الله
وتسبيحه وحمده والثناء عليه لرؤية النعمة والعافية، وقلوب الخاصة، اطمأنت بذكر الله
333

وتسبيحه وذلك في أخلاقهم، وتوكلهم، وشكرهم، وصبرهم فسكنوا إليه، وقلوب
العلماء، اطمأنت بالصفات والأسامي والنعوت، فهم يلاحظون ما يظهر بها ومنها على
الدهور، وأما الموحدون كالغرقى لا تطمئن قلوبهم بحال وكيف يطمئن بذكر من
جهلوه، أم كيف يطمئن بذكر من لم يؤمنهم بل خوفهم وحذرهم.
قال إبراهيم الخواص: تفرق الناس في الحالتين، فمن دامت حركته وسعيه، كان
موصوفا بنفسه لغلبات شواهد نفسه عليه، لقوله: * (وكان الإنسان عجولا) *.
ومن دام سكونه كان موصوفا بالحق لغلبات شواهد الحق في سكينته لقوله: * (ألا
بذكر الله تطمئن القلوب) * [الآية: 28].
قال الحسين: من ذكره الحق بخير في أزله، اطمئن إليه في أبده.
قال النهرجوري: قلوب الأولياء مواضع المطامع فهي لا تتحرك، ولا تنزعج بل
تطمئن خوفا من أن يرد عليه مفاجأة مطالعه، فيجده مترسما بسوء الأدب.
قال الواسطي: هم فيها على أربعة ضروب، فالأول للعامة، لأنها إذا ذكرته ودعته
اطمأنت إلى ذكرها، فحظها منه الإجابة للدعوات، والثانية أطاعته وصدقته ورضيت عنه
فهم مربوطون في أماكن الزيادات قد اطمأنت قلوبهم إلى ذلك فكانوا ممزوجي الملاحظة
بشواهدهم، ومفسدي الطبائع برؤية طاعاتهم، والثالثة أهل الخصوص الذين عرفوا
الأسماء والصفات، وعرفوا ما خاطبهم الله تعالى به فاطمأنت قلوبهم بذكره لها، لا
بذكرهم له وبرضاه عنها، لا برضاهم عنه.
والرابعة: خصوص الخصوص وهم الذي كشف لهم عن ذاته وعلمهم علم صفاته
فأدرج لهم الصفات في الذات وأراهم إنه إنما تعرف إلى الحق بإقرارهم وعلمهم
أخطارهم فعلموا أن سرائرهم لا تقدر أن تسكن إليه، ولا يطمئن به. ومن كانت
الأشياء في سره كذلك، إذا ما يسكن ويطمئن فلا تجد قلبه، الطمأنينة لقدر المطمئن إليه
كلما عادت الزيادة عليه رآها حجابا لا يستقطع بالبر والنعم لأنها حجاب مستور وهباء
334

ونثور، فإن عزمت على الدخول في هذا المقام فاحتسب نفسك وأعظم الله أجرك.
قوله عز وجل: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *.
قال ابن عطاء: الذين صدقوا ما ضمنت لهم من الرزق والعمل الصالح ما كان بريئا
من الشرك والرياء والعجب.
قوله عز وجل: * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) *.
قال الجنيد: بالله قامت الأشياء وبه فنيت وبتجليه حسنت المحاسن وباستتاره قبحت
وسمجت.
قال محمد بن الفضل: لا تغفل عمن لا يغفل عنك وراقبه وكن حذرا.
قال الله تعالى: * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) * [الآية: 33].
قوله عز وجل: * (بل زين للذين كفروا مكرهم) * [الآية: 33].
قال بعضهم: زين الله تعالى طرق الهلاك في عين من قدر عليه الهلاك، فيراه رشدا
ليوصله إلى المقضي عليه من الهلاك.
قال الله تعالى: * (بل زين للذين كفروا مكرهم) *.
قال أبو زيد: اجتنب مكر النفس وأثبته له، فإنه أنقى من كل ما فيه، هو الذي
أهلك من هلك.
قوله عز وجل: * (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو) * [الآية: 36].
سئل أبو حفص. عن العبودية؟ فقال: ترك كل ما لك وملازمة ما أمرت به.
سئل محمد بن الفضل: عن صفة العبد، فقال ' ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر
على شيء ' فمن وجد من نفسه قوة وقدرة فليعلم أنه بعيد من الأمر.
قال أبو عثمان: العبودية اتباع الأمر على مشاهدة الأمر.
قال بعضهم: العبد الذي لا مراد له، ويكون مستغرقا في مراد سيده فيه.
قال ابن عطاء أو الجنيد: لا يرتقي أحد في درجات العبودية حتى يحكم فيما بينه
وبين الله تعالى، أوائل البدايات، وأوائل البدايات هي الفروض الواجبة والأوراد
الزكية، ومطايا الفضل وعزائم الأمر، فمن أحكم على نفسه هذا من الله تعالى عليه بما
بعده.
335

سئل سهل: متى يصح للعبد مقام العبودية؟
قال: إذا ترك تدبيره ورضى بتدبير الله تعالى فيه.
قوله عز وجل: * (وكذلك أنزلناه حكما عربيا) * [الآية: 37].
قال بعضهم: أحكام العرب السخاء والشجاعة، وهما من عرى الإيمان، وقيل في
قوله: * (حكما عربيا) * هذا مقدم ومؤخر، أي أنزلناه عربيا بلسانهم إذ كانوا هم
المخاطبين به حكما، أي مبينا فيه الحلال والحرام.
قوله عز وجل: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) *
[الآية: 38].
فلم يشغلهم ذلك عن القيام بأداء الرسالة، ونصيحة الأمة وإظهار شرائع الدين.
قوله عز وجل: * (لكل أجل كتاب) * [الآية: 38].
قال جعفر: للرؤية وقت.
قال ابن عطاء: لكل علم بيان، ولكل بيان لسان، ولكل لسان عبارة، ولكل عبارة
طريقة، ولكل طريقة أهل فمن لم يميز بين الأحوال فليس له أن يتكلم.
قوله عز وجل: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) * [الآية: 39].
قال الواسطي: منهم من جد بهم الحق ومحاهم عن نفوسهم بنفسه وقال: ' يمحو
الله ما يشاء ويثبت ' فمن فنى عن الحق بالحق لقيام الحق بالحق فنى عن الربوبية فضلا
عن العبودية، وقيل: يمحو الله ما يشاء من شواهد العبد حتى لا يكون على سره غير
ربه، ويثبت من يشاء في ظلمات شاهده حتى يكون غائبا أبدا عن ربه.
وقال ابن عطاء: * (يمحو الله ما يشاء) * عن رسوم الشواهد، والأعراض، وكلما يورد
على سره من عظمته وحرمته وهيبته ولو غاب أنواره، فمن أثبته فقد أحضره ومن محاه
فقد غيبه، والحاضر مرجوعه لا يعدوه.
قال الواسطي: يمحوهم عن شاهد الحق ويثبتهم في شواهدهم ويمحوهم عن
شواهدهم، ويثبتهم في شاهد الحق، ويمحو رسوم نفوسهم عن نفوسهم، ويثبتهم
برسمه.
قال ذو النون: العامة في قصص العبودية إلى أبد الأبد، ومنهم من هو أرفع منهم
336

درجة، غلبت عليهم مشاهدة الربوبية ومنهم من أرفع منهم درجة جد بهم الحق
ومحاهم عن نفوسهم وأثبتهم عنده، لذلك قال: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) *.
قال سهل: يمحو الله ما يشاء ويثبت الأسباب، وعنده أم الكتاب القضاء المبرم الذي
لا زيادة فيه ولا نقصان.
قال محمد بن الفضل: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) * من نسخ محكم الشرائع
وإثباتها، وقال أيضا: يمحو الإيمان من سر من يشاء، ويثبته في سر من يشاء.
قال ابن عطاء: يمحو الله أوصافهم ويثبت أسرارهم لأنه موقع المشاهدة.
سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت الشبلي يقول في قوله: * (يمحو
الله ما يشاء ويثبت) * قال: يمحو ما يشاء من شهود العبودية، وأوصافها، ويثبت ما يشاء
من شهود الربوبية ودلائلها.
وقال سهل: يمحو الله ما يشاء من الأسباب ويثبت الأقدار.
قال بعضهم: يمحو الله ما يشاء يكشفه عن قلوب أهل محبته إخوان الشوق إليه،
ويثبت بتجليه لها، السرور والفرح به.
وقال بعضهم: يمحو الله من قلوب أعدائه آثار حكمته وأنوار بره، ويثبت في قلوب
أوليائه ما أجرى عليها من معرفة نعوته، فهم المقدمون في الأوقات والقائمون بحقوق
الله تعالى من غير كلفة ولا شك.
سمعت منصور بن عبد الله: يقول: سمعت أبا القاسم السكندري يقول: سمعت أبا
جعفر الملطي يقول عن علي بن موسى الرضا عن أبيه: عن جعفر بن محمد قوله:
* (يمحو الله ما يشاء ويثبت) * قال: يمحو الكفر ويثبت الإيمان، ويمحو النكرة ويثبت
المعرفة، ويمحو الغفلة ويثبت الذكر، ويمحو البغض ويثبت المحبة، ويمحو الضعف
ويثبت القوة، ويمحو الجهل ويثبت العلم، ويمحو الشك ويثبت اليقين، ويمحو الهوى
ويثبت العقل على هذا الشق ودليله * (كل يوم هو في شأن) * محو أو إثبات.
قوله عز وجل: * (وعنده أم الكتاب) * [الآية: 39].
قال جعفر: الكتاب الذي قدر فيه الشقاء والسعادة فلا يزاد فيه ولا ينقص منه * (ما
337

يبدل القول لدى) * والأعمال، أعلام فمن قدر له السعادة ختم له بالسعادة، ومن قدر
عليه الشقاوة ختم له بها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون ما بينه وبينها إلا
ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل
أهل النار حتى ما يكون بينه، وبينها إلا ذراع، فيختم عليه الكتاب السابق فيعمل بعمل
أهل النار فيدخلها '.
قوله تعالى: * (أولم يروا أنا نأتى الأرض ننقصها من أطرافها) * [الآية: 41].
قال محمد بن علي: يخرب الأرضين بذهاب أهل الولاية من بينهم فلا يكون لهم
مرجع إلي، ولى في نوائبهم ومحنهم فيتواتر عليهم المحن والنائبات فلا يكون فيهم من
يكشف الله تعالى عنهم. برعاية فتخرب.
قال أبو عثمان: هم الذين ينصحون عباد الله. ويحملونهم على طاعته فإذا ماتوا
مات بموتهم من يصحبهم.
قال أبو بكر الشاشي: يسبغ عليهم الرزق، ويرفع عنهم البركة.
قوله عز وجل: * (لا معقب لحكمه) * [الآية: 41].
قال ابن عطاء: أحكام الحق ماضية على عباده فيما ساء وسر ونفع وضر فلا ناقض
لما أبرم ولا مضل لمن هدى.
قوله عز وجل: * (فلله المكر جميعا) * [الآية: 42].
قال ابن عطاء: المكر حقيقة، ما مكر الحق بهم حتى توهموا أنهم يمكرون، ولم
يعلموا أنه مكر بهم حيث سهل عليهم سبيل المكر.
قال الحسين: لا مكر أبين من مكر الحق بعباده، حيث أوهمهم أن لهم سبيلا إليه
بحال أو للحدث اقترابه مع القدم في وقت، فالحق بائن وصفاته بائنة إن ذكروا
فبأنفسهم وإن شكروا فلأنفسهم، وإن أطاعوه فلنجاة أنفسهم ليس للحق منهم شيء لأنه
338

الغني القهار.
قوله عز وجل: * (ومن عنده علم الكتاب) * [الآية: 43].
قال سهل: الكتاب عزيز، وعلم الكتاب أعز، والعلم عزيز، والعمل بعلمه أعز،
والمشاهدة عزيز، والموافقة في المشاهدة أعز، والموافقة عزيز، والأنس في الموافقة أعز،
والأنس عزيز، والأدب في محل الأنس أعز.
339

سورة إبراهيم عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: * (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) *
[الآية: 1].
قال جعفر: عهد خصصت به فيه بيان هلاك سالف الأمم ونجاة أمتك، أنزلناه إليك
لتخرجهم به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات البدعة إلى أنوار السنة،
ومن ظلمات النفوس إلى أنوار القلوب.
قال أبو بكر: من ظلمات الظن إلى أنوار الحقيقة.
قال أبو عثمان: من ظلمات الشرك إلى أنوار الهدى.
قال أبو حفص: الظلمة رؤية الفعل والنور رؤية الفضل.
قوله عز وجل: * (الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * [الآية: 2].
قال الواسطي: الكون كله له فمن طلب الكون فإنه المكون، ومن طلب الحق
فوجده سخر له الكون بما فيه.
قوله عز وجل: * (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) * [الآية: 3].
قال أبو علي الجوزجاني: من أحب الدنيا حرم عليه طلب طريق الآخرة، ومن طلب
الآخرة حرم عليه طلب طريق نجاته، ومن طلب طريق النجاة حرم عليه رؤية فضل الله
تعالى عليه، ومن طلب رؤية طريق الفضل حرم عليه الوصول إلى المتفضل.
قوله عز وجل: * (وذكرهم بأيام الله) * [الآية: 5].
قال أبو الحسن الوراق في هذه الآية: افتح عليهم سبيل الشكر لئلا يغتروا بالنعم
وقيل دلهم على معرفة نعمي عندهم لئلا يستعظموا نور طاعتهم، وقيل شكرهم في
جنب تواتر نعمي لديهم.
قوله عز وجل: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * [الآية: 7].
سئل عنها ابن عطاء فقال: إذا رددت الأشياء إلى مصادرها من غير حضور منك لها
340

فقد تم الشكر للإسلام.
قال الجوزجاني: لئن شكرتم للإسلام لأزيدنكم الإيمان ولئن شكرتم للإيمان لأزيدنكم
الإحسان، ولئن شكرتم للإحسان لأزيدنكم المعرفة، ولئن شكرتم المعرفة لأزيدنكم
الوصلة، ولئن شكرتم الوصلة لأزيدنكم القرب، ولئن شكرتم القرب لأزيدنكم الأنس.
قال الجريري: كمال الشكر في مشاهدة العجز عن الشكر.
روي أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك تجديد منة لك
علي، قال يا داود الآن شكرتني.
قال أبو بكر الوراق: شكر النعمة مشاهدة المنة.
قال حمدون: شكر النعمة زيادة نعمة، ومن شكر المنعم زاده أن ترى نفسك فيه
طفيليا.
سئل بعضهم عن الشكر فقال: أن لا تتقووا بنعمه على معاصيه.
قال بعضهم: من شكر النعمة زاده نعمة، ومن شكر المنعم زاده معرفة به ومحبة له.
قال ابن عطاء: لئن شكرتم: هدايتي، لأزيدنكم: خدمتي، ولئن شكرتم: خدمتي
لأزيدنكم: مشاهدتي، ولئن شكرتم: مشاهدتي، لأزيدنكم: ولايتي، ولئن شكرتم:
ولايتي، لأزيدنكم: رؤيتي.
قوله عز وجل: * (إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) *
[الآية: 8].
قال حمدون: الغني في الحقيقة من لم يزل غنيا ولا يزال غنيا ما زاده إيجاد الخلق
غنى، بل خلقهم على حد الافتقار إليه وهو الغني الحميد.
قال الواسطي: ليس الإيمان بمقرب إلى الحق ولا الكفر بمبعد عنه ولكن جرى ما
جرى به الأمر في الأزل، فالشقاوة والسعادة والكفر والإيمان، أعلام لا حقائق،
والحقائق القضاء الذي سبق في الدهور بل جرى في سابق علمه أن لا يكرم بالسعادة إلا
من أهله لقربه بفضله، ولا يهين بالشقاء إلا من أبعده، ثم جعل الكفر علما لأهل
الشقاء وحلية لهم، بل الإيمان عين الكرامة، وشاهد الكفر عين الهوان وشاهد البعد
اللعنة والله أعلم.
341

قوله عز وجل: * (فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) *
[الآية: 10].
قال الثوري: دعا الله الخلق بنفسه إلى نفسه وذكر من أسمائه فاطر، لئلا يتعلقوا
بشيء من الأكوان فقال: فاطر السماوات والأرض، إن أردتم ما فيهما فهو عندي، وإن
أردتموني فلا تلتفتوا إليهما. وارجعوا منهما إلي.
قال بعضهم: ما دعا الله تعالى إليه ولا الأنبياء وإنما دعا من دعا بحظوظهم؛
قال الله تعالى: * (يدعوكم ليغفر لكم) * [الآية: 10].
قوله عز وجل: * (ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) * [الآية: 11].
قال أبو عثمان: من الله تعالى على خواص عباده، فإن الإحصاء والعدد، فأول منة
له عليهم التوحيد ثم المعرفة ثم أن بعث فيهم الرسل ثم أن سماهم عباده، ثم له عليهم
في كل نفس نعمة عرفوها، أو لم يعرفوها.
قال سهل: يمن على من يشاء من عباده بتلاوة كلامه والفهم منه.
وقال بعضهم: يمن على من يشاء بالمعرفة.
قال ابن عطاء: يمن على من يشاء بالهداية والتوفيق.
قوله عز وجل: * (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا) * [الآية: 12].
قال أبو تراب: التوكل طرح البدن في العبودية، وتعلق القلب بالربوبية
والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أعطى شكر وإن منع صبر.
قال الزقاق: التوكل رد العيش إلى يوم واحد وإسقاط هم غد.
قال رويم: التوكل الثقة بالوعد.
قال الشبلي: التوكل هو أن يكون مع الله تعالى كما لم يكن ويكون الحق كما لم
يزل.
سمعت علي بن بندار يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول وسئل عن التوكل؟
342

فقال: التوكل معاينة الاضطرار.
قال أبو عمر الأنماطي: التوكل النظر إلى الأكوان بالتسخير.
وسئل بعضهم عن التوكل فقال: غض البصر عن الدنيا وقطع القلب عنها.
قيل للحسين: ما التوكل؟ قال: الجمود تحت الموارد.
وقال حكم الأصمعي في قوله: * (وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا) * ما
لنا أن لا نتوكل بالله وقد أعطانا سبلنا للإسلام والهدى.
قوله عز وجل: * (ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق) * [الآية: 19].
قال سهل: خلق الله تعالى الأشياء كلها بقدرته وزينها بعلمه، وأحكمها بحكمته،
فالناظر من الخلق إلى الخالق يتبين له من الخلق عجائب الخلقة، والناظر من الخالق إلى
الخلق يكشف له عن آثار قدرته وأنوار حكمته وبدائع صنعته.
قال بعضهم: خلق السماوات عالية على الأرضين مرتفعة عليها وجعل عمارة
الأرضين من بركات السماء وما يصل إليها منها كذلك خلق النفوس وجعل القلوب أمراء
عليها، وجعل راحة النفوس فيما يصل إليها من بركات القلوب فمن طهر قلبه
لاستصلاح المشاهدة أتت الفوائد والزوائد من الحق في جميع الأوقات.
قوله عز وجل: * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * [الآية: 22].
قال محمد بن حامد: النفس محل كل لائمة فمن لم يلم نفسه على الدوام، ورضي
عنها بحال من الأحوال فقد أهلكها.
قال بعضهم: لا تلوموني، فإني لم أجبركم على المعاصي وإنما دعوتكم فأجبتم لي،
فلوموا أنفسكم: لإجابة دعائي.
قوله عز وجل: * (تحيتهم فيها سلام) * [الآية: 23].
قال بعضهم: تحيات أهل الجنة وسلامهم على ضروب: فأهل الصفوة والقربة تحيتهم
من ربهم وسلامهم منه على قوله: * (سلام قولا من رب رحيم) *.
ولأهل الطاعات والدرجات تحية الملائكة وسلامهم. قال الله تعالى: * (والملائكة
343

يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) *.
قوله عز وجل: * (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة) * [الآية: 24].
قال ابن عطاء: الكلمة الطيبة: لا إله إلا الله على التحقيق، والشجرة الطيبة هي
تظهر أسرار الموحدين عن دنس الأطماع بالثقة بالله والانقطاع إليه عما سواه.
قال محمد بن علي: الشجرة الطيبة الإيمان أثبتها الله في قلوب أودائه وجعل أرضها
التوفيق وأوراقها الولاية وسماءها العناية وماءها الرعاية وأغصانها الكفاية، وأوراقها
الولاية وثمارها الوصلة وظلها الأنس، فأغصانها ثابتة في قلب الولي وفروعها ثابتة في
السماء بالمزيد من عند الجبار، فالأصل يرعى الفرع بدوام الإشفاق والمراقبة، والفرع
يهدي إلى الأصل ما يجتنيه من محل المشاهدة والقرب هكذا أبدا قلب المؤمن وفؤاده.
سمعت محمد بن عبد الله الدمشقي يقول: سمعت ابن المولد يقول: قال أبو سعيد
الخراز: خزائن الله تعالى في السماء الغيوب وخزائنه في الأرض القلوب لأن الله تعالى
خلق قلب المؤمن بيت خزائنه ثم أرسل ريحا فهبت فيه نكتة من الكفر والشرك والنفاق
والغش ثم أنشأ سحابة فأمطرت فيه ثم أنبت فيه شجرة فأثمرت الرضا والمحبة والشكر
والصفوة والإخلاص والطاعة وهو قوله: * (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في
السماء) *.
وقال بعضهم: كل شجرة في الدنيا إذا لم يكن لها حظ من الماء تجف، والشجرة
التي في قلبك تجف إذا لم تسقها بماء التوبة وبماء الندامة ثم بماء الحسرة، ثم بماء الشوق،
ثم يأتي سحاب المنة فتمطر على قلبك مطر الرحمة حتى يكون ماء الخدمة من تحت وماء
الرحمة من فوق فيكون طريا شهيا ثم يأتيه ثلاثة أشياء طريق العبودية في النفس،
وطريق الصحابة في القلب، وطريق الذكر في السر، فخدمة النفس الطاعة، وخدمة
القلب النية، وخدمة السر المراقبة على الدوام ثم يمطر عليه أمطارا على النفس مطر
الهداية، وعلى اللسان مطر اللطافة، وعلى القلب مطر العظمة، وعلى السر مطر المنة
وعلى الروح مطر الكرامة، فينبت من مطر اللسان الشكر والثناء ومن مطر النفس الطاعة
والوفاء، ومن مطر القلب الصدق والصفاء، ومن مطر السر الشوق والحياء، ومن مطر
الروح الرؤية واللقاء.
344

قوله عز وجل: * (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) * [الآية: 25].
قال الواسطي: النفس كانت مواتا فأحييت وكانت جاهلة فعلمت، وكانت عمياء
فبصرت بقوله: * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) * فنضرت بالتوحيد وابتهجت
بالتفريد، والله الفعال لما يريد هذا تفسير قوله: * (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) *.
قوله عز وجل: * (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة) * [الآية: 26].
قال محمد بن علي: الشجرة الخبيثة اللسان، ما لم يقطعها المؤمن بسيف الخوف،
فإنها تثمر أبدا الكلمات الخبيثة.
قال بعضهم: الشجرة الخبيثة النفاق وهي التي لا تقر قرارا حتى يهوي بصاحبها إلى
النار.
قال ابن عطاء: الشجرة الخبيثة الشهوات وأرضها النفوس وماؤها الأمل وأوراقها
الكسل، وثمارها المعاصي وغايتها النار.
قوله عز وجل: * (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) * [الآية: 27].
قال: يثبت الله الذين آمنوا: على مقدار المواجيد يكون المخاوف والأمن، ولم ينزع
الخوف ولا انفلت منه أحد لحظة، وما من أحد يسعى إلا خاف عقبى سعيه وهو الذي
لا يخاف عقباها، فمن أثبته بالقول أسقط عنه تلك المخاوف.
قوله عز وجل: * (ويفعل الله ما يشاء) * [الآية: 27].
قال بعضهم: الخلق كلهم مجبورون تحت القدرة، ومقهورون على الجبروت، ليس
إليهم من أمورهم شيء ممنوعون عما يريدون مقضي عليهم بما يكرهون، هذا من آثار
العبودية والله مدبر الأمور ومبدئها ومنشئها أنشأها على إرادته وأبداها على مشيئته لا
ناقض لما أبرم فالأفعال على الحقيقة فعله، والكون صنعه، لا علة لفعله ولا لصنعه.
قوله عز وجل: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) * [الآية: 28].
قال أبو عثمان: أجهل الخلق بنعمة الله من استعملها في أنواع المعاصي ولم يقم
بشكرها من أن يعمل بها في طاعة الله تعالى.
345

قوله عز وجل: * (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) * [الآية: 30].
قال ذو النون: التمتع أن يقضي العبد ما استطاع من شهوته.
قوله عز وجل: * (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) * [الآية: 32].
قال جعفر: سخر لكم السماوات بالمطر، والأرض بالنبات، والبحر أن يتخذ سبيلا
ومتجرا، وسخر لكم الشمس والقمر، يدوران عليك ويوصلان إليك منافع الثمار
والزروع، وسخر قلب المؤمن لمحبته ومعرفته، وجعل الله تعالى من العباد القلوب لأنه
موضع نظره ومستودع أمانته ومعرفة أسراره.
قوله عز وجل: * (وآتاكم من كل ما سألتموه) * [الآية: 34].
قال يحيى بن معاذ: إن الله تعالى أعطاك أكثر ما في خزائنه وأجله وأعظمه من غير
سؤال وهو التوحيد فكيف يمنعك ما هو دونها من الثواب، ودفع العقاب بسؤال فاجتهد
أيها العبد أن لا يكون سؤالك إلا منه ولا رغبتك إلا فيه، ولا رجوعك إلا إليه فإن
الأشياء كلها له، فمن أشغله بغيره عنه فقد قطع عليه طريق الحقيقة ومن شغله به،
وجعل الأشياء طوع يديه فينقلب له الأعيان ويقرب له البعيد ويمشي حيث أحب، وهذا
من مقامات العارفين.
قوله عز وجل: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * [الآية: 34].
تعد نعمة من المنعم، فتعجز عن الإحصاء فكيف إذا تتابعت، قيل - أجل النعم
استواء الخلقة والهام المعرفة والذكر من سائر الحيوان، ولا يطيق القيام بشكرها أحد،
وقيل: إن الإنسان لظلوم: لنفسه حيث ظن أن شكره يقابل نعمه، كفار: محجوب عن
رؤية الفضل عليه في البدء والعاقبة.
قال سهل: إن تعدوا نعمة الله: عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم لن تحصوها بل جعل السفير فيما
بينكم وبين السفير الأعلى والواسطة الأدنى.
قال ابن عطاء: أجل النعم رؤية معرفة النعم، ورؤية التقصير في القيام بشكر المنعم.
قال ابن عطاء: النعمة أزلية كذلك يجب أن يكون شكرها أزلي واعلم أن لك نفسا
وروحا وقلبا، فنعمة النفس الطاعات، ونعمة الروح الخوف، ونعمة القلب اليقين
والحكمة، ونعمة الروح المحبة والذكر، ونعمة المعرفة الألفة بالنفس في أبحر الطاعات
346

تتنعم والقلب في أبحر اليقين يتقلب، والروح في أبحر القربة، وانتظار العيان تتنعم.
) * قوله عز وجل * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * [الآية: 35].
قال ابن عطاء: أراد بهذا أن يجعل قلبه آمنا من الفراق والحجاب.
قوله عز وجل: * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * [الآية: 35].
قال السياري: أن تعبد الأهواء.
قال الدينوري: الأصنام مختلفة فمنهم من صنمه نفسه، ومنهم من صنمه ولده،
ومنهم من صنمه ماله ومنهم من صنمه تجارته، ومنهم من صنمه زوجته، ومنهم من
صنمه حاله، فالأصنام مختلفة وكل واحد من الخلق مربوط بصنم من هذه الأصنام،
والتبرىء أي من هذه الأصنام، هو أن لا يرى الإنسان لنفسه حالا ولا محالا، ولا يعتمد
شيئا من أفعاله ولا يسكن من حاله إلى شيء راجعا على نفسه باللوم في جميع ما يبدو
من الخير والشر، غير راض به.
قال جعفر: لا تردني إلى مشاهدة الخلة ولا ترد أولادي إلى مشاهدة النبوة.
قال ابن عطاء: إن الله تعالى أمر إبراهيم ببناء الكعبة فلما بنى الكعبة قال: ربنا تقبل
منا: فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم أنا أمرتك ببناء البيت وخصصتك من بين الأنبياء
بذلك ومننت عليك بذلك ووفقتك لما وفقتك ألا تستحي أن تمن علي، ويقول: ربنا
تقبل مني نسيت منتي وذكرت رؤية فعلك، قال: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام أي
نفسي شر صنم إذا تابعت هواها. واشتغلت بحظها فاشغلها بك، واقطعها عما سواك.
قال ابن عطاء: أن تعبد أصنام الخلة والركون إليها وهو خطرات الغفلة ولحظات
الخلة.
وقال أيضا: أن تعبد الأنفس لأن لكل نفس صنما من الهوى إلا من طهر بالتوفيق.
قال الجنيد: واجنبني وبني، أي امنعني وبني أن نتقرب إليك بشيء سواك.
قوله عز وجل: * (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني) * [الآية: 36].
قال بعضهم: لما هرب الخليل في استرزاقه للمؤمنين، بأن قيل له: ومن كفر، فلما
347

قال: ومن عصاني، لم يدع عليهم لكن قال: * (فإنك غفور رحيم) * أي من صفتك
الغفران والرحمة وليس لي على عبادك يد.
قوله عز وجل: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) * [الآية: 37].
قال ابن عطاء: أسكنتهم حضرتك بإخراجي إياهم عن حدود المعلومات والمرسومات.
قال آخر: سهلت عليهم طريق الرجوع إليك ليلا بمجرهم في الكونين عنك شيء.
قال بعضهم: علمتهم بذلك طريق التوكل وترك الاعتماد على الأسباب.
قوله عز وجل: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) * [الآية: 37].
قال جعفر: لأن أفئدتهم تهوي إليك.
قال ابن عطاء: من انقطع عن الخلق بالكلية صرف الله تعالى إليه وجوه الخلق وجعل
مودته في صدورهم ومحبته في قلوبهم وذلك من دعاء الخليل لما قطع بأهله عن الخلق
والأرزاق والأسباب، دعا لهم فقال: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) *.
قوله تعالى: * (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) * [الآية: 38].
قال الخواص: ما نخفي من حبك وما نعلن من ذكرك.
قال ابن عطاء: ما نخفي من الأحوال، وما نعلن من الآداب.
قال أبو عثمان: طهر سرك وأعمر باطنك وأصلح خفيات أمورك، فإن الله لا يخفى
عليه شيء وهو الذي يعلم ما نخفي وما نعلن.
قال بعضهم: تفرد الحق بإيجاد المفقودات، وتوحد بإظهار الخفيات من الموافقة
والمخالفة.
وقال الحسين: ربنا إنك تعلم ما نخفي من الصحبة وما نعلن من الوجد.
قوله عز وجل: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) * [الآية: 42].
قال أحمد بن حضرويه: لو أذن لي في الشفاعة ما بدأت إلا بظالمي، قيل له كيف؟
قال: لأني نلت بظالمي ما لم أنله من والدي. قيل: وما ذاك؟ قال تعزية الله تعالى في
قوله: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) * وقال أيضا: لا أغتنم سفرا، إلا أن
يكون فيه معي من يؤذيني ويظلمني شوقا مني لتغذية الله للمظلومين.
قال بعض المتقدمين: الظلم على ثلاثة أوجه: ظلم مغفور، وظلم محاسب، وظلم
348

