الكتاب: تفسير السمعاني
المؤلف: السمعاني
الجزء: ٤
الوفاة: ٤٨٩
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: ياسر بن إبراهيم و غنيم بن عباس بن غنيم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨ - ١٩٩٧م
المطبعة: السعودية - دار الوطن - الرياض
الناشر: دار الوطن - الرياض
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا). * *
تفسير سورة الفرقان
وهي مكية، قال الضحاك: هي مدنية.
قوله سبحانه وتعالى: * (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) وقرأ عبد الله بن الزبير: ' على عباده ' على الجمع. قوله: * (تبارك) تفاعل من البركة, وقيل: تبارك أي: جل بما لم يزل ولا يزال، وقال الحسن: تبارك صفة من صفات الله تعالى؛ لأن كل بركة تجئ منه، وقال غيره: لأنه يتبرك باسمه، وأما البركة فهي الخير والزيادة، وقيل: فعل كل طاعة من العباد بركة، والبروك هو الثبوت، ويقال: فلان مبارك أي: ينزل الخير حيث ينزل.
وقوله: * (الذي نزل الفرقان) أي: القرآن, وسمى القرآن فرقانا لمعنيين: أحدهما: لأنه يفرق بين الحق والباطل، والأخر: أن فيه بيان الحلال والحرام.
وقوله تعالى: * (على عبده) أي: محمد.
وقوله: * (ليكون للعالمين نذيرا) أي: الجن والأنس، قال أهل العلم: ولم يبعث نبي إلى جميع العالمين غير نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
قوله تعالى: * (الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا) يعنى: كما قاله النصارى.
وقوله: * (ولم يكن له شريك في الملك) أي: كما قاله عبدة الأصنام وغيرهم.
وقوله: * (وخلق كل شيء) أي: مما يصلح أن يكون مخلوقا.
قوله: (فقدره تقديرا) أي: سواه تسوية على ما يصلح للأمر الذي أريد له، ويقال: بين مقادير الأشياء ومنافعها، ومقدار لبثها ووقت فنائها.
5

* (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة). * *
قوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله آلهة) يعنى: الأصنام.
وقوله: * (لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) ظاهر المعنى.
وقوله: * (ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا) أي: دفع ضرا وجلب نفع، وهذا يقع في الأصنام التي عبدها المشركون.
وقوله: * (ولا يملكون موتا ولا حياة) أي: إماتة (ولا إحياء).
وقوله: * (ولا نشورا) أي: بعثا بعد الموت.
قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه) أي: كذب اختلقه.
وقوله: * (وأعانه عليه قوم آخرون) يعنى: جبر، ويسار، وعداس، و (أبو) فكيهة، وهؤلاء عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب، وكانوا يجلسون إلى النبي يسمعون منه، فزعم المشركون أن محمدا يأخذ منهم.
وقوله: * (فقد جاءوا ظلما وزورا) أي: بظلم وزور، فلما حذف الباء انتصب.
قوله تعالى: * (وقالوا أساطير الأولين) قال ابن عباس: كان النضر بن الحارث من شياطين أهل الشرك، وكان قد قدم الحيرة، وقرأ أخبار ملوك الفرس، (وكان يقول للمشركين: (إن الدين يقول) محمد أساطير الأولين، وأنا أحدثكم بمثله، يعنى من أحاديث الفرس) وحديث رستم واسفنديار، فالآية نزلت فيه وفيمن قال بقوله، مثل: عبد الله بن أبي أمية المخزومي وغيره.
6

* (وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا). * *
وقوله: * (اكتتبها) أي: طلب أن تكتب له؛ لأنه كان لا يكتب.
وقوله: * (فهي تملى عليه) أي: تقرأ عليه، إذ كان لا يكتب حتى تملى عليه ليكتب.
وقوله: * (بكرة وأصيلا) أي: غدوة وعشيا.
* (قل أنزله الذي يعلم السر) أي: الغيب في السماوات والأرض (إنه كان غفورا رحيما) أي: متجاوزا محسنا.
قوله تعالى: * (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق) قالوا هذا على طريق الإنكار، وزعموا أنه إذا كان مثلهم يأكل الطعام ويمشى في الأسواق، فلا يجوز أن يمتاز عنهم بالنبوة، وكانوا يقولون: أنت لست بملك ولا ملك؛ فلست بملك لأنك تأكل الطعام، ولست بملك لأنك تتسوق وتتبذل، والملوك لا يتسوقون ولا يتبذلون، وهذا الذي قالوه كله فاسد؛ وذلك لأن أكله الطعام لا ينافي النبوة، ولا مشيه في الأسواق، فإن أكله الطعام يدل على أنه آدمي محتاج، ومشيه في الأسواق يدل على أنه متواضع غير متكبر، وأما اختصاصه بفضلة النبوة من بين الناس فجائز؛ لأن الله تعالى لم يسو بين الناس، بل فاضل بينهم.
وقوله: * (لولا أنزل إليه ملك) قالوا هذا لأنهم زعموا أن الرسول إن لم يكن ملكا، فينبغي أن يكون له شريك من الملائكة، هذا أيضا فاسد؛ لأنه مجرد تحكم، ويجوز أن يتفرد الآدمي بالنبوة ولا يكون معه ملك، ولأن يكون النبي آدميا أولى من أن يكون ملكا؛ ليفهموا عنه، ويستأنسوا به.
وقوله: * (فيكون معه نذيرا) أي: شريكا.
وقوله: * (أو يلقى إليه كنز) يعنى: ينزل عليه كنز من السماء، أو يظهر له كنز
7

* (أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8) أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (9) تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا (10) بل) * * في الأرض.
وقوله: * (أو تكون له جنة يأكل منها) قالوا: هلا جعل الله لك بستانا تعيش به، أوكنزا يدفعه إليك،: فتستغني به عن التعيش والتكسب والتبذل في الأمور، وهذا أيضا فاسد؛ لأن كسبه وتعيشه لم يكن منافيا نبوته.
وقوله: * (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) أي: مخدوعا، وقيل مصروفا عن الحق، وقيل: معللا بالطعام والشراب.
قوله تعالى: * (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) أي: شبهوا لك الأشباه، والأشباه التي ذكروها، قولهم: إنه مخدوع، وقولهم: إنه محتاج متروك في الدنيا، وقولهم: إنه ناقص في التدبير والقيام بأمره.
وقوله: * (فضلوا) أي: أخطئوا و يقال: تناقضوا، فإنهم كانوا يقولون مرة: هو مفتر أي: قاله من قبل نفسه، ومرة يقولون: إنه تعلمه من غيره.
وقوله: * (فلا يستطيعون سبيلا) أي: طريق الحق، وقيل: طاعة الله.
وقوله تعالى: * (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) أي: خيرا مما طلبوه لك.
وقوله: * (جنات تجرى من تحتها الأنهار) أي: بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار.
وقوله: * (ويجعل لك قصورا) أي: بيوتا مشيدة، والعرب تسمى كل بيت مشيد
8

* (كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها). * *
قصرا، وروى حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة ' أن الله تعالى عرض مفاتيح خزائن الأرض على محمد فلم يخترها '، وفى بعض الأخبار: ' عرض على بطحاء مكة ذهبا فاخترت أن أكون عبدا نبيا '.
قوله تعالى: * (بل كذبوا بالساعة) أي: بالقيامة.
وقوله: * (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) أي: نارا مستعرة، والمستعرة المتوقدة.
قوله تعالى: * (إذا رأتهم من مكان بعيد) الآية. روى عن النبي أنه قال: ' من تقول على ما لم أقل فإنه يوم القيامة بين عيني جهنم، فقيل له: ولجهنم عينان؟ قال: نعم، وقرأ قوله تعالى: * (إذا رأتهم من مكان بعيد).
وقال بعضهم: إذا رأتهم أي: رأت زبانيتها إياهم.
9

* (تغيظا وزفيرا (12) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا (13) لا تدعوا) * *
وقوله: * (سمعوا لها تغيظا) فإن قيل: كيف يسمع التغيظ، إنما يعلم التغيظ؟ والجواب عنه: قلنا معناه: سمعوا غليان التغيظ، (وقبله): سمعوا لها زفيرا أي: علموا لها تغيظا، قال الشاعر:
(رأيت زوجك في الوغى
* متقلدا سيفا ورمحا)
أي: متقلدا سيفا وحاملا رمحا، وقال آخر:
(علفتها تبنا وماء باردا
*)
أي: علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا. وقد ذكرنا معنى الزفير، وعن عبيد بن عمير أنه قال: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة، فلا يبقى ملك ولا نبي مرسل إلا خر بوجهه، حتى إن إبراهيم يجثو على ركبتيه، ويقول: نفسي نفسي، ولا أريد غيرها.
وقوله: * (من مكان بعيد) قيل في بعض التفاسير: من مسيرة مائة سنة.
قوله تعالى: * (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين) يقال: تضيق الزج في الرمح.
وقوله: * (مقرنين) أي: مصفدين، وقيل: مغللين، كأنه غلل أيديهم إلى أعناقهم، وقرنوا مع الشياطين، وقد بينا أن كل كافر يقرن مع شيطان في سلسلة.
وقوله: * (دعوا هنالك ثبورا) أي: هلاكا، وهو قولهم: وأهلاكاه، وفي بعض الأخبار: أن أول من يكسى حلة من نار إبليس، فيسحبها إلى جهنم، ويتبعه ذريته.
وقوله: * (لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) أي: ليس هذا موضع دعاء واحد بالهلاك، بل هو موضع أدعية كثيرة، قال الشاعر:
(إذ أجارى الشيطان في سنن الغي
* ومن مال ميله مثبور)
أي: هالك.
قوله: * (قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون) فإن قيل: ليس في: جهنم
10

* (اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا (14) قل أذلك خيرا أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا (15) لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا (16) ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا). * *
خير، أصلا، فكيف يستقيم قوله: * (أذلك خير أم جنة الخلد)؟ والجواب عنه: قلنا: العرب قد تذكر مثل هذا، وإن لم يكن في أحدهما خير أصلا، يقال: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وقال الأزهري: إنما ذكر لفظ ' الخير ' هاهنا لاستواء المكانين في المنزل، على معنى أنهما منزلان ينزل فيهما الخلق، فاستقام أن يقال: هذا المنزل خير من ذلك المنزل لوجود الاستواء في صفة.
وقوله: * (كانت لهم جزاء ومصيرا) أي: مجازاة ومرجعا.
قوله تعالى: * (لهم فيها ما يشاءون خالدين) أي: مقيمين.
وقوله: * (كان على ربك وعدا مسؤولا) أي: مطلوبا، وهو طلب المؤمنين في قوله: * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) أي: على ألسنة رسلك، ويقال: الطلب من الملائكة للمؤمنين، وذلك في قوله تعالى: * (ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم) الآية.
وقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله) أي: الملائكة، وقيل: عيسى وعزيزا عليهما السلام.
وقوله: * (فيقول) أي: يقول الله: * (أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل) أي: هم أخطأوا الطريق.
قوله تعالى: * (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) أي: ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك، ويقال: من اتخذ عدو غيره وليا فقد اتخذ من دونه وليا.
11

* (السبيل (17) قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا (18) فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون) * *
وقوله: * (ولكن متعتهم وآباءهم) أي: بكثرة الأموال والأولاد، ويقال: بطول العمر، ويقال: بنيل المراد.
وقوله: * (حتى نسوا الذكر) أي: نسوا ذكرك وغفلوا عنك، ويقال: تركوا الحق الذي أنزلت. وقوله: * (وكانوا قوما بورا) أي: هلكى، يقال: رجل بائر أي: هالك، وسلعة بائرة أي: كاسدة، وفي الخبر: ' أن النبي كان يتعوذ من بوار [الأيم]
قال الشاعر وهو ابن الزبعرى:
(يا رسول المليك إن لساني
* راتق ما فتقت إذ أنا بور)
أي: هالك
قوله تعالى: * (فقد كذبوكم بما تقولون) هذا خطاب مع المشركين، فإنهم كانوا يزعمون أن الملائكة وعيسى وعزيزا دعوهم إلى عبادتهم.
وقوله: * (فما تستطيعون صرفا ولا نصرا) أي: صرف العذاب عن أنفسهم، وقيل: صرفك عن الحق.
وقوله: * (ولا نصرا) أي: لا يستطعيون منع العذاب عن أنفسهم.
وقوله: * (ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا) أي: عظيما.
قوله تعالى: * (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق). في الآية جواب عن قولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في
12

* (صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا (19) وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك). * * * الأسواق؟ وهذا في معنى قوله تعالى: * (قل ما كنت بدعا من الرسل) إن أنا [إلا] رسول مثل سائر الرسل، فإذا جاز أن يكون سائر الرسل آدميين، فيجوز أن أكون آدميا رسولا.
وقوله: * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة). فيه قولان: أحدهما: أن معنى * (فتنة) للفقير، فيقول الفقير: مالي لم أكن غنيا مثله؟ والصحيح فتنة للمريض، فيقول: مالي لم أكن صحيحا؟ ومثل الشريف فتنة للوضيع، فيقول: مالي لم أكن شريفا مثله؟.
والقول الثاني: أن الآية نزلت في رؤوس المشركين مع فقراء المؤمنين، وفقراء المؤمنين مثل: عمار، وابن مسعود، وبلال، و صهيب، و خباب، و سلمان وغيرهم، وكان المشرك إذا أراد أن يسلم، فكر في نفسه، فيقول: هذا دين سبقني إليه هؤلاء الأرذال، فلا أكون تبعا لهم، فيمتنع من الإسلام.
وقوله: * (أتصبرون) أي: فاصبروا.
وفي الخبر أن النبي قال: ' فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا '، وهو خبر طويل.
ويقال إن معنى الآية: أتصبرون أو لا تصبرون؟ وعن بعضهم أنه رأى بعض الأغنياء وقد مر عليه في موكبه، فوقف وقرأ قوله تعالى: * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون) ثم قال: بلى نصبر ربنا، بلى نصبر ربنا، بلى نصبر ربنا، ثلاث مرات. وأورد بعضهم هذه الحكاية للمزني مع الربيع بن سليمان المرادي، وعن داود الطائي أنه
13

* (بصيرا وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) * * مر عليه حميد الطوسي في موكبه، وداود في أطمار له، فقال لنفسه: أتطلبين دنيا سبقك بها حميد؟. وروى أن رجلا مر على الحسن البصري، وهو في هيئة حسنة، وسيادة عظيمة من الدنيا، فسأل من هذا؟ فقيل: هذا صراط الحجاج، فقال: هذا الذي أخذ الدنيا بحقها.
وقوله: * (وكان ربك بصيرا) أي: بصيرا بأعمالكم.
قوله تعالى: * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) أي: لا يخافون لقاءنا، قال الفراء: والرجاء بمعنى الخوف لغة تهامية، ومنه قوله تعالى: * (مالكم لا ترجون لله وقارا) أي: لا تخافون لله عظمة. قال الشاعر:
(لا ترتجي حين تلاقى الذائذا
* أسبعة لاقت معا أم واحدا)
أي: لا تخاف.
وقوله: * (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) ' معناه: هلا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا '.
وقوله: * (لقد استكبروا في أنفسهم) أي: تعظموا في أنفسهم، واستكبارهم هو أنهم امتنعوا عن الإيمان، وطلبوا آية لم تطلبها أمة قبلهم.
وقوله: * (وعتوا عتوا كبيرا). أي: علو علوا عظيما، والعتو هو المجاوزة في الظلم إلى أبلغ حده، وعتوهم هاهنا طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا.
وقوله تعالى: * (يوم يرون الملائكة) ويوم رؤية الملائكة هو يوم القيامة. @ 15 @
* (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا (22) وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (23) أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا)
14

وقوله: * (لا بشرى يومئذ للمجرمين) إنما قال هذا؛ لأن الملائكة يبشرون المؤمنين يوم القيامة، فيطلب ظنا منهم أنهم كانوا على الحق، فيقولون: لا بشرى لكم هكذا قال عطية، وقال بعضهم: معنى الآية: أنه لا بشرى للمجرمين حين توجد البشرى للمؤمنين.
وقوله: * (ويقولون حجرا محجورا) أي: حراما محرما، قال ابن عباس: حرام محرم الجنة على من لم يقل لا إله إلا الله، قال الشاعر:
(حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها
* حجر حرام ألا إلى تلك الدهاريس)
ويقال معنى الآية: يحرم دخول الجنة على الكافر حين يطلق دخولها للمؤمنين.
قوله تعالى: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل). أي: عمدنا إلى ما عملوا من عمل.
وقوله: * (فجعلناه هباء منثورا) قال على - رضي الله عنه -: الهباء المنثور هو ما يرى في الكوة إذا وقع شعاع الشمس فيها. وقال غيره: الهباء المنثور هو ما يسطع من سنابك الخيل عند شدة السير.
وعن يعلى بن عبيد قال: هو الرماد، وفرق بعضهم بين الهباء المنثور وبين الهباء المنبث، فقال: الهباء المنثور ما يرى في الكوة، والهباء المنبث ما يطيره الرياح من سنابك الخيل.
قوله تعالى: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) فإن قيل: كيف يكون في الجنة مقيل، وفي النار مقيل وليسا بموضع النوم؟ والجواب عنه: قال الأزهري: المقيل موضع الاستراحة نام أو لم ينم، وفي المأثور عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لا ينتصف يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. فذكر القيلولة لأن نصف النهار وقت القيلولة، ومعناه: النزول هاهنا، وهو أنه ينزل كلا الفريقين في منازلهم، وقد روى أن الله تعالى يقصر اليوم على المؤمنين حتى يرده كأنه من صلاة إلى صلاة.
15

* (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا (25) الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا (26)) * *
قوله تعالى: * (ويوم تشقق السماء بالغمام) قال قتادة: على الغمام، يقال: جاء فلان بدابته أي: على دابته.
والأكثرون على أن السماء تنشق على غمام أبيض ينزل فيه الملائكة، وروى أن السماء الدنيا تنشق، فينزل من الخلق عنها أكثر من عدد الجن والإنس، ثم تنشق السماء الثانية، فينزل من الخلق عنها أكثر من خلق سماء الدنيا ومن الجن والإنس، وهكذا في السماء الثالثة، والرابعة إلى السابعة، ثم ينزل الكروبيون، ثم ينزل حملة العرش، وقد بينا من قبل قوله: * (فهل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة).
وقوله: * (ونزل الملائكة تنزيلا) أي: وأنزل الملائكة تنزيلا.
قوله تعالى: * (الملك يومئذ الحق للرحمن) معناه: الملك الحق يومئذ للرحمن.
* (وكان يوما على الكافرين عسيرا) أي: شديدا، ومن شدته أن الله يطول عليهم ذلك اليوم كما يقصره على المؤمنين على ما بينا.
وفي بعض الأخبار: أن جهنم تفور يوم القيامة، فيتبدد الناس ويتفرقون، فكلما وصلوا إلى قطر من الأقطار، وجدوا سبعة من صفوف الملائكة أدخلوا أجنحتهم بعضهم في بعض، ثم قرأ: * (وكان يوما على الكافرين عسيرا).
وقوله: * (ويوم يعض الظالم على يديه). الظالم هاهنا هو عقبة بن أبي معيطكان قد هم بإجماع أهل التفسير، وسبب نزول الآية: * (أن عقبة بن أبي معيط كان قد هم بالإسلام، وروى أنه اتخذ دعوة ودعا النبي، فقال: لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله، فشهد عقبة، وكان عقبة صديقا لأمية بن خلف، فقال له
16

* (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سيبلا (27) يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا * * أمية: أصبوت يا عقبة؟ وجهي من وجهك حرام إن لم ترجع، فقال: إنما قلت ما قلت ليأكل من طعامي، وأنا على ديني الأول. وروى أنه قال: لا أكلمك أبدا حتى تجيء فتتفل في وجه محمد، فجاء ففعل، وروى أن التفلة رجعت إلى وجهه - لعنة - الله? (وفي رواية قال: ' لو كنت خارج الحرم لضربت عنقك ' فضحك الكافر، وأسر يوم بدر) أورد النقاش ذلك، ففيه نزلت هذه الآية.
وقوله: * (يعض الظالم على يديه) أي: يأكل يديه ندما، وفي بعض التفاسير: أنه يأكل يديه حتى يبلغ مرفقيه، ثم تنبت ثم يأكل، ثم تنبت هكذا.
فقوله: * (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) أي: أخذت طريقه.
وقوله: * (يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا). أي: أمية بن خلف، وقيل: الشيطان، والأول هو المعروف.
قول تعالى: * (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني) أي: عن الهدى بعد إذ جاءني، وقيل: عن القرآن.
وقوله: * (وكان الشيطان للإنسان خذولا) أي: تاركا، ومن المعروف في المغازي أن عقبة بن أبي معيط أسر يوم بدر، فقتله النبي صبرا، فقال: أأقتل من بين هؤلاء يا محمد؟ قال: نعم، قال: من للصبية؟ قال: النار '. واختلفوا في قاتله، فقال بعضهم: تولى قتله علي - رضي الله عنه - وقال بعضهم: عاصم بن أبي الأفلح حمى الدبر، ولم يقتل من الأسراء يوم بدر غير عقبة والنضر بن الحارث.
17

(* (29) وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (30) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا (31) وقال الذين كفروا لولا نزل عليه * *
قول تعالى: * (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) أي: متروكا، ويقال: جعلوه بمنزلة الهجر أي: الهذيان.
قوله تعالى: * (وكذلك جعلنا) هذه الآية أنزلت تعزية للنبي وتسمية له.
وقوله: * (لكل نبي عدوا من المجرمين) أي: أعداء من المجرمين، وعن ابن عباس في رواية: أنه أبو جهل خاصة، وهو أبو الحكم عمرو بن هشام بن المغيرة عليه لعنة الله.
وقوله: * (وكفى بربك هاديا ونصيرا) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) أي: كما أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى.
وقوله: * (كذلك لنثبت به فؤادك) أي: أنزلناه مفرقا كالذي أنزلنا لنثبت به فؤادك أي: لنقوي به فؤادك، وقيل: لتزداد بصيرة في فؤادك، كأنه كلما نزل جبريل بالوحي ازداد هو بصيرة وقوة، وقد أنزل الله تعالى القرآن في ثلاث وعشرين سنة، فحين أكمل الله تعالى ما أراد إنزاله عليه من الوحي أدركته الوفاة.
وقوله: * (ورتلناه ترتيلا). أي: فصلناه تفصيلا، وقيل: بيناه تبيينا.
والقرآءة على الترتيل سنة، ويكره أن يقرأ كحدو الشعر ونثر الدقل.
قوله تعالى: * (ولا يأتونك بمثل) أي: بمعنى يدفعون ما أنت عليه بعثناك به، إلا جئناك بالحق أي: جئناك بما يدفعه ويبطله، فسمى ما يوردون من الشبه مثلا، وسمي ما يدفع الشبه حقا أعطاه إياه.
وقوله: * (وأحسن تفسيرا) التفسير تفعيل من الفسر، والفسر: كشف ما قد غطى.
18

* (القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا (32) ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا (33) الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا * *
قوله تعالى: * (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم) في الأخبار: أن الناس يحشرون ثلاثة أصناف: صنف ركبانا، وصنف مشاة، وصنف على وجوههم '.
وقد ثبت الخبر عن النبي برواية شيبان، عن قتادة، عن أنس أن رسول الله قيل له: كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال: ' إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم '.
قال رضي الله عنه: أخبرنا بهذا المكي بن عبد الرزاق، أخبرنا جدي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، أخبرنا عبد الله بن محمد المسندي، عن يونس بن محمد، عن
شيبان... الخبر.
وقوله: * (أولئك شر مكانا) أي: شر مكانة ومنزلة.
وقوله: * (وأضل سبيلا) أي: أخطأ طريقا.
قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا) أي: ناصرا ومعينا.
قوله تعالى: * (فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا) وهو القبط.
وقوله: * (فدمرناهم تدميرا) أي: أهلكناهم إهلاكا.
19

* (وأضل سبيلا (34) ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا (35) فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا (36) وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما (37) وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا * *
قوله تعالى: * (وقوم نوح لما كذبوا الرسل) أي: الرسول، جمع بمعنى الواحد، ويقال: من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل؛ فلهذا قال: * (كذبوا الرسل).
وقوله: * (أغرقناهم وجعلناهم للناس آية). نزل الماء من السماء أربعين يوما، ونبع من الأرض أربعين يوما، حتى صارت الدنيا كلها بحرا.
وقوله: (وأعتدنا للظالمين عذابا أليما) أي: مؤلما. قوله تعالى: * (وعادا وثمود) أي: وأهلكنا عادا وثمود.
وقوله: * (وأصحاب الرس). الأكثرون على أن الرس بئر، فروى أنه لما جاءهم نبيهم جعلوه في البئر، وألقوا عليه ما أهلكه.
وقال الكلبي: بعث الله إليهم نبيا فطبخوه وأكلوه.
وعن ابن عباس في بعض الروايات: أن أصحاب الرس هم قوم حبيب النجار، ألقوه في البئر حتى هلك، وهو بأنطاكية.
وقوله: * (وقرونا بين ذلك كثيرا) قد بينا معنى القرون من قبل، وروى عن الربيع ابن خثيم أنه مرض، فقيل له: ألا ندعوا لك طبيبا؟ فقال: أنظروني، ثم تفكر في نفسه، ثم قال: قال الله تعالى: * (وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا) قد كان فيهم مرضى وأطباء، فما بقي المداوي ولا المداوي، ولا المريض ولا الطبيب، ولا أريد أن تدعوا لي طبيبا.
قوله تعالى: * (وكلا ضربنا له الأمثال) أي: الأشباه.
* (وكلا تبرنا تتبيرا) أي: دمرنا تدميرا، وقيل: أهلكنا إهلاكا.
قوله تعالى: * (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء) يقال: هؤلاء قريات
20

* (بين ذلك كثيرا (38) وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا (39) ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا (40) وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا (41) إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا (42) أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا (43)) * * لوط، ويقال: كان الحجر ينزل على قدر قامة الإنسان فيقع عليه، فيدمغه ويهلكه.
وقوله: * (أفلم يكونوا يرونها) ذكر هذا لأن مدائن لوط كانت على طريقهم عند ممرهم إلى الشام ورجوعهم منها.
وقوله: * (بل كانوا لا يرجون نشورا) أي: لا يخافون نشورا، ويقال: يرجون على حقيقته أي: لا يرجون المصير إلى الله تعالى.
* (وإذا رأوك إن يتخذونك) أي: ما يتخذونك) * (إلا هزوا).
وقوله: * (أهذا الذي بعث الله رسولا) قالوا هذا على طريق الاستهزاء.
قوله: * (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا) أي: قد قارب أن يضلنا عن آلهتنا.
قال الشاعر:
(هممت ولم أفعل وكدت وليتني
* تركت على عثمان تبكي حلائله)
وقوله: * (لولا أن صبرنا عليها) أي: لو لم نصبر عليها لأضلنا عنها.
وقوله: * (فسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) أي: أخطأ سبيلا.
قاله تعالى: * (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال أهل التفسير: كان من اتخاذهم أهواءهم آلهتهم أن الواحد منهم كان يعبد الحجر، فإذا رأى حجرا أحسن منه طرح الأول، وأخذ الثاني وعبده.
وقوله: * (أفأنت تكون عليه وكيلا). أي: حافظا، وقيل: كفيلا.
وفي بعض الآثار: ما من معبود في السماء والأرض أعظم من الهوى، وعن بعضهم قال: هو الطاغوت الأكبر.
21

* (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا (44) ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا
(45)) * *
قوله تعالى: * (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون). أي: أتحسب.
وقوله: * (إن هم إلا كالأنعام). أي: ما هم إلا كالأنعام، جعلهم كالأنعام؛ لأنهم لم يدركوا طريق الحق، ولم ينتفعوا بما ميزهم الله به عن البهائم من عقولهم وأسماعهم وأبصارهم.
وقوله: * (بل هم أضل سبيلا) أي: أخطأ طريقا، وجعل الكفار أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تسجد وتسبح لله تعالى، والكفار لا يسجدون ولا يسبحون؛ ولأن البهائم لم يعرفوا، ولم يكونوا أعطوا آله المعرفة. وأما الكفار لم يعرفوا وقد أعطوا آله المعرفة، فهم أضل؛ ولأن البهائم لم تفسد ما لها من المعارف؛ فإن الله تعالى أعطاها قدرا من المعارف وهم يستعملونها، وأما الكفار فقد أفسدوا ما لهم من المعارف، فهم أضل وأقل من البهائم.
قوله تعالى: * (ألم تر إلى ربك) منهم من قال: هذا على التقديم والتأخير، ومعناه: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك؟ وقيل: هو على ظاهره، ومعنى الرؤية هو العلم، قال الشاعر:
(أريني جوادا مات هزلا لعلني
* أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا)
واختلفوا في هذا الظل، فالأكثرون على أنه الظل من وقت طلوع الصبح إلى وقت طلوع الشمس، والقول الثاني: أنه من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوعها. والظل هو ظل الأرض يقبل عند غروب الشمس، ويدبر عند طلوعها.
وقوله: * (ولو شاء لجعله ساكنا) أي: دائما.
وقوله: * (ثم جعلناه الشمس عليه دليلا) أي: ثم جعلنا الشمس دليلا على الظل، فإن الظل يعرف بالشمس، والنور يعرف بالظلمة، والليل بالنهار، وكذلك كل الأشياء تعرف بأضدادها.
22

* (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا (46) وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا (47) وهو الذي أرسل الرياح بشرا) * * *
وقيل: جعلنا الشمس عليه دليلا أي: تتلوه وتتبعه فتنسخه.
وقوله: * (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا)
القبض: جمع المنبسط من الشيء، ومعناه: أن الظل يعم الأرض مثل طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس قبض الظل بالشمس جزءا فجزءا، فيقال: وقت قبض الظل عند الاستواء، حتى لا يبقى ظل في العالم إلا على موضع لا تكون الشمس مستوية عليه.
وقوله: * (يسيرا) أي: هينا. وقال مجاهد: خفيا، وهو أصح القولين..
قوله تعالى: * (وهو الذي جعل لكم الليل لباسا) أي: يلبسكم بظلمة الليل عند غشيانه، فكأن الليل لباس الناس، ومنهم من قال: هو في معنى قوله تعالى: * (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) وموضع السكن كاللباس للإنسان.
وقوله: * (والنوم سباتا) أي: راحة، والسبت: القطع، والنائم مسبوت؛ لأنه انقطع عمله مع بقاء الروح فيه.
وقوله: * (وجعل النهار نشورا) أي: زمانا ينشرون فيه.
قوله تعالى: * (وهو الذي أرسل الرياح بشرا) وقرئ: ' نشرا ' بضم النون والشين، وقرئ بالباء المضمومة، فقوله: ' نشرا ' بنصب النون أي: لإنشار النبات، وإنشار النبات إحياؤه، وأما ' نشرا ' بضم النون جمع ' نشر ' كالرسل جمع رسول، وأما * (بشرا) بالباء من البشارة، وقد ذكرنا الكلام في الرياح.
23

* (بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا (48) لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا (49)) * *
وروى عن النبي أنه كان يقول إذا هبت الريح: ' اللهم أجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا '.
قالوا: وإنما ذكر هكذا؛ لأن البشارة في ثلاث من الرياح: الصبا، والشمال، والجنوب، وأما الدبور فليس فيها بشارة؛ لأنها الريح العقيم. وعن مجاهد قال: إن الريح له جناحان وذنب. وعن ابن عباس أنه قال: الريح والماء جند الله الأعظم.
وقوله: * (بين يدي رحمته) أي: المطر.
وقوله: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) قال ثعلب: الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، فالماء طهور؛ لأنه يطهر الناس من الأحداث، ويطهر الأرض من الجدوبة والقحط.
وقوله تعالى: * (لنحيي به بلدة ميتا) أي: بلدا ميتا، وإحياؤه بإنبات النبات، وإخراج الأشجار والثمار.
* (ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) أي: نسقى بالماء أنعاما وأناسي كثيرا. والأناسي جمع إنسي وقيل: جمع إنسان، وكان أصله أناسين، مثل بستان وبساتين، ثم حذفت النون، وشددت الياء.
ومعنى الآية: أنا نسقى بالماء الحيوان وغير الحيوان، ننمي به كل ما يقبل النماء.
24

* (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا (50)) * *
قوله تعالى: * (ولقد صرفناه بينهم) أكثر أهل التفسير على أنها الهاء راجعة إلى المطر، ومعنى التصريف أنه يسقى أرضا ويمنع أرضا.
قال ابن عباس: ' ما عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه بين عباده على ما يشاء. ومثله عن ابن مسعود.
وروى عن النبي أنه قال: ' ما من ساعة تمضي إلا والسحاب يمطر فيها، إلا أن الله تعالى يصرفه عن قوم، ويعطيه قوما ' والخبر غريب.
وقوله: * (ليذكروا) أي: ليتذكروا، ويقال: إن الهاء في قوله: * (صرفناه) تنصرف إلى الفرقان المذكور في أول السورة، وهو قول بعيد.
وقوله: * (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) أي: كفرانا، وكفرانهم هو أنهم إذا أمطروا، يقولون: مطرنا بنوء كذا، وهو في معنى قوله تعالى في سورة الواقعة: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون). وقد ثبت عن النبي أنه قال يوما، وقد مطروا في ليلته: ' يقول الله تعالى: أصبح الناس فريقين، مؤمن بي وكافر بالكوكب، ومؤمن بالكوكب وكافر بي، فمن قال: مطرنا برحمة الله تعالى وفضله، فهو مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، فهو كافر بي مؤمن بالكوكب '.
25

* (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا (51) فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا (52) وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما بزرخا وحجرا محجورا (53) وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك * *
قوله تعالى: * (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) ظاهر المعنى.
وقوله: * (فلا تطع الكافرين) أي: فيما يدعونك إليه.
وقوله: * (وجاهدهم به جهادا كبيرا) أي: بالحق، وقيل: بالقرآن.
وقوله: * (كبيرا) معناه: شديدا.
قوله تعالى: * (وهو الذي مرج البحرين) أي: خلط البحرين، وقيل: أرسل البحرين.
وأما البحران فيقال: إنه بحر فارس والروم، ويقال: بحر السماء والأرض، ويقال: البحران هو الملح والعذب.
وقوله: * (هذا عذاب فرات) العذب يسمى كل ماء عذب فراتا، ويسمى كل ماء ملح بحرا.
وقوله: * (وهذا ملح أجاج) أي: شديد الملوحة، وقيل: مر.
وقوله: * (وجعل بينهما برزخا) يقال: باليبس بين البحرين، وقيل: بالهواء بين بحر السماء وبحر الأرض، وقيل: بالقدرة بين الملح والعذب، فلا يختلط الملح بالعذب، ولا العذب بالملح، وهذا في موضع مخصوص بخليج مصر، والبرزخ هو الحاجز.
وقوله: * (وحجرا محجورا) أي: مانعا ممنوعا، قال الشاعر:
(فرب ذي سرادق محجور
* سرت إليه من أعالي السور)
قوله تعالى: * (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا).
النسب نسبة من قرابة، والصهر خلطة من غير النسب، وقد ذكرنا أن الله تعالى حرم سبعا بالنسب، وسبعا بالسبب، وعددناها في سورة النساء، ويقال: النسب ما يوجب الحرمة، والصهر مالا يوجب الحرمة.
26

* (قديرا (54) ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا (55) وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (56) قل ما أسألكم عليه من اجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا (57) وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا (58) الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة * *
وقوله: * (وكان ربك قديرا) أي: قادرا.
قوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لا ينفهم ولا يضرهم) قد ذكرنا.
وقوله: * (وكان الكافر على ربه ظهيرا) أي: عونا للشيطان على المعاصي، ويقال: ظهيرا أي: هينا كما يقول الرجل: جعلتني بظهر أي: جعلتني هينا. قال الشاعر:
(تميم بن [زيد] لا تكونن حاجتي
* بظهر فلا يعيا على جوابها)
قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) أي: مبشرا ومنذرا.
وقوله: (قل ما أسألكم عليه من أجر) أي: من جعل.
وقوله: * (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) معناه: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا سلك طريق الإيمان، وأخذ به.
قوله تعالى: * (وتوكل على الحي الذي لا يموت) الحي الذي لا يموت هو الله تعالى.
وقوله: * (وسبح بحمده) أي: صل بأمره.
وقوله: * (وكفى به بذنوب عباده خبيرا) أي: كفى بالله بذنوب عباده عالما، وهذا على طريق التهديد والوعيد.
قوله تعالى: * (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) قد بينا.
وقوله * (ثم استوى على العرش الرحمن) قد بينا.
وقوله: * (فاسأل به خبيرا) يقال معناه: فاسأل عنه خبيرا أي: عالما، وهو الله تعالى.
قال الشاعر:
27

* (أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسئل به خبيرا (59) وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا (60) تبارك الذي جعل في * *
(هلا سألت الخيل يا ابنة مالك
* إن كنت سائلة بما لم تعلمي)
أي: عما لم يعلم.
ويقال: فاسأل سؤالك إياه للخبير يعني: سلني ولا تسأل غيري، ويقال: إن الخطاب للرسول، والمراد منه الأمة، فإنه كان عالما بهذا، ومصدقا به.
وحقيقة المعنى: أنك أيها الإنسان لا ترجع في طلب العلم بهذا إلى غيري، قاله الزجاج.
وقوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما للرحمن).
قال أهل التفسير: إنما قالوا هذا؛ لأنهم كانوا لا يعرفون اسم الرحمن في كلامهم، فسألوا عن ' الرحمن ' لهذا.
وروى أن رسول الله لما دعاهم إلى ' الرحمن '، ويقال: إن أبا جهل قال له: يا محمد، من يعلمك القرآن؟ فأنزل الله تعالى: * (الرحمن علم القرآن) قال أبو جهل وغيره: لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة باليمامة، وكان يسمى: رحمان اليمامة.
وقوله: * (أنسجد لما تأمرنا) يعني: الرحمن الذي تأمرنا بالسجود له.
وقوله: * (وزادهم نفورا) أي: تباعدا.
قوله: * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) هي النجوم العظام، وقيل: هي البروج الاثنا عشر.
وقوله: * (وجعل فيها سراجا) أي: الشمس، وقرئ: ' سرجا ' على الجمع، وعلى هذه القراءة قد دخل القمر في السرج، إلا أنه خصه بالذكر لنوع فضيلة له، وهذا مثل قوله تعالى: * (فيها فاكهة ونخل ورمان).
28

* (والسماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا (61) وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا (62) وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا * * *
وقوله: * (منيرا) أي: مضيئا.
قوله: * (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) فيه قولان: أحدهما: مختلفين، هذا أسود وهذا أبيض. والثاني: خلفه أي: يخلف أحدهما صاحبه. ويقال: ما فات من الذكر بالليل، فالنهار يخلفه فيه، وما فات من الذكر بالنهار، فالليل يخلفه فيه. قال قتادة: وكذلك في الصلاة، والقول الثالث: خلفه أي: يزداد في هذا ما ينقص من الآخر، ويزداد في الآخر ما ينقص من هذا، وأنشد الشاعر في الخلفة:
(بها العين والآرام يمشين خلفة
* واطلاؤها ينهضن من كل مجثم)
فعلى هذا خلفة أي: كل واحد منهما خلف صاحبه.
وقوله: * (لمن أراد أن يذكر) أي: يتذكر.
* (أو أراد شكورا) أي: شكرا.
ومعناه: من أراد ذكرا أو شكرا، فالليل والنهار زمانا الذكر والشكر.
وقوله تعالى: * (وعباد الرحمن). فإن قال قائل: كل الناس عباد الرحمن، مؤمنهم وكافرهم؟ قلنا: إن هذا كما يقول القائل: ابني فلان، ويخص بذلك الواحد من بينه، وكذلك يقول: صديقي فلان، ويخص بذلك الواحد من أصدقائه، ومعناه: أن من يكون ابني ينبغي أن يكون كفلان، ومن يكون صديقي ينبغي أن يكون كفلان.
وقوله: * (الذين يمشون على الأرض هونا). أي: بالسكينة والوقار. قال الحسن: علماء حكماء، لا يجهلون إذا جهل عليهم. وقال ثعلب: هونا رفقا.
وعن بعضهم: متواضعين لا يتكبرون.
وقوله: * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) قال الضحاك: إذا أوذوا صفحوا، وقال بعضهم: قالوا قولا يسلمون منه، وعن بعضهم: قالوا سلاما أي: متاركة لا
خير
29

* (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (63) والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما (64) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما (65) * * ولا شر، وليس المراد من السلام هو السلام المعروف، وإنما معناه ما بينا.
والآية مكية، وكان المسلمون قد أمروا قبل الهجرة بالصفح والإعراض، وألا يقابلوا أذى المشركين بالمجازاة، ثم نسخ حين هاجروا بآية السيف.
قوله تعالى: * (والذين يبيتون لربهم) يقال: بات فلان سواء نام أو لم ينم.
قال الشاعر:
(فبتنا قياما عند رأس جوادنا
* يزاولنا عن نفسه ونزاوله)
قوله: * (سجدا وقياما).
أي: سجدا على وجوههم، وقياما على أرجلهم.
وعن ابن عباس أنه قال: من صلى بعد العشاء الآخرة ركعتين أو أكثر من ذلك، فهو من الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما.
قوله تعالى: * (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم) أي: اعدل عنا عذاب جهنم.
وقوله: * (إن عذابها كان غراما).
أي: ملحا دائما، وقال أبو عبيدة: هلاكا، ويقال: فلان مغرم بالنساء أي: لا صبر له عنهن، ومنه الغريم لأنه يلازم. وقيل غراما أي: شديدا، قال الأعشى:
(إن يعاقب يكن غراما وإن يعط
* جزيلا فإنه لا يبالي)
وعن محمد بن كعب القرظي قال: طالب الله الكفار بثمن النعمة، فلما عجزوا غرمهم النعمة فبقوا في النار.
وعن الحسن قال: كل غريم يفارق غريمه غير جهنم، فإنها لا تفارق غرماءها أبدا.
30

* (إنها ساءت مستقرا ومقاما (66) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا لم يقتروا وكان بين ذلك قواما (67) * * *
قوله تعالى: * (إنها ساءت مستقرا ومقاما) أي: بئس موضع القرار، وموضع المقام جهنم، وقد بينا الفرق بين المقام والمقام.
قوله تعالى: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا) قال أبو عبد الرحمن الحلي: كل إنفاق في غير طاعة الله فهو إسراف، وكل منع عن طاعة الله فهو إقتار.
وعن إبراهيم النخعي قال: لم يسرفوا أي: لم يجاوزوا الحد في الإنفاق، وذلك بالإكثار في النفقة على وجه التبذير.
وقوله: * (ولم يقتروا) أي: لم يقلوا في الإنفاق حتى يعروا أو يجيعوا من يجب عليهم الإنفاق عليهم.
وقال بعضهم: لم يسرفوا أي: لم ينفقوا في غير الحق، ولم يقتروا أي: لم يمنعوا من الحق، وهذا القول قريب من القول الأول.
قال النضر بن شميل: وكان بين ذلك قواما: حسنة بين سيئتين، وحكى ثعلب أن عبد الملك بن مروان قال لعمر بن عبد العزيز - وكان قد زوج ابنته فاطمة منه -: كيف نفقتك يا عمر؟ فقال: حسنة بين سيئتين.
وعن وهب بن منبه أنه قال: إذا أخذت بواحد من طرفي العود مال، فإذا أخذت بوسطه اعتدل.
وقوله: * (قواما). أي: عدلا، وهو معنى ما قلناه، والقوام بالفتح من الاستقامة، والقوام بالكسر ما يقيم الأمر به، كأنه ملاكه.
قوله تعالى: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) معلوم المعنى.
وقوله: * (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق). الحق هو ما ثبت عن النبي أنه قال: ' لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث... ' وقد بينا.
31

* (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) * *
وقوله: * (ولا يزنون) الزنا فعل معلوم، وأما اللواط: هل هو زنا أوليس بزنا؟ فالأمر فيه على ما عرف في الفقه، وكذلك إتيان البهيمة.
وقد ثبت برواية عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ فقال: ' أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: يا رسول الله، ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك. قلت: ثم أي يا رسول الله؟ قال: أن تزني بحلية جارك، ثم قرأ قوله: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر)... الآية '.
قال رضي الله عنه: أخبرنا بهذا الحديث أبو العباس الأزهري، [أخبرنا أبو الحسين] أحمد بن محمد الخفاف، أخبرنا أبو العباس السراج، أخبرنا إسحاق الحنظلي، أخبرنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل.. الخبر.
وذكر الكلبي: ' أن وحشيا أرسل إلى النبي يطلب منه توبة لنفسه، فبعث إليه بهذه الآية، فقال وحشي: إني قد أشركت، وقتلت وزنيت، ولا أدري كيف توبتي؟ فأريد
آية أوسع من هذه، فأنزل الله تعالى: * (إن الله لا يفغر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فبعث بالآية إلى وحشي، فقال: لا أدري، أأدخل في المشيئة أولا؟ أريد آية أوسع من هذه الآية، فأنزل الله تعالى * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) فبعث إليه بالآية، فأسلم '.
32

* (إلا من تاب * * *
قال أهل العلم: وهذا مستبعد جدا؛ لأن هذه الآية مكية، ووحشي إنما أسلم بعد غزوة حنين والطائف في آخر عهد النبي، وكل هذه الآيات إنما نزلت (من اسلامه عدة).
وفي بعض التفاسير: إن هذه الآية نزلت بمكة إلى قوله: * (إلا من تاب) ومكث الناس سنتين، ثم نزل قوله تعالى: * (إلا من تاب). إلى آخر الآية بعد ذلك.
وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن قوله: * (إلا من تاب) ينصرف إلى الشرك والزنا، فأما قتل النفس فقد أنزل الله تعالى فيه: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا..) الآية قال ابن عباس: وهذه الآية مدنية، وقوله: * (إلا من تاب) مكية، فالحكم في القتل على هذه الآية، ولا توبة لقاتل النفس.
وأما عند غيره من أهل العلم: فالتوبة من الكل مقبولة، وقد بينا هذا من قبل، وظاهر هذه الآية وهو قوله: * (إلا من تاب) يدل على هذا؛ لأنه قد سبق قتل النفس.
وقوله: * (ومن يفعل ذلك يلق أثاما) أي: جزاء الإثم، ويقال: أثاما واد في جهنم، قال الشاعر:
* (جزى الله ابن عروة حيث أمسى
* عقوقا والعقوق له أثام)
أي: جزاء الإثم. وقال أخر:
(لقيت المهالك في حربنا
* وبعد المهالك تلقى أثاما)
قوله تعالى: * (يضاعف له العذاب يوم القيامة) أي: يستدام له العذاب، ويقال: يضاعف الله العذاب، يجمع عليه عذاب الكبائر التي ارتكبها.
33

* (وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات * *
وقوله: * (ويخلد فيه مهانا) أي: يخلد فيه وقد أصاب الهوان والذلة، وقرئ: ' يضاعف ' و ' يخلد ' بالرفع، ورفعه بالاستئناف، وقرئ: يضاعف ' و ' يخلد ' بالجزم، وجزمه على جواب الشرط.
قوله: * (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) معناه: إلا من ندم وآمن بربه، وعمل عملا صالحا في المستقبل.
وقوله: * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) قال الحسن البصري ومجاهد وجماعة: هذا في الدنيا. ومعناه: تبديل الكفر بالإيمان، والشرك بالإخلاص، والمعصية بالطاعة.
وقال سعيد بن المسيب وجماعة: هذا في الآخرة، والله تعالى يبدل سيئات التائب بالحسنات في صحيفته.
وقد ورد في القول الثاني خبر صحيح عن النبي، رواه وكيع، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر، أن النبي قال: ' يؤتى بالمؤمن يوم القيامة فيعرض عليه صغار ذنوبه، ويخبأ عنه كبارها، فيسأل ويعترف، وهو مشفق من الكبائر، فيقول الله تعالى: أعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا رب، إن لي ذنوبا ولا أراها هاهنا؟ فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه '. أخرجه مسلم في صحيحه.
وعن أبي هريرة أنه قال: يعطي المؤمن صحيفته يوم القيامة فيقرأ بعضها، وإذا هي سيئات، فإذا وصل إلى الحسنات ينظر نظرة فيما قبلها، فإذا هي كلها صارت حسنات.
وقد أنكر جماعة من المتقدمين أن تنقلب السيئة حسنة؛ منهم الحسن البصري وغيره، وإذا ثبت الخبر عن النبي لم يبق لأحد كلام.
34

* (وكان الله غفورا رحيما (70) ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا (71) والذين لا يشهدون الزور * *
وقد قال بعضهم: إن الله يمحو بالندم جميع السيئات، ثم يثبت مكان كل سيئة حسنة.
وقوله: * (وكان الله غفورا رحيما) قد بينا.
قوله تعالى: * (ومن تاب وعمل صالحا) قال بعض أهل العلم: هذا في التوبة عن غير ما سبق ذكره، وأما التوبة المذكورة في الآية الأولى، فهي عما سبق ذكره من الكبائر.
وقال بعضهم: هذه الآية واردة أيضا في التوبة عن جميع السيئات، ومعناها على وجهين: أحدهما: أن معنى الآية: ومن أراد التوبة وعزم عليها فليتب لوجه الله تعالى، ولا ينبغي أن يريد غيره، كالرجل يقول: من اتجر فليتجر في البر، ومن ناظر فليناظر في الفقه، فيكون قوله: * (فإنه يتوب إلى الله متابا) على هذا القول خبرا بمعنى الأمر، أي: تب إلى الله توبة، والوجه الثاني: أن معنى الآية: من تاب فليعلم أن توبته إلى الله ومصيره إليه و ثوابه منه، كالرجل يقول لغيره: إذا كلمت الأمير فاعلم أنه أمير، وإذا كلمت أباك فاعلم أنه أبوك.
قوله: * (والذين لا يشهدون الزور) أي: الشرك، ومعناه: لا يشهدون شهادة الشرك، ويقال: الكذب. وعن محمد بن الحنيفة: الغناء، [و] هو قول مجاهد.
(وعن بعضهم): الغناء رقية الزنا. وقال بعض أهل السلف: الغناء ينبت النفاق في القلب. وقيل: لا يشهدون الزور أي: أعياد الكفار، وقيل: النوح.
وقوله: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) أي: مروا معرضين كما يمر الكرام، وقيل: أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه. قال الحسن: اللغو هو المعاصي كلها.
وقال عمرو بن قيس: مجلس الخنا. واللغو في اللغة كل ما هو باطل، ولا يفيد فائدة.
35

* (وإذا مروا باللغو مروا كراما (72) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا (73) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (74) أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما (75) * *
قوله تعالى: * (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا).
قال القتيبي معناه: لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها، وكأنهم عمى لم يروها. وقال بعضهم معناه: لم يسقطوا عليها صما وعميانا، بل سمعوا وأبصروا.
قوله تعالى: * (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) أي: أولادا، بررة أتقياء، وقرة العين تذكر عند السرور، وسخنة العين عند الحزن، ويقال: دمع العين عند السرور بارد، وعند الحزن حار. وذكر الأزهري أبو منصور: أن معنى قرة العين أن يصادف قلبه ما يرضاه قلبه، فتقر عينه عن النظر إلى غيره، يعني: لا تنظر إلى غيره.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى أهله وولده أتقياء بررة.
وقوله: * (واجعلنا للمتقين إمام) قال الحسن: نقتدي بالمتقين، ويقتدي بنا المتقون.
واستدل بعضهم بهذا على أنه لا بأس بطلب الإمامة في الدين، ويندب إليه.
وقال بعضهم: لا يطلب للرئاسة، ولكن يطلب للدين، ثم حينئذ يقتدي به المتقون، فيصير إماما لهم على ما قال الله تعالى.
قوله: * (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا) قال عطاء، عن ابن عباس: الغرفة من الدر والزبرجد والياقوت. ويقال: هي أعلى منازل الجنة.
وقوله: * (بما صبروا) عن الشهوات، وقيل: صبروا عن الدنيا، وقيل: صبروا على الطاعة.
وقوله: * (ويلقون فيها) وقرئ: ' ويلقون ' مخففا، والمعنى والمعنى واحد.
وقوله: * (تحية) أي: ملكا، وقيل: بقاء [دائما].
36

* (خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما (76) قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون إلزاما (77) * *
وقوله: * (وسلاما) أي: يسلم بعضهم على بعض، وقال عطاء عن ابن عباس: يسلم الله عليهم. وقيل: سلامة من الآفات.
قوله تعالى: * (خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما) أي: مكانا يستقرون فيه.
وقوله: * (ومقاما) أي: يقيمون إقامة. قوله تعالى: * (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) أحسن الأقاويل فيه أن معناه: ما يصنع بكم ربي لولا دعائكم أي: لولا دعاؤه إياكم إلى التوحيد، وهي في معنى قوله تعالى: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم). قال القتيبي معناه: ما يعبأ بعذابكم ربي لولا دعاؤكم أي: لولا إيمانكم، يعني: إذا آمنتم لا يعذبكم. وقال بعضهم: أي قدر لكم عند ربي لولا أنه دعاكم إلى الإيمان فتؤمنون، فالآن يظهر لكم قدر وخطر.
وقوله: * (فقد كذبتم) قرأ ابن عباس: ' فقد كذب الكافرون '، وأما المعروف: * (فقد كذبتم) أي: كذبتم أيها الكافرون، ومعناه: قد دعوتكم إلى الإيمان فلم تؤمنوا.
وقوله: * (فسوف يكون إلزاما) وعيد معناه: سوف يكون العذاب لزاما. قال ابن مسعود: معنى اللزام وهو يوم بدر. وقال بعضهم: اللزام: الموت.
قال الشاعر:
(تولى عند حاجتنا أنيس
* ولم اجزع من الموت اللزام)
وقرئ في الشاذ ' ' لزاما ' بفتح اللام، وهو في معنى الأول.
37

بسم الله الرحمن الرحيم
* (طسم (1) تلك آيات الكتاب المبين (2) لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين * *
تفسير سورة الشعراء
وهي مكية إلا أربع آيات في آخر السورة.
قوله تعالى: * (طسم) قال قتادة: اسم من أسماء القرآن. وقال مجاهد: اسم السورة.
وعن بعضهم: أن الطاء من الطول، والسين من السناء، والميم من الملك. وقال بعضهم: الطاء شجرة طوبى، والسين سدرة المنتهى، والميم محمد. ويقال: الطاء من اسمه الطاهر، والسين من اسمه السلام، والميم من اسمه المجيد.
وقوله: * (تلك آيات الكتاب المبين) قد بينا من قبل.
قوله تعالى: * (لعلك باخع نفسك) أي: قاتل نفسك، وقيل: مهلك نفسك حزنا.
وقوله تعالى: * (ألا يكونوا مؤمنين) يعني: إن لم يؤمنوا.
قوله: * (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية) قال ابن جريج معناه: نريهم أمرا من أمرنا، فلا يعص أحد، وقيل: إن نشأ ننزل من السماء آية فاضطروا إلى الإيمان.
وقوله: * (فظلت أعناقهم لها خاضعين) فيع أقوال: أحدها: خاضعين بمعنى خاضعة، والقول الثاني: أن المراد من أعناق أشراف الناس وكبراؤهم، فعلى هذا معنى الآية: فظل كبراؤهم وأشرافهم للآية خاضعين، والقول الثالث: أنه ذكر الأعناق، والمراد منه أصحاب الأعناق، فانصرف قوله: * (خاضعين) إلى المضمر في الكلام.
قال الشاعر:
* (رأت مر السنين أخذن منى
* كما أخذ السرار من الهلال)
38

(* (4) وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين (5) فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون (6) أو لم يرو إلى الأرض كما أنبتنا فيها من كل زوج كريم (7) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (8) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (8) وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * *
فرجع قوله: أخذن إلى السنين، لا إلى قوله: مر السنين.
قوله تعالى: * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث) أي: محدث إنزاله إلى النبي، وقد بينا هذا من قبل.
وقوله: * (إلا كانوا عنه معرضين) أي: عن الإيمان.
قوله تعالى: * (فقد كذبوا فسيأتيهم) أي: سوف يأتيهم.
وقوله: * (أنباء ما كانوا به يستهزءون) أي: عاقبة ما كانوا به يستهزءون، أي: عاقبة ما كانوا يستهزءون، وهذا يدل على أن كل مكذب مستهزئ.
قوله تعالى: * (أو لم يرو إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم) أي: من كل صنف حسن، والزوج مثل: الحامض والحلو، والأبيض والأسود، وما أشبهه.
وقال الشعبي: الخلق نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم، والعرب تقول: نخلة كريمة إذا طاب ثمرها، ورجل كريم إذا حسن فعله.
قوله تعالى: * (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) أي: مصدقين.
وقوله: * (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) قد بينا من قبل.
قوله تعالى: * (وإذ نادى ربك موسى) أي: من جانب الطور الأيمن، على ما ورد به القرآن، وقال ابن جبير: من السماء.
وقوله: * (أن ائت القوم الظالمين) أي: الكافرين.
وقوله: * (قوم فرعون ألا يتقون) معناه: ألا يخافون.
قوله تعالى: * (قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري) وقرئ: ' ويضيق صدري ' بنصب القاف أي: أخاف أن يضيق صدري.
39

(* (10) قوم فرعون ألا يتقون (11) قال رب إني أخاف أن يكذبون (12) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون (13) ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون (14) قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون (15) فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين (16) * *
وقوله: * (ولا ينطلق لساني) قال هذه للعقدة التي كانت على لسانه.
وقوله: * (فأرسل إلى هارون) معناه: فأرسل إلى هارون مع إرسالي.
وقوله: * (ولهم علي ذنب) أي: دعوى ذنب، وذلك الذنب هو قتلة القبطي.
وقوله: * (فأخاف أن يقتلون) بذلك الرجل وفي القصة: أن فرعون كان يطلبه طول هذه المدة ليقتله بالقبطي. قوله تعالى: * (كلا) أي: لا تخف.
وقوله تعالى: * (فاذهبا بآياتنا) قد بينا تفسير الآيات من قبل.
وقوله: * (إنا معكم مستمعون) ذكر بلفظ الجمع، والمراد منه اثنان، وقيل: إنا معكما ومع بني إسرائيل نسمع ما يجيبكم فرعون، وأما قوله: * (مستمعون) قد بينا مثل هذا فيما سبق، وذكرنا أنه قد ذكر نفسه بلفظ الجماعة في مواضع على طريق التفخيم والتعظيم.
وقوله تعالى: * (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) فإن قيل: كيف لم يقل: إنا رسولا رب العالمين؟ والجواب: أن معنى الرسول هاهنا هو الرسالة.
قال الشاعر:
(لقد كذب الواشون ما فهمت عندهم
* بسوء ولا أرسلتهم برسول)
أي: برسالة، فعلى هذا معنى الآية: فقولا إنا ذو رسالة رب العالمين، ويقال: إن قوله: * (رسول رب العالمين) رسولا رب العالمين، واحد بمعنى الاثنين.
وقوله: * (أن أرسل معنا بني إسرائيل) أي: أرسلهم معنا إلى الشام، وكان قد استعبدهم، واستسخرهم في أنواع الأعمال، وقد بينا.
وقوله: * (قال ألم نربك فينا وليدا) في الآية حذف؛ وهو أنه ذهب وجاء إلى
40

* (أن أرسل معنا بني إسرائيل (17) قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين (18) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين (19) قال فعلتها إذا * * فرعون، ودعاه إلى الله، فأجابه بهذا، وفي القصة: أن موسى رجع إلى مصر وعليه جبة صوف، وفي يده عصاه، والمكتل معلق برأس العصا فيه زاده، فروى أنه جاء ودخل دار نفسه، وطلب هارون، وقال له: إن الله أرسلني إلى فرعون، وأرسلك أيضا إليه حتى ندعو فرعون إلى الله تعالى.
فخرجت أمهما وصاحت، وقالت: إن فرعون يطلبك ليقتلك، فلو ذهبتما إليه قتلكما، فلم يلتفت موسى إلى قولها، وذهبا إلى باب فرعون ليلا، ودقا الباب، ففزع البوابون، وقالوا: من بالباب؟ وروى أنه اطلع البواب عليهما، فقال لهما: من أنتما؟ فقال موسى: أنا رسول رب العالمين، فذهب البواب إلى فرعون، وقال: إن مجنونا بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين، فترك حتى أصبح ثم دعاه. وفي بعض القصص: أنهما مكثا سنة لا يصلان إليه، ثم وصلا.
وقوله: * (قال ألم نربك فينا وليد) في القصة: أن موسى لما دخل عليه، ونظر إليه فرعون عرفة، فقال: ألم نربك فينا وليدا أي: صغيرا.
وقوله: * (ولبثت فينا من عمرك سنين) أي: ثمان عشرة سنة، وقال بعضهم: ثلاثين سنة.
وقوله: * (وفعلت فعلتك التي فعلت) أي: قتلت الرجل، وهو الذي كان وكزه فقتله، وقرئ في الشاذ: ' فعلتك ' بكسر الفاء، وقوله: * (وأنت من الكافرين) أي: الكافرين لنعمتي، قال الشاعر:
(والكفر (مخبثة) لنفس المنعم
*)
قوله تعالى: * (قال فعلتها إذا) أي: فعلت ما فعلت حينئذ * (وأنا من الضالين) أي: من الجاهلين. وقيل: من الناسين.
قوله تعالى: * (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما) أي: النبوة والعلم.
41

* (وأنا من الضالين (20) ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين (21) وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل (22)) * * * *
وقوله: * (وجعلني من المرسلين) ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: * (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) فيه أقوال: أحدها: أن ألف الاستفهام محذوفة، ومعناه: أو تلك نعمة تمنها على؟ قال الشاعر:
(تروح من الحي أم تبتكر
* وماذا يضيرك لو تنتظر)
أي: أتروح من الحي أم تبتكر.
والقول الثاني معناه: وتلك نعمة أي: التربية نعمة تمنها على أن تعتد بها على، وقوله: * (أن عبدت بني إسرائيل) أي: استعبدت بني إسرائيل، وعاملتهم من المعاملات القبيحة.
والقول الثالث: وتلك نعمة تمنها على بالتربية، وقوله: * (أن عبدت بني إسرائيل) يعني: باستعبادك بني إسرائيل ربيتني وكفلتني، ومعناه: لولا أنك استعبدت بني إسرائيل ما وقعت إليك، (وما) ربيتني؛ فإنه قد كان لي من يربيني، وحقيقة المعنى دفع متنه.
قوله تعالى: * (قال فرعون وما رب العالمين) وفي بعض الأخبار عن النبي: أن جبريل - عليه السلام - قال: ' كنت واقفا عند ربي حين قال فرعون هذا، فنشرت جناحي وتهيأت لعذابه إذا أمرني الرب، فقال: يا جبريل، إنما يعجل من يخاف الفوت '. والخبر غريب.
واعلم أن سؤال المائية - ولا يجوز على الله - وإنما هذا من أوصاف المخلوقين؛ والدليل عليه أن موسى لم يجب سؤال المائية، فلم يقل: ربي لونه كذا، وهو
42

* (قال فرعون وما رب العالمين (23) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24) قال لمن حوله ألا تسمعون (25) قال ربكم ورب آبائكم الأولين (26) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27) قال رب المشرق * * * من كذا، وريحه كذا، ولكن أجاب بذكر أفعاله الدالة عليه، فقال: * (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين).
واعلم أن سؤال المائية سؤال عن جنس الشيء، والله تعالى منزه عن الجنسية، ويقال: إن جواب موسى عن معنى السؤال، لا عن عين السؤال؛ كان معنى السؤال: ومن رب العالمين؟ قال: رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين.
ومعنى قوله: * (إن كنتم موقنين) هاهنا أنكم كما توقنون الأشياء التي [تعاينونها]، فأيقنوا أن إله الخلق هو الله تعالى.
قوله تعالى: * (قال لمن حوله ألا تسمعون) يعنى: لا تستمعون، وقال فرعون هذا على استبعاد جواب موسى - عليه السلام - وقد كان أولئك القوم يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم، فزاد موسى - عليه السلام - في البيان فقال: * (ربكم ورب آبائكم الأولين).
قوله تعالى: * (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) وقد كان عندهم أن من لا يعتقد ما يعتقدون فليس بعاقل، فزاد موسى في البيان فقال: * (رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) فأجاب فرعون، وقال: * (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين)
وفي القصة: أن سجنه كان أشد من القتل، فإنه كان يحبس الرجل وحده في موضع لا يسمع شيئا ولا يبصر شيئا، ويهوى في الأرض، فأجاب موسى، وقال: * (أو لو جئتكم بشيء مبين) أي: تحبسني وإن جئتك بشيء مبين أي: بآية بينة. قوله تعالى: * (قال فأت به أن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) والثعبان الذكر من الحيات العظيم منها، فإن قيل: أليس قد قال في موضع آخر:
43

* (والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (28) قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين (29) قال أو لو جئتك بشيء مبين (30) قال فأت به إن كنت من الصادقين (31) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (32) ونزع يده فإذا هي بيضاء * * (كأنها جان) والجان الحية الصغيرة؟ والجواب عنه: أن معنى الجان أنها كالحية الصغيرة في اهتزازها وصفة حركتها، وهي في نفسها حية عظيمة.
وذكر السدي وغيره: أن العصا صارت حية صفراء سعراء كأعظم ما يكون من الحيات.
وفي القصة: أنها ارتفعت من الأرض بقدر ميل، فغرت فاها، وقامت على ذنبها، وجعلت تتملظ في وجه فرعون.
وروى أنها أخذت قبة فرعون بين نابها، وصاح فرعون، قول: يا موسى، أنشدك بالذي أرسلك.
وقوله: (مبين) أي: يبين الثعبان أنه حجة عظيمة.
قوله تعالى: * (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) قد بينا.
وقوله: * (قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم) أي: عالم حاذق.
قوله: * (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) فإن قال قائل: إنما أراد موسى أن يخرج بني إسرائيل [لا] أن يخرج فرعون وقومه، والجواب عنه: أنهم كانوا قد اتخذوا بني إسرائيل عبيدا وخولا، فلما أراد موسى إخراج بني إسرائيل، فكأنه أراد إخراجهم.
وقوله: * (فماذا تأمرون) أي: ماذا تشيرون. قوله تعالى: (أرجه وأخاه) أي: أخر أمره وأمر أخيه، ومعناه: لا يتم فصل الأمر حتى تظهر لك الحجة عليه.
وقوله: * (وابعث في المدائن حاشرين) قد بينا.
44

* (للناظرين (33) قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم (34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35) قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين (36) يأتوك بكل سحار عليم (37) فجمع السحرة لميقات يوم معلوم (38) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون (39) لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين (40) فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين)
وقوله: * (يأتوك بكل سحار عليم) أي: ساحر حاذق، وفي القصة: أنه كان يجري الرزق للسحرة، وقد جمع من السحرة ستة آلاف ساحر، وقيل: اثني عشر ألفا.
وقوله: * (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم) وهو يوم الزينة على ما بينا من قبل.
وقوله: * (وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) معلوم المعنى.
قوله تعالى: * (فلما جاء السحرة) يعني لموسى * (قالوا لفرعون أئن لنا الأجر أن كنا نحن الغالبين).
قوله: * (قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) أي: في المنزلة، وفي القصة أن موسى قال لكبير السحرة: أتؤمن بي إن غلبتكم؟ قال له كبير السحرة: إن كنت ساحرا، فلأغلبنك، وإن غلبتني لأؤمنن بك.
قوله تعالى: * (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون).
وقوله: * (فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون) أي: بعز فرعون وملكه * (إنا لنحن الغالبون).
وقوله: * (فألقى موسى عصاه) في القصة: أن جميع الأرض ميلا في ميل صارت حيات وأفاعي في رؤية الناس، فلما ألقى موسى العصا صارت ثعبانا، وجعلت تعظم على قدر حبالهم وعصيهم، ثم جعل يلتقط ويلتقم (واحدا واحدا) حتى أكل الكل، ثم أن موسى أخذ بذنبه فصار عصا كما كان، فتحيرت السحرة عند ذلك،
45

* (قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين (42) قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (43) فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44) فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46) قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم أنه * * * فقالوا: إن كان هذا سحر فأين ذهبت عصينا وحبالنا؟! وتيقنوا أن الذي جاء به موسى أمر من عند الله، فوقعوا سجدا وآمنوا، فهو قوله تعالى: * (فألقى السحرة ساجدين).
وقوله: * (فألقى السحرة ساجدين) يجوز أن يكون معناه: وقعوا ساجدين، ويجوز أن يكون معناه: ألقاهم الحق الذي رأوه (ساجدين.
قوله تعالى: * (قالوا آمنا برب العالمين) في القصة: أنهم) لما قالوا هكذا، قال فرعون: أنا رب العالمين، فقال السحرة: * (رب موسى وهارون).
وقوله: * (قال آمنتم له قبل أن آذان لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون) يعني: سوف تعلمون عاقبة أمركم.
وقوله: * (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين) قد بينا معناه.
قوله تعالى: * (قالوا لا ضير) أي: لا ضرر ولا مكروه.
قال الشاعر:
(وإنك لا يضورك بعد حول
* أظبي كان أمك أم حمار)
وقوله: * (إنا إلى ربنا منقلبون) أي: راجعون.
قوله تعالى: * (إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا) أي: ذنوبنا.
* (أن كنا أول المؤمنين) قال الفراء: أول المؤمنين من أهل زماننا، وقال الزجاج: هذا ضعيف؛ لأن بني إسرائيل كانوا قد آمنوا بموسى قبلهم، وإنما معناه: أن كنا أول المؤمنين عند ظهور هذه الحجة، ويجوز أن يكون معناه: أن كنا أول المؤمنين من قوم فرعون.
46

* (لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين (49) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون (50) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين (51) وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي * * *
قوله تعالى: * (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) ذكر ' أسر '؛ لأنهم ساروا ليلا.
وقوله: * (إنكم متبعون) يعني: يتبعكم فرعون وقومه، وعن عمرو بن ميمون قال: لما بلغ فرعون أن موسى وقومه قد ساروا، قال لقومه: إذا صاح الديك فاركبوا، فلم يصح ديك في تلك الليلة، حتى بعد موسى وقومه، فلما أصبح دعا بشاة، وأمر بذبحها، ثم قال: لا تسلخ هذه الشاة إلا وقد اجتمع خمسمائة ألف مقاتل، قال: فلم يفرغ السلاخ عن السلخ إلا وقد كان اجتمع خمسمائة ألف مقاتل عددا.
وذكر غيره: أن الملائكة دخلوا بيوت القبط وقتلوا أبكارهم، فاشتغلوا صبيحة ذلك اليوم بدفن الأبكار.
قوله تعالى: * (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين) يعني: أرسل الشرط المدائن حتى حشروا الناس. وفي التفاسير: أنه كان ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية.
وقوله: * (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) أي: لجماعة قليلة، وأنشدوا في الشرذمة:
(جاء الشتاء وقميصي أخلاق
* شراذم يضحك مني النواق)
وأنشدوا في قوله: * (قليلون):
* (فرد قواصي الأحياء منهم
* فقد رجعوا كحى واحدينا)
أي: كحى واحد.
وعن عبد الله بن مسعود: أن موسى كان في ستمائة ألف وسبعين ألفا، فسماهم فرعون شرذمة لكثرة قومه.
وروى أن هامان كان على مقدمته في ألف ألف، وروى أن فرعون كان في سبعة آلاف ألف وروى أنه كان بين يديه مائة ألف ناشب ومائة ألف أصحاب الحراب، ومائة
47

* (إنكم متبعون (52) فأرسل فرعون في المدائن حاشرين (53) إن هؤلاء لشرذمة قليلون (54) وإنهم لنا لغائظون (55) وإنا لجميع حاذرون (56) * * * * ألف أصحاب الأعمدة.
وقوله: * (وإنهم لنا لغائظون) يعني: أنهم غاظونا وأغضبونا، وكان غيظه منهم بخروجهم من غير أمره، واستعارتهم الحلي من قومه ومضيهم بها.
وقوله: * (وإنا لجميع حاذرون) وقرئ: ' حذرون ' فالحذر هو المتيقظ، والحاذر المستعد.
قال الشاعر:
(وكتب عليه احذر الموت
* وحده فلم يبق حاذر)
وقرأ ابن أبي عامر: ' وإنا لجميع حاذرون) بالدال غير المعجمة. ويقال: بعير حادر إذا كان ممتلئا من اللحم، عظيم الجثة، وقيل: * (إنا لجميع حاذرون) أي: مؤدون، ومعنى مؤدون أي: معناه الأداة والسلاح.
قوله تعالى: * (فأخرجناهم من جنات وعيون) في القصة: أن البساتين كانت ممتدة على حافتي النيل من أعلاه إلى آخره، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سيد الأنهار هو النيل، فإذا أجراه الله تعالى أمده من جميع الأنهار، وفجر له ينابيع الأرض، فإذا تم إجراؤه رجع كل ماء إلى عنصره.
وقوله: * (وكنوز) أي: كنوز الأموال، وفي بعض القصص: أنه كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام، كل غلام على فرس من عتيق، في عنق كل فرس طوق من ذهب.
وقوله: * (ومقام كريم) أي: منازل حسان، وقد قيل: إن المقام الكريم هو المنابر، وكان بمصر ألف منبر في ذلك الوقت، وقيل: * (ومقام كريم) أي: مجلس الأشراف، وذكر بعضهم: أنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف، عليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب.
وقوله: * (كذلك وأورثناها بني إسرائيل). وروى أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر
48

* (فأخرجناهم من جنات وعيون (57) وكنوز ومقام كريم (58) * * وأقاموا فيها، فهو معنى قوله: * (وأورثناها بني إسرائيل).
وقوله: (فأتبعوهم مشرقين) أي: عند شروق الشمس، وشروقها طلوعها، وروى أبو بردة [عن] أبي موسى الأشعري ' أن النبي نزل على أعرابي في سفر، فأحسن الأعرابي ضيافته، فلما ارتحل من عنده، قال للأعرابي: لو أتيتنا أكرمناك، فجاءه الأعرابي بعد ذلك، فقال له النبي: ما حاجتك؟ فقال: ناقة برحلها وأخرى أحتلبها، فأمر له النبي بذلك، ثم قال: أيعجز أحدكم أن يكون كعجوز بني إسرائيل؟ فسئل عن ذلك، فقال: لما خرج موسى ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق، وفي بعض الأخبار: أن القمر خسف، والشمس كسفت، ووقع الناس في ظلمة عظيمة، وتحير موسى، فقال له علماء بني إسرائيل: إن يوسف - عليه السلام - أوصى أن بني إسرائيل إذا خرجوا من مصر فلينقلوا عظامه معهم، فعلم موسى انهم ضلوا الطريق لذلك، فقال لهم: ومن يعرف موضع عظامه؟ فقالوا: لا يعرفه سوى عجوز من بني إسرائيل، فدعا بالعجوز وسألها عن موضع العظام، فقالت: لا حتى تقضي حاجتي، فقال: ما حاجتك؟ قالت: حاجتي أن أكون معك في الجنة أي: في درجتك، فكره موسى ذلك، فنزل الوحي أن أعطها ذلك، فأعطاها، ثم إنها دلت على قبر يوسف، فحمل موسى عظام يوسف وانجلت الظلمة '.
49

* (كذلك وأورثناها بني إسرائيل (59) فأتبعوهم مشرقين (60) فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون (61) * *
قوله تعالى: * (فلما تراءى الجمعان) أي: التقى الجمعان، ومعنى التلاقي هو أنه رأى هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء.
وقوله: * (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) بالتشديد، والمعنى ما بينا.
قوله تعالى: * (قال كلا) أي: ارتدعوا عن هذا القول ولا تقولوه، فإنهم لا يدركونكم.
وقوله: * (إن معي ربي سيهدين) معناه: إن معي ربي بالحفظ والنصرة.
وقوله: * (سيهدين) أي: يدلني على طريق النجاة، والهداية هي الدلالة على طريق النجاة.
قوله تعالى: * (فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر) في القصة: أن مؤمن آل فرعون كان قدام بني إسرائيل، فقال لموسى: يا نبي الله، أين أمرك ربك؟ فقال: أمامك. قال: يا نبي الله، أمامي البحر؟!! قال موسى: والله ما كذبت ولا كذبت. وروى أن يوشع بن نون قال لموسى: يا نبي الله، أين أمرك ربك؟ قال: البحر. قال: أقتحمه؟ قال: نعم، فاقتحم البحر ومر، فلما جاء بنو إسرائيل واقتحموا انغمسوا في البحر، وأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر. وروى أن موسى اقتحم البحر فرده التيار، فقال للبحر: انفرق، فلم ينفرق، فأمر الله تعالى أن يضربه بالعصا فضربه للمرة الأولى، فأط البحر، ثم ضربه الثانية فأط، ثم ضربه الثالثة فانفرق، وهو معنى قوله تعالى: * (فانفلق).
وقوله: * (فكان كل فرق) أي: فلق، والفرق والفلق واحد.
وقوله: * (كالطود العظيم) أي: الجبل العظيم، قال الشاعر:
(حلوا بأبقرة تسيل عليهم
* ماء الفرات يجيء من أطواد)
والرواية أن ماء البحر (تراكب) بعضه على بعض حتى صار كالجبل، وظهر اثنا عشر طريقا، وضربتها الريح حتى جفت، ومر كل سبط في طريق، فقالوا: لا نرى
50

* (قال كلا إن معي ربي سيهيدين (62) فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (63) وأزلفنا ثم الآخرين (64) * * * إخواننا، ولعل إخواننا قد غرقوا، فضرب الله لهم كوى - جمع كوة - على الماء حتى نظر بعضهم إلى بعض، وجعلوا يتحدثون.
قوله تعالى: * (وأزلفنا ثم الآخرين) أزلفنا أي: قربنا، قال الشاعر:
(فكل يوم مضى أو ليلة سلفت
* فيها النفوس إلى الآجال تزدلف)
وقال آخر:
(طي الليالي زلفا فزلفا
* سماوة الهلال حتى احقوقفا).
وقال أبو عبيدة: أزلفنا أي: جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة أي: ليلة الجمع، وقرأ أبي بن كعب: ' وأزلفناهم الآخرين ' أي: أوقعناهم في موقع زلف، وفي القصة: أن جبريل كان بين بني إسرائيل وبين فرعون وقومه، وكان يسوق بني إسرائيل، فيقولون: ما رأينا سائقا أحسن سياقة من هذا الرجل، وكان يزرع قوم فرعون، فكانوا يقولون: ما رأينا وازعا أحسن زعة من هذا. وعن الحسن البصري قال: لابد للناس من وزعة أي: سلطان يكفهم حصان.
وقد بينا أن جبريل كان على فرس أنثى وديق وفرعون على حصان، فدخل جبريل عليه السلام البحر، وأتبعه فرعون لا يملك نفسه، فلما دخل جمعيهم البحر، وأراد أولهم أن يخرج، وكان بين طرفي البحر [أربعة] فراسخ، وهذا هو بحر القلزم، طرف من بحر فارس، فلما اجتمعوا في البحر جميعا، ودخل آخرهم، وأراد أولهم
أن يخرج، أطبق البحر عليهم.
وعن سعيد بن جبير: أن البحر كان ساكنا قبل ذلك، فلما ضربه موسى بالعصا اضطرب، فجعل يمد ويجزر.
قوله تعالى: * (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين) ظاهر المعنى،
51

* (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين (65) * * والإغراق إهلاك بغمر الماء.
قوله تعالى: * (إن في ذلك لآية) أي: لعبرة.
وقوله: (وما كان أكثرهم مؤمنين) أي: بمصدقين، والمارد به قوم فرعون، وروى أنه لم يؤمن [من] قوم فرعون إلا [أسية] امرأته [وحزقيل]، وماشطة بنت فرعون، والعجوز التي دلت على عظام يوسف.
وقوله تعالى: * (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) العزيز هو القادر الذي لا يمكنه معازته أي: مغالبته، والله تعالى عزيز، وهو في وصف عزته رحيم.
قوله تعالى: * (واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون) معناه: أي شيء تعبدون؟!.
قوله تعالى: * (قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين) أي: فنقيم على عبادتها، يقال: ظل فلان يفعل كذا أي: أقام عليه يفعله بالنهار.
و قوله تعالى: * (قال هل يسمعونكم) معناه: هل يسمعون صوتكم ودعاءكم؟ وقرئ في الشاذ: ' هل يسمعونكم ' برفع الياء.
وقوله: * (أو ينفعوكم) أي: بالرزق.
وقوله: * (أو يضرون) أي: يضرونكم إن تركتم عبادتها.
قوله تعالى: * (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) معناه: أنها لا تسمع أقوالنا، ولا تجلب إلينا نفعا، ولا تدفع عنا ضرا، لكن اقتدينا بآبائنا، واستدل أهل العلم بهذا على أن التقليد لا يجوز.
قوله: * (قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآبائكم الأقدمون) أي: الأولون.
وقوله: * (فإنهم عدو لي) أي: أعداء لي.
52

* (ثم أغرقنا الآخرين (66) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (67) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (68) واتل عليهم نبأ إبراهيم (69) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون (70) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين (71) قال هل يسمعونكم إذ تدعون (72) أو ينفعوكم أو يضرون (73) قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون (74) قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون (75) أنتم وآباؤكم الأقدمون (76) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين (77) الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطمعني * * *
قوله: * (إلا رب العالمين) اختلف القول فيه: فأحد القولين: أنهم كانوا يعبدون الأصنام مع الله تعالى، فقال إبراهيم: كل من تعبدون أعداء لي إلا رب العالمين، والقول الثاني: أن هذا استثناء منقطع، كأنه قال: فإنهم عدو لي، لكن رب العالمين وليي، فإن قيل: كيف تكون الأصنام أعداء له وهي جمادات، والعداوة لا توجد إلا من حي عاقل؟
والجواب عنه: قالوا: إن هذا من المقلوب ومعناه: فإني عدو لهم، ويجوز أن يكون معناه: فإنهم عدو لي أي: لا أتوهم، ولا اطلب من جهتهم نفعا، كما لا يتولى العدو ولا يطلب من جهته النفع.
قوله تعالى: * (الذي خلقني فهو يهدين) أي: يرشدني إلى طريق النجاة.
وقوله: * (والذي هو يطعمني ويسقين) أي: يغدى لي بالطعام والشراب، وحقيقة المعنى: أن طعامي وشرابي من جهته، ورزقي من قبله، وقد قال بعض أصحاب الخواطر: يطعمني طعام المودة، ويسقني بكأس المحبة، وقيل: يطعمني ذوق الإيمان، ويسقيني بقبول الطاعة.
وقوله: * (وإذا مرضت فهو يشفين) ذكر إبراهيم - عليه السلام - هذا؛ لأنهم كانوا يرون المرض من الأغذية، والشفاء من الأدوية، وقوله: * (وإذا مرضت) هو استعمال أدب، وإلا فالممرض والشافي هو الله تعالى بإجماع أهل الدين، وقال بعض أصحاب الخواطر: وإذا مرضت بالخوف؛ يشفيني بالرجاء، وقيل: إذا مرضت بالطمع؛ يشفيني بالقناعة.
53

* (ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذي يميتني ثم يحيين (81) والذي أطمع أن يفغر لي خطيئتي يوم الدين (82) رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين (83) واجعل لي لسان صدق في الآخرين (84) واجعلني من ورثة جنة النعيم (85) * * * وقوله: * (والذي يميتني) يعني: يميتني في الدنيا، [و] يحييني في الآخرة. وقال بعض أصحاب الخواطر: يميتني برؤية الخلق، ويحييني بشهادة الحق، وقيل: يميتني بالمعصية ويحييني بالطاعة.
وقوله: * (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) أي: أرجو أن يغفر لي خطاياي، وخطاياه ما ذكرنا من كذباته الثلاث، واعلم أن الأنبياء معصومون من الكبائر، فأما الخطايا والصغائر تجوز عليهم.
وقوله: * (يوم الدين) أي: يوم الحساب، وذكر مسلم في الصحيح براوية عائشة ' أنها قالت: يا رسول الله، إن عبد الله بن جدعان كان يقري الضيف، ويحمل الكل، وذكرت أشياء من أعمال الخير، أهو في الجنة أم في النار؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ' هو في النار، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين '.
قوله تعالى: * (رب هب لي حكما) أي: العلم والفهم، وقيل: إصابة الحق.
وقوله: * (وألحقني بالصالحين) أي: من الأنبياء والمرسلين.
وقوله: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) أي: ثناء حسنا إلى قيام الساعة، ويقال: إن المراد منه تولي جميع أهل الأديان له، وقبول كل الناس إياه، ويقال: إن معناه: اجعل في ذريتي من يقوم بالحق إلى قيام الساعة.
وقوله: * (واجعلني من ورثة جنة النعيم) أي: ممن تعطيه جنة النعيم.
54

* (واغفر لأبي إنه كان من الضالين (86) ولا تخزني يوم يبعثون (87) يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89) وأزلفت الجنة للمتقين (90) وبرزت الجحيم للغاوين (91) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون (92) من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون (93) فكبكبوا فيها هو والغاوون (94) وجنود إبليس * *
وقوله: * (واغفر لأبي إنه كان من الضالين) قال أهل العلم: هذا قبل أن يتبرأ منه، ويستقين أنه عدو لله، على ما ذكرناه في سورة التوبة، وقال بعضهم: واغفر لأبي أي: جنايته على، كأنه أسقط حقه وعفا عنه.
وعن الحسن البصري: أن إبراهيم - عليه السلام - يتعلق بأبيه يوم القيامة، ويقول: اللهم اغفر له، وأنجز لي ما وعدتني، فيحول الله صورة أبيه إلى صورة ذبح، هو ضبيع قبيح، فإذا رآه إبراهيم تركه، وقال: ليس هذا بأبي.
وقوله: * (ولا تخزني يوم يبعثون) أي: لا تفضحني، وذلك بأن لا يغفر خطيئته، وكل من لم يغفر له الله فقد أخزاه.
وقوله * (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) قال أكثر أهل العلم: سليم من الشرك، فإن الآدمي لا يخلو من ذنب، وقيل: مخلص، وقيل: ناصح، وقيل: قلب فيه لا إله إلا الله.
وقوله: * (وأزلفت الجنة للمتقين) أي: قربت، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك '.
وقوله: * (وبرزت الجحيم) أي: أظهرت الجحيم.
* (للغاوين) أي: للكافرين، والغاوي من وقع في خيبة لا رجاء فيها.
قوله تعالى: * (وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم) أي: يمنعون العذاب عنكم.
55

* (أجمعون (95) قالوا وهم فيها يختصمون (96) تالله إن كنا لفي ضلال مبين (97) إذ نسويكم برب العالمين (98) وما أضلنا إلا المجرمون (99) فما لنا من شافعين (100) ولا صديق حميم (101) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين (102) إن في ذلك لآية وما * *
وقوله: * (أو ينصرون) أي: يمتنعون.
وقوله: * (فكبكبوا فيها هم) قال القتيبي: طرح بعضهم على بعض. وقيل: دهوروا، ودهدهوا، ودهدوا، وقيل: نكسوا فيها، ويقال: كان في الأصل كببوا، فأدخلت الكاف فيه فصار كبكبوا.
وقوله: * (هو الغاوون) أي: الشياطين معهم، ويقال: من اتبعوهم في الشرك.
وقوله: * (وجنود إبليس أجمعون) أي: ذريته.
قوله تعالى: * (قالوا وهم فيها يختصمون) أي: يجادل بعضهم بعضا.
وقوله: * (تالله إن كنا لفي ضلال مبين) أي: في خطأ بين.
وقوله: * (إذ نسويكم برب العالمين) هذا قولهم للأصنام ومعناه: نعدلكم برب العالمين.
وقوله: * (وما أضلنا إلا المجرمون) أي: القادة، ويقال: إبليس وابن آدم الكافر، وهو قابيل.
وقوله: * (فما لنا من شافعين) في الأخبار: أن المؤمنين يشفعون للمذنبين، وكذلك الملائكة والأنبياء.
وقوله: * (ولا صديق حميم) أي: صديق خاص، وقيل: صديق قريب، وسمى حميما؛ لأنه يحم لك ويغضب لأجلك، وعن الحسن البصري قال: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين، فإن لهم شفاعة يوم القيامة. والصديق هو الصادق في المودة على شرط الدين، وفي بعض الأخبار عن النبي برواية جابر: ' أن المؤمن يدخل الجنة ويقول: أين صديقي فلان؟ فيقال: هو في النار بذنبه، فيشفع له فيخرجه الله من النار
56

* (كان أكثرهم مؤمنين (103) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (104) كذبت قوم نوح المرسلين (105) إذ قال لهم أخوهم نوح إلا تتقون (106) إني لكم رسول أمين (107) فاتقوا الله وأطيعون (108) وما أسألكم عليه من اجر إن أجري إلا على رب العالمين * * * بشفاعته '.
وقوله: * (فلو أن لنا كرة) أي: رجعة.
وقوله: * (فنكون من المؤمنين) وإذا كنا مؤمنين فيكون لنا شفعاء أيضا كما للمؤمنين شفعاء.
وقوله: * (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) قد بينا معنى الكل.
قوله تعالى: * (كذبت قوم نوح المرسلين) قال ابن عباس: نوح أول رسول أرسل الله تعالى وهذا محمول على أنه أول رسول أرسله الله تعالى بعد آدم - صلوات الله
عليه - وهو صاحب شريعة، وإنما ذكر المرسلين؛ لأن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل.
وقوله: * (إذ قال لهم أخوهم نوح) يعنيك أنه أخوهم في النسب.
وقوله: * (ألا تتقون) أي: ألا تتقوا الله.
وقوله: * (إني لكم رسول أمين) أي: أمين فيما بينكم وبين الله تعالى، وفي بعض التفاسير: أن نوحا كان يسمى الأمين قبل أن يبعثه الله.
وقوله: * (فاتقوا الله وأطيعون) أي: اتقوا الله بترك الشرك، وأطيعون فيما آمركم [به].
وقوله: * (وما أسألكم عليه من أجر) أي: من جعل.
وقوله: * (إن أجري إلا على رب العالمين) أي: ثوابي، قال أهل العلم: ولا يجوز
57

(* (109) فاتقوا الله وأطيعون (110) قالوا نؤمن لك واتبعك الأرذلون (111) قال وما علمي بما كانوا يعلمون (112) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون (113) وما أنا بطارد المؤمنين (114) إن أنا إلا نذير مبين (115) قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين (116) قال رب إن قومي كذبون (117) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين (118) فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119) ثم أغرقنا * * للنبي أن يأخذ جعلا على النبوة؛ لأنه يؤدي إلى تنفير الناس عن قبول الإيمان، ويجوز أن يأخذ الهدية؛ لأنه لا يؤدي إلى التنفير.
وقوله: * (فاتقوا الله وأطيعون) أعاده تأكيدا. قوله تعالى: * (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) في التفسير: أنهم الحاكة، والحجامون، والأساكفة ومن أشبههم، وقيل: إنهم أسافل الناس.
قوله تعالى: * (وما علمي بما كانوا يعملون) قال الزجاج: الصناعات لا تؤثر في الديانات، ومعنى قول نوح أنه لا علم لي بصناعتهم، وإنما أمرت أن أدعوهم إلى الله، فمن أجاب قبلته فهذا معنى قوله: * (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين).
وقوله: * (إن حسابهم) أي: أعمالهم * (إلا على ربي لو تشعرون) أي: لو تعلمون.
قوله تعالى: * (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن منم المرجومين) أي: المقتولين بالحجارة، وقال السدي وغيره: من المشتومين.
قوله تعالى: * (قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا).
أي: اقض بيني وبينهم بقضائك. تقول العرب: أحاكمك إلى الفتاح أي: إلى القاضي، قال الشاعر:
(ألا أبلغ بني حكم رسولا
* بأني عن فتاحتهم غني)
58

* (بعد الباقين (120) إن في ذلك للآية وما كان أكثرهم مؤمنين (121) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (122) كذبت عاد المرسلين (123) إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون (124) إني لكم رسول أمين (125) فاتقوا الله وأطيعون (126) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (127) أتبنون بكل ريع آية تعبثون (128) وتتخذون مصانع * *
وقوله: * (ونجني ومن معي من المؤمنين) قد بينا عدد من كان معه من المؤمنين.
قوله تعالى: * (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) أي: الموفر المملوء، وقد بينا صفة الفلك ومن كان فيه.
وقوله: * (ثم أغرقنا بعد الباقين) أي: بعد إنجائه أغرقنا الباقين أي: من بقي من قومه.
وقوله: * (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) ظاهر المعنى إلى قوله: * (كذبت عاد المرسلين).
وقوله: * (إذ قال لهم أخوهم هود) أي: أخوهم في النسب.
وقوله: * (ألا تتقون) قد بينا إلى قوله: * (إن أجري إلا على رب العالمين).
قوله تعالى: * (أتبنون بكل ريع) في الريع قولان: أحدهما: أنه المكان المرتفع، والآخر: أنه الطريق الواسع بين الجبلين.
وقوله: * (آية) أي: علامة، وقيل: بنيانا.
وفي القصة: أنهم كانوا يبنون على المواضع المرتفعة ليظهروا قوتهم ويتفاخروا به عن الناس، وعن مجاهد: أن معنى الآية: برج الحمام، وفي القصة: أن قوم فرعون كانوا يلعبون بالحمام، وكذلك قوم عاد.
وقوله: * (تعبثون) أي: تلعبون.
قوله تعالى: * (وتتخذون مصانع) المصانع: جمع مصنعة؛ وهي الحوض وموضع الماء، ويقال: المصانع هاهنا هي الحصون المشيدة، قال الشاعر:
59

* (لعلكم تخلدون (129) وإذا بطشتم بطشتم جبارين (130) فاتقوا الله وأطيعون (131) واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون (132) أمدكم بأنعام وبنين (133) وجنات وعيون (134) إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (135) قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين (136) إن هذا إلا خلق الأولين (137) وما نحن بمعذبين (138) فكذبوه * *
(تركنا (ديارهم منهم قفارا
* وهدمنا المصانع والبروجا)
وقوله: * (لعلكم تخلدون) أي: كأنكم تخلدون، وقرئ في الشاذ: ' كأنكم خالدون '، ويقال: طامعين في الخلود.
قوله تعالى: وإذا بطشتم بطشتم جبارين البطش هو العسف (بالقتل) بالسيف والضرب بالسوط، والجبار هو العاتي على غيره بعظم سلطانه، وهو في ووصف الله مدح، وفي وصف الخلق ذم، ويقال: الجبار من يقتل على الغضب.
وقوله: * (فاتقوا الله وأطيعون) قد بينا.
قوله: * (واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين) هذا تفسير ما ذكره أولا من قوله: (أمدكم بما تعلمون).
وقوله: (وجنات وعيون) أي: بساتين وأنهار.
وقوله: * (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) أي: شديد.
قوله تعالى: * (قالوا سواء علينا) أي: مستو عندنا.
* (أوعظت أم لم تكن من الواعظين) الوعظ كلام يلين القلب بذكر الأمر والنهي والوعد والوعيد.
وقوله: * (إن هذا) أي: ما هذا.
* (إلا خلق الأولين) أي: اختلاق الأولين وكذبهم.
60

* (فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (139) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (140) كذبت ثمود المرسلين (141) إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون (142) إني لكم رسول أمين (143) فاتقوا الله وأطيعون (144) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (145) أتتركون في ما هاهنا آمنين (146) في جنات وعيون (147) * * *
وقرى: ' إن هذا إلا خلق الأولين ' بضم الخاء واللام أي: عادتهم ودأبهم، ويقال معناه: أمرنا كأمر الأولين؛ نعيش ونموت.
وقوله: * (وما نحن بمعذبين) قالوا هذا إنكار لما وعدهم هود من العذاب.
وقوله: * (فكذبوه فأهلكناهم) ظاهر المعنى إلى قوله: * (إن أجري إلا على رب العالمين).
قوله تعالى: * (أتتركون فيما هاهنا آمنين) يعني: في الدنيا آمنين من العذاب.
وقوله: * (في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم) قال الأزهري: الهضيم هو الداخل بعضه في بعض من النضج والنعامة، ويقال: هو اللين الرطب، ويقال: هو الرخو الذي إذا مسه الإنسان تفتت، وقيل: هو المذنب، وهو الذي نضج بعضه من قبل الذنب، ويقال هضيم أي: الهاضم كأنه يهضم الطعام.
وكان الحسن البصري يقول: في وعظه: ابن آدم، تأكل كذا وكذا ثم تقول: يا جارية، هاتي الهاضوم، إنه يهضم دينك لا طعامك.
قوله تعالى: * (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) أي: حاذقين، ويقال: معجبين بما نلتم، وقرئ: ' فرهين ' أي: فرحين، وقيل: شرهين، قال الشاعر:
(لا أستكين إذا ما أزمة أزمت
* ولن تراني بخير فاره الطلب)
ويقال: الفاره والفره بمعنى واحد.
وقوله: * (فاتقوا الله وأطيعون) إلى قوله: * (لا يصلحون) ظاهر المعنى، والمراد منه: لا تتبعوا قادتكم في الشرك.
61

وزروع ونخل طلعها هضيم (148) وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين (149) فاتقوا الله وأطيعون (150) ولا تطيعوا أمر المسرفين (151) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (152) قالوا إنما أنت من المسحرين (153) ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين (154) قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (155) ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم (156) فعقروها فأصبحوا نادمين (157) * * (قوله تعالى: * (قالوا إنما أنت من المسحرين) أي: سحرت مرة بعد مرة، ويقال: * (من المسحرين) أي: من البشر وهو الذي له سحر وهو الرئة، ويقال: فلان مسحر أي: معلل بالطعام والشراب، قال الشاعر:
(أرانا موضعين لحتم غيب
* ونسحر بالطعام (والشراب))
وقال آخر:
(فإن تسألينا فيم نحن فإننا
* عصافير من هذا الأنام المسحر)
أي: المعلل بالطعام والشراب.
قوله تعالى: * (ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين) قد ذكرنا أنهم طلبوا ناقة حمراء عشراء، تخرج من صخرة وتلد سقيا في الحال.
قوله تعالى: * (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) في القصة: أن الناقة كانت تشرب ماء البئر يوما في أول النهار، وتسقيهم لبنا في آخر النهار، وكان عظم الناقة [ميلا] في ميل، وكانت إذا شربت تؤثر أضلاع جنبها في الجبل.
وقوله: * (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فعقروها فأصبحوا نادمين) وسنبين من عقرها في سورة النمل إن شاء الله تعالى.
وقوله: * (فأخذهم العذاب) ظاهر إلى قوله تعالى: * (إن أجري إلا على رب
62

* (فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (158) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (159) كذبت قوم لوط المرسلين (160) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161) إني لكم رسول أمين (162) فاتقوا الله وأطيعون (163) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (164) أتأتون الذكران من العالمين (165) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون (166) قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين (167) قال إني لعملكم من القالين (168) رب نجني وأهلي مما يعملون (169) فنجيناه وأهله أجمعين (170) إلا عجوز في الغابرين (171) ثم دمرنا * * العالمين) في قصة لوط صلوات الله عليه.
قوله تعالى: * (أتأتون الذكران من العالمين) في القصة: أنهم كانوا يعملون هذا العمل القبيح مع النساء قبل الرجال أربعين سنة ثم عدلوا إلى الرجال.
وقوله: * (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) قرأ ابن مسعود: ' ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم ' وفي التفسير: أن ما خلق لكم ربكم من أزواجكم معناه: القبل وهو فرج النساء.
قوله: * (بل أنتم قوم عادون) أي: ظالمون مجاوزون الحد.
قوله: * (قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين) أي: من القرية.
وقوله تعالى: * (قال إني لعملكم من القالين) أي: من المبغضين، وقال بعضهم:
(بقيت مالي وانحرفت عن المعالي
* ولقيت أضيافي بوجه قالي)
قال الصاحب ترجمة لقول الأشتر النخعي: بقيت، وقرئ: وانحرفت عن العلا، ولقيت أضيافي بوجه عبوس أي: لم أشن على أبي هند غارة لم تخل يوما من نهاب نفوس.
قوله تعالى: (رب نجني وأهلي مما يعملون) أي: من العمل الخبيث.
قوله تعالى: * (فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوز في الغابرين * فيه قولان:
63

* (الآخرين (172) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (173) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (174) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (175) كذب أصحاب الأيكة المرسلين (176) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون (177) إني لكم رسول أمين (178) فاتقوا الله وأطيعون (179) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * * * * أحدهما: أنها كانت عجوز غابرا، على معنى أن الزمان مضى عليها وهرمت، والقول الثاني: أن الغابرين بمعنى الباقين يعني: أن العجوز من أهل لوط بقيت في العذاب ولم تنج.
قوله تعالى: * (ثم دمرنا الآخرين) أي: أهلكنا الآخرين.
وقوله: * (وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) قد بينا أن الله تعالى أمطر عليهم الحجارة بعد إهلاكهم.
وقوله: * (إن في ذلك لآية) ظاهر المعنى إلى قوله: * (وإن ربك لهو العزيز الرحيم).
قوله تعالى: * (كذب أصحاب الأيكة المرسلين) وقرئ: ' ليكة المرسلين ' بفتح الهاء؛ فمن قرأ: ' ليكة ' جعلها اسم بلد، وهو لا ينصرف، ومن قرأ: ' الأيكة ' فصرفه؛ لأن ما لا ينصرف إذا أدخل عليه الألف واللام انصرف.
والأيكة: الغيظة، ويقال: الشجر الملتف، وفي القصة: أن شجرهم كان هو الدوم، ويقال: شجر المقل.
قوله تعالى: * (إذ قال لهم شعيب ألا تتقون) ولم يذكر أخوهم هاهنا؛ لأنه لم يكن أخا لهم، ولا في النسب ولا في الدين. وقوله: (إني لكم رسول أمين) قد بينا إلى قوله: * (إن أجري إلا على رب العالمين)
قوله تعالى: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين) أي: الناقصين لحقوق الناس، وقال يزيد بن ميسرة: كل ذنب يرجو له المغفرة إلا لحقوق الناس، فالرجاء فيه أقل. وقد بينا في سورة هود أن قوم شعيب كانوا يخسرون في المكاييل، والمراد من
64

(* (180) أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين (181) وزنوا بالقسطاس المستقيم (182) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (183) واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين (148) قالوا إنما أنت من المسحرين (158) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين (186) فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين (187) قال ربي أعلم بما تعملون (188) فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه * * قوله تعالى: * (وزنوا بالقسطاس المستقيم) قال الحسن:
القسطاس القبان. وقيل: كل ميزان يكون، ويقال: هو العدل.
قوله تعالى: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) يعني: لا تنقصوا الناس حقوقهم. وقوله: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) أي: لا تبالغوا في الأرض بالفساد.
وقوله تعالى: * (واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين) أي: خلقكم وخلق الجبلة الأولين، والجبلة: الخليفة، قال الشاعر:
(والموت أعظم حادث
* فيما يمر على الجبلة)
ويقال: الجبلة بضم الجيم والباء، وفي لغة بغير الهاء.
قوله تعالى: * (قالوا إنما أنت من المسحرين) قد بينا.
وقوله: * (وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فأسقط علينا كسفا من السماء، إن كنت من الصادقين) وقرئ: ' كسفا ' بفتح السين، فأما قوله: ' كسفا ' بسكون السين أي: جانبا من السماء، وأما قوله: كسفا أي: قطعا، ومعناه: قطعة. قال السدي: عذابا من السماء.
قوله تعالى: * (قال ربي أعلم بما تعملون) يعني: هو عالم بأعمالكم، فإن أراد أن يبقيكم، وإن أراد أن يهلككم أهلككم.
قوله تعالى: * (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة) في القصة: أنه أخذهم حر عظيم، فدخلوا الأسراب تحت الأرض، فدخل الحر في الأسراب وأخذ بأنفاسهم.
65

* (كان عذاب يوم عظيم (189) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (190) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (191) وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين (195) وإنه لفي زبر الأولين (196) أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل (197) * * * * فخرجوا إلى الصحراء، فجاءت سحابة حمراء، فاجتمعوا تحتها مستغيثين ليستظلوا بها، فأمطرت السحابة عليهم نارا، فاضطرم الوادي عليهم، فكان أشد عذاب يوجد في الدنيا.
وقوله: * (إن في ذلك لآية) قد بينا إلى آخر الآيتين.
قوله تعالى: * (وإنه لتنزيل رب العالمين) أي: القرآن.
وقوله: * (نزل به الروح الأمين) وقرئ: ' نزل به الروح الأمين ' بدون التشديد، والروح الأمين هو جبريل - عليه السلام - وسمي [جبريل] أمينا؛ لأنه أمين الله على وحيه، وفي بعض الآثار: أنه يرفع سبعين ألف حجاب، ويدخل بغير استئذان، فهو معنى الأمين.
وقوله: * (على قلبك) ذكر القلب هاهنا؛ لأنه كان إذا قرئ عليه وعاه قلبه.
وقوله: * (لتكون من المنذرين) أي: المخوفين.
وقوله: * (بلسان عربي مبين) قال ابن عباس: بلسان قريش، وعن بعضهم: بلسان جرهم، ومنهم أخذ إسماعيل - عليه السلام - العربية.
وقوله: * (وإنه لفي زبر الأولين) فيه قولان: أحدهما: أن ذكر محمد في زبر الأولين أي: في كتب الأولين.
والقول الآخر: ذكر إنزال القرآن في (زبر) الأولين، وقد قالوا: إن كليهما مارد.
قوله تعالى: * (أو لم يكن لهم آية) قرئ: آية بالنصب والرفع، فمن قرأ بالنصب جعل آية خبر يكن، ومعناه: أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل آية أي: علامة، ومن قرأ بالرفع فجعل آية اسم يكن، وأما خبره فقوله: * (أن يعلمه) وأما
66

* (ولو نزلناه على بعض الأعجمين (198) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (199) كذلك سلكناه في قلوب المجرمين (200) لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم (201) فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (202) فيقولوا هل نحن منظرون (203) أفبعذابنا يستعجلون (204) * * * * علماء بني إسرائيل في هذا الموضع فهم خمسة نفر: عبد الله بن سلام، وابن يامين، وثعلبة، وأسد، وأسيد. وفي مصحف ابن مسعود: ' أوليس لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل '.
وقوله: * (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) الفرق بين العجمي والأعجمي، أن العجمي هو الذي ينسب إلى العجم وإن كان فصيحا، والأعجمي هو الذي لا يفصح بالعربية وإن كان عربيا، وقال عبد الله بن مطيع في قوله: * (على بعض الأعجمين) قال: على دابتي، ومعناه أن الدابة لو تكلمت لما آمنوا، وأكثر المفسرين على أن المراد منه بعض العجم أي: نزل عليه القرآن بغير العربية.
وقوله: * (فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين) أي: لم يؤمنوا.
قوله تعالى: * (كذلك سلكناه) قال الحسن ومجاهد: أدخلنا الشرك في قلوبهم. ويقال: أدخلنا التكذيب في قلوبهم.
وقوله: * (لا يؤمنون به) أي: بالقرآن.
وقوله: * (حتى يروا العذاب الأليم) أي: عند نزول البأس.
وقوله: * (فيأتيهم بغتة) أي: فجأة.
وقوله: * (وهم لا يشعرون) أي: لا يعلمون.
وقوله: * (فيقولوا هل نحن منظرون) أي: مؤخرون.
وقوله تعالى: * (أفبعذابنا يستعجلون) روى أنه لما نزلت هذه الآيات قالوا: متى هذا العذاب؟ أو آتنا بهذا العذاب، فأنزل الله تعالى: * (أفبعذابنا يستعجلون)
67

* (أفرأيت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206) ما أغني عنهم ما كانوا يمتعون (207) وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208) ذكرى وما كنا ظالمين (209) وما تنزلت به الشياطين (210) وما ينبغي لهم وما يستطيعون (211) أنهم عن السمع لمعزولون (212) * *
وقوله تعالى: (أفرأيت إن متعانهم سنين) قال عكرمة: عمر الدنيا: وعن شريك ابن عبد الله النخعي قال: هو أربعون سنة. وأكثر المفسرين على أنه ليس فيه تقدير، ولكن المراد منه سنين كثيرة، والامتاع هو العيش بما يلذ ويشتهي.
وقوله: * (ثم جاءهم ما كانوا يوعدون) أي: من العذاب.
وقوله: * (ما أغني عنهم ما كانوا يمتعون) أي: دفع عيشهم وتمتعهم بالدنيا من العذاب عنهم.
قوله تعالى: * (وما أهلكنا من قرية إلا ولها منذرون) هذا في معنى قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
وقوله: * (ذكرى) أي: بعثنا (المنذرين) تذكرة لهم.
وقوله: * (وما كنا ظالمين) معلوم المعنى.
قوله تعالى: (وما تنزلت به الشياطين) كان المشركون يقولون: إن شيطانا ينزل على محمد فيلقنه القرآن، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: * (وما ينبغي لهم) أي: ولا يصلح لهم أن ينزلوا بالقرآن؛ لأنهم ليسوا بأهل ذلك.
وقوله: * (وما يستطيعون) أي: لا يستطيعون إنزال الوحي.
وقوله: * (إنهم عن السمع لمعزولون) أي: [لمحجوبون]? فإنهم حجبوا من
68

* (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين (213) وأنذر عشيرتك الأقربين (214)) * * * السماء ومنعوا بالشهب على ما ذكرنا من قبل.
قوله تعالى: * (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين) روى أن المشركين قالوا له: ارجع إلى دين آبائك، فإن أردت المال جمعنا لك المال، وإن أردت الرئاسة قلدناك الرئاسة علينا، فأنزل الله تعالى: * (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين) أي: في النار.
وقوله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) روى الزهري عن سعيد بن المسيب [وأبى] سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة أنه لما نزل قوله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) قال النبي: ' يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله تعالى، ولا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا صفية بنت عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا '. قال رضي الله عنه: أخبرنا بهذا المكي بن عبد الرزاق، أخبرنا جدى، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، أخبرنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري... الخبر.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه لما نزلت هذه الآية صعد رسول الله الصفا ثم قال: يا صباحاه فاجتمع عنده قريش، فقالوا له: مالك؟ فقال: أرأيتم لو قلت: إن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أكنتم تصدقونني؟ قالوا: نعم، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب: تبا لك، ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله تعالى:
69

* (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (215) فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون (216) وتوكل على العزيز الرحيم (217) الذي يراك حين تقوم (218) * * * * (تبت يدا أبي لهب وتب) '. والخبر في الصحيحين.
وفي بعض الأخبار: أن النبي قال لعلي رضي الله عنه: ' اجمع لي بني عيد مناف، فجمعهم على فخذ شاة وقعب من لبن، فلما أكلوا وشربوا، قال لهم رسول الله ما قال، ودعاهم إلى الله، فقام أبو لهب وقال ما ذكرنا وخرجوا '.
وفي تفسير النقاش: أن النبي خص بني هاشم وبني عبد المطلب بالدعاء، وقال: ' أنتم خاصتي '.
وقوله: * (واخفص جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) أي: ألن جانبك وحسن خلقك.
وقوله: * (فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وتوكل على العزيز الرحيم) وفي مصحف المدنيين والشاميين ' فتوكل ' بالفاء، والفاء فيها بمعنى الجزاء، ومعنى ذلك: أنهم إذا عصوا فقابل عصيانهم بالتوكل علي.
قوله: * (الذي يراك حين تقوم) أي: تقوم لدعائهم، وقراءة القرآن عليهم، ويقال: تقوم من نومك للصلاة، وقيل: إذا صليت وحدك.
70

* (وتقلبك في الساجدين (219) إنه هو السميع العليم (220) هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السمع وأكثرهم كاذبون (223). * * *
وقوله: * (وتقلبك في الساجدين) [أي:] إذا صليت جماعة، وعن ابن عباس معناه قال: أخرجه من صلب نبي إلى صلب نبي إلى صلب نبي هكذا إلى أن جعله نبيا، فهذا معنى التقلب. والساجدون هم الأنبياء - صلوات اللهم عليهم - وعن مجاهد قال: معنى قوله: * (وتقلبك في الساجدين) هو تقلب الطرف، وقد كان يرى من
خلفه ما كان يرى من قدامه.
وقوله: * (إنه هو السميع العليم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين) أي: هل أخبركم، وهي جواب لقولهم: إن شيطانا ينزل عليه.
وقوله: * (تنزل على كل أفاك أثيم) أي: تتنزل، والأفاك هو الشديد الكذب، والأثيم هو الذي يأتي بما يأثم به ويقبح فعله.
قوله تعالى: * (يلقون السمع) قال أهل التفسير: المراد منه الكهنة، ومعنى * (يلقون السمع) أي: يستمعون إلى الشياطين.
وقوله: * (وأكثرهم كاذبون) أي: كلهم، وروى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قلت يا رسول الله، إن الكهان يخبرون بأشياء وتكون حقا؟! قال: ' تلك الخطفة يخطفها الجنى، فيلقيها في سمع الكاهن، فيكذب معها مائة كذب '.
وقد ذكرنا انهم يسترقون من الملائكة، ويعلوا بعضهم بعضا ثم يرمون بالشهب.
71

* (والشعراء يتبعهم الغاوون (224) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون (225) وأنهم يقولون ما لا يفعلون (226). * *
وفي الخبر المشهور المعروف: أن النبي قال: ' من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقولون، فقد كفر بما أنزل على محمد '.
قوله تعالى: (
والشعراء يتبعهم الغاوون) قال أهل التفسير: المراد من الشعراء هم الشعراء الذين كانوا يهجون المسلمين من الكفار، ويسبون النبي، وهم مثل: عبد الله بن الزبعرى، وأبي عزة الجمحي، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وهبيرة بن وهب، ومن أشبههم.
وقوله تعالى: * (يتبعهم الغاوون) فيه أقوال: قال ابن عباس: هو الرواة. وروى الضحاك عنه: أن المراد من الآية هو الشاعر أن يتهاجيان فيتبع هذا قوم، ويتبع ذاك قوم.
وعن مجاهد: الغاوون هم الشياطين، وعن بعضهم: هم السفهاء من الناس.
وفي الأخبار: أن النبي قال: ' من مشى سبعة أقدام إلى شاعر فهو من الغاوين ' والخبر غريب.
قوله تعالى: * (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) أي: في كل مرة يفتنون، وذكر الوادي على طريق التمثيل، يقال: أنا في واد، وأنت في واد، وعن قتادة قال: في واد يهيمون: أن يمدحون بالباطل ويذمون بالباطل. قال بعضهم: إن الشاعر يمدح بالصلة، ويهجو بالحمية، ويتشبب بالنساء، ويثير خاطره العشيق، وقال بعضهم: في
72

* (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * * * * كل واد يهيمون أي: على حرف من حروف الهجاء يصوغون القوافي، والهائم هو الذي ترك القصد في الأشياء؛ يقال: هام فلان على وجهه إذا لم يكن له مقصد صحيح يقصده ويذهب إليه.
قوله: * (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) أي: يكذبون في شعرهم، ويقولون: فعلنا كذا وكذا ولم يفعلوا، وفي بعض الآثار: أن أبا محجن الثقفي قال شعرا وأقر فيه بشرب الخمر، فأراد عمر أن يحده، فقال علي - رضي الله عنه - إن كتاب الله يدرأ عنه الحد، وقرأ هذه الآية: * (وأنهم يقولن ما لا يفعلون) فترك عمر حده.
وقوله: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال أهل التفسير: هؤلاء شعراء المسلمين الذين كانوا يجتنبون شعراء الجاهلية ويهجونهم، ويذبون عن النبي وأصحابه، وينافحون عنهم، وهم مثل: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب ابن مالك، ومن أشبههم.
وروى عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أنه قال: يا رسول الله، ما تقول في الشعر؟ فقال: ' إن المسلم ليجاهد بيده ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم بالنبال '.
وروى شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب أن النبي قال لحسان بن ثابت: ' أهجم - أو هاجهم - وروح القدس معك '. ذكره البخاري في
73

* (وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا * * الصحيح. قال رضي الله عنه: أخبرنا بهذا المكي بن عبد الرزاق، حدثني جدي، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري، أخبرنا حفص بن عمر عن شعبة... الخبر.
وعن عائشة - رضي الله عنه - أنها قالت: الشعر كلام، فمنه الحسن ومنه القبيح، فخذ الحسن ودع القبيح.
وروى أبي بن كعب عن النبي أنه قال: ' إن من الشعر لحكمة '.
وعن بعضهم قال: الشعر أدنى درجات الرفيع، وأرفع درجات الدنيء.
وعن الشعبي أنه قال ' كان أبو بكر - رضي الله عنه - يقول الشعر، وكان عمر - رضي الله عنه - يقول الشعر، وكان علي - رضي الله عنه - أشعر الثلاثة. وفي بعض التفاسير: أن قوله: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) هم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهم - وهو قول غريب.
وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: إذا أرأيت الشيخ ينشد الشعر في المسجد، فاقرع رأسه بالعصا.
وأما عبد الله بن عباس كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشد، فروى أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي واستنشده القصيدة التي أنشدها، في أوله.
(أمن آل نعمى أنت غاد فمبكر
* غداة غد أو رائح فمهجر)
فأنشده ابن أبي ربيعة القصيدة إلى آخرها، وهي قريب من سبعين بيتا، ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جمعيها، وكان حفظها لمرة واحدة ثم قال: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي. هذه الحكاية أوردها المبرد في مشكل القرآن.
قوله: * (وذكروا الله كثيرا) ظاهر المعنى.
74

* (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227) * *
وقوله: * (وانتصروا من بعد ما ظلموا) يعني: بجواب الكفار عن أشعارهم التي هجوا بها المسلمين، قال حسان بن ثابت:
(هجوت محمدا فأجبت عنه
* وعند الله في ذاك الجزاء)
فإن أبى ووالدتي وعرضي
* لعرض محمد منكم وقاء)
وقوله: * (وسيعلم الذين ظلموا) أي: الكفار الذين هجوا المسلمين.
وقوله: * (أي منقلب ينقلبون) أي: أي مرجع يرجعون، وقرئ في الشاذ: ' أي منفلت ينفلتون بالفاء من الإنفلات والوقوع في الشيء وقد ذكر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - هذه الآية في وصية لعمر - رضي الله عنه - حين استخلفه، فروى أنه قال لعثمان - رضي الله عنه - أكتب: هذا ما عهد أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، حين يؤمن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلف عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وصدق فذلك ظني به، وإن غير وبدل فالخير أردت، ولا يعلم الغيب إلا الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
75

بسم الله الرحمن الرحيم
* (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1) هدى وبشرى للمؤمنين (2) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو بالآخرة هو يوقنون (3) إن الذين لا * *
تفسير سورة النمل
وهي مكية
قوله تعالى: * (طس) قد بينا معناه في السورة المتقدمة.
وقوله: * (تلك آيات القرآن) أي: هذه آيات القرآن.
* (وكتاب) أي: وآيات كتاب مبين، وأما اشتقاق القرآن والكتاب قد بينا، قال أهل المعاني: أظهر الآيات بالقراءة تارة، وبالكتبة تارة أخرى، فالآيات مظهرة بكونها كتابا، وبكونها قرآنا.
قوله تعالى: * (هدى وبشرى للمؤمنين) أي: هدى من الضلالة، وبشرى بالثواب وهو الجنة، ويقال: الآيات هادية مبشرة.
وقوله: * (للمؤمنين) أي: للمصدقين.
قوله تعالى: * (الذين يقيمون الصلاة) إقامة الصلاة أداؤها بفرائضها وسننها، وقيل: إقامة الصلاة حفظ مواقيتها.
وقوله: (ويؤتون الزكاة) أي: يعطون الزكاة، والزكاة هي زكاة المال، وقيل: زكاة الفطر.
وقوله: (وهو بالآخرة هو يوقنون) أي: يصدقون.
قوله تعالى: * (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم) الأكثرون على أنها أعمال المعصية، وقيل: أعمال الطاعات وذلك بإقامة الدليل على حسنها.
وقوله: * (فهم يعمهون) أي: يتحيرون ويترددون، ويقال: يعمون.
76

* (يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون (4) أولئك الذين لهم سوء العذاب وهو في الآخرة هم الأخسرون (5) وإنك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم (6) إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم * *
قوله تعالى: * (أولئك الذين لهم سوء العذاب) أي: أشده.
وقوله: * (وهم في الآخرة هم الأخسرون) أي: حظا ونصيبا.
قوله تعالى: * (وإنك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم) أي: تؤتي القرآن، وقيل: تأخذ القرآن، وقيل: تلقن.
وقوله: * (من لدن حكيم عليم) أي: من عنده. قوله تعالى: * (إذا قال موسى لأهله إني آنست نارا) أي: أبصرت نارا، ومنه الإنس سموا إنسا؛ لأنهم مرئيون مبصرون، وفي القصة: أن موسى كان أخطأ الطريق، وذكر بعضهم أن موسى - عليه السلام - كان يرعى أغنامه على شفير الوادي، فرأت الأغنام النار ففزعت، وتفرقت ولم يكن موسى راءها، فصاح بها موسى بالأغنام حتى اجتمعت ثم تفرقت ثانيا، فصاح بها حتى اجتمعت ثم تفرقت ثالثا، فنظر موسى فرأى النار فذهب موسى - عليه السلام - في طلبها.
قوله تعالى: * (سآتيكم منها بخبر) أي: بخبر عن الطريق.
وقوله: * (أو آتيكم بشهاب قبس) قرئ بالتنوين، وقرئ على الإضافة: ' بشهاب قبس ' والشهاب والقبس معناهما متقاربان، فالعود إذا كان في أحد طرفيه نار، وليس في الطرف الآخر نار سمي: شهابا، ويسمى: قبسا، وقال بعضهم: الشهاب هو شيء ذو نور مثل العمود، والعرب تسمي كل أبيض ذي نور: شهابا، والقبس هو القطعة من النار، قال الشاعر: (في كفه صعدة مثقفة
* لها) سنان كشعلة القبس) وأما قراءة التنوين فقد جعل القبس نعتا للشهاب، وأما قراءة الإضافة هو إضافة
77

* (بشهاب قبس لعلكم تصطلون (7) فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن * * لشيء إلى نفسه، مثل قوله تعالى: * (ولدار الآخرة) ومثل قولهم: يوم الجمعة، وما أشبه ذلك.
وقوله: * (لعلكم تصطلون) فيه دليل على أنهم كانوا شاتين، وإنه أصابه البرد والعرب تقول: هلم إلى الصلى والقرى.
قوله تعالى: * (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار) قال أهل التفسير: لم يكن ما رآه نارا، بل كان نورا، وإنما سماه نارا؛ لأن النار لا تخلو من النور؛ ولأنه كان في ظن موسى أنه نار.
وقوله: * (من في النار) فيه أقوال: أكثر المفسرين على أنه نور الرب، وهو قول ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم، وذكر أبو بكر الهذلي عن الحسن البصري أنه الله تعالى، وذكر الفراء أن من في النار هو الملائكة، ومن حولها الملائكة أيضا (على القول الأول، ومن حولها الملائكة أيضا).
وفي الآية قوله رابع: وهو أن من في النار موسى، فإن قيل: لم يكن موسى في النار. قلنا: قد كان قريبا من النار، والعرب تسمي من قرب من الشيء في الشيء يقولون: إذا بلغت ذات عرق فأنت في مكة، قالوا هذا لأجل القرب من مكة، وموسى قد كان قرب من النار فجعله كأنه في النار.
وفي الآية قول خامس: وهو أن ' من ' بمعنى ' ما ' ومعنى الآية: أن بوركت النار وما حولها، وذكر بعضهم، أن في قراءة أبي: ' بوركت النار ومن حولها ' والعرب تقول: بارك الله، وبارك الله عليك، وبورك فيك بمعنى واحد.
وقوله: * (وسبحان الله رب العالمين) نزه الله نفسه، وهو المنزه عن كل سوء
78

* (حولها وسبحان الله رب العالمين (8) يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم (9) وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني * * وعيب.
قوله تعالى: * (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم) أي: إني أنا الله العزيز الحكيم. قال الفراء: الهاء عماد في هذا الموضع.
قوله تعالى: * (وألق عصاك فلما رآها تهتز) أي: تتحرك.
وقوله: * (كأنها جآن) الجآن هي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرا بها، وقد بينا التوفيق بين هذه الآية وبين قوله: * (فإذا هي ثعبان مبين).
وقوله: * (ولى مدبرا): أي: هرب، ويقال: رجع إلى الطريق التي جاء منها.
وقوله: * (ولم يعقب) أي: لم يلتفت.
وقوله: * (يا موسى لا تخف) (في بعض التفاسير: أن موسى لما فزع وهرب قال الله تعالى له: * (أقبل) فلم يرجع، فقال: * (لا تخف) إنك من الآمنين) فلم يرجع، فقال: * (سنعيدها سيرتها الأولى) فلم يرجع حتى جعلها عصا كما كانت، ثم رجع وأخذها، والله أعلم.
قوله: * (إني لا يخاف لدى المرسلون) يعني: إذا أمنتهم، وقيل: لا يخافون من عقوبتي، فإني لا أعاقبهم.
فإن قيل: أليس أن جميع الأنبياء خافوا الله، وقد كان النبي يخشى الله، وقد قال: ' أنا أخشاكم '؟ والجواب عنه: أن الخوف الذي هو شرط الإيمان لا يجوز
79

* (لا يخاف لدي المرسلون (10) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم (11) وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى * * أن يخلو أحد منه، فأما هذا الخوف من العقوبة على الكفر والكبائر، والله تعالى قد عصم الأنبياء من الكفر والكبائر.
وقوله: * (إلا من ظلم) فيه أقوال: أحدها: ولا من ظلم * (ثم بدل حسنا بعد سوء) أي: تاب وندم، وهذا القول ضعيف عند أهل النحو، والقول الثاني: أن معنى الآية: إني لا يخاف لدى المرسلون وإنما يخاف غير المرسلين، إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنه لا يخاف، والقول الثالث: أن الاستثناء ها هنا منقطع، ومعناه: لكن من ظلم فخاف فإن بدل حسنا بعد سوء فإنه لا يخاف. وفي بعض التفاسير: أن المراد بقوله: * (إلا من ظلم) هو موسى بقتله القبطي، وأما تبديله الحسن بعد السوء توبته وندامته، وذلك في قوله تعالى: * (قال رب إني ظلمت نفسي).
قوله تعالى: * (وأدخل يديك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) قد بينا، وفي القصة: أنها كانت تلألأ مثل البرق.
وقوله: * (في تسع آيات) أي: مع تسع آيات، وقيل: من تسع آيات، قال امرؤ القيس:
[وهل] ينعمن من كان آخر عهده
* [ثلاثين] شهرا في ثلاثة أحوال
أي: من ثلاثة أحوال.
وقوله: * (إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين) أي: خارجين من الطاعة.
80

* (فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين (12) فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين (13) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14) ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي * *
قوله تعالى: * (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) أي: بنية واضحة.
قوله: * (قالوا هذا سحر مبين) أي: سحر ظاهر.
قوله تعالى: * (وحجدوا بها) أي: جحدوها، والباء صلة، وقيل: جحدوا بالدلالة التي ظهرت منهما.
وقوله: * (واستيقنتها أنفسهم) يعني: وقد علموا أنها من قبل الله تعالى.
وقوله: * (ظلما وعلوا) أي: شركا وتكبرا.
وقوله: * (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: * (ولقد آتينا داود وسليمان علما) أي: علم القضاء وعلم منطق الطير ومنطق الدواب، وعن بعضهم: علم الكيمياء، وهو قول شاذ.
وقوله: * (وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وورث سليمان داود) قال أهل التفسير: ليس المراد منه وراثة المال، وإنما المراد منه إرث الملك والنبوة، وكان داود ملكا نبيا، [وكذلك] سليمان ملكا نبيا، وأعطى سليمان ما أعطى داود من الملك، وزيد له تسخير الريح، ولم يكن هذا لأبيه، وكذلك تسخير الشياطين. قال الكلبي: كان لداود تسعة عشر ولدا ذكرا، وورث ملكه ونبوته سليمان من بينهم.
وفي بعض المسانيد: عن أبي هريرة أن الله تعالى أمر داود أن يسأل سليمان عن عشر مسائل: فإن أجاب فهو خليفته. وروى أن الله تعالى بعث إلى داود
81

* (فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15) وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس * * بصحيفة مختومة فيها جواب المسائل فجمع داود الأحبار والرهبان، وأحضر سليمان وسأله عن المسائل، وكانت المسائل العشر أن داود سأل سليمان - صلوات الله عليهما - فقال: ما أقرب الأشياء؟ وما أبعد الأشياء؟ وما آنس الأشياء؟ وما أوحش الأشياء؟ وما الشيئان القائمان؟ وما الشيئان المختلفان؟ وما الشيئان المتباغضان؟ [وما الذي إذا استعمل في أول الشيء حمد في آخره؟] وما الذي إذا استعمل في أول الشيء ذم في آخره؟ فقال: أما أقرب الأشياء فالآخرة، وأما أبعد الأشياء فالذي فاتك من الدنيا، وأما آنس الأشياء فجسد فيه روحه، وأما أوحش الأشياء فجسد لا روح فيه، وأما الشيئان القائمان فالسماء والأرض، وأما الشيئان المختلفان فالليل و النهار، وأما الشيئان المتباغضان فالحياة والموت، وأما الذي إذا استعمل في أول الشيء حمد في آخره، فالحلم عند الغضب، وأما الذي إذا استعمل في أول الشيء ذم في آخره فالحدة عند الغضب، فلما أجاب سليمان بهذه الأجوبة، فك الختم عن الصحيفة التي بعثها الله تعالى، فإذا الأجوبة على وفق ما قال سليمان صلوات الله عليه وسلم.
وفي هذا الخبر: أن سليمان لما أجاب بهذه الأجوبة سألته الأحبار عن مسألة أخرى فقالوا: ما الشيء الذي إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله؟ فقال: هو القلب. فقالت الأحبار له: حق لك الخلافة يا سليمان، فحينئذ استخلفه داود عليه السلام.
فإن قيل: إذا كان داود استخلفه، فكيف يستقيم قوله تعالى: * (وورث سليمان داود)؟ قلنا: المراد من الإرث هاهنا هو قيامه مقام داود في الملك والنبوة والعلم، وليس المراد من الإرث الذي يعلم في الأموال، وهذا مثل قولهم: العلماء ورثة الأنبياء، والمراد منه ما بينا.
82

* (علمنا منطق الطير * *
وقوله: * (وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير) سمى صوته منطقا لحصول الفهم بمعناه، كما يفهم معنى كلام الناس، إلا أن صوت الطير على صيغة واحدة، وأصوات الناس على صيغ مختلفة، ويحتمل أن ذلك في زمان سليمان خاصة معجزة له أنه جعل لأصواتهم معاني مفهومة كما يفهم الناس بعضهم من بعض.
وقد روى نافع، عن ابن عمر أن النبي قال: ' الديك الأبيض صديقي، وصديق صديقي وعدو عدوى، فقيل: يا رسول الله، وماذا يقول؟ قال: يقول اذكروا الله يا غافلين '. وهذا خبر غريب.
وفي بعض المسانيد: أن جماعة من اليهود أتوا عبد الله بن عباس: فقالوا له: إنا سائلوك عن أشياء فإن أجبتنا أسلمنا، فقال: سلوا تفقها، ولا تسألوا تعنتا، فقالوا: ماذا يقول القس في صفيره؟ والديك في صقيعه؟ والضفدع في نقيقه؟ والحمار في نهيقه؟ والفرس في صهيله؟ وماذا يقول الزرزور أو الدراج؟ فقال: أما القس يقول: اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد، وأما الديك يقول: اذكروا الله يا غافلين، وأما الضفدع يقول: سبحان المعبود في لجج البحار، وأما الحمار فيقول: اللهم العن العشارين، وأما الفرس إذا حمحم عند التقاء الصفين فإنه يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وأما الزرزور فإنه يقول: اللهم أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق، وأما
83

* (وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (16) وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17) * * الدراج فيقول: الرحمن على العرش استوى، قال: فأسلم اليهود.
وقد ثبت عن النبي أنه قال في الحمار: ' إذا نهق فإنه قد رأى شيطانا '.
وقوله: * (وأوتينا من كل شيء) أي: من كل شيء يؤتى الأنبياء والملوك، وقيل: إنه قال هذا على طريق الكثرة والمبالغة، مثل قول القائل: كلمت كل أحد في
حاجتك.
وقوله: * (إن هذا لهو الفضل المبين) أي: الزيادة الظاهرة على جميع الخلق.
قوله تعالى: * (وحشر لسليمان جنوده) قال محمد بن كعب القرظي: كان معسكره مائة فرسخ: خمسة وعشرون فرسخا للإنس، وخمسة وعشرون فرسخا للجن، وخمسة وعشرون فرسخا للوحوش، وخمسة وعشرون فرسخا للطيور.
وعن سعيد بن جبير: كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي، يجلس الإنس فيما يليه، ثم يليهن الجن، ثم تظلهم الطير ثم تقلهم الريح. قال رضي الله عنه: أخبرنا بهذا الحديث أبو علي الشافعي، أخبرنا أبو الحسن بن فراس، أخبرنا الديبلي، أخبرنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن سلام، عن سعيد بن جبير... الأثر.
وقوله: * (فهم يوزعون) أي: يساقون، وقيل: يجمعون، والقول المعروف: يكفون، ومعناه: يكف أولهم حتى يلحق آخرهم، قال الشاعر:
(على حين عاتبت المشيب على الصبا
* فقلت ألما أصح والشيب وازع)
وعن الحسن البصري قال: لابد للناس من وزعة. قال هذا حين ولى القضاء، وازدحم عليه الناس.
وعن عثمان قال: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن. ومعناه: ما يمتنع الناس منه خوفا من السلطان أكثر مما يمتنع الناس منه خوفا من القرآن.
84

* (حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم * *
وعن بعضهم في الفرق بين عمر وعثمان: أن عمر أساء الظن فشدد في الأمر فصلحت رعيته، وعثمان أحسن الظن فساهل الأمر ففسدت رعيته.
وفي القصة: أنه كان على كل صنف من الإنس والجن والطير والدواب لسليمان صلوات الله عليه، وزعة.
قوله تعالى: * (حتى إذا أتوا على واد النمل) يقال: هو واد بالشام، وقال كعب: واد بالطائف. وقال بعضهم: واد كان سكنه الجن، وأولئك النمل مراكبهم وهي كالذئاب. وقيل: كالبخاتي، والمشهور أنه النمل الصغير، وسميت نملا لتنملها أي: لكثرة حركتها.
وعن عدي بن حاتم انه كان يفت الخبز للنمل. قال رضي الله عنه: أخبرنا به أبو علي الشافعي بذلك الإسناد، والذي بينا عن سفيان بن عيينة، عن مسعود، عن رجل، عن عدي بن حاتم.
وقوله: * (قالت نملة) يحتمل أن الله تعالى خلق للنمل في ذلك الوقت كلاما مفهوما، والنمل عند العرب من الحكل، والحكل مالا صوت له، قال الشاعر:
((علم سليمان الحكل))
وقوله: * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) ولم يقل: ادخلي، وحق اللغة أن يقول: ادخلي، وإنما يقال: ادخلوا لبني آدم، لكنهم لما تكلموا بمثل كلام الآدميين خوطبوا مثل خطاب الآدميين.
وقوله: * (لا يحطمنكم) أي: لا يسكرنكم كسر الهلاك, * (سليمان وجنوده) (وقيل: لا يطأنكم، فإن قال قائل: كيف يستقيم هذا، وإنما الريح كانت تحمل سليمان
85

* (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18) فتبسم ضاحكا من قولها * * وجنوده)? فإنه روى أن سليمان وجنوده كانوا يجتمعون على بساط، والريح تحمل البساط؛ والجواب: يحتمل أنه كان فيهم مشاة، وكانت الأرض تطوى لهم، ويحتمل أن هذا كان قبل تسخير الريح لسليمان والله أعلم. فإن قيل: لم يكن النمل من الطير، وهو كان تعلم منطق الطير؟ والجواب عنه: قال الشعبي: كانت نملا لها أجنحة فيكون طيرا.
وقوله: * (وهم لا يشعرون) قال أهل التفسير: علم النمل أن سليمان ملك ليس له جبرية وظلم، ومعنى الآية: أنكم لو لم تدخلوا المساكن وطئوكم، ولم يشعروا بكم، ولو عرفوا لم يطئوا، وفي القصة [أيضا]: أن سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنده حتى دخل النمل بيوتهم، وفي القصة أيضا: أن سليمان سمع كلام النمل على ثلاثة أميال، وكان الله تعالى أمر الريح أن تأتيه بكل خبر وكل كلام، وفي الآية دليل على أن النمل يكره قتلها، وعن الحسن البصري أنه قال في قوله: * (إن الأبرار لفي نعيم) قال: هم الذين لا يؤدون الذر، وهو صغار النمل. فإن قيل: كيف يصح أن يثبت للنمل مثل هذا العلم؟ والجواب عنه: يجوز أن يخلق الله تعالى فيه هذا النوع من الفهم والعلم، ويقال: إنه أسرع جسة إدراكا، وهو إذا أخذ الحبة من الحنطة قطعها بنصفين لئلا تنبت، وإذا أخذ الكزبرة قطعها أربع قطع؛ لأن الكزبرة إذا قطعت قطعتين تنبت، فإذا قطعت أربع قطع لم تنبت.
قوله تعالى: * (فتبسم ضاحكا من قولها) قال الزجاج: ضحك الأنبياء التبسم.
وقوله: * (ضاحكا) أي: متبسما، ويقال: كان أوله التبسم وآخره الضحك، فإن قيل: لم ضحك؟ والجواب من وجهين: أحدهما: فرحا بثناء النملة عليه، والآخر: سمع عجبا، ومن سمع عجبا يضحك، وربما يغلب في ذلك.
86

* (وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (19) وتفقد الطير فقال ما * *
وقوله: * (وقال رب أوزعني) أي: ألهمني.
وقوله: * (أن أشكر نعمتك التي أنعمت على) يقال: الشكر انفتاح القلب لرؤية المنة، ويقال: هو الثناء على الله تعالى بإنعامه.
قوله: * (وعلى والدي) أي: أباه داود وأمه آيسا.
وقوله: * (وأن أعمل صالحا ترضاه) أي: من طاعتك.
وقوله: * (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) أي: مع عبادك الصالحين الجنة.
قوله تعالى: * (وتفقد الطير) التفقد هو طلب ما قد فقد.
وقوله: * (ما لي لا أرى الهدهد) الهدهد طير معروف، فإن قيل: لم طلبه؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن الطير كانت تظل سليمان وجنده من الشمس، فنظر فرأى موضع الهدهد خاليا تصبيه الشمس منه، فطلب لهذا، والثاني: ما روى عن ابن عباس أن الهدهد كان يعرف موضع الماء في الأرض، وكان يبصر الماء فيها كما يبصر في الزجاجة، وكان يذكر قدر قرب الماء وبعده، فاحتاج سليمان إلى الماء في مسيره، فطلب الهدهد لذلك. فروى أن نافع بن الأزرق كان عند ابن عباس وهو يذكر هذا فقال: يا وصاف انظر ما تقول، فإن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب، فيجئ الهدهد فيقع في الفخ. فقال له ابن عباس: إن القدر يحول دون البصر، وروى أنه قال: إذا جاء القضاء والقدر ذهب اللب والبصر.
وقوله: * (أم كان من الغائبين) يعني: أكان من الغائبين؟ والميم فيه صلة، كأنه أعرض عن الكلام الأول، وذكر هذا على طريق الاستفهام، ويقال: إنه لما قال: * (مالي لا أرى الهدهد) دخله شك، فقال: أحاضر هو أم غائب؟.
87

* (لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين (20) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين (21) فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك * *
قوله تعالى: * (لأعذبنه عذابا شديدا) فيه أقوال: أحدها - وهو الأشهر - أنه نتف ريشه وإلقاؤه في الشمس فيأكله النمل، ويقال: هو حبسه مع الضد، ويقال: إخراجه من جنسه إلى غير جنسه، فهو العذاب الشديد.
وقوله: * (أو لأذبحنه) معلوم المعنى.
وقوله: * (أو ليأتيني بسلطان مبين) أي: بعذر ظاهر، ويقال: بحجة بينة، وفي القصة: أن أمير الطير كان هو الكركر، فسأله سليمان عند الهدهد أنه حاضر أم غائب؟.
قوله تعالى: * (فمكث غير بعيد) أي: غير طويل.
وقوله: * (فقال أحطت بما لم تحط به) فيه حذف، ومعناه: أن الهدهد جاء وسأله سليمان - عليه السلام - عن غيبته فقال: * (أحطت بما لم تحط به).
وفي القصة: أن الهدهد قال لما أخبر بمقالة سليمان: * (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه) قال الهدهد: هل استثنى نبي الله؟ قالوا: نعم، قد قال: (أو ليأتيني بسلطان مبين) قال: فنجوت إذا.
فإن قال قائل: التعذيب إنما يكون بعد التكليف، والهدهد لم يكن مكلفا، وإذا لم يكن مكلفا لم يكن عاصيا بالغيبة، وإذا لم يكن عصيا لا يستحق العذاب؟ والجواب عنه: يحتمل أن الطير أعطاها الله تعالى في ذلك الوقت ما يعقلون به الأمر، فصح نهيهم عن الغيبة والإخلال بمركز الخدمة، فإذا غبن استحققن العذاب.
وأما قوله: * (أحطت بما لم تحط به) الإحاطة هو العلم بالشيء من جميع جهاته.
وقوله: * (وجئتك من سبأ) وقرئ: ' سبأ ' بغير صرف، فمن صرف سبأ صرفه على أنه اسم رجل، وفي بعض التفاسير: عن النبي أنه سئل عن سبأ فقال: ' هو
88

* (من سبأ بنبأ يقين (22) إني وجدت امرأة تملكهم * * * رجل ولد عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة، فأما الذي تيامنوا فهم كندة، والأشعر، والأزد، وحمير، ومذحج، وأنمار، وأما الذين تشاءموا فهم: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان '.
ومن لم يصرفه جعله اسما للبقعة، واعلم أن العرب قد صرفت سبأ مرة ولم تصرفه مرة، قال الشاعر في صرف سبأ:
(الواردون وتيم في ذرى سبأ
* قد عض أعناقهم جلد الجواميس) وقال آخر: في ترك صرفه:
(من سبأ الحاضرين مأرب إذ
* يبنون من دون سيله العرما)
وقوله: * (بنبأ يقين) أي: بخبر حق.
وقوله تعالى: * (إني وجدت امرأة تملكهم) هذه المرأة هي بلقيس بنت شراحيل. قال مجاهد: ولدها أربعون ملكا، آخرهم أبوها. وعن قتادة قال: كان أحد أبويها من الجن. وعن الحسن البصري قال: ولوا أمرهم علجة يضطرب ثدياها.
وقد ثبت عنه برواية أبي بكرة حين بلغه أن العجم ولوا عليهم بنت كسرى،
89

* (وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم (23) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون * * فقال: ' لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة '.)).
وعن خالد بن صفوان في ذم اليمن: هم من بين دابغ جلد, وسايس قرد, وحائك برد, ملكتهم امرأة, ودل عليم هدهد وغرقتهم فأرة.
واعلم أن أهل اليمن ممدوحون على لسان النبي، وإنما الذم الذي ذكرنا لأهل الشرك منهم.
وقوله: * (وأوتيت من كل شيء) أي: من كل شيء يؤتى مثلها.
وقوله: * (ولها عرش عظيم) أي: سرير ضخم، وفي القصة: أنه كان طول السرير [ثمانين] ذراعا في عرض ثمانين، وقيل: أقل من ذلك، والله أعلم.
قالوا: وكان مكللا بالجواهر واليواقيت والزبرجد، وما أشبه ذلك.
وقوله: * (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل) أي: عن سبيل الإسلام.
وقوله: * (فهم لا يهتدون) أي: الطريق الحق.
قوله تعالى: * (ألا يسجدوا لله) وقرئ: ' ألا يسجدوا ' مخففا، فأما من قرأ: * (إلا) مشددا فمعناه: فصدهم عن السبيل ألا يسجدوا يعني: لئلا يسجدوا، وقيل معناه: وزين لهم الشيطان أعمالهم ألا يسجدوا، وعلى هذه القراءة لا سجود عند تلاوته، هكذا ذكره أهل التفسير، وأما قراءة التخفيف فمعنى قوله: ' ألا يسجدوا '
90

(* (24) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون (25) لله لا إله إلا هو رب العرش العظيم (26) قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين (27) اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم * * أي: ألا يا هؤلاء اسجدوا.
(ألا يسلمى يادارمي على البلى
* ولا زال منهلا بجرعائك القطر)
ومعناه: ألا يا اسلمى يا دار. وقال آخر:
(ألا يسلمى يا هند هند بنى
* بدر وإن كان حيانا غدا آخر الدهر)
ومعناه: ألا يا اسلمى هند، ويحتمل أن يكون هذا من قول الهدهد، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى ابتداء، قال أهل التفسير: وعلى هذه القراءة يسن السجدة؛ لأنه أمر بالسجود وقال بعضهم: على القراءة الأولى يسجد أيضا مخالفة للمشركين.
وقوله: * (الله الذي يخرج الخبء) أي: ما غاب في السماوات والأرض، والذي غاب في السماء هو المطر، والذي غاب في الأرض هو النبات، وقيل: [كل] ما غاب.
وقوله: * (ويعلم ما تخفون وما تعلنون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) ذكر العرش ها هنا، لأنه أخبر أنه كان لها عرش عظيم، وفائدة الذكر [أن] عرشها صغير حقير في جنب عرش الله تعالى.
قوله تعالى: * (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) فيه دليل على أن الملوك يجب عليهم التثبت فيما يخبرون.
وقوله: * (أم كنت من الكاذبين) أي: أم أنت من الكاذبين.
قوله تعالى: * (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم)
91

* (فانظر ماذا يرجعون (28) قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم (29) إنه من سليمان * *
قالوا: فيه تقديم وتأخير ومعناه: ألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم، وقيل معناه: تول عنهم أي: تنح عنهم ثم أنظر ماذا يرجعون. قال بعضهم: علم الهدهد أدب الدخول على الملوك يعني: إذا دخل الداخل على الملك ينبغي أن لا يقف، بل يذهب في الحال ثم يرجع ويطلب الجواب.
قوله تعالى: * (قالت يا أيها الملأ) في الآية حذف، وهو أن الهدهد ذهب وحمل الكتاب، وفي القصة: أنه دخل عليها من جهة الكوة، وكانت هي في خلوة مستلقية على سريرها، فطرح الكتاب على صدرها، وقيل: كانت نائمة فوضعه بجنبها، ويقال: ذهب بالكتاب وطرحه على حجرها، في ملأ من الناس، وأما الملأ فهم أشراف القوم وكبراؤهم. ويقال: كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر قائدا، كل قائد على اثني عشر ألفا، ويقال: كان لها اثنا عشر ألف قائد، كل قائد على ألف رجل.
وقوله: * (إني ألقي إلي كتاب كريم) أي: حسن، ويقال: مختوم. وفي الأخبار عن النبي برواية ابن عباس: ' من كرامة الكتاب ختمه '، والقول الثالث: كتاب كريم أي: كريم كاتبه ومرسله.
قوله تعالى: * (إنه من سليمان) في التفسير: أن سليمان كان قد كتب: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس بنت شراحيل * (بسم الله الرحمن الرحيم
92

* (وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30)) * * ألا تعلوا على وأتوني مسلمين).
قال أهل العلم: وهذا الكتاب أوجز ما يكون من الكتب، فإنه جمع العنوان والكتاب والمقصود في سطرين، وكتب الأنبياء على غاية الإيجاز.
وعن الشعبي: ' كان رسول يكتب أولا باسمك اللهم، فلما أنزل الله تعالى قوله: * (بسم الله مجريها ومرساها) كتب بسم الله، فلما أنزل الله تعالى: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) كتب بسم الله الرحمن، فلما أنزل الله تعالى في سورة النمل: * (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) كتب بسم الله الرحمن الرحيم '.
قال عاصم: قلت للشعبي: رأيت كتابا للنبي في ابتدائه بسم الله الرحمن، فقال: ذلك هو الكتاب الثالث.
وعن بريدة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال له: ' إني أعلم آية أنزلت علي لم تنزل على نبي بعد سليمان بن داود، والله لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بها. قال: فقام وأخرج إحدى رجليه من المسجد، فقلت في نفسي: إنه قد حلف، فالتفت إلي، وقال لي: بم تفتتح صلاتك? يعني قراءتك؟ قلت: بسم الله الرحمن
93

* (ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين (31) قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون (32) قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد * * لرحيم قال: هي هي، ثم خرج '.
قوله تعالى: * (ألا تعلوا علي) أي: لا تتعظموا على، وقيل: لا تتكبروا على، ومعناه: لا تمتنعوا وتتركوا الإجابة، فإن الامتناع وترك الإجابة من العلو والتكبر.
وقوله: * (وأتوني مسلمين) فيه قولان: أحدهما: هو من الإسلام، والآخر: من الاستسلام. قوله تعالى: * (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري) قالت هذا على طريق الاستشارة؛ لأنها علمت أن ملك سليمان أعظم من ملكها، وقوله: * (أفتوني في أمري). أي: أجيبوني في أمري.
وقوله: * (ما كنت قاطعة أمرا) أي: قاضية ومبرمة أمرا * (حتى تشهدون) أي: تحضرون، وقرأ ابن مسعود: ' ما كنت قاضية أمرا '.
قوله تعالى: * (قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد) أخبروا بكثرتهم وشجاعتهم.
وقوله: * (والأمر إليك) ثم ردوا الأمر إليها لتقاتل أو تترك القتال، فهو معنى قوله: * (فانظري ماذا تأمرين).
94

* (والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين (33) قالت أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة * * *
وقوله تعالى: * (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) أي: خربوها.
وقوله: * (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) الأعزة هو القوم الذين يمتنعون من قبول الذل بقوتهم وقدرتهم، فجعلهم أذلة في هذا الموضع إنما هو بالاستعباد والاستسخار.
وقوله: * (وكذلك يفعلون) أكثر المفسرين على أن هذا من قول الله تعالى على طريق التصديق لها، لا على طريق الحكاية عنها.
قوله تعالى: * (وإني مرسلة إليهم بهدية) الهدية هي العطية على طريق المثامنة، والهدايا بين الإخوان مستحبة، وقد روى عن النبي: ' تهادوا تحابوا '.
وقد ثبت عن النبي: ' كان يقبل الهدية، ويرد الصدقة '.
وروى عنه أنه قال: ' هدايا الأمراء غلول '.
وروى أن رجلا أهدى إلى عمر - رضي الله عنه - رجل جزور، وكان بينه وبين
95

* (إبم يرجع المرسلون (35) فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم * * * نسان خصومة، فلما ارتفعا إليه قال: يا أمير المؤمنين، افصل بيني وبينه كما يفصل من الجزور رجله، فقال: أنت ذاك، ثم إنه رد عليه رجل الجزور، وقضى عليه.
وقوله: * (فناظرة بم يرجع المرسلون) روى أنها قالت: إن كان سليمان ملكا فأرضيه بالمال، وإن كان نبيا فلا يرضى بالمال.
وأما الهدية التي بعثتها إلى سليمان، فعن ابن عباس أنه قال: كانت مائة وصيف ومائة وصيفة.
وعن مجاهد أنه قال: مائتا غلام ومائتا جارية.
وكان بعضهم يشبه البعض في الصورة والصوت والهيئة، وقالت للرسول: قل له: ليميز بين الغلمان [والجواري].
وعن سعيد بن جبير أنه قال: أهدت إليه لبنة من ذهب ملفوفة في الدبياج. وروى أنها أهدت إليه من الحرير والكافور والمسك والطيب شيئا كثيرا.
وفي القصة: أنها بعثت إليه بخرزتين، أحدهما لا ثقب لها، والأخرى لها ثقب معوج، وطلبت أن يدخل الخيط في الثقب المعوج من غير علاج إنس ولا جن، وأن يثقب الخرزة الأخرى من غير علاج إنس ولا جن، وبعثت إليه بقدح، وطلبت منه أن يملأه من ماء لم ينزل من السماء ولا نبع من الأرض. قوله تعالى: * (فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال) الإمداد إلحاق الثواني بالأوائل، وقيل: أن يلحق الثاني بالأول، والثالث بالثاني، والرابع بالثالث إلى أن ينتهي.
وقوله: * (فما آتاني الله خير مما آتاكم) ما أعطاني الله من النبوة والملك والمال أفضل مما آتاكم.
96

* (بل أنتم بهديتكم تفرحون (36) * *
وقوله: * (بل أنتم بهديتكم تفرحون) معناه: أن بعضكم يفرح بالإهداء إلى بعض، فأما أنا فلا أفرح بهداياكم.
وفي القصة: أن المرأة كانت قالت للرسل: إن كان سليمان ملكا فلا يجلسكم، وإن كان نبيا فيجلسكم، فروى أن (الرسول) لما جاءوا وقربوا من سليمان، جاء جبريل عليه السلام وأخبره بمجيئهم وما معهم، فأمر سليمان بلبنات من ذهب وفضة، حتى جعلت تحت أرجل الدواب، وجعلت الدواب تروث وتبول عليها؟، فلما رأى الرسل ذلك استحقروا ما عندهم.
وفي القصة: أنهم لما دخلوا قاموا قياما، فقال لهم سليمان عليه السلام: إن الله تعالى رفع السماء وبسط الأرض، فمن شاء جلس ومن شاء قام.
وروى أنه أمرهم بالجلوس ودعا بالغلمان والجواري بأن يتوضئوا، فمن صب الماء على بطن ساعده قال: هي جارية، ومن صب الماء على ظهر ساعده قال: هو غلام.
وروى أنه جعل من بدأ بالمرفق في الغسل غلاما، ومن بدأ بالزند في الغسل جارية، وروى أنه جعل من أغرف الأناء غلاما، ومن صب على يده جارية.
ودعا بالخرزتين فجاءت دودة تكون في الرطبة، وقيل: في الصفصاف، فقالت: أنا أدخل الخيط في هذا الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف، فجعل لها ذلك فربط الخيط عليها، وقيل: أخذت الخيط بفيها ودخلت في الثقب [فخرجت] من الجانب الآخر. وأما الخرزة الأخرى فجاءت دودة تكون في الفواكه، وثقبت الخرزة على أن يكون رزقها في الفواكه، فجعل لها ذلك، ثم دعا بالقدح وأمر بإجراء الخيل، وملأ القدح من عرقها، ثم رد الهدايا على الرسل حتى ردوها على المرأة.
97

* (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجهم منها أذلة وهو صاغرون (37) قال يا أيها الملأ أيكم يأتني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين (39) * * *
قال أهل العلم: وقد كان الأنبياء لا يقبلون هدايا المشركين.
قوله تعالى: * (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها). أي: لا طاقة لهم بها.
وقوله: * (ولنخرجهم منها أذلة) أي: من بلادهم. وقوله: * (وهم صاغرون) أي: نخرجهم على وجه الذلة والصغار، وذلك يكون بالأسر والاستعباد، وما أشبه ذلك.
قوله تعالى: * (قال يا أيها الملأ) أكثر المفسرين على أن سليمان قال هذا بعد أن أرجع الرسول ورد الهدايا، فإن قال قائل: لما رد الهدايا كيف طلب عرشها وسريرها؟ والجواب عنه من وجوه: أحدها: أنه أحب أن يكون ذلك السرير له، وكان قد وصف.
والوجه الثاني: أنه أحب أن يراه فإنه كان قيل له: إنه من ذهب وقوائمه من جوهر وهو مكلل باللؤلؤ.
والوجه الثالث: أنه أراد أن يريها معجزة عظيمة، فإنه روى أنها جعلت ذلك العرش في سبعة أبيات بعضها داخل في البعض، وغلقت الأبواب واستوثقت منها، فأراد أن يريها عرشها عنده حتى إذا رأت هذه المعجزة العظيمة آمنت.
وقوله: * (أيكم يأتيني بعرشها) قد بينا. وقوله: * (قبل أن يأتوني مسلمين) أي: مستسلمين، وقيل: هو من الإسلام. وفي القصة: أن بلقيس أقبلت في جنودها إلى سليمان - عليه السلام - طلبا للصلح ودخولا في طاعته.
قوله تعالى: * (قال عفريت من الجن) قرئ في الشاذ: ' قال عفرية من الجن ' والعفريت والعفريت هو الشديد القوي، وفي بعض التفاسير: أنه كان صخر الجني، وروى أنه كان بمنزلة جبل، وكان يضع قدمه عند منتهى طرفه.
وقوله: * (أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) يعني: قبل أن تقوم من مجلسك
98

* (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك * * * لذي جلسته للقضاء بين الناس، وقد كان مجلسه غدوة إلى قريب من نصف النهار، وفي القصة: أن المرأة كانت قد وصلت إلى قريب من فرسخ، فلما سمع سليمان ذلك قال في طلب العرش.
وقوله: * (وإني عليه لقوي أمين) على حمل العرش، أمين على ما عليه من الجواهر.
قوله تعالى: * (قال الذي عنده علم من الكتاب) روى أن هذا العفريت لما قال هكذا قال سليمان: أريد أسرع من ذلك، فحينئذ قال الذي عنده علم من الكتاب: * (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك).
واختلف القول في الذي كان عنده علم من الكتاب، فأشهر الأقاويل: أنه آصف ابن برخيا بن سمعيا، وكان رجلا صديقا في بني إسرائيل، وكان يعلم اسم الله الأعظم.
والقول الثاني: أنه الخضر، ذكره ابن لهيعة، والقول الثالث: أنه ملك من الملائكة، أورده ابن بخر، والقول الرابع: أنه سليمان عليه السلام، وهذا قول معروف، والأصح هو القول الأول.
واختلف القول في أنه بماذا دعا الله؟ فقال بعضهم: إنه قال: يا إلهي وإله الخلق إلها واحدا، لا إله إلا أنت، ائت به، وروى أنه قال: يا حي يا قيوم، وروى أنه قال: يا ذا الجلال والإكرام، والله أعلم.
وقوله: * (قبل أن يرتد إليك طرفك) فيه أقوال: أحدها: أن يرفع بصره إلى السماء، فقبل أن يرده إلى الأرض يرى العرش عنده، وقال بعضهم: هو أن يطرف طرفة، وقال بعضهم: هو أن ينظر إلى رجل يأتي، فقبل أن يصل إليه ذلك الرجل، يكون قد وصل العرش إليه، وقال بعضهم: هو أن ينظر إلى رجل يذهب، فقبل أن
99

* (فلما رآه مسقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم (40) قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون (41) فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت * * * * يرتد طرفه من ذلك الذاهب، يكون قد وصل إليه. وفي القصة: أنه لما دعا الله خرق الله الأرض عند عرشها، فساخ العرش في الأرض، وظهر عند سرير سليمان، وكانت المسافة مقدار شهرين، وقال بعضهم: إن الله تعالى أعدم ذلك العرش، وأوجد مثله على هيئته عند سليمان، والقول الأول أولى.
وقوله: * (فلما رآه مستقرا عنده) قال السدي: جزع سليمان حين رأى ذلك، وكان جزعه أنه كيف قدر ذلك الرجل على ما لم يقدر هو عليه؟ ثم إنه رجع إلى نفسه، فقال: * (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر).
وقوله: * (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) أي: غنى عن شكره، كريم في قبول شكره وإثابته عليه.
قوله تعالى: * (قال نكروا لها عرشها) معناه: غيروا لها عرشها. وقوله: * (ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون) في التفسير: أن الجن كانوا قالوا لسليمان
عليه السلام: إن في عقلها شيئا، وقالوا له أيضا: إن قدمها كحافر الحمار، وعلى ساقها شعر كثير. وإنما غير عرشها ليعرف بذلك عقلها، وروى أنه جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وروى أنه جعل مكان الجواهر الأحمر أخضر، ومكان الأخضر أحمر، وروى أنه زاد فيه ونقص منه.
وقوله تعالى: * (ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون) يعني: أتعرف عرشها أم لا تعرف؟
قوله تعالى: * (فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو) لم تقل: لا خوفا من الكذب، ولم تقل: نعم خوفا من الكذب، ولكنها قالت: كأنه هو. وقال مقاتل: شبهوا عليها فشبهت عليهم، وقد كانت عرفته. وروى أنه إنما أشبه عليها؛ لأنها كانت خلفت العرش في بيوتها، فرأته أمامها عند سليمان، فاشتبه عليها الأمر، وقالت
100

* (كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين (42) وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين (43) قيل هلا أدخلي الصرح فلما رأته حسبته * * * * ما قالت.
وقوله: * (وأوتينا العلم من قبلها) هذا من قول سليمان أي: علمنا حالها وأمرها وحال عرشها قبل أن تعلم. قوله: * (وكنا مسلمين) أي: مسلمين لله طائعين له.
قوله تعالى: * (وصدها ما كانت تعبد من دون الله) (أي: صدها عن عبادة الله ما كانت تعبد من دون الله).
وقوله: * (إنها كانت من قوم كافرين) ظاهر المعنى.
وقد كانت عربية من ملوك اليمن. وقال بعضهم: قوله: (أنها كانت من قوم كافرين) قال هذا؛ لأنها كانت من قوم مجوس يعبدون الشمس. وعن بعضهم: قال معنى قوله: * (وصدها ما كانت تعبد من ودون الله) أي: صدها عن عبادة الله نقصان عقلها، بل ما كانت تعبد من دون الله، لأن الجن كانوا قالوا لسليمان: إن في عقلها [شيئا].
قوله تعالى: * (قيل لها ادخلي الصرح) الصرح في أصل اللغة هو المكان المرتفع، ذكره أبو عبيد في غريب المصنف وغيره.
وأما الصرح هاهنا ففيه أقوال: قال مجاهد: هو بركة من الماء ألبس قوارير.
وقال الزجاج: الصرح والصرحة والساحة والباحة بمعنى واحد، وهو الصحن. وعن بعضهم: أن الصرح هو القصر، وقيل: هو البيت. وفي القصة: أن الجن قالوا لسليمان: إن مؤخر رجلها كحافر الحمار، وهي هلباء شعراء، وكانوا خشوا أن يتزوجها سليمان فتطلعه على أسرار الجن، وكانت أمها جنية، فأراد سليمان - عليه السلام - أن يرى رجلها، فأمر باتخاذ بركة عظيمة، وجعل فيها من الحيتان والضفادع
101

* (لجة وكشفت عن ساقيها قال أنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (44) * * * وما أشبهها شيئا كثيرا، ثم أمر أن يلبس الماء غشاء من قوارير. وفي بعض الروايات: أنه اتخذ صحنا من قوارير، وجعل تحته تماثيل من الحيتان والضفادع، وكان الواحد إذا رآه ظنه ماء. وروى أن سليمان - عليه السلام - أمر بسريره حتى وضع في وسط الصرح، ثم دعاها إلى مجلسه، فلما وصلت إلى الصرح ونظرت ظنت أنه ماء، فكشفت عن ساقيها لتدخل في الماء، فصاح سليمان: * (إنه صرح ممرد من قوارير) ورأى ساقيها، وكان عليها شعر كثير.
وذكر بعضهم: أنه رأى قدما لطيفا وساقا حسنا وعليه شعر.
فإن قال قائل: لم طلب سليمان هذه الرؤية؟ والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه أراد أن يعرف صدق الجن وكذبهم، والآخر: أنه أراد أن يتزوج بها، فقصد أن ينظر إلى ساقيها، وقد كانوا قالوا: إن عليه شعرا.
وقد ذكر أهل التفسير: أن سليمان - عليه السلام - قال للشياطين: ما الذي يذهب الشعر؟ فاتخذوا النورة، وهو أول من اتخذ الحمام والنورة.
[وقوله: * (فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح] ممرد).
أي: مملس، وقيل: الممرد هو الواسع طولا وعرضا، قال الشاعر:
(غدوت صباحا باكرا فوجدتهم
* قبيل الضحا والبابلي الممرد) أي: وقوله: * ([من قوارير]. قالت رب إني ظلمت نفسي) أي: بالشرك، ويقال: إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة، وهو ماء له عمق، قالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرقني، وقد كان القتال أهون من هذا.
وقوله: * (ظلمت نفسي) يعني، بذاك الظن.
وقوله: * (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) ظاهر المعنى. وكل من أسلم
102

* (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون (45) قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون (46) قالوا اطيرنا بك وبمن معك) * * * بنبي فهو مع ذلك النبي في الإسلام بالله. وقد ذكر بعضهم: أنه تزوج بها. وروى أن عبد الله بن عتبة سئل عن ذلك، فقال: انتهى إلى قوله: * (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) يعني: أنه لا علم وراء ذلك.
وأما مدة ملك سليمان: اختلفوا فيه، فروى أن الملك وصل إليه وهو ابن ثلاث [عشرة] سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين، وفي بعض الروايات عن أبي جعفر بن محمد بن علي: أنه ملك سبعمائة سنة، وهذه رواية غريبة.
قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله) أي: وحدوا الله.
وقوله: * (فإذا هم فريقان يختصمون) أي: مؤمن وكافر، وعن قتادة: مصدق ومكذب.
قوله تعالى: * (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة) أي: بالعذاب قبل الرحمة، وقد كانوا قالوا لصالح: إن كنت صادقا فأتنا بالعذاب.
وقوله: * (لولا تستغفرون لله) أي: هلا تستغفرون الله، والاستغفار هاهنا بمعنى التوبة.
قوله: * (لعلكم ترحمون) ظاهر [المعنى].
قوله تعالى: * (قالوا طيرنا بك وبمن معك) أي: تشاءمنا بك وبمن معك، وفي سبب قولهم هذا قولان: أحدهما: أنهم قالوا ذلك؛ لتفرق كلمتهم، والقول الثاني: أنهم قالوا ذلك؛ لأنهم أصابهم الجدب والقحط، فقالوا فقالوا لصالح: هذا من شؤمك.
واعلم أن الطيرة منهي عنها، وفي بعض الأخبار عن النبي: ' لا عدوى
103

* * ولا طيرة '.
وعنه: ' أنه كان يحب الفأل ويكره الطيرة '.
ووفي بعض المسانيد عن النبي قال: ' لا ينج ابن آدم من ثلاث: من الظن، والحسد، والطيرة، فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامضه '.
وفي بعض الأخبار: * (لا ينجو من الطيرة أحد، ويذهبها التوكل على الله '.
وقد كان أهل الجاهلية، يتطيرون، وكان الرجل منهم إذا خرج لحاجة فطار طائر، أو لقي شيئا، أو سمع كلاما يتطير بذاك، إما في الامتناع من ذلك الفعل، أو في الدخول في ذلك الفعل، وقد قال بعض الشعراء شعرا:
(لعمرك ما تدرى الطوارق بالحصى
* ولا زاجرات الطير ما الله صانع)
104

* (قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون (47) وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون (48) قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون (49)) * *
وقال الخليل بن أحمد في النجوم:
(أبلغوا عني المنجم أني
* كافر بالذي قضته الكواكب)
(عالم أن ما يكون وما كان
* حتم من المهيمن واجب)
وقوله: * (قال طائركم عند الله) أي: ما يصيبكم من الخير والشر من الله، ويسمى ذلك طائرا؛ لسرعة نزوله بالإنسان، فإنه لا شيء أسرع نزولا من قضاء محتوم، وقيل: * (طائركم عند الله) أي: عملكم عند الله، وسمي ذلك طائرا، لسرعة صعوده إلى السماء.
وقوله: * (بل أنتم قوم تفتنون) أي: تبتلون وتختبرون، وقيل: تعذبون.
قوله تعالى: * (وكان في المدينة تسعة رهط) هؤلاء التسعة هم الذين اتفقوا على عقر الناقة، وكان رأسهم في ذلك قدار بن سالف وهو الذي تولى عقرها.
وقوله: * (يفسدون في الأرض ولا يصلحون) قال سعيد بن المسيب: بكسر الدراهم والدنانير. وعن قتادة: بتتبع عورات الناس. وقيل: بالمعاصي وفعل المناكير.
قوله تعالى: * (قالوا تقاسموا بالله) أي: احلفوا بالله.
وقوله: * (لنبيتنه) أي: لنقتلته بياتا أي: ليلا، قالوا ذلك لصالح.
وقوله: * (وأهله) أي: وقومه الذين أسلموا معه.
وقوله: * (ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله) وقرئ: ' مهلك ' بنصب الميم: فيجوز أن يكون بمعنى الإهلاك، ويجوز أن المراد منه موضع الهلاك.
وقوله: * (وإنا لصادقون) أي: ننكر قتل صالح، وقالوا ذلك؛ لأنهم خافوا من عشيرته.
105

* (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون (50) فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين (51) فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون (52) وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (53) ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون (54) أئنكم لتأتون الرجال شهوة من) * *
قوله تعالى: * (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا) أي: دبروا تدبيرا ودبرنا تدبيرا، فروي أن الله تعالى بعث بالملائكة حتى شدخوا رؤوسهم بالأحجار. وقال الضحاك: كان صالح يدخل كهفا في الجبل يعبد الله، فدبروا أن يدخلوا إليه ويقتلوه غيلة، فذهبوا وجعلوا يترصدون ذلك، فأهوت حجارة من أعلى الجبل، فهربوا ودخلوا، فوقع الحجر على باب الغار وأطبق عليهم، فهذا معنى قوله: * (ومكرنا مكرا).
وقوله: * (وهم لا يشعرون) أي: لا يعلمون كيف مكرنا بهم.
قوله تعالى: * (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم) أي: ما آل إليه مكرهم.
وقوله: * (أنا دمرناهم وقومهم أجمعين) أي: أهلكنام وقومهم أجمعين.
قوله تعالى: * (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) أي: خالية بما كفروا.
وقوله: * (إن في ذلك لآية لقوم يعلمون) أي: يعلمون تدبيرنا ومكرنا بالكفار.
وقوله تعالى: * (وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) قد بينا. وفي القصة: أن قوم صالح لما أهلكهم الله تعالى جاء صالح إلى مكة وتوفي بها، وكذلك هود عليه السلام.
قوله تعالى: * (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون) أي: تعلمون أنها فاحشة. وقيل معنى قوله: * (وأنتم تبصرون) أي: يراها بعضكم من بعض فلا تستترون عنها.
وقوله: * (أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون) قد بينا.
قوله تعالى: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) قد بينا.
106

* (دون النساء بل أنتم قوم تجهلون (55) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (56) فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين (57) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (58) قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما يشركون (59) أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن) * *
قوله تعالى: * (فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين) أي: جعلناها من الباقين في العذاب.
قوله تعالى: * (فأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) في القصة: أن قوم لوط خسف بهم، وتتبع الحجر الشذاذ منهم فأهلكهم.
وقوله: * (فساء مطر المنذرين) أي: بئس مطر المنذرين، والمنذرون هم الذين خوفوا بالهلاك.
قوله تعالى: * (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) قوله: * (عباده الذين اصطفى). فيه أقوال: روي عن ابن عباس أنه قال: هم أصحاب رسول الله، وعنه أيضا أنه قال: هم أمة محمد، وعنه أيضا أنه قال: كل المؤمنين من السابقين والخالفين.
وقوله: * (آلله خير أما يشركون) أي: عبادة الله خير أم عبادة ما يشركون؟ فإن قيل: ليس في عبادة غير الله خير أصلا، فكيف يستقيم معنى الآية؟ والجواب: أنهم كانوا يعتقدون أن في ذلك خيرا، فخرجت الآية على ذلك. وقال بعضهم: كانوا يعتقدون أن الأصنام آلهة، ولولا اعتقادهم لم يستقم قوله: * (آلله خير أما يشركون). وقد حكى سيبويه أن العرب تقول: أيها الرجل، الشقاوة خير أم السعادة؟ وهو يعلم أن لا خير في الشقاوة، وأن كل الخير في السعادة.
وقال حسان بن ثابت:
(أتهجوه ولست له بند
* فشركما لخيركما الفداء)
وقال بعضهم: آلله خير أما يشركون معناه: الخير في هذا أم في هذا الذي تشركون به مع الله؟ ويجوز أن يكون معناه: ثواب الله خير أو ثواب ما تشركون به؟.
قوله: * (أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء) معناه: الخير
107

* (تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (60) أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم) * * فيما تقولون وتدعون من الآلهة، أم فيمن خلق السماوات والأرض؟ أي: أنشأهما
وقوله: * (وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) كل بستان محوط عليه فهو حديقة. وقوله: * (ذات بهجة) أي: ذات منظر حسن، وقيل: البهجة ما يبتهج به.
وقوله: * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) أي: ما ينبغي لكم أن تفعلوا ذلك؛ لأنكم لا تقدرون عليه.
وقوله: * (أإله مع الله) استفهام بمعنى الإنكار أي: لا إله مع الله.
وقوله: * (بل هم قوم يعدلون) أي: عن الحق، وقيل: يشركون معه غيره، ويجعلونه عدلا له أي: مثلا
قوله تعالى: * (أمن جعل الأرض قرارا) أي: موضعا يستقرون عليه.
وقوله: * (وجعل خلالها أنهارا) أي: خلال الأرض.
وقوله: * (وجعل لها رواسي) أي: جبالا ثوابت.
وقوله: * (وجعل بين البحرين حاجزا) اختلف القول في البحرين، (منهم من قال: بحر السماء والأرض)، ومنهم من قال: بحر فارس والروم، ومنهم من قال: البحر المالح والعذب. وقوله: * (حاجزا) قد بينا معنى الحاجز، ويقال: يكف الملح عن العذب، والعذب عن المالح بقدرته، وهذا دليل على أنه يجوز أن يكف النار عن الإحراق، والسيف عن القطع.
وقوله: * (أإله مع الله) قد بينا.
وقوله: * (بل أكثرهم لا يعلمون) أي: لا يعلمون مالهم وعليهم.
قوله تعالى: * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) إنما ذكر المضطر، وإن كان يجيب
108

* (لا يعلمون (61) أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون (62) أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون (63) أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ثم ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل) * * دعاء المضطر وغير المضطر؛ لأن رغبة المضطر أقوى، ودعاؤه أخضع.
وقوله: * (ويكشف السوء) أي: الضر.
وقوله: * (ويجعلكم خلفاء الأرض) أي: يجعل بعضكم خلفاء بعض، وقيل: يجعل أولادكم خلفاءكم، وقال بعضهم معناه: يجعلكم خلفاء الجن في الأرض.
وقوله: * (أإله مع الله قليلا ما تذكرون) وقرئ: ' يذكرون) فقوله: * (تذكرون)، على المخاطبة. وقوله: ' يذكرون ' على المغايبة.
قوله تعالى: * (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) أي: يرشدكم.
وقوله: * (ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) أي: مبشرة، قرئ: ' نشرا ' أي: ناشزة.
وقوله: * (بين يدي رحمته) أي: المطر. وقوله: * (أإله مع الله تعالى الله عما يشركون) أي: تقدس وارتفع عما يشركون.
قوله تعالى: * (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده) فقوله: * (ثم يعيده) أي: يعيدهم أحياء بعد موتهم.
وقوله: * (ومن يرزقكم من السماء والأرض) معناه: من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات.
وقوله: * (أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) أي: مع الله إلها آخر؟.
قوله تعالى: * (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون
109

* (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (64) قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون (65) بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون (66)) * * أيان يبعثون) أي متى يبعثون؟.
قوله تعالى: * (بل ادارك) وقرئ: ' بل أدرك '، فمنهم من قال: معناهما واحد، ومنهم من قال: ' ادارك ' أي: تتابع وتلاحق، وقوله ((أدرك)) أي: فصل ولحق، وأما معنى الآية: قال السدى: أي صاروا علماء في الآخرة بما لم يعلموا في الدنيا، وهو في معنى قوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر) وعن (ابن) سعيد الضرير قال: ' بل أدرك ' أي: علموا في الآخرة أن الذي كانوا يوعدون حق. وهذا قريب من الأول، وأنشدوا (للأخطل):
(وأدرك علمي في سواءة أنها
* تقيم على الأوتار والمشرب الكدر)
أي: أحاط علمي بها أنها هكذا. وذكر علي بن عيسى: أن معنى بل هاهنا هو: لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكوا. وقال الفراء: قوله: * (بل أدرك علمهم في الآخرة) أي: غاب علمهم وسقط في الدنيا، على معنى أنهم لم يعلموا. وعن ابن عباس أنه قرأ: ' بلى ادارك ' على طريق الاستفهام: أي لم يتدارك، وهذا يؤيد قول الفراء.
وقوله: * (بل هم في شك منها) أي: هم في شك منها اليوم.
وقوله: * (بل هم منها عمون) أي: لا يهتدون إليها، ويقال: بل الأولى بمعنى لو على ما بينا، وبل الثانية على معنى أم، وبل الثالثة على حقيقتها. وذكر بعض أهل العلم أن قوله: * (بل ادارك علمهم) أي: تدارك ظنهم في الآخرة (وتتابع) بالقول بالظن والحدس.
وقوله: * (بل هم منها عمون) أي: هم جهلة بالآخرة.
110

* (وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون (67) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (68) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين (69) ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون (70) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (71) قل عسى أن) * *
قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون) قد بينا.
وقوله: * (لقد وعدنا...) إلى آخر الآية قد سبق.
قوله: * (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) أي: من قوم صالح، وقوم لوط، وأصحاب الحجر، وغيرهم.
قوله تعالى: * (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق) أي: لا يضيق قلبك مما يمكرون، ومكرهم وحيلتم بالباطل.
وقوله تعالى: * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) أي: القيامة.
وقوله: * (قل عسى أن يكون ردف لكم) وردفكم بمعنى واحد، ويقال: ردف لكم، وردفكم أي: دنا لكم. قال أبو عبيدة: جاء بعدكم، وقال القتيبي: تبعكم، ومنه ردف المرأة الرجل، قال الشاعر:
(عاد السواد بياضا في مفارقه
* لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا)
وقوله: * (بعض الذي تستعجلون) يقال: هو القتل يوم بدر، ويقال: إنه عذاب الآخرة.
قوله تعالى: * (إن ربك لذو فضل على الناس) أي: أفضال على الناس، وفي بعض الأخبار: أن النبي قال: ' يحشر الخلق يوم القيامة فيؤتى بقوم فيقال لهم: لم عبدتم ربكم؟ فيقولون: يا رب، وعدتنا بالجنة فعبدناك طمعا فيها وشوقا إليها، فيدخلهم الجنة، ثم يؤتى بقوم فيقال لهم: لم عبدتم ربكم؟ فيقولون: يا رب، خوفتنا من النار فعبدناك خوفا منها، فينجيكم الله من النار ويدخلهم الجنة، ثم يؤتى بقوم فيقال لهم: لم عبدتم ربكم؟ فيقولون محبة لك، فيتجلى لهم الرب تعالى فينظرون إليه، فذلك قوله: * (وإن ربك لذو فضل على الناس). والخبر غريب جدا.
111

* (يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون (72) وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (73) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (74) وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين (75) إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذين هم فيه يختلفون (76) وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين (77) إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم (78) فتوكل * *
وقوله: * (ولكن أكثرهم لا يشكرون) أي: نعم الله.
قوله تعالى): * (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم) أي: تخفى صدورهم.
وقوله: * (وما يعلنون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وما من غائبة في السماء والأرض) أي: جملة غائبة من جميع الغائبات، وقيل: وما من خبر غائب.
وقوله: * (إلا في كتاب مبين) هو: اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: * (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) أي: يبين لبني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون.
قوله تعالى: * (وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين) فيه قولان: أحدهما: أنه الرسول، والآخر: أنه القرآن.
قوله تعالى: * (وإن ربك يقضي بينهم بحكمه) أي: يفصل بينهم بحكمه الحق.
وقوله: * (وهو العزيز الحكيم) أي: المنيع في ملكه، العليم بأمر خلقه.
قوله تعالى: * (فتوكل على الله) أي: ثق بالله. * (إنك على الحق المبين) أي: الحق المبين.
قوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى) المراد من الموتى هاهنا: هم الكفار، وهو مثل قوله تعالى: * (أموات غير أحياء) فسماهم موتى؛ لأنهم ميتوا القلب؛ ولأنهم لم ينتفعوا صاروا كالموتى.
112

* (على الله إنك على الحق المبين (79) إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الداء إذا ولوا مدبرين (80) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا) * * وأنشد بعضهم:
(لقد أسمعت لو ناديت حيا
* ولكن لا حياة لمن (أنادي))
وقوله: * (ولا تسمع الصم الدعاء) وقرئ: ' لا يسمع الصم الدعاء ' فقوله: * (لا تسمع) على مخاطبة النبي، وقوله: ' لا يسمع الصم الدعاء ' على الخبر.
وقوله: * (إذا ولوا مدبرين) أي: معرضين، فإن قيل: إذا كانوا صما، فما معنى قوله: * (إذا ولوا مدبرين) فإذا كانوا صما فهم لا يسمعون، سواء ولوا مدبرين أو لم يولوا؟ قلنا: الأصم إذا كان حاضرا فقد يسمع إذا شدد في الصوت، وقد يعلم بنوع إشارة؛ فإذا ولى مدبرا لم يسمع أصلا، ويجوز ن يكون ذكره على طريق التأكيد والمبالغة.
قوله تعالى: * (وما أنت بهادي لعمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا) أي: جاء قاصدا للإيمان بآياتنا، وقيل: لا تسمع إلا المؤمنين.
وقوله: * (فهم مسلمون) أي: لله.
قوله تعالى: * (وإذا وقع القول عليهم) أي: حق العذاب عليهم، وقال قتادة: إذا غضب الله عليهم. وعن ابن عمر: إذا لم يأمروا بمعروف، ولم ينهوا عن منكر.
وقوله: * (أخرجنا لهم دابة من الأرض) روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ليست بدابة لها ذنب، ولكن لها لحية. كأنه يشير إلى أنه رجل وليست بدابة، والأكثرون على أنها دابة، (وهي) تخرج في آخر الزمان.
ويقال: إن أول أشراط الساعة طلوع لشمس من مغربها وخروج دابة الأرض.
وقال ابن عباس: لها زغب وريش وأربع قوائم.
113

* (من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (81) وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض) * *
وعن ابن الزبير قال: هي دابة رأسها من رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن إبل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، وجلدها جلد نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين منها اثنا عشر ذراعا.
وقال ابن مسعود: تخرج من الصفا تجري كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج إلا ثلثها، ويبلغ رأسها السماء.
وفي بعض المسانيد: عن النبي أنه قال: (' بئس الشعب شعب جياد، قيل: ولم يا رسول الله؟ قال): تخرج منه الدابة، وتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين '.
وعن حذيفة بن أسيد قال: تخرج الدابة ثلاثا، تخرج الخرجة الأولى ببعض الأودية، ثم تكمن، ثم تخرج في قبائل العرب، ثم تخرج في جوف، وأشار إلى أنها تخرج في المسجد الحرام.
وعن عبد الله بن عباس أنه صعد الصفا وقرع بعصاه الحجر وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه. وروى قريبا من هذا عن عبد الله بن عمرو.
وقد روى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن خالد بن أوس، عن أبي هريرة
114

أن النبي قال: ' تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن، وتحطم وجه الكافر، حتى إن القوم يجتمعون على الخوان فتقول: هذا لهذا يا كافر، وتقول: هذا لهذا يا مؤمن '. قال الشيخ الإمام رضي الله عنه: أخبرنا بهذا الخبر أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد، أخبرنا أبو العباس بن سراج، أخبرنا أبو العباس بن محبوب، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، أخبرنا عبد بن حميد، عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، الحديث.
وفي التفسير: أن دابة الأرض تسم وجه المؤمن بنكتة بيضاء، فيبيض بها وجهه، وتسم وجه الكافر بنكتة سوداء، فيسود بها وجهه. وعن عبد الله بن مسعود أنه قرأ قوله تعالى: * (وإذا وقع لقول عليهم) ثم قال: طوفوا بالبيت قبل أن يرفع، واقرءوا القرآن قبل أن يرفع، وقولوا لا إله إلا الله قبل أن تنسى، ثم ذكر أنه يأتي زمان ينسى الناس فيه قول لا إله إلا الله، وتقع الناس في أشعار الجاهلية.
وقوله: * (تكلمهم) وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وعاصم الجحدري: ' تكلمهم ' أي: تجرحهم، والكلم هو الجراحة، ويقال: تسمهم، قال الشاعر:
((في الكلم مطرقا يكذب عن إعرابه
* بنقص الآية الكلم إذا الكلم التام))
والقراءة لمعروفة: * (تكلمهم) وقال بعض أهل لعلم: ظهور الآية منها كلام، ونطق على وجه المجاز لا أنها تتكلم، والأصح أنها تتكلم، واختلف القول أنها بماذا تتكلم؟ فأحد القولين: أن كلامها أن هذا مؤمن وهذا كافر، والقول الآخر: أنها تتكلم بما قال الله تعالى: * (أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون).
وقرئ: ' أن ' و ' إن ' بنصب الألف وكسره، فمن قرأ ' أن ' بنصب الألف فمعناه: بأن، ومن قرأ: ' إن ' فعلى الاستئناف، وقرأ أبي بن كعب: ' دابة تنبئهم '، وفي بعض
115

* (تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون (82) ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون (83) حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا) * * القراءة: ' تحدثهم ' وفي قراءة ابن مسعود: ' تكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون '.
قوله تعالى: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) له من كل قرن فوجا. وقوله: * (ممن يكذب بآياتنا). أي: من المكذبين، وليس ' من ' هاهنا للتعبيض؛ لأن جميع المكذبين يحشرون.
وقوله: * (فهم يوزعون) أي: يساقون إلى النار، فإن قيل: وغير المكذبين أيضا يحشرون؟ قلنا: الحشر الذي يساق فيه إلى النار إنما يكون للمكذبين.
قوله تعالى: * (حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما) أي: جاهلين بالأمر، وقيل: بعاقبة لتكذيب.
وقوله: * (أماذا كنتم تعملون) استفهام على طريق الإنكار.
قوله تعالى: * (ووقع القول عليهم بما ظلموا) أي: وجب العذاب عليهم بما أشركوا.
وقوله: * (فهم لا ينطقون) قال قتادة: كيف ينطقون ولا حجة لهم؟
قوله تعالى: * (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) قد بينا.
وقوله: * (والنهار مبصرا) أي: ذا إبصار، قال الشاعر:
(كلينى لهم [يا أميمة] ناصب
*)
أي: ذا نصب، وقيل: مبصرا أي: تبصر فيه، كما يقال: ليل نائم أي: ينام فيه قال الشاعر:
116

* (بها علما أماذا كنتم تعملون (84) ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون (85) ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (86) ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من) * *
(تقول سليمى لا تعرض ببلغة
* وليلك عن ليل الصعاليك نائم)
أي: تنام فيه.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ويوم ينفخ في الصور) قد بينا. وقوله: * (ففزع من في السماوات ومن في الأرض) أي: فصعق من في السماوات ومن في الأرض، وإنما ذكر الفزع يؤد بهم إلى الصعقة، ويقال: ينفخ إسرافيل عليه السلام ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة القيام لرب العالمين، وقد ذكر أن الحسن البصري قال: الصور هو الصور، وأول بعضهم كلامه، وقال: إن الأرواح تجعل في [القرن] ثم ينفخ فيه، فتذهب الأرواح إلى الأجساد، وتحيا الأجساد.
وقوله: * (إلا من شاء الله) فيه قولان: أحدهما: أن المراد من ذلك جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت صلوات الله عليهم، والقول الآخر: أن المراد منه الشهداء. وفي بعض الآثار: الشهداء ثنية الله أي: الذين استثناهم الله تعالى، وإنما صح الاستثناء فيهم؛ لأنهم أحياء كما قال الله تعالى. وفي بعض الأخبار: ' هم أحياء متقلدوا السيوف يدورون حول العرش.
وقوله: * (وكل آتوه داخرين) أي: صاغرين وقرئ: ' وكل أتوه ' على الماضي، والمعنى متقارب.
قوله تعالى: * (وترى الجبال تحسبها جامدة) أي: واقفة.
وقوله: * (وهي تمر مر السحاب) أي: تسير سير السحاب، وهذا كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه، كذلك سير الجبال يوم القيامة لا يرى لكثرتها، قال الشاعر:
117

* (شاء الله وكل أتوه داخرين (87) وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون (88) من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون (89)) * *
(بأرعن مثل الطود تحسب أنهم
* وقوف لحاج والركاب تهملج)
أي: تتهملج.
وقوله: * (صنع الله الذي أتقن كل شيء) أي: أحكم كل شيء.
وقوله: * (إنه لخبير بما تفعلون) أي: بما تصنعون.
قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله خير منها) أي: له منها خير، وقال بعضهم: له خير يصل إليه منها، ومنهم من قال: خير منها أي: أنفع منها، وأما الحسنة ففي قول عامة المفسرين هي قول لا إله إلا الله، وقيل: هي كل طاعة، وعن أبي ذر أنه سئل وقيل له: قول لا إله إلا الله حسنة؟ فقال: هي أحسن الحسنات.
وقوله: * (وهم في فزع يومئذ آمنون) قد بينا معنى الفزع من قبل، وقرئ: ' فزع يومئذ ' على الإضافة، وقرئ: ' فزع يومئذ ' على التنوين، قال أبو علي الفارسي: ((فزع يومئذ)) على التنوين، يدل على التكثير، و: ' فزع يومئذ ' على الإضافة لا يدل على التكثير.
قوله تعالى: * (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار) وقوله: * (هل تجزون إلا ما كانوا يعملون) ظاهر المعنى.
وقال بعضهم في قوله: * (خير منها): إنما قال هذا؛ لأن جزاء الحسنات مضاعف أي: أن يبلغ العشر وزيادة فقوله: * (خير منها) أي: أكثر منها.
قوله تعالى: * (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) وقرأ ابن مسعود وابن عباس: ' التي حرمها ' فقوله: * (التي حرمها) ينصرف إلى البلدة، (وقوله: * (الذي) ينصرف إلى الله، وهو المعروف، وأما التحريم فهو تحريم الصيد، وكان ما ذكرناه من قبل).
118

* (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون (90) إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين (91) وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين (92) وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون (93)) * *
وقوله: * (وله كل شيء) أي: ولله كل شيء. وقوله: * (وأمرت أن أكون من المسلمين). أي: من المسلمين لله.
قوله تعالى: * (وأن أتلو القرآن) أي: وأمرت أن أتلو القرآن، قال أهل العلم: نتلوا ونعمل به، وعن الحسن البصري قال: أمر الناس أن يعملوا بالقرآن، فاتخذوا تلاوته عملا.
وقوله: * (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) أي: نفع اهتدائه راجع إليه.
وقوله: * (ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) أي: المخوفين.
قوله تعالى: * (وقل الحمد لله) هو خطاب للنبي وسائر المؤمنين.
وقوله: * (سيريكم آياته) أي: دلالاته.
وقوله: * (فتعرفونها) أي: تعرفون الدلالات.
وقوله: * (وما ربك بغافل عما تعملون) ظاهر المعنى.
وقد ورد خبر في الآية المتقدمة، وهو قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة)، فإن أكثر المفسرين على أن المراد من الحسنة الإيمان، ومن السيئة الشرك، وقد روى صفوان بن عسال المرادي، أن النبي قال: ' يأتي الإيمان والشرك يوم القيامة (فيجثوان بين يدي الرحمن، ويطلب كل واحد منهما أهله)، فيقول الله تعالى للإيمان:
انطلق بأهلك إلى الجنة، ويقول الله تعالى للشرك: انطلق بأهلك إلى النار، وتلا قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله خير منها) الآية '. والخبر غريب، والله أعلم.
119

بسم الله الرحمن الرحيم
* (طسم (1) تلك آيات الكتاب المبين (2) نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون (3) إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم) * *
تفسير سورة القصص
وهي مكية إلا قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب) إلى قوله تعالى: * (لا نبتغي الجاهلين).
وفي هذه السورة آية ليست بمكية ولا مدنية، وهي قوله تعالى: * (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) نزلت هذه الآية بين مكة والمدينة، ورسول الله بالجحفة، وهو منزل من المنازل، وذلك حين هاجر النبي من مكة إلى المدينة.
قوله تعالى: * (طسم) قال قتادة: اسم من أسماء القرآن، وعن الحسن أنه قال: هو اسم من أسماء السورة، وعن ابن عباس في رواية قال: هو اسم الله الأعظم، وقد بينا غير هذا.
وقوله: * (تلك آيات الكتاب المبين) يقال: بان وأبان بمعنى واحد، وكذلك قولهم: بينت الشيء وأبينه. وقال الزجاج: المبين للحلال من الحرام، والحق من الباطل.
قوله تعالى: * (نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق) أي: بالصدق.
وقوله: * (لقوم يؤمنون) أي: يصدقون، والنبأ اسم للخبر.
قوله تعالى: * (إن فرعون علا في الأرض) أي: تكبر وتجبر، ويقال: طغى وقهر، والأرض هي أرض مصر. * (وجعل أهلها شيعا) أي: فرقا.
وقوله سبحانه وتعالى: * (يستضعف طائفة منهم) المراد من الطائفة: بنو
120