غير مغفور.
فالظلم المغفور ظلم الرجل نفسه، والظلم المحاسب ظلم الرجل أخاه والظلم الذي
لا يغفر هو الشرك.
قال ميمون بن مهران: كفى بهذه الآية وعيدا للظالم وتعزية للمظلوم.
قوله عز وجل: * (وأفئدتهم هواء) * [الآية: 43].
قال ابن عطاء: هذه صفة قلوب أهل الحق. ألا ترى الأهواء قائما بالمشيئة والإيرادة
غير قائمة بعلاقة، كذلك قلوب أهل الحق لا تلتفت إلى سواه ولا قرار لها مع غير الله
تعالى.
قوله عز وجل: * (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) * [الآية: 45].
قال أبو عثمان: مجاورة الفساق وأهل المعاصي من غير ضرورة من فسق كامن،
ومعصية مستترة في القلب لأن الله تعالى ذم فريقا من عباده. فقال: * (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) * ولم يعذر من أقام فيها وقال: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) *.
قوله عز وجل: * (يوم تبدل الأرض غير الأرض) * [الآية: 48].
قال الواسطي في هذه الآية: ذلك لما يظهر من كشف حقائقه في بني آدم من أنبيائه
وأوليائه، لأن الأرض والسماوات لا تثبت على ما يثبت، يظهر على الأبدان من أنوار
الحق.
قيل لبعضهم: فأين الأشياء إذ ذاك؟ قال: عادت إلى مصادرها. وقيل: متى كانوا
شيئا حتى صاروا لا شيء؟ هم أقل من الهباء في الهواء في جنب الحق.
قوله عز وجل: * (هذا بلاغ للناس ولينذروا به) * [الآية: 52].
قال جعفر: موعظة للخلق وإنذار لهم ليجتنبوا قرناء السوء، ومجالسة المخالفين فإن
القلوب إذا تعودت مجالسة الأضداد تنعكس وتنتكس.
قال بعضهم: كشف للخلق ما ندبوا به وأمروا له وجعل ذلك إعذارا إليهم، وإنذارا
لهم.
349

سورة الحجر
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) * [الآية: 2].
قال بعضهم: * (ربما يود الذين كفروا) * فسقوا لو كانوا مجتهدين، وربما يود الذين
كسلوا لو كانوا مجتهدين، وربما يود الذين نسوا لو كانوا ذاكرين.
قال عبد الله بن المبارك: ما خرج أحد من الدنيا مؤمن ولا كافر إلا على ندامة،
وملامة لنفسه فالكافر لما يرى من سوء ما يجازى به، والمؤمن لرؤية تقصيره في القيام
بواجب الخدمة وترك الحرمة وشكر النعمة.
قال ابن الفرجي: الكفر ههنا كفران النعمة ومعناه: * (ربما يود الذين كفروا) * يعني
جهلوا نعم الله تعالى عندهم، وعليهم أن لو كانوا شاكرين عارفين برؤية الفضل والمنة.
قوله عز وجل: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) * [الآية: 3].
قال أبو عثمان: أسوأ الناس حالا من كان شغله ببطنه، وفرجه، وتنفيذ شهواته
حينئذ لا تلحقه أنوار العصمة، ولا يصل أبدا إلى مقام التوبة.
قال أبو سعيد القرشي: في هذه الآية من شغلته تربية نفسه، وطلب مرادها، والتمتع
بهذه الفانية عن إقبال علينا فأعرض عنهم، ولا تقبل عليهم، وذرهم وما هم فيه فلن
يصل إلينا إلا من كان لنا ولم يكن لسوانا عنده قدر، ولا خطر.
قال بعضهم: التزين بالدنيا من أخلاق المنافقين، والتمتع بها من أخلاق الكافرين.
قال الله تعالى: * (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) *.
قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * [الآية: 9].
قال ابن عطاء: نحن نزلنا الذكر شفاء، ورحمة وبيانا، وفرقانا نهدي به من كان
مرسوما بالسعادة منورا بتقدير السر عن المخالفة.
* (وإنا له لحافظون) *. قال ابن عطاء: أي حفظه في قلوب أوليائه ويستعمل جوارح
الخاص من عبادنا.
350

وقال جعفر: * (وإنا له لحافظون) * على من أردنا به خيرا وذاهبون به عمرا.
قوله عز وجل: * (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين) * [الآية: 16].
قال بعضهم: زين الله تعالى السماء بالكواكب والبروج وجعلها علامات يهتدى بها
في ظلمات البر والبحر. وزين القلوب باطلاعه عليها، وبأنواع الأنوار ليهتدي بتلك
الأنوار إلى مقامات المعرفة وهذه العلامات أنها يهتدي بها من كان يصير مفتوح عين
فؤاده ينظر إليه نظر عيان.
قوله عز وجل: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) * [الآية: 3].
قال الجنيد: قلوب العباد منها ما كانت محفوظة من نزغات الشيطان، ومنها ما كانت
محفوظة بأنوار المعرفة، ومنها ما كانت باللجأ، والاستغاثة. ومنها ما كانت محفوظة بلا
حول ولا قوة إلا بالله كما حفظ أسرار السماء من الشياطين بالكواكب.
قال تعالى: * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) * [الآية: 17].
بالخواطر التي ترد على القلوب كاستراق سمع الجن لأخبار السماء.
قوله عز وجل: * (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي) * [الآية: 19].
قال بعضهم: مد الأرض بقدرته، وأمسكها ظاهرا بالجبال الرواسي، وفي الحقيقة هو
مقام أوليائه من خلقه، بهم يدفع البلاء عنهم، ولمكانهم يصرف المكاره، ومن فوقهم
الأوتاد، ومن فوقهم الرواسي، فإلى المفزع مرجع العباد ومفزعهم ومرجع المفزع إذا
هال الأمر إلى الأوتاد، ومرجع الأوتاد إذا استعظم الأمر إلى الرواسي وهم خواص
الأولياء.
قال الله تعالى: * (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي) * [الآية: 19].
قوله عز وجل: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) * [الآية: 21].
قيل: إن الجنيد. كان إذا قرأ هذه الآية قال: فأين تذهبون؟
قال بعضهم: خزائن الحق عند الخلق القلوب أودع فيها أجل شيء؛ وهو التوحيد،
وزينها بالمعرفة، ونورها باليقين، ويحدها بالتفويض، وعمرها بالتوكل، وزخرفها
بالإيمان.
قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف
351

يشاء ' وجعل أثار أنوار القلوب على الجوارح من التسارع إلى الطاعات والتثاقل عن
المعاصي، والمخالفات، وهذا دليل لما قلت من الكرامات.
قال الله تعالى: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) *.
قال حمدون الفصال: قطع أطماع عبيده عن سواه بقوله، وإن من شيء إلا عندنا
خزائنه فمن دفع بعد هذا حاجة إلى غيره فهو لجهله ولومه.
قال رجل لأبي حفص: أوصني فقال يا أخي احفظ بابا واحدا تفتح لك الأبواب،
والزم سيدا واحدا تخضع لك الرقاب، وهكذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: ' يا
علي الزم بابا واحدا تفتح لك الأبواب واخضع لربك تخضع لك الرقاب '.
قال أبو سعيد الخراز: في هذه الآية بلاغ لمن عقل أن خزائن الأشياء عند الحق،
وبيده فلا يرجع إلى غيره في أمر دنياه، وآخرته إلا لمن لم يصدق قوله، ولم يؤمن به.
قال ابن عطاء: في هذه الآية النظر إلى شواهد القسم سكت النفوس عن الحكم.
قوله عز وجل: * (وأرسلنا الرياح لواقح) * [الآية: 22].
قال بعضهم: رياح الكرم، إذا هبت على أسرار العارفين أعتقهم من هواجس
أنفسهم، ورعونات طباعهم، وفساد أهوائهم، ومراداتهم، وأظهر في القلوب نتائج
الكرم، وهو الإعتصام بالله تعالى، والاعتماد عليه، والانقطاع عما سواه.
قال الله تعالى: * (وأرسلنا الرياح لواقح) *.
فقلوب تلقح بالبر، وقلوب تلقح بالفجور، كما في الخبر قلوب الأبرار تغلي بالبر،
وقلوب الفجار تغلي بالفجور.
قال أبو عثمان: كما أن رياح الربيع إذا هبت فتحت عروق الأشجار تحمل الماء،
كذلك رياح العناية إذا هبت على القلوب فتحت أسماعها لقبول الموعظة، ودلها على
طريق التوبة، وباب الإنابة.
قوله عز وجل: * (وإنا لنحن نحيي ونميت) * [الآية: 23].
352

قال الواسطي: نحيي من نشاء بنا، ونميت من نشاء عنا.
قال بعضهم: نحيي أقواما بالطاعة، ونميت أقواما بالمعصية.
قال أبو بكر الوراق: نحيي القلوب بنور الإيمان، ونميت النفوس باتباع الشهوات.
قال الخراز: الحي من العباد من بالحق حياته، والميت منهم من بحركاته بقاؤه.
قال الجريري: كم حي حياته موته، وميت موته حياته.
وقيل: نحيي القلوب بالمشاهدة، ونميت النفوس بالاستتار.
قوله عز وجل: * (ولقد علمنا المستقدمين منكم) * [الآية: 24].
قال ابن عطاء: من القلوب قلوب همتها مرتفعة عن الأدناس، والنظر إلى الأكوان،
ومنها ما هي مربوطة بها مقترنة بمحاسنها، لا ينفك منها طرفة عين.
قال تعالى: ولقد علمنا المستقدمين منكم.
قال بعضهم: ولقد علمنا الراغبين فينا والمعرضين عنا.
قوله عز وجل: * (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون) * [الآية: 26].
قال بعضهم: الأشباح مردودة إلى قيمتها لأنها أخرجت من تحت ذل كن وأطهرت
من الصلصال والحمأ المسنون.
قوله عز وجل: * (إني خالق بشرا من طين) * [الآية: 28].
قال جعفر: امتحنهم يحثهم على طلب الاستفهام. فيزدادوا علما بعجائب قدرته،
وتتلاشى عندهم نفوسهم.
قوله عز وجل: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) *
[الآية: 29].
قال أبو عثمان: فإذا خصصته بإظهار النعت عليه من خصائص الروح، وبيان التوبة
فدعوا مجادلتهم وارجعوا إلى حد القهر، والتعبد في السجود له.
قال الواسطي: لما نفخ الروح في آدم جعل معرفتها معرفة الحق إياها، وعلمها علم
الحق بها، ومرادها مراده إياها على محابها.
قال بعضهم: أبصرت الملائكة من آدم هيكله وشخصه، ولم يشاهدوا إضافة الروح
353

إليه، واختصاص الخلقة به، واستقامة التوبة وتعليم الأسماء والإشراف على الغيب
فنكلوا عن السجود فلما أظهر الحق تعالى بهذه الخصائص عليه، سجدوا وقالوا:
سبحانك أنت تخص من تشاء من عبادك بخصائص الولاية، وتنعته بنعوت الربانية،
وتجذبه إلى بساط القربة وأنت الفعال لما تريد.
قال الواسطي: الفرق بين روح آدم، وبين الأشياء تسوية الخلقة، وتخصيص
الإضافة فقربت من الله تعالى، وعرفته، ومكنتها من حكمه فغيبت، ورجعت إليه
بالإشارة، وقطعت عنه العبادة وذلك كله من عز الفخر إذا لم يلبسها ذل القهر زينها
بخلقه فتخلقت بخلقه وتأدبت بصفته، وكانت به تنطق، وبإشارته تعقل وهذا تفسير
قوله * (فإذا سويته) *.
قوله عز وجل: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعين إلا إبليس) * [الآية: 30، 31].
قال أبو عثمان: فتح الله تعالى أعين الملائكة بخصائص آدم، وأعمى عين إبليس عن
ذلك فرجعت الملائكة إلى الاعتزاز، وأقام إبليس على منهج الإحتجاج بقوله * (أنا خير منه) *.
سئل بعضهم: لم امتنع إبليس من السجود وأبى مع علمه؟ قال: لأن علمه كان علم
عارية عنده فلم يكن حقيقة، إنما كان مستودعا فيه لأجل هلاكه، فلما ظهر الوقت جحد
ما كان يعرف وأبى ما كان يطيع.
قوله تعالى: * (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) * [الآية: 35].
قال الواسطي: اللعنة التي لم تزل تستحقه منى وإن كانت الأوقات جرت عليك بزينة
السعادة.
قوله عز وجل: * (لأزينن لهم في الأرض ولأغيونهم أجمعين إلا عبادك منهم
المخلصين) * [الآية: 39 - 40].
قال أبو حفص: العبد المخلص من لا يخالف سيده ظاهرا وباطنا وسرا وعلنا.
قال أبو عثمان: المخلص من العبيد هم الواقفون مع الله تعالى عند حدوده.
قال رجل ليحيى بن معاذ: بماذا أكرم الله تعالى عباده المخلصين؟ قال: بالإيمان
بالغيب والمشاهدة.
354

سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت فارسا يقول: قال ذو النون: أو
سهل: الناس كلهم موتى إلا العلماء، والعلماء كلهم نيام إلا العاملون، والعاملون كلهم
مغترون إلا المخلصين، والمخلصون على خطر عظيم.
قال النصرآباذي: المخلص على خطر عظيم لأنه بإياه والمخلص جاوز حد الخطر لأنه
بغيره لا به.
قوله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * [الآية: 42].
قال بعضهم: عبادي الذين أوصلتهم إلى قربى من غير كلفة ولا سابقة أفنيتهم عن
صفاتهم وزينتهم بإظهار صفاتي عليهم فهم مع الخلق بالهياكل، ومعي بالأرواح
والسرائر لا عليهم من الخلق أثر، ولا لهم مما هم فيه خبر أولئك هم عبادي حقا ليس
لهم مطلب سواي ولا مرجع إلا إلى هم هم لا بإياهم بل أنا أنا ولا هم هم، فلا صفة
لهم، ولا أخبار عنهم لفنائهم عنهم، وبقائهم بي.
قوله تعالى: * (إن المتقين في جنات وعيون) * [الآية: 45].
قال بعضهم: من اتقى الشرك فهو في بساتين وأنهار، ومن اتقى الله فهو في حظيرة
القدس في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
قال الواسطي: من اتقى الله لعوض جعل ثوابه عليه ما يرجوه، ويأمله ومن اتقى لا
لعوض فالحق عوض له من كل ثواب.
قوله عز وجل: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * [الآية: 47].
قال أبو حفص: كيف يتقي الغل في قلوب ائتلفت واتفقت على محبته، واجتمعت
على مودته وأنست بذكره. إن ذلك لقلوب صافية من هواجس النفوس وظلمات
الطبائع. بل كحلت بنور التوفيق، فصاروا إخوانا على سرر متقابلين.
قوله عز وجل: * (لا يمسهم فيها نصب) * [الآية: 48].
قال النصرآباذي: أي نصب يلحق في المجاورة لمن عقل ولمن انتبه فأي راحة
للحدث في جنب القدم. هل هو إلا تعذيب واستهلاك؟.
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندراني يقول: سمعت
أبا جعفر يقول: الملطي يذكر عن علي بن موسى الرضى عن أبيه عن جعفر الصادق في
355

قوله: * (عباد الرحمن) * قال: حملة الخلق من جهة الخلقة لا من جهة المعرفة،
* (وعبادي) * تخصيص في العبودية، والمعرفة.
قوله تعالى: * (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) *
[الآية: 50].
قال: أقم عبادي بين الخوف والرجاء ليصح لهم سبل الإستقامة في الإيمان فإنه من
غلب عليه رجاؤه عطله، ومن غلب عليه خوفه أقنطه.
قوله عز وجل: * (أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون) * [الآية: 54].
قال الجوزجاني: أتاكم الكبر أيام القنوط من الدنيا وما فيها والإقبال على الآخرة،
وما عند الله. ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام لم يقبل البشرى بالولد من الملائكة عند
الكبر وقال: * (فبم تبشرون) * إلى أن ذكروا له أن البشرى من الله تعالى فزال عنه
القنوط لعلمه بقدرة الله على ما يشاء.
قوله عز وجل: * (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) * [الآية: 72].
قال بعضهم: أحوال النبي صلى الله عليه وسلم بين جذب وحجب، وإذا حجب بقوله: لعمرك،
وإذا صرف جذب لقوله: * (ولو تقول علينا بعض الأقاويل) *.
قال بعضهم: ' لعمرك ' بعمارة سرنا مشاهدتنا، وقطعك عن جميع المكونات.
قال النووي: في قوله: ' لعمرك ' أي العمارة التي خصصت بها من بين الخلق،
فحببوا بالأرواح وحببت بنا فبقاؤك متصل ببقائي لأنك باق بي.
قال جعفر: لعمرك أي بحياتك يا محمد إن الكل في سكرة الغفلة، وحجاب البعد
إلا من كنت وسيلته، ودليله إلينا.
قال بعضهم: * (لفي سكرتهم يعمهون) * أي: في شغل الدنيا يتحركون.
قال القرشي: أقسم الله تعالى بحياة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: * (لعمرك) * لأن حياته كانت
به، وهو في قبضة الحق وبساط القرب، وشرف الانبساط، ومقام الإنفاق، فأقسم
بحياته، فقال: * (لعمرك) * أي بحياة مثلك يكون القسم فإن الكل زاغوا، وما زغت،
356

وطغوا، وما طغيت وسألوا وما سألت حتى بدأناك بالإجابة قبل السؤال فحياتك غير
الحياة التي كانت بها حياة الخلق قبلك، وبه حياة القلب فإنك حي بحياتنا وغير مباين
منا بحال.
قال أبو سعيد الخراز: وصفه لخلقه ثم ستره ببره عن خلقه.
قوله عز وجل: * (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) * [الآية: 75].
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ' اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله '. ثم قرأ:
* (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) *.
قال الواسطي: السرائر بحظوظها مصروفة عن أوقاتها صدقها في تحركها أظهر عليها
صدقها في تعبرها يظهر من السرائر أبرأ. فهو ما يوفقك عليهما عفوا فيشرف المتفرس
عليها في أوقاتها بتعرفها.
قال الله تعالى: * (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) * قال هم: المتصفحون المتفرسون.
قال بعضهم: المتفرس على ثلاثة أوجه بالنظر والسمع، والعقل، وأجل من هذا حال
الكشف لمن أوتيه، وتكون فراسته غائبا، وحاضرا صحيحة.
قال بعضهم: * (المتوسمون) * هم المتفرسون فإذا أردت أن تعرف بواطنهم في الحقيقة
فانظر إلى تصاريف أخلاقهم ومواقيت أشجانهم.
قال محمد بن خفيف: الفراسة وقومه على ثلاثة أوجه:
المكنون من الآفات المستكن في النفوس في الأحوال المستخفة عن حمل عوام
الخلق، وذلك مخصوص به الرسل كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في عبد بن زمعة حين قال: ' إن
أمرها ليبن لولا حكم الله تعالى '.
357

والثاني: تجلى ما استودع الحق في النفوس في الأحكام الخفية علمها على الخلق
المنفرد به الحق ويكشف ذلك لأهل التخصيص من الصديقين والأولياء بعد الأنبياء
صلوات الله عليهم. كما قال أبو بكر الصديق: رضي الله عنه إنما هما أخواك وأختاك.
والثالث: ذكر اطلاع القلوب عندما انكشف له من الغيب البعيد ما فيه، وهذا
مقرون بالإلهام. كما قال عمر رضي الله عنه ' يا سارية الجبل '.
وقال: إنما حذر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ' اتقوا فراسة المؤمن طائفة هم قائمون بأحكام
نفوسهم أن يتقوا طائفة هم خارجون عن أحكام نفوسهم بما كساهم الله تعالى من نوره
فصاروا بذلك ناظرين مشرقين على أهل الظلمة لأن الظلمة لا يصادف بها الظلمة.
358

قال بعضهم: صفة المتفرس من صفى الحق روحه بطهارة قدسه وذكى قلبه بأنوار
هدايته فتقسم روحه بخفى ما استودع الحق خفيات الوجود فذلك النور والحكم يسمى
فراسة.
قال بعضهم: الفراسة إدراك الشيء على حقيقته لا يزول ولا يغير لأن الناظر إذا نظر
بالحق أخبر عن حقيقة.
سئل الحسين عن الفراسة: فقال: حق نظر برياه فخبر عن حقيقة ما هو إياه بإياه.
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الخلدي يقول: سمعت أبا حفص الحداد
يقول: الفراسة هي أول خاطر بلا معارض فإن عارض معارض من جنسه فهو خاطر،
وحديث نفسي.
قال أبو حفص: ليس لأحد أن يرعى لنفسه الفراسة، ولكن يجب أن تتقي من
فراسة الغير فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ' اتقوا فراسة المؤمن '، ولم يتفرسوا في
المؤمنين.
وسئل أبو عثمان عن الفراسة. فقال: آيات الربانية تظهر في أسرار العارفين، فتنطق
ألسنتهم بذلك، فيصادف الحق.
قوله عز وجل: * (فاصفح الصفح الجميل) * [الآية: 85].
قال بعضهم: صفح لا توبيخ، ولا حقد بعده، الرجوع إلى ما كان قبل ملابسته
المخالفة.
أخبرنا أبو بكر الرازي قال حدثنا جعفر الخلدي حدثنا ابن مسروق حدثنا حسن بن
مواتا الثعلبي حدثنا يعقوب بن حميد حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن
الحنفية عن علي في قوله: * (فاصفح الصفح الجميل) * قال هو الرضا بلا عتاب.
قوله عز وجل: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) * [الآية: 87].
سمعت منصور بن عبد الله الأصبهاني، ويقال الهروي يقول: سمعت أبا القاسم
الإسكندراني يقول: سمعت أبا جعفر الملطي يقول عن علي بن موسى الرضي عن أبيه
عن جعفر في هذه الآية.
359

قال: أكرمناك، وأنزلنا إليك وأرسلناك، وألهمناك، وهديناك، وسلطناك ثم أكرمناك
سبع كرامات.
أولهما: الهدى، والثاني: النبوة، والثالث: الرحمة، والرابع: الشفقة، والخامس:
المودة والألفة، والسادس: النعيم، والسابع: السكينة، والقرآن العظيم، وفيه اسم الله
الأعظم.
قوله: * (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) * [الآية: 88].
قال بعضهم: غار الحق على حبيبه أن يستحسن من الكون شيئا أو بغيره طرفه فإن
ذلك متعة لا حاصل له عند الحق وأراد منه أن يكون أوقاته مصروفة إليه، وأيامه
موقوفة عليه وأنفاسه حبيسة عنده.
فقال: * (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) * كذلك لما رفع إلى المحل
الأعلى * (ما زاغ البصر وما طغى) *.
قوله تعالى: * (وقل إني أنا النذير المبين) * [الآية: 89].
قال يوسف بن الحسين: أذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه بأنه السفير
الأجل والمعلم الظاهر والبيان الشافي بقوله: * (إني أنا النذير المبين) *.
قال يوسف بن الحسين قوله: * (فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون) *
[الآية: 29 - 30].
قال الواسطي: غفلة العامة هي المسؤول عنها أهل الحقائق من حركات الأطراف
وخطرات القلب، وهواجس السر.
قال الجنيد: لنسألن أهل الحقائق عن تصحيح ما أظهروه للناس من الدعاوي،
وتحقيقها.
قال الواسطي: يطالب الأنبياء، والأولياء بمثاقيل الذر لدنو رتبتهم، ولا يطالب للعام
بذلك لبعدهم عن مصادر النبيين صلوات الله عليهم أجمعين.
قال بعضهم: نسئلهم عن كل حركة وسكون فبماذا كانت حركتهم، ولماذا كان
سكونهم، وبلغني عن بعض المشايخ.
قال لبعض المريدين إياك، وهذه الدعاوي فإن الله تعالى سائلك عنها فقال: المريد لو
360

علمت أن الله تعالى يكلمني يوم القيامة، أو يسألني عن هذا لما كان مني في طول عمري
إلا هذا وأنا ممن يصلح لمخاطبة الحق، وللوقوف بين يديه وسقط ومات رحمه الله.
قوله عز وجل: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) * [الآية: 98].
بجهلهم وحدهم فيكم ثم أمرهم بلزوم طاعته يقول: * (فسبح بحمد ربك) *
[الآية: 98].
وقوله تعالى: * (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين) * [الآية: 98].
قال الواسطي: * (فسبح بحمد ربك) * عن أن يظلمك فيما سلطه عليك، * (وكن من الساجدين) * من الخاضعين لقضائه.
قوله عز وجل: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * [الآية: 99].
قال الواسطي: حتى يأتيك اليقين: أنه لا إله يسوق إليك المكاره ويصرفها عنك إلا
الله ولا إله يسوق إليك المحاب ويصرفها عنك إلا هو.
وقال وفي قوله: واعبد ربك: أي لا تلاحظ غيره في الأوقات حتى يأتيك اليقين
فيتحقق عندك أنك لا تحس بغيره الحق، ولا ترى إلا الحق ولا يحادثك إلا الحق.
قال يحيى بن معاذ: للعابدين أردية من النور بكونها شذاها الصلاة ولحمتها الصوم.
وقيل: * (واعبد ربك) * انقطاعا إليه واعتمادا عليه حتى يأتيك اليقين بأن الأمر كله
إليه وأنه تولى إضلال من أضل وهداية من هدى قال ابن عطاء: لم يرض من نبيه صلى الله عليه وسلم
لمحة عين إلا في عبادته، وقال من نظر إلى معبود سقط عن عبادته، ومن نظر إلى
عبادته. سقط عن معبوده.
قال الحسين: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * أي حتى تستيقن أنك لا تعبده ولا
يعبده أحد حق العبودية. ابتداء وانتهاء واستوجب ما لا بد من مكافأته.
361

سورة النحل
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) * [الآية: 1].
قال بعضهم: هل رأيتم أمرا من الأمور إلا بأمر الله وهل رأيتم وجدا وفقدا إلا به -
لا تعجلوا بطلب الفرج فإن النصر مع الصبر.
قال بعضهم: ظهر كرامات الله تعالى من هو لها أهل فلا ينكروا ذلك وهو الحق، أو
يعجزوه في إظهار كرامة على عبد من عبيده.
قال النصرآباذي: أوامر الحق شتى منها أمر على الظاهر من الترسم بالعبادات، وأمر
على الباطن من دوام المراعاة، وأمر على القلب بدوام المراقبة، وأمر على البر بملازمة
المشاهدة، وأمر على الروح بلزوم الحضرة، هذا ومعنى قوله: * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) *.
قوله عز وجل: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) * [الآية: 2].
فقال: من أنذر أو حذر فقد قام مقام الأنبياء وربما يأتي أمره بالبلاء، وربما يأتي أمره
بالرحمة، فالصبر في الأوقات والرضا بأمر الله، ذلك لكل أواب حفيظ: حفظ أوقاته ولا يضيع أيامه.
قال ابن عطاء: المحدث من العباد من يكلمه الملك في سره ويطلعه على خصائص
الغيوب ويفتح لروحه طريقا إلى الإشراف على القرب، قال الله تعالى: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) *.
قوله عز وجل: * (وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) *
[الآية: 7].
قال: المحمول على بساط الرفاهية والحامل في مفاوز المشقة فمن حمل فقد كفى
ومن أهمل فقد ضيق عليه لذلك. قال: * (لم تكونوا بالغيه) * بأنفسكم وتدبيركم إلا
بشق الأنفس. وربما يهون على من يشاء من عباده حتى لا يصيبه في سيره تعب ولا
362

نصب كذلك سير العارفين من سير الزاهدين.
قوله عز وجل: * (ويخلق ما لا تعلمون) * [الآية: 8].
قال بعضهم: علمك الحق الوقوف عندما لا يدركه عقلك من آثار الصنع وفنون
العلوم أن تقابله بالإنكار فإنه خلق ما لا تعلمه أنت ولا يعلمه أحد من خلقه إلا من
علمه الحق ألا تراه يقول: * (ويخلق ما لا تعلمون) *.
قال القاسم: يقدر عليكم من أفعالكم ما لا تعلمون إلا في وقت مباشرته وهو عالم
به لأنه الذي قدر وقضى.
قوله عز وجل: * (وعلى الله قصد السبيل) * [الآية: 9].
قال الواسطي: على الله أن يهدي إلى قصد السبيل ما هو جائر والله تعالى سبب
الجائر والسبيل القصد وهو السلوك على أنوار اليقين والجائر من السبل، سبل التوهم
والدعاوى.
قوله عز وجل: * (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر) * [الآية: 12].
قال جعفر الصادق: سخر لكم ما في السماوات من الأمطار وما في الأرض من النبات
وما في الليل والنهار من أنواع الدواب وسخر لك الملائكة يسبحون لك وما في الأرض
من الأنعام والبهائم والفلك والخلق وسخر لكم الكل لك لا يشغلك منه شيء وتكون
مسخرا لمن سخر لك هذه الأشياء. فإنه سخر لك كل شيء وسخر قلبك لمحبته،
ومعرفته وهو حظ العبد من ربه.
قوله عز وجل: * (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) * [الآية: 16].
قال المالكي: طريق الهداية له أعلام فمن استدل بالأعلام بلغ إلى محل الهدى
وكوشف عن معدن النجوى ومن استدل بنجوم المعرفة ومر في طريق الهداية وكان عالما
بسراها وصل إلى غاية المنتهى من الطريق ولا دليل على الحق سواه ولا علامة تخبر عنه
وهو الدليل على نفسه ليس لأحد إليه سبيل ولا لخلق عليه دليل فمن وصل إليه فيه
وصل ومن انقطع عنه فسوابق قضائه عليه.
قوله عز وجل: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * [الآية: 18].
قال ابن عطاء: إن لك نفسا وقلبا وروحا وعقلا ومحبة ومعرفة ودينا وطاعة ومعصية
363

وابتداء وانتهاء وحنينا وأصلا ووصلا فنعمة النفس الطاعات والإحسان والنفس فيهما.
تتنعم ونعمة القلب والروح الخوف والرجاء وهي فيهما تنعم ونعمة القلب اليقين
والإيمان وهو فيها يتقلب ونعمة العقل الحكمة والبيان وهو فيهما يتقلب ونعمة المعرفة
الذكر والقرآن وهو فيها يتقلب ونعمة المحبة والألفة والمواصلة والأمن من الهجران وهو
فيهما يتقلب هذا تفسير قوله تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) *.
قوله عز وجل: * (أموات غير أحياء وما يشعرون) * [الآية: 21].
ومن كان بين طرفي عدم فهو معدوم والحي هو الذي لم يزل ولا يزال.
وقال بعضهم: أموات عن الوصول إلى الحق غير أحياء به وما يشعرون وإنما يشعر
ذلك من كشف له عن محل الحياة بالحق.
قال الحسين: الحياة على أقسام فحياة بكلماته وحياة بأمره وحياة بقربه وحياة بنظره.
وحياة بقدرته وحياة هي الموت وهي الحركات المذمومة وهو قوله: * (أموات غير أحياء وما يشعرون) *.
قال سهل بن عبد الله: خلق الله تعالى الخلق ثم أحياهم باسم الحياة ثم أماتهم
بجهلهم بأنفسهم فمن حيي بالعلم فهو الحي وإلا فهم موتى بجهلهم.
قال الواسطي: الميت من غفل عن مشاهدة المنان والحي من كان حيا بالحي الذي لا
يموت.
قال بعضهم: كيف يكون حيا من لم يحيى بشاهد حي.
سمعت أبا عثمان المغربي: يقول: سمعت أبا عمرو الزجاجي يقول: كيف تحيون
وأنتم لم تروا حيا سمعت النصرآباذي: يقول: أهل الجنة أموات ولا يشعرون لاشتغالهم
بغير الحق وأهل الحضرة أحياء لأنهم في مشاهدة الحي.
قال الله تعالى: * (أموات غير أحياء وما يشعرون) *.
قوله عز وجل: * (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين) * [الآية: 30].
قال أبو عثمان: للذين أحسنوا في ابتداء أحوالهم الرجوع إلى محل المحسنين.
قال يوسف بن الحسين: للذين أحسنوا آداب الخدمة واستعملوها. الرفعة إلى محل
364

الأولياء، وهو غاية الحسنى.
وقال بعضهم: للذين أحسنوا مجاورة نعم الله في الدنيا إتمام النعمة من الله تعالى
عليهم في الآخرة.
قوله عز وجل: * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) * [الآية: 32].
أي: طيبة أبدانهم وأرواحهم بملازمة الخدمة وترك الشهوات.
وقال أيضا: طيبين أي لم يتدنسوا من الدنيا وخبيثها بشيء.
وقال أبو حفص: ضياء الأبدان بمواصلة الخدمة. وضياء الأرواح بالإستقامة.
قوله عز وجل: * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله) * [الآية: 36].
قال: محمد بن الفضل: بعث الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بإظهار الوحدانية
وتعليم العبودية. واجتناب موافقة الطبائع والأهواء والشهوات لذلك قال في كتابه:
* (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله) *.
قوله عز وجل: * (واجتنبوا الطاغوت) * [الآية: 36].
قال سهل: العبادة زينة العارفين وأحسن ما يكون العارف إذا كان في ميادين العبودية
والحذوة بترك ما له لما عليه.
قوله عز وجل: * (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل) * [الآية: 37].
قال الواسطي: السعادة والشقاوة والهدى والضلال جرت في الأزل بما لا تبديل ولا
تحويل وإنما يظهر في الأوقات رسما على الأجسام والهياكل لا صنع فيه لأحد وليس
بقدر عليها خلق بل جرت في الأزل بعلم سابق قصر عنها أيد الأنبياء وألسن الأولياء بقوله: إن الله لا يهدي من يضل.
قوله عز وجل: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * [الآية: 40].
قال القحطبي: في قوله: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) *.
الأشياء كلها لا شيء في الحقيقة إلا أن يتصل بها لفظ الإرادة ولفظ الإرادة أزلية
يصيرها شيئا وإلا فهي لا شيء لأنها أخرجت من تحت ذل كن والشيء الحقيقي الذي لم
يزل ولا يزال قائما بصفاته قادرا في ذاته.
365

وقيل في قوله: * (إنما قولنا لشيء) * أخبار عن القدرة.
سئل بعضهم: أما كان يكفي الإرادة والمشيئة حت ظهر قوله كن قال خفيت الإرادة
والمشيئة فأظهر الأكوان في العلوم وظهر لفظة كن فأخرج بها الأكوان إلى الوجود.
قال الواسطي: إنما قولنا لشيء إذا أردناه: أنه على قدر المعارف أشار إلى القدرة فأما
الحقيقة فليس للحق مكون كما أنه ليس له موجود إذا لم يكن له معدوم فإذا كانت
الأشياء بذاته ظهرت وبه وجدت لا بصفاته فلم يزل كما لا يزال إلا أنه لم يكن أظهر
بعضهم لبعض ظهور الأشياء بذاته لا بصفاته.
قيل: ليس المراد منه ما ذكر ولكن التقريب إلى الأفهام لا أن فيه لفظة كن، والله
أعلم.
قوله عز وجل: * (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) * [الآية: 42].
قال الجنيد: غاية الصبر وتصحيحه أن يورث صاحبه التوكل.
قال الله تعالى: * (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) *.
قال بعضهم: صبروا على موارد القضاء وتوكلوا في مضمون الرزق.
قال بعضهم: الصبر هو العزم على مخالفة المراد والتوكل هو السكون في حال المنع
والعطاء.
قال أبو يعقوب السوسي: الصبر تلقي المكاره بوجوه طلقة.
قال النهرجوري: التوكل نسيان حظوظ النفس.
قال إبراهيم الخواص: التوكل هو الاكتفاء بعلم الله فيك من تعلق القلب بسواه.
وقال أيضا: الصبر هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة.
قال الواسطي: التوكل: الصبرلطوارق المحن ثم التفويض ثم الرضا ثم الثقة.
وقال أيضا: أصل التوكل صدق الفاقة والفقر.
قوله عز وجل: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * [الآية: 44].
قال ابن عطاء: قطع عقول الخلق عن فهم كتابه والإشراف عليه والتبين منه إلا عقل
النبي صلى الله عليه وسلم فإن قال له: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس) * وإن كان فيه أحكام الخلق
366

فالخطاب معك وأنت صاحب البيان لهم بما أنزل عليك لأنهم في مقام الوحشة وأنت في
محل الحظور والإيمان فبيان الكتاب ما نبينه وآداب الشريعة ما ترسمه لأنك أنت الأمين
في جميع الأحوال لا يؤتمن على أسرار الخلق إلا الأمناء من العبيد. وأنشأ في معناه.
(من سارروه فأبدى السر مشتهرا
* لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
*
(وجانبوه فلم يسعد لقربهم
* وأيدوه مكان الأنس أنجاسا
*
(لا يصطفون مضيعا بعض سرهم
* حاشا ودادهم من ذاكم حاشا
*
قوله عز وجل: * (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين
والشمائل سجدا لله) * [الآية: 48].
قال بعضهم: ما خلق الله تعالى شيئا من الجماد والحيوان ينازع خالقه وصانعه إلا
الإنسان فإنه أبدا يدعى لنفسه ما ليس له من معرفة وعلم وتوثب على الوحدانية
والفردانية بادعاء الأهل له والولد جل وعلا يتكبر عن الإذعان والخضوع لذلك.
قال الله تعالى: * (أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء) * [الآية: 48].
قوله عز وجل: * (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد) * [الآية: 51].
قال أبو عثمان: نهاك ربك أن تتخذ إلهين أو تدعى معه شريكا فاتخذت معه آلهة
وادعيت شريكا كيف يصح لك مع ذلك التوحيد وأنت تعبد نفسك، وهواك، وطبعك،
ومرادك وتعبد الخلق فأنى تصل إلى محل العبودية لله تعالى.
قوله عز وجل: * (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون) *
[الآية: 53].
قال أبو حفص: جميع النعم عليك من ربك، وشكرك لغيره ورجوعك في النوائب
إليه، وعبادتك لغيره، وما هذا من أفعال أولي الألباب.
قال الله تعالى: * (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون) *.
قال محمد بن الفضل: أجل نعمة الله عليك أن عرفك نفسه، وألهمك لشكر نعمه.
قوله عز وجل: * (ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) *
[الآية: 54].
367

قال بعضهم: الله تعالى كاشف كل ضر، وأنت تدور بشكر النعم على أبواب العبيد.
هل هو إلا الشرك الظاهر.
قوله عز وجل: * (ويجعلون لله ما يكرهون) * [الآية: 62].
سمعت عبد الله بن محمد المعلم يقول سمعت عبد الله بن محمد بن منازل يقول
لبعض الأغنياء: كيف يكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى: هاتوا ما دفع إلى السلاطين
والمغنيين وغيرهم ومن أمثالهم، فيؤتى بالدواب والثياب والأموال الفاخرة، وإذا قال:
هاتوا ما دفع إلي فيؤتى بالكسر والخرق وما لا يؤبه له ألا تستحي من ذلك الموقف.
قوله عز وجل: * (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه) * [الآية: 66].
قال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم وتمردك على
ربك وخلافك له في كل شيء.
قال يحيى بن معاذ: سخر الله تعالى لك الأنعام لتحملك وتحمل أثقالك وهي غير
مخاطب ولا محاسب فترى أبدا بريئا يحمل مذبنا.
قوله عز وجل: * (وأوحى ربك إلى النحل) * [الآية: 68].
قال ابن عطاء: ألهمها ودلها على الموضع وعلمها.
كيف تصنع ما في بطنها ولا تضعه إلا على حجر صاف أو خشب نظيف لا يخالطه
طين ولا تراب.
ثم قال: * (كلي من كل الثمرات) * [الآية: 69].
اي من الذي جعلته رزقك ثم أمره بالتواضع.
فقال: * (فاسلكي سبل ربك ذللا) * [الآية: 69].
ثم قال: * (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) * [الآية: 69].
للنفوس لا للقلوب فمن أراد صلاح قلبه فليتعرف موارد ما يرد على قلبه في
الأوقات ومحل قلبه في جميع الأحوال وما يسر في قلبه في كل زمان ثم ليلزم مع ذلك
التواضع والخلوة فهذا غذاء للقلب وذاك غذاء النفس وغذاء الروح أعز وهو مشاهدة
الحق والسماع منه وترك الالتفات إلى المكونات بحاله.
368

وقال ابن عطاء: جعل ما يخرج من النحل شيئين ممزوجين لا يصفيهما إلا النار فإذا
صفيتهما النار صار عسلا وشمعا فالعسل هو غذاء الخلق وشفاؤهم والشمع للحرق لا
غير ذلك كذلك العبد إذا أخلص عمله خلص له عمله، وما خالطه برياء وشرك لا
يصلح إلا للنار.
قوله عز وجل: * (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه) *.
قال أبو بكر الوراق: النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبيلها على ما أمرت به جعل
لعابها شفاء للناس، كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه جعل رؤيته
وكلامه ومجالسته شفاء للخلق فمن نظر إليه اعتبر ومن سمع كلامه اتعظ ومن جالسه سعد.
قوله عز وجل: * (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) * [الآية: 71].
قال إبراهيم الخواص: منهم من جعل رزقه في الطلب ومنهم من جعل رزقه في
القناعة ومنهم من جعل رزقه في التوكل ومنهم من جعل رزقه في الكفاية ومنهم من
جعل رزقه في المشاهدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني '.
قال الفضيل بن عياض: ' أجل ما رزق الإنسان معرفة تدله على ربه وعقلا يدله
على رشده.
قوله عز وجل: * (ورزقكم من الطيبات) * [الآية: 72].
قال حارث المحاسبي: ورزقكم من الطيبات الفيىء والغنيمة.
وقال أحمد بن أبي الحواري: المناجاة في البوادي.
قال بعضهم: سألت ابن الجلاء عن الرزق الطيب قال: ما يفتح لك من غير طلب
ولا استشراف.
قوله عز وجل: * (فلا تضربوا لله الأمثال) * [الآية: 54].
أي للتشبيه ولكن اضربوا الأمثال للدلالة، والأمثال: تصوير ما في الغائب.
وقال ابن عطاء: في قوله: * (فلا تضربوا لله الأمثال) * في ذاته وما نيته لأن الذات
ممتنع عن العلل بحال.
قال الواسطي: الأشياء كلها أقل من ذر في الهواء كيف يظهر في الذات.
369

قال الله تعالى: * (فلا تضربوا لله الأمثال) *. في ذاته وكيفيته لأنه ليس كمثله شيء
فأما صفاته التي أظهرها للخلق كسواه لهم وأعز.
وقال: * (فلا تضربوا لله الأمثال) * في صفاته وذاته لأن الصمدية تمتنع عن الوقوف
على ماهية ذاته وكيفية صفاته.
وقال إنما ضرب الأمثال وأكثر ما فيها من المقال ضربا للسرائر وأن يغني عن حضورها
فيما أسرى إليها.
قوله عز وجل: * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) * [الآية: 75].
قال بعضهم: أخبر الله تعالى عن العبد وصفته فقال: * (لا يقدر على شيء) * فمن
رجع إلى شيء من عمله وحاله وعلمه فهو المتبرىء من العبودية وهو في منازعة الربوبية
والعبودية هو التخلي مما سوى معبود يرى الأشياء ويرى نفسه له.
قوله تعالى: * (ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) * [الآية: 77].
قال النهرجوري: الحق تعالى ستر غيبه في خلقه وستر أوليائه في عباده فلا يشرف
على غيبه إلا الخواص من أوليائه ولا يشرف على أوليائه إلا الصديقون من عباده
فالإشراف على الغيب عزيز والإشراف على الأولياء أعز وأعز.
قوله عز وجل: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار) * [الآية: 78].
قال الواسطي: أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تفهمون شيئا مما أخذت عليكم من
الميثاق في وقت بلى.
وقال بعضهم: لا تعلمون شيئا مما قضيت لكم وعليكم من الشقاوة والسعادة. ثم
جعل للسعيد من عباده السمع ليسمع بهما لطيف ذكره والأبصار ليبصر بها عجائب صنعه
والأفئدة ليكون عارفا بصانعه ومخترعه وهذه الأعضاء والحواس هي الموجبة للشكر
والشاكر من رأى منة الله تعالى عليه في سلامة هذه الحواس وصاحب الكفران من يرى
أنه يؤدي بها شكر شيء من نعم الله تعالى عليه شيء من أحواله.
قال أبو عثمان المغربي: جعل لكم السمع لتسمعوا به خطاب الأمر والنهي، والأبصار
370

لتبصروا بها عجائب القدرة، والأفئدة لتعرفوا بها آثار موارد الحق عليكم.
* (لعلكم تشكرون) * أي لعلكم تبصرون دوام نعمي عليكم فترجعوا إلى بابي.
قال بعضهم: تمام النعمة هو أن يرزق العبد الرضا بمجاري القضاء.
قال ابن عطاء: تمام النعمة في الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية.
وسئل بعضهم: ما تمام النعمة؟ قال: هو التنعم في الاستسلام وإسقاط التدبير.
قال أبو محمد الجريري: تمام النعمة خلو القلب من الشرك الخفي وسلامة النفس
من الرياء والسمعة.
قوله تعالى: * (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) * [الآية: 83].
قال بعضهم: يتقلبون في نعمة ولا يوفقون لشكره.
قال بعضهم: من إنكار النعمة جحود المنعم.
قال النصرآباذي: معرفة النعمة حسن. ومعرفة المنعم أحسن ومعرفة النعمة ربما يتولد
منه الإنكار ومعرفة المنعم لا يتولد منه إلا صحة الاستقامة.
قال بعضهم: يعرفون نعمة الله. أي ليس إلى أحد شيء في الضر والنفع ثم يقولون
لولا فلان لكان كذا.
قوله عز وجل: * (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا) * [الآية: 84].
عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء.
قال أبو علي الجوزجاني: الخلق شهداء بعضهم عى بعض. وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم
شهود الأنبياء على جميع الأمم ومحمد صلى الله عليه وسلم هو المذكي المقبول فمن قدمه فهو المقدم
ومن أخره فهو المؤخر ومن تعلق به نجا ومن تخلف عنه هلك.
قال تعالى: * (وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) *.
قوله عز وجل: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) * [الآية: 89].
قال الواسطي: أنزل عليك الكتاب: وإنما خوطبت به دون غيرك لأنك من أهل
المخاطبة وخوطبوا جميعا تبعا لك فبين لهم مرادنا فيما خوطبوا به فإن البيان إليك.
قال أبو عثمان المغربي: في الكتاب تبيان كل شيء ومحمد صلى الله عليه وسلم هو المبين لتبيان
الكتاب.
371

قوله تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) * [الآية: 90].
قال بعضهم: العدل والإحسان ما استطاعهما آدمي قط لأن الله تعالى يقول: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) * فكيف يستطيع أن يعدل بينه وبين الله تعالى في استيفاء
نعمه وتضييع وعظه وحكمه، وليس من العدل أن تفتر عن طاعة من لا يفتر عن برك
والإحسان هو الإستقامة إلى الموت وهو أن تعبد الله كأنك تراه كالمروى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عليه السلام: ' استقيموا ولن تحصوا '.
أخبر أنه لا يقدر أحد أن يعدل بين خلقه، فكيف يعدل بينه وبين ربه.
والفحشاء: هو الاستهانة بالشريعة ' والمنكر ' هو الإصرار على الذنوب ' البغي ' ظلم
العباد وظلمه على نفسه أفظع.
قال النيسابوري: ليس من العدل المقابلات بالمجاهدات، والعدل: رؤية المنة منه قديما
وحديثا.
والإحسان الاستقامة بشرط الوفاء إلى الأبد؛ لذلك قال: استقيموا ولن تحصوا.
قال سهل: العدل: قول: لا إله إلا الله. والإحسان: إحسانك إلى من استرعاك الله
أمره، والفحشاء: الكذب والغيبة والبهتان وما كان من الأقوال. والمنكر: ارتكاب
المعاصي وما كان من الأفعال، ' يعظكم ': يؤدبكم باللطف والأدب، وينبهكم أحسن
أنبائه، ' لعلكم ' تتعظون: أي تنتهون.
وقال بعضهم: العدل استقامة القلب، والإحسان: لزوم النفس لكل مستحسن من
الأقوال والأفعال.
وقيل: العدل: اعتدال القلب مع الحق، والإحسان: لزوم النفس المعاملة على رؤية
الحق.
وقيل: العدل: هو التوحيد، والإحسان: أداء الفرائض. وإيتاء ذي القربى: صلة
الرحم، وينهى عن الفحشاء: الرياء والمنكر والمعاصي، والبغي: الظلم.
قال سفيان بن عيينة: العدل الإنصاف، والإحسان التفضل.
قوله عز وجل: * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) * [الآية: 91].
قال النصرآباذي: أنت متردد بين صفتين: صفة الحق وصفتك، قال الله تعالى:
372

* (وأوفوا بعهد الله) *، وقال: * (ومن أوفى بعهده من الله) * فإلى أيهما نظرت فإنك
الأحرى ثم العهود مختلفة في الأقوال عهود، وفي الأفعال عهود، وفي الأحوال
عهود، والصدق مطلوب منك في جميع ذلك، وهو على العوام عهود، وعلى الخواص
عهود، وعلى خواص الخواص عهود.
فالعهد على العوام لزوم الظاهر، والعهد على الخواص حفظ السرائر، والعهد على
خواص الخواص التخلي من الكل لمن له الكل.
وقال من حمل العهد بنفسه خيف عليه نقضه في أول قدم، ومن حمله بالحق حفظ
عليه عهوده ومواثيقه.
قوله عز وجل: * (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) * [الآية: 91].
قال الواسطي: قد تقدمت العهود في الميثاق الأول فمن أقام على وفاء الميثاق فتح له
طريق الحقائق وقتا بعد وقت، ومن خاف في الميثاق الأول نفى مع وقته وأغلق دونه
مسالك رشده.
قوله عز وجل: * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) * [الآية: 95].
قال الجنيد وسئل من أحسن الخلق: قال من جعل دينه سببا وطريقا للإنبساط إلى
الخلق في الإرتفاق منهم.
قال ابن عطاء: أول عهد عليك من ربك أنه كفاك كل ما تحتاج إليه لئلا ترغب إلى
غيره، ولا ترجع في المهمات إلا إليه، فمن ضيع عهده واشترى بما خصه الله تعالى به
من كراماته شيئا من حطام هذه الفانية وقد نقض عهد الله لأن الله تعالى يقول: * (إنما عند الله هو خير لكم) * [الآية: 95].
وهو الاعتماد عليه والاكتفاء به دون غيره.
قوله عز وجل: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) * [الآية: 96].
قال بعضهم: ما منكم من الطاعات فإنها فانية، وما من إليكم من جزاء أعمالكم فهو
باق على الدوام وأنى يقابل ما يفنى بما يبقى.
قال بعضهم: طاعاتكم مدخولة وجزائي وثوابي على طاعاتكم باقية بقاء الأبد.
373

قال ابن عطاء: أوصافكم فانية، وأحوالكم ثابتة فلا يدعوا منها شيئا، وما من الحق
إليكم باق فالعبد من كان فانيا من أوصافه باقيا لله تعالى عنده، وهو تفسير قوله: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) *.
قال جعفر: ما عندكم ينفذ: يعني: الأفعال من الفرائض والنوافل، وما عند الله
باق: من أوصافه ونعوته لأن الحدث يفنى والقديم يبقى.
قوله عز وجل: * (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *
[الآية: 96].
قال أبو عثمان: جزاء الصبر هو أن يعطي الله تعالى العبد رضا فمن تحقق الصبر
والتزم طريقة الصابرين فإن الله تعالى يثيبه عليها أحسن ثواب عاجلا وآجلا.
قال الله تعالى: * (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) *.
قوله عز وجل: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) *
[الآية: 97].
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: هي القناعة.
قال أبو يعقوب السوسي: الحياة الطيبة عيش الفقراء الصبر.
وقيل: عيش الفقراء الراضين.
قال سهل بن عبد الله: هو أن ينزع عن العبد تدبيره ويرد إلى تدبير الحق فيه.
قال الجريري: هو العيش مع الله والفهم عن الله تعالى.
وقال ابن عطاء: هو روح اليقين وصدق نية القلب.
قال جعفر: الحياة الطيبة أن يطيب له بأن كل ذلك من الله إليه.
قال ابن عطاء: العيش مع الله تعالى والسهو والإعراض عما دونه.
قال جعفر: هي المعرفة بالله وصدق المقام مع الله تعالى وصدق الوقوف مع الله
تعالى.
374

قال بعضهم: الحياة الطيبة الاستغناء بالله تعالى لا يريد به بدلا ولا عنه حولا.
قال ابن عطاء: الحياة الطيبة بإسقاط الكونين عن سره حتى يبقى مع ربه.
قال القاسم: هي التي لا يطمع فيها إلى غير الله تعالى.
قوله عز وجل: * (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) *
[الآية: 99].
قال أبو حفص: من أراد ألا يكون للشيطان عليه دليل فليصحح إيمانه، وليصحح
في الإيمان التوكل على الله، والإيمان هو أن لا يرجع في السراء والضراء إلا إليه ولا
يرضى بسواه عوضا عنه، والتوكل هو الثقة بمضمون الرزق كثقتك بمعلومك، وهذا
تفسير قوله: * (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) *.
قال النصرآباذي: من صحح نسبة مع الحق لن يؤثر عليه بعد ذلك منازعة طبع ولا
وسوسة شيطان.
قوله عز وجل: * (إنما سلطانه على الذين يتولونه) * [الآية: 100].
قال بعضهم: من ابتع هواه فقد تولى الشيطان، ومن ركن إلى الدنيا فقد اتبعه،
ومن أحب الرئاسة فقد اتبعه، ومن خالف ظاهر العلم فقد تولاه، ومن خالف المسلمين
فقد جعل للشيطان عليه سبيلا، ومن ركن إلى شيء من المخالفات ظاهرا وباطنا فقد
أهلك نفسه ومن تولى الشيطان فقد أهلك نفسه تبرأ من الحق.
قوله عز وجل: * (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) * [الآية: 102].
قال الواسطي: الأرواح ليس لها نوم ولا لذة ولا موت ولا حياة، بل هي جوهرة
لطيفة، للطفه سمى روحا، وللطف جبريل سمي روح القدس.
قوله تعالى: * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا) *
[الآية: 110].
قال سهل: هاجروا قرناء السوء بعد أن ظهر لهم منهم الفتنة في صحبتهم، ثم
جاهدوا أنفسهم على ملازمة أهل الخير، ثم صبروا معهم على ذلك ولم يرجعوا إلى ما
كانوا عليه من بذيء الأحوال.
قوله عز وجل: * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) * [الآية: 111]
375

قال بعضهم: الشريعة مكر بالخلق لأنه ينقلهم من أول إلى ثاني حتى إذا أخلصوا
إلى ما توهموا أنه الغاية علموا أن الحق وراء ما أدتهم إليه الوسائط، وهذا كما قال الله
تعالى: * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) * توهما أنها بلغت الغاية.
قال بعض الخراسانيين: ذهب وقت الخلق في الدنيا اشتغالا بنفوسهم في الدنيا
يجادلون عنها، وهم في الآخرة يجادلون عنها، فمن يتفرغ إلى معرفة الحق؟
قوله عز وجل: * (فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) * [الآية: 114].
سمعت أبا بكر الرازي قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن سعيد القرشي يقول:
سمعت إبراهيم الخواص يقول: الحلال على ستة أوجه: إمام عادل، وتاجر صادق،
وزارع متوكل، وغاز غير خائف، وعالم ناصح، وزاهد مخلص، فإذا اجتمع هؤلاء
الستة في دار فإن كل الحلال يدور بينهم.
قوله عز وجل: * (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) * [الآية: 119].
قال سهل: ما عصى الله تعالى أحد إلا بجهل ورب جهل أورث علما، والعلم مفتاح
التوبة وفي الصلاح صحة التوبة، ومن لم يصلح في توبته فعن قريب يفسد عليه توبته،
لأن الله تعالى يقول: * (ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) *.
قوله عز وجل: * (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين) *
[الآية: 120].
قال بعضهم: كان أمة أي معلما للخير عاملا به.
قال بعضهم: كان علمه كعلم أمة وإخلاصه كإخلاص أمة.
وقال بعضهم: القانت الذي لا يفتر عن الذكر، والحنيف الذي لا يشوب شيئا من
أعماله شرك.
وقيل: القانت المطيع الذي لا يعصي الله.
وقيل في قوله: * (ولم يك من المشركين) * لم يكن يرى المنع والعطاء والضر والنفع
إلا من موضع واحد.
قوله عز وجل: * (شاكرا لأنعمه اجتباه) * [الآية: 121].
376

قال الواسطي: قابلا لقضائه وقسمته قبول رضا لا قبول كراهية.
قال أبو عثمان: الشاكر للنعمة أن لا يرى شكره إلا ابتداء نعمة من الله حيث أهله
لشكره، اجتباه من بين خلقه، وكتب عليه الهداية إلى صراط مستقيم عالما أن الهداية
سبقت له من الله تعالى ابتداء فضل لا باكتساب وجهد وكد.
قوله عز وجل: * (وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين) *
[الآية: 122].
قال بعضهم: آتيناه في الدنيا المعرفة حتى صلح في الآخرة لبساط المجاورة.
قال بعضهم: أصلح الله تعالى قلوب المؤمنين للمعاملة وأصلح قلوب الأنبياء
والأولياء للمجاورة والمطالعة.
قال الواسطي: هي الخلة لا غيرها تولى الأنبياء بخلته خلقهم على ذلك جذبا منه
إليه.
قوله عز وجل: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * [الآية: 123].
قال الدينوري: أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع الخليل لئلا يأتي أحد من الأتباع، وملة إبراهيم
كانت السخاء وحسن الخلق، فزاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين جاد بالكونين عوضا عن الحق
فقيل له * (إنك لعلى خلق عظيم) * [القلم: 4].
قوله عز وجل: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * [الآية: 125].
حدثنا علي بن الحسن الحافظ، حدثنا أحمد بن الحسين دبيس المقري، حدثنا أحمد
ابن زياد، حدثنا أسود بن سالم، حدثني عبد الرحمن بن يزيد الزراد، حدثنا محمد بن
عجلان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرنا معاشر الأنبياء
أن نكلم الناس على قدر عقولهم.
377

قال بعضهم: خاطب كلا على قدره والموعظة الحسنة فيها ترغيب وترهيب.
وقيل: الموعظة الحسنة ما اتعظت بها أولا ثم أمرت.
سئل بعضهم: لم قدم الله تعالى الحكمة؟ فقال: لأن الحكمة إصابة القول باللسان،
وإصابة الفكرة بالجنان وإصابة الحركة بالأركان وأن تكلم بكلام بحكمة، وأن تفكر بفكر
بحكمة.
قال جعفر: الدعوة بالحكمة أن يدعوه من الله إلى الله بالله، والموعظة الحسنة أن
يرى الخلق في أسر القدرة فيشكر من أجاب ويعذر من أبى.
سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا عثمان يقول: لا يكون الرجل حكيما حتى
يكون حكيما في أفعاله، حكيما في أقواله، حكيما في أحواله، فإنه يقال له ناطق
بالحكمة، ولا يقال له حكيما.
قوله عز وجل: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * [الآية: 125].
قال هي التي ليس فيها من حظوظ النفس شيء، ولا ترى أنه الممتنع من قبول
الموعظة فتغضب عليه، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله: فلا ينجع فيه قولك:
* (وهو أعلم بالمهتدين) * الموفقين الذين شرحت صدورهم بقبول ما أثبت به.
قوله عز وجل: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * [الآية: 126].
قال الجنيد: في قوله: * (ولئن صبرتم) * فلم تعاقبوا لهو خير للصابرين التاركين
العقوبة الذي أباح العلم فعلها بالأدب الذي يتبعه بالأمر ويلزمه بالترغيب إنه خير
للصابرين.
قال أبو سعيد الخراز: أخبر عن موضع الإباحة بالقصاص ونهى عن إمكان النفس
من شهوتها وبلوغ مناها، وعرف أن الفضل في احتمال مؤن الصبر.
يقول عز وجل: * (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) *.
378