* (يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (4) ونريد أن نمن على) * * إسرائيل، وتفسير الاستضعاف: ما يذكر من بعد، وهو قوله تعالى: * (يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم) وقرئ في الشاذ: ' يذبح أبناءهم ' بغير التشديد، وسمي هذا استضعافا؛ لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفع هذا عن أنفسهم، وذكر وهب بن منبه وغيره: أن فرعون رأى في منامه كأن نارا خرجت من جانب الشام حتى أحاطت بمصر، وأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل، فلما أصبح دعا الكهنة، وأخبرهم برؤياه، فقالوا: يخرج رجل من بني إسرائيل يكون هلاكك وهلاك القبط على يده. وبعضهم روى أنهم قالوا: يولد مولود؛ فحينئذ أمر فرعون بذبح الذكور من أولاد بني إسرائيل واستبقاء إناثهم. قال الزجاج: وهذا من حمقه؛ لأنه إن كانت الكهنة صادقين فما يغني القتل، وإن كانوا كاذبين فلا معنى للقتل أيضا. قال وهب: فلما فعلوا ذلك في ولدان بني إسرائيل، وتسارع الموت إلى شيوخهم، فاجتمع الأشراف من القبط إلى فرعون، وقالوا له: إنك تقتل أولاد بني إسرائيل، وقد تسارع الموت إلى شيوخهم، فعن قريب لا يبقى منهم [أحد]، وترجع الأعمال إلينا، وقد كانوا يستعملون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة.
قال السدي في قوله: * (وجعل أهلها شيعا) كانوا جعلوا بني إسرائيل فرقا، ففرقة يبنون، وفرقة يحرثون ويزرعون، وفرقة يغرسون، وفرقة يرعون الدواب، إلى مثل هذا من الأعمال، ومن لم يمكنه أن يعمل عملا كان يؤخذ منه الجزية، فلما سمع فرعون قولهم أمر أن يقتلوا الأولاد سنة ولا يقتلون سنة، فولد هارون عليه السلام في السنة التي لا يقتل فيها الأولاد، وولد موسى في السنة التي يقتل فيها الأولاد.
وقوله: * (إنه كان من المفسدين) أي: في الأرض.
قوله تعالى: * (ونريد أن نمن) أي: ننعم.
121

* (الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5) ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (6) وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك) * *
وقوله: * (على الذين استضعفوا في الأرض) أي: بني إسرائيل.
وقوله: * (ونجعلهم أئمة) أي: ولاة.
وقوله: * (ونجعلهم الوارثين) أي: الوارثين لملك فرعون والقبط، وقد روي أن فرعون لما أغرقه الله، رجع بنو إسرائيل إلى مصر، واستعبدوا من بقي من القبط.
قوله تعالى: * (ونمكن لهم في الأرض) أي: نجعل لهم مصرا مكانا يستقرون فيه.
وقوله: * (ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) الحذر هو التوقي من الضرر.
قوله تعالى: * (وأوحينا إلى أم موسى) في القصة: أن أم موسى لما حبلت بموسى لم يظهر عليها الحمل كما يظهر على النساء، وولدت ولم يعلم بولادتها أحد، وجعلت ترضعه في خفية، ثم إنها خشيت أن يطلع عليه الناس ويذبح، فألقى الله تعالى في قلبها ما ذكره في هذه الآية.
والوحي هو الإعلام في خفية، فأكثر المفسرين على أن معنى قوله: * (وأوحينا إلى أم موسى) هو إلهامها، وألقى هذا المعنى في قلبها، وقال بعضهم: رأت ذلك رؤيا، [وقال] بعضهم: هو الوحي حقيقة، وأتاها الملك بهذا من الله، إلا أنها لم تكن نبية.
وقوله: * (أن أرضعيه) اختلف القول في مدة الرضاع، منهم من قال: ثمانية أشهر، ومنهم من قال: أربعة أشهر، ومنهم من قال: ثلاثة أشهر.
وقوله: * (فإذا خفت عليه فألقيه في اليم) الخوف عليه هو لخوف من الذبح.
122

* (وجاعلوه من المرسلين (7) فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون) * *
وقوله: * (فألقيه في اليم) اليم: البحر، والمراد منه هاهنا على قول جميع المفسرين هو النيل، قال ابن عباس: دعت بنجار واتخذت تابوتا، فذهب ذلك النجار وأخبر فرعون، وجاء بالأعوان، فطمس الله على عينه حتى لم يهتد إلى شيء، فعاهد مع الله إن رد عليه بصره ليصرفن الأعوان عنه، فرد الله بصره عليه، فصرف الأعوان، ثم إنه آمن بموسى عليه السلام من بعد، وهو مؤمن آل فرعون، واسمه حزقيل.
وقوله: * (ولا تخافي ولا تحزني) أي: لا تخافي عليه من الغرق، وقيل: من الضيعة، وقوله: * (ولا تحزني) أي: ولا تحزني على فراقه.
وقوله: * (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) ظاهر المعنى، وقد اشتملت الآية على أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين، أما الأمران: فقوله: * (أن أرضعيه)، وقوله: * (فألقيه في اليم)، وأما النهيان: فقوله: * (ولا تخافي ولا تحزني)، وأما الخبران: فقوله: * (وأوحينا إلى أم موسى) وكذلك قوله: * (فإذا خفت عليه) وأما البشارتان: فقوله تعالى: * (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين)، الآية تعد من فصيح القرآن.
قوله تعالى: * (فالتقطه آل فرعون) الالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب. وفي القصة: أن أم موسى وضعت موسى في التابوت، وجاءت به وألقته في النيل، فمر به الماء إلى جانب دار فرعون، وقد كانت الجواري خرجن لاستقاء الماء، فرد الماء التابوت في المشرعة التي يستقون منها، ويقال: تعلق التابوت بالشجر التي كانت ثم، وموسى هو بالعبرية موشى، و ' مو ' هو الماء، و ' شى ' هو الشجر، وسمي موشى؛ لأنه وجد بين الماء والشجر، فأخذت الجواري التابوت، وذهبن به إلى امرأة فرعون، وهي آسية بنت مزاحم، ويقال: إنها كانت من بني إسرائيل، وكان فرعون نكح منهم هذه المرأة.
وقوله: * (ليكون لهم عدوا وحزنا) (هذه اللام لام العاقبة، وقيل: لام الصيرورة، فإنهم ما التقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا)، ولكن صار أمرهم إلى هذا، فذكر
123

* (وهامان وجنودهما كانوا خاطئين (8) وقالت امرأة فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (9) وأصبح فؤاد أم موسى) * * اللام على معنى الصيرورة، وهذا كقول الشاعر:
(أموالنا لذوي الميراث نجمعها
* ودورنا لخراب الدهر نبنيها)
وقوله: * (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) أي: تاركين طريق الحق.
قوله تعالى: * (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك) في الخبر: أن امرأة فرعون حملت الصبي إلى فرعون، وقالت: قرة عين لي ولك، فقال فرعون: قرة عين لك، فأما لي فلا. وفي هذا الخبر أن النبي قال: ' لو قال فرعون قرة عين لي، لهداه الله تعالى كما هدى امرأته ' والخبر غريب.
وفي بعض التفاسير: أن فرعون قصد قتله، وقال: لعله من الأعداء، فاستوهبته امرأته فوهبه لها.
وقوله: * (لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) روي أن آسية لم يكن لها ولد، وقيل: كان يموت أولادها، فقالت: أو نتخذه ولدا لهذا.
وقوله: * (وهم لا يشعرون) أي: لا يعلمون حقيقة الأمر.
قوله تعالى: * (وأصبح) قيل: وأصبح أي: صار، ويقال: هو على حقيقته، واستعماله في هذا الموضع على طريق المجاز، ومعناه: أصبحت أم موسى وفؤادها فارغا، واختلف القول في قوله * (فارغا) الأكثرون على أن المراد به فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى والوجد عليه، هذا قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد
124

* (فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين (10) وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون (11) وحرمنا عليه المراضع من) * * وقتادة والضحاك وغيرهم.
والقول الثاني: أن قوله: * (فارغا) أي: فارغا من الحزن عليه لعلمها بصدق وعد الله تعالى، وهذا قول أبي عبيدة، وأنكر القتيبي وغيره هذا القول، وقالوا: كيف يصح هذا والله تعالى يقول: * (إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها)؟ والقول الثالث: ' فارغا ' أي: ناسيا للوحي الذي أنزل عليها، والعهد الذي أخذ عليها بألا تحزني من شدة البلية عليه، وهذا معنى قول الحسن، وقرئ في الشاذ: ' فزعا '، وقد بينا أن معنى قوله: * (فأصبح) أي: صار، وأنشدوا في هذا شعرا:
(مضى الخلفاء بالأمر الرشيد
* وأصبحت المذمة للوليد)
وقوله: * (إن كادت لتبدي به) قال ابن عباس: كادت تقول: يا إبناه.
وقوله: * (لولا أن ربطنا على قلبها) أي: بالصبر، وقيل: بالإيمان بالوعد، وقيل: بالعصمة.
وقوله: * (لتكون من المؤمنين) أي: من المصدقين، وقوله تعالى: * (وقالت لأخته قصيه) في القصة: أن اسم [أخته] كانت مريم، وقوله: * (قصيه) أي: اتبعي أثره، ومنه القصص؛ لأنها رواية يتبع بعضها بعضا.
وقوله: * (فبصرت به عن جنب) أي: [عن بعد]، وقيل: عن جانب، وفي القصة: أنها كانت تمشي جانبا، وتنظر مختلسة وتري الناس أنها لا تنظر.
وقوله: * (وهم لا يشعرون) أي: لا يشعرون أن هلاكهم على يد موسى، وقيل: وهم لا يعلمون أن الصبي موسى، وأن طالبه أمه وأخته، وأنشدوا قول الشاعر عن
جنب بمعنى بعد:
125

* (قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون (12) فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (13)) * *
(فلا تسألني نائلا عن جنابة
* فإن امرؤ وسط القباب غريب)
قوله تعالى: * (وحرمنا عليه المراضع من قبل) أي: منعناه من قبول الرضاع، وليس المراد من التحريم هو التحريم الشرعي؛ وإنما المراد من التحريم هو المنع، قال امرؤ القيس شعرا:
(جالت لتصرعني فقلت لها اقصري
* إني امرؤ صرعى عليك حرام)
أي: ممتنع، وفي القصة: أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا، ويصيح وهم في طلب مرضعة له.
وقوله: * (فقالت هل أدلكم) يعني: قالت أخت موسى: هل أدلكم * (على أهل بيت يكفلونه لكم)؟.
وقوله: * (وهم له ناصحون) أي: عليه مشفقون، والنصح ضد الغش، وقيل: النصح تصفية العمل من شوائب الفساد، ومنه قوله: ' إلا إن الدين النصيحة. قيل: لمن؟ قال: لله ولرسوله وكتابه والمؤمنين ' والخبر ثابت، رواه تميم الداري.
وفي لقصة: أن قوم فرعون استرابوا بقول أخت موسى فقالوا: [إنك] تعرفينه، وإلا فما معنى نصحك له؟ فألهمها الله تعالى حتى قالت: قلت هذا رغبة في سرور الملك واتصالنا به، وروي أن أم موسى لما أتي بها، ووجد موسى ريحها، (نزا) إلى ثديها فجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريا، وقال السدي: كانوا يعطونها كل يوم دينارا.
126

* (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (14) ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من) * *
وقوله: * (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها) أي: تقر عينها برد موسى إليها * (ولا تحزن) أي: ولئلا تحزن.
وقوله: * (ولتعلم أن وعد الله حق) لأنه كان قد وعدها أنه يرده إليها.
وقوله: * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي: لا يعلمون أن وعد الله حق.
قوله تعالى: * (ولما بلغ أشده) قال ابن عباس: الأشد: ثلاثون سنة، وعن سفيان الثوري: أربع وثلاثون سنة، وقيل: ثلاث وثلاثون سنة، وقيل خمس وعشرون سنة، وقيل: عشرون سنة، وقيل: [ثماني عشرة] سنة.
وقوله: * (واستوى) قال ابن عباس: أربعون سنة، وعن غيره: * (استوى) أي: انتهى شبابه.
وقوله: * (آتيناه حكما وعلما) أي: الفقه والعقل والعلم.
وقوله: * (وكذلك نجزي المحسنين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ودخل لمدينة) في التفسير: أن المدينة كانت مدينة عين شمس، وقيل: مدينة منف، وعن السدي قال: كان موسى يركب من مراكب فرعون، ويلبس من ملابسه، وكان يسمى ابن فرعون، فركب فرعون مرة في حشمه إلى بعض المدائن، وكان موسى غائبا فرجع وقد ركب فرعون، فركب في أثره، فوصل إلى المدينة وقت القائلة، وقد اشتغل الناس بالقيلولة، فهو معنى قوله: * (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) أي: غفلوا عن ذكر موسى.
وقوله: * (فوجد فيها رجلين يقتتلان) في القصة: أنه وجد قبطيا يسخر إسرائيليا في حمل الحطب إلى مطبخ فرعون، وقوله: * (يقتتلان) أي: يختصمان ويتنازعان، وقوله: * (هذا من شيعته وهذا من عدوه) أي: الإسرائيلي من شيعته، والقبطي من
127

* (عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (15) قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم (16) قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) * * عدوه، وكانت بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم، ويقال: * (هذا من شيعته وهذا من عدوه) أي: هذا مؤمن وهذا كافر.
وقوله: * (فاستغاثه الذي من شيعته) الاستغاثة: طلب المعونة، وقوله: * (فوكزه موسى) قرأ (ابن مسعود): ' فلكزه موسى ' واللكز والوكز (واحد، وهو الضرب بجمع الكف، وقيل الوكز هو الضرب في الصدر، واللكز) هو الضرب في الظهر. وفي بعض التفاسير: (أن موسى) عقد ثلاثا وثمانين وضربه ضربة به في صدره، وكان شديد البطش، فقتل الرجل، فهو معنى قوله: * (فقضى عليه) أي: قتله، يقال: قضى فلان أي: مات. فإن قيل: كيف يجوز هذا على موسى؟ قلنا: وهو لم يقصد القتل، وإنما وقع القتل خطأ، وكان قصده استنقاذ الإسرائيلي من ظلمه.
وقوله: * (قال هذا من عمل الشيطان) أي: من تزيينه، وقوله: * (إنه عدو مضل مبين) أي: مضل بين الضلالة، قوله تعالى: * (قال رب إني ظلمت نفسي)
يعني: بقتل القبطي من غير أمره * (فاغفر لي) أي: فاغفر لي بما عملت.
وقوله: * (فغفر له إنه هو الغفور الرحيم) أي: غفر الله له، إن الله غفور رحيم.
قوله تعالى: * (قال رب بما أنعمت علي) مننت علي بالمغفرة.
وقوله: * (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) أي: معاونا للمجرمين، وفي بعض التفاسير: أن قوله: * (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) كانت زلة من موسى حين لم يقرن به مشيئة الله أو الاستغاثة من الله، وقلما يقول الإنسان هذا القول، ويطلق هذا الإطلاق إلا ابتلى، فابتلى موسى في اليوم الثاني ما ذكره الله تعالى، وهو قوله تعالى:
128

(* (17) فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين (18) فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد) * * * (فأصبح في المدينة خائفا يترقب). قال سعيد بن جبير: يلتفت ويقال: ينتظر الطلب، وفي القصة: أن موسى حين قتل ذلك الرجل لم يره أحد، ودفن لرجل في الرمل. وروي أن قومه وجدوه قتيلا، فجاءوا إلى فرعون وذكروا له ذلك. فقال: اطلبوا قاتله لأقيده به، فجعلوا يطلبونه وموسى يخاف.
وقوله: * (فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه) أي: يستغيث به ويصيح به من بعد، وكان ذلك الإسرائيلي سخره قبطي آخر، فبصر به موسى فطلب منه المعونة.
وقوله: * (قال له موسى إنك لغوى مبين) الأكثرون أن هذا قاله موسى للإسرائيلي، فإنه كان أغواه أمس أي: أوقعه في الغواية، فمعنى قوله: * (غوى): موقع في الغواية.
وقوله: * (مبين) أي: بين، ويقال: إن هذا قاله للقبطي، والأصح هو الأول.
قوله تعالى: * (فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما) في التفسير: إن موسى أدركته الرقة والرحمة للإسرائيلي، فقصد أن يبطش بالقبطي، فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به؛ لأنه كان قال له: ' إنك لغوى مبين '.
وقوله: * (قال يا موسى أتريد أن تقتلني) يعني: قال الإسرائيلي: * (كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد) أي: ما تريد * (إلا أن تكون جبارا في الأرض)، أي: تقتل على الغضب، وكل من قتل على الغضب فهو جبار، ويقال: من قتل نفسين بغير حق فهو من جبابرة الأرض.
وقوله: * (وما تريد أن تكون من المصلحين) أي: الرافقين بالناس، وفي القصة: أن الإسرائيلي لما قال هذا وسمعه القبطي، عرف أن الذي قتل بالأمس إنما قتله موسى، فمر إلى فرعون وذكر له ذلك، فبعث في طلب موسى ليقتله به.
قوله تعالى: * (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) يقال: كان اسمه شمعون، ويقال: شمعان، وقيل: هو (حزقيل) مؤمن [من] آل فرعون.
129

* (أن تكون من المصلحين (19) وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأخرج إني لك من الناصحين (20) فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين (21) ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن) * *
وقوله: * (قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك) أي: يتشاورون في قتلك، وقيل: يأمر بعضهم بعضا بقتلك، وقيل: إن فرعون قال: أين وجدتموه فاقتلوه.
وقوله: * (فأخرج إني لك من الناصحين) أي: من الناصحين لك في الأمر بالخروج، والنصح للإنسان هو الإشارة عليه بما يصلح أمره، وقد كان السلف يطلب هذا بعضهم من بعض. قال أبو بكر رضي الله عنه حين خطب: إن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني. وروي أن رجلا قال لعمر: اتق الله يا عمر، فأنكر عليه بعضهم، فقال عمر: دعه، فما نزال بخير ما قيل لنا هذا. وعن بعضهم أنه قيل له: أتريد أن تنصح؟ قال: أما سرا فنعم، وأما جهرا فلا.
قوله: * (فخرج منها خائفا يترقب) أي: ينتظر الطلب، وفي القصة: أن فرعون بعث لطلبه حين أخبر بهربه، وقال: اركبوا ثنيات الطريق، فإنه لا يعرف كيف الطريق.
وروي أنه خرج متوهجا لا يدري أين ذهب، فبعث الله تعالى ملكا حتى هداه إلى الطريق، وفي بعض التفاسير: أنه خرج حافيا يعدو ثمان ليال ليس معه زاد، قال ابن عباس: وهو أول ابتلاء من الله لموسى يسقط خف قدمه، وجعل يأكل البقل حتى كان يرى خضرته في بطنه.
وقوله: * (قال رب نجني من القوم الظالمين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ولما توجه تلقاء مدين) أي: قبل مدين.
وقوله: * (قال عسى ربي أن يهديني) أي: يرشدني ربي * (سواء السبيل) أي: وسط الطريق، ووسط الطريق هو السبيل الذي يوصل إلى المقصود، ومدين اسم رجل نسبت البلدة إليه، قال الشاعر في المدائن:
130

* (يهديني سواء السبيل (22) ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ) * *
(رهبان مدين لو رأوك تنزلوا
* والعصم من شعف العقول الفادر)
وقال أهل المعاني: التوجه إلى جهة من الجهات.
وقوله: * (تلقاء مدين) قال أبو عبيدة: نحو مدين.
وقوله: * (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) قال مجاهد: طريق مدين.
قوله تعالى: * (ولما ورد ماء مدين) يعني: لما ورد موسى ماء مدين، وهو بئر كانوا يسقون منها أغنامهم ومواشيهم.
وقوله: * (وجد عليه أمة من الناس يسقون) أي: جماعة.
وقوله: * (ووجد من دونهم امرأتين) أي: سوى الجماعة امرأتين، وقيل: بعيدا من الجماعة امرأتين.
وقوله: * (تذودان) أي: تحبسان وتكفان أغنامهما من مخالطة أغنام الناس.
وقال قتادة: تزودان أي: تكفان الناس عن أغنامهما، قال الشاعر:
(فقد سلبت عصاك بنو تميم
* فلا أدري بأي عصا تذود)
وأنشد قطرب شعرا:
(أبيت على باب القوافي كأنما
* أذود بها سربا من الوحش نزعا)
وقوله: * (ما خطبكما) أي: قال موسى للمرأتين: ما خطبكما؟ أي: ما شأنكما؟ والخطب: الأمر المهم، وإنما سأل هذا عنهما؛ لأنهما لا تسقيان الغنم مع الناس.
وقوله: * (قالتا لا نسقي) يعني: لا نسقي غنمنا، وقوله: * (حتى يصدر الرعاء) (وقرئ: ' حتى يصدر الرعاء ' فقوله: * (حتى يصدر الرعاء) أي: يرجع الرعاء بأغنامهم، وقوله: * (حتى يصدر الرعاء)). أي: يصدر الرعاء أغنامهم، قال
131

(كبير (23) فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير (24) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما) * * قتادة. كانتا تسقيان أغنامهما ما تفضل من مياه القوم. وقال بعضهم: لم تسقيا أغنامهما كراهة مزاحمة الرجال.
وقوله: * (وأبونا شيخ كبير) لا يقدر على سقي الغنم، كأنهما جعلتا ذلك عذرا لهما، وقيل: إنما قالتا ذلك استعطافا لقلب موسى حتى يسقيهما، قال ابن عباس: وصل موسى أي: ماء مدين وخضرة البقل يرى في أمعائه من الهزال.
وقوله: * (فسقى لهما) في القصة: أن القوم رجعوا بأغنامهم، وغطوا رأس البئر بحجر، لا يرفعه إلا عشرة نفر، فجاء موسى ورفع الحجر وحده، وسقى غنم المرأتين. ويقال: إنه نزع ذنوبا ودعا فيه بالبركة، فروى منه جميع الغنم. وذكر ابن إسحاق: أن موسى زاحم القوم وأخرهم، ونحاهم عن رأس البئر وسقى غنم المرأتين.
وقوله: * (ثم تولى إلى الظل) يقال: كان ظل شجرة، ويقال: كان ظل حائط بلا سقف.
وقوله: * (فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) أجمع المفسرون على أنه طلب من الله الطعام لجوعه، قال ابن عباس فلقة خبز، أو قبضة تمر. وقال سعيد بن جبير: لم يكن على وجه الأرض أكرم منه، وكان محتاجا إلى شق تمرة. وقال مجاهد: طلب الخبز. وفي بعض الآثار: أن الله تعالى أخرج للخبز بركات السماوات والأرض. وعن بعضهم: لولا الخبز ما عبد الله. والعرب تسمي الخبز جابرا، قال بعضهم شعرا:
(لا تلوموني ولوموا جابرا
* فجابر كلفني الهواجرا)
يعني: العمل بالهاجرة.
قوله تعالى: * (فجاءته إحداهما) في الآية حذف، وهو أن المرأتين رجعتا إلى أبيهما، وأكثر أهل التفسير أن أباهما كان هو: شعيب النبي عليه السلام وقال الحسن البصري: هو رجل ممن آمن بشعيب، وقال بعضهم: هو ابن أخي شعيب، فلما
132

* (سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين (25) قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين (26) قال إني أريد) * * رجعتا إلى أبيهما بسرعة أنكر رجوعهما، فذكرتا له قصة الرجل، فبعث إحداهما في طلبه.
وقوله: * (تمشي على استحياء) روى عمرو بن ميمون، عن عمر أنه قال: ليبست بسلفع من النساء، ولا خراجة ولا ولاجة، ولكن وضعت كمها على وجهها استحياء.
وقوله: * (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) أي: ليطعمك ويثيبك أجر ما سقيت لنا أي: عوض ما سقيت لنا. قال أبو حازم سلمة بن دينار: لما سمع موسى هذا أراد ألا يذهب ولكن كان جائعا، فلم يجد بدا من الذهاب، فمشت المرأة ومشى موسى خلفها، فجعلت الريح تضرب ثوبها، وتصف عجيزتها، فكره موسى ذلك، فقال: يا أمة الله، امشي خلفي وصفي لي الطريق، ففعلت كذلك، فلما وصل موسى إلى دار شعيب، فإذا العشاء تهيأ، فقال: يا شاب، اجلس، فكل، فقال:
معاذ الله، إنا أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضا من الدنيا، فقال له شعيب: إن هذا عاداتي وعادات آبائي، نقري الضيف ونطعم الطعام، فجلس وأكل. هذا كله قول أبي حازم.
وقوله: * (فلما جاءه وقص عليه القصص) يعني: ما لقي من فرعون وأمره من أوله إلى آخره.
وقوله: * (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) إنما قال هذا؛ لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين، والظالمين: فرعون وقومه.
قوله تعالى: * (قالت إحداهما يا أبت استأجره) أي: استأجره لرعي الغنم. وفي القصة: أن شعيبا قال لابنته: وما علمك بقوته وأمانته؟ فقالت: أما قوته فلأنه حمل حجرا لا يحمله إلا عشرة من الرجال، وأما أمانته فإنه قال لي: امش خلفي لئلا تصف
133

* (أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين (27) قال ذلك بيني) * * الريح بدنك، ويقال: القوى فيما ما يلي، والأمين فيما يستودع.
قوله تعالى: * (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) أكثر أهل التفسير: أنه زوجه الصغرى منهما، واسمها صفوراء، وهي التي ذهبت لطلب موسى.
وقوله: * (على أن تأجرني) أي: تكون أجيري، وقيل: على أن تثيبني. * (ثماني حجج) أي: ثمان سنين.
قوله: * (فإن أتممت عشرا فمن عندك) يعني: هو تبرع من عندك.
وقوله: * (وما أريد أن أشق عليك) أي: ما ألزمك تمام العشرة إلا أن تتبرع.
وقوله: * (ستجدني إن شاء الله من الصالحين) أي: الرافقين بك، وهو مثل قوله تعالى: * (قال اخلفني في قومي وأصلح) أي: ارفق.
قوله تعالى: * (قال ذلك بيني وبينك) أي: هذا الشرط بيني وبينك. * (أيما الأجلين قضيت) أي: أي الأجلين قضيت، و ' ما ' صلة.
وقوله: * (فلا عدوان علي) أي: لا أطلب بالزيادة، وقوله: * (والله على ما نقول وكيل) أي: شاهد، وقيل: حفيظ. وقد روي عن النبي أنه قال: ' أجر موسى نفسه بطعمة بطنه وعفة فرجة '. وفي بعض الأخبار: أن النبي سئل: أي
134

* (وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل (28) فلما قضى) * * الأجلين وفى موسى؟ قال: ' أكملهما وأتمهما '.
وروى شداد بن أوس عن النبي: ' أن شعيبا بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، (ثم بكى حتى عمي، فرد الله عليه بصره)، ثم بكى حتى عمي، فقال الله تعالى: لم تبك يا شعيب؟ أخوفا من النار أو طمعا في الجنة؟ فقال: لا يا رب، ولكن أحبك وقال بعضهم: شوقا إلى لقائك قال: يا شعيب، ولذلك أخدمتك موسى كليمي ' والخبر غريب.
وأما قصة العصا: إن شعيبا قال لابنته: أعطي موسى عصا ليتقوى بها على رعي الغنم، وكان عنده عصا أودعها ملك منه، فدخلت بنت شعيب، ووقعت هذه العصا بيدها وخرجت بها، فقال شعيب: ردي هذه العصا، وخذي عصا أخرى، فردتها، وأرادت أن تأخذ عصا أخرى فوقعت بيدها هذه العصا، هكذا ثلاث مرات، فسلم
135

* (موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا) * * شعيب العصا إلى موسى، وخرج موسى بالعصا، ثم إن الشيخ ندم فذهب في أثره، وطلب منه أن يرد العصا إليه، وأبي موسى، فقالا: نتحاكم إلى أول من يلقانا، فلقيهما ملك في صورة رجل، (فحكم بأن يطرح) العصا، فمن أطاق حملها فهي له، فطرح موسى العصا، فجاء شعيب ليأخذها فلم يطق حملها، وجاء موسى فأخذها وذهب بالعصا. أورد هذا وهب وابن إسحاق وغيرهما.
قوله تعالى: * (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله) في القصة: أن موسى لما أتم الأجل وسلم شعيب ابنته إليه، قال موسى للمرأة: اطلبي من أبيك ليجعل بعض الغنم لنا، فطلبت من أبيها ذلك، فقال شعيب: كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها، وقيل: كلما ولدت بلقاء فهي لكما، فجاء موسى إلى الماء الذي تشرب منه الغنم، ووضع العصا في الماء، وروي أنه كلما شربت شاة من الغنم فجعل يضرب جنبها بالعصا، فولدت ذلك العام كلها على غير شيتها، وقال: ولدت بلقاء، ثم إن موسى عليه السلام استأذن من شعيب ليرجع إلى مصر، يزور والدته وأخاه، فأذن له، فسار بأهله إلى جانب مصر.
وقوله: * (آنس من جانب الطور نارا) روي أن موسى كان رجلا غيورا، وكان يصحب الرفقة بالليل، ويفارقهم بالنهار، فلما كانت الليلة التي أراد الله كرامته فيها، أخطأ الطريق؛ لأن الظلمة اشتدت واشتد البرد، وانقطع عن الرفقة فجعل يقدح الزند فلا يورى، ثم إنه أبصر نارا من قبل الطور، وكان نورا ولم تكن نارا، فهو معنى قوله تعالى: * (آنس من جانب الطور نارا) أي: أبصر.
وقوله: * (قال لأهله امكثوا إني آنست نارا) أي: أبصرت نارا.
136

* (لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون (29) فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) * *
قوله تعالى: * (لعلي آتيكم منها بخبر) أي: بخبر عن الطريق؛ لأنه قد أخطأ الطريق، وقوله: * (أو جذوة من النار) أي: قطعة من النار، وقيل: عود في رأسه نار.
وقوله: * (لعلكم تصطلون) أي: (تصطلون) بها فتذهب عنكم البرد، ويقال: أحسن من الصلى في لشتاء.
قوله تعالى: * (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن) أي: يمين موسى، والشاطئ هو الجانب.
وقوله: * (في البقعة المباركة) سمى البقعة المباركة لأن الله تعالى كلم موسى فيها، فإن قيل: فلم لم يسم الشجرة مباركة وقد قال: * (من الشجرة)؟ قلنا: لأنه إذا ذكرت البركة في البقعة، فقد ذكرت في الشجرة، فذكر البقعة؛ لأنها أعم.
وقوله: * (من الشجرة) قالوا: كانت شجرة العوسج هي أول شجرة غرست في الأرض، وقيل: شجر العليق.
وقوله: * (أن يا موسى إني انا الله رب العالمين) أي: رب الجن والإنس والملائكة والخلائق أجمعين.
وقوله: * (من الشجرة) قال الزجاج والنحاس وغيرهما: كلم الله موسى من الشجرة بلا كيف. وعن الضحاك: من نحو الشجرة. وعند المعتزلة: أن الله تعالى خلق كلاما في الشجرة، فسمع موسى ذلك الكلام، وهذا عندنا باطل، وذلك لأن الله تعالى هو الذي كلم موسى على ما ورد به النص، وإذا كان على هذا الوجه الذي قالوا فيكون الله خالقا لا مكلما؛ لأنه يقال: خلق فهو خالق، ولا يقال: خلق فهو مكلم.
وفي القصة: أن موسى لما رأى النار، ترك أهله وولده، وتوجه نحو النار، فبقي أهله
137

((30) * وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين (31) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) * * في ذلك المكان ثلاثين سنة، حتى مر بها راع فرآها حزينة باكية، فردها إلى أبيها، ذكره النقاش في تفسيره.
وقوله: * (إني أنا الله رب العالمين) قد بينا من قبل، قوله تعالى: * (وأن ألق عصاك) وفي القصة: أن العصا كان من آس الجنة، وقعت إلى آدم، ثم من آدم إلى نوح، ثم من نوح إلى إبراهيم، ثم من إبراهيم إلى شعيب، وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته، وكان مكتوبا عليها بالسريانية أنا الأول أنا الآخر أنا الحي الذي لا يموت أبدا.
وقوله: * (فلما رآها تهتز) أي: تتحرك * (كأنها جان) الجان: الحية الصغيرة، والثعبان: الحية العظيمة.
وقد ذكرنا التوفيق بين الآيتين، قد قال بعضهم: كان في ابتداء الأمر حية صغيرة، ثم صارت تعظم حتى صارت ثعبانا.
وقوله: * (ولى مدبرا) أي: من الخوف، فإن قيل: لم خاف موسى وهو في مثل ذلك المقام؟ قلنا: لأنه رأى شيئا بخلاف العادة، ومن رأى شيئا بخلاف العادة فخاف عذر، وقد روي أنها لما صارت حية ابتلعت ما حولها من لصخور والأشجار، وسمع موسى لأسنانها صريفا عظيما، فهرب.
وقوله: * (ولم يعقب) أي: لم يلتفت، وقوله: * (يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (اسلك يدك في جيبك) أي: أدخل يدك في جيبك، وفي القصة: أنه كانت عليه مدرعة مصرية من صوف.
وقوله: * (تخرج بيضاء من غير سوء) يقال: خرجت ولها شعاع كضوء الشمس.
وقوله: * (واضمم إليك جناحك من الرهب) حكى عطاء عن ابن عباس أن
138

3 * (واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين (32) قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون (33) وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون (34)) * * معناه: ضع يدك على صدرك. والجناح: اليد، قال: وما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه. وذكر الفراء في كتابه: أن الجناح هاهنا هو لعصا، ومعناه: اضمم إليك عصاك. ومن المعروف أن الجناح هو العضد، وقيل: جميع اليد، وقيل: ما تحت الإبط، والخائف إذا ضم إليه يده خف خوفه. وعن أبي عمرو بن العلاء أن الرهب هو الكم به، فيكون معنى الآية على هذا: واضمم إليك عصاك ويدك التي في كمك فقد جعلناها آيتين لك، ويقرأ: ' من الرهب ' وقيل: الرهب والرهب بمعنى واحد كالرشد والرشد، والمعنى الظاهر فيه أنه الخوف.
وقوله: * (فذاناك برهانان من ربك) أي: آيتان وحجتان من ربك.
وقوله: * (إلى فرعون وملئه) يعني: وأتباعه.
وقوله: * (إنهم كانوا قوما فاسقين) أي: خارجين عن الطاعة.
وقوله تعالى: * (قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون) يعني: القبطي.
وقوله: * (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا) قال أهل التفسير: كان في لسان موسى عقدة من الوقت الذي أخذ بلحية فرعون، وأخذ الجمرة بعد ذلك وألقاه في فيه على ما ذكرنا من قبل.
وقوله: * (فأرسله معي ردءا) أي: عونا. * (يصدقني) أي مصدقا لي، وقرئ: ' يصدقني ' بسكون القاف أي: إن كذبوني هو يصدقني.
وقوله: * (إني أخاف أن يكذبون) يعني: فرعون وقومه.
139

* (قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون (35) فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (36) وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من) * *
قوله تعالى: * (قال سنشد عضدك بأخيك) وهذا على طريق التمثيل؛ لأن قوة اليد بالعضد. وفي الكلام المنقول من العرب أن رجلا قيل له: مات أبوك، قال: ملكت نفسي، قيل له: مات ولدك، قال: تفرغ قلبي، قيل: ماتت زوجتك، قال: تجدد فراشي، قيل: مات أخوك، قال: وانفصام ظهراه، وقال الشاعر:
(أخاك أخاك إن من لا أخا له
* كساع إلى لهيجا بغير سلاح)
(وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه
* وهل ينهض البازي بغير جناح؟!)
وقدم الله الأخ على سائر الأقارب في قوله تعالى: * (يوم يفر المرء من أخيه) لأن الإنسان إلى أخيه أميل، وبه آنس، وإليه أسكن.
وقوله: * (ونجعل لكم سلطانا) أي: حجة.
وقوله: * (فلا يصلون إليكما بآياتنا) أي: لا يصلون إليكما لمكان آياتنا، ويقال: في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: ونجعل لكما سلطانا بآياتنا فلا يصلون إليكما.
وقوله: * (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) الغالبون لفرعون وقومه.
وقوله تعالى: * (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات) أي: واضحات.
وقوله: * (قالوا ما هذا إلا سحر مفترى) أي: مختلق.
وقوله: * (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) أي: الذين مضوا.
وقوله تعالى: * (وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده) يعني: أعلم
140

* (عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (37) وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين (38) واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق) * * بمن جاء بالهدى، فأنا الذي جئت بالهدى من عنده.
وقوله: * (ومن تكون له عاقبة الدار) أي: وأعلم بمن تكون له عاقبة الدار، وهي الجنة.
وقوله: * (إنه لا يفلح الظالمون) أي: لا يسعد من أشرك بالله.
قوله تعالى: * (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) يقال: إنه كان بين قول هذا وبين قوله: * (أنا ربكم الأعلى) أربعون سنة.
وقوله: * (فأوقد لي يا هامان على الطين) أي: اطبخ لي الطين حتى يصير آجرا، ويقال: إنه أول من اتخذ الآجر.
وقوله: * (فاجعل لي صرحا) أي: قصرا عاليا، وقيل: منارة.
وقوله تعالى: * (لعلي أطلع إلى إله موسى) أي: أناله وأصيبه.
وفي القصة: أن طول الصرح كان شيئا كبيرا. ذكر في بعض التفاسير: أن صرح فرعون كان طوله خمسة آلاف ذراع وخمسين ذراعا، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع ونيف.
وكان فرعون لا يقدر أن يقوم على أعلاه؛ مخافة أن تنسفه الريح، وذكر السدي أن فرعون علا ذلك الصرح، ورمى بنشابة إلى السماء، فرجعت إليه متلطخة بالدم، فقال: قد قتلت إله موسى.
وقوله: * (وإني لأظنه من الكاذبين) أي: لأظنه من الكاذبين في زعمه أن للأرض والخلق إلها غيري.
141

* (وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (40) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون (41) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين (42) ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) * *
قوله تعالى: * (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون) أي: لا ينقلبون.
قوله تعالى: * (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) أي: طرحناهم في البحر.
وقوله: * (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) يعني: فرعون وقومه.
قوله تعالى: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) أي: قادة.
وقوله: * (ويوم القيامة لا ينصرون) أي: لا يمنعون من العذاب.
وقوله تعالى: * (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) أي: أتبعنا العذاب في الدنيا لعنة.
وقوله: * (ويوم القيامة هم من المقبوحين) أي: المعذبين، ويقال من المشبوهين أي: بسواد الوجه وزرقة العين.
قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب) أي: التوراة، وقوله: * (من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) وهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وغيرهم.
وقوله: * (بصائر للناس) أي: دلالات للآخرين.
وقوله: * (وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) أي: يتعظون بالدلالات.
قوله تعالى: * (وما كنت بجانب الغربي) أي: ما كنت بناحية الجبل مما يلي الغرب، وقوله: * (إذا قضينا إلى موسى الأمر) أي: أحكمنا مع موسى الأمر، وذلك
بإرساله إلى فرعون وقومه.
142

(* (43) وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين (44) ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين (45) وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك) * *
وقوله: * (وما كنت من الشاهدين) أي: الحاضرين ذلك المقام، ومعنى هذا: أنك لم تكن تكن شاهدا ولا حاضرا ذلك المقام، وهذا العلم لك من قبلنا.
قوله تعالى: * (ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر) روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: ما أهلك الله تعالى أمة من الأمم بعد إنزاله التوراة على موسى غير القرية التي اعتدت في السبت، فمسخوا، يعني: أهل القرية.
وقوله: * (وما كنت ثاويا) أي: مقيما * (في أهل مدين).
وقوله: * (تتلوا عليهم آياتنا) وقال هذا لأن شعيبا كان يتلوا عليهم آيات الله، وقيل: هذا كان موسى، والأول أظهر، وقوله: * (ولكنا كنا مرسلين) أي: نحن الذين أرسلناهم.
قوله تعالى: * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في معنى هذه الآية: إن الله تعالى قال: يا أمة محمد، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وأجبتكم قبل أن تدعوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني. فهذا هو معنى النداء، ونقل بعضهم هذا مسندا إلى النبي.
وقال مقاتل بن حيان: معنى قوله: * (نادينا) هو أنه قال لهذه الأمة، وهم في
143

* (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (46) ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين (47) فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا مثل أوتي موسى أو لم يكفروا بما) * * أصلاب آبائهم: آمنوا بمحمد إذا بعثته.
وفي القصة: أن موسى لما سمع هذا من الله تعالى: قال: يا رب، إنما جئت لوفادة أمة محمد.
وقوله: * (ولكن رحمة من ربك) قد ثبت عن النبي أنه قال: ' إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق آدم بألفي عام، وهو عنده فوق عرشه: سبقت رحمتي غضبي '.
وقوله تعالى: * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين) معنى الآية: أنهم لولا قولهم هذا، واحتجاجهم بترك إرسال الرسل، وإلا لعاجلناهم بالعقوبة، ومنهم من قال: في الآية تقديم وتأخير، وتقدير الآية: ولولا أنهم يقولون: لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك، ونكون من المؤمنين، لأصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم، والمصيبة: العقوبة.
قوله تعالى: * (فلما جاءهم الحق من عندنا) في الحق قولان: أحدهما: أنه محمد، والآخر: أنه القرآن.
144

* (أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون (48) قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين (49) فإن لم يستجيبوا لك) * *
وقوله: * (قالوا) يعني: قال المشركون * (لولا أوتي) أي: هلا أوتي * (مثل ما أوتي موسى) أي: من العصا، واليد البيضاء.
وقوله: * (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل) يعني: أن المشركين كفروا بموسى.
وقوله: * (قالوا ساحران تظاهرا) يعني: موسى ومحمدا، وقال مجاهد: موسى وهارون. وقرئ: ' سحران تظاهرا ' واختلف القول في لسحرين، أحد القولين: أنهما التوراة والقرآن، والآخر: التوراة والإنجيل.
وقوله: * (تظاهرا) أي: تعاونا، وهذا في الساحرين حقيقة، وفي السحرين على طريق التوسع، وقوله: * (قالوا إنا بكل كافرون) أي: جاحدون.
وقوله تعالى: * (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما) يعني: من التوراة والقرآن.
وقوله: * (أتبعه) يعني: اتبع (الكتاب) الذي جئتم به من عند الله.
وقوله: * (إن كنتم صادقين) معناه: أن الحق معكم.
قوله تعالى: * (فإن لم يستجيبوا لك) أي: لم يأتوا بما طلبت، وقوله: * (فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) واتفق أهل المعرفة أن الهوى مرد مهلك.
وقد روي عن النبي أنه قال: ' إن أخوف ما أخاف عليكم شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه '.
145

* (فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين (50) (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون (51) الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون (52) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا) * *
وقوله: * (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) أي: بغير بيان من الله، وفي الآية دلالة على أنه يجوز أن يكون الهوى موافقا للحق، وإن كان نادرا. وروي أن بعض المشايخ سئل عن هوى وافق حقا، فقال: هو الزبد بالنرسيان، والنرسيان نوع من التمر بالبصرة أجود ما يكون.
وقوله: * (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) أي: المشركين، وفي الآية دليل على أن النبي طلب منهم أن يأتوا بكتاب مثل كتابه، وتحداهم بذلك مرارا، ولم يأتوا به، ولو قدروا لأتوا به، ولو ببذل النفوس والأموال، ولو أتوا به لعرف ذلك، وسارت به الركبان.
قوله: * (ولقد وصلنا لهم القول) أي: ذكرنا لهم إهلاك الأمم الماضية، فاتصل بعضهم ببعض من الكفر، واتصل عذاب بعضهم ببعض.
وقوله تعالى: * (لعلهم يتذكرون) أي: [يتعظون].
قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب من قبله) قال سعيد بن جبير: هؤلاء قوم من مؤمني الحبشة، آمنوا بالنبي، وقدموا المدينة، وجاهدوا معه.
وعن [ابن] عباس قال: نزلت الآية في ثمانين من أهل الكتاب، وأربعون من نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من الشام.
وقال بعضهم: نزلت الآية في قوم كانوا يطلبون الدين قبل لنبي، فلما بعث آمنوا به، وقالوا: كان فيهم عبد الله بن سلام، وسلمان، والجارود العبدري وغيرهم.
وقوله: * (هم به يؤمنون) بالكتاب، وقيل: بمحمد.
قوله تعالى: * (وإذا يتلى عليهم) يعني: القرآن * (قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا
146

* (كنا من قبله مسلمين (53) أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون (54) وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا) * * كنا من قبله مسلمين) أي: موحدين.
قوله تعالى: * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) يعني: أجر الإيمان بالكتاب الأول، وأجر الإيمان بالكتاب الثاني.
وقد ثبت برواية أبي موسى الأشعري عن النبي أنه قال: ((ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل آمن بالكتاب الأول، والثاني عبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل له جارية فأدبها وأحسن تأديبها،، وعلمها وأحسن تعليمها، ثم أعتقها وتزوجها '.
وفي التفسير: أن أهل الكتاب الذين آمنوا فاخروا أصحاب النبي بهذه الآية، وقالوا: إن الله تعالى يؤتي أجرنا مرتين، ويؤتيكم الأجر مرة، فأنزل الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) الآية.
وقوله: * (بما صبروا) أي: صبروا على الحق، ولم يزيغوا عنه، وقوله: * (ويدرءون بالحسنة السيئة) أي: بقول لا إله إلا الله الشرك، ويقال: بالمعروف المنكر، وبالخير الشر، ويقال: وبالحلم جهل الجاهل.
وقوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) أي: ينفقون في طاعة الله.
وروي أن القوم الذين آمنوا من الحبشة لما قدموا المدينة، وجاهدوا، واستئذنوا من النبي أن يرجعوا إلى الحبشة، ويحملوا أموالهم، فأذن لهم، فذهبوا وحملوا الأموال، وأنفقوا.
وقوله تعالى: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) أي: الكلام الباطل، وقيل: إن
147

* (ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين (55) إنك لا تهدي من أحببت ولكن) * * المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب، ويقولون: تبا لكم، تركتم دينكم واتبعتم غلاما منا. فهو معنى اللغو المذكور في الآية.
وقوله: * (وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) أي: لنا ديننا، ولكم دينكم، وقيل: لكم سفهكم، ولنا حلمنا.
وقوله: * (سلام عليكم) ليس المراد من السلام هاهنا هو التحية، ولكن هذا السلام هو سلام المتاركة، ويقال معناه: سلمتم من معارضتنا لكم بالجهل والسفه.
وعن بعض السلف أنه كان يسب فيقول: سلام سلام، وعن بعضهم: أي قالوا قولا يسلمون منه.
وقوله: * (لا نبتغي الجاهلين) أي: لا ندخل في جهل الجاهلين.
قوله تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت) أكثر أهل التفسير أن الآية في أبي طالب، وقد صح برواية أبي هريرة عن النبي أن أبا طالب لما حضره الموت، دخل النبي وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وغيرهما، فقال رسول الله: ' يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال له أبو جهل وعبد الله بن [أبي] أمية: أزغت عن ملة الأشياخ؟ فما زال رسول الله يقول ذلك، وهم يقولون، حتى كان كلمة قالها: أنا على ملة الأشياخ)). والمعنى بالأشياخ: عبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف. وهذا الخبر في الصحيحين، [وروى] مسلم في صحيحه: أن النبي دخل على أبي طالب وقد حضره الموت، فقال: ' يا عم، أشهد أن لا إله إلا الله؛ أشفع لك يوم القيامة '. فقال: لولا أن
148

* (الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56) وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما يجبي آمنا إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن) * * تعيرني نساء قريش، فيقلن: جزع عند الموت، لأقررت بها عينيك '. وفي رواية: ' لولا أن تعيرك نساء قريش، ويكون سبه عليك، لأقررت بها عينيك '. والأول في الصحيح، فأنزل الله تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت) أي: من أحببت أن يهتدي، وقيل: من أحببته لقرابته * (ولكن الله يهدي من يشاء) أي: يهدي لدينه من يشاء.
وعن [سعيد بن أبي راشد]: أن هرقل بعث رسولا من تنوخ إلى رسول الله: فجاء إليه وهو بتبوك يحمل كتاب هرقل، فقال له النبي: ' يا أخا تنوخ، أسلم. فقال: إني رسول ملك جئت من عنده؛ فأكره أن أرجع إليه بخلاف ما جئت، فضحك النبي، وقرأ قوله تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) '.
وقوله: * (وهو أعلم بالمهتدين) وهو أعلم بمن قدر له الهداية.
وقوله تعالى: * (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) الاختطاف هو الاستلاب بسرعة. ويقال: إن القائل لهذا القول هو الحارث بن نوفل بن عبد مناف،
قال للنبي: إنا نعلم ما جئت به حق، ولكنا إن أسلمنا معك لم نطق العرب؛ فإنا أكلة رأس، ويقصدنا العرب من كل ناحية، فلا نطيقهم.
وقوله: * (أو لم نمكن لهم حرما أمنا) أي: ذا أمن، ومن المعروف أنه يأمن فيه الظباء من الذئاب، والحمام من الحدأة.
149

* (أكثرهم لا يعلمون (57) وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين (58) وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (59)) * *
وقوله: * (يجبي إليه ثمرات كل شئ) أي: يجمع إليه ثمرات كل شئ؛ يقال: جبيت الماء في الحوض أي: جمعته.
وقوله: * (رزقا من لدنا) أي: رزقناهم رزقا من لدنا.
وقوله: * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي: ما أقوله حق. ومعنى الآية: أنا مع كفركم أمناكم في الحرم، فكيف نخوفكم إذا أسلمتم؟.
وقال مجاهد: وجد عند المقام كتاب فيه: أنا الله ذو بكة، صغتها يوم خلقت الشمس والقمر، وحرمتها يوم خلقت السماوات والأرض، حففتها بسبعة أملاك حنفاء، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، مبارك لها في اللحم والماء، أول من يحلها أهلها.
وقد بينا من قبل، أن الرجل كان من أهل الحرم يخرج فلا يتعرض له، ويقال: هؤلاء أهل الله.
قوله تعالى: * (وكم أهلكنا من قرية) أي: من أهل قرية * (بطرت معيشتها) أي: بطرت في معيشتها. وقال الفراء: أبطرتها معيشتها.
وقوله: * (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا) أي: خربنا أكثرها. ويقال: معنى القليل هاهنا أن المسافر ينزل مسكنا خرابا، فيمكث فيه يوما أو بعض يوم.
وقوله: * (وكنا نحن الوارثين) قد بينا.
قوله تعالى: * (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا) أي: مكة، ويقال: في أمها رسولا أي: في أكثرها من سائر الدنيا رسولا.
وقوله: * (يتلوا عليهم آياتنا) معلوم المعنى.
وقوله: * (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) أي: لم نهلك أهل قرية إلا بعد أن أذنبوا.
150

* (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون (60) أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين (61) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (62) قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا) * *
قوله تعالى: * (وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا) المتاع على معنيين: أحد المعنيين: هو المتعة والمعنى الآخر: ما يتأثث به.
وقوله: * (وزينتها) أي: وزينة الدنيا.
وقوله: * (وما عند الله خير وأبقى أفلا يعقلون) أي: أفلا ينظرون، ليعقلوا أن الباقي خير من الفاني.
قوله تعالى: * (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه) قال السدي: هذا ورد في حمزة وأبي جهل، وقال غيره: في النبي وأبي جهل.
وقوله: * (فهو لاقيه) أي: ملاقيه وصائر إليه، والوعد الحسن هو الجنة.
وقوله: * (كمن متعناه متاع الحياة الدنيا) أي: متعناه متاع الحياة الدنيا، ثم مرجعه إلى النار؛ فهو معنى قوله: * (ثم هو يوم القيامة من المحضرين) أي: من المحضرين النار.
وقوله تعالى: * (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) يعني: أين شركائي الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي؟.
قوله تعالى: * (قال الذين حق عليهم القول) أي: وجبت عليهم كلمة العذاب.
وقوله: * (ربنا هؤلاء الذين أغوينا) أي: دعوناهم إلى الغي.
وقوله: * (أغويناهم كما غوينا) أي: أضللناهم كما ضللنا.
وقوله: * (تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) يعني: أنهم لم يعبدونا، ولكن دعوناهم فأجابوا.
151

* (إليك ما كانوا إيانا يعبدون (63) وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون (64) ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (65) فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون (66) فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين (67) وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم) * *
قوله تعالى: * (وقيل ادعوا شركاءكم) يعني قيل للكفار: ادعوا شركاءكم أي: الأصنام، ومعنى قوله: * (شركاءكم) أي: شركائي في زعمكم.
وقوله: * (فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) أي: لم يجيبوا لهم.
وقوله: * (ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) معناه: لو أنهم كانوا يهتدون ما رأوا العذاب.
وقوله تعالى: * (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) أي: ينادى الكفار.
وقوله: * (فعميت عليهم الأنباء يومئذ) أي: الحجج؛ فكأنهم لما لم يجدوا حجة فقد عجزوا عنها.
وقوله: * (فهم لا يتساءلون) قد بينا أن هذا في بعض المواطن، ويقال: لا يتساءلون سؤال التواصل والعطف، ويقال: لا يسأل بعضهم بعضا أي: لا يحمل غيره ذنبه؛ لأنه لا يجد.
وقوله: * (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين) أي: من السعداء الناجحين، وفي بعض التفاسير: أن عسى واجب في جميع القرآن، إلا في قوله: * (عسى ربه إن طلقكن).
قوله تعالى: * (وربك يخلق ما يشاء ويختار) أي: يخلق ما يشاء من الخلق، ويختار من يشاء للنبوة. ويقال: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حيث قال لولا أنزل القرآن على رجل من القريتين عظيم، فأراد به الوليد بن المغيرة نفسه وعروة بن مسعود الثقفي، والقريتين: مكة والطائف، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
152

* (الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون (68) وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (69) وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون (70) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير) * *
قوله: * (ما كان لهم الخيرة) يعني: أن الاختيار إليه، وليس لهم اختيار على الله، وقيل: إن الآية نزلت في ذبائحهم للأصنام، وكانوا يجعلون الأسمن للأصنام، ويجعلون ما هو شر لله.
وقوله: * (سبحان الله وتعالى عما يشركون) نزه نفسه عما ينسبه إليه المشركون.
قوله تعالى: * (وربك يعلم ما تكن صدورهم) أي: ما تخفى صدورهم * (وما يعلنون) أي: يظهرون.
قوله تعالى: * (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة) أي: في الدنيا والآخرة. ويقال: في الأولى والآخرة أي: في الأرض والسماء.
وقوله: * (وله الحكم) أي: فصل القضاء بين العبيد.
وقوله: * (وإليه ترجعون) قد بينا.
قوله تعالى: * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة) أي: دائما.
وقوله: * (من إله غير الله يأتيكم بضياء) أي: بنهار.
وقوله: * (أفلا تسمعون) أي: أفلا تعقلون، ويقال: أفلا تسمعون سمع تفهم.
قوله تعالى: * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا) أي: دائما، وقوله: * (من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون) معناه: أفلا تعلمون، فإن قال قائل: ما وجه مصلحة الليل في الدنيا، وليس في الجنة ليل؟ والجواب عنه أن الدنيا لا تخلو عن تعب التكاليف والتكليفات، فلا بد له من وقت يفضى فيه إلى الراحة (من التعب وأما الجنة فهو موضع التصرف في الملاذ، وليس فيها تعب أصلا،
153

* (الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (74) ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون (75) إن قارون كان) * * فلا يحتاج إلى وقت يفضى فيه إلى الراحة) أصلا.
قوله تعالى: * (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه) أي: لتسكنوا في الليل، وقوله: * (ولتبتغوا من فضله) أي: بالنهار.
وقوله: * (ولعلكم تشكرون) أي: تشكرون نعم الله.
قوله تعالى: * (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) قد بينا المعنى، ويجوز أن يوجد نداء بعد نداء لزيادة التقريع والتوبيخ.
قوله تعالى: * (ونزعنا من كل أمة شهيدا) أي: استخرجنا من كل أمة شاهدا يشهد عليهم، والأظهر أن الشهيد على كل أمة نبيهم.
وقوله: * (فقلنا هاتوا برهانكم) أي: حجتكم وبينتكم.
وقوله: * (فعلموا أن الحق لله) أي: عجزوا عن إظهار الحجة، وعلموا أن الحق لله.
وقوله: * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي: ضل عنهم يوم القيامة ما كانوا يفترون في الدنيا، ومعنى ضل: فات وذهب.
قوله تعالى: * (إن قارون) قال قتادة وابن جريح: كان ابن عم موسى لحا. وقال محمد بن إسحاق: كان ابن أخي موسى غير هارون.
وقوله: * (فبغى عليهم) قال الضحاك: أي: بالشرك. وقال شهر بن حوشب: بغى عليهم: زاد في ثيابه شبرا على ثياب الناس. وقال بعضهم: بغى عليهم بالتكبر
154

* (من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ) * * والعلو. ومن المعروف في التفاسير: أن قارون كان أقرأ رجل من بني إسرائيل للتوراة، وكان حسن الصوت، ثم إنه نافق؛ فروى أنه قال لموسى: أنت أخذت النبوة، وهارون أخذ المذبح والحبورة، فأيش لي؟
وفي القصة: أنه أعطى امرأة بغيا من بني إسرائيل ألفي درهم، وطلب منها أن تأتي نادي بني إسرائيل، وموسى فيهم، فتدعي عليه أنه زنا بها، ومنهم من قال: تدعي عليه أنه دعاها إلى نفسه، فجاءت وادعت عليه ذلك. وروى أنها خافت، وأخبرت أن قارون أعطاها مالا لتدعي ذلك. وفي الرواية الأولى: أنها لما ادعت على موسى ذلك تغير موسى تغيرا شديدا، وقال لها: بالذي أنزل التوراة وفلق البحر اصدقي، فحينئذ خافت، وذكرت الأمر على وجهه، فدعا الله تعالى موسى على قارون، فسلطه الله تعالى عليه، وجعل الأرض طوعا له على ما سنذكره.
وقوله: * (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه) فيه قولان: أحدهما: خزائنه، وهو مثل قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب) أي: خزائن الغيب، والثاني: أن المفاتح هو مقاليد الخزائن. وعن بعضهم: أن كل مفتاح كان على قدر أصبع، وكان يحملها ستون بغلة، وقيل: أربعون بغلة، ويقال: أربعون رجلا، وقوله * (لتنوء) أي: تثقل العصبة. قال أبو عبيدة: هذا من المقلوب، وتقديره: ما إن العصبة لتنوء بها. يقال: ناء فلان بكذا أي: نهض به مثقلا، ويقال معناه: لتنوء بالعصبة.
وأما العصبة ففيها أقاويل: أحدها: أنهم سبعون رجلا، والآخر: أربعون رجلا، وقال بعضهم: من العشرة إلى الأربعين، وقال بعضهم: ستة أو سبعة، وقال بعضهم: عشرة؛ لأن إخوة يوسف قالوا: ونحن عصبة، وقد كانوا عشرة. والعصبة في اللغة هم القوم الذين يتعصب بعضهم ببعض.
وقوله: * (بالعصبة أولى القوة) أي: أولى الشدة.
155

* (قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين (76) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين (77) قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد) * *
وقوله: * (إذ قال له قومه لا تفرح) أي: لا تبطر ولا تأشر، والفرح هاهنا هو السرور بغير حق.
وقوله: * (إن الله لا يحب الفرحين) ظاهر.
قوله: * (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) قال الحسن البصري: بطلب الحلال. وقال السدي: بالصدقة وصلة الرحم. وعن بعضهم قال: بالتقرب إلى الله بكل وجوه التقرب.
وقوله: * (ولا تنس نصيبك من الدنيا) أي: طلب الآخرة بالذي تعمل في الدنيا، ومعناه: اعمل في الدنيا لآخرتك، وقال بعضهم: ولا تنس نصيبك من الدنيا أي: بالاستغناء بما أحل الله عما حرم الله. وفي بعض أدعية الصالحين: اللهم أغنني بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
وقوله: * (وأحسن كما أحسن الله إليك) أي: وأحسن بطاعة الله كما أحسن الله إليك بنعمه، ويقال: وأحسن بطلب الحلال كما أحسن الله إليك بالحلال.
وقوله: * (ولا تبغ الفساد في الأرض) أي: بالمعصية، وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض.
وقوله: * (إن الله لا يحب المفسدين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (قال إنما أوتيته على علم عندي) فيه أقوال: أحدها: إن الله تعالى أعطاني هذا المال لفضل علمه عندي، والقول الثاني: أنه علم الكيمياء.
156

* (أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون (78) فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا) * *
وفي تفسير النقاش: أن موسى - عليه السلام - علم يوشع بن نون ثلث الكيمياء، وعلم قارون ثلث الكيمياء؛ وعلم هارون ثلث الكيمياء؛ فكثر بذلك ماله. والقول الثالث: على علم عندي بوجوه المكاسب والتصرفات.
وعن عطاء بن أبي رباح أن قارون وجد كنزا ليوسف، فكان ماله من هذا الوجه.
وقوله: * (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا) أي: للمال.
وقوله: * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) أي: يوم القيامة، فإن قال قائل: قد قال تعالى: * (فوربك لنسألنهم أجمعين) وأمثال هذا من الآيات، وهاهنا قال: (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) فكيف وجه التوفيق بين الآيتين؟ والجواب إنا بينا أن في القيامة مواقف؛ ففي موقف يسألون، وفي موقف لا يسألون، ويقال: لا يسألون سؤال استعلام، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، ويقال: لا يسألون سؤال من له عذر في الجواب، وإنما يسألون على معنى إظهار قبائحهم ليفتضحوا على رؤوس الجمع.
وعن قتادة قال: الكافر لا يحاسب، بل يؤمر به إلى النار من غير حساب ولا سؤال. وقال بعضهم: ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون؛ لأنهم يعرفون بسيماهم، قال الله تعالى، * (يعرف المجرمون بسيماهم).
قوله تعالى: * (فخرج على قومه في زينته) الزينة بهجة الدنيا ونضارتها، وعن إبراهيم النخعي قال: خرج قارون وقومه في ثياب حمر وصفر. وعن مقاتل قال: خرج على بغلة شهباء، عليها سرج من ذهب، وللسرج مثبرة من أرجو، ومعه أربعة آلاف من الخيل عليها الفرسان، قد تزينوا بالأرجوانات، ومعه ثلاثمائة جارية بيض على
157

* (مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم (79) وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون (80) فخسفنا به وبداره الأرض) * * البغال الشهب، عليهن من الحلى.
وعن بعضهم قال: خرج مع سبعين ألفا، عليهم المعصفرات.
وفي بعض المسانيد عن النبي قال: ' أربعة أشياء من خصال قوم قارون: جو نعال السيوف، ولبس الخفاف المتلونة، والثياب الأرجوان، وكان أحدهم لا ينظر إلى وجه خادمه تكبرا '
وعن عطاء قال: كان موسى يقص لبني إسرائيل ويعظهم، فخرج قارون ومعه أربعة آلاف على البغال في الأرجوانات، ومر على موسى، فالتفت بنو إسرائيل إليه،
وشغلوا عن موسى، فشق ذلك على موسى، فأرسل إليه: لم فعلت ذلك؟ فقال: فضلت بالنبوة، وفضلت بالمال، وإن شئت دعوت ودعوت. ثم إن موسى دعا الله تعالى على قارون، فجعل الأرض في طاعته.
وقوله: * (قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) أي: نصيب عظيم من الدنيا.
قوله تعالى: * (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير) أي: ثواب الله في الآخرة * (خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها) أي: ولا يؤتى العمل الصالح إلا الصابرون، وقيل: لا يؤتى هذه الكلمة، والكلمة قوله: * (ويلكم ثواب الله خير لمن أمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون).
ويقال: الصابرون هم الذين صبروا عما أوتي أعداء الله من زينة، ولم يتأسفوا عليها، ولا تمنوها.
158

قوله تعالى: * (فخسفنا به وبداره الأرض) وفي بعض التفاسير: أن قارون قال لموسى: سلمنا لك النبوة، فما بال الحبورة ولهارون؟ وإذا كان لك النبوة، ولهارون الحبورة فمالي؟ فقال موسى: إني لم أعطه الحبورة، ولكن الله تعالى أعطاه الحبورة، فقال: لا أصدقك على ذلك حتى تريني آية، فأمر موسى حتى جمعوا عصيهم، وقال: من اخضرت عصاه فالحبورة له، فاخضرت عصا هارون، وجعلت تهتز من بين العصى، فقال قارون: هذا من سحرك، وليس هذا بأول سحر أتيت به، فحينئذ دعا الله موسى على قارون.
وروى أنه لما واضع المرأة البغي حتى ادعت على موسى أنه زنا بها، أو دعاها إلى الفاحشة، غضب موسى ودعا الله تعالى. وفي بعض القصص: أنه كان مع قارون قوم كثير من بني لاوى، فجاء موسى إليهم، وقال: إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن أرادني فليعتزله، فاعتزل منه جميع قومه إلا [رجلين] بقيا معه من بني أعمامه، ثم إن موسى خاطب الأرض، وقال: خذيهم، فأخذت الأرض بأقدامهم، ثم قال: خذيهم، فأخذت إلى ركبهم، ثم قال: خذيهم: فأخذت إلى حقوهم، ثم قال: خذيهم، فأخذت إلى أعناقهم.
وفي التفسير: أن قارون في كل ذلك يستغيث بموسى وينشده والرحم، ويقول: ارحمني، ثم قال: خذيهم، فأطبقت الأرض عليهم.
قال قتادة: فهم يذهبون في الأرض كل يوم قامة إلى يوم القيامة.
وعن ابن عباس أن الله تعالى قال لموسى: ما أقسى قلبك؛ استغاث بك عبدي، فلم تغثه، ولو استغاث بي مرة لأغثته.
وفي بعض الآثار: لا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد.
وذكر أبو الحسين بن فارس في تفسيره: أن الأرض لما أخذت قارون إلى عنقه نزع موسى نعليه، وضرب بهما وجهه، وقال: اذهبوا بني لاوى، وأطبقت بهم الأرض.
159

* (فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين (81) وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن) * *
وذكر أيضا أن يونس بن متى لقيه في ظلمات الأرض حين يطوف به الحوت، فقال له قارون: يا يونس، تب إلى الله تجد الله تعالى في أول قدم ترجع إليه، فقال له يونس: فأنت لم لا تتوب؟ فقال: جعلت توبتي إلى ابن عمي.
وقوله: * (وبداره الأرض) روى أن بني إسرائيل قالوا: إنما أهلك موسى قارون ليأخذ أمواله، وكانت أراضي دوره من فضة، وأثاث الحيطان من ذهب، فأمر موسى الأرض حتى أحضرت دوره، ثم أمرها حتى خسفت بها، فانقطع الكلام.
وقوله: * (فما كان له من فئة) أي: من جماعة * (ينصرونه) أي: يمنعونه * (من دون الله).
وقوله: * (وما كان من المنتصرين) أي: من الممتنعين، ومعناه: لم يكن يمنع نفسه، ولا يمنعه أحد من عذاب الله.
قوله تعالى: * (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس) يعني: أن يكونوا مكانه، وفي منزلته.
وقوله: * (يقولون ويكأن الله) وقوله: * (ويكأن) فيه أقوال: قال الفراء: ويكأن عند العرب تقرير، ومعناه: ألم تر أنه؛ وحكى الفراء أن أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال لها: ويكأنه وراء البيت، ومعناه: أما ترينه وراء البيت.
وقال بعضهم ويكأنه: معنى ' ويك ' أي: ويلك، وحذفت اللام، وقوله: * (أنه) كلمة تندم، كأن القوم لما رأوا تلك الحالة تندموا على ما تمنوا، ثم قالوا: كان الله يبسط الرزق لمن يشاء أي: أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي: يوسع ويضيق. وأنشدوا فيما قلنا من المعاني:
(سالتان الطلاق أن رأتاني
* قل مالي قد جئتماني بنكر)
160

* (من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون (82) تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين (83) من جاء بالحسنة) * *
(وى كأن من يكن له نشب يحبب
* ومن يفتقر يعيش عيش ضر) وأنشدوا أيضا قول عنترة في أن ويك بمعنى ويلك:
(ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
* قول الفوارس ويك عنتر أقدم)
ومن المعروف في التفاسير عن العلماء المتقدمين: ويكأن الله: ألم تر أن الله، وحكى مثل هذا عن أبي عبيدة.
وقوله: * (لولا أن من الله علينا لخسف بنا) أي: لولا أن أنعم الله علينا لخسف بنا مثل ما خسف بقارون.
وقوله: * (ويكأنه لا يفلح الكافرون) قد بينا.
قوله تعالى: * (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض) أي: استكبارا، وأصل التكبر هو الشرك بالله، قال الله تعالى: * (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) ومن التكبر الاستطالة على الناس واستحقارهم، والتهاون بهم، ويقال إرادة العلو هو ترك التواضع.
وقيل: * (لا يريدون علوا في الأرض) معناه: لا يجزعون من ذلها، ولا ينافسون في عزها.
وقوله: * (ولا فسادا) أي: العمل بالمعاصي، وقال عكرمة: هو أخذ مال الناس بغير حق.
وقوله: * (والعاقبة للمتقين) أي: الجنة للمتقين، وقيل: العاقبة الحسنة للمتقين، وروى زاذان عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يمشي ويدور في الأسواق، يعين الضعيف، وينصر المظلوم، ويمر بالبقال والبياع فيفتح عليه القرآن، ويقرأ: * (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض..) الآية.
وعنه أيضا أنه قال: من أعجبه شسع نعله على شسع أخيه، فهو ممن يريد العلو في
161

* (فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون (84) إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن) * * الأرض.
قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله خير منها) ظاهر المعنى.
* (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات) أي: المعاصي * (إلا ما كانوا يعملون) وعن عبد الله بن عبيد بن عمير أنه قال: ما أحسن الحسنات عقيب السيئات، وما أقبح السيئات عقيب الحسنات، وأحسن الحسنات الحسنات عقيب الحسنات، وأقبح السيئات السيئات عقيب السيئات).
ومن المعروف عن النبي أنه أوصى معاذا - رضي الله عنه - فقال: ' اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن '.
قوله تعالى: * (إن الذي فرض عليك القرآن) ويقال: فرض عليك أي: أوجب عليك العمل به.
وقوله: * (لرادك إلى معاد) الأكثرون على أن المراد منه: إلى مكة، وقالوا: هذه الآية نزلت على رسول الله وهو بالجحفة، والجحفة منزل من المنازل بين مكة والمدينة.
فالآية ليست بمكية ولا مدنية، وفي بعض التفاسير: ' أن النبي لما هاجر من مكة إلى المدينة سار في غير الطريق خوفا من الطلب، ثم إنه لما أمن عاد إلى الطريق، فوصل إلى الجحفة، ورأى الطريق الشارع إلى مكة فاشتاق إليها، فجاء جبريل عليه السلام فقال: إن ربك يقول: وتشتاق إلى مكة وتحن إليها؟ فال: نعم، إنها أرضي ومولدي، فقال: إن ربك يقول: * (إن الذي فرض عليكم القرآن لرادك إلى معاد) يعني: رادك إلى مكة ظاهرا على أهلها '.
162

* (هو في ضلال مبين (85) وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين (86) ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين (87) ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شئ) * *
وفي الآية قول آخر، وهو أن معنى قوله: * (لرادك إلى معاد) أي: إلى يوم القيامة، ويقال: إلى الجنة.
وروى عن علي - رضي الله عنه - كان يمدح جابر بن عبد الله ويذكره بالخير، فسئل عن ذلك، فقال: إنه يحشر معي. قوله تعالى: * (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)
وقوله: * (قل ربي أعلم من جاء بالهدى) يعني: يعلم من جاء بالهدى، وأنا الذي جئت بالهدى.
وقوله: * (ومن هو في ضلال مبين) أي: ويعلم من هو في ضلال مبين أي: الكفار.
قوله تعالى: * (وما كنت ترجو) أي: تأمل * (أن يلقى إليك الكتاب) أي: يوحي إليك القرآن.
وقوله: * (إلا رحمة من ربك) هذا استثناء منقطع، ومعناه: لكن ربك رحمك فأعطاك القرآن.
وقوله: * (فلا تكونن ظهيرا) أي: معينا * (للكافرين).
قوله تعالى: * (ولا يصدنك عن آيات الله) يعني: لا يمنعك الكفار عن اتباع سبيل الله، وقال بعضهم معناه: اشدد على الكفار، واغلظ عليهم، ولا تتساهل حتى يطمعوا في صدك عن سبيل الله.
وقوله: * (بعد إذ أنزلت إليك) أي: بعد إذ أنزلت إليك الآيات المبينة للسبيل.
وقوله: * (وادع إلى ربك) أي: إلى دين ربك.
وقوله: * (ولا تكونن من المشركين) أي: أثبت على التوحيد.
قوله تعالى: * (ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو) أي: لا إله غيره.
163

* (هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (88)) * *
وقوله: * (كل شئ هالك إلا وجهه) قال سفيان الثوري: إلا ما أريد به وجهه ورضاه من العمل.
ويقال: * (إلا وجهه) أي: إلا هو.
وعن سفيان بن عيينة قال: كل ما وصف الله به نفسه في الكتاب فتفسيره قراءته، لا تفسير له غيره. وقد ذكر الله تعالى (الوجه في أحد عشر موضعا من القرآن، قد بينا أنه صفة من صفات الله، يؤمن به على ما ذكره الله تعالى).
وأنشدوا في الوجه بمعنى التوجه وطلب رضاه قول الشاعر:
(استغفر الله ذنبا لست محصيه
* رب العباد إليه الوجه والعمل)
أي: التوجه.
وقوله: * (وله الحكم) أي: فصل القضاء.
وحكمه أن يبعث قوما إلى الجنة، وقوما إلى النار، ومن حكمه أيضا أن يبيض وجوه قوم، ويسود وجوه قوم، ويثقل موازين قوم، ويخفف موازين قوم، وأمثال هذا، وهذا في الآخرة، وأما في الدنيا فتنفيذ القضايا والأحكام على ما علم وأراد.
وقوله: * (وإليه ترجعون) يعني: في الآخرة.
164

بسم الله الرحمن الرحيم
* (ألم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا) * *
تفسير سورة العنكبوت
وهي مكية في قول عطاء والحسن، ومدنية في أحد قولي ابن عباس، وعنه في رواية أخرى أنها مكية، فبعضها نزل بالمدينة وبعضها نزل بمكة، وعن الشعبي أنها مكية إلا عشر آيات من أولها مدنية.
وعن علي أنه قال: نزلت بين مكة والمدينة. وهذه رواية غريبة.
قوله تعالى: * (ألم) قد بينا معناه.
وقوله: * (أحسب الناس) الحسبان والظن قريبان، وهو تغليب أحد النقيضين على الآخر، والشك وقف بين نقيضين، والعلم قطع بوجود أحدهما.
وقوله: * (أن يتركوا أن يقولوا آمنا) معناه: أظنوا أن يقنع منهم بأن يقولوا آمنا، وقوله: * (وهم لا يفتنون) أي: لا يبتلون. قال مجاهد: لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم. ويقال معناه: لا يؤمرون ولا ينهون، وابتلاء الله عباده بالأمر والنهي.
وقال بعضهم: إن الله تعالى أمر الناس أولا بمجرد الإيمان، ثم إنه فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق عليهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعن الشعبي وغيره أنه قال: لما هاجر أصحاب رسول الله بقي قوم بمكة ممن آمنوا ولم يهاجروا؛ فكتب (إليهم) من هاجر أن الله الله تعالى لا يقبل أيمانكم حتى تهاجروا، فهاجروا، فتبعهم قوم من المشركين وآذوهم، (فقتل من) قتل، وتخلص، من تخلص فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعن بعضهم: أن الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة، وكان قد هاجر إلى المدينة، فجاء أخواه لأمه أبو جهل والحارث ابنا هشام، وقالا له: إن أمنا قد عاهدت إن لم ترجع لا تأكل ولا تشرب، ولا يأويها سقف بيت؛ وإن محمدا يأمر بالبر، فارجع معنا فرجع معهما، فلما كان في بعض الطريق غدراه وأوثقاه وحملاه إلى
165

* (الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3) أم حسب الذين) * * مكة، وجلده كل واحد منهما مائة سوط، ثم لما وصل إلى أمه جعلت تضربه بالسياط حتى رجع عن دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقد حسن إسلامه بعد ذلك.
ومن المشهور الثابت: ' أن النبي كان يدعو في القنوت فيقول: ' اللهم، انج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد والمستضعفين بمكة، واشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف. فدعا (هكذا) شهرا ثم ترك، فقيل له في ذلك، فقال: ألا تراهم قد قدموا '.
قوله تعالى: * (ولقد فتنا الذين من قبلهم) أي: ابتلينا الذين من قبلهم، يعني الأنبياء والمؤمنين، ويقال: ابتلينا بني إسرائيل بفرعون، وكذلك ابتلينا كل نبي بعدو له. وقد ثبت أن النبي قال: حين شكا إليه أصحابه ما يلقون من الكفار: ' إنكم تعجلون، وقد كان فيمن قبلكم ينشر بالمناشير فما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله أمره '.
وقوله: * ([فليعلمن] الله الذين صدقوا) يعني: نبتليهم ابتلاء من يستعلم حالهم، ويقال: وليعلمن الله الذين صدقوا أي: علم الشيء واقعا، وهو الذي يجازي عليه، وقيل: فليعلمن الله الذين صدقوا أي: فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين.
وقوله: * ([وليعلمن] الكاذبين) قد ذكرنا.
قوله تعالى: * (أم حسب الذين يعملون السيئات) والسيئة: كل خصلة تسوء عاقبتها، والحسنة: كل خصلة تسر عاقبتها.
166

* (يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون (4) من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم (5) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين (6) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم) * *
وقوله: * (أن يسبقونا) أن يفوتونا، ومن سبق شيئا فقد فاته، وقوله: * (ساء ما يحكمون) أي: بئس الحكم حكمهم).
قوله تعالى: * (من كان يرجو لقاء الله) قال الزجاج: يخشى لقاء الله. وقال غيره: يأمل لقاء الله، وقيل: لقاء الله هو لقاء جزائه، ويقال: لقاء الله هو الرجوع إليه يوم القيامة.
وقوله: * (فإن أجل الله لآت) معناه: إن وعد الله لآت، والأجل هو الوعد المضروب، ومعنى الآية: أن من يخشى أو يأمل فليستعد. وقد روى مكحول: ' أن النبي قال لما نزلت هذه الآية لعلي وفاطمة: يا علي، ويا فاطمة، قد أنزل الله تعالى قوله: * (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت) فاستعدوا '. والخبر غريب.
وقوله: * (وهو السميع العليم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) الجهاد هو الصبر على الشدة، ثم قد يكون الصبر على الشدة في الحرب على ما أمر به الشرع، وقد يكون الصبر على الشدة في مخالفة النفس بأي معنى كان.
وقوله: * (فإنما يجاهد لنفسه) أي: منفعة ذلك راجعة إليه.
وقوله: * (إن الله لغني عن العالمين) أي: لا يعود إليه ضر ولا نفع في طاعة ولا معصية.
قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرون عنهم سيئاتهم) التكفير إذهاب السيئة بالحسنة، وهو معنى قوله تعالى: * (إن الحسنات يذهبن السيئات)
167

* (أحسن الذين كانوا يعلمون (7) ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (8)) * * والإحباط هو إذهاب الحسنة بالسيئة.
وقوله: * (ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعلمون) هذا هو معنى قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ومعناه: ويعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن.
قوله تعالى: * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) معناه: يفعل حسنا، وقرئ: ' إحسانا ' أي: يحسن إحسانا.
وقوله: * (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) أي: فلا تطعهما في معصيتي، ومن المعروف عن النبي أنه قال ' لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق '.
وقوله: * (ما ليس لك به علم) إنما قال هذا؛ لأن الشرك كله عن جهل، فإن العالم لا يشرك بالله.
وقوله: * (إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) ظاهر المعنى.
أكثر المفسرين (أن) الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري، وأمه حمنة من بني أمية. فروى أنه لما أسلم - وقد كان من السابقين
168

* (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين (9) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين (10) وليعلمن الله الذين آمنوا) * * الأولين في الإسلام - فكان بارا بأمه، فلما سمعت أمه بذلك دعته، وقالت له: ما هذا الدين الذي أحدثته؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع عن دينك أو أموت، فتعير بذلك أبد الدهر، ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل، فجهدت جهدا شديدا، ثم مكثت يوما وليله أخرى لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها، وقال: يا أماه، لو كان لك مائة نفس فخرجت، لم أرجع عن ديني، فلما أيست منه أكلت وشربت، وأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره بالبر بوالديه، ونهاه أن يشرك طاعة لهما. وقيل: الآية عامة.
قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين) أي: في زمرة الصالحين.
قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) أي: جزع من عذاب الناس كما (يجزع] من عذاب الله.
وقوله: * (ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم) الآية في القوم الذين تخلفوا بمكة ممن أسلموا، فلما آذاهم المشركون لم يصبروا، وأعطوهم ما طلبوا.
وقوله: * (نصر من ربك) أي: فتح من ربك ودولة للمؤمنين.
وقوله: * (ليقولن إنا كنا معكم) يعني: كنا مسلمين، وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا.
وقوله: * (أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) أي: يعلم ما في صدورهم، فيميز صدقهم من كذبهم.
قوله تعالى: * (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) قد بينا، ويقال:
169

* (وليعلمن المنافقين (11) وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون (12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون (13) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) * * آمنوا أي: وفوا بما عهدوا، وحققوا أقوالهم بأفعالهم، وأما المنافقون خالفوا أقوالهم بأفعالهم.
قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا للذين آمنوا) روى أن أبا سفيان وذويه قالوا للذين أسلموا: اتبعوا سبيلنا أي: الطريق الذي نحن عليه.
وقوله: * (ولنحمل خطاياكم) أي: ونحن نحمل خطاياكم إن خفتم من عقوبته، فنحن كفلا بكم، ونتحمل عنكم العقوبة.
وقوله: * (وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون) يعني: في ضمان تحمل الخطايا.
قوله تعالى: * (وليحملن أثقالهم) أي: أوزارهم، والأوزار: الذنوب.
وقوله: * (وأثقالا مع أثقالهم) أي: أوزارا مع أوزارهم.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا، والله تعالى قال في آية أخرى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟ والجواب عنه: أن معنى قوله: * (وأثقالا مع أثقالهم) أي: إثم دعائهم إلى ترك الإيمان، ويقال: إن الأشراف فيهم [يحملون] ذنوب الأتباع؛ لأنهم سنوا لهم الضلالة ودعوهم إليها. وقد روى عن النبي أنه قال: ' من دعا إلى ضلالة فاتبع عليها، فعليه وزر من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شئ '.
وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي أنه قال: ' يؤتى بعبد يوم القيامة وقد ظلم هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، فتؤخذ حسناته ويعطون، فيقال: يا رب، قد بقي
170

* (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون (14) فأنجيناه) * * عليه سيئات، ولم تبق له حسنات، فيقول الله تعالى: احملوا ذنوبهم عليه، ثم تلا قوله تعالى: * (وليحملن أثقالهم) الآية.
وقوله تعالى: * (وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) أي: يكذبون.
قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) روى أنس أن النبي قال: ' إن نوحا أول نبي بعث إلى أهل الأرض '.
وقوله: * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) روى عن ابن عباس أنه قال: بعث نوح وهو ابن أربعين سنة، ومكث بعد خروجه من السفينة ستين سنة، [وتوفاه] الله تعالى وهو ابن ألف وخمسين سنة، وفي رواية: أن عمر نوح كان ألف وأربعمائة [وخمسين] [سنة]، بعث وهو ابن مائتي وخمسين سنة، وقد قيل غير هذا، والله أعلم.
وروى أن ملك الموت لما جاء إلى نوح ليقبض روحه قال: يا أطول الأنبياء عمرا، كيف وجدت الدنيا؟ وكان له دار لها بابان، فدخل من أحدهما وخرج من الآخر، وقال: هكذا وجدت.
171

* (وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين (15) وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله) * *
وروى أنه كان له بيت من شعر، وكان [يقال] له: لو بنيت بيتا من طين، فكان يقول: أموت غدا، أو أموت بعد غد. فخرج من الدنيا على ذلك، ولم يبن بيتا. فإن قيل: قوله: * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) أيش فائدة الاستثناء في هذه الآية؟.
وهلا قال: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما؟ والجواب عنه: أن فائدة الاستثناء هو التأكيد؛ فإن العرب إذا قالت: جاءني اخوتك، يجوز أن تريد به جميع الاخوة، ويجوز أن تريد به الأكثر، فإذا قال: جاءني اخوتك إلا زيدا فتعلم قطعا أنه جاء كل الاخوة إلا زيدا، فقد أفاد الاستثناء التأكيد من هذا الوجه، وقد قال بعضهم: قد كان الله تعالى جعل عمر نوح ألف سنة، فاستوهب بعض بنيه منه خمسين عاما فوهبها له، ثم لما لما بلغ الأجل طلب تمام الألف فلم يعط، فذكر الله تعالى بلفظ الاستثناء ليدل على أن النقص كان من قبله، وهذا قول غريب.
وقوله: * (فأخذهم الطوفان) الطوفان: كل شئ كثير يطيف بالجماعة مثل: غرق، أو موت، أو غير ذلك. قال الراجز:
(أفناهم طوفان موت جارف
*)
وقوله: * (وهم ظالمون) أي: مشركون.
قوله تعالى: * (فأنجيناه وأصحاب السفينة) قد بينا عدد من كان في السفينة.
وقوله: * (وجعلناها آية للعالمين) أي: جعلنا عقوبتنا إياها بالغرق آية للعالمين، ويقال: جعلنا السفينة آية للعالمين، فإنها كانت ملقاه على الجودى مدة (مديدة).
قوله تعالى: * (وإبراهيم) معناه: وأرسلنا إبراهيم * (إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه) أي: أطيعوا الله واحذروا معصيته.
172

* (واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (17) وإن تكذبون فقد كذب أمم من قبلكم)
وقوله: * (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) أي: عبادة الله وتقواه خير لكم إن كنتم تعلمون، وقد قيل: إن قوله: * (اعبدوا الله) أي: وحدوا الله، وكل عبادة في القرآن بمعنى التوحيد.
قوله تعالى: * (إنما تعبدون من دون الله أوثانا) أي: أصناما.
وقوله: * (وتخلقون إفكا) أي: وتصنعون كذبا، وقال قتادة: تخلقون إفكا؛ أي: أصناما. وسمى الأصنام إفكا لأنهم سموها آلهة. فإن قيل: قد قال: * (وتخلقون) وقال في موضع آخر: * (هل من خالق غير الله) أي: لا خالق غير الله، فكيف وجه التوفيق بين الآيتين؟ والجواب عنه: أن الخلق بمعنى التقدير هاهنا، قال الشاعر:
(ولأنت تفرى ما خلقت
* وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى.)
ويقال: وتخلقون إفكا أي: تنحتون الأصنام بأيديكم وتعبدونها. وحكى أن بنى حنيفة اتخذوا صنما من الخيس - وهو التمر مع السمن - ثم إنه أصابتهم مجاعة فأكلوه، قال الشاعر:
(أكلت حنيفة ربها
* زمن التفحم والمجاعة)
(لم يحذروا من ربهم
* سوء العواقب والتباعة)
قوله تعالى: * (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق) أي: فاطلبوا عند الله الرزق.
وقوله: * (واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم) وهم مثل، عاد، وثمود،
173

* (وما على الرسول إلا البلاغ المبين (18) أو لم يروا كيف يبدي الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (20) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه) * * وقوم لوط، وغيرهم.
وقوله: * (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) معناه: إلا الإبلاغ الواضح.
قوله تعالى: * (أو لم يروا كيف يبدي الله الخلق ثم يعيده) فإن قيل: أيش معنى قوله: * (أو لم يروا) وهم لم يروا إعادة الخلق؟ والجواب عنه: أن قوله: * (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق) قد تم الكلام، وقد كانوا يقرون بهذا، (وقوله): * (ثم يعيده) ابتداء كلام. ومنهم من قال: أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق بإنشاء النهار، ثم يعيد بإدخال الليل وإعادة النهار بعده. حكوه عن الربيع بن أنس. ومنهم من قال: أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق بالإحياء ثم يعيدهم بالإماتة وجعلهم ترابا كما كانوا.
وقوله: * (إن ذلك على الله يسير) أي: هين.
قوله تعالى: * (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) أي: خلق الخلق.
وقوله: * (ثم الله ينشئ النشأة الآخرة) وقرئ: ' النشاءة الآخرة '، وهما بمعنى واحد كقولهم: رأفة ورآفة.
وقوله: * (إن الله على كل شئ قدير) أي: على النشأة الأولى والنشأة الآخرة.
قوله تعالى: * (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء) ظاهر المعنى. وعن بعضهم: يعذب من يشاء بالحرص، ويرحم من يشاء بالقناعة. وقيل: يعذب من يشاء بسوء الخلق، ويرحم من يشاء بحسن الخلق، ويقال: يعذب من يشاء ببعض الناس له، ويرحم من يشاء بمحبة الناس له.
174

* (تقلبون (21) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (22) والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم (23) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من) * *
ويقال: يعذب من يشاء بقبول البدعة، ويرحم من يشاء بملازمة السنة.
وقوله: * (وإليه تقلبون) أي: تردون.
قوله تعالى: * (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء) (أي: بمعجز الله عن عذابكم، ومعناه: أنكم لا تفوتونه كما يفوت عن الإنسان ما يعجز، فإن قيل: قد قال: * (ولا في السماء) والخطاب مع الآدميين، وليسوا في السماء، فكيف يستقيم هذا الكلام؟ والجواب من وجهين: أحدهما: وما أنتم بمعجزين في الأرض، ولا في السماء معجز. قال الفراء: وهذا من غامض العربية. قال حسان بن ثابت شعرا:
(ومن يهجو رسول الله منكم
* ويمدحه وينصره سواء)
أي: ومن يمدحه وينصره منكم سواء، والجواب الثاني: أن معنى قوله: * (ولا في السماء) أي: لو كنتم في السماء لم تعجزوه أيضا كالرجل يقول: ما أنت هاهنا بمعجزي ولا بالبصرة أي: ولو كنت بالبصرة لم تعجزني أيضا.
وقوله: * (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) أي: من وال ولا مانع.
قوله تعالى: * (والذين كفروا بآيات الله ولقائه) قال قتادة: ذم الله أقواما هانوا عليه، فقال: * (أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم) أي: موجع مؤلم.
قوله تعالى: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا) اعلم أن الآيات التي تقدمت معترضة من قصة إبراهيم ودعائه قومه إلى الله وجوابهم له، وتلك الآيات في النبي وحجاجه مع المشركين، ثم وقع العود في هذه الآية إلى جواب قوم إبراهيم له.
175

* (النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (24) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا
ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (25) فآين له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم (26) ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) * *
وقوله: * (إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من لنار) قال مجاهد: حرقت النار وثاقه ولم تحرقه.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) أي: يصدقون.
قوله تعالى: * (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا) أي: أصناما، وقوله: * (مودة بينكم) أي: هي مودة (بينكم)، أو تلك مودة بينكم في الحياة الدنيا، ومعناه: أن تواخيكم وتوادكم في الدنيا خاصة، وينقطع إذا جاءت الآخرة، وقيل: إن كل خلة تنقطع يوم القيامة إلا خلة المتقين. وقرئ: ' مودة بينكم ' بالنصب بإيقاع الفعل عليه أي: اتخذتموها للمودة، وقرئ على غير هذا، والمعاني متقاربة.
وقوله: * (ثم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) ومعنى الجمع: هو وقوع التبرؤ بين القادة والأتباع.
وقوله: * (ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فآمن له لوط) وقد تقام اللام مقام الباء.
وقوله: * (وقال إني مهاجر إلى ربي) أي: متوجه إلى ربي أطلب رضاه. وقد بينا أن هجرته كانت من كوثى إلى الشام، وكوثى قرية من سواد الكوفة. وفي القصة: أنه هاجر بعد أن مضت [خمس] وسبعون سنة من عمره؛ وهاجر معه لوط وسارة.
وقوله: * (إنه هو العزيز الحكيم) أي: الغالب في أمره * (الحكيم) في تدبيره.
176

* (وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (27) ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (28) أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أئتنا) * *
قوله تعالى: * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) يقال: إن الله تعالى لم يبعث نبيا بعد إبراهيم إلا من نسله، فإن قيل: كيف لم يذكر إسماعيل، وذكر إسحاق ويعقوب، وقد كان إسماعيل نبيا مثل إسحاق؟ قلنا: قد دخل إسماعيل في قوله: * (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) وأيضا فإن الله تعالى يذكر البعض، ويترك البعض اختصارا وإيجازا، وإن كان المعنى في الكل واحد.
وقوله: * (وآتينا أجره في الدنيا) أي: الثناء الحسن.
وقال قتادة: هو قبول كل أهل الأديان له ورضاهم به. وقال السدى: هو الولد الصالح. وقيل: هو أنه أري مكانه في الجنة، وقيل: إنه جعل الأنبياء من أولاده.
وقوله: * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) أي: في زمرة الصالحين.
قوله تعالى: * (ولوطا إذا قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) في التفسير: أنه لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط، قوله تعالى: * (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل) أي: لتأتون الرجال بالفاحشة، وتقطعون السبيل: فيه قولان: أحدهما: تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء.
والقول الثاني: وتقطعون السبيل أي: الطريق، وكانوا يأخذون الغرباء والمسافرين ويرتكبون منهم الفاحشة.
وقوله: * (وتأتون في ناديكم المنكر) النادي هو المجلس، وأما المنكر الذي أتوا به ففيه أقوال: أحدهما: هو ارتكاب الفاحشة من الرجال في مجالسهم، قاله مجاهد.
وعن عائشة قالت: كانوا يتضارطون فيما بينهم. وعن عبد الله بن سلام: كان بعضهم يبزق على بعض. وفي بعض الأخبار مسندا إلى النبي: ' أنهم كانوا
177

* (بعذاب الله إن كنت من الصادقين (29) قال رب انصرني على القوم المفسدين (30) ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين (31) قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته) * * يجلسون على الطريق، ويخذفون الناس ويسخرون منهم '.
وعن بعضهم هو لصفير والرمي بالجلاهق، واللعب بالحمام، وبالشرك في الطريق، وحل الإزار.
وقوله: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من لصادقين) أي: فيما تقوله
قوله: * (قال رب انصرني على القوم المفسدين) وفسادهم كما بينا.
قوله تعالى: * (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) قد بينا معنى البشرى في سورة هود.
وقوله: * (إنا مهلكوا أهل هذه القرى) أي: سدوم، وفي القصة: أنهم كانوا يجلسون وبين يدي كل واحد منهم قعب فيه حصى فإذا مر بهم إنسان خذفه كل واحد منهم بحصاة، فمن أصابه كان أولى به، فكان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاث دراهم، ولهم قاض يقضي بذلك.
وقوله: * (إن أهلها كانوا ظالمين) قد بينا ظلمهم.
قوله تعالى: * (قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها) أي: قالت الملائكة نحن أعلم بمن فيها.
وقوله: * (لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين) أي: الباقين في العذاب.
178

* (كانت من الغابرين (32) ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين (33) إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (34) ولقد تركنا منها آية بينة) * *
قوله تعالى: * (ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم) أي: سئ بالملائكة، ومعناه: أنه ساءه مجيء الملائكة أضيافا لما علم من خبث قومه.
وقوله: * (وضاق بهم ذرعا) أي: ضاق ذرعا بمجيئهم. يقال: ضاق فلان ذرعا بكذا إذا كرهه.
وقوله: * (قالوا لا تخف ولا تحزن) لا تخف من قومك علينا، ولا تحزن بإهلاكنا إياهم.
وقوله: * (إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين) أي: الباقين في العذاب.
قوله تعالى: * (إنا منزلون على أهل هذه القرية) أي: سدوم.
وقوله: * (رجزا من السماء) أي: عذابا من السماء.
وقوله: * (بما كان يفسقون) أي: يعصون.
قوله: * (ولقد تركنا منها آية بينة) أي: من قريات قوم لوط.
قال قتادة: الآية البينة (هي [الأحجار] التي أهلكوا بها، وقد كان قد بقي بعضها حتى أدركته أوائل هذه الأمة. وقال مجاهد: الآية البينة): ظهور الماء الأسود من قراهم.
وقوله: * (لقوم يعقلون) أي: يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول.
179

* (لقوم يعقلون (35) وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين (36) فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (37) وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين (38) وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم) * *
قوله تعالى: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا) معناه: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا.
وقوله: * (فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر) أي: وخشوا اليوم الآخر، ويقال: الرجاء على حقيقته، وهو الأمل.
وقوله: * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) أي: لا تفسدوا في الأرض. [والعيث] أشد الفساد.
وقوله تعالى: * (فكذبوه فأخذتهم الرجفة) الرجفة: زعزعة تؤدي إلى الهلاك.
وقوله: * (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) أي: ميتين، وقيل: خامدين.
قوله تعالى: * (وعادا وثمود) أي: وأهلكنا عادا وثمود.
وقوله: * (وقد تبين لكم من مساكنهم) أي: المنازل التي سكنوها.
وقوله: * (وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل) أي: صدهم عن سبيل الحق.
وقوله: * (وكانوا مستبصرين) أي: ارتكبوا ما ارتكبوا وقد علموا أن عاقبة أمرهم بوار.
قوله تعالى: * (وقارون وفرعون وهامان) أي: وأهلكنا قارون وفرعون وهامان. وفي تفسير النقاش: أن فرعون كان يبيع البطيخ في ابتداء أمره، وهامان كان طيانا.
180