قال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى موضع الفضل ففرض عليه ذلك.
وقيل له: إن الفضل على الخلق تطوع وعليك فرض واصبر، ثم أعلمه أن ذلك لا
يتم إلا بخلوة وتشبيه بالحق بقوله: * (وما صبرك إلا بالله) * [الآية: 127].
قال الواسطي: في هذه الآية أخبره بأنه هو الذي تولاهم فحجبهم عن المعاينة في
الحضرة وهم ثلاث طوائف عند اللقاء، طائفة ترمدت بقيومة دواميته وأزليته، فلم تجد
عند اللقاء عليها آفة لاتصال أنوار السرمدية بأنوار الأبدية، وطائفة لقيتة في زينته وحين
نظره واختياره فضمرهم في نعمته وحجبهم بكرامته فهي متلذذة بنعمه محجوبة عن
حقيقته، وطائفة لقيته بشواهد طاعاتها وزهدها، فقال لهم مرحبا بمقدمكم فحجبها في
نفس ما خاطبهم.
وقال ابن عطاء: بأمره وببره.
وقال جعفر: أمر الله أنبياءه بالصبر وجعل الحظ الأعلى منه للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال سهل: واصبر واعلم أنه لا معين على الصبر إلى الله. حيث جعل صبره بالله لا
بنفسه، فقال وما صبرك إلا بالله.
قال الجنيد: عظم المنة عليه لما أدبه بالقيام على شروط الاستقامة بقوله: واصبر:
ومن لم يكن صبره مباشرا لبلاء، في حين وروده بما تقدم من التوطئة على العزم على
الصبر عند أول صدمة ترد منه لم يؤمن أن يأخذ الجزع من صبره بعد أوان تفضي
صبره.
قال الثوري: في هذه الآية هو الصبر على الله بالله.
قال أبو القاسم: الحكيم أصبر عباده، وما صبرك إلا بالله عبودية فمن ترقى من
درجة لك وصل إلى درجة بك، فقد انتقل من درجة العبادة إلى درجة العبودية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' بك أحيا، وبك أموت '.
379

قال الواسطي: في هذه الآية قال لما أظهر الله تعالى البلاء أشهده لذة مباشرته، بل لا
يكون لأحد وقت إلا والله تعالى يوجده لذة المباشرة * (وما يعقلها إلا العالمون) *
[العنكبوت: 43].
قوله عز وجل: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * [الآية: 128].
قال ممشاء الدينوري رحمه الله: رأيت ملكا من الملائكة يقول لي: كل من كان مع
الله تعالى فهو هالك إلا رجل واحد، قلت: ومن هو؟ قال: من كان الله معه وهو
قوله: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) *.
وقال بعضهم: من اتقى الله في أفعاله أحسن الله تعالى إليه في أحواله.
قال الفضل بن عياض في هذه الآية: اتقوا فيما نهاهم الله تعالى عنه وأحسنوا فيما
أمرهم به.
380

سورة بني إسرائيل
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) * [الآية: 1].
قال الواسطي: نزه نفسه، أن يكون لأحد في تسيير نبيه عليه السلام حركة أو حظرة
فيكون شريكا في الإسراء، والتسيير.
قال أبو يزيد: نزه عما أبدا ولا تعرفه بما أخفى.
وقال ابن عطاء: طهر مكان القربة وموقف الدنو عن أن يكون فيه تأثير لمخلوق
بحال، فسار بنفسه وسرا بروحه، وسبر بسره فلا السر علم ما فيه الروح، ولا الروح
علم ما يشاهد السر، ولا النفس عندها شيء من خيرها وما هما فيه، وكل واقف مع
حده متلق عنه بلا واسطة ولا بقاء بشرية، بل حق تحقق بعبده فحققه وأقامه حيث لا
مقام، وخاطبه وأوحا إليه جل ربنا وتعالى.
ذكر أن رجلا جاء إلى جعفر بن محمد وقال: صف إلي المعراج: فقال: كيف أحدق
لك مقاما لم يسمع فيه جبريل صلوات الله وسلامه عليه مع عظم مقامة.
سمعت النصرآباذي يقول: أسقط الأعمال والاعتراضات عن المعراج بقوله: أسرى:
ولم يقل سرى لأن القدرة تحمل كل شيء.
قوله عز وجل: * (الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا) * [الآية: 1].
قال بعضهم: قال الله تعالى لإبراهيم: * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * وقال لمحمد عليه السلام * (لنريه من آياتنا) * فغمض عينه عن الآيات
شغلا منه بالحق ولم يلتفت إلى شيء من الآيات والكرامات فقيل له: * (إنك لعلى خلق عظيم) * حديث لم يشغلك ما لنا عنا.
381

قوله تعالى * (إنه كان عبدا شكورا) * [الآية: 3].
يستعظم قليل فضلنا عنده، ويستصغر كثير خدمته لنا، ليس له إلى غيرنا التفات، ولا
يشغله تواتر النعم عليه عن المنعم بحال.
قال الجنيد: عبدا شكورا قائلا بالحق ناطقا به قابلا له مقبلا عليه.
قوله عز وجل: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) * [الآية: 7].
قال أبو سليمان الداراني: العمال يعملون في الدنيا على دعوة كل فيه يطلب حظه،
فجاهل عمل على الغفلة، وعالم يعمل على العادة، ومتوكل عمل على الفراغة، وزاهد
على الحلاوة، وخائف عمل على الرهبة، وصديق عمل على المحبة وعمال الله تعالى
أقل من القليل.
وقال أبو يزيد: من عمل لنفسه لا يعمل لله ومن عمل لله لا يعمل لنفسه ولا يراها.
قوله عز وجل: * (بعثنا عليكم عبادا لنا) * [الآية: 5].
قال السياري: إضافة إلى القدرة وإلى الاختصاص، وقوله ' عبادا ' أمنا لكم إشارة
إلى الملك والعموم
قوله عز وجل: * (عسى ربكم أن يرحمكم) * [الآية: 8].
قال ابن عطاء: يتعطف عليكم فيخرجكم من ظلمات المعاصي إلى أنوار الطاعات
فمن طلب الرحمة من غير الله تعالى فهو في طلبه مخطىء.
قوله عز وجل: * (وإن عدتم عدنا) * [الآية: 8].
قال سهل: وإن عدتم إلى المعصية عدنا إلى المغفرة.
وقال أيضا: وإن عدتم إلى الإعراض عنا عدنا إلى الإقبال عليكم.
قال سهل: إن عدتم إلى الفرار منا عدنا إلى أخذ الطريق عليكم لترجعوا إلينا.
قال أبو عثمان: وإن عدتم إلينا بعد المخالفات عدنا عليكم بالتعطف والرحمة.
قال أبو بكر الوراق: وإن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى التيسير والقبول.
قال محمد بن علي: ليس لمن أعرض عن ذنبه عذر بعد قوله: * (وإن عدتم عدنا) *.
قوله عز وجل: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * [الآية: 9].
382

قال ابن عطاء: القرآن دليل ولا يدل إلا على الحق فمن اتبعه قاده إلى الحق ومن
أعرض عنه قاده الجهل إلى الهلاك.
قال أبو عثمان في كتابه إلى محمد بن الفضل: من تمسك بالقرآن وفق للزوم
الاستقامة لأن الله تعالى يقول: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) *.
قال بعضهم: في هذه الآية القرآن سراج ونور يهتدى به من جعل من أهل الهدى،
فمن اهتدى به فاز ونجا، وربما هلك بالقرآن أيضا هالك؛ لأن الله تعالى يقول: * (وهو عليهم عمى) * [فصلت: 44].
قوله عز وجل: * (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير) * [الآية: 10].
قال سهل: أسلم الدعوات الذكر وترك الاختيار في السؤال والدعاء لأن في الذكر
الكفاية وربما يدعوا الإنسان فيسأل ما فيه هلاكه، وهو لا يشعر ألا ترى الله تعالى يقول:
* (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير) * والذاكر على الدوام التارك للاختيار في الدعاء
والسؤال مبذول له أفضل الرغائب وساقط عنه آفات السؤال والاختيار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' يقول الله عز وجل: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما
أعطي السائلين '.
قوله عز وجل: * (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) * [الآية: 12].
قال بعضهم: جعلنا الليل والنهار طرفين لإقامة العبودية جعل أحدهما عن الآخر
وخليفة عنه فمن أنفق أوقاته في إناء ليله ونهاره بما هو مستعبد فهو في زمرة الموفقين،
ومن أهمل ساعاته ولم يطالب نفسه ولم يراع أوقاته مع كل خاطر ونفس، فإنه من
المخذولين.
قال الله تعالى: * (لتبتغوا فضلا من ربكم) * [الآية: 12].
في تصحيح العبودية وإخلاص العمل والمعونة على ذلك من الله عز وجل.
383

قال النصرآباذي: ألزمت نفسك أحوالا وألزمت أحوالا، وما ألزمته أشد مما ألزمته
نفسك.
قال الله تعالى: * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) * من سعادة وشقاوة، ومنهم من
ألزم الصبر على مقام المشاهدة، ومنهم من ألزم التمسك بالأدب على بساط القرب،
وهذا أشد وأشد.
وقوله عز وجل: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) * [الآية: 13].
قال بعضهم: كتابا: تكتبه على نفسك في أيامك وساعاتك. وكتاب كتب عليك في
الأزل، لا يخال هذا ذاك ولا ذاك هذا.
قال بعضهم: الكتاب الذي يخرج إليك هو كتاب لسانك قلمه، وريقك مداده،
وأعضاؤك ومفاصلك قرطاسه أنت كنت المملي على حفظتك ما زيد فيه ولا نقص منه،
ومتى أنكرت شيئا من ذلك كان الشاهد فيه منك عليك.
قال الله تعالى: * (يوم نشهد عليكم ألسنتهم) * [النور: 24].
قوله عز وجل: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * [الآية: 14].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم
قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر قبل أن تعرضوا.
قال يحيى بن معاذ: اقرأ كتابك: فإنك كنت المملي له قال بعض السلف: لقد أحسن
الله إليك من خلقك حسيب بنفسك، وقيل: محاسبة الأبرار في الدنيا، ومحاسبة
الفجار في الآخرة.
قوله عز وجل: * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) * [الآية: 16].
قال بعضهم: أهلكنا خيارها، وأبقينا شرارها.
قال أبو عثمان: إذا أخرج الله تعالى إنكار المعاصي من القلوب خيف إذ ذاك على
الخلق الهلاك.
قوله عز وجل: * (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) * [الآية: 18].
384

قال الواسطي: في ترك الدنيا مشاهدة الآخرة، وفي مشاهدة الآخرة رفض الدنيا كما
أن مشاهدة التأييد زوال عزة النفس، وفي مطالعة صفات الحق سقوط صفات العبد.
قوله عز وجل: * (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها) * [الآية: 19].
قال القاسم: في قوله * (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها) * بشرط الإرادة بحسن
السعاية لأن كل طائفة أرادت الآخرة وسعيها وهو الذي يسعى على الاستقامة، وما
توجه عليه الشريعة، وشرط السعي بالاستقامة، وشرط الاستقامة بالإيمان لأن كل من
أراد الآخرة وقصد قصدها فليستقم عليها فرب قاصد مستقيم في الظاهر حظه الإيمان
عارية عنده، وكم من ساع حسن السعي غير مقبول سعيه.
قال بعضهم: السعي في الدنيا بالأبدان، والسعي إلى الآخرة بالقلوب، والسعي إلى
الله تعالى بالهمم.
قال عز وجل: * (فأولئك كان سعيهم مشكورا) * [الآية: 19].
قال أبو حفص: السعي المشكور ما لم يكن مشوبا برياء. ولا سمعة، ولا رؤية
نفس، ولا طلب ثواب بل يكون خالصا لوجهه لا يشاركه في ذلك شيء فذلك السعي
المشكور.
قوله عز وجل: * (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) * [الآية: 21].
قال ابن عطاء: من تولاه بصرف من العناية توالت أعماله كلها بالله تعالى فله فضل
الولاية على من دونه فإن الله تعالى قال: انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض والفضيلة
تقع فيما بين الخلق والحق لا يكبر عنده الطاعات ولا تغضبه المخالفات.
قال الواسطي: فضلنا بعضهم على بعض: بالمعرفة والإخلاص والتوكل.
قوله عز وجل: * (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * [الآية: 21].
قال الواسطي: بدرجات الشوق يصل العبد إلى درجات العلى وأعظم درجة في
الآخرة التخطي إلى بساط القرب ومشاهدة الحق أعلا وأجل.
قال أبو سعيد القرشي: ابن آدم أنت تباهي بحسن مجلسك في دار الدنيا من سلطان
أو شريف أو عالم فكيف لا ترغب في مباهاة مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل.
قوله عز وجل: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * [الآية: 23].
385

قال بعضهم: قضى ربك: أمر ربك.
قال بعضهم: العبودية هي قطع الأرباب وخلع الأسباب، والرجوع إلى الحق
بالحقيقة.
سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من تحقق في العبودية ظهر سره لمشاهدة الربوبية،
وإجابته القدرة إلى كل ما يريد.
قال النصرآباذي: العبودية إسقاط رؤية التعبد في مشاهدة المعبود.
قوله عز وجل: * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) * [الآية: 24].
قال بعضهم: لا تخالفهما برأي، وإن كانا على خلاف هواك ذلك خلاف الشريعة.
سئل أبو عثمان عن بر الوالدين فقال: أن لا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر إليهما
شذرا، ولا يريان منك مخالفة في ظاهر وباطن، وأن تحترم لهما ما عاشا، وتدعو لهما
إذا ماتا، وتقوم بخدمة أودائهما بعدهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ' إن أبر البر أن يصل الرجل
أهل ود أبيه) * وكان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا ذبح شاة تتبع بها صدائق خديجة '.
وسئل الفضل بن عياض عن بر الوالدين؟ قال: أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل.
قوله عز وجل: * (فإنه كان للأوابين غفورا) * [الآية: 25].
قال أبو عثمان: الأواب الدعاء.
وقال القاسم: الأواب الرجاع إلى الله في كل أمر من أمور دنياه وآخرته لا يكون له
أحد ملجأ، ولا استعانة.
وقال بعضهم: الأواب المتبرىء من حوله وقوته. والمعتمد على الله في كل نازلة.
قوله عز وجل: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) *
[الآية: 29].
قال أبو سعيد القرشي: أراد الله من نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يكون قائما بسرف البسط
386

والسخاء، ولا قائما ببعض المنع والإمساك، وأن يكون قائما في جميع الأحوال.
وقال بعضهم: لا تبخل بما ليس لك، ولا تمن بالعطاء فإن الملك لنا على الحقيقة
وأنت القاسم تقسم فيهم حقوقهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' فإن الله يعطي وأنا القاسم أقسم) *.
قوله تعالى: * (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * [الآية: 30].
قال ابن عطاء رحمه الله: ولك بهذه الآية على التوكل والثقة فإن الله يبسط الرزق
لمن يشاء فاسكن أنت من اضطرابك ودع جبلتك واسأل: من بيده البسط أن يوسع
عليك الرزق.
قوله تعالى: * (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) * [الآية: 34].
قال حمدون القصار: من ضيع عهود الله عنده فهو للآداب شريعته أضيع، لأن الله
تعالى يقول * (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) *.
وقال يحيى بن معاذ: لربك عليك عهود ظاهرا وباطنا، فعهد على الأسرار أن لا
يشاهد سواه وعهد على الروح أن لا يفارق مقام القربة.
وعهد على القلب أن لا يفارق الخوف، وعهد على النفس في آداء الفرائض، وعهد
على الجوارح في ملازمة الأدب وترك ركوب المخالفات. والله يقول: * (إن العهد كان
مسؤولا) *.
قوله تعالى: * (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم) * [الآية: 35].
قال بعضهم: أوفوا الكيل فإن وزنك موزون وكيلك مكيل، أو وفيت وفى لك وإن
نقصت نقص عليك.
قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان
عنه مسؤولا) * [الآية: 36].
سئل أبو عثمان عن هذه الآية قال: أعطاك الله اللسان فلا تشغله إلا بالذكر،
وأعطاك العين فلا تشغلها إلا معتبرا، وأعطاك السمع فلا تسمع بها إلا حقا وصوابا،
387

وأعطاك القلب فلا تشغله إلا بالمعرفة ودوام المراقبة والخوف فإنه موضع نظر الحق.
وإنك مسؤول عن جميعها.
قال الواسطي رحمة الله عليه في قوله: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *. قال: لا
تخبر عنا إلا على طريق الخدمة ولا تجاوز فيه محل الأذن.
قال أبو سعيد الخراز: من استقرت المعرفة في قلبه فإنه لا يبصر في الدارين سواه،
ولا يسمع إلا منه ولا يشغل إلا به.
قوله تعالى: * (ولا تمش في الأرض مرحا) * [الآية: 37].
قال بعضهم: أسوأ خصلة في الإنسان الكبر، وأحسن خصلة فيه التواضع، ومن
تكبر فقد أخبر عن نذالة نفسه، ومن تواضع فقد أظهر كرم طبعه.
قال الله تعالى: * (ولا تمش في الأرض مرحا) *.
قوله تعالى: * (ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا) *
[الآية: 41].
قال ابن عطاء: اتبعنا المواعظة لعلهم يفهموا عنا مرادنا ويرجعوا إلينا في طلب مراد
الخطاب فما زادهم إلا إعراضا عنا.
قوله تعالى: * (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح
بحمده) * [الآية: 44].
قال أبو عثمان المغربي: المكونات كلهن يسبحن الله باختلاف اللغات، ولكن لا يسمع
تسبيحها ولا يفقه عنه ذلك إلا العلماء الربانيون الذين فتحت أسماع قلوبهم.
قوله تعالى: * (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) * [الآية: 45].
قال بعضهم: من تحصن بالحق فهو في أحصن حصن، ومن تحصن بكتابه فهو
أحسن حصن، والمضيع لوقته من تحصن بعمله أو بنفسه أو بحسبه فيكون هلاكه من
موضع أمنه.
قوله تعالى: * (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) * [الآية: 52].
قال بعضهم: من أسمعه الحق الدعوة وفقه للجواب ومن لم تسمعه الدعوة كيف
388

تجيب من لم يسمع.
قال الجنيد رحمه الله تعالى في قوله: فتستجيبون بحمده. قال: تقولون: الحمد لله
الذي جعلنا من أهل دعوته.
قوله تعالى: * (ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم) * [الآية: 54].
قال القاسم: سبق علمه في الخلق بالرحمة، والعذاب فلا مبدل لما أراد وقد وسم
الخلق بسمة الرحمة والعذاب فهو يرجع إلى منتهاه بما قد حركه في مبدأه.
قوله تعالى: * (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) * [الآية: 55].
قال محمد بن الفضل: تفضيل الأنبياء بالخصائص كالخلة والكلام، والمعراج، وغير
ذلك، فضل البعض منهم على البعض صلى الله عليهم أجمعين، وفضل محمدا صلى الله عليه وسلم
على الجميع ألا تراه يقول: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، كيف أفتخر بهذا وأنا بائن
منهم بحالي واقف مع الله بحسن الأدب لو كنت مفتخرا لافتخرت بالحق، والقرب،
والدنو منه. فكما لم أفتخر بمحل الدنو والقرب كيف أفتخر بسيادة الأجناس؟.
قوله تعالى: * (يرجون رحمته ويخافون عذابه) * [الآية: 57].
قال سهل رحمه الله تعالى: الرجاء والخوف زمامان على الإنسان فإذا استويا قامت له
أحواله وإذا رجح أحدهما بطل الآخر، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ' لو وزن رجاء
المؤمن وخوفه لاعتدلا '.
قال بعضهم: رجاء الرحمة هو طلب الوصول إلى الرحيم وخوف العذاب هو
الاستعاذة من فظعه فلا عذاب أشد من ذلك.
قال بعضهم: يرجون رحمته في الدنيا بتواتر النعم عليهم ودوام العافية لهم في
389

الآخرة ترك العقاب ودخول الجنة، ويخافون عذابه في الدنيا بالابتلاء وفي الآخرة البعد
والطرد.
قوله تعالى: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * [الآية: 59].
قال حارث المحاسبي: الآيات التي يظهرها الله في عباده رحمة على السابقين وتنبيها
للمقتصدين وتخويفا للعاصين.
قال: وسئل أحمد بن حنبل عن هذه الآية وما نرسل بالآيات إلا تخويفا، قال:
موعظة وتحذيرا والآيات هي الشباب، والكهولة، والشيبة، وتقلب الأحوال بك لعلك
تعتبر بحال أو تتعظ في وقت قوله تعالى: * (قال أأسجد لمن خلقت طينا) * [الآية: 61].
قال أبو عثمان: الكبر وتعظيم النفس أول كل بلية ومعصية ألم تر إلى إبليس كيف
قام بالحجة في تهوين خلق آدم وتعظيم نفسه بالمشافهة لرب العزة حيث يقول: * (أأسجد لمن خلقت طينا) *.
قوله تعالى: * (أرءيتك هذا الذي كرمت علي) * [الآية: 62].
قال فارس: شؤم كبره بقول * (أأسجد لمن خلقت طينا) * أوقعه في الحسد حتى
قال: * (أرءيتك هذا الذي كرمت علي) * لأنه لم يعلم أن الشقاوة سبقت له من الله كما
أن الكرامة والسعادة سابقة لآدم وظن أن ذلك بجهد واستجلاب فمن لزم الكبر والحسد
فهو لازم لأخلاق إبليس.
قوله تعالى: * (وشاركهم في الأموال والأولاد) * [الآية: 64].
قال أبو عثمان: مشاركته مع الخلق في أموالهم بالرياء، ومنع حقوق الله،
ومشاركتهم معهم في إباحته لهم النكاح بلا ولي.
قوله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * [الآية: 65].
قال أبو عثمان: عبد الله حقا من كان في وثاق خدمته وأسر منته لا ينفك من إقامة
خدمته، وشكر نعمته ومن يكون في سلطان الله لا يكون لغيره عليه سلطان وسلطانه
فهذه له في كل وقت حتى لا يجد راحة يرجع إليها ولا مأوى.
قوله تعالى: * (وكفى بربك وكيلا) * [الآية: 65].
قال جعفر: كفى بربك وكيلا لمن توكل عليه، وفوض أمره إليه.
390

قال ابن عطاء: كفى به وكيلا لمن اعتمد عليه وقطع قلبه عما سواه.
قوله تعالى: * (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) * [الآية: 67].
قال ابن عطاء: ليس بخالص لله من لا يكون في حالة الرخاء مع الله كحال الشدة،
ومن يلتجىء إلى غيره في حال الشدائد فهو من العبيد السوء الذي لا يقومه إلا الأدب.
قوله تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * [الآية: 70].
قال ابن عطاء: ابتدأهم بالبر قبل الطاعات، وبالإجابة قبل الدعاء، وبالعطاء قبل
السؤال، كفاهم الكل من حوائجهم ليكونوا لمن له الكل وبيده كفاية الكل.
قال الجنيد رحمه الله: كرمنا بني آدم بالفهم عن الله.
قال أبو بكر بن طاهر: كرمنا بني آدم بالمخاطبات بالأمر والنهي.
وقال بعضهم: كرمنا بني آدم بتقويم الخلقة واستواء القامة.
قال بعضهم: كرمنا بني آدم بالوسائط والرسل.
وقيل: كرمنا بني آدم بالحظ، وقيل: كرمنا بني آدم بالخلق.
وقال الحسين: كرمنا بني آدم بالكون في القبضة، ومكافحة الخطاب.
وقال الواسطي رحمه الله: أفرد آدم بالاصطفاء وافرد بني آدم بقوله: * (كرمنا بني آدم) * يدخل فيه الكافر والمؤمن ثم اصطفى من ولده فقال: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا) *.
وقال أيضا: كرمنا بني آدم بأن سخرنا لهم الكون وما فيها لئلا يكونوا في تسخير
شيء ويتفرغوا إلى عبادة ربهم.
قال جعفر: كرمنا بني آدم بالمعرفة.
وسئل ذو النون عن قوله: * (ولقد كرمنا بني آدم) *. قال: بحسن الصوت.
391

قوله تعالى: * (وحملناهم في البر والبحر) * [الآية: 70].
معنى البر النفس، ومعنى البحر القلب، فمن حمله في النفس فقد أكرمه بنور
التأييد، فمن لم يكن له نور التأييد وكان له نور التدبير يكون هلاكه عن قريب.
قال الواسطي رحمه الله في قوله: * (وحملناهم في البر والبحر) * قال: البر ما أظهر
من النعوت والبحر ما استتر من الحقائق، وقيل: في مشاهدة أيده فصمت الوقتين
الفصل والوصل وهو البر والبحر.
قوله تعالى: * (ورزقناهم من الطيبات) * [الآية: 70].
قال أبو عثمان: الرزق الطيب هو الحلال.
قال إبراهيم الخواص: الطيبات المباحات.
قال عبد الله بن المبارك: كتب يد العامل إذا نصح.
وقال يحيى بن معاذ: الرزق الطيب ما يفتح على الإنسان من غير سؤال ولا إشراف
نفس.
قوله تعالى: * (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) * [الآية: 70].
قال أبو عثمان: فضلناهم بالمعرفة على جميع الخلائق.
قال أبو حفص: فضلناهم بأن بصرناهم عيوب أنفسهم.
قال فضيل بن عياض: فضلناهم بالتمييز والحفظ.
وحكى ابن الفرحي عن الجنيد رحمه الله تعالى قال: فضلناهم بإصابة الفراسة.
وقال السياري: فضلنا العلماء على الجهال بالعلم بالله وأحكامه.
قوله تعالى: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) * [الآية: 71].
قال ابن عطاء: يوصل كل مريد إلى مراده، وكل محب إلى محبوبه، وكل مدع إلى
دعواه، وكل منتم إلى من كان ينتمي إليه.
وقال الجنيد في هذه الآية: يقولون لقوم يا عبيد الدنيا، ولقوم يا عبيد الأنفس،
ولقوم يا طلاب الآخرة، ولقوم يا أصحاب الأعراض، ولقوم يا متبعي الأوامر، ولقوم
يا ربانيين.
392

قوله تعالى: * (ومن كان في هذه أعمى) * [الآية: 72].
قال الجنيد رحمه الله: من كان في هذه أعمى عن مشاهدة الفضل فهو في الآخرة
أعمى عن مشاهدة الذات.
وقال أيضا: من كان في هذه أعمى عن مشاهدة بره فهو في الآخرة أعمى عن رؤيته
وضال عن قربه.
قوله تعالى: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * [الآية: 74].
قال ابن عطاء: إن الله عز وجل، عاتب الأنبياء بعد مباشرة الزلات، وعاتب نبينا قبل
وقوعه ليكون بذلك أشد انتباها وتحفظا لشرائط المحبة فقال: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم) *.
قال الحسين: خلق الله الخلق على علم منه بهم. وهم علم العلم، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم
أعظم الخلق خلقا، وأقربهم زلفى فجعله الداعي إليه والمبين عنه، به يصلون إلى الله
ظاهرا وباطنا، وعاجلا وآجلا، فثبت الملك بالعلم وثبت العلم بالنبي صلى الله عليه وسلم وحثنا النبي
صلى الله عليه وسلم به فقال: ولولا أن ثبتناك بنا.
وقال عمرو بن عثمان المكي في قوله: * (لقد كدت تركن إليهم) *. قال: ' كدت ' هو
الشيء بين الشيئين، وهو الخروج من ذي إلى ذي، ولم يخرج من ذي ولم يدخل في
ذي، وكان واقفا بأمر عظيم وشأن عجيب وعلم غريب، وهو نزاهة نفسه، وعظيم
علمه بربه فبلغ هذا الخطاب به من الخوف والوجل من ربه، حتى كاد أن يساوي خوف
الموافقين للمخالفة، وهذا الفرق بين الخواص والعوام أنهم يخافون في الهمة ما لا
يخافه العوام إلى الموافقة.
قوله تعالى: * (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) * [الآية: 78].
قال بعضهم: القيام في أوقات الأسحار مشهود من صاحبه وشاهد عليه.
قوله تعالى: * (وقل رب أدخلني مدخل صدق) * [الآية: 80].
قال سهل: أدخلني في تبليغ الرسالة، مدخل صدق وأن لا يكون لي ميل ولا تكبر
في حدود التبليغ وشروطه، وأخرجني من ذلك على السلامة وطلب رضاك منه
والموافقة * (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) * زيني بزينة جبروتك ليكون الغالب
393

سلطان الحق لا سلطان الهوى.
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندراني يقول: سمعت
أبا جعفر الملطي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد في قوله:
* (أدخلني مدخل صدق) * قال: أدخلني فيها على حد الرضا، وأخرجني عنها وأنت
عني راض.
وقال أيضا: أخرجني من القبر إلى الوقوف بين يديك على طريق الصدق مع
الصادقين.
قال جعفر: طلب التولية أن يكون هو المتولي أي أدخلني ميدان معرفتك وأخرجني
من مشاهدة الذات.
قال الخراز: ما دعا الله أحدا من العباد إلا أقام عليه الدلائل والبراهين ودل عليه،
وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (وقل رب أدخلني مدخل صدق) * الآية.
قال الواسطي رحمة الله عليه: قال المعلا في شرفه يعني محمد صلى الله عليه وسلم: * (أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) * فأظهر محمد صلى الله عليه وسلم من نفسه صدق اللجأ بصدق
الفاقة بين يديه، وبصدق اللجأ تربيت السرائر.
قوله تعالى: * (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) * [الآية: 80].
قال الجنيد رحمه الله: غلبة وقهرا على أعدائك فأجابه الله إلى ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم
' نصرت بالرعب مسيرة شهر '.
قال فارس: السلطان هاهنا سلطان على نفسه يقمع هواه فيزم جمعها بشاهد الهيبة
فيمسك نفسه بسلطان الوحدانية، وينصر على عدوه بحسن نظر الله له من معاونته
وحمله على رؤية هواه.
قال سهل بن عبد الله: لسانا ينطق عنك ولا ينطق عن غيرك.
سمعت منصور بن عبد الله بإسناده عن جعفر أنه قال في هذه الآية: قوة لي في
الدين توجب لي بها الجنة.
394

قوله تعالى: * (وقل جاء الحق وزهق الباطل) * [الآية: 81].
قال فارس: الحق ما يحملك على سبيل الحقيقة والباطل ما يشتت عليك أمرك
ويفرق عليك وقتك.
قوله تعالى: * (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض) * [الآية: 83].
قال الواسطي: أعرض بالنعمة عن المنعم والنعمة العظمى الهداية والإيمان والمعرفة
والولاية والعبد لا ينفك من رؤية ذلك من نفسه وهذا هو الإعراض عن المنعم بأن
يستحلي طاعته، ويتلذذ بها، أو يسكن إليها، أو يتحصن بها من النار قوله تعالى: * (قل كل يعمل على شاكلته) * [الآية: 84].
قال ابن عطاء: على ما في سره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ' اعملوا فكل ميسر لما خلق
له '.
قال جعفر: كل يظهر مكنون ما أودع فيه من الخير والشر.
قال أبو بكر بن طاهر: كل نفس يتبع أثر قلبه وهمته.
قوله تعالى: * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * [الآية: 85].
قال بعضهم: الروح شعاع الحقيقة يختلف آثارها في الأجساد.
قال بعضهم: الروح عبادة، والقائم بالأشياء هو الحق.
وقيل: إن الأرواح نعيمها في التجلي وعذابها في الاستتار.
قال بعضهم: الروح لطيفة يرى من الله عز وجل إلى أماكن معروفة لا يعبر عنه بأكثر
من وجود بإيجاد غيره.
قال الواسطي رحمه الله: الروح يمر بشيء من الأحوال من محبة وخوف، ورجاء،
وصدق، والمعرفة أنفت هذه المعاني كلها والأحوال للعقول والنفوس فقال: لما خلق الله
عز وجل أرواح الأكابر ردها بمعرفته لها فأسقط عنها معرفتها به، وأبرأ إليها علمه بها
فأسقط عنها ما علمت منه، فمعرفتها. معرفة الحق إياها، وعلمها علم الحق بها،
وتصورها مراده إياها على محابها.
395

قيل: مباسطة الألطاف تنسي الأرواح، ومباشرة الأرواح تظهر عليها الألطاف.
وقيل في قوله: * (قل الروح من أمر ربي) * قال: قارن العلم بالروح لرقة لطافته
بحملها لأنها وفي علمه. وتمكن معه بحمله فتفضل بأن جذبها إلى علمه وبلغ منها
الحقيقة وليس الكل يعطونها كذى فهي ناطقة بعلم ما علمه فيها ومنها فهي يتزايد جذبها
إليه وذلك حين يستولي عليها علمه بها، ونظره إليها فهي به تجول وبه معه تمور.
وقيل: الروح لم تخرج من الكون لأنها لو خرجت من الكون لكان عليها الذل،
فقيل: من أي شيء خرجت؟ قال: من بين جماله، وقدس جلاله بملاحظة الإشارة
غشاها بجماله، وردها بحسنه واشتملها بسلامه، وحياها بكلامه فهي متقة من ذل
الكون.
وسئل أبو سعيد الحداد عن الروح مخلوقة هي، قال: نعم فلولا ذلك لما أقرت
بالربوبية حين قال: ' بلى ' والروح هي التي أوقفت على البدن اسم الحياة، والروح ثبت
العقل، وبالروح قامت الحجة ولو لم يكن الروح لكان متعطلا يعني العقل ولا حجة له
ولا عليه.
وقال ابن عطاء في قوله: * (قل الروح من أمر ربي) * إن الله ستر الروح على جميع
خلقه، وستر صفة صفات نفسه، وستر ما يبدو منه، وستر ما يعامل به الخلق عند
معاينته إلا أن العلماء اتفقت أنها لطيفة وأنها خلقت قبل الأجسام واختصاصها من بين
المخلوقات بكونها في يد ربها حين قال لآدم: اختر إحدى يدي فزاده اختصاص الأخذ
لطفا وتقريبا من ذات مالكها فبين به الخلق والأصل أنها مخلوقه لكنها ألطف
المخلوقات، وهي أصفى الجواهر وأنورها بها ترى المغيبات وبها يكون الكشف لأهل
الحقائق، وإذا حجبت الروح عن ملاقاة النفس دعات الستر أساءت الجوارح الأدب في
أوقاتها كذلك صارت الروح بين تحلي واستتار، ونازع وقابض وهي على قرب محلها
من ربها وقت أخذها.
وسئل الواسطي رحمه الله عن الأرواح أين كان مكانها حين أظهرها؟ قال: إن
الأرواح خلقها وقبضها قبل الأجساد فأين كانت ترى؟ صار ما غاب عيانا، لأن الدنيا
والآخرة عند الأرواح سواء، وسئل لأي علة كان محمد صلى الله عليه وسلم أحكم الخلق؟ قال: لأنه
خلق روحه أولا، فوقع له صحبة التمكين والاستقرار، ألا ترى يقول ' كنت نبيا وآدم
396

بين الروح والجسد ' أي لم يكن روحا ولا جسدا.
وقيل: معرفة الأشباح عقوله بها زمن عظيم ما ورد عليها والأرواح لا تهواها شيء
ولا يستعظم كونا ولا تكوننا لأنها مأخوذة بشاهد الحق بجحد كل وارد يرد عليها من
المستترات.
وقيل: الأرواح معتقة من رق الكون أظهر فيها من خفايا المخبات المصونات
والمكونات بأعجب أعجوبة وسلم عليها كفاحا وكانوا سالمين في أزليته منه في إظهار
ديموميته سالمين منه في أخرياته استحقوا اسم السلام بذلك.
قال بعضهم: نور بالأرواح الأجساد ورفق بها وزينها بنعيم مشاهدة الأرواح
وملاقاتها. ومباشرتها على حسن الأدب فإذا حجب الروح عن ملاقاة الجسد أساءت
الجوارح في أوقاتها الأدب.
وقال أبو سعيد القرشي: الروح روحان: روح الممات، وروح الحياة فإذا اجتمعا
عقل الجسم فروح الممات الذي إذا خرج من الجسد يصير الحي ميتا، وروح الحياة ما به
مجاري الأنفاس وقوة الأكل والشرب وغيرها.
وقال الواسطي رحمه الله: الأرواح في ثلاثة أشياء: أرواح الأجلة الأنبياء غذاها
بلطائف خطابها تجدهم يسامون من كل ما يفتخر به الخلق من أنواع الطاعات أو التزين
بالعبودية وأرواح الصديقين والصالحين عذابها بملاحظاته تزداد على الأوقات نورا
وتبصرة، وأرواح العامة تأخذ غذاء من كل مأكول ومشروب.
وقال بعض البغداديين: الروح عبادة، والقائم بالأشياء الحق لا غير، فسئل عن غيره
القائم بالأشياء.
قال: قامت الأشياء بتوليه وحفظه.
وأنشد بعضهم:
(تراعى الروح مطلعها فتعلو
* عن الأبراج تسري كالنجوم
*
كذلك قالوا: محادثات الحق للسرائر تطغى كدورات الأشباح.
397

قوله تعالى: * (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق) *
[الآية: 100].
قال حمدون: أخبرنا الله تعالى عن حقيقة طبائع الخلق فقال: لو ملكتم ما أملكه
من فنون الرحمة وخزائن الخير لغلب عليكم سوء طبائعكم في الشح والبخل وقال أبو
حفص: ابن آدم محمول على الشح، والبخل والبذل والجود منه خلاف طبعه ومجبول
على المخالفة والموافقة منه، خلاف سجنته ألا ترى الله يقول: * (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق) *.
قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) * [الآية: 101]
قال جعفر: من الآيات التي خصه الله بها الاصطناع والمحبة ألقاها عليه والكلام
والثبات في محل الخطاب، والحفظ في اليم واليد البيضاء وإعطاء الألواح.
وقال ابن عطاء: من الآيات حمل قوة الخطاب في المشاهدة، والمراجعة في طلب
الروية وهذه من أعظم الآيات.
قوله تعالى: * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) * [الآية: 105].
قال جعفر: الحق أنزل على قلوب خواصه من مكنون فوائده، وعجائب بره،
ولطائف صنعه ما نور به أسرارهم، وطهر به قلوبهم، وزين جوارحهم وبالحق نزل
عليهم هذه اللطائف.
وقوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) * [الآية: 105].
قال ابن عطاء: مبشرا لمن أعرض عنك، نذيرا لمن أقبل عليك يبشرهم لسعة رحمة
الله عليهم ليقبلوا عليه وينذرهم سخط ربهم لئلا يتكلوا على أعمالهم.
وقال أبو بكر بن طاهر: يبشرهم برحمتنا وينذرهم بسخطنا.
قوله تعالى: * (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان) *
[الآية: 107].
قال سهل رحمه الله: لا يؤثر شيء على اليسر ما يؤثر عليه سماع القرآن فإن العبد
إذا سمع القرآن خشع سره لسماعه، وأنار قلبه بالبراهين الصادقة، وزين جوارحه
398

بالتذلل والانقياد.
قوله تعالى: * (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) * [الآية: 109].
قال أبو يعقوب السوسي: البكاء على أنواع: بكاء من الله وهو أن يبكي شفقة لما
جرى عليه من الحق في الأزل من السعادة والشقاوة وبكاء على الله وهو أن يبكي حسرة
على ما يفوته من الحق ومن حظه منه، وبكاء لله وهو البكاء عند ذكره وقوته ووعده
ووعيده وبكاء بالله وهو أن يبكي يلاحظ منه في بكائه.
قال القاسم: البكاء على وجوه: بكاء الجهال على ما جهلوا، وبكاء العلماء على ما
قصروا، وبكاء الصالحين مخافة الفوت، وبكاء الأئمة مخافة السبق، وبكاء الفرسان من
أرباب القلوب للهيبة والخشية وتواتر الأنوار ولإبكاء الموحدين.
قوله تعالى: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) *
[الآية: 110].
ما دعا الله أحد قط إلا إيمانا وإما دعوة حقيقة فلا.
قال الواسطي رحمة الله عليه: أسماؤه لا تدخل تحت الحصر، وذاته ليس بمشار إليه
ولا بموصوف حقيقة إلا صفة المدح، والحق هو الخارج عن الأوهام والأفهام فأنى له
النعوت والأفهام فأنى له النعوت والصفات.
قوله تعالى: * (وكبره تكبيرا) * [الآية: 111].
قال ابن عطاء: عظم منته وإحسانه في قلبك يعلمك بتقصيرك في شكره.
قال بعضهم: اعلم أنك لا تطيق أن تكبره الآية، فاستفت به ليدل على مواقف
التعظيم.
399

ذكر ما قيل في سورة الكهف
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) * [الآية: 1].
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزار يقول: سمعت ابن عطاء
يقول في قوله: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) *، قال: أضاف الكل بالكلية
إلى نفسه، وقال: على عبده المخلص وحقيقة العبد الذي لا ملك له.
وقيل: العبد الذي لا يرى غير سيده.
وقيل: العبد الذي لا ينازع سيده شيئا.
وقيل العبد الذي لا يهتم بشيء ولا يسكن إلى شيء، ولا يأمن من شيء.
قال أبو حفص: العبد القائم إلى أوامر سيده على حد النشاط حديث جعله محل
أمره.
وقال أبو عثمان: العبد الذي لا يملك شيئا ولا يرعى لنفسه شيئا.
وقال الجريري: حقيقة العبد هو المتخلق بأخلاق سيده.
وقال ابن عطاء: الكتاب منشور ظاهر فيه أسرار باطنه.
قوله تعالى: * (الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا) * [الآية: 2].
قال بعضهم: العمل الصالح ما أريد به وجه الله لا غير، والأجر الحسن أن لا
تحجب عن لقاء سيده.
وقال بعضهم: من ربط عمله بالإخلاص صلح عمله، ومن صلح فله عند الله أجر
حسن وهو أن يكون ثوابه عليه ما لا عين رأت وهو لقاء الحق، ولا أذن سمعت وهو
كلام الحق، ولا خطر على قلب بشر وهو الرضا. قال الله تعالى: * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) * [المائدة: 119، المجادلة: 22، البينة: 8].
قوله تعالى: * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) * [الآية: 5].
قال ابن عطاء: الكبر الدعاوي، من ادعى في الله أو أشار إلى الله، أو تكلم عن الله
400

أو دخل في ميدان الانبساط فإن ذلك كله من صفات الكذابين.
قال الله تعالى: * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) * والمتحقق به
لا يظهر شيئا من أحواله بحال.
قوله تعالى: * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) * [الآية: 6].
قال بعضهم: لا تشغل سرك بمخالفاتهم. فما عليك إلا البلاغ والهدى منا لمن نشاء.
قوله تعالى: * (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) *
[الآية: 7].
قال ابن عطاء: لنبلوهم أيهم أحسن عملا، أحسن إعراضا عنها وتركا لها.
وقال سهل: أيهم أحسن توكلا علينا فيها.
قال أبو علي الروذباري: إن القوم لما أيقنوا أن الله تولى الأمور بنفسه عرف كل
عاقل حقيقة ما هم فيه فاستهانوا الدنيا، واستغنوا، وأعرضوا عنها، وذلك بعدما عرفهم
الله ذلك بقوله: * (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) *.
قال ابن عطاء: أيهم أقر بالعبودية قولا وفعلا.
وقال فارس في قوله: أيهم أحسن عملا.
قال: صدقا وقصدا ونية.
وقال القاسم: أفرغ قلبا وأحسن فطنة وأهدى سمتا.
وقال بعضهم: حسن العمل نسيان العامل نفسه، وعمله والفناء بالحق للحق.
قال الواسطي رحمه الله: وعليهم حسن العمل ترك التزين به.
وقال سهل: حسن العمل الاستقامة عليه بالسنة.
قال القاسم: زينة الأرض الأنبياء والأولياء والعلماء الربانيون والأوتاد.
وقيل: أهل المعرفة بالله، والمحبة له، والمشتاقون إليه هم زينة الأرض ونجومها
وأقمارها، وشموسها.
قال سهل: إنهم أحسن عملا عنها أعراضا واجتنابا وعن الحسين في قوله: * (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) * قال: هم الرجال العباد العمال لله بالطاعة، * (لنبلوهم
401

أيهم أحسن عملا) * قال: أيهم أشد لها تركا.
قوله تعالى: * (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) * [الآية: 8].
قال الواسطي رحمه الله: الكون في قبضة الحق وهو هباء في جنب القدرة، وقال
الله: * (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) *.
قوله تعالى: * (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) *
[الآية: 9].
قال الحسين: أصحاب الكهف في ظل المعرفة الأصلية لا يزايلهم بحال كذلك خفي
على الخلق آثارهم.
وقال ابن عطاء في قوله: * (من آياتنا عجبا) * سلبهم عنهم وأخذهم منهم، وحال
بينهم وبين الأغيار وألجأهم إلى غار الأنس وآواهم وأمنهم ثم أفناهم عنهم وغيبهم
منهم، ومن إرادتهم ومعانيهم فتاهوا في الحضرة والعين لذلك قال: * (أم حسبت أن
أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) *.
قال الجنيد رحمه الله في قوله: * (كانوا من آياتنا عجبا) * قال: لا تعجب منهم فشأنك
أعظم من شأنهم وأعظم حيث أسرى بك في ليلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
وبلغ بك سدرة المنتهى وكنت في القرب كقاب قوسين أو أدنى ثم ردت عند انقضاء
الليلة إلى مضجعك.
وقيل بعضهم: أصحاب الكهف كالنيام لا علم لهم بوقت، ولا زمان، ولا معرفة
بعمل ولا مكان إحياء موتى صراعى. مفيقون، نيام منتبهون لا إليهم سبيل ولا لهم إلى
غيرهم طريق وردت عليهم خلع من خلع الهيبة، وأظلتهم ستور التعظيم وأحدقت بهم
حجب العظمة واستناروا بنور العزيز الكريم، كذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (لو
اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) *.
قوله تعالى: * (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا) * [الآية: 11].
قيل: أخذنا عنهم أسماعهم حتى لا يسمعوا إلا منا، وأخذنا عنهم أبصارهم فلا
ينظرون إلا إلينا، حتى لا يكون لهم إلى الغير الآفات ولا للغير فيهم نصيب بحال.
قال ابن عطاء: أخرجنا منهم صفة البشرية. وأقمناهم بصفات القدوسية، قدسنا
402

ظواهرهم، وبواطنهم وجعلناهم أسرى في القبضة ثم رددناهم إلى هياكلهم وصفاتهم
بقوله: * (ثم بعثناهم) *.
وقال أيضا: إن الفائدة في الضرب على الآذان وليس للأذنان في النوم شيء إنه
ضرب على آذانهم حتى لا يسمعوا الأصوات فينتبهون ويكونوا من الخلق كلهم في
راحة.
قوله تعالى: * (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) *
[الآية: 13].
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم يقول: قال ابن عطاء. زدناهم
هدى أي زدناهم نورا ومن يعرف قدر زيادة الله لذلك كانت الشمس تزاور عن كهفهم
خوفا من نورهم على نورها أن يطمسه.
وقال أيضا: نحن نقص عليك نبأهم بالحق لننظر إليهم بعين المشاهدة.
وقال سهل: زدناهم هدى. قال: بصيرة في الإيمان.
وقال: سماهم الله فتية لأنهم آمنوا بالله بلا وساطة وقاموا إلى الله بإسقاط العلائق
عنهم.
وقال أبو بكر الوراق: أول قدم في الإيمان. الفتوة وهو أن لا يجري عليك التلوين
لما يرد.
وقال محمد بن علي الترمذي: الفتوة تصديق اللسان فيما وعد وأوعد، وهو الإيمان
على الحقيقة أن لا يخالف ظاهرك وباطنك، ولا باطنك ظاهرك.
وسئل أبو حفص: ما الفتوة؟ قال: أن تنظر إلى الخلق كلهم بعين الأولياء، ولا
تستفتح منهم إلا ما خالف الشرع، ولا تلوم أحدا على ذنب ويجعل له في ذلك عذرا.
وقال بعضهم: الفتوة أن لا تبالي إلى من أخرجت رفقك بعد أن قبله منك.
وقال أبو عثمان: الفتوة اتباع الشرع والاقتداء بالسنن، وسعة الصدر، وحسن
الخلق.
403

قال الله: * (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) *.
وقال الفضيل: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان.
وقوله تعالى: * (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض) *
[الآية: 14].
قال ابن عطاء: وسمنا أسرارهم بسمة الحق، فقاموا بالحق للحق فقالوا: * (ربنا) *
إظهار إرادة ودعوة ثم قال: * (رب السماوات والأرض) * رجوعا من صفاتهم بالكلية
إلى صفاته وحقيقة علمه * (لن ندعو من دونه إلها) * لن نعتمد سواه في شيء، لو قلنا
غير ذلك كان شططا يعني بعيدا من طريق الحق.
وقال ابن عطاء: ربطنا على قلوبهم حتى صدقوا العهد والميثاق وأخلينا أسرارهم عما
دوننا.
وقال جعفر: إذ قاموا، أي: قاموا وأخلصوا في دعائنا.
وقال ابن عطاء: قاموا عما كان أفقدهم من الاشتغال بالأكوان فقالوا: * (ربنا رب السماوات والأرض) * لم ينظروا إلى شيء دوننا ولم يسكنوا إليه.
وقال جعفر: قاموا إلى الحق بالحق قيام أدب ونادوه نداء صدق وأظهروا له صحة
الفقر، ولجؤوا إليه أحسن لجإ وقالوا: ربنا رب السماوات والأرض: افتخارا به وتعظيما
له، فكافأهم على قيامهم الإجابة على ندائهم بأحسن جواب وألطف خطاب، وأظهر
عليهم من الآيات ما يعجب منه الرسل حين قال: * (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) * [الآية: 18].
وسمعت بعض مشايخنا يستدل بهذه الآية في حركة الواجدين في وقت السماع
والذكر. إن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حركتها أنوار الأذكار وما
يرد عليها من فنون السماع والأصل قوله تعالى: * (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا) *.
قوله تعالى: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * [الآية: 15].
قال الواسطي رحمة الله عليه: أن يقول ولا يعمل أو يشير إليه ثم يرجع إلى غيره.
قوله تعالى: * (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين) *
[الآية: 17].
404

قال ابن عطاء: ذلك لمعنى النور الذي كان عليهم بقوله: * (وزدناهم هدى) * نور على
نور، وبرهان على برهان، والشمس نور ولكن إذا غلب نور أقوى منها انكشفت
الشمس فكانت تزيغ عن كهفهم لغلبة نورهم خوفا أن ينكشف نورها من غلبة نورهم.
قال جعفر: يمين المرء قلبه، وشماله نفسه، والرعاية يدور عليهما ولولا ذلك لهلك.
قال ابن عطاء: زينهم الله عز وجل لخلقة الرضا فكشفت الأنوار لنورهم، وخضعت
لها فترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم تهرب بنورها عن أنوارهم.
قوله تعالى: * (من يهد الله فهو المهتد) * [الآية: 17].
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزار رحمه الله سمعت ابن
عطاء يقول: ما حجب عن الله أحدا إلا من أراد أن يصل إليه بحركاته وسعيه، وما
وصل إليه أحد إلا من أراد أن يصل إليه بصفته عز وتعالى.
قوله تعالى: * (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) * [الآية: 17].
قال الواسطي: من جاء بأوائل الإيمان بلا علة، وبأواخره بلا علة وهذا صفات
الحق لا صفات الخلق فنظرات المهتدي هو المباين من جميع أوصافه المتصف بأوصاف
الحق.
قال سهل: من حكم الله عليه بالشقاوة لم يقدر على صرف ذلك أحد عنه بحال.
قوله تعالى: * (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود) * [الآية: 18].
قال ابن عطاء: مقيمون في الحضرة كالنيام لا علم لهم بوقت ولا زمان ولا معرفة
بمحل ولا مكان أحياء موتى صرعى مفيقون نيام منتبهون لا لهم إلى غيرهم طريق ولا
لغيرهم إليهم سبيل ومحل الحضور والمشاهدة إنما هو الجمود تحت الصفات لا غير.
قال أبو سعيد: هذا محل الفناء والبقاء أن يكونوا فانين بالحق باقين به، لا هم
كالنيام ولا هم كالأيقاظ أوصافهم فانية عنهم وأوصاف الحق بادية عليهم وهو حيرة تحت
كشف ووله مقابلة يقين.
وقال أبو سعيد: هؤلاء أئمة الواحدين لما قاموا فقالوا * (ربنا رب السماوات والأرض) * كشف لهم حتى يتبينوا جلال القدرة وعظم الملكوت فغيبوا عن التمتع بشيء
من الكون لحقيقة أحوالهم فصاروا دهشين لا أيقاظ ولا رقود.
405

قوله تعالى: * (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) * [الآية: 18].
قال ابن عطاء: نقلبهم في حالي القبض والبسط والجمع والتفرقة جمعناهم مما تفرقوا
فيه فحصلوا معنا في عين الجمع.
قال بعضهم: نقلبهم من حال الفناء والبقاء والكشف والإحتجاب والتجلي والإستتار.
قوله تعالى: * (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) * [الآية: 18].
قال أبو بكر الوراق: مجالسة الصالحين ومجاورتهم يؤثر على الخلق وأن لهم أن
يكونوا أجناسا ألا ترى الله عز وعلا كيف ذكر عن أصحاب الكهف فذكر كلبهم معهم
لمجاورتهم إياهم.
قوله تعالى: * (آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا) * [الآية: 10].
قال سهل بن عبد الله رحمه الله: ارزقنا ذكرك وشكرك على جميع الأحوال فهو جل
رحمة من عندك، وسهل لنا سبيل التوفيق فهو أرشد الطرق قوله تعالى: * (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) * [الآية: 18].
قال جعفر: لو اطلعت عليهم من حيث أنت لوليت منهم فرارا، ولو اطلعت عليهم
من حيث الحق لشاهدت فيهم معاني الوحدانية والربانية.
وقال ابن عطاء رحمه الله: لو اطلعت عليهم أتى على الأكوان بما فيها * (لوليت منهم فرارا) * لصرفت البصر عنهم تبرما بهم فإنك مطالع لنا، ومطالع منا.
وقال ابن عطاء في هذه الآية: إنه وردت عليهم أنوار الحق من فتون الخلع،
وأظلتهم سرادقات التعظيم وأحدقت بهم جلابيب الهيبة لذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) *.
وقال الحسين في قوله: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا.
قال: أنفة مما هم فيه من إظهار الأحوال عليهم وقهر الأحوال لهم مع مشاهدته من
عظيم المحل في القرب والمشاهدة فلم يؤثر عليك لجلالة محلك.
وقال جعفر: لو اطلعت على ما بهم من آثار قدرتنا ورعايتنا لهم وتولية حياطتهم
لوليت منهم فرارا. أي ما قدرت على الثبات لمشاهدة ما بهم من هيبتنا فيكون حقيقة
الفرار منا لا منهم لأن ما يرى عليهم منا.
406

وقال أيضا: لو اطلعت عليهم من حيث أنت. لفررت ولو اطلعت عليهم من حيث
أنا لوقفت وذلك أن الولي له من الله أحوال على قدر مشاهدته من نظر إليه من عند
نفسه من ضعف البشرية يفر من رؤيتهم وقد فر النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار.
قال بعضهم: حين سئل عن الفرق بين أنوار هدايته وأنوار الملائكة؟ فقال: أنوار
الملائكة أنوار كراماته وأنوار بني آدم أنوار هدايته وهو نور ظاهر وباطن لذلك وقعت
هيبته أكبر فقال: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا. ولم يكن من أنوار الملائكة عند
الحجب فرارا كفرار الشيطان من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قوله تعالى: * (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) * [الآية: 19].
قال ابن عطاء: مقام المحب مع الحبيب وإن طال فإنه قصير عنده إذ لا يفضى من
حبيبه وطرا ولو مكث دوام الدهر فإن انتهاء شوقه إليه كالإبتداء فانتهاؤه فيه ابتداؤه
وأنشد:
(لا أظلم الليل ولا ادعى
* أن نجوم الليل ليست ثغور
*
(ليلى كما شاءت فإن لم تجد
* طالت وإن جادت فليلى قصير
*
قوله تعالى: * (فليأتكم برزق منه وليتلطف) * [الآية: 19].
سمعت جعفر بن أحمد الرازي يقول: أوصى يوسف بن الحسين بعض أصحابه
فقال: إذا حملت إلى الفقراء أو أهل المعرفة شيئا واشتريت لهم طعاما فليكن لطيفا،
فإن الله وصف أصحاب الكهف حين بعثوا من يشتري لهم طعاما قالوا: وليتلطف وإذا
اشتريت للزهاد والعباد. فاشتر كل ما تجده فإنهم بعد في تذليل أنفسهم ومنعها من
الشهوات.
407

سمعت أبا عثمان المعزي يقول: إرفاق العارفين باللطف وإرفاق المريدين بالعنف.
قوله تعالى: * (ربهم أعلم بهم) * [الآية: 21].
قال ابن عطاء رحمة الله عليه وعلى جماعتهم في قوله: ربهم أعلم بهم: حيث اظهر
عليهم عجائب صنعه وجعلهم أحد شواهد عزته، وجعلهم بالمحل الذي خاطب به النبي
صلى الله عليه وسلم فيهم. فقال: * (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) *.
قوله تعالى: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا) * [الآية: 23].
لم يطلق لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن الحق إلا بما اخبره الحق، ولم يأذن له في الإخبار
عن نفسه إلا عن مشيئة ربه فقال: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء
الله) *.
قوله تعالى: * (واذكر ربك إذا نسيت) * [الآية: 24].
قال ابن عطاء: إذا نسيت نفسك والخلق، فاذكرني فإن الأذكار لا تمازج ذكرى قيل
له: كيف بنا نفسه وخلقه؟ فقال: يرى أولهم هو ويرى آخرهم هو ويرى أنهم بلاهم
حتى يكون ناسيا للخلق والنفس من ذكرهم إياه.
قال الواسطي رحمه الله: إذا نسيت ذكرى بي فاذكرني.
قال جعفر: إذا نسيت الأغيار فتقرب إلي بالأذكار.
قال الجنيد رحمه الله: الذكر فناء الذاكر فيه، والذكر في مشاهدة المذكور.
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم يقول: قال ابن عطاء في
قوله: * (واذكر ربك إذا نسيت) * إذا انقطعت علائق الاتصال وبقيت الانفصال عن
مشاهدة الأعواض حينئذ ذكرته بحقيقة ذكره.
وقال الشبلي رحمه الله في قوله: * (واذكر ربك) *: ما هذا خطاب أهل الحقيقة وأنى
ينسى المحق الحق فيذكره بل يذكره حياته وكونه وأنشد:
(لا لأني أنساك أكثر ذكراك
* ولكن بذاك يجري لساني
*
وقال بعضهم في هذه الآية: تب إلى ربك إذا عصيت.
وقال ابن عطاء: نسيان الأكابر إذا ورد المحق عليهم بحضوره.
قال الجنيد رحمه الله: حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر لذلك قال الله تعالى:
408

* (واذكر ربك إذا نسيت) * أي إذا نسيت الذكر يكون المذكور صفتك.
قوله تعالى: * (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) * [الآية: 28].
قال ذو النون رحمه الله: أمر الله تعالى الأغنياء بمجالسة الفقراء والصبر معهم
والاستنان بسنتهم. قال الله تعالى: * (واصبر نفسك) * الآية.
قال عمرو المكي: صحبة الصالحين والفقراء الصادقين عين أهل الجنة يتقلب من
الرضا إلى اليقين ومن اليقين إلى الرضا.
قال إبراهيم بن شيبان: فتوة أهل المعرفة دوام الاصطبار في حصن الاضطرار مع
أهل الصبر.
وقال ابن عطاء: خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وعاتبه أنبه وقال له: اصبر على من
صبر علينا بنفسه، وقلبه، وروحه، وهم الذين لا يفارقون محل الاختصاص من
الحضرة بكرة وعشيا فحق لمن لم يفارق حضرتنا أن نصير عليه فلا يفارقه.
قوله تعالى: * (ولا تعد عيناك عنهم) * [الآية: 28].
قال الواسطي لا تعد عيناك عنهم إلى غيرهم فإنهم لا تعدو أعينهم مني طرفة عين.
قوله تعالى: * (وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا) * [الآية: 24].
قال الجنيد رحمه الله في هذه الآية: إن فوق الذكر منزلة هو أقرب رشدا ذكره له،
وهو تجريد النعوت بذكره لك قبل أن يسبق إلى الله بذكره.
قوله تعالى: * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) * [الآية: 28].
قال القاسم: الغفلة غفلتان: غفلة نعمة، وغفلة عقوبة، فغفلة النعمة هي الرحمة
التي فيها البقاء ولولا هي ما سكنت القلوب، ولا نامت العيون، ولا هدأت الجوارح،
ولذابت الأرواح وبطلت الأجساد وانقلب الزمان والغفلة التي هي عقوبة فهي غفلة
الإنسان عن ذكر ربه ونترك مراعاة أحواله مع الله بأن عليه رقيبا من ربه بل ربه الرقيب
عليه فهذه غفلة عقوبة.
وسئل أبو عثمان: عن الغفلة؟ فقال: إهمال ما أمرت به ونسيان تواتر نعم الله
عندك.
وقال بعضهم: الغفلة متابعة النفس على ما تشتهيها.
409