* (موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين (39) فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (40) مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو) * *
وقوله: * (ولقد جاءهم موسى بالبينات) أي: بالدلالات.
قوله: * (فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين) أي: فائتين عن عذابنا، كالسابق على الشيء فيكون قد فاته.
قوله تعالى: * (فكلا أخذنا بذنبه) أي: أخذنا كل هؤلاء بذنبهم.
وقوله: * (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا) الحاصب هي الريح التي تحمل الحصباء، والحصباء: الحصى (الصغار)، والذين أهلكوا بالحصباء قوم لوط.
وقوله: * (ومنهم من أخذته الصيحة) يعني: قوم صالح، وهم ثمود.
وقوله: * (ومنهم من خسفنا به الأرض) أي: قارون.
وقوله: * (ومنهم من أغرقنا) أي: قوم نوح وقوم فرعون.
وقوله: * ([وما] كان الله ليظلمهم) أي: ما ظلمهم الله * (ولكن هم اللذين ظلموا أنفسهم).
قوله تعالى: * (مثل الذين اتخذوا من دون الله) المثل: كلام سائر يتضمن تشبيه حال الآخر بالأول.
وقوله: * (أولياء) أي: الأصنام.
وقوله: * (كمثل العنكبوت) العنكبوت: دابة [أعطاها] الله تعالى آلة تنسج
181

* (كانوا يعلمون (41) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم (42) وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (43) خلق الله السماوات) * * بها بيتا تأوي إليه، (وبيته) في غاية الضعف والوهاء، وإنما مثل عبادة الأصنام ببيت العنكبوت؛ لأن بيت العنكبوت لا يقي حرا ولا بردا، وكذلك عبادة الأصنام لا تجلب نفعا، ولا تدفع ضرا.
وفي بعض الأخبار: أن النبي أنه قال: ' العنكبوت شيطان مسخ فاقتلوه ' والخبر غريب.
وعن علي رضي الله عنه أنه أمر ألا يترك نسيج العنكبوت في البيت، وقال: تركه يورث الفقر. وقد بينا أن الله تعالى جعل العنكبوت جند النبي في الغار.
وقوله: * (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) أي: لو كانوا يعلمون أن عبادة الأصنام لا تغني شيئا، كما علموا أن بيت العنكبوت لا يدفع شيئا.
قوله تعالى: * (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء) أي: يعلم ما يدعون من دونه من الأصنام وغيرها.
وقوله: * (وهو العزيز الحكيم) أي: العزيز بالانتقام من أعدائه، الحكيم في تدبير خلقه.
قوله تعالى: * (وتلك الأمثال نضربها للناس) أي: الأشباه التي يقع بها التمثيل.
وقوله: * (وما يعقلها إلا العالمون) (أي: العالمون بمعاني كلامي، وعن بعض السلف قال: يستحب أن يقف عند كل مثل في القرآن، فإن الله تعالى يقول: * (وما يعقلها إلا العالمون).
182

* (والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين (44) أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) * *
قوله تعالى: * (خلق الله السماوات والأرض بالحق) أي: بالحكمة.
وقوله: * (إن في ذلك (لآية) للمؤمنين) أي: لعبرة للمؤمنين.
قوله تعالى: * (أتل ما أوحى إليك من الكتاب) أي: القرآن.
وقوله: * (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) الفحشاء كل قبيح من الأفعال، والمنكر كل ما ينكره الشرع، (فإن قيل: كيف قال: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وقد رأينا من يصلي ولا ينتهي عن الفحشاء والمنكر؟ قلنا: روي عن حماد بن سلمة أنه قال: تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام في الصلاة، وعن غيره: تنهى عن الفحشاء والمنكر) فيها وبعدها. ومعنى النهي على هذا القول أنه يقرأ القرآن والقراءة، تنهاه عن الفحشاء والمنكر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا صلاة لمن لم يطع الصلاة. وفي هذا اللفظ إشارة إلى ما بينا.
وفي بعض الأخبار عن النبي أنه قال: ' من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا '.
183

(* (45) ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا) * *
وعن الحسن وقتادة أنهما قالا: من صلى ولم ينته عن الفحشاء والمنكر، فصلاته وبال عليه.
وقوله: * (ولذكر الله أكبر) فيه قولان: أحدهما: ولذكر الله أفضل من كل الطاعات، وروي عن ثابت البناني أن رجلا أعتق أربع رقاب، وجعل آخر يذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، ثم سئل عن ذلك جماعة من أهل العلم، فقالوا: ذكر الله تعالى أفضل؛ لأن الله تعالى قال: * (ولذكر الله أكبر).
والقول الثاني أن معناه: ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه، وهذا قول ابن عباس، وروي إن رجلا قال لابن عباس: إن فلانا (يقول) في قوله: * (ولذكر الله أكبر): إن معناه: إذا ذكره وانتهى عن معاصيه، فقال: هذا كلام حسن. وليس بمعنى الآية؛ وإنما معنى الآية ما ذكرنا عنه، وهو قوله: ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه. ومنهم من قال: ولذكر الله في الثواب أكبر من ذكركم في الطاعة.
وقوله: * (والله يعلم ما تصنعون) أي: تفعلون.
قوله تعالى: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) فيه قولان: أحدهما: ولا تجادلوا أهل الكتاب الذين قبلوا الجزية إلا بالتي هي أحسن، وقوله: * (إلا الذين ظلموا منهم) المراد بهم على هذا القول أهل الحرب.
والقول الثاني: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب) يعني: المؤمنين منهم، ومعنى النهي عن المجادلة معهم بعد إيمانهم، هو أنهم كانوا يخبرون عن أشياء في كتبهم لم يعلمها المؤمنون، [فنهى] عن مجادلتهم فيها، فلعلها صحيحة.
وقوله: * (إلا الذين ظلموا منهم) هم الذين لم يؤمنوا. وعن قتادة قال: الآية
184

@
* (بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46) وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون (47) وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) * * منسوخة بآية السيف.
وقوله: * (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) (روي عن النبي هم أنه قال: ' إذا أخبركم أهل الكتاب بشيء لم تعرفوه فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، ولكن قولوا: * (آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ') '.
قوله تعالى: * (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب) أي: كما بعثناك بالحق أنزلنا إليك الكتاب.
وقوله: * (فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) أي: يصدقون به، وقوله: * (ومن هؤلاء من يؤمن به) أي: ومن المشركين من يصدق به، فقوله: * (هؤلاء) إشارة إلى المشركين الذين كانوا بمكة.
قوله تعالى: * (وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (وما كنت تتلو من قبله من كتاب) أي: من قبل بعثنا إياك، وإنزال القرآن عليك.
وقوله: * (ولا تخطه بيمينك) أي: لم تكن تقرأ ولا تكتب.
وقوله: * (إذا لارتاب المبطلون) أي: إذا لشك الكافرون لو قرأت وكتبت، أما أهل الشرك وكانوا يزعمون أنه قرأ من كتب الأولين وانتسخ منها، وأما أهل الكتاب فقد
185

* (إذا لارتاب المبطلون (48) بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (49) وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله) * * كان من نعته في كتبهم أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، فلو قرأ وكتب وقع لهم الشك.
وعن الشعبي قال: لم يخرج النبي من الدنيا حتى كتب وقرأ. وهو قول ضعيف لا يعتمد عليه، [وأظن] أنه لا يصح عن الشعبي هذا؛ لأنه كان عالما كبيرا.
قوله تعالى: * (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) أي: القرآن آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، ويقال معناه: أن محمدا ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم. وقد صح عن النبي أنه قال: ' (إن الله تعالى) قال لي: بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظانا ' وهو إشارة إلى ما بينا أن القرآن في صدور المؤمنين لا ينسخه ولا يغسله شيء.
وقوله: * (وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون) أي: الكافرون.
قوله: * (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه) يعني: مثل ما أنزل على عيسى من المائدة، وأعطي صالح من الناقة، وموسى من اليد والعصا * (قل إنما الآيات عند الله) يعني: إن الآيات عند الله يعطيها بمشيئته وإرادته.
وقوله: * (وإنما أنا نذير مبين) قد بينا. واعلم أن الله تعالى قد أعطى رسوله محمدا المعجزات الكثيرة، ولكنه لم يعطه على ما اقترحوا، وقد كانوا يطلبون أن تكون الآيات على وفق اقتراحاتهم.
186

* (وإنما أنا نذير مبين (50) أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون (52)) * *
قوله تعالى: * (أو لم يكفهم) الكفاية: بلوغ (غاية) تنافي الحاجة.
وقوله: * (إنا أنزلنا عليك الكتاب) أي: القرآن.
وقوله: * (يتلى عليهم) أي: يقرأ عليهم.
وقوله: * (إن في ذلك لرحمة) أي: لنعمة لمن آمن به.
وقوله: * (وذكرى) أي: موعظة وتذكيرا، وقد بينا وجه الإعجاز في القرآن من حيث النظم والمعنى والإخبار عن الغيوب وغيره.
قوله تعالى: * (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا) الشهادة: خبر عن مشاهدة يبني عليه حكم شرعي، والله تعالى شهيد على أفعال المؤمنين والكفار جميعا.
وقوله: * (يعلم ما في السماوات والأرض) ظاهر المعنى.
وقوله: * (والذين آمنوا بالباطل) أي: بغير الله. وقد ثبت أن النبي قال: ' أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد:
(ألا كل شيء ما خلا الله باطل
* وكل نعيم لا محالة زائل)
ثم قال: إلا نعيم الجنة '.
واعلم أن الإيمان إذا أطلق يراد به الإيمان بالله، وإذا قيد يجوز أن يقال: آمن بإبليس، وآمن بالطاغوت، وما أشبه ذلك، وهذا كما إذا قيل: فلان قائم، وأطلق يراد
187

* (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون (53) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (54) يوم) * * به المتصف، فإذا قيل: يجوز أن يقال: قائم بالتدبير قائم بالملك. وقال يحيى بن سلام: الباطل هاهنا: إبليس.
وقوله: * (وكفروا بالله) أي: جحدوا بالله.
وقوله: * (وأولئك هم الخاسرون) الخاسرون: من خسر رأس المال، فالكفار لما فعلوا فعلا عرضوا أنفسهم للهلاك سماهم الله خاسرين.
قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب) قد بينا أن النضر بن الحارث قال: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية فهذا هو الاستعجال بالعذاب.
وقوله: * (ولولا أجل مسمى) أي: وعد القيامة، وقيل: النفخة في الصور ويقال: الوقت الذي عين لعذابهم.
وقوله: * (لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة) أي: فجأة * (وهم لا يشعرون) أي: لا يعلمون بمجيئها. وفي رواية أبي هريرة أن النبي قال: ' إن الرجل ليرفع لقمته فلا يضعها في فيه حتى تقوم الساعة '.
وقوله تعالى: * (يستعجلونك بالعذاب) يقال: المراد به هو المراد بالآية الأولى، أعاده للتأكيد، وقيل: إن هذه الآية نزلت على قوم من جهال هذه الأمة، والقول الأول أولى.
وقوله: * (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) أي: جامعة لعذابهم، ويقال معناه: لا بد أن يدخلوها.
قوله تعالى: * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم) يعني: يصيبهم العذاب من
188

* (يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون (55) يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون (56) كل نفس ذائقة الموت ثم) * * فوقهم ومن تحت أرجلهم، وهو مثل قوله تعالى في آية أخرى: * (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل)
وقوله: * (ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون) قد بينا معنى الذوق من قبل.
وقوله: * (ما كنتم تعملون) أي: جزاء بما كنتم تعملون.
قوله تعالى: * (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة) قال إبراهيم النخعي في هذه الآية: كانوا إذا ظهرت المعصية بأرض خرجوا منها. وعن سعيد بن جبير وعطاء أنهما قالا: إذا أمرت بالمعصية في (بلدة) فأخرج منها (وفي رواية: ' إذا ظهرت المعصية في بلدة فأخرج منها).
وذكر أهل العلم أنه إذا لم يمكنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خرج أيضا، والآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة، وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولم يعذرهم في ترك الخروج، وفي الآية قول آخر: وهو أن معنى قوله: * (إن أرضي واسعة) أي: رزقي واسع، ذكره مطرف ابن عبد الله ابن الشخير.
وقوله: * (فإياي فاعبدون) أي: وحدوني وأطيعوني.
قوله: * (كل نفس ذائقة الموت) معناه: أن تخلفهم (عن) الهجرة لا ينجيهم من الموت، وقد روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه ' أن النبي
189

* (إلينا ترجعون (57) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين (58) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) * * لما توفى سمعوا حس شخص ولم يروه، وقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته * (كل نفس ذائقة الموت) الآية، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودرجا من كل فائت، ألا بالله فثقوا، وإياه فارجوا، والمصاب من حرم الثواب '.
وقوله: * (ثم إلينا ترجعون) أي: تردون.
قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا) أي: لنسكننهم من الجنة غرفا، أي: علالي، وروى أبو مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي قال: ' إن لله غرفا في الجنة، يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، قيل: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لما أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل والناس نيام '.
وقرئ: ' لنثوينهم ' والثوى هو الإقامة، والتبوؤ هو النزول في الموضع الذي يسكن فيه، وفي أخبار الجاهلية: أن المهلهل لما قتل ابن الحارث بن عباد في حرب بكر وتغلب قال: تبوء بشسع نعل كليب.
ومن المعروف عن الحسين أنه قال للحسن في قتل أبي ملجم: لا تجعله ثوى بأبينا أي: لا ننزله منزلة أبينا.
وقوله: * (تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين) أي: العاملين بالطاعة.
قوله تعالى: * ([الذين] صبروا وعلى ربهم يتوكلون) أي: صبروا على
190

(* (59) وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم) * * الشدائد، وقوله: * (وعلى ربهم يتوكلون) أي: يعتمدون.
قوله تعالى: * (وكأين من دابة) أي: وكم من حيوان يدب على الأرض.
وقوله: * (لا تحمل رزقها) أي: لا تحمل رزقها معها، وقيل: لا تدخر رزقها للغد.
وعن أبي سعيد الخدري والمعروف أنه عن سفيان الثوري: ' ليس من الحيوان ما يدخر شيئا للغد سوى ابن آدم والفأرة والنملة والعقعق. وذكر النقاش في تفسيره: أن المراد من قوله: * (وكأين من دابة لا تحمل رزقها) أي: محمد: وكان لا يدخر شيئا للغد، وقد ثبت برواية أنس: ' أن النبي كان لا يدخر شيئا لغد '.
قال رضي الله عنه: أخبرنا بهذا الحديث أبو منصور بكر بن محمد بن حميد النيسابوري ببغداد من لفظه، أخبرنا أبو الحسن الخفاف، أخبرنا أبو العباس السراج، عن قتيبة، عن جعفر بن سليمان الضبعي، عن ثابت، عن أنس... الخبر.
وفي بعض الأخبار برواية ابن عمر أنه قال: ' دخلت مع رسول الله يلتقط التمر ويأكله، فكدت لا آكله، فقال لي: ألا تأكله يا ابن عمر؟ فقلت: لا أشتهيه. فقال: لكني أشتهيه، وهذا صبح رابع أربعو أيام ولم أذق طعاما، ولو طلبت من الله لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، ثم قال: كيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يدخرون
الرزق لسنتهم، ويضعف اليقين؟! قال: فلم نبرح من ذلك الموضع حتى أنزل الله تعالى: * (وكأين من دابة لا تحمل رزقها). ' والخبر غريب.
191

(* (60) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (61) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم (62) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله) * *
وقوله: * (الله يرزقها وإياكم) يعني: يرزق تلك الدابة وإياكم.
وقوله: * (وهو السميع العليم) ظاهر المعنى، ومن المشهور عن النبي قال: ' لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقتم كما ترزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا '.
ومن المعروف أيضا أنه عليه السلام قال: ' إن روح القدس نفث في روعي، أن لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب '.
قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر) أي: وذلل الشمس والقمر.
وقوله: * (ليقولن الله فأنى يؤفكون) أي: يصرفون عن الحق.
قوله تعالى: * (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له) أي: يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء.
وقوله: * (إن الله بكل شيء عليم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله) يعني: على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله.
192

* (قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون (63) وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (64) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (56) ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون (66) أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا وينخطف الناس من) * *
وقوله: * (بل أكثرهم لا يعقلون) أي: لا يعلمون أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله تعالى.
قوله تعالى: * (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) اللهو هو الاستمتاع بلذات الدنيا، وسمي لهوا؛ لأنها فانية بخلاف لذات الآخرة.
وقوله: * (ولعب) أي: وعبث، ويقال: إنما سمي ذلك لهوا ولعبا؛ لأنه إنما يستعمل بها من لا يتفكر في العواقب.
وقوله: * (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) أي: لهي الحياة الدائمة. وقال أهل اللغة: الحيوان والحياة بمعنى واحد، يحكى هذا عن أبي عبيدة وأبي. ومعنى الآية: أن في الآخرة الحياة الدائمة.
وقوله: * (لو كانوا يعلمون) أي: لو كانوا يعلمون أن الدنيا تفنى، والآخرة تبقى.
قوله تعالى: * (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) أي: دعوا الله وتركوا دعاء الأصنام، وحكي عن عكرمة قال: لو كانوا يركبون البحر ويحملون أصنامهم معهم، فإذا هاجت البحر وخافوا الغرق، طرحوا أصنامهم في البحر، وقواول: يا رب، يا رب.
وقوله: * (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) أي: عادوا إلى ما كانوا عليه.
وقوله: * (ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون) على طريق التهديد.
وقوله: * (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) أي: ذا أمن، وقوله: * (ويتخطف الناس من حولهم) الاختطاف هو الاستلاب بسرعة، وقد بينا هذا المعنى من قبل.
193

* (حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (67) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (68) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69)) * *
وقوله: * (أفبالباطل يؤمنون) يعني: أفغير الله يؤمنون؟ وهو لفظ استفهام بمعنى الإنكار.
وقوله: * (وبنعمة الله يكفرون) أي: يجحدون.
قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أي: كذب على الله، وادعى أنه أنزل ما لم ينزله.
وقوله: * (أو كذب بالحق لما جاءه) يعني: القرآن، وقيل: محمدا.
وقوله: * (أليس في جهنم مثوى للكافرين) أي: مقام ومستقر للكافرين.
قوله تعالى: * (والذين جاهدوا فينا) روي عن الحسن أنه قال: أفضل الجهاد مخالفة الهوى. ويقال: الجهاد هاهنا هو العمل بما علمه، وعن سفيان الثوري أنه قال لإبراهيم بن أدهم: ألا تأتينا فتتعلم منا؟ فقال: إني سمعت حديثين فإذا فرغت منهما تعلمت الثالث، ثم روي بإسناد أن النبي قال: ' من زهد في الدنيا نور الله قلبه '.
ويقال: المجاهدة: هو الصبر على الطاعات واجتناب المعاصي، ويقال: قتال الكفار، ويقال: تحقيق الإخلاص في الأعمال، وهو حقيقة قوله تعالى: * (فينا).
وقوله: * (لنهدينهم سبلنا) لنزيدنهم هدى، ويقال: لنرشدهم إلى (الطرق) المستقيمة، والطرق المستقيمة هي التي توصل إلى رضى الله تعالى. وعن ابن المبارك أنه قال: قال لي سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس فعليك بما قاله لأهل الجهاد والثغور، فإن الله تعالى قال: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
وقوله: * (وإن الله لمع المحسنين) أي: بالنصرة والمعونة.
194

بسم الله الرحمن الرحيم
* (ألم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في) * *
تفسير سورة الروم
وهي مكية
قوله تعالى: * (ألم) قد بينا، ولأصح أن معناه هاهنا هو القسم.
وقوله: * (غلبت الروم) أي: قد غلبت الروم، فوقع القسم على هذا، وقد تحذف قد عند أهل اللغة في الكلام، قال الشاعر:
(أكلفتني ذنب امرئ وتركته
* كذى العر [يكوي] غيره وهو راتع)
أي: لقد كلفتني.
وقوله: * (في أدنى لأرض) الأدنى بمعنى الأقرب، ومعناه: الأدنى إلى أرض فارس من أرض الروم، قال مجاهد. هي لجزيرة، وهي بلاد بين دجلة والفرات تسمى الجزيرة منها حران، ورحبة مالك بن طوق، والرقة، والرهى، وغير ذلك.
وقوله: * (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) معناه: أن الروم من بعد غلبة فارس عليهم سيغلبون. فإن قيل: قال: * (من بعد غلبهم) وهم غلبوا ولم يغلبوا؟ والجواب عنه: ذكر غلبتهم، والمراد منه غلبة غيرهم عليهم، وإنما أضاف الغلبة إليهم لاتصال تلك الغلبة بهم، واتصال الغلبة بهم وقوع الغلبة عليهم، وهذا مثل قوله تعالى: * (ويطعمون الطعام على حبه) والطعام لا يكون صاحب الحب، وإنما الإنسان هو صاحب الحب، ولكن إضافة إلى الطعام لاتصال الحب منه، وكذلك قوله تعالى: * (وذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) والمقام للعبد إلا أنه [أضافه] إلى الله؛
195

* (بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر) * * لأنه يقوم بين يدي الله، فيتصل بالله من هذا الوجه.
وقوله: * (في بضع سنين) في البضع قولان: أحدهما: من الواحد إلى العشر، والقول الثاني: من الثلاث إلى السبع.
وكذلك اختلف القول في النيف، فمنهم من قال: من الواحد إلى الثلاث، ومنهم من قال: من الواحد إلى العاشر.
وأما سبب نزول الآية فروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ' أنه كان بين فارس والروم قتال قائم، فكان المشركون يؤذون أن تغلب فارس الروم، والمسلمون يودون أن تغلب الروم فارس، لأنهم كانوا أهل الكتاب، قال: فغلب فارس الروم مرة، فشمت المشركون بالمسلمين، وقالوا: إنا سنغلبكم كما غلبت فارس الروم، فجاء المسلمون إلى النبي وذكروا له ذلك، فقال: أما إن الروم سيغلبون فارس. فقال أصحاب النبي: متى ذلك؟ فقال: إلى بضع سنين، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال: فجاء أبو بكر إلى أبي بن خلف، وذكر له ذلك، فقال: والله لا تغلب الروم فارس أبدا، ثم قال لأبي بكر: أخاطرك؟ قال: نعم فخاطره على قلائص من الإبل. واختلفوا في عدد القلائص منهم من قال: كان ستا، وقيل: كان سبعا. وقيل: غير ذلك، ووضعا المدة إلى خمس سنين.
قال قتادة: وكان ذلك في وقت لم يكن حوم القمار بعد.
فجاء أبو بكر إلى النبي، وذكر له ذلك، فقال له النبي: يا أبا بكر، زد
196

* (من يشاء وهو العزيز الرحيم (5) وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا) * * في الخطر، وأبعد في الأجل ' فزاد في عدد القلائص، وجعل المدة إلى سبع سنين '. ثم إن الروم ظهرت على فارس، واسترجعوا ديار الجزيرة والشام وغير ذلك من فارس، وكان فارس قد استولوا على الكل، وأخذوا صليبهم الأعظم، فاستردوا هذه الديار، واستردوا صليبهم، وهزموا فارس.
واختلفوا في وقت ذلك، منهم من قال: كان يوم بدر، ومنهم من قال: كان عام الحديبية.
وفي بعض التفاسير: أن أبا بكر لما قصد الهجرة جاء إلى أبي بن خلف، وطلب منه كفيلا بالقلائص، فكفل بها ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، ثم لما خرج أبي بن خلف إلى أحد طلب عبد الرحمن منه كفيلا، فكفل بالقلائص ابنه، ثم إنه لما ظهرت الروم على فارس أخذ أبو بكر القلائص.
وفي بعض الروايات: أن المدة كانت إلى خمس سنين لا زيادة، ومضت الخمس ولم تغلب الروم على فارس، واخذ أبي بن خلف القلائص، ثم بعد ذلك ظهرت الروم على فارس.
وهذه الآية من معجزات النبي؛ لأنه أخبر عن غيب لا يعلمه إلا الله، وكان الأمر على ما أخبر.
وقوله: * (لله الأمر من قبل ومن بعد) أي: من قبل غلبهم، ومن بعد غلبهم.
وقوله: * (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) أي: ينصر الله أهل الكتاب على غير أهل الكتاب، وإنما فرحوا بذلك لصدق وعد الله تعالى؛ ولأنهم قالوا: كما نصر الله أهل الكتاب على غير أهل الكتاب، وكذلك ينصرنا عليكم.
وقوله: * (ينصر من يشاء) أي: من يشاء من عباده.
وقوله: * (وهو العزيز الحكيم) أي: الغالب على أمره، المنعم على عباده.
197

* (يعلمون (6) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (7) أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (8) أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف) * *
قوله تعالى: * (وعد الله لا يخلف الله وعده) أي: هذه النصرة من وعد الله، ولا يخلف الله وعده * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أن وعد الله حق.
قوله تعالى: * (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) قال ابن عباس: أمر معايشهم ومعالجهم في الدنيا يعني: متى يزرعون ومتى يحصدون، ومتى يغرسون، ومتى يبنون. وقال الضحاك: بنيان الدور، وغرس الأشجار، وتشقيق الأنهار، وعمل التجارات. وروى عن الحسن البصري - رضي الله عنه - قال: إن أحدهم لينقد الدراهم بطرف ظفره، ويذكر وزنه فلا يخطئ، وهو لا يحسن أن يصلي.
وقوله: * (وهم عن الآخرة هم غافلون) فهم الأول ابتداء، وهم الثاني ابتداء آخر، ومعناه: أنهم غافلون ساهون عن الآخرة.
قوله تعالى: * (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) أي: للعدل، ويقال: لإقامة الحق، وقيل: للحق. وقد روي في بعض الأخبار: ' أن النبي مر على قوم وهم يتفكرون، فقال: تفكروا في خلق الله، ولا تتفكروا في الله '. وهذا خبر غريب.
وقوله: * (وأجل مسمى) أي: ومدة مسماه، واختلفوا في المدة المسماة، فقال بعضهم: هي الساعة، وقال بعضهم: هو الوقت الذي قدر هلاكهم فيه.
وقوله: * (وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون) أي: جاحدون، ولقاء ربهم هو البعث يوم القيامة.
قوله تعالى: * (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) يعني: الأمم الذين مضوا.
198

* (كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (9) ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون) * *
وقوله: * (كانوا أشد منهم قوة) أي: أكثر منهم قوة.
وقوله: * (وأثاروا الأرض) أي: حرثوا الأرض.
وقوله: * (وعمروها أكثر مما عمروها) أي: عمروا الأرض أكثر مما عمرها أهل مكة، فإنما قال ذلك؛ لأنه لم يكن لأهل مكة حرث.
وقوله: * (وجاءتهم رسلهم بالبينات) أي: بالدلالات.
وقوله: * (فما كان الله ليظلمهم) أي: لينقص حقوقهم، ولكنهم نقصوا وبخسوا حقوقهم.
[وقوله تعالى: * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)].
قوله تعالى: * (ثم كان عاقبة الذين أساءوا) أي: كفروا، وقوله: * (السوأى) هي جهنم، ونعوذ بالله، وقرأ الأعمش: ' ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء '. وقيل: السوأى: قبح العاقبة.
ومنه قوله: ' سواء ولود خير من حسناء عقيم '. يعني: قبيحة ولود خير من حسناء عقيم.
199

(* (10) الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون (11) ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون (12) ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين (13) ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون (14) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في) * *
وقوله: * (أن كذبوا بآيات الله) أي: لأن كذبوا بآيات الله.
وقوله: * (وكانوا بها يستهزئون) أي: بآيات الله يستهزئون.
قوله تعالى: * (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) ظاهر المعنى، وقد بينا.
قوله تعالى: * (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) أي: ييأس المجرمون، ويقال: (يسكتون) وتنقطع حجتهم، قال الشاعر:
(يا صاح هل تعرف رسما مكرسا
* قال نعم أعرفه وأبلسا)
وقال مجاهد: يبلس المجرمون: يفتضحون. وقيل: يتحيرون.
وقوله: * (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء) أي: الأصنام التي اتخذوها شركاء لله.
وقوله: * (وكانوا بشركائهم كافرين) أي: كفروا بالأصنام، وتبرءوا منها يوم القيامة، ومعنى كانوا: صاروا.
قوله: * (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) يعني: يتميز أهل الجنة من أهل النار، وقيل معناه: أنه يفرق بين أهل المعصية و [أهل] الطاعة؛ فيعاقب أهل المعاصي، وينعم على المطيعين، وعن قتادة قال: هو افتراق لا اجتماع بعده.
قوله تعالى: * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون) الروضة: هي لبستان الذي هو في غاية النضارة والحسن.
قال الطائي:
200

* (روضة يحبرون (15) وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون (16) فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (17) وله
الحمد) * *
((إنما البشر روضة فإذا
* كان [ربوة] فروضة وغدير))
قوله: * (يحبرون) أي: يكرمون وينعمون، ومنه ثوب الخبرة لحسنة، وعن يحيى ابن كثير قال: يحبرون: هو السماع في الجنة. وذكر ابن قتيبة معنى قوله: * (يحبرون) أي: يسرون.
قوله تعالى: * (وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء لآخرة) أي: البعث يوم القيامة.
وقوله: * (فأولئك في العذاب محضرون) أي: معذبون.
قوله: * (فسبحان الله) بينا أن سبحان الله: تنزيه الله، وتبرئته عن كل سوء.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: هو اسم ممتنع لا ينتحله مخلوق.
وقوله: * (سبحان الله) أي: سبحوا الله، وعن ابن عباس قال: كل سبحة في القرآن فهي في معنى الصلاة.
وفي بعض الأخبار: ' أن لنبي سئل عن أفضل الكلام فقال: سبحان الله وبحمده '.
وقد ثبت برواية أبي هريرة أن النبي قال: ' كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم '. وهذا آخر خبر ذكره البخاري في الصحيح. قال رضي الله عنه: حدثنا
201

* (في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون (18) يخرج الحي من الميت ويخرج) * * بهذا الحديث من لفظها كريمة بنت أحمد بمكة، قالت: أخبرنا أبو الهيثم، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري بإسناده عن أبي هريرة.. الخبر.
وفي بعض الآثار: ' أن سبحان الله وبحمده صلاة أهل السماوات وصلاة الخلق كلهم '.
وقوله: * (حين تمسون) أي: تدخلون في المساء.
وقوله: * (وحين تصبحون) أي: تدخلون في الصباح.
وقوله: * (وله الحمد في السماوات والأرض) قال الضحاك: الحمد لله رداء الرحمن.
وقد ثبت عن النبي برواية علي رضي الله عنه أن النبي لما رفع رأسه من الركوع قال: ' سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد '.
وقوله: * (وعشيا) أي: صلوا لله عشيا.
202

* (الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون (19) ومن آياته أن) * *
وقوله: * (وحين تظهرون) أي: تدخلون في الظهر، وفي الآية إشارة إلى أوقات الصلاة الخمس، فقوله: * (حين تمسون) إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء، وقوله: * (حين تصبحون) إشارة إلى صلاة الصبح، وقوله: * (وعشيا) إشارة إلى صلاة العصر.
وقوله: * (وحين تظهرون) إشارة إلى صلاة الظهر.
قوله تعالى: * (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) قد بينا معناه من قبل؛ وهو إخراج البيضة من الدجاجة، وإخراج الدجاجة من البيض، وإخراج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر، وغير ذلك.
وقوله: * (ويحيي الأرض بعد موتها) أي: كما أحيا الأرض بعد موتها كذلك يحييكم بعد موتكم، وهو معنى قوله: * (وكذلك تخرجون).
وقال بعضهم: يخرج البليد من الفطن، والفطن من البليد.
وروى الزهري عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: ' أن النبي دخل على بعض نسائه وعندها خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث: فقال: من هذه؟ قالوا: هي خالدة بنت الأسود بن يغوث. فقال: سبحان الله! يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي '، وكانت المرأة صالحة، وأبوها كان كافرا.
203

* (خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20) من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21) ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك) * *
قوله تعالى: * (ومن آياته أن خلقكم من تراب) أي: خلق أصلكم من تراب؛ وهو آدم صلوات الله عليه.
وقوله: * (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) أي: تجيئون وتذهبون، ويقال: (تنتشطون).
قوله تعالى: * (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا) فيه قولان: أحدهما: أن معناه: خلق حواء من ضلع آدم، والقول الثاني: أن معناه: خلق من أمثالكم أزواجا لكم، والنساء من جنس الرجال؛ لأنهم جميعا من بني آدم.
وقوله: * (لتسكنوا إليها) هو في معنى قوله تعالى: * (وخلق منها زوجها ليسكن إليها) أي: ليأنس بها.
وقوله: * (وجعل بينكم مودة ورحمة) المودة: الحب والعطف، وقد يتفق بين الزوجين من العطف والمودة ما لا يتفق بين الأقارب. وعن مجاهد والحسن وعكرمة أنهم قالوا: المودة: الوطئ، والرحمة: الولد.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) التفكر: هو طلب المعنى من الأشياء فيما يتعلق بالقلب.
قوله تعالى: * (ومن آياته أن خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) فيه قولان: أحدهما: أن اختلاف الألسنة هو اختلاف اللغات؛ فللفرس لغة، وللروم لغة، وللترك لغة، وللعرب لغة، وما أشبه هذا. وذكر كعب الأحبار أن الله تعالى قسم اثنتين وسبعين لغة بين الناس، فلولد سام [تسع عشرة] لغة ولولد حام [سبع
204

* (لآيات للعالمين (22) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23) ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء) * * عشرة] لغة، والباقي لولد يافث. وأما اختلاف الألوان فهو أن هذا أحمر، وهذا أسود، وهذا أبيض، ما أشبه هذا.
والقول الثاني: أن اختلاف الألسنة هو اختلاف النغمات، فلا يتفق لاثنين نغمة واحدة، واختلاف الألوان معلوم بين الناس، وإن كان كلهم بيضا أو سودا، فلا يتفق لونان من جميع الوجوه. وفيه حكمة عظيمة، وهو أنه لو اتفقت الألوان والأسنة [لبطل] التمييز، فلم يعرف الأب ابنه، والابن أباه، وكذلك في الأخوة والأزواج وجميع الناس.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات للعالمين) قرأ حفص بن عاصم: ' للعالمين ' هو جمع عالم، وأما القراءة المعروفة: ' للعالمين ' يعني: الجن والإنس وجميع الخلق.
قوله تعالى: * (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله) أي: منامكم بالليل، وابتغاؤكم من فضله بالنهار. ويقال معناه: ومن آياته منامكم [واشتغالكم] من فضل الله بالليل والنهار.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) أي: يسمعون ما يذكر لهم من هذه الآيات.
قوله تعالى: * (ومن آياته يريكم البرق) معناه: من آياته أنه يريكم البرق، وقد بينا وجه القول في البرق. وعن بعضهم قال: إذا أبرقت السماء أربعين برقة فلا يخلفه أي: لا يتأخر المطر، قال الشاعر:
(لا يكن (برقا كبرق) خلبا
* إن خير البرق [ما] الغيث معه)
205

* (فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (24) ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون (25) وله من في السماوات والأرض كل له قانتون (26) وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون) * *
وقوله: * (خوفا وطمعا) أي: خوفا للمسافر، وطمعا للحاضر، ويقال: خوفا من الصواعق، وطمعا في الغيث.
وقوله: * (وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) فيه قولان: أحدهما: أن معناه: تكونا بأمره، والقول الثاني: يدوم قيامهما بأمره). وقد أقام السماء بغير عمد ودام ذلك إلى وقته المسمى، وهو بأمره.
وقوله: * (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض) قيل: إن الدعوة من صخرة بيت المقدس، ويقال: هي من السماء. والدعوة: هي دعوة إسرافيل.
وقوله: * (من الأرض) أي: يدعوكم أن تخرجوا من الأرض، وهذا على القول الذي يقول إن الدعوة من السماء.
وقوله: * (إذا أنتم تخرجون) قد ذكرنا.
قوله تعالى: * (وله من في السماوات والأرض كل له قانتون) أي: مطيعون، ويقال: مقربون بالعبودية.
وقوله: * (وله) أي: وله ملكا وخلقا. فإن قيل: إذا حملنا القنوت على الطاعة فليس كل من في السماوات والأرض يطيعونه! والجواب: أنه ليست الطاعة هاهنا بمعنى طاعة العبادة، إنما الطاعة هاهنا بمعنى الانقياد بذل كل شيء لما خلق له.
قوله تعالى: * (وهو الذي يبدأ الخلق) أي: ينشئ الخلق * (ثم يعيده) أي:
206

* (عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (27) ضرب لكم) * * يحييكم بعد ما يميتهم.
وقوله: * (وهو أهون عليه) فإن قيل: كيف يستقيم قوله: * (وهو أهون عليه) والله لا يشتد عليه شيء؟ والجواب عنه: أن معنى قوله: * (وهو أهون عليه) أي: هو هين عليه. وفي قراءة ابن مسعود: ' وهو عليه هين '. قال الفرزدق شعرا:
(إن الذي سمك السماء بنى لنا
* بيتا دعائمه أعز وأطول)
((بيت) زرارة محتب بفنائه
* ومجاشع وأبو الفوارس نهشل)
وقوله: أعز وأطول أي عزيزة طويلة، وقال آخر:
(لعمرك لا أدري وإني لأوجل
* على أينا تعدو المنية أول)
أي: (لوجل). والقول الثاني في الآية أن معناه: وهو أهون عليه على ما يقع في عقولهم؛ فإن الذي يقع في عقول الخلق أن الإعادة أهون من الإنشاء، ويقال معناه: هو أهون على الخلق؛ لأن من ابتدأ شيئا مما يشق عليه، فإذا (أعاد) ثانيا يكون أسهل وأهون.
وقوله: * (وله المثل الأعلى) أي: الصفة الأعلى، والصفة الأعلى أنه لا شريك له وليس كمثله شيء، قاله ابن عباس. وقال قتادة: الصفة الأعلى أنه لا إله إلا الله.
وقوله: * (في السماوات والأرض) يعني: هذه صفة له عند أهل السماوات والأرض.
وقوله: * (وهو العزيز الحكيم) أي: العزيز من حيث الانتقام، الحكيم من حيث التدبير.
207

* (مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقم يعقلون (28) بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين (29)) * *
قوله تعالى: * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم) أي: شبها من مثالكم، ثم ذكر الشبه فقال: * (هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم) ومعناه: هل لكم في أموالكم شركاء من عبيدكم يساونكم فيها؟ فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف ترضونه لي وتصفونني به؟.
وقوله: * (فيما رزقناكم) أي: فيما أعطيناكم من الرزق والمال.
وقوله: * (فأنتم فيه سواء) إشارة إلى ما قلنا.
وقوله: * (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) أي: تخافون من مشاركتهم لكم في أموالكم كما تخافون من أمثالكم، وهو الشريك الحر من الشريك الحر، وأنفسكم هنا بمعنى أمثالكم، وفيه قول آخر قاله سعيد بن جبير، وهو أن الآية نزلت في تلبية المشركين، فإنهم كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
وقوله: * (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) أي: تخافونهم في اللائمة كما تخافون لائمة أمثالكم.
وقوله: * (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) أي: ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم.
قوله تعالى: * (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم) الأهواء جمع الهوى، والهوى ما يهواه الإنسان، وعن بعضهم: الهوى أعظم معبود.
وقوله: * (بغير علم) أي: اتبعوا أهواءهم جهلا بما لا [يجب] عليهم.
وقوله: * (فمن يهدي من أضل الله) أي: أضله الله.
208

* (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل) * *
وقوله: * (وما لهم من ناصرين) أي: يمنعهم من عذابنا.
قوله تعالى: * (فأقم وجهك للدين حنيفا) أي: أخلص دينك لله، وإقامة الوجه هو إقامة الدين، وقد بينا معنى الحنيف.
وقوله: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) أما نصب الفطرة على الإغراء أي: الزم فطرة الله التي فطر الناس عليها، واختلفوا في هذه الفطرة، فمنهم من قال: إن الفطرة هاهنا بمعنى الدين.
وقوله: * (فطر الناس عليها) أي: خلق الناس عليها، ويقال هذا القول عن ابن عباس والكلبي ومقاتل وغيرهم. وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه '.
وثبت أيضا عن النبي أنه قال فيما يحكى عن ربه أنه قال: ' خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم '.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا على أصولكم، وعندكم أن الله تعالى خلق الناس صنفين: مؤمنين، وكافرين؟ هذه الآية والأخبار تدل على أن الله تعالى خلق عباده مؤمنين؛ وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه، وخاطبهم بقوله: * (ألست بربكم) فأقروا بالعبودية والإيمان، فالناس يولدون على ذلك، والجواب عنه: أن أهل العلم اختلفوا في هذا، فحكى النحاس في تفسيره عن ابن المبارك: أن الآية في المؤمنين خاصة، وحكى أبو (عبيد) في غريب الحديث عن محمد بن الحسن أنه قال: هذا قبل نزول الأحكام والأمر بالجهاد، كأنه أشار إلى أن الآية منسوخة، ثم ذكر النحاس أن كلا المعنيين ضعيف.
209

أما [ما] ذكره ابن المبارك فهو مجرد تخصيص، وليس عليهم دليل، وأما ما ذكره محمد بن الحسن فهو إثبات النسخ في الأخبار، والأخبار لا يرد عليها النسخ، والصحيح في معنى الآية والخبر أن معنى الفطرة هو أن كل إنسان يولد على أنه متى سئل: من خلقك؟ فيقول: الله خلقني، هو المعرفة التي تقع في أصل الخلقة.
قال أبو (عبيد) الهروي: وهو معرفة الغريزة والطبيعة، وإلى هذا وقعت الإشارة في قوله: * (ولئن سألتهم من خلقكم ليقولون الله) وبهذا القدر لا يحصل الإيمان المأمور به، فالناس خلقوا على هذه الفطرة، وأما حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر فالناس من ذلك على قسمين على ما ورد به الكتاب والسنة. قال الزجاج والنحاس: وهذا
قول أهل السنة. وهذا القول اختيار ابن قتيبة أيضا.
وقوله: * (لا تبديل لخلق الله) على هذا القول أي: لا أحد يرجع إلى نفسه إلا ويعلم أن له إلها وخالقا.
والقول الثاني في الآية: هو أن فطرة الله هاهنا بمعنى دين الله، فالخلق يولدون على العهد الذي أخذ عليهم يوم لميثاق، وهو فطرة الله، وهذا القول حكي عن الأوزاعي وحماد بن سلمة.
وقد ورد في الخبر الذي روينا، وهو قوله: ' كل مولود يولد على افطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتج البهيمة بهيمة هل تحسون فيها من جدعاء '؟! قال: اقرءوا إن شئتم: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها).
قال رضي الله عنه: أخبرنا بهذا الحديث على الفظ محمد بن. عبد الله بن محمد ابن أحمد، قال: أخبرنا أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أخبرنا الغدافري، أخبرنا الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي.. الحديث.
210

* (لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30) منيبين إليه واتقوه) * *
وفي الآية قول ثالث: وهو ما روى أبو عبيد الهروي في الغريبين عن ابن المبارك قال: قوله: ' على الفطرة ' أي: على ابتداء الخلقة التي فطر عليها الإنسان في الرحم من سعادة أو شقاوة، فأبواه يهودانه يعني: في حكم الدنيا. وقد صحح كثير من أهل المعاني ما ذكرناه من قبل، وهو أن الآية في المسلمين خاصة، وهو عموم بمعنى الخصوص.
وقوله: * (لا تبديل لخلق الله) فيه أقوال: أحدها: ما بينا من قبل، والقول الثاني: لا تبديل لخلق الله أي: لا ينقلب السعيد شقيا، ولا الشقي سعيدا إذا خلق على أحدهما.
والقول الثالث: لا تبديل لخلق الله أي: لا أحد يثق مثل خلق الله، ومعناه: أنه لا خالق غيره.
وعن عكرمة قال: لا تبديل لخلق الله: هو تحريم الإخصاء.
وقد اختلف العلماء فيه، منهم من حرم في الكل، ومنهم من أباح في جميع البهائم سوى الآدمي، ومنهم من أباح في جميع البهائم سوى الفرس؛ لأن فيه قطع النسل، والنسل يقصد في الخيل ما لا يقصد في غيره. وروى عن النبي أنه قال: ' خير المال سكة مأبورة، وفرس مأمورة '. والسكة المأبورة هي النخل المصطفة التي قد أبرت، والفرس المأمورة كثيرة النتاج.
وأما إذا حملنا الفطرة على الدين فقوله: * (لا تبديل لخلق الله) خبر بمعنى الأمر، كأنه قال: لا تبدلوا دين الله. وقد ورد في الخير: الفطرة بمعنى كلمة الإسلام.
روى البراء بن عازب أن النبي قال: ' إذا أخذ أحدكم مضجعه ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، قال: فإن مات مات على الفطرة '.
وقد وردت الفطرة بمعنى السنة، وذلك في الخبر المعروف عن النبي أنه قال: ' عشر من الفطرة ' أي: من السنة الخبر.
وقوله: * (ذلك الدين القيم) أي: الدين المستقيم، ويقال: الحساب المستقيم.
وقوله: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ظاهر المعنى، وأنشدوا في الفطرة قول كعب بن مالك شعرا: (إن تقتلونا فدين الله فطرتنا
* والقتل في الحق عند الله تفضيل)
قوله تعالى: * (منيبين إليه أي: اتبعوا دين الله * (منيبين إليه) أي: راجعين [إليه]. قال الحسن البصري: راجعين إلى الله بصلاتكم وأعمالكم. وعن بكر بن عبد الله المزني أنه قال: المنيب هو الذي يمشي على الأرض وقلبه عند الله. فإن قيل: كيف يستقيم قوله: * (منيبين) وقد خاطب غب الابتداء واحدا، وهو الرسول بقوله: * (فأقم وجهك للدين حنيفا)؟ والجواب عنه، أن قوله: * (فأقم وجهك) أي: فأقم وجهك وأمتك معك منيبين إلى الله، وحقيقة المعنى: اتبعوا الدين القيم منيبين إلى الله.
211

* (وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين (31) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (32) وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا) * *
وقوله: * (واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين) أي: الجاحدين.
قوله تعالى: * (من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا) أي: تركوا دينهم، وقرئ: ' فرقوا دينهم ' أي: تفرقوا في دينهم. وفي الآية أقول، أظهر الأقاويل: أن المراد منهم اليهود والنصارى.
وقد روى في بعض الأخبار: ' أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة '.
والقول الثاني: أن المراد من الآية هم الخوارج، حكى هذا عن أبي أمامة الباهلي.
والقول الثالث: أن المراد من الآية أهل الأهواء والبدع، وقد روى هذا في خبر مسند عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال لها: ' إن الذين فارقوا دينهم وكانوا
شيعا هم أهل الأهواء والبدع من هذه الأمة، يا عائشة، إن لكل قوم توبة إلا أهل الأهواء والبدع فليس لهم توبة، أنا منهم برئ، وهم مني براء '.
وقوله: * (كل حزب بما لديهم فرحون) أي: راضون بما عندهم. وقال بعض أهل
213

* (أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون (33) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (34) أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا يشركون (35) وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) * * اللغة: الحزب بمعنى الناصر، قال الشاعر: (أم كيف أخنوا وبلال حزبي
*) أي: ناصري
قوله تعالى: * (وإذا مس الناس ضر) أي: شدة.
وقوله: * (دعوا ربهم منيبين إليه) أي: منقلبين إليه بالدعاء، ومعناه: أنهم إذا وقعوا في الشدة تركوا دعاء الأصنام، ودعوا الله وحده.
وقوله: * (ثم إذا أذاقهم منه رحمة) أي: كشف الشدة عنهم برحمته.
وقوله: * (إذا فريق منهم بربهم يشركون) أي: عادوا إلى رأس شركهم.
قوله تعالى: * (ليكفروا بما آتيناهم) قد بينا من قبل.
وقوله: * (فتمتعوا فسوف تعلمون) صورة أمر بمعنى التهديد، وقرأ ابن مسعود: ' وليتمتعوا فسوف يعلمون '.
قوله تعالى: * (أم أنزلنا عليهم سلطانا) أي: حجة وعذرا، ويقال: أم أنزلنا عليهم سلطانا أي: كتابا ينطق بشركهم، وهذا معنى قوله تعالى: * (فهو يتكلم بما كانوا به يشركون).
قوله تعالى: * (وإذا أذقنا الناس رحمة) أي: الخصب وكثرة المطر، ويقال: الأمن والعافية.
وقوله: * (فرحوا بها) الفرح هاهنا فرح البطر وترك الشكر.
وقوله: * (إن تصبهم سيئة) أي: الجدب وقلة المطر، ويقال: الخوف والبلاء.
214

(* (36) أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (37) فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون (38) وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) * *
وقوله: * (بما قدمت أيديهم) يعني: من الذنوب.
وقوله: * (إذا هم يقنطون) أي: ييأسون، وهذا علامة غير المؤمنين، فأما علامة المؤمنين فهو شكر الله عند النعمة، ورجاء الكشف عند الشدة.
وقوله تعالى: * (أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء).
وقوله: * (ويقدر) أي: يضيق.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) أي: يصدقون.
قوله تعالى: * (فآت ذا القربى حقه) أكثر المفسرين على أن المراد من إيتاء ذي القربى هاهنا صلة الرحم بالعطية والهدية، وقال قتادة: من لم يعط قرابته، ويمشي إليه برجليه فقد قطع رحمه. وقد حمل بعضهم الآية على إعطاء ذوي قربى الرسول.
قوله: * (والمسكين) أي: الطواف.
وقوله: * (وابن السبيل) أي: المسافر، وقيل: الضيف.
وقد صح أن النبي قال: ' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه '.
وروى عنه عليه الصلاة والسلام قال: ' الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة '.
قال مالك: ومعنى الجائزة أنه يتكلف له في يوم وليلة، وأما ما سوى ذلك فيقدم إليه ما حضر.
وقوله: * (ذلك خير للذين يريدون وجه الله) أي: يطلبون رضا الله عنه.
وقوله: * (وأولئك هم المفلحون) أي: الفائزون.
قوله تعالى: * (وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس) أكثر أهل التفسير أن
215

* (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون (39) الله الذي خلقكم ثم) * * المراد من الآية هو أن يعطي الرجل غيره عطية ليعطيه أكثر منها، وهذا جائز للناس أن يفعلوا غير أنه في القيامة لا يثاب عليه، فهو معنى قوله: * (فلا يربوا عند الله) وقد كان هذا الفعل حراما على النبي، قال الله تعالى له: * (ولا تمنن تستكثر) أي: لا تعط وتطلب أن تعطى أكثر مما أعطيت. وعن إبراهيم النخعي قال: كان الرجل يعطى صديقه مالا ليكثر مال الصديق، ولا (يرد) به وجه الله، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقرئ ' لتربوا في أموال الناس ' من أموال الناس ' فلا يربوا عند الله ' أي: لا يكثر عند الله.
وقوله: * (وما آتيتم من زكاة) أي: صدقة.
وقوله: * (تريدون وجه الله) قد بينا.
وقوله: * (فأولئك هم المضعفون) أي: ذو الأضعاف.
تقول العرب: القوم مسمنون ومهزلون وملبنون، والمعنى ما بينا. قال الشاعر: ((يخبرهم على حذر وقالت
* بنى (معلكم) بظل مسيف) أي: ذو سيف.
قوله تعالى: * (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم) الآية ظاهر المعنى.
وقوله: * (هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ) أي: مثل ذلكم من شئ.
وقوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) قد بينا من قبل.
216

* (رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون (40) ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف) * *
قوله تعالى: * (ظهر الفساد في البر والبحر) في الآية أقول: أحدها: ما روى عن ابن عباس أنه قال: الفساد في البر هو قتل أحد ابني آدم أخاه، والفساد في البحر هو غصب الملك السفينة، فكلاهما في القرآن.
وعن الضحاك قال: كانت الأرض خضرة زهرة نضرة مؤنقة، وكان لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة، وكان ماء البحر عذبا، وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم، ولا السنور الفأرة، وما أشبه ذلك، فلما قتل أحد بني آدم أخاه اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار، وصار ماء البحر ملحا زعاقا، وقصد الحيوانات بعضها بعضا.
والقول الثاني في الآية أن المراد من الفساد في البر هو الجدوبة والقحط، والفساد في البحر قلة المطر، فإن قيل: وأي فساد بقلة المطر في البحر والبر؟ قلنا: أما في البر فظهور الشدة والقحط، وأما في البحر فقد قالوا: إنه إذا لم يأت المطر في البحر عميت دواب البحر، ويقال: إذا لم يأت المطر في البحر خلت أجواف الأصداف من اللؤلؤ، فإن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر، ويفتح فاه، فما يقع فيه يصير لؤلؤا.
والقول الثالث في الآية - وهو الأظهر - أن البر هو البوادي والمفازة، والبحر هو القرى والأمصار، والعرب تسمى كل قرية أو مصر على ماء جار بحرا.
وقوله: * (بما كسبت أيدي الناس) أي: بما أذنبوا، وقد قال الله تعالى: * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء).
وقوله: * (ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) أي: يرجعون إلى الله بالتوبة.
قوله تعالى: * (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) أي: آخر أمر الذين كانوا من قبل.
217

* (كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين (42) فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون (43) من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون (44) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه) * *
وقوله: * (كان أكثرهم مشركين) أي: بالله.
قوله تعالى: * (فأقم وجهك للدين القيم) أي: اقصد جهة الدين القيم، وقيل: سدد عملك للدين القيم، ويقال: استقم على الدين القيم.
وقوله: * (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له) أي: القيامة لا يقدر أحد على رده من الله.
وقوله: * (يومئذ يصدعون) أي: يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير.
قال الشاعر:
(وكنا كندمانى جذيمة حقبة
* من الدهر حتى قيل لن يتصدعا)
أي: لن يتفرقا.
وقوله تعالى: * (من كفر فعليه كفره) أي: وبال كفره.
وقوله: * (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) أي: موطئون المضاجع، ويقال: يبسطون الفرش، قال الشاعر:
(أمهد لنفسك حان السقم والتلف
* ولا تضيعن نفسا ما لها خلف)
وقوله: * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) الريح: جسم رقيق يجري في الجو يمينا وشمالا على ما دبر من حركاته في جهاته ممتنع القبض عليه للطفه. وعن عبد الله بن عمرو قال: الرياح أربعة للرحمة، وأربعة للعذاب، وجملتها ثمانية: فالتي للرحمة: المبشرات، والناشرات، والذاريات، والمرسلات، والتي للعذاب: العقيم، والصرصر في البر، والعاصف، والقاصف في البحر.
218

* (لا يحب الكافرين (45) ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (46) ولقد أرسلنا من
قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر) * *
وقوله: * (وليذيقكم من رحمته) أي: المطر، ويقال: طيب الريح ولذتها.
وقوله: * (ولتجري الفلك بأمره) أي: لتجري الفلك في البحر بهذه الرياح بأمره.
وقوله: * (ولتبتغوا من فضله) أي: لتطلبوا من فضل الله تعالى بالتجارات في البحر.
وقوله: * (ولعلكم تشكرون) يعني: تشكرون الله تعالى.
قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات) أي: بالدلالات.
وقوله: * (فانتقمنا من الذين أجرموا) أي: أجرموا بالتكذيب.
وقوله: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) أي: نصرة المؤمنين بإنجائهم، وقيل: نصرة المؤمنين بالذب عنهم، ودفع العذاب [عنهم].
وفي بعض المسانيد برواية أم الدرداء أن النبي قال: ' من ذب عن غرض أخيه المسلم كان حقا على الله أن يرد عنه النار يوم القيامة، ثم تلا قوله تعالى: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) '.
وقوله تعالى: * (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا) أي: ينشر السحاب، وفي بعض التفاسير أن الله تعالى يرسل ريحا فتقم الأرض قما، ثم يرسل ريحا فتدر
219

* (المؤمنين (47) الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48) وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين (49) فانظر إلى) * * السحاب بالمطر، فهذا معنى الآية.
وقوله تعالى: * (فيبسطه في السماء كيف يشاء) أي: مسيرة يوم ومسيرة يومين وأكثر على ما يشاء.
وقوله: * (ويجعله كسفا) أي: قطعا.
وقوله: * (فترى الودق يخرج من خلاله) قرأ الضحاك ' ' من خلله '، والودق: المطر، قال الشاعر:
(فلا مزنة ودقت ودقها
* ولا أرض أبقل إبقالها)
وقيل: الودق: هو البرق، والأول أظهر.
وقوله: * (فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون) أي: يبشر بعضهم بعضا.
وقوله: * (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين) أي: آيسين. وفي حرف ابن مسعود: ' وإن كانوا من قبل أن ننزل عليهم من قبله لمبلسين '.
فإن قيل: فما معنى تكرار قوله: * (من قبل) هاهنا، وأي فائدة فيه؟ والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه على طريق التأكيد وهو قول أكثر أهل النحو، والعرب تفعل كثيرا مثل هذا. والثاني: أن معناه: من قبل: السحاب، ' ومن قبل، إنزال المطر؛ فأحدهما يرجع إلى إنزال المطر، والأخر يرجع إلى إنشاء السحاب.
قوله تعالى: * (فانظر إلى آثار رحمة الله) وقرئ: ' أثر رحمة الله ' والآثار جمع
220

* (آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير (50) ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون (51) فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (52) وما أنت بهاد العمي عن) * * الأثر، والأثر بمعنى الآثار.
وقوله: * (كيف يحيي الأرض بعد موتها) أي: كيف يحيي الله الأرض بالمطر بعد موتها؟ فهو يحيي الموتى يوم القيامة. وقد قال بعضهم: يحيي الأرض بعد موتها أي: القلوب الغافلة بنور العلم واليقين والتفسير.
وقوله: * (وهو على كل شيء قدير) أي: قادر.
قوله تعالى: * (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا) فيه قولان: أحدهما: رأوا الريح مصفرا، وإذا كان الريح على هذا الوجه لم ينفع. والقول الثاني وهو المعروف فرأوه مصفرا أي: رأوا الزرع مصفرا.
وقوله: * (لظلوا من بعده يكفرون) يقال: ظل فلان يفعل كذا أي: جعل يفعل كذا وهو مثل قولهم: أضحى فلان يفعل كذا، إلا أن قوله ظل يفعل في العادة تستعمل في جميع النهار، وقوله أضحى تستعمل في أول النهار.
وقوله: * (يكفرون) أي: يجحدون، وقيل: يكفرون النعمة.
قوله تعالى: * (فإنك لا تسمع الموتى) أي: الكفار، وجعلهم بمنزلة الميت؛ لأنهم لم ينتفعوا بحياتهم.
وقوله: * (ولا تسمع الصم الدعاء) جعلهم بمنزلة الصم؛ لأنهم لم ينتفعوا بأسماعهم.
وقوله: * (إذا ولوا مدبرين) أي: معرضين، فإن قيل: الأصم لا يسمع سواء أقبل أو أدبر، فأيش معنى هذا الكلام؟ والجواب عنه: إذا كان مقبلا إن لم يسمع يفهم بالإشارة، وإذا كان مدبرا لم يسمع ولا يفهم بالإشارة.
221

* (ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (53) الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو
العليم) * *
قوله تعالى: * (وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم) أي: بصارف العمي عن ضلالتهم، والعمي هم الكفار. ويقال: بمرشد العمى من ضلالتهم.
وقوله: * (إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا) أي: ما تسمع إلا من يؤمن بآياتنا.
وقوله: * (فهم مسلمون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (الله الذي خلقكم من ضعف) وقرئ: ' من ضعف ' بالفتح والضم جميعا، وهما بمعنى واحد. والأولى ' من ضعف ' بالضم لما روي عن عطية أنه قال: ' قرأت على عبد الله بن عمر هذه الآية، فقرات: ' من ضعف ' بالنصب، فقال: ' من ضعف ' بالضم، وقال: أخذ على رسول الله كما أخذته عليك '.
وقوله: * (من ضعف) أي: من ماء مهين، وقيل: من ذي ضعف.
وقوله: * (ثم جعل من بعد ضعف قوة) أي: شبابا، وهو وقت القوة.
وقوله: * (ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) وهو الهرم والشيب، [والشيب]: نذير الموت، قال الشاعر:
(رأيت الشيب من نذر المنايا
* لصاحبه وحسبك من نذير)
وقوله: * (يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون) أي: يحلف المجرمون.
222

* (القدير (54) ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون (55) وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون (56) فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون (57) ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية) * *
وقوله: * (ما لبثوا غير ساعة) أي: في قبورهم، وقيل: في الدنيا، وإنما قالوا ذلك من هول ما رأوا من القيامة؛ فنسوا ما كان قبل ذلك.
وقوله: * (كذلك كانوا يؤفكون) أي: يصرفون عن الحق.
قوله تعالى: * (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله) أي: في حكم الله وعلمه، قال الشاعر:
(ومال لولاء بالبلاء فملتم
* وما ذاك قال الله [إذ] هو يكتب)
أي: يحكم، وقيل: في الآية تقديم وتأخير ومعناه: وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان لقد لبثتم إلى يوم البعث.
وقوله: * (فهذا يوم البعث) أي: القيامة.
وقوله: * (ولكنكم كنتم لا تعلمون) أي: لا تعلمون أن القيامة حق.
قوله تعالى: * (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم) أي: عذرهم، والمعذرة: إظهار ما يسقط اللائمة.
وقوله: * (ولا هم يستعتبون) أي: لا يستبانون. وقيل: لا يطلب منهم العتبى.
قوله تعالى: * (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) أي: من كل شبه.
وقوله: * (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون) ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: * (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) الطبع والختم بمعنى واحد، وهو الذي يمنع القلب من البصر. وقد روي عن النبي أنه قال:
223

* (ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون (58) كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون (59) فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (60)) * * ' أعوذ بالله من طمع يدني إلى طبع '، قال الأعشي:
(له أكاليل بالياقوت فضلها
* صواعها لا ترى عيبا ولا طبعا)
قوله تعالى: * (فاصبر إن وعد الله حق) يعني: وعد القيامة.
وقوله تعالى: * (ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) أي: لا يستهجلنك؛ فإن الخفة تؤدي إلى الجهل، ومعناه: لا يحملنك الذين لا يوقنون وأتباعهم في الغي، فأمره الله تعالى بالصبر على الحق وترك أتباعهم في الضلالات، وأن لا يصغي إلى أقوالهم. وقد روي أن عليا رضي الله عنه كان يصلي مرة فناداه رجل، وقال: لا حكم إلا لله، وكان الرجل من الخوارج؛ فقرأ علي في صلاته: * (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون).
224

بسم الله الرحمن الرحيم
* (ألم (1) تلك آيات الكتاب الحكيم (2) هدى ورحمة للمحسنين (3) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هذى من ربهم
وأولئك هم المفلحون (5) ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن) * *
تفسير سورة لقمان
كلها مكية إلا ثلاث آيات نبينها إذا وصلنا إليها، والله أعلم.
قوله تعالى: * (ألم تلك آيات الكتاب الحكيم) أي: المحكم بالحلال والحرام وذكر الأحكام، ويقال: بالوعد والوعيد، والثواب والعقاب. وقال بعضهم: الحكيم الذي يبين الحكمة، كالحكيم الذين ينطق بالحكمة.
وقوله: * (هدى ورحمة) الأكثرون قرءوا بالنصب، قال الزجاج: هو نصب على الحال. وقرا حمزة: ' هدى ورحمة ' أي: هو هدى ورحمة، ومعناه: بيان من الضلالة، ورحمة من العذاب.
وقوله: * (للمحسنين) أي: للمسلمين، والمسلم محسن إلى نفسه، وقد صح الخبر أن النبي سئل عن الإحسان فقال: ' أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك '. ويقال: المحسن هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه.
وقوله: * (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) قد بينا.
قوله تعالى: * (أولئك على هدى من ربهم) وقوله: * (وأولئك هم المفلحون) أي: السعداء، ويقال: الناجون، وقيل: هم الذين أدركوا ما أملوا، ونجوا مما عنه هربوا.
قوله تعالى: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) ذكر الكلبي ومقاتل أن الآية
225

نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة، وكان يأتي الحيرة فيشتري أحاديث العجم، وكان النبي إذا قرأ القرآن، قام وقال: أيها الناس إن محمدا يحدث عن عاد وثمود، وأنا أحدثكم عن رستم واسفنديار والعجم، فأنا أحسن حديثا منه، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية.
وروى أبو أمامة الباهلي عن لنبي أنه قال: ' حرام تعليم المغنيات وبيعهن وشرائهن وأثمانهن حرام، ثم تلا قوله تعالى: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) وقال: ما من رجل رفع عقيرته بالغناء إلا ويأتي شيطانان، فيقعد أحدهما على كتفه الأيمن، والآخر على كتفه الأيسر، ويضربان برجلهما على ظهره وصدره حتى يكون هو يسكت '.
وعن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين أن الآية نزلت في الغناء، وكان عبد الله بن مسعود يحلف على ذلك. وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يقولون الغناء ينبت النفاق في القلب. قال إبراهيم: وكانوا يسدون أفواه السكك ويخرقون الدفوف. وعن الضحاك قال: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) هي الشرك بالله. وعن ابن جريج: هو الطبل. وفي الأخبار المسندة أن النبي قال: ' هو المعازف والقيان '. وعن سهل بن عبد الله التستري قال: لهو الحديث هو الجدال في الدين، والخوض في الباطل.
وقوله: * (ليضل عن سبيل الله) أي: دين الله، وقرئ ' ليضل عن سبيل الله '.
226

* (سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (6) وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم (7) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم (8) خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم (9) خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن) * * بفتح الياء، فقوله: * (ليضل) أي: ليضل غيره.
وقوله: * (ليضل) أي: ليصير إلى الضلال.
وقوله: * (بغير علم ويتخذها هزوا) أي: يتخذ آيات الله هزوا، ويقال: يتخذ سبيل الله هزوا، والسبيل يذكر ويؤنث، قال الشاعر:
(تمنى رجال أن أموت وإن أمت
* فتلك سبيل لست فيها بأوحد)
وقوله: * (أولئك لهم عذاب مهين) ظاهر المعنى، وقد بينا من قبل.
قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها) أي: كأن لم يسمع الآيات.
وقوله: * (كأن في أذنيه وقرا) أي: صمما، وإنما جعله كذلك؛ لأنه لم ينتفع بما يسمع، فصار بمنزلة الأصم، والوقر هو الثقل في الأذن.
وقوله: * (فبشرناه بعذاب أليم) أي: مؤلم، ومعنى المؤلم: هو الموجع.
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا لصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا) ومعناه: مقيمين في الجنة كما وعد الله.
وقوله: * (وهو العزيز الحكيم) والعزيز هو المنتقم من أعدائه، والحكيم هو المصيب في تدبير خلقه.
قوله تعالى: * (خلق السماوات بغير عمد) أي: بغير عمد كما، ترونها، والمعنمى الثاني: أي بغير عمد ترونه، وثم عمد لا ترونها، وذلك العمد هو قدرة الله تعالى، قال الله تعالى: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا).
وقوله: * (وألقى في الأرض رواسي) أي: جبالا ثوابت، وذكر السدي أن الله
227

* (تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10) هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين) * * تعالى خلق الأرض فجعلت تميل؛ فقالت الملائكة: يا ربنا، هذه الأرض لا يستقر على ظهرها أحد، فأصبحوا وقد أرسى الله تعالى بالجبال. فقالوا: يا ربنا، هل خلقت شيئا أشد من الجبال؟ قال: نعم؛ الحديد. قالوا: يا ربنا، وهل خلقت شيئا أشد من الحديد؟ قال: نعم؛ النار. قالوا: وهل خلقت شيئا أشد من النار؟ قال: نعم؛ الماء. قالوا: وهل خلقت شيئا أشد من الماء؟ قال: نعم؛ الريح. قالوا: وهل خلقت شيئا أشد من الريح؟ قال: نعم؛ الآدمي. وقد أسند هذا بعضهم إلى رسول الله، وفي آخر الخبر: ' الآدمي يتصدق فيخفي صدقته حتى لا تعلم شماله ما تصدقت يمينه، فهو أقوى من الجميع '.
وقوله: * (أن تميد بكم) أي: لئلا تميد بكم، ويقال: كراهة أن تميد بكم، والميد: هو الميل.
وقوله: * (وبث فيها من كل دابة) أي: فرق فيها من كل دابة، والدابة كل حيوان يدب على الأرض.
وقوله: * (وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) أي: صنف حسن.
قوله تعالى: * (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) أي: الذين يعبدون من دونه، وهم الأصنام، وقد روي عن بعض السلف قال: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله فيه. وذكر بعضهم هذا عن عامر بن عبد قيس وهو عامر بن عبد الله، وهو تلو أويس القرني في زهاد التابعين رضي الله عنهم ورءوس الزهاد من التابعين
228

(* (11) ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر) * * ثمانية نفر: أولهم أويس، ثم عامر بن عبد قيس، ثم هرم بن حيان، ثم أبو مسلم الخولاني، ثم الأسود، ثم مسروق بن الأجدع، ثم الربيع بن خثيم، ثم الحسن.
وقوله: * (بل لظالمون في ضلال مبين) أي: في خطأ بين.
قوله تعالى: * (ولقد آتينا لقمان الحكمة) اختلفوا في لقمان. هل كان نبيا أو لم يكن نبيا؟ فذهب أكثر أهل العلم أنه لم يكن نبيا.
وقال الشعبي وعكرمة: إنه كان نبيا. وعن بعضهم: أن الله تعالى خيره بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة؛ نام نومة فذريت الحكمة على لسانه، فانتبه ينطق بالحكمة. وذكر بعضهم أنه سئل: لم اخترت الحكمة على النبوة؟ فقال: خشيت أن أضعف عنها، ولو كان الله أعطانيها ابتداء ولم يخبرني أعانني عليها، فلما خيرني خشيت الضعف.
وعن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان عبدا أسود من سودان مصر. وعن غيره قال: كان عبدا حبشيا غليظ الشفتين متشقق القدمين، وحكي أن عبدا أسود سأل سعيد بن المسيب عن مسألة فأجاب، ثم قال له: لا يحزنك سوادك، فقد كان قبلك ثلاثة من السودان هم من خير الناس، ثم ذكر لقمان الحكيم، وبلالا مؤذن رسول الله، ومهجع مولى عمر بن الخطاب، وهو أول شهيد في الإسلام، استشهد يوم بدر.
واختلفوا في صناعة لقمان؛ فقال بعضهم: كان خياطا. وقال بعضهم: كان نجارا. وقال بعضهم: كان راعي غنم. فروي أن بعضهم لقيه وهو يتكلم بالحكمة فقال: ألست فلانا الراعي! فبم بلغت ما بلغت؟ فقال: بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني.
ومن (حكمه) المنقولة: أن مولاه دفع إليه شاة وقال: اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها، فجاءه بلسانها وقلبها، فسأله مولاه عن ذلك، فقال: لا شيء أطيب
229

* (فإن الله غني حميد (12) وإذا قا لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (13) ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير (14) وإن جاهداك على أن تشرك بي ما) * * منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا. وعن وهب بن منبه قال: تكلم لقمان باثني عشر ألف باب من الحكمة، أدخلها الناس في كلامهم ووصاياهم.
ومعنى الحكمة المذكورة في هذه الآية هو الفقه والإصابة في القول. ويقال: العقل الكامل.
وقوله: * (أن اشكر لله) أي: على نعمه.
وقوله: * (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) أي: منفعة الشكر تعود إليه.
وقوله: * (ومن كفر فإن الله غني حميد) أي: غني عن خلقه، محمود في فعله.
قوله تعالى: * (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه) يقال: كان اسم ابنه مشكم، ويقال: أنعم، وقيل: غيره.
وقوله: * (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) أي: لا تعدل بالله أحدا في الربوبية.
وقوله: * (إن الشرك لظلم عظيم) الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، من أشرك مع الله غيره فقد وضع الشيء في غير موضعه.
قوله تعالى: * (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن) أي: ضعفا على ضعف، ويقال: مشقة على مشقة. قال الزجاج: المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والمشقة. ويقال: الحمل ضعف، والطلق ضعف، والوضع ضعف.
وقوله: * (وفصاله في عامين) أي: فطامه في عامين، والحولان نهاية مدة الفطام.
وقوله: * (أن اشكر لي ولوالديك) قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس في مواقيتها فقد شكر الله تعالى، ومن استغفر لأبويه في كل صلاة فقد شكر
230

* (ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (15) يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل) * * أبويه.
وقوله: * (إلى المصير) أي: إلى المرجع.
قوله تعالى: * (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم) قد بينا معنى هذه الآية، وذكرنا أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقال بعضهم: الآية عامة في الجميع.
وقوله: * (فلا تطعهما) أي: فلا تطعهما في الشرك ومعصيتي.
وقوله: * (وصاحبهما في الدنيا معروفا) أي: صاحبها في الدنيا بالبر والصلة، وهو المعروف من غير أن تطيعهما في معصيتي.
وقوله: * (واتبع سبيل من أناب إلي) الأكثرون أنه محمد.
وقوله: * (ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) ظاهر المعنى.
وروي [عن] عطاء عن ابن عباس في قوله: * (واتبع سبيل من أناب إلي) أن المراد منه أبو بكرالصديق رضي الله عنه قال ابن عباس: لما أسلم أبو بكر، رضي الله عنه جاء عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهم فقالوا: يا أبا بكر، قد صدقت هذا لرجل، وآمنت به؟ قال: نعم، هو صادق فآمنوا به، [و] حملهم إلى النبي حتى أسلموا، فهؤلاء القوم لهم سابقة الإسلام، وأسلموا بإرشاد أبي بكر رضي الله عنهم وأنزل الله تعالى في أبي بكر، * (واتبع سبيل من أناب إلي).
وقوله: * (أناب) أي: رجع إلي، وعلى هذا القول هو أبو بكر رضي الله عنه.
قوله تعالى: * (يا بني إنها إن تك) فإن قيل: قوله: * (إنها) هذه كناية، والكناية لا بد لها من مكنى، فأيش المكنى؟ والجواب عنه: أنه روي أن ابن لقمان قال: يا
231

* (فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير (16) يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من) * * (أبه)، أرأيت لو وقع شيء في مقل البحر ومقل البحر مغاصيه أي: وسطه أيعلم الله تعالى موضعه؟ فقال: يا بني، إنها إن تك مثقال حبة من خردل، يعني: إن وقعت حبة على هذا الوزن على [هذا] البحر فالله تعالى يعلم موضعها. وذكر النقاش في تفسيره: أن لقمان ألقى خردلة في عرض نهر اليرموك، وقعد على شطه وبسط يده، فغاصت ذبابة وحملت الخردلة فوضعتها على كفه. وفي الآية قول آخر: وهو أن قوله تعالى: (إنها إن تك) يرجع إلى الخطيئة، يعني: إن تكن الخطيئة كمثقال حبة من خردل يأت بها الله تعالى يوم القيامة أي: يجازك بها. قال الحسن البصري: معنى الآية: هو الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها.
وقوله: * (فتكن في صخرة) أي: في جبل، وقال السدي: هي الصخرة التي عليها الأرضون السبع، وهي صخرة خضراء، خضرة السماء منها.
وقوله: * (أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله).
وقوله: * (إن الله لطيف خبير) قال أبو العالية: لطيف باستخراج الخردلة، خبير بمكانها، وفي بعض التفاسير: أن هذه الحكمة آخر حكمة تكلم بها لقمان، فلما تكلم بها انشقت مرارته من هيبتها فتوفى.
قوله: * (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) قد بينا معنى المعروف ومعنى المنكر من قبل.
وقوله: * (واصبر على ما أصابك) أي: من الأذى.
وقوله: * (إن ذلك من عزم الأمور) أي: من الأمور التي يؤمر بها ويعزم عليها، وقد روى حذيفة عن النبي أنه قال: ' ليس للمؤمن أن يذل نفسه، فقيل: وكيف يذل
232

* (عزم الأمور (17) ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب) * * نفسه؟ قال: يتحمل من البلاء ما لا يطيق '. وفي هذا الخبر رخصة في ترك الأمر بالمعروف على السلاطين والظلمة إذا خشي الهلاك، وإن أمر بالمعروف فقتل فهو شهيد.
وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر '.
وروي عن الني أنه قال: ' سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى سلطان يخاف منه ويرجو، فأمره بمعروف أو نهاه عن منكر، فقتله على ذلك '.
قوله تعالى: * (ولا تصعر خدك للناس) أيك لا تعرض عنهم تكبرا. والصعر هو الميل. وفي بعض الأخبار أن النبي قال: ' يأتي عل الناس زمان لا يبقى إلا من هو أصعر '. يعني: ما يدعي الدين '. ويقال: إن قوله: * (ولا تصعر خدك للناس) نهى عن التشدق في الكلام، وعن الربيع بن أنس قال: ليكن الغني والفقير عندك سواء.
وقوله: * (ولا تمش في الأرض مرحا) أي: لا تمشي في الأرض مختالا.
وقوله: * (إن الله لا يحب كل مختال فخور) أي: مختال على الأرض، فخور
233

* (كل مختال فخور (18) واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات) * * بالدنيا.
قوله تعالى: * (واقصد في مشيك) يعني: أسرع في مشيك، ويقال معناه: واقصد في مشيك أي: لا تسرع في مشيتك، وفي بعض الأخبار عن النبي قال: ' سرعة المشي تذهب بها الوجه '.
وقوله: * (واغضض من صوتك) أي: لا تجهر، ومعنى اغضض أي: انقص. يقال: غض فلان من فلان أي: نقص من حقه.
وقوله: * (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) أي: أقبح الأصوات لصوت الحمير. يقال: جاءني فلان بوجه منكر أي: قبيح، فإن قال قائل: لم جعل صوت الحمار أقبح الأصوات؟ والجواب عنه إنما جعله أقبح الأصوات، لأن أوله زفير، وآخره شهيق، والزفير والشهيق: صوت أهل النار. وعن سفيان الثوري قال: كل شيء يسبح إلا الحمار؛ فلهذا جعل صوته أقبح الأصوات.
وذكر النقاش في تفسيره: أن أهل الجاهلية كانوا يتنافسون في شدة الصوت، وكانوا يقولون: من كان أجهر صوتا فهو أعز عند الله. وكانوا يجهرون بأصواتهم ويرفعونها بغاية الإمكان، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ومعناه: أنه ليست العزة في شدة الصوت، ولو كان من هو أشد أعز، لكان الحمار أعز من الكل. وعن جعفر بن محمد بن الصادق أنه قال في قوله تعالى: * (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير): هي العطسة القبيحة المنكرة.
234

* (لصوت الحمير (19) ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) * *
ومن حكم لقمان سوى ما ذكرنا ما روي أنه قال: لا مال كصحة البدن، ولا نعيم كطيب النفس. ومن حكمه أيضا أنه قال: أدب الوالد لولده كالسماد للزرع.
وحكى عكرمة أن لقمان دخل على داود عليه السلام وهو يصنع درعا، فلم يدر ما يصنع؛ فأراد أن يسأله، وكان (حكمه) تمنعه منه، فلما أتم داود الدرع لبسها، وقال: نعم جبة الحرب هي. فقال لقمان: الصمت حكم وقليل فاعله.
وحكى أيضا عكرمة أن مولاه خاطر قوما على شرب ماء البحر في حال سكره، فدعا لقمان وقال: لمثل هذا اليوم كنت أعدك، وذكر له القصة. فقال: اجمع القوم الذين خاطرتهم؛ فجمعهم، فقال لهم: احبسوا مواد البحر حتى يشرب ماء البحر. فقالوا: كيف نحبس مواد البحر؟ فقال: كيف يشرب ماء البحر ومواده غير منقطعة؟ فخلص مولاه.
وحكى أيضا عكرمة أنه كان لمولى لقمان عبيد سواه، ولم يكن فيهم أخس منه عنده، فبعثهم إلى بستان له ليحملوا له فاكهة، فذهبوا وأكلوا الفاكهة؛ فلما رجعوا أحالوا على لقمان أنه هو الذي أكل، وصدقهم مولاه لخسة لقمان عنده، وأراد أن يؤذيه، فقال لقمان لمولاه: إن ذا اللسانين وذا الوجهين لا يكون وجيها عند الله، فاسقني ماء حميما، واسق هؤلاء العبيد ماء حميما؛ فسقاهم، فقاء سائر العبيد ما أكلوا من الفاكهة، وقاء هو ماء بحتا، فعرف صدقه وكذبهم.
قوله تعالى: * (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) أي: ذلل.
وقوله: * (وأسبغ عليهم نعمة) أي: أتم عليكم وأكمل نعمه ظاهرة وباطنة، قال ابن عباس: النعمة الظاهرة هي الإسلام وحسن الخلق، والنعمة الباطنة هي ما يستر من العيوب. وقال بعضهم: النعمة الظاهرة هي الإقرار باللسان، والباطنة هي الاعتقاد @ 236 @
* (وأسبع عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منيروإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ومن يسلم وجهه إلى اللهوهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا) بالقلب. ويقال النعمة الظاهرة: نعمة الدنيا، والباطنة: نعمة العقبى. وقيل النعمة الظاهرة: نعمة الأبدان، والباطنة: نعمة الأديان. ويقال: النعمة الظاهرة: تمام الرزق، والنعمة الباطنة: حسن الخلق، ويقال النعمة الظاهرة: الزي والرياش الحسن. والنعمة الباطنة: ما أخفى من المعصية وسترها. وقال بعضهم: النعمة الظاهرة: الولد، والباطنة: الوطء.
وقوله: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) نزلت هذه الآية في أمية بن خلف وأبي بن خلف وأبي جهل بن هشام والنضر بن الحارث وأشباههم؛ كانوا يجادلون النبي بالباطل في الله وفي صفاته.
قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) ظاهر المعنى.
وقوله: * (أو لو كان الشيطان يدعوهم) هذا جواب عن محذوف, والمحذوف: أيتبعون الشيطان، وإن كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير.
وقوله تعالى: * (ومن يسلم وجهه إلى الله) أي: ومن يخلص دينه لله، وقيل: يسلم نفسه وعمله إلى الله. وقرأ أبو عبد الحمن السلمى: ((يسلم)) بالتشديد، وقوله: * (يسلم) من التسليم, وقوله: ((يسلم)) من الانقياد.
وقوله: * ([وهو محسن] فقد استمسك بالعروة الوثقى): قول لا إله إلا الله. وقيل العروة الوثقى: السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى. والوثقى تأنيث الأوثق. والعهد الوثيق، هوالعهد المحكم الشديد، والأوثق الأشد.
وقوله: * (وإلى الله عاقبة الأمور) أي: خاتمة الأمور. @ 237 @
* (يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نطرهم إلى عذاب غليظ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات و الأرض إن الله هو الغني الحميد ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعد سبعة أبحر ما نفدت كلما ت الله إن الله عزيز حكيم ما خلقكم)
قوله تعالى: * (ومن كفر فلا يحزنك كفره) أي: لا تحزن بكفره.
وقوله: * (إلينا مرجعهم) أي: مصيرهم.
وقوله: * (فننبئهم بما عملوا) أي: نخبرهم بما عملوا.
وقوله: * (إن الله عليم بذات الصدور) أي: عالم بما في الصدور.
قوله تعالى: * (نمتعهم قليلا) الإمتاع هو التمتع بما في الدنيا من نعيمها.
وقوله: * (ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) أي: نلجئهم إلى عذاب غليظ.
قوله تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) قد بينا.
قوله تعالى: * (لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغنى الحميد) أي: الغنى عن خلقه، المحمود في فعله.
قوله تعالى: * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) روى أن المشركين قالوا: إن ما أتى به محمد من الكلام ينقطع ويفنى، فأنزل الله تعالى هذه الآية، بمعنى: أن جميع أشجار العالم ونباتها لو بريت أقلاما، وصارت البحور مدادا ما نفدت كلمات الله أي: كلام الله وعلمه.
وقوله: * (إن الله عزيز حكيم) قد بينا.
قوله تعالى: * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) معناه: ما خلقكم إلا
235

* (ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير (28) ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير (29) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير (30) ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن) * * كخلق نفس واحدة، ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة، يعني: في قدرته.
وقوله: * (إن الله سميع بصير) سميع لأقوال العباد، بصير بأفعالهم. والآية التي تلي هذه الآية إلى آخرها قد بينا معناها، وأما الآيات الثلاث التي نزلت بالمدينة فهي من قوله تعالى: * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) إلى آخر الآيات الثلاث.
قوله تعالى: * (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله) أي: بإنعام الله.
وقوله: * (ليريكم من آياته) أي: من عجائب صنعه وقدرته.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) روي عن النبي أنه قال: ' الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين هو الإيمان كله '. وفي بعض الأخبار: أن أحب العباد إلى الله من يصبر عند البلاء، ويشكر عند النعماء، ويرضى بالقضاء.
236

* (في ذلك لآيات لكل صبار شكور (31) وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور (32) يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن) * *
قوله: * (وإذا غشيهم موج كالظلل) الظلل: جمع الظلة، والظلة: هي الجبل.
وقوله: * (دعوا الله مخلصين له الدين) أي: أخلصوا في الدعاء، وفي التفسير: أن الآية نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين هرب من مكة يوم فتحها رسول الله، وكان رسول الله أمن جميع الناس إلا نفرا منهم عكرمة بن أبي جهل، فهرب عكرمة إلى البحر، فجاءهم ريح عاصف، فقال صاحب السفينة: أخلصوا، فإنه لا ينجيكم إلا الإخلاص. وروي أنه قال لهم: لا تدعوا آلهتكم؛ فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا، وادعوا الله وحده.
فقال عكرمة: إنما هربت من هذا، ولئن نجاني الله من هذا لأرجعن إلى محمد، ولأضعن يدي في يده. ثم سكن الريح، وخرج عكرمة ورجع إلى مكة، وأسلم وحسن إسلامه، واستشهد يوم اليرموك بالشام.
وقوله: * (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) أي: عدل في فعله على معنى الوفاء بما وعده، ومنهم من قال: مقتصد أي: مقتصد في القول لا يسرف، ومنهم من يسرف.
وقوله: * (وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) الختر: هو أشد الغدر.
قال الشاعر:
(فإنك لو رأيت أبا عمير
* ملأت يديك من ختر وغد)
قوله تعالى: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده) أي:
239

* (والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (33) إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في لأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (34)) * * لا يغني والد عن ولده، قال ابن عباس: كل امرء تهمه نفسه.
وقوله: * (ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) أي: مغني عن والده شيئا.
وقوله: * (إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) يعني: الشيطان، وتغريره للإنسان هو تزيينه للمعاصي وتمنيه المغفرة من الله، وعبر عنه بتزيينه له المعاصي وتمنيه المغفرة. وفي الخبر أن النبي قال: ' الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت (أي حاسب نفسه) والفاجر من أتبع نفسه هواها، وتمنى
على الله (المغفرة) '.
قوله تعالى: * (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) الآية. في التفسير: أن رجلا من بني محارب بن خصفة أتى النبي وقال: يا محمد، إن أرضنا أجدبت، فمتى ينزل الغيث؟ وإني تركت امرأتي حبلى، فماذا تلد؟ وقد علمت ما أعمل اليوم، فماذا أعمل غدا؟ وأخبرني أنى بأي أرض أموت؟ وأخبرني متى الساعة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها.
وقد روينا برواية أبي هريرة أن النبي قال: ' مفاتيح الغيب خمسة، وقرأ هذه الآية إلى آخرها '. وهو خبر مشهور.
وقوله: * ([ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا] وما تدري نفس بأي أرض تموت) يقال معناه: على أي قدم تموت. فإنه ما من قدم يرفعها ويضعها إلا ويجوز أن تموت قبل ذلك * (بأي أرض تموت) أي: على أي صفة تموت من الشقاوة والسعادة.
وقوله: * (إن الله عليم خبير) ظاهر المعنى.
240

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (ألم (1) تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (2) أم يقولون افتراه بل هو) * *
تفسير سورة السجدة
وهي مكية إلا ثلاث آيات نزلت في علي رضي الله عنه سنذكرها.
وقد روى جابر أن النبي كان لا ينام كل ليلة حتى يقرأ. ' ألم تنزيل ' السجدة، و ' تبارك الذي بيده الملك '.
وقد ثبت أن النبي كان يقرأ في صلاة الصبح من يوم الجمعة سورة السجدة، وسورة ' هل أتى '.
قوله تعالى: * (ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) أي: لا شك فيه، والريب: هو الشك، وقد بينا من قبل قوله: * (أم يقولون افتراه) معناه: بل يقولون افتراه، قال الشاعر في أم بمعنى: بل:
(كذبتك عينك أم رأيت بواسط
* غلس الظلام على الرباب جبالا)
241

* (الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون (3) الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون (4) يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) * * معناه: بل رأيت.
وقوله: * (بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم [من نذير من قبلك])
ما ها هنا بمعنى النفي، ومعناه: لتنذر قوما لم [يشاهدوا] وآباؤهم قبلك نبيا، فإن قيل: إذا لم يشاهدوا نبيا ولم ينذروا، كيف يستجوبوا النار بترك الإيمان؟ والجواب: أنه لزمهم الإيمان بالله بإرسال الرسل الذين كانوا من قبل، وقد سمعوا ذلك.
وقال بعضهم: إن إسماعيل كان نبيا إلى العرب، وقد تركوا دينه، ويقال: إنهم تركوا دين إبراهيم صلوات الله عليه.
وقوله: * (لعلهم يهتدون) أي: يرشدون.
قوله تعالى: * (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) قد بينا، وعن الحسن أنه قال: هو يوم من أيام الدنيا. فإن قال قائل: حين خلق الله السماوات والأرض لم يكن نهارا ولا ليلا، فكيف يستقيم هذا الكلام؟ والجواب: أن معناه: بقدر ستة أيام من أيام الدنيا.
وقوله: * (ثم استوى على العرش) قد بينا.
وقوله: * (ما لكم من دونه ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) معناه: أفلا تتعظون.
قوله تعالى: * (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) أي: يحكم ويقضي الأمر من السماء إلى الأرض.
242

* (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون (5) ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز) * *
وقوله: * (ثم يعرج إليه) ثم فيه قولان: أحدهما: ثم يعرج الملك إليه بعد نزوله بالأمر. والقول الثاني: ثم يعرج إليه أي: يعرج الأمر إليه، ومعنى عروج الأمر إليه: صيرورة الأمر كله إليه، وسقوط أمر الخلق كلهم.
وقوله: * (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) هذه الآية تعد مشكلة، ووجه الإشكال: أن الله تعالى قال في آية أخرى: * (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) قال مجاهد: * (في يوم كان مقداره ألف سنة) معناه: أن من السماء إلى الأرض إذا نزل الملك خمسمائة سنة، وإذا صعد خمسمائة سنة فيكون ألف سنة.
وأما قوله: * (خمسين ألف سنة) هو من قرار الأرض إلى العرش. وقال بعضهم: خمسين ألف سنة، وألف سنة كلها في القيامة، فيكون يوم القيامة على بعضهم ألف سنة، وعلى بعضهم خمسين ألف سنة، واليوم واحد.
وفي بعض الأخبار: ' أن الله تعالى يقصره على المؤمن حتى يكون كما بين صلاتين '.
وقال بعضهم: يعرج بعض الأملاك في مقدار ألف سنة، ويعرج بعض الأملاك في مقدار خمسين ألف سنة، والله أعلم.
قوله تعالى: * (ذلك عالم الغيب والشهادة) أي: ما غاب عن العباد، وما لم يغب
243

* (الرحيم (6) الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلاسة من ماء مهين (8) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (9) وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق) * * عنهم، ويقال: الغيب ما في الآخرة، والشهادة ما في الدنيا.
وقوله: * (العزيز الرحيم) أي: المنيع في ملكه، الرحيم بخلقه.
قوله تعالى: * (الذي أحسن كل شيء خلقه) وقرئ: ' خلقه ' بفتح اللام، فمن قرأ: ' خلقه ' أي: أحسن خلق كل شيء، ومن قرأ: ' خلقه ' معناه: حسن كل شيء خلقه. قال ابن عباس: * (أحسن كل شيء خلقه) أي: أتقن وأحكم. وقيل: أما إن است القرد ليس بحسن، ولكنه محكم، وقيل: خلق البهائم على صورة البهائم، والآدميين على صورة الآدميين، ولم يخلق الآدميين على صورة البهائم، ولا البهائم على صورة الآدميين، فكل حيوان كامل حسن في خلقته، وهذا معنى قول الحكماء الذين مضوا: كل حيوان كامل في نقصانه؛ يعني: أنه لو قوبل بغيره كان ناقصا، وهو في نفسه وأداته كامل. وذكر بعضهم في معنى الآية: طول رجل البهيمة، وطول عنق الطائر؛ ليصل كل واحد منهما إلى معاشه.
وقوله: * (وبدا خلق الإنسان من طين) أي: آدم وذريته.
قوله تعالى: * (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) قد بينا معنى السلالة. وقوله: * (من ماء مهين) أي: ضعيف.
قوله تعالى: * (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) قد ذكرنا.
وقوله: * (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) أي: الأسماع والأبصار والأفئدة.
وقوله: * (قليلا ما تشكرون) أي: قليلا تشكرون.
قوله تعالى: * (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض) أي: هلكنا في الأرض، يقال: ضل
244

* (جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون (10) قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم) * * اللبن في الماء أي: هلك، ويقال: بلينا وصرنا ترابا، وقرئ في الشاذ: ' صللنا ' بالصاد غير معجمة. أي: تغيرنا، يقال: صل اللحم إذا أنتن.
وقوله: * (أئنا لفي خلق جديد) أي: نرجع أحياء بعد ما متنا، وقالوا هذا على طريق الجحد والإنكار.
وقوله: * (بل هم بلقاء ربهم كافرون) أي: بالبعث بعد الموت جاحدون.
قوله تعالى: * (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) ملك الموت هو عزرائيل، وقيل: يتوفاكم بنفسه، ويقال: بأعوانه. وفي بعض الأخبار: أن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض، فينزع أعوانه روح الإنسان فإذا بلغ ثغرة نحره قبضه ملك الموت. وروى أن الدنيا عند ملك الموت كطست بين رجلي إنسان.
وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: لقي جبريل ملك الموت ببحر فارس، فقال: يا ملك الموت، كيف تقبض أرواح الناس إذا وقع الوباء، فيموت من هذا الجانب عشرة آلاف، ومن هذا الجانب عشرة آلاف؟ فقال: تزوي الأرض بين عيني فألتقطهم التقاطا.
وروى جعفر بن محمد عن أبيه: ' أن النبي دخل على رجل من الأنصار يعوده، فرأى ملك الموت عند رأسه، فقتال له: ارفق بهذا الرجل من أصحابي، فقال: طب نفسا وقر عينا، فإني بكل مؤمن رفيق، ثم قال: يا محمد، والذي نفسي بيده لو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت عليه حتى يأمر الله بقبضه، وإني أتصفح وجوه الناس كل يوم خمس مرات ' والخبر غريب.
245

* (إلى ربكم ترجعون (11) ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون (12) ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (13) فذوقوا بما نسيتم) * *
وفي بعض المسانيد برواية أنس أن النبي قال: ' الأمراض والأوجاع رسل الموت، فإذا قبض ملك الموت روح عبد، فتصارخوا عليه قال: ماذا تصرخون؟ والله ما نقصت له رزقا، ولا قدمت له أجلا، ولا ظلمت منكم أحدا، وإنما دعاه الله فأجابه، فليبك كل امرئ على نفسه، وإن لي إليكم عودات ثم عودات حتى لا أبقى منكم أحدا ' والخبر من الغرائب أيضا.
وأما التوفي فهو استيفاء العدد، ومعناه: أنه يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كتب موتهم، قال الشاعر:
(إن بنى الأدرم ليسوا من أحد
* ولا توفيهم قريش من عدد)
يعني: ما استوفاهم قريش من عددهم.
وقوله: * (ثم إلى ربكم ترجعون) أي: تصيرون.
قوله تعالى: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم) معناه: ولو ترى المجرمين ناكسين رؤوسهم من فرط الندم وشدة الوجل، وفي الآية حذف، والمحذوف هو: أنك لو ترى المجرمين ناكسين رؤوسهم عند ربهم لرأيت ما يعتبر به.
وقوله: * (ربنا أبصرنا وسمعنا) أي: قائلين ربنا أبصرنا وسمعنا أي: أبصرنا صدق وعيدك، وسمعنا منك تصديق رسلك. قال قتادة: أبصروا حين لم ينفعهم البصر
. وسمعوا حين لم ينفعهم السمع. ويقال: أبصرنا معاصينا، وسمعنا ما قيل فينا.
وقوله: * (فارجعنا نعمل صالحا) أي: ردنا نعمل صالحا.
وقوله: * (إنا موقنون) أي: مصدقون بالبعث.
قوله تعالى: * (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) أي: هدايتها، ومعناه: لو شئنا
246