قال بعضهم: الغفلة عقوبة القلب، وهوحجابه عن المنعم.
وقال الجوزجاني: الغفلة هي طول الأمل.
وقال النوري: الغفلة سكون السر إلى شيء سوى الحق.
وقال ابن الجلاء: الغفلة ما يورثك الفترة.
وقال سهل: الغفلة: إبطال الوقت بالبطالة.
قوله تعالى: * (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * [الآية: 29].
قال ابن عطاء: أظهر الحق للخلق، سبل الحق وطرق الحقيقة فمن سألك فيه
بالتوفيق، ومعرض عنه بالخذلان وهذا قوله: * (وقل الحق من ربكم) * فمن سأله الحق
الهداية هداه بطريق الإيمان ومن شاء الله له الإضلال سلك به مسلك الكفر وهو
الضلال البعيد.
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) *
[الآية: 30].
قال جعفر: إن الذين صدقوا الله في الأرزاق والكفايات وطلبوا الرزق من وجهه
الذي أباح الله طلبه فإن الله لا يضيع سعيهم في طلب مرضاته ويسهل عليهم سبيل
التوكل ليستغنوا بذلك عن الطلب والحركة ويخرجهم من ضيق الطلب إلى فسحة
التوكل.
قال بعضهم: من صدق الإخلاص في إعماله فأولئك الذين لا نضيع سعيهم
وحركتهم.
قال الله تعالى: * (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) *.
قوله تعالى: * (متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب) * [الآية: 31].
قال ابن عطاء: على أرائك الأنس في رياض القدس وصفتها: إنها لذات منقضية
تعقب حسرات دائمة وسرور حاضر يورث حزنا مؤبدا والعالم بها هو المعرض عنها
والجاهل لحقيقتها هو المتخبط فيها.
قوله تعالى: * (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) * [الآية: 46].
قال بعضهم: المألوفات من الأهل والمال. والأولاد كلها من زينة الحياة الدنيا،
410

والنفس تألفها أبدا، ومألوف الروح التوكل والطمأنينة والثقة واليقين.
قال بعضهم: لا ينجو من زينة الحياة الدنيا إلا من كان باطنه مزينا بأنوار المعرفة
وضياء المحبة، ولمعان الشوق وظاهره مزينا بآداب الخدمة وشرف الهمة وعلو النفس
فتقلب القدس في مجال القرب وميادين الرحمة مشرفين على بساتين الوصلة يشاهدون
مليكهم في كل حال.
قوله تعالى: * (ولم تظلم منه شيئا) * [الآية: 33].
قال السياري: لم تنقص منه شيئا وأي نصيب للخلق عنده وأي حق لهم قبله.
قوله تعالى: * (هنالك الولاية لله الحق) * [الآية: 44].
قال الواسطي رحمه الله وعلى المشايخ أجمعين: من تولاه الله بالحقيقة فهو الولي
ومن ولاه فهو الوالي قال الله تعالى: * (هنالك الولاية لله الحق) *.
قوله تعالى: * (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) * [الآية: 45].
قال محمد بن الفضل: الدنيا شقيقة النفس وقرينتها وهي مائلة إليها في كل الأوقات
وصفتها فتقلب زينة باطنه زينة حب الدنيا شوقا منه إلى ربه وتغلب زينة ظاهره زينة
الدنيا لا زينته أزين من زينة الدنيا.
قوله تعالى: * (والباقيات الصالحات خير عند ربك) * [الآية: 46].
قال ابن عطاء في قوله: الباقيات الصالحات. قال: هي الأعمال الخالصة والنيات
الصادقة وكل ما أريد به وجه الله هو الصدق.
قال جعفر الصادق: الباقيات الصالحات هو التوحيد فإنه باق بقاء الموحد.
وقال يحيى بن معاذ: الباقيات الصالحات هي نصيحة الخلق.
قوله تعالى: * (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة) * [الآية: 47].
قال ابن عطاء: دل بهذه الآية على إظهار جبروته وتمام قدرته وعظيم عزته لذلك
الموقف ويصلح سريرته وعلانيته لخطاب ذلك المشهد وحوله.
قوله تعالى: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) * [الآية: 49].
قال أبو حفص: أشد آية في القرآن على قلبي قوله: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) *
411

إن نظروا إلى المخالفات كان فيها الهلاك وإن نظروا إلى الموافقات ووجدوها مستوية
بالرياء والسمعة والشهوات فخوف أهل اليقظة من الموافقات أكثر من خوفهم من
المخالفات لأن المخالفات في مقابلة العفو والشفاعة وسوء الأدب في الموافقة أصعب
وأكثر خطرا، ولو لم يكن فيه إلا المطالبة بصدق ذلك قال الله عز وجل: * (يسأل الصادقين عن صدقهم) *.
قوله تعالى: * (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) * [الآية: 50].
قال يحيى بن معاذ: لا يكون وليا لله ولا يبلغ مقام الولاية من نظر إلى شيء دون
الله، أو اعتمد سواه ولم يميز بين من يعاديه ويواليه، وحال إقباله من حال إدباره.
قال الله تعالى: * (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو) *.
قال الحسن: خاطبك الحق تعالى أحسن خطاب ودعاك إلى نفسه بألطف دعاء بقوله:
* (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) *.
قوله تعالى: * (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) *
[الآية: 51].
قال أبو سعيد الخراز: لقد عجزت الخليقة أن يدرك بعض صفات ذاتها في ذاتها،
وتدري كيف كنهها في أنفسها.
قال الله تعالى: * (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) * فلم
يملك الله الخليقة عن تحري علم أنفسها في أنفسها فكيف تدرك شيئا من صفات
مالكها.
قوله تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) * [الآية: 55].
قال سهل: جاءهم الهدى ولكن طرق الهداية كانت مسدودة عليهم فمنعهم عن
الهدى والإيمان الحكم الجاري عليهم في الأزل.
قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) * [الآية: 57].
قال ابن عطاء: من أجهل ممن تبين له الحق فلم يقبله.
وقال بعضهم: أحق الناس تسمية بالظلم من يرى الآيات ولا يعتبر بها، ويرى طرق
412

الخير فيعرض عنها، ويرى مواقع الشر فيتبعها ولا يجتنب منها.
قوله تعالى: * (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا) * [الآية: 59].
قال أبو بكر بن طاهر: لما لم يشكروا نعم الله عليهم ولم يقابل البلاء بالصبر
والرضا.
قال الواسطي في قوله: * (أهلكناهم لما ظلموا) *: قال: وكلناهم إلى سؤتك بيسرهم
حين سخطوا حسن اختيارنا لهم.
قوله عز وجل: * (فوجدا عبدا من عبادنا) * [الآية: 65].
قال الجنيد رحمه الله: العبودية خارجة من الأفعال والأحوال ولكنها موجودة تحت
الخفيات.
قال الواسطي رحمه الله: إضافات من أراد أن ينسى النعوت لا تصل إليه بالعبادات
والإشارات ألجأ موسى إلى الخضر صلى الله عليهما ليريه صدق الفاقة لئلا يقول: أنا
عند نظرة إلى الله وإلى الناس، لأن الخضر شاهد أنوار الملك وشاهد موسى الواسطات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: ' إذا سألت فاسأل الله '.
فأخبر الخضر موسى أن السؤال من الناس هو السؤال من الله، فقال: لا تغضب من
المنع حين أبوا أن يضيفوهما.
قوله عز وجل: * (وعلمناه من لدنا علما) * [الآية: 65].
قال ذو النون: العلم اللدني هو الذي يحكم على الخلق بمواقع التوفيق والخذلان.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت يوسف بن الحسن يقول: سمعت ذا النون
رحمه الله يقول: إن الله بسط العلم ولم يقبضه ودعا الخلق إليه من طرق كثيرة، ولكل
طريق منها علم مفرد، ودليل واضح فتلك الأدلة يدلون على المناهل، وبنور ذلك العلم
وتلك الأعلام يهتدون ولكل أهل طريق منها علم فهو بعلمهم مستعملون، ومتى ضلوا
في طرق هذه العلوم أو أخطؤوا فإن صاحب العلم اللدني يردهم إلى المحجة.
قال الله تعالى: * (وعلمناه من لدنا علما) * [الآية: 65]. ليكون ذلك لعلماء الوسائط.
413

قال ابن عطاء: في قوله: * (وعلمناه من لدنا علما) * قال بلا واسطة المكشوف، ولا
بتلقين الحروف لكنه الملقى إليه بمشاهدة الأرواح.
قال فارس: العلم اللدني ما وقع على حسه بالاستيفاء بلا واسطة.
قال الحسين: العلم اللدني إلهام أخلد الحق الأسرار فلم يملكها الانصراف.
قال الهيثم: علم الاستنباط بكلفة ووسائط، وعلم اللدني بلا كلفة ولا واسطة.
قال الجنيد رحمه الله: العلم اللدني ما كان محكما على رسوله من غير ظن فيه ولا
خلاف واقع لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنون المغيبات وذلك يقع للعبد إذا لزم
جوارحه عن جميع المخالفات وأفنى حركاته كل الإيرادات وكان شيخا بين يدي الحق بلا
تمن ولا مراد.
قوله تعالى: * (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) *
[الآية: 66].
قال فارس: إن موسى كان أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله، وكان الخضر أعلم
من موسى فيما دفع إليه موسى عليهما السلام.
وقال أيضا: إن موسى مبقى عليه صفته ليأخذ الغير عن أدبه فمن انقطع عن الرياض
كان على حسب العصمة والتمكين فيه، والخضر كان فانيا مستهلكا والمستهلك لا حكم
له، وموسى كان باقيا بالحق. والخضر كان فانيا بالحق ولا فرق بينهما لأنهما من معدن
واحد كليهما.
قوله تعالى: * (إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر) * [الآية: 67، 68].
قال جعفر: لن تصبر مع من هو دونك فكيف تصبر مع من هو فوقك.
قال الواسطي رحمه الله: قال الخضر لموسى: كيف تعنى التأديب والمجاهدة من لا
يعرف مصادرها ومواردها.
سمعت أبا عثمان المغربي يقول: إنما أتى الناس من قبل أنهم لا يعرفون مقامهم مع
الله، وإنما اشتغلوا بالعلوم والأعمال.
قال الله: * (أفمن كان على بينة من ربه) *.
414

والبينة هي الكشف عن مراد الحق فيه، فإذا عرف مراده فيه استراح واطمأن
وسكن، ومن ذلك أن يبدي له علم مجاري أحكامه قبل أن يجري عليه فإذا جرت
الأحكام عليه يصبر ولا يبت، كما قال الخضر لموسى صلى الله عليهما * (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) * [الآية: 68].
أي لو أحطت به خبرا لصبرت ولكن ستر عنك محل هذا العلم لموضع التأديب
والتهذيب لذلك قيل إن من عرف علم ما يجري عليه صبر على أحكامه لعلمه بما يراد
منه.
قال ابن عطاء في هذه الآية: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) *.
قال: كره صحبة المخلوقين فآيسه مع صحبته بقوله: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) *
لعله يفارقه بهذه اللفظة فإن من وجد الله صاحبا استوحش مما سواه.
وقال بعضهم: قال الخضر لموسى: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) * ثم لم يصبر معه
الخضر بقوله: * (هذا فراق بيني وبينك) * [الآية: 78].
ليعلم أنه ليس لولي أن يتفرس في نبي.
قوله تعالى: * (ستجدني إن شاء الله صابرا) * [الآية: 69].
قال فارس: موسى استثنى على نفسه بقوله ستجدني إن شاء الله صابرا ولم يستثن
الخضر على موسى بقوله: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) *. قال لأن علم موسى في
ذلك الوقت علم تكليف واستدلال، وعلم الخضر علم لدني من غيب إلى غيب.
وقال أيضا: إن موسى كان على مقام التأديب، والخضر قائم مقام الكشف والمشاهدة
لما جعل مؤدبا له.
قوله عز وجل: * (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء) * [الآية: 70].
سمع أبا عثمان المغربي يقول: ليس للمتبع أن يسأل، ويبتدئ بالسؤال إذا كان المتبع
من أهل الأشراف ولكنه يتلقى بإشرافه عليه تأديبه له في وقت الأدب ألا ترى كيف قال
الخضر لموسى * (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء) *.
قال الحضري: علم الخضر لموسى قصور علمه عن محل سؤال موسى وإنه ألجأ إليه
للتأديب لا للتعليم فقال له: * (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء) * لأن علمك أعلى
415

وأتم. وإنما ألجئت إلي للتأديب لا للتعليم في حال من الأحوال.
قوله: * (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) * [الآية: 77].
قال القاسم: لما قال موسى هذا القول: وقف ظبي بينهما وهما جائعان من جانب
موسى غير مشوي ومن جانب الخضر مشوي لأن الخضر أقام الجدار بغير طمع،
وموسى رده إلى الطمع.
قال ابن عطاء: رؤية العمل وطلب الثواب به يبطل العمل ألا ترى الكليم لما قال
للخضر عليها السلام * (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) * كيف فارقه.
وقال الجنيد رحمه الله: إذا أورده بظلم الأطماع على القلوب حجبت النفوس عن
نظرها في بواطن الحكم.
قوله تعالى: * (هذا فراق بيني وبينك) * [الآية: 78].
قال النصرآباذي: لما علم الخضر بانتهاء علمه وبلوغ موسى إلى منتهى التأديب قال:
* (هذا فراق بيني وبينك) * لئلا يسأل موسى بعده عن علم أو حال فيفتضح قوله تعالى:
* (فأبوا أن يضيفوهما) * [الآية: 77].
قال الواسطي رحمه الله: الخضر شاهد أنوار الملك وموسى شاهد الوسائط، وكان
الخضر أخبر موسى أن السؤال من الناس هو السؤال من الله فلا تغضب عند المنع، فإن
المانع والمعطي واحد فلا تشهد الأسباب واشهد المسبب تسترح من هواجس النفس.
قوله تعالى ذكره: * (إنا مكنا له في الأرض) * [الآية: 84].
قال ابن عطاء: جعلنا الدنيا طوع يده، فإذا أراد طويت له الأرض، وإذا أحب
انقلبت له الأعيان، وإذا شاء مشى على الماء وإذا هوى طار في الهواء وكذا من أخلص
لنا مكناه من مملكتنا يتقلب فيها حيث يشاء ممن كان للملك كان الملك له.
قوله تعالى ذكره: * (وآتيناه من كل شيء سببا) * [الآية: 84].
قال جعفر: إن الله عز وجل جعل لكل شيء سببا، وجعل الأسباب معاني الوجود
فمن شهد السبب انقطع عن المسبب، ومن شهد صنع المسبب امتلأ قلبه من دنيا
الأسباب وإذا متلأ قلبه من الريبة حال بينه وبين الملاحظة وحجبه عن المشاهدة.
قوله تعالى: * (فأردت) *، * (فأردنا) *، * (فأراد ربك) *.
416

سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم يقول: قال ابن عطاء: لما قال
الخضر: فأردت أوصى إليه في السر من أنت حتى تكون لك إرادة فقال في الثانية:
فأردنا فأوصى إليه في السر من أنت ومن موسى حتى يكون لكما إرادة فرجع وقال:
* (فأراد ربك) *.
وسمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم: يقول: قال ابن عطاء: أما
قوله: ' فأردت ' قال: شفقة على الخلق، وقوله: ' فأردنا ' رحمة، وقوله: ' فأراد ربك '
رجوعا إلى الحقيقة.
وقال الحسين: في قوله: ' أردت وأردنا وأراد ربك '.
المقام الأول: استيلاء الحق، والمقام الثاني: مكالمة مع العبد والمقام الثالث: رجوع
إلى باطن الغلبة في الظاهر فصار به باطن الباطن ظاهر الظاهر من غيب الغيب، وعيان
العيان غيب الغيب، كما أن القرب من الشيء بالنفوس هو العبد والقرب منها بها وهو
القرب.
قوله عز وجل: * (وأما من ءامن وعمل صالحا) * [الآية: 88].
قال ابن عطاء: من صدق الموعود وأحسن اتباع أوامر ربه فله جزاء الحسنى وهو أن
يرزقه الرضا بالقضاء والصبر على البلاء، والشكر على النعمة وينزع من قلبه حب
الشهوات والدنيا، ووسواس النفس والشيطان.
قوله تعالى ذكره: * (الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري) * [الآية: 101].
قال ابن عطاء: أعين نفوسهم في غطاء عن نظر الاعتبار، وأعين قلوبهم في غطاء
عن مشاهدة العيان في الملكوت، فإذا فتحت عين قلبه بالمشاهدة فتحت عين رأيه بنظر
الاعتبار.
قوله تعالى: * (وكانوا لا يستطيعون سمعا) * [الآية: 101].
قال ابن عطاء: لا يستطيعون سمعا لأن آذانهم مسدودة عن السماع الحق، ومن لم
يفتح له من قلبه سمع السماع كيف يسمع بظاهر سمعه وهو تبع لسمع قلبه.
وقال جعفر الصادق رحمه الله: لا يستطيعون سماع كلام الحق، ولا سماع سنن
المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا سماع سير الهداة الصالحين من الأنبياء والصديقين لأنهم لم يجعلوا
417

من أهل القبول للحق فمنعوا سماع خطاب الحق.
قوله تعالى: * (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا) * [الآية: 103 - 104].
قال أبو بكر الوراق: حين سئل عن هذه الآية قال: هو الذي يبطل معروفه في الدنيا
مع أهلها بالمنة وطلب الشكر على ذلك، ويبطل طاعاته بالرياء والسمعة.
قوله تعالى ذكره * (إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس
نزلا) * [الآية: 107].
قال أبو بكر الوراق: من أنزل نفسه في الدنيا منزل الصادقين أنزله الله في الآخرة
منزلة المقربين.
قال الله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) *.
وقال الحسين: من نظر إلى العمل حجب عمن عمل له ومن نظر إلى من عمل له
العمل حجب عن رؤية العمل.
سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون
رحمه الله يقول: مثل المؤمن كالأرض تطيق حمل كل شيء، وكالمطر إذا سقط سقى
كل شيء أراد أو لم يرد
قوله تعالى: * (خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) * [الآية: 108].
قال ابن عطاء: منعمين فيها نعيم الأبد بنقلبون في مجاورته، ويفرحون بمرضاته، قد
آمنوا كل مخوف ووصلوا إلى كل محبوب فلا يشتهون شيئا إلا وجدوه كيف يطلبون
عنه تحويلا.
قوله تعالى: * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي) * [الآية: 109].
قال الحسين: مقياس العدم في الوجود في معنى وجوده.
فأما خاص الخاص من كلامه، وما لا يوصف أكثر مما قد أشير إليه، وإنما يذكر الناس
ما بغيرهم معاني العبودية من عمل، وثواب، وعقاب، ووعد، ووعيد على حسب ما
تحتمله عقولهم، فأما الكمال من فائدة الكلام، فالأنبياء والأولياء والأصفياء.
418

قوله تعالى: * (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) * [الآية: 110].
قال الأنطاكي: من خاف المقام بين يدي الله فليعمل عملا يصلح للعرض عليه.
قال يحيى بن معاذ: العمل الصالح ما يصلح أن يلقى الله به ويستحى منه في ذلك.
قال ذو النون رحمه الله وعلى المشايخ أجمعين: العمل الصالح هو الخالص من
الرياء.
وقال أبو عبد الله القرشي: العمل الصالح الذي ليس للنفس إليه التفات ولا به طلب
ثواب وجزاء.
وقال سهل: العمل الصالح المقيد بالشيء.
قوله تعالى: * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * [الآية: 110].
قال الأنطاكي: لا يرائي بطاعته أحدا.
وقال جعفر: لا يرى في وقت وقوفه بين يدي ربه غيره ولا يكون في همه وهمته
سواه.
419

ذكر ما قيل في سورة مريم
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (كهيعص) * [الآية: 1].
قال إبراهيم بن شيبان: كهيعص: أما الكاف فالله الكافي لخلقه، والهاء فالله الهادي
لخلقه، والياء يد الله على الخلقة بالعطف والرزق والعين فالله أعلم بما يصلهم، والصاد
فالله صادق وعده.
وقال ابن عطاء: في قوله عز وجل: * (كهيعص) * قال كاف بالانتقام من أعدائه،
هاد لمن اخلص في عمله، عليم بحال من أشرك ومن لم يشرك، صادق في عذابه
وثوابه وعقابه ووعده ووعيده.
قوله تعالى: * (ذكر رحمت ربك) * [الآية: 2].
قال ابن عطاء: ذكر اختصاص زكريا بالرحمة، وإن كانت رحمته قد وصلت إلى
الأنبياء فخص زكريا من بينهم بألطف رحمة وهو أن وهب له يحيى الذي لم يعص ولم
يهم بمعصية فهذا هو محل اختصاصه.
وقال أيضا: رحمة لزكريا إجابة دعوته وإيصاله إلى سؤله ومراده.
قوله عز وجل: * (إذ نادى ربه نداء خفيا) * [الآية: 3].
قال ابن عطاء: أخفى نداءه عن الخلق وعن نفسه، وأظهر النداء لمن يجيبه ويقدر
على إجابته وفائدة إخفائه عن النداء الخلق وعن النفس لئلا يدخله تلوين.
وقال بعضهم في قوله: * (إذ نادى ربه نداء خفيا) *. قال: خفيا في الذكرعن الذكر،
ومن ذي قيل: إذا أذهلتك العظمة خرس قلبك ولسانك عن الذكر.
وقيل: حقيقة الذكر ما يندرج فيه الذاكر.
قوله تعالى: * (رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا) * [الآية: 4].
قال ابن عطاء: قام مقام معتذر لما وجد في نفسه من فترة العبادة لكبر السن فسأل الله
من يعينه على عبادة ربه وينوب عنه فيما عجز عنه من أنواع العبادة ما نابه؟ فقال:
420

واجعله رب رضيا: ترضاه لخدمتك وتستخلصه لعبادتك.
قوله عز وجل: * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) * [الآية: 4].
قال ابن عطاء: كيف يشقى من إليه مرجعه وإياه دعاؤه، وبه قوته، وعليه توكله،
ومنه تأييده ونصرته؟ قال - الله: * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) *.
قوله عز وجل: * (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) * [الآية: 5
- 6].
قال ابن عطاء: هب لي من لدنك وليا أي: ولدا يرث مني النبوة، ويرث من آل
يعقوب الأخلاق.
قال أبو الحارس الأولاسي: سؤال الأنبياء لا يكون إلا بإذن أو عن إذن.
قال بعضهم: هب لي من لدنك وليا: أي ولدا يكون ناصرا لي ومعينا على خدمتك
يرثني أي يرث مني صحبة الفقراء، ومجالستهم، والميل إليهم والاعتزاز بهم فإنها كانت
أخلاق الأنبياء والمرسلين، ويرث من آل يعقوب: السخاء والكرم والصبر على النوائب
والرضا بالمقدور.
قوله تعالى: * (واجعله رب رضيا) * [الآية: 6].
قال ابن عطاء: ترضى منه أخلاق الظاهر، وترضيه عنك في الباطن.
قال جعفر: رضيا: أي راضيا بما يبدو له وعليه.
قال أبو بكر الواسطي: * (رضيا) *: مستقيم الظاهر والباطن لا ينازعك في مقدور،
ولا يخالفك في قضاء ساكنا عند بوادي ما يبدو من الغيب ساء أم سر.
قال بعضهم في قوله: * (واجعله رب رضيا) *.
قال: تجعله ممن قد رضيت عنه فأرضيته.
قوله تعالى: * (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى) * [الآية: 7].
قال الصبيح: سماه يحيى، وقال: * (لم نجعل له من قبل سميا) * افتتح اسمه بالياء
وختمه بالياء وتوسط بين اليائين حاء الحنانية، فاسمه في الخط مرسوم موجه يقرأ من
أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله. فياء الأول توفيق وياء الاخر تحقيق، فلذلك لم
يعص ولم يهم بمعصية.
421

قال الجنيد رحمه الله: سمى يحيى ولم يكن له من قبل سميا لأن يحيى من يحيى
بالطاعة والموافقة ولا يموت بالذنب والمخالفة، وكل من كان هذا صفته ونعته لم يجز
عليه وسم الخلاف ولا لسان الذم بحال بل كان محمود السيرة من مبدأ أمره إلى منتهاه
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' ما أحد من الخلق إلا أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا
فإنه ما أخطأ ولا هم '.
قوله تعالى: * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) * [الآية: 9].
قال الواسطي: قدرتك من قبل ولم تك موجودا.
وقال: المقادير صرحت معانيها وكشفت عن أوقاتها.
وقال في قوله: * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) *.
قال: أنت في حال وجودك كانت في حال عدمك عندنا لا تحدث لنا في عدمك
ووجودك بحاله لم تكن لا للأشياء ثابتة في حالة وجودها ولا هي بانية في عدمها إذ
وجودها وعدمها عند الخلق، والإثبات لشيء بإزائه.
قوله تعالى: * (قال رب أنى يكون لي غلام) * [الآية: 8].
قال جعفر: استقبل النعمة بالشكر قبل حلولها، أنى يكون لي غلام، بأي يد، وبأي
عمل، وأي طاعة استوجبت منك هذه الإجابة وهذا الفضل والكرم بسابق تفضيلك
ونعمك على عبادك في جميع الأحوال فإن آيست من عملي فلا آيس من فضلك.
سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: غاية الرجاء في
غاية الإياس وهو قصه زكريا حين قال: * (أنى يكون لي غلام) * فولد له مثل يحيى.
قوله تعالى: * (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) * [الآية: 12].
قال الواسطي رحمه الله: خذه بقوة قلبك وثقة بربك لا بسجود وبكاء وتضرع،
وهذا دليل أنه أكرم من شاء بغير علة وأهان من شاء بغير علة.
422

قوله: * (وآتيناه الحكم صبيا) * [الآية: 12].
قال ابن عطاء: الحكم المعرفة.
قال جعفر: التوفيق لاستعمال آداب الخدمة.
قال الحسين: كان روح يحيى معجونا بأنوار المشاهدة ونفسه معجونة بآداب العبودية
والمجاهدة لذلك قال له ربه تعالى: * (وآتيناه الحكم صبيا) *.
وقال ابن عطاء: الحكم المعرفة.
قال بعضهم: الحكم إصابة الحق في الأقوال والأفعال والأحوال.
قال يوسف بن الحسين: في قوله: * (وآتيناه الحكم صبيا) * أوتي يحيى عليه السلام
حكما على الغيب وفراسة صادقة لا يخالطها ريب ولا شك.
قوله تعالى: * (وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا) * [الآية: 13].
قال الواسطي رحمه الله: ذلك الذي أوجب له الانبساط والدلال.
وقال سهل: رحمة من عندنا وطهرة طهرناه بها من ظنون الخلق فيه وكان تقيا
معرض عما سوانا مقبل علينا.
قوله تعالى: * (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) * [الآية: 15].
سمعت منصور بن عبد الله الهروي يقول: سمعت أبا بكر بن طاهر يقول: في
قوله: وسلام عليه) * تحية ربه له وأمان له من كل محذور، واتصال العصمة به إلى
الممات، وقوله: * (وسلام علي يوم ولدت) * من ثنائه على نفسه أنطقه بلسانه وهو
لأعذب في العلم وأرق في اللطف.
قال الواسطي رحمه الله: سلام في طرفي حياته وموته من جريان مخالفة عليه
بقوله: * (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) *.
قوله تعالى: * (فأرسلنا إليها روحنا) * [الآية: 17].
قال ابن عطاء: نورا منا ألقيناه عليها وخصصناها به فأثرا النور فيه أثره فأخرج من
ضياء نتائج ذلك النور عيسى روح الله عليه السلام.
قوله تعالى: * (ولنجعله آية للناس ورحمة منا) * [الآية: 21].
قال أبو بكر بن طاهر: في هذه الآية علامة دالة على تصحيح الربوبية ورحمة لمن
423

أمن به ولم يدع فيه ما يدعيه لنفسه.
وقال أيضا: برحمته نجا أمما من الكفر، وبرحمته أهلك أمما بالكفر، قال الله تعالى
لعيسى: * (ورحمة منا) * وبتلك الرحمة، أهلكت الخلق حتى قالوا ثالث ثلاثة، وحتى
قال اليهود والنصارى فيه ما قالوا.
قوله تعالى: * (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) * [الآية: 23].
قال ابن عطاء: لما رأت قومها قد أثموا في أمرها رجعت باللائمة على نفسها وقالت:
* (يا ليتني مت قبل هذا) *.
وقال جعفر: لما لم تر في قومها موفقا ولا رشيدا ولا صاحب فراسة يبرئها من
قولهم قالت يا ليتني مت قبل أن أرى في قومي ما أرى وقيل يا ليتني مت قبل أن تظهر
فيهم آية أكون أنا سببها.
وقال جعفر: يا ليتني مت قبل أن أرى لقلبي متعلقا غير معتدا دون الله.
وقال بعضهم: * (يا ليتني مت قبل هذا) * أي يا ليتني مت في أيام كفاية التوكل قبل أن
رددت إلى عناية الطلب بقوله * (هزي إليك) *.
قوله تعالى: * (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) * [الآية: 25].
قال الواسطي رحمه الله: هزي إليك بجذع النخلة: قال كانت يابسة فلما حركت
اهتزت واخضرت وأطلعت وسقطت فقال: كما أن الله تولى النخلة بما عاينت تولى
عيسى في إظهاره من غير أب.
قال فارس: هزي إليك. قال: كانت في هذا الوقت محبة المخالفات لذلك أمرت
بالاكتساب، وفي وقت دخول زكريا عليها في محبة الموافقات.
وقال أيضا: سكنها في محنها مرة وأتعبها أخرى وذلك محبة العوام ومحبة الموافقات
أعظم.
وقال ابن عطاء: في قصة مريم عليها السلام لما كانت مجردة رزقت بغير حركة
وكسب لما تعلق قلبها بعيسى قال لها: * (وهزي إليك بجذع النخلة) *.
قوله تعالى: * (فكلي واشربي وقري عينا) * [الآية: 26].
قال ابن عطاء: إنك غير مطالبة بالثواب فيما أعطيت.
424

قوله تعالى: * (فأشارت إليه) * [الآية: 29].
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزار بمصر يقول: قال ابن
عطاء: فأشارت إليه في الظاهر ليعلم القوم صدقها فيما يقول فأنطق الله عيسى صلى الله عليه وسلم
ببراءتها.
قال بعضهم: أشارت إليه اتباعا للأمر في الظاهر وأشارت إلى الحق إشارة مضطر
عاجز فيما رميت به، وما نسبت إليه.
وقال: إن أحسن إشارات العارفين في أوقات الاضطرار حين لا تتثبت الهمة عن
الرجوع إلى الحق.
قال ابن عطاء: أشارت إلى الله فلم يفهم القوم إشارتها فأنطق الله عيسى بالبيان، قال
عيسى * (إني عبد الله) * أي أنطقني الله بهذا النطق الذي أشارت إليه مريم وأظهر ربوبيته
في تكلمه.
قوله تعالى: [الآية: 30].
لست بعبد هوى، ولا عبد طمع، ولا عبد شهوة، * (وآتاني الكتاب) * [الآية: 30].
خصني بخصائص الأسرار، * (وجعلني نبيا) * مخبرا عنه خبر الصدق.
قال ابن عطاء: لما علم الله في عيسى ما علم من أن يتكلم فيه بأنواع الكفر أنطقه
أول ما أنطقه بقوله: * (إني عبد الله) * ليكون ذلك حجة على من يدعي إذ قد شهد هو
بالعبودية لله تعالى بالعبودية.
وقيل في قوله: * (آتاني الكتاب) * أي سيأتي الكتاب ويجعلني نبيا.
قوله تعالى: * (وجعلني مباركا أين ما كنت) * [الآية: 31].
قال ابن عطاء: نفاعا للناس كافا للأذى.
وقال الواسطي رحمه الله: وجعلني مباركا عارفا بالله راغبا إليه.
قال الجنيدي رحمه الله: مباركا على من صحبني وتبعني أن أوليه على الأعراض عن
الدنيا والإقبال على الآخرة.
وقال أبو عثمان: عيسى إمام الزهاد في الدنيا والسالكين سلوك الآخرة فظهر بركاته
على من اتبع أثره.
425

وقال سهل: أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأرشد الضال ونصر المظلوم، وأغاث
الملهوف.
قوله تعالى: * (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) * [الآية: 31].
قال ابن عطاء: أمرني بمواصلته وطهارة السر عما دونه ما دمت حيا بحياته.
قوله تعالى: * (ولم يجعلني جبارا شقيا) * [الآية: 32].
قال سهل: جاهلا بأحكامه ولا متكبرا عن عبادته.
وقال ابن عطاء: الجبار الذي لا ينصح، والشقي الذي لا يقبل النصيحة.
* (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) * [الآية: 38].
قال الجنيد رحمه الله: من كان مشغولا بالله عن نفسه وناظرا إليه لا إلى خلقه فهو
الذي يبدأ بالعطاء قبل السؤال داخلا في مهيمنية الجبار قد أخبر الله عن ذلك بقوله:
* (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) * [الآية: 38].
فمن اشتغل بالله استولى عليه أنوار الحق فلا يستعبده أحد من المخلوقين وجعله
سميعا بصيرا.
قوله تعالى: * (وأنذرهم يوم الحسرة) * [الآية: 39].
سمعت منصور بن الحسين يقول: سمعت أبا القاسم البزار المصري يقول: قال ابن
عطاء: الحسرة هي الندم على ما فات من الحق، وحسرة الوقت هي قلة المبالاة بما
يرتكبه من أنواع المخالفات.
قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا) * [الآية: 41].
قال ابن عطاء: الصديق القائم مع ربه على حد الصدق في جميع الأوقات لا
يعارضه في صدقه معارض بحال.
قال أبو سعيد الخراز رحمه الله: الصديق الآخذ بأتم الحظوظ من كل مقام سنى حتى
يقارب من درجات الأنبياء.
وقال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه: شرب كأس الصديقين في الدنيا من ثلاثة أنهار
نهر الحياء، ونهر العطاء، ونهر الصبر.
وقال الجنيد رحمه الله: الصديق القائم مع الحق بلا واسطة.
426

قوله تعالى: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * [الآية: 42].
قال بعضهم: لم تعتمد من لا يسمع دعائك، ولا يبصر حالك، ولا يكفيك شيئا من
مماتك.
قوله تعالى: * (فاتبعني أهدك صراطا سويا) * [الآية: 43].
قال القاسم: الطريق إلى الحق تعالى طريق المتابعة من علت مرتبته اتبع الكتاب،
ومن ترك عنهم اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن نزل عنهم، اتبع الصحابة رحمة الله عليهم،
ومن ترك عنهم اتبع أولياء الله والعلماء بالله وأسلم الطرق إلى الله طريق الاتباع لأن
سهل بن عبد الله قال: أشد ما على النفس الاقتداء فإنه ليس للنفس فيه نفس ولا
راحة.
قوله تعالى: * (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا
قال سلام عليك) * [الآية: 46 - 47].
قال أبو بكر بن طاهر: لما بدا منه كلام الجهال من الدعوة إلى آلهته والوعيد على
ذلك إن خالفه جعل جوابه جواب الجهال بالسلام لقوله تعالى: * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) *.
قوله تعالى: * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) * [الآية: 48].
قال القاسم: من أراد السلامة في الدنيا والآخرة ظاهرا وباطنا فليعتزل قرناء السوء
وإخوان السوء لا يمكنه ذلك إلا بالالتجاء والتضرع إلى ربه في ذلك ليوفقه لمفارقتهم
فإن المرء مع من أحب، وقيل: إن القرين بالمقارن مقتدي.
وقال أبو تراب النخشبي: صحبة الأشرار تورث (سوء الظن) بالأخيار.
قوله تعالى: * (عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا) * [الآية: 48].
قال عبد العزيز المكي: كان الخليل عليه السلام يهاب ربه أن يدعوه، ويذكره،
ويعظمه ألا يكون يدعوه بلسان لا يصلح لدعاءه فدعا على استحياء وحتمة وخيفة وهيبة
بعد معرفته بجلالته فقال: وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا: والله أعلم أن
427

ربي يعذرني بدعائي إياه، وإن كنت لا أصلح لذكره ودعائه ثم لا أشقى بدعائه بعد أن
يعذرني.
قوله تعالى: * (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب) *
[الآية: 49].
قال الواسطي رحمه الله: عوض الأكابر على مقدار الحرب جعل فهم التلاوة
للأحكام، وجعل فهم الحقيقة للأسقام.
قال الله جل ذكره: * (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له) * وقال لموسى:
* (وهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) *.
ولما اعتزل محمد صلى الله عليه وسلم الأكوان أجمع ولم يزغ البصر في وقت النظرة وما طغى.
قيل: * (إنك لعلى خلق عظيم) *. لم تزغ غير ما حلاه بصفته. وقال: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) *.
قال أبو محمد البلاذري: ما خر أحد على ربه في شيء من أسبابه وما ترك أحد له
سببا. إلا عوضه الله عليه خيرا منه.
قول الله تعالى: * (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب) *.
قوله تعالى: * (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) * [الآية: 50].
قال ابن عطاء: أصدق الألسنة هي المعبرة عن الحق بالصواب، والذاكر على الدوام
لنعمائه والناشرة لآلائه.
وقال بعضهم: فتحنا عليهم ألسنة عبادنا بصدق معاملاتهم وعلو محلهم.
قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا) * [الآية: 51].
قال الترمذي: المخلص على الحقيقة مثل موسى ذهب إلى الخضر صلى الله عليهما
ليتأدب به فلم يسامحه في شيء ظهر له منه ومما كان يفعله حتى أوقعه على العذر فيه
428

وهذا من تمام إخلاصه.
قوله تعالى: * (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا) * [الآية: 52].
قال ابن عطاء: وقربناه نجيا: خص الله سادات الأنبياء كل واحد منهم بخاصية
فكانت خلافة لآدم * (إني جاعل في الأرض خليفة) * [البقرة: 30]. والقربة لموسى
بقوله: * (وقربناه نجيا) *، والإمامة لإبراهيم بقوله: * (إني جاعلك للناس إماما) *
[البقرة: 124]، والمحبة لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ' أنا سيد ولد آدم) * بلا جهد، ولا اكتساب
إلا أن المحبة أوجبت له السيادة على الخلق أجمع والقسم بحياته بقوله: ' لعمرك يا
محمد '.
وقال جعفر: للمقرب من الله ثلاث علامات إذا أفاده الله علما رزقه العمل به، وإذا
وفقه للعمل به أعطاه الإخلاص في عمله وإذا أقامه لصحبة المسلمين رزقه في قلبه
حرمة لهم ويعلم أن حرمة المؤمن من حرمة الله تعالى.
قال الجنيد رحمه الله في قوله: * (وقربناه نجيا) *.
قال: جعلناه من العالمين بنا والمخبرين عنا بالصدق والحقيقة.
وقال رويم: كشفنا عن سره ما كان مغطى عليه من أنواع القرب والزلف، وأدنا له
في الإخبار عنا.
قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد) * [الآية: 54].
قال ابن عطاء: وعد لأبيه من نفسه الصبر فوفى به وذلك في قوله: * (ستجدني إن
شاء الله من الصابرين) * [الصافات: 102].
وقال الجنيد رحمه الله: لم يعد إسماعيل لله من نفسه شيئا إلا صدقه، ووفى به وقام
عند مراد الله فيه فسماه صادق الوعد.
قال الحسين: الصادق هو المتكلف في حاله يجري بين استقامة وذلة، والصديق هو
المستقيم في جميع أحواله.
429

قوله تعالى: * (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا) * [الآية: 56].
قال بعضهم: الصديق الذي لا يطلب الطريق الصدق من غيره ويكون له أن يطالب
غيره بحقيقة الصدق.
وقال الحسين: الصديق: الذي لا يجري عليه كلفة في شواهده لمشاهدة الحق فتولاه
الحق فلا يرى شيئا إلا من الحق.
وقال: الصديق: الذي يكون مع الله في حكم ما أوجب، ولا يكون على شره أثر
من الأكون ويكون وجدان الذات لم يشهده الحق غيره وهو أعمى عن الكون ويكون له
مع الحق فستحمل به الواردات لا يذكر برؤية الكون غير الحق ولا يبدله الحق بالنظر إليه
غيرة عليه.
قوله تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) *
[الآية: 59].
قال محمد بن حامد: أولئك قوم حرموا تعظيم الأنبياء، والأولياء، والصديقين
فحجبهم الله عن معرفته وأصابتهم شقاوة ذلك الحال فأضاعوا الصلاة التي هي محل
وصلة العبد مع سيده ترسمو بها ولم تتحققوا فيها واتبعوا آراهم وأهوائهم فأصابهم
الخذلان وحرموا بذلك السعادة وأثر الشقاوة على العبيد هو حرمان الخدمة وتصغير من
عظم الله حرمته.
قوله تعالى: * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * [الآية: 62].
قال محمد بن عيسى الهاشمي: رد الأشباح إلى قيمها من المطعم والمشرب بكرة
وعشيا ونزه الأرواح والأسرار عن ذلك بقوله تعالى: * (إن المتقين في مقام أمين) *
[الدخان: 51].
وهو مقام لا ينزله إلا من كان ظاهر الأمانة سرا وعلانية.
قوله تعالى: * (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) * [الآية: 63].
قال بعضهم في هذه الآية: تجعل أهل الجنة وسكانها من يطلبها بفضلنا لا بعمله فإن
الجنة ميراث سعادة الأزل لا ميراث الأعمال والعمل سمة ربما تتحقق.
وربما لا تتحقق، والتقوى نتيجة تلك السعادة وقوله: * (من كان تقيا) * من كان
430

رجوعه إلينا بنا لا غير.
وقال ذو النون. التقي من لا يدنس ظاهره بالمعارضات ولا باطنه بالعلات ويكون
واقفا مع الله موقف الاتفاق.
وقال الواسطي رحمه الله: إذا يلفت العقول الغاية وبلغ بها النهاية فحاصلها يرجع
إلى حديث يليق بحدث حبك من ذلك قوله تعالى: * (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) * لما كان التقوى وصفك قابلك بما يليق بك وأعلمك أنه غاية ما يليق تقواك
ونهايتك في نجواك.
قال الواسطي رحمه الله: من تلقى الأشياء بالله لا ينقطع عن العبادة، ومن تلقاها
بنفسه انقطع عن العبادة لأنه تلقاها بشواهد نصرتها وبهجتها فالتقيه هي سبب الحجة عن
المتقي.
وقال بعضهم: التقوى مقوم على الخطرة، والهمة والفكرة، والنية، والعزم،
والقصد، والحركة.
قوله تعالى: * (هل تعلم له سميا) * [الآية: 65].
قال محمد بن الفضل: هل تعلم أحد يجيبك في أي وقت دعوته ويقبلك في أي
أوان قصدته.
وقال بعض المفسرين: تعلم أحدا يسمى الله إلا الله.
وقال الحسين ابن الفضل: هل تستحق أحدا أن يسمى باسم من أسمائه الحقيقية.
قوله تعالى: * (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * [الآية: 67].
قال الواسطي رحمه الله: المقادير صرحت بمعانيها وكشفت عن أوقاتها.
وقال آخر: إنه مأخوذ عن شاهد واكتساب نفسه حين لم يك شيئا.
والثاني: أخذها من النطفة، والثالث أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا
ذكر الطين للعبادات وذكر النطفة للإشارات والباقي لفقد النعوت والأوصاف.
قوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها) * [الآية: 71].
قال الواسطي رحمه الله: ما أحد إلا وتورده النار ملاحظات أفعاله ثم ينجي الله منها
من أسقط ذلك عنه وأزالها منه بملازمة التوفيق.
431

قوله عز وجل: * (كان على ربك حتما مقضيا) * [الآية: 71].
قال الواسطي رحمه الله: بالرجاء يجلب المحتوم وبالخوف يدفع المقضي.
قوله تعالى: * (ثم ننجي الذين اتقوا) * [الآية: 72].
قال أبو الحسين الفارسي: ثم ننجي من اتقى النار. بالاستغفار واتقانا بقلبه عن
المخالفات.
قال الجنيد رحمه الله: ما نجا من نجا إلا بصدق اللجأ.
قال الجريري: ما نجا من نجا إلا بصدق الوفاء.
قال ابن عطاء: ما نجا من نجا إلا بتصحيح الوفاء.
قال بعضهم: الناجي من المكاره هو الداخل في سبيل التقوى وتصحيح التقوى في
سره وعلانيته وظاهره وباطنه.
وقال بعضهم: التقوى هو اجتناب الشبه من كل وجه وملازمة الورع في كل حال،
ومد اليد إلى الأسباب بحسب إبقاء المنهج.
قوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا) * [الآية: 81 - 82].
قال بعضهم: كيف تظفر بالعز وأنت تطلبه في محل الذل ومكانه أذللت نفسك
بسؤال الخلق، ولو كنت موفقا لأعززت نفسك بسؤال الحق أو بذكره، أو بالرضا لما يرد
عليك منه تكون عزيزا في كل حال دنيا وآخرة.
قوله تعالى: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * [الآية: 76].
قال سهل بن عبد الله: يزيد الله الذين اهتدوا بصيرة في إيمانهم بالله واقتدوا بسنة
محمد صلى الله عليه وسلم. وهو زيادة الهدى والنور المبين.
قوله تعالى: * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) * [الآية: 85].
قال ابن عطاء: بلغني عن الصادق أنه قال: وفدا: أي ركبانا على متون المعرفة.
وقال جعفر: المتقي الذي اتقى كل شيء سوى الله، والمتقي هو الذي اتقى متابعة
هواه فمن كان بهذا الوصف فإن الله يحمله إلى حضرة المشاهدة على نجائب النور ليعرف
أهل المشهد محله فيهم.
432

وقال الواسطي: وفدا اي ركبانا وذلك حجابهم لا من جذبته زينته عن الحق حتى
ينسيه، ولا يجذبه ذكر الحق عن الأعراض جذب الزينة فهو الكاذب في دعواه.
وقال يحيى بن معاذ: اجعل أمرك مع الله جدا، وسد باب الخلاف عليك سدا،
وارده على العبد ما أشار به ردا، وانظر هل تجد من طلب العفو بدا، فإلى كم تكد
بالتصنع كدا، وتمد بما لا تملكه من حياتك مدا، ولا تذكر يوم يحشر المتقين إلى الرحمن
وفدا، ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا.
قوله تعالى: * (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) *
[الآية: 93].
قال أبو بكر الوراق: ما تقرب أحد إلى ربه بشيء أزين عليه من ملازمة العبودية
وإظهار الافتقار لأن ملازمة العبودية تورث دوام الخدمة، وإظهار الافتقار إليه يورث
دوام الالتجاء والتضرع.
سمعت منصور يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندراني يقول: سمعت أبا جعفر
الملطي يقول: عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد في قوله * (إلا آتي الرحمن عبدا) * قال: فقيرا ذليلا بأوصافه أو عزيزا دالا بأوصاف الحق.
* (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) * [الآية: 96].
قال الواسطي: طائفة خطابها الثناء فخطابها بما عرفت * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) *.
قال ابن عطاء: الذين أخلصوا سريرتهم لي وأتبعوا ظاهرهم في خدمتي سأجعل لهم
وجها في عبادي لا يراهم أحد إلا أحبهم وأكرمهم، وفي محبتهم وكرامتهم كرامتي
ومحبتي.
وقال بعضهم: حلاوة ومحبة في قلوب المؤمنين.
وسئل بعضهم عن قوله: * (سيجعل لهم الرحمن ودا) *. قال: يعني لذة وحلاوة في
الطاعة والله أعلم.
433

ذكر ما قيل في سورة طه
بسم الله الرحمن الرحيم
* (طه ما أنزلنا) * [الآية: 1].
قال ابن عطاء: في قوله: * (طه) * قال الواسطي: طاء هديت لبساط القربة والأنس.
قال الواسطي: هو مستخرج من الطاهر الهادي أي: أنت طاهر بنا هاد إلينا.
وقال محمد بن علي الترمذي في قوله تعالى * (طه) * أي: طوبى لمن اهتدى بك
وجعلك السبيل إلينا.
قوله تعالى: * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * [الآية: 2].
قال الواسطي رحمه الله: سمي القرآن قرآنا لأنه مقارن لمتكلمه لا يباينه تعظيما لشأن
القرآن كما وصل إلينا شعاع الشمس وحرارتها ولم يباين القرص.
قال ابن عطاء: في قوله: * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * أي: تتعب في خدمتنا
وكان جوابه.
من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة تعبد واجتهاد كأنه يقول: وهل يتعب أحد في خدمتك وهو محل
استرواح العارفين فأما هذه الحركات فهي قيام بشكر ما أهلتني له من قربك، ومناجاتك
وخدمتك، والدنو منك، ألا تراه عليه السلام لما قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما
تقدم من ذنبك، وما تأخر، قال: ' أفلا أكون عبدا شكورا) *.
قوله تعالى: * (إلا تذكرة لمن يخشى) * [الآية: 3].
قال ابن عطاء: قيل له: يا محمد أنت إمام أهل الخشية وسيدهم أنزلناه تذكرة لك
لتسكن إليه وتزول به الخشية من قلبك فإن المحب يأنس بكتاب حبيبه، وكلامه.
434

قال جعفر: أنزل الله القرآن موعظة للخائفين ورحمة للمذنبين وللمتقين وأنسا
للمحبين فقال: * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى) *.
قوله تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * [الآية: 5].
قال مالك بن أنس: وقد سئل كيف استوى؟
قال الاستواء غير مجهول، والكيفية غير معقوله والإيمان به واجب والسؤال عنه
بدعة.
وقال فارس: ليس على الكون من الله أثر، ولا على الله من الكون أثر.
قال ابن عطاء: في قوله: الرحمن على العرش استوى.
وقال استوى: إظهار القدرة لإمكان الذات.
قوله تعالى: * (له ما في السماوات وما في الأرض) * [الآية: 6].
قيل في هذه الآية: له الملك فمن طلب البعض من الكل من غيره أخطأ الطلب
ارجع إليه في جميع مهماتك يكفيك فاطلب منه كل طلباتك يجود بها عليك.
قوله تعالى: * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) * [الآية: 7].
قال: السر ما يطالعه العبد، ولا يطالعه الملك، ولا الشيطان ولا تحس به النفس، ولا
شهادة العقل وهو في الإضمار لم تهوه الهمم، ولا تديره الفطن، وهي في لباب لب
القلب من حقائق المحض من خطرات الإلهام كشرر النار الكامن في الشجرة الرطبة
حتى تمثله الإرادة والمشيئة، والأحكام فينتقل في الأحوال فهذا هو السر وما هو أخفى
فما لم يحن ولم يطالع لا يعلمه إلا الله فهو أخفى من الحقائق فإذا ظهر مغلوقه بدأ
عمله.
وقال الواسطي رحمه الله: السر ما خفي على العباد والذي هو أخفى ما لم يقل له
كن.
سمعت عبد الله بن حمد السراوي يقول: حدثنا محمد بن منصور الصائغ يقول:
سمعت مردويه الصائغ يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: في قوله: * (يعلم السر وأخفى) * يعلم ما في نفسك وما تعلمه غدا.
435

قال الجنيد رحمه الله: يعلم سره فيك وأخفى سره فيك.
قوله تعالى: * (وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا) * [الآية: 9 - 10].
قال الواسطي: موسى خطرت بحسه الخطوط في أخذ نار فقال النور فلا ينبغي لأحد
أن ييئس من نفسه جوله من شاهد الحظ إلى شاهد الحق.
قوله تعالى: * (فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك) * [الآية: 11 - 12].
قال جعفر: قيل لموسى عليه السلام: كيف عرفت أن النداء هو نداء الحق؟ فقال:
لأني أقياني وشملني فكأن كل شعرة مني كانت مخاطبة بالنداء من جميع الجهات
وكأنها تعبر من نفسها بجواب فلما شملتني أنوار الهيبة وأحاطت بي أنوار العزة
والجبروت علمت أني مخاطب من جهة الحق، فلما كان أول الخطاب إني تم بعده. أنا
علمت أنه ليس لأحد أن يخبر عن نفسه باللفظتين جميعا متتابعا إلا الحق فأدهشت وهو
كان محل الفناء فقلت: أنت الذي لم تزل، ولا تزال ليس لموسى معك مقام ولا له
جرأة الكلام إلا أن تبقيه ببقائك، وتنعيه بنعوتك. فتكون أنت المخاطب، والمخاطب
جميعا.
فقال: لا يحمل خطابي غيري، ولا يجيبني سواي أنا المكلم وأنا المكلم وأنت في
الوسط شبح يقع بك محل الخطاب.
قوله تعالى: * (فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) * [الآية: 12].
قال أبو سفيان: اخلع نعليك ليصيب قدمك بركة الوادي والوادي بركة قدمك.
وقال الشبلي: اخلع الكل منك تصل إلينا بالكل، فتكون ولا تكون، فتحقق في
عين الجمع بكون أخبارك عنا، وفعلك فعلنا.
قال ابن عطاء: اخلع نعليك أعرض بقلبك عن الكون فلا تنظر إليه بعد هذا
الخطاب.
وقال أيضا: النعل النفس، والواد المقدس دين المرجان وقت خلوك من نفسك،
والقيام معنا بدينك، وقيل اخلع نعليك فإنك بعين موجودك وقال جعفر: اقطع عنك
العلائق فإنك بأعيننا.
436

وقال ابن عطاء: اخلع نعليك أي: أسقط عنك محل الفصل والوصل فقد حصلت
في الواد المقدس وهو الذي يطهرك عن الأحوال أجمع ويبردك إلى محولها عليك.
قيل في قوله: واد المقدس طوى. أي: أطوى عنك بساط المخالفات فقد حصلت في
هذا الوادي ومطية طوى عن قلبه ما لا يكون مقدسا.
وقال ابن عطاء: في قوله: * (اخلع نعليك) * أي: انزع عنك قوة الاتصال والانفصال
إنك بالواد المقدس أي: بواد الانفراد معي ليس معك أحد سواي.
قوله تعالى: * (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) * [الآية: 13].
قول الواسطي: المختار من جهته من هو مصطنعه ومصطفيه، ومربيه على يد
أعدائه، والملقى محبته في قلوب عباده فلم يستطيعوا له إلا محبة، والمطلق لسانه بحل
العقد والميسر له أمره فلا يعسر عليه مطلوب بحال، كل هذا يقدم إليه وبمن عليه ليكون
ثابتا عند مكافحة الخطاب ومواجها لوحي الكلام.
قوله تعالى: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) * [الآية: 14].
قال الواسطي رحمه الله: لا يشغل قلبك بغيري فعلا، وقولا، ولا تكن من أبناء
الأفعال والأحصار، والأعمار، والدهور. كن من أبناء الأزل والأبد مطالعا لما سبق من
الأولية. وجرى لك في الأخرية، وإن كان كلاهما واحدا.
قال ابن عطاء رحمه الله: إشارة إلى حقيقة الحق إذ الأزل والأبد علة وذكر
الأوقات، الدهور علة.
وقال الواسطي رحمه الله: أظهر هذا الخلق في شموخ وعلو في أنفسهم فأمرهم
لعلة الفاقة، ولا لعلة الاستغناء تنسما لرؤية الاضطرار قال يا موسى إنني أنا الله لا إله
إلا أنا فاعبدني. أحب أن يريه عجزه.
وقال أيضا: بالعبرانية خاطب موسى ثم وصف لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا) * هل تلونت الصفة بذلك، فإن قال: لو لونتها اختلاف اللغات لتلونت في
اختلاف الأوامر والنواهي.
قال الحسين: * (لا إله إلا أنا) * تنظيف البشر عن الآلهة. وإذا خلا السر من تعظيم
غيره، فلا وجه لهذا القول.
437

قال الواسطي رحمه الله: * (إنني إنا الله لا إله أنا فاعبدني) * ابتدأه بالتوحيد، وختم
بلسان الطاعة * (وأقم الصلاة لذكري) *.
قال ابن عطاء: أقم معي بحسن الأدب، ولا تغفل عني وأنت متوجه إلي.
قوله تعالى: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * [الآية: 17].
قال فارس: سمع موسى كلاما لا يشبه كلام الحق فلما سمع ذلك الكلام، كاد أن
يهيم، فمرة أضاف العصا إلى نفسه، ومرة أجاب عما لم يسئل كذلك الهيمان.
وقال: لما غلبت عليه الدعات الصفات رده الحق إلى المخلوق ليسكن ما به.
فقال: وما تلك بيمينك، شغله بالإجابة عما يكلمه، ولولا ذلك لتفسخ عند ورود
الخطاب عليه بغتة.
وقال الواسطي رحمه الله: استلذ الخطاب فأخذه عن التمييز فأجاب عما سأل، وعما
لم يسأل وقال وما تلك بيمينك عندك. فقال: عصاي، فقال: ألقها فإن لنا فيه آيات هي
عندك عصا، وهي عندنا حية تسعى.
وقال ابن عطاء في قوله: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * قال: انفراد الله بعلم الغيب
فللخلق من الأشياء ظواهرها وحقيقتها عند الله فكان عند موسى أنها عصى. وعند الحق
أنها حية فقال له: وما تلك بيمينك ليعرفه بذلك مقدار علمه، وإن حقائق العلوم لا
يعلمها إلا الله فقال: عصاي، فقال له بل محلا لإظهار قدرتنا فيه.
وقال الحسين: في قوله: * (وما تلك بيمينك) * قال: أثبته بالصفة: فقال له: أعد إليه
النظرة فأعاد النظر حتى تيقن أنها عصا فقال: عصاي فلما أجاب بالحقيقة إنها عصا قلب
عينها فأحالها عن حالها فأعجزه ذلك فقيل. إعجازها للأمة.
وسمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا بكر بن طاهر يقول: في قوله: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * قال انبسط إليه في السؤال ليربط على قلبه لعلمه لما يبدو منه في
شهود الكبرياء.
وقال أيضا: أحب الله تعالى أن يبسط موسى في الكلام كي لا يحتشم في السؤال.
وقال الجنيد رحمه الله: في قوله: * (عصاي أتوكؤ عليها) * [الآية: 18].
فقال له: ألق كلما يعتمد عليه قلبك، أو تسكن إليه نفسك، وإن الكل مجال العلل
438

فإن كل ما تسكن إليه ستهرب منه عن قلبك ألا تراه قال: فأوجس في نفسه خيفة.
قال الحسين: عدد موسى منافع العصا على ربه وسكونه إليها وانتفاعه بها فقال:
* (ألقها يا موسى) * أي: ألق من نفسك السكون إلى منافعها، ومن قلبه حبه ليزول عنه
بالفرار منه، خذها ولا تخف وراجع إلينا. وقيل: إن الحكمة في انقلاب العصا حية في
وقت الكلام أنه جعلها آيته ومعجزته ولو ألقاها بين يدي فرعون، ولم يشاهد منه قبل
ذلك ما شهد لهرب منه كما هرب فرعون حين بدهته رؤيته.
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول سمعت الجنيد
يقول: في قوله: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * قال: انفرد الحق بعلم الغيوب، فالخلق
من الأشياء ظواهرها، وله الحقائق منها، وكان عند موسى أنها عصا فقط فذكر كل ما
يعلم من علمها فأراه الله فيها ما تفرد به وجعلها حية، والحكمة فيه أنه لو لم يره فيها
من الآيات لراعه في وقت الانقلاب فأراه ذلك ليلا يفزع ولا يجزع فلما رآها حية تهتز
كأنها جان ولى مدبرا أي. ولى ظهره إليه وأقبل على ربه، ولم يعقب فقيل: له أقبل
عليها ولا تخف أن يقطعك النظر إليها عني.
قوله تعالى: * (قال هي عصاي أتوكؤ عليها) * [الآية: 18].
قال فارس: ذكر كلما فيها من وجوه المنافع ليلا تكون له معاودة إلى ذلك فيستلذ
بخطاب سيده وعتابه.
قال أبو بكر الوراق: قوله: * (عصاي) * جواب والذي بعده ذكر ما أنعم الله عليه
بالعصا من المافع فكان بعد قوله: * (عصاي) * لسان الشكر.
قال ابن عطاء: في قوله: * (عصاي) * إضافة بالملك إلى نفسه ولم يكن له بواجب
في الحقيقة أن يرى لنفسه ملكا وهو بين يدي الحق فلما أضافها إلى نفسه قال: ألقها
فألقاها فإذا هي حية تسعى. قال خذها: أي خذ عصاك ولا تهرب مما ادعيت الملك فيه
لنفسك فخاف، وتبرأ من إضافتها ملكا إلى نفسه فتعطف الحق عليه فقال: * (خذها ولا تخف) * فإنها لن تضرك.
قوله تعالى: * (ولي فيها مآرب أخرى) * [الآية: 18].
قال ابن عطاء: سرائر مغيبة عني في العصا. غطيتها على تبدوا لي ذلك فإن تكشفه
لي من الآيات والكرامات.
439