* (لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون (14) إنما يؤمن) * * لأدخلناهم في الإيمان.
وقوله: * (ولكن حق القول مني) أي: وجب القول مني، ويقال: سبق القول مني. قال الشاعر:
(فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا
* وحقت لك العتبى لدينا وقلت)
وقوله: * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)،
وقوله: * (الجنة) هم الجن، والجآن: أب الجن، كآدم أب (الإنس).
ورفع خارجة خبرا إلى النبي ' أنه سئل هل يدخل مؤمنو الجن الجنة؟ فقال: نعم. قيل: هل يصيبون من نعيمها؟ قال: يلهمهم الله تسبيحة وذكره، فيصيبون من لدنه ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة ' حكاه النقاش في تفسيره.
وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' تحاجت الجنة والنار؛ فقالت النار: أوثرت بالجبابرة والمتكبرين، وقالت الجنة: ما بالي يدخلني سفلة الناس وسقطهم وفي رواية: ضعفاء الناس ومساكينهم، وهو الأشهر فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من شئت، وقال للنار: أنت عذابي، أعذب بك من شئت، ولكل واحدة منكما ملؤها '.
قوله تعالى: * (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا) أي: بما تركتم من التصديق بلقاء يومكم هذا.
وقوله: * (إنا نسيناكم) أي تركناكم من الخير والرحمة، وقيل: تركناكم في العذاب.
وقوله: * (وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون) أي: العذاب الدائم جزاء على
247

* (بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (16)) * * عملكم. وحكى عن قتادة أنه قال في قوله: * (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) أي: بذنوبهم. قال الأزهري: وهو كما قال.
قوله تعالى: * (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها) أي: إذا دعوا إلى الصلوات الخمس أجابوا إليها، حكاه أبو معاذ النحوي، ويقال: إذا وعظوا بآيات الله اتعظوا.
وقوله: * (خروا سجدا) أي: وقعوا سجدا، والخرور في اللغة: هو السقوط، وعن حكيم بن حزام قال: ' بايعت رسول الله أن لا أخر إلا قائما ' أي: لا أموت إلا وأنا ثابت على الإسلام، وقوله: * (وسبحوا بحمد ربهم) أي: وصلوا بأمر ربهم.
ويقال: سبحوا [الله] وحمدوه.
وقوله: * (وهم لا يستكبرون) أي: لا يتكبرون، ويقال: من سجد لله فقد طرح التكبر عن رأسه، وفي بعض الأخبار: من سجد لله سجدة رفعه الله بها درجة.
قوله تعالى: * (تتجافى جنوبهم) أي: تنبوا وترتفعوا، ومعناه: أنهم يتركون المضاجع ويقومون إلى الصلاة، قال حسان بن ثابت:
(يبيت يجافي جنبه عن فراشه
* إذا استثقلت بالمشركين المضاجع)
واختلف القول في هذه الآية، فروى عن عطاء أنه قال: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة، فانزل الله هذه الآية.
وعن الحسن وقتادة قالا: هو الصلاة بين المغرب والعشاء.
وقال الضحاك: إذا استيقظوا ذكروا الله وسبحوه.
وعن أبي الدرداء وأبي ذر وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم أنهم قالوا: هو
248

* (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (17) أفمن كان) * * صلاة العشاء الآخرة والفجر في جماعة.
وأشهر الأقاويل: أن المراد منه صلاة الليل، قاله مجاهد ومالك والأوزاعي وجماعة.
وعن النبي أنه قال: ' عليكم بصلاة الليل، فإنها دأب الصالحين قبلكم '.
وقد ثبت عن النبي أنه قال في عبد الله بن عمر: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل، فلم يترك بعد ذلك صلاة الليل حتى توفاه الله تعالى '.
وفي حديث معاذ بن جبل أن النبي قال: ' الصوم جنة، والصدقة تكفر الخطيئة، والصلاة جوف الليل، ثم قرأ قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) '.
وقوله: * (يدعون ربهم خوفا وطمعا) أي: خوفا من النار، وطمعا في الجنة.
وقوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) يقال: إن المراد منها الزكاة المفروضة، ويقال: الصدقة والتطوع.
249

* (مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون (18) أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات) * *
قوله تعالى: * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) وقرئ: ' قرأت أعين '.
وقد ثبت عن النبي برواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي قال: ' يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم قوله تعالى: * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) '.
قال الشيخ الإمام: أخبرنا بهذا بالحديث أبو علي الشافعي، أخبرنا أبو الحسن بن [فراس] أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن المقرئ، أخبرنا جدي محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد.. الخبر.
وقوله: * (من قرة أعين) أي: ما تقر به أعينهم، وحكى النقاش في تفسيره عن موسى بن يسار قال: يمكث المؤمن في الجنة مع زوجته حينا، فتطلع عليه أخرى، فتقول له: أما آن يكون لنا منك دولة؟ فيقول لها: من أنت؟ فتقول: أنا من الذين قال الله تعالى: * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) فينتقل إليها ويمكث معها حينا، فتشرف عليه أخرى، وتقول مثل ما قالت الأولى، فيقول لها: من أنت؟ فتقول: أنا من الذين قال الله تعالى: * (ولدينا مزيد).
وعن ابن سيرين قال: ما أخفي لهم من قرة أعين: هو النظر إلى الله تعالى. (وعن بعضهم) قال: أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.
قال الحسن البصري: الخفية بالخفية، والعلانية بالعلانية.
وقوله: * (جزاء بما كانوا يعملون) ظاهر المعنى.
250

* (المأوى نزلا بما كانوا يعملون (19) وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (20) ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون (21) ومن أظلم) * *
قوله تعالى: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) أكثر المفسرين أن الآية نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وذكر بعضهم: عقبة، والأصح هو الأول. قال الوليد: أنا أحد منك سنانا، وأبسط منك لسانا، وأملأ منك للكتيبة. فقال له علي: اسكت، إنما أنت فاسق، فانزل الله تعالى هذه الآية. وقد بينا أن ثلاث آيات من هذه السورة نزلت بالمدينة، وهي من هذه الآية إلى آخر الثلاث، واستدل أهل الاعتزال بهذه الآية في القول بالمنزلة بين المنزلتين، وأن الفاسق لا يكون مؤمنا، والدليل عليهم ظاهر. وأما الفاسق ها هنا بمعنى الكافر. وقال بعضهم: سماه فاسقا على موافقة قول علي رضي الله عنه وقيل: إن الآية على العموم.
قوله تعالى: * (لا يستوون) أي: لا يستوون في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: * (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون) أي: عطاء بما كانوا يعملون، وجنات المأوى هي الجنات التي يأوي المؤمنون إليها.
قوله تعالى: * (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار) أي: [يأوون] إلى النار، ويأوون: ينقلبون.
وقوله: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) في بعض التفاسير: أن لجهنم ساحلا كساحل البحر، فيخرج الكفار إليه فتحمل عليهم حيات لها أنياب كالنخيل، فيرجعون إلى النار ويستغيثون بها.
وقوله: * (وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) والأثر الذي ذكرناه أورده أبو الحسين بن فارس في تفسيره.
251

* (ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون (22) ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل (23) وجعلنا منهم أئمة) * *
قوله تعالى: * (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى) قال ابن مسعود: هو الجوع الذي أصاب الكفار حتى أكلوا الميتات والجيف، وذلك بما دعا عليهم رسول الله من السنين، وعن ابن عباس قال: هو القتل ببدر، وعن جماعة من التابعين أنهم قالوا: هو المصائب. وعن بعضهم: هو الحدود، وعن جعفر بن محمد: العذاب الأدنى هو غلاء السعر، والعذاب الأكبر هو خروج المهدي بالسيف. وعلى أقوال من ذكرنا من قبل العذاب الأكبر: يوم القيامة، ونعوذ بالله منها.
وقوله: * (دون العذاب الكبر) أي: سوى العذاب الأكبر.
وقوله: * (لعلهم يرجعون) أي: يرجعون عن الكفر.
قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه) أي: وعظ بآيات ربه، وآيات ربه هو القرآن.
وقوله: * (ثم أعرض عنها إنا من لمجرمين منتقمون) روى معاذ أن النبي قال: ' ثلاث من فعلهن فهو مجرم، من عقد لواء بغير حق فهو مجرم ومن مشى مع ظالم لينصره فهو مجرم، ومن عق والديه فهو مجرم، ثم قرأ قوله تعالى: * (إنا من المجرمين منتقمون) '.
قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب) أي: التوراة.
وقوله: * (فلا تكن في مرية من لقائه) أي: في شك في لقائه، وفي معناه أقاويل:
252

* (يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (24) إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (25) أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون) * * أحدها: ما روى أبو صالح عن ابن عباس أن معناه: فلا تكن في شك من لقائك موسى، وقد كان لقيه ليلة الإسراء. وفي الخبر ان النبي قال: ' رأيت موسى آدم
طوالا جعد الشعر كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلا ربعة إلى الحمرة سبط الشعر... ' والخبر طويل. والقول الثاني: فلا تكن في مرية من لقائه أي: من لقاء موسى الكتاب، ولقاء موسى الكتاب: تلقيه بالقبول، ذكره الزجاج وغيره، والقول الثالث: فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربه، حكاه النقاش، وفي الآية قول رابع: وهو أن معناه على التقديم والتأخير كأنه قال: ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل.
وقوله: * (فلا تكن في مرية من لقائه) راجع إلى ما سبق من قوله تعالى: * (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر) ومعناه: فلا تكن في مرية من لقاء يوم العذاب، والله أعلم. * (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) يقال: إنه راجع إلى موسى، ويقال: راجع إلى الكتاب.
وقوله: * (وجعلنا منهم أئمة) أي: قادة إلى الخير، وقال بعضهم: هم الأنبياء، وقال بعضهم: أتباع الأنبياء.
وقوله: * (يهدون بأمرنا لما صبروا) أي: يرشدون بوحينا لما صبروا، وقرئ ' لما صبروا ' أي: عن المعاصي، وقيل: عن شهوات الدنيا.
وقوله: * (وكانوا بآياتنا يوقنون) أي: يصدقون.
قوله تعالى: * (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة) أي: يحكم بينهم حكم الفصل.
وقوله: * (فيما كانوا فيه يختلفون) ظاهر المعنى.
253

* (يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون (26) أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون (27) ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين (28) قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا) * *
قوله تعالى: * (أو لم يهد لهم) معناه: أو لم يبين لهم محمد؟ وقيل: الكتاب، وقرئ: ' أو لم نهد لهم ' أي: نبين لهم.
وقوله: * (كما أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم) أي: يمشي أهل مكة في مساكنهم.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون) أي: سماع قبول.
قوله تعالى: * (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز) أي: اليابس الذي لا ينبت شيئا، قال ابن عباس: هو ارض باليمن، وقال مجاهد: بأندلس، ويقال: الأرض الجرز هو الذي أكل زرعها ولم يبق فيها شيء.
وقوله: * (فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم) يعني: من العشب والتبن.
وقوله: * (وأنفسهم) من الحنطة والشعير وسائر الأقوات.
وقوله: * (أفلا يبصرون) ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: * (ويقولون متى هذا الفتح عن كنتم صادقين) فيه أقوال: أحدهما: أن الفتح هو فتح مكة. والآخر: أنه القتل بالسيف. والثالث: هو يوم القيامة. والرابع: هو قضاء الله بين العباد.
قوله تعالى: * (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم) يعني: يوم القيامة. ومن حمل الفتح على فتح مكة أو القتل بالسيف يوم بدر، فقال: معنى قوله: * (لا ينفع الذين كفروا إيمانهم)، أي: بعد الموت.
وقوله: * (ولا هم ينظرون) أي: يمهلون ليتوبوا أو يعتذروا، وقد كانوا يمهلون في
254

* (إيمانهم ولا هم ينظرون (29) فاعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون (30). * * الدنيا ليتوبوا أو يعتذروا.
قوله تعالى: * (فأعرض عنهم) هذه الآية قبل آية السيف، وقد نسختها آية السيف، ويقال: فأعرض عن أذاهم وإن أذوك.
وقوله: * (وانتظر إنهم منتظرون) أي: وانتظر عذابهم ووعيدنا فيهم فإنهم منتظرون. كذلك فإن قيل: كيف قال: * (إنهم منتظرون) العذاب، وما كانوا آمنوا بالعذاب؟ والجواب: لما كان الله تعالى وعدهم بالعذاب، وكان ذلك واصلا إليهم لا محالة؛ سماهم: منتظرين على مجاز الكلام، ويقال: فإنهم منتظرون: أي موتك وحوادث الدهر لك؛ ليستريحوا منك.
255

بسم الله الرحمن الرحيم
* (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما (1) واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا (2) وتوكل على الله) * *
تفسير سورة الأحزاب
وهي مدنية في قول الجميع
* (يا أيها النبي اتق الله) فيه أقوال: أحدها: (أي) دم على التقوى، كالرجل يقول لغيره وهو قائم قم ها هنا أي: أثبت قائما، والقول الثاني: أن الخطاب مع الرسول، والمراد أمته.
وقيل أيضا في الآية: * (اتق الله) أي: استكثر من أسباب التقوى، والتقوى: هي العمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وترك معصية الله خوف عذاب الله على نور من الله، وفي الآية قول رابع: وهو ما روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة في مدة الهدنة، وطلبوا من رسول الله
أشياء كريهة؛ فهم رسول الله والمسلمون أن يقتلوهم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (يا أيها النبي اتق الله) يعني: لا تنقض العهد الذي بينك وبينهم، ذكره الضحاك.
وقوله: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) أي: الكافرين من أهل مكة، والمنافقين من أهل المدينة.
وقوله: * (إن الله كان عليما حكيما) أي: عليما بخلقه قبل أن يخلقهم، حكيما فيما دبره لهم.
وقوله تعالى: * (واتبع ما يوحى إليك من ربك) أي: من القرآن.
وقوله: * (إن الله كان بما تعملون خبيرا) أي: خبيرا بأعمالكم.
قوله تعالى: * (وتوكل على الله) أي: ثق بالله.
256

* (وكفى بالله وكيلا (3) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم) * *
وقوله: * (وكفى بالله وكيلا) أي: وكفى بالله حافظا لك، ويقال: وكفى بالله كفيلا يرزقك.
قوله تعالى: * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) في الآية أقوال: أحدها: ما ذكر السدي وغيره: أن رجلا كان يقال له: جميل بن معمر والأصح أبو معمر جميل ابن أسد، وكان أهل الجاهلية يسمونه ذا القلبين لشدة ذكائه وفطنته، فلما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر فكان هو معهم انهزم أيضا؛ فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه في رجله والأخرى قد علق بيده. فقال له: ما شأن الناس؟ قال: هزموا. فقال: ما شأن نعلك بيدك؟ فقال: ما علمت إلا أنها في رجلي؛ فعلموا أنه ليس له إلا قلب واحد، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
والقول الثاني: أن المنافقين كانوا يقولون: لمحمد قلبان؛ قلب معكم، وقلب مع أصحابه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية وأخبر أنه ليس له إلا قلب واحد.
والقول الثالث: ما روي عن الحسن البصري أنه قال: كان الواحد منهم يقول: إن لي نفسا تأمرني بالخير، ونفسا تأمرني بالشر؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبر أنه ليس لأحد إلا نفس واحدة وقلب واحد، وإنما الأمر بالخير بإلهام الله، والأمر بالشر بإلهام الشيطان.
والقول الرابع: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه أي: ما جعل لرجل أبوين، وقد احتج به الشافعي في مسألة القائفة، وقال هذا: لأن زيد بن حارثة كان ينسب إلى النبي بالنبوة، فقال الله تعالى: * (ما جعل الله لرجل) أبوين أي: هو ابن حارثة، وليس بابن النبي.
وقوله: * (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) والظهار هو أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، وقد كانوا يعدونه طلاقا، فإن قيل: كيف
257

* (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (4) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن) * * وجه الجمع بين هذا وبين ما سبق؟ والجواب عنه: أن معناه ليس الأمر كما زعمتم من اجتماع قلبين لرجل أو أبوين، ولا كما زعمتم من أن المرأة تصير كالأم بالظهار. وأما معنى الظهار وحكمه فسنذكر في سورة المجادلة.
وقوله: * (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) في الآية نسخ التبني، وقد كان الرجل في الجاهلية يتبنى الرجل ويجعله ابنا له مثل الابن المولود، وعلى ذلك تبنى رسول الله زيد بن حارثة، فنسخ الله تعالى ذلك.
وقوله: * (ذلكم قولكم بأفواهكم) أي: هو قول لا حقيقة له.
وقوله: * (والله يقول الحق) أي: قوله الحق بما نهى من التبني.
وقوله: * (وهو يهدي السبيل) أي: يرشد إلى طريق الحق.
قوله تعالى: * (ادعوهم لآبائهم) قد ثبت برواية موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر أنه قال: ' ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى أنزل الله تعالى: * (ادعوهم لآبائهم) '.
قال الشيخ الإمام: أخبرنا بذلك مكي بن عبد الرزاق، أخبرنا أبو الهيثم، أخبرنا الفربري، أخبرنا البخاري أخبرنا معلى بن أسد، عن عبد العزيز بن المختار عن موسى ابن عقبة.. الحديث.
وقوله: * (هو أقسط عند الله) أي: أعدل عند الله.
وقوله: * (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين) أي: سموهم بأسماء إخوانكم في الدين، وذلك مثل، عبد الله، وعبد الكريم، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، وأشباه ذلك.
258

* (ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما (5) النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين) * *
وقوله: * (ومواليكم) هذا قول الرجل للرجل: أنا أخوك ومولاك، أو يقول: أنا أخوك ووليك، ويقال: إخوانكم في الدين من كانوا في الأصل أحرارا ومواليكم من أعتقوا، ويقال: مواليكم من أسلم على أيديكم.
وقوله: * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) الخطأ في هذا أن يقول لغيره: يا بن فلان، وهو يظن أنه ابنه، ثم يتبين أنه ليس بابنه.
والقول الثاني: الخطأ ها هنا هو ما فعلوا قبل النهي، والتعمد ما فعلوه بعد النهي.
وقوله: * (وكان الله غفورا رحيما) أي: ستورا عطوفا.
قوله تعالى: * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) أي: من بعضهم ببعض.
وقد ثبت أن النبي قال: ' أنا أولى بكل مؤمن ومؤمنة من نفسه، فمن ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي '.
وفي الآية قول آخر: وهو أن معناه: أن الرسول إذا دعاه إلى شيء، ونفسه دعته إلى شيء، فيتبع الرسول ولا يتبع النفس، والقول الثالث: هو ما روي أن النبي كان يخرج إلى الجهاد، فيقول قوم: يا رسول الله، نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: * (وأزواجه أمهاتهم) أي: في الحرمة خاصة دون النظر إليهن والدخول عليهن، وفي قراءة ابن مسعود وأبي: ' وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم '.
259

* (والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا (6)) * *
واختلفوا في المرأة التي فارقها النبي قبل الوفاة على ثلاثة أوجه: فأحد الوجوه: أنها محرمة أيضا، والوجه الآخر: أنها ليست بمحرمة، والوجه الثالث: أنها إن كان دخل بها فهي محرمة، وإن لم يكن دخل بها فليست بمحرمة.
واختلف الوجه أيضا في أنهن هل يكن أمهات المؤمنات، فأحد الوجهين أنهن أمهات المؤمنات كما أنهن أمهات المؤمنين، والوجه الآخر: انهن أمهات الرجال دون النساء، وروى أن امرأة قالت لعائشة: يا أماه، فقالت: أنا أم رجالكم دون نسائك.
وأما أخوة أزواج النبي فليسوا بأخوال المؤمنين، وكذلك أخوات أزواج النبي لستن خالات المؤمنين.
وقد روى أنه كانت عند الزبير أسماء بنت أبي بكر، فقالت الصحابة: عند الزبير أخت أم المؤمنين، ولم يقولوا: عنده خالة المؤمنين.
وقوله: * (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) أي: أولى بعضهم ببعض ميراثا في حكم الله، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة، فنسخ الله تعالى ذلك إلى التوارث بالقرابة. وروى أن النبي آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان يرث بعضهم بعضا '، ثم نسخ ذلك.
وقوله: * (من المؤمنين والمهاجرين) دليل على أن المؤمنين لا يرث الكافر، والكافر لا يرث المؤمن.
وقوله: * (والمهاجرين) دليل على أن المهاجر لا يرث من غير المهاجرين، ولا غير المهاجر من المهاجر.
وقوله: * (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) فيه قولان: أحدهما: إلا أن توصوا وصية لغير الأقرباء الذين هم أهل دينكم، وحقيقة المعنى: أنه نسخ ميراثهم، وأبقى جواز الوصية، والقول الثاني: أن المراد من الآية هو الوصية للكفار، فالمعنى على
260

* (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7) ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا) * * هذا: أن الكفار لا يرثون المسلمين، ولو أوصى لهم جاز.
وقوله: * (كان ذلك في الكتاب مسطورا) أي: في اللوح المحفوظ، ويقال: في القرآن وسائر كتب الله.
وقوله: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) الميثاق: العهد الغليظ، وأشد العهد هو التحليف بالله.
وقوله: * (ومنك ومن نوح) اختلف القول في تقديم النبي، فأحد القولين: ما رواه أبو هريرة عن النبي أنه قال: ' أنا أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا '.
وعن قتادة قال: بدأ به في الخلق، وختم به في البعث، والقول الثاني: أن الواو توجب الجمع، ولا توجب تقديما ولا تأخيرا، فكأنه قال: أخذنا من هؤلاء النبيين ميثاقهم، وخص هؤلاء لأنهم كانوا أصحاب الشرائع وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى [ابن مريم]، ومحمد. وأما معنى الميثاق: قال أهل التفسير: أخذ عليهم أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادة الله، ويصدق بعضهم بعضا، وينصحوا الناس، ويقال: أخذ على نوح أن يبشر بإبراهيم، وعلى إبراهيم أن يبشر بموسى، [وعلى موسى أن يبشر بعيسى]، وهكذا إلى محمد.
وقوله: * (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) قد بينا من قبل.
وروى عن أبي بن كعب أنه قال: أخذ ذرية آدم من ظهر آدم، والنبيون فيهم،
261

* (أليما (8) يا أيها وا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم) * * كأنهم سرج تزهو، وأخذ عليهم الميثاق. وعن بعضهم: خلق الأرواح قبل الأجساد، وأخذ الميثاق على الأرواح.
قوله تعالى: * (ليسأل الصادقين عن صدقهم) أي: ليسأل النبيين عن تبليغهم الرسالة، فإن قال قائل: وأي حكمة في سؤالهم عن تبليغ الرسالة؟ والجواب عنه: الحكمة في ذلك تبكيت الذين أرسلوا إليهم، وعلى هذا المعنى قوله تعالى: * (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله).
ويقال: ليسأل الصادقين عن عملهم لله، وقيل: ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم.
وقوله: * (وأعد للكافرين عذابا أليما) قد تم الكلام الأول، وهذا ابتداء كلام، ومعناه معلوم.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم) أي: منة الله عليكم.
وقوله: * (إذ جاءتكم جنود) المراد من الجنود هم الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله وهم: قريش عليهم أبو سفيان، وأسد عليهم طليحة بن (خويلد)، وغطفان عليهم عيينة بن حصن، وكانت عدتهم بلغت اثني عشر ألفا، (ورئيس الجماعة) أبو سفيان، وقصدوا استئصال النبي وأصحابه، ودخل يهود قريظة معهم وأمرهم معهم
، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي في قصة طويلة؛ فلما بلغ النبي أمرهم حفر الخندق حول المدينة، [وهذه هي] غزوة الخندق وجمع الأحزاب.
262

* (تروها وكان الله بما تعملون بصيرا (9) إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك ابتلي) * *
وقوله: * (فأرسلنا عليهم ريحا) في التفسير: أن الله تعالى أرسل عليهم ريح الصبا حتى هزمتهم، قال عليه الصلاة والسلام: ' نصرت بالصبا، وأهلكت عاد، بالدبور '. وكانت الريح تقلع فساطيطهم، وتقلب قدورهم، وتسف التراب في وجوههم، وجالت خيلهم بعضا في بعض؛ فانهزموا ومروا، وكفى الله أمرهم.
وقوله: * (وجنودا لم تروها) أي: الملائكة.
وقوله: * (وكان الله بما تعملون بصيرا) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (إذ جاءوكم من فوقكم) في التفسير: أن الذين جاءوا من فوقهم هم أسد وغطفان.
وقوله: * (ومن أسفل منكم) هم قريش وكنانة. ويقال: الذين جاءوا من فوقهم قريظة، ومن أسفل منكم قريش وغطفان.
وقوله: * (وإذ زاغت الأبصار) أي: شخصت الأبصار، وفي العربية معنى زاغت: مالت، فكأنها مالت شاخصة، فهذا من الرعب والخوف.
وقوله: * (وبلغت القلوب الحناجر) أي: بنت عن أماكنها وارتفعت، قال قتادة: لو وجدت مسلكها لخرجت من الحناجر، ولكنها ضاقت عليها. والأصح من المعنى أن هذا على طريق التمثيل، والعرب تقول: بلغ قلب فلان حنجرته، أي: من الرعب والخوف والحنجرة حرف الحلقوم وهو كلمة عبارة عن شدة الفزع.
وقوله: * (وتظنون بالله الظنونا) أي: ودخلت الألف لموافقة (أواخر) الآيات في السورة.
263

* (المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11) وإذ يقول المنافقون الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا (12) وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم) * *
قال الشاعر:
(أقلى اللوم عاذل والعتابا
* وقولي إن أصبت لقد أصابا)
أي: أقلى يا عاذلي اللوم والعتاب.
قوله تعالى: * (هنالك ابتلى المؤمنون) هنالك في اللغة للبعيد، وهنا للقريب، وهناك للوسط، ومعنى هنالك ها هنا أي: عند ذلك ابتلي المؤمنون.
وقوله: * (وزلزلوا زلزالا شديدا) أي: حركوا حركة شديدة، وقرئ: ' زلزالا ' بفتح الزاي، والأشهر بكسر الزاي ' زلزالا '، وهو الأصح في العربية. ومن الأخبار المشهورة: أن رجلا قال لحذيفة رضي الله عنه: رأيت رسول الله وصحبته، والله لو رأيناه حملناه على أعناقنا. فقال حذيفة: أخبرك أيها الرجل أنا كنا مع رسول الله في غزوة الخندق، فبلغ بنا الجهد والجوع والخوف ما الله به أعلم، فقال رسول الله من منكم يذهب فيأتي بخبر القوم، والله يجعله رفيقي في الجنة؟ فما أجابه منا أحد من شدة الأمر، ثم قال ثانيا، فما أجابه منا أحد، ثم قال ثالثا، فما أجابه منا أحد فقال: يا حذيفة، فلم أستطع أن لا أجيب فجئته، فقال: اذهب وأتنى بخبر القوم، ولا تحدثن أمرا حتى تأتيني، ودعاني فذهبت، وأتيته بخبر القوم في قصة.. '.
وإنما أراد حذيفة بهذه الرواية أن لا يتمنى ذلك الرجل ما لم يدركه، فلعله لا يصبر على البلوى إن أدركته.
قوله تعالى: * (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) اختلفوا في القائل لهذا القول، قال بعضهم: هو أوس بن قيظي، وقال
264

بعضهم: عبد الله بن أبي، وقال بعضهم: معتب بن قشير، وأما الوعد الذي سموه غرورا فهو ما روي ' أن النبي لما أمر بحفر الخندق قسم الحفر على أصحابه، فوقع سلمان مع بني هاشم، فجعل يحفر فبلغ صخرة لا يستطيع حفرها، فأخذ رسول الله المعول من يده، وضرب على الصخرة ضربة فأضاءت كالشهاب، ثم كذلك في الثانية والثالثة، فقال سلمان: يا رسول الله، لقد رأيت عجبا! فقال رسول الله: ولقد رأيتها؟ قال نعم، رأيت في الضربة الأولى قصور اليمن، وفي الضربة الثانية المدائن البيض أي: قصر كسرى، وفي الضربة الثالثة رأيت قصور الشام، فقال:: ليفتحنها الله على أمتي، فانتشر ذلك في الناس؛ فلما بلغ بهم الأمر ما بلغ، قال هؤلاء القوم: إن محمدا يعدنا ملك كسرى وقيصر، وإن أحدنا لا يستطيع أن يفارق رحله (ويذهب) إلى الخلاء، ما هذا إلا الغرور، فأنزل الله تعالى ما ذكرنا من الآية '.
قوله تعالى: * (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب) هو المدينة، ويقال: يثرب موضع والمدينة منه، قال حسان بن ثابت شعرا:
(سأهدي لها في كل عام قصيدة
* وأقعد مكفيا بيثرب مكرما).
وفي بعض الأخبار: ' أن النبي نهى أن تسمى المدينة يثرب، وقال: هي طابة ' كأنه عليه الصلاة والسلام كره هذه اللفظة؛ لأنه من التثريب.
وقوله: * (لا مقام لكم) وقرئ ' لا مقام لكم ' برفع الميم، فقوله: * (لا مقام لكم) أي: لا إقامة لكم، وقوله: * (لا مقام لكم) بفتح الميم أي: لا منزل لكم.
265

* (فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (13) ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا
بها إلا يسيرا (14) ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا) * *
وقوله: * (فارجعوا) أي: ارجعوا عن أتباع محمد، وخذوا أمانكم من المشركين.
وقوله: * (ويستأذن فريق منهم النبي) هؤلاء بنو سلمة وبنو حارثة، وقيل: غيرهم.
وقوله: * (يقولون إن بيوتنا عورة) أي: ذات عورة، وقيل: معورة يسهل عليها دخول السراق، ويقال: إن بيوتنا عورة أي: ضائقة، وقال الفراء: عورة ذليلة الحيطان، وليست بحريزة، وقرئ في الشاذ: ' عورة ' بفتح العين وكسر الواو، والمعنى يرجع إلى ما بينا.
وقوله: * (وما هي بعورة) يعني: إنهم كاذبون في قولهم، وإنما يريدون الفرار، فهو معنى قوله تعالى: * (إن يريدون إلا فرارا) وأنشدوا في العورة:
(حتى إذا ألقت يدا في كافر
* وأجن عورات الثغور ظلامها)
قوله تعالى: * (ولو دخلت عليهم من أقطارها) أي: من نواحيها.
وقوله: * (ثم سئلوا الفتنة) أي: الشرك، ويقال: القتال في العصبية.
وقوله: * (لآتوها) بالمد، وقرئ: ' لأتوها '، فقوله ' لآتوها ' بالمد أي: لأعطوها، وقوله: ' لآتوها '. أي: [لقصدوها].
وقوله: * (وما تلبثوا بها إلا يسيرا) أي: ما احتسبوا إلا يسيرا، وأعطوا ما طلب منهم طيبة بها أنفسهم.
قوله تعالى: * (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار) الأدبار: جمع
266

(* (15) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا (16) قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (17) قد يعلم الله المعوقين منكن والقائلين) * * الدبر، أي: لا ينهزمون. وذكر مقاتل وغيره أن هذا في الذين بايعوا مع رسول الله ليلة العقبة، وقالوا: يا رسوا الله، اشترط لربك، فقال: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، فقالوا: اشترط لنفسك. فقال: أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم ' وكان الذين بايعوا ليلة العقبة [سبعين] نفرا، وأول من بايع أبو الهيثم بن التيهان، وهذا القول ليس بمرض؛ لأن أصحاب العقبة لم يكن فيهم شاك، ولا من يقول مثل هذا القول، وإنما الآية في قوم عاهدوا أن يقاتلوا ولا يفروا حتى يقتلوا ونقضوا العهد.
وقوله: * (وكان عهد الله مسؤولا) أي: مسؤولا عنه.
قوله تعالى: * (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت الموت أو القتل) يعني: أن الأجل يدرككم في وقته.
وقوله: * (وإذا لا تمتعون إلا قليلا) معناه: إلى منتهى آجالكم، وفي بعض الحكايات: أن رجلا انهزم [في] بعض الحروب، فكان يلام على ذلك، ويقرأ عليه هذه الآية * (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل إذا لا تمتعون إلا قليلا) فقال: ذلك القليل أطلب.
قوله تعالى: * (قل من ذا الذي يعصمكم من الله) أي: يجيركم ويمنعكم.
وقوله: * (إن أراد بكم سوءا) أي: الهزيمة وظفر عدوكم بكم.
وقوله: * (أو أراد بكم رحمة) أي: خيرا ونصرة.
وقوله: * (ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) أي: قريبا ينفعهم، وناصرا يمنعهم.
قوله تعالى: * (قد يعلم الله المعوقين منكم) يقال: عاقه واعتاقه وعوقه إذا صرفه
267

* (لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا (18) أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف * * عما يريده. ويقال: المعوقين منكم أي: المثبطين منكم.
وقوله: * (والقائلين لإخوانكم هلم إلينا) أي: ارجعوا إلينا
وقوله: * (ولا يأتون البأس إلا قليلا) أي: لا يقاتلون إلا قليلا رياء وسمعة من غير حسبة، والآية نزلت في قوم من المنافقين قالوا حين أحاط الجنود بالمسلمين: إن محمدا وقومه أكله رأس، والله لو كان محمد وأصحابه لحما لالتهمهم أبو سفيان وحزبه أي: ابتلعهم، وكانوا يقولون لأصحاب محمد من الأنصار: دعوا محمد، فإن محمدا يريد أن يقتلكم جميعا. وقال الكلبي في قوله: * (إلا قليلا) يعني: إلا رميا بالحجارة.
قوله تعالى: * (أشحة عليكم) أي: بخلا بالنصرة والموافقة في القتال، وقال قتادة: بخلاء عند الغنيمة، فكأن الله تعالى قال: هم أحسن قوم عند القتال، وأشح قوم عند الغنيمة.
وقوله: * (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) والمغشي عليه من الموت قد ذهب عقله، وشخص بصره، وهو المحتضر الذي قرب من الموت.
وقوله: * (فإذا ذهب الخوف سلقوكم) قال الفراء: وقعوا فيكم بألسنة سليطة ذرية. وعن بعضهم: سلقوكم بألسنة حداد يعني: عند طلب الغنائم، وعند المجادلات بالباطل، وقد روى عن النبي أنه قال: ' البذاء (والبيان) شعبتان من النفاق، والحياء والعي شعبتان من الإيمان '.
268

* (سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا (19) يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بأدون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا (20) * *
وتقول العرب: خطيب مسلاق وسلاق إذا كان بليغا في الخطابة، وعن ابن عباس قال: سلقوكم أي: عضهوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة، قال الأعشى:
(فيهم الخصب والسماحة والنجدة فيهم والخاطب السلاق)
وقوله: * (أشحة على الخير) قد بينا أنها عند الغنيمة.
وفي الخبر: ' أن النبي قال للأنصار: إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع ' أي: تجمعون عند القتال، وتتفرقون عند أخذ المال، وأما وصف المنافقين على الضد من هذا، فإنهم كانوا جبناء عند القتال، بخلاء عند المال.
وقوله: * (أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم) أي: أبطل الله أعمالهم.
وقوله: * (وكان ذلك على الله يسيرا) أي: سهلا.
قوله تعالى: * (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) أي: من الجبن والخوف.
وقوله: * (وإن يأت الأحزاب) أي: يرجعوا بعد الذهاب.
وقوله: * (يودوا لو أنهم بأدون في الأعراب) البادون: خلاف الحاضرين، وهم الذين يسكنون البادية، وقولة: * (في الأعراب) أي: مع الأعراب.
وقوله: * (يسألون عن أنبأكم) أي: [عن] أخباركم، ومعنى سؤالهم عن الأخبار هو أن الظفر كان للمشركين، أو لمحمد وأصحابه.
وقوله: * (ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا) أي: تعذيرا، ومعنى تعذيرا أي:
269

* (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21) ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله) * * يقاتلون شيئا يسيرا يقيمون به عذرهم، فيقولون قد قاتلنا.
قوله تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) أي: قدوة حسنة، والتأسي: هو الاقتداء، وإنما ذكر الأسوة ها هنا حتى ينصروا (ويقومون) ويصبروا على ما يصيبهم، كما فعل رسول الله فإنه كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في جبهته، وكسرت البيضة على رأسه، وقتل عمه فلم يفتر في أمر الله، وصبر على جميع ذلك.
وقوله: * (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) أي: يرجو ثواب الله، وقيل: لمن كان يخشى الله واليوم الآخر، والرجاء يكون بمعنى الخشية، وقد يكون بمعنى الطمع.
وقوله: * (وذكر الله كثيرا) أي: في جميع المواطن على السراء والضراء.
قوله تعالى: * (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله) قال قتادة: معنى هذه الآية راجع إلى قوله تعالى في سورة البقرة: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) والآية تتضمن أن المؤمنين يلقاهم ويستقبلهم مثل هذا البلاء، فلما رأوا ذلك يوم الخندق قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله.
وعن بعضهم أن النبي قال لأصحابه: ' إن المشركين سائرون إليكم فنازلون بكم عشرا ' أو كما قال فلما رأى المؤمنون الأحزاب [قالوا: هذا ما وعدنا الله
270

3 * (ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما (22) من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله * * ورسوله] وقد ساروا إليهم * (وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) أي: تصديقا بالله، وتسليما لأمر الله.
قوله تعالى: * (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) أي: قاموا بما عاهدوا الله عليه، ويقال: قاموا بالأمر على الوفاء والصدق.
وقوله: * (فمنهم من قضى نحبه) النحب يرد بمعاني كثيرة، وأولى المعاني أنه بمعنى العهد، فمعنى الآية: أتم العهد وقام به، قال الحسن البصري: أي أقام بالوفاء والصدق. وقال ابن قتيبة: النحب هو النذر، ومعنى قضى نحبه ها هنا أي: قتل في سبيل الله، كأن القوم بقبولهم الإيمان نذروا أن يموتوا على ما يرضاه الله، فمن قتل في سبيل الله فقد قضى نذره.
قال محمد بن إسحاق: الآية في الذين استشهدوا يوم أحد، وهم حمزة رضي الله عنه ومن استشهد معه.
وقد ثبت برواية يزيد بن هارون، عن حميد، عن انس رضي الله عنه أن عمه النضر بن أنس كان تخلف عن بدر فقال: تخلفت عن أول غزوة غزاها رسول الله، لئن أراني الله قتالا مع المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانهزم المسلمون، ورأى ذلك النضر بن أنس قال: اللهم إني أعتذر إليك ما جاء به هؤلاء يعني المسلمين وابرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين ثم مضى بوجوه الكفار، فلقي سعد بن معاذ دون أحد، فقال له سعد: أنا معك، قال سعد: فلم أستطع أن أصنع ما صنع، فوجد به بضع وثمانون من ضربة سيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم. وفي رواية أخرى: فلم تعرفه إلا أخته بثناياه. قال أنس: ففيه وفيمن استشهد نزل قوله: * (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر).
271

* (عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23) ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما (
24) ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان) * *
يعني: من المؤمنين من بقي بعد هؤلاء الذين استشهدوا، وهم ينتظرون أحد الأمرين إما الشهادة في سبيل الله وإما الظفر، وأنشدوا في النحب شعرا:
(قضى نحب الحياة وكل حي
* إذا يدعي لميتته أجابا)
ومن المعروف أيضا أن النحب هو الخطر العظيم. قال جرير في النحب:
(بطخفة جالدنا الملوك وخلينا
* عشية بسطام جرين على نحب)
أي: على الخطر العظيم
وقوله: * (وما بدلوا تبديلا) أي: لم يتركوا ما قبلوه وعاهدوا عليه.
قوله تعالى: * (ليجزي الله الصادقين بصدقهم) أي: جزاء صدقهم، وصدقهم هو وفاؤهم بالعهد.
وقوله: * (ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم) فيهديهم للإيمان.
وقوله: * (وكان الله غفورا رحيما) أي: ستورا عطوفا.
قوله تعالى: * (ورد الله الذين كفروا بغيظهم) أي: ردهم ولم يشتفوا من محمد وأصحابه، وقد كانوا قصدوا قصد الاستئصال.
وقوله: * (لم ينالوا) أي: لم يظفروا بما أرادوا.
وقوله: * ([خيرا] وكفى الله المؤمنين القتال) أي: بما أرسل من الريح عليهم، وفي بعض الروايات الغريبة عن ابن عباس: وكفى الله المؤمنين القتال أي: لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد كان قتل عمرو بن عبد ود في ذلك اليوم، وكان رأسا من رؤوس الكفار كبيرا فيهم، وضربه عمرو بن عبد ود في ذلك اليوم على رأسه
272

* (الله قويا عزيزا (25) وانزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26) وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) * * ضربة فلما ضربه، ابن ملجم وقعت ضربة ابن ملجم على موضع ضربة عمرو بن عبد ود، فهلك في ذلك رضي الله عنه.
وقوله: * (وكان الله قويا عزيزا) أي: قويا في ملكه، عزيزا في انتقامه.
قوله تعالى: * (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب) أي: عاونوهم من أهل الكتاب، وهم قريظة، وقد كانوا في عهد النبي، وسيدهم كعب بن أسد، وأما بنو النضير فسيدهم حيي بن أخطب، فلما أجلى رسول الله بني النضير إلى الشام، ذهب حيي بن أخطب، إلى قريش و (استنصرهم)، وجمع الأحزاب وجاء بهم لقتال النبي، ثم جاء إلى قريظة وحملهم على نقض العهد في قصة طويلة، وعاهد معهم أن المشركين لو رجعوا ولم يظفروا دخل معهم في حصنهم ليصيبه ما يصيبهم، فلما هزم المشركون دخل معهم في حصنهم، وأما قريظة فنقضوا العهد، وقصدوا حرب النبي مع الأحزاب في قصة مذكورة في المغازي.
وقوله: * (من صياصيهم) أي: من حصونهم، ومنه صياصي البقر أي: قرونها لأنها تمتنع بها.
وقوله: * (وقذف في قلوبهم الرعب) أي: الخوف.
وقوله: * (فريقا تقتلون) قتل رسول الله من قريظة أربعمائة وخمسين، وفي رواية ستمائة، وفيهم حيي بن أخطب وسادتهم، وكانوا يقولون: هذا ذبح كتبه الله على بني إسرائيل.
وقوله: * (وتأسرون فريقا) أسر منهم سبعمائة وخمسين، وفي رواية سبعمائة
273

* (وأرضا لم تطئووها وكان الله على كل شيء قديرا (27) يا أيها النبي قل لأزواجك إن) * * (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) أي: أغنمكم.
وقوله: * (وأرضا لم تطئوها) أظهر الأقاويل: أنها خيبر، وقال عكرمة: جميع ما فتح الله تعالى ويفتحه من أراضي المشركين إلى يوم القيامة. وعن بعضهم فارس والروم.
وقوله: * (وكان الله على كل شيء قديرا) أي: قادرا.
وأما قصة قتل قريظة [فهو على] ما روى ' أن النبي لما رجع من الخندق إلى بيته ووضع لامته أي: درعه واغتسل جاء جبريل عليه السلام على فرس ودعاه، فلما خرج من بيته قال: أتضع سلاحك ولم تضع الملائكة أسلحتكم! وكان الغبار على وجهه ووجه فرسه، وقال: يا جبريل، إلى أين؟ قال: إلى قريظة '، ' فخرج النبي وخرج أصحابه إلى قريظة، ونادى في أصحابه: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في [بني] قريظة، فلم يصلوا حتى غربت الشمس، فبعضهم صلى العصر، وبعضهم لم يصل حتى وصل، فلم يعنف واحدا من الفريقين ' وحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، ونزلوا على حكم سعد بن معاذ، وكانوا حلفاءه في الجاهلية وسعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج فلما نزلوا على حكمه، وكان سعد مريضا بالمدينة في بيته برمية أصابت أكحله يوم الخندق، وكان الدم لا يرقأ، فدعا الله تعالى وقال: اللهم أبقني حتى تريني ما يقر عيني في قريظة، فرقأ الدم.
274

* (كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعتكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن) * *
فلما نزلوا على حكمه استحضره رسول الله، فجاء على حمار موكف وقد حف به قومه، وجعلوا يقولون له: حلفاؤك ومواليك، فقال سعد: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فلما جاء إلى النبي قال عليه الصلاة والسلام للأنصار: قوموا إلى سيدكم، ثم إنه حكم بأن يقتل المقاتلة، وتسبى الذرية، ويقسم المال، فقال له النبي: حكمت بحكم الملك. وروى أنه قال: حكمت بحكم الله من فوق عرشه، ثم إنه فعل بهم ما حكم، ثم إن سعدا قال لما قتلوا: اللهم إن كنت أبقيت حربا بين رسولك وبين قريش فأبقني لها، وإن كنت قد وضعت الحرب بين رسولك وبين قريش فاقبضني إليك، فانفجر كلمه في الحال، فلم يرعهم إلا والدم يسيل إليهم، وتوفى في ذلك رضي الله عنه.
قوله تعالى: * (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) الآية. قال المفسرون: سبب نزول الآية أن نساء النبي سألنه شيئا من الدنيا، ولم يكن عنده، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيره بعضهن على بعض؛ فأنزل الله تعالى آية التخيير.
وحكى النقاش في تفسيره عن الضحاك: أن زينت بنت جحش سألته ثوبا ممصرا، وهو البرد المخطط، وميمونة سألته حلة يمانية، وأم حبيبة سألته ثوبا من ثياب خضر، وجويرية سألته معجرا، وعن بعضهن: أنها سألته قطيفة، ولم يكن عنده شيء من ذلك. وحكى أنهن قلن: لو كنا عند غيره كان لنا حليا وثيابا، فأنزل الله تعالى آية التخيير. وقد ثبت أن النبي آلى منهن شهرا واعتزل في غرفة في قصة
275

* (كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (29) يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان) * * طويلة.
وفي بعض الروايات عن ابن عباس أن النبي كان في بيت حفصة فتشاجرا، فقال لها رسول الله: أجعل بيني وبينك رجلا، أتريدين أباك؟ قالت: نعم، فدعا عمر رضي الله عنه فلما دخل قال النبي لحفصة: تكلمي.
فقالت حفصة: يا رسول الله، تكلم ولا تقل إلا حقا. فرفع عمر يده وضرب وجهها، وقال: يا عدوة نفسها، أتقولين هذا لرسول الله؟ ثم إن رسول الله آلى منهن شهرا واعتزل، وأنزل الله تعالى آية التخيير، فلما أنزل الله آية التخيير بدأ بعائشة رضي الله عنها.
وقد ثبت هذا برواية الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة أن النبي بدأ بها لما أنزل الله تعالى آية التخيير، قالت عائشة: فدخل علي وقال: ' يا عائشة، إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لا يأمرانني بفراقه، ثم تلا على الآية، فقلت: أفي هذا أستأمر أبواي؟ لقد اخترت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم عرض ذلك على سائر نسائه؛ فقلن مثل ذلك '. وروى هذا الخبر البخاري عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، والإسناد كما بينا من قبل، وأما أزواجه اللاتي خيرهن فكن تسعا، خمسة قرشيات هن: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم سلمة بنت أمية، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأما غير القرشيات: فزينب بنت جحش الأسدية، وصفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
276

قال المفسرون: فلما اخترنه شكر الله تعالى لهن ذلك، فنهى النبي أن يتزوج بسواهن أو يتبدل بهن، وذلك في قوله تعالى: * (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن) وسنذكر حكم ذلك من بعد واختلف العلماء في هذا الخيار، أكان طلاقا؟ وإنما خيرهن على إن اخترن الدنيا فارقهن بلا طلاق، وإن اخترنه أمسكهن، وذهب جماعة إلى أن هذا الخيار كان طلاقا فكأنه خيرهن، ولو اخترن أنفسهن كان طلاقا.
واختلف الصحابة في الرجل يقول لامرأته: اختاري. فتقول: اخترت نفسي، فذهب عمر إلى أنها لو اختارت زوجها لا تكون شيئا، وإن اختارت نفسها فطلقة واحدة، والزوج أحق برجعتها.
وقال علي: إن اختارت زوجها فطلقة واحدة، والزوج أحق برجعتها، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة، ولا يملك الزوج رجعتها، وذهب إلى أنها إن اختارت زوجها فواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها فثلاث، وقد قيل غير هذا. وهذه الأقوال الثلاثة هي المعروفة، وقد ذهب إلى كل قول من هذه الأقوال جماعة من العلماء، والدليل على أنها إذا اختارت زوجها لا تكون طلاقا أن عائشة قالت: خيرنا رسول الله فاخترناه، أفكان طلاقا؟!
وقوله: * (فتعالين أمتعكن) أي: متعة الطلاق، وقد بينا في سورة البقرة.
وقوله تعالى: * (وأسرحكن سراحا جميلا) السراح الجميل هو المفارقة الجميلة، وذلك من غير تعنيف ولا أذى.
قوله تعالى: * (وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات) والمحسنات هي اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وجميع نساء النبي قد اخترن ذلك، فجميعهن محسنات. ويجوز أن تذكر ' من ' ولا تكون للتبعيض، فلا يدل ذلك على أن منهن من ليست بمحسنة.
277

* (ذلك على الله يسيرا (30) ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها) * *
وقوله: * (أجرا عظيما) وفي التفسير: أن الله تعالى خيرهن بين الدنيا والآخرة، وبين الجنة والنار، فاخترن الآخرة على الدنيا، والجنة على النار.
قوله تعالى: * (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة) فإن قيل: أيدل هذا الخطاب على أن منهن من أتت بفاحشة أو تأتي بفاحشة؟ قلنا: لا، كما أن الله تعالى قال للنبي: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) وهذا لا يدل على أنه قد أتى بشرك أو يأتي.
جواب آخر: أنه قد حكى عن ابن عباس أنه قال: الفاحشة ها هنا بمعنى النشوز وسوء الخلق.
وقوله: * (يضاعف لها العذاب ضعفين) وقرئ: ' يضعف ' من التضعيف، وقرئ: ' نضعف ' بالنون، فقوله * (نضعف) بالنون ظاهر المعنى، وهو نسبة الفعل
إلى نفسه، وقوله: ' يضعف ' و ' يضاعف ' خبر.
وقوله: * (ضعفين من العذاب) أي: مثلي عذاب غيرها، فإن قيل: ولم تستحق مثلي عذاب غيرها؟ قلنا: لشرف حالها بصحبة النبي، وهذا كما أن الحرة تحد مثلي حد الأمة لشرف حالها. وقد استدل أبو بكر الفارسي في أحكام القرآن بهذه الآية على أنهن أشرف نساء العالم.
وقوله: * (وكان ذلك على الله يسيرا) أي: هينا، وقد ذكر بعضهم أن قوله: * (يضاعف لها العذاب) يقتضى ثلاثة أعذبة؛ لأن ضعف الواحد مثلاه، والأصح هو الأول.
قوله تعالى: * (ومن يقنت منكن لله ورسوله) القنوت هو المداومة على الطاعة، ومنه القنوت في الصلاة، وهو المداومة على الدعاء.
وقوله: * (وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين) أي: مثلي أجر غيرها، وهذا على
278

* (مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما (31) يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32) وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما) * * طريق مقابلة الثواب بالعقاب.
وقوله: * (وأعتدنا لها رزقا كريما) أي: الجنة.
قوله تعالى: * (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) فإن قيل: هلا قال كواحدة من النساء؟ والجواب، أنه قال: * (كأحد من النساء) ليكون أعم في الكل.
وقوله: * (إن اتقيتن) التقوى هي الاحتراز عن المعاصي، والحذر عما نهى الله عنه.
وقوله: * (فلا تخضعن بالقول) أي: لا تلن في القول، ولا ترققن فيه. ويقال: الخضوع في القول أن تتكلم على وجه يقع بشهوة المريب.
وقوله: * (فيطمع الذي في قلبه مرض) قال قتادة: أي النفاق، وقال عكرمة: شهوة الزنا.
وقوله: * (وقلن قولا معروفا) أي: قولا يوجبه الدين والإسلام بصريح وبيان.
قوله تعالى: * (وقرن في بيوتكن) وقرئ بكسر القاف؛ فقوله بالكسر من السكون والهدوء وترك الخروج. والقراءة بالنصب تحتمل هذا، وتحتمل الأمر بالوقار. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ما تعبدت الله امرأة بمثل تقوى الله وجلوسها في بيتها. وفي بعض الآثار، أنه قيل لسودة: ألا تخرجين كما تخرج أخواتك؟ قالت: قد حججت واعتمرت، وقد أمرني الله تعالى أن أقر في بيتي، فلا أريد أن أعصي الله تعالى، فلم تخرج من بيتها حتى أخرجت على جنازتها.
وقوله: * (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) قال المبرد: التبرج هو أن تظهر من
279

* (يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (33) واذكرن ما يتلى) * * نفسها ما أمرت بستره. وعن ابن أبي نجيح قال: هو التبختر. وعن قتادة قال: المشي بالتغنج والتكسر. وعن مجاهد قال: هو المشي بين يدي الرجال.
وأما الجاهلية الأولى فقيل: هي زمان نمروذ، وقد كانت المرأة تخرج وعليها قميص من لؤلؤ ثم تخيط جانباه، وعن بعضهم: ما بين نوح وإدريس، وعن الشعبي: مل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ويقال: إن أول ما ظهر من الفاحشة في بني آدم أنه كان بطنان من بني آدم أحدهما يسكنون الجبل، والآخر يسكنون السهل، وكان رجال الجبل صباحا، وفي النساء دمامة، ونساء السهل صبيحات، وفي الرجال دمامة، فاحتال إبليس حيلة حتى أتخذ عيدا، وجمع بينهم فارتكب بعضهم من بعض الفاحشة. وذكر بعضهم أن في الجاهلية الأولى [كانت المرأة تكون] بين رجلين، فنصفها الأسفل لأحدهما والأعلى للآخر، فيجتمع على المرأة زوجها وحبها، وقال في ذلك بعضهم شعرا:
(أترغب في البدال أبا جبير
* وأرضى بالكواعب والعجوز)
وأما الجاهلية الأخرى فقوم يفعلون مثل فعلهن وذلك في آخر الزمان، وقال بعضهم: يجوز أن يذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى، ألا ترى أن الله تعالى قال: * (وأنه أهلك عادا الأولى) ولم يكن لها أخرى.
وقوله: * (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله) ظاهر المعنى.
وقوله: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) في الآية أقوال: روى سعيد بن جبير عن أبن عباس: أنها نزلت في نساء النبي، وقد [قاله] عكرمة وجماعة.
280

وذهب أبو سعيد الخدري وأم سلمة وجماعة كثيرة من التابعين منهم مجاهد وقتادة وغيرهما أن الآية في أهل بيت النبي، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين.
وروت أم سلمة ' أن النبي كان في بيتها وعنده علي وفاطمة والحسن والحسين، فأنزل الله تعالى هذه الآية فجللهم بكساء وقال: اللهم؛ هؤلاء أهل بيتي. قالت أم سلمة: فقلت: يا رسول الله، وأنا من أهل بيتك، فقال: إنك إلى خير '. ذكره أبو عيسى في جامعه.
وروى أيضا بطريق أنس ' أن النبي كان يمر بعد نزول هذه الآية على بيت فاطمة بستة أشهر، ويقول: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا '.
واستدل من قال بهذا القول أن الله تعالى قال: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) ولم يقل: ' عنكن '، ولو كان المراد به نساء النبي لقال: ' عنكن ' ألا ترى أنه في الابتداء والانتهاء لما كان الخطاب مع نساء النبي خاطبهن بخطاب الإناث.
والقول الثالث: أن الآية عامة في الكل، وهذا أحسن الأقاويل، فآله قد دخلوا في الآية، ونساؤه قد دخلن في الآية. واستدل من قال: إن نساءه قد دخلن في الآية؛ أنه قال: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) وأهل بيت الرسول هن نساءه؛ (ولأنه تقدم ذكر نسائه)، والأحسن ما بينا من التعميم.
281

* (في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا (34) إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات) * *
وقد روى أن زيد بن أرقم سئل: من آل النبي. فقال: هم الذين حرم عليهم الصدقة. وأما الرجس فمعناه: ما يدعو إلى المعصية. وقال بعضهم: عمل الشيطان. والرجس في اللغة هو كل مستقذر مستخبث.
وقوله: * (ويطهركم تطهيرا) أي: من المعاصي بتقوى الله تعالى، وذهب بعض (أصحاب) الخواطر إلى أن معنى قوله: * (ويذهب عنكم الرجس) أي: الأهواء والبدع * (ويطهركم تطهيرا) بالسنة، وقال بعضهم: يذهب عنكم الرجس أي: الغل والحسد (ويطهركم تطهيرا) بالتوفيق والهداية، وقال بعضهم: يذهب عنكم الرجس: البخل والطمع * (ويطهركم تطهيرا) بالقناعة والإيثار، والتفسير ما بينا من قبل.
قوله تعالى: * (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) أي: القرآن والسنة.
وقوله: * (إن الله كان لطيفا خبيرا) أي: رحيما بهم، خبيرا بأعمالهم.
قوله تعالى: * (إن المسلمين والمسلمات) سبب نزول الآية ما روى أن أم سلمة قالت: ' يا رسول الله، ما بال الرحال يذكرون في القرآن، ولا يذكر النساء، ونخشى ألا يكون فيهن خير '.
وفي رواية أسماء بنت عميس: قدمت من الحبشة فدخلت على نساء النبي: وقالت لهن: هل ذكر الله تعالى النساء بخير في القرآن؟ قلن: لا. قالت: هذا هو
282

* (والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين) * * الخيبة والخسار، أخشى ألا يكون لله فيهن حاجة، ثم أتت النبي وذكرت ذلك له '.
وفي رواية ثالثة: ' أن التي قالت ذلك أم عمارة الأنصارية، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر النساء بخير كما ذكر الرجال '.
قوله تعالى: * (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) قد بينا معنى الإسلام ومعنى الإيمان، وقد فرق بعض أهل السنة بين الإيمان والإسلام، ولم يفرق بعضهم. والمسألة فيها كلام كثير.
وقوله: * (والقانتين والقانتات) المطيعين والمطيعات.
وقوله: * (والصادقين والصادقات) أي الصادقين في إيمانهم، والصادقات في إيمانهن. يقال: إن المراد بالصدق هو صدق القول في جميع الأشياء.
وقوله: * (والصابرين والصابرات) أي: الصابرين على الطاعة، والصابرين عن المعصية، وكذلك معنى الصابرات.
وقال قتادة: الصبر عن المعصية أفضل من الصبر على الطاعة، وعليه الأكثرون.
وقوله: * (والخاشعين والخاشعات) أي: المتواضعين والمتواضعات. ويقال: إن المراد بالخشوع هو الخشوع في الصلاة.
وعن سعيد بن جبير قال: الخشوع في الصلاة ألا يعلم من على يمينه ولا من على
283

* (والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله) * * يساره. وقال غيره: من الخشوع أن لا تلتفت.
وقوله: * (والمتصدقين والمتصدقات) أي: المتصدقين على الفقراء والمتصدقات عليهم.
وقوله: * (والصائمين والصائمات) معلوم. وروى عن بعضهم: من صام ثلاثة أيام في كل شهر فهو من الصائمين والصائمات، ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين، ومن لم يلتفت في صلاته فهو من الخاشعين، أورده النقاش في تفسيره.
وقوله: * (والحافظين فروجهم والحافظات) أي: من ارتكاب الفواحش.
وحكى النقاش: أن من لم يزن فهو من الحافظين لفروجهم.
وقوله: * (والحافظات) أي: والحافظاتها.
وقوله: * (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) أي: والذاكراته، قال الشاعر:
(فكمتا مدماة كأن متونها
* جرى فوقها واستشعرت لون مذهب)
يعني: جرى فوقها لون مذهب واستشعرته.
وأما الذكر الكثير، فروى عن مجاهد أنه قال: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكره قائما وقاعدا ومضطجعا.
وروى الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أن النبي قال: ' من قال سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كتب من الذاكرين الله كثيرا، وتحات عنه خطاياه كما يتحات الورق عن الشجر، ونظر الله إليه، ومن نظر إليه (لم) يعذبه '.
وفي بعض المسانيد برواية أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ' أيما رجل أيقظ
284

* (لهم مغفرة وأجرا عظيما (35) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا) * * امرأته من الليل، فقاما وتوضيا وصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات '.
وقوله: * (أعد لهم مغفرة وأجرا عظيما) أي: مغفرة للذنوب، وأجرا عظيما: هو الجنة.
قوله تعالى: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) الآية نزلت في شأن زينب بنت جحش وأخيها عبد الله بن جحش، وكانا ولدي عمة رسول الله، وهي أميمة بنت عبد المطلب، فكانا من قبل الأب من بني أسد من أولاد غنم بن دودان، فروى ' أن النبي خطب زينب لزيد بن حارثة مولاه، فكرهت ذلك، وقالت: أنا بنت عمتك، أتزوجني من مولاك؟! وكذلك كره أخوها، فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (وما كان لمؤمن) أي: عبد الله بن جحش * (ولا مؤمنة) أي: زينب '.
وقوله: * (إذا قضى الله ورسوله أمرا) أي: أراد الله ورسوله أمرا، وذلك هو نكاح زيد لزينب.
285

* (أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36) وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت أمسك عليك عليه زوجك واتق الله وتخفي في) * *
وقوله: * (أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) أي: يكون لهم الاختيار، والمعنى: أن يريد غير ما أراد الله، أو يمتنع مما أمر الله ورسوله به.
وقوله: * (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) أي: أخطأ خطأ ظاهرا؛ فلما سمعا ذلك سلما الأمر، وزوجها رسول الله من زيد بن حارثة.
قوله تعالى: * (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) أي: أنعم الله عليه بالإسلام.
وقوله: * (وأنعمت عليه) أي: بالعتق، وهو زيد بن حارثة، وقد كان جرى عليه سبي في الجاهلية، فاشتراه رسول الله وأعتقه وتبناه على عادة العرب.
وقوله: * (أمسك عليك زوجك) أي: امرأتك، وأما سبب نزول هذه الآية: ' أن النبي لما زوج زينب من زيد ومضت على ذلك مدة، دخل عليها رسول الله يوما فرآها قائمة، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق، وهي في درع وخمار، فلما رآها وقعت في قلبه وأعجبه حسنها، وقال: سبحان مقلب القلوب. وسمعت ذلك زينب، وخرج رسول الله وفي قلبه ما شاء الله، فلما دخل عليها زيد ذكرت ذلك له '. وفي بعض التفاسير: ' أن زيدا جاء يشكو زينب، وكانت امرأة لسنة، فذهب رسول الله ليعظها، فكان الأمر على ما ذكرنا، ثم إن زيدا أتى رسول الله وقال: يا رسول الله، إني أشكو إليك سوء خلق زينب، وإن فيها كبرا، وإني أريد أن أطلقها، فقال له رسول الله: أمسك عليك زوجك أي امرأتك واتق الله في أمرها '.
286

* (نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا) * *
وقوله: * (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) قال قتادة: هو محبته لها. وقال الحسن: ود النبي طلاقها ولم يظهره. وذكر علي بن الحسين أن معنى الآية: هو أن الله تعالى كان أخبره أن زيدا يطلقها وهو يتزوج بها، فالذي أخفاه هو هذا، وهذا القول هو الأولى وأليق بعصمة الأنبياء. ومنهم من قال: الذي أخفي في نفسه هو أنه لو طلقها زيد تزوج بها، وهذا أيضا قول حسن.
وقوله: * (وتخشى الناس) أي: تستحي من الناس، ويقال: تخشى مقالة الناس ولائمتهم، وأنهم يقولون إنه تزوج بامرأة ابنه.
وقوله: * (والله أحق أن تخشاه) فإن قيل: هذا يدل على أنه لم يخش الله فيما سبق منه في هذه القصة. والجواب من وجهين: أحدهما: أن معنى قوله: * (والله أحق أن تخشاه) ابتداء كلام في جميع الأشياء، وقد أمر الله تعالى جميع عباده بالخشية في عموم الأحوال.
والجواب الثاني: أنك أضمرت شيئا ولم تظهره، فإن خشيت الله تعالى في إظهاره فاخشه في إضماره. وحقيقة المعنى: أنه لا خشية إلا من الله فيما تظهر و [إلا] فيما تضمر، فلا تراقب الناس.
فإن قيل: إذا كان قد ود أن يطلقها كيف قال أمسك عليك زوجك؟ والجواب: أن ذاك الود ود طبع وميل نفس، والبشر لا يخلو عنه.
وأما قوله: * (أمسك عليك زوجك واتق الله) أمر بالمعروف، وليس عليه إثم فيما يقع في قلبه من غير اختياره، وعلى أنا قد ذكرنا سوى هذا من الأقوال، وقد ثبت برواية مسروق عن عائشة أنها قالت: ' لو كتم النبي شيئا من الوحي لكتم هذه الآية '، وروى أنه لم تكن آية أشد عليه من هذه الآية.
وقوله: * (فلما قضي زيد منها وطرا زوجناكها) في التفسير: أن زيدا لما أخبر
287

بالأمر طلقها، وقد ذكر بعضهم: أن النبي تركها حتى انقضت عدتها ثم تزوجها '.
وليس في أكثر التفاسير ذكر عدة، ولا ذكر تزويج من ولي، وإنما المنقول أن زيدا طلقها، وأن الله زوجها منه، وهو ظاهر.
قوله تعالى: * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) وقوله: * (وطرا) أي: حاجة، وهو بلوغ منتهى ما في النفس، قال الشاعر:
(أيها الرايح المجد ابتكارا
* قد قضى من تهامة الأوطار)
وقال جرير:
(وبان الخليط غداة الجناب
* ولم تقض نفسك أوطارها)
وقد ثبت في الصحيحين: أن زينب كانت تفتخر على سائر زوجات النبي وتقول: زوجكن أهلوكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات '.
وروى ' أن النبي لما أراد أن يتزوجها بعث زيدا يخطبها، فدخل عليها زيد وخطبها لرسول الله، فقالت: حتى أوآمر ربي، وقامت إلى مسجدها، وأنزل الله تعالى: * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) ' وهذا خبر معروف، قال أهل التفسير: ' ولما نزلت هذه الآية جاء رسول الله ودخل عليها بغير إذن، وأولم عليها بالخبز واللحم '. وقد ثبت برواية أنس ' أن النبي ما أولم على أحد من نسائه ما أولم على زينب بنت جحش، أشبع الناس من الخبز واللحم '. ومن فضائل زينب ' أن النبي قال لنسائه عند الوفاة: ' أسرعكن بي لحوقا أطولكن،
288

* (زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37) ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا (38) الذين يبلغون رسالات الله) * * يدا ' فكانت زينب أول من توفيت من أزواج النبي بعده، وكانت امرأة صناعا، تكثر الصدقة بكسب يدها، فعرفوا أن معنى طول اليد هو كثرة الصدقة '.
وهي أيضا أول من اتخذ عليها النعش، فإنه روى أنها لما ماتت في زمن عمر رضي الله عنه وكانت امرأة خليقة، كره عمر أن تخرج كما يخرج الرجال؛ فبعثت أسماء بنت عميس النعش فأمر عمر حتى (اتخذ) ذلك، وأخرجت في النعش، وقال عمر: نعم خباء الظعينة هذا، فجرت السنة على ذلك إلى يومنا هذا. قالوا: وقد كانت أسماء رأت ذلك بالحبشة.
وقوله: * (لكيلا يكون على المؤمنين حرج) أي: إثم.
وقوله: * (في أزواج أدعيائهم) أي: في نساء يتبنونهم، وقد كانت العرب تعد ذلك حراما، فنسخ الله التبني، وأحل امرأة (المتبنين).
وقوله: * (إذا قضوا منهن وطرا) قد ذكرنا.
وقوله: * (وكان أمر الله مفعولا) أي: كان حكم الله نافذا لا يرد.
قوله تعالى: * (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله) أي: فيما أحل الله.
وقوله: * ([له] سنة الله في الذين خلوا من قبل) أي: كسنة الله في الذين خلوا من قبل، فلما نزع (الخافض انتصب)، وقيل: إنه نصب على الإغراء كأنه قال: الزموا سنة الله.
أما قوله: * (في الذين خلوا من قبل) أي: داود وسليمان، فقد بينا عدد ما كان
289

* (ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا (39) ما كان محمد أبا أحد من) * * لداود وسليمان من النساء. وذكر (بعضهم)، أن المراد من الآية تشبيه حال النبي بحال داود؛ فإن داود هوى امرأة فجمع الله بينهما على وجه الحلال، وكذلك الرسول هوى امرأة فجمع الله بينهما على وجه الحلال.
قوله: * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) أي: قضاء مقضيا.
قوله تعالى: * (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) أي: [خشية] تحول بينهم وبين معصيته، وهذا هو الخشية حقيقة.
وقوله: * (ولا يخشون أحدا إلا الله) أي: غير الله، ومعناه: أنهم لا يراقبون أحدا فيما أحل لهم. وفي بعض (الآثار): من لم يستح مما أحل الله له خفت مؤنته.
وقوله: * (وكفى بالله حسيبا) أي: حافظا، ويقال: محاسبا، تقول العرب: (أحسبني) الشيء أي: كفاني.
قوله تعالى: * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) أكثر المفسرين أن المراد منه زيد بن حارثة، ومعناه: أنه ليس بأبي زيد بن حارثة، فإن قيل: أليس انه قد كان له أولاد ذكور وإناث، وكذلك الحسن والحسين كانا ولديه.
وقد ثبت عن النبي أنه قال للحسن بن علي: ' إن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين '.
وفيه إشارة إلى الصلح الذي وقع بين أهل العراق وأهل الشام حين بايع الحسن معاوية وسلم إليه الأمر، والقصة معروفة. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن @ 291 @
* (رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (40) يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرة وأصيلا (42) هو الذي يصلي) * * معنى قوله: * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) أي: أبا رجل لم يلده، ولم يكن ولد زيد بن حارثة؛ فلم يكن أباه، وقد كان له أولاد ذكور ولدهم وهم: القاسم، والطيب، والطاهر، وإبراهيم رضي الله عنهم وجعل بعضهم بدل الطاهر المطهر.
والجواب الثاني: أنه قال: * (من رجالكم) وهؤلاء كانوا صغارا، والرجال اسم يتناول البالغين. وروى عطاء عن ابن عباس أن الله تعالى لما حكم أنه لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلا، ولو أعطاه ولدا ذكرا يصير رجلا لجعله نبيا.
وقد قال بعض العلماء: ليس هذا بمستنكر، ويجوز أن يكون له ولد رجل ولا يكون نبيا، وما ذكرناه محكى عن ابن عباس، والله أعلم.
وقوله: * (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) وقرئ: ' خاتم ' بنصب التاء، فأما قوله: * (وخاتم النبيين) بالفتح أي: آخر النبيين، وأما بالكسر أي: ختم به النبيين.
وقوله: * (وكان الله بكل شيء عليما) أي: عالما، وقد ثبت برواية جابر بن عبد الله أن النبي قال: ' مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة منها، فجعل كل من يدخل الدار يقول: ما أحسنها وأكملها لولا موضع اللبنة، فأنا اللبنة، ولا نبي بعدي '.
وفي بعض الغرائب من الأخبار: أن النبي قال: ' لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه نبي، ولا نبي بعدي '.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا) فيه قولان: أحدهما:
290

* (عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما (43)) * * أن المراد بالذكر الكثير هو الصلوات الخمس، والثاني: أن المراد بالذكر الكثير هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وأشباهها، وهذه الأذكار هي التي لا يمنع منها مسلم بجنابة ولا حدث ولا بغير ذلك. وقال بعضهم: الذكر الكثير يكون بالقلب، وهو الذكر الذي يستديم به طاعة الله، وينتهي به عن معصيته.
وقوله: * (وسبحوه بكرة وأصيلا) أي: صلوا لله بكرة وأصيلا، والأصيل: ما بين العصر والمغرب، ويقال: صلاة الأصيل هي الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة.
قوله تعالى: * (هو الذي يصلي عليكم وملائكته) اختلفوا في معنى (الصلوات) من الله تعالى؛ قال أبو العالية: هو الثناء من الله على عباده، (وعن) بعضهم: إشاعة الذكر الجميل لهم، وأشهر الأقوال: ان الصلاة من الله تعالى بمعنى الرحمة والمغفرة، وأما صلاة الملائكة بمعنى الاستغفار للمؤمنين. وذكر الحسن البصري: أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام: أيصلي ربك؟ فذكر موسى ذلك لله تعالى؛ فقال الله تعالى: إني أصلي، وصلواتي أن رحمتي سبقت غضبي '.
وفي بعض التفاسير: أن الله تعالى لما أنزل قوله تعالى: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) قالت الصحابة: يا رسول الله، هذا لك! فما لنا؟ فأنزل الله تعالى: * (هو الذي يصلي عليكم وملائكته).
وقوله: * (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) أي: من ظلمة الضلالة إلى نور الهداية، ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، وقيل: من ظلمة النار إلى نور الجنة.
وقوله: * (وكان بالمؤمنين رحيما) يعني: لما حكم لهم من السعادة.
292

* (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما (44) يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46) وبشر المؤمنين بأن) * *
قوله تعالى: * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) وفيه أقوال: أحدها: أن معنى ' يلقونه ' أي: يلقون الله تعالى، والسلام من الله تعالى لهم إثبات السلامة الأبدية والأمن من الآفات. وقيل: يسلم الله عليهم تسليما.
والقول الثاني: أن معنى قوله: ' يلقونه ' أي: ملك الموت عليه السلام، وقد وردت الكناية عن غير مذكور في مواضع كثيرة من القرآن. قال البراء بن عازب: ما من مؤمن إلا ويسلم عليه ملك الموت إذا أراد قبض روحه. والقول الثالث: أن المراد منه تسليم الملائكة، ومعناه: أنهم إذا بعثوا سلم عليهم ملائكة الله وبشروهم بالجنة.
وقوله: * (وأعد لهم أجرا كريما) أي: الجنة، واعلم أنه قد ورد أخبار في الحث على ذكر الله تعالى؛ منها ما ثبت عن النبي أنه قال: ' يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني '.
وقد ثبت أيضا عن النبي قال: ' يقول الله تعالى: إذا ذكرني العبد في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم.. ' الخبر.
وفي بعض المسانيد أن النبي قال: ' من عجز عن الليل أن يكابده، وجبن عن العدو أن يجاهده، وبخل بالمال أن ينفقه، فعليه بذكر الله تعالى '.
* (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا) أي: شاهدا على إبلاغ الرسل رسالة ربهم.
وقوله: * (ومبشرا) أي: بالجنة، وقوله: * (ونذيرا) أي: من النار.
293

* (لهم من الله فضلا كبيرا (47) ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (48) يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من) * *
وقوله: * (وداعيا إلى الله) أي: إلى الإسلام. وقيل: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
وقوله: * (بإذنه) أي: بأمره. وقوله: * (وسراجا منيرا) أي: ذا سراج منير، والسراج المنير هو القرآن. وقيل: وسراجا هو الرسول؛ سماه سراجا لأنه يهتدي به كالسراج يستضاء به، قال الشاعر:
(إن الرسول لنور يستضاء به
* مهند من سيوف الله مسلول)
وقوله: * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) روى أن الله تعالى لما أنزل قوله: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) قالت الصحابة: يا رسول الله، هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله تعالى: * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا).
قوله تعالى: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) الكافرين: أبو سفيان، وعكرمة بن أبي جهل وقد أسلموا من بعد وأبو الأعور السلمي، والمنافقين: عبد الله بن أبي، وطعمة بن أبيرق، وابن (سفنة)، وأشباههم.
وقوله: * (ودع أذاهم) قال مجاهد: اصبر على أذاهم، ويقال: إن هذه الآية نسختها آية السيف.
وقوله: * (وتوكل على الله) أي: ثق بالله.
وقوله: * (وفكى بالله وكيلا) أي: حافظا.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن) في الآية دليل على أن الطلاق لا يجوز قبل النكاح؛ لأنه رتب الطلاق على النكاح فدل [على] أنه لا يتقدمه، وقد حكى هذا المعنى عن ابن عباس.
294

* (قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (49) يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما) * *
وقد روي عن النبي أنه قال: ' لا طلاق قبل النكاح ' وهذا يقوي ما ذكرناه من الاستدلال بالآية.
وقوله: * (من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) في الآية دليل على أنه لو طلق قبل الدخول لا تجب العدة، وأما إذا خلا بالمرأة ثم طلقها هل تجب العدة؟ في المسألة خلاف معروف على ما عرف.
وقوله: * (تعتدونها) أي: تستوفون عدتها.
وقوله: * (فمتعوهن) قد بينا المتعة في سورة البقرة. وعن بعضهم: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) ولهذا وجب نصف المفروض قبل الدخول ولم تجب المتعة، وإنما تجب المتعة للمطلقة التي لا تجب لها نصف المفروض.
وقوله: * (وسرحوهن سراحا جميلا) والتسريح الجميل هو الطلاق مع قضاء الحقوق.
قوله تعالى: * (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن) أي: مهورهن.
قوله: * (وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك) أي: أغنمك الله. ويقال: رد الله عليك من الكفار، ومما أفاء الله عليه صفية بنت حيي بن أخطب وجويرية بنت أبي ضرار المصطلقية، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه، وولد له منها إبراهيم ابنه.
وقوله: * (وبنات عمك) أي: أولاد عبد المطلب.
295

* (أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من) * *
وقوله: * (وبنات عماتك) أي: من أولاد بنات عبد المطلب.
وقوله: * (وبنات خالك وبنات خالاتك) أي: من أولاد عبد مناف بن زهرة بن كلاب.
وقوله: * (اللاتي هاجرن معك) فيه قولان: أحدهما: أسلمت معك، فيقتضى أن غير المسلمة لا تحل له وإن كانت يهودية أو نصرانية، وهي حلال لأمته. والقول الثاني: هاجرن معك إلى المدينة، فاقتضت الآية أن غير المهاجرة لا تحل له؛ وفي معناه قولان: أحدهما: أن غير المهاجرة لا تحل له من الأجنبيات والقرابات. والقول الثاني: أن غير المهاجرة لا تحل من القرابات واللاتي ذكرهن، فأما من الأجنبيات فحلال.
وروى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول الله لما فتح مكة خطبني، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلم أحل له لأني لم أكن من المهاجرات، وكنت من الطلقاء. وأم هانئ أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقوله: * (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) وقرئ: ' إن وهبت ' بالفتح إذ بالكسر على العموم، وبالفتح على امرأة بعينها.
وعن ابن عباس أنه قال: لم يكن ممن أمسكها النبي من النساء أحد وهبت نفسها.
وعن غيره أن ميمونة بنت الحارث كانت ممن وهبت، وممن وهبت نفسها أم شريك، وكانت امرأة صالحة. وروى أنها عطشت في سفر، فأنزل الله تعالى عليها دلوا من السماء، وعلقت عكة فارغة فأصاب فيها سمنا، فيقال: من آيات الله عكة أم
296

* (دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون) * * شريك، ' وقد كان رسول الله عهدها جميلة، فسأل عنها يوم فتح مكة فبلغها ذلك، فجاءت ووهبت نفسها للنبي، فلم يرها كما عهدها فتركها '.
وعن عائشة رضي الله عنها أن خولة بنت حكيم ممن وهبت نفسها للنبي.
وعن الشعبي: أن التي وهبت نفسها للنبي زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين.
وقوله: * (إن أراد النبي أن يستنكحها) أي: يطلب نكاحها.
وقوله: * (خالصة لك من دون المؤمنين) فيه قولان: أحدهما: أن معني خالصة: أنها حلال لك بغير صداق، ولا تحل لغيرك بغير صداق، وهذا قول عكرمة وجماعة. والقول الثاني: أن معنى قوله: * (خالصة لك) يعني: أن جواز النكاح بلفظ الهبة [خالص] لك، نسب هذا إلى الشافعي رحمه الله.
وقوله: * (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) أي: أوجبنا عليهم في أزواجهم من الأحكام؛ والأحكام أن النكاح لا يجوز إلا بشهود وولي وصداق وفراغ عن العدة وأشباه ذلك.
وقوله: * (وما ملكت أيمانهم) أي: وما أوجبنا من الأحكام فيما ملكت أيمانهم.
وقوله: (* (عليهم و) * أيمانهم) ينصرف إلى المؤمنين.
وقوله: * (لكيلا يكون عليك حرج) أي: ضيق. معناه: وسعنا عليك الأمر لكي لا يكون عليك حرج.
297

* (عليك حرج وكان الله غفورا رحيما (50) ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين) * *
وقوله: * (وكان الله غفورا رحيما) قد بينا.
قوله تعالى: * (ترجى من تشاء منهن) فيه ثلاثة أقوال: أحدها: تطلق من تشاء منهن، وتؤوي إليك من تشاء أي: تمسك من تشاء منهن، حكي هذا عن ابن عباس. والقول الثاني: ترجى من تشاء منهن: لا تتزوجهن. وقوله: * (وتؤوى إليك من تشاء) أي: من تشاء نكاحهن. والقول الثالث: ترجى من تشاء منهن أي: تؤخرهن فيخرجن من القسم.
وقوله: * (وتؤوي إليك من تشاء) أي: تدخلهن في القسم، وهذا أشهر الأقاويل، فكأن الله تعالى جوز أن يقسم لمن شاء، ويترك من شاء منهن. ثم اختلف القول في أنه هل أخرج أحدا منهن عن القسم؟ فأحد القولين: أنه لم يخرج أحدا منهن عن القسم. والقول الثاني: حكاه أبو رزين أنه أخرج خمسة وقسم لأربعة، فالخمسة التي أخرجهن: سودة، وأم حبيبة، وصفية، وجويرية، وميمونة، وأما اللاتي قسم لهن: فعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب، والأظهر هو القول الأول.
وقد روى ' أنه كان في مرض موته يدور على نسائه حتى رضين بأن يمرض في بيت عائشة '.
وقوله: * (ومن ابتغيت ممن عزلت) أي: ممن رأيت منهن وقد أخرتها * (فلا جناح عليك) أي: لا إثم عليك.
وقوله: * (ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن) معناه: أنهن إذا علمن أن هذا مما أنزل الله تعالى كان أطيب لأنفسهن، وأقل لحزنهن، وأقرب إلى رضاهن. ويقال: إذا علمن أن لك أن تؤوي من شئت، فمن عزلت كان أقرب إلى
298

* (بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما (51) لا يحل لك النساء من بعد ولا من أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك) * * ما ذكرنا. وفي بعض التفاسير: ' أن النبي أراد أن يطلق جماعة من نسائه، فقلن له: اتركنا على حالنا، واقسم كما شئت '.
وقوله: * (والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما) أي: عليما بأمر خلقه، حليما عن فعل خلقه.
قوله تعالى: * (لا يحل لك النساء من بعد) قد بينا أن الله تعالى لما أمر رسوله أن يخير أزواجه فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة؛ شكر لهن اختيارهن وحرم عليه ما سواهن من النساء، ونهاه عن الاستبدال بهن، ثم اختلف القول أنه هل أحل له النساء من بعد أولا؟ فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ' ما توفي رسول الله حتى أحل له النساء '.
والقول الثاني: أن الحرمة بقيت إلى أن توفي النبي.
وقوله: * (ولو أعجبك حسنهن) ظاهر المعنى، وفي الآية قول آخر. وهو ما روي عن مجاهد أنه قال: * (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج) أي: ليس لك أن تختار غير المسلمات على المسلمات، ومعناه: أنه لا يجوز له أن يتزوج يهودية ولا نصرانية. وفي بعض التفاسير: أن التي أعجبته هي أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت عند جعفر بن أبي طالب، فلما استشهد عنها أراد النبي أن يخطبها، فنهى عن ذلك.
وقوله: * (إلا ما ملكت يمينك) يعني: سوى ما ملكت يمينك، وقوله * (وكان الله على كل شيء وقيبا) أي: حفيظا.
299

* (وكان الله على كل شيء رقيبا (52) يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فأدخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا) * *
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) سبب نزول الآية: ما روى أن الصحابة كانوا يدخلون بيوت النبي بغير إذن، وينتظرون إدراك الطعام، فإذا فرغوا من الطعام جلسوا يتحدثون وأطالوا الجلوس، وكان النبي يتأذى بهم ويستحي منهم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعلمهم هذا الأدب بينهم وبين النبي.
وقد ثبت برواية أنس ' أن النبي أو لم على زينب بنت جحش ودعا أصحابه، فلما فرغوا وخرجوا، جلس رجلان يتحدثان، وأحب النبي أن يخرجا فيخلوا بأهله فلم يخرجا '. وفي رواية: أنه خرج مرات ليتبعاه فلم يخرجا أيضا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومن المعروف أيضا أن نساء النبي لم يكن يحتجبن عن الرجال على عادة العرب، وكان عمر يقول: يا رسول الله، احجب نساءك؛ فإنه يدخل عليك البر والفاجر؛ وكان النساء يتزرن بالليل، ويخرجن إلى المناصع لحاجتهن، فخرجت سودة ليلة وكانت امرأة طويلة، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة، ورفع صوته حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله تعالى آية الحجاب '. ومن المعروف أيضا ' أن النبي كان يأكل مع عائشة حيسا، فمر عمر فدعاه فجعل يأكل معهما، فوقع أصبعه على أصبع عائشة، فقال عمر: حس لو أطاع فيكن [ما رأتكن] عين، فأنزلت آية الحجاب '.
300

* (مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان) * *
وقوله: * (غير ناظرين إناه) أي: إدراكه ونضجه، قال الشاعر:
(تمخضت المنون له بيوم
* أنى ولكل حاملة تمام)
وقوله: * (ولكن إذا دعيتم فأدخلوا)
وقوله: * (فإذا طعمتم فانتشروا) قال الحسن البصري وغيره: نزلت الآية في الثقلاء. وعن إبراهيم النخعي: من عرف أنه ثقيل فليس بثقيل.
وقوله: * (ولا مستأنسين لحديث) أي: لا يقعدوا في بيت النبي بعد الفراغ من الطعام يتحدثون مستأنسين بالحديث.
وقوله: * (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم) أي: يستحي من إخراجكم.
وقوله: * (والله لا يستحي من الحق) أي: لا يترك بيان الحق [وذكره] حياء.
وقوله: * (وإذا سألتموهن متاعا) أي: حاجة.
وقوله: * (فاسألوهن من وراء حجاب) أي: من وراء ستر. وفي التفسير: أنه لم يكن يحل بعد آية الحجاب لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء النبي، منتقبة كانت أو غير منتقبة؛ لأن الله تعالى قال: * (من وراء حجاب) وروى أن عائشة كانت إذا طافت ستروا وراءها.
وقوله: * (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) أي: أطهر من الريب.
وقوله: * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) قال أهل التفسير: لما نزلت آية الحجاب ومنع الرجال من الدخول في بيوت النبي، قال رجل من الصحابة: ما بالنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا، والله لئن حدث أمر لأتزوجن عائشة، والأكثرون على أن القائل لهذا طلحة بن عبيد الله، وكان من رهط أبي بكر الصديق.
301

* (لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا أن ذلكم كان عند الله عظيما (53) إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما (54) لا جناح) وكان ذلك القول زلة منه؛ فأنزل الله تعالى [قوله هذا]: * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله).
وقوله: * (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) أي: ذنبا عظيما.
قوله تعالى: * (إن تبدوا شيئا أو تخفوه) والذي أبدى وأظهرهو قول ذلك القائل: ما بالنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا.
وقوله: * (أو تخفوه) والذي أخفي هو إضماره نكاح عائشة بعد النبي، وروى أنه لم يقل هذا، ولكنه أضمر.
وقوله: * (فإن الله كان بكل شيء عليما) أي: عالما. في تفسير النقاش: أن النبي خطب بعد نزول هذه الآية، وقال: ' أيها الناس، إن الله فضلني على سائر الرجال، وفضل نسائي على سائر النساء، وإن الله حرمهن عليكم وجعلهن كأمهاتكم، فلا تعتدوا حدوده فسيحتكم بعذاب أليم، ألا وإن صفوتي من نسائي عائشة بنت أبي بكر إلا ما كان من خديجة بنت خويلد، وإن فاطمة سيدة نساء العالمين إلا ما كان من مريم بنت عمران، والحسن والحسين رضي الله عنهما سيدا شباب أهل الجنة، وإن أبا بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين '.
قوله تعالى: * (لا جناح عليهن في آبائهن) الآية. روى أن الآية الأولى لما نزلت قام الآباء والأبناء، فقالوا: ما حالنا يا رسول الله أندخل عليهن أم لا؟ فأنزل الله تعالى قوله: * (لا جناح عليهن) أي: لا إثم عليهن * (في آبائهن ولا أبنائهن، ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن) فإن قيل: لم يذكر الأعمام، وبالإجماع يجوز للأعمام أن يدخلوا عليهن، إنه قد قال: * (في آبائهن) وقد دخل الأعمام في جملة
302

* (عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا (55) إن) * * الآباء وقد سمى الله تعالى العم أبا في القرآن، قال الله تعالى حاكيا عن الأسباط أنهم قالوا ليعقوب: * (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) وقد كان إسماعيل عم يعقوب.
وقوله: * (ولا نسائهن) فيه قولان: أحدهما: أن المراد من نسائهن المسلمات، فعلى هذا القول لم يكن يجوز لليهوديات والنصرانيات الدخول عليهن. والقول الثاني: أن قوله: * (ولا نسائهن) عام في المسلمات وغير المسلمات، فعلى هذا القول إنما قال: * (ولا نسائهن) لأنهن من أجناسهن، وعلى القول الأول قال: * (ولا نساءهن) لأن نسائهن المسلمات دون غير المسلمات.
وقوله: * (ولا ما ملكت أيمانهن) فيه قولان: أحدهما: أن ما ملكت أيمانهن هن الإماء، قال سعيد بن المسيب: لا يغرنكم قوله: * (ولا ما ملكت أيمانهن) فإنما المراد منه الإماء دون العبيد.
والقول الثاني: أن المراد منه العبيد والإماء.
واختلف القول أن العبيد إلى ماذا يحل لهم النظر على هذا القول؟ فأحد القولين: أنه يحل لهم النظر إلى ما يحل للمحارم.
والقول الآخر: أنه يحل [النظر] إلى ما يبدو في العادة من الوجه واليدين والقدمين، ولا يحل النظر إلى ما سوى ذلك، هذا هو الأحوط.
وقوله: * (واتقين الله) هذا خطاب لأزواج النبي حتى لا يبرزن ولا يكشفن الستر عن أنفسهن.
وقوله: * (إن الله كان على كل شيء شهيدا) أي: شاهدا.
303

* (الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56) إن) * *
وقوله تعالى: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) الصلاة من الله بمعنى الرحمة والمغفرة، والملائكة والمؤمنين بمعنى الدعاء.
قال ثعلب: قول القائل: اللهم صل على محمد أي: زده بركة ورحمة، وأصل الصلاة في اللغة الدعاء، وقد بينا من قبل. وقد ثبت عن النبي أنه قال: ((صلى على مرة صلى الله عليه عشرا)).
وفي بعض الأخبار: ((أن جبريل عليه السلام لما نزل بهذا سجد الرسول الله شكرا)).
وقد ثبت برواية كعب بن عجرة أنه قال: يا رسول الله، قد عرفنا السلام عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: ((قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: إذا صليتم على رسول الله فأحسنوا الصلاة عليه؛ فلعلها تعرض عليه؛ قالوا له: فعلمنا. قال: قولوا اللهم صل على محمد عبدك ونبيك، سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة، اللهم ابعثه المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون @ 305 @
* (الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) والآخرون.
وروى الأصمعي قال: سمعت المهدي وهو محمد بن عبد الله بن جعفر المنصوري على منبر البصرة يقول: إن الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته، فقال: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
وأما السلام على الرسول فهو أن تقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، هذا في حق أصحاب رسول الله، وكانت السنة لهم أن يواجهوا الرسول على هذا الوجه، فأما في حق سائر المؤمنين ففي التشهد يقول على ما هو المعروف.
وقد ذكر بعض العلماء أنه يقول في التشهد: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته. ولا يقول: عليك.
والصحيح ما بينا، وإنما خارج المصلى، فإنه يقول: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته.
ويستدل بهذه الآية في وجوب الصلاة على النبي إذا صلى، على ما هو مذهب الشافعي رحمه الله ووجه الاستدلال: أن الله تعالى أمرنا بالصلاة على النبي، وأولى موضع بوجوب الصلاة فيه هو الصلاة. فوجب في الصلاة، أن يصلي على رسول الله.
قوله تعالى: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله) قد ثبت عن النبي أنه قال: ' يقول الله تعالى: يشتمني عبدي، وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني عبدي، وما ينبغي له أن يكذبني. أما شتمه إياي هو أن يزعم أني اتخذت ولدا. وأما تكذيبه إياي هو أنه يزعم أني لن أعيد خلقي، وأنا المبدئ المعيد '.
304

* (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (58) يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) * *
وقال بعضهم: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله) أي: أولياء الله.
وأصح القولين أن قوله: * (يؤذون الله) على طريق المجاز، وأما على الحقيقة فلا يلحقه أذى من قبل أحد.
وقوله: * (لعنهم الله في الدنيا والآخرة) أي: طردهم وأبعدهم من رحمته.
وقوله: * (وأعد لهم عذابا مهينا) أي: يهينهم ويخزيهم.
قوله تعالى: * (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) أي: يقعون فيهم، ويعيبونهم بغير جرم وجد من قبلهم.
وذكر [هنا] مقاتل أن الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر الكلبي أن الآية نزلت في قوم من المنافقين كانوا يمشون في الطريق ويغمزون النساء.
وقوله: * (فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) ذكر المفسرون أن المدينة كانت ضيقة المنازل، وكان النساء يخرجن إلى البوار بالليالي لقضاء الحاجات، وكان قوم من المنافقين والفاسقين يرصدونهن ويتعرضون لهن، فمن كانت عفيفة منهن صاحت وتركوها، ومن كانت غير عفيفة أعطوها شيئا وواقعوها.
وفي رواية: أنهم كانوا يتعرضون للإماء، ولا يتعرضون للحرائر، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله تعالى: * (يدنين عليهن من جلابيبهن) أي: يشتملن بالجلابيب، والجلباب
306

* (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما (59) لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا) * * هو الرداء، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار.
قال عبيدة السلماني: تتغطى المرأة بجلبابها فتستر رأسها ووجهها وجميع بدنها إلا إحدى عينيها.
وروى أن الله تعالى لما أنزل هذه الآية اتخذ نساء الأنصار أكيسة سوداء واشتملن بها فخرجن كأن رؤوسهن الغربان.
وقوله: * (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) أي: يعرفن أنهن حرائر * (فلا يؤذين) أي: لا يتعرض لهن.
وقوله: * (وكان الله غفورا رحيما) قد بينا من قبل.
وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنعت وتجلببت علاها بالدرة، ويقول: أتتشبهين بالحرائر.
قوله تعالى: * (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض) أي: شهوة الزنا.
وقوله: * (والمرجفون في المدينة) قد كان قوم من المنافقين يكثرون الأراجيف، وكان إذا خرجت سرية أو غازية، قالوا: قد هزموا وقتلوا، ويوقعون بين المسلمين أمثال هذه الأشياء؛ لتضعف قلوبهم ويحزنوا.
وقوله: * (لنغرينك بهم) أي: نسلطنك عليهم، ونحملنك على قتلهم.
وفي بعض التفاسير: أن قوما منن المنافقين هموا بإظهار الكفر، فأمر الله تعالى رسوله أن يقتلهم إذا أظهروا.
وقال السدي: من تتبع امرأة في طريق وكابرها قتل محصنا كان أو غير محصن لهذه الآية.
307

(قليلا (60) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (61) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (62) يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (63) إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا) * *
وقوله: * (ثم لا يجاورونك فيها) أي: في المدينة.
وقوله: * (إلا قليلا) أي: إلا وقتا قليلا.
قوله تعالى: * (ملعونين) وهو نصب على الحال.
وقوله: * (أينما ثقففوا) معناه: أينما صدفوا ووجدوا.
وقوله: * (أخذوا وقتلوا تقتيلا) فقوله: قتلوا تقتيلا، قال السدي: (ما قال)
قوله تعالى: * (سنة الله في الذين خلوا من قبل) وفعلوا مثل هذا الفعل.
وقوله: * (ولن تجد لسنة الله تبديلا) أي: تغييرا.
قوله تعالى: * (يسألك الناس عن الساعة) أي: متى قيامها.
وقوله: * (قل إنما علمها عند الله) أي: علم قيامها عند الله.
وقوله: * (وما يدريك) أي: وما يعلمك؟ أي: لا تعلم وقت قيامها.
وقوله: * (لعل الساعة تكون قريبا) أي: قريبة.
قوله تعالى: * (إن الله لعن الكافرين) أي: أبعدهم عن الرحمة، وطردهم من الخيرات.
وقوله: * (وأعد لهم سعيرا) أي: نارا مسعرة.
وقوله: * (خالدين فيها أبدا) قد بينا.
قوله تعالى: * ([لا يجدون وليا ولا نصيرا] يوم تقلب وجوههم في النار) أي:
308

(* (64) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا (65) يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا (66) وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلوا السبيلا (67) ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا (68) يا أيها) * * يسحبون على وجوههم في النار.
وقوله: * (يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) أي: الرسول، وذكر الرسولا على موافقة رؤوس الآي على ما بينا من قبل.
قوله تعالى: * (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا) وقرئ: ' ساداتنا '، وقوله: * (وكبراءنا) هم الأشراف ورءوس الناس.
قوله: * (فأضلونا السبيلا) أي: السبيل، ومعناه: صدونا عن طريق الحق.
قوله تعالى: * (ربنا آتهم ضعفين من العذاب) أي: عذبهم ضعفي عذاب غيرهم. وقيل: عذبهم عذاب الدنيا والآخرة، والأول أولى.
وقوله: * (والعنهم لعنا كبيرا) أي: مرة بعد مرة، وقرئ: ' كثيرا ' بالثاء، والمعنى واحد.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى) معناه: لا تؤذوا محمدا فتكونوا كالذين آذوا موسى، وفيما أوذي به الرسول قولان: أحدهما: أنهم آذوه في أمر زيد بن حارثة ونكاحه زينب.
والثاني: ما روى أنه قسم غنيمة فقام رجل وقال: اعدل، فإنك لم تعدل، فقال النبي: ' رحم الله موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر '.
وأما الذي أوذي به موسى ففيه قولان: أحدهما وعليه أكثر أهل التفسير ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ' كان موسى رجلا حييا، وكان لا يغتسل إلا وحده، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى (عورة
309

* (الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أعمالكم) *
* البعض)، فقالوا: إن موسى لا يغتسل إلا وحده؛ لأن به آفة، وقالوا: إنه آدر، فاغتسل موسى مرة ووضع ثوبه على حجر، فعدا الحجر بثوبه، فأخذ موسى العصا وجعل يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى مر على ملأ من بني إسرائيل فنظروا إليه ولم يروا به بأسا، وقام الحجر فطفق يضربه بالعصا '.
قال أبو هريرة: قال رسول الله: ' وكأني بالحجر ندبا من أثر ضربه أربعا أو خمسا '. والخبر في الصحيحين '.
وفي الخبر: ' أن الله تعالى أنزل في هذا قوله [تعالى]: * (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى) الآية.
وفي بعض الروايات: أن الحجر قال له: يا موسى، لم تضربني، إنما أنا عبد مأمور.
والقول الثاني في الآية: ما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال: صعد هارون وموسى الجبل، فمات هارون ونزل موسى وحده، فقالت له بنو إسرائيل: أنت قتلت هارون، وقد كان ألين جانبا منك وأحب إلينا، فبعث الله الملائكة حتى حملوا هارون ميتا إليهم، وتكلموا بموته حتى سمعوا بني إسرائيل ذلك، ثم إن الملائكة حملوا هارون ودفنوه فلم يعرف أحد موضع قبره إلا الرخم، فجعله الله تعالى أصم أبكم.
وقوله: * (فبرأه الله مما قالوا) أي: طهره الله مما قالوا.
وقوله: * (وكان عند الله وجيها) أي: بتكليمه إياه، والوجيه في اللغة هو ذو الجاه.
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا) أي: صوابا،
310

* (ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (71) إنا عرضنا الأمانة) * * ويقال: صدقا.
وعن ابن عباس: هو كلمة لا إله إلا الله. وقال بعضهم: سديدا، أي: مستقيما، يقال: سدد أي: استقم، قال زهير:
(فقلت له سدد وأبصر طريقه
* وما هو فيه عن وصاتي شاغله)
أي: عن وصيتي، وقال بعضهم: قولا سديدا أي: قولا يوافق باطنه ظاهره.
وقوله: * (يصلح لكم أعمالكم) أي: يزك لكم أعمالكم. وقيل: يصلح لكم أعمالكم: يتقبل منكم الحسنات.
وقوله: * (ويغفر لكم ذنوبكم) أي: يسترها ويعف عنها.
وقوله: * (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) أي: ظفر بالخير كله.
قوله تعالى: * (إنا عرضنا الأمانة) قال ابن عباس: الأمانة الفرائض. وقال الضحاك: الطاعة. وعن أبي العالية الرياحي: ما أمر به ونهى عنه. وقال أبي بن كعب: الأمانة ها هنا حفظ الفرج.
وأولى الأقاويل ما ذكرنا عن ابن عباس، وقول الضحاك وأبي العالية قريب من ذلك. وفي بعض التفاسير: أن أول ما خلق الله تعالى من ابن آدم فرجه وأتمنه عليه، وقال: إن حفظته حفظتك.
وعن أبي حمزة السكري أنه قال: إني أعلم من نفسي أني أؤدي الأمانة في مائة ألف دينار، ومائة ألف دينار، ومائة ألف دينار إلى أن ينقطع النفس، ولو باتت عندي امرأة وأتمنت عليها خفت ألا أسلم منها.
وعن ابن مسعود أنه قال: من الأمانة أداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والصدق في الحديث، وقضاء الدين، والعدل في المكاييل والموازين، قال: وأشد من هذا كله الودائع. وهذا القول قريب من قول ابن عباس.
311

* (على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه) * *
وقال أهل العلم: الأمانة قطب الإيمان، قال النبي: ' لا إيمان لمن لا أمانة له '.
ومن الأمانة أن يكون الباطن موافقا للظاهر، فكل من عمل عملا يخالف عقيدته فقد خان الله ورسوله. وقد قال الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، وقد كان وضع أصبعه على حلقه، يشير إلى بني النضير إنكم إن نزلتم فهو الذبح، وقد بينا.
وقوله: * (على السماوات والأرض والجبال) فيه أقوال:
الأول: وهو قول أكثر السلف، وهو المحكي عن ابن عباس وجماعة التابعين: هو أن الله تعالى عرض أوامره على السماوات والأرض والجبال عرض تخيير لا عرض إلزام، وقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟! فقال: إن أحسنتن جوزيتن، وإن عصيتن عوقبتن، فقلن: لا نتحمل الأمانة، ولا نريد ثوابا ولا عقابا، وعرضها على آدم فتحملها بما فيها. وفي بعض التفاسير: أنه قال: بين أذني وعاتقي.
قال ابن جريج: عرض على السماء، فقالت: يا رب، خلقتني وجعلتني سقفا محفوظا، وأجريت في الشمس والقمر والنجوم، ومالي قوة لحمل الأمانة، ثم عرضها على الأرض، فقالت: يا رب، خلقتني وجعلتني بساطا ممدودا، وأجريت في الأنهار، وأنبت في الأشجار، وما لي قوة لحمل الأمانة، وذكر عن الجبال قريبا من هذا، وجملها آدم وأولاده. وعن مجاهد قال: أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملوا الأمانة، وجملها آدم فما كان بين أن حملها وخان فيها وأخرج من الجنة إلا ما بين الظهر والعصر.
وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال: مثلت الأمانة كصخرة ملقاة،
312

* (كان ظلوما جهولا (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) * * ودعيت السماوات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها، وقالوا: لا نطيق حملها، وجاء آدم من غير أن يدعي وحرك الصخرة، وقال: لو أمرت بحملها. فقلن له: احمل، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها وقال: والله لو أردت أن أزداد لزدت فقلن: احمل، فحملها حتى بلغ حقوه ثم وضعها وقال: والله لو أردت أن أزداد لزدت، فقلن: احمل، فحملها حتى وضع على عاتقه، وأراد أن يضعها، فقال الله تعالى: مكانك، فهي في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة.
فإن قال قائل: كيف عرضها على السماوات والأرض والجبال، وهي لا تعقل شيئا؟ قلنا: قد بينا الجواب عن أمثال هذا من قبل. وقال بعض أهل العلم: يحتمل أن الله تعالى خلق فيها عقلا وتمييزا حين عرض الأمانة عليهن حتى أعقلت الخطاب، وأجابت بما أجابت.
وأما قوله: * (فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) أي: لم يقبلوا حمل الأمانة وخافوا منها.
وقوله: * (وحملها الإنسان) يعني: آدم عليه السلام.
وقوله: * (إنه كان ظلوما جهولا) قال الحسن البصري: ظلوما لنفسه، جهولا بربه، حكاه أبو الحسين بن فارس. والقول الثاني: ظلوما لنفسه بأكل الشجرة، جهولا بعاقبة أمره.
وعن جماعة من العلماء: أن المراد بالظلوم الجهول هو المنافق والمشرك. وقد حكى هذا عن الحسن في رواية.
والقول الثاني، في أصل الآية أن المراد من العرض على السماوات والأرض والجبال هو العرض على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال وهو مثل قوله: * (واسأل القرية) أي: أهل القرية.
313

* (ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما (73).) * *
والقول الثالث ذكره الزجاج وغيره من أهل المعاني قالوا: إن الله تعالى ائتمن آدم وأولاده على شيء، وأتمن السماوات والأرض والجبال على شيء، فأما الأمانة في حق بني آدم معلومة، وأما الأمانة في حق السماوات والأرض والجبال فهو بمعنى الخضوع والطاعة. قال الله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين).
وحكى السجود عن السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، وذكر في الحجارة قوله: * (وإن منها لما يهبط من خشية الله).
وقوله: * (فأبين أن يحملنها) أي: أدين الأمانة فيها، يقال: فلان لم يتحمل الأمانة أي: لم يخن فيها.
وقوله: * (وأشفقن منها) أي: أدين الأمانة خوفا منها.
وقوله: * (وحملها الإنسان) أي: خان فيها وأثم، يقال: فلان حمل الأمانة أي: أثم فيها بالخيانة، قال الله تعالى: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) وقوله: * (إنه كان ظلوما جهولا) قد بينا، قال الأزهري: وقد أحسن وأجاد أبو إسحاق الزجاج في هذا القول وأثنى عليه، وقول السلف ما بينا من قبل.
قوله تعالى: * (ليعذب الله المنافقين والمنافقات) اللام ها هنا لام كي، ومعناه: كي يعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات يعني إذا خانوا.
وقوله: * (ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات) أي: يهديهم ويرحمهم إذا أدوا الأمانة. وعن ابن قتيبة قال معناه: ليظهر المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويعذبهم على الخيانة في الأمانات، ويظهر المؤمنين والمؤمنات بأداء الأمانة.
وقوله: * (وكان الله غفورا رحيما) ظاهر المعنى.
314

بسم الله الرحمن الرحيم
* (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير (1) يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج) * *
تفسير سورة سبأ
وهي مكية.
* (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) أي: له ملك السماوات والأرض. ويقال: خلق ما في السماوات وما في الأرض.
وقوله: * (وله الحمد في الآخرة) فيه قولان: أحدهما: أن معناه له الحمد في الأولى والآخرة على ما قال في موضع آخر. وفي الأولى والآخرة وجهان: أحدهما: أنهما الدنيا والآخرة، والآخر: أنهما السماوات والأرض.
والقول الثاني: أن قوله: * (وله الحمد في الآخرة) وهو ما جاء من ذكر الحمد عن أهل الجنة، وهو في قوله تعالى: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)، وفي قوله: * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)، وفي قوله: * (الحمد لله الذي صدقنا وعده).
وقوله: * (وهو الحكيم الخبير) أي: الحكيم في ملكه، الخبير بخلقه.
وقوله تعالى: * (يعلم ما يلج في الأرض) أي: يدخل فيها من المطر.
وقوله: * (وما يخرج منها) أي: من الزرع، ويقال: إن المراد منه الأموات يدخلون إذا قبروا، ويخرجون إذا حشروا.
وقوله: * (وما ينزل من السماء) أي: من المطر والملائكة والأحكام والأقضية.
وقوله: * (وما يعرج فيها) أي: يصعد إليها من الملائكة والأعمال والأدعية
315

* (فيها وهو الرحيم الغفور (2) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (3) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك) * * المقبولة.
وقوله: * (وهو الرحيم الغفور) قد بينا.
قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة) قالوا هذا تكذيبا بالبعث.
وقوله: * (قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب) فيه تقديم وتأخير، ومعناه: قل بلى وربي عالم الغيب لتأتينكم الساعة، وقرأ حمزة: ' علام الغيب '.
وقوله: * (لا يعزب عنه) أي: لا يغيب عنه، وقرأ يحيى بن وثاب: ' لا يغرب عنه ' بالغين المعجمة والراء.
وقوله: * (مثقال ذرة في السماوات ولا في والأرض) أي: وزن ذرة * (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) أي: أصغر من الذرة إلى أن لا يحيط به العقل، وأكبر إلى ألا يحيط به العقل، والمعنى أن كل ذلك في علمه.
وقوله: * (إلا في كتاب مبين) أي: بين.
قوله تعالى: * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي: ليثيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وقوله: * (أولئك لهم مغفرة ورزق كريم) أي: العيش الهنيء.
قوله تعالى: * (والذين سعوا في آياتنا معاجزين) معناه: اضطربوا وعملوا في التكذيب بآياتنا.
وقوله: * (معاجزين) أي: مشاقين، ويقال: مسابقين، ويقال: فائتين، وقرئ: ' معجزين ' أي: مثبطين، وقيل: ظانين أنا نعجز عنهم، فيكون معنى معجزين أنهم نسبوا العجز إلينا.
316

* (لهم مغفرة ورزق كريم (4) والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم (5) ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد (6) وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد (7) أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين) * *
وقوله: * (أولئك لهم عذاب من رجز أليم) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ويرى الذين أوتوا العلم) قال بعضهم: هذا في مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وغيره، والصحيح أن الآية في الذين آمنوا بالنبي من أهل مكة وغيرهم، وهو بمكة؛ لأن السورة مكية، وعبد الله بن سلام وأشباهه إنما آمنوا بالمدينة.
وقوله: * (الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) يعني: أنه من الله تعالى.
وقوله: * (ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) يعني: أن القرآن الذي أنزله الله يهدي إلى صراط العزيز الحميد، وهو الله تعالى.
قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم) أي: يخبركم.
وقوله: * (إذا مزقتم كل ممزق) أي: إذا فرقتم كل تفريق، وقطعتم كل تقطيع، والمعنى: إذا أكلتم الأرض، وصرتم رفاقا وترابا ينبئكم محمد إنكم لفي خلق جديد، قالوا ذلك على طريق الجحد والتكذيب.
وقوله: * (أفترى على الله كذبا) وقرئ بنصب الألف وكسرها، أما من قرأ بالكسر فهو راجع إلى الحكاية عن الكفار، كأنهم قالوا: افترى محمد على الله كذبا.
وقوله: * (أم به جنة) معناه: أو به جنون لا يدري ما يقول.
وأما من قرأ بالنصب ففيه قولان: أحدهما معناه: أفترى على الله كذبا يعني: لم يفتر، ويكون ابتداء كلام من الله تعالى. قال الشاعر:
317

* (لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد (8) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب (9) ولقد آتينا داوود منا فضلا يا جبال أوبي) * *
(استحدث القلب من أشياعهم خبرا
* أم راجع القلب من أطرابهم طرب)
ومعناه: استحدث. والقول الثاني: أن معنى قوله: * (أفترى على الله كذبا) أي أفترونه افتراء على الله كذبا.
وقوله: * (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد) فعلى القراءة الأولى وهو بالكسر هذا ابتداء كلام من الله تعالى ردا عليهم، وعلى القراءة الثانية هو مسوق على ما تقدم.
وقوله: * (في العذاب والضلال البعيد) أي: الشقاء الطويل؛ ذكره السدي، وقال: في الخطأ البعيد من الحق.
قوله تعالى: * (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض) قال أهل التفسير: إنما ذكر هذا؛ لأن الإنسان إذا خرج من داره لا يرى إلا السماء والأرض وما فيهما. ويقال: إنما قال هذا؛ لأن السماء والأرض محيطتان بالخلق، فكأن أحدهما بين أيديهم، والأخرى خلفهم بمعنى الإحاطة.
وقوله: * (إن نشأ نخسف بهم الأرض) أي: يغيبهم في الأرض.
وقوله: * (أو نسقط عليهم كسفا من السماء) أي: جانبا من السماء. وقيل: قطعة من السماء.
وقوله: * (إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) أي: راجع إلى الله تعالى بقلبه. وقيل: منيب: أي: مجيب.
قال الشاعر:
(أناب إلى قولي فأصبحت مرصدا
* له بالمكافأة المنيبة والشكر)
318

* (معه والطير وألنا له الحديد (10) أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا) * *
قوله تعالى: * (ولقد آتينا داود منا فضلا) اختلف القول في الفضل الذي أوتي داود؛ فقال بعضهم: هو النبوة. وقال بعضهم: هو الملك. ويقال: القضاء بالعدل. وقيل: حسن الصوت. وقيل: تليين الحديد له، وجميع ما أعطي وخص به.
وقوله: * (يا جبال أوبي معه) أكثر أهل التفسير على أن معناه: سبحي معه؛ وهو عن ابن عباس وغيره، ويقال: رجعي معه.
وقرأ الحسن: ' أوبي معه ' بضم الألف وسكون الواو، وهو في معنى الأول.
وفي بعض التفاسير: أن داود عليه السلام كان إذا لحقه فتور أسمعه الله تعالى تسبيح الجبال منشطا له.
وقوله: * (والطير) أي: وأمرنا الطير أن تسبح معه.
وقوله: * (وألنا له الحديد) قال قتادة: كأن الحديد جعل له كالعجين، فيعمل الدرع من غير نار ولا مطرقة.
وقوله: * (أن اعمل سابغات) أي: الدروع الكوامل. ويقال: الطوال التي تسحب في الأرض.
قال الشاعر:
(وأكثرهم دروعا سابغات
* وأمضاهم إذا طعنوا سنانا)
وقوله: * (وقدر في السرد) أي: عدل في السرد، ومعناه: قدر المسامير في حلق الدروع حتى يكون بمقدار لا يغلظ المسمار ويضيق الخلق فتفصم الحلقة، ولا توسع الحلقة وتدقق المسمار فيسلس ويقلق وهذا قول مجاهد، وقال: قدر في السرد أي: احكم نسج الدرع. وقال قتادة: السرد: المسامير في الحلق. وهو قريب من قول مجاهد، وأنشدوا:
(أجاد المسدي سردها وإذا لها)
319

* (إني بما تعملون بصير (11) ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب) * *
يقول: وسعها وأجاد حلقها يقال: درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق، ويقال: قدر في السرد أي: اجعله على القصد وقدر الحاجة.
وقوله: * (واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير) ظاهر المعنى.
وفي القصة: أن داود عليه السلام كان يعمل كل يوم درعا، ويبيعه بستة آلاف درهم، فينفق ألفين منها على نفسه وعياله، ويتصدق بأربعة آلاف على فقراء بني إسرائيل. وفي بعض التفاسير: أنه عمل ألف درع.
قوله تعالى: * (ولسليمان الريح غدوها شهر) أي: وسخرنا لسليمان الريح.
وقوله: * (غدوها شهر ورواحها شهر) أي: مسيرة غدوها شهر، ومسيرة رواحها شهر، ومعناه: أنه كان يسير مسيرة شهرين في يوم واحد. وفي القصة: أنه كان يسير من بيت المقدس إلى إصطخر مسيرة شهر للراكب المسرع غدوة، ويقيل بها ثم يروح مسيرة شهر إلى بابل مسيرة شهر للركب المسرع. وقيل: كان يتغدى بالري، ويتعشى بسمرقند. وقيل: كان يتغدى بصنعاء، ويتعشى ببابل وهو العراق والله أعلم.
وفي التفسير: أن الريح كانت تحمله وجنوده ولا تثير ترابا ولا تقلب ورقة على الأرض، ولا تؤذي طائرا في السماء.
وقوله: * (وأسلنا له عين القطر) أي: أسلنا له عين النحاس.
وفي التفسير: أن الله تعالى أذاب له النحاس، وجعل يسيل ثلاثة أيام من كل شهر مثل الماء.
وقوله: * (ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه) أي: بأمر ربه.
وقوله: * (ومن يزغ منهم عن أمرنا) أي: يعدل منهم عن أمرنا فلا يعمل لسليمان.
وقوله: * (نذقه من عذاب السعير) أي: في الآخرة، هذا أحد القولين، والقول
320

* (السعير (12) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور) * * الآخر: أنه كان (يكون) عند سليمان ملك قائم بيده سوط من نار، فإذا عصى أحد من الشياطين ضربه فيحرقه، فهو معنى قوله: * (نذقه من عذاب السعير).
قوله تعالى: * (يعملون له ما يشاء من محاريب) أي: المساجد، ويقال: الأبنية المرتفعة. وفي القصة: أنه أمرهم ببناء الحصون بالصخر، فبنوا باليمن حصونا كثيرة عجيبة، وهي صرواح ومرواح وفلتون وهندة وهنيدة وغمدان وغير ذلك.
وقوله: * (وتماثيل) أي: الصور. فإن قال قائل: أليس أن عمل الصور مكروه؟ قلنا: هو في هذه الشريعة، ويحتمل أنها كانت مباحة في شريعته، وقد كان عيسى يصور من الطين وينفخ فيه فيجعله الله طيرا. واختلف القول في الصور التي اتخذتها الشياطين؛ فأحد القولين: أنها صورة السباع والطيور من العقبان والنسور، وما أشبه ذلك.
والقول الثاني: أنه أمرهم باتخاذ صورة الأنبياء والزهاد والعباد، حتى إذا نظرت بنو إسرائيل إليهم ازدادوا عبادة.
وقوله: * (وجفان كالجواب) أي: كالحياض، والجفان جمع جفنة. وفي القصة: أن كل جفنة كان يقعد عليها ألف إنسان. وأنشد حسان في الجفنة شعرا:
(لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
* وأسيافنا من نجدة تقطر الدما)
وأنشدوا في الجابية:
(كجابية الشيخ العراقي تفهق)
أي: تمتلئ.
وحكى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه رأى مرة من هذه القصاع الصغار فقال: والله لقد ذهبت البركة من كل شيء، وقرأ قوله: * (وجفان كالجواب).
وفي القصة: أنه كان لسليمان عليه السلام سماط يسع أربعمائة ألف إنسان،
321

* (راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور (13) فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا) * * وكان يأكل خبز الشعير، ويطعم أهله وحاشيته خبز الخشكار ويطعم الفقراء الدرمك، وهو الخبز النقي.
وقوله: * (وقدور راسيات) أي: ثابتات مرتفعات، ومنه الجبال الرواسي. وفي القصة، أنه كان يصعد إليها بالسلاليم.
وقوله: * (اعملوا آل داود شكرا) قال: تقدر اشكروا الله شكرا، ويقال: إن الشكر هو تقوى الله والعمل بطاعته. وقيل: إن آل داود هو داود نفسه، ويقال: داود وسليمان وأهل بيته. وفي القصة: أنه لما نزل هذا على داود قال: والله لا يزال منا بالليل والنهار قائم وصائم، فكان لا يأتي يوم إلا ومن آل داود فيه صائم، ولا تأتي ساعة من الليل إلا ومن آل داود فيها قائم. وروى أنه ناوب ساعات الليل وكان يقوم ما شاء الله، فإذا أراد أن يرقد أيقظ بعض أهله.
وروى أنه قال لسليمان عليه السلام يا بني، اكفني أمر النهار يعني: في العبادة أكفك أمر الليل، فقال سليمان: لا أقدر، فقال: اكفني أول النهار وأكفك الباقي. وروى أنه قال: يا رب، كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي؟ فقال: الآن شكرتني.
وقوله: * (وقليل من عبادي الشكور) ظاهر المعنى. والفرق بين الشاكر والشكور: أن الشكور هو الذي يتكرر منه الشكر، والشاكر الذي يشكر مرة. وقيل: هما واحد.
قوله تعالى: * (قلما قضينا عليه الموت) أي: على سليمان الموت.
وقوله: * (ما دلهم على موته إلا دابة الأرض) قال بعض المفسرين: كانت الجن تعمل لسليمان عليه السلام في بناء مسجد بيت المقدس؛ فقرب موت سليمان وقد بقي من العمل بقية، فقبض الله روح سليمان وهو متكئ على عصا، وكانوا يظنون أنه حي، ويجتهدون في العمل، فأكلت الأرضة العصا فخر سليمان عليه
322

السلام ميتا بعد حول، وقد فرغوا من العمل؛ فلما عرفوا موته تفرقوا بعد أن بقوا في العمل سنة بعد موته. قال ابن عباس: فشكرت الجن ذلك للأرضة، فهم يأتونه بالطين والماء في جوف الخشب. وذكر بعضهم: أن سليمان عليه السلام كان إذا رأى شجرة نابتة سألها: ما اسمك؟ فتخبره إن كانت للغرس غرست، وإن كانت للدواء كتب اسمها، فصلى مرة فرأى شجرة نبتت في مصلاة، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخروب، فقال: لم نبت؟ قالت: لخراب هذه الأرض، فعلم أن موته قد قرب، فسأل الله تعالى أن يعمي على الجن موته. فقال أهل التفسير: وكانت الجن تزعم أنهم يعلمون الغيب، فأمر الله تعالى سليمان أن يتخذ عصا ويتوكأ عليها. وقيل: اتخذها من تلك الشجرة فقبض الله تعالى روحه وهو قائم متوكئ على العصا، فكانت الجن ينظرون إليه ويظنون أنه حي، ويعملون إلى أن سقط بعد حول. وأراد الله تعالى بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب، وقيل: ليعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب وكانوا قد شبهوا على الإنس ذلك، فإن قيل على التأويل الأول: كيف يشتبه على أحد أنه يعلم الغيب أو لا يعلم الغيب؟ وإن خفي عليه أمر غيره لا يخفى عليه أمر نفسه؟ والجواب: أن مردة الجن كانوا صوروا لضعفاء الجن أنهم يعلمون الغيب، وكان يقع بعض الاتفاقات، فكانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب لغلبة الجهل، وعند بعضهم: أن عملهم لم يكن في بناء مسجد بيت المقدس، فإنه قد كان وقع الفراغ عن فعل ذلك بسنين، وإنما كانوا يعملون غير ذلك من الأعمال.
وقوله: * (تأكل منسأته) أي: عصاته، والمنسأة: العصا بلغة الحبشة، وقرئ: ' منسأته ' بسكون الهمزة، وهي ما بينا.
قال الشاعر:
(إذا ادببت على المنساة من كبر
* فقد تباعد عنك اللهو والغزل)
ويقال كلاهما بالعربية. ويقال: نسأت الغنم إذا زجرتها وسقتها ويقال: نسأ الله في أجلك أي: أخره.
وقوله: * (فلما خر تبينت الجن) أي: تبينت الجن للإنس أن لو كانوا يعلمون
323

* (يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14) لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان) * * الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي: التعب والشقاء الطويل، ذكره الأزهري على هذا التقرير. وأما المتقدمون قالوا معناه: تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، والقراءة هكذا في مصحف ابن مسعود، وهكذا قرأ ابن عباس أيضا. والتأويل الثالث: أن، معنى الآية: * (تبينت الجن) أي: عرفت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. وروى الضحاك عن ابن عباس في رواية أخرى: أن سليمان لم يكن متوكئا على العصا، وإنما كان في بيت مغلق وتوفاه الله تعالى، وأكلت الأرضة عتبة الباب، فسقط الباب بعد حول، وظهر للجن موته.
وأشهر القولين هو الأول، وفي القصة: أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء المسجد ذبح [اثنتي عشرة] ألف بقرة ومائة وعشرين ألف شاة تقربا إلى الله تعالى وأطعمها الناس، وكان بناه بالصخر والقار، وزخرف الحيطان، وزين المحراب بالجواهر واليواقيت، وعملوا شيئا عجيبا، ثم إنه قام على الصخرة وقال: اللهم، أنت أعطيتني هذا السلطان العظيم، وسخرت لي ما سخرت، فأوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وتوفني مسلما، وألحقني بالصالحين، اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد ليصلي فيه خمس خصال: إن كان مذنبا تغفر له ذنبه، وإن كان فقيرا أغنيته، وإن كان سقيما شفيته، وإن كان خائفا أمنته، وأسألك ألا تصرف بصرك عمن دخله حتى يخرج منه، إلا من دخله بإلحاد أو ظلم.
قوله تعالى: * (لقد كان لسبأ) أكثر أهل التفسير على أن سبأ اسم رجل، ونسبت القبيلة إليه، كما أن تميما اسم رجل، ونسبت القبيلة إليه. وروى فروة بن (مسيك الغطيفي) أن رسول الله قال: سبأ اسم رجل ولد عشرة من الذكور
324

* (عن يمين وشمال من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (15) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل) * * فتيامن منهم ستة، وتشام أربعة، وأما الستة الذين تيامنوا: فحيمر، وكندة، ومذحج، والأزد، والأشعر، وأنمار، وأما الأربعة الذين تشاموا: فعاملة، وغسان، ولخم، وجذام '. وأما سبأ فهو ابن يشخب بن يعرب بن قحطان. وقد قيل: إن سبأ اسم بلد، والأصح هو الأول.
وقوله: * (في مساكنهم آية) وقرئ: ' في مسكنهم ' والآية هي العلامة، ومعناها: أنا جعلنا لهم آية تدلهم على أن النعم التي لهم من الله تعالى.
وقوله: * (جنتان عن يمين وشمال) في القصة: أنه كان لهم واد يسيل، وعلى يمين الوادي جنات مصطفة أي: البساتين وكذلك على يسار الوادي.
وقوله: * (كلوا من رزق ربكم) أي: قلنا لهم كلوا من رزق ربكم.
وقوله: * (واشكروا له) أي: واشكروا الله على نعمه.
وقوله: * (بلدة طيبة) أي: طيبة الهواء، عذبة الماء، كثيرة الفواكه، وذكر ابن زيد: أنه لم يكن بها بعوض ولا بق ولا ذباب ولا عقرب ولا حية ولا شيء من أمثال هذا، وكان الرجل الغريب يدخلها وفي ثيابه القمل، فيموت القمل في ثيابه من صحة الهواء وطيبه.
وقوله: * (ورب غفور) أي: ورب غفور للذنوب إن شكرتم نعمه.
فإن قيل: أي فائدة لتخصيصهم بهذا، والله غفور لكل العباد؟ والجواب عنه: أن مغفرة الرب مع طيب البلدة على تلك الغاية لم تكن إلا لهم.
قوله تعالى: * (فأعرضوا) أي: فأعرضوا عن شكر النعم.
وقوله: * (فأرسلنا عليهم سيل العرم) اختلفوا في العرم على أربعة أقاويل: أولها:
325

أنه اسم الوادي، والآخر: أنه اسم المسنأة، وقد كانوا بنوا المسناة بالصخر والقار بينه وبين الماء، وجعلوا على المسناة أبوابا تفتح وتسد، فإذا احتاجوا إلى الماء فتحوا، وإذا استغنوا سدوا.
وذكر النقاش: أنه كان ذلك من عمل بلقيس، وكانت جعلت على المسناة اثني عشرة مخرجا، يخرج منها اثنا عشر نهرا، وكانت المسناة سدا بين جبلين، والمياه وراء السد تجتمع من السيول. والقول الثالث: أن العرم هو السيل الشديد أي: أرسلنا عليهم السيل الشديد. والقول الرابع: أن العرم هو اسم الجرذ، وهو الفأرة، وقيل: كان اسم الخلد، وسلطه الله تعالى على المسناة حتى نقبها، ودخل الماء وغرق البلد والبساتين. قال ابن الأعرابي: العرم والبر من أسماء الفأرة، ومنه قولهم: فلان لا يعرف هرا من برا أي: السنور من الفأرة، وذكر أبو (الحسين) بن فارس في تفسيره: أن القوم كانوا قد سمعوا أن هلاك بلدهم بالفأر من كهانهم، فجاءوا بالسنانير وربطوها عند كل جرف (في المسناة)، فجاءت فأرة حمراء كبيرة وساورت السنور وهزمته ودخلت في الجرف، وتغلغلت المسناة حتى نقبتها وخرقتها.
وقوله: * (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي) أي: بدلناهم بجنتيهم اللتين كانتا ذواتي فاكهة بجنتين ذواتي * (أكل خمط) بتنوين اللام، وقرئ: ' أكل خمط ' بغير التنوين
على الإضافة، والقراءة على الإضافة أظهر القرائتين في المعنى لأن الخمط اسم لشجر له شوك. قال أبو عبيدة: كل شجر له شوك فهو خمط إذا لم يكن له ثمر. وعن بعضهم: أن الخمط شجر له ثمر يسمى فسوة الضبع، لا ينتفع به ويتفرك إذا أدرك من غير أن ينفع أحدا، والمعروف في التفسير أن ثمر الخمط هو البربر، والبربر ثمر الأراك، فالخمط هو الأراك، فهو معنى قوله: * (أكل خمط). والأكل هو الثمر.
326

* (وشئ من سدر قليل (16) ذلك جريناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور (17) وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها) * *
وأما قراءة التنوين: قال الفراء والزجاج: كل نبت له مرارة وعصوفة فهو خمط، فعلى هذا قوله: * (خمط) صفة الأكل، ومعناه: ذواتي ثمر على هذا الوصف، وهو المرارة والعفوصة.
وقوله: * ([وأثل] وشئ من سدر قليل) السدر: شجر معروف، وهو شجر النبق. وقيل: إن هذا السدر كان بريا لا ينتفع به، وأما السدر الذي ينتفع به لغسل اليد وغيره، فهو الذي كنا نعرف في البساتين، ولم يكن لهم ذلك.
وقوله: * (ذلك جزيناهم بما كفروا) النعمة.
وقوله: * (وهل نجازي إلا الكفور) يقال في العقوبة: نجازي، وفي المثوبة: نجزي، يعني: وهل نجازى مثل هذه المجازاة إلا من كفر النعم؟ ويقال: وهل نجازى إلا الكفور؟ أي: هل نحاسب إلا الكفور؟ وقد ثبت برواية عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ' من نوقش الحساب عذب '. قالت عائشة: فقلت يا رسول الله: أليس قال الله تعالى: * (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا) فقال: ذلك العرض، ومن نوقش [الحساب] عذب '.
فإن قيل: قد قال: * (بدلناهم بجنتيهم جنتين) والأرض التي فيها أشجار الأثل والخمط لا تسمى جنة؟ والجواب عنه: إنما سمي ذلك على طريق المقابلة، وهو مثل قوله تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وقوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها).
قوله تعالى: * (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة) القرى التي
327

* (ليالي وأياما آمنين (18) فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم) * * باركنا فيها (هي) الشام، ومعنى القرى الظاهرة أي: المتصلة، وقيل: ظاهرة يعني: [للرائي]، على معنى أنهم كانوا إذا نزلوا بقرية رأوا قرية أخرى.
وقوله: * (وقدرنا فيها السير) أي: السير أي: قدرنا سيرهم بين هذه القرى، والمعنى: أنهم كانوا إذا غدوا يقيلون بقرية، وإذا رجعوا يبيتون بقرية. وقيل: تقدير السير أن سيرهم كان في الرواح والغدو على قدر نصف يوم، فكانوا إذا (جازوا) نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار. قال قتادة: كانوا لا يحتاجون أن يحملوا زادا. وقال أيضا: كانت المرأة تضع مكتلها على رأسها، وتمر تحت الأشجار فيمتلئ المكتل من الثمار من غير اجتناء.
وقوله: * (سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) أي: قلنا لهم سيروا فيها بالليالي والأيام آمنين من الخوف والجوع والظمأ، ومعنى قوله: * (سيروا) أي: مكناهم من السير. ويقال: إن معنى قوله: * (سيروا) أي: يسيرون، أمر بمعنى الخبر، ومعناه: يسيرون فيها ليالي وأياما آمنين، وعلى ما ذكرنا.
قوله تعالى: * (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) وقرئ: ' بعد بين أسفارنا ' بغير ألف، وقرأ يحيى بن يعمر: ' ربنا باعد بين أسفارنا ' بنصب العين والدال، فعلى القراءة المعروفة معنى الآية سؤال، وعلى القراءة الشاذة معنى الآية على وجه الخبر. قال مجاهد: بطروا النعمة وسأموا الراحة. ومثله عن ابن عباس فقالوا: [ربنا] بعد بين القرى لنركب الرواحل، ونحمل الأزواد في الفلوات، وهذا مثل قول بني إسرائيل: * (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) الآية. وأما القراءة الشاذة فكأنهم استبعدوا القريب على ما يفعله الجهلة.
وقوله: * (وظلموا أنفسهم) أي: بترك الشكر.
328

* (أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (19) ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (20) وما كان له عليهم من سلطان إلا) * *
وقوله: * (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق) أي: أحاديث في القرون التي تأتي، وفرقناهم وبددناهم كل مفرق ومبدد. قال الشعبي: تفرقوا في البلاد لما غرقت قراهم وهلكت جناتهم، فمر الأزد إلى عمان، وخزاعة إلى تهامة، وغسان إلى الشام، وآل (خزيمة) إلى العراق، والأوس والخزرج إلى يثرب. وكان الذي قدم المدينة منهم عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج.
وفي بعض التفاسير: أن قراهم كانت [أربع] آلاف وسبعمائة قرية، وكانت متصلة من سبأ إلى الشام قرية قرية. وعن بعضهم في معنى قوله: * (فجعلناهم أحاديث) أن الناس يضربون بهم المثل في التمزق والتفرق، والعرب تقول: صارت بنو فلان أيدي سبأ وأيادي سبأ إذا تفرقوا وتبددوا. وأنشد الأزهري:
(غيبا نرى الناس إليه تنسبا
* من صادر أو وارد أيدي سبا)
وقوله: * (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) أي: صبار على البلاء، شكور للنعمة.
قوله تعالى: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) وقرئ: ' صدق ' بالتخفيف أما بالتشديد فمعناه: أنه ظن ظنا وصدقه، وظنه في قوله تعالى: * (ثم لآتينهم من بين
أيديهم ومن خلفهم) إلى قوله: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) ويقال: إنه ظن أنه إذا أغواهم اتبعوه، وكان كذلك.
وفي التفسير أن إبليس قال: لقد أخرجت آدم من الجنة مع كثرة علمه وأغويته، فأنا على ذريته أقدر.
329

* (لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ (21) قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما) * *
وأما قراءة التخفيف فمعناه: صدق عليهم في ظنه.
وقوله: * (فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) يعني: إلا كل المؤمنين، هكذا قاله أكثر أهل التفسير؛ لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين، وقد قال الله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) يعني: المؤمنين وعن بعضهم: إلا فريقا من المؤمنين: خواص المؤمنين؛ وهم الذين يطيعون الله ولا يعصونه.
قال الحسن البصري: والله إنه لم يسل عليهم سيفا ولا ضربهم بسوط، وإنما وعدهم ومناهم فاغتروا.
قوله تعالى: * (وما كان له عليهم من سلطان) أي: من سلطان على المؤمنين.
وقوله: * (إلا لنعلم) معناه: لكي نعلم * (من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك) أي: لنعلم المؤمن من الكافر علم وقوع، وقد علم علم الغيب، وقد بينا هذا من قبل. قال ابن فارس: هذا على عادة كلام العرب مع الجهلة، فإنك لو قلت: السكين تقطع اللحم، أو اللحم يقطع السكين، وقد علم قطعا أن السكين هو الذي يقطع اللحم، ولكن يخرج الكلام على خطاب الجاهل، وتقرير الأمر له.
وقوله: * (وربك على كل شيء حفيظ) أي: رقيب.
قوله تعالى: * (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) أي: الذين زعمتم [أنهم] آلهة من دون الله. وفي الآية حذف، والمحذوف ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم، وذلك في سني الجوع، وكان الله تعالى ضربهم بالجوع حتى أكلوا الميتات يعني قريش ثم قال: * (لا يملكون مثقال ذرة) أي: الأصنام لا تملك مثقال ذرة أي: وزن ذرة من النفع والضر، والذرة هي النملة الحمراء.
330

* (لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير (23) قل) * *
وقوله: * (في السماوات ولا في الأرض) ظاهر.
وقوله: * (وما لهم فيهما من شرك) أي: ما للآلهة التي تدعون من دون الله شركة في السماوات والأرض.
وقوله: * (وما له منهم من ظهير) أي: معين.
قوله تعالى: * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) أي: أذن الله له، وقرئ: ' إلا لمن أذن له ' أي: إلا لمن أذن له في شفاعته.
وقوله: * (حتى إذا فزع عن قلوبهم) لا بد أن يكون ها هنا محذوف؛ لأن حتى من ضرورته أن يتصل بما تقدم، ولم يوجد شيء يتصل به، فيجوز أن يكون المحذوف إثبات فزع والملائكة وخوفهم إذا قضى الله تعالى بأمر من السماء إلى الأرض.
وقوله: * (فزع عن قلوبهم) أي: كشف الفزع عن قلوبهم.
وقرئ في الشاذ: ' فزع عن قلوبهم ' أي: فرغت قلوبهم عن الخوف.
وقد ثبت عن النبي برواية أبي هريرة: ' أن الملائكة تسمع صوت الوحي شبه السلسلة على الصفوان فيصعقون، ويضربون بأجنحتهم خضعانا لله تعالى '.
وفي رواية: ' يخرون على جباههم، فإذا كشف الفزع عنهم * (قالوا ماذا قال ربكم) ' أي: قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟
وقوله: * (قالوا الحق) أي: قالوا: قال الله تعالى الحق أي: الوحي وذكر السدي وغيره: أنه لما كان زمان الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وكانت بمقدار ستمائة سنة، فلم تسمع الملائكة وحيا في هذه المدة، فلما بعث محمد
331

* (من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) * * نزل جبريل بالوحي، ففزعوا لذلك خوفا من قيام الساعة، فلما كشف الفزع عن قلوبهم سألوا عما قضاه الله من أمره، فذكر لهم أن الله تعالى أوحى إلى محمد.
وقوله: * (وهو العلي الكبير) أي: المتعالي العظيم في صفاته.
قوله تعالى: * (قل من يرزقكم من السماوات والأرض) فالرزق من السماوات هو المطر، ومن الأرض هو النبات.
وقوله: * (قل الله) يعني: إن لم يقولوا: إن رازقنا هو الله تعالى، فقل أنت إن رازقكم هو الله تعالى.
وقوله: * (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) فإن قيل: ' أو ' في كلام العرب للشك، فكيف تستقيم كلمة أو في هذا الموضع؟ ولا يجوز لأحد أن يشك أنه على الهدى أو على الضلال، والجواب عنه من وجوه: أحدها: ما ذكره الفراء وهو: أو ها هنا بمعنى الواو، والألف صلة، فكأنه قال: ' وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ' يعني: نحن على الهدى وأنتم في الضلال. قال أبو الأسود الدؤلي شعرا:
(يقول الأرذلون بنو قشير
* طوال الدهر لا تنسى عليا؟)
(أحب محمدا حبا شديدا
* وعباسا وحمزة والوصيا)
(فإن يك حبهم رشدا أصبه
* وفيهم أسوة إن كان غيا)
فقيل: ما شككت، وقرأ قوله تعالى: * (وإنا أو إياكم لعلى هذى أو في ضلال مبين). وروى معنى هذا القول عن عكرمة.
والجواب الثاني: أن قوله: * (وإنا أو إياكم) خرج على شدة الاستبصار، وعلى طريق المناصفة في الكلام، كالرجل يقول لغيره: أحدنا كاذب، فهل من سامع؟ وهو متيقن أن الصادق هو، والكاذب صاحبه. وكذلك يقول المولى لعبده عند شدة الغضب: تعال ننظر أينا يضرب صاحبه، وهو يعلم أنه هو الذي يضرب غلامه.
والثالث: ما روي عن قتادة أنه فال معنى الآية: ما نحن وأنتم على طريقة واحدة،
332

(* (24) قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون (25) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26) قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم (27) وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس) * * بل أحدنا على الهدى، والآخر على الضلالة، ثم المهتدى من الفريقين معلوم، والضال من الفريقين معلوم، وهذا القول قريب من الأول، وهو حسن.
قوله تعالى: * (قل لا تسألون عما أجرمنا) أي: عن جرمنا.
وقوله: * (ولا نسأل عما تعملون) أي: عن عملكم من الكفر والمعاصي.
قوله تعالى: * (قل يجمع بيننا ربنا) يعني: يوم القيامة.
وقوله: * (ثم يفتح بيننا) أي: يحكم بيننا، والعرب تسمي الحاكم فتاحا، وقد ذكرنا.
وقوله: * (وهو الفتاح العليم) ظاهر. ويقال: هو الحاكم العالم بوجوه المصلحة.
قوله تعالى: * (قل أروني الذين ألحقتهم به شركاء) أي: ألحقتموهم بالله شركاء.
وقوله: * (أروني) أي: أعلموني ماذا خلقوا؟ وماذا صنعوا؟
وقوله: * (كلا) يعني: فإن لم تجيبوا بالحق، فقل: كلا أي: ليس الأمر على ما زعمتم.
وقوله: * (بل هو الله العزيز الحكيم) أي: الغالب على أمره، الحكيم في تدبيره.
قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) أي: جامعا بالإنذار والإبلاغ. وقيل: وما أرسلناك إلا للناس كافة، على التقديم والتأخير، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' بعثت إلى الأحمر والأسود '.
وعن ابن زيد: كافة للناس أي: كافا للناس عن الكفر، والهاء للمبالغة.
وقوله: * (بشيرا ونذيرا) أي: مبشرا ومنذرا.
وقوله: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي: لا يعلمون أنك نبي. وفي بعض التفاسير: أن أجل فائدة للعباد من الله هو العلم والقدرة؛ لأن بهما يكتسب الإنسان
333

* (لا يعلمون (28) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (29) قل لكم ميعاد يوما لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (30) وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين (31) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين) * * ما يوصله إلى رضا الله تعالى، قال: والعلم أكثر فائدة من القدرة؛ لأن العلم يتمخض نفعا، والقدرة قد يكتسب بها المعصية.
قوله تعالى: * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) يعني: القيامة.
وقوله: * (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون) قد فسر هذا بيوم البعث، وقد فسر بيوم الموت، وكلاهما صحيح.
قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن) إي: أشركوا.
وقوله: * (ولا بالذي بين يديه) يعني: من التوراة والإنجيل.
وقوله: * (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم) أي: محبوسون عند ربهم.
وقوله: * (يرجع بعضهم إلى بعض القول) أي: يجادل بعضهم بعضا.
وقوله: * (يقول الذين استضعفوا) أي: استحقروا، وهم الأتباع.
وقوله: * (للذين استكبروا) أي: تجبروا، وهم القادة والأشراف.
وقوله: * (لولا أنتم لكنا مؤمنين) أي: لولا أنكم كنتم قادتنا ورؤساءنا لآمنا بالله وبرسوله.
قوله تعالى: * (قال الذين استكبروا) أي: تكبروا.
وقوله: * (للذين استضعفوا) أي: الأتباع.
وقوله: * (أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم) أي: منعناكم.
334

(* (32) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (33) وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون (34) وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن)
وقوله: * (بل كنتم مجرمين) أي: الجرم كان لكم في اتباعكم أهواءكم.
قوله تعالى: * (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار) أي: مكركم بنا في الليل والنهار. والعرب قد تضيف الفعل إلى الليل والنهار على توسع الكلام، قال الشاعر:
(لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى
* ونمت وما ليل المطي بنائم)
وقيل: بل مكر الليل والنهار معناه: طول الأمل، وطول الأمل هو مكر الليل والنهار على طريق المجاز، وقرئ في الشاذ: ' بل مكر الليل والنهار ' أي: كرور الليل والنهار.
وقوله: * (إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) أي: أشباها.
وقوله: * (وأسروا الندامة) قد بينا أن قوله: * (وأسروا) قد يكون بمعنى أخفوا، وقد يكون بمعنى أظهروا.
قوله: * (لما رأوا العاب) أي: عاينوه.
وقوله: * (وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا) هو فرع من عذاب أهل النار.
وقوله: * (هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) أي: يعملون من الكفر والمعاصي.
قوله تعالى: * (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها) أي: منعموها وأغنياؤها، والترفة: النعمة.
وقوله: * (إنا بما أرسلتم به كافرون) أي: جاحدون.
قوله تعالى: * (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا) يعني: قال المترفون للفقراء الذين آمنوا نحن أكثر أموالا وأولادا.
335

* (بمعذبين (35) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون (36) وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا)
وقوله: * (وما نحن بمعذبين) العذاب الذي يعذبون به في الدنيا، وهو الفقر. والقول الثاني وهو أظهر القولين أن الذي خولنا وأعطانا الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبنا في الآخرة.
قوله تعالى: * (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) الآية. وردت لرد قولهم، ومعناه: يبسط الرزق امتحانا وابتلاء، ويضيق الرزق (نظرا).
وقوله: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ظاهر.
قوله تعالى: * (وما أموالكم وأولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) أي: قربى. وروى عن طاوس اليماني أنه كان يدعو، ويقول: اللهم جنبني المال والولد، وارزقني الإيمان والعمل.
وفي الأخبار أن النبي قال: ' اللهم من أحبني فارزقه العفاف والكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده '.
وقوله: * (إلا من آمن وعمل صالحا) فيه قولان: أحدهما: أن هذا استثناء منقطع، ومعناه: لكن [من] آمن وعمل صالحا.
والقول الثاني: أن معنى الآية * (إلا من آمن وعمل صالحا) فأولئك تقربهم أموالهم وأولادهم إلى طاعة الله، وهذا أظهر القولين.
336

* (فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون (37) والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون (38) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء) * *
وقوله: * (فأولئك لهم جزاء الضعف) أي: التضعيف، ويقال: جزاء المضاعفة. والمضاعفة هو أنه يجزي بالواحد عشرا إلى سبعمائة.
وقوله: * (وهم في الغرفات آمنون) أي: (في) غرفات الجنة آمنون من العذاب، وقيل: من الموت، وقيل: من الأحزان.
قوله تعالى: * (والذين يسعون في آياتنا معاجزين) قد بينا معنى قوله: * (معاجزين) و * (معجزين).
وقوله: * (أولئك في العذاب محضرون) أي: مدخلون.
قوله تعالى: * (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له) فإن قيل: هذا تكرار للآية الأولى فلا يكون فيه فائدة؟ والجواب عنه: أن فيه فائدة، وهو أن
الآية الأولى فيمن لا يعلم؛ لأنه قال: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) والآية الثانية فيمن يعلم حكمة الله تعالى (في) البسط والتقدير.
وقوله: * (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) أي: يعطي خلفه. واختلف القول في موضع إعطاء الخلف فالأكثرون أن (ذلك) في الآخرة أو الدنيا.
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ' ما من صباح إلا وينادي ملكان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا '.
وعن الحسن البصري قال: هو في الدنيا خاصة، ولو لم يكن يخلف في الدنيا لبقي العبد بلا رزق. والقول الأول أحسن.
337

* (من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين (39) ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (40) قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون (41) فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا أو ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها) * *
وقوله: * (وهو خير الرازقين) أي: خير من يرزق ويعطي.
قوله تعالى: * (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) يقول الله تعالى ذلك للملائكة توبيخا لمن عبدهم، وهو مثل قوله تعالى: * (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) والمعنى على ما بينا.
قوله تعالى: * (قالوا سبحانك) تسبيح الله: تعظيم له على وجه ينفي عنه كل سوء.
وقوله: * (أنت ولينا من دونهم) أي: نحن نتولاك ولا نتولاهم.
وقوله: * (بل كانوا يعبدون الجن) (فإن قيل: كيف يصح قوله: * (بل كانوا يعبدون الجن)) وهم عبدوا الملائكة؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أنه قال: * (بل كانوا يعبدون الجن) لأن الجن هم الذين زينوا لهم عبادة الملائكة، (والمراد من الجن الشياطين، والقول الثاني: أنهم صوروا صور الجن، وقالوا: هؤلاء الملائكة) فاعبدوهم.
وقوله: * (أكثرهم بهم مؤمنون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا) أي: جلب نفع ودفع ضر.
وقوله: * (ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) أي:
338

* (تكذبون (42) وإذ تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين (43) وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير (44) وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف) * * تجحدون.
قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) أي: واضحات.
وقوله: * (قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم) أي: يمنعكم * (غما كان يعبد آباؤكم) أي: من الأصنام.
وقوله: * (وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى) يعني: القرآن كذب مختلق.
وقوله: * (وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين) أي: بين.
قوله تعالى: * (وما آتيناهم من كتب يدرسونها) أي: يقرءونها.
وقوله: * (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) أي: لم يأت العرب قبلك نبي، ولا ينزل عليهم كتاب، والمراد منه قريش.
قوله تعالى: * (وكذب الذين من قبلهم) معناه: الذين مضوا من قبلهم، وهم عاد وثمود وقوم موسى وقوم إبراهيم وقوم لوط وغيرهم.
وقوله: * (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) أكثر أهل التفسير أن المراد من الآية هو أن هؤلاء الكفار وهم قريش ما بلغوا معشار ما آتينا الذين من قبلهم في القوة والمال والآلة. والقول الثاني أن معناه: وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء يعني: أن كتاب هؤلاء أبين كتاب، ورسولهم أفضل رسول، والقول الأول هو المعروف. وأما المعشار فهو العشر، وقيل: عشر العشر، وذلك جزء من مائة (جزء)، وقيل: هو عشر عشر العشر، وهو جزء من ألف جزء.
339

* (كان نكير (45) قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد (46) قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد (47) قل إن ربي يقذف) * *
وقوله: * (فكذبوا رسلي فكيف كان نكير) أي: إنكاري وتغييري.
قوله تعالى: * (قل إنما أعظكم بواحدة) وقال مجاهد: بطاعة الله. وقيل: بتوحيد الله، وهو قوله لا إله إلا الله. وذكر أهل المعاني مثل الفراء والزجاج وغيرهما أن معنى قوله: * (أعظكم بواحدة) أي: آمركم بخصلة واحدة، ثم بين الخصلة (فقال): * (أن تقوموا لله مثنى وفرادى) أي: تجتمعون فتنظرون وتحاورون وتنفردون، وتخلون فتتفكرون والمعنى: انظروا في حال محمد عند الاجتماع وعند الخلوة فتعرفوا أنه ليس بساحر، ولا بكاهن، ولا به جنون، ولا الذي أتى به شعرا.
وقوله: * (تقوموا لله) قال أهل التفسير: ليس المراد منه القيام الذي هو ضد الجلوس، وإنما هو مثل قوله تعالى: * (وأن تقوموا لليتامى بالقسط).
وقوله: * (ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) أي: جنون.
وقوله: * (إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) أي: عظيم.
قوله تعالى: * (قل ما سألتكم من أجر) أي: من جعل فهو لكم أي: تركته لكم. والمعنى: أني ما سألتكم من جعل، لا أنه سأل وترك.
وقوله: * (إن أجري إلا على الله) أي: ما ثوابي إلا على الله.
وقوله: * (وهو على كل شيء شهيد) أي: شاهد.
قوله تعالى: * (قل إن ربي يقذف بالحق) أي: يأتي بالحق.
وقوله: * (علام الغيوب) منصوب بأن، وقرئ: ' علام الغيوب ' بالرفع أي: هو علام الغيوب.
340

* (بالحق علام الغيوب (48) قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد (49) قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب) * *
قوله تعالى: * (قل جاء الحق) أي: القرآن، وقيل: الرسول.
وقوله: * (وما يبدئ الباطل) قال قتادة: الباطل هو الشيطان ها هنا أي: ما يبدئ الشيطان شيئا [* (وما يعيد)]. وفي الآية قول آخر: وهو أن الله تعالى يقذف بالحق على الباطل، فيذهب الباطل ولا يبقى منه بقية تبدئ شيئا أو تعيده. وقيل: الباطل هو الأصنام.
قوله تعالى: * (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي) قال المفسرون: لما بعث رسول الله وجعل يعيب الأصنام، قال له المشركون: إنك قد ضللت بتركك دين آبائك؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: * (فإنما أضل على نفسي) أي: إثم ضلالتي علي.
وقوله: * (وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي) أي: من القرآن والحجج.
وقوله: * (إنه سميع قريب) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ولو ترى إذ فزعوا) معناه: ولو ترى إذ فزعوا حين يبعثون، وفي الآية جواب محذوف، والمحذوف: ولو ترى إذا فزعوا حين يبعثون لرأيت عبرة يعتير بها، ويقال: ولو ترى إذ فزعوا أراد به وقت الموت.
وقوله: * (فلا فوت) أي: لا يفوتون من الله، كما قال الله في موضع آخر: * (ولات حين مناص).
وقوله: * (وأخذوا من مكان قريب) في التفسير: أخذوا من تحت أقدامهم. ويقال: أخذوا من بطن الأرض (إلى ظهرها).
(* (50) ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب (51) وقولوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد (52) وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان) * *
قوله: * (وقالوا آمنا به) يعني: في القيامة، وقيل: عند الموت، وهو في معنى قوله تعالى: * (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده).
وقوله: * (وأنى لهم التناوش) قال مجاهد وقتادة وكثير من المفسرين: التناوش هو التناول قال الشاعر:
(وهي تنوش الحوض نوشا من علا
* نوشا به تقطع) أجواز الفلا)
ومعنى الآية على هذا أنهم يريدون أن يتناولوا الإيمان، وقد بعد عنهم ذلك وفاتهم، فأنى لهم ذلك. وقرئ ' وأنى لهم التناوش ' بالهمز، وذكر أهل اللغة أن النئيش هو الحركة في إبطاء، فالمعنى على هذا أنه من أنى لهم حركتهم فيما لا حيلة لهم فيه. وعن ابن عباس قال: معنى قوله: * (وأنى لهم التناوش) أنهم يسألون الرد إلى الدنيا، وأنى لهم الرد.
وقوله: * (من مكان بعيد) أي: من الآخرة إلى الدنيا.
وقوله تعالى: * (وقد كفروا به من قبل) أي: بالقرآن، وقيل: بمحمد.
وقوله: * (من قبل) أي: في الدنيا.
وقوله: * (ويقذفون بالغيب) أي: يظنون ظن الغيب، ومعنى ظن الغيب: أنهم يقولون ما لا يعلمون؛ وقولهم فيما لا يعلمون هو أنهم قالوا: محمد ساحر، وكاذب، وكاهن، وشاعر، ويقال: قولهم فيما لا يعلمون أنهم يقولون: (لا بعث ولا جنة) ولا نار.
341

* (بعيد (53) وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب (54). * *
وقوله: * (من مكان بعيد) أنهم يقولون: ما أبعد هذا، (ويقال): من مكان بعيد أي: بعيد من (علمهم). والقذف هو الرجم والرمي، وجملة المعنى أنهم يخوضون فيما لا علم لهم به.
قوله تعالى: * (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) قال الحسن البصري: هو الإيمان وقبول التوبة. ويقال: المال والولد. (وقيل): نعمة الدنيا وزهوتها. وعن إبراهيم النخعي أنه قال: ما تلوت هذه الآية إلا وذكرت الماء البارد.
وقوله: * (كما فعل بأشياعهم من قبل) أي: الأمم الماضية. وقيل: بأصحاب الفيل. والأشياع: جمع شيعة، وهم الفرق.
وقوله: * (إنهم كانوا في شك مريب) أي: في شك مرتابين، وفي الآية دليل على أن الشاك كافر بخلاف ما قاله بعض الناس، وهو غلط عظيم في الدين، وقد دلت هذه الآية على أن الشاك كافر وهو في النار، وكذلك دل على هذا قوله تعالى: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) فقد أوجب لهم الكفر والنار بالظن. وقد روي عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: * (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش) قال: هذه الآية نزلت في جيش السفياني، وهو رجل [يخرج] في أخواله من كلب، فخسف الله بهم بالبيداء إلا رجلا واحدا يخبر الناس ما صنع الله بهم، وفيه قصة.
343

بسم الله الرحمن الرحيم
* (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث) * *
تفسير سورة فاطر
وهي مكية
* (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) قد بينا معنى الحمد، قوله: * (فاطر السماوات والأرض) أي: مبدعهما ومنشئهما بلا مثال.
(وقوله): * (جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة) أي: ذوي أجنحة.
وقوله: * (مثنى وثلاث ورباع) أي: مثنى مثنى، وثلاث وثلاث، ورباع ورباع أي: اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. شعر في المثنى:
* أحم الله ذلك من لقاء
* أحاد أحاد في شهرحلال
*
قال الضحاك: مثنى جبريل، وثلاث ميكائيل، ورباع إسرافيل، ومن المشهور أن النبي قال: ' رأيت جبريل (عليه السلام) وله ستمائة جناح قد سد الأفق '. وروي أنه لما رآه على هذه الصورة صعق '. وفي بعض الأخبار: ' أن جبريل عليه السلام يغتسل كل يوم في نهر ثم ينتقضن فما تقع قطرة إلا خلق الله تعالى منها ملكا '. وفي بعض الأخبار أيضا أن الله تعالى خلق ملكا في
344

* (ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (1) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم (2) يا) * * السماء شرفه ورفعه، وذلك في الخبر ما شاء الله من عظمه، فهو يسبح الله تعالى، فما ينطق بتسبيحه إلا خلق الله تعالى منها ملكا.
وقوله: * (يزيد في الخلق ما يشاء) أظهر الأقاويل: أن الله تعالى يزيد في خلق الملائكة وأجنحتهم ما يشاء على ما ذكرنا. وعن قتادة قال: يزيد في الخلق ما يشاء: هو الملاحة في العيش. وعن الزهري قال: هو حسن الصوت. وحكى النقاش في تفسيره: أنه الشعر الجعد. وعن بعض التفاسير: أنه زيادة العقل والتمييز. وعن بعضهم: هو العلم بالصناعات.
وقوله: * (إن الله على كل شيء قدير) أي: قادر.
قوله تعالى: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) أي: من رزق وغيث. وقيل: من عافية * (فلا ممسك لها) أي: لا حابس لها.
وقوله: * (وما يمسك فلا مرسل له من بعده) أي: ما يمنع فلا مرسل له من بعد الله أي: سوى الله وقد ثبت أن النبي كان يقول عقيب صلاة الفريضة: ' لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد '.
وثبت هذه اللفظة عنه أنه قالها في القيام بين الركوع والسجود.
وقوله: * (وهو العزيز الحكيم) أي: الغالب في ملكة (الجحيم في تدبير خلقه).
قوله تعالى: * (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم) أي: منة الله عليكم.
* (أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3) وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور (4) يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (5) إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من) * *
وقوله: * (هل من خالق غير الله) استفهام على وجه التقرير، كأنه قال: لا خالق غير الله.
وقوله: * (يرزقكم من السماء والأرض) أي: من السماء المطر، ومن الأرض النبات.
وقوله: * (لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) أي: تصرفون عن الحق.
وقوله: * (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور) أي: ترد الأمور.
قوله تعالى: * (يا أيها الناس إن وعد الله حق) يعني: وعد القيامة حق.
وقوله: * (فلا [تغرنكم] الحياة الدنيا) وفي الأثر: أن الله تعالى ما أعطي أحدا شيئا من الدنيا إلا اغترارا، وما زوى من أحد شيئا من الدنيا إلا اختبارا.
وقوله: * (ولا يغرنكم بالله الغرور) أي: لا يغرنكم الغرور، وهو الشيطان. قال الحسن: من الغرور أن تعمل المعصية، وتتنمى على الله المغفرة.
قوله تعالى: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) أي: عادوه بطاعة الله.
وقوله: * (إنما يدعو حزبه) أي: أتباعه.
وقوله: * (ليكونوا من أصحاب السعير) أي: ليكونوا في السعير، والسعير هو النار المتوقدة.
345

* (أصحاب السعير (6) الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كريم (7) أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله)
قوله تعالى: * (الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصلحات لهم مغفرة وأجر كبير) أي: عظيم.
قوله تعالى: * (أفمن زين له سوء عمله) نزلت الآية في أبي جهل وأبي بن خلف وعتبة وشيبة والعاص بن وائل والأسود بن عبد يغوث وعقبة بن أبي معيط وأشباههم. والقول الثاني: أن الآية نزلت في أهل الأهواء والبدع، والأولى أن يقال: إن الآية نزلت في الكفار؛ لأن عليه أكثر أهل التفسير. وعن قتادة: أنه قال: منهم الخوارج الذين يستحلون الدماء والأموال، قال: وأما أهل الكبائر فليس منهم؛ لأنهم لا يستحلون الكبائر. وكذلك العمال الظلمة، لأنهم يظلمون، ويعلمون أنها ليست بحلال لهم.
وقوله: * (فرآه حسنا) (وفي الآية حذف على طريقتين أحدهما: أن معنى الآية أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا) كمن هداه الله * (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء) والطريق الثاني، أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليه حسرة، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، والحسرة هو الندم الشديد على ما فات.
وقوله: * (إن الله عليم بما يصنعون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (والله الذي أرسل الرياح فتشير سحابا فسقناه إلى بلد ميت) أي: لا ينبت فيها.
وقوله: * (فأحيينا به الأرض بعد موتها [كذلك] النشور) أي: كذلك النشور
347

* (يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون (8) والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور (9) من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد) * * في الآخرة. وروى وكيع بن عدس عن أبي رزين العقيلي أنه قال: ' يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ قال له: هل مررت قط بأرض قحل أي: يابس ثم مررت بها وهي تهتز خضرا قال: نعم. قال: كذلك يحيي الله الموتى '.
قوله تعالى: * (من كان يريد العزة) العزة: هي المنعة.
وقوله: * (فلله العزة جميعا) قال الفراء: معنى الآية: من كان يريد أن يعلم لمن العزة، فلله العزة جميعا. وقال قتادة معناه: من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله. قال أهل النحو: هذا مثل ما يقول الإنسان: من كان يريد المال فالمال لفلان أي: ليطلب المال عند فلان، كذلك معنى قوله: * (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) أي: فليطلب العزة من عنده. وقال بعض أهل التفسير: كان أهل الجاهلية يعبدون الأصنام، ويتقربون بذلك إلى الله تعالى، ويطلبون العز من عند الأصنام، قال الله تعالى * (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمرهم أن يطلبوا العز من الله لا من الأصنام.
وقوله: * (إليه يصعد الكلم الطيب) في الكلم الطيب أقوال أحدها: أنه لا إله إلا الله. والآخر: أنه القرآن، ذكره شهر بن حوشب، والثالث: أنه ذكر الله. وعن قتادة
348

* (الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر) * * قال: إليه يصعد الكلم الطيب [أي]: يقبل الله الكلم الطيب. وعن (ابن مسعود) قال: ما نحدثكم بحديث إلا أتيناكم تصديق ذلك من كتاب الله تعالى، ثم قال: ما من عبد يقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله، إلا قبض عليهن (ملك) وضمهن تحت جناحه، ثم يصعد بها إلى السماء، ثم [لا] يمر بجمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الرحمن ثم تلا قوله تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقيل: الكلم الطيب هو الدعاء من العباد.
وفي بعض المسانيد برواية أنس عن النبي أنه قال: ' يقول الله تعالى كل يوم: أنا العزيز، فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز '.
وقوله: * (والعمل الصالح يرفعه) فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما روي عن الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك وغيرهم أنهم قالوا: والعمل الصالح يرفعه أي: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، والقول الثاني: قول قتادة؛ قال: والعمل الصالح يرفعه أي: يرفعه الله.
والقول الثالث: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب. وأولى الأقاويل هو الأول،
349

* (أولئك هو يبور (10) والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن) * * وقد روي عن الحسن البصري أنه قال: يعرض القول على العمل، فإن وافقه رفع القول مع العمل، وإن خالفه كان العمل أولى به. وفي بعض الآثار: أن العبد إذا قال: لا إله إلا الله بنية صادقة رفع إلى الله تعالى وله دوى كدوى النحل، حتى يلقى بين يديه فينظر الله تعالى [له] نظرة لا ييأس بعدها أبدا؛ هذا إذا وافقه عمله، وإن خالفه وقف قوله حتى يتوب من عمله. (وإن خالفه وقف).
قوله تعالى: * (والذين يمكرون السيئات) أي: يعملون السيئات، ويقال: نزلت في مكر الكفار برسول الله حتى خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة على ما ذكرنا.
وقوله: * (لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور) أي: يهلك ويبطل. قوله تعالى: * (والله خلقكم من تراب) التراب (جسم) مدقق من جنس الطين.
وقوله: * (ثم من نطفة) ذكر السدي أن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل عظم وشعر و (عصب) فإذا مضت أربعون يوما نزلت إلى الرحم، وخلق الله منها العلقة.
وقوله: * (ثم جعلكم أزواجا) أي: أصنافا. وفي تفسير ابن فارس: * (جعلكم أزواجا) أي: زوج بعضكم من بعض.
وقوله: * (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) أي: لا يغيب عنه شيء من ذلك.
وقوله: * (وما يعمر من معمر) يعني: ما يطول عمر معمر حتى يدركه الهرم. وقوله: * (ولا ينقص من عمره) فيرجع إلى الأول، والجواب: أنه يجوز أن يذكر على
350

* (ذلك على الله يسير (11) وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه) * * هذا الوجه، ويراد به غير الأول، وهذا كما أن الرجل يقول: عندي درهم ونصفه أي: نصف درهم آخر، أورده الزجاج وغيره. والقول الثاني: * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) هو منصرف إلى الأول. قال كعب الأحبار حين حضرا [عمر] الوفاة: والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخره، فقالوا له: إن الله يقول: * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). فقال: هذا إذا حضره الأجل، فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ هذه الآية. وذكر بعضهم: أن مثال هذا أن الله تعالى يكتب أن عمر فلان مائة سنة إن أطاعني، وعمره خمسون أو ستون إن عصاني، وهذا جائز.
وقوله: * (إلا في كتاب) معناه: إلا وهو مكتوب في كتاب. وفي التفسير أن الله تعالى يكتب أجل العبد في كتاب، ثم يكتب في كتاب (آخر): قد انتقص من عمره يوم، شهر، سنة، إلى أن يستوفى أجله. وذكر بعضهم أنه يكتب تحت ذلك الكتاب الأول.
وقوله: * (إن ذلك على الله يسير) أي: هين.
قوله تعالى: * (وما يستوي البحران هذا عذب فرات) أي: شديد العذوبة.
وقوله: * (سائغ شرابه) أي: سهل المدخل.
وقوله: * (وهذا ملح أجاج) أي: ملح شديد الملوحة. وفي الآية بيان القدرة في خلق الماء العذب والأجاج.
وقوله: * (ومن كل تأكلون لحما طريا) أي: الحيتان.
وقوله: * (وتستخرجون حلية تلبسونها) الدر والمرجان والجواهر. قال عكرمة: ما
351

* (مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير (13) إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو) * * قطرت من السماء قطرة إلى الأرض إلا أنبتت عشبة، وما قطرت في البحر قطرة إلا صارت درة، فإن قيل: قد قال: * (وتستخرجون حلية تلبسونها) والدر والمرجان والجواهر لا تخرج من الأجاج، وإنما تخرج من العذب؟ وقد قال: * (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون [حلية]) الجواب عنه: يجوز أن ينسب إليهما وإن كان يستخرج من أحدهما، ومثل هذا في كلام العرب كثير.
والثاني: وهو أن في البحر الأجاج تكون عيونا عذبة، فتمتزج بالملح، وتكون من بين ذلك الجواهر.
وقوله: * (وترى الفلك فيه مواخر) قال الحسن: مواقير أي: ممتلئة. وعن بعضهم: معترضة تجيء وتذهب. وقيل: جواري. والمخر: هو الشق، فكأن الفلك يشق الماء بصدره، فذكر مواخر على هذا المعنى.
وقوله: * (ولتبتغوا من فضله) أي: لتطلبوا من فضله، وفضله هو التجارات في البحر.
وقوله: * (ولعلكم تشكرون) أي: تشكرون نعم الله.
قوله تعالى: * (يولج الليل في النهار) قد بينا هذا من قبل.
وقوله: * ([ويولج النهار في الليل] وسخر الشمس والقمر) قال قتادة: طول الشمس ثمانون فرسخا، وعرضها ستون فرسخا. وعن عكرمة قال: جرم الشمس كسعة الدنيا (وزيادة ثلث، وجرم القمر كسعة الدني) بلا زيادة.
وقوله: * (كل يجري لأجل مسمى) ظاهر المعنى.
وقوله: * (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه) أي: من الأصنام.
352

* (سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير (14) يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد (15) إن يشأ) * *
وقوله: * (ما يملكون من قمطير) قال مجاهد: القطمير: لفافة النواة، وهو كسحل البصلة، وعن بعضهم: القمطير وسط النواة، والمعنى أنه يملك شيئا قليلا ولا كثيرا.
قوله تعالى: * (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) يعني: إن تدعوا الأصنام لا يسمعوا دعاءكم.
وقوله: * (ولو سمعوا ما استجابوا لكم) أي: ما أجابوكم.
وقوله: * (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) أي: يجحدون بشرككم وموالاتكم إياهم.
وقوله: * (ولا ينبئك مثل خبير) أي: ولا ينبئك بهذا أحد مثلي، والخبير هو الله تعالى، والمعنى أن الذي أنبأك بهذا خبير بالأمور، عالم بها.
قوله تعالى: * (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) أي: إلى فضل الله، والفقير هو المحتاج.
وقوله: * (والله هو الغني الحميد) أي: الغني عن خلقه، المحمود في إحسانه بخلقه.
قوله تعالى: * (إن يشأ يذهبكم) أي: يهلككم حتى لا يبقى منكم عين تطرف.
وقوله: * (ويأت بخلق جديد) أي: خلق لم يكونوا أنشأهم وابتدأهم.
وقوله: * (وما ذلك على الله بعزيز) أي: بشديد.
قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أي: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره.
وقوله: * (وإن تدع مثقلة) أي: مثقلة بالذنوب * (إلى حملها) أي: إن دعوت أحدا أن يحمل ذنوبه عنه.
353

* (يذهبكم ويأت بخلق جديد (16) وما ذلك على الله بعزيز (17) ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير (18) وما يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20) ولا الظل ولا) * *
وقوله: * (لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى) أي: لا يجد من يحمل عنه، وإن كان المدعو قريبا أبا أو أبناء. وعن ابن عباس أنه قال: إن الرجل (يلقي) يوم القيامة أباه أو ابنه، فيقول: احمل عني بعض ذنوبي، فيقول: لا أستطيع، حسبي ما علي. وفي بعض التفاسير: أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال لمن اسلم من بني مخزوم: ارجعوا عن الإسلام، وأنا أحمل ذنوبكم يوم القيامة إن خفتم من الذنوب؛ فانزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: * (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) قد بينا الخشية بالغيب.
وقوله: * (وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه) معنى التزكي ها هنا هو العمل الصالح.
وقوله: * (وإلى الله المصير) أي: المرجع.
قوله تعالى: * (وما يستوي الأعمى والبصير) معنى الأعمى: عن الهدى، والبصير بالهدى. وعن بعضهم: الأعمى عن الحق، والبصير بالحق.
وقوله: * (ولا الظلمات ولا النور) والظلمات هي الضلالات * (ولا النور) هو الهداية والبيان من الله تعالى. وقيل: هذا تمثيل الكفر والإيمان.
وقوله: * (ولا الظل ولا الحرور) أي: الجنة والنار. قال أبو عبيدة: الحرور يكون بالنهار مع الشمس. وعن غيره: السموم بالنهار، والحرور بالليل. وعن بعضهم: الحرور هو الحر الدائم ليلا كان أو نهارا، قال الشاعر:
354

* (الحرور (21) وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور (22) إن أنت إلا نذير (23) إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم) * *
(وهاجرة يشوي الوجوه حرورها
*)
وقوله: * (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) أي: المؤمنون والكفار. وعن [ابن] قتيبة قال: العلماء والجهال.
وقوله: * (إن الله يسمع من يشاء) أي: من يشاء إسماعه.
وقوله: * (وما أنت بمسمع من في القبور) أي: لا تسمع الكفار، وشبههم بالأموات في القبور.
وقوله: * (إن أنت إلا نذير) أي: منذر.
قوله تعالى: * (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا) أي مبشرا ومنذرا.
وقوله: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) أي: منذر. وفي بعض التفاسير: إلا العرب لم يكن لهم نبي سوى النبي. وفي بعض الحكايات: أن بهلول المجنون لقي أبا يوسف القاضي، فقال له: إن الله تعالى يقول: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) وقال النبي: ' لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها '، فما نذير الكلاب؟! فتحير أبو يوسف؛ فأخرج حجرا من كمه وقال: هذا نذير الكلاب.
قوله تعالى: * (وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير) أي: الكتاب الواضح، وذكر الكتاب بعد الزبر على طريق
355

* (رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير (25) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير (26) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور) * * التأكيد.
قوله تعالى: * (ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير) أي: إنكاري وتغييري.
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) (قوله): * (فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها) أي: أبيض وأحمر وأصفر، وما أشبه ذلك.
وقوله: * (ومن الجبال جدد) أي: طرائق (وخطط) * (بيض)، والجدد: جمع جدة، وهو الطريق.
وقوله: (* (وحمر)) أي: طرائق حمرة.
قوله: * (مختلف ألوانها وغرابيب سود) أي: سود غرابيب على التقديم والتأخير، يقال: أسود غربيب أي: شديد السواد، وفي بعض الأخبار: ' أن الله يكره الشيخ الغربيب ' أي الذي يسود لحيته، والخضاب بالحمرة سنة، أما بالسواد مكروه. ومعنى الآية أي: طرائق سود.
وقوله: * (ومن الناس والدواب والأنعاممختلف ألوانه كذلك) أي: مختلف ألوان هذه الأشياء، كما اختلفت ألوان ما سبق ذكره.
356

(* (28) إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (29) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور (30) والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده) * *
وقوله: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ومن المعروف في الآثار: ' رأس العلم خشية الله '. ومن المعروف أيضا: كفى بخشية الله علما، وبالاغترار به جهلا. ويقال: أول كلمة في الزبور رأس الحكمة خشية الله. وعن ابن عباس قال: إنما يخشى الله من عباده العلماء أي: من يعلم ملكي وعزي وسلطاني. وعن بعضهم: إنما يخشى الله من عباده العلماء الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير، وعن بعض التابعين قال: من لم يخش الله فليس بعالم. ويقال: خف الله بقدر قدرته عليك، واستح من الله بقدر قربه منك.
وقوله: * (إن الله عزيز غفور) أي: عزيز في ملكه، غفور (لذنوب عباده).
قوله تعالى: * (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور) أي: لن تهلك ولن تفسد، والمراد من التجارة ما وعده الله من الثواب.
قوله تعالى: * (ليوفيهم أجورهم) أي: ثواب أعمالهم.
وقوله: * (ويزيدهم من فضله) هو تضعيف الحسنات، قال بعضهم: هو الشفاعة لمن أحسن إليهم، فعلى هذا يشفع الفقير للغنى الذي تصدق عليه.
وقوله: * (إنه غفور شكور) يقال: يغفر الكثير من الذنوب، ويشكر اليسير من الطاعات.
357

* (لخبير بصير (31) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32) جنات) * *
قوله تعالى: * (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه) أي: من الكتب المتقدمة.
وقوله: * (إن الله بعباده لخبير بصير) أي خبير بما في ضمائرهم، بصير [بأفعالهم].
قوله تعالى: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) الأكثرون على أن المراد من قوله: * (الذين اصطفينا من عبادنا) هذه الأمة، وعن بعضهم: أن المراد منه الأنبياء، وعن بعضهم: أن المراد منه بنو إسرائيل، والقول الأول هو المشهور.
وقوله: * (وأورثنا الكتاب) المراد من الكتاب: هو القرآن.
ومعنى الآية: أي انتهى إليهم الأمر بإنزالنا عليهم القرآن، وبإرسالنا محمدا إليهم.
وقوله: * (فمنهم ظالم لنفسه) اختلف القول في المراد بالظالم، فقال بعضهم: المراد بالظالم هو الكافر، ذكره الكلبي وغيره. وعن بعضهم: أن المراد منه المنافق، فعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله: * (جنات عدن يدخلونها) وقد روي هذا القول أيضا عن ابن عباس أنه حمل الظالم على الكافر.
والقول المشهور أن الظالم لنفسه من المؤمنين، وعلى هذا يستقيم نسق الآية، وعلى القول الأول يحمل قوله: * (الذين اصطفينا من عبادنا) على الاصطفاء في الخلقة وإرسال الرسول وإنزال الكتاب، وعلى القول الثاني يحمل الاصطفاء على الزيادة التي جعلها الله تعالى لهذه الأمة من بين سائر الأمم. وقد روى شهر بن جوشب أن عمر رضي الله عنه قال: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: السابق هم الذين مضوا على عهد النبي، والمقتصد هم الذين اتبعوهم، والظالم مثلي ومثلك، تقول ذلك للمخاطب.
358

* (عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) * *
وعن أبي الدرداء قال: السابق هو الذي لا يحاسب أصلا يوم القيامة، والمقتصد هو الذي يحاسب حسابا يسيرا ويدخل الجنة، والظالم هو الذي يحاسب حسابا شديدا ويدخل النار ثم ينجو.
وعن بعضهم: أن الظالم لنفسه هم أصحاب المشأمة، والمقتصد هم أصحاب الميمنة، والسابقون هم المقربون، ذكره السدي، فعلى هذا الظالم لنفسه كافر. وعن بعضهم: أن الظالم لنفسه هم أصحاب الكبائر، والمقتصد هم أصحاب الصغائر، والسابق هو الذي لم يرتكب صغيرة ولا كبيرة، وعبر بعضهم عن هذا؛ قال: المقتصد هم أصحاب التوسط في الطاعات، فعلى هذا من غلبت سيئاته على حسناته فهو ظالم، ومن استوت سيئاته وحسناته فهو مقتصد، ومن غلبت حسناته على سيئاته فهو سابق، وهذا قول معروف مأثور [عن رسول الله].
وعن بعضهم قال: الظالم آدم، والمقتصد إبراهيم، والسابق هو محمد. وقال بعضهم: الظالم هو المريد، والمقتصد هو المحب، والسابق هو الواله. وقال بعضهم: الظالم هو الذي همه نفسه والدنيا، والمقتصد هو الذي همه الجنة، والسابق هو الذي همه ربه.
وعن بعضهم قال: الظالم هو الواقف، والمقتصد هو السائر، والسابق هو الواصل. وفي الآية كلام كثير.
وقوله: * ([ومنهم مقتصد ومنهم سابق] بالخيرات بإذن الله) أي: بالطاعات: بعلم الله.
وقوله: * (ذلك هو الفضل الكبير) أي: الفضل العظيم.
قوله تعالى: * (جنات عدن يدخلونها) روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه
359

* (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35) والذين كفروا لهم) * * أنه قال: أرجى آية في كتاب الله تعالى هذه الآية؛ لأنه جمع بين الظالم والمقتصد والسابق، ثم قال: * (جنات عدن يدخلوها) وعن بعضهم قال: إن الواو في قوله: * (يدخلونها) أحب إلي من كذا وكذا. وعن كثير من السلف أنهم قالوا: كل هؤلاء من هذه الآية.
وقوله: * (يحلون فيها من أساور من ذهب) ظاهر المعنى. والأساور: جمع السوار.
وقوله: * (ولؤلؤ) أي: من ذهب ولؤلؤ، وقرئ: ' ولؤلؤا ' بالنصب أي: يحلون لؤلؤا.
وقوله: * (ولباسهم فيها حرير) أي: الديباج. ومن المعروف أن النبي قال: ' من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة '، وقال: ' هو لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة '.
قوله تعالى: * (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) قال ابن عباس: حزن النار. وعن قتادة: حزن الموت. وعن بعضهم: هم المعيشة.
وقال مجاهد: هم الخبز. والأولى أن يحمل على جميع الأحزان، فهم ينجون عن كلها، ومن المعروف أن الحزن: هو حزن أهوال القيامة.
وقوله: * (إن ربنا لغفور شكور) قد بينا.
قوله تعالى: * (الذي أحلنا دار المقامة من فضله) قد بينا معنى المقامة والمقامة.
وقوله تعالى: * (لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) أي: تعب وإعياء.
قوله تعالى: * (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا) أي: لا يقضي عليهم الموت فيموتوا.
وقوله: * (ولا يخفف عنهم من عذابها) أي: من عذاب النار.
360

* (نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور (36) وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير (37)) * *
وقوله: * (كذلك نجزي كل كفور) أي: كفور للنعمة.
قوله تعالى: * (وهم يصطرخون فيها) يصطرخون يفتعلون من الصراخ، وهو الصياح.
وقوله: * (ربنا أخرجنا) أي: يصطرخون ويقولون: * (ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) أي: نعمل من الصالحات بدل ما كنا نعمل من السيئات.
وقوله: * (أو لم نعمركم) أي: يقول الله تعالى لهم: * (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) معناه: أو لم نعمركم العمر الذي يتذكر فيه من تذكر. واختلف القول في ذلك العمر؛ فالأكثرون على أنه ستون سنة، (وهذا) مروي عن علي رضي الله عنه وقد روى أبو هريرة عن النبي أنه قال: ' من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر '. وعن بعضهم: أنه أربعون سنة. وعن بعضهم: ثمانية عشر سنة. وقال الحسن البصري: هو البلوغ. وعن بعضهم: هو سبعون سنة؛ لأنه، عند ذلك يدخل في الهرم.
وقوله: * (وجاءكم النذير) أي: محمد.
والقول الثاني: أنه الشيب، حكى ذلك عن وهب بن منبه وغيره. وفي الأثر: ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها: يا أختي، استعدي فقد قرب الموت. وقال بعضهم: الشيب (حطام) المنية. وسماه بعضهم بريد الموت.
361

* (إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور (38) هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا (39) قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون) * *
والقول الثالث: أن قوله: * (وجاءكم النذير) كل ما ينذر ويخوف بها. وفي غريب التفسير: أنه الحمى. وقيل أيضا: هو العقل.
وقوله: * (فذوقوا فما للظالمين من نصير) أي: ناصر.
قوله تعالى: * (إن الله عالم غيب السماوات والأرض) (الآية) ظاهر المعنى. قوله تعالى: * (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) أي: يخلف بعضكم بعضا، وكل من تلا إنسانا، وقام بعده فهو خليفته، ولهذا سمي أبو بكر خليفة رسول الله؛ لأنه قام بالأمر بعده، وإلا فعند أهل العلم أن الرسول توفي، ولم يستخلف أحدا. ومن هذا قول عمر رضي الله عنه حين حضرته الوفاة. وقيل له: استخلف. فقال: إن لم أستخلف فلم يستخلف رسول الله، وإن استخلف فقد أستخلف أبو بكر، وهذا قو ل
ثابت عن عمر.
وقوله: * (فمن كفر فعليه كفره) أي: فعليه وبال كفره.
وقوله: * (ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا) أي: بغضا. وقيل: ما يوجب لهم المقت.
وقوله سبحانه وتعالى: * (ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا) أي: خسرانا.
قوله تعالى: * (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله) أي: الذين جعلتموهم شركائي على زعمكم من الأصنام والملائكة.
وقوله: * (أروني ماذا خلقوا من الأرض) أي: أعلموني.
وقوله: * (أم لهم شرك في السماوات) أي: شركة.
362

* (الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا (40) إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا (41)) * *
وقوله: * (أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه) أي: على دلائل واضحة منه.
وقوله: * (بل إن يعد الظالمون) أي: ما يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا، والغرور كل ما يغر الإنسان مما لا أصل له.
قوله تعالى: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) معناه: لئلا تزولا، وقيل: كراهة أن تزولا.
وقوله: * (ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) أي: لا يمسكهما أحد سواه، فإن قيل: ما معنى قوله: * (ولئن زالتا) وهي لا تزول؟
والجواب: أن الله تعالى قد قال: * (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا) والله تعالى يمسكهما عن هذه الأشياء. وفي بعض الآثار: أن موسى عليه السلام قال: يا رب، كيف أعلم [أنك] لا تنام؟ فوضع في يديه قارورتين على ما ذكرنا.
وفي بعض التفاسير: أن الأرض ثقيلة متسلفة، والسماء خفيفة مستطيرة، وقد ألصق الله تعالى أطراف السماوات بأطراف الأرضين، فالسماء تمنع الأرض بتصعدها عن التسفل، والأرض تمنع السماء بثقلها عن الصعود، حكاه النقاش، والله أعلم.
وقوله: * (إنه كان حليما غفورا) فإن قيل: ما معنى ذكر الحلم ها هنا؟
قلنا: لأن هذه الأشياء همت بما همت عقوبة للكفار، فأمسكها الله تعالى، ولم يدعها أن تزول تركا للمعالجة في العقوبة، وكان ذلك حلما منه جل جلاله.
363

* (وأقسموا بالله جهد أيمانكم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42) استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (43) أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين) * *
قوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) هذا في مشركي مكة، فإنهم كانوا قالوا: لو جاءنا نذير لكنا أهدى أي: أقبل للكتاب، وألزم له من اليهود والنصارى، فلم يفوا بما قالوا حين جاءهم الرسول، فأنزل الله تعالى في شأنهم، فهو معنى قوله: * (لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم) أي: اليهود والنصارى.
وقوله: * (فلما جاءهم نذير) أي: محمد * (ما زادهم إلا نفورا) أي: ما زادهم المجيء إلا نفورا.
قوله تعالى: * (استكبارا في الأرض) يعني: أنهم ردوا ما ردوا استكبارا في الأرض.
وقوله: * (ومكر السيئ) أي: وفعل المكر السيئ، وفي قراءة ابن مسعود: ' ومكرا سيئا '. وفي المكر السيئ قولان: أحدهما: أنه الشرك، والآخر: أنه المكر برسول الله.
وقوله: * (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) أي: لا تنزل عقوبة المكر السيئ إلا بأهله، وحقيقة المعنى: أن وبال المكر راجع إليهم.
وقوله: * (فهل ينظرون إلا سنة الأولين) (أي: طريقة الأولين) في الإهلاك ونزول العذاب لهم.
وقوله: * (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) ظاهر المعنى، والمراد من التكرار هو التأكيد.
قوله تعالى: * (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه) أي: ليفوت عنه.
364

* (من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا (44) ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا (45)). * * *
وقوله: * (من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا) من القبائح والمعاصي.
وقوله: * (ما ترك على ظهرها من دابة) أي: على ظهر الأرض بما كسب الناس من الذنوب. وعن ابن مسعود قال: إن الجعل تعذب في حجرها بذنب ابن آدم.
وقوله: * (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) أي: إلى مدة معلومة.
وقوله: * (فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) أي: بصيرا بأعمالهم يجازيهم عليها، الحسنة بالحسنة، والسيئة بالسيئة. @ 366 @
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يس (1) والقرآن الكريم (2) إنك لمن المرسلين (3) على صراط مستقيم) * *
تفسير سورة يس
وهي مكية، وروى مقاتل بن حيان، عن قتادة، عن أنس، عن النبي قال: ' إن لكل شيء قلبا، وإن قلب القرآن سورة يس، ومن قرأ سورة يس أعطاه الله ثواب قراءة القرآن عشر مرات.
والخبر غريب أورده أبو عيسى في جامعه، والله أعلم.
قوله تعالى: * (يس) قال ابن عباس: قسم أقسم الله به، وقال قتادة: اسم للسورة، وقال مجاهد: يس من فواتح القرآن، وقال (الحسن) وسعيد بن جبير والضحاك وجماعة معنى قوله: * (يس) يا إنسان، وهذا هو أشهر الأقاويل، قال ثعلب: هو يا إنسان بلغة طي، وقال غيره: بلغة كلب، وقرأ عيسى بن عمر: ' يسن ' بالنصب، ويقال معناه: يا محمد.
وقوله: * (والقرآن الحكيم) يعني: والقرآن الذي أحكم بالأمر والنهي والثواب والعقاب، وقوله، * (إنك لمن المرسلين) على هذا وقع القسم؛ فكأن الله تعالى أقسم بالقرآن أن محمدا من المرسلين.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: سمى الله رسوله محمدا في
365

(* (4) تنزيل العزيز الرحيم (5) لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون (6) لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (7) إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى) * * القرآن بسبعة أسماء: محمد، وأحمد، وطه، ويس، والمدثر، والمزمل، وعبد الله.
وقوله: * (على صراط مستقيم) فيه وجهان: أحدهما: أنه خبر بعد خبر، والآخر أن معناه: إنك لمن المرسلين الذين هم على صراط مستقيم.
وقوله: * (تنزيل العزيز الرحيم) أي: هو تنزيل العزيز الرحيم، وقرئ: ' تنزيل ' بنصب اللام أي: أنزله الله تنزيل العزيز الرحيم.
قوله تعالى: * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) فيه قولان: أحدهما: أن ' ما ' للنفي، والمعنى. لم ينذر آباؤهم أصلا؛ فإن الله تعالى ما بعث إلى قريش سوى النبي.
والقول الثاني: أن ' ما ' ها هنا بمعنى الذي، فمعنى الآية على هذا لتنذر قوما بالذي أنذر آباؤهم.
وقوله: * (فهم غافلون) أي: عن الإنذار، وحكى النقاش في تفسيره عن النبي ' أن مضر كان قد أسلم '.
وحكى أبو عبيدة أن تميما كان يكنى أبا زيد، وكان له صنم يعبده، فأسلم ودفن صنمه، ثم إن ابنه زيدا استخرج الصنم من ذلك المكان، وعبده فسمى زيد مناة.
قوله تعالى: * (لقد حق القول) أي: وجب القول على أكثرهم، ومعنى وجوب القول هو وجوب الحكم بالعذاب، وقوله: * ([على أكثرهم] فهم لا يؤمنون) أي: لا يصدقون.
قوله تعالى: * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) فإن قيل: الغل إنما يكون على اليد! والجواب عنه: أن العادة أن اليد تغل إلى العنق، فذكر الأعناق لهذا المعنى، واكتفى
367

* (الأذقان فهم مقحمون (8) وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم) * * بذكرها عن ذكر الأيدي، قال الأزهري: معنى الآية: إنا جعلنا في أعناقهم وأيديهم أغلالا، فهي كناية عن الأيدي.
فإن قيل: فكيف يكنى عن الأيدي ولم يجر لها ذكر؟ والجواب عنه: أن العرب تكني عن الشيء وإن لم تجر له ذكرا، إذا كان معلوما.
قال الشاعر:
(ولا أدري إذا يممت أرضا
* أريد الخير أيهما يليني)
(أألخير الذي أنا أبتغيه
* أم الشر الذي هو يبتغيني)
فقد كنى بقوله: أيهما عن الشر والخير، والشر غير مذكور.
وقوله: * (إلى الأذقان) معناه: إلى الأعناق إلا أنه ذكر الأذقان لقرب الأعناق من الأذقان، وقوله: * (فهم مقحمون) المقمح: هو الذي رفع رأسه وغض طرفه، والعرب تسمى الكانونين شهري القماح؛ لأن الإبل ترد الماء وتشرب، فترفع رأسها من شدة البرد، قال الشاعر:
(ونحن على جوانبه قعود
* نغض الطرف كالإبل القماح)
وقرأ ابن مسعود: ' إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا '، وهي قراءة معروفة عنه.
قوله تعالى: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا) وقرئ: ' سدا ' برفع السين.
قال عكرمة: ما كان من صنع الله فهو سد، وما كان من صنع المخلوقين فهو سد، وقال غيره: السد ما يرى، والسد ما لا يرى، ومنهم من لم يفرق بينهما، وقال هما بمعنى واحد.
قال أهل التفسير: ذكر السد ها هنا على طريق ضرب المثل، وكذلك ذكر الأغلال في الآية الأولى على قول بعضهم، والمعنى من ذكر الأغلال منعهم عن الإنفاق في
368

* (فهم لا يبصرون (9) وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (10) إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم (11) إنا نحن) * * سبيل الله. والمعنى من السد هو المنع من الهداية. وذكر بعضهم: أن الآية نزلت على سبب، وهو أن قوما من بني مخزوم تشاوروا في قتل النبي، فجاء أحدهم ليقتله وهو في الصلاة؛ فجعل يسمع صوته ولا يرى شخصه، وجاء آخر فرأى شيئا عظيما يقصده بالهلاك، فخاف ورجع، ويقال: إن الثاني كان أبو جهل عليه لعنة الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية في هذا، وهو قوله ' * (وجعلنا من بين أيديهم سدا).
وقوله: * (فأغشيناهم) من التغشية والتغطية، وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ' فأغشيناهم ' بالعين غير المعجمة، من قوله تعالى: * (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا [فهو له قرين]) أي: تعمى، فمعنى قوله: [* (أغشيناهم)] أي: أعميناهم.
وقوله: * (فهم لا يبصرون) أي: طريق الحق.
قوله تعالى: * (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) هذا في أقوام بأعيانهم، وقد مضوا ولم يؤمنوا على ما قال الله تعالى.
قوله تعالى: * (إنما تنذر من اتبع الذكر) أي: استمع الذكر، وهو القرآن، واتبع ما فيه، وقوله: * (وخشي الرحمن بالغيب) أي: خاف الرحمن بالغيب.
وقوله تعالى: * (فبشره بمغفرة وأجر كريم) أي: الجنة.
قوله تعالى: * (إنا نحن نحيي الموتى) أي: في الآخرة، ويقال: يحيي القلوب الميتة بنور الإيمان، وقوله: * (ونكتب ما قدموا) أي: ما عجلوا.
وقوله: * (وآثارهم) أي: ونكتب آثارهم، وفي آثارهم قولان:
369