وقال جعفر: منافع شتى وأكبر منفعة لي فيها خطابك إياي بقولك: وما تلك بيمينك
يا موسى.
قال سهل: ذكر موسى من العصا مآرب ومنافع فأراه الله في عصاه منافع ومآرب
كانت خافية مع موسى من انقلابه العصا ثعبان، وضربه الحجر في انحباس الماء،
وضربه البحر فانفلق وغير ذلك أراه بذلك أن علم الخلق وإن كانوا مؤيدين بالنبوة قاصر
على علم الحق في الأكوان.
قوله تعالى: * (قال ألقها يا موسى) * [الآية: 19].
قال الواسطي رحمه الله: اطرح عن نفسك السكون إلى العصا والاعتماد عليها،
وعد المنافع فيها فلما ألقاها وخلا منها سره، قال: خذها الآن منا على شرط أن ترانا
النافع الضار لا الأسباب.
وقال ابن عطاء: ألقها من يدك فإنك أخذتها من غيرنا فعددت فيها أسباب المنافع
وخذها منا لتكون ولى نعمتك دون غيرنا.
قال بعضهم: ألقها فإنك قد ألفتها، وسكنت إلى منافعها وخذها عن أمرنا لترى فيها
المنافع التامة.
قوله تعالى: * (خذها ولا تخف) * [الآية: 21].
قال الجنيد رحمه الله: كان خوف موسى عليه السلام خوف تسليط، لا خوف
الطبع.
قال الواسطي رحمه الله: خوف موسى من العصا أنه شاهد أثر سخطه فيه لذلك
قال: من طالق في وقت الذكر بالسخط والعقوبة ذكره بالنية ولا بالإنبساط.
وقال أيضا: رأى موسى على عصاه كسوة من سخط الحق فلم يأمن مكره.
قوله تعالى: * (لنريك من آياتنا الكبرى) * [الآية: 23].
قال أبو عبد الله الروذباري: في سؤال موسى عليه السلام ربه شرح صدره وإطلاق
لسانه، ومؤازرة أخيه لم يسأله ضعفا عن التبليغ لأن الله أيده بالثبات والتمكين ولكنه عليه
السلام وقف مقام حق بين يدي الحق يسأل بلسان الحق.
440

قوله تعالى: * (رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني) *
[الآية: 25 - 27].
قال ابن عطاء: لما كلم الله موسى عليه السلام لم يكن بعد ذلك فيه من الفضل أن
يتكلم مع غيره فلما أمره الله عز وجل بالذهاب إلى فرعون، قال: واحلل عقدة من
لساني إن لم تطلق لساني أنت، وتحل هذه العقدة عنه كيف يتهيأ لي الكلام مع مخلوق
بعد أن كلمتني.
وقال ابن عطاء: اكشف لي عن صدري حتى لا أشاهد غيرك، ويسر لي أمري حتى
لا أنظر، ولا أنطق إلا بمعرفتك، واحلل عقدة الإنسانية من لساني حتى لا أتكلم إلا بما
التقفته منك.
وقال أيضا: أراد به العقدة النفسانية.
وقال جعفر: لما كلم الله موسى عقد لسانه موسى عن مكالمة غيره فلما أمره بالذهاب
إلى فرعون فأجاب يسره فقال: واحلل عقدة من لساني لأكون قائما بالأمر على أتم
مقام.
قال ابن عطاء: اشرح لي صدري ' اكشف لي قلبي حتى لا أرى غيرك، وأقتني عن
نفسي حتى لا أرى غير فضلك ومعروفك، ويسر لي أمري حتى لا أنطق بغير معرفتك
وإحسانك، واحلل عقدة الإنسانية من لساني حتى لا أتكلم إلا بما يقربني منك.
سمعت منصور بن عبد الله الهروي يقول: سمعت أبا بكر بن عبد الله بن طاهر
يقول: ضاق صدر موسى بخطاب الآدميين بعد موقفه مع ربه وكلامه فلما أرسله إلى
فرعون قال رب اشرح لي صدري هون علي مخاطبة غيرك بعد أن استعذتني بخطابك.
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزار يقول: قال ابن عطاء:
في قوله: * (رب اشرح لي صدري) * لاستماع كلامك، ويسر لي أمري بالوقوف معك
واحلل عقدة لساني النفسانية.
قال الجنيد رحمه الله في قوله: * (رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني) *. قال: ما سأل الله موسى إلا الأخلاق.
وقال الحسين: لما أزال الحق عنه التوقف وجاء إلى الله بالله ولم يبق عليه باقية بها
441

يتمتع أقيم مقام المواجهة، وأطلق مصطنعة لسانه بطرا إلى أليق الأحوال به فسأل قلبه،
وشرح صدره لتتسع لمقام المواجهة والمخاطبة ثم نظر إلى أليق الأحوال به فإذا هو تيسر
أمره فسأل ذلك على تمام الترقي به حاله إلى أرفع المقام وهو المجيء إلى الله بالله لعلمه
بأن من وصل إليه لا يعترض عليه عارضة محال ثم نظر إلى أليق الأحوال به فسأل حل
العقدة من لسانه ليكون إذ ذاك لنطقه وبيانه فلما تمت له هذه الأحوال صلح إلى الله
وكان للمجيد ممن وفى المواقيت حقها غابت عنه الأحوال فلم يرها وذهبت عن عينه
وظهوره وما عداها إلا ما كان للحق منه، ومعه حتى تحقق بقوله * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) *.
قال بعضهم: سأله حل عقدة الحياء عنه فإنه استحيى أن يخاطب عدو الله فرعون
بلسان خاطب الحق.
قوله تعالى: * (كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) * [الآية: 33 - 34].
قال ابن عطاء: لا يخطرن بسرك ما خطر لموسى. حيث قال: * (كي نسبحك كثيرا) *
استكثر ما منا من العبادة والتسبيح لا يخطرن بك ما خطر به.
قال جعفر: قيل لموسى: استكثرت تسبيحك وتكبيرك ونسيت بدايات فضلنا عليك
في حفظك في اليم وردك إلى أمك وتربيتك في حجر عدوك، وأكثر من هذا كله
خطابنا معك وكلامنا إياك، وأكثر من هذا كله إخبارنا باصطناعنا لك.
قال ابن عطاء: اشرح لي صدري بنور القربة، واحلل عقدة من لساني. أي: عقدة
الاختيار.
وقال أيضا: واحلل عقدة من لساني. أي: عقدة الإنسانية حتى لا يكون كلامي إلا
عنك وبك.
كان الواسطي: إذا ضرب عليه ضربته نسي كثير تسبيحه وأرجع إلى حال الالتجاء.
قوله تعالى: * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * [الآية: 36].
قال الواسطي رحمه الله: سأل ربه ابتداء شرح صدره فجاز الاقتداء به للعوام دون
الخواص لأن الله أعلم بما فيه إبلاغ رسالته وأداء أمانته ألا ترى إلى قوله: * (قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى) * [الآية: 37].
442

فذكر أيام حداثته ثم رده إلى أصله، ثم رده من أصله إلى أصل الأصل فقال:
* (واصطنعتك لنفسي) * [الآية: 41]. فأضافه إلى نفسه ثم أكد ذلك بقوله: * (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي) *.
وقوله تعالى: * (وألقيت عليك محبة مني) * [الآية: 39].
قال سري السقطي: ألقى عليه لطفا من لطفه يستجلب به قلوب عباده.
قال ابن عطاء: ألقيت عليك محبة مني لك فمن رأى فيك محبتي لك أحبك بحبي
بك.
وقال فارس: زينتك بملاحة من عندي حتى لا تصلح لغيري، ويحبك من يرى بك
الملاحة فيك.
فقيل: أليس يوسف أعطى شطر الحسن؟ لم لم يكن يستوجب المحبة؟. قال: الحسن
لا يوجب المحبة، والملاحة توجب المحبة، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه (ملاحة ممزوجة
بهيبة).
قال الواسطي رحمه الله: * (وألقيت عليك محبة مني) * فقال: المحبة تمتزج لأقوام
كرجل يكون سخيا شجاعا، فقيها، فيفتن الناس على ذلك، والمحبة التي ألقى على
موسى ما زال ملقى عليه وهو في صلب عمران ألا ترى فرعون لما شاهد الملقى عليه في
صغره من غير مزاج كيف رباه؟ مع ما كان يقتل من أولاد بني إسرائيل وذلك لإلقاء المحبة عليه.
قال ابن عطاء: ألقى عليك لطفا لا يراه أحد إلا أحبه.
قال أبو بكر بن طاهر: أحببتك فحببتك إلى إحبائي.
وقال سهل: أظهر الله عليه ميراث علمه، وأورثه محبته في قلوب عباده.
قال القياد في قوله: * (وألقيت عليك محبة مني) *: لا يراك أحد إلا رق لك، ومال
إليك.
وأيضا: سبقت لك مني العناية بفضل الإختصاص على غيرك فخصصت بالذكر في
الثناء ومن اصطنعه الله لنفسه لم تسترقه طمع نفسه غيره.
قوله تعالى ذكره: * (ولتصنع على عيني) * [الآية: 39].
443

قال الواسطي رحمه الله في هذه الآية ما يجيء نبي ولا ولي من محبته، ولا سلم
أحد من منته. وهذا معنى قوله: * (ولتصنع على عيني) *.
قال ابن عطاء: في هذه الآية أنا مشاهد لك حافظ أرعاك بعيني ولا أسلم بسياستك
إلى غيري، ليعلمه حسن العناية به.
قوله تعالى: * (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم) * [الآية: 40].
قال الواسطي رحمه الله: ألقاه في أعظم كبيرة حتى لا يوجده طعم الاصطفاء
بقوله: * (قتلت نفسا) *.
قوله عز وجل: * (وفتناك فتونا) * [الآية: 40].
قال أبو الحارث الأولاسي: فتناك بنا عما سوانا.
وقال ابن عطاء: طبخناك بالبلاء طبخا حتى صلحت لبساط القرب والأنس.
وقال أيضا: نجيناك من قومك وفتناك بنا عما سوانا.
قال سهل: أفنينا نفسك الطبيعي، وربعناها حتى لا تأمن مكر الله.
قوله عز وجل: * (جئت على قدر يا موسى) * [الآية: 40].
قال: قدرنا لك سبيل المعرفة ووقتها فجئت على ذلك القدر.
قوله تعالى: * (واصطنعتك لنفسي) * [الآية: 41].
قال الخراز: في هذه الآية قال: فمن أين وإلى أين فمنه وإليه وبه، وفنا فنائه، لبقا
بقائه فحقيقة فنائه.
وقيل في قوله: * (واصطنعتك لنفسي) * قال: استخلصتك بسري وأختصصتك
بمخاطبتي.
قال: أخلصتك لي حتى لا تصلح لغيري.
وقال أبو سعيد الخراز: في بعض كتبه غير أن أولياء الله رهائن لله في أشياء جهنم قد
خبأهم. وأحقاقهم في أنفسهم من أنفسهم لنفسه وهذا مقام الإصطناع الذي قال الله
لموسى: واصطنعتك لنفسي.
قال الواسطي رحمه الله: حتى لا يملك غيري فإن نفوس المؤمنين نفوس آتية
استرقها الحق فلا يملكها سواه.
444

قال بعضهم: أوجده طعم الاصطفاء بقوله واصطنعتك لنفسي.
قال سهل: أي مفردا بالتجريد لا يشغلك عني به شيء.
قال الخراز: فطرتك صنعة يدعو إلي لا إلى نفسك وغيرك يدعو إلى نفسه لا إلي.
قوله تعالى: * (ولا تنيا في ذكري) * [الآية: 42].
قال سهل: لا تكثر الذكر باللسان، وتغفل عن مراقبة القلب.
قوله تعالى: * (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) * [الآية: 43].
قال ابن عطاء: الإشارة إلى فرعون وهو المبعوث في الحقيقة إلى السحرة، فإن الله لا
يرسل أنبياءه إلى أعداءه، ولم يكن لأعدائه عنده من الخطر ما يرسل إليهم أنبياءه،
ولكن يبعث الأنبياء إليهم ليخرج أولياءه المؤمنين من بين أعدائه الكفرة.
قوله تعالى: * (فقولا له قولا لينا) * [الآية: 44].
قال يحيى بن معاذ: هذا رفقك بمن يدعي الربوبية فكيف رفقك بمن يدعي العبودية.
وقيل: هذا رفقك من أذاك، فكيف رفقك بمن يؤذي فيك وهذا رفقك بمن عاداك،
فكيف رفقك بمن عادى فيك. وهذا رفقك مع أعدائك فكيف رفقك مع أوليائك.
وقال النهرجوري: هذا رفقك بمن جحدك وبارزك فكيف رفقك بمن عبدك وخضع
لك.
وقال أيضا: قال الله لموسى: * (فقولا له قولا لينا) *.
قال الله لموسى: إنه أحسن إليك في ابتداء أمرك فلم تكافئه فأحببت أن أكافئه عنك.
قوله تعالى: * (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) * [الآية: 46].
قال سهل: أمر الله تعالى أنه ومعهما بالنصرة. مشاهد لهما في كل حال بالقوة،
والمعونة، والتأييد لئلا يخافا عند إبلاغ الرسالة بحال.
قوله تعالى: * (والسلام على من اتبع الهدى) * [الآية: 47].
قال الواسطي رحمه الله: اتباع الهدى بسابقة الهدى فمن سبقت له من الله الهداية
اتبع الهدى في جميع أحواله.
قوله تعالى: * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) * [الآية: 55].
445

قال - قيل ليحيى بن معاذ: ما بال الإنسان يحب الدنيا.
قال فحق له أن يحبها منها خلق فهي أمه، وفيها نشأ فهي عيشه، ومنها قد رزقه فهي
حياته، وفيها يعاد، وهي ممر الصالحين إلى الله فكيف لا يحب طريقا يأخذ بسالكه إلى
جوار ربه.
قوله تعالى: * (فأوجس في نفسه خيفة موسى) * [الآية: 67].
سئل ابن عطاء في هذه الآية فقال: ما كانت هذه الخيفة والله يقول: * (لا تخافا إنني معكما) * قال: خاف على قومه أن يفوتهم حظهم من الله، وما خاف على نفسه.
قوله تعالى: * (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى) * [الآية: 68].
قال ابن عطاء: ' لا تخف فإنك بمرأى منا ومسمع، ونحن معك لتقتنع أحوالك فإنك
القائم بالمسبب وهم القائمون المعتمدون على الأسباب.
قوله عز وجل: * (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) * [الآية: 72].
قال ذو النون: من آثر الله على الأشياء هان عليه فيلقى في ذات الله لأنه آثر الأثير،
وحصل في حمله اللطيف الخفيف.
قال الله: جاء كيسا على السحرة لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات، والذي فطرنا
فاقض ما أنت قاض، افعل بنا ما كنت فاعلا، والذي كشف لنا عنه سهل في مشاهدته
حمل المون، وملاقاة المكاره والضرر.
قوله تعالى: * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) * [الآية: 81].
قال سهل: كلوا من طيبات مما رزقناكم، كلوا منها القوام وإمساك الرمق فإنه الطيب
من الرزق، ولا تطغوا فيه أي لا تشيعوا فتسكروا عن الذكر.
قوله تعالى: * (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) * [الآية: 82].
قال ابن عطاء: لمن رجع عن طريق المخالفة إلى طريق الموافقة وصدق موعد الله فيه
وله، واتبع السنة ثم اهتدى، ثم قام على ذلك لا يطلب سواه مسلكا وطريقا.
قال فارس: لغفار لمن تاب من الشرك، وآمن بالحق وعمل صالحا وأقام على ذلك ثم
اهتدى ثم لزم السنة.
قال جعفر: * (وإني لغفار لمن تاب) * لمن رجع إلي في مهماته ولم يرجع إلى غيري
446

وآمن وشاهدني ولم يشهد معي سواي، وعمل صالحا أخلص قلبه لي ثم اهتدى ثم لم
يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: * (وما أعجلك عن قومك يا موسى) * [الآية: 83].
قال بعضهم: عجلته أوقعته في فتنة قومه حتى قيل له: * (إنا قد فتنا قومك من بعدك) *. وأنشد:
(أقول له عند توديعه
* كلانا بعزته مبلس لبس
*
(لئن رجعت عنك أجسادنا
* لقد سافرت معك الأنفس
*
قوله تعالى: * (وعجلت إليك رب لترضى) * [الآية: 84].
قال الواسطي رحمه الله: عجلت إليك شوقا مني إليك. واستهانة بمن هو أنت
مبعوث إليهم فقال: هم أولاء على أثرى وقيل: الشوق فرض أو نافلة: قيل فرض لأنه
يتولد من حقيقة الحب، قال النبي صلى الله عليه وسلم حب الله لما يغدوكم من نعمة، وقال لذلك لم
تقل الله رضيت لما قال عجلت إليك رب لترضى وقابله الشوق وطلب الرضوان بان
بذلك أن الشوق عليهم بعد، والمحبة عنهم أفقد.
وقال أبو العباس الدينوري في هذه الآية: أي لتعلم أني أحبك ولا قرار لي مع
غيرك.
قوله تعالى: * (فإنا قد فتنا قومك من بعدك) * [الآية: 85].
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزار يقول. قال ابن عطاء في
قوله: * (إنا قد فتنا قومك من بعدك) * قال: قال الله: تدري من أين أتيت؟ قال: لا يا
رب قال حين قلت لهارون أخلفني في قومي أين كنت أنا حين اعتمدت على هارون؟
قوله تعالى: * (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) * [الآية: 86].
غضبان على ماذا، وأسفا لماذا، قال: غضبان على نفسه إذ ترك قومه حتى ضلوا،
وأسفا على ما فاته من مناجاة ربه.
وقال الشبلي: أسفا على ما فاته من مخاطبة الحق من لا أوزان لهم فرده من شوقه
إلى شاهده، ولم يظفر بمعيته ولا أسفا من وجده، فغضبه كان من ذلك.
قوله تعالى: * (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) * [الآية: 99].
قال ابن عطاء: موعظة بعد موعظة، وبيان بعد بيان.
447

وذلك أن الحق كشف له من أنباء ما قد سبق في الأمم الخالية والدهور الماضية
فيكون منهم على علم، ولم يخف عليه من أحوالهم شيء، وأخفا حاله ووقته عن
الكل بقوله: * (وقد آتيناك من لدنا ذكرا) * [الآية: 99].
أي موعظة تتعظ بها، وتتأدب بملازمتها فلا تخفى عليك شيء من أسرارنا، وما
أودعناه أسرار الذين كانوا قبلك من الأنبياء فيكون الأنبياء مكشوفين لك، وأنت في
ستر الحق.
قوله تعالى: * (فيذرها قاعا صفصفا) * [الآية: 106].
قال الحسين: هو الذي يطمس الرسوم، ويعمى الفهوم ويميت الذهن، ويترك الجسم
قاعا صفصفا حتى يعجز الكل عن معرفته، وبلوغ نفاذ قدرته، ثم يظهر من الطوالع
ربوبيته على أسرار أهل معرفته فيعرفونه به.
قوله تعالى: * (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) * [الآية: 108].
قال الواسطي رحمه الله: وهل كانت إلا خاشعة في الأزل وهل تكون إلا خاشعة
في الأبد، والافتخار في حال الوجود بالتوثب، والمنازعة، وقاحة الوجه، ورعونه
الطبع لأنها لم تكن وهي إذا كانت كأنها لم تكن.
قال الجنيد رحمه الله: كيف لا يخشع وقد كشف الغطاء وأبدى الخفاء فلهيبة
الموقف، وحياء الخيانات خشعت أصواتهم وذلت رقابهم.
قوله تعالى: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) *
[الآية: 109].
قال الواسطي في قوله: يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا به قال: أن لا ينسب إلى نفسه
شيئا، ولا يرى نعته فإذا عاين نعته نسي الأول، وإذا أظهر عليه رضوانه ذهب ما دونه،
وقيل في قوله: * (ورضي له قولا) * هو تولى إظهاره عليه، وجعله قائما مغيبا عن شاهده
حتى لا ينطق بحضرته من ذات نفسه.
قال ابن عطاء: لا يحيطون بشيء من ربوبيته علما لأنه لم يظهر شيئا إلا تحت تلبيس
لكن لا يستوي علمان في شيء واحد، ومن لا يرى الكل تلبيسا كان المكر فيه قريبا.
قال الواسطي رحمه الله في قوله: * (يومئذ) * الآية. قال: أن لا ينسب إلى نفسه
448

شيئا، ولا يرى نعته فإذا رأى نعته نسي الأول، وإذا ظهر عليه رضوانه ذهب ما دونه،
وقيل في قوله: * (ورضي له قولا) * هو تولى إظهاره عليه، وجعله قائما به مغيبا عن
شاهده حتى لا ينطق بحضرته من ذات نفسه.
قوله تعالى: * (ولا يحيطون به علما) * [الآية: 110].
قال ابن عطاء رحمه الله: لا يحيطون بشيء من ربوبيته علما لأنه لم يظهر شيئا إلا
تحت التلبيس لكن لا يستوي علمان في شيء واحد، ومن لا يرى الكل تلبيسا كان المكر
فيه قريبا، والعبيد لا يقفون على تلبيساته.
قال الواسطي رحمه الله: كيف يطلب أحد طريق الإحاطة ولا يحيط بنفسه علما،
ولا بالسماء وهو يرى جوهرها.
وقال: ليس له غاية تدرك، ولا نهاية تلحق بقوله: * (ولا يحيطون به علما) *.
قال فارس: ما علمه غيره، ولا ذكره سواه فهو العالم والذاكر على الحقيقة.
قال ابن عطاء: المعرفة معرفتان: معرفة حق ومعرفة حقيقة فمعرفة الحق معرفة
وحدانية على ما أبرز للخلق من الأسامى والصفات ومعرفة الحقيقة لا سبيل إليها
لامتناع الصمدية، وتحقيق الربوبية لقوله * (ولا يحيطون به علما) *. معناه لا سبيل إلى
المعرفة على الحقيقة.
قوله تعالى: * (وعنت الوجوه للحي القيوم) * [الآية: 111].
قال سهل: خضعت له بقدر معرفتها به وتمكين التوفيق منه.
قوله تعالى: * (وقل رب زدني علما) * [الآية: 114].
قال بعضهم: اجعلني عالما بك، جاهلا بما سواك، وهو زيادة العلم.
وقال محمد بن الفضل: * (رب زدني علما) * بنفسي وما تضمره من الشرور،
والمكر، والعذر لأقوم بمعونتك في مداواة كل شيء منها يداويها.
قوله تعالى: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) * [الآية: 115].
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز يقول: قال ابن عطاء في
قوله: * (ولقد عهدنا إلى آدم) * قال: عهدنا إلى آدم أن لا يطاع مني سواي فنسي عهدي
وطالع الجنان: * (ولم نجد له عزما) * أي لم يطالع بسره، ولكن طالعه بعينه. فنادى عليه
449

* (وعصى آدم ربه) *.
قال جعفر: عهدنا إلى آدم أن لا ينسانا في حال ونسينا واشتغل بالجنة، وابتلى
بارتكاب النهى وذلك أنه ألهاه النعيم عن المنعم فوقع في النقمة والبلية فأخرج من النعيم
والجنة، ليعلم أن النعيم هو مجاورة المنعم. لا التذاذ بالأكل والشرب.
قال ابن عطاء: * (لم نجد له عزما) * لم يطالع في دخول الجنة الفضل وإنما طالعه
بفعله لا بفضله.
قال الواسطي رحمة الله عليه: * (فنسي ولم نجد له عزما) * أي قوة على ضبط نفسه،
وإن كان الواجب أن بركات المباشرة أوجبت زوال النسيان، وإنما غيبه عن شاهده ليريه
شواهد عبوديته تنبيها وتزيينا.
قال الواسطي رحمة الله عليه: ' فنسي ' له وجهان: أي جهد قدر عهده وفرق بين
من نسي بالحضرة، وبين من نسي في الغيبة. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان '.
450

وقال بعضهم: نسي في وقت التناول مطالعة الأمر.
سمعت أبا القاسم النصرآباذي يقول: ذنب لزمته فوجب عليك الاستغفار، وذنب
ألزمته فأنت فيه معذور وقال الله تعالى: * (ونسي ولم نجد له عزما) *.
قال الحسين بن الفضل في قوله: * (ولم نجد له عزما) * قال: العود إلى الذنب ثانيا.
قوله تعالى: * (يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) * [الآية: 117].
قال الواسطي رحمة الله عليه: أضمر عداوته ولم يفزع إلى ربه مبتهلا في الكفاية
والإستكفاء فأصغى إلى قوله وقسمه.
قوله تعالى: * (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * [الآية: 117].
قال ابن عطاء في هذه الآية: * (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) * ولم يقل فتشقيا
لأن آدم كان عالما بمراتب المحاورة، واختصاص الدنو، ولم تكن حواء تعلم من ذلك ما
علم آدم. فقال لآدم: * (فتشقى) * لأنك المخصوص بهذه الرتبة الجليلة، وحواء تبعا لك
فيه، وليس الأصل فيه كالفرع.
قوله: * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) * [الآية: 118].
قال ابن عطاء: آخر أحوال الخلق الرجوع إلى ما يليق بهم من المطعم والمشرب ألا
ترى إلى آدم بعد خصوصيته. الخلقة باليد، ونفخ الروح فيه الخاص، وسجود الملائكة.
كيف ردا إلى نقص الطبائع بقوله: * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، واصطفاه
451

على الخلائق، ثم رده إلى قدره ليلا يغد وطوره. فقال: * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) *.
سمعت الحسين بن أحمد الرازي يقول: سمعت أبا جعفر الفرغاني يقول: سمعت
الجنيد رحمة الله عليه: آخر ما يبقى على الناس اليأس. * (فلما ذاق الشجرة) *.
قال القاسم: لما ذاقا تنأثر لباسهما، فلما أكلا بدت لهما سوءاتهما.
قوله تعالى: * (بدت لهما سوءاتهما) * [الآية: 121].
قال الحصري: بدت لهما، ولم تبد لغيرهما لئلا يعلم الأغيار من مكافأت الجناية ما
علما، ولو بدا للأغيار لقال: بدت منهما.
قوله تعالى: * (وعصى آدم ربه فغوى) *.
قال ابن عطاء: اسم العصيان مذمة، إلا أن الاجتباء والاصطفاء منعا أن يلحق آدم
اسم المذمة بحال.
قال جعفر: طالع الجنان ونعيمها بعينه فنودي عليه إلى يوم القيامة * (وعصى آدم) *
ولو طالعها بقلبه لنودي عليها بالهجران أبد الآبد، ثم عطف عليه ورحمه بقوله تعالى:
* (ثم اجتباه ربه فتاب عليه) * [الآية: 122].
وقال بعضهم: سبقت الإصطفائة والإجتبائة من الحق لآدم فلم تؤثر فيه سمة
العصيان، ولا يخطر الأمر بالنسيان لأن اصطفائيته في الأزل رد إلى الإجتبائية في الأبد
وهو في قوله تعالى * (إن الله اصطفى آدم) * وقوله: * (ثم اجتباه ربه) * فالإصطفاء
أوجب له الاجتباء.
وقال بعضهم: عصى آدم فعوقب أولاده بثلاث: ما ولدوا يموت، وما يبنوا يهدم،
وما يصلوا يقطع.
قوله تعالى: * (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) *.
قال الواسطي رحمة الله عليه: العصيان لا يؤثر في الإجتبائة. وقوله: * (وعصى آدم ربه) * أي أظهر أخلاقا ثم أدركته الإجتبائة، فأزالت عنه مذمة العصيان ألا ترى كيف
أظهر عذره بقوله: * (فنسي ولم نجد له عزما) * وكيف يعزم على المخالفة من هو في ستر
452

العصمة وخصوصية الاصطفاء والإجتباء.
قوله تعالى: * (فمن اتبع هداي) * [الآية: 123].
قال سهل: هو الاقتداء، وملازمة الكتاب والسنة فلا يضل على طريق الهدى، ولا
يشقى في الآخرة والأولى.
قوله تعالى: * (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) * [الآية: 124].
قال: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه.
وقال جعفر في هذه الآية: لو عرفوني ما أعرضوا عني، ومن أعرض عني رددته إلى
الإقبال على ما يليق به من الأجناس والألوان.
قال الواسطي: ما كان ذلك ذكرى حتى أعرضوا عنه، بل كانت تلك أذكارهم،
وذكري قد سبق لمن يذكرني على الحقيقة، فلا يكون له إعراض عني، ولا على غيري
إقبال.
قوله تعالى: * (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه) * [الآية: 131].
قال الواسطي رحمة الله عليه في هذه الآية: تسلية للفقراء وتعزية لهم حيث منع
الخلق عن النظر إلى الدنيا على وجه الاستحسان فقال: * (ولا تمدن عينيك) * الآية.
ثم أمرهم بعد هذا بالعبودية وملازمة الطاعة فقال: * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) * [الآية: 132].
لذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين قرأ هذه الآية قال: ' من لم يتعزى بعزاء الله
تقطعت نفسه على الدنيا حسرات '.
وقال سهل: لا تنظر إلى ما يورثك وسوسة الشيطان، ومخالفة الرحمن، وأماني
النفس، والسكون إلى مألوفات الطبع فإنها تفتن، فكل واحد منها مما يقطع عن الله.
قوله تعالى: * (ورزق ربك خير وأبقى) * [الآية: 131].
قال أبو بكر بن طاهر في هذه الآية: هو القناعة بما يملكه، والزهد فيما لا يملكه.
وقال بعضهم: من رزق الثقة بالله، والرضاء عن الله فقد أعطى أفضل الأرزاق.
وقال أبو عثمان في قوله * (ورزق ربك خير وأبقى) * قال: هو توكل لأنه أبقى للمرء
453

من الطلب، وخير له من السعي والتعب.
قوله تعالى: * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) * [الآية: 132].
قال ابن عطاء: أشد أنواع الصبر الإصطبار، وهو السكون تحت موارد البلاء بالسر،
والقلب، والنفس، والصبر بالنفس لا غير.
وقال الجنيد رحمة الله عليه في قوله: * (وأمر أهلك بالصلاة) * قال: وأمر أهلك
بالاتصال بنا، والإصطبار على تلك المواصلة معنا، ومن يطيق ذلك إلا المؤيدون من
جهتنا بأنواع التأييد.
وقال يحيى بن معاذ: للعابدين أردية يكسونها من عند الله سداؤها الصلاة ولحمتها
الصوم.
وقال بعضهم: علمها حضور القلب.
قوله تعالى: * (والعاقبة للتقوى) * [الآية: 132].
قال أبو عثمان: هو ذم النفس والجوارح من جميع ما لا يبيحه بالعلم.
تم بحمد الله الجزء الأول ويليه الجزء الثاني
وأوله: ذكر ما قيل في سورة الأنبياء.
454