* (نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (12) واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون (13) إذ أرسلنا إليهم اثنين) * * أحدهما: أن معناها ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة.
والقول الثاني: أن قوله: * (وآثارهم) أي: الخطا إلى المساجد، وروى أبو سعيد الخدري: ' أن بني سلمة كانت منازلهم في ناحية من المسجد أي: بعيدة؛ فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، وقال لهم النبي: منازلكم، منازلكم، تكتب آثاركم، فتركوا الانتقال '.
وقد ورد في الخبر عن النبي أنه قال: ' من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص من أوزارهم شيء '.
وقوله: * (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) أي: جمعناه في كتاب مبين، والإمام المبين هو اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: * (واضرب لهم مثلا) ضرب المثل هو تمثيل المثل، ومعنى الآية: واذكر لهم مثل حالهم من قصة أصحاب القرية.
وأما القرية: فأكثر أهل التفسير أن القرية هي أنطاكية، وقال بعضهم: هي بلد من بلاد الروم، وقوله: * (إذ جاءها المرسلون) في القصة: أن عيسى عليه السلام بعث إليهم برجلين من الحواريين، ثم بعث بثالث بعدهما، فهو معنى قوله تعالى:
370

(فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون (14) قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون (15) قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون (16) وما علينا إلا البلاغ المبين (17) قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) * * (إذا أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) والثالث كان اسمه شمعون رأس الحواريين، وقوله: * (عززنا) أي: شددنا وقوينا، وقرأ عاصم وحده: ' فعززنا ' بالتخفيف، وهو في معنى الأول.
وفي التفسير: أن القوم كذبوا الرسولين الأولين وهموا بقتلهما، فجاء هذا الثالث وتلطف الدخول على الملك، وكانت قد توفيت ابنته ودفنت، فقال للملك: اطلب من [هذين] الرجلين أن يحييا ابنتك، فإن أحيياها فهما [صادقان] فطلب منهما الملك ذلك؛ فقاما وصليا [ودعيا] الله تعالى، ودعا شمعون معهما في السر، فأحيا الله تعالى المرأة، وانشق القرب عنها وخرجت، وقالت للقوم: أسلموا، فإنهما صادقان، ولا أظنكم تسلمون، ثم طلبت من الرسولين أن يرادها إلى مكانها، فذريا ترابا على رأسها، وعادت إلى قبرها كما كانت، ولم يؤمن القوم.
قوله تعالى: * (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) فإن قيل: كيف يكون علم الله تعالى أنهم رسل الله حجة عليهم؟
الجواب عنه: أن معناه: ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون بما أظهر على أيدينا من الآيات والمعجزات؛ فصارت الحجة قائمة بالآيات والمعجزات، لا بنفس العلم.
وقوله: * (وما علينا إلا البلاغ المبين) أي: الإبلاغ البين.
قوله تعالى: * (قالوا إنا تطيرنا بكم) أي: تشاءمنا بكم، وفي التفسير: أنه كان
371

* (وليمسنكم منا عذاب أليم (18) قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون (19) وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين (20) اتبعوا من) * * حبس عنهم المطر حين جاءهم هؤلاء الرسل.
واختلف القول في أنهم كانوا رسل الله أو رسل عيسى، فأحد القولين: انهم كانوا رسل عيسى عليه السلام كما بينا، والقول الآخر: أنهم كانوا رسل الله.
قوله: * (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) أي: [لنقتلنكم] بالحجارة، وقيل: نشتمنكم، والأول أولى.
وقوله: * (وليمسنكم منا عذاب أليم) أي: مؤلم، والمؤلم هو الموجع.
قوله تعالى: * (قالوا طائركم معكم) أي: شؤمكم معكم بكفركم وتكذيبكم الرسل. وقيل: طائركم معكم أي: أقداركم وأعمالكم تابعة إياكم، تقول العرب: طار بمعنى صار قال الشاعر:
(تطير غدائر الإشراك شفعا
* ووترا والزعامة للغلام)
وقيل: طائركم معكم أي: ما طار لكم من عمل خير أو شر فهو معكم ولازم إياكم. وقوله: * (أئن ذكرتم) معناه: أئن ذكرتم بالله تطيرتم، وقرئ ' أن ذكرتم ' أي: لأن ذكرتم تطيرتم. وقوله: * (بل أنتم قوم مسرفون) أي: مجاوزون الحد.
قوله تعالى: * (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) ذهب أكثر المفسرين أنه كان رجل يسمى حبيب النجار، وقال السدي: كان قصارا. وعن بعضهم: أنه كان إسكافا قال قتادة: كان رجلا يعبد الله في غار؛ فسمع بخبر الرسل فجاءهم، وقال: أتطلبون جعلا على رسالتكم؛ قالوا: لا؛ فأقبل على قومه، وقال لهم ما قال الله، وهو قوله: * (يا قوم اتبعوا المرسلين) والمدينة: هي القرية التي ذكرناها، وهي الأنطاكية.
وقوله: * (اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) ظاهر المعنى.
وعن بعضهم أنه قال: مسكن الأشراف الأطراف، واستدل بهذه الآية، وهو قوله:
372

* (لا يسألكم أجرا وهم مهتدون (21) وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22) أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون (23) إني إذا لفي ضلال مبين (24) إني آمنت بربكم فاسمعون (25) قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين (27)) * * * (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) أي: من أبعد موضع بالمدينة.
قوله تعالى: * (وما لي لا أعبد الذي فطرني) معناه: ولم لا أعبد الذي فطرني * (وإليه ترجعون).
فإن قيل: كيف أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم؟
والجواب عنه: أنه أضاف الفطرة إلى نفسه؛ لأن النعمة كانت عليه أظهر، وأضاف الرجوع إليهم؛ لأن الزجر كان بهم أحق، وفي ذكر الرجوع معنى الزجر.
قوله تعالى: * (أأتخذ من دونه آلهة) استفهام بمعنى الإنكار أي: لا أتخذ، وقوله: * (إن يردن الرحمن بضر) أي: بسوء ومكروه، وقوله: * (لا تغن عني شفاعتهم شيئا) أي: لا تغني عني الأصنام شيئا؛ لأنه لا شفاعة لهن، وقد كانوا يزعمون الكفار أنها تشفع لهم يوم القيامة.
وقوله: * (ولا ينقذون) أي: لا ينقذونني من العذاب لو عذبني الله.
قوله: * (إني إذا لفي ضلال مبين) أي: في خطأ ظاهر لو فعلت هذا.
قوله تعالى: * (إني آمنت بربكم فاسمعون) قال أبو عبيدة: مجازه فاسمعوا مني، قوله: * (قيل ادخل الجنة) في التفسير: أنه لما قال هذا القول وثب القوم عليه وثبة واحدة فوطئوه بأرجلهم حتى قتلوه، وحكى هذا عن ابن مسعود، ويقال: وطئوه حتى خرج قصبه من دبره؛ فأدخله الله الجنة، فهو ثم حي يرزق، وهو معنى قوله: * (قيل ادخل الجنة).
وقوله: * (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي) أي: بمغفرة ربي لي، قال قتادة:
373

* (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين (28) إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون (29) يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا) * * * نصحهم حيا وميتا، وقوله: * (وجعلني من المكرمين) أي: ممن دخل الجنة، ومن أدخل الجنة فقد أكرم، ومن أدخل النار فقد أهين.
قوله تعالى: * (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء) أي: من ملائكة، وقوله: * (وما كنا منزلين) أي: وما كنا لنفعل هذا، بل الأمر في هلاكهم كان أيسر مما تظنون.
قوله تعالى: * (إن كانت إلا صيحة واحدة) أي: ما كانت إلا صيحة واحدة. وفي القصة: أن جبريل عليه السلام جاء ووقف على باب المدينة وصاح بهم صيحة فخروا ميتين كأن لم يكونوا، وصاروا كرماد خامدين هامدين.
وفي الأخبار: أن عروة بن مسعود الثقفي لما أسلم استأذن من رسول الله أن يذهب لي قومه وهم ثقيف ويدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله: ' إني أخشى أن يقتلوك، فقال: لو كنت نائما ما أيقظوني، ثم إنه ذهب إليهم ودعاهم إلى الإسلام، فرماه رجل بسهم فأصاب أكحله ومات، فبلغ النبي فقال: هو في هذه الأمة مثل صاحب يس، وهو حبيب النجار '.
قوله تعالى: * (يا حسرة على العباد) فإن قيل: كيف يستقيم نداء الحسرة، والحسرة لا تعقل شيئا؟ وأيضا كيف يتحسر الله تعالى على العباد الذين أهلكهم،
374

* (كانوا به يستهزءون (30) ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون (31) وإن كل لما جميع لدينا محضرون (32) وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) * * ولا يجوز عليه هذه الصفة؟ والجواب عنه: أن معنى قول القائل يا حسرة مثل قوله: يا عجبا، وكذلك قوله: يا حسرتاه، مثل قوله: يا عجباه، والعرب تقول هذا على طريق المبالغة، والنداء عندهم بمعنى التنبيه، فيستقيم فيمن يعقل وفيمن لا يعقل، وقوله: يا عجباه أبلغ من قولهم: أنا أتعجب من كذا، فكأنه قال
: أيها العجب هذا وقتك، وأيها الحسرة هذا زمانك، وحقيقة المعنى: أن هذا الزمان زمان الحسرة والتعجب.
وأما قوله: إن الحسرة على الله لا تجوز، قلنا: نعم، ومعنى الآية: يا حسرة على العباد من أنفسهم؛ وكأنهم يتحسرون على أنفسهم غاية الحسرة، والحسرة هي التلهف على أمر فائت بأبلغ وجوهه حتى يبقى الرجل حسيرا منقطعا من شدته، وقرئ في الشاذ: ' يا حسرة العباد ' وجواب آخر: أنه تعالى قال: * (يا حسرة على العباد) لأنهم صاروا بمنزلة يتحسر عليهم، ويقال معناه: يا حسرة الرسل والملائكة على العباد، والجواب الأول أحسن الأجوبة.
وقوله: * (ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون) أي: استهزاء التكذيب.
قوله تعالى: * (ألم يروا كم أهلكنا) قرأ ابن مسعود ' ألم يروا من أهلكنا '، والمعروف كم أهلكنا، وهو للتكثير.
وقوله: * (قبلهم من القرون) اختلفوا في مدة القرن، وقد بينا من قبل، وقد روي عن النبي: أنه قال لعبد الله بن بسر المازني: ' إنك تعيش قرنا؛ فعاش مائة سنة '، وقوله: * (أنهم إليهم لا يرجعون) أي: لا يرجعون إلى الدنيا.
قوله تعالى: * (وإن كل لما) ' إن ' ها هنا بمعنى: ما، و ' لما ' بمعنى: إلا، فمعنى الآية: وما كل إلا جميع لدينا محضرون، وفي مصحف أبي بن كعب على هذا الوجه.
375

* (وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون (35) سبحان) * *
قوله تعالى: * (وآية لهم الأرض الميتة) وقرئ: ' الميتة ' بالتشديد.
وقوله: * (أحييناها) أي: بالمطر.
وقوله: * (وأخرجنا منها حبا) أي: الحنطة والشعير وما أشبه هذا، وقوله: * (فمنه يأكلون) أي: من الحب يأكلون.
وقوله تعالى: * (وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب) أي: في الأرض جنات من نخيل وأعناب.
وقوله: * (وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره) أي: وفجرنا فيها المياه من العيون؛ ليأكلوا من الثمر الحاصل بالماء.
وقوله: * (وما عملته أيديهم) أي: وليأكلوا مما عملته أيديهم مما يحرثون ويزرعون ويغرسون، وقرئ: ' وما عملت أيديهم ' بمعنى الأول.
والقول الثاني في الآية: أن ' ما ' للنفي ها هنا، ومعناه: أنا رزقناهم مما لم تعمله أيديهم.
وقوله: * (أفلا يشكرون) يعني: هذه النعم.
قوله تعالى: * (سبحان الله الذي خلق الأزواج كلها) أي: الأصناف كلها.
وقوله: * (سبحان الذي) أي: سبحوا الله الذي خلق الأزواج كلها. وقوله: * (مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) أي: من النبات، والحيوان الذي لا يعلمونه.
وذكر بعض أهل التفسير: أن ما لا يعلمون ها هنا هو الروح، والله تعالى خلق الروح في النفس ولا يعلمه أحد، وذكر بعضهم أن قوله: * (وما عملته أيديهم) راجع إلى العيون، ومن العيون والأنهار ما لم تعلمها أيدي الخلق مثل: دجلة،
376

* (الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36) وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجري لمستقر لها ذلك) * * * والفرات، والنيل، وسيحان، وجيجان.
قوله تعالى: * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) أي: نكشط ونزيل، ومعناه: نذهب بالنهار، ونجيء بالليل، فكأنه استخرج منه، وقوله: * (فإذا هم مظلمون) أي: داخلون في الظلمة.
قوله تعالى: * (والشمس تجري لمستقر لها) قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ' والشمس تجري لمستقر لها ' أي: تسير وتجري أبدا من غير قرار ولا وقوف. وأما القراءة المعروفة ' لمستقر لها ' وفيه قولان: أحدهما: أن مستقرها هو نهاية دورانها إذا قامت الساعة.
والقول الثاني: أن مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف، ونهاية هبوطها في الشتاء، وقد ثبت عن النبي برواية الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر أنه قال: ' كنت عند النبي حتى غابت الشمس، فقال: يا أبا ذر، أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، فقال: إنها تذهب وتستأذن في السجود '. وفي رواية: ' تذهب إلى تحت العرش وتستأذن في السجود؛ فيؤذن لها في السجود، ويقال لها: اطلعي من حيث كنت تطلعين، وكأنها قد قيل لها يوما يا أبا ذر: اطلعي من حيث جئت؛ فتطلع من مغربها، ثم قرأ النبي قوله تعالى: ' وذلك مستقر لها '. قال: وفي هذا الخبر أنه كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود.
قال الشيخ الإمام: أخبرنا بهذا الخبر عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد، أخبرنا أبو العباس الطحان، أخبرنا أبو العباس بن محبوب، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، أخبرنا
377

* (تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا) * * [هناد بن السري، أخبرنا] أبو معاوية الضرير، عن الأعمش.. الخبر.
وقوله: * (ذلك تقدير العزيز العليم) ظاهر المعنى، وذكر البخاري في الصحيح برواية أبي ذر أيضا: ' أنه سأل النبي عن قوله تعالى: * (والشمس تجري لمستقر
لها) قال: مستقرها تحت العرش '.
وذكر الأزهري في قوله: * (تجري لمستقر لها) أي: تجري للأجل الذي أجل لها، والتقدير الذي قدر لها.
قوله تعالى: * (والقمر قدرناه منازل) قرئ بالرفع، وقرئ بالنصب، فأما بالنصب: وقدرنا القمر منازل، وأما بالرفع فمعناه: وآية لهم القمر قدرناه منازل.
وروى أن سعيد بن المسيب سمع رجلا ينشد:
(وغاب قمير كنت أرجو أفوله
* وروح رعيان ونوم سمر)
فقال: قاتله الله، لقد صغر ما عظمه الله، قال الله تعالى: * (والقمر قدرناه منازل).
وقوله: * (حتى عاد كالعرجون القديم) قال جعفر بن محمد: كعذق النخلة القديمة، والأكثرون أن العرجون هو عود الكباسة إذا دق ويبس وتقوس.
وقوله: * (القديم) هو البال، ويقال القديم هو الذي مضى عليه حول.
وأما منازل القمر فهي ثمانية وعشرون منزلا: السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة،
378

* (الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)) * * والعواء، والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفزع الدلو المقدم وفزع الدلو المؤخر، وبطن الحوت.
فهذه ثمانية وعشرون منزلا للقمر ينزل كل ليلة منزلا منها، ويكون أربعة عشر منها أبدا ظاهرة، وأربعة عشر منها غائبة، كلما طلع منزل غاب منزل، ويقال: الذي يغرب رقيب الذي يطلع، واثنا عشر منها تكون في سواد الليل من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوع الصبح، واثنان منها من عند طلوع الصبح إلى طلوع الشمس.
قوله تعالى: * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) أي: لا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه، ولا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه.
قوله: * (ولا الليل سابق النهار) أي: يتعاقبان بحساب معلوم إلى أن تنقضي الدنيا، ويقول: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، يعني: لا تطلع الشمس بالليل، ولا يطلع القمر بالنهار، ويكون له ضوء، فلا يدخل واحد منهما في سلطان الآخر.
وقيل: لا يذهب واحد منهما بمعنى الآخر، وذكر يحيى بن سلام أن قوله تعالى: * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) هذا ليلة البدر خاصة؛ فإن الشمس لا تطلع إلا وقد غاب القمر، فلا يجتمعان في رؤية العين، ويقال: لا تدركه أي: لا يجتمع معه في فلك واحد؛ فإنهم قالوا: إن الشمس في السماء الرابعة، والقمر في السماء الدنيا.
وقوله: * (ولا الليل سابق النهار) أي: لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل.
وقوله: * (وكل في فلك يسبحون) أي: يجرون ويدورون.
379

* (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (41) وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (42) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون (43) إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين (44) وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون (45) وما) * * *
قوله تعالى: * (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم) أي: آباءهم، هكذا قاله ثعلب وغيره، واسم الذرية كما يقع على الأبناء يقع على الآباء.
وقوله: * (في الفلك المشحون) أي: الموفر، وقيل: الممتلئ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: المراد بالآية أنا حملناهم في بطون الأمهات، وشبه بطون الأمهات بالسفن المشحونة.
قوله تعالى: * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) فيه قولان: أحدهما: أن المراد به الزواريق الصغار والسفن التي تجري في الأنهار، فهي في الأنهار كالسفن الكبار في البحر، وهذا القول قول قتادة والضحاك وغيرهما.
والقول الثاني: وهو ما رواه أبو صالح عن ابن عباس أن معنى قوله: * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) أي: الإبل، الإبل في البوادي كالسفن في البحار.
قوله تعالى: * (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم) أي: لا مغيث لهم (ولا هم ينقذون) أي: ولا هم ينجون، وقوله: * (إلا رحمة منا) معناه: أن إنقاذهم برحمتنا.
وقوله: * (ومتاعا إلى حين) وليمتعوا إلى مدة معلومة.
قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم) أي: اتقوا ما بين أيديكم أي: القيامة فاحذروها * (وما خلفكم) أي: الدنيا فلا تغتروا بها.
والقول الثاني: أن معنى قوله: * (اتقوا ما بين أيديكم) أي: اتقوا مثل عذاب الأمم الذين كانوا بين أيديكم؛ لئلا يصيبكم مثل ما أصابهم.
وقوله: * (وما خلفكم) أي: اتقوا عذاب النار، وقوله: * (لعلكم ترحمون) أي: كونوا على رجاء الرحمة.
380

* (تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (46) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين (47) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) ما ينظرون إلا) * *
قوله تعالى: * (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) أي: معرضين بالجحد والتكذيب.
وقوله تعالى: * (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله) أي: مما أعطاكم الله.
وقوله: * (قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)
قال ابن عباس: كان بمكة زنادقة، فكان إذا قيل لهم: أنفقوا على الفقراء مما (أعطاكم) الله؛ قالوا هذا القول على سبيل الاستهزاء، وعن البصري قال: هذا قول اليهود، وكانوا يقولون: كيف نعطيهم وقد أفقرهم الله تعالى، ولو شاء أن يعطيهم أعطاهم؟ وذكر القتيبي في كتاب ' المعارف ': أن أبا الأسود الدؤلي كان من خلقه أغناهم، فهذا حجة البخلاء في البخل، وهي حجة باطلة؛ لأن الله تعالى منع الدنيا من الفقراء لا بخلا ولكن ابتلاء، وأمر الأغنياء بالإنفاق لا بحكم الحاجة إلى أموالهم لكن ابتلاء شكرهم.
وقوله: * (إن أنتم إلا في ضلال مبين) أي: في خطأ بين.
قوله تعالى: * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) أي: وعد القيامة.
قوله تعالى: * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) أي: يختصمون، وهكذا في قراءة أبي بن كعب، ويقال: هم يخصمون أي: يتقاولون في حاجاتهم، وفي الخبر عن النبي: ' إن الساعة تقوم والرجل يسقي ماشيته، وتقوم والرجل يلط حوضه، وتقوم والرجل يعرض سلعته على البيع، وتقوم والرجل قد رفع لقمته ليضعها في فيه، فتقوم قبل أن يضعها في فيه '.
381

* (صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون (49) فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (50) ونفخ في الصور فإذا همم من الأجداث إلى ربهم ينسلون (51) قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (52) إن كانت إلا) * * *
قوله تعالى: * (فلا يستطيعون توصية) أي: إيصاء وقوله: * (ولا إلى أهلهم يرجعون) أي: ينقلبون، والمعنى: أن الساعة لا تمهلهم بشيء.
قوله تعالى: * (ونفخ في الصور) الأول: هي النفخة الأولى، والثاني: هي النفخة الأخرى، وبينهما أربعون سنة.
وقوله: * (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) أي: من القبور.
وقوله: * (إلى ربهم ينسلون) أي: يسرعون، قال الشاعر:
((عسلان) الذئب أمسى قاربا
* برد اليل عليه فنسل)
وقال امرؤ القيس:
(فسلى ثيابي من ثيابك تنسل
*)
والنسلان فوق المشي ودون العدو.
وقوله تعالى: * (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) قال ابن عباس: يرفع عنهم العذاب ما بين النفختين. وعن أبي بن كعب قال: ينامون نومة قبل البعث. وعن مجاهد قال: يرفع عنهم العذاب فيهجعون ويرقدون.
وعن بعضهم: أن هذا القول من المؤمنين. وأظهر القولين هو القول الأول، وأنه قول الكافرين، وقرأ ابن مسعود: ' من أهبنا من مرقدنا '.
وقوله: * (هذا ما وعد الرحمن) هو قول المؤمنين إجابة للكفار، وعلى القول الآخر قول المؤمنين، ويجيبون به أنفسهم وقوله: * (وصدق المرسلون) ظاهر.
وقوله: * (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) أي:
382

* (صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون (53) فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون (54) إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون (55) هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون (56) لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون) * * * حاضرون.
قوله تعالى: * (فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل) وقرئ: ' في شغل ' بالجزم، قال ابن عباس: في افتضاض الأبكار، وعنه أيضا أنه قال: في ضرب الأوتار، والأول هو المعروف بين المفسرين.
والقول الثالث: في شغل عن عذاب أهل النار.
وقوله: * (فاكهون) وقرئ: ' فكهون ' فمنهم من قال: هما بمعنى واحد مثل الحذر والحاذر، ومنهم من فرق بينهما، قال: الفكه هو طيب النفس معجب بحاله، والفاكه هو ذو الفاكهة. والمزاح يسمى فكاهة، قال الحطيئة:
(ودعوتني وزعمت أنك لابن بالضيف تأمر)
أي: ذو تمر، وذو لبن، وقال آخر:
(فكه إلى جنب الخوان إذا غدت
* نكبا تقلع ثابت الأطناب)
قوله تعالى: * (هم وأزواجهم في ظلال) الظلال: جمع الظل، وقوله: * (على الأرائك) في التفسير: سرر من الذهب مكللة بالدر والزبرجد والياقوت، عليها حجال.
قال ثعلب: لا تكون الأرائك أريكة حتى تكون تحت حجلة.
وقوله: * (متكئون) أي: أنهم ذوو اتكاة، وذكر الاتكاء في الجنة؛ لأنهم لا ينامون.
قوله تعالى: * (لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون) أي: ما يتمنون، تقول العرب: ادع على ما شئت أي تمن على ما شئت، قال الأعشى:
383

(* (57) سلام قولا من رب رحيم (58) وامتازوا اليوم أيها المجرمون (59) ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا) * * *
(ركا شهي نشأة الذي
* سار ملكه له ما ادعى)
(راح عتيق ما ادعى
*)
قوله تعالى: * (سلام قولا من رب رحيم) أكثر المفسرين أن معناه: يسلم الله عليهم سلاما. وقوله: * (قولا) أي: يقول قولا.
وفي رواية جابر عن النبي قال: ' بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور وأشرف عليهم ربهم جل وعلا فيسلم عليهم ' الخبر إلى آخره، ويقال: تسلم عليهم الملائكة من ربهم، وقيل: يعطيهم الله السلامة، ويقول: اسلموا السلامة الأبدية، وقوله: * (من رب رحيم) أي: عطوف.
قوله تعالى: * (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) أي: امتازوا من المؤمنين. وفي التفسير: اليهود قوم، والنصارى قوم، والمجوس قوم، والصابئون قوم، والمشركون قوم، والمؤمنون قوم، والمعنى أن الله تعالى يميز بين أهل الصلاح وأهل الفساد، وبين المشركين وبين المؤمنين، وبين المنافقين وبين المخلصين.
قوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم) أي: ألم آمركم * (يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان) أي: لا تطيعوا الشيطان، وعبادة الشيطان طاعته، وقوله: * (إنه لكم عدو مبين) أي: عدو بين العداوة.
وقوله: * (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) أي: طريق مستقيم على الحق.
384

* (صراط مستقيم (61) ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62) هذه جهنم التي كنتم توعدون (63) اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون (64) اليوم نختم على) * * *
قوله تعالى: * (ولقد أضل منكم جبلا) وقرئ: ' جبلا كثيرا '، وقرئ: ' جبلا ' برفع الجيم والباء، ومعناه: خلقا كثيرا، قال الضحاك: عشرة آلاف فما زاد، وعن بعضهم: خلقا كثيرا لا يحصى عددهم إلا الله، وقوله: * (أفلم تكونوا تعقلون) يعني: أفلم تعقلوا آياتي، وتنظروا فيها نظر من يعقل، قوله تعالى: * (هذه جهنم التي كنتم توعدون) أي: توعدون دخولها بكفركم.
قوله تعالى: * (اصلوها اليوم) أي: ادخلوها وقاسوا حرها [* (بما كنتم تكفرون)]، قوله تعالى: * (اليوم نختم على أفواههم) قال أهل التفسير: هذا حين ينكر الكفار كفرهم وتكذيبهم رسل الله، فيختم الله على أفواههم، ويأذن للجوارح في الشهادة بما عملت، وفي المشهور من الأخبار أن النبي قال: ' يقول العبد يوم القيامة: يا رب، لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، فيختم الله على فمه، ويقول لجوارحه: انطقي، فتتكلم الجوارح بما عملت، ثم يخلي بينه وبين لسانه، فيقول لجوارحه: بعدا لكن وسحقا، فعنكن أناضل '.
وفي الخبر أيضا أن النبي قال: ' يجاء بالناس يوم القيامة مفدمة أفواههم بالفدام، وتشهد جوارحهم بما عملت، فأول ما يشهد فخذ الإنسان وكفه '.
385

* (أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (65) ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون (66) ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون (67) ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون) * *
وقوله: * (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) قد بينا.
وقد أنكر بعضهم كلام الجوارح، وقال: معنى الكلام وجود دلالة تدل على أنها قد عملت ما عملت، والصحيح أنها تتكلم حقيقة، وغير مستبعد كلام الجوارح في قدرة الله تعالى.
قوله تعالى: * (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) أي: أعميناهم، ويقال: أضللناهم عن الهدى. قال المبرد وثعلب: المطموس والطميس هو الذي ليس في عينيه شق.
قوله تعالى: * (فاستبقوا الصراط) أي: فتبادروا الطريق، وقوله: * (فأنى يبصرون) معناه: من أين يبصرون؟ وقيل: فكيف يبصرون؟
قوله تعالى: * (ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم) أي: جعلناهم قردة وخنازير في منازلهم، وقيل: أقعدناهم من أرجلهم، وقوله: * (فما استطاعوا مضيا) أي: ذاهبا، وقوله: * (ولا يرجعون) أي: لا يرجعون إلى أهاليهم.
قوله تعالى: * (ومن نعمره ننكسه في الخلق) وقرئ: ((ننكسه في الخلق)) أي: ومن نطل عمره ننكسه في الخلق أي: نرده إلى أرذل العمر، ويقال: التنكيس في الخلق هو ضعف الجوارح بعد قوتها، وقوله: * (أفلا يعقلون) معناه: أفلا يعقلون آياتي؟.
قوله تعالى: * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) قالوا: كان المشركون يزعمون أن محمدا شاعر، وأن القرآن شعر؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية: * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) أي: لا يسهل ولا يتزن له شعر، وفي الخبر: ' أن النبي أنشد
386

(* (68) وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (69) لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين (70) أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما) * * * * يوما:
(كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا
*)
فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله هو:
(كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
*)
فقال النبي: ' كلاهما واحد ' فقال أبو بكر: أشهد أنك لا تقول الشعر، ولا ينبغي لك '.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي أنشد شعر طرفة:
(ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
* ويأتيك بالأخبار من [لم] تزود)
فقال النبي: ' ويأتيك من لم تزود بالأخبار '.
وقوله: * (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) أي: تذكرة وقرآن بين.
قوله تعالى: * (لينذر من كان حيا) أي: عاقلا، وقيل: مؤمنا، وقال قتادة: حي القلب، وقوله: * (ويحق القول على الكافرين) أي: تجب حجة العذاب على الكافرين.
قوله تعالى: * (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا) أي: مما تولينا خلقه وإبداعه، والأولى في الأيدي أن يؤمن بها ولا تفسر.
وقوله: * (أنعاما فهم لها مالكون) أي: ضابطون، وأنشد سيبويه:
387

* (فهم لها مالكون (71) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (72) ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون (73) واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون (74) لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون (75) فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما) * * *
((لست من أجمل الأنام السلام
* ولا أملك رأس البعير إذ نفرا))
أي: أضبط.
قوله تعالى: * (وذللناها لهم) أي: جعلناها ذليلة لهم، وقوله: * (فمنها ركوبهم) الركوب: ما يركب، وقوله: * (ومنها يأكلون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون) أي: في الأنعام منافع من الأصواف والأوبار والأشعار، وقوله: * (ومشارب) أي: من الألبان، وقوله: * (أفلا يشكرون) يعني: هذه النعم.
قوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون) أي: تدفع عنهم العذاب، قوله تعالى: * (لا يستطيعون نصرهم) أي: لا تستطيع الأصنام دفع العذاب عنهم.
وقوله: * (وهم لهم جند محضرون) فيه قولان: أحدهما: وهم لهم جند أي: الكفار للأصنام جند وأتباع.
القول الثاني: أن هذا في القيامة، وهو أنه يدعا بكل معبود عبد من دون الله، فيجاء به ومعه أتباعه، والذين عبدوه كأنهم جنده، وقوله: * (فهم محضرون) أي: يحضرون النار، ومعناه: يدخلونها.
قوله: * (فلا يحزنك قولهم) أي: قولهم فيك إنه ساحر أو كاذب أو شاعر.
وقوله: * (إنا نعلم) هذا ابتداء كلام، وقوله: * (ما يسرون) يعني: من
388

* (يسرون وما يعلنون (76) أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78) قل يحييها) * * * التكذيب، وقوله: * (وما يعلنون) أي: من عبادة الأصنام.
قوله تعالى: * (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) نزلت الآية في شأن أبي بن خلف، فإنه روي أنه أخذ عظما باليا ففتته بين أصابعه، وقال:
يا محمد، أتزعم أن هذا يحيي ويبعث.
وفي بعض التفاسير: أن القائل هذا كان هو العاص بن وائل السهمي، والأول أشهر؛ فقال رسول الله: ' نعم، وإن الله تعالى يميتك ثم يبعثك ثم يدخلك نار جهنم '.
وقوله: * (فإذا هو خصيم مبين) أي: مخاصم بين الخصمومة. وأما وجه الحجة عليهم في خلق الإنسان من نطفة، هو أن إعادة الخلق أهون فيما يعقله الناس من إنشاء الخلق.
قوله تعالى: * (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه) ضربه المثل ما بينا من قوله. وقوله: * (ونسي خلقه) أي: وترك النظر في إنشاء خلقه.
وقوله: * (قال من يحيي العظام وهي رميم) الرمة: من العظام هي التي بليت.
قوله تعالى: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) أي: عالم.
389

* (الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80)) * * *
قوله تعالى: * (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) قال أهل التفسير: والمراد منه هو المرح والعفار، وهما خشبتان توري العرب منهما النار كما يوري الناس من الحديد والحجر، وقوله: يوري أي: يقدح، تقول العرب: في كل شجر نار واستمجد المرح والعفار وعن أبي صالح قال: في الأشجار نار سوى شجرة العفار.
وقوله: * (فإذا أنتم منه توقدون) أي: تقدحون وتورون.
وقوله: * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) على أن ينشئ خلقا مثلهم، وقيل: على أن يعيدهم يوم القيامة؛ فيكونوا خلقا كما كانوا.
وقوله: * (بلى وهو الخلاق العليم) معناه: قل: بلى، وهو خطاب للرسول، وقد بينا [الفرق] بين بلى ونعم فيما سبق، ولا يستقيم في جواب النفي إلا بكلمة بلى، وقيل: إن الله تعالى قال مجيبا لنفسه: بلى وهو الخلاق العليم، والخلاق هو الذي يخلق مرة بعد مرة، والعليم هو (العالم) بخلقه.
قوله تعالى: * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) قد بينا هذا من قبل، قوله: * (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء) أي: ملك كل شيء.
وقوله: * (وإليه ترجعون) أي: تردون يوم القيامة.
390

بسم الله الرحمن الرحيم
(* (والصافات صفا (1) فالزاجرات زجرا (2) فالتاليات ذكرا (3) إن إلهكم لواحد (4) رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق (5) إنا زينا السماء الدنيا) * * *
تفسير سورة الصافات
وهي مكية
قوله تعالى: * (والصافات صفا) روى مسروق عن ابن مسعود، وعكرمة عن ابن عباس: أنهم الملائكة، وروى الضحاك عن ابن عباس: أنهم عباد السماء.
وعن بعضهم: أن المراد منه صفوف المسلمين في الجماعات، وروي عن النبي أنه قال: ' ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها).
وأشهر الأقاويل هو القول الأول، والملائكة صفوف في السماء يذكرون الله تعالى ويذكرهم، ويقال: إن معنى الآية أن الملائكة تصف أجنحتها إذا نزلت إلى الأرض.
وقوله تعالى: * (فالزاجرات زجرا) ذهب أكثر المفسرين أن المراد بهم الملائكة تزجر السحاب لتسوقه إلى الموضع الذي يريده الله تعالى.
والقول الثاني: أنها زواجر القرآن.
فأما قوله: * (فالتاليات ذكرا) ذهب أكثرهم أن المراد بها الملائكة وهي تتلوا ذكر الله.
والقول الثاني: انهم الأنبياء يتلون ما أنزل الله تعالى والقول الثالث: أنها آيات القرآن تتلى لذكر الله تعالى.
وقوله: * (إن إلهكم لواحد) هذا هو موضع القسم، فأقسم الله تعالى بما قدم ذكره، وقوله: * (والصافات) أي: ورب الصافات صفا، وهكذا فيما بعده.
وقوله: * (رب السماوات والأرض وما بينهما) ومعنى الآية أن إلهكم لواحد، وهو
391

* (بزينة الكواكب (6) وحفظا من كل شيطان مارد (7) لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) * * * رب السماوات والأرض وما بينهما * (ورب المشارق) أي: ورب المسارق والمغارب.
فإن قيل: قد قال في موضع آخر * (رب المشرق والمغرب) وقال في موضع آخر: * (رب المشرقين ورب المغربين) وقال ها هنا: * (رب المشارق) فكيف وجهه التوفيق بين هذه الآية وأخواتها؟
والجواب عنه: أما قوله: * (رب المشرق والمغرب) فالمراد منه الجهة، وللمشرق جهة واحدة، وللمغرب جهة واحدة.
وأما قوله: * (رب المشرقين ورب المغربين) فالمراد من المشرقين: مشرق الشتاء، ومشرق الصيف، فأما قوله: * (ورب المشارق) فللشمس مشارق تطلع كل يوم من مشرق غير المشرق الذي طلعت فيه أمس، وكذلك المغارب، فاستقام على هذا وجوه الآيات.
قوله تعالى: * (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) أي: بحسن الكواكب وضيائها، وقرأ عاصم: ' بزينة الكواكب ' أي: بتزيينا الكواكب، وقرأ حمزة: ' بزينة الكواكب ' بخفض الباء وتنوين الزينة، والكواكب على هذه الرواية تدل على الزينة، والمعنى: إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب.
وقوله: * (وحفظا) أي: وحفظناها حفظا، وقوله: * (من كل شيطان مارد) أي: متمرد، والشيطان: كل متمرد عات من إنس أو جن أو جنة، قال الشاعر:
(ما ليلة القفير إلا شيطان
*)
والقفير: البئر البعيدة القعر، قوله * (لا يسمعون) وقرئ: ' لا يسمعون ' بنصب السين، وقوله: * (لا يسمعون) أي: لا يستمعون، وقوله: * (لا يسمعون) أي: لا يستمعون.
392

* (ويقذفون من كل جانب (8) دحورا ولهم عذاب واصب (9) إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب (10) فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من) * * *
وقوله: * (إلى الملأ الأعلى) أي: الملائكة، ومعنى الآية: أنهم لا يستطيعون الاستماع إلى الملأ الأعلى.
وقوله: * (ويقذفون) أي: يرجمون، وقوله: * (من كل جانب) من جوانب السماء، وقوله: * (دحورا) قال مجاهد: أي: مطرودين، وقال قتادة: يرمون رميا، والدحر هو الإبعاد، ويقال: دحره الله أي: أبعده الله.
وقوله: * (ولهم عذاب واصب) أي: دائم، قوله تعالى: * (إلا من خطف الخطفة) قال أهل التفسير: هذا استثناء منقطع، ومعناه: لكن من خطف الخطفة، والخطف هو الاستلاب بسرعة، واختطافهم واستلابهم كلام الملائكة.
وقوله: * (فأتبعه شهاب ثاقب) أي: شهاب مضيء، وقيل: محرق، وعن يزيد الرقاشي قال: ثاقب أي: يثقبهم فينفذ من جانب آخر، والشهاب: هو النجم ها هنا.
قوله تعالى: * (فاستفتهم) أي: فاسألهم * (أهم أشد خلقا أم من خلقنا) قال ابن عباس وغيره: المراد منه السماوات والأرض والجبال، وزعم أهل المعاني: أنه لا بد أن تكون الملائكة وما خلقه الله من الجن والذين يعقلون مرادا بالآية؛ لأن الله تعالى قال * (أم من خلقنا) ومن لا تذكر إلا فيما يعقل.
وقوله: * (إنا خلقناهم من طين لازب) أي: لاصق، وقال أبو عبيدة: هو لازم؛ قال الشاعر: * (ولا تحسبون الخير لا شر بعده
* ولا تحسبون الشر ضربة لازب)
أي: لازم.
وقوله: * (بل عجبت) وقرأ حمزة والكسائي: ' بل عجبت ' على إضافة التعجب إلى الله، وهي قراءة علي وابن مسعود وابن عباس.
393

* (طين لازب (11) بل عجبت ويسخرون (12) وإذا ذكروا لا يذكرون (13) وإذا) * * *
وفي بعض الآثار المسندة عن شقيق بن سلمة أنه قال: كنت عند شريح؛ فقرأت ' بل عجبت ويسخرون ' فقال شريح: بئس القراءة هكذا، والله تعالى لا يتعجب من شيء، وهو عالم بالأشياء كلها؛ فقال شقيق: قد ذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال إبراهيم: إن شريحا رجل معجب بعلمه، وعبد الله بن مسعود أعلم منه.
فأما القراءة بالنصب، فهو خطاب للنبي ومعناه: بل عجبت من وحينا إليك، وقيل: من تكذيبهم إياك مع وضوح الدلائل.
وقوله: * (ويسخرون) أي: يسخرون ويستهزءون بك، وأما القراءة بضم التاء فالتعجب من الله ليس هو مثل التعجب من الآدميين، وقد قال الله تعالى في موضع آخر: * (فيسخرون منهم سخر الله منهم) وقال تعالى: * (الله يستهزئ بهم) فمعنى قوله: * (عجبت) أي: عظم حلمي عن ذنوبهم، والمتعجب هو الذي يرى ما يعظم عنده، وقيل: * (بل عجبت) أي: حل فعلهم محل ما يتعجب منهم.
وقد روي عن النبي أنه قال: ' عجب ربكم من شاب ليس له صبوة))
وروى عن النبي - - أنه قال: ((عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وسرعة
394

* (رأوا آية يستسخرون (14) وقالوا إن هذا إلا سحر مبين (15) أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون (16) أو آباؤنا الأولون (17) قل نعم وأنتم داحرون (18) فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون (19) وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين (20) هذا) * * * إجابته [إياكم] '.
وقوله: * (وإذا ذكروا لا يذكرون) وإذا وعظوا لا يتعظون.
وقوله: * (وإذا رأوا آية يستسخرون) أي: يسخرون، ويقال: يستدعى بعضهم من بعض سخريا، وقوله: * (وقالوا إن هذا إلا سحر مبين) أي: سحر بين.
وقوله: * (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما ائنا لمبعوثون) قالوا ذلك على طريق الإنكار، وقوله: * (أو آباؤنا الأولون) أي: نبعث ويبعث آباؤنا الأولون.
قوله تعالى: * (قل نعم) أي: نعم لتبعثون، وقوله: * (وأنتم داخرون) أي: صاغرون ذليلون، قال الشاعر:
((ولم يبق إلا داخر في مخيس
* ومنجحر في غير أرضك في جحري))
قوله تعالى: * (فإنما هي زجرة واحدة) أي: صيحة واحدة.
قوله: * (فإذا هم ينظرون) أي: ينتظرون، وقيل: ينظر بعضهم إلى بعض.
قوله تعالى: * (وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين) أي: يوم الحساب ويوم الجزاء، قوله تعالى: * (هذا يوم الفصل) أي: يوم القضاء، وقيل: يوم الفصل بين المحسن
والمسيء، وقوله: * (الذي كنتم به تكذبون) أي: تجحدون.
قوله تعالى: * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) الذين ظلموا هم المشركون.
395

* (يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون (21) احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون (22) من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم (23) وقفوهم إنهم مسؤولون (24) ما لكم لا تناصرون (25) بل هم اليوم مستسلمون (26) وأقبل) * * *
وقوله: * (وأزواجهم) أي: وأشباههم، وقيل: وقرناءهم، ويقال: وأتباعهم.
وقوله: * (وما كانوا يعبدون من دون الله) من الأصنام، وقوله تعالى: * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) أي: ارشدوهم إلى طريق النار.
قوله تعالى: * (وقفوهم) فإن قيل: كيف قال: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) ثم قال: * (وقفوهم) قلنا: لأنهم يوقفون على الصراط للمساءلة، ويقال: إن هذا أشد في التعذيب والتوبيخ. وفي الخير عن النبي قال: ' لا تزول قدما بني آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وأين وضعه، وعن علمه ماذا فعل به؟ '.
قوله تعالى: * (ما لكم لا تناصرون) أي: لا تتناصرون؛ فينصر بعضكم بعضا. وفي التفسير: أن أبا جهل هو القائل: نحن جميع منتصر، على ما حكى الله تعالى فقال الله تعالى ردا لقوله: * (ما لكم لا تناصرون) أي: لينصر بعضكم البعض اليوم إن كنتم صادقين.
قوله تعالى: * (بل هم اليوم مستسلمون) يعني: استسلموا وعضوا بأيديهم، وعرفوا أنه لا خلاص لهم من الهلاك والعذاب.
وقوله: * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) معناه أي: ويتلاومون، قوله تعالى: * (قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) قال الفراء والزجاج وغيرهما من أهل المعاني: أي من قبل الذين تلبسونه علينا، وقيل: من قبل الجنة تثبطوننا عنها، وذكر بعضهم: أن رؤساء الكفار كان يحلفون [للأتباع] أنهم على الحق.
396

* (بعضهم على بعض يتساءلون (27) قالوا إنكم تأتوننا عن اليمين (28) قالوا بل لم تكونوا مؤمنين (29) وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين (30) فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون (31) فأغويناكم إنا كنا غاوين (32) فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون (33) إنا كذلك نفعل بالمجرمين (34) إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (35) ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون (36) بل جاء) * * *
فقوله: * (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) أي: عن الأيمان التي حلفوا بها أنهم صادقون، واليمين يذكر ويراد به القوة، قال الشاعر:
(إذا ما راية رفعت لمجد
* تلقاها عرابة باليمين)
أي: بالقوة. قوله تعالى: * (قالوا بل لم تكونوا مؤمنين) أي: رؤساء يقولون ذلك للأتباع، وقوله: * (وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين) يعني: إنكم فعلتم ما فعلتم بأنفسكم، ولم نفعل بكم شيئا.
قوله تعالى: * (فحق علينا قول ربنا) أي: وجب علينا عذاب ربنا، قال الحسن: الضال والمضل جميعا في النار؛ فهو معنى قوله تعالى: * (إنا لذائقون) أي: ذائقون العذاب.
قوله تعالى: * (فأغويناكم إنا كنا غاوين) أي: أضللناكم إنا كنا ضالين. قوله: * (فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون) يعني: أنهم جميعا في العذاب.
قوله تعالى: * (إنا كذلك نفعل بالمجرمين) ظاهر المعنى، والجرم ها هنا هو الشرك. قوله تعالى: * (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) عن كلمة التوحيد، ويمتنعون منها.
قوله تعالى: * (أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) قالوا ذلك للنبي، فقال الله تعالى ردا عليهم: * (بل جاء بالحق وصدق المرسلين) أي: المرسلين الذين سبقوا في الرسالة.
397

* (بالحق وصدق المرسلين (37) إنكم لذائقوا العذاب الأليم (38) وما تجزون إلا ما كنتم تعملون (39) إلا عباد الله المخلصين (40) أولئك لهم رزق معلوم (41) فواكه وهم مكرمون (42) في جنات النعيم (43) على سرر متقابلين (44) يطاف عليهم بكأس من معين (45) بيضاء لذة للشاربين (46) لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) * * *
قوله تعالى: * (إنكم لذائقوا العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون) ظاهر المعنى، قوله تعالى: * (إلا عباد الله المخلصين) أي: الذين أخلصوا في التوحيد.
قوله تعالى: * (أولئك لهم رزق معلوم) أي: مقدر، ورزقهم المقدر هو رزقهم بكرة وعشيا، وقوله: * (فواكه وهم مكرمون) الفواكه جمع الفاكهة.
وقوله: * (وهم مكرمون) أي: بإدخالهم الجنة.
قوله تعالى: * (في جنات النعيم) يعني: إنهم في جنات النعيم.
وقوله: * (على سرر متقابلين) قال أهل التفسير: لا ينظر بعضهم في قفا البعض.
قوله تعالى: * (يطاف عليهم بكأس من معين) أي: الخمر الجاري.
وقوله: * (بيضاء لذة للشاربين) قال الحسن البصري: خمر الجنة أبيض من اللبن، قرأ ابن مسعود: ' صفراء لذة للشاربين '.
قوله تعالى: * (لا فيها غول) أي: لا تغتال عقولهم، قال الشاعر:
(فما زالت الكأس تغتالنا
* وتصرع بالأول الأول)
ويقال: الخمر غول العقل، والحرب غول النفس، ويقال: الغول هو الغائلة، ومن الغائلة ذهاب عقلهم، وسائر المفاسد التي في الخمر، ويقال في الخمر أربعة أشياء: السكر، والصداع، والقيء، و (البول)، ولا يوجد من هذه الأربع في خمر الجنة.
وقوله: * (ولا هم عنها ينزفون) يقال: أنزف الرجل إذا سكر، قال الشاعر:
(لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم
* لبئس الندامى كنتم آل أبجرا)
398

(* (47) وعندهم قاصرات الطرف عين (48) كأنهن بيض مكنون (49) فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (50) قال قائل منهم إني كان لي قرين (51) يقول أئنك لمن) * *
قوله تعالى: * (وعندهم قاصرات الطرف) أي: اللاتي قصرن أطرافهن على أزواجهن أي: عينهن أي: حبسن فلا ينظرن إلى غير أزواجهن.
وقوله: * (عين) أي: حسان الأعين، وفي التفسير: البياض شديد البياض، والسواد شديد السواد، يعني في العين.
وقوله: * (كأنهن بيض مكنون) العرب تشبه وجه المرأة في البياض بيضة النعامة، ويقولون: أحسن اللون بياض اللون مشوب بالصفرة، قال ذو الرمة:
(كحلاء في بزخ صفراء في دعج
* كأنها فضة قد مسها ذهب)
وقوله: * (مكنون) أي: مستور مصون من الريش (والخمار).
وقال بعضهم: في قوله * (بيض مكنون) شبههن ببياض البيضة عند خروجها من قشرتها، وقيل: شبه بالسحاء الذي بين القشر الأعلى وبين البياض.
قوله تعالى: * (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) أي: يسأل بعضهم بعضا عن حاله في الدنيا.
قوله تعالى: * (قال قائل منهم إني كان لي قرين) قال مجاهد: القرين ها هنا: هو الشيطان (يغويه)، ويقال: القرين ها هنا: قرينه الذي كان يدعوه إلى الكفر.
قال عطاء الخراساني: نزلت الآية في رجلين كانا في بني إسرائيل اكتسبا مالا عظيما، ويقال: ورثا مالا عظيما واقتسماه، فأنفق أحدهما نصيبه على الفقراء، وأما الآخر فاشترى به عقارا ودورا وأثرى، وهما اللذان ذكرهما الله تعالى في سورة الكهف، وقال بعضهم: هما أخوان سواهما.
399

* (المصدقين (52) أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون (53) قال هل أنتم مطلعون (54) فاطلع فرآه في سواء الجحيم (55) قال تالله إن كدت لتردين (56) ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين (57) أفما نحن بميتين (58) إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين (59) إن هذا لهو الفوز العظيم (60) لمثل هذا فليعمل العاملون (61)) * * *
وقوله: * (يقول أئنك لمن المصدقين) أي: المصدقين بالبعث.
وقوله: * (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون) هذا قول قرينه، وقوله: * (لمدينون) أي: محاسبون، وقيل: مجزيون، يقال: كما تدين تدان.
قوله تعالى: * (قال هل أنتم مطلعون) اختلف القول في هذا، فأحد القولين: أن الله تعالى يقول لهم: * (هل أنتم مطلعون).
والآخر: أن هذا المؤمن يقول لإخوانه من أهل الجنة هل أنتم مطلعون؟
قوله تعالى: * (فاطلع فرآه في سواء الجحيم) أي: في وسط الجحيم، وإنما سمي وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه.
قوله تعالى: * (قال تالله إن كدت لتردين) أي: لتهلكني، يقال: كاد يفعل كذا أي: قارب، وقرأ ابن مسعود: ' إن كدت لتغويني ' من الإغواء.
قوله تعالى: * (ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين) أي: ولولا رحمة ربي لكنت من المحضرين النار أي: الذين دخلوا النار.
قوله تعالى: * (أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين) فيقال: أجيبونا فلا يجيبون لاستغراقهم في العذاب، يقولون: * (إن هذا لهو الفوز العظيم) وعن بعضهم: ' أنه يجاء بالموت على صورة كبش فيذبح على ما ورد به الخبر '، فحينئذ يقولون: أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى على طريق الإقرار والتعجب والسرور بذلك.
* (لمثل هذا فليعمل العاملون) أي: لمثل هذا المنزل، ولمثل هذا النعيم، فليعمل
400

* (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم (62) إنا جعلناها فتنة للظالمين (63) إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم (64) طلعها كأنه رؤوس الشياطين (65) فإنهم لآكلون منها) * * * * العاملون.
قوله تعالى: * (أذلك خير نزلا) النزل: هو العطاء الدار، ويقال: النزل هو إصلاح ما ينزل عليهم.
فإن قيل: كيف قال: * (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم) ولا خير في شجرة الزقوم أصلا؟
الجواب عنه قد سبق وعن مثل هذا، والعرب تقول: تعال ننظر الصلح خير أم الحرب، والفقر خير أم الغنى، والصحة خير أم السقم، وإنما يريد تقرير الأمر للمخاطب أنه لا خير إلا في أحدهما.
وقوله: * (أم شجرة الزقوم) اختلفوا في هذه الشجرة، فالأكثرون أنها شجرة لا يعرف لها مثل في الدنيا، وقال قطرب: هي شجرة مرة خبيثة تكون بتهامة، وقال بعضهم: نبت قاتل.
وفي التفسير: أنه لما نزلت هذه الآية؛ قال أبو جهل: هل تعرفون الزقوم؟ فقال عبد الله بن الزبعري: نعم نعرفه؛ هو بلسان البربر الزبدة والتمر وأورد بعضهم: أنه بلغة اليمن فقال أبو جهل لجاريته: ابغي لنا زبدا وتمرا، فجاءت بذلك، فقال: هو الزقوم الذي خوفكم به محمد، فتزقموا؛ فأنزل الله تعالى * (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) أي: في قعر الجحيم.
وقوله: * (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) فإن قيل: كيف قال: * (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) ورءوس الشياطين لم يرها أحد، ولا يجوز التعريف إلا بما يعرف؟
والجواب عنه: أنه كان مستقرا في النفوس قبح رؤوس الشياطين، وأن جميعهم على أقبح صورة؛ فشبه بها على ما استقر في النفوس، قال الشاعر:
(يقاتلني والمشرفي مضاجعي
* ومسنونة زرق كأنياب أغوال)
401

* (فمالئون منها البطون (66) ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم (67) ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم (68) إنهم ألفوا آباءهم ضالين (69) فهم على آثارهم يهرعون (70) ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين (71) ولقد أرسلنا فيهم منذرين (72) فانظر كيف كان عاقبة المنذرين (73) إلا عباد الله المخلصين (74) ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون) * *
فشبه بأنياب الأغوال، ولم ير الأغوال، ولكن صح التشبيه لما تقرر في النفوس قبحها، وقال بعضهم: الشيطان ها هنا حية قبيحة المنظر، فمعناه: كأنها رؤوس الحيات، والعرب تسمي كل قبيح مكروه شيطانا، وقال بعضهم: هو اسم لنبت من الثمر خشن اللمس منتن الريح.
وقوله: * (إنا جعلناهم فتنة للظالمين) فتنتهم بها هو ما قال أبو جهل، وزعم أنه الزبد والتمر، ومن فتنتهم أيضا بها أنهم قالوا كيف تنبت شجرة في النار، والنار تحرق الشجر؟
قوله تعالى: * (فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون) ظاهر المعنى.
وقوله: * (ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم) أي: لخلطا من حميم.
وقوله: * (ثم إن مرجعكم لإلى الجحيم) أي: منقلبهم، ويقال: إن شجرة الزقوم في الباب السادس من أبواب النار؛ فيخرجون من الجحيم إليه حتى يأكلون الزقوم ثم يردون إلى الجحيم؛ فهو معنى قوله تعالى: * (قم ثم إن مرجعكم لإلى الجحيم).
قوله تعالى: * (إنهم ألفوا آباءهم ضالين) أي: وجدوا آباءهم على الضلالة، وقوله: * (فهم على آثارهم يهرعون) أي: يسرعون، والإهراع هو الإسراع، قوله تعالى: * (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) معلوم المعنى.
قوله تعالى: * (إلا عباد الله المخلصين) وقرئ: ' مخلصين ' بكسر اللام، فقوله: * (مخلصين) أي: الذين أخلصهم الله واختارهم، وأما بالكسر أي: الذين أخلصوا العمل لله تعالى.
402

(* (75) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) وجعنا ذريته هم الباقين (77) وتركنا عليه في الآخرين (78) سلام على نوح في العالمين (79) إنا كذلك نجزي المحسنين (80) إنه من عبادنا المؤمنين (81) ثم أغرقنا الآخرين (82) وإن من شيعته لإبراهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم (84) إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون (85) أئفكا آلهة) * * *
وقوله تعالى: * (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون) أي: نعم المجيب نحن له، وإنما قال: * (المجيبون) على ما يقول الملوك والعظماء، ويخبرون عن أنفسهم بلفظ الجماعة.
وقوله تعالى: * (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) أي: الغم العظيم، قوله تعالى: * (وجعلنا ذريته هم الباقين) قد بينا أن الناس من نسل نوح عليه السلام ولم يبق أحد من نسل غيره.
وقوله: * (وتركنا عليه في الآخرين) أي: وتركنا عليه الذكر الجميل والثناء الحسن في الآخرين، قوله تعالى: * (سلام على نوح في العالمين) أي: السلامة له منا في العالمين، ويقال: السلام منا عليه في العالمين، قوله تعالى: * (إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين) معلوم المعنى.
وقوله: * (ثم أغرقنا الآخرين) هم الكفار، وقد سبق ذكر نوح من قبل.
قوله تعالى: * (وإن من شيعته لإبراهيم) يقال: أن الهاء ها هنا راجع إلى محمد والأصح انه راجع إلى نوح، والشيعة هم الأتباع، وإنما قال من شيعته؛ لأنه كان على مسلكه، ومنهاجه.
وقوله: * (إذ جاء ربه بقلب سليم) أي: سليم من الشرك، قال عروة بن الزبير: لم يلعن شيئا قط، فهم معنى قوله: * (سليم).
قوله تعالى: * (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون) معناه: أي شيء تعبدون؟ وهو استفهام بطريق الإنكار والتوبيخ.
403

* (دون الله تريدون (86) فما ظنكم برب العالمين (87) فنظر نظرة إلى النجوم (88) فقال إني سقيم (89) فتولوا عنه مدبرين (90) فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون) * * *
قوله تعالى: * (أئفكا آلهة) أي: تطلبون آلهة مؤتفكة، ومعنى تطلبون أي: تطلبون منها ما يطلب من الله تعالى، والإفك: الكذب، ومعنى المؤتفكة: أي كذبتم لأجلها على الله، واخترعتموها من قبل أنفسكم.
قوله تعالى: * ([أئفكا آلهة دون الله تريدون] فما ظنكم برب العالمين) معناه: فما ظنكم برب العالمين إذا لقيتموه، وأي شيء تتوقعون منه، وقد فعلتم ما فعلتم!
قوله تعالى: * (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم)
قال الخليل والمبرد: تقول العرب لكل من نظر في أمره وتدبر ماذا يفعل قد نظر في النجوم، هذا قول، والقول الثاني: أنه كان نجم يطلع في ذلك الزمان، وكان كل من نظر إليه يزعمون أنه يصيبه الطاعون، ويقال: إنه كان زحل؛ فقوله: * (فنظر نظرة في النجوم) أي: نظر إلى النجم: * (فقال إني سقيم) أي: أصابني الطاعون على ما تزعمون، وكانوا يفرون من المطعون فرارا عظيما، ويزعمون أنه يعدي، ذكره السدي.
والقول الثالث: أن معنى قوله: * (فنظر نظرة في النجوم) أي: فيما نجم له من الأمر أي: ظهر.
والقول الرابع: أن قوله: * (فنظر نظرة في النجوم) أي: ينظر في النجوم على ما ينظر فيه أهل النجوم، وكايدهم بذلك عن دينه، وكانوا أهل نجوم، ويزعمون أن الأحكام تصدر منها، والحوادث تكون عنها؛ فنظر في النجوم، وقال هذه المقالة ليتركوه، ويتوصل بذلك إلى كيد أصنامهم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن علم النجوم كان حقا إلى أن حبست الشمس ليوشع بن نون فتشوش الأمر عليهم، والله أعلم.
وقوله: * (إني سقيم) قد بينا، سقيم أي: سأسقم، ولا بد لكل صحيح أن يسقم، وقيل: يسقم القلب لقبح أفعالكم، وهذا هو إحدى الكذبات الثلاث التي كذبها
404

(* (91) ما لكم لا تنطقون (92) فراغ عليهم ضربا باليمين (93) فأقبلوا إليه يزفون (94) قال أتعبدون ما تنحتون (95) والله خلقكم وما تعملون (96) قالوا ابنوا له) * * * إبراهيم في الله، والخبر في ذلك معروف صحيح، وقد روينا.
وقال بعضهم: كان ذلك من معاريض الكلام، ولم يكن كذبا صريحا.
قوله تعالى: * (فتولوا عنه مدبرين) أي: تولوا عنه وتركوه.
وقد ذكرنا أنهم خرجوا إلى عيد لهم، فلما خرجوا وبقي إبراهيم وحده عمد إلى بيت أصنافهم ودخله، وكان الطعام موضوعا بين أيديهم؛ فقال: ألا تأكلون؟ فهو معنى قوله: * (فراغ إلى آلهتهم) وقوله: ' راغ ' أي: مال.
وقوله: * (ألا تأكلون) هذا على طريق الإنكار على المشركين؛ لأنهم كانوا قدموا الطعام إليهم ليأكلوا.
قوله: * (ما لكم لا تنطقون) أي: لا تتكلمون، وهو أيضا مذكور على طريق الإنكار، قوله تعالى: * (فراغ عليهم) أي: فمال عليهم يضرب ضربا باليمين.
وقوله: * (باليمين) فيه أقوال: أحدها أن معناه: يضربهم بيمينه، ومعنى يضربهم أي: يكسرهم، ويقال باليمين أي: بالقوة.
والقول الثالث: باليمين أي: باليمين التي سبقت منه، وهو قوله تعالى: * (وتالله لأكيدن أصنامكم).
قوله تعالى: * (فأقبلوا إليه يزفون) أي: يسرعون، وقوله: * (قال أتعبدون ما تنحتون) أي: تنحتون بأيديكم، وقوله: * (والله خلقكم وما تعملون) من هذه الأصنام، فإذا كان الله خلقها فلا يصلح أن تتخذوها آلهة، وفي الآية دليل على أهل الاعتزال في أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى والدليل في ذلك واضح، وهو معلوم في (الكتب).
قوله تعالى: * (قالوا ابنوا له بنيانا) أي: حظيرة، وقيل: إيوانا.
405

* (بنيانا فألقوه في الجحيم (97) فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين (98) وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين (99) رب هب لي من الصالحين (100) فبشرناه بغلام حليم) * *
وقال ابن عباس: بنوا موضعا وجعلوا حوائطه من حديد، طوله في السماء ثلاثون ذراعا، وعرضه عشرون ذراعا.
وقوله: * (فألقوه في الجحيم) الجحيم كل موضع عظمت فيه النار وكثرت، ويقال: الجحيم نار على نار، وجمر على جمر.
وقوله: * (فأرادوا به كيدا) كيدهم: هو قصدهم إحراقه بالنار، وقوله: * (فجعلناهم الأسفلين) أي: المهلكين، وقيل: الأسفلين في الحجة، كان حجة إبراهيم عليهم، وظهرت عليهم.
قوله تعالى: * (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين).
في القصة: أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار؛ قال حين ألقي: حسبي الله ونعم الوكيل؛ فجعل الله النار عليه بردا وسلاما، قال كعب: لم تحرق شيئا منه إلا وثاقه، وفي القصة: أن نمروذ اطلع عليه فرآه في روضة خضراء عن يمينه شخص، وكان هو جبريل عليه السلام وعن يساره فراش من حرير أنزله الله عليه من الجنة.
وقوله: * (وقال إني ذاهب إلى ربي) فيه قولان: أحد القولين: أنه قال بعد أن خرج من النار، وأمره الله بالهجرة إلى الشام.
والقول الآخر: أنه قال هذا قبل أن [يلقى] في النار، وكان عنده أنه إذا ألقي في النار هلك، ولم يتخلص منها؛ فقال هذا القول إني ذاهب إلى ربي.
وقوله: * (سيهدين) على هذا القول معناه: إلى طريق الجنة، وعلى القول الأول سيهدين أي: سيرشدني إلى الموضع الذي أمرت بالهجرة إليه.
وقوله تعالى: * (رب هب لي من الصالحين) أي: هب لي ولدا صالحا من الصالحين، قوله تعالى * (فبشرناه بغلام حليم) أي: غلام حليم في صغره، عليم في
406

(* (101) فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102) فلما أسلما وتله) * * * كبره، وفي الآية دليل على أنه بشره بأنه يكبر، ويعمر حتى يوصف (بالحلم) والوقار.
واختلفوا أن هذا الغلام كان إسماعيل أو إسحاق.
فذهب قوم إلى أنه إسحاق عليه السلام وهو قول علي وابن مسعود وكعب وقتادة وجماعة، وذهب جماعة إلى أنه إسماعيل عليه السلام وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن وغيرهم.
قوله تعالى: * (فلما بلغ معه السعي) قال ثعلب: السعي مشي بسرعة، واختلفوا في السعي هاهنا، قال بعضهم: هو العمل معه، كأنه صار يعينه في عمله، وقيل: السعي إلى الجبل، ويقال: بلغ معه السعي أي: العبادة لله تعالى.
وقوله: * (قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) أي: أمرت بذبحك، قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي، ويقال: رأيت في المنام ما يدل على أني أمرت بذبحك.
وقوله: * (فانظر ماذا ترى) وقرأ حمزة: ' ماذا ترى ' أما قوله: * (ماذا ترى) أي: ماذا ترى فيما أمر الله به، فإن قيل: كيف يشاوره فيما أمره الله به، وهو أمر حتم لا يجوز تركه؟
والجواب عنه على وجهين: أحدهما: أن المراد منه إخباره.
والآخر: أنه أراد امتحانه في التسليم بحكم الله.
وأما القراءة الأخرى، وهي قوله: * (ماذا ترى) فيه معنيان أحدهما: ماذا تشير؟ والآخر: ماذا ترى من صبرك؟ ذكره الفراء.
وقوله: * (قال يا أبت افعل ما تؤمر) قال ذلك انقيادا لأمر ربه وطواعية، وقوله:
407

* (للجبين (103) وناديناه أن يا إبراهيم (104) قد صدقت الرءيا إنا كذلك نجزي) * * * (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) أي: الصابرين على حكم الله.
قوله تعالى: * (فلما أسلما) قرأ ابن مسعود: ' فلما سلما '.
وقوله: * (أسلما) أي: استسلما، ومعناه: أن إبراهيم سلم ابنه للذبح، والولد سلم روحه.
وقوله: * (وتله للجبين) أي: صرعه للجبين، والجبهة بين الجبينين، قال الشاعر:
(شككت له بالرمح جنبي قميصه
* فخر تليلا اليدين للفم
*
وقال آخر:
* فتله للجبينمنعفرا
* منه مناط الوتين منتصب)
واختلفوا في الموضع الذي أراد ذبحه فيه، فمن قال: إن الذبيح كان إسماعيل قال: كان بمنى، ومن قال: إن الذبيح كان إسحاق قال: كان بالشام.
وفي التفسير: أن إسماعيل عليه السلام قال لإبراهيم: اقذفني على جبيني؛ لئلا ترى وجهي فترحمني، وحتى لا أرى الشفرة فأجزع منها، وفي القصة: أن إبراهيم عليه السلام خرج إلى جانب منى، وأمر إسماعيل أن يتبعه بالشفرة والحبل، فرفعهما واتبعه؛ فجاء إبليس عليه اللعنة وقال لإسماعيل: هل تدري ما يريد بك أبوك؟ فقال: لا، قال: إنه يريد أن يذبحك؛ فقال: ولم؟ قال: يزعم أن الله أمره به. فقال: هو أهل أن يطاع، ثم جاء إلى أمه ووسوس كذلك؛ فأجابت كما قلنا، يعني: كما قال إسماعيل عليه السلام.
وفي التفسير: أن إبراهيم عليه السلام جعل يحز ولا يقطع، وروى أن الله تعالى ضرب على عنق إسماعيل عليه السلام صفيحة من نحاس؛ فجعل لا يقطع، وأورد بعضهم: أنه كان يقطع ويلتئم.
وقوله: * (وناديناه أن يا إبراهيم) فإن قيل: أين جواب قوله: * (فلما أسلما وتله
408

* (المحسنين (105) إن هذا لهو البلاء المبين (106) وفديناه بذبح عظيم (107) وتركنا) * * * * للجبين)؟
الجواب: أن جوابه قوله * (وناديناه) والواو صلة، وجعل بعضهم الجواب محذوفا، وقوله: * (وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) أي: حققت الرؤيا بما
أمرت به. وقوله: * (إنا كذلك نجزي المحسنين) أي: الموحدين، فإن قيل: كيف قال: صدقت الرؤيا، ورأى أنه يذبح ولم يذبح؟
والجواب: أنه قد أتى بما قدر عليه من الذبح؛ فجعله مصدقا بهذا المعنى، والآخر: أن المقصود من الأمر والمطلوب منه كان هو استسلامهما، هذا لولده، وهذا لروحه، فلما فعلا ذلك سماهما مصدقين.
واختلفوا في سن إسماعيل في ذلك الوقت، منهم من قال: كان سنه [ثلاث] عشرة سنة، ومنهم من قال: كان سنه سبع سنين.
* (إن هذا لهو البلاء المبين) أي: البلاء البين، ومنهم من قال: النعمة البينة، والنعمة في صرف الذبح عنه، والفداء الذي أنزل عليه.
قوله تعالى: * (وفديناه بذبح عظيم) قال ابن عباس: أنزل الله تعالى عليه كبشا من الجنة، وهو الكبش الذي تقبله الله تعالى من هابيل، ويقال: كبش رعى في الجنة أربعين خريفا، وقال الحسن البصري: أروية من الجبل.
وقوله: * (عظيم) منهم من قال: المراد منه العظيم في الشخص، وقيل: عظيم في الثواب، وقال مجاهد: عظيم؛ لأنه كان مقبولا من الله.
وفي التفسير: أن الكبش نزل عليه من جبل منى؛ فقال لإسماعيل: قم فإن الله تعالى أرسل فداك، وفي القصة: أن الكبش هرب؛ فتبعه إبراهيم حتى أخذه، فلما
409

* (عليه في الآخرين (108) سلام على إبراهيم (109) كذلك نجزي المحسنين (110) إنه من عبادنا المؤمنين (111) وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين (112) وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (113) ولقد مننا على موسى وهارون (114) ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم (115) ونصرناهم فكانوا هم) * * * كان بين الجمرتين اضطجع، ولم يطق إبراهيم حمله؛ فذبحه هنالك.
وقوله: * (وتركنا عليه في الآخرين) أي: تركنا له في الآخرين حسنا وذكرا جميلا، وقوله: * (سلام على إبراهيم) قد بينا، وقوله: * (كذلك نجزي المحسنسن) قد بينا.
وقوله: * (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) استدل من قال إن إسماعيل كان هو الذبيح؛ فإنه ذكر قصة الذبيح بتمامه، ثم قال: * (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) دل أنه كان غير إسحاق، وأما من قال: كان الذبيح إسحاق، فقال في هذه الآية: إن البشارة وقعت بالنبوة في إسحاق، والبشارة الأولى بولادته وإعطائه إياه.
وقوله: * (وباركنا عليه وعلى إسحق) أي: باركنا على إبراهيم وعلى إسحق، والبركة هاهنا: كثرة الولد، ويقال: البركة كثرة الأنبياء [في] أولادهما.
وقوله: * (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) أي: موحد ومشرك.
قوله تعالى: * (ولقد مننا على موسى وهارون) أي: أنعمنا.
وقوله: * (ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم) أي: من الغم العظيم، وهو الغرق والهلاك.
وقوله تعالى: * (ونصرناهم فكانوا هم الغالبين) أي: ونصرناهما، فذكر الاثنين بلفظ الجمع، وقد يذكر الواحد بلفظ الجمع أيضا، وقد بينا من قبل.
وقوله: * (وآتيناهما الكتاب المستبين) أي: التوراة.
410

* (الغالبين (116) وآتيناهما الكتاب المستبين (117) وهديناهما الصراط المستقيم (118) وتركنا عليهما في الآخرين (119) سلام على موسى وهارون (120) إنا كذلك نجزي المحسنين (121) إنهما من عبادنا المؤمنين (122) وإن إلياس لمن المرسلين (123) إذ قال لقومه ألا تتقون (124) أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين (125) الله ربكم) * * *
وقوله: * (وهديناهما الصراط المستقيم) أي: الإسلام، وقوله: * (وتركنا عليهما في الآخرين) قد بينا، وقوله: * (سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين) قد بينا.
قوله تعالى: * (وإن إلياس لمن المرسلين) في التفسير: أن إلياس كان من ولد هارون، وبعثه الله إلى بني إسرائيل، وياقل بعثه الله إلى بعلبك، وهي بلدة، وقد كان أهلها يعبدون صنما يسمى بعلا.
قوله تعالى: * (إذ قال لقومه ألا تتقون) معناه: ألا تخافون الله وتحذرونه.
قوله سبحانه: * (أتدعون بعلا) هو الصنم الذي قلنا، ويقال: إنه كان من ذهب مزين بالجواهر، وعن ابن عباس أنه قال: أتدعون بعلا أي: ربا، والبعل هو الرب، ومعناه: أتدعون هذا الصنم ربا؟.
وروى عن ابن عباس أنه كان جالسا، فسئل عن هذه الآية؛ فسكت؛ فمر رجل من الأزد ومعه بقرة؛ فقال له رجل: أتبيعها؟ قال: إنما يبيعها بعلها أي: ربها؛ فعرف ابن عباس أن البعل هو الرب، وكان الأزد من أفصح اليمن، وسمي الزوج بعلا من هذا، قال الشاعر:
(ورأيت بعلك في الوغى
* متقلدا سيفا ورمحا)
وقوله: * (وتذرون أحسن الخالقين) أي: المقدرين، وهو الله تعالى، قوله تعالى: * (الله ربكم) أي: هو ربكم، وقرئ بالنصب: ' الله ربكم '، وهو منصرف إلى قوله: * (وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين).
قوله تعالى: * (فكذبوه فإنهم لمحضرون) أي: لمحضرون النار، وفي القصة: أن ذلك
411

* (ورب آبائكم الأولين (126) فكذبوه فإنهم لمحضرون (127) إلا عباد الله المخلصين (128) وتركنا عليه في الآخرين (129) سلام على إل ياسين (130) إنا كذلك نجزي المحسنين (131) إنه من عبادنا المؤمنين (132) وإن لوطا لمن المرسلين (133) إذ نجيناه وأهله أجمعين (134) إلا عجوزا في الغابرين (135) ثم دمرنا الآخرين (136) * * * الملك كانت له امرأة قتالة للأنبياء، وكانت قد تزوجت سبعة من الملوك، قالوا: هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام فقصدت قتل إلياس؛ فدعا الله تعالى وسأله أن يرفعه إليه، ويؤخر عنه الموت؛ فبعث الله إليه بفرس من نار، وقيل: لونه كلون النار، وأمره أن يركبه؛ فركبه فألبسه الله النور، وذكر بعضهم: أن الله تعالى أنبت له الريش، وجعله أرضيا سمائيا ملكيا إنسيا، وروى أنه موكل بالفيافي، والخضر موكل بالبحار.
وقوله: * (إلا عباد الله المخلصين) وقد بينا، وقوله: * (وتركنا عليه في الآخرين) قد بينا.
وقوله تعالى: * (سلام على إل ياسين) وقرأ نافع: ' آل إلياس '. وقرأ ابن مسعود: ' سلام على إدراسين ' وعلى هذه القراءة: * (وإن إدريس لمن المرسلين) وقد روي أن إلياس هو إدريس.
وأما قوله: * (إلياسين) أي: إلياس وأتباعه وذووه؛ فسمي الجميع باسم واحد، مثل قول الرجل: رأيت المحمدين، أي: محمدا وأتباعه وأتباعه.
وأما قوله: * (سلام على إل ياسين) وقيل فيه قولان: أحدهما: أنه الرسول وآله، وهذا قول ضعيف؛ لأنه لم يسبق لهم ذكر.
والثاني: إن معنى قوله: * (إل ياسين) هو قوله ((إلياسين)) كأنه قال: آل إلياس، فعبر بياسين عن إلياس، وباقي الآيتين قد بينا.
قوله تعالى: * (وإن لوطا لمن المرسلين) أي: من جملة المرسلين، وهم الأنبياء، وقوله: * (إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين) أي: الباقين في العذاب
412

* (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين (137) وبالليل أفلا تعقلون (138) وإن يونس لمن المرسلين (139) إذ أبق إلى الفلك المشحون (140) فساهم فكان من المدحضين) * * * * والهلاك، ومعنى الآية: أنها لم تنج وبقيت في العذاب مع قوم لوط.
وقوله: * (ثم دمرنا الآخرين) التدمير: هو الإهلاك بوصف التنكيل.
وقوله: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل) أي: تمرون عليهم بالليل والنهار إذا ذهبتم إلى أسفاركم ورجعتم.
قوله تعالى: * (وإن يونس لمن المرسلين) أي: من جملة رسل الله.
وقوله: * (إذ أبق إلى الفلك المشحون) أي: السفينة الموفرة المملوءة.
وقوله: * (فساهم) أي: قارع.
وقوله: * (فكان من المدحضين) أي: من المقروعين، وقيل: من المغلوبين، يقال: دحضت حجة فلان إذا بطلت، وأدحض الله حجته إذا أبطلها، والدحض الزلق، قال الشاعر:
(أبا منذر رمت الوفاء فهبته
* وحدت كما حاد البعير عن الدحض)
وفي التفسير: أن يونس صلوات الله عليه وعد قومه العذاب، وكان الله تعالى أخبره أنه يرسل عليهم العذاب في يوم كذا؛ فأخبرهم يونس صلوات الله عليه بذلك فلم يصدقوه؛ فخرج من بينهم، وظن أن الله تعالى إذا أرسل العذاب أهلكهم، ولم يصرفه عنهم، وقد كان الله تعالى أخبره بإرسال العذاب عليهم، ولم يخبره بإهلاكهم، ثم إن الله تعالى أرسل العذاب، فلما رأوا ذلك، ولم يكن نزل بهم بعد، خرجوا إلى الصحراء، وأخرجوا معهم النساء والصبيان والبهائم، وفرقوا بين الأمهات والأولاد، فضجوا إلى الله ضجة واحدة، واستغاثوا وبكوا ودعوا؛ فصرف الله عنهم العذاب، فلما بلغ يونس عليه السلام أنه لم ينزل بهم العذاب، ولم يهلكوا، خرج من الموضع الذي كان التجأ إليه كالمنشور الخجل من قومه، وظن أنه وعدهم وعدا من الله تعالى، ولم يحصل مصداق ذلك، فتوجه إلى جانب البحر.
413

(* (141) فالتقمه الحوت وهو مليم (142) فلولا أنه كان من المسبحين (143) للبث في) * * *
وقوله تعالى: * (أبق) أي: ذهب وتباعد، ويقال: شبه بآبق، فعتب الله تعالى عليه في ذلك، وابتلاه ببطن الحوت وسجنه فيه.
وفي القصة: أنه لما وصل إلى البحر كان معه امرأته وابنان له؛ فجاء مركب وأراد أن يركب معهم في السفينة، قدم امرأته في المركب ليركب بعدها؛ فجاءت موجة وحالت بينه وبين المركب، ومر المركب، ثم جاءت موجة أخرى وأخذت ابنه الأكبر، وجاء ذئب وأخذ ابنه الأصغر وبقي فريدا وحيدا، فظهر مركب آخر فلوح لهم ليحملوه فجاء المركب وركب فيه، وقعد ناحية من القوم، فلما مرت السفينة في البحر ركدت ولم تسر، واضطرب البحر، وخافوا الغرق، فقال صاحب السفينة: إن فيكم رجلا مشئوما وفي رواية: مذنبا وقال: لا بد أن نلقيه في البحر حتى يسكن البحر وننجو وفي رواية قال: إن فيكم عبدا آبقا؛ فقام يونس عليه السلام فقال: أنا العبد المذنب، وأنا الآبق، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا يونس بن متي؛ فعرفوه، وقالوا: لا نلقيك يا رسول الله، ولكن نتساهم؛ فتساهموا ثلاث مرات، وخرجت القرعة عليه، وروى أنهم قالوا: نكتب اسم كل واحد منا على خشبة؛ فمن غرق اسمه فهو المطلوب؛ فغرق اسم يونس من بينهم، وأوحى الله إلى حوت عظيم حتى قصد السفينة، قالوا: فلما رآه أهل السفينة وقد فغر فاه، وهو مثل الجبل عظيما؛ خافوا الهلاك، وجعل الحوت ينظر إلى من في السفينة، كأنه يطلب شيئا، ثم إن يونس لما
رأى ذلك زج نفسه في الماء، وروى أن القوم ألقوه برضاه فالتقمه الحوت ومر به، وسكن البحر وسارت السفينة.
وفي بعض الآثار: أن الله تعالى أوحى إلى الحوت: إني لم أجعله لك رزقا، فإياك أن تكسر له عظما أو تخدش له لحما، وإنما جعلت بطنك له حرزا ومسجدا.
قوله تعالى: * (فالتقمه الحوت وهو مليم) قد بينا الالتقام.
وقوله: * (وهو مليم) أي: أتى بما يلام عليه.
414

* (بطنه إلى يوم يبعثون (144) فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145) وأنبتنا عليه شجرة من) * * *
قوله تعالى: * (فلولا أنه كان من المسبحين) أي: من المصلين لله تعالى والذاكرين إياه قبل أن يلتقمه الحوت * (للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) أي: جعلنا بطن الحوت له قبرا فيحشر منه، وقيل: فلولا أنه كان من المسبحين في بطن الحوت، وتسبيحه ما ذكرنا من قبل: * (إني كنت من الظالمين).
قال الضحاك: شكر الله تعالى له طاعته القديم، وعن بعضهم قال: العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، ويأخذ بيده إذا صرع.
وفي بعض الآثار: أن يونس صلوات الله عليه لما دعا الله تعالى في بطن الحوت، قالت الملائكة: صوت معروف من بلاد غريبة؛ فقالت الملائكة: يا ربنا من هو؟ قال: عبدي يونس عصاني؛ فسجنته في بطن الحوت.
وذكر النقاش في تفسيره: أن يونس صلوات الله عليه دعا ربه في بطن الحوت، وقال: إلهي من البيوت أخرجتني، وفي البحار سترتني، وفي بطن الحوت حبستني، فإن كنت عملت لك عملا صالحا ففرج عني.
وذكر أيضا: أنه لقي قارون في لجج البحار؛ فسمع قارون صوت يونس عليه السلام فكان في عذاب شديد؛ فطلب أن يمسك عنه العذاب، حتى يسأل يونس؛ فأمر الله تعالى بإمساك العذاب عنه، فسأل قارون يونس عن ابن عمه موسى؛ فقال: قد توفي، وسأل عن هارون؛ فقال: قد توفي قبله؛ فقال: واحزناه فأمر الله تعالى أن يرد عنه العذاب إلى يوم القيانة لما سأل عن ابن عمه.
وذكر أيضا: أن الحوت قر به في لجج البحار مسيرة ستة آلاف سنة، وذكر أنه بلغ به نجوم الأرضين السابعة؛ فسمع من تسبيح الحصى وما في قعر البحر شيئا عظيما، وذكر أن البحر تكلم معه، وقال: إلى أين كنت تريد أن تهرب من مولاي أيها العبد الخاطئ؟! إلى الأرض، أم إلى السماء، أم إلى البحار، أم إلى الجبال! وإنا نسبح الله تعالى منذ خلقنا ونعبده، ونخاف أن يعذبنا، والله أعلم.
415

* (يقطين (146) وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون (147) فآمنوا فمتعناهم إلى حين (148) * * *
قوله تعالى: * (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) اختلف القول في مقدار مكث يونس في بطن الحوت، فذكر ابن جريج (والسدي): أنه مكث أربعين يوما، وذكر مقاتل: أنه مكث ثلاثة أيام، وذكر الضحاك: أنه مكث عشرين يوما وذكر عطاء: أنه مكث سبعة أيام، وذكر الشعبي أنه مكث دون يوم، والتقمه الحوت ثم لفظه بعد ساعات يسيرة.
وعن ابن مسعود قال: ألقاه الحوت، وهو مثل الفرخ، وفي التفسير: أنه ألقاه الحوت وقد بلي لحمه، ورق عظمه، ولم يبق له قوة.
وقوله: * (بالعراء) فيه قولان: أحدهما: أن العراء وجه الأرض، والآخر: أنه الموضع الخالي، ذكره أبو عبيدة، قال الشاعر:
(ورفعت رجلي لا أخاف عثارها
* ونبذت بالبلد العراء ثيابي)
قوله: * (وهو سقيم) أي: ضعيف، وقيل: بمنزلة السقيم، قوله تعالى: * (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) ها هنا هو [الدباء] في قول جميع المفسرين، وقال ثعلب: كل شجرة ليس لها ساق، وهي تنبسط على وجه الأرض فهو يقطين، والقطينة معروف، وجمعه القطاني.
وذكر النقاش: أن ذلك [الدباء] كان من بذر الجنة، وكان عليه ألف ورقة.
وفي القصة: أن يونس استظل بتلك الشجرة، وجعل يأكل منها، ويشرب من مائها حتى قوي، ثم إن الله تعالى أيبس الشجرة، وقد نام نومة فاستيقظ، وقد يبست الشجرة؛ فحزن حزنا شديدا، وأصابه أوار الشمس، وجعل يبكي؛ فبعث الله إليه جبريل عليه السلام وقال: أتحزن على شجرة، ولا تحزن على مائة ألف من أمتك، وقد أسلموا وتابوا إلي، ثم إن الله تعالى أمره أن يرجع إلى قومه، فهو معنى قوله: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون).
416

* (فاستفهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون) * * *
قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كانت نبوته بعد أن أخرجه الله تعالى من بطن الحوت، والأصح أنه كان نبيا من قبل، وقد دل على هذا قوله تعالى: * (وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق).
وقوله: * (إلى مائة ألف أو يزيدون) قال الفراء: بل يزيدون، وقيل: يزيدون، وقال المبرد: كلمة ' أو ' ها هنا على بابها، ومعناه: أو يزيدون على تقديركم وظنكم، وهو كالرجل يرى فوما؛ فيقول: هؤلاء ألف ثم يقول: ألف أو يزيدون؛ فيكون الشك راجع إلى من رآهم لا إلى الله تعالى، وأما قدر الزيادة فأشهر الأقاويل: أنها عشرون ألفا، وذكره أبو عيسى في جامعه مرفوعا إلى النبي.
والقول الثاني: خمسة وثلاثون ألفا، والقول الثالث: سبعون ألفا.
وأما البلد الذي أرسل إليه فهو ' نينوي) من بلاد الموصل.
قوله: * (فآمنوا فمتعناهم إلى حين) أي: إلى منتهى آجالهم.
فإن قيل: قال ها هنا: * (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) وقال في موضع آخر * (لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء) وهو يدل على أنه لم ينبذ، فكيف وجه التوفيق بين الآيتين؟
والجواب عنه: أن الله تعالى قال في تلك الآية: * (لنبذ بالعراء وهو مذموم) أي: لولا رحمتنا ونعمتنا لنبذ بالعراء وهو مذموم، ولكن تداركته النعمة؛ فنبذ وهو غير مذموم، وأنشد ' أو ' بمعنى بل.
(بدت مثل عين الشمس في رونق
* الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح)
أي: بل أنت.
قوله تعالى: * (فاستفتهم) معناه: سلهم، وهو سؤال توبيخ وتقرير، وقوله:
417

(* (150) ألا أنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152) أصطفى البنات على البنين (153) ما لكم كيف تحكمون (154) أفلا تذكرون (155) أم لكم سلطان مبين (156) فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين (157) وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * * * (ألربك البنات ولهم البنون) معناه: جعلوا لربك البنات، ولأنفسهم البنين، أي: اختاروا كذلك.
وقوله: * (أم خلقنا الملائكة إناثا) معناه: أخلقنا الملائكة إناثا * (وهم شاهدون) خلقنا إناثا، وقد كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله. قال أهل التفسير: ولم يكن يزعم هذا جميع قريش، وإنما قال هذا بعض قريش، وقوم من بني كنانة، وهم بنو مدلج.
قوله تعالى: * (ألا إنهم من إفكهم) أي: من كذبهم، وقوله: * (ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون) وهو على ما قال الله تعالى. قوله تعالى: * (أصطفى البنات على البنين) معناه: أصطفى البنات على البنين، وهو استفهام بمعنى الزجر والتوبيخ، وقرئ: ' اصطفى ' بكسر الألف (على) الخبر، ومعناه: اصطفى البنات على البنين في زعمكم وقولكم.
وقوله: * (ما لكم كيف تحكمون) أي: كيف تقولون أن الله تعالى اختار البنات على البنين، وأنتم لا تختارون إلا البنين.
وقوله: * (أفلا تذكرون) أي: أفلا تتعظون، قوله تعالى: * (أم لكم سلطان مبين) أي: حجة بينة، وقوله: * (فأتوا بكتابكم) أي: بكتاب من عندكم يدل على ما قلتموه * (إن كنتم صادقين).
وقوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) الجنة: ها هنا هم الملائكة في قول أكثر المفسرين، وعن بعضهم: أنهم الجن، وقد كان زعم بعض قريش أن الملائكة بنات الله على ما ذكرنا؛ فقال أبو بكر الصديق لهم: فمن أمهاتهم؟ فقالوا: سروات الجن؛ فهذا معنى قوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا).
418

* (ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون (158) سبحان الله عما يصفون (159) إلا عباد الله المخلصين (160) فإنكم وما تعبدون (161) ما أنتم عليه بفاتنين (162) إلا من هو صال الجحيم (163) وما منا إلا له مقام معلوم (164) وإنا لنحن الصافون (165) وإنا لنحن) * * *
وقوله: * (ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون) أي: محضرون الحساب، وقيل: محضرون العذاب، قوله تعالى: * (سبحان الله عما يصفون) نزه نفسه عما وصفوه به من هذا القول الشنيع.
وقوله: * (إلا عباد الله المخلصين) قد ذكرنا من قبل، فإن قيل: أي: اتصال لقوله: * (إلا عباد الله المخلصين) بقوله: * (سبحان الله عما يصفون) وكيف يصح الاستثناء في هذا الباب، وكلمة إلا للاستثناء؟
والجواب عنه: أن في الآية تقديما وتأخيرا، فكأن الله تعالى قال: ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون العذاب إلا عباد الله المخلصين فإنهم لا يحضرون، ثم قال سبحان الله عما يصفون؛ فهذا هو التقدير في الآية.
قوله: * (فإنكم وما تعبدون) أي: من الأصنام، وقوله: * (ما أنتم عليه بفاتنين) أي: ما أنتم على الله بمضلين إلا من أضله الله، قال ابن عباس: لا يضلون إلا من كتب الله له الضلال، وروى هذا القول عن الحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي وإبراهيم النخعي والضحاك وغيرهم.
قال الشاعر:
(فرد بنعمته كيده
* عليه وكان لنا فاتنا)
أي: مضلا.
وقال بعضهم: لا يضلون إلا من كتب الله أنه يدخل الجحيم، وقيل: إلا من أشقاه الله؛ فهذا معنى قوله: * (إلا من هو صال الجحيم)
قوله تعالى: * (وما منا إلا له مقام معلوم) هذا خبر عن الملائكة، ومعناه: وما منا
419

* (المسبحون (166) وإن كانوا ليقولون (167) لو أن عندنا ذكرا من الأولين (168) لكنا عباد الله المخلصين (169) فكفروا به فسوف يعلمون (170) ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173)) * * * ملك إلا وله مقام معلوم، وفي الخبر عن النبي أنه قال: ' ليس موضع قدم في السماء إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد '.
ويقال: إن مقام جبريل عند سدرة المنتهى ولا مجاوزة له إلى مأواها.
قوله تعالى: * (وإنا لنحن الصافون) أي: المصطفون في السماء للعبادة * (وإنا لنحن المسبحون) أي: الممجدون لله، والمنزهون إياه عما لا يليق به.
قوله تعالى: * (وإن كانوا ليقولون) أي: كتابا ككتاب الأولين.
وقوله: * (لكنا عباد الله المخلصين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فكفروا به) فيه حذف، والمحذوف: أنه قد جاءهم الكتاب والذكر فكفروا به، وقوله: * (فسوف يعلمون) تهديد من الله لهم.
قوله تعالى: * (ولقد سبقت كلمتنا) أي: حكمنا، وقوله: * (لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون) أي: النصرة تكون لهم، وقد قال [الله] في موضع آخر: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي).
وقوله: * (وإن جندنا لهم الغالبون) أي: الغلبة تكون للمؤمنين، وهذا لقوم دون
420

* (فتول عنهم حتى حين (174) وأبصرهم فسوف يبصرون (175) أفبعذابنا يستعجلون (176) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين (177) وتول عنهم حتى حين (178)) * * قوم، وفي وقت دون وقت؛ لأن المسلمين قد يغلبون وينصر عليهم غيرهم، وقيل: العاقبة تكون لهم.
وقوله تعالى: * (فتول عنهم حتى حين) أي: أعرض عنهم حتى حين أي: حين الموت، وقيل: إلى أن يأتيهم عذاب الله.
وقوله: * (وأبصرهم فسوف يبصرون) قال قتادة: أبصروا حين لم ينفعهم البصر، قوله تعالى: * (أفبعذابنا يستعجلون) قد بينا أنهم قالوا: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) على ما قال الله، وقال تعالى في موضع آخر: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) أي: يستعجل بالقيامة الذين لا يؤمنون بها.
قوله تعالى: * (فإذا نزل بساحتهم) أي: نزل بساحتهم، ومعناه: أصابهم العذاب، وقوله: * (فساء صباح المنذرين) أي: فبئس صباح الذين أنذروا بالعذاب، وقد ثبت أن النبي لما غزا خيبر، ووصل إليها رأى اليهود وقد خرجوا بمكاتلهم ومساحيهم من حصونهم؛ فلما رآوا الجيش، قالوا: محمد والخميس؛ فقال النبي: ' الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين '.
قوله تعالى: * (وتول عنهم حتى حين) هو بمعنى الأول، وذكره على التأكيد، وقوله: * (وأبصر فسوف يبصرون) أي: انتظر حالتهم وما يؤول إليه أمرهم؛ فينتظرون لحالهم وما ينزل بهم.
421

* (وأبصر فسوف يبصرون (179) سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180) وسلام على المرسلين (181) والحمد لله رب العالمين (182)) * *
قوله تعالى: * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) أي: ذو العزة، وقوله: * (وسلام على المرسلين) أي: الأنبياء الذين أرسلوا إلى الخلق.
وقوله: * (والحمد لله رب العالمين) على ما ذكرنا، وروى الأصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه أنه قال: من أراد أن يكتال الأجر يوم القيامة بالمكيال الأوفى، فليكن آخر كلامه في مجلسه: * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) إلى آخر السورة '.
وفي بعض الأخبار برواية أبي سعيد الخدري ((أن النبي كان إذا صلى أو انصرف من مجلسه قال * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) إلى ى خر السورة)) (1).
422

بسم الله الرحمن الرحيم
* (ص والقرآن ذي الذكر (1) بل الذين كفروا في عزة وشقاق (2) كم أهلكنا من) * * *
تفسير سورة ص
وهي مكية
قوله تعالى: * (ص) قرأ الأكثرون: * (ص) بالتسكين، وقرأ الحسن: * (ص) بخفض الدال، وقرأ عيسى بن عمر النحوي: * (ص) بفتح الدال، والقراءة المعروفة بالتسكين.
وعلة التسكين أنه حرف من حروف التهجي، وعند العرب أن هذا يكون ساكنا، وأما قراءة الحسن فمعناه: صاد القرآن بعملك أي: عارضه بعملك، واما قراءة الفتح فمعناه: إنك صاد.
وأما معنى ' ص ': روى عن ابن عباس أنه قال: صدق محمد، وعن الضحاك: صدق الله، وقال مجاهد: هذا من فواتح السور، وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن، وهو قسم، وذكر الكلبي أن معناه: والصادق المعنى على القسم.
وقوله: * (والقرآن ذي الذكر) أي: ذي الشرف، وقد قال في موضع آخر: * (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم) أي: شرفكم.
وقوله: * (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) وقرئ في الشاذ: ' في غرة وشقاق ' بالغين المعجمة، والمعروف بالعين والزاي.
وقوله: * (في عزة) أي: في حمية، قال قتادة: معنى قوله: * (عزة) أي: نفروا عن قبول الحق، وتكبروا عن الانقياد، وأما القراءة بالغين فهو من الغرور والغفلة، وقوله: * (وشقاق) أي: عداوة واختلاف.
قوله تعالى: * (كم أهلكنا) اعلم أنه اختلف قول أهل التفسير في جواب القسم؛ فقال بعضهم: جواب القسم هو قوله تعالى: * (إن ذلك لحق تخاصم أهل
423

* (قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص (3) وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4) أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) * * النار) وهذا قول ضعيف؛ لأنه قد تخلل بين القسم وبين هذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة، والقول الثاني: أن جواب القسم قوله: * (كم أهلكنا) وفيه حذف، ومعناه: لكم أهلكنا.
والقول الثالث: أن جواب القسم محذوف، ومعناه: صاد والقرآن ذي الذكر، ليس الأمر على ما زعموا يعني: الكفار.
وقوله: * (كم أهلكنا من قبلهم من قرن) كم للتكثير، والقرن قد بينا من قبل.
وقوله: * (فنادوا) أي: استغاثوا عند الهلاك، وقوله: * (ولات حين مناص) أي: ليس حين (فرار)، وقيل: ليس حين (مغاب)، ويقال: نادوا وليس حين نداء.
' ولات ' بمعنى ليس لغة يمانية، وقيل: ضمت ' التاء ' إلى ' لا ' للتأكيد، كما يقال: ربت وثمت بمعنى رب وثم، وقال أهل اللغة: ناص ينوص إذا تأخر، وباص يبوص إذا تقدم، قال الشاعر:
(أمن ذكر سلمى إن نتك تنوص
* فتقصر عنها خطوة حين وتبوص
*
وقال آخر في ((لات)) بمعنى ليس:
* طلبوا صلحنا ولات أوان
* فأجبنا أن ليس حين بقاء
*
وذكر بعضهم: أنه كان من عادة العرب إذا اشتدت الحرب، يقول بعضهم لبعض: مناص مناص، أي: احملوا حملة واحدة ينجو فيها من نجا، ويهلك [فيها] من
424

(* (5) وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد (6) ما) * * * هلك فقالوا ذلك حين أصابهم العذاب من الله تعالى، فقال الله تعالى لهم: ' ولات حين مناص ' أي: وليس (حين هذا) القول، وأنشد بعضهم شعرا:
(تذكر حب ليلى لات حينا
* ويضحي الشيب قد قطع القرينا)
قوله تعالى: * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) أي: محمد، وقوله: * (وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) أي: خادع كذاب.
قوله تعالى: * (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) أي: عجب، وعجيب وعجاب بمعنى واحد، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: ' إن هذا لشيء عجاب ' بالتشديد، وهو بمعنى الأول.
قوله تعالى: * (وانطلق الملأ منهم) سبب نزول هذه الآية هو ' أنه جاء وجوه قريش إلى أبي طالب، وهم أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وعتبة وشيبة وطعيمة بن عدي، وعقبة بن أبي معيط، وأبي وأمية ابنا خلف، وزمعة بن الأسود، وغيرهم، وشكوا إليه محمدا، وقالوا: إنه يسب آلهتنا ويسفه أحلامنا، ويذكر أن آباءنا في النار؛ فدعا أبو طالب النبي وقال: يا بن أخ، هؤلاء قومك جاءوا يشكونك، ويذكرون كذا وكذا، فماذا تطلب منهم؟ قال: أطلب منهم كلمة واحدة إن قالوها دانت لهم العرب، وأدت إليهم العجم الجزية، فقال القوم: نحن نقول عشر كلمات، فماذا تريد؟ فقال: قولوا لا إله إلا الله، فنفروا وقاموا، وقالوا: لا نقولها أبدا، وجعل بعضهم يقول لبعض: امشوا واصبروا على آلهتكم أي: الزموها، وأقيموا على عبادتها '.
وقوله: * (إن هذا لشيء يراد) أي: أمر محمد شيء، يراد بالناس فيه الشر
425

* (سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (7) أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب (8) أم عندهم خزائن رحمة ربك) * * والهلاك، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه ' وانطلق الملأ يمشون أن اصبروا على آلهتكم '، ويقال: إن هذا لشيء يراد أي: لشيء يراد بأهل الأرض في إرسال محمد ويقال: يراد أي: يراد بمحمد ويملك علينا ويرأس.
وفي الآية قول آخر، وهو أنها نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه وما حصل للمسلمين من القوة بمكانه، فقال الكفار لما أسلم عمر: إن هذا لشيء يراد أي: إن أمر محمد لشيء يراد، حيث قوي بإسلام عمر.
قوله تعالى: * (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة) أي: النصرانية، هكذا قاله ابن عباس وابن جريج والسدي، وهي آخر الملل، ولم يكونوا موحدين، فإنهم كانوا يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وقال مجاهد: ما سمعنا هذا في الملة الآخرة أي: في ملة قريش، وقيل: في ملتنا هذه، وعن مؤرج بن عمرو قال: في الملة الآخرة أي: في الملة الأولى، وهو لغة لبعض العرب.
وقوله: * (إن هذا إلا اختلاق) أي: افتعال وكذب.
قوله تعالى: * (أأنزل عليه الذكر من بيننا) معناه: أن أهل مكة قالوا: أأنزل على محمد القرآن من بيننا، وليس بأفضلنا ولا أشرفنا؟.
وقوله: * (بل هم في شك من ذكري) أي: مما أنزلت.
وقوله: * (بل لما يذوقوا عذاب) أي: لم يذوقوا عذابي وسيذقونه.
قوله تعالى: * (أم عندهم خزائن رحمة ربك) معناه: أعندهم خزائن رحمة ربك؟ والخزائن: هي البوت التي تعد فيها الأشياء النفيسة.
وحقيقة المعنى: أنه ليس عندهم خزائن الرحمة والنبوة، فيعطونها من شاءوا، ويمنعونها من شاءوا.
426

(العزيز الوهاب (9) أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب (10) جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب (11) كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون) * * * *
وقوله: * (العزيز الوهاب) العزيز: هو المنيع في ملكه، الغالب على خلقه، الوهاب: المعطي لخلقه، وقوله تعالى: * (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما) أي: ليس لهم ذلك.
وقوله: * (فليرتقوا في الأسباب) أي: فليعلوا في أسباب القوة والمنعة إن كان لهم ذلك على ما زعموا، قاله أبو عبيدة، وقيل: فليقعدوا إلى أبواب السماء. والأسباب هي الموصلاة في الغة، والحبل يسمى سببا؛ لأته يوصل به إلى الشيء، فالارتقاء في الأسباب هو التوصل من شيء إلى شيء حتى يبلغ أعلاه، والمراد من الآية إثبات عجزهم، وإبطال زعمهم فيما ادعوه من المنعة والقوة.
قوله تعالى: * (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) أي: جند هنالك، ' وما ' صلة، والمعنى أنهم مهزومون مقموعون، واختلف القول في المعنى لهم، فأحد القولين: هم الأصنام، والقول الآخر: أن المعنى هم مشركو قريش، وهم الذين قتلوا وأسروا ببدر، وقيل: إن هنالك إشارة إلى مصارعهم من بدر.
وقوله: * (من الأحزاب) أي: من الذين تحزبزا وتجمعوا على الأنبياء بالتكذيب، قوله تعالى: * (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد) قد بينا.
وقوله: * (وفرعون ذو الأوتاد) في الأوتاد أقوال: أحدها: أنها البنيان، قال الشاعر:
(ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
* في ظل ملك ثابت الأوتاد)
أي: الأبنية، وقيل: الأوتاد جمع الوتد، وكان إذا أراد قتل إنسان وتد في يديه ورجليه أربعة أوتاد وهو مستلقي، ووجهه إلى السماء.
والقول الثالث: أن الأوتاد هي الملاعب بالأرسان المشدودة بالأوتاد، وقد كان
427

* (ذو الأوتاد (12) وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب (13) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (14) وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق (15) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب (16) اصبر على ما يقولون واذكر) * * * * لفرعون ذلك.
وقوله: * (وثمود وقوم لوط) قد بينا، وحكى عطاء عن ابن عباس: أنه ما من نبي إلا ويكون له أمة يوم القيامة سوى لوط عليه السلام فإنه يأتي وحده، وذكر بعضهم: أن قوم لوط كانوا أربعمائة ألف بيت، في كل بيت عشرة نفر، ولم يسلم أحد منها.
وقوله: * (وأصحاب الأيكة) أي: الغيضة، وقوله: * (أولئك الأحزاب) يعني: الذين تحزبوا على الأنبياء.
قوله تعالى: * (إن كل إلا كذب الرسل) أي: ما منهم قوم إلا وقد كذب الرسل، وقوله: * (فحق عقاب) أي: فوجب عذابي عليهم.
قوله تعالى: * (وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة) والصيحة ها هنا هي نفخة في الصور، وقوله: * (ما لها من فواق) قرئ بالنصب والرفع، وقال بعضهم: هما بمعنى واحد. وقال بعضهم: هما مختلفان؛ فقوله بالنصب: من الإفاقة، وقيل: مثنوية، ويقال: رجوع وتأخير، وقوله بالرفع أي: من انتظار، والفواق في اللغة ما بين الحلبتين، والمعنى أن العذاب لا يمهلهم، ولا يلبثهم بذلك القدر.
وقوله تعالى: * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا) قال سعيد بن جبير: أي: نصيبنا (من) الجنة، وقال الحسن البصري: قطنا أي: نصيبنا من العذاب، وإنما قالوا ذلك تكذيبا واستهزاء، والقط هو الكتاب الذي يكتب فيه الجائزة، والقطوط كتب الجوائز. وفي الآية قول آخر: وهو أن الله تعالى لما أنزل قوله: * (فأما من أوتي كتابه
428

* (عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * * بيمينه) * (وأما من أوتي كتابه بشماله) فسمع المشركون ذلك؛ فقالوا: ربنا عجل لنا قطنا أي: صحيفتنا.
وقوله: * (قبل يوم الحساب) ظاهر، وإنما قالوا تكذيبا واستهزاء.
قوله تعالى: * (واصبر على ما يقولون) أي: على ما يقول الكفار.
وقوله: * (واذكر عبدنا داود) هو داود بن إيشا، وقد بينا، قوله: * (ذا الأيد) أي: ذا القوة، فيقال: ذا القوة في العبادة، ويقال: ذا القوة في الملك.
وأما قوله في العبادة؛ فقد كان يصوم يوما ويفطر يوما، وكان يقوم سدس الليل وينام نصفه، ويقوم ثلثه، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ' أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود، وأحب القيام إلى الله قيام داود '، وقوله: * (إنه أواب) أي: تواب، وقيل: رجاع، فقال: آب يئوب إذا رجع، قال الشاعر:
(وكل ذي غيبة يئوب
* وغائب الموت لا يئوب)
وقيل: أواب معناه: أنه كان كلما ذكر ذنبه استغفر الله تعالى.
قوله تعالى: * (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي) العشي: آخر النهار.
وقوله: * (والإشراق) هو وقت الضحى، وعن ابن عباس قال: ما كنت أعرف معنى الإشراق حتى أخبرتني أم هانئ رضي الله عنها أن النبي صلى صلاة الضحى
429

(* (18) والطير محشورة كل له أواب (19) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20) وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على داوود) * * في بيتها، ثم قال: ' هذه صلاة الإشراق ' والإشراق: أنه تشرق الشمس حتى تتناهى في ضوئها.
قوله تعالى: * (والطير محشورة) وسخرنا الطير محشورة، وقوله: * (محشورة) مجموعة، وقوله: * (كل له أواب) اختلف القول في معنى قوله: * (كل له أواب) فأحد القولين معناه: كل لله أواب أي: مسبح.
والقول الثاني: كل له أواب أي: لداود يعني: أواب معه.
والأواب ها هنا هو المسبح، والتسبيح هو عبادة أهل السماوات والأرض.
قوله تعالى: * (وشددنا ملكه) أي: وقوينا ملكه، قال مجاهد: كان له أربعمائة ألف رجل يحرسونه، ومن المعروف ستة وثلاثون ألفا يحرسونه. وعن بعضهم: أربعون ألفا مستلأمة أي: في السلاح، وقد لبس لأمته أي: درعه وسلاحه.
وقوله تعالى: * (وآتيناه الحكمة) أي: النبوة، وقيل: الفقه في الدين، ويقال: الفهم في القضاء.
وقوله: * (وفصل الخطاب) فيه أقوال:
أحدها: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وهو فصل الخطاب، وهذا قول مشهور ومعروف.
والقول الثاني: أن فصل الخطاب هو البيان الفاصل بين الحق والباطل.
430

* (ففرع منهم قالوا لا تخف خصمان بغي بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط (22) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة) * * *
والقول الثالث: أن معناه: أما بعد، ذكره الشعبي، وإنما سمي: أما بعد فصل الخطاب؛ لأن الإنسان يذكر الله ويحمده، فإذا شرع في كلام آخر قال: أما بعد، فقد كان كذا، وكان كذا.
وقد ورد في القصة: أن رجلا أتى داود عليه السلام وادعى أن فلانا اغتصب منه بقرا، فدعا المدعي عليه، فجحد؛ فرأى في المنام أنه أمر بقتل المدعى عليه فلم يفعل فرأى ثانيا وثالثا وأنذر بالعذاب إن لم يفعل فدعا المدعى عليه وأخبره أن الله تعالى أمره بقتله؛ فقال: أو حق هو؟ قال: نعم.
فقال: أتقتلني بغير حجة؟ فقال له: والله لأنفذن أمر الله فيك.
فقال: إني لم أقتل بهذا، ولكني كنت اغتلت أبا هذا الرجل وقتلته، وأقر به، فقتله داود عليه السلام فلما رأت بنو إسرائيل ذلك هابوه أشد الهيبة، فهي معنى قوله * (وشددنا ملكه).
قوله تعالى: * (وهل أتاك نبأ الخصم) أي: خبر الخصم، وأنشدوا في النبأ بمعنى الخبر:
(إني أرقت فلم أغمض جاري
* جزعا من النبأ العظيم السار)
والخصم اسم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، وقيل معناه: ذو خصم ذوا خصم وذوو خصم، فعلى هذا يتناول الكل.
وقوله: * (إذ تسوروا المحراب) أي صعدوا وعلوا، والمعنى: أنهم دخلوا من جانب سور المحراب لا من مدخل الذي يدخل الناس.
واتفقت عامة المفسرين على أن الذين دخلوا كانوا ملكين، وقيل: إنه كان أحدهما جبريل والآخر ميكائيل، وذكر تسوروا بلفظ الجمع؛ لأن الجمع يتناول الاثنين فصاعدا.
431

وقوله: * (إذ دخلوا على داود ففزع منهم) أي: خاف منهم واختلف القول في علة الخوف، فقال بعضهم: إنه خاف منهم، لأنهم دخلوا في غير وقت الدخول، وقيل: خاف منهم؛ لأنهم دخلوا من أعلى السور.
وقوله: * (قالوا لا تخف) يعني: فلا تخف * (خصمان بغى بعضهم على بعض) فإن قيل: كيف قال: * (خصمان بغى بعضنا على بعض) ولم يكن من الملكين من بغى أحدهما على الآخر؟
والجواب عنه أن معناه: أرأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر، فهذا من معاريض الكلام، وليس على معنى تحقيق بغي أحدهما على الآخر.
وقيل معناه: قالا: ما قولك في خصمين بغى أحدهما على الآخر؟ وهذا قريب من الأول، وقوله: * (فاحكم بيننا بالحق) أي: بالعدل.
وقوله: * (ولا تشطط) يقال: أشط يشط إذا جار، وشطا يشط إذا أبعد، قال الشاعر:
(شطت مزار العاشقين، فأصبحت
* عسرا علي طلابك ابنة مخرم) وقال عمر بن أبي ربيعة: * (تشط غدا دار جيراننا
* وللدار بعد غد أبعد)
فمعنى قوله: * (ولا تشطط) أي: لا تجر، وقرئ بنصب التاء أي: لا تبعد عن الحق، وقوله: * (واهدنا إلى سواء الصراط) أي: إلى الطريق المستقيم الصواب والعدل، وقوله: * (واهدنا) أي: وأرشدنا.
قوله تعالى: * (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة) ذكر أهل التفسير أن سبب ابتلاء داود عليه السلام أنه فتن بامرأة أوريا بن حنان، وسبب ذلك أن داود صلوات الله عليه كان قسم أيامه، فكان يخلو يوما للعبادة، ويخلو يوما لنسائه، ويجلس للقضاء يوما مع بني إسرائيل فيذاكرهم ويذاكرونه، فجلس يوما مع بني إسرائيل يذاكرهم، فذاكروا فتنة النساء، فأضمر داود في نفسه أنه إن ابتلي اعتصم.
432

وفي بعض التفاسير: أن داود عليه السلام رأى قرينيه من الملائكة، فقال لهما: ما بالكما معي، فقالا: نحفظك ونحرسك، فتفكر في نفسه أنه كان ما يحترز عنه من الأشياء يكون بحفظهما، أو ما يفعل من العبادة فيكون بحفظهما، فهو لا يحمد في ذلك؛ فأمر الله تعالى الملكين أن يخلياه يوما.
وفي بعض القصص: أن الله تعالى حذره يوما، وقال: هو يوم فتنتك، وفي بعضها: أنه سمع بني إسرائيل يقولون في دعواتهم: يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأحب أن يذكر معهم، فذكر ذلك لله تعالى في مناجاته، فقال: يا داود إني ابتليتهم فصبروا. فقال: لو ابتليتني صبرت، فقال: يا داود إني مبتليك يوم كذا، فلما كان ذلك اليوم دخل في متعبده، وتخلى للعبادة، وهذا الوجه الثالث غريب، والمشهور ما ذكرنا من قبل، قالوا: ولما كان في ذلك اليوم وتخلى للعبادة وجعل يصلي ويقرأ التوراة والزبور ويكب على قراءتهما، فبينما هو خلال ذلك؛ إذ سقط طير من ذهب قريبا منه، ويقال: إنه إبليس تصور في صورة طير، وكان جناحاه من الدر والزبرجد، فأعجبه حسن الطير، فقصد أن يأخذه فتباعد منه، وجعل هو يتبعه إلى أن أسرف في اتباعه إلى دار من دور جيرانه، فرأى امرأة تغتسل، فأعجبه حسنها وخلقها، وفتن بها، فلما أحست المرأة بمن ينظر إليها؛ حللت شعرها، فغشاها شعرها؛ فازداد داود فتنة، ورجع وسأل عن المرأة؛ فقيل: إنها امرأة أوريا بن حنان، فكان في ذلك الوقت توجه غازيا إلى بعض الثغور، فأحب أن يقتل ويتزوج بامرأته، فذكر بعضهم أن ذنبه كان هذا القدر.
وذكر بعضهم: انه كتب إلى أمير الجيش أن يجعل أوريا قدام التابوت، وكان من جعل قدام التابوت فإما أن يقتل أو يفتح الله على يديه، فلما جعل قدام التابوت قتل، فتزوج داود المرأة بعدما انقضت عدتها.
وروى مسروق عن ابن مسعود، وسعيد بن جبير عن ابن عباس أنهما قالا: كان ذنب داود انه التمس من الرجل أن ينزل عن امرأته، هذا قول ابن مسعود، وأما لفظ ابن عباس: التمس أن يتحول له عنها.
433

* (فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب (23) قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن) * * *
قال أهل التفسير: وقد كان ذلك مباحا لهم غير أن الله تعالى لم يرض له بذلك، لأنه كان ذلك رغبة في الدنيا، وازدياد من النساء، وقد أغناه الله تعالى عنها بما أعطاه من غيرها.
وذكر بعضهم: أن ذنبه كان هو أنه خطب امرأة، وقد خطبها غيره، فدخل على خطبة غيره، وكان ذلك منهيا في شريعتهم، كما هو منهي في شريعتنا.
قوله تعالى: * (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة) النعجة ها هنا كناية عن المرأة، والعرب تكنى عن المرأة بالنعجة والشاة، قال الشاعر:
(فرميت غفلة عينه عن شاته
* فأصبت حبة قلبه وطحالها)
والمراد من الشاة ها هنا هي المرأة، وقرأ ابن مسعود: ' تسعة وتسعون نعجة أنثى ' قال بعضهم: ذكر أنثى على طريق التأكيد.
وقد روي عن النبي أنه قال: ' ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ' فقوله: ' ذكر ' مذكور على وجه التأكيد.
وقيل: يجوز أن يقال: تسعة وتسعون نعجة، وإن كان في خلالها ذكر، فلما قال: تسعة وتسعون نعجة أنثى، عرف قطعا أنه ليس في خلالها ذكر.
وقوله: * (ولي نعجة واحدة) في التفسير: أنه كان لأوريا امرأة واحدة، ولداود تسعة وتسعون امرأة، فهذا هو المعني بالنعاج والنعجة.
وقوله: * (فقال أكفلنيها) أي: ضمها إلي: وقيل: انزل لي عنها، وقيل: اجعلني قيمها وكفيلا بأمرها.
وقوله: * (وعزني في الخطاب) أي: غلبني في الخطاب، وقهرني في الخطاب أي:
434

* (كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له ذلك وإن له) * * في القول لقوة ملكه.
وحقيقة المعنى: أن الغلبة كانت له لضعفي في يده، وإن كان الحق معي، وعن مجاهد قال: تحدث بنو إسرائيل عند داود أنه لا يمضي على ابن آدم يوما إلا ويذنب فيه ذنبا، واعتقد داود صلوات الله عليه أنه يحفظ نفسه من الذنب، وعين يوما، فلما كان ذلك اليوم تخلى في متعبده، وجعل يصلي ويسبح، ويقرأ التوراة والزبور، فابتلي بما ابتلي به على ما ذكرنا.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: من زعم أن داود ارتكب محرما من تلك المرأة جلدته مائة وستين جلدة، يعني ضعف ما يجلد الإنسان في غيره.
قوله تعالى: * (قال لقد ظلمك) معناه: لقد ظلمك بسؤاله نعجتك إلى نعاجه، فإن قيل: كيف قال: لقد ظلمك بمجرد قوله، ولم يكن سمع قولة صاحبه؟
الجواب عنه: أن يحتمل لقد ظلمك بمجرد قوله، ولم يكن صاحبه أقر بذلك، ويحتمل أنه قال: إن كان الأمر على ما ذكرت فقد ظلمك بسؤاله نعجتك إلى نعاجه، وفي الآية حذف، والمحذوف بسؤاله أن تضم نعجتك إلى نعاجه، وقد ثبت عن ابن عباس أنه كان سأل زوج المرأة أن ينزل له عن امرأته، رواه سعيد بن جبير عنه.
وقوله: * (وإن كثيرا من الخلطاء) أي: من الشركاء، يقال: هذا خليطي أي: شريكي، وقوله: * (ليبغي بعضهم على بعض) أي: يظلم بعضهم بعضا.
وقوله: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) يعني: أنهم لا يظلم بعضهم بعضا، وقوله: * (وقليل ما هم) أي: وقيل هم، و ' ما ' صلة.
وقوله: * (وظن داود أنما فتناه) أي: وأيقن داود أنما فتناه أي: ابتليناه، وأوقعناه في الفتنة، وقرئ: ' إنما فتناه ' بالتخفيف، يعني: أن الملكين فتناه.
435

وقوله: * (فاستغفر ربه) أي: طلب المغفرة من ربه (وخر راكعا) أي: ساجدا، فعبر عن السجود بالركوع؛ لأن كل واحد منهما نوع من الانحناء.
وقوله: * (وأناب) أي: رجع وتاب، قال مجاهد: مكث داود ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه. ويقال: مكث في السجود وبكى حتى نبت العشب حول رأسه.
وذكر النقاش في تفسيره: أن الله تعالى بعث إليه ملكا بعد أربعين يوما أن أرفع رأسك، فلم يرفع، فقال له الملك: أيها العبد، أول أمرك ذنب وآخره معصية، ارفع رأسك حين أمرك ربك.
وذكر وهب بن منبه: أن داود صلوات الله عليه لم يشرب بعد ذلك ماء، إلا وقد مزجه بدموعه، ولم يأكل طعاما إلا وقد بله بدموعه، ولم ينم على فراش إلا وقد غرقه بدموعه.
وأم حكم السجود في هذه الآية، فذكر بعضهم: أنها سجدة شكر، وذكر بعضهم: أنها سجدة عزيمة، وقد روى الشافعي رحمه الله بإسناده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يسجد في ' سورة ص ' ويقول: إنها توبة نبي.
وفي بعض التفاسير: أن داود عليه السلام لما قال ما قال ضحك أحد الملكين إلى صاحبه، ثم ارتفعا إلى السماء، فعلم داود أنهما أراداه بذلك القول وأنهما ملكان مبعوثان من قبل الله تعالى فحينئذ وقع على الأرض ساجدا.
قوله تعالى: * (فغفرنا له ذلك) فغفرنا له ذنبه ذلك، وعن [أبي] سليمان الداراني: أن الله تعالى قال: يا داود قد غفرت ذنبك، وأما المودة التي كانت بيني وبينك فقد مضت.
وفي القصة: أن الوحوش والطيور كان تستمع إلى قراءاته وتصغي إليها، فلما فعل ما فعل، [كان] يقرأ الزبور بعد ذلك، ولا تصغي الطيور ولا الوحوش إلى ذلك،
436

* (عندنا لزلفى وحسن مآب (25) يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26) وما خلقنا) * * * فروى أنها قالت يعني الوحوش والطيور: يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك.
وقوله: * (وإن له عندنا لزلفى) أي: قربى * (وحسن مآب) أي: حسن مرجع ومنقلب، وفي بعض التفاسير: أن داود صلوات الله عليه يحشر وخطيئته منقوشة في كفه، فحين يراها؛ يقول: يا رب، ما أرى خطيئتي إلا مهلكي، فيقول الله تعالى له: إلي يا داود، فهو معنى قوله تعالى: * (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) وأنشدوا في الركوع بمعنى السجود على ما بينا شعرا:
(فخر على وجهه راكعا
* وتاب إلى الله من كل ذنب)
قوله تعالى: * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) أي: خليفة عمن سبق، ويقال: خليفتي؛ ومن هذا يجوز أن يسمى الخلفاء خلفاء الله.
وقوله: * (فاحكم بين الناس بالحق) أي: بالعدل، وقوله: * (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) أي: يصدك ويردك عن سبيل الله.
وقوله: * (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) فيه تقديم وتأخير، ومعناه: لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا أي: تركوا أمر الله وغفلوا عن القيامة.
وفي القصة: أن الله تعالى كان قد بعث سلسلة من السماء، وكان يختصم إلى داود، والخصمان والسلسلة قدام مجلسه، فكان يأمر كل واحد منهما أن يأخذ السلسلة، وكان ينالها المحق ولا ينالها المبطل، فاشتدت هيبته في بني إسرائيل لذلك، فاختصم رجلان في عقد لؤلؤ أودعه أحدهما من صاحبه وجحده المودع، فعمد المودع إلى عصا وقورها، وجعل العقد فيها، فلما اختصما إلى داود أمرهما بالتحاكم إلى السلسلة، فذهب المدعي إلى السلسلة، وقال: اللهم إن كنت تعلم أني أودعت هذا
437

* (السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28) كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب (29) * * الرجل عقد لؤلؤ، ولم يرده إلى، فأنلني السلسلة، ثم رفع يده ونالها،
وجاء صاحبه إلى السلسلة، والعصا في يده، فقال للمدعي: أمسك هذه العصا حتى آخذ السلسلة، فأخذها منه، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني قد رددتها إليه فأنلني السلسلة، ثم إنه رفع يده، ونال السلسلة؛ فتحير داود وبنو إسرائيل في ذلك.
ورفع الله السلسلة، وأمر داود عليه السلام بأن يقضي بين الناس بالبينة واليمين؛ فجرت السنة على ذلك إلى قيام الساعة.
قوله تعالى: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) أي: لعبا، وقيل: لغير حكمة، وقوله: * (ذلك ظن الذين كفروا) وهذا دليل على أن الله تعالى يعذب الكفار بالظن الباطل، وقوله: * (فويل للذين كفروا من النار) أي: من نار جهنم.
قوله تعالى: * (أم نجعل الذين آمنوا) معناه: أنجعل الذين آمنوا (وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض) أي: لا نجعل.
وقوله: * (أم نجعل المتقين كالفجار) أي: المؤمنين كالكفار، ويقال: المراد بالمتقين ها هنا أصحاب رسول الله، وقيل: بنو هاشم وبنو المطلب، والفجار هم وجوه المشركين وسادتهم.
قوله تعالى: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك) أي: هذا كتاب أنزلناه إليك مبارك.
وقوله: * (ليدبروا آياته) أي: ليتدبروا ويتفكروا في آياته، وقوله: * (وليتذكروا أولو الألباب) أي: يتذكر أولو العقول، قال الحسن في قوله: * (أولو الألباب) عاتبهم لأنه أحبهم.
قوله تعالى: * (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب) قد بينا.
438

* (ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب (30) إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد (31) فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب (32)) * *
قوله: * (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد) أي: الخيل الجياد، والصافنات: هي الخيل التي قامت على ثلاث قوائم، وثنى إحدى قوائمه، وقام على السنبك.
وقيل: والصافن في اللغة: هو القائم، وقد روى عن النبي أنه قال: ' من سره أن يكون الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار ' أي: قياما. قال الشاعر:
(ألف الصفون فما يزال كأنه
* مما يقوم على الثلاث كسيرا)
وقوله: * (الجياد) أي: السراع، قال إبراهيم التيمي: كانت [عشرين] فرسا لها أجنحة، وقال عكرمة: عشرون ألف فرس لها أجنحة، وقال بعضهم: كانت ألفا من الخيل العتاق أي: الكرام، ويقال أيضا: إن الله تعالى كان أخرجها له من البحر.
قوله تعالى: * (إني أحببت حب الخير) أي: آثرت حب الخير، وأما الخير؛ فأكثر المفسرين على أنها الخيل في هذه الآية، وكذا قرأ ابن مسعود باللام.
وروى أن زيد الخيل الطائي وفد إلى النبي فقال له النبي: ' من أنت؟ فقال: أنا زيد الخيل. فقال: أنت زيد الخير '.
439

* (ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33) ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه) * * *
والقول الثاني: أن الخير ها هنا هو الدنيا أي: آثرت الدنيا على ذكر ربي أي: صلاة العصر.
قوله: * (حتى توارت بالحجاب) أي: توارت الشمس بالحجاب، فكنى عن الشمس وإن لم يجر لها ذكر، وقد بينا مثال هذا، ويقال: قد سبق ما يدل على ذكر الشمس، فاستقامت الكناية عنها، وذلك قوله تعالى: * (إذ عرض عليه بالعشي) والعشي لا يعرف إلا بالشمس.
وأما الحجاب، فيقال: إنه جبل قاف، والشمس تغرب من ورائه، ويقال: إنه جبل من ياقوت أخضر، وخضرة السماء منه.
قوله تعالى: * (ردوها علي) أي: ردوا الخيل علي، وقوله: * (فطفق مسحا بالسوق والأعناق) ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد منه أنه قطع عراقيبها وأعناقها، وهذا مروي عن ابن عباس والحسن وقتادة، وأورده الفراء والزجاج.
قال الحسن: كسف عراقيبها وضرب أعناقها، قال الزجاج: ويجوز أن يكون الله تعالى أباح له في ذلك الوقت وحرم في هذا الوقت علينا ولم يكن ليقدم نبي الله تعالى على ذلك، وهو محرم عليه، وكيف يستغفر من ذنب بذنب؟!.
وعن ابن عباس في بعض الروايات: أن سليمان عليه السلام جعل يمسح عراقيبها وأعناقها بيده وثوبه؛ شفقة عليها، وهذا قول ضعيف، ولا يليق هذا الفعل بما سبق، والمشهور هو القول الأول.
وذكر الكلبي: أن الخيل كانت ألفا، فقتل منها تسعمائة وبقيت مائة، فهي أصل الخيل العتاق التي بقيت في أيدي الناس.
ويقال: إنها كانت خيلا أخذها من العمالقة، وكانت تعرض عليه؛ فغفل عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فأمر بردها عليه، وقطع عراقيبها، وضرب أعناقها؛ لأنها ألهته عن ذكر الله، ويقال: ذبحها ذبحا وتصدق بلحومها، وكان الذبح حلالا في شريعته على ذلك الوجه.
440

* (جسدا ثم أناب (34) قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك) * *
قوله تعالى: * (ولقد فتنا سليمان) أي: اختبرنا سليمان فابتليناه، ويقال: فتنا سليمان أي: ألقيناه في الفتنة.
وقوله: * (وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) ذهب أكثر المفسرين إلى أن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان هو صخر الجني.
قال السدي: كان اسمه حبقيق، وعن بعضهم: ان اسمه كان آصف، والمعروف هو الأول، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما قصته: فزعموا أن صخرا كان شيطانا ماردا لا يقوى عليه أحد، فابتلى الله تعالى سليمان به، وسلبه ملكه، وقعد هذا الشيطان على كرسيه يقضي بين الناس، وكان سبب ذلك فيما زعموا أن ملك سليمان كان في خاتمه، قال وهب: وكان ذلك الخاتم فما ألبسه الله تعالى آدم عليه السلام في الجنة، وكان يضيء كضوء الشمس، فلما أكل آدم من الشجرة، وعصى الله تعالى سلب الخاتم.
ثم إن الله تعالى أنزله على سليمان، وعقد به ملكه، قالوا: وكان الخاتم مربعا له أربعة أركان، في ركن منه مكتوب: أنا الله لم أزل، وفي الركن الثاني مكتوب: أنا الله الحي القيوم، وفي الركن الثالث مكتوب: أنا العزيز لا عزيز غيري، وفي الركن الرابع مكتوب: محمد رسول الله.
ويقال: كان المكتوب عليه آية الكرسي، قالوا: وكان سليمان عليه السلام إذا دخل مغتسله سلم الخاتم إلى جارية له، فدخل مرة وسلم الخاتم إلى الجارية، فجاء صخر في صورة سليمان فأخذ الخاتم من الجارية، وخرج سليمان يطلب الخاتم، فقالت: قد أخذت مني الخاتم مرة، فعلم [سليمان] أن الله تعالى سلبه ملكه.
وذهب سليمان يسيح في الأرض، ولم يعرفه أحد بصورته، وكان يستطعم الناس
441

ويقول: أنا سليمان بن داود، فيكذبونه ويؤذونه ويزعمون أنه مجنون. حتى روى أنه استطعم مرة من قوم وزعم أنه سليمان بن داود، فقام رجل وشج رأسه بعصا في يده، ثم إنهم أعطوه كسرة يابسة، فحمل الكسرة إلى شط نهر ليبليها بالماء، وكان جائعا لم يصب طعاما منذ أيام، فذهب الماء بالكسرة.
ويقال: إنه كان على شط البحر، فجاءت موجة وحملت الكسرة، فدخل هو البحر في إثرها حتى خاف الغرق فرجع ورجعت الكسرة ثم إنه طمع فيها وذهب ليأخذها، فذهبت الكسرة، هكذا مرات؛ فبكى سليمان وتضرع إلى الله تعالى فرحمه الله تعالى ورد إليه ملكه.
وكان سبب رد ملكه إليه أنه مر على قوم صيادين؛ فسألهم شيئا ليأكله فأعطوه سمكة ميتة، فشق جوفها، فوجد خاتمة فيها، فجعله في إصبعه، وعاد إليه ملكه، وعكفت الطير في الوقت على رأسه، واجتمع إليه الإنس والجن والشياطين.
وأما مدة ذهاب ملكه كان [أربعين] يوما، وأما حديث صخر الجني فإنه لما أخذ الخاتم، وقد تحول في صورة سليمان، ذهب وقعد على كرسيه، وجعل ينفذ ما كان ينفذه سليمان إلا أن الله تعالى منعه نساء سليمان، هكذا روي عن الحسن.
وقد ذكر غيره أنه كان يصيب من نساء سليمان في الحيض، وذكر أنه يصيب في الحيض وغير الحيض، والله أعلم.
واختلف القول في أنه هل بقي معه الخاتم أولا؟ فأحد القولين: أنه ذهب وطرح الخاتم في البحر.
والقول الآخر: أنه كان معه، والقول الأشهر أولى وأعرف.
وذكر النقاش في تفسيره: أن بني إسرائيل أنكروا أمر صخر الجني؛ لأنه كان يقضي بغير الحق؛ فذهبوا إلى نساء سليمان، وقالوا لهن: تنكرون من أمر سليمان شيئا، فقلن: نعم؛ فحينئذ وقع في قلبهم أن سليمان قد ابتلي، وأن الله تعالى سلبه ملكه، وأن الشخص الذي على الكرسي شيطان.
442

فأخذوا التوراة وجاءوا إلى حول الكرسي وجعل يقرءونها؛ فطار صخر إلى أشرف القصر، ثم طار من شرف القصر ومر فوقع في البحر.
وفي التفسير: أن الله تعالى لما رد على سليمان ملكه، أمر الشياطين يطلب صخر، فوجدوه وحملوه إلى سليمان؛ فصفده بالحديد، وجعله في صندوق، وألقاه في البحر، فهو في البحر إلى يوم القيامة.
وأما السبب [الذي] ابتلي الله لأجله سليمان، ففيه أقوال كثيرة:
أحدها: أن الله تعالى كان أمره ألا يتزوج امرأة من غير بني إسرائيل، فخالف وتزوج امرأة من غيرهم، فابتلاه الله تعالى بما ذكرنا.
والقول الثاني: أنه تزوج بامرأة؛ فعبدت المرأة صنما في داره من غير أن يشعر سليمان بذلك، فابتلاه الله تعالى لغفلته، وهذا قول مشهور.
والقول الثالث: أنه كانت عنده امرأة، وكان يحبها حبا شديدا، فخاصم أخوها إلى سليمان في شيء مع إنسان، فطلبت المرأة من سليمان أن يقضي لأخيها؛ فقال لها: نعم، ولم يفعل ذلك، فابتلاه الله تعالى.
والقول الرابع: أنه احتجب من الناس ثلاثة أيام، ولم يأذن لأحد، ذكره شهر بن حوشب، وابتلاه الله تعالى بما ذكرنا، وأوحى الله تعالى يا سليمان، إني إنما بعثتك وأعطيتك هذا الملك؛ لتنصف المظلومين، وتكون عونا للضعفاء على الأقوياء، ولم أعطك لتحتجب عن الناس.
والقول الخامس: أنه قال مرة: والله لأطوفن الليلة على نسائي، وكان له ثلاثمائة امرأة، وسبعمائة سرية، ولتحملن كل امرأة منهن، وتلد غلاما يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل، فلم تحمل امرأة منهن إلا امرأة واحدة حملت، فولدت نصف إنسان، وابتلاه الله تعالى.
443

* (أنت الوهاب (35) فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب (36)) * * * وهذا خبر مرفوع إلى النبي وعلى هذا القول كان الجسد الذي ألقي على كرسيه هو ولده، وذكر بعضهم: أن سليمان عليه السلام ولد له ابن، فخاف عليه من الشياطين، فأودعه السحاب لتربيه؛ فسقط على كرسيه ميتا، فهو معنى قوله تعالى: * (وألقينا على كرسيه جسدا) والله أعلم.
والقول السادس: ما روي عن الحسن قال: إنه كان أصاب من بعض نسائه في حالة الحيض، فابتلاه الله تعالى بما ذكرنا، والله أعلم بما كان، ولا شك أن الآية تدل على أن الله تعالى قد أقعد على كرسيه غيره، وسلبه شيئا كان له.
وقوله: * (ثم أناب) أي: رجع إلى ملكه.
قوله تعالى: * (قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) فإن قال قائل: كيف قال: * (لا ينبغي لأحد من بعدي) وهل كان هذا حسدا منه لغيره، حتى لا ينال غيره ما نال هو؟
والجواب: أن معنى قوله: * (لا ينبغي لأحد من بعدي) أي: لا يكون لأحد من بعدي على معنى انك تسلبه وتعطيه غيره، كما سلبت من قبل ملكي وأعطيت صخرا.. الخبر.
ويقال: إنما طلب ذلك لتظهر كرامته وخصوصيته عند الله تعالى وقد ثبت برواية أبي هريرة عن النبي أنه قال: ' عرض لي الليلة شيطان، وأراد أن يفسد علي صلاتي؛ فأمكنني الله تعالى منه، فأخذته وأردت أن أربطه حتى تصبحوا فتنظروا إليه، ثم ذكرت قول أخي سليمان * (رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) فتركته، ورده الله خائبا خاسئا '.
وقوله: * (إنك أنت الوهاب) أي: المعطي.
444

* (والشياطين كل بناء وغواص (37) وآخرين مقرنين في الأصفاد (38) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (40) واذكر) * *
قوله تعالى: * (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء) أي: لينة، وقيل: رخاء مطيعة ليست بعاصية.
وقوله: * (حيث أصاب) معناه: حيث أراد، ويقال: إنه كان يغدو بإيلياء، ويقيل بقزوين، ويبيت ببابل، والعرب تقول: أصاب الصواب فأخطأ الجواب أي: أراد الصواب فأخطأ الجواب وقال الشاعر:
(وغيرها ما غير الناس قبلها
* فناءت وحاجات الفؤاد تصيبها)
أي: تريدها، وقوله: * (والشياطين كل بناء وغواص) أي: وسخرنا الشياطين له كل بناء وغواص منهم، وتسخير الريح والشياطين له بعد ابتلائه بما ذكرنا.
وقوله: * (وآخرين مقرنين في الأصفاد) أي: مغلولين في السلاسل، وكان يأخذ [الشيطان] فيقربه بالشيطان ويصفدها في الحديد ويوبقهما في السلاسل ثم يجعلهما في صندوق من حديد، ويلقي الصندوق في قعر البحر.
قوله تعالى: * (هذا عطاؤنا) فيه أقوال: أحدها وهو الأولى أن الملك عطاؤنا لك * (فامنن) أي: أعط من شئت.
وقوله: * (أو امسك) أي: امنع من شئت * (بغير حساب) أي: بغير حرج.
والقول الثاني: * (هذا عطاؤنا) أي: تسخير الشياطين.
وقوله: * (فامنن أو أمسك) أي: أرسل من شئت، واحبس من شئت.
والقول الثالث: * (هذا عطاؤنا) أي: النسوة عطاؤنا. وقوله: * (فامنن أو أمسك) أي: طلق من شئت، واحبس من شئت * (بغير حساب) أي: بغير حرج، قوله تعالى: * (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) أي: حسن مرجع.
445

* (عبدنا أيوب إذ نادى ربه إني مسني الشيطان وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي)
قوله تعالى: * (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسني الشيطان بنصب وعذاب) وقرئ: ' بنصب وعذاب ' بفتح النون والصاد، والنصب والنصيب بمعنى واحد كالحزنن والحزن، ويقال: بنصب في الجسد، وعذاب في المال.
وقد بينا قصة أيوب من قبل وما أصابه من البلاء، وذكرنا مدة بلائه، ويقال: إنه مكث في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وكانت الدواب تجري في جسده، وقد ألقى على مزبلة، وتأذى منه قومه غاية الأذى.
قوله تعالى: * (اركض) أي: اركض الأرض برجلك، فيقال: إنه داس الأرض دوسة، فنبعت عين [ماء]؛ فأمره الله تعالى أن يغتسل منها، فاغتسل فذهب كل داء كان في جسده، ومشى أربعين خطوة، فأمره الله تعالى أن يدوس الأرض برجله دوسة أخرى؛ ففعل؛ فنبعت عين أعذب ما تكون وأبرده؛ فأمره الله تعالى أن يشرب منها؛ فذهب كل داء كان في باطنه، وصار كأصح ما يكون من الرجال وأكملهم؛ فهو معنى قوله تعالى: * (هذا مغتسل بارد وشراب).
قوله تعالى: * (ووهبنا له أهله) قد بينا أن الله تعالى رد عليه أهله وأولاده الذين أهلكهم بأعيانهم، وقد قلنا غير هذا، والقول الأول أشبه بظاهر القرآن، ويقال: إن الأرض انشقت؛ فرأى إبله وبقره وغنمه على هيئتها وخرجت إليه، ورأى أيضا أهله وأولاده كهيئتهم وخرجوا إليه.
وقوله: * (ومثلهم معهم) يقال: [إنهم كانوا سبعة] بنين، وثلاث بنات فأعطاه الله تعالى مثل عددهم، وردهم الله بأعيانهم.
وقوله: * (رحمة منا وذكرى لأولي الألباب) أي: لأولي العقول.
446

* (الألباب (43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار (45)) * *
قوله تعالى: * (وخذ بيدك ضغثا) أي: فقلنا له: وخذ بيدك ضغثا، والضغث: كل ما يملأ الكف من خشب أو حشيش أو غيره.
قوله: * (فاضرب به ولا تحنث) يعني: فاضرب به امرأتك، ولا تحنث في يمينك، وكان سبب يمينه أن المرأة أتته بطعام يوما أكثر مما كانت تأتيه كل يوم؛ فاتهمها بخيانة في نفسها، وكانت بريئة، فحلف ليضربنها [مائة] سوط إذا برأ من مرضه.
ويقال: إن إبليس قعد على طريق المرأة طبيبا يداوي الناس، فمرت به المرأة، وقالت: إن لي مريضا وأحب أن تداويه، فقال لها: أنا أداويه، فلا أريد شيئا سوى أن يقول إذا شفيته: أنت شفيتني، فجاءت إلى أيوب وذكرت له ذلك، فعرف أنه كان إبليس اللعين، فغضب وحلف على ما ذكرنا.
ويقال: إنها باعت ذؤابتيها برغيفين لطعامه، فلما رأى ذلك أيوب عليه السلام غضب وحلف، وهذا قول غريب.
وقوله: * (فاضرب به ولا تحنث) يعني: فاضرب بالضغث الذي يشتمل على مائة عود صغار * (ولا تحنث) أي: ولا تدع الضرب فتحنث، قال مجاهد: هذا لأيوب خاصة، وقال عطاء: له وللناس عامة.
وقوله: * (إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) أي: رجاع إلى طاعة الله. وفي القصة: أن أيوب قيل له: ما أشد ما مر عليك في بلائك؟ فقال: شماتة الأعداء.
قوله تعالى: * (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار) إنما خص هؤلاء الثلاثة؛ لأن الله تعالى ابتلاهم فصبروا، أما ابتلاء إبراهيم فكان بالنار، وابتلاء إسحق كان بالذبح، وأما ابتلاء يعقوب بفقد الولد.
وقوله: * (أولي الأيدي والأبصار) معناه: أولي القوة في الطاعة، وأولي الأبصار
447

* (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (46) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47) واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار (48) هذا ذكر وإن للمتقين) * * * في المعرفة، وقيل: أولي القوة ظاهرا، وأولي الأبصار باطنا، فالقوة قوة الجوارح، والأبصار أبصار القلوب، قال الله تعالى * (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
قوله تعالى: * (إنا أخلصناكم بخالصة ذكرى الدار) وقرئ: ' بخالصة ' من غير تنوين، فأما بالتنوين: فمعناه: بخلة خالصة، وهي ذكرى الدار.
وقيل: إن ذكرى الدار بدل عن قوله: * (خالصة) على هذه القراءة، وأما القراءة بالإضافة، [فمعناها]: أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة، حكى هذا عن أبي زيد، وقال مجاهد: أخلصناهم ما ذكرنا بالجنة لهم.
وعن مالك بن دينار قال ابن عباس: أزلنا عن قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها، وعن بعضهم: وأخلصناهم عن الآفات والعاهات، وجعلناهم يذكرون الدار الآخرة، والأولى في قوله: * (أخلصناهم) أي: جعلناهم مخلصين بما أخبرنا عنهم، وقوله: * (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (واذكر إسماعيل واليسع) إسماعيل: هو إسماعيل بن إبراهيم، وقوله: * (واليسع) اليسع: هو نبي من الأنبياء، ويقال: اليسع هو تلميذ إلياس النبي _ عليه السلام _ ولما رفع الله إلياس _ عليه السلام _ خلف اليسع في قومه، وقوله: * (وذا الكفل) قد بينا، ويقال: إنه رجل كفل لملك بالجنة إن آمن وأطاع الله تعالى وقوله: * (وكل من الأخيار) ظاهر المعنى.
[قوله تعالى: * (هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب)].
448

* (لحسن مآب (49) جنات عدن مفتحة لهم الأبواب (50) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب (51) وعندهم قاصرات الطرف أتراب (52) هذا ما توعدون ليوم الحساب (53) إن هذا لرزقنا ما له من نفاد (54) هذا وإن للطاغين لشر مآب (55) جهنم يصلونها فبئس المهاد (56) هذا فليذوقوه حميم وغساق (57) وآخر) * *
قوله تعالى: * (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) أي: أبوابها.
قوله تعالى: * (متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب) أي: بفاكهة الجنة وشرابها، وذكر كثيرة؛ لأن ما في الجنة كثير لعدم انقطاعه، واتساع وجوده.
قوله تعالى: * (وعندهم قاصرات الطرف) أي: قصرن أطرافهن على أزواجهن، وقوله: * (أتراب) أي: أمثال، ويقال: لدات مستويات الأسنان، وعن مجاهد: أتراب متواخيات لا تتعادين ولا تتباغضن، وقيل: لا تتغايرن، قال يحيى بن سلام: بنات ثلاث وثلاثين سنة، وعن بعضهم: أتراب أي: خلقن على مقادير أزواجهن، وأنشد الشاعر في القاصرات:
(من القاصرات الطرف لو دق محول
* من الذر فوق الإتب منها لأثرا)
قوله تعالى: * (هذا ما توعدون ليوم الحساب) أي: هذا الذي أخبرنا عنه هو ما توعدون ليوم الحساب.
قوله تعالى: * (إن هذا لرزقنا ما له من نفاذ) أي: انقطاع، ومعنى قوله: * (لرزقنا) أي: إعطاؤنا.
قوله تعالى: * (هذا وإن للطاغين لشر مآب) أي: مرجع: والمراد من الطاغين هم الكفار.
وقوله تعالى: * (جهنم يصلونها) أي: يدخلونها، وقيل: يقاسون حرها، وقوله: * (فبئس المهاد) أي: فبئس ما مهدوا لأنفسهم، ويقال: بئس الفراش.
قوله تعالى: * (هذا فليذوقوه حميم وغساق) يقال: في الآية تقديم وتأخير
449

* (من شكله أزواج (58) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار (59)) * * * ومعناه: هذا حميم وغساق فليذوقوه، وأما معنى الحميم فقد بينا، وهو الماء الحار الذي انتهى في الحرارة، وأما الغساق فهو القيح الذي يسيل من جلودهم، وعن السدي قال: الدموع التي تسيل من أعينهم، وحكى بعضهم عن ابن عباس: أنه الزمهرير يحرقهم ببرده، وحكى النقاش: أن الغساق هو المنتن بالتركية، فعرب، وقد قرئ بالتشديد والتخفيف، فبعضهم قال: لا فرق بينهما في المعنى، وبعضهم فرق بينهما ببعض الوجوه التي ذكرناها.
قوله تعالى: * (وأخر من شكله أزواج) وقرئ: ' وآخر من شكله '، فقوله: * (وأخر) يتناول العدد وقوله: * (وأخر) بالمد يتناول الواحد.
وقوله: * (من شكله) أي: مثله، وقوله: * (أزواج) أي: أصناف، وقيل: أنواع. قال الشاعر:
(لما اكتست من ضرب كل شكل
* حمرا وخضرا كاخضرار البقل)
ومعنى الآية: أن لأهل النار أنواعا أخر من العذاب على شكل ما سبق ذكره يعني: في الشدة.
قوله تعالى: * (هذا فوج مقتحم معكم) أي: فوج مقتحم معكم بعد الفوج الأول، والاقتحام هو الدخول، واختلف القول في الفوج الأول والفوج الثاني.
فأحد القولين: الفوج الأول هم بنو إسرائيل، والفوج الثاني هم بنو آدم، ويقال: الفوج الأول هم الرؤساء والقادة، والفوج الثاني هم الأتباع.
وقوله: * (لا مرحبا بهم) الرحب هو السعة، وقول القائل: لا مرحبا بفلان أي: لا رحبت أي: لا اتسعت عليه، قال الشاعر:
(إذا جئت بوابا له قال مرحبا
* ألا مرحبا ناديك غير مضيق)
450

* (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار (60) قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار (61) وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار (62) اتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار (63) إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) * *
وقوله: * (إنهم صالوا النار) أي: داخلوا النار معكم، قوله تعالى: * (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم) يعني: قال الأتباع للقادة بل أنتم لا مرحبا بكم.
وقوله: * (أنتم قدمتموه لنا) أي: قدمتم هذا العذاب لنا بدعائكم إيانا إلى الضلالة والكفر، وقوله: * (فبئس القرار) أي: فبئس دار القرار النار.
وقوله تعالى: * (قالوا ربنا من قدم لنا هذا) أي: قال الأتباع: ربنا من قدم لنا هذا؟ وقوله: * (فزده عذابا ضعفا في النار) أي: ضاعف عليه العذاب في النار.
قوله تعالى: * (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار) قال ابن عباس: يقول أبو جهل وذووه حين يدخلون النار: أين بلال؟ أين عمار؟ أين خباب؟ وفلان وفلان؟
وعن بعضهم قال: أهل النار يقولون هذا حين يفقدون أهل الجنة.
وقوله: * (كنا نعدهم من الأشرار) قال بعضهم: من الأرذال، وقال بعضهم: كنا نعدهم من شرار قومنا؛ لأنهم قد تركوا دين آبائهم.
قوله تعالى: * (اتخذناهم سخريا) أي: كنا سنخر منهم، وقرئ: ' اتخذناهم سخريا ' على الاستفهام، قال أهل المعاني: والقراءة الأولى أولى، لأنهم قد علموا حقيقة الأمور في القيامة، فلا يتصور منهم الاستفهام، وقال الفراء: الألف في قوله: * (اتخذناهم) ألف التوبيخ والتعجب، والعرب تذكر مثل هذه الألف على طريق التوبيخ والتعجب.
وقوله: * (أم زاغت عنهم الأبصار) أي: مالت عنهم الأبصار، ومعناه: أنهم معنا في النار ولا نراهم.
451

(* (64) قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار (65) رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار (66) قل هو نبأ عظيم (67) أنتم عنه معرضون (68) ما كان) * *
قوله تعالى: * (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) أي: مراجعة بعضهم بعضا القول بمنزلة المتخاصمين.
قوله تعالى: * (قل أنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار) أي: أنا الرسول المنذر، والله الواحد القهار [القاهر] عباده بما يريد.
قوله تعالى: * (رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار) أي: المنيع في ملكه، الغفار لذنوب عباده.
قوله تعالى: * (قل هو نبأ عظيم) أي: القرآن نبأ عظيم، وقيل: ذو شأن عظيم، وأول بعضهم النبأ العظيم بالقيامة، وقوله: * (أنتم عنه معرضون) أي: عنه لاهون، وله تاركون.
قوله تعالى: * (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصون) ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المراد بالملأ الأعلى هم الملائكة، وهذا قول ابن عباس وغيره.
وقوله: * (إذ يختصمون) قال ابن عباس رضي الله عنه هو قولهم لله تعالى في أمر آدم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) الآية إلى آخرها.
وأما المأثور عن النبي في الآية فهو ما رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه ' أن النبي احتبس عنا ذات غداة حتى كدنا نتراءى عين الشمس، ثم خرج سريعا، وثوب بالصلاة، وصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم قال: هل تدرون بما احتبست عنكم؟ فقلنا: لا. فقال: إني قمت من الليل وتطهرت وصليت ما شاء الله، ثم نعست واستثقلت،
452

* (لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون (69) إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين)) * * فإذا ربي في أحسن صورة.
فقال: يا محمد، قلت: لبيك.
فقال: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا
فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في ثندوتي؛ فتجلى لي كل شيء، وعرفته.
ثم قال لي: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟
فقلت: نعم في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: في مشي الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء على المكروهات، والجلوس في المساجد بعد الصلاة.
قال: وفيم أيضا؟
قلت: في إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام.
فقال لي: سل يا محمد.
فقلت: أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وأسألك حبك، وحب من يجبك وحب عمل يقربني إلى حبك.
ثم قال النبي: ' إنهن حق فادرسوهن وتعلموهن ' قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث صحيح، وقد روى هذا الخبر بوجوه أخر، ولم يذكر في بعضها النوم، وأصحها هذه الرواية، والله أعلم.
وفي الآية قول آخر: أن الملأ الأعلى هم أشراف قريش واختصامهم أن بعضهم قالوا: الملائكة بنات الله، وبعضهم قالوا غير ذلك، فهو اختصامهم، والأصح هو القول الأول.
453

(* (70) إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (73) إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين (74) قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين (75) قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * *
واختصام الملائكة هو كلامهم في هذه الأعمال، وأقدار المثوبة فيها، وزيادة بعض الأعمال على البعض في الثواب.
قوله تعالى: * (إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين) أي: ما يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين.
قوله تعالى: * (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين) يعني: آدم صلوات الله عليه قوله تعالى: * (فإذا سويته) أي: جمعت خلقه وأتممته.
وقوله: * (ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) قد بينا، قوله تعالى: * (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) قد بينا.
وقوله: * (أستكبرت) أي: تعظمت، وقوله: * (أم كنت من العالين) أي: من القوم المتكبرين، قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة، وكان خازن الجنان، وأمين السماء الدنيا، فأعجبته نفسه، ورأى أن له فضلا على غيره، فلما أمره الله تعالى بالسجود لآدم امتنع لذلك الذي كان في نفسه.
قوله تعالى: * (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) وإنما قال إبليس هذا لأنه [ظن] أن الدنيا فضلا على الطين، ولم يكن على ما ظن، بل الفضل لمن أعطاه الله الفضل.
قوله تعالى: * (قال فأخرج منها فإنك رجيم) أي: مرجوم، والمرجوم: هو المبعد
454

(* (76) قال فأخرج منها فإنك رجيم (77) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (79) قال فإنك من المنظرين (80) إلى يوم الوقت المعلوم (81) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83) قال فالحق والحق أقول (84) لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85) قل) * * باللعنة، قوله تعالى: * (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) أي: إلى يوم القيامة، وقيل: إلى يوم الحساب.
قوله تعالى: * (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون) أي: أمهلني، وقوله: * (قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) أي: إلى نفخ الصور، وهو النفخة الأولى، وإنما أراد اللعين أن يمهل إلى النفخة الثانية فينجو من الموت، فعلم الله تعالى مراده، فلم يجبه إلى مراده، وأمهله إلى أن ينفخ في الصور للنفخة الأولى، ويموت الخلق فيموت معهم.
قوله تعالى: * (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين) أي: لأضلنهم أجمعين.
وقوله تعالى: * (إلا عبادك منهم المخلصين) أي: الذين أخلصتهم لنفسك.
قوله تعالى: * (قال فالحق والحق أقول) وقرئ: ' فالحق والحق أقول '، أما القراءة بالنصب فيهما فعلى معنين:
أحدهما: حقا حقا أقول: والمعنى الثاني: أن الأول نصب على معنى أقول الحق، والثاني: نصب على الإغراء كأنه قال: الزموا الحق، ذكره الأزهري، وأما القراءة الثانية قوله: * (فالحق) أي: أنا الحق، وقيل: مني الحق، وقوله: * (والحق) أي: أقول الحق، وقوله: * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) ظاهر المعنى.
قوله: * (قل ما أسألكم عليه من أجر) أي: من جعل، وقوله: * (وما أنا من المتكفلين) أي: لم أقل ما قلته من تلقاء نفسي، وكل من قال شيئا من تلقاء نفسه فقد تكلف له.
455

* (ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (86) إن هو إلا ذكر للعالمين (87) ولتعلمن نبأه بعد حين (88).) * *
قوله تعالى: * (إن هو إلا ذكر للعالمين) أي: ما هو إلا ذكر للعالمين أي: شرف للعالمين تذكير لهم.
قوله تعالى: * (ولتعلمن نبأه بعد حين) أي: يوم القيامة، ويقال: بعد الموت، وقيل: يوم بدر، وكان الحسن البصري يقول: يا ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر.
456

بسم الله الرحمن الرحيم
* (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (1) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين (2) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما) * *
تفسير سورة الزمر
ويقال: سورة الغرف، وهي مكية إلا قوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث) وإلا قوله تعالى: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) وعن وهب بن منبه أنه قال: من أحب أن يعرف قضاء الله تعالى بين خلقه، فليقرأ سورة الغرف.
قوله تعالى: * (تنزيل الكتاب) الآية. معناه: هذا تنزيل الكتاب، ويقال: تنزيل الكتاب، مبتدأ، وخبره ' من الله '، وقوله: * (العزيز الحكيم) أي: العزيز في ملكه، الحكيم في أمره.
قوله تعالى: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) أي: بما حق إنزاله لما حكمت بذلك في كتب المتقدمين، ويقال: بالحق أي: بحقي عليك وعلى جميع خلقي.
وقوله * (فاعبد الله مخلصا له الدين) الإخلاص هو التوحيد، ويقال: الإخلاص هو تصفية النية في طاعة الله تعالى.
وقوله: * (ألا لله الدين الخالص) أي: الدين الذي ليس فيه شرك هو لله أي: واقع برضاه، وأما الدين الذي فيه شرك فليس لله، وإنما ذكر هذا؛ لأنه قد يوجد دين ولا توحيد ولا إخلاص منه، ويقال: * (ألا لله الدين الخلاص) يعني: هو ينبغي أن يوحد، ولا يشرك به سواه، وهذا لا ينبغي لغيره، وعن قتادة قال: ألا لله الدين الخالص: هو قول القائل لا إله إلا الله.
قوله تعالى: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء) أي: من دون الله أولياء * ([ما] نعبدهم) قرأ ابن عباس [وابن] مسعود ومجاهد قالوا: * (ما نعبدهم)، وفي
457

* (عبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (3) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لأصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار (4) خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو) * * حرف أبي بن كعب: * (ما نعبدكم)، والمعنى على القراءة المعروفة أي: قالوا ما نعبدهم، أو يقولون: ما نعبدهم أي: ما نعبد الملائكة * (إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أي: القربة.
ومعنى الآية: انهم يشفعون لنا عند الله.
وقوله: * (إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون) يعني: يوم القيامة.
قوله تعالى: * (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) أي: كاذب على الله، كفار بنعم الله تعالى.
قوله تعالى: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى) أي لاختار * (مما يخلق) ثم نزه نفسه، فقال: * (سبحانه) يعني: لا ينبغي له أن يفعل، ولا يليق بطهارته.
وقوله: * (هو الله الواحد القهار) أي: الواحد في ذاته، القهار لعباده.
قوله تعالى: * (خلقكم من نفس واحدة) أي: آدم، وقوله: * (وخلق منها زوجها) أي: حواء، وقد بينا أنه خلقها من ضلع من أضلاعه.
وقوله: * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) أي: وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج، وهو مثل قوله تعالى: * (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم) أي: خلقنا، ومثل قوله: * (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) أي:
458

* (العزيز الغفار (5) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6) إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا) * * * خلقنا، وفي بعض التفاسير: أن الله تعالى خلق الأنعام في سماء الدنيا [ثم]. أنزلها إلى الأرض، وهي ثمانية أزواج: جمل وناقة، وثور وبقرة، وكبش ونعجة، وتيس وعنز.
وفي تفسير النقاش: أن الله تعالى أنزل على آدم المعلاة والمطرقة والكلبتين، وكان على جبل، فرأى قضيبا ثابتا من حديد؛ فأخذه وضرب به الأشجار، وكانت يابسة، فتكسرت يعني: الأشجار ثم أورى نارا من الحديد والحجر، وأوقد بالأشجار على الحديد حتى ذاب، ثم ضرب منه مدية، ثم بعد ذلك اتخذ منه تنورا، وهو التنور الخابزة، وذلك أول ما اتخذه آدم.
وقوله: * (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) أي: نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما.
وقوله: * (في ظلمات ثلاث) قال ابن عباس: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. وعن بعضهم: ظلمة الصلب، وظلمة الرحم، وظلمة البطن، وهذا لأن الولد يخلق حين يخلق في الرحم، ثم يرتفع إلى البطن.
قوله تعالى: * (ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون) أي: عن الحق، قوله تعالى: * (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر) فيه قولان: أحدهما: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر.
والآخر: أنه لا يرضى لجميع عباده الكفر، وعلى هذا القول فرق بين الإرادة وبين الرضا، فقال: إن المعاصي بإرادة الله تعالى وليست برضاه ومحبته، وقد نقل هذا
459

* (يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور (7) وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله) * * * عن قتادة، وكلا القولين محتمل.
والثاني هو الأولى والأقرب بمذهب السلف.
وقوله: * (وإن تشكروا يرضه لكم) أي: يختار الشكر لكم، وقوله: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أي: لا يحمل على أحد ذنب أذنبه غيره، وقوله: * (ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور).
قوله تعالى: * (وإذا مس الإنسان ضر) أي: بلاء وشدة * (دعا ربه منيبا إليه) راجعا إليه، وقوله: * (ثم إذا خوله) أي: أعطاه، قال الشاعر: (أعطى فلم يبخل ولم يبخل
* كوم الذرى من خول المخول)
وقوله: * (نعمة منه) أي: عطية منه، وقوله: * (نسي ما كان يدعو إليه من قبل) أي: نسي دعاءه الذي كان يدعو من قبل، ويقال: نسي الله الذي كان يدعوه من قبل.
وقوله: * (وجعل لله أندادا) أي: وصف الله بالأنداد والأشباه، وقوله: * (ليضل عن سبيله) أي: عن سبيل الحق.
وقوله: * (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) أي: يوم القيامة. قال أهل التفسير: نزلت هذه الآية في أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله المخزومي، وقيل: في كل كافر.
قوله تعالى: * (أمن هو قانت) وقرئ: ' أمن هو قانت ' أي: مطيع، وقيل: قائم، وقوله: * (آناء الليل) أي: ساعات الليل، وقوله: * (ساجدا وقائما) أي: ساجدا على وجهه، قائما على رجليه كمن ليس حاله هذا، وهو ما ذكرنا من قبل، وقيل: أهذا أفضل أو هذا؟ وأما القراءة بالتخفيف ففيه قولان:
460

* (أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار (8) أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب (9) قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا) * *
أحدهما أمن هو قانت كمن ليس بقانت، والقول الآخر: معناه: يا من هو قانت عل النداء، قال الشاعر: (أبني لبينى لستم بيد
* إلا يدا ليست لها عضد)
أي: يا بني لبيني، واختلف القول في أن الآية فيمن نزلت، فعن ابن عمر. أنها نزلت في عثمان بن عفان، وعن الضحاك: أنها نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وحكى الكلبي: أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان، وفي بعض الروايات: أبو ذر وصهيب معهم.
وقوله: * (يحذر الآخرة) أي: يخاف الآخرة (ويرجو رحمة ربه) أي: يطمع في رحمة ربه.
وقوله: * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) بمعنى: لا يستوون، ويقال: الذين يعلمون هم المؤمنون، والذين لا يعلمون هم الكفار، ويقال: الذين يعلمون العلماء، والذين لا يعلمون الجهال.
وحكى النقاش في تفسيره عن أبي جعفر محمد بن علي الباقرأنه قال: الذين يعلمون محبونا وشيعتنا، والذين لا يعلمون أعداؤنا، وقوله: * (إنما يتذكر أولو الألباب) أي: أولو العقول.
قوله تعالى: * (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم) أي: احذروا ربكم وخافوه.
وقوله: * (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) أحسنوا أي: آمنوا، ويقال: أحسنوا بطاعة الله، وقوله: * (في هذه الدنيا حسنة) أي: الصحة والعافية، وقيل: الرزق الواسع، ويقال: العيش في طاعة الله.
461

* (ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (10) قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين (11) وأمرت لأن أكون أول المسلمين (12) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (13) قل) * *
وقوله: * (وأرض الله واسعة) قال سعيد بن جبير: من أمر بالمعاصي فليهرب، وفي الآية أمر بالهجرة عن البلد الذي تظهر فيه المعاصي إلى بلد لا تظهر فيه المعاصي، ويقال فيه: أرض الله واسعة أي: المدينة، فأمر بالمهاجرة من مكة إلى المدينة، ويقال: نزلت الآية في جعفر بن أبي طالب وأصحابه، حيث هاجروا من مكة إلى الحبشة.
وقوله: * (إنما يوفى الصابرون) أي: الغربة والخروج من الوطن فرارا بدينهم * (أجرهم بغير حساب) أي: بغير تقدير، وفي الخبر أن النبي قال: ' لما أنزل الله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) رب زد أمتي، فأنزل الله تعالى: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل) ثم قال: زد
أمتي؛ فأنزل الله تعالى: * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وعن علي رضي الله عنه قال: كل مطيع يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصابرون؛ فإنهم يحثى لهم حثيا.
قوله تعالى: * (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) أي: مخلصا له التوحيد، وإخلاص التوحيد: أن لا تشرك به غيره.
وقوله: * (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) أي: أول المسلمين من قريش، قوله
462

* (الله أعبد مخلصا له ديني (14) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين (15) لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون (16) والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد (17) الذين) * * تعالى * (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) أي: عصيت ربي بالشرك. وقيل بالشرك وغيره، ويجوز أن يكون الخطاب معه، والمراد به الأمة.
قوله تعالى: * (قل الله أعبد مخلصا له ديني) أي: توحيدي، وقوله: * (فاعبدوا ما شئتم من دونه) هذا على طريق التهديد والوعيد.
وقوله: * (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) فإن قال قائل: أيش معنى خسران الأهلين؟
قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: أنه ما من أحد إلا وباسمه أهل في الجنة، فإذا كفر وأدخل النار خسر أهله على معنى أنه يعطي الذي كان باسمه غيره.
والوجه الثاني: أن خسران النفس بإدخاله النار، وخسران الأهل بأن يفرق بينه وبين أهله.
وقوله: * (ألا ذلك هو الخسران المبين) أي: البين، قوله تعالى: * (لهم من فوقهم ظلل من النار) والظلل: جمع الظلة، والظلة: الجبل، والمراد من قوله: ' ظلل ' كثرة العذاب، وقوله: * (ومن تحتهم ظلل) قد بينا.
وقوله: * (ذلك يخوف الله به عباده) أي: يحذرهم.
وقوله: * (يا عباد فاتقون) أي: فاحذروا عذابي.
قوله تعالى: * (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) أي: الشيطان، ويقال: الطاغوت اسم أعجمي، وقيل: اسم عربي مشتق من الطغيان.
وقوله: * (وأنابوا إلى الله) أي: رجعوا إلى الله.
463

* (يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب (18) أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار (19) لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله) * *
وقوله: * (لهم البشرى) أي: البشارة بالجنة، وقوله: * (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
في الآية أقاويل:
أحدها: يستمعون القول أي: القرآن، فيتبعون أحسنه، والأحسن هو العفو، والانتصار على الظالم مذكور في القرآن، والعفو مذكور، والعفو أحسن الأمرين.
والقول الثاني: يستمعون القول أي: يستمعون القرآن وغير القرآن.
وقوله: * (فيتبعون أحسنه) أي: القرآن، وقال بعضهم: يستمعون الرخص والعزائم، فيتبعون أحسنها أي: العزائم.
والقول الرابع: يستمعون القول أي: الكلام، فيتبعون أحسنه أي: قول لا إله إلا الله، وقوله: * (أولئك الذين هداهم الله) أي: أرشدهم الله إلى الحق.
وقوله: * (وأولئك هم أولوا الألباب) أي: أولوا العقول.
قوله تعالى: * (أفمن حق عليه كلمة العذاب) كلمة العذاب: قوله تعالى: * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) ويقال: كلمة العذاب: قوله ' هؤلاء في النار ولا أبالي '.
وقوله: * (أفأنت تنقذ من في النار) أي: لا تنفذه، قوله تعالى: * (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد) أي: ميعاده.
قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض) أي:
464

* (الميعاد (20) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب (21) أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم) * * أجراه أنهارا في الأرض.
وقوله: * (ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه) أي: أصفر وأحمر وأخضر.
وقوله: * (ثم يهيج) أي: ييبس، يقال: هاج النبات إذا يبس.
وقوله: * (فتراه مصفرا) أي: ترى النبات مصفرا، وقوله: * (ثم يجعلهه حطاما) أي: فتاتا، وقوله: * (إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب) ظاهر المعنى، والذكرى هي: التذكرة.
قوله تعالى: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) أي: وسع الله صدره للإسلام.
وقوله: * (فهو على نور من ربه) في الخبر: أن النبي قال: ' إذا دخل النور في قلب المؤمن انشرح وأنفسح، قيل يا رسول الله، وهل لذلك من علامة؟ قال: نعم؛ التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل حلول الموت '.
وقوله: * (فهو على نور من ربه) يحتمل أن يكون النور قبل أن يسلم، ويحتمل أن يكون بعد الإسلام، ثمرة إسلامه، وأما شرح الصدر: هو التوطئة للإسلام والتمهيد له.
وقوله: * (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) أي: الذين لا يذكرون الله، وكل من ترك ذكر الله فقد قسا قلبه، قوله: * (أولئك في ضلال مبين) أي: بين.
465

* (من ذكر الله أولئك في ضلال مبين (22) الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى) * *
قوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث) أي: القرآن، وسماه حديثا؛ لأنه حديث إنزاله، وقيل: ' الله نزل أحسن الحديث ' أي: أحسن الكلام.
وقد ورد في الأخبار: ' فضل كلام الله على كلام خلقه كفضله على خلقه '.
وقوله: * (كتابا متشابها) أي: يشبه بعضه بعضا في الصدق وصحة المعنى، ويقال: متشابها أي: الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة.
وقوله: * (مثاني) أي: ثنى فيه ذكر الوعد والوعيد، وذكر الأمر والنهي، ويقال: مثاني أي: الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة.
وقوله: * (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) أي: قلوب الذين يخشون ربهم؛ فكنى بالجلود عن القلوب، ويقال: معنى الجلود هي نفس الجلود، وفي بعض الآثار: ' من أخذته قشعريرة من خوف الله تعالى تحاتت عنه خطاياه كما يتحايت ورق الشجر '.
وقوله: * (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) أي: بذكر الله، وحقيقة
466

* (الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد (23) أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون (24) كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (25) فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (26) ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون (27) قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون (28) ضرب الله) * * المعنى: أن قلوبهم تقشعر عند الخوف، وتلين عند الرجاء.
وقوله: * (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء) أي: من يشاء من عباده، وقوله: * (ومن يضلل الله فما له من هاد) أي: من مرشد.
قوله تعالى: * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة) فيه قولان: أحدهما: أنه سحب في النار سحبا على وجهه.
والقول الآخر: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب؛ لأن يد الكافر تكون مغلولة، فيتقي بوجهه العذاب، كما يتقي الرجل بيده.
وقوله: * (وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون) ظاهر المعنى.
وقوله: * (كذب الذين من قبلهم) أي: بالقيامة، وقوله: * (فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) أي: لا يعلمون.
قوله تعالى: * (فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا) أي: العذاب الذي يخزيهم، وقوله: * (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) أي: عذاب الآخرة وهو عذاب النار أكبر من كل عذاب.
قوله تعالى: * (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) أي: شبه ومثال، وقوله: * (لعلهم يتذكرون) أي: يتذكرون ما فيه من الأمثال.
قوله تعالى: * (قرآنا عربيا غير ذي عوج) أي: أنزلنا قرآنا عربيا غير ذي عوج أي: غير ذي لبس، قال مجاهد: ويقال: غير مختلف؛ لأن بعضه يصدق البعض، وروى الوالبي عن ابن عباس أنه قال: غير ذي عوج أي: غير مخلوق، وحكى سفيان بن
467

* (مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (29) إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم) * * عيينة عن سبعين من التابعين: أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق، وهذا اللفظ أيضا منقول عن علي بن الحسين زين العابدين، وقوله: * (لعلهم يتقون) أي: يتقون الله.
قوله تعالى: * (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون) أي: متعاسرون، وقوله: * (ورجلا سلما لرجل) أي: سلما خالصا لرجل، وهذا ضرب مثل للمؤمن والكافر؛ فإن الكافر يعبد أصناما كثيرة، والمؤمن لا يعبد إلا الله وحده.
وقوله: * (هل يستويان مثلا) أي: شبها، وقوله: * (الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) معناه: الحمد لي على ما بينته من الحق، وقوله: * (بل أكثرهم لا يعلمون) أي: الكفار.
قوله تعالى: * (إنك ميت وإنهم ميتون) أي: ستموت، والميت والميت واحد، وفرق بعضهم بينهما؛ فقال: الميت: هو الذي مات حقيقة، والميت هو الذي سيموت؛ قال الشاعر:
(ليس من مات فاستراح بميت
* إنما الميت ميت الأحياء)
وفائدة الآية أن الله تعالى بين أن محمدا يموت لما علم من اختلاف أصحابه في موته.
قوله تعالى: * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) ظاهر المعنى.
وفي بعض المسانيد برواية الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه قال لرسول الله حين نزلت هذه الآية: * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون): ' يا رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا من خواص الذنوب؟ قال رسول الله: نعم،
468

* (تختصمون (31) فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (32) والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33)) * * فقال الزبير: إن الأمر إذا لشديد '.
وعن عبد الله بن عمر أنه قال: لما نزلت هذه الآية: * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) لم ندر ما هذه الخصومة حتى وقع بين أصحاب رسول الله ما وقع؛ فعرفنا أنها هي.
قوله تعالى: * (فمن أظلم ممن كذب على الله) قال مجاهد وقتاة: كذبهم على الله: زعم اليهود أن عزيرا ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله.
وقال بعضهم: كذبهم على الله: تكذيب أنبياء الله، وقال السدي: هو الشرك، وزعم قريش أن الملائكة بنات الله.
وقوله: * (وكذب بالصدق إذ جاءه) أي: بالقرآن إذ جاءه، ويقال: بالرسول إذ جاءه. وقوله: * (أليس في جهنم مثوى للكافرين) استفهام بمعنى التقرير.
قوله تعالى: * (والذي جاء بالصدق وصدق به) أظهر الأقاويل: أن معنى قوله: * (والذي جاء بالصدق) محمد * (وصدق به) هم المؤمنون. وفي قراءة عبد الله ابن مسعود: ' والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به ' ومعنى قوله: * (والذين جاءوا بالصدق) هم المؤمنون * (وصدقوا به) أي: صدقوا به في الدنيا، وجاءوا بالصدق في الآخرة، وأول مجاهد القراءة المعروفة على هذا.
قال أهل اللغة: وقد يذكر الذين والذي بمعنى واحد، قال الشاعر:
469

* (لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي) * *
(وإن الذي جاثت بفلح دماؤهم
* هم القوم كل القوم يا أم خالد)
والقول الثاني في الآية: أن الذي جاء بالصدق هو جبريل - عليه السلام - وصدق به هو محمد.
والقول الثالث: والذي جاء بالصدق محمد وصدق به أبو بكر - رضي الله عنه - قاله عوف بن عبد الله وغيره.
والقول الرابع: والذي جاء بالصدق محمد، وصدق به علي - رضي الله عنه - حكاه ليث عن مجاهد وقوله: * (أولئك هم المتقون) ظاهر المعنى.
قوله تعالى: * (لهم ما يشاءون عند ربهم) أي: ما يختارون.
هذه الآية تدل على النائم قد خرجت الروح من جسده، ونحن نعلم قطعا أن الروح في جسده، ألا ترى أنه يتنفس ويرى الرؤيا، وذلك لا يكون إلا مع قيام الروح؟
والجواب عنه: أن النفس على وجهين: أحدهما: النفس المميزة التي تكون لها إدراك الأشياء.
والآخر: هي النفس التي بها الحياة، وفي الخبر: ' أن النبي قال: ' كما تنامون تموتون، وكما تستيقظون تبعثون '.
ويقال: للإنسان نفس وروح، فعند النوم تخرج النفس وتبقى الروح، وهذا القول قريب من القول الأول.
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد؛ فبذلك ترى الرؤيا، وإذا نبه من النوم عادت الروح إلى جسده بأسرع من اللحظة، والله أعلم.
وقد ثبت عن النبي أنه كان يقول عند النوم: ' اللهم إنك تتوفاها؛ فإن
470

* (عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (35) أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام (37) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (38) قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون (39) من يأتيه عذاي يجزيه ويحل عليه عذاب مقيم (40) إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل (41) الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (42) أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو) * * أمسكتها فاغفر لها وارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين '.
وقوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) أي: لعبرا لقوم يتفكرون في آياتنا.
قوله تعالى: * (أم اتخذوا من دون الله شفعاء) أي: أصناما تشفع لهم، وهذا على طريق الإنكار والتوبيخ.
وقوله: * (قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون) أي: طلبوا الشفاعة ممن لا يملك شيئا ولا يعقل، قوله تعالى: * (قل لله الشفاعة جميعا) معناه: أنه لا يشفع أحد إلا بإذنه، فالشفاعة من عنده؛ لأنها لا تكون إلا بإذنه.
وقوله: * (له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون) ظاهر المعنى.
وروي أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي: لله خلق السماوات وما فيهن،
471

* (كانوا لا يمكلكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون (44) وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (45) قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون (46)) * * وخلق الأرض وما فيهن، وخلق ما بينهم مما يعلم ومما لا يعلم.
قوله تعالى: * (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت) أي: نفرت وانقبضت، وقوله: * (قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) أي: الكفار.
وفي التفسير: أن رسول الله كان إذا قال: لا إله إلا الله نفروا جميعا (عن) قوله.
وقوله: * (وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) أي: يفرحون، ويقال: إن هذه الآية نزلت حين ألقى الشيطان على لسان النبي من ذكر الأصنام بالشفاعة، وهو قوله: تلك الغرانيق العلى على ما ذكرنا، فهو معنى قوله: * (إذا هم يستبشرون) لأنهم لما سمعوا ذلك استبشروا وفرحوا، وقالوا للنبي: يا محمد، ما كنا نريد منك إلا هذا، وهو ألا تعيب آلهتنا، ولا تذكرها إلا بالخير، وإلا فنحن نعلم أن الله خالق السماوات والأرض.
قوله تعالى: * (قل اللهم فاطر السماوات والأرض) أي: خالق السماوات والأرض * (عالم الغيب والشهادة) أي: السر والعلانية.
وقوله: * (أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون) أي: من أمر دينهم، وعن بعضهم قال: صحبت الربيع بن خثيم كذا كذا سنة، فلم أسمع منه كلاما إلا ذكر الله تعالى، فلما قتل الحسين - رضي الله عنه - قلنا: الآن يتكلم بشيء؛ فأخبر بذلك؛ فلما سمع قرأ هذه الآية: * (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة) الآية.
472

* (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (47) وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (48) فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون (49) قد قالها الذين) * *
قوله تعالى: * (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به) قد بينا هذا من قبل، وقد ثبت عن النبي: ' أن الله تعالى يقول يوم القيامة للكافر: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا، أكنت مفتديا بها؟ فيقول: نعم. فيقول الله تعالى: سألتك أهون من ذلك وأنت في صلب أبيك أن لا تشرك بي شيئا؛ فأبيت إلا أن تشرك بي '.
وقوله: * (من سوء العذاب يوم القيامة) أي: من العذاب القبيح والشديد يوم القيامة، وقوله: * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) أي: ظهر لهم من الله ما لم يأملوه، ولم يكن في حسابهم وظنهم، وروى أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت؛ فسئل عن ذلك؛ فقال: أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسب.
وقوله: * (وبدا لهم سيئات ما كسبوا) أي: ظهر لهم مساوئ أعمالهم. وقوله: * (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) أي: نزل بهم جزاء ما كانوا به يسخرون.
قوله تعالى: * (فإذا مس الإنسان ضر) أي: شدة وبلية، وقوله: * (دعانا) أي: طلب منا كشفه، وقوله: * (ثم إذا خولناه نعمة منا) أي: أعطيناه نعمة منا.
وقوله: * (قال إنما أوتيته على علم) أي: أعطيته على علم أي: لعلمي وجهدي، ويقال: أعطيته على علم الله منه - جل جلاله - أني أهل لما أعطانيه، ويقال: على شرف مني وكرامة لي.
وقوله: * (بل هي فتنة) أي: اختبار وبلية، وقوله: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي: لا يعلمون أن ما نعطي من النعمة اختبار وبلية.
473

* (من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50) فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين (51) أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (52) قل يا عبادي) * *
قوله تعالى: * (قد قالها الذين من قبلهم) أي: قال هذه الكلمة الذين من قبلهم، وفي التفسير: أن المراد من هذا هو قارون، فإنه قال: إنما أوتيته على علم عندي.
وقوله: * (فما أغنى عنهم ما يكسبون) أي: لم يغن عنهم ما اكتسبوا شيئا.
قوله تعالى: * (فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا) أي: يصيب الكفار من هذه الأمة من البلاء والعقوبة ما أصاب الأمم الماضية.
وقوله: * (وما هم بمعجزين) أي: بفائتين ولا سابقين.
قوله تعالى: * (أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) يبسط أي: يوسع، ويقدر أي: يقلل.
وفي بعض الأخبار ((أن الله يخير لعبده، فإن كان الخيرة له في التوسع وسع عليه، وإن كان الخيرة له في التضيق ضيق عليه)) (1).
وقوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) أي: يصدقون.
قوله تعالى: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) يقال: نزلت الآية في
474

* (الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو) * * وحشي مولي مطعم بن عدي، ويقال: نزلت في قوم من رؤساء الكفار أسلموا يوم فتح مكة مثل: سهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وغيرهم.
وفي التفسير: أنهم قالوا: إن محمدا يقول: من أشرك بالله أو زنا أو قتل نفسا فقد هلك، ونحن قد فعلنا هذا كله؛ فكيف يكون حالنا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى أن وحشيا لما أسلم كان النبي لا يطيق أن يراه؛ فظن وحشي أن إسلامه لم يقبل؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى ثوبان عن النبي أنه قال: ' ما يسرني بهذه الآية الدنيا وما فيها '
وعن زيد بن علي رضي الله عنهما أنه قال: هذه الآية أوسع آية في القرآن.
وعن عبيد بن عمير: أن آدم صلوات الله عليه قال: يا رب، إنك سلطت إبليس علي وعلى ولدي، وإني لا أطيقه إلا بك.
فقال: يا آدم، إنه لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه، فقال: يا رب، زدني فقال: باب التوبة مفتوح على ولدك لا يغلق حتى تقوم الساعة.
قال: يا رب، زدني، قال: الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها.
قال: يا رب، زدني، قال: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) الآية.
475

* (الغفور الرحيم (53) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون (54) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة) * *
وقرأ ابن مسعود: ' لا تأيسوا من رحمة الله '، وهو معنى قوله: * (لا تقنطوا).
وقوله: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) ظاهر المعنى، قال أهل التفسير: يغفر الذنوب جميعا إن شاء.
وروى أنه لما نزلت هذه الآية؛ قال رجل: ' يا رسول الله، ومن أشرك؟ فسكت النبي، ثم قال: ومن أشرك؟ قال: إلا من أشرك '.
وروى أن عبد الله بن مسعود مر بقاص يقص، ويشدد على القوم فقال: أيها الرجل، لا تفعل كذلك، وقرأ هذه الآية: ' قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ' الآية.
وروى شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد. ' أن النبي قرأ: ' قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي ' ذكره أبو عيسى في جامعه.
قوله تعالى * (وأنيبوا إلى ربكم) معناه: وارجعوا إلى ربكم، وقوله: * (وأسلموا له) أي: وأخلصوا له، ويقال: واستسلموا له، وقوله: * (من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) أي: لا تمنعون.
قوله تعالى: * (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) قد بينا معنى الأحسن فيما سبق، ويقال: * (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) أي: الحسن الذي أنزل إليكم من ربكم.
476

(وأنتم لا تشعرون (55) أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين (56) أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين (57) أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين (58) بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين (59) ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على) * *
وقوله: * (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة) أي: فجأة * (وأنتم لا تشعرون) أي: لا تعلمون.
قوله تعالى: * (أن تقول) معناه: واتبعوا طاعة الله حذرا وحذارا من أن تقول * (نفس يا حسرتا) أي: يا ندامتا، ويقال: معنى قوله: * (يا حسرتا) أي: يا [أيتها] الحسرة هذا وقتك.
وقوله: * (على ما فرطت في جنب الله) أي: ضيعت في ذات الله.
وقال مجاهد: في أمر الله، وقال الحسن: في طاعة الله، وقيل: في ذكر الله، وقال بعضهم: على ما فرطت في الجانب الذي يؤدي إلى رضى الله تعالى، وقيل: ' في جنب الله ' أي: في قرب الله وجواره، حكاه النقاش وغيره.
وقوله: * (وإن كنت لمن الساخرين) أي: من المستهزئين.
قوله تعالى: * (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) معناه: على الوجه الذي بينا من الحذار.
قوله تعالى: * (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة) أي: رجعة.
وقوله: * (فأكون من المحسنين) أي: المحسنين في طاعة الله.
قوله تعالى: * (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت) أي: تكبرت، وقوله: * (وكنت من الكافرين) أي: الجاحدين لنعمي.
وقوله: * (بلى) في الابتداء تقدير تحسراتهم وتأسفهم ونداماتهم على ما سبق.
477

* (الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (60) وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون (61) الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل (62) له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون (63) * *
قوله تعالى: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على وجوههم مسودة) ومعنى كذبوا على الله أي: زعموا أن الله اتخذ ولدا أو شريكا، ويقال: هو عام في كل كذب على الله.
وقوله: * (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) هو استفهام بمعنى التقرير، قوله تعالى: * (وينجي الله الذين اتقوا بمفازاتهم) أي بالطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة.
وقوله: * (لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) ظاهر.
قوله تعالى: * (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) أي: حافظ، ويقال مدبر الأمور على مشيئته.
قوله تعالى: * (له مقاليد السماوات والأرض) أي: عنده خزائن السماوات والأرض، ويقال: مفاتيح الخزائن، وفي بعض الأخبار برواية عثمان رضي الله عنه أن النبي قال في تفسير المقاليد: ' سبحان الله، والله أكبر، ولا إله إلا الله، والحمد لله، وأستغفر الله، ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم '.
478

* (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون (64) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (66) وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات) * *
فهذا تفسير المقاليد، وأنشدوا في الإقليد: (لم يؤده الديك بصوت يعريك
* ولم تعالج غلقا بإقليد)
قوله تعالى: * (والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون) أي: خسروا الثواب وحل بهم العقاب.
قوله تعالى: * (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) روى أن المشركين قالوا للنبي: استلم بعض آلهتنا ونحن نؤمن بك، وروى أنهم قالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قوله: * (أيها الجاهلون) أي: الجاهلون بالله وسلطانه وقدرته وعظمته.
قوله تعالى: * (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك) يقال: هذا خطاب للرسول، والمراد منه غيره، ويجوز أن يكون تأديبا للرسول، وتخويفا له ليتمسك بما عليه.
وقوله: * (ولتكونن من الخاسرين) أي: الذين خسروا جميع ما يأملون.
قوله تعالى: * (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) خطاب للرسول.
وقوله: * (وكن من الشاكرين) أي: الشاكرين لنعمي.
قوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره) معناه: وما عظموا الله حق عظمته، ويقال: ما وصفوا الله حق صفته.
وقوله: * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) وقد ثبت برواية عبد الله بن مسعود: أن يهوديا أتى النبي وقال: إذا كان يوم القيامة يضع الله السماوات على
479

* (مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (67) ونفخ في الصور فصعق من في) * * إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، وجميع الخلائق على إصبع؛ فضحك النبي، وقرأ قوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره) وفي رواية: ' فضحك النبي تعجبا وتصديقا له ' والخبر على الوجه في الصحيحين.
وفي رواية [ابن عمر] عن النبي: ' إن الله يقبض الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ قال ابن عمر: وجعل النبي يتحرك على منبره؛ حتى قلنا: يكاد يسقط '. وفي رواية: ' جعل المنبر يتحرك هكذا وهكذا '.
وفي رواية عائشة رضي الله عنها ' أن النبي قرأ: * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) قالت عائشة: فأين يكون الناس؟ قال: على الصراط '. وروى أنه قال: ' على جسر جهنم '.
ويقال: إن قبضته ويمينه لا بوصف، قال سفيان بن عيينة: كل ما ورد في القرآن من هذا فتفسيره قراءته، حكاه النقاش وغيره. وقيل: قبضته قدرته، والأول أولى بما بينا من قبل.
وقوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) نزه نفسه عما وصفه به المشركون.
قوله تعالى: * (ونفخ في الصور) روى عن بعض السلف أنه قال: من أراد أن يشاهد يوم القيامة يعني: بقلبه فليقرأ آخر سورة الزمر.
480

* (السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (68) وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء وقضي بينهم) * *
وأما الصور وقد بينا انه قرن ينفخ فيه، رواه عبد الله بن عمرو عن النبي.
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي أنه قال: ' كيف أنعم، والتقم صاحب [القرن]، وحنى جبهته وأصغى سمعه ينظر حتى يؤمر فينفخ '.
وقوله: * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) في قوله: * (إلا من شاء الله) قولان:
أحدهما: أنهم الشهداء، والآخر: أنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
وفي تفسير الكلبي وغيره: لا يبقى إلا هؤلاء الأربعة بعد ما ينفخ في الصور، ثم إن الله تعالى يقبض روح ميكائيل، ويقبضه ملك الموت، ثم روح إسرافيل، ثم روح
ملك الموت، ثم يكون آخرهم موتا جبريل عليه السلام فيسقطون، ويكون فضل جبريل عليه السلام عليهم كفضل الجبل على الظراب.
وقوله: * (ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) أي: ينظرون ماذا يؤمر في حقهم، وقد ثبت عن النبي، برواية أبي هريرة أن يهوديا قال في سوق المدينة: لا والذي اصطفى موسى على البشر؛ فرفع رجل من الأنصار يده وصك وجهه، وقال: كذبت، فذكروا ذلك للنبي، فقال النبي: ' إن الله تعالى يبعث الخلق فأكون أول من يرفع رأسه، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش؛ فلا أدري أبعث قبلي أو هو ممن استثنى الله تعالى؟ ثم قال: من قال أنا خير من موسى فقد كذب '.
قوله تعالى: * (وأشرقت الأرض بنور ربها) أي: بنور خالقها ومالكها، وعن الحسن: بعدل ربها، ويقال: يخلق الله نورا؛ فتشرق به أرض القيامة.
481

* (بالحق وهم لا يظلمون (69) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون (70) وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم) * *
وقوله: * (ووضع الكتاب) المراد من الكتاب: كتاب الأعمال. وعن عطاء بن السائب أنه قال: إن أول من يحاسب جبريل عليه السلام لأنه كان أمين الله على جميع وحيه، وروى أن أول من يحاسب الأنبياء، وثبت في بعض الروايات أن النبي قال: ' أول ما يقضي الله تعالى فيه بين الخلق هو الدماء '.
وقوله: * (وجئ بالنبيين والشهداء) أي: الذين يشهدون للأنبياء التبليغ، وعلى الأمم بالتكذيب، وقد بينا هذا من قبل.
وقوله: * (وقضى بينهم بالحق) أي: بالعدل، وقوله: * (وهم لا يظلمون) أي: لا يزاد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.
قوله تعالى: * (ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) أي: يصنعون، وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي ' أن الله تعالى يأمر من ينادي يوم القيامة: يا أهل الجنة، إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا، وأن تصحوا فلا تسقموا، وأن تشبوا فلا تهرموا، وأن تنعموا فلا تبأسوا؛ ثم قرأ قوله تعالى: * (ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) '.
قوله تعالى: * (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) أي: أفواجا زمرة بعد زمرة، وقوله: * (حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا) أي: يخوفونكم.
وقوله: * (قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب) هو قوله تعالى: * (لأملأن جهنم
482

* (يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (72) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (73) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر) * * من الجنة والناس أجمعين) وقوله: * (على الكافرين) ومعنى حقت: وجبت.
قوله تعالى: * (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) أي: منزل المتكبرين عن الإيمان بالله.
قوله تعالى: * (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها).
واعلم أن عند الكوفيين هذه الواو محذوفة في المعنى، وعند البصريين ليست بمحذوفة، والتقدير على قول البصريين: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها دخلوها.
وقوله: * (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم) أي: نعمتم، ويقال: صححتم للجنة، وعن علي رضي الله عنه قال: يكون [على] باب الجنة عينان، يغتسل المؤمن من أحدهما؛ فيظهر ظاهره، ويشرب من الأخرى؛ فيظهر باطنه، ثم يدخله الله الجنة، وقرأ قوله تعالى: * (طبتم فادخلوها خالدين).
قوله تعالى: * (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده) أي: وفى لنا بوعده وأتمه، وقوله: * (وأورثنا الأرض) أي: أرض الجنة * (نتبوأ منها) أي: ننزل منها * (حيث نشاء فنعم أجر العاملين) بالطاعات.
قوله تعالى: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش) أي: محدقين محيطين
483

* (العاملين (74) وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين (75)) * * به، وقوله: * (يسبحون بحمد ربهم) أي: بأمر ربهم، وقيل: يسبحون حامدين لربهم، ويقال: إن هذا التسبيح تسبيح تلذذ لا تعبد.
وقوله: * (وقضى بينهم بالحق) أي: بالعدل.
وقوله: * (وقيل الحمد لله رب العالمين) يعني: وقال أهل الجنة: الحمد لله رب العالمين، وقد ذكر في موضع آخر: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) وقد بينا هذا من قبل.
484